التحرير والتنوير

ابن عاشور

المقدمات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لِلْمُسْتَهْدِينَ مَعَالِمَ مُرَادِهِ، وَنَصَبَ لِجَحَافِلِ الْمُسْتَفْتِحِينَ أَعْلَامَ أَمْدَادِهِ فَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ قَانُونًا عَامًّا مَعْصُومًا، وَأَعْجَزَ بِعَجَائِبِهِ فَظَهَرَتْ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنًا، وَمَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يَعِظُ مُسِيئًا وَيَعِدُ مُحْسِنًا، حَتَّى عَرَفَهُ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَجَاحِدٍ، وَشَهِدَ لَهُ الرَّاغِبُ وَالْمُحْتَارُ وَالْحَاسِدُ، فَكَانَ الْحَالُ بِتَصْدِيقِهِ أَنْطَقَ مِنَ اللِّسَانِ، وَبُرْهَانُ الْعَقْلِ فِيهِ أَبْصَرَ مِنْ شَاهِدِ الْعِيَانِ، وَأَبْرَزَ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ فَتَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَفْضَلِ رَسُولٍ فَبَشَّرَ بِأَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، فَبِهِ أَصْبَحَ الرَّسُولُ الْأُمِّيُّ سَيِّدَ الْحُكَمَاءِ الْمُرَبِّينَ، وَبِهِ شُرِحَ صَدْرُهُ إِذْ قَالَ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] ، فَلَمْ يَزَلْ كِتَابُهُ مُشِعًّا نَيِّرًا، مَحْفُوظًا مِنْ لَدُنْهُ أَنْ يُتْرَكَ فَيَكُونَ مُبَدَّلًا وَمُغَيَّرًا. ثُمَّ قَيَّضَ لِتَبْيِينِهِ أَصْحَابَهُ الْأَشِدَّاءَ الرُّحَمَاءَ، وَأَبَانَ أَسْرَارَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ نُجُومِ الِاقْتِدَاءِ لِلسَّائِرِينَ وَالْمَاخِرِينَ (¬1) . أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ كَانَ أَكْبَرَ أُمْنِيَتِي مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، تَفْسِيرُ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَمَوْثِقٌ شَدِيدُ الْعُرَى مِنَ الْحَقِّ الْمَتِينِ، وَالْحَاوِي لِكُلِّيَّاتِ الْعُلُومِ وَمَعَاقِدِ اسْتِنْبَاطِهَا، وَالْآخِذُ قَوْسَ الْبَلَاغَةِ مِنْ مَحَلِّ نِيَاطِهَا ; طَمَعًا فِي بَيَانِ نُكَتٍ مِنَ الْعِلْمِ وَكُلِّيَّاتٍ مِنَ التَّشْرِيعِ، وَتَفَاصِيلَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَانَ يلوح أُنْمُوذَج مِنْ جَمِيعِهَا فِي خِلَالِ تَدَبُّرِهِ، أَوْ مُطَالَعَةِ كَلَامِ مُفَسِّرِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ عَلَى كَلَفِي بِذَلِكَ أَتَجَهَّمُ التَّقَحُّمَ عَلَى هَذَاُُِِِِ ¬

(¬1) قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِم اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فبنيت على هَذَا التَّشْبِيه تَشْبِيه المهتدين بهم بفريقين: فريق سائرون فِي الْبر- وَفِي ذَلِك تَشْبِيه عَمَلهم فِي الإهداء، وَهُوَ اتِّبَاع طَرِيق السّنة بالسير فِي طرق الْبر- وفريق ماخرون أَي سائرون فِي الْفلك المواخر فِي الْبَحْر، وتضمن ذَلِك تَشْبِيه عَمَلهم فِي الإهداء وَهُوَ الْخَوْض فِي الْعُلُوم بالمخر فِي الْبَحْر، وَمن ذَلِك الْإِشَارَة إِلَى أَن الْعلم كالبحر كَمَا هُوَ شَائِع، وَأَن السّنة كالسبيل الْمبلغ للمقصود. (¬2) أُشير بِهَذَا إِلَى أَن المهم من كَلَام الْمُفَسّرين يرشد إِلَى الزِّيَادَة على مَا ذَكرُوهُ، وَالَّذِي دون ذَلِك من كَلَامهم يُنَبه إِلَى تَقْوِيم مَا ذَكرُوهُ، والمفسر هُنَا مُرَاد بِهِ الْجِنْس.

الْمَجَالِ، وَأُحْجِمُ عَنِ الزَّجِّ بِسِيَةِ قَوْسِي فِي هَذَا النِّضَالِ. اتِّقَاءَ مَا عَسَى أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِنْ مَتَاعِبَ تَنُوءُ بِالْقُوَّةِ، أَوْ فَلَتَاتِ سِهَامِ الْفَهْمِ وَإِنْ بَلَغَ سَاعِدُ الذِّهْنِ كَمَال الفتوّة، فيقيت أُسَوِّفُ النَّفْسَ مَرَّةً وَمَرَّةً أَسُومُهَا زَجْرًا، فَإِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا تَصْمِيمًا أَحَلْتُهَا عَلَى فُرْصَةٍ أُخْرَى، وَأَنَا آمُلُ أَنْ يُمْنَحَ مِنَ التَّيْسِيرِ، مَا يُشَجِّعُ عَلَى قَصْدِ هَذَا الْغَرَضِ الْعَسِيرِ، وَفِيمَا أَنَا بَيْنَ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ، أَتَخَيَّلُ هَذَا الْحَقْلَ مَرَّةً الْقَتَادَ وَأُخْرَى الثُّمَامَ إِذَا أَنَا بِأَمَلِي قَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهُ تَبَاعَدَ أَو انْقَضى، إِذا قُدِّرَ أَنْ تُسْنَدَ إِلَيَّ خُطَّةُ الْقَضَا (¬1) ، فَبَقِيتُ مُتَلَهِّفًا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وَأَضْمَرْتُ تَحْقِيقَ هَاتِهِ الْأُمْنِيَّةِ مَتَى أَجْمَلَ اللَّهُ الْخَلَاصَ، وَكُنْتُ أُحَادِثُ بِذَلِكَ الْأَصْحَابَ وَالْإِخْوَانَ، وَأَضْرِبُ الْمَثَلَ بِأَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ رُشْدٍ فِي كِتَابِ «الْبَيَانِ» (¬2) ، وَلَمْ أَزَلْ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَزْدَادُ التَّمَنِّي وَأَرْجُو إِنْجَازَهُ، إِلَى أَن أَو شكّ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ، فَإِذَا اللَّهُ قَدْ مَنَّ بِالنَّقْلَةِ إِلَى خُطَّةِ الْفُتْيَا (¬3) ، وَأَصْبَحَتِ الْهِمَّةُ مَصْرُوفَةً إِلَى مَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْهِمَمُ الْعُلْيَا، فَتَحَوَّلَ إِلَى الرَّجَاءِ ذَلِكَ الْيَأْسُ، وَطَمِعْتُ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيعلمهَا النَّاس (¬4) . هُنَا لَك عَقَدْتُ الْعَزْمَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا كُنْتُ أَضْمَرْتُهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَخَرْتُهُ، وَعَلِمْتُ أَنَّ مَا يَهُولُ مِنْ تَوَقُّعِ كَلَلٍ أَوْ غَلَطٍ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَسْجِ هَذَا النَّمَطِ، إِذَا بَذَلْتُ الْوُسْعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَتَوَخَّيْتُ طُرُقَ الصَّوَابِ وَالسَّدَادِ. أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الْمُهِمِّ إِقْدَامَ الشُّجَاعِ عَلَى وَادِي السِّبَاعِ (¬5) مُتَوَسِّطًا فِي مُعْتَرَكِ أَنْظَارِ ¬

(¬1) فِي 26 رَمَضَان 1331 هـ وَالْقَضَاء هُنَا بِالْقصرِ لمراعاة السجع. (¬2) حَيْثُ ذكر أَنه شرع فِيهِ، ثمَّ عاقه عَنهُ تَقْلِيد خطة الْقَضَاء بقرطبة فعزم على الرُّجُوع إِلَيْهِ إِن أُرِيح من الْقَضَاء، وَأَنه عرض عزمه على أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن يُوسُف ابْن تاشفين، فَأَجَابَهُ لذَلِك وأعفاه من الْقَضَاء ليعود إِلَى إِكْمَال كِتَابه «الْبَيَان والتحصيل» وَهَذَا الْكتاب هُوَ شرح جليل على كتاب «الْعُتْبِيَّة» الَّذِي جمع فِيهِ الْعُتْبِي سَماع أَصْحَاب مَالك مِنْهُ، وَسَمَاع أَصْحَاب ابْن الْقَاسِم مِنْهُ. (¬3) فِي 26 رَجَب 1341 هـ. (¬4) أردْت الْإِشَارَة إِلَى الحَدِيث: «لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» لِأَنَّهُ يتَعَيَّن أَن لَا يكون المُرَاد خُصُوص الْجمع بَين الْقَضَاء بهَا وَتَعْلِيمهَا، بل يحصل الْمَقْصُود وَلَو بِأَن يقْضى بهَا مُدَّة، وَيعلمهَا النَّاس مُدَّة أُخْرَى. (¬5) وَادي السبَاع مَوضِع بَين مَكَّة وَالْبَصْرَة وَهُوَ وَاد قفر من السكان تكْثر بِهِ السبَاع قَالَ سحيم بن وثيل: مَرَرْت على وَادي السبَاع وَلَا أرى ... كوادي السبَاع حِين يظلم وَاديا أقلّ بِهِ ركب أَتَوْهُ تئيّة ... وأخوف إلّا مَا وقى الله ساريا

النَّاظِرِينَ. وَزَائِرًا بَيْنَ ضُبَاحِ الزَّائِرِينَ (¬1) ، فَجَعَلْتُ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُبْدِيَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ نُكَتًا لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إِلَيْهَا، وَأَنْ أَقِفَ مَوْقِفَ الْحَكَمِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُفَسِّرِينَ تَارَةً لَهَا وَآوِنَةً عَلَيْهَا، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْحَدِيثِ الْمُعَادِ، تَعْطِيلٌ لِفَيْضِ الْقُرْآن الَّذِي مَاله مِنْ نَفَادٍ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَ كَلَامِ الْأَقْدَمِينَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ معتكف فِيمَا أشاده الْأَقْدَمُونَ، وَآخَرُ آخِذٌ بِمِعْوَلِهِ فِي هَدْمِ مَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْقُرُونُ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ ضرّ كثير، وَهنا لَك حَالَةٌ أُخْرَى يَنْجَبِرُ بِهَا الْجَنَاحُ الْكَسِيرُ، وَهِيَ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى مَا شاده الْأَقْدَمُونَ فَنُهَذِّبَهُ وَنَزِيدَهُ، وَحَاشَا أَنْ نَنْقُضَهُ أَوْ نُبِيدَهُ، عَالِمًا بِأَنَّ غَمْضَ فَضْلِهِمْ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ، وَجَحْدَ مَزَايَا سَلَفِهَا لَيْسَ مِنْ حَمِيدِ خِصَالِ الْأُمَّةِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ الْأَمَلَ، وَيَسَّرَ إِلَى هَذَا الْخَيْرِ وَدَلَّ. وَالتَّفَاسِيرُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ الْكَثِيرَ مِنْهَا إِلَّا عَالَةً عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ بِحَيْثُ لَا حَظَّ لِمُؤَلِّفِهِ إِلَّا الْجَمْعُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ اخْتِصَارٍ وَتَطْوِيلٍ. وَإِنَّ أَهَمَّ التَّفَاسِيرِ تَفْسِير «الْكَشَّاف» و «الْمُحَرر الْوَجِيزُ» لِابْنِ عَطِيَّة و «مَفَاتِيح الْغَيْبِ» لِفَخْرِ الدَّين الرَّازِيّ، و «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيِّ» الْمُلَخَّصُ مِنَ «الْكَشَّافِ» وَمِنْ «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» بتحقيق بديع، و «تَفْسِير الشِّهَابِ الْأَلُوسِيِّ» ، وَمَا كَتَبَهُ الطِّيبِيُّ والقزويني والقطب والتفتازانيّ عَلَى «الْكَشَّافِ» ، وَمَا كَتَبَهُ الْخَفَاجِيُّ عَلَى «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ» ، و «تَفْسِيرِ أبي السُّعُود» ، و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» وَالْمَوْجُودُ مِنْ «تَفْسِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ» مِنْ تَقْيِيدِ تِلْمِيذِهِ الْأبيِّ وَهُوَ بِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا عَلَى «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّفْسِيرِ، لِذَلِكَ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ آي الْقُرْآن، و «تفاسير الْأَحْكَامِ، وَتَفْسِيرُ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ ابْن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ» ، وَكِتَابُ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» الْمَنْسُوبُ لِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَرُبَّمَا يُنْسَبُ لِلرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ. وَلِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ أُعْرِضُ عَنِ الْعَزْوِ إِلَيْهَا، وَقَدْ مَيَّزْتُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِي مِنْ فَهْمٍ فِي مَعَانِي كِتَابِهِ وَمَا أَجْلِبُهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، مِمَّا لَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَإِنَّمَا حَسْبِي فِي ذَلِكَ عَدَمُ عُثُورِي عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ يَدِي مِنَ التَّفَاسِيرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ خَاصَّةً، وَلَسْتُ أَدَّعِي انْفِرَادِي بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَمْ مِنْ كَلَامٍ تُنْشِئُهُ، تَجِدُكَ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ مُتَكَلِّمٌ، ¬

(¬1) الزائرين هُنَا اسْم فَاعل من زأر بِهَمْزَة بعد الزَّاي، وَهُوَ الَّذِي مصدره الزئير، وَهُوَ صَوت الْأسد قَالَ عنترة: حلّت بِأَرْض لزائرين فَأَصْبَحت ... عسرا عليّ طلابك ابْنة مخرم

وَكَمْ مِنْ فَهْمٍ تَسْتَظْهِرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَكَ إِلَيْهِ مُتَفَهِّمٌ، وَقَدِيمًا قِيلَ: هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ إِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَمَقَاصِدَهُ ذَاتُ أَفَانِينَ كَثِيرَةٍ بَعِيدَةِ الْمَدَى مُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ مُوَزَّعَةٍ عَلَى آيَاتِهِ فَالْأَحْكَامُ مُبَيَّنَةٌ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ، وَالْآدَابُ فِي آيَاتِهَا، وَالْقِصَصُ فِي مَوَاقِعِهَا، وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ عَلَى فَنَّيْنِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَدْ نَحَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَفْنَانِ، وَلَكِنَّ فَنًّا مِنْ فُنُونِ الْقُرْآنِ لَا تَخْلُو عَنْ دَقَائِقِهِ وَنُكَتِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ فَنُّ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخُصَّهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِكِتَابٍ كَمَا خَصُّوا الْأَفَانِينَ الْأُخْرَى، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْتَزَمْتُ أَنْ لَا أُغْفِلَ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَلُوحُ لِي مِنْ هَذَا الْفَنِّ الْعَظِيمِ فِي آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ كُلَّمَا أُلْهِمْتُهُ بِحَسَبِ مَبْلَغِ الْفَهْمِ وَطَاقَةِ التَّدَبُّرِ. وَقَدِ اهْتَمَمْتُ فِي تَفْسِيرِي هَذَا بِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَاهْتَمَمْتُ أَيْضًا بِبَيَانِ تَنَاسُبِ اتِّصَالِ الْآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَنْزَعٌ جَلِيلٌ قَدْ عُنِيَ بِهِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَأَلَّفَ فِيهِ بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى: «نَظْمَ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ الْآيِ وَالسُّورِ» إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، فَلَمْ تَزَلْ أنظار المتأملين لفضل الْقَوْلِ تَتَطَلَّعُ. أَمَّا الْبَحْثُ عَنْ تَنَاسُبِ مَوَاقِعِ السُّورِ بَعْضِهَا إِثْرَ بَعْضٍ، فَلَا أَرَاهُ حَقًّا عَلَى الْمُفَسِّرِ. وَلَمْ أُغَادِرْ سُورَةً إِلَّا بَيَّنْتُ مَا أُحِيطُ بِهِ مِنْ أَغْرَاضِهَا لِئَلَّا يَكُونَ النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مُفْرَدَاتِهِ وَمَعَانِي جُمَلِهِ كَأَنَّهَا فِقَرٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ رَوْعَةِ انْسِجَامِهِ وَتَحْجُبُ عَنْهُ رَوَائِعَ جَمَالِهِ. وَاهْتَمَمْتُ بِتَبْيِينِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ مِمَّا خَلَتْ عَنْ ضَبْطِ كَثِيرٍ مِنْهُ قَوَامِيسُ اللُّغَةِ. وَعَسَى أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْمُطَالِعُ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ، وَيَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَوَائِدَ وَنُكَتًا عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، فَإِنِّي بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي الْكَشْفِ عَنْ نُكَتٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ خَلَتْ عَنْهَا التَّفَاسِيرُ، وَمِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ هِمَمُ النَّحَارِيرِ، بِحَيْثُ سَاوَى هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى اخْتِصَارِهِ مُطَوَّلَاتِ الْقَمَاطِيرِ، فَفِيهِ أَحْسَنُ مَا فِي التَّفَاسِيرِ، وَفِيهِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي التَّفَاسِيرِ. وَسَمَّيْتُهُ: «تَحْرِيرَ الْمَعْنَى السَّدِيدِ وَتَنْوِيرَ الْعَقْلِ الْجَدِيدِ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ» .

وَاخْتَصَرْتُ هَذَا الِاسْمَ بِاسْمِ «التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ مِنَ التَّفْسِيرِ» وَهَا أَنا (¬1) أبتدىء بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ تَكُونُ عَوْنًا لِلْبَاحِثِ فِي التَّفْسِيرِ، وَتُغْنِيهِ عَنْ معاد كثير. ¬

(¬1) عَن قصد قلت «وَهَا أَنا» وَلم أقل «وَهَا أَنا ذَا» كَمَا الْتَزمهُ كثير من المتحذلقين أخذا بِظَاهِر كَلَام «مُغنِي اللبيب» لما بَينته عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [85] .

المقدمة الأولى في التفسير والتأويل وكون التفسير علما

الْمُقدمَات الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَكَوْنِ التَّفْسِيرِ عِلْمًا التَّفْسِيرُ مَصْدَرُ فَسَّرَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ الَّذِي هُوَ مُضَاعَفُ فَسَرَ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ بَابَيْ نَصَرَ وَضَرَبَ الَّذِي مَصْدُرُهُ الْفَسْرُ، وَكِلَاهُمَا فِعْلٌ مُتَعَدٍّ فَالتَّضْعِيفُ لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْفَسْرُ الْإِبَانَةُ وَالْكَشْفُ لِمَدْلُولِ كَلَامٍ أَوْ لَفْظٍ بِكَلَامٍ آخَرَ هُوَ أَوْضَحُ لِمَعْنَى الْمُفَسَّرِ عِنْدَ السَّامِعِ، ثُمَّ قِيلَ الْمَصْدَرَانِ وَالْفِعْلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقِيلَ يَخْتَصُّ الْمُضَاعَفُ بِإِبَانَةِ الْمَعْقُولَاتِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الْبَصَائِرِ» ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَن بَيَان المعقولان يُكَلِّفُ الَّذِي يُبَيِّنُهُ كَثْرَةُ الْقَوْلِ، كَقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حُجْرٍ (¬1) : الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا فَكَانَ تَمَامُ الْبَيْتِ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْأَلْمَعِيِّ، وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْمُفَسِّرَةُ لِلْمَوَاهِي وَالْأَجْنَاسِ، لَا سِيمَا الْأَجْنَاس الْعَالِيَة الْمُلَقَّبَةِ بِالْمَقُولَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْبَيَانُ بِصِيغَةِ الْمُضَاعَفَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَعَّلَ الْمُضَاعَفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْدِيَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَصْدَرِ، قَالَ فِي «الشَّافِيَةِ» : «وَفَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ غَالِبًا» وَقَدْ يَكُونُ التَّكْثِيرُ فِي ذَلِكَ مَجَازِيًّا وَاعْتِبَارِيًّا بِأَنْ يَنْزِلَ كَدُّ الْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ، ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ أَضْبَطِ الْأَقْوَالِ لِإِبَانَتِهَا مَنْزِلَةَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَتَفْسِيرِ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ (¬2) وَقَدْ سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنِ الْبَلَاغَةِ فَقَالَ: «أَنْ تَقول فَلَا تخطىء، وَتُجِيبَ فَلَا تُبْطِئَ» ثُمَّ قَالَ لِسَائِلِهِ أَقلنِي: «لَا تخطىء وَلَا تُبْطِئُ» . ¬

(¬1) كَمَا فِي «الصِّحَاح» و «التَّهْذِيب» ، ويروى لبشر بن أبي خازم يرثي فضَالة بن كلدة كَمَا فِي «الْعباب» . (¬2) صحار بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن عَيَّاش، بليغ من بلغاء قَبيلَة عبد الْقَيْس فِي صدر الدولة الأموية.

وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الْفرْقَان: 33] . فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَعَّلَ الْمُضَاعَفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ إِفَادَتَهُ التَّكْثِيرَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى تَعْدِيَتِهِ بِالتَّضْعِيفِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَ قَدْ عُرِفَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ فعلا لَازِما فمقارنته تِلْكَ الدَّلَالَةُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مُقَارَنَةَ تَبَعِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَلَّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي خُطْبَةِ «الْكَشَّافِ» «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَلَامًا مُؤَلَّفًا مُنَظَّمًا، وَنَزَّلَهُ عَلَى حَسَبِ الْمصَالح منجما» فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُرَّاحِهِ: جَمَعَ بَيْنَ أَنْزَلَ وَنَزَّلَ لِمَا فِي نَزَّلَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ، الَّذِي يُنَاسِبُ مَا أَرَادَهُ الْعَلَّامَةُ مِنَ التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ. وَأَنَا أَرَى أَنَّ اسْتِفَادَةَ مَعْنَى التَّكْثِيرِ فِي حَالِ اسْتِعْمَالِ التَّضْعِيفِ لِلتَّعْدِيَةِ أَمْرٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْكَلَامِ حَاصِلٌ مِنْ قَرِينَةِ عُدُولِ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ عَنِ الْمَهْمُوزِ الَّذِي هُوَ خَفِيفٌ إِلَى الْمُضَعَّفِ الَّذِي هُوَ ثَقِيلٌ، فَذَلِكَ الْعُدُولُ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّكْثِيرِ. وَعَزَا شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي أَوَّلِ «أَنْوَاءِ الْبُرُوقِ» إِلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقُوا بَيْنَ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ، فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ لِلْمَعَانِي وَالثَّانِيَ لِلْأَجْسَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَعْنَى أَوْ قُوَّتَهُ، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا الْمُخَفَّفُ، وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّشْدِيدُ، وَاسْتَشْكَلَهُ هُوَ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّحْرِيرِ بِالْمَحَلِّ اللَّائِقِ، بَلْ هُوَ أَشْبَهُ بِاللَّطَائِفِ مِنْهُ بِالْحَقَائِقِ، إِذْ لَمْ يُرَاعِ الْعَرَبُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَعْقُولًا وَلَا مَحْسُوسًا وَإِنَّمَا رَاعَوُا الْكَثْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ أَوِ الْمَجَازِيَّةَ كَمَا قَرَّرْنَا، وَدَلَّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ ثَابِتَانِ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ [الْإِسْرَاء: 106] قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: 285] وَقَالَ لَبِيدٌ: فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا فَجَاءَ بِفِعْلِ قَدَّمَ وَبِمَصْدَرِ أَقْدَمَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: «إِنَّ فَعَّلَ وَأَفْعَلَ يَتَعَاقَبَانِ» عَلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ عِنْدَ مُثْبِتِهَا، تَفْرِقَةٌ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ لَا فِي حَالَةِ مَفْعُولِهِ بِالْأَجْسَامِ. وَالتَّفْسِيرُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَقُولُ: هُوَ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الْبَاحِثِ عَنْ بَيَانِ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا بِاخْتِصَارٍ أَوْ تَوَسُّعٍ.

والثاني

وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ. وَمَوْضُوعُ التَّفْسِيرِ: أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِيهِ وَمَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، وَبِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ خَالَفَ عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ لِأَنَّ تَمَايُزَ الْعُلُومِ- كَمَا يَقُولُونَ- بِتَمَايُزِ الْمَوْضُوعَاتِ وَحَيْثِيَّاتِ الْمَوْضُوعَاتِ. هَذَا وَفِي عَدِّ التَّفْسِيرِ عِلْمًا تَسَامُحٌ إِذِ الْعِلْمُ إِذَا أُطْلِقَ، إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْإِدْرَاكِ، نَحْوَ قَوْلِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ: الْعِلْمُ إِمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَلَكَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْجَهْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فِي عَدِّ الْعُلُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَسَائِلُ الْمَعْلُومَاتُ وَهِيَ مَطْلُوبَاتٌ خَبَرِيَّةٌ يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَهِيَ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ، وَمَبَاحِثُ هَذَا الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِقَضَايَا يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فَمَا هِيَ بِكُلِّيَّةٍ، بَلْ هِيَ تَصَوُّرَاتٌ جُزْئِيَّةٌ غَالِبًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ أَلْفَاظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطُ مَعَانٍ. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَمِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَضِيَّةِ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ يَوْمَ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: 4] هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَاف: 15] مَعَ قَوْلِهِ: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لُقْمَان: 14] يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَضِيَّةً، بَلِ الْأَوَّلُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ، وَالثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلَكِنَّهُمْ عَدُّوا تَفْسِيرَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا أَرَاهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ وُجُوهٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَبَاحِثَهُ لِكَوْنِهَا تُؤَدِّي إِلَى اسْتِنْبَاطِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ، نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا مَبْدَأٌ لَهَا وَمَنْشَأٌ، تَنْزِيلًا لِلشَّيْءِ مَنْزِلَةَ مَا هُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِهِ بِقَاعِدَةِ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ وَالْعُلُومُ أَجْدَرُ بِأَنْ يُعَدَّ عِلْمًا مِنْ عِدِّ فَرُوعِهِ عِلْمًا، وَهُمْ قَدْ عَدُّوا تَدْوِينَ الشِّعْرِ عِلْمًا لِمَا فِي حِفْظِهِ مِنِ اسْتِخْرَاجِ نُكَتٍ بَلَاغِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ لُغَوِيَّةٍ. وَالثَّانِي أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ قَضَايَا كُلِّيَّةً يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فِي الْعِلْمِ خَاصٌّ بِالْعُلُومِ الْمَعْقُولَةِ، لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطٌ ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ فِي تَقْسِيمِ الْعُلُومِ، أَمَّا الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ مَبَاحِثُهَا مُفِيدَةً كَمَالًا عِلْمِيًّا لِمُزَاوِلِهَا،

والثالث

وَالتَّفْسِيرُ أَعْلَاهَا فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَهُوَ بَيَانُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ، وَهُمْ قَدْ عَدُّوا الْبَدِيعَ عِلْمًا وَالْعَرُوضَ عِلْمًا وَمَا هِيَ إِلَّا تَعَارِيفُ لِأَلْقَابٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ. وَالثَّالِثُ أَنْ نَقُولَ: التَّعَارِيفُ اللَّفْظِيَّةُ تَصْدِيقَاتٌ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ الْمُحَقِّقين فَهِيَ تؤول إِلَى قَضَايَا، وَتَفَرُّعُ الْمَعَانِي الْجَمَّةِ عَنْهَا نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْكُلِّيَّةِ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهَا بِشِعْرِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْبُرْهَانِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَنْزِيلِ مَبَاحِثِ التَّفْسِيرِ مَنْزِلَةَ الْمَسَائِلِ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَ التَّنْزِيلِ فِي الْأَوَّلِ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا، وَهُنَا رَاجِعٌ إِلَى ذَاتِهَا مَعَ أَنَّ التَّنْزِيلَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ وَهُنَا فِي شَرْطَيْنِ، لِأَنَّ كَوْنَهَا قَضَايَا إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْمَنْطِقِيِّينَ. الرَّابِعُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ لَا يَخْلُو مِنْ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ فِي أَثْنَائِهِ مِثْلَ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ النَّسْخِ عِنْدَ تَفْسِيرِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [الْبَقَرَة: 106] وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ التَّأْوِيلِ عِنْدَ تَقْرِيرِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمرَان: 7] وَقَوَاعِدِ الْمُحْكَمِ عِنْدَ تَقْرِيرِ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمرَان: 7] ، فَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ وَمَا مَعَهُ عِلْمًا تَغْلِيبًا، وَقَدِ اعْتَنَى الْعُلَمَاءُ بِإِحْصَاءِ كُلِّيَّاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ، وَجَمَعَهَا ابْنُ فَارِسٍ، وَذَكَرَهَا عَنْهُ فِي «الْإِتْقَانِ» وَعُنِيَ بِهَا أَبُو الْبَقَاءِ الْكَفَوِيُّ فِي «كُلِّيَّاتِهِ» ، فَلَا بِدْعَ أَنْ تُزَادَ تِلْكَ فِي وُجُوهِ شِبْهِ مَسَائِلِ التَّفْسِيرِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ. الْخَامِسُ: أَنَّ حَقَّ التَّفْسِيرِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى بَيَانِ أُصُولِ التَّشْرِيعِ وَكُلِّيَّاتِهِ فَكَانَ بِذَلِكَ حَقِيقًا بِأَنْ يُسَمَّى عِلْمًا وَلَكِن الْمُفَسّرين ابتدأوا بِتَقَصِّي مَعَانِي الْقُرْآنِ فَطَفَحَتْ عَلَيْهِمْ وَحَسَرَتْ دُونَ كَثْرَتِهَا قُوَاهُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِانْتِزَاعِ كُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ. السَّادِسُ - وَهُوَ الْفَصْلُ-: أَنَّ التَّفْسِيرَ كَانَ أَوَّلَ مَا اشْتَغَلَ بِهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِتَدْوِينِ بَقِيَّةِ الْعُلُومِ، وَفِيهِ كَثُرَتْ مُنَاظَرَاتُهُمْ وَكَانَ يَحْصُلُ مِنْ مُزَاوَلَتِهِ وَالدُّرْبَةِ فِيهِ لِصَاحِبِهِ مَلَكَةٌ يُدْرِكُ بِهَا أَسَالِيبَ الْقُرْآنِ وَدَقَائِقَ نَظْمِهِ، فَكَانَ بِذَلِكَ مُفِيدًا عُلُومًا كُلِّيَّةً لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ عِلْمًا. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِنْ أُخِذَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ أُصُولِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ

الْمَحْمُودَةِ مِنْ كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» ، لِأَنَّهُ عَدَّ أَوَّلَهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُعْنَى بِعِلْمِ الْكِتَابِ حِفْظُ أَلْفَاظِهِ بَلْ فَهْمُ مَعَانِيهَا وَبِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُعَدَّ رَأْسَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا وَصَفَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِذَلِكَ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ مَكِّيٍّ وَمَدَنِيٍّ، وَنَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الِاسْتِنْبَاطِ الَّتِي تُذْكَرُ أَيْضًا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ عُمُوم وخصوص وَغير هما كَانَ مَعْدُودًا فِي مُتَمِّمَاتِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ (¬1) ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ عُدَّ فِيهَا إِذْ قَالَ: «الضَّرْبُ الرَّابِعُ الْمُتَمِّمَاتُ وَذَلِكَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ، كَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى كَالتَّفْسِيرِ فَإِنَّ اعْتِمَادَهُ أَيْضًا عَلَى النَّقْلِ، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهِ كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْبَعْضِ مِنْهُ مَعَ الْبَعْضِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُسَمَّى أُصُولَ الْفِقْهِ» وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يَكُونُ رَئِيسَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالتَّفْسِيرُ أَوَّلُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ ظُهُورًا، إِذْ قَدْ ظَهَرَ الْخَوْضُ فِيهِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَدْ سَأَلَ عَنْ بَعْضِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِيهِ بَعْدُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَهُمَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ قَوْلًا فِي التَّفْسِيرِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَثُرَ الْخَوْضُ فِيهِ، حِينَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيَّ السَّجِيَّةِ، فَلَزِمَ التَّصَدِّي لِبَيَانِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُمْ، وَشَاعَ عَنِ التَّابِعينَ وَأَشْهُرُهُمْ فِي ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ أَيْضًا أَشْرَفُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرَأْسُهَا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَأَمَّا تَصْنِيفُهُ فَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ الْمَكِّيُّ الْمَوْلُودُ سَنَةَ 80 هـ وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ 149 هـ. صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَجَمَعَ فِيهِ آثَارًا وَغَيْرَهَا أَكثر رِوَايَتَهُ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، وَصُنِّفَتْ تَفَاسِيرُ وَنُسِبَتْ رِوَايَتُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ¬

(¬1) حَيْثُ قسم الْعُلُوم إِلَى شَرْعِيَّة وَغَيرهَا، وَقسم الشَّرْعِيَّة إِلَى محمودة ومذمومة، وَقسم المحمودة مِنْهَا إِلَى أضْرب أَرْبَعَة: أصُول وفروع ومقدمات ومتممات، فالأصول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وآثار الصَّحَابَة، وَالثَّانِي الْفُرُوع وَهُوَ مَا فهم من الْأُصُول، وَهُوَ الْفِقْه وَعلم أَحْوَال الْقُلُوب، وَالثَّالِث الْمُقدمَات كالنحو واللغة، وَالرَّابِع المتممات لِلْقُرْآنِ وللسنة وللآثار وَهِي الْقرَاءَات وَالتَّفْسِير وَالْأُصُول وَعلم الرِّجَال وَلَيْسَ فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة مَذْمُوم إِلَّا عرضا، كبعض أَحْوَال علم الْكَلَام، وَبَعض الْفِقْه الَّذِي يقْصد للتحيل وَنَحْوه. [.....]

لَكِنَّ أَهْلَ الْأَثَرِ تَكَلَّمُوا فِيهَا وَهِيَ «تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ» الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 146 هـ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُمِيَ أَبُو صَالِحٍ بِالْكَذِبِ حَتَّى لُقِّبَ بِكَلِمَةِ «دروغدت» بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى الْكَذَّابِ (¬1) وَهِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ (¬2) ، أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا لَقَّبُوهُ بِسِلْسِلَةِ الذَّهَبِ، وَهِيَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْكَلْبِيَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ الْأَصْلِ، الَّذِي أَسْلَمَ وَطَعَنَ فِي الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَلَا فِي حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ ادَّعَى إلهية عَليّ. وَهنا لَك رِوَايَةُ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ الضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيِّ كُلُّهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَصَحُّهَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» فِيمَا يَصْدُرُ بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْلِيقِ، وَقَدْ خَرَّجَ فِي «الْإِتْقَانِ» ، جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرَتَّبَةً عَلَى سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَدِ اتَّخَذَهَا الْوَضَّاعُونَ وَالْمُدَلِّسُونَ مَلْجَأً لِتَصْحِيحِ مَا يَرْوُونَهُ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي نِسْبَةِ كُلِّ أَمْرٍ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالنَّوَادِرِ، لِأَشْهَرِ النَّاسِ فِي ذَلِك الْمَقْصد. وَهنا لَك رِوَايَاتٌ تُسْنَدُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَكْثَرُهَا مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، إِلَّا مَا رُوِيَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْلَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ لِعَلِيٍّ أَفْهَامًا فِي الْقُرْآنِ كَمَا وَرَدَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لَعَلِيٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآن» ثمَّ تَلا حق الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَسَلَكَ كُلُّ فَرِيقٍ مَسْلَكًا يَأْوِي إِلَيْهِ وَذَوْقًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ نَقْلِ مَا يُؤْثَرُ عَنِ السَّلَفِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكَذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ تِلْمِيذُ السَّيُوطِيِّ فِي «طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ» ، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» إِجْمَالًا. وَأَشْهَرُ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِيمَا هُوَ بِأَيْدِي النَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. ¬

(¬1) «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» . (¬2) «الإتقان» .

وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ النَّظَرِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَشُغِفَ كَثِيرٌ بِنَقْلِ الْقِصَصِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَكَثُرَتْ فِي كُتُبِهِمُ الْمَوْضُوعَاتُ، إِلَى أَنْ جَاءَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ عَالِمَانِ جَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودٌ الزَّمَخْشَرِيُّ، صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، الآخر بِالْمَغْرِبِ بِالْأَنْدَلُسِ وَهُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ، فَأَلَّفَ تَفْسِيرَهُ الْمُسَمَّى بِ «الْمُحَرر الْوَجِيز» ، كلا هما يَغُوصُ عَلَى مَعَانِي الْآيَاتِ، وَيَأْتِي بِشَوَاهِدِهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَيَذْكُرُ كَلَامَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ مَنْحَى الْبَلَاغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ بِالزَّمَخْشَرِيِّ أَخَصُّ، وَمَنْحَى الشَّرِيعَةِ عَلَى ابْنِ عَطِيَّة أغلب، وكلا هما عِضَادَتَا الْبَابِ، ومرجع من بعد هما مَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْخَوْضِ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّأْوِيلِ، وَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّفْسِيرِ أَوْ أَخَصُّ مِنْهُ أَوْ مُبَايِنٌ؟ وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ثَعْلَبٌ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّفْسِيرَ لِلْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلَ لِلْمُتَشَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ مُحْتَمَلٍ لِدَلِيلٍ فَيَكُونُ هُنَا بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، فَإِذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الرّوم: 19] بِإِخْرَاجِ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ، فَهُوَ التَّفْسِيرُ، أَوْ بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ التَّأْوِيل، وَهنا لَك أَقْوَالٌ أُخَرُ لَا عِبْرَةَ بِهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا اصْطِلَاحَاتٌ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا إِلَّا أَنَّ اللُّغَةَ وَالْآثَارَ تَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ التَّأْوِيلَ مَصْدَرُ أَوَّلَهُ إِذَا أَرْجَعَهُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ مَعْنَاهُ وَمَا أَرَادَهُ مِنْهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَسَاوَى التَّفْسِيرَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَعْنًى خَفِيٍّ مَعْقُولٍ قَالَ الْأَعْشَى: عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا أَيْ تَبْيِينُ تَفْسِيرِ حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى صَارَ كَبِيرًا كَهَذَا السَّقْبِ أَيْ وَلَدِ النَّاقَةِ، الَّذِي هُوَ مِنَ السِّقَابِ الرَّبِيعِيَّةِ لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى كَبِرَ وَصَارَ لَهُ وَلَدٌ يَصْحَبُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: 53] أَيْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا بَيَانَهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ، أَيْ فَهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاُُ

: «كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» أَيْ يَعْمَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 3] فَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي دُعَائِهِ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ وَذِكْرَ لَفْظِ الرَّبِّ وَطَلَبَ الْمَغْفِرَةِ فَقَوْلُهَا «يَتَأَوَّلُ» صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ مِنِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الرِّسَالَةِ وَقُرْبِ انْتِقَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي فَهِمَهُ مِنْهَا عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

المقدمة الثانية في استمداد علم التفسير

الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ اسْتِمْدَادُ الْعِلْمِ يُرَادُ بِهِ تَوَقُّفُهُ عَلَى مَعْلُومَاتٍ سَابِقٌ وُجُودُهَا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْعِلْمِ عِنْدَ مُدَوِّنِيهِ لِتَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى إِتْقَانِ تَدْوِينِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ بِالِاسْتِمْدَادِ عَنْ تَشْبِيهِ احْتِيَاجِ الْعِلْمِ لِتِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ بِطَلَبِ الْمَدَدِ، وَالْمَدَدُ الْعَوْنُ وَالْغُوَاثُ، فَقَرَنُوا الْفِعْلَ بِحَرْفَيِ الطَّلَبِ وَهُمَا السِّينُ وَالتَّاءُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُذْكَرُ فِي الْعِلْمِ مَعْدُودًا مِنْ مَدَدِهِ، بَلْ مَدَدُهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَقَوُّمُهُ، فَأَمَّا مَا يُورَدُ فِي الْعِلْمِ مِنْ مَسَائِلِ عُلُومٍ أُخْرَى عِنْدَ الْإِفَاضَةِ فِي الْبَيَانِ، مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ إِفَاضَاتِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» فَلَا يُعَدُّ مَدَدًا لِلْعِلْمِ، وَلَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ وَلَا يَنْضَبِطْ، بَلْ هُوَ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ تَوَسُّعِ الْمُفَسِّرِينَ وَمُسْتَطْرَدَاتِهِمْ، فَاسْتِمْدَادُ عِلْمِ التَّفْسِيرِ لِلْمُفَسِّرِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمُوَلَّدِ، مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُلْتَئِمِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَعِلْمِ الْآثَارِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الْعَرَبِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ: وَعِلْمِ الْكَلَامِ وَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ. أَمَّا الْعَرَبِيَّةُ فَالْمُرَادُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الْعَرَبِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَدَبِ لُغَتِهِمْ سَوَاءٌ حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ بِالسَّجِيَّةِ وَالسَّلِيقَةِ، كَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، أَمْ حَصَلَتْ بِالتَّلَقِّي وَالتَّعَلُّمِ كَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ شَافَهُوا بَقِيَّةَ الْعَرَبِ وَمَارَسُوهُمْ، وَالْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ دَرَسُوا عُلُومَ اللِّسَانِ وَدَوَّنُوهَا. إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ فَكَانَتْ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ طَرِيقًا لِفَهْمِ مَعَانِيهِ، وَبِدُونِ ذَلِكَ يَقَعُ الْغَلَطُ وَسُوءُ الْفَهْمِ لِمَنْ لَيْسَ بعربي بالسليقة، وَيَعْنِي بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ مَجْمُوعَ عُلُومِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَهِيَ: مَتْنُ اللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفُ، وَالنَّحْوُ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانُ. وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ الْمُتَّبَعَ مِنْ أَسَالِيبِهِمْ فِي خُطَبِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَتَرَاكِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّمْثِيلِ وَالِاسْتِئْنَاسِ لِلتَّفْسِيرِ مِنْ أَفْهَامِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْفُسِهِمْ لِمَعَانِي آيَاتٍ غَيْرِ وَاضِحَةِ الدَّلَالَةِ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَمِنْ حَقِّ مُفَسِّرِ كِتَابِ اللَّهِ الْبَاهِرِ، وَكَلَامِهِ الْمُعْجِزِ أَنْ يَتَعَاهَدَ فِي مَذَاهِبِهِ بَقَاءَ النَّظْمِ عَلَى حُسْنِهِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَمَا وَقَعَ بِهِ

التَّحَدِّي سَلِيمًا مِنَ الْقَادِحِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَاهَدْ أَوْضَاعَ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَعَاهُدِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى مَرَاحِلَ» (¬1) . وَلِعِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالْمَعَانِي مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُمَا وَسِيلَةٌ لِإِظْهَارِ خَصَائِصِ الْبَلَاغَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْمَعَانِي وَإِظْهَارِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَانِ الْعِلْمَانِ يُسَمَّيَانِ فِي الْقَدِيمِ عِلْمَ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «عِلْمُ التَّفْسِيرِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لِتَعَاطِيهِ وَإِجَالَةِ النَّظَرِ فِيهِ كُلُّ ذِي عِلْمٍ، فَالْفَقِيهُ وَإِنْ بَرَزَ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي عِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، والمتكلم وَإِن بز أَهْلَ الدُّنْيَا فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَحَافِظُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ مِنِ ابْنِ الْقَرْيَةِ أَحْفَظَ، وَالْوَاعِظُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَوْعَظَ، وَالنَّحْوِيُّ وَإِنْ كَانَ أَنْحَى مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَاللُّغَوِيُّ وَإِنْ عَلَكَ اللُّغَاتِ بِقُوَّةِ لَحْيَيْهِ، لَا يَتَصَدَّى مِنْهُمْ أَحَدٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ الطَّرَائِقِ، وَلَا يَغُوصُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، إِلَّا رَجُلٌ قَدْ بَرَعَ فِي عِلْمَيْنِ مُخْتَصَّيْنِ بِالْقُرْآنِ وَهُمَا عِلْمَا الْبَيَانِ وَالْمَعَانِي اهـ» (¬2) . وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ [67] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: «وَكَمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّنْزِيلِ وَحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ، قَدْ ضِيمَ وَسِيمَ الْخَسْفَ، بِالتَّأْوِيلَاتِ الْغَثَّةِ، وَالْوُجُوهِ الرَّثَّةِ، لِأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَهَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ عِيرٍ وَلَا نَفِيرٍ، وَلَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْهُ مِنْ دَبِيرٍ» يُرِيدُ بِهِ عِلْمَ الْبَيَانِ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ» : «وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ عَلَى تَمَامِ مُرَادِ الْحَكِيمِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مِنْ كَلَامِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَى هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) كُلَّ الِافْتِقَارِ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ تَعَاطَى التَّفْسِيرَ وَهُوَ فِيهِمَا رَاجِلٌ» . قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِهِ» : «وَلَا شَكَّ أَنَّ خَوَاصَّ نَظْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ بَلِيغًا سَلِيقَةً، مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ. وَقَدْ أَصَابَ (السَّكَّاكِيُّ) بِذِكْرِ الْحَكِيمِ الْمَحَزِّ، أَيْ أَصَابَ الْمَحَزَّ إِذْ خَصَّ بِالذِّكْرِ هَذَا الِاسْمَ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، لِأَنَّ كَلَامَ الْحَكِيمِ يَحْتَوِي عَلَى مَقَاصِدَ جَلِيلَةٍ وَمَعَانِي غَالِيَةٍ، لَا يَحْصُلُ الِاطِّلَاعُ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ مُعْظَمِهَا إِلَّا بَعْدَ التَّمَرُّسِ بِقَوَاعِدِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ الْمُفْرَغَةِ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ يُنَبِّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ، ¬

(¬1) اُنْظُرْهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [15] . (¬2) ديباجة «الْكَشَّاف» .

وَقَوْلُهُ فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ تَنْفِيرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ إِذَا شَرَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِهِ أَخْطَأَ غَالِبًا، وَإِنْ أَصَابَ نَادِرًا كَانَ مُخْطِئًا فِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ اهـ» . وَقَوْلُهُ تَمَامَ مُرَادِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْمَقْصُودُ هُوَ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ قُرْآنِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا لِيَكْثُرَ الطَّلَبُ وَاسْتِخْرَاجُ النُّكَتِ، فَيَدْأَبُ كُلُّ أَحَدٍ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى غَايَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي نُصِبَ عَلَيْهِ عَلَامَاتٌ بَلَاغِيَّةٌ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ بِحَسَبِ التَّتَبُّعِ، وَالْكُلُّ مُظِنَّةُ عَدَمِ التَّنَاهِي وَبَاعِثٌ لِلنَّاظِرِ عَلَى بَذْلِ غَايَةِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاطِّلَاعِ عَلَى قَدْرِ صَفَاءِ الْقَرَائِحِ وَوَفْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رشد فِي جَوَاب لَهُ عَمَّنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ مَا نَصُّهُ: «هَذَا جَاهِلٌ فَلْيَنْصَرِفْ عَنْ ذَلِكَ وَلْيَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195] إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِخُبْثٍ فِي دِينِهِ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَرَى فَقَدْ قَالَ عَظِيمًا اهـ» . وَمُرَادُ السَّكَّاكِيِّ مِنْ تَمَامِ مُرَادِ اللَّهِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي الْخُصُوصِيَّةِ، فَمَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] بِإِنَّا نَعْبُدُكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَمَامِ الْمُرَادِ لِأَنَّهُ أَهْمَلَ مَا يَقْتَضِيهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ مِنَ الْقَصْدِ. وَقَالَ فِي آخِرِ فَنِّ الْبَيَانِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» : «لَا أَعْلَمُ فِي بَابِ التَّفْسِيرِ بَعْدَ عِلْمِ الْأُصُولِ أَقْرَأَ عَلَى الْمَرْءِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ مُتَشَابِهَاتِهِ، وَلَا أَنْفَعَ فِي دَرْكِ لَطَائِفِ نُكَتِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَلَا أَكْشَفَ لِلْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ إِعْجَازِهِ، وَلَكَمْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَرَاهَا قَدْ ضِيمَتْ حَقَّهَا وَاسْتُلِبَتْ مَاءَهَا وَرَوْنَقَهَا أَنْ وَقَعَتْ إِلَى مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ، فَأَخَذُوا بِهَا فِي مَآخِذَ مَرْدُودَةٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى مَحَامِلَ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ إِلَخْ» . وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَجَازِ الْحُكْمِيِّ: «وَمِنْ عَادَةِ قَوْمٍ مِمَّنْ يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَلْبَابَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّمْثِيلِ أَنَّهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا (أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ) ، فَيُفْسِدُوا الْمَعْنَى بِذَلِكَ وَيُبْطِلُوا الْغَرَضَ وَيَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَالسَّامِعَ مِنْهُمُ الْعَلِمَ بِمَوْضِعِ الْبَلَاغَةِ وَبِمَكَانِ الشَّرَفِ، وَنَاهِيكَ بِهِمْ إِذَا أَخَذُوا فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ وَجَعَلُوا يُكْثِرُونَ فِي غير طائل، هُنَا لَك تَرَى مَا شِئْتَ مِنْ بَابِ جَهْلٍ قَدْ فَتَحُوهُ، وَزَنْدِ ضَلَالَةٍ قَدْ قَدَحُوا بِهِ» .

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ، فَهُوَ التَّمَلِّي مِنْ أَسَالِيبِهِمْ فِي خُطَبِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَمُحَادَثَاتِهِمْ، لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ لِمُمَارَسَةِ الْمُوَلَّدِ ذَوْقٌ يَقُومُ عِنْدَهُ مَقَامَ السَّلِيقَةِ وَالسَّجِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ «وَالذَّوْقُ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تُدْرِكُ الْخَوَاصَّ وَالْمَزَايَا الَّتِي لِلْكَلَامِ الْبَلِيغِ» قَالَ شَيْخُنَا الْجَدُّ الْوَزِيرُ «وَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ تَتَبُّعِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ فَتَحْصُلُ لِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ بِتَتَبُّعِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْكَلَامِ الْمَقْطُوعِ بِبُلُوغِهِ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ، فَدَعْوَى مَعْرِفَةِ الذَّوْقِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْخَاصَّةِ وَهُوَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى بِحَسَبِ مُثَافَنَةِ ذَلِكَ التَّدَبُّرِ» اهـ. وَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي قَوْلِهِ الْمَقْطُوعِ بِبُلُوغِهِ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ الْمُشِيرِ إِلَى وُجُوبِ اخْتِيَارِ الْمُمَارِسِ لِمَا يُطَالِعُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْبَلَاغَةِ بَيْنَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، نَحْوَ «المعلقات» و «الحماسة» وَنَحْوَ «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» وَ «مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ» وَ «رَسَائِلِ بَدِيعِ الزَّمَانِ» . قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» قُبَيْلَ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارَاتِ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ «لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ فِي صِنَاعَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي أُصُولِهَا وَتَفَارِيعِهَا إِلَى مُجَرَّدِ الْعَقْلِ، أَنْ يَكُونَ الدخيل فِيهَا كالناشىء عَلَيْهَا فِي اسْتِفَادَةِ الذَّوْقِ مِنْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الصِّنَاعَةُ مُسْتَنِدَةً إِلَى تَحْكِيمَاتٍ وَضْعِيَّةٍ وَاعْتِبَارَاتٍ إِلْفِيَّةٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَى الدَّخِيلِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، أَنْ يُقَلِّدَ صَاحِبَهُ فِي بَعْضِ فَتَاوَاهُ إِنْ فَاتَهُ الذَّوْقُ هُنَاكَ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ لَهُ عَلَى مَهْلٍ مُوجِبَاتُ ذَلِكَ الذَّوْقِ اهـ» . وَلِذَلِكَ- أَيْ لِإِيجَادِ الذَّوْقِ أَوْ تَكْمِيلِهِ- لَمْ يَكُنْ غِنًى لِلْمُفَسِّرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لِتَكْمِيلِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الذَّوْقِ، عِنْدَ خَفَاءِ الْمَعْنَى، وَلِإِقْنَاعِ السَّامع والمتعلم الَّذين لَمْ يَكْمُلْ لَهُمَا الذَّوْقُ فِي الْمُشْكِلَاتِ. وَهَذَا- كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا- شَيْءٌ وَرَاءَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعِلْمُ الْبَلَاغَةِ بِهِ يَحْصُلُ انْكِشَافُ بَعْضِ الْمَعَانِي وَاطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لَهَا، وَبِهِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: 11] ، وَعَرَضَ لَدَيْهِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَوْمٌ عطف مباين، أَوْ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ فَاسْتَشْهَدَ الْمُفَسِّرُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ:

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ كَيْفَ تَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ لِاحْتِمَالِ عَطْفِ الْمُبَايِنِ دُونَ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَى تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَتَرَدَّدَ عِنْدَهُ احْتِمَالُ أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلْآلَةِ وَكَانَتْ نَفْسُهُ غَيْرَ مُطْمَئِنَّةٍ لِاحْتِمَالِ التَّأْكِيدِ إِذْ كَانَ مَدْخُولُ الْبَاءِ مَفْعُولًا فَإِذَا اسْتُشْهِدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعُ عَاثِرًا وَقَوْلِ الْأَعْشَى: فَكُلُّنَا مُغْرَمٌ يَهْوَى بِصَاحِبِهِ ... قَاصٍ وَدَانٍ وَمَحْبُولٍ وَمُحْتَبَلِ رَجَحَ عِنْدَهُ احْتِمَالُ التَّأْكِيدِ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلتَّأْكِيدِ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. رَوَى أَئِمَّةُ الْأَدَبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النَّحْل: 47] ثُمَّ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِيهَا أَيْ فِي مَعْنَى التَّخَوُّفِ، فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا، التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (¬1) فَقَالَ عُمَرُ: «عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا تَضِلُّوا، هُوَ شِعْرُ الْعَرَبِ فِيهِ تَفْسِيرُ كِتَابِكُمْ وَمَعَانِي كَلَامِكُمْ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْنَا الْحَرْفُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَتِهِمْ رَجَعْنَا إِلَى دِيوَانِهِمْ فَالْتَمَسْنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مِنْهُ» وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ الشِّعْرَ إِذَا سُئِلَ عَنْ بَعْضِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ السِّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَة: 255] فَقَالَ النُّعَاسُ وَأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ: لَا سِنَةَ فِي طُوَالِ اللَّيْلِ تَأْخُذُهُ ... وَلَا يَنَامُ وَلَا فِي أَمْرِهِ فَنَدُ وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ مَا مَعْنَى الزَّنِيمِ؟ فَقَالَ هُوَ وَلَدُ الزِّنَى وَأَنْشَدَ: زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَنْ أُبُوهُ ... بَغِيُّ الْأُمِّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمُُِ ¬

(¬1) التامك: السنام، وقرد بِفَتْح الْقَاف وَكسر الرَّاء: كثير القراد، والسفن- بِفتْحَتَيْنِ- الْمبرد.

فَمِمَّا يُؤْثَرُ (¬1) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَمَثُّلِ الرَّجُلِ بِبَيْتِ شِعْرٍ لِبَيَانِ مَعْنًى فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: «مَا يُعْجِبُنِي» فَهُوَ عَجِيبٌ، وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ كَرَاهَةَ أَنْ يَذْكُرَ الشِّعْرَ لِإِثْبَاتِ صِحَّةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ (¬2) (وَكَانَ يُزَنُّ بِالْإِلْحَادِ) قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: «أَتَقُولُ الْعَرَبُ لِبَاسُ التَّقْوَى» فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَا بَاسَ لَا بَاسَ، وَإِذَا أَنْجَى اللَّهُ النَّاسَ، فَلَا نَجَّى ذَلِكَ الرَّاسَ، هَبْكَ يَا بن الرَّاوَنْدِيِّ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا أَفَتُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا عَرَبِيًّا؟» . وَيَدْخُلُ فِي مَادَّةِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ مَا يُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي فَهْمِ مَعَانِي بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَى قَوَانِينِ اسْتِعْمَالِهِمْ، كَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ-: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى. إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: 158] ، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ اهـ» ، فَبَيَّنَتْ لَهُ ابْتِدَاءَ طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَمَا وَهِمَهُ عُرْوَةُ ثُمَّ بَيَّنَتْ لَهُ مَثَارَ شُبْهَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنِ السَّاعِي الَّذِي يُصَدِّقُ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَالْمَعْنِيُّ بِهَا مَا نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ بَعْضِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعِ الْإِشْكَالِ وَالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ جِبْرِيلُ» ، وَقَالَ مَعْنَاهُ فِي مُغَيَّبَاتِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِ مُجْمَلِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بتوقيف، قلت: أَو كَانَ تَفْسِيرًا لَا تَوْقِيفَ فِيهِ، كَمَا بَيَّنَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ هُمَا سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ، وَقَالَ لَهُ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ¬

(¬1) ذكره الألوسي. (¬2) توفّي سنة 240 هـ.

شَاهَدُوا نُزُولَ الْوَحْيِ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَنَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ، وَتَفْسِيرِ مُبْهَمٍ، وَتَوْضِيحِ وَاقِعَةٍ مِنْ كُلِّ مَا طَرِيقُهُمْ فِيهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ الرَّأْيِ وَذَلِكَ مِثْلُ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودِ وَمِنَ الضَّالِّينَ النَّصَارَى، وَمِثْلُ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ أَبَا خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] الْآيَةَ، الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ فِي خُصُومَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثْتُ سِنِينَ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَمْنَعُنِي إِلَّا مَهَابَتُهُ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَقَالَ هُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. وَمَعْنَى كَوْنِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ مَادَّةِ التَّفْسِيرِ، أَنَّهَا تُعِينَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُرَادِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَقْصُرُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يُخَصَّصُ، قَالَ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: وَكَمَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يُخَصَّصُ، كَذَلِكَ خُصُوصُ غَرَضِ الْكَلَامِ لَا يُخَصَّصُ، كَأَنْ يَرِدَ خَاصٌّ ثُمَّ يَعْقُبُهُ عَامٌّ لِلْمُنَاسَبَةِ فَلَا يُقْتَضَى تَخْصِيصُ الْعَامِّ، نَحْوَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: 128] وَقَدْ يَكُونُ الْمَرْوِيُّ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مُبَيِّنًا وَمُؤَوِّلًا لِظَاهِرٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ، فَقَدْ تَوَهَّمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [الْمَائِدَة: 93] فَاعْتَذَرَ بِهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شُرْبِ قُدَامَةَ خَمْرًا، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَقَدِمَ الْجَارُودُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ قُدَامَةَ شَرِبَ فَسَكِرَ، فَقَالَ عُمَرُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ، قَالَ الْجَارُودُ أَبُو هُرَيْرَةَ يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ عُمَرُ يَا قُدَامَةُ إِنِّي جَالِدُكَ، قَالَ وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتُ كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي، قَالَ عُمَرُ وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ إِلَخْ، فَقَالَ عُمَرُ إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ لِمَ تَجْلِدُنِي! بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ وَأَيُّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَنْ لَا أَجْلِدَكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَأَنَا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ، فَقَالَ عُمَرُ أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلْنَ عُذْرًا لِلْمَاضِينَ وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ،

فَعُذْرُ الْمَاضِينَ بِأَنَّهُمْ لَقُوا اللَّهَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ، وَحُجَّةٌ عَلَى الْبَاقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [الْمَائِدَة: 90] ، ثُمَّ قَرَأَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَأَحْسَنُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ الْخَمْرُ، قَالَ عُمَرُ صَدَقْتَ. الْحَدِيثَ» . وَتَشْمَلُ الْآثَارُ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى تَفْسِيرِ مَعْنًى، إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُخْتِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى هِيَ الْأُخْتُ لِلْأُمِّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومَاتُ بِالضَّرُورَةِ كُلُّهَا كَكَوْنِ الصَّلَاةِ مُرَادًا مِنْهَا الْهَيْئَةُ الْمَخْصُوصَةُ دُونَ الدُّعَاءِ، وَالزَّكَاةِ الْمَالُ الْمَخْصُوصُ الْمَدْفُوعُ. وَأَمَّا الْقِرَاءَاتُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي حِينِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي مَعْنَى التَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ مِنَ الْآيَةِ أَوْ لِاسْتِظْهَارٍ عَلَى الْمَعْنَى، فَذِكْرُ الْقِرَاءَةِ كَذِكْرِ الشَّاهِدِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً، فَلَا جَرَمَ أَنَّهَا تَكُونُ حُجَّةً لُغَوِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ شَاذَّةً فَحُجَّتُهَا لَا مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةَ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ قَارِئَهَا مَا قَرَأَ بِهَا إِلَّا اسْتِنَادًا لِاسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يَكُونُ الْقَارِئُ مُعْتَدًّا بِهِ إِلَّا إِذَا عُرِفَتْ سَلَامَةُ عَرَبِيَّتِهِ، كَمَا احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بِقِرَاءَةِ هَارُونَ الْعَتَكِيِّ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تُعَدُّ تَفْسِيرًا مِنْ حَيْثُ هِيَ طَرِيقٌ فِي أَدَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا شَاهِدٌ لُغَوِيٌّ فَرَجَعَتْ إِلَى عِلْمِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا أَخْبَارُ الْعَرَبِ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَدَبِهِمْ وَإِنَّمَا خَصَصْتُهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا لِمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَا مِنَ اللَّغْوِ فَهِيَ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى فَهْمِ مَا أَوْجَزَهُ الْقُرْآنُ فِي سَوْقِهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا يَذْكُرُ الْقِصَصَ وَالْأَخْبَارَ لِلْمَوْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، لَا لِأَنْ يَتَحَادَثَ بِهَا النَّاسُ فِي الْأَسْمَارِ، فَبِمَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ يُعْرَفُ مَا أَشَارَتْ لَهُ الْآيَاتُ مِنْ دَقَائِقِ الْمَعَانِي، فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: 92] وَقَوْلِهِ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 4] يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَخْبَارِهِمْ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَلَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ مَادَّةِ التَّفْسِيرِ، وَلَكِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ أَحْكَامَ الْأَوَامِرِ

وَالنَّوَاهِي وَالْعُمُومِ وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ بَعْضَهُ يَكُونُ مَادَّةً لِلتَّفْسِيرِ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ قَدْ أُودِعَتْ فِيهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ هِيَ مِنْ طُرُقِ اسْتِعْمَالِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَفَهْمِ مَوَارِدِ اللُّغَةِ أَهْمَلَ التَّنْبِيهَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ مِثْلَ مَسَائِلِ الْفَحْوَى وَمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَقَدْ عَدَّ الْغَزَالِيُّ عِلْمَ الْأُصُولِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ وَبِأَحْكَامِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَادَّةً لِلتَّفْسِيرِ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ يَضْبُطُ قَوَاعِدَ الِاسْتِنْبَاطِ وَيُفْصِحُ عَنْهَا فَهُوَ آلَةٌ لِلْمُفَسِّرِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ مِنْ آيَاتِهَا. وَقَدْ عَدَّ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَالْأَلُوسِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ، فِي آخِرِ فَنِّ الْبَيَانِ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا وَمَا شَرَحَهُ بِهِ شارحاه التفتازانيّ وَالْجُرْجَانِيُّ. عِلْمَ الْكَلَامِ فِي جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرِ، قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ: «لِتَوَقُّفِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا، وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ الْكَلَامِ» . وَقَالَ الْأَلُوسِيُّ: «لِتَوَقُّفِ فَهْمِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الْكَلَامِ» يَعْنِي مِنْ آيَاتِ التَّشَابُهِ فِي الصِّفَاتِ مِثْلَ: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَقْرَبُ مِنْ تَوْجِيهِ عَبْدِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ السَّيِّدِ الْجُرْجَانِيِّ فِي «شرح الْمِفْتَاح» ، وكلا هما اشْتِبَاهٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَبْلَ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ فَكَذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ لِعِلْمِ الْكَلَامِ إِلَّا فِي التَّوَسُّعِ فِي إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ بَعْضِ الْمَعَانِي، وَقَدْ أَبَنْتُ أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُتَوَسِّعُ لَا يَصِيرُ مَادَّةً لِلتَّفْسِيرِ. وَلَمْ نَعُدَّ الْفِقْهَ مِنْ مَادَّةِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ كَمَا فَعَلَ السُّيُوطِيُّ، لِعَدَمِ تَوَقُّفِ فَهْمِ الْقُرْآنِ، عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ التَّفْسِيرِ وَفَرْعٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْمُفَسِّرُ إِلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ عِنْدَ قَصْدِ التَّوَسُّعِ فِي تَفْسِيرِهِ، لِلتَّوَسُّعِ فِي طُرُقِ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَفْصِيلِ الْمَعَانِي تَشْرِيعًا وَآدَابًا وَعُلُومًا، وَلِذَلِكَ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُتَبَحِّرُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ الْمُفَسِّرُ الْمُتَوَسِّعُ مُحْتَاجًا إِلَى الْإِلْمَامِ بِكُلِّ الْعُلُومِ وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ لَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِقَوْلِهِ: «لَا يَلِيقُ لِتَعَاطِيهِ، وَالتَّصَدِّي لِلتَّكَلُّمِ فِيهِ، إِلَّا مَنْ بَرَعَ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَفِي الصِّنَاعَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفُنُونِ الْأَدَبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا» .

تنبيه:

تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنِ اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ، وَلَا مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ مَدَدِهِ، وَلَا يُعَدُّ أَيْضًا مِنِ اسْتِمْدَادِ التَّفْسِيرِ مَا فِي بَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ مِنْ مَعْنًى يُفَسِّرُ بَعْضًا آخَرَ مِنْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ حَمْلِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ، كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَتَأْوِيلِ الظَّاهِرِ وَدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، فِي حَرْفِ لَا، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا يُذْكَرُ الشَّيْءُ فِي سُورَةٍ وَجَوَابُهُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى، نَحْوَ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] وَجَوَابُهُ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: 2] هـ. وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُحْمَلُ بَعْضُ آيَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ يَسْتَقِلُّ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، إِذْ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَقْصُودًا فِي جَمِيعِ نَظَائِرِهَا، بَلْهَ مَا يُقَارِبُ غَرَضَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِمْدَادَ عِلْمِ التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ رَأْسَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ رَأْسَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَصْلٌ لِعُلُومِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ فَأَمَّا اسْتِمْدَادُهُ مِنْ بَعْضِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَذَلِكَ اسْتِمْدَادٌ لِقَصْدِ تَفْصِيلِ التَّفْسِيرِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ أَصْلٌ لِمَا اسْتُمِدَّ مِنْهُ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ.

المقدمة الثالثة في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه

الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ وَمَعْنَى التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَنَحْوِهِ إِنْ قُلْتَ أَتُرَاكَ بِمَا عَدَدْتَ مِنْ عُلُومِ التَّفْسِيرِ تُثْبِتُ أَنَّ تَفْسِيرًا كَثِيرًا لِلْقُرْآنِ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى مَأْثُورٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَتُبِيحُ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ حَظًّا كَافِيًا وَذَوْقًا يَنْفَتِحُ لَهُ بِهِمَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ، أَنْ يُفَسِّرَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ هَؤُلَاءِ، فَيُفَسِّرُ بِمَعَانٍ تَقْتَضِيهَا الْعُلُومُ الَّتِي يَسْتَمِدُّ مِنْهَا عِلْمُ التَّفْسِيرِ، وَكَيْفَ حَالُ التَّحْذِيرِ الْوَاقِعِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» وَكَيْفَ مَحْمَلُ مَا رُوِيَ مِنْ تَحَاشِي بَعْضِ السَّلَفِ عَنِ التَّفْسِيرِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّديق أَنه سَأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَبِّ فِي قَوْلِهِ: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 31] فَقَالَ: «أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِي» وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ إِحْجَامُهُمَا عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: أَرَانِي كَمَا حَسِبْتَ أُثْبِتُ ذَلِكَ وَأُبِيحُهُ، وَهَلِ اتَّسَعَتِ التَّفَاسِيرُ وَتَفَنَّنَتْ مُسْتَنْبَطَاتُ مَعَانِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَا رُزِقَهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ فَهْمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ وَهَلْ يَتَحَقَّقُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا «إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ» إِلَّا بِازْدِيَادِ الْمَعَانِي بِاتِّسَاعِ التَّفْسِيرِ؟ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ مُخْتَصَرًا فِي وَرَقَاتٍ قَلِيلَةٍ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ إِيَّاهُنَّ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ التَّفْسِيرُ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ التَّفْسِيرُ نَزْرًا، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ كَثْرَةَ أَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ يَلِيهِمْ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا أَكْثَرَ ذَلِكَ الِاسْتِنْبَاطَ بِرَأْيِهِمْ وَعِلْمِهِمْ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ فِي التَّفْسِيرِ مَسْمُوعًا مِنَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوَجْهَيْنِ: أحد هما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ إِلَّا تَفْسِيرُ آيَاتٍ قَلِيلَةٍ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ. الثَّانِي أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْسِيرِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا،

وَسَمَاعُ جَمِيعِهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مُحَالٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا مَسْمُوعًا لَتُرِكَ الْآخَرُ، أَيْ لَوْ كَانَ بَعْضُهَا مَسْمُوعًا لَقَالَ قَائِلُهُ إِنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ، فَتَبَيَّنَ عَلَى الْقَطْعِ أَنَّ كُلَّ مُفَسِّرٍ قَالَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِمَا ظَهَرَ لَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لَعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ إِلَخْ» وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ. وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاؤُنَا فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَفَهُّمٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : «التَّدَبُّرُ فِي قِرَاءَتِهِ إِعَادَةُ النَّظَرِ فِي الْآيَةِ وَالتَّفَهُّمُ أَنْ يَسْتَوْضِحَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا كَيْ تَتَكَشَّفَ لَهُ مِنَ الْأَسْرَارِ مَعَانٍ مَكْنُونَةٌ لَا تَتَكَشَّفُ إِلَّا لِلْمُوَفَّقِينَ» قَالَ: «وَمِنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَأَ تَفْسِيرًا وَاعْتَقَدَ أَنْ لَا مَعْنَى لِكَلِمَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا مَا تَنَاوَلَهُ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ فَهَذَا مِنَ الْحُجُبِ الْعَظِيمَةِ» . وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [19] «وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَكَرُوا وَجْهًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَذَلِك لَا يمنه الْمُتَأَخِّرِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِهَا وَإِلَّا لَصَارَتِ الدَّقَائِقُ الَّتِي يَسْتَنْبِطُهَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي التَّفْسِيرِ مَرْدُودَةً، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا مُقَلِّدُ خُلْفٍ- بِضَمِّ الْخَاءِ» وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: 42] هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ، فَقِيلَ لَهُ مَنْ قَالَ هَذَا فَغَضِبَ وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَهُ مَنْ عَلِمَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» إِنَّهُ أَمْلَى عَلَى سُورَةِ نُوحٍ خَمْسَمِائَةِ مَسْأَلَةٍ وَعَلَى قصَّة مُوسَى ثمامائة مَسْأَلَةٍ. وَهَلِ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي خِلَالِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى مِنْ قُرُونِ الْإِسْلَامِ إِلَّا مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ تَفْسِيرُهَا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: تَطَلَّبْتُ دَلِيلًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ فَظَفِرْتُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النِّسَاء: 115] . قَالَ شَرَفَ الدِّينِ الطِّيبِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: «شَرْطُ التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ

أولها:

أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ، سَلِيمًا مِنَ التَّكَلُّفِ عَرِيًّا مِنَ التَّعَسُّفِ» ، وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُسَمِّي مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِدَعَ التَّفَاسِيرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى أَحَدِ خَمْسَةِ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ هُوَ الْقَوْلُ عَنْ مُجَرَّدِ خَاطِرٍ دُونَ اسْتِنَادٍ إِلَى نَظَرٍ فِي أَدِلَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَتَصَارِيفِهَا، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَسَبَبِ النُّزُولِ فَهَذَا لَا مَحَالَةَ إِنْ أَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي تَصَوُّرِهِ بِلَا عِلْمٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونَ الصَّوَابِ كَقَوْلِ الْمَثَلِ: «رَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ» وَهَذَا كَمَنْ فسر الم [الْبَقَرَة: 1] ! إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لِذَلِكَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَذَلِكَ مِنَ الْوَرَعِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يَقُمْ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ أَوْ فِي مَوَاضِعَ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى التَّفْسِيرِ فِيهَا، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ فِي آيَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ: أَقُول فِيهَا برأيي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ إِلَخْ وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدٍ، أَيْ أَنَّهُمَا تَبَاعَدَا عَمَّا يُوقِعُ فِي ذَلِكَ وَلَوْ عَلَى احْتِمَالٍ بِعِيدٍ مُبَالَغَةً فِي الْوَرَعِ وَدَفْعًا لِلِاحْتِمَالِ الضَّعِيفِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا تَعَبَّدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا بِبَذْلِ الْوُسْعِ مَعَ ظَنِّ الْإِصَابَةِ. ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ حَقَّ تَدَبُّرِهِ فَيُفَسِّرُهُ بِمَا يَخْطُرُ لَهُ من بادىء الرَّأْيِ دُونَ إِحَاطَةٍ بِجَوَانِبِ الْآيَةِ وَمَوَادِّ التَّفْسِيرِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ الْأَدِلَّةِ دُونَ بَعْضٍ كَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْ وَجْهٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَطْ، كَمَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 79] الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَاهَا يَقُولُ إِنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا مَا أَرَادَ اللَّهُ غَافِلًا عَمَّا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (¬1) [النِّسَاء: 78] أَوْ بِمَا يَبْدُو مِنْ ظَاهِرِ اللُّغَةِ دُونَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ كَمَنْ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء: 59] فَيُفَسِّرُ مُبْصِرَةً بِأَنَّهَا ذَاتُ بَصَرٍ لَمْ تَكُنْ عَمْيَاءَ، فَهَذَا مِنَ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ لِفَسَادِهِ. ¬

(¬1) هَذَا التَّمْثِيل للغزالي على أحد تفسيرين، والمثال يَكْفِي فِيهِ الْفَرْض. وَذكر الْفَخر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 79] أَنه جرى على معنى التَّعْلِيم للتأدب مَعَ الْخَالِق وَقَوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النِّسَاء: 78] جرى مجْرى بَيَان الْحَقِيقَة.

ثالثها:

ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى نَزْعَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ نِحْلَةً فَيَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ وَيَصْرِفُهُ عَنِ الْمُرَادِ وَيُرْغِمُهُ عَلَى تَحَمُّلِهِ مَا لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفُ، فَيُجْرِ شَهَادَةَ الْقُرْآنِ لِتَقْرِيرِ رَأْيِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ حَقَّ فَهْمِهِ مَا قَيَّدَ عَقْلَهُ مِنَ التَّعَصُّبِ، عَنْ أَنْ يُجَاوِزَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ غَيْرُ مَذْهَبِهِ حَتَّى إِنْ لَمَعَ لَهُ بَارِقُ حَقٍّ وَبَدَا لَهُ مَعْنًى يُبَايِنُ مَذْهَبَهُ حَمَلَ عَلَيْهِ شَيْطَانُ التَّعَصُّبِ حَمْلَةً وَقَالَ كَيْفَ يَخْطُرُ هَذَا بِبَالِكَ، وَهُوَ خِلَافُ مُعْتَقَدِكَ؟ كَمَنْ يَعْتَقِدُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ التَّمَكُّنَ وَالِاسْتِقْرَارَ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْقُدُّوسُ [الْحَشْر: 23] أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ حَجَبَهُ تَقْلِيدُهُ عَنْ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ تَقَرَّرَ لَتَوَصَّلَ فَهْمُهُ فِيهِ إِلَى كَشْفِ مَعْنًى ثَانٍ أَوْ ثَالِثٍ، وَلَكِنَّهُ يُسَارِعُ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ خَاطِرِهِ لِمُنَاقَضَتِهِ مَذْهَبَهُ. وَجُمُودُ الطَّبْعِ عَلَى الظَّاهِرِ مَانِعٌ مِنَ التَّوَصُّلِ لِلْغَوْرِ. كَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَة: 23] بِمَعْنَى أَنَّهَا تَنْتَظِرُ نِعْمَةَ رَبِّهَا عَلَى أَنَّ إِلَى وَاحِدُ الْآلَاءِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الظَّاهِرِ وَعَنِ الْمَأْثُورِ وَعَنِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْآيَةِ. وَقَالَتِ الْبَيَانِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 138] إِنَّهُ بَيَانُ ابْن سَمْعَانَ كَبِيرُ مَذْهَبِهِمْ (¬1) . وَكَانَتِ الْمَنْصُورِيَّةُ أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُورٍ الْكِسْفِ (¬2) يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: 44] أَنَّ الْكِسْفَ إِمَامَهُمْ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُلْصَقَاتِ أَضْدَادِهِمْ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْقُرْآنِ وَمُرُوقٌ عَنِ الدِّينِ. رَابِعُهَا: أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيٍ مُسْتَنِدٍ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُتَأَوِّلِينَ. خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مِنَ التَّحْذِيرِ أَخْذَ الْحِيطَةِ فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّأْوِيلِ وَنَبْذَ التَّسَرُّعِ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مَقَامٌ تَفَاوَتَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَاشْتَدَّ الْغُلُوُّ فِي الْوَرَعِ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى كَانَ لَا يَذْكُرُ تَفْسِيرَ شَيْءٍ غَيْرَ عَازِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ لَا يُفَسِّرُ كَلِمَةً مِنَ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَتْ وَاقِعَةً فِي الْقُرْآنِ، ¬

(¬1) وَهُوَ بَيَان بن سمْعَان التَّمِيمِي، والبيانية من غلاة الشِّيعَة، يَقُولُونَ بالحلول وبإلهية عَليّ وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة. صلب خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بَيَانا هَذَا سنة 119 هـ بِالْكُوفَةِ. (¬2) هُوَ أَبُو مَنْصُور الْعجلِيّ الملقب بالكشف- بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون السِّين- زعم أَنه خَليفَة الباقر وَزعم أَنه عرج إِلَى السَّمَاء وتلقى من الله الْإِذْن بِأَن يبلغ عَنهُ وَأَنه المُرَاد بقوله تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: 44] قَتله يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ أَمِير الْعرَاق بَين سنة 120 و126 هـ.

ذُكِرَ ذَلِكَ فِي «الْمُزْهِرِ» فَأَبَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَنْ سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ أَسْرَى ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ. وَلَا فِي أَنَّ عَصَفَتِ الرِّيحُ وَأَعْصَفَتْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لِأَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ: الَّذِي سَمِعْتُهُ فِي مَعْنَى الْخَلِيلِ أَنَّهُ أَصْفَى الْمَوَدَّةِ وَأَصَمَّهَا وَلَا أَزِيدُ فِيهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ اهـ. فَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَرَعِ يَعْتَرِي بَعْضَ النَّاسِ لِخَوْفٍ، وَإِنَّهُ قَدْ يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ إِلَى بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَتَجِدُ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَلَا يَعْتَرِيهِ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ تَجِدُ الْعَكْسَ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ مَا كَلَّفَنَا فِي غَيْرِ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ بِأَكْثَرَ مِنْ حُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَدِلَّةُ مُتَنَوِّعَةٌ عَلَى حَسَبِ أَنْوَاعِ الْمُسْتَنَدِ فِيهِ. وَأَدِلَّةُ فَهْمِ الْكَلَامِ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا. أَمَّا الَّذِينَ جَمُدُوا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَا هُوَ مَأْثُورٌ فَهُمْ رَمَوْا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى عَوَاهِنِهَا وَلَمْ يَضْبُطُوا مُرَادَهُمْ مِنَ الْمَأْثُورِ عَمَّنْ يُؤْثَرُ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ آيَاتٍ إِنْ كَانَ مَرْوِيًّا بِسَنَدٍ مَقْبُولٍ مِنْ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ، فَإِذَا الْتَزَمُوا هَذَا الظَّنَّ بِهِمْ فَقَدْ ضَيَّقُوا سَعَةَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَيَنَابِيعَ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ عُلُومِهِ، وَنَاقَضُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا دَوَّنُوهُ مِنَ التَّفَاسِيرِ، وَغَلَّطُوا سَلَفَهُمْ فِيمَا تَأَوَّلُوُهُ، إِذْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُقْصِرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْوُوا مَا بَلَغَهُمْ مِنْ تَفْسِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْ مَعَانِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْوُوا لَهُ بَلَغَهُمْ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ أَرَادُوا بِالْمَأْثُورِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ وَعَنِ الصَّحَابَةِ خَاصَّةً وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ صَنِيعِ السُّيُوطِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» ، لَمْ يَتَّسِعْ ذَلِكَ الْمُضَيَّقُ إِلَّا قَلِيلًا وَلَمْ يُغْنِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَتِيلًا، لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ لَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ سِوَى مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدِي مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ. وَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُرْوَى عَنْهُ قَوْلًا بِرَأْيِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ رُوَاتِهِ. وَإِنْ أَرَادُوا بِالْمَأْثُورِ مَا كَانَ مَرْوِيًّا قَبْلَ تَدْوِينِ التَّفَاسِيرِ الْأُوَلِ مِثْلَ مَا يُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَدْ أَخَذُوا يَفْتَحُونَ الْبَابَ مِنْ شِقِّهِ، وَيُقَرِّبُونَ مَا بَعُدَ مِنَ الشُّقَّةِ. إِذْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ التَّابِعِينَ قَالُوا أَقْوَالًا فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ

لَمْ يُسْنِدُوهَا وَلَا ادَّعَوْا أَنَّهَا مَحْذُوفَةُ الْأَسَانِيدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي مَعَانِي آيَاتٍ كَثِيرَة اخْتِلَافا ينبىء إِنْبَاءً وَاضحا بِأَنَّهُم إِنَّمَا تَأَوَّلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ أَفْهَامِهِمْ كَمَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِأَقْوَالِهِمْ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» وَنُظَرَائِهِ، وَقَدِ الْتَزَمَ الطَّبَرِيّ فِي «تَفْسِير» أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعينَ، لَكِنَّهُ لَا يَلْبَثُ فِي كُلِّ آيَة أَن يتلخص ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِهِ مِنْهَا وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِشَوَاهِدَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَحَسْبُهُ بِذَلِكَ تَجَاوُزًا لِمَا حَدَّدَهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ وَذَلِكَ طَرِيقٌ لَيْسَ بِنَهْجٍ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى «تَفْسِيرِهِ» ، وَشَاكَلَ الطَّبَرِيُّ فِيهِ مُعَاصِرُوهُ، مثل ابْن أبي (¬1) حَاتِمٍ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمِ، فَلِلَّهِ دَرُّ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآن على مَا هُوَ مَأْثُورٌ مِثْلَ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالزَّجَّاجِ وَالرُّمَّانِيِّ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقَهُمْ مِثْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ. وَإِذْ قَدْ تَقَصَّيْنَا مَثَارَاتَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ وَبينا لكم الْأَشْبَاه وَالْأَمْثَالَ، بِمَا لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلِاشْتِبَاهِ مِنْ مجَال، فَلَا تجَاوز هَذَا الْمَقَامَ مَا لَمْ نُنَبِّهْكُمْ إِلَى حَالِ طَائِفَةٍ الْتَزَمَتْ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا، وَصَرَفُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمَا سَمَّوْهُ الْبَاطِنَ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ مُتَضَمِّنًا لِكِنَايَاتٍ وَرُمُوزٍ عَنْ أَغْرَاضٍ، وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ عُرِفُوا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَاطِنِيَّةِ فَلَقَّبُوهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي عَرَفُوهُمْ بِهِ، وَهُمْ يُعْرَفُونَ عِنْدَ الْمُؤَرِّخِينَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ مَذْهَبَهُمْ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّادِقِ، وَيَعْتَقِدُونَ عِصْمَتَهُ وَإِمَامَتَهُ بَعْدَ أَبِيهِ بِالْوِصَايَةِ، وَيَرَوْنَ أَنْ لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِمَامِ هُدًى مِنْ آلِ الْبَيْتِ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الدِّينَ، وَيُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ. وَلَمَّا تَوَقَّعُوا أَنْ يُحَاجَّهُمُ الْعُلَمَاءُ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ رَأَوُا أَنْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ تَأْوِيلِ تِلْكَ الْحُجَجِ الَّتِي تَقُومُ فِي وَجْهِ بِدْعَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ خَصُّوهَا بِالتَّأْوِيلِ وَصَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى الْبَاطِنِ اتَّهَمَهُمُ النَّاسُ بِالتَّعَصُّبِ وَالتَّحَكُّمِ فَرَأَوْا صَرْفَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَبَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ رُمُوزٌ لِمَعَانٍ خَفِيَّةٍ فِي صُورَةِ أَلْفَاظٍ تُفِيدُ مَعَانِيَ ظَاهِرَةً لِيَشْتَغِلَ بِهَا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْحُكَمَاءِ، فَمَذْهَبُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَمَذْهَبِ التَّنَاسُخِ وَالْحُلُولِيَّةِ فَهُوَ خَلِيطٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ طُقُوسِ الدِّيَانَاتِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَبَعْضِ طَرَائِقِ الْفَلْسَفَةِ وَدِينِ زَرَادَشْتَ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَحِلُّ فِي كُلِّ رَسُولٍ وَإِمَامٍ وَفِي الْأَمَاكِنِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَنَّهُ يُشْبِهُ الْخَلْقَ- تَعَالَى وَتَقَدَّسَ- وَكُلُّ عَلَوِيٍّ يَحِلُّ فِيهِ الْإِلَهُ. وَتَكَلَّفُوا لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَا يُسَاعِدُ ¬

(¬1) زِيَادَة من الْمُصَحح.

الْأُصُولَ الَّتِي أَسَّسُوهَا. وَلَهُمْ فِي التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ ثَقِيلَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَاف: 46] أَنَّ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ الْأَعْرَافُ هُوَ مَقَرُّ أَهْلِ الْمَعَارِفِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ. وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: 71] أَيْ لَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ جَوَازِهِ عَلَى الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ إِمَّا فِي أَيَّام صِبَاهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 43] أَرَادَ بِفِرْعَوْنَ الْقَلْبَ. وَقَدْ تَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابه الملقب ب «المستظهري» . وَقَالَ إِذَا قُلْنَا بِالْبَاطِنِ فَالْبَاطِنُ لَا ضَبْطَ لَهُ بَلْ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فَيُمْكِنُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى اهـ. يَعْنِي وَالَّذِي يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةٌ لَهُمْ يُمْكِنُ أَنْ نَقْلِبَهُ عَلَيْهِمْ وَنَدَّعِيَ أَنَّهُ بَاطِنُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ لِاسْتِنَادِهِ لِلُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ مِنْ قَبْلُ. وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَا يَقُومُ فَهْمُ أَحَدٍ فِيهِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَلَا إِخَالُهُمْ إِلَّا قَائِلِينَ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ قَرَاطِيسِهِمْ قَالُوا: «إِنَّمَا يُنْتَقَلُ إِلَى الْبَدَلِ مَعَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَالنَّظَرُ بَدَلٌ مِنَ الْخَبَرِ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ فَهُوَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَالْإِمَامُ هُوَ خَلِيفَتُهُ وَمَعَ وُجُودِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُبَيِّنُ قَوْلَهُ فَلَا يُنْتَقَلُ إِلَى النَّظَرِ اهـ وَبَيَّنَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ» شَيْئًا مِنْ فَضَائِحِ مَذْهَبِهِمْ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ هُنَا. فَإِن قلت فَمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَمَطْلَعًا» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا. قُلْتُ لَمْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِرِوَايَتِهِ عَنْهُ؟ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «فَظَهْرُهُ التِّلَاوَةُ وَبَطْنُهُ التَّأْوِيلُ» فَقَدْ أَوْضَحَ مُرَادَهُ إِنْ صَحَّ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّهْرَ هُوَ اللَّفْظُ وَالْبَطْنَ هُوَ الْمَعْنَى. وَمِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ «تَفْسِيرُ الْقَاشَانِيِّ» وَكَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَبْثُوثٌ فِي «رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ» . أَمَّا مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانٍ لَا تَجْرِي عَلَى أَلْفَاظ الْقُرْآن ظَاهرا وَلَكِنْ بِتَأْوِيلٍ وَنَحْوِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، بَلْ يَعْنُونَ أَنَّ الْآيَةَ تَصْلُحُ لِلتَّمَثُّلِ بِهَا فِي الْغَرَضِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَحَسْبُكُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا إِشَارَاتٍ وَلَمْ يُسَمُّوهَا مَعَانِيَ، فَبِذَلِكَ فَارَقَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ الْبَاطِنِيَّةِ. وَلِعُلَمَاءِ الْحَقِّ فِيهَا رَأْيَانِ: فَالْغَزَالِيُّ يَرَاهَا مَقْبُولَةً، قَالَ فِي كِتَابٍ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» (¬1) : إِذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى ¬

(¬1) ج 1/ 49- دَار الْمعرفَة- «كتاب الْعلم» . الْبَاب الْخَامِس: فِي آدَاب المتعلم والمعلم. انْظُر أَيْضا: «إتحاف الزبيدِيّ» 1/ 306.

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَوْ إِشَارَتُهُ أَنَّ الْقَلْبَ بَيْتٌ وَهُوَ مَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ وَمُسْتَقَرُّ آثَارِهِمْ، وَالصِّفَاتُ الرَّدِيئَةُ كَالْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْعَجَبِ كِلَابٌ نَابِحَةٌ فِي الْقَلْبِ فَلَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِالْكِلَابِ، وَنُورُ اللَّهِ لَا يَقْذِفُهُ فِي الْقَلْبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَلْبٌ كَهَذَا لَا يُقْذَفُ فِيهِ النُّورُ. وَقَالَ وَلست أَقْوَال إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الْبَيْتِ الْقَلْبُ وَبِالْكَلْبِ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ وَلَكِنْ أَقُولُ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَيْهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَغْيِيرِ الظَّاهِرِ وَبَيْنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْبَوَاطِنِ مِنْ ذِكْرِ الظَّوَاهِرِ اهـ فَبِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَارَقَ نَزْعَةَ الْبَاطِنِيَّةِ. وَمِثْلُ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ تَفْسِيرِ لَفْظٍ عَامٍّ فِي آيَةٍ بِخَاصٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيم: 28] قَالَ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمُحَمَّدٌ نِعْمَةُ اللَّهِ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيم: 28] قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ» يَرَى إِبْطَالَ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ كُلِّهَا حَتَّى إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نِحْلَةَ الْبَاطِنِيَّةِ وَذَكَرَ «رَسَائِلَ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ» أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، وَحَتَّى أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَوَّهَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْغَزَالِيِّ فِي تَصَدِّيهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ قَالَ: «وَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ بَدْرًا فِي ظُلْمَةِ اللَّيَالِي، وَعِقْدًا فِي لُبَّةِ الْمَعَالِي، حَتَّى أَوْغَلَ فِي التَّصَوُّفِ، وَأَكْثَرَ مَعَهُمُ التَّصَرُّفَ، فَخَرَجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَحَادَ فِي أَكْثَرِ أَقْوَالِهِ عَنِ الطَّرِيقَةِ اهـ» . وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ لَا تَعْدُو وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْحَاءَ: الْأَوَّلُ مَا كَانَ يَجْرِي فِيهِ مَعْنَى الْآيَةِ مَجْرَى التَّمْثِيلِ لِحَالٍ شَبِيهٍ بِذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا يَقُولُونَ مَثَلًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ لِلْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى إِذْ بِهَا يُعْرَفُ فَتَسْجُدُ لَهُ الْقُلُوبُ بِفَنَاءِ النُّفُوسِ. وَمَنْعُهَا مِنْ ذِكْرِهِ هُوَ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَارِفِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَسَعى فِي خَرابِها [الْبَقَرَة: 114] بِتَكْدِيرِهَا بِالتَّعَصُّبَاتِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، فَهَذَا يُشْبِهُ ضَرْبَ الْمَثَلِ لِحَالِ مَنْ لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَيَمْنَعُ قَلْبَهُ أَنْ تَدْخُلَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ النَّاشِئَةُ عَنْهَا بِحَالِ مَانِعِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، وَذِكْرُ الْآيَةِ عِنْدَ تِلْكَ الْحَالَةِ كَالنُّطْقِ بِلَفْظِ الْمَثَلِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ فِي حَدِيثِ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ» كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْغَزَالِيِّ. الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ التَّفَاؤُلِ فَقَدْ يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ مَعْنًى يَسْبِقُ مِنْ صُورَتِهَا إِلَى السَّمْعِ هُوَ غَيْرُ مَعْنَاهَا الْمُرَادِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ انْصِرَافِ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَى مَا هُوَ الْمُهِمُّ عِنْدَهُ وَالَّذِي يَجُولُ فِي خَاطِرِهِ

وَهَذَا كَمَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ [الْبَقَرَة: 255] مَنْ ذَلَّ ذِي إِشَارَةٌ لِلنَّفْسِ يَصِيرُ من المقربين الشفعاء، فَهَذَا يَأْخُذُ صَدَى مَوْقِعِ الْكَلَامِ فِي السَّمْعِ وَيَتَأَوَّلُهُ عَلَى مَا شُغِلَ بِهِ قَلْبُهُ. وَرَأَيْت الشَّيْخ مُحي الدِّينِ يُسَمِّي هَذَا النَّوْعَ سَمَاعًا وَلَقَدْ أَبْدَعَ. الثَّالِثُ: عِبَرٌ وَمَوَاعِظُ وَشَأْنُ أَهْلِ النُّفُوسِ الْيَقْظَى أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَأْخُذُوا الْحِكْمَةَ حَيْثُ وَجَدُوهَا فَمَا ظَنُّكَ بهم إِذا قرأوا الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرُوهُ فَاتَّعَظُوا بِمَوَاعِظِهِ فَإِذَا أَخَذُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل: 16] اقْتَبَسُوا أَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ رَسُولَ الْمَعَارِفِ الْعُلْيَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ وَبَالًا. وَمِنْ حِكَايَاتِهِمْ فِي غَيْرِ بَابِ التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَرَّ بِرَجُلٍ يَقُولُ لِآخَرَ: هَذَا الْعُودُ لَا ثَمَرَةَ فِيهِ فَلَمْ يَعُدْ صَالِحًا إِلَّا لِلنَّارِ. فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: إِذَنْ فَالْقَلْبُ غَيْرُ الْمُثْمِرِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلنَّارِ. فَنِسْبَةُ الْإِشَارَةِ إِلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُشِيرُ لِمَنِ اسْتَعَدَّتْ عُقُولُهُمْ وَتَدَبُّرُهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا غَيْرُ أُولَئِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ قَدْ أَنَارَتْ تَدَبُّرَهُمْ وَأَثَارَتِ اعْتِبَارَهُمْ نَسَبُوا تِلْكَ الْإِشَارَةَ لِلْآيَةِ. فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْإِشَارَةُ هِيَ حَقَّ الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِيَّةِ حَتَّى تَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ اللَّفْظِ وَتَوَابِعِهِ كَمَا قَدْ تَبَيَّنَ. وَكُلُّ إِشَارَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَحْوَالِ إِلَى مَا عَدَاهَا فَهِيَ تَقْتَرِبُ إِلَى قَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عَيْنَ مَقَالَاتِهِمْ وَقَدْ بَصَّرْنَاكُمْ بِالْحَدِّ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَاطَهُ فَحَقِّقُوا مَنَاطَهُ، وَفِي أَيْدِيكُمْ فَيْصَلُ الْحَقِّ فدونكم اختراطه. وَلَيْسَ من الْإِشَارَةِ مَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ، وَفَهْمِ الِاسْتِغْرَاقِ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ، وَدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ كَمَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَنْبِيهَاتِ الْقُرْآنِ اسْتِدْلَالًا لِمَشْرُوعِيَّةِ أَشْيَاءَ، كَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ [الْكَهْف: 19] وَمَشْرُوعِيَّةِ الضَّمَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يُوسُف: 72] وَمَشْرُوعِيَّةِ الْقيَاس من وَله: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: 105] وَلَا بِمَا هُوَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ نَحْوَ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10]- فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وَلَا مَا هُوَ مِنْ تَنْزِيلِ الْحَالِ مَنْزِلَةَ الْمَقَالِ نَحْوَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاء: 44] لِأَنَّ جَمِيعَ هَذَا مِمَّا قَامَتْ فِيهِ الدَّلَالَةُ الْعُرْفِيَّةُ مَقَامَ الْوَضْعِيَّةِ وَاتَّحَدَتْ فِي إِدْرَاكِهِ أَفْهَامُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فَكَانَ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ التَّبَعِيَّةِ.

قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَكَمْ مِنْ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي شَأْنِ الْكَافِرِينَ وَفِيهَا أَوْفَرُ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَدَبُّرًا لَهَا وَاعْتِبَارًا بِمَوْرِدِهَا. يَعْنِي أَنَّهَا فِي شَأْنِ الْكَافِرِينَ مِنْ دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ وَفِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ. هَذَا وَإِنَّ وَاجِبَ النُّصْحِ فِي الدِّينِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا يَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ عَظِيمٌ قَضَى عَلَيَّ أَنْ أُنَبِّهَ إِلَى خَطَرِ أَمْرِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَالْقَوْلِ فِيهِ دُونَ مُسْتَنَدٍ مِنْ نَقْلٍ صَحِيحٍ عَنْ أَسَاطِينِ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ إِبْدَاءِ تَفْسِيرٍ أَوْ تَأْوِيلٍ مِنْ قَائِلِهِ إِذَا كَانَ الْقَائِلُ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الضَّلَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. فَقَدْ رَأَيْنَا تَهَافُتَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْخَوْضِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّى لِبَيَانِ مَعْنَى الْآيَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَضَعُ الْآيَةَ ثُمَّ يَرْكُضُ فِي أَسَالِيبِ الْمَقَالَاتِ تَارِكًا مَعْنَى الْآيَةِ جَانِبًا، جَالِبًا مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مَا كَانَ جَالِبًا، وَقَدْ دَلَّتْ شَوَاهِدُ الْحَالِ عَلَى ضَعْفِ كِفَايَةِ الْبَعْضِ لِهَذَا الْعَمَلِ الْعِلْمِيِّ الْجَلِيلِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَهُ، وَأَنْ لَا يَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَأَنْ يَرُدَّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أَرْبَابِهَا، كَيْ لَا يَخْتَلِطَ الْخَاثِرُ بِالزُّبَّادِ، وَلَا يَكُونَ فِي حَالِكِ سَوَادٍ، وَإِنَّ سُكُوتَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْوَرْطَةِ، وَإِفْحَاشٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الْغَلْطَةِ، فَمَنْ يَرْكَبُ مَتْنَ عَمْيَاءَ، وَيَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، فَحَقٌّ عَلَى أَسَاطِينِ الْعِلْمِ تَقْوِيمُ اعْوِجَاجِهِ، وَتَمْيِيزُ حُلْوِهِ مِنْ أُجَاجِهِ، تَحْذِيرًا لِلْمُطَالِعِ، وَتَنْزِيلًا فِي الْبُرْجِ وَالطَّالِعِ.

المقدمة الرابعة فيما يحق أن يكون غرض المفسر

الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ فِيمَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ غَرَضَ الْمُفَسِّرِ كَأَنِّي بِكُمْ وَقَدْ مَرَّ عَلَى أَسْمَاعِكُمْ وَوَعَتْ أَلْبَابُكُمْ مَا قَرَّرْتُهُ مِنِ اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَمِنْ صِحَّةِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ، وَمِنِ الْإِنْحَاءِ عَلَى مَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِمَا يَدَّعِيهِ بَاطِنًا يُنَافِي مَقْصُودَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِشَارَاتِ، تَتَطَلَّعُونَ بَعْدُ إِلَى الْإِفْصَاحِ عَنْ غَايَةِ الْمُفَسِّرِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ لِبَيَانِهَا حَتَّى تَسْتَبِينَ لَكُمْ غَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ التَّفْسِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ طَرَائِقِهِمْ، وَحَتَّى تَعْلَمُوا عِنْدَ مُطَالَعَةِ التَّفَاسِيرِ مَقَادِيرَ اتِّصَالِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، بِالْغَايَةِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الْمُفَسِّرُ فَتَزِنُوا بِذَلِكَ مِقْدَارَ مَا أَوْفَى بِهِ مِنَ الْمَقْصِدِ، وَمِقْدَارَ مَا تَجَاوَزَهُ، ثُمَّ يَنْعَطِفُ الْقَوْلُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الْأَغْرَاضِ الْمُرَادَةِ مِنْهُ، وَبَيْنَ مَنْ يُفَصِّلُ مَعَانِيَهُ تَفْصِيلًا، ثُمَّ يَنْعَطِفُ الْقَوْلُ إِلَى نَمُوذَجٍ مِمَّا اسْتَخْرَجَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُسْتَنْبَطَاتِ الْقُرْآنِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ. إِنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابًا لِصَلَاحِ أَمْرِ النَّاسِ كَافَّةً رَحْمَةً لَهُمْ لِتَبْلِيغِهِمْ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النَّحْل: 89] فَكَانَ الْمَقْصِدُ الْأَعْلَى مِنْهُ صَلَاحَ الْأَحْوَالِ الْفَرْدِيَّةِ، وَالْجَمَاعِيَّةِ، وَالْعُمْرَانِيَّةِ، فَالصَّلَاحُ الْفَرْدِيُّ يَعْتَمِدُ تَهْذِيبَ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتَهَا، وَرَأْسُ الْأَمْرِ فِيهِ صَلَاحُ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ مَصْدَرُ الْآدَابِ وَالتَّفْكِيرِ، ثُمَّ صَلَاحُ السَّرِيرَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الظَّاهِرَةُ كَالصَّلَاةِ، وَالْبَاطِنَةُ كَالتَّخَلُّقِ بِتَرْكِ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْكِبْرِ. وَأَمَّا الصَّلَاحُ الْجَمَاعِيُّ فَيَحْصُلُ أَوَّلًا مِنَ الصَّلَاحِ الْفَرْدِيِّ إِذِ الْأَفْرَادُ أَجْزَاءُ الْمُجْتَمَعِ، وَلَا يَصْلُحُ الْكُلُّ إِلَّا بِصَلَاحِ أَجْزَائِهِ، وَمِنْ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ ضَبْطُ تَصَرُّفِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَعْصِمُهُمْ مِنْ مُزَاحَمَةِ الشَّهَوَاتِ وَمُوَاثَبَةِ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ عِلْمُ الْمُعَامَلَاتِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الْمَدَنِيَّةِ. وَأَمَّا الصَّلَاحُ الْعُمْرَانِيُّ فَهُوَ أَوْسَعُ من ذَلِك إِذا هُوَ حِفْظُ نِظَامِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَضَبْطُ تَصَرُّفِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقَالِيمِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَحْفَظُ مَصَالِحَ الْجَمِيعِ، وَرَعْيُ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَحِفْظُ الْمَصْلَحَةِ الْجَامِعَةِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْمَصْلَحَةِ الْقَاصِرَةِ لَهَا، وَيُسَمَّى هَذَا بِعِلْمِ الْعُمْرَانِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ.

فَمُرَادُ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ هُوَ بَيَانُ تَصَارِيفِ مَا يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الدِّينِ وَقَدْ أَوْدَعَ ذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا خِطَابًا بَيِّنًا وَتَعَبَّدَنَا بِمَعْرِفَةِ مُرَادِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَقَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى تَمَامِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَالْمَشَائِخِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ وَهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، أَمْ قَالَ قَائِلٌ بِقَوْلِ بَقِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى تَمَامِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهُوَ خِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ إِذِ الْقَصْدُ هُوَ الْإِمْكَانُ الْوُقُوعِيُّ لَا الْعَقْلِيُّ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِاسْتِقْصَاءِ الْبَحْثِ عَنْهُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَمَبْلَغُ الْعِلْمِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَمَامِهِ. وَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ مُظْهِرًا لِوَحْيِهِ، وَمُسْتَوْدَعًا لِمُرَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ هُمُ الْمُتَلَقِّينَ أَوَّلًا لِشَرْعِهِ وَإِبْلَاغِ مُرَادِهِ لِحِكْمَةٍ عَلَمِهَا: مِنْهَا كَوْنُ لِسَانِهِمْ أَفْصَحَ الْأَلْسُنِ وَأَسْهَلَهَا انْتِشَارًا، وَأَكْثَرَهَا تَحَمُّلًا لِلْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ لَفْظِهِ، وَلِتَكُونَ الْأُمَّةُ الْمُتَلَقِّيَةُ لِلتَّشْرِيعِ وَالنَّاشِرَةُ لَهُ أُمَّةً قَدْ سَلِمَتْ مَنْ أَفْنِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْمُجَادَلَةِ، وَلَمْ تَقْعُدْ بِهَا عَنِ النُّهُوضِ أَغْلَالُ التَّكَالُبِ عَلَى الرَّفَاهِيَةِ، وَلَا عَنْ تَلَقِّي الْكَمَالِ الْحَقِيقِيِّ إِذْ يُسَبِّبُ لَهَا خَلْطُهُ بِمَا يَجُرُّ إِلَى اضْمِحْلَالِهِ فَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمُوا قَطْعًا أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ خِطَابِ الْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ قَاصِرًا عَلَيْهِمْ أَوْ مُرَاعِيًا لِخَاصَّةِ أَحْوَالِهِمْ، بَلْ إِنَّ عُمُومَ الشَّرِيعَةِ وَدَوَامَهَا وَكَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً دَائِمَةً مُسْتَمِرَّةً عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ يُنَافِي ذَلِكَ، نَعَمْ إِنَّ مَقَاصِدَهُ تَصْفِيَةُ نُفُوسِ الْعَرَبِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ كَمَا قُلْنَا لِتَلَقِّيِ شَرِيعَتِهِ وَبَثِّهَا وَنَشْرِهَا، فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ ابْتِدَاءً قَبْلَ بَقِيَّةِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ مَرْعِيَّةً لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَقْصُودًا بِهِ خِطَابُهُمْ خَاصَّةً، وَإِصْلَاحُ أَحْوَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] وَقَالَ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 156، 157] لَكِنْ لَيْسَ ذَلِك بِوَجْه الِاقْتِصَار عَلَى أَحْوَالِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي. أَلَيْسَ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْآخِذِ فِي هَذَا الْفَنِّ أَنْ يَعْلَمَ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي جَاءَ الْقُرْآنُ لِتِبْيَانِهَا فَلْنُلِمَّ بِهَا الْآنَ بِحَسَبِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أُمُورٍ:

الأول:

الْأَوَّلُ: إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ وَتَعْلِيمُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا أَعْظَمُ سَبَبٍ لِإِصْلَاحِ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ يُزِيلُ عَنِ النَّفْسِ عَادَةً الْإِذْعَانَ لِغَيْرِ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الْأَوْهَامِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] فَأَسْنَدَ لِآلِهَتِهِمْ زِيَادَةَ تَتْبِيبِهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْآلِهَةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ آثَارِ الِاعْتِقَادِ بِالْآلِهَةِ. الثَّانِي: تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم: 4] وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَلَاغًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ» وَهَذَا الْمَقْصِدُ قَدْ فَهِمَهُ عَامَّةُ الْعَرَبِ بَلْهَ خَاصَّةَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ مُشِيرًا إِلَى مَا دَخَلَ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِأَحْسَنِ تَعْبِيرٍ: فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ أَرَادَ بِإِحَاطَةِ السَّلَاسِلِ بِالرِّقَابِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ. الثَّالِثُ: التَّشْرِيعُ وَهُوَ الْأَحْكَامُ خَاصَّةً وَعَامَّةً. قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: 105] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 48] وَلَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ جَمْعًا كُلِّيًّا فِي الْغَالِبِ، وَجُزْئِيًّا فِي الْمُهِمِّ، فَقَوْلُهُ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْل: 89] ، وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] الْمُرَادُ بِهِمَا! إِكْمَالُ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا الْأَمْرُ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ. قَالَ الشَّاطِبِيُّ لِأَنَّهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ جَامِعٌ وَالشَّرِيعَةُ تَمَّتْ بِتَمَامِهِ وَلَا يَكُونُ جَامِعًا لِتَمَامِ الدِّينِ إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ. الرَّابِعُ: سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ فِي الْقُرْآنِ الْقَصْدُ مِنْهُ صَلَاحُ الْأُمَّةِ وَحِفْظُ نِظَامِهَا كَالْإِرْشَادِ إِلَى تَكْوِينِ الْجَامِعَةِ بِقَوْلِهِ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمرَان: 103] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 159]

الخامس:

وَقَوْلِهِ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَال: 46] وَقَوْلِهِ: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] . الْخَامِسُ: الْقِصَصُ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ لِلتَّأَسِّي بِصَالِحِ أَحْوَالِهِمْ قَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُف: 3] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] وَلِلتَّحْذِيرِ مِنْ مَسَاوِيهِمْ قَالَ: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إِبْرَاهِيم: 45] وَفِي خِلَالِهَا تَعْلِيمٌ، وَكُنَّا أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. السَّادِسُ: التَّعْلِيمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَةَ عَصْرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا يُؤَهِّلُهُمْ إِلَى تَلَقِّي الشَّرِيعَةِ وَنَشْرِهَا وَذَلِكَ عِلْمُ الشَّرَائِعِ وَعِلْمُ الْأَخْبَارِ وَكَانَ ذَلِكَ مَبْلَغَ عِلْمِ مُخَالِطِي الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ زَادَ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيمَ حِكْمَةِ مِيزَانِ الْعُقُولِ وَصِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ فِي أَفَانِينِ مُجَادَلَاتِهِ لِلضَّالِّينَ وَفِي دَعْوَتِهِ إِلَى النَّظَرِ، ثُمَّ نَوَّهَ بِشَأْنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: 269] وَهَذَا أَوْسَعُ بَابٍ انْبَجَسَتْ مِنْهُ عُيُونُ الْمَعَارِفِ، وَانْفَتَحَتْ بِهِ عُيُونُ الْأُمِّيِّينَ إِلَى الْعِلْمِ، وَقَدْ لَحِقَ بِهِ التَّنْبِيهُ الْمُتَكَرِّرُ عَلَى فَائِدَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَطْرُقْ أَسْمَاعَ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّمَا قُصَارَى عُلُومِهِمْ أُمُورٌ تَجْرِيبِيَّةٌ، وَكَانَ حُكَمَاؤُهُمْ أَفْرَادًا اخْتُصُّوا بِفَرْطِ ذَكَاءٍ تُضَمُّ إِلَيْهِ تَجْرِبَةٌ وَهُمُ الْعُرَفَاءُ فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] وَقَالَ: ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: 1] فَنَبَّهَ إِلَى مَزِيَّةِ الْكِتَابَةِ. السَّابِعُ: الْمَوَاعِظُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّبْشِيرُ، وَهَذَا يَجْمَعُ جَمِيعَ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَاجَّةُ وَالْمُجَادَلَةُ لِلْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا بَابُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. الثَّامِنُ: الْإِعْجَازُ بِالْقُرْآنِ لِيَكُونَ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِذِ التَّصْدِيقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ بَعْدَ التَّحَدِّي، وَالْقُرْآنُ جَمَعَ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً بِلَفْظِهِ وَمُتَحَدًّى لِأَجْلِهِ بِمَعْنَاهُ وَالتَّحَدِّي وَقَعَ فِيهِ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُس: 38] وَلِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَدْخَلٌ فِي ظُهُورِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَوُضُوحِهِ. هَذَا مَا بَلَغَ إِلَيْهِ اسْتِقْرَائِي وَلِلْغَزَّالِيِّ فِي «إِحْيَاءِ عُلُومِ» الدِّينِ بَعْضٌ مِنْ ذَلِكَ. فَغَرَضُ الْمُفَسِّرِ بَيَانُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَقْصِدُهُ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِأَتَمِّ بَيَانٍ يَحْتَمِلُهُ الْمَعْنَى وَلَا يَأْبَاهُ اللَّفْظُ مِنْ كُلِّ مَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنَ، أَوْ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُهُ أَكْمَلَ فَهْمٍ، أَوْ يَخْدِمُ الْمَقْصِدَ تَفْصِيلًا وَتَفْرِيعًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ بِهِ خَفَاءٌ، أَوْ لِتَوَقُّعِ مُكَابَرَةٍ مِنْ مُعَانِدٍ أَوْ جَاهِلٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ رَائِدُ

الْمُفَسِّرِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ عَلَى الْإِجْمَالِ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِمَّا جَاءَ لِأَجْلِهِ، وَيَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُ فِي إِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ، وَلِلتَّنْزِيلِ اصْطِلَاحٌ وَعَادَاتٌ، وَتَعَرَّضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَادَاتِ الْقُرْآنِ فِي مُتَنَاثِرِ كَلَامِهِ فِي تَفْسِيرِهِ. فَطَرَائِقُ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ ثَلَاثٌ، إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ لِلتَّرْكِيبِ مَعَ بَيَانِهِ وَإِيضَاحِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِمَّا اسْتِنْبَاطُ مَعَانٍ مِنْ وَرَاءِ الظَّاهِرِ تَقْتَضِيهَا دَلَالَةُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَقَامِ وَلَا يُجَافِيهَا الِاسْتِعْمَالُ وَلَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ، وَتِلْكَ هِيَ مُسْتَتْبَعَاتُ التَّرَاكِيبِ وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَبْحُوثِ فِيهَا فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ كَكَوْنِ التَّأْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَرَدُّدِهِ، وَكَفَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ مَعَ الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْلِبَ الْمَسَائِلَ وَيَبْسُطَهَا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْنَى، أَوْ لِأَنَّ زِيَادَةَ فَهْمِ الْمَعْنَى مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيِّ وَبَيْنَ بَعْضِ الْعُلُومِ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَقْصِدٍ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ لِزِيَادَةِ تَنْبِيهٍ إِلَيْهِ، أَوْ لِرَدِّ مَطَاعِنِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنَافِيهِ لَا عَلَى أَنَّهَا مِمَّا هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ بَلْ لِقَصْدِ التَّوَسُّعِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. فَفِي الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ قَدْ فَرَّعَ الْعُلَمَاءُ وَفَصَّلُوا فِي الْأَحْكَامِ، وَخَصُّوهَا بِالتَّآلِيفِ الْوَاسِعَةِ، وَكَذَلِكَ تَفَارِيعُ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الَّتِي أَكْثَرَ مِنْهَا حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» فَلَا يُلَامُ الْمُفَسِّرُ إِذَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ تَفَارِيعِ الْعُلُومِ مِمَّا لَهُ خِدْمَةٌ لِلْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَهُ مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِالْأُمُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا نَفْرِضُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: 164] بِمَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إِثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْحُجَجِ لِذَلِكَ، وَالْقَوْلِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا أَنْ يُفَسَّرَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ بِكَثِيرٍ مِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ كَمَا فَعَلَ الْغَزَالِيُّ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِنَّهُ أَمْلَى عَلَيْهَا ثَمَانِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ. وَكَذَلِكَ تَقْرِيرُ مَسَائِلَ مِنْ عِلْمِ التَّشْرِيعِ لِزِيَادَةِ بَيَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ: مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الْحَج: 5] الْآيَاتِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَقْصِدِ وَهُوَ مَزِيدُ تَقْرِيرِ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَفِي الطَّرِيقَةِ الثَّالِثَةِ تُجْلَبُ مَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ مِنْ عُلُومٍ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِمَقْصِدِ الْآيَةِ: إِمَّا عَلَى أَن بَعْضهَا يومىء إِلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَوْ بِتَلْوِيحٍ مَا كَمَا يُفَسِّرُ أَحَدٌ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: 269] فَيَذْكُرُ تَقْسِيمَ عُلُومِ الْحِكْمَةِ وَمَنَافِعَهَا مُدْخِلًا ذَلِكَ تَحْتَ قَوْلِهِ: خَيْراً كَثِيراً.

فَالْحِكْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ عِلْمًا اصْطِلَاحِيًّا وَلَيْسَ هُوَ تَمَامَ الْمَعْنَى لِلْآيَةِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأَصْلِيَّ لَا يَفُوتُ وَتَفَارِيعُ الْحِكْمَةِ تُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْر: 7] تَفَاصِيلَ مِنْ عِلْمِ الِاقْتِصَادِ السِّيَاسِيِّ وَتَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ وَنُعَلِّلَ بِذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةَ الزَّكَاةِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ رَأْسِ مَالٍ وَعَمَلٍ عَلَى أَن ذَلِك تومىء إِلَيْهِ الْآيَةُ إِيمَاءً. وَأَنَّ بَعْضَ مَسَائِلِ الْعُلُومِ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ تَعَلُّقًا بِتَفْسِيرِ آيِ الْقُرْآنِ كَمَا نَفْرِضُ مَسْأَلَةً كَلَامِيَّةً لِتَقْرِيرِ دَلِيلٍ قُرْآنِيٍّ مِثْلَ بُرْهَانِ التَّمَانُعِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] وَكَتَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْمُتَشَابِهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنًى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] فَهَذَا كَوْنُهُ مِنْ غَايَاتِ التَّفْسِيرِ وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الِاعْتِبَارُ بِالْحَالَةِ الْمُشَاهَدَةِ فَلَوْ زَادَ الْمُفَسِّرُ فَفَصَّلَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَبَيَّنَ أَسْرَارَهَا وَعَلَّلَهَا بِمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي علم الهيأة كَانَ قد زَاد الْمَقْصُود خِدْمَةً. وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيِّ وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْعِلْمِ حَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ. وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْوَاحِ مِنَ الْآيَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: 47] أَنَّ فَنَاءَ الْعَالَمِ يَكُونُ بِالزَّلَازِلِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] الْآيَةَ أَنَّ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ يَخْتَلُّ عِنْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ. وَشَرْطُ كَوْنِ ذَلِكَ مَقْبُولًا أَنْ يَسْلُكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِيجَازِ فَلَا يَجْلِبُ إِلَّا الْخُلَاصَةَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَا يَصِيرُ الِاسْتِطْرَادُ كَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لَهُ لِئَلَّا يَكُونَ كَقَوْلِهِمْ السِّيُّ بِالسِّيِّ يُذْكَرُ (¬1) . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي سُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ آرَاءٌ، فَأَمَّا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَيَرَوْنَ مِنَ الْحَسَنِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الدِّينِيَّةِ وَآلَاتِهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَيَرَوْنَ الْقُرْآنَ مُشِيرًا إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «فَصْلِ الْمَقَالِ» : «أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ أَلْفَاظُ الشَّرْعِ كُلُّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا أَنْ تَخْرُجَ كُلُّهَا عَنْ ظَاهِرِهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَالسَّبَبُ فِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ هُوَ اخْتِلَافُ نَظَرِ النَّاسِ وَتَبَايَنُ قَرَائِحِهِمْ فِي التَّصْدِيقِ» ¬

(¬1) السي: بسين مُهْملَة مَكْسُورَة وتحتية مُشَدّدَة النظير والمثيل.

وتخلّص إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بَيْنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ اتِّصَالًا. وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ» ، وَهَذَا الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَأَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ وَأَمْثَالُهُمْ صَنِيعُهُمْ يَقْتَضِي التَّبَسُّطَ وَتَوْفِيقَ الْمَسَائِلِ العلمية، فقد ملأوا كُتُبَهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ الْحِكَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيمَا أَمْلَاهُ عَلَى سُورَةِ نُوحٍ وَقِصَّةِ الْخَضِرِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ جَنِّي وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو حَيَّانَ قَدْ أَشْبَعُوا «تَفَاسِيرَهُمْ» مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَلَامَ الصَّادِرَ عَنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ لَا تُبْنَى مَعَانِيهِ عَلَى فَهْمِ طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّ مَعَانِيَهُ تُطَابِقُ الْحَقَائِقَ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْحَقِيقَةِ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ وَكَانَتِ الْآيَةُ لَهَا اعْتِلَاقٌ بِذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ الْعِلْمِيَّةُ مُرَادَةٌ بِمِقْدَارِ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ أَفْهَامُ الْبَشَرِ وَبِمِقْدَارِ مَا سَتَبْلُغُ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَيُبْنَى عَلَى تَوَفُّرِ الْفَهْمِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَمَّا يَصْلُحُ لَهُ اللَّفْظُ عَرَبِيَّةً، وَلَا يَبْعُدُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا يَكُونُ تَكَلُّفًا بَيِّنًا وَلَا خُرُوجًا عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَتَفَاسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فَقَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: «لَا يَصِحُّ فِي مَسْلَكِ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ إِلَّا مَا يَكُونُ عَامًّا لجَمِيع الْعَرَب، فَلَا يتكلّف فِيهِ فَوْقَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ» وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي: «مَا تَقَرَّرَ مِنْ أُمِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِهَا وَهُمُ الْعَرَبُ تَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ، مِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْقُرْآنِ الْحَدَّ فَأَضَافُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمٍ يُذْكَرُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْحُرُوفِ وَأَشْبَاهِهَا وَهَذَا إِذَا عَرَضْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومِهِ وَمَا أُودِعَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا سِوَى مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ. نَعَمْ تَضَمَّنَ عُلُومًا مِنْ جِنْسِ عُلُومِ الْعَرَبِ وَمَا هُوَ عَلَى مَعْهُودِهَا مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ وَلَا تَبْلُغُهُ إِدْرَاكَاتُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ إِلَخْ» . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَسَّسَهُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلْأُمِّيِّينَ وَهُمُ الْعَرَبُ فَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ فِي مَسْلَكِ فَهْمِهِ وَإِفْهَامِهِ عَلَى مَقْدِرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ. وَهُوَ أَسَاسٌ وَاهٍ لِوُجُوهٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَا بَنَاهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ انْتِقَالُ الْعَرَبِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] . الثَّانِي أَنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ

الأولى:

رَاجِعَةٌ إِلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ تَتَنَاوَلَهُ أَفْهَامُ مَنْ يَأْتِي مِنَ النَّاسِ فِي عُصُورِ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْأُمَّةِ. الثَّالِثُ أَنَّ السَّلَفَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ يَعْنُونَ مَعَانِيَهُ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الشاطبي لَا نقضت عَجَائِبُهُ بِانْحِصَارِ أَنْوَاعِ مَعَانِيهِ. الرَّابِعُ أَنَّ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهِ أَنْ يَتَضَمَّنَ مِنَ الْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ لَفْظِهِ مَا لَمْ تَفِ بِهِ الْأَسْفَارُ الْمُتَكَاثِرَةُ. الْخَامِسُ أَنَّ مِقْدَارَ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ابْتِدَاءً لَا يَقْضِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ مَفْهُومًا لَدَيْهِمْ فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْمَعَانِي الْأَسَاسِيَّةِ فَقَدْ يَتَهَيَّأُ لِفَهْمِهِ أَقْوَامٌ، وَتُحْجَبُ عَنْهُ أَقْوَامٌ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. السَّادِسُ أَنَّ عَدَمَ تَكَلُّمِ السَّلَفِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ فِيمَا لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى مَقَاصِدِهِ فَنَحْنُ نُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا فَلَا نُسَلِّمُ وُقُوفَهُمْ فِيهَا عِنْدَ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ بَلْ قَدْ بَيَّنُوا وَفَصَّلُوا وَفَرَّعُوا فِي عُلُومٍ عُنُوا بِهَا، وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِك أَن نقفي عَلَى آثَارِهِمْ فِي عُلُومٍ أُخْرَى رَاجِعَةٍ لِخِدْمَةِ الْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوْ لِبَيَانِ سَعَةِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ لِإِيضَاحِ الْمَعْنَى فَذَلِكَ تَابِعٌ لِلتَّفْسِيرِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ إِنَّمَا تَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ التَّفْسِيرِ لَكِنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِلْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ وَاسْتِطْرَادٌ فِي الْعِلْمِ لِمُنَاسَبَةِ التَّفْسِيرِ لِيَكُونَ مُتَعَاطِي التَّفْسِيرِ أَوْسَعَ قَرِيحَةً فِي الْعُلُومِ. وَذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» إِلَى إِنْكَارِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْعُلُومِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى غَيْرِ هَاتِهِ الْعُلُومِ وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَحْقِيرِ الْفَلْسَفَةِ لِأَجْلِ مَا خُولِطَتْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَهُوَ مُفْرِطٌ فِي ذَلِكَ مُسْتَخِفٌّ بِالْحُكَمَاءِ. وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ عَلَاقَةَ الْعُلُومِ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: الْأُولَى: عُلُومٌ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ كَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالْفِقْهِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْبَلَاغَةِ. الثَّانِيَةُ: عُلُومٌ تَزِيدُ الْمُفَسِّرَ علما كالحكمة والهيأة وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ. الثَّالِثَةُ: عُلُومٌ أَشَارَ إِلَيْهَا أَوْ جَاءَتْ مُؤَيِّدَةً لَهُ كَعِلْمِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَالطِّبِّ وَالْمَنْطِقِ. الرَّابِعَةُ: عُلُومٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِهِ إِمَّا لِبُطْلَانِهَا كَالزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ وَالْمِيثُولُوجْيَا، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تُعِينُ عَلَى خِدْمَتِهِ كَعِلْمِ الْعَرُوضِ وَالْقَوَافِي.

المقدمة الخامسة في أسباب النزول

الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَوْلَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِتَطَلُّبِ أَسْبَابِ نُزُولِ آيِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ حَوَادِثُ يُرْوَى أَنَّ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ لِأَجْلِهَا لِبَيَانِ حُكْمِهَا أَوْ لِحِكَايَتِهَا أَوْ إِنْكَارِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَغْرَبُوا فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُوا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ، وَحَتَّى رَفَعُوا الثِّقَةَ بِمَا ذَكَرُوا، بَيْدَ أَنَّا نَجِدُ فِي بَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ إِشَارَةً إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي دَعَتْ إِلَى نُزُولِهَا وَنَجِدُ لِبَعْضِ الْآيِ أَسْبَابًا ثَبَتَتْ بِالنَّقْلِ دُونَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَأْيَ النَّاقِلِ، فَكَانَ أَمْرُ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ دَائِرًا بَيْنَ الْقَصْدِ وَالْإِسْرَافِ، وَكَانَ فِي غَضِّ النَّظَرِ عَنْهُ وَإِرْسَالِ حَبْلِهِ عَلَى غَارِبِهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ. فَذَلِكَ الَّذِي دَعَانِي إِلَى خَوْضِ هَذَا الْغَرَضِ فِي مُقَدِّمَاتِ التَّفْسِيرِ لِظُهُورِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى تَمْحِيصِهِ فِي أَثْنَاءِ التَّفْسِيرِ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، غَيْرُ مُدَّخِرٍ مَا أَرَاهُ فِي ذَلِكَ رَأْيًا يَجْمَعُ شَتَاتَهَا. وَأَنَا عَاذِرٌ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ فَاسْتَكْثَرُوا مِنْهَا، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِتَأْلِيفِ كِتَابٍ فِي مَوْضُوعٍ غَيْرِ مُشْبَعٍ تَمْتَلِكُهُ مَحَبَّةُ التَّوَسُّعِ فِيهِ فَلَا يَنْفَكُّ يَسْتَزِيدُ مِنْ مُلْتَقَطَاتِهِ لِيُذْكِيَ قَبَسَهُ، وَيَمُدَّ نَفَسَهُ، فَيَرْضَى بِمَا يَجِدُ رِضَى الصَّبِّ بِالْوَعْدِ، وَيَقُولُ زِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ، غَيْرَ هَيَّابٍ لِعَاذِلٍ، وَلَا مُتَطَلِّبِ مَعْذِرَةِ عَاذِرٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْوَلَعِ إِذَا امْتَلَكَ الْقَلْبَ، وَلَكِنِّي لَا أَعْذِرُ أَسَاطِينَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ تَلَقَّفُوا الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ فَأَثْبَتُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى مَرَاتِبِهَا قُوَّةً وَضَعْفًا، حَتَّى أَوْهَمُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْزِلُ آيَاتُهُ إِلَّا لِأَجْلِ حَوَادِثَ تَدْعُو إِلَيْهَا، وَبِئْسَ هَذَا الْوَهْمُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ هَادِيًا إِلَى مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ فِي أَصْنَافِ الصَّلَاحِ فَلَا يَتَوَقَّفُ نُزُولُهُ عَلَى حُدُوثِ الْحَوَادِثِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. نَعَمْ إِنَّ الْعُلَمَاءَ تَوَجَّسُوا مِنْهَا فَقَالُوا إِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يُخَصَّصُ، إِلَّا طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ ادَّعَتِ التَّخْصِيصَ بِهَا، وَلَوْ أَنَّ أَسْبَابَ النُّزُولِ كَانَتْ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةً بِآيَاتٍ عَامَّةٍ لَمَا دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ عَلَى عُمُومِهَا إِذْ قَدْ أَرَاحَنَا أَئِمَّةُ الْأُصُولِ حِينَ قَالُوا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَكِنَّ أَسْبَابًا كَثِيرَةً رَامَ رُوَاتُهَا تَعْيِينَ مُرَادٍ مِنْ تَخْصِيصِ عَامٍّ أَوْ تَقْيِيدِ مُطْلَقٍ أَوْ إِلْجَاءٍ إِلَى مَحْمَلٍ، فَتِلْكَ هِيَ الَّتِي قَدْ تَقِفُ عُرْضَةً أَمَامَ مَعَانِي التَّفْسِيرِ قَبْلَ التَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهَا أَوْ تَأْوِيلِهَا،

الأول:

وَقَدْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : «أَمَّا الْيَوْمَ فَكُلُّ أَحَدٍ يَخْتَرِعُ لِلْآيَةِ سَبَبًا، وَيَخْتَلِقُ إِفْكًا وَكَذِبًا، مُلْقِيًا زِمَامَهُ إِلَى الْجَهَالَةِ، غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي الْوَعِيدِ» وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ مِمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ» اهـ. إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا لَيْسَ الْمُفَسِّرُ بِغِنًى عَنْ عِلْمِهِ لِأَنَّ فِيهَا بَيَانُ مُجْمَلٍ أَوْ إِيضَاحُ خَفِيٍّ وَمُوجَزٍ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ وَحْدَهُ تَفْسِيرًا، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ الْمُفَسِّرَ عَلَى طَلَبِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي بِهَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أَتَى، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [آل عمرَان: 188] فَأَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَائِلًا: «إِنَّمَا دَعَا النَّبِيءُ الْيَهُودَ فَسَأَلَهَمُ عَلَى شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمرَان: 187، 188] الْآيَاتِ» . وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: 158] فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا، لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما اهـ. وَمِنْهَا مَا يُنَبِّهُ الْمُفَسِّرَ إِلَى إِدْرَاكِ خُصُوصِيَّاتٍ بَلَاغِيَّةٍ تَتْبَعُ مُقْتَضَى الْمَقَامَاتِ فَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا يُعِينُ عَلَى تَصْوِيرِ مَقَامِ الْكَلَامِ كَمَا سَنُنَبِّهُكَ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَقَدْ تَصَفَّحْتُ أَسْبَابَ النُّزُولِ الَّتِي صَحَّتْ أَسَانِيدُهَا فَوَجَدْتُهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْهَا عَلَى عِلْمِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ لِلْمُفَسِّرِ، وَهَذَا مِنْهُ تَفْسِيرُ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 11] ،

والثاني:

وَنَحْوَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا [الْبَقَرَة: 104] وَمِثْلَ بَعْضِ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا: وَمِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: 8] . وَالثَّانِي: هُوَ حَوَادِثُ تَسَبَّبَتْ عَلَيْهَا تَشْرِيعَاتُ أَحْكَامٍ وَصُوَرُ تِلْكَ الْحَوَادِثِ لَا تُبَيِّنُ مُجْمَلًا وَلَا تُخَالِفُ مَدْلُولَ الْآيَةِ بِوَجْهِ تَخْصِيصٍ أَوْ تَعْمِيمٍ أَوْ تَقْيِيدٍ، وَلَكِنَّهَا إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا وُجِدَتْ مُسَاوِيَةً لِمَدْلُولَاتِ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، مِثْلَ حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ الَّذِي نَزَلَتْ عَنْهُ آيَةُ اللِّعَانِ، وَمِثْلَ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الَّذِي نَزَلَتْ عَنْهُ آيَةُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ [الْبَقَرَة: 196] الْآيَةَ فَقَدْ قَالَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ: هِيَ لِي خَاصَّةً وَلَكُمْ عَامَّةً، وَمِثْلُ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] الْآيَةَ. وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يُفِيدُ الْبَحْثُ فِيهِ إِلَّا زِيَادَةَ تَفَهُّمٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَتَمْثِيلًا لِحُكْمِهَا، وَلَا يُخْشَى تَوَهُّمُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ، إِذْ قَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَوْ كَادُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُخَصَّصُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْلَ التَّشْرِيعِ أَنْ لَا يَكُونَ خَاصًّا. وَالثَّالِثُ: هُوَ حَوَادِثُ تَكْثُرُ أَمْثَالُهَا تَخْتَصُّ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِإِعْلَانِهَا وَبَيَانِ أَحْكَامِهَا وَزَجْرِ مَنْ يَرْتَكِبُهَا فَكَثِيرًا مَا تَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرَهُمْ يَقُولُونَ نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَيْهَا تِلْكَ الْآيَةُ تِلْكَ الْحَالَةَ الْخَاصَّةَ فَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّمْثِيلَ. فَفِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمرَان: 77] أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الْآيَةَ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا، قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ، لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ بن عَمٍّ لِي إِلَخْ، فَابْنُ مَسْعُودٍ جَعَلَ الْآيَةَ عَامَّةً لِأَنَّهُ جَعَلَهَا تَصْدِيقًا لِحَدِيثٍ عَامٍّ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ ظَنَّهَا خَاصَّة بِهِ إِذا قَالَ: «فِيَّ أُنْزِلَتْ» بِصِيغَةِ الْحَصْرِ. وَمِثْلُ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ [التَّوْبَة: 58] ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنَّا نُسَمِّي سُورَةَ التَّوْبَةِ سُورَةَ الْفَاضِحَةِ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة: 105] فَلَا حَاجَةَ لِبَيَانِ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا أَظْهَرَ بَعْضُ الْيَهُودِ

والرابع:

مَوَدَّةَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ أَهْلُ الْقِصَصِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ قَدْ يُوهِمُ الْقَاصِرِينَ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْعُمُومِ مِنْ أَلْفَاظِ تِلْكَ الْآيَاتِ. وَالرَّابِعُ: هُوَ حَوَادِثُ حَدَثَتْ وَفِي الْقُرْآنِ تُنَاسِبُ مَعَانِيَهَا سَابِقَة أَو لَا حقة فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يُوهِمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَوَادِثَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَيَدُلُّ لِهَذَا النَّوْعِ وُجُودُ اخْتِلَافٍ كَثِيرٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ بَحْثِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنَ «الْإِتْقَانِ» فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فَفِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [94] أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً بِأَلِفٍ بَعْدِ لَامِ السَّلَامِ وَقَالَ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ (تَصْغِيرُ غَنَمٍ) فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ (أَيْ ظَنُّوهُ مُشْرِكًا يُرِيدُ أَنْ يَتَّقِيَ مِنْهُمْ بِالسَّلَامِ) وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ الْآيَةَ. فَالْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَقَعَتْ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهَا لَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَازِلَةً فِيهَا بِخُصُوصِهَا وَلَكِنْ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّ قَبْلَهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: 94] وَبَعْدَهَا: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النِّسَاء: 94] . وَفِي تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نِزَاعَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ فِي مَاءِ شِرَاجِ الْحَرَّةِ قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاء: 65] الْآيَةَ قَالَ السَّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ الزَّرْكَشِيِّ قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ لَا أَنَّ هَذَا كَانَ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ؟ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَسَانِيدِ لَا يُدْخِلُونَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ فِي الْمُسْنَدِ. وَالْخَامِسُ: قِسْمٌ يُبَيِّنُ مُجْمَلَاتٍ وَيَدْفَعُ مُتَشَابِهَاتٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَة: 44] فَإِذَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّ مَنْ لِلشَّرْطِ أُشْكِلَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَكُونُ الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ كُفْرًا، ثُمَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ النَّصَارَى عَلِمَ أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ

تَرَكُوا الْحُكْمَ بِالْإِنْجِيلِ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ (ظَنُّوا أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْمَعْصِيَةُ) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَلِكَ؟ أَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَمِنْ هَذَا الْقسم مَالا يُبَيِّنُ مُجْمَلًا وَلَا يُؤَوِّلُ مُتَشَابِهًا وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ وَجْهَ تَنَاسُبِ الْآيِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الْآيَةَ، فَقَدْ تَخْفَى الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ فَيُبَيِّنُهَا مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَهَا عَنْهَا فَقَالَتْ: «هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ» . هَذَا وَإِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ جَاءَ لِهَدْيِ أُمَّةٍ وَالتَّشْرِيعِ لَهَا، وَهَذَا الْهَدْيُ قَدْ يَكُونُ وَارِدًا قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ قَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ أَوِ الثَّنَاء أَو غير هما، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَصْلُحُ لِخِطَابِهِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ بِكُلِّيَّاتٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَتَهْذِيبِيَّةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَعْيُ الْأُمَّةِ لِدِينِهَا سَهْلًا عَلَيْهَا، وَلِيُمْكِنَ تَوَاتُرُ الدِّينِ، وَلِيَكُونَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مَزِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ أَضْعَافَ هَذَا الْمُنَزَّلِ وَأَنْ يُطِيلَ عُمَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّشْرِيعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ عُمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: 3] ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلِمَاتِهِ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ جُزْئِيَّةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ مُرَادَ اللَّهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْمِيمُ مَا قُصِدَ مِنْهُ الْخُصُوصُ وَلَا إِطْلَاقُ مَا قُصِدَ مِنْهُ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ ذَلِك قد يقْضِي إِلَى التَّخْلِيطِ فِي الْمُرَادِ أَوْ إِلَى إِبْطَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ بَعْضُ الْفِرَقِ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ فِي الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ النَّازِلَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَوَضَعُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَجَاءُوا بِبِدْعَةِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ بِالذَّنْبِ، وَقد قَالَ الحورية لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ التَّحْكِيمِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 57] فَقَالَ عَلِيٌّ «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ» وَفَسَّرَهَا فِي خُطْبَةٍ لَهُ فِي «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» . وَثَمَّةَ فَائِدَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ لِأَسْبَابِ النُّزُولِ وَهِيَ أَنَّ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عِنْدَ حُدُوثِ حَوَادِثَ دَلَالَةٌ عَلَى إِعْجَازِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الِارْتِجَالِ، وَهِيَ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهِمْ، فَنُزُولُهُ عَلَى حَوَادِثَ يَقْطَعُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

المقدمة السادسة في القراءات

الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ فِي الْقِرَاءَاتِ لَوْلَا عِنَايَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِذِكْرِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ حَتَّى فِي كَيْفِيَّاتِ الْأَدَاءِ، لَكُنْتُ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ عِلْمٌ جَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ خُصَّ بِالتَّدْوِينِ وَالتَّأْلِيفِ، وَقَدْ أَشْبَعَ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَأَسْهَبُوا بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ مَزِيدٌ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُنِي بِمَحَلِّ الِاضْطِرَارِ إِلَى أَنْ أُلْقِيَ عَلَيْكُمْ جَمُلًا فِي هَذَا الْغَرَضِ تَعْرِفُونَ بِهَا مِقْدَارَ تَعَلُّقِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَرَاتِبَ الْقِرَاءَاتِ قُوَّةً وَضَعْفًا، كَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ إِعْرَاضِي عَنْ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي أَثْنَاءِ التَّفْسِيرِ. أَرَى أَنَّ لِلْقِرَاءَاتِ حالتين إِحْدَاهمَا هما لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّفْسِيرِ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ مِنْ جِهَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ. أَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى: فَهِيَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ النُّطْقِ بِالْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ كَمَقَادِيرِ الْمَدِّ وَالِإِمَالَاتِ وَالتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْجَهْرِ وَالْهَمْسِ وَالْغُنَّةِ، مثل عَذابِي [الْأَعْرَاف: 156] بِسُكُونِ الْيَاءِ وعَذابِي بِفَتْحِهَا، وَفِي تَعَدُّدِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ مِثْلَ: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [الْبَقَرَة: 214] بِفَتْحِ لَامِ يَقُولُ وَضَمِّهَا. وَنَحْوَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 254] بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فَتْحِهَا أَوْ رَفْعِ بَعْضٍ وَفَتْحِ بَعْضٍ، وَمَزِيَّةُ الْقِرَاءَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَائِدَةٌ إِلَى أَنَّهَا حَفِظَتْ عَلَى أَبْنَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهَا وَهُوَ تَحْدِيدُ كَيْفِيَّاتِ نُطْقِ الْعَرَبِ بِالْحُرُوفِ فِي مَخَارِجِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيَانِ اخْتِلَافِ الْعَرَبِ فِي لَهَجَاتِ النُّطْقِ بِتَلَقِّي ذَلِكَ عَنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ مُهِمٌّ جِدًّا لَكِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالتَّفْسِيرِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي اخْتِلَافِ مَعَانِي الْآيِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَرَفَ لِفَنِّ الْقِرَاءَاتِ حَقَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِيهَا أَيْضًا سَعَةٌ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهِيَ لِذَلِكَ مَادَّةٌ كُبْرَى لِعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فَأَئِمَّةُ الْعَرَبيَّة لما قرأوا الْقُرْآنَ قَرَأُوهُ بِلَهَجَاتِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي وُزِّعَتْ عَلَيْهَا الْمَصَاحِفُ: الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَالشَّامِ، قِيلَ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ قُرَّاؤُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ وُرُودُ مُصْحَفِ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ فَقَرَأَ كُلُّ فَرِيقٍ بِعَرَبِيَّةِ قَوْمِهِ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ، لَا فِي زِيَادَةِ الْحُرُوفِ وَنَقْصِهَا، وَلَا فِي اخْتِلَافِ

الْإِعْرَابِ دُونَ مُخَالَفَتِهِ مُصْحَفَ عُثْمَانَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ الْوَاحِدُ قَدْ قَرَأَ بِوَجْهَيْنِ لِيُرِيَ صِحَّتَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ قَصْدًا لِحِفْظِ اللُّغَةِ مَعَ حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ بِهَا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ اخْتِيَارًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا يَقَعُ فِي «كِتَابَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ» مِنْ نَقْدِ بَعْضِ طُرُقِ الْقُرَّاءِ، عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ نَقْدِهِمْ نَظَرًا، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِرَاءَةَ بِالْإِمَالَةِ مَعَ ثُبُوتِهَا عَنِ الْقُرَّاءِ، وَهِيَ مروية عَن مقرىء الْمَدِينَةِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ عَنْهُ وَانْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ أَهْلُ مِصْرَ، فَدَلَّتْ كَرَاهَتُهُ عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقَارِئَ بِهَا مَا قَرَأَ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [1] عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ: يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «طسينَ مِيمُ» بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ «طسين» وَضَمِّ الْمِيمِ الْأَخِيرَةِ كَمَا يُقَال هَذَا معديكرب اهـ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ. قُلْتُ: وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ مَا دَامَتْ كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ وَجُمَلُهُ مَحْفُوظَةً عَلَى نَحْوِ مَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا شَذُّوا مِنْهُمْ، كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَثْبَتَهُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ، رَأَى أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى اتِّبَاعه وَترك قِرَاءَة مَا خَالَفَهُ، وَجَمَعَ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَأَحْرَقَهَا وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ. قَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ «تَفْسِيرِهِ» «كَانَ عَلِيٌّ طُولَ أَيَّامِهِ يَقْرَأُ مُصْحَفَ عُثْمَانَ وَيَتَّخِذُهُ إِمَامًا» . وَقُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ فِعْلُ عُثْمَانَ إِتْمَامًا لِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ جَمْعِهِ الْقُرْآنَ الَّذِي كَانَ يُقْرَأُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ نَسَخَهُ فِي مَصَاحِفَ لِتُوَزَّعَ عَلَى الْأَمْصَارِ، فَصَارَ الْمُصْحَفُ الَّذِي كُتِبَ لِعُثْمَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ قِرَاءَةٍ تُوَافِقُهُ وَصَارَ مَا خَالَفَهُ مَتْرُوكًا بِمَا يُقَارِبُ الْإِجْمَاعَ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : «كَانَتْ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاحِدَةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَيُقَالُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى جِبْرِيلَ» اهـ. وَبَقِيَ الَّذِينَ قَرَأُوا قِرَاءَاتٍ مُخَالِفَةً لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ يَقْرَأُونَ بِمَا رَوَوْهُ لَا يَنْهَاهُمْ أَحَدٌ عَنْ قِرَاءَتِهِمْ وَلَكِنْ يَعُدُّونَهُمْ شُذَّاذًا وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا قِرَاءَتَهُمْ فِي مَصَاحِفَ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الْوَاقِعَة: 29] عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِي «الْكَشَّاف» و «الْقُرْطُبِيّ» - قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «وطلح مَنْضُودٍ» بِعَيْنٍ فِي مَوْضِعِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ قَارِئٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فَقَالَ: وَمَا شَأْنُ الطَّلْحِ؟ إِنَّمَا هُوَ «وَطَلْعٍ»

وَقَرَأَ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] فَقَالُوا أَفَلَا نُحَوِّلُهَا؟ فَقَالَ إِنَّ آيَ الْقُرْآنِ لَا تُهَاجُ الْيَوْمَ وَلَا تُحَوُّلُ، أَيْ لَا تُغَيَّرُ حُرُوفُهَا وَلَا تُحَوَّلُ عَنْ مَكَانِهَا فَهُوَ قَدْ مَنَعَ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُصْحَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي رَوَاهَا. وَمِمَّنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ قِرَاءَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، إِلَى أَنْ تَرَكَ النَّاسُ ذَلِكَ تَدْرِيجًا. ذَكَرَ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ سُورَةِ النُّورِ [15] أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ: «إِذْ تَثْقَفُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» وَكَانَ أَبُوهَا يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ شَذَّتْ مَصَاحِفُ بَقِيَتْ مَغْفُولًا عَنْهَا بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ صَاحِبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ دَفَنَهُ فِي مُدَّةِ الْحَجَّاجِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالِفًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَفْرَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَوْهِينِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَذَلِكَ مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَاتِ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتْ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَتْ خَطَّ الْمُصْحَفِ- أَيْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- وَصَحَّ سَنَد روايها فَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ لَا يَجُوزُ رَدُّهَا، قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَبَعٌ لِتَوَاتُرِ الْمُصْحَفِ الَّذِي وَافَقَتْهُ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ، يَعْنِي وَأَنَّ تَوَاتر الْمُصحف ناشىء عَنْ تَوَاتُرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ هِيَ شُرُوطٌ فِي قَبُولِ الْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ السَّنَدِ إِلَى النَّبِيِّ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِأَنَّ تَوَاتُرَهَا يَجْعَلُهَا حُجَّةً فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَيُغْنِيهَا عَنِ الِاعْتِضَادِ بِمُوَافَقَةِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمْعًا مِنْ أَهْلِ الْقرَاءَات المتواترة قرأوا قَوْله تَعَالَى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير: 24] بِظَاءٍ مُشَالَةٍ أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَقَدْ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ. عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ صَنَّفَ كِتَابَ «الْحُجَّةِ» لِلْقِرَاءَاتِ، وَهُوَ مُعْتَمَدٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ رَأَيْتُ نُسْخَةً مِنْهُ فِي مَكَاتِبِ الْآسِتَانَةِ، فَالْقِرَاءَاتُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا تُفِيدُ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ وَالْمُرَادُ بِمُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ مُوَافَقَةُ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي وَجَّهَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ إِذْ قَدْ يَكُونُ اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ نَادِرٌ بَيْنَ بَعْضِهَا، مِثْلَ زِيَادَةِ الْوَاوِ فِي وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [آل عمرَان: 133]

فِي مُصْحَفِ الْكُوفَةِ وَمِثْلَ زِيَادَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ الشُّورَى [30] : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت: 8] أَوْ إِحْسَانًا فَذَلِك اخْتِلَاف ناشىء عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْحُفَّاظِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ نَاسِخُو الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَا يُنَافِي التَّوَاتُرَ إِذْ لَا تَعَارُضَ، إِذَا كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ قَدْ نَطَقَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُ النَّاقِلُونَ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ أَزْمِنَةٍ، أَوْ كَانَ قَدْ أُذِنَ للناقلين أَن يقرأوا بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَوِ الْأَلْفَاظِ. وَقَدِ انْحَصَرَ تَوَفُّرُ الشُّرُوطِ فِي الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ لِلْقُرَّاءِ وَهُمْ: نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَدَنِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ الْكُوفِيُّ، وَحَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكُوفِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكُوفِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْمَدَنِيُّ، وَخَلَفٌ الْبَزَّارُ (بِزَايٍ فَأَلِفٌ فَرَاءٌ مُهْمَلَةٌ) الْكُوفِيُّ، وَهَذَا الْعَاشِرُ لَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ خَاصَّةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً تُنَاسِبُ قِرَاءَاتِ أَئِمَّةِ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ قِرَاءَاتِ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ إِلَّا قَلِيلًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُ قِرَاءَةَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَالْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ، مَرْتَبَةً دُونَ الْعَشْرِ، وَقَدْ عَدَّ الْجُمْهُورُ مَا سِوَى ذَلِكَ شَاذًّا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ بِتَوَاتُرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ. وَالَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ مَا دُونَ الْعَشْرِ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَلَا أَخْذُ حُكْمٍ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَا تَوَاتَرَ، فَكَانَ مَا خَالَفَهُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا، وَقَدْ تُرْوَى قِرَاءَاتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ مِثْلَ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» وَأَضْرَابِهِمَا إِلَّا أَنَّهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ مَنْ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةُ بِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةِ النَّقْلِ فَلَا يُتْرَكُ الْمُتَوَاتِرُ لِلْآحَادِ، وَإِذَا كَانَ رَاوِيهَا قَدْ بَلَغَتْهُ قِرَاءَةٌ أُخْرَى مُتَوَاتِرَةٌ تُخَالِفُ مَا رَوَاهُ وَتَحَقَّقَ لَدَيْهِ التَّوَاتُرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِالْمَرْوِيَّةِ تَوَاتُرًا، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنْ يُطْلِقُوا عَلَيْهَا قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَسِبَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الرِّوَايَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَيَكْثُرُ ذِكْرُ هَذَا الْعُنْوَانِ فِي «تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ» وَفِي «الْكَشَّافِ» وَفِي «الْمُحَرَّرِ الْوَجِيزِ» لِعَبْدِ الْحَقِّ ابْن عَطِيَّةَ، وَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ ابْن جِنِّي، فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنِسْبَتِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا وَحْدَهَا الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ وَلَا تَرْجِيحَهَا عَلَى الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ قَدْ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وأما الحالة الثانية:

بِأَسَانِيدَ أَقْوَى وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي إِطْلَاقُ وَصْفِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُوهِمُ مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَبَجُّحِ أَصْحَابِ الرِّوَايَةِ بِمَرْوِيَّاتِهِمْ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ مِثْلَ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: 4] وَ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وَ (ننشرها) ونُنْشِزُها [الْبَقَرَة: 259] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ أَوْ قَدْ كُذِبُوا [يُوسُف: 110] بِتَخْفِيفِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْحَرَكَاتِ الَّذِي يَخْتَلِفُ مَعَهُ مَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَالْأُولَى بِمَعْنَى يَصُدُّونَ غَيْرَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى صُدُودِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِالتَّفْسِيرِ لِأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي قِرَاءَةٍ قَدْ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، أَوْ يُثِيرُ مَعْنًى غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ يُكْثِرُ الْمَعَانِيَ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَة: 222] بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَبِسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ مُخَفَّفَةً، وَنَحْوَ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاء: 43] ولامَسْتُمُ النِّساءَ، وَقِرَاءَةِ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَن إِنَاثًا [الزخرف: 19] مَعَ قِرَاءَةِ «الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ» وَالظَّنُّ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِالْوَجْهَيْنِ وَأَكْثَرَ، تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي إِذَا جَزَمْنَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْوُجُوهِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ هِيَ مَأْثُورَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ تِلْكَ الْوُجُوهِ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَقْرَأَ الْقُرَّاءُ بِوُجُوهٍ فَتَكْثُرَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ وُجُودُ الْوَجْهَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي مُخْتَلِفِ الْقِرَاءَاتِ مُجْزِئًا عَنْ آيَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهَذَا نَظِيرُ التَّضْمِينِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَنَظِيرُ التَّوْرِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ فِي الْبَدِيعِ، وَنَظِيرُ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُوَ من زِيَادَة ملائمة بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَدْ يَكُونُ مَعَهُ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ أَحَدِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُتَعَيِّنًا وَلَا مُرَجَّحًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ» أَنَّهُ يَخْتَارُ حَمْلَ مَعْنَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى الْأُخْرَى، وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [24] ، وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ: «فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» بِإِسْقَاطِ هُوَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ هُوَ يَحْسُنُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لَا مُبْتَدَأً، لِأَنَّهُ

لَوْ كَانَ مُبْتَدَأً لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ (¬1) : «وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (¬2) لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى تَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِرَاءَتَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَوْجِيهٌ يُخَالِفُ الْآخَرَ، كَقِرَاءَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمرَان: 36] بِضَمِّ التَّاءِ أَوْ سُكُونِهَا» . وَأَنَا أَرَى أَنَّ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِهَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْآيَةِ غَالِبًا فَيَقُومُ تَعَدُّدُ الْقِرَاءَاتِ مَقَامَ تَعَدُّدِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَة أحرف فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ يَرْجِعُ إِلَى اعتبارين: أحد هما اعْتِبَارُ الْحَدِيثِ مَنْسُوخًا وَالْآخَرُ اعْتِبَارُهُ مُحْكَمًا. فَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ، وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنِ وَهْبٍ قَالُوا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبَاحَ اللَّهُ للْعَرَب أَن يقرأوا الْقُرْآنَ بِلُغَاتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهَا الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَزَالَ الْعُذْرُ لِكَثْرَةِ الْحِفْظِ وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَامَتِ الرُّخْصَةُ مُدَّةَ حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِمَّا نُسِخَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ أَوْ بِوِصَايَةٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَبِنَهْيِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَقْرَأَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: 178] ¬

(¬1) «الْبَحْر» 8/ 226. [.....] (¬2) أَي أَبُو عَليّ.

وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ فِي حَتَّى، وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ لِكُتَّابِ الْمَصَاحِفِ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي حَرْفٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ لِسَانَ قُرَيْشٍ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ نَزَلَ بِمَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ لُغَتِهِمْ وَمَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ مِنْ لُغَاتِ الْقَبَائِلِ إِذْ كَانَ عُكَاظٌ بِأَرْضِ قُرَيْشٍ وَكَانَتْ مَكَّةُ مَهْبِطَ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا. وَلَهُمْ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ بِسَبْعَةِ أَحْرُفٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ الْكَلِمَاتُ الْمُتَرَادِفَةُ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ، أَيْ أُنْزِلَ بِتَخْيِيرِ قَارِئِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَحْضُرُهُ مِنَ الْمُرَادِفَاتِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُحِيطُوا بِالْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَيَكُونُ تَحْدِيدًا لِلرُّخْصَةِ بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزَ سَبْعَةَ مُرَادِفَاتٍ أَوْ سَبْعَ لَهَجَاتٍ أَيْ مِنْ سَبْعِ لُغَاتٍ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ لَهَا سِتَّةُ مُرَادِفَاتٍ أَصْلًا، وَلَا فِي كَلِمَةٍ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَبْعُ لَهَجَاتٍ إِلَّا كَلِمَاتٍ قَلِيلَةً مثل أُفٍّ [الْإِسْرَاء: 23] وجِبْرِيلَ [الْبَقَرَة: 98] وأَرْجِهْ [الْأَعْرَاف: 111] . وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ اللُّغَاتِ السَّبْعِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالْبَاقِلَّانِيُّ هِيَ مِنْ عُمُومِ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَهُمْ: قُرَيْشٌ، وَهُذَيْلٌ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ، وَالْأَزْدُ، وَرَبِيعَةُ، وَهَوَازِنُ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ قُرَيْشًا، وَبَنِي دَارِمَ، وَالْعُلْيَا مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَجُشَمُ ابْن بَكْرٍ، وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَثَقِيفٌ، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَسُفْلَى تَمِيمٍ وَهُمْ بَنُو دَارِمَ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ خُزَاعَةَ وَيَطْرَحُ تَمِيمًا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ هِيَ لُغَاتُ قَبَائِلَ مِنْ مُضَرَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَهُذَيْلٌ وَكِنَانَةُ وَقَيْسٌ وَضَبَّةُ وَتَيْمُ الرِّبَابِ، وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَكُلُّهَا مِنْ مُضَرَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عِيَاضٌ أَنَّ الْعَدَدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ حَقِيقَتُهُ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالتَّوَسُّعِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادِفَاتُ وَلَوْ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ) ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَة: 20] مَرُّوا فِيهِ- سَعَوْا فِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- أَخِّرُونَا- أَمْهِلُونَا، وَأَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: 43، 44] فَقَالَ الرَّجُلُ طَعَامَ الْيَتِيمِ، فَأَعَادَ لَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ الْأَثِيمَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ طَعَامَ الْفَاجِرِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَاقْرَأْ كَذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَهِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ وَلُغَتُهُمَا وَاحِدَةٌ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ فِي نَحْوِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النِّسَاء: 148] أَنْ يَقْرَأَ عَلِيمًا حَكِيمًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِكْرِهِ عَقِبَ آيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَقُولَ: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» أَوْ عَكْسَهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مُحْكَمًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَقَدْ ذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ أَنْوَاعُ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ أَنْوَاعُ كَلَامِهِ كَالْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. أَوْ أَنْوَاعُ دَلَالَتِهِ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِ مِنْ قَصْدِ التَّوْسِعَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ هَؤُلَاءُ حَصْرَ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَنَحْوِهَا فِي سَبْعَةٍ فَذَكَرُوا كَلَامًا لَا يَسْلَمُ مِنَ النَّقْضِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مَبْثُوثَةٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَكِنْ لَا عَلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ، وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهَا إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّ الْأَوَّلِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَبْثُوثَةٌ فِيهِ كَلِمَاتٌ مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا سَمِعْتُ السِّكِّينَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً [يُوسُف: 31] مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ (¬1) ، وَفِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا من النَّبِي فِي قِصَّةِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: (ايْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَقْطَعْهُ بَيْنَكُمَا) ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُلَاقِي مَسَاقَ الْحَدِيثِ مِنَ التَّوْسِعَةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ ذَكَرُوا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ لُغَاتِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَنْهَاهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ إِلَى خَمْسِينَ لُغَةٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ لَهَجَاتُ الْعَرَبِ فِي كَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْهَمْزِ وَالتَّخْفِيفِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلْعَرَبِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ لمن تقدّمنا، وَهنا لَك أَجْوِبَةٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا وَقَدْ أَنْهَى بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ الْأَجْوِبَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ جَوَابًا. ¬

(¬1) رَوَاهُ ابْن وهب عَن مَالك، وَهُوَ فِي أَحَادِيث ابْن وهب عَنهُ فِي جَامع الْعُتْبِيَّة.

وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَدِيثُ عُمَرَ وَهِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ قَدْ حَسُنَ إِفْصَاحُ رَاوِيهِ عَنْ مَقْصِدِ عُمَرَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَرْوِيًّا بِالْمَعْنَى مَعَ إِخْلَالٍ بِالْمَقْصُودِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى تَرْتِيبِ آيِ السُّوَرِ بِأَنْ يَكُونَ هِشَامٌ قَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ التَّرْتِيبِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ عُمَرُ فَتَكُونُ تِلْكَ رُخْصَةً لَهُمْ فِي أَنْ يَحْفَظُوا سُوَرَ الْقُرْآنِ بِدُونِ تَعْيِينِ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ مِنَ السُّورَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاقِلَّانِيُّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ مِنِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ كَمَا يَأْتِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ. فَعَلَى رَأْيِنَا هَذَا تَكُونُ هَذِهِ رُخْصَةً. ثُمَّ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَوَخَّوْنَ بِقِرَاءَتِهِمْ مُوَافَقَةَ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى نَحْوِ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِزَوَالِ مُوجِبِ الرُّخْصَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ فِي الْحَدِيثِ مَا يُطَابِقُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الَّتِي اشْتُهِرَتْ بَيْنَ أَهْلِ فَنِّ الْقرَاءَات، وَذَلِكَ غلظ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا قَالَ أَبُو شَامَةَ، فَإِنَّ انْحِصَارَ الْقِرَاءَاتِ فِي سَبْعٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ حَصَلَ إِمَّا بِدُونِ قَصْدٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّيَمُّنِ بِعَدَدِ السَّبْعَةِ أَوْ بِقَصْدِ إِيهَامِ أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ الْمُرَادَةُ مِنَ الْحَدِيثِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْن عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ فَعَلَ جَاعِلُ عَدَدِ الْقِرَاءَاتِ سَبْعًا مَا لَا يَنْبَغِي، وَأَشْكَلَ بِهِ الْأَمْرُ عَلَى الْعَامَّةِ إِذْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ الْمُرَادَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْتَ جَامِعَهَا نَقَصَ عَنِ السَّبْعَةِ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمَكِّيُّ- وَهُوَ قَبْلَ ابْنِ مُجَاهِدٍ- كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ كل مصر إِمَامًا، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي أَرْسَلَهَا عُثْمَانُ إِلَى الْأَمْصَارِ كَانَتْ إِلَى خَمْسَةِ أَمْصَارٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» : أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقِرَاءَاتِ فِي سَبْعٍ ابْنُ مُجَاهِدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ عَدَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ سَابِعًا ثُمَّ عَوَّضَهَا بِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِمِائَةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ مِثْلَ بَقِيَّةِ السَّبْعَةِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ سَابِقًا عَلَى تَدْوِينِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَكَانَ هُوَ الدَّاعِيَ لِجَمْعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ تَعَيَّنَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي قِرَاءَةِ أَلْفَاظِ الْمُصْحَفِ فِيمَا عَدَا اللَّهَجَاتِ.

مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها

وَأَمَّا صِحَّةُ السَّنَدِ الَّذِي تُرْوَى بِهِ الْقِرَاءَةُ لِتَكُونَ مَقْبُولَةً فَهُوَ شَرْطٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ إِذْ قَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَمُوَافَقَةً لِوُجُوهِ الْعَرَبِيَّةِ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ مَرْوِيَّةً بِسَنَدٍ صَحِيحٍ كَمَا ذُكِرَ فِي «الْمُزْهِرِ» أَنَّ حَمَّادَ بْنَ الزِّبْرِقَانِ قَرَأَ: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعدها أَبَاهُ [التَّوْبَة: 114] بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِنَّمَا هِيَ «إِيَّاهُ» بِتَحْتِيَّةٍ، وَقَرَأَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي غرَّة [ص: 2] بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ «عِزَّةٍ» بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ، وَقَرَأَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ «يُغْنِيهِ» بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا حَفِظَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ. مَرَاتِبُ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ» : اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَا تُخَالِفُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ وَكَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَبَعٌ لِتَوَاتُرِ صُورَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَمَا كَانَ نُطْقُهُ صَالِحًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا هُوَ بِمُتَوَاتِرٍ لِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ مُنَافٍ لِدَعْوَى التَّوَاتُرِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِنِ الْقِرَاءَاتِ مُخَالِفًا لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، مِثْلَ مَا نُقِلَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمَّا قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُغَيَّرْ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ صَارَتْ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا الْمُعَيَّنَةُ آحَادًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ كُلَّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ طَرَائِقِ أَصْحَابِهَا وَرِوَايَاتِهِمْ مُتَوَاتِرَةٌ وَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَسَانِيدَهُمْ فِيهَا فَكَانَتْ أَسَانِيدَ أَحَادٍ، وَأَقْوَاهَا سَنَدًا مَا كَانَ لَهُ رَاوِيَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونُسِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ إِدْرِيسَ فَقِيهُ بِجَايَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَبْيَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسَانِيدَ لَا تَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ فُلَانًا قَرَأَ كَذَا وَأَنَّ فُلَانًا قَرَأَ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمَقْرُوءُ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّاتُ النُّطْقِ بِحُرُوفِهِ فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّاتِ أَدَائِهِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْبُرْهَانِ» : هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْأَبْيَارِيُّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِهِ» : هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْقُرَّاءِ وَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَبْيَارِيِّ، وَوَافَقَ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ ابْنُ سَلَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ

مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ جَرَى فِيهَا حِوَارٌ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ ابْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ وَابْنِ لُبٍّ الْأَنْدَلُسِيِّ ذَكَرَهَا الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي «الْمِعْيَارِ» . وَتَنْتَهِي أَسَانِيدُ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ إِلَى ثَمَانِيَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَبَعْضُهَا يَنْتَهِي إِلَى جَمِيعِ الثَّمَانِيَةِ وَبَعْضُهَا إِلَى بَعْضِهِمْ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا وُجُوهُ الْإِعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ فَأَكْثَرُهَا مُتَوَاتِرٌ إِلَّا مَا سَاغَ فِيهِ إِعْرَابَانِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعَانِي نَحْوَ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] بِنَصْبِ حِينَ وَرَفْعِهِ، وَنَحْوَ: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [الْأَحْزَاب: 11] بِنَصْبِ (يَقُولَ) وَرَفْعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى رَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: 164] وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَصْبِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِئَلَّا يُثْبِتُوا لِلَّهِ كَلَامًا، وَقَرَأَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الْكَهْف: 51] بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَفَسَّرُوهَا بِأَبِي بكر وَعمر حاشا هما، وَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ. وَأَمَّا مَا خَالَفَ الْوُجُوهَ الصَّحِيحَةَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَفِيهِ نَظَرٌ قَوِيٌّ لِأَنَّا لَا ثِقَةَ لَنَا بِانْحِصَارِ فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا صَارَ إِلَى نُحَاةِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَبِهَذَا نُبْطِلُ كَثِيرًا مِمَّا زَيَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِعِلَّةٍ أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهُ فِي قِرَاءَةٍ مَشْهُورَةٍ كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادهم شركائهم [الْأَنْعَام: 137] بِبِنَاءِ (زَيَّنَ) لِلْمَفْعُولِ وَبِرَفْعِ (قَتْلُ) ، وَنَصْبِ (أَوْلَادَهُمْ) وَخَفْضِ (شُرَكَائِهِمْ) وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَجْهٌ مَرْجُوحٌ، فَهُوَ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ الَّتِي تُنَاكِدُ التَّوَاتُرَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا عَلَى مَا فِي اخْتِلَافِ الْإِعْرَابَيْنِ مِنْ إِفَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ الَّذِي يُفِيدُهُ الْآخَرُ، لِأَنَّ لِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ خَصَائِصَ غَيْرَ الَّتِي لِإِضَافَتِهِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَلِأَنَّ لِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ نُكَتًا غَيْرَ الَّتِي لِبِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ، عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ «الْحُجَّةَ» احْتَجَّ فِيهِ لِلْقِرَاءَاتِ الْمَأْثُورَةِ احْتِجَاجًا مِنْ جَانِبِ الْعَرَبِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرَ الصَّحِيحَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَدْ تَتَفَاوَتُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغَةِ أَوِ الْفَصَاحَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْمَعَانِي أَوِ الشُّهْرَةِ، وَهُوَ تَمَايُزٌ مُتَقَارِبٌ، وَقَلَّ أَنْ

يَكْسِبَ إِحْدَى الْقِرَاءَاتِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ رُجْحَانًا، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَانَ لَا يَرَى مَانِعًا مِنْ تَرْجِيحِ قِرَاءَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالْعَلَّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِي أَكْثَرِ مَا رَجَّحَ بِهِ نَظَرٌ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَمَّا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ مِنِ اخْتِيَارِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ وَقَوْلِهِمْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَحْسَنُ، أَذَاكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِمَّا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ مِنْ تَحْسِينِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَاخْتِيَارِهَا عَلَى بَعْضٍ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَأَصَحَّ فِي النَّقْلِ، وَأَيْسَرَ فِي اللَّفْظِ فَلَا يُنْكَرُ ذَلِكَ، كَرِوَايَةِ وَرْشٍ الَّتِي اخْتَارَهَا الشُّيُوخُ الْمُتَقَدِّمُونَ عِنْدَنَا (أَيْ بِالْأَنْدَلُسِ) فَكَانَ الْإِمَامُ فِي الْجَامِعِ لَا يَقْرَأُ إِلَّا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْهِيلِ النَّبَرَاتِ وَتَرْكِ تَحْقِيقِهَا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، وَقَدْ تَؤَوَّلَ ذَلِكَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَرَاهِيَةِ النَّبْرِ فِي الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الْأَوَّلِ مِنَ «الْعُتْبِيَّةِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النَّبْرِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَكْرَهُهُ وَمَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ» يُعْنَى بِالنَّبْرِ هَاهُنَا إِظْهَارُ الْهَمْزَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى الْأَصْلِ فَكُرِهَ ذَلِكَ وَاسْتُحِبَّ فِيهِ التَّسْهِيلُ عَلَى رِوَايَةِ وَرْشٍ لِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ الْهَمْزَ (أَيْ إِظْهَارَ الْهَمْزِ فِي الْكَلِمَاتِ الْمَهْمُوزَةِ بَلْ كَانَ يَنْطِقُ بِالْهَمْزَةِ مُسَهَّلَةً إِلَى أَحْرُفِ عِلَّةٍ مِنْ جِنْسِ حَرَكَتِهَا، مِثْلَ: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الْكَهْف: 94] بِالْأَلِفِ دُونَ الْهَمْزِ، وَمِثْلَ: الذِّيبِ فِي الذِّئْبُ [يُوسُف: 13] وَمِثْلَ: مُومِنٍ فِي مُؤْمِنٌ [الْبَقَرَة: 221] . ثُمَّ قَالَ: وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْعَمَلُ جَارِيًا فِي قُرْطُبَةَ قَدِيمًا أَنْ لَا يَقْرَأَ الْإِمَامُ بِالْجَامِعِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِرِوَايَةِ وَرْشٍ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ ذَلِكَ وَتُرِكَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ مُنْذُ زَمَنٍ قَرِيبٍ اهـ. وَهَذَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ رَاوِي حَمْزَةَ، قَدِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً مِنْ بَيْنِ قِرَاءَاتِ الْكُوفِيِّينَ، وَمِنْهُمْ شَيْخُهُ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَمَيَّزَهَا قِرَاءَةً خَاصَّةً فَعُدَّتْ عَاشِرَةَ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ وَمَا هِيَ إِلَّا اخْتِيَارٌ مِنْ قِرَاءَاتِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ [الْأَنْبِيَاء: 95] قَرَأَهَا بِالْأَلِفِ بَعْدَ الرَّاءِ مِثْلَ حَفْصٍ وَالْجُمْهُورِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُفْضِي تَرْجِيحُ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى بَعْضٍ إِلَى أَنْ تَكُونَ الرَّاجِحَةُ أَبْلَغَ مِنَ الْمَرْجُوحَةِ فَيُفْضِي إِلَى أَنَّ الْمَرْجُوحَةَ أَضْعَفُ فِي الْإِعْجَازِ؟

قُلْتُ: حَدُّ الْإِعْجَازِ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِجَمِيعِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ مُشْتَمِلًا عَلَى لَطَائِفَ وَخُصُوصِيَّاتٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُوهِ الْحُسْنِ كَالْجِنَاسِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةِ الْفَصَاحَةِ، أَوْ بِالتَّفَنُّنِ مِثْلَ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 72] . عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْقِرَاءَاتِ نَشَأَتْ عَن ترخيص النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقارىء أَنْ يَقْرَأَ بِالْمُرَادِفِ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ تَنَازُعِ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ، فَتُرْوَى تِلْكَ الْقِرَاءَةُ لِلْخَلَفِ فَيَكُونُ تَمْيِيزُ غَيْرِهَا بِسَبَبِ أَنَّ الْمُتَمَيِّزَةَ هِيَ الْبَالِغَةُ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّ الْأُخْرَى تَوْسِعَةٌ وَرُخْصَةٌ، وَلَا يُعَكِّرُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهَا أَيْضًا بَالِغَةَ الطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ حَدِّ الْإِعْجَازِ. وَأَمَّا الْإِعْجَازُ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا وَقَعَ بِسُورَةٍ مِثْلَ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَأَقْصَرُ سُورَةٍ ثَلَاثُ آيَاتٍ فَكُلُّ مِقْدَارٍ يَنْتَظِمُ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُ مُعْجِزًا. تَنْبِيهٌ: أَنَا أَقْتَصِرُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى التَّعَرُّضِ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْمَشْهُورَةِ خَاصَّةً فِي أَشْهَرِ رِوَايَاتِ الرَّاوِينَ عَنْ أَصْحَابِهَا لِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ قَدِ امْتَازَتْ عَلَى بَقِيَّةِ الْقِرَاءَاتِ بِالشُّهْرَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ. وَأَبْنِي أَوَّلَ التَّفْسِيرِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ عِيسَى ابْن مِينَا الْمَدَنِيِّ الْمُلَقَّبِ بِقَالُونَ لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمَدَنِيَّةُ إِمَامًا وَرَاوِيًا وَلِأَنَّهَا الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا مُعْظَمُ أَهْلِ تُونُسَ. ثُمَّ أَذْكُرُ خِلَافَ بَقِيَّةِ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ خَاصَّةً. وَالْقِرَاءَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ، هِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ قَالُونَ فِي بَعْضِ الْقُطْرِ التُّونُسِيِّ وَبَعْضِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ وَفِي لِيبْيَا، وَبِرِوَايَةِ وَرْشٍ فِي بَعْضِ الْقُطْرِ التُّونُسِيِّ وَبَعْضِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ وَفِي جَمِيعِ الْقُطْرِ الْجَزَائِرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْبِلَادِ وَالسُّودَانِ. وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الشَّرْقِ مِنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَالِبِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْهِنْدِ وَبَاكِسْتَانَ وَتُرْكِيَا وَالْأَفْغَانِ. وَبَلَغَنِي أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو الْبَصْرِيِّ يُقْرَأُ بِهَا فِي السُّودَانِ الْمُجَاوِرِ مِصْرَ.

المقدمة السابعة قصص القرآن

الْمُقَدِّمَةُ السَّابِعَةُ قَصَصُ الْقُرْآنِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُف: 3] فَعَلِمْنَا مِنْ قَوْلِهِ أَحْسَنَ، أَنَّ الْقِصَصَ الْقُرْآنِيَّةَ لَمْ تُسَقْ مَسَاقَ الْإِحْمَاضِ (¬1) وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنِ اسْتِغْرَابِ مَبْلَغِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِأَنَّ غَرَضَ الْقُرْآنِ أَسْمَى وَأَعْلَى مِنْ هَذَا، وَلَوْ كَانَ مِنْ هَذَا لَسَاوَى كَثِيرًا مِنْ قَصَصِ الْأَخْبَارِ الْحَسَنَةِ الصَّادِقَةِ فَمَا كَانَ جَدِيرًا بِالتَّفْضِيلِ عَلَى كُلِّ جِنْسِ الْقَصَصِ. وَالْقِصَّةُ: الْخَبَرُ عَنْ حَادِثَةٍ غَائِبَةٍ عَنِ الْمُخْبَرِ بِهَا، فَلَيْسَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْأَحْوَالِ الْحَاضِرَةِ فِي زَمَنِ نُزُولِهِ قَصَصًا مِثْلَ ذِكْرِ وَقَائِعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عَدُوِّهِمْ. وَجَمْعُ الْقِصَّةِ قِصَصٌ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَأَمَّا الْقَصَصُ بِفَتْحِ الْقَافِ فَاسْمٌ لِلْخَبَرِ الْمَقْصُوصِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَفْعُولُ، يُقَالُ: قَصَّ عَلَيَّ فُلَانٌ إِذَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ. وَأَبْصَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ سَوْقِهَا قَاصِرًا عَلَى حُصُولِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ مِنْ عَوَاقِبِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَلَا عَلَى حُصُولِ التَّنْوِيهِ بِأَصْحَابِ تِلْكَ الْقِصَصِ فِي عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ أَوِ التَّشْوِيهِ بِأَصْحَابِهَا فِيمَا لَقُوهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقِفُ عِنْدَهُ أَفْهَامُ الْقَانِعِينَ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَأَوَائِلِهَا، بَلِ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ أَسْمَى وَأَجَلُّ. إِنَّ فِي تِلْكَ الْقِصَصِ لَعِبَرًا جَمَّةً وَفَوَائِدَ لِلْأُمَّةِ وَلِذَلِكَ نَرَى الْقُرْآنَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قِصَّةٍ أَشْرَفَ مَوَاضِيعِهَا وَيُعْرِضُ عَمَّا عَدَاهُ لِيَكُونَ تَعَرُّضُهُ لِلْقِصَصِ مُنَزَّهًا عَنْ قَصْدِ التَّفَكُّهِ بِهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ تَأْتِ الْقِصَصُ فِي الْقُرْآنِ مُتَتَالِيَةً مُتَعَاقِبَةً فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ كَمَا يَكُونُ كِتَابُ تَارِيخٍ، بَلْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً مُوَزَّعَةً عَلَى مَقَامَاتٍ تُنَاسِبُهَا، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ مِنْهَا لَهَا عَلَاقَةٌ بِذَلِكَ التَّوْزِيعِ، هُوَ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِأَهْلِ الدِّينِ فَهُوَ بِالْخَطَابَةِ أَشْبَهُ. وَلِلْقُرْآنِ أُسْلُوبٌ خَاصٌّ هُوَ الْأُسْلُوبُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّذْكِيرِ وَبِالذِّكْرِ فِي آيَاتٍ يَأْتِي تَفْسِيرُهَا فَكَانَ أُسْلُوبُهُ قَاضِيًا لِلْوَطَرَيْنِ وَكَانَ أَجَلَّ مِنْ أُسْلُوبِ الْقَصَّاصِينَ فِي سَوْقِ الْقِصَصِ لِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّ سَوْقَهَا فِي مُنَاسَبَاتِهَا يُكْسِبُهَا صِفَتَيْنِ: صِفَةَ الْبُرْهَانِ وَصِفَةَ التِّبْيَانِ وَنَجِدُ مِنْ مُمَيِّزَاتِ قِصَصِ الْقُرْآنِ نَسْجُ نَظْمِهَا عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ لِيَكُونَ شَبَهُهَا بِالتَّذْكِيرِ ¬

(¬1) من أحمض الْقَوْم: أفاضوا فِيمَا يؤنسهم.

الفائدة الأولى:

أَقْوَى مِنْ شَبَهِهَا بِالْقِصَصِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ فَقَدْ حُكِيَتْ مَقَالَتُهُ هَذِهِ فِي مَوْقِعِ تَذْكِيرِهِ أَصْحَابَهُ بِهَا لِأَن ذَلِك مِمَّن حِكَايَتِهَا وَلَمْ تُحْكَ أَثْنَاءَ قَوْلِهِ: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ [الْقَلَم: 17] وَقَوْلِهِ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: 22] . وَمِنْ مُمَيِّزَاتِهَا طَيُّ مَا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ الْوَارِدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ (25) : وَاسْتَبَقَا الْبابَ فَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ حُضُورِ سَيِّدِهَا وَطَرْقِهِ الْبَابَ وَإِسْرَاعِهِمَا إِلَيْهِ لِفَتْحِهِ، فَإِسْرَاعُ يُوسُفَ لِيَقْطَعَ عَلَيْهَا مَا تَوَسَّمَهُ فِيهَا مِنَ الْمَكْرِ بِهِ لِتُرِيَ سَيِّدَهَا أَنَّهُ بِهَا سُوءًا، وَإِسْرَاعُهَا هِيَ لِضِدِّ ذَلِكَ لِتَكُونَ الْبَادِئَةَ بِالْحِكَايَةِ فَتَقْطَعَ عَلَى يُوسُفَ مَا تَوَسَّمَتْهُ فِيهِ مِنْ شِكَايَةٍ، فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً [يُوسُف: 25] الْآيَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقِصَصَ بُثَّتْ بِأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ إِذْ سَاقَهَا فِي مَظَانِّ الِاتِّعَاظِ بِهَا مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَفْرِيعٍ فَتَوَفَّرَتْ مِنْ ذَلِكَ عَشْرُ فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ قُصَارَى عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانَ مَعْرِفَةَ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَيَّامِهِمْ وَأَخْبَارِ مَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَكَانَ اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى تِلْكَ الْقِصَصِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحَدِّيًا عَظِيمًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَعْجِيزًا لَهُمْ بِقَطْعِ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] فَكَانَ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ أَحِقَّاءَ بِأَنْ يُوصَفُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي وُصِفَتْ بِهِ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَبِذَلِكَ انْقَطَعَتْ صِفَةُ الْأُمِّيَّةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَظَرِ الْيَهُودِ، وَانْقَطَعَتْ أَلْسِنَةُ الْمُعَرِّضِينَ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا مَنْ سَلَفَنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مِنْ أَدَبِ الشَّرِيعَةِ مَعْرِفَةُ تَارِيخِ سَلَفِهَا فِي التَّشْرِيعِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِشَرَائِعِهِمْ فَكَانَ اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَامِهِمْ تَكْلِيلًا لِهَامَةِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ بِذِكْرِ تَارِيخِ الْمُشَرِّعِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمرَان: 146] الْآيَةَ. وَهَذِهِ فَائِدَةٌ مِنْ فُتُوحَاتِ اللَّهِ لَنَا أَيْضًا. وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْغَرَضِ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ إِلَّا إِلَى حَالِ أَصْحَابِ الْقِصَّةِ فِي رُسُوخِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَفِيمَا لِذَلِكَ مِنْ أَثَرِ عِنَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ أَوْ خِذْلَانٍ. وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ لَا تَجِدُ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْقِصَصِ بَيَانَ أَنْسَابِهِمْ

الفائدة الثالثة:

أَوْ بُلْدَانِهِمْ إِذِ الْعِبْرَةُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ أَوْ إِيمَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَوَاضِعُ الْعِبْرَةِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً إِلَى قَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً الْآيَاتِ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مِنْ أَيِّ قَوْمٍ وَفِي أَيِّ عَصْرٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهَا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ [الْكَهْف: 19] فَلم يذكر أَيْن مَدِينَةٍ هِيَ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ هُوَ انْبِعَاثُهُمْ وَوُصُولُ رَسُولِهِمْ إِلَى مَدِينَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الْكَهْف: 21] . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةِ التَّارِيخِ من معرفَة ترَتّب الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالتَّعْمِيرِ وَالتَّخْرِيبِ لِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ وَتَحْذَرَ، قَالَ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: 52] وَمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةِ ظُهُورِ الْمُثُلِ الْعُلْيَا فِي الْفَضِيلَةِ وَزَكَاءِ النُّفُوسِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: مَا فِيهَا مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا لَحِقَ الْأُمَمَ الَّتِي عَانَدَتْ رُسُلَهَا، وَعَصَتْ أَوَامِرَ رَبِّهَا حَتَّى يَرْعَوُوا عَنْ غَلْوَائِهِمْ، وَيَتَّعِظُوا بِمَصَارِعِ نُظَرَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ، وَكَيْفَ يُورِثُ الْأَرْضَ أَوْلِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ قَالَ تَعَالَى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 176] وَقَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُف: 111] وَقَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: 105] وَهَذَا فِي الْقِصَصِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا مَا لَقِيَهُ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ كَقِصَصِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَهْلِ الرَّسِّ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ فِي حِكَايَةِ الْقِصَصِ سُلُوكَ أُسْلُوبِ التَّوْصِيفِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَذَلِكَ أُسْلُوبٌ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا للْعَرَب فَكَانَ مجيؤه فِي الْقُرْآنِ ابْتِكَارَ أُسْلُوبٍ جَدِيدٍ فِي الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ شَدِيدِ التَّأْثِيرِ فِي نُفُوسِ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَهُوَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِذْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّهُ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ إِذْ لَمْ يَعْتَادُوهُ، انْظُرْ إِلَى حِكَايَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأَعْرَافِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ فَكَانَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ عَجْزِ الْعَرَبِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْعَرَبَ بِتَوَغُّلِ الْأُمِّيَّةِ وَالْجَهْلِ فِيهِمْ أَصْبَحُوا لَا تَهْتَدِي عُقُولُهُمْ إِلَّا بِمَا يَقَعُ تَحْتَ الْحِسِّ، أَوْ مَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَفَقَدُوا فَائِدَةَ الِاتِّعَاظِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَجَهِلُوا مُعْظَمَهَا وَجَهِلُوا أَحْوَالَ الْبَعْضِ الَّذِي عَلِمُوا أَسْمَاءَهُ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ إِعْرَاضًا عَنِ السَّعْيِ لِإِصْلَاحِ

الفائدة السابعة:

أَحْوَالِهِمْ بِتَطْهِيرِهَا مِمَّا كَانَ سَبَبَ هَلَاكِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَكَانَ فِي ذِكْرِ قِصَصِ الْأُمَمِ تَوْسِيعٌ لِعِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِإِحَاطَتِهِمْ بِوُجُودِ الْأُمَمِ وَمُعْظَمِ أَحْوَالِهَا، قَالَ مُشِيرًا إِلَى غَفْلَتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إِبْرَاهِيم: 45] . الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تَعْوِيدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْعَالِمِ وَعَظَمَةِ الْأُمَمِ وَالِاعْتِرَافِ لَهَا بِمَزَايَاهَا حَتَّى تُدْفَعَ عَنْهُمْ وَصْمَةُ الْغُرُورِ كَمَا وَعَظَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ عَادٍ: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] فَإِذَا عَلِمَتِ الْأُمَّةُ جَوَامِعَ الْخَيْرَاتِ وَمُلَائِمَاتِ حَيَاةِ النَّاسِ تَطَلَّبَتْ كُلَّ مَا يَنْقُصُهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَالُ حَيَاتِهَا وَعَظَمَتِهَا. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَة: أَن ينشىء فِي الْمُسْلِمِينَ هِمَّةَ السَّعْيِ إِلَى سِيَادَةِ الْعَالَمِ كَمَا سَادَهُ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْخُمُولِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ إِذْ رَضُوا مِنَ الْعِزَّةِ بِاغْتِيَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَكَانَ مُنْتَهَى السَّيِّدِ مِنْهُمْ أَنْ يَغْنَمَ صُرَيْمَةً، وَمُنْتَهَى أَمَلُ الْعَامِّيِّ أَنْ يَرْعَى غُنَيْمَةً، وَتَقَاصَرَتْ هِمَمُهُمْ عَنْ تَطَلُّبِ السِّيَادَةِ حَتَّى آلَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنْ فَقَدُوا عِزَّتَهُمْ فَأَصْبَحُوا كَالْأَتْبَاعِ لِلْفُرْسِ وَالرُّومِ، فَالْعِرَاقُ كُلُّهُ وَالْيَمَنُ كُلُّهُ وَبِلَادُ الْبَحْرَيْنِ تَبَعٌ لِسِيَادَةِ الْفُرْسِ، وَالشَّامُ وَمَشَارِفُهُ تَبَعٌ لِسِيَادَةِ الرُّومِ، وَبَقِيَ الْحِجَازُ وَنَجْدٌ لَا غُنْيَةَ لَهُمْ عَنِ الِاعْتِزَازِ بِمُلُوكِ الْعَجَمِ وَالرُّومِ فِي رِحْلَاتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ. الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَخَذُوا بِوَسِيلَتَيِ الْبَقَاءِ: مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالِاعْتِمَادِ سَلِمُوا مِنْ تَسَلُّطِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَذِكْرُ الْعَوَاقِبِ الصَّالِحَةِ لِأَهْلِ الْخَيْرِ. وَكَيْفَ يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْبِيَاء: 87، 88] . الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّهَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِالتَّبَعِ فَوَائِدُ فِي تَارِيخِ التَّشْرِيعِ وَالْحَضَارَةِ وَذَلِكَ يَفْتِقُ أَذْهَانَ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِلْمَامِ بِفَوَائِدِ الْمَدَنِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [يُوسُف: 76] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (دِينِ) بِكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ فِي شَرْعِ فِرْعَوْنَ يَوْمَئِذٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ شَرِيعَةَ الْقِبْطِ كَانَتْ تُخَوِّلُ اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ. وَقَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يُوسُف: 79] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُمْ مَا كَانَتْ تُسَوِّغُ أَخْذَ الْبَدَلِ فِي الِاسْتِرْقَاقِ، وَأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِوَجْهٍ مُعْتَبَرٍ. وَنَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: 36] ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: 53]

أحدها:

أَنَّ نِظَامَ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى إِرْسَالُ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْبَرِيحِ بِالْإِعْلَامِ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ. وَنَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يُوسُف: 10] أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُودَ الْأَجْبَابِ فِي الطُّرُقَاتِ وَهِيَ آبَارٌ قَصِيرَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسَافِرُونَ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهَا. وَقَوْلِ يَعْقُوبَ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُف: 13] أَنَّ بَادِيَةَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ كَانَتْ تُوجَدُ بِهَا الذِّئَابُ الْمُفْتَرِسَةُ وَقَدِ انْقَطَعَتْ مِنْهَا الْيَوْمَ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ هَاجِسًا رَأَيْتُهُ خَطَرَ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالْمُتَشَكِّكِينَ وَهُوَ أَن يُقَال: لماذَا لَمْ يَقَعِ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا؟ وَمَا فَائِدَةُ تَكْرَارِ الْقِصَّةِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ؟ وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ هَذَا الْهَاجِسُ بِبَعْضِهِمْ إِلَى مَنَاهِجِ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ. وَالَّذِي يَكْشِفُ لِسَائِرِ الْمُتَحَيِّرِينَ حَيْرَتَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ نَوَايَاهُمْ وَتَفَاوُتِ مَدَارِكِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ- كَمَا قُلْنَا- هُوَ بِالْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّآلِيفِ، وَفَوَائِدُ الْقِصَصِ تجتلبها المناسبات فَتذكر الْقِصَّةُ كَالْبُرْهَانِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ هِيَ مَعَهُ، فَلَا يُعَدُّ ذِكْرُهَا مَعَ غَرَضِهَا تَكْرِيرًا لَهَا لِأَنَّ سَبْقَ ذِكْرِهَا إِنَّمَا كَانَ فِي مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى. كَمَا لَا يُقَالُ لِلْخَطِيبِ فِي قَوْمٍ، ثُمَّ دَعَتْهُ الْمُنَاسَبَاتُ إِلَى أَنْ وَقَفَ خَطِيبًا فِي مِثْلِ مَقَامِهِ الْأَوَّلِ فَخَطَبَ بِمَعَانٍ تَضَمَّنَتْهَا خُطْبَتُهُ السَّابِقَةُ: إِنَّهُ أَعَادَ الْخُطْبَةَ، بَلْ إِنَّهُ أَعَادَ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُعِدْ أَلْفَاظَ خُطْبَتِهِ. وَهَذَا مَقَامٌ تَظْهَرُ فِيهِ مَقْدِرَةُ الْخُطَبَاءِ فَيَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِهَا هَذَا الْمَقْصِدُ الْخِطَابِيُّ. ثُمَّ تَحْصُلُ مَعَهُ مَقَاصِدُ أُخْرَى. أَحَدُهَا: رُسُوخُهَا فِي الْأَذْهَانِ بِتَكْرِيرِهَا. الثَّانِي: ظُهُورُ الْبَلَاغَةِ، فَإِنَّ تَكْرِيرَ الْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَثْقُلَ عَلَى الْبَلِيغِ فَإِذَا جَاءَ اللَّاحِقُ مِنْهُ إِثْرَ السَّابِقِ مَعَ تَفَنُّنٍ فِي الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ طُرُقِ أَدَائِهَا مِنْ مَجَازٍ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ أَوْ كِنَايَةٍ. وَتَفَنُّنِ الْأَلْفَاظِ وَتَرَاكِيبِهَا بِمَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ وَسَعَةُ اللُّغَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُتَرَادِفَاتِ مِثْلَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ [الْكَهْف: 36] ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ [فصلت: 50] . وَتَفَنُّنِ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْحُدُودِ الْقُصْوَى فِي الْبَلَاغَةِ، فَذَلِكَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَسْمَعَ اللَّاحِقُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ذِكْرَ الْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَاتَتْهُمْ مُمَاثَلَتُهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ أَوْ فِي مُدَّةِ مَغِيبِهِمْ، فَإِنَّ تَلَقِّيَ الْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ تَطَلُّبِهِ مِنْ حَافِظِيهِ.

الرابع:

الرَّابِعُ: أَنَّ جَمْعَ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ حِفْظًا كَانَ نَادِرًا بَلْ تَجِدُ الْبَعْضَ يَحْفَظُ بَعْضَ السُّورِ فَيَكُونُ الَّذِي حَفِظَ إِحْدَى السُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةٌ مُعَيَّنَةٌ عَالِمًا بِتِلْكَ الْقِصَّةِ. كَعِلْمِ مَنْ حَفِظَ سُورَةً أُخْرَى ذُكِرَتْ فِيهَا تِلْكَ الْقِصَّةُ. الْخَامِسُ: أَنَّ تِلْكَ الْقِصَصَ تَخْتَلِفُ حِكَايَةُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَيَذْكُرُ فِي بَعْضِ حِكَايَةِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا تَجَنُّبُ التَّطْوِيلِ فِي الْحِكَايَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ وَيُذْكَرُ آخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَحْصُلُ مِنْ مُتَفَرِّقِ مَوَاضِعِهَا فِي الْقُرْآنِ كَمَالُ الْقِصَّةِ أَوْ كَمَالُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِهَا مَا هُوَ شَرْحٌ لِبَعْضٍ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورُ فِي مَوْضِعٍ مُنَاسِبًا لِلْحَالَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ سَامِعِيهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَجِدُ ذِكْرًا لِبَعْضِ الْقِصَّةِ فِي مَوْضِعٍ وَتَجِدُ ذِكْرًا لِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْهَا مُنَاسَبَةٌ لِلسِّيَاقِ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ، فَإِنَّهَا تَارَةً تُسَاقُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَارَةً إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَارَةً تُسَاقُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً إِلَى كِلَيْهِمَا، وَقَدْ تُسَاقُ لِلطَّائِفَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ، ثُمَّ تُسَاقُ إِلَيْهَا فِي حَالَةٍ أُخْرَى. وَبِذَلِكَ تَتَفَاوَتُ بِالْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ عَلَى حَسَبِ الْمَقَامَاتِ، أَلَا تَرَى قِصَّةَ بَعْثِ مُوسَى كَيْفَ بُسِطَتْ فِي سُورَةِ طه وَسُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَكَيْفَ أُوجِزَتْ فِي آيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [35، 36] : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ تَارَةً التَّنْبِيهَ عَلَى خَطَأِ الْمُخَاطَبِينَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَتَارَةً لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ. فَهَذِهِ تَحْقِيقَاتٌ سَمَحَتْ بِهَا الْقَرِيحَةُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ بَعْضُ مَعَانِيهَا فِي كَلَامِ السَّابِقِينَ غَيْرَ صَرِيحَةٍ.

المقدمة الثامنة في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها

الْمُقَدِّمَةُ الثَّامِنَةُ فِي اسْمِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَسُوَرِهِ وَتَرْتِيبِهَا وَأَسْمَائِهَا هَذَا غَرَضٌ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِالْقُرْآنِ وَلَهُ اتِّصَالٌ مَتِينٌ بِالتَّفْسِيرِ لِأَنَّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَمُنَاسِبَةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ فَيُغْنِي الْمُفَسِّرَ عَنْ إِعَادَتِهِ. مَعْلُومٌ لَك أَن مَوضِع عِلْمِ التَّفْسِيرِ هُوَ الْقُرْآنُ لِتِبْيَانِ مَعَانِيهِ وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ إِرْشَادٍ وَهُدًى وَآدَابٍ وَإِصْلَاحِ حَالِ الْأُمَّةِ فِي جَمَاعَتِهَا وَفِي مُعَامَلَتِهَا مَعَ الْأُمَمِ الَّتِي تُخَالِطُهَا بِفَهْمِ دَلَالَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْبَلَاغِيَّةِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَلَامًا عَرَبِيًّا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَى أَنْ يُبَلِّغَهُ الرَّسُولُ إِلَى الْأُمَّةِ بِاللَّفْظِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَلِقِرَاءَةِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَأُوهُ مِنْهُ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَجَعَلَ قِرَاءَتَهُ عِبَادَةً. وَجَعَلَهُ كَذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِي دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً بِأَنْ تَحَدَّى مُنْكِرِيهِ وَالْمُتَرَدِّدِينَ فِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ مُعَارَضَتَهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا فَلَمْ يَفْعَلُوا. دَعَاهُمْ أَوَّلَ الْأَمْرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هُودٍ: 13، 14] . ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ إِلَى أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يُونُسَ: 38، 39] . ثُمَّ جَاءَ بِأَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْذَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِآتِينَ بِذَلِكَ فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [23، 24] : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الْآيَةَ. وَقَالَ: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يُونُس: 20] أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 51] .

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَانٍ جَلِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَقَامُ بَيَانِهَا وَقَدْ شَرَحْتُهَا فِي تَعْلِيقِي عَلَى «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» الْمُسَمَّى: «النَّظَرُ الْفَسِيحُ عِنْدَ مَضَايِقِ الْأَنْظَارِ فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ» . فَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْكَلَامِ الْمُوحَى بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، أُولَاهَا الْفَاتِحَةُ وَأُخْرَاهَا سُورَةُ النَّاسِ. صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْوَحْيِ. وَهُوَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانِ وَهِيَ زِنَةٌ وَرَدَتْ فِي أَسْمَاءِ الْمَصَادِرِ مِثْلَ غُفْرَانٍ، وَشُكْرَانٍ وَبُهْتَانٍ، وَوَرَدَتْ زِيَادَةُ النُّونِ فِي أَسْمَاءِ أَعْلَامٍ مِثْلَ عُثْمَانَ وَحَسَّانَ وَعَدْنَانَ. وَاسْمُ قُرْآنٍ صَالِحٌ لِلِاعْتِبَارَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ أول مَا بدىء بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْوَحْيِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الْإِسْرَاء: 106] فَهَمْزَةُ قُرْآنٍ أَصْلِيَّةٌ وَوَزْنُهُ فُعْلَانٌ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ لَفْظِ قُرْآنٍ مَهْمُوزًا حَيْثُمَا وَقَعَ فِي التَّنْزِيلِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا ابْنُ كَثِيرٍ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى لُغَةِ تَخْفِيفِ الْمَهْمُوزِ وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ، وَالْأَصْلُ تَوَافُقُ الْقِرَاءَاتِ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُخْتَلَفِ فِي قِرَاءَتِهِ. وَقِيلَ هُوَ قُرْآنٌ بِوَزْنِ فَعَّالٍ، مِنَ الْقَرْنِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ أَيِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا لِأَنَّهُ قُرِنَتْ سُوَرُهُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ آيَاتُهُ وَحُرُوفُهُ وَسُمِّيَ كِتَابُ اللَّهِ قُرْآنًا كَمَا سُمِّيَ الْإِنْجِيلُ الْإِنْجِيلَ، وَلَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ قَرَأْتُ، وَلِهَذَا يُهْمَزُ قَرَأْتُ وَلَا يُهْمَزُ الْقُرْآنُ فَتَكُونُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ آخَرُ لِكِتَابِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قُرْآنَ جَمْعُ قَرِينَةٍ أَيِ اسْمُ جَمْعٍ، إِذْ لَا يُجْمَعُ مِثْلُ قَرِينَةٍ عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ فِي التَّكْثِيرِ فَإِنَّ الْجُمُوعَ الْوَارِدَةَ عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ مَحْصُورَةٌ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَالْقَرِينَةُ الْعَلَامَةُ، قَالُوا لِأَنَّ آيَاتِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَهِيَ قَرَائِنُ عَلَى الصِّدْقِ. فَاسْمُ الْقُرْآنِ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْبِقْ أَنْ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ قَبْلَهُ، وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ وَأَكْثَرُهَا وُرُودًا فِي آيَاتِهِ وَأَشْهَرُهَا دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ السَّلَفِ.

وَلَهُ أَسْمَاءٌ أُخْرَى هِيَ فِي الْأَصْلِ أَوْصَافٌ أَوْ أَجْنَاسٌ أَنْهَاهَا فِي «الْإِتْقَانِ» إِلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ. وَالَّذِي اشْتُهِرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مِنْهَا سِتَّةٌ: التَّنْزِيلُ، وَالْكِتَابُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالذِّكْرُ، وَالْوَحْيُ، وَكَلَامُ اللَّهِ. فَأَمَّا الْفُرْقَانِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَقَدْ وُصِفَ يَوْمَ بَدْرٍ بِيَوْمِ الْفُرْقَانِ وَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] وَقَدْ جُعِلَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى الْقُرْآنِ بِالْغَلَبَةِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وَالْإِنْجِيلِ عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى قَالَ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ (¬1) إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمرَان: 3، 4] فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِالْكِتَابِ وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْفُرْقَانِ عَقِبَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمَا عَلَمَانِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْفُرْقَانَ عَلَمٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ الْفُرْقَانَ أَنَّهُ امْتَازَ عَنْ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُعَضِّدُ هَدْيَهُ بِالدَّلَائِلِ وَالْأَمْثَالِ وَنَحْوِهَا، وَحَسْبُكَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ اللَّهِ مِمَّا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وَأَذْكُرُ لَكَ مِثَالًا يَكُونُ تَبْصِرَةً لَكَ فِي مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ فُرْقَانًا وَذَلِكَ أَنَّهُ حَكَى صِفَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الْآيَاتُ من سُورَة الْفَتْح (¬2) [29] فَلَمَّا وَصَفَهُمُ الْقُرْآنُ قَالَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْآيَةَ- آلِ عِمْرَانَ [110] فَجَمَعَ فِي هَاتِهِ الْجُمْلَةِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ. وَأَمَّا إِنِ افْتَقَدْتَ نَاحِيَةَ آيَاتِ أَحْكَامِهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهَا مُبَرَّأَةً مِنَ اللَّبْسِ وَبَعِيدَةً عَنْ تَطَرُّقِ الشُّبْهَةِ، وَحَسْبُكَ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النِّسَاء: 3] فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ جُمْلَةً تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى بَلْهَ مَا فِي الْإِنْجِيلِ. وَهَذَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ. وَأَمَّا التَّنْزِيلُ فَهُوَ مَصْدَرُ نَزَّلَ، أُطْلِقَ عَلَى الْمُنْزَلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمرَان: 7] وَهُوَ سبق قلم من المُصَنّف. (¬2) فِي المطبوعة: (مُحَمَّد) .

قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 2، 3] وَقَالَ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السَّجْدَة: 2] . وَأَمَّا الْكِتَابُ فَأَصْلُهُ اسْمُ جِنْسٍ مُطْلَقٌ وَمَعْهُودٌ. وَبِاعْتِبَارِ عَهْدِهِ أُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْف: 1] وَإِنَّمَا سُمِّيَ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ جَامِعًا لِلشَّرِيعَةِ فَأَشْبَهَ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ بِهَا، وَأَشْبَهَ الْإِنْجِيلَ الَّذِي لَمْ يُكْتَبْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ وَلَكِنَّهُ كَتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وأصحابهم، وَأَن اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَتَلَقَّوْهُ بِحِفْظِ قُلُوبِهِمْ. وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مُعْجِزَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ سَيُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الْأَنْعَام: 92] ، وَقَالَ: وَهذا ذِكْرٌ (¬1) مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 50] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَمن أَوَّلِ مَا ابْتُدِئَ نُزُولُهُ، وَمِنْ أَوَّلِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَدْ وُجِدَ جَمِيعُ مَا حَفِظَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى قَدْرِ مَا وَجَدُوهُ مَكْتُوبًا يَوْمَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الذِّكْرُ فَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] أَيْ لِتُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا الْوَحْيُ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الْأَنْبِيَاء: 45] وَوَجْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ أُلْقِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَذَلِكَ الْإِلْقَاءُ يُسَمَّى وَحْيًا لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَالْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْ مُرَادِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيفُ تَرَاكِيبِهِ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 6] . وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَمَرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتِهِ كَتَبُوهُ عَلَى الْوَرَقِ فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ: الْتَمِسُوا اسْمًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ سُمُّوهُ إِنْجِيلًا فَكَرِهُوا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى، ¬

(¬1) فِي المطبوعة (كتاب) .

آيات القرآن

وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَمُّوهُ السِّفْرَ فَكَرِهُوهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْيَهُودَ يُسَمُّونَ التَّوْرَاةَ السِّفْرَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ بِالْحَبَشَةِ كِتَابًا يَدْعُونَهُ الْمُصْحَفَ فَسَمُّوهُ مُصْحَفًا (يَعْنِي أَنَّهُ رَأَى كِتَابًا غير الْإِنْجِيل) . آيَات الْقُرْآن الْآيَةُ: هِيَ مِقْدَارٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُرَكَّبٌ وَلَوْ تَقْدِيرًا أَوْ إِلْحَاقًا، فَقَوْلِي وَلَوْ تَقْدِيرًا لِإِدْخَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ [الرَّحْمَن: 64] إِذِ التَّقْدِيرُ هُمَا مُدْهَامَّتَانِ، وَنَحْو: وَالْفَجْرِ [الْفجْر: 1] إِذِ التَّقْدِيرُ أُقْسِمُ بِالْفَجْرِ. وَقَوْلِي أَوْ إِلْحَاقًا: لِإِدْخَالِ بَعْضِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ عُدَّ أَكْثَرُهَا فِي الْمَصَاحِفِ آيَاتٌ مَا عَدَا: الر، وَالمر، وَطس، وَذَلِكَ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ آيَاتٌ هُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمرَان: 7] وَقَالَ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1] . وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ آيَةً لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مُوحًى بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا هُوَ مِنَ الْحَدِّ الْأَعْلَى فِي بَلَاغَةِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَلِأَنَّهَا لِوُقُوعِهَا مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ جُعِلَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ الْبَشَرِ إِذْ قد تحدّى النَّبِي بِهِ أَهْلَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فَعَجَزُوا عَنْ تَأْلِيفِ مِثْلِ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ. فَلِذَا لَا يَحِقُّ لِجُمَلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنْ تُسَمَّى آيَاتٍ إِذْ لَيْسَتْ فِيهَا هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَالْآرَامِيَّةِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي: «فَوَضَعَ الَّذِي نَشَرَ التَّوْرَاةَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ» فَذَلِكَ تَعْبِيرٌ غَلَبَ عَلَى لِسَانِ الرَّاوِي عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ تَشْبِيهًا بِجُمَلِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لَهَا اسْمًا يُعَبِّرُ بِهِ عَنْهَا. وَتَحْدِيدُ مَقَادِيرِ الْآيَاتِ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي حَدِّ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الرِّوَايَةُ فِي تَعْيِينِ مُنْتَهَاهَا وَمُبْتَدَإِ مَا بَعْدَهَا، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ تَحْدِيدِ الْآيَاتِ. قُلْتُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ السَّبْعُ الْمَثَانِي أَيِ السَّبْعُ الْآيَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْخَوَاتِمَ مِنْ آخَرِ آلِ عِمْرَانَ» ، وَهِيَ الْآيَاتُ الَّتِي

أَوَّلُهَا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمرَان: 19] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عصر النبوءة وَمَا بَعْدَهُ يُقَدِّرُونَ تَارَةً بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِمِقْدَارِ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ عَدَدًا مِنَ الْآيَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سُحُورِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِقْدَارُ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ خَمْسِينَ آيَةً. قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: «وَتَحْدِيدُ الْآيَةِ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْقُرْآنِ، فَمِنْ آيَاتِهِ طَوِيلٌ وَقَصِيرٌ، وَمِنْهُ مَا يَنْقَطِعُ وَمِنْهُ مَا يَنْتَهِي إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ» ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «الْآيَاتُ عِلْمٌ تَوْقِيفِيٌّ» . وَأَنَا أَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ تَعْيِينُ مِقْدَارِ الْآيَةِ تَبَعًا لِانْتِهَاءِ نُزُولِهَا، وَأَمَارَتُهُ وُقُوعُ الفاصلة. وَالَّذِي استخصلته أَنَّ الْفَوَاصِلَ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِي أَوَاخِرِ حُرُوفِهَا أَوْ تَتَقَارَبُ، مَعَ تَمَاثُلِ أَوْ تَقَارُبِ صِيَغِ النُّطْقِ بِهَا وَتُكَرَّرُ فِي السُّورَةِ تَكَرُّرًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ تَمَاثُلَهَا أَوْ تَقَارُبَهَا مَقْصُودٌ مِنَ النّظم فِي آيَاته كَثِيرَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ، تَكْثُرُ وَتَقِلُّ، وَأَكْثَرُهَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَسْجَاعِ فِي الْكَلَامِ الْمَسْجُوعِ. وَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِتَمَاثُلِ صِيَغِ الْكَلِمَاتِ مِنْ حَرَكَاتٍ وَسُكُونٍ وَهِيَ أَكْثَرُ شَبَهًا بِالْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ فِي الْقَوَافِي. وَأَكْثَرُهَا جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ الْأَسْجَاعِ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ أَيْضًا أَنَّ تِلْكَ الْفَوَاصِلَ كُلَّهَا مُنْتَهَى آيَاتٍ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ فِيهِ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَمْ تَقَعْ عِنْدَ انْتِهَائِهِ فَاصِلَةٌ لَا يَكُونُ مُنْتَهَى الْكَلَامِ نِهَايَةَ آيَةٍ إِلَّا نَادِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] ، فَهَذَا الْمِقْدَارُ عَدُّ آيَةٍ وَهُوَ لَمْ يَنْتَهِ بِفَاصِلَةٍ، وَمِثْلُهُ نَادِرٌ، فَإِنَّ فَوَاصِلَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُقِيمَتْ عَلَى حرف مَفْتُوح بعد أَلِفُ مَدٍّ بَعْدَهَا حَرْفٌ، مِثْلَ: شِقَاقٍ، مَنَاصٍ، كَذَّابٍ، عُجَابٍ. وَفَوَاصِلُ بُنِيَتْ عَلَى حَرْفٍ مَضْمُومٍ مُشْبَعٍ بِوَاوٍ، أَوْ عَلَى حَرْفٍ مَكْسُورٍ مُشْبَعٍ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَبَعْدَ ذَلِكَ حَرْفٌ، مِثْلَ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 68] إِذْ يَسْتَمِعُونَ [الْإِسْرَاء: 47] ، نَذِيرٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: 184] ، مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَام: 2] . فَلَوِ انْتَهَى الْغَرَضُ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، وَكَانَتْ فَاصِلَةٌ تَأْتِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ تَكُونُ

الْآيَةُ غَيْرَ مُنْتَهِيَةٍ وَلَوْ طَالَتْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] ، فَهَذِهِ الْجُمَلُ كُلُّهَا عُدَّتْ آيَةً وَاحِدَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاصِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَهِيَ مِنْ جَانِبِ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، فَمِنَ الْغَرَضِ الْبَلَاغِيِّ الْوُقُوفُ عِنْدَ الْفَوَاصِلِ لِتَقَعَ فِي الْأَسْمَاعِ فَتَتَأَثَّرَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ بِمَحَاسِنِ ذَلِكَ التَّمَاثُلِ، كَمَا تَتَأَثَّرُ بِالْقَوَافِي فِي الشِّعْرِ وَبِالْأَسْجَاعِ فِي الْكَلَامِ الْمَسْجُوعِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ بالقوافي وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غَافِر: 71] فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِر: 72] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ [غَافِر: 73] مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. فَقَوْلُهُ: فِي الْحَمِيمِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يُسْحَبُونَ وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تُشْرِكُونَ. وَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عِنْدَ نِهَايَةِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ آيَةٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِهِ ابْتِدَاءُ الْآيَةِ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ هُودٍ [54] . أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْإِضَاعَةِ لِدَقَائِقِ الشِّعْرِ أَنْ يُلْقِيَهُ مُلْقِيهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ دُونَ وَقْفٍ عِنْدَ قَوَافِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِضَاعَةٌ لِجُهُودِ الشُّعَرَاءِ، وَتَغْطِيَةٌ عَلَى مَحَاسِنِ الشِّعْرِ، وَإِلْحَاقٌ لِلشِّعْرِ بالنثر. وإنّ الْفَاء السَّجْعِ دُونَ وُقُوفٍ عِنْدَ أَسْجَاعِهِ هُوَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ. وَمِنَ السَّذَاجَةِ أَنْ يَنْصَرِفَ مُلْقِي الْكَلَامِ عَنْ مُحَافَظَةِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ فَيَكُونَ مُضَيِّعًا لِأَمْرٍ نَفِيسٍ أَجْهَدَ فِيهِ قَائِلُهُ نَفْسَهَ وَعِنَايَتَهُ. وَالْعِلَّةُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّامِعِينَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ، فُضُولٌ، فَإِنَّ الْبَيَانَ وَظِيفَةُ مُلْقِي دَرْسٍ لَا وَظِيفَةُ مُنْشِدِ الشِّعْرِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الشَّاعِرَ نَفْسَهُ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَقْف على رُؤُوس الْآيِ سُنَّةٌ. وَفِيهِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» : الْأَفْضَلُ الْوَقْف على رُؤُوس الْآيَاتِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا اتِّبَاعًا لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ، وَفِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» عَنْ أُمِّ سَلمَة أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ قَطَّعَ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ يَقِفُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ثُمَّ يَقِفُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: 1- 3] ثُمَّ يَقِفُ.

عَلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ الْمَأْثُورِ مِنْ تَحْدِيدِ الْآيِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَصُدُّنَا عَنْ مُحَاوَلَةِ ضَوَابِطَ تَنْفَعُ النَّاظِرَ وَإِنْ شَذَّ عَنْهَا مَا شَذَّ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا بَعْضُ السُّورِ قَدْ عُدَّ بَعْضُهَا آيَاتٍ مِثْلَ: الم، المص، كهيعص، عسق، طسم، يس، حم، طه. وَلَمْ تُعَدَّ: الر، المر، طس، ص، ق، ن، آيَاتٍ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مَقَادِيرِ كَلِمَاتِهَا فَبَعْضُهَا أَطْوَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلِذَلِكَ فَتَقْدِيرُ الزَّمَانِ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ مِقْدَارُ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ خَمْسِينَ آيَةً مَثَلًا، تَقْدِيرٌ تَقْرِيبِيٌّ، وَتَفَاوُتُ الْآيَاتِ فِي الطُّولِ تَابِعٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الْبَلَاغَةِ مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِ الْفَوَاصِلِ عَلَى حَسَبِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ. وَأَطْوَلُ آيَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [25] ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَدُونَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [23] . وَأَقْصَرُ آيَةٍ فِي عَدَدِ الْكَلِمَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ [64] وَفِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ قَوْله: طه [طه: 1] . وَأَمَّا وُقُوفُ الْقُرْآنِ فَقَدْ لَا تُسَايِرُ نِهَايَاتِ الْآيَاتِ، وَلَا ارْتِبَاطَ لَهَا بِنِهَايَاتِ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ عِدَّةُ وُقُوفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ (وَقْفٌ) وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ (وَقْفٌ) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (وَقْفٌ، وَمُنْتَهَى الْآيَةِ) فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [47] . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْوُقُوفِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ. فَأَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ مِنْ عَدَدِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي نِهَايَةِ بَعْضِهَا، فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ عَنِ اخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي فِي كِتَابِ «الْعَدَدِ» : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ يَبْلُغُ سِتَّةَ آلَافِ آيَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَزِدْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِ

آيَاتٍ، وَقِيلَ: وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: وَسِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَقيل: وسِتمِائَة وَسِتَّة عَشْرَةَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ الْبُرْهَانِ» : قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَدَدِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ عَلَى تَرْكِ عَدِّ الْبَسْمَلَةِ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا وَتَرْكِهَا فِي سُورَةِ الْحَمْدِ لَا غَيْرَ، فَعَدَّهَا آيَةً الْكُوفِيُّ وَالْمَكِّيُّ وَلَمْ يَعُدَّهَا آيَةً الْبَصْرِيُّ وَلَا الشَّامِيُّ وَلَا الْمَدَنِيُّ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» كَلَامٌ فِي الضَّابِطِ الْأَوَّلِ مِنَ الضَّوَابِطِ غَيْرُ مُحَرِّرٍ وَهُوَ آيِلٌ إِلَى مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ، وَرَأَيْتُ فِي عَدِّ بَعْضِ السُّورِ أَنَّ الْمُصْحَفَ الْمَدَنِيَّ عَدَّ آيَهَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْكُوفِيِّ، وَلَوْ عَنَوْا عَدَّ الْبَسْمَلَةِ لَكَانَ الْكُوفِيُّ أَكْثَرَ. وَكَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عددان، يعرف أحد هما بِالْأَوَّلِ وَيُعْرَفُ الْآخَرُ بِالْأَخِيرِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِعَدِّ الْآيِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ هُمْ: أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَأَبُو نِصَاحٍ شَيْبَةُ بْنُ نِصَاحٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ السُّلَمِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى عَدَدٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَدَدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ خَالَفَهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ بِعَدَدٍ انْفَرَدَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْعَدَدُ الثَّانِي، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا يُنْسَبُ إِلَى أَيُّوبَ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ الْبَصْرِيِّ الْمُتَوَفِّي سَنَةَ 200. وَلِأَهْلِ مَكَّةَ عَدَدٌ وَاحِدٌ، وَرُبَّمَا اتَّفَقُوا فِي عَدَدِ آيِ السُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا، وَقَدْ يُوجَدُ اخْتِلَافٌ تَارَةً فِي مَصَاحِفِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ، كَمَا نَجِدُ فِي «تَفْسِيرِ الْمَهْدَوِيِّ» وَفِي كُتُبِ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ فِي بَعْضِ السُّور عدد آياتها فِي الْمُصْحَفِ الْفُلَانِيِّ كَذَا. وَقَدْ كَانَ عَدَدُ آيِ السُّوَرِ مَعْرُوفًا فِي زمن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آخِرُ آيَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَة: 281] الْآيَةَ قَالَ جِبْرِيل للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعْهَا فِي رَأْسِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِعَدِّ الْآيِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [140] : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ.

ترتيب الآي

تَرْتِيب الْآي وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْآيِ بَعْضِهَا عَقِبَ بَعْضٍ فَهُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَبَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا آيَاتٍ فَرُبَّمَا نَزَلَتْ عِدَّةُ آيَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ أَوْ سُورَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَذَلِكَ التَّرْتِيبُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي وُجُوهِ إِعْجَازِهِ مِنْ بَدَاعَةِ أُسْلُوبِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مَا بَلَغَتْنَا عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا بِحَيْثُ لَوْ غُيِّرَ عَنْهُ إِلَى تَرْتِيبٍ آخر لنزل عَن حَدِّ الْإِعْجَازِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ قِرَاءَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْتِيبِ آيِ السُّوَرِ عَلَى نَحْوِ مَا هُوَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، وَهُوَ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَة الْحَافِظ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الْعَرْضَاتِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي كَانَ يَقْرَأُ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَاخِرِ سِنِيِّ حَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَحَسْبُكَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حِينَ كَتَبَ الْمُصْحَفَ لِأَبِي بَكْرٍ لَمْ يُخَالِفْ فِي تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى تَرْتِيبِ قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَوَاتِ الْجَهْرِيَّةِ وَفِي عَدِيدِ الْمُنَاسَبَاتِ حَفِظَ الْقُرْآنَ كُلُّ مَنْ حَفِظَهُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، وَلَيْسَ لَهُمْ مُعْتَمَدٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا عُرِفُوا بِهِ مِنْ قُوَّةِ الْحَوَافِظِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كُتَّابُ الْوَحْيِ يَكْتُبُونَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَمْرِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ بِتَوْفِيق إِلَهِيٍّ. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا الْمُسلمُونَ عِنْد مَا يَحْدُثُ لَهُمْ شَكٌّ أَوْ نِسْيَانٌ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَلَمَّا جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَرَدَّدُوا فِي تَرْتِيبِ آيَاتٍ مِنْ إِحْدَى السُّوَرِ وَلَا أُثِرَ عَنْهُمْ إِنْكَارٌ أَوِ اخْتِلَافٌ فِيمَا جُمِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا حَفِظَتْهُ حَوَافِظُهُمْ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: إِنَّمَا أُلِّفَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كَانَتِ الْآيَةُ تَنْزِلُ جَوَابًا لِمُسْتَخْبِرٍ يَسْأَلُ وَيُوقِفُ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضِعِ الْآيَةِ. وَاتِّسَاقُ الْحُرُوفِ وَاتِّسَاقُ الْآيَاتِ وَاتِّسَاقُ السُّوَرِ كُلُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي آيِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بَين الْآيَة وَلَا حقتها تَنَاسُبٌ فِي الْغَرَضِ أَوْ فِي الِانْتِقَالِ مِنْهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمُنْتَظِمِ الْمُتَّصِلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُودُ

حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدَةِ الِاتِّصَالَ مِثْلَ الْفَاءِ وَلَكِنْ وَبَلْ (¬1) وَمِثْلَ أَدَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ، عَلَى أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ لَا يُعَيِّنُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهُ بِمَا قَبْلَهُ فِي النُّزُولِ، فَإِنَّهُ قَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ إِلَى قَوْله: وَأَنْفُسِهِمْ [النِّسَاء: 95] قَالَ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ: «قَالَ بعض مَشَايِخنَا الْمُحَقِّقِينَ قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ لَا تُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلَ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ» . عَلَى أَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَجْلِ نُزُولِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ سُورَةٍ هِيَ بِصَدَدِ النُّزُولِ فَيُؤْمَرُ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقْرَأَهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَم: 64] عَقِبَ قَوْلِهِ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [63] ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَبِثَ أَيَّامًا لَمْ ينزل على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَاتَبَهُ النَّبِيءُ، فَأَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَقُولَ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فَكَانَتْ وَحَيًّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل، فقرىء مَعَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَ بِأَثَرِهَا، وَكَذَلِكَ آيَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [الْبَقَرَة: 26] عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] ، إِذْ كَانَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلهم: أما يستحي مُحَمَّدٌ أَنْ يُمَثِّلَ بِالذُّبَابِ وَبِالْعَنْكَبُوتِ؟ فَلَمَّا ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: 17] تخلص إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثَالِ. عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْدَمُ مُنَاسَبَةُ مَا، وَقَدْ لَا تَكُونُ لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَلَكِنَّهُ اقْتَضَاهُ سَبَبٌ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [16- 19] فِي خِلَالِ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَوَصْفِ يَوْمِ الْحَشْرِ وَأَهْوَالِهِ، وَلَيْسَتْ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ سَبَبُ نُزُولِهَا حَصَلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ كَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] اهـ، فَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. ¬

(¬1) دون الْوَاو لِأَنَّهَا تعطف الْجمل والقصص، وَكَذَلِكَ ثمَّ لِأَنَّهَا قد تعطف الْجمل.

عَلَى أَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ فِي مَوْقِعِ الْآيَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا ظُهُورُ مُنَاسَبَةٍ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ حَيْرَةً لِلْمُفَسِّرِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ وَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا أَنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَكَانَ حُدُوثُ سَبَبِ نُزُولِهَا فِي مُدَّةِ نُزُولِ السُّورَةِ الَّتِي وُضِعَتْ فِيهَا فَقُرِئَتْ تِلْكَ الْآيَةُ عَقِبَ آخِرِ آيَةٍ انْتَهَى إِلَيْهَا النُّزُولُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 238، 239] بَيَّنَ تَشْرِيعَاتِ أَحْكَامٍ كَثِيرَة فِي شؤون الْأَزْوَاجِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ بَعْدَ تَمَامِ نُزُولِهَا بِأَنْ أُمِرَ الرَّسُولُ بِوَضْعِهَا عَقِبَ آيَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آيَةِ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَة: 281] وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةِ الْحَدِيدِ نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 10] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيِ تِلْكَ السُّورَةِ وَالتَّشَابُهِ فِي أُسْلُوبِ النَّظْمِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُ تِلْكَ الْآيَةِ عَنْ نُزُولِ أَخَوَاتِهَا مِنْ سُورَتِهَا لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأَخُّرَهَا تَرْجِعُ غَالِبًا إِلَى حُدُوثِ سَبَبِ النُّزُولِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَلَمَّا كَانَ تَعْيِينُ الْآيَاتِ الَّتِي أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ غَيْرَ مَرْوِيٍّ إِلَّا فِي عَدَدٍ قَلِيلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَطَلَّبَ مُنَاسَبَاتٍ لِمَوَاقِعِ الْآيَاتِ مَا وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا مُوَصَّلًا وَإِلَّا فَلْيُعْرِضْ عَنْهُ وَلَا يَكُنْ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنَّ الْغَرَضَ الْأَكْبَرَ لِلْقُرْآنِ هُوَ إِصْلَاحُ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا، فَإِصْلَاحُ كُفَّارِهَا بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَنَبْذِ الْعِبَادَةِ الضَّالَّةِ وَاتِّبَاعِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِصْلَاحُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوِيمِ أَخْلَاقِهِمْ وَتَثْبِيتِهِمْ عَلَى هُدَاهُمْ وإرشادهم إِلَى طرق النَّجَاحِ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَغْرَاضُهُ مُرْتَبِطَةً بِأَحْوَالِ الْمُجْتَمَعِ فِي مُدَّةِ الدَّعْوَةِ، فَكَانَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلًّا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُ تَرْجِعُ إِلَى غَرَضِ الْإِصْلَاحِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَتَكْمِيلِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ تَسَرُّبِ الضَّلَالَاتِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ مُتَسَلْسِلَةً، وَلَكِنَّ حَالَ الْقُرْآنِ كَحَالِ الْخَطِيبِ يَتَطَرَّقُ إِلَى مُعَالَجَةِ الْأَحْوَالِ الْحَاضِرَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ بِالْمُنَاسَبَةِ وَلِذَلِكَ تَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْجُمَلُ الْمُعْتَرِضَةُ لِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ نُزُولَهَا أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى حِكْمَةٍ وَإِرْشَادٍ أَوْ تَقْوِيمِ مُعْوَجٍّ، كَقَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ- إِلَى

وقوف القرآن

قَوْلِهِ- قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمرَان: 72، 73] فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جملَة مُعْتَرضَة. وقُوف الْقُرْآن الْوَقْفُ هُوَ قَطْعُ الصَّوْتِ عَنِ الْكَلِمَةِ حِصَّةً يَتَنَفَّسُ فِي مِثْلِهَا الْمُتَنَفِّسُ عَادَةً، وَالْوَقْفُ عِنْدَ انْتِهَاءِ جُمْلَةٍ مِنْ جُمَلِ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ أَصْلًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ الْوَقْفِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمرَان: 146] فَإِذَا وَقَفَ عِنْد كلمة قاتَلَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قَتَلَهُمْ قَوْمُهُمْ وَأَعْدَاؤُهُمْ، وَمَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَصْحَابُهُمْ فَمَا تَزَلْزَلُوا لِقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ فَكَانَ الْمَقْصُودُ تَأْيِيسَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وَهَنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى فَرْضِ قَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَتِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: 144] الْآيَةَ، وَإِذَا وصل قَوْله: قاتَلَ عِنْدَ قَوْلِهِ كَثِيرٌ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قُتِلَ مَعَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمرَان: 169، 170] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمرَان: 7] الْآيَةَ، فَإِذَا وُقِفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يَصِلُ فَهْمُ النَّاسِ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَأَنَّ عِلْمَهُ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ مِثْلَ اخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ السَّاعَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ وَكَانَ مَا بَعْدَهُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ يُفِيدُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يُفَوِّضُونَ فَهْمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا وُصِلَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ بِمَا بَعْدَهُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطَّلَاق: 4] فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَقَعَ قَوْلُهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: 4] مَعْطُوفًا عَلَى اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خَبَرًا عَنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِذْ كَيفَ يكون للّاء لَمْ يَحِضْنَ حَمْلٌ حَتَّى يَكُونَ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.

وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ مَكَانًا يَجِبُ الْوَقْفُ فِيهِ وَلَا يَحْرُمُ الْوَقْفُ فِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي «أُرْجُوزَتِهِ» ، وَلَكِنَّ الْوَقْفَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَكِيدٍ حَسَنٍ وَدُونَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَبَعْضُهُمُ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ نِهَايَةِ الْكَلَامِ وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَطَلَّبُ الْمَعْنَى الْوَقْفَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَعْنَى سَكْتًا وَهُوَ قَطْعُ الصَّوْتِ حِصَّةً أَقَلَّ مِنْ حِصَّةِ قَطْعِهِ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَاضِحَةٌ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ حَارِسٌ مِنَ الْفَهْمِ الْمُخْطِئِ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] لَوْ وَقَفَ الْقَارِئُ عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تَحْذِيرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَكَيْفَ يَخْطُرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: رَبِّكُمْ فَهَلْ يُحَذَّرُ أَحَدٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: 27] فَإِنَّ كَلِمَةَ بَناها هِيَ مُنْتَهَى الْآيَةِ وَالْوَقْفُ عِنْدَ أَمِ السَّماءُ وَلَكِنْ لَوْ وَصَلَ الْقَارِئُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَكُونَ بَناها مِنْ جُمْلَةِ أَمِ السَّماءُ لِأَنَّ مُعَادِلَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفْرَدًا. عَلَى أَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْوَقْفِ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِتَعَدُّدِ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَعْنَى مَعَ اتِّحَادِ الْكَلِمَاتِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الْإِنْسَان: 15، 16] فَإِذَا وُقِفَ عَلَى قَوارِيرَا الْأَوَّلُ كَانَ قَوارِيرَا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي لَفْظِ قَوارِيرَا، وَإِذَا وُقِفَ عَلَى قَوارِيرَا الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى التَّرْتِيبَ وَالتَّصْنِيفَ، كَمَا يُقَالُ: قَرَأَ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا، وَحَضَرُوا صَفًّا صَفًّا، وَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ فِضَّةٍ عَائِد إِلَى قَوْلِهِ: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُرَادًا مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَإِعْجَازُ الْجَاحِدِينَ بِهِ وَكَانَ قَدْ نَزَلَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، كَانَ فَهْمُ مَعَانِيهِ مَفْرُوغًا مِنْ حُصُولِهِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا التَّحَدِّي بِعَجْزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَأَمْرٌ يَرْتَبِطُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَوِي فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا جَمِيعُهُمْ بَلْ خَاصَّةُ بُلَغَائِهِمْ مِنْ خُطَبَاءَ وَشُعَرَاءَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْإِعْجَازِ مَا يَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ مِنْ فَنِّ الْبَدِيعِ، وَمِنْ ذَلِكَ فَوَاصِلُ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ شِبْهُ قوافي الشّعْر وأسجاع النَّثْرِ، وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فَكَانَ عَدَمُ الْوَقْفِ عَلَيْهَا تَفْرِيطًا فِي الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا.

سور القرآن

لَمْ يَشْتَدَّ اعْتِنَاءُ السَّلَفِ بِتَحْدِيدِ أَوْقَافِهِ لِظُهُورِ أَمْرِهَا، وَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ النَّحَّاسِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ لِوُجُوبِ ضَبْطِ أَوْقَافِ الْقُرْآنِ بِكَلَامٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَيْسَ وَاضِحًا فِي الْغَرَضِ الْمُحْتَجِّ بِهِ فَانْظُرْهُ فِي «الْإِتْقَانِ» لِلسُّيُوطِيِّ. فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِفَوَاصِلِهِ الَّتِي هِيَ مَقَاطِعُ آيَاتِهِ عِنْدَهُمْ أَهَمُّ لِأَنَّ عَجْزَ قَادَتِهِمْ وَأُولِي الْبَلَاغَةِ وَالرَّأْيِ مِنْهُمْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى دَهْمَائِهِمْ، فَلَمَّا كَثُرَ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ دَهْمَاءِ الْعَرَبِ وَمِنْ عُمُومِ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، تَوَجَّهَ اعْتِنَاءُ أَهْلِ الْقُرْآنِ إِلَى ضَبْطِ وُقُوفِهِ تَيْسِيرًا لِفَهْمِهِ عَلَى قَارِئِيهِ، فَظَهَرَ الِاعْتِنَاءُ بِالْوُقُوفِ وَرُوعِيَ فِيهَا مَا يُرَاعَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فَكَانَ ضَبْطُ الْوُقُوفِ مُقَدِّمَةً لِمَا يُفَادُ مِنَ الْمَعَانِي عِنْدَ وَاضِعِ الْوَقْفِ. وَأَشْهَرُ مَنْ تَصَدَّى لِضَبْطِ الْوُقُوفِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ النَّحَّاسِ، وَلِلنَّكْزَاوِيِّ أَوِ النَّكْزَوِيِّ كِتَابٌ فِي «الْوَقْفِ» ذَكَرَهُ فِي «الْإِتْقَانِ» ، وَاشْتَهَرَ بِالْمَغْرِبِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جُمُعَةَ الْهَبَطِيُّ الْمُتَوفَّى سنة 930. سور الْقُرْآن السُّورَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنَةٌ بِمَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ لَا يَتَغَيَّرَانِ، مُسَمَّاةٌ بِاسْمٍ مَخْصُوصٍ، تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ فَأَكْثَرَ فِي غَرَضٍ تَامٍّ تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ مَعَانِي آيَاتِ تِلْكَ السُّورَة، ناشيء عَنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ، أَوْ عَنْ مُقْتَضَيَاتِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَنَاسِبَةِ. وَكَوْنُهَا تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاث آيَات مَأْخُوذ مِنِ اسْتِقْرَاءِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مَعَ حَدِيثِ عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ (هُوَ الْمُسَمَّى فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خُزَيْمَةُ وَأَبَا خُزَيْمَةَ) بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُهُمَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ» إِلَخْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ مَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مِقْدَارِ سُوَرِهِ. وَتَسْمِيَةُ الْقِطْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ عِدَّةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ سُورَةٌ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ، وَشَاعَتْ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، فَالتَّحَدِّي لِلْعَرَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13] وَقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] لَا يَكُونُ إِلَّا تَحَدِّيًا بِاسْمٍ مَعْلُوم المسمّى والمدار عِنْدَهُمْ وَقْتَ التَّحَدِّي، فَإِنَّ آيَاتِ التَّحَدِّي نَزَلَتْ بَعْدَ السُّوَرِ الْأُوَلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ سُورَةِ النُّورِ بِاسْمِ سُورَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النُّور: 1] أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ، وَقَدْ زَادَتْهُ السُّنَّةُ بَيَانًا. وَلَمْ تَكُنْ

أَجْزَاءُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ مُسَمَّاةً سُوَرًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ. وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةً قِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّورِ بِضَمِّ السِّينِ وَتَسْكِينِ الْوَاوِ وَهُوَ الْجِدَارُ الْمُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَحَلَّةِ قَوْمٍ، زَادُوهُ هَاءَ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى الْقِطْعَةِ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا سَمُّوا الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ الْقَائِلُ خُطْبَةً أَوْ رِسَالَةً أَوْ مَقَامَةً. وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّؤْرِ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ وَهُوَ الْبَقِيَّةُ مِمَّا يَشْرَبُ الشَّارِبُ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ السُّؤْرَ جُزْءٌ مِمَّا يُشْرَبُ، ثُمَّ خففوا الْهَمْز بَعْدَ الضَّمَّةِ فَصَارَتْ وَاوًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَتَرْكُ الْهَمْزِ فِي سُورَةٍ هُوَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَرَهَا مِنْ هُذَيْلٍ وَكِنَانَةَ وَهَوَازِنَ وَسَعْدَ بْنَ بَكْرٍ، وَأَمَّا الْهَمْزُ فَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ بِدَالَّةٍ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْمَهْمُوزِ أَوِ الْمُعْتَلِّ، لِأَنَّ لِلْعَرَبِ فِي تَخْفِيفِ الْمَهْمُوزِ وَهَمْزِ الْمُخَفَّفِ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ طَرِيقَتَيْنِ، كَمَا قَالُوا أُجُوهٌ وَإِعَاءٌ وَإِشَاحٌ، فِي وُجُوهٍ وَوِعَاءٍ وَوِشَاحٍ، وَكَمَا قَالُوا الذِّئْبَ بِالْهَمْزِ وَالذِّيبَ بِالْيَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: رُبَّمَا خَرَجَتْ بِهِمْ فَصَاحَتُهُمْ إِلَى أَنْ يَهْمِزُوا مَا لَيْسَ مَهْمُوزًا كَمَا قَالُوا «رَثَأْتُ الْمَيِّتَ وَلَبَّأْتُ بِالْحَجِّ وَحَلَأْتُ السَّوِيقَ بِالْهَمْزِ» . وَجَمْعُ سُورَةٍ سُوَرٌ بِتَحْرِيكِ الْوَاوِ كَغُرَفٍ، وَنُقِلَ فِي «شَرْحِ الْقَامُوسِ» عَنِ الْكُرَاعِ (¬1) أَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَى سُورٍ بِسُكُونِ الْوَاوِ. وَتَسْوِيرُ الْقُرْآنِ مِنَ السُّنَّةِ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ يَوْمَئِذٍ مُقَسَّمًا إِلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً بِأَسْمَائِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُثْبِتِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا هُمَا تَعَوُّذٌ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَهُ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ» ، وَأَثْبَتَ الْقُنُوتَ الَّذِي يُقَالُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ عَلَى أَنَّهُ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ سَمَّاهَا سُورَةَ الْخَلْعِ وَالْخَنْعِ، وَجَعَلَ سُورَةَ الْفِيلِ وَسُورَةَ قُرَيْشٍ سُورَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ اسْتِنَادًا لِمَا فَهِمَهُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ أَنَّهُمْ تَرَدَّدُوا وَلَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ سُوَرِهِ، وَأَنَّهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، رَوَى أَصْحَابُ «السُّنَنِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَتِ الْآيَةُ يَقُولُ: ضَعُوهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، وَكَانَتِ السُّوَرُ مَعْلُومَةَ الْمَقَادِيرِ مُنْذُ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْفُوظَةً عَنْهُ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ وَفِي عَرْضِ الْقُرْآنِ، فَتَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ هُوَ بِتَوْقِيفٍ ¬

(¬1) هُوَ عَليّ بن حسن الْهنائِي- بِضَم الْهَاء- نِسْبَة إِلَى هناءة- بِوَزْن ثُمَامَة- اسْم جد قَبيلَة من قبائل الأزد، والكراع بِضَم الْكَاف وَتَخْفِيف الرَّاء لقب لعلى هَذَا، كَانَ يلقب كرَاع النَّمْل.

مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ عَزَا ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَجَزَمَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ أَيْضًا تَوْقِيفِيًّا، وَلِذَلِكَ نَجِدُ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا مِنْ طِوَالٍ وَقِصَارٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: «هَلْ عِنْدَكَ مَا تُصْدِقُهَا؟» قَالَ: لَا، فَقَالَ: «مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ: سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ: «قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَسَيَأْتِي مَزِيدُ شَرْحٍ لِهَذَا الْغَرَضِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَسْمَاءِ السُّوَرِ. وَفَائِدَةُ التَّسْوِيرِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] «إِنَّ الْجِنْسَ إِذَا انْطَوَتْ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَانَ أَحْسَنَ وَأَنْبَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَبَّانًا (¬1) وَاحِدًا، وَأَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخَرَ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَهَزَّ لِعِطْفِهِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَطَعَ مِيلًا أَوْ طَوَى فَرْسَخًا» . وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ بَعْضِهَا إِثْرَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَرْتِيبِهَا كَذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ الدَّانِي: كَانَ جِبْرِيلُ يُوقِفُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ الْآيَةِ وَعَلَى مَوْضِعِ السُّورَةِ وَفِي «الْمُسْتَدْرَكِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَلِّفُونَ آيَاتِ السُّوَرِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْبَاقِلَّانِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ بَعْضِهَا إِثْرَ بَعْضٍ هُوَ مِنْ وَضْعِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِمُشَارَكَةِ عُثْمَانَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ الْأَثَرِ أَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ وَالْحَوَامِيمَ وَالْمُفَصَّلَ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي زمن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنَ السُّوَرِ مَا لَمْ يُرَتَّبْ فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي رُتِّبَ وَقْتَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ. أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ طَوَائِفَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِينَا الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ نُسْخَةٌ مِنَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الَّذِي جُمِعَ وَكُتِبَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَوُزِّعَتْ عَلَى الْأَمْصَارِ نُسَخٌ مِنْهُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ ذِي النُّورَيْنِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ سُورَ الْمُفَصَّلِ كَانَتْ هِيَ آخِرَ الْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ ¬

(¬1) ببّانا بموحدتين ثانيتهما مُشَدّدَة وَنون. قَالَ السَّيِّد: هُوَ الشَّيْء، وَكَأن الْكَلِمَة يَمَانِية.

وَسَطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَأَنَّ طَائِفَةَ السُّوَرِ الطُّولَى الْأَوَائِلِ فِي الْمُصْحَفِ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ الْقُرْآنِ، وَالِاحْتِمَالُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُمَا مِنْ أَكْبَرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، تَوَخَّيَا مَا اسْتَطَاعَا تَرْتِيبَ قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسُّوَرِ، وَتَرْتِيبَ قِرَاءَةِ الْحُفَّاظِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَكْبَرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ وَقَدْ لَازَمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ يَقْرَؤُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَسَخَ الْمَصَاحِفَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ حِينَ جُمِعَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُجْمَعُ فِي مُصْحَفٍ مُرَتَّبٍ وَإِنَّمَا جَعَلُوا لِكُلِّ سُورَةٍ صَحِيفَةً مُفْرَدَةً وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا عَنْهَا بِالصُّحُفِ، وَفِي «مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ» عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي قَرَاطِيسَ» . وَكَانَتْ تِلْكَ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، بِسَبَبِ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيَّةَ أَبِيهَا عَلَى تَرِكَتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ عُثْمَانُ جَمْعَ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ أَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ وَلَمَّا نُسِخَتْ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ أَرْجَعَ الصُّحُفَ إِلَيْهَا، قَالَ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : «وَهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبْتُ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ، كَتَبْتُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَتْ عِنْدَهُ» وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقُرْآنَ جُمِعَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ يُوجَدُ فِي آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَقْتَضِي سَبْقَ سُورَةٍ عَلَى أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [118] : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [146] فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النَّحْلِ، وَكَذَلِكَ هِيَ مُرَتَّبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَوْ فِي بَرَاءَةَ، وَثَلَاثَتُهَا فِي التَّرْتِيبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى سُوَرٍ كَثِيرَةٍ. فَالْمَصَاحِفُ الْأُولَى الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ لِأَنْفُسِهِمْ فِي حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي تَرْتِيبِ وَضْعِ السُّوَرِ. وَمِمَّنْ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ، سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ رَتَّبَ مُصْحَفَهُ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ- أَيْ بِحَسَبِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ- وَكَذَلِكَ

كَانَ مُصْحَفُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَوَّلُهُ اقْرَأْ بِاسْمِ [العلق: 1] ، ثُمَّ الْمُدَّثِّرَ، ثُمَّ الْمُزَّمِّلَ، ثُمَّ التَّكْوِيرَ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْمَكِّيِّ ثُمَّ الْمَدَنِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَتَّبَ عَلَى حَسَبِ الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَكَذَلِكَ كَانَ مُصْحَفُ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَا ابْتَدَآ بِالْبَقَرَةِ ثُمَّ النِّسَاءِ ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْمَدْعُوِّ بِالْإِمَامِ. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تُنَزَّلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنَ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ» . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا عَلَامَةَ الْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ كِتَابَةَ الْبَسْمَلَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبُوهَا بَيْنَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَسُورَةِ بَرَاءَةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ بَرَاءَةَ سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ الرَّاجِحَ عِنْدَهُمْ فَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى الْجَزْمِ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا تَحَرِّيًا. وَفِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ ذَكَرَ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُهُنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَسُئِلَ عَلْقَمَةُ عَنْهَا فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهَا مِنَ الْحَوَامِيمِ حم الدُّخَانِ وعَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] ، عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ جَزَمُوا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ السُّورِ كَانَ مُرَتَّبًا فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا لَا تَرَى الْقِرَاءَةَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ أَمْرًا لَازِمًا فَقَدْ سَأَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْعِرَاقِ أَنْ تُرِيَهُ مُصْحَفَهَا لِيُؤَلِّفَ عَلَيْهِ مُصْحَفَهُ فَقَالَتْ: «وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّةَ آيَةٍ قُرِأَتْ قَبْلُ، إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ» وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْبَقَرَةِ ثُمَّ بِالنِّسَاءِ ثُمَّ بِآلِ عِمْرَانَ فِي رَكْعَةٍ . قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» : «هُوَ دَلِيلٌ لِكَوْنِ تَرْتِيبِ السُّورَةِ وَقَعَ

بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ حِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ» وَفِي حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّ النَّبِيءَ قَرَأَ فِيهَا بِسُورَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ وَلَمَّا كَانَتْ جَهْرِيَّةً فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ تَيْنِكَ السُّورَتَيْنِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مَا كَانَ إِلَّا اتِّبَاعًا لقِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَأَهَا النَّبِيِّ كَذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ سَبَقَتْ فِي النُّزُولِ سُورَةَ النِّسَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ، أَوْ لِرَعْيِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الِافْتِتَاحِ بِكَلِمَةِ الم، أَوْ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمَا وَصْفًا وَاحِدًا: «فَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَة أَن النَّبِي قَالَ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَذَكَرَ فَضْلَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ لِمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَيْضًا عَنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سمْعَان أَن النَّبِي قَالَ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ، وَضَرَبَ لَهُمَا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ» الْحَدِيثِ. وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ شَمْسِ الدِّينِ مَحْمُودٍ الْأَصْفَهَانِيِّ الشَّافِعِيِّ» (¬1) ، فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ أَوَائِلِهِ «لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ إِذِ الدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّوَاتُرِ، وَمَا قِيلَ التَّوَاتُرُ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِهِ بِحَسَبِ أَصْلِهِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطِ التَّوَاتُرُ فِي الْمَحَلِّ جَازَ أَنْ لَا يَتَوَاتَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُكَرَّرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ يَجُوزُ سُقُوطُهُ» وَهُوَ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ أَلْفَاظَ آيَاتِهِ وَمَحَلَّهَا دُونَ تَرْتِيبِ السُّوَرِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ (¬2) : «لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَرْتِيبِ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقْرَأَ الْكَهْفَ قَبْلَ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُنَكَّسًا، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُقْرَأَ مِنْ آخِرِ السُّورَةِ إِلَى أَوَّلِهَا» . قُلْتُ أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الطُّولَى وَالْقُصْرَى فِي السُّوَرِ مُرَاعًى فِيهِ عَدَدَ الْآيَاتِ لَا عَدَدَ الْكَلِمَاتِ ¬

(¬1) هُوَ مَحْمُود بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الْأَصْفَهَانِي الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة جمع فِي تَفْسِيره «الْكَشَّاف» ، و «مَفَاتِيح الْغَيْب» ، وَهُوَ مخطوط بالمكتبة الأحمدية بِجَامِع الزيتونة بتونس. (¬2) هُوَ عَليّ بن خلف بن بطال الْقُرْطُبِيّ ثمَّ البلنسي الْمَالِكِي الْمُتَوفَّى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة، لَهُ شرح على «صَحِيح البُخَارِيّ» .

وَالْحُرُوفِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ- بَيْنَهُمْ فِي تَعْيِينِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ تَخَلَّلَتْ فِيهِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ وَالْمَدَنِيَّةُ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ نُزُولِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَنُزُولِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، إِحْدَاهَا رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِيَةُ رِوَايَةُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّالِثَةُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْجَعْبَرِيُّ فِي مَنْظُومَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا «تَقْرِيبَ الْمَأْمُولِ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ» وَذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» وَهِيَ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا. وَأَمَّا أَسْمَاءُ السُّوَرِ فَقَدْ جُعِلَتْ لَهَا مِنْ عَهْدِ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا تَيْسِيرُ الْمُرَاجَعَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ. وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا نَزَلَتِ الْآيَةُ: «ضَعُوهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا» ، فَسُورَةُ الْبَقَرَةِ مثلا كَانَت تلقب بِالسُّورَةِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ. وَفَائِدَةُ التَّسْمِيَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَا يُمَيِّزُ السُّورَةَ عَنْ غَيْرِهَا. وَأَصْلُ أَسْمَاءِ السُّوَرِ أَنْ تَكُونَ بِالْوَصْفِ كَقَوْلِهِمُ السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، ثُمَّ شَاعَ فَحَذَفُوا الْمَوْصُولَ وَعَوَّضُوا عَنْهُ الْإِضَافَةَ فَقَالُوا سُورَةُ ذِكْرِ الْبَقَرَةِ مَثَلًا، ثُمَّ حَذَفُوا الْمُضَافَ وَأَقَامُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَقَالُوا سُورَةُ الْبَقَرَةِ. أَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوا مُضَافًا وَأَضَافُوا السُّورَةَ لِمَا يُذْكَرُ فِيهَا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ» الْحَدِيثَ وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ النَّجْمَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَجَدَ بِالنَّجْمِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَقُولُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ وَلَا سُورَةَ النِّسَاءِ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ وَلَكِنْ قُولُوا السُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ- وَكَذَا الْقُرْآنَ كُلُّهُ» ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَذَكَرُهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي «الْمَوْضُوعَاتِ» ، وَلَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ أَثْبَتَ صِحَّتَهُ. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا يرفعهُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ يَمْنَعُ مَنْ يَقُولُ سُورَةُ كَذَا وَيَقُولُ قُلِ السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، وَالَّذِينَ صَحَّحُوا حَدِيثَ أَنَسٍ تَأَوَّلُوهُ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَكَّةَ حِينَ كَانَ الْمُسلمُونَ إِذا قَالُوا: سُورَةَ الْفِيلِ وَسُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ مَثَلًا هَزَأَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا سَبَبُ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: 95] فَلَمَّا هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ زَالَ سَبَبُ النَّهْيِ فَنُسِخَ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ.

وَلم يشْتَهر عَن السّلف هَذَا الْمَنْعُ وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: «بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا» وَأَخْرَجَ فِيهِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا سُورَةُ الْبَقَرَةِ، سُورَةُ الْفَتْحِ، سُورَةُ النِّسَاءِ، سُورَةُ الْفُرْقَانِ، سُورَةُ بَرَاءَةَ، وَبَعْضُهَا مِنْ لَفْظِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ فَلِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَوِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَأَنْ يَقُولَ سُورَةُ وَالنَّجْمِ وَسورَة النَّجْمِ، وقرأت النَّجْمَ وَقَرَأْتُ وَالنَّجْمِ، كَمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ فِي حَدِيثِ السُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّحَابَةَ سَمُّوا بِمَا حفظوه عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَخَذُوا لَهَا أَشْهَرَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَهَا بِهَا وَلَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ غَيْرَ مَأْثُورَةٍ، فَقَدْ سَمَّى ابْنُ مَسْعُودٍ الْقُنُوتَ سُورَةَ الْخَلْعِ وَالْخَنْعِ كَمَا مَرَّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ مِنْ وَضْعِهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَةُ بَعْضِ السُّوَرِ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَهَا وَأَقَرَّهَا وَذَلِكَ يَكْفِي فِي تَصْحِيحِ التَّسْمِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ السُّوَرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَوْصَافِهَا مِثْلَ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةِ الْحَمْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْإِضَافَةِ لِشَيْءٍ اخْتُصَّتْ بِذِكْرِهِ نَحْوَ سُورَةِ لُقْمَانَ وَسُورَةِ يُوسُفَ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ لِمَا كَانَ ذِكْرُهُ فِيهَا أَوْفَى نَحْوَ سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ لِكَلِمَاتٍ تَقَعُ فِي السُّورَةِ نَحْوَ سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَسُورَةِ حم عسق، وَسُورَةِ حم السَّجْدَةِ كَمَا سَمَّاهَا بَعْضُ السَّلَفِ، وَسُورَةِ فَاطِرٍ. وَقَدْ سَمَّوْا مَجْمُوعَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِكَلِمَةِ حم «آلَ حم» ، وَرُبَّمَا سَمَّوْا السُّورَتَيْنِ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ فَقَدْ سَمَّوْا سُورَةَ الْكَافِرُونَ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ الْمُقَشْقِشَتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْمُصْحَفِ أَسْمَاءَ السُّوَرِ بَلِ اكْتَفَوْا بِإِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ فِي مَبْدَأِ كُلِّ سُورَةٍ عَلَامَةً عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يَكْتُبُوا فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ، فَاخْتَارُوا الْبَسْمَلَةَ لِأَنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلِافْتِتَاحِ مَعَ كَوْنِهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّ سُورَةَ الْبَيِّنَةِ سُمِّيَتْ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سُورَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي السُّوَرَ فِي مُصْحَفِهِ. وَكُتِبَتْ أَسْمَاءُ السُّوَرِ فِي الْمَصَاحِفِ بِاطِّرَادٍ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ الْبُرْهَانِ» عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ: إِنَّ أَسْمَاءَ السُّوَرِ لَمَّا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ كُتِبَتْ بِخَطٍّ آخَرَ لِتَتَمَيَّزَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِخَطٍّ لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْخَطِّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّورَةِ فَإِنَّ التَّنْجِيمَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَذَلِكَ فِي

آيَاتِهِ وَسُوَرِهِ فَرُبَّمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ جَمِيعًا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ مِنَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ، وَرُبَّمَا نَزَلَتْ نُزُولًا مُتَتَابِعًا كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةُ، وَرُبَّمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ وَنزلت السورتان مفرقتان فِي أَوْقَاتٍ مُتَدَاخِلَةٍ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ- أَيْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ- فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ الْوَحْي فَيَقُول ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ كَذَا» . وَلِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ السُّورَةُ بَعْضُهَا مَكِّيًّا وَبَعْضُهَا مَدَنِيًّا. وَكَذَلِكَ تَنْهِيَةُ كُلِّ سُورَةٍ كَانَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ نِهَايَاتُ السُّوَرِ مَعْلُومَةً، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ «مَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» وَقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «فَقَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ» . وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ مُسَوَّرٌ سُوَرًا مُعَيَّنَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ اخْتِلَافِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي سُوَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفِ، وَمَرْيَمَ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءِ «هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي» . وَقَدْ جَمَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو أَيُّوبَ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَحَفِظَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: «اصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» فَلَعَلَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَدْ عَكَفُوا عَلَى حِفْظِ مَا نَزَلَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ السُّوَرِ النَّازِلَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ كَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ هَاءً أَنَّ رَجُلًا نَادَى: يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ فِي الْوَقْفِ وَهِيَ لُغَةٌ، فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ: «مَا أَحْفَظُ مِنْهَا وَلَا آيَتْ» مُحَاكَاةً لِلُغَتِهِ.

المقدمة التاسعة في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها

الْمُقَدِّمَةُ التَّاسِعَةُ فِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا جُمَلُ الْقُرْآنِ تُعْتَبَرُ مُرَادَةً بِهَا إِنَّ الْعَرَبَ أُمَّةٌ جُبِلَتْ عَلَى ذَكَاءِ الْقَرَائِحِ وَفِطْنَةِ الْأَفْهَامِ، فَعَلَى دِعَامَةِ فِطْنَتِهِمْ وَذَكَائِهِمْ أُقِيمَتْ أَسَالِيبُ كَلَامِهِمْ، وَبِخَاصَّةٍ كَلَامُ بُلَغَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِيجَازُ عَمُودَ بَلَاغَتِهِمْ لِاعْتِمَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ كَمَا يُقَالُ: لَمْحَةٌ دَالَّةٌ، لِأَجْلِ ذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ الْمَجَازُ، وَالِاسْتِعَارَةُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالْكِنَايَةُ، وَالتَّعْرِيضُ، وَالِاشْتِرَاكُ وَالتَّسَامُحُ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَالْمُبَالَغَةِ، وَالِاسْتِطْرَادُ وَمُسْتَتْبَعَاتُ التَّرَاكِيبِ، وَالْأَمْثَالُ، وَالتَّلْمِيحُ، وَالتَّمْلِيحُ، وَاسْتِعْمَالُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ فِي غَيْرِ إِفَادَةِ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّقْرِيرِ أَوِ الْإِنْكَارِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّه تَوْفِيرُ الْمَعَانِي، وَأَدَاءُ مَا فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَخْصَرِهَا لِيَسْهُلَ اعْتِلَاقُهَا بِالْأَذْهَانِ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقُرْآنُ وَحْيًا مِنَ الْعَلَّامِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ وَتَحَدَّى بُلَغَاءَ الْعَرَبِ بِمُعَارَضَةِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ، فَقَدْ نُسِجَ نَظْمُهُ نَسْجًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مِنَ الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ لَفْظًا وَمَعْنًى بِمَا يَفِي بِأَقْصَى مَا يُرَادُ بَلَاغَةً إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أُسْلُوبٍ أَبْدَعَ مِمَّا كَانُوا يَعْهَدُونَ وَأَعْجَبَ، فَأَعْجَزَ بُلَغَاءَ الْمُعَانِدِينَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَلَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا الْإِذْعَانُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَالنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ عِنَادًا مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَالْقُرْآنُ مِنْ جَانِبِ إِعْجَازِهِ يَكُونُ أَكْثَرَ مَعَانِي مِنَ الْمَعَانِي الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يُودِعُهَا الْبُلَغَاءُ فِي كَلَامِهِمْ. وَهُوَ لِكَوْنِهِ كِتَابَ تَشْرِيعٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُودَعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ أَكْثَرُ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَلْفَاظُ، فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْمِقْدَارِ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ الْوَارِدُ هُوَ بِهَا الَّتِي هِيَ أَسْمَحُ اللُّغَاتِ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ، لِيَحْصُلَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِرْشَادِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْهُدَى، فَمُعْتَادُ الْبُلَغَاءِ إِيدَاعُ الْمُتَكَلِّمِ مَعْنًى يَدْعُوهُ إِلَيْهِ غَرَضُ كَلَامِهِ وَتَرْكُ غَيْرِهِ وَالْقُرْآنُ يَنْبَغِي أَنْ يُودَعَ مِنَ الْمَعَانِي كُلَّ مَا يَحْتَاجُ السَّامِعُونَ إِلَى عِلْمِهِ وَكُلَّ مَا لَهُ حَظٌّ فِي الْبَلَاغَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً أَمْ مُتَفَاوِتَةً فِي الْبَلَاغَةِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْأَعْلَى مَقْصُودًا وَكَانَ مَا هُوَ

أَدْنَى مِنْهُ مُرَادًا مَعَهُ لَا مُرَادًا دُونَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ دَلَالَةُ التَّرْكِيبِ عَلَيْهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الِاحْتِمَالِ وَالظُّهُورِ أَمْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً بَعْضَهَا أَظَهَرَ مِنْ بَعْضٍ وَلَوْ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ التَّأْوِيلِ وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ. أَمَّا إِذَا تَسَاوَى الْمَعْنَيَانِ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [النِّسَاء: 157] أَيْ مَا تَيَقَّنُوا قَتْلَهُ وَلَكِنْ تَوَهَّمُوهُ، أَوْ مَا أَيْقَنَ النَّصَارَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ عِيسَى عِلْمَ ذَلِكَ يَقِينًا بَلْ فَهِمُوهُ خَطَأً، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يُوسُف: 42] فَفِي كُلٍّ مِنْ كَلِمَةِ ذِكْرَ وربه مَعْنَيَانِ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُف: 23] فَفِي لَفْظِ رَبِّ مَعْنَيَانِ. وَقَدْ تَكْثُرُ الْمَعَانِي بِإِنْزَالِ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ اللَّفْظِ وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَة: 114] بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (أَبَاهُ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، فَنَشَأَ احْتِمَالٌ فِيمَن هُوَ الْوَعْد. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ نَازِلًا مِنَ الْمُحِيطِ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كَانَ مَا تَسْمَحُ تَرَاكِيبُهُ الْجَارِيَةُ عَلَى فَصِيحِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بِاحْتِمَالِهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَأْلُوفَةِ لِلْعَرَبِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ التَّرَاكِيبِ، مَظْنُونًا بِأَنَّهُ مُرَادٌ لِمُنَزِّلِهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ صَرِيحٌ أَوْ غَالِبٌ مِنْ دَلَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ لُغَوِيَّةٍ أَوْ تَوْقِيفِيَّةٍ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ كِتَابَ الْأُمَّةِ كُلَّهَا وَفِيهِ هَدْيُهَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى تَدَبُّرِهِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعَانِيهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاء: 83] وَقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] وَغَيْرِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحُجَّةُ الْعَامَّةُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِهِ حُجَّةَ شَرِيعَتِهِمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّةِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ الْخِلَافِ فِي شُرُوطِ تَصْحِيحِ الْخَبَرِ، وَلِتَفَاوُتِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا يَبْلُغُهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ مَعَ تَفَرُّقِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، فَلَا مَرْجِعَ لَهُمْ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنَ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ. وَيَدُلُّ لِتَأْصِيلِنَا هَذَا مَا وَقَعَ إِلَيْنَا مِنْ تَفْسِيرَاتٍ مروية عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآيَاتٍ، فَنَرَى مِنْهَا مَا نُوقِنُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْأَسْبَقَ مِنَ التَّرْكِيبِ وَلَكِنَّا بِالتَّأَمُّلِ نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَرَادَ بِتَفْسِيرِهِ إِلَّا إِيقَاظَ الْأَذْهَانِ إِلَى أَخْذِ أَقْصَى الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، مِثَالُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ أُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الْأَنْفَال: 24] ؟» ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَسُوقَةَ فِيهِ الْآيَةُ هُوَ الِاسْتِجَابَةُ بِمَعْنَى الِامْتِثَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمرَان: 172] ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّعْوَةِ الْهِدَايَةُ كَقَوْلِهِ: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمرَان: 104] ، وَقَدْ تَعَلَّقَ فِعْلُ دَعاكُمْ بِقَوْلِهِ لِما يُحْيِيكُمْ أَيْ لِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ، غَيْرَ أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِجَابَةِ لَمَّا كَانَ صَالِحًا لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَيْضًا وَهُوَ إِجَابَةُ النِّدَاءِ حَمَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَقَامِ الصَّالِحِ لَهُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِما يُحْيِيكُمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيهُ الْخَلْقِ الثَّانِي بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ لِدَفْعِ اسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] ، فَذَلِكَ مَوْرِدُ التَّشْبِيهِ، غَيْرَ أَنَّ التَّشْبِيهَ لَمَّا كَانَ صَالِحًا لِلْحَمْلِ عَلَى تَمَامِ الْمُشَابَهَةِ أَعْلَمَنَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ مِنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ شَامِلًا لِلتَّجَرُّدِ مِنَ الثِّيَابِ وَالنِّعَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] فَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا قَالَ لَهُ لَا تُصَلِّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ ابْن أُبَيِّ بن سَلُولَ فَإِنَّهُ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنْ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِلْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيءُ: «خَيَّرَنِي رَبِّي وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» فَحَمَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] عَلَى التَّخْيِيرِ مَعَ أَنَّ ظَاهَرَهُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَةِ، وَحَمَلَ اسْمَ الْعَدَدِ عَلَى دَلَالَتِهِ الصَّرِيحَةِ دُونَ كَوْنِهِ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ كَمَا هُوَ قَرِينَةُ السِّيَاقِ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ وَاسْمُ الْعَدَدِ صَالِحَيْنِ لِمَا حَمَلَهُمَا عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَمْلُ تَأْوِيلًا نَاشِئًا عَنِ الِاحْتِيَاطِ. وَمِنْ هَذَا قَول النبيء لِأَن كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ مُعَيْطٍ حِينَ جَاءَتْ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَرَأَ النَّبِيءُ قَوْلَهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الْأَنْعَام: 95] فَاسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي سِيقَ إِلَيْهِ، وَمَا أَرَى سُجُودَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاضِعِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَاجِعًا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ فَهْمًا مِنْهُ رَجَعَ إِلَى مَا شَرَحْنَا تَأْصِيلَهُ، وَإِنْ كَانَ وَحْيًا كَانَ أَقْوَى حُجَّةً فِي إِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ أَلْفَاظِ كِتَابِهِ مَا تَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُهُ مِمَّا لَا يُنَافِي أَغْرَاضَهُ. وَكَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَن أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِثْلَ مَا رُوِيَ

أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ فَتَيَمَّمَ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: 29] مَعَ أَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ أَصْلُهُ فِي النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا فُتِحَتِ الْعِرَاقُ وَسَأَلَهُ جَيْشُ الْفَتْحِ قِسْمَةَ أَرْضِ السَّوَادِ بَيْنَهُمْ قَالَ: «إِنْ قَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ لَمْ يَجِدِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَكُمْ مِنَ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ مِثْلَ مَا وَجَدْتُمْ فَأَرَى أَنْ أَجْعَلَهَا خَرَاجًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ يُقْسَمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ مَوْسِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُول: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: 10] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي فَيْءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ الْمَذْكُورِينَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ الْمَذْكُورِ. وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ عُمَرَ ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ بِيَوْمِ الْهِجْرَةِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: 108] فَإِنَّ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ أَنَّهُ أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ تَأْسِيسِهِ، وَاللَّفْظُ صَالِحٌ لِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَيْ أَحَقُّ الْأَيَّامِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ نِسْبِيَّةً. وَقَدِ اسْتَدَلَّ فُقَهَاؤُنَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَعَالَةِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَالَةِ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يُوسُف: 72] كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّالِثَةِ، مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةُ قِصَّةٍ مَضَتْ فِي أُمَّةٍ خَلَتْ لَيْسَتْ فِي سِيَاقِ تَقْرِيرٍ وَلَا إِنْكَارٍ، وَلَا هِيَ مِنْ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَهَا وَلَمْ يُعْقِبْهَا بِإِنْكَارٍ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَتَحْرِيمِ خَرْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النِّسَاء: 115] مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مُشَاقَّةٌ خَاصَّةٌ وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلٍ خَاصٍّ وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ كَمَالِ الْآيَةِ. وَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا يُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي لَمِمَّا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ. ثُمَّ إِنَّ مَعَانِيَ التَّرْكِيبِ الْمُحْتَمِلِ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ فَهَذَا النَّوْعُ لَا تَرَدُّدَ فِي حَمْلِ التَّرْكِيبِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَحْتَمِلُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ بَعْضِ تِلْكَ الْمَحَامِلِ صَارِفٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ، مِثْلَ حَمْلِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فِي سُورَةِ العنكبوت [6] على معنيي مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فِي إِقَامَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَمُقَاتَلَةِ الْأَعْدَاءِ فِي الذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ. وَقد يكون بَينهَا التَّغَايُرُ، بِحَيْثُ يَكُونُ تَعْيِينُ التَّرْكِيبِ لِلْبَعْضِ

مُنَافِيًا لِتَعْيِينِهِ لِلْآخَرِ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ عُرْفًا، وَلَكِنَّ صَلُوحِيَّةَ التَّرْكِيبِ لَهَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ مَا يُعِيِّنُ إِرَادَةَ أَحَدِهَا تَحْمِلُ السَّامِعَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْجَمِيعِ إِيفَاءً بِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْحَمْلُ عَلَى الْجَمِيعِ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ احْتِيَاطًا. وَقَدْ يَكُونُ ثَانِي الْمَعْنَيَيْنِ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ، مِثْلَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ وَالتَّهَكُّمِ مَعَ مَعَانِيهَا الصَّرِيحَةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ قَالَ: فَمَا رَئَيْتُ أَنَّهُ دَعَانِي إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْر: 1] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: 3] فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ. وَإِنَّكَ لَتَمُرُّ بِالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فَتَتَأَمَّلُهَا وَتَتَدَبَّرُهَا فَتَنْهَالُ عَلَيْكَ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ يَسْمَحُ بِهَا التَّرْكِيبُ عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ فِي أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ تَتَكَاثَرُ عَلَيْك فَلَا تِلْكَ مِنْ كَثْرَتِهَا فِي حَصْرٍ وَلَا تَجْعَلِ الْحَمْلَ عَلَى بَعْضِهَا مُنَافِيًا لِلْحَمْلِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ إِنْ كَانَ التَّرْكِيبُ سَمْحًا بِذَلِكَ. فَمُخْتَلِفُ الْمَحَامِلِ الَّتِي تَسْمَحُ بِهَا كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ وَتَرَاكِيبُهُ وَإِعْرَابُهُ وَدَلَالَتُهُ، مِنِ اشْتِرَاكٍ وَحَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَصَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَبَدِيعٍ، وَوَصْلٍ، وَوَقْفٍ، إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى خِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنَ السِّيَاقِ، يَجِبُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى جَمِيعِهَا كَالْوَصْلِ وَالْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] إِذَا وُقِفَ عَلَى لَا رَيْبَ أَوْ عَلَى فِيهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمرَان: 146] بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى إِذَا وُقِفَ على قَوْله قاتَلَ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ [آل عمرَان: 7] بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْعِلْمِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مَرْيَم: 46] بِاخْتِلَافِ ارْتِبَاطِ النِّدَاءِ مِنْ قَوْلِهِ:

يَا إِبْراهِيمُ بِالتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: أَراغِبٌ أَنْتَ، أَوْ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ. وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كِتَابًا مُخَاطَبًا بِهِ كُلُّ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ، لِذَلِكَ جَعَلَهُ بِلُغَةٍ هِيَ أَفْصَحُ كَلَامٍ بَيْنَ لُغَاتِ الْبَشَرِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، لِأَسْبَابٍ يَلُوحُ لِي مِنْهَا، أَنَّ تِلْكَ اللُّغَةَ أَوْفَرُ اللُّغَاتِ مَادَّةً، وَأَقَلُّهَا حُرُوفًا، وَأَفْصَحُهَا لَهْجَةً، وَأَكْثَرُهَا تَصَرُّفًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَوْفَرُهَا أَلْفَاظًا، وَجَعَلَهُ جَامِعًا لِأَكْثَرِ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي نَظْمِ تَرَاكِيبِهَا مِنَ الْمَعَانِي، فِي أَقَلِّ مَا يَسْمَحُ بِهِ نَظْمُ تِلْكَ اللُّغَةِ، فَكَانَ قِوَامُ أَسَالِيبِهِ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِيهِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ. وَمِنْ أَدَقِّ ذَلِكَ وَأَجْدَرِهِ بِأَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ دُفْعَةً. وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَمَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ مَعًا. بَلْهَ إِرَادَةَ الْمَعَانِي الْمُكَنَّى عَنْهَا مَعَ الْمَعَانِي الْمُصَرَّحِ بِهَا، وَإِرَادَةَ الْمَعَانِي الْمُسْتَتْبَعَاتِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) مِنَ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَتْبِعَةِ (بِكَسْرِ الْبَاءِ) . وَهَذَا الْأَخِيرُ قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِعِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ. وَبَقِيَ الْمَبْحَثَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُمَا اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، مَحَلَّ تَرَدُّدٍ بَيْنَ الْمُتَصَدِّينَ لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانِي الْقُرْآنِ تَفْسِيرًا وَتَشْرِيعًا، سَبَبُهُ أَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ أَوْ وَاقِعٌ بِنُدْرَةٍ، فَلَقَدْ تَجِدُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَدْفَعُ مَحْمَلًا مِنْ مَحَامِلِ بَعْضِ آيَاتٍ بِأَنَّهُ مَحْمَلٌ يُفْضِي إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ خَطْبًا عَظِيمًا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ وَعُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى مِنْ مَدْلُوله اخْتِلَافا ينبىء عَنْ تَرَدُّدِهِمْ فِي صِحَّةِ حَمْلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ أَشَارَ كَلَامُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ مَثَارَ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ عَدَمُ الْعَهْدِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، إِذْ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ (¬1) يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمُشْتَرَكِ عِدَّةُ مَعَانٍ لَكِنْ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَيْسَ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ. وَظَنِّي بِهِمَا أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ تَصْيِيرَ تِلْكَ الْإِرَادَةِ ¬

(¬1) مُحَمَّد بن عَليّ الْبَصْرِيّ الشَّافِعِي المعتزلي الْمُتَوفَّى سنة 439 هـ لَهُ كتاب «الْمُعْتَمد فِي أصُول الْفِقْه» .

إِلَى أَنَّهَا دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى عَلَاقَةٍ وَقَرِينَةٍ، كَدَلَالَةِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ مَعَانِيهِ جَمِيعًا أَوْ بَعْضًا إِطْلَاقًا لُغَوِيًّا، فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَجُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الْمَجَازُ وَجَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ مُرَادُ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ «التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ» إِنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى إِلَّا بِقَرِينَةٍ، فَفَهِمَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْقَرِينَةَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ هِيَ الْقَرِينَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي مَوْضُوعِنَا إِذْ مَعَانِي الْمُشْتَرَكُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَة وَإِلَّا لاقتضت حَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكِ فَارْتَفَعَ الْمَوْضُوعُ مِنْ أَصْلِهِ. وَإِنَّمَا سَهَا أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ قَرِينَةِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَقَرِينَةِ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ مَعَانِيهِ، فَإِنَّ قَرِينَةَ الْمَجَازِ مَانِعَةٌ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَقَرِينَةَ الْمُشْتَرَكِ مُعَيِّنَةٌ لِلْمَعَانِي الْمُرَادَةُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا. وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا نَذْكُرُهُ اسْتِيعَابًا لِآرَاءِ النَّاظِرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ صِحَّةُ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرِكِ عَلَى مَعَانِيهِ فِي النَّفْيِ وَعَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ فِي الْإِيجَابِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى بُرْهَانِ، عَلِيٍّ الْمَرْغِينَانِيِّ الْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ «الْهِدَايَةِ» فِي الْفِقْهِ، وَمَثَارُهُ- فِي مَا أَحْسَبُ- اشْتِبَاهُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ بِدَلَالَةِ النَّكِرَةِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى أَفْرَادِهَا حَيْثُ تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَلَا تُفِيدُهُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُشْتَرَكُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ الْمُشْتَرَكُ، وَالتَّرْكِيبُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الِاسْتِعْمَالَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَعَانِي حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةُ، مَحْضَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً. مِثَالُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الْحَج: 18] فَالسُّجُودُ لَهُ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَمَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ التَّعْظِيمُ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ يَسْجُدُ هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: 2] فَبَسْطُ الْأَيْدِي حَقِيقَةٌ فِي مَدِّهَا لِلضَّرْبِ وَالسَّلْبِ، وَبَسْطُ الْأَلْسِنَةِ مَجَازٌ فِي عَدَمِ إِمْسَاكِهَا عَنِ الْقَوْلِ الْبَذِيءِ،

وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي كِلَا مَعْنَيَيْهِ. وَمِثَالُ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] فَمُرَكَّبُ وَيْلٌ لَهُ يُسْتَعْمَلُ خَبَرًا وَيُسْتَعْمَلُ دُعَاءً، وَقَدْ حَمَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ يَكُونُ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُفَسِّرُونَ، أَوْ تَرْجِيحُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ كَانَ الْمُفَسِّرُونَ غَافِلِينَ عَنْ تَأْصِيلِ هَذَا الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ كَانَ الَّذِي يُرَجِّحُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، يَجْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُلْغًى. وَنَحْنُ لَا نُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَرَى الْمَعَانِيَ الْمُتَعَدِّدَةَ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ بِدُونِ خُرُوجٍ عَنْ مَهِيعِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ، مَعَانِيَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَنَحْنُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا إِذَا ذَكَرْنَا مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا فَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، وَإِذَا تَرَكْنَا مَعْنًى مِمَّا حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ تَرْكُنَا إِيَّاهُ دَالًّا عَلَى إِبْطَالِهِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِتَرَجُّحِ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِي تَفَاسِيرَ أُخْرَى تَجَنُّبًا لِلْإِطَالَةِ، فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الْيَوْمَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يعوزهم استقراءها وَلَا تَمْيِيزُ مَحَامِلِهَا مَتَى جَرَوْا عَلَى هَذَا الْقَانُونِ.

المقدمة العاشرة في إعجاز القرآن

الْمُقَدِّمَةُ الْعَاشِرَةُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لَمْ أَرَ غَرَضًا تَنَاضَلَتْ لَهُ سِهَامُ الْأَفْهَامِ، وَلَا غَايَةً تَسَابَقَتْ إِلَيْهَا جِيَادُ الْهِمَمِ فَرَجَعَتْ دُونَهَا حَسْرَى، وَاقْتَنَعَتْ بِمَا بَلَغَتْهُ مِنْ صُبَابَةِ نَزْرًا، مِثْلَ الْخَوْضِ فِي وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ شُغْلَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ الشَّاغِلَ، وَمَوْرِدَهَا لِلْمَعْلُولِ وَالنَّاهِلِ، وَمُغْلَى سِبَائِهَا لِلنَّدِيمِ وَالْوَاغِلِ، وَلَقَدْ سَبَقَ أَنْ أُلِّفَ عِلْمُ الْبَلَاغَةِ مُشْتَمِلًا عَلَى نَمَاذِجَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ،. إِلَّا أَنَّهُ بَاحِثٌ عَنْ كُلِّ خَصَائِصِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ لِيَكُونَ مِعْيَارًا لِلنَّقْدِ أَوْ آلَةً لِلصُّنْعِ، ثُمَّ لِيَظْهَرَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ كَيْفَ تَفَوَّقَ الْقُرْآنُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ بَلِيغٍ بِمَا تَوَفَّرَ فِيهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي لَا تَجْتَمِعُ فِي كَلَامٍ آخَرَ لِلْبُلَغَاءِ حَتَّى عَجَزَ السَّابِقُونَ وَاللَّاحِقُونَ مِنْهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ السَّكَّاكِيُّ فِي كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ» «وَاعْلَمْ أَنِّي مَهَّدْتُ لَكَ فِي هَذَا الْعِلْمِ قَوَاعِدَ مَتَى بَنَيْتَ عَلَيْهَا أَعْجَبَ كُلَّ شَاهِدٍ بِنَاؤُهَا وَاعْتَرَفَ لَكَ بِكَمَالِ الْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ أَبْنَاؤُهَا، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إِذَا كُنْتَ مِمَّنْ مَلَكَ الذَّوْقَ وَتَصَفَّحْتَ كَلَامَ رَبِّ الْعِزَّةِ أَطْلَعَتْكَ عَلَى مَا يُورِدُكَ مَوَارِدَ الْعِزَّةِ وَكَشَفَتْ عَنْ وَجْهِ إِعْجَازِهِ الْقِنَاعَ» اهـ. فَأَمَّا أَنَا فَأَرَدْتُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَنْ أُلِمَّ بِكَ أَيُّهَا الْمُتَأَمِّلُ إِلْمَامَةً لَيْسَتْ كَخَطْرَةِ طَيْفٍ وَلَا هِيَ كَإِقَامَةِ الْمُنْتَجِعِ فِي الْمَرْبَعِ حَتَّى يُظِلَّهُ الصَّيْفُ، وَإِنَّمَا هِيَ لَمْحَةٌ تَرَى مِنْهَا كَيْفَ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا وَتَتَبَصَّرُ مِنْهَا نَوَاحِيَ إِعْجَازِهِ وَمَا أَنَا بِمُسْتَقْصٍ دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ فِي آحَادِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ فَذَلِكَ لَهُ مُصَنَّفَاتُهُ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ. ثُمَّ تَرَى مِنْهَا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَلَطَائِفَ أَدَبِهِ الَّتِي هِيَ فَتْحٌ لِفُنُونٍ رَائِعَةٍ مِنْ أَدَبِ لُغَةِ الْعَرَبِ حَتَّى تَرَى كَيْفَ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ فَتْحَ بَصَائِرَ، وَفَتْحَ عُقُولٍ، وَفَتْحَ مَمَالِكَ، وَفَتْحَ أَدَبٍ غَضٍّ ارْتَقَى بِهِ الْأَدَبُ الْعَرَبِيُّ مُرْتَقًى لَمْ يَبْلُغْهُ أَدَبُ أُمَّةٍ مِنْ قَبْلُ. وَكُنْتُ أَرَى الْبَاحِثِينَ مِمَّنْ تَقَدَّمَنِي يَخْلِطُونَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ خَلْطًا، وَرُبَّمَا أَهْمَلُوا مُعْظَمَ الْفَنِّ الثَّانِي، وَرُبَّمَا أَلَمُّوا بِهِ إِلْمَامًا وَخَلَطُوهُ بِقِسْمِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ الْبَحْثُ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَلَعَلَّكَ تَجِدُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أُصُولًا وَنُكَتًا أَغْفَلَهَا مَنْ تَقَدَّمُوا مِمَّنْ تَكَلَّمُوا فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِثْلَ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالرُّمَّانِيِّ، وَعَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَعِيَاضٍ، وَالسَّكَّاكِيِّ، فَكُونُوا مِنْهَا بِالْمِرْصَادِ، وَافْلُوا عَنْهَا

كَمَا يُفْلَى عَنِ النَّارِ الرَّمَادُ، وَإِنَّ عَلَاقَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ بِالتَّفْسِيرِ هِيَ أَنَّ مُفَسِّرَ الْقُرْآنِ لَا يُعَدُّ تَفْسِيرُهُ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ بَالِغًا حَدَّ الْكَمَالِ فِي غَرَضِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَمِلًا عَلَى بَيَانِ دَقَائِقَ مِنْ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ فِي آيِهِ الْمُفَسَّرَةِ بِمِقْدَارِ مَا تَسْمُو إِلَيْهِ الْهِمَّةُ مِنْ تَطْوِيلٍ وَاخْتِصَارٍ، فَالْمُفَسِّرُ بِحَاجَةٍ إِلَى بَيَانِ مَا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ وَخَصَائِصِ بَلَاغَتِهِ وَمَا فَاقَتْ بِهِ آيُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمُفَسِّرُ حِينَ يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرْجِمِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْمُفَسِّرِ. فَمِنْ أَعْجَبِ مَا نَرَاهُ خُلُوُّ مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِالْوُصُولِ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ الْأَسْمَى إِلَّا عُيُونَ التَّفَاسِيرِ، فَمِنْ مُقِلٍّ مِثْلَ «مَعَانِي الْقُرْآنِ» لِأَبِي إِسْحَاق الزّجاج و «المحرّر الْوَجِيزِ» لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَطِيَّةَ الْأَنْدَلُسِيِّ، وَمِنْ مُكْثِرٍ مِثْلَ «الْكَشَّافِ» . وَلَا يُعْذَرُ فِي الْخُلُوِّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا التَّفَاسِيرُ الَّتِي نَحَتْ نَاحِيَةً خَاصَّةً مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِثْلَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ لَمْ يُهْمِلْ هَذَا الْعِلْقَ النَّفِيسَ كَمَا يَصِفُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كِتَابَ «أَحْكَامُ الْقُرْآنِ» لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَغْدَادِيِّ، وَكَمَا نَرَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِأَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ. ثُمَّ إِنَّ الْعِنَايَةَ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا نَبَعَتْ مِنْ مُخْتَزَنِ أَصْلٍ كَبِيرٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَوْنُهُ المعجزة الْكُبْرَى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنُهُ الْمُعْجِزَةَ الْبَاقِيَةَ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي تَحَدَّى بِهَا الرَّسُولُ مُعَانِدِيهِ تَحَدِّيًا صَرِيحًا. قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 50، 51] وَلَقَدْ تَصَدَّى لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى هَذَا أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ أَوْ سُمِّيَ «إِعْجَازَ الْقُرْآنِ» وَأَطَالَ، وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُنِيَتْ عَلَى مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُيِّدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ قَامَتْ فِي أَوْقَاتٍ وَأَحْوَالٍ وَمَعَ نَاسٍ خَاصَّةٍ وَنُقِلَ بَعْضُهَا مُتَوَاتِرًا وَبَعْضُهَا نُقِلَ نَقْلًا خَاصًّا، فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ عَامَّةٌ، وَلُزُومُ الْحُجَّةِ بِهِ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ وُرُودِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ وَجْهُ إِعْجَازِهِ مِنْ عَجْزِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ نَظَرٍ مُجَدَّدٍ، فَكَذَلِكَ عَجَزَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ التَّالِيَةِ عَنِ النَّظَرِ فِي حَالِ عَجْزِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ تَتَحَدَّى

الْعَرَبَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مثله، وبعشر سُورَة مِثْلِهِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، نَاهِيكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَادَى بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [الْبَقَرَة: 23، 24] الْآيَةَ فَإِنَّهُ سَهَّلَ وَسَجَّلَ: سَهَّلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَكَانَ كَمَا سَجَّلَ، فَالتَّحَدِّي مُتَوَاتِرٌ وَعَجْزُ الْمُتَحَدَّيْنَ أَيْضًا مُتَوَاتِرٌ بِشَهَادَةِ التَّارِيخِ إِذْ طَالَتْ مُدَّتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَلَمْ يُقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ عَاجِزِينَ، وَمَا اسْتَطَاعُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ثُمَّ عَدَلُوا إِلَى الْمُقَاوَمَةِ بِالْقُوَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [23، 24] . وَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ سُورَةُ يُونُسَ [38] وَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ سُورَةُ هُودٍ [13، 14] . فَعَجْزُ جَمِيعِ الْمُتَحَدَّيْنَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ بِتَوَاتُرِ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَهُمْ وَسُكُوتِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَيْهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْلِيلِ عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إِلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فَسَلَبَهُمُ الْمَقْدِرَةَ أَوْ سَلَبَهَمُ الدَّاعِيَ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ، وَيُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ بِالصَّرْفَةِ كَمَا فِي «المواقف» للعضد و «الْمَقَاصِد» لِلتَّفْتَزَانِيِّ (وَلَعَلَّهَا بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهِيَ مَرَّةٌ من الصّرْف وضع بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا صَرْفٌ خَاصٌّ فَصَارَتْ كَالْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ) وَلَمْ يَنْسُبُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا إِلَى الْأَشْعَرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَإِلَى النَّظَّامِ وَالشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَأَبِي إِسْحَاقَ الِإِسْفِرَائِينِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ عَضُدُ الدِّينِ فِي «الْمَوَاقِفِ» ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ «الْفَصْلِ» ص 7 جُزْء 3، ص 184 جُزْء 2 وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ «الْمَقَاصِدِ» فِي شَرْحِهِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ جَمْهَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ وَاقْتصر عَلَيْهِ أئمّة الْأَشْعَرِيَّةِ وَإِمَامُ

الجهة الأولى:

الْحَرَمَيْنِ وَعَلَيْهِ الْجَاحِظُ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي «الْمَوَاقِفِ» ، فَالتَّعْلِيلُ لِعَجْزِ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ بِأَنَّهُ بُلُوغُ الْقُرْآنِ فِي دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مَبْلَغًا تَعْجِزُ قُدْرَةُ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَعْتَمِدُهُ وَنَسِيرُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَقَدْ بَدَا لِي دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ بَقَاءُ الْآيَاتِ الَّتِي نُسِخَ حُكْمُهَا وَبَقِيَتْ مَتْلُوَّةً مِنَ الْقُرْآنِ وَمَكْتُوبَةً فِي الْمَصَاحِفِ فَإِنَّهَا لَمَّا نُسِخَ حُكْمُهَا لَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِبَقَاءِ تِلَاوَتِهَا وَكَتْبِهَا فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مَا فِي مِقْدَارِ مَجْمُوعِهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ يَلْتَئِمُ مِنْهَا مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مُتَحَدًّى بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا مِثَالُ ذَلِكَ آيَةُ الْوَصِيَّةِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً دُونَ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ مَا مَرْجِعُهُ إِلَى مَجْمُوعِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَصَوْغِهِ بِسَبَبِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَ فِيهِ مِنْ فَوَاتِحِ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمِهِ، وَانْتِقَالِ الْأَغْرَاضِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ، وَفُنُونِ الْفَصْلِ، وَالْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ، وَالِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ، وَقَدْ جَعَلَ شَرَفُ الدِّينِ الطِّيبِيُّ (¬1) هَذَا هُوَ الْوَجْهَ لِإِيقَاعِ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ بِعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ تَفْصِيلُ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ لَا يَحْصُرُهُ الْمُتَأَمِّلُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَضْبُطَ مَعَاقِدَهَا الَّتِي هِيَ مِلَاكُهَا، فَنَرَى مِلَاكَ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ رَاجِعًا إِلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْجِهَةُ الْأُولَى: بُلُوغُهُ الْغَايَةَ الْقُصْوَى مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الْبَلِيغُ مِنْ حُصُولِ كَيْفِيَّاتٍ فِي نَظْمِهِ مُفِيدَةٍ مَعَانِيَ دَقِيقَةً وَنُكَتًا مِنْ أَغْرَاضِ الْخَاصَّةِ مِنْ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ أَصْلُ وَضْعِ اللُّغَةِ، بِحَيْثُ يَكْثُرُ فِيهِ ذَلِكَ كَثْرَةً لَا يُدَانِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شُعَرَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَبْدَعَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَفَانِينِ التَّصَرُّفِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، وَلكنه غير خارح عَمَّا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْحِكَمِيَّةِ وَالْإِشَارَاتِ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ مِمَّا لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي عُصُورٍ بَعْدَهُ مُتَفَاوِتَةٍ، وَهَذِهِ الْجِهَةُ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ عُلَمَائِنَا مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ. ¬

(¬1) اسْمه على الْأَصَح الْحُسَيْن، وَقيل: الْحسن بن مُحَمَّد الطَّيِّبِيّ- بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء-، الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة 743 هـ.

وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا يُعَدُّ جِهَةً رَابِعَةً هِيَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مَا عَدَّهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَجْهًا رَابِعًا مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهَذَا مُعْجِزٌ لِلْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ خَاصَّةً وَلَيْسَ مُعْجِزًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَخَاصٌّ ثُبُوتُ إِعْجَازِهِ بِأَهْلِ الْإِنْصَافِ مِنَ النَّاظِرِينَ فِي نَشْأَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِهِ، وَلَيْسَ مُعْجِزًا لِلْمُكَابِرِينَ فَقَدْ قَالُوا إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] . فَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْعَرَبِ، إِذْ هُوَ مُعْجِزٌ لِفُصَحَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ وَشُعَرَائِهِمْ مُبَاشَرَةً، وَمُعْجِزٌ لِعَامَّتِهِمْ بِوَاسِطَةِ إِدْرَاكِهِمْ أَنَّ عَجْزَ مُقَارِعِيهِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَيْهِ هُوَ بُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ تَجَاوَزَ طَاقَةَ جَمِيعِهِمْ. ثُمَّ هُوَ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ لَدَى بَقِيَّةِ الْبَشَرِ الَّذِينَ بَلَغَ إِلَيْهِمْ صَدَى عَجْزِ الْعَرَبِ بُلُوغًا لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ لِمُعَاصِرِيهِ بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ. فَإِعْجَازُهُ لِلْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَإِعْجَازُهُ لِغَيْرِهِمْ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ. ثُمَّ قَدْ يُشَارِكُ خَاصَّةً الْعَرَبَ فِي إِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ كُلُّ مَنْ تَعَلَّمَ لُغَتَهُمْ وَمَارَسَ بَلِيغَ كَلَامِهِمْ وَآدَابِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» مُخَاطِبًا لِلنَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ «مُتَوَسِّلًا بِذَلِكَ (أَيْ بِمَعْرِفَةِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي هُوَ بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَأَنَّقَ فِي وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِي التَّنْزِيلِ مُنْتَقِلًا مِمَّا أَجْمَلَهُ عَجْزُ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ عِنْدَكَ إِلَى التَّفْصِيلِ» . وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ مِنِ الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ لِلْبَشَرِ قَاطِبَةً إِعْجَازًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَمَرِّ الْعُصُورِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ أَئِمَّةِ الدِّينِ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ إِعْجَازَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ غَيْرِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ مَعَانِيهِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَالْحِكَمِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَعَانِي وَإِجْمَالِيٌّ لِمَنْ تَبْلُغُهُ شَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ. وَهُوَ مِنَ الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ- عِنْدَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوهَا زَائِدَةً عَلَى الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ- مُعْجِزٌ لِأَهْلِ عَصْرِ نُزُولِهِ إِعْجَازًا تَفْصِيلِيًّا، ومعجز لمن يجيىء بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَوَاتُرِ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَتَعَيُّنِ صَرْفِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذَا الْإِخْبَارِ إِلَى مَا أُرِيدَ مِنْهَا.

هَذَا مِلَاكُ الْإِعْجَازِ بِحَسَبِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا إِجْمَالًا، وَلَنَأْخُذْ فِي شَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَتَمْثِيلِهِ. فَأَمَّا الْجِهَةُ الْأَوْلَى فَمَرْجِعُهَا إِلَى مَا يُسَمَّى بِالطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَهُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، فَلَقَدْ كَانَ مُنْتَهَى التَّنَافُسِ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمِقْدَارِ التَّفَوُّقِ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَقَدْ وَصَفَ أَئِمَّةُ الْبَلَاغَةِ وَالْأَدَبِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِمَا دُوِّنَ لَهُ عِلْمَا الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَتَصَدَّوْا فِي خِلَالِ ذَلِكَ لِلْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ وَبَيْنَ أَبْلَغِ مَا حُفِظَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عُدَّ فِي أَقْصَى دَرَجَاتِهَا. وَقَدْ تَصَدَّى أَمْثَالُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ وَالسَّكَّاكِيِّ وَابْنِ الْأَثِيرِ، إِلَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَبَين مَا ورد فِي بَلِيغِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ بَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِلْمُتَأَمِّلِ، وَمَثَلٌ لِلْمُتَمَثِّلِ. وَلَيْسَ مِنْ حَظِّ الْوَاصِفِ إِعْجَازَ الْقُرْآن وَصفا إجماليا كَصُنْعِنَا هَاهُنَا أَنْ يَصِفَ هَذِهِ الْجِهَةَ وَصْفًا مُفَصَّلًا لِكَثْرَةِ أَفَانِينِهَا، فَحَسْبُنَا أَنْ نُحِيلَ فِي تَحْصِيلِ كُلِّيَّاتِهَا وَقَوَاعِدِهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمَجْعُولَةِ لِذَلِكَ مِثْلَ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، وَ «أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ» ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ فَمَا بَعْدَهُ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْ نُحِيلَ فِي تَفَاصِيلِهَا الْوَاصِفَةِ لِإِعْجَازِ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّفَاسِيرِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ وَعُمْدَتُهَا كِتَابُ «الْكَشَّافِ» لِلْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمَا سَنَسْتَنْبِطُهُ وَنَبْتَكِرُهُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، غَيْرَ أَنِّي ذَاكِرٌ هُنَا أُصُولًا لِنَوَاحِي إِعْجَازِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِخَاصَّةٍ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَئِمَّةُ أَوْ أَجْمَلُوا فِي ذِكْرِهِ. وَحَسْبُنَا هُنَا الدَّلِيلُ الْإِجْمَالِيُّ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى بُلَغَاءَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ وَاحِدٌ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، اعْتِرَافًا بِالْحَقِّ وَرَبْئًا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ التَّعْرِيضِ بِالنَّفْسِ إِلَى الِافْتِضَاحِ، مَعَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُدْرَةِ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَتَرْغِيبًا وَزَجْرًا، قَدْ خُصُّوا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ بِقُوَّةِ الذِّهْنِ وَشِدَّةِ الْحَافِظَةِ وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ وَتِبْيَانِ الْمَعَانِي، فَلَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِمْ سَابِقٌ مِنَ الْمعَانِي، وَلَا يجمع بِهِمْ عَسِيرٌ مِنَ الْمَقَامَاتِ. قَالَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» : «فَلَمْ يَزَلْ يُقَرِّعُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَيُوَبِّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ وَيَحُطُّ أَعْلَامَهُمْ وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِغْرَاءِ بِالِافْتِرَاءِ، وَقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر: 24] وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] وإِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: 4] وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَمَا

فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا، وَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ سُخَفَائِهِمْ كَمُسَيْلِمَةَ كُشِفَ عَوَارُهُ لِجَمِيعِهِمْ. وَلَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: 90] الْآيَةَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَمَا هُوَ بِكَلَامِ بَشَرٍ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: 94] فَسَجَدَ وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَتِهِ، (وَكَانَ مَوْضِعُ التَّأْثِيرِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ كَلِمَةَ اصْدَعْ فِي إِبَانَتِهَا عَنِ الدَّعْوَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا وَالشَّجَاعَةِ فِيهَا، وَكَلِمَةَ بِما تُؤْمَرُ فِي إِيجَازِهَا وَجَمْعِهَا) (¬1) . وَسَمِعَ آخَرُ رَجُلًا يَقْرَأُ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يُوسُف: 80] فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ. وَكَوْنُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى بِهِ وَأَنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ إِجْمَالًا وَتَصَدَّى أَهْلُ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ لِتَفْصِيلِهِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» : «وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ عَجِيبٌ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا، أَوْ كَالْمَلَاحَةِ، وَمُدْرِكُ الْإِعْجَازِ عِنْدِي هُوَ الذَّوْقُ لَيْسَ إِلَّا، وَطَرِيقُ اكْتِسَابِ الذَّوْقِ طُولُ خِدْمَةِ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) نَعَمْ لِلْبَلَاغَةِ وُجُوهٌ مُتَلَثِّمَةٌ رُبَّمَا تَيَسَّرَتْ إِمَاطَةُ اللِّثَامِ عَنْهَا لَتُجْلَى عَلَيْكَ، أَمَّا نَفْسُ وَجْهِ الْإِعْجَازِ فَلَا» اهـ. قَالَ التفتازانيّ: «يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا نُدْرِكُهُ بِعُقُولِنَا فَفِي غَالِبِ الْأَمْرِ نَتَمَكَّنُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَالْإِعْجَازُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ لِلْبَشَرِ مُعَارَضَتُهُ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ مَعَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ كَلِمَاتُ كَلَامِهِمْ، وَكَذَا هَيْئَاتُ تَرَاكِيبِهِ، كَمَا أَنَّا نَجِدُ كَلَامًا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ مُسْتَقِيمُ الْوَزْنِ دُونَ آخَرَ، وَكَمَا أَنَّا نُدْرِكُ مِنْ أَحَدٍ كَوْنَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي وَآخَرُ كَذَلِكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، لَكِنْ فِيهِ شَيْءٌ نُسَمِّيهِ الْمَلَاحَةَ وَلَا نَعْرِفُ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَلَيْسَ مُدْرِكُ الْإِعْجَازِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ سِوَى الذَّوْقِ وَهُوَ قُوَّةٌ إِدْرَاكِيَّةٌ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِإِدْرَاكِ لَطَائِفِ الْكَلَامِ وَوُجُوهِ مَحَاسِنِهِ الْخَفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِالْفِطْرَةِ فَذَاكَ وَإِنْ أُرِيدَ اكْتِسَابُهُ فَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ سِوَى الِاعْتِنَاءِ بِعِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَطُولِ مُمَارَسَتِهِمَا وَالِاشْتِغَالِ بِهِمَا، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الذَّوْقِ الْفِطْرِيِّ وَطُولِ خِدْمَةِ الْعِلْمَيْنِ فَلَا غَايَةَ وَرَاءَهُ، فَوَجْهُ الْإِعْجَازِ أَمْرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ لَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النِّظَّامُ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِمُخَالَفَةِ أُسْلُوبِهِ لِأَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَقَاطِعِ ¬

(¬1) مَا بَين الهلالين كَلَام للْمُصَنف. [.....]

مِثْلَ يُؤْمِنُونَ وَيُنْفِقُونَ وَيَعْلَمُونَ (قَالَ السَّيِّدُ لَا سِيَّمَا فِي مَطَالِعِ السُّوَرِ وَمَقَاطِعِ الْآيِ) أَوْ بِسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ (قَالَ السَّيِّدُ مَعَ طُولِهِ جِدًّا) أَوْ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَالْكُلُّ فَاسِدٌ» . اهـ. وَقَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فَهَذِهِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ فِي وَجْهِ الْإِعْجَازِ لَا سَادِسَ لَهَا. وَقَالَ السَّيِّدُ أَرَادَ الْمُصَنِّفَ أَنَّ الْإِعْجَازَ نَفْسَهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَصْفُهُ وَكَشْفُهُ بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِهِ لَكِنَّ الْأُمُورَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى كَوْنِ الْكَلَامِ مُعْجِزًا أَعَنَى وُجُوهَ الْبَلَاغَةِ قَدْ تَحْتَجِبُ فَرُبَّمَا تَيَسَّرَ كَشْفُهَا لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ ذَوْقُ الْبَلِيغِ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْإِعْجَازِ. يُرِيدُ السَّيِّدُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِبْطَالَ التَّدَافُعِ بَيْنَ قَوْلِ صَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» : يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ إِذْ نَفَى الْإِمْكَانَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ نَعَمْ لِلْبَلَاغَةِ وُجُوهٌ مُتَلَثِّمَةٌ رُبَّمَا تَيَسَّرَتْ إِمَاطَةُ اللِّثَامِ عَنْهَا، فَأَثْبَتَ تَيَسُّرَ وَصْفِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، بِأَنَّ الْإِعْجَازَ نَفْسَهُ لَا يُمْكِنُ كَشْفُ الْقِنَاعِ عَنْهُ، وَأَمَّا وُجُوهُ الْبَلَاغَةِ فَيُمْكِنُ كَشْفُ الْقِنَاعِ عَنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ خُصُوصِيَّاتِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَدَقَائِقَهُ مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا وَمَلْحُوظَةً لِلْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ بَيَانُ الْمُبِينِ. وَإِنَّ إِشَارَاتٍ كَثِيرَةً فِي الْقُرْآنِ تَلْفِتُ الْأَذْهَانَ لِذَلِكَ وَيَحْضُرُنِي الْآنَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ (أَيْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ) بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ: فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَإِذا قَالَ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الْفَاتِحَة: 2- 7] ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي نَظْمِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ خُصُوصِيَّةِ التَّقْسِيمِ إِذْ قَسَّمَ الْفَاتِحَةَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. وَحُسْنُ التَّقْسِيمِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ التَّقْسِيم من محسن التَّخَلُّصِ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: «هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي» إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَزِيجًا مِنَ الْقِسْمَيْنِ الَّذِي قَبْلَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ. وَفِي الْقُرْآنِ مُرَاعَاةُ التَّجْنِيسِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَالتَّجْنِيسُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الْأَنْعَام: 26] .

وَفِيهِ التَّنْبِيه على محسّن الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الْحَج: 4] . وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلٍ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها (¬1) لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] وَقَوْلِهِ: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إِبْرَاهِيم: 25] . وَلِذَا فَنَحْنُ نُحَاوِلُ تَفْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُنَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ: نَرَى مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الِالْتِفَاتَ وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أَحَدِ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا، وَهُوَ بِمُجَرَّدِهِ مَعْدُودٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَسَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ يُجَدِّدُ نَشَاطَ السَّامِعِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ اعْتِبَارٌ لَطِيفٌ يُنَاسِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مَا انْتُقِلَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَكَانَ مَعْدُودًا عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ مِنَ النَّفَائِسِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً مَعَ دِقَّةِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الِانْتِقَالِ. وَكَانَ لِلتَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ الْمَكَانُ الْقَصِيُّ وَالْقَدْرُ الْعَلِيُّ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ، وَبِهِ فَاقَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَنَبَهَتْ سُمْعَتُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَا أَعْجَزَ الْعَرَبَ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: 4] وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ [الْإِسْرَاء: 24] وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] وَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 138] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَدِيعِ. وَرَأَيْتُ مِنْ مَحَاسِنِ التَّشْبِيهِ عِنْدَهُمْ كَمَالَ الشَّبَهِ، وَرَأَيْتُ وَسِيلَةَ ذَلِكَ الِاحْتِرَاسَ وَأَحْسَنُهُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: 15] احْتِرَاسٌ عَنْ كَرَاهَةِ الطَّعَامِ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّد: 15] احْتِرَاسٌ عَنْ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ أَقْذَاءٌ مِنْ بَقَايَا نَحْلِهِ. وَانْظُرِ التَّمْثِيلِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْبَقَرَة: 266] الْآيَةَ فَفِيهِ إِتْمَامُ جِهَاتِ كَمَالِ تَحْسِينِ التَّشْبِيهِ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْحَسْرَةَ عَلَى تَلَفِهَا أَشَدُّ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ- إِلَى قَوْلِهِ- يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّور: 35] فَقَدْ ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَالْأَحْوَالِ مَا فِيهِ مَزِيدُ وُضُوحِ الْمَقْصُودِ مِنْ شِدَّةِ الضِّيَاءِ، وَمَا فِيهِ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ وَتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ شِبْهِهِ، وَأَيْنَ مِنَ الْآيَتَيْنِ قَوْلُ كَعْبٍ: شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: وَيضْرب الله الْأَمْثَال ... وَهُوَ خطأ.

إِنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْرَةِ الْإِفَادَةِ وَتَعَدُّدِ الدَّلَالَةِ، فَجُمَلُ الْقُرْآنِ لَهَا دَلَالَتُهَا الْوَضْعِيَّةُ التَّرْكِيبِيَّةُ الَّتِي يُشَارِكُهَا فِيهَا الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كُلُّهُ، وَلَهَا دَلَالَتُهَا الْبَلَاغِيَّةُ الَّتِي يُشَارِكُهَا فِي مُجْمَلِهَا كَلَامُ الْبُلَغَاءِ وَلَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِمْ إِلَى مَبْلَغِ بَلَاغَتِهَا. وَلَهَا دَلَالَتُهَا الْمَطْوِيَّةُ وَهِيَ دَلَالَةُ مَا يُذْكَرُ عَلَى مَا يُقَدَّرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ قَلِيلَةٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ وَكَثُرَتْ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ تَقْدِيرِ الْقَوْلِ وَتَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِ وَتَقْدِيرِ الصِّفَةِ. وَلَهَا دَلَالَةُ مَوَاقِعِ جُمَلِهِ بِحَسَبِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، كَكَوْنِ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا، أَوْ فِي مَوْقِعِ الِاسْتِدْرَاكِ، أَوْ فِي مَوْقِعِ جَوَابِ سُؤَالٍ، أَوْ فِي مَوْقِعِ تَعْرِيضٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَتَأَتَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِقَصْرِ أَغْرَاضِهِ فِي قَصَائِدِهِمْ وَخُطَبِهِمْ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّذْكِيرِ وَالتِّلَاوَةِ سَمَحَتْ أَغْرَاضُهُ بِالْإِطَالَةِ، وَبِتِلْكَ الْإِطَالَةِ تَأَتَّى تَعَدُّدُ مَوَاقِعِ الْجُمَلِ وَالْأَغْرَاضِ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الجاثية: 22]- بَعْدَ قَوْلِهِ- أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَى آخِرِهِ مُفِيدٌ بِتَرَاكِيبِهِ فَوَائِدَ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ، وَهُوَ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي مَنْ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَإِنَّ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي وَضْعِ الْجُمَلِ وَأَجْزَائِهَا فِي الْقُرْآنِ دَقَائِقَ عَجِيبَةً كَثِيرَةً لَا يُحَاطُ بِهَا وَسَنُنَبِّهُ عَلَى مَا يَلُوحُ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِلَيْكَ مَثَلًا مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ لَكَ عَوْنًا عَلَى اسْتِجْلَاءِ أَمْثَالِهِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً- إِلَى قَوْلِهِ- وَكَأْساً دِهاقاً لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: 21- 35] فَكَانَ لِلِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ جَهَنَّمَ مَا يُفَسِّرُ الْمَفَازَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أَنَّهُ الْجَنَّةُ لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَكَانُ فَوْزٍ. ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً مَا يَحْتَمِلُ لِضَمِيرٍ (فِيهَا) مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها أَنْ يَعُودَ إِلَى كَأْساً دِهاقاً وَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَيِ الْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي مُلَابَسَةِ شُرْبِ الْكَأْسِ مَا يَعْتَرِي شَارِبِيهَاُُُُُُ

فِي الدُّنْيَا مِنَ اللَّغْوِ وَاللَّجَاجِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى مَفازاً بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَتَكُونُ (فِي) للظرفية الْحَقِيقَة أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا كَلَامًا مُؤْذِيًا. وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَتَأَتَّى جَمِيعُهَا إِلَّا بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْ ذِكْرَ جَهَنَّمَ وَلَمْ يُعَقِّبْ بِكَلِمَةِ مَفازاً. وَلَمْ يُؤَخِّرْ وَكَأْساً دِهاقاً وَلَمْ يُعَقِّبْ بِجُمْلَةِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَخْ. وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَقَامِ فِي أَنْ يُنْظَمَ الْكَلَامُ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ بَلَاغِيَّةٍ هِيَ مُرَاعَاةٌ مِنْ مُقَوِّمَاتِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ وَخَاصَّةً فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ تَشْتَمِلُ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ تَتَسَاءَلُ نَفْسُ الْمُفَسِّرِ عَنْ دَوَاعِيهَا وَمَا يَقْتَضِيهَا فَيَتَصَدَّى لِتَطَلُّبِ مُقْتَضَيَاتٍ لَهَا رُبَّمَا جَاءَ بِهَا مُتَكَلَّفَةً أَوْ مَغْصُوبَةً، ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَّا إِلَى مَوَاقِعِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ، فِي حَالِ أَنَّ مُقْتَضَيَاتِهَا فِي الْوَاقِعِ مَنُوطَةٌ بِالْمَقَامَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ [19] : أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثُمَّ قَوْلُهُ: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] فَقَدْ يَخْفَى مُقْتَضَى اجْتِلَابِ حَرْفِ التَّنْبِيهِ فِي افْتِتَاحِ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ فَيَأْوِي الْمُفَسِّرُ إِلَى تَطَلُّبِ مُقْتَضِهِ وَيَأْتِي بِمُقْتَضَيَاتٍ عَامَّةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: التَّنْبِيهُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَلَكِنْ إِذَا قَدَّرْنَا أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِمَسْمَعٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا عَلِمْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ فِي الْأُولَى لِمُرَاعَاةِ إِيقَاظِ فَرِيقَيِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، فَالْأَوَّلُونَ لِأَنَّهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ فِي نَظَرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ هُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِسْلَامِ فَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ قَدْ عَرَفْنَا دَخَائِلَكُمْ، وَثَانِي الْفَرِيقَيْنِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ نُبِّهُوا لِأَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ دَخَائِلِ الْآخَرِينَ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ تَيَقَّظُوا فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَعْدَاءَكُمْ هُمْ أَيْضًا عَدُوٌّ لَكُمْ لِأَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّ اللَّهِ عَدُوٌّ لَكُمْ! وَاجْتِلَابُ حَرْفِ التَّنْبِيهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ لِتَنْبِيهِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى فَضِيلَةِ الْمُسْلِمِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْغَبُونَ فِيهَا فَيَرْعَوْونَ عَنِ النِّفَاقِ، وَتَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّ حَوْلَهُمْ فَرِيقًا لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ فَلَيْسُوا بِمُفْلِحِينَ لِيَتَوَسَّمُوا أَحْوَالَهُمْ حَقَّ التَّوَسُّمِ فَيُحَذِّرُوهُمْ. وَمَرْجِعُ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْإِعْجَازِ إِلَى مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِالنُّكَتِ الْبَلَاغِيَّةِ فَإِنَّ بُلَغَاءَهُمْ كَانَ تَنَافُسُهُمْ فِي وَفْرَةِ إِيدَاعِ الْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ النُّكَتِ، وَبِذَلِكَ تَفَاضَلَ بُلَغَاؤُهُمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ انْثَالَتْ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ بُلَغَائِهِمْ مِنَ النُّكَتِ الَّتِي تَفَطَّنَ لَهَا مَا لَمْ يَجِدْ مِنْ قُدْرَتِهِ قِبَلًا بِمِثْلِهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ بَلِيغٍ مِنْهُمْ قَدْ فَكَّرَ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِزُمَلَائِهُُُُِ

مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَعَلِمَ أَلَّا مَبْلَغَ بِهِمْ إِلَى التَّظَاهُرِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِيمَا عَهِدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَوْقِ زَمِيلِهِ. هَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ قَرِيحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْهُمْ مِنَ التَّفَطُّنِ إِلَى نُكَتِ الْقُرْآنِ وَخَصَائِصِهِ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ نُكَتٌ لَا يَتَفَطَّنُ إِلَيْهَا كُلُّ وَاحِدٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ تَآمَرُوا وَتَدَارَسُوا بَيْنَهُمْ فِي نَوَادِيهِمْ أَمْرَ تَحَدِّي الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ بِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ وَتَوَاصَفُوا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بَعْضُ آيَاتِهِ الْعَالِقَةِ بِحَوَافِظِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ مِنَ النُّكَتِ وَالْخَصَائِصِ وَأَوْقَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَا لَاحَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ، وَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا وَتَدَبَّرُوا فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا إِنِ انْفَرَدُوا أَوِ اجْتَمَعُوا، وَلِذَلِكَ سَجَّلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ عَجْزَهُمْ فِي الْحَالَتَيْنِ فَقَالَ تَارَةً: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] وَقَالَ لَهُمْ مَرَّةً: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاء: 88] فَحَالَةُ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ لَمْ تَكُنْ مَغْفُولًا عَنْهَا بَيْنَهُمْ ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ مُتَّحَدَّوْنَ بِهَا. وَهَذِهِ النَّاحِيَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مِنَ الْإِعْجَازِ هِيَ أَقْوَى نَوَاحِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهِيَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا إِعْجَازُ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْجِهَةِ نَاحِيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نَاحِيَةُ فَصَاحَةِ اللَّفْظِ وَانْسِجَامِ النَّظْمِ وَذَلِكَ بِسَلَامَةِ الْكَلَامِ فِي أَجْزَائِهِ ومجموعه مِمَّا يجزّ الثِّقَلَ إِلَى لِسَانِ النَّاطِقِ بِهِ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ وَأَهْلُهَا مَشْهُورُونَ بِفَصَاحَةِ الْأَلْسُنِ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : «إِنَّ الْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ فِي الْكَلَامِ الْحُكْمِيِّ، وَالْكَلَامُ لَهُ جِسْمٌ وَهُوَ اللَّفْظُ وَلَهُ رُوحٌ وَهُوَ الْمَعْنَى وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي نُوِّرَ رُوحَهُ بِالْمَعْرِفَةِ يَنْبَغِي أَنْ ينوّر جِسْمه بالنظامة، كَذَلِكَ الْكَلَامُ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ حَكِيمَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ لِرَكَاكَةِ لَفْظِهَا» . وَكَانَ مِمَّا يَعْرِضُ لِشُعَرَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ أَلْفَاظٌ وَلَهَجَاتٌ لَهَا بَعْضُ الثِّقَلِ عَلَى اللِّسَانِ، فَأَمَّا مَا يَعْرِضُ لِلْأَلْفَاظِ فَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْفَصَاحَةِ بِتَنَافُرِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ أَوْ تَنَافُرِ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مِثْلَ: مُسْتَشْزِرَاتٍ وَالْكَنَهْبَلِ فِي مُعَلَّقَةِ امْرِئِ الْقَيْس، وسفنّجة والحفيدد فِي مُعَلَّقَةِ طَرْفَةَ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ. وَقَدْ سَلِمَ الْقُرْآنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَعَ تَفَنُّنِهِ فِي مُخْتَلِفِ الْأَغْرَاضِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ تَكَاثُرِ الْأَلْفَاظِ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْرَدَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس: 60] وَقَوْلَهُ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48]

وَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَارِدٍ كَمَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ حَدَّ الثِّقَلِ، وَلِأَنَّ حُسْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مُرَاعَاةِ خِفَّةِ لَفْظِهِ. فَقَدِ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْأَدَبِ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ اللَّفْظِ الْمُتَنَافِرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ لَا يُزِيلُ عَنْهُ وَصْفَ الْفَصَاحَةِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَعِيبُوا مُعَلَّقَةَ امْرِئِ الْقَيْسِ وَلَا مُعَلَّقَةَ طَرْفَةَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: «وَقَدْ يُضْطَرُّ الشَّاعِرُ الْمُفْلِقُ وَالْخَطِيبُ الْمِصْقَعُ وَالْكَاتِبُ الْبَلِيغُ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ أَحَدِهِمُ الْمَعْنَى الْمُسْتَغْلَقُ وَاللَّفْظُ الْمُسْتَكْرَهُ فَإِذَا انْعَطَفَتْ عَلَيْهِ جَنْبَتَا الْكَلَامِ غَطَّتَا عَلَى عُوَارِهِ وَسَتَرَتَا مِنْ شَيْنِهِ» . وَأَمَّا مَا يَعْرِضُ لِلَهَجَاتِ الْعَرَبِ فَذَلِكَ شَيْءٌ تَفَاوَتَتْ فِي مِضْمَارِهِ جِيَادُ أَلْسِنَتِهِمْ وَكَانَ الْمُجْلَى فِيهَا لِسَانَ قُرَيْشٍ وَمِنْ حَوْلِهَا مِنَ الْقَبَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ وَهُوَ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ حَدِيثُ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ بِأَحْسَنِ اللَّهَجَاتِ وَأَخَفِّهَا وَتَجَنَّبَ الْمَكْرُوهَ مِنَ اللَّهَجَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَيْسِيرِ تَلَقِّي الْأَسْمَاعِ لَهُ وَرُسُوخِهِ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَر: 17] . وَمِمَّا أَعُدُّهُ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ صَرَاحَةَ كَلِمَاتِهِ بِاسْتِعْمَالِ أَقْرَبِ الْكَلِمَاتِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ دَلَالَةً عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ، وَأَشْمَلِهَا لِمَعَانٍ عَدِيدَةٍ مَقْصُودَةٍ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تَقْصُرُ دَلَالَتُهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا فِي حَالَةِ تَرْكِيبِهَا، وَلَا تَجِدُهَا مُسْتَعْمَلَةً إِلَّا فِي حَقَائِقِهَا مِثْلَ إِيثَارِ كَلِمَةِ حَرْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ [الْقَلَم: 25] إِذْ كَانَ جَمِيعُ مَعَانِي الْحَرْدِ صَالِحًا لِلْإِرَادَةِ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ، أَوْ مَجَازَاتٍ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا تُنْصَبُ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ فِي الْكَلَامِ، فَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ تَصَرُّفًا فِي مَعْنَى اللَّفْظِ كَانَ التَّصَرُّفُ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الْفرْقَان: 40] فَجَاءَ فِعْلُ أَتَوْا مُضَمَّنًا مَعْنَى مَرُّوا فَعُدِّيَ بِحَرْفِ عَلَى لِأَنَّ الْإِتْيَانَ تَعَدَّى إِلَى اسْمِ الْقَرْيَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاعْتِبَارُ بِمَآلِ أَهْلِهَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ أَتَى أَرْضَ بَنِي فُلَانٍ وَمَرَّ عَلَى حَيِّ كَذَا. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لَا تُخَالِفُ أَسَالِيبَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بَلْ هِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَنَفَائِسِهِ الَّتِي تَقِلُّ نَظَائِرُهَا فِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ لِعَجْزِ فِطْنَةِ الْأَذْهَانِ الْبَشَرِيَّةِ عَنِ الْوَفَاءِ بِجَمِيعِهَا. وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا أَبْدَعَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَفَانِينِ التَّصَرُّفِ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَهَذِهِ جِهَةٌ مَغْفُولَةٌ مِنْ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَدَبَ الْعَرَبِ نَوْعَانِ شِعْرٌ وَنَثْرٌ، وَالنَّثْرُُُُُ

خَطَابَةٌ وَأَسْجَاعُ كُهَّانٍ، وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَإِنْ تَنَافَسُوا فِي ابْتِكَارِ الْمَعَانِي وَتَفَاوَتُوا فِي تَرَاكِيبِ أَدَائِهَا فِي الشِّعْرِ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُسْلُوبِ قَدِ الْتَزَمُوا فِي أُسْلُوبَيِ الشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ طَرِيقَةً وَاحِدَةً تَشَابَهَتْ فُنُونُهَا فَكَادُوا لَا يَعُدُّونَ مَا أَلَّفُوهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّكَ لَتَجِدُ الشَّاعِرَ يَحْذُو حَذْوَ الشَّاعِرِ فِي فَوَاتِحِ الْقَصَائِدِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ تَرَاكِيبِهَا، فَكَمْ مِنْ قَصَائِدَ افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِمْ: «بَانَتْ سُعَادُ» لِلنَّابِغَةِ وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَكَمْ مِنْ شِعْرٍ افْتُتِحَ بِ: يَا خَلِيلَيَّ أَرْبِعَا وَاسْتَخْبِرَا وَكَمْ مِنْ شِعْرٍ افْتُتِحَ بِ: يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَحَمَّلِ فَقَالَ طَرْفَةُ فِي مُعَلَّقَتِهِ بَيْتًا مُمَاثِلًا لَهُ سِوَى أَنْ كَلِمَةَ الْقَافِيَةِ مِنْهُ «وَتَجَلُّدِ» . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي خُطَبِهِمْ تَكَادُ تَكُونُ لَهْجَةً وَاحِدَةً وَأُسْلُوبًا وَاحِدًا فِيمَا بَلَغَنَا مِنْ خُطَبِ سَحْبَانَ وَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ. وَكَذَلِكَ أَسْجَاعُ الْكُهَّانِ وَهِيَ قَدِ اخْتُصَّتْ بِقِصَرِ الْفِقْرَاتِ وَغَرَابَةِ الْكَلِمَاتِ. إِنَّمَا كَانَ الشِّعْرُ الْغَالِبُ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَكَانَتِ الْخَطَابَةُ بِحَالَةِ نَدُورٍ لِنُدْرَةِ مَقَامَاتِهَا. قَالَ عُمَرُ «كَانَ الشِّعْرُ عِلْمَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ أَصَحُّ مِنْهُ» فَانْحَصَرَ تَسَابُقُ جِيَادِ الْبَلَاغَةِ فِي مَيْدَانِ الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ، فَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَكُنْ شِعْرًا وَلَا سَجْعَ كُهَّانٍ، وَكَانَ مِنْ أُسْلُوبِ النَّثْرِ أَقْرَبَ إِلَى الْخَطَابَةِ، ابْتَكَرَ لِلْقَوْلِ أَسَالِيبَ كَثِيرَةً بَعْضَهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْمَقَاصِدِ، وَمَقَاصِدُهَا بِتَنَوُّعِ أُسْلُوبِ الْإِنْشَاءِ، فِيهَا أَفَانِينُ كَثِيرَةٌ فَيَجِدُ فِيهِ الْمُطَّلِعُ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ بُغْيَتَهُ وَرَغْبَتَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا اسْتَمَعَ إِلَى قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ وَلَا سَجْعِهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ، وَقَرِيضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، وَمَقْبُوضَهُ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ» . وَكَذَلِكَ وَصْفَهُ أُنَيْسَ بْنَ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ الشَّاعِرُ أَخُو أَبِي ذَرٍّ حِينَ انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ لِيَسْمَعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْتِيَ بِخَبَرِهِ إِلَى أَخِيهِ فَقَالَ: «لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ (¬1) فَلَمْ يَلْتَئِمْ، وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ» ثُمَّ أَسْلَمَ. وَوَرَدَ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَُُُُّ ¬

(¬1) الْأَقْرَاء جمع قرء وَهُوَ الطَّرِيق.

الْمُشْرِكِينَ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِلْحَاقِ الْقُرْآنِ بِصِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ أَلْحَقُوهُ بِأَشْبَهِ الْكَلَامِ بِهِ فَقَالُوا إِنَّهُ شِعْرٌ تَقْرِيبًا لِلدَّهْمَاءِ بِمَا عَهِدَهُ الْقَوْمُ مِنَ الْكَلَامِ الْجَدِيرِ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهِ مِنْ دَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَحْكَامِ الِانْتِظَامِ وَالنُّفُوذِ إِلَى الْعُقُولِ، فَإِنَّهُ مَعَ بُلُوغِهِ أَقْصَى حَدٍّ فِي فَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعَ طُولِ أَغْرَاضِهِ وَتَفَنُّنِ مَعَانِيهِ وَكَوْنِهِ نَثْرًا لَا شِعْرًا تَرَى أُسْلُوبَهُ يَجْرِي عَلَى الْأَلْسِنَةِ سَلِسًا سَهْلًا لَا تَفَاوُتَ فِي فَصَاحَةِ تَرَاكِيبِهِ، وَتَرَى حِفْظَهُ أَسْرَعَ مِنْ حِفْظِ الشِّعْرِ. وَقَدِ اخْتَارَ الْعَرَبُ الشِّعْرَ لِتَخْلِيدِ أَغْرَاضِهِمْ وَآدَابِهِمْ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ من الْوَزْن يلجىء إِلَى التَّدْرِيبِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَوَازِنَةٍ فَيُكْسِبُهَا ذَلِكَ التَّوَازُنُ تَلَاؤُمًا فَتَكُونُ سَلِسَةً عَلَى الْأَلْسُنِ، فَلِذَلِكَ انْحَصَرَ تَسَابُقُ جِيَادِ الْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ، وَفُحُولُ الشُّعَرَاءِ مَعَ ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سَلَاسَةِ الْكَلَامِ مَعَ تَسَامُحِهِمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ اغْتَفَرَهَا النَّاسُ لَهُمْ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالضَّرُورَاتِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتَكَلَّفَ فَصَاحَةً لِمَا يَقُولُهُ مِنْ كَلَامٍ وَيُعَاوِدُ تَنْقِيحَهُ وَتَغْيِيرَ نظمه بإبدال لكلمات أَوْ بِالتَّقْدِيمِ لِمَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ أَوِ التَّأْخِيرِ لِمَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، أَوْ حَذْفٍ أَوْ زِيَادَةٍ، لَقَضَى زَمَنًا مَدِيدًا فِي تَأْلِيفِ مَا يُقَدَّرُ بِسُورَةٍ مِنْ مُتَوَسِّطِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَلَمَا سَلِمَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ جُمَلٍ يَتَعَثَّرُ فِيهَا اللِّسَانُ. وَلَمْ يَدْعُ مَعَ تِلْكَ الْفَصَاحَةِ دَاعٍ إِلَى ارْتِكَابِ ضَرُورَةٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي بَعْضِ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ، فَبَنَى نَظْمُهُ عَلَى فَوَاصِلَ وَقَرَائِنَ مُتَقَارِبَةٍ فَلَمْ تَفُتْهُ سَلَاسَةُ الشِّعْرِ وَلَمْ تَرْزَحْ تَحْتَ قُيُودِ الْمِيزَانِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ كَلَامًا مَنْثُورًا وَلَكِنَّهُ فَاقَ فِي فَصَاحَتِهِ وَسَلَاسَتِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَتَوَافُقِ كَلِمَاتِهِ وَتَرَاكِيبِهِ فِي السَّلَامَةِ مِنْ أَقَلِّ تَنَافُرٍ وَتَعَثُّرٍ عَلَى الْأَلْسِنَةِ. فَكَانَ كَوْنُهُ مِنَ النَّثْرِ دَاخِلًا فِي إِعْجَازِهِ، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنْوَاعِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَابْتَكَرَ أَسَالِيبَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا وَإِنَّ لِذَلِكَ التَّنْوِيعِ حِكْمَتَيْنِ دَاخِلَتَيْنِ فِي الإعجاز: أَولا هما ظُهُورُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ قَدْ تَعَارَفَ الْأُدَبَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَظْهَرَ نُبُوغُ نَوَابِغِهِمْ عَلَى أَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ يُجِيدُ أُسْلُوبًا أَوْ أُسْلُوبَيْنِ. الثَّانِيَة أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ زِيَادَة التحدي المتحدّين بِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ لَمْ تَسْبِقْ لِي مُعَالَجَتُهُ وَلَوْ جَاءَنَا بِأُسْلُوبٍ آخَرَ لَعَارَضْتُهُ. نَرَى مِنْ أَعْظَمِ الْأَسَالِيبِ الَّتِي خَالَفَ بِهَا الْقُرْآنُ أَسَالِيبَ الْعَرَبِ أَنَّهُ جَاءَ فِي نَظْمِهِ بِأُسْلُوبٍ جَامِعٍ بَيْنَ مَقْصِدَيْهِ وَهُمَا: مَقْصِدُ الْمَوْعِظَةِ وَمَقْصِدُ التَّشْرِيعِ، فَكَانَ نَظْمُهُ يَمْنَحُ بِظَاهِرِهِ السَّامِعِينَ مَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَعْلَمُوهُ وَهُوَ فِي هَذَا النَّوْعِ يُشْبِهُ خُطَبَهُمْ، وَكَانَ فِي مَطَاوِي مَعَانِيهِ مَا يَسْتَخْرِجُ

مِنْهُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي التَّشْرِيعِ وَالْآدَابِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمرَان: 7] هَذَا مِنْ حَيْثُ مَا لِمَعَانِيهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَلِ وَالْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْ أَسَالِيبِهِ مَا أُسَمِّيهِ بِالتَّفَنُّنِ وَهُوَ بَدَاعَةُ تَنَقُّلَاتِهِ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ بِطَرَائِقِ الِاعْتِرَاض والتنظير والتذليل وَالْإِتْيَانِ بِالْمُتَرَادِفَاتِ عِنْدَ التَّكْرِيرِ تَجَنُّبًا لِثِقَلِ تَكْرِيرِ الْكَلِمِ، وَكَذَلِكَ الْإِكْثَارُ مِنْ أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمَعْدُودِ مِنْ أَعْظَمِ أَسَالِيبِ التَّفَنُّنِ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَقْصُودِ فَيَكُونُ السَّامِعُونَ فِي نَشَاطٍ مُتَجَدِّدٍ بِسَمَاعِهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبْدَعِ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: 17- 20] بِحَيْثُ كَانَ أَكْثَرُ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْبَدِيعَةِ الْعَزِيزِ مِثْلِهَا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ وَفِي نَثْرِ بُلَغَائِهِمْ مِنَ الخطباء وَأَصْحَاب بدائه الْأَجْوِبَةِ. وَفِي هَذَا التَّفَنُّنِ وَالتَّنَقُّلِ مُنَاسَبَاتٌ بَيْنَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ هِيَ فِي مُنْتَهَى الرِّقَّةِ وَالْبَدَاعَةِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ سَامِعُهُ وَقَارِئُهُ بِانْتِقَالِهِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِ. وَذَلِكَ التَّفَنُّنُ مِمَّا يُعِينُ عَلَى اسْتِمَاعِ السَّامِعِينَ وَيَدْفَعُ سَآمَةَ الْإِطَالَةِ عَنْهُمْ، فَإِنَّ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ اسْتِكْثَارَ أَزْمَانِ قِرَاءَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] فَقَوْلُهُ مَا تَيَسَّرَ يَقْتَضِي الِاسْتِكْثَارَ بِقَدْرِ التَّيَسُّرِ، وَفِي تَنَاسُبِ أَقْوَالِهِ وَتَفَنُّنِ أَغْرَاضِهِ مَجْلَبَةٌ لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ وَعَوْنٌ عَلَى التَّكْثِيرِ. نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» : «ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة متّسعة الْمعَانِي مُنْتَظِمَةِ الْمَبَانِي، عِلْمٌ عَظِيمٌ» وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: «الْمُنَاسَبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ وَيُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ ارْتِبَاطٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ شُرِعَتْ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى ربط بعضه بعض» .

وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» نَقْلًا عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَشَرَفِ مَعَانِيهِ هُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بِسَبَبِ تَرْتِيبِهِ وَنَظْمِ آيَاتِهِ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ أُسْلُوبِهِ أَرَادُوا ذَلِكَ» . إِنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ لَا تَنْحَصِرُ فِي أَحْوَالِ تَرَاكِيبِهِ اللَّفْظِيَّةِ، بَلْ تَتَجَاوَزُ إِلَى الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا تِلْكَ التَّرَاكِيبُ. فَإِنَّ سُكُوتَ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ فِي جُمْلَةٍ سُكُوتًا خَفِيفًا قَدْ يُفِيدُ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مَا يُفِيدُهُ إِبْهَامُ بَعْضِ كَلَامِهِ ثُمَّ تَعْقِيبُهُ بِبَيَانِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ مَوَاقِعِ الْبَلَاغَةِ نَحْوَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ كَلِمَةٍ وَتَعْقِيبَهَا بِمَا بَعْدَهَا يَجْعَلُ مَا بَعْدَهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ عَيْنَهُ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات: 16] فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ (مُوسَى) يُحْدِثُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَرَقُّبًا لِمَا يُبَيِّنُ حَدِيثَ مُوسَى، فَإِذَا جَاءَ بَعْدَهُ إِذْ ناداهُ رَبُّهُ إِلَخْ حَصَلَ الْبَيَانُ مَعَ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى كَلِمَةِ (مُوسَى) مِنْ قَرِينَةٍ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ عَلَى سَجْعَةِ الْأَلِفِ مِثْلَ قَوْلِهِ: طُوىً، طَغى [النازعات: 17] ، تَزَكَّى [النازعات: 18] ، إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنْتُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] أَنَّكَ إِنْ وَقَفْتَ عَلَى كَلِمَةِ رَيْبَ كَانَ مِنْ قَبِيلِ إِيجَازِ الْحَذْفِ أَيْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ الْكِتَابُ فَكَانَتْ جُمْلَةُ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَكَانَ مُفَادُ حَرْفِ (فِي) اسْتِنْزَالَ طَائِرِ الْمُعَانِدِينَ أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ هُدًى فَإِنَّ فِيهِ هُدًى، وَإِنْ وَصَلْتَ فِيهِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْإِطْنَابِ وَكَانَ مَا بَعْدَهُ مُفِيدًا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ كُلَّهُ هُدًى. وَمِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْعُدُولُ عَنْ تَكْرِيرِ اللَّفْظِ وَالصِّيغَةِ فِيمَا عَدَا الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّكْرِيرَ مِنْ تَهْوِيلٍ وَنَحْوِهِ، وَمِمَّا عُدِلَ فِيهِ عَنْ تَكْرِيرِ الصِّيغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] فَجَاءَ بِلَفْظِ قُلُوبٍ جَمْعًا مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ امْرَأَتَانِ فَلم يقل قلبا كَمَا تَجَنُّبًا لِتَعَدُّدِ صِيغَةِ الْمُثَنَّى. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الْأَنْعَام: 139] فَرُوعِيَ مَعْنَى مَا الْمَوْصُولَةِ مَرَّةً فَأَتَى بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ وَهُوَ خالِصَةٌ، وَرُوعِيَ لَفْظُ مَا الموصولة فَأتي بِمحرم مُذَكَّرًا مُفْرَدًا.

إِنَّ الْمَقَامَ قَدْ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ الْبَلِيغُ مُخَيَّرًا فِي أَحَدِهِمَا وَلَهُ ذِكْرُهُمَا تَفَنُّنًا وَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا: مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ [19] فَكُلا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ وَكِلَاهُمَا مُطَابِقٌ لِلْمَقَامِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ ثَانٍ وَهُوَ أَمْرٌ مُفَرَّعٌ عَلَى الْإِسْكَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْكَى بِكُلٍّ مِنَ الِاعْتِبَارَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [161] : وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها فَعبر مرّة بادخلوا وَمرَّة باسكنوا، وَعَبَّرَ مَرَّةً بِوَاوِ الْعَطْفِ وَمَرَّةً بِفَاءِ التَّفْرِيعِ. وَهَذَا التَّخَالُفُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُقْصَدُ لِتَلْوِينِ الْمَعَانِي الْمُعَادَةِ حَتَّى لَا تَخْلُوَ إِعَادَتُهَا عَنْ تَجَدُّدِ مَعْنًى وَتَغَايُرِ أُسْلُوبٍ، فَلَا تَكُونُ إِعَادَتُهَا مُجَرَّدَ تَذْكِيرٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: قالَ (¬1) رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [4] : «لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يُجَاءَ بِالْآكَدِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَكِنْ يُجَاءُ بِالْوَكِيدِ تَارَةً وَبِالْآكَدِ أُخْرَى كَمَا يُجَاءُ بِالْحَسَنِ فِي مَوْضِعٍ وَبِالْأَحْسَنِ فِي غَيْرِهِ لِيَفْتَنَّ الْكَلَامَ افْتِنَانًا» . وَمِنْهَا اتِّسَاعُ أَدَبِ اللُّغَةِ فِي الْقُرْآنِ. لَمْ يَكُنْ أَدَبُ الْعَرَبِ السَّائِرُ فِيهِمْ غَيْرَ الشِّعْرِ، فَهُوَ الَّذِي يُحْفَظُ وَيُنْقَلُ وَيَسِيرُ فِي الْآفَاقِ، وَلَهُ أُسْلُوبٌ خَاصٌّ مِنِ انْتِقَاءِ الْأَلْفَاظِ وَإِبْدَاعِ الْمَعَانِي، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ عَسِيرَ الْعُلُوقِ بِالْحَوَافِظِ، وَكَانَ الشِّعْرُ خَاصًّا بِأَغْرَاضٍ وَأَبْوَابٍ مَعْرُوفَةٍ أَشْهُرُهَا وَأَكْثَرُهَا النَّسِيبُ وَالْحَمَاسَةُ وَالرِّثَاءُ وَالْهِجَاءُ وَالْفَخْرُ، وَأَبْوَابٌ أُخَرُ لَهُمْ فِيهَا شِعْرٌ قَلِيلٌ وَهِيَ الْمُلَحُ وَالْمَدِيحُ. وَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ الشِّعْرِ الْخُطَبُ، وَالْأَمْثَالُ، وَالْمُحَاوَرَاتُ: فَأَمَّا الْخُطَبُ فَكَانَتْ تُنْسَى بِانْتِهَاءِ الْمَقَامَاتِ الْمَقُولَةِ فِيهَا فَلَا يُحْفَظُ مِنْ أَلْفَاظِهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَبْقَى فِي السَّامِعِينَ التَّأَثُّرُ بِمَقَاصِدِهَا زَمَانًا قَلِيلًا لِلْعَمَلِ بِهِ فَتَأَثُّرُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا جُزْئِيٌّ وَوَقْتِيٌّ. وَأَمَّا الْأَمْثَالُ فَهِيَ أَلْفَاظٌ قَصِيرَةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا الِاتِّعَاظُ بِمَوَارِدِهَا، وَأَمَّا الْمُحَاوَرَاتُ فَمِنْهَا عَادِيَّةٌ لَا يَهْتَمُّونَ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ إِذْ لَيْسَتْ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِحَيْثُ تُنْقَلُ وَتَسِيرُ، وَمِنْهَا مُحَاوَرَاتُ نَوَادٍ وَهِيَ الْمُحَاوَرَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ وَالْمُنْتَدَيَاتِ وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَبِيدٌ بِقَوْلِهِ: وَكَثِيرَةٍ غُرَبَاؤُهَا مَجْهُولَةٍ ... تُرْجَى نَوَافِلُهَا وَيُخْشَى ذَامُهَا غُلْبٌ تَشَذَّرُ بِالذُّحُولِ كَأَنَّهَا ... جِنُّ الْبَدِيِّ رَوَاسِيًا أَقْدَامُهَاُُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: إِن بدل قالَ وَهُوَ خطأ.

أَنْكَرْتُ باطلها وَيُؤْت بحقهما ... عِنْدِي وَلَمْ يَفْخَرْ عَلَيَّ كِرَامُهَا وَتِلْكَ مِثْلُ مَجَامِعِهِمْ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَفِي مَقَامَاتِ الْمُفَاخَرَاتِ وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ قَلِيلَةُ السَّيَرَانِ وَحِيدَةُ الْغَرَضِ، إِذْ لَا تَعْدُو الْمَفَاخِرُ وَالْمُبَالَغَاتُ فَلَا يُحْفَظُ مِنْهَا إِلَّا مَا فِيهِ نُكْتَةٌ أَوْ مُلْحَةٌ أَوْ فِقْرَاتٌ مَسْجُوعَةٌ مِثْلَ خِطَابِ امْرِئِ الْقَيْسِ مَعَ شُيُوخِ بَنِي أَسَدٍ. فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبٍ فِي الْأَدَبِ غَضٍّ جَدِيدٍ صَالِحٍ لِكُلِّ الْعُقُولِ، مُتَفَنِّنٍ إِلَى أَفَانِينِ أَغْرَاضِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا مُعْطٍ لِكُلِّ فَنٍّ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ وَاللَّهْجَةِ، فَتَضَمَّنَ الْمُحَاوَرَةَ وَالْخَطَابَةَ وَالْجَدَلَ وَالْأَمْثَالَ (أَيِ الْكَلِمَ الْجَوَامِعَ) وَالْقِصَصَ وَالتَّوْصِيفَ وَالرِّوَايَةَ. وَكَانَ لِفَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَتَنَاسُبِهَا فِي تَرَاكِيبِهِ وَتَرْتِيبِهِ عَلَى ابْتِكَارِ أُسْلُوبِ الْفَوَاصِلِ الْعَجِيبَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِي الْأَسْمَاعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَمَاثِلَةَ الْحُرُوفِ فِي الْأَسْجَاعِ، كَانَ لِذَلِكَ سَرِيعَ الْعُلُوقِ بِالْحَوَافِظِ خَفِيفَ الِانْتِقَالِ وَالسَّيْرِ فِي الْقَبَائِلِ، مَعَ كَوْنِ مَادَّتِهِ وَلُحْمَتِهِ هِيَ الْحَقِيقَةَ دُونَ الْمُبَالَغَاتِ الْكَاذِبَةِ وَالْمُفَاخَرَاتِ الْمَزْعُومَةِ، فَكَانَ بِذَلِكَ لَهُ صَوْلَةُ الْحَقِّ وَرَوْعَةٌ لِسَامِعِيهِ، وَذَلِكَ تَأْثِيرٌ رُوحَانِيٌّ وَلَيْسَ بِلَفْظِيٍّ وَلَا مَعْنَوِيٍّ. وَقَدْ رَأَيْتُ الْمُحَسِّنَاتِ فِي الْبَدِيعِ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَتْ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ، وَخَاصَّةً الْجِنَاسَ كَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. وَالطِّبَاقَ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الْكَهْف: 104] وَقَدْ أَلَّفَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ كِتَابًا فِي «بَدِيعِ الْقُرْآنِ» . وَصَارَ لِمَجِيئِهِ نَثْرًا أَدَبًا جَدِيدًا غَضًّا وَمُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الطَّبَقَاتِ. وَكَانَ لِبَلَاغَتِهِ وَتَنَاسُقِهِ نَافِذُ الْوُصُولِ إِلَى الْقُلُوبِ حَتَّى وَصَفُوهُ بِالسِّحْرِ وَبِالشِّعْرِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] .

مبتكرات القرآن

مبتكرات الْقُرْآن هَذَا وَلِلْقُرْآنِ مُبْتَكَرَاتٌ تَمَيَّزَ بِهَا نَظْمُهُ عَنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْعَرَبِ. فَمِنْهَا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُ الشِّعْرَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَأَنَا أَضُمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ أسلوبه يُخَالف أسلوب الْخَطَابَةَ بَعْضَ الْمُخَالَفَةِ، بَلْ جَاءَ بِطَرِيقَةِ كِتَابٍ يُقْصَدُ حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ إِذْ كَانَ نَظْمُهُ عَلَى طَرِيقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّبَاعٌ لِطَرَائِقِهَا الْقَدِيمَةِ فِي الْكَلَامِ. وَأَعُدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ بِالْجُمَلِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانٍ مُفِيدَةٍ مُحَرَّرَةً، شَأْنَ الْجُمَلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِيَّةِ، فَلم يَأْتِ بعمومات شَأْنُهَا التَّخْصِيصُ غَيْرَ مَخْصُوصَةٍ، وَلَا بِمُطْلَقَاتٍ تَسْتَحِقُّ التَّقْيِيدَ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْعَرَبُ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْأَحْوَالِ الْقَلِيلَةِ وَالْأَفْرَادِ النَّادِرَةِ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ [النِّسَاء: 95] وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] فَبَيَّنَ أَنَّ الْهَوَى قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا إِذا كَانَ هوى الْمَرْءِ عَنْ هُدًى، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْر: 2، 3] . وَمِنْهَا أَنْ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّقْسِيمِ وَالتَّسْوِيرِ وَهِيَ سُنَّةٌ جَدِيدَةٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَدْخَلَ بِهَا عَلَيْهِ طَرِيقَةَ التَّبْوِيبِ وَالتَّصْنِيفِ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ» إِيمَاءً. وَمِنْهَا الْأُسْلُوبُ الْقَصَصِيُّ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي تَمْثِيلِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ كَانَ لِذَلِكَ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ عَلَى نُفُوسِ الْعَرَبِ إِذْ كَانَ فَنُّ الْقَصَصِ مَفْقُودًا مِنْ أَدَبِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا نَادِرًا، كَانَ فِي بَعْضِ الشِّعْرِ كَأَبْيَاتِ النَّابِغَةِ فِي الْحَيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الرَّجُلَ وَعَاهَدَتْ أَخَاهُ وَغَدَرَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْأَوْصَافِ بُهِتَ بِهِ الْعَرَبُ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] مِنْ وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْأَعْرَافِ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ إِلَخْ وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [13] : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الْآيَاتِ. وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَتَصَرَّفُ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فَيَصُوغُهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ أُسْلُوبُ إِعْجَازِهِ لَا عَلَى الصِّيغَةِ الَّتِي صَدَرَتْ فِيهَا، فَهُوَ إِذَا حَكَى أَقْوَالًا غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ صَاغَ مَدْلُولَهَا فِي صِيغَةٍ تَبْلُغُ حَدَّ الْإِعْجَازِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِذَا حَكَى أَقْوَالًا عَرَبِيَّةً تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا يُنَاسِبُ أُسْلُوبَ الْمُعَبِّرِ مِثْلَ مَا يَحْكِيهِ عَنِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ حِكَايَةَ أَلْفَاظِهِمْ بَلْ يَحْكِي

حَاصِلَ كَلَامِهِمْ، وَلِلْعَرَبِ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ اتِّسَاعٌ مَدَارُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الْتِزَامِ الْأَلْفَاظِ، فَالْإِعْجَازُ الثَّابِتُ لِلْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ إِعْجَازٌ لِلْقُرْآنِ لَا لِلْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِكَايَةُ الْأَسْمَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقِصَصِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُغَيِّرُهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُ حُسْنَ مَوَاقِعِهَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْفَصَاحَةِ مِثْلَ تَغْيِيرِ شَاوِلَ إِلَى طَالُوتَ، وَتَغْيِيرِ اسْمِ تَارَحَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ إِلَى آزَرَ. وَكَذَلِكَ التَّمْثِيلُ فَقَدْ كَانَ فِي أَدَبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالُ وَهِيَ حِكَايَةُ أَحْوَالٍ مَرْمُوزٍ لَهَا بِتِلْكَ الْجُمَلِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي قِيلَتْ فِيهَا أَوْ قِيلَتْ لَهَا الْمُسَمَّاةِ بِالْأَمْثَالِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْجُمَلُ مُشِيرَةً إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا تَدَاوَلَتْهَا الْأَلْسُنُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَطَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ نُسِيَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَذْهَانِ عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا إِلَّا الشُّعُورُ بِمَغَازِيهَا الَّتِي تُقَالُ لِأَجْلِهَا. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ أَوْضَحَ الْأَمْثَالَ وَأَبْدَعَ تَرْكِيبَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إِبْرَاهِيم: 18] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الْحَج: 31] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ إِلَى قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النُّور: 39] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ [الرَّعْد: 14] . لَمْ يَلْتَزِمِ الْقُرْآنُ أُسْلُوبًا وَاحِدًا، وَاخْتَلَفَتْ سُوَرُهُ وَتَفَنَّنَتْ، فَتَكَادُ تَكُونُ لِكُلِّ سُورَةٍ لَهْجَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِنَّ بَعْضَهَا بُنِيَ عَلَى فَوَاصِلَ وَبَعْضَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فَوَاتِحُهَا مِنْهَا مَا افْتُتِحَ بِالِاحْتِفَالِ كَالْحَمْدِ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 104] ، والم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 1، 2] ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِمَّا نُعَبِّرُ عَنْهُ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ بِالْمُقَدِّمَاتِ. وَمِنْهَا مَا افْتُتِحَ بِالْهُجُومِ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ نَحْوَ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] وبَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 1] . وَمِنْ أَبْدَعِ الْأَسَالِيبِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِيجَازُ وَهُوَ مُتَنَافَسُهُمْ وَغَايَةٌ تَتَبَارَى إِلَيْهَا فُصَحَاؤُهُمْ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِأَبْدَعِهِ إِذْ كَانَ- مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ الْمُبَيَّنِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي- فِيهِ إِيجَازٌ عَظِيمٌ آخَرُ وَهُوَ صَلُوحِيَّةُ مُعْظَمِ آيَاتِهِ لِأَنْ تُؤْخَذَ مِنْهَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا تَصْلُحُ لَهَا الْعِبَارَةُ بِاحْتِمَالَاتٍ لَا يُنَافِيهَا اللَّفْظُ، فَبَعْضُ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ مِمَّا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ، وَبَعْضُهَا إِن كَانَ فَرْضٌ وَاحِدٌ مِنْهُ يَمْنَعُ مِنْ فَرْضٍ آخَرَ فَتَحْرِيكُ الْأَذْهَانِ إِلَيْهِ وَإِخْطَارُهُ بِهَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَقْصِدِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهِ لِلِامْتِثَالِ أَوِ الِانْتِهَاءِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.

وَلَوْلَا إِيجَازُ الْقُرْآنِ لَكَانَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَعَانِي فِي أَضْعَافِ مِقْدَارِ الْقُرْآنِ، وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ وَرُمُوزُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بَالِغَةٌ مِنَ اللُّطْفِ وَالْخَفَاءِ حَدًّا يَدِقُّ عَنْ تَفَطُّنِ الْعَالِمِ وَيَزِيدُ عَنْ تَبَصُّرِهِ، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] . إِنَّكَ تَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَرَاكِيبِ الْقُرْآنِ حَذْفًا وَلَكِنَّكَ لَا تَعْثُرُ عَلَى حَذْفٍ يَخْلُو الْكَلَامُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ سِيَاقٍ، زِيَادَةً عَلَى جَمْعِهِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ فِي الْكَلَامِ الْقَلِيلِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: «الْحَذْفُ وَالِاخْتِصَارُ هُوَ نَهْجُ التَّنْزِيلِ» قَالَ بَعْضُ بَطَارِقَةِ الرُّومِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. [النُّور: 52] «قَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَنْزَلَ عَلَى عِيسَى مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [الْقَصَص: 7] الْآيَةَ، جَمَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] مُقَابِلًا أَوْجَزَ كَلَامَ عُرِفَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ «الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] وَلَقَدْ بَسَّطَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» آخِرَ قِسْمِ الْبَيَانِ نَمُوذَجًا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَتَصَدَّى أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى «إِعْجَازَ الْقُرْآنِ» إِلَى بَيَانِ مَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ مِنَ الْخَصَائِصِ فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا. وَأَعُدُّ مِنْ أَنْوَاعِ إِيجَازِهِ إِيجَازَ الْحَذْفِ مَعَ عَدَمِ الِالْتِبَاسِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي حَذْفِ الْقَوْلِ، وَمِنْ أَبْدَعِ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 40- 43] أَيْ يَتَذَاكَرُونَ شَأْنَ الْمُجْرِمِينَ فَيَقُولُ مَنْ عَلِمُوا شَأْنَهُمْ سَأَلْنَاهُمْ فَقُلْنَا مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَسْئُولِينَ، أَيْ أَنَّ الْمَسْئُولِينَ يَقُولُونَ لِلسَّائِلِينَ قُلْنَا لَهُمْ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ اهـ. وَمِنْهُ حَذْفُ الْمُضَافِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. [الْبَقَرَة: 177] وَحَذْفُ الْجُمَلِ الَّتِي يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] إِذِ التَّقْدِيرُ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ خَاصٍّ بِخَبَرٍ يَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ لِتَحْصُلَ فَوَائِدُ: فَائِدَةُ الْحُكْمِ الْعَامِّ، وَفَائِدَةُ الْحُكْمِ الْخَاصِّ، وَفَائِدَةُ أَنَّ هَذَا الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْخَاصِّ هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ. وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَسَالِيبَ مِنْ أَسَالِيبِ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهَا مِمَّا لَا عَهْدَ بِمِثْلِهَا فِي

كَلَامِ الْعَرَبِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ [الطَّلَاق: 10] فَإِبْدَالُ (رَسُولًا) مِنْ (ذِكْرًا) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ ذِكْرُ هَذَا الرَّسُولِ، وَأَنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ هُوَ ذِكْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّ وَصفه بقوله يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ يُفِيدُ أَنَّ الْآيَاتِ ذِكْرٌ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: 1، 2] الْآيَةَ وَلَيْسَ الْمَقَامُ بِسَامِحٍ لإيراد عديد الْأَمْثِلَة مِنْ هَذَا، وَلَعَلَّهُ يَأْتِي فِي أَثْنَاءِ التَّفْسِيرِ. وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَأَكْثَرِهِ مَا يُسَمَّى بِالتَّضْمِينِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى إِيجَازِ الْحَذْفِ، وَالتَّضْمِينُ أَنْ يُضَمَّنَ الْفِعْلُ أَوِ الْوَصْفُ مَعْنَى فِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ آخَرَ وَيُشَارُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُضَمَّنِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهِ مِنْ حَرْفٍ أَوْ مَعْمُولٍ فَيَحْصُلُ فِي الْجُمْلَةِ مَعْنَيَانِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَلِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَهَذَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْبَلَاغَةِ نَادِرٌ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ عُدَّتْ قَصِيدَةُ زُهَيْرٍ فِي «الْمُعَلَّقَاتِ» فَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَفُوقُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [الْإِسْرَاء: 84] وَقَوْلِهِ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النُّور: 53] وَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْمُؤْمِنُونَ: 96] . وَسَلَكَ الْقُرْآنُ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ لِأَغْرَاضٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَمِنْ أَهَمِّ مَقَامَاتِ الْإِطْنَابِ مَقَامُ تَوْصِيفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُرَادُ بِتَفْصِيلِ وَصْفِهَا إِدْخَالُ الرَّوْعِ فِي قَلْبِ السَّامِعِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي مِثْلِ هَذَا كَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ: نُبِّئْتَ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ ... فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ فَمِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [الْقِيَامَة: 26- 29] وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الْوَاقِعَة: 83، 84] وَقَوْلُهُ: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إِبْرَاهِيم: 43] . وَمِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا الَّتِي أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ اعْتِبَارَهَا أَنَّهُ يَرِدُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعَانٍ إِذَا صَلُحَ الْمَقَامُ بِحَسَبِ اللُّغَة الْعَرَبيَّة لإِرَادَة مَا يَصْلُحُ مِنْهَا، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ إِذَا صَلُحَ الْمَقَامُ لِإِرَادَتِهِمَا، وَبِذَلِكَ تَكْثُرُ مَعَانِي الْكَلَامِ مَعَ الْإِيجَازِ وَهَذَا مِنْ آثَارِ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً خَارِقَةً لِعَادَةِ كَلَامِ الْبَشَرِ وَدَالَّةً عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ لَدُنِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالْقَدِيرِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ وَحَقَّقْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَمِنُُْ

عادات القرآن

أَسَالِيبِهِ الْإِتْيَانُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا بِاخْتِلَافِ حُرُوفِهَا أَوِ اخْتِلَافِ حَرَكَاتِ حُرُوفِهَا وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ اخْتِلَافِ كَثِيرٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ مِثْلَ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَن إِنَاثًا [الزخرف: 19] قرىء (عِنْدَ) بِالنُّونِ دون ألف وقرىء (عِبَادُ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَمِثْلَ: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ جِهَةِ الْأُسْلُوبِ مَا سَمَّاهُ أَئِمَّةُ نَقْدِ الْأَدَبِ بِالْجَزَالَةِ، وَمَا سَمَّوْهُ بِالرِّقَّةِ وَبَيَّنُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامَاتِهِ وَهُمَا رَاجِعَتَانِ إِلَى مَعَانِي الْكَلَامِ، وَلَا تَخْلُو سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ تَكَرُّرِ هَذَيْنِ الْأُسْلُوبَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَالِغٌ غَايَتَهُ فِي مَوْقِعِهِ، فَبَيْنَمَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] وَيَقُولُ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء: 28] إِذْ تَسْمَعُهُ يَقُولُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] قَالَ عِيَاض فِي «الشِّفَاء» : إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْسَكَ بِيَدِهِ عَلَى فَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إِلَّا مَا كَفَفْتَ. عادات الْقُرْآن يَحِقُّ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَادَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ نَظْمِهِ وَكَلِمِهِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ السَّلَفِ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ كَاسٍ فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْخَمْرُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا سَمَّى اللَّهُ مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَذَابًا، وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: 28] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الْبَقَرَة: 21] فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» : «وَفِي الْقُرْآنِ مَعَانٍ لَا تَكَادُ تَفْتَرِقُ، مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قُلْتُ: وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَا جَاءَ بِوَعِيدٍ إِلَّا أَعْقَبَهُ بِوَعْدٍ، وَمَا جَاءَ بِنِذَارَةٍ إِلَّا أَعْقَبَهَا بِبِشَارَةٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ لِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ، وَرَأَيْتُ مِنْهُ قَلِيلًا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ لَبِيدٍ: فَاقْطَعْ لُبَانَةَ مَنْ تَعَرَّضَ وَصْلُهُ ... فَلَشَرُّ وَاصِلِ خُلَّةٍ صَرَّامُهَا وَاحْبُ الْمُجَامِلَ بِالْجَزِيلِ وَصَرْمُهُ ... بَاقٍ إِذَا ظَلِعَتْ وَزَاغَ قِوَامُهَا وَفِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ تَعَالَى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات: 50، 51] الْآيَةَ: «جِيءَ بِهِ مَاضِيًا عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي أَخْبَارِهِ» . وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ سُورَةِ الْعُقُودِ [109] : «عَادَةُ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ أَتْبَعَهَا إِمَّا بِالْإِلَهِيَّاتِ وَإِمَّا بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ» . وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ بِجُهْدِي عَادَاتٍ كَثِيرَةً فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ كَلِمَةَ هَؤُلَاءِ إِذَا لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا عَطْفُ بَيَانٍ يُبَيِّنُ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّهَا يُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ [الزخرف: 29] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: 89] وَقَدِ اسْتَوْعَبَ أَبُو الْبَقَاءِ الْكُفُوِيُّ فِي كِتَابِ «الْكُلِّيَّاتِ» فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِهِ كُلِّيَّاتٍ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانِي الْكَلِمَاتِ، وَفِي «الْإِتْقَانِ» لِلسُّيُوطِيِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَا مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا حَكَى الْمُحَاوَرَاتِ وَالْمُجَاوَبَاتِ حَكَاهَا بِلَفْظِ قَالَ دُونَ حُرُوفِ عَطْفٍ، إِلَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ مُحَاوَرَةٍ إِلَى أُخْرَى، انْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِلَى قَوْلِهِ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [الْبَقَرَة: 30- 33] . وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ الْإِعْجَازِ وَهِيَ مَا أَوْدَعَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْحِكَمِيَّةِ وَالْإِشَارَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ سِوَى الشِّعْرِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «كَانَ الشِّعْرُ عِلْمَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ أَصَحُّ مِنْهُ» .

إِنَّ الْعِلْمَ نَوْعَانِ عِلْمٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَعِلْمٌ حَقِيقِيٌّ، فَأَمَّا الِاصْطِلَاحِيُّ فَهُوَ مَا تَوَاضَعَ النَّاسُ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ يُعَدُّ فِي صَفِّ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا قَدْ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْعُصُورِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَقْطَارِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَخْلُو عَنْهُ أُمَّةٌ. وَأَمَّا الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا بِمَعْرِفَتِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ، وَمَا بِهِ يَبْلُغُ إِلَى ذُرْوَةِ الْمَعَارِفِ وَإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَكِلَا الْعِلْمَيْنِ كَمَالٌ إِنْسَانِيٌّ وَوَسِيلَةٌ لِسِيَادَةِ أَصْحَابِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَبَيْنَ الْعِلْمَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ خَلَا عَنْهَا كَلَامُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ أَغْرَاضَ شِعْرِهِمْ كَانَتْ لَا تَعْدُو وَصْفَ الْمُشَاهَدَاتِ وَالْمُتَخَيَّلَاتِ وَالِافْتِرَاضَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا تَحُومُ حَوْلَ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي هِيَ أَغْرَاضُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا صِدْقًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَتَنَاوُلُهُ قَرِيبٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَدِّ فِكْرٍ وَلَا يَقْتَضِي نَظَرًا فَإِنَّ مَبْلَغَ الْعلم عِنْدهم يؤمئذ عُلُومُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةُ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَأَخْبَارِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 155- 157] وَقَالَ: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] وَنَحْوَ هَذَا مِنْ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ فِي «الشِّفَاءِ» : «مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ الْقِصَّةَ مِنْهُ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَضَى عُمُرَهُ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَيُورِدُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بِصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ كَخَبَرِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَلُقْمَانَ» إِلَخْ كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَاقَهُ فِي غَيْرِ مَسَاقِنَا بَلْ جَاءَ بِهِ دَلِيلًا عَلَى الْإِعْجَازِ مِنْ حَيْثُ عِلْمُهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ثُبُوتِ الْأُمِّيَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ. فَأَمَّا إِذَا أَرَدْنَا عَدَّ هَذَا الْوَجْهِ فِي نَسَقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَذَلِكَ فِيمَا نَرَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ أَدَبُهُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى التَّارِيخِ إِلَّا بِإِشَارَاتٍ نَادِرَةٍ، كَقَوْلِهِمْ دِرْعٌ عَادِيَّةٌ، وَرُمْحٌ يَزَنِيَّةٌ،

وَقَوْلِ شَاعِرِهِمْ: أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ ... وَقَوْلِ آخَرَ: تَرَاهُ يَطُوفُ الْآفَاقَ حِرْصًا ... لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْبَهُونَ بِذِكْرِ قِصَصِ الْأُمَمِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ الْعِبْرَةِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ تَفْصِيلًا كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الْأَحْقَاف: 21] وَكَقَوْلِهِ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] وَلِهَذَا يَقِلُّ فِي الْقُرْآنِ التَّعَرُّضُ إِلَى تَفَاصِيلِ أَخْبَارِ الْعَرَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ قَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ عَلَى مَعْنَى الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِخَبَرِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ تُبَّعٍ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ الْعِلْمِيِّ فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَكْفِي لِإِدْرَاكِهِ فَهْمُهُ وَسَمْعُهُ، وَقِسْمٌ يُحْتَاجُ إِدْرَاكُ وَجْهِ إِعْجَازِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ فَيَنْبَلِجُ لِلنَّاسِ شَيْئًا فَشَيْئًا انْبِلَاجَ أَضْوَاءِ الْفَجْرِ عَلَى حَسَبِ مَبَالِغِ الْفُهُومِ وَتَطَوُّرَاتِ الْعُلُومِ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ أُمِّيٌّ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُعَالِجْ أَهْلُهُ دَقَائِقَ الْعُلُومِ، وَالْجَائِي بِهِ ثَاوٍ بَيْنَهُمْ لَمْ يُفَارِقْهُمْ. وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ مِنَ الْإِعْجَازِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: [49- 50] قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُ مَا كَانَ قَصَارَاهُ مُشَارَكَةَ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمُ الْحَاضِرَةِ، حَتَّى ارْتَقَى إِلَى مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ وَتَجَاوَزَ مَا دَرَسُوهُ وَأَلَّفُوهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [27] : «كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْعَوَامُّ وَأَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْخَوَاصُّ وَعَلَى مَا يَفْهَمُهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ الْإِيلَاجَ يَشْمَلُ الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ وَالْفُصُولَ الَّتِي يُدْرِكُهَا سَائِرُ الْعَوَامِّ» أَقُولُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الْأَنْبِيَاء: 30] . فَمِنْ طُرُقِ إِعْجَازِهِ الْعِلْمِيَّةِ أَنَّهُ دَعَا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، قَالَ فِي «الشِّفَاءِ» : «وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَمْ تُعْهَدْ لِلْعَرَبِ، وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ، وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كِتَابٌ مِنْ كُتُبِهِمْ فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ عَلَمِ الشَّرَائِعِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرْقِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى فِرَقُُِ

الْأُمَمِ بِبَرَاهِينَ قَوِيَّةٍ وَأَدِلَّةٍ كَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] . وَلَقَدْ فَتَحَ الْأَعْيُنَ إِلَى فَضَائِلِ الْعُلُومِ بِأَنْ شَبَّهَ الْعِلْمَ بِالنُّورِ وبالحياة كَقَوْلِه: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: 70] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 257] وَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِعْجَازِ هُوَ الَّذِي خَالَفَ بِهِ الْقُرْآنُ أَسَالِيبَ الشِّعْرِ وَأَغْرَاضَهُ مُخَالَفَةً وَاضِحَةً. هَذَا وَالشَّاطِبِيُّ قَالَ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» : «إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تُحْمَلُ مَعَانِيهِ وَلَا يُتَأَوَّلُ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ» وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ صَدَرَ مِنْهُ فِي التَّفَصِّي مِنْ مُشْكِلَاتٍ فِي مَطَاعِنِ الْمُلْحِدِينَ اقْتِصَادًا فِي الْبَحْثِ وَإِبْقَاءً عَلَى نَفِيسِ الْوَقْتِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَنْفِي إِعْجَازَ الْقُرْآنِ لِأَهْلِ كُلِّ الْعُصُورِ، وَكَيْفَ يُقْصَرُ إِدْرَاكُ إِعْجَازِهِ بَعْدَ عَصْرِ الْعَرَبِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَجْزِ أَهْلِ زَمَانِهِ إِذْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَإِذْ نَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمُ التَّفَوُّقَ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، فَهَذَا إِعْجَازٌ إِقْنَاعِيٌّ بِعَجْزِ أَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفِيدُ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ إِدْرَاكُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ نَقْضَ كَلَامِ الشَّاطِبِيِّ فِي أَوَاخِرِ الْمُقَدِّمَةِ الرَّابِعَةِ. وَقَدْ بَدَتْ لِي حُجَّةٌ لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ بِالْإِعْجَازِ وَدَوَامِهِ وَعُمُومِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ- أَوْ أُعْطِيَ- مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَفِيهِ نُكْتَتَانِ غَفَلَ عَنْهُمَا شَارِحُوهُ: الْأُولَى أَنَّ قَوْلَهُ: «مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ» اقْتَضَى أَن كل نبيء جَاءَ بِمُعْجِزَةٍ هِيَ إِعْجَازٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ كَانَ قَوْمُهُ أَعْجَبَ بِهِ وَأَعْجَزَ عَنْهُ فَيُؤْمِنُونَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، «وَمَعْنَى آمَنَ» عَلَيْهِ أَيْ لِأَجْلِهِ وَعَلَى شَرْطِهِ، كَمَا تَقُولُ عَلَى هَذَا يَكُونُ عَمَلُنَا أَوِ اجْتِمَاعُنَا، الثَّانِيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا» اقْتَضَى أَنْ لَيْسَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ أَفْعَالًا لَا أَقْوَالًا، كَقَلْبِ الْعَصَا وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، بَلْ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ جِهَتَيِ اللَّفْظِ وَالْمَعَانِي، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ مَنْ يَبْتَغِي إِدْرَاكَ ذَلِكَ مِنَ الْبَشَرِ وَيَتَدَبَّرُهُ وَيُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ تعقيبه بقوله: «فأرجوا أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا» إِذْ قَدْ عَطَفَ بِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِالتَّرَتُّبِ، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ كَوْنِهِ أُوتِيَ وَحْيًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ

أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا لَا تَنْجَلِي إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ صَالِحَةً لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ حَتَّى يَكُونَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ لِدِينِهِ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ أُمَمًا كَثِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ قَرَائِحِهِمْ فَيَكُونُ هُوَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ تَابِعًا لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالتَّابِعِ التَّابِعُ لَهُ فِي حَقَائِقِ الدِّينِ الْحَقِّ لَا اتِّبَاعُ الِادِّعَاءِ وَالِانْتِسَابِ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ الرَّجَاءَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كَوْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِهِمْ تَابِعًا أَيْ أَكْثَرَ أَتْبَاعًا مِنْ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ أُغْفِلَ بَيَانُ وَجْهِ التَّفْرِيعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ الْبَلِيغِ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْقُرْآنِ بِمَجْمُوعِهِ أَيْ مَجْمُوعِ هَذَا الْكِتَابِ إِذْ لَيْسَتْ كُلُّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ وَلَا كُلُّ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ بِمُشْتَمِلَةٍ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ إِعْجَازٌ حَاصِلٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ بِهِ التَّحَدِّي إِلَّا إِشَارَةً نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: 82] . وَإِعْجَازُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِلْعَرَبِ ظَاهِرٌ، إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْعُلُومِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] وَإِعْجَازُهُ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ تَجِيءَ تِلْكَ الْعُلُومُ مِنْ رَجُلٍ نَشَأَ أُمِّيًّا فِي قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، وَإِعْجَازُهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إِذْ كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِعُلُومِ دِينِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ عَلَّمُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَرْأًى مِنْ قَوْمِهِ فِي مَكَّةَ بَعِيدًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانَ مُسْتَقَرُّهُمْ بِقُرَى النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ وَتَيْمَاءَ وَبِلَادِ فِلَسْطِينَ، وَلِأَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَالْإِنْحَاءِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَحْرِيفِهِمْ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ لَأَعْلَنُوا ذَلِكَ وَسَجَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقَّهُمْ حَقَّ التَّعْلِيمِ. وَأَمَّا الْجِهَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِالْمُغَيَّبَاتِ فَقَدِ اقْتَفَيْنَا أَثَرَ مَنْ سَلَفَنَا مِمَّنْ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اعْتِدَادًا مِنَّا بِأَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْعُلْيَا، وَلَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى جُزْئِيَّاتِ هَذَا النَّوْعِ فِي تَضَاعِيفِ هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: 1، 2] الْآيَةَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: 1- 4] فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ بِهَا فِي نَوَاحِي مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى

ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَوْلُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: 55] وَقَوْلُهُ: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: 8] فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرَاكِبِ مُنَبَّأٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِعَامَيْنِ. وَقَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ [الْفَتْح: 27] . وَأَعْلَنَ ذَلِكَ الْإِعْجَازَ بِالتَّحَدِّي بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 23، 24] فَسَجَّلَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا وَكَذَلِكَ كَانَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ. وَكَأَنَّكَ بَعْدَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ قَدْ صِرْتَ قَدِيرًا على الحكم فِي اخْتَلَفَ فِيهِ أَئِمَّةُ عِلْمِ الْكَلَامِ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ هَلْ كَانَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ النُّكَتِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي لَا تَقْفُ بِهَا عِدَّةً، وَيَزِيدُهَا النَّظَرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ جِدَّةً، فَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ نَاظِرٍ مِنَ الْعُصُورِ الْآتِيَةِ نُكْتَةٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ إِلَّا وَجَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَتَحَمَّلُهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِيدَاعُ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ إِلَّا لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ، أَوْ كَانَ الْإِعْجَازُ بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي «شرح التفتازانيّ عَلَى الْمِفْتَاحِ» عَنِ النَّظَّامِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُسَمَّى مَذْهَبَ أَهْلِ الصَّرْفَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ فِي «الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» . وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ «إِعْجَازِ الْقُرْآنِ» ، وَأَبْطَلَ مَا عَدَاهُ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ دوّن أَئِمَّة الْعَرَبيَّة عَلِمَ الْبَلَاغَةِ، وَقَصَدُوا مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيبَ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّفْصِيلِ دون الْإِجْمَال، فجاؤوا بِمَا يُنَاسِبُ الْكَامِلَ مِنْ دَلَائِلَ الْكَمَالِ.

1- سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1- سُورَةُ الْفَاتِحَةِ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ مِنَ السُّوَرِ ذَاتِ الْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ، أَنْهَاهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» إِلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ بَيْنَ أَلْقَابٍ وَصِفَاتٍ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْقُرَّاءِ مِنْ عَهْدِ السَّلَفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَأْثُورِ مِنْ أَسْمَائِهَا إِلَّا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَأُمُّ الْقُرْآنِ، أَوْ أُمُّ الْكِتَابِ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَيَانِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ. فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَتْ فِي السُّنَّةِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفَاتِحَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفَتْحِ وَهُوَ إِزَالَةُ حَاجِزٍ عَنْ مَكَانٍ مَقْصُودٍ وَلِوَجْهٍ فَصِيغَتُهَا تَقْتَضِي أَنَّ مَوْصُوفَهَا شَيْءٌ يُزِيلُ حَاجِزًا، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ بَلْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى أَوَّلِ الشَّيْءِ تَشْبِيهًا لِلْأَوَّلِ بِالْفَاتِحِ لِأَنَّ الْفَاتِحَ لِلْبَابِ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ، فَقِيلَ الْفَاتِحَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَتْحِ كَالْكَاذِبَةِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَاقِيَةِ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة: 8] وَكَذَلِكَ الطَّاغِيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ. وَالْخَاطِئَةُ بِمَعْنَى الْخَطَأِ وَالْحَاقَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِّ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَوَّلُ الشَّيْءِ بِالْفَاتِحَةِ إِمَّا تَسْمِيَةً للْمَفْعُول لِأَن الْآتِي عَلَى وزن فاعلة بِالْمَصْدَرِ الْفَتْحَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ فَفِيهِ يَظْهَرُ مَبْدَأُ الْمَصْدَرِ، وَإِمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْفَاتِحَةِ اسْمَ فَاعِلٍ ثُمَّ جُعِلَتِ اسْمًا لِأَوَّلِ الشَّيْءِ، إِذْ بِذَلِكَ الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ الْفَتْحُ بِالْمَجْمُوعِ فَهُوَ كَالْبَاعِثِ عَلَى الْفَتْحِ، فَالْأَصْلُ فَاتِحُ الْكِتَابِ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ دَلَالَةً عَلَى النَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ أَيْ إِلَى مُعَامَلَةِ الصِّفَةِ مُعَامَلَةَ الِاسْمِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَا عَلَى ذِي وَصْفٍ، مِثْلَ الْغَائِبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النَّمْل: 75] وَمِثْلَ الْعَافِيَةِ وَالْعَاقبَة قَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : «وَلِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْفَاتِحَةِ وَالْخَاتِمَةِ بِالسُّورَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتِ التَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ وَلَيْسَتْ لِتَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ فِي الأَصْل، يَعْنِي لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فَاتِحَةً وَخَاتِمَةً دَائِمًا فِي خُصُوصِ جَرَيَانِهِ عَلَى مَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ كَالسُّورَةِ وَالْقِطْعَةِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ خَاتِمَةُ الْعُلَمَاءِ، وَكَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْأُولَى: «أَدَّتْنِي خَاتِمَةُ الْمَطَافِ وَهَدَتْنِي فَاتِحَةُ الْأَلْطَافِ» .

وَأَيًّا مَا كَانَ فَفَاتِحَةٌ وَصْفٌ وُصِفَ بِهِ مَبْدَأُ الْقُرْآنِ وَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْجِنْسِيَّةِ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَى الْكِتَابِ ثُمَّ صَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَعْنَى فَتْحِهَا الْكِتَابَ أَنَّهَا جُعِلَتْ أَوَّلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ فَتَكُونُ فَاتِحَةً بِالْجَعْلِ النَّبَوِيِّ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» وَاسْتَفَاضَ أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِيهِ. فَالَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أَوَّلَ مَا يُقْرَأُ فِي تِلَاوَتِهِ. وَإِضَافَةُ سُورَةٍ إِلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِمْ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ بِاعْتِبَارِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَمًا عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى الضَّالِّينَ [الْفَاتِحَة: 2- 7] ، بِخِلَافِ إِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِي بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سُورَةُ ذِكْرِ كَذَا، وَإِضَافَةُ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ شَجَرُ الْأَرَاكِ وَيَوْمُ الْأَحَدِ وَعِلْمُ الْفِقْهِ، وَنَرَاهَا قَبِيحَةً لَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنْسَانٌ زِيدٌ، وَذَلِكَ بَادٍ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُفْصِحُوا عَنْ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَبَيْنَ مَا هُوَ قَبِيحٌ فَكَانَ حَقًّا أَنْ أُبَيِّنَ وَجْهَهُ: وَذَلِكَ أَنَّ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ تَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ اسْمَيْ جِنْسٍ وَأَوَّلُهُمَا أَعَمَّ من الثَّانِي، فَهُنَا لَك يَجُوزُ التَّوَسُّعُ بِإِضَافَةِ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ إِضَافَةً مَقْصُودًا مِنْهَا الِاخْتِصَارُ، ثُمَّ تُكْسِبُهَا غَلَبَةُ الِاسْتِعْمَالِ قَبُولًا نَحْوَ قَوْلِهِمْ شَجَرُ الْأَرَاكِ، عِوَضًا عَنْ أَن يَقُولُوا الشّجر الَّذِي هُوَ الْأَرَاك، وَيَوْم الْأَحَد عوضا عَن أَنْ يَقُولُوا يَوْمٌ هُوَ الْأَحَدُ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا غَيْرَ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشِعْ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَمَا لَوْ قُلْتَ حَيَوَانٌ الْإِنْسَانُ فَأَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَضَايِفَيْنِ غَيْرَ اسْمِ جِنْسٍ فَالْإِضَافَةُ فِي مِثْلِهِ مُمْتَنِعَةٌ فَلَا يُقَالُ إِنْسَانٌ زَيْدٌ وَلِهَذَا جُعِلَ قَوْلُ النَّاسِ: شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَمًا عَلَى الشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ رَمَضَانَ خَاصٌّ بِالشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ كَلِمَةِ شَهْرٍ مَعَهُ قَبِيحًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ لَوْلَا أَنَّهُ شَاعَ حَتَّى صَارَ مَجْمُوعُ الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ. وَيَصِحُّ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ إِضَافَةُ السُّورَةِ إِلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، أَيْ سُورَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ

فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهَا اسْمًا اسْتِغْنَاءً بِالْوَصْفِ، كَمَا يَقُولُ الْمُؤَلِّفُونَ مُقَدِّمَةٌ أَوْ بَابٌ بِلَا تَرْجَمَةٍ ثُمَّ يَقُولُونَ بَابٌ جَامِعٌ مَثَلًا، ثُمَّ يُضِيفُونَهُ فَيَقُولُونَ بَابُ جَامِعِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إِضَافَةُ فَاتِحَةٍ إِلَى الْكِتَابِ فَإِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ بَقِيَّتُهُ عَدَا السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ الْفَاتِحَةُ، كَمَا نَقُولُ: خُطْبَةُ التَّأْلِيفِ، وَدِيبَاجَةُ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا أُمَّ الْقُرْآنِ وَأُمَّ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَتْ فِي السُّنَّةِ، مِنْ ذَلِكَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ الطِّبِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَقَى مَلْدُوغًا فَجَعَلَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأُمَّ يُطْلَقُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ وَمَنْشَئِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» أَيْ مَنْقُوصَةٌ مَخْدُوجَةٌ. وَقَدْ ذَكَرُوا لِتَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ أُمَّ الْقُرْآنِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً: أَحُدُهَا: أَنَّهَا مَبْدَؤُهُ وَمُفْتَتَحُهُ فَكَأَنَّهَا أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ، يَعْنِي أَنَّ افْتِتَاحَهُ الَّذِي هُوَ وُجُودُ أَوَّلِ أَجزَاء الْقُرْآن قَدْ ظَهَرَ فِيهَا فَجُعِلَتْ كَالْأُمِّ لِلْوَلَدِ فِي أَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَنْشَأُ فَيَكُونُ أُمُّ الْقُرْآنِ تَشْبِيهًا بِالْأُمِّ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْوَلَدِ لِمُشَابَهَتِهَا بِالْمَنْشَأِ مِنْ حَيْثُ ابْتِدَاءِ الظُّهُورِ وَالْوُجُودِ. الثَّانِي: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ مُحْتَوَيَاتُهَا عَلَى أَنْوَاعِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ ثَنَاءً جَامِعًا لِوَصْفِهِ بِجَمِيعِ المحامد وتنزيهه عَن جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَلِإِثْبَاتِ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهَا، فَهَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَغَيْرُهَا تَكْمِلَاتٌ لَهَا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقُرْآنِ إِبْلَاغُ مَقَاصِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَمَّا تَوَقَّفَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْآمِرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ الْوَاجِبُ وُجُودُهُ خَالِقُ الْخَلْقِ لَزِمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الصِّفَاتِ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ تَمَامُ الِامْتِثَالِ عَلَى الرَّجَاءِ فِي الثَّوَابِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ لَزِمَ تَحَقُّقُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَاتِهِ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمِ الدِّينِ حَمْدٌ وَثَنَاءٌ، وَقَوْلَهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُسْتَقِيمَ مِنْ نَوْعِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلَهُ: صِراطَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهَا مِنْ نَوْعِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضَّالِّينَ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى نَوْعِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ فِي: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: 1] أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ألفاظها كلهَا أثْنَاء عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ مَعَانِيَهَا عَلَى جُمْلَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنَ الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ

فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِمَّا عُلُومٌ تُقْصَدُ مَعْرِفَتُهَا وَإِمَّا أَحْكَامٌ يُقْصَدُ مِنْهَا الْعَمَلُ بِهَا، فَالْعُلُومُ كَالتَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوءَاتِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ وَالْقِصَصِ، وَالْأَحْكَامُ إِمَّا عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ، وَإِمَّا عَمَلُ الْقُلُوبِ أَيِ الْعُقُولِ وَهُوَ تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ وَآدَابُ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مَعَانِي الْفَاتِحَةِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ فَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَشْمَلُ سَائِرَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي اسْتَحَقَّ اللَّهُ لِأَجْلِهَا حَصْرَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنِ اخْتِصَاصِ جِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ تَعَالَى وَاسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا سَيَأْتِي ورَبِّ الْعالَمِينَ يَشْمَلُ سَائِرَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَالتَّكْوِينِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا، والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَشْمَلُ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الرَّاجِعَةَ للرحمة بالمكلفين وَمَالك يَوْمِ الدِّينِ يَشْمَلُ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ، وإِيَّاكَ نَعْبُدُ يَجْمَعُ مَعْنَى الدِّيَانَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَجْمَعُ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْأَعْمَالِ. قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِهِ «حَلُّ الرُّمُوزِ وَمَفَاتِيحُ الْكُنُوزِ» : الطَّرِيقَةُ إِلَى اللَّهِ لَهَا ظَاهِرٌ (أَيْ عَمَلٌ ظَاهِرٌ أَيْ بَدَنِيٌ) وَبَاطِنٌ (أَيْ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ) فَظَاهِرُهَا الشَّرِيعَةُ وَبَاطِنُهَا الْحَقِيقَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ إِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُكَلَّفِ. وَيَجْمَعُ الشَّرِيعَةَ وَالْحَقِيقَةَ كَلِمَتَانِ هُمَا قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإياك نَعْبُدُ شَرِيعَةٌ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَقِيقَةٌ، اهـ. واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يَشْمَلُ الْأَحْوَالَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَآدَابٍ، وصِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يُشِيرُ إِلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ الْمَاضِيَةِ الْفَاضِلَةِ، وَقَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَشْمَلُ سَائِرَ قِصَصِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ وَيُشِيرُ إِلَى تفاصيل ضلالالتهم الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا جَرَمَ يَحْصُلُ مِنْ مَعَانِي الْفَاتِحَةِ- تَصْرِيحًا وَتَضَمُّنًا- عِلْمٌ إِجْمَالِيٌّ بِمَا حَوَاهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَغْرَاضِ. وَذَلِكَ يَدْعُو نَفْسَ قَارِئِهَا إِلَى تَطَلُّبِ التَّفْصِيلِ عَلَى حَسَبِ التَّمَكُّنِ وَالْقَابِلِيَّةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا فُرِضَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ حرصا على التَّذَكُّر لِمَا فِي مَطَاوِيهَا. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا السَّبْعَ الْمَثَانِي فَهِيَ تَسْمِيَةٌ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَعِيدِ ابْن الْمُعَلَّى (¬1) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ¬

(¬1) هُوَ الْحَارِث بن نفيع (مُصَغرًا) الزرقي- بِضَم فَفتح- الْأنْصَارِيّ الْمُتَوفَّى سنة 74 هـ وَتَمام الحَدِيث عَن أبي سعيد بن الْمُعَلَّى قَالَ: «كنت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فدعاني رَسُول الله فَلم أجبه فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي كنت أُصَلِّي فَقَالَ ألم يقل الله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الْأَنْفَال: 24] ثمَّ قَالَ أَلا أعلمك سُورَة هِيَ أعظم السُّور فِي الْقُرْآن قبل أَن تخرج من الْمَسْجِد، ثمَّ أَخذ بيَدي فَلَمَّا أَرَادَ أَن يخرج قلت لَهُ ألم تقل لأعلمنك سُورَة هِيَ أعظم سُورَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» إِلَخ.

الَّذِي أُوتِيتُهُ» وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: هِيَ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَإِلَّا الْحُسَيْنُ (¬1) الْجُعْفِيُّ فَقَالَ: هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: تِسْعُ آيَاتٍ وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْبَسْمَلَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ لِتَكُونَ سَبْعَ آيَاتٍ وَمَنْ عَدَّ الْبَسْمَلَةَ أَدْمَجَ آيَتَيْنِ. وَأَمَّا وَصْفُهَا بِالْمَثَانِي فَهُوَ مَفَاعِلُ جَمْعُ مُثَنًّى بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، أَوْ مُثْنًى مُخَفَّفُ مُثَنَّى، أَوْ مَثْنَى بِفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفُ مَثْنِيٍّ كَمَعْنًى مُخَفَّفُ مَعْنِيٍّ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُ الْجَمِيعِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّثْنِيَة وَهِي بِضَم ثَانٍ إِلَى أَوَّلٍ. وَوَجْهُ الْوَصْفِ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَذَا فِي «الْكَشَّافِ» . قِيلَ: وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تُضَمُّ إِلَيْهَا السُّورَةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَلَعَلَّ التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُطِيلَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ كَذَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الصَّحِيحِ» وَقِيلَ: الْعَكْسُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ أَيْ تُكَرَّرَ فَتَكُونُ التَّثْنِيَةُ بِمَعْنَى التَّكْرِيرِ بِنَاءً عَلَى مَا شَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُثَنَّى فِي مُطْلَقِ الْمُكَرَّرِ نَحْوَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: 4] وَقَوْلِهِمْ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي هُنَا مِثْلَ الْمُرَادِ بِالْمَثَانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] أَيْ مُكَرَّرَ الْقِصَصِ وَالْأَغْرَاضِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْمَثَانِي لِأَنَّهَا ثُنِّيَتْ فِي النُّزُولِ فَنَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ جِدًّا وَتَكَرُّرُ النُّزُولِ لَا يُعْتَبَرُ قَائِلُهُ، وَقَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَأَيُّ مَعْنًى لِإِعَادَةِ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ وُضِعَتْ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ لِأَنَّهَا تَنْزِلُ مِنْهَا مَنْزِلَ دِيبَاجَةِ الْخُطْبَةِ أَوِ الْكِتَابِ، مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أُصُولِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَذَلِكَ شَأْنُ الدِّيبَاجَةِ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ كَثِيرٌ إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَزَلَ قَبْلَهَا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ ثُمَّ الْفَاتِحَةُ، وَقِيلَ نَزَلَ قَبْلَهَا أَيْضًا: ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: 1] وَسُورَةُ الْمُزَّمِّلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً أَيْ غَيْرَ مُنَجَّمَةٍ، بِخِلَافِ سُورَةِ الْقَلَمِ، وَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَ فَرْضِ الصَّلَاةِ فَقَرَأَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ فَرْضِهَا، وَقَدْ عُدَّتْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ السُّورَةَ الْخَامِسَةَ فِي تَرْتِيبِ ¬

(¬1) ستأتي تَرْجَمته قَرِيبا.

نُزُولِ السُّوَرِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّهَا قَدْ سَمَّاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَأَمَرَ بِأَنْ تَكُونَ أَوَّلَ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: وَلَا يُنَاكِدُ ذَلِكَ نُزُولُهَا بَعْدَ سُوَرٍ أُخْرَى لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْ سَبْقَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَجَمَّعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِقْدَارٌ يَصِيرُ بِهِ كِتَابًا فَحِينَ تَجَمَّعَ ذَلِكَ أُنْزِلَتِ الْفَاتِحَةُ لِتَكُونَ دِيبَاجَةَ الْكِتَابِ. وَأَغْرَاضُهَا قَدْ عُلِمَتْ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ. وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، قَالَ هِيَ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَنُسِبَ أَيْضًا لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَإِلَى الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيِّ (¬1) قَالَ هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِهِمْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَنَّهَا تِسْعُ آيَاتٍ، وَتَحْدِيدُ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّبْعِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَسَمْتُ الصَّلَاةَ نِصْفَيْنِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: الْعَبْدُ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ اللَّهُ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الْفَاتِحَة: 2- 7] ، قَالَ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ لعبدي ولعَبْد مَا سَأَلَ» اهـ. فَهُنَّ ثَلَاثٌ ثُمَّ وَاحِدَةٌ ثُمَّ ثَلَاثٌ، فَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا تُعَدُّ الْبَسْمَلَةُ آيَةً وَتُعَدُّ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً، وَعِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ تُعَدُّ الْبَسْمَلَةُ آيَةً وَتُعَدُّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ جُزْءَ آيَةٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَدَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً وَعَدَّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً. ¬

(¬1) هُوَ حُسَيْن بن عَليّ بن الْوَلِيد الْجعْفِيّ مَوْلَاهُم الْكُوفِي الْمُتَوفَّى سنة 200 هـ أحد أَعْلَام الْمُحدثين روى عَن الْأَعْمَش وروى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَيحيى بن معِين.

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 إلى 7]

[سُورَة الْفَاتِحَة (1) : الْآيَات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) الْكَلَام على الْبَسْمَلَة [1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) . الْبَسْمَلَةُ اسْمٌ لِكَلِمَةِ بَاسِمِ اللَّهِ، صِيغَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَادَّةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَتَيْنِ بَاسْمِ وَالله عَلَى طَرِيقَةٍ تُسَمَّى النَّحْتُ، وَهُوَ صَوْغُ فِعْلِ مُضِيٍّ عَلَى زِنَةِ فَعْلَلَ مُؤَلَّفَةٍ مَادَّتُهُ مِنْ حُرُوفِ جُمْلَةٍ أَوْ حُرُوفِ مُرَكَّبٍ إِضَافِيٍّ، مِمَّا يَنْطِقُ بِهِ النَّاسُ اخْتِصَارًا عَنْ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِ ذَلِكَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ النَّحْتَ فِي النَّسَبِ إِلَى الْجُمْلَةِ أَوِ الْمُرَكَّبِ إِذَا كَانَ فِي النَّسَبِ إِلَى صَدْرِ ذَلِكَ أَوْ إِلَى عَجُزِهِ الْتِبَاسٌ، كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِ شَمْسٍ عَبْشَمِيٌّ خَشْيَةَ الِالْتِبَاسِ بِالنَّسَبِ إِلَى عَبْدٍ أَوْ إِلَى شَمْسٍ، وَفِي النِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِ الدَّارِ عَبْدَرِيٌّ كَذَلِك وَإِلَى حضر موت حَضْرَمِيٌّ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْإِضَافَةِ (أَيِ النَّسَبِ) إِلَى الْمُضَافِ مِنَ الْأَسْمَاءِ: «وَقَدْ يَجْعَلُونَ لِلنَّسَبِ فِي الْإِضَافَةِ اسْمًا بِمَنْزِلَةِ جَعْفَرِيٍّ وَيَجْعَلُونَ فِيهِ مِنْ حُرُوفِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ حُرُوفِهِمَا لِيُعْرَفَ» اهـ، فَجَاءَ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ مُوَلَّدِيِ الْعَرَبِ وَاسْتَعْمَلُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي حِكَايَةِ الْجُمَلِ الَّتِي يَكْثُرُ دَوَرَانُهَا فِي الْأَلْسِنَةِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ، وَذَلِكَ مِنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتِ الطَّرِيقَةُ عَرَبِيَّةً. قَالَ الرَّاعِي: قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لمّا يمنعوا ... مَا عونهم وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا أَيْ لَمْ يَتْرُكُوا قَوْلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا ... أَلَا حَبَّذَا ذَاكَ الْحَبِيبُ الْمُبَسْمِلُ أَيْ قَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَرَقًا مِنْهُ، فَأَصْلُ بَسْمَلَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ الْمُوَلَّدُونَ عَلَى قَوْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اكْتِفَاءً وَاعْتِمَادًا عَلَى الشُّهْرَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَنْحُوتُ خَلِيًّا مِنَ الْحَاءِ وَالرَّاءِ اللَّذَيْنِ هُمَا من حُرُوف الرحمان الرَّحِيمِ، فَشَاعَ قَوْلُهُمْ بَسْمَلَ فِي مَعْنَى قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَاشْتُقَّ مِنْ فَعْلِ بَسْمَلَ مَصْدَرٌ هُوَ الْبَسْمَلَةُ كَمَا اشْتُقَّ مِنْ هَلَّلَ مَصْدَرٌ هُوَ الْهَيْلَلَةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ لِفَعْلَلَ. وَاشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ فَاعِلٍ فِي بَيْتِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَلَمْ يُسْمَعِ اشْتِقَاقُ اسْمِ مَفْعُولٍ. وَرَأَيْتُ فِي «شَرْحِ ابْنِ هَارُونَ التُّونُسِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ» (¬1) فِي بَابِ الْأَذَانِ عَنِ الْمُطَرِّزُُِ ¬

(¬1) رقم 10520 بالمكتبة الصادقية (العبدلية) بتونس.

فِي كِتَابِ «الْيَوَاقِيتِ» : الْأَفْعَالُ الَّتِي نُحِتَتْ مِنْ أَسْمَائِهَا سَبْعَةٌ: بَسْمَلَ فِي بِسْمِ اللَّهِ، وَسَبْحَلَ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ، وَحَيْعَلَ فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَحَوْقَلَ فِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَحَمْدَلَ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَلَّلَ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَجَيْعَلَ إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فدَاك، وَزَاد الطّبقلة فِي أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَالدَّمْعَزَةَ فِي أَدَامَ اللَّهُ عِزَّكَ. وَلَمَّا كَانَ كثير من أيمة الدِّينِ قَائِلًا بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ جَمِيعِ السُّوَرِ غَيْرَ بَرَاءَةَ أَوْ بَعْضِ السُّوَرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يُفَسِّرَ مَعْنَاهَا وَحُكْمَهَا وَمَوْقِعَهَا عِنْدَ مَنْ عَدُّوهَا آيَةً مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ. وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ مَبَاحِثَ. الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَهِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَمْ لَا؟. الثَّانِي: فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ بِهَا عِنْدَ الْقِرَاءَةِ. الثَّالِثُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَاهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا. فَأَمَّا الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ لَفْظَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هُوَ لَفْظٌ قُرْآنِيٌّ لِأَنَّهُ جُزْءُ آيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النَّمْل: 30] كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ذَوَاتِ الْبَالِ وَرَدَ فِي الْإِسْلَامِ، وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِسْمَ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ» لَمْ يَرْوِهِ أَصْحَابُ «السُّنَنِ» وَلَا «الْمُسْتَدْرَكَاتِ» ، وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ إِنَّ الْبَسْمَلَةَ رَسَمَهَا الَّذِينَ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَا عَدَا سُورَةِ بَرَاءَةَ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُحَادَثَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ عُثْمَانَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَذَلِكَ لَيْسَ مَوْضِعَ فَصْلِ السُّورَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرِ بَرَاءَةَ، بِمَعْنَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا، وَلَكِنَّهُ فِي تَكَرُّرِ قُرْآنِيَّتِهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «الْبِدَايَةِ» ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ- وَقِيلَ بِاسْتِثْنَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ابْن شِهَابٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ- إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لَكِنَّهَا جُزْءُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَفُقَهَاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَذَهَبَ عَبْدُ الله بن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَلَمْ يُنْقُلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِيهَا شَيْءٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّوَرِ عِنْدَهُ فَعَدَّهُ فِي الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ

جُزْئِيَّتِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ. قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ الْجَهْرِ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَكَرِهَ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمَوْصُولَةِ بِالْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. وَأَزِيدُ فَأَقُولُ إِنَّهُ لَمْ يَرَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ مُجْزِئًا عَنِ الْقِرَاءَةِ. أَمَّا حُجَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فَلَهُمْ فِيهَا مَسَالِكُ: أَحَدُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ، وَالثَّالِثُ مِنْ طَرِيقِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ. فَأَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: فَلِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ مَقَالَةٌ فَائِقَةٌ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَتَابَعَهُ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ «الْأَشْرَافِ» ، قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: «لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا إِمَّا التَّوَاتُرَ أَوِ الْآحَادَ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَوْنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ وَلَامْتَنَعَ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ لَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً يَقِينِيَّةً، وَلَصَارَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ ادِّعَاءُ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْقُرْآنَ دَخَلَهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّحْرِيفُ» اهـ وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ وَالْأَقْيِسَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ الَّتِي طَوَاهَا فِي كَلَامِهِ وَاضِحَةٌ لِمَنْ لَهُ مُمَارَسَةٌ لِلْمَنْطِقِ وَشَرْطِيَّاتُهَا لَا تَحْتَاجُ لِلِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهَا بَدِيهِيَّةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَسْطِهَا. زَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» فَقَالَ: يَكْفِيكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لَا يخْتَلف فه اهـ. وَزَادَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْقُرْآنَ بَيَانًا وَاحِدًا مُتَسَاوِيًا وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ فِي بَيَانِهِ مُخْتَلِفَةً بِالظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَلِذَلِكَ قَطَعْنَا بِمَنْعِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا وَأَبْطَلْنَا قَوْلَ الرَّافِضَةِ إِنَّ الْقُرْآنَ حِمْلُ جَمَلٍ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ فَلَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ الْحَمْدِ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ بَيَانًا شَافِيًا» اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : إِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ، لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنَ الْفِقْهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأُصُولِ. وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الدَّلِيلَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» فَقَالَ: «نَفْيُ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْضًا إِنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى الْخِلَافُ (أَيْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ) وَإِنْ ثَبَتَ بِالْآحَادِ يَصِيرُ الْقُرْآنُ ظَنِّيًّا، قَالَ: وَلَا يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ شَيْءٍ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَدَمًا

الثاني:

إِلَّا أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْقُرْآنِ يُوهِنُ كَوْنَهَا لَيْسَتْ من الْقُرْآن فههنا لَا يُمْكِنُنَا الْحُكْمُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي أَنَّ الدَّلِيلَ مَا هُوَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي لَازِمٌ عَلَيْهِ اهـ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ آلَ فِي اسْتِدْلَالِهِ إِلَى الْمُصَادَرَةِ إِذْ قَدْ صَارَ مَرْجِعُ اسْتِدْلَالِ الْغَزَالِيِّ وَفَخْرِ الدِّينِ إِلَى رَسْمِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُدْرَكِ الشَّافِعِيِّ. وَتَعَقَّبَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ» كَلَامَ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُحَرَّرٍ فَلَا نُطِيلُ بِهِ. وَأَمَّا الْمَسْلَكُ الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْأَثَرِ فَلَا نَجِدُ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَالْأَدِلَّةُ سِتَّةٌ: الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عبد الرَّحْمَن عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ نِصْفَيْنِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي» إِلَخْ، وَالْمُرَادُ فِي الصَّلَاةِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الثَّانِي: حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» ؟ قَالَ: بَلَى، فَلَمَّا قَارَبَ الْخُرُوجَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ أُبَيٌّ فَقَرَأْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مِنْهَا الْبَسْمَلَةَ. الثَّالِثُ: مَا فِي «صَحِيح مُسلم» و «سنَن أبي دَاوُد» و «سنَن النَّسَائِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، لَا فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا. الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي «صَحِيح مُسلم» و «سنَن أَبِي دَاوُدَ» قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة بِالْحَمْد الله رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْخَامِسُ: مَا فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيءِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

السادس-

السَّادِسُ- وَهُوَ الْحَاسِمُ-: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَى زَمَنِ مَالِكٍ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأُمَرَاءُ وَصَلَّى وَرَاءَهُمُ الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَلَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ قَرَأَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهَلْ يَقُولُ عَالِمٌ إِنَّ بَعْضَ السُّورَةِ جَهْرٌ وَبَعْضَهَا سِرٌّ، فَقَدْ حَصَلَ التَّوَاتُرُ بِأَنَّ النَّبِيءَ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَجْهَرُوا بِهَا فِي الْجَهْرِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ وَلَوْ جَهَرُوا بِهَا لَمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا. وَهُنَاكَ دَلِيلٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَفَجِئَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ- إِلَى أَنْ قَالَ- فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] الْحَدِيثَ. فَلَمْ يَقُلْ فَقَالَ لِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَلَقِ وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ. وَأَمَّا الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ فَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَتَكَرَّرَ لَفْظَانِ وَهُمَا الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي كَلَامٍ غَيْرِ طَوِيلٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ كَثِيرٌ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْمَدُ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ التَّكْرَارَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ. وَأَنَا أَدْفَعُ جَوَابَهُ بِأَنَّ التَّكْرَارَ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ مَوَاقِعُ مَحْمُودَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِثْلَ التَّهْوِيلِ، وَمَقَامِ الرِّثَاءِ أَوِ التَّعْدِيدِ أَوِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا مُنَاسَبَةَ لَهَا بِأَغْرَاضِ التَّكْرِيرِ وَلَا سِيَّمَا التَّوْكِيدُ لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا، وَلِأَنَّ شَأْنَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَقْتَرِنَ فِيهِ اللَّفْظَانِ بِلَا فَصْلٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ تَكْرِيرُ اللَّفْظِ فِي الْكَلَامِ لِوُجُودِ مُقْتَضَى التَّعْبِيرِ عَنْ مَدْلُولِهِ بِطَرِيقِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَ الْمُكَرَّرَيْنِ بُعْدًا يُقْصِيهِ عَنِ السَّمْعِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ عَدُّوا فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ خُلُوصَهُ مِنْ كَثْرَةِ التَّكْرَارِ، وَالْقُرْبِ بَيْنَ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ حِينَ كُرِّرَا يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَأَجَابَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ نُكْتَةَ التَّكْرِيرِ هُنَا هِيَ تَعْلِيلُ اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ، فَقَالَ السَّلَكُوتِيُّ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَوْ كَانَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ جَوَابٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيلُ قَاضِيًا بِذِكْرِ صِفَتَيِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَدَفْعُ التَّكْرِيرِ يَقْتَضِي تَجْرِيدَ الْبَسْمَلَةِ

الَّتِي فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنْ تَصِيرَ الْفَاتِحَةُ هَكَذَا: (بِسْمِ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ) . وَأَنَا أَرَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَسْلَكِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ تَكُونَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْمَدُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَقَعَ التَّفَنُّنُ فِي الْفَوَاتِحِ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ أَهَمَّ مَوَاضِعِ التَّأَنُّقِ فَاتِحَةَ الْكَلَامِ وَخَاتِمَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ وَخَوَاتِمَهَا وَارِدَةٌ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَأَكْمَلِهَا فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ فَوَاتِحَ سُوَرِهِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، مَعَ أَنَّ عَامَّةَ الْبُلَغَاءِ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ يَتَنَافَسُونَ فِي تَفَنُّنِ فَوَاتِحِ مُنْشَآتِهِمْ وَيَعِيبُونَ مَنْ يَلْتَزِمُ فِي كَلَامِهِ طَرِيقَةً وَاحِدَةً فَمَا ظَنك بأبلغ كَلَام. وَأَمَّا حُجَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ سُورَة الْفَاتِحَة خَاصَّة فَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَنْهَاهَا فَخْرُ الدِّينِ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً لَا يَكَادُ يَسْتَقِيمُ مِنْهَا بَعْدَ طَرْحِ الْمُتَدَاخِلِ وَالْخَارِجِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَضَعِيفِ السَّنَدِ أَوْ وَاهِيهِ إِلَّا أَمْرَانِ: أحد هما أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ أُولَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاتِحَةَ وَعَدَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ آيَةً. الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدِّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ إِنَّمَا خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فَهُوَ نَازِلٌ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل وَالْبَيْهَقِيّ، وصحيح بَعْضَ طُرُقِهِ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، يَعْنِي أَنَّهُ مَقْطُوعٌ، عَلَى أَنَّهُ رَوَى عَنْهَا مَا يُخَالِفُهُ، عَلَى أَنَّ شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّاء قَدْ صَرَّحَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» بِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَإِنَّمَا رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ آيَةٌ وَحْدَهَا، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَوْنُهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِغَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ وَهُوَ مَا يَأْبَاهُ الْمُسْلِمُونَ. وَأَمَّا عَنِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ قُرْآنٌ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي رُسِمَتْ فِيهَا فِي الْمُصْحَفِ مِمَّا تَجِبُ قِرَاءَتُهَا

فِيهَا، فَذَلِكَ أَمْرٌ يَتْبَعُ رِوَايَةَ الْقُرَّاءِ وَأَخْبَارَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَيَعُودُ إِلَى الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكْتُبُوا أَسْمَاءَ السُّوَرِ وَكَوْنَهَا مَكِّيَّةً أَوْ مَدَنِيَّةً فِي الْمُصْحَفِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ عَبْدِ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» ، وَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ كَتَبُوا ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْقُرَّاءِ كَمَا فِي «لَطَائِفِ الْإِشَارَاتِ» لِلْقَسْطَلَانِيِّ وَهُوَ مُقْتَضَى كِتَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يجرأون عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ فَالِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْكِتَابَةِ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ وَدَعْوَى كَوْنِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ كُتِبَتْ بِلَوْنٍ مُخَالِفٍ لِحِبْرِ الْقُرْآنِ، يَرُدُّهُ أَنَّ الْمُشَاهَدَ فِي مَصَاحِفِ السَّلَفِ أَنَّ حِبْرَهَا بِلَوْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنِ التَّلْوِينُ فَاشِيًا. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيءِ؟ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ ، اهـ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا لِأَنَّ ضَمِيرَ قَرَأَ وَضَمِيرَ يَمُدُّ عَائِدَانِ إِلَى أَنَسٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالْبَسْمَلَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ لِكَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَةِ لِشُهْرَةِ الْبَسْمَلَةِ. وَحُجَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَثَانِي قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رفع رَأسه مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ آنِفًا فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: 1] السُّورَةَ، قَالُوا وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَلِإِثْبَاتِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهَا فِي الْمَصَاحِفِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يُدْخِلُوا فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبُوا آمِينَ فِي الْفَاتِحَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ أَنَّا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى أَنَّهَا مِنَ السُّورَةِ بَلِ افْتَتَحَ بِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا تُغْنِي عَنِ الِاسْتِعَاذَةِ إِذَا نَوَى الْمُبَسْمِلُ تَقْدِيرَ أَسْتَعِيذُ بِاسْمِ اللَّهِ وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى نَحْوِ هَذَا لِأَن رَاوِيه أنسا بْنَ مَالِكٍ جَزَمَ فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ بَسْمَلَ فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ أَبَوْا تَأْوِيلَهُ بِمَا تَأَوَّلْنَاهُ لَزِمَ اضْطِرَابُ أَنَسٍ فِي رِوَايَتِهِ اضْطِرَابًا يُوجِبُ سُقُوطَهَا. وَالْحَقُّ الْبَيِّنُ فِي أَمْرِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لِيَكُونَ الْفَصْلُ مُنَاسِبًا لِابْتِدَاءِ الْمُصْحَفِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ بِلَفْظٍ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ

فِي «سُنَنِهِ» وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: «مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ وَإِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ تكْتبُوا بَينهمَا سطرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، قَالَ عُثْمَانُ كَانَ النَّبِيءُ لَمَّا تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ وَيَقُولُ لَهُ ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ بِالسُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، أَوْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَأَرَى فِي هَذَا دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمْ تُكْتَبْ بَيْنَ السُّوَرِ غَيْرَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ إِلَّا حِينَ جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ زَمَنَ عُثْمَانَ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي الصُّحُفِ الَّتِي جَمَعَهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ إِذْ كَانَتْ لِكُلِّ سُورَةٍ صَحِيفَةٌ مُفْرَدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَعَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرِ بَرَاءَةَ، أَوْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ، أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اتَّفَقُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا غَيْرِ بَرَاءَةَ. وَرَوَوْا ذَلِكَ عَمَّنْ تَلَقَّوْا، فَأَمَّا الَّذِينَ مِنْهُمْ يَرْوُونَ اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مَنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرِ بَرَاءَةَ، فَأَمْرَهُمْ ظَاهِرٌ، وَقِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَاجِبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا مَحَالَةَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ كُلِّهَا أَوْ مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُمُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ غَيْرِ مَسْبُوقَةٍ بِقِرَاءَةِ سُورَةٍ قَبْلَهَا تَعَلَّلَ بِالتَّيَمُّنِ بِاقْتِفَاءِ أَثَرِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ، أَيْ قَصْدَ التَّشَبُّهِ فِي مُجَرَّدِ ابْتِدَاءِ فِعْلٍ تَشْبِيهًا لِابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ بِابْتِدَاءِ الْكِتَابَةِ. فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُمُ الْبَسْمَلَةَ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا لِلتَّأَسِّي فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ الْكَاتِبُونَ لِلْمُصْحَفِ، فَقِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ نَظِيرُ النُّطْقِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَنَظِيرُ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ بَيْنَ بَعْضِ السُّوَرِ مِنْ آخِرِ الْمُفَصَّلِ، وَلَا يُبَسْمِلُونَ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ الْفَرِيضَةِ، وَهَؤُلَاء إِذا قرأوا فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ تَجْرِي قِرَاءَتُهُمْ عَلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ فَهْمُهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَسْمَلَةِ مِنِ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ قَوْلٌ لَهُمْ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ

مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْبَيْضَاوِيُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي غَيْرِ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا، أَيْ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. فَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، لَا يُبَسْمِلُونَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَذَلِكَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِفِعْلِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ خَاصٌّ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِحَمْلِهِمْ رَسْمَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ السُّورَةِ لَا عَلَى الْفَصْلِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ عَلَامَةً عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا لَمَا كُتِبَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَكَانَ صَنِيعُهُمْ وَجِيهًا لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ مَا رَوَوْهُ عَنْ سَلَفِهِمْ وَبَيْنَ دَلِيلِ قَصْدِ التَّيَمُّنِ، وَدَلِيلُ رَأْيِهِمْ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ. وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ يُبَسْمِلُونَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سِوَى مَا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَعَدُّوهُ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ حَظُّهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا اتِّبَاعَ سَلَفِهِمْ، إِذْ لَيْسَ جَمِيعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَعَلَّهُمْ طَرَدُوا قَصْدَ التَّيَمُّنِ بِمُشَابَهَةِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ فِي الْإِشْعَارِ بِابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَالْإِشْعَارِ بِانْتِهَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ وَقَدْ تَبَيَّنَ وَجْهُ ذَلِكَ آنِفًا، وَوَجَّهَهُ الْأَئِمَّةُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ تَأَتَّى فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ» (¬1) أَنَّ مُؤَرِّجًا السَّدُوسِيَّ الْبَصْرِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: «أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَرُدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ» فَرَجَعَ مُؤَرِّجٌ إِلَى مُصْحَفِهِ فَرَدَّ عَلَى بَرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيُحْمَلُ هَذَا الَّذِي صَنَعَهُ مُؤَرِّجٌ- إِنْ صَحَّ عَنْهُ- إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّمْلِيحِ وَالْهَزْلِ وَلَيْسَ عَلَى الْجِدِّ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَذَاهِبِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً وَوَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ تَجْرِي عَلَى إِحْكَامِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّة، وَلَيْسَ مَذَاهِبُ الْقُرَّاءِ بِمَعْدُودَةٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا قِرَاءَاتُهُمْ رِوَايَاتٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْتِنَادٍ إِلَى اعْتِبَارِ أَحْكَامِ رِوَايَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَوَاتُرٍ وَدُونِهِ، وَلَا إِلَى وُجُوبٍ واستحباب وتخيير، فالقارىء يَقْرَأُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَلِّمِيهِ ¬

(¬1) صفحة 130 جُزْء 2 طبع الرحمانية- الْقَاهِرَة.

وَلَا يَنْظُرُ فِي حُكْمِ مَا يَقْرَأُهُ مِنْ لُزُومِ كَوْنِهِ كَمَا قَرَأَ أَوْ عدم اللُّزُوم، فالقراء تَجْرِي أَعْمَالُهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى نَزَعَاتِهِمْ فِي الْفِقْهِ مِنِ اجْتِهَادٍ وَتَقْلِيدٍ، وَيُوَضَّحُ غَلَطُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ وَعَدَمِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافِ الْقُرَّاءِ، كَمَا يُوَضَّحُ تَسَامُحُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي عَدِّهِ مَذَاهِبَ الْقُرَّاءِ فِي نَسَقِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ لِأَجْلِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَّاءِ أَمْصَارِهِمْ غَالِبًا فِي هَاتِهِ الْمَسْأَلَةِ فَسَبَبُهُ شُيُوعُ الْقَوْلِ بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ بِمَا قَالَ بِهِ فُقَهَاؤُهُ فِي الْمَسَائِلِ، أَوْ شُيُوعُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا المجتهدون من مشائخهم بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ وَلَوْ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْمُجْتَهِدِ مِثْلَ سَبْقِ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ إِلَى عَدَمِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ بِعَدَمِ جُزْئِيَّتِهَا لِأَنَّ مَالِكًا تَلَقَّى أَدِلَّةَ نَفْيِ الْجُزْئِيَّةِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَعَنْهُمْ أَوْ عَنْ شُيُوخِهِمْ تَلَقَّى نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَإِذْ قَدْ كُنَّا قَدْ تَقَلَّدْنَا مَذْهَبَ مَالِكٍ وَاطْمَأْنَنَّا لِمَدَارِكِهِ فِي انْتِفَاءِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لِتَفْسِيرِهَا هُنَا وَأَنْ نُرْجِئَهُ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [30] : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ غَيْرَ أَنَّنَا لَمَّا وَجَدْنَا مَنْ سَلَفَنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كُلِّهِمْ لَمْ يُهْمِلُوا الْكَلَامَ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اقْتَفَيْنَا أَثَرَهُمْ إِذْ صَارَ ذَلِكَ مُصْطَلَحَ الْمُفَسِّرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَجْرُورِ فِي بِسْمِ اللَّهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هُنَا أَقْرَأُ، وَسَبَبُ حَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ سُنَّتْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْمَجْرُورِ فِيهَا حَذْفًا مُلْتَزَمًا إِيجَازًا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ قَوْلَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ عِنْدَ شُرُوعِهِمْ فِي السِّحْرِ بِقَوْلِهِ: فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ [الشُّعَرَاء: 44] وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي ابْتِدَاءِ أَعْمَالِهِمْ: «بِاسْمِ اللَّاتِ بِاسْمِ الْعُزَّى» فَالْمَجْرُورُ ظَرْفُ لَغْوٍ مَعْمُولٍ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَمُتَعَلِّقٍ بِهِ وَلَيْسَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا مِثْلَ الظُّرُوفِ الَّتِي تَقَعُ أَخْبَارًا، وَدَلِيل الْمُتَعَلّق ينبىء عَنْهُ الْعَمَلُ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا خَاصًّا مِنَ النَّوْعِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ دُونَ الْمُتَعَلِّقِ الْعَام مثل أبتدىء لِأَنَّ الْقَرِينَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ هِيَ الْفِعْلُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ الْمَبْدُوءُ بِالْبَسْمَلَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا يَجْرِي (¬1) فِي هَذَا الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي كَوْنِ مُتَعَلِّقِ الظُّرُوفِ هَلْ يُقَدَّرُ اسْمًا نَحْوَ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ أَمْ فِعْلًا نَحْوَ كَانَ أَوِ اسْتَقَرَّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ فِي الظُّرُوفِ الْوَاقِعَةِ أَخْبَارًا أَوْ أَحْوَالًا بِنَاءً عَلَى تَعَارُضِ ¬

(¬1) هَذَا رد على ابْن عَطِيَّة وَبَعض الْمُفَسّرين إِذا فرضوا خلاف النُّحَاة مُعْتَبرا هُنَا.

مُقْتَضَى تَقْدِيرِ الِاسْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحَالِيَّةِ، وَمُقْتَضَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّ مَا هُنَا ظَرْفُ لَغْوٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُعَدِّيَ الْأَفْعَالَ وَيَتَعَلَّقَ بِهَا، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ الْمُبْتَدِئِ بِالْبَسْمَلَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَمَلِهِ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّرَ مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ لَفْظًا دَالًّا عَلَى الْفِعْلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ. وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْمِيمِ التَّيَمُّنِ لِأَجْزَاءِ الْفِعْلِ، فَالِابْتِدَاءُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَقَلُّ عُمُومًا، فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِّ يُخَصَّصُ وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ يُعَمَّمُ وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يُلْغَزَ بِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْقَرَائِنُ كَقَوْلِ الدَّاعِي لِلْمُعَرِّسِ «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» (¬1) وَقَوْلِ الْمُسَافِرِ عِنْدَ حُلُولِهِ وَتَرْحَالِهِ «بِاسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَاتِ» وَقَوْلِ نسَاء الْعَرَب عِنْد مَا يَزْفُفْنَ الْعَرُوسَ «بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ» وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ هَاهُنَا وَاضِحًا. وَقَدْ أُسْعِفَ هَذَا الْحَذْفُ بِفَائِدَةٍ وَهِيَ صَلُوحِيَّةُ الْبَسْمَلَةِ لِيَبْتَدِئَ بِهَا كُلُّ شَارِعٍ فِي فِعْلٍ فَلَا يَلْجَأُ إِلَى مُخَالَفَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِ، وَالْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ لِأَنَّهُ حَذْفُ مَا قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكَلَامِ، بِخِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِ الظُّرُوفِ الْمُسْتَقِرَّةِ نَحْوَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ الْمُتَعَلِّقَ فَلَا يَقُولُونَ خَيْرٌ كَائِنٌ عِنْدَكَ وَلِذَلِكَ عَدُّوا نَحْوَ قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي مِنَ الْمُسَاوَاةِ دُونَ الْإِيجَازِ يَعْنِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفًا تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ فِي مَوْضِعِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ إِذْ لَا قَصْدَ هُنَا لِإِفَادَةِ الْبَسْمَلَةِ الْحَصْرَ، وَدَعْوَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرَهُ مُؤَخَّرًا تَعَمُّقٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ حَالَةِ الْحَذْفِ، فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى حَسَبِ الْأَصْلِ. وَالْبَاءُ بَاء الملابسة والملابسة، هِيَ الْمُصَاحَبَةُ، وَهِيَ الْإِلْصَاقُ أَيْضًا فَهَذِهِ مُتَرَادِفَاتٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] وَقَوْلِهِمْ: «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَكْثَرُ مَعَانِي الْبَاءِ وَأَشْهَرُهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْإِلْصَاقُ لَا يُفَارِقُ الْبَاءَ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُ مَعَانِيهَا وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «وَهَذَا الْوَجْهُ (أَيِ الْمُلَابَسَةُ) أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ» أَيْ أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْبَاءِ لِلْآلَةِ أَيْ أَدْخَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَحْسَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّبَرُّكِ بِمُلَابَسَةِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لِاسْمِهِ تَعَالَى. وَالِاسْمُ لَفْظٌ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ بِشَخْصِهَا أَوْ نَوْعِهَا، وَجَعَلَهُ أَئِمَّةُ الْبَصْرَةِ مُشْتَقًّا مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الرِّفْعَةُ لِأَنَّهَا تَتَحَقَّقُ فِي إِطْلَاقَاتِ الِاسْمِ وَلَوْ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّ أَصْلَ ¬

(¬1) انْظُر: حَدِيث بِنَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيدة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.

الِاسْمِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْعِلْمُ وَلَا تُوضَعُ الْأَعْلَامُ إِلَّا لِشَيْءٍ مُهْتَمٍّ بِهِ، وَهَذَا اعْتِدَادٌ بِالْأَصْلِ وَالْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدَ تُوضَعُ الْأَعْلَامُ لِغَيْرِ مَا يُهْتَمُّ بِهِ كَمَا قَالُوا فُجَّارٌ عَلَمٌ لِلْفَجَرَةِ. فَأَصْلُ صِيغَتِهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النَّاقِصِ الْوَاوِيِّ فَهُوَ إِمَّا سِمْوٌ بِوَزْنِ حِمْلٍ، أَوْ سُمْوٌ بِوَزْنِ قُفْلٍ فَحُذِفَتِ اللَّامُ حَذْفًا لِمُجَرَّدِ التَّخْفِيفِ أَوْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِذَلِكَ جَرَى الْإِعْرَابُ عَلَى الْحَرْفِ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَتْ لَامَهُ لِعِلَّةٍ صَرْفِيَّةٍ لَكَانَ الْإِعْرَابُ مُقَدَّرًا عَلَى الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ كَمَا فِي نَحْوِ قَاضٍ وَجَوَارٍ، فَلَمَّا جَرَى الْإِعْرَابُ عَلَى الْحَرْفِ الْبَاقِي الَّذِي كَانَ سَاكِنًا نَقَلُوا سُكُونَهُ لِلْمُتَحَرِّكِ وَهُوَ أَوَّلُ الْكَلِمَةِ وَجَلَبُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ إِذِ الْعَرَبُ لَا تَسْتَحْسِنُ الِابْتِدَاءَ بِحَرْفٍ سَاكِنٍ لِابْتِنَاءِ لُغَتِهِمْ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقَدْ قَضَوْا بِاجْتِلَابِ الْهَمْزَةِ وَطَرًا ثَانِيًا مِنَ التَّخْفِيفِ وَهُوَ عَوْدُ الْكَلِمَةِ إِلَى الثُّلَاثِيِّ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَبْقَى بِالْحَذْفِ عَلَى حَرْفَيْنِ كَيَدٍ وَدَمٍ لَا تَخْلُو مِنْ ثِقَلٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ لَمْ تُجْتَلَبْ لِتَعْوِيضِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوف وَإِلَّا لَا جتلبوها فِي يَدٍ وَدَمٍ وَغَدٍ. وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ كَذَلِكَ بِجَمْعِهِ عَلَى أَسْمَاءٍ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، فَظَهَرَتْ فِي آخِرِهِ هَمْزَةٌ وَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ الْمُتَطَرِّفَةِ إِثْرَ أَلِفِ الْجَمْعِ، وَبِأَنَّهُ جُمِعَ عَلَى أَسَامِي وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ بِوَزْنِ أَفَاعِيلَ بِإِدْغَامِ يَاءِ الْجَمْعِ فِي لَامِ الْكَلِمَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا كَمَا فِي أَثَافِي وَأَمَانِي، وَبِأَنَّهُ صُغِّرَ عَلَى سُمَيٍّ. وَأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ سَمَّيْتُ، وَهِيَ حُجَجٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ النَّاقِصِ الْوَاوِيِّ. وَبِأَنَّهُ يُقَالُ سُمًى كَهُدًى لِأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى فِعْلٍ كَرَطُبَ فَتَنْقَلِبُ الْوَاوُ الْمُتَحَرِّكَةُ أَلِفًا إِثْرَ الْفَتْحَةِ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ أَبِي خَالِدٍ الْقَنَانِيِّ الرَّاجِزِ (¬1) : وَاللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبَارَكًا ... آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكَا وَقَالَ ابْنُ يَعِيشَ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ لُغَةً مَنْ قَالَ سُمَ وَالنَّصْبُ فِيهِ نَصْبُ إِعْرَابٍ لَا نَصْبُ الْإِعْلَالِ، وَرَدَّهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِأَنَّ كِتَابَتَهُ بِالْإِمَالَةِ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَعِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الرِّوَايَةُ فَلَعَلَّ الَّذِينَ كَتَبُوهُ بِالْيَاءِ هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوهُ مَقْصُورًا، عَلَى أَنَُُّ ¬

(¬1) القناني- بِفَتْح الْقَاف وَالنُّون مخففا- نِسْبَة إِلَى قنان بن سَلمَة من مذْحج قَالَه شَارِح «الْقَامُوس» وشارح «الشواهد الْكُبْرَى» ، وَلم يذكر ابْن الْأَثِير وَلَا غَيره القنان هَذَا فِي بطُون مذْحج فَلَعَلَّهُ قد دخل بنوه فِي قَبيلَة أُخْرَى، وَلم يُوجد سَلمَة هَذَا وَإِنَّمَا الْمَوْجُود مسلية- بِالْيَاءِ- بِوَزْن مسلمة، وهم بطن من مذْحج دخلُوا فِي بني الْحَارِث بن كَعْب.

قِيَاسَهَا الْكِتَابَةُ بِالْأَلِفِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ وَاوِيٌّ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ عَدَمُ الْتِبَاسِ الْأَلِفِ بِأَلِفِ النَّصْبِ. وَرَأْيُ الْبَصْرِيِّينَ أَرْجَحُ مِنْ نَاحِيَةِ تَصَارِيفِ هَذَا اللَّفْظِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ وِسْمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ لِأَنَّهُ مِنَ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، فَحُذِفَتِ الْوَاوُ وَعُوِّضَتْ عَنْهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِيُبْقَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ ثُمَّ يُتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إِلَى تَخْفِيفِهِ فِي الْوَصْلِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنْ لَا وَجْهَ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ السُّمُوِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِأَشْيَاءَ غَيْرِ سَامِيَةٍ وَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَ الْجَوَابِ، وَرَأْيُ الْكُوفِيِّينَ أَرْجَحُ مِنْ جَانِبِ الِاشْتِقَاقِ دُونَ التَّصْرِيفِ، عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَمْ يُعْهَدْ دُخُولُهَا عَلَى مَا حُذِفَ صَدْرُهُ وَرَدُّوا اسْتِدْلَالَ الْبَصْرِيِّينَ بِتَصَارِيفِهِ بِأَنَّهَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ التَّصَارِيفُ مِنَ الْقَلْبِ الْمَكَانِيِّ بِأَنْ يَكُونَ أَصْلُ اسْمٍ وسم، ثمَّ نقلب الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَجُعِلَتْ لَامًا لِيُتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى حَذْفِهَا وَرُدَّ فِي تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حُذِفَ مِنْهُ لِأَنَّهُ تُنُوسِيَ أَصْلُهُ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَبِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَلْزَمُ الْكَلِمَةَ فِي سَائِرِ تَصَارِيفِهَا وَإِلَّا لَمَا عُرِفَ أَصْلُ تِلْكَ الْكَلِمَةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ التَّصَارِيفَ هِيَ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الزَّائِدُ مِنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُنْقَلِبَ مِنْ غَيْرِهِ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ «الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» أَنَّ كِلَا قَوْلَيِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ فَاسِدٌ افْتَعَلَهُ النُّحَاةُ وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ الْعَرَبِ وَأَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ بَلْ هُوَ جَامِدٌ وَتَطَاوَلَ بِبَذَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ جُرْأَةٌ عَجِيبَةٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: 43] . وَإِنَّمَا أُقْحِمَ لَفْظُ اسْمٍ مُضَافًا إِلَى عَلَمِ الْجَلَالَةِ إِذْ قِيلَ (بِسْمِ اللَّهِ) وَلَمْ يُقَلْ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ من شؤون أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمَوْسُومَةِ بِاسْمِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ فَلِذَلِكَ تُقْحَمُ كَلِمَةُ اسْمٍ فِي كُلِّ مَا كَانَ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى النُّسُكِ قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] وَقَالَ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 119] وَكَالْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّيَمُّنُ وَالتَّبَرُّكُ وَحُصُولُ الْمَعُونَةِ مِثْلَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] فَاسْمُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مُقَارَنَتُهُ لِلْأَفْعَالِ لَا ذَاتُهُ، فَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَمِدُّ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرًا وَتَصَرُّفَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ قُدْرَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالشُّرُوعِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَة: 74] أَمْرٌ بِأَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَوله: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: 26] أَمْرٌ بِتَنْزِيهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ، فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الِاسْمِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ سِمَاتِ الْإِبِلِ عِنْدَ الْقَبَائِلِ، وَبِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ

الْقَبَائِلِ شِعَارَ تَعَارُفِهِمْ (¬1) ، وَاسْتِعْمَالِ الْجُيُوشِ شِعَارَهُمُ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ. وَالْخُلَاصَةُ (¬2) أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ يُقْصَدُ فِيهِ التَّيَمُّنُ وَالِانْتِسَابُ إِلَى الرَّبِّ الْوَاحِدِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ يُعَدَّى فِيهِ الْفِعْلُ إِلَى لَفْظِ اسْمِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] وَفِي الْحَدِيثِ فِي دُعَاءِ الِاضْطِجَاعِ: «بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِاسْمِكَ أَرْفَعُهُ» وَكَذَلِكَ الْمَقَامُ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أَيْ قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَكُلُّ مَقَامٍ يُقْصَدُ فِيهِ طَلَبُ التَّيْسِيرِ وَالْعَوْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُعَدَّى الْفِعْلُ الْمَسْئُولُ إِلَى عَلَمِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ [الْإِنْسَان: 26] وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ بِكَ نُصْبِحُ وَبِكَ نُمْسِي» أَيْ بِقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَكَذَلِكَ الْمَقَامُ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ تَوَجَّهُ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ أَيْ نَزِّهْ ذَاتَهُ وَحَقِيقَتَهُ عَنِ النَّقَائِصِ. فَمَعْنَى (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَقْرَأُ قِرَاءَةً مُلَابِسَةً لِبَرَكَةِ هَذَا الِاسْمِ الْمُبَارَكِ. هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ تَوَسُّعَاتٍ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْمِ مَرَّةً يَعْنُونَ بِهِ مَا يُرَادِفُ الْمُسَمَّى كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: نَبَّئْتُ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... يُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ يَعْنِي أَنَّ السَّفَاهَةَ هِيَ هِيَ لَا تُعَرَّفُ لِلنَّاسِ بِأَكْثَرَ مِنِ اسْمِهَا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْوَاضِحِ الشَّهِيرِ وَيُطْلِقُونَ الِاسْمَ مُقْحَمًا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا يَعْنِي ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِلَفْظِ الِاسْمِ بَلْ يَجِيءُ فِيمَا يُرَادِفُهُ مِثْلَ الْكَلِمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْح: 26] وَكَذَلِكَ «لَفْظٌ» فِي قَوْلِ بَشَّارٍ هَاجِيًا: وَكَذَاكَ، كَانَ أَبُوكَ يُؤْثَرُ بِالْهُنَى ... وَيَظَلُّ فِي لَفْظِ النَّدَى يَتَرَدَّدُ وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كِنَايَةً عَنْ وُجُودِ الْمُسَمَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرَّعْد: 33] وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ أَيْ أَثْبِتُوا وُجُودَهُمْ وَوَضْعَ أَسْمَاءٍ لَهُمْ. فَهَذِهِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى لَيْسَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِي الْبَسْمَلَةِ مِنْ قَبِيلِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ خَلَطَ بِهَا فِيُُ ¬

(¬1) قَالَ النَّابِغَة: مُسْتَشْعِرِينَ قد ألفوا فِي دِيَارهمْ ... دُعَاء سوع ودعميّ وَأَيوب (¬2) وَفِي الْخَبَر «كَانَ شعار الْمُسلمين يَوْم بدر أحد أحد» . [.....]

تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ، ذَكَرْتُهَا هُنَا تَوْضِيحًا لِيَكُونَ نَظَرُكُمْ فِيهَا فَسِيحًا فَشُدُّوا بِهَا يَدًا وَلَا تَتَّبِعُوا طَرَائِقَ قِدَدًا. وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَلْحَظِ تَطْوِيلِ الْبَاءِ فِي رَسْمِ الْبَسْمَلَةِ بِكَلَامٍ كُلُّهُ غَيْرُ مُقْنِعٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا كَتَبُوا الْمُصْحَفَ طَوَّلُوهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا مَبْدَأُ كِتَابِ سُلَيْمَانَ فَهِيَ مِنَ الْمَحْكِيِّ، فَلَمَّا جَعَلُوهَا عَلَامَةً عَلَى فَوَاتِحِ السُّوَرِ نَقَلُوهَا بِرَسْمِهَا، وَتَطْوِيلُ الْبَاءِ فِيهَا صَالِحٌ لِاتِّخَاذِهِ قُدْوَةً فِي ابْتِدَاءِ الْغَرَضِ الْجَدِيدِ مِنَ الْكَلَامِ بِحَرْفٍ غَلِيظٍ أَوْ مُلَوَّنٍ. وَالْكَلَامُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَوَصْفِهِ يَأْتِي فِي تَفْسِير قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: 2، 3] . وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ فِي الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ عَلَمِ الْجَلَالَةِ وَبَيْنَ صِفَتَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ إِنَّ الْمُسَمِّي إِذَا قَصَدَ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمَعْبُودِ الْحَقِّ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مُولِي النِّعَمِ كُلِّهَا جَلِيلِهَا وَدَقِيقِهَا يَذْكُرُ عَلَمَ الذَّاتِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ بِالذَّاتِ، ثُمَّ يَذْكُرُ وَصْفَ الرَّحْمَنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ نِعَمٌ، وَذِكْرُ الرَّحِيمِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي عَطْفِ صِفَةِ الرَّحِيمِ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُحَمَّد عَبْدُه: إِنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَبْتَدِئُونَ أَدْعِيَتَهُمْ وَنَحْوَهَا بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ إِشَارَةً إِلَى الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ، فَجَاءَتْ فَاتِحَةُ كِتَابِ الْإِسْلَامِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ مُوقِظَةً لَهُمْ بِأَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ فَإِنَّمَا هُوَ تَعَدُّدُ الْأَوْصَافِ دُونَ تَعَدُّدِ الْمُسَمَّيَاتِ، يَعْنِي فَهُوَ رد عَلَيْهِم بتغليظ وَتَبْلِيدٍ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ فَوَاتِحَ النَّصَارَى وَأَدْعِيَتَهُمْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ- إِذِ النَّاقِلُ أَمِينٌ- فَهِيَ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ. وَعِنْدِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَ مَا يُرَادِفُهَا قَدْ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ [مَرْيَم: 45] ، وَقَالَ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: 47] وَمَعْنَى الْحَفِيِّ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الرَّحِيمِ. وَحَكَى عَنْهُ قَوْلَهُ: وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: 128] . وَوَرَدَ ذِكْرُ مُرَادِفِهَا فِي كِتَابِ سُلَيْمَانَ إِلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 30، 31] . وَالْمَظْنُونُ أَنَّ سُلَيْمَانَ اقْتَدَى فِي افْتِتَاحِ كِتَابِهِ بِالْبَسْمَلَةِ بِسُنَّةٍ مَوْرُوثَةٍ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي وَارِثِي نُبُوَّتِهِ، وَأَن الله أَحيَاء هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الْإِسْلَامِ فِي جُمْلَةِ مَا أَوْحَى لَهُ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الْحَج

: 78] . [2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ. الشَّأْنُ فِي الْخِطَابِ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ لَمْ يَسْبِقْ لِلْمُخَاطَبِ بِهِ خِطَابٌ مِنْ نَوْعِهِ أَنْ يُسْتَأْنَسَ لَهُ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْمَقْصُودِ وَأَنْ يُهَيَّأَ لِتَلَقِّيهِ، وَأَنْ يُشَوَّقَ إِلَى سَمَاعِ ذَلِكَ وَتُرَاضُ نَفْسُهُ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْعَمَلِ بِهِ لِيَسْتَعِدَّ لِلتَّلَقِّي بِالتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَائِقًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْهُدَى مِنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ أَوِ امْتِلَاءِ الْعَقْلِ بِالْأَوْهَامِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَكَادُ تَنْتَفِعُ بِالْعِظَاتِ وَالنُّذُرِ، وَلَا تُشْرِقُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَصِحَّةُ النَّظَرِ مَا بَقِيَ يُخَالِجُهَا الْعِنَادُ وَالْبُهْتَانُ، وَتُخَامِرُ رُشْدَهَا نَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ أُولَى سُوَرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ بِتَوْقِيفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى قُرَّاءَ كِتَابِهِ وَفَاتِحِي مُصْحَفِهِ إِلَى أُصُولِ هَذِهِ التَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ بِمَا لَقَّنَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِالْمُنَاجَاةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ أُصُولًا عَظِيمَةً: أَوَّلُهَا التَّخْلِيَةُ عَنِ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ بِمَا تَضَمَّنَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. الثَّانِي التَّخَلِّي عَنْ خَوَاطِرِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ تِجَاهَ عَظَمَتِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الثَّالِثُ الرَّغْبَةُ فِي التَّحَلِّي بِالرُّشْدِ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا تَضَمَّنَهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. الرَّابِعُ الرَّغْبَةُ فِي التَّحَلِّي بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. الْخَامِسُ التَّهَمُّمُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الضَّلَالِ الصَّرِيحِ بِمَا تَضَمَّنَهُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. السَّادِسُ التَّهَمُّمُ بِسَلَامَةِ تَفْكِيرِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِشُبُهَاتِ الْبَاطِلِ الْمُمَوَّهِ بِصُورَةِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ بِمَا تَضَمَّنَهُ وَلَا الضَّالِّينَ. وَأَنْتَ إِذَا افْتَقَدْتَ أُصُولَ نَجَاحِ الْمُرْشِدِ فِي إِرْشَادِهِ وَالْمُسْتَرْشِدِ فِي تَلَقِّيهِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَفَارِيعِهَا وَجَدْتَهَا عَاكِفَةً حَوْلَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ السِّتَّةِ فَكُنْ فِي اسْتِقْصَائِهَا لَبِيبًا. وَعَسَى أَنْ أَزِيدَكَ مِنْ تَفْصِيلِهَا قَرِيبًا. وَإِنَّ الَّذِي لَقَّنَ أَهْلَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ جِمَاعُ طَرَائِقِ الرُّشْدِ بِوَجْهٍ لَا يُحِيطُ بِهِ غَيْرُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ لَمْ يُهْمِلْ إِرْشَادَهُمْ إِلَى التَّحَلِّي بِزِينَةِ الْفَضَائِلِ وَهِيَ أَنْ يُقَدِّرُوا النِّعْمَةَ حَقَّ قَدْرِهَا بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا فَأَرَاهُمْ كَيْفَ يُتَوِّجُونَ مُنَاجَاتِهِمْ بِحَمْدِ وَاهِبِ الْعَقْلِ وَمَانِحِ التَّوْفِيقِ، وَلِذَلِكَ كَانَ افْتِتَاحُ كُلِّ كَلَامٍ مُهِمٍّ بِالتَّحْمِيدِ سُنَّةَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ.

فَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ بِمَا تَقَرَّرَ مُنَزَّلَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ أَوِ الْمُقَدِّمَةِ لِلْخُطْبَةِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي صِنَاعَةِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ أَعْوَنُ لِلْفَهْمِ وَأَدْعَى لِلْوَعْيِ. وَقَدْ رَسَمَ أُسْلُوبَ الْفَاتِحَةِ لِلْمُنْشِئِينَ ثَلَاثَ قَوَاعِدَ لِلْمُقَدِّمَةِ: الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى إِيجَازُ الْمُقَدِّمَةِ لِئَلَّا تَمَلَّ نُفُوسُ السَّامِعِينَ بِطُولِ انْتِظَارِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْفَاتِحَةِ، وَلِيَكُونَ سُنَّةً لِلْخُطَبَاءِ فَلَا يُطِيلُوا الْمُقَدِّمَةَ كَيْ لَا يُنْسَبُوا إِلَى الْعَيِّ فَإِنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا تُطَالُ الْمُقَدِّمَةُ يَقْصُرُ الْغَرَضُ، وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ وَضْعِهَا قَبْلَ السُّوَرِ الطِّوَالِ مَعَ أَنَّهَا سُورَةٌ قَصِيرَةٌ. الثَّانِيَةُ أَنْ تُشِيرَ إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بَرَاعَةَ الِاسْتِهْلَالِ لِأَن ذَلِك يهيىء السَّامِعِينَ لِسَمَاعِ تَفْصِيلِ مَا سَيَرِدُ عَلَيْهِمْ فَيَتَأَهَّبُوا لِتَلَقِّيهِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ التَّلَقِّي فَحَسْبُ، أَوْ لِنَقْدِهِ وَإِكْمَالِهِ إِنْ كَانُوا فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَطِيبِ مِنَ الْغَرَضِ وَثِقَتِهِ بِسَدَادِ رَأْيِهِ فِيهِ بِحَيْثُ يُنَبِّهُ السَّامِعِينَ لِوَعْيِهِ، وَفِيهِ سُنَّةٌ لِلْخُطَبَاءِ لِيُحِيطُوا بِأَغْرَاضِ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ. الثَّالِثَةُ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَةُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ عِنْدَ ذِكْرِهِمُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَتَأَنَّقَ فِيهَا. الرَّابِعُ أَنْ تُفْتَتَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ. إِنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ وَتِبْيَانًا لِلْأَحْكَامِ الَّتِي بِهَا إِصْلَاحُ النَّاسِ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِنُفُوسِ الْأُمَّةِ اعْتِيَادٌ بِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُهَيَّأَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا إِلَى تَلَقِّيهَا وَيُعْرَفُ تَهَيُّؤُهَمْ بِإِظْهَارِهِمُ اسْتِعْدَادَ النُّفُوسِ بِالتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُوقَ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَاتِهِ التَّعَالِيمِ النَّافِعَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجَرِّدُوا نُفُوسَهُمْ عَنِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ وَعَنْ خَلْطِ مَعَارِفِهِمْ بِالْأَغْلَاطِ الْفَاقِرَةِ، فَلَا مَنَاصَ لَهَا قَبْلَ اسْتِقْبَالِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ وَالنَّظَرِ مِنَ الِاتِّسَامِ بِمَيْسِمِ الْفَضِيلَةِ وَالتَّخْلِيَةِ عَنِ السَّفَاسِفِ الرَّذِيلَةِ. فَالْفَاتِحَةُ تَضَمَّنَتْ مُنَاجَاةً لِلْخَالِقِ جَامِعَةً التَّنَزُّهَ عَنِ التَّعْطِيلِ وَالْإِلْحَادِ وَالدَّهْرِيَّةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنِ الْإِشْرَاكِ بِمَا تَضَمَّنَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَعَنِ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ بِمَا تَضَمَّنَهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ طَلَبَ الْهِدَايَةِ اعْتِرَافٌ بِالِاحْتِيَاجِ إِلَى الْعِلْمِ، وَوَصْفُ الصِّرَاطِ بِالْمُسْتَقِيمِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَقٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَشُوبٌ بِشُبَهٍ وَغَلَطٍ، وَمَنِ اعْتَرَفَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ لِاتِّبَاعِ أَحْسَنِهِمَا، وَعَنِ الضَّلَالَاتِ الَّتِي تَعْتَرِي الْعُلُومَ الصَّحِيحَةَ وَالشَّرَائِعَ الْحَقَّةَ فَتَذْهَبُ بِفَائِدَتِهَا

وَتُنْزِلُ صَاحِبَهَا إِلَى دَرَكَةٍ أَقَلَّ مِمَّا وَقَفَ عِنْدَهُ الْجَاهِلُ الْبَسِيطُ، وَذَلِكَ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ كَمَا أَجْمَلْنَاهُ قَرِيبًا، وَلِأَجْلِ هَذَا سُمِّيَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا لُقِّنَ الْمُؤْمِنُونَ هَاتِهِ الْمُنَاجَاةَ الْبَدِيعَةَ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهَا فِي كَلَامِهِ غَيْرُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ سُبْحَانَهُ قَدَّمَ الْحَمْدَ عَلَيْهَا لِيَضَعَهُ الْمُنَاجُونَ كَذَلِكَ فِي مُنَاجَاتِهِمْ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ الْعُظَمَاءِ أَنْ يَفْتَتِحُوا خِطَابَهُمْ إِيَّاهُمْ وَطِلْبَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ. قَالَ أُمَيَّةُ ابْن أَبِي الصَّلْتِ يَمْدَحُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ فَكَانَ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالتَّحْمِيدِ سُنَّةَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ لِكُلِّ بَلِيغٍ مُجِيدٍ، فَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَوْمِئِذٍ يُلَقِّبُونَ كُلَّ كَلَامِ نَفِيسٍ لَمْ يَشْتَمِلْ فِي طَالِعِهِ عَلَى الْحَمْدِ بِالْأَبْتَرِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ أَمْرِ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَقْطَعُ» (¬1) . وَقَدْ لُقِّبَتْ خُطْبَةُ زِيَادِ ابْن أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي خَطَبَهَا بِالْبَصْرَةِ بِالْبَتْرَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَتِحْهَا بِالْحَمْدِ، وَكَانَتْ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ لِذَلِكَ مُنَزَّلَةً مِنَ الْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ أَوِ الْمُقَدِّمَةِ لِلْخُطْبَةِ، وَلِذَلِكَ شَأْنٌ مُهِمٌّ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمُقَدِّمَةِ بَيْنَ يَدي الْمَقْصُود أَعُود لِلْأَفْهَامِ وأدعى لوعيها. و (الْحَمد) هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ أَيِ الْوَصْفُ الْجَمِيلُ الِاخْتِيَارِيُّ فِعْلًا كَانَ كَالْكَرَمِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ أَمْ غَيْرِهِ كَالشَّجَاعَةِ. وَقَدْ جَعَلُوا الثَّنَاءَ جِنْسًا لِلْحَمْدِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ضِدَّهُ. فَالثَّنَاءُ الذِّكْرُ بِخَيْرٍ مُطْلَقًا وَشَذَّ مَنْ قَالَ يُسْتَعْمَلُ الثَّنَاءُ فِي الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَلَوْ بِشَرٍّ، وَنَسَبَا إِلَى ابْنِ الْقَطَّاعِ (¬2) وَغَرَّهُ فِي ذَلِك مَا رَود فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ وَالتَّعْرِيضُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا فِي مُسْلِمٍ فَلْيَتَكَلَّمْ بِثَنَاءٍ أَوْ لِيَدَعْ، فَسَمَّى ذِكْرَهُمْ بِالشَّرِّ ثَنَاءًُُ ¬

(¬1) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الأول، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الثَّانِي وَهُوَ حَدِيث حسن. (¬2) هُوَ عَليّ بن جَعْفَر السَّعْدِيّ بن سعد بن مَالك من بني تَمِيم الصّقليّ، ولد بصقلية سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، ورحل إِلَى الْقَاهِرَة وَتُوفِّي بهَا سنة خمس عشرَة وَقيل أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة.

تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُوَ النِّثَاءُ بِتَقْدِيمِ النُّونِ وَهُوَ فِي الشَّرِّ أَكْثَرُ كَمَا قِيلَ. وَأَمَّا الْمَدْحُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْوَصْفِ الِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْحَمْدُ وَالْمَدْحُ أَخَوَانِ فَقِيلَ أَرَادَ أَخَوَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ نَحْوَ جَبَذَ وَجَذَبَ، وَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ لَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي مَعْنَى أُخُوَّةٍ اللَّفْظَيْنِ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَدْحَ يُطْلَقُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ، لَكِنَّ هَذَا فَهْمٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْأُخُوَّةِ هُنَا التَّرَادُفَ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ وَلِأَنَّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ فِي «الْفَائِقِ» : «الْحَمْدِ هُوَ الْمَدْحُ وَالْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ» وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الذَّمَّ نَقِيضًا لِلْحَمْدِ إِذْ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَالْحَمْدُ نَقِيضُهُ الذَّمُّ» مَعَ شُيُوعِ كَوْنِ الذَّمِّ نَقِيضًا لِلْمَدْحِ، وَعُرْفُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ أَنْ يُرِيدُوا مِنَ النَّقِيضِ الْمُقَابِلَ لَا مَا يُسَاوِي النَّقِيضَ حَتَّى يُجَابَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ النَّقِيضِ مَا لَا يُجَامِعُ الْمَعْنَى وَالذَّمُّ لَا يُجَامِعُ الْحَمْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ رَفْعَ مَعْنَى الْحَمْدِ بَلْ رَفْعَ مَعْنَى الْمَدْحِ إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ وَهُوَ الْمَدْحُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ وَهُوَ الْحَمْدُ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ، يَعْنِي وَإِنِ اغْتُفِرَ مِثْلُهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمًّا عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ لِأَنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّبْطِ وَالتَّدْقِيقِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مُرَادِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مِنْ تَرَادُفِهِمَا هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي تَقْيِيد هما بِالثَّنَاءِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ؟ أَوْ مُتَرَادِفَانِ فِي عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِالِاخْتِيَارِيِّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ حَمَلَهُ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سَعْدِ الدِّينِ. وَاسْتَدَلَّ السَّيِّدُ بِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات: 7] إِذْ قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَمْدَحُ بِالْجَمَالِ وَحُسْنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ مَدْحٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ النَّاسِ، قُلْتُ الَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ رَأَوْا حُسْنَ الرِّوَاءِ وَوَسَامَةَ الْمَنْظَرِ فِي الْغَالِبِ يُسْفِرُ عَنْ مَخْبَرٍ مُرْضٍ وَأَخْلَاقٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَنَّ مِنْ مُحَقِّقَةِ الثِّقَاتِ وَعُلَمَاءِ الْمَعَانِي مَنْ دَفَعَ صِحَّةَ ذَلِكَ وَخَطَّأَ الْمَادِحَ بِهِ وَقَصَرَ الْمَدْحَ عَلَى النَّعْتِ بِأُمَّهَاتِ الْخَيْرِ وَهِيَ كَالْفَصَاحَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ وَمَا يَتَشَعَّبُ عَنْهَا» اهـ. وَعَلَى الْمَحْمَلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ مِنَ التَّرَادُفِ إِلْغَاءَ قَيْدِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي كِلَيْهِمَا حَمَلَهُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّلَكُوتِيُّ فِي «حَوَاشِي التَّفْسِيرِ» فَرْضًا أَوْ نَقْلًا لَا تَرْجِيحًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي «الْكَشَّاف» و «الْفَائِق» إِذْ أَلْغَى قَيْدَ الِاخْتِيَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمَدْحِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْجَمِيلِ وَجَعَلَهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُتَرَادِفَيْنِ.

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ حَمْدِنَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَ انْدِفَاعُهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا ظَاهِرًا فَإِنَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُحْمَدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ فَلَا تُوصَفُ بِالِاخْتِيَارِ إِذِ الِاخْتِيَارُ يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الِاتِّصَافِ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ إِمَّا بِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِاسْتِقْلَالِ مَوْصُوفِهَا، وَإِمَّا بِأَنْ تَرَتُّبَ الْآثَارِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَيْهَا يَجْعَلُهَا كَالِاخْتِيَارِيَّةِ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِيَارِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمُودُ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ اخْتِيَارِيًّا. وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ أَنْ نَقُولَ إِنَّ شَرْطَ الِاخْتِيَارِيِّ فِي حَقِيقَةِ الْحَمْدِ عِنْدَ مُثْبِتِهِ لِإِخْرَاجِ الصِّفَاتِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِأَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ فِينَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إِذْ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْآثَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَمْدِ، فَكَانَ شَرْطُ الِاخْتِيَارِ فِي حَمْدِنَا زِيَادَةً فِي تَحَقُّقِ كَمَالِ الْمَحْمُودِ، أَمَّا عَدَمُ الِاخْتِيَارِ الْمُخْتَصِّ بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهِ وَلَكِنَّهُ كَمَالٌ نَشَأَ مِنْ وُجُوبِ الصِّفَةِ لِلذَّاتِ لِقِدَمِ الصِّفَةِ فَعَدَمُ الِاخْتِيَارِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى زِيَادَةٌ فِي الْكَمَالِ لِأَنَّ أَمْثَالَ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِينَا لَا تَكُونُ وَاجِبَةً لِلذَّاتِ مُلَازِمَةً لَهَا فَكَانَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْكَمَالِ وَفِينَا دَلِيلًا عَلَى النَّقْصِ، وَمَا كَانَ نَقْصًا فِينَا بِاعْتِبَارِ مَا قَدْ يَكُونُ كَمَالًا لِلَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مِثْلَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَجْوِبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّنْزِيلِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَوْصُوفِ، عَلَى أَنَّ تَوْجِيهَ الثَّنَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَادَّةِ (حَمِدَ) هُوَ أَقْصَى مَا تُسَمَّى بِهِ اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَدَاءِ الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ لَدَى أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ، فَلَمَّا طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْمَدَارِكُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ عَبَّرَ لَهُمْ عَنْهَا بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ. (الْحَمْدُ) مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَرْوِيَّةِ وَقَوْلُهُ (لِلَّهِ) خَبَرُهُ فَلَامُ (لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ الْعَامِّ كَسَائِرِ الْمَجْرُورَاتِ الْمُخْبَرِ بِهَا وَهُوَ هُنَا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي أَتَتْ بَدَلًا عَنْ أَفْعَالِهَا فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَأَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّهُ بُدِّلَ مِنْ فِعْلِهِ وَتَقْدِيرِ الْكَلَامِ نَحْمَدُ حَمْدًا لِلَّهِ، فَلِذَلِكَ الْتَزَمُوا حَذْفَ أَفْعَالِهَا مَعَهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ هَذَا بَابُ مَا يُنْصَبُ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ وَذَلِكَ قَوْلُكُ سَقْيًا وَرَعْيًا وَخَيْبَةً وَبُؤْسًا، وَالْحَذَرَ بَدَلًا عَنِ احْذَرْ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سَقْيًا لَكَ نَحْوَ: سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي فَإِنَّمَا هُوَ لِيُبَيِّنُوا الْمَعْنَى بِالدُّعَاءِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ: هَذَا بَابُ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إِظْهَارُهُ مِنَ الْمَصَادِرِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكُ حَمْدًا

وَشُكْرًا لَا كُفْرًا وَعَجَبًا، فَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ كَأَنَّكَ قُلْتَ أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا وَإِنَّمَا اخْتُزِلَ الْفِعْلُ هَاهُنَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ هَذَا رَفْعًا يُبْتَدَأُ بِهِ ثُمَّ يُبْنَى عَلَيْهِ (أَيْ يُخْبَرُ عَنْهُ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَابٍ آخَرَ: هَذَا بَابٌ يُخْتَارُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصَادِرُ مُبْتَدَأَةً مَبْنِيًّا عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْعَجَبُ لَكَ، وَالْوَيْلُ لَهُ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبُّوا الرَّفْعَ فِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرِفَةً وَهُوَ خَبَرٌ (أَيْ غَيْرُ إِنْشَاءٍ) فَقَوِيَ فِي الِابْتِدَاءِ (أَيْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَبَرًا لَا دُعَاءً وَكَانَ مَعْرِفَةً بِأَلْ تَهَيَّأَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي معنى الْإِخْبَار يهّيىء جَانِبَ الْمَعْنَى لِلْخَبَرِيَّةِ وَكَوْنَهَ مَعْرِفَةً يُصَحِّحُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً) بِمَنْزِلَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالرَّجُلِ، وَالَّذِي تَعْلَمُ (مِنَ الْمَعَارِفِ) لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ وَأَحْسَنُهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعْرِفَةٌ وَنَكِرَةٌ أَن تبدأ بالأعرف وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ. وَلَيْسَ كُلُّ حَرْفٍ (أَيْ تَرْكِيبٍ) يُصْنَعُ بِهِ ذَاكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَرْفٍ (أَيْ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَصَادِرِ) يَدْخُلُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَوْ قُلْتَ السَّقْيَ لَكَ وَالرَّعْيَ لَكَ لَمْ يَجُزْ (يَعْنِي يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنِ ابْتَدَأْتَهُ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْصُوبِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِقَوْلِكَ أَحْمَدُ اللَّهَ. وَسَمِعْنَا نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ كَثِيرًا يَقُولُونَ: التُّرَابَ لَكَ وَالْعَجَبَ لَكَ، فَتَفْسِيرُ نَصْبِ هَذَا كَتَفْسِيرِهِ حَيْثُ كَانَ نَكِرَةً، كَأَنَّكَ قُلْتُ حَمْدًا وَعَجَبًا، ثمَّ جِئْت بلك لِتُبَيِّنَ مَنْ تَعْنِي وَلَمْ تَجْعَلْهُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَتَبْتَدِئَهُ» . انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ بِاخْتِصَارٍ. وَإِنَّمَا جَلَبْنَاهُ هُنَا لِأَنَّهُ أَفْصَحُ كَلَامٍ عَنْ أَطْوَارِ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَأَصْلُهُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَنْصِبُهَا الْعَرَبُ بِأَفْعَالٍ مُضْمَرَةٍ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ كَقَوْلِهِمْ شُكْرًا، وَكُفْرًا، وَعَجَبًا، يُنْزِلُونَهَا مَنْزِلَةَ أَفْعَالِهَا وَيَسُدُّونَ بِهَا مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا مَعَهَا وَالْعُدُولُ بِهَا عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى» إِلَخْ. وَمِنْ شَأْنِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا وَهُمْ يَرْمُونَ إِلَى غَرَضٍ عَدَلُوا لِأَجْلِهِ، وَالْعُدُولُ عَنِ النَّصْبِ هُنَا إِلَى الرَّفْعِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِمَصِيرِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ فِي الْمَقَامِ مِنْ أَلِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّقْدِيمِ. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِمُمْكِنِ الِاسْتِفَادَةِ لَوْ بَقِيَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا إِذِ النَّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَالْمُقَدَّرُ كَالْمَلْفُوظِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً إِذِ الِاسْمُ فِيهَا نَائِبٌ

عَنِ الْفِعْلِ فَهُوَ يُنَادِي عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ فَلَا يَحْصُلُ الدَّوَامُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَهُ اعْتِبَارُ التَّقْدِيمِ فَلَا يَحْصُلُ الِاهْتِمَامُ. وَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ اجْتِمَاعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعَ النصب كَمَا قرىء بِذَلِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى عُمُومِ الْمَحَامِدِ لِأَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ أَحْمَدُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَعُمُّ إِلَّا تَحْمِيدَاتِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ تَحْمِيدَاتِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ نَحْمَدُ وَأُرِيدَ بِالنُّونِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَبِقَرِينَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَإِنَّمَا يَعُمُّ مَحَامِدَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَحَامِدَ الْمُوَحِّدِينَ كُلِّهِمْ، كَيْفَ وَقَدْ حَمِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ اللَّهَ تَعَالَى وَحَمِدَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ ... فَلَيْسَ إِحْسَانُهُ عَنَّا بِمَقْطُوعِ أَمَّا إِذَا صَارَ الْحَمْدُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى فِعْلٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْحَمْدِ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ لِلَّهِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَمْدٍ كَمَا سَيَأْتِي. فَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَمْدَ يُخْبِرُ أَنَّ الْحَمْدَ مِنْهُ وَمِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَالَّذِي يَنْصِبُ يُخْبِرُ أَنَّ الْحَمْدَ مِنْهُ وَحْدَهُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ وَإِنْ كَانَتْ شَاذَّةً إِلَّا أَنَّهَا مُجْدِيَةٌ هُنَا لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اعْتِبَارٍ عَرَبِيٍّ فِي تَطَوُّرِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمَشْهُورِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ نَطَقُوا بِهِ فِي حَالِ التَّعْرِيفِ وَلَمْ يَنْسَوْا أَصْلَ الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَقَدْ بَانَ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ، وَأَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ وَالتَّعْرِيفِ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدًا لِلَّهِ بِالتَّنْكِيرِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ أَبْلَغَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «إِنَّ الْعُدُولَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى وَاسْتِقْرَارِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] رَفْعُ السَّلَامِ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمُ» اهـ. فَإِنْ قُلْتَ وَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِالْحَمْدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَهَمُّ فَكَانَ الشَّأْنُ تَقْدِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْقَاءَ الْحَمْدِ غَيْرَ مُهْتَمٍّ بِهِ حَتَّى لَا يَلْجَأَ إِلَى تَغْيِيرِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ، قُلْتُ قُدِّمَ الْحَمْدُ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ الْحَمْدِ إِذْ هُوَ ابْتِدَاءُ أَوْلَى النِّعَمِ بِالْحَمْدِ وَهِيَ نِعْمَةُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ نَجَاحُ الدَّارَيْنِ، فَتِلْكَ الْمِنَّةُ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَمَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَالْغَايَةِ فَكَانَ خُطُورُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَمَاعِ إِنْزَالِهِ وَابْتِدَاءِ تِلَاوَتِهِ مُذَكِّرًا بِمَا لِمُنْزِلِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِوُجُوبِ حَمْدِهِ وَأَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْحَمْدِ لَا مَحَالَةَ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ وَأُزِيلُ عَنْهُ مَا يُؤْذِنُ بِتَأَخُّرِهِ لِمُنَافَاتِهُُِ

الِاهْتِمَامَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ تَأَتَّى بِهِ اعْتِبَارُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِهِ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى اعْتِدَادًا بِأَهَمِّيَّةِ الْحَمْدِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَقَامِ وَإِنْ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَالْحَالُ وَالْآخَرُ يَقْتَضِيهِ الْوَاقِعُ، وَالْبَلَاغَةُ هِيَ الْمُطَابَقَةُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ الِاهْتِمَامُ بِهِ لِعَارِضٍ هُوَ الْمُحْتَاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَارِضِهِ إِذْ قَدْ يَخْفَى، بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بَلْ وَلَا يُفِيتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ يَصِحُّ كَوْنُ تَقْدِيمِ الْحَمْدِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مُؤْذِنًا بِالِاهْتِمَامِ مَعَ أَنَّهُ الْأَصْلُ، وَشَأْنُ التَّقْدِيمِ الْمُفِيدِ لِلِاهْتِمَامِ هُوَ تَقْدِيمُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرِ؟ قُلْتُ لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى تَقْدِيمِهِ هُوَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِلْإِتْيَانِ بِهِ مُقَدَّمًا مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ مُؤَخَّرًا لِأَنَّ لِلْبُلَغَاءِ صِيغَتَيْنِ مُتَعَارَفَتَيْنِ فِي حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْدَاهُمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا فِي الْفَاتِحَة وَالْأُخْرَى فَلِلَّهِ كَمَا فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [36] . وَأَمَّا قَصْدُ الْعُمُومِ فَسَيَتَّضِحُ عِنْدَ بَيَانِ مَعْنَى التَّعْرِيفِ فِيهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا فِي الْأَصْلِ عِوَضٌ عَنِ الْفِعْلِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الدَّالُّ عَلَى الْفِعْلِ وَالسَّادُّ مَسَدَّهُ دَالًّا عَلَى الْجِنْسِ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّامُ فَهُوَ لِتَعْرِيفِ مَدْلُولِهِ لِأَنَّ اللَّامَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْرِيفِ لِلْمُسَمَّى فَإِذَا كَانَ الْمُسَمَّى جِنْسًا فَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ. وَمَعْنَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوِ الْعَجَبُ لَكَ فَكَأَنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مَعْرُوفٌ لَدَيْكَ وَلَدَى مُخَاطَبِكَ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ الرَّجُلُ وَأَرَدْتَ مُعَيَّنًا فِي تَعْرِيفِ الْعَهْدِ النَّحْوِيِّ فَإِنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُخَاطَبِكَ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لَيْسَ مَعَهُ كَبِيرُ مَعْنًى إِذْ تَعَيُّنُ الْجِنْسِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ حَاصِلٌ بِذِكْرِ لَفْظَهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ لُغَةً وَهُوَ كَافٍ فِي عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ بِمُشَارِكٍ لَهُ فِي اللَّفْظِ وَلَا مُتَوَهَّمٍ دُخُولُهُ مَعَهُ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُخَاطَبِكَ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الَّتِي يَشْمَلُهَا اللَّفْظُ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْرِيفُ أَعْنِي تَعْرِيفَ الْجِنْسِ إِلَّا تَوْكِيدَ اللَّفْظِ وَتَقْرِيرَهُ وَإِيضَاحَهُ لِلسَّامِعِ لِأَنَّكَ

لَمَّا جَعَلْتَهُ مَعْهُودًا فَقَدْ دَلَلْتَ عَلَى أَنَّهُ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي الِاعْتِنَاءَ بِالْجِنْسِ وَتَقْرِيبِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : «وَهُوَ نَحْوُ التَّعْرِيفِ فِي أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ» (¬1) وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّ الْحَمْدَ مَا هُوَ وَالْعِرَاكَ مَا هُوَ مِنْ بَيْنِ أَجْنَاسِ الْأَفْعَالِ» وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَلَيْسَتْ لَامُ التَّعْرِيفِ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّهَا لَامُ الْجِنْسِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «وَالِاسْتِغْرَاقُ الَّذِي تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهْمٌ مِنْهُمْ» غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ حَاصِلٌ هُنَا بِالْمِثَالِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِاخْتِصَاصِ جِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ تَعَالَى لِوُجُودِ لَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ وَلَامِ الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ يَسْتَلْزِمُ انْحِصَارَ أَفْرَادِ الْحَمْدِ فِي التَّعَلُّقِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِذَا اخْتَصَّ الْجِنْسُ اخْتَصَّتِ الْأَفْرَادُ إِذْ لَوْ تَحَقَّقَ فَرَدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَمْدِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَتَحَقَّقَ الْجِنْسُ فِي ضِمْنِهِ فَلَا يَتِمُّ مَعْنَى اخْتِصَاصِ الْجِنْسِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَامِ الِاخْتِصَاصِ الدَّاخِلَةِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، ثُمَّ هَذَا الِاخْتِصَاصُ اخْتِصَاصٌ ادِّعَائِيٌّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ عَلَى أَنَّهُ اخْتِصَاصٌ ادِّعَائِيٌّ كَمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامَ التَّقْوِيَةِ قُوَّتْ تَعَلُّقَ الْعَامِلِ بِالْمَفْعُولِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ بِالْفَرْعِيَّةِ وَزَادَهُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ ضَعْفًا لِأَنَّهُ أَبْعَدَ شَبَهَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ. هَذَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ جُمْلَةَ (الْحَمْدِ) هَلْ هِيَ خَبَرٌ أَوْ إِنْشَاءٌ؟ فَإِنَّ لِذَلِكَ مَزِيدَ تَعَلُّقٍ بِالتَّفْسِيرِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الْمَعْنَى بِقَوْلِ الْقَائِلِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) . وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْشَاءَ قَدْ يَحْصُلُ بِنَقْلِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْخَبَرِيَّةِ إِلَى الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِثْلَ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالرَّجَاءِ كَعَسَى وَنِعْمَ وَبِئْسَ وَهَذَا الْأَخِيرُ قِسْمَانِ مِنْهُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِنْشَاءِ مَعَ بَقَاءِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَبَرِ وَمِنْهُ مَا خُصَّ بِالْإِنْشَاءِ فَالْأَوَّلُ كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ أَخْبَارًا تَقُولُ بِعْتُ الدَّارَ لِزَيْدٍ الَّتِي أَخْبَرْتُكَ بِأَنَّهُ سَاوَمَنِي إِيَّاهَا ¬

(¬1) إِشَارَة إِلَى بَيت لبيد: فأرسلها العراك وَلم يذدها ... وَلم يشفق على نغص الدّخال يصف حمَار وَحش. وَالضَّمِير الْمُؤَنَّث للأتن، أَي أطلقها الْحمار أَمَامه إِلَى المَاء فَانْطَلَقت متزاحمة. والنغص: الكمد. والدخال: دُخُول الدَّابَّة بَين الدَّوَابّ لتشرب.

فَهَذَا خَبَرٌ، وَتَقُولُ بِعْتُ الدَّارَ لِزَيْدٍ أَوْ بِعْتُكَ الدَّارَ بِكَذَا فَهَذَا إِنْشَاءٌ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ جَاءَ لِلْإِشْهَادِ أَوْ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ الْخَبَرِ لِلْمُخَاطَبِ مَعَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَالثَّانِي كَنِعْمَ وَعَسَى. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هَلْ هِيَ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ هِيَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ إِلَى مَذْهَبَيْنِ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّهَا خَبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَبَرٌ بَاقٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالْإِنْشَائِيَّةِ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَا يَكُونُ حَامِدًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ أَنَّهُ يُثْنِي وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَبَرَ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْجَمِيلِ إِذِ الْحَمْدُ هُوَ عَيْنُ الْوَصْفِ بِالْجَمِيلِ، وَيَكْفِي أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْوَصْفُ مِنَ النَّاسِ وَيَنْقُلَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُخْبِرَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خَبَرِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ كَوْنَ الْمُتَكَلِّمِ حَامِدًا قَدْ يَحْصُلُ بِالِالْتِزَامِ مِنَ الْخَبَرِ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَازِمٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَضَافَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ عَلِمَهُ، فَإِخْبَارُ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى أَنَّهُ مُقْتَدٍ بِهِمْ فِي ذَلِكَ هَذَا وَجْهُ اللُّزُومِ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ أَيْ فَيَكُونُ مِثْلَ حُصُولِ لَازِمِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْخَبَرِ الْمُقَرَّرَةٍ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، مِثْلَ قَوْلِكَ سَهِرْتَ اللَّيْلَةَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّكَ عَلِمْتَ بِسَهَرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِنْشَاءٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِهِ حَامِدًا كَمَا يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِ جَمِيعِ النَّاسِ حَامِدِينَ فَهِيَ خَبَرٌ لَا إِنْشَاءٌ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْهَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ مَعْنًى إِخْبَارِيٌّ أَيْضًا. وَيُرَدُّ على هَذَا التَّقْرِير أَيْضًا أَنَّ حَمْدَ الْمُتَكَلِّمِ يَصِيرُ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ بَلْ حَاصِلًا بِالتَّبَعِ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ حَمْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا حَمْدِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُطَابَقِيَّ قَدْ يُؤْتَى بِهِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ طَوِيلُ النَّجَادِ وَالْمُرَادُ طُولُ الْقَامَةِ فَإِنَّ طُولَ النَّجَادِ أَتَى بِهِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى طُولِ الْقَامَةِ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَانٍ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هِيَ خَبَرٌ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ مَعَ اعْتِبَارِ الْخَبَرِيَّةِ كَمَا يُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِنْشَاءُ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ فِي نَحْوِ: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: 36] وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِيِّنَ مُصْعِدُ فَيَكُونُ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَلَكِنَّ الْعُدُولَ إِلَى الْإِخْبَارِ لِمَا يَتَأَتَّى بِوَاسِطَةِ الْإِخْبَارِ مِنَ الدّلَالَة على استغراق وَالِاخْتِصَاصِ وَالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَوَجْهُ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حَمْدِ النَّاسِ وَبَيْنَ إِنْشَاءِ الْحَمْدِ وَاضِحٌ مِمَّا عَلِمْتَهُ فِي وَجْهِ التَّلَازُمِ عَلَى التَّقْرِيرِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ هُنَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ حَمْدِ النَّاسِ

لِلَّهِ تَعَالَى لَا جرم أَنه منشىء ثَنَاء عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَكَوْنُ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ فِي الْكِنَايَةِ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمَعْنَى الْمُطَابَقِيِّ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي اعْتِبَارِ الْخَبَرِيَّةِ الْمَحْضَةِ لِمَا عُهِدَ فِي الْكِنَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْأَصْلِ مَعَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ إِمَّا غَيْرُ مُرَادٍ أَوْ مُرَادٌ تَبَعًا لِأَنَّ مَعَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَتْبُوعِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِنْشَاءٌ مَحْضٌ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْخَبَرِيَّةِ، عَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي نَقَلَتْهَا الْعَرَبُ مِنَ الْإِخْبَارِ إِلَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ كَمَا نَقَلَتْ صِيَغَ الْعُقُودِ وَأَفْعَالَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَيْ نَقْلًا مَعَ عَدَمِ إِمَاتَةِ الْمَعْنَى الْخَبَرِيِّ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّكَ قَدْ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ لِمَنِ الْحَمْدُ أَوْ مَنْ أَحْمَدُ وَلَكِنَّ تَعَهُّدَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ ضَعِيفٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَرِينَةِ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَالْقَصْدُ هُوَ الْإِنْشَائِيَّةُ لَا مَحَالَةَ، وَعُدِّلَ إِلَى الْخَبَرِيَّةِ لِتَحْمِلَ جُمْلَةُ الْحَمْدِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مَا يُنَاسِبُ جَلَالَةَ الْمَحْمُودِ بِهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ وَالِاهْتِمَامِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِصِيغَةِ إِنْشَاءٍ نَحْوَ حَمْدًا لِلَّهِ أَو أَحْمد لله حَمْدًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَرَبِ إِيَّاهَا إِنْشَاءً لَا خَبَرًا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ... سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا (¬1) فَعَبَّرَ عَنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْحَمْدِ أَوِ الشُّكْرِ بِالْإِحْدَاثِ، وَالْإِحْدَاثُ يُرَادِفُ الْإِنْشَاءَ لُغَةً فَقَوْلُهُ أَحْدَثْنَا خَبَرٌ حَكَى بِهِ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِحْدَاثِ وَهُوَ حَمْدُهُ الْوَاقِعُ حِينَ الْتِهَابِهَا فِي الْحَطَبِ. وَاللَّهُ هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاسْمِ الْإِلَهُ بِالتَّعْرِيفِ وَهُوَ تَعْرِيف إلاه الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمَعْبُودِ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ بِفَتْحِ اللَّامِ بِمَعْنَى عَبَدَ، أَوْ مِنْ أَلِهَ بِكَسْرِ اللَّامِ بِمَعْنَى تَحَيَّرَ أَوْ سَكَنَ أَوْ فَزِعَ أَوْ وُلِعَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى هُوَ مَلْزُومٌ لِلْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ فَهُوَ فِعَالٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ كِتَابٍ، أَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا حَقِيقَةً بِالْعِبَادَةِ وَلِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى آلِهَةٍ بِوَزْنِ أَفْعِلَةٍ مَعَ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ مَدَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ اسْمَهُ تَعَالَى تَقَرَّرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَبْلَ دُخُولُُِ ¬

(¬1) هُوَ من قصيدة لَهُ ذكر فِيهَا صِفَات النَّار بطريقة لغزية. وَقَبله: فَلَمَّا بَدَت كفنتها وَهِي طفلة ... بطلساء لم تكمل ذِرَاعا وَلَا شبْرًا وَقلت لَهُ ارفعها إِلَيْك فأحيها ... بروحك واقتته لَهَا قيتة قدرا وَظَاهر لَهَا من يَابِس الشخت واستعن ... عَلَيْهَا الصَّفَا وَاجعَل يَديك لَهَا سترا

الْإِشْرَاكِ فِيهِمْ فَكَانَ أَصْلُ وَضْعِهِ دَالًّا عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِذْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَمًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْعَلَمِ بِالِانْحِصَارِ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَلَا بِدَعَ فِي اجْتِمَاعِ كَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ وَكَوْنِهِ عَلَمًا، وَلِذَلِكَ أَرَادُوا بِهِ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ قَبْلَ دُخُولِ الشِّرْكِ فِي الْعَرَبِ وَإِنَّنَا لَمْ نَقِفْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقُوا الْإِلَهَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ مُفْرَدًا عَلَى أَحَدِ أَصْنَامِهِمْ وَإِنَّمَا يضيفون فَيَقُولُونَ إلاه بَنِي فُلَانٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقُولُوا رَبُّ بَنِي فُلَانٍ أَوْ يَجْمَعُونَ كَمَا قَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَرْضُ الْآلِهَةِ، وَفِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ: «وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ الْبَيْتَ فِيهِ الْآلِهَةَ» . فَلَمَّا اخْتَصَّ الْإِلَهُ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَاجِبِ الْوُجُودِ اشْتَقُّوا لَهُ مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَمًا زِيَادَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْحَقِيقُ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَصِيرَ الِاسْمُ خَاصًّا بِهِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِطْلَاقِ عَلَى غَيْرِهِ سُنَنِ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَأَرَاهُمْ أَبْدَعُوا وَأَعْجَبُوا إِذْ جَعَلُوا عَلَمَ ذَاتِهِ تَعَالَى مُشْتَقًّا مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُؤْذِنِ بِمَفْهُومِ الْأُلُوهِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى لَا تستحضر عِنْد وَاضح الْعَلَمِ وَهُوَ النَّاطِقُ الْأَوَّلُ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ إِلَّا بِوَصْفِ الْأُلُوهِيَّةِ (¬1) وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْلَى مَنْ يُؤَلَّهُ وَيُعْبَدُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْجَمِيعِ فَحَذَفُوا الْهَمْزَةَ مِنَ الْإِلَهِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَمَا حَذَفُوا هَمْزَةَ الْأُنَاسِ فَقَالُوا النَّاسُ وَلِذَلِكَ أَظْهَرُوهَا فِي بَعْضِ الْكَلَامِ. قَالَ الْبَعِيثُ بْنُ حُرَيْثٍ (¬2) . مَعَاذَ الْإِلَهِ أَنْ تَكُونَ كَظَبْيَةٍ ... وَلَا دُمْيَةٍ وَلَا عَقِيلَةِ رَبْرَبٍُُ ¬

(¬1) فَيكون وصف الألوهية طَرِيقا لاستحضار الذَّات الْمَقْصُودَة بالعلية وَلذَلِك لَا يَجْعَل الِاسْم الْعلم وَصفا قَالَ السَّيِّد فِي «شرح الْكَشَّاف» : الِاسْم قد يوضع لذات مُبْهمَة بِاعْتِبَار معنى يقوم بهَا فيتركب مَدْلُوله من صفة معنى وَمن ذَات مُبْهمَة فَيصح إِطْلَاق الِاسْم على كل متصف بِتِلْكَ الصّفة وَهَذَا يُسمى صفة وَلذَلِك الْمَعْنى الْمُعْتَبر فِيهِ يُسمى مصحح الْإِطْلَاق كالمعبود مثلا. وَقد يوضع لذات مُعينَة من غير مُلَاحظَة شَيْء من الْمعَانِي الْقَائِمَة بهَا وَهَذَا يُسمى اسْما لَا يشْتَبه بِالصّفةِ كإبل وَفرس، وَقد يوضع لذات مُعينَة ويلاحظ عِنْد الْوَضع معنى لَهُ نوع تعلق بهَا. وَذَلِكَ نَوْعَانِ: الأول أَن يكون الْمَعْنى خَارِجا عَن الْمَوْضُوع لَهُ وَلكنه سَبَب باعث على تعْيين الِاسْم بإزائه كأحمر إِذا جعل علما لمولود فِيهِ حمرَة. النَّوْع الثَّانِي أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى دَاخِلا فِي مَفْهُومه كأسماء الزَّمَان وَالْمَكَان وَهَذَانِ النوعان شَدِيدا الِاشْتِبَاه بِالصِّفَاتِ، ومعيار الْفرق أَنَّهُمَا يوصفان وَلَا يُوصف بهما اهـ يَعْنِي والإله من النَّوْع الأول من الْقسم الثَّالِث. (¬2) وَبعد الْبَيْت: وَلكنهَا زَادَت على الْحسن كُله ... كمالا وَمن طيب على كل طيب وَهَذَا من التَّنْزِيه على التَّشْبِيه وَهَذَا الشَّاعِر غير مولد كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام المعري الَّذِي نَقله الْخَطِيب التبريزي فِي «شَرحه على الحماسة» .

كَمَا أَظْهَرُوا هَمْزَةَ الْأُنَاسِ فِي قَوْلِ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الْأَسَدِيِّ: إِنَّ الْمَنَايَا لَيَطَّلِعْ ... نَ عَلَى الْأُنَاسِ الْآمِنِينَ وَنَزَلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي طَوْرِهِ الثَّالِثِ مَنْزِلَةَ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ فَتَصَرَّفُوا فِيهِ هَذَا التَّصَرُّفَ لِيَنْتَقِلُوا بِهِ إِلَى طَوْرٍ جَدِيدٍ فَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ عَلَمٍ جَدِيدٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَسْلُوكَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْلَامِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي فِي شَرْحِ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا فِي النَّشِيدِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنَ «الْحَمَاسَةِ» : إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكٍ شُمْسُ بِضَمِّ الشِّينِ وَأَصْلُهُ شَمْسُ بِفَتْحِهَا كَمَا قَالُوا حُجْرَ وَسُلْمَى فَيَكُونُ مِمَّا غُيِّرَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِأَجْلِ الْعَلَمِيَّةِ اهـ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ (أَبِي لَهْبٍ) بِسُكُونِ الْهَاءِ مَا نَصَّهُ وَهِيَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ كَقَوْلِهِمْ شُمْسُ بْنُ مَالِكٍ بِالضَّمِّ اهـ. وَقَالَ قَبْلَهُ: «وَلِفُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمٍ أَمِيرِ مَكَّة ابْنَانِ أحد هما عَبْدِ اللَّهِ بِالْجَرِّ، وَالْآخَرُ عَبْدَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدِ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا هَكَذَا» اهـ. يَعْنِي بِكَسْرِ دَالِ عَبْدِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ إِعْرَابِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْإِيمَاءِ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْعَلَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ لِأَنَّ لَهُ لَفْظًا جَدِيدًا بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُغَلَّبِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْعَلَمِيَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْأَعْلَامِ فَكَانَ اسْمُهُ تَعَالَى غَيْرُ مُشَابِهٍ لِأَسْمَاءِ الْحَوَادِثِ كَمَا أَنَّ مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ غَيْرُ مُمَاثِلٍ لِمُسَمَّيَاتِ أَسْمَاءِ الْحَوَادِثِ. وَقَدْ دَلُّوا عَلَى تَنَاسِيهِمْ مَا فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ التَّعْرِيف وَأَنَّهُمْ جعلو هما جُزْءًا مِنَ الْكَلِمَةِ بِتَجْوِيزِهِمْ نِدَاءَ اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعَ إِبْقَاءِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ إِذْ يَقُولُونَ يَا اللَّهُ مَعَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ نِدَاءَ مَدْخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَقَدِ احْتَجَّ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى كَوْنِ أَصْلِهِ الْإِلَهَ بِبَيْت البعيث الْمُتَقَدّم، وَلَمْ يُقَرِّرْ نَاظِرُوهُ وَجْهَ احْتِجَاجِهِ بِهِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَجِيهٌ لِأَنَّ مَعَاذَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ مُضَافَةً لِغَيْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، مِثْلَ سُبْحَانَ فأجريت مجْرى أَمْثَال فِي لُزُومِهَا لهاته الْإِضَافَة، إِذا تَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ فَلَمَّا قَالَ الشَّاعِرُ مَعَاذَ الْإِلَهِ وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ اللِّسَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْإِلَهَ أَصْلًا لِلَفْظِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ تَغْيِيرًا إِلَّا أَنَّهُ تَصَرَّفٌ فِي حُرُوفِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَاخْتِلَافِ وُجُوهِ الْأَدَاءِ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمُ احْتَجُّواُُ

عَلَى أَنَّ لَاهَ مُخَفَّفُ اللَّهِ بِقَوْلِ ذِي الْأُصْبُعِ الْعَدْوَانِيِّ: لَاهَ ابْنُ عَمِّكَ لَا أُفْضِلْتَ فِي حَسَبٍ ... عَنِّي وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي وَبِقَوْلِهِمْ لَاهَ أَبُوكَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَزِمَ حَالَةً وَاحِدَةً، إِذْ يَقُولُونَ لِلَّهِ أَبُوكَ وَلِلَّهِ ابْنُ عَمِّكَ وَلِلَّهِ أَنْتَ. وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ أُخَرُ فِي أَصْلِ اسْمِ الْجَلَالَةِ: مِنْهَا أَنَّ أَصْلَهُ لَاهٌ مَصْدَرُ لَاهَ يَلِيهُ لَيْهًا إِذَا احْتَجَبَ سُمِّيَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ كَالْفَضْلِ وَالْمَجْدِ اسْمَيْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ جَوَّزَهُ. وَمِنْهَا أَنَّ أَصْلَهُ وِلَاهٌ بِالْوَاوِ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ وَلَهَ إِذَا تَحَيَّرَ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً لِاسْتِثْقَالِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا، كَمَا قُلِبَتْ فِي إِعَاءٍ وَإِشَاحٍ، أَيْ وِعَاءٍ وَوِشَاحٍ، ثُمَّ عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ. وَمِنْهَا أَنَّ أَصْلَهُ (لَاهَا) بِالسُّرْيَانِيَّةِ عَلَمٌ لَهُ تَعَالَى فَعُرِّبَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَإِدْخَالِ اللَّامِ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ عَلَمٌ وُضِعَ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِيِّ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ مِنْ أَلَّهَ وَتَصْيِيرِهِ الْإِلَهَ فَتَكُونُ مُقَارَبَتُهُ فِي الصُّورَةِ لِقَوْلِنَا الْإِلَهُ مُقَارَبَةً اتِّفَاقِيَّةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا جَمْعٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ وَنُسِبَ إِلَى الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تُهْمِلْ شَيْئًا حَتَّى وَضَعَتْ لَهُ لَفْظًا فَكَيْفَ يَتَأَتَّى مِنْهُمْ إِهْمَالُ اسْمٍ لَهُ تَعَالَى لِتَجْرِي عَلَيْهِ صِفَاتُهُ. وَقَدِ الْتُزِمَ فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ تَفْخِيمُ لَامِهِ إِذَا لَمْ يَنْكَسِرْ مَا قَبْلَ لَفْظِهِ وَحَاوَلَ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الْمَنْعِ، وَلِذَلِكَ أَبَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّعْرِيجَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «وَعَلَى ذَلِكَ (أَيِ التَّفْخِيمُ) الْعَرَبُ كُلُّهُمْ، وَإِطْبَاقُهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلُ أَنَّهُمْ وَرِثُوهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ» . وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمِ الْمُسْنَدُ الْمَجْرُورُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَيُقَالُ لِلَّهِ الْحَمْدُ، لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ حَمْدٌ عَلَى تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَالتَّشَرُّفِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمَا مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحَمِدَهُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي الدَّارَيْنِ فَكَانَ الْمَقَامُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ اعْتِبَارًا لِأَهَمِّيَّةِ الْحَمْدِ الْعَارِضَةِ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ أَصَالَةً فَإِنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ وَالْحَالِ، وَالْبَلَاغَةُ هِيَ الْمُطَالِبَةُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي الِاهْتِمَامِ بِهِ اهتمام بشؤون اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنْ أَعْجَبِ الْآرَاءِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمَنْهَلِ الْأَصْفَى فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ» التِّلْمِسَانِيُّ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يُمْسَكُ عَنِ الْكَلَامِ فِي مَعْنَاهُ نعظيما وَإِجْلَالًا وَلِتَوَقُّفِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى إِذْنِ الشَّارِعِ. رَبِّ الْعالَمِينَ. وَصْفٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَسْنَدَ الْحَمْدَ لِاسْمِ ذَاتِهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ، عَقَّبَ بِالْوَصْفِ وَهُوَ الرَّبُّ لِيَكُونَ الْحَمْدُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ وَصْفَ الْمُتَعَلَّقِ مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ الْحَمْدُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] لِيُؤْذِنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْوَصْفِيِّ أَيْضًا لِلْحَمْدِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ بِذَاتِهِ. وَقَدْ أَجْرَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ هِيَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ، الرَّحِيمِ، مَلِكْ يَوْمِ الدِّينِ، لِلْإِيذَانِ بِالِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِيِّ فَإِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِالصِّفَاتِ يُؤْذِنُ بِقَصْدِ مُلَاحَظَةِ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا مِنَ الْمُسْتَفَادَاتِ مِنَ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي ذِكْرِ الْوَصْفِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الِاسْمِ كَأَوْصَافِهِ تَعَالَى وَكَانَ فِي ذِكْرِ لَفْظِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا غُنْيَةٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا إِلَّا وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ كِلَا مَدْلُولَيِ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ جَدِيرٌ بِتَعَلُّقِ الْحَمْدِ لَهُ مَعَ مَا فِي ذِكْرِ أَوْصَافِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَا يُمَيِّزُهُ عَنِ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ عِنْدَ الْأُمَمِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْعَنَاصِرِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وَالرَّبُّ إِمَّا مَصْدَرٌ وَإِمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ مِنْ رَبَّهَ يَرُبُّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَهُوَ رَبٌّ بِمَعْنَى مُرَبٍّ وَسَائِسٍ. وَالتَّرْبِيَةُ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ تَدْرِيجًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى مَلَكَهُ، فَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْوَصْفُ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً مُشَبَّهَةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى الْقَلِيلِ فِي أَوْزَانِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى فَعْلٍ مِنْ فَعَلَ يَفْعُلُ إِلَّا قَلِيلًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلِهِمْ نَمَّ الْحَدِيثَ يَنُمُّهُ فَهُوَ نَمٌّ لِلْحَدِيثِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَسَاسَهُ، لَا مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى مَلَكَهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْأَنْسَبَ بِالْمَقَامِ هُنَا إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُدَبِّرُ الْخَلَائِقِ وَسَائِسُ أُمُورِهَا وَمُبَلِّغُهَا غَايَةَ كَمَالِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الْمَالِكِ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ كَالتَّأْكِيدِ وَالتَّأْكِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ

إِلَيْهِ هُنَا، إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْعَالَمِينَ لَا يَشْمَلُ إِلَّا عَوَالِمَ الدُّنْيَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ مَلَكَ الْآخِرَةَ كَمَا أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وُرُودَ الرَّبِّ بِمَعْنَى الْمَلِكِ وَالسَّيِّدِ وَذَلِكَ الَّذِي دَعَا صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مَعْنَى السَّيِّدِ وَالْمَلِكِ وَجَوَّزَ فِيهِ وَجْهَيِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالصِّفَةِ، إِلَّا أَنَّ قَرِينَةَ الْمَقَامِ قَدْ تَصْرِفَ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَكْثَرِ مَوَارِدِهِ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى مَا دُونَهُ فَإِنَّ كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ شَهِيرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ وَالتَّبَادُرُ الْعَارِضُ مِنَ الْمَقَامِ الْمَخْصُوصِ لَا يَقْضِي بِتَبَادُرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي جَمِيعِ الْمَوَاقِعِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَخُصُّ لَفْظَ الرَّبِّ بِهِ تَعَالَى لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا لِمَا عَلِمْتَ مِنْ وَزْنِهِ واشتقاقه. قَالَ الْحَرْث بْنُ حِلِّزَةَ: وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ. وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ: تَخُبُّ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنَالَهُ ... فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي وَقَالَ فِي النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ حِينَ مَرِضَ: وَرَبٌّ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحْسَنَ صُنْعَهُ ... وَكَانَ لَهُ عَلَى الْبَرِيَّةِ نَاصِرَا وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَنْ تَابَعَهُ: إِنَّهُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى إِلَّا مُقَيَّدًا أَوْ لَمْ يَأْتُوا عَلَى ذَلِكَ بِسَنَدٍ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِخِلَافِهِ، أَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلٍّ مِنْ آلِهَتِهِمْ فَلَا مِرْيَةَ فِيهِ كَمَا قَالَ غَاوِي بْنُ ظَالِمٍ أَوْ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ وَسَمَّوُا الْعُزَّى الرَّبَّةَ. وَجَمْعُهُ عَلَى أَرْبَابٍ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى مُتَعَدِّدٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى تَخْصِيصِ إِطْلَاقِهِ عِنْدَهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى؟ وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ مُضَافًا أَوْ مُتَعَلِّقًا بِخَاصٍّ فَظَاهِرُ وُرُودِهِ بِكَثْرَةٍ نَحْوَ رَبِّ الدَّارِ وَرَبِّ الْفُرْسِ وَرَبِّ بَنِي فُلَانٍ. وَقَدْ وَرَدَ الْإِطْلَاقُ فِي الْإِسْلَامِ أَيْضًا حِينَ حَكَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُف: 23] إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْعَزِيزِ وَكَذَا قَوْلُهُ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ [يُوسُف: 39] فَهَذَا إِطْلَاقٌ لِلرَّبِّ مُضَافًا وَغَيْرَ مُضَافٍ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَرَبِيٌّ أُطْلِقَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ يُوسُفُ أَطْلَقَ هَذَا اللَّفْظَ بَلْ أَطْلَقَ مُرَادِفَهُ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ التَّعْبِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ بِهِ يُوسُفُ لَكَانَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مُعَدَّلٌ، إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ لِسَيِّدِهُُِ

رَبِّي وَلِيَقُلْ سَيِّدِي، وَهُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ لِلتَّأْدِيبِ وَلِذَلِكَ خُصَّ النَّهْيُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُعْبَدُ عُرْفًا كَأَسْمَاءِ النَّاسِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الْإِشْرَاكِ وَقَطْعِ دَابِرِهِ وَجَوَّزُوا أَنْ يَقُولَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَبُّ الدَّارِ، وَأَمَّا بِالْإِطْلَاقِ فَالْكَرَاهَةُ أَشَدُّ فَلَا يَقُلْ أَحَدٌ لِلْمَلِكِ وَنَحْوِهِ هَذَا رب. و (الْعَالمين) جَمْعُ عَالَمٍ قَالُوا وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعَلٌ هَذَا الْجَمْعَ إِلَّا فِي لَفْظَيْنِ عَالَمٌ وَيَاسَمٌ، اسْمٌ لِلزَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْيَاسَمِينَ، قِيلَ جَمَعُوهُ عَلَى يَاسَمُونَ وَيَاسَمِينَ قَالَ الْأَعْشَى: وَقَابَلَنَا الْجُلُّ وَالْيَاسَمُ ... ونَ وَالْمُسْمِعَاتُ وَقَصَّابُهَا وَالْعَالَمُ الْجِنْسُ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَدْ بَنَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى وَزْنِ فَاعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُشْتَقًّا مِنَ الْعِلْمِ أَوْ مِنَ الْعَلَامَةِ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ لَهُ تَمَيُّزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ عَلَامَةٌ، أَوْ هُوَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْآلَةِ غَالِبًا كَخَاتَمٍ وَقَالَبٍ وَطَابَعٍ فَجَعَلُوا الْعَوَالِمَ لِكَوْنِهَا كَالْآلَةِ لِلْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، أَوِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ. وَلَقَدْ أَبْدَعَ الْعَرَبُ فِي هَذِهِ اللَّطِيفَةِ إِذْ بَنَوُا اسْمَ جِنْسِ الْحَوَادِثِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، وَلَقَدْ أَبْدَعُوا إِذْ جَمَعُوهُ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِعَاقِلٍ تَغْلِيبًا لِلْعَاقِلِ. وَقد قَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : «الْعَالَمُ اسْمٌ لِذَوِي الْعِلْمِ وَلِكُلِّ جِنْسٍ يُعْلَمُ بِهِ الْخَالِقُ، يُقَالُ عَالَمُ الْمُلْكِ، عَالَمُ الْإِنْسَانِ، عَالَمُ النَّبَاتِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ بِالْإِفْرَادِ إِلَّا مُضَافًا لِنَوْعٍ يُخَصِّصُهُ يُقَالُ عَالَمُ الْإِنْسِ عَالَمُ الْحَيَوَانِ، عَالَمُ النَّبَاتِ وَلَيْسَ اسْمًا لِمَجْمُوعِ مَا سِوَاهُ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ إِجْرَاءٌ فَيَمْتَنِعُ جَمْعُهُ» وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ عَالَمٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى هَذَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِمُ الْعَالَمُ حَادِثٌ فَهُوَ من المصطلحات. والتعرف فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ خَارِجِيٌّ وَلَمْ يَكُنْ مَعْنًى لِلْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى الْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ تَمَحَّضَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ فَاسْتِغْرَاقُهُ اسْتِغْرَاقُ الْأَجْنَاسِ الصَّادِقِ هُوَ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : «لِيَشْمَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِمَّا سُمِّيَ بِهِ» إِلَّا أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْأَجْنَاسِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ أَفْرَادِهَا اسْتِلْزَامًا وَاضِحًا إِذِ الْأَجْنَاسُ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ الْحُكْمِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِمَرْبُوبِيَّةِ الْحَقَائِقِ. وَإِنَّمَا جُمِعَ الْعَالَمُ وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ مُفْرَدًا لِأَنَّ الْجَمْعَ قرينَة على استغراق، لِأَنَّهُ لَوْ أُفْرِدَ لَتُوُهِّمَ أَنَُُّ

الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْعَهْدُ أَوِ الْجِنْسُ فَكَانَ الْجَمْعُ تَنْصِيصًا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْجُمُوعِ مَعَ (الْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَمَّا صَارَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَطَلَ مِنْهَا مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ فَكَانَ اسْتِغْرَاقُ الْجُمُوعِ مُسَاوِيًا لِاسْتِغْرَاقِ الْمُفْرَدَاتِ أَوْ أَشْمَلَ مِنْهُ. وَبَطَلَ مَا شَاعَ عِنْدَ مُتَابِعِي السَّكَّاكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] . [3] . الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَصْفَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ رَحِمَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْمبرد أَن الرَّحْمَن اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ قَالَ وَأَصْلُهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (أَيْ فَأُبْدِلَتْ خَاؤُهُ حَاءً مُهْمَلَةً عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ كَشَأْنِ التَّغْيِيرِ فِي التَّعْرِيبِ) وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ جَرِيرٍ يُخَاطِبُ الْأَخْطَلَ: أَوَ تَتْرُكَنَّ إِلَى الْقِسِّيسِ هِجْرَتَكُمْ ... وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَخَمَانِ قُرْبَانَا (الرِّوَايَةُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ) وَلَمْ يَأْتِ الْمُبَرِّدُ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا زَعَمَهُ، وَلِمَ لَا يَكُونُ الرَّحْمَنُ عَرَبِيًّا كَمَا كَانَ عِبْرَانِيًّا فَإِنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَالْعِبْرَانِيَّةَ أُخْتَانِ وَرُبَّمَا كَانَتِ الْعَرَبِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ أَقْدَمُ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ وَلَعَلَّ الَّذِي جَرَّأَهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَن الرَّحْمَن اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ مَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] وَيَقْتَضِي أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ هَذَا الِاسْمَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا سَيَأْتِي بعض عَرَبِ الْيَمَنِ يَقُولُونَ رَخِمَ رُخْمَةً بِالْمُعْجَمَةِ. وَاسْمُ الرَّحْمَةِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِرِقَّةِ الْخَاطِرِ وَانْعِطَافِهِ نَحْوَ حَيٍّ بِحَيْثُ تَحْمِلُ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَرْحُومِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ وَإِعَانَتِهِ عَلَى الْمَشَاقِّ. فَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لِأَنَّهَا انْفِعَالٌ، وَلِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ انْدِفَاعٌ يَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى أَفْعَالٍ وُجُودِيَّةٍ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ وَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ انْفِعَالِهِ، فَأَصْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ مَقُولَةِ الِانْفِعَالِ وَآثَارُهَا مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا وُصِفَ مَوْصُوفٌ بِالرَّحْمَةِ كَانَ مَعْنَاهُ حُصُولُ الِانْفِعَالِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَحِمَ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى صَدَرَ عَنْهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ، إِذْ لَا تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ رَحِمَ إِلَى الْمَرْحُومِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَيْسَ لِمَاهِيَّةِ الرَّحْمَةِ جُزْئِيَّاتٌ وُجُودِيَّةٌ وَلَكِنَّهَا جُزْئِيَّاتٌ مِنْ آثَارِهَا. فَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الرَّحْمَةِ فِي اللُّغَات ناشىء عَلَى مِقْدَارِ عَقَائِدِ أَهْلِهَا فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَيَسْتَحِيلُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مُجَسِّمَةٌ ثُمَّ يَجِيءُ ذَلِكَُُ

فِي لِسَانِ الشَّرَائِعِ تَعْبِيرًا عَنِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بِأَقْصَى مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَاتُ مَعَ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَعْرَاضِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِ الْقُرْآنِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] فَأَهْلُ الْإِيمَانِ إِذَا سَمِعُوا أَوْ أَطْلَقُوا وَصْفَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ حُصُولَ ذَلِكَ الِانْفِعَالِ الْمَلْحُوظِ فِي حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِسُطُوعِ أَدِلَّةِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَعْرَاضِ، بَلْ إِنَّهُ يُرَادُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ الْغَرَضِ الْأَسْمَى مِنْ حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ صُدُورُ آثَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْقُيُودِ الْمَلْحُوظَةِ فِي مُسَمَّى الرَّحْمَةِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ لَا أَهَمِّيَّةَ لَهُ لَوْلَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ حُصُولُ آثَارِهِ فِيهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَرْحَمُ أَحَدًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لِعَجْزٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى» بِقَوْلِهِ: «الَّذِي يُرِيدُ قَضَاءَ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ وَلَا يَقْضِيهَا فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قَضَائِهَا لَمْ يُسَمَّ رَحِيمًا إِذْ لَوْ تَمَّتِ الْإِرَادَةُ لَوَفَى بِهَا وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَقَدْ يُسَمَّى رَحِيمًا بِاعْتِبَارِ مَا اعْتَوَرَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرِّقَّةِ وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ» . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ إِطْلَاقَ نَحْوِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَتَحَقُّقِ تنزه الله عَن لَوَازِمِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ فِي الْوَضْعِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُطْلِقُ الْعَلِيمَ عَلَى اللَّهِ مَعَ التَّيَقُّنِ بِتَجَرُّدِ عِلْمِهِ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَسَبْقِ الْجَهْلِ، وَكَمَا نُطْلِقُ الْحَيَّ عَلَيْهِ تَعَالَى مَعَ الْيَقِينِ بِتَجَرُّدِ حَيَاتِهِ عَنِ الْعَادَةِ وَالتَّكَوُّنِ، وَنُطْلِقُ الْقُدْرَةَ مَعَ الْيَقِينِ بِتَجَرُّدِ قُدْرَتِهِ عَنِ الْمُعَالَجَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. فَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ رَحْمَةَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: 156] فَهِيَ مَنْقُولَةٌ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِيصَالَ الْإِحْسَانِ إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغَالِبُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَهُوَ مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَزَّهِ عَنْهُ أَقْوَى وَأَشَدَّ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقين أَن الرَّحْمَن صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ كَغَضْبَانَ وَبِذَلِكَ مَثَّلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَفِعْلُ رَحِمَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ إِنَّمَا تُصَاغُ مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ إِلَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ إِذَا صَارَ كَالسَّجِيَّةِ لِمَوْصُوفِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَفْعَالِ الْغَرَائِزِ فَيُحَوَّلُ مِنْ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَوْ كَسْرِهَا إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ صَارَ سَجِيَّةً كَمَا قَالُوا فَقُهَ الرَّجُلُ وَظَرُفَ وَفَهُمَ، ثُمَّ تُشْتَقُّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةٌ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا التَّحْوِيلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ

إِمَّا بِسَمَاعِ الْفِعْلِ الْمُحَوَّلِ مِثْلِ فَقُهَ وَإِمَّا بِوُجُودِ أَثَرِهِ وَهُوَ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ مِثْلُ بَلِيغٍ إِذَا صَارَتِ الْبَلَاغَةُ سَجِيَّةً لَهُ، مَعَ عَدَمِ أَوْ قِلَّةِ سَمَاعِ بَلُغَ. وَمن هَذَا رَحْمَن إِذْ لَمْ يُسْمَعْ رَحُمَ بِالضَّمِّ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ مَنَعَ أَن يكون الرَّحْمَن صِفَةً مُشَبَّهَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ هُوَ مِنْهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» فِي بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَنَظَّرَهُ بِرَبٍّ وَمَلِكٍ.. وَأَمَّا الرَّحِيمُ فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى التَّعَدِّي وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْجُمْهُورُ لَمْ يُثْبِتُوا فِي أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَزْنَ فَعِيلٍ فَالرَّحِيمُ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا مِثْلَ مَرِيضٍ وَسَقِيمٍ، وَالْمُبَالَغَةُ حَاصِلَةٌ فِيهِ عَلَى كِلَا الِاعْتَبَارَيْنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْوَصْفَيْنِ دَالَّانِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي صِفَةِ الرَّحْمَةِ أَيْ تَمَكُّنِهَا وَتَعَلُّقِهَا بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَرْحُومِينَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَرِيقَةِ اسْتِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمَا وَهَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي الْوَصْفِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ أَوْ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ؟ وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِفَادَةَ الْمُبَالَغَةِ حَاصِلَةٌ مِنْ تَتَبُّعِ الِاسْتِعْمَالِ وَأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى عَلَى نُكْتَةٍ فِي مُرَاعَاةِ وَاضِعِي اللُّغَةِ زِيَادَةَ الْمَبْنَى لِقَصْدِ زِيَادَةٍ فِي مَعْنَى الْمَادَّةِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَيَقُولُونَ إِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْغَضْبَانِ هُوَ الْمُمْتَلِئُ غَضَبًا وَمِمَّا طَنَّ عَلَى أُذُنِي مِنْ مُلَحِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ مَرْكَبًا مِنْ مَرَاكِبِهِمْ بِالشُّقْدُفِ وَهُوَ مَرْكَبٌ خَفِيفٌ لَيْسَ فِي ثِقَلِ مَحَامِلِ الْعِرَاقِ فَقُلْتُ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مَا اسْمُ هَذَا الْمَحْمَلِ- أَرَدْتُ الْمَحْمَلَ الْعِرَاقِيَّ- فَقَالَ أَلَيْسَ ذَاك اسْمه الشقندف؟ قُلْتُ بَلَى فَقَالَ هَذَا اسْمُهُ الشِّقِنْدَافُ فَزَادَ فِي بِنَاءِ الِاسْمِ لِزِيَادَةِ الْمُسَمَّى» وَهِيَ قَاعِدَةٌ أَغْلَبِيَّةٌ لَا تَتَخَلَّفُ إِلَّا فِي زِيَادَاتٍ مَعْرُوفَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى جَدِيدٍ دُونَ زِيَادَةٍ فِي أَصْلِ مَعْنَى الْمَادَّةِ مِثْلَ زِيَادَةِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فَقَدْ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ وَلَيْسَ زِيَادَةً فِي مَعْنَى الْمَادَّةِ. وَأَمَّا نَحْوُ حَذِرٌ الَّذِي هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَقَلُّ حُرُوفًا مِنْ حَاذِرٍ فَهُوَ مِنْ مُسْتَثْنَيَاتِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّهَا أَغْلَبِيَّةٌ. وَبَعْدَ كَوْنِ كُلٍّ من صِفَتي الرَّحْمَن الرَّحِيمِ دَالَّةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ فَقَدْ قَالَ الْجُمْهُور إِن الرَّحْمَن أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَإِلَى ذَلِك مَا جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ جِنِّي وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَعَلَى رَعْيِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَعْنِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ شَاعَ وُرُودُ إِشْكَالٍ عَلَى وَجْهِ إرداف وَصفه الرَّحْمَن بِوَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ إِذَا أَجْرَوْا وَصْفَيْنِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي مَقَامِ الْكَمَالِ أَنْ يَرْتَقُوا مِنَ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ وَمِنَ الْقَوِيِّ إِلَى الْأَقْوَى كَقَوْلِهِمْ شُجَاعٌ بَاسِلٌ

وَجَوَّادٌ فَيَّاضٌ، وَعَالِمٌ نِحْرِيرٌ، وَخَطِيبٌ مِصْقَعٌ، وَشَاعِرٌ مُفْلِقٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِ الارتقاء من الرَّحْمَن إِلَى الرَّحِيمِ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى اعْتِبَار الرَّحْمَن أَخَصَّ مِنَ الرَّحِيمِ فَتَعْقِيبُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي تَعْمِيمٌ بَعْدَ خَاصٍّ وَلِذَلِكَ كَانَ وصف الرَّحْمَن مُخْتَصًّا بِهِ تَعَالَى وَكَانَ أَوَّلُ إِطْلَاقِهِ مِمَّا خَصَّهُ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنِ التَّوْصِيفُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي. وَمَدْلُولُ الرَّحِيمِ كَوْنُ الرَّحْمَةِ كَثِيرَةَ التَّعَلُّقِ إِذْ هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ رَسُوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَة: 128] فَلَيْسَ ذِكْرُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِمُغْنٍ عَنِ الْأُخْرَى: وَتَقْدِيم الرَّحْمَن عَلَى الرَّحِيمِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الِاتِّصَافِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ فِي التَّوْصِيفِ مِنَ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا. وَيُنْسَبُ إِلَى قطرب أَن الرَّحْمَن وَالرَّحِيمَ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَجُعِلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَمَالَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ إِذِ التَّوْكِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْمَقَامُ هُنَا بَعِيدٌ عَنْ مُقْتَضَى التَّوْكِيدِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ لَيْسَتْ بِمُقْنِعَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ أَن وصف الرَّحْمَن لَمْ يُطْلَقْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ اخْتُصَّ بِهِ تَعَالَى حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ اسْمٌ لَهُ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] وَقَالَ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [الرَّعْد: 30] وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ وَخَاصَّةً فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِثْلَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَسُورَةِ الْمُلْكِ وَقد ذكر الرَّحْمَن فِي سُورَةِ الْمُلْكِ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَضَمِيرِهِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ مِمَّا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِتَقْرِيرِ هَذَا الِاسْمِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ تُنُوسِيَ فِي كَلَامِهِمْ، أَوْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَمِنْ دَقَائِقَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ آثَرَ اسْمَ الرَّحْمَن فِي قَوْلِهِ: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [19] ، وَقَالَ: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [79] إِذْ كَانَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمُلْكِ مَكِّيَّةً وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ الْقَدْرَ النَّازِلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ تِلْكَ السُّورَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ: سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ أَبًا ... وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا فَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ وَفِي أَيَّامِ رِدَّةِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَقَدْ لَقَّبُوا مُسَيْلمَة أيامئذ رَحْمَن الْيَمَامَةِ وَذَلِكَ مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَإِجْرَاءُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَلِيَّيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَُُ

وَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِمُنَاسَبَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْبَلِيغِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُصِفَ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ مِنْ كَوْنِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَيْ مُدَبِّرُ شُؤُونِهِمْ وَمُبْلِغُهُمْ إِلَى كَمَالِهِمْ فِي الْوُجُودَيْنِ الْجُثْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، نَاسَبَ أَنْ يُتْبِعَ ذَلِك بوصفه بالرحمن أَيِ الَّذِي الرَّحْمَةُ لَهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ بِعُمُومٍ وَاطِّرَادٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا كَانَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَكَانَ الْمَرْبُوبُونَ ضُعَفَاءً كَانَ احْتِيَاجُهُمْ لِلرَّحْمَةِ وَاضِحًا وَكَانَ تَرَقُّبُهُمْ إِيَّاهَا مِنَ الْمَوْصُوفِ بِهَا بِالذَّاتِ نَاجِحًا. فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لِأَنَّهَا إِبْلَاغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَذَلِكَ يَجْمَعُ النعم كلهَا، فَلَمَّا ذَا احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ كَوْنِهِ رَحْمَانًا؟ قُلْتُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِبْلَاغَ إِلَى الْكَمَالِ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْإِعْنَاتِ بَلْ كَانَ بِرِعَايَةِ مَا يُنَاسِبُ كُلَّ نَوْعٍ وَفَرْدٍ وَيُلَائِمُ طَوْقَهُ وَاسْتِعْدَادَهُ، فَكَانَتِ الرُّبُوبِيَّةُ نِعْمَةً، وَالنِّعْمَةُ قَدْ تَحْصُلُ بِضَرْبٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْأَذَى، فَأَتْبَعَ ذَلِك بوصفه بالرحمن تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الْجَلِيلَةَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالْيُسْرِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ، حَتَّى فِي أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَالْمَنَاهِي وَالزَّوَاجِرِ فَإِنَّهَا مَرْفُوقَةٌ بِالْيُسْرِ بِقَدْرِ مَا لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ مِنْهَا، فَمُعْظَمُ تَدْبِيرِهِ تَعَالَى بِنَا هُوَ رَحَمَاتٌ ظَاهِرَةٌ كَالتَّمْكِينِ مِنَ الْأَرْضِ وَتَيْسِيرِ مَنَافِعِهَا، وَمِنْهُ مَا رَحْمَتُهُ بِمُرَاعَاةِ الْيُسْرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِثْلَ التَّكَالِيفِ الرَّاجِعَةِ إِلَى مَنَافِعِنَا كَالطَّهَارَةِ وَبَثِّ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْهَا مَا مَنْفَعَتُهُ لِلْجُمْهُورِ فَتَتْبَعُهَا رَحَمَاتُ الْجَمِيعِ لِأَنَّ فِي رَحْمَةِ الْجُمْهُورِ رَحْمَةً بِالْبَقِيَّةِ فِي انْتِظَامِ الْأَحْوَالِ كَالزَّكَاةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَن لفظ رَحْمَن لَوْ لَمْ يُقْرَنْ بِلَامِ التَّعْرِيفِ هَلْ يُصْرَفُ أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ؟ قَالَ فِي «الْكَافِيَةِ» : «النُّونُ وَالْأَلِفُ إِذَا كَانَا فِي صِفَةٍ فَشَرْطُ مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ انْتِفَاءُ فَعْلَانَةٍ، وَقِيلَ وُجُودُ فَعْلَى، وَمِنْ ثَمَّ اخْتلف فِي رَحْمَن، وَبَنُو أَسَدٍ يَصْرِفُونَ جَمِيعَ فَعْلَانَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُؤَنَّثٍ لَهُ فَعْلَانَةٌ» وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرَّضِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ عَدَمَ صَرْفِهِ. [4] مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِتْبَاعُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِهَذَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ سَرْدِ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ مِمَّا أَثَارَتْهُ الْأَوْصَافُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا وُصِفَ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَكَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى كَمَالِ رِفْقِهِ تَعَالَى بِالْمَرْبُوبِينَ فِي سَائِرِ أَكْوَانِهِمْ، ثُمَّ التَّنْبِيهِ بِأَنَّ تَصَرُّفَهُ تَعَالَى فِي الْأَكْوَانِ وَالْأَطْوَارِ تَصَرُّفُ رَحْمَةٍ عِنْدَ الْمُعْتَبِرِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ

التَّصَرُّفَاتِ تَصَرُّفَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّشْرِيعِ الرَّاجِعِ إِلَى حِفْظِ مَصَالِحِ النَّاسِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، وَكَانَ مُعْظَمُ تِلْكَ التَّشْرِيعَاتِ مُشْتَمِلًا عَلَى إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى الَّذِي يُلَائِمُهُ اتِّبَاعُهُ وَفِي نَزْعِهِ عَنْهُ إِرْغَامٌ لَهُ وَمَشَقَّةٌ، خِيفَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مُخَفِّفًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ عِبْءَ الْعِصْيَانِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ وَمُثِيرًا لِأَطْمَاعِهِمْ فِي الْعَفْوِ عَنِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِذَلِكَ وَأَنْ يَمْتَلِكَهُمُ الطَّمَعُ فَيَعْتَمِدُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَا يَخْشَوْا غَائِلَةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ، لِذَلِكَ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ تَعْقِيبُهُ بِذِكْرِ أَنَّهُ صَاحِبُ الْحُكْمِ فِي يَوْم الْجَزَاء: الْيَوْمَ (¬1) تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِر: 17] لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ سَبَبٌ فِي الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ لِحِفْظِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَأُحِيطَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَجُعِلَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا وَصْفُ مَلِكِ أَوْ مَالِكِ مُضَافًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. فَأَمَّا مَلِكٌ فَهُوَ مُؤْذِنٌ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ الْهَوَادَةِ فِيهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَلِكِ أَنْ يُدَبِّرَ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَيَذُبَّ عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ النَّاسُ الْمُلُوكَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ قِيلَ رَبُّ يَوْمِ الدِّينِ لَكَانَ فِيهِ مَطْمَعٌ لِلْمُفْسِدِينَ يَجِدُونَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ رَحْمَةً وَصَفْحًا، وَأَمَّا مَالِكٌ فَمِثْلُ تِلْكَ فِي إِشْعَارِهِ بِإِقَامَةِ الْجَزَاءِ عَلَى أَوْفَقِ كَيْفِيَّاتِهِ بِالْأَفْعَالِ الْمُجْزَى عَلَيْهَا. فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا كَانَ إِجْرَاءُ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِينَا رَحْمَةٌ فَقَدْ كَفَى ذَلِكَ فِي الْحَثِّ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ إِذِ الْمَرْءُ لَا يُخَالِفُ مَا هُوَ رَحْمَةٌ بِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَنْسَاقَ إِلَى الشَّرِيعَةِ بِاخْتِيَارِهِ. قُلْتُ الْمُخَاطَبُونَ مَرَاتِبٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِفَهْمِ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَعْقِيبِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي لِفَهْمِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ فِي فِعْلِ الْمُلَائِمِ لَهُ رَحْمَةً بِهِ أَيْضًا فَرُبَّمَا آثَرَ الرَّحْمَةَ الْمُلَائِمَةَ عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُنَافِرَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لَهُ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ الرَّحْمَةَ بِأَنَّهَا رَحْمَةٌ لِلْعُمُومِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَنَالُهُ مِنْهَا حَظٌّ ضَعِيفٌ فَآثَرَ رَحْمَةَ حَظِّهِ الْخَاصِّ بِهِ عَلَى رَحْمَةِ حَظِّهِ التَّابِعِ لِلْعَامَّةِ. وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ لَا مُطَّرِدٌ وَأَنَّ وَصفه تَعَالَى بالرحمن بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ التَّشْرِيعِ مِنْ تَكْوِينٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْمَآلِ فَآثَرَ عَاجِلَ مَا يُلَائِمُهُ. وَرُبَّمَا عَلِمَ جَمِيعَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّكَالِيفُ مِنَ الْمَصَالِحِ بِاطِّرَادٍ وَلَكِنَّهُ مَلَكَتْهُ شَهْوَتُهُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ شِقْوَتُهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَظِنَّةٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِأَمْثَالِهِمْ جَاءَ تَعْقِيبُ الصِّفَاتِ الْمَاضِيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا سَيَحْصُلُ مِنَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِئَلَّا يَفْسُدَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ حِينَ تَتَلَقَّفُهُ أَفْهَامُ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ مُضَيِّعٍ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: يَوْم.

ثُمَّ إِنَّ فِي تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِقَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ وَلِيُّ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِذَنْ تَتْمِيمٌ. وَقَوْلُهُ (مَلِكِ) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ (مَالِكِ) بِالْأَلِفِ فَالْأَوَّلُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ صَارَتِ اسْمًا لِصَاحِبِ الْمُلْكِ (بِضَمِّ الْمِيمِ) وَالثَّانِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مَلَكَ إِذَا اتَّصَفَ بِالْمِلْكِ (بِكَسْر الْمِيم) وكلا هما مُشْتَقٌّ مِنْ مَلَكَ، فَأَصْلُ مَادَّةِ مَلَكَ فِي اللُّغَةِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُهَا إِلَى مَعْنَى الشَّدِّ وَالضَّبْطِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ ذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالتَّحْقِيقِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقِرَاءَةُ (مَلِكِ) بِدُونِ أَلِفٍ تَدُلُّ عَلَى تَمْثِيلِ الْهَيْئَةِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ الْمَلِكَ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ- هُوَ ذُو الْمُلْكِ- بِضَمِّ الْمِيمِ- وَالْمُلْكُ أَخَصُّ مِنَ الْمِلْكِ، إِذِ الْمُلْكُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- هُوَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ وَيَخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ الْعُقَلَاءِ وَسِيَاسَةِ جُمْهُورِهِمْ وَأَفْرَادِهِمْ وَمَوَاطِنِهِمْ فَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَلِكِ النَّاسِ وَلَا يُقَالُ: مَلِكِ الدَّوَابِّ أَوِ الدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَهُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعِهَا دُونَ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَلِكِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ دُونَ أَلِفٍ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي «كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَكَى أَبُو عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَرَأَ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ تُبْطِلُ ذَلِكَ فَلَعَلَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَرَأَ بِهَا فِي بَلَدٍ مَخْصُوصٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ (مَالِكِ) بِأَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِوَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَرَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «كِتَابِهِ» أَنَّهَا قَرَأَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه أَيْضا. وكلتا هما صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ. وَقَدْ تَصَدَّى الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُحْتَجُّونَ لِلْقِرَاءَاتِ لِبَيَانِ مَا فِي كُلٍّ مِنْ قِرَاءَةِ (مَلِكِ) - بِدُونِ أَلِفٍ- وَقِرَاءَةِ (مَالِكِ) - بِالْأَلِفِ- مِنْ خُصُوصِيَّاتٍ بِحَسَبِ قَصْرِ النَّظَرِ عَلَى مَفْهُومِ كَلِمَةِ مَلِكِ وَمَفْهُومِ كَلِمَةِ (مَالِكِ) ، وَغَفَلُوا عَنْ إِضَافَةِ الْكَلِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَأَمَّا وَالْكَلِمَةُ مُضَافَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي إِفَادَةِ أَنَّهُ الْمُتَصَرف فِي شؤون ذَلِكَ الْيَوْمِ دُونَ شُبْهَةِ مُشَارِكٍ. وَلَا مَحِيصَ عَنِ اعْتِبَارِ التَّوَسُّعِ فِي إِضَافَةِ (مَلِكٍ) أَوْ (مَالِكٍ) إِلَى (يَوْم) بِتَأْوِيل شؤون يَوْمٍ الدِّينِ. عَلَى أَنَّ (مَالِكِ) لُغَةٌ فِي (مَلِكِ) فَفِي «الْقَامُوسِ» : «وَكَأَمِيرٍ وَكَتِفٍ وَصَاحِبٍ ذُو الْمُلْكِ» .

وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَبْدَأُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَالدِّينُ فِيهِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، قَالَ الْفِنْدُ الزِّمَّانِيِّ (¬1) : فَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ ... فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نُ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا أَيْ جَازَيْنَاهُمْ عَلَى صُنْعِهِمْ كَمَا صَنَعُوا مُشَاكَلَةً، أَوْ كَمَا جَازَوْا مِنْ قَبْلُ إِذَا كَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ نَاشِئًا عَنْ ثَأْرٍ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَعَيَّنُ هُنَا وَإِنْ كَانَ لِلدِّينِ إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى بِمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ تَكْمِلَةٌ لِإِجْرَاءِ مَجَامِعِ صِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُصِفَ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْحَقَّةِ إِذْ يَفُوقُ مَا كَانُوا يَنْعَتُونَ بِهِ آلِهَتَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ إِلَهُ بَنِي فُلَانٍ فَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ تَتَّخِذُ آلِهَةً خَاصَّةً لَهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ بَعْضِهِمْ: فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: 88] وَقَالَ: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: 138] وَكَانَتْ لِبَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ آلِهَةٌ خَاصَّةٌ، فَقَدْ عَبَدَتْ ثَقِيفٌ اللَّاتَ قَالَ الشَّاعِرُ: وَوَقَرَتْ ثَقِيفٌ إِلَى لَاتِهَا (¬2) وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : «كَانَ الْأَنْصَارُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ» الْحَدِيثَ (¬3) . فَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ، ثُمَّ عقب بوصفي الرَّحْمَن الرَّحِيمِ لِإِفَادَةِ عِظَمُُِ ¬

(¬1) الفند لقبه، وأصل الفند بِكَسْر الْفَاء الْجَبَل، واسْمه شهل بن شَيبَان بشين مُعْجمَة وَلَيْسَ فِي أَسمَاء الْعَرَب شهل بالشين الْمُعْجَمَة غَيره، وَهُوَ من شعراء حَرْب البسوس، وَإِنَّمَا لقب الفند لِأَنَّهُ لما جَاءَ لينصر بني بكر بن وَائِل قَالُوا مَا يُغني عَنَّا هَذَا الْهم- بِكَسْر الْهَاء- أَي الشَّيْخ، فَقَالَ لَهُم أما ترْضونَ أَن أكون لكم فندا تأوون إِلَيْهِ؟ أَي معقلا ومرجعا فِي الرَّأْي وَالْحَرب. والزماني- بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الْمِيم- نِسْبَة لقبيلة هم أَبنَاء عَم بني حنيفَة. (¬2) تَمَامه: بمنقلب الخائب الخاسر كَذَا فِي «تَارِيخ الْعَرَب» فِي بَاب أَدْيَان الْعَرَب من كتَابنَا «تَارِيخ الْعَرَب قبل الْإِسْلَام» مخطوط. (¬3) فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ (وَمَنَاة) اسْم صنم يعبده الْمُشْركُونَ من الْعَرَب وَهُوَ صَخْرَة كَانُوا يذبحون عِنْدهَا. والمشلل- بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَلَام مُشَدّدَة مَفْتُوحَة وَلَام أُخْرَى- اسْم ثنية مشرفة على قديد بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.

رَحْمَتِهِ، ثُمَّ وُصِفَ بِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ وَصْفٌ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا قبله لِأَنَّهُ ينبىء عَنْ عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ الْخُلُودِ، فَمَلِكُ ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ مُلْكِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْتَهِي مُلْكُهُ وَلَا يَنْقَضِي، فَأَيْنَ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي يُفِيضُهَا النَّاسُ عَلَى أَعْظَمِ الْمُلُوكِ مِثْلَ مَلِكِ الْمُلُوكِ (شَاهَانْ شَاهْ) وَمَلِكِ الزَّمَانِ وَمَلِكِ الدُّنْيَا (شَاهْ جَهَانْ) وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ. مَعَ مَا فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الدِّينِ أَيِ الْجَزَاءِ مِنْ إِدْمَاجِ التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ حُكْمِ اللَّهِ لِأَنَّ إِيثَارَ لَفْظِ الدِّينِ (أَيِ الْجَزَاءِ) لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ الْعَامِلِ بِمَا يُعَادِلُ أَعْمَالَهُ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الْخَاصُّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غَافِر: 17] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مَلِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ فَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الْعَدْلِ الصِّرْفِ وَصْفٌ لَهُ بِأَشْرَفِ مَعْنَى الْمُلْكِ فَإِنَّ الْمُلُوكَ تَتَخَلَّدُ مَحَامِدُهُمْ بِمِقْدَارِ تَفَاضُلِهِمْ فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَقَدْ عَرَّفَ الْعَرَبُ الْمِدْحَةَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ الْمَلِكَ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيَّ مَلِكَ الشَّامِ: وَكَمْ جَزَانَا بِأَيْدٍ غَيْرِ ظَالِمَةٍ ... عُرْفًا بِعُرْفٍ وَإِنْكَارًا بِإِنْكَارِ وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ يَمْدَحُ الْمَلِكَ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ اللَّخْمِيَّ مَلِكَ الْحِيرَةِ: مَلِكٌ مُقْسِطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَمْ ... شِي وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِيمَاءٌ بِأَنَّ مَوْصُوفَهَا حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ الْكَامِلِ الَّذِي أَعْرَبَتْ عَنْهُ جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِأَنَّ تَقْيِيدَ مُفَادِ الْكَلَامِ بِأَوْصَافِ مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ الْمُفَادِ يُشْعِرُ بِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَبَيْنَ مُفَادِ الْكَلَامِ مُنَاسِبَةٌ تُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ مِثْلَ التَّعْلِيلِ فِي مَقَامِ هَذِهِ الْآيَةِ. [5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. إِذَا أَتَمَّ الْحَامِدُ حَمْدَ رَبِّهِ يَأْخُذُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِإِظْهَارِ الْإِخْلَاصِ لَهُ انْتِقَالًا مِنَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حَقِّ الرَّبِّ إِلَى إِظْهَار مراعة مَا يَقْتَضِيهِ حَقُّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. فَهَذَا الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُفَاتَحَةُ الْعُظَمَاءِ بِالتَّمْجِيدِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُخَاطَبُوا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ. رَوَىُُ

أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النُّعْمَانِ فَنَادَمْتُهُ وَأَكَلْتُ مَعَهُ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ مَعَهُ فِي قُبَّةٍ إِذَا رَجُلٌ يَرْتَجِزُ حَوْلَهَا: أَصُمَّ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ الْقُبَّهْ ... يَا أَوْهَبُ النَّاسِ لِعِيسٍ صُلْبَهْ ضرّابة بالمشغر الأذيّه ... ذَاتِ هِبَابٍ فِي يَدَيْهَا خُلْبَهْ فِي لَاحِبٍ كَأَنَّهُ الْأَطِبَّهْ (¬1) فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَلَيْسَ بِأَبِي أُمَامَةَ؟ (كُنْيَةُ النَّابِغَةِ) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَذِنُوا لَهُ فَدَخَلَ. وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْغَائِبِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِلَى أُسْلُوبِ طَرِيقِ الْخِطَابِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنٌّ بَدِيعٌ مِنْ فُنُونِ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَالْبَلَاغَةِ الْتِفَاتًا. وَفِي ضَابِطِ أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ رَأْيَانِ لِأَئِمَّةِ علم البلاغة: أحد هما رَأْيُ مَنْ عَدَا السَّكَّاكِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَعْدَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَات بِأحد طَرِيق ثَلَاثَةٍ مِنْ تَكَلُّمٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ خِطَابٍ يَنْتَقِلُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ فَيُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَخَالَفَهُمُ السَّكَّاكِيُّ فَجَعَلَ مُسَمَّى الِالْتِفَاتِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَاتٍ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ عادلا عَن أحد هما الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِالتَّعْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا. وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالسَّكَّاكِيِّ فِي الْمُحَسِّنِ الَّذِي يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي طَالِعِ قَصِيدَتِهِ: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، فَهَذَا لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ، فَتَسْمِيَةُ الِالْتِفَاتِ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُدُولَ الْمُتَكَلِّمِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ يُشْبِهُ حَالَةَ النَّاظِرِ إِلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْهُ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ فَتَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ مِنْ صُوَرِ الِالْتِفَاتِ دُونَ صُورَةِ التَّجْرِيدِ، وَلَعَلَّ السَّكَّاكِيَّ الْتَزَمَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِأَنَّهَا تَقَرَّرَتْ مِنْ قَبْلِهِ فَتَابَعَ هُوَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا الِاسْمِ. وَمِمَّا يَجِبُُُ ¬

(¬1) الْهمزَة فِي قَوْله: أَصمّ للاستفهام الْمُسْتَعْمل فِي التَّنْبِيه. والمشغر: آلَة الشّغَار أَي الطَّرْد وَهُوَ يَعْنِي ذَنْب الْبَعِير. والأذبة- بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة- جمع ذُبَابَة. والخلبة- بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام حَلقَة من لِيف. واللاحب: الطَّرِيق وَهُوَ مُتَعَلق بقوله هباب. والأطبة- جمع طباب- وَهُوَ الشرَاك يجمع بَين الأديمين.

التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ مُعْتَبَرٌ مِنْ قَبِيلِ الْغَائِبِ عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الْتِفَاتًا عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَعْبِيرٌ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ وَصِفَاتُهُ. وَلِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ عِنَايَةٌ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ تَحَاشِيًا مِنْ تَكَرُّرِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عِدَّةَ مِرَارٍ فَيَحْصُلُ بِتَجْدِيدِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ كَيْ لَا يَمَلَّ مِنْ إِعَادَةِ أُسْلُوبٍ بِعَيْنِهِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الِالْتِفَاتِ: «أَفَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَشْبَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ لَوْنٍ وَلَوْنٍ وَطَعْمٍ وَطَعْمٍ وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَرْوَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ أُسْلُوبٍ وَأُسْلُوبٍ» . فَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الِالْتِفَاتِ. ثُمَّ إِنَّ الْبُلَغَاءَ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَيْهَا غَالِبًا بَلْ يُرَاعُونَ لِلِالْتِفَاتِ لَطَائِفَ وَمُنَاسَبَاتٍ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْأَدَبِ يَسْتَخْرِجُونَ ذَلِكَ مِنْ مَغَاصِهِ. وَمَا هُنَا الْتِفَاتٌ بَدِيعٌ فَإِنَّ الْحَامِدَ لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِعَظِيمِ الصِّفَاتِ بَلَغَتْ بِهِ الْفِكْرَةُ مُنْتَهَاهَا فَتَخَيَّلَ نَفْسَهُ فِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَخَاطَبَ رَبَّهُ بِالْإِقْبَالِ، كَعَكْسِ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ (نِسْبَةً إِلَى بَنِي خَارِجَةَ قَبِيلَةٌ) : ذُمِمْتَ وَلَمْ تُحْمَدْ وَأَدْرَكْتُ حَاجَةً ... تَوَلَّى سِوَاكُمْ أَجْرَهَا وَاصْطِنَاعَهَا أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ ... وَنَفْسٌ أَضَاقَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ بَاعَهَا إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الْخَيْرِ مَرَّةً ... عَصَاهَا وَإِنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَهَا فَخَاطَبَهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ ذَكَرَ قُصُورَ رَأْيِهِ وَعَدَمَ انْطِبَاعِ نَفْسِهِ عَلَى الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ مِنْ خِطَابِهِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَقَالَ: إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ فَكَأَنَّهُ تَخَيَّلَهُ قَدْ تَضَاءَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت: 23] لِاعْتِبَارِ تَشْنِيعِ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْجَلِيلِ، وَبَعْدَ تَقُرُّرِ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أُسْلُوبِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُضَافَةِ إِلَى ذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ وَقْعًا فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنَ الثَّنَاءِ إِلَى الدُّعَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَخَلُّصًا يَجِيءُ بَعْدَهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيِّ: أَبَى غَفْلَتِي أَنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ ... تَحَرَّكَ دَاءٌ فِي فُؤَادِيَ دَاخِلُُُ

وَأَنَّ تِلَادِي إِنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي ... وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إليّ الأنامل جباؤك وَالْعِيسُ الْعِتَاقُ كَأَنَّهَا ... هِجَانُ الْمَهَى تُزْجَى عَلَيْهَا الرَّحَائِلُ وَأَبُو الْفَتْحِ ابْنُ جِنِّي يُسَمِّي الِالْتِفَاتَ «شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ» كَأَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى حِدَّةِ ذِهْنِ الْبَلِيغِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ تَصْرِيفِ أَسَالِيبِ كَلَامِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا يَتَصَرَّفُ الشُّجَاعُ فِي مَجَالِ الْوَغَى بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ. وَ (إِيَّاكَ) ضَمِيرُ خِطَابٍ فِي حَالَةِ النَّصْبِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ إِيَّا جُعِلَتْ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ وَلِذَلِكَ لَزِمَتْهَا الضَّمَائِرُ نَحْوُ: إِيَّايَ تَعْنِي، وَإِيَّاكَ أَعْنِي، وَإِيَّاهُمْ أَرْجُو. وَمن هُنَا لَك الْتُزِمَ فِي التَّحْذِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ انْفَصَلَ عِنْدَ الْتِزَامِ حَذْفِ الْعَامِلِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا مُلَازِمًا حَالَةً وَاحِدَةً وَجَعْلَ الضَّمَائِرَ الَّتِي مَعَهُ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) هُوَ الضَّمِيرُ وَجَعَلَ مَا بَعْدَهُ حُرُوفًا لِبَيَانِ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) اعْتِمَادًا لِلضَّمِيرِ كَمَا كَانَتْ أَيُّ اعْتِمَادًا لِلْمُنَادَى الَّذِي فِيهِ الْ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) اسْمًا ظَاهِرًا مُضَافًا لِلْمُضْمَرَاتِ. وَالْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُضُوعِ أَوِ التَّعْظِيمِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ مَجَازٌ. وَالْعِبَادَةُ فِي الشَّرْعِ أَخَصُّ فَتُعَرَّفُ بِأَنَّهَا فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ مِنْ خُضُوعٍ وَامْتِثَالٍ وَاجْتِنَابٍ، أَوْ هِيَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ((الْعِبَادَةُ تَعْظِيمُ أَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَضْعِ وَالْهَيْئَةِ والقلة وَالْكَثْرَة)) اهـ فَهِيَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ تَشْمَلُ الِامْتِثَالَ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا. وَقَدْ فَسَّرَ الصُّوفِيَّةُ الْعِبَادَةَ بِأَنَّهَا فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَالْعُبُودِيَّةُ بِالرِّضَا بِمَا يَفْعَلُ الرَّبُّ. فَهِيَ أَقْوَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعُبُودِيَّةُ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظُ الْحُدُودِ، وَالرِّضَا بِالْمَوْجُودِ. وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَفْقُودِ. وَهَذِهِ اصْطِلَاحَاتٌ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا. قَالَ الْفَخْرُ: ((مَرَاتِبُ الْعِبَادَةِ ثَلَاثٌ: الْأُولَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ، وَهِيَ دَرَجَةٌ نَازِلَةٌ سَاقِطَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَقَّ وَسِيلَةً لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ. الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِعِبَادَتِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ بِقَبُولِ تَكَالِيفِهِ وَهِيَ أَعْلَى مِنَ الْأُولَى إِلَّاُُ

أَنَّهَا لَيْسَتْ كَامِلَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ غَيْرُ اللَّهِ. الثَّالِثَةُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِكَوْنِهِ إِلَهًا خَالِقًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ وَكَوْنِهِ هُوَ عَبْدًا لَهُ، وَهَذِهِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ)) اهـ. قُلْتُ وَلَمْ يُسَمِّ الْإِمَامُ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ بِاسْمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُلْحَقَةٌ فِي الِاسْمِ بِالْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَعْنِي الْعُبُودِيَّةَ لِأَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ سِينَا قَالَ فِي «الْإِشَارَاتِ» : ((الْعَارِفُ يُرِيدُ الْحَقَّ لَا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ وَلَا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى عِرْفَانِهِ وَتَعَبُّدُهُ لَهُ فَقَطْ وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا نِسْبَةٌ شَرِيفَةٌ إِلَيْهِ لَا لِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ)) اهـ فَجَعَلَهُمَا حَالَةً وَاحِدَةً. وَمَا ادَّعَاهُ الْفَخْرُ فِي سُقُوطِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَنُزُولِ مَرْتَبَتِهَا قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ فِيهِ اصْطِلَاحُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلطَّمَعِ وَالْخَوْفِ هِيَ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ فِي سَائِرِ إِرْشَادِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ غَايَةُ التَّكْلِيفِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] فَإِنْ بَلَغَ الْمُكَلَّفُ إِلَى الْمُرَتَّبَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَذَلِكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، نَعَمْ إِنَّ أَفَاضِلَ الْأُمَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّخْوِيفِ وَالْإِطْمَاعِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ وَمَصَالِحِهِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ مُغَالَبَةِ نُفُوسِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْخَوْفِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَالطَّمَعِ فِي أَحْوَالٍ أَكْثَرَ. وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ فِي كِتَابِهِ الْمُتَّقِينَ فِي مَوَاضِعَ جَمَّةٍ وَدَعَا إِلَى التَّقْوَى، وَهَلِ التَّقْوَى إِلَّا كَاسْمِهِمَا بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاتِّقَاءِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الْإِسْرَاء: 57] . وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ لَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ قَالَ لَهُ كَيْفَ تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ:- «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» لِأَنَّ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى نِعْمَةٍ قَدْ حَصَلَتْ فَلَيْسَ فِيهِ حَظٌّ لِلنَّفْسِ بِالطَّمَعِ فِي الْمَزِيدِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ الْعَامَّ قَدْ حَصَلَ لَهُ فَصَارَ الشُّكْرُ لِأَجْلِ الْمَشْكُورِ لَا غَيْرَ وَتَمَحَّضَ أَنَّهُ لَا لِخَوْفٍ وَلَا طَمَعٍ (¬1) . ¬

(¬1) كَأَنَّهُمْ اصْطَلحُوا على أَن الْعُبُودِيَّة أبلغ من الْعِبَادَة لما فِيهَا من النّسَب لِأَن الْأَوْصَاف الَّتِي تلحقها يَاء النّسَب يقْصد مِنْهَا الْمُبَالغَة فِي الوصفية وَذَلِكَ للْجمع بَين طريقي توصيف فَإِن صِيغَة الْوَصْف تفِيد التوصيف وَصِيغَة النّسَب كَذَلِك وَلِهَذَا كَانَ قَوْلهم أسحمي أبلغ من أسحم، ولحياني أبلغ من لحيان فالعبودية مصدر من هَذَا النَّوْع. وَاعْلَم أَن كَون الشُّكْر يشْتَمل على حَظّ للمشكور قد تقرر فِي بحث الْحَمْدُ إِذْ بَينا أَن الْحَمد وَالشُّكْر تَزْيِين للعرض الْمَحْمُود والمشكور لقَوْل النَّابِغَة: شكرت لَك النعمى الْبَيْت.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْمَبَاحِثِ الْبَحْثَ عَنْ سِرِّ الْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرِهَا وَسِرِّ مَشْرُوعِيَّتِهَا لَنَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرًا لِكَمَالِ صِفَاتِهِ تَعَالَى: الْوُجُودُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ. وَجَعَلَ قَبُولَ الْإِنْسَانِ لِلْكَمَالَاتِ الَّتِي بِمِقْيَاسِهَا يَعْلَمُ نِسْبَةَ مَبْلَغِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَالْعَقْلَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَزْدَادُ التَّدَرُّجُ فِي الْكَمَالِ لِيَكُونَ غَيْرَ قَانِعٍ بِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ فِي أَوْجِ الْكَمَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَرْشَدَهُ وَهَدَاهُ إِلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَامِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ بِالِارْتِقَاءِ الْعَاجِلِ رُقِيٌّ آجِلٌ لَا يَضْمَحِلُّ، وَجَعَلَ اسْتِعْدَادَهُ لِقَبُولِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى التَّلْقِينِ مِنَ السَّفَرَةِ الْمُوحَى إِلَيْهِمْ بِأُصُولِ الْفَضَائِلِ. وَلَمَّا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ فِي نَفَرَاتِهَا وَشَرَدَاتِهَا وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُرَاقَبَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَذَكُّرِ الْمُجَازِي بِالْخَيْرِ وَضِدِّهِ، شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْمُجَازِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ حُضُورِ ذَاتِهِ وَاحْتِجَابِهِ بِسُبُحَاتِ الْجَلَالِ يُسَرِّبُ نِسْيَانَهُ إِلَى النُّفُوسِ، كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ نِظَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُتَّصِلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ لِئَلَّا يَفْسُدَ النِّظَامُ، وَلِمُرَاقَبَةِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتُذَكِّرَ بِهِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذَكُّرِ دَوَامَ الْفِكْرِ فِي الْخَالِقِ وَشُؤُونِهِ وَفِي ذَلِكَ تَخَلُّقٌ بِالْكَمَالَاتِ تَدْرِيجًا فَظَهَرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ طَرِيقُ الْكَمَالِ الذَّاتِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ مَبْدَأً وَنِهَايَةً، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فَالْعِبَادَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُحَقِّقَةً لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمَّا كَانَ سِرُّ الْخَلْقِ وَالْغَايَةُ مِنْهُ خَفِيَّةَ الْإِدْرَاكِ عَرَّفَنَا اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَظْهَرِهَا وَمَا يُحَقِّقُهَا جَمْعًا لِعَظِيمِ الْمَعَانِي فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جُمْلَةُ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي نَحَوْنَاهُ وَأَقَلُّ مِنْهُ قَوْلُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» : ((لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ بِأَمْرِ نَفْسِهِ إِلَّا بِمُشَارَكَةِ آخَرَ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ وَبِمُعَاوَضَةٍ وَمُعَارَضَةٍ تَجْرِيَانِ بَيْنَهُمَا يُفْرِغُ كُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَنْ مُهِمٍّ لَوْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ لَازْدَحَمَ عَلَى الْوَاحِدِ كَثِيرٌ وَكَانَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ إِنْ أَمْكَنَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَةٌ وَعَدْلٌ يَحْفَظُهُ شَرْعٌ يَفْرِضُهُ شَارِعٌ مُتَمَيِّزٌ بِاسْتِحْقَاقِ الطَّاعَةِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ جَزَاءٌ مِنْ عِنْدِ الْقَدِيرِ الْخَبِيرِ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةٌ الْمُجَازِي وَالشَّارِعِ وَأَنْ يكون مَعَ الْمعرفَة سَبَبٍ حَافِظٍ لِلْمَعْرِفَةِ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ الْمُذَكِّرَةُ لِلْمَعْبُودِ، وَكُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ لِيُسْتَحْفَظَ التَّذْكِيرُ بِالتَّكْرِيرِ)) اهـ. لَا شَكَّ أَنَّ دَاعِيَ الْعِبَادَةِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَهُوَ إِمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ أَوْ عَنْ خَوْفٍ مُجَرَّدٍ،

وَأَهَمُّهُ مَا كَانَ عَنْ مَحَبَّةٍ لِأَنَّهُ يُرْضِي نَفْسَ فَاعِلِهِ قَالَ: أَهَابُكِ إِجْلَالًا وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ ... عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ مِنْ غَضَبِ الْمَحْبُوبِ قَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ أَوْ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمرَان: 31] فَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ اتِّبَاعَ الشَّرِيعَةِ يُوجِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَوَدُّ أَنْ يُحِبَّهُ حَبِيبُهُ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي: أَنْتَ الْحَبِيبُ وَلَكِنِّي أَعُوذُ بِهِ ... مِنْ أَنْ أَكُونَ مُحِبًّا غَيْرَ مَحْبُوبِ وَإِلَى هَذَا النَّوْعِ تَرْجِعُ عِبَادَةُ أَكْثَرِ الْأُمَمِ، وَمِنْهَا الْعِبَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] . وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ عَبَدَتْ عَنْ خَوْفٍ دُونَ مَحَبَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِاتِّقَاءِ شَرٍّ كَمَا عَبَدَتْ بَعْضُ الْأُمَمِ الشَّيَاطِينَ وَعَبَدَتِ الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْمَجُوسِ الْمَعْبُودِ (أَهْرُمُنْ) وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَبُّ الشَّرِّ وَالضُّرِّ وَيَرْمُزُونَ إِلَيْهِ بِعُنْصُرِ الظُّلْمَةِ وَأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ خَاطِرِ سُوءٍ خَطَرَ لِلرَّبِّ (يَزْدَانَ) إِلَهِ الْخَيْرِ، قَالَ الْمَعَرِّيُّ: فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ ... فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُلَقَّنِينَ لِهَذَا الْحَمْدِ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَزَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» فِي شَرْحِ دِيبَاجَةِ «الْمُفَصَّلِ» عِنْدَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ «اللَّهَ أَحْمَدُ» أَنَّ التَّقْدِيمَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الِاهْتِمَامَ دُونَ حَصْرٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ دُونَ قَصْرٍ وَأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] وَإِبْطَالُ رَأْيِهِ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْمَعَانِي. وَأَنَا أَرَى اسْتِدْلَالَهُ بِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ الْعِلْمِيِّ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ مَحَامِلَ الْكَلَامِ مُتَمَاثِلَةً فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِنَّمَا لَمْ تُفْصَلْ عَنْ جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِطَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْجُمَلِ مَقَامِ التَّضَرُّعِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَقَامَاتِ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرِيرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُطُورِ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا فِي إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ، أَيْ نَخُصُّكَُُ

بِالِاسْتِعَانَةِ أَيْضًا مَعَ تَخْصِيصِكَ بِالْعِبَادَةِ. وَالِاسْتِعَانَةُ طَلَبُ الْعَوْنِ. وَالْعَوْنُ وَالْإِعَانَةُ تَسْهِيلُ فِعْلِ شَيْءٍ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ عَلَى الْمُسْتَعِينِ وَحْدَهُ، فَهِيَ تَحْصُلُ بِإِعْدَادِ طَرِيقِ تَحْصِيلِهِ مِنْ إِعَارَةِ آلَةٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ بِعَمَلِ الْبَدَنِ كَالْحَمْلِ وَالْقَوْدِ، أَوْ بِقَوْلٍ كَالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، أَوْ بِرَأْيٍ كَالنَّصِيحَةِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ: «وَخُلُقِيٌّ نِعْمَ الْعَوْنُ» ، أَوْ بِمَالٍ كَدَفْعِ الْمَغْرَمِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْرُ بِعَسِيرٍ مِنْ جُهُودِ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعِينِ. وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ فَهِيَ طَلَبُ الْمَعُونَةِ عَلَى مَا لَا قِبَلَ لِلْبَشَرِ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَلَا قِبَلَ لِلْمُسْتَعِينِ بِتَحْصِيلِهِ بِمُفْرَدِهِ، وَلِذَلِكَ فَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْمُسْتَعِينَ يَصْرِفُ مَقْدِرَتَهُ لِتَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَيَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ الْعَوْنَ عَلَيْهِ بِتَيْسِيرِ مَا لَا قِبَلَ لِقُدْرَةِ الْمُسْتَعِينِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِمُفْرَدِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَعُونَةُ شَرْعًا. وَقَدْ فَسَّرَهَا الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهَا هِيَ خَلْقُ مَا بِهِ تَمَامُ الْفِعْلِ أَوْ تَيْسِيرُهُ، فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْ مَا يَتَوَقَّفُ الْفِعْلُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا أَيْ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ تَوَفُّرِ مُتَعَلِّقِهَا وَهِيَ إِعْطَاءُ الِاقْتِدَارِ لِلْفَاعِلِ وَتَصَوُّرُهُ لِلْفِعْلِ وَحُصُولُ الْمَادَّةِ وَالْآلَةِ، وَمَجْمُوعُ هَاتِهِ الْأَرْبَعَةِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَبِهَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُسْتَطِيعِ. الْقِسْمُ الثَّانِي الْمَعُونَةُ غَيْرُ الضَّرُورِيَّةِ وَيَنْبَغِي أَنْ تُخَصَّ بِاسْمِ الْإِعَانَةِ وَهِيَ إِيجَادُ الْمُعِينِ مَا يَتَيَسَّرُ بِهِ الْفِعْلُ لِلْمُعَانِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ وَيَقْرُبَ مِنْهُ كَإِعْدَادِ الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ. وَبِانْضِمَامِ هَذَا الْمَعْنَى لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْفِيقِ الْمُعَرَّفِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَسَمَّى الرَّاغِبُ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ بِالتَّوْفِيقِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعُونَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَتَمَّ التَّوْفِيقُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُهِمَّةِ كُلِّهَا الَّتِي أَعْلَاهَا تَلَقِّي الدِّينِ وَكُلِّ مَا يَعْسُرُ عَلَى الْمَرْءِ تَذْلِيلُهُ مِنْ تَوَجُّهَاتِ النُّفُوسِ إِلَى الْخَيْرِ وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ. وَقَرِينَةُ هَذَا الْمَقْصُودِ رَسْمُهُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَوُقُوعُ تَخْصِيصِ الْإِعَانَةِ عَقِبَ التَّخْصِيصِ بِالْعِبَادَةِ. وَلِذَلِكَ حَذَفَ مُتَعَلِّقَ نَسْتَعِينُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ مَجْرُورًا بِعَلَى، وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَذْفُ الْهَامُّ عُمُومَ الِاسْتِعَانَةِ الْمَقْصُورَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ تَأَدُّبًا مَعَهُ تَعَالَى، وَمِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ وَهِيَ الْمَعَارِفُ وَالْإِرْشَادَاتُ وَالشَّرَائِعُ وَأُصُولُ الْعُلُومِ فَكُلُّهَا مِنَ الْإِعَانَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَكُلُّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَنَا مَبَادِئَ الْعُلُومِ وَكَلَّفَنَا الشَّرَائِعَ وَلَقَّنَنَا النُّطْقَ، قَالَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: 8- 10]- فَالْأَوَّلُ إِيمَاءٌ إِلَى طَرِيقِ الْمَعَارِفِ وَأَصْلُهَا الْمَحْسُوسَاتُ وَأَعْلَاهَا الْمُبْصِرَاتُ، وَالثَّانِي إِيمَاءٌ إِلَى

النُّطْقِ وَالْبَيَانِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالثَّالِثُ إِلَى الشَّرَائِعِ. وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّقْدِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالِاسْتِعَانَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْض فِي شؤونهم، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُنَا لَا نَسْتَعِينُ عَلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالنَّاسِ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَيُفِيدُ هَذَا الْقَصْرُ فِيهِمَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى قَصْدِ التَّشْرِيكِ إِلَّا أَنَّ وَلَعَهُ وَاسْتِهْتَارَهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْسَاهُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَبَدَتْ سَبَأُ الشَّمْسَ وَعَبَدَ الْفُرْسُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَعَبَدَ الْقِبْطُ الْعِجْلَ وَأَلَّهُوا الْفَرَاعِنَةَ، وَعَبَدَتْ أُمَمُ السُّودَانِ الْحَيَوَانَاتِ كَالثَّعَابِينِ. وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَهَذَا حَالُ مُعْظَمِ الْعَرَبِ مِمَّنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ أَوْ عَبَدَ الْكَوَاكِبَ، فَقَدْ عَبَدَتْ ضَبَّةُ وَتَيْمٌ وَعُكْلُ الشَّمْسَ، وَعَبَدَتْ كِنَانَةُ الْقَمَرَ، وَعَبَدَتْ لَخْمٌ وَخُزَاعَةُ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ الشِّعْرَى، وَعَبَدَتْ تَمِيمٌ الدبران، وعبدت طيىء الثُّرَيَّا، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ بِزَعْمِهِمْ وَسِيلَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ لِأَنَّ جَعْلَهُمْ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اسْتِفَادَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَيْ بِطَرِيقِ عَرْضِ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِرَدِّ الِاعْتِقَادِ إِلَّا تَعْرِيضًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَاصِلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّلْكُوتِيُّ فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ» . فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نَسْتَعِينَ إِلَّا بِهِ حَسْبَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» فَلَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ. قُلْتُ قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ طَرِيقَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَأَنَّ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا فِي نَفْسِهِ فَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْقَصْرِ لَغْوٌ مِنَ الْكَلَامِ اهـ. وَأَقُولُ تَقْفِيَةً عَلَى أَثَرِهِ إِنَّ مَقَامَ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَقَامِ الْآيَةِ فَمَقَامُ الْحَدِيثِ مَقَامُ تَعْلِيمٍ خَاصٍّ لِمَنْ نَشَأَ وَشَبَّ وَتَرَجَّلَ فِي الْإِسْلَامِ فَتَقَرُّرُ قَصْرِ الْحُكْمِ لَدَيْهِ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَأَمَّا مَقَامُ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَقَامُ مُفْتَتَحِ الْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ وَاسْتِهْلَالِ الْوَعْظِ وَالتَّقْرِيعِ، فَنَاسَبَ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ بِالْقَصْرِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِحَالِ الشِّرْكِ الشَّنِيعِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ بِهِمَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ أَيِّ سُؤَالٍ وَأَيَّةِ اسْتِعَانَةٍ يُفِيدُ مَفَادَ الْقَصْرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ

وَبَرَاءَةً مِنْ صَنِيعِهِمْ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِآلِهَتِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ عِنْدَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ. وَضَمِيرَا نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ يَعُودَانِ إِلَى تَالِي السُّورَةِ ذَاكِرًا مَعَهُ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ضَمِيرِ الْوَاحِدِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَحَامِدَ صَادِرَةٌ مِنْ جَمَاعَاتٍ، فَفِيهِ إِغَاظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ مِنْ أَعْبُدَ وَأَسْتَعِينَ لِئَلَّا تَخْلُوَ الْمُنَاجَاةُ عَنْ ثَنَاءٍ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَحْمُودَ الْمَعْبُودَ الْمُسْتَعَانَ قَدْ شَهِدَ لَهُ الْجَمَاعَاتُ وَعَرَفُوا فَضْلَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ: قُعُودًا لَهُ غَسَّانُ يَرْجُونَ أَوْبَةً ... وَتُرْكٌ وَرَهْطُ الْأَعْجَمِينَ وَكَابُلُ إِذْ قَصَدَ مِنْ تَعْدَادِ أَصْنَافٍ مِنَ الْأُمَمِ الْكِنَايَةَ عَنْ عَظَمَةِ النُّعْمَانِ وَكَثْرَةِ رَعِيَّتِهِ. فَكَأَنَّ الْحَامِدَ لَمَّا انْتَقَلَ مِنَ الْحَمْدِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ لَمْ يُغَادِرْ فُرْصَةً يَقْتَنِصُ مِنْهَا الثَّنَاءَ إِلَّا انتهزها. وَوَجهه تَقْدِيمِ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَقَرُّبٌ لِلْخَالِقِ تَعَالَى فَهِيَ أَجْدَرُ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْمُنَاجَاةِ، وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ فَهِيَ لِنَفْعِ الْمَخْلُوقِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُنَاجِي مَا هُوَ مِنْ عَزْمِهِ وَصُنْعِهِ عَلَى مَا يَسْأَلُهُ مِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ تَتَرَكَّبُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْبُودًا لِلْمُسْتَعِينِ بِهِ وَلِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا تُطْلَبُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ فَكَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي التَّعَقُّلِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ التَّقْدِيمِ أَيْضًا إِيفَاءُ حَقِّ فَوَاصِلِ السُّورَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْحَرْفِ السَّاكِنِ الْمُتَمَاثِلِ أَوِ الْقَرِيبِ فِي مَخْرَجِ اللِّسَانِ. وَأُعِيدَ لَفْظُ إِيَّاكَ فِي الِاسْتِعَانَةِ دُونَ أَنْ يَعْطِفَ فِعْلَ نَسْتَعِينُ عَلَى نَعْبُدُ مَعَ أَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ جَمِيعًا كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ فَرْقًا، فَالْحَصْرُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَقِيقِيٌّ وَالْقَصْرُ فِي إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ادِّعَائِيٌّ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَسْتَعِينُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمَائِدَة: 2] وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَعِينُ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا يَعُدُّ الِاسْتِعَانَةَ حَقِيقَةً إِلَّا الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى

[6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. تَهَيَّأَ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى طَلَبِ حُظُوظِهِمُ الشَّرِيفَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ حَمِدُوا اللَّهَ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالَةِ ثُمَّ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الَّذِي هُوَ وَاسِطَةٌ جَامِعٌ بَيْنَ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَهِيَ حَظُّ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ عَابِدٌ وَمُسْتَعِينٌ وَأَنَّهُ قَاصِرٌ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الثَّنَاءِ وَبَيْنَ الطَّلَبِ، حَتَّى إِذَا ظَنُّوا بِرَبِّهِمُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ وَرَجَوْا مِنْ فَضْلِهِ، أفضوا إِلَى سُؤال حَظِّهِمْ فَقَالُوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ حَظُّ الطَّالِبِينَ خَاصَّةً لِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، فَهَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ الْفَاتِحَةِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ هُدًى لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً فَتَتَنَزَّلُ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْمَقْصِدِ مِنَ الدِّيبَاجَةِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ مِنَ الْخُطْبَةِ، أَوِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْقَصِيدَةِ، وَلِاخْتِلَافِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَهَا بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ فُصِلَتْ هَذِهِ عَنْهُنَّ، وَهَذَا أَوْلَى فِي التَّوْجِيهِ مِنْ جَعْلِهَا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَالْهِدَايَةُ الدَّلَالَةُ بِتَلَطُّفٍ وَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالدَّلَالَةِ لِمَا فِيهِ خَيْرُ الْمَدْلُولِ لِأَنَّ التَّلَطُّفَ يُنَاسِبُ مَنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْإِرْشَادِ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ بِإِلَى وَبِاللَّامِ وَالِاسْتِعْمَالَانِ وَارِدَانِ، تَقُولُ هَدَيْتُهُ إِلَى كَذَا عَلَى مَعْنَى أَوْصَلْتُهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهَدَيْتُهُ لِكَذَا عَلَى مَعْنَى أَرْشَدْتُهُ لِأَجْلِ كَذَا: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَاف: 43] وَقَدْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ كَمَا هُنَا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى عَرَفَ قِيلَ هِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا يُعَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ جَعَلُوا تَعْدِيَتَهُ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّوَسُّعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ. وَقِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْهِدَايَةِ لِمَنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ لِيَزْدَادَ هُدًى وَمَصْدَرُهُ حِينَئِذٍ الْهِدَايَةُ، وَأَمَّا هَدَاهُ إِلَى كَذَا أَوْ لِكَذَا فَيُسْتَعْمَلُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ سَائِرًا فِي الطَّرِيقِ وَمَصْدَرُهُ هُدًى، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ بِالْحَرْفِ إِنَّمَا عُدِّيَ لِتَقْوِيَتِهِ وَالتَّقْوِيَةُ إِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَقْوِيَةَ الْعَامِلِ لِضَعْفِهِ فِي الْعَمَلِ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوِ التَّأْخِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَقْوِيَةَ مَعْنَاهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا إِنْ تَمَّ فَهُوَ أَغْلَبِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَقْتَضِي كَوْنُ الْفِعْلِ مُخْتَلِفَ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا تَخْتَلِفُ مَعَانِيهِ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ تَعْدِيَتِهِ إِلَّا إِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ،

عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهُدَى وَالْهِدَايَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْهَدْيُ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ التَّعْدِيَةَ وَالْقُصُورَ لَيْسَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُصْنَعُ بِالْيَدِ أَوْ يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مَعْنَى الْحَدَثِ الْمَدْلُولِ لِلْفِعْلِ فَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ يَتَقَوَّمُ مَعْنَاهُ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ مَنْ قَامَ بِهِ فَهُوَ الْفِعْلُ الْقَاصِرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَوَّمُ إِلَّا بِتَصَوُّرِ مَنْ قَامَ بِهِ وَمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ أُشْكِلَتْ أَفْعَالٌ فَإِنَّمَا إِشْكَالُهَا لِعَدَمِ اتِّضَاحِ تَشَخُّصِ الْحَدَثِ الْمُرَادِ مِنْهَا لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَحُومُ حَوْلَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَهَدَى مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْدِيَتِهِ لِثَانٍ فَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنِ اعْتُبِرَ فِيهِ معنى الإراءة وَالْإِبَانَةِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهِ مُطْلَقُ الْإِرْشَادِ وَالْإِشَارَةِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْحَرْفِ فَحَالَةُ تَعْدِيَتِهِ هِيَ الْمُؤْذِنَةُ بِالْحَدَثِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ حَقِيقَةَ الْهِدَايَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى الطَّرِيقِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ فَالْهَادِي هُوَ الْعَارِفُ بِالطُّرُقِ وَفِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا» وَإِنَّ مَا نَشَأَ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ هُوَ مَجَازَاتٌ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا. وَالْهِدَايَةُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ حِينَ تُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَيُقَابِلُهَا الضَّلَالَةُ وَهِيَ التَّغْرِيرُ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي اعْتِبَارِ قَيْدِ الْإِيصَالِ إِلَى الْخَيْرِ فِي حَقِيقَةِ الْهِدَايَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَأَنَّهَا الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْوُصُولُ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ الدَّلَالَةُ مَعَ الْإِيصَالِ وَإِلَّا لَمَا امْتَازَتْ عَنِ الضَّلَالَةِ أَيْ حَيْثُ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوصِلَ مَنْ يَهْدِيهِ إِلَى مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ، وَمَرْجِعُ الْخِلَافِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَصْلُ مَعْنَى رِضَى اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ، فَأَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ اعْتَبَرُوا الْهِدَايَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ نَظَرُوا إِلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُتَعَلِّقِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْهِدَايَةَ مَعَ الْوُصُولِ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ شَرْعًا مِنَ الْهَادِي وَالْمَهْدِيِّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْخَطَأُ لِلْهَادِي وَسُوءُ الْقَبُولِ مِنَ الْمَهْدِيِّ وَهَذَا مَعْنَى مَا اخْتَارَ عَبْدُ الْحَكِيمِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْع لقدر الْمُشْتَرِكِ لِوُرُودِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [الْقَصَص: 56] وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمُ الْمَجَازِ. وَالْهِدَايَةُ أَنْوَاعٌ تَنْدَرِجُ كَثْرَتُهَا تَحْتَ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ مُتَرَتِّبَةٍ: الْأَوَّلُ إِعْطَاءُ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةِ وَالْمُدْرِكَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الِاهْتِدَاءُ إِلَى انْتِظَامِ وُجُودِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ

تَبْتَدِئُ مِنْ إِلْهَامِ الصَّبِيِّ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَالْبُكَاءَ عِنْدَ الْأَلَمِ إِلَى غَايَةِ الْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي بِهَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ كَإِدْرَاكِ هَوْلِ الْمُهْلِكَاتِ وَبَشَاعَةِ الْمُنَافَرَاتِ، وَيَجْلِبُ مَصَالِحَهُ الْوُجُودِيَّةَ كَطَلَبِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَذَوْدِ الْحَشَرَاتِ عَنْهُ وَحَكِّ الْجِلْدِ وَاخْتِلَاجِ الْعَيْنِ عِنْدَ مُرُورِ مَا يُؤْذِي تُجَاهَهَا، وَنِهَايَتُهَا أَحْوَالُ الْفِكْرِ وَهُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَعْنِي مُلَاحَظَةَ الْمَعْقُولِ لِتَحْصِيلِ الْمَجْهُولِ فِي الْبَدِيهِيَّاتِ وَهِيَ الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْإِنْسَانُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الْعُلُومِ الْمَحْسُوسَةِ. الثَّانِي نَصْبُ الْأَدِلَّةِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَهِيَ هِدَايَةُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ. الثَّالِثُ الْهِدَايَةُ إِلَى مَا قَدْ تُقَصِّرُ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ يُفْضِي إِعْمَالُهَا فِي مِثْلِهِ إِلَى مَشَقَّةٍ وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَمَوَازِينِ الْقِسْطِ وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الرُّسُل: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاء: 23] . الرَّابِعُ أَقْصَى أَجْنَاسِ الْهِدَايَةِ وَهِيَ كَشْفُ الْحَقَائِقِ الْعُلْيَا وَإِظْهَارُ أَسْرَارِ الْمَعَانِي الَّتِي حَارَتْ فِيهَا أَلْبَابُ الْعُقَلَاءِ إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ أَوِ التَّجَلِّيَاتِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى هَذَا هُدًى حِينَ أَضَافَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِقَوْلِهِ اهْدِنَا الْمُلَقَّنِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا يُنَاسِبُ حَالَ الدَّاعِي بِهَذَا إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ دَاعٍ خَاصٍّ أَوْ طَائِفَة خَاصَّة عِنْد مَا يَقُولُونَ: اهْدِنَا، أَوْ هُوَ أَنْوَاعُ الْهِدَايَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِاعْتِبَارِ تَوْزِيعِهَا عَلَى مَنْ تَأَهَّلَ لَهَا بِحَسَبِ أَهْلِيَّتِهِ إِنْ كَانَ دُعَاءً عَلَى لِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَبَعْضُ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ مَطْلُوبٌ حُصُولُهُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مَطْلُوبٌ دَوَامُهُ لِمَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ خَاصَّةً أَوْ لِجَمِيعِ النَّاسِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَذَلِكَ كَالْهِدَايَةِ الْحَاصِلَةِ لَنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهَا مِثْلَ غَالِبِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الْأَوَّلِ. وَصِيغَةُ الطَّلَبِ مَوْضُوعَةٌ لِطَلَبِ حُصُولِ الْمَاهِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَفٍّ فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا مَجَازًا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء: 136] وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا طَلَبُ الدَّوَامِ. وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ لِلزِّيَادَةِ مِمَّا حَصَلَ بَعْضُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْضُهُ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ طَلَبُ الْحُصُولِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ مَثَلًا تَحْصِيلٌ لِمَوَادَّ أُخْرَى مِنْهَا. وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ دَوَامِ مَا حَصَلَ إِذْ لَا تَكَادُ تَنْفَعُ الزِّيَادَةُ إِذَا انْتَقَضَ الْأَصْلُ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا حِينَئِذٍ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى مَعَ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ. أَمَّا إِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مَنْ بَلَغَ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ وَرَقِيَ إِلَى قِمَّةِ غاياتها وَهُوَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِ مَعْنَاهُ وَيَكُونُ دُعَاؤُهُ ذَلِكَ اقْتِبَاسًا مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ عَيْنَ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا طَلَبُ الْحُصُولِ بِالْمَزِيدِ مَعَ طَلَبِ الدَّوَامِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِزَامِ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ هُوَ طَلَبُ الْهِدَايَةِ الْكَامِلَةِ. وَالصِّرَاطُ الطَّرِيقُ وَهُوَ بِالصَّادِ وبالسين وَقد قرىء بِهِمَا فِي الْمَشْهُورَةِ وَكَذَلِكَ نَطَقَتْ بِهِ بِالسِّينِ جُمْهُورُ الْعَرَبِ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ نَطَقُوهُ بِالصَّادِ مُبْدَلَةً عَنِ السِّينِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ السِّينِ إِلَى الرَّاءِ ثُمَّ إِلَى الطَّاءِ قَالَ فِي «لَطَائِفِ الْإِشَارَاتِ» عَنِ الْجَعْبَرِيِّ إِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سِينٍ بَعْدَهَا غَيْنٌ أَوْ خَاءٌ أَوْ قَافٌ أَوْ طَاءٌ وَإِنَّمَا قَلَبُوهَا هُنَا صَادًا لِتُطَابِقَ الطَّاءَ فِي الْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّفَخُّمِ مَعَ الرَّاءِ اسْتِثْقَالًا لِلِانْتِقَالِ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ اهـ. أَيْ بِخِلَافِ الْعَكْسِ نَحْوَ طَسْتٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمَلٌ وَالثَّانِي تَرْكٌ. وَقَيْسٌ قَلَبُوا السِّينَ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ وَهُوَ إِشْمَامٌ وَقَرَأَ بِهِ حَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ خَلَفٍ عَنْهُ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ قَلَبَ السِّينَ زَايًا خَالِصَةً قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ لُغَةُ عُذْرَةَ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ وَهِيَ مَرْجُوحَةٌ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَقَدْ قَرَأَ بِاللُّغَةِ الْفُصْحَى (بِالصَّادِ) جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَقَرَأَ بِالسِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ قُنْبُلٍ، وَالْقِرَاءَةُ بِالصَّادِ هِيَ الرَّاجِحَةُ لِمُوَافَقَتِهَا رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَكَوْنِهَا اللُّغَةَ الْفُصْحَى. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِالصَّادِ وَقَرَأَهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالسِّينِ؟ قُلْتُ إِنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوهَا بِالصَّادِ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَفْصَحِ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاعْتَمَدُوا عَلَى عِلْمِ الْعَرَب فَالَّذِينَ قرأوا بِالسِّينِ تَأَوَّلُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتْرُكُوا لُغَةَ السِّينِ لِلْعِلْمِ بِهَا فَعَادَلُوا الْأَفْصَحَ بِالْأَصْلِ وَلَوْ كَتَبُوهَا بِالسِّينِ مَعَ أَنَّهَا الْأَصْلُ لَتَوَهَّمَ النَّاسُ عَدَمَ جَوَازِ الْعُدُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَرْسُومُ كَمَا كَتَبُوا الْمُصَيْطِرَ بِالصَّادِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَصْلَهُ السِّينُ فَهَذَا مِمَّا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا فِي مَادَّةِ اللَّفْظِ لِشُهْرَةِ اخْتِلَافِ لَهَجَاتِ الْقَبَائِلِ فِي لَفْظٍ مَعَ اتِّحَادِهِ عِنْدَهُمْ. وَالصِّرَاطُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ النَّقَّاشِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ الطَّرِيقُ بِلُغَةِ الرُّومِ وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ «الزِّينَةِ» لَهُ وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فَزَادَهُ فِي «مَنْظُومَتِهِ فِي الْمُعَرَّبِ» . وَالصِّرَاطُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ مُدْرِكُهُ إِلَى الْفَوْزِ بِرِضَاءِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَوْزَ هُوَ الَّذِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِطَلَبِهِ.

وَالْمُسْتَقِيمُ اسْمُ فَاعِلِ اسْتَقَامَ مُطَاوِعٌ قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ، وَالْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا تَعَارِيجَ، وَأَحْسَنُ الطُّرُقِ الَّذِي يَكُونُ مُسْتَقِيمًا وَهُوَ الْجَادَّةُ لِأَنَّهُ بِاسْتِقَامَتِهِ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَضِلُّ فِيهِ سَالِكُهُ وَلَا يَتَرَدَّدُ وَلَا يَتَحَيَّرُ. وَالْمُسْتَقِيمُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْحَقِّ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا تَخْلِطُهُ شُبْهَةُ بَاطِلٍ فَهُوَ كَالطَّرِيقِ الَّذِي لَا تَتَخَلَّلُهُ بُنَيَّاتٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دِينُ الْحَقِّ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، فَكَلَامُهُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمْ لُقِّنُوا الدُّعَاءَ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ إِلَى دِينٍ مَضَى وَإِنْ كَانَتِ الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ كُلُّهَا صُرُطًا مُسْتَقِيمَةً بِحَسَبِ أَحْوَالِ أُمَمِهَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ غِوَايَةِ الشَّيْطَانِ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] . فَالتَّعْرِيفُ فِي (الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ) تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا الْهِدَايَةَ لِهَذَا الْجِنْسِ فِي ضِمْنِ فَرْدٍ وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُنْحَصِرُ فِيهِ الِاسْتِقَامَةُ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ لَا تَتَعَدَّدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: 32] وَلِأَنَّ الضَّلَالَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ كَمَا قَالَ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: 100] وَقَدْ يُوَجَّهُ هَذَا التَّفْسِيرُ بِحُصُولِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ هَذَا الدُّعَاءَ لِإِظْهَارِ مِنَّتِهِ وَقَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ وَيَهْدِيهِمْ بِمَا لَحِقَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ. وَإِطْلَاقُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَام: 161] . وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمَعَارِفُ الصَّالِحَاتُ كُلُّهَا مِنَ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّلَالِ عَلَى مَقَادِيرِ اسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ وَسَعَةِ مَجَالِ الْعُقُولِ النَّيِّرَةِ وَالْأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِمْ زَيْغٌ وَشُبْهَاتٌ فِي دِينِهِمْ وَهَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ الدُّعَاءُ طَلَبَ تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ وَقْتَ الطَّلَبِ وَإِنَّ الْمَرْءَ بِحَاجَةٍ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيع شؤونه كُلِّهَا حَتَّى فِي الدَّوَامِ عَلَى مَا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيهِ أَوِ الزَّيْغِ عَنْهُ. وَالْهِدَايَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا تُقْصَرُ عَلَى ابْتِدَاءِ اتِّبَاعِهِ وَتَقَلُّدِهِ بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ بِاسْتِمْرَارِ تَشْرِيعَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ بِالنَّصِّ أَوِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَبِهِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ مُصَادِفًا الْمِحَزِّ

[7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَإِنَّمَا جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ بِأُسْلُوبِ الْإِبْدَالِ أَوِ الْبَيَانِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَقِيمَ، لِفَائِدَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطَّلَبِ ابْتِدَاءً هُوَ كَوْنُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَسِيلَةً لِلنَّجَاةِ وَاضِحَةً سَمْحَةً سَهْلَةً، وَأَمَّا كَوْنُهَا سَبِيلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْرٌ زَائِدٌ لِبَيَانِ فَضْلِهِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: مَا فِي أُسْلُوبِ الْإِبْدَالِ مِنَ الْإِجْمَالِ الْمُعَقَّبِ بِالتَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنَ مَعْنَى الصِّرَاطِ لِلْمَطْلُوبِ فَضْلُ تَمَكُّنٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لُقِّنُوا هَذَا الدُّعَاءَ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ مِثْلُ مَا لِلتَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ، وَأَيْضًا لِمَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ هَذَا الصِّرَاطِ وَتَحْقِيقِ مَفْهُومِهِ فِي نُفُوسِهِمْ فَيَحْصُلُ مَفْهُومُهُ مَرَّتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا يَحْصُلُ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَاعْتِبَارِ الْبَدَلِيَّةِ مُسَاوٍ لِاعْتِبَارِهِ عَطْفَ بَيَانٍ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ خِلَافًا لِمَنْ حَاوَلَ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا، إِذِ التَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْبَدَلِ وَهُوَ الْبَدَلُ الْمُطَابِقُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنَ النُّحَاةِ عَلَى تَفْرِقَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا شَاهِدًا يُعَيِّنُ الْمَصِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «فَإِنْ قُلْتَ مَا فَائِدَةُ الْبَدَلِ؟ قُلْتُ فَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالتَّكْرِيرِ» اهـ فَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِبْدَالِ أَمْرَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى التَّوْكِيدِ وَهُمَا مَا فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ أَيْ تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَدَلِ وَلَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَعَنَى بِالتَّكْرِيرِ مَا يُفِيدُهُ الْبَدَلُ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: «وَهُوَ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ، وَسَمَّاهُ تَكْرِيرًا لِأَنَّهُ إِعَادَةٌ لِلَّفْظِ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ إِعَادَةِ لَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَإِنَّهُ إِعَادَةٌ لَهُ بِمَا يَتَّحِدُ مَعَ مَا صَدَقَهُ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالتَّكْرِيرِ وَبِالتَّثْنِيَةِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْبَدَلِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ يُفِيدُ فَائِدَةَ الْبَدَلِ وَفَائِدَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَتَأَتَّى عَلَى وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ إِلَّا بِهَذَا الصَّوْغِ الْبَدِيعِ. وَإِنَّ إِعَادَةَ الِاسْمِ فِي الْبَدَلِ أَوِ الْبَيَانِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا يُرَادُ تَعَلُّقُهُ بِالِاسْمِ الْأَوَّلِ أُسْلُوبٌ بَهِيجٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِإِشْعَارِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ بِأَنَّ مَدْلُولَهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ وَأَنَّهُ حَبِيبٌ إِلَى النَّفْسِ، وَمِثْلُهُ تَكْرِيرُ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] فَإِنَّ إِعَادَةَ فِعْلِ مَرُّوا وَفِعْلِ أَغْوَيْناهُمْ وَتَعْلِيقِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ الْمُعَادِ دُونَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ تَجِدُ لَهُ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالْبَهْجَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِتَعْلِيقِهِ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ

دُونَ إِعَادَةٍ، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ فِي مِثْلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ زِيدَ عَلَيْهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ إِذَا قُمْتُ قُمْتُ وَإِذَا أَقْعُدُ أَقْعُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادَةُ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ (يَعْنِي الْفَارِسِيَّ) امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ اهـ. قُلْتُ وَلَمْ يَتَّضِحْ تَوْجِيهُ امْتِنَاعِ أَبِي عَلِيٍّ فَلَعَلَّهُ امْتَنَعَ مِنَ اعْتِبَارِ أَغْوَيْناهُمْ بَدَلًا مِنْ أَغْوَيْنا وَجَعَلَهُ اسْتِئْنَافًا وَإِنْ كَانَ الْمَآلُ وَاحِدًا. وَفِي اسْتِحْضَارِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ، وَإِسْنَادِ فِعْلِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِمْ خِلَافًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. ثُمَّ إِنَّ فِي اخْتِيَارِ وَصْفِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِأَنَّهُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِ تَمْهِيدًا لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قُلْتَ لَهُ أَعْطِنِي كَمَا أَعْطَيْتَ فُلَانًا كَانَ ذَلِكَ أَنْشَطَ لِكَرَمِهِ، كَمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ، فَيَقُولُ السَّائِلُونَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيم الصِّرَاط الَّذين هَدَيْتَ إِلَيْهِ عَبِيدَ نِعَمِكَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِطَلَبِ أَن يَكُونُوا لَا حقين فِي مَرْتَبَةِ الْهُدَى بِأُولَئِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَهَمُّمًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي ارْتَقَوْا بِهَا إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] ، وَتَوْطِئَةً لِمَا سَيَأْتِي بعد من التبري مِنَ أَحْوَالِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا وَتَعَوُّذًا. وَالنِّعْمَةُ- بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ- مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّعِيمِ وَهُوَ رَاحَةُ الْعَيْشِ وَمُلَائِمُ الْإِنْسَانِ وَالتَّرَفُّهِ، وَالْفِعْلُ كَسَمِعَ وَنَصَرَ وَضَرَبَ. وَالنِّعْمَةُ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ لِأَنَّ بِنَاءَ الْفِعْلَةِ بِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَاتِ وَمُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي اللَّذَّاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْعَائِدَةِ بِالنَّفْعِ وَلَوْ لَمْ يُحِسَّ بِهَا صَاحِبُهَا. فَالْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ الَّتِي لَمْ يَشُبْهَا مَا يُكَدِّرُهَا وَلَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا سُوأَى، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا الْخَالِصَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ وَلِخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْأَهَمُّ، فَيَشْمَلُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمَوْهُوبِيَّ مِنْهَا وَالْكَسْبِيَّ، وَالرُّوحَانِيَّ وَالْجُثْمَانِيَّ، وَيَشْمَلُ النِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ.

وَالنِّعْمَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ مُعْظَمُهَا إِلَى الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْكَسْبِيِّ مِنَ الدُّنْيَوِيِّ وَإِلَى الْأُخْرَوِيِّ كُلِّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهَا حَقِيقَةُ الْهِدَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِلَا كَسْبٍ إِلَّا أَنَّ الْهِدَايَةَ تَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُفِيضَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ الْكَامِلَةُ وَلَا تَخْفَى تَمَامُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ الْمَهْدِيِّينَ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ فِي إِبْدَالِ صِراطَ الَّذِينَ مِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مَعْنًى بَدِيعٌ وَهُوَ أَنَّ الْهِدَايَةَ نِعْمَةٌ وَأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ قَدْ هُدُوا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ خِيَارُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمُ النِّعْمَةُ الْكَامِلَةُ. وَإِنَّمَا يَلْتَئِمُ كَوْنُ الْمَسْئُولِ طَرِيقَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى وَكَوْنُهُ هُوَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ مِنْ بَعْدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَارٍ عَلَى سَنَنِ الشَّرَائِعِ الْحَقَّةِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ وَفُرُوعِ الْهِدَايَةِ وَالتَّقْوَى، فَسَأَلُوا دِينًا قَوِيمًا يَكُونُ فِي اسْتِقَامَتِهِ كَصِرَاطِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَأُجِيبُوا بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَمَعَ اسْتِقَامَةَ الْأَدْيَانِ الْمَاضِيَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَالَةٍ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُمَمُهُمْ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ الْمَاضِينَ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ لِأَبْنَائِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفِقَ بِالْأُمَمِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ غَايَةَ الْمُرَادِ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ تَأَهُّلِهِمْ لِلِاضْطِلَاعِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِأَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَهِيَ مُرَادُهُ تَعَالَى مِنَ الْخَلْقِ فِي الْغَايَةِ، وَلْنُمَثِّلْ لِذَلِكَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَقَدْ كَانَ الْقَدْرُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ مِنْهُ مُبَاحًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ أَوْ لَا يَحْرُمُ أَصْلًا غَيْرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَكُونُوا يَتَعَاطَوْنَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ وَهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَسَوَاءٌ فَسَّرْنَا الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِأَفْضَلِ أتباعهم أَو الْمُسلمين السَّابِقِينَ فَالْمَقْصِدُ الْهِدَايَةُ إِلَى صِرَاطٍ كَامِلٍ وَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْمُولًا فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُ طُرُقَ الْهِدَايَةِ الَّتِي سَبَقَتْ زَمَانَهُ وَالَّتِي لَمْ يَبْلُغْ إِلَى نِهَايَتِهَا. وَالْقَوْلُ فِي الْمَطْلُوبِ مِنِ اهْدِنَا عَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ اهْدِنَا لِطَلَبِ الْحُصُولِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الدَّوَامِ. وَالدُّعَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ غَيْرِ الْخَالِصَةِ، فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كُلِّهِمْ كَثِيرَةٌ وَالْكَافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُمْتَرَى فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا نِعَمٌ تَحُفُّهَا آلَامُ الْفِكْرَةِ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَيَعْقُبُهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَالْخِلَافُ الْمَفْرُوضُ بَيْنَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْكَافِرَ هَلْ هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ خِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِظَوَاهِرِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. كَلِمَةُ غَيْرِ مَجْرُورَةٌ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ لِلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ وَالْوَصْفُ وَالْبَدَلِيَّةُ سَوَاءٌ فِي الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي «الْكَشَّافِ» بَيَانَ وَجْهِ الْبَدَلِيَّةِ لِاخْتِصَارِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِيُفْضِيَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، فَيُورِدُ عَلَيْهَا كَيْفِيَّةَ صِحَّةِ تَوْصِيفِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلِمَةِ (غَيْرِ) الَّتِي لَا تُتَعَرَّفُ، وَإِلَّا فَإِنَّ جَعْلَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ صِفَةً لِلَّذِينَ هُوَ الْوَجْهُ وَكَذَلِكَ أَعْرَبَهُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْبَدَلَ بِالْوَصْفِ ضَعِيفٌ إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْبَدَلَ هُوَ عَيْنُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَيِ اسْمُ ذَاتٍ لَهُ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى التَّوْصِيفِ فِي غَيْرِ أَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى ذَاتٍ أُخْرَى لَيْسَتِ السَّابِقَةَ، وَهُوَ وُقُوفٌ عِنْدَ حُدُودِ الْعِبَارَاتِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ حَتَّى احْتَاجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى تَأْوِيلِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ بِالَّذِينَ سَلِمُوا مِنَ الْغَضَبِ، وَأَنَا لَا أَظُنُّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَرَادَ تَأْوِيلَ غَيْرِ بَلْ أَرَادَ بَيَانَ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا صَحَّ وُقُوعُ (غَيْرِ) صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ غَيْرَ لِتَوَغُّلِهَا فِي الْإِبْهَامِ لَا تُفِيدُهَا الْإِضَافَةُ تَعْرِيفًا أَيْ فَلَا يَكُونُ فِي الْوَصْفِ بِهَا فَائِدَةُ التَّمْيِيزِ فَلَا تُوصَفُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ لِأَنَّ الصِّفَةَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَشْهَرَ من الْمَوْصُوف، فَغير وَإِنْ كَانَتْ مُضَافَةً لِلْمَعْرِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَاهَا مِنَ الْإِبْهَامِ انْعَدَمَتْ مَعَهَا فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ، إِذْ كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ غَيْرُ، فَمَاذَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْوَصْفِ فِي قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو، فَالتَّوْصِيفُ هُنَا إِمَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ فَرِيقٌ مُعَيَّنٌ فَكَانَ وِزَانُ تَعْرِيفِهِ بِالصِّلَةِ وِزَانَ الْمُعَرَّفِ بِأَلِ الْجِنْسِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، فَكَانَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْمَعْرِفَةِ فَلِذَلِكَ عُرِفَ بِمِثْلِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهُوَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ الَّذِي هُوَ فِي صُورَةِ الْمَعْرِفَةِ لِإِضَافَتِهِ لِمَعْرِفَةٍ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ لِعَدَمِ إِرَادَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ تَعْرِيفِ غَيْرِ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّ غَيْرَ إِذَا أُرِيدَ بِهَا نَفْيُ ضِدِّ الْمَوْصُوفِ أَيْ مُسَاوِي نَقِيضِهِ صَارَتْ مُعَرَّفَةً، لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَعَرَّفُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ نَحْوُ عَلَيْكَ بِالْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ لَا يُعَاقَبُ كَانَ الْمُعَاقَبُ هُوَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ، هَكَذَا نَقَلَ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ السَّرَّاجِ وَالسِّيرَافِيِّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: 95] وَنقل عَن سيبوبه أَن غيرا إِنَّمَا لَمْ تَتَعَرَّفْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُغَايِرِ فَهِيَ كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَأَلْحَقَ بِهَا مِثْلًا وَسِوَى وَحَسْبَ وَقَالَ: إِنَّهَا تَتَعَرَّفُ إِذَا قُصِدَ بِإِضَافَتِهَا الثُّبُوتُ. وَكَأَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبَيْنِ وَاحِد لِأَن غيرا إِذَا أُضِيفَتْ

إِلَى ضِدِّ مَوْصُوفِهَا وَهُوَ ضِدٌّ وَاحِدٌ أَيْ إِلَى مُسَاوِي نَقِيضِهِ تَعَيَّنَتْ لَهُ الْغَيْرِيَّةُ فَصَارَتْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُ غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ، إِذْ غَيْرِيَّةُ الشَّيْءِ لِنَقِيضِهِ ثَابِتَةٌ لَهُ أَبَدًا فَقَوْلُكَ عَلَيْكَ بِالْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ هُوَ غَيْرُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو وَقَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ غَرَضِ وَصْفِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ التَّعَوُّذُ مِمَّا عَرَضَ لِأُمَمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِ الْخَيْرِ بِحَسَبِ زَمَانِهِمْ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى الْحَقِّ فَتَقَلَّدُوهَا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمْ سُوءُ الْفَهْمِ فِيهَا فَغَيَّرُوهَا وَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَالتَّبَرُّؤُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي بَطَرِ النِّعْمَةِ وَسُوءِ الِامْتِثَالِ وَفَسَادِ التَّأْوِيلِ وَتَغْلِيبِ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا التَّبَرُّؤُ مِنْ حَالِ الَّذِينَ هُدُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَمَا صَرَفُوا عِنَايَتَهُمْ لِلْحِفَاظِ عَلَى السَّيْرِ فِيهِ بِاسْتِقَامَةٍ، فَأَصْبَحُوا مِنَ الضَّالِّينَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ إِذْ أَسَاءُوا صِفَةَ الْعِلْمِ بِالنِّعْمَةِ فَانْقَلَبَتْ هِدَايَتُهُمْ ضَلَالًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَحِقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَلَمْ يَسْبِقْ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا وَالْيَهُودُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَالنَّصَارَى مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ ظُهُورِ الدِّينَيْنِ فِيهِمْ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ أَوَّلِ الْوَصْفَيْنِ بِالْيَهُودِ وَالثَّانِي بِالنَّصَارَى فَإِنَّ فِي الْأُمَمِ أَمْثَالَهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَهُ مَقَامُ الدُّعَاءِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَو كَانَ المرادين الْيَهُودِيَّةِ وَدِينَ النَّصْرَانِيَّةِ لَكَانَ الدُّعَاءُ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ نَاسِخًا لَهُمَا. وَيَشْمَلُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ فِرَقَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ وَاسْتَخَفَّتْ بِالدِّيَانَةِ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وَالضَّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي أَخْطَأَتِ الدِّينَ عَنْ سُوءِ فَهْمٍ وَقِلَّةِ إِصْغَاءٍ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَصَرْفِ الْجُهْدِ إِلَى إِصَابَتِهِ، وَالْيَهُودُ مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي. وَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ مِمَّا ظَاهِرُهُ تَفْسِيرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضًا بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ حَقَّ عَلَيْهِمَا هَذَانِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَارَ عَلَمًا فِيمَا أُرِيدَ التَّعْرِيضُ بِهِ فِيهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَطْفَ وَلَا الضَّالِّينَ عَلَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ارْتِقَاءٌ فِي التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ التَّعَوُّذَ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي جَلَبَ لِأَصْحَابِهِ غَضَبَ اللَّهِ لَا يُغْنِي عَنِ التَّعَوُّذِ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِأَصْحَابِهِ تِلْكَ الدَّرَكَاتِ وَذَلِكَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَلَا الضَّالِّينَ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ كَانَ بِسُؤَالِ النَّفْيِ، فَالتَّدَرُّجُ فِيهِ يَحْصُلُ

بِنَفْيِ الْأَضْعَفِ بَعْدَ نَفْيِ الْأَقْوَى، مَعَ رِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. وَالْغَضَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هُوَ غَضَبُ اللَّهِ. وَحَقِيقَةُ الْغَضَبِ الْمَعْرُوفِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ يَتْبَعُهَا حَرَكَةُ الرُّوحِ إِلَى الْخَارِجِ وَثَوَرَانُهَا فَتَطْلُبُ الِانْتِقَامَ، فَالْكَيْفِيَّةُ سَبَبٌ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَطَلَبُ الِانْتِقَامِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الِانْتِقَامِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ إِرَادَةَ الِانْتِقَامِ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ آثَارِهِ، وَأَنَّ الْغَضَبَ هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ تَعْرِضُ مِنْ حُصُولِ مَا لَا يُلَائِمُهَا فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةُ الْفِعْلِ الْمَغْضُوبِ مِنْهُ وَكَرَاهِيَةُ فَاعِلِهِ، وَيُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَمُعَامَلَتُهُ بِالْعُنْفِ وَبِقَطْعِ الْإِحْسَانِ وَبِالْأَذَى وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الِانْتِقَامِ مِنْهُ فَيَخْتَلِفُ الْحَدُّ الَّذِي يَثُورُ عِنْدَ الْغَضَبِ فِي النَّفْسِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ احْتِمَالِ النُّفُوسِ لِلْمُنَافَرَاتِ وَاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي اعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ، فَلَعَلَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِرَادَةَ الِانْتِقَامِ لَازِمَةً لِلْغَضَبِ بَنَوْا عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِذْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْغَضَبِ يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَإِسْنَادُهَا إِلَيْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ التَّغَيُّرَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ صَرْفُ إِسْنَادِ الْغَضَبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ فِي هَذَا الصَّرْفِ أَنْ يُصْرَفَ اللَّفْظُ إِلَى الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ أَوْ إِلَى الْكِنَايَةِ بِاللَّفْظِ عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهُ فَالَّذِي يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى الْغَضَبِ هُوَ لَازِمُهُ، أَعْنِي الْعِقَابَ وَالْإِهَانَةَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَاللَّعْنَةَ أَيِ الْإِبْعَادَ عَنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ فِي الدُّنْيَا أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَكَانَ السَّلَفُ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَمُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي يُمْسِكُونَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِمَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ مِنْ مَصْلَحَةِ الِاشْتِغَالِ بِإِقَامَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مُرَادُ الشَّرْعِ مِنَ النَّاسِ فَلَمَّا نَشَأَ النَّظَرُ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَحَدَثَ قَوْلُ النَّاسِ فِي مَعَانِي الدِّينِ بِمَا لَا يُلَائِمُ الْحَقَّ، لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعِلْمِ بُدًّا مِنْ تَوْسِيعِ أَسَالِيبِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ لِإِفْهَامِ الْمُسْلِمِ وَكَبْتِ الْمُلْحِدِ، فَقَامَ الدِّينُ بِصَنِيعِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِهِ، وَتَمَيَّزَ الْمُخْلِصُ لَهُ عَنْ مَاكِرِهِ وَجَاحِدِهِ. وَكُلٌّ فِيمَا صَنَعُوا عَلَى هُدًى. وَبَعْدَ الْبَيَانِ لَا يُرْجَعُ إِلَى الْإِجْمَالِ أَبَدًا. وَمَا تَأَوَّلُوهُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ لِأَهْلِهِ. فَغَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعُمُومِ يَرْجِعُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ الْحَائِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ الْعَاصِينَ لِأَوَامِرِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامُ وَهُوَ مَرَاتِبٌ أَقْصَاهَا عِقَابُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْخُلُودِ فِي الدَّرْكِ

الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَدُونَ الْغَضَبِ الْكَرَاهِيَةُ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» ، وَيُقَابِلُهُمَا الرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِير والتكوين، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: 112] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يُونُس: 99] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ عِنْدَ حُكَمَاءِ الْأَخْلَاقِ مَبْدَأٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَخْلَاقِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا بِالْعَدَالَةِ وَهِيَ: الْحِكْمَةُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، فَالْغَضَبُ مَبْدَأُ الشَّجَاعَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَضَبَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَبْدَأٍ نَفْسَانِيٍّ لِأَخْلَاقٍ كَثِيرَةٍ مُتَطَرِّفَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ فَيُلَقِّبُونَ بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ صِفَاتِ السَّبُعِيَّةِ وَهِيَ حُبُّ الْغَلَبَةِ وَمِنْ فَوَائِدِهَا دَفْعُ مَا يَضُرُّهُ وَلَهَا حَدُّ اعْتِدَالٍ وَحَدُّ انْحِرَافٍ فَاعْتِدَالُهَا الشَّجَاعَةُ وَكِبَرُ الْهِمَّةِ، وَثَبَاتُ الْقَلْبِ فِي الْمَخَاوِفِ، وَانْحِرَافُهَا إِمَّا بِالزِّيَادَةِ فَهِيَ التَّهَوُّرُ وَشِدَّةُ الْغَضَبِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ وَالْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالشَّرَاسَةُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالْقَسَاوَةُ، أَوْ بِالنُّقْصَانِ فَالْجُبْنُ وَخَوْرُ النَّفْسِ وَصِغَرُ الْهِمَّةِ فَإِذَا أُطْلِقَ الْغَضَبُ لُغَةً انْصَرَفَ إِلَى بَعْضِ انْحِرَافِ الْغَضَبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَكَرَّرَ مِرَارًا فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَسُئِلَ بَعْضُ مُلُوكِ الْفُرْسِ بِمَ دَامَ مُلْكُكُمْ؟ فَقَالَ: لِأَنَّا نُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْغَضَبِ. فَالْغَضَبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْغَضَبُ لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهُ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ، وَمِنَ الْغَضَبِ مَحْمُودٌ وَهُوَ الْغَضَبُ لِحِمَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَخُصُوصًا الدِّينِيَّةِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيءَ كَانَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ غَضِبَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا الضَّالِّينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مُتَبَادِرٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ مَكِّيُّ ابْن أَبِي طَالِبٍ إِنَّ دُخُولَ (لَا) لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَطْفِ (الضَّالِّينَ) عَلَى (الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ) ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ بَعِيدٌ فَالْحَقُّ أَنَّ (لَا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظِ (غَيْرِ) عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى مَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [الْمَائِدَة: 19] وَهُوَ أُسْلُوبٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي «حَوَاشِي الْكَشَّافِ» لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْمَجْمُوعُ فَيُجَوِّزَ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ أُجْرِيَتْ إِعَادَةُ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ زِيَادَةُ (لَا) هُنَا كَزِيَادَتِهَا فِي نَحْوِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَاف: 12] كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ

تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالَّتِي هُنَا زِيَادَةٌ لَفْظِيَّةٌ فَحَسْبُ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ. وَالضَّلَالُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُرَادِ عَنْ خَطَأٍ سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ فَهُوَ يَتَطَلَّبُ الطَّرِيقَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، وَمِنْهُ ضَالَّةُ الْإِبِلِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْهُدَى وَإِطْلَاقُ الضَّالِّ عَلَى الْمُخْطِئِ فِي الدِّينِ أَوِ الْعِلْمِ اسْتِعَارَةٌ كَمَا هُنَا. وَالضَّلَالُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مُقَابِلُ الِاهْتِدَاءِ وَالِاهْتِدَاءُ هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ وَالضَّلَالُ مَا دُونُ ذَلِكَ، قَالُوا وَلَهُ عَرْضٌ عَرِيضٌ أَدْنَاهُ تَرْكُ السُّنَنِ وَأَقْصَاهُ الْكُفْرُ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْهِدَايَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ، فَالضَّلَالُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَيُطْلَقُ عَلَى أَقْصَى أَنْوَاعِهِ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالْأَكِنَّةُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ جِنْسَا فِرَقِ الْكُفْرِ، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمّدت ذَلِك واستحقت بِالدِّيَانَةِ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا تُحْمَلُ عَلَيْهِ غَلَبَةُ الْهَوَى، فَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا مِنَ الصِّرَاطِ الَّذِي خُطَّ لَهُمْ مَسَالِكَ غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ فَاسْتَحَقُّوا الْغَضَب لأَنهم أخطأوا عَنْ غَيْرِ مَعْذِرَةٍ إِذْ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ إِلَّا إِيثَارُ حُظُوظِ الدُّنْيَا. وَالضَّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الدِّيَانَاتِ الْحَقَّ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ سُوءِ فَهْمٍ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ مُعَاقَبٌ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَبَذْلِ الْجُهْدِ إِلَى إِصَابَتِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَقَاصِدِهِ. وَإِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعُلِمَ أَنَّ الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُدُوا إِلَيْهِ فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ بِهِ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الضَّالِّينَ قَدْ ضَلُّوا الصِّرَاطَ، فَحَصَلَ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ وَهُوَ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ نَالَ حَظًّا مِنَ الْوَصْفَيْنِ إِلَّا أَنَّ تَعْلِيقَ كُلِّ وَصْفٍ عَلَى الْفَرِيقِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالضَّالِّينَ هُمْ دُونَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فِي الضَّلَالِ فَالْمُرَادُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّ ضَلَالَهُمْ شَنِيعٌ. فَالْيَهُودُ مَثَلٌ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالنَّصَارَى مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَحَسَّنَهُ. وَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ بِأَشْهَرِ الْفِرَقِ الَّتِي حَقَّ عَلَيْهَا هَذَانِ الْوَصْفَانِ، فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَعْرِفُونَ الْيَهُودَ فِي خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَبَعْضِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ وَفِي عَرَبِ الْيَمَنِ. وَكَانُوا يَعْرِفُونَ نَصَارَى الْعَرَبِ مِثْلَ تَغْلِبَ وَكَلْبٍ وَبَعْضِ قُضَاعَةَ، وَكُلُّ أُولَئِكَ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا وَتَنَكَّبُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَتَفَرَّقُوا فِي بِنْيَاتِ الطُّرُقِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي ذَلِكَ.

فَالْيَهُودُ تَمَرَّدُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَبَدَّلُوا الشَّرِيعَةَ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ وَصْفُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَلِقَ بِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَالنَّصَارَى ضَلُّوا بَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَأَسَاءُوا فَهْمَ مَعْنَى التَّقْدِيسِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَزَعَمُوهُ ابْنَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَة: 77] . وَفِي وَصْفِ الصِّرَاطِ الْمَسْئُولِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْمُسْتَقِيمِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَاضِحُ الْحُجَّةِ قَوِيمُ الْمَحَجَّةِ لَا يَهْوِي أَهْلُهُ إِلَى هُوَّةِ الضَّلَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَام: 161] وَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: 153] ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي مَرَاتِبِ إِصَابَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» وَلَمْ يَتْرُكْ بَيَانُ الشَّرِيعَةِ مَجَارِيَ اشْتِبَاهٍ بَيْنَ الْخِلَافِ الَّذِي تُحِيطُ بِهِ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ وَالْخِلَافِ الَّذِي يَخْرُجُ بِصَاحِبِهِ عَنْ مُحِيطِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] . وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي حَرَكَةِ هَاءِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَمَا ضَاهَاهُمَا مِنْ كُلِّ ضَمِيرِ جَمْعٍ وَتَثْنِيَةِ مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ لِلْغَائِبِ وَقَعَ بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنة، فالجمهور قرأوها بِكَسْرِ الْهَاءِ تَخَلُّصًا مِنَ الثِّقَلِ لِأَنَّ الْهَاءَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ فَإِذَا ضُمَّتْ بَعْدَ الْيَاءِ فَكَانَ ضَمَّتُهَا قَدْ وَلِيَتِ الْكَسْرَةَ أَوِ الْيَاءَ السَّاكِنَةَ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ وَهَذِهِ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ عَلَيْهُمْ وَإِلَيْهُمْ وَلَدَيْهُمْ فَقَطْ بِضَمِّ الْهَاءِ وَمَا عَدَاهَا بِكَسْرِ الْهَاءِ نَحْوُ إِلَيْهِمَا وَصَيَاصِيهِمْ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْحِجَازِيِّينَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ كُلَّ ضَمِيرٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِمَّا قَبْلَ الْهَاءِ فِيهِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ بِضَمِّ الْهَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا فَلَا نُعِيدُ ذِكْرَهُ فِي أَمْثَالِهِ وَهُوَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فِي هَاءِ الضَّمِيرِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي حَرَكَةِ مِيمِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ فِي الْوَصْلِ إِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ متحرك فالجمهور قرأوا: عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّةٍ مُشَبَّعَةٍ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهِي لُغَة بعض الْعَرَبِ وَعَلَيْهَا قَوْلُ لَبِيدٍ: وَهُمُو فَوَارِسُهَا وَهُمْ حُكَّامُهَا فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِشْبَاعِهَا إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمِيمِ هَمْزٌ دُونَ نَحْوِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى إِسْكَانِ الْمِيمِ فِي الْوَقْفِ.

2- سورة البقرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 2- سُورَةُ الْبَقَرَةِ كَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَرَى فِي كَلَامِ السَّلَفِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَفَتَاهُ» ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذَبْحِهَا لِتَكُونَ آيَةً وَوَصَفَ سُوءَ فَهْمِهِمْ لِذَلِكَ، وَهِيَ مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِ، وَعِنْدِي أَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى قِصَّةِ الْبَقَرَةِ تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ السُّورِ ال الم مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا وَعَرَّفُوهَا بِهَا نَحْوَ: طه، وَيس، وص وَفِي الِاتِّفَاقِ عَنِ «الْمُسْتَدْرك» أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا سَنَامُ الْقُرْآنِ» وَسَنَامُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَهَذَا لَيْسَ عَلَمًا لَهَا وَلَكِنَّهُ وَصْفُ تَشْرِيفٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ إِنَّهَا فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ وَالْفُسْطَاطُ مَا يُحِيطُ بِالْمَكَانِ لِإِحَاطَتِهَا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ. نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ، وَحَكَى ابْنُ حَجَرٍ فِي «شَرْحِ الْبُخَارِيِّ» الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمُطَفِّفِينَ مَدَنِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِيهَا فَرْضُ الصِّيَامِ، وَالصِّيَامُ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، فُرِضَ فِيهَا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ فُرِضَ صِيَامُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ سَبْعَ رَمَضَانَاتٍ أَوَّلُهَا رَمَضَانُ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ، فَتَكُونُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِهَا أَوْ فِي الثَّانِيَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ «مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ» (تَعْنِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَ بِنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى عَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى لِلْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا مَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ فَتُوُفِّيَ وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّ اشْتِمَالَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعَلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ والبلد الْحَرَام ينبىء بِأَنَّهَا اسْتَمَرَّ نُزُولُهَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَنَةِ سِتٍّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ آيَةِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الْبَقَرَة: 196]

وَقَدْ يَكُونُ مُمْتَدًّا إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ ثَمَانٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ- الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ- لِمَنِ اتَّقى [الْبَقَرَة: 197- 203] . عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَة: 281] الْآيَةَ هُوَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَمِرُّ نُزُولُ السُّورَةِ فَتَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ نُزُولِهَا سُوَرٌ أُخْرَى. وَقَدْ عُدَّتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ السَّابِعَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ وَقَبْلَ آلِ عِمْرَانَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ عَهْدٍ بِإِقَامَةِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَتِهِمْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ تَصْفِيَةُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِعَنَاصِرَ مُفْسِدَةٍ لِمَا أَقَامَ اللَّهُ لَهَا مِنَ الصَّلَاحِ سَعْيًا لِتَكْوِينِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ النَّقِيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الدَّجَلِ وَالدَّخَلِ. وَإِذْ كَانَتْ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ عُنِيَ بِهَا الْأَنْصَارُ وَأَكَبُّوا عَلَى حِفْظِهَا، يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا جَاءَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: «اصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَهْلَ السَّمُرَةِ (يَعْنِي شَجَرَةَ الْبَيْعَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ) يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» فَقَالَ الْأَنْصَارُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ . وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : كَانَ نَصْرَانِيٌّ أَسْلَمَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ يكْتب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَعَدَدُ آيِهَا مِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَثَمَانُونَ آيَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ، وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْكُوفَةِ، وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْعدَد بِالْبَصْرَةِ.

محتويات هذه السورة

محتويات هَذِه السُّورَة هَذِهِ السُّورَةُ مُتَرَامِيَةٌ أَطْرَافُهَا، وَأَسَالِيبُهَا ذَاتُ أَفْنَانٍ، قَدْ جَمَعَتْ مِنْ وَشَائِجِ أَغْرَاضِ السُّوَرِ مَا كَانَ مِصْدَاقًا لِتَلْقِيبِهَا فُسْطَاطَ الْقُرْآنِ، فَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَ مُحْتَوَيَاتِهَا بِحُسْبَانٍ، وَعَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَتَرَقَّبَ تَفَاصِيلَ مِنْهَا فِيمَا يَأْتِي لَنَا مِنْ تَفْسِيرِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُحْجِمُ بِنَا عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى لَائِحَاتٍ مِنْهَا، وَقَدْ حِيكَتْ بِنَسْجِ الْمُنَاسَبَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ مِنْ لُحْمَةٍ مُحْكَمَةٍ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ، وَسُدًى مَتِينٍ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ. وَمُعْظَمُ أَغْرَاضِهَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُثْبِتُ سُمُوَّ هَذَا الدِّينِ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَعُلُوَّ هَدْيِهِ وَأُصُولَ تَطْهِيرِهِ النُّفُوسَ، وَقِسْمٌ يُبَيِّنُ شَرَائِعَ هَذَا الدِّينِ لِأَتْبَاعِهِ وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ. وَكَانَ أُسْلُوبُهَا أَحْسَنَ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ الْأَسَالِيبِ الْخِطَابِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ الْكُتُبِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ، يَتَجَدَّدُ بِمِثْلِهِ نَشَاطُ السَّامِعِينَ بِتَفَنُّنِ الْأَفَانِينِ، وَيَحْضُرُ لَنَا مِنْ أَغْرَاضِهَا أَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِالرَّمْزِ إِلَى تَحَدِّي الْعَرَبِ الْمُعَانِدِينَ تَحَدِّيًا إِجْمَالِيًّا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي الْمُفْتَتَحِ بِهَا رَمْزًا يَقْتَضِي اسْتِشْرَافَهُمْ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ وَانْتِظَارَهُمْ لِبَيَانِ مَقْصِدِهِ، فَأَعْقَبَ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ فَتَحَوَّلَ الرَّمْزُ إِيمَاءً إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْزِ لَهُ أَشَدُّ وَقْعٍ عَلَى نُفُوسِهِمْ فَتَبْقَى فِي انْتِظَارِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنْ صَرِيحِ التَّعْجِيزِ الَّذِي سَيَأْتِي بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] . فَعَدَلَ بِهِمْ إِلَى ذَاتِ جِهَةِ التَّنْوِيهِ بِفَائِقِ صِدْقِ هَذَا الْكِتَابِ وَهَدْيِهِ، وَتَخَلَّصَ إِلَى تَصْنِيفِ النَّاسِ تُجَاهَ تَلَقِّيهِمْ هَذَا الْكِتَابِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ أَصْنَافًا أَرْبَعَةً (وَكَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ) بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ التَّلَقِّي. وَإِذْ قَدْ كَانَ أَخَصُّ الْأَصْنَافِ انْتِفَاعًا بِهَدْيِهِ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ أَشَدُّ الْأَصْنَافِ عِنَادًا وَحِقْدًا صِنْفَا الْمُشْرِكِينَ الصُّرَحَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ لُفَّ الْفَرِيقَانِ لَفًّا وَاحِدًا فَقُورِعُوا بِالْحُجَجِ الدَّامِغَةِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، ثُمَّ خَصَّ بِالْإِطْنَابِ صِنْفَ أَهْلِ النِّفَاقِ تَشْوِيهًا لِنِفَاقِهِمْ وَإِعْلَانًا لِدَخَائِلِهِمْ وَرَدِّ مَطَاعِنِهِمْ، ثُمَّ كَانَ خَاتِمَةُ مَا قُرِعَتْ بِهِ أُنُوفُهُمْ صَرِيحَ التَّحَدِّي الَّذِي رَمَزَ إِلَيْهِ بَدْءًا تَحَدِّيًا يُلْجِئُهُمْ إِلَى الِاسْتِكَانَةِ وَيُخْرِسُ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ التَّطَاوُلِ وَالْإِبَانَةِ، وَيُلْقِي فِي قَرَارَاتِ أَنْفُسِهِمْ مَذَلَّةَ الْهَزِيمَةِ وَصِدْقَ الرَّسُولِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَدِّ

الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فَاتَّسَعَ الْمَجَالُ لِدَعْوَةِ الْمُنْصِفِينَ إِلَى عِبَادَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَتَخَلَّصَ إِلَى صِفَةِ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا مِنْ صَالِحِي قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنَّةً عَلَى النَّوْعِ بِتَفْضِيلِ أَصْلِهِمْ عَلَى مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ، وَبِمَزِيَّتِهِ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَهْلُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَكَيْفَ نَشَأَتْ عَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لَهُ وَلِنَسْلِهِ، لِتَهْيِئَةِ نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِاتِّهَامِ شَهَوَاتِهَا وَلِمُحَاسَبَتِهَا عَلَى دَعَوَاتِهَا. فَهَذِهِ الْمِنَّةُ الَّتِي شَمِلَتْ كُلَّ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى مِنَّةٍ عُظْمَى تَخُصُّ الْفَرِيقَ الرَّابِعَ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُقَاوَمَةً لِهُدَى الْقُرْآنِ، وَأَنْفَذُ الْفِرَقِ قَوْلًا فِي عَامَّةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَمَظِنَّةُ اقْتِدَاءِ الْعَامَّةِ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [الْبَقَرَة: 40] الْآيَاتِ فَأَطْنَبَ فِي تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ لَهُمْ، وَوَصَفَ مَا لَاقَوْا بِهِ نِعَمَهُ الْجَمَّةَ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنِ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ انْحِرَافًا بَلَغَ بِهِمْ حَدَّ الْكُفْرِ وَذَلِكَ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ تَكْوِينِ أُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَجَامِعَتُهُمْ فِي عَهْدِ مُوسَى، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَحْدَاثِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَفَوْا مُوسَى إِلَى أَنْ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ بِالْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ حَتَّى عَلَى الْمَلَكِ جِبْرِيلَ، وَبَيَانِ أَخْطَائِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْقِي فِي النُّفُوسِ شَكًّا فِي تَأَهُّلِهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ. وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ نَمُوذَجًا مِنْ أَخْلَاقِهِمْ مِنْ تَعَلُّقِ الْحَيَاةِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَة: 96] ، ومحاولة الْعَمَل بالحسر وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ إِلَخ [الْبَقَرَة: 102] وَأَذَى النَّبِيءِ بِمُوَجَّهِ الْكَلَامِ لَا تَقُولُوا راعِنا [الْبَقَرَة: 104] . ثُمَّ قُرِنَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ فِي قَرْنِ حَسَدِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَالسُّخْطِ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْجَدِيدَةِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْبَقَرَة: 105- 112] ، ثُمَّ مَا أُثِيرَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَادِّعَاءُ كُلِّ فَرِيقٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُحِقُّ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ إِلَى يَخْتَلِفُونَ [الْبَقَرَة: 113] ثُمَّ خُصَّ الْمُشْرِكُونَ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَعَوْا بِذَلِكَ فِي خَرَابِهِ وَأَنَّهُمْ تَشَابَهُوا فِي ذَلِكَ هُمْ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاتَّحَدُوا فِي كَرَاهِيَةِ الْإِسْلَامِ. وَانْتَقَلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَانِيهِ، وَدَعْوَتِهِ لِذُرِّيَّتِهِ بِالْهُدَى،

وَالِاحْتِرَازِ عَنْ إِجَابَتِهَا فِي الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى أَسَاسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ لَيْسَتَا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الرُّجُوعَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ آيَةً عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى أَسَاسِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَذِكْرِ شَعَائِرِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، وَإِبْكَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي طَعْنِهِمْ عَلَى تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ الْعِنَايَةَ بِتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ أَجْدَرُ مِنَ الْعِنَايَةِ بِاسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 177] . وَذُكِّرُوا بِنَسْخِ الشَّرَائِعِ لِصَلَاحِ الْأُمَمِ وَأَنَّهُ لَا بِدَعَ فِي نَسْخِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمَا. ثُمَّ عَادَ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِآثَارِ صَنْعَةِ اللَّهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ إِلَخ [الْبَقَرَة: 164] ، وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي يَوْم يتبرأون فِيهِ مِنْ قَادَتِهِمْ، وَإِبْطَالِ مَزَاعِمِ دِينِ الْفَرِيقَيْنِ فِي مُحَرَّمَاتٍ مِنَ الْأَكْلِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 172] ، وَقَدْ كَمَّلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ قَلِيلٍ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا مَوَدَّةَ الْمُسْلِمِينَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: 204] . وَلَمَّا قَضَى حَقَّ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ وَأَوْضَحِ بُرْهَانٍ، انْتَقَلَ إِلَى قِسْمِ تَشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 177] ، ثُمَّ تَفْصِيلًا: الْقِصَاصُ، الْوَصِيَّةُ، الصِّيَامُ، الِاعْتِكَافُ، الْحَجُّ، الْجِهَادُ، وَنِظَامُ الْمُعَاشَرَةِ وَالْعَائِلَةُ، الْمُعَامَلَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالصَّدَقَاتُ، وَالْمُسْكِرَاتُ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَوَارِيثُ، وَالْبُيُوعُ وَالرِّبَا، وَالدُّيُونُ، وَالْإِشْهَادُ، وَالرَّهْنُ، وَالنِّكَاحُ، وَأَحْكَامُ النِّسَاءِ، وَالْعِدَّةُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّضَاعُ، وَالنَّفَقَاتُ، وَالْأَيْمَانُ. وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِالدُّعَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِخَصَائِصِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَذَلِكَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَكَانَ هَذَا الْخِتَامُ تَذْيِيلًا وَفَذْلَكَةً: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: 284] الْآيَاتِ. وَكَانَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَغْرَاضٌ شَتَّى سَبَقَتْ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِطْرَادِ فِي مُتَفَرِّقِ الْمُنَاسَبَاتِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ، كَمَا يُسْفِرُ وَجْهُ الشَّمْسِ إِثْرَ نُزُولِ الْغُيُوثِ الْهَوَامِعِ، وَتَخْرُجُ بَوَادِرُ الزَّهْرِ عَقِبَ الرُّعُودِ الْقَوَارِعِ، مِنْ تَمْجِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَة: 255] وَرَحْمَتِهِ وَسَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] وَاسْتِحْضَارِ نَظَائِرَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ [الْبَقَرَة: 74]

[سورة البقرة (2) : آية 1]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: 243] وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَمَعَانِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ [الْبَقَرَة: 153] وَالْكَمَالَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمَزَايَا التَّحْسِينِيَّةِ، وَأَخْذِ الْأَعْمَالِ وَالْمَعَانِي مِنْ حَقَائِقِهَا وَفَوَائِدِهَا لَا مِنْ هَيْئَاتِهَا، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْمُصْطَلَحَاتِ إِذَا لَمْ تَرْمِ إِلَى غَايَاتٍ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [الْبَقَرَة: 189] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [الْبَقَرَة: 177] وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 217] وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَنِظَامِ الْمُحَاجَّةِ، وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالرُّسُلِ وَتَفَاضُلِهِمْ، وَاخْتِلَاف الشَّرَائِع. [1] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَحَيَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَحَلِّ هَاتِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَّلٍ هَاتِهِ السُّوَرِ، وَفِي فَوَاتِحِ سُوَرٍ أُخْرَى عِدَّةٍ جَمِيعُهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً وَمُعْظَمُهَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَكَانَ بَعْضُهَا فِي ثَانِي سُورَةٍ نَزَلَتْ وَهِيَ ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: 1] ، وَأَخْلِقْ بِهَا أَنْ تَكُونَ مَثَارَ حَيْرَةٍ وَمَصْدَرَ، أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَبْحَاثٍ كَثِيرَةٍ، وَمَجْمُوعُ مَا وَقَعَ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَوَائِلُ السُّوَرِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَأَكْثَرُ السُّوَرِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ: السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ عَدَا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَالْحُرُوفُ الْوَاقِعَةُ فِي السُّوَرِ هِيَ: ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي، بَعْضُهَا تَكَرَّرَ فِي سُوَرٍ وَبَعْضُهَا لَمْ يَتَكَرَّرْ وَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ وَمِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي تَأْوِيلِهَا. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَاتِهِ الْفَوَاتِحَ حِينَ يَنْطِقُ بِهَا الْقَارِئُ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ التَّهَجِّي الَّتِي يُنْطَقُ فِي الْكَلَامِ بِمُسَمَّيَاتِهَا وَأَنَّ مُسَمَّيَاتِهَا الْأَصْوَاتُ الْمُكَيَّفَةُ بِكَيْفِيَّاتٍ خَاصَّةٍ تَحْصُلُ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَلِذَلِكَ إِنَّمَا يَقُولُ الْقَارِئُ: (أَلِفْ لَامْ مِيمْ) مَثَلًا وَلَا يَقُولُ (أَلَمَ) . وَإِنَّمَا كَتَبُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِصُوَرِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا فِي الْكَلَامِ الَّتِي يَقُومُ رَسْمُ شَكْلِهَا مَقَامَ الْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْكَلَامِ وَلَمْ يَكْتُبُوهَا بدوالّ مَا يقرأونها بِهِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّهَجِّي بِهَا وَحُرُوفُ التَّهَجِّي تُكْتَبُ بِصُوَرِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا. وَقِيلَ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهَذَا أولى لِأَنَّهُ أشمل لِلْأَقْوَالِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَهَا، وَإِلَى هُنَا خَلُصَ أَنَّ الْأَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ كَوْنُهَا تِلْكَ الْحُرُوفُ لِتُبَكِّتَ الْمُعَانِدِينَ وَتَسْجِيلًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ كَوْنِهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا، أَوْ كَوْنِهَا أَقْسَامًا أَقْسَمَ بِهَا لِتَشْرِيفِ قَدْرِ الْكِتَابَةِ، وَتَنْبِيهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ إِلَى

فَوَائِدِ الْكِتَابَةِ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حَالَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَوَّلُهَا، فَإِنَّ الْأَقْوَالَ الثَّانِيَ وَالسَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ يُبْطِلُهَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَوْ كَانَتْ مُقْتَضَبَةً مِنْ أَسْمَاءٍ أَوْ كَلِمَاتٍ لَكَانَ حَقٌّ أَنْ يُنْطَقَ بِمُسَمَّيَاتِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِلْأَقْوَالِ. وَعُرِفَتِ اسْمِيَّتُهَا مِنْ دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا اعْتِوَارُ أَحْوَالِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهَا مِثْلَ التَّعْرِيفِ حِينَ تَقُولُ: الْأَلِفُ، وَالْبَاءُ، وَمِثْلُ الْجَمْعِ حِينَ تَقُولُ الْجِيمَاتُ، وَحِينَ الْوَصْفِ حِينَ تَقُولُ أَلِفٌ مَمْدُودَةٌ وَالثَّانِي مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» : قَالَ الْخَلِيلُ يَوْمًا وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ كَيْفَ تَلْفِظُونَ بِالْكَافِ الَّتِي فِي لَكَ وَالْبَاءِ الَّتِي فِي ضَرْبٍ فَقِيلَ نَقُولُ كَافْ، بَاءْ، فَقَالَ إِنَّمَا جِئْتُمْ بِالِاسْمِ وَلَمْ تَلْفِظُوا بِالْحَرْفِ وَقَالَ أَقُولُ كِهِ، وَبِهِ (يَعْنِي بِهَاءٍ وَقَعَتْ فِي آخِرِ النُّطْقِ بِهِ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهَا اللِّسَانُ عِنْد النُّطْق إِذْ أبقيت عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لَا يَظْهَرُ فِي النُّطْقِ بِهِ مُفْرَدًا) . وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ حَذْفِ مُتَدَاخِلِهِ وَتَوْحِيدِ مُتَشَاكِلِهِ يُؤَوَّلُ إِلَى وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ قَوْلًا وَلِشِدَّةِ خَفَاءِ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ لَمْ أَرَ بُدًّا مِنَ اسْتِقْصَاءِ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّنَا نَضْبِطُ انْتِشَارَهَا بِتَنْوِيعِهَا إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع: ة النَّوْعُ الْأَوَّلُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا رُمُوزٌ اقْتُضِبَتْ مِنْ كَلِمٍ أَوْ جُمَلٍ، فَكَانَتْ أَسْرَارًا يَفْتَحُ غَلْقَهَا مَفَاتِيحُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا النَّوْعِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا عِلْمٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي رِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ وَلَعَلَّهُمْ يُثْبِتُونَ إِطْلَاعَ اللَّهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ. وَالثَّانِي أَنَّهَا حُرُوفٌ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءٍ وَصِفَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى الْمُفْتَتَحَةُ بِحُرُوفٍ مُمَاثِلَةٍ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقُرَظِيِّ أَوِ الرَّبِيعُ بن أنس فألم مَثَلًا الْأَلِفُ إِشَارَةٌ إِلَى أَحَدٍ أَوْ أَوَّلٍ أَوْ أَزَلِيٍّ، وَاللَّامُ إِلَى لَطِيفٍ، وَالْمِيمُ إِلَى مَلِكٍ أَوْ مَجِيدٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ فِي بَيَانِهَا إِلَى تَوْقِيفٍ وَأَنَّى لَهُمْ بِهِ. الثَّالِثُ أَنَّهَا رُمُوزٌ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَاءِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلَائِكَة فألم مَثَلًا، الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ، وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيفٍ فِي كُلِّ فَاتِحَةٍ مِنْهَا، وَلَعَلَّنَا سَنُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ. الرَّابِعُ جزم الشَّيْخ مُحي الدِّينِ فِي الْبَابِ الثَّامِنِ وَالتِّسْعِينَ وَالْمِائَةِ فِي الْفَصْلِ 27 مِنْهُ مِنْ كِتَابِهِ «الْفُتُوحَاتِ» أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ

السُّوَرِ أَسْمَاءٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَأَنَّهَا إِذَا تُلِيَتْ كَانَتْ كَالنِّدَاءِ لِمَلَائِكَتِهَا فَتُصْغِي أَصْحَابُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ إِلَى مَا يَقُولُهُ التَّالِي بَعْدَ النُّطْقِ بِهَا، فَيَقُولُونَ صَدَقْتَ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا خَبَرٌ، وَيَقُولُونَ هَذَا مُؤْمِنٌ حَقًّا نَطَقَ حَقًّا وَأَخْبَرَ بِحَقٍّ فَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ دَعْوَى. الْخَامِسُ أَنَّهَا رُمُوزٌ كُلُّهَا لِأَسْمَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْصَافِهِ خَاصَّةً قَالَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلُوكَةَ التُّونِسِيِّ (¬1) فِي «رِسَالَةٍ» لَهُ قَالَ إِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مُكَنًّى بِهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَوْصَافِهِ الْخَاصَّةِ، فَالْأَلِفُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْأَلِفِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي الْقَاسِمِ، وَاللَّامُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ صِفَاتِهِ مِثْلَ لُبِّ الْوُجُودِ، وَالْمِيمُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَنَحْوَهُ مِثْلَ مُبَشِّرٍ وَمُنْذِرٍ، فَكُلُّهَا مُنَادَى بِحَرْفِ نِدَاءٍ مُقَدَّرٍ بِدَلِيلِ ظُهُورِ ذَلِكَ الْحَرْفِ فِي يس. وَلَمْ يَعْزُ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى أَحَدٍ، وَعَلَّقَ عَلَى هَذِهِ «الرِّسَالَةِ» تِلْمِيذُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدٌ مُعَاوِيَةُ «تَعْلِيقَةً» أَكْثَرَ فِيهَا مِنَ التَّعْدَادِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَنْثَلِجُ لِمَبَاحِثِهِ الْفُؤَادُ (وَهِيَ وَأَصْلُهَا مَوْجُودَةٌ بِخَزْنَةِ جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ بِتُونِسَ عَدَدَ 514) وَيَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ الْتِزَامُ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمَا قَالَه من ظهروه فِي يس مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ يس بِمَعْنَى يَا سَيِّدُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْيَاءَ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ لِأَن الشَّيْخَ نَفْسَهُ عَدَّ يس بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ مَدْلُولًا لِنَحْوِ الْيَاءِ من كهيعص [مَرْيَم: 1] . الْقَوْلُ السَّادِسُ أَنَّهَا رُمُوزٌ لِمُدَّةِ دَوَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحِسَابِ الْجُمَلِ (¬2) قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ أَخْذًا بِقِصَّةٍ رَوَاهَا ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَثَّابٍ قَالَ: «جَاءَ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الم وَقَالُوا هَذَا أَجَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ السِّنِينَ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُمْ ص والمر فَقَالُوا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا الْأَمْرُ فَلَا نَدْرِي أَبَا لقَلِيل نَأْخُذُ أَمْ بِالْكَثِيرِ؟» اهـ. وَلَيْسَ فِي جَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِعِدَّةِ حُرُوفٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَقْرِيرٌ لِاعْتِبَارِهَا رُمُوزًا لِأَعْدَادِ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِبْطَالَ مَا فَهِمُوهُ بِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِزَعْمِهِمْ عَلَى نَحْوِ ¬

(¬1) كَانَ من الزهاد والمربين درس علوما كَثِيرَة وخاصة الْفَرَائِض والحساب وَله شرحان على «الدرة الْبَيْضَاء» توفى فِي تونس. (¬2) حِسَاب الْجمل بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة هُوَ جعل أعداد لكل حرف من حُرُوف المعجم من آحَاد وعشرات ومئات وَألف وَاحِد، فَإِذا أُرِيد خطّ رقم حسابي وضع الْحَرْف عوضا عَن الرقم وَقد كَانَ هَذَا الِاصْطِلَاح قَدِيما ووسمت بِهِ عدَّة أناشيد من كتاب دَاوُد واشتهر ترقيم التَّارِيخ بِهِ عِنْد الرومان وَلَعَلَّه نقل إِلَى الْعَرَب مِنْهُم أَو من الْيَهُود. [.....]

الطَّرِيقَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالنَّقْضِ فِي الْجَدَلِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى الْمَنْعِ وَالْمَانِعِ لَا مَذْهَبَ لَهُ. وَأَمَّا ضَحِكُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ جَهْلِهِمْ. الْقَوْلُ السَّابِعُ أَنَّهَا رُمُوزٌ كُلُّ حَرْفٍ رَمَزَ إِلَى كَلِمَةٍ فَنَحْوُ: (الم) أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَ (المر) أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَ (المص) أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَفْصِلُ. رَوَاهُ أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُوهِنُهُ أَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَرَّةً بِمُقَابَلَةِ الْحَرْفِ بِحَرْفِ أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، وَمَرَّةً بِمُقَابَلَتِهِ بِحَرْفٍ وَسَطِ الْكَلِمَةِ أَوْ آخِرِهَا. وَنَظَّرُوهُ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بَدَلًا مِنْ كَلِمَاتٍ تَتَأَلَّفُ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ نَظْمًا وَنَثْرًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرٍ: بِالْخَيْرِ خَيِّرَاتٌ وَإِنْ شَرٌّ فَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا أَرَادَ وَإِنْ شَرٌّ فَشَرٍّ وَأَرَادَ إِلَّا أَنْ تَشَا، فَأَتَى بِحَرْفٍ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ. وَقَالَ الْآخَرُ (قُرْطُبِيٌّ) : نَادَاهُمْ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا ... قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا أَرَادَ بِالْحَرْفِ الْأَوَّلِ أَلَا تَرْكَبُونَ، وَبِالثَّانِي أَلَا فَارْكَبُوا. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَامِلُ عُثْمَانَ يُخَاطِبُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ: قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ ... لَا تَحْسِبَنِّي قَدْ نَسِيتُ الْإِيجَافْ (¬1) أَرَادَ قَالَتْ وَقَفْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ» قَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يَقُولَ اُقْ مَكَانَ اقْتُلْ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «كَفَى بِالسَّيْفِ شَا» ، أَيْ شَاهِدًا (¬2) . وَفِي «كَامِلِ الْمُبَرِّدِ» مِنْ قَصِيدَةٍ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْقُمِّيِّ وَهُوَ مولد: وَلَيْسَ الْعَجَاجَةِ وَالْخَافِقَا ... تِ تُرِيكَ الْمَنَا بِرُؤُوسِ الْأَسَلِ أَيْ تُرِيكَ الْمَنَايَا. وَفِي «تَلْعٍ» مِنْ «صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ» قَالَ لَبِيِدٌ: دَرَسَ الْمَنَا بِمَتَالِعٍ فَأَبَانَ ... فَتَقَادَمَتْ بِالْحَبْسِ فَالسُّوبَانِ أَرَادَ دَرَسَ الْمَنَازِلَ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ الْفَحْلُ ( «خَصَائِصَ» ص 82) : كَأَنَّ إِبْرِيقَهُمْ ظَبْيٌ عَلَى شَرَفٍ ... مُفَدَّمٌ بِسَبَا الْكَتَّانِ مَلْثُومُ أَرَادَ بِسَبَائِبَ الْكَتَّانِ. وَقَالَ الرَّاجِزُ: ¬

(¬1) يُوجد فِي أَكثر الْكتب قلت لَهَا قفي فَقَالَت قَاف، وَهُوَ مُشْتَمل على زحاف ثقيل. وَفِي بعض نسخ الْبَيْضَاوِيّ فَقَالَت لي وَهِي مصححة، وَفِي «الخصائص» لِابْنِ جني: قلت لَهَا قفي لنا قَالَت قَاف، وَبعد هَذَا الْبَيْت: والنشوات من مُعتق صَاف ... وعزف قينات علينا عزاف (¬2) هُوَ حَدِيث سعد بن عبَادَة «كفى بِالسَّيْفِ شَاهدا» أخرجه ابْن مَاجَه.

حِينَ أَلْقَتْ بِقُبَاءِ بَرْكِهَا ... وَاسْتَمَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلِ أَيْ عَبْدُ الْأَشْهَلِ. وَقَول أبي فؤاد: يَدْرِينَ حَنْدَلَ حَائِرٌ لِجَنُوبِهَا ... فَكَأَنَّمَا تُذْكَى سَنَابِكُهَا الْحُبَا أَرَادَ الْحُبَاحِبَ. وَقَالَ الْأَخْطَلُ: أَمْسَتْ مَنَاهَا بِأَرْضٍ مَا يُبَلَّغُهَا ... بِصَاحِبِ الْهَمِّ إِلَّا الْجَسْرَةُ الْأُجُدُ أَرَادَ مَنَازِلَهَا. وَوَقَعَ ( «طِرَازِ الْمُجَالِسِ» - الْمَجْلِسِ) (¬1) لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ مَعَ التَّوْرِيَةِ كَقَوْلِ ابْنِ مَكَانِسَ: لَمْ أَنْسَ بَدْرًا زَارَنِي لَيْلَةً ... مُسْتَوْفِزًا مَطْلَعًا لِلْخَطَرِ فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا ... قُلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْ أَرَادَ بَعْضَ كَلِمَةِ مَرْحَبًا وَقَدْ أَكْثَرْتُ مِنْ شَوَاهِدِهِ تَوْسِعَةً فِي مَوَاقِعِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْغَرِيبِ وَلَسْتُ أُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ حَمْلِ حُرُوفِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ تَخْرِيجُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مَعَ التَّوْرِيَةِ بِجَعْلِ مَرَّ مِنَ الْمُرُورِ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ إِلَى أَحْوَالٍ مِنْ تَزْكِيَةِ الْقَلْبِ، وَجَعَلَهَا فِي «الْفُتُوحَاتِ» فِي الْبَابِ الثَّانِي إِيمَاءً إِلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جُمْلَةَ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَلَى تَكْرَارِ الْحُرُوفِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعُونَ حَرْفًا وَالثَّمَانِيَةُ هُنَا هِيَ حَقِيقَةُ الْبِضْعِ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالْكَشْفِ فَيَكُونُ عَدَدُ الْحُرُوفِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» فَهَذِهِ الْحُرُوفُ هِيَ شُعَبُ الْإِيمَانِ، وَلَا يَكْمُلُ لِأَحَدٍ أَسْرَارَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي سُوَرِهَا. وَكَيْفَ يَزْعُمُ زَاعِمٌ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي مَعَانٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ مَعَ ثُبُوتِ تَلَقِّي السَّامِعِينَ لَهَا بِالتَّسْلِيمِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُعَانِدٍ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهَا مَعْنًى مَعْرُوفًا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ لَسَأَلَ السَّائِلُونَ وَتَوَرَّكَ الْمُعَانِدُونَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ حم فُصِّلَتْ وص وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ مَعَ تَشَوُّفِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ قُلْتُ وَقَدْ سَأَلُوا عَنْ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا فَقَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] ، وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدُواُُ ¬

(¬1) نسبه إِلَيْهِ الْمبرد فِي «الْكَامِل» ص 245. وسيبويه فِي «كِتَابه» ص 57 جُزْء 2 وتبعهما الْمُفَسِّرُونَ.

بِهِ مِنْ بَيْتِ زُهَيْرٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِمَّا أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْأَلْغَازِ وَالتَّمْلِيحِ وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ. النَّوْعُ الثَّانِي يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ الرَّاجِعَةَ إِلَى أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ وُضِعَتْ بِتِلْكَ الْهَيْئَاتِ أَسْمَاءً أَوْ أَفْعَالًا وَفِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ أَرْبَعَةٌ. التَّاسِعُ فِي عِدَادِ الْأَقْوَالِ فِي أَوَّلِهَا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَنُسِبَ لِسِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» بَابِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ مِنْ أَبْوَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ أَوْ لِلْخَلِيلِ وَنَسَبَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلْأَكْثَرِ وَيُعَضِّدُهُ وُقُوعُ هَاتِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَتَكُونُ هَاتِهِ الْحُرُوفُ قَدْ جُعِلَتْ أَسْمَاءً بِالْعَلَامَةِ عَلَى تِلْكَ السُّوَرِ، وَسُمِّيَتْ بِهَا كَمَا نَقُولُ الْكُرَّاسَةَ ب وَالرِّزْمَةَ ج وَنَظَّرَهُ الْقُفَّالُ بِمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ كَمَا سَمَّوْا لَامَ الطَّائِيَّ وَالِدِ حَارِثَةَ، وَسَمَّوُا الذَّهَبَ عَيْنٌ، وَالسَّحَابَ غَيْنٌ، وَالْحُوتَ نُونْ، والجبل قَاف، وأقوال، وَحَاءُ قَبِيلَةٌ مِنْ مَذْحِجٍ، وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى الْعَنْسِيُّ أَوِ الْعَبْسِيُّ: يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ (¬1) يُرِيدُ حم عسق [الشورى: 1، 2] الَّتِي فِيهَا: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . وَيَبْعُدُ هَذَا الْقَوْلُ بُعْدًا مَا إِنِ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمُسَمَّى وَقَدْ وَجَدْنَا هَذِهِ الْحُرُوفَ مَقْرُوءَةً مَعَ السُّوَرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّهُ اتِّحَادُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِثْلَ الم والر وحم. وَأَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ أَسْمَاءُ السُّوَرِ الْأُخْرَى فِي أَوَائِلِهَا. الْقَوْلُ الْعَاشِرُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ إِنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلْقُرْآنِ اصْطُلِحَ عَلَيْهَا قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَيُبْطِلُهُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ بَعْضِهَا مَا لَا يُنَاسِبُهَا لَوْ كَانَتْ أَسْمَاءً لِلْقُرْآنِ، نَحْوَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: 1، 2] ، والم أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: 1، 2] . الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ كُلَّ حُرُوفٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْهَا هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَا كهيعص يَا حم عسق وَسَكَتَ عَنِ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ فَيَرْجِعُ بِهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُهَا أَنْ تَنْدَرِجَ تَحْتَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَيُبْطِلَهُ عَدَمُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ لِأَنْ يَكُونَُُ ¬

(¬1) الضَّمِير فِي يذكرنِي رَاجع لمُحَمد بن طَلْحَة السَّجَّاد بن عبيد الله الْقرشِي من بني مرّة بن كَعْب، وَأَرَادَ بحم سُورَة الشورى لِأَن فِيهَا: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] فَكَانَت دَالَّة على قرَابَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش الَّذين مِنْهُم مُحَمَّد السَّجَّاد.

خَبَرًا أَوْ نَحْوَهُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ مِثْلَ الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 1، 2] والمص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 1، 2] . الثَّانِيَ عَشَرَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هِيَ أَفْعَالٌ فَإِنَّ حُرُوفَ المص كِتَابٌ فِعْلُ أَلَمَّ بِمَعْنَى نَزَلَ فَالْمُرَادُ الم ذلِكَ الْكِتابُ أَيْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ، وَيُبْطِلُ كَلَامَهُ أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ بِصِيَغِ الْأَفْعَالِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي جَمِيعِهَا نَحْوَ كهيعص والمص والر وَلَوْلَا غَرَابَةُ هَذَا الْقَوْلِ لَكَانَ حَرِيًّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ تَنْدَرِجُ فِيهِ الْأَقْوَالُ الرَّاجِعَةُ إِلَى أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مَقْصُودَةٍ بِأَسْمَائِهَا لِأَغْرَاضٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ وَفِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ: الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا كَمَا أَقْسَمَ بِالْقَلَمِ تَنْوِيهًا بِهَا لِأَنَّ مُسَمَّيَاتِهَا تَأَلَّفَتْ مِنْهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَأُصُولُ التَّخَاطُبِ وَالْعُلُومِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدْ وَهَنَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُقْسَمًا بِهَا لَذُكِرَ حَرْفُ الْقَسَمِ إِذْ لَا يُحْذَفُ إِلَّا مَعَ اسْمِ الْجَلَالَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَبِأَنَّهَا قَدْ وَرَدَ بَعْدَهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَسَمٌ نَحْوَ: ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: 1] وحم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: 1] ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَقَدِ اسْتَكْرَهُوا الْجَمْعَ بَيْنَ قَسَمَيْنِ عَلَى مُقْسَمٍ وَاحِدٍ حَتَّى قَالَ الْخَلِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْل: 1، 2] أَنَّ الْوَاوَ الثَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تَضُمُّ الْأَسْمَاءَ لِلْأَسْمَاءِ أَيْ وَاوَ الْعَطْفِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ اخْتِصَاصَ الْحَذْفِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَنَّ كَرَاهِيَةَ جمع قسمَيْنِ تَنْفَع بِجَعْلِ الْوَاوِ التَّالِيَةِ لَهَاتِهِ الْفَوَاتِحِ وَاوَ الْعَطْفِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ قَسَمَيْنِ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَنِعْمَ الْفَتَى الْ ... حَارِثُ لَا النَّكْسُ وَلَا الْخَامِلُ الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّهَجِّي مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فِي التَّهْجِيَةِ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِيقَاظًا لِنَظَرِهِمْ فِي أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمَتْلُوَّ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تُحُدُّوا بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ هُوَ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ عَيْنِ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ كَأَنَّهُ يُغْرِيهِمْ بِمُحَاوَلَةِ الْمُعَارَضَةِ وَيَسْتَأْنِسُ لِأَنْفُسِهِمْ بِالشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ بِتَهَجِّي الْحُرُوفِ وَمُعَالَجَةِ النُّطْقِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِمُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَقَاطِيعَ اللُّغَةِ، فَيُلَقِّنُهَا كَتَهَجِّي الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ تَعَلُّمِهِمْ بِالْكِتَابِ حَتَّى يَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ عَجْزًا لَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُبَرِّدُ وَقُطْرُبُ وَالْفَرَّاءُ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» وَهَذَا الْقَوْلُ من الْقُوَّة والخلافة بِالْقَبُولِ بِمَنْزِلَةٍ، وَقُلْتُ وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَتَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ لِوُقُوعِهَا فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مَقْصُودَةٍ بِالْإِعْجَازِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23]

فَنَاسَبَ افْتِتَاحُ مَا بِهِ الْإِعْجَازُ بِالتَّمْهِيدِ لِمُحَاوَلَتِهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ التَّهَجِّيَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ وَأَنَّ التَّهَجِّيَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ لِلتَّعْلِيمِ فَإِذَا ذَكَرْتَ حُرُوفَ الْهِجَاءِ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي التَّعْلِيمِ فِي مَقَامٍ غَيْرِ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيمِ عَرَفَ السَّامِعُونَ أَنَّهُمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ الْمُتَعَلِّمِ لِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِهِ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَيُعَضِّدُ هَذَا الْوَجْهَ تَعْقِيبُ هَاتِهِ الْحُرُوفِ فِي غَالِبِ الْمَوَاقِعِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وتنزيله أَو كتابيته إِلَّا فِي كهيعص [مَرْيَم: 1] والم أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: 1، 2] والم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: 1، 2] وَوَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوفِ بِالتَّهَجِّي دُونَ بَعْضٍ، وَتَكْرِيرِ بَعْضِهَا لِأَمْرٍ لَا نَعْلَمُهُ وَلَعَلَّهُ لِمُرَاعَاةِ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُعْظَمَ مَوَاقِعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ عَدَا الْبَقَرَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلُوهَا كُلَّهَا مَدَنِيَّةً وَآلَ عِمْرَانَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا نَزَلَتَا بِقُرْبِ عَهْدِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ قَصْدَ التَّحَدِّي فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ قَصْدٌ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْحُرُوفُ الَّتِي أَسْمَاؤُهَا مَخْتُومَةٌ بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ مِثْلَ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَالرَّاءِ وَالطَّاءِ وَالْحَاءِ قُرِئَتْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ مَقْصُودَةً عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا لِلصِّبْيَانِ فِي الْكِتَابِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ مِنْ تَفْسِيرِ الم. الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهَا تَعْلِيمٌ لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ حَتَّى إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُؤَلَّفَةً كَانُوا قَدْ عَلِمُوهَا كَمَا يَتَعَلَّمُ الصِّبْيَانُ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ، ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَهَا مُرَكَّبَةً قَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، يَعْنِي إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ إِلَّا بَعْضُ الْمُدُنِ كَأَهْلِ الْحِيرَةِ وَبَعْضُ طَيْءٍ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَقَدْ تَقَلَّبَتْ أَحْوَالُ الْعَرَبِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ تَقَلُّبَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْعُصُورِ الْمُخْتَلفَة، فَكَانُوا بادىء الْأَمْرِ أَهْلَ كِتَابَةٍ لِأَنَّهُمْ نَزَحُوا إِلَى الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِرَاقِ بَعْدَ تَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ، وَالْعِرَاقُ مَهْدُ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ ضَخْمَ بْنَ إِرَمَ أَوَّلُ مَنْ عَلَّمَ الْعَرَبَ الْكِتَابَةَ وَوَضَعَ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ التِّسْعَةَ وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا بَادُوا (أَيْ سَكَنُوا الْبَادِيَةَ) تَنَاسَتِ الْقَبَائِلُ الْبَادِيَةُ بِطُولِ الزَّمَانِ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَشَغَلَهُمْ حَالُهُمْ عَنْ تَلَقِّي مَبَادِئِ الْعُلُومِ، فَبَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْحَوَاضِرِ كَحَوَاضِرِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ، ثُمَّ لَمَّا تَفَرَّقُوا بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ نَقَلُوا الْكِتَابَةَ إِلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي نَزَلُوهَا فَكَانَتْ طَيْءٌ بِنَجْدٍ يَعْرِفُونَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْوَحِيدَةُ مِنَ الْقَحْطَانِيِّينَ بِبِلَادِ نَجْدٍ وَلِذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ أَنَّ الَّذِينَ وَضَعُوا الْكِتَابَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي بُولَانَ مِنْ طَيْءٍ يُرِيدُونَ مِنَ الْوَضْعِ أَنَّهُمْ عَلَّمُوهَا لِلْعَدْنَانِيِّينَ بِنَجْدٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْحِيرَةِ يُعَلِّمُونَ الْكِتَابَةَ فَالْعَرَبُ بِالْحِجَازِ تَزْعُمُ

أَنَّ الْخَطَّ تَعَلَّمُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ وَالْحِيرَةِ، وَقِصَّةُ الْمُتَلَمِّسِ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ تُذَكِّرُنَا بِذَلِكَ إِذْ كَانَ الَّذِي قَرَأَ لَهُ الصَّحِيفَةَ غُلَامٌ مِنْ أُغَيْلِمَةِ الْحَيْرَةِ. وَلَقَدْ كَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ نَازِحَةِ الْقَحْطَانِيِّينَ، قَدْ تَنَاسَوُا الْكِتَابَةَ إِذْ كَانُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَفُرُوسِيَّةٍ وَحُرُوبٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَكَانَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ مِنَ الْأَسْرَى يُفْتَدَى بِأَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنْ غِلْمَانِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْكِتَابَةَ فَتَعَلَّمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَتِ الشِّفَاءُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّةُ تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَهِيَ عَلَّمَتْهَا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُوجَدُ فِي أَسَاطِيرِ الْعَرَبِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ تَعَلَّمُوا الْكِتَابَةَ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ فِي جِوَارِهِمْ فَقَدْ ذَكَرُوا قِصَّةً وَهِيَ أَنَّ الْمَحْضَ بْنَ جَنْدَلٍ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَلِكًا كَانَ لَهُ سِتَّةُ أَبْنَاءٍ وَهُمْ: أَبْجَدُ، وَهَوَّزُ، وَحُطِّي، وَكَلَمُنُ، وَسَعْفَصُ، وَقَرَشْتُ، فَجَعَلَ أَبْنَاءَهُ مُلُوكًا عَلَى بِلَادِ مَدْيَنَ وَمَا حَوْلَهَا فَجَعَلَ أَبْجَدَ بِمَكَّة وَجعل هوزا وحطيا بِالطَّائِفِ وَنَجْدٍ، وَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ بمدين، وَأَن كلمنا كَانَ فِي زَمَنِ شُعَيْبٍ وَهُوَ مِنَ الَّذِينَ أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ (¬1) قَالُوا فَكَانَتْ حُرُوفُ الْهِجَاءِ أَسْمَاءُ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ ثُمَّ أَلْحَقُوا بهَا ثخذ وضغط فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِصَّةَ مَصْنُوعَةً لِتَلْقِينِ الْأَطْفَالِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بِطَرِيقَةٍ سَهْلَةٍ تُنَاسِبُ عُقُولَهُمْ وَتَقْتَضِي أَنَّ حُرُوفَ ثَخَذْ وَضَغَظْ لَمْ تَكُنْ فِي مُعْجَمِ أَهْلِ مَدْيَنَ فَأَلْحَقَهَا أَهْلُ الْحِجَازِ، وَحَقًّا إِنَّهَا مِنَ الْحُرُوفِ غَيْرِ الْكَثِيرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا الْمَوْجُودَةِ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُبْعِدُهُ عَدَمُ وُجُودِ جَمِيعِ الْحُرُوفِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ بَلِ الْمَوْجُودُ نِصْفُهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» . الْقَوْلُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهَا حُرُوفٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْبِيهُ السَّامِعِ مِثْلَ النِّدَاءِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّنْبِيهُ فِي قَوْلك يافتى لِإِيقَاظِ ذِهْنِ السَّامِعِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَا يَقُولُ فِي إِنْشَادِ أَشْهَرِ الْقَصَائِدِ لَا وَبَلْ لَا، قَالَ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّ الْحَكِيمَ إِذَا ¬

(¬1) الظلة: السحابة وَقد أَصَابَتْهُم صواعق فَذكرُوا أَن حَارِثَة ابْنة كلمن قَالَت ترثي أَبَاهَا: كلمن هدم ركني ... هلكه وسط الْمحلة سيد الْقَوْم أَتَاهُ ال ... حتف نَارا وسط ظله كونت نَارا وأضحت ... دَار قومِي مضمحلة ومسحة التوليد ظَاهِرَة على هاته الأبيات.

خَاطَبَ مَنْ يَكُونُ مَحِلَّ الْغَفْلَةِ أَوْ مَشْغُولَ الْبَالِ يُقَدِّمُ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ شَيْئًا لِيَلْفِتَ الْمُخَاطَبَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمُقَدَّمِ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْمَقْصُودِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ كَلَامًا مِثْلَ النِّدَاءِ وَحُرُوفِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّمُ صَوْتًا كَمَنْ يُصَفِّقُ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ السَّامِعُ فَاخْتَارَ الْحَكِيمُ لِلتَّنْبِيهِ حُرُوفًا مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا عَلَى قَصْدِ التَّنْبِيهِ مُتَعَيِّنَةً إِذْ لَيْسَ لَهَا مَفْهُومٌ فَتَمَحَّضَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَرَضٍ مُهِمٍّ. الْقَوْلُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا إِعْجَازٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ قَدْ نَطَقَ بِأُصُولِ الْقِرَاءَةِ كَمَا يَنْطِقُ بِهَا مَهَرَةُ الْكَتَبَةِ فَيَكُونُ النُّطْقُ بِهَا مُعْجِزَةً وَهَذَا بَيِّنُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ. الْقَوْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] فَأُورِدَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْحُرُوفُ لِيُقْبِلُوا عَلَى طَلَبِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا فَيَقَعُ إِلَيْهِمْ مَا يَتْلُوهَا بِلَا قَصْدٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ السَّادِسَ عَشَرَ. الْقَوْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا عَلَامَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وُعِدُوا بِهَا مِنْ قِبَلِ أَنْبِيَائِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يُفْتَتَحُ بِحُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ. الْقَوْلُ الْعِشْرُونَ: قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ فَأَرَاهُمْ أَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفٍ كَحُرُوفِ الْكَلَامِ، وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ مِنْ أَصْوَاتِ الْكَلِمَاتِ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى حُدُوثِهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لِقِلَّةِ أَصْوَاتِهَا. الْقَوْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَنَاءٌ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي. هَذَا جُمَّاعُ الْأَقْوَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِرَاءَةَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مِثْلَ أَلِفْ. لَامْ. مِيمْ دون أَن يقرأوا أَلَمْ وَأَنَّ رَسْمَهَا فِي الْخَطِّ بِصُورَةِ الْحُرُوفِ يُزَيِّفُ جَمِيعَ أَقْوَالِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَيُعَيِّنُ الِاقْتِصَارَ عَلَى النَّوْعَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى أَنَّ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَيْنِكَ النَّوْعَيْنِ مُتَفَاوِتٌ فِي دَرَجَاتِ الْقَبُولِ، فَإِنَّ الْأَقْوَالَ الثَّانِيَ، وَالسَّابِعَ، وَالثَّامِنَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَالسَّادِسَ عَشَرَ، يُبْطِلُهَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَوْ كَانَتْ مُقْتَضَبَةً مِنْ أَسْمَاءٍ أَوْ كَلِمَاتٍ لَكَانَ الْحَقُّ أَن ينْطق بمسمياتها لَا بِأَسْمَائِهَا. فَإِذَا تَعَيَّنَ هَذَانِ النَّوْعَانِ وَأَسْقَطْنَا مَا كَانَ مِنَ الْأَقْوَال المندرجة تحتمها وَاهِيًا، خَلَصَ أَنَّ الْأَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ كَوْنُ تِلْكَ الْحُرُوفِ لِتَبْكِيتِ الْمُعَانِدِينَ وَتَسْجِيلًا

لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ كَوْنُهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا، أَوْ كَوْنُهَا أَقْسَامًا أَقْسَمَ بِهَا لِتَشْرِيفِ قَدْرِ الْكِتَابَةِ وَتَنْبِيهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ إِلَى فَوَائِدِ الْكِتَابَةِ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حَالَةِ الْأُمِّيَّةِ وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَوَّلُهَا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُرُوفِ هُوَ نِصْفُ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ إِذْ هِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَهِيَ: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالصَّادُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالطَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالنُّونُ، فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْصَافِ أَجْنَاسِ صِفَاتِ الْحُرُوفِ فَفِيهَا مِنَ الْمَهْمُوسَةِ نِصْفُهَا: الصَّادُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَمِنَ الْمَجْهُورَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ، وَمِنَ الشَّدِيدَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَالْكَافُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَمِنَ الرَّخْوَةِ نِصْفُهَا: اللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالصَّادُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ نِصْفُهَا: الصَّادُ، وَالطَّاءُ. وَمِنَ الْمُنْفَتِحَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ نِصْفُهَا الْقَافُ، وَالصَّادُ، وَالطَّاءُ. وَمِنَ الْمُسْتَفِلَةِ نَصِفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ نَصِفُهَا: الْقَافُ، وَالطَّاءُ. ثُمَّ إِنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي أُلْغِيَ ذِكْرُهَا مَكْثُورَةً بِالْمَذْكُورَةِ، فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ اهـ وَزَادَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْنَافًا أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ الْحُرُوفِ لَا نُطِيلُ بِهَا فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْهَا. وَمَحْصُولُ كَلَامِهِمَا أَنَّهُ قَدْ قُضِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحُرُوفِ وَإِهْمَالُ ذِكْرِ مَا أُهْمِلَ مِنْهَا حَقُّ التَّمْثِيلِ لِأَنْوَاعِ الصِّفَاتِ بِذِكْرِ النِّصْفِ، وَتَرْكِ النِّصْفِ مِنْ بَابِ «وَلْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ» لِحُصُولِ الْغَرَضِ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالْكِتَابَةِ، وَحَقُّ الْإِيجَازِ فِي الْكَلَامِ. فَيَكُونُ ذِكْرُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَكَيْفِيَّةُ النُّطْقِ أَنْ يُنْطَقَ بِهَا مَوْقُوفَةً دُونَ عَلَامَاتِ إِعْرَابٍ عَلَى حُكْمِ الْأَسْمَاءِ الْمَسْرُودَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ مَعْمُولَةً لِعَوَامِلَ فَحَالُهَا كَحَالِ الْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ حِينَ تَقُولُ ثَلَاثَهْ أَرْبَعَهْ خَمْسَهْ.

وَكَحَالِ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُمْلَى عَلَى الْجَارِدِ لَهَا، إِذْ تَقُولُ مَثَلًا: ثَوْب، بِسَاط، سَيْف، دُونَ إِعْرَاب، وَمن أعرابها كَانَ مُخْطِئًا. وَلِذَلِكَ نَطَقَ الْقُرَّاءُ بِهَا سَاكِنَةً سُكُونَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَمَا كَانَ مِنْهَا صَحِيحُ الْآخِرِ نُطِقَ بِهِ سَاكِنًا نَحْوَ أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ. وَمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُرُوفِ مَمْدُودَ الْآخِرِ نُطِقَ بِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ أَلِفًا مَقْصُورًا لِأَنَّهَا مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْمُتَهَجَّى بِهَا وَهِيَ فِي حَالَةِ التَّهَجِّي مَقْصُورَةٌ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِأَنَّ التَّهَجِّيَ إِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا لِتَعْلِيمِ الْمُبْتَدِئِ، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي التَّهَجِّي أَكْثَرُ فَوَقَعَتْ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مَقْصُورَةً لِأَنَّهَا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْهُ. وَلَكِنَّ النَّاسَ قَدْ يَجْعَلُونَ فَاتِحَةَ إِحْدَى السُّوَرِ كَالِاسْمِ لَهَا فَيَقُولُونَ قَرَأْتُ: كهيعص كَمَا يَجْعَلُونَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ مِنَ الْقَصِيدَةِ اسْمًا لِلْقَصِيدَةِ فَيَقُولُونَ قَرَأْتُ: «قِفَا نَبْكِ» وَ «بَانَتْ سُعَادُ» فَحِينَئِذٍ قَدْ تُعَامَلُ جُمْلَةُ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الْفَاتِحَةِ مُعَامَلَةَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجْرِي عَلَيْهَا مِنَ الْإِعْرَابِ مَا هُوَ لِنَظَائِرِ تِلْكَ الصِّيغَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَلَا يُصْرَفُ حَامِيمُ كَمَا قَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى الْعَنْسِيُّ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا: يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَكَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ: قَرَأْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً ... تَأَوَّلَهَا مِنَّا فَقِيهٌ وَمُعْرِبٌ وَلَا يعرب كهيعص [مَرْيَم: 1] إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ إِفْرَادًا وَلَا تَرْكِيبًا. وَأَمَّا طسم فيعرب اعتراب الْمُرَكَّبِ الْمَزْجِيِّ نَحْوَ حَضْرَمَوْتَ وَدَارَابَجِرْدَ (¬1) وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ (هُودَ) اسْمَ السُّورَةِ لَمْ تَصْرِفْهَا فَتَقُولُ قَرَأْتُ هُودَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ قَالَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةٍ سَمَّيْتَهَا بِعَمْرٍو. وَلَكَ فِي الْجَمِيعِ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحِكَايَةِ وَمَوْقِعِ هَاتِهِ الْفَوَاتِحِ مَعَ مَا يَلِيهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، فَإِنْ جَعَلَتْهَا حُرُوفًا لِلتَّهَجِّي تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ وَتَبْكِيتًا لَهُمْ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ مَحْكِيَّةٌ وَلَا تَقْبَلُ إِعْرَابًا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ لَا يُقْصَدُ إِلَّا صُدُورُهَا فَدَلَالَتُهَا تُشْبِهُ الدَّلَالَةَ الْعَقْلِيَّةَ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاطِق بهَا يهيّىء السَّامِعَ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِثْلَ سَرْدِ الْأَعْدَادِ الْحِسَابِيَّةِ عَلَى مَنْ يُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ حَاصِلَهَاُُ، ¬

(¬1) دارابجرد اسْم بَلْدَة بِفَارِس مركبة من دَارا اسْم ملك. واب اسْم المَاء وجرد بِمَعْنى بلد فَهِيَ بِفَتَحَات ثمَّ جِيم مَكْسُورَة.

أَوْ يَطْرَحَ، أَوْ يَقْسِمَ، فَلَا إِعْرَابَ لَهَا مَعَ مَا يَلِيهَا، وَلَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ بِالْمُؤَلَّفِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِمَقْصُودٍ لِظُهُورِهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَعْدَادِهَا مِنَ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَهَجَّى الْحُرُوفَ لِمَنْ يُنَافِي حَالُهُ أَنْ يُقْصَدَ تَعْلِيمُهُ يَتَعَيَّنُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّهُ يَقْصِدُ التَّعْرِيضَ. وَإِذَا قَدَّرْتَهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ أَوْ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى مُقْسَمًا بِهَا فَقِيلَ إِنَّ لَهَا أَحْكَامًا مَعَ مَا يَلِيهَا مِنَ الْإِعْرَابِ بَعْضُهَا مُحْتَاجٌ لِلتَّقْدِيرِ الْكَثِيرِ، فَدَعْ عَنْكَ الْإِطَالَةَ بِهَا فَإِنَّ الزَّمَانَ قَصِيرٌ. وَهَاتِهِ الْفَوَاتِحُ قُرْآنٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا آيَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَالِيَةِ لَهَا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مَذَاهِبِ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ أَنَّ بَعْضَهَا عَدُّوهُ آيَاتٍ مُسْتَقِلَّةً وَبَعْضُهَا لَمْ يَعُدُّوهُ وَجَعَلُوهُ جُزْءَ آيَةٍ مَعَ مَا يَلِيهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ التَّفْصِيلِ حَتَّى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّ هَذَا لَا دَخْلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ جَمِيعَهَا آيَاتٍ وَهُوَ اللَّائِقُ بِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ إِذِ التَّفْصِيلُ تَحَكُّمٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَفْقُودٌ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهَا آيَاتٌ لِأَنَّ لَهَا دَلَالَةً تَعْرِيضِيَّةً كِنَائِيَّةً إِذِ الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ عَجْزِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ تُطَابِقُ مُقْتَضَى الْحَالِ مَعَ مَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْكَلَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنًى كِنَائِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَرِيحٌ بَلْ تُعْتَبَرُ دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ تَقْدِيرِيَّةً إِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ مُلَازَمَةِ دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ لِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ. وَيَدُلُّ لِإِجْرَاءِ السَّلَفِ حُكْمَ أَجْزَاءِ الْآيَاتِ عَلَيْهَا أَنهم يقرأونها إِذا قرأوا الْآيَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا، فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الرُّومِ فَنَزَلَتْ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: 1، 2] ، وَفِيهِ أَيْضًا: «فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْهُ: «فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 1- 13] الْحَدِيثَ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ اخْتُلِفَ فِي إِجْزَاءِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلَ أَصْحَابِ أبي حنيفَة.

[سورة البقرة (2) : آية 2]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 2] ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) ذلِكَ الْكِتابُ. مَبْدَأُ كَلَامٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ فِي الْإِعْرَابِ بحروف الم [الْبَقَرَة: 1] كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَدْ جَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ حُرُوفُ الم مَسُوقَةً مَسَاقَ التَّهَجِّي لِإِظْهَارِ عَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ، أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارًا بِهِ إِلَى الم بِاعْتِبَارِهِ حَرْفًا مَقْصُودًا لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ التَّهَجِّي أَيْ ذَلِكَ الْحُرُوفُ بِاعْتِبَارِهَا مِنْ جِنْسِ حُرُوفِكُمْ هِيَ الْكِتَابُ أَيْ مِنْهَا تَرَاكِيبُهُ فَمَا أَعْجَزَكُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، فَيَكُونُ الم جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مَسُوقَةً لِلتَّعْرِيضِ. وَاسْمُ الْإِشَارَة مُبْتَدأ و (الْكتاب) خَبَرًا. وَعَلَى الْأَظْهَرِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْرُوفِ لَدَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ وَاسْمُ الْإِشَارَة مُبْتَدأ و (الْكتاب) بَدَلٌ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى (الْكِتَابِ) النَّازِلِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ السُّوَرُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْقُرْآنُ وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ مَا يَلْحَقُ بِهِ، فَيَكُونُ (الْكِتَابُ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُطْلِقَ حَقِيقَةً عَلَى مَا كُتِبَ بِالْفِعْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْكِتَابِ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ مِنْهُ وَمَا سَيَنْزِلُ لِأَنَّ نُزُولَهُ مُتَرَقَّبٌ فَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَشَبَّهَ بِالْحَاضِرِ فِي الْعِيَانَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ التَّقْدِيرِيِّ وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ لِلْحُضُورِ التَّقْدِيرِيِّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْكِتَابَ) حِينَئِذٍ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ ذلِكَ وَالْخَبَرُ هُوَ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَيَجُوزُ الْإِتْيَانُ فِي مِثْلِ هَذَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْقَرِيبِ وَالْمَوْضُوعِ لِلْبَعِيدِ، قَالَ الرَّضِيُّ (¬1) «وُضِعَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْحُضُورِ وَالْقُرْبِ لِأَنَّهُ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ حِسًّا ثُمَّ يَصِحُّ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْغَائِبِ فَيَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ غَائِبٌ، وَيَقِلُّ أَنْ يُذْكَرَ بِلَفْظِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ فَتَقُولُ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقُلْتُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَقُلْتُ لِهَذَا الرَّجُلِ، وَكَذَا يَجُوزُ لَكَ فِي الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ عَنْ قَرِيبٍ أَنْ تُشِيرَ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ وَالْبُعْدِ كَمَا تَقُولُ: «وَاللَّهِ وَذَلِكَ قَسَمٌ عَظِيمٌ» لِأَنَّ اللَّفْظَ زَالَ سَمَاعُهُ فَصَارَ كَالْغَائِبِ وَلَكِنَّ الْأَغْلَبَ فِي هَذَا الْإِشَارَةُ بِلَفْظِ الْحُضُورِ فَتَقُولُ وَهَذَا قَسَمٌ عَظِيمٌ» اهـ، أَيِ الْأَكْثَرُ فِي مِثْلِهِ الْإِتْيَانُ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ وَيَقِلُّ ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الْحَاضِرِ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي الْإِشَارَةِ لِلْقَوْلِ. وَابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» سَوَّى بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي الْإِشَارَةِ لِكَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ إِذْ قَالَ: وَقَدْ يَتَعَاقَبَانِ (أَيِ اسْمُ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ) مُشَارًا ¬

(¬1) «شرح كَافِيَة ابْن الْحَاجِب» صفحة 32 جُزْء 2 طبع الآستانة.

بِهِمَا إِلَى مَا وَلِيَاهُ أَيْ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَثَلَّهُ شَارِحُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ عِيسَى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمرَان: 58] ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمرَان: 62] فَأَشَارَ مَرَّةً بِالْبَعِيدِ وَمَرَّةً بِالْقَرِيبِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ، وَكَلَامُ ابْنِ مَالِكٍ أَوْفَقُ بِالِاسْتِعْمَالِ إِذْ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ مَا وَرَدَ مِنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَدَعْوَى الرَّضِيِّ قِلَّةَ أَنْ يُذْكَرَ بِلَفْظِ الْحَاضِرِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ كَلَامٍ مِثْلَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْكَلَامِ فِي جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ لِكَثْرَةِ كِلَيْهِمَا أَيْضًا، فَفِي الْقُرْآنِ: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَص: 15] فَإِذَا كَانَ الْوَجْهَانِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ مَجَالًا لِتَسَابُقِ الْبُلَغَاءِ وَمُرَاعَاةِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، وَنَحْنُ قَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَتَخَيَّرُونَ فِي مَوَاقِعِ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِذَلِكَ الْمَقَامِ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مُخَاطِبِيهِمْ بِأَغْرَاضٍ لَا قِبَلَ لِتَعَرُّفِهَا إِلَّا إِذَا كَانَ الِاسْتِعْمَالُ سَوَاءً فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِيَكُونَ التَّرْجِيحُ لِأَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ لَا عَلَى مَعْنَى، مِثْلَ زِيَادَةِ التَّنْبِيهِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ الْبَعِيدِ كَمَا هُنَا، وَكَمَا قَالَ خُفَافُ بْنُ نَدْبَةَ (¬1) : أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَ (¬2) وَقَدْ يُؤْتَى بِالْقَرِيبِ لِإِظْهَارِ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ فِي «الْحَمَاسَةِ» : مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يَلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَةِ بِاسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْبَعِيدِ لِإِظْهَارِ رِفْعَةِ شَأْنِ هَذَا الْقُرْآنِ لِجَعْلِهِ بَعِيدَ الْمَنْزِلَةِ. وَقَدْ شَاعَ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ تَمْثِيلُ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ بِالشَّيْءِ الْمَرْفُوعُُِ ¬

(¬1) خفاف بِضَم الْخَاء وَتَخْفِيف الْفَاء هُوَ خفاف بن عُمَيْر وَأمه ندبة أمة سَوْدَاء. وَهِي بِفَتْح النُّون. وخفاف أحد فرسَان الْعَرَب وشعرائهم مِمَّن لقب بالغراب، وأغربة الْعَرَب سودانهم وهم خَمْسَة جاهليون، وَثَمَانِية مُسلمُونَ، فَأَما الجاهليون فهم: عنترة، وخفاف، وَأَبُو عُمَيْر بن الْحباب، وسليك بن السّلكة، وَهِشَام بن عقبَة بن أبي معيط، فخفاف وَهِشَام أدْركَا الْإِسْلَام وعدّا فِي الصَّحَابَة وَشهد خفاف فتح مَكَّة وأبلى الْبلَاء الْحسن. وَأما الأغربة الْمُسلمُونَ فهم: تأبّط شرّا، والشّنفرى- عَمْرو بن برّاقة- وَعبد الله بن حَازِم، وَعُمَيْر بن أبي عُمَيْر، وَهَمَّام بن مطرف، ومنتشر بن وهب، ومطر بن أبي أوفى، وحاجز بحاء ثمَّ جِيم ثمَّ زَاي مُعْجمَة غير مَنْسُوب. (¬2) يأطر مضارع أطر كنصر وَضرب، بِمَعْنى أحنى وَكسر قَالَ طرفَة: «وأطر قسيّ فَوق صلب مؤيّد» .

فِي عِزَّةِ الْمَنَالِ لِأَنَّ الشَّيْءَ النَّفِيسَ عَزِيزٌ عَلَى أَهْلِهِ فَمِنَ الْعَادَةِ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الدُّرُوسِ وَتَنَاوُلِ كَثْرَةِ الْأَيْدِي وَالِابْتِذَالِ، فَالْكِتَابُ هُنَا لَمَّا ذُكِرَ فِي مَقَامِ التَّحَدِّي بِمُعَارَضَتِهِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي الم [الْبَقَرَة: 1] كَانَ كَالشَّيْءِ الْعَزِيزِ الْمَنَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَنَاوُلِهِمْ إِيَّاهُ بِالْمُعَارَضَةِ أَوْ لِأَنَّهُ لِصِدْقِ مَعَانِيهِ وَنَفْعِ إِرْشَادِهِ بِعِيدٌ عَمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ بِهُجْرِ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِم: افْتَراهُ [يُونُس: 38] وَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] . وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْعَام: 92] فَذَلِكَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى كِتَابٍ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِهِ لِتَرْغِيبِهِمْ فِي الْعُكُوفِ عَلَيْهِ وَالِاتِّعَاظِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَلَعَلَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» بَنَى عَلَى مِثْلِ مَا بَنَى عَلَيْهِ الرَّضِيُّ فَلَمْ يَعُدَّ: ذلِكَ الْكِتابُ تَنْبِيهًا عَلَى التَّعْظِيمِ أَوِ الِاعْتِبَارِ، فَلِلَّهِ دَرُّ صَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» إِذْ لَمْ يُغْفِلْ ذَلِكَ فَقَالَ فِي مُقْتَضَيَاتِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ: أَوْ أَنْ يَقْصِدَ بِبُعْدِهِ تَعْظِيمَهُ كَمَا تَقُولُ فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ ذَلِكَ الْفَاضِلُ وَأُولَئِكَ الْفُحُولُ وَكَقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا: الم ذلِكَ الْكِتابُ ذَهَابًا إِلَى بُعْدِهِ دَرَجَةً. وَقَوْلُهُ: الْكِتابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ بَيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ مُشَاهَدَتِهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ إِذَنْ لِلْعَهْدِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الْكِتَابُ) خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ قَصْرَ حَقِيقَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ بِسَبَب تَعْرِيف الجزءين فَهُوَ إِذَنْ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ وَمَعْنَاهُ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْجَامِعُ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ فِي جِنْسِ الْكُتُبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَيْهِ كَانَتْ كَالْمَفْقُودِ مِنْهَا وَصْفَ الْكِتَابِ لِعَدَمِ اسْتِكْمَالِهَا جَمِيعِ كَمَالَاتِ الْكُتُبِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ قَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحَاةُ فِي تَعْدَادِ مَعَانِي لَامِ التَّعْرِيفِ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْكَمَالِ فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ كَيْفَ يُحْصَرُ الْكِتَابُ فِي أَنَّهُ الم أَوْ فِي السُّورَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْحَصْرِ وَإِنَّمَا هُوَ مَقَامُ التَّعْرِيفِ لَا غَيْرَ، فَفَائِدَةُ التَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ ظَاهِرِيَّةٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَغْوًا بِحَالٍ وَإِنْ سَبَقَ لِبَعْضِ الْأَوْهَامِ عَلَى بعض احْتِمَال. و (الْكتاب) فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ إِمَّا مَصْدَرُ كَاتَبَ الْمَصُوغُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ، وَإِمَّا فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَلِبَاسٍ بِمَعْنَى مَلْبُوسٍ وَعِمَادٍ بِمَعْنَى مَعْمُودٍ بِهِ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ كَتَبَ بِمَعْنَى جَمَعَ وَضَمَّ لِأَنَّ الْكِتَابَ تُجْمَعُ أَوْرَاقُهُ وَحُرُوفُهُ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكِتَابَةِ كُلِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ وَجَعَلَ لِلْوَحْيِ كِتَابًا، وَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ كِتَابًا إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ كِتَابَتِهِ لِحِفْظِهِ. وَكِتَابَةُ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوْ خَبَرٌ أَوَّلٌ أَوْ ثَانٍ عَلَى مَا مَرَّ قَرِيبًا. وَالرَّيْبُ الشَّكُّ وَأَصْلُ الرَّيْبِ الْقَلَقُ وَاضْطِرَابُ النَّفْسِ، وَرَيْبُ الزَّمَانِ وَرَيْبُ الْمَنُونِ نَوَائِبُ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] وَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَلْزَمُهُ اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَقَلَقُهَا غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّيْبُ فَصَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُقَالُ رَابَهُ الشَّيْءُ إِذَا شَكَّكَهُ أَيْ بِجَعْلِ مَا أَوْجَبَ الشَّكَّ فِي حَالِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَيُقَالُ أَرَابَهُ كَذَلِكَ إِذِ الْهَمْزَةُ لَمْ تُكْسِبْهُ تَعْدِيَةً زَائِدَةً فَهُوَ مِثْلُ لَحِقَ وَأَلْحَقَ، وَزَلَقَهُ وَأَزْلَقَهُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَرَابَ أَضْعَفُ مِنْ رَابَ أَرَابَ بِمَعْنَى قُرْبِهِ مِنْ أَنْ يَشُكَّ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَعَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا قَالَ بَشَّارٌ: أَخُوكَ الَّذِي إِنْ رِبْتَهُ قَالَ إِنَّمَا ... أَرَبْتَ وَإِنْ عَاتَبْتَهُ لَانَ جَانِبُهُ (¬1) وَفِي الْحَدِيثِ: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» أَيْ دَعِ الْفِعْلَ الَّذِي يُقَرِّبُكَ مِنَ الشَّكِّ فِي التَّحْرِيمِ إِلَى فِعْلٍ آخَرَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ فِي فِعْلِهِ شَكٌّ فِي أَنَّهُ مُبَاحٌ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ مُتَوَاتِرُ الْقُرَّاءِ فِي فَتْحِ لَا رَيْبَ نَفْيًا لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ وَهُوَ أَبْلَغُهُ لِأَنَّهُ لَوْ رُفِعَ لَاحْتَمَلَ نَفْيُ الْفَرْدِ دُونَ الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْحُرُوفِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي الم عَلَى إِرَادَةِ التَّعْرِيضِ بِالْمُتَحَدَّيْنَ وَكَانَ قَوْلُهُ: الْكِتابُ خَبَرًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كَانَ قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ نَفْيًا لِرَيْبٍ خَاصٍّ وَهُوَ الرَّيْبُ الَّذِي يَعْرِضُ فِي كَوْنِ هَذَا الْكِتَابِ مُؤَلَّفًا مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ فَكَيْفَ عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهِ، وَكَانَ نَفْيُ الْجِنْسِ فِيهِ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِادِّعَاءٍ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا رَيْبَ مُنَزَّلَةً مَنْزِلَةَ التَّأْكِيدِ لِمُفَادِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِرَيْبٍ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْجُمْهُورِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: 9] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِيهِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا خَبَرًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَمَعْنَى «فِي» هُوَ الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ الْعُرْفِيَّةُ تَشْبِيهًا لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ بِاحْتِوَاءِ الظَّرْفِ فَيَكُونُ تَخْطِئَةً لِلَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُورِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ هَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى فَاسْمِعُوا إِلَيْهِ وَلِذَلِكَ نَكَّرَُُ ¬

(¬1) أَي إِن فعلت مَعَه مَا يُوجب شكه فِي مودتك رَاجع نَفسه. وَقَالَ: إِنَّمَا قربني من الشَّك وَلم أَشك فِيهِ. أَي التمس لَك الْعذر.

الْهُدَى أَيْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هُدًى عَلَى حَدِّ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» وَيَكُونُ خَبَرُ (لَا) مَحْذُوفًا لِظُهُورِهِ أَيْ لَا رَيْبَ مَوْجُودٌ، وَحَذْفُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا فِي أَمْثَالِهِ نَحْوَ: قالُوا لَا ضَيْرَ [الشُّعَرَاء: 50] وَقَوْلُ الْعَرَبِ لَا بَأْسَ، وَقَوْلُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لَا بَرَاحَ أَيْ لَا بَقَاءَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ نَافِعًا وَعَاصِمًا وَقَفَا عَلَى قَوْلِهِ: رَيْبَ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْكِتابُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كَالْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ وَكَانَ قَوْلُهُ الْكِتابُ بَدَلًا مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِبَيَانِهِ فَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِرَيْبَ وَخَبَرُ لَا مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْكَثِيرَةِ فِي مِثْلِهِ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ، فِيهِ مَعْنَى نَفْيِ وُقُوعِ الرَّيْبِ فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَفْيِ الشَّكِّ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ خِطَابُ الْمُرْتَابِينَ فِي صِدْقِ نِسْبَتِهِ إِلَى الله تَعَالَى وسيجيئ خِطَابُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] فَارْتِيَابُهُمْ وَاقِعٌ مُشْتَهِرٌ، وَلَكِنْ نَزَلَ ارْتِيَابُهُمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِأَنَّ فِي دَلَائِلِ الْأَحْوَالِ مَا لَوْ تَأَمَّلُوهُ لَزَالَ ارْتِيَابُهُمْ فَنَزَلَ ذَلِكَ الِارْتِيَابُ مَعَ دَلَائِلَ بُطْلَانِهِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ. قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» : «وَيَقْلِبُونَ الْقَضِيَّةَ (¬1) مَعَ الْمُنْكِرِ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا إِنْ تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ فَيَقُولُونَ لِمُنْكِرِ الْإِسْلَامِ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَقِّ الْقُرْآنِ: لَا رَيْبَ فِيهِ- وَكَمْ مِنْ شَقِيٍّ مُرْتَابٍ فِيهِ- وَارِدٌ عَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى النَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ لِلرَّيْبِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالرَّيْبِ لِمُشَابَهَةِ حَالِ الْمُرْتَابِ فِي وَهْنِ رَيْبِهِ بِحَالِ مَنْ لَيْسَ بِمُرْتَابٍ أَصْلًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ ارْتِيَابًا فِي صِحَّتِهِ أَيْ لَيْسَ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَلَا اخْتِلَافٌ فَيَكُونُ الرَّيْبُ هُنَا مَجَازًا فِي سَبَبِهِ وَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا خَبَرَ (لَا) فَيَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: 82] أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامٍ يُوجِبُ الرِّيبَةَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مِنْ كَلَامٍ يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْ كَلَامٍ يُجَافِي الْحَقِيقَةَ وَالْفَضِيلَةَ أَوُُْ ¬

(¬1) أَي قَضِيَّة التَّأْكِيد للْخَبَر الموجه إِلَى مُنكر مَضْمُون الْخَبَر.

يَأْمُرُ بِارْتِكَابِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ أَوْ يَصْرِفُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَانْتِفَاءِ ذَلِكَ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ إِذَا تَدَبَّرَ فِيهِ الْمُتَدَبِّرُ وَجَدَهُ مُفِيدًا الْيَقِينَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْآيَةُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ فَلْنَجْعَلْهُمَا مَقْصُودَيْنِ مِنْهَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَهَذَا النَّفْيُ لَيْسَ فِيهِ ادِّعَاءٌ وَلَا تَنْزِيلٌ فَهَذَا الْوَجْهُ يُغْنِي عَنْ تَنْزِيلِ الْمَوْجُودِ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ فَيُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْكُتُبِ فَإِنَّهَا قَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهَا وَتَخَالَفَتْ لِمَا اعْتَرَاهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّصَدِّيَ لِلْأَخْبَارِ بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنِ الْقُرْآنِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ قَائِلٍ بِالرَّيْبِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ أَيْ بِرَيْبٍ مُسْتَنِدٍ لِمُوجِبِ ارْتِيَابٍ إِذْ قُصَارَى مَا قَالُوهُ فِيهِ أَقْوَالٌ مُجْمَلَةٌ مِثْلَ هَذَا سِحْرٌ، هَذَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يَدُلُّ ذَلِكَ التَّحَدِّي عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْرِيضُ لَا سِيَّمَا بَعْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا فِي مَجْلِسٍ وَأَنْتَ سَاكِتٌ: هَذَا الْكَلَامُ صَوَابٌ تُعَرِّضُ بِغَيْرِهِ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا يَتَسَنَّى اتِّحَادُ الْمَعْنَى عِنْدَ الْوَقْفِ لَدَى مَنْ وَقَفَ عَلَى فِيهِ وَلَدَى مَنْ وَقَفَ عَلَى رَيْبَ، لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ الظَّرْفَ غَيْرَ خَبَرٍ وَكَانَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا أَمْكَنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ هَذَا الظَّرْفِ مِنْ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ «الْكَشَّافُ» أَنَّ الظَّرْفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيهِ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ رَيْبَ (أَيْ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اسْمٍ لَا) كَمَا قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الظَّرْفُ هُنَا لَقَصَدَ أَنَّ كِتَابًا آخَرَ فِيهِ الرَّيْبُ اهـ. يَعْنِي لِأَنَّ التَّقْدِيمَ فِي مِثْلِهِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ فَيَكُونُ مُفِيدًا أَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ عَنْهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ فِيهِ الرَّيْبُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ هُنَا. وَلَيْسَ الْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ بِمَقْصُودٍ لِأَنَّ السِّيَاقَ خِطَابٌ لِلْعَرَبِ الْمُتَحَدَّيْنَ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي إِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ هُمْ قَدْ دُعُوا إِلَى مُعَارَضَتِهِ فَعَجَزُوا. نَعَمْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آزَرُوا الْمُشْرِكِينَ وَشَجَّعُوهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ مِنَ الْكُتُبِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدْعُو إِلَى الِارْتِيَابِ فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ إِثَارَةً لِلتَّدَبُّرِ فِيهِ هَلْ يَجِدُونَ مَا يُوجِبُ الِارْتِيَابَ فِيهِ وَذَلِكَ يَسْتَطِيرُ جَاثِمَ إِعْجَابِهِمْ بِكِتَابِهِمُ الْمُبَدَّلِ الْمُحَرَّفِ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي الْحَقَائِقِ رَائِدُ ظُهُورِهَا. وَالْفَجْرُ بِالْمُسْتَطِيرِ بَيْنَ يَدَيْ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَشِيرٌ بِسُفُورِهَا. وَقَدْ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُكَيَّفَةَ بِالْقَصْرِ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهَا نَفْيٌ وَهِيَ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ أَفَادَ قَصْرَ النَّفْيَ لَا نَفْيَ الْقَصْرِ، وَأَمْثِلَةُ

صَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ لِلِاخْتِصَاصِ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ مَا جَاءَ بِالْإِثْبَاتِ وَمَا جَاءَ بِالنَّفْيِ. وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ سَأَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [الْبَقَرَة: 272] . وَحُكْمُ حَرَكَةِ هَاءِ الضَّمِيرِ أَوْ سُكُونِهَا مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فِي قِسْمِ أُصُولِهَا. وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْهُدَى اسْمُ مَصْدَرِ الْهَدْيِ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِلَّا سُرًى وَتُقًى وَبُكًى وَلُغًى مَصْدَرُ لَغَى فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ. وَفِعْلُهُ هَدَى هَدْيًا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِإِلَى وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُتَوَسَّعِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . وَالْهُدَى عَلَى التَّحْقِيقِ هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الْإِيصَالُ إِلَى الْبُغْيَةِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّرَادُفِ فَلَا يَكُونُ هَدَى مُرَادِفًا لِدَلَّ وَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْهُدَى الدَّلَالَةُ الْكَامِلَةُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْمَعْنَى الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ الْهُدَى فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ. وَهُوَ أَسْعَدُ بِقَوَاعِدِ الْأَشْعَرِيِّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيصَالُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُوَفَّقِ فَيُنَاسِبُ تَفْسِيرَ الْهِدَايَةِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ لِيَكُونَ الَّذِي يَهْدِي يُوصِلُ الْهِدَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ. فَالْقُرْآنُ هُدًى وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ هُوَ هَادٍ. وَالْهُدَى الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْعَاجِلِ الَّذِي لَا يَنْقُضُ صَلَاحَ الْآجِلِ. وَأَثَرُ هَذَا الْهُدَى هُوَ الِاهْتِدَاءُ فَالْمُتَّقُونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَالْمُعَانِدُونَ لَا يَهْتَدُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَنْشَأِ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي فَهْمِ الْآيَةِ. وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ. وَمَحَلُّ (هُدًى) إِنْ كَانَ هُوَ صَدْرُ جُمْلَةٍ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ (الْكَتَابِ) فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ عَنِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ الْهُدَى وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ بِهِ مَا يَقْتَضِيِهِ الْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى بُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي إِرْشَادِ النَّاسِ حَتَّى كَانَ هُوَ عَيْنُ الْهُدَى تَنْبِيهًا عَلَى رُجْحَانِ هُدَاهُ عَلَى هُدَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ لَا رَيْبَ وَكَانَ الظَّرْفُ صَدْرَ الْجُمْلَةِ الْمُوَالِيَةِ وَكَانَ قَوْلُهُ هُدىً مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الظَّرْفُ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَهُ فَيَكُونُ إِخْبَارًا بِأَنَّ فِيهِ هُدًى فَالظَّرْفِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْهُدَى مِنْهُ فَيُسَاوِي ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ الْوَجْهَ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَيْنُ الْهُدَى.

وَالْمُتَّقِي مَنِ اتَّصَفَ بِالِاتِّقَاءِ وَهُوَ طَلَبُ الْوِقَايَةِ، وَالْوِقَايَةُ الصِّيَانَةُ وَالْحِفْظُ مِنَ الْمَكْرُوهِ فَالْمُتَّقِي هُوَ الْحَذِرُ الْمُتَطَلِّبُ لِلنَّجَاةِ مِنْ شَيْءٍ مَكْرُوهٍ مُضِرٍّ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُتَّقِينَ اللَّهَ، أَيِ الَّذِينَ هُمْ خَائِفُونَ غَضَبَهُ وَاسْتَعَدُّوا لِطَلَبِ مَرْضَاتِهِ وَاسْتِجَابَةِ طلبه فَإِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ اسْتَمَعُوا لَهُ وَتَدَبَّرُوا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ فَاهْتَدَوْا. وَالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الِاسْتِرْسَالِ عَلَى الصَّغَائِرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَيِ اتِّقَاءُ مَا جَعَلَ اللَّهُ الِاقْتِحَامَ فِيهِ مُوجِبًا غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ، فَالْكَبَائِرُ كُلُّهَا مُتَوَعَّدٌ فَاعِلُهَا بِالْعِقَابِ دُونَ اللَّمَمِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى وَمِنَ الْمُتَّقِينَ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيُّ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ شَأْنِهِ الْإِيصَالُ إِلَى الْمَطَالِبِ الْخَيْرِيَّةِ وَأَنَّ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْوُصُولِ بِهِ إِلَيْهَا هُمُ الْمُتَّقُونَ أَيْ هُمُ الَّذِينَ تَجَرَّدُوا عَنِ الْمُكَابَرَةِ وَنَزَّهُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ لِلْمُضِلِّينَ وَخَشُوا الْعَاقِبَةَ وَصَانُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ خَطَرِ غَضَبِ اللَّهِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَتَلَقَّوُا الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ وَعَزَمٍ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَمَا سَتَكْشِفُ عَنْهُمُ الْأَوْصَافُ الْآتِيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ- إِلَى قَوْلِهِ- مِنْ قَبْلِكَ [الْبَقَرَة: 3، 4] . وَفِي بَيَانِ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَكَيْفِيَّةِ صِفَةِ الْمُتَّقِي مَعَانٍ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى فِي زَمَنِ الْحَالِ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمَصْدَرِ عِوَضٌ عَنِ الْوَصْفِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَزَمَنُ الْحَالِ هُوَ الْأَصْلُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمُرَادُ حَالُ النُّطْقِ. وَالْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فِي الْحَالِ أَيْضًا لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ كَمَا قُلْنَا، أَيْ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ نَزَّهَ نَفْسَهُ وَأَعَدَّهَا لِقَبُولِ الْكَمَالِ يَهْدِيهِ هَذَا الْكِتَابُ، أَوْ يَزِيدُهُ هُدًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [مُحَمَّد: 17] . الثَّانِي: أَنَّهُ هُدًى فِي الْمَاضِي أَيْ حَصَلَ بِهِ هُدًى أَيْ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْمُتَّقِينَ مَنْ كَانَتِ التَّقْوَى شِعَارَهُمْ أَيْ أَنَّ الْهُدَى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِيهِمْ فَاتَّقَوْا وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ مَدْحًا لِلْكِتَابِ بِمُشَاهَدَةِ هَدْيِهِ وَثَنَاءً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ وَإِطْلَاقُ الْمُتَّقِينَ عَلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الْغَالِبِ فِي الْوَصْفِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ إِطْلَاقٌ يَعْتَمِدُ عَلَى قَرِينَةِ سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ هُدًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِلَّذِينَ سَيَتَّقُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ هُنَا قَرِينَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ فِي هُدىً لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ. حَصَلَ مِنْ وَصْفِ الْكِتَابِ بِالْمَصْدَرِ مِنْ وَفْرَةِ الْمَعَانِي مَا لَا يَحْصُلُ، لَوْ وُصِفَ

بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَقِيلَ هَادٍ لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ وَتَخَلُّصٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَدْيِهِ، فَالْقُرْآنُ لَمْ يَزَلْ وَلَنْ يَزَالَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ هِدَايَتِهِ نَفَعَتِ الْمُتَّقِينَ فِي سَائِرِ مَرَاتِبِ التَّقْوَى، وَفِي سَائِرِ أَزْمَانِهِ وَأَزْمَانِهِمْ عَلَى حَسَبِ حِرْصِهِمْ وَمَبَالِغِ عِلْمِهِمْ وَاخْتِلَافِ مُطَالِبِهِمْ، فَمِنْ مُنْتَفِعٍ بِهَدْيِهِ فِي الدِّينِ، وَمِنْ مُنْتَفِعٍ فِي السِّيَاسَةِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَمِنْ مُنْتَفِعٍ بِهِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ، وَمِنْ مُنْتَفِعٍ بِهِ فِي التَّشْرِيعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَانْتِفَاعُهُمْ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَبَالِغِ تَقْوَاهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ الِاجْتِهَادَ فِي الْفِقْهِ مِنَ التَّقْوَى، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فَإِنْ قَصَّرَ بِأَحَدٍ سَعْيُهُ عَنْ كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِيهِ لَا فِي الْهِدَايَةِ، وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَتَسَابَقُونَ فِي التَّحْصِيلِ عَلَى أَوْفَرِ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ. وَتَلْتَئِمُ الْجُمَلُ الْأَرْبَع كَمَال الالتئمام: فَإِنَّ جملَة الم [الْبَقَرَة: 1] تَسْجِيلٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَإِنْحَاءٍ عَلَى عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ وَكَفَى بِهَذَا نِدَاءً عَلَى تَعَنُّتِهِمْ. وَجُمْلَةُ: ذلِكَ الْكِتابُ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَأَنَّهُ بَالِغٌ حَدَّ الْكَمَالِ فِي أَحْوَالِ الْكُتُبِ، فَذَلِكَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْخَاصَّةِ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا كِتَابٌ مُؤَلَّفٌ من حُرُوف كلامكم، وَهُوَ بَالِغٌ حَدَّ الْكَمَالِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوَفِّرُ دَوَاعِيَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالِافْتِخَارِ بِأَنْ مُنِحْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ تَعُدُّونَ أَنْفُسَكُمْ أَفْضَلَ الْأُمَمِ، فَكَيْفَ لَا تُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَةِ كِتَابٍ نَزَلَ فِيكُمْ هُوَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ فَوِزَانُ هَذَا وِزَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا إِلَى قَوْله: وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 156، 157] ، وَمَوَجَّهٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّا أُوتُوهُ. وَجُمْلَةُ: لَا رَيْبَ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ تَعْرِيضٌ بِكُلِّ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ أَنَّ الِارْتِيَابَ فِي هَذَا الْكِتَابِ نَشَأَ عَنِ الْمُكَابَرَةِ، وَأَنْ (لَا رَيْبَ) فَإِنَّهُ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ كَانَ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعَلُّقِهِمْ بِمُحَرَّفِ كِتَابَيْهِمْ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنْ مَثَارِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ مِنَ الِاضْطِرَابِ الْوَاضِحِ الدَّالِّ

[سورة البقرة (2) : آية 3]

عَلَى أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: 82] . وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : ثُمَّ لَمْ تَخْلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ بَعْدَ أَنْ نُظِّمَتْ هَذَا التَّنْظِيمَ السِّرِّيَّ مِنْ نُكْتَةٍ ذَاتِ جَزَالَةٍ: فَفِي الْأُولَى الْحَذْفُ وَالرَّمْزُ إِلَى الْغَرَضِ بِأَلْطَفِ وَجْهٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَا فِي تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلَى الظَّرْفِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْحَذْفُ وَوَضْعُ الْمَصْدَرِ- وَهُوَ الْهُدَى- مَوْضِعَ الْوَصْفِ وَإِيرَادُهُ مُنَكَّرًا وَالْإِيجَازُ فِي ذكر الْمُتَّقِينَ اهـ. فَالتَّقْوَى إِذَنْ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ، وَهِيَ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ جُمَّاعُ الْخَيْرَاتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظٌ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَمَا تَكَرَّرَ لَفْظُ التَّقْوَى اهتماما بشأنها. [3] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُتَّصِلًا بقوله: لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِإِرْدَافِ صِفَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ بِهِ الْمُرَادُ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَبْدَأُ اسْتِطْرَادٍ لِتَصْنِيفِ أَصْنَافِ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي تَلَقِّي الْكِتَابِ الْمُنَوَّهِ بِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ، فَقَدْ كَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفًا مُؤْمِنِينَ وَصِنْفًا كَافِرِينَ مُصَارِحِينَ، فَزَادَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ صِنْفَانِ: هُمَا الْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْمُشْرِكُونَ الصُّرَحَاءُ هُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلُونَ، وَالْمُنَافِقُونَ ظَهَرُوا بِالْمَدِينَةِ فَاعْتَزَّ بِهِمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِدَارِ الْكُفْرِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا فِي شُغْلٍ عَنِ التَّصَدِّي لِمُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْإِسْلَامُ فِي الْمَدِينَةِ بِجِوَارِهِمْ أَوْجَسُوا خِيفَةً فَالْتَفُّوا مَعَ الْمُنَافِقِينَ وَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِمَّنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَكَانَ الْقُرْآنُ هُدًى لَهُمْ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ هَذَا الْمَوْصُولِ بِالْمَوْصُولِ الْآخَرِ الْمَعْطُوفِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَة: 4] إِلَخْ. فَالْمُثْنَى عَلَيْهِمْ هُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَسَمِعُوا الدَّعْوَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ فَتَدَبَّرُوا فِي النَّجَاةِ وَاتَّقَوْا عَاقِبَةَ الشِّرْكِ فَآمَنُوا، فَالْبَاعِثُ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ هُوَ التَّقْوَى دُونَ الطَّمَعِ أَوِ التَّجْرِبَةِ، فَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ مَثَلًا لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَمَنِ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ هُوَ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَمُسَيْلِمَةُ حِينَ وَفَدَ مَعَ

بَنِي حَنِيفَةَ مُضْمِرَ الْعَدَاءِ طَامِعًا فِي الْمُلْكِ هُوَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ. وَفَرِيقٌ آخَرُ يَجِيءُ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْبَقَرَة: 4] الْآيَاتِ. وَقَدْ أُجْرِيَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِأَنْ كَانَ رَائِدُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ هُوَ التَّقْوَى وَالنَّظَرُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ كَمَا حَكَى عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةُ عَلَى التَّجَدُّدِ إِيذَانًا بِتَجَدُّدِ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ وَتَجَدُّدِ إِقَامَتِهِمُ الصَّلَاةَ وَالْإِنْفَاقَ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ هُدَى الْقُرْآنِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَوْنَهُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً وَكَوْنَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً [الْبَقَرَة: 5] خَبَرَهُ. وَعِنْدِي أَنَّهُ تَجْوِيزٌ لِمَا لَا يَلِيقُ، إِذِ الِاسْتِئْنَافُ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالِاقْتِضَابِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْبَلَاغَةِ إِذَا أُشِيعَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ وَأُفِيضَ فِيهِ حَتَّى أُوعِبَ أَوْ حَتَّى خِيفَتْ سَآمَةُ السَّامِعِ، وَذَلِكَ مَوْقِعُ أَمَّا بَعْدُ أَوْ كَلِمَةُ هَذَا وَنَحْوُهُمَا، وَإِلَّا كَانَ تَقْصِيرًا مِنَ الْخَطِيبِ وَالْمُتَكَلِّمِ لَا سِيَّمَا وَأُسْلُوبُ الْكِتَابِ أَوْسَعُ مِنْ أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ لِأَنَّ الْإِطَالَةَ فِي أَغْرَاضِهِ أَمْكَنُ. وَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُف: 52] لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [الْمَائِدَة: 94] وَرُبَّمَا قَالُوا بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْحُطَيْئَةُ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَامَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي وَفِي الْحَدِيثِ: «دَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ» . وَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ مِمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بِأَنَّهُ وَاقِعٌ أَوْ سَيَقَعُ مِثْلَ وُجُودِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّيَاطِينِ، وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. فَإِنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالْمَصْدَرِ أَيِ الْغِيبَةِ كَانَتِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فَالْوَصْفُ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالِاسْمِ وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، كَانَتِ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِيُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ عَوَالِمِ الْغَيْبِ. كَانَ الْوَصْفُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] فَجَمَعَ هَذَا الْوَصْفَ بِالصَّرَاحَةِ ثَنَاءً عَلَى الْمُؤْمِنِينَُُ،

وَبِالتَّعْرِيضِ ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ، وَذَمًّا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالظَّاهِرِ وَهُمْ مُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَسَيُعَقِّبُ هَذَا التَّعْرِيضَ بِصَرِيحِ وَصْفِهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [الْبَقَرَة: 6] الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] . وَيُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ يُصَدِّقُونَ، وَآمَنَ مَزِيدُ أَمِنَ وَهَمْزَتُهُ الْمَزِيدَةُ دَلَّتْ عَلَى التَّعْدِيَةِ، فَأَصْلُ آمَنَ تَعْدِيَةُ أَمِنَ ضِدَّ خَافَ فَآمَنَ مَعْنَاهُ جَعَلَ غَيْرَهُ آمِنًا ثُمَّ أَطْلَقُوا آمَنَ عَلَى مَعْنَى صَدَّقَ وَوَثِقَ حَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ: «مَا آمَنْتُ أَنْ أَجِدَ صَحَابَةً» يَقُولُهُ الْمُسَافِرُ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ السَّفَرِ، فَصَارَ آمَنَ بِمَعْنَى صَدَّقَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ آمَنَ مُخْبِرَهُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَهُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ آمَنَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ تَخَافَ مِنْ كَذِبِ الْخَبَرِ مُبَالَغَةً فِي أَمِنَ كَأَقْدَمَ عَلَى الشَّيْءِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَعَمِدَ إِلَيْهِ، ثُمَّ صَارَ فِعْلًا قَاصِرًا إِمَّا عَلَى مُرَاعَاةِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ بِحَيْثُ نَزَلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَإِمَّا عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُبَالَغَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْ حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ أَيْ مِنَ الشَّكِّ وَاضْطِرَابِ النَّفْسِ وَاطْمَأَنَّ لِذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَمْنِ وَالِاطْمِئْنَانِ مُتَقَارِبٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُضَمِّنُونَ آمَنَ مَعْنَى أَقَرَّ فَيَقُولُونَ آمَنَ بِكَذَا أَيْ أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُضَمِّنُونَهُ مَعْنَى اطْمَأَنَّ فَيَقُولُونَ آمَنَ لَهُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: 75] . وَمَجِيءُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ أَنَّ إِيمَانَهُمْ مُسْتَمِرٌّ مُتَجَدِّدٌ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، أَيْ لَا يَطْرَأُ عَلَى إِيمَانِهِمْ شَكٌّ وَلَا رِيبَةٌ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ أَيْ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ هُوَ الْأَصْلُ فِي اعْتِقَادِ إِمْكَانِ مَا تُخْبِرُ بِهِ الرُّسُلَ عَنْ وُجُودِ اللَّهِ وَالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَإِذَا آمَنَ بِهِ الْمَرْءُ تَصَدَّى لِسَمَاعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ وَلِلنَّظَرِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَسَهُلَ عَلَيْهِ إِدْرَاكُ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنْ لَيْسَ وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادِّيَّاتِ عَالَمٌ آخَرُ وَهُوَ مَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ فَقَدْ رَاضَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَعَالَمِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ حَالُ الْمَادِّيِّينَ وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالدَّهْرِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وَقَرِيبٌ مِنَ اعْتِقَادِهِمُ اعْتِقَادُ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الْمُجَسَّمَةَ وَمُعْظَمُ الْعَرَبِ كَانُوا يُثْبِتُونَ مِنَ الْغَيْبِ وُجُودَ الْخَالِقِ وَبَعْضُهُمْ يُثْبِتُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِسِوَى ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَة: 8] .

وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ. الْإِقَامَةُ مَصْدَرُ أَقَامَ الَّذِي هُوَ مُعَدَّى قَامَ، عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْهَمْزَةِ الدَّالَّة على الْجعل، وَالْإِقَامَةُ جَعْلُهَا قَائِمَةً، مَأْخُوذٌ مِنْ قَامَتِ السُّوقُ إِذَا نَفَقَتْ وَتَدَاوَلَ النَّاسُ فِيهَا الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصْرِيحُ بَعْضِ أَهْلِ اللِّسَانِ بِهَذَا الْمُقَدَّرِ. قَالَ أَيْمَنُ ابْن خريم الأنطري (¬1) : أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابْ ... لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ حَوْلًا قَمِيطًا وَأَصْلُ الْقِيَامِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الِانْتِصَابُ الْمُضَادُّ لِلْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْقَائِمُ لِقَصْدِ عَمَلٍ صَعْبٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْ قُعُودٍ، فَيَقُومُ الْخَطِيبُ وَيَقُومُ الْعَامِلُ وَيَقُومُ الصَّانِعُ وَيَقُومُ الْمَاشِي فَكَانَ لِلْقِيَامِ لَوَازِمٌ عُرْفِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَوَارِضِهِ اللَّازِمَةِ وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى النَّشَاطِ فِي قَوْلِهِمْ قَامَ بِالْأَمْرِ، وَمِنْ أَشْهَرِ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمَجَازِ قَوْلِهِمْ قَامَتِ السُّوقُ وَقَامَتِ الْحَرْبُ، وَقَالُوا فِي ضِدِّهِ رَكَدَتْ وَنَامَتْ، وَيُفِيدُ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعْنًى مُنَاسِبًا لِنَشَاطِهِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَشَاعَ فِيهَا حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَصَارَتْ كَالْحَقَائِقِ وَلِذَلِكَ صَحَّ بِنَاءُ الْمَجَازِ الثَّانِي وَالِاسْتِعَارَةِ عَلَيْهَا، فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ شَبَّهَتِ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْعِنَايَةَ بِهَا بِجَعْلِ الشَّيْءِ قَائِمًا، وَأَحْسَبُ أَنَّ تَعْلِيقَ هَذَا الْفِعْلِ بِالصَّلَاةِ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي أَوَائِلِ نُزُولِهِ فَقَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [20] : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَهِيَ ثَالِثَةُ السُّوَرِ نُزُولًا. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وُجُوهًا أُخَرَ بَعِيدَةً عَنْ مَسَاقِ الْآيَةِ. وَقَدْ عَبَّرَ هُنَا بِالْمُضَارِعِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ لِيَصْلُحَ ذَلِكَ لِلَّذِينَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ فِيمَا مَضَى وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالَّذِينَ هُمْ بِصَدَدِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالَّذِينَ سَيَهْتَدُونَ إِلَى ذَلِكَ وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ إِذِ الْمُضَارِعُ صَالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَاضِي فَهُوَ يَفْعَلُهَا الْآنَ وَغَدًا، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ إِمَّا يَفْعَلُهَا الْآنَ أَوْ غَدًا وَجَمِيعُ أَقْسَامِ هَذَا النَّوْعِ جُعِلَ الْقُرْآنُ هُدًى لَهُمْ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ إِفَادَةِ الْمُضَارِعِ التَّجَدُّدَُُ ¬

(¬1) أَيمن بن خريم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة المضمومة وَالرَّاء الْمَفْتُوحَة من قصيدة يحرض أهل الْعرَاق على قتال الْخَوَارِج، وَيذكر غزالة بنت طريف زَوْجَة شبيب الْخَارِجِي كَانَت تولت قيادة الْخَوَارِج بعد قتل زَوجهَا وحاربت الْحجَّاج عَاما كَامِلا ثمَّ قتلت وَأول القصيدة: أَبى الْجُبَنَاء من أهل الْعرَاق ... على الله وَالنَّاس إِلَّا سقوطا

تَأْكِيدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَادَّةُ الْإِقَامَةِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ وَالتَّكَرُّرِ لِيَكُونَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَصْرَحَ. وَالصَّلَاةُ اسْمٌ جَامِدٌ بِوَزْنِ فَعَلَةَ مُحَرَّكُ الْعَيْنِ (صَلَوَةَ) وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ يَمَّمْتُ مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... جَفْنًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا وَوَرَدَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي ... كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا (¬1) فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْآيَةِ فَهِيَ الْعِبَادَةُ الْمَخْصُوصَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى قِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَتَسْلِيمٍ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ آبَائِهِمْ فِي لُغَاتِهِمْ فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ حَالَتْ أَحْوَالٌ وَنُقِلَتْ أَلْفَاظٌ مِنْ مَوَاضِعَ إِلَى مَوَاضِعَ أُخَرَ بِزِيَادَاتٍ، وَمِمَّا جَاءَ فِي الشَّرْعِ الصَّلَاةَ وَقَدْ كَانُوا عَرَفُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ على هاته الهيأة قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ دُرَّةٌ صدفيّة غوّاصها ... بهيج مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ (¬2) وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تُعَرِّفْهُ بِمِثْلِ مَا أَتَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْأَعْدَادِ وَالْمَوَاقِيتِ اهـ. قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ عَرَفُوا الصَّلَاةَ وَالسُّجُودَ وَالرُّكُوعَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 37] وَقَدْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمُ الْيَهُودُ يُصَلُّونَ أَيْ يَأْتُونَ عِبَادَتَهُمْ بِهَيْأَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَسَمَّوْا كَنِيسَتَهُمْ صَلَاةً، وَكَانَ بَيْنَهُمُ النَّصَارَى وَهُمْ يُصَلُّونَ وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ فِي ذِكْرِ دَفْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ: فَآبَ مُصَلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجُولَانِ حَزْمٌ وَنَايِلُُُ (¬3) ¬

(¬1) عَائِد إِلَى أيبلىّ فِي قَوْله قبله: وَمَا أيبلىّ على هيكل ... بناه وصلّب فِيهِ وصارا والأيبلي الراهب. (¬2) يهل: أَي يرفع صَوته فَرحا بِمَا أتيح لَهُ وَيسْجد شكرا لله تَعَالَى. [.....] (¬3) رُوِيَ مصلوه بالصَّاد فَقَالَ فِي «شرح ديوانه» : إِن مَعْنَاهُ رَجَعَ الرهبان الَّذين صلوا عَلَيْهِ صَلَاة الْجِنَازَة وَرُوِيَ بالضاد الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهُ دافنوه، أَي رَجَعَ الَّذين أضلوه أَي غيبوه فِي الأَرْض. قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] وَقَوله بِعَين جلية: أَي بتحقق خبر مَوته لمن كَانَ فِي شكّ من ذَلِك لشدَّة هول الْمُصَاب. والجولان: مَوضِع دفن بِهِ.

عَلَى رِوَايَةِ مُصَلُّوهُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ أَرَادَ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْنِهِ مِنَ الْقُسُسِ وَالرُّهْبَانِ، إِذْ قَدْ كَانَ مُنْتَصِرًا وَمِنْهُ الْبَيْتُ السَّابِقُ. وَعَرَفُوا السُّجُودَ قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ وَقَدْ تَرَدَّدَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ قَوْمٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصَّلَا وَهُوَ عِرْقٌ غَلِيظٌ فِي وَسَطِ الظَّهْرِ وَيَفْتَرِقُ عِنْدَ عَجْبِ الذَّنَبِ فَيَكْتَنِفَهُ فَيُقَالُ: حِينَئِذٍ هُمَا صَلَوَانٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُصَلِّي إِذَا انْحَنَى لِلرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ تَحَرَّكَ ذَلِكَ الْعِرْقُ اشْتُقَّتِ الصَّلَاةُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُونَ أَنِفَ مِنْ كَذَا إِذَا شَمَخَ بِأَنْفِهِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُهُ إِذَا اشْمَأَزَّ وَتَعَاظَمَ فَهُوَ مِنَ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْجَامِدِ كَقَوْلِهِمُ اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ وَقَوْلِهِمْ تَنَمَّرَ فُلَانٌ، وَقَوْلِهَا: «زَوْجِي إِذَا دَخَلَ فَهِدَ وَإِذَا خَرَجَ أَسِدَ» (¬1) وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ هُنَا عَدَمُ صُلُوحِيَّةِ غَيْرِهِ فَلَا يُعَدُّ الْقَوْلُ بِهِ ضَعِيفًا لِأَجْلِ قِلَّةِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْجَوَامِدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ السَّيِّدُ. وَإِنَّمَا أُطْلِقَتْ عَلَى الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْخُشُوعَ وَالِانْخِفَاضَ وَالتَّذَلُّلَ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ اسْمٌ جَامِدٌ صَلَّى إِذَا فَعَلَ الصَّلَاةَ وَاشْتَقُّوا صَلَّى مِنَ الصَّلَاةِ كَمَا اشْتَقُّوا صَلَّى الْفَرَسُ إِذَا جَاءَ مُعَاقِبًا لِلْمُجَلِّي فِي خَيْلِ الْحَلَبَةِ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ مُزَاحِمًا لَهُ فِي السَّبْقِ، وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى صَلَا سَابِقِهِ وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْمُصَلِّي اسْمًا لِلْفَرَسِ الثَّانِي فِي خَيْلِ الْحَلَبَةِ، وَهَذَا الرَّأْيُ فِي اشْتِقَاقِهَا مُقْتَضَبٌ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ إِذْ لَمْ يَصْلُحُ لِأَصْلِ اشْتِقَاقِهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَمَا أَوْرَدَهُ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ» أَنَّ دَعْوَى اشْتِقَاقِهَا مِنَ الصَّلْوَيْنِ يُفْضِي إِلَى طَعْنٍ عَظِيمٍ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مِنْ أَشَدِّ الْأَلْفَاظِ شُهْرَةً، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلْوَيْنِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ اشْتِهَارًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا أَنَّهُ خَفِيَ وَانْدَرَسَ حَتَّى لَا يَعْرِفَهُ إِلَّا الْآحَادُ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ فَلَا نَقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى أَفْهَامِنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لَمَعَانٍ أُخَرَ خَفِيَتْ عَلَيْنَا اهـ يردهُ بِالِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ مَشْهُورٌ مَنْقُولًا مِنْ معنى خَفِي لِأَنَّهُ الْعِبْرَةَ فِي الشُّيُوعِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَبَحْثٌ عِلْمِيٌّ وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «وَاشْتِهَارُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَعَ عَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الْأَوَّلِ لَا يَقْدَحُ فِي نَقْلِهِ مِنْهُ» . ¬

(¬1) فِي حَدِيث أم زرع.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ هَذَا كِتَابَتُهَا بِالْوَاوِ فِي الْمَصَاحِفِ إِذْ لَوْلَا قَصْدُ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ مَا كَانَ وَجْهٌ لِكِتَابَتِهَا بِالْوَاوِ وَهُمْ كَتَبُوا الزَّكَاةَ وَالرِّبَا وَالْحَيَاةَ بِالْوَاوِ إِشَارَةً إِلَى الْأَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُ «الْكَشَّافِ» : وَكِتَابَتُهَا بِالْوَاوِ عَلَى لَفْظِ الْمُفَخَّمِ أَيْ لُغَةِ تَفْخِيمِ اللَّامِ يَرُدُّهُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُصْنَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ اللَّامَاتِ الْمُفَخَّمَةِ. وَمَصْدَرُ صَلَّى قِيَاسُهُ التَّصْلِيَةُ وَهُوَ قَلِيلُ الْوُرُودِ فِي كَلَامِهِمْ. وَزَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ لَا يُقَالُ صَلَّى تَصْلِيَةً وَتَبِعَهُ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَرَدَ بِقِلَّةٍ فِي نَقْلِ ثَعْلَبٍ فِي «أَمَالِيهِ» . وَقَدْ نُقِلَتِ الصَّلَاةُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ إِلَى الْخُضُوعِ بِهَيْأَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَدُعَاءٍ مَخْصُوصٍ وَقِرَاءَةٍ وَعَدَدٍ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَصْلَهَا فِي اللُّغَةِ الْهَيْئَةُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخُضُوعِ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَأَوْفَقُ بِقَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ بِنَفْيِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَعْمِلْ لَفْظًا إِلَّا فِي حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ بِضَمِيمَةِ شُرُوطٍ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِهَا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ بِوَضْعٍ جَدِيدٍ وَلَيْسَتْ حَقَائِقَ لُغَوِيَّةً وَلَا مَجَازَاتٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ فِي مَعَانٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَاتِهِ الْأَقْوَالَ تَرْجِعُ إِلَى أَقْسَامٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. صِلَةٌ ثَالِثَةٌ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ مِمَّا يُحَقِّقُ مَعْنَى التَّقْوَى وَصِدْقِ الْإِيمَانِ مِنْ بَذْلِ عَزِيزٍ عَلَى النَّفْسِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَمَّا كَانَ مَقَرُّهُ الْقَلْبَ وَمُتَرْجِمُهُ اللِّسَانَ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى دَلَائِلَ صِدْقِ صَاحِبِهِ وَهِيَ عَظَائِمُ الْأَعْمَالِ، مِنْ ذَلِكَ الْتِزَامُ آثَارِهِ فِي الْغَيْبَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَمِنْ ذَلِكَ مُلَازَمَةُ فِعْلِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى تَذَكُّرِ الْمُؤْمِنِ مَنْ آمَنَ بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ السَّخَاءُ بِبَذْلِ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ بِذَلِكَ. وَالرِّزْقُ مَا يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الَّتِي يَسُدُّ بِهَا ضَرُورَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ وَيَنَالُ بِهَا مُلَائِمَهُ، فَيُطْلِقُ عَلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الْحَاجَةِ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَيَوَانِ وَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَالثِّيَابِ وَمَا يُقْتَنَى بِهِ ذَلِكَ مِنَ النَّقْدَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النِّسَاء: 8] أَيْ مِمَّا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ- وَقَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا [الرَّعْد: 26] وَقَالَ فِي قِصَّةِ قَارُونَ: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ- إِلَى قَوْلِهِ-

وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [الْقَصَص: 76- 82] مُرَادًا بِالرِّزْقِ كُنُوزُ قَارُونَ وَقَالَ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ بِحَسَبِ مَا رَأَيْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَوَارِدِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ لِلْإِنْسَانِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَيَوَانُ مِنَ الْمَرْعَى وَالْمَاءِ فَهُوَ عَلَى الْمَجَازِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وَقَوْلِهِ: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] وَقَوْلِهِ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ [يُوسُف: 37] . وَالرِّزْقُ شَرْعًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالرِّزْقِ لُغَةً إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، فَيَصْدُقُ اسْمُ الرِّزْقِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهَا هُنَا فَبَيَانُ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ لَهُ مَوَاقِعٌ أُخْرَى وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ التَّشْرِيعِ مِثْلَ الْخَمْرِ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ. وَخَالَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ وَتَقْدِيرِهِمَا، وَمَسْأَلَةُ الرِّزْقِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَرَتْ فِيهَا الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَسْأَلَةِ الْآجَالِ، وَمَسْأَلَةِ السِّعْرِ، وَتَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّزْقِ بِأَدِلَّةٍ لَا تُنْتِجُ الْمَطْلُوبَ. وَالْإِنْفَاقُ إِعْطَاءُ الرِّزْقِ فِيمَا يَعُودُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ وَمَنْ يُرْغَبُ فِي صِلَتِهِ أَوِ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ بِالنَّفْعِ لَهُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا بَثُّهُ فِي نَفْعِ الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَاجَةِ وَتَسْدِيدِ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ الْمَدْحِ وَاقْتِرَانِهِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُنَا خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَمَا هِيَ إِلَّا الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ إِذْ لَا يُمْدَحُ أَحَدٌ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِذْ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ فَلَا يَعْتَنِي الدِّينُ بِالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ فَمِنَ الْإِنْفَاقِ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ حَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الرِّزْقِ، لِلْقَرَابَةِ وَلِلْمَحَاوِيجِ مِنَ الْأُمَّةِ وَنَوَائِبِ الْأُمَّةِ كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَالزَّكَاةِ، وَبَعْضُهُ مُحَدَّدٌ وَبَعْضُهُ تَفْرِضُهُ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ الضرورية أَو الحاجية وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي تَضَاعِيفِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمِنَ الْإِنْفَاقِ تَطَوَّعٌ وَهُوَ مَا فِيهِ نَفْعُ مَنْ دَعَا الدِّينُ إِلَى نَفْعِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ فِعْلَ (رُزِقْنَا) إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَجعل مَفْعُوله ضمير الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا يَصِيرُ الرِّزْقُ بِسَبَبِهِ رِزْقًا لِصَاحِبِهِ هُوَ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُ خَوَّلَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ عَلَى حَسَبِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ الَّتِي يَتَقَرَّرُ بِهَا مِلْكُ النَّاسِ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ، وَهُوَ الْوَسَائِلُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي اقْتَضَتِ اسْتِحْقَاقَ أَصْحَابِهَا وَاسْتِئْثَارَهُمْ بِهَا بِسَبَبِ الْجُهْدِ مِمَّا عَمِلَهُ الْمَرْءُ بِقُوَّةِ بَدَنِهِ الَّتِي لَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهَا حَقُّهُ مِثْلَ انْتِزَاعِ

الْمَاءِ وَاحْتِطَابِ الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ وَجَنْيِ الثِّمَارِ وَالْتِقَاطِ مَا لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ كَائِنٌ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، وَمِثْلُ خِدْمَتِهِ بِقُوَّتِهِ مِنْ حَمْلِ ثِقْلٍ وَمَشْيٍ لِقَضَاءِ شُؤُونِ مَنْ يُؤَجِّرُهُ وَانْحِبَاسٍ لِلْحِرَاسَةِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يَصْنَعُ أَشْيَاءَ مِنْ مَوَادَّ يَمْلِكُهَا وَلَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَالْخَبْزِ وَالنَّسْجِ وَالتَّجْرِ وَتَطْرِيقِ الْحَدِيدِ وَتَرْكِيبِ الْأَطْعِمَةِ وَتَصْوِيرِ الْآنِيَةِ مِنْ طِينِ الْفَخَّارِ، أَوْ كَانَ مِمَّا أَنْتَجَهُ مِثْلَ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَالتَّوْلِيدِ، أَوْ مِمَّا ابْتَكَرَهُ بِعَقْلِهِ مِثْلَ التَّعْلِيمِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالتَّأْلِيفِ وَالطِّبِّ وَالْمُحَامَاةِ وَالْقَضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْوَظَائِفِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي لِنَفْعِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، أَوْ مِمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ مَالِكُ رِزْقٍ مِنْ هِبَاتٍ وَهَدَايَا وَوَصَايَا، أَوْ أُذِنٍ بِالتَّصَرُّفِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، أَوْ كَانَ مِمَّا نَالَهُ بِالتَّعَارُضِ كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْأَكْرِيَةِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُغَارَسَةِ، أَوْ مِمَّا صَارَ إِلَيْهِ مَنْ مَالٍ انْعَدَمَ صَاحِبُهُ بِكَوْنِهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ كَالْإِرْثِ. وَتَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ الْمَشْرُوطِ، وَحَقُّ الْخُمُسِ فِي الرِّكَازِ. فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: مِمَّا رَزَقْناهُمْ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ وَلَا لِمَجْمُوعِ النَّاسِ حَقٌّ فِيمَا جَعَلَهُ اللَّهُ رِزْقَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالٍ لَمْ يَسْعَ لِاكْتِسَابِهِ بِوَسَائِلِهِ وَقَدْ جَاءَتْ هِنْد بنت عقبَة زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ أُنْفِقُ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا فَقَالَ لَهَا: «لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ» أَيْ إِلَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ تَتَصَرَّفُ فِيهِ الزَّوْجَةُ مِمَّا فِي بَيْتِهَا مِمَّا وَضَعَهُ الزَّوْجُ فِي بَيْتِهِ لِذَلِكَ دُونَ مُسَارَقَةٍ وَلَا خِلْسَةٍ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ يُنْفِقُونَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالرِّزْقِ فِي عُرْفِ النَّاسِ فَيَكُونُ فِي التَّقْدِيمِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَعَ مَا لِلرِّزْقِ مِنَ الْمَعَزَّةِ عَلَى النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَان: 8] ، مَعَ رَعْيِ فَوَاصِلِ الْآيَاتِ عَلَى حَرْفِ النُّونِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِمِنَ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْعِيضِ إِيمَاءٌ إِلَى كَوْنِ الْإِنْفَاقِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا هُوَ إِنْفَاقُ بَعْضِ الْمَالِ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُكَلِّفِ النَّاسَ حَرَجًا، وَهَذَا الْبَعْضُ يَقِلُّ وَيَتَوَفَّرُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْمُنْفِقِينَ. فَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَا قَدَّرَتِ الشَّرِيعَةُ نُصُبَهُ وَمَقَادِيرَهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَإِنْفَاقِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ لَا يَنْضَبِطُ تَحْدِيدُهُ وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَلَمْ يُشَرِّعِ الْإِسْلَامُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمُسْلِمِ مَا ارْتَزَقَهُ وَاكْتَسَبَهُ إِلَى يَدِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا شُرِعَ مِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُمَا أَقْدَمُ الْمَشْرُوعَاتِ وَهُمَا أُخْتَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ

[سورة البقرة (2) : آية 4]

هِيَ دَلَائِلُ إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ خُوَيِّصَةِ النَّفْسِ أَدَلُّ عَلَى الْيَقِينِ وَالْإِخْلَاصِ حِينَ يَنْتَفِي الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا غَابَ. أَوْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْحِسُّ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى قُوَّةِ الْيَقِينِ حَتَّى إِنَّه يتبقى مِنَ الشَّارِعِ مَا لَا قِبَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَشَأْنُ النُّفُوسِ أَنْ تَنْبُوَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ لِأَنَّهَا تَمِيلُ إِلَى الْمَحْسُوسِ فَالْإِيمَانُ بِهِ عَلَى عِلَّاتِهِ دَلِيل قُوَّة الْيَقِين بِالْمُخْبِرِ وَهُوَ الرَّسُولُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْغَيْبِ مَا قَابَلَ الشَّهَادَةَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ كُلْفَةٌ بَدَنِيَّةٌ فِي أَوْقَاتٍ لَا يَتَذَكَّرُهَا مُقِيمُهَا أَيْ مُحْسِنُ أَدَائِهَا إِلَّا الَّذِي امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْخُضُوعِ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ أَدَاءُ الْمَالِ وَقَدْ عُلِمَ شُحُّ النُّفُوسِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 21] وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الشِّرْكِ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْهَا فِي حَالِ الشِّرْكِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ لِذِكْرِهَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَة الْإِسْلَام. [4] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) عَطَفَ عَلَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] طَائِفَةً ثَانِيَةً عَلَى الطَّائِفَةِ الْأَوْلَى الْمَعْنِيَّةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَهُمَا مَعًا قِسْمَانِ لِلْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الشِّرْكِ وَهُمُ الْعَرَبُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ حِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ، ذَكَرَ فَرِيقًا آخَرَ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ، وَهَؤُلَاء هم مؤمنو أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامَ، وَبَعْضِ النَّصَارَى مِثْلَ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَهُمْ وَإِنْ شَارَكُوا مُسْلِمِي الْعَرَبِ فِي الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَذَكَرْتُ لَهُمْ خَصْلَةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مَا وُصِفَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ، فَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ هُنَا بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَمَّا كَانَ قَصْدُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ يَسْتَلْزِمُ عَطْفَهُمْ وَكَانَ الْعَطْفُ بِدُونِ تَنْبِيهٍ عَلَى أَنَّهُمْ فَرِيقٌ آخَرُ يُوهِمُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَهْدِي إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ هَذِهِ خَاتِمَةُ الصِّفَاتِ فَهِيَ مُرَادَةٌ فَيُظَنُّ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا عَنْ شِرْكٍ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ هَذَا الثَّنَاءِ، وَكَيْفَ وَفِيهِمْ مِنْ خِيرَةِ الْمُؤْمِنِينَ

مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَشَدُّ اتِّقَاءً وَاهْتِدَاءً إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ تَرَقُّبٍ لِبَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْ قَبْلُ فَاهْتِدَاؤُهُمْ نَشَأَ عَنْ تَوْفِيقٍ رَبَّانِيٍّ، دُفِعَ هَذَا الْإِيهَامُ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُ الْفَرِيقِ الَّذِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ، وَبِذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ شِرْكٍ لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ. وَيَكُونُ الْمَوْصُولَانِ لِلْعَهْدِ، وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ هُمْ أَيْضًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيءِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ مِنْ قَوْلِهِ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْقُرْآنِ حَدَثَ جَدِيدًا، وَهَذَا كُلُّهُ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِمَزِيَّةٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا وَإِنْ كَانَ التَّفَاضُلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَرُسُوخِهِ وَشِدَّةِ الِاهْتِدَاءِ، فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْ دِحْيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَالْإِنْزَالُ جَعْلُ الشَّيْءِ نَازِلًا، وَالنُّزُولُ الِانْتِقَالُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي انْتِقَالِ الذَّوَاتِ مِنْ عُلُوٍّ، وَيُطْلَقُ الْإِنْزَالُ وَمَادَّةُ اشْتِقَاقِهِ بِوَجْهِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ عَلَى مَعَانٍ رَاجِعَةٍ إِلَى تَشْبِيهِ عَمَلٍ بِالنُّزُولِ لِاعْتِبَارِ شَرَفٍ وَرِفْعَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً [الْأَعْرَاف: 26] وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] لِأَنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَعَطَاءَهُ يُجْعَلُ كَوُصُولِ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ عُلْيَا لِشَرَفِهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى بُلُوغِ الْوَصْفِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِإِسْنَادِ النُّزُولِ إِلَى الْوَحْيِ تَبَعًا لِنُزُولِ الْمَلَكِ مُبَلِّغِهِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهَذَا الْعَالَمِ نَازِلًا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: 194، 195] فَإِنَّ الْمَلَكَ مُلَابِسٌ لِلْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِتَبْلِيغِهِ، وَإِمَّا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ بِتَشْبِيهِ الْمَعَانِي الَّتِي تُلْقَى إِلَى النَّبِيءِ بِشَيْءٍ وَصَلَ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الِارْتِفَاعُ الْمَعْنَوِيُّ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَحْيُ كَلَامًا سَمِعَهُ الرَّسُولُ كَالْقُرْآنِ وَكَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُوسَى وَكَمَا وَصَفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْوَحْيِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ: «وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ» وَأَمَّا رُؤْيَا النَّوْمِ كَرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ فَلَا تُسَمَّى إِنْزَالًا. وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِقْدَارُ الَّذِي تَحَقَّقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الْمُهْتَدِينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنَّهُمْ حَصَلَ مِنْهُمْ إِيمَانٌ بِمَا نَزَلَ لَا تَوَقُّعُ إِيمَانِهِمْ بِمَا سَيَنْزِلُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ لِلذِّكْرِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ يَسْتَمِرُّ إِيمَانُهُ بِكُلِّ مَا يَنْزِلُ عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ الْعِنَادَ وَعَدَمَ الِاطْمِئْنَانِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَإِذَا زَالَا بِالْإِيمَانِ أَمِنُوا مِنَ الِارْتِدَادِ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ

تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبُ. فَالْإِيمَانُ بِمَا سَيَنْزِلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَإِيمَانُهُمْ بِمَا سَيَنْزِلُ مُرَادٌ مِنَ الْكَلَامِ وَلَيْسَ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ الَّذِي هُوَ لِلْمَاضِي فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى تَغْلِيبِ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِما أُنْزِلَ وَالْمُرَادُ مَا أُنْزِلَ وَمَا سَيَنْزِلُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَعَدَّى الْإِنْزَالَ بِإِلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْوَصْفِ فَالْمُنْزَلُ إِلَيْهِ غَايَةٌ لِلنُّزُولِ وَالْأَكْثَرُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعَدَّى بِحَرْفِ عَلَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السُّقُوطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمرَان: 3] وَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ الشَّيْءَ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُنْزَلِ عَلَيْهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَة: 57] وَاخْتِيَارُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ. ثُمَّ إِنَّ فَائِدَةَ الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الدَّلَالَةُ بِالصِّلَةِ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا آمَنُوا بِمَا ثَبَتَ نُزُولُهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِمْ دُونَ تَخْلِيطٍ بِتَحْرِيفَاتٍ صَدَّتْ قَوْمَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ كَكَوْنِ التَّوْرَاةِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ عَقِبِ إِسْرَائِيلَ مَنْ يُخَلِّصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ أَوْ مِنْ فَاسِدِ التَّأْوِيلَاتِ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُلَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ صَدَّهُمْ غُلُوُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَقَوْلُهُمْ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عَطْفُ صِفَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ ثُبُوتُ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ أَيِ اعْتِقَادِهِمْ بِحَيَاةٍ ثَانِيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا الْوَصْفُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِمْ لِأَنَّهُ مِلَاكُ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ الَّتِي جُعِلُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَا أَجْمَلَهُ الْوَصْفُ بِالْمُتَّقِينَ فَإِنَّ الْيَقِينَ بِدَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْحَذَرَ وَالْفِكْرَةَ فِيمَا يُنْجِي النَّفْسَ مِنَ الْعِقَابِ وَيُنَعِّمُهَا بِالثَّوَابِ وَذَلِكَ الَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ هَذَا الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ مِنْ مَزَايَا أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُوقِنُونَ بِحَيَاةٍ ثَانِيَةٍ فَهُمْ دَهْرِيُّونَ، وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْبُطُونَ رَاحِلَةَ الْمَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَتْرُكُونَهَا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ حَتَّى الْمَوْتَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِذَا حَيِيَ يَرْكَبُهَا فَلَا يُحْشَرُ رَاجِلًا

وَيُسَمُّونَهَا الْبَلِيَّةَ فَذَلِكَ تَخْلِيطٌ بَيْنَ مَزَاعِمِ الشِّرْكِ وَمَا يَتَلَقَّوْنَهُ عَنِ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ بِدُونِ تَأَمُّلٍ. وَالْآخِرَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ هِيَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ فَإِنَّ الْآخِرَةَ صِفَةُ تَأْنِيثِ الْآخِرِ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ الْحَاصِلُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ فِي فِعْلٍ أَوْ حَالٍ، وَتَأْنِيثُ وَصْفِ الْآخِرَةِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ حُذِفَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَصَيْرُورَتِهِ مَعْلُومًا وَهُوَ يُقَدَّرُ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ مُرَاعَاةً لِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أَيِ الْقَرِيبَةُ بِمَعْنَى الْحَاضِرَةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهَا الْعَاجِلَةُ ثُمَّ صَارَتِ الْآخِرَةُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْبَعْثِ لِإِجْرَاءِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَمَعْنَى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ أَوْ بَعْدَ شَكٍّ سَابِقٍ وَلَا يَكُونُ شَكٌّ إِلَّا فِي أَمْرٍ ذِي نَظَرٍ فَيَكُونُ أَخَصَّ مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنَ الْعِلْمِ. وَاحْتَجَّ الرَّاغِبُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6، 7] وَلِذَلِكَ لَا يُطْلِقُونَ الْإِيقَانَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَلَا عَلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ إِطْلَاقًا عُرْفِيًّا حَيْثُ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ ظَنٌّ وَيُشْتَبَهُ بِالْعِلْمِ الْجَازِمِ فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِلْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ. فَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ بِمَادَّةِ الْإِيقَانِ لِأَنَّ هَاتِهِ الْمَادَّةَ، تُشْعِرُ بِأَنَّهُ عِلْمٌ حَاصِلٌ عَنْ تَأَمُّلِ وَغَوْصِ الْفِكْرِ فِي طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَمَّا كَانَتْ حَيَاةً غَائِبَةً عَنِ الْمُشَاهَدَةِ غَرِيبَةً بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ وَقَدْ كَثُرَتِ الشُّبَهُ الَّتِي جَرَّتِ الْمُشْرِكِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ عَلَى نَفْيِهَا وَإِحَالَتِهَا، كَانَ الْإِيمَانُ بِهَا جَدِيرًا بِمَادَّةِ الْإِيقَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ، فَلِإِيثَارِ يُوقِنُونَ هُنَا خُصُوصِيَّةٌ مُنَاسِبَةٌ لِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَالَّذِينَ جَعَلُوا الْإِيقَانَ وَالْإِيمَانَ مُتَرَادِفَيْنِ جَعَلُوا ذِكْرَ الْإِيقَانِ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ لَفْظِ يُؤْمِنُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تَقْدِيمٌ لِلْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ يُوقِنُونَ عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ مَعَ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، وَأَرَى أَنَّ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ ثَنَاءً عَلَى هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِأَهَمِّ مَا يُوقِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَلَيْسَ التَّقْدِيمُ بِمُفِيدٍ حَصْرًا إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَى الْحَصْرِ هُنَا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَكَلَّفَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَشَارِحُوهُ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ مِنْ هَذَا التَّقْدِيمِ وَيَخْرُجُ الْحَصْرُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِذَاتِ الْمَحْصُورِ فِيهِ إِلَى تَعَلُّقِهِ بِأَحْوَالِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْحَصْرِ.

[سورة البقرة (2) : آية 5]

وَقَوْلُهُ: هُمْ يُوقِنُونَ جِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ إِذْ هُوَ إِيقَانٌ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَتِ التَّوْرَاةُ خَالِيَةً عَنْ تَفْصِيلِهِ وَالْإِنْجِيلُ أَشَارَ إِلَى حَيَاةِ الرُّوحِ، وَتَعَرَّضَ كِتَابَا حِزْقِيَالَ وَأَشْعِيَاءَ لِذِكْرِهِ وَفِي كِلَا التَّقْدِيمَيْنِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الدَّهْرِيِّينَ وَنِدَاءٌ عَلَى انْحِطَاطِ عَقِيدَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَنِيفِيَّةِ فِي ظَنِّهِمْ مِثْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِمْ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَخْذِهِمْ عَنْهُمْ كَثِيرًا مِنْ شَرَائِعِهِمْ بِعِلَّةِ أَنَّهَا مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام. [5] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ. اسْمُ الْإِشَارَةِ مُتَوَجّه إِلَى لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] الَّذِينَ أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ مَا تَقَدَّمَ، فَكَانُوا فَرِيقَيْنِ. وَأَصْلُ الْإِشَارَةِ أَنْ تَعُودَ إِلَى ذَاتٍ مُشَاهَدَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَخْرُجُونَ بِهَا عَنِ الْأَصْلِ فَتَعُودُ إِلَى ذَاتٍ مُسْتَحْضَرَةٍ مِنَ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَا يُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ، فَإِنَّ السَّامِعَ إِذَا وَعَى تِلْكَ الصِّفَاتِ وَكَانَتْ مُهِمَّةً أَوْ غَرِيبَةً فِي خَيْرٍ أَوْ ضِدِّهِ صَارَ الْمَوْصُوفُ بِهَا كَالْمَشَاهِدِ، فَالْمُتَكَلِّمُ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ فَيُشِيرُ إِلَيْهِ كَالْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، فَيُؤْتَى بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا أَوْضَحَ فِي تَشَخُّصِهِ، وَلَا أَغْنَى فِي مُشَاهَدَتِهِ مِنْ تَعَرُّفِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَتَكْفِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، هَذَا أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِيرَادِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذِكْرِ صِفَاتٍ مَعَ عَدَمِ حُضُورِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ قَدْ يُتْبِعُونَ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْوَارِدَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بِأَحْكَامٍ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ هُوَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ هِيَ طَرِيقَ الِاسْتِحْضَارِ كَانَتِ الْإِشَارَةُ لِأَهْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ قَائِمَةً مَقَامَ الذَّوَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَكَمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْوَارِدَةَ بَعْدَ أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ تُفِيدُ أَنَّهَا ثَابِتَةً لِلْمُسَمَّيَاتِ فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ مَا هُوَ لِلصِّفَاتِ تُفِيدُ أَنَّهَا ثَبَتَتْ لِلصِّفَاتِ، فَكَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ إِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ هِيَ سَبَبُ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ هَدْيِ رَبِّهِمْ إِيَّاهُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: وَلِلَّهِ صُعْلُوكٌ يُسَاوِرُ هَمَّهُ ... وَيَمْضِي عَلَى الْأَحْدَاثِ وَالدَّهْرِ مُقْدِمَا فَتَى طَلَبَاتٍ لَا يَرَى الْخَمْصُ تُرْحَةً ... وَلَا شُبْعَةً إِنْ نَالَهَا عَدَّ مَغْنَمَا

إِلَى أَنْ قَالَ: فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفًا مُذَمَّمًا (¬1) فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِفَاتِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ تَرَقَّبَ فَائِدَةَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا حَلَّ مَحَلَّ ذِكْرِ ضَمِيرِهِمْ وَالْإِشَارَةُ أَحْسَنُ مِنْهُ وَقْعًا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَوْصَافِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ فقد حَقَّقَهُ التفتازانيّ فِي بَابِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنَ الشَّرْحِ الْمُطَوَّلِ أَنَّ الِاسْتِئْنَافَ بِذِكْرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَكُونُ بِإِعَادَةِ اسْمِ الْمُسْتَأْنَفِ عَنْهُ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَظْهَرُ مَعْنًى وَأَنْسَبُ بَلَاغَةً وَأَسْعَدُ بِاسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْمَوَاقِعِ، لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي كَوْنِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَبِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ النَّاشِئِ عَنْهَا، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِجَعْلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأً أَوَّلَ صَدْرِ جُمْلَةِ اسْتِئْنَافٍ. فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ رُجُوعٌ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لَهُمْ وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ بِأَنْ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَثَبَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَمُحَاوَلَتِهِمُ الزِّيَادَةَ بِهِ وَالسَّيْرِ فِي طَرِيقِ الْخَيْرَاتِ بِهَيْأَةِ الرَّاكِبِ فِي الِاعْتِلَاءِ عَلَى الْمَرْكُوبِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ تَصْرِيفِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِرَاضَتِهِ فَشُبِّهَتْ حَالَتُهُمُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ مُتَعَدِّدٍ تَشْبِيهًا ضِمْنِيًّا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ أَقْوَى أَنْوَاعِ تَمَكُّنِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَوَجْهُ جَعْلِنَا إِيَّاهَا مُؤْذِنَةً بِتَقْدِيرِ مَرْكُوبٍ دُونَ كُرْسِيٍّ أَوْ مَسْطَبَةٍ مَثَلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَسْبِقُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، إِذِ الرُّكُوبُ هُوَ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْلَائِهِمْ فَهُوَ الْحَاضِرُ فِي أَذْهَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ حِينَ يُصَرِّحُونَ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ أَوْ يَرْمُزُونَ إِلَيْهِ مَا يَذْكُرُونَ إِلَّا الْمَرْكُوبَ وَعَلَائِقَهُ، فَيَقُولُونَ جَعَلَ الْغِوَايَةَ مَرْكَبًا وَامْتَطَى الْجَهْلَ وَفِي «الْمَقَامَةِ» : «لِمَا اقْتَعَدَتْ غَارِبُ الِاغْتِرَابِ وَقَالُوا فِي الْأَمْثَالِ: رَكِبَ مَتْنَ عَمْيَاءَ، تَخَبَّطَ خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَقَالَ النَّابِغَةُ يَهْجُو عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ الْغَنَوِيَّ: فَإِنْ يَكُ عَامِرٌ قَدْ قَالَ جَهْلًا ... فَإِنَّ مَطِيَّةَ الْجَهْلِ الشَّبَابُ فَتَكُونُ كَلِمَةُ «عَلَى» هُنَا بَعْضَ الْمُرَكَّبِ الدَّال على الهيأة الْمُشَبَّهِ بِهَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ ¬

(¬1) الصعلوك- بِضَم الصَّاد- أَصله الْفَقِير، وَيُطلق على المتلصص لِأَن الْفقر يَدعُوهُ للتلصص عِنْدهم لأَنهم مَا كَانُوا يرضون باكتساب يُنَافِي الشجَاعَة ويكسب المذلة كالسرقة وَالسُّؤَال. فحاتم يمدح الصعلوك الَّذِي لَا يقْتَصر على التلصص بل يكون بشجاعته عدَّة لِقَوْمِهِ عِنْد الْحَاجة.

وَأَصْلُهُ أُولَئِكَ عَلَى مَطِيَّةِ الْهُدَى فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ إِلَّا أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ لَا جَمِيعُهُ. هَكَذَا قَرَّرَ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» فِيهَا شَارِحُوهُ وَالطِّيبِي، والتحتاني والتفتازانيّ وَالْبَيْضَاوِيُّ. وَذَهَبَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْكَشْفِ» وَالسَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْآيَةِ تَبَعِيَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ شَبَّهَ التَّمَسُّكَ بِالْهُدَى عِنْدَ الْمُتَّقِينَ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الدَّابَّةِ لِلرَّاكِبِ، وَسَرَى التَّشْبِيهُ إِلَى مَعْنَى الْحَرْفِ وَهُوَ عَلَى، وَجَوَّزَ السَّيِّدُ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ مُفْرَدَةٌ بِأَنْ شُبِّهَ الْهُدَى بِمَرْكُوبٍ وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّكَّاكِيِّ فِي رَدِّ التَّبَعِيَّةِ لِلْمَكْنِيَّةِ. ثُمَّ زَاد الطَّيِّبِيّ والتفتازانيّ فَجَعَلَا فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً مَعَ التَّمْثِيلِيَّةِ قَائِلِينَ إِنَّ مَجِيءَ كَلِمَةِ عَلَى يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مُسْتَعَارًا لِمَا يُمَاثِلُهُ وَهُوَ التَّمَكُّن فَتكون هُنَا لَك تَبَعِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. وَقَدِ انْتَصَرَ سعد الدَّين التفتازانيّ لِوَجْهِ التَّمْثِيلِيَّةِ وَانْتَصَرَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ لِوَجْهِ التَّبَعِيَّةِ. وَاشْتَدَّ السَّيِّدُ فِي إِنْكَارِ كَوْنِهَا تَمْثِيلِيَّةً وَرَآهُ جَمْعًا بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ لِأَنَّ انْتِزَاعَ كُلٍّ مِنْ طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ مِنْ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَسْتَلْزِمُ تَرَكُّبُهُ مِنْ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَيْفَ وَمُتَعَلِّقُ مَعْنَى الْحَرْفِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ كَالِاسْتِعْلَاءِ هُنَا فَإِذَا اعْتُبِرَ التَّشْبِيهُ هُنَا مُرَكَّبًا اسْتَلْزَمَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى عَلَى وَمُتَعَلِّقُ مَعْنَاهَا مُشَبَّهًا بِهِ وَلَا مُسْتَعَارًا مِنْهُ لَا تَبَعًا وَلَا أَصَالَةً، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ فِي «حَاشِيَته للكشاف» و «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمُطَوَّلِ» كَمَا أَطَالَ السَّعْدُ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» وَفِي «الْمُطَوَّلِ» ، وَتَرَاشَقَا سِهَامَ الْمُنَاظَرَةِ الْحَادَّةِ. وَنَحْنُ نَدْخُلُ فِي الْحُكُومَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَلَمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْجَمِيعِ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَشْبِيهُ أَشْيَاءَ بِأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ حَاصِلَةٌ مِنْ ثُبُوتِ الْهُدَى لِلْمُتَّقِينَ وَمِنْ ثُبُوتِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْمَرْكُوبِ غَيْرَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ فِي تَعْيِينِ الطَّرِيقَةِ الْحَاصِلِ بِهَا هَذَا التَّشْبِيهُ فَالْأَكْثَرُونَ يَجْعَلُونَهَا طَرِيقَةَ التَّمْثِيلِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ تَشْبِيهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ حَاصِلًا بِالِانْتِزَاعِ وَالتَّرْكِيبِ لِهَيْئَةٍ، وَالسَّيِّدُ يَجْعَلُهَا طَرِيقَةَ التَّبَعِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ هُمَا فَرْدَانِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِبَقِيَّةِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِوَاسِطَةِ تَقْيِيدِ الْمُفْرَدَيْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَيَجُوزُ طَرِيقَةُ التَّمْثِيلِ وَطَرِيقَةُ الْمَكْنِيَّةِ. فَيَنْصَرِفُ النَّظَرُ هُنَا إِلَى أَيِّ الطَّرِيقَتَيْنِ أَرْجَحُ اعْتِبَارًا وَأَوْفَى فِي الْبَلَاغَةِ مِقْدَارًا. وَإِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ التَّمْثِيلِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ هَلْ يُعَدُّ مُتَنَاقِضًا فِي اعْتِبَارِ الْقَوَاعِدِ الْبَيَانِيَّةِ كَمَا زَعَمَهُ السَّيِّدُ؟ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ أَهْلَهُ أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى اعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ فَلَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى الْمُفْرَدِ

مَهْمَا اسْتَقَامَ اعْتِبَارُهُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» عِنْدَ ذِكْرِ بَيْتِ بَشَّارٍ: كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا ... وَأَسْيَافُنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ «قَصَدَ تَشْبِيهَ النَّقْعِ وَالسُّيُوفُ فِيهِ بِاللَّيْلِ الْمُتَهَاوِيَةُ كَوَاكِبُهُ، لَا تَشْبِيهَ النَّقْعِ بِاللَّيْلِ مِنْ جَانِبٍ وَالسُّيُوفِ بِالْكَوَاكِبِ مِنْ جَانِبٍ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ أَسْيَافَنَا فِي حُكْمِ الصِّلَةِ لِلْمَصْدَرِ (أَيْ مُثَارَ) لِئَلَّا يَقَعَ فِي تَشْبِيهِهِ تَفَرُّقٌ، فَإِنَّ نَصْبَ الْأَسْيَافِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ لَا عَلَى الْعَطْفِ» . إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ لَدَيْكَ أَنَّ لِلتَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ الْحَظَّ الْأَوْفَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ الْبُلَغَاءِ وَأَوَّلِهَا بَابُ التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَقْدَمُ فُنُونِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّمْثِيلَ أَخَصُّ أَنْوَاعِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ فَهُوَ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ وَأَجْلَى لِلْمَعَانِي. وَنَحْنُ نَجِدُ اعْتِبَارَ التَّمْثِيلِيَّةِ فِي الْآيَةِ أَرْجَحَ لِأَنَّهَا أَوْضَحُ وَأَبْلَغُ وَأَشْهَرُ وَأَسْعَدُ بِكَلَامِ «الْكَشَّافِ» ، أَمَّا كَوْنُهَا أَوْضَحَ فَلِأَنَّ تَشْبِيهَ التَّمْثِيلِ مَنْزَعٌ وَاضِحٌ لَا كُلْفَةَ فِيهِ فَيُفِيدُ تَشْبِيهَ مَجْمُوعِ هَيْئَةِ الْمُتَّقِينَ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْهُدَى بِهَيْئَةِ الرَّاكِبِ إِلَخْ بِخِلَافِ طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا تَشْبِيهَ التَّمَكُّنِ بِالِاسْتِعْلَاءِ ثُمَّ يُسْتَفَادُ مَا عَدَا ذَلِكَ بِالتَّقْيِيدِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا أَبْلَغَ فَلِأَنَّ الْمَقَامَ لَمَّا سَمَحَ بِكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ لَا جرم كَانَ أَو لَا هما بِالِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ خُصُوصِيَّاتٌ أَقْوَى وَأَعَزُّ. وَأَمَّا كَوْنُهَا أَشْهَرَ فَلِأَنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بِخِلَافِ التَّبَعِيَّةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ أَسْعَدَ بِكَلَامِ «الْكَشَّافِ» فَلِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: «مَثَلٍ» أَنَّهُ أَرَادَ التَّمْثِيلَ، لِأَنَّ كَلَامَ مِثْلِهِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا تَخْرُجُ فِيهِ اللَّفْظَةُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ عَنْ مُتَعَارَفِ أَهْلِهَا إِلَى أَصْلِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. فَإِذَا صَحَّ أَنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ أَرْجَحُ فَلْنَنْقُلِ الْكَلَامَ إِلَى تَصْحِيحِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّبَعِيَّةِ وَهُوَ الْمَجَالُ الثَّانِي لِلْخِلَافِ بَيْنَ الْعَلَامَتَيْنِ فَالسَّعْدُ وَالطِّيبِيُّ يُجَوِّزَانِ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ مَعَ التَّمْثِيلِيَّةِ فِي الْآيَةِ وَالسَّيِّدُ يَمْنَعُ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتُمْ وَيَقُولُ إِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ مُنْتَزَعًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ فَقَدِ انْتُزِعَ كُلُّ جُزْءٍ فِي الْمُشَبَّهِ مِنْ جُزْئَيِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى التَّرْكِيبِ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ بَعْضُ الْمُشَبَّهِ بِهِ مُسْتَعَارًا لِبَعْضِ الْمُشَبَّهِ فَيَنْتَقِضُ التَّرْكِيبُ. وَهَذَا الدَّلِيلُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ إِنَّ أَصْلَ مُفْرَدَاتِ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي جُمْلَةِ الْمُرَكَّبِ أَيْ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَكَلَامُ السَّيِّدِ وُقُوفٌ عِنْدهَا. وَلَكِن التفتازانيّ لَمْ يَرَ مَانِعًا مِنَ اعْتِبَارِ الْمَجَازِ فِي بَعْضِ مُفْرَدَاتِ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَلَعَلَّهُ يَرَى ذَلِكَ زِيَادَةً فِي خُصُوصِيَّاتِ إِعْجَازِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ شَأْنِ الْبَلِيغِ أَنْ لَا يُفِيتَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَبِهَذَا

تَفَاوَتَتِ الْبُلَغَاءُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبْحَثِ تَعْرِيفِ الْبَلَاغَةِ وَحَدُّ الْإِعْجَازِ هُوَ الطَّرَفُ الْأَعْلَى لِلْبَلَاغَةِ الْجَامِعُ لِأَقْصَى الْخُصُوصِيَّاتِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَلَمَّا وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا شَيْئَانِ يَصْلُحَانِ لِأَنْ يُشَبَّهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ تَشْبِيهًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ دَاخِلٍ فِي تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ كَانَ حَقُّ هَذَا الْمَقَامِ تَشْبِيهُ التَّمَكُّنِ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَدِيعٌ وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِكَلِمَةِ عَلَى وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْأَتَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَحْسُنْ تَشْبِيهُ شَيْءٍ مِنْهَا بِآخَرَ أُلْغِيَ التَّشْبِيهُ الْمُفْرَدُ فِيهَا إِذْ لَا يَحْسُنُ تَشْبِيهُ الْمُتَّقِي بِخُصُوصِ الرَّاكِبِ وَلَا الْهُدَى بِالْمَرْكُوبِ فَتَكُونُ «عَلَى» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْضًا مِنَ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ دَلِيلًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارٍ وَمَجَازًا مُفْرَدًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَتِ الْحَالَةَ بِالْحَالَةِ وَحُذِفَ لَفْظُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْمَرْكَبُ الدَّالُّ عَلَى الرُّكُوبِ كَأَنْ يُقَالَ رَاكِبِينَ مَطِيَّةَ الْهُدَى وَأَبْقَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُشَبَّهِ وَهُوَ أُولئِكَ وَالْهُدَى، وَرَمْزٌ لِلْمَرْكَبِ الدَّالِّ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ لَفْظُ (عَلَى) الدَّالُّ عَلَى الرُّكُوبِ عُرْفًا كَمَا عَلِمْتُمْ، فَتَكْمُلُ لَنَا فِي أَقْسَامِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ: الِاسْتِعَارَةُ كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ الْمُفْرَدَةِ فَيَكُونُ التَّمْثِيلُ مِنْهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ كَاسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي التَّحَسُّرِ وَمِنْهُ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ نَحْوَ أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى وَمِنْهُ مَكْنِيَّةٌ كَمَا فِي الْآيَةِ عَلَى رَأْيِنَا، وَمِنْهُ تَبَعِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: وَفَارِسٍ فِي غِمَارِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسٍ ... إِذَا تَأَلَّى عَلَى مَكْرُوهَةٍ صَدَقَا فَإِنَّ مُنْغَمِسٍ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ إِحَاطَةِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِهَيْئَةِ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ الْمِيَاهُ الْمُهْلِكَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَلَفْظُ مُنْغَمِسٍ تَبَعِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. وَإِنَّمَا نُكِّرَ هُدًى وَلَمْ يُعَرَّفْ بِاللَّامِ لِمُسَاوَاةِ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ هُنَا إِذْ لَوْ عُرِّفَ لَكَانَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَرَجَّحَ التَّنْكِيرَ تَمْهِيدًا لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْهُدَى السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مُغَايَرَةً بِالِاعْتِبَارِ إِذِ الْقَصْدُ التَّنْوِيهُ هُنَا بِشَأْنِ الْهُدَى وَتَوَسُّلًا إِلَى إِفَادَةِ تَعْظِيمِ الْهُدَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَدْحِ وَبِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فَتَعَيَّنَ قَصْدُ التَّعْظِيمِ. فَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْهُدَى يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ. وَإِنَّمَا وَصَفَ الْهُدَى بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْهُدَى وَتَشْرِيفِهِ مَعَ الْإِشَارَةٍ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ هِيَ إِضَافَةُ تَعْظِيمٍ لِشَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ.

وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. مَرْجِعُ الْإِشَارَةِ الثَّانِيَةِ عَيْنُ مَرْجِعِ الْأُولَى، وَوَجْهُ تَكْرِيرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كِلْتَا الْأَثْرَتَيْنِ جَدِيرَةٌ بِالِاعْتِنَاءِ وَالتَّنْوِيهِ، فَلَا تُذْكَرُ إِحْدَاهُمَا تَبَعًا لِلْأُخْرَى بَلْ تُخَصُّ بِجُمْلَةٍ وَإِشَارَةٍ خَاصَّةٍ لِيَكُونَ اشْتِهَارُهُمْ بِذَلِكَ اشْتِهَارًا بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يُقَالُ فِيهِ كِلَا الْقَوْلَيْنِ. وَوَجْهُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَصْلِ أَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَوَسُّطًا بَيْنَ كَمَالَيِ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ لِأَنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى اخْتِلَافِ مَفْهُومِهِمَا وَزَمَنِ حُصُولِهِمَا فَإِنَّ مَفْهُومَ إِحْدَاهُمَا وَهُوَ الْهُدَى حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا وَمَفْهُومَ الْأُخْرَى وَهُوَ الْفَلَاحُ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ كَانَتَا مُنْقَطِعَتَيْنِ. وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى تَسَبُّبِ مَفْهُومِ إِحْدَاهُمَا عَنْ مَفْهُومِ الْأُخْرَى، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِالْوَصْفِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ، فَكَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ كَمَالَيِ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ مُنْزِلًا إيَّاهُمَا منزلَة المتوسطين، كَذَا قَرَّرَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَةَ التَّوَسُّطِ تَقْتَضِي الْعَطْفَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَتَعْلِيلُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الْمُقْتَضَيَانِ تَعَيَّنَ الْعَطْفُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي ذِكْرِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ الضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِلْجِنْسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِذْ لَا مَعْهُودَ هُنَا بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْحَالِ، بَلِ الْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُفْلِحُونَ، وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ إِذَا حُمِلَ عَلَى مُسْنَدٍ إِلَيْهِ مُعَرَّفٍ أَفَادَ الِاخْتِصَاصَ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ النِّسْبَةِ، أَيْ تَأْكِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعَ الْمُسْنَدِ مِنْ شَأْنِهِ إِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ غَالِبًا لَكِنَّهُ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنْ إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ الْحَقِيقِيِّ، وَمُفِيدٌ شَيْئًا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، فَلِذَلِكَ جُلِبَ لَهُ التَّعْرِيفُ دُونَ التَّنْكِيرِ وَهَذَا مَثَّلَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي، أَيْ إِذَا سَمِعْتَ بِالْبَطَلِ الْحَامِي وَأَحَطْتَ بِهِ خَبَرًا فَهُوَ فُلَانٌ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا بِقَوْلِهِ: «أَوْ عَلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِنْ حَصَلَتْ صِفَةُ الْمُفْلِحِينَ وَتَحَقَّقُوا مَا هُمْ وَتَصَوَّرُوا بِصُورَتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُمْ هُمْ» وَالسَّكَّاكِيُّ لَمْ يُتَابِعِ الشَّيْخَيْنِ عَلَى هَذَا فَعَدَلَ عَنْهُ فِي «الْمِفْتَاحِ» وَلِلَّهِ دَرُّهُ.

[سورة البقرة (2) : آية 6]

وَالْفَلَاحُ: الْفَوْزُ وَصَلَاحُ الْحَالِ، فَيَكُونُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الدِّينِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَفْلَحَ أَيْ صَارَ ذَا فَلَاحٍ، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ بِوَاسِطَةِ الْهَمْزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ حَدَثًا قَائِمًا بِالذَّاتِ بَلْ هُوَ جِنْسٌ تَحُفُّ أَفْرَادُهُ بِمَنْ قُدِّرَتْ لَهُ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : انْظُرْ كَيْفَ كَرَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التَّنْبِيهَ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُتَّقِينَ بِنَيْلِ مَا لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ عَلَى طُرُقٍ شَتَّى وَهِيَ ذِكْرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَتَكْرِيرُهُ وَتَعْرِيفُ الْمُفْلِحِينَ، وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولئِكَ لِيُبَصِّرَكَ مَرَاتِبَهُمْ وَيُرَغِّبَكَ فِي طَلَبِ مَا طَلَبُوا وَيُنَشِّطَكَ لِتَقْدِيمِ مَا قدمُوا. [6] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. هَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ وَمُتَقَلِّدِيهِ وَوَصْفِ هَدْيِهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ الْهَدْيِ فِي الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ الرَّاجِعِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ لَمَّا كَانَ الثَّنَاءُ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا تَحَقَّقَتْ آثَارُ الصِّفَةِ الَّتِي اسْتُحِقَّ بِهَا الثَّنَاءُ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يُقَدَّرُ بِضِدِّهِ انْتَقَلَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَسَجَّلَ أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ خُبْثِ أَنْفُسِهِمْ إِذْ نَبَوْا بِهَا عَنْ ذَلِكَ، فَمَا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ فِي عَاقِبَةِ أُمُورِهِمْ وَيَحْذَرُونَ مِنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ سَوَاءً عِنْدَهُمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ فَلَمْ يَتَلَقَّوُا الْإِنْذَارَ بِالتَّأَمُّلِ بَلْ كَانَ سَوَاءً وَالْعَدَمُ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ قَرَنَتِ الْآيَاتُ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا أَضْمَرَ الْكُفْرَ وَأَعْلَنَهُ وَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ غَالِبُ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَفَرِيقًا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُخَادِعٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [الْبَقَرَة: 8] . وَإِنَّمَا قُطِعَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِذِ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ لِذِكْرِ الْهُدَى وَالْمُهْتَدِينَ، وَهَذِهِ لِذِكْرِ الضَّالِّينَ فَبَيْنَهُمَا الِانْقِطَاعُ لِأَجْلِ التَّضَادِّ، وَيُعْلَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قِسْمٌ مُضَادٌّ لِلْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ مِنْ سِيَاقِ الْمُقَابَلَةِ. وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَغَرَابَتِهِ دُونَ رَدِّ الْإِنْكَارِ أَوِ الشَّكِّ لِأَن الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأُمَّةِ وَهُوَ خِطَابُ أُنُفٍ بِحَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ شَكٌّ فِي وُقُوعِهِ، وَمَجِيءُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَدْ تَكُونُ (إِنَّ) هُنَا لِرَدِّ الشَّكِّ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ حِرْصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ تَجْعَلُهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجَاءَ

فِي نَفْعِ الْإِنْذَارِ لَهُمْ وَحَالُهُ كَحَالِ مَنْ شَكَّ فِي نَفْعِ الْإِنْذَارِ، أَوْ لِأَنَّ السَّامِعِينَ لِمَا أُجْرِيَ عَلَى الْكِتَابِ مِنَ الثَّنَاءِ بِبُلُوغِهِ الدَّرَجَةَ الْقُصْوَى فِي الْهِدَايَةِ يُطْمِعُهُمْ أَنْ تُؤَثِّرَ هِدَايَتُهُ فِي الْكَافِرِينَ الْمُعْرِضِينَ وَتَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ يَشُكُّونَ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً فَأُخْرِجَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَنَزَلَ غَيْرُ الشَّاكِّ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّ (إِنْ) لَا تَأْتِي لِرَدِّ الْإِنْكَارِ بَلْ لِرَدِّ الشَّكِّ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ (الَّذِينَ كَفَرُوا) الْمَذْكُورِينَ هُنَا هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مَأْيُوسٌ مِنْ إِيمَانِهِمْ، فَالْإِتْيَانُ فِي ذِكْرِهِمْ بِالتَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ مُرَادًا مِنْهُ قَوْمٌ مَعْهُودُونَ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَضْرَابِهِمْ مِنْ رُؤُوسِ الشِّرْكِ وَزُعَمَاءِ الْعِنَادِ دُونَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا فِي أَيَّامِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ مَنْ آمَنَ بَعْدُ مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكُفْرِ أَبْلَغُ أَنْوَاعِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عَامًّا مَخْصُوصًا بِالْحِسِّ لِمُشَاهَدَةِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَوْ يَكُونُ عَامًّا مُرَادًا بِهِ الْخُصُوصُ بِالْقَرِينَةِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا اللَّذَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمَا نَاظِرَانِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَبَيَّنَ بَعْدُ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى مَعْنَى الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالشَّقَاءِ وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 96] وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَشَتَّانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَنْظِيرِهِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ مِثْلَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَبِي رَافِعٍ يَعْنِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ فِيهَا مِنَ الْكَافِرِينَ سِوَى الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْرَاضٌ عَنِ السِّيَاقِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ ذِكْرُ مَنْ حُرِمَ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ حَصَلَ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ بِهِ، وأيّا مَا مَا كَانَ فَالْمَعْنَى عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ فَرِيقًا خَاصًّا مِنَ الْكُفَّارِ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ كَانَ لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِمْ لَا لِنَقْصٍ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَيْرِ وَهَدْيِهِ إِلَيْهِ. وَالْكُفْرُ بِالضَّمِّ: إِخْفَاءُ النِّعْمَةِ، وَبِالْفَتْحِ: السَّتْرُ مُطْلَقًا وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ كَفَرَ إِذَا سَتَرَ. وَلَمَّا كَانَ إِنْكَارُ الْخَالِقِ أَوْ إِنْكَارُ كَمَالِهِ أَوْ إِنْكَارُ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ضَرْبًا مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ عَلَى

جَاحِدِهَا، أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكُفْرِ وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ إِنْكَارُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ وَتَنَاقَلَتْهُ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ الصَّحِيحَةِ الْمَاضِيَةِ حَتَّى عَلِمَهُ الْبَشَرُ وَتَوَجَّهَتْ عُقُولُهُمْ إِلَى الْبَحْثِ عَنْهُ وَنُصِبَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ كَوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُودِهِ وَلِذَلِكَ عُدَّ أَهْلُ الشِّرْكِ فِيمَا بَيْنَ الْفَتْرَةِ كُفَّارًا. وَإِنْكَارُ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَدَعَوْتُهُ إِلَيْهِ وَعَدُّهُ فِي أُصُولِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ فِي الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ وَلَوْ مَعَ اعْتِقَادِ صِدْقِهِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالْإِنْكَارِ دُونَ التَّكْذِيبِ. وَيَلْحَقُ بِالْكُفْرِ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ كُلُّ قَوْلٍ أَوْ فعل لَا يجترىء عَلَيْهِ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِحَيْثُ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ اكْتِرَاثِ فَاعِلِهِ بِالْإِيمَانِ وَعَلَى إِضْمَارِهِ الطَّعْنَ فِي الدِّينِ وَتَوَسُّلِهِ بِذَلِكَ إِلَى نَقْضِ أُصُولِهِ وَإِهَانَتِهِ بِوَجْهٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الظَّاهِرَ وَفِي هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ مَجَالٌ لِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ وَفَتَاوَى أَسَاطِينِ الْعُلَمَاءِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا بِحَسَبِ مَبْلَغِ دَلَالَةِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَلَى طَعْنٍ أَوْ شَكٍّ. وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَعْمَالَ أَوْ بَعْضَهَا الْمُعَيَّنَ فِي الْإِيمَانِ اعْتَبَرَ فَقْدَهَا أَوْ فَقْدَ بَعْضِهَا الْمُعَيَّنَ فِي الْكُفْرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: الْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ فَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى، الثَّانِي أَنْ يَأْتِيَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَجْمَعَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَنَقَلَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي «الْفَائِقِ» عَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكُفْرَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الْقُرَافِيُّ فِي الْفِرَقِ 241 أَصْلُ الْكُفْرِ هُوَ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَيَكُونُ بِالْجَهْلِ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ أَوْ بِالْجُرْأَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ (سَوَاءٌ) اسْمٌ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ لُزُومُ إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ مَعَ اخْتِلَافِ مَوْصُوفَاتِهِ وَمُخْبِرَاتِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ أَوْ وَصَفَ كَانَ ذَلِكَ كَالْمَصْدَرِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ (سَوَاءٌ) اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَثَلِ فَيَكُونُ الْتِزَامُ إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ لَا تَتَعَدَّدُ، وَإِنْ تَعَدَّدَ مَوْصُوفُهَا تَقُولُ هُمْ رِجَالٌ سَوَاءٌ لِزَيْدٍ بِمَعْنَى مِثْلٌ لِزَيْدٍ. وَإِنَّمَا عَدَّى سَوَاءً بِعَلَى هُنَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَلَمْ يُعَلِّقْ بِعِنْدَ وَنَحْوِهَا مَعَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ فِي مِثْلِهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِوَاءِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَأَنَّهُ لَا مَصْرِفَ لَهُ عَنْهُ وَلَا تَرَدُّدَ لَهُ فِيهِ فَالْمَعْنَى سَوَاءٌ عِنْدَهُمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعَرَبِ فِي سَوَاءٍ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْتُوا بِسَوَاءٍ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّسَاوِي فِي وَصْفٍ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ فَيَقَعُ مَعَهُ (سَوَاءٌ) مَا يَدُلُّ عَلَى مُتَعَدِّدٍ نَحْوَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ [النَّحْل: 71] وَنَحْوَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ بُثَيْنَةَ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... إِذَا مِتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ وَلِينُهَا وَيَجْرِي إِعْرَابُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوْقِعُهُ مِنَ التَّرْكِيبِ، وَثَانِيهُمَا أَنْ يَقَعَ مَعَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ كَثُرَ وُقُوعُهَا بَعْدَ كَلِمَةِ سَواءٌ وَمَعَهَا أَمْ الْعَاطِفَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْمُتَّصِلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا وَهَذَا أَكَثَرُ اسْتِعْمَالَيْهَا وَتَرَدَّدَ النُّحَاةُ فِي إِعْرَابِهِ وَأَظْهَرُ مَا قَالُوهُ وَأَسْلَمُهُ أَنَّ سَواءٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ بَعْدَهُ مُقْتَرِنًا بِالْهَمْزَةِ فِي تَأْوِيلِ مُبْتَدَأٍ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ إِذْ تَجَرَّدَ عَنِ النِّسْبَةِ وَعَنِ الزَّمَانِ، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ. وَأَظْهَرُ عِنْدِي مِمَّا قَالُوهُ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ بَعْدَ سَواءٌ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاقِعُ مَعَهُ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ سَوَاءٌ جَوَابٌ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وَهَذَا يَجْرِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلِمْتُ أَزْيَدٌ قَائِمٌ إِذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمْتُ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ سَواءٌ مُبْتَدَأً رَافِعًا لِفَاعِلٍ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ لِأَنَّ سَواءٌ فِي مَعْنَى مُسْتَوٍ فَهُوَ فِي قُوَّةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَرْفَعُ فَاعِلًا سَادًّا مَسَدَّ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَجَوَابُ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَمْرَيْنِ كَانَ الْإِخْبَارُ بِاسْتِوَائِهِمَا عِنْدَ الْمُخْبِرِ مُشِيرًا إِلَى أَمْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي خَبَرِهِ الْإِفْرَادُ كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ (سَوَاء) مؤولا لَا بِمَصْدَرٍ وَوَجْهُ الْأَبْلَغِيَّةِ فِيهِ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِخَفَاءِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَيَسْأَلَ السَّائِلُونَ أَفَعَلَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا فَيُقَالُ إِنَّ الْأَمْرَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمَا وَعَدَمِ تَطَلُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ النَّاسَ لِتَعَجُّبِهِمْ فِي دَوَامِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ السَّائِلُونَ أَأَنْذَرَهُمُ النَّبِيُّ أَمْ لَمْ يُنْذِرْهُمْ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ لَوْ أَنْذَرَهُمْ لَمَا تَرَدَّدُوا فِي الْإِيمَانِ فَقِيلَ إِنَّهُمْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ جَوَابُ تَسَاؤُلِ النَّاسِ عَنْ إِحْدَى الْأَمْرَيْنِ، وَبِهَذَا انْتَفَى جَمِيعُ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي فَرَضَهَا النُّحَاةُ هُنَا وَنَبْرَأُ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَبْحَاثِ كَكَوْنِ الْهَمْزَةِ خَارِجَةً عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ عَمَلَ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِيمَا قَبْلَهُ إِذَا أُعْرِبَ (سَوَاءٌ) خَبَرًا وَالْفِعْلُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مُبْتَدَأً مُجَرَّدًا عَنِ الزَّمَانِ، وَكَكَوْنِ الْفِعْلِ مُرَادًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْحَدَثِ، وَكَدَعْوَى كَوْنِ الْهَمْزَةِ فِي التَّسْوِيَةِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ

اللُّزُومِ، وَكَوْنِ أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ لِشَيْئَيْنِ لَا لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنِ الْإِيرَادِ الَّذِي أُورِدَ عَلَى جَعْلِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى سَوَاءٍ إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى اسْتَوَى الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فَيَكُونُ تَكْرَارًا خَالِيًا مِنَ الْفَائِدَةِ فَيُجَابُ بِمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ الْمُسْتَوِيَيْنِ فِي عِلْمِ الْمُخَاطَبِ هُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي عَدَمِ النَّفْعِ، فَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْمُسَاوَاةِ كَمَا نَقله التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» . وَيَتَعَيَّنُ إِعْرَابُ (سَوَاءٍ) فِي مِثْلِهِ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ تَقْدِيرُهُ جَوَابُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ فَسَوَاءٌ فِي الْآيَةِ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَدَعْ عَنْكَ كُلَّ مَا خَاضَ فِيهِ الْكَاتِبُونَ عَلَى «الْكَشَّافِ» ، وَحَرْفُ (عَلَى) الَّذِي يُلَازِمُ كَلِمَةَ سَواءٌ غَالِبًا هُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادِ بِهِ التَّمَكُّنُ أَيْ إِنَّ هَذَا الِاسْتِوَاءَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ لَا يَزُولُ عَنْ نُفُوسِهِمْ وَلِذَلِكَ قَدْ يَجِيءُ بَعْضُ الظُّرُوفِ فِي مَوْضِعِ عَلَى مَعَ كَلِمَةِ سَوَاءٍ مِثْلَ عِنْدَ، وَلَدَى، قَالَ أَبُو الشَّغْبِ الْعَبْسِيُّ (¬1) : لَا تَعْذِلِي فِي جُنْدُجٍ إِنَّ جُنْدُجًا ... وَلَيْثَ كَفِرَّيْنٍ لَدَيَّ سَوَاءُ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقٌ لِنَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [193] : سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَأَنْذَرْتَهُمْ بِهَمْزَتَيْنِ أَوَّلُهُمَا مُحَقَّقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُسَهَّلَةٌ. وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَوِرَشٍ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ كَذَلِكَ مَعَ إِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَرَوَى أَهْلُ مِصْرَ عَنْ وَرْشٍ إِبْدَالَ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ لَحْنٌ، وَهَذَا يُضَعِّفُ رِوَايَةَ الْمِصْرِيِّينَ عَنْ وَرْشٍ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ فَلَا يُنَافِي التَّوَاتُرَ. لَا يُؤْمِنُونَ. الْأَظْهَرُ أَنَّ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ إِلَخْ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ (إِنَّ) وَاسْتِفَادَةُ التَّأْكِيدِ مِنَ السِّيَاقِ وَلَكَ ¬

(¬1) هُوَ من شعراء ديوَان «الحماسة» إِلَّا أَن هَذَا الشّعْر فِي ديوَان «الحماسة» غير مَنْسُوب فِي غَالب النّسخ، وَفِي بَعْضهَا مَنْسُوب لأبي الشغب وَهُوَ بِفَتْح الشين وَسُكُون الْغَيْن المعجمتين، اسْمه عكرشة بن أَرْبَد، شَاعِر مقل من شعراء الْعَصْر الْأمَوِي.

أَنْ تَجْعَلَهَا تَأْكِيدًا وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ فُصِّلَتْ إِمَّا جَوَازًا عَلَى الْأَوَّلِ وَإِمَّا وُجُوبًا عَلَى الثَّانِي، وَقَدْ فَرَضُوا فِي إِعْرَابِهَا وُجُوهًا أُخَرَ لَا نُكْثِرُ بِهَا لِضَعْفِهَا، وَقَدْ جَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» جَعْلَ جُمْلَةِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ اعْتِرَاضًا لِجُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَرْجُوحٌ لَمْ يَرْتَضِهِ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ، إِذْ لَيْسَ مَحَلَّ الْإِخْبَارِ هُوَ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا الْمُهِمُّ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُمْ بِاسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ نِدَاءً عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ وغباوتهم، وعذرا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَتَسْجِيلًا بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْتَحْ سَمْعَهُ وَقَلْبَهُ لِتَلَقِّي الْحَقِّ وَالرَّشَادِ لَا يَنْفَعُ فِيهِ حِرْصٌ وَلَا ارْتِيَادٌ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ عَلَى تَقْدِيرِهِ جَعْلَ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرًا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْأَوْلَى بِالْإِخْبَارِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ الْخَبَرُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ إِذْ يَصِيرُ بِمَثَابَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا فَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ حَاصِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِمْرَارُ الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنَّهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا جُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْخَبَرِ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَاتِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ احْتِجَاجًا عَلَى الْجُمْلَةِ إِذْ مَسْأَلَةُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ بَقِيَتْ زَمَانًا غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ لَاحَ لَهُ فِيهَا دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ، وَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِعِبَارَاتٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَنْوِنُهَا التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِمَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَرَّةً لِلِاسْتِحَالَةِ الذَّاتِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَرَّةً لِلذَّاتِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، وَمَرَّةً لِلْعَرَضِيَّةِ، وَمَرَّةً لِلْمَشَقَّةِ الْقَوِيَّةِ الْمُحْرِجَةِ لِلْمُكَلَّفِ فَيَخْلِطُونَهَا بِمَا لَا يُطَاقُ وَلَقَدْ أَفْصَحَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَأَضْرَابُهُمَا عَمَّا يَرْفَعُ الْقِنَاعَ عَنْ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَتْ لَا تُحَيِّرُ أَفْهَامًا وَانْقَلَبَ قَتَادُهَا ثُمَامًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ عَقْلًا كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ وَمِنْهُ مُحَالٌ عَادَةً كَصُعُودِ السَّمَاءِ وَمِنْهُ مَا فِيهِ حَرَجٌ وَإِعْنَاتٌ كَذَبْحِ الْمَرْءِ وَلَدَهُ وَوُقُوفِ الْوَاحِدِ لِعَشَرَةٍ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَمِنْهُ مَحَالٌ عَرَضَتْ لَهُ الِاسْتِحَالَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ كَإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إِيمَانِهِ وَحَجِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ، وَكُلَّ هَاتِهِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا مَا لَا يُطَاقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ إِذِ الْمُرَادُ مَا يَشُقُّ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا الْمُحَالُ حَقِيقَةً وَمُطَابَقَةً فِي بَعْضِهَا وَالْتِزَامًا فِي الْبَعْضِ، وَمَجَازًا فِي الْبَعْضِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا عَدَمُ الْمَقْدُورِ كَذَلِكَ، كَمَا أُطْلِقَ الْجَوَازُ عَلَى الْإِمْكَانِ، وَعَلَى الْإِمْكَانِ لِلْحِكْمَةِ، وَعَلَى الْوُقُوعِ، فَنَشَأَ مِنْ تَفَاوُتِ هَاتِهِ الْأَقْسَامِ

وَاخْتِلَافِ هَاتِهِ الْإِطْلَاقَاتِ مَقَالَاتٌ مَلَأَتِ الْفَضَاءَ، وَكَانَتْ لِلْمُخَالِفِينَ كَحَجَرِ الْمَضَاءِ، فَلَمَّا قَيَّضَ اللَّهُ أَعْلَامًا نَفَوْا مَا شَاكَهَا، وَفَتَحُوا أَغْلَاقَهَا، تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوَازَ الْإِمْكَانِيَّ فِي الْجَمِيعِ ثَابِتٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَوْ شَاءَ، لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَازَ الْمُلَائِمَ لِلْحِكْمَةِ مُنْتَفٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ تَنْعَدِمُ إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ مُتَعَذَّرَ الْوُقُوعِ. وَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مُكَلَّفٌ بِهِ جَوَازًا وَوُقُوعًا، وَجُلُّ التَّكَالِيفِ لَا تَخْلُو مِنْ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا هُوَ أَخَصُّ وَهُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ الْخَارِجِيِّ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] وَقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: 20] أَيْ لَا تُطِيقُونَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» . هَذَا مِلَاكُ هَاتِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهٍ يَلْتَئِمُ بِهِ مُتَنَاثِرُهَا، وَيُسْتَأْنَسُ مُتَنَافِرُهَا. وَبَقِيَ أَنْ نُبَيِّنَ لَكُمْ وَجْهَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ امْتِثَالِهِ أَوْ بِمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَمْتَثِلُ كَمَا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِذْ قَدِ انْضَمَّ الْإِخْبَارُ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا هُوَ وَجْهُ اسْتِدْلَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ فِعْلِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِخُصُوصِهِ وَلَا وَجَّهَ لَهُ دَعْوَةً تَخُصُّهُ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَفْرَادًا بِالدَّعْوَةِ إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا كَمَا خَصَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ جَاءَهُ، بِقَوْلِهِ: «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَقَوْلِهِ لِأَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكُمُ الْمَقَالَةِ، وَخَصَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ بِمِثْلِهَا، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ عَامَّةً وَهُمْ شَمِلَهُمُ الْعُمُومُ بَطُلَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ وَبِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَن يُقَال لماذَا لَمْ يُخَصَّصْ مَنْ عُلِمَ عَدَمُ امْتِثَالِهِ مِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَدَفْعُ ذَلِكَ أَنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ يُطِيل الشَّرِيعَة ويجرىء غَيْرَهُمْ وَيُضْعِفُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَيُوهِمُ عَدَمَ عُمُومِ الرِّسَالَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْفَصْلَ بَيْنَ مَا فِي قَدَرِهِ وَعِلْمِهِ، وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ التَّشْرِيعُ وَالتَّكْلِيفُ، وَسِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ يَطُولُ الْكَلَامُ بِجَلْبِهَا وَيَخْرُجُ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ تَفَطُّنَكُمْ إِلَى مُجْمَلِهِ لَيْسَ بعسير.

[سورة البقرة (2) : آية 7]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 7] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 6] وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ فِي الْوَاقِعِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ تَعَجُّبَ الْمُتَعَجِّبِينَ مِنَ اسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ وَمِنْ عَدَمِ نُفُوذِ الْإِيمَانِ إِلَى نُفُوسِهِمْ مَعَ وُضُوحِ دَلَائِلِهِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ خَتْمًا وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عُلِمَ سَبَبُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَبَطُلَ الْعَجَبُ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يُفِيدُ جَوَابَ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مُقَابِلٌ مُوقِعَ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] فَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَكَانَةٌ بَيْنَ ذَمِّ أَصْحَابِهَا بِمِقْدَارِ مَا لِتِلْكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى أَرْبَابِهَا. وَالْخَتْمُ حَقِيقَتُهُ السَّدُّ عَلَى الْإِنَاءِ وَالْغَلْقُ عَلَى الْكِتَابِ بِطِينٍ وَنَحْوِهِ مَعَ وَضْعِ عَلَامَةٍ مَرْسُومَةٍ فِي خَاتَمٍ لِيَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ فَتْحِ الْمَخْتُومِ، فَإِذَا فُتِحَ عَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ فُتِحَ لِفَسَادٍ يَظْهَرُ فِي أَثَرِ النَّقْشِ وَقَدِ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْتِمُ عَلَى قَوَارِيرِ الْخَمْرِ لِيُصْلِحَهَا انْحِبَاسُ الْهَوَاءِ عَنْهَا وَتَسْلَمَ مِنَ الْأَقْذَارِ فِي مُدَّةِ تَعْتِيقِهَا. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْبُلُوغِ لِآخِرِ الشَّيْءِ خَتْمًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَوْ ذَلِكَ الْوَقْتَ هُوَ ظَرْفُ وَضْعِ الْخَتْمِ فَيُسَمَّى بِهِ مَجَازًا. وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ التَّاءِ الطِّينُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَخْتُومِ، وَأَطْلَقَ عَلَى الْقَالَبِ الْمَنْقُوشِ فِيهِ عَلَامَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ يُطْبَعُ بِهَا عَلَى الطِّينِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَطِينُ الْخَتْمِ طِينٌ خَاصٌّ يُشْبِهُ الْجِبْسَ يُبَلُّ بِمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَخْتُومِ فَإِذَا جَفَّ كَانَ قَوِيَّ الشَّدِّ لَا يُقْلَعُ بِسُهُولَةٍ وَهُوَ يَكُونُ قِطَعًا صَغِيرَةً كُلُّ قِطْعَةٍ بِمِقْدَارِ مُضْغَةٍ وَكَانُوا يَجْعَلُونَهُ خَوَاتِيمَ فِي رِقَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ بَشَّارٌ: خَتَمَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي ... مَوْضِعَ الْخَاتَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَمِ وَالْغِشَاوَةُ فِعَالَةٌ مِنْ غَشَاهُ وَتَغَشَّاهُ إِذَا حَجَبَهُ وَمِمَّا يُصَاغُ لَهُ وَزْنُ فِعَالَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَعْنَى الِاشْتِمَالِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلَ الْعِمَامَةِ وَالْعِلَاوَةِ وَاللِّفَافَةِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ صَوْغَ هَذِهِ الزِّنَةِ لِلصِّنَاعَاتِ كَالْخِيَاطَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الِاشْتِمَالِ الْمَجَازِيِّ وَمَعْنَى الْغِشَاوَةِ الْغِطَاءُ. وَلَيْسَ الْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَلَا الْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ هُنَا حَقِيقَةً كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بَلْ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِأَنْ جَعَلَ قُلُوبَهُمْ أَيْ عُقُولَهُمْ فِي عَدَمِ نُفُوذِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ

وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهَا، وَجَعْلِ أَسْمَاعِهِمْ فِي اسْتِكَاكِهَا عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ، وَجَعْلِ أَعْيُنِهِمْ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا تَرَى مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْكَوْنِيَّةِ، كَأَنَّهَا مَخْتُومٌ عَلَيْهَا وَمَغْشِيٌّ دُونَهَا إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ عَدَمِ حُصُولِ النَّفْعِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ ثُمَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ خَتَمَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ وَلَفْظِ الْغِشَاوَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَصْلِيَّةِ وَكِلْتَاهُمَا اسْتِعَارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ إِلَّا أَنَّ الْمُشَبَّهَ مُحَقَّقٌ عَقْلًا لَا حِسًّا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَتْمَ وَالْغِشَاوَةَ تَمْثِيلًا بِتَشْبِيهِ هَيْئَةٍ وَهْمِيَّةٍ مُتَخَيَّلَةٍ فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ إِدْرَاكِهِمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ وَإِمْسَاكِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْأَدِلَّةِ- كَمَا تَقَدَّمَ- بِهَيْئَةِ الْخَتْمِ، وَتَشْبِيهِ هَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ فِي أَبْصَارِهِمْ مِنْ عَدَمِ التَّأَمُّلِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ بِهَيْئَةِ الْغِشَاوَةِ وَكُلُّ ذَيْنَكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَتْمَ وَالْغِشَاوَةَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ وَالْمُرَادُ اتِّصَافُهُمْ بِلَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا تَعْقِلَ وَلَا تَحُسَّ، وَالْخَتْمُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ اسْتِمْرَارُ الضَّلَالَةِ فِي نَفْسِ الضَّالِّ أَوْ خُلُقُ الضَّلَالَةِ، وَمِثْلُهُ الطَّبْعُ، وَالْأَكِنَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قُلُوبِهِمْ فَتَكُونُ الْأَسْمَاعُ مَخْتُومًا عَلَيْهَا وَلَيْسَ هُوَ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِقَوْلِهِ غِشاوَةٌ فَيَكُونُ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغِشَاوَةَ تُنَاسِبُ الْأَبْصَارَ لَا الْأَسْمَاعَ وَلِأَنَّ الْخَتْمَ يُنَاسِبُ الْأَسْمَاعَ كَمَا يُنَاسِبُ الْقُلُوبَ إِذْ كِلَاهُمَا يُشَبَّهُ بِالْوِعَاءِ وَيُتَخَيَّلُ فِيهِ مَعْنَى الْغَلْقِ وَالسَّدِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اسْتَكَّ سَمْعُهُ وَوَقَرَ سَمْعُهُ وَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْقُلُوبِ هُنَا الْأَلْبَابُ وَالْعُقُولُ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَلْبَ عَلَى اللُّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ، وَتُطْلِقُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، وَلَا يَكَادُونَ يُطْلِقُونَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ وَذَلِكَ غَالِبُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمَقَرُّهُ الدِّمَاغُ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يَمُدُّهُ بِالْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا عَمَلُ الْإِدْرَاكِ. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ السَّمْعَ وَلَمْ يَجْمَعْ كَمَا جمع (قُلُوبهم) و (أَبْصَارهم) إِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَى الْجِنْسِ، إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْآذَانِ سَمْعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَمَعَ لَمَّا ذَكَرَ الْآذَانَ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [الْبَقَرَة: 19] وَقَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] فَلَمَّا عَبَّرَ بِالسَّمْعِ أَفْرَدَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِخِلَافِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَإِمَّا لِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ وَعَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ أَوْ

جَوَارِحِ سَمْعِهِمْ. وَقَدْ تَكُونُ فِي إِفْرَادِ السَّمْعِ لَطِيفَةٌ رُوعِيَتْ مِنْ جُمْلَةِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هِيَ أَنَّ الْقُلُوبَ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً وَاشْتِغَالُهَا بِالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ، وَبِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ وَتَتَلَقَّى أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْآيَاتِ فَلِكُلِّ عَقْلٍ حَظُّهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَكَانَتِ الْأَبْصَارُ أَيْضًا مُتَفَاوِتَةَ التَّعَلُّقِ بِالْمَرْئِيَّاتِ الَّتِي فِيهَا دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي الْأَنْفُسِ الَّتِي فِيهَا دَلَالَةٌ، فَلِكُلِّ بَصَرٍ حَظُّهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ مَا تَتَعَلَّقَانِ بِهِ جُمِعَتْ. وَأَمَّا الْأَسْمَاعُ فَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَالْجَمَاعَاتُ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوهُ سَمَاعًا مُتَسَاوِيًا وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي تَدَبُّرِهِ وَالتَّدَبُّرُ مِنْ عَمَلِ الْعُقُولِ فَلَمَّا اتَّحَدَ تَعَلُّقُهَا بِالْمَسْمُوعَاتِ جُعِلَتْ سَمْعًا وَاحِدًا. وَإِطْلَاقُ أَسْمَاءِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ عَنْ أَعْمَالِهَا وَمَصَادِرِهَا جَازَ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُفْرَدِ إِفْرَادُهُ وَجَمْعُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا هُنَا فَأَمَّا الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَصِحَّ، قَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» (¬1) : قَالَ بَعْضُهُمْ لِغُلَامٍ لَهُ اشْتَرِ لِي رَأْسَ كَبْشَيْنِ فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَقَالَ: إِذًا فَرَأْسَيْ كَبْشٍ فَزَادَ كَلَامَهُ إِحَالَةً» وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لُفِظَ بِهِ مِمَّا هُوَ مُثَنًّى كَمَا لُفِظَ بِالْجَمْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] وَيَقُولُونَ ضَعْ رِحَالَهُمَا وَإِنَّمَا هُمَا اثْنَانِ وَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الْجَاحِظِ وَقَدْ يَكُونُ مَا عَدَّهُ الْجَاحِظُ عَلَى الْقَائِلِ خَطَأً لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَائِلِ لَا يَقْصِدُ الْمَعَانِيَ الثَّانِيَةَ فَحُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى الْخَطَأِ لِجَهْلِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى قَصْدِ لَطِيفَةٍ بِلَاغِيَّةٍ بِخِلَافِ مَا فِي الْبَيْتِ فَضْلًا عَنِ الْآيَةِ كَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ سَأَلَهُ حِينَ مَرَّتْ جِنَازَةٌ: مَنِ الْمُتَوَفِّي (بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ) فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «اللَّهُ» لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ الْمُتَوَفَّى وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَوَفَّى فُلَانٌ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَهُوَ مُتَوَفٍّ أَيِ اسْتَوْفَى أَجَلَهُ، وَقَدْ قَرَأَ عَلِيٌّ نَفْسُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَبَعْدَ كَوْنِ الْخَتْمِ مَجَازًا فِي عَدَمِ نُفُوذِ الْحَقِّ لِعُقُولِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَكَوْنِ ذَلِكَ مُسَبَّبًا لَا مَحَالَةَ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ أُسْنِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُقَدِّرُ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ ¬

(¬1) انْظُر: صحيفَة 201 من الْجُزْء الأول طبع بولاق.

نَظَائِرِ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النَّحْل: 108] وَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الْكَهْف: 28] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَثْرَةً تَنْبُو عَنِ التَّأْوِيلِ وَمَحْمَلُهَا عِنْدَنَا عَلَى التَّحْقِيقِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعٍ هُوَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى وَوَفَّقَ بَعْضًا، وَأَضَلَّ وَخَذَلَ بَعْضًا فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّكْوِينِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُرُودُ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا فِي مَعْنَى النَّعْيِ عَلَى الْمَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ وَالتَّشْنِيعِ بِحَالِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا لَهُمْ مِنَ الْمَيْلِ وَالِاكْتِسَابِ، وَبِالتَّحْقِيقِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْخَلْقِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الشُّرُورَ وَأَوْجَدَ فِي النَّاسِ الْقُدْرَةَ عَلَى فِعْلِهَا وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْهَا لِأَنَّهُ أَوْجَدَ فِي النَّاسِ الْقُدْرَةَ عَلَى تَرْكِهَا أَيْضًا، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالتَّكْلِيفِ إِذْ كُلٌّ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةٍ خِلَافَ مَا تَوَهَّمَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ فَنَفَوُا الْقَدَرَ وَهُوَ التَّقْدِيرُ وَالْعِلْمُ وَخِلَافَ مَا تَوَهَّمَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ عَدَمِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ وَإِنَّمَا الْمَخْلُوقُ لَهُ ذَوَاتُهُمْ وَآلَاتُ أَفْعَالِهِمْ، لِيَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ صِحَّةِ إِسْنَادِ مِثْلِ هَاتِهِ الْأَفْعَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ إِيجَادِ الْفَسَادِ، وَتَأْوِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ وَهُوَ قَادِرٌ على سلب الْقدر مِنْهُمْ فَبِتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ إِمْهَالٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ وَهُوَ قَبِيحٌ، فَالتَّحْقِيقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَشَاعِرَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُقَدِّرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَّا أَنَّ فِعْلَهَا هُوَ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي أَفْصَحَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَضْرَابُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا أَنَّهُ كَيْفَ أَقْدَرَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي؟ لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ كَيْفَ عَلِمَ بَعْدَ أَنْ أَقْدَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ شَارِعُونَ فِي الْمَعَاصِي وَلَمْ يَسْلُبْ عَنْهُمُ الْقُدْرَةَ؟ فَكَانَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَسْعَدَ بِالتَّحْقِيقِ وَأَجْرَى عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا طَفَحَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَلَنَا فِيهِ تَحْقِيقٌ أَعْلَى مِنْ هَذَا بَسَطْنَاهُ فِي «رِسَالَةِ الْقُدْرَةِ وَالتَّقَدُّرِ» الَّتِي لَمَّا تَظْهَرْ. وَإِسْنَادُ الْخَتْمِ الْمُسْتَعْمَلِ مَجَازًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ مَعْنَى الْخَتْمِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَنْ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَمَا يُقَالُ خِلْقَةٌ فِي فُلَانٍ، وَالْوَصْفُ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي فُلَانٍ أَوْ أَعْطَاهُ فَلَانًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا الْإِسْنَادِ وَبَيْنَ الْإِسْنَادِ فِي الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ هَذَا أُرِيدَ مِنْهُ لَازِمُ الْمَعْنَى وَالْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ إِنَّمَا أُسْنِدَ فِيهِ فِعْلٌ لِغَيْرِ فَاعِلِهِ لِمُلَابَسَةٍ، وَالْغَالِبُ صِحَّةُ فَرْضِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِيمَا صَلَحَ لِأَحَدِهِمَا وَإِنَّمَا يُرْتَكَبُ مَا يَكُونُ أَصْلَحُ بِالْمَقَامِ.

وَجُمْلَةُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وعَلى قُلُوبِهِمْ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ حَتَّى يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مَقْصُودًا لِأَنَّ عَلَى مُؤْذِنَةٌ بِالْمُتَعَلِّقِ فَكَأَنَّ خَتَمَ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ. وَفِيهِ مُلَاحَظَةُ كَوْنِ الْأَسْمَاعِ مَقْصُودَةً بِالْخَتْمِ إِذْ لَيْسَ الْعَطْفُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْعَامِلِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ وَعَلى سَمْعِهِمْ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِغِشَاوَةٍ لِأَنَّ الْأَسْمَاعَ لَا تُنَاسِبُهَا الْغِشَاوَةُ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُهَا السَّدُّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: 23] وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْخَبَرُ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ لِتَصْحِيحِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ هُوَ الْخَبَر لَا ستغنى بِتَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا وَأَبْقَى الْآخَرَ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ التَّأْخِيرِ فَقِيلَ وَعَلَى سَمْعِهِمْ غِشَاوَةٌ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ. وَفِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ فِي مَوَاقِعِهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ فَائِدَةً لِصَاحِبِهِ مِنَ الْبَصَرِ فَإِنَّ التَّقْدِيمَ مُؤْذِنٌ بِأَهَمِّيَّةِ الْمُقَدَّمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمْعَ آلَةٌ لِتَلَقِّي الْمَعَارِفِ الَّتِي بِهَا كَمَالُ الْعَقْلِ، وَهُوَ وَسِيلَةُ بُلُوغِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَفْهَامِ الْأُمَمِ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ مِنْ بُلُوغِهَا بِوَاسِطَةِ الْبَصَرِ لَوْ فَقَدَ السَّمْعَ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ تَرِدُ إِلَيْهِ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ بِدُونِ تَوَجُّهٍ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّوَجُّهِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْجِهَاتِ غَيْرِ الْمُقَابِلَةِ. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. الْعَذَابُ: الْأَلَمُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَصْلَهُ الْإِعْذَابُ مَصْدَرُ أَعْذَبَ إِذَا أَزَالَ الْعُذُوبَةَ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُزِيلُ حَلَاوَةَ الْعَيْشِ فَصِيغَ مِنْهُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، أَوْ هُوَ اسْم مَوضِع لِلْأَلَمِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ اشْتِقَاقٍ مِنَ الْعُذُوبَةِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ مَصِيرُ الْكَلِمَةِ إِلَى نَظِيرَتِهَا فِي الْحُرُوفِ. وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِالْعَظِيمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَنْكِيرَ عَذَابٍ لِلنَّوْعِيَّةِ وَذَلِكَ اهْتِمَامٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى عِظَمِهِ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَظِيمٌ تَأْكِيدًا لِمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مِنَ التَّعْظِيمِ كَمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّنْكِيرِ عَلَى التَّعْظِيمِ غَيْرُ وَضْعِيَّةٍ، وَالْمَدْلُولَاتُ غَيْرُ الْوَضْعِيَّةِ يُسْتَغْنَى عَنْهَا إِذَا وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَضْعًا فَلَا يُعَدُّ تَأْكِيدًا. وَالْعَذَابُ فِي الْآيَةِ، إِمَّا عَذَابُ النَّارِ فِي الآخر، وَإِمَّا عَذَابُ الْقَتْلِ وَالْمَسْغَبَةِ فِي الدُّنْيَا.

[سورة البقرة (2) : آية 8]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 8] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) هَذَا فَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ فَرِيقٌ لَهُ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ وَهُوَ لَا يعدو أَنْ يَكُونَ مُبْطِنًا الشِّرْكَ أَوْ مُبْطِنًا التَّمَسُّكَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَيَجْمَعُهُ كُلُّهُ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ كَذِبًا، فَالْوَاوُ لِعَطْفِ طَائِفَةٍ مِنَ الْجُمَلِ عَلَى طَائِفَةٍ مَسُوقٍ كُلٍّ مِنْهُمَا لِغَرَضٍ جَمَعَتْهُمَا فِي الذِّكْرِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ فَلَا يُتَطَلَّبُ فِي مِثْلِهِ إِلَّا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ لَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ كُلِّ جُمْلَةٍ وَأُخْرَى مِنْ كِلَا الْغَرَضَيْنِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ التفتازانيّ فِي شَرْحِ الْكَشَّافِ، وَقَالَ السَّيِّدُ إِنَّهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي بَابِ الْعَطْفِ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ كَثِيرُونَ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ «الْكَشَّافِ» : «وَقِصَّةُ الْمُنَافِقِينَ عَنْ آخِرِهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِصَّةِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: 6] كَمَا تُعْطَفُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ» فَأَفَادَ بِالتَّشْبِيهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ: وَهَذَا مَا أَهْمَلَهُ السَّكَّاكِيُّ أَيْ فِي أَحْوَالِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَتَفَرَّدَ بِهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ لَمَّا انْتَقَلَ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْمُهْتَدِينَ بِهِ بِنَوْعَيْهِمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَانْتَقَلَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ إِلَى ذِكْرِ أَضْدَادِهِمْ وَهُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الْكَافِرُونَ صَرَاحَةً وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، كَانَ السَّامِعُ قَدْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] فَلَمْ يَكُنِ السَّامِعُ سَائِلًا عَنْ قِسْمٍ آخَرَ وَهُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الشِّرْكَ أَوْ غَيْرَهُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمُ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] إِلَخْ، لِأَنَّهُ لِغَرَابَتِهِ وَنُدْرَةِ وَصْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَجُودُهُ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَمْرَهُ لِلسَّامِعِينَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ إِذْ لَيْسَتِ الْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُقْتَضِيَةً لَهَا وَلَا مُثِيرَةً لِمَدْلُولِهَا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، بِخِلَافِ جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَة: 6] تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ ذِكْرَ مَضْمُونِهَا بَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ مُتَرَقِّبًا لِلسَّامِعِ، فَكَانَ السَّامِعُ كَالسَّائِلِ عَنْهُ فَجَاءَ الْفَصْلُ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لَا مَحَالَةَ وَقَدْ يَتَرَاءَى أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمِثْلِهِ قَلِيلُ الْجَدْوَى لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ مِثْلِهِ، أَوْ مَعْنًى لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّاسِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِأَنَّهُ مِنَ النَّاسِ أَوْ فِي النَّاسِ غَيْرُ مُجْدٍ بِخِلَافِ قَوْلِكَ الْخَضِرُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ لَا مِنَ

الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الْفَائِدَةَ ظَاهِرَةٌ، فَوَجْهُ الْإِخْبَارِ بِقَوْلِهِمْ مِنَ النَّاسِ فِي نَحْوِ الْآيَةِ وَنَحْوِ قَوْلِ بَعْضِ أَعِزَّةِ الْأَصْحَابِ فِي تَهْنِئَةٍ لِي بِخُطَّةِ الْقَضَاءِ: فِي النَّاسِ مَنْ أَلْقَى قِلَادَتَهَا إِلَى ... خَلَفٍ فَحَرَّمَ مَا ابْتَغَى وَأَبَاحَا إِنَّ الْقَصْدَ إِخْفَاءُ مَدْلُولِ الْخَبَرِ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ قَالَ هَذَا إِنْسَان وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ الْحَدِيثُ يُكْسِبُ ذَمًّا أَوْ نُقْصَانًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» وَقَدْ كَثُرَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِ عَلَى عَجِيبِ مَا سَيُذْكَرُ، وَتَشْوِيقًا لِمَعْرِفَةِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْإِخْبَارُ وَلَوْ أُخِّرَ لَكَانَ مَوْقِعُهُ زَائِدًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ إِنْسَانٍ كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ: وَمِنَ الرِّجَالِ أَسِنَّةٌ مَذْرُوبَةٌ ... وَمُزَنَّدُونَ وَشَاهِدٌ كَالْغَائِبِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَوْقِعَ مِنَ النَّاسِ مُؤْذِنٌ بِالتَّعَجُّبِ وَإِنَّ أَصْلَ الْخَبَرِ إِفَادَةُ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا الْفِعْلِ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يَظُنَّهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ غَيْرِ النَّاسِ لِشَنَاعَةِ الْفِعْلِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنِ الْقَصْدِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْدِيمِ فَائِدَةٌ بَلْ كَانَ تَأْخِيرُهُ أَوْلَى حَتَّى يَتَقَرَّرَ الْأَمْرُ الَّذِي يُوهِمُ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، هَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِظَاهِرِ الْإِخْبَارِ بِكَوْنِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ إِفَادَةَ ذَلِكَ حَيْثُ يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ كَقَوْلِكَ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يَلْبَسُ بُرْقُعًا تُرِيدُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْقَوْمِ الْمُدْعَوْنَ بِالْمُلَثَّمِينَ (مِنْ لَمْتُونَةَ) ، أَوْ حَيْثُ يُنَزَّلُ الْمُخَاطَبُ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزَّبِيرِ (بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ) : وَفِي النَّاسِ إِنْ رَثَّتْ حِبَالُكَ وَاصِلُ ... وَفِي الْأَرْضِ عَنْ دَارِ الْقِلَى مُتَحَوَّلُ إِذَا كَانَ حَالُ الْمُخَاطَبِينَ حَالَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَجِدُ مَنْ يَصِلُهُ إِنْ قَطَعَهُ هُوَ، فَذِكْرُ مِنَ النَّاسِ وَنَحْوِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَارِدٌ عَلَى أَصْلِ الْإِخْبَارِ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ هُنَا لِلتَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمُبْتَدَأِ وَلَيْسَ فِيهِ إِفَادَةُ تَخْصِيصٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ النَّاسِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ سَتُسَاقُ فِي شَأْنِهِمْ قِصَّةٌ مَذْمُومَةٌ وَحَالَةٌ شَنِيعَةٌ إِذْ لَا يُسْتَرُ ذِكْرُهُمْ إِلَّا لِأَنَّ حَالَهُمْ مِنَ الشناعة بِحَيْثُ يستحي الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَوْصُوفِهَا وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيرِ شَأْنِ النِّفَاقِ وَمَذَمَّتِهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، فَوَرَدَتْ فِي شَأْنِهِمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً نُعِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا خُبْثُهُمْ وَمَكْرُهُمْ، وَسُوءُ عَوَاقِبِهِمْ،

وَسَفَهِ أَحْلَامِهِمْ، وَجَهَالَتِهِمْ، وَأَرْدَفَ ذَلِك كُله بِشَتْمِ وَاسْتِهْزَاءِ وَتَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي أَشْنَعِ الصُّوَرِ وَهُمْ أَحْرِيَاءٌ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْخُطَّةَ الَّتِي تَدَرَّبُوا فِيهَا تَجْمَعُ مَذَامَّ كَثِيرَةً إِذِ النِّفَاقُ يَجْمَعُ الْكَذِبَ، وَالْجُبْنَ، وَالْمَكِيدَةَ، وَأَفَنَ الرَّأْيِ، وَالْبَلَهَ، وَسُوءَ السُّلُوكِ، وَالطَّمَعَ، وَإِضَاعَةَ الْعُمُرِ، وَزَوَالَ الثِّقَةِ، وَعَدَاوَةَ الْأَصْحَابِ، وَاضْمِحْلَالَ الْفَضِيلَةِ. أَمَّا الْكَذِبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْجُبْنُ فَلِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا دَعَاهُ دَاعٍ إِلَى مُخَالَفَةِ مَا يُبْطِنُ، وَأَمَّا الْمَكِيدَةُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى اتِّقَاءِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ، وَأَمَّا أَفَنُ الرَّأْيِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفٍ فِي الْعَقْلِ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الْبَلَهُ فَلِلْجَهْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطُولُ الِاغْتِرَارُ بِهِ، وَأَمَّا سُوءُ السُّلُوكِ فَلِأَنَّ طَبْعَ النِّفَاقِ إِخْفَاءُ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَالصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ، إِذَا لَمْ تَظْهَرْ لَا يُمْكِنُ لِلْمُرَبِّي وَلَا لِلصَّدِيقِ وَلَا لِعُمُومِ النَّاسِ تَغْيِيرُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَتَبْقَى كَمَا هِيَ وَتَزِيدُ تَمَكُّنًا بِطُولِ الزَّمَانِ حَتَّى تَصِيرَ مَلَكَةً يَتَعَذَّرُ زَوَالُهَا، وَأَمَّا الطَّمَعُ فَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ النِّفَاقِ يَكُونُ لِلرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ النَّفْعِ، وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْعُمُرِ فَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَنْصَرِفُ إِلَى تَرْوِيجِ أَحْوَالِ النِّفَاقِ وَمَا يَلْزَمُ إِجْرَاؤُهُ مَعَ النَّاسِ وَنَصْبِ الْحِيَلِ لِإِخْفَاءِ ذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ مَا يَصْرِفُ الذِّهْنَ عَنِ الشُّغْلِ بِمَا يُجْدِي، وَأَمَّا زَوَالُ الثِّقَةِ فَلِأَنَّ النَّاسَ إِنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ سَاءَ ظَنُّهُمْ فَلَا يَثِقُونَ بِشَيْءٍ يَقَعُ مِنْهُ وَلَوْ حَقًّا، وَأَمَّا عَدَاوَةُ الْإِصْحَابِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ لِصَاحِبِهِ خَشِيَ غَدْرَهُ فَحَذَرَهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَدَاوَتِهِ، وَأَمَّا اضْمِحْلَالُ الْفَضِيلَةِ فَنَتِيجَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقَوله: يُخادِعُونَ [الْبَقَرَة: 9] إِلَى الْمَكِيدَةِ وَالْجُبْنِ، وَقَوله: مَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَة: 9] إِلَى أَفَنِ الرَّأْيِ، وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ [الْبَقَرَة: 9] إِلَى الْبَلَهِ، وَقَوْلُهُ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: 10] إِلَى سُوءِ السُّلُوكِ، وَقَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الْبَقَرَة: 10] إِلَى دَوَامِ ذَلِكَ وَتَزَايُدِهِ مَعَ الزَّمَانِ، وَقَوْلُهُ: قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 11] إِلَى إِضَاعَةِ الْعُمُرِ فِي غَيْرِ الْمَقْصُودِ، وَقَوْلُهُ: قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: 14] مُؤَكَّدًا بِإِنَّ إِلَى قِلَّةِ ثِقَةِ أَصْحَابِهِمْ فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] إِلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ لَمْ يَحْظَ بِالْقَبُولِ عِنْدَ أَصْحَابِهِمْ، وَقَوْلُهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 18] إِلَى اضْمِحْلَالِ الْفَضِيلَةِ مِنْهُمْ وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلٌ لِهَذَا، وَجَمَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَالنَّاسُ اسْمٌ جَمْعٍ إِنْسِيٍّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَاءِ النَّسَبِ فَهُوَ عِوَضٌ عَنْ أَنَاسِيِّ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ الْقِيَاسِيُّ لِإِنْسٍ وَقَدْ عَوَّضُوا عَنْ أَنَاسِيِّ أُنَاسٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَطَرْحِ يَاءِ النَّسَبِ، دَلَّ عَلَى هَذَا التَّعْوِيضِ ظُهُورُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الْأَسَدِيِّ يُخَاطِبُ امْرَأَ الْقَيْسِ:

إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ ... نَ عَلَى الْأُنَاسِ الْآمِنِينَا ثُمَّ حَذَفُوا هَمْزَتَهُ تَخْفِيفًا، وَحَذْفُ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ شَائِعٌ كَمَا قَالُوا لُوقَةُ فِي أَلُوقَةُ وَهِيَ الزُّبْدَةُ، وَقَدِ الْتُزِمَ حَذْفُ هَمْزَةِ أُنَاسٍ عِنْدَ دُخُولِ أَلْ عَلَيْهِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْمُجَرَّدِ مِنْ أَلْ فَذِكْرُ الْهَمْزَةِ وَحَذْفُهَا شَائِعٌ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ نَاسَ جَمْعٌ وَإِنَّهُ مِنْ جُمُوعٍ جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ بِضَمِّ الْفَاءِ مِثْلَ ظُؤَارٍ جَمْعُ ظِئْرٍ، وَرُخَالٍ جَمْعُ رَخِلٍ وَهِيَ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةُ مِنَ الضَّأْنِ وَوَزْنُ فُعَالٍ قَلِيلٌ فِي الْجُمُوعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَقَدِ اهْتَمَّ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ بِجَمْعِ مَا وَرَدَ مِنْهُ فَذَكَرَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي «كِتَابِ (لَيْسَ) » وَابْنُ السِّكِّيتِ وَابْنُ بِرِّي. وَقَدْ عَدَّ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهَا ثَمَانِيَةً جُمِعَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ تُنْسَبُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لِصَدْرِ الْأَفَاضِلِ تِلْمِيذِهِ ثُمَّ أَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ بِتِلْكَ الثَّمَانِ كَلِمَاتٍ أُخَرَ حَتَّى أُنْهِيَتْ إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ جَمْعًا ذَكَرَهَا الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ فِي «شَرْحِ دُرَّةِ الْغَوَّاصِ» وَذَكَرَ مُعْظَمَهَا فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» وَهِيَ فَائِدَةٌ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ فَارْجِعُوا إِلَيْهَا إِنْ شِئْتُمْ. وَقِيلَ إِنَّ مَا جَاءَ بِهَذَا الْوَزْنِ أَسْمَاءُ جُمُوعٍ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يُؤْذِنُ بِهِ وَمُفْرَدُ هَذَا الْجَمْعِ إِنْسِيٍّ أَوْ إِنْسٍ أَوْ إِنْسَانٍ وَكُلُّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَنِسَ ضِدَّ تَوَحَّشَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْلَفُ وَيَأْنَسُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلْجِنْسِ لِأَنَّ مَا عَلِمْتُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِهِمْ يُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الْجِنْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ وَالْمَعْهُودُ هُمُ النَّاسُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: 6] أَوِ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْهَدُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا فَرِيقٌ وَجَمَاعَةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ. وَالْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِلَخْ قِسْمٌ ثَالِثٌ مُقَابِلٌ لِلْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ لِلتَّمَايُزِ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِأَشْهَرِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبَعْضِ أَوِ الْجَمِيعِ صِفَاتٌ مُتَّفِقَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُشْتَبَهُ وَجْهُ جَعْلِ الْمُنَافِقِينَ قَسِيمًا لِلْكَافِرِينَ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْسِيمِ الصِّفَاتُ الْمُخَصِّصَةُ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْقُرْآنُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِيجَازًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ مَبْدَأُ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِرَبٍّ وَاحِدٍ لَا يَصِلُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ إِذِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَصْلُحُ الِاعْتِقَادُ وَهُوَ أَصْلُ الْعَمَلِ، وَالثَّانِي هُوَ الْوَازِعُ وَالْبَاعِثُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَفِيهِ صَلَاحُ الْحَالِ الْعَمَلِيِّ أَوْ هُمُ

الَّذِينَ اقْتَصَرُوا فِي قَوْلِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُمْ لِغُلُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَذْكُرُوا الْإِيمَانَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِثْقَالًا لِهَذَا الِاعْتِرَافِ فَيَقْتَصِرُونَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيهَامًا لِلِاكْتِفَاءِ ظَاهِرًا وَمُحَافَظَةً عَلَى كُفْرِهِمْ بَاطِنًا لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ وَقَادَتَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَفِي التَّعْبِير بيقول فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ إِيمَاءٌ إِلَى أَن ذَلِك قَول غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَحْكِيَّ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقِ الْغَرَضُ بِذِكْرِ نَصِّهِ وَحُكِيَ بِلَفْظِ يَقُولُ أَوْمَأَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِاعْتِقَادِهِ أَوْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ، فَفِيهِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وَجُمْلَةُ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُ أَيْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ. وَالْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ وَبَعْضُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَبَقِيَّتُهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ، وَرَدَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ أَسْمَائِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَهُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَالْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا [التَّوْبَة: 74] ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ الْيَهُودِيُّ وَلَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفُ الْيَهُودِ كَمَا فِي بَابِ السِّحْرِ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، وَالْأَخْنَسُ أُبَيُّ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ كَانَ يُظْهِرُ الْوُدَّ وَالْإِيمَانَ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ [الْبَقَرَة: 204] ، وَزَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ الْقَيْنُقَاعِيُّ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمُخَشِّنُ بْنُ حِمْيَرٍ الْأَشْجَعِيُّ اللَّذَيْنِ كَانَا يُثَبِّطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ زَيْدَ بْنَ اللُّصَيْتِ تَابَ وَحَسُنَ حَالُهُ، وَقِيلَ لَا، وَأَمَّا مُخَشِّنٌ فَتَابَ وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَقُتِلَ شَهِيدا يَوْم الْقِيَامَة. وَفِي كِتَابِ «الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ» لِابْنِ حَزْمٍ قَدْ ذَكَرَ قَوْمَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ الْأَوْسِيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ حُضُورَهُ بَدْرًا يُبْطِلُ هَذَا الظَّنَّ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ فَلَمَزُوهُ بِالنِّفَاقِ فَإِنَّهُ الْقَائِلُ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمرَان: 154] ، رَوَاهُ عَنْهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَانَ مَغْمُوصًا بِالنِّفَاقِ. وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ أَبُو عَفَكَ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ظَهَرَ نِفَاقُهُ حِينَ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ وَقَالَ شِعْرًا يُعَرِّضُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ

بِقَتْلِ أَبِي عَفَكَ فَقَتَلَهُ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَ الْمُنَافِقَاتِ عَصْمَاءُ بِنْتُ مَرْوَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ نَافَقَتْ لَمَّا قُتِلَ أَبُو عَفَكَ وَقَالَتْ شعرًا تعرض بِالنَّبِيِّ قَتَلَهَا عُمَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ الْخَطْمَيُّ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ» ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ بَشِيرُ بْنُ أُبَيْرِقٍ كَانَ مُنَافِقًا يَهْجُو أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ وَشَهِدَ أُحُدًا وَمِنْهُمْ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ وَهُوَ قَدْ أَسْلَمَ وَعُدَّ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمِنْهُمْ بِشْرُ الْمُنَافِقُ كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ الَّذِي خَاصَمَ يَهُودِيَّا فَدَعَا الْيَهُودِيُّ بِشْرًا إِلَى حُكْمِ النَّبِيءِ فَامْتَنَعَ بِشْرٌ وَطَلَبَ الْمُحَاكَمَةَ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ وَقِصَّتُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [60] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ الرِّجَالِ وَمِائَةً وَسَبْعِينَ مِنَ النِّسَاءِ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَالَّذِي سَنَّ لَهُمُ النِّفَاقَ وَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ حَسَدًا وَحَنَقًا عَلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ بَعْدَ أَنِ انْقَضَتْ حُرُوبُ بُعَاثٍ بَيْنَهُمْ وَهَلَكَ جُلُّ سَادَاتِهِمْ فِيهَا قَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ. قَالَ سَعْدُ بن عبَادَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ الله وَاصْفَحْ فو اللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ شَرِقَ بِذَلِكَ» اهـ. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ مَكْرٍ بِكُلِّ دِينٍ يَظْهَرُ وَلِأَنَّهُمْ خَافُوا زَوَالَ شَوْكَتِهِمُ الْحَالِيَّةِ مِنْ جِهَاتِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَهُمْ تَبَعٌ لِهَؤُلَاءِ وَلِذَلِكَ جَاءَ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [الْأَعْرَاف: 97] الْآيَةَ، لِأَنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَكُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ عَلَى مِثْلِ صفاتهم فَهُوَ لَا حق بِهِمْ فِيمَا نَعَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَة: «لم يَجِيء هَؤُلَاءِ بَعْدُ» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَرِضُوا بَلْ يَجِيئُونَ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ اهـ، يَعْنِي أَنَّ سَلْمَانَ لَا يُنْكِرُ ثُبُوتَ هَذَا الْوَصْفِ لِطَائِفَةٍ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَلَكِنْ لَا يَرَى الْمَقْصِدَ مِنَ الْآيَةِ حَصْرَ الْمَذَمَّةِ فِيهِمْ بَلْ وَفِي الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ جِيءَ فِي نَفْيِ قَوْلِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الاسمية وَلم يَجِيء عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِأَنْ يُقَالَ وَمَا آمَنُوا لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الْإِيمَانَ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَاضِي أَشْمَلَ حَالًا لِاقْتِضَائِهِ تَحَقُّقَ الْإِيمَانِ فِيمَا مَضَى بِالصَّرَاحَةِ وَدَوَامَهُ بِالِالْتِزَامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَلَّا يَتَغَيَّرَ

الِاعْتِقَادُ بِلَا مُوجِبٍ كَيْفَ وَالدِّينُ هُوَ هُوَ، وَلَمَّا أُرِيدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ كَانَ نَفْيُهُ فِي الْمَاضِي لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَحَقُّقِهِ فِي الْحَالِ بَلْهَ الِاسْتِقْبَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ دَالًّا عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْهُمْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ وَذَلِكَ النَّفْيُ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَهُ فِي الْمَاضِي بِالْأَوْلَى، وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْفِعْلِ دُونَ الْفَاعِلِ فَلِذَلِكَ حَكَى بِهَا كَلَامَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَتَطَلَّبُونَ مَعْرِفَةَ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ قَالُوا آمَنَّا، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْفَاعِلِ أَيْ أَنَّ الْقَائِلِينَ آمَنَّا لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِيمَانٌ فَالِاهْتِمَامُ بِهِمْ فِي الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ تَسْجِيلٌ لِكَذِبِهِمْ وَهَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْفِعْلِيَّةِ وَالِاسْمِيَّةِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ بِقَاعِدَةِ إِفَادَةِ التَّقْدِيمِ الِاهْتِمَامَ مُطْلَقًا وَإِنْ أَهْمَلُوا التَّنْبِيهَ عَلَى جَرَيَانِ تِلْكَ الْقَاعِدَة عِنْد مَا ذَكَرُوا الْفُرُوقَ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَالِاسْمِيَّةِ فِي كُتُبِ الْمَعَانِي وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هُنَا بِكَلَامٍ دَقِيقِ الدَّلَالَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ عَبَدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَزَعَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ كَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَثَلًا فَيَكْتُبُهَا غَفُورٌ رَحِيمٌ مَثَلًا وَالْعَكْسُ وَهَذَا مِنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِكَلَامِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ لَا سِيَّمَا وَوِلَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ ابْن أَبِي سَرْحٍ الْإِمَارَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَقَمَهُ الثُّوَّارُ عَلَى عُثْمَانَ وَتَحَامُلُ الْمُؤَرِّخِينَ فِيهَا مَعْلُومٌ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّوْهَا مِنَ النَّاقِمِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْفِي هَذَا لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَلَزِمَ عَلَيْهِ دُخُولُ الشَّكِّ فِي الدِّينِ وَلَوْ حَاوَلَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا لَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّسُولِ السَّهْوُ وَالْغَفْلَةُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّبْلِيغِ عَلَى أَنَّهُ مُزَيَّفٌ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ إِذْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَكِيدَ لِلدِّينِ لَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِ تَحْرِيفَ غَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامٌ قَالَهُ فِي وَقْتِ ارْتِدَادِهِ وَقَوْلُهُ حِينَئِذٍ فِي الدِّينِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِقَصْدِ تَرْوِيجِ رِدَّتِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ حُفَّاظِهِ وَقِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ لِقَصْدِ الْمُرَاجَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَقَعَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا كُتِبَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حُفَّاظَ الْقُرْآنِ وَجَدُوا خِلَافًا بَيْنَ مَحْفُوظِهِمْ وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ لَمْ يَكُنْ مُنْفَرِدًا بِكِتَابَةِ الْوَحْيِ فَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ مَعَهُ آخَرُونَ.

وَنَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ وَأَنَّ النُّطْقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ النُّطْقُ إِيمَانًا، وَالْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِثُبُوتِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يَكُونُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عِنْد جَمِيع أَئِمَّة الدِّينِ وَيَشْتَهِرُ كَوْنُهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ اللَّازِمِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ اشْتِهَارًا بَيْنَ الْخَاصَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَالْعَامَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَقَدْ نُقِلَ الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ إِلَى تَصْدِيقٍ خَاصٍّ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ فَسَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فِي مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ مَا هُوَ وَتَطَرَّقُوا أَيْضًا إِلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَنَحْنُ نَجْمَعُ مُتَنَاثِرَ الْمَنْقُولِ مِنْهُمْ مَعَ مَا لِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ تَحْقِيقِ مَذَاهِبِهِمْ فِي جُمْلَةٍ مُخْتَصَرَةٍ. وَقَدْ أَرْجَعْنَا مُتَفَرِّقَ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالُوا إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا مُسَمَّى لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيُّ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُنْقَلَ مِنْ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ إِلَّا أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى تَصْدِيقٍ خَاصٍّ بِأَشْيَاءَ بَيْنَهَا الدِّينُ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِنَقْلِهِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَغَلَبَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ التَّصْدِيقِ وَاحْتَجُّوا بِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَكِنَّهَا كَثِيرَةٌ كَثْرَةً تُلْحِقُهَا بِالْمُسْتَفِيضِ. مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمُتَقَدِّمُ وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ «يَا رَسُول الله: مَالك عَنْ فُلَانٍ فَإِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا» ، قَالُوا وَأَمَّا النُّطْقُ وَالْأَعْمَالُ فَهِيَ مِنَ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ مَفْهُومِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ بِالْجَسَدِ دُونَ الْقَلْبِ وَدَلِيلُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا اللُّغَةُ وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] وَلِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : «مَنِ اغْتَسَلَ وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَلْبِهِ أَجْزَأَهُ» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ بِقَلْبِهِ فَلَوْ مَاتَ مَاتَ مُؤْمِنًا، وَهُوَ

مَأْخَذٌ بَعِيدٌ وَسَتَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ بِخِلَافِهِ. وَنَسَبَ هَذَا أَيْضًا إِلَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» وَهُوَ الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ مِنَ التَّابِعِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِلْإِقْرَارِ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ الْإِيمَانُ مَنْقُولًا شَرْعَا لِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا يُعْتَدُّ بِالِاعْتِقَادِ شَرْعًا إِلَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ النُّطْقُ وَنُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَنَسَبَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَنَسَبَهُ الْفَخْرُ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. قُلْتُ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ بَيْنَ هَذَا وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَرْقًا وَإِنَّمَا نَظَرُ كُلِّ قِيلٍ إِلَى جَانِبٍ، فَالْأَوَّلُ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ الْمَفْهُومِ وَالثَّانِي نَظَرَ إِلَى الِاعْتِدَادِ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِضَبْطِ عِبَارَاتِهِمْ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الِاعْتِقَادِ هَلْ هُوَ مُنْجٍ فِيمَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَوْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ؟ حَكَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ» وَمَالَ إِلَى الثَّانِي وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِقْرَارَ لَا عَنْ مُكَابَرَةٍ كَانَ نَاجِيًا مِثْلَ الْأَخْرَسِ وَالْمُغَفَّلِ وَالْمُشْتَغِلِ شُغْلًا اتَّصَلَ بِمَوْتِهِ. وَاحْتَجُّوا بِإِطْلَاقِ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَكْسِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35، 36] وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْس أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ» إِلَخْ وَهَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي أَصْلٍ مِنَ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ تَقْرِيبٍ عَلَى أَنَّ مُعْظَمَهَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِطْلَاقِ الْإِيمَانِ عَلَى حَالَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حَالَةُ إِسْلَامٍ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لِكَمَالِ حَالِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ فِي فَاتِحَةِ انْبِثَاقِ أَنْوَارِ الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يَفْرِضُونَ فِي الْإِيمَانِ أَحْوَالًا تُقَصِّرُ فِي الِامْتِثَالِ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالْبُخَارِيِّ وَنُسِبَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ وَتَمَسَّكَ بِهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ لِأَخْذِهِمْ بِظَاهِرِ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ، وَبِذَلِكَ أَثْبَتُوا الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي الْإِيمَانِ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَنَقْصِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: 4] إِلَخْ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِهِ

لِلتَّفَاضُلِ. وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أَيْ لَيْسَ مُتَّصِفًا حِينَئِذٍ بِكَمَالِ الْإِيمَانِ. وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقِيلَ إِنَّمَا أَمْسَكَ مَالِكٌ عَنِ الْقَوْلِ بِنُقْصَانِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُظَنُّ بِهِ مُوَافَقَةُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَالِكٍ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْإِيمَانِ وَيُوجِبُ لِلْمُصَدِّقِ الدُّخُولَ فِيهِ وَلَا يُوجِبُ لَهُ اسْتِكْمَالَ مَنَازِلِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ اهـ. وَلَمْ يُتَابِعْهُمْ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ شَرْحًا لِلْإِيمَانِ الْكَامِلِ وَلَيْسَ فِيهِ النِّزَاعُ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَصْلِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَأَوَّلُ دَرَجَاتِ النَّجَاةِ مِنَ الْخُلُودِ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْ يُقَالَ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَتَأَوَّلُوا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَزْدادُوا إِيماناً [الْفَتْح: 4] بِأَنَّ الْمُرَادَ تَعَدُّدُ الْأَدِلَّةِ حَتَّى يَدُومُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّحْقِيقُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَنُطْقٌ وَعَمَلٌ كَمَا جَاءَ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ حَقِيقَةَ ظَاهِرِهِ مَنْ تَرَكُّبِ الْإِيمَانِ مِنْ مَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ بِحَيْثُ إِذَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا بَطَلَ الْإِيمَانُ، وَلَهُمْ فِي تَقْرِيرِ بُطْلَانِهِ بِنَقْصِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ مَذَاهِبٌ غَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ وَلَا مَعْضُودَةٍ بِأَدِلَّةٍ سِوَى التَّعَلُّقِ بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْآثَارِ مَعَ الْإِهْمَالِ لِمَا يُعَارِضُهَا مِنْ مِثْلِهَا. فَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَالُوا إِنَّ تَارِكَ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ كَافِرٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ وَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ فَالْأَعْمَالُ جُزْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَأَرَادُوا مِنَ الْأَعْمَالِ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَوْ صَغَائِرَ، إِذْ جَمِيعُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ كَبَائِرُ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ فَلَا يُوجِبُ تَرْكُهَا خُلُودًا، إِذْ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ يُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَكَذَلِكَ فِعْلَ الْمَكْرُوهَاتِ. وَقَالَتِ الْإِبَاضِيَّةُ مِنَ الْخَوَارِجِ إِنَّ تَارِكَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَافِرٌ لَكِنَّ كُفْرَهُ كُفْرُ نِعْمَةٍ لَا شِرْكٍ، نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْهُمْ وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ طَلَبَتِهِمْ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ وَافَقُوا الْخَوَارِجَ فِي أَنَّ لِلْأَعْمَالِ حَظًّا مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي مَقَادِيرِهَا وَمَذَاهِبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ، فَقَالَ قُدَمَاؤُهُمْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ إِنَّ الْعَاصِيَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَكِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْكُفْرِ وَلَا بِالْإِيمَانِ وَوَصَفُوهُ بِالْفِسْقِ وَجَعَلُوا اسْتِحْقَاقَ الْخُلُودِ لِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ

خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ نَسَبَ إِلَيْهِمُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ «الْفَصْلِ» ، وَقَالَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ لَا يُوصَفُ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ فَيُفَارِقُ بِذَلِكَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَقَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَوَافَقَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي بِسَبَبِهَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِوَاصِلٍ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ اعْتَزَلَ مَجْلِسَنَا. وَدَرَجَ عَلَى هَذَا جَمِيعُهُمْ، لَكِنَّهُمُ اضْطَرَبُوا أَوِ اضْطَرَبَ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي مُسَمَّى الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَاد» إِن جُمْهُور هم قَالُوا إِنَّ الْكَبِيرَةَ تُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَمَعْنَاهُ لَا مَحَالَةَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَبِذَلِك جزم التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَفِي «الْمَقَاصِدِ» ، وَقَالَ إِنَّ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْخُلُودِ وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا الْمَنْزِلَةَ لِعَدَمِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُفْرِ وَلِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صَاحِبِهَا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ مُرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةِ كَالْمُرْتَدِّ فَيُقْتَلُ. وَقَالَ فِي «الْمَقَاصِدِ» وَمِثْلُهُ فِي «الْإِرْشَادِ» : الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ خِلَافُ الْمُشْتَهِرِ فَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ وَابْنَهُ وَكَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ قَالُوا إِنَّ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا تُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ إِذَا زَادَ عِقَابُهَا عَلَى ثَوَابِ الطَّاعَاتِ فَإِنْ أَرْبَتِ الطَّاعَاتُ عَلَى السَّيِّئَاتِ دَرَأَتِ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ النَّظَرُ إِلَى أَعْدَادِ الطَّاعَاتِ وَلَا الزَّلَّاتِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِلَى مِقْدَارِ الْأُجُورِ وَالْأَوْزَارِ فَرُبَّ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ يَغْلِبُ وِزْرُهَا طَاعَاتٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ضَبْطِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ بَلْ أَمْرُهَا مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَقَدِ اضْطَرَبُوا فِي ذَلِكَ فَهَذَا مَحَلُّ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْفَصْلِ» عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، فِيهِمْ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ وَالْأَصَمُّ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَلَهُمْ وَقْفَةٌ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُدَّةً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مُجَازَى بِقَدْرِ مَا رَجَحَ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَمِنْ لَفْحَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى بَقَاءِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي النَّارِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ الْخُلُودَ. وَقَدْ نَقَلَ الْبَعْضُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لَا جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ إِلَّا أَن التفتازانيّ فِي «الْمَقَاصِدِ» غَلَّطَ هَذَا الْبَعْضَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» . وَقَدْ قَرَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَقِيقَةَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] وَالْفَاسِقُ فِي الشَّرِيعَةِ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ وَهُوَ النَّازِلُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ بَيْنَ مَنْزِلَتَيِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالُوا إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ لَهُ هَذَا الْحَدَّ أَبُو حُذَيْفَةَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وَكَوْنُهُ بَيْنَ بَيْنَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ فِي أَنَّهُ يُنَاكَحُ وَيُوَارَثُ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ

وَهُوَ كَالْكَافِرِ فِي الذَّمِّ وَاللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَاعْتِقَادُ عَدَاوَتِهِ وَأَنْ لَا تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ اهـ، فَتَرَاهُ مَعَ إِيضَاحِهِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَصَرَّحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [93] بِمَا يُعَمِّمُ خُلُودَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ دُونَ تَوْبَةٍ فِي النَّارِ. قُلْتُ وَكَانَ الشَّانُ أَنَّ إِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا يَقْتَضِي أَنَّهُ غَيْرُ خَالِدٍ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَتَنْتَفِيَ عَنْهُ الثَّمَرَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا فَارَقَ الْكُفْرَ إِذِ الْمُسْلِمُ إِنَّمَا أَسْلَمَ فِرَارًا مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ فَكَيْفَ يَكُونُ ارْتِكَابُ بَعْضِ الْمَعَاصِي مُوجِبًا لِانْتِقَاضِ فَائِدَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ أَحَدٌ لَا يَسْلَمُ مِنْ أَنْ يُقَارِفَ مَعْصِيَةً وَكَانَتِ التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ قَدْ تَتَأَخَّرُ وَقَدْ لَا تَحْصُلُ فَيَلْزَمُهُمْ وَيَلْزَمُ الْخَوَارِجَ أَنْ يَعُدُّوا جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ كُفَّارًا وَبِئْسَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ. عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا يجرّيء الْعُصَاةَ عَلَى نَقْضِ عُرَى الدِّينِ إِذْ يَنْسَلُّ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ الَّتِي أَسْلَمُوا لِأَجْلِهَا بِحُكْمِ: أَنَا الْغَرِيقُ فَمَا خَوْفِي مِنَ الْبَلَلِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ عَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ، ثُمَّ الْأَعْجَبُ مِنْهُ عُكُوفُ أَتْبَاعِهِمْ عَلَيْهِ تَلُوكُهُ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَا تَفْقَهُهُ أَفْئِدَتُهُمْ وَكَيْفَ لَمْ يُقَيَّضْ فِيهِمْ عَالِمٌ مُنْصِفٌ يَنْبَرِي لِهَاتِهِ التُّرَّهَاتِ فَيُهَذِّبُهَا أَوْ يُؤَوِّلُهَا كَمَا أَرَادَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ فَمَنْ يَلِيهِمْ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ إِذَا لَمْ يُخَالِفِ الِاعْتِقَادُ الْقَوْلَ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ يُعْتَقَدُ خِلَافَ مَقَالِهِ بَطَلَ إِيمَانُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِ مَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَشْغَلْ عَقْلَهُ بِاعْتِقَادِ مَدْلُولِهِمَا بَلْ يُكْتَفَى مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُضْمِرُ خِلَافَ مَدْلُولِهِمَا وَهَذِهِ أَحْوَالٌ نَادِرَةٌ لَا يَنْبَغِي الْخَوْضُ فِيهَا. أَوْ أَرَادُوا أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْكَرَّامِيَّةَ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا نَطَقَ بِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ خَالِدٌ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» أَنَّ غَيْلَانَ الدِّمَشْقِيَّ وَافَقَ الْكَرَّامِيَّةَ. هَذِهِ جَوَامِعُ أَقْوَالِ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَأَنَا أَقُولُ كَلِمَةً أَرْبَأُ بِهَا عَنِ الِانْحِيَازِ إِلَى نُصْرَةٍ وَهِيَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ خُطُوَاتِ مَسِيرِهِمْ وَأَوَّلِ مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ أَنْظَارِهِمْ وَقَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ الْأَيَّامُ بَعْدَ الْأَيَّامِ وَتَعَاقَبَتِ الْأَقْوَامُ بَعْدَ الْأَقْوَامِ يُعَدُّ نَقْصًا عِلْمِيًّا لَا يَنْبَغِي الْبَقَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا أَعْرِفُنِي بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ. لَا جَرَمَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلُ مَا طَلَبَتْ مِنَ النَّاسِ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ لِيَخْرُجُوا بِذَلِكَ مِنْ

عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَمُنَاوَأَةِ هَذَا الدِّينِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ تَهَيَّأَتِ النُّفُوسُ لِقَبُولِ الْخَيْرَاتِ وَأَفَاضَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ النَّيِّرَاتِ فَكَانَتْ فِي تَلَقِّي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا زِينَةً لِمَعَاشِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمَعَادِهَا، فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ تَنْبَعِثُ عَنْهُمَا الْخَيْرَاتُ، وَهُمَا الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ حَدًّا لَا يَقْبَلُ تَفَاوُتًا وَلَا تَشَكُّكًا، لِأَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ أَن لَا تَكُونَ مُتَفَاوِتَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: 32] ، وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ مَفْهُومَ الْإِيمَانِ هُوَ مَفْهُومُ الْإِسْلَامِ، فَيُكَابِرُ لُغَةً تُتْلَى عَلَيْهِ، كَيْفَ وَقَدْ فَسَّرَهُ الرَّسُولُ لِذَلِكَ الْجَالِسِ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ. فَمَا الَّذِينَ ادَّعَوْهُ إِلَّا قَوْمٌ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَارَةُ فَأَرَادُوا أَنَّ الِاعْتِدَادَ فِي هَذَا الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأَمْرَيْنِ وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ وَجْهُ الِاكْتِفَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَادِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، فِي مَقَامِ خِطَابِ الَّذِينَ تَحَلَّوْا بِكِلْتَا الْخَصْلَتَيْنِ، فَانْتَظَمَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي. إِنَّ مُوجِبَ اضْطِرَابِ الْأَقْوَالِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ دَعَتْ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَبِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَدَعَتْ إِلَى النُّطْقِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ النُّطْقِ وَلَمْ يَقْتَنِعِ الرَّسُولُ مِنْ أَحَدٍ بِمَا يُحَصِّلُ الظَّنُّ بِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَّا بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ بِنُطْقِهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ لَمْ تَكُنْ ظَوَاهِرُهُمْ مُخَالِفَةً لِعَقَائِدِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ يُبْطِنُ الْكُفْرَ فَكَانَ حُصُولُ مَعْنَى الْإِيمَانِ لَهُمْ مُقَارِنًا لِحُصُولِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ، ثُمَّ لَمَّا نَبَعَ النِّفَاقُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ طَرَأَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَبَيْنَ حَالِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ تَفْرِقَةً بِالتَّحْذِيرِ وَالتَّنْبِيهِ لَا بِالتَّعْيِينِ وَتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ، لِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ النَّبِيءِ تَجْرِي فِي الْغَالِبِ عَلَى مُرَاعَاةِ غَالِبِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَرُبَّمَا جَرَتْ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وَكَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ لِمَنْ قَالَ لَهُ: مَالك عَن فلَان فو الله إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا» .

فَحَاصِلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ حُصُولُ الِاعْتِقَادِ بِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْإِسْلَامِ إِظْهَارُ الْمَرْءِ أَنَّهُ أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِاتِّبَاعِ الدِّينِ وَدَعْوَةِ الرَّسُولِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَاب: 35] الْآيَةَ. وَهَلْ يُخَامِرُكُمْ شَكٌّ فِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَا طَلَبَتْ مِنَ النَّاسِ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ لِمُجَرَّدِ تَعْمِيرِ الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لِهَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ خَلْقًا يُعَمِّرُونَهُمَا إِنْ شَاءَ خَلَقَهُمَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ تَعْمِيرَ الْعَالَمَيْنِ الدُّنْيَوِيَّ وَالْأُخْرَوِيَّ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا مِصْقَلَةَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ تُهَيِّئُهَا لِلتَّأَهُّلِ إِلَى تَعْمِيرِ الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ لِتَلْتَحِقَ بِالْمَلَائِكَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الشَّرَائِعَ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ سَيِّءِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُمْ بِدَوَاعِي شَهَوَاتِهِمُ الْمُفْسِدَةِ لِفِطْرَتِهِمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ حِفْظَ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ أَيْضًا لِيَبْقَى صَالِحًا لِلْوَفَاءِ بِمُرَادِ اللَّهِ إِلَى أَمَدٍ أَرَادَهُ، فَشَرَعَ لِلنَّاسِ شَرْعًا وَدَعَا النَّاسَ إِلَى اتِّبَاعِهِ وَالدُّخُولِ إِلَى حَظِيرَتِهِ ذَلِكَ الدُّخُولُ الْمُسَمَّى بِالْإِيمَانِ وَبِالْإِسْلَامِ لِاشْتِرَاطِ حُصُولِهِمَا فِي قِوَامِ حَقِيقَةِ الِانْضِوَاءِ تَحْتَ هَذَا الشَّرْعِ، ثُمَّ يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ إِظْهَارَ تَمْكِينِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَبُولِ مَا يُرْسَمُ لَهُمْ مِنَ السُّلُوكِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَثِقَةٍ بِمَآلَيْ نَزَاهَةٍ أَوْ رِجْسٍ. وَذَلِكَ هُوَ الْأَعْمَالُ ائْتِمَارًا وَانْتِهَاءً وَفِعْلًا وَانْكِفَافًا. وَهَذِهِ الْغَايَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِيهَا الْمَرَاتِبُ إِلَّا أَنَّ تَفَاوُتَ أَهْلِهَا فِيهَا لَا يَنْقُصُ الْأَصْلُ الَّذِي بِهِ دَخَلُوا فَإِنَّ الْآتِيَ بِالْبَعْضِ مِنَ الْخَيْرِ قَدْ أَتَى بِمَا كَانَ أَحْسَنَ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَالْآتِي بِمُعْظَمِ الْخَيْرِ قَدْ فَاقَ الَّذِي دُونَهُ، وَالْآتِي بِالْجَمِيعِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ هُوَ الْفَائِزُ، بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَعْدِمُ مَنْفَعَةً تَحْصُلُ مِنْ أَفْرَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَسَمَّوْا بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَمِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ حِمَايَةُ الْحَوْزَةِ وَالدِّفَاعُ عَنِ الْبَيْضَةِ، فَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ عَمْرو بن معديكرب أَيَّامَ كَانَ لَا يَرَى الِانْتِهَاءَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: 91] فَقُلْنَا لَا أَنَّهُ قَدْ دَلَّ جِهَادُهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَلَى تَحْقِيقِ شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِسْلَامِهِ فَهَلْ يُعَدُّ سَوَاءً وَالْكَافِرِينَ فِي كَوْنِهِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ؟ فَالْأَعْمَالُ إِذَنْ لَهَا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا مُكَمِّلَةُ الْمَقْصِدِ لَا يُنَازِعُ فِي هَذَيْنِ- أَعْنِي كَوْنَهَا فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ وَكَوْنَهَا مَقْصُودَةً- إِلَّا مُكَابِرٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَكْمَلَ تَأْيِيدٍ مَا وَرَدَ فِي «الصِّحَاحِ» فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا

أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (أَيْ يَنْطِقُوا بِذَلِكَ نُطْقًا مُطَابِقًا لِاعْتِقَادِهِمْ) فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» إِلَخْ فَلَوْلَا أَنَّ لِلْإِيمَانِ وَلِلْإِسْلَامِ الْحَظَّ الْأَوَّلَ لَمَا قَدَّمَهُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا دَخْلَ لَهَا فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لِلْحَقِّ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ دُفْعَةً وَإِلَّا لَكَانَ الرِّضَا بِبَقَائِهِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْكُفْرِ وَلَوْ لَحْظَةٍ مَعَ تَوَقُّعِ إِجَابَتِهِ لِلدِّينِ رِضًى بِالْكُفْرِ وَهُوَ مِنَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِسُلُوكِهِ الْمَعْصُومِ عَنْ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا عَلَى بَاطِلٍ، فَانْتَظَمَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلْقَوْلَيْنِ. وَمِمَّا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْجَوَارِحِيَّةِ فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنَ الْمَطْلُوبِ دُونَهُ لَا يُنْجِي مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا جَمِيعُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يُسْلِمْ مُخَلَّدًا فِي النَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَقْصُودِ بِدُونِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي يَقْرُبُ فَاعِلُهَا مِنَ الْغَايَةِ بِمِقْدَارِ مَا يَخْطُو فِي طُرُقِهَا فَثَوَابُهَا عَلَى قَدْرِ ارْتِكَابِهَا وَالْعُقُوبَةُ عَلَى قَدْرِ تَرْكِهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَازِعَ فِي هَذَا غَيْرُ مُكَابِرٍ، إِذْ كَيْفَ يَسْتَوِي عِنْدَ اللَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يُسْلِمْ وَالْآخَرُ آمَنَ وَأَسْلَمَ وَامْتَثَلَ وَانْتَهَى، إِلَّا أَنَّهُ اتَّبَعَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي خَصْلَةٍ أَوْ زَلَّةٍ فَيَحْكُمُ بِأَنَّ كِلَا الرَّجُلَيْنِ فِي عَذَابٍ وَخُلُودٍ؟ وَهَلْ تَبْقَى فَائِدَةٌ لِكُلِّ مُرْتَكِبِ مَعْصِيَةٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَ الَّذِي فَرَّ مِنْ أَجْلِهِ لِلْإِسْلَامِ حَاصِلًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ آمَنَ يَوْمَئِذٍ؟ وَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ جُلَّ الْأُمَّةِ لَا يَخْلُونَ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَتَيْنِ إِذِ الْعِصْمَةُ مَفْقُودَةٌ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّوْبَةِ كُفْرًا فَهَلْ يَقُولُ هَذَا الْعَاقِلُ إِنَّ الْأُمَّةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُتَّصِفَةً بِالْكُفْرِ وَلَا إِخَالُ عَاقِلًا يَلْتَزِمُهَا بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَهَا، أَفَهَلْ يُمِّوِهُ أَحَدٌ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] يَعْنِي الصَّلَاةَ، إِنَّ اللَّهَ سَمَّى الصَّلَاةَ إِيمَانًا وَلَوْلَا أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ لَمَا سُمِّيَتْ كَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الْغَايَةُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَانْتَظَمَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِثَلَاثَةِ الْأَقْوَالِ لِمَنِ اقْتَدَى فِي الْإِنْصَافِ بِأَهْلِ الْكَمَالِ. ثُمَّ عَلَى الْعَالِمِ الْمُتَشَبِّعِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَتَصَارِيفِهَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَقَامَاتِ خِطَابِهَا فَإِنَّ مِنْهَا مَقَامَ مَوْعِظَةٍ وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَتَبْشِيرٍ وَتَحْذِيرٍ، وَمِنْهَا مَقَامَ تَعْلِيمٍ وَتَحْقِيقٍ فَيُرَدُّ كُلُّ وَارِدٍ مِنْ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ إِلَى مَوْرِدِهِ اللَّائِقِ وَلَا تَتَجَاذَبُهُ الْمُتَعَارِضَاتُ مُجَاذَبَةَ الْمُمَاذِقِ فَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِمَا وَرَدَ فِي أَثْبَتِ أَوْصَافِ الْمَوْصُوفِ، وَأَثْبَتَ أَحَدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ تَارَةً فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ

[سورة البقرة (2) : آية 9]

إِذْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا جَمِيعًا، فَإِذَا وُصِفَ تَارَةً بِجَمِيعِهَا لَمْ يَكُنْ وَصْفُهُ تَارَةً أُخْرَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا دَالًّا عَلَى مُسَاوَاةِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِبَقِيَّتِهَا، فَإِذَا عُرِضَتْ لَنَا أَخْبَارٌ شَرْعِيَّةٌ جَمَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ فِي سِيَاقِ التَّحْذِيرِ أَوِ التَّحْرِيضِ لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ حَقِيقَةِ أَحَدِهِمَا مُرَكَّبَةً وَمُقَوَّمَةً مِنْ مَجْمُوعِهِمَا فَإِنَّمَا يَحْتَجُّ مُحْتَجٌّ بِسِيَاقِ التَّفْرِقَةِ وَالنَّفْيِ أَوْ بِسِيَاقِ التَّعْلِيمِ وَالتَّبْيِينِ فَلَا يَنْبَغِي لِمُنْتَسِبٍ أَنْ يُجَازِفَ بِقَوْلِهِ سَخِيفَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ قِلَّةِ تَأَمُّلٍ وَإِحَاطَةٍ بِمَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ وَإِغْضَاءٍ عَنْ غَرَضِهَا وَيُؤَوِّلُ إِلَى تَكْفِيرِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَانْتِقَاضِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَلْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ نَظْرَةً مُحِيطَةً حَتَّى لَا يَكُونَ مِمَّنْ غَابَتْ عَنْهُ أَشْيَاءٌ وَحَضَرُهُ شَيْءٌ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ. أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِنَا وَلَيْسَتْ مِنْهُ، وَالْأَشَاعِرَةُ قَدْ تَوَسَّعُوا فِيهَا وَغَيْرُهُمْ ضَيَّقَهَا وَأَمْرُهَا مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ الَّذِي بَلَغَنَا مِنَ الشَّرْعِ هُوَ اعْتِبَارُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِلَّا لَكَانَ الزَّوَاجِرُ كَضَرْبٍ فِي بَارِدِ الْحَدِيدِ وَإِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِيهَا هُوَ النَّظَرُ لِدَلِيلِ الْوُجُوبِ أَوِ الْجَوَازِ عَلِمْتُمْ خُرُوجَ الْخِلَافِ فِيهَا مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَلَا عَجَبَ أَعْجَبَ مِنْ مُرُورِ الْأَزْمَانِ عَلَى مِثْلِ قَوْلَةِ الْخَوَارِجِ وَالْإِبَاضِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَا يَنْبَرِي مِنْ حُذَّاقِ عُلَمَائِهِمْ مَنْ يُهَذِّبُ الْمُرَادَ أَوْ يُؤَوِّلُ قَوْلَ قُدَمَائِهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ الْمُعْتَادَ، وَكَأَنِّي بِوَمِيضِ فَطِنَةِ نُبَهَائِهِمْ أَخَذَ يَلُوحُ مِنْ خلل الرماد. [9] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 9] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) جُمْلَةُ: يُخادِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] وَمَا مَعَهَا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُخَادَعَةِ. وَالْخِدَاعُ مَصْدَرُ خَادَعَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى مُفَاعَلَةِ الْخَدْعِ، وَالْخَدْعُ هُوَ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ مَعَهُ مَا يُوهِمُ أَنَّ فَاعِلَهُ يُرِيدُ بِمَدْلُولِهِ نَفْعَ غَيْرِهِ وَهُوَ إِنَّمَا يُرِيدُ خِلَافَ ذَلِكَ وَيَتَكَلَّفُ تَرْوِيجَهُ عَلَى غَيْرِهِ لِيُغَيِّرَهُ عَنْ حَالَةٍ هُوَ فِيهَا أَوْ يَصْرِفَهُ عَنْ أَمْرٍ يُوشِكُ أَنْ يَفْعَلَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: خَدَعَ الضَّبُّ إِذَا أَوْهَمَ حَارِشَهُ أَنَّهُ يُحَاوِلُ الْخُرُوجَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَدْخَلَ فِيهَا الْحَارِشُ يَدَهُ حَتَّى لَا يَرْقُبَهُ الْحَارِشُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ آخِذُهُ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يَخْرُجُ الضَّبُّ مِنَ النَّافِقَاءِ. وَالْخِدَاعُ فِعْلٌ مَذْمُومٌ إِلَّا فِي الْحَرْبِ وَالِانْخِدَاعُ تَمْشِي حِيلَةُ الْمُخَادِعِ عَلَى الْمَخْدُوعِ وَهُوَ مَذْمُومٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنَ الْبَلَهِ وَأَمَّا إِظْهَارُ الِانْخِدَاعِ مَعَ التَّفَطُّنِ لِلْحِيلَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُضِرَّةٍ

فَذَلِكَ مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ: اسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كُلَّ مُنْخَدِعٍ ... إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا خَادَعْتَهُ انخدعا وَفِي حَدِيث «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ» أَيْ مِنْ صِفَاتِهِ الصَّفْحُ وَالتَّغَاضِي حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ غِرٌّ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِكَرِيمٍ لِدَفْعِ الْغَرِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالْبَلَهِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ الْفِطْنَةَ لِأَنَّ أُصُولَ اعْتِقَادِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَبْذِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَضْلِيلُ الرَّأْيِ وَطَمْسُ الْبَصِيرَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: «وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ» مَعَ قَوْلِهِ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» ، وَكُلُّهَا تُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْبَلَهُ وَأَمَّا مَعْنَى «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ» فَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا زَكَتْ نَفْسُهُ عَنْ ضَمَائِرِ الشَّرِّ وَخُطُورِهَا بِبَالِهِ وَحَمْلِ أَحْوَالِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ حَالَةُ اسْتِئْمَانٍ تُشْبِهُ الْغِرِّيَّةَ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: تِلْكَ الْفَتَاةُ الَّتِي عَلِقْتُهَا عَرْضًا ... إِنَّ الْحَلِيمَ وَذَا الْإِسْلَامِ يَخْتَلِبُ فَاعْتَذَرَ عَنْ سُرْعَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا وَاخْتِلَابِهَا عَقْلِهِ بِكَرَمِ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَوْدَةِ الرَّأْيِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَرِيعَ التَّأَثُّرِ مِنْهَا. وَمَعْنَى صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَصَدُوا التَّمْوِيهَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُهُمْ بِخِدَاعٍ، وَكَذَلِكَ صُدُورُ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْمُومِ الْفِعْلِ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِعْلُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ وَلَا قَصْدُ الْمُنَافِقِينَ تَعَلُّقِهِ بِمُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ كُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَأْوِيلًا فِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ الدَّالُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ يُخادِعُونَ أَوْ فِي فَاعِلِهِ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُصَرَّحُ بِهِ. فَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي يُخادِعُونَ فَعَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَفْعُولَ خَادَعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُخَادِعِ- بِالْكَسْرِ- إِذْ قَدْ يَقْصِدُ خِدَاعَ أَحَدٍ فَيُصَادِفُ غَيْرَهُ كَمَا يُخَادِعُ أَحَدٌ وَكِيلَ أَحَدٍ فِي مَالٍ فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ تُخَادِعُ فُلَانًا وَفُلَانًا تَعْنِي الْوَكِيلَ وَمُوَكِّلَهُ، فَهُمْ قَصَدُوا خِدَاعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَتْ مُخَادَعَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ الدِّينِ كَانَ خِدَاعُهُمْ رَاجِعًا لِشَارِعِ ذَلِكَ الدِّينِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَعْنَى خِدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فَهُوَ إِغْضَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ بِوَادِرِهِمْ وَفَلَتَاتِ أَلْسُنِهِمْ وَكَبَوَاتِ أَفْعَالِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمُ الدَّالُّ جَمِيعُهَا عَلَى نِفَاقِهِمْ حَتَّى لَمْ يَزَالُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَقَدْ نَهَى

مَنِ اسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ، كَانَ ذَلِكَ الصَّنِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَكَانَ مَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [142] ، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ خِدَاعُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْمُخَادَعَةِ مِنْ جَانِبَيْهَا، كُلٌّ بِمَا يُلَائِمُهُ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ يُخادِعُونَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَشْبِيهًا لِلْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدِينِ اللَّهِ، وَمِنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الْإِمْلَاءِ لَهُمْ وَالْإِبْقَاءِ عَلَيْهِمْ، وَمُعَامَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، بِهَيْئَةِ فِعْلِ الْمُتَخَادِعِينَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَادَعَ بِمَعْنَى خَدَعَ أَيْ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بَلْ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْخَلِيلِ: يُقَالُ خَادَعَ مِنْ وَاحِدٍ لِأَنَّ فِي الْمُخَادَعَةِ مُهْلَةً كَمَا يُقَالُ عَالَجْتُ الْمَرِيضَ لِمَكَانِ الْمُهْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَأَنَّهُ يَرُدُّ فَاعَلَ إِلَى اثْنَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ مُهْلَةً وَمُدَافَعَةً وَمُمَاطَلَةً فَكَأَنَّهُ يُقَاوِمُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ فَاعَلَ اهـ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى جَعْلِ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مُسْتَعَارَةً لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ بِتَشْبِيهِ الْفِعْلِ الْقَوِيِّ بِالْفِعْلِ الْحَاصِلِ مِنْ فَاعِلَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ مَعَهُ: (يَخْدَعُونَ اللَّهَ) . وَهَذَا إِنَّمَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ عَنْ إِسْنَادِ صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنَ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، وَلَا يَدْفَعُ إِشْكَالَ صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِلَّهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي فَاعِلِ يُخادِعُونَ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ أَيْضًا فَبِأَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِسْنَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَجْلِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَمُرْسِلِهِ وَإِمَّا مَجَازٌ بِالْحَذْفِ لِلْمُضَافِ، فَلَا يَكُونُ مُرَادُهُمْ خِدَاعَ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَيَبْقَى أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ مَخْدُوعًا مِنْهُمْ وَمُخَادِعًا لَهُمْ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ مُخَادَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهَا جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ فَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ. وَقَوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَخَلَفٌ (يُخَادِعُونَ) بِأَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ (يَخْدَعُونَ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَجُمْلَةُ وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُخَادِعُونَ الْأَوَّلَ أَيْ يُخَادِعُونَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أَيْ خِدَاعُهُمْ مَقْصُورٌ عَنْ ذَوَاتِهِمْ لَا يَرْجِعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى

اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْخِدَاعَ فِي قَوْلِهِ وَمَا يُخَادِعُونَ عَيْنُ الْخِدَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ فَيَرِدُ إِشْكَالُ صِحَّةِ قَصْرِ الْخِدَاعِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ إِثْبَاتِ مُخَادَعَتِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُخَادَعَةَ الثَّانِيَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ الْأُولَى وَهُوَ الضُّرُّ فَإِنَّهَا قَدِ اسْتُعْمِلَتْ أَوَّلًا فِي مُطْلَقِ الْمُعَامَلَةِ الشَّبِيهَةِ بِالْخِدَاعِ وَهِيَ مُعَامَلَةُ الْمَاكِرِ الْمُسْتَخِفِّ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْمُخَادَعَةِ اسْتِعَارَةً ثُمَّ أُطْلِقَتْ ثَانِيًا وَأُرِيدَ مِنْهَا لَازِمُ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ وَهُوَ الضُّرُّ لِأَنَّ الَّذِي يُعَامَلُ بِالْمَكْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ يَتَصَدَّى لِلِانْتِقَامِ مِنْ مُعَامِلِهِ فَقَدْ يَجِدُ قُدْرَةً مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غِرَّةً مِنْ صَاحِبِهِ فَيَضُرُّهُ ضُرًّا فَصَارَ حُصُولُ الضُّرِّ لِلْمُعَامَلِ أَمْرًا عُرْفِيًّا لَازِمًا لِمُعَامِلِهِ، وَبِذَلِكَ صَحَّ اسْتِعْمَالُ يُخَادِعُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُخَادَعَةَ أُطْلِقَتْ أَوَّلًا اسْتِعَارَةً ثُمَّ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْحَقِيقَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا فِي لَازِمِ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ، فَالْمَعْنَى وَمَا يَضُرُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْرِي فِيهِ الْوُجُوهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِطْلَاقِ مَادَّةِ الْخِدَاعِ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَيَجِيءُ تَأْوِيلُ مَعْنَى جَعْلِ أَنْفُسِهِمْ شِقًّا ثَانِيًا لِلْمُخَادَعَةِ مَعَ أَنَّ الْأَنْفُسَ هِيَ عَيْنُهُمْ فَيَكُونُ الْخِدَاعُ اسْتِعَارَةً لِلْمُعَامَلَةِ الشَّبِيهَةِ بِفِعْلِ الْجَانِبَيْنِ الْمُتَخَادِعَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا شَاعَ فِي وِجْدَانِ النَّاسِ مِنَ الْإِحْسَاسِ بِأَنَّ الْخَوَاطِرَ الَّتِي تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ مَا تَسُوءُ عَوَاقِبُهُ أَنَّهَا فِعْلُ نَفْسٍ هِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْعَقْلِ وَهِيَ الَّتِي تُسَوِّلُ لِلْإِنْسَانِ الْخَيْرَ مَرَّةً وَالشَّرَّ أُخْرَى وَهُوَ تَخَيُّلٌ بُنِيَ عَلَى خَطَابَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ لِإِحْدَاثِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ خَوَاطِرِهِ الشِّرِّيرَةِ بِجَعْلِهَا وَارِدَةً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ ذَاتِهِ بَلْ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَأَهَّبَ لِمُقَارَعَتِهَا وَعِصْيَانِ أَمْرِهَا وَلَوِ انْتَسَبَتْ إِلَيْهِ لَمَا رَأَى مِنْ سَبِيلٍ إِلَى مُدَافَعَتِهَا، قَالَ عَمْرو بن معديكرب: فَجَاشَتْ عَلَيَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... فَرُدَّتْ عَلَى مَكْرُوهِهَا فَاسْتَقَرَّتِ وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ أَنْشَدَ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ: لَمْ تَدْرِ مَا (لَا) وَلَسْتَ قَائِلَهَا ... عُمْرَكَ مَا عِشْتَ آخِرَ الْأَبَدِ وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِيًا ... فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَكَدِ يُرِيدُ بِأُخْتِهَا كَلِمَةَ (نَعَمْ) وَهِيَ أُخْتُ (لَا) وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أُخْتٌ فِي اللِّسَانِ. وَقُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ: وَإِذَا وَجَدْتُ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةً ... شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا عَصَوْا نُفُوسَهُمُ الَّتِي تَدْعُوهُمْ لِلْإِيمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ إِذْ لَا تَخْلُو

[سورة البقرة (2) : آية 10]

النَّفْسُ مِنْ أَوْبَةٍ إِلَى الْحَقِّ جَعَلَ مُعَامَلَتَهُمْ لَهَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ نُصْحِهَا وَإِعْرَاضِهَا عَنْهُمْ فِي قِلَّةِ تَجْدِيدِ النُّصْحِ لَهُمْ وَتَرْكِهِمْ فِي غَيِّهِمْ كَالْمُخَادَعَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ. وَاعْلَمْ أَن قَوْله: وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم أَجْمَعَتِ الْقِرَاءَاتُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَالنَّفْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الذَّاتُ وَالْقُوَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ وَخَاطِرِ الْعَقْلِ. وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَا يُخَادِعُونَ وَالشُّعُورُ يُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِعِلْمِهِ بِالْمَعَانِي الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَزْنِ وَالتَّقْفِيَةِ بِسُهُولَةٍ، وَلَا يُحْسِنُ لِذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ، وَقَوْلُهُمْ لَيْتَ شِعْرِي فِي التَّحَيُّرِ فِي عِلْمِ أَمْرٍ خَفِيٍّ، وَلَوْلَا الْخَفَاءُ لَمَا تَمَنَّى عِلْمَهُ بَلْ لَعَلِمَهُ بِلَا تَمَنٍّ، فَقَوْلُهُمْ هُوَ لَا يُشْعِرُ وَصْفٌ بِعَدَمِ الْفِطْنَةِ لَا بِعَدَمِ الْإِحْسَاسِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّ الذَّمَّ بِالْوَصْفِ الْمُمْكِنِ الْحُصُولِ أَنْكَى مِنَ الذَّمِّ بِمَا يَتَحَقَّقُ عَدمه فَإِن إحساسهم أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلنَّاسِ فَلَا يَغِيضُهُمْ أَنْ يُوصَفُوا بِعَدَمِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَغِيضُهُمْ أَنْ يُوصَفُوا بِالْبَلَادَةِ. عَلَى أَنَّ خَفَاءَ مُخَادَعَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مِمَّا لَا يُمْتَرَى فِيهِ وَاخْتِيرَ مِثْلُهُ فِي نَظِيرِهِ فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [الْبَقَرَة: 12] لِأَنَّ كِلَيْهِمَا أُثْبِتَ فِيهِ مَا هُوَ الْمَآلُ وَالْغَايَةُ وَهِيَ مِمَّا يَخْفَى وَاخْتِيرَ فِي قَوْلِهِ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 13] نَفْيُ الْعِلْمِ دُونَ نَفْيِ الشُّعُورِ لِأَنَّ السَّفَهَ قَدْ يَبْدُو لِصَاحِبِهِ بِأَقَلِّ الْتِفَاتَةٍ إِلَى أَحْوَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ لِأَنَّ السَّفَهَ أَقْرَبُ لِادِّعَاءِ الظُّهُورِ مِنْ مُخَادَعَةِ النَّفْسِ عِنْدَ إِرَادَةِ مُخَادَعَةِ الْغَيْرِ وَمِنْ حُصُولِ الْإِفْسَادِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ الثَّانِي دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَالَ: فَهُمْ لِتَمَادِي غَفْلَتِهِمْ كَالَّذِي لَا حس لَهُ. [10] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 10] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) اسْتِئْنَافٌ مَحْضٌ لِعَدِّ مَسَاوِيهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤال متعجب ناشىء عَنْ سَمَاعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الْبَقَرَة: 9] فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعُ أَنَّ طَائِفَةً تُخَادِعُ اللَّهَ تَعَالَى وَتُخَادِعُ قَوْمًا عَدِيدِينَ وَتَطْمَعُ أَنَّ خِدَاعَهَا يَتَمَشَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ لَا تَشْعُرُ بِأَنَّ ضَرَر الخداع لَا حق بِهَا لَطَائِفَةٌ جَدِيرَةٌ بِأَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ أَمْرِهَا الْمُتَعَجِّبُ وَيَتَسَاءَلَ كَيْفَ خَطَرَ هَذَا بِخَوَاطِرِهَا فَكَانَ قَوْلُهُ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بَيَانًا وَهُوَ أَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ خَلَلًا تَزَايَدَ إِلَى أَنْ بَلَغَ حَدَّ الْأَفَنِ.

وَلِهَذَا قَدَّمَ الظَّرْفَ وَهُوَ فِي قُلُوبِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ هِيَ مَحَلُّ الْفِكْرَةِ فِي الْخِدَاعِ فَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ مُتَعَلِّقُهَا وَأَثَرُهَا كَانَ هُوَ الْمُهْتَمَّ بِهِ فِي الْجَوَابِ. وَتَنْوِينُ مَرَضٌ لِلتَّعْظِيمِ. وَأَطْلَقَ الْقُلُوبَ هُنَا عَلَى مَحَلِّ التَّفْكِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَة: 7] . وَالْمَرَضُ حَقِيقَةٌ فِي عَارِضٍ لِلْمَزَاجِ يُخْرِجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْخَاصِّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الْجِسْمِ خُرُوجًا غَيْرَ تَامٍّ وَبِمِقْدَارِ الْخُرُوجِ يَشْتَدُّ الْأَلَمُ فَإِنْ تَمَّ الْخُرُوجُ فَهُوَ الْمَوْتُ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ الْعَارِضَةِ لِلْأَخْلَاقِ الْبَشَرِيَّةِ عُرُوضًا يُخْرِجُهَا عَنْ كَمَالِهَا، وَإِطْلَاقُ الْمَرَضِ عَلَى هَذَا شَائِعٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَتَدْبِيرُ الْمِزَاجِ لِإِزَالَةِ هَذَا الْعَارِضِ وَالرُّجُوعِ بِهِ إِلَى اعْتِدَالِهِ هُوَ الطِّبُّ الْحَقِيقِيُّ وَمَجَازِيٌّ كَذَلِكَ قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ الْمُلَقَّبُ بِالْفَحْلِ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ فَذَكَرَ الْأَدْوَاءَ وَالطِّبَّ لِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَإِصْلَاحِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ هُوَ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ مَذَمَّتِهِمْ وَبَيَانِ مَنْشَأِ مُسَاوِي أَعْمَالِهِمْ. وَمَعْنَى فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً أَنَّ تِلْكَ الْأَخْلَاق الذميمة النَّاشِئَةَ عَنِ النِّفَاقِ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ كَانَتْ تَتَزَايَدُ فِيهِمْ بِتَزَايُدِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأَخْلَاقِ إِذَا تَمَكَّنَتْ أَنْ تَتَزَايَدَ بِتَزَايُدِ الْأَيَّامِ حَتَّى تَصِيرَ مَلِكَاتٍ كَمَا قَالَ الْمَعْلُوطُ الْقُرَيْعِيُّ: وَرَجِّ الْفَتَى لِلْخَيْرِ مَا إِنْ رَأَيْتَهُ ... عَلَى السِّنِّ خَيْرًا لَا يَزَالُ يَزِيدُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الشَّرِّ وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَتَحَلَّمْ فِي الصِّغَرِ لَا يَتَحَلَّمْ فِي الْكِبَرِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ يَهْجُو عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ: فَإِنَّكَ سَوْفَ تَحْلُمُ أَوْ تَنَاهَى ... إِذَا مَا شِبْتَ أَوْ شَابَ الْغُرَابُ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ مُوجِبًا لِازْدِيَادِ مَا يُقَارِنُهُ مِنْ سَيِّءِ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ النِّفَاقَ يَسْتُرُ الْأَخْلَاقَ الذَّمِيمَةَ فَتَكُونُ مَحْجُوبَةً عَنِ النَّاصِحِينَ وَالْمُرَبِّينَ وَالْمُرْشِدِينَ وَبِذَلِكَ تَتَأَصَّلُ وَتَتَوَالَدُ إِلَى غَيْرِ حَدٍّ فَالنِّفَاقُ فِي كَتْمِهِ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ بِمَنْزِلَةِ كَتْمِ الْمَرِيضِ دَاءَهُ عَنِ الطَّبِيبِ، وَإِلَيْكَ بَيَانُ مَا يَنْشَأُ عَنِ النِّفَاقِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِيَّةِ فِي الْجَدْوَلِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَأَشَرْنَا إِلَى مَا يُشِيرُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ مِنْهَا فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ هُنَا أَوْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْجَدْوَلِ:

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ طِبَاعٌ تَنْشَأُ عَنِ النِّفَاقِ أَوْ تُقَارِنُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَا سِيَّمَا النِّفَاقُ فِي الدِّينِ فَقَدْ نَبَّهَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَذَامِّ ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَتَرْبِيَةً فَإِنَّ النِّفَاقَ يَعْتَمِدُ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ وَهِيَ: الْكَذِبُ الْقَوْلِيُّ، وَالْكَذِبُ الْفِعْلِيُّ وَهُوَ الْخِدَاعُ، وَيُقَارِنُ ذَلِكَ الْخَوْفَ لِأَنَّ الْكَذِبَ وَالْخِدَاعَ إِنَّمَا يَصْدُرَانِ مِمَّنْ يَتَوَقَّى إِظْهَارَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَوْفٍ ضُرٍّ أَوْ لِخَوْفِ إِخْفَاقِ سَعْيٍ وَكِلَاهُمَا مُؤْذِنٌ بِقِلَّةِ الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وَبِحُسْنِ السُّلُوكِ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَاتِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الذَّمِيمَةِ تُوَكِّدُ هَنَوَاتٍ أُخْرَى، فَالْكَذِبُ يَنْشَأُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْبَلَهِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَعْتَقِدُ أَنَّ كَذِبَهُ يَتَمَشَّى عِنْدَ النَّاسِ وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ الذَّكَاءِ لِأَنَّ النَّبِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي النَّاسِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ، ثُمَّ الْبَلَهُ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِالْحَقَائِقِ وَبِمَرَاتِبِ الْعُقُولِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يُعَوِّدُ فِكْرَ صَاحِبِهِ بِالْحَقَائِقِ الْمُحَرَّفَةِ وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَعَ طُولِ الِاسْتِرْسَالِ فِي ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ مَا اخْتَلَقَهُ وَاقِعًا، وَيَنْشَأُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ السَّفَهُ وَهُوَ خَلَلٌ فِي الرَّأْيِ وَأَفَنٌ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ أَصْبَحَ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ وَالطِّبِّ يَعُدُّونَ الْكَذِبَ مِنْ أَمْرَاضِ الدِّمَاغِ. وَأَمَّا نَشْأَةُ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَالْكُفْرِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ عَنِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ وَالسَّفَهِ فَظَاهِرَةٌ، وَكَذَلِكَ نَشْأَةُ الْعُزْلَةِ وَالْجُبْنِ وَالتَّسَتُّرِ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا نَشْأَةُ عَدَاوَةِ النَّاسِ عَنِ الْخِدَاعِ فَلِأَنَّ عَدَاوَةَ الْأَضْدَادِ تَبْدَأُ مِنْ شُعُورِهِمْ بِخِدَاعِهِ، وَتَعْقُبُهَا عَدَاوَةُ الْأَصْحَابِ لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تَفَنُّنَ ذَلِكَ الصَّاحِبِ فِي النِّفَاقِ وَالْخِدَاعِ دَاخَلَهُمُ الشَّكُّ أَنْ يَكُونَ إِخْلَاصُهُ الَّذِي يُظْهِرُهُ لَهُمْ هُوَ مِنَ الْمُخَادَعَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ عَدَاوَةُ الْفَرِيقَيْنِ تَصَدَّى النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلتَّوَقِّي مِنْهُ وَالنِّكَايَةِ بِهِ، وَتَصَدَّى هُوَ لِلْمَكْرِ بِهِمْ وَالْفَسَادِ لِيَصِلَ إِلَى مَرَامِهِ، فَرَمَتْهُ النَّاسُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَاجْتَنَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ هُزْأَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ النَّاشِئَ عَنْ مَرَضِ النِّفَاقِ وَالزَّائِدَ فِيهِ هُوَ زِيَادَةُ ذَلِكَ النَّاشِئِ أَيْ تَأَصُّلُهُ وَتَمَكُّنُهُ وَتَوَلُّدُ مَذَمَّاتٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَلَعَلَّ تَنْكِيرَ (مَرَضٍ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَشْعَرَ بِهَذَا فَإِنَّ تَنْكِيرَ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَنْوِيعٍ أَوْ تَكْثِيرٍ، وَتَنْكِيرَ الثَّانِي لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمَزِيدَ مَرَضٌ آخَرُ عَلَى قَاعِدَةِ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً. وَإِنَّمَا أُسْنِدَتْ زِيَادَةُ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ زِيَادَةَ هَاتِهِ الْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ ذَاتِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ هَذَا التَّوَلُّدَ وَأَسْبَابَهُ وَكَانَ أَمْرًا خَفِيًّا نَبَّهَ النَّاسَ عَلَى خَطَرِ الِاسْتِرْسَالِ فِي النَّوَايَا الْخَبِيثَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَزِيدَ تِلْكَ النَّوَايَا تَمَكُّنًا

مِنَ الْقَلْبِ فَيَعْسُرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ الْإِقْلَاعُ عَنْهَا بَعْدَ تَمَكُّنِهَا، وَأُسْنِدَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَأَهْمَلَهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَلَمْ يَتَدَارَكْهُمْ بِلُطْفِهِ الَّذِي يُوقِظُهُمْ مِنْ غَفَلَاتِهِمْ لِيُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى خَطَرِ أَمْرِهَا وَأَنَّهَا مِمَّا يَعْسُرُ إِقْلَاعُ أَصْحَابِهَا عَنْهَا لِيَكُونَ حَذَرُهُمْ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ أَشَدَّ مَا يُمْكِنُ. فَجُمْلَةُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً خَبَرِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ لِلْبَيَانِ، دَاخِلَةٌ فِي دَفْعِ التَّعَجُّبِ، أَيْ أَنَّ سَبَبَ تَوَغُّلِهِمْ فِي الْفَسَادِ وَمُحَاوَلَتِهِمْ مَا لَا يُنَالُ لِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا وَلِأَنَّهُ مَرَضٌ يَتَزَايَدُ مَعَ الْأَيَّامِ تَزَايُدًا مَجْعُولًا مِنَ اللَّهِ فَلَا طَمَعَ فِي زَوَالِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِ جُبَيْرِ بْنِ الْأَضْبَطِ: تَبَاعَدَ عَنِّي فَطْحَلٌ إِذْ دَعَوْتُهُ ... أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَيْرُ حَسَنٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي الْعَطْفِ بِالْفَاءِ وَلِأَنَّ تَصَدِّيَ الْقُرْآنِ لِشَتْمِهِمْ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ تُنَافِي مَا عَهِدَ مِنَ الدُّعَاءِ لِلضَّالِّينَ بِالْهِدَايَةِ فِي نَحْوِ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً إِكْمَالًا لِلْفَائِدَةِ فَكَمُلَ بِهَذَا الْعَطْفِ بَيَانُ مَا جَرَّهُ النِّفَاقُ إِلَيْهِمْ مِنْ فَسَادِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَهُوَ لَهُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنه خبر لانعت حَتَّى يَسْتَقِرَّ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ الْمُبْتَدَأِ الْعِلْمُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا تَلْهُو النَّفْسُ عَنْ تَلَقِّيهِ. وَالْأَلِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّ الرُّبَاعِيَّ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ وَأَصْلُهُ عَذَابٌ مُؤْلَمٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ أَيْ مُؤْلَمٌ مَنْ يُعَذَّبُ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْمُؤْلَمَ هُوَ الْمُعَذَّبُ دُونَ الْعَذَابِ كَمَا قَالُوا جَدَّ جَدُّهُ، أَوْ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ أَلِمٍ بِمَعْنَى صَارَ ذَا أَلَمٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ أَيْ مُؤْلِمٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، فَقِيلَ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ وَثَبَتَ فِي نَظِيرِهَا نَحْوُ الْحَكِيمِ وَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أَيْ مُوجِعٌ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَأَنَّ مَنْعَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ لِلْمُوَلِّدِينَ قُصِدَ مِنْهُ التَّبَاعُدُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ بِدُونِ دَاعٍ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ حَالُ الْجَاهِلِ بِحَالِ الْبَلِيغِ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ عَلَيْهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 11]

وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (يُكَذِّبُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَى الرَّسُولِ، فَمَادَّةُ التَّفْعِيلِ لِلنِّسْبَةِ إِلَى الْكَذِبِ مِثْلَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَعَلَى كَذِبِهِمُ الْخَاصِّ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] وَعَلَى كَذِبِهِمُ الْعَامِّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 11] فَالْمَقْصُودُ كَذِبُهُمْ فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَفِي جَعْلِ أَنْفُسِهِمُ الْمُصْلِحِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْكَذِبُ ضِدُّ الصِّدْقِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] . وَ (مَا) الْمَجْرُورَةُ بِالْبَاءِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمُنْسَبِكُ مِنْ كَانَ أَي الْكَوْن. [11] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 11] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) يَظْهَرُ لِي أَنَّ جُمْلَةَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: 10] لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ إِخْبَارٌ عَنْ بَعْضِ عَجِيبِ أَحْوَالِهِمْ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى أَقْرَبِ الْجُمَلِ الْمُلِظَّةِ (¬1) لِأَحْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِك آئلا فِي الْمَعْنَى إِلَى كَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] . وَ (إِذَا) هُنَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ وَلَيْسَتْ مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا أَنَّهَا هُنَا لِلْمَاضِي وَلَيْسَتْ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمرَان: 152] الْآيَةَ. وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا تَقْيِيدُ هَذَا الْفِعْلِ بِالظَّرْفِ فَإِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ مَحَلَّ الْمَذَمَّةِ هُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُفْسِدِينَ، وَلَكِنْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ قَائِلُوهُ أَجْدَرَ بِالْمَذَمَّةِ حِينَ يَقُولُونَهُ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ الصَّادِرَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ لَا يَنْشَأُ إِلَّا عَنْ مَرَضِ الْقَلْبِ وَأَفَنِ الرَّأْيِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْفَسَادِ أَنْ لَا يَخْفَى وَلَئِنْ خَفِيَ فَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ صَلَاحٌ بَعْدَ الْإِيقَاظِ إِلَيْهِ وَالْمَوْعِظَةِ إِفْرَاطٌ فِي الْغَبَاوَةِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ وَجَهْلٌ فَوْقَ جَهْلٍ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا ... ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ إِذْ هُوَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَنُكَتُ الْإِعْجَازِ لَا تَتَنَاهَى. ¬

(¬1) الملظة: الْمُلَازمَة.

وَالْقَائِلُ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْضُ مَنْ وَقَفَ عَلَى حَالِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ اطِّلَاعٌ عَلَى شُؤُونِهِمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ، فَيُخْلِصُونَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ وَالْمَوْعِظَةَ رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ وَيَسْتُرُونَ عَلَيْهِمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَعِلْمًا بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِي عَنْ زَلَّاتِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَفِي جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى حَرْفِ إِنَّمَا كَمَا سَيَأْتِي وَيَدُلُّ لِذَلِكَ عِنْدِي بِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 8] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لَهُمُ اللَّهُ- وَالرَّسُولُ- إِذْ لَوْ نَزَلَ الْوَحْيُ وَبَلَّغَ إِلَى مُعَيَّنِينَ مِنْهُمْ لَعُلِمَ كُفْرُهُمْ وَلَوْ نَزَلَ مُجْمَلًا كَمَا تَنْزِلُ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْتَقِمْ جَوَابُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وَقَدْ عَنَّ لِي فِي بَيَانِ إِيقَاعِهِمُ الْفَسَادَ أَنَّهُ مَرَاتِبٌ: أَوَّلُهَا: إِفْسَادُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى تِلْكَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِيمَا مَضَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَذَامِّ وَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَفَاسِدِ. الثَّانِيَةُ: إِفْسَادُهُمُ النَّاسَ بِبَثِّ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَإِفْسَادُهُمْ أَبْنَاءَهُمْ وَعِيَالَهُمْ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي مَسَاوِيهِمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] . الثَّالِث: إِفْسَادُهُمْ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا فَسَادُ الْمُجْتَمَعِ، كَإِلْقَاءِ النَّمِيمَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَتَسْعِيرِ الْفِتَنِ وَتَأْلِيبِ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِحْدَاثِ الْعَقَبَاتِ فِي طَرِيقِ الْمُصْلِحِينَ. وَالْإِفْسَادُ فِعْلُ مَا بِهِ الْفَسَادُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ أَيْ جَعْلِ الْأَشْيَاءِ فَاسِدَةً فِي الْأَرْضِ. وَالْفَسَادُ أَصْلُهُ اسْتِحَالَةُ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ النَّافِعِ إِلَى مَضَرَّةٍ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَضَرَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ مِنْ قَبْلُ يُقَالُ فَسَدَ الشَّيْءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَالِحًا وَيُقَالُ فَاسِدٌ إِذَا وُجِدَ فَاسِدًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ أَفْسَدَ إِذَا عَمَدَ إِلَى شَيْءٍ صَالِحٍ فَأَزَالَ صَلَاحَهُ، وَيُقَالُ أَفْسَدَ إِذَا أَوْجَدَ فَسَادًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَسَادَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ مِنَ الْوَضْعِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَيْسَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا هُنَا مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ مِنْهُ تَصْيِيرُ الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ مُضِرَّةً كَالْغِشِّ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَمِنْهُ إِزَالَةُ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ كَالْحَرْقِ وَالْقَتْلِ لِلْبَرَاءِ، وَمِنْهُ إِفْسَادُ الْأَنْظِمَةِ كَالْفِتَنِ وَالْجَوْرِ، وَمِنْهُ إِفْسَادُ الْمَسَاعِي كَتَكْثِيرِ الْجَهْلِ وَتَعْلِيمِ الدَّعَارَةِ وَتَحْسِينِ الْكُفْرِ وَمُنَاوَأَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 12]

الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَلَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ قَدْ أَخَذُوا مِنْ ضُرُوبِ الْإِفْسَادِ بِالْجَمِيعِ، فَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ تُفْسِدُوا تَأْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ. وَذِكْرُ الْمَحَلِّ الَّذِي أَفْسَدُوا مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ- وَهُوَ الْأَرْضُ- لِتَفْظِيعِ فَسَادِهِمْ بِأَنَّهُ مَبْثُوثٌ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لِأَنَّ وُقُوعَهُ فِي رُقْعَةٍ مِنْهَا تَشْوِيهٌ لِمَجْمُوعِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هَذِهِ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْقَابِلَةِ لِلْإِفْسَادِ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَسَائِرِ الْأَنْظِمَةِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 200] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ جَوَابٌ بِالنَّقْضِ فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ ضِدُّ الْإِفْسَادِ، أَيْ جَعْلِ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَالصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ يُقَالُ صَلَحَ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاسِدًا وَيُقَالُ صَلَحَ بِمَعْنَى وُجِدَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ صَالِحًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا قُلْنَا. وَجَاءُوا بِإِنَّمَا الْمُفِيدَةِ لِلْقَصْرِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَلَا اعْتِدَادَ بِمُخَالِفِهِ شُذُوذًا فِي ذَلِكَ. وَأَفَادَ إِنَّما هُنَا قَصْرَ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ رَدًّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا، لِأَنَّ الْقَائِلَ أَثْبَتَ لَهُمْ وَصْفَ الْفَسَادِ إِمَّا بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الصَّلَاحِ فِي شَيْءٍ أَوْ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ قَدْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَفَاسِدًا، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِقَصْرِ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ هُوَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ قَصْرَ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ لَا يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَلِأَنَّ حَرْفَ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِقَصْرِ الْقَلْبِ كَمَا فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، وَاخْتِيرَ فِي كَلَامِهِمْ حَرْفُ (إِنَّمَا) لِأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِهِ مُخَاطَبٌ مُصِرٌّ عَلَى الْخَطَأِ كَمَا فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ الْقَصْرِ اسْمِيَّةً لِتُفِيدَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا اتِّصَافَهُمْ بِالْإِصْلَاحِ أَمْرًا ثَابِتًا دَائِمًا، إِذْ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ إِفَادَة الدّوام. [12] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 12] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي غُرُورِهِمْ وَحَصْرِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّلَاحِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ هُوَ أَبْلَغُ فِيهِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي قَالُوهُ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَيُفِيدُ قَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ قَصْرَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ يَنْفِي حَصْرَهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الْإِصْلَاحِ وَيَنْقُضُهُ وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَانُونِ النَّقْضِ وَعَلَى أُسْلُوبِ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ قَدْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مُفْسِدُونَ بِدُونِ صِيغَةِ قَصْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ

[سورة البقرة (2) : آية 13]

قَصَرَ لِيُفِيدَ ادِّعَاءَ نَفْيِ الْإِفْسَادِ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ يُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ يَنْتَظِمُ فِي عِدَادِ الْمُصْلِحِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُفْسِدِ عُرْفًا أَنْ لَا يَكُونَ مُصْلِحًا إِذِ الْإِفْسَادُ هَيِّنُ الْحُصُولِ وَإِنَّمَا يَصُدُّ عَنْهُ الْوَازِعُ فَإِذَا خَلَعَ الْمَرْءُ عَنْهُ الْوَازِعَ وَأَخَذَ فِي الْإِفْسَادِ هَانَ عَلَيْهِ الْإِفْسَادُ ثُمَّ تَكَرَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ سَجِيَّةً وَدَأْبًا لَا يَكَادُ يُفَارِقُ مَوْصُوفَهُ. وَحَرْفُ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ إِعْلَانًا لِوَصْفِهِمْ بِالْإِفْسَادِ. وَقَدْ أَكَّدَ قَصْرَ الْفَسَادِ عَلَيْهِمْ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ أَيْضًا- كَمَا أَكَّدَ بِهِ الْقَصْرَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 5] كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَدُخُولُ (إِنَّ) عَلَى الْجُمْلَةِ وَقَرْنُهَا بِأَلَا الْمُفِيدَةِ لِلتَّنْبِيهِ وَذَلِكَ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَتَقْوِيَتِهِ دَلَالَةً عَلَى سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَإِنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْتَاحِ مِثْلَ أَلَا وَأَمَا لَمَّا كَانَ شَأْنُهَا أَنْ يُنَبَّهَ بِهَا السَّامِعُونَ دَلَّتْ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَإِشَاعَتِهِ وَإِعْلَانِهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَبْلَغِيَّةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى كَمَالِ ظُهُورِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ لِلْعِيَانِ لِأَنَّ أَدَوَاتِ التَّنْبِيهِ شَارَكَتْ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ مَحْمَلُهُ مَحْمَلُ قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الْبَقَرَة: 9] فَإِنَّ أَفْعَالَهُمُ الَّتِي يَبْتَهِجُونَ بِهَا وَيَزْعُمُونَهَا مُنْتَهَى الْحِذْقِ وَالْفِطْنَةِ وَخِدْمَةِ الْمصلحَة الْخَالِصَة آئلة إِلَى فَسَادٍ عَامٍّ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى ذَلِكَ لِخَفَائِهِ وَلِلْغِشَاوَةِ الَّتِي أُلْقِيَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ أَثَرِ النِّفَاقِ وَمُخَالَطَةِ عُظَمَاءِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ حَالَ الْقَرِينِ وَسَخَافَةَ الْمَذْهَبِ تَطْمِسُ عَلَى الْعُقُولِ النَّيِّرَةِ وَتَخِفُّ بِالْأَحْلَامِ الرَّاجِحَةِ حَتَّى تَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ. وَمَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ دَفْعٌ لِمَا أَثْبَتُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخُلُوصِ لِلْإِصْلَاحِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ. [13] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ. هُوَ مِنْ تَمَامِ الْمَقُولِ قَبْلَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ بِالْعَطْفِ وَالْقَائِلِ، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ أَيْضًا طَائِفَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُشِيرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ النِّفَاقِ لِأَنَّهُمْ ضَجِرُوهُ وَسَئِمُوا كُلَفَهُ وَمُتَّقَيَاتِهِ، وَكَلَّتْ أَذْهَانُهُمْ مِنَ ابْتِكَارِ الْحِيَلِ وَاخْتِلَاقِ الْخَطَلِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ آمِنُوا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالتَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ. وَقَوْلُهُ: كَما آمَنَ النَّاسُ

الْكَافُ فِيهِ لِلتَّشْبِيهِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، وَاللَّامُ فِي (النَّاسِ) لِلْجِنْسِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ عَدَا الْمُخَاطَبِينَ، كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ فِي الْإِغْرَاءِ بِالْفِعْلِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ أَنْ تُسْرِعَ إِلَى التَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يَسْبِقُهَا فِي الْأَمْرِ، فَلِذَلِكَ يَأْتُونَ بِهَاتِهِ الْكَلِمَةِ فِي مَقَامِ الْإِغْرَاءِ أَوِ التَّسْلِيَةِ أَوِ الِائْتِسَاءِ، قَالَ عَمْرُو ابْنُ الْبَرَّاقَةِ النِّهْمِيُّ (¬1) : وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ وَقَوْلُهُ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ اسْتِفْهَامٌ لِلْإِنْكَارِ، قصدُوا مِنْهُ التبري مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَجَعَلُوا الْإِيمَانَ الْمُتَبَرَّأَ مِنْهُ شَبِيهًا بِإِيمَانِ السُّفَهَاءِ تَشْنِيعًا لَهُ وَتَعْرِيضًا بِالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ سَفَاهَةُ عُقُولِهِمْ، وَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ كَما آمَنَ النَّاسُ أَنَّهُ يَعْنِي بِالنَّاسِ الْمُسْلِمِينَ. وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالسَّفَاهَةِ، وَالسَّفَاهَةُ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَقِلَّةُ ضَبْطِهِ لِلْأُمُورِ قَالَ السَّمَوْأَلُ: نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ السَّفَاهَةَ عَلَى أَفَنِ الرَّأْيِ وَضَعْفِهِ، وَتُطْلِقُهَا عَلَى سُوءِ التَّدْبِيرِ لِلْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاء: 5] وَقَالَ: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [الْبَقَرَة: 282] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ ضَعْفِ الرَّأْيِ. وَوَصْفُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّفَاهَةِ بُهْتَانٌ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا لِخِفَّةٍ فِي عُقُولِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَحْقِيرِهِمْ، كَيْفَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ سَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَنْ يَرْمُوا المصلحين بالمذمات يهتانا وَوَقَاحَةً لِيُلْهُوهُمْ عَنْ تَتَبُّعِ مَفَاسِدِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ كَامِلٌ وَلَيْسَ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ الزِّنْدِيقِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ وَعُرِفَتْ زَنْدَقَتُهُ إِثْبَاتًا، وَلَا نَفْيًا لِأَنَّ الْقَائِلِينَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ هُمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ أَوْ خَاصَّتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفْشُوا أَمْرَهُمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ لِلرَّسُولِ بِوَجْهٍ مُعْتَادٍ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَطْلَعَُُ ¬

(¬1) بنُون مَكْسُورَة وَسُكُون الْهَاء نِسْبَة إِلَى نهم: بطن من هَمدَان.

عَلَيْهِ نَبِيئَهُ، وَكَانَتِ الْمُصْلِحَةُ فِي سَتْرِهِ، وَقَدِ اطَّلَعَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَعَلِمُوا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِعْرَاضَ عَنْ إِذَاعَةِ ذَلِكَ فَكَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. أَتَى بِمَا يُقَابِلُ جَفَاءَ طَبْعِهِمُ انْتِصَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا جَفَاءُ قَوْلِهِمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ لَمَا تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِسِبَابِهِمْ مَعَ أَنَّ عَادَتَهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ: «قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ» ، وَلِأَنَّهُ مَقَامُ بَيَانِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فَتَحْسُنُ فِيهِ الصَّرَاحَةُ وَالصَّرَامَةُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي آدَابِ الْخَطَابَةِ، وَأَعْلَنَ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ أَلَا الْمُؤْذِنَةُ بِالتَّنْبِيهِ لِلْخَبَرِ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الْبَقَرَة: 12] لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّفَاهَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ إِضَافِيٌّ لَا مَحَالَةَ. وَإِذَا ثَبَتَتْ لَهُمُ السَّفَاهَةُ انْتَفَى عَنْهُمُ الْحِلْمُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فِي صِفَاتِ الْعُقُولِ. (إِنَّ) هُنَا لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَهُوَ مَضْمُونُ الْقَصْرِ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَصْرِ كَمَا تقدم آنِفا. و (أَلا) كَأُخْتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِمْ سُفَهَاءَ بِكَلِمَةِ يَعْلَمُونَ دُونَ يَشْعُرُونَ خِلَافًا لِلْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِأَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِالسَّفَهِ لَيْسَ مِمَّا شَأْنُهُ الْخَفَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ شُعُورًا وَيَكُونَ الْجَهْلُ بِهِ نَفْيَ شُعُورٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى لِأَنَّ لِقَاءَهُمْ كُلَّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ وَاضْطِرَابَهُمْ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ وَعَدَمُ ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ ثَبَاتًا كَامِلًا وَلَا عَلَى الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ كَافٍ فِي النِّدَاءِ بِسَفَاهَةِ أَحْلَامِهِمْ فَإِنَّ السَّفَاهَةَ صِفَةٌ لَا تَكَادُ تَخْفَى، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: السَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا، قَالَ النَّابِغَةُ: نُبِّئْتُ زَرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... يُهْدَى إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ وَقَالَ جَزْءُ بْنُ كِلَابٍ الْفَقْعَسِيُّ: تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا فَظَنُّهُمْ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ رُشْدٌ، وَأَنَّ مَا تَقَلَّدَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْإِيمَانِ سَفَهٌ يَدُلُّ عَلَىُُ

[سورة البقرة (2) : آية 14]

انْتِفَاءُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ. فَمَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِدَفْعِ تَعَجُّبِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ رِضَاهُمْ بِالِاخْتِصَاصِ بِوَصْف السفاهة. [14] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 14] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) عُطِفَ وَإِذا لَقُوا عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا [الْبَقَرَة: 12] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [الْبَقَرَة: 13] . وَالْكَلَامُ فِي الظَّرْفِيَّةِ وَالزَّمَانِ سَوَاءٌ. وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا فَبِذَلِكَ كَانَ مُفِيدًا فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] الْآيَةَ فَلَيْسَ مَا هُنَا تَكْرَارًا مَعَ مَا هُنَاكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا وَصْفُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَلِقَائِهِمْ بِوُجُوهِ الصَّادِقِينَ، فَإِذَا فَارَقُوهُمْ وَخَلَصُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَادَتِهِمْ خَلَعُوا ثَوْبَ التَّسَتُّرِ وَصَرَّحُوا بِمَا يُبْطِنُونَ. وَنُكْتَةُ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ آمَنَّا أَيْ كُنَّا مُؤْمِنِينَ فَالْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ الْأَوْصَافِ الِاعْتِقَادِيَّةِ والعلمية الَّتِي تقلب بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَعُرِفُوا بِهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 156] أَيْ كُنَّا عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ فَلَا مُتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ آمَنَّا حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَوْجِيهِ حَذْفِهِ أَوْ تَقْدِيرِهِ، أَوْ أُرِيدَ آمَنَّا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلِقَاؤُهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا هُوَ حُضُورُهُمْ مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجَالِسَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَعْنَى قالُوا آمَنَّا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لَا بِعَقْدِ الْقَلْبِ، أَيْ نَطَقُوا بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُتَرْجِمُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا وَالْمَقْصُودُ هُوَ هَذَا الْمَعْطُوفُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا فَتَمْهِيدٌ لَهُ كَمَا عَلِمْتَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا فِي حَالِ اسْتِهْزَاءٍ يُصَرِّحُونَ بِقَصْدِهِ إِذَا خَلَوْا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَة: 13] إِنْكَارًا لِذَلِكَ، وَوَاوُ الْعَطْفِ صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِحَسَبَ السِّيَاقِ وَذَلِكَ أَنَّ السِّيَاقَ فِي بَيَانِ مَا لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجْهٍ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَوَجْهٍ مَعَ قَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي

صُورَةِ الْحَالِ كَأَنْ يُقَالَ قَائِلِينَ لِشَيَاطِينِهِمْ إِذَا خَلَوْا وَلَمْ نَحْمِلِ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا عَلَى الْحَالِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ لَمَّا كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يُعْتَبَرَ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً دَالَّةً عَلَى النِّفَاقِ قُصِدَ بِالْعَطْفِ اسْتِقْلَالُ كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ الْغَرَضَ تَعْدَادُ مَسَاوِيهِمْ فَإِنَّ مَضْمُونَ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا مُنَادٍ وَحْدُهُ بِنِفَاقِهِمْ فِي هَاتِهِ الْحَالَةِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَإِذا لَقُوا الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ اتِّحَادُ مَوْقِعِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَمَاثِلَتَيْنِ لَفْظًا. وَلِمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي وَجْهِ الْعُدُولِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْحَالِ. وَالشَّيَاطِينُ جَمْعُ شَيْطَانٍ، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَحَقِيقَةُ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، طَبِيعَتُهَا الْحَرَارَةُ النَّارِيَّةُ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْلِيسَ: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: 50] وَقَدِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَيُطْلَقُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُفْسِدِ وَمُثِيرِ الشَّرِّ، تَقُولُ الْعَرَبُ فُلَانٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ، وَكَذَلِكَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى قَادَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي النِّفَاقِ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ [الْأَنْعَام: 112] إِلَخْ. وَوَزْنُ شَيْطَانٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْبَصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ هُوَ فَيْعَالٌ مِنْ شَطَنَ بِمَعْنَى بَعُدَ لِأَنَّهُ أُبْعِدَ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَنِ الْجَنَّةِ فَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ فَعْلَانُ مِنْ شَاطَ بِمَعْنَى هَاجَ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ بَطَلَ وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ. وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْخِلَافَ إِلَّا أَنَّهُ بَحْثٌ عَنْ صِيغَةِ اشْتِقَاقِهِ فَحَسْبُ أَيِ الْبَحْثُ عَنْ حُرُوفِهِ الْأُصُولِ وَهل إِن نُونُهُ أَصْلٌ أَوْ زَائِدٌ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِنُحَاةِ الْكُوفَةِ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَصْفِ الَّذِي فِيهِ زِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ مِثْلُ غَضْبَانَ، كَيْفَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [الْحجر: 17] . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حَكَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَشَيْطَنَ إِذَا فَعَلَ الشَّيْطَانِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ شَطَنَ وَإِلَّا لَقَالُوا تَشَيَّطَ اهـ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : جَعَلَ سِيبَوَيْهِ نُونَ شَيْطَانٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَصْلِيَّةً وَفِي آخَرَ زَائِدَةً اهـ. وَالْوَجْهُ أَنَّ تَشَيْطَنَ لَمَّا كَانَ وَصْفًا مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ كَقَوْلِهِمْ تَنَمَّرَ أَثْبَتُوا فِيهِ حُرُوفَ الِاسْمِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْجَامِدِ دُونَ الْمُشْتَقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَقًّا مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ الِاسْمُ بَلْ مِنْ حُرُوفِ الِاسْمِ فَهُوَ اشْتِقَاقٌ حَصَلَ بَعْدَ تَحْقِيقِ الِاسْتِعْمَالِ

وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَادَّةِ الِاشْتِقَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ شَابَهَ فِي حُرُوفِهِ مَادَّةً مُشْتَقَّةً وَدَخَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ لُغَةٍ سَابِقَةٍ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، وَقد كَانَ الْعَرَب الْعِرَاقِ فِيهَا السَّبْقُ قَبْلَ انْتِقَالِهِمْ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَقَارُبُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَكْثَرِ اللُّغَاتِ الْقَدِيمَةِ. وَكُنْتُ رَأَيْتُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ اسْمَهُ فِي الفارسية سيطان. و (خلوا) بِمَعْنَى انْفَرَدُوا فَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ وَيُعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِاللَّامِ وَمِنْ وَمَعَ بِلَا تَضْمِينٍ وَيُعَدَّى بِإِلَى عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى آبَ أَوْ خَلُصَ وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ عَلَى تَضْمِينِ تَجَاوَزَ وَبَاعَدَ وَمِنْهُ مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِهِمُ: «افْعَلْ كَذَا وَخَلَاكَ ذَمٌّ» (¬1) أَيْ إِنَّ تَبِعَةَ الْأَمْرِ أَوْ ضُرَّهُ لَا تَعُودُ عَلَيْكَ. وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بإلى اليشير إِلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ كَانَتْ فِي مَوَاضِعَ هِيَ مَآبَهُمْ وَمَرْجِعَهُمْ وَأَنَّ لِقَاءَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ صُدْفَةٌ وَلَمَحَاتٌ قَلِيلَةٌ، أَفَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ: لَقُوا وخَلَوْا. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ وَصَرَاحَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ حُكِيَ خِطَابُهُمْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا فِيهِ بِمَا يُحَقِّقُ الْخَبَرَ مِنْ تَأْكِيدٍ، وَخِطَابُهُمْ مُوهِمٌ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ حَقَّقُوا لَهُمْ بَقَاءَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَشُكُّونَ فِي إِيمَانِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَوْمُهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَجَاءَتْ حِكَايَةُ كَلَامِهِمُ الْمُوَافِقَةُ لِمَدْلُولَاتِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمُرَاعَاةِ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِعِنَايَةِ الْبَلِيغِ مِنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَخَلَّوْ خِطَابَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَعْرِضُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِضِ مَنْ يَتَطَرَّقُ سَاحَتَهُ الشَّكُّ فِي صِدْقِهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَيْقَظُوهُمْ إِلَى الشَّكِّ وَذَلِكَ مِنْ إِتْقَانِ نِفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ أَخْلِيَاءَ الذِّهْنِ مِنَ الشَّكِّ فِي الْمُنَافِقِينَ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ تَجْرِيدُ الْخَبَرِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ بِالتَّأْكِيدِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَا مِنْ إِبْدَاعِهِمْ فِي النِّفَاقِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُوجِبُ شَكَّ كُبَرَائِهِمْ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَطْرُقُ بِهِ التُّهْمَةُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمُ ¬

(¬1) أول من قَالَه قصير بن سعد اللَّخْمِيّ لعَمْرو بن عدي ملك اللخميين من عرب الْعرَاق حِين حرض قصير عمرا على الْأَخْذ بثأر خَاله جذيمة بن مَالك الأبرش ملك اللخميين الَّذِي قتلته الزباء العمليقية ملكة تدمر إِذْ خدعته وجلبته إِلَى بَلَدهَا وقتلته غيلَة فَملك اللخميون ابْن أُخْته عَمْرو بن عدي وَكَانَ قصير وزيرا لجذيمة وَلابْن أُخْته فَلَمَّا استصعب عَمْرو الْأَخْذ بالثأر قَالَ لَهُ قصير «اطلب الْأَمر وخلاك ذمّ» أَي إِن نجحت فَذَاك، وَإِلَّا فَلَا لوم عَلَيْك.

احْتَاجُوا إِلَى تَأْكِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى دِينِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فَقَدْ أَبْدَوْا بِهِ وَجْهَ مَا أَظْهَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَجَاءُوا فِيهِ بِصِيغَةِ قَصْرِ الْقَلْبِ لِرَدِّ اعْتِقَادِ شَيَاطِينِهِمْ فِيهِمْ أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةٌ وَإِيمَانٌ صَادِقٌ. وَقَدْ وَجَّهَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْعُدُولَ عَنِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَالتَّأْكِيدَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ بِأَنَّ مُخَاطَبَتَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ انْتَفَى عَنْهَا مَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْمُخْبِرِينَ لَمْ يَتَعَلَّقْ غَرَضُهُمْ بِأَكْثَرَ مِنِ ادِّعَاءِ حُدُوثِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ نُفُوسَهُمْ لَا تُسَاعِدُهُمْ عَلَى أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُرَوَّجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ فَاقْتَصَرُوا عَلَى اللَّازِمِ مِنَ الْكَلَامِ فَإِنَّ عَدَمَ التَّأْكِيدِ فِي الْكَلَامِ قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ اعْتِنَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِتَحْقِيقِهِ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّ تَأْكِيدَهُ عَبَثٌ لِعَدَمِ رَوَاجِهِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ غَرِيبَةٌ مَرْجِعُهَا قَطْعُ النَّظَرِ عَنْ إِنْكَارِ السَّامِعِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَأَمَّا مُخَاطَبَتُهُمْ شَيَاطِينَهُمْ فَإِنَّمَا أَتَوْا بِالْخَبَرِ فِيهَا مُؤَكَّدًا لِإِفَادَةِ اهْتِمَامِهِمْ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَصِدْقِ رَغْبَتِهِمْ فِي النُّطْقِ بِهِ وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ رَائِجٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ قَدْ يَكُونُ لِاعْتِنَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْخَبَرِ وَرَوَاجِهِ عِنْدَ السَّامِعِ أَيْ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِرَدِّ الْإِنْكَارِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلْقَلْبِ أَيْ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ، وَجُمْلَةُ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُمْ كَانَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ مُفَارَقَةِ دِينِهِمُ اسْتِهْزَاءً أَوْ نَحْوَهُ فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِئْنَافًا وَاقِعَةً فِي جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ سَائِلًا يَعْجَبُ مِنْ دَعْوَى بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ لِمَا أَتْقَنُوهُ مِنْ مَظَاهِرِ النِّفَاقِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونُوا بَاقِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَيَسْأَلُ كَيْفَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الدِّينِ وَإِظْهَارِ الْمَوَدَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَأَجَابُوا إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، وَبِهِ يَتَّضِحُ وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ الْقَصْرِ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ السَّائِلَ يَعْتَقِدُ كَذِبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ وَيَدَّعِي عَكْسَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنْ إِنَّا مَعَكُمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ مَنْ دَامَ عَلَى الْكُفْرِ وَتَغَالَى فِيهِ- وَهُوَ مُقْتَضَى مَعَكُمْ أَيْ فِي تَصَلُّبِكُمْ- فَقَدْ حَقَّرَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَا تُفِيدُهُ الْبَدَلِيَّةُ وَالتَّأْكِيدُ مِنْ تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى رَدِّ التَّحَيُّرِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ السُّؤَالُ وَهَذَا يَفُوتُ عَلَى تَقْدِيرَيِ التَّأْكِيدِ وَالْبَدَلِيَّةِ. وَالِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ يُقَالُ: هَزَأَ بِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ، أَيْ عَامَلَهُ فِعْلًا أَوْ

[سورة البقرة (2) : آية 15]

قَوْلًا يَحْصُلُ بِهِ احْتِقَارُهُ أَوْ وَالتَّطْرِيَةُ بِهِ، سَوَاءٌ أَشْعَرَهُ بِذَلِكَ أَمْ أَخْفَاهُ عَنْهُ. وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ قِيلَ: لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِ الْبَاءِ وَقِيلَ: يَتَعَدَّى بِمِنْ، وَهُوَ مُرَادِفُ سَخِرَ فِي الْمَعْنَى دُونَ الْمَادَّةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (مُسْتَهْزُونَ) بِدُونِ هَمْزَةٍ وَبِضَمِّ الزَّايِ تَخْفِيفًا وَهُوَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ فِي المهموز. [15] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 15] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ. لَمْ تُعْطَفْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّامِعَ لِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ للْمُؤْمِنين آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] وَقَوْلِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: 14] إِلَخْ. يَقُولُ لَقَدْ رَاجَتْ حِيلَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْغَافِلِينَ عَنْ كَيْدِهِمْ وَهَلْ يَتَفَطَّنُ مُتَفَطِّنٌ فِي الْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالِهِمْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، أَوْ هَلْ يَرُدُّ لَهُمْ مَا رَامُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ الَّذِي يَتَوَلَّى مُقَابَلَةَ صُنْعِهِمْ فَكَانَ لِلِاسْتِئْنَافِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ غَايَةُ الْفَخَامَةِ وَالْجَزَالَةِ، وَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ وَالْأَكْثَرُ فِي الِاعْتِرَاضِ تَرْكُ الْعَاطِفِ. وَذِكْرُ يَسْتَهْزِئُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ مُجَازَاةٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ. وَلِأَجَلِ اعْتِبَارِ الِاسْتِئْنَافِ قُدِّمَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ. وَلم يقل يستهزىء اللَّهُ بِهِمْ لِأَنَّ مِمَّا يَجُولُ فِي خَاطِرِ السَّائِلِ أَنْ يَقُولَ مَنِ الَّذِي يَتَوَلَّى مُقَابَلَةَ سُوءِ صَنِيعِهِمْ فَأُعْلِمَ أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ هُوَ رَبُّ الْعِزَّةِ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُنْتَصِرِ لَهُمْ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: 38] فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ هُنَا لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ الْإِيجَابِ يَأْتِي لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَيَأْتِي لِلْقَصْرِ عَلَى رَأْيِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ وَصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [20] ، كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَصْدِ التَّقَوِّي وَقَصْدِ التَّخْصِيصِ جَائِزًا فِي مَقَاصِدِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَقَدْ جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً فِي سُورَةِ الْجِنِّ [13] ، لِأَنَّ مَا يُرَاعِيهِ الْبَلِيغُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَا يَتْرُكُ حَمْلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ النُّكَتُ لَا تَتَزَاحَمُ. كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَغُرُّهُمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ صَفْحِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَإِعْرَاضِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّنَازُلِ لَهُمْ فَيَحْسَبُونَ رَوَاجَ حِيلَتِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ:

لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: 8] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المُنَافِقُونَ: 8] فَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا لِقَصْدِ التَّقَوِّي إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ. وَفِعْلُ: يَسْتَهْزِئُ الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا يُسَمَّى بِالِاسْتِهْزَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ وَلَمْ يَقَعِ اسْتِهْزَاءٌ حَقِيقِيٌّ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِمُعَامَلَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، بِمَا بشبه فِعْلَ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ وَذَلِكَ بِالْإِمْلَاءِ لَهُمْ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ سَلِمُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ فَيَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ نَفَعُوهُمْ حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْفَضْحِ عَلِمُوا خِلَافَ مَا تَوَهَّمُوا فَكَانَ ذَلِكَ كَهَيْئَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ. وَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَهْزِئُ لِزَمَنِ الْحَالِ. وَلَا يُحْمَلُ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ بِالِاسْتِهْزَاءِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنَ اللَّهِ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّمْثِيلَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حَقِيقَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِقَابِ فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ فِي يَسْتَهْزِئُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى نَحَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ فِي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ نَحْوِهِ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالتَّحْقِيرِ وَالْمَعْنَى يُذِلُّهُمْ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ مَجَازًا وَمُشَاكَلَةً، أَوْ مُرَادًا بِهِ مَآلُ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْ رُجُوعِ الْوَبَالِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ جَازَ فَقَدْ عَيَّنَهُ هُنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَعَيَّنَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَعَيَّنَهُ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَلِيقُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ فِعْلٌ قَبِيحٌ يُنَزَّهُ اللَّهَ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ. وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِالْمُسْنَدِ الِاسْمِيِّ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَة: 14] لِإِفَادَةِ كَلَامِهِمْ مَعْنَى دَوَامِ صُدُورِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ وَثَبَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهُ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ بِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ أَيْ تَجَدُّدِ إِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ زَمَانًا إِلَى أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ، لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ وَإِنْ طَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196] .

وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ. و (يمد) فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ مَدَّهُ إِذَا زَادَهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْعَيْنَ فِي الْمُضَارِعِ عَلَى قِيَاسِ الْمُضَاعَفِ الْمُتَعَدِّي، وَقَدْ يَقُولُونَ أَمَدَّهُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعَلَهُ ذَا مَدَدٍ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ مَدَّ فِي الزِّيَادَةِ فِي ذَاتِ الْمَفْعُولِ نَحْوُ مَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ وَمَدَّ الْأَرْضَ أَيْ مَطَّطَهَا وَأَطَالَهَا، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ أَمَدَّ الْمَهْمُوزِ فِي الزِّيَادَةِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَشْيَاءَ يَحْتَاجُهَا نَحْوُ أَمَدَّهُ بِجَيْشٍ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشُّعَرَاء: 133] . وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ هَذَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ عَلَى الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَقِيلَ يَخْتَصُّ أَمَدَّ الْمَهْمُوزُ بِالْخَيرِ نَحْو: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النَّمْل: 36] أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 55] ، وَيَخْتَصُّ مَدَّ بِغَيْرِ الْخَيْرِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ» ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ، إِلَّا الْمُعَدَّى بِاللَّامِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَالْإِمْهَالِ فِيهِ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ فَاسْتَغْنَوْا بِذِكْرِ اللَّامِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّفْعِ وَلِلْأَجَلِ (بِسُكُونِ الْجِيمِ) عَنِ التَّفْرِقَةِ بِالْهَمْزِ رُجُوعًا لِلْأَصْلِ لِئَلَّا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا يَقْتَضِي التَّعْدِيَةَ وَهُوَ الْهَمْزَةُ وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِي الْقُصُورَ وَهُوَ لَامُ الْجَرِّ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَأْثِيرِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى النَّاظِرِينَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَفَرَّعُ مَعْنَاهَا الْوَضْعِيُّ إِلَى مَعَانٍ جُزْئِيَّةٍ لَهُ أَوْ مُقَيَّدَةٍ أَوْ مَجَازِيَّةٍ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ لُغَاتِهِ أَوْ بَعْضَ أَحْوَالِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَعَانِي جَرْيًا وَرَاءَ التَّنْصِيصِ فِي الْكَلَامِ وَدَفْعِ اللَّبْسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ دَعْوَى اخْتِصَاصِ بَعْضِ الِاسْتِعْمَالَاتِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي هِيَ دَعْوَى اشْتِرَاكٍ أَوْ دَعْوَى مَجَازٍ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ كَمَا أَوْرَدَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ كَمَا عَلِمْتَ اصْطِلَاحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا تَعَدُّدُ وَضْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فَرَقَ وَفَرَّقَ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ وَنَشَدَ وَأَنْشَدَ وَنَزَّلَ (الْمُضَاعَفُ) وَأَنْزَلَ، وَقَوْلُهُمِ الْعِثَارُ مَصْدَرُ عَثَرَ إِذْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْحَقِيقَةُ، وَالْعُثُورُ مَصْدَرُ عَثَرَ إِذْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْمَجَازُ وَهُوَ الِاطِّلَاعُ، وَقَدْ فَرَّقَتِ الْعَرَبُ فِي مَصَادِرِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ وَفِي جُمُوعِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ الْقُيُودِ.

وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَمُدُّ) إِلَى ضَمِيرِهِمُ الدَّالِّ عَلَى أَدَبٍ أَوْ ذَوْقٍ مَعَ أَنَّ الْمَدَّ إِنَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى الطُّغْيَانِ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَتَمَكَّنَ التَّفْصِيلُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ مِثْلُ طَرِيقَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالْوَاحِدِيُّ أَصْلَهُ وَيَمُدُّ لَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ فَحَذَفَ لَامَ الْجَرِّ وَاتَّصَلَ الْفِعْلُ بِالْمَجْرُورِ عَلَى طَرِيقَةِ نَزْعِ الْخَافِضِ وَلَيْسَ بِذَلِكَ. وَالطُّغْيَانُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ وَالشُّكْرَانِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الطَّغْيِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الشَّرِّ وَالْكِبْرِ وَتَعْلِيقُ فِعْلِ يَمُدُّهُمْ هُنَا بِضَمِيرِ الذَّوَاتِ تَعْلِيقٌ إِجْمَالِيٍّ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: فِي طُغْيانِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ يَمُدُّ لَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ أَيْ يُمْهِلُهُمْ فَيَكُونُ نَحْوَ بَعْضِ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْوَاحِدِيِّ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْعَمَهُ انْطِمَاسُ الْبَصِيرَةِ وَتَحَيُّرُ الرَّأْيِ وَفِعْلُهُ عَمِهَ فَهُوَ عَامِهٌ وَأَعْمَهُ. وَإِسْنَادُ الْمَدِّ فِي الطُّغْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَيَمُدُّهُمْ إِسْنَادُ خَلْقٍ وَتَكْوِينٍ مَنُوطٍ بِأَسْبَابِ التَّكْوِينِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُصُولِ الْمُسَبَّبَاتِ عِنْدَ أَسْبَابِهَا. فَالنِّفَاقُ إِذَا دَخَلَ الْقُلُوبَ كَانَ مِنْ آثَارِهِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ وَصْفِ النِّفَاقِ أَنْ تُنْمِي عَنْهُ الرَّذَائِلُ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانهَا كَانَ تكونها فِي نُفُوسِهِمْ مُتَوَلِّدًا مِنْ أَسْبَابٍ شَتَّى فِي طِبَاعِهِمْ مُتَسَلْسِلًا مِنِ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَهِيَ شَتَّى وَمُتَفَرِّعَةٌ وَذَلِكَ بِخُلُقٍ خَاصٍّ بِهِمْ مُبَاشَرَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمْ تَوْفِيقَهُ الَّذِي يَقْلَعُهُمْ عَنْ تِلْكَ الجبلة بمحارية نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ حِرْمَانُهُ إِيَّاهُمُ التَّوْفِيقَ مُقْتَضِيًا اسْتِمْرَارَ طُغْيَانِهِمْ وَتَزَايُدَهُ بِالرُّسُوخِ فَإِسْنَادُ ازْدِيَادِهِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ النُّظُمِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ ازْدِيَادِهِ، وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ الشَّائِعَةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ لِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ خَلْقِ الْأَسْبَابِ بِحَسَبِ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ إِسْنَادِ مَا خَفِيَ فَاعِلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْجَاعِلُ لِنَوَامِيسِهَا بِكَيْفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ سِرَّهَا وَلَا شَاهَدُوا مَنْ تُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ بَنَى الْأَمِير الْمَدِينَة لَا سِيمَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْبِنَاءِ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ مَجَالٌ وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ: يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا وَسَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ فِي الْعُرْفِ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: إِنَّهُ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

[سورة البقرة (2) : آية 16]

وَإِنَّمَا أَضَافَ الطُّغْيَانَ لِضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَقُلْ فِي الطُّغْيَانِ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: [202] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ إِشَارَةً إِلَى تَفْظِيعِ شَأْنِ هَذَا الطُّغْيَانِ وَغَرَابَتِهِ فِي بَابِهِ وَأَنَّهُمُ اخْتَصُّوا بِهِ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ. والظرف مُتَعَلق بيمدهم ويَعْمَهُونَ جملَة حَالية. [16] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى. الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: 8] وَمَا عُطِفَ عَلَى صِلَتِهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْجمع لِأَن مَا صدق «مَنْ» هُوَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ، وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِتُفِيدَ تَقْرِيرَ مَعْنَى: «وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَة: 15] فَمَضْمُونُهَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الْفَصْلَ، وَلِتُفِيدَ تَعْلِيلَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ عَنِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ السَّابِقَةِ الشَّارِحَةِ لِأَحْوَالِهِمْ وَشَأْنُ الْفَذْلَكَةِ عَدَمُ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: 196] ، وَكُلُّ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ مُقْتَضٍ لِعَدَمِ الْعَطْفِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ مُوجِبَاتٍ لِلْفَصْلِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ مُقَابِلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَمُقَابِلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَة: 7] الْآيَةَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا غَيْرُ مُشَارٍ بِهِ إِلَى ذَوَاتٍ وَلَكِنْ إِلَى صِنْفٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِمُ الصِّفَاتُ الْمَاضِيَةُ فَانْكَشَفَتْ أَحْوَالُهُمْ حَتَّى صَارُوا كَالْحَاضِرِينَ تُجَاهَ السَّامِعِ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرُ الْوُرُودِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ إِشْعَارٌ بِبُعْدٍ أَوْ قُرْبٍ حَتَّى تُفِيدَ تَحْقِيرًا نَاشِئًا عَنِ الْبُعْدِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا عُدُولَ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ الْعُدُولُ لِمَقْصِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 2] وَلِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا غَيْرُ مَحْسُوسٍ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَرْتَبَةٌ مُعَيَّنَةٌ فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِهَا لِقَصْدِ مَعْنًى ثَانٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ مَعَ قُرْبِ الْكِتَابِ لِلنَّاطِقِ بِآيَاتِهِ عُدُولٌ عَنْ إِشَارَةِ الْقَرِيبِ إِلَى الْبَعِيدِ فَأَفَادَ التَّعْظِيمَ. وَعَكْسُ هَذَا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا فَإِنَّ الْمَوْتَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَحَقُّهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْبَعِيدِ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى إِشَارَةِ الْقَرِيبِ لِإِظْهَارِ اسْتِخْفَافِهِ بِهِ.

وَالِاشْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الشَّرْيِ وَفِعْلُهُ شَرَى الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَاعَ كَمَا أَنَّ اشْتَرَى بِمَعْنَى ابْتَاعَ فَاشْتَرَى وَابْتَاعَ كِلَاهُمَا مُطَاوِعٌ لِفِعْلِهِ الْمُجَرَّدِ أَشَارَ أَهْلُ اللِّسَانِ إِلَى أَنَّ فَاعِلَ هَذِهِ الْمُطَاوَعَةِ هُوَ الَّذِي قَبِلَ الْفِعْلَ وَالْتَزَمَهُ فَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ آخِذٌ شَيْئًا لِرَغْبَةٍ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الْبَيْعِ مُقْتَضِيًا آخِذِينَ وَبَاذِلِينَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَائِعًا وَمُبْتَاعًا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، فَفِعْلُ بَاعَ مَنْظُورٌ فِيهِ ابْتِدَاءً إِلَى مَعْنَى الْبَذْلِ وَالْفِعْلُ ابْتَاعَ مَنْظُورٌ فِيهِ ابْتِدَاءً إِلَى مَعْنَى الْأَخْذِ فَإِنِ اعْتَبَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ آخِذًا لِمَا صَارَ بِيَدِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِمُبْتَاعٍ وَمُشْتَرٍ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ بَاذِلًا لِمَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ مِنَ الْعِوَضِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِبَائِعٍ وَشَارٍ، وَبِهَذَا يَكُونُ الْفِعْلَانِ جَارِيَيْنِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّ شَرَى يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اشْتَرَى وَالَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ سُوءُ التَّأَمُّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يُوسُف: 20] فَتَوَهَّمُوا الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ مَعَ أَنَّ مَعَادَهُ وَاضِحٌ قَرِيبٌ وَهُوَ سَيَّارَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ [يُوسُف: 19] أَيْ بَاعُوهُ، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يُوسُف: 20] أَمَّا الَّذِي اشْتَرَاهُ فَهُوَ فِيهِ مِنَ الرَّاغِبِينَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْواهُ [يُوسُف: 21] . وَعَلَى ذَيْنِكَ الْاعْتِبَارَيْنِ فِي فِعْلَيِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ كَانَتْ تَعْدِيَتُهُمَا إِلَى الْمَفْعُولِ فَهُمَا يَتَعَدَّيَانِ إِلَى الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِلَى غَيْرِهِ بِالْبَاءِ فَيُقَالُ بَاعَ فَرَسَهُ بِأَلْفٍ وَابْتَاعَ فَرَسَ فُلَانٍ بِأَلْفٍ لِأَنَّ الْفَرَسَ هُوَ الَّذِي كَانَتِ الْمُعَاقَدَةُ لِأَجْلِهِ لِأَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ لِيَبِيعَهُ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ فِيهِ وَالَّذِي جَاءَ لِيَشْتَرِيَهُ كَذَلِكَ. وَإِطْلَاق الاشتراء هَاهُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَطْلَقَ الِاشْتِرَاءَ عَلَى لَازِمِهِ الثَّانِي وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى شَيْءٍ وَالزُّهْدُ فِي ضِدِّهِ أَيْ حَرَصُوا عَلَى الضَّلَالَةِ، وَزَهِدُوا فِي الْهُدَى إِذْ لَيْسَ فِي مَا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ اسْتِبْدَالُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبْلُ مُهْتَدِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِبْدَالِ وَهُوَ لَازِمُهُ الْأَوَّلُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي هَذَا اللَّازِمِ مَشْهُورٌ. قَالَ بَشَامَةُ بْنُ حَزْنٍ: إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبٍ ... عَنْهُ وَلَا هُوَ بِالْأَبْنَاءِ يَشْرِينَا أَيْ يَبِيعُنَا أَيْ يُبَدِّلُنَا، وَقَالَ عَنْتَرَةُ بْنُ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» : وَمَنْ إِنْ بِعْتَ مَنْزِلَةً بِأُخْرَى ... حَلَلْتَ بِأَمْرِهِ وَبِهِ تَسِيرُُُ

أَيْ إِذَا اسْتَبْدَلْتَ دَارًا بِأُخْرَى. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: أَخَذْتُ بِالْجَمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا ... وَبِالطَّوِيلِ الْعُمر عمرا جيدار فَيَكُونُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ هُنَا أَن اختلاطهم كَمَا اشْترى الْمُسلم إِذْ تنصرا بِالْمُسْلِمِينَ وَإِظْهَارَهُمُ الْإِيمَانَ حَالَةٌ تُشْبِهُ حَالَ الْمُهْتَدِي تَلَبَّسُوا بِهَا فَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ طَرَحُوهَا وَاسْتَبْدَلُوهَا بِحَالَةِ الضَّلَالِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاءُ اسْتِعَارَةً بِتَشْبِيهِ تَيْنِكَ الْحَالَتَيْنِ بِحَالِ الْمُشْتَرِي لِشَيْءٍ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَهُ وَارْتَضَاهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ اشْتَرَوُا بِمَعْنى الْمُعَرّف بِلَامِ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ التَّرْكِيبُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا إِذْ جَمَعُوا الْكُفْرَ وَالسَّفَهَ وَالْخِدَاعَ وَالْإِفْسَادَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالْمُهْتَدِينَ. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. رَتَّبَتِ الْفَاءُ عَدَمَ الرِّبْحِ الْمَعْطُوفِ بِهَا وَعَدَمَ الِاهْتِدَاءِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى لِأَن كليهمَا ناشىء عَنِ الِاشْتِرَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْوُجُودِ وَالظُّهُورِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَقَدِ اشْتَرَوْا مَا لَا يَنْفَعُ وَبَذَلُوا مَا يَنْفَعُ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونُوا خَاسِرِينَ وَأَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ فَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى أَوْ هُوَ عَيْنُهُ أَوْ هُوَ سَبَبُهُ إِلَّا أَنَّهُ لِكَوْنِهِ عَدَمًا فَظُهُورُهُ لِلنَّاسِ فِي الْوُجُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَثَرِهِ وَهُوَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاءُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْمُؤَثِّرُ فَلِذَلِكَ صَحَّ تَرْتِيبُهُ بِفَاءِ التَّرْتِيبِ فَأَشْبَهَ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ دُونَ مَا اهْتَدَوْا لِأَنَّ مَا كَانُوا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ انْتِفَاءَ الِاهْتِدَاءِ عَنْهُمْ أَمْرٌ مُتَأَصِّلٌ سَابِقٌ قَدِيمٌ، لِأَنَّ كَانَ تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ اسْمِهَا بِخَبَرِهَا مُنْذُ الْمُضِيِّ فَكَانَ نَفْيُ الْكَوْنِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَنْسَبَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ. وَالرِّبْحُ هُوَ نَجَاحُ التِّجَارَةِ وَمُصَادَفَةُ الرَّغْبَةِ فِي السِّلَعِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَثْمَانِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بِهَا التَّاجِرُ وَيُطْلَقُ الرِّبْحُ عَلَى الْمَالِ الْحَاصِلِ لِلتَّاجِرِ زَائِدًا عَلَى رَأْسِ مَالِهِ. وَالتِّجَارَةُ- بِكَسْرِ أَوَّلِهِ- عَلَى وَزْنِ فِعَالَةٍ وَهِي زنة الضائع وَمَعْنَى التِّجَارَةِ التَّصَدِّي لِاشْتِرَاءِ الْأَشْيَاءِ لِقَصْدِ بَيْعِهَا بِثَمَنٍُُ

أَوْفَرَ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ لِيَكْتَسِبَ مِنْ ذَلِكَ الْوَفْرِ مَا يُنْفِقُهُ أَوْ يَتَأَثَّلُهُ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْجَحُ إِلَّا بِالْمُثَابَرَةِ وَالتَّجْدِيدِ صِيغَ لَهُ وزن الضائع وَنَفْيُ الرِّبْحِ فِي الْآيَةِ تَشْبِيهٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ إِذْ قَصَدُوا مِنَ النِّفَاقِ غَايَةً فَأَخْفَقَتْ مَسَاعِيهِمْ وَضَاعَتْ مَقَاصِدُهُمْ بِحَالِ التُّجَّارِ الَّذِينَ لَمْ يَحْصُلُوا مِنْ تِجَارَتِهِمْ عَلَى رِبْحٍ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى رَأْسِ مَالٍ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَرْبَحُوا فَقَدْ بَقِيَ لَهُمْ نَفْعُ رَأْسِ الْمَالِ وَيُجَابُ بِأَنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ يَسْتَلْزِمُ ضَيَاعَ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ فِي النَّفَقَةِ مِنَ الْقُوتِ وَالْكُسْوَةِ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ إِذِ الِاسْتِعَارَةُ تَعْتَمِدُ عَلَى مَا يُقْصَدُ مِنْ وَجْهِ الشَّبَهِ فَلَا تَلْزَمُ الْمُشَابِهَةُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي فَنِّ الْبَيَانِ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الرِّبْحُ إِلَى التِّجَارَةِ حَتَّى نُفِيَ عَنْهَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَمَّا كَانَ مُسَبَّبًا عَنِ التِّجَارَةِ وَكَانَ الرَّابِحُ هُوَ التَّاجِرُ صَحَّ إِسْنَادُهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا الْإِسْنَادُ الْمَجَازِيُّ لَمَا صَحَّ أَنْ يُنْفَى عَنِ الشَّيْءِ مَا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْلُومِ ضَرُورَةً، فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ النَّفْيَ فِي مِثْلِ هَذَا حَقِيقَةٌ فَتَتْرُكَهُ، إِنَّ انْتِفَاءَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجَارَةِ وَاقِعٌ ثَابِتٌ لِأَنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالرِّبْحِ وَهَكَذَا تَقُولُ فِي نَحْوِ قَوْلِ جَرِيرٍ: «وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ» بِخِلَافِ قَوْلِكَ مَا لَيْلُهُ بِطَوِيلٍ، بَلِ النَّفْيُ هُنَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنِ اعْتِبَارِ وَصْفِ التِّجَارَةِ بِأَنَّهَا إِلَى الْخُسْرِ وَوَصْفُهَا بِالرِّبْحِ مَجَازٌ وَقَاعِدَةُ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي النَّفْيِ إِلَى الْمَنْفِيِّ لَوْ كَانَ مُثْبَتًا فَإِنْ وَجَدْتَ إِثْبَاتَهُ مَجَازًا عَقْلِيًّا فَاجْعَلْ نَفْيَهُ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْعَلْ نَفْيَهُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُنْفَى إِلَّا مَا يَصِحُّ أَنْ يُثْبَتَ. وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي انْفَصَلَ عَلَيْهَا الْمُحَقق التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» ، وَعَدَلَ عَنْهَا فِي «حَوَاشِي الْكَشَّافِ» وَهِيَ أَمْثَلُ مِمَّا عَدَلَ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ فِي اشْتَرَوُا فَإِنَّ مَرْجِعَ التَّرْشِيحِ إِلَى أَنْ يُقَفِّيَ الْمَجَازَ بِمَا يُنَاسِبُهُ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ التَّرْشِيحُ حَقِيقَةً بِحَيْثُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ إِلَّا تَقْوِيَةُ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ لَهُ يَدٌ طُولَى أَوْ هُوَ أَسَدٌ دَامِي الْبَرَاثِنِ أم كَانَ التشريح مُتَمَيِّزًا بِهِ أَوْ مُسْتَعَارًا لِمَعْنًى آخَرَ هُوَ مِنْ مُلَائَمَاتِ الْمَجَازِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ حَسُنَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِقْلَالُهُ بِالِاسْتِعَارَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ تُرَشِّحَ بِهِ اشْتَرَوُا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ كَمَا فِي «أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ» لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَلَمْ يَعْزُهُ:

وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَايَةٍ ... وَعَشَّشَ فِي وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي (¬1) فَإِنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الشَّيْبَ بِالنَّسْرِ وَالشَّعْرَ الْأَسْوَدَ بِالْغُرَابِ صَحَّ تَشْبِيهُ حُلُولِ الشَّيْبِ فِي مَحَلَّيِ السَّوَادِ وَهُمَا الْفَوْدَانِ بِتَعْشِيشِ الطَّائِرِ فِي مَوْضِعِ طَائِرٍ آخَرَ أَمْ لَمْ يَحْسُنْ إِلَّا مَعَ الْمَجَازِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِ بَعْضِ فُتَّاكِ الْعَرَبِ فِي أُمِّهِ (أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ قَائِلِهِ) : وَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإِنْ أَدَلَّتْ ... بِعَالِمَةٍ بِأَخْلَاقِ الْكِرَامِ إِذَا الشَّيْطَانُ قَصَّعَ فِي قَفَاهَا ... تَنَفَّقْنَاهُ بِالْحَبْلِ التُّؤَامِ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَعَارَ قَصَّعَ لِدُخُولِ الشَّيْطَانِ أَيْ وَسْوَسَتِهِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الشَّيْطَانَ بِضَبٍّ يَدْخُلُ لِلْوَسْوَسَةِ وَدُخُولُهُ مِنْ مَدْخَلِهِ الْمُتَعَارَفِ لَهُ وَهُوَ الْقَاصِعَاءُ، وَجَعَلَ عِلَاجَهُمْ وَإِزَالَةَ وَسْوَسَتِهِ كَالتَّنَفُّقِ أَيْ تَطَلُّبِ خُرُوجِ الضَّبِّ مِنْ نَافِقَائِهِ بَعْدَ أَنْ يُسَدَّ عَلَيْهِ الْقَاصِعَاءُ وَلَا تَحْسُنُ هَذِهِ الثَّانِيَةُ إِلَّا تَبَعًا لِلْأُولَى. وَالْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقَوْلُهُ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إِلَى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ الْمَنْفِيَّ هُوَ الِاهْتِدَاءُ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَلَا تَكْرِيرَ فِي الْمَعْنَى فَلَا يَرِدُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ هُدًى. وَمَعْنَى نَفْيِ الِاهْتِدَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ إِضَاعَةِ الْقَصْدِ أَيْ أَنَّهُمْ أَضَاعُوا مَا سَعَوْا لَهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا يُوَصِّلُ لِخَيْرِ الْآخَرِ وَلَا مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِسَفَهِ الرَّأْيِ وَالْخَرْقِ وَهُوَ كَمَا عَلِمْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِعَدَمِ رِبْحِ التِّجَارَةِ، فَشُبِّهَ سُوءُ تَصَرُّفِهِمْ حَتَّى فِي كُفْرِهِمْ بِسُوءِ تَصَرُّفِ مَنْ يُرِيدُ الرِّبْحَ، فَيَقَعُ فِي الْخُسْرَانِ. فَقَوْلُهُ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ تَمْثِيلِيَّةٌ وَيَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْخُسْرَانِ وَإِضَاعَةِ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا أَضَاعَ الرِّبْحَ وَأَضَاعَ رَأْسَ الْمَالِ بِسُوءِ سُلُوكِهِ. [17] ¬

(¬1) عز: غلب، وَابْن داية من أَسمَاء الْغُرَاب، سمي ابْن داية لسواده، لِأَن الداية: الحاضنة، وَكَانَت حواضن أَبنَاء الْعَرَب والمشتغلات فِي شؤونهم فِي بيُوت أكابرهم هن الْإِمَاء السود، فيطلق على الصّبيان من أَبنَاء الْإِمَاء ابْن داية تأنيسا لَهُ لِئَلَّا يُقَال العَبْد أَو الوصيف.

[سورة البقرة (2) : آية 17]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 17] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا. أَعْقَبَتْ تَفَاصِيلَ صِفَاتِهِمْ بِتَصْوِيرِ مَجْمُوعِهَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، بِتَشْبِيهِ حَالِهِمْ بِهَيْئَةٍ مَحْسُوسَةٍ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ تَشْبِيهِ التَّمْثِيلِ، إِلْحَاقًا لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمَعْقُولَةِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ إِلَى الْمَحْسُوسِ أَمِيلُ. وَإِتْمَامًا لِلْبَيَانِ بِجَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي السَّمْعِ، الْمِطَالَةُ فِي اللَّفْظِ، فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ لِلْإِجْمَالِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ وَقْعًا مِنْ نفوس السامعين. وتقريرا لجَمِيع مَا تَقَدَّمَ فِي الذِّهْنِ بِصُورَةٍ تُخَالِفُ مَا صُوِّرَ سَالِفًا لِأَنَّ تَجَدُّدَ الصُّورَةِ عِنْدَ النَّفْسِ أَحَبُّ مِنْ تَكَرُّرِهَا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمَثَلَ وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيَّاتِ الْمَعَانِي وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ وَالْمُتَوَهَّمَ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ وَالْغَائِبَ كَالْمَشَاهَدِ» . وَاسْتِدْلَالًا عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ سُوءِ الْحَالَةِ وَخَيْبَةِ السَّعْيِ وَفَسَادِ الْعَاقِبَةِ، فَمِنْ فَوَائِدِ التَّشْبِيهِ قَصْدُ تَفْظِيعِ الْمُشَبَّهِ. وَتَقْرِيبًا لِمَا فِي أَحْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ مِنَ التَّضَادِّ وَالتَّخَالُفِ بَيْنَ ظَاهِرٍ جَمِيلٍ وَبَاطِنٍ قَبِيحٍ بِصِفَةِ حَالٍ عَجِيبَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ فَإِنَّ مِنْ فَائِدَةِ التَّشْبِيهِ إِظْهَارَ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهِ، وَتَنْظِيرَ غَرَائِبِهِ بِمِثْلِهَا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلِأَمْرٍ مَا أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ أَمْثَالَهُ وَفَشَتْ فِي كَلَام رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَام الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] اهـ. وَالتَّمْثِيلُ مَنْزَعٌ جَلِيلٌ بَدِيعٌ مِنْ مَنَازِعِ الْبُلَغَاءِ لَا يَبْلُغُ إِلَى مَحَاسِنِهِ غَيْرُ خَاصَّتِهِمْ. وَهُوَ هُنَا مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ لَا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ وَأَدَاةِ التَّشْبِيهِ وَهِيَ لَفْظُ مَثَلٍ. فَجُمْلَةُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَاقِعَةٌ مِنَ الْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ مَوْقِعَ الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ وَالْفَذْلَكَةِ، فَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا كَمَالُ الِاتِّصَالِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَالْحَالَةُ الَّتِي وَقع تمثيلها سيجيئ بَيَانُهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَأَصْلُ الْمَثَلِ بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا مِثْلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ،

وَيُقَالُ: مَثِيلٌ كَمَا يُقَالُ: شِبْهٌ وَشَبَهٌ وَشَبِيهٌ، وَبَدَلٌ وَبِدْلٌ، وَبَدِيلٌ، وَلَا رَابِعَ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي مَجِيءِ فَعَلٍ وَفِعْلٍ وَفَعِيلٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدِ اخْتَصَّ لَفْظُ الْمَثَلِ (بِفَتْحَتَيْنِ) بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْحَالِ الْغَرِيبَةِ الشَّأْنِ لِأَنَّهَا بِحَيْثُ تُمَثِّلُ لِلنَّاسِ وَتُوَضِّحُ وَتُشَبِّهُ سَوَاءٌ شُبِّهَتْ كَمَا هُنَا، أَمْ لَمْ تُشَبَّهْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرَّعْد: 35] . وَبِإِطْلَاقِهِ عَلَى قَوْلٍ يَصْدُرُ فِي حَالٍ غَرِيبَةٍ فَيُحْفَظُ وَيَشِيعُ بَيْنَ النَّاسِ لِبَلَاغَةٍ وَإِبْدَاعٍ فِيهِ، فَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَذْكُرُونَ الْحَالَ الَّتِي قِيلَ فِيهَا ذَلِكَ الْقَوْلُ تَبَعًا لِذِكْرِهِ وَكَمْ مِنْ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ حَدَثَتْ وَنُسِيَتْ لِأَنَّهَا لَمْ يَصْدُرْ فِيهَا مِنْ قَوْلٍ بَلِيغٍ مَا يَجْعَلُهَا مَذْكُورَةً تَبَعًا لِذِكْرِهِ فَيُسَمَّى مَثَلًا وَأَمْثَالُ الْعَرَبِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بَلَاغَتِهِمْ وَقَدْ خُصَّتْ بِالتَّأْلِيفِ وَيُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ وَسَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَثَلِ عَلَى الْقَوْلِ الْبَدِيعِ السَّائِرِ بَيْنَ النَّاسِ الصَّادِرِ مِنْ قَائِلِهِ فِي حَالَةٍ عَجِيبَةٍ هُوَ إِطْلَاقٌ مُرَتَّبٌ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَثَلِ عَلَى الْحَالِ الْعَجِيبَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَضْرِبُونَ مَثَلًا وَلَا يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ وَجَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ إِلَّا قَوْلًا فِيهِ بَلَاغَةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ فِي فَصَاحَةِ لَفْظٍ وَإِيجَازِهِ وَوَفْرَةِ مَعْنًى، فَالْمَثَلُ قَول عَزِيز غَرِيب لَيْسَ من مُتَعَارَفِ الْأَقْوَالِ الْعَامَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ فُحُولِ الْبَلَاغَةِ فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْغَرَابَةِ (¬1) أَيِ الْعِزَّةِ مِثْلُ قَوْلِهِمُ: «الصَّيْفُ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ» وَقَوْلِهِمْ: «لَا يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ» وَسَتَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ. وَلَمَّا شَاعَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَثَلِ (بِالتَّحْرِيكِ) عَلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ جَعَلَ الْبُلَغَاءُ إِذَا أَرَادُوا تَشْبِيهَ حَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ بِحَالَةِ مُرَكَّبَةٍ أَعَنَى وَصْفَيْنِ مُنْتَزَعَيْنِ مِنْ مُتَعَدِّدٍ أَتَوْا فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مَعًا أَوْ فِي جَانِبِ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْمَثَلِ وَأَدْخَلُوا الْكَافَ وَنَحْوَهَا مِنْ حُرُوفِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْهُمَا وَلَا يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَسِيطِ فَلَا يَقُولُونَ مَثَلُ فُلَانٍ كَمَثَلِ الْأَسَدِ وَقَلَّمَا شَبَّهُوا حَالًا مُرَكَّبَةً بِحَالٍ مُرَكَّبَةٍ مُقْتَصِرِينَ عَلَى الْكَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ [الرَّعْد: 14] بَلْ يَذْكُرُونَ لَفْظَ الْمَثَلِ فِي الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا نَحْوَ الْآيَةِ هُنَا، وَرُبَّمَا ذَكَرُوا لَفْظَ ¬

(¬1) أَشرت بتفسير معنى الغرابة لدفع الْحيرَة الْوَاقِعَة فِي المُرَاد من قَول صَاحب «الْكَشَّاف» : «إِلَّا قولا فِيهِ غرابة إِلَخ» فقد فَسرهَا الطَّيِّبِيّ بغموض الْكَلَام وَكَونه نَادرا معنى ولفظا وَهَذَا لَا يطرد وَقد سكت عَنهُ الشارحان: السعد وَالسَّيِّد، وَقد حام حوله الخفاجي.

الْمَثَلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يُونُس: 24] الْآيَةَ وَذَلِكَ لِيَتَبَادَرَ لِلسَّامِعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ لَا ذَاتٍ بِذَاتٍ وَلَا حَالَةٍ بِذَاتٍ فَصَارَ لَفْظُ الْمَثَلِ فِي تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ مَنْسِيًّا مِنْ أَصْلِ وَضْعِهِ وَمُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْحَالَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ حَتَّى مَعَ وُجُودِ لَفْظِ الْمَثَلِ فَصَارَتِ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ دَالَّةً عَلَى التَّشْبِيهِ وَلَيْسَتُ زَائِدَةً كَمَا زَعَمَهُ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ» ، وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] وُقُوفًا مَعَ أَصْلِ الْوَضْعِ وَإِغْضَاءً عَنِ الِاسْتِعْمَالِ أَلَا تَرَى كَيْفَ اسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ الْمَثَلِ عِنْدَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ وَلَمْ يُسْتَغْنَ عَنِ الْكَافِ. وَمِنْ أَجْلِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَثَلِ اقْتَبَسَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مُصْطَلَحَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ بِتَشْبِيهِ التَّمْثِيلِ وَتَسْمِيَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى هَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ مَجْمُوعَةً بِعَلَاقَةِ الْمُشَابِهَةِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَإِنَّنِي تَتَبَّعْتُ كَلَامَهُمْ فَوَجَدْتُ التَّشْبِيهَ التَّمْثِيلِيَّ يَعْتَرِيهِ مَا يَعْتَرِي التَّشْبِيهَ الْمُفْرَدَ فَيَجِيءُ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَوْ حُذِفَتْ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: 16] إِذَا قَدَّرْنَا أُولَئِكَ كَالَّذِينَ اشْتَرَوْا كَمَا قَدَّمْنَا. الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنْ يَذْكُرُوا اللَّفْظَ الدَّالَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَيُحْذَفُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ نَحْوُ الْمَثَّالِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنِّي أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى. الثَّالِثُ: تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَهِيَ أَنْ تُشَبَّهَ هَيْئَةٌ وَلَا يُذْكَرُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بَلْ يُرْمَزُ إِلَيْهِ بِمَا هُوَ لَازِمٌ مُشْتَهِرٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعُدُّ مِثَالًا لِهَذَا النَّوْعِ خُصُوصَ الْأَمْثَالِ الْمَعْرُوفَةِ بِهَذَا اللَّقَبِ نَحْوَ الصَّيْفُ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ وَبِيَدِي لَا بَيْدَ عَمْرٍو وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَمْثَالِ فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ قِيلَتْ عِنْدَ أَحْوَالٍ وَاشْتَهَرَتْ وَسَارَتْ حَتَّى صَار ذكرهَا ينبىء بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ عِنْدَهَا وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ، وَمُوجِبُ شُهْرَتِهَا سَيَأْتِي. ثُمَّ لَمْ يَحْضُرْنِي مِثَالٌ لِلْمَكْنِيَّةِ التَّمْثِيلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَابِ الْأَمْثَالِ حَتَّى كَانَ يَوْمُ حَضَرْتُ فِيهِ جِنَازَةً، فَلَمَّا

دَفَنُوا الْمَيِّتَ وَفَرَغُوا مِنْ مُوَارَاتِهِ التُّرَابَ ضَجَّ أُنَاسٌ بِقَوْلِهِمْ: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ» فَقُلْتُ إِنَّ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مَا أَرَادُوا إِلَّا تَنْظِيرَ هَيْئَةِ حَفْرِهِمْ لِلْمَيِّتِ بِهَيْئَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانُوا يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ قَصْدًا مِنْ هَذَا التَّنْظِيرِ أَنْ يَكُونَ حَفْرُهُمْ ذَلِكَ شَبِيهًا بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ بِجَامِعِ رَجَاءِ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَذْكُرُوا مَا يدل على الشّبَه بِهِ وَلَكِنَّهُمْ طَوَوْهُ وَرَمَزُوا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيءِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ ثُمَّ ظَفِرْتُ بِقَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْدَلُسِيِّ: وَقُلْ لِمَنْ لَامَ فِي التَّصَابِي ... خَلِّ قَلِيلًا عَنِ الطَّرِيقِ فَرَأَيْتُهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَهُوَ حَالُ الْمُتَعَرِّضِ لِسَائِرٍ فِي طَرِيقِهِ يَسُدُّهُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُهُ الْمُرُورَ بِهِ وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهُوَ قَوْلُ السَّائِرِ لِلْمُتَعَرِّضِ: خَلِّ عَنِ الطَّرِيقِ. رَابِعُهَا: تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ كَقَوْلِ أَبِي عَطَاءٍ السِّنْدِيِّ: ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنِّي الْمُثَقَّفَةُ السُّمَرُ فَأَثْبَتَ النَّهَلَ لِلرِّمَاحِ تَشْبِيهًا لَهَا بِحَالَةِ النَّاهِلِ فِيمَا تُصِيبُهُ مِنْ دِمَاءِ الْجَرْحَى الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى كَأَنَّهَا لَا يَرْوِيهَا مَا تُصِيبُهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَتَى بِنَهِلَتْ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا الْقسم عِنْد التفتازانيّ الِاسْتِعَارَةُ فِي (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. فَأَمَّا الْمَثَلُ الَّذِي هُوَ قَوْلٌ شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدْتُ بِذِكْرِهِ آنِفًا فَمَعْنَى تَشْبِيهِ مَضْرِبِهِ بِمَوْرِدِهِ أَنْ تَحْصُلَ حَالَةٌ لَهَا شَبَهٌ بِالْحَالَةِ الَّتِي صَدَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْقَوْلُ فَيَسْتَحْضِرُ الْمُتَكَلِّمُ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي صَدَرَ فِيهَا الْقَوْلُ وَيُشَبِّهُ بِهَا الْحَالَةَ الَّتِي عَرَضَتْ وَيَنْطِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي كَانَ صَدَرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِيُذَكِّرَ السَّامِعَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَبِأَنَّ حَالَةَ الْيَوْمِ شَبِيهَةٌ بِهَا وَيُجْعَلُ عَلَامَةَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِذَا حَقَّقْتِ التَّأَمُّلَ وَجَدْتَ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ لِأَجْلِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأَمْثَالِ قَدْ سَارَتْ وَنُقِلَتْ بَيْنَ الْبُلَغَاءِ فِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ فَكَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْحَالَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لَا مَحَالَةَ لِمُقَارَنَتِهَا لَهَا فِي أَذْهَانِ النَّاسِ فَهِيَُُ

لَوَازِمُ عُرْفِيَّةٌ لَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَدَبِ فَصَارَتْ مِنْ رَوَادِفِ أَحْوَالِهَا وَكَانَ ذِكْرُ تِلْكَ الْأَمْثَالِ رَمْزًا إِلَى اعْتِبَارِ الْحَالَاتِ الَّتِي قِيلَتْ فِيهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ امْتَنَعَ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَلْفَاظِهَا الْوَارِدَةِ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا غُيِّرَتْ لَمْ تَبْقَ عَلَى أَلْفَاظِهَا الْمَحْفُوظَةِ الْمَعْهُودَةِ فَيَزُولُ اقْتِرَانُهَا فِي الْأَذْهَانِ بِصُوَرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي قِيلَتْ فِيهَا فَلَمْ يَعُدْ ذَكَرُهَا رَمْزًا لِلْحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِهَا لَا مَحَالَةَ وَفِي هَذَا مَا يُغْنِي عَنْ تَطَلُّبِ الْوَجْهِ فِي احْتِرَاسِ الْعَرَبِ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَمْثَال حَتَّى تسلموا مِنَ الْحَيْرَةِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَصَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» إِذْ جَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سَبَبَ مَنْعِ الْأَمْثَالِ مِنَ التَّغْيِيرِ مَا فِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ فَقَالَ: «وَلَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ، وَلَا جَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ إِلَّا قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَمِنْ ثَمَّ حُوفِظَ عَلَيْهِ وَحُمِيَ مِنَ التَّغْيِيرِ» فَتَرَدَّدَ شُرَّاحُهُ فِي مُرَادِهِ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ الْغَرَابَةُ غُمُوضُ الْكَلَامِ وَنُدْرَتُهُ وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَأَنْ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ التَّنَاقُضِ وَمَا هُوَ بِتَنَاقُضٍ نَحْوُ قَوْلِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ: رُبَّ رَمْيَةٍ مِنْ غَيْرِ رَامٍ، أَيْ رُبَّ رَمْيَةٍ مُصِيبَةٍ مِنْ غَيْرِ رَامٍ أَيْ عَارِفٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] إِذْ جَعَلَ الْقَتْلَ حَيَاةً. وَأَمَّا الثَّانِي بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ أَلْفَاظٌ غَرِيبَةٌ لَا تَسْتَعْمِلُهَا الْعَامَّةُ نَحْوُ قَوْلِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ: «أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ» (¬1) أَوْ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ نَحْوُ رَمْيَةٍ مِنْ غَيْرِ رَامٍ. أَوْ فِيهِ مُشَاكَلَةٌ نَحْوُ: «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» . أَرَادَ كَمَا تَفْعَلُ تُجَازَى. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْغَرَابَةَ بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ حَتَّى صَارَتْ عَجِيبَةً وَعِنْدِي أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِالْغَرَابَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بَدِيعًا خَاصِّيًّا إِذِ الْغَرِيبُ مُقَابِلُ الْمَأْلُوفِ وَالْغَرَابَةُ عَدَمُ الْإِلْفِ يُرِيدُ عَدَمَ الْإِلْفِ بِهِ فِي رِفْعَةِ الشَّأْنِ. وَأَمَّا صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فَجَعَلَ مَنْعَهَا مِنَ التَّغْيِيرِ لِوُرُودِهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ فَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ التَّشْبِيهَ التَّمْثِيلِيَّ مَتَى شَاعَ وَاشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ صَارَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمَثَلُ لَا غَيْرَ اهـ. وَإِلَى طَرِيقَته مَال التفتازانيّ وَالسَّيِّدُ. وَقَدْ عَلِمْتَ سِرَّهَا وَشَرْحَهَا فِيمَا بَيَّنَّاهُ. وَلِوُرُودِ الْأَمْثَالِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ ¬

(¬1) الجذيل والعذيق- بِوَزْن التصغير- فالجذيل تَصْغِير جذل وَهُوَ أصل الشَّجَرَة. والمحكك بِصِيغَة

لَا تُغَيَّرُ عَنْ لَفْظِهَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْأَصْلِ تَذْكِيرًا وَتَأْنِيثًا وَغَيْرَهُمَا. فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي تَعْرِيفِ الْمَثَلِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ: «قَوْلٌ شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ» أَنَّ مَضْرِبَهُ هُوَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ سُمِّيَتْ مَضْرِبًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَكَانِ ضَرْبِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَيْ وَضْعِهِ أَيِ النُّطْقِ بِهِ يُقَالُ ضُرِبَ الْمَثَلُ أَيْ شُبِّهَ وَمُثِّلَ قَالَ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: 26] وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَهُوَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ أَيْ صَدَرَ عِنْدَ حُدُوثِهَا، سُمِّيَتْ مَوْرِدًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَكَانِ الْمَاءِ الَّذِي يَرِدُهُ الْمُسْتَقُونَ، وَيُقَالُ الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ أَيِ الْفَاشِيَّةُ الَّتِي يَتَنَاقَلُهَا النَّاسُ وَيَتَدَاوَلُونَهَا فِي مُخْتَلَفِ الْقَبَائِلِ وَالْبُلْدَانِ فَكَأَنَّهَا تَسِيرُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. والَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا مُفْرَدٌ مُرَادٌ بِهِ مُشَبَّهٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ وَاحِدٌ وَلَا مَعْنَى لِاجْتِمَاعِ جَمَاعَةٍ عَلَى اسْتِيقَادِ نَارٍ وَلَا يريبك كَون الْحَالة الْمُشَبَّهِ حَالَةَ جَمَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ، كَأَنَّ تَشْبِيهَ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِتَصْوِيرِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا لَا بِكَوْنِهَا عَلَى وَزْنِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي ظُهُورِ أَثَرِ الْإِيمَانِ وَنُورِهِ مَعَ تَعَقُّبِهِ بِالضَّلَالَةِ وَدَوَامِهِ، بِحَالِ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَاسْتَوْقَدَ بِمَعْنَى أَوْقَدَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا هما فِي قولهه تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمرَان: 195] وَقَوْلُهُمُ اسْتَبَانَ الْأَمْرُ وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِ بَنِي بَوْلَانَ مِنْ طَيٍّ فِي «الْحَمَاسَةِ» : نَسْتَوْقِدُ النَّبْلَ بِالْحَضِيضِ وَنَصْ ... طَادُ نُفُوسًا بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ أَرَادَ وَقُودًا يَقَعُ عِنْدَ الرَّمْيِ بِشِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ لِإِيرَادِ تَمْثِيلِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ بِحَالِ طَالِبِ الْوَقُودِ بَلْ هُوَ حَالُ الْمَوْقِدِ وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. مُفَرَّعٌ على اسْتَوْقَدَ. وفَلَمَّا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ شَيْءٍ عِنْدَ وُقُوعِ غَيْرِهِ فَوُقُوعُ جَوَابِهَا مُقَارِنٌ لِوُقُوعِ شَرْطِهَا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ أَيْ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْجَوَابِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا أَيْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهَا كَالْمَعْلُولِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا سَوَاءً كَانَ مِنْ تَرَتُّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ أَوْ كَانَ تَرَتُّبِ الْمُسَبِّبِ الْعُرْفِيِّ عَلَى السَّبَبِ أَمْ كَانَ تَرَتُّبِ الْمُقَارَنِ عَلَى مُقَارَنَةِ الْمُهَيَّأِ وَالْمُقَارَنُ الْحَاصِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ وَكُلُّهَا اسْتِعْمَالَاتٌ وَارِدَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الْقُرْآنِ. مِثَالُ تُرَتِّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ لَمَّا تَعَفَّنَتْ أَخْلَاطُهُ حُمَّ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبُُِ،

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود: 77] ، وَقَوْلُ عَمْرو بن معد يكرب: لَمَّا رَأَيْتُ نِسَاءَنَا ... يَفْحَصْنَ بِالْمَعْزَاءِ شَدَّا نَازَلْتُ كَبْشَهُمُ وَلَمْ ... أَرَ مِنْ نِزَالِ الْكَبْشِ بُدَّا وَمِثَالُ الْمُقَارَنِ الْمُهَيَّأِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ هَصَرْتُ بِفَوْدَيْ رَأْسِهَا فَتَمَايَلَتْ ... عَلَيَّ هَضِيمَ الْكَشْحِ رَيَّا الْمُخَلْخَلِ وَمِثَالُ الْمُقَارَنِ الْحَاصِلِ اتِّفَاقًا وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا ... (¬1) [العنكبوت: 31] وَقَوله: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ [يُوسُف: 69] فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لَمَّا تُؤْذِنُ بِالسَّبَبِيَّةِ اغْتِرَارًا بِقَوْلِهِمْ وُجُودٌ لِوُجُودٍ حَمْلًا لِلَّامِ فِي عِبَارَتِهِمْ عَلَى التَّعْلِيلِ فَقَدِ ارْتَكَبَ شَطَطًا وَلَمْ يَجِدْ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فَرَطًا. وَ (أَضَاءَ) يَجِيءُ مُتَعَدِّيًا وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ مُجَرَّدَهُ ضَاءَ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ كَقَوْلِ أَبِي الطَّمَحَانِ الْقَيْنِيِّ: أَضَاءَتْ لَهُم أحسابهم ووجوههم ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى ثَقَّبَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهْ وَيَجِيءُ قَاصِرًا بِمَعْنَى ضَاءَ فَهَمْزَتُهُ لِلصَّيْرُورَةِ أَيْ صَارَ ذَا ضَوْءٍ فَيُسَاوِي ضَاءَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ يَصِفُ الْبَرْقَ: يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ ... أَمَالَ السَّلِيطُ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُمَا أَيْ فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ الْجِهَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ وَهُوَ مَعْنَى ارْتِفَاعِ شُعَاعِهَا وَسُطُوعِ لَهَبِهَا، فَيَكُونُ مَا حَوْلَهُ مَوْصُولًا مَفْعُولًا لِأَضَاءَتْ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَضَاءَ الْقَاصِرِ أَيْ أَضَاءَتِ النَّارُ أَيِ اشْتَعَلَتْ وَكَثُرَ ضَوْءُهَا فِي نَفْسِهَا، وَيَكُونُ مَا حَوْلَهُ عَلَى هَذَا ظَرْفًا لِلنَّارِ أَيْ حَصَلَ ضَوْءُ النَّارِ حَوْلَهَا غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْهَا. وحَوْلَهُ ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْقَرِيبِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِحَاطَةُ فَحَوْلَهُ هُنَا بِمَعْنَى لَدَيْهِ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَا حَوْلَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَقَعَ فِي مُشْكِلَاتٍ لَمْ يَجِدْ مِنْهَا مَخْلَصًا إِلَّا بِعَنَاءٍ. وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: بِنُورِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ بِلَصْقِ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ: مَا حَوْلَهُ مُرَاعَاةً لِلْحَالِ الْمُشَبَّهَةِ وَهِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ لَا لِلْحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَهِيَ حَالُ الْمُسْتَوْقِدِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهٍُُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة سَلاماً بدل إِنَّا مُهْلِكُوا وَهُوَ خلط بَين آيَتَيْنِ.

بَدِيعٍ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ انْطِمَاسُ نُورِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ لَا إِلَى (الَّذِي) ، قَرِيبًا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فَأَشْبَهَ تَجْرِيدَ الِاسْتِعَارَةِ الْمُفْرَدَةِ وَهُوَ مِنَ التَّفْنِينِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: وَفِي الْحَيِّ أَحَوَى يَنْفُضُ الْمَرْدَ شَادِنٌ ... مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ وَهَذَا رُجُوعٌ بَدِيعٌ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ الرُّجُوعُ الْوَاقِعُ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 19] وَحُسْنُهُ أَنَّ التَّمْثِيلَ جَمَعَ بَيْنَ ذِكْرِ الْمُشَبَّهِ وَذِكْرِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ فِي مُرَاعَاةِ كِلَيْهِمَا لِأَنَّ الْوَصْفَ لَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَعْضُ نَوْعًا وَاحِدًا فِي الْمُشبه والشبه بِهِ، فَمَا ثَبَتَ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ يُلَاحَظُ كَالثَّابِتِ لِلْمُشَبَّهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ جَوَابَ (لَمَّا) فَيَكُونُ جَمْعُ ضَمَائِرِ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ إِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِ وَتَرَكَهُ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا لَفْظُ النُّورِ عِوَضًا عَنِ النَّارِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ التَّمْثِيلِ إِلَى الْحَقِيقَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، فَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَمَّا أَضَاءَتْ ذَهَبَ اللَّهُ بِنَارِهِ فَكَذَلِكَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَهُوَ أُسْلُوبٌ لَا عَهْدَ لِلْعَرَبِ بِمِثْلِهِ فَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: 22- 24] فَقَوْلُهُ: أُرْسِلْتُمْ حِكَايَةٌ لِخِطَابِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ فِي جَوَابِ سُؤَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ. وَبِهَذَا يَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَافِقًا لِمَا فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ إِذْ يَتَعَيَّنُ رُجُوعُهُ لِبَعْضِ الْمُشَبَّهِ بِهِ دُونَ الْمُشَبَّهِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ اسْتِئْنَافًا وَيَكُونُ التَّمْثِيلُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ وَيَكُونُ جَوَابُ (لَمَّا) مَحْذُوفًا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَأْنَفَةُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْتُهُ إِلَّا أَنَّ الِاعْتِبَارَ مُخْتَلِفٌ. وَمَعْنَى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ: أَطْفَأَ نَارَهُمْ فَعَبَّرَ بِالنُّورِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِيقَادِ، وَأَسْنَدَ إِذْهَابَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ حَصَلَ بِلَا سَبَبٍ مِنْ رِيحٍ أَوْ مَطَرٍ أَو إطفاء مطفىء، وَالْعَرَبُ وَالنَّاسُ يُسْنِدُونَ الْأَمْرَ الَّذِي لَمْ يَتَّضِحْ سَبَبُهُ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [الْبَقَرَة: 15]

وذَهَبَ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ أَبْلَغُ مِنْ أَذْهَبَ الْمُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَهَاتِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ نَشَأَتْ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ لِأَنَّ أَصْلَ ذَهَبَ بِهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا ذَهَبَا مُتَلَازِمَيْنِ فَهُوَ أَشَدُّ فِي تَحْقِيقِ ذَهَابِ الْمُصَاحِبِ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يُوسُف: 15] وَأَذْهَبَهُ جَعَلَهُ ذَاهِبًا بِأَمْرِهِ أَوْ إِرْسَالِهِ فَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُرِيدُ إِذْهَابَ شَخْصٍ إِذْهَابًا لَا شَكَّ فِيهِ يَتَوَلَّى حِرَاسَةَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُوقِنَ بِحُصُولِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ صَارَ ذَهَبَ بِهِ مُفِيدًا مَعْنَى أَذْهَبَهُ، ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَقَالُوا ذَهَبَ بِهِ وَنَحْوَهُ وَلَوْ لَمْ يُصَاحِبْهُ فِي ذَهَابِهِ كَقَوْلِهِ: يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ [الْبَقَرَة: 258] وَقَوْلِهِ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يُوسُف: 100] ثُمَّ جُعْلِتِ الْهَمْزَةُ لِمُجَرَّدِ التَّعْدِيَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَقُولُونَ: ذَهَبَ الْقِمَارُ بِمَالِ فُلَانٍ وَلَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ ذَهَبَ مَعَهُ، وَلَكِنَّهُمْ تَحَفَّظُوا أَلَّا يَسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ إِلَّا فِي مَقَامِ تَأْكِيدِ الْإِذْهَابِ فَبَقِيَتِ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ. وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ وَمَا حَوْلَهُ مُرَاعَاةً لِلْحَالِ الْمُشَبَّهَةِ. وَاخْتِيَارُ لَفْظِ النُّورِ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ دُونَ الضَّوْءِ وَدُونَ النَّارِ لِأَنَّ لَفْظَ النُّورِ أَنْسَبُ لِأَنَّ الَّذِي يُشْبِهُ النَّارَ مِنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُوَ مَظَاهِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُظْهِرُونَهَا وَقَدْ شَاعَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالنُّورِ فِي الْقُرْآنِ فَصَارَ اخْتِيَارُ لَفْظِ النُّورِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ تَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالْحَالِ الْمُشَبَّهَةِ، وَعَبَّرَ عَمَّا يُقَابِلُهُ فِي الْحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِلَفْظٍ يَصْلُحُ لَهُمَا أَوْ هُوَ بِالْمُشَبَّهِ أَنْسَبُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ فِي وَجْهِ جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: بِنُورِهِمْ. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَقْرِيرًا لِمَضْمُونِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لِأَنَّ مَنْ ذَهَبَ نُورُهُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ زِيَادَةُ إِيضَاحِ الْحَالَةِ الَّتِي صَارُوا إِلَيْهَا فَإِنَّ لِلدَّلَالَةِ الصَّرِيحَةِ مِنَ الِارْتِسَامِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ مَا لَيْسَ لِلدَّلَالَةِ الضِّمْنِيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَوْقَدُوا نَارًا فَانْطَفَأَتِ انْعَدَمَتِ الْفَائِدَةُ وَخَابَتِ الْمَسَاعِي وَلَكِنْ قَدْ يَذْهَلُ السَّامِعُ عَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ عِنْدَ هَاتِهِ الْحَالَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ تَذْكِيرًا بِذَلِكَ وَتَنْبِيهًا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا شِدَّةَ تَصْوِيرِ الْمَعَانِي وَلِذَلِكَ يُطْنِبُونَ وَيُشَبِّهُونَ وَيُمَثِّلُونَ وَيَصِفُونَ الْمَعْرِفَةَ وَيَأْتُونَ بِالْحَالِ وَيُعَدِّدُونَ الْأَخْبَارَ وَالصِّفَاتِ فَهَذَا إِطْنَابٌ بَدِيعٌ كَمَا فِي قَوْلِ طَرَفَةَ: نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وَقَيْنَةٌ ... تَرُوحُ إِلَيْنَا بَيْنَ بُرْدٍ وَمَجْسَدُُِ

فَإِنَّ قَوْلَهُ تَرُوحُ إِلَيْنَا إِلَخْ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ تَصْوِيرِ حَالَةِ الْقَيْنَةِ وَتَحْسِينِ مُنَادَمَتِهَا، وَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا إِلَى الِاسْتِنَارَةِ مِنْ بُعْدٍ، عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ وَتَرَكَهُمْ مِنْ إِفَادَةِ تَحْقِيرِهِمْ، وَمَا فِي جَمْعِ ظُلُماتٍ مِنْ إِفَادَةِ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ وَهِيَ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا اسْتُفِيدَ ضِمْنًا مِنْ جُمْلَةِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَمَا يَقْتَضِيهِ جَمْعُ ظُلُماتٍ مِنْ تَقْدِيرِ تَشْبِيهَاتٍ ثَلَاثَةٍ لِضَلَالَاتٍ ثَلَاثٍ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الزَّائِدِ عَلَى تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَحَقِيقَةُ التَّرْكِ مُفَارَقَةُ أَحَدٍ شَيْئًا كَانَ مُقَارِنًا لَهُ فِي مَوضِع وإبقاؤه فِي ذَلِك الْموضع. وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَ الْحَالَ الَّتِي تَرَكَ الْفَاعِلُ الْمَفْعُولَ عَلَيْهَا، وَفِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ مَعْنَى صَيَّرَ أَوْ جَعَلَ. قَالَ النَّابِغَةُ: فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي ... إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ أَيْ لَا تُصَيِّرَنِّي بِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةِ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ يُرِيدُ صَيَّرْنَ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُكْنَى بِهِ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَنِ الزَّهَادَةِ فِي مَفْعُولِهِ كَمَا فِي بَيْتِ النَّابِغَةِ، أَوْ عَنْ تَحْقِيرِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى صَيَّرَ حَتَّى يَكُونَ مَنْصُوبُهُ الثَّانِي مَفْعُولًا، وَمَا يُعْتَبَرُ الْمَنْصُوبُ الثَّانِي مَعَهُ حَالًا، أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَصْدُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ فَالْمَنْصُوبُ الثَّانِي حَالٌ وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ أَوَّلًا إِلَى ذَلِكَ الْمَنْصُوبِ الثَّانِي وَهُوَ مَحَلُّ الْفَائِدَةِ فَالْمَنْصُوبُ الثَّانِي مَفْعُولٌ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فَلَا يَحْتَمِلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا غَيْرَ ذَلِكَ مَعْنًى وَإِنِ احْتَمَلَهُ لَفْظًا. وَجَمْعُ ظُلُماتٍ لِقَصْدِ بَيَانِ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: 63] وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَإِنَّ الْكَثْرَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْعُرْفِ سَبَبَ الْقُوَّةِ أَطْلَقُوهَا عَلَى مُطْلَقِ الْقُوَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدُّدٌ وَلَا كَثْرَةٌ مِثْلُ لَفْظِ كَثِيرٍ كَمَا يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [14] ، وَمِنْهُ ذِكْرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ، لِلْوَاحِدِ، وَضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، قِيلَ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الظَّلَمَةِ مُفْرَدًا، وَلَعَلَّ لَفْظَ ظُلُمَاتٍ أَشْهَرُ إِطْلَاقًا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [1] بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَىُُ:

فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6] فَإِنَّ التَّعَدُّدَ مَقْصُودٌ بِقَرِينَةِ وَصْفِهِ بِثَلَاثٍ. وَلَكِنَّ بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَسْمَحُ بِاسْتِعْمَالِ جَمْعٍ غَيْرِ مُرَادٍ بِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى لَفْظِهِ الْمُفْرَدِ، وَيَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمْعَ (ظُلُمَاتٍ) أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَحْوَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ كُلُّ حَالَةٍ مِنْهَا تَصْلُحُ لِأَنْ تُشَبَّهَ بِالظُّلْمَةِ وَتِلْكَ هِيَ حَالَةُ الْكُفْرِ، وَحَالَةُ الْكَذِبِ، وَحَالَةُ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَتْبَعُ تِلْكَ الْأَحْوَالَ مِنْ آثَارِ النِّفَاقِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ وَبَوَاطِنِ الْكُفْرِ فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ ظُهُورُ أَمْرٍ نَافِعٍ ثُمَّ انْعِدَامُهُ قَبْلَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ صُورَةٌ مِنْ حُسْنِ الْإِيمَانِ وَبَشَاشَتِهِ لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ نُورًا وَبَرَكَةً ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَرْجِعُوا عِنْدَ خُلُوِّهِمْ بِشَيَاطِينِهِمْ فَيَزُولُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَيَرْجِعُوا فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَشَدَّ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي كُفْرٍ فَصَارُوا فِي كُفْرٍ وَكَذِبٍ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنِ النِّفَاقِ مِنَ الْمَذَامِّ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْتَوْقِدُ النَّارَ فِي الظَّلَامِ يَتَطَلَّبُ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا انْطَفَأَتِ النَّارُ صَارَ أَشَدَّ حَيْرَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ضَوْءَ النَّارِ قَدْ عَوَّدَ بَصَرَهُ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الظُّلْمَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَقْوَى وَيَرْسَخُ الْكُفْرُ فِيهِمْ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ نُكْتَةُ الْبَيَانِ بِجُمْلَةِ: لَا يُبْصِرُونَ لِتَصْوِيرِ حَالِ مَنِ انْطَفَأَ نُورُهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ. وَمَفْعُولُ لَا يُبْصِرُونَ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ عُمُومِ نفي المبصرات فتنزل الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا إِحْسَاسَ بَصَرٍ لَهُمْ، كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ: شَجْوُ حُسَّادِهِ وَغَيْظُ عِدَاهُ ... أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعِ وَقَدْ أُجْمِلَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي تَشْبِيهِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ اعْتِمَادًا عَلَى فِطْنَةِ السَّامِعِ لِأَنَّهُ يَمْخَضُهُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْحِ حَالِهِمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] إِلَخْ وَمِمَّا يَتَضَمَّنُهُ الْمَثَلَانِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى وُجُوهِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَحْوَالِهِمْ وَأَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَإِنَّ إِظْهَارَهُمُ الْإِيمَانَ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 11] وَقَوْلِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤمنِينَ: آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] أَحْوَالٌ وَمَظَاهِرُ حَسَنَةٌ تَلُوحُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ حِينَمَا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَمَا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَيَصْدُرُ مِنْهُمْ طَيِّبُ الْقَوْلِ وَقَوِيمُ السُّلُوكِ وَتُشْرِقُ عَلَيْهِمُ الْأَنْوَارُ النَّبَوِيَّةُ فَيَكَادُ نُورُ الْإِيمَانِ يَخْتَرِقُ إِلَى نُفُوسِهِمْ وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا يَعْقُبُ تِلْكَ الْحَالَةَ الطَّيِّبَةَ حَالَةٌ تُضَادُهَا عِنْدَ انْفِضَاضِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ الزَّكِيَّةِ وَخُلُوصِهِمْ إِلَى بِطَانَتِهِمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ أَوْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَتُعَاوِدُهُمُ الْأَحْوَالُ الذَّمِيمَةُُُ

[سورة البقرة (2) : آية 18]

مِنْ مُزَاوَلَةِ الْكُفْرَ وَخِدَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحِقْدِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَوَصْفِهِمْ بِالسَّفَهِ، مُثِّلَ ذَلِكَ التَّظَاهُرُ وَذَلِكَ الِانْقِلَابُ بِحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهُ نُورُهَا. وَمِنْ بَدَائِعِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّهُ مَعَ مَا فِيهِ من تركيب الهيأة الْمُشَبَّهِ بهَا ومقابلتها للهيأة الْمُرَكَّبَةِ مِنْ حَالِهِمْ هُوَ قَابِلٌ لِتَحْلِيلِهِ بِتَشْبِيهَاتٍ مُفْرَدَةٍ لِكُلِّ جُزْء من هيأة أَحْوَالِهِمْ بِجُزْءٍ مُفْرد من الهيأة الْمُشَبَّهِ بِهَا فَشُبِّهَ اسْتِمَاعُهُمُ الْقُرْآنَ بِاسْتِيقَادِ النَّارِ، وَيَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الْقُرْآنِ فِي إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْحَقِّ بِالنَّارِ فِي إِضَاءَةِ الْمَسَالِكِ لِلسَّالِكِينَ، وَشُبِّهَ رُجُوعُهُمْ إِلَى كُفْرِهِمْ بِذَهَابِ نُورِ النَّارِ، وَشُبِّهَ كَفْرُهُمْ بِالظُّلُمَاتِ، وَيُشَبَّهُونَ بِقَوْمٍ انْقَطع إبصارهم. [18] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 18] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير مَثَلُهُمْ [الْبَقَرَة: 17] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: 17] لِأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ بِهِ أَوَّلُ التَّشْبِيهِ وَآخِرُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ ذُو بَصَرٍ وَإِلَّا لَمَا تَأَتَّى مِنْهُ الِاسْتِيقَادُ، وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا مَوْصُوفًا بِأَوْصَافٍ أَوْ أَخْبَارٍ جَعَلُوهُ كَأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ لِلسَّامِعِ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ أَوْ فَتًى أَوْ رَجُلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ فُلَانٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [النبأ: 36، 37] التَّقْدِيرُ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ عَدَلَ عَنْ جَعْلِ (رَبُّ) بَدَلًا مِنْ رَبِّكَ، وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ (¬1) : سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلِّتِ وَسَمَّى السَّكَّاكِيُّ هَذَا الْحَذْفَ «الْحَذْفَ الَّذِي اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ الْوَارِدُ عَلَى تَرْكِهِ» . وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ شُبِّهُوا فِي انْعِدَامِ آثَارِ الْإِحْسَاسِ مِنْهُمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اجْتَمَعَتْ لَهُ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ وَذَلِكَ شَأْنُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بَعْدَ مُبْتَدَأٍ هُوَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى جَمْعٍ، فَالْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْأَصَمِّ الْأَبْكَمُُِ ¬

(¬1) من «الحماسة» فِي بَاب الأضياف غير مَنْسُوب، وَنسبه الشريف المرتضى فِي «أَمَالِيهِ» لإِبْرَاهِيم بن [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 19]

الْأَعْمَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى التَّوْزِيعِ فَلَا يُفْهَمُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَالْأَصَمِّ وَبَعْضَهُمْ كَالْأَبْكَمِ وَبَعْضَهُمْ كَالْأَعْمَى، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْبَيَانِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : ((فَإِنْ قُلْتَ هَلْ يُسَمَّى مَا فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةٌ قُلْتُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا لَا اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ)) اهـ أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَعْتَمِدُ عَلَى لَفْظِ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ أَوِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي جُمْلَةِ الِاسْتِعَارَةِ فَمَتَى ذُكِرَا مَعًا فَهُوَ تَشْبِيهٌ، وَلَا يَضُرُّ ذِكْرُ لَفْظِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي غَيْرِ جُمْلَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَوْلَا الْعِلْمُ بِالْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي الْكَلَامِ لَمَا ظَهَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْعَمِيدِ: قَامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ ... نَفْسٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَامَتْ تُظَلِّلُنِي وَمِنْ عَجَبٍ ... شَمَّسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ أَنَّ قَوْلَهُ شَمْسٌ اسْتِعَارَةٌ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ نَفْسٌ أَعَزُّ، وَضَمِيرُهَا فِي قَوْلِهِ قَامَتْ تُظَلِّلُنِي وَكَذَا إِذَا لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ غَيْرَ مَقْصُودِ ابْتِنَاءِ التَّشْبِيهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ ابْنِ طَبَاطَبَا: لَا تَعْجَبُوا مِنْ بِلَي غَلَالَتِهِ ... قَدْ زَرَّ أَزْرَارَهُ عَلَى الْقَمَرِ فَإِنَّ الضَّمِيرَ لَمْ يُذْكَرْ لِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ بَلْ جَاءَ التَّشْبِيهُ عَقِبَهُ. وَالصُّمُّ وَالْبُكْمُ وَالْعُمْيُ جَمْعُ أَصَمَّ وَأَعْمَى وَأَبْكَمَ وَهُمْ مَنِ اتَّصَفَ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، فَالصَّمَمُ انْعِدَامُ إِحْسَاسِ السَّمْعِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا، وَالْبَكَمُ انْعِدَامُ النُّطْقِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ النُّطْقُ، وَالْعَمَى انْعِدَامُ الْبَصَرِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ الْإِبْصَارُ. وَقَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَاهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ انْعَدَمَ مِنْهُ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ وَتَعَذَّرَ طَمَعُ رُجُوعِهِ إِلَى رُشْدٍ أَوْ صَوَابٍ. وَالرُّجُوعُ الِانْصِرَافُ مِنْ مَكَانِ حُلُولٍ ثَانٍ إِلَى مَكَانِ حُلُولٍ أَوَّلٍ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ. [19] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 19] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ. عَطْفٌ عَلَى التَّمْثِيلِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: 17] أُعِيدَ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِتَمْثِيلٍ آخَرَ وَبِمُرَاعَاةِ أَوْصَافٍ أُخْرَى فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُخْتَلِطَةِ بَيْنَ جَوَاذِبَ وَدَوَافِعَُُ

حِينَ يُجَاذِبُ نُفُوسَهُمْ جَاذِبُ الْخَيْرِ عِنْدَ سَمَاعِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَإِرْشَادِهِ، وَجَاذِبُ الشَّرِّ مِنْ أَعْرَاقِ النُّفُوسِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْمُسْلِمِينَ، بِحَالِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ اخْتَلَطَتْ فِيهِ غُيُوثٌ وَأَنْوَارٌ وَمُزْعِجَاتٌ وَأَكْدَارٌ، جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ فِي التَّفَنُّنِ فِي التَّشْبِيهِ وَهُمْ يتنافسون فِيهِ لَا سِيمَا التَّمْثِيلِيُّ مِنْهُ وَهِيَ طَرِيقَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَاصِفِ مِنَ التَّوْصِيفِ وَالتَّوَسُّعِ فِيهِ. وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ قَدْ يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ عَطْفِ تَشْبِيهٍ عَلَى تَشْبِيهٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ ... كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحِ رَاهِبٍ ... أَمَالَ السَّلِيطُ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ وَقَوْلِ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ: فَلَهَا هِبَابٌ فِي الزِّمَامِ كَأَنَّهَا ... صَهْبَاءُ خَفَّ مَعَ الْجَنُوبِ جِهَامُهَا أَوْ مُلْمِعٍ وَسَقَتْ لِأَحْقَبَ لَاحَهُ ... طَرْدُ الْفُحُولِ وَضَرْبُهَا وَكِدَامُهَا (¬1) وَكَثُرَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ فِي نَحْوِهِ بَأَوْ دُونَ الْوَاوِ، وَأَوْ مَوْضُوعَةٌ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَعْنَى التَّسْوِيَةِ وَرُبَّمَا سَلَكُوا فِي إِعَادَةِ التَّشْبِيهِ مَسْلَكَ الِاسْتِفْهَامِ بِالْهَمْزَةِ أَيْ لِتَخْتَارَ التَّشْبِيهَ بِهَذَا أَمْ بِذَلِكَ وَذَلِكَ كَقَوْلِ لَبِيدٍ عَقِبَ الْبَيْتَيْنِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمَا: أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ... خَذَلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا (¬2) وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي تَشْبِيهِ سَيْرِ نَاقَتِهِ الْحَثِيثِ: وَثْبَ الْمُسَحَّجُ مِنْ عَانَاتِ مُعَقُلَةٍ ... كَأَنَّهُ مُسْتَبَانُ الشَّكِّ أَوْ جَنِبُُُ ¬

(¬1) الهباب- بِكَسْر الْهَاء- مصدر كالهبوب وَهُوَ النهوض والنشاط. والصهباء: السحابة المائل لَوْنهَا للسواد. والجهام: السَّحَاب لَا مطر فِيهِ وَهُوَ خَفِيف السّير. والملمع: الَّتِي استبان حملهَا، وَأَرَادَ الأتان ووسقت: حملت. والأحقب: هُوَ حمَار الْوَحْش وَقَوله: لأحقب أَي من أحقب. ولاحه: غَيره. وطرد الفحول: خصامها. والكدام- بِكَسْر الْكَاف- العض. (¬2) المسبوعة: الَّتِي أكل السَّبع وَلَدهَا. وخذلت بِمَعْنى تَأَخَّرت عَن صواحبها فِي الرواح. والهادية الْمُتَقَدّمَة. والصوار- بِكَسْر الصَّاد- قطيع الْغنم. والقوام- بِكَسْر الْقَاف- مَا بِهِ يقوم الْأَمر أَي تَأَخَّرت النعجة الوحشية وَلم تهتد بمقدمة القطيع.

ثُمَّ قَالَ: أَذَاكَ أَمْ نَمِشٌ بِالْوَشْيِ أَكْرُعُهُ ... مُسَفَّعُ الْخَدِّ غَادٍ نَاشِعٌ شَبَبُ ثُمَّ قَالَ: أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بِالسِّيِّ مَرْتَعُهُ ... أَبُو ثَلَاثِينَ أَمْسَى وَهْوَ مُنْقَلِبُ (¬1) وَرُبَّمَا عَطَفُوا بِالْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: 29] الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [النَّحْل: 76] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: مَا يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 19- 21] الْآيَةَ بَلْ وَرُبَّمَا جَمَعُوا بِلَا عَطْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: 15] وَهَذِهِ تَفَنُّنَاتٌ جَمِيلَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَمَا ظَنُّكَ بِهَا إِذَا وَقَعَتْ فِي التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّهُ لِعِزَّتِهِ مُفْرَدًا تَعِزُّ استطاعة تكريره. و (أَو) عَطَفَتْ لَفْظَ (صَيِّبٍ) عَلَى الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: 17] بِتَقْدِيرِ مَثَلِ بَيْنِ الْكَافِ وَصَيِّبٍ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي كَلَامِهِمْ وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهَيْنِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يُكَرِّرُونَهُ فِي الْعَطْفِ. وَالتَّمْثِيلُ هُنَا لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ حُضُورِهِمْ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ وَمَا فِيهِ مِنْ آيِ الْوَعِيدِ لِأَمْثَالِهِمْ وَآيِ الْبِشَارَةِ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ تَمْثِيلُ حَالَةٍ مُغَايِرَةٍ لِلْحَالَةِ الَّتِي مُثِّلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: 17] بِنَوْعِ إِطْلَاقٍ وَتَقْيِيدٍ. فَقَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ تَقْدِيرُهُ أَوْ كَفَرِيقٍ ذِي صَيْبٍ أَيْ كَقَوْمٍ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْمٍ قَوْلُهُ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَقَوْلُهُُُ: ¬

(¬1) قَوْله: أذاك: الْإِشَارَة إِلَى حمَار الْوَحْش فِي الأبيات قبله، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ بالمسحج. والمسحج: المكدوم وَهُوَ من الصِّفَات الْغَالِبَة على حمَار الْوَحْش لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن كدام فِي جلده من العراك مَعَ الْحمر، والنمش- بِكَسْر الْمِيم- الَّذِي بِهِ النمش بِفَتْحِهَا وَهُوَ نقط بيض وسود، وَأَرَادَ بِهِ الثور الوحشي. والوشي: التخطيط. والمسفع: الْأسود. والشبب: المسن من ثيران الْوَحْش. وَقَوله خاضب أَرَادَ ذكر النعام فَإِنَّهُ إِذا أكل بقل الرّبيع احْمَرَّتْ ساقاه. والسي- بِكَسْر السِّين وَتَشْديد الْيَاء- المستوي من الأَرْض. وَأَبُو ثَلَاثِينَ أَي لَهُ ثَلَاثِينَ فرخا وَذَلِكَ عدد مَا يبيض النعام. ومنقلب: رَاجع لفراخه فَهُوَ شَدِيد السّير.

يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: 20] . الْآيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ مَا جَازَ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] إِلَخْ. فَشُبِّهَتْ حَالُ الْمُنَافِقِينَ بِحَالِ قَوْمٍ سَائِرِينَ فِي لَيْلٍ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَصَابَهَا الْغَيْثُ وَكَانَ أَهْلُهَا كَانِّينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَة: 20] فَذَلِكَ الْغَيْثُ نَفَعَ أَهْلَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُصِبْهُمْ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ ضُرٌّ وَلَمْ يَنْفَعِ الْمَارِّينَ بِهَا وَأَضَرَّ بِهِمْ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، فَالصَّيِّبُ مُسْتَعَارٌ لِلْقُرْآنِ وَهُدَى الْإِسْلَامِ وَتَشْبِيهُهُ بِالْغَيْثِ وَارِدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى كَمَثَلِ الْغَيْثِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ» إِلَخْ. وَفِي الْقُرْآنِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الْحَدِيد: 20] . وَلَا تَجِدُ حَالَةً صَالِحَةً لِتَمْثِيلِ هَيْئَةِ اخْتِلَاطِ نَفْعٍ وَضُرٍّ مِثْلَ حَالَةِ الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّمْثِيلِ الْقُرْآنِيِّ، وَمِنْهُ أَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ قَوْلَهُ: فَتًى كَالسَّحَابِ الْجَوْنِ يُرْجَى وَيُتَّقَى ... يَرَجَّى الْحَيَا مِنْهُ وَتُخْشَى الصَّوَاعِقُ وَالظُّلُمَاتُ مُسْتَعَارٌ لِمَا يَعْتَرِي الْكَافِرِينَ مِنَ الْوَحْشَةِ عِنْدَ سَمَاعِهِ كَمَا تَعْتَرِي السَّائِرَ فِي اللَّيْلِ وَحْشَةُ الْغَيْمِ لِأَنَّهُ يَحْجُبُ عَنْهُ ضَوْءَ النُّجُومِ وَالْقَمَرِ، وَالرَّعْدُ لِقَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَالْبَرْقُ لِظُهُورِ أَنْوَارِ هَدْيِهِ مِنْ خِلَالِ الزَّوَاجِرِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْمُرَكَّبَ التَّمْثِيلِيَّ صَالِحٌ لِاعْتِبَارَاتِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَعْلَى التَّمْثِيلِ. وَالصَّيِّبُ فَيْعَلٌ مِنْ صَابَ يُصُوبُ صَوْبًا إِذَا نَزَلَ بِشِدَّةٍ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ إِنَّ يَاءَهُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ إِلَى الْإِسْمِيَّةِ فَهُوَ وَصْفٌ لِلْمَطَرِ بِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ كَثَافَةِ السَّحَابِ وَمِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ السَّماءِ لَيْسَ بِقَيْدٍ لِلصَّيِّبِ وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ جِيءَ بِهِ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الصَّيِّبِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ إِطْنَابٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ إِذْ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ السَّيْلَ لَا يَحُطُّ جُلْمُودَ صَخْرٍ إِلَّا مِنْ أَعْلَى وَلَكِنَّهُ أَرَادَ التَّصْوِيرَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] ، وَقَوْلِهِ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 71] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: 32] . وَالسَّمَاء تُطْلَقُ عَلَى الْجَوِّ الْمُرْتَفِعِ فَوْقَنَا الَّذِي نَخَالُهُ قُبَّةً زَرْقَاءَ، وَعَلَى الْهَوَاءِ الْمُرْتَفِعِ قَالَ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [إِبْرَاهِيم: 24] وَتُطْلَقُ عَلَى السَّحَابِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَطَرُُِ

نَفْسِهِ فَفِي الْحَدِيثِ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْرَ سَمَاءٍ» إِلَخْ، وَلَمَّا كَانَ تَكَوُّنُ الْمَطَرِ مِنَ الطَّبَقَةِ الزَّمْهَرِيرِيَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ فِي الْجَوِّ جُعِلَ ابْتِدَاؤُهُ مِنَ السَّمَاءِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ تَقْيِيدًا لِلصَّيِّبِ إِمَّا بِمَعْنَى مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْجَوِّ إِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّمَاءِ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى بُعْدٍ فِيهِ إِذْ لَمْ يُعْهَدُ دُخُولُ لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا عَلَى اسْمٍ كُلِّيٍّ ذِي أَفْرَادٍ دُونَ اسْمِ كُلٍّ ذِي أَجْزَاءٍ فَيَحْتَاجُ لِتَنْزِيلِ الْأَجْزَاءِ مَنْزِلَةَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنَ السَّماءِ قَيْدًا لِلصَّيِّبِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّمَاءِ أَعْلَى الِارْتِفَاعِ وَالْمَطَرُ إِذَا كَانَ مِنْ سَمْتٍ مُقَابِلٍ وَكَانَ عَالِيًا كَانَ أَدْوَمَ بِخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جَوَانِبِ الْجَوِّ وَيَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ غَيْرَ مُرْتَفِعٍ. وَضَمِيرُ (فِيهِ) عَائِدٌ إِلَى (صَيِّبٍ) وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ بِمَعْنَى مَعَهُ، وَالظُّلُمَاتُ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ ظَلَامُ اللَّيْلِ أَيْ كَسَحَابٍ فِي لَوْنِهِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَسَحَابَةُ اللَّيْلِ أَشَدُّ مَطَرًا وَبَرْقًا وَتُسَمَّى سَارِيَةً. وَالرَّعْدُ أَصْوَاتٌ تَنْشَأُ فِي السَّحَاب. والبرق لَا مَعَ نَارِيٌّ مُضِيءٌ يَظْهَرُ فِي السَّحَابِ، وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ يَنْشَآنِ فِي السَّحَابِ مِنْ أَثَرٍ كَهْرَبَائِيٍّ يَكُونُ فِي السَّحَابِ فَإِذَا تَكَاثَفَتْ سَحَابَتَانِ فِي الْجَوِّ إِحْدَاهُمَا كَهْرَبَاؤُهَا أَقْوَى مِنْ كَهْرَبَاءِ الْأُخْرَى وَتَحَاكَّتَا جَذَبَتِ الْأَقْوَى مِنْهُمَا الْأَضْعَفَ فَحَدَثَ بِذَلِكَ انْشِقَاقٌ فِي الْهَوَاءِ بِشِدَّةٍ وَسُرْعَةٍ فَحَدَثَ صَوْتٌ قَوِيٌّ هُوَ الْمُسَمَّى الرَّعْدَ وَهُوَ فَرْقَعَةٌ هَوَائِيَّةٌ مِنْ فِعْلِ الْكَهْرَبَاءِ، وَيَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ الْتِقَاءُ الْكَهْرَبَاءَيْنِ وَذَلِكَ يُسَبِّبُ انْقِدَاحَ الْبَرْقِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّيِّبَ تَشْبِيهٌ لِلْقُرْآنِ وَأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ تَشْبِيهٌ لِنَوَازِعِ الْوَعِيدِ بِأَنَّهَا تَسُرُّ أَقْوَامًا وَهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْغَيْثِ وَتَسُوءُ الْمُسَافِرِينَ غَيْرَ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ، فَكَذَلِكَ الْآيَاتُ تَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ نَاجِينَ مِنْ أَنْ تَحِقَّ عَلَيْهِمْ وَتَسُوءُ الْمُنَافِقِينَ إِذْ يَجِدُونَهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى أَحْوَالِهِمْ

[سورة البقرة (2) : آية 20]

[20] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) الْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: يَجْعَلُونَ حَالًا اتَّضَحَ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مُجْمَلَةً، وَأَمَّا جُمْلَةُ: يَكادُ الْبَرْقُ فَيَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَجْعَلُونَ، لِأَنَّ بِهَا كَمَالَ إِيضَاحِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَيَجُوزُ كَوْنُهَا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ حَالِ الْفَرِيقِ عِنْدَ الْبَرْقِ نَشَأَ عَنْ بَيَانِ حَالِهِمْ عِنْدَ الرَّعْدِ. وَجُمْلَةُ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ حَالٌ مِنَ (الْبَرْقِ) أَوْ مِنْ ضَمِيرِ (أَبْصَارِهِمْ) لَا غَيْرَ، وَفِي هَذَا تَشْبِيهٌ لِجَزَعِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ بِمَا يَعْتَرِي الْقَائِمَ تَحْتَ السَّمَاءِ حِينَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالظُّلُمَاتِ فَهُوَ يَخْشَى اسْتِكَاكَ سَمْعِهِ وَيَخْشَى الصَّوَاعِقَ حَذَرَ الْمَوْتِ وَيُعَشِّيهِ الْبَرْقُ حِينَ يَلْمَعُ بِإِضَاءَةٍ شَدِيدَةٍ وَيُعَمِّي عَلَيْهِ الطَّرِيقَ بَعْدَ انْقِطَاعِ لَمَعَانِهِ. وَقَوْلُهُ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ تَمْثِيلٌ لِحَالِ حَيْرَةِ الْمُنَافِقِينَ بِحَالِ حَيْرَةِ السَّائِرِينَ فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ الْمُرْعِدِ الْمُبْرِقِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ اعْتِرَاضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّمْثِيلُ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي كُفْرِهِمْ لَا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ فِي التَّمْثِيلِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ رُجُوعٌ إِلَى وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ فَالضَّمَائِرُ الَّتِي فِي جُمْلَةِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْكَلَامِ، وَتَوْزِيعُ الضَّمَائِرِ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. فَعَبَّرَ عَنْ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ بِالصَّوَاعِقِ وَعَنِ انْحِطَاطِ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَهِيَ الْبَصَائِرُ عَنْ قَرَارِ نُورِ الْإِيمَانِ فِيهَا بِخَطْفِ الْبَرْقِ لِلْأَبْصَارِ، وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ نَقْلًا عَنْ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ، يُقَالُ فُلَانٌ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ، عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُ هُنَا عَلَى الْمَجَازِ السَّابِقِ يَزِيدُهُ قَبُولًا، وَعَبَّرَ عَمَّا يَحْصُلُ لِلْمُنَافِقِينَ مِنَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ اعْتِقَادِهِمْ بِمَشْيِ السَّارِي فِي ظُلْمَةٍ إِذَا أَضَاءَ لَهُ الْبَرْقُ، وَعَنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الشَّكِّ حِينَ رُجُوعِهِمْ إِلَى كُفْرِهِمْ بِوُقُوفِ الْمَاشِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الْبَرْقِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَهْدِيدٍ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا الْمُشَبَّهِينَ وَهُوَ

مَا أَفَادَهُ الِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فَجَاءَ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ وَالْمُسْتَأْنَفَةِ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الشَّبَهِ وَتَقْرِيرًا لِقُوَّةِ مُشَابَهَةِ الزَّوَاجِرِ وَآيَاتِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ فِي حُصُولِ أَثَرَيِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْهُمَا مَعَ تَفَنُّنٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَطَرَائِقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْجُمَلَ الثَّلَاثَ مُسْتَأْنَفًا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنْ تَكُونَ الْأُولَى اسْتِئْنَافًا عَنْ جُمْلَةِ: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ: يَكادُ الْبَرْقُ مُسْتَأْنَفَةً عَنْ جُمْلَةِ: يَجْعَلُونَ لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ تَسْتَلْزِمُ الْبَرْقَ، وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا مُسْتَأْنَفَةً عَنْ قَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ ضَعِيفٌ وَهُوَ فِي بَعْضِهَا أَضْعَفُ مِنْهُ فِي بَعْضٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَالْجَعْلُ وَالْأَصَابِعُ مُسْتَعْمَلَانِ فِي حَقِيقَتِهِمَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ الْجَعْلَ هُوَ هُنَا بِمَعْنَى النَّوْطِ، وَالظَّرْفِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ فَجَعْلُ بَعْضِ الْإِصْبَعِ فِي الْأُذُنِ هُوَ جَعْلٌ لِلْإِصْبَعِ فَتَمَثُّلُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمَجَازِ الَّذِي عَلَاقَتُهُ الْجُزْئِيَّةُ تَسَامُحٌ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ هَذَا مِنَ الِاتِّسَاعَاتِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي لَا يَكَادُ الْحَاصِرُ يَحْصُرُهَا كَقَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَة: 38] وَمِنْهُ قَوْلُكَ مَسَحْتُ بِالْمِنْدِيلِ، وَدَخَلْتُ الْبَلَدَ، وَقِيلَ ذَلِكَ مَجَازٌ فِي الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ مَجَازٌ فِي الْجَعْلِ وَلِمَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَجَازًا فِي الظَّرْفِيَّةِ فَتَكُونُ تَبَعِيَّةً لِكَلِمَةِ (فِي) . وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الصَّواعِقِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ الصَّوَاعِقِ إِذِ الصَّوَاعِقُ هِيَ عِلَّةُ جَعْلِ الْأَصَابِعِ فِي الْآذَانِ وَلَا ضَيْرَ فِي كَوْنِ الْجَعْلِ لِاتِّقَائِهَا حَتَّى يُقَالَ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ نَحْوَ تَرْكٍ وَاتِّقَاءٍ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ سَقَاهُ مِنَ الْعَيْمَةِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَهِيَ شَهْوَةُ اللَّبَنِ) لِأَنَّ الْعَيْمَةَ سَبَبُ السَّقْيِ وَالْمَقْصُودُ زَوَالُهَا إِذِ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ هُوَ الْبَاعِثُ وُجُودُهُ عَلَى الْفِعْلِ سَوَاءً كَانَ مَعَ ذَلِكَ غَايَةً لِلْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَمْ لَمْ يَكُنْ كَمَا هُنَا. وَالصَّوَاعِقُ جَمْعُ صَاعِقَةٍ وَهِيَ نَارٌ تَنْدَفِعُ مِنْ كَهْرَبَائِيَّةِ الْأَسْحِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: حَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَهُوَ هُنَا عِلَّةٌ وَغَايَةٌ مَعًا. وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّهُ مَعَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مَجْمُوعِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ حِينَ مُنَازَعَةِ الْجَوَاذِبِ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ جَوَاذِبِ الِاهْتِدَاءِ وَتَرْقُبِهَا مَا يُفَاضُ عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ قَبُولِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ وَإِرْشَادِهِ مَعَ جَوَاذِبِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَذَبِّهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَعْلَقَ بِهَا ذَلِكَ الْإِرْشَادُ حِينَمَا يَخْلُونَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، هُوَ مَعَ ذَلِكَ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ فِي

مُفْرَدَاتِهِ إِلَى تَشَابِيهَ مُفْرَدَةٍ بِأَنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِجُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ هَيْئَةِ قَوْمٍ أَصَابَهُمْ صَيِّبٌ مَعَهُ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَصَوَاعِقُ لَا يُطِيقُونَ سَمَاعَ قَصْفِهَا وَيَخْشَوْنَ الْمَوْتَ مِنْهَا وَبَرْقٌ شَدِيدٌ يَكَادُ يَذْهَبُ بِأَبْصَارِهِمْ وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ بَيْنَ السَّيْرِ وَتَرْكِهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ اعْتِرَاضٌ رَاجِعٌ لِلْمُنَافِقِينَ إِذْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ التَّمَثُّلُ وَاتَّضَحَ مِنْهُ حَالُهُمْ فَآنَ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى وَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ وَفِي هَذَا رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ الْغَرَضِ كَالرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ [الْبَقَرَة: 17] إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا وَقَعَ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ. وَالْإِحَاطَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ شُبِّهَتِ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا يَفُوتُهَا الْمَقْدُورُ بِإِحَاطَةِ الْمُحِيطِ بِالْمُحَاطِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ أَوِ التَّمْثِيلِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذَا الْخَبَرُ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِمْ. وَالْخَطْفُ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ. وَ (كُلَّمَا) كَلِمَةٌ تُفِيدُ عُمُوم مدخولها، و (مَا) كَافَّةٌ لِكُلٍّ عَنِ الْإِضَافَةِ أَوْ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَالْعُمُومُ فِيهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ كَلِمَةِ (كُلٍّ) . وَذِكْرُ (كُلَّمَا) فِي جَانِبِ الْإِضَاءَةِ وَ (إِذَا) فِي جَانِبِ الْإِظْلَامِ لِدَلَالَةِ (كُلَّمَا) عَلَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْمَشْيِ وَأَنَّهُمْ يَتَرَصَّدُونَ الْإِضَاءَةَ فَلَا يُفِيتُونَ زَمَنًا مِنْ أَزْمَانِ حُصُولِهَا لِيَتَبَيَّنُوا الطَّرِيقَ فِي سَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ. وأَضاءَ فِعْلٌ يُسْتَعْمَلُ وَمُتَعَدِّيًا بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ [الْبَقَرَة: 17] وَأَظْلَمَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا كَثِيرًا وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا قَلِيلا. وَالظَّاهِر أم (أَضَاءَ) هُنَا مُتَعَدٍّ فَمَفْعُولُ (أَضَاءَ) مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ (مَشَوْا) عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ الْمَمْشَى أَوِ الطَّرِيقُ أَيْ أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ وَكَذَلِكَ (أَظْلَمَ) أَيْ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ بِأَنْ أَمْسَكَ وَمِيضَهُ فَإِسْنَادُ الْإِظْلَامِ إِلَى الْبَرْقِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي الْإِظْلَامِ. وَمَعْنَى الْقِيَامِ عَدَمُ الْمَشْيِ أَيِ الْوُقُوفُ فِي الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ مَفْعُولُ (شَاءَ) مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ شَأْنُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِهِمَا إِذَا وَقَعَ مُتَّصِلًا بِمَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَدُلَّ عَلَى مَفْعُولِهِ مِثْلَ وُقُوعِهِ صِلَةً لِمَوْصُولٍ يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ نَحْوَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ أَيْ مَا شَاءَ كَوْنَهُ كَانَ وَمِثْلَ وُقُوعِهِ شَرْطًا لِلَوْ لِظُهُورِ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ دَلِيلُ الْمَفْعُولِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: 6، 7]

قَالَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» : إِنَّ الْبَلَاغَةَ فِي أَنْ يُجَاءَ بِهِ كَذَلِكَ مَحْذُوفًا وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِهِ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ الْمَفْعُولِ هُوَ الْأَحْسَنَ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ (هُوَ إِسْحَاقُ الْخُرَيْمِيُّ مَوْلَى بَنِي خُرَيْمٍ مِنْ شُعَرَاءِ عَصْرِ الرَّشِيدِ يَرْثِي أَبَا الْهَيْذَامِ الْخُرَيْمِيَّ حَفِيدَهُ ابْنَ ابْنِ عِمَارَةَ) . وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ ... عَلَيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ وَسَبَبُ حُسْنِهِ أَنَّهُ كَأَنَّهُ بِدْعٌ عَجِيبٌ أَنْ يَشَاءَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَبْكِيَ دَمًا فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِهِ لِيُقَرِّرَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إِلَخْ كَلَامِهِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَزَادَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَا يَحْذِفُونَ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ إِذْ قَالَ لَا يَكَادُونَ يُبْرِزُونَ الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ إِلَخْ وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ عَدَمَ الْحَذْفِ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَثِيرًا. وَعِنْدِي أَنَّ الْحَذْفَ هُوَ الْأَصْلُ لِأَجْلِ الْإِيجَازِ فَالْبَلِيغُ تَارَةً يَسْتَغْنِي بِالْجَوَابِ فَيَقْصِدُ الْبَيَانَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ طَرَفَةُ: وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُرْقِلْ وَإِنْ شِئْتَ أَرْقَلَتْ، وَتَارَةً يُبَيِّنُ بِذِكْرِ الشَّرْطِ أَسَاسَ الْإِضْمَارِ فِي الْجَوَابِ نَحْوَ الْبَيْتِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ [الْأَنْبِيَاء: 17] وَيَحْسُنُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْمَفْعُولِ غَرَابَةٌ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ لِابْتِدَاءِ تَقْرِيرِهِ كَمَا فِي بَيْتِ الْخُرَيْمِيِّ وَالْإِيجَازُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ فِيهِ حَذْفًا إِمَّا مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي. وَقَدْ يُوهِمُ كَلَامُ أَئِمَّةِ الْمَعَانِي أَنَّ الْمَفْعُولَ الْغَرِيبَ يَجِبُ ذِكْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] فَإِنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ غَرِيبٌ قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ. وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا ... عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ فَإِنَّ زَعْمَ ذَلِكَ زَعْمٌ غَرِيبٌ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ظَاهِرُهُ أَنْ يَعُودُوا إِلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ الْمُشَبَّهِ بِحَالِهِمْ حَالُ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِإِمْكَانِ إِتْلَافِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ يُنَاسِبُ أَهْلَ الصَّيِّبِ الْمُشَبَّهِ بِحَالِهِمْ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ وَقَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا هُمَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ بَلَغَا مُنْتَهَى قُوَّةِ جِنْسَيْهِمَا بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ قَصِيفُ الرَّعْدِ مِنْ إِتْلَافِ أَسْمَاعِ سَامِعِيهِ وَلَا يَمْنَعُ وَمِيضُ الْبَرْقِ مِنْ إِتْلَافِ أَبْصَارِ نَاظِرِيهِ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ عَدَمَ وُقُوعِ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا أَنْ يَسْرِيَ نَظِيرُهُ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْمُنَافِقِينَ فَهُمْ عَلَى وَشْكِ انْعِدَامِ الِانْتِفَاعِ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ انْعِدَامًا تَامًّا مِنْ كَثْرَةِ عِنَادِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْلَاءً لِيَزْدَادُواُُ

[سورة البقرة (2) : آية 21]

إِثْمًا أَوْ تَلَوُّمًا لَهُمْ وَإِعْذَارًا لَعَلَّ مِنْهُمْ مَنْ يَثُوبُ إِلَى الْهُدَى وَقَدْ صِيغَ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ بِالتَّهْدِيدِ لَهُمْ أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ سَمْعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ مِنْ نِفَاقِهِمْ إِنْ لَمْ يَبْتَدِرُوا الْإِقْلَاعَ عَنِ النِّفَاقِ وَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ وَقْعُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا وَقَعَ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] . فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنِ اجْتِلَابِ لَوْ فِي هَذَا الشَّرْطِ إِفَادَةَ مَا تَقْتَضِيهِ (لَوْ) مِنَ الِامْتِنَاعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بَلِ الْمَقْصُودُ إِفَادَةُ لَازِمِ الِامْتِنَاعِ وَهُوَ أَن توفر أَسْبَابَ إِذْهَابِ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ أَبْصَارَهُمُ الْوَاقِعَيْنِ فِي التَّمْثِيلِ مُتَوَفِّرَةٌ وَهِيَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُمَا إِذْ إِنَّمَا رُزِقُوهُمَا لِلتَّبَصُّرِ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَسَمَاعِ الْآيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الْأَمْرَيْنِ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ إِمْهَالًا لَهُمْ وَإِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ لَوْ مُسْتَعْمَلَةً مَجَازًا مُرْسَلًا فِي مُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ إِظْهَارًا لَتَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ لَوْلَا وُجُودُ الْمَانِعِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» يَصِفُ فَرَسَهُ: وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ أَيْ تَوَفَّرَ فِيهَا سَبَبُ الطَّيَرَانِ، فَالْمَعْنَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ بِزِيَادَةِ مَا فِي الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ مِنَ الْقُوَّةِ فَيُفِيدُ بُلُوغَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ قُرْبَ غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَيَكُونُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَوْقِعٌ عَجِيبٌ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ، وَفِيهِ تَرْشِيحٌ لِلتَّوْجِيهِ الْمَقْصُودِ لِلتَّهْدِيدِ زِيَادَةً فِي تَذْكِيرِهِمْ وَإِبْلَاغًا لَهُمْ وَقَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. [21] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 21] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ثَنَى بِهِ الْعِنَانَ إِلَى مَوْعِظَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مَوْعِظَةً تَلِيقُ بِحَالِهِ بَعْدَ أَنْ قَضَى حَقَّ وَصْفِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُم بخلاله، ومثلت حَالُ كُلِّ فَرِيقٍ وَضُرِبَتْ لَهُ أَمْثَالُهُ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى أَحْوَالًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَضْدَادِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِخِطَابِ عُمُومِهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ إِرْشَادًا لَهُمْ وَرَحْمَةً بِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى لَهُمُ الضَّلَالَ وَلَمُُْ

يَكُنْ مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ حَائِلًا دُونَ إِعَادَةِ إِرْشَادِهِمْ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ فَفِيهِ تَأْنِيسٌ لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ هَدَّدَهُمْ وَلَامَهُمْ وَذَمَّ صُنْعَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِغْلَاظَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ إِلَّا حِرْصًا عَلَى صَلَاحِهِمْ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُرَبِّي النَّاصِحُ حِينَ يَزْجُرُ أَوْ يُوَبِّخُ فَيُرَى انْكِسَارُ نَفْسِ مُرَبَّاهُ فَيَجْبُرُ خَاطِرَهُ بِكَلِمَةٍ لَيِّنَةٍ لِيُرِيَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسَاءَ إِلَيْهِ اسْتِصْلَاحًا وَحُبًّا لِخَيْرِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ رَحْمَتِهِ لِخَلْقِهِ حَتَّى فِي حَالِ عُتُوِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَفِي حَالِ حَمْلِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ. وَبَعْدُ فَهَذَا الِاسْتِئْنَاسُ وَجَبْرُ الْخَوَاطِرِ يَزْدَادُ بِهِ الْمُحْسِنُونَ إِحْسَانًا وَيَنْكَفُّ بِهِ الْمُجْرِمُونَ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ فَيَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِيمَا سَلَفَ حَظَّهُ مِنْهُ. فَالْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ الْإِقْبَالُ عَلَى مَوْعِظَةِ نَبْذِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ هُوَ غَالِبُ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ هُنَا قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 22] وَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنِّدَاءِ تنويها بِهِ. و (يَا) حَرْفٌ لِلنِّدَاءِ وَهُوَ أَكْثَرُ حُرُوفِ النِّدَاءِ اسْتِعْمَالًا فَهُوَ أَصْلُ حُرُوفِ النِّدَاءِ وَلِذَلِكَ لَا يُقَدَّرُ غَيْرُهُ عِنْدَ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَلِكَوْنِهِ أَصْلًا كَانَ مُشْتَرِكًا لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» . قَالَ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» : إِنَّ اسْتِعْمَالَ يَا فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عَلَى السَّوَاءِ وَدَعْوَى الْمَجَازِ فِي أَحَدِهِمَا أَوِ التَّأْوِيلِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ إِذْ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَيَا حَرْفٌ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُنَادَاةِ مَنْ سَهَا أَوْ غَفَلَ وَإِنْ قَرُبَ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ بَعُدَ» وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي كتاب «الْمفصل» . و (أيّ) فِي الْأَصْلِ نَكِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى فَرْدٍ مِنْ جِنْسِ اسْمٍ يَتَّصِلُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ، نَحْوُ أَيُّ رَجُلٍ أَوْ بِطَرِيقِ الْإِبْدَالِ نَحْوُ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَمِنْهُ مَا فِي الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِكَ لِجَلِيسِكَ أَنَا كَفَيْتُ مُهِمَّكَ أَيُّهَا الْجَالِسُ عِنْدَكَ وَقَدْ يُنَادُونَ الْمُنَادَى بِاسْمِ جِنْسِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِإِحْضَارِهِ كَمَا هُنَا فَرُبَّمَا يُؤْتَى بِالْمُنَادَى حِينَئِذٍ نَكِرَةً مَقْصُودَةً أَوْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، وَرُبَّمَا يَأْتُونَ بِاسْمِ الْجِنْسِ أَوِ الْوَصْفِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى تَطَرُّقِ التَّعْرِيفِ إِلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ تَفَنُّنًا فَجَرَى اسْتِعْمَالُهُمْ أَنْ يَأْتُوا حِينَئِذٍ مَعَ اللَّامِ بِاسْمِ إِشَارَةٍ إِغْرَاقًا فِي تَعْرِيفِهِ (¬1) ¬

(¬1) علله كثير من النَّحْوِيين بِأَنَّهُ لكراهية اجْتِمَاع حرفي تَعْرِيف، ورده الرضي بِأَنَّهُ لَا يستنكر اجْتِمَاع حرفين فِي أَحدهمَا من الْفَائِدَة مَا فِي الآخر وَزِيَادَة كَمَا فِي لقد، وَقَالُوا يَا هَذَا، وَيَا أَنْت. وَالَّذِي يخْتَار فِي تَعْلِيله أَنه كَرَاهِيَة اجْتِمَاع أداتي تَعْرِيف وهما حرف النداء وأل الْمعرفَة.

وَيَفْصِلُوا بَيْنَ حَرْفِ النِّدَاءِ وَالِاسْمِ الْمُنَادَى حِينَئِذٍ بِكَلِمَةِ أَيْ وَهُوَ تَرْكِيبٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ اللُّغَةِ وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا اسْتِعْمَالٍ عَتِيقٍ. وَقَدِ اخْتَصَرُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ فَأَبْقَوْا (هَا) التَّنْبِيهِيَّةَ وَحَذَفُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ، فَأَصْلُ يَا أَيُّهَا النَّاس يَا أَي هَؤُلَاءِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ: أَيُّهَذَانِ كُلَا زَادَيْكُمَا وَرُبَّمَا أَرَادُوا نِدَاءَ الْمَجْهُولِ الْحَاضِرِ الذَّاتِ أَيْضًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ إِحْضَارِهِ مِنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ جِنْسٍ فَتَوَصَّلُوا لِذَلِكَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالَةِ بِصِلَتِهِ وَالدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَأْتِي لِمَا تَأْتِي لَهُ اللَّامُ فَيُقْحِمُونَ أَيًّا كَذَلِكَ نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحجر: 6] . و (النَّاس) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: 8] وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ نُودِيَ هُنَا وَعُرِّفَ بِأَلْ يَشْمَلُ كُلَّ أَفْرَادِ مُسَمَّاهُ لِأَنَّ الْجُمُوعَ الْمُعَرَّفَةَ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَهْدٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَاحْتِمَالُهَا الْعَهْدَ ضَعِيفٌ إِذِ الشَّأْنُ عَهْدُ الْأَفْرَادِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ فِي الْعُمُومِ أَنَصَّ مِنْ عُمُومِ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِأَلْ. فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى صُورَةِ الْخِطَابِ فَهُوَ إِنَّمَا وَاجَهَ بِهِ نَاسًا سَامِعِينَ فَعُمُومُهُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَنْ سَيُوجَدُ مِنْ بَعْدُ يَكُونُ بِقَرِينَةِ عُمُومِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِ قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحَاضِرِينَ وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ تَوَاتَرَ نَقْلًا وَمَعْنًى فَلَا جَرَمَ أَنْ يَعُمَّ الْجَمِيعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَضْرُبِ الْخِطَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ لِمُعَيَّنٍ فَيُتْرَكُ فِيهِ التَّعْيِينُ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ بِذَلِكَ وَهَذَا شَأْنُ الْخِطَابِ الصَّادِرِ مِنَ الدُّعَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ يَا قَوْمُ، وَيَا فَتَى، وَأَنْتَ تَرَى، وَبِهَذَا تَعْلَمُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِخِطَابِ الرُّسُلِ وَخِطَابٍ هُوَ نَازِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْأُصُولِيُّونَ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِخِطَابِ الْمُشَافَهَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ هَلْ يَعُمُّ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْمُخَاطَبَةِ حَتَّى قَالَ الْعَضُدُ إِنَّ إِنْكَارَ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ، وَبحث فِيهِ التفتازانيّ، فَهُمْ قَالُوا إِنَّ شُمُولَ الْحُكْمِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ هُوَ مِمَّا تَوَاتَرَ مِنْ عُمُومِ الْبِعْثَةِ وَأَنَّ أَحْكَامَهَا شَامِلَةٌ لِلْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَاتِ التَّشْرِيعِ وَنَحْوَهَا غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي أَصْلِ اللُّغَاتِ لِأَنَّ الْمُشَرِّعَ لَا يَقْصِدُ لِفَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَكَذَلِكَ خِطَابُ الْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ فِي الظَّهَائِرِ وَالتَّقَالِيدِ، فَقَرِينَةُ عَدَمِ قَصْدِ الْحَاضِرِينَ ثَابِتَةٌ وَاضِحَةٌ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْحَاضِرِينَ تَعَلُّقٌ أَصْلِيٌّ إِلْزَامِيٌّ وَتَعَلُّقَهُ بِالَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ تَعَلُّقٌ مَعْنَوِيٌّ إِعْلَامِيٌّ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَرَّرَ فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَنَفْرِضُ مِثْلَهُ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ. وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَصْلِ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] وَلَمَّا كَانَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَنْ صِدْقِ الْيَقِينِ كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَبْدَأَ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ الْمُسْتَحِقِّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ لَهُ. فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالدَّهْرِيُّونَ مِنْهُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبِ الْعِبَادَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْخَالِقِ وَمِنْ تَوْحِيدِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، وَالْإِسْلَامِ لِلدِّينِ وَالِامْتِثَالِ لِمَا شَرَعَهُ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى مُنْتَهَى الْعِبَادَةِ وَلَوْ بِالدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فَإِنَّهُمْ مَشْمُولُونَ لِلْخِطَابِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَالْمَأْمُورِيَّةُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ حَتَّى لَا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ عِنْد من يَأْبَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ وَإِنْ كُنَّا لَا نَأْبَاهُ إِذَا صَلَحَ لَهُ السِّيَاقُ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: 22] عَلَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الْآيَةَ. فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ بِخِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَتَصْدِيقُ الرَّسُولِ، وَخِطَابُهُمْ بِذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَمِجَةٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الرَّبِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] . وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ نَحْوُ الْعَلَمِيَّةِ إِذْ لَمْ يَقُلِ اعْبُدُوا اللَّهَ، لِأَنَّ فِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الرَّبِّ إِيذَانًا بِأَحَقِّيَّةِ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الْمُدَبِّرَ لِأُمُورِ الْخَلْقِ هُوَ جَدِيرٌ بِالْعِبَادَةِ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ وَإِظْهَارَ الِاحْتِيَاجِ. وَإِفْرَادُ اسْمِ الرَّبِّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَبُّ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ رَبٌّ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ بِالْإِفْرَادِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْقَبَائِلِ كَانَ لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ، كَمَا كَانَ لِثَقِيفٍ

مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِاللَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَتَبِعَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [الْبَقَرَة: 158] فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْعُدُولُ إِلَى الْإِضَافَةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ فَهِيَ أَخْصَرُ مِنَ الْمَوْصُولِ فَلَوْ أُرِيدَ غَيْرُ اللَّهِ لَقِيلَ اعْبُدُوا أَرْبَابَكُمْ فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمُوجِبِ الْعِبَادَةِ، أَوْ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْإِضَافَةُ مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِأَحَقِّيَّةِ الْعِبَادَةِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُفِيدُ تَذْكِيرَ الدَّهْرِيِّينَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَلَقَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَقَالُوا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ آبَاءَهُم الْأَوَّلين لَا بُد أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى أَبٍ أَوَّلٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ وَجْهُ التَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ حَرْفِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكُمْ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَبْلِكُمْ، لِأَنَّ (مِنْ) فِي الْأَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْقَبْلِيَّةِ فَذِكْرُهَا هُنَا اسْتِرْوَاحٌ لِأَصْلِ مَعْنَاهَا مَعَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ الْغَالِبِ عَلَيْهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعَ قَبْلُ وَبعد. وَالْخَلْقُ أَصْلُهُ الْإِيجَادُ عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَسْوِيَةٍ وَمِنْهُ خَلَقَ الْأَدِيمَ إِذَا هَيَّأَهُ لِيَقْطَعَهُ وَيَخْرُزَهُ، قَالَ جُبَيْرٌ فِي هَرَمِ بْنِ سِنَانٍ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي وَأُطْلِقَ الْخَلْقُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُومَةِ فَهُوَ إِخْرَاجُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ إِخْرَاجًا لَا صَنْعَةَ فِيهِ لِلْبَشَرِ فَإِنَّ إِيجَادَ الْبَشَرِ بِصَنْعَتِهِمْ أَشْيَاءَ إِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرُهَا بِتَرْكِيبِ مُتَفَرِّقِ أَجْزَائِهَا وَتَقْدِيرِ مَقَادِيرَ مَطْلُوبَةٍ مِنْهَا كَصَانِعِ الْخَزَفِ فَالْخَلْقُ وَإِيجَادُ الْعَوَالِمِ وَأَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَوَلُّدِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَا أَوْدَعَتِ الْخِلْقَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِيهَا مِنْ نِظَامِ الْإِيجَادِ مِثْلِ تَكْوِينِ الْأَجِنَّةِ فِي الْحَيَوَانِ فِي بُطُونِهِ وَبَيْضِهِ وَتَكْوِينِ الزَّرْعِ فِي حُبُوبِ الزَّرِّيعَةِ وَتَكْوِينِ الْمَاءِ فِي الْأَسْحِبَةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَلْقٌ وَهُوَ مِنْ تَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عِبْرَةَ بِمَا قَدْ يُقَارِنُ بَعْضَ ذَلِكَ الْإِيجَادِ مِنْ علاج النَّاس كالتزوج وَإِلْقَاءِ الْحَبِّ وَالنَّوَى فِي الْأَرْضِ لِلْإِنْبَاتِ، فَالْإِيجَادُ الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بِدُونِ عَمَلٍ بَشَرِيٍُُّ

خُصَّ بِاسْمِ الْخَلْقِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ هُوَ أَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الْإِيجَادِ مِنَ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَصَارَ ذَلِكَ مَدْلُولَ مَادَّةِ خَلَقَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ خُصَّ إِطْلَاقُهُ فِي لِسَانِ الْإِسْلَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] وَقَالَ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] وَخُصَّ اسْمُ الْخَالِقِ بِهِ تَعَالَى فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ أَطْلَقَهُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَكَانَ إِطْلَاقُهُ عَجْرَفَةً فَيَجِبُ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَي» : لَا حَظَّ لِلْعَبْدِ فِي اسْمِهِ تَعَالَى الْخَالِقِ إِلَّا بِوَجْهٍ مِنَ الْمَجَازِ بَعِيدٍ فَإِذَا بَلَغَ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَسِيَاسَةِ الْخَلْقِ مَبْلَغًا يَنْفَرِدُ فِيهِ بِاسْتِنْبَاطِ أُمُورٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَيَقْدِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِهَا كَانَ كَالْمُخْتَرِعِ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ مِنْ قَبْلُ فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الِاسْمِ (أَيِ الْخَالِقِ) عَلَيْهِ مَجَازًا اهـ. فَجَعَلَ جَوَازَ إِطْلَاقِ فِعْلِ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِرَاعِ بَعْضِ الْعِبَادِ مَشْرُوطًا بِهَذِهِ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهُ مَجَازًا بَعِيدًا فَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيكون طائرا بِإِذن الله [آل عمرَان: 49] وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي [الْمَائِدَة: 110] فَإِنَّ ذَلِكَ مُرَاعَى فِيهِ أَصْلُ الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ قَبْلَ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ مَادَّةِ خَلَقَ فِي الْخَلْقِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ تَخْصِيصُ تِلْكَ الْمَادَّةِ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْجُودَاتِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] . وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِاعْبُدُوا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِعِبَادَتِهِ لِرَجَاءٍ مِنْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا. «وَلَعَلَّ» حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هُوَ الْإِخْبَار عَن تهيىء وُقُوعِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وُقُوعًا مُؤَكَّدًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ لَعَلَّ حَرْفٌ مَدْلُولُهُ خَبَرِيٌّ لِأَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنْ تَأَكُّدِ حُصُولِ الشَّيْءِ (¬1) وَمَعْنَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْ رَجَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْمُخَاطَبِ وَهُوَ مَعْنًى جُزْئِيٌّ حَرْفِيٌّ. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْعُلُومِ الْحَيْرَةُ فِي مَحْمَلِ لَعَلَّ الْوَاقِعَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَعْنَى التَّرَجِّي يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الْمَرْجُوِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَلِلشَّكِّ جَانِبٌ فِي مَعْنَاهَا حَتَّى قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: «لَعَلَّ كَلِمَةُ ¬

(¬1) وَلَيْسَ فِيهَا معنى إنشائي طلبي وَلذَلِك لم ينصبوا الْفِعْل فِي جوابها بعد الْفَاء وَالْوَاو بِخِلَاف جَوَاب التَّمَنِّي وَلذَلِك لم ينصب فَأطلع من قَوْله تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ [غَافِر: 36، 37] ، إِلَّا فِي رِوَايَة حَفْص عَن عَاصِم.

شَكٍّ» وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَلِأَنَّهَا قَدْ وَرَدَتْ فِي أَخْبَارٍ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَرْجُوِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 13] مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا كَمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ مِنْ بَعْدُ. وَلَهُمْ فِي تَأْوِيلِ لَعَلَّ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وُجُوهٌ: أَحَدُهَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: «لَعَلَّ عَلَى بَابِهَا وَالتَّرَجِّي أَوِ التَّوَقُّعُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَيِّزِ الْمُخَاطَبِينَ اهـ. يَعْنِي أَنَّهَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَكُونُ مَرْجُوًّا، وَاخْتَارَهُ الرَّضِيُّ قَائِلًا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ مَعْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَقُولُ لَا يَعْنِي سِيبَوَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى أُصِّلَ لَهَا وَلَكِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ لِوُقُوعِ التَّعْجِيزِ فِي أَحَدِ جُزْأَيِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ الرَّجَاءَ يَقْتَضِي رَاجِيًا وَمَرْجُوًّا مِنْهُ فَحَرْفُ الرَّجَاءِ عَلَى مَعْنَى فِعْلِ الرَّجَاءِ إِلَّا أَنَّهُ مَعْنًى جُزْئِيٌّ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَدْلُولٌ لِمَعْنَى الْفِعْلِ بِالِالْتِزَامِ، فَإِذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَعْطِيلِ دَلَالَةِ حَرْفِ الرَّجَاءِ عَلَى فَاعِلِ الرَّجَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَرْفِ أَوِ الْفِعْلِ تَمَجُّزٌ، إِذِ الْمَجَازُ إِنَّمَا يَتَطَرَّقُ لِلْمَدْلُولَاتِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الْعَقْلِيَّةِ وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ الْمَرْجُوُّ. ثَانِيهَا: أَنَّ لَعَلَّ لِلْإِطْمَاعِ تَقُولُ لِلْقَاصِدِ لَعَلَّكَ تَنَالُ بُغْيَتَكَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَقَدْ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ» . وَالْإِطْمَاعُ أَيْضًا مَعْنًى مَجَازِيٌّ لِلرَّجَاءِ لِأَنَّ الرَّجَاءَ يَلْزَمُهُ التَّقْرِيبُ وَالتَّقْرِيبُ يَسْتَلْزِمُ الْإِطْمَاعَ فَالْإِطْمَاعُ لَازَمٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ. ثَالِثُهَا: أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى كَيْ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَحْسَبُ أَنَّ مُرَادَهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَوَاقِعِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الرَّجَاءِ، فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] لِصِحَّةِ مَعْنَى الرَّجَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ إِثْبَاتُ مَعْنًى فِي (لَعَلَّ) لَا يُوجَدُ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلًا مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا لِلْإِطْمَاعِ فَقَالَ: «وَلِأَنَّهُ إِطْمَاعٌ مِنْ كِرِيمٍ إِذَا أُطْمِعَ فَعَلَ» قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَعَلَّ بِمَعْنَى كَيْ، يَعْنِيَ فَهُوَ معنى مجازي ناشيء عَنْ مَجَازٍ آخَرَ، فَهُوَ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَجَازِ عَلَى اللُّزُومِ بِثَلَاثِ مَرَاتِبَ. رَابِعُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ فَقَالَ: «وَلَعَلَّ وَاقِعَةٌ فِي الْآيَةِ مَوْقِعَ الْمَجَازِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيَتَعَبَّدَهُمْ وَوَضَعَ فِي أَيْدِيهِمْ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ وَأَرَادَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ

وَالتَّقْوَى فَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوا لِيَتَرَجَّحَ أَمْرُهُمْ وَهُمْ مُخْتَارُونَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ كَمَا تَرَجَّحَتْ حَالُ الْمُرْتَجِي بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ وَمِصْدَاقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] وَإِنَّمَا يُبْلَى وَيُخْتَبَرُ مَنْ تَخْفَى عَنْهُ الْعَوَاقِبُ وَلَكِنْ شَبَّهَ بِالِاخْتِبَارِ بِنَاءَ أَمْرِهِمْ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ لَعَلَّ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِأَنَّهُ جَعَلَهَا تَشْبِيهَ هَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ من شَأْن الْمَزِيد وَالْمُرَادِ مِنْهُ وَالْإِرَادَةِ بِحَالٍ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الرَّاجِي وَالْمَرْجُوِّ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فَاسْتُعِيرَ الْمُرَكَّبُ الْمَوْضُوعُ لِلرَّجَاءِ لِمَعْنَى الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْإِرَادَةِ. وَعِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ وَهُوَ: «أَنَّ لَعَلَّ الْوَاقِعَةَ فِي مَقَامِ تَعْلِيلِ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ لَهَا اسْتِعْمَالٌ يُغَايِرُ اسْتِعْمَالَ لَعَلَّ الْمُسْتَأْنَفَةَ فِي الْكَلَامِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ افْتَقِدْ فُلَانًا لَعَلَّكَ تَنْصَحُهُ كَانَ إِخْبَارًا بِاقْتِرَابِ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ إِنْ تَمَّ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ فَأَمَّا اقْتِضَاؤُهُ عَدَمَ جَزْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحُصُولِ فَذَلِكَ مَعْنًى الْتِزَامِيٌّ أَغْلَبِيٌّ قَدْ يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهُ بِالْقَرِينَةِ وَذَلِكَ الِانْتِفَاءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوَقَعُ، فَاعْتِقَادُنَا بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ أَوْ لَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى تَعْطِيلِ هَذَا الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الرَّجَاءِ الَّذِي تُفِيدُهُ لَعَلَّ حَتَّى يَكُونَ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ لَعَلَّ إِنَّمَا أُتِيَ بِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَعْنَى الرَّجَاءِ فَالْتِزَامُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الدِّلَالَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ تَعْطِيلٌ لِمَعْنَى الرَّجَاءِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمقَام وَالْجَمَاعَة لجأوا إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى لَعَلَّ بِنَظَرٍ مُتَّحِدٍ فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا بِخِلَافِ لَعَلَّ الْمُسْتَأْنَفَةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى إِنْشَاءِ الرَّجَاءِ مِنْهَا إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ. وَعَلَى كُلٍّ فَمَعْنَى لَعَلَّ غَيْرُ مَعْنَى أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ. وَالتَّقْوَى هِيَ الْحَذَرُ مِمَّا يُكْرَهُ، وَشَاعَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَدَيِّنِينَ فِي أَسْبَابِهَا، وَهُوَ حُصُولُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا التَّدَيُّنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] . وَلَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى نَتِيجَةَ الْعِبَادَةِ جُعِلَ رَجَاؤُهَا أَثَرًا لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فَالْمَعْنَى اعْبُدُوا رَبَّكُمْ رَجَاءَ أَنْ تَتَّقُوا فَتُصْبِحُوا كَامِلِينَ مُتَّقِينَ، فَإِنَّ التَّقْوَى هِيَ الْغَايَةُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَرَجَاءُ حُصُولِهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَعِنْدَ عِبَادَةِ الْعَابِدِ أَوْ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَاضِحُ الْفَائِدَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 22]

[22] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 22] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ. يَتَعَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلرَّبِّ لِأَنَّ مَسَاقَهَا مَسَاقُ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَة: 21] ، وَالْمَقْصُودُ الْإِيمَاءُ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَإِفْرَادِهِ بِهَا فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ عِبَادَتَهُ أَنَّهُ خَالِقُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ، وَهِيَ نِعَمُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ مَكَّنَ لَهُمْ سُبُلَ الْعَيْشِ وَأَوَّلُهَا الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهِ بِدُونِ لُغُوبٍ فَجَعَلَهُ كَالْفِرَاشِ لَهُمْ وَمِنْ إِحَاطَةِ هَذَا الْقَرَارِ بِالْهَوَاءِ النَّافِعِ لِحَيَاتِهِمْ وَالَّذِي هُوَ غِذَاءُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، وَذَلِكَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بِناءً وَبِكَوْنِ تِلْكَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ وَاقِيَةَ النَّاسِ مِنْ إِضْرَارِ طَبَقَاتٍ فَوْقَهَا مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْعُلُوِّ، مِنْ زَمْهَرِيرٍ أَوْ عَنَاصِرَ غَرِيبَةٍ قَاتِلَةٍ خَانِقَةٍ، فَالْكُرَةُ الْهَوَائِيَّةُ جُعِلَتْ فَوْقَ هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ كَالْبِنَاءِ لَهُ وَنَفْعُهَا كَنَفْعِ الْبِنَاءِ فَشُبِّهَتْ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَبِأَنْ أَخْرَجَ لِلنَّاسِ مَا فِيهِ إِقَامَةُ أَوَدِ حَيَاتِهِمْ بِاجْتِمَاعِ مَاءِ السَّمَاءِ مَعَ قُوَّةِ الْأَرْضِ وَهُوَ الثِّمَارُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا إِطْلَاقُهَا الْعُرْفِيُّ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ كَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ وَهُوَ كُرَةُ الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ الْغَالِبُ إِذَا أُطْلِقَ السَّمَاءُ بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا أَنَّهَا كَالْفِرَاشِ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاضْطِجَاعِ عَلَيْهَا وَهُوَ أَخَصُّ أَحْوَالِ الِاسْتِقْرَارِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهَا مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ شِدَّةِ الصُّخُورِ بِحَيْثُ تُؤْلِمُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ رَخَاوَةِ الْحَمْأَةِ بِحَيْثُ يَتَزَحْزَحُ الْكَائِنُ فَوْقَهَا وَيَسُوخُ فِيهَا وَتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ. وَأَمَّا وَجْهُ شَبَهِ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ فَهُوَ أَنَّ الْكُرَةَ الْهَوَائِيَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ حَاجِزَةً بَيْنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ الْكُرَةِ الْأَثِيرِيَّةِ فَهِيَ كَالْبِنَاءِ فِيمَا يُرَادُ لَهُ الْبِنَاءُ وَهُوَ الْوِقَايَةُ مِنَ الْأَضْرَارِ النَّازِلَةِ، فَإِنَّ لِلْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ دَفْعًا لِأَضْرَارٍ أَظْهَرُهَا دَفْعُ ضَرَرِ طُغْيَانِ مِيَاهِ الْبِحَارِ عَلَى الْأَرْضِ وَدَفْعُ أَضْرَارِ بُلُوغِ أَهْوِيَةٍ تَنْدَفِعُ عَنْ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ إِلَيْنَا وَتَلْطِيفُهَا حَتَّى تَخْتَلِطَ بِالْهَوَاءِ أَوْ صَدُّ الْهَوَاءِ إِيَّاهَا عَنَّا مَعَ مَا فِي مشابهة منظر الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ لِهَيْئَةِ الْقُبَّةِ، وَالْقُبَّةُ بَيْتٌ مَنْ أَدَمٍ مُقَبَّبٍ وَتُسَمَّى بِنَاءً،

وَالْبِنَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلْوِقَايَةِ سَوَاءً كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مِنْ أَدَمٍ أَوْ مِنْ شَعْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا تَزَوَّجَ لِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَ يَجْعَلُ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَقَدِ اشْتَهَرَ اطلاق الْبناء على الْقبَّة مَنْ أَدَمٍ وَلِذَلِكَ سَمُّوا الْأَدَمَ الَّذِي تُبْنَى مِنْهُ الْقِبَابُ مَبْنَاةً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [32] : وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً. فَإِنْ قُلْتَ يَقْتَضِي كَلَامُكَ هَذَا أَنَّ الِامْتِنَانَ بِجَعْلِ السَّمَاءِ كَالْبِنَاءِ لِوِقَايَةِ النَّاسِ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْتَ إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ وَذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَجْيَالُ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ زَمَانِ النُّزُولِ فَمَاذَا يَكُونُ حَظُّ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ بَيْنَهُمُ الْآيَة: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: 10] فِي عِدَّةِ أَجْيَالٍ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ لِلسَّمَاءِ خَاصِّيَّةَ الْبِنَاءِ فِي الْوِقَايَةِ وَغَايَةُ مَا كَانُوا يَتَخَيَّلُونَهُ أَنَّ السَّمَاءَ تُشْبِهُ سَقْفَ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَتِ الْأَعْرَابِيَّةُ حِينَ سُئِلَتْ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّجُومِ: أَيَجْهَلُ أَحَدٌ خَرَزَاتٍ مُعَلَّقَةً فِي سقفه فتتمحض الْآيَةُ لِإِفَادَةِ الْعِبْرَةِ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الِامْتِنَانِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَكُمُ فَهَلْ نَخُصُّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِ جَعَلَ الْمُصَرَّحِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقِهِ بِالْفِعْلِ الْمَطْوِيِّ تَحْتَ وَاوِ الْعَطْفِ، أَوْ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فِراشاً فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالسَّماءَ بِناءً مَعْطُوفًا عَلَى مَعْمُولِ فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالْمُتَعَلِّقِ. قُلْتُ: هَذَا يُفْضِي إِلَى التَّحَكُّمِ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لَكُمُ تَحَكُّمًا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لِلسَّامِعِ بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ لَكُمُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ جَعَلَ وَيَكْفِي فِي الِامْتِنَانِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ إِشْعَارُ السَّامِعِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ مَا فِي إِقَامَةِ الْبِنَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ عَلَى الْإِجْمَالِ لِيَفْرِضَهُ السَّامِعُونَ عَلَى مِقْدَارِ قَرَائِحِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ ثُمَّ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ فِي قَابِلِ الْأَجْيَالِ. وَحُذِفَ (لَكُمْ) عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ إِيجَازًا لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي قَوْله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَ (جَعَلَ) إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَوْجَدَ فَحَمْلُ الِامْتِنَانِ هُوَ إِنْ كَانَتَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرَ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ قَدِ انْتَقَلَتَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حَتَّى صَارَتَا كَمَا هُمَا وَصَارَ أَظْهَرَ فِي مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ وَقَوَاعِدُ عِلْمِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجْيَا) تُؤْذِنُ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مِنَّتَانِ وَعِبْرَتَانِ فِي جَعْلِهِمَا عَلَى مَا رَأَيْنَا وَفِي الْأَطْوَارِ الَّتِي انْتَقَلَتَا فِيهِمَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: 30- 32]

وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ وَضَرَبَ الْعِبْرَةَ بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَظْهَرِهَا لِسَائِرِ النَّاسِ حَاضِرِهِمْ وَبَادِيهِمْ وَبِأَوَّلِ الْأَشْيَاءِ فِي شُرُوطِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَفِيهِمَا أَنْفَعُ الْأَشْيَاءِ وَهُمَا الْهَوَاءُ وَالْمَاءُ النَّابِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَفِيهِمَا كَانَتْ أَوَّلُ مَنَافِعِ الْبَشَرِ. وَفِي تَخْصِيصِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالذِّكْرِ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّمْهِيدُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً إِلَخْ. وَابْتَدَأَ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُعْتَبِرِ ثُمَّ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إِلَى مَا يُحِيطُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ إِلَخْ هَذَا امْتِنَانٌ بِمَا يَلْحَقُ الْإِيجَادَ مِمَّا يَحْفَظُهُ مِنَ الاختلال وَهُوَ خلقَة لِمَا تُتْلِفُهُ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالْعَمَلُ الْعَصَبِيُّ وَالدِّمَاغِيُّ مِنَ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ لِيَدُومَ قِوَامُ الْبَدَنِ بِالْغِذَاءِ وَأَصْلُ الْغِذَاءِ هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ النَّبَاتَ بِنُزُولِ الْمَاءِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ أَيْ مِنَ السَّحَابِ وَالطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمَاءِ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ هُوَ أَنَّ تَكَوُّنَهُ يَكُونُ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ مِنْ آثَارِ الْبُخَارِ الَّذِي فِي الْجَوِّ فَإِن الجو ممتلىء دَائِمًا بِالْأَبْخِرَةِ الصَّاعِدَةِ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنْ مِيَاهِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَمِنْ نَدَاوَةِ الْأَرْضِ وَمِنَ النَّبَاتِ وَلِهَذَا نَجِدُ الْإِنَاءَ الْمَمْلُوءَ مَاءً فَارِغًا بَعْدَ أَيَّامٍ إِذَا تُرِكَ مَكْشُوفًا لِلْهَوَاءِ فَإِذَا بَلَغَ الْبُخَارُ أَقْطَارَ الْجَوِّ الْعَالِيَةَ بَرَدَ بِبُرُودَتِهَا وَخَاصَّةً فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ فَإِذَا بَرَدَ مَالَ إِلَى التَّمَيُّعِ، فَيَصِيرُ سَحَابًا ثُمَّ يَمْكُثُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بِحَسَبِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ بُرُودَةِ الطَّبَقَاتِ الْجَوِّيَّةِ وَالْحَرَارَةِ الْبُخَارِيَّةِ فَإِذَا زَادَتِ الْبُرُودَةُ عَلَيْهِ انْقَبَضَ السَّحَابُ وَثَقُلَ وَتَمَيَّعَ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ الْفَقَاقِيعُ الْمَائِيَّةُ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ فَتُنْزِلُ مَطَرًا وَهُوَ مَا أَشَارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. [الرَّعْد: 12] وَكَذَلِكَ إِذَا تَعَرَّضَ السَّحَابُ لِلرِّيحِ الْآتِيَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ وَهِيَ رِيحٌ نَدِيَّةٌ ارْتَفَعَ الْهَوَاءُ إِلَى أَعْلَى الْجَوِّ فَبَرَدَ فَصَارَ مَائِعًا وَرُبَّمَا كَانَ السَّحَابُ قَلِيلًا فَسَاقَتْ إِلَيْهِ الرِّيحُ سَحَابًا آخَرَ فَانْضَمَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَنَزَّلَا مَطَرًا، وَلِهَذَا غَلَبَ الْمَطَرُ بَعْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ الْبَحْرِيَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَنْشَأَتْ بِحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ» وَمِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْحَرَارَةَ وَقِلَّةَ الضَّغْطِ يَزِيدَانِ فِي صُعُودِ البخار وَفِي قُوَّة انْبِسَاطِهِ وَالْبُرُودَةَ وَكَثْرَةَ الضَّغْطِ يُصَيِّرَانِ الْبُخَارَ مَائِعًا وَقَدْ جُرِّبَ أَنَّ صُعُودَ الْبُخَارِ يَزْدَادُ بِقَدْرِ قُرْبِ الْجِهَةِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَيَنْقُصُ بِقَدْرِ بُعْدِهِ عَنْهُ وَإِلَى بَعْضِ هَذَا يُشِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْ صَخْرَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَإِنَّ الْعَرْشَ هُوَ اسْمٌ لِسَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالصَّخْرَةُ تَقْرِيبٌ لِمَكَانٍ ذِي بُرُودَةٍ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَطَرَ تُنْشِئُهُ الْبُرُودَةُ فَيَتَمَيَّعُ السَّحَابُ فَكَانَتِ الْبُرُودَةُ هِيَ لِقَاحُ الْمَطَرِ.

وَ (مِنَ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الثَّمَراتِ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ إِذْ لَيْسَ التَّبْعِيضُ مُنَاسِبًا لِمَقَامِ الِامْتِنَانِ بَلْ إِمَّا لِبَيَانِ الرِّزْقِ الْمُخْرَجِ، وَتَقْدِيمُ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِمَّا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْإِخْرَاجِ بِالثَّمَرَاتِ. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. أَتَتِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَ (لَا) نَاهِيَةٌ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ وَلَيْسَتْ نَافِيَةً حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلُ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَالْمُرَادُ هُنَا تَسَبُّبُهُ الْخَاصُّ وَهُوَ حُصُولُهُ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِعِبَادَتِهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِفْرَادِ بِهَا فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ ضِدِّ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ ضِدَّ الْعِبَادَةَ عَدَمُ الْعِبَادَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِشْرَاكُ لِلْمَعْبُودِ فِي الْعِبَادَةِ يُشْبِهُ تَرْكَ الْعِبَادَةِ جُعِلَ تَرْكُ الْإِشْرَاكِ مُسَاوِيًا لِنَقِيضِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ مَا هُوَ إِلَّا تَرْكٌ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَوْقَاتِ تَعْظِيمِ شُرَكَائِهِمْ. وَالنِّدُّ بِكَسْرِ النُّونِ الْمُسَاوِي وَالْمُمَاثِلُ فِي أَمْرٍ مِنْ مَجْدٍ أَوْ حَرْبٍ، وَزَادَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ مُنَاوِئًا أَيْ مُعَادِيًا، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى اشْتِقَاقِهِ مِنْ نَدَّ إِذَا نَفَرَ وَعَانَدَ، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ اسْمًا جَامِدًا وَأَظُنُّ أَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ النِّدِّ عَلَى الْمُنَاوَأَةِ وَالْمُضَادَّةِ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْمُمَاثَلَةِ عُرْفًا عِنْد الْعَرَب، فَإِن شَأْنُ الْمِثْلِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَافِسَ مُمَاثِلَهُ وَيُزَاحِمَهُ فِي مُرَادِهِ فَتَحْصُلُ الْمُضَادَّةُ. وَنَظِيرُهُ فِي عَكْسِهِ تَسْمِيَتُهُمُ الْمُمَاثِلَ قَرِيعًا، فَإِنَّ الْقَرِيعَ هُوَ الَّذِي يُقَارِعُ وَيُضَارِبُ وَلَمَّا كَانَ أَحَدٌ لَا يَتَصَدَّى لِمُقَارَعَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ لِخَشْيَتِهِ وَلَا مَنْ هُوَ دُونَهُ لِاحْتِقَارِهِ كَانَتِ الْمُقَارَعَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ قِرْنٌ لِلْمُحَارِبِ الْمُكَافِئِ فِي الشَّجَاعَةِ. وَيُقَالُ جَعَلَ لَهُ نِدًّا، إِذَا سَوَّى غَيْرَهُ بِهِ. وَالْمَعْنَى لَا تُثْبِتُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا تَجْعَلُونَهَا جَعْلًا وَهِيَ لَيْسَتْ أَنْدَادًا وَسَمَّاهَا أَنْدَادًا تَعْرِيضًا بِزَعْمِهِمْ لِأَنَّ حَالَ الْعَرَبِ فِي عِبَادَتِهِمْ لَهَا كَحَالِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ إِنَّ الْآلِهَةَ شُفَعَاءُ وَيَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ، وَجَعَلُوا اللَّهَ خَالِقَ الْآلِهَةِ فَقَالُوا فِي التَّلْبِيَةِ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» لَكِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا وَنَسُوا بِعِبَادَتِهَا وَالسَّعْيِ إِلَيْهَا وَالنُّذُورِ عِنْدَهَا وَإِقَامَةِ الْمَوَاسِمِ حَوْلَهَا عِبَادَةَ اللَّهِ، أَصْبَحَ عَمَلُهُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 23]

عَمَلَ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ. وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِاضْطِرَابِ الْحَالِ وَمُنَاقِضَةِ الْأَقْوَالِ لِلْأَفْعَالِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يُقْصَدْ تَعْلِيقُهُ بِمَفْعُولٍ بَلْ قُصِدَ إِثْبَاتُهُ لِفَاعِلِهِ فَقَطْ فَنُزِّلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَالْمعْنَى وَأَنْتُم ذُو عِلْمٍ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْعَقْلُ التَّامُّ وَهُوَ رُجْحَانُ الرَّأْيِ الْمُقَابَلُ عِنْدَهُمْ بِالْجَهْلِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] وَقَدْ جَعَلَتْ هَاتِهِ الْحَالُ مَحَطَّ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ تَمْلِيحًا فِي الْكَلَامِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ التَّوْبِيخِ وَإِثَارَةِ الْهِمَّةِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمْ عِلْمًا وَرَجَاحَةَ الرَّأْيِ لِيُثِيرَ هِمَّتَهُمْ وَيَلْفِتَ بَصَائِرَهُمْ إِلَى دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ أَوْ نَفَى ذَلِكَ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهِ وَجَعَلَهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْعِلْمِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى مَا أَهْمَلُوا مِنْ مَوَاهِبِ عُقُولِهِمْ وَأَضَاعُوا مِنْ سَلَامَةِ مَدَارِكِهِمْ. وَهَذَا مَنْزَعٌ تَهْذِيبِيٌّ عَظِيمٌ، أَنْ يَعْمِدَ الْمُرَبِّي فَيَجْمَعَ لِمَنْ يُرَبِّيهِ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقِيَّةِ كَمَالٍ فِيهِ حَتَّى لَا يَقْتُلَ هِمَّتَهُ بِالْيَأْسِ مِنْ كَمَالِهِ فَإِنَّهُ إِذَا سَاءَتْ ظُنُونُهُ فِي نَفْسِهِ خَارَتْ عَزِيمَتُهُ وَذَهَبَتْ مَوَاهِبُهُ، وَيَأْتِي بِمَا يدل على نقائص فِيهِ لِيَطْلُبَ الْكَمَالَ فَلَا يَسْتَرِيحُ مِنَ الْكَدِّ فِي طَلَبِ الْعُلَا وَالْكَمَالِ. وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا نِدَّ لَهُ وَلَكِنَّهُمْ تَعَامَوْا وَتَنَاسَوْا فَقَالُوا: «إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك» . [23] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 23] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) انْتِقَالٌ لِإِثْبَاتِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ جُزْئَيِ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ تَمَّ إِثْبَاتُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: 21] إِلَخْ. فَتِلْكَ هِيَ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي اقْتَضَتْ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُمْ بِمَظِنَّةِ أَنْ يُنْكِرُوا أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ عِبَادَةِ شُفَعَائِهِ وَمُقَرَّبِيهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ ضَلَالِهِمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] فَقَدِ اعْتَلُّوا لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّ اللَّهَ أَقَامَهَا وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَزَادَتْ بِهَذَا مُنَاسِبَةُ عَطْفِ قَوْلِهِ:

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ عَقِبَ قَوْلِهِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: 22] . وَأُتِيَ بِإِنْ فِي تَعْلِيقِ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ فِي رَيْبٍ وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي اخْتِصَاصُ إِنْ بِمَقَامِ عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الشَّرْطِ قَدْ حَفَّ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَقْلَعَ الشَّرْطَ مِنْ أَصْلِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهُ مَفْرُوضًا فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِإِنْ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُخَاطَبِ عِلْمَ الْمُتَكَلِّمِ بِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ تَوْبِيخًا عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، كَأَنَّ رَيْبَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَضْعَفُ الْوُقُوعِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِ اشْتَطَّتْ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ عَلَى مَا لَوْ تَدَبَّرَهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ لَجَزَمَ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ مَا عَهِدُوا مِثْلَهُمَا مِنْ فُحُولِ بُلَغَائِهِمْ، وَهُمْ فِيهِمْ مُتَوَافِرُونَ مُتَكَاثِرُونَ حَتَّى لَقَدْ سَجَدَ بَعْضُهُمْ لِبَلَاغَتِهِ وَاعْتَرَفَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ بَشَرٍ. وَقَدِ اشْتَمَلَ مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا لَمْ يَطْرُقْهُ شُعَرَاؤُهُمْ وَخُطَبَاؤُهُمْ وَحُكَمَاؤُهُمْ، بَلْ وَعَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَى بَعْضِهِ عُلَمَاءُ الْأُمَمِ. وَلَمْ يَزَلِ الْعِلْمُ فِي طُولِ الزَّمَانِ يُظْهِرُ خَبَايَا الْقُرْآنِ وَيُبَرْهِنُ عَلَى صِدْقِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ كَافِيَةٌ لَهُمْ فِي إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَهُمْ أَهْلُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْفَطِنَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا أَشْعَارُهُمْ وَأَخْبَارُهُمْ وَبَدَاهَتُهُمْ وَمُنَاظَرَتُهُمْ، وَالَّتِي شَهِدَ لَهُمْ بِهَا الْأُمَمُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَكَيْفَ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَسْلَكٌ لِلرَّيْبِ فِيهِ إِلَيْهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُنْغَمِسِينَ فِيهِ. وَوَجْهُ الْإِتْيَانِ بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدِ امْتَلَكَهُمُ الرَّيْبُ وَأَحَاطَ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَاسْتِعَارَةُ (فِي) لِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ شَائِعَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ هُوَ فِي نعْمَة. وأتى بِفعل نَزَّلَ دُونَ أَنْزَلَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ نُجُومًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ فَعَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّقَضِّي شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» قَدْ ذَكَرَ أَنَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا فِي مَقَامِ التَّحَدِّي لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْلا نُزِّلَ (¬1) عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُثَارَاتِ شُبَهِهِمْ نَاسَبَ ذِكْرَهُ فِي تَحَدِّيهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُنَجَّمَةٍ. وَالسُّورَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنَةٌ فَتَمَيُّزُهُ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ أَمْثَالِهَا بِمَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ فَأَكْثَرَ فِي غَرَضٍ تَامٍّ أَوْ عِدَّةِ أَغْرَاضٍ. وَجَعْلُ لَفْظِ سُورَةٍ اسْمًا جِنْسِيًّا لِأَجْزَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ اصْطِلَاحٌ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّورِ وَهُوَ الْجِدَارُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْقَرْيَةِ أَوِ الْحَظِيرَةِ، فَاسْمُ السُّورَةِ خَاصٌّ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا ¬

(¬1) فِي المطبوعة: أنزل.

التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بِمِقْدَارِ سُورَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ أُمُورًا لَا تَظْهَرُ خَصَائِصُهَا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى كَلَامٍ مُسْتَوْفًى فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَإِنَّمَا تَنْزِلُ سُوَرُ الْقُرْآنِ فِي أَغْرَاضٍ مَقْصُودَةٍ فَلَا غِنَى عَنْ مُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّاتِ الْمُنَاسِبَةِ لِفَوَاتِحِ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمِهِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ، وَاسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَصِحَّةِ التَّقْسِيمِ، وَنُكَتِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَحْكَامِ الِانْتِقَالِ مِنْ فَنٍّ إِلَى آخَرَ مِنْ فُنُونِ الْغَرَضِ، وَمُنَاسَبَاتِ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْخُرُوجِ وَالرُّجُوعِ، وَفَصْلِ الْجُمَلِ وَوَصْلِهَا، وَالْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى نُكَتِ مَجْمُوعِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَتِلْكَ لَا تَظْهَرُ مُطَابَقَتُهَا جَلِيَّةً إِلَّا إِذَا تَمَّ الْكَلَامُ وَاسْتَوْفَى الْغَرَضُ حَقَّهُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ سَبْكِهِ إِعْجَازٌ يَفُوتُ قُدْرَةَ الْبَشَرِ هُوَ غَيْرُ الْإِعْجَازِ الَّذِي لِجُمَلِهِ وَتَرَاكِيبِهِ وَفَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ. فَكَانَتِ السُّورَةُ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ خُطْبَةِ الْخَطِيبِ وَقَصِيدَةِ الشَّاعِرِ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالتَّفَوُّقِ إِلَّا بِاعْتِبَارَاتِ مَجْمُوعِهَا بَعْدَ اعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [17] ، «وَلِسِرِّ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ كَانَ التَّحَدِّي بِالسُّورَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً دُونَ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَتْ ذَوَاتِ عَدَدٍ» . وَالتَّنْكِيرُ لِلْإِفْرَادِ أَوِ النَّوْعِيَّةِ، أَيْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَوْعِ السُّوَرِ وَذَلِكَ صَادِقٌ بِأَقَلِّ سُورَةٍ تُرْجِمَتْ بِاسْمٍ يَخُصُّهَا، وَأَقَلُّ السُّوَرِ عَدَدُ آيَاتِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمَدِينَةِ تَبَعًا لِلْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ أَلْبًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَدَاوَلُونَ الْإِغْرَاءَ بِتَكْذِيبِهِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِهِ، فَأُعِيدَ لَهُمُ التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ قَدْ سَبَقَ تَحَدِّيهِمْ بِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَقَدْ كَانَ التَّحَدِّي أَوَّلًا بِالْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ مِثْلِ مَا نَزَلَ مِنْهُ فَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [88] : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. فَلَمَّا عَجَزُوا اسْتُنْزِلُوا إِلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ (¬1) ، ثُمَّ اسْتُنْزِلُوا إِلَى الْإِتْيَان بِسُورَة من مِثْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ (¬2) . وَالْمِثْلُ أَصْلُهُ الْمَثِيلُ وَالْمُشَابِهُ تَمَامَ الْمُشَابَهَةِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ يَتْبَعُ مَوْصُوفًا ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُشَابِهِ الْمُكَافِئِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (يُونُس) وَهُوَ غلط فَفِي التَّنْزِيل قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] . (¬2) فِي المطبوعة: (هود) وَهُوَ غلط فَفِي التَّنْزِيل قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُس: 38] .

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى (مَا نَزَّلْنَا) أَيْ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى عَبْدِنا فَإِنْ أُعِيدَ إِلَى (مَا نَزَّلْنَا) أَيْ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ سُورَةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ أَيْ كِتَابٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِسُورَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً أَوْ بَيَانِيَّةً أَوْ زَائِدَةً، وَقَدْ قِيلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهِيَ وُجُوهٌ مَرْجُوحَةٌ، وَعَلَى الْجَمِيعِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِسُورَةٍ، أَيْ هِيَ بَعْضُ مِثْلِ مَا نَزَّلْنَا، وَمِثْلُ اسْمٌ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ، أَوْ سُورَةٌ مِثْلُ مَا نَزَّلْنَا وَ (مِثْلُ) صِفَةٌ عَلَى احْتِمَالَيْ كَوْنِ (مِنْ) بَيَانِيَّةً أَوْ زَائِدَةً، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْجُهِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمِثْلَ سَوَاءً كَانَ صِفَةً أَوِ اسْمًا فَهُوَ مِثْلٌ مُقَدَّرٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَفَرْضِهِمْ وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْمِثْلَ مَوْجُودٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْجِيزِ. وَإِنْ أُعِيد الضَّمِير لعبدنا فَمِنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ (ائْتُوا) وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ وَحِينَئِذٍ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ ظَرْفُ لَغْوٍ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ صِفَةً لِسُورَةٍ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا ائْتُوا بِسُورَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْأُمِّيَّةِ، وَلَفْظُ مِثْلِ إِذَنِ اسْمٌ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ لَفْظَ (مِثْلٍ) فِي الْآيَةِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْكِنَايَةَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ (مِثْلِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَإِنَّمَا لَفْظُ مِثْلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ إِلَّا أَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُكْنَى بِهِ عَنْ نَفْسِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمِثْلَ هُنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْمِيَّةِ غَيْرُ مُتَحَقَّقِ الْوُجُودِ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ تَحَقُّقِهِ هُوَ كَوْنُهُ مَفْرُوضًا فَإِنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ لِلتَّعْجِيزِ يَقْتَضِي تَعَذُّرَ الْمَأْمُورِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَاتِهِ الْوُجُوهِ بِمُقْتَضٍ وُجُودَ مِثْلٍ لِلْقُرْآنِ حَتَّى يُرَادَ بِهِ بَعْضُ الْوُجُوهِ كَمَا توهمه التفتازانيّ. وَعِنْدِي أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي احْتَمَلَهَا قَوْلُهُ: مِنْ مِثْلِهِ كُلَّهَا مُرَادَةٌ لِرَدِّ دَعَاوِي الْمُكَذِّبِينَ فِي اخْتِلَافِ دَعَاوِيهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ بَشَرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُكْتَتَبٌ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. وَهَاتِهِ الْوُجُوهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ تُفَنِّدُ جَمِيعَ الدَّعَاوِي فَإِنْ كَانَ كَلَامَ بَشَرٍ فَأَتَوْا بِمُمَاثِلِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِجُزْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسَاطِيرِ، وَإِنْ كَانَ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ فَأْتُوا أَنْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِسُورَةٍ فَمَا هُوَ بِبَخِيلٍ عَنْكُمْ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ. وَكُلُّ هَذَا إِرْخَاءٌ لِعِنَانِ الْمُعَارَضَةِ وَتَسْجِيلٌ لِلْإِعْجَازِ عِنْدَ عَدَمِهَا.

فَالتَّحَدِّي عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ هُوَ مَجْمُوعُ مُمَاثَلَةِ الْقُرْآنِ فِي أَلْفَاظِهِ وَتَرَاكِيبِهِ، وَمُمَاثِلَةُ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَعْلِيمٌ وَلَا يَعْلَمُ الْكُتُبَ السَّالِفَةَ، قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: 51] . فَذَلِكَ مَعْنَى الْمُمَاثِلَةِ فَلَوْ أَتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ خُطَبِ أَوْ شِعْرِ بُلَغَائِهِمْ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْيَانًا بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ، وَلَوْ أَتَوْا بِكَلَامٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَعَانٍ تَشْرِيعِيَّةٍ أَوْ مِنَ الْحِكْمَةِ مِنْ تَأْلِيفِ رَجُلٍ عَالِمٍ حَكِيمٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْيَانًا بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ. فَلَيْسَ فِي جَعْلِ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً إِيهَامُ إِجْزَاءِ أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ لِأَنَّ تِلْكَ مُمَاثَلَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى فَأْتُوا بِسُورَةٍ أَيِ ائْتُوا بِهَا وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ. وَالدُّعَاءُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى طَلَبِ حُضُورِ الْمَدْعُوِّ، وَبِمَعْنَى اسْتِعْطَافِهِ وَسُؤَالِهِ لِفِعْلٍ مَا، قَالَ أَبُو فِرَاسٍ يُخَاطِبُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ لِيَفْدِيَهُ مِنْ أَسْرِ مَلِكِ الرُّومِ: دَعَوْتُكَ لِلْجَفْنِ الْقَرِيحِ الْمُسَهَّدِ ... لَدَيَّ وَلِلنَّوْمِ الطَّرِيدِ الْمُشَرَّدِ وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ شَهِدَ إِذَا حَضَرَ، وَأَصْلُهُ الْحَاضِرُ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: 282] ثُمَّ اسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِيمَا يُلَازِمُهُ الْحُضُورُ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً لَا بِأَصْلِ وَضْعِ اللَّفْظِ، وَأُطْلِقَ عَلَى النَّصِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمَشْهُودِ فَيَنْصُرُهُ عَلَى مَعَارِضِهِ وَلَا يُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْقُدْوَةِ وَأَثْبَتَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَا يُعْرَفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَا فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَعَلَّهُ انْجَرَّ إِلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِ «الْكَشَّافِ» لِحَاصِلِ مَعْنَى الْآيَةِ فَتَوَهَّمَهُ مَعْنًى وَضْعِيًّا فَالْمُرَادُ هُنَا ادْعُوا آلِهَتَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيِ ادْعُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَدَأْبِكُمْ فِي الْفَزَعِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ مُهِمَّاتِكُمْ مُعْرِضِينَ بِدُعَائِهِمْ وَاسْتِنْجَادِهِمْ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ فَفِي الْآيَةِ إِدْمَاجُ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ فِي أَثْنَاءِ التَّعْجِيزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَهَذَا الْإِدْمَاجُ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبَلِيغِ غَرَضَيْنِ فَيُقْرِنُ الْغَرَضَ الْمَسُوقَ لَهُ الْكَلَامُ بِالْغَرَضِ الثَّانِي وَفِيهِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ الْبَلِيغِ إِذْ يَأْتِي بِذَلِكَ الِاقْتِرَانِ بِدُونِ خُرُوجٍ عَنْ غَرَضِهِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَلَا تكلّف. قَالَ الْحَرْث بْنُ حِلِّزَةَ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ فَإِنَّ قَوْلَهُ رُبَّ ثَاوٍ عِنْدَ ذِكْرِ بُعْدِ الْحَبِيبَةِ وَالتَّحَسُّرِ مِنْهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنْ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي يُمَلُّ ثَوَاؤُهُ. وَقَدْ قَضَى بِذَلِكَ حَقَّ إِرْضَائِهَا بِأَنَّهُ لَا يَحْفِلُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهَا، وَقَدْ عُدَُُّ

الْإِدْمَاجُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعَةِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَدَّ فِي الْأَبْوَابِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي مَبْحَثِ الْإِطْنَابِ أَوْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ آلِهَتَهُمْ أَنْصَارٌ لَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ادْعُوا نُصَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ فَيَكُونُ تَعْجِيزًا لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَادْعُوا مَنْ يَشْهَدُ بِمُمَاثَلَةِ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ لِمَا نَزَّلْنَا، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: 150] وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (ادْعُوا) أَوْ مِنْ (شُهَدَاءَكُمْ) أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ غَيْرَ دَاعِينَ لِذَلِكَ اللَّهَ أَوْ حَالِ كَوْنِ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ اللَّهِ بِمَعْنَى اجْعَلُوا جَانِبَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ كَالْجَانِبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَقَدَ آذَنَّاكُمْ بِذَلِكَ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ لِأَنَّ شِدَّةَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ تَكُونُ بِمِقْدَارِ تَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْعَمَلِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ (دُونِ) بِمَعْنَى أَمَامَ وَبَيْنَ يَدَيْ يَعْنِي ادْعُوَا شُهَدَاءَكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ بِقَوْلِ الْأَعْشَى: تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ ... إِذَا ذَاقَهَا مَنْ ذَاقَهَا يَتَمَطَّقُ (¬1) كَمَا جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِمَعْنَى مِنْ دُونِ حِزْبِ اللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَ مِنَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَضِينَاهُمْ شُهُودًا فَإِنَّ الْبَارِعَ فِي صِنَاعَةٍ لَا يَرْضَى بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَصْحِيحِ فَاسِدِهَا وَعَكْسِهِ إِبَاءَةَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى سُوءِ الْمَعْرِفَةِ أَوِ الْجَوْرِ، وَكَلَاهُمَا لَا يَرْضَاهُ ذُو الْمُرُوءَةِ وَقَدِيمًا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَنَافَرُ وَتَتَحَاكَمُ إِلَى عُقَلَائِهَا وَحُكَّامِهَا فَمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ لَهُمْ غَلَطًا أَوْ جَوْرًا. وَقَدْ قَالَ السَّمَوْأَلُ: إِنَّا إِذَا مَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى ... وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ لَا نَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَلَا ... نَلَظُّ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ (¬2) نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَخْمُلُ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَجِيءُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إِنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِإِثْبَاتِ الْعُيُوبِ أَوْ بِالسَّلَامَةِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، وَكُنْتُ أُعَلِّلُ ذَلِكَ فِي دُرُوسِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَدَالَةِ تَحَقُّقُ الْوَازِعِ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَدْ قَامَ الْوَازِعُ الْعِلْمِيُّ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَقَامَ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ لِأَنَّ الْعَارِفَُُ ¬

(¬1) يصف الْخمر فِي الصفاء بِأَنَّهَا تريك القذى أمامها من شدَّة مَا تكبر حجمه فِي نظر الْعين وَهِي بَيْنك وَبَين القذى. وَقَوله: يتمطق أَي يُحَرك فَكَّيْهِ وَلسَانه تلذذا بِحسن طعمها. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدته القافية الْمَشْهُورَة. (¬2) لظ بالشَّيْء يلظ وألظ بِهِ يلظ هما بِمَعْنى لزمَه وثابر عَلَيْهِ.

حَرِيصٌ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُؤْثَرَ عَنْهُ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ وَكَفَى بِذَلِكَ وَازِعًا عَنْ تَعَمُّدِهِ وَكَفَى بِعِلْمِهِ مَظِنَّةً لِإِصَابَةِ الصَّوَابِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَتَذْيِيلٌ. أَتَى بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الْأَصْلُ فِي شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِوُقُوعِهِ لِأَنَّ صِدْقَهُمْ غَيْرُ مُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ وَإِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ بَشَرٍ وَأَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ. وَالصِّدْقُ ضِدُّ الْكَذِبِ وَهُمَا وَصْفَانِ لِلْخَبَرِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا فَالصِّدْقُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ مُطَابِقًا وَمُمَاثِلًا لِلْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ أَيْ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ احْتِرَازًا عَنِ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَالْكَذِبُ ضِدُّ الصِّدْقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ غَيْرَ مُطَابِقٍ أَيْ غَيْرَ مُمَاثِلٍ لِلْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ، وَالْكَلَامُ مَوْضُوعٌ لِلصِّدْقِ وَأَمَّا الْكَذِبُ فَاحْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ وَالْإِنْشَاءُ لَا يُوصَفُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ إِذْ لَا مَعْنَى لِمُطَابَقَتِهِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ إِيجَادٌ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ. هَذَا مَعْنَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْإِطْلَاقِ الْمَشْهُورِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْكَذِبُ صِفَةَ ذَمٍّ فَيُلَاحَظُ فِي مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِلْوَاقِعِ كَانَتْ عَنْ تَعَمُّدٍ فَتَوَّهَمَ الْجَاحِظُ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْكَذِبِ تَتَقَوَّمُ مِنْ عَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ وَلِلِاعْتِقَادِ مَعًا وَسَرَى هَذَا التَّقَوُّمُ إِلَى مَاهِيَّةِ الصِّدْقِ فَجَعَلَ قِوَامَهَا الْمُطَابَقَةَ لِلْخَارِجِ وَالِاعْتِقَادَ مَعًا وَمِنْ هُنَا أَثْبَتَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الرَّاغِبِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا وَمَحَلُّ بَسْطِهِ فِي عِلْمَيِ الْأُصُولِ وَالْبَلَاغَةِ. وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ بَشَرٍ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (صَادِقِينَ) لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ جُمْلَةِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِذِ التَّقْدِيرُ فَتَأْتُونَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَدَلَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ قَوْلُهُ قَبْلَهَا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ فَتَصِيرُ جُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تَكْرِيرًا لِلتَّحَدِّي. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثَارَةٌ لِحَمَاسِهِمْ إِذْ عَرَّضَ بِعَدَمِ صِدْقِهِمْ فَتَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ على الْمُعَارضَة.

[سورة البقرة (2) : آية 24]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 24] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) تَفْرِيعٌ عَلَى الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ أَوْ أَتَيْتُمْ بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُ سُورَةٌ وَلَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ شُهَدَاؤُكُمْ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمُ اجْتَرَأْتُمْ عَلَى اللَّهِ بِتَكْذِيبِ رَسُولِهِ الْمُؤَيَّدِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَاتَّقُوا عِقَابَهُ الْمُعَدَّ لِأَمْثَالِكُمْ. وَمَفْعُولُ تَفْعَلُوا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَيِ الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [67] . وَجِيءَ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْقَطْعِ مَعَ أَنَّ عَدَمَ فِعْلِهِمْ هُوَ الْأَرْجَحُ بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزِ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِظْهَارُ هَذَا الشَّرْطِ فِي صُورَةِ النَّادِرِ مُبَالِغَةً فِي تَوْفِيرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِطَرِيقِ الْمُلَايَنَةِ وَالتَّحْرِيضِ وَاسْتِقْصَاءً لَهُمْ فِي إِمْكَانِهَا وَذَلِكَ مِنِ اسْتِنْزَالِ طَائِرِ الْخَصْمِ وَقَيْدٍ لِأَوَابِدِ مُكَابَرَتِهِ وَمُجَادَلَةٍ لَهُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى إِذَا جَاءَ لِلْحَقِّ وَأَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ يَرْتَقِي مَعَهُ فِي دَرَجَاتِ الْجَدَلِ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَلَنْ تَفْعَلُوا كَأَنَّ الْمُتَحَدِّيَ يَتَدَبَّرُ فِي شَأْنِهِمْ، وَيَزِنُ أَمْرَهُمْ فَيَقُولُ أَوَّلًا ائْتُوا بِسُورَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: قَدِّرُوا أَنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ وَأَعِدُّوا لَهَاتِهِ الْحَالَةِ مَخْلَصًا مِنْهَا ثُمَّ يَقُولُ: هَا قَدْ أَيْقَنْتُ وَأَيْقَنْتُمْ أَنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، مَعَ مَا فِي هَذَا مِنْ تَوْفِيرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِطَرِيقِ الْمُخَاشَنَةِ وَالتَّحْذِيرِ. وَلِذَلِكَ حَسُنَ مَوْقِعُ (لَنْ) الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ فَالنَّفْيُ بِهَا آكَدُ مِنَ النَّفْيِ بِلَا، وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ لَا لِنَفْيِ يَفْعَلُ، وَلنْ لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ إِنَّ لَنْ حَرْفٌ مُخْتَزَلٌ مِنْ لَا النَّافِيَةِ وَأَنِ الِاسْتِقْبَالِيَّةِ وَهُوَ رَأْيٌ حَسَنٌ وَإِذَا كَانَتْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ تَدُلُّ على النَّفْي المؤبد غَالِبًا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوَقَّتْ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ الْمُسْتَقْبَلِ دَلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ أَزْمِنَتِهِ إِذْ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِفَادَتِهَا التَّأْبِيدَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَهُوَ التَّأْكِيدُ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَوَاقِعَهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَوَجَدْتُهَا لَا يُؤْتَى بِهَا إِلَّا فِي مَقَامِ إِرَادَةِ النَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ أَوِ المؤبد. وَكَلَام الْخَيل فِي أَصْلِ وَضْعِهَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا وَلَا تَأْبِيدًا فَقَدْ كَابَرَ. وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا مِنْ أَكْبَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا مُعْجِزَةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى أَنَّهَا أَثْبَتَتْ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَارِضُوا لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَثُ لَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ، وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ كُلُّهُ

بِقَوْلِهِ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: 23] وَذَلِكَ دَلِيلُ الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ قُدْرَتُهُ فَوْقَ طَوْقِ الْبَشَرِ. الثَّانِيَةُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا أَتَى أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِمَّنْ خَلَفَهُمْ بِمَا يُعَارِضُ الْقُرْآنَ فَكَانَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ مُعْجِزَةً مِنْ نَوْعِ الْإِعْجَازِ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُسْتَمِرَّةً عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ فَإِنَّ آيَاتِ الْمُعَارَضَةِ الْكَثِيرَةَ فِي الْقُرْآنِ قَدْ قُرِعَتْ بِهَا أَسْمَاعُ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ أَبَوْا تَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَوَاتَرَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ بَيْنَهُمْ وَسَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ ادِّعَاءَ جَهْلِهَا، وَدَوَاعِي الْمُعَارَضَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ، فَفِي خَاصَّتِهِمْ بِمَا يَأْنَسُونَهُ مِنْ تَأَهُّلِهِمْ لِقَوْلِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَهُمْ شُعَرَاؤُهُمْ وَخُطَبَاؤُهُمْ. وَكَانَتْ لَهُمْ مَجَامِعُ التَّقَاوُلِ وَنَوَادِي التَّشَاوُرِ وَالتَّعَاوُنِ، وَفِي عَامَّتِهِمْ وَصَعَالِيكِهِمْ بِحِرْصِهِمْ عَلَى حَثِّ خَاصَّتِهِمْ لِدَفْعِ مَسَبَّةِ الْغَلَبَةِ عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَدِينِهِمْ وَالِانْتِصَارِ لِآلِهَتِهِمْ وَإِيقَافِ تَيَّارِ دُخُولِ رِجَالِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، مَعَ مَا عُرِفَ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ إِبَاءَةِ الْغَلَبَةِ وَكَرَاهَةِ الِاسْتِكَانَةِ. فَمَا أَمَسَكَ الْكَافَّةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مَنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ عَارَضَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ لَطَارُوا بِهِ فَرَحًا وَأَشَاعُوهُ وَتَنَاقَلُوهُ فَإِنَّهُمُ اعْتَادُوا تَنَاقُلَ أَقْوَالِ بُلَغَائِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُغْرِيَهُمُ التَّحَدِّي فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ لَوْ ظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْهُمْ هَذِهِ الِاسْتِكَانَةَ وَعَدَمُ الْعُثُورِ عَلَى شَيْءٍ يُدَّعَى مِنْ ذَلِكَ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّهُمْ أَمْسَكُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وتَفْعَلُوا الْأَوَّلُ مَجْزُومٌ بِلَمْ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ (إِنِ) الشُّرْطِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ اعْتِبَارِهِ مَنْفِيًّا فَيَكُونُ مَعْنَى الشَّرْطِ مُتَسَلِّطًا عَلَى (لَمْ) وَفِعْلِهَا فَظَهَرَ أَنْ لَيْسَ هَذَا مُتَنَازِعٌ بَيْنَ إِنْ وَلم فِي الْعَمَلِ فِي تَفْعَلُوا لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يُفْرَضُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي صِحَّةِ تَنَازُعِ الْحَرْفَيْنِ مَعْمُولًا وَاحِدًا كَمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ الْعِلْجِ أَحَدُ نُحَاةِ الْأَنْدَلُسِ نَسَبَهُ إِلَيْهِ فِي «التَّصْرِيحِ عَلَى التَّوْضِيحِ (¬1) » عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ مَعَ اتِّحَادِ الِاقْتِضَاءِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَقَدْ أَخَذَ جَوَازَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي «الْمَسَائِلِ الدِّمَشْقِيَّاتِ» وَمِنْ كِتَابِ «التَّذْكِرَةِ» لَهُ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الرَّاجِزِ: حَتَّى تَرَاهَا وَكَأَنَّ وَكَأَنْ ... أَعْنَاقُهَا مُشَرَّفَاتٌ فِي قَرَنْ مِنْ قَبِيلِ التَّنَازُعِ بَيْنَ كَأَنَّ الْمُشَدَّدَةِ وَكَأَنِ الْمُخَفَّفَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا النَّارَ أَثَرٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا دَلَّ عَلَى جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍُُ ¬

(¬1) قل من يعرف اسْمه، وَلم يترجم لَهُ فِي «البغية» . وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله الأشبيلي لَهُ كتاب «الْبَسِيط فِي النَّحْو» .

لِلْإِيجَازِ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى هُوَ مَا جِيءَ بِالشَّرْطِ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مَفَادُ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَة: 23] ، فَتَقْدِيرُ جَوَابِ قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَنَّهُ: فَأَيْقِنُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِنَا وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ وُجُوبِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَاحْذَرُوا إِنْ لَمْ تَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ عَذَابَ النَّارِ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا النَّارَ مَوْقِعَ الْجَوَابِ لدلالته عَلَيْهِ وإيذانه بِهِ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ وَذَلِكَ أَنَّ اتِّقَاءَ النَّارِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ فَإِذَا تَبَيَّنَ صِدْقُ الرَّسُولِ لَزِمَهُمُ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَإِنَّمَا عبّر بلم تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا دُونَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِذَلِكَ وَلَنْ تَأْتُوا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ [يُوسُف: 59، 60] إِلَخْ لِأَنَّ فِي لَفْظِ تَفْعَلُوا هُنَا مِنَ الْإِيجَازِ مَا لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِذِ الْإِتْيَانُ الْمُتَحَدَّى بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِتْيَانٌ مُكَيَّفٌ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ كَوْنُ الْمَأْتِيِّ بِهِ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ وَمَشْهُودًا عَلَيْهِ وَمُسْتَعَانًا عَلَيْهِ بِشُهَدَائِهِمْ فَكَانَ فِي لَفْظِ تَفْعَلُوا مِنَ الْإِحَاطَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْقُيُودِ إِيجَازٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْإِتْيَانُ الَّذِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمٌ لِمَا يُوقَدُ بِهِ، وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حُكِيَ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَطَبِ وَالْمَصْدَرِ. وَقِيَاسُ فَعُولٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُفْعَلُ بِهِ كَالْوَضُوءِ وَالْحَنُوطِ وَالسَّعُوطِ وَالْوَجُورِ إِلَّا سَبْعَةَ أَلْفَاظٍ وَرَدَتْ بِالْفَتْحِ لِلْمَصْدَرِ وَهِيَ الْوَلُوعُ وَالْقَبُولُ وَالْوَضُوءُ وَالطَّهُورُ وَالْوَزُوعُ وَاللَّغُوبُ وَالْوَقُودُ. وَالْفَتْحُ هُنَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِأَنَّ المُرَاد الِاسْم وقرىء بِالضَّمِّ فِي الشَّاذِّ وَذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الضَّمِّ مَصْدَرًا أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذَوُو وَقُودِهَا النَّاسُ. وَالنَّاسُ أُرِيدَ بِهِ صِنْفٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الْكَافِرُونَ فَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِأَنَّ كَوْنَهُمُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عُلِمَ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ. وَالْحِجَارَةُ جَمْعُ حَجَرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ وَزْنٌ نَادِرٌ فِي كَلَامِهِمْ جَمَعُوا حَجَرًا عَنْ أَحْجَارٍ وَأَلْحَقُوا بِهِ هَاءَ التَّأْنِيثِ قَالَ سِيبَوَيْهِ كَمَا أَلْحَقُوهَا بِالْبُعُولَةِ وَالْفُحُولَةِ. وَعَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ الْعَرَبَ تُدْخِلُ الْهَاءَ فِي كُلِّ جَمْعٍ عَلَى فِعَالٍ أَوْ فُعُولٍ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ اجْتَمَعَ فِيهِ عِنْدَ الْوَقْفِ سَاكِنَانِ أَحَدُهُمَا الْأَلِفُ السَّاكِنَةُ وَالثَّانِي الْحَرْفُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَيِ اسْتَحْسَنُوا أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا إِذَا وَقَفُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنِ اجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ الْمَمْنُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ عِظَامَةٌ وَنِفَارَةٌ وَفِحَالَةٌ وَحِبَالَةٌ وَذِكَارَةٌ وَفُحُولَةٌ وَحُمُولَةٌ (جُمُوعًا) وَبِكَارَةٌ جَمْعُ بَكْرٍ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَمِهَارَةٌ جَمْعُ مُهْرٍ.

وَمَعْنَى وَقُودُهَا الْحِجَارَةُ أَنَّ الْحَجَرَ جُعِلَ لَهَا مَكَانَ الْحَطَبِ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَعَلَ صَارَ أَشَدَّ إِحْرَاقًا وَأَبْطَأَ انْطِفَاءً وَمِنَ الْحِجَارَةِ أَصْنَامُهُمْ فَإِنَّهَا أَحْجَارٌ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُخَاطَبِينَ وَالْمَعْنَى الْمُعَرَّضُ بِهِ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ وَمَا عَبَدْتُمْ وَقُودَ النَّارِ وَقَرِينَةُ التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا وَقَوْلُهُ: وَالْحِجارَةُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِاتِّقَائِهَا أَمْرَ تَحْذِيرٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ الْحِجَارَةُ عَلِمُوا أَنَّهَا أَصْنَامُهُمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ هُمْ عُبَّادَ تِلْكَ الْأَصْنَامِ فَالتَّعْرِيضُ هُنَا مُتَفَاوِتٌ فَالْأَوَّلُ مِنْهُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي بِوَاسِطَتَيْنِ. وَحِكْمَةُ إِلْقَاءِ حِجَارَةِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ الْجَزَاءِ أَنَّ ذَلِكَ تَحْقِيرٌ لَهَا وَزِيَادَةُ إِظْهَارِ خَطَأِ عَبَدَتِهَا فِيمَا عَبَدُوا، وَتَكَرَّرَ لِحَسْرَتِهِمْ عَلَى إِهَانَتِهَا، وَحَسْرَتِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنْ كَانَ مَا أَعَدُّوهُ سَبَبًا لِعِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، وَمَا أَعَدُّوهُ لِنَجَاتِهِمْ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْآيَةَ. وَتَعْرِيفُ (النَّارِ) لِلْعَهْدِ وَوَصْفُهَا بِالْمَوْصُولِ الْمُقْتَضِي عِلْمَ الْمُخَاطَبِينَ بِالصِّلَةِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ لِتَنْزِيلِ الْجَاهِلِ مَنْزِلَةَ الْعَالَمِ بِقَصْدِ تَحْقِيقِ وُجُودِ جَهَنَّمَ، أَوْ لِأَنَّ وَصْفَ جَهَنَّمَ بِذَلِكَ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا نَزَلَ قَبْلُ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [6] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وَإِنْ كَانَتْ سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَعْدُودَةً فِي السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَدِّ نَظَرًا، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفِي جَعْلِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ وَقُودًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ مُشْتَعِلَةٌ مِنْ قَبْلِ زَجِّ النَّاسِ فِيهَا وَأَنَّ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ إِنَّمَا تَتَّقِدُ بِهَا لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ هِيَ عُنْصُرُ الْحَرَارَةِ كُلِّهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» : «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» فَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْآدَمِيُّ اشْتَعَلَ وَنَضِجَ جِلْدُهُ وَإِذَا اتَّصَلَتْ بِهَا الْحِجَارَةُ صُهِرَتْ، وَفِي الِاحْتِرَاقِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ نَمُوذَجٌ يُقَرِّبُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ الْيَوْمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَهَنَّمَ تَتَّقِدُ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ فَيَكُونُ نَمُوذَجَهَا الْبَرَاكِينُ الْمُلْتَهِبَةُ. وَقَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ اسْتِئْنَافٌ لَمْ يُعْطَفْ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْخَبَرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ عُطِفَ لَأَوْهَمَ الْعَطْفُ أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ صِلَةٌ أُخْرَى وَجَعَلَهُ خَبَرًا أَهْوَلَ وَأَفْخَمَ وَأَدْخَلَ لِلرَّوْعِ فِي قُلُوبِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لَهُمُ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ مَعَهُمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ أَثْبَتَتْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ إِثْبَاتًا مُتَوَاتِرًا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِنَبِيِّنَا عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ آحَادٍ وَثَبَتَ مِنْ جَمِيعِهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا وَهُوَ وُقُوعُ أَصْلِ الْإِعْجَازِ بِتَوَاتُرٍ مَعْنَوِيٍّ مِثْلُ كَرَمِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَمْرٍو فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِعْجَازُهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ النَّقْلِيِّ أَدْرَكَ مُعْجِزَتَهُ الْعَرَبُ بِالْحِسِّ، وَأَدْرَكَهَا عَامَّةُ غَيْرِهِمْ بِالنَّقْلِ، وَقَدْ تُدْرِكُهَا الْخَاصَّةُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْحِسِّ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ. أَمَّا إِدْرَاكُ الْعَرَبِ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهُمْ كذبُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناوؤه وَأَعْرَضُوا عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَحَاجَّهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِهِ بِكَلَامٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ دَلِيلَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ لُغَتِهِمْ وَمِنْ كَلِمَاتِهَا وَعَلَى أَسَالِيبِ تَرَاكِيبِهَا، وَأَوْدَعَ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ مَا عَرَفُوا أَمْثَالَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ ثُمَّ حَاكَمَهُمْ إِلَى الْفَصْلِ فِي أَمْرِ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ بِحُكْمٍ سَهْلٍ وَعَدْلٍ، وَهُوَ مُعَارَضَتُهُمْ لِمَا أَتَى بِهِ أَوْ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَهَاتِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْمُعَارَضَةَ فَكَانَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْدُو أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحَالُ حَدَّ الْإِطَاقَةِ لِأَذْهَانِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ لَوِ اجْتَمَعَتْ أَذْهَانُهُمْ وَانْقَدَحَتْ قَرَائِحُهُمْ وَتَآمَرُوا وَتَشَاوَرُوا فِي نَوَادِيهِمْ وَبِطَاحِهِمْ وَأَسْوَاقِ مَوْسِمِهِمْ، فَأَبْدَى كُلُّ بَلِيغٍ مَا لَاحَ لَهُ مِنَ النُّكَتِ وَالْخَصَائِصِ لَوَجَدُوا كُلَّ ذَلِكَ قَدْ وَفَتْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِهِ وَأَتَتْ بِأَعْظَمَ مِنْهُ، ثُمَّ لَوْ لحق بهم لَا حق، وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فَأَبْدَى مَا لَمْ يُبْدُوهُ مِنَ النُّكَتِ لَوَجَدَ تِلْكَ الْآيَةَ الَّتِي انْقَدَحَتْ فِيهَا أَفْهَامُ السَّابِقَيْنِ وَأَحْصَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْخَصَائِصِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَاحَ لِهَذَا الْأَخِيرِ وَأَوْفَرَ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدْرَكَهُ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ بِفِطَرِهِمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ عِلْمًا بِأَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَرَجَاحَةِ الرَّأْيِ بِحَيْثُ لَا يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلِافْتِضَاحِ وَلَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِقَاصِ لِذَلِكَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ أَجْدَى بِهِمْ وَاحْتَمَلُوا النِّدَاءَ عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ السُّكُوتَ يَقْبَلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْأَنَفَةِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْمُعَارَضَةُ الْقَاصِرَةُ عَنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ لِبُلُوغِهِ حَدًّا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْبَشَرُ فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَالْعَجْزُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِهَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ

بِمِثْلِهِ وَهَذَا هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَعْيَانِ الْأَشَاعِرَةِ مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مُمْكِنَةً مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةُ وَلَكِنَّهُمْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنِ التَّصَدِّي لَهَا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ صَدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ أَيْضًا وَهُوَ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مِنْ قَوْلٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي «إِعْجَازِ الْقُرْآنِ» وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ قَائِلًا وَقد نسبه التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» إِلَى الْقَائِلِينَ إِنَّ الْإِعْجَازَ بِالصِّرْفَةِ (¬1) وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ كَمَا فِي «الْمَقَاصِدِ» وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كَافِيًا فِي أَنَّ عَجْزَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِتَعْجِيزِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هُوَ مَسْلَكٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْعَرَبِ لِلْمُعَارَضَةِ تَعَاجُزًا لَا عَجْزًا؟ وَبعد فَمن آمننا أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ قَدْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا مَا عَارَضُوا بِهِ؟ قُلْتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ تَعَاجُزًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي أُمَّةٍ مُنَاوِئَةٍ لَهُ مُعَادِيَةٍ لَا كَمَا بُعِثَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوَالِينَ مُعَاضِدِينَ لَهُ وَمُشَايِعِينَ فَكَانَتِ الْعَرَبُ قاطبة مُعَارضَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ وَلَمَزُوهُ بِالْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَتِّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا نفر قَلِيل مستضعفين بَيْنَ قَوْمِهِمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ أَنْ قَاطَعُوهُ ثُمَّ أَمَرُوهُ بِالْخُرُوجِ بَيْنَ هَمٍّ بِقَتْلِهِ وَاقْتِصَارٍ عَلَى إِخْرَاجِهِ كُلُّ هَذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الْمَنْقُولَةِ نَقْلًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُنَا عَلَيْهِ عَلَى الْكَذِبِ وَدَامُوا عَلَى مُنَاوَأَتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ يَصُدُّونَهُ عَنِ الْحَجِّ وَيَضْطَهِدُونَ أَتْبَاعَهُ إِلَى آخِرِ مَا عُرِفَ فِي التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُنَاوَأَةُ فِي أَمَدٍ قَصِيرٍ يُمْكِنُ فِي خِلَالِهِ كَتْمُ الْحَوَادِثِ وَطَيُّ نَشْرِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا مُدَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ. ¬

(¬1) وَقعت كلمة الصرفة فِي عِبَارَات الْمُتَكَلِّمين وَمِنْهُم أَبُو بكر الباقلاني فِي كِتَابه «إعجاز الْقُرْآن» وَلم أر من ضبط الصَّاد مِنْهُ فَيجوز أَن يكون صَاده مَفْتُوحًا على زنة الْمرة مرَادا بهَا مُطلق وجود الصّرْف وَالْأَظْهَر أَن يكون الصَّاد مَقْصُورا على صِيغَة الْهَيْئَة أَي حرفا مَخْصُوصًا بقدرة الله ويشعر بِهَذَا قَول الباقلاني فِي كتاب «إعجاز الْقُرْآن» صرفهم الله عَنهُ ضربا من الصّرْف.

لَا جَرَمَ أَنَّ أَقْصَى رَغْبَةٍ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ هِيَ إِظْهَارُ تَكْذِيبِهِ انْتِصَارًا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِآلِهَتِهِمْ وَتَظَاهُرًا بِالنَّصْرِ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كُلُّ هَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ مِنْ فُرْسٍ وَرُومٍ وَقِبْطٍ وَأَحْبَاشٍ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَصَّرَ مَعَهُمْ مَسَافَةَ الْمُجَادَلَةَ وَهَيَّأَ لَهُمْ طَرِيقَ إِلْزَامِهِ بِحَقِّيَّةِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ فَأتَاهُمْ كِتَابًا مُنَزَّلًا نُجُومًا وَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُعَارَضَةِ بِالْإِتْيَانِ بِقِطْعَةٍ قَصِيرَةٍ مِثْلِهِ وَأَنْ يَجْمَعُوا لِذَلِكَ شُهَدَاءَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ نَطَقَ بِذَلِكَ هَذَا الْكِتَابُ، كُلُّ هَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُتَوَاتِرٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَلَا يَخْلُو عَنِ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ أَهْلُ الدِّينِ مِنَ الْأُمَمِ وَإِنَّ اشْتِمَالَهُ عَلَى طَلَبِ الْمُعَارَضَةِ ثَابِتٌ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْلُومِ لَدَيْنَا فَإِنَّهُ هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي آمَنَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِهِ وَحَفِظُوهُ وَآمَنَ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ أَيْضًا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَلِفُوهُ كَمَا هُوَ الْيَوْمَ شَهِدَتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْيَالُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدُّونَ الْمَدْعُوُّونَ إِلَى الْمُعَارَضَةِ بِالْمَكَانَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَصَالَةِ الرَّأْيِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَذْهَانِ، وَرُجْحَانِ الْعُقُولِ وَعَدَمِ رَوَاجِ الزَّيْفِ عَلَيْهِمْ، وَبِالْكَفَاءَةِ وَالْمَقْدِرَةِ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ تَوَاتَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْهُمْ بِمَا نُقِلَ مِنْ كَلَامِهِمْ نَظْمًا وَنَثْرًا وَبِمَا اشْتَهَرَ وَتَوَاتَرَ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ بَيْنِ الْمَرْوِيَّاتِ مِنْ نَوَادِرِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ يَعُوزُهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ لَوْ وَجَدُوهُ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَعَارَفِ لَدَيْهِمْ فَإِنَّ صِحَّةَ أَذْهَانِهِمْ أَدْرَكَتْ أَنَّهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ لَدَيْهِمْ فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ دَاعِيهِمْ بِالطَّبْعِ وَحِرْصِهِمْ لَوْ وَجَدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا ثَبَتَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ إِذْ لَوْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لَأَعْلَنُوهُ وَأَشَاعُوهُ وَتَنَاقَلَهُ النَّاسُ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ فَعَدَلُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِاللِّسَانِ إِلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْمُكَافَحَةِ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ لَا مَحَالَةَ عِنْدَ أَهْلِ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَيًّا مَا جَعَلْتَ سَبَبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ خُرُوجِ كَلَامِهِ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ أَوْ مِنْ صَرْفِ اللَّهِ أَذْهَانَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ كَانَ بِتَقْدِيرٍ مِنْ خَالِقِ الْقَدَرِ وَمُعْجِزِ الْبَشَرِ. وَوَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ آخَرَ يُعَرِّفُنَا بِأَنَّ الْعَرَبَ بِحُسْنِ فِطْرَتِهِمْ قَدْ أَدْرَكُوا صِدْقَ الرَّسُولِ وَفَطِنُوا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُعْتَادٍ لِلْبَشَرِ وَأَنَّهُمْ مَا كَذَّبُوا إِلَّا عِنَادًا أَوْ مُكَابَرَةً وَحِرْصًا عَلَى السِّيَادَةِ وَنُفُورًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ، ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ إِسْلَامُ جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ

وَتَعَاقُبُهُمْ فِي الْوِفَادَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِقُرَيْشٍ فِي الْمُعَارَضَةِ مُكْبِرِينَ الْمُتَابِعَةَ لِهَذَا الدِّينِ خَشْيَةَ مَسَبَّةِ بَعْضِهِمْ وَخَاصَّةً قُرَيْشٌ وَمَنْ ظَاهَرَهُمْ، فَلَمَّا غُلِبَتْ قُرَيْشٌ لَمْ يَبْقَ مَا يَصُدُّ بَقِيَّةَ الْعَرَبِ عَنِ الْمَجِيءِ طَائِعِينَ مُعْتَرِفِينَ عَنْ غَيْرِ غَلَبٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الثَّبَاتَ لِلْمُقَارَعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا ثَبَتَتْ قُرَيْشٌ إِذْ قَدْ كَانَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ أَهْلُ الْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ مِنْ عرب نجد وطئ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ اعْتَزَّ بِهِمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا عُرِفَ فِي عَوَائِدِ الْأُمَمِ وَأَخْلَاقِهَا أَنْ تَنْبِذَ قَبَائِلُ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ أَدْيَانًا تَعْتَقِدُ صِحَّتَهَا وَتَجِيءَ جَمِيعَهَا طَائِعًا نَابِذًا دِينَهُ فِي خِلَالِ أَشْهُرٍ مِنْ عَامِ الْوُفُودِ لَمْ يَجْمَعْهُمْ فِيهِ نَادٍ وَلَمْ تَسْرِ بَيْنَهُمْ سُفَرَاءُ وَلَا حَشَرَهُمْ مَجْمَعٌ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِهَذَا الِاعْتِرَافِ لَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ إِلَا صَادٌّ ضَعِيفٌ وَهُوَ الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ. ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهَا قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا العصور والقرون وَمَا صدقهَا وَاضِحٌ إِذْ لَمْ تَقَعِ الْمُعَارَضَةُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَلَا مِمَّنْ لَحِقَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ. فَإِنْ قُلْتَ: ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْعَرَبِ وَبِذَلِكَ ثَبَتَ لَدَيْهِمْ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ وَثَبَتَ لَدَيْهِمْ بِهِ صِدْقُ الرَّسُولِ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ فَمَا هِيَ الْمُعْجِزَةُ لِغَيْرِهِمْ؟ قُلْتُ إِنَّ ثُبُوتَ الْإِعْجَازِ لَا يَسْتَلْزِمُ مُسَاوَاةَ النَّاسِ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ فَإِنَّهُ إِذَا أَعْجَزَ الْعَرَبَ ثَبَتَ أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِمَا عَلِمْتَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَيَكُونُ الْإِعْجَازُ لِلْعَرَبِ بِالْبَدَاهَةِ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ وَهُمَا طَرِيقَانِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ. وَبَعْدُ فَإِنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يُدْرِكَ الْإِعْجَازَ كَمَا أَدْرَكَهُ الْعَرَبُ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَغِلَ بِتَعَلُّمِ اللُّغَةِ وَأَدَبِهَا وَخَصَائِصِهَا حَتَّى يُسَاوِيَ أَوْ يُقَارِبَ الْعَرَبَ فِي ذَوْقِ لُغَتِهِمْ ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نِسْبَةِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ وَلَمْ يَخْلُ عَصْرٌ مِنْ فِئَةٍ اضْطَلَعَتْ بِفَهْمِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَدْرَكَتْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ وَهُمْ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ وَأَدَبِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحِ. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي مُقَدِّمَةِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ لَنَا طَرِيقًا إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَا قُلْتَ (أَيْ مِنْ تَوَقُّفِهِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ) وَهُوَ عِلْمُنَا بِعَجْزِ الْعَرَبِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَتَرْكِهِمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ مَعَ تَكْرَارِ التَّحَدِّي عَلَيْهِمْ وَطُولِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَجَمِ قِيَامَهَا عَلَى الْعَرَبِ وَمَا اسْتَوَى النَّاسُ فِيهِ قَاطِبَةً فَلَمْ يَخْرُجِ الْجَاهِلُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوجًا بِالْقُرْآنِ قِيلَ لَهُ خَبِّرْنَا عَمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنِ اخْتِصَاصِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ بَاقِيَةً عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ أَتَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ أَلَّا يَزَالَ الْبُرْهَانُ مِنْهُ لَائِحًا مُعْرِضًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ بِهِ وَالْعِلْمُ بِهِ

[سورة البقرة (2) : آية 25]

مُمْكِنًا لِمَنِ الْتَمَسَهُ وَأَلَّا مَعْنَى لِبَقَاءِ الْمُعْجِزَةِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي كَانَ بِهِ مُعْجِزًا قَائِمٌ فِيهِ أَبَدًا اهـ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ التَّقْدِيمِ قَوْلُهُ: «مُتَوَسِّلًا بِذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتَأَنَّقَ فِي وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِي التَّنْزِيلِ مُنْتَقِلًا مِمَّا أَجْمَلَهُ عَجْزُ الْمُتَحَدِّينَ بِهِ عِنْدَكَ إِلَى التَّفْصِيلِ» وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ تَفَاصِيلَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَصْنَافٍ مِنَ الْإِعْجَازِ إِذْ نَقَلَتِ الْإِعْجَازَ بِالتَّوَاتُرِ وَكَانَتْ بِبَلَاغَتِهَا مُعْجِزَةً، وَكَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ حَيْثُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِمَا تَحَقَّقَ صِدْقُهُ فَسُبْحَانَ مُنْزِلِهَا وَمُؤَتِّيهَا. [25] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. فِي «الْكَشَّافِ» مِنْ عَادَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَذْكُرَ التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ وَيَشْفَعَ الْبِشَارَةَ بِالْإِنْذَارِ إِرَادَةَ التَّنْشِيطِ لِاكْتِسَابِ مَا يُزْلِفُ وَالتَّثْبِيطِ عَنِ اقْتِرَافِ مَا يُتْلِفُ فَلَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَأَعْمَالَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ بِالْعِقَابِ قَفَّاهُ بِبِشَارَةِ عِبَادِهِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اهـ. وَجَعَلَ جُمْلَةَ: وَبَشِّرِ مَعْطُوفَةً عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ الْمَسُوقَةِ لِبَيَانِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ يَعْنِي جَمِيعَ الَّذِي فُصِّلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [الْبَقَرَة: 23] إِلَى قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] فَعَطَفَ مَجْمُوعَ أَخْبَارٍ عَنْ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَجْمُوعِ أَخْبَارٍ عَنْ عِقَابِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَاسِبَةُ وَاضِحَةٌ مُسَوِّغَةٌ لِعَطْفِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَلَيْسَ هُوَ عَطْفًا لِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ الَّذِي يُطْلَبُ مَعَهُ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ، وَنَظِّرْهُ بِقَوْلِكَ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالْإِرْهَاقِ وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ. وَجَعَلَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَطْفِ لَقَبَ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَيْسَ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ بَلْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُمَلِ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ مَا قِيلَ إِنَّ الْوَاوَ الْأُولَى وَالْوَاوَ الثَّالِثَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الْحَدِيد: 3] لَيْسَتَا مِثْلَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِإِفَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِعِطْفِ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا عَلَى مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَلَوِ اعْتُبِرَ عَطْفُ الظَّاهِرِ وَحْدَهُ عَلَى إِحْدَى السَّابِقَتَيْنِ

لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تُنَاسِبٌ، هَذَا حَاصِلُهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً ذَاتَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرَيْنِ عَلَى جُمْلَةٍ ذَاتِ مُبْتَدَأٍ مَلْفُوظٍ بِهِ وَخَبَرَيْنِ، فَالتَّقْدِيرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ فِيهَا مُقَدَّرٌ لِإِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْهُ بَلْ هُوَ مَحْذُوفٌ لِلْقَرِينَةِ أَوِ الْمُنَاسَبَةِ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ (الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ) عَلَى جُمْلَةِ (الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ) . إِنَّهُمَا صِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ ثَبَتَتَا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي ثَبَتَتْ لَهُ صِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ أُخْرَيَانِ. قَالَ السَّيِّدُ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَتَحَيَّرَ الْجَامِدُونَ عَلَى كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَقَدِّمَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الطَّلَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ لِتَتَنَاسَبَ الْجُمْلَتَانِ مَعَ أَنَّ عِبَارَةَ «الْكَشَّافِ» صَرِيحَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقَصَدَ السَّيِّدُ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالَ فَهْمٍ فَهِمَهُ سَعْدُ الدِّينِ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَأَوْدَعَهُ فِي شَرْحِهِ «المطول» على «التخليص» (¬1) . وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْله: فَاتَّقُوا [الْبَقَرَة: 24] الَّذِي هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْجَوَابِ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24] سَبَبٌ لَهُمَا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُ النَّبِيءِ فَحَقَّ اتِّقَاءُ النَّارِ وَهُوَ الْإِنْذَارُ لِمَنْ دَامَ عَلَى كُفْرِهِ وَحَقَّتِ الْبِشَارَةُ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ مُخَالِفًا لَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ مَسَاقَ خِطَابٍ لِلْكَافِرِينَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ فَلَمَّا أُرِيدَ تَرَتُّبُ الْإِنْذَارِ لَهُمْ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ جُعِلَ الْجَوَابُ خِطَابًا لَهُمْ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُمُ الْمُبْتَدَأُ بخطابهم وخطابا للنبيء لِيُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِينَ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ فَلَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِخِطَابِهِمْ إِلَّا الْإِرْسَالُ إِلَيْهِمْ. ¬

(¬1) قَالَ قد يُوهم تَمْثِيل صَاحب «الْكَشَّاف» لذَلِك بِقَوْلِك: زيد يُعَاقب بالقيد والإرهاق وَبشر عمرا [.....]

وَقَدِ اسْتُضْعِفَ هَذَا الْوَجْهُ بِأَنَّ عُلَمَاءَ النَّحْوِ قَرَّرُوا امْتِنَاعَ عَطْفِ أَمْرٍ مُخَاطَبٍ عَلَى أَمْرٍ مُخَاطَبٍ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بالنداء نَحْو قُم يَا زَيْدُ وَاكْتُبْ يَا عَمْرُو، وَهَذَا لَا نِدَاءَ فِيهِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» أَنَّ بَشِّرِ مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ مُقَدَّرًا قَبْلَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا [الْبَقَرَة: 21] وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاحِ» إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدِّرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] أَيْ فَأَنْذِرِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا الْوُقُوفُ عِنْدَ ظَاهِرِ كَلَامِ النُّحَاةِ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَعْبَأْ بِهِ قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّ مَنْعَ النُّحَاةِ إِذَا انْتَفَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْمُخَاطَبِينَ وَالنِّدَاءُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَرِينَةِ نَحْوُ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] اهـ. يُرِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ فَهُوَ كَافٍ وَإِنَّمَا خَصَّ النُّحَاةُ النِّدَاءَ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ قَرِينَةً وَاخْتِلَافُ الْأَمْرَيْنِ هُنَا بِعَلَامَةِ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ دَالٌّ عَلَى الْمُرَادِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ رُوعِيَ فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ مَا يُقَابِلُ مَا فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَقُوبِلَ الْإِنْذَارُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ [الْبَقَرَة: 24] بِالتَّبْشِيرِ وقوبل النَّاسُ [الْبَقَرَة: 21] الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِالَّذِينَ آمَنُوا وَقُوبِلَ (النَّارُ) بِالْجَنَّةِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ طِبَاقَاتٍ. وَالتَّبْشِيرُ الْإِخْبَارُ بِالْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ. وَقَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى التَّبْشِيرِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ (بِالْفَتْحِ) غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَكْفِي عَدَمُ تَحَقُّقِ الْمُخْبِرِ (بِالْكَسْرِ) عِلْمَ الْمُخْبَرِ (بِالْفَتْحِ) فَإِنَّ الْمُخْبِرَ (بِالْكَسْرِ) لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمُخْبِرُ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ لَمْ يَصِحَّ الْإِخْبَارُ إِلَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ الْخَبَرُ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ أَوْ فِي تَوْبِيخٍ وَنَحْوِهِ. وَالصَّالِحَاتُ جَمْعُ صَالِحَةٍ وَهِيَ الْفِعْلَةُ الْحَسَنَةُ فَأَصْلُهَا صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ صَالِحَةٌ وَحَسَنَةٌ وَلَا يُقَدِّرُونَ مَوْصُوفًا مَحْذُوفًا قَالَ الْحُطَيْئَةُ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينَا وَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَجْهُ تَأْنِيثِهَا لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ لِلِاسْمِيَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ يُحَدَّدُ مِقْدَارُهُ بِالتَّكْلِيفِ وَالِاسْتِطَاعَةِ وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلِ كَوْنِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ يَغْفِرُ الصَّغَائِرَ فَيَجْعَلُهَا كَالْعَدَمِ. فَإِن قلت: إِذا لَمْ يَقُلْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَةَ بِالْإِفْرَادِ فَقَدْ قَالُوا إِنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْمَجْمُوعِ، قُلْتُ تِلْكَ عِبَارَةٌ سَرَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْمَوْضِعُُِ

مِنْ تَفْسِيرِهِ إِذْ قَالَ: «إِذَا دَخَلَتْ لَامُ الْجِنْسِ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ إِلَى أَنْ يُحَاطَ بِهِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْهُ وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ صَلُحَ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْجِنْسِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ لَا إِلَى الْوَاحِدِ مِنْهُ اهـ. فَاعْتَمَدَهَا صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَتَنَاقَلَهَا الْعُلَمَاءُ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيَانَهَا. وَلَعَلَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْ وَجْهِ إِتْيَانِ الْعَرَبِ بِالْجُمُوعِ بَعْدَ أَلِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ إِذَا كَانَ الْمُفْرَدُ مُغْنِيًا غِنَاءَهَا فَأَقُولُ: إِنَّ أَلِ الْمُعَرِّفَةَ تَأْتِي لِلْعَهْدِ وَتَأْتِي لِلْجِنْسِ مُرَادًا بِهِ الْمَاهِيَّةُ وَلِلْجِنْسِ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ الَّتِي لَا قَرَارَ لَهُ فِي غَيْرِهَا فَإِذَا أَرَادُوا مِنْهَا الِاسْتِغْرَاقَ نَظَرُوا فَإِنْ وَجَدُوا قَرِينَةَ الِاسْتِغْرَاقِ ظَاهِرَةً مِنْ لَفْظٍ أَوْ سِيَاقٍ نَحْوِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْر: 2، 3] وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: 119] وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة: 17] اقْتَنَعُوا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ الأَصْل الأحفّ وَإِنْ رَأَوْا قَرِينَةَ الِاسْتِغْرَاقِ خَفِيَّةً أَوْ مَفْقُودَةً عَدَلُوا إِلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ لِدَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى عِدَّةِ أَفْرَادٍ لَا عَلَى فَرْدٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لَا يُتَوَجَّهُ إِلَى عَدَدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ غَالِبًا تَعَيَّنَ أَنَّ تَعْرِيفَهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ نَحْوُ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمرَان: 134] لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى مُحْسِنٍ خَاصٍّ نَحْوُ قَوْلِهَا: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [يُوسُف: 52] لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ خَائِنٍ مُعَيَّنٍ تَعْنِي نَفْسَهَا فَيَصِيرُ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ قَرِينَةً عَلَى قَصْدِ الِاسْتِغْرَاقِ. وَانْتَصَبَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْمَفْعُول بِهِ لعملوا عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَزَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ فِعْلِهِ كَانَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لَا مَفْعُولًا بِهِ فَنَحْوُ: عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَنَحْوُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ [العنكبوت: 44] كَذَلِكَ، وَاعْتَضَدَ لِذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ فِي «شَرْحِ الْمُفَصَّلِ» زَعَمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ يَكُونُ جُمْلَةً نَحْوَ قَالَ زَيْدٌ عَمْرٌو مُنْطَلِقٌ وَكَلَامُ ابْنِ هِشَامٍ خَطَأٌ وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ مِثْلُهُ، وَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ نَفْسُهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ هُوَ مَصْدَرُ فِعْلِهِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَالْجَنَّاتُ جَمْعُ جَنَّةٍ، وَالْجَنَّةُ فِي الْأَصْلِ فِعْلَةٌ مِنْ جَنَّهُ إِذَا سَتَرَهُ نَقَلُوهُ لِلْمَكَانِ الَّذِي تَكَاثَرَتْ أَشْجَارُهُ وَالْتَفَّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى كَثُرَ ظِلُّهَا وَذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ التَّنَعُّمِ وَالتَّرَفُّهِ عِنْدَ الْبشر قاطبة (¬1) لَا سِيمَا فِي بَلَدٍ تَغْلُبُ عَلَيْهِ الْحَرَارَةُ كَبِلَادِ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 16] . ¬

(¬1) فَإِن الْإِنْسَان مجبول على حب المناظر الجميلة والميل لما يُقَارِبه فِي الْخلقَة، وَفِي الشّجر جمال الشكل واللون وَفِيه أنس للنفوس لِأَن فِيهِ حَيَاة فَنَاسَبَ النُّفُوس مثل التأنس بِالْحَيَوَانِ والأنعام الَّتِي قَالَ تَعَالَى فِيهَا: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ [النَّحْل: 6] فَفِي مناظر الْأَشْجَار جمال يفوق جمال مناظر مَا لَا حَيَاة فِيهِ كالقصور والرياش.

وَالْجَرْيُ حَقِيقَتُهُ سُرْعَةٌ شَدِيدَةٌ فِي الْمَشْيِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى سَيْلِ الْمَاءِ سَيْلًا مُتَكَرِّرًا مُتَعَاقِبًا وَأَحْسَنُ الْمَاءِ مَا كَانَ جَارِيًا غَيْرَ قَارٍّ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ جَدِيدًا كُلَّمَا اغْتَرَفَ مِنْهُ شَارِبٌ أَوِ اغْتَسَلَ مُغْتَسِلٌ. وَالْأَنْهَارُ جَمْعُ نَهَرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَالنَّهْرُ الْأُخْدُودُ الْجَارِي فِيهِ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّةِ نَهَرَ الدَّالَّةِ عَلَى الِانْشِقَاقِ وَالِاتِّسَاعِ وَيَكُونُ كَبِيرًا وَصَغِيرًا. وَأَكْمَلُ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ جَرَيَانُ الْمِيَاهِ فِي خِلَالِهَا وَذَلِكَ شَيْءٌ اجْتَمَعَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَنْفَسِ الْمَنَاظِرِ لِأَنَّ فِي الْمَاءِ طَبِيعَةَ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّ النَّاظِرَ يَرَى مَنْظَرًا بَدِيعًا وَشَيْئًا لَذِيذًا. وَأَوْدَعَ فِي النُّفُوسِ حُبَّ ذَلِكَ فَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَدَّ نَعِيمَ الصَّالِحِينَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا أَلِفَتْهُ أَرْوَاحُهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَإِنَّ لِلْإِلْفِ تَمَكُّنًا مِنَ النُّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ بِمُرُورِهَا عَلَى هَذَا الْعَالَمِ عَالَمِ الْمَادَّةِ اكْتَسَبَتْ مَعَارِفَ وَمَأْلُوفَاتٍ لَمْ تَزَلْ تَحِنُّ إِلَيْهَا وَتَعُدُّهَا غَايَةَ الْمُنَى وَلِذَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا النَّعِيمَ الدَّائِمَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَّبَ إِلَى الْأَرْوَاحِ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهَا عَلَى نَحْوِ مَا أَلِفَتْهُ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا قَبْلَ نُزُولِهَا لِلْأَبْدَانِ لِإِلْفِهَا بِذَلِكَ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ، وَسَبَبُ نُفْرَتِهَا مِنْ أَشْكَالٍ مُنْحَرِفَةٍ وَذَوَاتٍ بَشِعَةٍ عَدَمُ إِلْفِهَا بِأَمْثَالِهَا فِي عَوَالِمِهَا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَرَاهُ أَقْوَى فِي تَعْلِيلِ مَجِيءِ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ عَلَى صُوَرِ اللَّذَّاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا وَسَيَنْفَعُنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّاتِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِهَا الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَرْضِ النَّابِتَةِ فِيهَا وَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْجَنَّاتِ بِاعْتِبَارِ الْأَشْجَارِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مَا فِي الْجَنَّاتِ، وَهَذَا الْقَيْدُ لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ فَإِنَّ الْأَنْهَارَ لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ وَيُفِيدُ هَذَا الْقَيْدُ تَصْوِيرَ حَالِ الْأَنْهَارِ لِزِيَادَةِ تَحْسِينِ وَصْفِ الْجَنَّاتِ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَّةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ الْبَيْتَيْنِ. وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَوْجِيهًا لِتَعْرِيفِ الْأَنْهَارِ وَمُخَالَفَتِهَا لِتَنْكِيرِ (جَنَّاتٍ) إِمَّا بِأَنْ يُرَادَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَكُونُ كَالنَّكِرَةِ وَإِمَّا بِأَنْ يُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْعَهْدُ إِلَّا أَنَّهُ عَهْدٌ تَقْدِيرِيٌّ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لَمَّا ذُكِرَتِ اسْتُحْضِرَ لِذِهْنِ السَّامِعِ لَوَازِمُهَا وَمُقَارَنَاتُهَا فَسَاغَ لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يُشِيرَُُ

إِلَى ذَلِكَ الْمَعْهُودِ فَجِيءَ بِاللَّامِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ يُرَادُ أَنْهَارُهَا فَعُوِّضَ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ، يُرِيدُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي حَيْرَةٍ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَنْهَارِ مُعَرَّفَةً بِالْإِضَافَةِ لِلْجَنَّاتِ وَبَيْنَ أَنْ يُعَرِّفَهَا بِأَلِ الْعَهْدِيَّةِ عَهْدًا تَقْدِيرِيًّا وَاخْتِيرَ الثَّانِي تَفَادِيًا مِنْ كُلْفَةِ الْإِضَافَةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْهَارَ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَدِيرَةٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ التَّنَعُّمُ بِهَا تَبَعًا لِلتَّنَعُّمِ بِالْجَنَّاتِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ أَلْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 39] وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِضَافَةَ وَاللَّامَ مُتَعَاقِبَتَانِ هُنَا وَلَيْسَ ذَلِكَ صَالِحًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ (¬1) عَلَى أَنِّي أَرَى مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ مَقْبُولًا وَأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا إِلَّا بَيَانَ حَاصِلِ الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ التَّعْرِيفِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُضَافَ الْمَذْكُورَ كَالْمَعْهُودِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ. وَعِنْدِي أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى التَّعْرِيفِ هُوَ التَّفَنُّنُ لِئَلَّا يُعَادَ التَّنْكِيرُ مَرَّةً ثَانِيَةً فَخُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ اقْتِنَاعًا بِسُورَةِ التَّعْرِيفِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ تَحْتِهَا يَظْهَرُ أَنَّهُ قَيْدٌ كَاشِفٌ قُصِدَ مِنْهُ زِيَادَةُ إِحْضَارِ حَالَةِ جَرْيِ الْأَنْهَارِ إِذِ الْأَنْهَارُ لَا تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ تَجْرِي مِنْ فَوْقُ فَهَذَا الْوَصْفُ جِيءَ بِهِ لِتَصْوِيرِ الْحَالَةِ لِلسَّامِعِ لِقَصْدِ التَّرْغِيبِ وَهَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ إِذْ لَيْسَ الْبَلِيغُ يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِفْهَامِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّابِغَةِ يَصِفُ فَرَسَ الصَّائِدِ وَكِلَابَهُ: مِنْ حِسِّ أَطْلَسَ تَسْعَى تَحْتَهُ شِرَعٌ ... كَأَنَّ أَحْنَاكَهَا السُّفْلَى مَآشِيرُ وَالتَّحْتُ اسْمٌ لِجِهَةِ الْمَكَانِ الْأَسْفَلِ وَهُوَ ضِدُّ الْأَعْلَى، وَلِكُلِّ مَكَانِ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ارْتِفَاعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ التَّحْتُ عَلَى التَّحْتِ بَلْ غَايَةُ مَدْلُولِهِ أَنَّهُ بِجِهَةِ سُفْلِهِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْجَنَّةِ هُنَا بِالْأَشْجَارِ لِتَصْحِيحِ التَّحْتِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ. ¬

(¬1) إِشَارَة إِلَى التَّفْرِقَة بَين مَا جوزه الزَّمَخْشَرِيّ هُنَا وَمَا مَنعه من مَذْهَب الْكُوفِيّين، وَذَلِكَ أَن الْكُوفِيّين جوزوا جعل اللَّام عوضا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ مُطلقًا، فعلى مَذْهَبهم يَصح أَن تَقول إِذا لقِيت زيدا

قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. جُمْلَةُ: كُلَّما رُزِقُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صفة ثَانِيَة لجنات، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الَّذِينَ آمَنُوا فَتَكُونَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً الْغَرَضُ مِنْهَا بَيَانُ شَأْنٍ آخر من شؤون الَّذِينَ آمَنُوا، وَلِكَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبِينَ جُمْلَةِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ فُصِلَتْ عَنْهَا كَمَا تُفْصَلُ الْأَخْبَار المتعددة. و (كلما) ظَرْفُ زمَان لِأَن كلا أُضِيفَتْ إِلَى مَا الظَّرْفِيَّةِ الْمَصْدَرِيَّةِ فَصَارَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ الْمُقَيَّدَةِ بِصِلَةِ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ وَقَدْ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِذَلِكَ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ إِلَّا تَعْلِيقًا على الْأَزْمَان الْمقيدَة بِمَدْلُولِ فِعْلِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ خَرَجَتْ كَثِيرٌ مِنْ كَلِمَاتِ الْعُمُومِ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِمَا الظَّرْفِيَّةِ نَحْوِ كَيْفَمَا وَحَيْثُمَا وَأَنَّمَا وَأَيْنَمَا وَمَتَى وَمَا مهما. وَالنَّاصِبُ لِكُلَّمَا الْجَوَابُ لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا طَرَيَانًا غَيْرَ مُطَّرِدٍ بِخِلَافِ مَهْمَا وَأَخَوَاتِهَا. وَإِذْ كَانَتْ كُلَّمَا نَصًّا فِي عُمُومِ الْأَزْمَانِ تَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ الْمَبْنِيَّ عَلَى الضَّمِّ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ظَاهِرِ التَّقْدِيرِ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمَرَّةِ فَيَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُ صِفَاتِ ثَمَرَاتِهِمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فِي صُوَرِ مَا قُدِّمَ إِلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ السَّابِقَةِ. وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِصِفَةِ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ قَصْدُ امْتِنَانٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ ثِمَارَ الْجَنَّةِ مُتَّحِدَةُ الصُّورَةِ مُخْتَلِفَةُ الطُّعُومِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَشْكَالِ فِي الدُّنْيَا نَشَأَ مِنِ اخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَالتَّرَاكِيبِ فَأَمَّا مَوْجُودَاتُ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا عَنَاصِرُ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَعْتَوِرُهَا الشَّكْلُ وَإِنَّمَا يَجِيءُ فِي شَكْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الشَّكْلُ الْعُنْصُرِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْجِيبًا لَهُمْ وَالشَّيْءُ الْعَجِيبُ لَذِيذُ الْوَقْعِ عِنْدَ النُّفُوسِ وَلِذَلِكَ يَرْغَبُ النَّاسُ فِي مُشَاهَدَةِ الْعَجَائِبِ وَالنَّوَادِرِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كَلَّمَا لِعُمُومِ غَيْرِ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِالْقَرِينَةِ، وَمَعْنَى (مِنْ قَبْلُ) فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ قَبْلِ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَيْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَوَجْهُهُ فِي «الْكَشَّافِ» : «بِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِالْمَأْلُوفِ آنَسُ» وَهُوَ بَعِيدٌ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ يَكُونَ عُمُومُ كُلَّمَا مُرَادًا بِهِ خُصُوصُ الْإِتْيَانِ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي الْجَنَّةِ وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الطَّعْمِ وَاخْتِلَافَ الْأَشْكَالِ وَهَذَا أَضْعَف فِي التَّعَجُّب، وَلِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 27]

لَا يَعْرِفُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الثِّمَارِ فَيَقْتَضِي تَحْدِيدَ الْأَصْنَافِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّشَابُهَ بَيْنَ الْمَأْتِيِّ بِهِ لَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثِمَارِ الدُّنْيَا. ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ التَّأَنُّسِ بِالْأَزْوَاجِ وَنَزَّهَ النِّسَاءَ عَنْ عَوَارِضِ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ النَّفْسُ لَوْلَا النِّسْيَانُ فَجَمَعَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ اللَّذَّاتِ عَلَى نَحْوِ مَا أَلِفُوهُ فَكَانَتْ نِعْمَةً عَلَى نِعْمَةٍ. وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ يُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْآخَرَ بَعْدَ أَن كَانَ مُفردا زَوْجًا وَقَدْ يُقَالُ لِلْأُنْثَى زَوْجَةً بِالتَّاءِ وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي الْبُخَارِيِّ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» يَعْنِي عَائِشَةَ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أَسد الشّرى يستمليها وَقَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ احْتِرَاسٌ مِنْ تَوَهُّمِ الِانْقِطَاعِ بِمَا تَعَوَّدُوا مِنِ انْقِطَاعِ اللَّذَّاتِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ جَمِيعَ اللَّذَّاتِ فِي الدُّنْيَا مُعَرَّضَةٌ لِلزَّوَالِ وَذَلِكَ يُنَغِّصُهَا عِنْدَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو طيب: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَحَقَّقَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا وَقَوْلُهُ: مُطَهَّرَةٌ هُوَ بِزِنَةِ الْإِفْرَادِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مطهرات كَمَا قرىء بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تَعْدِلُ عَنِ الْجَمْعِ مَعَ التَّأْنِيثِ كَثِيرًا لِثِقْلِهِمَا لِأَنَّ التَّأْنِيثَ خِلَافُ الْمَأْلُوفِ وَالْجَمْعُ كَذَلِكَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا تَفَادَوْا عَنِ الْجَمْعِ بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ كَثِيرٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ لَا يَحْتَاجُ لِلِاسْتِشْهَادِ. [26، 27] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. قَدْ يَبْدُو فِي بادىء النَّظَرِ عَدَمُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ مَسَاقِ الْآيَاتِ السَّالِفَةِ وَمَسَاقِ هَاتِهِ الْآيَةِ، فَبَيْنَمَا كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ ثَنَاءً عَلَى هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَوَصْفَ حَالَيِ الْمُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ وَالنَّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِهِ وَبَيَانَ إِعْجَازِهِ وَالتَّحَدِّي بِهِ مَعَ مَا تَخَلَّلَ وَأَعْقَبَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ النَّافِعَةِ وَالْبَيَانَاتِ الْبَالِغَةِ وَالتَّمْثِيلَاتِ الرَّائِعَةِ، إِذَا بِالْكَلَامِ قد جَاءَ يخبر بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْبَأُ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِشَيْءٍ حَقِيرٍ أَوْ غَيْرِ حَقِيرٍ، فَحَقِيقٌ بِالنَّاظِرِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ الْمُنَاسِبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ، ذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى تَحَدِّي الْبُلَغَاءِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ النَّظْمِ سَلَكُوا فِي الْمُعَارَضَةِ طَرِيقَةَ الطَّعْنِ فِي الْمَعَانِي فَلَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ سَخِيفِ الْمَعْنَى مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ لِيَصِلُوا بِذَلِكَ إِلَى إِبْطَالُُِ

أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِإِلْقَاءِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَذْرِ الْخَصِيبِ فِي تَنْفِيرِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الْحَج: 73] وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] قَالَ الْمُشْرِكُونَ أَرَأَيْتُمْ أَيَّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ فِي كِتَابِهِ وَضَرَبَ بِهَا الْمَثَلَ ضَحِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا مَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي الْآيَةَ. وَالْوَجْهُ أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَنُبَيِّنَ مَا انْطَوَتَا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَفْزَعُونَ إِلَى يَهُودِ يَثْرِبَ فِي التَّشَاوُرِ فِي شَأْنِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُمْ صُوَرًا مِنَ الْكَيْدِ وَالتَّشْغِيبِ فَيَكُونُ قَدْ تَظَاهَرَ الْفَرِيقَانِ عَلَى الطَّعْنِ فِي بَلَاغَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَمْثِيلَ الْمُنَافِقِينَ بِالَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَكَانَ مُعْظَمُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ هَاجَتْ أحناقهم وضاف خناقهم فاختلقوا هَذِهِ الْمَطَاعِنَ فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَوَضَحَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ قَالَهُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْبَلَاغَةِ، أَوْ قَدْ قَالُوهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِفُنُونِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مُكَابِرَةً وَتَجَاهُلًا. وَكَوْنُ الْقَائِلِينَ هُمُ الْيَهُودَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَوْنِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْمُعَانِدِينَ فِيهَا هُمُ الْيَهُودُ، وَلِأَنَّهُ الْأَوْفَقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْيَهُودِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ شَاعَ بَيْنَهُمُ التَّشَاؤُمُ وَالْغُلُوُّ فِي الْحَذَرِ مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى اشْتَهَرُوا بِاسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ بِالشَّتْمِ وَالذَّمِّ كَقَوْلِهِم راعِنا [الْبَقَرَة: 104] ، قَالَ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الْبَقَرَة: 59] كَمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ فِي «الصَّحِيحِ» وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ. وَإِمَّا أَنْ يكون قَائِله الْمُشْركُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِوُقُوعِ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ أَجْرَأُ مِنْ ذُبَابَةٍ، وَأَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَضْعَفُ مِنْ بَعُوضَةٍ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَدَلُّ، عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا

التَّمْثِيلُ إِلَّا مُكَابَرَةً وَمُعَانِدَةً فَإِنَّهُمْ لَمَّا غُلِبُوا بِالتَّحَدِّي وَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تَعَلَّقُوا فِي مَعَاذِيرِهِمْ بِهَاتِهِ السَّفَاسِفِ، وَالْمُكَابِرُ يَقُولُ مَا لَا يَعْتَقِدُ، وَالْمَحْجُوجُ الْمَبْهُوتُ يَسْتَعْوِجُ الْمُسْتَقِيمَ وَيُخْفِي الْوَاضِحَ، وَإِلَى هَذَا الثَّانِي يَنْزِعُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَوْفَقُ بِالسِّيَاقِ. وَالسُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَزَالُوا يُلْقُونَ الشُّبَهَ فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ وَيُشِيعُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِوَاسِطَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنِ الرَّدُّ عَقِبَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْوَاقِعِ فِيهَا التَّمْثِيلُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ فَإِنَّ الْبِدَارَ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ فِي مقاله شُبْهَة رائجة يَكُونُ أَقْطَعَ لِشُبْهَتِهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ زَمَانًا. قُلْنَا: الْوَجْهُ فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهَا أَنْ يَقَعَ الرَّدُّ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثَالٍ مُعْجَبَةٍ اقْتَضَاهَا مقَام تَشْبِيه الهيآت، فَذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُ الْكَرِيمُ عَدُوَّهُ مِنْ عَطَاءٍ فَيَلْمِزُهُ الْمَمْنُوعُ بِلَمْزِ الْبُخْلِ، أَوْ يَتَأَخَّرُ الْكَمِيُّ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ مَكِيدَةً فَيَظُنُّهُ نَاسٌ جُبْنًا فَيُسِرُّهَا الْأَوَّلُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْقَاصِدُ فَيُعْطَيهِ عَطَاءً جَزْلًا، وَالثَّانِي حَتَّى يَكُرَّ كَرَّةً تَكُونُ الْقَاضِيَةَ عَلَى قَرْنِهِ. فَكَذَلِكَ لَمَّا أَتَى الْقُرْآنُ بِأَعْظَمِ الْأَمْثَالِ وَأَرْوَعِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: 17] أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] الْآيَاتِ وَقَوْلُهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَة: 18] أَتَى إِثْرَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ مُنَاسِبَةَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ غَفَلَ عَنْ بَيَانِهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا الشَّبَهُ مُطْلَقًا لَا خُصُوصَ الْمركب من هَيْئَة، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ هُنَا مَا طَعَنُوا بِهِ فِي تَشَابِيهِ الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الْحَج: 73] وَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] . وَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا بَيِّنٌ. وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ فَلِأَنَّ هَذَا الْعَلَمَ جَامِعٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَذِكْرُهُ أَوْقَعُ فِي الْإِقْنَاعِ بِأَنَّ كَلَامَهُ هُوَ أَعْلَى كَلَامٍ فِي مُرَاعَاةِ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالْمُرَاعَاةِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِتَمْوِيهِهِمْ بِأَنَّ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَثَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَهُ أَن يستحي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَلِهَذَا أَيْضًا اخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ خُصُوصَ فِعْلِ الِاسْتِحْيَاءِ زِيَادَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّمْثِيلَ بِهَاتِهِ الْأَشْيَاءِ لِمُرَاعَاةِ كَرَاهَةِ النَّاسِ وَمِثْلُ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ

فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ الْخَالِق لَا يستحي مِنْ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِمَّا يستحي مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَالِقِهَا وَالْمُتَصَرِّفِ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الِاسْتِحْيَاءِ هُنَا مُحَاكَاةً لقَولهم أما يستحي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانٍ حَقِيرَةٍ غَيْرَ مُخِلٍّ بِالْبَلَاغَةِ فَمَا بَالُنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النَّقْدِ قَدْ نَقَدُوا مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَثَلٍ هَذَا كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: مِنْ عِزِّهِمْ حَجَرَتْ كُلَيْبٌ بَيْتَهَا ... زَرْبًا كَأَنَّهُمُ لَدَيْهِ الْقُمَّلُ وَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: أَمَاتَكُمُ مِنْ قَبْلِ مَوْتِكُمُ الْجَهْلُ ... وَجَرَّكُمُ مِنْ خِفَّةٍ بِكُمُ النَّمْلُ وَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ: وَلَوْ أَنَّ بُرْغُوثًا عَلَى ظَهْرِ قَمْلَةٍ ... يَكُرُّ عَلَى ضَبْعَيْ تَمِيمٍ لَوَلَّتِ قُلْتُ أُصُولُ الِانْتِقَادِ الْأَدَبِيِّ تُؤَوَّلُ إِلَى بَيَانِ مَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَدِيبِ مِنْ جَانِبِ صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَمِنْ جَانِبِ صُوَرِ الْمَعَانِي، وَمِنْ جَانِبِ الْمُسْتَحْسَنِ مِنْهَا وَالْمَكْرُوهِ وَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ وَمَدَارِكِ الْعُقُولِ وَأَصَالَةِ الْأَفْهَامِ بِحَسَبِ الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْأَدَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَقْبُولًا عِنْدَ قَوْمٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَخِرَيْنِ، وَمَقْبُولًا فِي عَصْرٍ مَرْفُوضًا فِي غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ يُخَاطِبُ الْمَلِكَ النُّعْمَانَ: فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ فَإِنَّ تَشْبِيهَ الْمَلِكِ بِاللَّيْلِ لَوْ وَقَعَ فِي زَمَانِ الْمُوَلَّدِينَ لَعُدَّ مِنَ الْجَفَاءِ أَوِ الْعَجْرَفَةِ، وَكَذَلِكَ تَشْبِيهُهُمْ بِالْحَيَّةِ فِي الْإِقْدَامِ وَإِهْلَاكِ الْعَدُوِّ فِي قَوْلِ ذِي الْإِصْبَعِ: عَذِيرَ الْحَيِّ مِنْ عَدَوَا ... نَ كَانُوا حَيَّةَ الْأَرْضِ وَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ: مَاذَا رُزِئْنَا بِهِ مِنْ حَيَّةٍ ذَكَرٍ ... نَضْنَاضَةٍ بِالرَّزَايَا صِلِّ أَصْلَالِ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَب أَن عليّا بْنَ الْجَهْمِ مَدَحَ الْخَلِيفَةَ الْمُتَوَكِّلَ بِقَوْلِهِ: أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي وَفَائِكَ بِالْعَهْ ... دِ وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الْخُطُوبُُِ

وَأَنَّهُ لَمَّا سَكَنَ بَغْدَادَ وَعَلِقَتْ نَضَارَةُ النَّاسِ بِخَيَالِهِ قَالَ فِي أَوَّلِ مَا قَالَهُ: عُيُونُ الْمَهَا بَيْنَ الرَّصَافَةِ وَالْجِسْرِ ... جَلَبْنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلَا أَدْرِي (¬1) وَقَدِ انْتَقَدَ بَشَّارٌ عَلَى كُثَيِّرٍ قَوْلَهُ: أَلَا إِنَّمَا لَيْلَى عَصَا خَيْزُرَانَةٌ ... إِذَا لَمَسُوهَا بِالْأَكُفِّ تَلِينُ فَقَالَ لَوْ جَعَلَهَا عَصَا مُخٍّ أَوْ عَصَا زُبْدٍ لَمَا تَجَاوَزَ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَصَا، عَلَى أَنَّ بَشَّارًا هُوَ الْقَائِلُ: إِذَا قَامَتْ لِجَارَتِهَا تَثَنَّتْ ... كَأَنَّ عِظَامَهَا مِنْ خَيْزُرَانِ وَشَبَّهَ بِشَارٌ عَبْدَةَ بِالْحَيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَأَنَّهَا لَمَّا مَشَتْ ... أَيْمٌ تَأَوَّدَ فِي كَثِيبْ وَالِاسْتِحْيَاءُ وَالْحَيَاءُ وَاحِدٌ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَقْدَمَ وَاسْتَأْخَرَ وَاسْتَجَابَ، وَهُوَ انْقِبَاضُ النَّفْسِ مِنْ صُدُورِ فِعْلٍ أَوْ تَلَقِّيهِ لِاسْتِشْعَارِ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ أَوْ لَا يَحْسُنُ فِي مُتَعَارَفِ أَمْثَالِهِ، فَهُوَ هَيْئَةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِانْفِعَالِ يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى الْوَجْهِ وَفِي الْإِمْسَاكِ عَنْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ. وَالِاسْتِحْيَاءُ هُنَا مَنْفِيٌّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فِي صِحَّةِ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّعَلُّلُ لِذَلِكَ بِأَنَّ نَفْيَ الْوَصْفِ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الِاتِّصَافِ تَعَلُّلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَالضَّرْبُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبَ خَيْمَةً وَضَرَبَ بَيْتًا قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ: إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجِرَةً ... بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ أَيْ جَعَلَ شَيْئًا مَثَلًا أَيْ شَبَهًا، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: 74] أَيْ لَا تَجْعَلُوا لَهُ مُمَاثِلًا مِنْ خَلْقِهِ فَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ضَرَبَ مُشْتَقًّاُُ ¬

(¬1) انْظُر: صفحة 4 جُزْء 3 من «محاضرات الْأَبْرَار» لِابْنِ عَرَبِيّ طبع حجر بمطبعة شعراوي سنة 1282 هـ بِالْقَاهِرَةِ.

مِنَ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ فَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِلتَّوْكِيدِ لِأَنَّ مَثَلًا مُرَادِفٌ مَصْدَرَ فِعْلِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَالْمعْنَى لَا يستحي أَنْ يُشَبِّهَ بِشَيْءٍ مَا. وَالْمَثَلُ الْمَثِيلُ وَالْمُشَابِهُ وَغَلَبَ عَلَى مُمَاثَلَةِ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: 17] وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مَعْنَى ضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ وَتَنْكِيرُ مَثَلًا لِلتَّنْوِيعِ بِقَرِينَةِ بَيَانِهِ بِقَوْلِهِ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. وَمَا إِبْهَامِيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالنَّكِرَةِ فَتُؤَكِّدُ مَعْنَاهَا مِنْ تَنْوِيعٍ أَوْ تَفْخِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ، نَحْوِ لِأَمْرٍ مَا وَأَعْطَاهُ شَيْئًا مَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَزِيدَةٌ لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا عَلَى التَّأْكِيدِ أَشَدَّ. وَقِيلَ اسْمٌ بِمَعْنَى النَّكِرَةِ الْمُبْهَمَةِ. وبَعُوضَةً بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا. وَالْبَعُوضَةُ وَاحِدَةُ الْبَعُوضِ وَهِيَ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ طَائِرَةٌ ذَاتُ خُرْطُومٍ دَقِيقٍ تَحُومُ عَلَى الْإِنْسَانِ لِتَمْتَصَّ بِخُرْطُومِهَا مِنْ دَمِهِ غِذَاءً لَهَا، وَتُعْرَفُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ بِالْخُمُوشِ، وَأَهْلُ تُونِسَ يُسَمُّونَهُ النَّامُوسَ وَاحِدَتُهُ النَّامُوسَةُ وَقَدْ جُعِلَتْ هُنَا مَثَلًا لِشِدَّةِ الضَّعْفِ وَالْحَقَارَةِ. وَقَوْلُهُ: فَما فَوْقَها عُطِفَ عَلَى بَعُوضَةً، وَأَصْلُ فَوْقَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعْتَلِي عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ فَلِذَلِكَ كَانَ مُلَازِمًا لِلْإِضَافَةِ لِأَنَّهُ تَتَمَيَّزُ جِهَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْمُتَجَاوِزِ غَيْرَهُ فِي صِفَةٍ تَجَاوُزًا ظَاهِرًا تَشْبِيهًا بِظُهُورِ الشَّيْءِ الْمُعْتَلِي عَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَلٍ عَلَيْهِ، فَفَوْقَ فِي مِثْلِهِ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى التَّغَلُّبِ وَالزِّيَادَةِ فِي صِفَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْمَحَامِدِ أَوْ مِنَ الْمَذَامِّ يُقَالُ: فُلَانٌ خَسِيسٌ وَفَوْقَ الْخَسِيسِ وَفُلَانٌ شُجَاعٌ وَفَوْقَ الشُّجَاعِ، وَتَقُولُ: أُعْطِيَ فُلَانٌ فَوْقَ حَقِّهِ أَيْ زَائِدًا عَلَى حَقِّهِ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ أَيْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْبَعُوضَةِ فِي الْحَقَارَةِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ حَجْمًا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَحْتَمِلُ أَقَلَّ مِنَ الشَّوْكَةِ فِي الْأَذَى مِثْلَ نُخْبَةِ النَّمْلَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الشَّوْكَةِ مِثْلُ الْوَخْزِ بِسِكِّينٍ وَهَذَا مِنْ تَصَارِيفِ لَفْظِ فَوْقَ فِي الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ لِاخْتِيَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ لَفْظِ أَقَلَّ وَدُونَ لَفْظِ أَقْوَى مَثَلًا مَوْقِعٌ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ.

وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ (مَا فَوْقَهَا) عَلَى (بَعُوضَةً) أَفَادَتْ تَشْرِيكَهُمَا فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِمَا، وَحَقُّهَا أَنْ تُفِيدَ التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ وَلَكِنَّهَا هُنَا لَا تُفِيدُ التَّعْقِيبَ وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى التَّدَرُّجِ فِي الرُّتَبِ بَيْنَ مَفَاعِيلِ أَنْ يَضْرِبَ وَلَا تُفِيدُ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يَكُونُ بِالْبَعُوضَةِ وَيَعْقُبُهُ ضَرْبُهُ بِمَا فَوْقَهَا بَلِ الْمُرَادُ بَيَانُ الْمَثَلِ بِأَنَّهُ الْبَعُوضَةُ وَمَا يَتَدَرَّجُ فِي مَرَاتِبِ الْقُوَّةِ زَائِدًا عَلَيْهَا دَرَجَةً تَلِي دَرَجَةً فَالْفَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ عَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ عَنِ الْقَيْدِ لِأَنَّ الْفَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّعْقِيبِ الَّذِي هُوَ اتِّصَالٌ خَاصٌّ، فَاسْتُعْمِلَتْ فِي مُطْلَقِ الِاتِّصَالِ، أَوْ هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّدَرُّجِ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالتَّعْقِيبِ فِي التَّأَخُّرِ فِي التَّعَقُّلِ كَمَا أَنَّ التَّعْقِيبَ تَأَخُّرٌ فِي الْحُصُولِ وَمِنْهُ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ» . وَالْمَعْنَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَعُوضَةَ مَثَلًا فَيَضْرِبَ مَا فَوْقَهَا أَيْ مَا هُوَ دَرَجَةٌ أُخْرَى أَيْ أَحْقَرَ مِنَ الْبَعُوضَةِ مِثْلَ الذَّرَّةِ وَأَعْظَمَ مِنْهَا مِثْلَ الْعَنْكَبُوتِ وَالْحِمَارِ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ الذِّكْرِيِّ دُونَ الْحُصُولِيِّ أَيْ لِتَعْقِيبِ الْكَلَامِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ عَطَفَتِ الْمُقَدَّرَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَحْيِي لِأَنَّ تَقْدِيره لَا يستحي مِنَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ تَلَقَّى ذَلِكَ الْمَثَلَ وَاخْتَلَفَتْ حَالُهُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، نَشَأَ فِي الْكَلَامِ إِجْمَالٌ مُقَدَّرٌ اقْتَضَى تَفْصِيلَ حَالِهِمْ. وَإِنَّمَا عَطَفَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ حَاصِلٌ عَقِبَ الْإِجْمَالِ. وَ (أَمَّا) حَرْفٌ مَوْضُوعٌ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلٍ مَلْفُوظٍ أَوْ مُقَدَّرٍ. وَلَمَّا كَانَ الْإِجْمَالُ يَقْتَضِي اسْتِشْرَافَ السَّامِعِ لِتَفْصِيلِهِ كَانَ التَّصَدِّي لِتَفْصِيلِهِ بِمَنْزِلَةِ سُؤَالٍ مَفْرُوضٍ كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقُولُ إِنْ شِئْتَ تَفْصِيله فتفصيله كيث وَكَيْت، فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَمَّا مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ لَزِمَتْهَا الْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا لِأَنَّهَا كَجَوَابِ شَرْطٍ، وَقَدْ تَخْلُو عَنْ مَعْنَى التَّفْصِيلِ فِي خُصُوصِ قَوْلِ الْعَرَبِ أَمَّا بَعْدُ فَتَتَمَحَّضُ لِلشَّرْطِ وَذَلِكَ فِي التَّحْقِيقِ لِخَفَاءِ مَعْنَى التَّفْصِيلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَرَقُّبِ السَّامِعِ كَلَامًا بَعْدَ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ. وَقَدَّرَهَا سِيبَوَيْهِ بِمَعْنَى مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، وَتَلَقَّفَهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بَعْدَهُ وَهُوَ عِنْدِي تَقْدِيرُ مَعْنًى لِتَصْحِيحِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ

لِأَنَّ دَعْوَى قَصْدِ عُمُومِ الشَّرْطِ غَيْرُ بَيِّنَةٍ، فَإِذَا جِيءَ بِأَدَاةِ التَّفْصِيلِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَزِيدِ اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ فَأَفَادَ تَقْوِيَةَ الْكَلَامِ الَّتِي سَمَّاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ تَوْكِيدًا وَمَا هُوَ إِلَّا دَلَالَةُ الِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ، عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهُ مُحَقَّقٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اهْتَمَّ بِهِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَضْلُ قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ إِلَخْ عَلَى أَنْ يُقَالَ فَالَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ بِدُونِ أَمَّا وَالْفَاءِ. وَجَعَلَ تَفْصِيلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِسْمَيْنِ لِأَنَّ النَّاسَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّشْرِيعِ وَالتَّنْزِيلِ قِسْمَانِ ابْتِدَاءً مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِثَبَاتِ إِيمَانِهِمْ وَتَأْيِيسِ الَّذِينَ أَرَادُوا إِلْقَاءَ الشَّكِّ عَلَيْهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِذَلِكَ الشَّكِّ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا إِمَّا خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا، وَإِمَّا مَا يَشْمَلُهُمْ وَيَشْمَلُ الْيَهُودَ بِنَاءً عَلَى مَا سَلَفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي جَانب الْمُؤمنِينَ بيعلمون تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْكَافِرِينَ إِنَّمَا قَالُوا مَا قَالُوا عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ أَصَابَ الْمَحَزَّ، كَيْفَ وَهَمَ أَهْلُ اللِّسَانِ وَفُرْسَانُ الْبَيَانِ، وَلَكِنْ شَأْنُ الْمُعَانِدِ الْمُكَابِرِ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْتَقِدُ حَسَدًا وَعِنَادًا. وَضَمِيرُ (أَنَّهُ) عَائِدٌ إِلَى الْمَثَلِ. وَ (الْحَقُّ) تَرْجِعُ مَعَانِيهِ إِلَى مُوَافَقَةِ الشَّيْءِ لِمَا يَحِقُّ أَنْ يَقَعَ وَهُوَ هُنَا الْمُوَافِقُ لِإِصَابَةِ الْكَلَامِ وَبَلَاغَتِهِ. وَ (مِنْ رَبِّهِمْ) حَالٌ مِنَ (الْحَقِّ) وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ وَارِدٌ مِنَ اللَّهِ لَا كَمَا زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ فَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْخَطَأُ. وَأَصْلُ (مَاذَا) كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَذَا اسْمِ الْإِشَارَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ أَصْلُهَا أَنْ يُسْأَلَ بِهَا عَنْ شَيْءٍ مُشَارٍ إِلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ مَاذَا مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ حَاضِرٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَا هَذَا. غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ اسْمَ اسْتِفْهَامٍ مُرَكَّبًا مِنْ كَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُعَبَّرًا عَنْهُ بِلَفْظٍ آخَرَ غَيْرِ الْإِشَارَةِ حَتَّى تَصِيرَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مَعَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظٍ آخَرَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، نَحْوَ مَاذَا التَّوَانِي، أَوْ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْإِشَارَةِ مَوْقِعٌ نَحْوَ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ [النِّسَاء: 39] وَلِذَلِكَ يَقُولُ النُّحَاةُ إِنَّ ذَا مُلْغَاةٌ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِيهَا تَوَسُّعًا أَقْوَى فيجعلون ذَا اسْم مَوْصُول وَذَلِكَ حِينَ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مَعْرُوفًا لِلْمُخَاطَبِ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَلِذَلِكَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ جُمْلَةً أَوْ نَحْوَهَا هِيَ صِلَةٌ وَيَجْعَلُونَ ذَا مَوْصُولًا نَحْوَ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [النَّحْل: 24] وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَصِحُّ إِعْرَابُهُ مُبْتَدَأً وَيَصِحُّ إِعْرَابُهُ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا إِذَا وَقَعَ بَعْدَهُ فِعْلٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ أَيْ جُعِلَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ

كِنَايَةً بِهِ عَنِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُنْكَرَ يُسْتَفْهَمُ عَنْ حُصُولِهِ فَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْإِنْكَارِ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يُجَابُ بِشَيْءٍ غَالِبًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الِاسْتِعْلَامُ. وَقَدْ يُلَاحَظُ فِيهِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ فَيُجَابُ بِجَوَابٍ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْكِنَائِيَّ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَإِ: 1، 2] . وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بِهذا مُفِيدَةٌ لِلتَّحْقِيرِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 36] . وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ (هَذَا) لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ فَحُقَّ لَهُ التَّمْيِيزُ وَهُوَ نَظِيرُ التَّمْيِيزِ لِلضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِمْ «رُبَّهُ رَجُلًا» . يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) . بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُصَدَّرَتَيْنِ بِأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمَعْكُوسِ لِأَنَّ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ السَّالِفَتَيْنِ إِجْمَالًا فَإِنَّ عِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ هُدًى، وَقَوْلَ الْكَافِرِينَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ الْخَ ضَلَالٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ جَوَابًا عَنِ اسْتِفْهَامِهِمْ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِهِمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ حِكْمَةِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِتِلْكَ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جَوَابًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي قَبْلَهُ مَكْنِيٌّ بِهِ عَنِ الْإِنْكَارِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا مِنْ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ جَمْعِ الْمَعْنَيَيْنِ الْكِنَائِيِّ وَالْأَصْلِيِّ. وَكَوْنُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُضَلَّلِ وَالْمَهْدِيِّ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ، لَا يُنَافِي نَحْوَ قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] لِأَنَّ قُوَّةَ الشُّكْرِ الَّتِي اقْتَضَاهَا صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ، أَخَصُّ فِي الِاهْتِدَاءِ.

وَالْفَاسِقُ لَفْظٌ مِنْ مَنْقُولَاتِ الشَّرِيعَةِ أَصْلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْفِسْقِ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَحَقِيقَةُ الْفِسْقِ خُرُوجُ الثَّمَرَةِ مِنْ قِشْرِهَا وَهُوَ عَاهَةٌ أَوْ رَدَاءَةٌ فِي الثَّمَرِ فَهُوَ خُرُوجٌ مَذْمُومٌ يُعَدُّ مِنَ الْأَدْوَاءِ مِثْلَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ: صِغَارُ النَّوَى مَكْنُوزَةٌ لَيْسَ قِشْرُهَا ... إِذَا طَارَ قِشْرُ التَّمْرِ عَنْهَا بِطَائِرِ قَالُوا وَلَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى نَقَلَهُ الْقُرْآنُ لِلْخُرُوجِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَازِمِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ، فَوَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُسلمين، قَالَ رُؤْيَة يَصِفُ إِبِلًا: فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا ... يَهْوَيْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرٍ غَائِرَا وَالْفِسْقُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ بَعْضُهَا إِلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ أُطْلِقَ الْفِسْقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَمِيعِهَا لَكِنَّ الَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ هُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ غَيْرُ الْكُفْرِ وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تُزِيلُ الْإِيمَانَ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ لَقَّبَ اللَّهُ الْيَهُودَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْفَاسِقِينَ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِجُمْهُورٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُرَاعًى فِيهِ أَنَّهُ الَّذِي مَكَّنَ الضَّالِّينَ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَمَا فَصَلَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَضِدِّهِ. وَفِي اخْتِيَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ لِفِعْلِ الضَّالِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ ضَلَالٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ حَتَّى صَارَ كَالْجِبِلَّةِ فِيهِمْ فَهُمْ مَأْيُوسٌ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَة: 7] . فَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى خَلْقِ أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْهُدَى وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ إِمَّا مُسُوقٌ لِبَيَانِ أَنَّ لِلْفِسْقِ تَأْثِيرًا فِي زِيَادَةِ الضَّلَالِ لِأَنَّ الْفِسْقَ يَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ظُلْمَةً فَتَتَسَاقَطُ فِي الضَّلَالِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى عَلَى التَّعَاقُبِ، حَتَّى يَصِيرَ لَهَا دُرْبَةً. وَهَذَا الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ التَّعْلِيق على الْوَصْف الْمُشْتَقِّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيَّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَؤُلَاءِ فَاسِقُونَ وَمَا مِنْ فَاسِقٍ إِلَّا وَهُوَ ضَالٌّ فَمَا ثَبَتَ الضَّلَالُ إِلَّا بِثُبُوتِ الْفِسْقِ عَلَى نَحْوِ طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الِاقْتِرَانِيِّ، وَإِمَّا مُسُوقٌ لِبَيَانِ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْفِسْقَ أَخَوَانِ فَحَيْثُمَا تَحَقَّقَ أَحَدُهُمَا أَنْبَأَ بِتَحَقُّقِ الْآخَرِ عَلَى نَحْوِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ إِذَا أُرِيدَ مِنَ الْفَاسِقِينَ الْمَعْنَى اللَّقَبِيُّ الْمَشْهُورُ فَلَا يَكُونُ لَهُ إِيذَانٌ بِتَعْلِيلٍ، وَإِمَّا لِبَيَانِ أَنَّ الْإِضْلَالَُُ

الْمُتَكَيَّفَ فِي إِنْكَارِ الْأَمْثَالِ إِضْلَالٌ مَعَ غَبَاوَةٍ فَلَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ عُرِفُوا بِهَذَا الْوَصْفِ. وَالْقَوْلُ فِي مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي الْفِسْقِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْإِيمَانِ لَيْسَ هَذَا مَقَامُ بَيَانِهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ. فَإِنْ كَانَ مَحْمَلُ الْفَاسِقِينَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ كَانَ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَخْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْصُلَ تَمْيِيزُ الْمُرَادِ مِنَ الْمُضَلَّلِ وَالْمُهْتَدِي، وَإِنْ كَانَ مَحْمَلُ الْفَاسِقِينَ عَلَى الْيَهُودِ كَانَ الْقَصْرُ حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا أَيْ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَهُمُ الطَّاعِنُونَ فِيهِ وَأَشَدُّهُمْ ضَلَالًا هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَبْعَدُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَشَأْنُهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَفَانِينَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَضَرْبَ الْأَمْثَالِ فَإِنْكَارُهُمْ إِيَّاهَا غَايَةُ الضَّلَالِ فَكَأَنَّهُ لَا ضَلَالَ سِوَاهُ. وَجُمْلَةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ إِلَى آخِره صفة للفاسقين لِتَقْرِيرِ اتِّصَافِهِمْ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ هَاتِهِ الْخِلَالَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَقْطُوعَةً مُسْتَأْنَفَةً عَلَى أَنَّ (الَّذِينَ) مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خَبَرٌ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى تَوْصِيفِ الْفَاسِقِينَ بِتِلْكَ الْخِلَالِ إِذِ الِاسْتِئْنَافُ لَمَّا وَرَدَ إِثْرَ حِكَايَةِ حَالٍ عَنِ الْفَاسِقِينَ تَعَيَّنَ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ أَنْ تَكُونَ هَاتِهِ الصِّلَةُ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لِلُزُومِ الِاتِّحَادِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ وَإِلَّا لَصَارَ الْكَلَامُ مُقَطَّعًا مَنْتُوفًا فَلَيْسَ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ إِلَّا اخْتِلَافُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَوَاحِدٌ فَلِذَلِكَ كَانَ إِعْرَابُهُ صِفَةً أَرْجَحَ أَوْ مُتَعَيِّنًا إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَطْعِ. وَمَجِيءُ الْمَوْصُولِ هُنَا لِلتَّعْرِيفِ بِالْمُرَادِ مِنَ الْفَاسِقِينَ أَيِ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذِهِ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَاسِقِينَ الْيَهُودُ وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْوَصْفُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَا بَلْ هُمْ قَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ كُتُبُ أَنْبِيَائِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُمْ قَدِ اعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ النَّقْضُ صِلَةً لِاشْتِهَارِهِمْ بِهَا، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ الطَّعْنَ فِي هَذَا الْمَثَلِ جَرَّهُمْ إِلَى زِيَادَةِ الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ فِي تَغْيِيرِ دِينِهِمْ وَفِي كُفْرِهِمْ بِعِيسَى، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَضَلَالُهُمْ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأَكْثَرُ الرَّدِّ فِي الْآيَاتِ الْمَدَنِيَّةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَالنَّقْضُ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي فَسْخِ وَحَلِّ مَا رُكِّبَ وَوُصِلَ، بِفِعْلٍ يُعَاكِسُ الْفِعْلَ الَّذِي كَانَ بِهِ التَّرْكِيبُ، وَإِنَّمَا زِدْتُ قَوْلِي بِفِعْلٍ إِلَخْ لِيَخْرُجَ الْقَطْعُ وَالْحَرْقُ فَيُقَالُ نَقَضَ الْحَبْلَ إِذَا حَلَّ مَا كَانَ أَبْرَمَهُ، وَنَقَضَ الْغَزْلَ وَنَقَضَ الْبِنَاءَ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ النَّقْضُ هُنَا مَجَازًا فِي إِبْطَالِ الْعَهْدِ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى (عَهْدِ اللَّهِ) وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْقُرْآنِ بُنِيَتْ عَلَى مَا شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَشْبِيهِ الْعَهْدِ وَكُلِّ مَا فِيهِ وَصْلٌ بِالْحَبْلِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ التيهَان الْأنْصَارِيّ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا وَنَحْنُ قَاطِعُوهَا فَنَخْشَى إِنْ أَعَزَّكَ اللَّهُ وَأَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ» (يُرِيدُ الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ) . وَكَانَ الشَّائِعُ فِي الْكَلَامِ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَطْعِ وَالصَّرْمِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا عَلَى إِبْطَالِ الْعَهْدِ أَيْضًا فِي كَلَامِهِمْ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي وَقَالَ لبيد: أَو لم تَكُنْ تَدْرِي نَوَارُ بِأَنَّنِي ... وَصَّالُ عَقْدِ حَبَائِلٍ جَذَّامُهَا وَقَالَ: بَلْ مَا تَذَكَّرَ مِنْ نَوَارَ وَقَدْ نَأَتْ ... وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَرِمَامُهَا وَقَالَ: فَاقْطَعْ لُبَانَةَ مَنْ تَعَرَّضَ وَصْلُهُ ... فَلَشَرُّ وَاصِلِ خُلَّةٍ صَرَّامُهَا وَوَجْهُ اخْتِيَارِ اسْتِعَارَةِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ حَلُّ طَيَّاتِ الْحَبْلِ إِلَى إِبْطَالِ الْعَهْدِ أَنَّهَا تَمْثِيلٌ لِإِبْطَالِ الْعَهْدِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا وَفِي أَزْمِنَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ وَمُعَالَجَةٍ. وَالنَّقْضُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِبْطَالِ مِنَ الْقطع والصرم وَنَحْو هما لِأَنَّ فِي النَّقْض إفسادا لهيأة الْحَبْلِ وَزَوَالَ رَجَاءِ عَوْدِهَا وَأَمَّا الْقَطْعُ فَهُوَ تَجْزِئَةٌ. وَفِي النَّقْضِ رَمْزٌ إِلَى اسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ لِأَنَّ النَّقْضَ مِنْ رَوَادِفِ الْحَبْلِ فَاجْتَمَعَ هُنَا اسْتِعَارَتَانِ مَكْنِيَّةٌ وَتَصْرِيحِيَّةٌ وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ تَمْثِيلِيَّةٌ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ مَا يُرْمَزُ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَطْرُوحِ فِي الْمَكْنِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى حَقِيقِيٍّ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْمُشَبَّهِ الْمَذْكُورِ فِي صُورَةِ الْمَكْنِيَّةِ رَدِيفٌ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِرَدِيفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَطْرُوحِ مِثْلُ إِثْبَاتُُِ

الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ أَظْفَارُ الْمَنِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْمَخَالِبِ وَالنَّابِ لِلْكُمَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي فِرَاسٍ الْحَمْدَانِيِّ: فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْهَيْجَاءُ كُنَّا ... أَشَدَّ مُخَالِبًا وَأَحَدَّ نَابَا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلشَّمَالِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفْتُ وَقِرَّةٍ ... إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ إِذَا كَانَ لِلْمُشَبَّهِ فِي الْمَكْنِيَّةِ رَدِيفٌ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِرَدِيفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُضْمَرِ نَحْوُ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ، وَقَدْ زِدْنَا أَنَّهَا تَمْثِيلِيَّةٌ أَيْضًا وَالْبَلِيغُ لَا يُفْلِتُ هَاتِهِ الِاسْتِعَارَةَ مَهْمَا تَأْتِ لَهُ وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا مَهْمَا عَسِرَتْ فَلَيْسَ الْجَوَازُ الْمَذْكُورُ فِي قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ إِلَّا جَوَازًا فِي الْجُمْلَةِ أَيْ بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا الَّذِي هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي صُورَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَدْ يَقْطَعُ عَنِ الرَّبْطِ بِالْمَكْنِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُسْتَقِلَّةً (وَذَلِكَ حَيْثُ لَا تَذْكُرُ مَعَهُ لَفَظًا يُرَادُ تَشْبِيهُهُ بِمُشَبَّهٍ بِهِ مُضْمَرٍ) نَحْوُ أَنْ تَقُولَ فُلَانٌ يَنْقُضُ مَا أَبْرَمَ. وَقَدْ يُرْبَطُ بِالْمَكْنِيَّةِ وَذَلِكَ حَيْثُ يُذْكَرُ مَعَهُ شَيْءٌ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِمُشَبَّهٍ بِهِ مُضْمَرٍ كَمَا فِي الْآيَةِ حَيْثُ ذُكِرَ النَّقْضُ مَعَ الْعَهْدِ. وَقَدْ يُرْبَطُ بِمُصَرَّحَةٍ وَذَلِكَ حَيْثُ يُذْكَرُ مَعَ لَفْظِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الَّذِي الرَّادِفُ مِنْ تَوَابِعِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: «إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا نَحْنُ قَاطِعُوهَا» وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ وَهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ مُتَدَاخِلَةٌ لَا مُتَضَادَّةٌ إِذْ قَدْ يَصِحُّ فِي الْمَوْضِعِ اعْتِبَارَانِ مِنْهَا أَوْ جَمِيعُهَا وَإِنَّمَا التَّقْسِيمُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْبَلِيغُ أَوَّلَ النَّظَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ رَدِيفَ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْمَكْنِيَّةِ إِذَا اعْتُبِرَ اسْتِعَارَةً فِي ذَاتِهِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ اعْتِبَارَهُ ذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ رَمْزًا لِلْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُضْمَرِ كَالنَّقْضِ فَإِنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ بِهِ إِبْطَالُ الْعَهْدِ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَوَادِفِ الْحَبْلِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ إِيذَانُهُ بِالْحَبْلِ سَابِقًا عِنْدَ سَمَاعِ لَفْظِهِ لِسَبْقِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ حَتَّى يَتَأَمَّلَ فِي الْقَرِينَةِ كَفَى ذَلِكَ السَّبْقُ دَلِيلًا وَرَمْزًا عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُضْمَرِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الرَّمْزُ لَمْ يَضُرَّ فَهْمُ الِاسْتِعَارَةِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَأَجَابَ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِأَنَّ كَوْنَهُ رَادِفًا بَعْدَ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمَّا شُبِّهَ بِهِ الرَّادِفُ وَسُمِّيَ بِهِ صَارَ رَادِفًا ادِّعَائِيًّا وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. وَ (عَهْدَ اللَّهِ) هُوَ مَا عَهِدَ بِهِ أَيْ مَا أَوْصَى بِرَعْيِهِ وَحِفَاظِهِ، وَمَعَانِي الْعَهْدِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ وَتَصْرِيفُهُ عُرْفِيٌّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «قَالَ بَعْضُهُمْ مَا أَدْرِي مَا الْعَهْدُ» وَمَرْجِعُ مَعَانِيهِ إِلَى الْمُعَاوَدَةُُِ

وَالْمُحَافَظَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالِافْتِقَادِ وَلَا أَدْرِي أَيَّ مَعَانِيهِ أَصْلٌ لِبَقِيَّتِهَا وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّهَا مُتَفَرِّعٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ أَصْلَهَا هُوَ الْعَهْدُ مَصْدَرُ عَهِدَهُ عَهْدًا إِذَا تَذَكَّرَهُ وَرَاجَعَ إِلَيْهِ نَفْسَهُ يَقُولُونَ عَهِدْتُكَ كَذَا أَيْ أَتَذَكَّرُ فِيكَ كَذَا وَعَهْدِي بِكَ كَذَا، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ أَيْ عَمَّا عَهِدَ وَتَرَكَ فِي الْبَيْتِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي عَهْدِ فُلَانٍ أَيْ زَمَانِهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِلزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ وَشَرٌّ لَا يَنْسَاهُ النَّاسُ، وَتَعَهَّدَ الْمَكَانَ أَوْ فُلَانًا وَتَعَاهَدَهُ إِذَا افْتَقَدَهُ وَأَحْدَثَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ بَعْدَ تَرْكِ الْعَهْدِ وَالْوَصِيَّةِ وَمِنْهُ وَلِيُّ الْعَهْدِ. وَالْعَهْدُ الْيَمِينُ وَالْعَهْدُ الِالْتِزَامُ بِشَيْءٍ، يُقَالُ عَهِدَ إِلَيْهِ وَتَعَهَّدَ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا يَتَذَكَّرُهَا وَيُرَاعِيهَا فِي مَوَاقِعِ الِاحْتِرَازِ عَنْ خَفْرِهَا. وَسُمِّيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَرَاجَعُهُ النَّاسُ بَعْدَ الْبُعْدِ عَنْهُ مَعْهَدًا. وَالْعَهْدُ فِي الْآيَةِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] الْآيَةَ، فَنَقْضُهُ يَشْمَلُ الشِّرْكَ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. [25] وَفُسِّرَ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا بُعِثَ بِعْدَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] الْآيَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى أُمَمِهِمْ. وَفُسِّرَ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أهل الْكتاب ليبننه لِلنَّاسِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 187] الْآيَةَ فِي تَفَاسِيرَ أُخْرَى بَعِيدَةٍ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ وَتَأْيِيدِ الرُّسُلِ وَأَنْ لَا يَسْفِكَ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِالدِّينِ كُلِّهِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمُ الْقُرْآنُ بِعُهُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَقْضِهِمْ إِيَّاهَا فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَة: 40] . وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً إِلَى قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [الْمَائِدَة: 12- 13] إِلَخْ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا [الْمَائِدَة: 70] إِلَى قَوْلِهِ: فَعَمُوا وَصَمُّوا [الْمَائِدَة: 70، 71] . وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 80- 84] إِلَى قَوْلِهِ: وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَة: 85] بَلْ إِنَّ كُتُبَهُمْ قَدْ صَرَّحَتْ بِعُهُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَأَنْحَتْ عَلَيْهِمْ نَقْضَهُمْ لَهَا وَجَعَلَتْ ذَلِكَ إِنْذَارًا بِمَا يَحُلُّ بِهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ كَمَا فِي كِتَابِ أَرْمِيَا وَمَرَاثِي أَرْمِيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ صَارَ لَفْظُ الْعَهْدِ عِنْدَهُمْ لَقَبًا لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ:

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الْآيَة وَصفا للفاسقين وَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَاسِقِينَ الْيَهُودَ كَمَا عَلِمْتَ كَانَ ذِكْرُ الْعَهْدِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْفَاسِقِينَ هُنَا هُمْ، وَتَسْجِيلًا عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ بِشَهَادَةِ كُتُبِهِمْ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ فَكَانَ لِاخْتِيَارِ لَفْظِ الْعَهْدِ هُنَا وَقْعٌ عَظِيمٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمِفْتَاحِ الَّذِي يُوضَعُ فِي حَلِّ اللُّغْزِ لِيُشِيرَ لِلْمَقْصُودِ فَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [الْبَقَرَة: 40] . وَالْمِيثَاقُ مِفْعَالٌ وَهُوَ يَكُونُ لِلْآلَةِ كَثِيرًا كَمِرْقَاةٍ وَمِرْآةٍ وَمِحْرَاثٍ، قَالَ الْخَفَاجِيُّ كَأَنَّهُ إِشْبَاعٌ لِلْمِفْعَلِ، وَلِلْمَصْدَرِ أَيْضًا نَحْوَ الْمِيلَادِ وَالْمِيعَادِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ هُنَا. وَالضَّمِيرُ لِلْعَهْدِ أَيْ مِنْ بَعْدِ تَوْكِيدِ الْعَهْدِ وَتَوْثِيقِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ عَهْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ كُلُّ مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ كَانَ تَوْكِيدُ كُلِّ مَا يَفْرِضُهُ الْمُخَاطَبُ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعُهُودِ وَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النَّحْل: 91] فَالْمِيثَاقُ إِذَنْ عَهْدٌ آخَرُ اعْتُبِرَ مُؤَكِّدًا لِعَهْدٍ سَبَقَهُ أَوْ لَحِقَهُ. وَقَوْلُهُ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قِيلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ هُوَ قُرَابَةُ الْأَرْحَامِ يَعْنِي وَحَيْثُ تَرَجَّحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْضُ عَمَلِ الْيَهُودِ فَذَلِكَ إِذْ تَقَاتَلُوا وَأَخْرَجُوا كَثِيرًا مِنْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَلَمْ تَزَلِ التَّوْرَاةُ تُوصِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقِيلَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ هُوَ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ اقْتِرَانُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ. وَقِيلَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضٍ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ يَعْنِي بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وَأَقُولُ تَكْمِيلًا لِهَذَا إِنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا شَرَعَ لِلنَّاسِ مُنْذُ النَّشْأَةِ إِلَى خَتْمِ الرِّسَالَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ إِبْلَاغُ الْبَشَرِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا وَحِفْظُ نِظَامِ عَالَمِهِمْ وَضَبْطُ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْتَوِرُهُ خَلَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى حسب مبلغ تهييء الْبَشَرِ لِتَلَقِّي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَلَّمَا اخْتَلَفَتِ الْأُصُولُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى: 13] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ فِي تَفَارِيعِ أُصُولِهَا اخْتِلَافًا مُرَاعًى فِيهِ مَبْلَغَ طَاقَةِ الْبَشَرِ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ لِيَكُونَ تَلَقِّيهِمْ لِذَلِكَ أَسْهَلَ، وَعَمَلُهُمْ بِهِ أَدْوَمَ، إِلَى أَنْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي وَقْتٍ رَاهَقَ فِيهِ الْبَشَرُ مَبْلَغَ غَايَةِ الْكَمَالِ الْعَقْلِيِّ وَجَاءَهُمْ دِينٌ تُنَاسِبُ أَحْكَامُهُ وَأُصُولُهُ اسْتِعْدَادَهُمُ الْفِكْرِيَّ وَإِنْ تَخَالَفَتِ الْأَعْصَارُ وَتَبَاعَدَتِ الْأَقْطَارُ فَكَانَ دِينًا عَامًّا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تمهيدا لَهُ لتهييء الْبَشَرَ لِقَبُولِ تَعَالِيمِهِ وَتَفَارِيعِهَا

الَّتِي هِيَ غَايَةُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] . فَمَا مِنْ شَرِيعَةٍ سَلَفَتْ إِلَّا وَهِيَ حَلْقَةٌ مِنْ سِلْسِلَةٍ جُعِلَتْ وَصْلَةً لِلْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ فَمَتَى بَلَغَهَا النَّاس فقد فصوا مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحِلَقِ وَبَلَغُوا الْمُرَادَ، وَمَتَى انْقَطَعُوا فِي أَثْنَاءِ بَعْضِ الْحِلَقِ فَقَدْ قَطَعُوا مَا أَرَادَ اللَّهُ وَصْلَهُ، فَالْيَهُودُ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَحِلُّ لَهُمُ الْعُدُولُ عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ قَدْ قَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَفَرَّقُوا مُجْتَمَعَهُ. وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الْبَقَرَة: 12] وَمِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ عُكُوفُ قَوْمٍ عَلَى دِينٍ قَدِ اضْمَحَلَّ وَقْتُ الْعَمَلِ بِهِ وَأَصْبَحَ غَيْرَ صَالِحٍ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنَ الْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ شَرِيعَةً مِنَ الشَّرَائِعِ خَاصَّةً وَقَابِلَةً لِلنَّسْخِ إِلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنْهَا إِصْلَاحَ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَشَرِ مُعَيَّنَةٍ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي عِلْمِهِ، وَمَا نَسَخَ دِينًا إِلَّا لِتَمَامِ وَقْتِ صُلُوحِيَّتِهِ لِلْعَمَلِ بِهِ فَالتَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ تَلَقِّي النَّاسِخِ وَعَلَى مُلَازَمَةِ الْمَنْسُوخِ هُوَ عَمَلٌ بِمَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْبَشَرِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ كَمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ بِدَوَاءٍ كَانَ وُصِفَ لَهُ فِي حَالَةٍ تَبَدَّلَتْ مِنْ أَحْوَالِ مَرَضِهِ حَتَّى أَتَى دِينُ الْإِسْلَامِ عَامًّا دَائِمًا لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلْكُلِّ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرُ قَلْبٍ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنْفُسَهُمْ رَابِحِينَ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] . وَذِكْرُ الْخُسْرَانِ تَخْيِيلٌ مُرَادٌ مِنْهُ الِاسْتِعَارَةُ فِي ذَاتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْيَهُودِ لِمَا عَلِمْتَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وَلِمَا عَلِمْتَ مِنْ كَثْرَةِ إِطْلَاقِ وَصْفِ الْفَاسِقِينَ عَلَى الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ قَدْ وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [25] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ فَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ لَا مَحَالَةَ فَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُنَاكِدُ جَعْلَ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْيَهُودِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ الْمُفَسِّرَ حَمْلُهُ أَيِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا يُوهِمُهُ صَنِيعُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَتَّى كَانَ آيُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ قَوَالِبَ تُفَرَّغُ فِيهَا مَعَانٍ مُتَّحِدَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِضِدِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ

[سورة البقرة (2) : آية 28]

وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ وَعِيدٌ وَتَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَيْضًا مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمَ سَامِعُوهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَارَكَ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ فِيمَا أَوْجَبَ ذَمَّهُمْ وَسَبَّبَ وَعِيدَهُمْ هُوَ آخِذٌ بِحَظٍّ مِمَّا نَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مِقْدَارِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمُوجب. [28] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) ثَنَى عِنَانَ الْخَطَّابِ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ آنِفًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: 21] ، بَعْدَ أَنْ عَقَّبَ بِأَفَانِينَ مِنَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي [الْبَقَرَة: 25] إِلَى قَوْله: الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَة: 27] . وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ تَنَاسَبٌ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: 26] وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا حَكَى عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِمْ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الْبَقَرَة: 26] حَتَّى يَكُونَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ الْتِفَاتًا، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ مَوْقِعِ هَاتِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا هِيَ مُنَاسَبَةُ اتِّحَادِ الْغَرَضِ، بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَا تَخَلَّلَ وَاعْتَرَضَ. وَمِنْ بَدِيعِ الْمُنَاسِبَةِ وَفَائِقِ التَّفَنُّنِ فِي ضُرُوبِ الِانْتِقَالَاتِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ أَنْ كَانَتِ الْعِلَلُ الَّتِي قُرِنَ بِهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: 21] إِلَخْ هِيَ الْعِلَلُ الَّتِي قُرِنَ بِهَا إِنْكَارُ ضِدِّ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ هُنَا: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَقَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: 21] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَة: 22] الْآيَةَ وَقَالَ هُنَا: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: 29] وَكَانَ ذَلِكَ مَبْدَأَ التَّخَلُّصِ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنْ بَيَانِ ابْتِدَاءِ إِنْشَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَتَكْوِينِهِ وَأَطْوَارِهِ. فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ مُتَعَيِّنٌ رُجُوعُهُ إِلَى (النَّاسِ) وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا أَنْكَرُوا الْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ. وَ (كَيْفَ) اسْمٌ لَا يُعْرَفُ اشْتِقَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْكَيْفِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى

كَيْفَ وَيَتَضَمَّنُ مَعْنَى السُّؤَالِ فِي أَكْثَرِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ فَلِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحَالَةِ كَانَ فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُ أَفَادَ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَسْمَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَعْنًى مُبْهَمًا شَابَهَ مَعْنَى الْحَرْفِ فَلَمَّا أَشْرَبُوهُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ قَوَّى شَبَهَهُ بِالْحُرُوفِ لَكِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ خَصَائِصِ الْأَسْمَاء فَلذَلِك لَا بُد لَهُ مِنْ مَحَلِّ إِعْرَابٍ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فَيُعْرَبُ إِعْرَابَ الْحَالِ. وَيُسْتَفْهَمُ بِكَيْفَ عَنِ الْحَالِ الْعَامَّةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إِلَخْ أَيْ أَنَّ كُفْرَكُمْ مَعَ تِلْكَ الْحَالَةِ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا لَا تَرْكَنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ الرَّشِيدَةُ لِوُجُودِ مَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَهُوَ الْأَحْوَالُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدُ فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْكَرَ فَالْإِنْكَارُ مُتَوَلَّدٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَلِذَلِكَ فَاسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا مِنْ إِرَادَةِ لَازِمِ اللَّفْظِ، وَكَأَنَّ الْمُنْكِرَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ مَعْذِرَةَ الْمُخَاطَبِ فَيُظْهِرُ لَهُ أَنَّهُ يَتَطَلَّبُ مِنْهُ الْجَوَابَ بِمَا يُظْهِرُ السَّبَبَ فَيَبْطُلُ الْإِنْكَارُ وَالْعَجَبُ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْدُ ذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِاللَّوْمِ وَالْوَعِيدِ. وَالْكُفْرُ بِضَمِّ الْكَافِ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ لِكَفَرَ الثُّلَاثِيِّ الْقَاصِرِ وَأَصْلُهُ جَحْدُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ، اشْتُقَّ مِنْ مَادَّةِ الْكَفْرِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ الْحَجْبُ وَالتَّغْطِيَةُ لِأَنَّ جَاحِدَ النِّعْمَةِ قَدْ أَخْفَى الِاعْتِرَافَ بِهَا كَمَا أَنَّ شَاكِرَهَا أَعْلَنَهَا. وَضِدُّهُ الشُّكْرُ وَلِذَلِكَ صِيغَ لَهُ مَصْدَرٌ عَلَى وِزَانِ الشُّكْرِ وَقَالُوا أَيْضًا كُفْرَانٌ عَلَى وَزْنِ شُكْرَانٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ الْكُفْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَشَدُّ صُوَرِ كُفْرِ النِّعْمَةِ إِذِ الَّذِي يَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ قَدْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ إِذْ تَوَجَّهَ بِالشُّكْرِ لِغَيْرِ الْمُنْعِمِ وَتَرَكَ الْمُنْعِمَ حِينَ عَزْمِهِ عَلَى التَّوَجُّهِ بِالشُّكْرِ وَلِأَنَّ عَزْمَ نَفْسِهِ عَلَى مُدَاوَمَةِ ذَلِكَ اسْتِمْرَارٌ فِي عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ، فَكَانَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِ الْكُفْرِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَلَمْ يَرِدِ الْكُفْرُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ فِي الْقُرْآنِ لِغَيْرِ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَقَلَّ وُرُودُ فِعْلِ الْكُفْرِ أَوْ وَصْفِ الْكَافِرِ فِي الْقُرْآنِ لِجَحْدِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ حَيْثُ تَكُونُ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: 105] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَة: 44] يُرِيدُ الْيَهُودَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ فِي السُّنَّةِ وَفِي كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يُخْرِجُ مُعْتَقِدَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَلَالَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ عَلَى

ارْتِكَابِ جَرِيمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ إِطْلَاقًا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ بِالتَّشْبِيهِ الْمُفِيدِ لِتَشْنِيعِ ارْتِكَابِ مَا هُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَلَكِنَّ بَعْضَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ يَتَشَبَّثُونَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ فَيَقْضُونَ بِالْكُفْرِ عَلَى مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ فِي إِطْلَاقَاتِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِرَقُ الْمُسْلِمِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَدْخُلُ فِي مَاهِيَّةِ الْكُفْرِ وَفِي أَنَّ إِثْبَاتَ بعض الصِّفَات الله تَعَالَى أَوْ نَفْيَ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَنْهُ تَعَالَى دَاخِلٌ فِي مَاهِيَّةِ الْكُفْرِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذَنْبٍ أَوْ ذُنُوبٍ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَدِ ارْتُكِبَتِ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ فَلَمْ يُعَامِلُوا الْمُجْرِمِينَ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الدِّينِ، وَالْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ الْعُصَاةِ خَطَرٌ عَلَى الدِّينِ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى انْحِلَالِ جَامِعَةِ الْإِسْلَامِ وَيُهَوِّنُ عَلَى الْمُذْنِبِ الِانْسِلَاخَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُنْشِدًا «أَنَا الْغَرِيقُ فَمَا خَوْفِي مِنَ الْبَلَلِ» . وَلَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ لِلَّهِ لَا تُنَافِي كَمَالَهُ وَلَا نَفَى صِفَةً عَنْهُ لَيْسَ فِي نَفْيِهَا نُقْصَانٌ لِجَلَالِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفِرَقِ نَفَوْا صِفَاتٍ مَا قَصَدُوا بِنَفْيِهَا إِلَّا إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا أَفْرَطُوا فِي ذَلِكَ كَمَا نَفَى الْمُعْتَزِلَةُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَجَوَازَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَرْقِ أَثْبَتُوا صِفَاتٍ مَا قَصَدُوا مِنْ إِثْبَاتِهَا إِلَّا احْتِرَامَ ظَوَاهِرِ كَلَامِهِ تَعَالَى كَمَا أَثْبَتَ بَعْضُ السَّلَفِ الْيَدَ وَالْإِصْبَعَ مَعَ جَزْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُ الْحَوَادِثَ. وَالْإِيمَانُ ذُكِرَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] . وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَهِيَ تَخْلُصُ إِلَى بَيَانِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (كَيْفَ) بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَبَيَانِ أُولَى الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهِيَ مَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ. وَلَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ أَنَّ هَذَا الْإِيجَادَ عَلَى حَالٍ بَدِيعٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ مُرَكَّبَ أَشْيَاءٍ مَوْصُوفًا بِالْمَوْتِ أَيْ لَا حَيَاةَ فِيهِ إِذْ كَانَ قَدْ أُخِذَ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْهَوَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَمَعَتْ فِي الْغِذَاءِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ثَانٍ مَيِّتٌ ثُمَّ اسْتُخْلِصَتْ مِنْهُ الْأَمْزِجَةُ مِنَ الدَّمِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، ثُمَّ اسْتُخْلِصَ مِنْهُ النُّطْفَتَانِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، ثُمَّ امْتَزَجَ فَصَارَ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً كُلُّ هَذِهِ أَطْوَارِ أَوَّلِيَّةٌ لِوُجُودِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ مَوْجُودَاتٌ مَيِّتَةٌ ثُمَّ بُثَّتْ فِيهِ الْحَيَاةُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فَأَخَذَ فِي الْحَيَاةِ إِلَى وَقْتِ الْوَضْعِ فَمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَكْتَفُوا بِهِ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ هُنَا مَجَازٌ شَائِعٌ بِنَاءً عَلَى

أَنَّ الْمَوْتَ هُوَ عَدَمُ اتِّصَافِ الْجِسْمِ بِالْحَيَاةِ سَوَاءً كَانَ مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ قَبْلُ كَمَا هُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي الْعُرْفِ أَمْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا إِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْحَيَوَانِ فِي أَوَّلِ تَكْوِينِهِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً مَيِّتٌ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا غَيْرَ مُتَّصِفِينَ بِالْحَيَاةِ إِطْلَاقًا شَائِعًا وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ التَّمْهِيدُ وَالتَّقْرِيبُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الْمَوْتُ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ بَعْدَ وُجُودِهَا وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالَةِ السَّابِقَةِ عَلَى حُلُولِ الْحَيَاةِ اسْتِعَارَةٌ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ قَدْ سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَزَالَ الِاخْتِلَافُ. وَالْحَيَاةُ ضِدُّ الْمَوْتِ، وَهِيَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجِسْمِ. وَقَدْ تَعَسَّرَ تَعْرِيفُ الْحَيَاةِ أَوْ تَعْرِيفُ دَوَامِهَا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا بِالْحَدِّ، وَأَوْضَحُ تَعَارِيفِهَا بِالرَّسْمِ أَنَّهَا قُوَّةٌ يَنْشَأُ عَنْهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ وَأَنَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَالْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَدُومُ الدَّوْرَةُ الدَّمَوِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِزَاجِ التَّرْكِيبُ الْخَاصُّ الْمُنَاسِبُ مُنَاسِبَةً تَلِيقُ بِنَوْعٍ مَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَذَلِكَ التَّرْكِيبُ يَحْصُلُ مِنْ تَعَادُلِ قُوًى وَأَجْزَاءٍ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالَةُ الشَّيْءِ الْمُرَكَّبِ مَعَ انْبِثَاثِ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، فَبِاعْتِدَالِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ يَكُونُ النَّوْعُ مُعْتَدِلًا وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ مِزَاجٌ يَخُصُّهُ بِزِيَادَةِ تَرْكِيبٍ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ مِنَ الصِّنْفِ مِزَاجٌ يَخُصُّهُ وَيَتَكَوَّنُ ذَلِكَ الْمِزَاجُ عَلَى النِّظَامِ الْخَاصِّ تَنْبَعِثُ الْحَيَاةُ فِي ذِي الْمِزَاجِ فِي إِبَّانِ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّكْوِينِ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» فَأَشَارَ إِلَى حَالَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْمِزَاجُ مِزَاجًا مُنَاسِبًا حَتَّى انْبَعَثَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، ثُمَّ بِدَوَامِ انْتِظَامِ ذَلِكَ الْمِزَاجِ تَدُومُ الْحَيَاةُ وَبِاخْتِلَالِهِ تَزُولُ الْحَيَاةُ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَسَادِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَالِ فِيهِ اخْتِلَالُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ وَهُوَ الدَّمُ إِذَا اخْتَلَتْ دَوْرَتُهُ فَعَرَضَ لَهُ فَسَادٌ، وَبِعُرُوضِ حَالَةِ تَوَقُّفِ عَمَلِ الْمِزَاجِ وَتَعَطُّلِ آثَارِهِ يَصِيرُ الْحَيُّ شَبِيهًا بِالْمَيِّتِ كَحَالَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَحَالَةِ الْعُضْوِ الْمَفْلُوجِ، فَإِذَا انْقَطَعَ

عَمَلُ الْمِزَاجِ فَذَلِكَ الْمَوْتُ. فَالْمَوْتُ عَدَمٌ وَالْحَيَاةُ مَلَكَةٌ وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [2] . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ الِامْتِنَانَ بل هُوَ اسْتِدْلَالٌ مَحْضٌ ذَكَرَ شَيْئًا يَعُدُّهُ النَّاسُ نِعْمَةً وَشَيْئًا لَا يَعُدُّونَهُ نِعْمَةً وَهُوَ الْمَوْتَتَانِ فَلَا يُشْكِلُ وُقُوعُ قَوْلِهِ: أَمْواتاً وَقَوْلِهِ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَذَلِكَ تَفْرِيعٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَلِيلٍ إِذِ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ فَهُوَ إِدْمَاجٌ وَتَعْلِيمٌ وَلَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ، أَوْ يَكُونُ مَا قَامَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ حَيَاةً ثَانِيَةً قَدْ قَامَ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ الْخَالِقِ الْعَدْلِ الْحَكِيمِ وَرَأَى النَّاسَ لَا يَجْرُونَ عَلَى مُقْتَضَى أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَيَرَى الْمُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي نِعْمَةٍ وَالصَّالِحَ فِي عَنَاءٍ عَلِمَ أَنَّ عَدْلَ اللَّهِ وَحِكْمَتَهُ مَا كَانَ لِيُضِيعَ عَمَلَ عَامل وَأَن هُنَا لَك حَيَاةً أَحْكَمُ وَأَعْدَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ تَكُونُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهَا عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ وَسُمُوِّ حَقَائِقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ يَكُونُ رُجُوعُكُمْ إِلَيْهِ، شِبْهُ الْحُضُورِ لِلْحِسَابِ بِرُجُوعِ السَّائِرِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَكَأَنَّهُمْ صَدَرُوا مِنْ حَضْرَتِهِ فَإِذَا أَحْيَاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُمْ أَرْجَعَهُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ. وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى عَامِلِهِ مُفِيدٌ الْقَصْرَ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ سِيقَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِإِفَادَتِهِمْ ذَلِكَ إِذْ كَانُوا مُنْكِرِينَ ذَلِكَ وَفِيهِ تَأْيِيسٌ لَهُمْ مِنْ نَفْعِ أَصْنَامِهِمْ إِيَّاهُمْ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاجُّونَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَعْثٌ وَحَشْرٌ فَسَيَجِدُونَ الْآلِهَةَ يَنْصُرُونَهُمْ. وتُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهُ يَعْقُوبَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَرْجَعَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الرُّجُوعِ مِنْهُمْ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الِاخْتِيَارِ أَوِ الْجَبْرِ

[سورة البقرة (2) : آية 29]

[29] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. هَذَا، إِمَّا اسْتِدْلَالٌ ثَانٍ عَلَى شَنَاعَةِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّهُ مِمَّا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ فَإِنَّ دَلَائِلَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ ظَاهِرَةٌ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَفِي خَلْقِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِكَثْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَفَصْلُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُرَاعَاةِ كَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ لِمَنْفَعَةِ الْبَشَرِ إِكْمَالًا لِإِيجَادِهِمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَة: 28] لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِيجَادِ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِإِمْدَادِ الْمَوْجُودِ بِمَا فِيهِ سَلَامَتُهُ مِنْ آلَامِ الْحَاجَةِ إِلَى مُقَوِّمَاتِ وَجُودِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْعَطْفِ لِدَفْعِ أَنْ يُوهِمَ الْعَطْفُ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَبِتَرْكِ الْعَطْفِ يُعْلَمُ أَنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وَفِي الْأَوَّلِ بُعْدٌ وَفِي الثَّانِي مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَوَهُّمٌ لَا يَضِيرُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ لِتَسْجِيلِ أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ كُفْرَانٌ بِالنِّعْمَةِ أُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَمَعَادِنَ اسْتِدْلَالًا بِمَا هُوَ نِعْمَةٌ مُشَاهَدَةٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ فَيَكُونُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ كَمَا قُرِّرَ آنِفًا، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ مُغَايَرَةٍ لِلْجُمْلَةِ الْأَوْلَى بِالِامْتِنَانِ لِأَنَّ مَا أُدْمِجَ فِيهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ رَجَّحَ اعْتِبَارَ الْفَصْلِ. وَالْخَلْقُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَة: 21] . وَالْأَرْضُ اسْمٌ لِلْعَالَمِ الْكُرَوِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الَّذِي يُعَمِّرُهُ الْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَالْمَعَادِنُ وَهِيَ الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ وَهَذِهِ الْأَرْضُ هِيَ مَوْجُودٌ كَائِنٌ هُوَ ظَرْفٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحَيْثُ إِنَّ الْعِبْرَةَ كَائِنَةٌ فِي مُشَاهَدَةِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ، عُلِّقَ الْخَلْقُ هُنَا بِمَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا يَحْتَوِيهِ ظَرْفُهَا مِنْ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِذَاتِ الْأَرْضِ لِغَفْلَةِ جُلِّ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِبَدِيعِ خَلْقِهَا إِلَّا أَنَّ خَالِقَ الْمَظْرُوفِ جَدِيرٌ بِخَلْقِ الظَّرْفِ إِذِ الظَّرْفُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْمَظْرُوفِ فَلَوْ كَانَ الظَّرْفُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ خَالِقِ الْمَظْرُوفِ لَلَزِمَ إِمَّا تَأَخُّرُ الظَّرْفِ عَنْ مَظْرُوفِهِ وَفِي ذَلِكَ إِتْلَافُ الْمَظْرُوفِ، وَالْمُشَاهَدَةُ تَنْفِي ذَلِكَ، وَإِمَّا تَقَدُّمُ الظَّرْفِ وَذَلِكَ عَبَثٌ. فَاسْتِفَادَةُ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ مَأْخُوذَةٌ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى فَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُجَوِّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يُرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَةُ السُّفْلِيَّةُ كَمَا يُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْجِهَةُ الْعُلْوِيَّةُ، وَبُعْدُهُ مِنُُْ

وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُطْلَقْ قَطُّ عَلَى غَيْرِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ إِلَّا مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ هُوَ وَلَا شَارِحُوهُ: النَّاسُ أَرْضٌ بِكُلِّ أَرْضٍ ... وَأَنْتِ مِنْ فَوْقِهِمْ سَمَاءْ بِخِلَافِ السَّمَاءِ أُطْلِقَتْ عَلَى كُلِّ مَا عَلَا فَأَظَلَّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ وَالسَّمَاءُ لَا يُتَعَقَّلُ إِلَّا بِكَوْنِهِ شَيْئًا مُرْتَفِعًا. الثَّانِي عَلَى تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ السَّمَاءَ لَمْ تُطْلَقْ عَلَى الْجِهَةِ الْعُلْيَا حَتَّى يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَرْضِ عَلَى الْجِهَةِ السُّفْلَى بَلْ إِنَّمَا تُطْلَقُ السَّمَاءُ عَلَى شَيْءٍ عَالٍ لَا عَلَى نَفْسِ الْجِهَةِ. وَجُمْلَةُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ صِيغَةُ قَصْرٍ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ سِيقَ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَكَّ عِنْدِهِمْ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ مَا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِذَلِكَ فَسِيقَ لَهُمُ الْخَبَرُ الْمَحْصُورُ لِأَنَّهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ عَنْ شُكْرِهِ وَالنَّظَرِ فِي دَعْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ كَحَالِ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: 73] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يُثْبِتُونَ لِأَصْنَامِهِمْ قُدْرَةً عَلَى الْخَلْقِ وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ وَعَبَدُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَنَسُوا الْخَلْقَ الْمُلْتَصِقَ بِهِمْ وَبِمَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا أَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْبَلَاغَةِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا وَمَا فِي دَاخِلِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَلَقَهُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِنَا بِهَا وَبِمَا فِيهَا فِي مُخْتَلَفِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَأَوْجَزَ الْكَلَامَ إِيجَازًا بَدِيعًا بِإِقْحَامِ قَوْلِهِ: لَكُمْ فَأَغْنَى عَنْ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ إِظْهَارِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِظْهَارِ عَظِيمِ الْمِنَّةِ عَلَى الْبَشَرِ وَإِظْهَارِ عَظِيمِ مَنْزِلَةِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ أُولَئِكَ يَقْتَضِي اقْتِلَاعَ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ كَانَ لِأَجْلِ النَّاسِ وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ وَبَيَانٌ لِثَمَرَتِهِ وَفَائِدَتِهِ فَتُثَارُ عَنْهُ مَسْأَلَةُ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَلُّقِهَا بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ اخْتِلَافًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَعَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَأَنَّ جَمِيعِهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَمٍ وَمَصَالِحَ وَأَنَّ تِلْكَ الْحِكَمَ هِيَ ثَمَرَاتٌ لِأَفْعَالِهِ تَعَالَى نَاشِئَةٌ عَنْ حُصُولِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِأَجَلُُُُِ

حُصُولِهَا عِنْدَ الْفِعْلِ تُثْمِرُ غَايَاتٍ، هَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا أَتُوصَفُ بِكَوْنِهَا أغراضا وعللا غائية أَمْ لَا؟ (¬1) فَأَثْبَتَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ اسْتِدْلَالًا بِمَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ فِيمَا عَزَاهُ إِلَيْهِمُ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ» مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ لِغَرَضٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيدًا مِنْ غَرَضِهِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِهِ، فَيَكُونُ مُسْتَفِيدًا مِنْ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْغَرَضِ سَبَبًا فِي فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ نَاقِصًا فِي فَاعِلِيَّتِهِ مُحْتَاجًا إِلَى حُصُولِ السَّبَبِ. وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ لُزُومَ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِكْمَالِ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ رَاجِعَةً إِلَى الْفَاعِلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ رَاجِعَةً لِلْغَيْرِ كَالْإِحْسَانِ فَلَا، فَرَدَّهُ الْفَخْرُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِحْسَانُ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَوْلَى لَزِمَتِ الِاسْتِفَادَةُ. وَهَذَا الرَّدُّ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَرْجَحِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِفَادَةَ أَبَدًا بَلْ إِنَّمَا تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الِاسْتِفَادَةُ لَوِ ادَّعَيْنَا التَّعَيُّنَ وَالْوُجُوبَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ سُفِسْطَائِيَّتَيْنِ أُولَاهُمَا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ لِغَرَضٍ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُسْتَكْمِلًا بِهِ وَهَذَا سَفْسَطَةٌ شُبِّهَ فِيهَا الْغَرَضُ النَّافِعُ لِلْفَاعِلِ بِالْغَرَضِ بِمَعْنَى الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ وَالرَّاجِعُ إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْكَمَالِ لَا تَوَقُّفَ كَمَالِهِ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ قَوْلُهُمْ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ لِغَرَضٍ كَانَ الْغَرَضُ سَبَبًا يَقْتَضِي عَجْزَ الْفَاعِلِ وَهَذَا شُبِّهَ فِيهِ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمَنْ عَدِمَهِ الْعَدَمُ وَكِلَاهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سَبَبٌ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَخْلُو عَنِ الثَّمَرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَيَمْنَعُونَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحِكَمُ عِلَلًا وَأَغْرَاضًا مَعَ أَنَّ ثَمَرَةَ فِعْلِ الْفَاعِلِ الْعَالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ غَرَضًا لِأَنَّهَا تَكُونُ دَاعِيًا لِلْفِعْلِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ عِلْمِ الْفَاعِلِ وَإِرَادَتِهِ. وَلَمْ أَدْرِ أَيَّ حَرَجٍ نَظَرُوا إِلَيْهِ حِينَ مَنَعُوا تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَغْرَاضِهَا. وَيَتَرَجَّحُ عِنْدِي أَنَّ هَاتِهِ الْمَسْأَلَةَ اقْتَضَاهَا طَرْدُ الْأُصُولِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْأَشَاعِرَةَ ¬

(¬1) اعْلَم أَن الْأَثر الْمُتَرَتب على الْفِعْل إِذا نظر إِلَيْهِ من حَيْثُ إِنَّه ثَمَرَة سمى فَائِدَة، وَإِذا نظر إِلَيْهِ من حَيْثُ إِنَّه يحصل عِنْد نِهَايَة الْفِعْل سمي غَايَة (لِأَن الْغَايَة هِيَ مبلغ سبق خيل الحلبة) فَإِذا كَانَ مَعَ ذَلِك دَاعيا الْفَاعِل إِلَى الْفِعْل سمي بذلك الِاعْتِبَار غَرضا وَسمي بِاعْتِبَار حُصُوله عِنْد نِهَايَة الْفِعْل عِلّة غائية (لِأَن الْغَرَض هُوَ هدف الرماية فَهُوَ كالغاية فِي السَّبق) .

لَمَّا أَنْكَرُوا وُجُوبَ فِعْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْمُعْتَزِلَةُ أَوْ قَدَّرُوا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يُورَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا لِغَرَضٍ وَحِكْمَةٍ وَلَا تَكُونُ الْأَغْرَاضُ إِلَّا الْمَصَالِحَ فَالْتَزَمُوا أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُنَاطُ بِالْأَغْرَاضِ وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بالعلل وينبىء عَنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ذَكَرُوا فِي أَدِلَّتِهِمُ الْإِحْسَانَ لِلْغَيْرِ وَرَعْيَ الْمَصْلَحَةِ. وَهُنَالِكَ سَبَبٌ آخَرُ لِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنْ وَصْفِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُوهِمُ الْمَنْفَعَةَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِأَفْعَالِهِ وَلِأَنَّ الْغَيْرَ قَدْ لَا يَكُونُ فِعْلُ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مَنْفَعَةً. هَذَا وَقَدْ نَقَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ جَمَعَ الْأَقْوَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ: «هَذَا هُوَ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ خِلَافٌ وَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَمُعَلَّلَةٌ» . الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَخَذُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ الْأَشْيَاءِ فِيمَا يُرَادُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لِأَجْلِنَا وَامْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا وَبِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَنُسِبَ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمُ الْكَرْخِيُّ وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي نَقْلِ ابْنِ عَرَفَةَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْوَقْفُ وَلَمْ يَرَوُا الْآيَةَ دَلِيلًا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِهِ» : «إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَتَصْرِيفِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى التَّقْدِيرِ وَالْإِتْقَانِ بِالْعِلْمِ» إِلَخْ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ قُصِدَ مِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُ خُلِقَ لِأَجْلِنَا إِلَّا أَنَّ خَلْقَهُ لِأَجْلِنَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ بَلْ خُلِقَ لَنَا فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى أَنَّ الِامْتِنَانَ يَصْدُقُ إِذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ النَّاسِ بَعْضٌ مِمَّا فِي الْعَالَمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لِلْمَجْمُوعِ لَا كُلُّ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ لَا سِيمَا وَقَدْ خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا قَوْمًا كَافِرِينَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ إِبَاحَةً أَوْ مَنْعًا، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ هُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِلْمُعْتَزِلَةِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي «شَرْحِ كِتَابِ الْأَشْبَاهِ» لِابْنِ نُجَيْمٍ نَقْلًا عَنِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي

حُكْمِ الْأَشْيَاءِ أَيَّامَ الْفَتْرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَيْ فِيمَا ارْتَكَبَهُ النَّاسُ مِنْ تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ وَنَحْوِهَا وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ وَأَنَّهُ لَا وَصْفَ لِلْأَشْيَاءِ يَتَرَتَّبُ مِنْ أَجْلِهِ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَاجُ الْعُلَمَاءُ إِلَى فَرْضِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَيْسَ لِأَفْعَالِهِمْ أَحْكَامٌ إِلَّا فِي وُجُوبِ التَّوْحِيدِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَأَمَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَقَدْ أَغْنَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ وُجِدَ فِعْلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ صَحِيحٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَصْلَ الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ وَالْمَنَافِعِ الْحِلُّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي «الْمَحْصُولِ» فَتَصِيرُ لِلْمَسْأَلَةِ ثَمَرَةٌ بِاعْتِبَارِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا وَهُوَ مِمَّا عِلْمُهُ ضَرُورِيٌّ لِلنَّاسِ، إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَيْضًا قَدْ يُغْفَلُ عَنِ النَّظَرِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ، وَذَلِكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِانْتِقَالُ اسْتِطْرَادًا لِإِكْمَالِ تَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَعَطَفَتْ (ثُمَّ) جُمْلَةَ (اسْتَوَى) عَلَى جُمْلَةِ خَلَقَ لَكُمْ. وَلِدَلَالَةِ (ثُمَّ) عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَتْ فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِلْمُهْلَةِ فِي الرُّتْبَةِ وَهِيَ مُهْلَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِثُمَّ أَعْرَقُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَتَضَمَّنُهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا حَتَّى كَأَنَّ الْعَقْلَ يَتَمَهَّلُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَيَنْتَبِهُ السَّامِعُ لِذَلِكَ كَيْ لَا يَغْفُلَ عَنْهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بالترتيب الرتبي وبترتب الْإِخْبَارِ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ [الْبَلَد: 11- 13] إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 17] فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَكُّ رَقَبَةٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ هَاتِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَعِزُّ إِيفَاؤُهَا حَقَّهَا مِمَّا يُغْفِلُ السَّامِعَ عَنْ أَمْرٍ آخَرَ عَظِيمٍ نُبِّهَ عَلَيْهِ بِالْعَطْفِ بِثُمَّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ آكَدُ وَأَهَمُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ: جَنُوحٌ دِفَاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفْرِعَتْ ... لَهَا كَتِفَاهَا فِي مُعَالًى مُصَعَّدِ (¬1) فَإِنَّهُُُ ¬

(¬1) جنوح بِمَعْنى تميل فِي سَيرهَا للْيَمِين واليسار لشدَّة قوتها. والدقاق- بِكَسْر الدَّال- المندفقة السّير بِمَعْنى السريعة. والعندل: عَظِيمَة الرَّأْس. وأفرعت بِمَعْنى أطيلت كتفاها. فِي معالي أَي فِي جسم. معالي أَي عَال مصعد.

لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَحَاسِنِهَا جُمْلَةً نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ آخَرَ أَهَمَّ فِي صِفَاتِ عُنُقِهَا وَهُوَ طُولُ قَامَتِهَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» فِي شَرْحِ قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ (¬1) : لَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حَرَّةَ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا إِنَّ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ فِي عَطْفِهِ الْمُفْرَدَ عَلَى الْمُفْرَدِ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهُ فِي عَطْفِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اهـ. وَإِفَادَةُ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي عَطْفِ ثُمَّ لِلْجُمَلِ سَوَاءٌ وَافَقَتِ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ مَعَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مَعْطُوفُهَا مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْدِيَّةِ مُرَادًا مِنْهُ الْبَعْدِيَّةُ فِي الرُّتْبَةِ وَإِنْ كَانَ عَكْسَ التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ فَتَكُونُ الْبَعْدِيَّةُ مَجَازِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى تَشْبِيهِ الْبَوْنِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْبُعْدِ الْمَكَانِيِّ أَوِ الزَّمَانِيِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَم: 11- 13] فَإِنَّ كَوْنَهُ عُتُلًّا وَزَنِيمًا أَسَبَقُ فِي الْوُجُودِ مِنْ كَوْنِهِ هَمَّازًا مَشَّاءً بِنَمِيمٍ لِأَنَّهُمَا صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ بِخِلَافِ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: 4] . فَإِذَا تَمَحَّضَتْ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ حُمِلَتْ عَلَيْهِ وَإِنِ احْتَمَلَتْهُ مَعَ التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ فَظَاهِرُ قَوْلِ الْمَرْزُوقِيِّ: «فَإِنَّهُ فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ» إِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ التَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ. وَلَكِنْ يَظْهَرُ جَوَازُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا مُتَأَخِّرًا فِي الْحُصُولِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك أهم كَمَا فِي بَيْتِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ. قُلْتُ وَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ مُرْسَلٌ أَوْ كِنَايَة، فَإِن أَلْقَت (ثُمَّ) وَأُرِيدَ مِنْهَا لَازِمُ التَّرَاخِي وَهُوَ الْبُعْدُ التَّعْظِيمِيُّ كَمَا أُرِيدَ التَّعْظِيمُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْبَعِيدِ، وَالْعَلَاقَةُ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلَّا أَنَّهَا لِشُهْرَتِهَا فِي كَلَامِهِمْ وَاسْتِعْمَالِهِمْ وَمَعَ الْقَرَائِنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَرْدُودًا. وَاعْلَمْ أَنِّي تَتَبَّعْتُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي مَوَاضِعِهِ فَرَأَيْتُهُ أَكْثَرَ مَا يَرِدُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجُمَلُ إِخْبَارًا عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فَإِنَّ (ثُمَّ) تَتَعَيَّنُ لِلْمُهْلَةِ الزَّمَنِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 84، 85] ¬

(¬1) يحْتَمل أَنه أَرَادَ بغمرات الْمَوْت مواقع الْقِتَال وملاحمه الَّتِي لَا يطْمع الدَّاخِل فِيهَا بالسلامة فَيكون قَوْله ثمَّ يزورها للمهلة الْحَقِيقِيَّة، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بالغمرات مَا يُصِيب الكمي من ثخين الْجراح وحلول سَكَرَات الْمَوْت فَيكون قَوْله ثمَّ يزورها للتَّرْتِيب الرتبي.

أَيْ بَعْدَ أَنْ أَخَذْنَا الْمِيثَاقَ بِأَزْمَانٍ صِرْتُمْ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَنَحْوَ قَوْلِكَ: مَرَّتْ كَتِيبَةُ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مَرَّتْ كَتِيبَةُ الْمُهَاجِرِينَ. فَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ مُتَأَخِّرًا خَلْقُهَا عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ فَثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا مَحَالَةَ مَعَ التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ وَإِنْ كَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ سَابِقًا فَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لَا غَيْرَ. وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي. وَقَدْ جَرَى اخْتِلَافٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي مُقْتَضَى الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَة [9- 11] : قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ إِنْ خَلْقَ السَّمَاءَ مُتَقَدِّمٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 27- 30] . وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ أَوَّلًا ثُمَّ خُلِقَتِ السَّمَاءُ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ فَالْمُتَأَخِّرُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاءِ هُوَ دَحْوُ الْأَرْضِ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ مِنْ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ ثُمَّ أَخَذَتْ تَبْرُدُ حَتَّى جَمَدَتْ وَتَكَوَّنَتْ مِنْهَا قِشْرَةٌ جَامِدَةٌ ثُمَّ تَشَقَّقَتْ وَتَفَجَّرَتْ وَهَبَطَتْ مِنْهَا أَقْسَامٌ وَعَلَتْ أَقْسَامٌ بِالضَّغْطِ إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ يُقَدِّرُونَ لِحُصُولِ ذَلِكَ أَزْمِنَةً مُتَنَاهِيَةَ الطُّولِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ صَالِحَةٌ لِإِحْدَاثِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ فِي أَمَدٍ قَلِيلٍ بِمُقَارَنَةِ حَوَادِثِ تَعَجُّلِ انْقِلَابِ الْمَخْلُوقَاتِ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ. وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ هُوَ أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ لِأَنَّ لَفْظَ بَعْدَ ذلِكَ أَظْهَرُ فِي إِفَادَةِ التَّأَخُّرِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَلِأَنَّ أَنْظَارَ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ تَرَى أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ انْفَصَلَتْ عَنِ الشَّمْسِ كَبَقِيَّةِ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ مِنَ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ. وَظَاهِرُ سِفْرِ التَّكْوِينِ يَقْتَضِي أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ مُتَقَدَّمٌ عَلَى الْأَرْضِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ سُلُوكَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أُسْلُوبَ الْإِجْمَالِ فِي هَذَا الْغَرَضِ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّتَيْنِ. وَالسَّمَاءُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْجَوُّ الْمُحِيطُ بِالْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ خَلْقِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْكَوَاكِبُ الْعُلْوِيَّةُ وَذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فَالْكَوَاكِبُ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ فَتَكُونُ أَسْبَقَ خَلْقًا وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ مُلَاحَظًا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْمُلَاحَظِ فِيهَا الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ.

وَالِاسْتِوَاءُ أَصْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ وَعَدَمُ الِاعْوِجَاجِ يُقَالُ صِرَاطٌ مُسْتَوٍ، وَاسْتَوَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَاسْتَوَى الشَّيْء مُطَاوع سَوَاء، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ بِعَزْمٍ وَسُرْعَةٍ كَأَنَّهُ يَسِيرُ إِلَيْهِ مُسْتَوِيًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ فَيُعَدَّى بِإِلَى فَتَكُونُ (إِلَى) قَرِينَةَ الْمَجَازِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ، فَمَعْنَى اسْتِوَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ تَعَلُّقُ إِرَادَتِهِ التَّنْجِيزِيِّ بِإِيجَادِهَا تَعَلُّقًا يُشْبِهُ الِاسْتِوَاءَ فِي التَّهَيُّؤِ لِلْعَمَلِ الْعَظِيمِ الْمُتْقَنِ. وَوَزْنُ اسْتَوَى افْتَعَلَ لِأَنَّ السِّينَ فِيهِ حَرْفٌ أَصْلِيٌّ وَهُوَ افْتِعَالٌ مَجَازِيٌّ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ خَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِيهَا لِيَكُونَ تَوْطِئَةً لِخَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهُوَ الَّذِي سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ. وَ (سَوَّاهُنَّ) أَيْ خَلَقَهُنَّ فِي اسْتِقَامَةٍ، وَاسْتِقَامَةُ الْخَلْقِ هِيَ انْتِظَامُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا ثَلْمَ. وَبَيْنَ اسْتَوَى وَسَوَّاهُنَّ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ. وَالسَّمَاءُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ وَاسْمُ السَّمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجِنْسِ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ إِذْ جَعَلَهَا سَبْعًا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ عَائِدٌ إِلَى (السَّمَاءِ) بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السَّمَاءِ هُنَا جِهَةُ الْعُلُوِّ، وَهُوَ وَإِنْ صَحَّ لَكِنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَه التفتازانيّ. وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا السَّمَاوَاتِ سَبْعًا وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا وَبِالْمُرَادِ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ الْعِلْمِيَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّمَاوَاتِ الْأَجْرَامُ الْعُلْوِيَّةُ الْعَظِيمَةُ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ الْمُنْتَظِمَةُ مَعَ الْأَرْضِ فِي النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاوَاتِ ذُكِرَتْ فِي غَالِبِ مَوَاضِعِ الْقُرْآنِ مَعَ ذِكْرِ الْأَرْضِ وَذُكِرَ خَلْقُهَا هُنَا مَعَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَوَالِمُ كَالْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَهَذَا ثَابِتٌ لِلسَّيَّارَاتِ. ثَانِيهَا: أَنَّهَا ذُكِرَتْ مَعَ الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُهَا تِلْكَ الْأَجْرَامَ الْمُشَاهَدَةَ لِلنَّاسِ الْمَعْرُوفَةَ لِلْأُمَمِ الدَّالَّ نِظَامُ سَيْرِهَا وَبَاهِرُ نُورِهَا عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا. ثَالِثُهَا: أَنَّهَا وْصِفَتْ بِالسَّبْعِ وَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ السَّيَّارَاتِ السَّبْعَ مِنْ عَهْدِ الْكِلْدَانِ وَتَعَاقَبَ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ إِلَى الْعَهْدِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا سَبْعٌ. رَابِعُهَا: أَنَّ هَاتِهِ السَّيَّارَاتِ هِيَ الْكَوَاكِبُ الْمُنْضَبِطُ سَيْرُهَا بِنِظَامٍ مُرْتَبِطٍ مَعَ نِظَامِ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ يُعَبِّرُ عَنْهَا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْمُتَأَخِّرُونَ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ

الَّتِي قُرِنَ خَلْقُهَا بِخَلْقِ الْأَرْضِ. وَبَعْضُهُمْ يُفَسِّرُ السَّمَاوَاتِ بِالْأَفْلَاكِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْأَفْلَاكَ هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تَسْلُكُهَا الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ فِي الْفَضَاءِ (¬1) ، وَهِيَ خُطُوطٌ فَرْضِيَّةٌ لَا ذَوَاتَ لَهَا فِي الْخَارِجِ. هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ سَبْعًا هُنَا وَفِي غَيْرِ آيَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مُحِيطَانِ بِالسَّمَاوَاتِ وَجَعَلَ السَّمَاوَاتِ كُلَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ مِنْ عَدِّ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ تِسْعَةً وَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي بُعْدِهَا مِنَ الْأَرْضِ: نِبْتُونْ، أُورَانُوسُ، زُحَلُ، الْمُشْتَرِي، الْمِرِّيخُ، الشَّمْسُ، الزُّهَرَةُ، عُطَارِدُ، بِلْكَانُ. وَالْأَرْضُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ كَوْكَبٌ سَيَّارٌ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ لَمْ تُعَدَّ مَعَهَا لِأَنَّهَا الَّتِي مِنْهَا تُنْظَرُ الْكَوَاكِبُ وَعُدَّ عِوَضًا عَنْهَا الْقَمَرُ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الأَرْض فعده مَعهَا عِوَضٌ عَنْ عَدِّ الْأَرْضِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِ السَّامِعِينَ. وَأَمَّا الثَّوَابِتُ فَهِيَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ شُمُوسٌ سَابِحَةٌ فِي شَاسِعِ الْأَبْعَادِ عَنِ الْأَرْضِ وَفِي ذَلِكَ شُكُوكٌ. وَلَعَلَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا سَمَاوَاتٍ ذَاتَ نِظَامٍ كَنِظَامِ السَّيَّارَاتِ السَّبْعِ فَلَمْ يَعُدَّهَا فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَدَّ لَنَا السَّمَاوَاتِ الَّتِي هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِنِظَامِ أَرْضِنَا. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ نَتِيجَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ عَلِيمٍ فَلِذَلِكَ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ، إِنَّ الْقُدْرَةَ يَجْرِي تَعَلُّقُهَا عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْإِنْكَارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْعَلِيمَ بِكُلِّ شَيْءٍ يُقَبِّحُ الْكُفْرَ بِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْمِلِّيِّينَ كَمَا نَقَلَهُ الْمُحَقِّقُ السَّلَكُوتِيُّ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» وَأَنْكَرَ الفلاسفة علمه بالجزئيات وَزَعَمُوا أَنَّ تعلق الْعلم بالجزئيات لَا يَلِيقُ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ تَوَهُّمٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. ¬

(¬1) إِن عُلَمَاء الْهَيْئَة يقسمون الأجرام العلوية أقساما: الأول الشموس وَهِي شمس عالمنا هَذَا وهنالك شموس أُخْرَى يعبر عَنْهَا بالثوابت وَهِي لبعدها الشاسع عَنَّا لم يَتَيَسَّر ضبط سَيرهَا ويعبر عَن كل شمس بِأَنَّهُ الجرم المركزي لِأَنَّهُ تتبعه سيارات تَدور حوله. الثَّانِي السيارات وَهِي الْكَوَاكِب الَّتِي تَدور حول الشَّمْس وتستمد نورها من نور الشَّمْس وَهِي: نبتون أورانوس. زحل. المُشْتَرِي. المريخ. الأَرْض. الزهرة. عُطَارِد. الثَّالِث: نجيمات وَهِي سيارات صَغِيرَة وَاقعَة بَين فلكي المريخ وَالْمُشْتَرِي. الرَّابِعَة: الأقمار وَهِي تَوَابِع للسيارات تَدور حول وَاحِد من السيارات وَهِي وَاحِد تَابع للْأَرْض وَأَرْبَعَة للْمُشْتَرِي وَثَمَانِية لزحل وَأَرْبَعَة لأورانوس وَوَاحِد لنبتون. ويعبر عَن هَذَا الْمَجْمُوع بالنظام الشمسي لِأَن جَمِيع حركاته مرتبطة بحركة الشَّمْس.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَاءَ «وَهُوَ» بِالضَّمِّ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَهَا قَالُونُ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالسُّكُونِ لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ دُخُولِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَالسُّكُونُ أَكْثَرُ مِنَ الضَّمِّ فِي كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مَعَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي هِيَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْكَلِمَةِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الْجُزْءِ مِنْهَا فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ ثَقِيلَةً بِدُخُولِ ذَلِكَ الْحَرْفِ فِيهَا فَخُفِّفَتْ بِالسُّكُونِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي حَرَكَةِ لَامِ الْأَمْرِ مَعَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْصَحَ لُغَاتِ الْعَرَبِ إِسْكَانُ الْهَاءِ مِنْ (هُوَ) إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفٌ، أَنَّكَ تَجِدُهُ فِي الشِّعْرِ فَلَا يَتَّزِنُ الْبَيْتُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ الْهَاءِ سَاكِنَةً وَلَا تَكَادُ تَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى أَنَّهُ ضَرُورَةٌ

[سورة البقرة (2) : آية 30]

[30] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. عَطَفَتِ الْوَاوُ قِصَّةَ خَلْقِ أَوَّلِ الْبَشَرِ عَلَى قِصَّةِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ انْتِقَالًا بِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَعَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَتَخَلُّصًا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْأَرْضِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَحْوَالِهَا، لِيَجْمَعَ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْأَدِلَّةِ وَبَين مُخْتَلف حوادث تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ وَأَصْلِهَا لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَا عَلِمَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانُوا يُبَاهُونَ بِهِ الْعَرَبَ وَهُوَ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ هُوَ أَنَّ خَلْقَ أَصْلِ النَّوْعِ أَمْرٌ مُدْرَكٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ إِذَا لَفَتَ ذِهْنَهُ إِلَى وُجُودِهِ عَلِمَ أَنَّهُ وُجُودٌ مَسْبُوقٌ بِوُجُودِ أَصْلٍ لَهُ بِمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَشْأَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ فَيُوقِنُ أَنَّ لِهَذَا النَّوْعِ أَصْلًا أَوَّلَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ نُشُوءُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أُدْمِجَتْ فِيهَا مِنَّةٌ وَهِيَ قَوْله: لَكُمْ [الْبَقَرَة: 29] الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِهِمْ تَهَيَّأَتْ أَنْفُسُهُمْ لِسَمَاعِ قِصَّةِ إِيجَادِ مَنْشَأِ النَّاسِ الَّذِينَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ لِأَجْلِهِمْ لِيُحَاطَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ مَعَ عَظِيمِ الْمِنَّةِ وَهِيَ مِنَّةُ الْخَلْقِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَمِنَّةُ التَّفْضِيلِ وَمِنَّةُ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ خَلْقُ أَصْلِنَا هُوَ أَبْدَعَ مَظَاهِرِ إِحْيَائِنَا الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَنَا، فَكَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِهِ وَاضِحَةً مَعَ حُسْنِ التَّخَلُّص إِلَى ذكر خَبَرَهُ الْعَجِيبَ، فَإِيرَادُ وَاوِ الْعَطْفِ هُنَا لِأَجْلِ إِظْهَارِ اسْتِقْلَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا فِي عِظَمِ شَأْنِهَا.

وَ (إِذْ) مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُبْهَمَةِ تَدُلُّ عَلَى زَمَانِ نِسْبَةٍ مَاضِيَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ نِسْبَةٌ أُخْرَى مَاضِيَةٌ قَارَنَتْهَا، فَ (إِذْ) تَحْتَاجُ إِلَى جُمْلَتَيْنِ جُمْلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَظْرُوفِ وَتِلْكَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ جَمِيعِ الظُّرُوفِ، وَجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ الظَّرْفَ مَا هُوَ، لِأَنَّ (إِذْ) لَمَّا كَانَتْ مُبْهَمَةً احْتَاجَتْ لِمَا يُبَيِّنُ زَمَانَهَا عَنْ بَقِيَّةِ الْأَزْمِنَةِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الْجُمَلِ أَبَدًا، وَالْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ إِذْ فِي مَحَلِّ ظَرْفٍ لِزَمَنِ الْفِعْلِ فَتَكُونُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ، وَقَدْ تَخْرُجُ (إِذْ) عَنِ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ إِلَى الْمَفْعُولِيَّةِ كَأَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مُخْتَارُ ابْنِ هِشَامٍ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْجُمْهُورِ، فَهِيَ تَصِيرُ ظَرْفًا مُبْهَمًا مُتَصَرِّفًا، وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهَا اسْمُ زَمَانٍ نَحْوَ يَوْمَئِذٍ وَسَاعَتَئِذٍ فَتُجَرُّ بِإِضَافَةٍ صُورِيَّةٍ لِيَكُونَ ذِكْرُهَا وَسِيلَةً إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ هِيَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ (إِذْ) مُلَازِمَةٌ لِلْإِضَافَةِ فَإِذَا حُذِفَتْ جُمْلَتُهَا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هُنَالِكَ حَذْفًا، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْذِفُوا جُمْلَةً مَعَ اسْمِ زَمَانٍ غَيْرِ (إِذْ) خَافُوا أَنْ لَا يَهْتَدِيَ السَّامِعُ لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ حَتَّى يَتَطَلَّبَ دَلِيلَهُ فَجَعَلُوا إِذْ قَرِينَةً عَلَى إِضَافَةٍ وَحَذَفُوا الْجُمْلَةَ لِيُنَبِّهُوا السَّامِعَ فَيَتَطَلَّبُ دَلِيلَ الْمَحْذُوفِ. وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا وَكَذَلِكَ أَعْرَبَهَا الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهَا مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: قالُوا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبْرَةِ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ لَهُمْ وَهُوَ مَبْدَأُ الْعِبْرَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَشْرِيفِ آدَمَ وَتَعْلِيمِهِ بَعْدَ الِامْتِنَانِ بِإِيجَادِ أَصْلِ نَوْعِ النَّاسِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْعِبْرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ [الْبَقَرَة: 28] الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الْبَقَرَة: 34] إِذْ وُجُودُ فَاءِ التَّعْقِيبِ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الظَّرْفِ مُتَعَلِّقًا بِمَدْخُولِهَا، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: قالُوا حِكَايَةٌ لِلْمُرَاجَعَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهِ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ. فَالَّذِي يَنْسَاقُ إِلَيْهِ أُسْلُوبُ النَّظْمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةِ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] أَيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ وَكَونه لأجلنا يهيىء السَّامِعَ لِتَرَقُّبِ ذِكْرِ شَأْنِنَا بَعْدَ ذِكْرِ شَأْنِ مَا خُلِقَ لِأَجْلِنَا مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ، وَتَكُونُ (إِذْ) عَلَى هَذَا مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ: فَإِذْ وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ

(هَكَذَا رَوَاهُ فَإِذْ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ زِحَافُ الطَّيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا فَلَا زِحَافَ، وَالْمَهَاهُ بِهَاءَيْنِ الْحُسْنُ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ شَأْنَ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحُرُوفِ لِأَنَّ إِذْ وَإِذا وَنَحْو هما عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْحُرُوفِ) ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا تُبْتَدَأُ بِهَا الْقِصَصُ الْعَجِيبَةُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّهَا ذُكِرَتْ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَلَمْ تُذْكَرْ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ (إِذْ) اسْمَ زَمَانٍ مَفْعُولًا بِهِ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ، وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْلِيقِ الذِّكْرِ وَالْقِصَّةِ بِالزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ مَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَتَخْصِيصُ اسْمِ الزَّمَانِ دُونَ اسْمِ الْمَكَانِ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إِسْنَادَ الْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ وَالْقِصَصِ إِلَى أَزْمَانِ وُقُوعِهَا. وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ أُطْلِقَ عَلَى مَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ إِرَادَتَهُ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَلَامٌ سَمِعُوهُ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِدُونِ وَسِيلَةٍ مُعْتَادَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَالٌّ آخَرُ عَلَى الْإِرَادَةِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ لِلْعُقَلَاءِ وَالْمَجَازُ فِيهِ أَقْوَى مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي فِي نَحْوِ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: «إِذْ قَالَتِ الْآطَالُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ» ، وَلَا طَائِلَ فِي الْبَحْثِ عَنْ تَعَيُّنِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ. وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ وَأَصْلُ صِيغَةِ الْجمع مَلَائِكَة وَالتَّاءُ لِتَأْكِيدِ الْجَمْعِيَّةِ لِمَا فِي التَّاءِ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْنِيثَ مَلَائِكَةٍ سَرَى إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَنَاتُ اللَّهِ وَاعْتَقَدَهُ الْعَرَبُ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: 57] فَمَلَائِكُ جَمْعُ مَلْأَكٍ كَشَمَائِلَ وَشَمْأَلٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ: وَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (¬1) ثُمَّ قَالُوا مَلَكٌ تَخْفِيفًا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ مَفْعَلٌ مِنْ لَأَكَ بِمَعْنَىُُ ¬

(¬1) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْبَيْت لشاعر جاهلي من عبد الْقَيْس يمدح بعض الْمُلُوك كَمَا فِي «الصِّحَاح» ، وَقيل: الممدوح النُّعْمَان، وَقَالَ ابْن السيرافي: الْبَيْت لأبي وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. قلت ذكر ابْن السيرافي فِي «شرح أَبْيَات صَلَاح الْمنطق» الْقَوْلَيْنِ وَلم يقْتَصر على مَا نسبه إِلَيْهِ «شَارِح الْقَامُوس» ، وأنشده الْكسَائي لعلقمة بن عَبدة يمدح الْحَارِث بن جبلة بن أبي شمر.

أَرْسَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ أَلِكْنِي أَلِيهِ أَيْ كُنْ رَسُولِي إِلَيْهِ وَأَصْلُ أَلِكْنِي أَلْإِكْنِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِعْلٌ. وَإِنَّمَا اشْتُقَّ اسْمُ الْمَلَكِ مِنَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إِمَّا بِتَبْلِيغٍ أَوْ تَكْوِينٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ (أَيْ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ مَقْلُوبٌ وَوَزْنُهُ الْآنَ مَعْفُلٌ وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ مِنَ الْأَلُوكِ وَالْأَلُوكَةُ وَهِيَ الرِّسَالَةُ وَيُقَالُ مَأْلَكٌ وَمَأْلَكَةٌ (بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا) فَقَلَبُوا فِيهِ قَلْبًا مَكَانِيًّا فَقَالُوا مَلْأَكٌ فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَلْكِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ) وَالْمَلْكُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيم: 6] وَالْهَمْزَةُ مَزِيدَةٌ فَوَزْنُهُ فَعْأَلٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَشَمْأَلٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ دَعْوَى زِيَادَةِ حَرْفٍ بِلَا فَائِدَةٍ دَعْوَى بَعِيدَةٌ، وَرُدَّ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ بِأَنَّ الْقَلْبَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَرُجِّحَ مَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ لَا اشْتِقَاقَ لِلْمَلَكِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُرِيدُ أَنَّهُمْ عَرَّبُوهُ مِنَ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ التَّوْرَاةَ سَمَّتِ الْمَلَكَ مَلَاكًا بِالتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ وُجُودُ كَلِمَةٍ مُتَقَارِبَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فِي لُغَتَيْنِ بِدَالٍّ عَلَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى إِلَّا بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَالْمَلَائِكَةُ مَخْلُوقَاتٌ نُورَانِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَنَّ النُّورَ قَابِلٌ لِلتَّشَكُّلِ فِي كَيْفِيَّاتٍ وَلِأَنَّ أَجْزَاءَهُ لَا تَتَزَاحَمُ وَنُورُهَا لَا شُعَاعَ لَهُ فَلِذَلِكَ لَا تُضِيءُ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَإِنَّمَا تَتَشَكَّلُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَظْهَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا قُوَّةَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَكْوِينَهَا فَتَتَوَلَّى التَّدْبِيرَ لَهَا وَلِهَذِهِ التَّوَجُّهَاتِ الْمَلَكِيَّةِ حَيْثِيَّاتٌ وَمَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ تَتَعَذَّرُ الْإِحَاطَةُ بِهَا وَهِيَ مُضَادَّةٌ لِتَوَجُّهَاتِ الشَّيَاطِينِ، فَالْخَوَاطِرُ الْخَيْرِيَّةُ مِنْ تَوَجُّهَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَعَلَاقَتِهَا بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَبِعَكْسِهَا خَوَاطِرُ الشَّرِّ. وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ أَوْ يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَالْعَلَامَةِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْخَلِيفَةِ هُنَا إِمَّا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عَمَلًا يُرِيدُهُ الْمُسْتَخْلَفُ مِثْلَ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ، أَيْ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ مُدَبِّرًا يَعْمَلُ مَا نُرِيدُهُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ حَالًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا عَامِلًا فِيهَا الْعَمَلَ الَّذِي أَوْدَعَهُ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ السَّلْطَنَةُ عَلَى مَوْجُودَاتِ الْأَرْضِ،

وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ عَمَلًا كَانَ يَعْمَلُهُ فَوَكَلَهُ إِلَى الْإِنْسَانِ بَلِ التَّدْبِيرُ الْأَعْظَمُ لَمْ يَزَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْوَحِيدُ الَّذِي اسْتَطَاعَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي خِلْقَتِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ بِوُجُوهٍ عَظِيمَةٍ لَا تَنْتَهِي خِلَافَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِذَا صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً مِنْ قَبْلُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمَّوْنَ الْحِنَّ وَالْبِنَّ- بِحَاءٍ مُهْمِلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الْأَوَّلِ، وَبِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الثَّانِي- وَقِيلَ اسْمُهُمُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ- بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا-، وَأَحْسَبُهُ مِنَ الْمَزَاعِمِ، وَأَنَّ وَضْعَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: هَيَّانُ بْنُ بَيَّانٍ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَلَعَلَّ هَذَا أَنْجَزُ لِأَهْلِ الْقَصَصِ مِنْ خُرَافَاتِ الْفُرْسِ أَوِ الْيُونَانِ فَإِنَّ الْفُرْسَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ جِنْسٌ اسْمُهُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ كَانَ الْيُونَانُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً بِمَخْلُوقَاتٍ تُدْعَى التِيتَانَ وَأَنَّ زُفَسَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي كَبِيرُ الْأَرْبَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَلَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ لِفَسَادِهِمْ. وَكُلُّ هَذَا يُنَافِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَإِنَّ تَعْقِيبَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ السَّمَاوَاتِ بِذِكْرِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى جَعْلَ الْخَلِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْخَلِيفَةِ كَانَ أَوَّلَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِهَا فَالْخَلِيفَةُ هُنَا الَّذِي يَخْلُفُ صَاحِبَ الشَّيْءِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَمْلُوكَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَن يكون المخلوف مُسْتَقِرًّا فِي الْمَكَانِ مِنْ قَبْلُ، فَالْخَلِيفَةُ آدَمُ وَخَلَفِيَّتُهُ قِيَامُهُ بِتَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالْوَحْيِ وَتَلْقِينِ ذُرِّيَّتِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمِمَّا يَشْمَلُهُ هَذَا التَّصَرُّفُ تَصَرُّفُ آدَمَ بِسَنِّ النِّظَامِ لِأَهْلِهِ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى حَسَبِ وَفْرَةِ عَدَدِهِمْ وَاتِّسَاعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِيمَاءً إِلَى حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى إِقَامَةِ خَلِيفَةٍ لِتَنْفِيذِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُنَازَعَاتِهِمْ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامٌ يَجْمَعُ الْبَشَرَ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَبَيَّنَ الشَّرَائِعَ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَتِ الرِّسَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَرُبَّمَا انْفَصَلَتَا بِحَسَبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَمَعَ الرِّسَالَةَ وَالْخِلَافَةَ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ غَايَةُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّرَائِعِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ وَلِأَنَّ امْتِزَاجَ الدِّينِ وَالْمُلْكِ هُوَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الْخُطَّتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاء: 64] وَلِهَذَا أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامَةِ الْخَلِيفَةِ لِحِفْظِ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْخَاصَّةِ وَلَا مِنَ الْعَامَّةِ إِلَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَدُعَاةِ الْفِتْنَةِ فَالْمُنَاظَرَةُ مَعَ أَمْثَالِهِمْ سُدًى.

وَلِلْخَلِيفَةِ شُرُوطٌ مَحَلُّ بَيَانِهَا كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَسَتَجِيءُ مُنَاسَبَتُهَا فِي آيَاتٍ آتِيَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ كَانَ عِنْدَ إِتْمَامِ خَلْقِ آدَمَ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَوْ قَبْلَ النَّفْخِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخْبَرِ عَنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً هُوَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ كَمَا يَقُولُ الَّذِي كَتَبَ كِتَابًا بِحَضْرَةِ جَلِيسٍ إِنِّي مُرْسِلٌ كِتَابًا إِلَى فُلَانٍ فَإِنَّ السَّامِعَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ كِتَابَتِهِ كِتَابٌ لِفُلَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: جاعِلٌ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ وَصْفَ الْخَلِيفَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِآدَمَ سَاعَتَئِذٍ. وَقَوْلُ اللَّهِ هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ لِيَسُوقَهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهَذَا الْجِنْسِ، وَلِيَكُونَ كَالِاسْتِشَارَةٍ لَهُمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ فَيَكُونُ تَعْلِيمًا فِي قَالَبِ تَكْرِيمٍ مِثْلَ إِلْقَاءِ الْمُعَلِّمِ فَائِدَةً لِلتِّلْمِيذِ فِي صُورَةِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ وَلِيَسُنَّ الِاسْتِشَارَةَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَنْبِيهِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا دَقَّ وَخَفِيَ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ آدَمَ كَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ. وَعِنْدِي أَنْ هَاتِهِ الِاسْتِشَارَةَ جُعِلَتْ لِتَكُونَ حَقِيقَةً مُقَارَنَةً فِي الْوُجُودِ لِخَلْقِ أَوَّلِ الْبَشَرِ حَتَّى تَكُونَ نَامُوسًا أُشْرِبَتْهُ نُفُوسُ ذُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ مُقَارَنَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَعَانِي لِتَكْوِينِ شَيْءٍ مَا، تُؤْثِرُ تَآلُفًا بَيْنَ ذَلِكَ الْكَائِنِ وَبَيْنَ الْمُقَارَنِ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاقْتِرَانَ يَقُومُ فِي الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا تَبَعًا لِذَوَاتِ مَقَامِ أَمْرِ التَّكْوِينِ فِي الذَّوَاتِ فَكَمَا أَنَّ أَمْرَهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَيْ إِنْشَاءَ ذَاتٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كَذَلِكَ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ اقْتِرَانَ مَعْنًى بِذَاتٍ أَوْ جِنْسٍ أَنْ يُقَدَّرَ حُصُولَ مَبْدَأِ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ تَكْوِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ عِنْدَ تَكْوِينِ الذَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْعِلْمِ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء عِنْد مَا خَلَقَهُ. وَهَذَا هُوَ وَجْهُ مَشْرُوعِيَّةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ لِيَكُونَ اقْتِرَانُ ابْتِدَائِهَا بِلَفْظِ اسْمِهِ تَعَالَى مُفِيضًا لِلْبَرَكَةِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا أَيْضًا طَلَبَتْ مِنَّا الشَّرِيعَةُ تَخَيُّرَ أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَأَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ لِلشُّرُوعِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمُهِمَّاتِ الْمُطَالِبِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشُّورَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَأُسْنِدَتْ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ لِأَنَّهُ قَول منبىء عَنْ تَدْبِيرٍ عَظِيمٍ فِي جَعْلِ الْخَلِيفَةِ فِي الْأَرْضِ، فَفِي ذَلِكَ الْجَعْلِ نِعْمَةُ تَدْبِيرٍ مَشُوبٍ بِلُطْفٍ وَصَلَاحٍ وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ النَّوْعِ أُضِيفَ وَصْفُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ أَشْرَفِ أَفْرَادِ النَّوْعِ وَهُوَ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَكْرِيمِهِ بِشَرَفِ حُضُورِ الْمُخَاطَبَةِ. قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. هَذَا جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَالتَّقْدِيرُ فَقَالُوا عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الْبَقَرَة: 34] وَفَصَلَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْفَاءِ أَوِ الْوَاوِ جَرْيًا بِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُتَّبَعَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قَالَ زُهَيْرٌ: قِيلَ لَهُمْ أَلَا ارْكَبُوا أَلَاتَا ... قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ آلَافَا أَيْ فَارْكَبُوا وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي أَمْثَالِهِ كَرَاهِيَةَ تَكْرِيرِ الْعَاطِفِ بِتَكْرِيرِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ فَإِنَّ الْمُحَاوَرَةَ تَقْتَضِي الْإِعَادَةَ فِي الْغَالِبِ فَطَرَدُوا الْبَابَ فَحَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ وَرُبَّمَا عَطَفُوا ذَلِكَ بِالْفَاءِ لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي مُخَالَفَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَصْلُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أُسْبَقْ إِلَى كَشْفِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ. وَمِمَّا عُطِفَ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [23، 24] وَقَدْ يُعْطَفُ بِالْوَاوِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [32، 33] وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حِكَايَةَ التَّحَاوُرِ بَلْ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَقْوَالٍ جَرَتْ أَوْ كَانَتِ الْأَقْوَالُ الْمَحْكِيَّةُ مِمَّا جَرَى فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: 25] إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [26] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [27] ثُمَّ قَالَ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [28] الْآيَةَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَلَيْسَ قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ جَوَابا لإذ عَامِلًا فِيهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ وَأَنْ تَصِيرَ جُمْلَةُ (إِذْ) تَابِعَةً لَهُ إِذِ الظَّرْفُ تَابِعٌ لِلْمَظْرُوفِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ الْمَحْكِيُّ عَنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْعَادِ مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْحِكْمَةُ بِذَلِكَ فَدَلَالَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى ذَلِكَ هُنَا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مَعَ تَطَلُّبِ مَا يُزِيلُ إِنْكَارَهُمْ وَاسْتِبْعَادَهُمْ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ بَقَاءُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّعَجُّبِ، وَالَّذِي أَقْدَمَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَرَادَ مِنْهُمْ إِظْهَارَ عِلْمِهِمْ تُجَاهَ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى الصِّدْقِ وَالنَّزَاهَةِ مِنْ كُلِّ مُؤَارَبَةٍ فَلَمَّا نَشَأَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ أَفْصَحَتْ عَنْهُ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى من أَحْوَالهم لَا سِيمَا إِذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِشَارَةِ أَنْ يُبْدِيَ الْمُسْتَشَارُ مَا يَرَاهُ نُصْحًا وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» يَعْنِي إِذَا تَكَلَّمَ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ أَمَانَةِ النَّصِيحَةِ. وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْكَلَامِ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ وَالتَّعَجُّبُ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الْفَسَادُ وَالسَّفْكُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْمِيرِ لِأَنَّهُ إِذَا عُمِّرَ نَقْضَ مَا عَمَّرَهُ. وَعَطْفُ سَفْكِ الدِّمَاءِ عَلَى الْإِفْسَادِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَتَكْرِيرُ ضَمِيرِ (الْأَرْضِ) لِلِاهْتِمَامِ بِهَا وَالتَّذْكِيرِ بِشَأْنِ عُمْرَانِهَا وَحِفْظِ نِظَامِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي التَّعَجُّبِ مِنِ اسْتِخْلَافِ آدَمَ وَفِي صَرْفِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي الِاسْتِشَارَةِ ائْتِمَارٌ. وَالْإِفْسَادُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الْبَقَرَة: 12] . وَالسَّفْكُ الْإِرَاقَةُ وَقَدْ غَلَبَ فِي كَلَامِهِمْ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الدِّمَاءِ وَأَمَّا إِرَاقَةُ غَيْرِ الدَّمِ فَهِيَ سَفْحٌ بِالْحَاءِ. وَفِي الْمَجِيءِ بِالصِّلَةِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً دَلَالَةٌ عَلَى تَوَقُّعِ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْإِفْسَادُ وَالسَّفْكُ مِنْ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا ظَنُّوا هَذَا الظَّنَّ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ مِنْ جِهَةِ مَا اسْتَشْعَرُوهُ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْمُسْتَخْلَفِ بِإِدْرَاكِهِمُ النُّورَانِيِّ لِهَيْئَةِ تَكْوِينِهِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالنُّطْقِيَّةِ إِمَّا بِوَصْفِ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الْخَلِيفَةَ أَوْ بِرُؤْيَتِهِمْ صُورَةَ تَرْكِيبِهِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَبَعْدَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَرْكِيبٌ يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْجِبِلَّةِ إِلَى الِاكْتِسَابِ وَعَنِ الِامْتِثَالِ إِلَى الْعِصْيَانِ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى شَاهِيَةٍ وَغَاضِبَةٍ وَعَاقِلَةٍ وَمِنْ مَجْمُوعِهَا وَمَجْمُوعِ بَعْضِهَا تَحْصُلُ تَرَاكِيبُ مِنَ التَّفْكِيرِ نَافِعَةٌ وَضَارَّةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي فِي الْجَوَارِحِ تَسْتَطِيعُ تَنْفِيذَ كُلِّ مَا يَخْطُرُ لِلْعَقْلِ وَقُوَاهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ثُمَّ إِنَّ النُّطْقَ يَسْتَطِيعُ إِظْهَارَ خِلَافِ الْوَاقِعِ وَتَرْوِيجَ الْبَاطِلِ، فَيَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَمِنْ أَحْوَالِهِ أَيْضًا صَلَاحٌ عَظِيمٌ وَإِنَّ طَبِيعَةَ اسْتِخْدَامِ ذِي الْقُوَّةِ لِقُوَاهُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي بِكُلِّ مَا تَصْلُحُ لَهُ هَذِهِ الْقُوَى خَيْرُهَا وَشَرُّهَا فَيَحْصُلُ فِعْلٌ مُخْتَلَطٌ مِنْ

صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَمُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الْمَلَائِكَةِ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ الْمُرَادِ جَعْلُهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ كَافٍ فِي إِحَاطَتِهِمْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا سَيَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ لِأَنَّ مَدَارِكَهُمْ غَايَةٌ فِي السُّمُوِّ لِسَلَامَتِهَا مِنْ كُدْرَاتِ الْمَادَّةِ، وَإِذَا كَانَ أَفْرَادُ الْبَشَرِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الشُّعُورِ بِالْخَفِيَّاتِ، وَفِي تَوَجُّهِ نُورَانِيَّةِ النُّفُوسِ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَفِي التَّوَسُّمِ وَالتَّفَرُّسِ فِي الذَّوَاتِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ جِبِلِّيَّةً وَاكْتِسَابِيَّةً وَلَدُنِّيَّةً الَّتِي أَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ الْبَحْتَةِ؟ وَفِي هَذَا مَا يُغْنِيكَ عَمَّا تَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ وَجْهِ اطِّلَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صِفَاتِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ بُدُوِّهَا مِنْهُ مِنْ تَوْقِيفٍ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَا فِي اللَّوْحِ أَيْ عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ وَانْقَرَضَتْ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى الْوُحُوشِ الْمُفْتَرِسَةِ إِذْ كَانَتْ قَدْ وُجِدَتْ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَبِهِ أَيْضًا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا عَلَى مَا يَتَوَقَّعُ هَذَا الْخَلْقُ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يُلَاحَظْ فِيهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ صُدُورِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ بِمَا يَصْلُحُونَ لَهُ بِالْقُوَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ هَذَا عَلَى بَنِي آدَمَ دُونَ آدَمَ حَيْثُ لَمْ يُفْسِدُ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَةً عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْبَيَانِ. وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ دُونَ الدَّوَامِ أَيْ مَنْ يَحْصُلُ مِنْهُ الْفَسَادُ تَارَةً وَسَفْكُ الدِّمَاءِ تَارَةً لِأَنَّ الْفَسَادَ وَالسَّفْكَ لَيْسَا بِمُسْتَمِرَّيْنِ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ صَلَاحُهَا وَانْتِظَامُ أَمْرِهَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِالتَّعَجُّبِ مَوْقِعٌ وَهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَوْ مِنْ مُقْتَضَى حَقِيقَةِ الْخِلَافَةِ أَوْ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِ الِاعْتِنَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا عَلَى نُظُمٍ تَقْتَضِي إِرَادَةَ بَقَائِهَا إِلَى أَمَدٍ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْعَالِمِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [مُحَمَّد: 22، 23] وَقَالَ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] . وَلَا يَرِدُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غِيبَةٌ وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَيْسَ عَالَمَ تَكْلِيفٍ وَلِأَنَّهُ لَا غِيبَةَ فِي مَشُورَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْخِطْبَةِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَوَقُّفِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا فِي الْمُسْتَشَارِ

فِي شَأْنِهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَرُجْحَانِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَفْسَدَةِ ذِكْرِ أَحَدٍ بِمَا يَكْرَهُ، وَلِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ إِذِ الْحَكُمُ عَلَى النَّوْعِ، فَانْتَفَى جَمِيعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْغِيبَةِ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي وَاقِعَةِ الْحَالِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْجِمْ عَنْهَا الْمَلَائِكَةُ. ونُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. الْوَاوُ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْحَالِيَّةِ إِذْ لَا مَوْقِعَ لِلْعَطْفِ هُنَا وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ مِقْوَلِهِمْ وَمَحْكِيًّا عَنْهُمْ لَكِنَّ الْوَاوَ مِنَ الْمَحْكِيِّ وَلَيْسَتْ مِنَ الْحِكَايَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّهَامَ عِلْمِهِمْ فِيمَا أَشَارُوا بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْتَشَارُ مَعَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَسَدُّ مِنْهُ رَأْيًا وَأَرْجَحُ عَقْلًا فَيُشِيرُ ثُمَّ يُفَوِّضُ كَمَا قَالَ أَهْلُ مَشُورَةِ بِلْقِيسَ إِذْ قَالَتْ: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ- أَيِ الرَّأْيُ أَنْ نُحَارِبَهُ وَنَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ قَوْلِهِ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31]- وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تأمرين [النَّمْل: 32، 33] ، وَكَمَا يَفْعَلُ التِّلْمِيذُ مَعَ الْأُسْتَاذِ فِي بَحْثِهِ مَعَهُ ثُمَّ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ مَبْلَغُ عِلْمِهِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْفَصْلَ لِلْأُسْتَاذِ، أَوْ هُوَ إِعْلَانٌ بِالتَّنْزِيهِ لِلْخَالِقِ عَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ مَانِعِ اسْتِخْلَافِ آدَمَ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ شَائِبَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَرَاءَتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِعْلَامِ الْغَيْرِ، أَوْ لِأَنَّ فِي نَفْسِ هَذَا التَّصْرِيحِ تَبَرُّكًا وَعِبَادَةً، أَوْ إِعْلَانٌ لِأَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَطف غير جَائِز لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْقَوْلِ إِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى مِنَ الْقَوْلِ فَالشَّأْنُ أَنْ لَا يُقْصَدَ الْعَطْفُ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلِ الْقَوْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمرَان: 173] عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ نِعْمَ الْوَكِيلُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَوْنَ صِحَّةَ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ صِحَّةَ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَعَكْسِهِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي حُسْنَ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَظٌّ لِلْعَطْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إِذَا حَكَوْا حَادِثًا مُلِمًّا أَوْ مُصَابًا جَمًّا أَعَقَبُوهُ بِنَحْوِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَوْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (¬1) وَلَا يَعْطِفُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فَكَانَتِ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لِلْإِشَارَةِ ¬

(¬1) مثل قَول الفرزدق: أتعدل أحسابا كراما حماتها ... بأحسابكم إنّي إِلَى الله رَاجع

إِلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُسْتَحْضَرٌ لَهُمْ فِي حَالِ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ وَلَيْسَ شَيْئًا خَطَرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَوَغَّلُوا فِي الِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِغْرَابِ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْإِسْمِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى الدَّوَامِ وَجُمْلَةُ مَنْ يُفْسِدُ فِيها دَلَّتْ عَلَى تَوَقُّعِ الْفَسَادِ وَالسَّفْكِ فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ اسْتِخْلَافَهُ يَقَعُ مِنْهُ صَلَاحٌ وَفَسَادٌ وَالَّذِينَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عِصْيَانُ مُرَادِ اللَّهِ هُمْ أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْفَسَادُ فَتَكُونُ حَالًا مُقَرِّرَةً لِمَدْلُولِ جُمْلَةِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ تَكْمِلَةً لِلِاسْتِغْرَابِ، وَعَامِلُهَا هُوَ تَجْعَلُ وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ تَمْثِيلُ «الْكَشَّافِ» . وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الِاسْتِفْهَامُ لِأَنَّهُ مِمَّا تَضَمَّنَ معنى الْفِعْل لَا سِيمَا إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعَجُّبَ أَيْضًا إِذْ تَقْدِيرُ أَتَجْعَلُ فِيها إِلَخْ نَتَعَجَّبُ مِنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً. وَالتَّسْبِيحُ قَوْلٌ أَوْ مَجْمُوعُ قَوْلٍ مَعَ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَسْبِيحًا، وَالصَّلَاةُ سُبْحَةً وَيُطْلَقُ التَّسْبِيحُ عَلَى قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنَ التَّنْزِيهِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّسْبِيحَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّبْحِ وَهُوَ الذَّهَابُ السَّرِيعُ فِي الْمَاءِ إِذْ قَدْ تُوُسِّعَ فِي مَعْنَاهُ إِذْ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى مَرِّ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] وَعَلَى جَرْيِ الْفَرَسِ قَالُوا فَلَعَلَّ التَّسْبِيحَ لُوحِظَ فِيهِ مَعْنَى سُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ سَبَّحَ بِمَعْنَى نَسَبَ لِلسَّبَحِ أَيِ الْبُعْدِ وَأُرِيدُ الْبُعْدُ الِاعْتِبَارِيُّ وَهُوَ الرِّفْعَةُ أَيِ التَّنْزِيهُ عَنْ أَحْوَالِ النَّقَائِصِ وَقِيلَ سُمِعَ سَبَحَ مُخَفَّفًا غَيْرَ مُضَاعَفٍ بِمَعْنَى نَزَّهَ، ذَكَرَهُ فِي «الْقَامُوسِ» . وَعِنْدِي أَنَّ كَوْنَ التَّسْبِيحِ مَأْخُوذًا مِنَ السَّبْحِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِعِيدٌ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلِمَةِ سُبْحَانَ وَلِهَذَا الْتَزَمُوا فِي هَذَا أَن يكون لوزن فَعَّلَ الْمُضَاعَفِ فَلَمْ يُسْمَعْ مُخَفَّفًا. وَإِذَا كَانَ التَّسْبِيحُ كَمَا قُلْنَا هُوَ قَوْلٌ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ فَتَعَلُّقُ قَوْلِهِ بِحَمْدِكَ بِهِ هُنَا وَفِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ فِي الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَمَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ نُسَبِّحُ تَسْبِيحًا مَصْحُوبًا بِالْحَمْدِ لَكَ وَبِذَلِكَ تَنْمَحِي جَمِيعُ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي فَسَّرُوا بِهَا هُنَا. وَالتَّقْدِيسُ التَّنْزِيهُ وَالتَّطْهِيرُ وَهُوَ إِمَّا بِالْفِعْلِ كَمَا أُطْلِقَ الْمُقَدَّسُ عَلَى الرَّاهِبِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ يَصِفُ تَعَلُّقَ الْكِلَابِ بِالثَّوْرِ الْوَحْشِيِّ:

فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنَّسَا ... كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ (¬1) وَإِمَّا بِالِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا» أَيْ لَا نَزَّهَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَرْجَاسِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَفِعْلُ قَدَّسَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَالْإِتْيَانُ بِاللَّامِ مَعَ مَفْعُولِهِ فِي الْآيَةِ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ حُصُولِ الْفِعْلِ نَحْوُ شَكَرْتُ لَكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَفِي الْحَدِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ الَّذِي وَجَدَ كَلْبَا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ «فَأَخَذَ خُفَّهُ فَأَدْلَاهُ فِي الرَّكِيَّةِ فَسَقَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ» أَيْ شَكَرَهُ مُبَالَغَةً فِي الشُّكْرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ ضَعْفُ ذَلِكَ الشُّكْرِ مِنْ أَنَّهُ عَنْ عَمَلِ حَسَنَةٍ مَعَ دَابَّةٍ فَدَفَعَ هَذَا الْإِيهَامَ بِالتَّأْكِيدِ بِاللَّامِ وَهَذَا مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ، فَلَا تَذْهَبْ مَعَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ: لَكَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حَامِدِينَ أَوْ هُوَ مُتَعَلق بنسبح وَاللَّامُ بِمَعْنَى لِأَجْلِكَ عَلَى مَعْنَى حَذْفِ مَفْعُولِ نُسَبِّحُ أَيْ نُسَبِّحُ أَنْفُسَنَا أَيْ نُنَزِّهُهَا عَنِ النَّقَائِصِ لِأَجْلِكَ أَيْ لِطَاعَتِكَ فَذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ لَامَ التَّبْيِينِ الَّتِي سَنَتَعَرَّضُ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: 152] . فَمَعْنَى وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ نَحْنُ نُعَظِّمُكَ وَنُنَزِّهُكَ وَالْأَوَّلُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالثَّانِي بِاعْتِقَادِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِلذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّكْرَارُ بَين (نُسَبِّح) و (نقدس) . وَأُوثِرَتِ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ لِإِفَادَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ أَيْ هُوَ وَصْفُهُمُ الْمُلَازِمُ لِجِبِلَّتِهِمْ، وَتَقْدِيمُ الْمُسْنِدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ دُونَ حَرْفِ النَّفْيِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ بِحَاصِلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ أَيْ نَحْنُ الدَّائِمُونَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ دُونَ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِمُجَرَّدِ التَّقْوَى نَحْوُ هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. جَوَابٌ لِكَلَامِهِمْ فَهُوَ جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَعْلَمُ مَا فِي الْبَشَرِ مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاحِ وَمِنْ صِفَاتِ الْفَسَادِ. وَأَعْلَمُ أَنَّ صَلَاحَهُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصِدُ مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ وَأَنَّ فَسَادَهُ لَا يَأْتِي عَلَى الْمَقْصِدِ بِالْإِبْطَالِ وَأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَصَالِحَ عَظِيمَةً وَمَظَاهِرَُُ ¬

(¬1) شبرق: مزق أَي يَأْخُذُونَ من ثَوْبه تبركا بِهِ. وَقيل أَرَادَ من الْمُقَدّس الَّذِي رَجَعَ من زِيَارَة بَيت الْمُقَدّس.

[سورة البقرة (2) : آية 31]

لِتَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِي الْمَرَاتِبِ وَاطِّلَاعًا عَلَى نُمُوذَجٍ مِنْ غَايَاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِمَا يُظْهِرُهُ الْبَشَرُ مِنْ مَبَالِغِ نَتَائِجِ الْعُقُولِ وَالْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ وَالْفَضَائِلِ وَالشَّرَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَيْفَ وَمِنْ أَبْدَعِ ذَلِكَ أَنَّ تَرَكُّبَ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ يَأْتِي بِصِفَاتِ الْفَضَائِلِ كَحُدُوثِ الشَّجَاعَةِ مِنْ بَيْنِ طَرَفَيِ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ. وَهَذَا إِجْمَالٌ فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَعُ مِمَّا عَلِمُوهُ فَهُمْ يُوقِنُونَ إِجْمَالًا أَنَّ لِذَلِكَ حِكْمَةً وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا حَاجَةَ هُنَا لِتَقْدِيرِ وَمَا تَعْلَمُونَ بَعْدَ مَا لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ سَامِعٍ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِكْرِهِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِذِكْرِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا شَذَّ عَنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا تَنْهِيَةً لِلْمُحَاوَرَةِ وَإِجْمَالًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّ سِعَةَ عِلْمِ اللَّهِ تُحِيطُ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُهُمْ وَأَنَّهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ آدَمَ خَلِيفَةً كَانَتْ إِرَادَتُهُ عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْخِلَافَةِ، وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِأَنَّ لِتَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي مُرَاجَعَتِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْحِكْمَةِ منزلَة المترددين. [31] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 31] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها. مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] عَطَفَ حِكَايَةَ الدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ عَلَى حِكَايَةِ الِاسْتِدْلَالِ الْإِجْمَالِيِّ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِظْهَارَ فَضِيلَتِهِ بِقَبُولِهِ لِهَذَا التَّعْلِيمِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ حُجَّةً عَلَى قَوْلِهِ لَهُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ جَدَارَةِ هَذَا الْمَخْلُوقِ بِالْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَعَطْفُ ذِكْرِ آدَمَ بَعْدَ ذِكْرِ مَقَالَةِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَذِكْرِ مُحَاوَرَتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَلِيفَةَ هُوَ آدَمُ وَأَنَّ آدَمَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْخَلِيفَةِ وَهَذَا الْأُسْلُوبُ من بديع الإجمالي وَالتَّفْصِيلِ وَالْإِيجَازِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: فَقُلْتُ لَهُمْ لَا أَعَرِفَنَّ عَقَائِلًا ... رَعَابِيبَ مِنْ جَنْبَيْ أَرِيكٍ وَعَاقِلِ الْأَبْيَاتِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ ... يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ سَالِفًا مِنَ الْعَقَائِلِ الَّتِي بَيْنَ أُرِيكِ وَعَاقِلٍ وَمِنَ الْأَنْعَامِ الْمُغْتَنَمَةِ هُوَ مَا يتَوَقَّع من عزو عَمْرِو بْنِ الْحَرْثِ الْغَسَّانِيِّ دِيَارَ بَنِي عَوْفٍ مِنْ قَوْمِهِ.

وَآدَمُ اسْمُ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ أَبِي الْبَشَرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَقِيلَ مَنْقُولٌ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ لِأَنَّ أَدَامَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْأَرْضَ وَهُوَ قَرِيبٌ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ تَكَلَّمَتْ عَلَى خَلْقِ آدَمَ وَأَطَالَتْ فِي أَحْوَالِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ أَبِي الْبَشَرِ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْيَهُود وَسَمَاع حكاياتهم، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْمُ عُرِفَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعِبْرَانِيِّينَ مَعًا مِنْ أَصْلِ اللُّغَاتِ السَّامِيَةِ فَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُهَا. وَقَدْ سُمِّيَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِهَذَا الِاسْمِ آدَمَ وَوَقَعَ فِي «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ» أَنَّ آدَمَ سَمَّى نَفْسَهُ إِيشَ (أَيْ ذَا مُقْتَنَى) وَتَرْجَمَتُهُ إِنْسَانٌ أَوْ قَرْءٌ. قُلْتُ وَلَعَلَّهُ تَحْرِيفُ (إِيثَ) كَمَا سَتَعْلَمُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَة: 35] . وَلِلْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ أَسْمَاءُ أُخَرُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ وَقَدْ سَمَّاهُ الْفُرْسُ الْقُدَمَاءُ «كَيُومِرْتَ» بِفَتْحِ الْكَافِ فِي أَوَّلِهِ وَبِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي آخِرِهِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا «كيامرتن» بِأَلف عوق الْوَاوِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَبَنُونٍ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، قَالُوا إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْجَنَّةِ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَّةٍ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ فَعَاشَ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ أُخْرَى، وَاسْمُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (آدَمُ) كَمَا سُمِّيَ فِي التَّوْرَاةِ وَانْتَقَلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى اللُّغَاتِ الْإِفْرَنْجِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ فَسَمَّوْهُ (آدَامَ) بِإِشْبَاعِ الدَّالِ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ صِيغَ كَذَلِكَ اعْتِبَاطًا وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَوَادِمَ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ كَمَا جُمِعَ خَاتَمُ وَهَذَا الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجَعَلَ مُحَاوَلَةَ اشْتِقَاقِهِ كَمُحَاوَلَةِ اشْتِقَاقِ يَعْقُوبَ مِنَ الْعَقِبِ وَإِبْلِيسَ مِنَ الْإِبْلَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَيْ هِيَ مُحَاوَلَةٌ ضَئِيلَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَصْلُهُ أَأْدَمُ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلُ مِنَ الْأُدْمَةِ وَهِيَ لَوْنُ السُّمْرَةِ فَقُلِبَتْ ثَانِيَةُ الْهَمْزَتَيْنِ مَدَّةً وَيُبْعِدُهُ الْجَمْعَ وَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ أَصْلَهُ أَأَادَمُ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْجَمْعِ وَاوًا لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ كَمَا أَجَابَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ. وَلَعَلَّ اشْتِقَاقَ اسْمِ لَوْنِ الْأُدْمَةِ مِنِ اسْمِ آدَمَ أَقْرَبُ مِنَ الْعَكْسِ. وَالْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى يَفْهَمُهُ ذِهْنُ السَّامِعِ فَيَخْتَصُّ بِالْأَلْفَاظِ سَوَاءً كَانَ مَدْلُولُهَا ذَاتًا وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، أَوْ صِفَةً أَوْ فِعْلًا فِيمَا طَرَأَ عَلَى الْبَشَرِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ فِي اسْتِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الِاسْمِ عُرْفًا إِذْ لَمْ يَقَعْ نَقْلٌ. فَمَا قِيلَ إِنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ سَوَاءٌ كَانَ لَفْظَهُ أَوْ صِفَتَهُ أَوْ فِعْلَهُ تَوَهُّمٌ فِي اللُّغَةِ. وَلَعَلَّهُمْ تَطَوَّحُوا بِهِ إِلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَذَلِكَ عَلَى تَسْلِيمِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَبْقَى مُسَاوِيًا لِأَصْلِ اشْتِقَاقِهِ. وَقَدْ قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّمُوِّ لِأَنَّهُ

لَمَّا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ فَقَدْ أَبْرَزَهَا. وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَسْمِ لِأَنَّهُ سِمَةٌ عَلَى الْمَدْلُولِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّمُوِّ وَأَنَّ وَزْنَهُ سِمْوٌ- بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْمِيمِ- لِأَنَّهُمْ جَمَعُوهُ عَلَى أَسْمَاءٍ وَلَوْلَا أَنَّ أَصْلَهُ سِمْوٌ لَمَا كَانَ وَجْهٌ لِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ فِي آخِرِهِ فَإِنَّهَا مُبْدَلَةٌ عَنِ الْوَاوِ فِي الطَّرَفِ إِثْرَ أَلْفٍ زَائِدَةٍ وَلَكَانُوا جَمَعُوهُ عَلَى أَوْسَامٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عُلِّمَهَا آدَمُ هِيَ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَى ذَوَاتِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا لِحَاجَتِهِ إِلَى نِدَائِهَا، أَوِ اسْتِحْضَارِهَا، أَوْ إِفَادَةِ حُصُولِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَهِيَ أَيِ الْإِفَادَةُ مَا نُسَمِّيهِ الْيَوْمَ بِالْأَخْبَارِ أَوِ التَّوْصِيفِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْمَاءِ ابْتِدَاءً أَسْمَاءُ الذَّوَاتِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلَ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَجَرِ وَالْكَوَاكِبِ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ نَظَرُ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً مِثْلَ اسْمِ جَنَّةٍ، وَمَلَكٍ، وَآدَمَ، وَحَوَّاءَ، وَإِبْلِيسَ، وَشَجَرَةٍ وَثَمَرَةٍ، وَنَجِدُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْأُولَى وَلِذَلِكَ نُرَجِّحُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا عُلِّمَهُ آدَمُ ابْتِدَاءً شَيْءٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي وَالْأَحْدَاثِ ثُمَّ طَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حُصُولِ حَدَثٍ أَوْ أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِذَاتٍ، قَرَنَ بَيْنَ اسْمِ الذَّاتِ وَاسْمِ الْحَدَثِ نَحْوُ مَاءِ بَرْدٍ أَيْ مَاءٍ بَارِدٍ ثُمَّ طَرَأَ وَضْعُ الْأَفْعَالِ وَالْأَوْصَافِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَاءُ بَارِدٌ أَوْ بَرَدَ الْمَاءُ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ أَصْلَ الِاشْتِقَاقِ هُوَ الْمُصَادَرُ لَا الْأَفْعَالُ لِأَنَّ الْمَصَادِرَ صِنْفٌ دَقِيقٌ مِنْ نَوْعِ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْأَسْمَاءِ) تَعْرِيفٌ الْجِنْسِ أُرِيدَ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ جَمِيعَ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْرُوفَةِ يَوْمَئِذٍ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ فَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عرفي مثل جممع الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ أَيْ صَاغَةَ أَرْضِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ الْمِقْدَارُ الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ الْفَضِيلَةُ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَا يَلِيقُ تَعْلِيمُهُ بِالْحِكْمَةِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ. وَتَعْرِيفُ الْأَسْمَاءِ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ كُلَّ اسْمٍ مَا هُوَ مُسَمَّاهُ وَمَدْلُولُهُ، وَالْإِتْيَانُ بِالْجَمْعِ هُنَا مُتَعَيَّنٌ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ وَعَلَّمَ آدَمَ الِاسْمَ، وَمَا شَاعَ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرِّرٍ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَسَنُحَقِّقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ [الْبَقَرَة: 177] فِي هَذَا السُّورَةِ. وكُلَّها تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْهُ الْعَهْدُ فَلَمْ تَزِدْ كَلِمَةُ كُلَّ الْعُمُومَ شُمُولًا وَلَكِنَّهَا دَفَعَتْ عَنْهُ الِاحْتِمَالَ. (وكل) اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ فِيمَا أُضِيفَ

هُوَ إِلَيْهِ وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ مَا قَبْلَهُ فَيُعْرَبُ تَوْكِيدًا تَابِعًا لِمَا قَبْلَهُ وَيَكُونُ أَيْضًا مُسْتَقِلًّا بِالْإِعْرَابِ إِذَا لَمْ يُقْصَدِ التَّوْكِيدُ بَلْ قُصِدَتِ الْإِحَاطَةُ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْإِضَافَةِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عوض عَنهُ التَّنْوِين وَلِكَوْنِهِ مُلَازِمًا لِلْإِضَافَةِ يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ. وَتَعْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْمَاءَ إِمَّا بِطَرِيقَةِ التَّلْقِينِ بِعَرْضِ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ فَإِذَا أَرَاهُ لُقِّنَ اسْمَهُ بِصَوْتٍ مَخْلُوقٍ يَسْمَعُهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى تِلْكَ الذَّاتِ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، أَوْ يَكُونُ التَّعْلِيمُ بِإِلْقَاءِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ فِي نَفْسِ آدَمَ بِحَيْثُ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ اسْم شَيْء عِنْد مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ فَيَضَعُ لَهُ اسْمًا بِأَنْ أَلْهَمَهُ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ لِلْأَشْيَاءِ لِيُمْكِنَهُ أَنْ يُفِيدَهَا غَيْرَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ خَلَقَ قُوَّةَ النُّطْقِ فِيهِ وَجَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى وَضْعِ اللُّغَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: 2، 3] وَجَمِيعُ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ إِذِ التَّعْلِيمُ مَصْدَرُ عَلَّمَهُ إِذَا جَعَلَهُ ذَا عِلْمٍ مِثْلُ أَدَّبَهُ فَلَا يَنْحَصِرُ فِي التَّلْقِينِ وَإِنْ تَبَادَرَ فِيهِ عُرْفًا. وَأَيًّا مَا كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّعْلِيمِ فَقَدْ كَانَ سَبَبًا لِتَفْضِيلِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ جِنْسِهِ بِقُوَّةِ النُّطْقِ وَإِحْدَاثِ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ. وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا سَبَبًا لِتَفَاضُلِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا يَنْشَأُ عَنِ النُّطْقِ مِنِ اسْتِفَادَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ وَهُوَ مَبْدَأُ الْعُلُومِ، فَالْإِنْسَانُ لَمَّا خُلِقَ نَاطِقًا مُعَبِّرًا عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ فَقَدْ خُلِقَ مُدْرِكًا أَيْ عَالِمًا وَقَدْ خُلِقَ مُعَلِّمًا، وَهَذَا أَصْلُ نَشْأَةِ الْعُلُومِ وَالْقَوَانِينِ وَتَفَارِيعِهَا لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَعَارِفِ كُلِّهَا وَجَدْتَهَا وَضْعَ أَسْمَاءٍ لِمُسَمَّيَاتٍ وَتَعْرِيفَ مَعَانِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَتَحْدِيدَهَا لِتَسْهِيلِ إِيصَالِ مَا يَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ إِلَى ذِهْنِ الْغَيْرِ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ حُرِمَهُ بَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَتَفَاضَلْ أَفْرَادُهُ إِلَّا تَفَاضُلَا ضَعِيفًا بِحُسْنِ الصُّورَةِ أَوْ قُوَّةِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قِلَّةِ الْعُجْمَةِ بَلْهَ بَقِيَّةَ الْأَجْنَاسِ كَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْمَاءَ حَاصِلَةٌ سَوَاءً كَانَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ أَسْمَاءَ الْمَوْجُودَاتِ يَوْمَئِذٍ أَوْ أَسْمَاءَ كُلِّ مَا سَيُوجَدُ، وَسَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا نُطْقُ الْبَشَرِ مُنْذُ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ أَمْ كَانَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ الَّتِي سَتَنْطِقُ بِهَا ذُرِّيَّاتُهُ مِنَ الْأُمَمِ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْأَسْمَاءُ أَسْمَاءَ الذَّوَاتِ فَقَطْ أَوْ أَسْمَاءَ الْمَعَانِي وَالصِّفَاتِ، وَسَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَعَانِي أَوْ كُلَّ دَالٍّ عَلَى شَيْءٍ لَفْظًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ إِذْ مُحَاوَلَةُ تَحْقِيقِ ذَلِكَ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ. وَلَعَلَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ هَانَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُ آدَمَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِمَعْرِفَةِ عَدَدٍ

مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فَرَامُوا تَعْظِيمَ هَذَا التَّعْلِيمِ بِتَوْسِيعِهِ وَغَفَلُوا عَنْ مَوْقِعِ الْعِبْرَةِ وَمِلَاكِ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ إِيجَادُ هَاتِهِ الْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ أَوَّلُهَا تَعْلِيمَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِظْهَارُ عَجْزِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ لَحَاقِ هَذَا الشَّأْوِ بِعَدَمِ تَعْلِيمِهِمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَزِيَّةُ وَالتَّفَاضُلُ فِي تَعْلِيمِ آدَمَ جَمِيعَ مَا سَيَكُونُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فِي اللُّغَاتِ لَكَفَى فِي إِظْهَارِ عَجْزِ الْمَلَائِكَةِ عَدَمُ تَعْلِيمِهِمْ لِجَمْهَرَةِ الْأَسْمَاءِ وَإِنَّمَا عَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ الْمَوْجُودَاتِ يَوْمَئِذٍ كُلِّهَا لِيَكُونَ إِنْبَاؤُهُ الْمَلَائِكَةَ بِهَا أَبْهَرَ لَهُمْ فِي فَضِيلَتِهِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ- أَيْ لَقَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى الْبَشَرَ عَلَى لِسَانِ آدَمَ- وَلَا عَلَى عَدَمِهِ لِأَنَّ طَرِيقَةَ التَّعْلِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ مُجْمَلَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِكَيْفِيَّاتٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا إِلْهَامٌ مِنَ اللَّهِ وَذَلِكَ تَعْلِيمٌ مِنْهُ سَوَاءٌ لَقَّنَ آدَمَ لُغَةً وَاحِدَةً أَوْ جَمِيعَ لُغَاتِ الْبَشَرِ وَأَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ أَلْهَمَهُ ذَلِكَ أَوْ خَلَقَ لَهُ الْقُوَّةَ النَّاطِقَةَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ وَلَا أَثَرَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ لَا فِي الْفِقْهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ قَالَ الْمَازِرِيُّ «إِلَّا فِي جَوَازِ قَلْبِ اللُّغَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ قَلْبَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ حَرَامٌ وَغَيْرُهُ جَائِزٌ» وَلَقَدْ أَصَابَ الْمَازِرِيُّ وَأَخْطَأَ كُلُّ مَنْ رَامَ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْخِلَافِ ثَمَرَةً غَيْرَ مَا ذُكِرَ، وَفِي اسْتِقْرَاءِ ذَلِكَ وَرَدِّهِ طُولٌ، وَأَمْرُهُ لَا يَخْفَى عَنْ سَالِمِي الْعُقُولِ. ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قيل عطفه بثم لِأَنَّ بَيْنَ ابْتِدَاءِ التَّعْلِيمِ وَبَيْنَ الْعَرْضِ مُهْلَةً وَهِيَ مُدَّةُ تَلْقِينِ الْأَسْمَاءِ لِآدَمَ أَوْ مُدَّةُ إِلْهَامِهِ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (ثُمَّ) هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ لِأَنَّ رُتْبَةَ هَذَا الْعَرْضِ وَظُهُورَ عَدَمِ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ وَظُهُورَ عِلْمِ آدَمَ وَظُهُورَ أَثَرِ عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ أَرْفَعُ رُتْبَةً فِي إِظْهَارِ مَزِيَّةِ آدَمَ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْخِلَافَةَ، مِنْ رُتْبَةِ مُجَرَّدِ تَعَلُّمِهِ الْأَسْمَاءَ لَوْ بَقِيَ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِهِ مَا حَدَثَ مِنَ الْحَادِثَةِ كُلِّهَا. وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُ لَفْظِ (اسْمٍ) مِنَ الْمَفْهُومَاتِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُهَا عَلَى تَعَقُّلِ غَيْرِهَا إِذِ الِاسْمُ لَا يكون إِلَّا لمسمى كَانَ

ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ مُشْعِرًا لَا مَحَالَةَ بِالْمُسَمَّيَاتِ فَجَازَ لِلْبَلِيغِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ وَيَحْذِفَ لَفْظَ الْمُسَمَّيَاتِ إِيجَازًا. وَضَمِيرُ عَرَضَهُمْ لِلْمُسَمَّيَاتِ لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْرَضُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، فَإِنَّ الِاسْمَ يَقْتَضِي مُسَمًّى وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَلَا تُعْرَضُ لِأَنَّ الْعَرْضَ إِظْهَارُ الذَّاتِ بَعْدَ خَفَائِهَا وَمِنْهُ عَرْضُ الشَّيْءِ لِلْبَيْعِ وَيَوْمُ الْعَرْضِ وَالْأَلْفَاظُ لَا تَظْهَرُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْرُوضَ مَدْلُولَاتُ الْأَسْمَاءِ إِمَّا بِأَنْ تُعْرَضَ صُوَرٌ مِنَ الذَّوَاتِ فَقَطْ وَيُسْأَلُ عَنْ مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهَا أَيْ مَعْرِفَةِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، أَوْ عَنْ بَيَانِ مَوَاهِيِّهَا وَخَصَائِصِهَا وَإِمَّا بِأَنْ تُعْرَضَ الذَّوَاتُ وَالْمَعَانِي بِخَلْقِ أَشْكَالٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمَعَانِي كَعَرْضِ الشَّجَاعَةِ فِي صُورَةِ فِعْلِ صَاحِبِهَا وَالْعِلْمِ فِي صُورَةِ إِفَاضَةِ الْعَالِمِ فِي دَرْسِهِ أَوْ تَحْرِيرِهِ كَمَا نَرَى فِي الصُّوَرِ الْمَنْحُوتَةِ أَوِ الْمَدْهُونَةِ لِلْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عِنْدَ الْيُونَانَ وَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ، بِحَيْثُ يَجِدُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْمَعْرُوضَ مَعْنَى شَجَاعَةٍ أَوْ مَعْنَى عِلْمٍ وَيَقْرُبُ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْمَرَائِي الْحُلْمِيَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ حَالَةُ عَالَمٍ أَوْسَعَ مِنْ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَادَّةِ. وَإِعَادَةُ ضَمِيرِ الْمُذَكِّرِ الْعَاقِلِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ فِي قَوْلِهِ: عَرَضَهُمْ لِلتَّغْلِيبِ لِأَنَّ أَشْرَفَ الْمَعْرُوضَاتِ ذَوَاتُ الْعُقَلَاءِ وَصِفَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ وُرُودَ مِثْلِهِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي أَصْلُهَا لِلْعُقَلَاءِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: 36] . وَالدَّاعِي إِلَى هَذَا أَنْ يُعْلَمَ ابْتِدَاءً أَنَّ الْمَعْرُوضَ غَيْرُ الْأَسْمَاءِ حَتَّى لَا يَضِلَّ فَهْمُ السَّامِعِ قَبْلَ سَمَاعِ قَرِينَةِ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ أَنْبِئُونِي تَفْرِيعٌ عَلَى الْعَرْضِ وَقُرِنَ بِالْفَاءِ لِذَلِكَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي أَمر نعجيز بِقَرِينَةِ كَوْنِ الْمَأْمُورِ يَعْلَمُ أَنَّ الْآمِرَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي التَّعْجِيزِ مَجَازٌ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْآمِرِ بِعَجْزِ الْمَأْمُورِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْآمِرِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْإِنْبَاءُ الْإِخْبَارُ بِالنَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَهَمِّيَّةِ بِحَيْثُ يَحْرِصُ السَّامِعُونَ عَلَى اكْتِسَابِهِ، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَ الْإِنْبَاءُ مَعْنَى الْإِعْلَامِ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ يُعَدُّ مِمَّا يُعْلَمُ وَيُعْتَقَدُ بِوَجْهٍ أَخَصَّ مِنِ اعْتِقَادِ مُطْلَقِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِمَّا أَرَادَ بِهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّكُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْمَخْلُوقِ إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ إِلَخْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِذَلِكَ، أَوْ أَرَادَ إِنْ كُنْتُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 32]

صَادِقِينَ فِي عَدَمِ جَدَارَةِ آدَمَ بِالْخِلَافَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] كَانَ قَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [الْبَقَرَة: 30] لِمُجَرَّدِ التَّفْوِيضِ أَوِ الْإِعْلَانِ لِلسَّامِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْ شَائِبَةِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ. وَوَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الْإِنْبَاءِ بِالْأَسْمَاءِ وَبَيْنَ صِدْقِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ الَّتِي اقْتَضَاهَا رَبْطُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَسْمَاءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ الصَّالِحَةِ لِاسْتِفَادَةِ الْمَعَارِفِ وَإِفَادَتِهَا، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَخَصَائِصِهَا، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِي، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْعَالَمِيَّةِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، وَصَاحِبُ هَذَا الْوَصْفِ هُوَ الْجَدِيرُ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْعَالَمِ لِأَنَّ وَظِيفَةَ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ تَدْبِيرُ وَإِرْشَادُ وَهَدْيُ وَوَضْعُ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّوْقِيفِ فِي غَالِبِ التَّصَرُّفَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ أَوْ فُرُوعِهَا، وَالْقُوَى الْمِلْكِيَّةِ عَلَى شَرَفِهَا إِنَّمَا تَصْلُحُ لِأَعْمَالٍ مُعَيَّنَةٍ قَدْ سُخِّرَتْ لَهَا لَا تَعْدُوهَا وَلَا تَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وَمَا يُذْكَرُ مِنْ تَنَوُّعِ تَصَرُّفِهَا وَصَوَابِ أَعْمَالِهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوْجِيهِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا وَتَلْقِينِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّسْخِيرِ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْأَمْرِ بِالْإِنْبَاءِ بِهَذَا الشَّرْطِ وَقَدْ تَحَيَّرَ فِيهِ كَثِيرٌ. وَإِذَا انْتَفَى الْإِنْبَاءُ انْتَفَى كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ فِي إِنْكَارِهِمْ خِلَافَةَ آدَمَ، فَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الصِّدْقِ هُوَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ فَقَدْ ثَبَتَ عَدَمُهَا، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ التَّصْدِيقِ هُوَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْبَشَرَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلِاسْتِخْلَافِ فَانْتِفَاءُ الْإِنْبَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ دَعْوَاهُمْ وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لَهُ لِأَنَّ بَعْدَهُ إِنْبَاءَ آدَمَ بِالْأَسْمَاءِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا أَمْرَ تَعْجِيزٍ وَجُعِلَ الْمَأْمُورُ بِهِ دَلَالَةً عَلَى الصِّدْقِ كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ إنباء آخر مترقبا مِنَ الَّذِي طَعَنُوا فِي جَدَارَتِهِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] . [32] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 32] قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) جَرَّدَ قالُوا مِنَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ مُحَاوَرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] وَافْتِتَاحُ كَلَامِهِمْ بِالتَّسْبِيحِ وُقُوفٌ فِي مَقَامِ الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ لِذِي الْعَظَمَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَسُبْحَانَ اسْمُ التَّسْبِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [الْبَقَرَة: 30] وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ سَبَّحَ الْمُضَاعَفِ وَلَيْسَ مَصْدَرًا لِأَنَّهُ لم يجىء عَلَى أَبْنِيَةِ مَصَادِرِ الرُّبَاعِيِّ وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرُ سَبَحَ مُخَفَّفًا

بِمَعْنَى نَزَّهَ فَيَكُونُ كَالْغُفْرَانِ وَالشُّكْرَانِ، وَالْكُفْرَانِ مِنْ غَفَرَ وَشَكَرَ وَكَفَرَ وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بإضمار فعله ك مَعاذَ اللَّهِ [يُوسُف: 23] وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ نَادِرًا قَالَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السُّبْحَانِ» وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا خَصَّصُوهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِجَعْلِهِ كَالْعَلَمِ عَلَى التَّنْزِيهِ عَدَلُوا عَنْ قِيَاسِ اشْتِقَاقِهِ فَصَارَ سُبْحَانَ كَالْعَلَمِ الْجِنْسِيِّ مِثْلَ بَرَّةَ وَفَجَارِ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ وَمَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا تَرْكُ تَنْوِينِ (سُبْحَانَ) فَلِأَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُمْ مَعْرِفَةً وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا خَبَرٌ مُرَادٌ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ لَا الْإِخْبَارُ عَنْ حَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ. وَلَا أَنَّهُمْ قَصَدُوا لَازِمَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُخْبِرَ عَالِمٌ بِالْخَبَرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاعْتِرَافِ. ثُمَّ إِنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُلُومَهُمْ مَحْدُودَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلزِّيَادَةِ فَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يَأْمُرُهُمْ، فَلِلْمَلَائِكَةِ عِلْمُ قَبُولِ الْمَعَانِي لَا عِلْمُ اسْتِنْبَاطِهَا. وَفِي تَصْدِيرِ كَلَامِهِمْ بِسُبْحَانَكَ إِيمَاءٌ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ مُرَاجَعَتِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] فَهُوَ افْتِتَاحٌ مِنْ قَبِيلِ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ عَنِ الِاعْتِذَارِ. وَالِاعْتِذَارُ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا لَكِنَّ حُصُولَ ذَلِكَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ دُونَ التَّصْرِيح وَيحصل آخرا لَا ابْتِدَاء فَكَانَ افْتِتَاحُ كَلَامِهِمْ بِالتَّنْزِيهِ تَعْجِيلًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُلَازَمَةِ جَانِبِ الْأَدَبِ الْعَظِيمِ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ سَاقُوهُ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِمْ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا لِأَنَّ الْمُحِيطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ الْمُحْكِمَ لِكُلِّ خَلْقٍ إِذَا لَمْ يَجْعَلْ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ سَبِيلًا إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِبَلٌ بِعِلْمِهِ إِذِ الْحُصُولُ بِقَدْرِ الْقَبُولِ وَالِاسْتِعْدَادِ أَيْ فَلَا مَطْمَعَ لَنَا فِي تَجَاوُزِ الْعِلْمِ إِلَى مَا لم تهيىء لَنَا عِلْمَهُ بِحَسْبَ فِطْرَتِنَا. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَسُوقٌ لِلتَّعْلِيلِ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ ثَنَاءٍ هُوَ تَصْدِيرُهُ بِإِنَّ فِي غير مقَام رَدِّ إِنْكَارٍ وَلَا تَرَدُّدٍ. قَالَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» (¬1) وَمِنْ شَأْنِ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (أَيْ أَنْ تَقَعَ إِثْرَ كَلَامٍ وَتَكُونُ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ) أَنْ تُغْنِيَ غَنَاءَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ (مَثَلًا) وَأَنْ تُفِيدَ مِنْ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَمْرًا عَجِيبًا فَأَنْتَ تَرَى الْكَلَامَ بِهَا مَقْطُوعًا مَوْصُولًا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ بِشَارٍ: ¬

(¬1) صفحة 197 طبع الْمنَار.

بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَوْلَ بَعْضِ الْعَرَبِ: فَغَنِّهَا وَهْيَ لَكَ الْفِدَاءُ ... إِنْ غِنَاءَ الْإِبِلِ الْحُدَاءُ فَإِنَّهُمَا اسْتَغْنَيَا بِذِكْرِ إِنَّ عَنِ الْفَاءِ، وَإِنَّ خَلَفًا الْأَحْمَرَ لَمَّا سَأَلَ بشارا لماذَا لَمْ يَقُلْ: «بَكِّرَا فَالنَّجَاحُ فِي التَّبْكِيرِ» أَجَابَهُ بَشَارٌ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا عَرَبِيَّةً بَدَوِيَّةً وَلَوْ قَالَ: «فَالنَّجَاحُ» لَصَارَتْ مِنْ كَلَامِ الْمُوَلَّدِينَ (أَيْ أَجَابَهُ جَوَابًا أَحَالَهُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ) وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ سَبَبَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (¬1) أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ» أَنْ يُبَيِّنَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ لِصَاحِبَيْهِ «بَكِّرَا» وَأَنْ يَحْتَجَّ لِنَفْسِهِ فِي الْأَمْرِ بِالتَّبْكِيرِ وَيُبَيِّنَ وَجْهَ الْفَائِدَةِ مِنْهُ» اهـ. (والعليم) الْكَثِيرُ الْعِلْمِ وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ صِفَةً مُشَبَّهَةً عَلَى تَقْدِيرِ تَحْوِيلِ عَلِمَ- الْمَكْسُورِ اللَّامِ- إِلَى عَلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ لِيَصِيرَ مِنْ أَفْعَالِ السَّجَايَا نَحْوَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الرَّحِيمِ وَنَحْنُ فِي غُنْيَةٍ عَنْ هَذَا التَّكَلُّفِ إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ وزن فعيل يجيىء لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَإِنَّمَا أَنْشَأَ هَذِهِ التَّمَحُّلَاتِ مَنْ زَعَمُوا أَنَّ فَعِيلًا لَا يَجِيءُ لِلْمُبَالَغَةِ. (الْحَكِيمُ) فَعِيلٌ مِنْ أَحْكَمَ إِذَا أَتْقَنَ الصُّنْعَ بِأَنْ حَاطَهُ مِنَ الْخَلَلِ. وَأَصْلُ مَادَّةِ حَكَمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْمَنْعِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْخَلَلِ وَمِنْهُ حَكَمَةُ الدَّابَّةِ (بِالتَّحْرِيكِ) لِلْحَدِيدَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي فَمِ الْفَرَسِ لِتَمْنَعَهُ مِنِ اخْتِلَالِ السَّيْرِ، وَأَحْكَمَ فُلَانٌ فُلَانًا مَنَعَهُ قَالَ جَرِيرٌ: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا وَالْحِكْمَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ ضَبْطُ الْعِلْمِ وَكَمَالُهُ، فَالْحَكِيمُ إِمَّا بِمَعْنَى الْمُتْقِنِ لِلْأُمُورِ كُلِّهَا أَوْ بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ جَرَى بِوَزْنِ فَعِيلٍ عَلَى غَيْرِ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ وَذَلِكَ مَسْمُوعٌ قَالَ عَمْرو بن معديكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ وَمِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَلَمْ يَعْزُهُ: فَمَنْ يَكُ لَمْ يُنْجِبْ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... فَإِنَّ لَنَا الْأُمَّ النَّجِيبَةَ وَالْأَبَ أَرَادَ الْأُمَّ الْمُنْجِبَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَمْ يُنْجِبْ أَبُوهُ وَفِي الْقُرْآنِ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 117] وَوَصْفُُُ ¬

(¬1) صفحة 232. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 33]

الْحَكِيمِ وَالْعَرَبُ تُجْرِي أَوْزَانَ بَعْضِ الْمُشْتَقَّاتِ عَلَى بَعْضٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ بِتَأَوُّلِ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِبَدِيعِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ أَيْ عَلَى أَنَّ (أَلْ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَتَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِحَكِيمٍ هُوَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَهِيَ مُحْكَمَةُ الْخَلْقِ فَإِنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ تَمْجِيدُ الْخَالِقِ لَا عَجَائِبَ مَخْلُوقَاتِهِ حَتَّى يكون بِمَعْنى مفعول، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي فِي دَفْعِ بَحْثِ مَجِيئِهِ مِنْ غَيْرِ ثُلَاثِيٍّ. وَتَعْقِيبُ الْعَلِيمِ بِالْحَكِيمِ مِنْ إِتْبَاعِ الْوَصْفِ بِأَخَصَّ مِنْهُ فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحِكْمَةِ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ كَمَالٌ فِي الْعِلْمِ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ خَطِيبٌ مِصْقَعٌ وَشَاعِرٌ مُفْلِقٌ. وَفِي «مَعَارِجِ النُّورِ» لِلشَّيْخِ لُطْفِ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيِّ: وَفِي الْحَكِيمِ ذُو الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَإِتْقَانُ عَمِلَهِ وَهُوَ الْإِيجَادُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَالتَّدْبِيرُ بِأَكْمَلِ مَا تَسْتَعِدُّ لَهُ ذَاتُ الْمُدَبَّرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ اهـ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَي» : الْحَكِيمُ ذُو الْحِكْمَةِ وَالْحِكْمَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِأَفْضَلِ الْأَشْيَاءِ، فَأَفْضَلُ الْعُلُومِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَأَجَلُّ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ غَيْرُهُ وَجَلَالَةُ الْعِلْمِ بِقَدْرِ جَلَالَةِ الْمَعْلُومِ فَهُوَ الْحَكِيمُ الْحَقُّ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَجَلَّ الْأَشْيَاءِ بِأَجَلِّ الْعُلُومَ إِذْ أَجَلُّ الْعُلُومِ هُوَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ الْقَدِيمُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ زَوَالُهُ الْمُطَابِقُ لِلْمَعْلُومِ مُطَابَقَةً لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا خَفَاءٌ، وَلَا شُبْهَةٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عِلْمِ الله اهـ. وسيجيئ الْكَلَامُ عَلَى الْحِكْمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 269] . وأَنْتَ فِي إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَتَوْسِيطُهُ مِنْ صِيَغِ الْقَصْرِ فَالْمَعْنَى قَصْرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى اللَّهِ قَصْرَ قَلْبٍ لِرَدِّهِمُ اعْتِقَادَهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى جَانِبٍ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ حِينَ رَاجَعُوا بِقَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] أَوْ تَنْزِيلِهِمْ مُنَزَّلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، أَوْ هُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ مُرَادٌ مِنْهُ قَصْرُ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى. [33] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 33] قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. لَمَّا دَخَلَ هَذَا الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ الْمُحَاوَرَةِ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْفَاءِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إِقْبَالًا بِالْخِطَابِ عَلَى غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي قَبْلَهُ فَهُوَ بِمَثَابَةِ خِطَابٍ لَهُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خِطَابِ آدَمَ بِذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ عَقِبَهُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ مِنْ هَاتِهِ النَّاحِيَةِ فَكَانَ

الْخِطَابُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مَسُوقًا إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ: قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَابْتِدَاءُ خِطَابِ آدَمَ بِنِدَائِهِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ عَنْ سَمَاعِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ آدَمَ وَإِظْهَارِ اسْمِهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى حَتَّى ينَال بذلك حُسْنَ السُّمْعَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّكْرِيمِ عِنْدَ الْآمِرِ لِأَنَّ شَأْنَ الْآمِرِ وَالْمُخَاطِبِ- بِالْكَسْرِ- إِذَا تَلَطَّفَ مَعَ الْمُخَاطَبِ- بِالْفَتْحِ- أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ حَتَّى لَا يُسَاوِيَ بِخِطَابِهِ كُلَّ خِطَابٍ، وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ سُجُودِ النَّبِيءِ وَحَمْدِهِ اللَّهَ بِمَحَامِدَ يُلْهِمُهُ إِيَّاهَا فَيَقُولُ: «يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» وَهَذِهِ نُكْتَةُ ذِكْرِ الِاسْمِ حَتَّى فِي أَثْنَاءِ الْمُخَاطَبَةِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا النِّدَاءَ طَرِيقًا إِلَى إِحْضَارِ اسْمِهِ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِإِحْضَارِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ النِّدَاءِ فَالنِّدَاءُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. الْإِنْبَاءُ إِخْبَارُهُمْ بِالْأَسْمَاءِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ شَيْءٌ مُهِمٌّ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْإِضَافَةِ ضَمِيرُ الْمُسَمَّيَاتِ مِثْلُ ضَمِيرِ عَرَضَهُمْ، وَفِي إِجْرَائِهِ عَلَى صِيغَةِ ضَمَائِرِ الْعُقَلَاءِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ [الْبَقَرَة: 31] . وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ الضَّمِيرُ فِي (أَنْبَأَ) لِآدَمَ وَفِي (قَالَ) ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِفَاعِلِهِ اسْمًا ظَاهِرًا مَعَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هَوَ لَهُ أَيْ عَقِبَ ضَمَائِرِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِئْهُمْ وأَنْبَأَهُمْ لِأَنَّ السِّيَاقَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ مِنْ مِثْلِ آدَمَ. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. جَوَابُ (لَمَّا) وَالْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [الْبَقَرَة: 30] وَعَادَتْ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ [الْبَقَرَة: 30] وعَلَّمَ [الْبَقَرَة: 31] وعَرَضَهُمْ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ وَهُوَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْمُحَاوَرَةِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَذَلِكَ الْقَوْلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

صَرَاحَةً إِلَّا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ لِأَنَّ عُمُومَ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَشْمَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُسَاوِيه مَا صدقا لِأَنَّ مَا لَا تَعْلَمُونَ هُوَ غيب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَقَدْ زَادَ الْبَيَانُ هُنَا عَلَى الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْإِجْمَالِ قَبْلَ ظُهُورِ الْبُرْهَانِ وَجِيءَ بِالتَّفْصِيلِ بَعْدَ ظُهُورِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحِجَاجِ وَهُوَ إِجْمَالُ الدَّعْوَى وَتَفْصِيلُ النَّتِيجَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى قَبْلَ الْبُرْهَانِ قَدْ يَتَطَرُّقَهَا شَكُّ السَّامِعِ بِأَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَنَحْوِهَا وَبَعْدَ الْبُرْهَانِ يَصِحُّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُوقِفَ الْمَحْجُوجَ عَلَى غَلَطِهِ وَنَحْوِهِ وَأَنْ يَتَبَجَّحَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانِ بُرْهَانِهِ فَإِنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ صَاحِبِ مُوسَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ [الْكَهْف: 78، 79] إِلَى قَوْلِهِ: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْف: 82] ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 82] . فَجَاءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ تَعْظِيمًا لِلتَّأْوِيلِ بَعْدَ ظُهُورِهِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ لِلْكُتَّابِ وَالْخُطَبَاءِ وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ أَخْذِ النَّتَائِجِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ» وَأَكْثَرُ الْخُطَبَاءِ يُفْضَى إِلَى الْغَرَضِ مِنْ خُطْبَتِهِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالتَّمْهِيدَاتِ وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخُطَبَاءِ وَالْبُلَغَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا تَعْلِيمًا لِلْخَلْقِ وَجَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الْحَالِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِجَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَمْتَرُونَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى الْحَقُّ وَوَعْدَهُ الصِّدْقُ فَلَيْسُوا بِحَاجَةٍ إِلَى نَصْبِ الْبَرَاهِينِ. وكُنْتُمْ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَحَقُّقِ الْكِتْمَانِ فَإِنَّ الَّذِي يَعْلَمُ مَا اشْتَدَّ كِتْمَانُهُ يَعْلَمُ مَا لَمْ يُحْرَصْ عَلَى كِتْمَانِهِ وَيَعْلَمُ ظَوَاهِرَ الْأَحْوَالِ بِالْأَوْلَى. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي تُبْدُونَ وتَكْتُمُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَيَقْتَضِي تَجَدُّدَ عِلْمِ اللَّهِ بِذَلِكَ كُلَّمَا تَجَدَّدَ مِنْهُمْ. وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا تَكَلُّفَاتٌ فِي جَعْلِ كُنْتُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي وَجَعْلِ تُبْدُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَتَقْدِيرُ اكْتِفَاءٍ فِي الْجَانِبَيْنِ أَعْنِي وَمَا كُنْتُمْ تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ وَاكْتِفَاءٍ فِي غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي وَشَهَادَتُهُمَا وَكُلُّ ذَلِكَ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ آدَمَ بِالْأَسْمَاءِ وَعَجْزَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى أَهْلِيَّةِ النَّوْعِ الْبَشَرِيَ لِخِلَافَتِهِ فِي الْأَرْضِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي الْأَرْضِ هِيَ خِلَافَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِيَامِ

بِمَا أَرَادَهُ مِنَ الْعُمْرَانِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَشُعَبِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاطَ بِالنَّوْعِ الْبَشَرِيِّ إِتْمَامَ مُرَادِهِ مِنَ الْعَالَمِ فَكَانَ تَصَرُّفُ هَذَا النَّوْعِ فِي الْأَرْضِ قَائِمًا مَقَامَ مُبَاشَرَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْبَشَرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بِالْعِلْمِ أَعْنِي اكْتِسَابَ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ وَتَحْقِيقَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَمَوَاقِعِهَا وَمُقَارَنَاتِهَا وَهُوَ الْعِلْمُ الِاكْتِسَابِيُّ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَسْتَطِيعُ بِهِ فِعْلَ الْخَيْرِ وَفِعْلَ الشَّرِّ كُلٌّ فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْعِلْمِ إِلَّا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ وَهِيَ قُوَّةُ التَّفْكِيرِ الَّتِي أَجْلَى مَظَاهِرِهَا مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَأَسْمَاءِ خَصَائِصِهَا وَالَّتِي تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصْدِرَ الْأَضْدَادَ مِنَ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ تِلْكَ الْقُوَّةَ هِيَ الَّتِي لَا تَنْحَصِرُ مُتَعَلَّقَاتُهَا وَلَا تَقِفُ مَعْلُومَاتُهَا كَمَا شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مُنْذُ النَّشْأَةِ إِلَى الْآنَ وَإِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَلَائِكَةُ لَمَّا لَمْ يُخْلَقُوا مُتَهَيِّئِينَ لِذَلِكَ حَتَّى أَعْجَزَهُمْ وَضْعُ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ وَكَانُوا مَجْبُولِينَ عَلَى سَجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ سَجِيَّةُ الْخَيْرِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تَتَخَلَّفُ لَمْ يَكُونُوا مُؤَهَّلِينَ لِاسْتِفَادَةِ الْمَجْهُولَاتِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ حَتَّى لَا تَقِفَ مَعَارِفُهُمْ. وَلَمْ يَكُونُوا مَصَادِرَ لِلشُّرُورِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ صُدُورُهَا لإِصْلَاح الْعَالم فخيرتهم وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِاسْتِقَامَةِ عَالَمِهِمُ الطَّاهِرِ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِنِظَامِ عَالَمٍ مَخْلُوطٍ، وَحِكْمَةُ خَلْطِهِ ظُهُورُ مُنْتَهَى الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى وَالْآيَةُ تَقْتَضِي مَزِيَّةً عُظْمَى لِهَذَا النَّوْعِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ إِذِ الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ كَمَا بَينه الشهَاب القراقي فِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالتِسْعِينَ فَهَذِهِ فَضِيلَةٌ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ التَّفْضِيلُ الْمُطْلَقُ مَجْمُوعَ الْفَضَائِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُوسَى وَالْخَضِرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِلَخْ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَالْمَلَائِكَة لَا يَعْلَمُونَ وُقُوعَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ. وَإِنَّمَا أَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ لِأَنَّ غَالِبَ الِاسْتِفْهَامِ التقريري يقحم فِيهِ مَا يُفِيدُ النَّفْيَ لِقَصْدِ التَّوْسِيعِ عَلَى الْمُقَرَّرِ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الشَّيْءِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَزْعُمَ نَفْيَهُ فَقَدْ وَسَّعَ الْمُقَرِّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ فَلِذَلِكَ يُقَرِّرُهُ عَلَى نَفْيِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ كَانَ إِقْرَارُهُ لَازِمًا لَهُ لَا مَنَاصَ لَهُ مِنْهُ. فَهَذَا قَانُونُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْغَالِبُ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنُُِ

[سورة البقرة (2) : آية 34]

وَبَنَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَعَانِيَ آيَاتِهِ الَّتِي مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: 106] وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَرَدَّهُ عَلَيْهِ شَارِحُهُ. وَقَدْ يَقَعُ التَّقْرِيرُ بِالْإِثْبَاتِ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 116] وَهُوَ تَقْرِيرٌ مُرَادٌ بِهِ إِبْطَالُ دَعْوَى النَّصَارَى، وَقَوْلِهِ: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ [الْأَنْبِيَاء: 62] . [34] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَإِعَادَةُ (إِذْ) بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ ظَرْفِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا لِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ فَجَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالِاهْتِمَامِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُرَاعَاةِ لَمْ يُؤْتَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَعْطُوفَةً بِفَاءِ التَّفْرِيع فَيَقُول: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونُهَا فِي الْوَاقِعِ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مَا كَانَ إِلَّا لِأَجْلِ ظُهُورِ مَزِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ تَرْتِيبُ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ ابْتِدَاءً مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا طَرَأَ بَعْدَهُ مِنْ أَطْوَارِ أُصُولِ الْعَامِرِينِ الْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ نَظْمِهِ جَارِيًا عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِ مَدْلُولَاتِهِ فِي الْخَارِجِ مَا لَمْ تَنْصَبَّ قَرِينَةٌ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ. وَلَا يَرِيبُكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [28، 29] إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ لِأَنَّ تِلْكَ حَكَتِ الْقِصَّةَ بِإِجْمَالٍ فَطَوَتْ أَنْبَاءَهَا طَيًّا جَاءَ تَبْيِينُهُ فِي مَا تَكَرَّرَ مِنْهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَأَوْضَحُهَا أَيَّةُ الْبَقَرَةِ لِاقْتِضَاءِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ فَضِيلَةَ آدَمَ لَمْ تَظْهَرْ لِلْمَلَائِكَةِ إِلَّا بَعْدَ تَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ وَعَرْضِهَا عَلَيْهِمْ وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِنْبَاءِ بِهَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَقِّبِينَ بَيَانَ مَا يَكْشِفُ ظَنَّهُمْ بِآدَمَ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ لَازَمُوا جَانِبَ التَّوَقُّفِ لِمَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] ، فَكَانَ إِنْبَاءُ آدَمَ بِالْأَسْمَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِنْبَاءِ بِهَا بَيَانًا لِكَشْفِ شُبْهَتِهِمْ فَاسْتَحَقُّوا أَنْ يَأْتُوا بِمَا فِيهِ مَعْذِرَةٌ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحَقِّهِ.

وَقَدْ أُرِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِظْهَارُ مَزِيَّةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّ اللَّهَ يَخُصُّ أَجْنَاسَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنْوَاعَهَا بِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا لِئَلَّا يَخْلُوَ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ مِنْ وُجُودِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَإِظْهَارِ فَضِيلَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَبَيَانِ أَنَّ الْعَالِمَ حَقِيقٌ بِتَعْظِيمِ مَنْ حَوْلَهُ إِيَّاهُ وَإِظْهَارِ مَا لِلنُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِنَ الْخَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَبَيَانُ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْحَقِّ مِنْ خِصَالِ الْفَضَائِلِ الْمَلَائِكِيَّةِ، وَأَنَّ الْفَسَادَ وَالْحَسَدَ وَالْكِبْرَ مِنْ مَذَامِّ ذَوِي الْعُقُولِ. وَالْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ (إِذْ) كَالْقَوْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] . وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ وَلَفْظِ آدَمَ هُنَا دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرَيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ [الْبَقَرَة: 32] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [الْبَقَرَة: 33] لِتَكُونَ الْقِصَّةُ الْمَعْطُوفَةُ مَعْنُونَةً بِمِثْلِ عُنْوَانِ الْقِصَّةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا إِشَارَةً إِلَى جَدَارَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِأَنْ تكون قصَّة مَقْصُورَة غَيْرَ مُنْدَمِجَةٍ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ إِسْنَادِ الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ فَأُتِيَ بِهِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ وَإِذْ قُلْنا وَأَتَى بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُسْنَدًا إِلَى رَبِّ النَّبِيءِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [الْبَقَرَة: 30] لِلتَّفَنُّنِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ هُنَا تَضَمَّنَ أَمْرًا بِفِعْلٍ فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِينَ فَنَاسَبَهُ إِظْهَارُ عَظَمَةِ الْآمِرِ، وَأَمَّا القَوْل السَّابِق بِمُجَرَّد إِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ بِمُرَادِهِ لِيُظْهِرَ رَأْيَهُمْ، وَلِقَصْدِ اقْتِرَانِ الِاسْتِشَارَةِ بِمَبْدَأِ تَكْوِينِ الذَّاتِ الْأَوْلَى مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْمُحْتَاجِ إِلَى التَّشَاوُرِ فَنَاسَبَهُ الْإِسْنَادُ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِتَدْبِيرِ شَأْنِ الْمَرْبُوبَيْنِ. وَأُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ أَشْرَفِ الْمَرْبُوبِينَ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَحَقِيقَةُ السُّجُودِ طَأْطَأَةُ الْجَسَدِ أَوْ إِيقَاعُهُ عَلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ لِمُشَاهَدٍ بِالْعِيَانِ كَالسُّجُودِ لِلْمَلِكِ وَالسَّيِّدِ وَالسُّجُودِ لِلْكَوَاكِبِ، قَالَ تَعَالَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يُوسُف: 100] ، وَقَالَ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: 37] وَقَالَ الْأَعْشَى: فَلَمَّا أَتَانَا بُعَيْدَ الْكَرَى ... سَجَدْنَا لَهُ وَخَلَعْنَا الْعَمَارَا وَقَالَ أَيْضًا: يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي ... كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا أَوْ

لِمُشَاهَدٍ بِالتَّخَيُّلِ وَالِاسْتِحْضَارِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم: 62] . وَالسُّجُودُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةٍ فِيهِمْ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمٍ، وَقَدْ جَمَعَ مَعَانِيَهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النَّحْل: 49] . فَكَانَ السُّجُودُ أَوَّلَ تَحِيَّةٍ تَلَقَّاهَا الْبَشَرُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَالِمِ. وَقَدْ عُرِفَ السُّجُودُ مُنْذُ أَقْدَمِ عُصُورِ التَّارِيخِ فقد وجد عى الْآثَارِ الْكِلْدَانِيَّةِ مُنْذُ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ صُورَةُ حَمُورَابِي مَلِكِ كِلْدِيَةَ رَاكِعًا أَمَامَ الشَّمْسِ، وَوُجِدَتْ عَلَى الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ صُوَرُ أَسْرَى الْحَرْبِ سُجَّدًا لِفِرْعَوْنَ، وَهَيْآتُ السُّجُودِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ. وَهَيْئَةُ سُجُودِ الصَّلَاةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ. وَالسُّجُودُ فِي صَلَاةِ الْإِسْلَامِ الْخُرُورُ عَلَى الْأَرْضِ بِالْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَتَعْدِيَةُ اسْجُدُوا لِاسْمِ آدَمَ بِاللَّامِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِالسُّجُودِ لِذَاتِهِ وَهُوَ أَصْلُ دَلَالَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ إِذَا عُلِّقَ بِمَادَّةِ السُّجُودِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم: 62] وَقَوْلِهِ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: 37] وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ السُّجُودَ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْعٌ جَدِيدٌ نَسَخَ مَا كَانَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُخْرَى وَلِأَنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَمَلِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ تَكَالِيفِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَا طَائِلَ تَحْتَ إِطَالَةِ الْبَحْثِ فِي أَنَّ آدَمَ مَسْجُودٌ لَهُ أَوْ هُوَ قِبْلَةٌ لِلسَّاجِدِينَ كَالْكَعْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ بِجَعْلِ اللَّامِ بِمَعْنَى إِلَى مِثْلَهَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ: أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ فَإِنَّ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامًا. لَا يُنَاسب أَن يُقَال بِهَا أَحْسَنُ الْكَلَامِ نِظَامًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ بَدِيعٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَجَدَارَةِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَلَّمَ آدَمَ عِلْمًا لَمْ يُؤَهِّلْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ كَانَ قَدْ جَعَلَ آدَمَ أُنْمُوذَجًا (¬1) لِلْمُبْدَعَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَالْعُلُومِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْبَشَرِ مِنْ بَعْدُ وَالَّتِي سَتَظْهَرُ إِلَى فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ. ¬

(¬1) بِضَم الْهمزَة هُوَ الشَّائِع وَفِي «الْقَامُوس» إِن صَوَابه نموذج بِدُونِ همز وبفتح النُّون، وَإِن الأنموذج لحن قلت وَقد سمى الزَّمَخْشَرِيّ مُخْتَصرا لَهُ فِي النَّحْو «الأنموذج» ، والزمخشري لَا يرتاب فِي سَعَة اطِّلَاعه. وَهِي كلمة معربة عَن الفارسية وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ «نمونة» .

وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ (لِلْمَلَائِكَةُ اسْجُدُوا) بِضَمَّةٍ عَلَى التَّاءِ فِي حَالِ الْوَصْلِ عَلَى إِتْبَاعِ حَرَكَةِ التَّاءِ لِضَمَّةِ الْجِيمِ فِي (اسْجُدُوا) لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالسَّاكِنِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ لِأَنَّهُ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، وَقِرَاءَتُهُ هَذِهِ رِوَايَةٌ وَهِيَ جَرَتْ عَلَى لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ فِي مِثْلِ هَذَا فَلِذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَارِسِيُّ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ اسْتِهْلَاكُ الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ إِلَّا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2]- بِكَسْرِ الدَّالِّ- قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ سَاكِنًا صَحِيحًا نَحْوَ: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] اهـ وَإِنَّمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَمْلَةَ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ مَعْدُودَةٌ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَمَا كَانَ يَحْسُنُ فِيهَا مِثْلُ هَذَا الشُّذُوذِ، وَإِنْ كَانَ شُذُوذًا فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ لَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. وَعَطْفُ فَسَجَدُوا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ يُشِيرُ إِلَى مُبَادَرَةِ الْمَلَائِكَةِ بِالِامْتِثَالِ وَلَمْ يَصُدَّهُمْ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّخَوُّفِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَخْلُوقُ مَظْهَرَ فَسَادٍ وَسَفْكِ دِمَاءٍ لِأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنِ الْمَعَاصِي. وَاسْتِثْنَاءُ إِبْلِيسَ مِنْ ضَمِيرِ الْمَلَائِكَةِ فِي فَسَجَدُوا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [50] إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ أَحْوَالَهُ كَأَحْوَالِ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ بِتَوْفِيقٍ غَلَبَ عَلَى جِبِلَّتِهِ لِتَتَأَتَّى مُعَاشَرَتُهُ بِهِمْ وَسَيْرُهُ عَلَى سِيرَتِهِمْ فَسَاغَ اسْتِثْنَاءُ حَالِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِمَنْ هُوَ فِيهِمْ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مَقْصُودًا فِي الْخَبَرِ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إِذْ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ إِذْ قَالَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِآدَمَ ذَلِكَ أَنَّ جِنْسَ الْمُجَرَّدَاتِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ مَغْمُورًا بِنَوْعِ الْمَلَكِ إِذْ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ نَوْعِهِمْ أَفْرَادًا كَثِيرَةً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَة: 30] وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِنْ نَوْعِ الْجِنِّ إِلَّا أَصْلَهُمْ وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَخَلَقَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَصْلَهُمْ وَهُوَ آدَمُ. وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ إِبْلِيسَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ إِقَامَةَ ارْتِيَاضٍ وَتَخَلُّقٍ وَسَخَّرَهُ لِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِمْ فَجَرَى عَلَى ذَلِكَ السَّنَنِ أَمَدًا طَوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ ظَهَرَ مَا فِي نَوْعِهِ مِنَ الْخَبَثِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [50] فَعَصَى رَبَّهُ حِينَ أَمَرَهْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ.

وَإِبْلِيسُ اسْمُ الشَّيْطَانِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مُوَلِّدُ الشَّيَاطِينِ، فَكَانَ إِبْلِيسُ لِنَوْعِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ بِمَنْزِلَةِ آدَمَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ. وَإِبْلِيسُ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنْ لُغَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ لَمْ يُعَيِّنْهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ يَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُعَرَّبًا أَنَّ الْعَرَبَ مَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ وَلَا سَبَبَ فِيهِ سِوَى الْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ الزَّجَّاجُ هَمْزَتَهُ أَصْلِيَّةً، وَقَالَ وَزْنُهُ عَلَى فِعْلِيلَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ وَهُوَ الْبُعْدُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَهَذَا اشْتِقَاقٌ حَسَنٌ لَوْلَا أَنَّهُ يُنَاكِدُ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ وَجَعَلُوا وَزْنَهُ إِفْعِيلَ لِأَنَّ هَمْزَتَهُ مَزِيدَةٌ وَقَدِ اعْتُذِرَ عَنْ مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عُدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْجَمِيِّ وَهُوَ اعْتِذَارٌ رَكِيكٌ. وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَحْصَوُا الْكَلِمَاتِ الْمُعَرَّبَةَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَعُدُّوا مِنْهَا اسْمَ إِبْلِيسَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يتبينوا ذَلِك وصلاحية الِاسْمِ لِمَادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ وَمُنَاسَبَتِهِ لَهَا. وَجُمَلُ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ حَالِهِ لِحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ، شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ كَيْفَ لَمْ يَفْعَلْ إِبْلِيسُ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَيْفَ خَالَفَ حَالَ جَمَاعَتِهِ وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِحَالَةِ مَعْشَرِهِ مُخَالَفَةٌ عَجِيبَةٌ إِذِ الشَّأْنُ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ كَمَا قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدِ فَبَيَّنَ السَّبَبَ بِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَفَرَ بِاللَّهِ. وَالْإِبَاءُ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَلَقِّيهِ. وَالِاسْتِكْبَارُ شِدَّةُ الْكِبْرِ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْعَدِّ أَيْ عَدَّ نَفْسَهُ كَبِيرًا مِثْلَ اسْتَعْظَمَ وَاسْتَعْذَبَ الشَّرَابَ أَوْ يَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ اسْتَجَابَ وَاسْتَقَرَّ فَمَعْنَى اسْتَكْبَرَ اتَّصَفَ بِالْكِبْرِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَلَى اللَّهِ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ آدَمُ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يَسْجُدَ هُوَ لَهُ إِنْكَارًا عَنْ تَصْمِيمٍ لَا عَنْ مُرَاجَعَةٍ أَوِ اسْتِشَارَةٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَاف: 12] وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَالَفَ فِعْلُ إِبْلِيسَ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَة: 30] ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ فِي الْحِكْمَةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: 30] فَإِبْلِيسُ بِإِبَائِهِ انْتَقَضَتِ الْجِبِلَّةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاسْتَحَالَتْ إِلَى جِبِلَّةٍ أُخْرَى عَلَى نَحْوِ مَا يَعْرِضُ مِنْ تَطَوُّرٍ لِلْعَاقِلِ حِينَ يَخْتَلُّ عَقْلُهُ وَلِلْقَادِرِ حِينَ تُشَلُّ بَعْضُ أَعْضَائِهِ، وَمِنَ الْعِلَلِ عِلَلٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَمِنْهَا عِلَلٌ رُوحَانِيَّةٌ كَمَا قَالَ:

فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ وَالِاسْتِكْبَارُ التَّزَايُدُ فِي الْكِبْرِ لِأَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِلطَّلَبِ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِنْ لَطَائِفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَادَّةَ الِاتِّصَافِ بِالْكبرِ لم تجىء مِنْهَا إِلَّا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْعَالِ أَوِ التَّفَعُّلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ صَاحِبَ صِفَةِ الْكِبْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَطَلِّبًا الْكِبْرَ أَوْ مُتَكَلِّفًا لَهُ وَمَا هُوَ بِكَبِيرٍ حَقًّا وَيَحْسُنُ هُنَا أَنْ نَذْكُرَ قَوْلَ أَبِي الْعَلَاءِ: عَلَوْتُمُ فَتَوَاضَعْتُمْ عَلَى ثِقَةٍ ... لَمَّا تَوَاضَعَ أَقْوَامٌ عَلَى غَرَرِ وَحَقِيقَةُ الْكِبْرِ قَالَ فِيهَا حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» : الْكِبْرُ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الِاسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إِلَى اعْتِقَادِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فَوْقَ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ وَمُتَكَبَّرًا بِهِ وَبِذَلِكَ يَنْفَصِلُ الْكِبْرُ عَنِ الْعُجْبِ فَإِنَّ الْعُجْبَ لَا يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ وَلَا يَكْفِي أَنْ يَسْتَعْظِمَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ مُتَكَبِّرًا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَعْظِمُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ يَرَى غَيْرَهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مُمَاثِلًا لَهَا فَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَسْتَحْقِرَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَوْ رَأَى نَفْسَهُ أَحْقَرَ لَمْ يَتَكَبَّرْ وَلَوْ رَأَى غَيْرَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ لَمْ يَتَكَبَّرْ بَلْ أَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةً وَلِغَيْرِهِ مَرْتَبَةً ثُمَّ يَرَى مَرْتَبَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ خُلُقُ الْكِبْرِ وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ تَنْفُخُ فِيهِ فَيَحْصُلُ فِي نَفْسِهِ اعْتِدَادٌ وَعِزَّةٌ وَفَرَحٌ وَرُكُونٌ إِلَى مَا اعْتَقَدَ، وَعَزَّ فِي نَفْسِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَتِلْكَ الْعِزَّةُ وَالْهِزَّةُ وَالرُّكُونُ إِلَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ هُوَ خُلُقُ الْكِبْرِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظَائِرُهَا مَثَارَ اخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حُكْمٍ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَثْنَى فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الِاسْتِثْنَاءُ يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ مَا حَكَمَ بِهِ للمستثنى مِنْهُ فَلِذَلِكَ كَثُرَ الِاكْتِفَاءُ بِالِاسْتِثْنَاءِ دُونَ أَنْ يُتْبَعَ بِذَكَرِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لِلْمُسْتَثْنَى سَوَاءً كَانَ الْكَلَامُ مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَوْلَا إِفَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَثْبُتُ لَهُ نَقِيضُ مَا حَكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكَانَتْ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ سِوَى نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا عَدَا اللَّهَ فَتَكُونُ إِفَادَتُهَا الْوَحْدَانِيَّةَ لِلَّهِ بِالِالْتِزَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ يُثْبِتُ لِلْمُسْتَثْنَى نَقِيضَ مَا حَكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُثْبَتٍ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَثْبُتُ لَهُ نَقِيضُ الْحُكْمِ لَا نَقِيضُ الْمَحْكُومِ بِهِ، فَالْمُسْتَثْنَى بِمَنْزِلَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْ وَصْفِهِ،

فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِنَ الْوَصْفِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَلَامٍ مُثْبَتٍ فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُفِيدُ الْمُسْتَثْنَى الِاتِّصَافَ بِنَقِيضِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ لَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ وَلَا مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ جُمْلَةُ أَبى وَاسْتَكْبَرَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ بَيَانًا لِلْإِجْمَالِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَنْهَضُ مِنْهَا حُجَّةٌ تَقْطَعُ الْجِدَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مَعْطُوف عَلَى الْجُمَلِ الْمُسْتَأْنَفَةِ، وَ (كَانَ) لَا تُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ اتَّصَفَ بِالْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَضَى قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَفَ بِهِ قَبْلَ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَقَدْ تَحَيَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ حَمْلِهِمْ فِعْلَ (كَانَ) عَلَى الدِّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْكُفْرِ فِيمَا مَضَى عَنْ وَقْتِ الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فَرِيقٌ يُوصَفُ بِالْكَافِرِينَ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَتَمَحَّلُوا بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَتَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُظْهِرًا الطَّاعَةَ مُبْطِنًا الْكُفْرَ نِفَاقًا، وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلُوا هَذَا الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] وَكُلُّ ذَلِكَ تَمَحُّلٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ فِعْلَ الْمُضِيِّ يُفِيدُ مُضِيَّ الْفِعْلِ قَبْلَ وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً الَّذِينَ جَعَلُوا كَانَ بِمَعْنَى صَارَ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ كَانَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] وَقَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة: 5، 6] وَقَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ: بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا أَيْ صَارَ كَافِرًا بِعَدَمِ السُّجُودِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ نَشَأَ عَنِ اسْتِكْبَارِهِ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى حَقِّ الْحِكْمَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الِانْقِلَابَ الَّذِي عَرَضَ لِإِبْلِيسَ فِي جِبِلَّتِهِ كَانَ انْقِلَابَ اسْتِخْفَافٍ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ كَافِرًا صَرَاحًا. وَالَّذِي أَرَاهُ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ فِي مَعْنَى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَكَفَرَ كَمَا قَالَ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لِدَلَالَةِ (كَانَ)

فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَلَى رُسُوخِ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي اسْمِهَا، وَالْمَعْنَى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَفَرَ كُفْرًا عَمِيقًا فِي نَفْسِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [الْأَعْرَاف: 83] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ [النَّمْل: 41] دُونَ أَن يَقُول أم لَا تَهْتَدِيَ لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْ آيَةَ تَنْكِيرِ عَرْشِهَا وَلَمْ تَهْتَدِ كَانَتْ رَاسِخَةً فِي الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِخَبَرِ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ وَكَانَ كَافِرًا فَلِأَنَّ إِثْبَاتَ الْوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاحِدًا من جمَاعَة تثبت لَهُمْ ذَلِكَ الْوَصْفُ أَدَلُّ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُ مِمَّا لَوْ أَثْبَتَ لَهُ الْوَصْفَ وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ يَزْدَادُ تَمَسُّكًا بِفِعْلِهِ إِذَا كَانَ قَدْ شَارَكَهُ فِيهِ جَمَاعَةٌ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ تَبْعُدُ نَفْسُهُ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي سَدَادِ عَمَلِهَا وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: 27] وَقَوْلُهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ وَهُوَ دَلِيلٌ كَنَائِيٌّ وَاسْتِعْمَالٌ بَلَاغِيٌّ جَرَى عَلَيْهِ نَظْمُ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ بَلْ كَانَ إِبْلِيسُ وَحِيدًا فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا منزع انتزعه مِنْ تَتَبُّعِ مَوَارِدِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي هَاتَيْنِ الْخُصُوصِيَّتَيْنِ خُصُوصِيَّةِ زِيَادَةِ (كَانَ) وَخُصُوصِيَّةِ إِثْبَاتِ الْوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ وَسَيَجِيءُ ذَلِك قَرِيبا عَن قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَة: 43] . وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ امْتِنَاعِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ قَوْلُهُ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ جَارِيًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْإِخْبَارِ الْكِنَائِيِّ. وَفِي هَذَا الْعُدُولِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مُرَاعَاةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ حُرُوفُ الْفَاصِلَةِ أَيْضًا، وَقَدْ رُتِّبَتِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَفْهُومَاتِهَا فِي الْوُجُودِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ مُطَابِقًا لِتَرْتِيبِ مَدْلُولَاتِ جُمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77] وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِي «أُصُولِ الْإِنْشَاء الخطابة» .

[سورة البقرة (2) : آية 35]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 35] وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) عَطْفٌ عَلَى قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [الْبَقَرَة: 34] أَيْ بَعْدَ أَنِ انْقَضَى ذَلِكَ قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. وَهَذِهِ تَكْرِمَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا آدَمَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ بِكَرَامَةِ الْإِجْلَالِ مِنْ تِلْقَاءِ الْمَلَائِكَةِ. وَنِدَاءُ آدَمَ قَبْلَ تَخْوِيلِهِ سُكْنَى الْجَنَّةِ نِدَاءُ تَنْوِيهٍ بِذِكْرِ اسْمِهِ بَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، لِأَنَّ نِدَاءَهُ يَسْتَرْعِي إِسْمَاعَ أَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَيَتَطَلَّعُونَ لِمَا سَيُخَاطَبُ بِهِ، وَيُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَالِمَ جَدِيرٌ بِالْإِكْرَامِ بِالْعَيْشِ الْهَنِيءِ، كَمَا أُخِذَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّعْظِيمِ. وَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: اسْكُنْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ بِالتَّمْكِينِ وَالتَّخْوِيلِ وَلَيْسَ أَمْرًا لَهُ بِأَنْ يَسْعَى بِنَفْسِهِ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّعْيِ فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ. وَضَمِيرُ (أَنْتَ) وَاقِعٌ لِأَجْلِ عَطْفِ وَزَوْجُكَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي اسْكُنْ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ عَطْفِ اسْمٍ، عَلَى ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ مَرْفُوعِ الْمَحَلِّ لَا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَهُ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ زِيَادَةَ إِيضَاحِ الْمَعْطُوفِ فَتَحْصُلُ فَائِدَةُ تَقْرِيرِ مَدْلُولِ الْمَعْطُوفِ لِئَلَّا يَكُونَ تَابِعَةُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَبْرَزَ مِنْهُ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ الْفَصْلُ بِمِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ مُقَيَّدًا تَأْكِيدًا لِلنِّسْبَةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالضَّمِيرِ لَازِمٌ لَا خِيرَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُقْتَضَى حَالٍ وَلَا يَعْرِفُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُرِيدٌ بِهِ تَأْكِيدًا وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ تَقْرِيرِ مَعْنَى الْمُضْمَرِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ. وَالزَّوْجُ كُلُّ شَيْءٍ ثَانٍ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا تَقَارُنٌ فِي حَالٍ مَا. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ لِأَنَّ جَمِيعَ تَصَارِيفِهِ فِي الْكَلَامِ مُلَاحَظٌ فِيهَا مَعْنَى كَوْنِهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ مُمَاثِلَ غَيْرِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ فِي حَالٍ مَا يُسَمَّى زَوْجًا لِلْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشورى: 50] أَيْ يَجْعَلُ لِأَحَدِ الطِّفْلَيْنِ زَوْجًا لَهُ أَيْ سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ شَفْعٍ. وَسُمِّيَتِ الْأُنْثَى الْقَرِينَةُ لِلرَّجُلِ بِنِكَاحٍ زَوْجًا لِأَنَّهَا اقْتَرَنَتْ بِهِ وَصَيَّرَتْهُ ثَانِيًا، وَيُسَمَّى الرَّجُلُ زَوْجًا لَهَا لِذَلِكَ بِلَا فَرْقٍ، فَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ زَوْجَةً بِهَاءِ تَأْنِيثٍ لِأَنَّهُ اسْم وَلَيْسَ بوصفه. وَقَدْ لَحَّنُوا الْفَرَزْدَقَ فِي قَوْلِهِ:

وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أَسد الثرى يَسْتَبِيلُهَا وَتَسَامَحَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْحَاقِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِلزَّوْجِ إِذَا أَرَادُوا بِهِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ لِقَصْدِ نَفْيِ الِالْتِبَاسِ فِي تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ فِي كُتُبِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، أَوِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ وَهُوَ صَنِيعٌ حَسَنٌ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ إِحْدَى نِسَائِهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ يَا فُلَانٌ فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ زَوْجَتَيْ فُلَانَةٌ» الْحَدِيثَ، فَقَوْلُهُ: زَوْجَتِي بِالتَّاءِ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْ عِبَارَةِ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي السَّنَدِ إِلَى أَنَسٍ وَلَيْسَتْ بِعِبَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَطَوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَلْقَ زَوْجِ آدَمَ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: 1] وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ [189] . وَلَمْ يَرِدِ اسْمُ زَوْجِ آدَمَ فِي الْقُرْآنِ وَاسْمُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ حَوَّاءُ وَوَرَدَ ذِكْرُ اسْمِهَا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي «طَبَقَاتِهِ» عَنْ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ يَبْلُغُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ كَطَفٍّ لصاع لن يملأوه» الْحَدِيثَ (طَفُّ الْمِكْيَالِ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا- مَا قَرُبَ مِنْ مَلْئِهِ) أَيْ هُمْ لَا يَبْغُونَ الْكَمَالَ فَإِنَّ كُلَّ كَمَالٍ مِنَ الْبَشَرِ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ. وَخَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ بَصَرِيٌّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ. فَاسْمُ زَوْجِ آدَمَ عِنْدَ الْعَرَبِ حَوَّاءُ وَاسْمُهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ مُضْطَرَبٌ فِيهِ، فَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي أَنَّ اسْمَهَا امْرَأَةٌ سَمَّاهَا كَذَلِكَ آدَمُ قَالَ: لِأَنَّهَا مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ. وَفِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ أَنَّ آدَمَ دَعَا اسْمَ امْرَأَتِهِ حَوَّاءَ لِأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ نَامَ آدَمُ فَخُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ ضِلَعِهِ فَاسْتَيْقَظَ وَوَجَدَهَا عِنْدَهُ فَقَالَ: أَثَا أَيِ امْرَأَةٌ بِالنَّبَطِيَّةِ، أَيِ اسْمُهَا بِالنَّبَطِيَّةِ الْمَرْأَةُ كَمَا سَمَّاهَا آدَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [الْبَقَرَة: 31] أَنَّ آدَمَ دَعَا نَفْسَهُ، إِيشَ، فَلَعَلَّ أثا محرقة عَنْ إِشَا. وَاسْمهَا بالعبرية (خمواه) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَهَاءٍ بَعْدَ الْأَلْفِ وَيُقَالُ أَيْضًا حَيْوَا بِحَاءٍ مُهْمِلَةٍ وَأَلِفٍ فِي آخِرِهِ فَصَارَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ حَوَّاءَ وَصَارَتْ فِي الطليانية إِيپاوفي الفرنسية أَيپ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ فِي الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ أُسْكِنَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا لِتُؤْنِسَهُ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَاف: 189] أَيْ يَأْنَسَ. وَالْأَمْرُ فِي اسْكُنْ أَمْرُ إِعْطَاءٍ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ آدَمَ هُوَ وَزَوْجَهُ فِي الْجَنَّةِ.

وَالسُّكْنَى اتِّخَاذُ الْمَكَانِ مَقَرًّا لِغَالِبِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ. وَالْجَنَّةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ فِيهَا الْأَشْجَارٌ الْمُثْمِرَةٌ وَالْمِيَاهُ وَهِيَ أَحْسَنُ مَقَرٍّ لِلْإِنْسَانِ إِذَا لَفَحَهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَيَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا جَاعَ وَيَشْرَبُ مِنَ الْمِيَاهِ الَّتِي يَشْرَبُ مِنْهَا الشَّجَرُ وَيَرُوقُهُ مَنْظَرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْجَنَّةُ تَجَمَعُ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ مِنَ اللَّذَّاتِ. وَتَعْرِيفُ (الْجَنَّةِ) تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ جَنَّةٌ مَعْهُودَةٌ لِآدَمَ يُشَاهِدُهَا إِذَا كَانَ التَّعْرِيفُ فِي (الْجَنَّةِ) حِكَايَةً لِمَا يُرَادِفُهُ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ آدَمُ، أَوْ أُرِيدَ بِهَا الْمَعْهُودُ لَنَا إِذَا كَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ اللَّهِ لَنَا بِالْمَعْنَى وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْجَنَّةِ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ أَنَّهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُصَدِّقِينَ رُسُلَهُ وَجَزَمُوا بِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عَالَمِ الْغَيْبِ أَيْ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْخَيْرِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا الَّذِي تَقَلَّدَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا تَعْدُو أَنَّهَا ظَوَاهِرُ كَثِيرَةٌ لَكِنَّهَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَقِيدَةِ. وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَدَا الْجُبَّائِيَّ إِلَى أَنَّهَا جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِإِسْكَانِ آدَمَ وَزَوْجِهِ، وَنَقَلَ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُمْ أَنَّهَا بُسْتَانٌ فِي فِلَسْطِينَ أَوْ هُوَ بَيْنَ فَارِسَ وَكِرْمَانَ، وَأَحْسَبُ أَن هَذَا ناشىء عَنْ تَطَلُّبِهِمْ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الَّذِي ذُكِرَ مَا يُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ بِاسْمِ عَدْنٍ. فَفِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَأَخَذَ الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا- ثُمَّ قَالَتْ- فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الْأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ لَيْسَتْ فِي الْأَرْضِ لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ شُرَّاحُ التَّوْرَاةِ أَنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرُ وَصْفِ نَهْرِ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّذِي يَسْقِيهَا بِأَنَّهُ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ فَيَسْقِي الْجَنَّةَ وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيصير أَرْبَعَة رُؤُوس اسْمُ الْوَاحِدِ (قَيْشُونُ) وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحُوَيْلَةِ وَهُمْ مِنْ بَنِي كُوشٍ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ مِنَ التَّكْوِينِ وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي (جَيْحُونُ) وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضٍ كُوشٍ، وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ (حِدَّا قِلْ) وَهُوَ الْجَارِي شَرْقَ أَشُورْ (دِجْلَةَ) . وَالنَّهْرُ الرَّابِعُ الْفُرَاتُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ضَبْطِ عَدْنٍ هَذِهِ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِسْلَامِيِّ السِّبْتِيِّ الَّذِي كَانَ

يَهُودِيًّا وَأَسْلَمَ وَأَلَّفَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ سَمَّاهُ «الْحُسَامُ الْمَحْدُودُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ» كَتَبَهُ بِغِيدِنَ وَضَبَطَهُ بِالْعَلَامَاتِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَلَعَلَّ النُّقْطَةَ عَلَى حَرْفِ الْعَيْنِ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ فَذَلِكَ هُوَ مَنْشَأُ قَوْلِ الْقَائِلِينَ أَنَّهَا بِعَدْنٍ أَوْ بِفِلَسْطِينَ أَوْ بَيْنَ فَارِسَ وَكِرْمَانَ، وَالَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ جَنَّةَ الثَّوَابِ دَارُ كَمَالٍ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا الْعِصْيَانُ وَأَنَّهَا دَارُ خُلْدٍ لَا يَخْرُجُ سَاكِنُهَا، وَهُوَ التجاء بِلَا ملجىء لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانٍ الْجَنَّةِ لَا لِتَأْثِيرِ الْمَكَانِ وَكُلُّهُ جَعْلُ الله تَعَالَى عِنْد مَا أَرَادَهُ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ أَلْ فِي (الْجَنَّةِ) لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَلَا مَعْهُودَ غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ كَوْنُهَا لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا قَدْ نِيطَ بِهَا فِعْلُ السُّكْنَى وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِهِ بِالْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ نَحْوِ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ إِذِ الْفَرْدُ مِنَ الْحَقِيقَةِ هُنَا مَقْصُودٌ مُعَيَّنٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ جَزَاء وإكرام فَلَا بُد أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِجَنَّةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِظُهُورِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْجَزَاءَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ مُعَيَّنٍ مَعْهُودٍ وَلَا مَعْهُودَ إِلَّا الْجنَّة الْمَعْرُوفَة لَا سِيمَا وَهُوَ اصْطِلَاحُ الشَّرْعِ. وَقد يُقَال يخْتَار أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ وَلَعَلَّ الْمَعْهُودَ لِآدَمَ هُوَ جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٍ أُشِيرَ إِلَيْهَا بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَلِذَلِكَ أَخْتَارُ أَنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَصَصَ لَنَا حُكِيَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ لَدَيْنَا تَرْجَمَةٌ لِأَلْفَاظِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا آدَمُ أَوْ عَنِ الْإِلْهَامِ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَى آدَمَ فَيَكُونُ تَعْرِيفُ (الْجَنَّةِ) مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى مُتَعَارَفِنَا فَيَكُونُ آدَمُ قَدْ عَرَفَ الْمُرَادَ مِنْ مَسْكَنِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعْرِيفِ وَيَكُونُ قَدْ حُكِيَ لَنَا ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَنَّةِ الْمُقْتَرِنَ فِي كَلَامِنَا بِلَامِ التَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلَى عَيْنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْآخَرُ الَّذِي عَرَفَ بِهِ آدَمُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ قُلْنَا لَهُ اسْكُنِ الْبُقْعَةَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ هِيَ الْجَنَّةُ الْمَعْدُودَةُ دَارًا لِجَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ. وَمَعْنَى الْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ ثَمَرِهَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ تَسْتَلْزِمُ ثِمَارًا وَهِيَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ وَلِذَلِكَ تُجْعَلُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً بِتَنْزِيلِ بَعْضِ مَا يَحْوِيهِ الْمَكَانُ مُنْزِلَةَ بَعْضٍ لِذَلِكَ الْمَكَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ أَكْلُ مَا تُثْمِرُهُ تِلْكَ الْجَنَّةُ كَقَوْلِكَ هَذَا الثَّمَرُ مِنْ خَيْبَرَ.

وَالرَّغَدُ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ أَكْلًا رَغَدًا، وَالرَّغَدُ الْهَنِيءُ الَّذِي لَا عَنَاءَ فِيهِ وَلَا تَقْتِيرٌ. وَقَوْلُهُ: حَيْثُ شِئْتُما ظَرْفُ مَكَانٍ أَيْ مِنْ أَيِّ مَوَاضِعَ أَرَدْتُمَا الْأَكْلَ مِنْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ مَشِيئَتُهُمَا لَا تَنْحَصِرُ بِمَوَاضِعَ اسْتُفِيدَ الْعُمُومُ فِي الْإِذْنِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، وَفِي جَعْلِ الْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرِ مِنْ أَحْوَالِ آدم وزوجه بَين إِنْشَائِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الِاقْتِيَاتَ جِبِلَّةً لِلْإِنْسَانِ لَا تَدُومُ حَيَاتُهُ إِلَّا بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي بِهِ وَلَا تَأْكُلَا مِنَ الشَّجَرَةِ لِأَنَّ قُرْبَانَهَا إِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ الْأَكْلِ مِنْهَا فَالنَّهْيُ عَنِ الْقُرْبَانِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ لِأَنَّ الْقُرْبَ من الشَّيْء ينشىء دَاعِيَةً وميلا إِلَيْهِ فَفِيهِ الْحَدِيثِ «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ: (إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَتَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا قِيلَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ) اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ فَإِنَّ قَرُبَ وَقَرِبَ نَحْوَ كَرُمَ وَسَمِعَ بِمَعْنَى دَنَا، فَسَوَاءٌ ضَمَمْتَ الرَّاءَ أَوْ فَتَحْتَهَا فِي الْمُضَارِعِ فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الدُّنُوِّ إِلَّا أَنَّ الدُّنُوَّ بَعْضُهُ مَجَازِيُّ وَهُوَ التَّلَبُّسُ وَبَعْضُهُ حَقِيقِيُّ وَلَا يَكُونُ لِلْمَجَازِيِّ وَزْنٌ خَاصٌّ فِي الْأَفْعَالِ وَإِلَّا لَصَارَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمَالُ خَصَّ الْمَجَازِيَّ بِبَعْضِ التَّصَارِيفِ فَتَكُونُ تِلْكَ الزِّنَةُ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً لِلْمَجَازِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ فُرُوقِ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِثْلُ تَخْصِيصِ بَعِدَ مَكْسُورِ الْعَيْنِ بِالِانْقِطَاعِ التَّامِّ وَبَعُدَ مَضْمُومِ الْعَيْنِ بِالتَّنَحِّي عَنِ الْمَكَانِ وَلِذَلِكَ خُصَّ الدُّعَاءُ بِالْمَكْسُورِ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُسَافِرِ لَا تَبْعِدْ، قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَحْجَمِ الْخُزَاعِيَّةُ: إِخْوَتِي لَا تَبْعَدُوا أَبَدًا ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا وَفِي تَعْلِيقِ النَّهْيِ بِقُرْبَانِ الشَّجَرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْزَعِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْه. وَالْإِشَارَة بِهَذِهِ إِلَى شَجَرَةٍ مَرْئِيَّةٍ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ، وَالْمُرَادُ شَجَرَةٌ مِنْ نَوْعِهَا أَوْ كَانَتْ شَجَرَةً وَحِيدَةً فِي الْجَنَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقَصَصِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْكَرْمَةُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ، وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَنَسَبَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ إِلَى جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا شَجَرَةُ التِّينِ. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ إِبْهَامُهَا وَعُبِّرَ عَنْهَا بِشَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

[سورة البقرة (2) : آية 36]

وَقَوْلُهُ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ مِنَ الْمُعْتَدِينَ وَأَشْهَرُ مَعَانِي الظُّلْمِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ هُوَ الِاعْتِدَاءُ، وَالِاعْتِدَاءُ إِمَّا اعْتِدَاءٌ عَلَى نَهْيِ النَّاهِي إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ الْجَزْمَ بِالتَّرْكِ وَإِمَّا اعْتِدَاءٌ عَلَى النَّفْسِ وَالْفَضِيلَةِ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَقَاءَ فَضِيلَةِ التَّنَعُّمِ لِآدَمَ فِي الْجَنَّةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الظُّلْمُ لِأَنْفُسِهِمَا بِارْتِكَابِ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ وَعَلَى الثَّانِي الظُّلْمُ لِأَنْفُسِهِمَا بِحِرْمَانِهَا مِنْ دوَام الْكَرَامَة. [36] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا [الْبَقَرَة: 35] وَحَقُّهَا إِفَادَةُ التَّعْقِيبِ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ عُرْفِيًّا لِأَنَّ وُقُوعَ الْإِزْلَالِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّةِ الْمُرَادَةِ مِنْ سُكْنَى الْجَنَّةِ كَالْأَمَدِ الْقَلِيلِ. وَالْأَحْسَنُ جَعْلُ الْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ مُجَرَّدَةً عَنِ التَّعْقِيبِ. وَالْإِزْلَالُ جَعْلُ الْغَيْرِ زَالًّا أَيْ قَائِمًا بِهِ الزَّلَلُ وَهُوَ كَالزَّلَقِ أَنْ تَسِيرَ الرِّجْلَانِ عَلَى الْأَرْضِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لِارْتِخَاءِ الْأَرْضِ بِطِينٍ وَنَحْوِهِ، أَيْ ذَاهِبَةً رِجْلَاهُ بِدُونِ إِرَادَةٍ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي صُدُورِ الْخَطِيئَةِ وَالْغَلَطِ الْمُضِرِّ وَمِنْهُ سُمِّي الْعِصْيَانُ وَنَحْوُهُ الزَّلَلَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّجَرَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ وَلِيَتَبَيَّنَ سَبَبُ الزَّلَّةِ وَسَبَبُ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ إِذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلِ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الشَّجَرَةِ لَخَلَتِ الْقِصَّةُ عَنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْخُرُوجِ. وَ (عَنْ) فِي أَصْلِ مَعْنَاهَا أَيْ أَزَلَّهُمَا إِزْلَالًا نَاشِئًا عَنِ الشَّجَرَةِ أَيْ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، وَلَيْسَتْ (عَنْ) لِلسَّبَبِيَّةِ وَمَنْ ذَكَرَ السَّبَبِيَّةَ أَرَادَ حَاصِلَ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: 3] أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَنْطِقُ بِالْهَوَى فَقَالَ الرَّضِيُّ: الْأَوْلَى أَنَّ (عَنْ) بِمَعْنَاهَا وَأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نُطْقًا صَادِرًا عَنِ الْهَوَى. وَيَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلْجَنَّةِ وَتَكُونُ (عَنْ) عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْإِزْلَالُ مَجَازًا فِي الْإِخْرَاجِ بِكُرْهٍ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ مُكْرَهَيْنِ كَمَنْ يُزَلُّ عَنْ مَوْقِفِهِ فَيَسْقُطُ كَقَوْلِهِ: «وَكَمْ مَنْزِلٍ لَوْلَايَ طِحْتَ» . وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ تَفْرِيعٌ عَنِ الْإِزْلَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّجَرَةِ،

وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ التَّعْظِيمُ، كَقَوْلِهِمْ قَدْ كَانَ مَا كَانَ، فَإِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَنْها عَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ كَانَ هَذَا التَّفْرِيعُ تَفْرِيعَ الْمُفَصَّلِ عَنِ الْمُجْمَلِ وَكَانَتِ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْمُجَرَّدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الْأَعْرَاف: 4] وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: 9] . أَمَّا دَلَالَةُ الْمَوْصُولِ عَنِ التَّعْظِيمِ فَهِيَ هِيَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «فَأَزَالَهُمَا» بِأَلْفٍ بَعْدِ الزَّايِ وَهُوَ مِنَ الْإِزَالَةِ بِمَعْنَى الْإِبْعَادِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ عَنْها عَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ لَا إِلَى الشَّجَرَةِ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ فِيهِ إِحْضَارًا لِهَذِهِ الْخَسَارَةِ الْعَظِيمَةِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِينَ حَتَّى لَا تَكُونَ اسْتِفَادَتُهَا بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ خَاصَّةً فَإِنَّهَا دَلَالَةٌ قَدْ تَخْفَى فَكَانَتْ إِعَادَتُهُ فِي هَذِهِ الصِّلَةِ بِمُرَادِفِهِ كَإِعَادَتِهِ بِلَفْظِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [طه: 78] . وَتُفِيدُ الْآيَةُ إِثَارَةَ الْحَسْرَةِ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ عَلَى مَا أَصَابَ آدَمَ مِنْ جَرَّاءِ عَدَمِ امْتِثَالِهِ لِوِصَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَوْعِظَةً تُنَبِّهُ بِوُجُوبِ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ فِي السَّعْيِ إِلَى مَا يُعِيدُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَتْ لِأَبِيهِمْ وَتَرْبِيَةَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ وَجُنْدِهِ إِذْ كَانَ سَبَبًا فِي جَرِّ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ لِأَبِيهِمْ حَتَّى يَكُونُوا أَبَدًا ثَأْرًا لِأَبِيهِمْ مُعَادِينَ لِلشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ مُسِيئِينَ الظُّنُونَ بِإِغْرَائِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] وَقَوْلُهُ هُنَا: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي تَرْبِيَةِ الْعَامَّةِ وَلِأَجْلِهِ كَانَ قَادَةُ الْأُمَمِ يَذْكُرُونَ لَهُمْ سَوَابِقَ عَدَاوَاتِ مُنَافِسِيهِمْ وَمَنْ غَلَبَهُمْ فِي الْحُرُوبِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ. وَعَطْفُ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ متفرّع عَنِ الْإِخْرَاجِ بَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْإِخْرَاجِ قَبْلَ هَذَا لِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِ مَا فَعَلَهُ الشَّيْطَانُ وَغُرُورِهِ بِآدَمَ فَلِذَلِكَ قُدِّمَ قَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما إِثْرَ قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ. وَوَجْهُ جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا قِيلَ لِأَنَّ هُبُوطَ آدَمَ وَحَوَّاءَ اقْتَضَى أَنْ لَا يُوجَدَ نَسْلُهُمَا فِي الْجَنَّةِ فَكَانَ إِهْبَاطُهُمَا إِهْبَاطًا لِنَسْلِهِمَا، وَقِيلَ الْخِطَابُ لَهُمَا وَلِإِبْلِيسَ وَهُوَ وَإِنْ أُهْبِطَ عِنْدَ إِبَايَتِهِ السُّجُودَ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: 12، 13] إِلَى قَوْلِهِ قالَ اخْرُجْ مِنْها

مَذْءومًا مَدْحُوراً [الْأَعْرَاف: 18] إِلَى قَوْلِهِ وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْأَعْرَاف: 19] فَهَذَا إِهْبَاطٌ ثَانٍ فِيهِ تَحْجِيرُ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِ وَالْإِهْبَاطُ الْأَوَّلُ كَانَ إِهْبَاطَ مَنْعٍ مِنَ الْكَرَامَةِ مَعَ تَمْكِينِهِ مِنَ الدُّخُولِ لِلْوَسْوَسَةِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ بِعِيدٌ، فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ جَمْعَ الضَّمِيرِ مُرَادٌ بِهِ التَّثْنِيَةُ لِكَرَاهِيَةِ تُوَالِي الْمُثَنَّيَاتِ بِالْإِظْهَارِ وَالْإِضْمَارِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً [الْبَقَرَة: 35] وَالْعَرَبُ يَسْتَثْقِلُونَ ذَلِكَ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ وَإِنَّمَا لَهُ صَاحِبَانِ لِقَوْلِهِ: «قَفَا نَبْكِ» إِلَخْ وَقَالَ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [4] . وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَعْضِ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ عَدَاوَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي اهْبِطُوا لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَإِبْلِيسَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ عَدَاوَةُ بَعْضِ أَفْرَادِ نَوْعِ الْبَشَرِ، إِنْ كَانَ ضمير اهْبِطُوا لآدَم وَحَوَّاءَ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِعْلَامًا لَهُمَا بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ عَمَلِهِمَا يُورَثُ فِي بَنِيهِمَا، وَلِذَلِكَ مَبْدَأُ ظُهُور آثَار الِاخْتِلَاف فِي تَكْوِينِ خِلْقَتِهِمَا بِأَنْ كَانَ عِصْيَانُهُمَا يُورث فِي بنيهما، وَلذَلِك مبدأ ظُهُور آثَار الاختلال فِي تكوين خلقتهما بِأَن كَانَ عصيانهما يُورَثُ فِي أَنْفُسِهِمَا وَأَنْفُسِ ذُرِّيَّتِهِمَا دَاعِيَةَ التَّغْرِيرِ وَالْحِيلَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ تُوَرَّثُ وَكَيْفَ لَا وَهِيَ مِمَّا يُعَدَّى بِكَثْرَةِ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَقَدْ قَالَ أَبُو تَمَامٍ: لَأَعْدَيْتَنِي بِالْحِلْمِ إِنَّ الْعُلَا تُعْدِي وَوَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ بَيْنَ هَذَا الْأَثَرِ وَبَيْنَ مَنْشَئِهِ الَّذِي هُوَ الْأَكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ كَانَ مُخَالَفَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفْضًا لَهُ وَسُوءُ الظَّنِّ بِالْفَائِدَةِ مِنْهُ دَعَا لِمُخَالَفَتِهِ الطَّمَعُ وَالْحِرْصُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لِأَنْفُسِهِمَا، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالِاسْتِئْثَارُ بِخَيْرَاتِهَا مَعَ سُوءِ الظَّنِّ بِالَّذِي نَهَاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا وَإِعْلَامِهِ لَهُمَا بِأَنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنْهَا ظَلَمَا أَنْفُسَهُمَا لِقَوْلِ إِبْلِيسَ لَهُمَا: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَاف: 20] فَكَذَلِكَ كَانَتْ عَدَاوَةُ أَفْرَادِ الْبَشَرِ مَعَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالْأُنْسِ وَالِاتِّحَادِ مَنْشَؤُهَا رَفْضُ تِلْكَ الْأُلْفَةِ وَالِاتِّحَادِ لِأَجْلِ جَلْبِ النَّفْعِ لِلنَّفْسِ وَإِهْمَالِ مَنْفَعَةِ الْغَيْرِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْخَاطِرِ الَّذِي بَعَثَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَبَيْنَ أَثَرِهِ الَّذِي بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمَا وَالَّذِي سَيُوَرِّثُونَهُ نَسْلَهُمَا فَيُخْلَقُ النَّسْلُ مُرَكَّبَةً عُقُولُهُمْ عَلَى التَّخَلُّقِ بِذَلِكَ الْخُلُقِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى عَقْلُُِ

أَبَوَيْهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْخُلُقَ الرَّاجِعَ لِإِيثَارِ النَّفْسِ بِالْخَيْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْغَيْرِ هُوَ مَنْبَعُ الْعَدَاوَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعَادِي الْآخَرَ إِلَّا لِاعْتِقَادِ مُزَاحِمَةٍ فِي مَنْفَعَةٍ أَوْ لِسُوءِ ظَنٍّ بِهِ فِي مَضَرَّةٍ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ أَصْلَ الْأَخْلَاقِ حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا هُوَ الْخَوَاطِرُ الْخَيِّرَةُ وَالشِّرِّيرَةُ ثُمَّ يَنْقَلِبُ الْخَاطِرُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِعْلٌ فَيَصِيرُ خُلُقًا وَإِذَا قَاوَمَهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ صَارَتْ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةُ سَبَبًا فِي اضْمِحْلَالِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعَاصِي وَكَانَ جَزَاءُ تَرْكِ فِعْلِ مَا يَهُمُّ بِهِ مِنْهَا حَسَنَةً وَأَمَرَتْ بِخَوَاطِرِ الْخَيْرِ فَكَانَ جَزَاءُ مُجَرَّدِ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ حَسَنَةً وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْهَا وَكَانَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْهَمِّ عَشْرَ حَسَنَاتٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً- ثُمَّ قَالَ- وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ» وَجَعَلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَغْفِرَةً فِي حَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي فِيمَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا» . إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ خَيِّرًا سَالِمًا مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَوَاطِرِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى صِفَةٍ مَلَكِيَّةٍ وَهُوَ مَعْنَى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] ثُمَّ جَعَلَهُ أَطْوَارًا فَأَوَّلُهَا طَوْرُ تَعْلِيمِهِ النُّطْقَ وَوَضْعِ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْمَعْرِفَةِ وَبِهِ يَكُونُ التَّعْلِيمُ أَيْ يُعَلِّمُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا مَا عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ فَكَانَ إِلْهَامُهُ اللُّغَةَ مَبْدَأَ حَرَكَةِ الْفِكْرِ الْإِنْسَانِيِّ وَهُوَ مَبْدَأٌ صَالِحٌ لِلْخَيْرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِهِ عَلَّمَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَلِذَلِكَ تَرَى الصَّبِيَّ يَرَى الشَّيْءَ فَيُسْرِعُ إِلَى قُرَنَائِهِ يُنَادِيهِمْ لِيَرَوْهُ مَعَهُ حِرْصًا عَلَى إِفَادَتِهِمْ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَلِّمًا بِالطَّبْعِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى خَيْرِيَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ صَالِحٌ أَيْضًا لِاسْتِعْمَالِ النُّطْقِ فِي التَّمْوِيهِ وَالْكَذِبِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَمْرٍ كَلَّفَهُ بِمَا فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَمْتَثِلَهُ وَأَنْ يُخَالِفَهُ فَتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ مَبْدَأُ حَرَكَةِ نَفْسِهِ فِي الْحِرْصِ وَالِاسْتِئْثَارِ فَكَانَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ مَبْدَأَ طَوْرِ جَدِيدٍ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين: 5] ، ثُمَّ هَدَاهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ فَصَارَ بِاتِّبَاعِهَا يَبْلُغُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى تَقْوِيمِهِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 6] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الطَّوْرِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الْبَقَرَة: 38] الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَإِمَّا جُمْلَةُ حَال من ضير اهْبِطُوا وَهِيَ اسْمِيَّةٌ خَلَتْ مِنَ الْوَاوِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْوَاوِ حَالًا

[سورة البقرة (2) : آية 37]

خِلَافٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَنَعَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ تَسْتَغْنِي بِالضَّمِيرِ عَنِ الْوَاوِ وَبِالْوَاوِ عَنِ الضَّمِيرِ فَإِذَا كَانَتْ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِصَاحِبِهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمِيرِهِ أَوْ ضَمِيرِ سَبَبِيِّهِ فَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْوَاوِ نَحْوُ الْآيَةِ وَنَحْوُ جَاءَ زَيْدٌ يَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ أَبُوهُ يُرَافِقُهُ، وَإِلَّا وَجَبَتِ الْوَاوُ إِذْ لَا رَابِطَ حِينَئِذٍ غَيْرُهَا نَحْوُ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ وَقَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: فَخَالَطَ سَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ يَكْدَحِ الصَّفَا ... بِهِ كَدْحَةٌ وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ وَقَوْلُهُ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ اهْبِطُوا عَلَى التَّقَادِيرِ كُلِّهَا. وَالْحِينُ الْوَقْتُ وَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ انْقِرَاضِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ بِانْقِرَاضِ الْعَالَمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ التَّوْزِيعَ أَيْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَتَاعًا لِأَنَّ الْحَيَاةَ أَمْرٌ مَرْغُوبٌ لِسَائِرِ الْبَشَرِ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَخْلُو مِنْ لَذَّاتٍ وَتَمَتُّعٍ بِمَا وَهَبَنَا اللَّهُ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ. هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِالْخَبَرِ الْمَجْمُوعِ أَيْ لِجَمِيعِكُمْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّوْزِيعُ فَالْحِينُ هُوَ وَقْتُ مَوْتِ كُلِّ فَرْدٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ لِلْجَيْشِ: هَذِهِ الْأَفْرَاسُ لَكُمْ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُم فرس. [37] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 37] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) جَاءَ بِالْفَاءِ إِيذَانًا بِمُبَادَرَةِ آدَمَ بِطَلَبِ الْعَفْوِ. وَالتَّلَقِّي اسْتِقْبَالُ إِكْرَامٍ وَمَسَرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاء: 103] وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ صِيغَةُ تَفَعَّلَ مَنْ لَقِيَهُ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّكَلُّفِ لِحُصُولِهِ وَتَطَلُّبِهِ وَإِنَّمَا يُتَكَلَّفُ وَيُتَطَلَّبُ لِقَاءُ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ بِخِلَافِ لَاقَى فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُلَاقَى مَحْبُوبًا بَلْ تَقُولُ لَاقَى الْعَدْوَ. وَاللِّقَاءُ الْحُضُورُ نَحْوُ الْغَيْرِ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَفِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً [الْأَنْفَال: 45] الْآيَةَ فَالتَّعْبِيرُ بِتَلَقَّى هُنَا مُؤَذِنٌ بِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَخَذَهَا آدَمُ كَلِمَاتٌ نَافِعَةٌ لَهُ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَلِمَاتِ زَجْرٍ وَتَوْبِيخٍ بَلْ كَلِمَاتُ عَفْو ومغفرة ورضى وَهِيَ إِمَّا كَلِمَاتٌ لُقِّنَهَا آدَمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَقُولَهَا طَالِبًا الْمَغْفِرَةَ وَإِمَّا كَلِمَاتُ إِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ عَفَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَهْبِطَهُ مِنَ الْجَنَّةِ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَاتُ عَفْوٍ عَطْفُ فَتابَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَلِمَاتِ تَوْبِيخٍ لَمَا صَحَّ التَّسَبُّبُ. وَتَلَقِّي آدَمَ لِلْكَلِمَاتِ إِمَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيُُِ

أَوِ الْإِلْهَامِ. وَلَهُمْ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ رِوَايَاتٌ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِقِلَّةِ جَدْوَى الِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ آدَمُ الْكَلِمَاتِ فَتِيبَ عَلَيْهِ فَلْنَهْتَمَّ نَحْنُ بِمَا يَنْفَعُنَا مِنَ الْكَلَامِ الصَّالِحِ وَالْفِعْلِ الصَّالِحِ. وَلَمْ تُذْكَرْ تَوْبَةُ حَوَّاءَ هُنَا مَعَ أَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى نَحْوُ قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَاف: 23] لِظُهُورِ أَنَّهَا تَتْبَعُهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَأَنَّهُ أَرْشَدَهَا إِلَى مَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى الِابْتِدَاءِ بِتَكْرِيمِ آدَمَ وَجَعْلِهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِذِكْرِ تَقَلُّبَاتِهِ هُوَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ. وَأَصْلُ مَعْنَى تَابَ رَجَعَ وَنَظِيرُهُ ثَابَ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ رُجُوعًا مِنَ التَّائِبِ إِلَى الطَّاعَةِ وَنَبْذًا لِلْعِصْيَانِ وَكَانَ قَبُولُهَا رُجُوعًا مِنَ الْمَتُوبِ إِلَيْهِ إِلَى الرضى وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وُصِفَ بِذَلِكَ رُجُوعُ الْعَاصِي عَنِ الْعِصْيَانِ وَرُجُوعُ الْمَعْصِيِّ عَنِ الْعِقَابِ فَقَالُوا تَابَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ فَتَابَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوا الثَّانِيَ مَعْنَى عَطْفٍ وَرَضًى فَاخْتِلَافُ مُفَادَيْ هَذَا الْفِعْلِ بِاخْتِلَافِ الْحَرْفِ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ وَكَانَ أَصْلُهُ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُشَاكَلَةِ. وَالتَّوْبَةُ تَتَرَكَّبُ مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ الذَّنَبِ وَالْحَالُ هُوَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَيُسَمَّى نَدَمًا، وَالْعَمَلُ هُوَ التَّرْكُ لِلْإِثْمِ وَتَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا النَّدَمُ فَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، قُلْتُ: أَيْ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ لِأَنَّ أَحَدَ الْجُزْءَيْنِ غَيْرُ مَعْرِفَةٍ. ثمَّ التَّعْبِير بتاب عَلَيْهِ هُنَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ أَكْلَ آدَمَ مِنَ الشَّجَرَةِ خَطِيئَةٌ إِثْم غَيْرَ أَنَّ الْخَطِيئَةَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا جَزَاءُ عِقَابٍ أُخْرَوِيٍّ وَلَا نَقْصٌ فِي الدِّينِ وَلَكِنَّهَا أَوْجَبَتْ تَأْدِيبًا عَاجِلًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَئِذٍ فِي طَوْرٍ كَطَوْرِ الصِّبَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ ارْتِكَابُهَا بِقَادِحٍ فِي نُبُوءَةِ آدَمَ عَلَى أَنَّهَا لَا يَظْهَرُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ بَلْ قِصَارُهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْأَمْرِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَفِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّغَائِرِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَبَيْنَ الْمَاتُرِيدِيِّ وَهِيَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، عَلَى أَنَّ نُبُوءَةَ آدَمَ فِيمَا يَظْهَرُ كَانَتْ بَعْدَ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ عِصْمَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ إِذِ الْعِصْمَةُ عِنْدَ النُّبُوءَةِ. وَعِنْدِي- وَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ- أَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَمْ يَكُنْ عَالَمَ تَكْلِيفٍ بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ بَلْ عَالَمَ تَرْبِيَةٍ فَقَطْ فَتَكُونُ خَطِيئَةُ آدَمَ وَمَعْصِيَتُهُ مُخَالَفَةً تَأْدِيبِيَّةً وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعُقُوبَاتِ التَّأْدِيبِيَّةِ بِالْحِرْمَانِ مِمَّا جَرَّهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِطْلَاقُ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّوْبَةِ وَظُلْمِ النَّفْسِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَعْرُوفِ بَلْ هِيَ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ

وَتَوْبَةٌ بِمَعْنَى النَّدَمِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْتِزَامِ حُسْنِ السُّلُوكِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَعْنى الرضى لَا بِمَعْنَى غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ بِمَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي حِرْمَانِهَا مِنْ لَذَّاتٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ لَذَّةٍ قَلِيلَةٍ فَهُوَ قَدْ خَالَفَ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَهُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إِلَى قَوْله خالِدُونَ [الْبَقَرَة: 38، 39] فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ بِهِ لَهُمْ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَزَاؤُهَا جَهَنَّمُ فَأَوْرَدَ عَلَيَّ بَعْضُ الْحُذَّاقِ مِنْ طَلَبَةِ الدَّرْسِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ عَالَمَ تَكْلِيفٍ فَكَيْفَ كَفَرَ إِبْلِيسُ بِاعْتِرَاضِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ؟ فَأَجَبْتُهُ بِأَنَّ دَلَالَةَ أُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ حَاصِلَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ حُصُولًا أَقْوَى مِنْ كُلِّ دَلَالَةٍ زِيَادَةً عَلَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ شَاهِدٌ بِالْحِسِّ الدَّلَائِلَ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ وَبِعَلَمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِمِثْلِهِ لِلْمَلَائِكَةِ فَكَانَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَالتَّغْلِيطُ إِنْكَارًا لِمُقْتَضَى تِلْكَ الصِّفَاتِ فَكَانَ مُخَالَفَةً لِدَلَائِلِ الْإِيمَانِ فَكَفَرَ بِهِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَجَزَاءُ ذَلِكَ فَلَا يُتَلَقَّى إِلَّا بِالْإِخْبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ لَمْ تَحْصُلْ يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمْ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الْآيَةَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آدَمُ بِالرَّفْعِ وكَلِماتٍ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِنَصْبِ (آدَمَ) وَرَفْعِ (كَلِمَاتٌ) عَلَى تَأْوِيلِ (تَلَقَى) بِمَعْنَى بَلَغَتْهُ كَلِمَاتٌ فَيَكُونُ التَّلَقِّي مَجَازًا عَنِ الْبُلُوغِ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ فَتابَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مُفَادَهَا مَعَ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ وَالتَّذْيِيلِ مِنَ الْإِطْنَابِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَّابِ أَنَّهُ الْكَثِيرُ الْقَبُولِ لِلتَّوْبَةِ أَيْ لِكَثْرَةِ التَّائِبِينَ فَهُوَ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنْ تَابَ الْمُتَعَدِّي بِعَلَى الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى قبُول التَّوْبَة إيذان بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخُصُّ تَائِبًا دُونَ آخَرَ وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ الْمُؤَذِنُ بِتَقْدِيرِ تَابَ آدَمُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى جَعْلِ التَّوَّابِ بِمَعْنَى الْمُلْهِمِ لِعِبَادِهِ الْكَثِيرِينَ أَنْ يَتُوبُوا فَإِنَّ أَمْثِلَةَ الْمُبَالَغَةِ قَدْ تَجِيءُ مِنْ غَيْرِ التَّكَاثُرِ فَالتَّوَّابُ هُنَا مَعْنَاهُ الْمُلْهَمُ التَّوْبَةِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِ. وَتَعْقِيبُهُ بِالرَّحِيمِ لِأَنَّ الرَّحِيمَ جَارٍ مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلتَّوَّابِ إِذْ قَبُولُهُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ضَرْبٌ مِنَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَإِلَّا لَكَانَتِ التَّوْبَةُ لَا تَقْتَضِي إِلَّا نَفْعَ التَّائِبِ نَفْسَهُ بِعَدَمِ الْعَوْدِ لِلذَّنْبِ حَتَّى تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْآثَامُ، وَأَمَّا الْإِثْمُ الْمُتَرَتِّبُ فَكَانَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَحَقَّقَ عِقَابُهُ لَكِنَّ الرَّحْمَةَ سَبَقَتِ الْعَدْلَ هُنَا بِوَعْدٍ من الله.

[سورة البقرة (2) : الآيات 38 إلى 39]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 38 إِلَى 39] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) كُرِّرَتْ جُمْلَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا فَاحْتَمَلَ تَكْرِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ رَبْطِ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَكْرِيرِ مَعْنَاهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ آدَمُ فَيَكُونُ هَذَا التَّكْرِيرُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَالِ مَا تَعَلَّقَ بِمَدْلُولِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا [الْبَقَرَة: 36] وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: 36] وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. إِذْ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: 37] فَإِنَّهُ لَوْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً لَمْ يَرْتَبِطْ كَمَالَ الِارْتِبَاطِ وَلَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ فَلِدَفْعِ ذَلِكَ أُعِيدَ قَوْلُهُ: قُلْنَا اهْبِطُوا فَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ لِرَبْطِ الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفُ قُلْنَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا شِبْهَ كَمَالِ الِاتِّصَالِ لِتَنَزُّلِ قَوْلِهِ: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لِيَحْصُلَ شَيْءٌ مِنْ تَجَدُّدِ فَائِدَةٍ فِي الْكَلَامِ لِكَيْ لَا يَكُونَ إِعَادَةُ اهْبِطُوا مُجَرَّدَ تَوْكِيدٍ وَيُسَمَّى هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ بِالتَّرْدِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: 188] وَإِفَادَتُهُ التَّأْكِيدَ حَاصِلَةٌ بِمُجَرَّدِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ (¬1) . وَقِيلَ هُوَ أَمر ثَانِي بِالْهُبُوطِ بِأَنْ أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أُهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ فَتَكُونُ إِعَادَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ زَمَنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْهُبُوطِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمَرَاحِلَ وَالْمَسَافَاتِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَ الْمُسَافِرِ وَلِأَنَّ ضَمِيرَ مِنْها الْمُتَعَيَّنَ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجنَّة لتنسق الضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً [الْبَقَرَة: 35] ¬

(¬1) أردْت بِهَذَا أَن أنبه على أَن مَا وَقع فِي «الْكَشَّاف» أَن اهبطوا الثَّانِي تَأْكِيد أَرَادَ بِهِ مَا يُقَارب التَّأْكِيد وَهُوَ أَنه يحصل من مُجَرّد إِعَادَة اللَّفْظ. تَقْرِير لمدلوله فِي الذِّهْن وَإِن لم يكن الْمَقْصُود من ذكره

وَقَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [الْبَقَرَة: 36] مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اهْبِطُوا مِنَ السَّمَاءِ جَمِيعًا إِذْ لَمْ يَسْبِقْ مَعَادٌ لِلسَّمَاءِ فَالْوَجْهُ عِنْدِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ إِعَادَةُ اهْبِطُوا الثَّانِي لِغَيْرِ رَبْطِ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ لِحِكَايَةِ أَمْرٍ ثَانٍ لِآدَمَ بِالْهُبُوطِ كَيْلَا يَظُنَّ أَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ مُبَادَرَتِهِ بِالتَّوْبَةِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ قَدْ أَوْجَبَتِ الْعَفْوَ عَنْهُ مِنَ الْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَعَادَ لَهُ الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ بَعْدَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى وَطَوْرٌ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ مِنَ التَّائِبِ فِي الزَّوَاجِرِ وَالْعُقُوبَاتِ. وَأَمَّا تَحْقِيقُ آثَارِ الْمُخَالِفَةِ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ التَّأْدِيبِيَّةُ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْهَا فَسَادٌ فِي الْعَالَمِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْمُخَالَفَةِ إِذَا لَمْ يَرَ أَثَرَ فَعْلِهِ لَمْ يَتَأَدَّبْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَالتَّسَامُحُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ تَفْوِيتٌ لِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَوَّثَ مَوْضِعًا وَغَضِبَ عَلَيْهِ مُرَبِّيهِ ثُمَّ تَابَ فَعَفَا عَنْهُ فَالْعَفْوُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِقَابِ وَأَمَّا تَكْلِيفُهُ بِأَنْ يُزِيلَ بِيَدِهِ التَّلْوِيثَ الَّذِي لَوَّثَ بِهِ الْمَوْضِعَ فَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ التَّسَامُحُ فِيهِ وَلِذَا لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ رَضِيَ عَنْهُ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِعُقُوبَةٍ وَلَا بِزَاجِرٍ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصْفَحْ عَنْهُ فِي تَحَقُّقِ أَثَرِ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ لِيَرَى أَثَرَ حِرْصِهِ وَسُوءِ ظَنِّهِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّوْجِيهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنِ اهْبِطُوا الثَّانِي حِكَايَةَ أَمْرٍ ثَانٍ بِالْهُبُوطِ خُوطِبَ بِهِ آدَمُ. وجَمِيعاً حَال. وَجَمِيع اسْمٌ لِلْمُجْتَمِعِينَ مِثْلَ لَفْظِ (جَمْعٍ) فَلِذَلِكَ الْتَزَمُوا فِيهِ حَالَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفًا وَإِلَّا لَقَالُوا جَاءُوا جَمِيعِينَ لِأَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ وَقَدْ تَأَوَّلُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً بِأَنَّ التَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَعْنَى اهْبِطُوا مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْهُبُوطِ مُتَقَارِنَيْنِ فِيهِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي اقْتِرَافِ سَبَبِ الْهُبُوطِ. وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ شَرْطٌ عَلَى شَرْطٍ لِأَنَّ (إِمَّا) شَرْطٌ مُرَكَّبٌ مِنْ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَمَا الزَّائِدَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَأْكِيدِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ إِنْ بِمَجَرَّدِهَا دَالَّةٌ عَلَى الشَّرْطِ فَلَمْ يَكُنْ دُخُولُ مَا الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا كَدُخُولِهَا عَلَى (مَتَى) وَ (أَيْ) وَ (أَيْنَ) وَ (أَيَّانَ) وَ (مَا) وَ (مِنْ) وَ (مَهْمَا) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَهَا مَامَا لِأَنَّ تِلْكَ كَانَتْ زِيَادَتَهَا لِجَعْلِهَا مُفِيدَةً مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَمْ تُوضَعْ لَهُ بِخِلَافِ (إِنْ) وَقَدِ الْتَزَمَتِ الْعَرَبُ تَأْكِيدَ فِعْلِ الشَّرْطِ مَعَ إِمَّا بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَوْكِيدِ التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ عَلَامَتِهِ عَلَى أَدَاتِهِ وَعَلَى فِعْلِهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَا يُفِيدُ تَحْقِيقَ حُصُولِ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلتَّعْلِيقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَكَّدْ جَوَابُ الشَّرْطِ بِالنُّونِ بَلْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الرَّبْطِ أَيْ إِنَّ كَوْنَ

حُصُولِ الْجَوَابِ مُتَوَقِّفًا عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ مَا هُوَ إِلَّا خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ، إِذْ حَاصِلُهُ الْإِخْبَارُ بِتَوَقُّفِ حُصُولِ الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ فَلَا جَرَمَ كَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ قَابِلًا لِلتَّوْكِيدِ وَقَلَّمَا خَلَا فِعْلُ الشَّرْطِ مَعَ إِمَّا عَنْ نُونِ التَّوْكِيدِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً نِعَالَ لَنَا ... إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيِّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ هُوَ مَمْنُوعٌ فَجَعَلَا خُلُوَّ الْفِعْلِ عَنْهُ ضَرُورَةً. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ مَنْ شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْفَاءَ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ كَثِيرًا فَذَلِكَ عَلَى مُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَلْتُحْمَلْ هُنَا عَلَى الشُّرْطِيَّةِ اخْتِصَارًا لِلْمَسَافَةِ. وَأُظْهِرَ لَفْظَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: هُدايَ وَهُوَ عَيْنُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: مِنِّي هُدىً فَكَانَ الْمَقَامُ لِلضَّمِيرِ الرَّابِطِ لِلشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَوْلَى لَكِنَّهُ أُظْهِرَ اهْتِمَامًا بِالْهُدَى لِيَزِيدَ رُسُوخًا فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى حَدِّ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 15، 16] وَلِتَكُونَ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عَائِدٍ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُعَادٍ حَتَّى يَتَأَتَّى تَسْيِيرُهَا مَسِيرَ الْمَثَلِ أَوِ النَّصِيحَةِ فَتُلْحَظُ فَتُحْفَظُ وَتَتَذَكَّرُهَا النُّفُوسُ لِتُهَذَّبَ وَتَرْتَاضَ كَمَا أَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاء: 81] لِتَسِيرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مَسِيرَ الْمَثَلِ وَمِنْهُ قَوْلُ بَشَّارٍ: إِذَا بَلَّغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً ... مَكَانُ الْخَوَافِي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ وَأَدْنِ إِلَى الشُّورَى الْمُسَدَّدَ رَأْيُهُ ... وَلَا تُشْهِدِ الشُّورَى امْرَأً غَيْرَ كَاتِمِ فَكَرَّرَ الشُّورَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْبَيْتَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِيَكُونَ كُلُّ نِصْفٍ سَائِرًا مَسِيرَ الْمَثَلِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَعْرِيفِ الْهُدَى الثَّانِي بِالْإِضَافَةِ لِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دُونَ أَلْ مَعَ أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِير الْوَاقِع معاد لِئَلَّا يَفُوتَ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ شَيْءٌ تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى إِذِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ وَصْفَ الْهُدَى بِأَنَّهُ آتٍ مِنَ اللَّهِ وَالْإِضَافَةُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تُفِيدُ هَذَا الْمُفَادَ.

وَالْإِتْيَانُ (¬1) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ إِيذَانٌ بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِتَابٍ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْهُدَى الْأَوَّلِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُحَاوَلَةَ هَدْيِكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا جَدْوَى لَهَا كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهُ فَرَضِيَ عَنْهُ: إِنْ أَوْصَيْتُكَ يَوْمًا آخَرَ بِشَيْءٍ فَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ فَعْلَتِكَ، يُعَرِّضُ لَهُ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ بِوَصِيَّتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ إِذْ لَعَلَّهُ قَلِيلُ الْجَدْوَى، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ فَاتَ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» حَجَبَهُ عَنْهُ تَوْجِيهُ تَكَلُّفِهِ لِإِرْغَامِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِهُدَى الْعَقْلِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْن هُدَى اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ التَّكَلُّفُ كَثِيرٌ فِي «كِتَابِهِ» وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِرُسُوخِ قَدَمِهِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ تَقْرِيرُهُ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِالْإِيمَانِ الَّذِي يُغْنِي فِيهِ الْعَقْلُ عَنِ الرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ بَلْ مُعْظَمُهُ هُدَى التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا قِبَلَ لِلْعَقْلِ بِإِدْرَاكِهِ، وَهُوَ عَلَى أُصُولِهِمْ أَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ إِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ فَيَبْقَى الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الشَّكِّ هُنَا بِحَالِهِ فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ أَسْعَدَ بِمَذْهَبِنَا أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةَ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْهُدَى كُلِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَارِدَةً لِأَجْلِهِ. وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ هُوَ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَلَزِمَ ذُرِّيَّتَهُ أَنْ يَتْبَعُوا كُلَّ هُدًى يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هُدًى يَأْتِي مِنَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ ¬

(¬1) اعْلَم أَن أصل تَكْرِير الْكَلِمَة أَو الْجُمْلَة فِي الْكَلَام أَن يكون مَكْرُوها لما يورثه التكرير من سماجة السَّامع، لِأَن الْمَقْصُود من الْكَلَام تجدّد الْمعَانِي غير أَن تِلْكَ الْكَرَاهَة مُتَفَاوِتَة، فتكرير الْمُفْردَات لَا مندوحة عَنهُ، فَكَانَ اخْتِلَاف الْإِخْبَار عَنْهَا والأوصاف دافعا لكَرَاهَة تكريرها، وَلذَلِك لَا يعد تكريرها عَيْبا إِلَّا إِذا كثر فِي كَلَام غير طَوِيل نَحْو: لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء ... نغّص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا وَلذَلِك عدت كَثْرَة التكرير مُنَافِيَة للفصاحة. وَأما تَكْرِير الْجمل فِي الْكَلَام الْقَرِيب فأصله السماجة إِلَّا إِذا حصل من التكرير نُكْتَة بلاغية فَحِينَئِذٍ يغالب النشاط الْحَاصِل من التكرير أَو التأثر والانزعاج تِلْكَ السماجة فيدحضها. وَذَلِكَ كتكرير التهويل فِي «قربا مربط النعامة مني» وتكرير التطريب فِي إِعَادَة اسْم المحبوب فيقصد الْمُتَكَلّم تَجْدِيد ذَلِك التأثر فِي السَّامع حبا فِيهِ أَو نكاية وَذَلِكَ تَابع لحالة السامعين فِي ذَلِك الْمقَام بِحَيْثُ لَا يسأمون من التكرير لأَنهم يتطلبونه ويحمدونه لما يَتَجَدَّد لَهُم عِنْده من الانفعال الْحسن.

فَشَمِلَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا طَوَائِفُ النَّاسِ لِوُقُوعِ (هُدًى) نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَوْلَى الْهُدَى وَأَجْدَرُهُ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ الْهُدَى الَّذِي أَتَى مِنَ اللَّهِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ بَنِي آدَمَ وَبِذَلِكَ تَهَيَّأَ الْمَوْقِعُ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ فَاللَّهُ أَخَذَ الْعَهْدَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْبَشَرَ بِمَا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الضَّلَالِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ فَأَمَّا فِي تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ فَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلَا اخْتِلَافَ وَأَمَّا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى الْآتِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَعَرَفَهُ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ فَيَكُونُ خِطَابًا ثَابِتًا لَا يَسَعُ الْبَشَرَ ادِّعَاءُ جَهِلِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَقِيلَ لَا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ. وَقَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ نَفْيٌ لِجِنْسِ الْخَوْفِ. وخَوْفٌ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَبْنَيَا عَلَى الْفَتْحِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي اسْمِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ وَقَدْ رَوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» . وَبِنَاءُ الِاسْمِ عَلَى الْفَتْحِ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَرَفْعُهُ مُحْتَمِلٌ لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَلِنَفْيِ فَرْدٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ فَإِذَا انْتَفَى اللَّبْسُ اسْتَوَى الْوَجْهَانِ كَمَا هُنَا إِذِ الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ لِآدَمَ فَإِكْمَالُ ذِكْرِهِ هُنَا اسْتِيعَابٌ لِأَقْسَامِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَهُوَ يَعُمُّ مَنْ كَذَّبَ بِالْمُعْجِزَاتِ كُلِّهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ، عَطْفٌ عَلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إِلَخْ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ، وَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ غَيْرَ شَرْطِيَّةٍ مَعَ مَا فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنْ قُوَّةِ الرَّبْطِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرَتُّبِ وَالتَّسَبُّبِ وَعَدَمَ الِانْفِكَاكِ قَدْ حَصَلَ بِطُرُقٍ أُخْرَى فَحَصَلَ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ بِشَارَةٌ يُؤْذِنُ مَفْهُومُهَا بِنِذَارَةِ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ فَهُوَ خَائِفٌ حَزِينٌ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ فَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْآيَةَ. وَأَمَّا مَعْنَى التَّسَبُّبِ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَعْلِيقِ الْخَبَرِ عَلَى الْمَوْصُول وصلته المؤمي إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِانْفِكَاكِ

فَقَدِ اقْتَضَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ النَّارِ الْمُقْتَضِي لِلْمُلَازِمَةِ ثُمَّ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَذْيِيلٌ ذُيِّلَتْ بِهِ قِصَّةُ آدَمَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمُهْتَدِينَ وَلَيْسَ مِنَ الْمَقُولِ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَوْدُ إِلَى عَرْضِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: 21] وَقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 28] فَتَكُونُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا اعْتِرَاضِيَّةً وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا أَنْبِيَاءَهُ وَجَحَدُوا عَهْدَهُ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِي وَبِهُدَايَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ. وَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ الشَّيْءُ الدَّالُّ عَلَى أَمْرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِأَعْلَامِ الطَّرِيقِ آيَاتٌ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا لِلْإِرْشَادِ إِلَى الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ فِي الرِّمَالِ، وَتُسَمَّى الْحُجَّةُ آيَةً لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْحَقَّ الْخَفِيَّ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا ... تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ يَعْنِي ثَلَاثَ حُجَجٍ عَلَى نُصْحِهِمْ وَحُسْنِ بَلَائِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَعَلَى اتِّصَالِهِمْ بِالْمَلِكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ. وَسَمَّى اللَّهُ الدَّلَائِلَ عَلَى وُجُودِهِ وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ آيَاتٍ، فَقَالَ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الْأَنْعَام: 4] وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 97] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 99] وَقَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَام: 109] وَسَمَّى الْقُرْآنُ آيَةً فَقَالَ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [50، 51] . وَسَمَّى أَجْزَاءَهُ آيَاتٍ فَقَالَ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْحَج: 72] وَقَالَ: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرَّعْد: 1] لِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] ، فَكَانَ دَالًّا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَكَانَتْ جُمَلُهُ آيَاتٍ لِأَنَّ بِهَا بَعْضَ الْمِقْدَارِ الْمُعْجِزِ، وَلَمْ تُسَمَّ أَجْزَاءُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْأُخْرَى آيَاتٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ أَنَّ ابْنَ صُورِيَا حِينَ نَشَرَ التَّوْرَاةَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَذَلِكَ عَلَى تَشْبِيهِ الْجُزْءِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْجُزْءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ تَعْبِيرِ رَاوِي الْحَدِيثِ. وَأَصْلُ الْآيَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهُُِ

فَعَلَةٌ بِالتَّحْرِيكِ أَيَيَةٌ أَوْ أَوَيَةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا وَاوِيَّةٌ أَوْ يَائِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَيٍّ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ أَوْ مِنْ أَوَيَ (¬1) فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفَا الْعِلَّةِ فِيهَا قُلِبَ أَحَدُهُمَا وَقُلِبَ الْأَوَّلُ تَخْفِيفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ اجْتِمَاعِ حَرْفَيْ عِلَّةٍ صَالِحَيْنِ لِلْإِعْلَالِ أَنْ يُعَلَّ ثَانِيهِمَا إِلَّا مَا قَلَّ مِنْ نَحْوِ آيَةٍ وَقَايَةٍ وَطَايَةٍ وَثَايَةٍ وَرَايَةٍ (¬2) . فَالْمُرَادُ بِآيَاتِنَا هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ أَيْ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَي بِأَنَّهُ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بَاءٌ يَكْثُرُ دُخُولُهَا عَلَى مُتَعَلَّقِ مَادَّةِ التَّكْذِيبِ مَعَ أَنَّ التَّكْذِيبَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ أَقِفْ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى خَصَائِصِ لَحَاقِهَا بِهَذِهِ الْمَادَّةِ وَالصِّيغَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْذِيبِ فَتَكُونُ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَكَ الْخَيْرُ أَنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَصْلَهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ كَذَّبَ فَلَانًا بِخَبَرِهِ ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فَصَارَ كَذَّبَ بِهِ وَكَذَبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ كَذَّبَ فُلَانًا، وَكَذَبَ بِالْخَبَرِ الْفُلَانِيِّ، فَقَوْلُهُ: بِآياتِنا يَتَنَازَعُهُ فِعْلَا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا. وَقَوْلُهُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: أَصْحابُ النَّارِ فَإِنَّ الصَّاحِبَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُلَازِمِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ فِيها خالِدُونَ لِتَنَزُّلِهَا مِنَ الْأُولَى مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فَبَيْنَهُمَا كَمَال الِاتِّصَال. [40] ¬

(¬1) وزن آيَة يَقْتَضِي أَن يكون ألفها منقلبة عَن أصل أَو أَن يكون هُنَا لَك أصل مَحْذُوف وألفها زَائِدَة لِأَن حالتها الظَّاهِرَة لَا تساعد على وزن صرفي، ثمَّ قيل إِن أَصْلهَا مُشْتَقَّة من أَي الاستفهامية كَمَا اشتق الْكمّ من كم الخبرية واللو من كلمة لَو الَّتِي لِلتَّمَنِّي، وَقيل مُشْتَقَّة من أَوَى. وَالْحق أَن الْمُشْتَقّ مِنْهُ آيَة غير مَعْرُوف الأَصْل وَإِنَّمَا ذكرُوا هَذِه الِاحْتِمَالَات على وَجه التَّرَدُّد ثمَّ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَزنهَا فعلة أيية، أَو أويه. وَقَالَ الْفراء وَزنهَا فعلة بِسُكُون الْعين أييه أَو أوية وَكَانَ الْقيَاس حِينَئِذٍ إدغام الْيَاء فِي الْيَاء أَو قلب الْوَاو يَاء وإدغامها، لكِنهمْ لما رَأَوْا الْحَذف أخف عدلوا عَن الْإِدْغَام لِأَن إدغام حرفي عِلّة لَا يَخْلُو من ثقل وَلِئَلَّا يشْتَبه بأية مؤنث أَي نَحْو بأية سنة. وَقَالَ الْكسَائي أَصله آيية بِوَزْن فاعلة فقلبت الْيَاء الأولى همزَة لوقوعها إِثْر ألف فَاعل ثمَّ حذفت الْهمزَة. وفيهَا مَذَاهِب أخر. (¬2) الطاية: السَّطْح الَّذِي يُقَام عَلَيْهِ. والطاية من الْإِبِل: القطيع جمعه طايات وَهُوَ واوي. وَالثَّانيَِة حِجَارَة ترفع يَجْعَلهَا الرُّعَاة عَلامَة على مواقعهم فِي اللَّيْل إِذا رجعُوا.

[سورة البقرة (2) : آية 40]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 40] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) انْتِقَالٌ مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِذَلِكَ تَتِمُّ مَوْعِظَةُ الْفِرَقِ الْمُتَقَدَّمُ ذِكْرُهَا، لِأَنَّ فَرِيقَ الْمُنَافِقين لَا يعدو أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، وَوُجِّهَ الْخِطَابُ هُنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ أشهر الْأُمَم المتدينة ذَاتِ الْكِتَابِ الشَّهِيرِ وَالشَّرِيعَةِ الْوَاسِعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ جَاءَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فَكَانَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ الَّتِي هِيَ فُسْطَاطُهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْغَرَضِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ جَاءَ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْغَرَضِ عَلَى أَبْدَعِ الْأَسَالِيبِ وَأَكْمَلِ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ وَآثَارِ هَدْيِهِ وَمَا يكْتَسب متبوه مِنَ الْفَلَّاحِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَبِالتَّحْذِيرِ مِنْ سُوءِ مَغَبَّةِ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ هَدْيِهِ وَيَتَنَكَّبُ طَرِيقَهُ، وَوَصَفَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ أَحْوَالَ النَّاسِ تُجَاهَ تَلَقِّي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ عَلَى أَصْنَافِ أُولَئِكَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدِ انْحَصَرَ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَلَقِّينَ لِهَذَا الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ لِحَالِهِمْ تُجَاهَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي صِنْفَيْنِ لِأَنَّهُمْ إِمَّا مُشْرِكٌ أَوْ مُتَدَيِّنٌ أَيْ كِتَابِيٌّ، إِذْ قَدِ انْدَرَجَ صِنْفُ الْمُنَافِقِينَ فِي الصِّنْفِ الْمُتَدَيِّنِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَدَعَا الْمُشْرِكِينَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: 21] . فَالنَّاسُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا كَمَا تَقَدَّمَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ النَّاسِ فَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يَخْتَصُّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بِدَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ، وَذَكَّرَهُمْ بِدَلَائِلِ الصَّنْعَةِ وَهِيَ خَلْقُ أُصُولِهِمْ وَبِأُصُولِ نِعَمِ الْحَيَاةِ وَهِيَ خَلْقُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ لِإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ، وَعَجِبَ مِنْ كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ إِثْبَاتِ الْخَالِقِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ نِعْمَةُ تَكْرِيمِ أَصْلِهِمْ وَتَوْبَتُهُ عَلَى أَبِيهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ اقْتِصَارٌ عَلَى الْقَدْرِ الثَّابِتِ فِي فِطْرَتِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ مِنَ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَرْجِعًا فِي الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ يَقْتَنِعُونَ بِهِ، وَخَاطَبَهُمْ فِي شَأْنِ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ خِلَالَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي تُدْرِكُهُ أَذْوَاقُهُمُ الْبَلَاغِيَّةُ فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] الْآيَاتِ. وَلَمَّا قَضَى ذَلِكَ كُلَّهَ حَقَّهُ أَقْبَلَ بِالْخِطَابِ هُنَا عَلَى الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ أَهْلُ الشَّرَائِعِ وَالْكِتَابِ وَخَصَّ مِنْ

بَيْنِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ أَمْثَلُ أُمَّةٍ ذَاتِ كِتَابٍ مَشْهُورٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَهُمُ الْأَوْحِدَاءُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ السَّاكِنِينَ الْمَدِينَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَهُمْ أَيْضًا الَّذِينَ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْعِنَادُ وَالنِّوَاءُ لِهَذَا الدِّينِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَدْعُ الْيَهُودَ إِلَى تَوْحِيدٍ وَلَا اعْتِرَافٍ بِالْخَالِقِ لِأَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَلَكِنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى تَذَكُّرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِلَى مَا كَانَتْ تُلَاقِيهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ مُكَذِّبِيهِمْ، لِيَذْكُرُوا أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ وَلِيَرْجِعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمِثْلِ مَا كَانُوا يُؤَنِّبُونَ بِهِ مَنْ كَذَّبَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِبِشَارَاتِ رُسُلِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ بِنَبِيٍّ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَلِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ جَادَلَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ بِمَا تَعَارَفُوهُ مِنْ أَحْوَالِ الرُّسُلِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ لَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّدْقِ بِدَلَالَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: 26] فَكَانَ خِطَابُهُمْ هُنَا بِالدَّلَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَبِحُجَجِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ لِيَكُونَ دَلِيلُ صِدْقِ الرَّسُولِ فِي الِاعْتِبَارِ بِحَالِهِ وَأَنَّهُ جَاءَ عَلَى وِفَاقِ أَحْوَالِ إِخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ السَّابِقِينَ. وَقَدْ أَفَاضَ الْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ وَتَدَرَّجَ فِيهِ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْتِهَا بِأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فِي مُجَادَلَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَأَفَادَ فِيهِ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 197] فَقَدْ كَانَ الْعِلْمُ يَوْمَئِذٍ مَعْرِفَةَ التَّشْرِيعِ وَمَعْرِفَةَ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَحْوَالِ الْعَالَمَيْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مَعَ الْوِصَايَاتِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْمَوَاعِظِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، فَبِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ يَفُوقُونَ الْعَرَبَ وَمِنْ أَجْلِهِ كَانَتِ الْعَرَبُ تسترشدهم فِي الشؤون وَبِهِ امْتَازَ الْيَهُودُ عَلَى الْعَرَبِ فِي بِلَادِهِمْ بِالْفِكْرَةِ الْمَدَنِيَّةِ. وَكَانَ عِلْمُ عَامَّةِ الْيَهُودِ فِي هَذَا الشَّأْنِ ضَعِيفًا وَإِنَّمَا انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ عُلَمَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ فَجَاءَ الْقُرْآنُ فِي هَاتِهِ الْمُجَادَلَاتِ مُعْلِمًا أَيْضًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمُلْحِقًا لَهُمْ بِعُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى تَكُونَ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَضُمُّونَ هَذَا الْعِلْمَ إِلَى عُلُومِهِمُ اللِّسَانِيَّةِ وَنَبَاهَتِهِمُ الْفِكْرِيَّةِ فَتُصْبِحَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مُسَاوِيَةً فِي الْعِلْمِ لِخَاصَّةِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَهَذَا مَعْنًى عَظِيمٌ مِنْ مَعَانِي تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ وَالْإِلْحَاقِ فِي مُسَابَقَةِ التَّمُدْيُنِ. وَبِهِ تَنْكَشِفُ لَكُمْ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ تَعَرُّضِ الْقُرْآنِ لِقِصَصِ الْأُمَمِ وَأَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الْعِبْرَةِ تَعْلِيمًا اصْطِلَاحِيًّا. وَلَقَدْ نَعُدُّ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّهُ شَرَحَ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَخَاصَّتُهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى كِتْمَانِهِ الاستئثار بِهِ

خَشْيَةَ الْمُزَاحَمَةِ فِي الْجَاهِ وَالْمَنَافِعِ فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْهُمْ وَعَنْ عِلْمِهِمْ صَادِعًا بِمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ خَاصَّتِهِمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ لِلْكِتَابِيِّينَ قَائِمَةً مَقَامَ الْمُعْجِزَةِ الْبَلَاغِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِهَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ. وَقَدْ رُوعِيَتْ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ مُسَايَرَةُ تَرْتِيبِ كتب التَّوْرَاة إِذا عَقَّبَتْ كِتَابَ التَّكْوِينِ بِكِتَابِ الْخُرُوجِ أَيْ وَصْفِ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مُدَّةِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ بَعْثَةِ مُوسَى، وَقَدِ اقْتَصَرَ مِمَّا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ عَلَى ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وَإِسْكَانِهِ الْأَرْضَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ فِيهَا عِبَرًا جَمَّةً لَهُمْ وَلِلْأُمَّةِ. فَقَوْلُهُ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ خِطَابٌ لِذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ انْحَصَرَ سَائِرُ الْأُمَّةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَقَدْ خَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ أَنْ يَقُولَ يَا أَيُّهَا الْيَهُودُ لِكَوْنِهِ هُوَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ أَمَّا الْيَهُودُ فَهُوَ اسْمُ النِّحْلَةِ وَالدِّيَانَةِ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَّبِعًا دِينَ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَحِمْيَرَ لَمْ يُعَتَدَّ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَوْ آمَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَآمَنَ أَتْبَاعُهُمْ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ تَبَعٌ لِمُقَلِّدِهِ. وَلِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعَمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَسْلَافِهِمْ وَكَرَامَاتٍ أَكْرَمَهُمْ بِهَا فَكَانَ لِنِدَائِهِمْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ وَأَعْقَابَهُ مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ذُكِّرُوا بِعُنْوَانِ التَّدَيُّنِ بِدِينِ مُوسَى ذُكِّرُوا بِوَصْفِ الَّذِينَ هَادُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الْبَقَرَة: 62] الْآيَةَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَتَوْجِيهُ الْخُطَّابِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَشْمَلُ عُلَمَاءَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ لِأَنَّ مَا خُوطِبُوا بِهِ هُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ وَبِعَهْدِ اللَّهِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ نَجِدُ خِطَابَهُمْ فِي الْأَغْرَاضِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا التَّسْجِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ يَكُونُ بِنَحْوِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ [آل عمرَان: 64] أَوْ بِوَصْفِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هَادُوا أَوْ بِوَصْفِ النَّصَارَى، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ التَّسْجِيلَ عَلَى عُلَمَائِهِمْ نَجِدُ الْقُرْآنَ يُعَنْوِنُهُمْ بِوَصْفِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [النِّسَاء: 47] أَوِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: 20] . وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْخَبَرِ الْمَسُوقِ مِمَّا يُنَاسِبُ عُلَمَاءَهُمْ خَاصَّةً مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 75] . وَنَحْوَ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] وَنَحْوَ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 42] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: 79] الْآيَةَ وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ

يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 159] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الْبَقَرَة: 145] الْآيَةَ. فَإِذَا جَاءَ الْخِطَابُ بِأُسْلُوبٍ شَامِلٍ لِعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ صُرِفَ إِلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مَا هُوَ لَائِقٌ بِهَا. وَبَنُونَ مِمَّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّهُ دخل التَّكْسِيرُ بِحَذْفِ لَامِهِ وَزِيَادَةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي أَوَّلِهِ فَحَقُّهُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى أَبْنَاءٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِ ابْنٍ فَقِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ بَنَى أَيْ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ فَأَصْلُهُ بَنْيٌ أَيْ مَبْنِيٌّ لِأَنَّ أَبَاهُ بَنَاهُ وَكَوَّنَهُ فَحُذِفَتْ لَامُهُ لِلتَّخْفِيفِ وَعُوِّضَ عَنْهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ فَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ فِي مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ إِلَّا أَنَّ الْحَذْفَ حِينَئِذٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ الْيَاءَ لَا مُوجِبَ لِحَذْفِهَا إِلَّا أَنْ يُتَكَلَّفَ لَهُ بِأَنَّ الْيَاءَ تَحَرَّكَتْ مَعَ سُكُونِ مَا قَبْلَهَا فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا لِلسَّاكِنِ إِجْرَاءً لَهُ مُجْرَى عَيْنِ الْكَلِمَةِ ثُمَّ لَمَّا انْقَلَبَ أَلِفًا عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ خِيفَ الْتِبَاسُهُ بِفِعْلِ بَنَى فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَعُوِّضَ عَنْهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَقِيلَ أَصْلُهُ وَاوٌ عَلَى وَزْنِ بَنْوٍ أَوْ بَنَوٍ بِسُكُونِ النُّونِ أَوْ بِالتَّحْرِيكِ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ نَظَائِرِهِ نَحْوَ أَخٍ وَأَبٍ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ عَنِ الِاشْتِقَاقِ وَبُعْدٌ عَنْ نَظَائِرِهِ لِأَنَّ نَظَائِرَهُ لَمَّا حُذِفَتْ لَامَاتُهَا لَمْ تُعَوِّضْ عَنْهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَإِسْرَائِيلُ لَقَبُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ، لِأَنَّ إِسْرَا بِمَعْنَى عَبْدٍ وإيل اسْمُ اللَّهِ أَيْ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ- إِسْرَا- وإيل- اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ بَيْتُ إِيلَ (اسْمٌ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى لَوْزَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ نَزَلَهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُهَاجَرِهِ فِرَارًا مِنْ أَخِيهِ عِيسُو وَبَنَى فِيهَا مَذْبَحًا وَدَعَا اسْمَهُ بَيْتَ إِيلَ) . وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ سَبَبَ تَسْمِيَةِ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَائِفًا فِي مُهَاجَرِهِ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ أَخُوهُ عِيسُو لِيَنْتَقِمَ مِنْهُ (¬1) عَرَضَ لَهُ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي شَخْصٌ فَعَلِمَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ رَبُّهُ (أَيْ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ) فَأَمْسَكَهُ وَصَارَعَهُ يَعْقُوبُ كَامِلَ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَالَ لَهُ أَطْلِقْنِي فَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: لَا أُطْلِقُكَ حَتَّى تُبَارِكَنِي فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يَعْقُوبُ قَالَ لَهُ: لَا يُدْعَى اسْمُكَ يَعْقُوبَ بَعْدَ الْيَوْمِ بَلْ أَنْتَ ¬

(¬1) إِن تَارِيخ الْيَهُود يَقُول إِن إِسْحَاق لما كبر وَضعف بَصَره أَرَادَ أَن يُبَارك ابْنه عيسو ليَكُون خَلِيفَته فِي النُّبُوَّة بعد مَوته فَأمره أَن يصيد لَهُ صيدا وَيجْعَل لَهُ طَعَاما ليَأْكُل ويباركه فأشعرت أمهما رفْقَة ابْنهَا يَعْقُوب بذلك وَكَانَت تحبه فتحيل وأوهم أَبَاهُ أَنه هُوَ عيسو وَذبح لَهُ جديين أَو همه أَنَّهُمَا صَيْده فباركه، فَلَمَّا رَجَعَ عيسو وَعلم حِيلَة أَخِيه وَكَانَت الْبركَة تمت ليعقوب عزم عيسو على قتل أَخِيه يَعْقُوب. (تكوين إصحاح 27) .

إِسْرَائِيلُ لِأَنَّكَ جَاهَدْتَ اللَّهَ وَالنَّاسَ وَقَدَرْتَ. وَبَارَكَهُ هُنَاكَ (¬1) . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْرَا فِي هَذَا الِاسْمِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْأَسْرِ فِي الْحَرْبِ كَمَا هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَصْلِ التَّوْرَاةِ فَهُوَ عَلَى تَأْوِيلِ رُؤْيَا رَآهَا يَعْقُوبُ جَعَلَ اللَّهُ بِهَا لَهُ شَرَفًا أَوْ عَرَضَ لَهُ مَلَكٌ كَذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ لَهُ اثْنَا عشر ابْنا وهم الْمَشْهُورُونَ بِالْأَسْبَاطِ لِأَنَّهُمْ أَسْبَاطُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَى هَؤُلَاءِ الْأَسْبَاطِ يَرْجِعُ نَسَبُ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْأَسْبَاطِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. واذْكُرُوا أَمْرٌ مِنَ الذِّكْرِ وَهُوَ- أَيِ الذِّكْرُ- بِكَسْرِ الذَّالِ وَضَمِّهَا يُطْلَقُ عَلَى خُطُورٍ شَيْءٍ بِبَالِ مَنْ نَسِيَهُ وَلِذَلِكَ قِيلَ، وَكَيْفَ يَذْكُرُهُ مَنْ لَيْسَ يَنْسَاهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّيْءِ الْخَاطِرِ بِبَالِ النَّاسِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالدَّالِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْطِقُ بِاسْمِ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا خَطَرَ بِبَالِهِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بَيْنَ مَكْسُورِ الذَّالِ وَمَضْمُومِهِ فَجَعَلَ الْمَكْسُورَ لِلِّسَانِيِّ وَالْمَضْمُومَ لِلْعَقْلِيِّ وَلَعَلَّهَا تَفْرِقَةٌ اسْتِعْمَالِيَّةٌ مُوَلَّدَةٌ إِذْ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ تَخْصِيصُهُ أَحَدَ مَصْدَرَيِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ لِأَحَدِ مَعَانِي الْفِعْلِ عِنْدَ التَّعْبِيرِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ اصْطِلَاحِيًّا اسْتِعْمَالِيًّا لَا وَضْعًا حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْمُتَرَادِفِ إِذِ اتِّحَادُ الْفِعْلِ مَانِعٌ مِنْ دَعْوَى تَرَادُفِ الْمَصْدَرَيْنِ فَقَدَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَسَمَّى النَّوْعَيْنِ ذِكْرًا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الذِّكْرُ الْعَقْلِيُّ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِاللِّسَانِ. وَالْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ هُنَا جَمِيعُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةِ الْإِنْعَامِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ فَإِنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْأَسْلَافِ نِعْمَةٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهَا سُمْعَةٌ لَهُمْ، وَقُدْوَةٌ يَقْتَدُونَ بِهَا، وَبَرَكَةٌ تَعُودُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، وَصَلَاحُ حَالِهِمُ الْحَاضِرِ كَانَ بِسَبَبِهَا، وَبَعْضُ النِّعَمِ يَكُونُ فِيمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ مِنْ فِطْنَةٍ وَسَلَامَةِ ضَمِيرٍ وَتِلْكَ قَدْ تُورَثُ فِي الْأَبْنَاءِ. وَلَوْلَا تِلْكَ النِّعَمُ لَهَلَكَ سَلَفُهُمْ أَوْ لَسَاءَتْ حَالُهُمْ فَجَاءَ أَبْنَاؤُهُمْ فِي شَرِّ حَالٍ. فَيَشْمَلُ هَذَا جَمِيعَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اذْكُرُوا نِعَمِي عَلَيْكُمْ. وَهَذَا الْعُمُومُ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِضَافَةِ نِعْمَةٍ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِذِ الْإِضَافَةُ تَأْتِي لِمَا تَأْتِي لَهُ اللَّامُ وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ الْعَهْدُ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ نِعْمَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَعْهُودَةٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَى اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ فَالْعُمُومُ حَصَلَ مِنْ إِضَافَةِ نِعْمَةٍ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَقَلِيلٌ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَنْ يَذْكُرُونَ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي «الْمَحْصُولِ» فِي أَثْنَاءِ ¬

(¬1) انْظُر سفر التكوين إصحاح 32.

الِاسْتِدْلَالِ. وَقَالَ وَلِيُّ الدِّينِ: الْإِضَافَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنَ اللَّامِ وَقَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي «شَرْحِ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ» : دِلَالَةُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ عَلَى الْعُمُومِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَهْدٌ هُوَ الصَّحِيحُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّور: 63] أَيْ كُلِّ أَمْرِهِ وَقَدْ تَأَيَّدَ قَصْدُ عُمُومِ النِّعْمَةِ بِأَنَّ الْمَقَامَ لِلِامْتِنَانِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُنَاسِبُهُ تَكْثِيرُ النِّعَمِ. وَالْمُرَادُ النِّعَمُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَسْلَافِهِمْ وَعَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ زَمَنَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ النِّعْمَةَ عَلَى أَسْلَافِهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَتَابَعَتِ النِّعَمُ عَلَيْهِمْ إِذْ بَوَّأَهُمْ قُرًى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ سُلِبَتْ بِلَادُهُمْ فِلَسْطِينُ وَجَعَلَهُمْ فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْعَيْشِ مَعَ الْأَمْنِ وَالثَّرْوَةِ وَمُسَالَمَةِ الْعَرَبِ لَهُمْ. وَالْأَمْرُ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ شُكْرُهَا وَمِنْ أَوَّلِ مَرَاتِبِ الشُّكْرِ تَرْكُ الْمُكَابَرَةِ فِي تَلَقِّي مَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الرِّسَالَةِ بِالنَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهَا وَمُتَابَعَةِ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُرْسَلُونَ. فَقَوْلُهُ: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَصْفٌ أُشِيرَ بِهِ إِلَى وُجُوبِ شُكْرِ النِّعَمِ لما يُؤذن الْمَوْصُول وَصِلَتِهِ مِنَ التَّعْلِيلِ فَهُوَ مَنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْمَائِدَة: 6] وَيُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِتَفَكُّرِ النِّعَمِ الَّتِي أنعم بهَا عَلَيْكُم لِيَنْصَرِفُوا بِذَلِكَ عَنْ حَسَدِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ تَذْكِيرَ الْحَسُودِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ النِّعَمِ عِظَةٌ لَهُ وَصَرْفٌ لَهُ عَنِ الْحَسَدِ النَّاشِئِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِنِعَمِ الْغَيْرِ وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِهِمْ أَنَّهُمْ حَاسِدُونَ لِلْعَرَبِ فِيمَا أُوتُوا مِنِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِقَالِ النُّبُوَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعَرَبِ وَإِنَّمَا ذُكِّرُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلنَّفْسِ غَفْلَةً عَمَّا هُوَ قَائِمٌ بِهَا وَإِنَّمَا تَشْتَغِلُ بِأَحْوَالِ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْحِسَّ هُوَ أَصْلُ الْمَعْلُومَاتِ فَإِذَا رَأَى الْحَاسِدُ نِعَمَ الْغَيْرِ نَسِيَ أَنَّهُ أَيْضًا فِي نِعْمَةٍ فَإِذَا أُرِيدَ صَرْفُهُ عَنِ الْحَسَدِ ذُكِّرَ بِنِعَمِهِ حَتَّى يَخِفَّ حَسَدُهُ فَإِنَّ حَسَدَهُمْ هُوَ الَّذِي حَالَ دُونَ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ فَيَكُونُ وِزَانُهُ وِزَانَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: 54] ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ التَّخْلِيَةِ- بِالْمُعْجَمَةِ- عَلَى التَّحْلِيَةِ- بِالْمُهْمَلَةِ- وَيَكُونُ افْتِتَاحُ خِطَابِهِمْ بِهَذَا التَّذْكِيرِ تَهْيِئَةً لِنُفُوسِهِمْ إِلَى تَلَقِّي الْخِطَابِ بِسَلَامَةِ طَوِيَّةٍ وَإِنْصَافٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي هُوَ فِعْلٌ مَهْمُوزٌ مِنْ (وَفَى) الْمُجَرَّدِ وَأَصْلُ مَعْنَى وَفَى أَتَمَّ الْأَمْرَ تَقُولُ وَفَيْتُهُ حَقَّهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُجَرَّدُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَهْمُوزِ زِيَادَةُ تَعْدِيَةٍ لِلتَّسَاوِي بَيْنَ قَوْلِكَ وَفَيْتُهُ حَقَّهُ وَأَوْفَيْتُهُ حَقَّهُ تَعَيَّنَتِ الزِّيَادَةُ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْفِيَةِ مِثْلَ بَانَ وَأَبَانَ وَشَغَلَ وَأَشْغَلَ وَأَمَّا وَفَّى بِالتَّضْعِيفِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَوْفَى لِأَنَّ فَعَّلَ وَإِنْ شَارَكَ أَفْعَلَ فِي مَعَانِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ

دَالًّا عَلَى التَّقَضِّي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُفْعَلُ مُدَرَّجًا أَنْ يَكُونَ أَتْقَنَ. وَقَدْ أُطْلِقَ الْوَفَاءُ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ إِطْلَاقًا شَائِعًا صَيَّرَهُ حَقِيقَةً. وَالْعَهْدُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [الْبَقَرَة: 27] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْعَهْدُ هُنَا هُوَ الِالْتِزَامُ لِلْغَيْرِ بِمُعَامَلَةٍ الْتِزَامًا لَا يُفَرِّطُ فِيهِ الْمَعَاهِدُ حَتَّى يَفْسَخَاهُ بَيْنَهُمَا وَاسْتُعِيرَ الْعَهْدُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِقَبُولِ مَا يُكَلِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الدِّينِ وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا لِقَبُولِ التَّكَالِيفِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ وَاسْتُعِيرَ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِلْوَعْدِ عَلَى ذَلِكَ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ عَهْدٍ مَجَازًا مُفْرَدًا اسْتُعْمِلَ الْعَهْدُ الْأَوَّلُ فِي التَّكَالِيفِ وَاسْتُعْمِلَ الْعَهْدُ الثَّانِي فِي الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ وَالنَّصْرِ وَاسْتُعْمِلَ الْإِيفَاءُ مَعَ كِلَيْهِمَا فِي تَحْقِيقِ مَا الْتَزَمَ بِهِ كِلَا الْجَانِبَيْنِ مُسْتَعَارًا مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِلَى ملائم الْمُشبه ليُفِيد تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَتِهِ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَجْمُوعَ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً بِأَنْ شَبَّهَ الْهَيْئَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ قَوْلِهِمْ لَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَنْ لَا يُقَصِّرُوا فِي الْعَمَلِ وَمِنْ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالثَّوَابِ بِهَيْئَةِ الْمُتَعَاهِدِينَ عَلَى الْتِزَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ لِلْآخَرِ وَوَفَائِهِ بِعَهْدِهِ فِي عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِهِ فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَهَذَا أَحْسَنُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ وَجْهُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَهْدِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَتُقَرِّبُهُ الْمُشَاكَلَةُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْعَهْدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَفْعُولِ مُتَعَيِّنَةٌ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيفَاءُ إِذْ لَا يُوفِي أَحَدٌ إِلَّا بِعَهْدِ نَفْسِهِ فَإِذَا أُضِيفَ الْعَهْدُ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ أَوْفُوا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِ الْإِيفَاءِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ تَرْشِيحُ الْمَجَازِ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَمَا أَشَارَ لَهُ الْمُحَقق التفتازانيّ فَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا فَأَخْلِقْ بِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِلْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا يُضَافُ بِقَيْدِ الْإِيفَاءِ إِلَى مَفْعُولِهِ لَا مَحَالَةَ. وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْعَهْدِ لِلِاسْتِعَارَةِ هُنَا لِتَكْلِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لَهُمْ بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُلَقَّبُ عِنْدَهُمْ بِالْعَهْدِ لِأَنَّهَا وَصَايَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَلِذَا عُبِّرَ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمِيثَاقِ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا عُلَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أَشَحُّ بِهِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا خَاصَّةُ أَهْلُ الدِّينِ فَمَجِيئُهُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ الْعَلَّامِ بِالْغُيُوبِ. وَالْعَهْدُ قَدْ أُخِذَ عَلَى أَسْلَافِهِمْ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ قَالَ تَعَالَى:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ قَدْ تَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدٍ فَقَدْ كَانَ الْعَهْدُ لَازِمًا لَهُمْ وَكَانَ الْوَفَاءُ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الرَّسُولُ الْمَوْعُودُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ عَطَفَتِ الْوَاوُ جُمْلَةَ وَإِيَّايَ عَلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي إِلَى آخِرِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَعْنًى إِلَى الْمَعْنَى الْمُتَوَلِّدِ عَنْهُ وَهِيَ أَصْلُ طَرِيقَةِ الْمُنْشِئِينَ أَنْ يُرَاعُوا التَّرْتِيبَ الْخَارِجِيَّ فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ مَا لَمْ يَطْرَأْ مُقْتَضٍ لِتَغْيِيرِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [هود: 77] إِلَخْ، فَإِنَّهُ لَمَّا افْتَتَحَ خِطَابَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ الْبَاعِثِ عَلَى شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَمُرَاقَبَةِ حَقِّهِ وَالْمُطَهِّرِ لَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ فَإِنَّهُ صَارِفٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ كَمَا قَدَّمْنَا. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي وَهُوَ مَبْدَأُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْأَمْرِ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فَهُوَ تَتْمِيمٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ السَّابِقِ بِالنَّهْيِ عَمَّا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَى وَجْهِهِ وَذَلِكَ هُوَ صَدُّ كُبَرَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الِانْتِقَالِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ فَإِنَّهُمْ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَلِكِ بِلَادِهِمْ فِرْعَوْنَ مِصْرَ يَوْمَ بِعْثَةِ مُوسَى لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا [طه: 72] فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَن يخاطبوا سادتهم وَأَحْبَارَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ عِنْدَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. فَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِلِاخْتِصَاصِ لِيَحْصُلَ مِنَ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ وَاخْتِيرَ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ طَرِيقُ التَّقْدِيمِ دُونَ مَا وَإِلَّا لِيَكُونَ الْحَاصِلُ بِالْمَنْطُوقِ هُوَ الْأَمْرَ بِرَهْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ رَهْبَةِ غَيْرِهِ حَاصِلًا بِالْمَفْهُومِ فَإِنَّهُمْ إِذَا رَهِبُوا اللَّهَ تَعَالَى حَرَصُوا عَلَى الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ وَلَمَّا كَانَتْ رَهْبَتُهُمْ أَحْبَارَهُمْ تَمْنَعُهُمْ من الْإِيفَاء بالعهد أُدْمِجَ النَّهْيُ عَنْ رَهْبَةِ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ الْأَمْرِ بِرَهْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ مَعَ اشْتِغَالِ فِعْلِهِ بِضَمِيرِهِ آكَدُ فِي إِفَادَةِ التَّقْدِيمِ الْحَصْرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُشْتَغِلِ بِضَمِيرِهِ، فَإِيَّايَ ارْهَبُونِ آكَدُ مِنْ نَحْوِ إِيَّايَ ارْهَبُوا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ: «وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدًا رَهِبْتُهُ وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] اهـ. وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يَدُلَّ

عَلَى الِاخْتِصَاصِ إِلَّا إِذَا أَقَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى التَّقْوَى فَإِذَا كَانَ مَعَ التَّقْدِيمِ اشْتِغَالُ الْفِعْلِ بِضَمِيرِ الْمُقَدَّمِ نَحْوَ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ كَانَ الِاخْتِصَاصُ أَوْكَدَ أَيْ كَانَ احْتِمَالُ التَّقْوَى أَضْعَفَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ بَعْدَ إِسْنَادِهِ إِلَى الظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ يُفِيدُ التَّقْوَى فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ لِلِاخْتِصَاصِ دُونَ التَّقْوَى إِذِ التَّقْوَى قَدْ حَصَلَ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ أَوَّلًا إِلَى الِاسْمِ أَوِ الظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ وَثَانِيًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَقَدِّمِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَكْثَرُ اخْتِصَاصًا وَلَا أَقْوَى اخْتِصَاصًا إِذِ الِاخْتِصَاصُ لَا يَقْبَلُ التَّقْوِيَةَ بَلْ قَالَ وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ أَيْ أَنَّ إِفَادَتَهُ الِاخْتِصَاصَ أَقْوَى لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ التَّقْدِيمِ لِلتَّقْوَى قَدْ صَارَ مَعَ الِاشْتِغَالِ ضَعِيفًا جِدًّا. وَلَسْنَا نَدَّعِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ مُتَعَيِّنٌ لِلتَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِلَا تَخْصِيصٍ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: 49] ، وَقَوْلِهِ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: 24] وَقَوْلِ زُهَيْرٍ: فَكُلًّا أَرَاهُمْ أَصْبَحُوا يَعْقِلُونَهُ ... صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ لِظُهُورِ أَنْ لَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ مَعَ صِيغَةِ الِاشْتِغَالِ لِلتَّخْصِيصِ إِذِ الْعَرَبُ لَا تُقَدِّمُ الْمَفْعُولَ غَالِبًا إِلَّا لِذَلِكَ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا وَجَّهَ بِهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» أَنَّ احْتِمَالَ الْمَفْعُولِ فِي الِاشْتِغَالِ التَّخْصِيصُ وَالتَّقْوَى بَاقٍ عَلَى حَالِهِ وَلَكِنَّكَ إِنْ قَدَّرْتَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَفْعُولِ كَانَ التَّقْدِيمُ لِلتَّقْوَى وَإِنْ قَدَّرْتَهُ بَعْدَ الْمَفْعُولِ كَانَ التَّقْدِيمُ لِلتَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى حَالَةِ مَوْقِعِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ مَعَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ اعْتِبَارٌ لَا يُلَاحِظُهُ الْبُلَغَاءُ وَلِأَنَّهُمْ يَنْصِبُونَ عَلَى مَوْقِعِهِ قَرِينَةً فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّامِعَ إِنَّمَا يَعْتَدُّ بِالتَّقْدِيمِ الْمَحْسُوسِ وَبِتَكْرِيرِ التَّعَلُّقِ وَأَمَّا الِاعْتِدَادُ بِمَوْقِعِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ فَحَوَالَةٌ عَلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا قِبَلَ لِلسَّامِعِ بِمَعْرِفَةِ نِيَّتِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي التَّقْدِيرِ لِلسَّامِعِ. هَذَا وَالتَّقْدِيمُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْفَاءِ كَانَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، لِأَنَّ الْفَاءَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُؤْذِنَةٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا الْفَاءَ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُهُ عَامًّا نَحْوَ إِنْ يَكُنْ شَيْءٌ أَوْ مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ كَمَا أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] حَيْثُ قَالَ: «وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَهْمَا كَانَ فَلَا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ» . فَالْمَعْنَى هُنَا وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَمَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَإِيَّايَ ارْهَبُونِي، فَلَمَّا حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ بَقِيَتْ فَاءُ الْجَوَابِ مُوَالِيَةً لِوَاوِ الْعَطْفِ فَزُحْلِقَتْ إِلَى أَثْنَاءِ الْجَوَابِ كَرَاهِيَةَ تَوَالِيُُ

حَرْفَيْنِ فَقِيلَ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بَدَلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ فَارْهَبُونِ. وَالتَّعْلِيقُ عَلَى الشَّرْطِ الْعَامِّ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ وُقُوعِ الْجَوَابِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ بِمَنْزِلَةِ رَبْطِ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ فَإِذَا كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُحَقَّقَ الْوُقُوعِ لِعَدَمِ خُلُوِّ الْحَدَثَانِ عَنْهُ تَعَيَّنَ تَحَقُّقُ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يُخْتَارُ فِيهِمَا النَّصْبُ فِي الِاسْمِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِكَ زَيْدًا اضْرِبْهُ وَمِثْلَ ذَلِكَ أَمَّا زَيْدًا فَاقْتُلْهُ فَإِذَا قُلْتَ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ تَحَمِلَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ لَمْ يَسْتَقِمْ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ هُنَا فِي مَعْنَى فَاءِ الْجَزَاءِ فَمِنْ ثَمَّ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ هَاتِهِ الْفَاءَ مَهْمَا وُجِدَتْ فِي الِاشْتِغَالِ دَلَّتْ عَلَى شَرْطٍ عَامٍّ مَحْذُوفٍ وَإِنَّ الْفَاءَ كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الِاسْمِ فَزُحْلِقَتْ عَلَى حُكْمِ فَاءِ جَوَابِ أَمَّا الشَّرْطِيَّةُ (¬1) وَأَحْسَبُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ مُبْتَكَرِ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَلَمْ أَذْكُرْ أَنِّي عَثَرْتُ عَلَى مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَبْنِيَّ عَلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ مِنِ اعْتِبَارِ الْفَاءِ مُشْعِرَةً بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَنَّ غَالِبَ مَوَاقِعِ هَاتِهِ الْفَاءِ الْمُتَقَدِّمِ مَعَهَا الْمَفْعُولُ عَلَى مَدْخَلِهَا أَنْ تَقَعَ بَعْدَ نَهْيٍ أَوْ أَمْرٍ يُنَاقِضُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْفَاءُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ إِلَى قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 65، 66] وَقَوْلِ الْأَعْشَى: «وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا» فَكَانَ مَا يَتَقَدَّمُ هَاتِهِ الْفَاءَ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ شَرْطٌ فِي الْمَعْنَى وَكَانَتِ الْفَاءُ مُؤْذِنَةً بِذَلِكَ الشَّرْطِ وَعَلَامَةً عَلَيْهِ فَلِأَجْلِ كَوْنِهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلَيْنِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ كَانَ كَالْمَذْكُورِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَفَإِنْ كُنْتَ عَابِدًا شَيْئًا فَاللَّهَ فَاعْبُدْ، وَكَذَا فِي الْبَيْتِ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ لَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا السَّلَفُ فَخُذْهَا وَلَا تَخَفْ. ¬

(¬1) وَقيل إِن الْفَاء فِي مثل هَذَا عاطفة على مَحْذُوف، فَقَالَ السيرافي فِي «شرح الْكتاب» إِن الْفَاء تدل على فعل من شَأْنه أَن يكون سَببا فِيمَا دخلت عَلَيْهِ الْفَاء، فَفِي نَحْو زيدا فَاضْرب تأهب فَاضْرب زيدا أَو نَحوه فَلَمَّا حذف الْمَعْطُوف عَلَيْهِ قدم مَعْمُول الْفِعْل ليَكُون عوضا عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ الْمَحْذُوف وَلأَجل كَون تَقْدِيمه لعِلَّة صَحَّ إِعْمَال مَا بعد الْفَاء فِيهِ كَمَا أعمل مَا بعد الْفَاء الْوَاقِعَة فِي جَوَاب أما فِيمَا قبلهَا لِأَنَّهُ قدم ليحل مَحل فعل الشَّرْط. وعَلى هَذَا القَوْل فالتقديم لَيْسَ لقصد تَخْصِيص وَلَا تقو. وَقَالَ صَاحب «الْمِفْتَاح» : الْفَاء عطفت الْفِعْل على فعل مثله للتقوي، وَالْمَفْعُول الْمَذْكُور مفعول الْفِعْل الْمَحْذُوف، وَالتَّقْدِير اضْرِب زيدا فَاضْرب، وَيرد هذَيْن أَن الْفَاء لَو كَانَت عاطفة لما اجْتمعت مَعَ حرف عطف فِي مَوَاضِع كَثِيرَة نَحْو وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 3، 4] إِلَخ.

قَالَ التفتازانيّ «وَنُقِلَ عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وُجُوهًا مِنَ التَّأْكِيدِ: تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ وَتَأْخِيرُ الْمُتَّصِلِ وَالْفَاءُ الْمُوجِبَةُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمَعْطُوفًا تَقْدِيرُهُ إِيَّايَ ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ أَحَدُهُمَا مُقَدَّرٌ وَالثَّانِي مُظْهَرٌ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الرَّهْبَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ بِدِلَالَةِ الْفَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ رَاهِبِينَ شَيْئًا فَارْهَبُونِ» اهـ. يُرِيدُ أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ إِفَادَةَ الِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِصَاصُ تَأْكِيدٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لَيْسَ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ وَأَمَّا تَأْخِيرُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فَلَمَّا فِي إِعَادَةِ الْإِسْنَادِ مِنَ التَّقْوَى، وَمُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمَعْطُوفًا الْعَطْفُ اللُّغَوِيُّ أَيْ مُعَقَّبًا وَمُعَقَّبًا بِهِ لَا الْعَطْفُ النَّحْوِيُّ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا، فَتَحَصَّلَ أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ فِي كَلَامِ البلغاء مَرَاتِب أَربع: مُجَرَّدُ التَّقْدِيمِ لِلْمَفْعُولِ نَحْوَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] . وَتَقْدِيمُهُ عَلَى فِعْلِهِ الْعَامِلِ فِي ضَمِيرِهِ نَحْوَ زَيْدًا رَهِبْتُهُ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِالْفَاءِ نَحْوَ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] وَتَقْدِيمُهُ عَلَى فِعْلِهِ الْعَامِلِ فِي ضَمِيرِهِ مَعَ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِالْفَاءِ نَحْوَ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. فَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ أَوْكَدُ مِنْهُمَا. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ فِي قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ لِلْجُمْهُورِ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَأَثْبَتَهَا يَعْقُوبُ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ يَحْذِفُونَهَا فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ وَهُذَيْلٌ يَحْذِفُونَهَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُثْبِتُونَهَا فِي الْحَالَيْنِ وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ هُنَا عَلَى حَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ مِثْلَ الْوَقْفِ لِأَنَّ كَلِمَةَ فَارْهَبُونِ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِدُونِ يَاءٍ وَقُرِئَتْ كَذَلِكَ فِي سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فَاصِلَةً فَاعْتَبَرُوهَا كَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يُحْذَفُ مِنْ أَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْوَقْفِ «وَجَمِيعِ مَا لَا يُحْذَفُ فِي الْكَلَامِ وَمَا يُخْتَارُ فِيهِ أَنْ لَا يُحْذَفَ يُحْذَفُ فِي الْفَوَاصِلِ وَالْقَوَافِي» . وَلِأَنَّ لُغَةَ هُذَيْلٍ تَحْذِفُهَا مُطْلَقًا، وَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ جَرَى عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلِأَنَّهُ رَوَاهَا بِالْإِثْبَاتِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَيَكُونُ قَدْ تَأَوَّلَ كِتَابَتَهَا بِدُونِ يَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ أَنَّهُ اعْتِمَادٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يُجْرِيهَا عَلَى رِوَايَتِهِ وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فِي كَلِمَةٍ هِيَ فَاصِلَةً مِنَ الْآيِ لَمَا اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى حَذْفِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: 186] كَمَا سَيَأْتِي

[سورة البقرة (2) : آية 41]

[41] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 41] وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. شُرُوعٌ فِي دَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهَدْيِ الْقُرْآنِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلَكِنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا يهيىء نُفُوسَهُمْ إِلَى قَبُولِهِ كَمَا تَتَقَدَّمُ الْمُقَدِّمَةُ عَلَى الْغَرَضِ، وَالتَّخْلِيَةُ عَلَى التَّحْلِيَةِ. وَالْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ بِكُتُبِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ الْعَهْدُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [الْبَقَرَة: 40] إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ هُنَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لِأَنَّهُمْ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُجْمَلٌ فِي الْعَهْدِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِمَّا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ بَلْ حَتَّى يُصَدِّقُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْجَائِيَ بِهِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَهُمْ مَدْعُوُّونَ إِلَى ذَلِكَ التَّصْدِيقِ هُنَا. فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَآمِنُوا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [الْبَقَرَة: 40] كَعَطْفِ الْمَقْصِدِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَعَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي مِنْ قَبِيلِ عَطفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَطْفِ الْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ لَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا تَقْرِيبَ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ وَتَوْجِيهَ إِيرَادَهَا مَوْصُولَةً غَيْرَ مَفْصُولَةٍ. وَفِي تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وَهُوَ (مَا أُنْزِلَتْ) دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ الْكِتَابِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ هَذَا الْكِتَابِ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَهُمْ قَدْ أَوْصَوْا بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ كِتَابٍ يَثْبُتُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ. وَلِهَذَا أَتَى بِالْحَالِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الصِّلَةِ إِذْ جَعَلَ كَوْنَهُ مُصَدِّقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهِيَ الْعَلَامَةُ الدِّينِيَّةُ الْمُنَاسِبَةُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَمَا جَعَلَ الْإِعْجَازَ اللَّفْظِيَّ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ مِنَ الْعَرَبِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 1، 2] إِلَى قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] كَذَلِكَ جَعَلَ الْإِعْجَازَ الْمَعْنَوِيَّ وَهُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْهُدَى الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَّامَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ. ثُمَّ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ وَبِالَّذِي أَنْزَلَهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا مَعَهُمْ كُتُبُ التَّوْرَاةِ الْأَرْبَعَةُ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ

كَالزَّبُورِ، وَكِتَابِ أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَاءَ، وَحَزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ وَغَيْرِهَا وَلِذَا اخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِمَا مَعَكُمْ دُونَ التَّوْرَاةِ مَعَ أَنَّهَا عُبِّرَ بِهَا فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا لِأَنَّ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشَارَاتٍ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْرَحَ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ فَكَانَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهَا أَوْقَعَ. وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْهُدَى الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْأَمْرِ بِالْفَضَائِلِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَمن الْوَعيد والوعد وَالْمَوَاعِظِ وَالْقَصَصِ فَمَا تَمَاثَلَ مِنْهُ بِهَا فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ وَمَا اخْتَلَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَالْعُصُورِ مَعَ دُخُولِ الْجَمِيعِ تَحْتَ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ نَسْخًا لِأَنَّ النَّسْخَ إِزَالَةُ حُكْمٍ ثَابِتٍ وَلَمْ يُسَمَّ إبطالا أَو تكذبيا فَظَهَرَ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ حَتَّى فِيمَا جَاءَ مُخَالِفًا فِيهِ لِمَا مَعَهُمْ لِأَنَّهُ يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَغْيِيرُ أَحْكَامٍ تَبَعًا لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الْأَعْصَارِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُغَيِّرُ وَالْمُغَيَّرُ حَقًّا بِحَسَبِ زَمَانِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِبْطَالًا وَلَا تَكْذِيبًا قَالَ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ [النِّسَاء: 160] الْآيَةَ. فَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ لَا يُنَافِي تَمَسُّكَهُمُ الْقَدِيمَ بِدِينِهِمْ وَلَا مَا سَبَقَ مِنْ أَخْذِ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِاتِّبَاعِهِ. وَمِمَّا يَشْمَلُهُ تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ لِمَا مَعَهُمْ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَدِينُ الْإِسْلَامِ وَالْجَائِي بِهِ مُوَافِقَةٌ لِمَا بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ فَيَكُونُ وُرُودُهُ مُعْجِزَةً لِأَنْبِيَائِهِمْ وَتَصْدِيقًا آخَرَ لِدِينِهِمْ وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْفَخْرُ وَالْبَيْضَاوِيُّ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ التَّصْدِيقِ بِالتَّحْقِيقِ لِأَن التَّصْدِيق حَقِيقَة فِي إِعْلَامِ الْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) بِأَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ إِمَّا بِقَوْلِهِ صَدَقْتَ أَوْ صَدَقَ فُلَانٌ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ قَالَ السَّائِلُ صَدَقْتَ قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، وَإِمَّا بِأَنْ يُخْبِرَ الرَّجُلُ بِخَبَرٍ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ غَيْرُهُ فَيَكُونُ إِخْبَارُهُ الثَّانِيَ تَصْدِيقًا لِإِخْبَارِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ التَّصْدِيقِ عَلَى دِلَالَةِ شَيْءٍ عَلَى صِدْقِ خَبَرٍ مَا فَهُوَ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ وَالْمَقْصُودُ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ بِأَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ لَا وَصْفُ الدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. جَمْعُ الضَّمِيرِ فِي تَكُونُوا مَعَ إِفْرَادِ لَفْظِ كافِرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَافِرِ فَرِيقٌ ثَبَتَ لَهُ الْكُفْرُ لَا فَرْدٌ وَاحِدٌ فَإِضَافَةُ أَوَّلَ إِلَى كافِرٍ بَيَانِيَّةٌ تُفِيدُ مَعْنَى فَرِيقٍ هُوَ أَوَّلُ فِرَقِ الْكَافِرِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي بِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى بِما أَنْزَلْتُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الدَّعْوَةِ وَاسْتِجْلَابِ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَكَانَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ مُحْتَمِلَةً لِطَلَبِ الِامْتِثَالِ بِالْفَوْرِ أَوْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانُوا مَعْرُوفِينَ بِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، عَطَفَ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ نَهْيَهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُصَدَّقُ بِمَعَانٍ بَعْضُهَا يُسْتَفَادُ مِنْ حَقِّ التَّرْكِيبِ وَبَعْضُهَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَبَعْضُهَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِهِ وَكُلُّهَا تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ، فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: أَوَّلَ كافِرٍ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ السَّابِقُ غَيْرَهُ فَيَحْصُلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فَالنَّهْيُ عَنِ الْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ ثُمَّ إِنَّ وَصْفَ (أَوَّلَ) يُشْعِرُ بِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِالْوَصْفِ وَلَكِنْ قَرِينَةُ السِّيَاقِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ بِحَالَةِ أَوَّلِيَّتِهِمْ فِي الْكُفْرِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُبَادِرِينَ بِالْكُفْرِ وَلَا سَابِقِينَ بِهِ غَيْرَهُمْ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فَأُفِيدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ فَإِنَّ وَصْفَ أَوَّلَ أَصْلُهُ السَّابِقُ غَيْرَهُ فِي عَمَلٍ يُعْمَلُ أَوْ شَيْءٍ يُذْكَرُ فَالسَّبْقُ وَالْمُبَادَرَةُ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْأُولَى لِأَنَّهَا بَعْضُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ نَقِيضَيْنِ إِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ كَانَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى تَأَخُّرِهِمْ فِي اتِّبَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هَذَا الْمُرَكَّبُ قَدْ كُنِّيَ بِهِ عَنْ مَعْنَيَيْنِ مِنْ مَلْزُومَاتِهِ، هُمَا مَعْنَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى التَّوْبِيخِ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالنَّهْيِ، فَيَكُونُ مَعْنَى النَّهْيِ مُرَادًا وَلَازِمُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ مُرَادًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ كِنَايَةً اجْتَمَعَ فِيهَا الْمَلْزُومُ وَاللَّازِمُ مَعًا، فَبِاعْتِبَارِ اللَّازِمِ يَكُونُ النَّهْيُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ فَيَتَأَكَّدُ بِهِ الْأَمْرُ الَّذِي قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ وَكُونُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَلْزُومِ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ غَرَضَانِ.

وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ تَعْرِيضِيَّةٌ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ غَيْرُ غَرَضِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّعْرِيضِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَرَضُ الْحُكْمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهِ غَيْرَ غَرَضِ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِهِ غَيْرَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِالصَّرِيحِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى الظَّاهِرِ وَالتَّحْقِيقِ بَيْنَ مُتَنَاثِرِ كَلَامِهِمْ فِي التَّعْرِيضِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْكِنَايَةِ (¬1) وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا سُؤَالَانِ مستقلان أَحدهمَا ناشىء عَمَّا قَبْلَهُ: الْأَوَّلُ كَيْفَ يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا بِهِ ثَانِيًا لَمَا كَانَ كُفْرُهُمْ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ لِلْكُفْرِ لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ فَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ. وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ هُوَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ وَهُوَ يَقُومُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ النَّهْيِ أَنْ لَا يَكُونُوا مِنَ الْمُبَادِرِينَ بِالْكُفْرِ أَيْ لَا يَكُونُوا مُتَأَخِّرِينَ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا أَوَّلُ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عِنْدَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي خُصُوصِ وَصْفِ «أَوَّلَ» وَأَمَّا أَصْلُ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ فَذَلِكَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَصَرِيحًا. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمَعْنَى إِلَى لَوَازِمِهِ. وَبَعْضُ التَّعْرِيضِ يَحْصُلُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَلَامِ وَلَعَلَّ هَذَا لَا يُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَهُوَ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَدِلَالَتِهَا الْعَقْلِيَّةِ وَسَيَجِيءُ لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ [الْبَقَرَة: 235] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. الْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْيَهُودِ كُفْرًا أَيْ لَا تَكُونُوا فِي عِدَادِهِمْ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَوْلِهِ: «وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ يَعْنِي مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ» وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ يُوهِمُهُ وَسَكَتَ عَنْهُ شُرَّاحُهُ. ¬

(¬1) والتكنى عَن الاتصاف بالنقيض بِلَفْظ النَّهْي عَن أَن يكون أول فِي نقيضه طَريقَة عَرَبِيَّة ورد عَلَيْهَا قَول أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيّ لِقَوْمِهِ ثَقِيف حِين هموا بالارتداد مَعَ من ارْتَدَّ من الْعَرَب بعد وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا معشر ثَقِيف كُنْتُم آخر الْعَرَب إسلاما فَلَا تَكُونُوا أَوَّلهمْ ارْتِدَادًا» أَي دوموا على الْإِيمَان وَهُوَ عكس الْآيَة وَلَيْسَ المُرَاد كونُوا آخر النَّاس ارْتِدَادًا.

الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ مِنْ «أَوَّلَ» الْمُبَادِرُ وَالْمُسْتَعْجِلُ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَوَّلِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَقْرُومٍ الضَّبِّيُّ: فَدَعَوْا نَزَالِ فَكُنْتُ أَوَّلَ نَازِلٍ ... وَعَلَامَ أَرْكَبُهُ إِذَا لَمْ أَنْزِلِ فَقَوْلُهُ: أَوَّلَ نَازِلٍ لَا يُرِيدُ تَحْقِيقَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ بَادَرَ مَعَ النَّاسِ فَإِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ إِذَا دَعَا الْقَوْمُ نَزَالِ أَنْ يَنْزِلَ السَّامِعُونَ كُلُّهُمْ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَرَبَّصْ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَا تَعْجَلُوا بِالتَّصْرِيحِ بِالْكُفْرِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكُفْرِ هُنَا التَّصْمِيمُ عَلَيْهِ لَا الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَتَكُونُ الْكِنَايَةُ بِالْمُفْرَدِ وَهُوَ كَلِمَةُ (أَوَّلَ) . الْمَعْنَى الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ «أَوَّلَ» كِنَايَةً عَنِ الْقُدْوَةِ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّ الرَّئِيسَ وَصَاحِبَ اللِّوَاءِ وَنَحْوَهُمَا يَتَقَدَّمُونَ الْقَوْمَ، قَالَ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: 98] وَقَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مِنْ يَسِيرُهَا أَيِ الْأَجْدَرُ وَالنَّاصِرُ لِسُنَّةٍ، وَالْمَعْنَى وَلَا تَكُونُوا مُقِرِّينَ لِلْكَافِرِينَ بِكُفْرِكُمْ فَإِنَّهُمْ إِنْ شَاهَدُوا كُفْرَكُمْ كَفَرُوا اقْتِدَاءً بِكُمْ وَهَذَا أَيْضًا كِنَايَةٌ بِالْمُفْرَدِ. الْمَعْنَى الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الدَّعْوَةُ فِي الْمَدِينَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ هُوَ حَالٌ ثَانِيَة لِلْإِسْلَامِ، فِيمَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ مُتَمَيِّزًا مُسْتَقِلًّا. هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: كافِرٍ بِهِ عَائِدًا على مَا بِما أَنْزَلْتُ أَيِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مُقَابِلِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَقِيلَ إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَا مَعَكُمْ وَهُوَ التَّوْرَاةُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِيءُ أَوَّلَ كافِرٍ مُسْتَقِيمًا عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ تكلّف لِأَنَّهُ مؤول بِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي جَاءَ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفَتِ التَّوْرَاةُ وَكُتُبُ أَنْبِيَائِهِمْ فِي بِشَارَاتِهِمْ بِنَبِيءٍ وَكِتَابٍ يَكُونَانِ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فَإِذَا كَذَّبُوا بِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرُوا بِصِحَّةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ فَيُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ بِمَا مَعَهم. قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ كُفْرُهُمْ بِهِ بِمَعْنَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ كُلَّهُ كَذِبٌ وَأَمَّا إِذَا كَفَرُوا بِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ فِيهِ صِدْقًا وَكَذِبًا فَلَا يَتِمُّ، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْوَجْهُ مَرْجُوحًا، وَرَدَّهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ.

وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَّضِحُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ بِحَيْثُ يُفِيدُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا ثَانِيَ كَافِرٍ أَوْ ثَالِثَ كَافِرٍ بِسَبَبِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَأَنَّ أَوَّلَ كَافِرٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ الْمُلَازِمِ حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي نَفْيِ مَوْصُوفِهِ أَنْ يُذْكَرَ الْوَصْفُ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ وَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَقِبَ هَذَا. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهَذَا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْقُدْوَةُ لِقَوْمِهِمْ وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الَّذِي صَدَّهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ هُوَ خَشْيَتُهُمْ أَنْ تَزُولَ رِئَاسَتُهُمْ فِي قَوْمِهِمْ فَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِإِنْكَارِ الْقُرْآنِ لِيَلْتَفَّ حَوْلَهُمْ عَامَّةُ قَوْمِهِمْ فَتَبْقَى رِئَاسَتُهُمْ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَآمَنَ بِيَ الْيَهُودُ كُلُّهُمْ» . وَالِاشْتِرَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: 16] وَهُوَ اعْتِيَاضُ أَعْيَانٍ بِغَيْرِهَا مِثْلِهَا أَوْ ثَمَنِهَا مِنَ النَّقْدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا كَأَوْرَاقِ الْمَالِ وَالسَّفَاتِجِ وَقَدِ اسْتُعِيرَ الِاشْتِرَاءُ هُنَا لِاسْتِبْدَالِ شَيْءٍ بِآخِرَ دُونَ تَبَايُعٍ. وَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ الْعَلَامَةُ عَلَى الْمَنْزِلِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ قَالَ النَّابِغَةُ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْآيَةُ عَلَى الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَامَةٌ عَلَى الْحَقِّ قَالَ الْحَارِثُ ابْن حِلِّزَةَ: مَنْ لَنَا عِنْدَهُ من الْخَيْر يَا ... ت ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ آيَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: 12] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ [الْأَعْرَاف: 203] ، وَأُطْلِقَتْ أَيْضًا عَلَى الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمرَان: 7] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَمَا تَكْفِيكَُُ

آيَةُ الصَّيْفِ» يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاء: 176] لِأَنَّ جُمَلَ الْقُرْآنِ حُجَّةٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ لِأَنَّ بَلَاغَتَهَا مُعْجِزَةٌ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ آيَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ فِي قَوْلِ الرَّاوِي «فَوَضْعُ الْمِدْرَاسِ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ» فَذَلِكَ مَجَازٌ عَلَى مَجَازٍ لِعَلَاقَةِ الْمُشَابِهَةِ. وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ إِعْرَاضِهِمْ وَبَيْنَ الِاشْتِرَاءِ، أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَجْلِ اسْتِبْقَاءِ السِّيَادَةِ، وَالنَّفْعُ فِي الدُّنْيَا يُشْبِهُ اسْتِبْدَالَ الْمُشْتَرِي فِي أَنَّهُ يُعْطِي مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ وَيَأْخُذُ مَا إِلَيْهِ احْتِيَاجُهُ وَلَهُ فِيهِ مَنْفَعَتُهُ، فَفِي تَشْتَرُوا اسْتِعَارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ فِي الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ كَوْنُ تَشْتَرُوا مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ أَوْ بِعَلَاقَةِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: 16] ، لَكِنْ هُنَا الِاسْتِعَارَةُ مُتَأَتِّيَةٌ فَهِيَ أَظْهَرُ لِظُهُورِ عَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ وَاسْتِغْنَاءِ عَلَاقَةِ الْمُشَابِهَةِ عَنْ تَطَلُّبِ وَجْهِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لِأَنَّ مَقْصِدَ التَّشْبِيهِ وَحْدَهُ كَافٍ فِي الْعُدُولِ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ، إِذِ التَّشْبِيهُ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِعْلُ الِاشْتِرَاءِ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ أُبْدِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ جُعِلَ الْعِوَضَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ هُوَ الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَأْخُوذُ وَيُعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ، وَجُعِلَ الْعِوَضَ الْآخَرَ هُوَ الْمَدْفُوعَ وَيُسَمَّى الثَّمَنَ وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْعِوَضِ. وَقَدْ عَدَّى الِاشْتِرَاءَ هُنَا إِلَى الْآيَاتِ بِالْبَاءِ فَكَانَتِ الْآيَاتُ هِيَ الْوَاقِعَةَ مَوْقِعَ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ مُدْخَلُ الْبَاءِ فَدَلَّ دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ شُبِّهَتْ بِالثَّمَنِ فِي كَوْنِهَا أَهْوَنَ الْعِوَضَيْنِ عِنْدَ الْمُسْتَبْدِلِ، وَذِكْرُ الْبَاءِ قَرِينَةَ الْمَكْنِيَّةِ لِأَنَّهَا تَدْخُلْ عَلَى الثَّمَنِ وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا تَبَعِيَّةً إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَعْنًى حَقُّهُ أَنْ يُؤَدَّى بِالْحَرْفِ شُبِّهَ بِمَعْنَى الْبَاءِ، فَهَا هُنَا يَتَعَيَّنُ سُلُوكُ طَرِيقَةِ السَّكَّاكِيِّ فِي رَدِّ التَّبَعِيَّةِ لِلْمَكْنِيَّةِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا جَعْلُ الْبَاءِ تَخْيِيلًا إِذْ لَيْسَتْ دَالَّةً عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ يُمْكِنُ تَخَيُّلُهُ. ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ مَفْعُولِ الِاشْتِرَاءِ بِلَفْظِ الثَّمَنِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعْطِيَ لَفْظَ الثَّمَنِ لِمَدْخُولِ الْبَاءِ أَوْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُلٍّ بِلَفْظٍ آخَرَ كَأَنْ يُقَالَ: لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي مَتَاعًا قَلِيلًا فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَعَبَّرَ عَنِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ بِالثَّمَنِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ لِتَشْبِيهِ هَذَا الْعِوَضِ مِنَ الرِّئَاسَةِ أَوِ الْمَالِ بِالثَّمَنِ أَوْ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الثَّمَنَ فِي كَوْنِهِ أَعْيَانًا وَحُطَامًا جُعِلَتْ بَدَلًا عَنْ أَمْرٍ نَافِعٍ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ فِي أَنَّهُمْ مَغْبُونُو الصَّفْقَةِ إِذْ قَدْ بَذَلُوا أَنْفَسَ شَيْءٍ وَأَخَذُوا حَظًّا مَا قَلِيلًا فَكَانَ كِلَا الْبَدَلَيْنِ فِي الْآيَةِ مُشَبَّهًا بِالثَّمَنِ إِلَّا أَنَّ الْآيَاتِ شُبِّهَتْ بِهِ فِي كَوْنِهَا أَهْوَنَ

عَلَى الْمُعْتَاضِ، وَالْمَتَاعُ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ شُبِّهَ بِالثَّمَنِ فِي كَوْنِهِ شَيْئًا مَادِّيًّا يَنَالُهُ كُلُّ أَحَدٍ أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْآيَاتِ وَالثَّمَنِ أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَى فَرِيقٍ فَالْآيَاتُ هَانَتْ عَلَى الْأَحْبَارِ وَالْأَمْوَالُ هَانَتْ عَلَى الْعَامَّةِ وَخَصَّ الْهَيِّنَ حَقِيقَةً بِإِعْطَائِهِ اللَّفْظَ الْحَقِيقِيَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ هَيِّنٌ وَأَمَّا الْهَيِّنُ صُورَةً فَقَدْ أَعْطَى الْبَاءَ الْمَجَازِيَّةَ وَكُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ قَرِينَةٌ عَلَى الْأُخْرَى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُ الثَّمَنِ عَلَى النَّقْدَيْنِ اخْتِيرَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْخُذُونَهُ تَلْمِيحًا إِلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ عَنْ تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى [الْأَعْرَاف: 169] . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ ثَمَناً قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَلا تَشْتَرُوا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أُدْخِلَتِ الْبَاءُ عَلَى الْآيَاتِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْآيَاتِ هِيَ ثَمَنُ الِاشْتِرَاءِ فَلَمَّا عَبَّرَ بَعْدَهُ بِلَفْظِ ثَمَناً مَفْعُولًا لِفِعْلِ تَشْتَرُوا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِثَمَنٍ حَقِيقِيٍّ فَعَلِمَ أَنَّ الِاشْتِرَاءَ مَجَازٌ ثُمَّ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ بِثَمَنٍ حَقِيقِيٍّ تَبَعًا لِلْعِلْمِ بِالْمَجَازِ فِي الْفِعْلِ النَّاصِبِ لَهُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ ثَمَناً تَجْرِيدٌ وَتَقْرِيرَهُ مِثْلُ تَقْرِيرِ كَوْنِهِ قَرِينَةً إِذَا جَعَلْنَا الْقَرِينَةَ قَوْلَهُ بِآياتِي. وَقِيلَ هُوَ تَرْشِيحٌ لِأَنَّ لَفْظَ الثَّمَنِ مِنْ مُلَائِمِ الشِّرَاءِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فِي كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ التَّرْشِيحَ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَكُونُ اسْتِعَارَةً مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِمُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا هِيَ تَدُلُّ عَلَى تَجْهِيلِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ. وَالْآيَاتُ لَا تُسْتَبْدَلُ ذَوَاتُهَا فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ أَيْ لَا تَشْتَرُوا بِقَبُولِ آيَاتِي ثَمَنًا. وَإِضَافَةُ آيَاتٍ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّشْرِيفِ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ: عِظَمُ الْآيَاتِ بِشَيْئَيْنِ الْجَمْعُ وَالْإِضَافَةُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَحَقَّرَ الْعِوَضَ بِتَحْقِيرَيْنِ التَّنْكِيرُ وَالْوَصْفُ بِالْقِلَّةِ اهـ أَيْ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِغَبْنِ صَفْقَتِهِمْ إِذِ اسْتَبْدَلُوا نَفِيسًا بِخَسِيسٍ وَأَقُولُ وَصْفُ قَلِيلًا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي تُبَاعُ بِهِ إِضَاعَةُ الْآيَاتِ هُوَ قَلِيلٌ وَلَوْ كَانَ أَعْظَمَ مُتَمَوِّلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَضَاعَهُ آخِذُ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَعَلَى هَذَا الْمُرَادِ يَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْعِوَضُ الَّذِي اسْتَبْدَلُوا بِهِ الْآيَاتِ فَلَمْ يُبَيَّنْ أَهُوَ الرِّئَاسَةُ أَوِ الرِّشَى الَّتِي يَأْخُذُونَهَا لِيَشْمَلَ ذَلِكَ اخْتِلَافَ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْمَقَاصِدِ الَّتِي تَصُدُّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ عَلَى حسب اخْتِلَاف هَمهمْ.

وَوَصَفَ ثَمَناً بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّقْيِيدَ بِحَيْثُ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ عِوَضٍ قَلِيلٍ دُونَ أَخْذِ عِوَضٍ لَهُ بَالٌ وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مُلَازِمٌ لِلثَّمَنِ الْمَأْخُوذِ عِوَضًا عَنِ اسْتِبْدَالِ الْآيَاتِ فَإِنَّ كُلَّ ثَمَنٍ فِي جَانِبِ ذَلِكَ هُوَ قَلِيلٌ فَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ مَقْصُودٌ بِهِ تَحْقِيرُ كُلِّ ثَمَنٍ فِي ذَلِكَ فَهَذَا النَّفْيُ شَبِيهٌ بِنَفْيِ الْقُيُودِ الْمُلَازِمَةِ لِلْمُقَيَّدِ لِيُفِيدَ نَفْيَ الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ مَعًا كَمَا فِي الْبَيْت الْمَشْهُور لامرىء الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ الْعُودُ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرَا أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ لَازِمٌ لِلْمَنَارِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ: لَا يُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضبّ بهَا بنجحر أَيْ لَا أَرْنَبَ بِهَا حَتَّى يَفْزَعَ مِنْ أَهْوَالِهَا وَلَا ضَبَّ بِهَا حَتَّى يَنْجَحِرَ، وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: مِثْلُ الزُّجَاجَةِ لَمْ تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ أَيْ عَيْنًا لَمْ تَرْمَدْ حَتَّى تُكْحَلَ لِأَنَّ التَّكْحِيلَ لَازِمٌ لِلْعَيْنِ الرَّمْدَاءِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَقَدْ وَقَعَ ثَمَناً نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَهُوَ كَالنَّفْيِ فَشَمِلَ كُلَّ عِوَضٍ، كَمَا وَقَعَتِ الْآيَاتُ جَمْعًا مُضَافًا فَشَمِلَتْ كُلَّ آيَةٍ، كَمَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَشَمِلَ كُلَّ اشْتِرَاءٍ إِذِ الْفِعْلُ كَالنَّكِرَةِ. وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَ أَنَّ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ وَقِصَصَهُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمَمِ الْأُخْرَى إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ والاتعاظ فَنحْن محذرون مِنْ مِثْلِ مَا وَقَعُوا فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّنَا أَوْلَى بِالْكِمَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَمَا قَالَ بَشَّارٌ: الْحُرُّ يُلْحَى وَالْعَصَا لِلْعَبْدِ وَكَالْبَيْتِ السَّائِرِ: الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا ... وَالْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةْ فَعُلَمَاؤُنَا مَنْهِيُّونَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمَا نُهِيَ عَنْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّدْفِ عَن الْحق لأعراض الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ كَانَتْ سِيرَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنْ هُنَا فُرِضَتْ مَسْأَلَةٌ جَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ مُتَعَلِّقَةً بِهَاتِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِهَا ضَعِيفًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا أَخْذُ الْأُجْرَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَعَلَىُُ

بَعْضِ مَا فِيهِ عِبَادَةٌ كَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ. وَحَاصِلُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَجَازُوا أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ فَقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَعَلَيْهِ فَلَا مَحَلَّ لَهَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ بِحَالٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاشْتِرَاءِ فِيهَا مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيمِ اسْتِبْدَالٌ وَلَا عُدُولٌ وَلَا إِضَاعَةٌ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ إِجْمَاعَ جُمْهُورِ فُقَهَائِهِمْ. وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» : لَا بَأْس بِالْإِجَارَة عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَمَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ شِهَابٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَتَمَسَّكُوا بِالْآيَةِ وَبِأَنَّ التَّعْلِيمَ لِذَلِكَ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا يُؤْخَذ عَلَيْهَا أجر كَذَلِكَ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَرَاهِمُ الْمُعَلِّمِينَ حَرَامٌ» وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا فَسَأَلْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ سَرَّكَ أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ مَحْمَلُهَا فِيمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ فَأَبَى إِلَّا بِالْأَجْرِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ. فَالْوَجْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَبَثِّ الدَّعْوَةِ فَلَوْ رَخَّصَ فِي الْأجر فِيهِ لتعلل تَعْلِيمٌ كَثِيرٌ لِقِلَّةِ مِنْ يُنْفِقُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُهُ وَمَحْمَلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ شَاعَ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ حُفَّاظُ الْقُرْآنِ. وَأَقُولُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ لِأَنَّ الْآيَةَ بَعِيدَةٌ عَنْ هَذَا الْغَرَضِ كَمَا عَلِمْتَ وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْقِيَاسِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عِبَادَتَانِ قَاصِرَتَانِ وَأَمَّا التَّعْلِيمُ فَعِبَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَهَذَا فَارِقٌ مُؤَثِّرٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ فَفِيهِمَا ضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ إِسْنَادَيْهِمَا كَمَا بَيَّنَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قُلْتُ وَلَا أَحْسَبُ الزُّهْرِيَّ يَسْتَنِدُ لِمِثْلِهِمَا وَلَا لِلْآيَةِ وَلَا لِذَلِكَ الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهُ رَآهُ وَاجِبًا فَلَا تُؤْخَذُ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ وَقَدْ أَفْتَى مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ قَالَ فِي «الدُّرَر» و «شَرحه» : «وَيُفْتَى الْيَوْمَ بِصِحَّتِهَا- أَيِ الْإِجَارَةِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ- وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي لَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الْفُتُورُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ جَوَّزَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ» اهـ. وَمِنْ فُرُوعِ هَاتِهِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْأَجْرِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَحُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى

الْأَذَانِ وَعَلَى الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ مَعًا وَأَمَّا عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهَا فَكَرِهَهُ مَالِكٌ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ جَازَتْ عَلَى الْأَذَانِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ أَمَّا جَمْعُهُ مَعَ الصَّلَاةِ فَالْأُجْرَةُ عَلَى الْأَذَانِ فَقَطْ، وَأَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْإِجَارَةَ عَلَى الْإِمَامَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَكَلَّفَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرَوَى أَشْهَبٌ عَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِالْأَجْرِ عَلَى تَرَاوِيحِ رَمَضَانَ وَكَرِهَهُ فِي الْفَرِيضَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَفِي «الدُّرَرِ» وَيُفْتَى الْيَوْمَ بِصِحَّتِهَا لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَيُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى دَفْعِ الْأُجْرَةِ وَيُحْبَسُ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةِ: وَلَا يَجُوزُ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُكَايَسَةٍ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِوَضَانِ فِيهَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ أَجْرَ الصَّلَاةِ لَهُ فَإِذَا أَخَذَ عَنْهَا عِوَضًا اجْتَمَعَ لَهُ العوضان اهـ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَاهٍ قَدَّمَهُ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةِ عَلَى أَنَّ فِي كَوْنِهِ مِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ الْأَصْلِ نَظَرًا لَا نُطِيلُ فِيهِ فَانْظُرْهُ فَقَدْ نَبَّهْتُكَ إِلَيْهِ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ قَدْ حَدَثَتْ بَيْنَ ابْنِ عَرَفَةَ وَالدَّكَّالِيِّ وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى تُونُسَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ رَجُلٌ زَاهِدٌ مِنَ الْمَغْرِبِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ الدَّكَّالِيُّ فَكَانَ لَا يُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَشْهَدُ الْجُمْعَةَ مُعْتَلًّا بِأَنَّ أَئِمَّةَ تُونُسَ يَأْخُذُونَ الْأُجُورَ عَلَى الْإِمَامَةِ وَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي فَاعِلِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ وَشَاعَ أَمْرُهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَحَدَثَ خِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فَخَرَجَ إِلَى الْمَشْرِقِ فَارًّا بِنَفْسِهِ وَبَلَغَ أَنَّهُ ذَهَبَ لِمِصْرَ فَكَتَبَ ابْنُ عَرَفَةَ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ أَبْيَاتًا هِيَ: يَا أَهْلَ مِصْرَ وَمَنْ فِي الدِّينِ شَارَكَهُمْ ... تَنَبَّهُوا لِسُؤَالٍ مُعْضِلٍ نَزَلَا لُزُومُ فِسْقِكِمُ أَوْ فِسْقِ مَنْ زَعَمَتْ ... أَقْوَالُهُ أَنَّهُ بِالْحَقِّ قَدْ عَمِلَا فِي تَرْكِهِ الْجُمَعَ وَالْجُمَعَاتِ خَلْفَكُمُ ... وَشَرْطُ إِيجَابِ حُكْمِ الْكُلِّ قَدْ حَصَلَا إِنْ كَانَ شَأْنُكُمُ التَّقْوَى فَغَيْرُكُمُ ... قَدْ بَاءَ بِالْفِسْقِ حَتَّى عَنْهُ مَا عَدَلَا وَإِنْ يَكُنْ عَكْسُهُ فَالْأَمْرُ مُنْعَكِسٌ ... قُولُوا بِحَقٍّ فَإِنَّ الْحَقَّ مَا اعْتُزِلَا فَيُقَالُ إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ أَجَابُوهُ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا: مَا كَانَ مِنْ شِيَمِ الْأَبْرَارِ أَنْ يَسِمُوا ... بِالْفِسْقِ شَيْخًا عَلَى الْخَيْرَاتِ قَدْ جبلا لَا لَا وَلَكِنْ إِذَا مَا أَبْصَرُوا خَلَلًا ... كَسَوْهُ مِنْ حُسْنِ تَأْوِيلَاتِهِمْ حُلَلَا أَلَيْسَ قَدْ قَالَ فِي «الْمِنْهَاجِ» صَاحِبُهُ ... يَسُوغُ ذَاكَ لِمَنْ قَدْ يَخْتَشِي زَلَلَاُُُُ

وَمِنْهَا: وَقَدْ رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعُتَقِيِّ ... فِيمَا اخْتَصَرْتُ كَلَامًا أَوْضَحَ السُّبُلَا مَا إِنْ تُرَدُّ شَهَادَةٌ لِتَارِكِهَا ... إِنْ كَانَ بِالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى قَدِ احْتَفَلَا نَعَمْ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَعْلَيْنَ مَنْزِلَةً ... مِنْ جَانِبِ الْجُمَعِ وَالْجُمُعَاتِ وَاعْتَزَلَا كَمَالِكٍ غَيْرَ مُبْدٍ فِيهِ مَعْذِرَةً ... إِلَى الْمَمَاتِ وَلَمْ يُسْأَلْ وَمَا عُذِلَا هَذَا وَإِنَّ الَّذِي أَبْدَاهُ مُتَّجِهًا ... أَخْذُ الْأَئِمَّةِ أَجْرًا مَنْعَهُ نَقَلَا وَهَبْكَ أَنَّكَ رَاءٍ حِلَّهُ نَظَرًا ... فَمَا اجْتِهَادُكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ وَلَا هَكَذَا نُسِبَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّرَاجِمِ لِلْمَغَارِبَةِ أَنَّهَا وَرَدَتْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا نَظَمَهَا بَعْضُ أَهْلِ تُونُسَ انْتِصَارًا لِلدَّكَّالِيِّ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَفَاجِيُّ فِي «طِرَازِ الْمَجَالِسِ» ، وَقَالَ إِنَّ الْمُجِيبَ هُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ السُّلَمِيُّ التُّونُسِيُّ وَذَكَرَ أَنَّ السِّرَاجَ الْبُلْقِينِيَّ ذَكَرَ هَاتِهِ الْوَاقِعَةَ فِي «فَتَاوَاهُ» وَذَكَرَ أَنَّ وَالِدَهُ أَجَابَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَبْيَاتٍ لَامِيَّةٍ انْظُرْهَا هُنَاكَ. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ إِلَّا أَنَّ التَّعْبِير فِي الأولى بِارْهَبُونِ وَفِي الثَّانِي بِاتَّقُونِ لِأَنَّ الرَّهْبَةَ مُقَدِّمَةٌ التَّقْوَى إِذِ التَّقْوَى رَهْبَةٌ مُعْتَبَرٌ فِيهَا الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ بِخِلَافِ مُطْلَقِ الرَّهْبَةِ فَإِنَّهَا اعْتِقَادٌ وَانْفِعَالٌ دُونَ عَمَلٍ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَأْمُرُهُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فَنَاسَبَهَا أَنْ يُخَوَّفُوا مَنْ نَكْثِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْهُ بَقِيَّةُ دَهْمَائِهِمْ فَنَاسَبَهَا الْأَمْرُ بِأَنْ لَا يَتَّقُوا إِلَّا اللَّهَ. وَلِلتَّقْوَى مَعْنًى شَرْعِيٌّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى أَخَصُّ لَا مَحَالَةَ مِنَ الرَّهْبَةِ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ هُنَا. وَالْقَوْلُ فِي حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.

[سورة البقرة (2) : آية 42]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 42] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) مَعْطُوفٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 40] إِلَى هُنَا لِأَنَّ هَاتِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا لَمْ يُقْصَدْ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا خَاصَّةً بَلْ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهَا لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: وَلا تَلْبِسُوا فَإِنَّهُ مَبْدَأُ انْتِقَالٍ مِنْ غَرَضِ التَّحْذِيرِ مِنَ الضَّلَالِ إِلَى غَرَضِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِضْلَالِ بَعْدَ أَنْ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا قَوْلَهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي [الْبَقَرَة: 41] كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَ كُلًّا مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ بَعْدَ اعْتِبَارِ كَوْنِ مَا قَبْلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِكَوْنِ الثَّانِيَةِ أَعْلَقَ بِالَّتِي وَالَتْهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ وَذَلِكَ كَعَطْفِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ عَلَى لَا تَلْبِسُوا فَإِنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لِلْعَطْفِ عَلَى تَلْبِسُوا لَا مَحَالَةَ إِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالتَّغْلِيظُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ بِالْأَوْلَى. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مَنْصُوبًا بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَ وَاوِ الْمَعِيَّةِ وَيَكُونَ مَنَاطُ النَّهْيِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالتَّفْرِيقُ فِي الْمَنْهِيِّ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ بِالْأَوْلَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا نُهُوا عَنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّهُم لَا يرجا مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ لِلَّبْسِ وَهُوَ تَرْكُ اللَّبْسِ الْمُقَارَنِ لِكَتْمِ الْحَقِّ فَإِنَّ كَوْنَهُ جَرِيمَةً فِي الدِّينِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ. أَمَّا تَرْكُ اللَّبْسِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّحْرِيفِ فِي التَّأْوِيل فَلَا يرجا مِنْهُمْ تَرْكُهُ إِذْ لَا طَمَاعِيَةَ فِي صَلَاحهمْ العاجل. و (الْحق) الْأَمْرُ الثَّابِتُ مِنْ حَقٍّ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ وَهُوَ مَا تَعْتَرِفُ بِهِ سَائِرُ النُّفُوسِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ شَهَوَاتِهَا. وَالْبَاطِلُ فِي كَلَامِهِمْ ضِدُّ الْحَقِّ فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الزَّائِلُ الضَّائِعُ يُقَالُ بَطَلَ بَطْلًا وَبُطُولًا وَبُطْلَانًا إِذَا ذهب ضيَاعًا وخسرا وَذهب دَمُهُ بُطْلًا أَيْ هَدْرًا. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا تَتَبَرَّأُ مِنْهُ النُّفُوسُ وَتُزِيلُهُ مَادَامَتْ خَلِيَّةً عَنْ غَرَضٍ أَوْ هَوًى، وَسُمِّيَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ فِعْلٌ يَذْهَبُ ضَيَاعًا وَخَسَارًا عَلَى صَاحِبِهِ. وَاللَّبْسُ خَلْطٌ بَيْنَ مُتَشَابِهَاتٍ فِي الصِّفَاتِ يَعْسُرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ أَوْ يَتَعَذَّرُ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الَّذِي اخْتَلَطَ عَلَيْهِ بِعِدَّةِ حُرُوفٍ مِثْلَ عَلَى وَاللَّامِ وَالْبَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ السِّيَاقِ الَّذِي يَقْتَضِي مَعْنَى بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوفِ. وَقَدْ يُعَلَّقُ بِهِ ظَرْفُ عِنْدَ. وَقَدْ يُجَرَّدُ عَنِ التَّعْلِيقِ بِالْحَرْفِ. وَيُطْلَقُ عَلَى اخْتِلَاطِ الْمَعَانِي وَهُوَ الْغَالِبُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» أَنَّهُ

هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَيُقَالُ فِي الْأَمْرِ لُبْسَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ أَيِ اشْتِبَاهٌ، وَفِي حَدِيثِ شَقِّ الصَّدْرِ «فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدِ الْتَبَسَ بِي» أَيْ حَصَلَ اخْتِلَاطٌ فِي عَقْلِي بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وَالْخَيَالِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَأَمَّا فِعْلُ لَبِسَ الثِّيَابَ فَمِنْ بَابِ سَمِعَ. فَلَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ تَرْوِيجُ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَهَذَا اللَّبْسُ هُوَ مَبْدَأُ التَّضْلِيلِ وَالْإِلْحَادِ فِي الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّ الْمُزَاوِلِينَ لِذَلِكَ لَا يُرَوَّجُ عَلَيْهِمْ قَصْدُ إِبْطَالِهَا فَشَأْنُ مَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَهَا أَنْ يَعْمِدَ إِلَى خَلْطِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ حَتَّى يُوهِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْحَقَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الْأَنْعَام: 137] لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إِلَى الْأَصْنَامِ. وَأَكْثَرُ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ الَّذِي أُدْخِلَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، فَقَدْ قَالَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْعَرَبِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ أَنَّنَا كُنَّا نُعْطِي الزَّكَاةَ لِلرَّسُولِ وَنُطِيعُهُ فَلَيْسَ عَلَيْنَا طَاعَة لأحد بِعْهُ، وَهَذَا نَقْضٌ لِجَامِعَةِ الْمِلَّةِ فِي صُورَةِ الْأَنَفَةِ مِنَ الطَّاعَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ شَاعِرُهُمْ وَهُوَ الْخُطَيْلُ بْنُ أَوْسٍ: أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ كَانَ بَيْننَا ... فيا لعباد اللَّهِ مَا لِأَبِي بَكْرِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّاقِمُونَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَبَّسُوا بِأُمُورٍ زَيَّنُوهَا لِلْعَامَّةِ كَقَوْلِهِمْ رَقِيَ إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ لِأَنَّ الْخَلِيفَتَيْنِ قَبْلَهُ نَزَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا سَلَفُهُ، وَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ خَاتَمُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ رَمْزٌ عَلَى سُقُوطِ خِلَافَتِهِ. وَقَدْ قَالَتِ الْخَوَارِجُ «لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ» . وَحَرَّفَ أَقْوَامٌ آيَاتٍ بِالتَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ ثُمَّ سَمَّوْا ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ وَزَعَمُوا أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ لَبْسٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ نَشَأَتْ عَنْ ذَلِكَ نِحْلَةُ الْبَاطِنِيَّةِ، ثُمَّ تَأْوِيلَاتُ الْمُتَفَلْسِفِينَ فِي الشَّرِيعَةِ كَأَصْحَابِ «الرَّسَائِلِ» الْمُلَقَّبِينَ بِإِخْوَانِ الصَّفَاءِ. ثُمَّ نَشَأَ تَلْبِيسُ الْوَاعِظِينَ وَالْمُرَغِّبِينَ وَالْمُرْجِئَةِ فَأَخَذُوا بَعْضَ الْآيَاتِ فَأَشَاعُوهَا وَكَتَمُوا مَا يُقَيِّدُهَا وَيُعَارِضُهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] فَأَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ وَكُلِّ مُذْنِبٍ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ وَأَغَضُّوا عَنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَآيَاتِ التَّوْبَةِ. وَلِلتَّفَادِي مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّ التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَوِيٌّ، أَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّأْوِيلُ لِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ فَهُوَُُ

[سورة البقرة (2) : آية 43]

تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ فَإِنْ وَقَعَ بِلَا دَلِيلٍ أَصْلًا فَهُوَ لَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ وَلِهَذَا نَهَى الْفُقَهَاءُ عَنِ اقْتِبَاسِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: لَئِنْ أَخْطَأت فِي مدحي ... ك مَا أَخْطَأْتَ فِي مَنْعِي لَقَدْ أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي ... بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعِ وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَالٌ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ لِأَنَّ صُدُورَ ذَلِكَ مِنَ الْعَالِمِ أَشَدُّ فَمَفْعُولُ (تَعْلَمُونَ) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَيْ لَبْسَكُمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. قَالَ الطَّيِّبِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 44] إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ كَمَالٍ وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ الْآتِي: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 44] إِذْ نَفَى عَنْهُمْ وَصْفَ الْعَقْلِ فَكَيْفَ يُثْبِتُ لَهُمْ هُنَا وَصْفَ الْعِلْمِ على الْإِطْلَاق. [43] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 43] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَمَرَ بِالتَّلَبُّسِ بِشِعَارِ الْإِسْلَامِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِاعْتِقَادِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ [الْبَقَرَة: 41] الْآيَةَ رَاجِعٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هُوَ وَسِيلَةُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ غَايَتُهُ، فَالْوَسِيلَةُ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى فَارْهَبُونِ [الْبَقَرَة: 40] وَالْمَقْصِدُ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، وَالْغَايَةُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ مَفَاسِدَ تَصُدُّهُمْ عَنِ الْمَأْمُورَاتِ مُنَاسِبَاتٍ لِلْأَوَامِرِ. فَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِلَخْ أَمْرٌ بِأَعْظَمِ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِإِجَابَتِهِمْ وَامْتِثَالِهِمْ لِلْأَوَامِرِ السَّالِفَةِ وَأَنَّهُمْ كَمُلَتْ لَهُمُ الْأُمُورُ الْمَطْلُوبَةُ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ عَقْدٌ قَلْبِيٌّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا النُّطْقُ، وَالنُّطْقُ اللِّسَانِيُّ أَمْرٌ سَهْلٌ قَدْ يَقْتَحِمُهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا غُلُوٍّ فِي دِينِهِ فَلَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلَامٍ يُخَالِفُ الدِّينَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ مَدْلُولَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] الْآيَةَ، فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّ الْأَوْلَى عَمَلٌ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْخَالِقِ وَالسُّجُودِ إِلَيْهِ وَخَلْعِ الْآلِهَةِ، وَمِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُ لِأَنَّهُ يَغِيظُ آلِهَتَهُ بِالْفِعْلِ وَبِقَوْلِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا يَفْعَلُهُ الْكِتَابِيُّ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ عِبَادَتَهُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنْفَاقُ الْمَالُُِ

وَهُوَ عَزِيزٌ عَلَى النَّفْسِ فَلَا يَبْذُلُهُ الْمَرْءُ فِي غَيْرِ مَا يَنْفَعُهُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادِ نَفْعٍ أُخْرَوِيٍّ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ يُنْفَقُ عَلَى الْعَدُوِّ فِي الدِّينِ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَجَشَّمُهُمَا إِلَّا مُؤْمِنٌ صَادِقٌ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى [النِّسَاء: 142] وَقَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 4، 5] وَفِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ عَلَى قَتْلِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهَا مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ إِلَى خُرُوجِهِ إِذَا كَانَ وَقْتًا مُتَّفَقًا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُصَرِّحًا بِالْإِيمَانِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا جَمْعًا بَين الْأَدِلَّة ومنعها لِذَرِيعَةِ خَرْمِ الْمِلَّةِ. وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا لِمَنْ قَالُوا بِأَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ لَوْلَا الْأَدِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ. وَفِيهَا دَلِيلٌ لِمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ أَمَارَةَ صِدْقِ الْإِيمَانِ إِذْ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا رَاجَعَهُ عُمَرُ فِي عَزْمِهِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ حِينَ مَنَعُوا إِعْطَاءَ الزَّكَاةِ وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، فَحَصَلَ مِنْ عِبَارَتِهِ عَلَى إِيجَازِهَا جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ عُمَرَ. وَقَوْلُهُ: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ لِلْيَهُودِ صَلَاةً لَا رُكُوعَ فِيهَا فَلِكَيْ لَا يَقُولُوا إِنَّنَا نُقِيمُ صَلَاتَنَا دَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. وَالرُّكُوعُ طَأْطَأَةُ وَانْحِنَاءُ الظَّهْرِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّبْجِيلِ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ، قَالَ الْأَعْشَى: إِذَا مَا أَتَانَا أَبُو مَالِكٍ ... رَكَعْنَا لَهُ وَخَلَعْنَا الْعِمَامَةْ (وَرُوِيَ سَجَدْنَا لَهُ وَخَلَعْنَا الْعَمَارَا، وَالْعَمَارُ هُوَ الْعِمَامَةُ) . وَقَوْلُهُ: مَعَ الرَّاكِعِينَ إِيمَاءٌ إِلَى وجوب ممثالة الْمُسْلِمِينَ فِي أَدَاءِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْمَفْرُوضَةِ فَالْمُرَادُ بِالرَّاكِعِينَ الْمُسْلِمُونَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ بأركانها وشرائطها.

[سورة البقرة (2) : آية 44]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 44] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الْبَقَرَة: 43] وَقَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 45] وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي وُقُوعِهِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَة: 43] لِيُشِيرَ إِلَى أَن صَلَاتِهِمُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا أَصْبَحَتْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ، نَاسَبَ أَنْ يُزَادَ لِذَلِكَ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ دِينُهُمْ مِنَ الْبِرِّ لَيْسُوا قَائِمِينَ بِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، فَجِيءَ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى كَوْنِهِ اعْتِرَاضًا لَمْ يُقْرَنْ بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ التَّحْرِيضُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْبِرِّ وَعَلَى مُلَازَمَتِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا هُوَ النِّدَاءُ عَلَى كَمَالِ خَسَارِهِمْ وَمَبْلَغِ سُوءِ حَالِهِمُ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ حَتَّى صَارُوا يَقُومُونَ بِالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ كَمَا يَقُومُ الصَّانِعُ بِصِنَاعَتِهِ وَالتَّاجِرُ بِتِجَارَتِهِ لَا يَقْصِدُونَ إِلَّا إِيفَاءَ وَظَائِفِهِمُ الدِّينِيَّةِ حَقَّهَا لِيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ مَا يُعَوَّضُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَاتِبَ وَرَوَاتِبَ فَهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى حَالِ أَنْفُسِهِمْ تُجَاهَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ الَّتِي يَأْمُرُونَ بِهَا النَّاسَ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خُوطِبُوا مِنْ قَبْلُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِهِمْ أَيْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَجِدُهُ يُصَرِّحُ بِأَوَامِرِ دِينِهِمْ وَيُشِيعُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَمْتَثِلُهَا هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخِطَابِ فَرِيقًا مِنْهُمْ فَإِنَّ الْخِطَابَ الْمُوَجَّهَ لِلْجَمَاعَاتِ وَالْقَبَائِلِ يَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ مَا هُوَ حَظُّهُ مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَحْبَارَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ وَهُمْ أَخَصُّ بِالْأَمْرِ بِالْبِرِّ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِمَّا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَذْكُرُونَ لَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ دِينُهُمْ وَالْعرب كَانُوا يحفلون بِسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: 89] وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ (النَّاس) من عدا الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ أَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: 173] أَيْ أَيَأْمُرُ الْوَاحِدُ غَيْرَهُ وَيَنْسَى نَفْسَهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْعَامَّةَ مِنْ أُمَّةِ الْيَهُودِ أَيْ كَيْفَ تَأْمُرُونَ أَتْبَاعَكُمْ وَعَامَّتَكُمْ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؟ فَفِيهِ تَنْدِيدٌ بِحَالِ أَحْبَارِهِمْ أَوْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ فَهُمْ يَأْمُرُونَ أَتْبَاعَهُمْ بِالْمَوَاعِظِ وَلَا يَطْلُبُونَ نَجَاةَ أَنْفُسِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ فَاسْتُعْمِلَ فِي التَّوْبِيخِ

مَجَازًا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يُلَازِمُ الِاسْتِفْهَامَ لِأَنَّ مَنْ يَأْتِي مَا يَسْتَحِقُّ التَّوْبِيخَ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَسَاءَلَ النَّاسُ عَنْ ثُبُوتِ الْفِعْلِ لَهُ وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ بِالسُّؤَالِ فَيَنْتَقِلُ مِنَ السُّؤَالِ إِلَى التَّوْبِيخِ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُوَبَّخِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي وُبِّخُوا عَلَيْهَا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ وَإِهْمَالِ النَّفْسِ مِنْهُ فَحَقِيقٌ بِكُلِّ سَامِعٍ أَنْ يَعْجَبَ مِنْهَا، وَلَيْسَ التَّعَجُّبُ بِلَازِمٍ لِمَعْنَى التَّوْبِيخِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بَلْ فِي نَحْوِ هَذَا مِمَّا كَانَ فِيهِ الْمُوَبَّخُ عَلَيْهِ غَرِيبًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ الِاسْتِفْهَامُ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ فَكَوْنُهُ مجَازًا مُرْسلا ظَاهر وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي لَازِمَيْنِ يَتَوَلَّدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ تَعَدُّدَ اللَّوَازِمِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْعَلَاقَةِ وَلَا تَكَرُّرَ الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَجَازِيَّةَ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الْعَلَاقَةِ لَا مِنَ الْوَضْعِ فَتَعَدُّدُ الْمَجَازَاتِ لِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْسَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ السَّيِّدُ فِي «حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ» فِي بَابِ الْإِنْشَاءِ عَلَاقَتُهُ اللُّزُومُ وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي تعْيين علاقته التفتازانيّ وَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا لَمْ يَحُمْ أَحَدٌ حَوْلَهُ. وَالْبِرُّ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- الْخَيْرُ فِي الْأَعْمَالِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَفِعْلُهُ فِي الْغَالِبِ مِنْ بَابِ عَلِمَ إِلَّا الْبر فِي الْيمن فَقَدْ جَاءَ مِنْ بَابِ عَلِمَ وَبَابِ ضَرَبَ، وَمِنَ الْأَقْوَالِ الْمَأْثُورَةِ الْبِرُّ ثَلَاثَةٌ: بِرٌّ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَبِرٌّ فِي مُرَاعَاةِ الْأَقَارِبِ وَبِرٌّ فِي مُعَامَلَةِ الْأَجَانِبِ، وَذَلِكَ تَبَعٌ لِلْوَفَاءِ بِسَعَةِ الْإِحْسَانِ فِي حُقُوقِ هَذِهِ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ. وَالنِّسْيَانُ ذَهَابُ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ مِنْ حَافِظَةِ الْإِنْسَانِ لِضَعْفِ الذِّهْنِ أَوِ الْغَفْلَةِ وَيُرَادِفُهُ السَّهْوُ وَقِيلَ السَّهْوُ الْغَفْلَةُ الْيَسِيرَة بِحَيْثُ يتَنَبَّه بِأَقَلِّ تَنْبِيهٍ، وَالنِّسْيَانُ زَوَالُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَسَّرَ النِّسْيَانَ بِمُطْلَقِ التَّرْكِ وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْأَسَاسِ» مَجَازًا وَهُوَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالنِّسْيَانُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنِ التَّهَاوُنِ بِمَا يَذْكُرُ الْمَرْءُ فِي الْبِرِّ عَلَى نَحْوٍ مَا. قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] أَيْ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ أَمْرِهَا بِالْبِرِّ أَوْ وَتَنْسَوْنَ أَنْ تَأْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْبِرِّ وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ يَبْقَى النِّسْيَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فِي التَّهَاوُنِ بِالتَّخَلُّقِ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالِاجْتِرَاءِ عَلَى تَأْوِيلِ الْوَحْيِ بِمَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى صَارُوا يَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِمِثْلِ مَا يَنْهَوْنَ عَنْهُ فَإِذَا تَصَدَّوْا إِلَى مَوَاعِظِ قَوْمِهِمْ أَوِ الْخَطَابَةِ فِيهِمْ أَوْ أَمَرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانُوا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَذَامَّ قَدْ تَلَبَّسُوا بِأَمْثَالِهَا إِلَّا أَنَّ التَّعَوُّدَ بِهَا أَنْسَاهُمْ إِيَّاهَا فَأَنْسَاهُمْ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ بِالْبِرِّ لِنِسْيَانِ سَبَبِهِ

وَقَدْ يَرَى الْإِنْسَانُ عَيْبَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ وَلَا يَرَى عَيْبَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يشاهدها وَلِأَنَّ الْعَادَةَ تُنْسِيهِ حَالَهُ. وَدَوَاءُ هَذَا النِّسْيَانِ هُوَ مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فَيَكُونُ الْبِرُّ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَوَامِرُ السَّابِقَةُ مِنَ التَّفَاصِيلِ فَهُمْ قَدْ أَمَرُوا غَيْرَهُمْ بِتَفَاصِيلِهَا وَنَسُوا أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهَا وَذَلِكَ يَشْمَلُ التَّصْدِيقَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ الَّتِي كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِمَا فِيهَا. وَجُمْلَةُ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضمير تَأْمُرُونَ أَو يكون مَحَلُّ التَّوْبِيخِ وَالتَّعَجُّبِ هُوَ أَمْرَ النَّاسِ بِالْبِرِّ بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي حَالِ نِسْيَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى تَأْمُرُونَ وَتَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ تَمْهِيدًا لَهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَحَلَّ الْفَظَاعَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّهْيِ هِيَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ قَصْدُ النَّهْيِ عَنْ مَضْمُونِ كِلَا الْجُمْلَتَيْنِ إِذِ الْقَصْدُ هُوَ التَّوْبِيخُ عَلَى اتِّصَافٍ بِحَالَةٍ فَظِيعَةٍ لَيْسَتْ مِنْ شِيَمِ النَّاصِحِينَ لَا قَصْدُ تَحْرِيمٍ فَلَا تَقَعْ فِي حَيْرَةِ مَنْ تَحَيَّرَ فِي وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَلَا فِي وهم من وَهْمٍ فَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُمُ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ» فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ نَهْيٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَفْظِيعُ الْحَالَةِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَذْيِيلِهَا أَفَلا تَعْقِلُونَ وَلَمْ يَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ أَوْ نَحْوَهُ. وَالْأَنْفُسُ جَمْعُ نَفْسٍ- بِسُكُونِ الْفَاءِ- وَهِيَ مَجْمُوعُ ذَاتِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْهَيْكَلِ وَالرُّوحِ كَمَا هُنَا وَبِاعْتِبَارِ هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي فِي الذَّاتِ اتَّسَعَ إِطْلَاقُ النَّفْسِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَارَةً عَلَى جَمِيعِ الذَّاتِ كَمَا فِي التَّوْكِيدِ نَحْوَ جَاءَ فُلَانٌ نَفْسُهُ وَقَوْلِهِ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] وَقَوْلِهِ: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 85] وَتَارَةً عَلَى الْبَعْضِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَنْكَرْتُ نَفْسِي وَقَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَعَلَى الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ كَقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: 116] أَيْ ضَمِيرِي. وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاكُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يُوسُف: 53] وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [111] . وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ قَيَّدَ بِهَا التَّوْبِيخَ وَالتَّعْجِيبَ لِأَنَّ نِسْيَانَ أَنْفُسِهِمْ يَكُونُ أَغْرَبَ وَأَفْظَعَ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ أَمْرَانِ يُقْلِعَانِهِ، وَهُمَا أَمْرُ النَّاسِ بِالْبِرِّ، فَإِنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ بِالْبَرِّ

[سورة البقرة (2) : الآيات 45 إلى 46]

أَنْ يُذَكِّرَ الْآمِرَ حَاجَةَ نَفْسِهِ إِلَيْهِ إِذَا قَدَّرَ أَنَّهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَتِلَاوَةُ الْكِتَابِ أَيِ التَّوْرَاةِ يَمُرُّونَ فِيهَا عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُذَكِّرَهُمْ مُخَالَفَةَ حَالِهِمْ لِمَا يَتْلُونَهُ. وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ انْتِفَاءِ تَعَقُّلِهِمُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنِ انْتَفَى تَعَقُّلُهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ مَنْ لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ مَنْ يَسْتَمِرُّ بِهِ التَّغَفُّلُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِهْمَالُ التَّفَكُّرِ فِي صَلَاحِهَا مَعَ مصاحبة شَيْئَيْنِ يذكرانه، قَارَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا عَنْهُ التَّعَقُّلُ. وَفِعْلُ تَعْقِلُونَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ أَوْ هُوَ لَازِمٌ. وَفِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى كَمَالِ غَفْلَتِهِمْ وَاضْطِرَابِ حَالِهِمْ. وَكَوْنُ هَذَا أَمْرًا قَبِيحًا فَظِيعًا مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقل. [45، 46] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 45 إِلَى 46] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُعِينُهُمْ عَلَى التَّخَلُّقِ بِجَمِيعِ مَا عَدَّدَ لَهُمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّحَلِّي بِالْمَحَامِدِ وَالتَّخَلِّي عَنِ الْمَذَمَّاتِ، لَهُ أَحْسَنُ وَقْعٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خُوطِبُوا بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّشْوِيهِ ظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ فِي نُفُوسِهِمْ مَسْلَكٌ لِلشَّيْطَانِ وَلَا مَجَالَ لِلْخِذْلَانِ وَأَنَّهُمْ أَنْشَئُوا يَتَحَفَّزُونَ لِلِامْتِثَالِ وَالِائْتِسَاءِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْإِلْفَ الْقَدِيمَ يُثْقِلُ أَرْجُلَهُمْ فِي الْخَطْوِ إِلَى هَذَا الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، فَوَصَفَ لَهُمُ الدَّوَاءَ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ وَرِيشٌ بِقَادِمَتَيِ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ مِنْهُمُ الْجَنَاحُ. فَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ لِأَنَّ الصَّبْرَ مَلَاكُ الْهُدَى فَإِنَّ مِمَّا يَصُدُّ الْأُمَمَ عَنِ اتِّبَاعِ دِينٍ قَوِيمٍ الْفَهْمُ بِأَحْوَالِهِمُ الْقَدِيمَةِ وَضِعْفُ النُّفُوسِ عَنْ تَحَمُّلِ مُفَارَقَتِهَا فَإِذَا تَدَرَّعُوا بِالصَّبْرِ سَهُلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ. وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّلَاةِ فَالْمُرَاد تَأَكد الْأَمْرِ بِهَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [الْبَقَرَة: 43] وَهَذَا إِظْهَارٌ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ وَهُوَ طَرِيقٌ بَدِيعٌ مِنْ طُرُقِ التَّرْغِيبِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا إِلَخْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الِانْتِقَالِ مِنْ خِطَابٍ إِلَى خِطَابٍ آخَرَ، وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّ وُجُودَ حَرْفِ الْعَطْفِ يُنَادِي عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ مُرَادٌ بِهِ إِلَّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَسْبَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ الْآيَةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ

يَكُونَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الدَّاعِي. وَالَّذِي غَرَّهُمْ بِهَذَا التَّفْسِيرِ تَوَهُّمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِالصَّلَاةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ بَعْدُ وَأَيُّ عَجَبٍ فِي هَذَا؟ وَقَرِيبٌ مِنْهُ آنِفًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَة: 43] خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا مَحَالَةَ. وَالصَّبْرُ عَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ فِي «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» بِأَنَّهُ ثَبَاتُ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ بَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ تَعْرِيفٌ خَاصٌّ بِالصَّبْرِ الشَّرْعِيِّ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ لِأَنَّهَا فِي ذِكْرِ الصَّبْرِ الشَّرْعِيِّ، وَأَمَّا الصَّبْرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ- الَّذِي هُوَ وَصْفُ كَمَالٍ- فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ احْتِمَالِ النَّفْسِ أَمْرًا لَا يُلَائِمُهَا إِمَّا لِأَنَّ مَآلَهُ مُلَائِمٌ، أَوْ لِأَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءً عَظِيمًا فَأَشْبَهَ مَا مَآلُهُ مُلَائِمٌ، أَوْ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ تَجَنُّبِ الْجَزَعِ وَالضَّجَرِ، فَالصَّبْرُ احْتِمَالٌ وَثَبَاتٌ عَلَى مَا لَا يُلَائِمُ، وَأَقَلُّ أَنْوَاعِهِ مَا كَانَ عَنْ عَدَمِ الْمَقْدِرَةِ وَلِذَا وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» : «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» أَيِ الصَّبْرُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّفَصِّيَ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِلَّا فَإِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ اعْتِقَادِ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّفَصِّي إِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ضَجَرٌ وَجَزَعٌ هُوَ صَبْرٌ حَقِيقَةً. فَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ «إِنَّمَا الصَّبْرُ» حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْكَمَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ أَنْتَ الرَّجُلُ. وَالصَّلَاةُ أُرِيدَ بِهَا هُنَا مَعْنَاهَا الشَّرْعِيُّ فِي الْإِسْلَامِ وَهِيَ مَجْمُوعُ مَحَامِدَ لِلَّهِ تَعَالَى، قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا فَلَا جَرَمَ كَانَتِ الِاسْتِعَانَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هُنَا رَاجِعَةً لِأَمْرَيْنِ: الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ كَمَا فِي «الْإِحْيَاءِ» وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَمُعْظَمُ الْفَضَائِلِ مِلَاكُهَا الصَّبْرُ إِذِ الْفَضَائِلُ تَنْبَعِثُ عَنْ مَكَارِمِ الْخِلَالِ، وَالْمَكَارِمُ رَاجِعَةٌ إِلَى قُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَكَبْحِ زِمَامِ النَّفْسِ عَنِ الْإِسَامَةِ فِي شَهَوَاتِهَا بِإِرْجَاعِ الْقُوَّتَيْنِ الشَّهَوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ عَمَّا لَا يُفِيدُ كَمَالًا أَوْ عَمَّا يُورِثُ نُقْصَانًا فَكَانَ الصَّبْرُ مِلَاكَ الْفَضَائِلِ فَمَا التَّحَلُّمُ وَالتَّكَرُّمُ وَالتَّعَلُّمُ وَالتَّقْوَى وَالشَّجَاعَةُ وَالْعَدْلُ وَالْعَمَلُ فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا إِلَّا مِنْ ضُرُوبِ الصَّبْرِ. وَمِمَّا يُؤْثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الشَّجَاعَةُ صَبْرُ سَاعَةٍ. وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ يَعْتَذِرُ عَنِ انْهِزَامِ قَوْمِهِ: سَقَيْنَاهُمُ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا وَحَسْبُكَ بِمَزِيَّةِ الصَّبْرِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُكَمِّلَ سَبَبِ الْفَوْزِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: 1- 3] وَقَالَ هُنَا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ مَوْضِعًا وَأَضَافَ أَكْثَرَ الْخَيْرَاتِ وَالدَّرَجَاتِ إِلَى الصَّبْرِ وَجَعَلَهَا ثَمَرَةً لَهُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍُُ:

وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السَّجْدَة: 24] . وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: 137] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَة: 153] اهـ. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ وَجَدْتَ أَصْلَ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ مِنْ ضُرُوبِ الصَّبْرِ فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ هَوَاهَا وَمَأْلُوفَهَا فِي التَّصْدِيقِ بِمَا هُوَ مُغَيَّبٌ عَنِ الْحِسِّ الَّذِي اعْتَادَتْهُ، وَبِوُجُوبِ طَاعَتِهَا وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهَا لَا تَرَاهُ يَفُوقُهَا فِي الْخِلْقَةِ وَفِي مُخَالَفَةِ عَادَةِ آبَائِهَا وَأَقْوَامِهَا مِنَ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ. فَإِذَا صَارَ الصَّبْرُ خُلُقًا لِصَاحِبِهِ هَوَّنَ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَجْلِ الْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ فَظَهَرَ وَجْهُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ بِالصَّبْرِ فَإِنَّهُ خُلُقٌ يَفْتَحُ أَبْوَابَ النُّفُوسِ لِقَبُولِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَأما الِاسْتِعَانَة بِالصبرِ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شُكْرٌ وَالشُّكْرُ يُذَكِّرُ بِالنِّعْمَةِ فَيَبْعَثُ عَلَى امْتِثَالِ الْمُنْعِمِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّلَاةِ صَبْرًا مِنْ جِهَاتٍ فِي مُخَالَفَةِ حَالِ الْمَرْءِ الْمُعْتَادَةِ وَلُزُومِهِ حَالَةً فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَسُوغُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا وَلَا الْخُرُوجُ مِنْهَا عَلَى أَنَّ فِي الصَّلَاة سرا إِلَّا هيا لَعَلَّه ناشىء عَنْ تَجَلِّي الرِّضْوَانِ الرَّبَّانِيِّ عَلَى الْمُصَلِّي فَلِذَلِكَ نَجِدُ لِلصَّلَاةِ سِرًّا عَظِيمًا فِي تَجْلِيَةِ الْأَحْزَانِ وَكَشْفِ غَمِّ النَّفْسِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ (بِزَايٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ أَيْ نَزَلَ بِهِ) أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ مَنْ رَاقَبَهُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] لِأَنَّهَا تَجْمَعُ ضُرُوبًا مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا كَوْنُ الشُّكْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُعِينًا عَلَى الْخَيْرِ فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: 7] . وَقَوْلُهُ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعَادِ ضَمِيرِ إِنَّها فَقِيلَ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَالْمَعْنَى إِنَّ الصَّلَاةَ تَصْعُبُ عَلَى النُّفُوسِ لِأَنَّهَا سِجْنٌ لِلنَّفْسِ وَقِيلَ الضَّمِيرُ لِلِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنِ اسْتَعِينُوا عَلَى حَدِّ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَقِيلَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَأْمُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الْبَقَرَة: 40] إِلَى قَوْلِهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 45] وَهَذَا الْأَخِيرُ مِمَّا جَوَّزَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِهِ وَهَذَا أَوْضَحُ الْأَقْوَالِ وَأَجْمَعُهَا وَالْمَحَامِلُ مُرَادَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْكَبِيرَةِ هُنَا الصعبة الَّتِي تشتق عَلَى النُّفُوسِ، وَإِطْلَاقُ الْكِبَرِ عَلَى الْأَمْرِ الصَّعْبِ وَالشَّاقِّ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ فِي حَمْلِهِ أَوْ تَحْصِيلِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الْبَقَرَة: 143] وَقَالَ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ [الْأَنْعَام: 35] الْآيَةَ. وَقَالَ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] .

وَقَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْخُشُوعِ، وَالْخُشُوعُ لُغَةً هُوَ الانزواء والانخفاض قا النَّابِغَةُ: وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ أَيْ زَالَ ارْتِفَاعُ جَوَانِبِهِ. وَالتَّذَلُّلُ خُشُوعٌ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْلَةَ الْحَارِثِيُّ: فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ ... لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي خُشُوعِ النَّفْسِ وَهُوَ سُكُونٌ وَانْقِبَاضٌ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْإِبَايَةِ أَوِ الْعِصْيَانِ. وَالْمُرَادُ بِالْخَاشِعِ هُنَا الَّذِي ذَلَّلَ نَفْسَهُ وَكَسَرَ سُورَتَهَا وَعَوَّدَهَا أَنْ تَطْمَئِنَّ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَتَطْلُبَ حُسْنَ الْعَوَاقِبِ وَأَنْ لَا تَغْتَرَّ بِمَا تُزَيِّنُهُ الشَّهْوَةُ الْحَاضِرَةُ فَهَذَا الَّذِي كَانَتْ تِلْكَ صِفَتَهُ قَدِ اسْتَعَدَّتْ نَفْسُهُ لِقَبُولِ الْخَيْرِ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَاشِعِينَ هُنَا الْخَائِفُونَ النَّاظِرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ فَتَخِفُّ عَلَيْهِمُ الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي الصَّبْرِ مِنَ الْقَمْعِ لِلنَّفْسِ وَمَا فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْتِزَامِ أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ وَطَهَارَةٍ فِي أَوْقَاتٍ قَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهَا اشْتِغَالٌ بِمَا يَهْوَى أَوْ بِمَا يُحَصِّلُ مِنْهُ مَالًا أَوْ لَذَّةً. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ وَأَحْسَبُ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ قَصَدَ الشَّارِعُ مِنْهَا هَذَا الْمَعْنَى وَأَعْظَمَهُا الصَّوْمُ. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْخُشُوعِ هُنَا عَلَى خُصُوصِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِسَبَبِ الْحَالِ الْحَاصِلِ فِي النَّفْسِ بِاسْتِشْعَارِ الْعَبْدِ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى حَسْبَمَا شَرَحَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ الْأَوَّلِ مِنَ «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلُ» وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1، 2] ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ وَكَمَالِ الْمُصَلِّي فَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ هُوَ الْمُخَفِّفَ لِكُلْفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْتَعِينِ بِالصَّلَاةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى الْخَاشِعِينَ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَهِيَ صِلَةٌ لَهَا مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ فَفِيهَا مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْخَاشِعِينَ وَمَعْنَى بَيَانِ مَنْشَأِ خُشُوعِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظَّنِّ هُنَا الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ وَإِطْلَاقُ الظَّنِّ فِي كَلَامُُِ

الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى الْيَقِينِ كَثِيرٌ جِدًّا، قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ يَصِفُ صَيَّادًا رَمَى حِمَارَ وَحْشٍ بِسَهْمٍ (¬1) : فَأَرْسَلَهُ مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أَنَّهُ ... مُخَالِطُ مَا بَين الشرا سيف جَائِفُ وَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ ... سَرَاتُهُمْ بِالْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّجِ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ وَبَيْنَ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ. وَالْمُلَاقَاةُ وَالرُّجُوعُ هُنَا مَجَازَانِ عَنِ الْحِسَابِ وَالْحَشْرِ أَوْ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَالثَّوَابِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ اللِّقَاءِ- وَهُوَ تَقَارِبُ الْجِسْمَيْنِ، وَحَقِيقَةَ الرُّجُوعِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَكَانٍ خَرَجَ مِنْهُ الْمُنْتَهِي- مُسْتَحِيلَةٌ هُنَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَخِ التَّعْرِيضُ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَحْرِيضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى التَّهَمُّمِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى جَعْلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا لِلْمُسْلِمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ تَعْرِيضًا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالْمُلَاقَاةُ مُفَاعَلَةٌ مَنْ لَقِيَ، وَاللِّقَاءُ الْحُضُورُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 37] وَالْمُرَادُ هُنَا الْحُضُورُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحِسَابِ أَيِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [31] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ. [47] ¬

(¬1) أَوْس بن حجر- بحاء مُهْملَة وجيم مفتوحتين، ويغلط من يضم حاءه ويسكن جيمه- وَهُوَ من فحول شعراء بني تَمِيم فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ فَحل مُضر قبل النَّابِغَة وَزُهَيْر، فَلَمَّا نبغ زُهَيْر والنابغة أخملاه. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة أَولهَا: تنكر بعدِي من أُمَيْمَة صَائِف ... فبرك فأعلى تولب فالمخالف وصائف وبرك وتولب والمخالف أَسمَاء بقاع، وَقد ذكر فِي أَثْنَائِهَا وصف الصياد لحِمَار الْوَحْش فَقَالَ: فأمهله حَتَّى إِذا أَن كأنّه ... معاطي يَد من جمة المَاء غارف فسيّر سَهْما راشه بمناكب ... لؤام ظِهَار فَهُوَ أعجف شائف

[سورة البقرة (2) : آية 47]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 47] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) أُعِيدَ خِطَابُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِطَرِيقِ النِّدَاءِ مُمَاثِلًا لِمَا وَقَعَ فِي خِطَابِهِمُ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ التَّكْرِيرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخِطَابِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ قُصِدَ مِنْهُ تَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ دَاعِيَةً لِامْتِثَالِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الِامْتِثَالَ كَانَ حَقُّ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُفْضِيَ الْبَلِيغُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَلَا يُطِيلَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا يُلِمُّ بِهَا إِلْمَامًا وَيُشِيرُ إِلَيْهَا إِجْمَالًا، تَنْبِيهًا بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَلَمْ يَزَلِ الْخُطَبَاءُ وَالْبُلَغَاءُ يَعُدُّونَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ نَبَاهَةِ الْخَطِيبِ وَيَذْكُرُونَهُ فِي مَنَاقِبِ وَزِيرِ الْأَنْدَلُسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَطِيبِ السَّلْمَانِيِّ إِذْ قَالَ عِنْدَ سِفَارَتِهِ عَنْ مَلِكِ غَرْنَاطَةَ إِلَى مَلِكِ الْمَغْرِبِ ابْنِ عَنَانٍ أَبْيَاتَهُ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي ارْتَجَلَهَا عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ طَالِعُهَا: خَلِيفَةَ اللَّهِ سَاعَدَ الْقدر ... علاك مالاح فِي الدُّجَا قَمَرُ ثُمَّ قَالَ: وَالنَّاسُ طُرًّا بِأَرْضِ أَنْدَلُسٍ ... لَوْلَاكَ مَا وَطِنُوا وَلَا عَمِرُوا وَقَدْ أَهَمَّتْهُمْ نُفُوسُهُمُ ... فَوَجَّهُونِي إِلَيْكَ وَانْتَظَرُوا فَقَالَ لَهُ أَبُو عَنَانٍ: مَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِجَمِيعِ مَطَالِبِهِمْ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْجُلُوسِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ الشَّرِيفُ (¬1) - وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَفْدِ- لَمْ نَسْمَعْ بِسَفِيرٍ قَضَى سِفَارَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى السُّلْطَانِ إِلَّا هَذَا. فَكَانَ الْإِجْمَالُ فِي الْمُقَدِّمَةِ قَضَاءً لِحَقِّ صَدَارَتِهَا بِالتَّقْدِيمِ وَكَانَ الْإِفْضَاءُ إِلَى الْمَقْصُودِ قَضَاءً لِحَقِّهِ فِي الْعِنَايَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى تَفْصِيلِ النِّعَمِ قَضَاءً لِحَقِّهَا مِنَ التَّعْدَادِ فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ تَمْجِيدٌ لِلْمُنْعِمِ وَتَكْرِيمٌ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَعِظَةٌ لَهُ وَلِمَنْ يُبْلِغُهُمْ خَبَرَ ذَلِكَ تَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ. ¬

(¬1) هُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْحُسَيْنِي السبتي ثمَّ الغرناطي قَاضِي غرناطة الْمُتَوفَّى سنة 760 هـ وَله الشَّرْح الْمَشْهُور على مَقْصُورَة حَازِم القرطاجني.

فَلِلتَّكْرِيرِ هُنَا نُكْتَةُ جَمْعِ الْكَلَامَيْنِ بَعْدَ تَفْرِيقِهِمَا وَنُكْتَةُ التَّعْدَادِ لِمَا فِيهِ إِجْمَالُ مَعْنَى النِّعْمَةِ. وَالنِّعْمَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا جَمِيعُ النِّعَمِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ مُضَافٌ فَلَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَة: 40] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عَطْفٌ عَلَى نِعْمَتِيَ أَيْ وَاذْكُرُوا تَفْضِيلِي إِيَّاكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَهَذَا التَّفْضِيلُ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ فَعَطْفُهُ عَلَى (نِعْمَتِي) عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ وَهُوَ مبدأ لتفصيل النِّعَمِ وَتَعْدَادِهَا وَرُبَّمَا كَانَ تَعْدَادُ النِّعَمِ مُغْنِيًا عَنِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ امْتِثَالُ أَمْرِ الْمُنْعِمِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ تُورِثُ الْمَحَبَّةَ. وَقَالَ مَنْصُورٌ الْوَرَّاقُ: تَعْصَى الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَهَذَا التَّذْكِيرُ مَقْصُودٌ بِهِ الْحَثُّ عَلَى الِاتِّسَامِ بِمَا يُنَاسِبُ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَيَسْتَبْقِي ذَلِكَ الْفَضْلَ. وَمَعْنَى الْعَالمين تقدم عَنهُ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا صِنْفٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُصَنَّفُ أَصْنَافًا مُتَنَوِّعَةً عَلَى حَسَبِ تَصْنِيفِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ السَّامِعِ، فَالْعَالَمُونَ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْخَلْقِ هُمْ أَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالْحُوتِ، وَالْعَالَمُونَ فِي مَقَامِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْخَلْقِ أَوِ الْأُمَمِ أَوِ الْقَبَائِلِ يُرَادُ بِهَا أَصْنَافُ تِلْكَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَالَمِينَ هُنَا هُمُ الْأُمَمَ الْإِنْسَانِيَّةَ فَيَعُمَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ لَكِنَّ عُمُومَهُ هُنَا عُرْفِيٌّ يَخْتَصُّ بِأُمَمِ زَمَانِهِمْ كَمَا يَخْتَصُّ نَحْوَ: جَمْعِ الْأَمِيرِ الصَّاغَةَ بِصَاغَةِ مَكَانِهِ أَيْ بَلَدِهِ وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ كَمَا يَخْتَصُّ جَمْعُ الْأَمِيرِ الصَّاغَةَ بِالصَّاغَةِ الْمُتَّخِذِينَ الصِّيَاغَةَ صِنَاعَةً دُونَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ الصِّيَاغَةَ وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: هُوَ أَشْهَرُ الْعُلَمَاءِ وَأَنْجَبُ التَّلَامِذَةِ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَلَفِهِمْ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ لَا عَلَى بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينٍ كَامِلٍ مِثْلَ نَصَارَى نَجْرَانَ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَسْأَلَةِ تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِحَالٍ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يَشِذُّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأَفْرَادِ فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَفْرَادٍ مِنَ الْأُمَمِ بَلَغُوا مَرْتَبَةً صَالِحَةً أَوْ نُبُوءَةً لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ تَفْضِيلُ الْمَجْمُوعِ، كَمَا تَقُولُ قُرَيْشٌ أَفْضَلُ مِنْ طَيء وَإِن كَانَ فِي طَيِّءٍ حَاتِمٌ الْجَوَادُ.

[سورة البقرة (2) : آية 48]

فَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ عَصْرِهِمْ وَفِي تِلْكَ الْأُمَمِ أُمَمٌ عَظِيمَةٌ كَالْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَفِيهِمُ الْعُلَمَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَدُعَاةُ الْإِصْلَاحِ وَالْأَنْبِيَاءُ لِأَنَّهُ تَفْضِيلُ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ، وَمَعْنَى هَذَا التَّفْضِيلِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ لَهُمْ مِنَ الْمَحَامِدِ الَّتِي تَتَّصِفُ بِهَا الْقَبَائِلُ وَالْأُمَمُ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ لِغَيْرِهِمْ وَهِيَ شَرَفُ النَّسَبِ وَكَمَالُ الْخُلُقِ وَسَلَامَةُ الْعَقِيدَةِ وَسَعَةُ الشَّرِيعَةِ وَالْحُرِّيَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَعِنَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا آيَةٌ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [آل عمرَان: 20] وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ ثَبَتَتْ لِأَسْلَافِهِمْ فِي وَقْتِ اجْتِمَاعِهَا وَقَدْ شَاعَ أَنَّ الْفَضَائِلَ تَعُودُ عَلَى الْخَلَفِ بِحُسْنِ السُّمْعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُونُوا بِحَالِ التَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَلَكِنَّهُمْ ذُكِّرُوا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ فَضَائِلَ الْأُمَمِ لَا يُلَاحَظُ فِيهَا الْأَفْرَادُ وَلَا الْعُصُورُ. وَوَجَّهَ زِيَادَةَ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ مَرَّ فِي أُخْتهَا الأولى. [48] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 48] وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) عَطَفَ التَّحْذِيرَ عَلَى التَّذْكِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعْمَةِ وَخَاصَّةً تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَنْشَأَ غُرُورِهِمْ بِأَنَّهُ تَفْضِيلٌ ذَاتِيٌّ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ التَّقْصِيرَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا يَضُرُّهُمْ فَعَقَّبَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى هُنَا مَعْنَاهَا الْمُتَعَارَفُ فِي اللُّغَةِ لَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ. وَانْتِصَابُ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ وَلَيْسَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَأْ بِغَيْرِ التَّنْوِينِ. وَالْمُرَادُ بِاتِّقَائِهِ اتِّقَاؤُهُ مِنْ حَيْثُ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْعَذَابِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الزَّمَانِ عَلَى مَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا تَقُولُ مَكَانٌ مَخُوفٌ. وتَجْزِي مُضَارِعُ جَزَى بِمَعْنَى قَضَى حَقًّا عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِعَنْ إِلَى أَحَدِ مَفْعُولَيْهِ فَيَكُونُ شَيْئاً مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا إِذَا أُرِيدَ شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا.

وَجُمْلَةُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ صِفَةٌ لِيَوْمًا وَكَانَ حَقُّ الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَتْ خَبَرًا أَوْ صِفَةً أَوْ حَالًا أَوْ صِلَةً أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى ضَمِيرِ مَا أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ، وَيَكْثُرُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا أَوْ ضَمِيرًا مَجْرُورًا فَيُحْذَفُ مَعَ جَارِّهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْجَارُّ مَعْلُومًا لِكَوْنِ مُتَعَلِّقِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِجَارٍّ مُعَيَّنٍ كَمَا هُنَا تَقْدِيرُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ مِنَ الْكَلَامِ وَقَدْ يُحْذَفُ لِقَرِينَةٍ كَمَا فِي حَذْفِ ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ إِذَا جُرَّ بِمَا جُرَّ بِهِ الْمَوْصُولُ. وَنَظِيرُ هَذَا الْحَذْفِ قَوْلُ الْعُرْيَانِ الْجَرْمِيِّ من جرم طَيء: فَقُلْتُ لَهَا لَا وَالَّذِي حَجَّ حَاتِمٌ ... أَخُونُكِ عَهْدًا إِنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ تَقْدِيرُهُ حَجَّ حَاتِمٌ إِلَيْهِ. وَتَنْكِيرُ النَّفْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يُفِيدُ عُمُومَ النُّفُوسِ أَي لَا يُغني أحد كَائِنًا مَنْ كَانَ فَلَا تُغْنِي عَنِ الْكُفَّارِ آلِهَتُهُمْ وَلَا صُلَحَاؤُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ فِي غَنَاءِ أُولَئِكَ عَنْهُمْ، فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ غَنَائِهِمْ عَنْهُمْ بِأَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ نَفْيُ أَنْ يَجْزُوا عَنْهُمْ جَزَاءً يَمْنَعُ اللَّهَ عَنْ نَوَالِهِمْ بِسُوءٍ رَعْيًا لِأَوْلِيَائِهِمْ، فَالْمُرَادُ هُنَا الْغَنَاءُ بِحُرْمَةِ الشَّخْصِ وَتَوَقُّعُ غَضَبِهِ وَهُوَ غَنَاءُ كُفْءِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَخَافُهُ الْعَدُوُّ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأُمَمِ يَوْمَئِذٍ مِنَ اتِّقَائِهِمْ بَطْشَ مَوْلَى أَعْدَائِهِمْ وَإِحْجَامِهِمْ عَمَّا يُوجِبُ غَضَبَهُ تَقِيَّةً مِنْ مَكْرِهِ أَوْ ضُرِّهِ أَوْ حِرْمَانِ نَفعه قَالَ السموأل: وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو الشَّقِيقَةِ مِنْ ذهل بن شَيبَان وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَفَادَ قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً مُغَايِرٌ لِمَفَادِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ إِلَخْ فَقَوْلُهُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] . وَقَوْلُهُ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ لِلنَّفْسِ الثَّانِيَةِ الْمَجْرُورَةِ بِعْنَ أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْ نَفْسٍ شَفَاعَةٌ تَأْتِي بِهَا وَلَا عَدْلٌ تَعْتَاضُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ إِبْطَالُ عَقِيدَةٍ تُنَصِّلُ الْمُجْرِمَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ

رَاجِعًا إِلَى مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ قَبْلِهِ. وَهَذَا التَّأْيِيسُ يَسْتَتْبِعُ تَحْقِيرَ مَنْ تَوَهَّمَهُمُ الْكَفَرَةُ شُفَعَاءَ وَإِبْطَالَ مَا زَعَمُوهُ مُغْنِيًا عَنْهُمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ مِنْ قَرَابِينَ قَرَّبُوهَا وَمُجَادَلَاتٍ أَعَدُّوهَا وَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النَّحْل: 111] . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً بِمَا يَعُمُّ الْإِجْزَاءَ فَجَعَلَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ بَعْدَهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاص على الْعَالم وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ: «حَصَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَعَانِيَ الَّتِي اعْتَادَ بِهَا بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ فِي شِدَّةٍ لَا يَتَخَلَّصُ إِلَّا بِأَنْ يُشْفَعَ لَهُ أَوْ يُفْتَدَى أَوْ يُنْصَرَ» اهـ وَأَلْغَى جَمْعُهَا لِحَالَةِ أَنْ يَتَجَنَّبَ النَّاسُ إِيقَاعَهُ فِي شِدَّةٍ اتِّقَاءً لِمَوَالِيهِ، وَمَا فَسَّرْنَا بِهِ أَرْشَقُ. وَقَدْ جُمِعَ كَلَامُ شُيُوخِ بَنِي أَسَدٍ مَعَ امْرِئِ الْقَيْسِ حِينَ كَلَّمُوهُ فِي دم أَبِيه حجر فَقَالُوا: فَأَحْمَدُ الْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَعْرِفَ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ فِي إِحْدَى خِلَالٍ ثَلَاثٍ: إِمَّا إِنِ اخْتَرْتَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَشْرَفَهَا بَيْتًا فَقُدْنَاهُ إِلَيْكَ بِنِسْعَةٍ تَذْهَبُ مَعَ شَفَرَاتِ حُسَامِكَ بِبَاقِي قَصْرَتِهِ، أَوْ فِدَاءً بِمَا يَرُوحُ عَلَى بَنِي أَسَدٍ مِنْ نِعَمِهَا فَهِيَ أُلُوفٌ، وَإِمَّا وَادَعْتَنَا إِلَى أَنْ تَضَعَ الْحَوَامِلُ فَتُسْدَلَ الْأُزُرُ وَتُعْقَدَ الْخُمُرُ فَوْقَ الرَّايَاتِ» اهـ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (وَلَا يُقْبَلُ) بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ يَاءُ الْمُضَارِعِ الْمُسْنَدِ إِلَى مُذَكَّرٍ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، وَيَجُوزُ فِي كُلِّ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ أَنْ يُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ رَعْيًا لِتَأْنِيثِ لَفْظِ (شَفَاعَةٍ) . وَالشَّفَاعَةُ: السَّعْيُ وَالْوَسَاطَةُ فِي حُصُولِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَسَاطَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الْمُنْتَفِعِ بِهَا أَمْ كَانَتْ بِمُجَرَّدِ سَعْيِ الْمُتَوَسِّطِ وَيُقَالُ لِطَالِبِ الشَّفَاعَةِ مُسْتَشْفِعٌ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّفْعِ لِأَنَّ الطَّالِبَ أَوِ التَّائِبَ يَأْتِي وَحْدَهُ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ قَبُولًا ذَهَبَ فَأَتَى بِمَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ الثَّانِي شَافِعًا لِلْأَوَّلِ أَيْ مَصِيرُهُ شَفْعًا. وَالْعَدْلُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- الْعِوَضُ وَالْفِدَاءُ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْمَفْدِيَّ بِمِثْلِهِ فِي الْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ وَيُسَوِّيهِ بِهِ، يُقَالُ عَدَلَ كَذَا بِكَذَا أَيْ سَوَّاهُ بِهِ. وَالنَّصْرُ هُوَ إِعَانَةُ الْخَصْمِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ بِقُوَّةِ النَّاصِرِ وَغَلَبَتِهِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ الْمُفِيدِ أَنَّ انْتِفَاءَ نَصْرِهِمْ مُحَقَّقٌ زِيَادَةً عَلَى مَا اسْتُفِيدَ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ مَعَ إِسْنَادِهِ لِلْمَجْهُولِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَقَدْ كَانَتِ الْيَهُودُ تَتَوَهَّمُ أَوْ تَعْتَقِدُ أَنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَةَ أَجْدَادِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَجْعَلُهُمْ فِي أَمْنٍ مِنْ عِقَابِهِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأُمَمِ فِي إِبَّانِ جَهَالَتِهَا وَانْحِطَاطِهَا

وَقد أَشَارَ لذَلِك قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَة: 18] . وَقَدْ تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلِاحْتِجَاجِ لِقَوْلِهِمْ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعُمُومِ (نَفْسٍ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الْمُقْتَضِي أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَهُوَ عُمُومٌ لَمْ يَرِدْ مَا يُخَصِّصُهُ عِنْدَهُمْ. وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ. وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلطَّائِعِينَ وَالتَّائِبِينَ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، لم يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَهَذَا اتِّفَاقٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ ابْتِدَاءً، وَالْخِلَافُ فِي الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَعِنْدَنَا تَقَعُ الشَّفَاعَةُ لَهُم فِي حط السَّيِّئَاتِ وَقْتَ الْحِسَابِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِ جَهَنَّمَ لِمَا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِك كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لكل نبيء دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَقَدِ ادَّخَرْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي» وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي نَقْلِ كَلَامِهِ. وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا شَفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ كَهَاتِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] . مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 254] مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: 18] قَالُوا وَالْمَعْصِيَةُ ظُلْمٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُرْتَضًى، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا [غَافِر: 7] . وَالْجَوَابُ عَنِ الْجَمِيعِ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْكَافِرِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: لِمَنِ ارْتَضى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ إِذْنًا فِي الشَّفَاعَةِ كَمَا قَالَ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وَإِلَّا لَكَانَ الْإِسْلَامُ مَعَ ارْتِكَابِ بَعْضِ الْمَعَاصِي مُسَاوِيًا لِلْكُفْرِ وَهَذَا لَا تَرْضَى بِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا فَدُعَاءٌ لَا شَفَاعَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنِ الَّذِي دَعَا الْمُعْتَزِلَةَ إِلَى إِنْكَارِ الشَّفَاعَةِ مُنَافَاتُهَا لِخُلُودِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فِي الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِهِمُ الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْعَاصِي حُكْمَ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا وَحُكْمَ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تُنَافِي هَذَا الْأَصْلَ، فَمَا تَمَسَّكُوا مِنَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ التَّأْبِيدِ وَمُقَابَلَةِ أَدِلَّةِ أهل السّنة أَمْثَالهَا.

وَلَمْ نَرَ جَوَابَهُمْ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ عَنْهُ بِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تَنْقُضُ أُصُولَ الدِّينِ وَلِذَلِكَ احْتَاجَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ أَعْلَقُ بِالْفُرُوعِ مِنْهَا بِالْأُصُولِ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللَّهِ وَلَا بِصِفَاتِهِ وَلَوْ جَارَيْنَاهُمْ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إِثَابَةِ الْمُطِيعِ وَتَعْذِيبِ الْعَاصِي، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَظْهَرُ بِدُونِ الْخُلُودِ وَبِحُصُولِ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ الْمُكْثِ فِي الْعَذَابِ، فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ مَا يَنْقُضُ أُصُولَهُمْ فَنَحْنُ نقُول لَهُم: لم يبْق إِلَّا أَنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فِي تَقْدِير تَعْذِيب صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ غَيْرِ التَّائِبِ وَهُوَ يَتَلَقَّى مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ تَحْدِيدُ الْعَذَابِ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ إِلَى حُصُولِ عَفْوِ اللَّهِ أَوْ مَعَ الشَّفَاعَةِ، وَلَعَلَّ الشَّفَاعَةَ تَحْصُلُ عِنْدَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْهَاءَ مُدَّةِ التَّعْذِيبِ. وَبَعْدُ فَمِنْ حَقِّ الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُونَ وَالْعُصَاةُ فِي مُدَّةِ الْعَذَابِ وَلَا فِي مِقْدَارِهِ، فَهَذِهِ قَوْلَةٌ ضَعِيفَةٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ حَتَّى عَلَى مُرَاعَاةِ أُصُولِهِمْ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْبِدَعِ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ حق فقد قَالَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ يُخَاطِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ أَهْلِ مَوْقِفِ الْحِسَابِ الْوَارِدِ فِيهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فَإِنَّ أُصُولَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا تَأْبَاهَا. وَقَوْلُهُ: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَالْعَدْلُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- يُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسَاوِي شَيْئًا وَالْمُمَاثِلِ لَهُ وَلِذَلِكَ جُعِلَ مَا يُفْتَدَى بِهِ عَنْ شَيْءٍ عَدْلًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [الْمَائِدَة: 95] فَالْمَعْنَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا مَا تَفْتَدِي بِهِ عِوَضًا عَنْ جُرْمِهَا. وَالنَّصْرُ هُوَ إِعَانَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ وَمُحَارِبِهِ إِمَّا بِالدِّفَاعِ مَعَهُ أَوِ الْهُجُومِ مَعَهُ فَهُوَ فِي الْعُرْفِ مُرَادٌ مِنْهُ الدِّفَاعُ بِالْقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى الدِّفَاعِ بِالْحُجَّةِ نَحْوَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمرَان: 52] وَعَلَى التَّشَيُّعِ وَالِاتِّبَاعِ نَحْوَ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: 7] فَهُوَ اسْتِعَارَة.

[سورة البقرة (2) : آية 49]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) عَطْفٌ عَلَى قَوْله: نِعْمَتِيَ [الْبَقَرَة: 47] فَيُجْعَلُ (إِذْ) مَفْعُولًا بِهِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَاف: 86] فَهُوَ هُنَا اسْمُ زَمَانٍ غَيْرُ ظَرْفٍ لِفِعْلٍ وَالتَّقْدِيرُ اذْكُرُوا وَقْتَ نَجَّيْنَاكُمْ، وَلَمَّا غَلَبَتْ إِضَافَةُ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ إِلَى الْجُمَلِ وَكَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَكَانَ التَّقْدِيرُ اذْكُرُوا وَقْتَ إِنْجَائِنَا إِيَّاكُمْ، وَفَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ لِأَنَّ فِي الْإِتْيَانِ بِإِذِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجُمْلَةِ اسْتِحْضَارًا لِلتَّكْوِينِ الْعَجِيبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ هَيْئَةِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الذِّهْنَ إِذَا تَصَوَّرَ الْمَصْدَرَ لَمْ يَتَصَوَّرْ إِلَّا مَعْنَى الْحَدَثِ وَإِذَا سَمِعَ الْجُمْلَةَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ تَصَوَّرَ حُدُوثَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَنَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ صُورَةٌ عَجِيبَةٌ، فَوِزَانُ الْإِتْيَانِ بِالْمَصْدَرِ وِزَانُ الِاسْتِعَارَةِ الْمُفْرِدَةِ، وزان الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ وِزَانُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ عَطْفًا عَلَى جملَة اذْكُرُوا [الْبَقَرَة: 47] كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُ (إِذْ) ظَرْفًا فَيَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا يُفِيدُهُ حَرْفُ الْعَطْفِ لِأَنَّ الْعَاطِفَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لَا يُفِيدُ سِوَى التَّشْرِيكِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ نَائِبًا مَنَابَ عَامِلٍ، وَلَا يُرِيبُكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَعْنِي وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ بِجُمْلَةِ وَاتَّقُوا يَوْماً [الْبَقَرَة: 48] فَتَظُنُّهُ مَلْجَأً لِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَمَّا عَلِمْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْله: وَاتَّقُوا ناشىء عَنِ التَّذْكِيرِ فَهُوَ مِنْ عَلَائِقِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ النُّحَاةِ مَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّ الْمُتَعَاطِفَيْنَ لَيْسَا بِمَرْتَبَةِ الِاتِّصَالِ كَالْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ، وعدي فعل فَأَنْجَيْناكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مَعَ أَنَّ التَّنْجِيَةَ إِنَّمَا كَانَتْ تَنْجِيَةَ أَسْلَافِهِمْ لِأَنَّ تَنْجِيَةَ أَسْلَافِهِمْ تَنْجِيَةٌ لِلْخَلَفِ فَإِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَسْلَافُهُمْ فِي عَذَابِ فِرْعَوْنَ لَكَانَ ذَلِكَ لاحقا لأخلافهم فَذَلِك كَانَت منَّة النتيجة مِنَّتَيْنِ: مِنَّةٌ عَلَى السَّلَفِ وَمِنَّةٌ عَلَى الْخَلَفِ فَوَجَبَ شُكْرُهَا عَلَى كُلِّ جِيلٍ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ شَرِيعَتُهُمُ الِاحْتِفَالَ بِمَا يُقَابِلُ أَيَّامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَيَّامِ كُلِّ سَنَةٍ وَهِيَ أَعْيَادُهُمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] . وَآلُ الرَّجُلِ أَهْلُهُ. وَأَصِلُ آلٍ أَهْلٌ قُلِبَتْ هَاؤُهُ هَمْزَةً تَخْفِيفًا لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى تَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ مَدًّا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أَهْلٌ رُجُوعُ الْهَاءِ فِي التَّصْغِيرِ إِذْ قَالُوا: أُهَيْلٌ وَلَمْ يُسْمَعْ أُوَيْلٌ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ.

وَالْأَهْلُ وَالْآلُ يُرَادُ بِهِ الْأَقَارِبُ وَالْعَشِيرَةُ وَالْمَوَالِي وَخَاصَّةً الْإِنْسَانُ وَأَتْبَاعُهُ. وَالْمُرَادُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَزَعَتُهُ وَوُكَلَاؤُهُ، وَيَخْتَصُّ الْآلُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذِي شَأْنٍ وَشَرَفٍ دُنْيَوِيٍّ مِمَّنْ يَعْقِلُ فَلَا يُقَالُ آلُ الْجَانِي وَلَا آلُ مَكَّةَ، وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي الدُّنْيَا عَظِيمًا وَكَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِنَجَاةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِنْ عَظِيمٍ فِي الدُّنْيَا أُطْلِقَ عَلَى أَتْبَاعِهِ آلٌ فَلَا تَوَقُّفَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُحْتَاجَ لِتَأْوِيلِهِ بِقَصْدِ التَّهَكُّمِ كَمَّا أُوِّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] لِأَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ لِكَلَامٍ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِرْعَوْنُ يَوْمَئِذٍ مُحَقَّرٌ، هَلَكَ عَنْهُ سُلْطَانُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ كَلِمَةَ أَهْلٍ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى قَرَابَةِ ذِي الشَّرَفِ لِأَنَّهَا الِاسْم الْمُطلق فَلَمَّا ذَا لَمْ يُؤْتَ بِهَا هُنَا حَتَّى لَا يُطْلَقَ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ مَا فِيهِ تَنْوِيهٌ بِهِمْ؟ قُلْتُ: خُصُوصِيَّةُ لَفْظِ آلٍ هَنَا أَنَّ الْمَقَامَ لِتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ وَتَوْفِيرِ حَقِّ الشُّكْر وَالنعْمَة تَعْظِيم بِمَا يحف بِهَا فَالنَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَإِنْ كَانَتْ نِعْمَةً مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّ كَوْنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ ذِي قُدْرَةٍ وَمَكَانَةٍ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَنْفَلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ. وَلَا قَرَارَ عَلَى زَأْرٍ مِنَ الْأَسَدِ (¬1) وَإِنَّمَا جُعِلَتِ النَّجَاةُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَلَمْ تُجْعَلْ مِنْ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّهُ الْآمِرُ بِتَعْذِيبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَعْلِيقًا لِلْفِعْلِ بِمَنْ هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْوَزَعَةَ وَالْمُكَلَّفِينَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْإِعْنَاتِ عَلَى عَادَةِ الْمُنَفِّذِينَ فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ رَحْمَةً وَأَضْيَقُ نُفُوسًا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي يُخَاطِبُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ: إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... لَمْ يَفْعَلُوا مِمَّا أَمَرْتَ فَتِيلَا (¬2) جَاءَ فِي التَّارِيخِ أَنَّ مَبْدَأَ اسْتِقْرَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ كَانَ سَبَبُهُ دُخُولَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ¬

(¬1) نصف بَيت للنابغة، وأوله: أنبئت أَن أَبَا قَابُوس أوعدني (¬2) الرَّاعِي هُوَ عبيد بن حُصَيْن من بني عَامر بن صعصعة، لقب الرَّاعِي لِكَثْرَة وَصفه لِلْإِبِلِ وَهُوَ من شعراء الدولة الأموية. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة خَاطب بهَا الْخَلِيفَة يشتكي من سعاة الزَّكَاة فِي ظلمهم لِقَوْمِهِ وتجاوزهم مَا أمروا بِهِ شرعا وَأول الأبيات: أوليّ أَمر الله إِنَّا معشر ... حنفَاء نسجد بكرَة وَأَصِيلا وَبعد الْبَيْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ: أخذُوا الْمَخَاض من الفصيل غلبّة ... ظلما وَيكْتب للأمير أفيلا [.....]

فِي تَرْبِيَةِ الْعَزِيزِ طِيفَارَ كَبِيرِ شُرَطِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَتْ مِصْرُ مُنْقَسِمَةً إِلَى قِسْمَيْنِ مِصْرُ الْعُلْيَا الْجَنُوبِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الْيَوْمَ بِالصَّعِيدِ لِحُكْمِ فَرَاعِنَةٍ مِنَ الْقِبْطِ وَقَاعِدَتُهَا طِيوَةُ، وَمِصْرُ السُّفْلَى وَهِيَ الشَّمَالِيَّةُ وَقَاعِدَتُهَا مَنْفِيسُ وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الْفَرَاعِنَةِ وَهَذِهِ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الْعَمَالِقَةُ مِنَ السَّامِيِّينَ أَبْنَاءِ عَمِّ ثَمُودَ وَهُمُ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ فِي التَّارِيخِ الْمِصْرِيِّ بالرعاة الرحالين والهكصوص فِي سَنَةِ 3300 أَوْ سَنَةِ 1900 قَبْلَ الْمَسِيحِ على خلاف ناشىء عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ بَقَائِهِمْ بِمِصْرَ الَّذِي انْتَهَى سَنَةَ 1700 ق م عِنْدَ ظُهُورِ الْعَائِلَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، فَكَانَ يُوسُفُ عِنْدَ رَئِيسِ شُرَطِ فِرْعَوْنَ الْعِمْلِيقِيِّ، وَاسْمُ فِرْعَوْن يَوْمئِذٍ أَبُو فيس أَوْ أُبَيْبِي وَأَهْلُ الْقَصَصِ وَمَنْ تَلَقَّفَ كَلَامَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ سَمَّوْهُ رَيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1739 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، ثُمَّ كَانَتْ سُكْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِصْرَ بِسَبَبِ تَنَقُّلِ يَعْقُوبَ وَأَبْنَائِهِ إِلَى مِصْرَ حِينَ ظَهَرَ أَمْرُ يُوسُفَ وَصَارَ بِيَدِهِ حُكْمُ الْمَمْلَكَةِ الْمِصْرِيَّةِ السُّفْلَى. وَكَانَتْ مُعَاشَرَةُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِلْمِصْرِيِّينَ حَسَنَةً زَمَنًا طَوِيلًا غَيْرَ أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ قَدْ حَافَظُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلُغَتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ فَلَمْ يَعْبُدُوا آلِهَةَ الْمِصْرِيِّينَ وَسَكَنُوا جَمِيعًا بِجِهَةٍ يُقَالُ لَهَا أَرْضُ (جَاسَانَ) وَمَكَثَ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ تَغَلَّبَ فِي خِلَالِهَا مُلُوكُ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى مُلُوكِ الْعَمَالِقَةِ وَطَرَدُوهُمْ مِنْ مِصْرَ حَتَّى ظَهَرَتْ فِي مِصْرَ الْعَائِلَةُ التَّاسِعَةُ عَشْرَةَ وَمَلَكَ مُلُوكُهَا جَمِيعَ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ ونبغ فيهم رعمسيس الثَّانِي الْمُلَقَّبُ بِالْأَكْبَرِ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1311 قَبْلَ الْمَسِيحِ وَكَانَ مُحَارِبًا بَاسِلًا وَثَارَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَمَالِكُ الَّتِي أَخْضَعَهَا أَبُوهُ وَمِنْهُمُ الْأُمَمُ الْكَائِنَةُ بِأَطْرَافِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَحَدَثَتْ أَسْبَابٌ أَوْ سُوءُ ظُنُونٍ أَوْجَبَتْ تَنَكُّرَ الْقِبْطِ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَكَلَّفُوهُمْ أَشَقَّ الْأَعْمَالِ وَسَخَّرُوهُمْ فِي خِدْمَةِ الْمَزَارِعِ وَالْمَبَانِي وَصُنْعِ الْآجُرِّ. وَتَقُولُ التَّوْرَاةُ إِنَّهُمْ بَنَوْا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَةَ مَخَازِنَ (فِيثُومَ) وَمَدِينَةَ (رَعْمِسِيسَ) ثُمَّ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ أَعْوَانًا لِأَعْدَائِهِ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِاسْتِئْصَالِهِمْ وَكَأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مُسَاعَدَةٍ مِنْهُمْ لِأَبْنَاءِ نَسَبِهِمْ مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَالْعَرَبِ فَكَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ أَبْنَائِهِمْ وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَتَسْخِيرِ كِبَارِهِمْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ التَّنَكُّرِ، أَوْ لِأَنَّ الْقِبْطَ لَمَّا أَفْرَطُوا فِي اسْتِخْدَامِ الْعِبْرَانِيِّينَ عَلِمَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ إِنِ اخْتَلَطَتْ جُيُوشُهُ فِي حَرْبٍ لَا يَسْلَمُ مِنْ ثَوْرَةِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فَأَمَرَ بِاسْتِئْصَالِهِمْ. وَأَمَّا مَا يَحْكِيهِ الْقَصَّاصُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَخْبَرَهُ كَاهِنٌ أَنَّ ذَهَابَ مُلْكِهِ يَكُونُ عَلَى يَدِ فَتًى مِنْ إِسْرَائِيلَ فَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يُرَوَّجَ

مِثْلُ هَذَا عَلَى رَئِيسِ مَمْلَكَةٍ فَيُفْنِي بِهِ فَرِيقًا مِنْ رَعَايَاهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَهَنَةُ قَدْ أَغْرَوْا فِرْعَوْنَ بِالْيَهُودِ قَصْدًا لِتَخْلِيصِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْغُرَبَاءِ أَوْ تَفَرَّسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سُوءَ النَّوَايَا فَابْتَكَرُوا ذَلِكَ الْإِنْبَاءَ الْكَهَنُوتِيَّ لِإِقْنَاعِ فِرْعَوْنَ، بِوُجُوبِ الْحَذَرِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَعَلَّ ذَبْحَ الْأَبْنَاءِ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمِصْرِيِّينَ اسْتِخْفَافًا بِالْيَهُودِ، فَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْيَهُودِيَّ فِي الْخِصَامِ الْقَلِيلِ كَمَا أَنْبَأَتْ بِذَلِكَ آيَةُ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَص: 15] وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّارِيخَ يُفِيدُ عَلَى الْإِجْمَالِ أَنَّ عَدَاوَةً عَظِيمَةً نَشَأَتْ بَيْنَ الْقِبْطِ وَالْيَهُودِ آلَتْ إِلَى أَنِ اسْتَأْصَلَ الْقِبْطُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَلَقَدْ أَبْدَعَ الْقُرْآنُ فِي إِجْمَالِهَا إِذْ كَانَتْ تَفَاصِيلُ إِجْمَالِهَا كَثِيرَةً لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضُ التَّذْكِيرِ بِبَيَانِهَا. وَجُمْلَةُ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ حَالٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَحْصُلُ بِهَا بَيَانُ مَا وَقَعَ الْإِنْجَاءُ مِنْهُ وَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ الَّذِي كَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ يُلَاقُونَهُ مِنْ مُعَامَلَةِ الْقِبْطِ لَهُمْ. وَمَعْنَى يَسُومُونَكُمْ يُعَامِلُونَكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَحْقُوقِ بِمَا عُومِلَ بِهِ يُقَالُ سَامَهُ خَسْفًا إِذَا أَذَلَّهُ وَاحْتَقَرَهُ فَاسْتَعْمَلَ سَامَ فِي مَعْنَى أَنَالَ وَأَعْطَى وَلِذَلِكَ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَيْسَ أَصْلَهُمَا الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ. وَحَقِيقَةُ سَامَ عَرَضَ السَّوْمَ أَيِ الثَّمَنَ. وَسُوء الْعَذَابِ أَشَدَّهُ وَأَفْظَعَهُ وَهُوَ عَذَابُ التَّسْخِيرِ وَالْإِرْهَاقِ وَتَسْلِيطِ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ بِتَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالْمَعْنَى يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَ آبَائِكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَ قَوْمِكُمُ الْأَوَّلِينَ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَبْنَاءِ قِيلَ أَطْفَالُ الْيَهُودِ وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الرِّجَالُ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالنِّسَاءِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ وَأَوْفَقُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ إِذِ الْمَظْنُونُ أَنَّ الْمَحْقَ وَالِاسْتِئْصَالَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْكِبَارُ، وَلِأَنَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْآيَةُ سَكَتَتْ عَنِ الرِّجَالِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُذَبِّحُونَ الصِّغَارَ قَطْعًا لِلنَّسْلِ وَيَسْبُونَ الْأُمَّهَاتِ اسْتِعْبَادًا لَهُنَّ وَيُبْقُونَ الرِّجَالَ لِلْخِدْمَةِ حَتَّى يَنْقَرِضُوا عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ. وَإِبْقَاءُ الرِّجَالِ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْحَالَةِ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِهِمْ. أَوْ لَعَلَّ تَقْصِيرًا ظَهَرَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُرْضِعَاتِ الْأَطْفَالِ وَمُرَبِّيَاتِ الصِّغَارِ وَكَانَ سَببه شغلهن بشؤون أَبْنَائِهِنَّ فَكَانَ الْمُسْتَعْبِدُونَ لَهُمْ إِذَا غَضِبُوا مِنْ ذَلِكَ قَتَلُوا الطِّفْلَ. وَالِاسْتِحْيَاءُ اسْتِفْعَالٌ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ لِلْحَيَاةِ أَيْ يُبْقُونَهُنَّ أَحْيَاءً أَوْ يَطْلُبُونَ حَيَاتَهُنَّ. وَوَجْهُ ذِكْرِهِ هُنَا فِي مَعْرِضِ التَّذْكِيرِ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِحْيَاءَ لِلْإِنَاثِ كَانَ

الْمَقْصِدُ مِنْهُ خَبِيثًا وَهُوَ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى أَعْرَاضِهِنَّ وَلَا يَجِدْنَ بُدًّا مِنَ الْإِجَابَةِ بِحُكْمِ الْأَسْرِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ كِنَايَةً عَنِ اسْتِحْيَاءٍ خَاصٍّ وَلِذَلِكَ أُدْخِلَ فِي الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ ظَاهِرَهُ لَمَا كَانَ وَجْهٌ لِعَطْفِهِ عَلَى تِلْكَ الْمُصِيبَةِ. وَقِيلَ إِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ الْحَيَاءِ وَهُوَ الْفَرْجُ أَيْ يُفَتِّشُونَ النِّسَاءَ فِي أَرْحَامِهِنَّ لِيَعْرِفُوا هَلْ بِهِنَّ حَمْلٌ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَالَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَقَدْ حَكَتِ التَّوْرَاةُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْصَى الْقَوَابِلَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ. وَجُمْلَةُ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ هُنَا خُصُوصَ التَّذْبِيحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ لِمَا عَرَفْتَ فَكِلَاهُمَا بَيَانٌ لِسُوءِ الْعَذَابِ فَكَانَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ تُجَاهَ هَذَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الْبَعْضِ تَخْصِيصًا لِأَعْظَمِ أَحْوَالِ سُوءِ الْعَذَابِ بِالذِّكْرِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطَابِقُ آيَةَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [6] الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ بِالْعَطْفِ عَلَى سُوءَ الْعَذابِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ وَيَسْتَحْيُونَ مُسْتَأْنِفًا لِإِتْمَامِ تَفْصِيلِ صَنِيعِ فِرْعَوْنَ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيَانِ أَوِ الْبَدَلِ لِلْعَذَابِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [الْقَصَص: 4] فَعَقَّبَ الْفِعْلَيْنِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَاف: 168] وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ حَقِيقَته بلَاء الثَّوَاب- بِفَتْحِ الْبَاءِ مَعَ الْمَدِّ وَبِكَسْرِهَا مَعَ الْقَصْرِ- وَهُوَ تَخَلُّقُهُ وَتَرَهُّلُهُ وَلَمَّا كَانَ الِاخْتِبَارُ يُوجِبُ الضَّجَرَ وَالتَّعَبَ سُمِّيَ بَلَاءً كَأَنَّهُ يَخْلُقُ النَّفْسَ، ثُمَّ شَاعَ فِي اخْتِبَارِ الشَّرِّ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ إِعْنَاتًا لِلنَّفْسِ، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ إِذَا أُطْلِقَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِّ فَإِذَا أَرَادُوا بِهِ الْخَيْرَ احْتَاجُوا إِلَى قَرِينَةٍ أَوْ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو فَيُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْعَبْدِ لِأَنَّ بِهَا يُخْتَبَرُ مِقْدَارُ الصَّبْرِ وَالْأَنَاةِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُصِيبَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَظِيمٌ. وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْإِنْجَاءَ وَالْبَلَاءَ بِمَعْنَى اخْتِبَارِ الشُّكْرِ وَهُوَ بَعِيدٌ هُنَا. وَتَعَلَّقَ الْإِنْجَاءُ بِالْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ إِنْجَاءَ سَلَفِهِمْ إِنْجَاءٌ لَهُمْ فَإِنَّهُ لَوْ أَبْقَى سَلَفَهُمْ هُنَالِكَ لَلَحِقَ الْمُخَاطَبِينَ سُوءُ الْعَذَابِ وَتَذْبِيحُ الْأَبْنَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ نَجَّيْنَا آبَاءَكُمْ، أَوْ هُوَ تَعْبِيرٌ عَنِ الْغَائِبِ

[سورة البقرة (2) : آية 50]

بِضَمِيرِ الْخِطَابِ إِمَّا لِنُكْتَةِ اسْتِحْضَارِ حَالِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ مِثَالَهُمْ وَصُورَتَهُمْ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ مِنَ الْفَضَائِلِ لِآبَاءِ الْقَبِيلَةِ يَثْبُتُ لِأَعْقَابِهِمْ فَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى حَدِّ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] فَالْخِطَابُ لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ لِأَنَّ اعْتِبَارَ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ يُعْتَبَرُ لِلْخَلَفِ مَا ثَبَتَ مِنْهُ للسلف. [50] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 50] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) هَذَا زِيَادَةٌ فِي التَّفْصِيلِ بِذِكْرِ نِعْمَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بِهَا كَانَ تَمَامُ الْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِيهَا بَيَانُ مِقْدَارِ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَمُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ فَرَقْنا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ جَارٍ عَلَى نَحْوِ تَعْدِيَةِ فعل نَجَّيْناكُمْ [الْبَقَرَة: 49] إِلَى ضَمِيرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَرَقَ وَفَرَّقَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِذِ التَّشْدِيدُ يُفِيدُهُ تَعْدِيَةً وَمَعْنَاهُ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ شَيْءٍ مُتَّصِلِ الْأَجْزَاءِ، غَيْرَ أَنَّ فَرَّقَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ التَّفْرِقَةِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ الْمُفَرَّقَةُ أَشَدَّ اتِّصَالًا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فَرَّقَ لِلْأَجْسَامِ وَفَرَقَ لِلْمَعَانِي نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ (¬1) وَهُوَ غَيْرُ تَامٍّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ فَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ لِمَا فِيهِ عِلَاجٌ وَمُحَاوَلَةٌ وَأَنَّ الْمُخَفَّفَ وَالْمُشَدَّدَ كِلَيْهِمَا حَقِيقَةٌ فِي فَصْلِ الْأَجْسَامِ وَأَمَّا فِي فَصْلِ الْمَعَانِي الْمُلْتَبِسَةِ فَمَجَازٌ. وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَةِ (فَرَقْنَا) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّخْفِيفُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْقُ الشَّدِيدُ خَفِيفًا. وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ وأل فِي (الْبَحْر) للْعهد وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي عَهِدُوهُ أَعْنِي بَحْرَ الْقُلْزُمِ الْمُسَمَّى الْيَوْمَ بِالْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَسَمَّتْهُ التَّوْرَاةُ بَحْرَ سُوفٍ. وَالْبَاءُ فِي (بِكُمْ) إِمَّا لِلْمُلَابَسَةِ كَمَا فِي طَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ وَعَدَا بِهِ الْفَرَسُ، أَيْ كَانَ فَرْقُ الْبَحْرِ مُلَابِسًا لَكُمْ وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُلَابَسَةِ أَنَّهُ يُفْرَقُ وَهُمْ يُدْخُلُونَهُ فَكَانَ الْفَرْقُ حَاصِلًا بِجَانِبِهِمْ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَوْنَ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بِسَبَبِكُمْ يَعْنِي لِأَجْلِكُمْ. وَالْخِطَابُ هُنَا كَالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الْبَقَرَة: 49] . وَقَوْلُهُ: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ هُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ وَذِكْرِ النِّعْمَةَ وَهُوَ نَجَاتُهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ عَدُوِّهِمْ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ: ¬

(¬1) «الفروق» للقرافي 1/ 4- عَالم الْكتب.

كَيْفَ تَرَانِي قَالِيًا مِجَنِّي ... قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زيادا عني فكون قَوْلُهُ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ تَمْهِيدًا لِلْمِنَّةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْأَمْرَيْنِ النَّجَاةِ وَالْهَلَاكِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا حَدَثَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ مِنْ لِحَاقِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ بِهِمْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ مُغَادَرَةِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا لَيْلًا إِمَّا بِإِذْنٍ مِنْ فِرْعَوْنَ كَمَا تَقُولُ التَّوْرَاةُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَإِمَّا خُفْيَةً كَمَا عَبَّرَتْ عَنْهُ التَّوْرَاةُ بِالْهُرُوبِ، حَصَلَ لِفِرْعَوْنَ نَدَمٌ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ أَوْ أَغْرَاهُ بَعْضُ أَعْوَانِهِ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ لِمَا فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ إِضَاعَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا يُسَخَّرُونَ فِيهَا أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ سَلَكُوا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمَأْلُوفِ لِاجْتِيَازِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ ظَنَّهُمْ يَرُومُونَ الِانْتِشَارَ فِي بَعْضِ جِهَاتِ مَمْلَكَتِهِ الْمِصْرِيَّةِ فَخَشِيَ شَرَّهُمْ إِنْ هُمْ بَعُدُوا عَنْ مَرْكَزِ مُلْكِهِ وَمُجْتَمَعِ قُوَّتِهِ وَجُنْدِهِ. إِنَّ بني إِسْرَائِيل مَا خَرَجُوا مِنْ جِهَاتِ حَاضِرَةِ مِصْرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةُ مَنْفِيسَ (¬1) لَمْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الْمَأْلُوفَ لِبِلَادِ الشَّامِ إِذْ تُرِكُوا أَنْ يسلكوا طَرِيق شاطىء بَحْرِ الرُّومِ (الْمُتَوَسِّطِ) فَيَدْخُلُوا بَرِّيَّةَ سِينَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَرِقُوا الْبَحْرَ وَلَا يَقْطَعُوا أَكْثَرَ من اثْنَتَيْ عرة مَرْحَلَةً أَعْنِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِيلًا وَسَلَكُوا طَرِيقًا جَنُوبِيَّةً شَرْقِيَّةً حَوْلَ أَعْلَى الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ لِئَلَّا يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الْمَأْلُوفَةَ الْآهِلَةَ بِقَوَافِلِ الْمِصْرِيِّينَ وَجُيُوشِ الْفَرَاعِنَةِ فَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي سَيْرِهِمْ أَوْ يُلْحِقُ بِهِمْ فِرْعَوْنُ مَنْ يَرُدُّهُمْ لِأَنَّ مُوسَى عَلِمَ بِوَحْيٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: 52] إِنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنِ الْمُضِيِّ فِي سَيْرِهِمْ فَلِذَلِكَ سَلَكَ بِهِمْ- بِالْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ- طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ فَكَانُوا مُضْطَرِّينَ لِلْوُقُوفِ أَمَامَ الْبَحْرِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «فَمُ الْحَيْرُوثِ» فَهُنَالِكَ ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ إِذْ فَلَقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَحْرَ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ فَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَلَقَ وَصَارَ فِيهِ طَرِيقٌ يَبَسٌ مَرَّتْ عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَانَ جُنْدُ فِرْعَوْنَ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ وَرَامَ اقْتِحَامَ الْبَحْرِ وَرَاءَهُمْ فَانْطَبَقَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا. ¬

(¬1) لِأَن مقرّ الإسرائيليين كَانَ بِمصْر السُّفْلى كَمَا تقدم وَكَانَت قاعدتها منفيس وَهِي يَوْم دُخُول بني

[سورة البقرة (2) : الآيات 51 إلى 52]

وَقَوْلُهُ: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ أَيْ جُنْدَهُ وَأَنْصَارَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ غَرَقَ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمِنَّةِ هُوَ إِهْلَاكُ الَّذِينَ كَانُوا الْمُبَاشِرِينَ لِتَسْخِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَعْذِيبِهِمْ وَالَّذِينَ هُمْ قُوَّةُ فِرْعَوْنَ وَقَدْ ذُكِرَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ «مَنْفِتَاحَ» وَيُقَالُ لَهُ «مَنْفِطَةُ» أَوْ «مِينِيتَاهْ» مِنْ فَرَاعِنَةِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ عِنْدَ الْمُؤَرِّخِينَ. قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ فِي فَرَقْنا وَأَنْجَيْنَا وأَغْرَقْنا مُقَيِّدَةٌ لِلْعَوَامِلِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ فِيهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي التَّنَازُعِ فِي الْحَالِ إِضْمَارٌ فِي الثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تُضْمَرُ كَمَا لَا يُضْمَرُ فِي التَّنَازُعِ فِي الظَّرْفِ نَحْوَ سَكَنَ وَقَرَأَ عِنْدَكَ وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ إِعْمَالَ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْحَالُ زِيَادَةٌ فِي تَقْرِيرِ النِّعْمَةِ وَتَعْظِيمِهَا فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ لِلنِّعْمَةِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا سِيَّمَا وَمُشَاهَدَةَ إِغْرَاقِ الْعَدُوِّ أَيْضًا نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ كَمَا أَنَّ مُشَاهَدَةَ فَرْقِ الْبَحْرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ مُشَاهَدَةِ مُعْجِزَةٍ تَزِيدُهُمْ إِيمَانًا وَحَادِثٍ لَا تَتَأَتَّى مُشَاهَدَتُهُ لِأَحَدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ (آلُ فِرْعَوْنَ) أَيْ تَنْظُرُونَهُمْ، وَمَفْعُولُ تَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ. وَإِسْنَادُ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ كَانُوا نَاظِرِينَ ذَلِكَ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى السَّلَفِ نِعْمَةٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ لَا مَحَالَةَ فَضَمِيرُ الْخطاب مجَاز. [51، 52] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 51 إِلَى 52] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةِ عَفْوِ اللَّهِ عَنْ جُرْمِهِمُ الْعَظِيمِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ سَلَفُهُمْ، فَإِسْنَادُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْآبَاءِ مِنَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَبْنَائِهِمْ يَجِبُ عَلَى الْأَبْنَاءِ الشُّكْرُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 40، 47] . وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْبَغَوِيّ» و «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيِّ» أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ مُوسَى أَنْ يُؤْتِيَهُ الشَّرِيعَةَ بَعْدَ أَنْ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ مَهْلِكِ فِرْعَوْنَ، وَهَذَا وَهْمٌ فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ

يَعُودُوا إِلَى مِصْرَ الْبَتَّةَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ، كَيْفَ وَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ نُزُولَ الشَّرِيعَةِ كَانَ بِطُورِ سِينَا وَأَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ لِيُعْطِيَهُمُ اللَّهُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الدُّخَانِ إِلَى التَّرَدُّدِ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ فَهُوَ تَمْهِيدٌ وَتَأْسِيسٌ لِبِنَائِهِ وَتَهْوِيلٌ لِذَلِكَ الْجُرْمِ إِظْهَارًا لِسِعَةِ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِلْمِهِ عَنْهُمْ. وَتَوْسِيطُ التَّذْكِيرِ بِالْعَفْوِ عَنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ بَيْنَ ذِكْرِ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ مُرَاعَاةٌ لِتَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ لِيَحْصُلَ غَرَضَانِ غَرَضُ التَّذْكِيرِ وَغَرَضُ عَرْضِ تَارِيخِ الشَّرِيعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ هُنَا أَمْرُ اللَّهِ مُوسَى أَنْ يَنْقَطِعَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِطْلَاقِ الْوَعْدِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ تَشْرِيفٌ لِمُوسَى وَوَعْدٌ لَهُ بِكَلَامِ اللَّهِ وَبِإِعْطَاءِ الشَّرِيعَةِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَواعَدْنا بِأَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ عَلَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ حُصُولَ الْوَعْدِ من جانبين الْوَعْد وَالْمَوْعُودُ وَالْمُفَاعَلَةُ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ عَلَى حَدِّ سَافَرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ، وَعَالَجَ الْمَرِيضَ وَقَاتَلَهُ اللَّهُ، فَتَكُونُ مَجَازًا فِي التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ الْفِعْلِ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَإِذَا أُخْرِجَتْ عَنْ بَابِهَا بَقِيَ التَّكَرُّرُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِلْفَاعِلِ ثُمَّ أُرِيدَ مِنَ التَّكَرُّرِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّحَقُّقُ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ لَمَّا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهَا حُصُولَ الْوَعْدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ شَاعَ اسْتِعْمَالُ صِيغَتِهَا فِي مُطْلَقِ الْوَعْدِ وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا أَيْضًا فِي خُصُوصِ التَّوَاعُدِ بِالْمُلَاقَاةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ «وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ» . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ... أَوِ الرُّبَا بَيْنَهُمَا أَسْهَلَا وَاسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِأَنَّ الْمُنَاجَاةَ وَالتَّكَلُّمَ يَقْتَضِي الْقُرْبَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللِّقَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ لِظُهُورِهِ مِنْ صِيغَةِ الْمُوَاعَدَةِ. وَقِيلَ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى بَابِهَا بِتَقْدِيرِ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ مُوسَى أَنْ يُعْطِيَهُ الشَّرِيعَةَ وَأَمَرَهُ بِالْحُضُورِ لِلْمُنَاجَاةِ فَوَعَدَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَمْتَثِلَ لِذَلِكَ، فَكَانَ الْوَعْدُ حَاصِلًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَذَلِكَ كَافٍ فِي تَصْحِيحِ الْمُفَاعَلَةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اخْتِلَافِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْمُفَاعَلَةَ لِأَنَّ مَبْنَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ حُصُولُ فِعْلٍ مُتَمَاثِلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْمُتَعَلِّقُ فِي اللَّفْظِ كَمَا هُنَا لِقَصْدِ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ لِقَصْدِ إِعْظَامِ الْمُتَعَلِّقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَكَ أَنَّ تَقُولَ سَوَّغَ حَذْفَهُ عِلْمُ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلتَّذْكِيرِ لَا لِلْإِخْبَارِ وَالتَّذْكِيرِ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَقَلِّ إِشَارَةٍ فَاسْتَوَى الْحَذْفُ وَالذِّكْرُ فَرَجَّحَ الْإِيجَازَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ اتِّحَادَهُ.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَعَدْنَا بِدُونِ أَلِفٍ عَقِبَ الْوَاوِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَمُوسَى هُوَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَصَاحِبُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ جَدِّهِ وَلَكِنَّ الَّذِي جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ هَارُونُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وُلِدَ بِمِصْرَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَلَمَّا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ خَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ الْقِبْطُ فَيَقْتُلُوهُ لِأَنَّهُ فِي أَيَّامِ وِلَادَتِهِ كَانَ الْقِبْطُ قَدْ سَامُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ سُوءَ الْعَذَابِ لِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ [الْبَقَرَة: 49] فَأَمَرَ مَلِكُ مِصْرَ بِقَتْلِ كُلِّ ذَكَرٍ يُولَدُ فِي إِسْرَائِيلَ. وَأُمُّهُ تُسَمَّى «يُوحَانَذَ» وَهِيَ أَيْضًا مِنْ سِبْطِ لَاوِي وَكَانَ زَوْجُهَا قَدْ تُوُفِّيَ حِينَ وَلَدَتْ مُوسَى فَتَحَيَّلَتْ لِإِخْفَائِهِ عَنِ الْقِبْطِ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَلْهَمَهَا اللَّهُ فَأَرْضَعَتْهُ رَضْعَةً وَوَضَعَتْهُ فِي سَفَطٍ مَنْسُوجٍ مِنْ خُوصِ البردي وطلته بالمغفرة وَالْقَارِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الْمَاءُ وَوَضَعَتْ فِيهِ الْوَلَدَ وَأَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ بِمَقْرُبَةٍ مِنْ مَسَاكِنِ فِرْعَوْن على شاطىء النِّيلِ وَوَكَّلَتْ أُخْتًا لَهُ اسْمُهَا مَرْيَمُ بِأَنْ تَرْقُبَ الْجِهَةَ الَّتِي يُلْقِيهِ النِّيلُ فِيهَا وَمَاذَا يَصْنَعُ بِهِ، وَكَانَ مَلِكُ مِصْرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَقْرِيبًا هُوَ فِرْعَوْن رعمسيس الثَّانِيَ، وَلَمَّا حَمَلَهُ النَّهْرُ كَانَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ الْمُسَمَّاةُ ثَرْمُوتَ مَعَ جَوَارٍ لَهَا يَمْشِينَ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ لِقَصْدِ السِّبَاحَةِ وَالتَّبَرُّدِ فِي مَائِهِ قِيلَ كَانُوا فِي مَدِينَةِ عَيْنِ شَمْسٍ فَلَمَّا بَصُرَتْ بِالسَّفَطِ أَرْسَلَتْ أَمَةً لَهَا لِتَنْظُرَ السَّفَطَ فَلَمَّا فَتَحْنَهُ وَجَدْنَ الصَّبِيَّ فَأَخَذَتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى أُمِّهَا وَأَظْهَرَتْ مَرْيَمُ أُخْتُ مُوسَى نَفْسَهَا لِابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رَأَتْ رِقَّةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى الصَّبِيِّ قَالَتْ: إِنَّ فِينَا مُرْضِعًا أَفَأَذْهَبُ فَأَدْعُوَهَا لِتُرْضِعَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ فَذَهَبَتْ وَأَتَتْ بِأُمِّ مُوسَى. وَأَخَذَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ الْوَلَدَ وَتَبَنَّتْهُ وَسَمَّتْهُ مُوشَى قِيلَ: إِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ «مو» بِمَعْنَى الْمَاءِ وَكَلِمَةِ «شى» بِمَعْنَى الْمُنْقِذِ وَقَدْ صَارَتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ مُوسَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُرَكَّبٌ مِنَ اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ لَا مِنَ الْقِبْطِيَّةِ فَلَعَلَّهُ كَانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّهُ غَيَّرَ اسْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَنَشَأَ مُوسَى فِي بَيْتِ فِرْعَوْنَ كَوَلَدٍ لَهُ وَلَمَّا كَبِرَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْن لفرعون وَأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ وَلَعَلَّ أُمَّهُ أَعْلَمَتْهُ بِذَلِكَ وَجَعَلَتْ لَهُ أَمَارَاتٍ يُوقِنُ بِهَا وَأَنْشَأَهُ اللَّهُ عَلَى حُبِّ الْعَدْلِ وَنَصْرِ الضَّعِيفِ وَكَانَ مُوسَى شَدِيدًا قَوِيَّ الْبِنْيَةِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ فِي حُدُودِ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ حَدَثَ لَهُ حَادِثٌ قَتَلَ فِيهِ قِبْطِيًّا انْتِصَارًا لِإِسْرَائِيلِيٍّ وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لِقَصْرِ فِرْعَوْنَ أَيْ بَعْدِ مَوْتِ مُرَبِّيهِ فَخَافَ مُوسَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَهَاجَرَ مِنْ مِصْرَ وَمَرَّ فِي مُهَاجَرَتِهِ بِمَدْيَنَ وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ شُعَيْبٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَدْيَنَ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ وَعُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.

وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي طَرِيقِهِ أَنْ يُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ وَيُنْقِذَهُمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ فَدَخَلَ مِصْرَ وَلَقِيَ أَخَاهُ هَارُونَ فِي جُمْلَةِ قَوْمِهِ فِي مِصْرَ وَسَعَى فِي إِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَكَانَ خُرُوجُهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1460 سِتِّينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ فِي زَمَنِ مِنْفِطَاحِ الثَّانِي وَتُوُفِّيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُرْبَ أَرِيحَا عَلَى جَبَلِ نِيبُو سَنَةَ 1380 ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَدُفِنَ هُنَالِكَ وَقَبْرُهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأَحَدٍ كَمَا هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ. وَقَوْلُهُ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِمُتَعَلَّقِ واعَدْنا وَهُوَ اللِّقَاءُ الْمَوْعُودُ بِهِ نَابَ هَذَا الظَّرْفُ عَنِ الْمُتَعَلَّقِ أَيْ مُنَاجَاةً وَغَيْرَهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِنْ جُعِلَ واعَدْنا مَسْلُوبَ الْمُفَاعَلَةِ وَإِنْ أُبْقِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ قَدَّرْنَا مُتَعَلَّقَيْنِ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَانْتِصَابُ (أَرْبَعِينَ) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الزَّمَانِ عَلَى مَا يَقَعُ فِيهِ مَجَازٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ وَمِنْهُ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ [الْبَقَرَة: 48] كَمَا تَقَدَّمَ وَالْأُمُورُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْأَرْبَعُونَ لَيْلَةً مَعْلُومَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ يتذكرونها بِمُجَرَّد الإلماع إِلَيْهَا. وَبِمَا حَرَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً تَسْتَغْنِي عَنْ تَطْوِيلَاتٍ وَاحْتِمَالَاتٍ جَرَتْ فِي كَلَامِ الْكَاتِبِينَ هُنَا مِنْ وُجُوه ذكرهَا التفتازانيّ وَعَبْدُ الْحَكِيمِ وَقَدْ جَمَعَ الْوَجْهُ الَّذِي أَبْدَيْنَاهُ مَحَاسِنَهَا. وَجَعَلَ الْمِيقَاتَ لَيَالِيَ لِأَنَّ حِسَابَهُمْ كَانَ بِالْأَشْهُرِ الْقَمَرِيَّةِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ بِحَرْفِ ثُمَّ الَّذِي هُوَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِلتَّرَاخِي التَّرْتِيبِيِّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَرْتِيبٍ فِي دَرَجَاتِ عِظَمِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَعَطَفَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْضًا لِتَرَاخِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ الْعَظِيم عَن عَظِيم جُرْمِهِمْ فَرُوعِيَ فِي هَذَا التَّرَاخِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمَلُ عَظَائِمُ أُمُورٍ فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ، وَبَعْدَهَا وَحَذْفُ الْمَفْعُول الثَّانِي لَا تخذتم لِظُهُورِهِ وَعِلْمِهِمْ بِهِ وَلِشَنَاعَةِ ذِكْرِهِ وَتَقْدِيرِهِ مَعْبُودًا أَوْ إِلَهًا وَبِهِ تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذِكْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا جَدِيرِينَ بِانْتِظَارِهِمُ الشَّرِيعَةَ الَّتِي تَزِيدُهُمْ كَمَالًا لَا بِالنُّكُوصِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالِانْغِمَاسِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنَّهُمْ كَانُوا جَدِيرِينَ بِالْوَفَاءِ لِمُوسَى فَلَا يُحْدِثُوا مَا أَحْدَثُوا فِي مَغِيبِهِ بَعْدَ أَن رَأَوْا معجزاته وَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنْ هَاتِهِ الْعِبَادَةِ لَمَّا قَالُوا لَهُ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَاف: 138] الْآيَةَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ (مِنْ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الِاتِّخَاذَ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِ أَزْمَانِ بَعْدِيَّةِ مَغِيبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ

وَهَذِهِ أَيْضًا حَالَةٌ غَرِيبَةٌ لِأَنَّ شَأْنَ التَّغَيُّرِ عَنِ الْعَهْدِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طُولِ الْمَغِيبِ عَلَى أَنَّهُ ضَعْفٌ فِي الْعَهْدِ كَمَا قَالَ الْحَرْثُ بْنُ كِلْدَةَ: فَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ ... وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا فَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ تَعْرِيضٌ بِقِلَّةِ وَفَائِهِمْ فِي حِفْظِ عَهْدِ مُوسَى. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ بَعْدَ مَغِيبِهِ وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ مَعَ بَعْدِ الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِظُهُورِهِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْمَقَامِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غَافِر: 34] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الْبَقَرَة: 246] . وَإِنَّمَا اتَّخَذُوا الْعِجْلَ تَشَبُّهًا بِالْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ دَخَلُوا إِلَى أَرْضِهِمْ وَهُمُ الْفِنِيقِيُّونَ سُكَّانُ سَوَاحِلِ بِلَادِ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ وَكَانَ الْعِجْلُ مُقَدَّسًا عِنْدَهُمْ وَكَانُوا يُمَثِّلُونَ أَعْظَمَ الْآلِهَةِ عِنْدَهُمْ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ مِنْ نُحَاسٍ لَهُ رَأْسُ عِجْلٍ جَالِسٍ عَلَى كُرْسِيٍّ مَادًّا ذِرَاعَيْهِ كَمُتَنَاوِلِ شَيْءٍ يَحْتَضِنُهُ وَكَانُوا يَحْمُونَهُ بِالنَّارِ مِنْ حُفْرَةٍ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا النَّاسُ فَكَانُوا يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ الْقَرَابِينَ وَرُبَّمَا قَرَّبُوا لَهُ أَطْفَالَهُمْ صِغَارًا فَإِذَا وُضِعَ الطِّفْلُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ اشْتَوَى فَظَنُّوا ذَلِكَ أَمَارَةَ قَبُولِ الْقُرْبَانِ فَتَبًّا لِجَهْلِهِمْ وَمَا يَصْنَعُونَ. وَكَانَ يُسَمَّى عِنْدَهُمْ «بَعْلًا» وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ «مَوْلُوكَ» وَهُمْ أُمَّةٌ سَامِيَةٌ لُغَتُهَا وَعَوَائِدُهَا تُشْبِهُ فِي الْغَالِبِ لُغَةَ وَعَوَائِدَ الْعَرَبِ فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: 138] فَانْتَهَرَهُمْ مُوسَى وَكَانُوا يَخْشَوْنَهُ فَلَمَّا ذَهَبَ لِلْمُنَاجَاةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ اسْتَضْعَفُوهُ وَظَنُّوا أَنَّ مُوسَى هَلَكَ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوهُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مِنْ حُلِيِّهِمْ وَعَبَدُوهُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ حَالٌ مُقَيِّدَةٌ لِاتَّخَذْتُمْ لِيَكُونَ الِاتِّخَاذُ مُقْتَرِنًا بِالظُّلْمِ مِنْ مَبْدَئِهِ إِلَى مُنْتَهَاهُ وَفَائِدَةُ الْحَالِ الْإِشْعَارُ بِانْقِطَاعِ عُذْرِهِمْ فِيمَا صَنَعُوا وَأَنْ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ بِمِصْرَ مُلَازِمِينَ لِلتَّوْحِيدِ مُحَافِظِينَ عَلَى وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ لِذُرِّيَّتِهِمَا بِمُلَازَمَةِ التَّوْحِيدِ فَكَانَ انتقالهم إِلَى الشّرك بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ انْتِقَالًا عَجِيبًا. فَلِذَلِكَ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي هَذَا الصُّنْعِ ظُلْمًا مُضَاعَفًا فَالظَّاهِرُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالظُّلْمِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَعَانِي الظُّلْمِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ لِظُهُورِ أَنَّ اتِّخَاذَ الْعِجْلُُِ

[سورة البقرة (2) : آية 53]

ظُلْمٌ فَلَا يَكُونُ للْحَال مَعَه موقع. وَقَدِ اطَّلَعْتُ بَعْدَ هَذَا عَلَى «تَفْسِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ» فَوَجَدْتُهُ قَالَ: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أَيْ لَا شُبْهَةَ لَكُمْ فِي اتِّخَاذِهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ هُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ، وَعَطْفُهُ بِثُمَّ لِتَرَاخِي رُتْبَةِ هَذَا الْعَفْوِ فِي أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي سَبَقَ عَدُّهَا فَفِيهِ زِيَادَةُ الْمِنَّةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْمَعْطُوفُ بِثُمَّ وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَخْ فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَوْصِيفٌ لِمَا حَفَّ بِهَذَا الْعَفْوِ مِنْ عِظَمِ الذَّنْبِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «عَفَوْنَا» مُقَيِّدَةٌ لِلْعَفْوِ إِعْجَابًا بِهِ أَيْ هُوَ عَفْوٌ حَالَ حُصُولِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَلَيْسَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِعَفَوْنَا حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ ثُمَّ دَلَّتْ عَلَى مَعْنَاهُ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمَدْلُولِ ثُمَّ تَأْخِيرُ الْعَفْوِ فِيهِ وَإِظْهَارُ شَنَاعَتِهِ بِتَأْخِيرِ الْعَفْوِ عَنْهُ وَإِنَّمَا جَاءَ قَوْلُهُ ذَلِكَ مُقْتَرِنًا بِكَافِ خِطَابِ الْوَاحِدِ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ اسْتِعْمَالًا بِالْإِفْرَادِ إِذْ خِطَابُ الْمُفْرَدِ أَكْثَرُ غَلَبٍ فَاسْتُعْمِلَ لِخِطَابِ الْجَمْعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْكَافَ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ قَصْدِ الْخِطَابِ إِلَى مَعْنَى الْبَعْدِ وَمِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ لِأَنَّ التَّثْنِيَة وَالْجمع شيآن خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إِلَيْهِمَا إِلَّا عِنْد تعْيين مَعنا هما فَإِذَا لَمْ يقْصد تعْيين مَعنا هما فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِمَا اخْتِيَارٌ مَحْضٌ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رَجَاءٌ لِحُصُولِ شُكْرِكُمْ، وَعَدَلَ عَنْ لَامِ التَّعْلِيلِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شُكْرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَطَرَّقُهُ احْتِمَالُ التَّخَلُّفِ فَذِكْرُ حَرْفِ الرَّجَاءِ دُونَ حَرْفِ التَّعْلِيلِ مِنْ بَدِيعِ الْبَلَاغَةِ فَتَفْسِيرُ لَعَلَّ بِمَعْنى لكَي يفيت هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ دِلَالَةِ لَعَلَّ عَلَى الرَّجَاءِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: 21] . وَمَعْنَى الشُّكْرِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] وَلِلْغَزَالِيِّ فِيهِ بَابٌ حَافِلٌ عَدَلْنَا عَنْ ذِكْرِهِ لِطُولِهِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ فِي كتاب «الْإِحْيَاء» . [53] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 53] وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) هَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ نُزُولِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ أُمُورِهِمْ وَانْتِظَامُ حَيَاتِهِمْ وَتَأْلِيفُ جَمَاعَتِهِمْ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَمَامِ النِّعْمَةِ وَهُمْ يَعُدُّونَهَا شِعَارَ مَجْدِهِمْ وَشَرَفِهِمْ لِسِعَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ لَهُمْ حَتَّى كَانَتْ كِتَابًا فَكَانُوا بِهِ أَهْلَ كِتَابٍ أَيْ أَهْلَ عِلْمِ تَشْرِيعٍ. وَالْمُرَادُ مِنَ (الْكِتَابِ) التَّوْرَاةُ الَّتِي أُوتِيَهَا مُوسَى فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَيُعْتَبَرُ مَعَهَا مَا أُلْحِقَ بِهَا عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 2] .

[سورة البقرة (2) : آية 54]

وَالْفَرْقَانُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فُعْلَانُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَرْقِ وَهُوَ الْفَصْلُ اسْتُعِيرَ لِتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فَهُوَ وَصْفٌ لُغَوِيٌّ لِلتَّفْرِقَةِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى كِتَابِ الشَّرِيعَةِ وَعَلَى الْمُعْجِزَةِ وَعَلَى نَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَعَلَى الْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَتْ آيَاتُ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الْأَنْبِيَاء: 48] فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّ هَارُونَ لَمْ يُؤْتَ وَحْيًا وَقَالَ: يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: 41] يَعْنِي يَوْمَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمرَان: 4] عَطْفًا عَلَى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمرَان: 3] الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْمُعْجِزَةُ أَوِ الْحُجَّةُ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَطْفُ الصِّفَةِ عَلَى مَوْصُوفِهَا إِنْ أُرِيدَ بِالْفُرْقَانِ الْكِتَابُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّفَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتْبَعَ مَوْصُوفَهَا بِالْعَطْفِ وَمِنْ نَظَرِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي المزدحم فقد سَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ هُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ لِأَنَّ إِتْيَانَ الشَّرِيعَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِاهْتِدَائِهِمْ وَكَانَ قَاصِرًا عَلَى عَمَلِ مُوسَى بِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَالْقَوْلِ فِي لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَة: 52] السَّابِق. [54] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 54] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ نَسْخِ تَكْلِيفٍ شَدِيدٍ عَلَيْهِمْ كَانَ قَدْ جُعِلَ جَابِرًا لِمَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ إِثْمِ عِبَادَةِ الْوَثَنِ فَحَصَلَ الْعَفْوُ عَنْهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَتَمَّتِ الْمِنَّةُ وَبِهَذَا صَحَّ جَعْلُ هَذِهِ مِنَّةً مُسْتَقِلَّةً بعد الْمِنَّة المتضمنة لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 52] لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ فِي الْآخِرَةِ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ حَدٍّ وَنَحْوِهِ وَهُوَ حِينَئِذٍ مِنَّةٌ إِذْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ لِلذَّنْبِ عِقَابَيْنِ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ كَمَا كَانَ الْمُذْنِبُ النَّفْسَ وَالْبَدَنَ وَلَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهُُِ

جَعَلَ الْحُدُودَ جَوَابِرَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَلَمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَدْ تَفَضَّلَ بِإِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الذَّنْبِ، وَلَمَّا نَسَخَ تَكْلِيفَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ تَفَضَّلَ بِذَلِكَ فَصَارَتْ مِنَّتَانِ. فَقَوْلُ مُوسَى لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ تَشْرِيعُ حُكْمٍ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ لَا عَنِ اجْتِهَادٍ- وَإِنْ جَازَ الِاجْتِهَادُ لِلْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ حِفْظِ النُّفُوسِ الَّتِي قِيلَ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهَا شَرَائِعُ اللَّهِ- فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ قَتْلًا حَقِيقَةً إِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَ كُلٌّ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ الْأَرْوَاحَ الَّتِي فِي الْأَجْسَامِ فَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ عَلَى هَذَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا بِالِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَقَوْلِ ابْنِ أُذَيْنَةَ: وَإِذَا وَجَدْتَ لَهَا وساوس سلوءه ... شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا وَإِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ عَابِدِيهِ، وَكَلَامُ التَّوْرَاةِ فِي هَذَا الْغَرَضِ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّاوِيِّينَ- الَّذِينَ هُمْ مِنْ سِبْطِ لَاوِي الَّذِي مِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ- أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ بِالسَّيْفِ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا وَقَتَلُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ نَفْسٍ ثُمَّ اسْتَشْفَعَ لَهُمْ مُوسَى فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ أَيْ فَيَكُونُ حُكْمُ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ مَنْسُوخًا بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَلْيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَالْأَنْفُسُ مُرَادٌ بِهَا الْأَشْخَاصُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] أَيْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [الْبَقَرَة: 84] أَيْ لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَقَوْلِهِ عَقِبَهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 85] فَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ مُتَغَايِرَانِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِقَتْلِ النَّفْسِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْقَتْلِ الْمجَازِي وَهُوَ التذليل وَالْقَهْرُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: «فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ» وَقَوْلِهِ: خَمْرٌ مُقَتَّلَةٌ أَوْ مَقْتُولَةٌ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ سُورَتُهَا بِالْمَاءِ. قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرٍ: إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا ... قُتِلَتْ قُتِلَتْ فَهَاتِهَا لَمْ تُقْتَلِ (¬1) وَفِيهِ بُعْدٌ عَنِ اللَّفْظِ بَلْ مُخَالَفَةٌ لِغَرَضِ الِامْتِنَانِ، لِأَنَّ تَذْلِيلَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا شَرِيعَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. ¬

(¬1) وَمن معنى الْقَتْل فِي التذليل جَاءَ معنى مجازي آخر وَهُوَ إِطْلَاق الْقَتْل على إتقان الْعَمَل لِأَن فِي الإتقان تذليلا للمصنوع من ذَلِك قَوْلهم قتل اللِّسَان علما، وفرى الدَّهْر خبْرَة وَقَوله تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [النِّسَاء: 157] على وَجه.

وَالظُّلْمُ هُنَا الْجِنَايَةُ وَالْمَعْصِيَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَتُوبُوا فَاءُ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْبَةِ فالفاء لتفريع الْأَمْرِ عَلَى الْخَبَرِ وَلَيْسَت هُنَا عاطفة عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ تَرَتُّبٌ فِي الْوُجُودِ، وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ لَا يَرَى الْفَاءَ تَخْرُجُ عَنِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى عِبَارَاتِ الْجُمْهُورِ مِثْلَ صَاحِبِ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عَطْفَ إِنْشَاءٍ عَلَى خَبَرٍ وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ. وَذِكْرُ التَّوْبَةِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: 37] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ قَتْلَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بَيَانٌ لِلتَّوْبَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاء: 153] كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لَا التَّعْقِيبَ. وَأَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَدَ جَوَّزَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْوِيلُ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَمُعَقِّبًا وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا، وَثَانِيهِمَا جَعْلُ التَّوْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ شَامِلَةً لِأَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ آخِرُهَا قَتْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ أَيْضًا. وَعِنْدِي أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُنَزَّلَةً مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى وَكَانَتِ الْأَوْلَى مَعْطُوفَةً بِالْفَاءِ كَانَ الْأَصْلُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ تُقْطَعَ عَنِ الْعِطْفِ فَإِذَا قُرِنَتْ بِالْفَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتِ الْفَاءُ الثَّانِيَةُ مُؤَكِّدَةً لِلْأُولَى، وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي كُلِّ جُمْلَتَيْنِ تَكُونُ أُولَاهُمَا فِعْلًا غَيْرَ مَحْسُوسٍ وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ فعلا محسوسا مُبين لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ حَاصِلِ عَقِبِهِ فَيُقْرَنُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ تَمَامُهُ إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فِي النَّفْسِ وَلِذَلِكَ قَرَّبَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِتَأْوِيلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ بِالْعَزْمِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَالْبَارِئُ هُوَ الْخَالِقُ الْخَلْقَ عَلَى تَنَاسُبٍ وَتَعْدِيلٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَالِقِ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ بِهِ الْخَالِقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الْحَشْر: 24] . وَتَعْبِيرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَلَامِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى لَفْظِ الْبَارِئِ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّوْبَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَفِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ وَكَوْنُ الْخَلْقِ عَلَى مِثَالٍ مُتَنَاسِبٍ يَزِيدُ تَحْرِيضًا عَلَى شُكْرِ الْخَالِقِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 55 إلى 56]

وَقَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَهُوَ مَحَلُّ التَّذْكِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِلَخْ فَالْمَاضِي مُسْتَعْمَلٌ فِي بَابِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ وَقَدْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلتَّكَلُّمِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ وَرَجَّحَهُ هُنَا سَبْقُ مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى. وَعُطِفَتِ الْفَاءُ عَلَى مَحْذُوفٍ إِيجَازًا، أَيْ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَوْ فَعَزَمْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، عَلَى حَدِّ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] أَيْ فَضَرَبَ، وَعَطَفَ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى تَعْقِيبِ جُرْمِهِمْ بِتَوْبَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ تَأْخِيرِهَا إِلَى مَا بَعْدَ اسْتِئْصَالِ جَمِيعِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ بَلْ نَسَخَ ذَلِكَ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ قَلِيلًا أَوْ دُونَ الْعَمَلِ بِهِ وَفِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِمْ إِذْ حَصَلَ الْعَفْوُ عَنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ بِدُونِ تَكْلِيفِهِمْ تَوْبَةً شَاقَّةً بَلِ اكْتِفَاءً بِمُجَرَّدِ نَدَمِهِمْ وَعَزْمِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِذَلِكَ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ فَتابَ عَلَيْكُمْ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِمَا فِيهِ مِنْ لُزُومِ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ غَيْرِ وَاضِحِ الْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ فَعَلْتُمْ يَتُبْ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّي هَذِهِ الْآيَةَ عَنْ مَحَلِّ النِّعْمَةِ الْمُذَكَّرِ بِهِ إِلَّا تَضَمُّنًا. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ خَبَرٌ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي عِظَمِ جُرْمِهِمْ حَالُ مَنْ يَشُكُّ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَمَعَ التَّوَّابَ مَعَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كَانَتْ بِالْعَفْوِ عَنْ زَلَّةِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ وَهِيَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا الْغَفَّارُ، وَبِالنَّسْخِ لِحُكْمِ قَتْلِهِمْ وَذَلِكَ رَحْمَةٌ فَكَانَ لِلرَّحِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ هُنَا وَلَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الثَّنَاء. [55، 56] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 55 إِلَى 56] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى نَشَأَتْ بَعْدَ عِقَابٍ عَلَى جَفَاءِ طَبْعِ فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَأْسِيسٌ لِبِنَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْبَقَرَة: 51] الْآيَةَ. وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَسْلَافُ الْمُخَاطَبِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ، رَوَى ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ سَأَلُوهُ عِنْدَ مُنَاجَاتِهِ وَإِنَّ السَّائِلِينَ هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِي التَّوْرَاةِ بِالْكَهَنَةِ وَبِشُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ جَمْعٌ مِنْ عَامَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَحْوَ الْعَشَرَةِ الْآلَافِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ هَذَا السُّؤَالِ وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنْهَا مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاقْتِرَاحَ قَدْ صَدَرَ وَأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَوَّلِ لِمُوسَى لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَتْ تَذْكِيرَ مُوسَى فِي مُخَاطَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَكَرَتْ مَا يُغَايِرُ كَيْفِيَّةَ الْمُنَاجَاةِ الْأُولَى إِذْ قَالَ (¬1) : فَلَمَّا سَمِعْتُمُ الصَّوْتَ مِنْ وَسَطِ الظَّلَامِ وَالْجَبَلُ يَشْتَعِلُ بِالنَّارِ تَقَدَّمَ إِلَيَّ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ أَسْبَاطِكُمْ وَشُيُوخِكُمْ وَقُلْتُمْ هُوَ ذَا الرَّبُّ إِلَهُنَا قَدْ أَرَانَا مَجْدَهُ وَعَظَمَتَهُ وَسَمِعْنَا صَوْتَهُ مِنْ وَسَطِ النَّار ... إِن عِنْد مَا نَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلَهَنَا أَيْضًا نَمُوتُ ... تَقَدَّمْ أَنْتَ وَاسْمَعْ كُلَّ مَا يَقُولُ لَكَ الرَّبُّ إِلَهُنَا وَكَلِّمْنَا بِكُلِّ مَا يُكَلِّمُكَ بِهِ الرَّبُّ إِلْخَ. فَهَذَا يُؤْذِنُ أَنَّ هُنَالِكَ تَرَقُّبًا كَانَ مِنْهُمْ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَا بَلَغَ بِهِمْ مَبْلَغَ الْمَوْتِ، وَبَعْدُ فَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مصر. وَمعنى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ تَوَقَّعُوا الْكُفْرَ إِنْ لَمْ يَرَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَيْ أَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ إِيمَانِهِمُ الَّذِي اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الَّذِي دَلِيلُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَيْ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الْإِيمَانَيْنِ يَنْتَفِي إِنْ لَمْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً لِأَنَّ لَنْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ سِيبَوَيْهِ: «لَا لِنَفْيِ يَفْعَلُ وَلَنْ لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ» وَكَمَا أَنَّ قَوْلَكَ سَيَقُومُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْآنَ غَيْرُ قَائِمٍ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا حِينَ قَوْلِهِمْ هَذَا وَلَكِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَجْرَفَتِهِمْ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ النِّعَمِ وَمَا شَاهَدُوا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ حَتَّى رَامُوا أَنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ دَخَلَهُمُ الشَّكُّ فِي صِدْقِ مُوسَى وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِنْ كَانَ كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنْ كُفْرٍ. وَإِنَّمَا عَدَّى نُؤْمِنَ بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَلَنْ نُقِرَّ لَكَ بِالصِّدْقِ وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ هُوَ اللَّامُ وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ. ¬

(¬1) انْظُر سفر التَّثْنِيَة الإصحاح 5.

وَالْجَهْرَةُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ مِنَ الْجَهْرِ وَهُوَ الظُّهُورُ الْوَاضِحُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ظُهُورِ الذَّوَاتِ وَالْأَصْوَاتِ حَقِيقَةً عَلَى قَوْلِ الرَّاغِبِ إِذْ قَالَ: «الْجَهْرُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِإِفْرَاطٍ إِمَّا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ نَحْوَ رَأَيْتُهُ جِهَارًا وَمِنْهُ جَهَرَ الْبِئْرَ إِذَا أَظْهَرَ مَاءَهَا، وَإِمَّا بِحَاسَّةِ السَّمْعِ نَحْوَ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ [طه: 7] » وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْجَهْرَ مَجَازٌ فِي الرُّؤْيَةِ بِتَشْبِيهِ الَّذِي يَرَى بِالْعَيْنِ بِالْجَاهِرِ بِالصَّوْتِ وَالَّذِي يَرَى بِالْقَلْبِ بِالْمُخَافِتِ، وَكَانَ الَّذِي حَدَاهُ عَلَى ذَلِكَ اشْتِهَارُ اسْتِعْمَالِ الْجَهْرِ فِي الصَّوْتِ وَفِي هَذَا كُلِّهِ بُعْدٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ جَهْرَةَ الصَّوْتِ هِيَ الْحَقِيقَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَى الِاشْتِهَارِ فِي جَهْرَةِ الصَّوْتِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ إِنَّ الِاشْتِهَارَ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنَّ الِاشْتِهَارَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَجَازُ الْقَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَمَّا الْأَشْهَرِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا نُكْتَةَ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَا غَرَضَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُشَبَّهِ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ فَإِنَّ ظُهُورَ الذَّوَاتِ أَوْضَحُ مِنْ ظُهُورِ الْأَصْوَاتِ. وَانْتَصَبَ (جَهْرَةً) عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ فِعْلِ تَرَى لِأَنَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَا يَكُونُ لَمْحَةً أَوْ مَعَ سَائِرٍ شَفَّافٍ فَلَا تَكُونُ وَاضِحَةً. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ عِيَانًا إِلَى قَوْلِهِ (جَهْرَةً) لِأَنَّ جَهْرَةً أَفْصَحُ لَفْظًا لِخِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْدُوءٍ بِحَرْفِ حَلْقٍ وَالِابْتِدَاءُ بِحَرْفِ الْحَلْقِ أَتْعَبُ لِلْحَلْقِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ وَلِسَلَامَتِهِ مِنْ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِي الْبُلَغَاءُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ عَلَى بَعْضٍ لِحُسْنِ وَقْعِهَا فِي الْكَلَامِ وَخِفَّتِهَا عَلَى السَّمْعِ وَلِلْقُرْآنِ السَّهْمُ الْمُعَلَّى فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أَيْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَمَّا بَدَا مِنْهُمْ مِنَ الْعَجْرَفَةِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْمُعْجِزَاتِ. وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ كُفْرٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُدِّرَ أَنَّ مَوْتَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ لَا يَدُومُ إِلَّا قَلِيلًا فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي إِصَابَةِ الصَّاعِقَةِ لَهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِيلَةٌ وَأَنَّ سُؤَالَهَا وَالْإِلْحَاحَ فِيهِ كُفْرٌ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّاعِقَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُشَبِّهُ الْأَجْسَامَ فَكَانُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا، كَيْفَ وَقَدْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ كَهْرَبَائِيَّةٌ مِنَ السَّحَابِ تَحْرِقُ مَنْ أَصَابَتْهُ، وَقَدْ لَا تَظْهَرُ النَّارُ وَلَكِنْ يَصِلُ هَوَاؤُهَا إِلَى الْأَحْيَاءِ فَيَخْتَنِقُونَ بِسَبَبِ مَا يُخَالِطُ الْهَوَاءَ الَّذِي يَتَنَفَّسُونَ فِيهِ مِنَ الْحَوَامِضِ النَّاشِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ نَارٌ، وَقِيلَ: سَمِعُوا صَعْقَةً فَمَاتُوا.

وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْحَالِ عِنْدَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الصَّاعِقَةَ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ نَارُ الصَّاعِقَةِ لَا صَوْتُهَا الشَّدِيدُ لِأَنَّ الْحَالَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِمَّا يُرَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ وَأَنْتُمْ يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ أَيْ مجتمعون. وَعِنْدِي أَيْن مَفْعُولَ تَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ (تَنْظُرُونَ) بِمَعْنَى تُحَدِّقُونَ الْأَنْظَارَ عِنْدَ رُؤْيَةِ السَّحَابِ عَلَى جَبَلِ الطُّورِ طَمَعًا أَنْ يَظْهَرَ لَهُمُ اللَّهُ مِنْ خِلَالِهِ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ مُوسَى كَلَامًا يَسْمَعُهُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ كَمَا تَقُولُهُ التَّوْرَاةُ فِي مَوَاضِعَ، فَفَائِدَةُ الْحَالِ إِظْهَارُ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَصَابَتْهُمْ فِي حِينِ الْإِسَاءَةِ وَالْعَجْرَفَةِ إِذْ طَمِعُوا فِيمَا لَمْ يَكُنْ لِيُنَالَ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، أَيْ فَمُتُّمْ مِنَ الصَّاعِقَةِ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وَهَذَا خارق عهادة جعل اللَّهِ مُعْجِزَةً لِمُوسَى اسْتِجَابَةً لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ أَوْ كَرَامَةً لَهُمْ مِنْ بَعْدِ تَأْدِيبِهِمْ إِنْ كَانَ السَّائِلُونَ هُمُ السَبْعِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْ صَالِحِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ السَّائِلُونَ هُمُ الصَّالِحِينَ فَكَيْفَ عُوقِبُوا؟ قُلْتُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ يَنَالُ الصَّالِحِينَ وَيُسَمَّى عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ بِالْعِتَابِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْكَرَامَةَ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رُؤْيَةَ رَبِّهِ فَتَجَلَّى الله للجبل فَجعله دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ. فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ الْمَوْتَ يَقْتَضِي انْحِلَالَ التَّرْكِيبِ الْمِزَاجِيِّ فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَعْثُ بَعْدَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ؟ قُلْتُ: الْمَوْتُ هُوَ وُقُوفُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ وَتَعْطِيلُ وَظَائِفِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ فَإِذَا حَصَلَ عَنْ فَسَادٍ فِيهَا لَمْ تَعْقُبْهُ حَيَاةٌ إِلَّا فِي يَوْمِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدُّخان: 56] وَإِذَا حَصَلَ عَنْ حَادِثٍ قَاهِرٍ مَانِعٍ وَظَائِفَ الْقَلْبِ مِنْ عَمَلِهَا كَانَ لِلْجَسَدِ حُكْمُ الْمَوْتِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَكِنَّهُ يَقْبَلُ الرُّجُوعَ إِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ أَسْبَابُ الْحَيَاةِ بِزَوَالِ الْمَوَانِعِ الْعَارِضَةِ، وَقَدْ صَارَ الْأَطِبَّاءُ الْيَوْمَ يَعْتَبِرُونَ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُعَطِّلُ عَمَلَ الْقَلْبِ اعْتِبَارَ الْمَوْتِ وَيُعَالِجُونَ الْقَلْبَ بِأَعْمَالٍ جِرَاحِيَّةٍ تُعِيدُ إِلَيْهِ حَرَكَتَهُ. وَالْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ إِذَا كَانَ عَنِ اخْتِنَاقٍ أَوْ قُوَّةِ ضَغْطِ الصَّوْتِ عَلَى الْقَلْبِ قَدْ تَعْقُبُهُ الْحَيَاةُ بِوُصُولِ هَوَاءٍ صَافٍ جَدِيدٍ وَقَدْ يَطُولُ زَمَنُ هَذَا الْمَوْتِ فِي الْعَادَةِ سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ وَلَكِنَّ هَذَا الْحَادِثَ كَانَ خَارِقَ عَادَةٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمْ قَدْ طَالَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَيُمْكِنُ دون ذَلِك.

[سورة البقرة (2) : آية 57]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 57] وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) عَطْفُ وَظَلَّلْنا على بَعَثْناكُمْ [الْبَقَرَة: 56] . وَتَعْقِيبُ ذِكْرِ الْوَحْشَةِ بِذِكْرِ جَائِزَةٍ شَأْنُ الرَّحِيمِ فِي تَرْبِيَةِ عَبْدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَظْلِيلَ الْغَمَامِ وَنُزُولَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى كَانَ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً لِأَنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ نُزُولَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى حِينَ دُخُولِهِمْ فِي بَرِّيَّةِ سِينَ بَيْنَ إِيلِيمَ وَسِينَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ حِينَ اشْتَاقُوا أَكْلَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لِأَنَّهُمْ فِي رِحْلَتِهِمْ مَا كَانُوا يَطْبُخُونَ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ مِنْ أَلْبَانِ مَوَاشِيهِمُ الَّتِي أَخْرَجُوهَا مَعَهُمْ وَمِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ. وَأَمَّا تَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ سَأَلُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ لِأَنَّ تَظْلِيلَ الْغَمَامِ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ نَصَبَ لَهُمْ مُوسَى خَيْمَةَ الِاجْتِمَاعِ مَحَلَّ الْقَرَابِينِ وَمَحَلَّ مُنَاجَاةِ مُوسَى وَقِبْلَةَ الدَّاعِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا فَلَمَّا تَمَّتِ الْخَيْمَةُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ غَطَّتْ سَحَابَةٌ خَيْمَةَ الشَّهَادَةِ وَمَتَى ارْتَفَعَتِ السَّحَابَةُ عَنِ الْخَيْمَةِ فَذَلِكَ إِذْنٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالرَّحِيلِ فَإِذَا حَلَّتِ السَّحَابَةُ حَلُّوا إِلَخْ كَذَا تَقُولُ كُتُبُهُمْ (¬1) . فَلَمَّا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّبَاحِ وَالسَّلْوَى تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسَاءِ بِمِقْدَارِ مَا يَكْفِي جَمِيعَهُمْ لِيَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا ضِعْفُ الْكِمِّيَّةِ لِأَنَّ فِي السَّبْتِ انْقِطَاعَ النُّزُولِ. وَالْمَنُّ مَادَّةٌ صَمْغِيَّةٌ جَوِّيَّةٌ يَنْزِلُ عَلَى شَجَرِ الْبَادِيَةِ شِبْهُ الدَّقِيقِ الْمَبْلُولِ، فِيهِ حَلَاوَةٌ إِلَى الْحُمُوضَةِ وَلَوْنُهُ إِلَى الصُّفْرَةِ وَيَكْثُرُ بِوَادِي تِرْكِسْتَانَ وَقَدْ يَنْزِلُ بِقِلَّةٍ غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ قَبْلُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا. وَقَدْ وَصَفَتْهُ التَّوْرَاةُ (¬2) بِأَنَّهُ دَقِيقٌ مِثْلَ الْقُشُورِ يَسْقُطُ نَدًى كَالْجَلِيدِ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مِثْلُ بِزْرِ الْكُزْبَرَةِ أَبْيَضُ وَطَعْمُهُ كَرُقَاقٍ بِعَسَلٍ وَسَمَّتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَنًّا، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ لَا يُبْقُوا مِنْهُ لِلصَّبَاحِ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ فِيهِ دُودٌ وَأَنْ يَلْتَقِطُوهُ قَبْلَ أَنْ تَحْمَى الشَّمْسُ لِأَنَّهَا تُذِيبُهُ فَكَانُوا إِذَا الْتَقَطُوهُ طَحَنُوهُ بِالرَّحَا أَوْ دَقُّوهُ بِالْهَاوُنِ وَطَبَخُوهُ فِي الْقُدُورِ وَعَمِلُوهُ مِلَّاتٍ وَكَانَ طَعْمُهُ كَطَعْمِ قَطَائِفَ بِزَيْتٍ (¬3) وَأَنَّهُمْ أَكَلُوهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى جَاءُوا إِلَى طَرَفِ أَرْضِ كَنْعَانَ يُرِيدُ إِلَى حَبْرُونَ. ¬

(¬1) سفر الْخُرُوج من الإصحاح 25- 33 وسفر الْعدَد الإصحاح 9. (¬2) سفر الْخُرُوج الإصحاح 16. (¬3) سفر الْعدَد الإصحاح 11.

وَأَمَّا السَّلْوَى فَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٌّ وَاحِدَتُهُ سَلْوَاةٌ وَقِيلَ: لَا وَاحِدَ لَهُ وَقِيلَ: وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ طَائِرٌ بَرِّيٌّ لَذِيذُ اللَّحْمِ سَهْلُ الصَّيْدِ كَانَتْ تَسُوقُهُ لَهُمْ رِيحُ الْجَنُوبِ كُلَّ مَسَاءٍ فَيُمْسِكُونَهُ قَبْضًا وَيُسَمَّى هَذَا الطَّائِرُ أَيْضًا السُّمَانَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً بَعْدَهَا أَلِفٌ فَنُونٌ مَقْصُورٌ كَحُبَارَى، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ يَقَعُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَقِيلَ: هُوَ الْجمع وَأما الْفَرد فَهُوَ سُمَانَاةٌ. وَقَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ حِينَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ عَنْ أَسْلَافِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَما ظَلَمُونا قَدَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَعْطُوفًا عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ فَظَلَمُوا وَقَرَّرَهُ شَارِحُوهُ بِأَنَّ (مَا ظَلَمُونَا) نَفْيٌ لِظُلْمٍ مُتَعَلِّقٍ بِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَهَذَا النَّفْيُ يُفِيدُ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ أَنَّ هُنَالِكَ ظُلْمًا مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِ هَذَا الْمَنْصُوبِ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الظُّلْمُ وَاقِعًا لَنُفِيَ مُطْلَقًا بِأَنْ يُقَالَ: وَمَا ظَلَمُوا وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قُدِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ تُفِيدُ مَعَ التَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ غَالِبًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ مُتَسَبِّبَةً عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَشَبَّهَ وُقُوعَ ظُلْمِهِمْ حِينَ كَفَرُوا النِّعْمَةَ عَقِبَ الْإِحْسَانِ بِتَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ فِي الْحُصُولِ بِلَا رَيْثٍ وَبِدُونِ مُرَاقَبَةِ ذَلِكَ الْإِحْسَانِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالظُّلْمِ جَزَاءً لِلنِّعْمَةِ، وَرَمَزَ إِلَى لَفْظِ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِرَدِيفِهِ وَهُوَ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ السَّامِعُ مِنْ أَنَّ الظُّلْمَ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنِ الْإِنْعَامِ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ أَحْسَنْتُ إِلَى فُلَانٍ فَأَسَاءَ إِلَيَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَالْفَاءُ مَجَازٌ لِغَيْرِ التَّرَتُّبِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِكَ: أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ فَكَفَرَ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ إِنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ التَّرْتِيبُ وَالتَّعْقِيبُ لَا غَيْرَ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُلَازِمُ لَهَا فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا فَإِنَّ الِاطِّرَادَ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا التَّرَتُّبُ أَيِ السَّبَبِيَّةُ فَأَمْرٌ عَارض لَهَا فهومن الْمَجَازِ أَوْ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوجَدُ تَارَةً وَيَتَخَلَّفُ أُخْرَى فَإِنَّهُ مَفْقُودٌ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ نَحْوَ جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو وَفِي كَثِيرٍ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: 22] فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ حَيْثُمَا اسْتُفِيدَ مُحْتَاجًا إِلَى الْقَرَائِنِ فَإِنْ لَمْ تَتَطَلَّبْ لَهُ عَلَاقَةً قُلْتَ هُوَ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ تَرَاكِيبٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَإِنْ تَطَلَّبْتَ لَهُ عَلَاقَةً- وَهِيَ لَا تَعُوزُكُ- قُلْتَ هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ عَقِبَ غَيْرِهَا

يَكُونُ مُوجِبُ التَّعْقِيبِ فِيهَا هُوَ السَّبَبِيَّةَ وَلَوْ عُرْفًا وَلَوِ ادِّعَاءً فَلَيْسَ خُرُوجُ الْفَاءِ عَنِ التَّرَتُّبِ هُوَ الْمَجَازَ بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ هُوَ التَّرْتِيبُ وَالتَّعْقِيبُ فَقَطْ أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِيِّينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [الْقَصَص: 8] اللَّامُ فِيهِ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى فَاءِ التَّعْقِيبِ أَيْ فَكَانَ لَهُمْ عَدُوًّا فَجَعَلُوا الْفَاءَ حَقِيقَةً فِي التَّعْقِيبِ وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَسَاوَتِ اللَّامَ فَلَمْ تَسْتَقِمِ الِاسْتِعَارَةُ فَيَكُونُ الْوَجْهُ الْحَامِلُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ هُوَ أَنَّهُ رَأَى عَطْفَ الظُّلْمِ عَلَى وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَمَا بَعْدَهُ بِالْوَاوِ وَلَا يَحْسُنُ لِعَدَمِ الْجِهَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الِامْتِنَانِ وَالذَّمِّ وَالْمُنَاسَبَةُ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْوَصْلِ بِالْوَاوِ بِخِلَافِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، فَتَعَيَّنَ إِمَّا تَقْدِيرُ ظَلَمُوا مُسْتَأْنَفًا بِدُونِ عَطْفٍ وَظَاهَرٌ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ مَعْنًى عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَإِمَّا رَبْطُ ظَلَمُوا بِعَاطِفٍ سِوَى الْوَاوِ وَلَيْسَ يَصْلُحُ هُنَا غَيْرُ الْفَاءِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ حَصَلَ عَقِبَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ التَّعَاقُبُ فِي الْخَارِجِ مُغْنِيًا عَنِ الْجِهَةِ الْجَامِعَةِ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَاءُ لَا تَسْتَدْعِي قُوَّةَ مُنَاسَبَةٍ كَمُنَاسَبَةِ الْوَاوِ وَلَكِنْ مُنَاسِبَةً فِي الْخَيَالِ فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَتْ هُنَا لِأَنَّ كَوْنَ الْمَعْطُوفِ حَصَلَ فِي الْخَارِجِ عَقِبَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا يَجْعَلُهُ حَاضِرًا فِي خَيَالِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قُبْحُ نَحْوِ قَوْلِكَ جَاءَ زَيْدٌ فَصَاحَ الدِّيكُ فَلِقِلَّةِ جَدْوَى هَذَا الْخَبَرِ أَلَا تَرَاهُ يَصِيرُ حَسَنًا لَوْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ فَصَاحَ الدِّيكُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ بِالْفَجْرِ فَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِرَبْطِ الظُّلْمِ الْمُقَدَّرِ بِالْفِعْلَيْنِ قَبْلَهُ إِلَّا الْفَاءُ. وَفِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ وَالرَّبْطِ وَالتَّصَدِّي لِبَيَانِهِ- مَعَ غَرَابَةِ هَذَا التَّعْقِيبِ- تَعْرِيضٌ بِمَذَمَّتِهِمْ إِذْ قَابَلُوا الْإِحْسَانَ بِالْكُفْرَانِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغَبَاوَتِهِمْ إِذْ صَدَفُوا عَنِ الشُّكْرِ كَأَنَّهُمْ يَنْكُونَ بِالْمُنْعِمِ وَهُمْ إِنَّمَا يُوقِعُونَ النِّكَايَةَ بِأَنْفُسِهِمْ، هَذَا تَفْصِيلُ مَا يُقَالُ عَلَى تَقْدِيرِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ وَأَنَّ جُمْلَةَ وَما ظَلَمُونا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي أَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَثَارُ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَعْضُ الْجُمَلِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ أَنَّ ظُلْمًا قَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ [الْبَقَرَة: 51] وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَة: 54] وَمَا تضمنه قَوْله: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: 55] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَذَابٌ جَرُّوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ نَظِيرَ قَوْله: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَة: 9] عَقِبَ قَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 9] وَنَظِيرَ قَوْلِهِ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سبأ: 19] بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً [سبأ: 18]

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 إلى 59]

الْآيَةَ. وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِذِ انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْحَدِيثِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِقَصْدِ الِاتِّعَاظِ بِحَالِهِمْ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ مُتَمَادُونَ عَلَى غَيِّهِمْ وَلَيْسُوا مُسْتَفِيقِينَ مِنْ ضَلَالِهِمْ فَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَهَذَا الظُّلْمُ الَّذِي قُدِّرَ فِي نَظْمِ الْآيَةِ هُوَ ضَجَرُهُمْ مِنْ مُدَاوَمَةِ أَكْلِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي سَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَة: 61] الْآيَةَ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَما ظَلَمُونا تَمْهِيدًا لَهُ وَتَعْجِيلًا بِتَسْجِيلِ قِلَّةِ شُكْرِهِمْ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ إِذْ كَانَتْ شَكِيمَتُهُمْ لَمْ تُلَيِّنْهَا الزَّوَاجِرُ وَلَا الْمَكَارِمُ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قَدَّمَ فِيهِ الْمَفْعُولَ لِلْقَصْرِ وَقَدْ حَصَلَ الْقَصْرُ أَوَّلًا بِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ثُمَّ أُكِّدَ بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْكِي غَيْرَهُ كَمَا قِيلَ: يَفْعَلُ الْجَاهِلُ بِنَفْسِهِ مَا يَفْعَلُ الْعَدو بعدوه. [58، 59] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 58 إِلَى 59] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) هَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى مُكِّنُوا مِنْهَا فَمَا أَحْسَنُوا قَبُولَهَا وَلَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَحُرِمُوا مِنْهَا إِلَى حِينٍ وَعُوقِبَ الَّذِينَ كَانُوا السَّبَبَ فِي عَدَمِ قَبُولِهَا. وَفِي التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِبَذْلِ النِّعْمَةِ لَهُمْ لِأَنَّ النِّعْمَةَ نِعْمَةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ، وَإِثَارَةٌ لِحَسْرَتِهِمْ عَلَى مَا فَاتَ أَسْلَافَهُمْ وَمَا لَقُوهُ مِنْ جَرَّاءِ إِعْجَابِهِمْ بِآرَائِهِمْ، وَمَوْعِظَةٌ لَهُمْ أَنْ لَا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كُلَّمَا صَدَفُوا عَنْ قَدْرِ حَقِّ النِّعَمِ نَالَتْهُمُ الْمَصَائِبُ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا. وَلِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَا عَنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ اخْتُصِرَ فِيهَا الْكَلَامُ اخْتِصَارًا تَرَكَ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا حَيَارَى، فَسَلَكُوا طَرَائِقَ فِي انْتِزَاعِ تَفْصِيلِ الْمَعْنَى مِنْ مُجْمَلِهَا فَمَا أَتَوْا عَلَى شَيْءٍ مُقْنِعٍ، وَكُنْتَ تَجِدُ أَقْوَالَهُمْ هُنَا إِذَا الْتَأَمَ

بَعْضُهَا بِنَظْمِ الْآيَةِ (¬1) لَا يَلْتَئِمُ بَعْضُهُ الْآخَرُ، وَرُبَّمَا خَالَفَ جَمِيعُهَا مَا وَقع فِي أَيَّام أُخَرَ. وَالَّذِي عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ هَاتِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى قِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُهُمْ وَهِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَوَّحَتْ بِهِمُ الرِّحْلَةُ إِلَى بَرِّيَّةِ فَارَانَ نَزَلُوا بِمَدِينَةِ قَادِشٍ فَأَصْبَحُوا عَلَى حُدُودِ أَرْضِ كَنْعَانَ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فَأَرْسَلَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا لِيَتَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ مِنْ كل سبط رجل وَفِيهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالَبُ بْنُ بَفْنَةَ فَصَعِدُوا وَأَتَوْا إِلَى مَدِينَةِ حَبْرُونَ فَوَجَدُوا الْأَرْضَ ذَاتَ خَيْرَاتٍ وَقَطَعُوا مِنْ عِنَبِهَا وَرُمَّانِهَا وَتِينِهَا وَرَجَعُوا لِقَوْمِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَخْبَرُوا مُوسَى وَهَارُونَ وَجَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرَوْهُمْ ثَمَرَ الْأَرْضِ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهَا حَقًّا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا غَيْرَ أَنَّ أَهْلَهَا ذَوُو عِزَّةٍ وَمُدُنَهَا حَصِينَةٌ جِدًّا فَأَمَرَ مُوسَى كَالِبًا فَأَنْصَتَ إِسْرَائِيلُ إِلَى مُوسَى وَقَالَ إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا وَكَذَلِكَ يُوشَعُ أَمَّا الْعَشَرَةُ الْآخَرُونَ فَأَشَاعُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَذَمَّةَ الْأَرْضِ وَأَنَّهَا تَأْكُلُ سُكَّانَهَا وَأَنَّ سُكَّانَهَا جَبَابِرَةٌ فَخَافَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَجَبُنُوا عَنِ الْقِتَالِ فَقَامَ فِيهِمْ يُوشَعُ وَكَالِبٌ قَائِلِينَ لَا تَخَافُوا مِنَ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُمْ لُقْمَةٌ لَنَا وَاللَّهُ مَعَنَا، فَلَمْ يُصْغِ الْقَوْمُ لَهُمْ وَأَوْحَى اللَّهُ لِمُوسَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ وَأَنَّهُ مُهْلِكُهُمْ فَاسْتَشْفَعَ لَهُمْ مُوسَى فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فَلَا يَدْخُلُ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ يَوْمئِذٍ إِلَّا يوشعا وكالبا وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى الْجَوَاسِيسِ الْعَشَرَةِ الْمُثَبِّطِينَ وَبَاءً أَهْلَكَهُمْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ تَمَامَ الِانْطِبَاقِ لَا سِيَّمَا إِذَا ضَمَّتْ لَهَا آيَةَ سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: 21، 25] يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ الْفاسِقِينَ فَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا «حَبْرُونَ» الَّتِي كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهُمْ وَالَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا جَوَاسِيسُهُمْ وَأَتَوْا بِثِمَارِهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ الْجِهَةَ كُلَّهَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَبَّةَ فَإِنَّ الْقَرْيَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْمَزْرَعَةِ لَكِنَّ هَذَا يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ وَإِن كَانَ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَكَيْفَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ ¬

(¬1) ذَلِك أَن الْآيَة لم تعين اسْم الْقرْيَة وَلَا عَامل حطة وَلَا مَفْعُوله، وأجملت فِي الَّذين بدلُوا وَفِي القَوْل مَا هُوَ، وَفِي الَّذِي قيل لَهُم، وَالْقَصْد من ذَلِك تجنب ثقل إِعَادَة الْأَمر الْمَعْلُوم فَإِن بني إِسْرَائِيل المخاطبين كَانُوا يعلمُونَ ذَلِك وَالْمُسْلِمين بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يتلقونه مفصلا من النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمن مُسْلِمِي أهل الْكتاب مثل عبد الله بن سَلام.

ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً يُشِيرُ إِلَى الثِّمَارِ الْكَثِيرَةِ هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَشَاعَهُ الْجَوَاسِيسُ الْعَشَرَةُ مِنْ مَذَمَّةِ الْأَرْضِ وَصُعُوبَتِهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالَ مُوسَى حَيْثُ اسْتَنْصَتَ الشَّعْبُ بِلِسَانِ كَالَبِ بْنِ بَفْنَةَ وَيُوشَعَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [162] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا أَيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ وَأَنَّ الرِّجْزَ الَّذِي أَصَابَ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُوَ الْوَبَاءُ الَّذِي أَصَابَ الْعَشَرَةَ الْجَوَاسِيسَ، وَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ أَيْضًا مَعَ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ [21، 22] وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ إِلَخْ وَقَوْلِهِ: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [الْمَائِدَة: 23] فَإِنَّ الْبَابَ يُنَاسِبُ الْقَرْيَةَ. وَقَوْلُهُ: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَة: 26] . فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ الْمُنْطَبِقُ عَلَى التَّارِيخِ الصَّرِيحِ. فَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنَا أَيْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى فَبَلَّغَهُ لِلْقَوْمِ بِوَاسِطَةِ اسْتِنْصَاتِ كَالِبِ بْنِ بَفْنَةَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا إِمَّا أَمْرٌ بِدُخُولِ قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُمْ وَهِيَ «حَبْرُونُ» لِتَكُونَ مَرْكَزًا أَوَّلًا لَهُمْ، وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ أَمْرٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ أَعْنِي الْقِتَالَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْمَائِدَةِ إِذْ قَالَ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ إِلَى قَوْلِهِ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَإِنَّ الِارْتِدَادَ عَلَى الْأَدْبَارِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْحُرُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: 15] . وَلَعَلَّ فِي الْإِشَارَةِ بِكَلِمَةِ هذِهِ الْمُفِيدَةِ لِلْقُرْبِ مَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ حَبْرُونُ الَّتِي طَلَعَ إِلَيْهَا جَوَاسِيسُهُمْ. وَالْقَرْيَةُ- بِفَتْحِ الْقَافِ لَا غَيْرَ عَلَى الْأَصَحِّ- الْبَلْدَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمَسَاكِنِ الْمَبْنِيَّةِ مِنْ حِجَارَةٍ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَرْيِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَبِالْيَاءِ- وَهُوَ الْجَمْعُ يُقَالُ: قَرَى الشَّيْءَ يَقْرِيهِ إِذَا جَمَعَهُ وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الْبَلْدَةِ الصَّغِيرَةِ وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ ذَاتِ الْأَسْوَارِ وَالْأَبْوَابِ كَمَا أُرِيدَ بِهَا هُنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً. وَجَمْعُ الْقَرْيَةِ قُرًى بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ فُعَلٍ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِفِعْلَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مِثْلَ كِسْوَةٍ وَكُسَى وَقِيَاسُ جَمْعِ قَرْيَةٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى قِرَاءٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِالْمَدِّ كَمَا قَالُوا: رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ وَشَكْوَةٌ وَشِكَاءٌ. وَقَوْلُهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مُرَادٌ بِهِ بَابُ الْقَرْيَةِ لِأَنَّ الْ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْعِوَضِيَّةِ عَنِ

الْمُضَافِ إِلَيْهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ. وَمَعْنَى السُّجُودِ عِنْدَ الدُّخُولِ الِانْحِنَاءُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِأَنَّ بَابَهَا قَصِيرٌ كَمَا قِيلَ، إِذْ لَا جَدْوَى لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّجُودِ مُطْلَقُ الِانْحِنَاءِ لِإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ كَيْلَا يَفْطِنَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَوْسَسَةِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهَا التَّوْرَاةُ وَيَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ الْمَأْمُورُ بِهِ سُجُودَ الشُّكْرِ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مُتَجَسِّسِينَ لَا فَاتِحِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَصِيَّةَ مُوسَى فَدَخَلُوا يزحفون على أستاهم كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِظْهَارَ الزَّمَانَةِ فَأَفْرَطُوا فِي التَّصَنُّعِ بِحَيْثُ يَكَادُ أَنْ يَفْتَضِحَ أَمْرُهُمْ لِأَنَّ بَعْضَ التَّصَنُّعِ لَا يُسْتَطَاعُ اسْتِمْرَارُهُ. وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا حِطَّةٌ الْحِطَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ وَهُوَ الْخَفْضُ وَأَصْلُ الصِّيغَةِ أَنَّ تَدُلَّ عَلَى الْهَيْئَةِ وَلَكِنَّهَا هَنَا مُرَادٌ بِهَا مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْعَجْزِ أَوْ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ السُّؤَّالِ وَالشَّحَّاذِينَ كَيْلَا يَحْسِبَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ حِسَابًا وَلَا يَأْخُذُوا حَذَرًا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ قَوْلًا يُخَاطِبُونَ بِهِ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْحِطَّةِ سُؤَالُ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا أَيِ اسْأَلُوا اللَّهَ غُفْرَانَ ذُنُوبِكُمْ إِنْ دَخَلْتُمُ الْقَرْيَةَ. وَقِيلَ: مِنَ الْحَطِّ بِمَعْنَى حَطِّ الرِّحَالِ أَيْ إِقَامَةٍ أَيِ ادْخُلُوا قَائِلِينَ إِنَّكُمْ نَاوُونَ الْإِقَامَةَ بِهَا إِذِ الْحَرْبُ وَدُخُولُ دِيَارِ الْعَدُوِّ يَكُونُ فَتْحًا وَيَكُونُ صُلْحًا وَيَكُونُ لِلْغَنِيمَةِ ثُمَّ الْإِيَابِ. وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ بَعِيدَانِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ تُنَافِي الْقَوْلَ بِأَنَّهَا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَا يَرْتَفِعُ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ نَحْوَ سَقْيًا وَرَعْيًا وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الْمَدْحُ أَوِ التَّعَجُّبُ لِقُرْبِهِمَا مِنَ الْخَبَرِ دُونَ الدُّعَاءِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ الله. و (حطة) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ نَحْوَ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ وصبر جَمِيلٌ. وَالْخَطَايَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ وَلَامُهَا مَهْمُوزَةٌ فَقِيَاس جمعهَا خطائيء بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ فَعَائِلَ فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْهَمْزَتَانِ قُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِأَنَّ قَبْلَهَا كَسْرَةً أَوْ لِأَنَّ فِي الْهَمْزَتَيْنِ ثِقَلًا فَخَفَّفُوا الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا يَاءً ثُمَّ قَلَبُوهَا أَلِفًا إِمَّا لِاجْتِمَاعِ ثِقَلِ الْيَاءِ مَعَ ثِقَلِ صِيغَةِ الْجَمْعِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ جَائِيَ اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ جَائِي لِأَنَّ هَمْزَةَ جَائِي زَائِدَة وهمزة خطائيء أَصْلِيَّةٌ فَفَرُّوا بِتَخْفِيفِهِ إِلَى قَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فَعَلُوا فِي يَتَامَى وَوَجَدُوا لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّحِيحَةِ نَظِيرًا وَهُوَ طَهَارَى جَمْعُ طَاهِرَة. والخطيئة فعيلة بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ لِأَنَّهَا مَخْطُوءٌ بِهَا أَيْ مَسْلُوكٌ بِهَا

مَسْلَكَ الْخَطَأِ أَشَارُوا إِلَى أَنَّهَا فِعْلٌ يَحِقُّ أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ فَاعِلُهُ إِلَّا خَطَأً فَهِيَ الذَّنْبُ وَالْمَعْصِيَةُ. وَقَوْلُهُ: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وَعْدٌ بِالزِّيَادَةِ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ (نَزِيدُ) . وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ سَنَزِيدُ عَلَى جُمْلَةِ قُلْنَا ادْخُلُوا أَيْ وَقُلْنَا سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّ جُمْلَةَ سَنَزِيدُ حُكِيَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [161] مُسْتَأْنَفَةً فَعُلِمَ أَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ نَظِيرٍ لَهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَى مَعْنَى التَّرَقِّي فِي التَّفَضُّلِ فَلَمَّا حُكِيَتْ هُنَا عُطِفَتْ عَطْفَ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ. وَقَوْلُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أَيْ بَدَّلَ الْعَشَرَةُ الْقَوْلَ الَّذِي أُمِرَ مُوسَى بِإِعْلَانِهِ فِي الْقَوْمِ وَهُوَ التَّرْغِيبُ فِي دُخُولِ الْقَرْيَةِ وَتَهْوِينُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمْ: لَا تَسْتَطِيعُونَ قِتَالَهُمْ وَثَبَّطُوهُمْ وَلِذَلِكَ عُوقِبُوا فَأُنْزِلَ عَلَيْهِمْ رِجْزٌ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الطَّاعُونُ. وَإِنَّمَا جُعِلَ مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ أَرْضَى مِنْ عَدْوَى أَوْ نَحْوِهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ رَمَتْهُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنَ السَّمَاءِ بِأَنْ أُلْقِيَتْ عَنَاصِرُهُ وَجَرَاثِيمُهُ عَلَيْهِمْ فَأُصِيبُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلِأَجْلِ هَذَا خُصَّ التَّبْدِيلُ بِفَرِيقٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ وَبِتِلْكَ الصِّلَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ جَمِيعِ الْقَوْمِ أَوْ مُعْظَمِهِمْ لِأَنَّ الْآيَةَ تَذْكِيرٌ لِلْيَهُودِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ مِنْ حَوَادِثِهِمْ. وَإِنَّمَا جَاءَ بِالظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرِّجْزَ عَمَّ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِذَلِكَ تَنْطَبِقُ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ التَّوْرَاةُ تَمَامَ الِانْطِبَاقِ. وَتَبْدِيلُ الْقَوْلِ تَبْدِيلُ جَمِيعِ مَا قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَمَا حَدَّثَهُمُ النَّاسُ عَنْ حَالِ الْقَرْيَةِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى جَمِيعِ هَذَا بَنَى فِعْلَ قِيلَ إِلَى الْمَجْهُول إيجازا. فقولا مفعول أَو لِبَدَّلَ، وغَيْرَ الَّذِي قِيلَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَنَّ (بَدَّلَ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَى أَيْ مِمَّا دَلَّ عَلَى عَكْسِ مَعْنَى كَسَى مِثْلَ سَلَبَهُ ثَوْبَهُ. قَالَ أَبُو الشِّيصِ: بُدِّلْتُ مِنْ بُرْدِ الشَّبَابِ مُلَاءَةً ... خَلَقًا وَبِئْسَ مَثُوبَةُ الْمُقْتَاضِ وَفَائِدَةُ إِظْهَارِ لَفْظِ الْقَوْلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَبَدَّلُوهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا لَفْظَ حِطَّةٍ خَاصَّةً وَامْتَثَلُوا مَا عَدَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ هَيِّنًا.

[سورة البقرة (2) : آية 60]

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي بَدَّلُوا بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ أَوْ فِي شُعَيْرَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَن الْعشْرَة استهزؤا بِالْكَلَامِ الَّذِي أَعْلَنَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّرْغِيبِ فِي فَتْحِ الْأَرْضِ وَكَنَّوْا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مُحَاوَلَتَهُمْ فَتْحَ الْأَرْضِ كَمُحَاوَلَةِ رَبْطِ حَبَّةٍ بِشَعْرَةٍ أَيْ فِي التَّعَذُّرِ، أَوْ هُوَ كَأَكْلِ حَبَّةٍ مَعَ شَعْرَةٍ تَخْنُقُ آكِلَهَا، أَوْ حَبَّةٍ مِنْ بُرٍّ مَعَ شُعَيْرَةٍ. وَقَوْلُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَقَوْلُهُ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا اعْتَنَى فِيهِمَا بِالْإِظْهَارِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الرِّجْزَ خَصَّ الَّذِينَ بَدَّلُوا الْقَوْلَ وَهُمُ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ أَشَاعُوا مَذَمَّةَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا السَّبَبَ فِي شَقَاءِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ. وَفِي هَذَا مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ مَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِإِرْشَادِ قَوْمٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا يَأْتِي وَيَذَرُ وَعِلْمٍ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقًا، وَفِي الْمَثَلِ «عَلَى أَهْلِهَا تَجْنِي بَرَاقِشُ» وَهِيَ اسْمُ كَلْبَةِ قَوْمٍ كَانَتْ تَحْرُسُهُمْ بِاللَّيْلِ فَدَلَّ نَبْحُهَا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ فَضربت مثلا. [60] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى جَمَعَتْ ثَلَاثَ نِعَمٍ وَهِيَ الرِّيُّ مِنَ الْعَطَشِ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ كُبْرَى أَشَدُّ مِنْ نِعْمَةِ إِعْطَاءِ الطَّعَامِ وَلِذَلِكَ شَاعَ التَّمْثِيلُ بِرِيِّ الظَّمْآنِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَكَوْنُ السَّقْيِ فِي مَظِنَّةِ عَدَمِ تَحْصِيلِهِ وَتِلْكَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى وَكَرَامَةٌ لِأُمَّتِهِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَضْلًا لَهُمْ. وَكَوْنُ الْعُيُونِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لِيَسْتَقِلَّ كُلُّ سِبْطٍ بِمَشْرَبٍ فَلَا يَتَدَافَعُوا. وَقَوْلُهُ: وَإِذِ مُتَعَلق ب اذْكُرُوا وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى حَادِثَةٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلُوا فِي «رَفِيدِيمَ» قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى بَرِّيَّةِ سِينَا وَبَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ بَرِّيَّةِ سِينَ فِي حُدُودِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنَ الْخُرُوجِ عَطِشُوا وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَوْضِعِ مَاءٌ فَتَذَمَّرُوا عَلَى مُوسَى وَقَالُوا أَتُصْعِدُنَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ وَأَوْلَادُنَا وَمَوَاشِينَا عَطَشًا فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ صَخْرَةً هُنَاكَ فِي «حُورِيبَ» فَضَرَبَ فَانْفَجَرَ مِنْهَا الْمَاءُ. وَلَمْ تَذْكُرِ التَّوْرَاةُ أَنَّ الْعُيُونَ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا وَذَلِكَ التَّقْسِيمُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِمْ لِئَلَّا يَتَزَاحَمُوا مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَيَهْلِكُوا فَهَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ.

فَقَوْلُهُ: اسْتَسْقى مُوسى صَرِيحٌ فِي أَنَّ طَالِبَ السَّقْيِ هُوَ مُوسَى وَحْدَهُ، سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُشَارِكْهُ قَوْمُهُ فِي الدُّعَاءِ لِتَظْهَرَ كَرَامَتُهُ وَحْدَهُ، كَذَلِكَ كَانَ اسْتِسْقَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ لَمَّا قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ «هَلَكَ الزَّرْعُ وَالضَّرْعُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا» وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» . وَقَوْلُهُ: لِقَوْمِهِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مُوسَى لَمْ يُصِبْهُ الْعَطَشُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مُوقِنًا أَنَّ اللَّهَ حَافِظُهُمْ وَمُبْلِغُهُمْ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَلِذَلِكَ وَقَاهُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُ جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ وَكَلَلٌ وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ وِصَالِ الصَّوْمِ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» . قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» أَخَذَ الْمَازِرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازَ اسْتِسْقَاءِ الْمُخَصَّبِ لِلْمُجْدِبِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنَلْهُ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْعَطَشِ وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ رَسُولُهُمْ وَهُوَ مَعَهُمُ اهـ. وَهُوَ رَدُّ مُتَمَكِّنٍ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِاسْتِسْقَاءِ الْمُخَصَّبِ لِلْمُجْدِبِ الْأَشْخَاصَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اسْتِسْقَاءُ أَهْلِ بَلَدٍ لَمْ يَنَلْهُمُ الْجَدْبُ لِأَهْلِ بَلَدٍ مُجْدِبِينَ وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْمَازِرِيُّ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عِنْدَنَا وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ جَوَازَ اسْتِسْقَاءِ الْمُخَصَّبِ لِلْمُجْدِبِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَلِأَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَفْعَلُوهُ. وَعَصَا مُوسَى هِيَ الَّتِي أَلْقَاهَا فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ فَتَلَقَّفَتْ ثَعَابِينَ السَّحَرَةِ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ مُوسَى حِينَ كَلَّمَهُ اللَّهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا قَبْلَ دُخُولِهِ مِصْرَ وَقَدْ رُوِيَتْ فِي شَأْنِهَا أَخْبَارٌ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ فَقِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَجَرِ آسِ الْجَنَّةِ أَهْبَطَهَا آدَمُ مَعَهُ فَوَرِثَهَا مُوسَى وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لِعَدَّهُ مُوسَى فِي أَوْصَافِهَا حِينَ قَالَ: هِيَ عَصايَ [طه: 18] إِلَخْ فَإِنَّهُ أَكْبَرُ أَوْصَافِهَا. وَالْعَصَا بِالْقَصْرِ أَبَدًا وَمَنْ قَالَ عَصَاهُ بِالْهَاءِ فَقَدْ لَحَنَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ أَوَّلَ لَحْنٍ ظَهَرَ بِالْعِرَاقِ قَوْلُهُمْ عَصَاتِي. وَ (الْ) فِي (الْحَجَرِ) لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَيِ اضْرِبْ أَيَّ حَجَرٍ شِئْتَ، أَوْ لِلْعَهْدِ مُشِيرًا إِلَى حَجَرٍ عَرَفَهُ مُوسَى بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ حَجَرٌ صَخْرٌ فِي جَبَلِ حُورِيبَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهُ مُوسَى كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَانْفَجَرَتْ قَالُوا هِيَ فَاءُ الْفَصِيحَةِ وَمَعْنَى فَاءِ الْفَصِيحَةِ أَنَّهَا الْفَاءُ الْعَاطِفَةُ إِذْ لَمْ يَصْلُحِ الْمَذْكُورُ بَعْدَهَا لِأَنْ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَعْطُوفٍ

آخَرَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّكَّاكِيِّ فِيهَا وَهِيَ الْمُثْلَى. وَقيل: إِنَّهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَالْفَاءُ فَاءُ الْجَوَابِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ وَيَشْمَلُهَا اسْمُ فَاءِ الْفَصِيحَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَتَسْمِيَتُهَا بِالْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا أَفْصَحَتْ عَنْ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ وَفِي مِثْلِ قَوْلِ عَبَّاسِ بن الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا أَيْ إِنْ كَانَ الْقُفُولُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى خُرَاسَانَ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَ أَيْ فَلْنَقْفِلْ فَقَدْ جِئْنَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْفَاءَ لَا تُعَدُّ فَاءً فَصِيحَةً إِلَّا إِذَا لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فَإِذَا اسْتَقَامَ فَهِيَ الْفَاءُ الْعَاطِفَةُ وَالْحَذْفُ إِيجَازٌ وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ لِبَيَانِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْفِجَارَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ لِظُهُورِ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ مِمَّنْ يُشَكُّ فِي امْتِثَالِهِ بَلْ وَلِظُهُورِ أَنَّ كُلَّ سَائِلٍ أَمْرًا إِذَا قِيلَ لَهُ افْعَلْ كَذَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ هُوَ الَّذِي فِيهِ جَوَابُهُ كَمَا يَقُولُ لَكَ التِّلْمِيذُ مَا حُكْمُ كَذَا؟ فَتَقُولُ افْتَحْ كِتَابَ «الرِّسَالَةِ» فِي بَابِ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى الْآتِي: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَة: 61] وَأَمَّا تَقْدِيرُ الشَّرْطِ هُنَا أَيْ فَإِنْ ضَرَبْتَ فَقَدِ انْفَجَرَتْ إِلَخْ فَغَيْرُ بَيِّنٍ، وَمِنَ الْعَجَبِ ذِكْرُهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَوْلُهُ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ قَالَ الْعُكْبَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ: إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، وَهُمَا يُرِيدَانِ الِاسْتِئْنَافَ الْبَيَانِيَّ وَلِذَلِكَ فَصَلَ، كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ سَبَبِ انْقِسَامِ الِانْفِجَارِ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا فَقِيلَ قَدْ عَلِمَ كُلُّ سِبْطٍ مَشْرَبَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ حَالٌ جُرِّدَتْ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ يَعْقِلُونَ الْقِصَّةَ فَلَا مَعْنًى لِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ. وَالْمُرَادُ بِالْأُنَاسِ كُلُّ نَاسٍ سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ. وَقَوْلُهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عَلَى السَّقْيِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَقِيلَ هُنَالِكَ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 57] فَلَمَّا شَفَعَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ اجْتَمَعَ الْمِنَّتَانِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ لَهُمْ وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّ النِّعْمَةَ قَدْ تُنْسِي الْعَبْدَ حَاجَتَهُ إِلَى الْخَالِقِ فَيَهْجُرُ الشَّرِيعَةَ فَيَقَعُ فِي الْفَسَادِ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] . وَلا تَعْثَوْا مُضَارِعُ عَثِيَ كَرَضِيَ، وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَهِيَُُ

[سورة البقرة (2) : آية 61]

الْفُصْحَى فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا بِوَزْنِ لَا تَرْضَوْا وَمَصْدَرُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِوَزْنِ رِضًى وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَ لَهُ فِي «اللِّسَانِ» مَصَادِرَ الْعُثِيَّ وَالْعِثِيَّ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا مَعَ كَسْرِ الثَّاءِ فِيهِمَا وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِيهِمَا، وَالْعَثَيَانَ بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي لُغَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ عَثَا يَعْثُو مِثْلَ سَمَا يَسْمُو وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ: وَلا تَعْثَوْا بِضَمِّ الثَّاءِ. وَهُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ وَقِيلَ: هُوَ الْفَسَادُ مُطْلَقًا وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مُفْسِدِينَ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِعَامِلِهَا. وَفِي «الْكَشَّافِ» جَعَلَ مَعْنَى لَا تَعْثَوْا لَا تَتَمَادَوْا فِي فَسَادِكُمْ فَجَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الدَّوَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَكَأَنَّهُ يَأْبَى صِحَّةَ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَحَاوَلَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ لَا تَعْثَوْا وَبَيْنَ مُفْسِدِينَ تَجَنُّبًا لِلتَّأْكِيدِ وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ لَكِن كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ خَالَفَ ذَلِكَ، وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ التَّفْصِيلَ فَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْحَالِ هُوَ مَعْنَى الْعَامِلِ جَعَلَهَا شَبِيهَةً بِالْمُؤَكِّدَةِ لِصَاحِبِهَا كَمَا هُنَا وَخَصَّ الْمُؤَكِّدَةَ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الِاسْمِيَّةِ نَحْوَ زَيْدٌ أَبُوكَ عَطُوفًا وَقَوْلِ سَالِمِ بْنِ دَارَةَ الْيَرْبُوعِيِّ: أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ [61] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ قَبْلَهَا هُوَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ مَحْضَةً أَوْ مَخْلُوطَةً بِسُوءِ شُكْرِهِمْ وَبِتَرَتُّبِ النِّعْمَةِ عَلَى ذَلِكَ الصَّنِيعِ بِالْعَفْوِ وَنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نِعْمَةً أَيْضًا. وَلِلْمُفَسِّرِينَ حَيْرَةٌ فِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفَخْرِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ هُوَ كَالْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ يَعْنِي وَالْإِجَابَةُ إِنْعَامٌ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى دُخُولِ قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ إِعْطَاءَهُمْ مَا سَأَلُوهُ لَمْ يَثْبُتْ وُقُوعُهُ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِي صَدَّرَ الْفَخْرُ بِنَقْلِهِ وَوَجَّهَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ أَنَّ سُؤَالَهُمْ تَعْوِيضَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِالْبَقْلِ وَنَحْوِهِ مَعْصِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كَرَاهَةِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ إِذْ عَبَّرُوا عَنْ تَنَاوُلِهَاُُ

بِالصَّبْرِ- وَالصَّبْرُ هُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ- وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى فَيَكُونُ مَحَلُّ النِّعْمَةِ هُوَ الصَّفْحَ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَالتَّنَازُعَ مَعَهُمْ إِلَى الْإِجَابَةِ بِقَوْلِهِ: اهْبِطُوا وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ اهْبِطُوا إِنْعَامٌ عَلَيْهِمْ وَلَا فِي سُؤَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَصَوْا لِأَنَّ طَلَبَ الِانْتِقَالِ مِنْ نِعْمَةٍ لِغَيْرِهَا لِغَرَضٍ مَعْرُوفٍ لَا يُعَدُّ مَعْصِيَةً كَمَا بَيَّنَهُ الْفَخْرُ. فَالَّذِي عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الْمُعْقَبَةِ بِنِعَمٍ أُخْرَى إِلَى بَيَان سوى اخْتِيَارِهِمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ وَالِاخْتِيَارُ دَلِيلُ عَقْلِ اللَّبِيبِ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَارُ مُبَاحًا، مَعَ مَا فِي صِيغَةِ طَلَبِهِمْ مِنَ الْجَفَاءِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ وَمَعَ الْمُنْعِمِ إِذْ قَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ فَعَبَّرُوا عَنْ تَنَاوُلِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِالصَّبْرِ الْمُسْتَلْزِمِ الْكَرَاهِيَةَ وَأَتَوْا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (لَنْ) فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مِنَ الْآنَ فَإِنَّ (لَنْ) تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ لِأَزْمِنَةِ فِعْلِ نَصْبِرَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَهُوَ مَعْنَى التَّأبِيدِ وَفِي ذَلِكَ إِلْجَاءٌ لِمُوسَى أَنْ يُبَادِرَ بِالسُّؤَالِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ أَيْأَسُوهُ مِنْ قَبُولِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بَعْدَ ذَلِكَ الْحِينِ فَكَانَ جَوَابُ اللَّهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الطَّلِبَةِ أَنْ قَطَعَ عِنَايَتَهُ بِهِمْ وَأَهْمَلَهُمْ وَوَكَلَهُمْ إِلَى نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يُرِهِمْ مَا عَوَّدَهُمْ مِنْ إِنْزَالِ الطَّعَامِ وَتَفْجِيرِ الْعُيُونِ بَعْدَ فَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ بَلْ قَالَ لَهُمُ: اهْبِطُوا مِصْراً فَأَمَرَهُمْ بِالسَّعْيِ لِأَنْفُسِهِمْ وَكَفَى بِذَلِكَ تَأْدِيبًا وَتَوْبِيخًا. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ جَهْلِ الْمُرِيدِ أَنْ يُسِيءَ الْأَدَبَ فَتُؤَخَّرَ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَوْ كَانَ فِي هَذَا إِسَاءَةٌ لَعُوقِبْتُ فَقَدْ يُقْطَعُ الْمَدَدُ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَنْعُ الْمَزِيدِ، وَقَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْبُعْدِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ يُخَلِّيَكَ وَمَا تُرِيدُ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ إِلَى بَيَانِ تَلَقِّيهِمْ لَهَا بِالِاسْتِخْفَافِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ انْقِلَابِ أَحْوَالِهِمْ وَأَسْبَابِ خِذْلَانِهِمْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي كَوْنِ السُّؤَالِ مَعْصِيَةً فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ وَحِرْمَانَ الْفَضَائِلِ لَيْسَتْ مِنْ آثَارِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَلَكِنَّهَا مِنْ أَشْبَاهِ خِطَابِ الْوَضْعِ تَرْجِعُ إِلَى تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَذَلِكَ مِنْ نَوَامِيسِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً هُوَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ وَبِهَذَا زَالَتِ الْحَيْرَةُ وَانْدَفَعَ كُلُّ إِشْكَالٍ وَانْتَظَمَ سِلْكُ الْكَلَامِ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى قِصَّةٍ ذَكَرَتْهَا التَّوْرَاةُ مُجْمَلَةً مُنْتَثِرَةً وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَحَلُوا مِنْ بَرِّيَّةِ سِينَا مِنْ «حُورِيبَ» وَنَزَلُوا فِي بَرِّيَّةِ «فَارَانَ» فِي آخِرِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْخُرُوجِ سَائِرِينَ إِلَى جِهَاتِ «حَبْرُونَ» فَقَالُوا: تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ

مَجَّانًا (أَيْ يَصْطَادُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ) وَالْقِثَّاءَ وَالْبِطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ وَقَدْ يَبِسَتْ نفوسنا فَلَا ترى إِلَّا هَذَا الْمَنَّ فَبَكَوْا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَأَلَهُ مُوسَى الْعَفو فعنا عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ السَّلْوَى فَادَّخَرُوا مِنْهَا طَعَامَ شَهْرٍ كَامِلٍ. وَالتَّعْبِيرُ بِلَنِ الْمُفِيدَةِ لِتَأْبِيدِ النَّفْيِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَدَاءِ مَعْنَى كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ هُنَا فِي شِدَّةِ الضَّجَرِ وَبُلُوغِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْهُمْ حَدَّهَا الَّذِي لَا طَاقَةَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ التَّأْبِيدَ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ النَّفْيِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَبَدِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فَلَنْ فِي نَفْيِ الْأَفْعَالِ مِثْلُ لَا التَّبْرِئَةِ (¬1) فِي نَفْيِ النَّكِرَاتِ. وَوَصَفُوا الطَّعَامَ بِوَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ شَيْئَيْنِ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُتَكَرِّرٌ كُلَّ يَوْمٍ. وَجُمْلَةُ يُخْرِجْ لَنا إِلَى آخِرِهَا هِيَ مَضْمُونُ مَا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فَهِيَ فِي مَعْنَى مَقُولِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ قُلْ لِرَبِّكَ يُخْرِجْ لَنَا وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ أَنْ يُخْرِجَ لَنَا فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مَجْزُومٍ فِي صُورَةِ جَوَابِ طَلَبِهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُ إِنْ دَعَا رَبَّهُ أَجَابَهُ حَتَّى كَأَنَّ إِخْرَاجَ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ دُعَاءِ مُوسَى رَبَّهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ تُكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 31] . وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: 53] وَهُوَ كَثِيرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَرط وَجَزَاء كَأَن قِيلَ إِنْ تَدْعُ رَبَّكَ بِأَنْ يُخْرِجَ لَنَا يُخْرِجْ لَنَا، وَهَذَا بِتَنْزِيلِ سَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ فَجَزَمَ الْفِعْلَ الْمَطْلُوبَ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ بِطَلَبِهِ لِلَّهِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لِثِقَتِهِمْ بِإِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَةَ مُوسَى، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى إِيجَادِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ كَأَنَّهُ أَمْرٌ فِي مُكْنَتِهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ شَحَّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ. وَالْإِخْرَاجُ: الْإِبْرَازُ من الأَرْض، و (مِنَ) الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ أَوِ الثَّانِيَةُ أَيْضًا تَبْعِيضِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ جَمِيعَ الْبَقْلِ بَلْ بَعْضَهُ، وَفِيهِ تَسْهِيلٌ عَلَى الْمَسْئُولِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ بَقْلِها حَالًا مِنْ (مَا) أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ (مَا تُنْبِتُ) بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَنِ الْحسن: كَانُوا قوما فِلَاحَةٍ فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ (¬2) . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْفُومِ فَقِيلَ: هُوَ الثُّومُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَإِبْدَالُ الثَّاءِ فَاءً شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قَالُوا: جَدَثٌ وَجَدَفٌ وَثَلَغٌ وَفَلَغٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُوَافِقُ لِمَا عُدَّ مَعَهُ وَلِمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ الْفُومُ الْحِنْطَةُ وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ لَأُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ: قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... وَرَدَ الْمَدِينَةِ مِنْ مَزَارِعِ فُومُُِ ¬

(¬1) هِيَ النافية للْجِنْس، المفيدة لاستغراق النَّفْي جَمِيع أَفْرَاد الْجِنْس. (¬2) العكر- بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْكَاف- الأَصْل.

(يُرِيدُ مَزَارِعَ الْحِنْطَةِ) وَقِيلَ الْفُومُ الْحِمَّصُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَوْلُهُ: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ هُوَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُ جَرَّدَهُ عَنِ الْمُقْنِعَاتِ وَعَنِ الزَّجْرِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّعَجُّبُ فَالتَّوْبِيخُ. وَفِي الِاسْتِبْدَالِ لِلْخَيْرِ بِالْأَدْنَى النِّدَاءُ بِنِهَايَةِ حَمَاقَتِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ. وَقَوْلُهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ السِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِتَأْكِيدِ الْحَدَثِ وَلَيْسَ لِلطَّلَبِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: 6] وَقَوْلُهُمُ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، وَاسْتَكْبَرَ بِمَعْنَى تَكَبَّرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [7] . وَفِعْلُ اسْتَبْدَلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَدَلِ بِالتَّحْرِيكِ مِثْلَ شَبَهٍ، وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ مِثْلَ شِبْهٍ وَيُقَالُ بَدِيلٌ مِثْلُ شَبِيهٍ وَقَدْ سُمِعَ فِي مُشْتَقَّاتِهِ اسْتَبْدَلَ وَأَبْدَلَ وَبَدَّلَ وَتَبَدَّلَ وَكُلُّهَا أَفْعَالٌ مَزِيدَةٌ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَكَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِهَذِهِ الْمَزِيدَةِ عَنِ الْمُجَرَّدِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [2] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَنَّ اسْتَبْدَلَ هُوَ أَصْلُهَا وَأَكْثَرُهَا وَأَنَّ تَبَدَّلَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ «لِقَوْلِهِ وَالتَّفَعُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْعَالِ غَزِيرٌ وَمِنْهُ التَّعَجُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ وَالتَّأَخُّرُ بِمَعْنَى الِاسْتِئْخَارِ» . وَجَمِيعُ أَفْعَالِ مَادَّةِ الْبَدَلِ تَدُلُّ عَلَى جَعْلِ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ آخَرَ مِنَ الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوْ عَنْ تَعْوِيضِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنَ الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ. وَلما كَانَ هَذَا مَعْنَى الْحَدَثِ الْمَصُوغِ مِنْهُ الْفِعْلُ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ تَعْدِيَةً إِلَى مُتَعَلِّقَيْنِ إِمَّا عَلَى وَجْهِ الْمَفْعُولِيَّةِ فِيهِمَا مَعًا مِثْلَ تَعَلُّقِ فِعْلِ الْجَعْلِ، وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ الْمَفْعُولِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْجَرِّ لِلْآخَرِ مِثْلَ مُتَعَلَّقَيْ أَفْعَالِ التَّعْوِيضِ كَاشْتَرَى وَهَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ، فَإِذَا تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ نَحْوَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: 48] كَانَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُزَالَ وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي يَخْلُفُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفرْقَان: 70] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَقَوْلِهِمْ أَبْدَلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمًا، وَإِذْ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَتَعَدَّتْ إِلَى الْآخَرِ بِالْبَاءِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فَالْمَنْصُوبُ هُوَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَبْذُولُ نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَقَوْلِهِ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ

سَواءَ السَّبِيلِ [الْبَقَرَة: 108] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَقَدْ يُجَرُّ الْمَعْمُول الثَّانِي بِمن الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى بَاءِ الْبَدَلِيَّةِ كَقَوْلِ أَبِي الشِّيصِ: بُدِّلْتُ مِنْ مُرْدِ الشَّبَابِ مُلَاءَةً ... خَلَقًا وَبِئْسَ مَثُوبَةُ الْمُقْتَاضِ وَقَدْ يُعْدَلُ عَنْ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُعَوَّضِ وَيُعَدَّى إِلَى آخِذِ الْعِوَضِ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ أَعْطَى فَيَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ وَيُنَبِّهُ عَلَى الْمَتْرُوكِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ مِنْ كَذَا، وَبَعْدَ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: 55] التَّقْدِيرُ لِيُبَدِّلَنَّ خَوْفَهُمْ أَمْنًا هَذَا تَحْرِيرُ طَرِيقِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ بَدَّلَ لَهُ اسْتِعْمَالٌ غَيْرَ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ اسْتَبْدَلَ وَتَبَدَّلَ بِأَنَّهُ إِذَا عُدِّيَ إِلَى الْمَعْمُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ كَانَ مَدْخُولُ الْبَاءِ هُوَ الْمَأْخُوذَ وَكَانَ الْمَنْصُوبُ هُوَ الْمَتْرُوكَ وَالْمُعْطِيَ فَقَرَّرَهُ الْقُطْبُ فِي «شَرْحِهِ» بِمَا ظَاهِرُهُ أَنَّ بَدَّلَ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى تَعْدِيَتِهِ إِلَّا مُخَالِفًا لِتَبَدَّلَ واستبدل، وَقَررهُ التفتازانيّ بِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَيْنِ إِذَا تَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ أَحَدُهُمَا يُوَافِقُ اسْتِعْمَالَ تَبَدَّلَ وَالْآخَرُ بِعَكْسِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَدَّلَ وَتَبَدَّلَ وَاسْتَبْدَلَ وَأَنَّ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» مُشْكِلٌ وَحَسْبُكَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَا فِي كَلَامِهِ نَفْسِهِ فِي كِتَابِ «الْأَسَاسِ» . فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا لِلْإِبَاحَةِ الْمَشُوبَةِ بِالتَّوْبِيخِ أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا هَمَّكُمْ فَاهْبِطُوا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَالْمَعْنَى اهْبِطُوا مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ يَعْنِي وَفِيهِ إِعْرَاضٌ عَنْ طَلَبِهِمْ إِذْ لَيْسَ حَوْلَهُمْ يَوْمَئِذٍ بَلَدٌ قَرِيبٌ يَسْتَطِيعُونَ وُصُولَهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ اهْبِطُوا مِصْرَ أَيْ بَلَدَ مِصْرَ بَلَدَ الْقِبْطِ أَيِ ارْجِعُوا إِلَى مِصْرَ الَّتِي خَرَجْتُمْ مِنْهَا وَالْأَمْرُ لِمُجَرَّدِ التَّوْبِيخِ إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى مِصْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِصْرَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْبُقْعَةِ فَيَكُونُ فِيهِ الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَكَانِ أَوْ لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطِ مِثْلَ هِنْدٍ فَهُوَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِدُونِ تَنْوِينٍ وَأَنَّهُ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِدُونِ أَلِفٍ وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِدُونِ أَلِفٍ فِي بَعْضِ مَصَاحِفِ عُثْمَانَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَشْهَبَ قَالَ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ عِنْدِي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مسكن فِرْعَوْن اهـ. وَيَكُونُ قَوْلُ مُوسَى لَهُمُ: اهْبِطُوا مِصْراً أَمْرًا قُصِدَ مِنْهُ التَّهْدِيدُ عَلَى تَذَكُّرِهِمْ أَيَّامَ ذُلِّهِمْ وَعَنَائِهِمْ وَتَمَنِّيهِمُ الرُّجُوعَ لِتِلْكَ الْمَعِيشَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمُ ارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ إِذْ لَمْ تَقْدِرُواُُ

قَدْرَ الْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَرُبَّمَا كَانَ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا دُونَ لِنَهْبِطْ مُؤْذِنًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِدْخَالَ نَفْسِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَهَذَا يُذَكِّرُ بِقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: فَإِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ عَامَكُمْ ... فَعُودُوا إِلَى حِمْصَ فِي الْقَابِلِ وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عطفت جملَة فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ عَلَى جُمْلَةِ اهْبِطُوا لِلدِّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ سُؤْلِهِمْ بِمُجَرَّدِ هُبُوطِهِمْ مِصْرَ أَوْ لَيْسَتْ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ إِذْ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالْهُبُوطِ بِمُحْتَاجٍ إِلَى التَّعْلِيلِ بِمِثْلِ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقَامِ تَرْغِيبٍ فِي هَذَا الْهُبُوطِ حَتَّى يُشَجِّعَ الْمَأْمُورَ بِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَدَمَ إِرَادَةِ التَّعْلِيلِ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ التَّعْلِيلُ لَكَانَتْ إِنَّ مُغْنِيَةً غَنَاءَ الْفَاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْفَصْلِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ فُصُولٍ شَتَّى فِي النَّظْمِ إِذْ يَقُولُ: وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْه أَي الَّذِي فِي قَوْلِ بَشَّارٍ: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ أَنْ تُغْنِيَ غَنَاءَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ مَثَلًا وَأَنْ تُفِيدَ مِنْ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَمْرًا عَجِيبًا فَأَنْتَ تَرَى الْكَلَامَ بِهَا مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُسْتَأْنَفٍ مَقْطُوعًا مَوْصُولًا مَعًا- وَقَالَ- إِنَّكَ تَرَى الْجُمْلَةَ إِذَا دَخَلَتْ إِنَّ تَرْتَبِطُ بِمَا قَبِلَهَا وَتَأْتَلِفُ مَعَهُ حَتَّى كَأَنَّ الْكَلَامَيْنِ أُفْرِغَا إِفْرَاغًا وَاحِدًا حَتَّى إِذَا أُسْقِطَتْ إِنَّ رَأَيْتَ الثَّانِيَ مِنْهُمَا قَدْ نَبَا عَنِ الْأَوَّلِ وَتَجَافَى مَعْنَاهُ عَنْ مَعْنَاهُ حَتَّى تَجِيءَ بِالْفَاءِ فَتَقُولُ مَثَلًا: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قبل الهجير ... إِن ذَاك النجاح فِي التَّبْكِيرِ ثُمَّ لَا تَرَى الْفَاءَ تُعِيدُ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَى مَا كَانَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَهَذَا الضَّرْبُ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ جِدًّا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَج: 1] وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: 17] وَقَالَ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَة: 103] إِلَخْ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ وُجُودَ إِنَّ فِي الْجُمْلَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّعْلِيلُ وَالرَّبْطُ مُغْنٍ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفَاءِ، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَاءِ حِينَئِذٍ لَا يُنَاسِبُ الْكَلَامَ الْبَلِيغَ إِذْ هُوَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ فَإِذَا وَجَدْنَا الْفَاءَ مَعَ إِنَّ عَلِمْنَا أَنَّ الْفَاءَ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ وَإِنَّ لِإِرَادَةِ التَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ. وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَوَاقِعَ التَّعْلِيلِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مَعْنَاهُ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ كَالْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا.

وَجَعَلَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» جُمْلَةَ فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ جَوَابًا لِلْأَمْرِ زعم أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يُجَابُ بِالْفِعْلِ يُجَابُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ ضَعِيفٌ هَاهُنَا لِعَدَمِ قَصْدِ التَّرْغِيبِ فِي هَذَا الْهُبُوطِ حَتَّى يُعَلَّلَ أَوْ يُعَلَّقَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ غَضَبٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاقْتِرَانُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِمَا سَأَلُوهُ حَتَّى يَشُكُّونَ هَلْ يَجِدُونَهُ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِمْ، وَالْمُحِبُّ بِسُوءِ الظَّنِّ مُغْرًى. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْوَاوِ وَبِدُونِ إِعَادَةِ إِذْ، فَأَمَّا عَطْفُهُ فَلِأَنَّ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ لَهَا مَزِيدُ الِارْتِبَاطِ بِالْجُمَلِ قَبْلَهَا إِذْ كَانَتْ فِي مَعْنَى النَّتِيجَةِ وَالْأَثَرِ لِمَدْلُولِ الْجُمَلِ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الْبَقَرَة: 49] فَإِنَّ مَضْمُونَ تِلْكَ الْجُمَلِ ذِكْرُ مَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةِ تَحْرِيرِهِمْ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ إِيَّاهُمْ وَسَوْقِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَهُمْ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نِعْمَتَيِ التَّحْرِيرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّجَاعَةِ طَوْعَ يَدِهِمْ لَوْ فَعَلُوا فَلَمْ يُقَدِّرُوا قَدْرَ ذَلِكَ وَتَمَنَّوُا الْعَوْدَ إِلَى الْمَعِيشَةِ فِي مِصْرَ إِذْ قَالُوا لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ كَمَا فَصَّلْنَاهُ لَكُمْ هُنَالِكَ مِمَّا حَكَتْهُ التَّوْرَاةُ وَتَقَاعَسُوا عَنْ دُخُولِ الْقَرْيَةِ وَجَبُنُوا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ كَمَا أَشَارَتْ لَهُ الْآيَةُ الْمَاضِيَةُ وَفَصَّلَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَلَا جَرَمَ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ وَلَمْ يُقَدِّرُوهَا أَنْ تُنْتَزَعَ مِنْهُمْ وَيُسْلَبُوهَا وَيُعَوَّضُوا عَنْهَا بِضِدِّهَا وَهُوَ الذِّلَّةُ الْمُقَابِلَةُ لِلشَّجَاعَةِ إِذْ لَمْ يَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَالْمَسْكَنَةُ وَهِيَ الْعُبُودِيَّةُ فَتَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً مَسَاقَ الْمُجَازَاةِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فَهَذَا وَجْهُ الْعَطْفِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ فَلِيَكُونَ خَبَرًا مَقْصُودًا بِذَاتِهِ وَلَيْسَ مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِ مُوسَى لَهُمْ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ فَإِنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ هُوَ إِظْهَارُ آثَارِهَا الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا كَإِظْهَارِ النَّصْرِ لِلْحَقِّ بِنِعْمَةِ الشَّجَاعَةِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ بِنِعْمَةِ الْكَرَمِ وَتَثْقِيفِ الْأَذْهَانِ بِنِعْمَةِ الْعِلْمِ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعْمَةَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ تُسْلَبَ عَنْهُ وَيُعَوَّضَ بِضِدِّهَا قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ [سبأ: 16] الْآيَةَ، وَلَوْ عَطَفَ بِغَيْرِ الْوَاوِ لَكَانَ ذِكْرُهُ تَبَعًا لِذِكْرِ سَبَبِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ مَا يُنَبِّهُ الْبَالَ.

فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ... وَباؤُ إِلَخْ عَائِدَةٌ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا إِلَى خُصُوصِ الَّذِينَ أَبَوْا دُخُولَ الْقَرْيَةِ وَالَّذِينَ قَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيئِينَ هُمْ أَبْنَاءُ الَّذِينَ أَبَوْا دُخُولَ الْقَرْيَةِ وَقَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ فَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ هُنَا جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَيْسَ قَوْلُهُ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ إِلَخْ مِنْ بَقِيَّةِ جَوَابِ مُوسَى إِيَّاهُمْ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ شُمُولِهِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمُ الْآبِينَ دُخُولَ الْقَرْيَةِ وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ فَقَدْ جَاءَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَلَى أَصْلِهِ، أَمَّا شُمُولُهُ لِلْمُخَاطَبِينَ فَإِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ وَهُوَ لُزُومُ تَوَارُثِ الْأَبْنَاءِ أَخْلَاقَ الْآبَاءِ وَشَمَائِلَهُمْ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي وَجْهِ الْخِطَابَاتِ الْمَاضِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَة: 50] الْآيَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ الْآتِي بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ لِلْآخَرِ. وَالضَّرْبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْتِقَاءِ ظَاهِرِ جِسْمٍ بِظَاهِرِ جِسْمٍ آخَرَ بِشِدَّةٍ، يُقَالُ ضَرَبَ بِعَصًا وَبِيَدِهِ وَبِالسَّيْفِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ إِذَا أَلْصَقَهَا بِهَا، وَتَفَرَّعَتْ عَنْ هَذَا مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى شِدَّةِ اللُّصُوقِ. فَمِنْهُ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ: سَارَ طَوِيلًا، وَضَرَبَ قُبَّةً وَبَيْتًا فِي مَوْضِعِ كَذَا بِمَعْنَى شَدَّهَا وَوَثَّقَهَا مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ: إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجِرَةٌ وَقَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ: فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَضَرَبَ الطِّينَ عَلَى الْحَائِطِ أَلْصَقَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [الْبَقَرَة: 26] . فَقَوْلُهُ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شُبِّهَتِ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فِي الْإِحَاطَةِ بِهِمْ وَاللُّزُومِ بِالْبَيْتِ أَوِ الْقُبَّةِ يَضْرِبُهَا السَّاكِنُ لِيَلْزَمَهَا وَذِكْرُ الضَّرْبِ تَخْيِيلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ فِي عَلَائِقِ الْمُشَبَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضُرِبَتِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَكْنِيَّةً بِأَنْ شَبَّهَ لُزُومَ الذِّلَّةِ لَهُمْ وَلُصُوقَهَا بِلُصُوقِ الطِّينِ بِالْحَائِطِ، وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ أَنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ فِي التَّشْبِيهِ هُوَ الْحَدَثُ وَالْوَصْفُ لَا الذَّاتُ بِمَعْنَى أَنَّ جَرَيَانَ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْفِعْلِ لَيْسَ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ تَابِعًا لِفَاعِلٍ كَمَا فِي التَّخْيِيلِيَّةِ بَلْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ حَدَثًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ أُجْرِيَتْ فِي الْفِعْلِ تَبَعًا لِجَرَيَانِهَاُُ

فِي الْمَصْدَرِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ جَعْلِ ضُرِبَتْ تَخْيِيلًا وَجَعْلِهِ تَبَعِيَّةً وَهِيَ طَرِيقَةٌ فِي الْآيَةِ سَلَكَهَا الطَّيِّبِيُّ فِي شَرْحِ الْكَشَّاف وَخَالفهُ التفتازانيّ وَجَعَلَ الضَّرْبَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْقُبَّةَ أَوِ الطِّينَ، وَهُمَا احْتِمَالَانِ مَقْصُودَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْعُرُ بِهِمَا الْبُلَغَاءُ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ: إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ (¬1) لِأَنَّ الْقُبَّةَ فِي الْآيَةِ مُشَبَّهٌ بِهَا وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ وَالْقُبَّةُ فِي الْبَيْتِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فَالْآيَةُ اسْتِعَارَةٌ وَتَصْرِيحٌ وَالْبَيْتُ حَقِيقَةٌ وَكِنَايَةٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الطَّيِّبِيّ وَجعل التفتازانيّ الْآيَةَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الِاسْتِعَارَةِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْيَهُودِ أَذِلَّاءَ مُتَصَاغِرِينَ وَهِيَ نُكَتٌ لَا تَتَزَاحَمُ. وَالذِّلَّةُ الصَّغَارُ وَهِيَ بِكَسْرِ الذَّالِ لَا غَيْرَ وَهِيَ ضِدَّ الْعِزَّةِ وَلِذَلِكَ قَابَلَ بَيْنَهُمَا السَّمَوْأَلُ أَوِ الْحَارِثِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ وَالْمَسْكَنَةُ الْفَقْرُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّ الْفَقْرَ يُقَلِّلُ حَرَكَةَ صَاحِبِهِ. وَتُطْلَقُ عَلَى الضَّعْفِ وَمِنْهُ الْمِسْكِينُ لِلْفَقِيرِ. وَمَعْنَى لُزُومِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ لِلْيَهُودِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا الْبَأْسَ وَالشَّجَاعَةَ وَبَدَا عَلَيْهِمْ سِيمَا الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ مَعَ وَفْرَةِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَئِمُوهَا صَارَتْ لَدَيْهِمْ كَالْعَدَمِ وَلِذَلِكَ صَارَ الْحِرْصُ لَهُمْ سَجِيَّةً بَاقِيَةً فِي أَعْقَابِهِمْ. وَالْبَوْءُ الرُّجُوعُ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِانْقِلَابِ الْحَالَةِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ إِلَى غَضَبِهِ. ¬

(¬1) الْبَيْت لزياد الْأَعْجَم من قصيدة فِي عبد الله بن الحشرج الْقَيْسِي أَمِير نيسابور لبني أُميَّة وَكَانَ عبد الله جوادا سيدا، وَقَول زِيَاد فِي قبَّة كِنَايَة عَن نِسْبَة الْكَرم إِلَى عبد الله وَإِن لم تكن لعبد الله قبَّة لَكِن مَعَ جَوَاز أَن تكون لَهُ قبَّة على قَاعِدَة الْكِنَايَة. أما الْآيَة فمبنية على تَشْبِيه الذلة بالقبة فالقبة ممتنعة الْحُصُول لِأَن الْمُشبه بِهِ لَا يكون وَاقعا.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَثَارَهُ مَا شَنَّعَ بِهِ حَالُهُمْ مِنْ لُزُومِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ لَهُمْ وَالْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ. وَأَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ وَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِرُؤْبَةَ: إِنْ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ فَقُلْ كَأَنَّهَا وَإِنْ أَرَدْتَ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ فَقُلْ كَأَنَّهُمَا فَقَالَ رُؤْبَةُ: «أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ وَيْلَكَ» وَإِنَّمَا كَانَ مَا فِي الْآيَةِ أَوْلَى بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَالْغَضَبَ مِمَّا لَا يُشَاهَدُ فَلَا يُشَارُ إِلَى ذَاتِهَا وَلَكِنْ يُشَارُ إِلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَيْ مَذْكُورٌ وَمَقُولٌ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمرَان: 58] أَيْ ذَلِكَ الْقَصَصُ السَّابِقُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 68] وَسَيَأْتِي. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (¬1) «وَالَّذِي حَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ لَيْسَتْ تَثْنِيَتُهَا وَجَمْعُهَا وَتَأْنِيثُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ الْمَوْصُولَاتُ وَلِذَلِكَ جَاءَ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ» اهـ قِيلَ أَرَادَ بِهِ أَنَّ جَمْعَ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَتَثْنِيَتَهَا لَمْ يَكُنْ بِزِيَادَةِ عَلَامَاتٍ بَلْ كَانَ بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ فَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهَا فِي مَعْنَى بَعْضٍ أَسْهَلَ إِذَا كَانَ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ قَلِيلُ الْجَدْوَى لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالْمَجَازِ سَوَاءٌ كَانَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي مَعْنَى آخَرَ أَوْ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةٍ فِي مَعْنَى أُخْرَى فَلَا حُسْنَ يَخُصُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِيمَا يَظْهَرُ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَا مَوْضُوعٌ لِجِنْسٍ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ. وَالَّذِي مَوْضُوعٌ لِجِنْسٍ مَا عُرِفَ بِصِلَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْإِطْلَاقِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَإِنَّ مَا يَقَعُ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولَاتِ لِلْمُثَنَّى نَحْوَ ذَانِ وَلِلْجَمْعِ نَحْوَ أُولَئِكَ، إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ لَا أَنَّهُ تَثْنِيَةُ مُفْرَدٍ، وَجَمْعُ مُفْرَدٍ، فَذَا يُشَارُ بِهِ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَلَا عَكْسَ فَلِذَلِكَ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ الْمُفْرَدِ مِنْهَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ سَبَبِيَّةٌ أَيْ أَنَّ كُفْرَهُمْ وَمَا مَعَهُ كَانَ سَبَبًا لِعِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِغَضَبِ اللَّهِ وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ مَا وَقَعُوا فِيهِ. ¬

(¬1) فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 68] .

وَقَوْلُهُ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ خَاصٌّ بِأَجْيَالِ الْيَهُودِ الَّذِينَ اجْتَرَمُوا هَذِهِ الْجَرِيمَةَ الْعَظِيمَةَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَأَمَرَ بِهِ وَمَنْ سَكَتَ عَنْهُ وَلَمْ يَنْصُرِ الْأَنْبِيَاءَ. وَقَدْ قَتَلَ الْيَهُودُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَشْعِيَاءَ بْنَ أَمْوَصَ الَّذِي كَانَ حَيًّا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، قَتَلَهُ الْمَلِكُ مَنْسِيٌّ مَلِكُ الْيَهُودِ سَنَةَ 700 قَبْلَ الْمَسِيحِ نُشِرَ نَشْرًا عَلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ. وَأَرْمِيَاءَ النَّبِيءَ الَّذِي كَانَ حَيًّا فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ السَّابِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَكْثَرَ التَّوْبِيخَاتِ وَالنَّصَائِحَ لِلْيَهُودِ فَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَزَكَرِيَّاءَ الْأَخِيرَ أَبَا يَحْيَى قَتله هيرودس العبراني ملك الْيَهُود من قبل الرومان لِأَن زَكَرِيَّاء حاول تَخْلِيص ابْنَةِ يحيى من الْقَتْل وَذَلِكَ فِي مُدَّة نبوءة عِيسَى، وَيحيى بن زَكَرِيَّاء قَتله هيرودس لغضب ابْنة أُخْتِ هِيرُودُسَ عَلَى يَحْيَى. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ بِدُونِ وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ فِي شَرِيعَتِهِمْ فَإِنَّ فِيهَا: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: 32] فَهَذَا الْقَيْدُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْيَهُودِ بِأُصُولِ دِينِهِمْ لِتَخْلِيدِ مَذَمَّتِهِمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا قَالَ (الْأَنْبِيَاءَ) لِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ التَّبْلِيغُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر: 51] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَة: 67] وَمن ثَمَّ كَانَ ادِّعَاءُ النَّصَارَى أَنَّ عِيسَى قَتَلَهُ الْيَهُودُ ادِّعَاءً مُنَافِيًا لِحِكْمَةِ الْإِرْسَالِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْهَى مُدَّةَ رِسَالَتِهِ بِحُصُولِ الْمَقْصِدِ مِمَّا أُرْسِلَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى نَفْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَوْلَى فَيَكُونُ تَكْرِيرًا لِلْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ حِرْصًا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيَكُونُ الْعِصْيَانُ وَالِاعْتِدَاءُ سَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ لِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَلِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَالْآيَةُ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ التَّكْرِيرِ وَهُوَ مُغْنٍ عَنِ الْعَطْفِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الْأَعْرَاف: 179] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الثَّانِي هُوَ الْكُفْرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلَهُمُ النَّبِيئِينَ فَيَكُونُ (ذَلِكَ) إِشَارَةً إِلَى سَبَبِ ضَرْبِ الذِّلَّةِ إِلَخْ فَمَا بَعْدَ كَلِمَةِ (ذَلِكَ) هُوَ سَبَبُ السَّبَبِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ إِدْمَانَ الْعَاصِي يُفْضِي إِلَى التَّغَلْغُلِ فِيهَا وَالتَّنَقُّلِ مِنْ أَصْغَرِهَا إِلَى أَكْبَرِهَا. وَالْبَاءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ سَبَبِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ إِحْدَى الْبَاءَيْنِ بِمَعْنَى

[سورة البقرة (2) : آية 62]

مَعَ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الثَّانِي تَكْرِيرًا لِلْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» الَّذِي احْتَفَلَ بِهِ الطَّيِّبِيُّ فَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَفْنِينِ تَوْجِيهِهِ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا يَنْبُو عَنْهُ نَظْمُ الْقُرْآنِ. وَكَانَ الَّذِي دَعَا إِلَى فَرْضِ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ خلو الْكَلَام عَن عَاطِفٍ يَعْطِفُ بِما عَصَوْا عَلَى بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ إِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ لِمُجَرَّدِ التَّكْرِيرِ. وَلَقَدْ نَبَّهْنَاكَ آنِفًا إِلَى دَفْعِ هَذَا بِأَنَّ التَّكْرِيرَ يُغْنِي غناء الْعَطف. [62] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) تَوَسَّطَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ بَيْنَ آيَاتِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبِمَا قَابَلُوا بِهِ تِلْكَ النِّعَمَ مِنَ الْكُفْرَانِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ فَجَاءَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهَا لِمُنَاسَبَةٍ يُدْرِكُهَا كُلُّ بَلِيغٍ وَهِيَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ سُوءِ مُقَابَلَتِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَرَّتْ عَلَيْهِمْ ضَرْبَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَرُجُوعَهُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْحَاءُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْزِعَهُمْ إِلَى طَلَبِ الْخَلَاصِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكِ اللَّهُ تَعَالَى عَادَتَهُ مَعَ خَلْقِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَإِرَادَتِهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُمْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَابَ اللَّهِ مَفْتُوحٌ لَهُم وَأَن اللجأ إِلَيْهِ أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ بَدِيعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ قَرَنَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ذِكْرَ بَقِيَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِوَحْشَةِ الْيَهُودِ مِنَ الْقَوَارِعِ السَّابِقَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ وَإِنْصَافًا لِلصَّالِحِينَ مِنْهُمْ، وَاعْتِرَافًا بِفَضْلِهِمْ، وَتَبْشِيرًا لِصَالِحِي الْأُمَمِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا مِثْلَ الَّذين مثل كَانُوا قَبْلَ عِيسَى وَامْتَثَلُوا لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَمِثْلَ الْحَوَارِيِّينَ، وَالْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَصُهَيْبٍ، فَقَدْ وَفَّتِ الْآيَةُ حَقَّ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالْبِشَارَةِ، وَرَاعَتِ الْمُنَاسَبَتَيْنِ لِلْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُنَاسَبَةَ اقْتِرَانِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ، وَمُنَاسَبَةَ ذِكْرِ الضِّدِّ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى ضِدِّهِ. فَمَجِيءُ (إِنَّ) هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْمَذَمَّاتِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْيَهُودِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ سَلَفَ الْأُمَمِ الَّتِي ضَلَّتْ كَانُوا مِثْلَهُمْ فِي الضَّلَالِ، وَلَقَدْ عَجِبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لَمَّا ذَكَرْتُ لَهُمْ أَنِّي حِينَ حَلَلْتُ فِي رُومَةَ تَبَرَّكْتُ بِزِيَارَةِ

قَبْرِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِكَوْنِ قَبْرِهِ فِي كَنِيسَةِ رُومَةَ فَبَيَّنْتُ لَهُمْ أَنَّهُ أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ لِيَكُونُوا فِي مُقَدِّمَةِ ذِكْرِ الْفَاضِلِينَ فَلَا يُذْكَرُ أَهْلُ الْخَيْرِ إِلَّا وَيُذْكَرُونَ مَعَهُمْ، وَمِنْ مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَقْصِدِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- أَيِ الَّذِينَ هَادُوا- وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمُ الْقُدْوَةُ لِغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الْبَقَرَة: 137] فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِالنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لَقَبٌ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ. والَّذِينَ هادُوا هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هُنَا وَجْهَ وَصْفِهِمْ بِالَّذِينَ هَادُوا، وَمَعْنَى (هَادُوا) كَانُوا يَهُودًا أَوْ دَانُوا بِدِينِ الْيَهُودِ. وَأَصْلُ اسْمِ يَهُودَ مَنْقُولٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ وَهُوَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ فِي آخِرِهِ وَهُوَ عَلَمُ أَحَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا الِاسْمُ أُطْلِقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ سَنَةَ 975 قَبْلَ الْمَسِيحِ فَإِنَّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ انْقَسَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ مَمْلَكَةُ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَتْبَعْهُ إِلَّا سِبْطُ يَهُوذَا وَسِبْطُ بِنْيَامِينَ وَتُلَقَّبُ بِمَمْلَكَةِ يَهُوذَا لِأَنَّ مُعْظَمَ أَتْبَاعِهِ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وَجَعَلَ مَقَرَّ مَمْلَكَتِهِ هُوَ مَقَرَّ أَبِيهِ (أُورْشَلِيمَ) ، وَمَمْلَكَةٌ مَلِكُهَا يُورْبَعَامُ بْنُ بِنَاطَ غُلَامُ سُلَيْمَانَ وَكَانَ شُجَاعًا نَجِيبًا فَمَلَّكَتْهُ بَقِيَّةُ الْأَسْبَاطِ الْعَشَرَةِ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ مَقَرَّ مَمْلَكَتِهِ السَّامِرَةَ وَتَلَقَّبَ بِمَلِكِ إِسْرَائِيلَ إِلَّا أَنَّهُ وَقَوْمَهُ أَفْسَدُوا الدِّيَانَةَ الْمُوسَوِيَّةَ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ انْفَصَلُوا عَنِ الْجَامِعَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ وَلَمْ يَدُمْ مُلْكُهُمْ فِي السَّامِرَةِ إِلَّا مِائَتَيْنِ وَنَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ انْقَرَضَ عَلَى يَدِ مُلُوكِ الْآشُورِيِّينَ فَاسْتَأْصَلُوا الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّذِينَ بِالسَّامِرَةِ وَخَرَّبُوهَا وَنَقَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بِلَادِ آشُورَ عَبِيدًا لَهُمْ وَأَسْكَنُوا بِلَادَ السَّامِرَةِ فَرِيقًا مِنَ الْآشُورِيِّينَ فَمِنْ يَوْمِئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكٌ إِلَّا مُلْكُ يَهُوذَا بِأُورْشَلِيمَ يَتَدَاوَلُهُ أَبْنَاءُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمُنْذُ ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْمُ يَهُودَ أَيْ يَهُوذَا وَدَامَ مُلْكُهُمْ هَذَا إِلَى حَدِّ سَنَةِ 120 قَبْلَ الْمَسِيحِ مَسِيحِيَّةً فِي زَمَنِ الْإِمْبِرَاطُورِ أَدْرَيَانَ الرُّومَانِيِّ الَّذِي أَجْلَى الْيَهُودَ الْجَلَاءَ الْأَخِيرَ فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَقْطَارِ بَاسِمِ الْيَهُودِ هُمْ وَمَنِ الْتَحَقَ بِهِمْ مِنْ فُلُولِ بَقِيَّةِ الْأَسْبَاطِ. وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ اخْتِيَارِ لَفْظِ الَّذِينَ هادُوا فِي الْآيَةِ دُونَ الْيَهُودِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمُ

الَّذِينَ انْتَسَبُوا إِلَى الْيَهُودِ وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا. ثُمَّ صَارَ اسْمُ الْيَهُودِ مُطْلَقًا عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ بَدِينِ التَّوْرَاةِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الْبَقَرَة: 113] الْآيَةَ وَيُقَالُ تَهَوَّدَ إِذَا اتَّبَعَ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَفِي الْحَدِيثِ: «يُولَدُ الْوَلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَبَوَاهُ هما اللَّذَان يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» . وَيُقَالُ هَادَ إِذَا دَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الْأَنْعَام: 146] . وَأما مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [156] مِنْ قَوْلِ مُوسَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فَذَلِكَ بِمَعْنَى الْمَتَابِ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُوَ اسْمُ جمع نصرى (فتح فَسُكُونٍ) أَوْ نَاصِرِيٍّ نِسْبَةً إِلَى النَّاصِرَةِ وَهِيَ قَرْيَةٌ نَشَأَتْ مِنْهَا مَرْيَمُ أُمُّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ خَرَجَتْ مَرْيَمُ مِنَ النَّاصِرَةِ قَاصِدَةً بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَوَلَدَتِ الْمَسِيحَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَلِذَلِكَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَدْعُونَهُ يَشُوعَ النَّاصِرِيَّ أَوِ النَّصْرِيَّ فَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ أَتْبَاعِهِ بِالنَّصَارَى. وَأما قَوْله: وَالصَّابِئِينَ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى صِيغَة جمع صابىء بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ صَابٍ مَنْقُوصًا فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالصَّابِئُونَ لَعَلَّه جمع صابىء وصابىء لَعَلَّهُ اسْمُ فَاعِلِ صَبَأَ مَهْمُوزًا أَيْ ظَهَرَ وَطَلَعَ، يُقَالُ صَبَأَ النَّجْمُ أَيْ طَلَعَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْهَمْزِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ تَخْفِيفِ الْهَمْزِ فِي غَيْرِهَا تَخْفِيفٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَوَافُقُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمَعْنَى. وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرَنْجِ (¬1) أَنَّهُمْ سُمُّوا صَابِئَةً لِأَنَّ دِينَهُمْ أَتَى بِهِ قَوْمٌ مِنْ سَبَأٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَجَعَلُوهَا جَمْعَ صَابٍ مِثْلَ رَامٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ قَالُوا: لِأَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ مَالُوا عَنْ كُلِّ دِينٍ إِلَى دِينِ عِبَادَةِ النُّجُومِ (وَلَوْ قِيلَ لِأَنَّهُمْ مَالُوا عَنْ أَدْيَانٍ كَثِيرَةٍ إِذِ اتَّخَذُوا مِنْهَا دِينَهُمْ كَمَا سَتَعْرِفُهُ لَكَانَ أَحْسَنَ) . وَقِيلَ إِنَّمَا خَفَّفَ نَافِعٌ هَمْزَةَ (الصَّابِينَ) فَجَعَلَهَا يَاءً مِثْلَ قِرَاءَته سَأَلَ سائِلٌ [المعارج: 1] ، وَمِثْلُ هَذَا التَّخْفِيفِ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَخْفِيفِ الْهَمْزِ الْمُتَحَرِّكِ بَعْدَ حَرْفٍ مُتَحَرِّكٍ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ كَلِمَةِ الصَّابِي أَوِ الصَّابِئَةِ أَوْ مَا تَفَرَّعَ مِنْهَا هُوَ لَفْظٌ قَدِيمٌ مِنْ لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ أَوْ سَامِيَّةٍ قَدِيمَةٍ هِيَ لُغَةُ عَرَبِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ مِنَ الْعِرَاقِ وَفِي «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ ¬

(¬1) انْظُر جَدِيد لاروس باللغة الفرنسية. [.....]

» (¬1) أَنَّ اسْمَ الصَّابِئَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ أَصْلٍ عِبْرِيٍّ هُوَ (ص ب ع) أَيْ غَطَسَ عُرِفَتْ بِهِ طَائِفَةُ (الْمَنْدِيَا) وَهِيَ طَائِفَةٌ يَهُودِيَّةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فِي الْعِرَاقِ يَقُومُونَ بِالتَّعْمِيدِ كَالنَّصَارَى. وَيُقَالُ الصَّابِئُونَ بِصِيغَة جمع صابىء وَالصَّابِئَةُ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمُقَدَّرٍ أَيِ الْأُمَّةُ الصَّابِئَةُ وَهُمُ الْمُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الصَّابِئَةِ وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا الدِّينِ إِلَّا اسْمُ الصَّابِئَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ دِينُ الصَّابِئَةِ إِضَافَةً إِلَى وَصْفِ أَتْبَاعِهِ وَيُقَالُ دِينُ الصَّابِئَةِ. وَهَذَا الدِّينُ دِينٌ قَدِيمٌ ظَهَرَ فِي بِلَادِ الْكِلْدَانِ فِي الْعِرَاقِ وَانْتَشَرَ مُعْظَمُ أَتْبَاعِهِ فِيمَا بَيْنَ الْخَابُورِ وَدِجْلَةَ وَفِيمَا بَيْنَ الْخَابُورِ وَالْفُرَاتِ فَكَانُوا فِي الْبَطَائِحِ وَكَسْكَرَ فِي سَوَادِ وَاسِطَ وَفِي حَرَّانَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ. وَكَانَ أَهْلُ هَذَا الدِّينِ نَبَطًا فِي بِلَادِ الْعِرَاقِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى إِقْلِيمِ الْعِرَاقِ أَزَالُوا مَمْلَكَةَ الصَّابِئِينَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَلَمْ يَجْسُرُوا بَعْدُ عَلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنَعَ الرُّومُ أَهْلَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ مِنَ الصَّابِئِينَ فَلَمَّا تَنَصَّرَ قُسْطَنْطِينُ حَمَلَهُمْ بِالسَّيْفِ عَلَى التَّنَصُّرِ فَبَطَلَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَتَظَاهَرُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِلَادِهِمُ اعْتُبِرُوا فِي جُمْلَةِ النَّصَارَى وَقَدْ كَانَتْ صَابِئَةُ بِلَادِ كَسْكَرَ وَالْبَطَائِحِ مُعْتَبَرِينَ صِنْفًا مِنَ النَّصَارَى ينتمون إِلَى النبيء يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ وَمَعَ ذَلِكَ لَهُمْ كُتُبٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا عَلَى شِيثِ بْنِ آدم ويسمونه (أغاثاديمون) ، وَالنَّصَارَى يُسَمُّونَهُمْ يُوحَنَّاسِيَةَ (نِسْبَةً إِلَى يُوحَنَّا وَهُوَ يَحْيَى) . وَجَامِعُ أَصْلِ هَذَا الدِّينِ هُوَ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَالْقَمَرِ وَبَعْضِ النُّجُومِ مِثْلَ نَجْمِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ وَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِخَالِقِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ حَكِيمٌ مُقَدَّسٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَوَادِثِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْبَشَرَ عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى جَلَالِ الْخَالِقِ فَلَزِمَ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ مَخْلُوقَاتٍ مُقَرَّبِينَ لَدَيْهِ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَاتُ الطَّاهِرَةُ الْمُقَدَّسَةُ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ سَاكِنَةٌ فِي الْكَوَاكِبِ وَأَنَّهَا تَنْزِلُ إِلَى النُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَتَتَّصِلُ بِهَا بِمِقْدَارِ مَا تَقْتَرِبُ نُفُوسُ الْبَشَرِ مِنْ طَبِيعَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَعَبَدُوا الْكَوَاكِب بِقصد التجاه إِلَى رُوحَانِيَّاتِهَا وَلِأَجْلِ نُزُولِ تِلْكَ الرُّوحَانِيَّاتِ عَلَى النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ يَتَعَيَّنُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِتَطْهِيرِهَا مِنْ آثَارِ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالتَّضَرُّعِ إِلَى الْأَرْوَاحِ وَبِتَطْهِيرِ الْجِسْمِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالطِّيبِ وَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَضَائِلَ النَّفْسِ الْأَرْبَعَ الْأَصْلِيَّةِ (وَهِيَ الْعِفَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ) وَالْأَخْذُ بِالْفَضَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ (الْمُتَشَعِّبَةِ عَنِ الْفَضَائِلِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ) وَتَجَنُّبُ الرَّذَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ (وَهِيَ أَضْدَادُ الْفَضَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ) . ¬

(¬1) فِي فصل حَرَّره المستشرق (كارارفو) .

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَأَنَّهُمْ يُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الرِّسَالَةِ مِنَ الْبَشَرِ فَلَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا وَاسِطَةً بَيْنَ النَّاسِ وَالْخَالِقِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ. وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْمُعَلِّمِينَ الْأَوَّلِينَ لِدِينِ الصابئة هما أغاثاديمون وَهُرْمُسَ وَهُمَا شِيثُ بْنُ آدَمَ وَإِدْرِيسُ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ مَا فِيهِ عَوْنٌ عَلَى الْكَمَالِ فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي كَلَامِهِمُ الْمُمَاثَلَةُ لِأَقْوَالِ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ وَخَاصَّةً سُولُونُ وَأَفْلَاطُونُ وَأَرِسْطَاطَالِيسُ، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْحُكَمَاءُ اقْتَبَسُوا بَعْضَ الْآرَاءِ مِنْ قُدَمَاءِ الصَّابِئَةِ فِي الْعِرَاقِ فَإِنَّ ثَمَّةَ تَشَابُهًا بَيْنَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَجَعْلِهَا آلِهَةً وَفِي إِثْبَات إلاه الْآلِهَةِ. وَقَدْ بَنَوْا هَيَاكِلَ لِلْكَوَاكِبِ لِتَكُونَ مَهَابِطَ لِأَرْوَاحِ الْكَوَاكِبِ وَحَرَصُوا عَلَى تَطْهِيرِهَا وَتَطْيِيبِهَا لِكَيْ تَأْلَفَهَا الرُّوحَانِيَّاتُ وَقَدْ يَجْعَلُونَ لِلْكَوَاكِبِ تَمَاثِيلَ مِنَ الصُّوَرِ يَتَوَخَّوْنَ فِيهَا مُحَاكَاةَ صُوَرِ الرُّوحَانِيَّاتِ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ. وَمِنْ دِينِهِمْ صَلَوَاتٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقِبْلَتُهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ رِيحِ الشَّمَالِ وَيَتَطَهَّرُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَاتُهُمْ وَدَعَوَاتُهُمْ تُسَمَّى الزَّمْزَمَةَ بِزَايَيْنِ كَمَا وَرَدَ فِي تَرْجَمَةِ أبي إِسْحَاق الصابىء. وَلَهُمْ صِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فِي السَّنَةِ، مُوَزَّعَةً عَلَى ثَلَاثَةِ مَوَاقِيتَ مِنَ الْعَامِ. وَيَجِبُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَغُسْلُ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ. وَتَحْرُمُ الْعُزُوبَةُ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَزَوُّجُ مَا شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا امْرَأَةً صَابِئَةً عَلَى دِينِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَ غَيْرَ صَابِئَةٍ أَوْ تَزَوَّجَتِ الصابئة غير صابىء خَرَجَا مِنَ الدِّينِ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمَا تَوْبَةٌ. وَيُغَسِّلُونَ مَوْتَاهُمْ وَيُكَفِّنُونَهُمْ وَيَدْفِنُونَهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَلَهُمْ رَئِيسٌ لِلدِّينِ يُسَمُّونَهُ الْكِمْرَ- بِكَافٍ وَمِيمٍ وَرَاءٍ-. وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الدِّينُ فِي حَرَّانَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَلِذَلِكَ تُعْرَفُ الصَّابِئَةُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْحَرْنَانِيَّةِ (بِنُونَيْنِ نِسْبَةً إِلَى حَرَّانَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» ) . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ «الْفِصَلِ» : كَانَ الَّذِي يَنْتَحِلُهُ الصَّابِئُونَ أَقْدَمَ الْأَدْيَانِ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَالْغَالِبَ عَلَى الدُّنْيَا إِلَى أَنْ أَحْدَثُوا فِيهِ الْحَوَادِثَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَنِيفِيَّةِ اهـ.

وَدِينُ الصَّابِئَةِ كَانَ مَعْرُوفًا لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بِسَبَبِ جِوَارِ بِلَادِ الصَّابِئَةِ فِي الْعِرَاقِ وَالشَّامِ لِمَنَازِلِ بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِثْلَ دِيَارِ بَكْرٍ وَبِلَادِ الْأَنْبَاطِ الْمُجَاوِرَةِ لِبِلَادِ تَغْلِبَ وَقُضَاعَةَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصفه الْمُشْركُونَ بالصابىء، وَرُبَّمَا دَعَوْهُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَجْدَادِ آمِنَةَ الزُّهْرِيَّةِ أُمِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَظْهَرَ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ فِي قَوْمِهِ فَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيءَ وَرِثَ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَذَبُوا. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَفَرٍ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفد دِمَاؤُهُمْ فَابْتَغَوُا الْمَاءَ فَلَقَوُا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ فَقَالُوا لَهَا: انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتِ: الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء قَالُوا: هُوَ الَّذين تَعْنِينَ. وَسَاقَ حَدِيثَ تَكْثِيرِ الْمَاءِ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُسْلِمِينَ الصُّبَاةَ كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْطَلَقَ سَعْدٌ ذَاتَ يَوْمٍ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ وَقَالَ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَخَرَجَ بِهِ فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ قَالَ: سَعْدٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمُ الصُّبَاةَ. وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى جُذَيْمَةَ أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَقَالُوا: صَبَأْنَا، الْحَدِيثَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْمًا مِنْ تَمِيمٍ عَبَدُوا نَجْمَ الدَّبَرَانِ، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْ لَخْمٍ وَخُزَاعَةَ عَبَدُوا الشِّعْرَى الْعَبَورَ، وَهُوَ مِنْ كَوَاكِبَ بُرْجِ الْجَوْزَاءِ فِي دَائِرَةِ السَّرَطَانِ، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْ كِنَانَةَ عَبَدُوا الْقَمَرَ فَظَنَّ الْبَعْضُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا صَابِئَةً وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ تَلَقَّفُوا عِبَادَةَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ عَنْ سُوءِ تَحْقِيقٍ فِي حَقَائِقِ دِينِ الصَّابِئَةِ وَلَمْ يَجْزِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ فِي الْعَرَبِ صَابِئَةً فَإِنَّهُ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ [37] فُصِّلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ قَالَ: لَعَلَّ نَاسًا مِنْهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَالصَّابِئِينَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الصَّابِئَةِ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَلْحَقَهُمْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَلْحَقُهُمْ بِالْمَجُوسِ، وَسَبَبُ هَذَا الِاضْطِرَابِ هُوَ اشْتِبَاهُ

أَحْوَالِهِمْ وَتَكَتُّمُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّخْلِيطِ بِسَبَبِ قَهْرِ الْأُمَمِ الَّتِي تَغَلَّبَتْ عَلَى بِلَادِهِمْ، فَالْقِسْمُ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَيْهِمُ الْفُرْسُ اخْتَلَطَ دِينُهُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ، وَالَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِم الرّوم اخْتَلَّ دِينُهُمْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ. قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي كِتَابِ «الْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ» : قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الطَّاهِرِ (يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ التَّنُوخِيَّ الْقَيْرَوَانِيَّ) مَنَعُوا ذَبَائِحَ الصَّابِئَةِ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْنِي صَابِئَةَ الْعِرَاقِ، الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى بِلَادِهِمْ عَلَى دِينِ الْمَجُوسِيَّةِ) . وَفِي «التَّوْضِيحِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْفَرْعِيِّ» فِي بَابِ الذَّبَائِحِ «قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: لَا تُؤْكَل ذَبِيحَة الصابىء وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ» وَفِيهِ فِي بَابِ الصَّيْدِ «قَالَ مَالِكٌ لَا يُؤْكَل صيد الصابىء وَلَا ذَبِيحَتُهُ» . وَفِي «شَرْحِ عَبْدِ الْبَاقِي عَلِي خَلِيلٍ» : «إنّ أَخذ الصابىء بِالنَّصْرَانِيَّةِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَتَزَوَّجُ الْمُسْلِمُ الْمَرْأَةَ الصَّائِبَةَ» . قَالَ الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعُقُودِ وَسُورَةِ بَرَاءَةَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّابِئَةَ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ الصَّابِئَةُ الَّذِينَ هُمْ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. قَالَ الْجَصَّاصُ: الصَّابِئَةُ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِهَذَا الِاسْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَانْتِحَالُهُمْ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ أَعْنِي الَّذِينَ هُمْ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ وَكَسْكَرَ فِي سَوَادِ وَاسِطَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَالَّذِينَ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ فِي شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَاهَدَ قَوْمًا مِنْهُمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ نَصَارَى تِقْيَةً، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ وَكَسْكَرَ وَيُسَمِّيهِمُ النَّصَارَى يُوحَنَّا سِيَّةَ وَهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، وَيَنْتَحِلُونَ كُتُبًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى شِيثَ وَيَحْيَى. وَمَنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مِنَ الصَّابِئِينَ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَهُمُ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ لَا يَنْتَمُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَأَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: إِنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَكَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ اهـ. كَلَامُهُ.

وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ فِي الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الْإِسْلَامِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالدَّهْرِيِّينَ وَالزَّنَادِقَةِ أَنَّ هَذَا مَقَامُ دَعْوَتِهِمْ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَتَابِ عَنْ أَدْيَانِهِمُ الَّتِي أُبْطِلَتْ لِأَنَّهُمْ أَرْجَى لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَجُوسِ وَالدَّهْرِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْإِلَهَ الْمُتَفَرِّدَ بِخَلْقِ الْعَالَمِ وَيَتَّبِعُونَ الْفَضَائِلَ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ تَقْرِيبًا لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَجُوسَ مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْحَج: 17] لِأَنَّ ذَلِكَ مقَام تثبيت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَنْ) شَرْطًا فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَيَكُونَ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ مَعَ الْجَوَابِ خَبَرُ إِنَّ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ مِنْهُمْ فَلَهُ أَجْرُهُ وَحُذِفَ الرَّابِطُ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) لِأَنَّ (مَنِ) الشَّرْطِيَّةَ عَامَّةٌ فَكَانَ الرَّابِطُ الْعُمُومَ الَّذِي شَمِلَ الْمُبْتَدَأَ أَعْنِي اسْمَ (إِنَّ) وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ أَيْ مَنْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا فَلَهُ أَجْرُهُ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَتْحَ بَابِ الْإِنَابَةِ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قُرِعُوا بِالْقَوَارِعِ السَّالِفَةِ وَذُكِرَ مَعَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُمْ كُفْرٌ لِمُنَاسَبَةِ مَا اقْتَضَتْهُ الْعِلَّةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ [الْبَقَرَة: 61] وَتَذْكِيرًا لِلْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ حَتَّى لَا يَتَّكِلُوا عَلَى الْأَوْهَامِ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّهِ وَأَنَّ ذُنُوبَهُمْ مَغْفُورَةٌ. وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ مِثْلَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمُنَاجَاةِ مَعَ مُوسَى وَمِثْلَ يُوشَع بن نوع كالب بن يفنه لَهُمْ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا عِنْدَ رَبِّهِمْ لِأَنَّ إِنَاطَةَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ الْمُشْتَقِّ مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ بَلِ السَّابِقُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الشَّرْطِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ فَقَدْ قَضَتِ الْآيَةُ حَقَّ الْفَرِيقَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَنْ) مَوْصُولَةً بَدَلًا مِنَ اسْمِ (إِنَّ) وَالْفِعْلُ الْمَاضِي حِينَئِذٍ بَاقٍ عَلَى الْمُضِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ مَا يُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ إِمَّا عَلَى أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» . وَقَائِلَةِ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ وَنَحْوَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] عِنْدَ غَيْرِ سِيبَوَيْهِ. وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْمَوْصُولَ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ لِلْإِيذَانِ بِالتَّعْلِيلِ فَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ قَرِينَةً عَلَى ذَلِكَ. وَيَكُونُ الْمَفَادُ مِنَ الْآيَةِ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءَ صَالِحِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْحُكْمِ، بِضَرْبِ الذِّلَّةِ

وَالْمَسْكَنَةِ وَالْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ ذِكْرُ بَقِيَّةِ صَالِحِي الْأُمَمِ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ خَلْقَهُ وَمُجَازَاتِهِ كُلًّا عَلَى فِعْلِهِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذِكْرُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي عِدَادِ هَؤُلَاءِ، وَإِجْرَاءِ قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَذكرهمْ تَحْصِيل للحاصل، فَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ خُصُوصُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْجَمِيعَ وَأَرَادَ بِمَنْ آمَنَ مَنْ دَامَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخْلِصِينَ وَمَنْ أَخْلَصَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنَافِقِينَ. وَهُمَا جَوَابَانِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِخُصُوصِ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ لِأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِالَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ حَسَنٌ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وَالصِّلَةَ تَرَكَّبَتْ مِنْ شَيْئَيْنِ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالْمُخْلِصُونَ وَإِنْ كَانَ إِيمَانُهُمْ حَاصِلًا فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَلَمَّا تَرَكَّبَ الشَّرْطُ أَوِ الصِّلَةُ مِنْ أَمْرَيْنِ فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَتَرْجِعُ كُلُّ صِفَةٍ لِمَنْ يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا كُلًّا أَوْ بَعْضًا. وَمَعْنَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. الْإِيمَانَ الْكَامِلَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَعَمِلَ صالِحاً إِذْ شَرْطُ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 17] . وَقَدْ عَدَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِأَنَّ مُكَابَرَةَ الْمُعْجِزَاتِ، الْقَائِمَةِ مَقَامَ تَصْدِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّسُولِ المتحدي بهَا يؤول إِلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ فَذَلِكَ الْمُكَابِرُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ الْإِيمَانَ الْحَقَّ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا وَجْهَ لِدَعْوَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمرَان: 85] إِذْ لَا اسْتِقَامَةَ فِي دَعْوَى نَسْخِ الْخَبَرِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ دُونَ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ وَلَا عِصْيَانٍ وَمَاتُوا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَ مَنْ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ: «وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِرَسُولِهِ ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ» . وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، فَأَحْسَبُ أَنَّ تَأْوِيلَهَا عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ فِي أَوَّلِ تَلَقِّي دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى أَنْ يَنْظُرُوا فَلَمَّا عَانَدُوا نَسَخَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ قَوْلُهُمْ إِلَى دَعْوَى نَسْخِ الْخَبَرِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَطْلَقَ الْأَجْرَ عَلَى الثَّوَابِ مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْمُرَادُ بِهِ نَعِيمُ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ أَجْرًا دُنْيَوِيًّا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ عِنْدِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي تَحْقِيقِ الْإِقْرَارِ فِي قَوْلِهِمْ لَكَ عِنْدِي كَذَا. وَوَجْهُ دِلَالَةِ عِنْدَ فِي نَحْوِ هَذَا عَلَى التَّحَقُّقِ أَنْ عِنْدَ دَالَّةٌ عَلَى الْمَكَانِ فَإِذَا أُطْلِقَتْ فِي غَيْرِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحِلَّ فِي مَكَانٍ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي لَازِمِ الْمَكَانِ، وَهُوَ وُجُودُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ عِنْدَ لِاسْمِ الرَّبِّ تَعَالَى مِمَّا يَزِيدُ الْأَجْرَ تَحَقُّقًا لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ فَلَا يَفُوتُ الْأَجْرُ الْكَائِنُ عِنْدَهُ (¬1) . وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مُرَاعَاةً لِمَا صَدَّقَ (مَنْ) ، وأفرد شَرطهَا أوصلتها مُرَاعَاةً لِلَفْظِهَا. وَمِمَّا حَسَّنَ ذَلِكَ هُنَا وَجَعَلَهُ فِي الْمَوْقِعِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْجَائِزَيْنِ عَرَبِيَّةً فِي مَعَادِ الْمَوْصُولَاتِ وَأَسْمَاءِ الشُّرُوطِ قَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ أَنْبَأَ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ فِي الْمَوْصُولِ أَوِ الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ أَتَى بِالضَّمِيرِ الَّذِي فِي صِلَتِهِ أَوْ فِعْلِهِ مُنَاسِبًا لِلَفْظِهِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ ثُمَّ لَمَّا جِيءَ بِالضَّمِيرِ مَعَ الْخَبَرِ أَوِ الْجَوَابِ جُمِعَ لِيَكُونَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فَيَرْتَبِطُ بِاسْمِ (إِنَّ) الَّذِي جِيءَ بِالْمَوْصُولِ أَوِ الشَّرْطِ بَدَلًا مِنْهُ أَوْ خَبَرًا عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الْعَامَّ مُرَادٌ مِنْهُ ذَلِكَ الْخَاصُّ أَوَّلًا، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَمِلَ إِلَخْ فَلِأُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا أَجْرُهُمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مِمَّا شَمِلَهُ الْعُمُوم على نحوما يَذْكُرُهُ الْمَنَاطِقَةُ فِي طَيِّ بَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ لِلْعِلْمِ بِهِ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ. وَقَوْلُهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ قِرَاءَة الْجَمِيع بِالرَّفْعِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ خَوْفٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ خَوْفُ الْآخِرَةِ. وَالتَّعْبِيرُ فِي نَفْيِ الْخَوْفِ بِالْخَبَرِ الِاسْمِيِّ وَهُوَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِإِفَادَةِ نَفْيِ جِنْسِ الْخَوْفِ نَفْيًا قَارًّا، لِدِلَالَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَالتَّعْبِيرِ فِي نَفْيِ خَوْفٍ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ وَهُوَ ¬

(¬1) ذَكرنِي هَذَا التَّقْرِير فِي حَالَة الدَّرْس قصَّة وَهِي أَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَفد عَلَيْهِ وَفد من الْعَرَب فيهم رجل من عبس اسْمه شَقِيق، فَمَرض فَمَاتَ قبل أَن يَأْخُذ حباءه فَلَمَّا بلغ ذَلِك النُّعْمَان أَمر بِوَضْع حبائه على قَبره ثمَّ أرسل إِلَى أَهله فَأَخَذُوهُ فَقَالَ النَّابِغَة فِي ذَلِك: أبقيت للعبسي فضلا ونعمة ... ومحمدة من باقيات المحامد حباء شَقِيق فَوق أَحْجَار قَبره ... وَمَا كَانَ يحبي قبله قبر وَافد أَتَى أَهله مِنْهُ حباء ونعمة ... وَرب امْرِئ يسْعَى لآخر قَاعد

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 إلى 64]

يَحْزَنُونَ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِمْ بِنَفْيِ الْحُزْنِ فِي الْآخِرَةِ أَيْ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ مُتَلَازِمَيْنِ كَانَتْ خُصُوصِيَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا سَارِيَةً فِي الْآخَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ مُقَابل لقَوْله: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 61] وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِعِنْدَ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّضَى. وَقَوْلُهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مُقَابِلَ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [الْبَقَرَة: 61] لِأَنَّ الذِّلَّةَ ضِدُّ الْعِزَّةِ فَالذَّلِيلُ خَائِفٌ لِأَنَّهُ يَخْشَى الْعُدْوَانَ وَالْقَتْلَ وَالْغَزْوَ، وَأَمَّا الْعَزِيزُ فَهُوَ شُجَاعٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى ضُرًّا وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا قَدَّرَهُ لَهُ فَهُوَ كَائِنٌ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: 8] وَقَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَالْمَسْكَنَةُ لِأَنَّ الْمَسْكَنَةَ تَقْضِي عَلَى صَاحِبِهَا بِالْحُزْنِ وَتَمَنِّي حُسْنِ الْعَيْشِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] فَالْخَوْفُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْخَوْفُ النَّاشِئُ عَنِ الذِّلَّةِ وَالْحُزْنُ الْمَنْفِيُّ هُوَ النَّاشِئُ عَن المسكنة. [63، 64] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 63 إِلَى 64] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) تَذْكِيرٌ بِقِصَّةٍ أُخْرَى أَرَى اللَّهَ تَعَالَى أَسْلَافَهُمْ فِيهَا بَطْشَهُ وَرَحْمَتَهُ فَلَمْ يَرْتَدِعُوا وَلَمْ يَشْكُرُوا وَهِيَ أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْمَلُوا بِالشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ حِينَمَا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطُّورِ تَجَلِّيًا خَاصًّا لِلْجَبَلِ فَتَزَعْزَعَ الْجَبَلُ وَتَزَلْزَلَ وَارْتَجَفَ وَأَحَاطَ بِهِ دُخَّانٌ وَضَبَابٌ وَرُعُودٌ وَبَرْقٌ كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فَلَعَلَّ الْجَبَلَ مِنْ شدَّة الزلازل وَمَا ظَهَرَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَسْحِبَةِ وَالدُّخَانِ وَالرُّعُودِ صَارَ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحَابَةٌ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [171] بِقَوْلِهِ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (نَتَقَهُ: زَعْزَعَهُ وَنَقَضَهُ) حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ يَهْتَزُّ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمُ اسْتَطَارَهُ إِذَا أَزْعَجَهُ فَاضْطَرَبَ فَأَعْطَوُا الْعَهْدَ وَامْتَثَلُوا لِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالُوا: «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ نَفْعَلُهُ فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى فَلْيُؤْمِنُوا بِكَ إِلَى الْأَبَدِ» وَلَيْسَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَلَعَ الطُّورَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ وَإِنَّمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارٍ ضِعَافٍ فَلِذَلِكَ لَمْ نَعْتَمِدْهُ فِي التَّفْسِيرِ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ لِتَحْمِيلِ الْخَلَفِ تَبِعَاتِ السَّلَفِ

كَيْلَا يَقَعُوا فِي مِثْلِهَا وَلِيَسْتَغْفِرُوا لِأَسْلَافِهِمْ عَنْهَا. وَالْمِيثَاقُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ كَالْعَهْدِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُرَادٌ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَوَعَدَهُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا وَقَدْ سَمَّتْهُ كُتُبُهُمْ عَهْدًا كَمَا قَدَّمْنَا وَهُوَ إِلَى الْآنِ كَذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالطُّورُ عَلَمٌ عَلَى جَبَلٍ بِبَرِّيَّةِ سِينَا، وَيُقَالُ إِنَّ الطُّورَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْجِبَالِ فِي لُغَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْعَجَّاجِ: دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ ... تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي الْعِبْرِيَّةِ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْكَنْعَانِيِّينَ يَذْكُرُونَهُ فَيَقُولُونَ الطُّورَ يَعْنُونَ الْجَبَلَ كَلِمَةٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ أَنْ عَرَفُوهَا فَحَسِبُوهَا عَلَمًا لَهُ فَسَمَّوْهُ الطُّورَ. وَقَوْلُهُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ مَقُولُ قَوْلٍ، مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَائِلِينَ لَهُمْ خُذُوا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِ. وَالْأَخْذُ مَجَازٌ عَنِ التَّلَقِّي وَالتَّفَهُّمِ. وَالْقُوَّةُ مَجَازٌ فِي الْإِيعَاءِ وَإِتْقَانِ التَّلَقِّي وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: 12] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مَجَازًا عَنِ الِامْتِثَالِ أَيِ اذْكُرُوهُ عِنْدَ عَزْمِكُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ حَتَّى تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ مَا فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّفَهُّمُ بِدَلِيلِ حَرْفِ (فِي) الْمُؤْذِنِ بِالظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَيِ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ. وَالْمُرَادُ بِمَا آتَاهُمْ مَا أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ قَوَاعِدُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ. وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ بِدُونِ عَطْفٍ. وَالرَّجَاءُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَقْرِيبِ سَبَبِ التَّقْوَى بِحَضِّهِمْ عَلَى الْأَخْذِ بِقُوَّةٍ، وَتَعَهُّدِ التَّذَكُّرِ لِمَا فِيهِ، فَذَلِكَ التَّقْرِيبُ وَالتَّبْيِينُ شَبِيهٌ بِرَجَاءِ الرَّاجِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (لَعَلَّ) قَرِينَةَ اسْتِعَارَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ اللَّهِ حِينَ هَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ بِحَالِ الرَّاجِي تَقْوَاهُمْ وَعَلَى هَذَا مَحْمَلُ مَوَارِدِ كَلِمَةِ (لَعَلَّ) فِي الْكَلَامِ الْمُسْنَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: 21] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي مُدَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى وَأَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مِنَ الْخَاسِرِينَ الْهَالِكِينَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِيهَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْخَوْضِ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ الْإِلْجَائِيِّ وَمُنَافَاةِ الْإِلْجَاءِ لِلتَّكْلِيفُُِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 65 إلى 66]

وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ الْمَلْجَأِ، الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ هُنَا عَلَى أَطْلَالِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي قَلْعِ الطُّورِ وَرَفْعِهِ فَوْقَهُمْ وَقَوْلِ مُوسَى لَهُمْ إِمَّا أَنْ تُؤْمِنُوا أَوْ يَقَعَ عَلَيْكُمُ الطُّورُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ لَمَا كَانَ مِنَ الْإِلْجَاءِ فِي شَيْءٍ إِذْ لَيْسَ نَصْبُ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالتَّخْوِيفِ مِنَ الْإِلْجَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ دِلَالَةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ وَالْمُمْتَنِعُ فِي التَّكْلِيفِ هُوَ التَّكْلِيفُ فِي حَالَةِ الْإِلْجَاءِ لَا التَّخْوِيفُ لِإِتْمَامِ التَّكْلِيفِ، فَلَا تغفلوا. [65، 66] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 65 إِلَى 66] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) هَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى تَذْكِيرًا لِلْيَهُودِ بِمَا أَتَاهُ سَلَفُهُمْ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَا عُرِضَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي حِكَايَةِ هَاتِهِ الْقِصَّةِ أُسْلُوبَ حِكَايَةِ مَا تَقَدَّمَهَا وَمَا تَلَاهَا مِنْ ذكر إِذْ [الْبَقَرَة: 63] الْمُؤْذِنَةِ بِزَمَنِ الْقِصَّةِ وَالْمُشْعِرَةِ بِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا إِلَى قَوْلِهِ هُنَا: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ لِمَعْنًى بَدِيعٍ هُوَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْقَصَصِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُ التَّوْرَاةِ مِثْلَ الْقَصَصِ الْأُخْرَى الْمَأْتِيِّ فِي حِكَايَتِهَا بِكَلِمَةِ (إِذْ) لِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَهُمْ بَلْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ غَيْرَ مَسْطُورَةٍ فِي الْأَسْفَارِ الْقَدِيمَةِ وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً لِعُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَتِلْكَ مُعْجِزَةٌ غَيْبِيَّةٌ وَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي لَفْظِهَا مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا أَخْفَى مِنَ الْعِلْمِ بِالْقَصَصِ الْأُخْرَى فَأَسْنَدَ الْأَمْرَ فِيهَا لِعِلْمِهِمْ إِذْ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ. وَالِاعْتِدَاءُ وَزْنُهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَهُوَ تَجَاوُزُ حَدِّ السَّيْرِ وَالْحَدِّ وَالْغَايَةِ. وَغَلَبَ إِطْلَاقُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَظُلْمِ النَّاسِ وَالْمُرَادُ هُنَا اعْتِدَاءُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ يُشَبَّهُ بِالْحَدِّ فِي أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِمَا شَمِلَهُ وَلَا يُؤْخَذُ بِمَا وَرَاءَهُ وَالِاعْتِدَاءُ الْوَاقِعُ مِنْهُمْ هُوَ اعْتِدَاءُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى بِأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى حُكْمِ السَّبْتِ وَعَدَمِ الِاكْتِسَابِ فِيهِ لِيَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِلْعِبَادَةِ بِقَلْبٍ خَالِصٍ مِنَ الشُّغْلِ بِالدُّنْيَا، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ سُكَّانِ أَيْلَةَ (¬1) عَلَى الْبَحْرِ رَأَوْا ¬

(¬1) أَيْلَة: بِفَتْح الْهمزَة وبتاء تَأْنِيث فِي آخِره بَلْدَة على خليج صَغِير من الْبَحْر الْأَحْمَر فِي أَطْرَاف مشارف الشَّام وتعرف الْيَوْم بِالْعقبَةِ وَهِي غير إيلياء بِكَسْر الْهمزَة وبياءين ممدودتين الَّذِي هُوَ اسْم بَيت الْمُقَدّس.

تَكَاثُرَ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ بِالشَّاطِئِ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَرَ سُفُنَ الصَّيَّادِينَ وَشِبَاكَهُمْ أَمِنَتْ فَتَقَدَّمَتْ إِلَى الشَّاطِئِ تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا فِي الْمَاءِ لِابْتِلَاعِ مَا يَكُونُ عَلَى الشَّوَاطِئِ مِنْ آثَارِ الطَّعَامِ وَمِنْ صَغِيرِ الْحِيتَانِ وَغَيْرِهَا فَقَالُوا لَوْ حَفَرْنَا لَهَا حِيَاضًا وَشَرَعْنَا إِلَيْهَا جَدَاوِلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَتُمْسِكُ الْحِيَاضُ الْحُوتَ إِلَى يَوْمِ الْأَحَدِ فَنَصْطَادُهَا وَفَعَلُوا ذَلِكَ فَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِهَذَا الْحِرْصِ عَلَى الرِّزْقِ أَوْ لِأَنَّهُمْ يَشْغَلُونَ بِالَهُمْ يَوْمَ السَّبْتَ بِالْفِكْرِ فِيمَا تَحَصَّلَ لَهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّلُوا عَلَى اعْتِيَاضِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ، وَهَذَا الَّذِي أَحْسَبُهُ لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا لَمْ تَهْتَدِ إِلَيْهِ شَرِيعَتُهُمْ فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَهُ هُنَا. فَقَوْلُهُ: فِي السَّبْتِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالسَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ بِمَعْنَى احْتَرَمَ السَّبْتَ وَعَظَّمَهُ. وَالْمَعْنَى اعْتَدَوْا فِي حَالِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ أَوْ فِي زَمَنِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (فِي) لِلْعِلَّةِ أَيِ اعْتَدَوُا اعْتِدَاءً لِأَجْلِ مَا أَوْجَبَهُ احْتِرَامُ السَّبْتِ مِنْ قَطْعِ الْعَمَلِ. وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ فِيهِ لِيَكُونَ أَمْنًا لِلدَّوَابِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (فِي) ظَرْفِيَّةً وَالسَّبْتُ بِمَعْنَى الْيَوْمِ وَإِنَّمَا جُعِلَ الِاعْتِدَاءُ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْحَفْرَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ لِأَنَّ أَثَرَهُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعِصْيَانُ وَهُوَ دُخُولُ الْحِيتَانِ لِلْحِيَاضِ يَقَعُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. وَقَوْلُهُ: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ كُونُوا أَمْرُ تَكْوِينٍ وَالْقِرَدَةُ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- جَمْعُ قِرْدٍ وَتَكْوِينُهُمْ قِرَدَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِتَصْيِيرِ أَجْسَامِهِمْ أَجْسَامَ قِرَدَةٍ مَعَ بَقَاءِ الْإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِيِّ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِتَصْيِيرِ عُقُولِهِمْ كَعُقُولِ الْقِرَدَةِ مَعَ بَقَاءِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْعِبْرَةُ حَاصِلَةٌ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْعِبْرَةِ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِبَارَ النَّاسِ بِهِمْ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالثَّانِي أَقْرَبُ لِلتَّارِيخِ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ مَسْخٌ فِي كُتُبِ تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ، وَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَالْكُلُّ مُعْجِزَةٌ لِلشَّرِيعَةِ أَوْ لِدَاوُدَ وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَخْرُ: لَيْسَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ بِبَعِيدٍ جِدًّا لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي الْمَسْخِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ قِرَدَةً أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَتَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ بِفَهْمِ مَقَاصِدِهَا وَمَعَانِيهَا وَأَخَذُوا بِصُورَةِ الْأَلْفَاظِ فَقَدْ أَشْبَهُوا الْعَجْمَاوَاتِ فِي وُقُوفِهَا عِنْدَ الْمَحْسُوسَاتِ فَلَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْعَجْمَاوَاتِ إِلَّا بِالشَّكْلِ الْإِنْسَانِيِّ وَهَذِهِ الْقِرَدَةُ تُشَارِكُهُمْ فِي هَذَا الشَّبَهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ هُوَ مَسْخُ قُلُوبٍ لَا مَسْخُ ذَوَاتٍ.

ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِوُقُوعِ الْمَسْخِ فِي الْأَجْسَامِ اتَّفَقُوا أَوْ كَادُوا عَلَى أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاسَلُ وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يُهْلِكِ اللَّهُ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا» وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَّزَ تَنَاسُلَ الْمَمْسُوخِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْفِيلَ وَالْقِرْدَ وَالضَّبَّ وَالْخِنْزِيرَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَمْسُوخَةِ وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ فِي الضَّبِّ قَالَ أَحَدُ بَنِي سُلَيْمٍ وَقَدْ جَاءَ لِزَوْجِهِ بِضَبٍّ فَأَبَتْ أَنْ تَأْكُلَهُ: قَالَتْ وَكُنْتَ رَجُلًا فَطِينًا ... هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ إِسْرَائِينَا حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ أَكْلِ الْفِيلِ وَنَحْوِهِ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ أَصْلَهُ نَسْلٌ آدَمِيٌّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ «وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَمْسُوخٌ كَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَالضَّبِّ فَفِي الْمَذْهَبِ الْجَوَازُ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالتَّحْرِيمِ لِمَا يُذْكَرُ» أَيْ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَأْكُولَاتِ، وَصَحَّحَ صَاحِبُ «التَّوْضِيحِ» عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازَ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ آخِرِ «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ، أَلَا تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ» اهـ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ» وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذَا قَالَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اجْتِهَادٍ قَبْلَ أَنْ يُوَقِّفَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا يَتَنَاسَلُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: يُؤَيِّدُ هَذَا أَنه قَالَ عَنِ اجْتِهَادِ قَوْلِهِ: «وَلَا أُرَاهَا» . وَلَا شَكَّ أَنْ هَاتِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْحَيَوَانِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْمَسْخِ وَأَنَّ الْمَسْخَ إِلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهَا وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهَا. وَهَذَا الْأَمْرُ التَّكْوِينِيُّ كَانَ لِأَجْلِ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَا اجْتَرَءُوا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ حَتَّى تَحَيَّلُوا عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرْضَى بِالْحِيَلِ عَلَى تَجَاوُزِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَإِنَّ شَرَائِعَ اللَّهِ تَعَالَى مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحٍ وَحِكَمٍ فَالتَّحَيُّلُ عَلَى خَرْقِ تِلْكَ الْحِكَمِ بِإِجْرَاءِ الْأَفْعَالِ عَلَى صُوَرٍ مَشْرُوعَةٍ مَعَ تَحَقُّقِ تَعْطِيلِ الْحِكْمَةِ مِنْهَا جَرَاءَةً، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَنْتَحِلُ جَوَازَ الْحِيَلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] لِأَنَّ تِلْكَ فَتْوَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيءٍ لِتَجَنُّبِ الْحِنْثِ الَّذِي قَدْ يُتَفَادَى عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ أَصْلَ الْحِنْثِ لِنَبِيِّهِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى فَأَفْتَاهُ بِمَا قَالَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى حِكْمَةِ اجْتِنَابِ الْحِنْثِ لِأَنَّ فِيهُُِ

[سورة البقرة (2) : آية 67]

مُحَافَظَةً عَلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَوَاتَ لِلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَسْأَلَةُ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَعَلَّنَا نَتَعَرَّضُ لَهَا فِي سُورَةِ ص وَفِيهَا تَمْحِيصٌ. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناها نَكالًا عَادَ فِيهِ الضَّمِيرُ عَلَى الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً. وَالنَّكَالُ بِفَتْحِ النُّونِ الْعِقَابُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَرْدَعُ الْمُعَاقَبَ عَنِ الْعَوْدِ لِلْجِنَايَةِ وَيَرْدَعُ غَيْرَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مِثْلِهَا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَكَلَ إِذَا امْتَنَعَ وَيُقَالُ نَكَّلَ بِهِ تنكيلا ونكالا معنى عَاقَبَهُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْعَوْدِ. وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا مَا قَارَنَهَا مِنْ مَعَاصِيهِمْ وَمَا سَبَقَ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الْفِعْلَةَ كَانَتْ آخِرَ مَا فَعَلُوهُ فَنَزَلَتِ الْعُقُوبَةُ عِنْدَهَا وَلِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الْأُمَمِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا وَلِمَا خَلْفَهَا مِنَ الْأُمَمِ الْبَعِيدَةِ. وَالْمَوْعِظَةُ مَا بِهِ الْوَعْظُ وَهُوَ التَّرْهِيبُ من الشَّرّ. [67] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 67] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) تَعَرَّضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِقِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ قِلَّةِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِمْ وَمِنَ الْإِعْنَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِيهَا إِمَّا لِلتَّفَصِّي مِنَ الِامْتِثَالِ وَإِمَّا لِبُعْدِ أَفْهَامِهِمْ عَنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ وَرَوْمِهِمُ التَّوْقِيفَ عَلَى مَا لَا قَصْدَ إِلَيْهِ. قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [الْبَقَرَة: 72] الْآيَة وَإِنَّ قَوْلَ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً نَاشِيءٌ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّ قَوْلَ مُوسَى قُدِّمَ هُنَا لِأَنَّ خِطَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ قَدْ نَشَأَ عَنْهُ ضَرْبٌ مِنْ مَذَامِّهِمْ فِي تَلَقِّي التَّشْرِيعِ وَهُوَ الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَمْرِ حِينَ ظَنُّوهُ هُزُؤًا وَالْإِعْنَاتُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَأُرِيدَ مِنْ تَقْدِيمِ جُزْءِ الْقِصَّةِ تَعَدُّدُ تَقْرِيعِهِمْ، هَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْمُوَجِّهُونَ لِكَلَامِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا وَجَّهُوا بِهِ تَقْدِيمَ جُزْءِ الْقِصَّةِ لَا يَقْتَضِي إِلَّا تَفْكِيكَ الْقِصَّةِ إِلَى قِصَّتَيْنِ تُعَنْوَنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ مَعَ بَقَاءِ التَّرْتِيبِ، عَلَى أَنِ الْمَذَامَّ قَدْ تُعْرَفُ بِحِكَايَتِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا بِنَحْوِ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وَقَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] . فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ أَشَارَتِ الْأُولَى وَهِيَ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا إِلَى أَمْرِ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَهَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا التَّوْرَاةُ فِي السِّفْرِ الرَّابِعِ وَهُوَ سِفْرُ التَّشْرِيعِ الثَّانِي (تَثْنِيَةٌ) فِي الْإِصْحَاحِ 21 أَنَّهُ «إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ فَإِنَّ أَقْرَبَ الْقُرَى إِلَى مَوْقِعِ الْقَتِيلِ

يَخْرُجُ شُيُوخُهَا وَيُخْرِجُونَ عِجْلَةً مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا وَلَمْ تَنْجُرْ بِالنِّيرِ فَيَأْتُونَ بِهَا إِلَى وَادٍ دَائِمٍ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ وَلَمْ يُزْرَعْ ويقطعون عُنُقهَا هُنَا لَك وَيَتَقَدَّمُ الْكَهَنَةُ مَنْ بَنِي لَاوِي فَيَغْسِلُ شُيُوخُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي وَيَقُولُونَ لِمَ تَسْفِكْ أَيْدِينَا هَذَا الدَّمَ وَلَمْ تُبْصِرْ أَعْيُنُنَا سَافِكَهُ فَيَغْفِرُ لَهُمُ الدَّمُ» اهـ. هَكَذَا ذُكِرَتِ الْقِصَّةُ بِإِجْمَالٍ أَضَاعَ الْمَقْصُودَ وَأَبْهَمَ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا الذَّبْحِ أَهْوَ إِضَاعَةُ ذَلِكَ الدَّمِ بَاطِلًا أَمْ هُوَ عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْقَتْلِ؟ وَكَيْفَمَا كَانَ فَهَذِهِ بَقَرَةٌ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ كُلِّ قَتْلِ نَفْسٍ جُهِلَ قَاتِلُهَا وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هُنَا، ثُمَّ كَانَ مَا حَدَثَ مِنْ قَتْلِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَهُ أَبْنَاءُ عَمِّهِ وَجَاءُوا مُظْهِرِينَ الْمُطَالَبَةَ بِدَمِهِ وَكَانَتْ تِلْكَ النَّازِلَةُ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُذْبَحَ عِنْدَ جَهْلِ قَاتِلِ نَفْسٍ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ وَجْهُ ذَكَرِهِمَا قِصَّتَيْنِ وَقَدْ أَجْمَلَ الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْقِصَّتَيْنِ لِأَنَّ مَوْضِعَ التَّذْكِيرِ وَالْعِبْرَةِ مِنْهُمَا هُوَ مَا حَدَثَ فِي خِلَالِهِمَا لَا تَفْصِيلُ الْوَقَائِعِ فَكَانَتِ الْقِصَّةُ الأولى تشريعا سيق ذِكْرُهُ لِمَا قَارَنَهُ مِنْ تَلَقِّيهِمُ الْأَمْرَ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ الدَّالِّ عَلَى ضَعْفِ الْفَهْمِ لِلشَّرِيعَةِ وَعَلَى تَطَلُّبِ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ اهْتِمَامُ التَّشْرِيعِ بِهَا، وَكَانَتِ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ مِنَّةً عَلَيْهِمْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَمُعْجِزَةً مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِهِمْ بَيَّنَهَا اللَّهُ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 73] وَأُتْبِعَتْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 74] . وَالتَّأْكِيدُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ حِكَايَةٌ لِمَا عَبَّرَ بِهِ مُوسَى مِنَ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي لَوْ وَقَعَ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَوَقَعَ مُؤَكَّدًا بِإِنَّ. وَقَوْلهمْ: تَتَّخِذُنا هُزُواً اسْتِفْهَامٌ حَقِيقِيٌّ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ مِنْ دَمِ قَتِيلٍ كَاللَّعِبِ وتَتَّخِذُنا بِمَعْنَى تَجْعَلُنَا وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَصْلِ فِعْلِ اتَّخَذَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [74] . وَالْهُزُؤُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالزَّايِ وَبِسُكُونِ الزَّاي مصدر هزأ بِهِ هَزْءًا وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالصَّيْدِ وَالْخَلْقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (هُزُؤًا) بِضَمَّتَيْنِ وَهَمْزٍ بَعْدَ الزَّايِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِسُكُونِ الزَّايِ وَبِالْهَمْزِ وَصْلًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزِ وَاوًا وَقَدْ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ وَاوًا، وَقَرَأَ حَفْصٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزِ وَاوًا فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.

[سورة البقرة (2) : آية 68]

وَقَوْلُ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ تَبَرُّؤٌ وَتَنَزُّهٌ عَنِ الْهُزْءِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ الْأَفَاضِلِ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْمَزْحِ لِأَن فِي الهزؤ مَزْحًا مَعَ استخفاف واحتقار للمزوح مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْمَزْحَ لَا يَلِيقُ فِي الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَطَابَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الرَّسُولِ وَلِذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ مُوسَى بِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمَزْحِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ، وَبَالَغَ فِي التَّنَزُّهِ بِقَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَيْ مِنْهُ لِأَنَّ الْعِيَاذَ بِاللَّهِ أَبْلَغُ كَلِمَاتِ النَّفْيِ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يَعُوذُ بِاللَّهِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ التَّغَلُّبَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ لَا يَغْلِبُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَصِيغَةُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أَبْلَغُ فِي انْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ مِنْ أَنْ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَجْهَلَ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. وَالْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ وَضِدُّ الْحِلْمِ وَقَدْ وَرَدَ لَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الْحَمَاسِيِّ: فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ من علما [68] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 68] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) جِيءَ فِي مُرَاجَعَتِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ بِالطَّرِيقَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ حَذْفِ الْعَاطِفِ بَيْنَ أَفْعَالِ الْقَوْلِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا لَكُمْ فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ. وَمَعْنَى ادْعُ لَنا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الدُّعَاءُ الَّذِي هُوَ طَلَبٌ بِخُضُوعٍ وَحِرْصٍ عَلَى إِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ رَغْبَتُهُمْ فِي حُصُولِ الْبَيَانِ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ الْمَرْجُوَّةِ مِنْ ذَبْحِ بَقَرَةٍ مُسْتَوْفِيَةٍ لِلصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْقَرَابِينِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَقَاصِدِ، بَنَوْهُ عَلَى مَا أَلْفَوْهُ مِنَ الْأُمَمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ اشْتِرَاطِ صِفَاتٍ وَشُرُوطٍ فِي الْقَرَابِينِ الْمُقَرِّبَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُطْلَقَ السُّؤَالِ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّهُ طَلَبٌ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنَ الدُّعَاءِ النِّدَاءَ الْجَهِيرَ بِنَاءً عَلَى وَهْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ بِعِيدُ الْمَكَانِ، فَسَائِلُهُ يَجْهَرُ بِصَوْتِهِ، وَقَدْ نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَنا لَامُ الْأَجَلِ أَيِ ادْعُُُ

عَنَّا، وَجَزْمُ يُبَيِّنْ فِي جَوَابِ ادْعُ لِتَنْزِيلِ الْمُسَبَّبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ، أَيْ إِنْ تَدْعُهُ يَسْمَعْ فَيُبَيِّنُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: مَا هِيَ حَكَى سُؤَالَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بالسؤال ب (مَا) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُوَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ لِأَنَّ (مَا) يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الصِّفَةِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ حَاتِمًا أَوِ الْأَحْنَفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ وَلَمْ يَعْلَمْ صِفَتَيْهِمَا مَا حَاتِمٌ؟ أَوْ مَا الْأَحْنَفُ؟ فَيُقَالُ: كَرِيمٌ أَوْ حَلِيمٌ. وَلَيْسَ (مَا) مَوْضُوعَةً لِلسُّؤَالِ عَنِ الْجِنْسِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْوَاقِفِينَ عَلَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فَتَكَلَّفُوا لِتَوْجِيهِهِ حَيْثُ إِنَّ جِنْسَ الْبَقَرَةِ مَعْلُومٌ بِأَنَّهُمْ نَزَّلُوا هَاتِهِ الْبَقَرَةَ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهَا مَنْزِلَةَ فَرْدٍ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لِغَرَابَةِ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِذَبْحِهَا وَظَنُّوا أَنَّ الْمَوْقِعَ هُنَا للسؤال ب (أَي) أَوْ (كَيْفَ) وَهُوَ وَهْمٌ نبه عَلَيْهِ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَاعْتَضَدَ لَهُ بِكَلَامِ «الْمِفْتَاحِ» إِذْ جَعَلَ الْجِنْسَ وَالصِّفَةَ قِسْمَيْنِ لِلسُّؤَالِ بِمَا. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلسُّؤَالِ بِمَا لِأَنَّ أَيًّا إِنَّمَا يُسْأَلُ بِهَا عَنْ مُمَيِّزِ الشَّيْءِ عَنْ أَفْرَادٍ مِنْ نَوْعِهِ الْتَبَسَتْ بِهِ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَعَ أَيِّ نَحْوَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ [مَرْيَم: 73] وَأَيُّ الْبَقَرَتَيْنِ أَعْجَبَتْكَ وَلَيْسَ لَنَا هُنَا بَقَرَاتٌ مُعَيَّنَاتٌ يُرَادُ تَمْيِيزُ إِحْدَاهَا. وَقَوْلُهُ: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ أَكَّدَ مَقُولَ مُوسَى وَمَقُولَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِنَّ لِمُحَاكَاةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ مُوسَى مِنَ الِاهْتِمَامِ بِحِكَايَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَكَّدَهُ بِإِنَّ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَدْلُولُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى مِنْ تَحْقِيقِ إِرَادَتِهِ ذَلِكَ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَا بَدَا مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَتَنَصُّلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ الَّذِي فِي كَلَامِ مُوسَى لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَالَ لِمُوسَى ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى اتِّهَامِهِمُ السَّابِقِ فِي قَوْلهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَة: 67] جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ. وَوَقَعَ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ وَأُقْحِمَ فِيهِ حَرْفُ (لَا) لِكَوْنِ الصِّفَةِ بِنَفْيِ وَصْفٍ ثُمَّ بِنَفْيِ آخَرَ عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتِ وَصْفٍ وَاسِطَةً بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمَنْفِيَّيْنِ فَلَمَّا جِيءَ بِحَرْفِ (لَا) أُجْرِيَ الْإِعْرَابُ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ (لَا) غَيْرُ عَامِلَةٍ شَيْئًا فَيُعْتَبَرُ مَا قَبْلَ لَا عَلَى عَمَلِهِ فِيمَا بَعْدَهَا سَوَاءٌ كَانَ وَصْفًا كَمَا هُنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] وَقَوْلُ جُوَيْرِيَةَ أَوْ حُوَيْرِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الرَّامِي: وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٍ وَلَا عُزْلِ

أَوْ حَالًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ: قَهَرْتَ الْعِدَا لَا مُسْتَعِينًا بِعُصْبَةٍ ... وَلَكِنْ بِأَنْوَاعِ الْخَدَائِعِ وَالْمَكْرِ (¬1) أَوْ مُضَافًا كَقَوْلِ النَّابِغَة: وشيمة لاوان لَا وَاهِنِ الْقُوَى ... وَجَدٍّ إِذَا خَابَ الْمُفِيدُونَ صَاعِدِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ قَوْلُ الْأُولَى: «لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ» عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ- أَيْ هُوَ أَيِ الزَّوْجُ- لَا سَهْلٌ وَلَا سَمِينٌ. وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ أَنَّ لَا هَذِهِ يَجِبُ تَكْرِيرُهَا فِي الْخَبَرِ وَالنَّعْتِ وَالْحَالِ أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ وَنَحْوُهُ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِدْخَالُ (لَا) فِي الْخَبَرِ وَنَحْوِهِ وَجَعَلُوا بَيْتَ جُوَيْرِيَةَ أَوْ حُوَيْرِثَةَ ضَرُورَةً وَخَالَفَ فِيهِ الْمُبَرِّدُ. وَلَيْسَتْ (لَا) فِي مِثْلِ هَذَا بِعَامِلَةٍ عَمَلَ لَيْسَ وَلَا عَمَلَ إِنَّ، وَذِكْرُ النُّحَاةِ لِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ لِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ وَصْفَيْنِ بِحَرْفِ (لَا) قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي إِفَادَةِ إِثْبَاتِ وَصْفٍ ثَالِثٍ هُوَ وَسَطٌ بَيْنِ حَالَيْ ذَيْنَكَ الْوَصْفَيْنِ مِثْلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ وَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النِّسَاء: 143] وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي إِرَادَةِ مُجَرَّدِ نَفْيِ ذَيْنَكَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يُطْلَبُ فِي الْغَرَضِ الْوَارِدَيْنِ فِيهِ وَلَا يُقْصَدُ إِثْبَاتُ وَصْفٍ آخَرَ وَسَطٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْغَالِبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: 42- 44] . وَالْفَارِضُ الْمُسِنَّةُ لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا أَيْ قَطَعَتْهَا، وَالْفَرْضُ الْقَطْعُ وَيُقَالُ لِلْقَدِيمِ فَارِضٌ. وَالْبِكْرُ الْفَتِيَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبُكْرَةِ بِالضَّمِّ وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ لِأَنَّ الْبِكْرَ فِي أَوَّلِ السَّنَوَاتِ عُمُرِهَا وَالْعَوَانَ هِيَ الْمُتَوَسِّطَةُ السِّنِّ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ لَهُمُ الْعَوَانُ لِأَنَّهَا أَنْفَسُ وَأَقْوَى وَلِذَلِكَ جُعِلَتِ الْعَوَانُ مَثَلًا لِلشِّدَّةِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَمَنْ يَتَرَبَّصِ الْحَدَثَانِ تَنْزِلِ ... بِمَوْلَاهُ عَوَانٌ غَيْرُ بِكْرِ أَيْ مُصِيبَةٌ عَوَانٌ أَيْ عَظِيمَةٌ. وَوَصَفُوا الْحَرْبَ الشَّدِيدَةَ فَقَالُوا: حَرْبٌ عَوَانٌ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ ذلِكَ أَي بَين هَذَيْنِ السِّنَّيْنِ، فَالْإِشَارَةُ لِلْمَذْكُورِ الْمُتَعَدِّدِ. ¬

(¬1) بِفَتْح التَّاء للخطاب.

وَلِهَذَا صَحَّتْ إِضَافَةُ بَيْنَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تُضَافُ لِلضَّمِيرِ الدَّالِّ عَلَى مُتَعَدِّدٍ وَإِنْ كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي نَحْوِ بَيْنِهَا. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 61] . وَجَاءَ فِي جَوَابِهِمْ بِهَذَا الْإِطْنَابِ دُونَ أَنْ يَقُولَ مِنْ أَوَّلِ الْجَوَابِ إِنَّهَا عَوَانٌ تَعْرِيضًا بِغَبَاوَتِهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى تَكْثِيرِ التَّوْصِيفِ حَتَّى لَا يَتْرُكَ لَهُمْ مَجَالًا لِإِعَادَةِ السُّؤَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: هُمْ سَأَلُوا عَنْ صِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ السِّنِّ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ مِنْ سُؤَالهمْ الْآتِي ب مَا هِيَ أَيْضًا أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ تَدَرُّبِهَا عَلَى الْخِدْمَةِ؟ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا هِيَ اخْتِصَارًا لِسُؤَالِهِمُ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَيَانِ وَهَذَا الِاخْتِصَارُ مِنْ إِبْدَاعِ الْقُرْآنِ اكْتِفَاءً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا حُكِيَ فِي الْقُرْآنِ مُرَادِفَ سُؤَالِهِمْ فَيَكُونُ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ أَوَّلَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَغْرَاضُ النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الدَّوَابِّ هُوَ السِّنُّ فَهُوَ أَهَمُّ صِفَاتِ الدَّابَّةِ وَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنِ اللَّوْنِ ثُمَّ سَأَلُوا السُّؤَالَ الثَّانِيَ الْمُبْهَمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا مَقَاصِدُ النَّاسِ مِنَ الدَّوَابِّ غَيْرُ حَالَةِ الْكَرَامَةِ أَيْ عَدَمِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ضَعِيفٌ إِذْ قَدْ تَخْدِمُ الدَّابَّةُ النَّفِيسَةُ ثُمَّ يُكْرِمُهَا مَنْ يَكْتَسِبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَزُولُ آثَارُ الْخِدْمَةِ وَشَعَثُهَا. وَقَوْلُهُ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ الْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ وَمَوْقِعُهَا هُنَا مَوْقِعُ قِطْعِ الْعُذْرِ مَعَ الْحَثِّ عَلَى الِامْتِثَالِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا أَيْ فَقَدْ حَصَلَ مَا تَعَلَّلْتُمْ بِهِ مِنْ طُولِ السَّفَرِ. وَالْمَعْنَى فَبَادِرُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَهُوَ ذبح الْبَقَرَة، و (مَا) مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ حَذْفِ جَارِّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، فَتَوَسَّلُوا بِحَذْفِ الْجَارِّ إِلَى حَذْفِ الضَّمِيرِ. وَفِي حَثِّ مُوسَى إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بَعْدَ مَا كُلِّفُوا بِهِ مِنَ اخْتِيَارِهَا عَوَانًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مَا غَيْرِ مُرَادٍ مِنْهَا صِفَةٌ مُقَيَّدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْمُبَادَرَةِ بِالذَّبْحِ حِينَئِذٍ عَلِمْنَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَا كُلِّفُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ أَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ فَاقِعَةً وَأَنْ تَكُونَ

سَالِمَةً مِنْ آثَارِ الْخِدْمَةِ لَيْسَ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ تَكْلِيفِهِمْ أَوَّلَ الْأَمْرِ وَهُوَ الْحَقُّ، إِذْ كَيْفَ تَكُونُ تِلْكَ الْأَوْصَاف مُرَادة مَعَ أَنَّهَا أَوْصَافٌ طَرْدِيَّةٌ لَا أَثَرَ لَهَا فِي حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِهَا لِلصَّدَقَةِ أَوْ لِلْقُرْبَانِ أَوْ لِلرَّشِّ عَلَى النَّجَسِ أَوْ لِلْقَسَامَةِ فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَاتِهِ الصِّفَاتِ مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ أَمْرَهُمْ بِهَاتِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا هُوَ تَشْرِيعٌ طَارِئٌ قُصِدَ مِنْهُ تَأْدِيبُهُمْ عَلَى سُؤَالِهِمْ فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُمْ لِلْمَطْلِ وَالتَّنَصُّلِ فَطَلَبُ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُشِقَّةِ عَلَيْهِمْ تَأْدِيبٌ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ وَالتَّذَرُّعِ لِلْعِصْيَانِ، وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا نَاشِئًا عَنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِهَاتِهِ الْبَقَرَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ مِنْهَا صِفَاتٌ نَادِرَةٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ بَعْدُ: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [الْبَقَرَة: 70] فَتَكْلِيفُهُمْ بِهَاتِهِ الصِّفَاتِ الْعَسِيرِ وَجُودُهَا مُجْتَمِعَةً تَأْدِيبٌ عِلْمِيٌّ عَلَى سُوءِ فَهْمِهِمْ فِي التَّشْرِيعِ كَمَا يُؤَدَّبُ طَالِبُ الْعِلْمِ إِذَا سَأَلَ سُؤَالًا لَا يَلِيقُ بِرُتْبَتِهِ فِي الْعِلْمِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي وَاقِعَةِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ «لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ» . وَمِنْ ضُرُوبِ التَّأْدِيبِ الْحَمْلُ عَلَى عَمَلٍ شَاقٍّ، وَقَدْ أَدَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُ عَبَّاسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ على الْحِرْص حِينَ حَمَلَ مِنْ خُمْسِ مَالِ الْمَغْنَمِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقِلَّهُ فَقَالَ لَهُ: مر أحدا رَفعه لِي فَقَالَ: لَا آمُرُ أَحَدًا فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْهُ أَنْتَ لِي فَقَالَ: لَا، حَتَّى جَعَلَ الْعَبَّاسُ يَحْثُو مِنَ الْمَالِ وَيُرْجِعُهُ لِصُبْرَتِهِ إِلَى أَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَ مَا بَقِيَ فَذَهَبَ وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ تَعَجُّبًا مِنْ حِرْصِهِ كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِقَصْدِ التَّأْدِيبِ أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ، وَعُدَّتِ الْقِصَّةُ فِي عِدَادِ قَصَصِ مَسَاوِيهِمْ وَسُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِلشَّرِيعَةِ بِأَصْنَافٍ مِنَ التَّقْصِيرِ عَمَلًا وَشُكْرًا وَفَهْمًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى آخِرَ الْآيَاتِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] مَعَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ أَجْزَأَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُونَ أَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَلَا عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ لِأَنَّ مَا طَرَأَ تَكْلِيفٌ خَاصٌّ لِلْإِعْنَاتِ، عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالنَّسْخِ اصْطِلَاح القدماء.

[سورة البقرة (2) : آية 69]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 69] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) سَأَلُوا ب (مَا) عَنْ مَاهِيَّةِ اللَّوْنِ وَجِنْسِهِ لِأَنَّهُ ثَانِي شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَغْرَاضُ الرَّاغِبِينَ فِي الْحَيَوَانِ. وَالْقَوْلُ فِي جَزْمِ: يُبَيِّنْ وَفِي تَأْكِيدِ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها احْتِيجَ إِلَى تَأْكِيدِ الصُّفْرَةِ بِالْفُقُوعِ وَهُوَ شِدَّةُ الصُّفْرَةِ لِأَنَّ صُفْرَةَ الْبَقَرِ تُقَرِّبُ مِنَ الْحُمْرَةِ غَالِبًا فَأَكَّدَهُ بِفَاقِعٍ وَالْفُقُوعُ خَاصٌّ بِالصُّفْرَةِ، كَمَا اخْتَصَّ الْأَحْمَرُ بِقَانٍ وَالْأَسْوَدُ بِحَالِكٍ، وَالْأَبْيَضُ بَيْقَقٌ، وَالْأَخْضَرُ بِمُدْهَامٍّ، وَالْأَوْرَقُ بِخُطْبَانِيٍّ (نِسْبَةً إِلَى الْخُطْبَانِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَهُوَ نَبْتٌ كَالْهِلْيُونِ) ، وَالْأُرْمَكُ وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ لَوْنُ الرَّمَادِ بِرَدَّانِيٍّ (بَرَاءٍ فِي أَوَّلِهِ) وَالرَّدَّانُ الزَّعْفَرَانُ كَذَا فِي الطِّيبِيِّ (وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» و «الطَّيِّبِيّ» بِأَلِفٍ بَعْدَ الدَّالِ وَوَقَعَ فِي «الْقَامُوسِ» أَنَّهُ بِوَزْنِ صَاحِبٍ) وَضَبْطِ الرَّاءِ فِي نُسْخَةٍ مِنَ «الْكَشَّافِ» وَنُسْخَةٍ مِنْ «حَاشِيَةِ الْقُطْبِ» عَلَيْهِ وَنُسْخَةٍ مِنْ «حَاشِيَةِ الْهَمْدَانِيِّ» عَلَيْهِ بِشَكْلِ ضَمَّةٍ عَلَى الرَّاءِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي «الْقَامُوسِ» . وَالنُّصُوعُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَلْوَانِ، وَهُوَ خُلُوصُ اللَّوْنِ مِنْ أَنْ يُخَالِطَهُ لَوْنٌ آخَرُ. وَلَوْنُهَا إِمَّا فَاعل بفاقع أَوْ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَإِضَافَتُهُ لِضَمِيرِ الْبَقَرَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ اللَّوْنُ الْأَصْفَرُ فَكَانَ وَصْفُهُ بِفَاقِعٍ وَصْفًا حَقِيقِيًّا وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ إِلَى صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها لِيَحْصُلَ وَصْفُهَا بِالْفُقُوعِ مَرَّتَيْنِ إِذْ وَصَفَ اللَّوْنَ بِالْفُقُوعِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ اللَّوْنُ مُضَافًا لِضَمِيرِ الصَّفْرَاءِ كَانَ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ جَارِيًا عَلَى سببيه (على نحوما قَالَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي كَوْنِ الْمُسْنَدِ فِعْلًا مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يَسْتَنِدُ إِلَى الضَّمِيرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ بِوَاسِطَةِ عَوْدِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ يَسْتَنِدُ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ) وَقَدْ ظَنَّ الطَّيِّبِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ إِسْنَادَ (فَاقِعٍ) لِلَوْنِهَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ وَهْمٌ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا تَمْثِيلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ جَدُّ جَدِّهِ فَهُوَ تَنْظِيرٌ فِي مُجَرَّدِ إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أَيْ تُدْخِلُ رُؤْيَتُهَا عَلَيْهِمْ مَسَرَّةً فِي نُفُوسِهِمْ، وَالْمَسَرَّةُ لَذَّةٌ نَفْسِيَّةٌ تَنْشَأُ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْمُلَائِمِ أَوْ عَنِ اعْتِقَادِ حُصُولِهِ وَمِمَّا يُوجِبُهَا التَّعَجُّبُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْإِعْجَابُ بِهِ. وَهَذَا اللَّوْنُ مِنْ أَحْسَنِ أَلْوَانِ الْبَقَرِ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ فِعْلُ تَسُرُّ إِلَى ضَمِيرِ الْبَقَرَةِ لَا إِلَى ضَمِيرِ اللَّوْنِ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّ لَوْنَ الْأَصْفَرِ مِمَّا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ مُطْلَقًا. وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّاظِرِينَ دُونَ النَّاسِ وَنَحْوِهِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 70 إلى 71]

لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَسَرَّةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ بَابِ اسْتِفَادَةِ التَّعْلِيلِ مِنَ التَّعْلِيقِ بِالْمُشْتَقِّ. [70، 71] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 70 الى 71] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ. الْقَوْلُ فِي مَا هِيَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَكَى مُرَادِفَ كَلَامِهِمْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَالْجَوَاب لَهُم ب إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الْأَغْرَاضُ بِهَا إِلَّا الْكَرَامَةُ وَالنَّفَاسَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْكِيُّ فِي الْقُرْآنِ اخْتِصَارًا لِكَلَامِهِمْ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مُرَادَهُمْ فَأَنْبَأَهُمْ بِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ إِعَادَتَهُمُ السُّؤَالَ تُوقِعُ فِي نَفْسِ مُوسَى تَسَاؤُلًا عَنْ سَبَبِ هَذَا التَّكْرِيرِ فِي السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا اعْتِذَارٌ عَنْ إِعَادَةِ السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَذِرُوا فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَاعْتَذَرُوا الْآنَ لِأَنَّ لِلثَّالِثَةِ فِي التَّكْرِيرِ وَقعا فِي النَّفْسِ فِي التَّأْكِيدِ وَالسَّآمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ وَشَرَائِعِهِمُ التَّوْقِيتُ بِالثَّلَاثَةِ. وَقَدْ جِيءَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرٍ لَا يَشُكُّ مُوسَى فِي صِدْقِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ ثُمَّ يُتَوَسَّلُ بِالِاهْتِمَامِ إِلَى إِفَادَةِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ فَتُفِيدُ (إِنَّ) مَفَادَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ وَهُوَ مَا اعْتَنَى الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِ بِشَارٍ: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 32] فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةً. وَقَوْلُهُمْ: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ تَنْشِيطٌ لِمُوسَى وَوَعْدٌ لَهُ بِالِامْتِثَالِ لِيَنْشَطَ إِلَى دُعَاءِ رَبِّهِ بِالْبَيَانِ وَلِتَنْدَفِعَ عَنْهُ سَآمَةُ مُرَاجَعَتِهِمُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَوَارِقِهَا فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [الْبَقَرَة: 68] وَلِإِظْهَارِ حُسْنِ الْمَقْصِدِ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَأَنْ لَيْسَ قَصْدُهُمُ الْإِعْنَاتَ. تَفَادِيًا مِنْ غَضَبِ مُوسَى عَلَيْهِم. وَالتَّعْلِيق ب إِنْ شاءَ اللَّهُ لِلتَّأَدُّبِ مَعَ اللَّهِ فِي رَدِّ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ حُصُولِ الْخَيْرِ. وَالْقَوْلُ فِي وَجْهِ التَّأْكِيدِ فِي إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْأَوَّلِ.

وَالذَّلُولُ- بِفَتْحِ الذَّالِ- فَعُولٌ مِنْ ذَلَّ ذِلًّا- بِكَسْرِ الذَّالِ فِي الْمَصْدَرِ- بِمَعْنَى لَانَ وَسَهُلَ. وَأَمَّا الذُّلُّ- بِضَمِّ الذَّالِ- فَهُوَ ضِدُّ الْعِزِّ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ خَصَّ الِاسْتِعْمَالُ أَحَدَ الْمَصْدَرَيْنِ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ أَنْ يُحْرَثَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُسْقَى بِجَرِّهَا أَيْ هِيَ عِجْلَةٌ قَارَبَتْ هَذَا السِّنَّ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا حُدِّدَ بِهِ سِنُّهَا فِي التَّوْرَاةِ. وَلَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ. وَجُمْلَةُ تُثِيرُ الْأَرْضَ حَالٌ مِنْ ذَلُولٌ. وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ حَرْثُهَا وَقَلْبُ دَاخِلِ تُرَابِهَا ظَاهِرًا وَظَاهِرِهِ بَاطِنًا، أُطْلِقَ عَلَى الْحَرْثِ فِعْلُ الإثارة تَشْبِيها لانقلال أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بِثَوْرَةِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] أَيْ تَبْعَثُهُ وَتَنْقُلُهُ وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] : وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَإِقْحَامُ (لَا) بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ بِهَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهَا إِنَّمَا هُوَ لِمُرَاعَاةِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ فِي كُلِّ وَصْفٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ أُدْخِلَ فِيهِ حَرْفُ لَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ [الْبَقَرَة: 68] فَإِنَّهُ لَمَّا قُيِّدَتْ صِفَةُ ذَلُولٍ بِجُمْلَةِ تَسْقِي الْحَرْثَ صَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهَا بَقَرَةٌ لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ فَجَرَتِ الْآيَةُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ مِنْ إِعَادَةِ (لَا) وَبِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْمُبَرِّدِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي (تثير) و (تَسْقِي) لِأَنَّهُ الْأَنْسَبُ بِذَلُولٍ إِذِ الْوَصْفُ شَبِيهٌ بِالْمُضَارِعِ وَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ دَالٌّ عَلَى الْحَالِ. وَ (مُسَلَّمَةٌ) أَيْ سَلِيمَةٌ مِنْ عُيُوبِ نَوْعِهَا فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ سُلِّمَتِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وَكَثِيرًا مَا تُذْكَرُ الصِّفَاتُ الَّتِي تُعْرَضُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فِي الْفِعْلِ وَالْوَصْفِ إِذْ لَا يخْطر على بَاب الْمُتَكَلِّمِ تَعْيِينُ فَاعِلِ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا مُعْظَمُ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتُزِمَ فِيهَا الْبِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ. وَقَوْلُهُ: لَا شِيَةَ فِيها صِفَةٌ أُخْرَى تُمَيِّزُ هَذِهِ الْبَقَرَةَ عَنْ غَيْرِهَا. وَالشِّيَةُ الْعَلَامَةُ وَهِيَ بِزِنَةِ فِعْلَةٍ مِنْ وَشَى الثَّوْبَ إِذَا نَسَجَهُ أَلْوَانًا وَأَصْلُ شِيَةٍ وَشْيَةٌ وَيَقُولُ الْعَرَبُ ثَوْبٌ مُوَشًّى وَثَوْبٌ وَشِيٌّ، وَيَقُولُونَ: ثَوْرٌ مُوَشَّى الْأَكَارِعِ لِأَنَّ فِي أَكَارِعِ ثَوْرِ الْوَحْشِ سَوَادٌ يُخَالِطُ صُفْرَتَهُ فَهُوَ ثَوْرٌ أَشْيَهٌ وَنَظَائِرُهُ قَوْلُهُمْ فَرَسٌ أَبْلَقُ، وَكَبْشٌ أَدْرَعُ، وَتَيْسٌ أَزْرَقُ وَغُرَابٌ أَبْقَعُ، بِمَعْنَى مُخْتَلِطٍ لَوْنَيْنِ. وَقَوْلُهُ: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أَرَادُوا بِالْحَقِّ الْأَمْرَ الثَّابِتَ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ كَمَا تَقُولُ جَاءَ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يُرِيدُوا مِنَ الْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ نَبِيَّهُمْ. فَإِنْ

قُلْتَ: لِمَاذَا ذُكِرَ هُنَا بِلَفْظِ الْحَقِّ؟ وَهَلَّا قِيلَ قَالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْبَيَانِ أَوْ بِالثَّبْتِ؟ قُلْتُ: لَعَلَّ الْآيَةَ حَكَتْ مَعْنَى مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْيَهُودُ لِمُوسَى بِلَفْظٍ هُوَ فِي لُغَتِهِمْ مُحْتَمِلٌ لِلْوَجْهَيْنِ فَحَكَى بِمَا يُرَادِفُهُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى قِلَّةِ اهْتِمَامِهِمْ بِانْتِقَاءِ الْأَلْفَاظِ النَّزِيهَةِ فِي مُخَاطَبَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعِنا، فَنُهِينَا نَحْنُ عَنْ أَنْ نَقُولَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا [الْبَقَرَة: 104] وَهُمْ لِقِلَّةِ جَدَارَتِهِمْ بِفَهْمِ الشَّرَائِعِ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ فِي الْأَمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ دُونَ بَيَانِ صِفَاتِهَا تَقْصِيرًا كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ كَالْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ فَجَعَلُوا يَسْتَوْصِفُونَهَا بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَاسْتَكْمَلُوا مُوسَى لَمَّا بَيَّنَ لَهُمُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا أَغْرَاضُ النَّاسِ فِي الْكَسْبِ لِلْبَقَرِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ فِي عِلْمِ النَّبِيءِ بِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَالًا فِيهِ، فَلِذَا مَدَحُوهُ بَعْدَ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمُ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْمُمْتَحِنُ لِلتِّلْمِيذِ بَعْدَ جَمْعِ صُوَرِ السُّؤَالِ: الْآنَ أَصَبْتَ الْجَوَابَ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ وَغَيْرِهِ فِي التَّشْرِيعِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُسلمُونَ أَن يقعلوا فِي فَهْمِ الدِّينِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ وَذُمُّوا لِأَجْلِهِ. فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ. عَطَفَتِ الْفَاءُ جُمْلَةَ فَذَبَحُوها عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ فَوَجَدُوهَا أَوْ فَظَفِرُوا بِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ الِاقْتِصَارِيِّ، وَلَمَّا نَابَ الْمَعْطُوفُ فِي الْمَوْقِعِ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ صَحَّ أَنْ نَقُولَ الْفَاءُ فِيهِ لِلْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ فِيهَا فَاءٌ لِلْفَصِيحَةِ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ إِنَّ فَاءَ الْفَصِيحَةِ مَا أَفْصَحَتْ عَنْ مُقَدَّرٍ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِذِكْرِ حَالٍ مِنْ سُوءِ تَلَقِّيهِمُ الشَّرِيعَةَ، تَارَةً بِالْإِعْرَاضِ وَالتَّفْرِيطِ، وَتَارَةً بِكَثْرَةِ التَّوَقُّفِ وَالْإِفْرَاطِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأُصُولِ التَّفَقُّهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْأَخْذُ بِالْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي مَعْنَى التَّشْرِيعِ دُونَ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ ذَبَحُوا أَيَّةَ بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِمْ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوِ اعْتَرَضُوا أدنى بقرة فدبحوها لَكَفَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وَفِي سَنَدِهِ عُبَادَةُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَقَالَ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» وَبَيَّنَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ مَا يَفْعَلُهُ فِي شَأْنِهَا فَقَالَ

السَّائِلُ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: «هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ السَّائِلُ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ فَغَضِبَ رَسُولُ الله وَقَالَ مَالك وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا» . وَجُمْلَةُ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِئْنَافَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَشَدُّ رَبْطًا لِلْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَصْلُ الْجُمَلِ أَيْ ذَبَحُوهَا فِي حَالٍ تَقْرُبُ مِنْ حَالِ مَنْ لَا يَفْعَلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ذَبَحُوهَا مُكْرَهِينَ أَوْ كَالْمُكْرَهِينَ لِمَا أَظْهَرُوا مِنَ الْمُمَاطَلَةِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ وَقْتُ الذَّبْحِ وَوَقْتُ الِاتِّصَافِ بِمُقَارَبَةِ انْتِفَائِهِ وَقْتًا مُتَّحِدًا اتِّحَادًا عُرْفِيًّا بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ الْخِطَابِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مُمَاطَلَتَهُمْ قَارَنَتْ أَوَّلَ أَزْمِنَةِ الذَّبْحِ. وَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ يَصِحُّ اخْتِلَافُ الزَّمَنَيْنِ أَيْ فَذَبَحُوهَا عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ عِنْدِ إِتْمَامِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ شَأْنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَأْنَ مَنْ لَمْ يُقَارِبْ أَنْ يَفْعَلَ. ثُمَّ إِنَّ مَا كادُوا يَفْعَلُونَ يَقْتَضِي بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَفْيَ مَدْلُولِ كَادَ فَإِنَّ مَدْلُولَهَا الْمُقَارَبَةُ وَنَفْيُ مُقَارَبَةِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ بِالْأَوْلَى فَيُقَالُ أَنَّى يَجْتَمِعُ ذَلِكَ مَعَ وُقُوعِ ذَبْحِهَا بِقَوْلِهِ: فَذَبَحُوها؟ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ فَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ نَفْيَ مُقَارَبَةِ الْفِعْلِ كَانَ قَبْلَ الذَّبْحِ حِينَ كَرَّرُوا السُّؤَالَ وَأَظْهَرُوا الْمِطَالَ ثُمَّ وَقَعَ الذَّبْحُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَجَابَ بِمِثْلِ هَذَا جَمَاعَةٌ يَعْنُونَ كَأَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ فَجْأَةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ اسْتِئْنَافًا وَقَدْ عَلِمْتُمْ بُعْدَهُ. فَالْوَجْهُ الْقَالِعُ لِلْإِشْكَالِ هُوَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْعَرَبِيَّةِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَفَادِ كَادَ الْمَنْفِيَّةِ فِي نَحْوِ مَا كَادَ يَفْعَلُ فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجِيُّ إِلَى أَنَّ نَفْيَهَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مُقَارَبَةِ الْفِعْلِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْفِعْلِ بِالْأَوْلَى فَيَكُونُ إِثْبَاتُ كَادَ نَفْيًا لِوُقُوعِ الْخَبَرِ الَّذِي فِي قَوْلِكَ كَادَ يَقُومُ أَيْ قَارَبَ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا قَارَبَ وَلَمْ يَفْعَلْ وَنَفْيُهَا نَفْيًا لِلْفِعْلِ بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ فَهُوَ كَالْمَنْطُوقِ وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ خلاف ذَلِك مؤول بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ وَقْتَيْنِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامَيْنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ فَذَبَحُوهَا الْآنَ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ خَبَرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ فِي الصُّورَةِ قَرِينَةً عَلَى قَصْدِ زَمَانَيْنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْكَافِيَةِ» إِذْ قَالَ: وَبِثُبُوتِ كَادَ يُنْفَى الْخَبَرُ ... وَحِينَ يُنْفَى كَادَ ذَاكَ أَجْدَرُ وَغَيْرُ ذَا عَلَى كَلَامَيْنِ يَرِدْ ... كَوَلَدَتْ هِنْدٌ وَلَمْ تَكَدْ تَلِدْ

وَهَذَا الْمَذْهَبُ وُقُوفٌ مَعَ قِيَاسِ الْوَضْعِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ إِثْبَاتَ كَادَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي تَقْرِيرِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ نَفْيَهَا يَصِيرُ إِثْبَاتًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَعْرَابِ حَتَّى أَلْغَزَ فِيهِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ: أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَة ... أَنْت فِي لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي صُورَةِ الْجَحْدِ أَثْبَتَتْ ... وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ وَقَدِ احْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ. وَقَدْ جَرَتْ فِي هَذَا نَادِرَةٌ أَدَبِيَّةٌ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَهِيَ أَنَّ عَنْبَسَةَ الْعَنْسِيَّ الشَّاعِرَ قَالَ: قَدِمَ ذُو الرُّمَّةِ الْكُوفَةَ فَوَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ بِالْكُنَاسَةِ (¬1) يُنْشِدُ قَصِيدَتَهُ الْحَائِيَّةَ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَمَنْزِلَتَيْ ميّ سَلام عَلَيْكُم ... عَلَى النَّأْيِ وَالنَّائِي يَوَدُّ وَيَنْصَحُ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ فِيهَا: إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ وَكَانَ فِي الْحَاضِرِينَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فَنَادَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ يَا غَيْلَانُ أَرَاهُ قَدْ بَرِحَ قَالَ: فَشَنَقَ نَاقَتَهُ وَجَعَلَ يَتَأَخَّرُ بِهَا وَيَتَفَكَّرُ ثُمَّ قَالَ: «لَمْ أَجِدْ» عِوَضَ «لَمْ يَكَدْ» قَالَ عَنْبَسَةُ: فَلَمَّا انْصَرَفْتُ حَدَّثْتُ أَبِي فَقَالَ لِي: أَخْطَأَ ابْنُ شُبْرُمَةَ حِينَ أَنْكَرَ عَلَى ذِي الرُّمَّةِ، وَأَخْطَأَ ذُو الرُّمَّةِ حِينَ غَيَّرَ شِعْرَهُ لِقَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: إِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النُّور: 40] وَإِنَّمَا هُوَ لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ. وَذَهَبَ قَوْمٌ- مِنْهُمْ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي وَعَبْدُ الْقَاهِرِ وَابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» - إِلَى أَنَّ أَصْلَ كَادَ أَنْ يَكُونَ نَفْيُهَا لِنَفْيِ الْفِعْلِ بِالْأَوْلَى كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ إِلَّا أَنَّهَا قَدْ يُسْتَعْمَلُ نَفْيُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بَعْدَ بُطْءٍ وَجَهْدٍ وَبَعْدَ أَنْ كَانَ بَعِيدًا فِي الظَّنِّ أَنْ يَقَعَ وَأَشَارَ عَبْدُ الْقَاهِرِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ جَرَى فِي الْعُرْفِ وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ بِأَنْ تُشَبَّهَ حَالَةُ مَنْ فَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَ عَنَاءٍ بِحَالَةِ مَنْ بَعُدَ عَنِ الْفِعْلِ فَاسْتَعْمَلَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَى حَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي حَالَةِ الْمُشَبَّهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَجْعَلُونَ نَحْوَ قَوْلِهِ فَذَبَحُوها قَرِينَةً عَلَى هَذَا الْقَصْدِ. قَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» : «وَتُنْفَى كَادَ إِعْلَامًاُُ ¬

(¬1) الكناسة: بِضَم الْكَاف أَصله اسْم لما يكنس، وَسمي بهَا ساحة بِالْكُوفَةِ مثل المربد بِالْبَصْرَةِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 72 إلى 73]

بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَسِيرًا أَوْ بِعَدَمِهِ وَعَدَمِ مُقَارَبَتِهِ» وَاعْتَذَرَ فِي شَرْحِهِ لِلتَّسْهِيلِ عَنْ ذِي الرُّمَّةِ فِي تَغْيِيرِهِ بَيْتَهُ بِأَنَّهُ غَيَّرَهُ لِدَفْعِ احْتِمَالِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ كَادَ إِنْ نُفِيَتْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَهِيَ لِنَفْيِ الْمُقَارَبَةِ وَإِنْ نُفِيَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَهِيَ لِلْإِثْبَاتِ وَشُبْهَتُهُ أَنْ جَاءَتْ كَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ لَمْ يَكَدْ يَراها [النُّور: 40] وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وَأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ الْمَاضِي لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِمْرَارَ إِلَى زَمَنِ الْحَالِ بِخِلَافِ نَفْيِ الْمُضَارِعِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَا كَادَ يَفْعَلُ وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ كَادَ مَا يَفْعَلُ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْقَلْبِ الشَّائِعِ. وَعِنْدِي أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ نَفْيَهَا فِي مَعْنَى الْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوهَا فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ مُفِيدَةً مَعْنَى النَّفْيِ جَعَلُوا نَفْيَهَا بِالْعَكْسِ كَمَا فَعَلُوا فِي لَوْ وَلَوْلَا وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَوَاضِعُ اسْتِعْمَالِ نَفْيِهَا فَإِنَّكَ تَجِدُ جَمِيعَهَا بِمَعْنَى مُقَارَبَةِ النَّفْيِ لَا نَفْيِ الْمُقَارَبَةِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْقَلْبِ الْمُطَّرِدِ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ مَا كَادَ يَفْعَلُ وَلَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ بِمَعْنَى كَادَ مَا يَفْعَلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ بَقَايَا لُغَةٍ قَدِيمَةٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ تَجْعَلُ حَرْفَ النَّفْيِ الَّذِي حَقُّهُ التَّأْخِيرُ مُقَدَّمًا وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ: «جَرَتْ فِي لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودَ» وَيَشْهَدُ لِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ ذِي الرُّمَّةِ بَيْتَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَصْحَابِ الذَّوْقِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَصْرِ الْمُوَلَّدِينَ إِلَّا أَنَّهُ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى سُكْنَى بَادِيَتِهِ كَانَ فِي مَرْتَبَةِ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ حَتَّى عُدَّ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِشِعْرِهِ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ لِيُغَيِّرَ شِعْرَهُ بَعْدَ التَّفَكُّرِ لَوْ كَانَ لِصِحَّتِهِ وَجْهٌ فَمَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» ضَعِيفٌ. وَأَمَّا دَعْوَى الْمَجَازِ فِيهِ فَيُضَعِّفُهَا اطِّرَادُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى فِي آيَةِ لَمْ يَكَدْ يَراها فَإِنَّ الْوَاقِفَ فِي الظَّلَامِ إِذَا مَدَّ يَدَهُ يَرَاهَا بِعَنَاءٍ وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا «فَأُبْتُ إِلَى فَهْمٍ وَمَا كدت آئبا» وَقَالَ تَعَالَى: وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] . وَإِنَّمَا قَالَ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَذْبَحُونَ كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ اللَّفْظِ تَفَنُّنًا فِي الْبَيَان. [72، 73] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 72 إِلَى 73] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) تَصْدِيرُهُ بِإِذْ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ مَا سَبَقَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَالْأَلْطَافِ وَمُقَابَلَتِهِمْ إِيَّاهَا بالكفران وَالِاسْتِخْفَاف يومىء إِلَى أَنَّ هَذِهِ قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةِ الذَّبْحِ وَلَكِنَّهَا حَدَثَتْ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ

لِإِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي أَظْهَرُوا اسْتِنْكَارَهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ إِذْ قَالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَة: 67] وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارُ مُعْجِزَةٍ لِمُوسَى. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَا حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَوَّلُ الْقِصَّةِ وَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ آخِرُهَا، وَذَكَرُوا لِلتَّقْدِيمِ نُكْتَةً تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِهَا وَتَوْهِينِهَا. وَلَيْسَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ مَا يُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فَلَعَلَّهَا مِمَّا أُدْمِجَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمْ تَتَعَرَّضِ السُّورَةُ لِذِكْرِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ تَكُنْ تَشْرِيعًا بَعْدَهُ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: قَتَلْتُمْ إِلَى وُقُوعِ قَتْلٍ فِيهِمْ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي إِسْنَادِ أَفْعَالِ الْبَعْضِ إِلَى الْجَمِيعِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: قَتَلَتْ بَنُو فُلَانٍ فُلَانًا، قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ بَنِي حُنٍّ (¬1) : وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً ... أَبَا جَابِرٍ وَاسْتَنْكَحُوا أُمَّ جَابِرِ وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ قَتَلُوا ابْنَ عَمِّهِمُ الْوَحِيدَ لِيَرِثُوا عَمَّهُمْ وَطَرَحُوهُ فِي مَحِلَّةِ قَوْمٍ وَجَاءُوا مُوسَى يُطَالِبُونَ بِدَمِ ابْنِ عَمِّهِمْ بُهْتَانًا وَأَنْكَرَ الْمُتَّهَمُونَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَضْرِبَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَيَنْطِقَ وَيُخْبِرَ بِقَاتِلِهِ، وَالنَّفْسُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ نَفْسٍ أَيْ رُوحٍ وَتَنَفُّسٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّنَفُّسِ وَفِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ» وَلِإِشْعَارِهَا بِمَعْنَى التَّنَفُّسِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ وَإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ فَقِيلَ يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ عِيسَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَة: 116] وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي» وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَلَا عِبْرَةَ بِأَصْلِ مَأْخَذِ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّنَفُّسِ فَالنَّفْسُ الذَّاتُ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النَّحْل: 111] . وَتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَإِدْرَاكِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَقَوْلُ الْعَرَبِ قُلْتُ فِي نَفْسِي أَيْ فِي تَفَكُّرِي دُونَ قَوْلٍ لَفْظِيٍّ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْعُلَمَاءِ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي عَقْلِ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِاللَّفْظِ. و (ادّارأتم) افْتِعَالٌ، وَادَّارَأْتُمْ أَصْلُهُ تَدَارَأْتُمْ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْفَعُ الْجِنَايَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمَّا أُرِيدَ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الدَّالِ عَلَى قَاعِدَةِ تَاءِ الِافْتِعَالِ مَعَ الدَّالِ وَالذَّالِ جُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَيْسِيرِ التَّسْكِينِ لِلْإِدْغَامِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ جُمْلَةٌ حَالية من فَادَّارَأْتُمْ أَيْ تَدَارَأْتُمْ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ مَا كَتَمْتُمُوهُ فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِيهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ بِاعْتِبَارِ عَامله وَهُوَ فَادَّارَأْتُمْ. ¬

(¬1) بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة وَنون مُشَدّدَة حَيّ من عذرة.

وَالْخِطَابُ هُنَا عَلَى نَحْوِ الْخِطَابِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ أَسْلَافِهِمْ لِحَمْلِ تَبِعَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ خُلُقَ السَّلَفِ يَسْرِي إِلَى الْخَلَفِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى وَسَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: 75] . وَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِكَشْفِ حَالِ قَاتِلِي هَذَا الْقَتِيلِ مَعَ أَنَّ دَمَهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ دَمٍ طَلٍّ فِي الْأُمَمِ إِكْرَامًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضِيعَ دَمٌ فِي قَوْمِهِ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَبِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَصَدَ الْقَاتِلُونَ اسْتِغْفَالَ مُوسَى وَدَبَّرُوا الْمَكِيدَةَ فِي إِظْهَارِهِمُ الْمُطَالَبَةَ بِدَمِهِ فَلَوْ لَمْ يُظْهِرِ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الدَّمَ فِي أُمَّةٍ لَضَعُفَ يَقِينُهَا بِرَسُولِهَا وَلَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ شَكًّا فِي صِدْقِهِ فَيَنْقَلِبُوا كَافِرِينَ فَكَانَ إِظْهَارُ هَذَا الدَّمِ كَرَامَةً لِمُوسَى وَرَحْمَةً بِالْأُمَّةِ لِئَلَّا تَضِلَّ فَلَا يُشْكَلُ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ قَدْ ضَاعَ دَمٌ فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ الْآتِي لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بِانْتِفَاءِ تَدْبِيرِ الْمَكِيدَةِ وَانْتِفَاءِ شَكِّ الْأُمَّةِ فِي رَسُولِهَا وَهِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وَقَوله: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى الْإِشَارَةُ إِلَى مَحْذُوفٍ لِلْإِيجَازِ أَيْ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ فَأَخْبَرَ بِمَنْ قَتَلَهُ أَيْ كَذَلِك الْإِحْيَاء يحي اللَّهُ الْمَوْتَى فَالتَّشْبِيهُ فِي التَّحَقُّقِ وَإِنْ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ الْمُشَبَّهِ أَقْوَى وَأَعْظَمَ لِأَنَّهَا حَيَاةٌ عَنْ عَدَمٍ بِخِلَافِ هَاتِهِ فَالْمَقْصِدُ مِنَ التَّشْبِيهِ بَيَانُ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهِ كَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي: فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ وَقَوله: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى مِنْ بَقِيَّةِ الْمَقُولِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَدَّرَ وَقُلْنَا لَهُم كَذَلِك يحي اللَّهُ الْمَوْتَى لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لِشَيْءٍ مُشَاهَدٍ لَهُمْ وَلَيْسَ هُوَ اعْتِرَاضًا أُرِيدَ بِهِ مُخَاطَبَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ حَتَّى يُشَبَّهَ بِهِ إِحْيَاءُ اللَّهِ الْمَوْتَى. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رَجَاءٌ لِأَنْ يَعْقِلُوا فَلَمْ يَبْلُغِ الظَّنُّ بِهِمْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ مَعَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ كُلِّهَا. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ فُقَهَائِنَا أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مُوجِبًا لِلْقَسَامَةِ وَيَجْعَلُونَ الِاحْتِجَاجَ بِهَا لِذَلِكَ مُتَفَرِّعًا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ إِلَّا سَمَاعُ قَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمَقْتُولِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي أَمْرِ الدِّمَاءِ. وَالتَّوْرَاةُ قَدْ أَجْمَلَتْ أَمْرَ الدِّمَاءِ إِجْمَالًا شَدِيدًا فِي قِصَّةِ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، نَعَمْ إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَىُُ

[سورة البقرة (2) : آية 74]

وُقُوعِ الْقَسَامَةِ مَعَ قَوْلِ الْمَقْتُولِ وَلَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقِصَاصِ، وَلَمَّا كَانَ الظَّنُّ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنَ الْمَطْعُونِ تَعَيَّنَ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا تَقْوَى بِهِ الدَّعْوَى وَهُوَ الْقَسَامَةُ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى احْتِجَاجِ الْمَالِكِيَّةِ بِهَا أَنَّ هَذَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَهِيَ لَا تُفِيدُ أَحْكَامًا وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِي إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ فَلَمَّا حَيِيَ صَارَ كَلَامُهُ كَكَلَامِ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ، وَهُوَ جَوَابٌ لَطِيفٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ. وَالْخِلَافُ فِي الْقَضَاءِ بِالْقَسَامَةِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا وَفِي مِقْدَارِ الْقَضَاءِ بِهَا مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَقَدْ تَقَصَّاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَلَيْسَ مِنْ أغراض الْآيَة. [74] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) (ثُمَّ) هُنَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ الَّذِي تتهيأ لَهُ (ثمَّ) إِذَا عَطَفْتَ الْجُمَلَ، أَيْ وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ تَلِنْ قُلُوبُكُمْ وَلَمْ تنفعكم الْآيَات ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ مِنَ الْبَعِيدِ قَسْوَتُهَا. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ زِيَادَةُ تَعْجِيبٍ مِنْ طُرُقِ الْقَسَاوَةِ لِلْقَلْبِ بَعْدَ تَكَرُّرِ جَمِيعِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْمُشَارِ إِلَى مَجْمُوعِهَا بِذَلِكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْقَطَامِيِّ: أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا أَيْ كَيْفَ أَكْفُرُ نِعْمَتَكَ أَيْ لَا أَكْفُرُهَا مَعَ إِنْجَائِكَ لِي مِنَ الْمَوْتِ إِلَخْ. وَوَجْهُ اسْتِعْمَالِ (بَعْدَ) فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى (مَعَ) لِأَنَّ شَأْنَ الْمُسَبَّبِ، أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ السَّبَبِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصِدُ التَّنْبِيهَ عَلَى تَأَخُّرِهِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ وَأُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مَعَهُ إِثْبَاتًا أَوْ نفيا عبر ببعد عَنْ مَعْنَى (مَعَ) مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّأَخُّرِ الرُّتْبِيِّ. وَالْقَسْوَةُ وَالْقَسَاوَةُ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَتُوصَفُ بِهَا النُّفُوسُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْقُلُوبِ فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلْوَصْفَيْنِ هُوَ عَدَمُ قَبُولِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْحَالَةِ الْمَوْجُودَةِ إِلَى حَالَةٍ تُخَالِفُهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْقَسَاوَةُ مَوْضُوعَةً لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْحِسِّيِّ وَالْقَلْبِيِّ- وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ- أَمْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلْأَجْسَامِ حَقِيقَةً وَاسْتُعْمِلَتْ فِي الْقُلُوبِ مَجَازًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ شَاعَ هَذَاُُ

الْمَجَازُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَصَارَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى الْقَرِينَةِ فَآلَ اللَّفْظُ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ تَشْبِيهُ فَرْعٍ بِالْفَاءِ لِإِرَادَةِ ظُهُورِ التَّشْبِيهِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْحَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَسَتْ لِأَنَّ الْقَسْوَةَ هِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ وَلِأَنَّ أَشْهَرَ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْوَصْف هُوَ الْحجر فَإِذَا ذُكِرَتِ الْقَسْوَةُ فَقَدْ تَهَيَّأَ التَّشْبِيهُ بِالْحَجَرِ وَلِذَا عَطَفَ بِالْفَاءِ أَيْ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهَا قَاسِيَةٌ فَشَبَّهَهَا بِالْحِجَارَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ يَصِفُ الْحَجِيجَ: عَلَيْهِنَّ شَعَثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ ... فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ وَقَدْ كَانَتْ صَلَابَةُ الْحَجَرِ أَعْرَفَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَرَ لِأَنَّهَا مَحْسُوسَةٌ فَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يُسَمَّى عِنْدِي تَهْيِئَةَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِذَا تَتَبَّعْتَ أَسَالِيبَ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِمْ تَجِدُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ لَا يُهَيَّأُ فِيهِ التَّشْبِيهُ وَهُوَ الْغَالِبُ وَضَرْبٌ يُهَيَّأُ فِيهِ كَمَا هُنَا وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي مِثْلِهِ حَسَنٌ جِدًّا وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُنَاسِبُ التَّشْبِيهَ فَذَلِك عِنْدِي بعد مَذْمُومًا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَيْتًا جَمَعَ تَهْيِئَةَ التَّشْبِيهِ وَالْبُعْدَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَبَاتَةَ: فِي الرِّيقِ سُكْرٌ وَفِي الْأَصْدَاغِ تَجْعِيدُ ... هَذَا الْمُدَامُ وَهَاتِيكَ الْعَنَاقِيدُ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْرَ تَهَيَّأَ التَّشْبِيهُ بِالْخَمْرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: تَجْعِيدٌ لَا يُنَاسِبُ الْعَنَاقِيدَ. فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَدَدْتَهُ مَذْمُومًا وَمَا هُوَ إِلَّا كَتَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ؟ قُلْتُ: لَا لِأَنَّ التَّجْرِيدَ يَجِيءُ بَعْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِعَارَةِ وَعِلْمٍ بِهَا فَيَكُونُ تَفَنُّنًا لَطِيفًا بِخِلَافِ مَا يَجِيءُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالتَّشْبِيهِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ وَ (أَوْ) بِمَعْنَى بَلِ الِانْتِقَالِيَّةِ لِتَوَفُّرِ شَرْطِهَا وَهُوَ كَوْنُ مَعْطُوفِهَا جُمْلَةً. وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ (أَوْ) لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يَنْشَأُ عَنِ التَّخْيِيرِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ بَعْدَ أَنْ شُبِّهَتْ بِالْحِجَارَةِ وَكَانَ الشَّأْنُ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ أَضْعَفَ فِي الْوَصْفِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءُ التَّشْبِيهِ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ ثُمَّ عَقَّبَ التَّشْبِيهَ بِالتَّرَقِّي إِلَى التَّفْضِيلِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ (¬1) : ¬

(¬1) نسبه إِلَيْهِ ابْن جني وَقَالَ الْبَغْدَادِيّ لم أَجِدهُ فِي «ديوَان ذِي الرمة» .

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتِهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ فَلَيْسَتْ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ أَيْ لَيْسَتْ عَاطِفَةً عَلَى قَوْلِهِ الْحِجَارَةِ الْمَجْرُورَةِ بِالْكَافِ لِأَنَّ تِلْكَ لَهَا مَوْقِعٌ مَا إِذَا كُرِّرَ الْمُشَبَّهُ بِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْأَخْبَارِ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ كَالْحِجارَةِ أَيْ فَهِيَ مِثْلُ الْحِجَارَةِ أَوْ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِكَلَامِهِ جُزَافًا وَلَا يَذُمُّهُمْ تَحَامُلًا بَلْ هُوَ مُتَثَبِّتٌ مُتَحَرٍّ فِي شَأْنِهِمْ فَلَا يُثْبِتُ لَهُمْ إِلَّا مَا تَبَيَّنَ لَهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّقَصِّي فَإِنَّهُ سَاوَاهُمْ بِالْحِجَارَةِ فِي وَصْفٍ ثُمَّ تَقَصَّى فَرَأَى أَنَّهُمْ فِيهِ أَقْوَى فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْمُخَاطَبِ إِنْ شِئْتَ فَسَوِّهِمْ بِالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ هُمْ أَشَدُّ مِنْهَا وَذَلِكَ يُفِيدُ مَفَادَ الِانْتِقَالِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ وَهُوَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي مَقَامِ الذَّمِّ لِأَنَّ فِيهِ تَلَطُّفًا وَأَمَّا فِي مَقَامِ الْمَدْحِ فَالْأَحْسَنُ هُوَ التَّعْبِيرُ بِبَلْ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: فَقَالَتْ لَنَا أَهْلَا وَسَهْلًا وَزَوَّدَتْ ... جَنَى النَّحْلِ بَلْ مَا زَوَّدَتْ مِنْهُ أَطْيَبُ وَوَجْهُ تَفْضِيلِ تِلْكَ الْقُلُوبِ عَلَى الْحِجَارَةِ فِي الْقَسَاوَةِ أَنَّ الْقَسَاوَةَ الَّتِي اتَّصَفَتْ بِهَا الْقُلُوبُ مَعَ كَوْنِهَا نَوْعًا مُغَايِرًا لِنَوْعِ قَسَاوَةِ الْحِجَارَةِ قَدِ اشْتَرَكَا فِي جِنْسِ الْقَسَاوَةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى مَعْنَى عَدَمِ قَبُولِ التَّحَوُّلِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذِهِ الْقُلُوبُ قَسَاوَتُهَا عِنْدَ التَّمْحِيصِ أَشَدُّ مِنْ قَسَاوَةِ الْحِجَارَةِ لِأَنَّ الْحِجَارَةَ قَدْ يَعْتَرِيهَا التَّحَوُّلُ عَنْ صَلَابَتِهَا وَشِدَّتِهَا بِالتَّفَرُّقِ وَالتَّشَقُّقِ وَهَذِهِ الْقُلُوبُ لَمْ تُجْدِ فِيهَا مُحَاوَلَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِوَجْهِ التَّفْضِيلِ إِذْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَغْرَبَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْوَاوِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ عَسِيرٌ فَقِيلَ: هِيَ لِلْحَالِ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ (أَشَدُّ) أَيْ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ قَسْوَةً، أَيْ تَفْضِيلُ الْقُلُوبِ عَلَى الْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا الْحِجَارَةُ وَمَعْنَى التَّقْيِيدِ أَنَّ التَّفْضِيلَ أَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَقِيلَ هِيَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً قَالَه التفتازانيّ، وَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ مَضْمُونَ هَذِهِ الْمَعْطُوفَاتِ غَيْرَ رَاجِعٍ إِلَى مَعْنَى تَشْبِيهِ الْقُلُوبِ بِالْحِجَارَةِ فِي الْقَسَاوَةِ بَلْ يَجْعَلُهَا إِخْبَارًا عَنْ مَزَايَا فُضِّلَتْ بِهَا الْحِجَارَةُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ بِمَا يَحْصُلُ عَنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ مِنْ مَنَافِعَ فِي حِينِ تُعَطَّلُ قُلُوبُ هَؤُلَاءِ مِنْ صُدُورِ النَّفْعِ بِهَا، وَقِيلَ: الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَفِيهِ بُعْدٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْوَاوُُُ

الِاعْتِرَاضِيَّةُ وَأَنَّ جُمْلَةَ وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ الْحَالِ مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وَالتَّوْكِيدُ بِإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَهَذَا الِاهْتِمَامُ يُؤْذِنُ بِالتَّعْلِيلِ وَوُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ قَبْلَهَا لَا يُنَاكِدُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [الْبَقَرَة: 61] . وَمِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ تَأَخُّرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ التَّسَخُّرِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِالْخَشْيَةِ لِيَتِمَّ ظُهُورُ تَفْضِيلِ الْحِجَارَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي أَحْوَالِهَا الَّتِي نِهَايَتُهَا الِامْتِثَالُ لِلْأَمْرِ التكليفي مَعَ تَعَاصِي قُلُوبِهِمْ عَنِ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ التَّكْلِيفِيِّ لِيَتَأَتَّى الِانْتِقَالُ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَقَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: 75] . وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ انْفِجَارَ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الصُّخُورِ مُنْحَصِرٌ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ وَذَلِكَ هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْجُغْرَافِيَا الطَّبِيعِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ عَلَى الْأَرْضِ يَخْرِقُ الْأَرْضَ بِالتَّدْرِيجِ لِأَنَّ طَبْعَ الْمَاءِ النُّزُولُ إِلَى الْأَسْفَلِ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ الْجَاذِبِيَّةِ فَإِذَا اضُّغِطَ عَلَيْهِ بِثِقَلِ نَفْسِهِ مِنْ تَكَاثُرِهِ أَوْ بِضَاغِطٍ آخَرَ مِنْ أَهْوِيَةِ الْأَرْضِ تَطَلَّبَ الْخُرُوجَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ طَبَقَةً صَخْرِيَّةً أَوْ صَلْصَالِيَّةً طَفَا هُنَاكَ فَالْحَجَرُ الرَّمْلِيُّ يَشْرَبُ الْمَاءَ وَالصُّخُورُ وَالصَّلْصَالُ لَا يَخْرِقُهَا الْمَاءُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الصُّخُورُ مُرَكَّبَةً مِنْ مَوَادَّ كِلْسِيَّةٍ وَكَانَ الْمَاءُ قَدْ حَمَلَ فِي جَرْيَتِهِ أَجْزَاءً مِنْ مَعْدِنِ الْحَامِضِ الْفَحْمِيِّ فَإِنَّ لَهُ قُوَّةً عَلَى تَحْلِيلِ الْكِلْسِ فَيُحْدِثُ ثُقْبًا فِي الصُّخُورِ الْكِلْسِيَّةِ حَتَّى يَخْرِقَهَا فَيَخْرُجَ مِنْهَا نَابِعًا كَالْعُيُونِ. وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْعُيُونُ فِي مَوْضِعٍ نَشَأَتْ عَنْهَا الْأَنْهَارُ كَالنِّيلِ النَّابِعِ مِنْ جِبَالِ الْقَمَرِ، وَأَمَّا الصُّخُورُ غَيْرُ الْكِلْسِيَّةِ فَلَا يُفَتِّتُهَا الْمَاءُ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا انْشِقَاقٌ بِالزَّلَازِلِ أَوْ بِفَلْقِ الْآلَاتِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ إِمَّا إِلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ كَمَا نَرَى فِي الْآبَارِ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ إِلَى طَبَقَةٍ تَحْتَهَا فَيَخْتَزِنُ تَحْتَهَا حَتَّى يَخْرُجَ بِحَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ يَجِدُ الْمَاءُ فِي سَيْرِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ تَحْتَ الصَّخْرِ أَوْ بَعْدَهُ مَنْفَذًا إِلَى أَرْضٍ تُرَابِيَّةٍ فَيَخْرُجُ طَافِيًا مِنْ سَطْحِ الصُّخُورِ الَّتِي جَرَى فَوْقَهَا. وَقَدْ يَجِدُ الْمَاءُ فِي سَيْرِهِ مُنْخَفَضَاتٍ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ فَيَسْتَقِرُّ فِيهَا ثُمَّ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ كَمِّيَّاتٌ أُخْرَى تَطَلَّبَ الْخُرُوجَ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ تَنْفَجِرَ الْأَنْهَارُ عَقِبَ الزَّلَازِلِ. وَالْخَشْيَةُ فِي الْحَقِيقَةِ الْخَوْفُ الْبَاعِثُ عَلَى تَقْوَى الْخَائِفِ غَيْرَهُ. وَهِيَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ التَّكْلِيفِيِّ لِأَنَّهَا الْبَاعِثُ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَجُعِلَتْ هُنَا مَجَازًا عَنْ قَبُولِ الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ

[سورة البقرة (2) : آية 75]

إِمَّا مُرْسَلًا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَإِمَّا تَمْثِيلًا لِلْهَيْئَةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ بِهَيْئَةِ الْمُكَلَّفِ إِذْ لَيْسَتْ لِلْحِجَارَةِ خَشْيَةٌ إِذْ لَا عَقْلَ لَهَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِسْنَادَ (يَهْبِطُ) لِلْحَجَرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْمُرَادُ هُبُوطُ الْقُلُوبِ أَيْ قُلُوبِ النَّاظِرِينَ إِلَى الصُّخُورِ وَالْجِبَالِ أَيْ خُضُوعُهَا فَأُسْنِدَ الْهُبُوطُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا سَبَبُهُ كَمَا قَالُوا نَاقَةٌ تَاجِرَةٌ أَيْ تَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى الْمُسَاوَمَةِ فِيهَا (¬1) . وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ فِي مَحَلِّ الْحَالِ أَيْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَنْ كُلِّ صُنْعِكُمْ. وَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ تَكْمِلَةَ خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ (يَعْمَلُونَ) بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ فَلِذَلِكَ غَيَّرَ أُسْلُوبَهُ إِلَى الْغَيْبَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ لِاخْتِلَافِ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ لِأَنَّ تَفْرِيعَ قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: 75] عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ نُقِلَ مِنْ خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ لَهُمْ مُبَاشَرَةً أَو تعريضا. [75] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 75] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) هَذَا اعْتِرَاضٌ اسْتِطْرَادِيٌّ بَيْنَ الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ وَالْقِصَّةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ [الْبَقَرَة: 83] فَجَمِيعُ الْجُمَلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَوِ التَّعْجِيبِيِّ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ قَسَتْ [الْبَقَرَة: 74] أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ جَمِيعَهَا مِمَّا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا تَطْمَعُوا أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أَوْ فَاعْجَبُوا مِنْ طَمَعِكُمْ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَوْقِعِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [الْبَقَرَة: 87] . وَالطَّمَعُ تَرَقُّبُ حُصُولِ شَيْءٍ مَحْبُوبٍ وَهُوَ يُرَادِفُ الرَّجَاءَ وَهُوَ ضِدُّ الْيَأْسِ، وَالطَّمَعُ يَتَعَدَّى بِفِي حُذِفَتْ هُنَا قَبْلَ (أَنْ) . ¬

(¬1) قَالَ النَّابِغَة يصف نخلا: بزاخية ألوت بِلِيفٍ كَأَنَّهُ ... عفاء قلاص طَار عَنْهَا تواجر

فَإِنْ قُلْتَ، كَيْفَ يُنْهَى عَنِ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ أَوْ يُعْجَبَ بِهِ وَالنَّبِيءُ وَالْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ بِدَعْوَةِ أُولَئِكَ إِلَى الْإِيمَانِ دَائِمًا؟ وَهَلْ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ ارْتِبَاطٌ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ الَّذِي اسْتَحَالَتْهُ لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا نُهِينَا عَنِ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ لَا عَنْ دُعَائِهِمْ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّنَا نَدْعُوهُمْ لِلْإِيمَانِ وَإِنْ كُنَّا آيِسِينَ مِنْهُ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَلِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْحَقِّ قَدْ تُصَادِفُ نَفْسًا نَيِّرَةً فَتَنْفَعُهَا، فَإِن استبعاد إيمَانه حُكْمٌ عَلَى غَالِبِهِمْ وَجَمْهَرَتِهِمْ أَمَّا الدَّعْوَةُ فَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ وَالْمَسْأَلَةُ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ وَتِلْكَ قَدْ كُنَّا أَجَبْنَا لَكُمْ فِيهَا جَوَابًا وَاضِحًا (¬1) وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ عَلِمَ عَدَمِ إِيمَانِ مِثْلِ أَبِي جَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى مَا عَلِمَهُ فِيهِ وَالْأَوَامِرُ الشَّرْعِيَّة لم تَجِيء بِتَخْصِيصِ أَحَدٍ بِدَعْوَةٍ حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ أُمِرَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ أَظْهَرَتْ نَفْيَ الطَّمَاعِيَةِ فِي إِيمَانِ مَنْ كَانَ دَأْبُهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فَالْجَوَابُ عَنْهَا يَرْجِعُ إِلَى الْجَوَابِ الْأَعَمِّ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِأَجْلِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْجَوَابُ الْأَعَمُّ لِأَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَحْوَالِهِمْ قَدْ تَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ لِلطَّمَاعِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ حَظٌّ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ لِتَضْمِينِ يُؤْمِنُوا مَعْنَى يُقِرُّوا وَكَأَنَّ فِيهِ تَلْمِيحًا إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِصِدْقِ الرَّسُولِ حَاصِلٌ وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ وَيَجْحَدُونَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الْبَقَرَة: 146] الْآيَةَ فَمَا أَبْدَعَ نَسْجَ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى التَّعْلِيلِ وَجَعْلُ يُؤْمِنُوا مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِأَجْلِكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ هِيَ قَيْدُ إِنْكَارِ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ فَيَكُونُ قَدْ عَلَّلَ هَذَا الْإِنْكَارَ بِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ، وَالثَّانِيَةُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا عَلِمْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مِنْ قَومهمْ الأقدمين أومن الْحَاضِرِينَ فِي زَمَنِ ¬

(¬1) عِنْد شرح قَوْله تَعَالَى: لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 6] وَانْظُر أَيْضا آخر شرح [الْبَقَرَة: 65] فَإِن فِيهَا ذكر مَسْأَلَة التَّكْلِيف الإلجائي (مصححه) .

نُزُولِ الْآيَةِ. وَسَمَاعُهُمْ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ سَمَاعُ الْوَحْيِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ إِنْ كَانَ الْفَرِيقُ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا زَمَنَ مُوسَى أَوْ بِوَاسِطَةِ النَّقْلِ إِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِ. أَمَّا سَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ مُبَاشَرَةً فَلَمْ يَقَعْ إِلَّا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْفَرِيقِ جَمْعٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ دُونَ عَامَّتِهِمْ. وَالتَّحْرِيفُ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَرَّفَ الشَّيْءَ إِذَا مَالَ بِهِ إِلَى الْحَرْفِ وَهُوَ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ، وَلَمَّا شَاعَ تَشْبِيهُ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالرُّشْدِ وَالْمَكَارِمِ بِالْجَادَّةِ وَبِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ شَاعَ فِي عَكْسِهِ تَشْبِيهُ مَا خَالَفَ ذَلِك بالانحراف وببينات الطَّرِيقِ. قَالَ الْأَشْتَرُ: بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهٍ عَبُوسِ وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّشْبِيهِ قَوْلُهُمْ: زَاغَ، وَحَادَ وَمَرَقَ، وَأَلْحَدَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: 11] . فَالْمُرَادُ بِالتَّحْرِيفِ إِخْرَاجُ الْوَحْيِ وَالشَّرِيعَةِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ، إِمَّا بِتَبْدِيلٍ وَهُوَ قَلِيلٌ وَإِمَّا بِكِتْمَانِ بَعْضٍ وَتَنَاسِيهِ وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ وَهُوَ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ التَّحْرِيفِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالٌ مِنْ فَرِيقٌ وَهُوَ قَيْدٌ فِي الْقَيْدِ يَعْنِي يَسْمَعُونَهُ ثُمَّ يَعْقِلُونَهُ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ، وَأَنَّ قَوْمًا تَوَارَثُوا هَذِهِ الصِّفَةَ لَا يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ بَنِي عَمِّهِمْ فَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ خُلُقُهُمْ وَاحِدًا وَطِبَاعُهُمْ مُتَقَارِبَةً كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] وَلِلْعَرَبِ وَالْحُكَمَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى أَنَّ الطِّبَاعَ تُورَثُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَصِفُونَ الْقَبِيلَةَ بِصِفَاتِ جُمْهُورِهَا، أَوْ أَرَادَ بِالْفَرِيقِ عُلَمَاءَهُمْ وَأَحْبَارَهُمْ، فَالْمُرَادُ لَا طَمَعَ لَكُمْ فِي إِيمَانِ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَاتُ خَاصَّتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَكَيْفَ ظنكم بِصِفَات دهمائمهم لِأَنَّ الْخَاصَّةَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ هُمْ مَظْهَرُ مَحَامِدِهَا وَكَمَالَاتِهَا فَإِذَا بَلَغَتِ الْخَاصَّةُ فِي الِانْحِطَاطِ مَبْلَغًا شَنِيعًا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَامَّةَ أَفْظَعُ وَأَشْنَعُ، وَأَرَادَ بِالْعَامَّةِ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ زَمَنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عُلَمَاءُ إِلَّا أَنَّهُمْ كَالْعَامَّةِ فِي سُوءِ النَّظَرِ ووهن الْوَازِع.

[سورة البقرة (2) : الآيات 76 إلى 77]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 76 إِلَى 77] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَقُوا عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى نَسَقِ الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْبَقَرَة: 75] وَمَا بَعْدَهُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ بِقَالُوا عَائِدٌ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ أظهرُوا الْإِيمَان نفاق أَوْ تَفَادِيًا مَنْ مُرِّ الْمُقَارَعَةِ وَالْمُحَاجَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: آمَنَّا وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي ضَمَائِرِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَنَحْوِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الْبَقَرَة: 232] لِأَنَّ ضَمِيرَ طَلَّقْتُمُ لِلْمُطَلِّقِينَ وَضَمِيرَ تَعَضُلُوا لِلْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جِهَةُ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَى الصِّنْفَيْنِ، وَمِنْهُ أَن تَقول لَئِن نَزَلْتَ بِبَنِي فُلَانٍ لَيُكْرِمُنَّكَ وَإِنَّمَا يُكْرِمُكَ سَادَتُهُمْ وَكُرَمَاؤُهُمْ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ أَيْ بَعْضُ الْجَمِيعِ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَائِلَ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ لِمَنْ نَافَقَ، ثُمَّ تَلْتَئِمُ الضَّمَائِرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي يَعْلَمُونَ ويُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ بِلَا كُلْفَةٍ وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَيُرَجِّحُهَا عِنْدِي أَنَّ فِيهَا الِاقْتِصَارَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا بِهِ الْحَاجَةُ وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَ وُجُودِ دَلِيلِهِ بِجَنْبِهِ وَهُوَ آمَنَّا. وَجُمْلَةُ إِذا لَقُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 75] على أَنهم حَالٌ مِثْلَهَا مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَقَدْ قُصِدَ مِنْهَا تَقْيِيدُ النَّهْيِ أَوِ التَّعْجِيبِ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ آخَرُ إِذَا لَقُوا. وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذا لَقُوا وهم الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِيَّةِ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَحْصُلُ مِنْهُمْ مَجْمُوعُ هَذَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّعَجُّبِ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ فَضَمِيرُ بَعْضُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ لَقُوا وَهُمْ عُمُومُ الْيَهُودِ. ونكتة التَّعْبِير ب قالُوا آمَنَّا مِثْلَهَا فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي أَوَائِل السُّورَة [الْبَقَرَة: 14] . وَقَوْلُهُ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ اسْتِفْهَامٌ لِلْإِنْكَارِ أَوِ التَّقْرِيرِ أَوِ التَّوْبِيخِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَقَامَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ جَرَى بَيْنَهُمْ حَدِيثٌ فِي مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ فَاضِحًا لِأَحْوَالِ أَسْلَافِهِمْ وَمَثَالِبِ سِيرَتِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ فَضِيحَةُ أَحْوَالِهِمْ وَذِكْرُ

مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا خَاصَّتُهُمْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ خَلَصَ لِلنَّبِيءِ مِنْ بَعْضِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّ نِفَاقَهُمْ كَانَ قَدْ بَلَغَ بِهِمْ إِلَى أَنْ أَخْبَرُوا الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ قَصَصِ قَوْمِهِمْ سَتْرًا لِكُفْرِهِمُ الْبَاطِنِ فَوَبَّخُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخَ إِنْكَارٍ أَيْ كَيْفَ يَبْلُغُ بِكُمُ النِّفَاقُ إِلَى هَذَا وَأَنَّ فِي بَعْضِ إِظْهَارِ الْمَوَدَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ كِفَايَةً عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْمَثَلِ الَّذِي حَكَاهُ بَشَّارٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْعَدْ بِمَا قَالَ فِي الْحُلْمِ ابْنُ ذِي يَزَنْ ... يَلْهُو الْكِرَامُ وَلَا يَنْسَوْنَ أَحْسَابَا فَحَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ حِكَايَةً لِحَيْرَتِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِمْ جَوَاسِيسَ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْيَهُودِيَّةَ ثُمَّ اتَّهَمُوهُمْ بِخَرْقِ الرَّأْيِ وَسُوءِ التَّدْبِير وَأَنَّهُمْ دهبوا يَتَجَسَّسُونَ فَكَشَفُوا أَحْوَالَ قَوْمِهِمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا عِنْدِي قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وَأَخْبَارٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ بِأَسَانِيدَ لِبَيَانِ الْمُتَحَدِّثِ بِهِ، فَعَنِ السُّدِّيِّ كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يُحَدِّثُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا عُذِّبَ بِهِ أَسْلَافُهُمْ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ النَّبِيءَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ كَانُوا يُخْبِرُونَ عَنْ بَعْضِ قَصَصِ التَّوْرَاةِ. وَالْمُرَادُ بِما فَتَحَ اللَّهُ إِمَّا مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَصَائِبِ فَإِنَّ الْفَتْحَ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَاف: 89] وَالْفَتَّاحُ الْقَاضِي بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمِنْهُ الْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ بِإِظْهَارِ الْآيَةِ لَهُ وَهُوَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَلْزِمُ بَيَانَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: 89] أَيْ يَسْأَلُونَهُمُ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ التَّشْرِيعِيَّةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ، فَالْمَعْنَى بِمَا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَا حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ بَلْ هِيَ لِتَأْكِيدِ الِاحْتِجَاجِ أَيْ لِيَحْتَجُّوا عَلَيْكُمْ بِهِ أَيْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُحَاجُّوكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ لَكِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْقِيبِ مَجَازًا أَوْ تَرْشِيحًا لِاسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْإِنْكَارِ أَوِ التَّقْرِيرِ مَجَازًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ الْمَوْضُوعُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْإِنْكَارِ أَوِ التَّقْرِيرِ مَجَازًا لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمُقَرَّرَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مِمَّا يُنْكَرُ بَدَاهَةً وَكَانَتِ الْمُحَاجَّةُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَرْعًا عَنِ التَّحْدِيثِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَعَلَ فَرْعَ وُقُوعِ التَّحْدِيثِ الْمُنْكَرِ كَأَنَّهُ عِلّة مسؤول عَنْهَا أَيْ لَكَانَ فِعْلُكُمْ هَذَا مُعَلَّلًا بِأَنْ يُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْإِنْكَارِ إِذْ كَيْفَ يَسْعَى أَحَدٌ فِي إِيجَادِ شَيْءٍ تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَالْقَرِينَةُ هِيَُُ

كَوْنُ الْمَقَامِ لِلْإِنْكَارِ لَا لِلِاسْتِفْهَامِ وَلِذَلِكَ كَانَتِ اللَّامُ تَرْشِيحًا مُتَمَيِّزًا بِهِ أَيْضًا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ رَبِّكُمْ ظَرْفٌ عَلَى بَابِهِ مُرَادٌ مِنْهُ عِنْدِيَّةُ التَّحَاكُمِ الْمُنَاسب لقَوْله: لِيُحَاجُّوكُمْ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مَحَالَةَ أَيْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ أَمَامَ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ وَعَلَى تَبِعَتِكُمْ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى حِكَايَةَ حَالِ عَقِيدَةِ الْيَهُودِ مِنْ تَشْبِيهِهِمُ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُكَّامِ الْبَشَرِ فِي تَمَشِّي الْحِيَلِ عَلَيْهِ وَفِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا الظَّاهِرِيَّةِ فَلِذَلِكَ كَانُوا يَرْتَكِبُونَ التَّحَيُّلَ فِي شَرْعِهِمْ وَتَجِدُ كُتُبَهُمْ مَلْأَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ظَهَرَ لَهُ كَذَا وَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْمَظْنُونِ وَكَقَوْلِهِمْ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَقَالَ الرَّبُّ هُوَ ذَا الْإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ» وَقَالَ فِيهِ: «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الْإِنْسَانِ قد كثر فَحزن الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ الْإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ» وَجَاءَ فِي التَّكْوِينِ أَيْضًا «لَمَّا شَاخَ إِسْحَاقُ وَكَلَّتْ عَيْنَاهُ عَنِ النَّظَرِ دَعَا ابْنَهُ الْأَكْبَرَ عِيسُو وَقَالَ لَهُ: إِنِّي شِخْتُ وَلَسْتُ أَعْرِفُ يَوْمَ وَفَاتِي فَالْآنَ خُذْ عُدَّتَكَ وَاخْرُجْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَتَصَيَّدْ لِي صَيْدًا وَاصْنَعْ لِي أَطْعِمَةً حَتَّى أُبَارِكَكَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ فَسَمِعَتْ (رُفْقَةُ) أُمِّهِمَا (¬1) ذَلِكَ فَكَلَّمَتِ ابْنَهَا يَعْقُوبَ وَقَالَتِ: اذْهَبْ إِلَى الْغَنَمِ وَخُذْ جَدْيَيْنِ جَيِّدَيْنِ مِنَ الْمِعْزَى فَاصْنَعْهُمَا أَطْعِمَةً لِأَبِيكَ حَتَّى يُبَارِكَكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: يَعْقُوبُ لِأُمِّهِ إِنَّ عِيسُو أَخِي رَجُلٌ أَشْعَرُ وَأَنَا رَجُلٌ أَمْلَسُ رُبَّمَا يَجُسُّنِي أَبِي فَأَكُونُ فِي عَيْنَيْهِ كَمُتَهَاوِنٍ وَأَجْلِبُ عَلَى نَفْسِي لَعْنَةً فَقَالَتِ: اسْمَعْ لِقَوْلِي فَذَهَبَ وَصَنَعَتْ لَهُ أُمُّهُ الطَّعَامَ وَأَخَذَتْ ثِيَابَ ابْنِهَا الْأَكْبَرِ عِيسُو وَأَلْبَسَتْهَا يَعْقُوبَ وَأَلْبَسَتْ يَدَيْهِ وَمَلَّاسَةَ عُنُقِهِ جُلُودَ الْجَدْيَيْنِ فَدَخَلَ يَعْقُوبُ إِلَى أَبِيهِ وَقَالَ: يَا أَبِي أَنَا ابْنُكَ الْأَكْبَرُ قَدْ فَعَلْتُ كَمَا كَلَّمْتَنِي فَجَسَّهُ إِسْحَاقُ وَقَالَ الصَّوْتُ صَوْتُ يَعْقُوبَ وَلَكِنَّ الْيَدَيْنِ يَدَا عِيسُو فَبَارَكَهُ (أَي جعله نبيئا) وَجَاءَ عِيسُو وكلم أَبَاهُ وَعلم الْحِيلَةَ ثُمَّ قَالَ لِأَبِيهِ: بَارِكْنِي أَنَا فَقَالَ قَدْ جَاءَ أَخُوكَ بُكْرَةً وَأَخَذَ بَرَكَتَكَ» إِلَخْ فَمَا ظَنُّكَ بِقَوْمٍ هَذِهِ مَبَالِغُ عَقَائِدِهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا لَا تُعْلِمُوهُمْ لِئَلَّا يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اسْتِبْعَادُ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِعِنْدَ رَبِّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّ إِخْفَاءَ الْحَقَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُفِيدُ مَنْ يُحَاوِلُهُ حَتَّى سَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ مَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ مَسَالِكَ فِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ قِيَاسًا مِنْهُمْ لِحَالِ الْيَهُودِ عَلَى حَالِ عَقَائِدِ ¬

(¬1) رفْقَة هِيَ أم عيسو وَيَعْقُوب وَلكنهَا تميل إِلَى يَعْقُوب لِأَن عيسو كَانَ قد تزوج امْرَأتَيْنِ من بني حث فَكَانَت رفْقَة ساخطة على عيسو.

الْإِسْلَامِ فَفَسَّرُوا (عِنْدَ) بِمَعْنَى الْكِتَابِ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ حَذْفِ مَوْصُولٍ ثُمَّ سَلَكَ مُتَعَقِّبُوهُمْ فِي إِعْرَابِهِ غَايَةَ الْإِغْرَابِ. وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ مِنْ بَقِيَّةِ مَقُولِهِمْ لِقَوْمِهِمْ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: 75] لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسُوا جَدِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا التَّوْبِيخِ وَحَسْبُهُمْ مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الِاسْتِغْرَابِ أَوِ النَّهْيِ. فَإِنْ قلت: لم لَمْ يُذْكَرْ فِي الْآيَةِ جَوَابُ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا حَدَّثُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ؟ قُلْتُ: لَيْسَ الْقُرْآنُ بِصَدَدِ حِكَايَةِ مُجَادَلَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُحْكَى مِنْهَا مَا فِيهِ شَنَاعَةُ حَالِهِمْ وَسُوءُ سُلُوكِهِمْ وَدَوَامُ إِصْرَارِهِمْ وَانْحِطَاطُ أَخْلَاقِهِمْ فَتَبِرِّيهِمْ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ كُبَرَاؤُهُمْ مِنَ التُّهْمَةِ مَعْلُومٌ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَدِّثُوا الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إِلَخْ. وَأَمَّا مَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ تَنَصُّلِهِمْ بِقَوْلِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ فَلِأَنَّ فِيهِ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِم فِي قَوْلهم فِيهِ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. وَقَوْلُهُ: أَوَلا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ، الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ فِي التَّقْرِيرِ أَيْ لَيْسُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ بِلَازِمِهِ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يَعْلَمُهُ فَقَدْ عَلِمَهُ رَسُولُهُ وَهَذَا لُزُومٌ عُرْفِيٌّ ادِّعَائِي فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ أَوْ مَجَازٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالْمَعْنَى هُوَ هُوَ، أَوْ مَجَازٌ فِي التَّحْضِيضِ أَيْ هَلْ كَانَ وُجُودُ أَسْرَارِ دِينِهِمْ فِي الْقُرْآنِ مُوجِبًا لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَالْمُرَادُ لَازِمُ ذَلِكَ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَنِ اللَّهِ أَيْ هَلَّا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صدق الرَّسُول عوض عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِتُهْمَةِ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا صِدْقَهُمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الظَّاهِرُ لِي وَيُرَجِّحُهُ التَّعْبِيرُ بِيَعْلَمُونَ بِالْمُضَارِعِ دُونَ عَلِمُوا. وَمُوقِعُ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ وَقَوْلُهُ: أَوَلا يَعْلَمُونَ سَيَأْتِي عَلَى نَظَائِرِهِ وَخِلَافُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ [الْبَقَرَة: 87] .

[سورة البقرة (2) : آية 78]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 78] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ [الْبَقَرَة: 75] عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ ومِنْهُمْ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَتَقْدِيمُهُ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [الْبَقَرَة: 8] وَالْمَعْنَى كَيْفَ تَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُحَرِّفِينَ وَفَرِيقٌ جَهَلَةً وَإِذَا انْتَفَى إِيمَانُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْمَظْنُونُ بِهِمْ تَطَلُّبُ الْحَقِّ الْمُنْجِي وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَ الدِّينَ وَيُكَابِرُونَ فِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ دِينِهِمْ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ أَيْضًا فِي إِيمَانِ الْفَرِيقِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَأَلْهَى عَنْ تَطَلُّبِهِ وَأَضَلُّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَجْدَرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِأَئِمَّتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الْمَاضُونَ. وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مُعَادِلًا لَهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَوْنِهَا حَالَةَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَةُ فَرِيقٍ آخَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا لَقُوا [الْبَقَرَة: 76] وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلا [الْبَقَرَة: 76] فَتِلْكَ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنْ قَوْلِهِ: يَسْمَعُونَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَبِهَذَا لَا يَجِيءُ فِي جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ التَّخْيِيرُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَطْفِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ هَلْ يُجْعَلُ الْأَخِيرُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مَنِ الْمَعْطُوفَاتِ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَعْمُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرْجِعُ الْعَطْفِ جِهَةً وَاحِدَةً وَهُنَا قَدِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ. وَالْأُمِّيُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ بِمَعْنَى عَامَّةِ النَّاسِ فَهُوَ يُرَادِفُ الْعَامِّيَّ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ وَهِيَ الْوَالِدَةُ أَيْ أَنَّهُ بَقِي على الْحَالة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَضَانَةِ أُمِّهِ إِيَّاهُ فَلَمْ يَكْتَسِبْ عِلْمًا جَدِيدًا وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَجْهُ فِي النَّسَبِ أَنْ يَقُولُوا أُمَّهِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَرُدُّ الْكَلِمَاتِ إِلَى أُصُولِهَا وَقَدْ قَالُوا فِي جَمْعِ الْأُمِّ: أُمَّهَاتٌ فَرَدُّوا الْمُفْرَدَ إِلَى أَصْلِهِ فَدَلُّوا عَلَى أَنَّ أَصْلَ أُمٍّ أُمَّهَةٌ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ إِذَا نُقِلَتْ مِنْ حَالَةِ الِاشْتِقَاقِ إِلَى جَعْلِهَا أَعْلَامًا قَدْ يَقَعُ فِيهَا تَغْيِيرٌ لِأَصْلِهَا. وَقَدِ اشْتُهِرَ الْيَهُودُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِوَصْفِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أَيْ لَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَهْلَ كِتَابٍ. وَلَمْ تَكُنِ الْأُمِّيَّةُ فِي الْعَرَبِ وَصْفَ ذَمٍّ لَكِنَّهَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَصْفُ ذَمٍّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: 75] وَقَالَ ابْن صيّاد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ» وَذَلِكَ لما تَقْتَضِيه الْأُمِّيين مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الأمية معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِ نَشَأَ أُمِّيًّا قَبْلَ النُّبُوءَةِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: إِنَّ اللَّهَ عَلَّمَ نَبِيَّهُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ بَعْدَ تَحَقُّقِ مُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِأَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ اسْتِنَادًا لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي تَرْجَمته فِي كِتَابِ «الْمَدَارِكِ» لِعِيَاضٍ وَمَا أَرَادَ إِلَّا إِظْهَارَ رَأْيِهِ. وَالْكِتَابُ إِمَّا بِمَعْنَى التَّوْرَاةِ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ وَإِمَّا مَصْدَرُ كَتَبَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَةَ وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِلَّا أَمانِيَّ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْأُمِّيَّةِ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ التَّوْرَاةَ إِلَّا عِلْمًا مُخْتَلِطًا حَاصِلًا مِمَّا يَسْمَعُونَهُ وَلَا يُتْقِنُونَهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْجُمْلَةُ وَصْفًا كَاشِفًا لِمَعْنَى الْأُمِّيِّينَ كَقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا وَالْأَمَانِيُّ بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ أُمْنِيَةٍ عَلَى وَزْنِ أَفَاعِيلَ وَقَدْ جَاءَ بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ جَمْعٌ عَلَى وَزْنِ أَفَاعِلَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ كَمَا جُمِعَ مِفْتَاحٌ عَلَى مَفَاتِحَ وَمَفَاتِيحَ، وَالْأُمْنِيَةُ كَأُثْفِيَةٍ وَأُضْحِيَةٍ أُفْعُولَةٌ كَالْأُعْجُوبَةِ وَالْأُضْحُوكَةِ وَالْأُكْذُوبَةِ وَالْأُغْلُوطَةِ، وَالْأَمَانِيُّ كَالْأَعَاجِيبِ وَالْأَضَاحِيكِ وَالْأَكَاذِيبِ وَالْأَغَالِيطِ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَنَى كَرَمَى بِمَعْنَى قَدَّرَ الْأَمْرَ وَلِذَلِكَ قِيلَ تَمَنَّى بِمَعْنَى تَكَلَّفِ تَقْدِيرَ حُصُولِ شَيْءٍ مُتَعَذِّرٍ أَوْ مُتَعَسِّرٍ، وَمَنَّاهُ أَيْ جَعَلَهُ مَانِيًا أَيْ مُقَدَّرًا كِنَايَةً عَنِ الْوَعْدِ الْكَاذِبِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ الْمَوْعُودَ مِنْ تَقْدِيرِ حُصُولِ الشَّيْءِ الْيَوْمَ إِلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ غَدًا، وَهَكَذَا كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ وَلِأَنَّ الْكَاذِبَ مَا كَذَبَ إِلَّا لِأَنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُوَافِقًا لِخَبَرِهِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَدَثَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالتَّمَنِّي فَاسْتُعْمِلَتِ الْأُمْنِيَةُ فِي الْأُكْذُوبَةِ، فَالْأَمَانِيُّ هِيَ التَّقَادِيرُ النَّفْسِيَّةُ أَيِ الِاعْتِقَادَاتُ الَّتِي يَحْسَبُهَا صَاحِبُهَا حَقًّا وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ أَوْ هِيَ الْفِعَالُ الَّتِي يَحْسَبُهَا الْعَامَّةُ مِنَ الدِّينِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ بَلْ يَنْسَوْنَ الدِّينَ وَيَحْفَظُونَهَا، وَهَذَا دَأْبُ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ عَنْ شَرْعِهَا أَنْ تَعْتَقِدَ مَالَهَا مِنَ الْعَوَائِدِ وَالرُّسُومِ وَالْمَوَاسِمِ شَرْعًا، أَوْ هِيَ التَّقَادِيرُ الَّتِي وَضَعَهَا الْأَحْبَارُُُ

[سورة البقرة (2) : آية 79]

مَوْضِعَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ إِمَّا زِيَادَةً عَلَيْهِ حَتَّى أَنْسَتْهُمُ الْأَصْلَ وَإِمَّا تَضْلِيلًا وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ هُنَا الْأَكَاذِيبُ أَيْ مَا وَضَعَهُ لَهُمُ الَّذِينَ حَرَّفُوا الدِّينَ، وَقَدْ قِيلَ الْأَمَانِيُّ الْقِرَاءَةُ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا كَلِمَات يحفظوها وَيَدْرُسُونَهَا لَا يَفْقَهُونَ مِنْهَا مَعْنًى كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ إِذْ تَقْتَصِرُ مِنَ الْكُتُبِ عَلَى السَّرْدِ دُونَ فَهْمٍ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ حَسَّانٍ فِي رِثَاءِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ أَيْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ الَّذِي قُتِلَ فِي آخِرِهِ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمَانِيَّ هُنَا التَّمَنِّيَّاتُ وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ أَيْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فَلَمَّا لَمْ يَنَالُوا الْعِلْمَ ادَّعَوْهُ بَاطِلا فَإِن غي الْعَالِمِ إِذَا اتُّهِمَ بِمِيسَمِ الْعُلَمَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا، وَكَيْفَمَا كَانَ الْمُرَادُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَاتِهِ الْمَعَانِي لَيْسَ مِنْ علم الْكتاب. [79] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 79] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُتَرَتِّبًا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 75] الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ تَحْرِيفٍ مِنْهُمْ عَنْ عَمْدٍ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ سُوءَ الْحَالَةِ، أَوْ رُتِّبَ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ اسْتِفْظَاعِ حَالِهِمْ، وَأُعِيدَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا أُجْمِلَ فِي الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِعَادَةَ تَفْصِيلٍ. وَمَعْنَى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ شَيْئًا لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ رُسُلِهِمْ بَلْ يَضَعُونَهُ وَيَبْتَكِرُونَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: بِأَفْوَاهِهِمْ لَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا فِي نفس الْأَمر. و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُدْخِلَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْوَيْلَ مِنْ كِتَابَةِ الْكِتَابُُِ

بِأَيْدِيهِمْ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُتَرَاخِيًا عَنْ كِتَابَتِهِمْ مَا كَتَبُوهُ فِي الزَّمَانِ بَلْ هُمَا مُتَقَارِنَانِ. وَالْوَيْلُ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الشَّرِّ أَوِ الْهَلَاكِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مِنْ لَفْظِهِ فَلِذَلِكَ قِيلَ هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: هُوَ مَصْدَرٌ امْتَنَعَ الْعَرَبُ مِنَ اسْتِعْمَالِ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ لَو صرّف لوُجُوب اعْتِلَالُ فَائِهِ وَعَيْنِهِ بِأَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ إِعْلَالَانِ أَيْ فَيكون ثقيلا، والويلة: الْبَلِيَّةُ. وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْوَيْلِ قَالَ تَعَالَى: يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا [الْكَهْف: 49] وَقَالَ امْرِئ الْقَيْسِ: فَقَالَتْ لَكَ الْوَيْلَاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي وَيُسْتَعْمَلُ الْوَيْلُ بِدُونِ حَرْفِ نِدَاءٍ كَمَا فِي الْآيَةِ وَيُسْتَعْمَلُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 14] كَمَا يُقَالُ يَا حَسْرَتَا. فَأَمَّا مَوْقِعُهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَفْ أُعْرِبَ إِعْرَابَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْتَدَأِ بِهَا وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِلَامِ الْجَرِّ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُنْصَبُ فَيُقَالُ: وَيْلًا لِزَيْدٍ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ قَبِيحًا وَأَوْجَبَ إِذَا ابْتُدِئَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الضَّمِيرِ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ [الْقَصَص: 80] وَقَوْلِهِ: وَيْلَكَ آمِنْ [الْأَحْقَاف: 17] فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فَيُعْرَبُ إِعْرَابَ غَيْرِ الْمُضَافِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَصِيرٍ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ» . وَلَمَّا أَشْبَهَ فِي إِعْرَابِهِ الْمَصَادِرَ الْآتِيَةَ بَدَلًا مِنْ أَفْعَالِهَا نَصْبًا وَرَفْعًا مِثْلَ: حَمْدًا لِلَّهِ وَصَبْرٌ جَمِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] قَالَ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ أُمِيتَ فِعْلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْمٌ وَجَعَلَ نَصْبَهُ فِي حَالَةِ الْإِضَافَةِ نَصْبًا عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَأَصْلُ وَيْلَهُ يَا وَيْلَهُ بِدَلِيلِ ظُهُورِ حَرْفِ النِّدَاءِ مَعَهُ فِي كَلَامِهِمْ. وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ كَالْمَنْدُوبِ فَقَالُوا: وَيْلَاهُ وَقَدْ أَعْرَبَهُ الزَّجَّاجُ كَذَلِكَ فِي سُورَةِ طه. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا نُصِبَ فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً [طه: 61] فِي طه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَلْزَمَكُمُ اللَّهُ وَيْلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ وَيْلٌ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ وَيْ بِمَعْنَى الْحُزْنِ وَمِنْ مَجْرُورٍ بِاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ مَعَ وَيْ صَيَّرُوهُمَا حَرْفًا وَاحِدًا فَاخْتَارُوا فَتْحَ اللَّامِ كَمَا قَالُوا يَالَ ضَبَّةَ فَفَتَحُوا اللَّامَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَكْسُورَةٌ. وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ دُعَاءً وَتَعَجُّبًا وَزَجْرًا مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَبَ لَكَ، وَثَكِلَتْكَ أُمُّكَ. وَمَعْنَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ

دُعَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْغَضَبِ وَالزَّجْرِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ دُعَاءٌ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْعِبَادَ كُلِّمُوا بِكَلَامِهِمْ وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ فَهْمِهِمْ أَيْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى مِثَالِ وَيْلٌ أَلْفَاظٌ وَهِيَ وَيْحٌ وَوَيْسٌ وَوَيْبٌ وَوَيْهٌ وَوَيْكَ. وَذِكْرُ بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ مِثْلَ نَظَرْتُهُ بِعَيْنَيَّ وَمِثْلَ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمرَان: 167] وَقَوْلُهُ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْكِتَابَةِ وَرَفْعُ الْمَجَازِ عَنْهَا وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَامِدُونَ قَاصِدُونَ. وَقَوْلُهُ: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] وَالثَّمَنُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ إِرْضَاءُ الْعَامَّةِ بِأَنْ غَيَّرُوا لَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ عَلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ أَوِ انْتِحَالُ الْعِلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فَوَضَعُوا كُتُبًا تَافِهَةً مِنَ الْقَصَصِ والمعلومات الْبَسِيطَةِ لِيَتَفَيْهَقُوا بِهَا فِي الْمَجَامِعِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَصِلْ عُقُولُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَكَانُوا قَدْ طَمِعُوا فِي التَّصَدُّرِ وَالرِّئَاسَةِ الْكَاذِبَةِ لَفَّقُوا نُتَفًا سَطْحِيَّةً وَجَمَعُوا مَوْضُوعَاتٍ وَفَرَاغَاتٍ لَا تَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ ثُمَّ أَشَاعُوهَا وَنَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ وَدِينِهِ وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ الْجَهَلَةِ الْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى الرِّئَاسَة عَن غَيْرِ أَهْلِيَّةٍ لِيَظْهَرُوا فِي صُوَرِ الْعُلَمَاءِ لَدَى أَنْظَارِ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّحْمِ وَالْوَرَمِ. وَقَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ تَفْصِيلٌ لِجِنْسِ الْوَيْلِ إِلَى وَيْلَيْنِ وَهُمَا مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الشَّرِّ لِأَجْلِ مَا وَضَعُوهُ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ لِأَجْلِ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَزَاءٌ بِالشَّرِّ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَعَلَى الْمَقْصِدِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثُ وَيْلَاتٍ كَمَا قَدْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَلَاشِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي زَمَنِ بُخْتُنَصَّرْ ثُمَّ فِي زَمَنِ طِيطَسَ الْقَائِدِ الرُّومَانِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَمَرَ بِوَضْعِهَا فِي تَابُوتِ الْعَهْدِ حَسْبَمَا ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ وَكَانَ هَذَا التَّابُوتُ قَدْ وَضَعَهُ مُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ وَضَعَهُ سُلَيْمَانُ فِي الْهَيْكَلِ فَلَمَّا غَزَاهُمْ بُخْتَنَصَّرْ سَنَةَ 588 قَبْلَ الْمَسِيحِ أَحْرَقَ الْهَيْكَلَ وَالْمَدِينَةَ كُلَّهَا بِالنَّارِ وَأَخَذَ مُعْظَمَ الْيَهُودِ فَبَاعَهُمْ عَبِيدًا فِي بَلَدِهِ وَتَرَكَ فِئَةً قَلِيلَةً بِأُورْشَلِيمَ قَصَرَهُمْ عَلَى الْغِرَاسَةِ وَالزِّرَاعَةِ ثُمَّ ثَارُوا عَلَى بُخْتُنَصَّرْ وَقَتَلُوا نَائِبَهُ وَهَرَبُوا إِلَى مِصْرَ وَمَعَهُمْ أَرْمِيَا فَخَرِبَتْ مَمْلَكَةُ الْيَهُودِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا

يَوْمَئِذٍ يَسْتَطِيعُونَ إِنْقَاذَ التَّوْرَاةِ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ حَفَظَتِهَا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمْ جَعَلَتِ التَّوْرَاةَ أَمَانَةً بِأَيْدِي اللَّاوِيِّينَ كَمَا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ التَّثْنِيَةِ وَأَمَرَ مُوسَى الْقَوْمَ بِنَشْرِ التَّوْرَاةِ لَهُمْ بَعْدَ كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ تَمْضِي وَقَالَ مُوسَى ضَعُوا هَذَا الْكِتَابَ عِنْدَ تَابُوتِ الْعَهْدِ لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ لِأَنِّي أَعْرِفُ تَمَرُّدَكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ تُقَاوِمُونَ رَبَّكُمْ وَأَنَا حَيٌّ فَأَحْرَى أَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِي وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ نَبَذُوا الدِّيَانَةَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ فِي عَهْدِ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ يَهُوذَا وَفِي عَهْدِ يُورْبَعَامَ غُلَامِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ قَبْلَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِتَنَاسِي الدِّينِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّخْرِيبُ الْمَشْهُورُ ثُمَّ أَعْقَبَهُ التَّخْرِيبُ الرُّومَانِيُّ فِي زَمَنِ طِيطَسَ سَنَةَ 40 لِلْمَسِيحِ ثُمَّ فِي زَمَنِ أَدْرِيَانَ الَّذِي تَمَّ عَلَى يَدِهِ تَخْرِيبُ بَلَدِ أُورْشَلِيمَ بِحَيْثُ صَيَّرَهَا مَزْرَعَةً وَتَفَرَّقَ مَنْ أَبْقَاهُ السَّيْفُ مِنَ الْيَهُودِ فِي جِهَاتِ الْعَالَمِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ عَنْ تَارِيخِ الدِّينِ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ وَالزِّيَادَةُ وَالتَّلَاشِي وَأَنَّهُمْ لَمَّا جَمَعُوا أَمْرَهُمْ عَقِبَ بَعْضِ مَصَائِبِهِمُ الْكُبْرَى افْتَقَدُوا التَّوْرَاةَ فَأَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوهَا مِنْ مُتَفَرِّقِ أَوْرَاقِهِمْ وَبَقَايَا مَكَاتِبِهِمْ. وَقَدْ قَالَ: (لِنْجَرْكُ) أَحَدُ اللَّاهُوتِيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرَنْجِ أَنَّ سِفْرَ التَّثْنِيَةِ كَتَبَهُ يَهُودِيٌّ كَانَ مُقِيمًا بِمِصْرَ فِي عَهْدِ الْمَلِكِ يُوشِيَا مَلِكِ الْيَهُودِ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْكُتُبَ الْخَمْسَةَ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ التَّوْرَاةِ قَدْ دَخَلَ فِيهَا تَحْرِيفٌ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ صَمُوئِيلَ أَوْ عُزَيْرٍ (عِزْرَا) . وَيَذْكُرُ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ ظَفِرَ بِالتَّوْرَاةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ تَلَاشَتْ وَتَمَزَّقَتْ وَالْمَوْجُودُ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الثَّانِي مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا كَانُوا بِصَدَدِ تَرْمِيمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي زَمَنِ يُوشِيَا مَلِكِ يَهُوذَا ادَّعَى حَلْقِيَا الْكَاهِنُ أَنَّهُ وَجَدَ سِفْرَ الشَّرِيعَةِ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَسَلَّمَهُ الْكَاهِنُ لِكَاتِبِ الْمَلِكِ فَلَمَّا قَرَأَهُ الْكَاتِبُ عَلَى الْمَلِكِ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَتَابَ مِنَ ارْتِدَادِهِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَأَمَرَ الْكَهَنَةَ بِإِقَامَةِ كَلَامِ الشَّرِيعَةِ الْمَكْتُوبِ فِي السِّفْرِ الَّذِي وَجَدَهُ حَلْقِيَا الْكَاهِنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ اهـ. فَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُمْ مُنْذُ زمَان.

[سورة البقرة (2) : الآيات 80 إلى 82]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 80 إِلَى 82] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) قِيلَ: الْوَاوُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةٍ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 75] فَتَكُونُ حَالًا مِثْلَهَا أَيْ كَيْفَ تَطْمَعُونَ أَنْ يُؤمنُوا لكم وهم يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ وَيَقُولُونَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْوَاوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْله يَكْتُبُونَ [الْبَقَرَة: 79] إِلَخْ أَيْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ. وَوَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ دَلَّ عَلَى اعْتِقَادٍ مُقَرَّرٍ فِي نُفُوسِهِمْ يُشِيعُونَهُ بَيْنَ النَّاسِ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ أَنْبَأَ بِغُرُورٍ عَظِيمٍ مِنْ شَأْنه أَن يقدمهم عَلَى تِلْكَ الْجَرِيمَةِ وَغَيْرِهَا إِذْ هُمْ قَدْ آمَنُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً تُعَادِلُ أَيَّامَ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ أَيَّامًا عَنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ من الْعَالم يَوْم وَإِنَّ ذَلِكَ عَذَابٌ مَكْتُوبٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ فَهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَعَاصِي لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَبِالْعَطْفِ عَلَى أَخْبَارِهِمْ حَصَلَتْ فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْ عَقِيدَةٍ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ. وَلِمَوْقِعِ هَذَا الْعَطْفِ حَصَلَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ إِذْ يَعْجَبُ السَّامِعُ مِنْ جُرْأَتِهِمْ عَلَى هَذَا الْإِجْرَامِ. وَقَوْلُهُ: وَقالُوا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَنِ اعْتِقَادٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ حَتَّى تَقُومَ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ عَلَى خِلَافِ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] وَلِأَجْلِ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الِاعْتِقَادِ سَاغَ اسْتِعْمَالُ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: قَالَ مَالِكٌ، وَفِي نَحْوِ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ: عَلَامَ تَقُولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عَاتِقِي وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ اتِّصَالُ الْيَدِ بِجِرْمٍ مِنَ الْأَجْرَامِ وَكَذَلِكَ اللَّمْسُ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا (¬1) بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ [الْأَنْعَام: 49] . وَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِهِمْ بِحَرْفِ (لَنِ) الدَّالِّ عَلَى تَأْيِيدِ النَّفْيِ تَأْكِيدًا لِانْتِفَاءِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، وَلِدِلَالَةِ (لَنْ) عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ تَأَتَّى الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً عَلَى وَجْهِ التَّفْرِيعِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالْوَصْفُ بِمَعْدُودَةٍ مُؤْذِنٌ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْدُودِ الَّذِي يَعُدُّهُ النَّاسُ إِذَا رَأَوْهُ أَوْ تَحَدَّثُوا عَنْهُ، وَقَدْ شَاعَ فِي الْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة كفرُوا وَهُوَ غلط.

أَنَّ النَّاسَ لَا يَعْمِدُونَ إِلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ دَفْعًا لِلْمَلَلِ أَوْ لِأَجْلِ الشُّغْلِ سَوَاءٌ عَرَفُوا الْحِسَابَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَدُّ بِالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ لَا الْعَدُّ بِجَمْعِ الْحِسَابَاتِ إِذْ لَيْسَ مَقْصُودًا هُنَا. وَتَأْنِيثُ (مَعْدُودَةً) وَهُوَ صِفَةُ (أَيَّامًا) مُرَاعًى فِيهِ تَأْوِيلُ الْجَمْعِ بِالْجَمَاعَةِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي صِفَةِ الْجَمْعِ إِذَا أَنَّثُوهَا أَنْ يَأْتُوا بِهَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ إِلَّا إِذَا أَرَادُوا تَأْوِيلَ الْجَمْعِ بِالْجَمَاعَاتِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 184] . وَقَوْلُهُ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً جَوَابٌ لِكَلَامِهِمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] وَالِاسْتِفْهَامُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ بَلى فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ لِلْإِلْجَاءِ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَصْدَقِ الْأَمريْنِ وَلَيْسَ إنكاري لِوُجُودِ الْمُعَادِلِ وَهُوَ أَمْ تَقُولُونَ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لَا مُعَادِلَ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ الْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، لِأَنَّ أَصْلَ الْعَهْدِ هُوَ الْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ بِقَسَمٍ وَالْتِزَامٍ، وَوَعْدُ الَّذِي لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ كَالْعَهْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ هُنَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّقْرِيرِ دَالٌّ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الِاتِّخَاذَ دُونَ أَعَاهَدْتُمْ أَوْ عَاهَدَكُمْ لِمَا فِي الِاتِّخَاذِ مِنْ تَوْكِيدِ الْعَهْدِ وَ «عِنْدَ» لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ يَقُولُونَ اتَّخَذَ يَدًا عِنْدَ فُلَانٍ. وَقَوْلُهُ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ الْفَاءُ فَصِيحَةٌ دَالَّةٌ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَجَزَائِهِ وَمَا بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ عِلَّةُ الْجَزَاءِ وَالتَّقْدِيرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَلَكُمُ الْعُذْرُ فِي قَوْلِكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الْبَقَرَة: 60] . وَلِكَوْنِ مَا بَعْدَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ دَلِيلَ شَرْطٍ وَجَزَائَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهَا وَلَا مُتَرَتِّبًا عَنْهُ حَتَّى يُشْكَلَ عَلَيْهِ عَدَمُ صِحَّةِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ عَلَى الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّ (لن) للاستقبال. و (أم) فِي قَوْلِهِ: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مُعَادَلَةُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ وَتَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْإِيضَاحِ» وَهُوَ التَّحْقِيقُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ، فَمَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» مِنْ أَنَّ عَلَامَةَ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ كَوْنُ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةَ أَمْرٍ أَغْلَبِيٍّ وَلَا مَعْنَى لِلِانْقِطَاعِ هُنَا لِأَنَّهُ يُفْسِدُ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْإِلْجَاءِ وَالتَّقْرِيرِ. وَقَوْلُهُ: بَلى إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وَكَلِمَاتُ الْجَوَابِ تَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ لَا عَلَى مَا بَعْدَهَا فَمَعْنَى بَلَى بَلْ أَنْتُمْ تَمَسُّكُمُ النَّارُ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَقَوْلُهُ: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً سَنَدٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ (بَلَى) مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، أَيْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا مِمَّنْ كَسَبَ سَيِّئَةً إِلَخْ

وَمَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ فَأَنْتُمْ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ لَبِيدٍ: تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا ... وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ أَيْ فَلَا أُخَلَّدُ كَمَا لَمْ يُخَلَّدْ بَنُو رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَمَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا وَهِيَ فِي الشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُؤْذِنَةً بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا تَعْقِيبُ (بَلَى) بِهَذَا الْعُمُومِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مَنْ زُمَرِ هَذَا الْعُمُومِ لَكَانَ ذِكْرُ الْعُمُومِ بَعْدَهَا كَلَامًا مُتَنَاثِرًا فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ الْحَذْفِ لِيَكُونَ الْمَذْكُورُ كَالْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى لِبُرْهَانِ قَوْلِهِ: بَلى. وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ هُنَا السَّيِّئَةُ الْعَظِيمَةُ وَهِيَ الْكُفْرُ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ. وَقَوْلُهُ: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الْخَطِيئَةُ اسْمٌ لِمَا يَقْتَرِفُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُوِلَةٍ مِنْ خَطَى إِذَا أَسَاءَ، وَالْإِحَاطَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الْخُلُوِّ عَنِ الشَّيْءِ لِأَنَّ مَا يُحِيطُ بِالْمَرْءِ لَا يَتْرُكُ لَهُ مَنْفَذًا لِلْإِقْبَالِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُس: 22] وَإِحَاطَةُ الْخَطِيئَاتِ هِيَ حَالَةُ الْكفْر لِأَنَّهَا تجريء عَلَى جَمِيعِ الْخَطَايَا وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْكُفْرِ عَمَلٌ صَالِحٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 17] . فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلزَّاعِمِينَ خُلُودَ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّارِ إِذْ لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُحِيطَةً بِهِ الْخَطِيئَاتُ بَلْ هُوَ لَا يَخْلُو مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ سَلَامَةُ اعْتِقَادِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَسَلَامَةُ لِسَانِهِ مِنَ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ الْخَبِيثَةِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَذْيِيلٌ لِتَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْخُلُودِ هُنَا حَقِيقَته.

[سورة البقرة (2) : آية 83]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) أُعِيدَ ذِكْرُ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِطْرَادِ الْمُتَفَنَّنِ فِيهِ، فَأُعِيدَ الْأُسْلُوبُ الْقَدِيمُ وَهُوَ الْعَطْفُ بِإِعَادَةِ لَفْظِ (إِذْ) فِي أَوَّلِ الْقَصَصِ. وَأَظْهَرَ هُنَا لَفْظَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَعَدَلَ عَنِ الْأُسْلُوبِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ فِيهِ التَّعْبِيرُ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ الْمُرَادِ بِهِ سَلَفُ الْمُخَاطَبِينَ وَخَلَفُهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى مُجَادَلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى مَسَاوِيهِمْ فَهُوَ افْتِتَاحٌ ثَانٍ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الِافْتِتَاحِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَة: 40] الْآيَةَ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ هُنَا لَمَّا كَانَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُ إِثْبَاتَ سُوءِ صَنِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ الْقُرْآنِ تَعَيَّنَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ سَلَفِهِمْ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ لِيَتَأَتَّى تَوْجِيهُ الْخِطَابِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ حَتَّى لَا يُظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ أَسْلَافُهُمْ عَلَى وِزَانِ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الْبَقَرَة: 49] أَوْ عَلَى وِزَانِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [الْبَقَرَة: 51] . وَقَوْلُهُ: مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أُرِيدَ بِهِ أَسْلَافَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَعْطَوُا الْمِيثَاقَ لِمُوسَى عَلَى امْتِثَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِلَفْظِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي تَوَلَّيْتُمْ خُصُوصُ مَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ مَا صَدَّقَ بَنِي إِسْرائِيلَ هُوَ مَا صَدَّقَ ضَمِيرَ تَوَلَّيْتُمْ وَأَنَّ الْكَلَامَ الْتِفَاتٌ. وَقَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَمَجِيءُ الْخَبَرِ لِلْأَمْرِ أَبْلَغُ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِعَلَاقَةِ مُشَابَهَةِ الْأَمْرِ الْمَوْثُوقِ بِامْتِثَالِهِ بِالشَّيْءِ الْحَاصِلِ حَتَّى إِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ لَا تَعْبُدُونَ مَبْدَأُ بَيَانٍ لِلْمِيثَاقِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَعُطِفَ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا لِيَكُونَ مُشَارِكًا لَهَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِيَّةِ سَوَاءٌ قَدَّرْتَ أَنْ أَوْ لَمْ تُقَدِّرْهَا أَوْ قَدَّرْتَ قَوْلًا مَحْذُوفًا. وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً هُوَ مِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بِهِ وَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُمَا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَأَصْلُهُ وَإِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ، وَالْمَصْدَرُ بَدَلٌ

مِنْ فِعْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَلَا يُرِيبُكُمْ أَنَّهُ مَعْمُولُ مَصْدَرٍ وَهُوَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى عَامِلِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ تِلْكَ دَعْوَى وَاهِيَةٌ دَعَاهُمْ إِلَيْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي مَعْنَى أَنْ وَالْفِعْلِ فَهُوَ فِي قُوَّةِ الصِّلَةِ وَمَعْمُولُ الصِّلَةِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ لَا الْعَكْسُ، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ جِنِّي كَيْفَ تَابَعَهُمْ فِي «شَرْحِهِ لِلْحَمَاسَةِ» عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إِذْعَانُ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: بِالْوالِدَيْنِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَحْسِنُوا، وَقَوْلُهُ: إِحْساناً مَصْدَرٌ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّ حَذْفَ عَامِلِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ تَبْطُلُ بِهِ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ الْحَاصِلَةُ مِنَ التَّكْرِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. وَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْمَجْرُورَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، عَلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْمَجْرُورَاتِ أَمْرٌ شَائِعٌ وَأَصْلٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ. وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ كَالنَّدَامَى لِلنَّدِيمِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ. وَجَعَلَ الْإِحْسَانَ لِسَائِرِ النَّاسِ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُمْكِنُ مُعَامَلَةُ جَمِيعِ النَّاسِ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ عَنِ اعْتِقَادٍ، فَهُمْ إِذَا قَالُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فَقَدْ أَضْمَرُوا لَهُمْ خَيْرًا وَذَلِكَ أَصْلُ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَقَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الْحَشْر: 10] عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَضَ مَا يُوجِبُ تَكَدُّرَ الْخَاطِرِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْحَسَنَ يُزِيلُ مَا فِي نَفْسِ الْقَائِلِ مِنَ الْكَدَرِ وَيَرَى لِلْمَقُولِ لَهُ الصَّفَاءَ فَلَا يُعَامِلُهُ إِلَّا بِالصَّفَاءِ قَالَ الْمَعَرِّيُّ: وَالْخَلُّ كَالْمَاءِ يُبْدِي لِي ضَمَائِرَهُ ... مَعَ الصفاء ويخيفها مَعَ الْكَدَرِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ الْفِعْلِيِّ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمَأْمُورِ وَذَلِكَ الْإِحْسَانُ لِلْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ الْقَوْلِيِّ إِذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلِيُّ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أطلقت الزَّكَاة فِيهِ عَلَى الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكِنَايَةَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا عَلِمْتُ مِنْ أَنْ هَاتِهِ الْمَعَاطِيفَ تَابِعَةٌ لِبَيَانِ الْمِيثَاقِ وَهُوَ عَهْدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَالْمَعْنَى أَخَذْنَا مِيثَاقَ الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الْإِحْسَانِ فَكُنْتُمْ مِمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذَلِكَ وَعَصَيْتُمْ شَرْعًا اتَّبَعْتُمُوهُ. وَالتَّوَلِّي الْإِعْرَاضُ وَإِبْطَالُ مَا الْتَزَمُوهُ، وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ لِدِلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَيْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ بِهِ أَيْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَعَبَدْتُمُ الْأَصْنَامَ وَعَقَقْتُمُ الْوَالِدَيْنِ وَأَسَأْتُمْ لِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُلْتُمْ لِلنَّاسِ أَفْحَشَ الْقَوْلِ وَتَرَكْتُمُ الصَّلَاةَ وَمَنَعْتُمُ الزَّكَاةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي تَوَلَّيْتُمْ الْمُخَاطَبِينَ زَمَنَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَبَعْضُ مِنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ متوسط عصور الإسرائيليين فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ تَغْلِيبًا، نُكْتَتُهُ إِظْهَارُ بَرَاءَةِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ أَوَّلًا مِنْ نَكْثِهِ وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْجَمْعِ وَالْمُرَادُ التَّوْزِيعُ أَيْ تَوَلَّيْتُمْ فَمِنْكُمْ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ لِلْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى إِلَخْ وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَمِنْكُمْ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ يَهُودَ زَمَنَ النُّزُولِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ بَعْدِ سُلَيْمَانَ فَقَدْ كَانَتْ مِنْ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِرَارًا كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي سِفْرَيِ الْمُلُوكِ الْأُوَلِ وَالثَّانِي من التَّوْرَاة. و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبَيْنِ التَّرَتُّبِيِّ وَالْخَارِجِيَّ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ إِنْصَافٌ لَهُمْ فِي تَوْبِيخِهِمْ وَمَذَمَّتِهِمْ وَإِعْلَانٌ بِفَضْلِ مَنْ حَافَظَ عَلَى الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَلِكَوْنِهَا اسْمِيَّةً أَفَادَتْ أَنَّ الْإِعْرَاضَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُمْ وَعَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْهُمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُشْتَقًّا مِنْ فعل منزل منزلَة اللَّازِمِ وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلٍ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ أَيْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْوَصَايَا الَّتِي تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ أَيْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ وَجُرْأَةٍ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْوَصَايَا وَتَرْكًا لِلتَّدَبُّرِ فِيهَا وَالْعَمَلِ بِهَا

[سورة البقرة (2) : الآيات 84 إلى 86]

[84- 86] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 84 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. تَفَنَّنَ الْخِطَابُ هُنَا فَجَاءَ عَلَى نَسَقِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، إِذْ عَبَّرَ هُنَا عَنْ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ حِين نزُول الْقُرْآن (¬1) هُمُ الْمَقْصُودُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ تَنْزِيلِ الْخَلَفِ مَنْزِلَةَ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ لِلْإِظْهَارِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَقْصُودِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ قَدْ أَخَذَ مَا يَقْتَضِيهِ فَعَادَ أُسْلُوبُ الْخِطَابِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ فِي لَا تَسْفِكُونَ كَالْقَوْلِ فِي لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الْبَقَرَة: 83] وَالسَّفْكُ الصَّبُّ. وَإِضَافَةُ الدِّمَاءِ إِلَى ضَمِيرِ فَاعِلِ تَسْفِكُونَ اقْتَضَتْ أَنَّ مَفْعُولَ تَسْفِكُونَ هُوَ دِمَاءُ السَّافِكِينَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَسْفِكَ الْإِنْسَانُ دَمَ نَفْسِهِ أَوْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ دَارِهِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَزَعُ الْمَرْءَ عَنْهُ وَازِعُهُ الطَّبِيعِيُّ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الشَّرِيعَةِ الِاهْتِمَامُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ لَا يَسْفِكَ أَحَدٌ دَمَ غَيْرِهِ وَلَا يُخْرِجَ غَيْرَهُ مِنْ دَارِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] أَيْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. فَوَجْهُ إِضَافَةِ الدِّمَاءِ إِلَى ضَمِيرِ السَّافِكِينَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ يَكُونُ مَدْلُولُ الضَّمَائِرِ فِيهَا مَجْمُوعَ النَّاسِ، فَإِذَا تَعَلَّقَتْ أَحْكَامٌ بِتِلْكَ الضَّمَائِرِ مِنْ إِسْنَادٍ أَوْ مَفْعُولِيَّةٍ أَوْ إِضَافَةٍ أُرْجِعَ كُلٌّ إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْزِيعِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَنُكْتَتُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُغَايَرَةَ فِي حُقُوقِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مُغَايَرَةٌ صُورِيَّةٌ وَأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَصْلَحَةُ الْجَامِعَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ الْجَامِعَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: 188] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْحَمَاسِيِّ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الذُّهْلِيِّ: قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي ... فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي فَلَئِنْ عَفَوْتُ لَأَعْفُوَنَّ جَلَلَا ... وَلَئِنْ سَطَوْتُ لَأُوهِنَنَّ عَظْمِي يُرِيدُ أَنَّ سَهْمَهُ إِذَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَقَدْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَسَمَّاهُ اللَّفَّ فِي الْقَوْلِ، أَيِ الْإِجْمَالُ الْمُرَادُ بِهِ التَّوْزِيعُ، وَذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّهُ مِنْ تَشْبِيهِ الْغَيْرِ بِالنَّفْسِ لِشِدَّةِ اتِّصَالِ الْغَيْرِ بِالنَّفْسِ فِي الْأَصْلِ أَوِ الدِّينِ فَإِذَا قَتَلَ الْمُتَّصِلَ بِهِ نَسَبًا أَوْ دِينًا ¬

(¬1) فِي المطبوعة (الْقرَاءَات) .

فَكَأَنَّمَا قَتَلَ نَفْسَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمَجَازِ فِي الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: دِماءَكُمْ وأَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ بِالتَّسَبُّبِ فِي قَتْلِ الْغَيْرِ فَيُقْتَصُّ مِنْكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ فَتُنْفَوْا مِنْ دِيَارِكُمْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَجَازِ التَّبَعِيِّ فِي تَسْفِكُونَ وتُخْرِجُونَ بِعَلَاقَةِ التَّسَبُّبِ. وَأَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى وَصِيَّتَيْنِ مِنَ الْوَصَايَا الْإِلَهِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْعَهْدِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَلِمَاتِ الْعَشْرِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تَقْتُلْ، لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ» فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ شَهْوَةِ بَيْتِ الْقَرِيبِ لِقَصْدِ سَدِّ ذَرِيعَةِ السَّعْيِ فِي اغْتِصَابِهِ مِنْهُ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. وَعَلَيْهِ فَإِضَافَةُ (مِيثَاقٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مُرَاعًى فِيهَا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَدَيِّنِينَ بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَقَدِ الْتَزَمُوا بِجَمِيعِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ مُرَتَّبٌ تَرْتِيبًا رُتَبِيًّا أَيْ أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدَ وَأَقْرَرْتُمُوهُ أَيْ عَمِلْتُمْ بِهِ وَشَهِدْتُمْ عَلَيْهِ فَالضَّمِيرَانِ فِي أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ رَاجِعَانِ لِمَا رَجَعَ لَهُ ضَمِيرُ مِيثاقَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ لِتَكُونَ الضَّمَائِرُ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ فِي النَّظْمِ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ حَالِيَّةٌ أَيْ لَا تُنْكِرُونَ إِقْرَارَكُمْ بِذَلِكَ إِذْ قَدْ تَقَلَّدْتُمُوهُ وَالْتَزَمْتُمُ التَّدَيُّنَ بِهِ. وَالْعَطْفُ بِثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ أَيْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ، وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ الْحَاضِرِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: هؤُلاءِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَى غَائِبٍ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هَا أَنَا ذَا وَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ، فَلَيْسَتْ زِيَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَّا لِتَعْيِينِ مَفَادِ الضَّمِيرِ وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ يَخْتَصُّ غَالِبًا بِمَقَامِ التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ الْمُخَاطَبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِخْبَارِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُخْبِرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ تَخَالُفٌ فِي الْمَفْهُومِ وَاتِّحَادٌ فِي الصِّدْقِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ بِحِمْلِ الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ أَنْتَ صَادِقٌ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ اخْتِلَافُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْجُمُودِ وَالِاشْتِقَاقِ غَالِبًا أَوِ الِاتِّحَادِ فِي الِاشْتِقَاقِ وَلَا تَجِدُهُمَا جَامِدَيْنِ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ. ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقْصِدُ مِنَ الْإِخْبَارِ مَعْنَى مُصَادَفَةِ الْمُتَكَلِّمِ الشَّيْءَ عَيْنَ شَيْءٍ يَبْحَثُ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ نَحْوَ «أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ» قَالَهُ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ وَجَدَهُ مُثْخَنًا بِالْجِرَاحِ صَرِيعًا وَمُصَادَفَةُ الْمُخَاطَبِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ نَحْوَ «قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي» فَإِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ تَوَسَّعُوا فِي طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: «أَنَا ذَلِكَ» إِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُُُُُ

إِلَى مُتَقَرِّرٍ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَيْنُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ كَقَوْلِ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ: تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا (¬1) وَقَوْلُ طَرِيفٍ الْعَنْبَرِيِّ: فَتَوَسَّمُونِي إِنَّنِي أَنَا ذَالِكُمْ (¬2) وَأَوْسَعُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ نَحْوَ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي ثُمَّ إِذَا أَرَادُوا الْعِنَايَةَ بِتَحْقِيقِ هَذَا الِاتِّحَاد جَاءُوا «بهَا التَّنْبِيهِ» فَقَالُوا: هَا أَنَا ذَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُ لِمَنْ قَدْ يَشُكُّ أَنَّهُ هُوَ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أَنَا ذَا (¬3) فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي صَحَّحَ الْأَخْبَارَ مَعْلُومًا اقْتَصَرَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا اتَّبَعَ مِثْلَ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ بِجُمْلَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ الَّتِي اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَرَاتِبُ: الْأُولَى ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ، الثَّانِيَةُ: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمرَان: 119] . وَمِنْهُ «هَا أَنَا ذَا لَدَيْكُمَا» قَالَهُ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ. الثَّالِثَةُ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [النِّسَاء: 109] وَيُسْتَفَادُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ فِي أَكْثَرِ مَوَاقِعِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ وَجَدْتَهُ حَاضِرًا وَكُنْتَ لَا تَتَرَقَّبُ حُضُورَهُ هَا أَنْتَ ذَا، أَوْ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَفَادُهَا عَجِيبًا كَمَا رَأَيْتَ فِي الْأَمْثِلَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُمَا حَالًا، وَقِيلَ: هِيَ مُسْتَأْنِفَةٌ لِبَيَانِ مَنْشَأِ التَّعَجُّبِ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ هِيَ الْخَبَرُ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُنَادَى مُعْتَرِضٌ وَمَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْإِشَارَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَعَلَى الْخِلَافِ فِي مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ اخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ أَتَى بَعْدَهَا أَنْتَ ذَا وَنَحْوُهُ بِمُفْرَدٍ فَقِيلَ يَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مِثَالٌ أَنْشَدَهُ النُّحَاةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَبَا حَكَمٍ هَا أَنْتَ نَجْمُ مُجَالِدٍ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ ابْنُ مَالِكٍ فِي خُطْبَةِ «التَّسْهِيلِ» بِقَوْلِهِ: وَهَا أَنَا سَاعٍ فِيمَا انْتُدِبْتُ إِلَيْهِ، وَجَاءَُُُُُُ ¬

(¬1) قبله «أَقُول لَهُ وَالرمْح يأطر مَتنه» . (¬2) تَمَامه «شاكي سلاحي فِي الْحَوَادِث معلم» . [.....] (¬3) تَمَامه «لَيْسَ الْفَتى من يَقُول كَانَ أبي» .

ابْنُ هِشَامٍ فِي خُطْبَةِ «الْمُغْنِي» بِقَوْلِهِ: وَهَا أَنَا مُبِيحٌ بِمَا أَسْرَرْتُهُ. وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَيْضًا فِي أَنَّ وُقُوعَ الضَّمِيرِ بَعْدَ (هَا) التَّنْبِيهِ هَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْقُبَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ فَقَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» هُوَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ لَازِمٌ صَرَّحَ بِهِ فِي «حَوَاشِي التَّسْهِيلِ» بِنَقْلِ الدَّمَامِينِيِّ فِي «الْحَوَاشِي الْمِصْرِيَّةِ» فِي الْخُطْبَةِ وَفِي الْهَاءِ الْمُفْرَدَةِ. وَقَالَ الرَّضِيُّ إِنَّ دُخُولَ (هَا) التَّنْبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا وَإِنَّمَا يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِفَاصِلٍ فَمِنْهُ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ الْمُنْفَصِلُ كَمَا رَأَيْتَ وَمِنْهُ الْقَسَمُ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ مِنْ «شَوَاهِدِ الرَّضِيِّ» : تَعَلَّمَنْ هَا لَعَمْرُ اللَّهِ ذَا قَسَمَا ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ فَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ وَشَذَّ بِغَيْرِ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ النَّابِغَةِ: هَا إِنَّ تَا عَذِرَةَ إِنْ لَا تَكُنْ نَفَعَتْ ... فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ فِي الْبَلَدِ وَقَوْلُهُ: تَقْتُلُونَ حَالٌ أَوْ خَبَرٌ. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِقَصْدِ الدِّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِكُمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْمَقْصُودَ بِالْخِطَابَاتِ كُلِّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادًا بِهِ أَسْلَافُ الْحَاضِرِينَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ مَعَ إِشْعَارِهِ بِمُغَايَرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ لِلَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابُ مُرَادًا مِنْهُ مُغَايَرَةٌ تَنْزِيلِيَّةٌ لِتَغَيُّرِ صِفَاتِ الْمُخَاطَبِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ تَكَلُّفٌ سَاقَهُ إِلَيْهِ مَحَبَّةُ جَعْلِ الْخِطَابَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَافِقَةً لِلْخِطَابَاتِ الَّتِي فِي الْآيِ قَبْلَهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَأَنَّ الْمُغَايَرَةَ مَقْصُودَةٌ هُنَا وَقَدِ اسْتَقَامَتْ فَلَا دَاعِي إِلَى التَّكَلُّفِ. وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى مَا حَدَثَ بَيْنَ الْيَهُودِ مِنَ التَّخَاذُلِ وَإِهْمَالِ مَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ شَرِيعَتُهُمْ (¬1) وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ يَهُودُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ. وَأَرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِخَاصَّةٍ مَا حَدَثَ بَيْنَهُمْ فِي حُرُوبِ بُعَاثَ الْقَائِمَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّاُُ ¬

(¬1) ابْتَدَأَ التخاذل بَين الْيَهُود بعد وَفَاة سُلَيْمَان وبيعة ابْنه رحبعام ملكا على إِسْرَائِيل إِذْ شقّ عَلَيْهِ عَصا الطَّاعَة غُلَام أَبِيه الْمُسَمّى يربعام وتحزب الأسباط عدا سبطي يهوذا وبنيامين مَعَ يربعام وَقد هم رحبعام أَن يُقَاتل من خرج عَنهُ فَنَهَاهُ النبيء شمعيا وَبِذَلِك كف رحبعام عَن الْقِتَال وَرَضي بِمن بَقِي مَعَه (إصحاح 12 مُلُوك أول) وَلما مَاتَ رحبعام وَولى ابْنه «أَبَيَا» جمع جَيْشًا لقِتَال يربعام عبد جده

تَقَاتَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ اعْتَزَلَ الْيَهُودُ الْفَرِيقَيْنِ زَمَنًا طَوِيلًا وَالْأَوْسُ مَغْلُوبُونَ فِي سَائِرِ أَيَّامِ الْقِتَالِ فَدَبَّرَ الْأَوْسُ أَنْ يَخْرُجُوا يَسْعَوْنَ لِمُحَالَفَةِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَلَمَّا عَلِمَ الْخَزْرَجُ تَوَعَّدُوا الْيَهُودَ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا لَا نُحَالِفُ الْأَوْسَ وَلَا نُحَالِفُكُمْ فَطَلَبَ الْخَزْرَجُ عَلَى الْيَهُودِ رَهَائِنَ أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَسَلَّمُوهُمْ لَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيَّ الْخَزْرَجِيَّ أَطْمَعَ قَوْمَهُ أَنْ يَتَحَوَّلُوا لِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لِحُسْنِ أَرْضِهِمْ وَنَخْلِهِمْ وَأَرْسَلَ إِلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ يَقُولُ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تُخَلُّوا لَنَا دِيَارَكُمْ وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلَ الرَّهَائِنَ فَخَشِيَ الْقَوْمُ عَلَى رَهَائِنِهِمْ وَاسْتَشَارُوا كَعْبَ بْنَ أُسَيْدٍ الْقُرَظِيَّ فَقَالَ لَهُمْ: «يَا قَوْمُ امْنَعُوا دِيَارَكُمْ وَخَلُّوهُ يَقْتُلِ الْغِلْمَانَ فَمَا هِيَ إِلَّا لَيْلَةٌ يُصِيبُ أَحَدُكُمْ فِيهَا امْرَأَتَهُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ مثل أحدهم» فَلَمَّا أَجَابَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ عَمْرًا بِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ دِيَارَهُمْ عَدَا عَمْرٌو عَلَى الْغِلْمَانِ فَقَتَلَهُمْ فَلِذَلِكَ تَحَالَفَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ مَعَ الْأَوْسِ فَسَعَى الْخَزْرَجُ فِي مُحَالَفَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِنَ الْيَهُودِ وَبِذَلِكَ نَشَأَ قِتَالٌ بَيْنَ فِرَقِ الْيَهُودِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ فَكَانَتِ الْيَهُودُ تَتَقَاتَلُ وَتُجْلِي الْمَغْلُوبِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَأْسِرُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا ارْتَفَعَتِ الْحَرْبُ جَمَعُوا مَالًا وَفَدَوْا بِهِ أَسْرَى الْيَهُودِ الْوَاقِعِينَ فِي أَسْرِ أَحْلَافِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْأَوْسِ أَوِ الْخَزْرَجِ فَعَيَّرَتِ الْعَرَبُ الْيَهُودَ بِذَلِكَ وَقَالَتْ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ ثُمَّ تَفْدُونَهُمْ بِأَمْوَالِكُمْ فَقَالُوا: قَدْ حُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نَخْذُلَ حُلَفَاءَنَا وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَ الْأَسْرَى فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) . الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ مِمَّا نُكِثَ فِيهِ الْعَهْدُ وَهُوَ

وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي ذِكْرِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ دِيَارِهِمْ كَانَ فِي جُمْلَةِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً أَيْ تُخْرِجُونَهُمْ وَالْحَالُ إِنْ أَسَرْتُمُوهُمْ تَفْدُونَهُمْ. وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَأْتُوكُمْ إِمَّا حَالٌ مِنْ مَعْطُوفٍ وَإِمَّا حَالٌ مَنْ حَالٍ إِذْ لَيْسَ فِدَاءُ الْأَسِيرِ بِمَذْمُومٍ لِذَاتِهِ وَلَكِنَّ ذَمَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا قَارَنَهُ مَنْ سَبَب الْفِدَاء فَحمل التَّوْبِيخِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمُفَادَاةِ مَعَ كَوْنِ الْإِخْرَاجِ مُحَرَّمًا وَبَعْدَ أَنْ قَتَلُوهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ، فَجُمْلَةُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ تُفادُوهُمْ. وَصُدِّرَتْ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا وَإِظْهَارِ أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ مَشْهُورٌ لَدَيْهِمْ وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ إِذْ قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ تَشْنِيعٌ وتبليد لَهُم إِذْ تَوَهَّمُوا الْقُرْبَةَ فِيمَا هُوَ مِنْ آثَارِ الْمَعْصِيَةِ أَيْ كَيْفَ تَرْتَكِبُونَ الْجِنَايَةَ وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتَقَرَّبُونَ بِالْفِدَاءِ وَإِنَّمَا الْفِدَاءُ الْمَشْرُوعُ هُوَ فِدَاءُ الْأَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْأَعْدَاءِ لَا مِنْ أَيْدِيكُمْ فَهَلَّا تَرَكْتُمْ مُوجِبَ الْفِدَاءِ؟. وَعِنْدِي أَنَّ فِي الْآيَةِ دِلَالَةً عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْمَغْصُوبِ لَيْسَ آتِيًا بِوَاجِبٍ وَلَا بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ انْقَطَعَ عَنْهُ تَكْلِيفُ النَّهْيِ وَأَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ نَاشِئَةٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ. وَالْأُسَارَى- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- جَمْعُ أَسِيرٍ حَمْلًا لَهُ عَلَى كَسْلَانَ كَمَا حَمَلُوا كَسْلَانَ عَلَى أَسِيرٍ فَقَالُوا: كَسْلَى هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ قِيَاسَ جَمْعِهِ أَسْرَى كَقَتْلَى. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ وَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى حَمْلٍ، كَمَا قَالُوا قُدَامَى جَمْعُ قَدِيمٍ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ جَمْعٍ فَالْأَسِيرُ يُجْمَعُ عَلَى أَسْرَى ثُمَّ يُجْمَعُ أَسْرَى عَلَى أُسَارَى وَهُوَ أَظْهَرُ. وَالْأَسِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ أَسَرَهُ إِذَا أَوْثَقَهُ وَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ فَإِنَّ الْإِسَارَ هُوَ السَّيْرُ مِنَ الْجِلْدِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ الْمَسْجُونُ وَالْمَوْثُوقُ وَكَانُوا يُوثِقُونَ الْمَغْلُوبِينَ فِي الْحَرْبِ بِسُيُورٍ مِنِ الْجِلْدِ، قَالَ النَّابِغَةُ: لَمْ يَبْقَ غَيْرُ طَرِيدٍ غَيْرِ مُنْفَلِتٍ ... أَوْ موثق فِي حباله الْقَدِّ مَسْلُوبِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (أُسَارَى) ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ (أَسْرَى) . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ تُفادُوهُمْ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْمُبَالَغَةِ

فِي الْفِدَاءِ أَيْ تَفْدُوهُمْ فِدَاءً حَرِيصًا، فَاسْتِعْمَالُ فَادَى هُنَا مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مَثْلَ عَافَاهُ اللَّهُ وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَعَادَى عَدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ ... دِرَاكًا فَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيَغْسِلِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَر وَخلف تُفادُوهُمْ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ. وَالْمُحَرَّمُ الْمَمْنُوعُ وَمَادَّةُ حَرَمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْمَنْعِ، وَالْحَرَامُ الْمَمْنُوعِ مَنْعًا شَدِيدًا أَوِ الْمَمْنُوعُ مَنْعًا مِنْ قِبَلِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَشَهْرُ الْمُحَرَّمِ. وَقَوْلُهُ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ أَيْ كَيْفَ تَعَمَّدْتُمْ مُخَالَفَةَ التَّوْرَاةِ فِي قِتَالِ إِخْوَانِكُمْ وَاتَّبَعْتُمُوهَا فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، وَسُمِّيَ الْإِتْبَاعُ وَالْإِعْرَاضُ إِيمَانًا وَكُفْرًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِتَشْوِيهِ الْمُشَبَّهِ وَلِلْإِنْذَارِ بِأَنَّ تَعَمُّدَ الْمُخَالَفَةِ لِلْكِتَابِ قَدْ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقع فَتُؤْمِنُونَ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَجِيبٌ وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَادُوا أَنْ يَجْحَدُوا تَحْرِيمَ إِخْرَاجِهِمْ أَوْ لَعَلَّهُمْ جَحَدُوا ذَلِكَ وَجَحْدُ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ مِنَ الدِّينِ مُرُوقٌ مِنَ الدِّينِ. وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، عَطَفَتِ الِاسْتِفْهَامَ أَوْ عَطَفَتْ مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ [الْبَقَرَة: 87] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ فَصِيحَةٌ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ أَوْ عَاطِفَةٌ عَلَى نَفْسِ الِاسْتِفْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْبِيخِ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةٌ وَالِاعْتِرَاضُ بِالْفَاءِ وَهَذَا بَعِيدٌ مَعْنًى وَلَفْظًا، وَأما الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّذْيِيلِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفِيدًا لِحَاصِلِ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَ مُفِيدٍ حُكْمًا جَدِيدًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِحَرْفٍ غَيْرِ الْوَاوِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهِمْ. وَالْخِزْيُ بِالْكَسْرِ ذُلٌّ فِي النَّفْسِ طَارِئٌ عَلَيْهَا فَجْأَةً لِإِهَانَةٍ لَحِقَتْهَا أَوْ مَعَرَّةٍ صَدَرَتْ مِنْهَا أَوْ حِيلَةٍ وَغَلَبَةٍ تَمَشَّتْ عَلَيْهَا وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ وَفِعْلُهُ مِنْ بَاب سمع فمصدره بِفَتْحِ الْخَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْخِزْيِ مَا لحق باليهود بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوبِ مِنَ الْمَذَلَّةِ بِإِجْلَاءِ النَّضِيرِ عَنْ دِيَارِهِمْ وَقَتْلِ قُرَيْظَةَ وَفَتْحِ خَيْبَرَ وَمَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الذُّلِّ بَيْنَ الْأُمَمِ.

[سورة البقرة (2) : آية 87]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (يُرَدُّونَ) وَ (يَعْمَلُونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (تُرَدُّونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى (مَنْ) وَإِلَى قَوْلِهِ (مِنْكُمْ) ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ: (يَعْمَلُونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الْحَائِدِينَ عَنِ الطَّرِيقِ بِعُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَاتٍ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ وَقَعَ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا مَوْقِعَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَالْقَوْلُ فِي اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ كَالْقَوْلِ فِي: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: 16] . وَالْقَوْلُ فِي فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ فِي وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وَمُوقِعُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ هُوَ الترتب لِأَنَّ الْمُجْرِمَ بِمِثْلِ هَذَا الْجُرْمِ الْعَظِيمِ يُنَاسِبُهُ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ وَلَا يَجِدُ نَصِيرًا يَدْفَعُ عَنْهُ أَو يُخَفف. [87] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 87] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) انْتِقَالٌ مِنَ الْإِنْحَاءِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فِعَالِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قَابَلُوهُ بِهِ مِنِ الْعِصْيَانِ وَالتَّبَرُّمِ وَالتَّعَلُّلِ فِي قَبُولِ الشَّرِيعَةِ وَبِمَا خَالَفُوا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى قُرْبِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ مُقَابَلَتِهِمْ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ أَتَوْا بَعْدَ مُوسَى مِثْلَ يُوشَعَ وإلياس وأرمياء وداوود مُؤَيِّدِينَ لِشَرِيعَتِهِ وَمُفَسِّرِينَ وَبَاعِثِينَ لِلْأُمَّةِ عَلَى تَجْدِيدِ الْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ مَعَ تَعَدُّدِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَاخْتِلَافِ مَشَارِبِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ مَنْ لِينٍ وَشِدَّةٍ، وَمِنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عِيسَى مُؤَيِّدًا وَنَاسِخًا وَمُبَشِّرًا فَكَانَتْ مُقَابَلَتُهُمْ لِأُولَئِكَ كُلِّهِمْ بِالْإِعْرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَسُوءِ الصَّنِيعِ وَتِلْكَ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ أَهْوَاءَهُمْ وَإِلَّا فَكَيْفَ لَمْ يَجِدُوا فِي خِلَالِ هَاتِهِ الْعُصُورِ وَمِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَشَارِبِ مَا يُوَافِقُ الْحَقَّ وَيَتَمَحَّضُ لِلنُّصْحِ. وَإِنَّ قَوْمًا هَذَا دَأْبُهُمْ يَرِثُهُ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ لَجَدِيرُونَ

بِزِيَادَةِ التَّوْبِيخِ لِيَكُونَ هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُكَابَرَةٌ وَحَسَدٌ حَتَّى تَنْقَطِعَ حُجَّتُهُمْ إِذْ لَوْ كَانَتْ مُعَانَدَتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ هِيَ أُولَى فِعْلَاتِهِمْ لَأَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّهُمْ مَا أَعْرَضُوا إِلَّا لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بُطْلَانٍ فَكَانَ هَذَا مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً [الْبَقَرَة: 41] وَمُقَدِّمَةً لِلْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ فِي مُقَابَلَتِهِمْ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْآتِي ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَة: 88] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ الَّذِي هُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ التَّعَجُّبُ فِي قَوْلِهِ: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمْهِيدُ التَّمْهِيدِ وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَلَا مُقْتَضَى لِلْإِعْلَامِ بِهِ اسْتِقْلَالًا هُنَا وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَيْ وَلَقَدْ كَانَ مَا كَانَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَهُوَ إِيتَاءُ مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا أَيْضًا بَعْدَهُ بِالرُّسُلِ فَهُوَ كَالْعِلَاوَةِ أَوْ كَقَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا وَقَدْ كَانَ كَذَا. و (قفى) مُضَاعَفُ قَفَا تَقُولُ قَفَوْتُ فُلَانًا إِذَا جِئْتُ فِي إِثْرِهِ لِأَنَّكَ حِينَئِذٍ كَأَنَّكَ تَقْصِدُ جِهَةَ قَفَاهُ فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْجَوَامِدِ مِثْلَ جَبَهَهُ، فَصَارَ الْمُضَاعَفُ قَفَّاهُ بِفُلَانٍ تَقْفِيَةً وَذَلِكَ أَنَّكَ جَعَلْتَهُ مَأْمُورًا بِأَنْ يَقْفُوَ بِجَعْلٍ مِنْكَ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَيْ جَعَلْتَهُ يَقْفُوهُ غَيْرُهُ وَلِكَوْنِ الْمَفْعُولِ وَاحِدًا جَعَلُوا الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عِنْدَ التَّضْعِيفِ مُتَعَلِّقًا بِالْفِعْلِ بِبَاءِ التَّعْدِيَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ التَّابِعُ بِالْمَتْبُوعِ فَقَالُوا: قَفَّى زَيْدًا بِعَمْرٍو عِوَضَ أَنْ يَقُولُوا: قَفَّى زَيْدًا عَمْرًا. فَمَعْنَى قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أَرْسَلْنَا رُسُلًا وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ قَفَّيْنا لِلْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ ضَمِيرُ مُوسَى. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ أَيْ مَوْتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّسْجِيلِ عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بَعْدَ مُوسَى لَيْسَ بِبِدْعٍ. وَالْجَمْعُ فِي الرُّسُلِ لِلْعَدَدِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مُرَاد بِهِ التكثير قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْ لِأَنَّ شَأْنَ لَفْظِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ هُنَا مُتَعَذِّرًا دَلَّ عَلَى التَّكْثِيرِ مَجَازًا لِمُشَابِهَةِ الْكَثِيرِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ فِي الْبَلَدِ لَمْ يَشْهَدِ الْهِلَالَ إِذَا شَهِدَهُ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ (¬1) . وَسُمِّيَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى رُسُلًا مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ اعْتِبَارًا ¬

(¬1) لِأَن الِاسْتِغْرَاق الْعرفِيّ مَنْظُور فِيهِ إِلَى استغراق جَمِيع الْأَفْرَاد فِي مَكَان أَو زمَان تَنْزِيلا لَهُم منزلَة الْكل. وَهَذَا جعل بِمَعْنى الْكَثْرَة لَا غير.

بِأَن الله لما أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَتَفْسِيرِهَا وَالتَّفْرِيعِ مِنْهَا فَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا وَبِذَلِكَ كَانُوا زَائِدِينَ عَلَى مُطْلَقِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ لَا تَأْصِيلًا وَلَا تَفْرِيعًا. وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْفَخْرُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ جَاءُوا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ وَلَوْ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرْعِ الْأَوَّلِ أَوْ تَجْدِيدِ مَا انْدَرَسَ مِنْهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 123] وَقَالَ: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 139] وَمَا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مِثْلَهُمْ فِي أَنَّهُ مَا أَتَى بِأَحْكَامٍ جَدِيدَةٍ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا وَخَصَّ عِيسَى بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ عَلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ وَلِذَلِكَ أَيْضًا خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلِأَنَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يُخْبِرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَهُمْ بِوَحْيٍ وَعِيسَى كَانَ أَوْسَعَ مِنْهُمْ فِي الرِّسَالَةِ. وَعِيسَى اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنْ يَشُوعَ أَوْ يَسُوعَ وَهُوَ اسْمُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَلَبُوهُ فِي تَعْرِيبِهِ قَلْبًا مَكَانِيًّا لِيَجْرِيَ عَلَى وَزْنٍ خَفِيفٍ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ ثِقَلِ الْعُجْمَةِ وَثِقَلِ تَرْتِيبِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ حَرْفَيْ عِلَّةٍ فِي الْكَلِمَةِ وَشِينًا وَالْخَتْمَ بِحَرْفِ حَلْقٍ لَا يُجْرِي هَذَا التَّنْظِيمَ عَلَى طَبِيعَةِ تَرْتِيبِ الْحُرُوفِ مَعَ التَّنَفُّسِ عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا فَقَدَّمُوا الْعَيْنَ لِأَنَّهَا حَلْقِيَّةٌ فَهِيَ مَبْدَأُ النُّطْقِ ثُمَّ حَرَّكُوا حُرُوفَهُ بِحَرَكَاتٍ مُتَنَاسِبَةٍ وَجَعَلُوا شِينَهُ الْمُعْجَمَةَ الثَّقِيلَةَ سِينَا مُهْمَلَةً فَلِلَّهِ فَصَاحَةُ الْعَرَبِيَّةِ. وَمَعْنَى يَشُوعُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ السَّيِّدُ أَوِ الْمُبَارَكُ. وَمَرْيَمُ هِيَ أُمُّ عِيسَى وَهَذَا اسْمُهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ نُقِلَ لِلْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَالِهِ لِخِفَّتِهِ وَلَا مَعْنَى لِمَرْيَمَ فِي الْعَرَبِيَّةِ غَيْرَ الْعَلَمِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ الْمُتَنَصِّرَةَ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الصِّفَةِ فِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ الْمُتَبَاعِدَةِ عَنْ مُشَاهَدَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ هَاتِهِ الصِّفَةَ اشْتُهِرَتْ بِهَا مَرْيَمُ إِذْ هِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ عِبْرَانِيَّةٍ خَدَمَتْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ مَرْيَمٌ أَيْ مُعْرِضَةٌ عَنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ كَمَا يَقُولُونَ رَجُلٌ حَاتِمٌ بِمَعْنَى جَوَادٌ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ فِي الْأَعْلَامِ الْمُشْتَهِرَةِ بِالْأَوْصَافِ وَلِذَلِكَ قَالَ رُؤْبَةُ: قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَزِرْهُ مَرْيَمَهْ (¬1) فَلَيْسَ هُوَ مُشْتَقًّا مَنْ رَامَ يَرِيمُ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَزْنُهَا فَعْيِلَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا (¬2) . ¬

(¬1) قَالَ فِي «الْكَشَّاف» وزن مَرْيَم عِنْد النَّحْوِيين مفعل لِأَن فعيل بِفَتْح الْفَاء لم يثبت أَي وَثَبت فعيل بِكَسْر الْفَاء نَحْو عثير للغبار، لَكِن الْحق أَن وزن فعيل ثَبت قَلِيلا مِنْهُ صهين اسْم مَكَان أَعنِي فَيخْتَص بالأسماء الجوامد. (¬2) الزير بِكَسْر الزَّاي هُوَ الرجل الَّذِي يمِيل لمحادثة النِّسَاء ومجالستهن وياؤه منقلبة عَن الْوَاو ووزنه فعل بِكَسْر الْفَاء من زار يزور. وَقَوله مريمه: أَي الْمَرْأَة الَّتِي ترغب فِي محادثته وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة مدح بهَا أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور.

وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ ابْنُ مَرْيَمَ كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي بَطْنِهَا بِدُونِ مَسِّ رَجُلٍ، وَأُمُّهُ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا. وُلِدَ عِيسَى فِي مُدَّةِ سَلْطَنَةِ أَغُسْطُسَ مَلِكِ رُومِيَّةَ وَفِي مُدَّة حكم هيرودس عَلَى الْقُدْسِ مِنْ جِهَةِ سُلْطَانِ الرُّومَانِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 430 عِشْرِينَ وسِتمِائَة قبل الهجرية الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِبَيْتِ لَحْمٍ الْيَهُودِيَّةِ، وَلَمَّا بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً بُعِثَ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَقِيَ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ بلغ سنه ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَمَّا مَرْيَمُ أُمُّهُ فَهِيَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وَلَدَتْ عِيسَى وَهِيَ ابْنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَتَكُونُ وِلَادَتُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ أَنْ شَاخَتْ وَلَا تُعْرَفُ سَنَةُ وَفَاتِهَا، وَكَانَ أَبُوهَا مَاتَ قَبْلَ وِلَادَتِهَا فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ مِنْ بَنِي أَبْيَا وَهُوَ زَوْجُ الْيَصَابَاتِ خَالَةِ مَرْيَمَ وَكَانَ كَاهِنًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْبَيِّنَاتُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيِ الْآيَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ الْوَاضِحَاتُ، وَأَيَّدْناهُ قَوَّيْنَاهُ وَشَدَدْنَا عَضُدَهُ وَنَصَرْنَاهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْيَدُ فَأَيَّدَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ ذَا يَدٍ وَالْيَدُ مَجَازٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَوَزْنُ أَيَّدَ أَفْعَلَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ فَوَزْنُهُ فَعَّلَ. وَالتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ وَالْإِقْدَارُ عَلَى الْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] والأيد مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَدِ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقُدْرَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ أَيْ جَعَلَهُ ذَا يَدٍ أَيْ قُوَّةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ قُوَّةُ الرِّسَالَةِ وَقُوَّةُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَسَيَأْتِي فِي الْأَنْفَالِ [62] قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ. وَالرُّوحُ جَوْهَرٌ نُورَانِيٌّ لَطِيفٌ أَيْ غَيْرُ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ فَيُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ حَيَاةُ الْعَجْمَاوَاتِ إِلَّا لَفْظُ نَفْسٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] وَيُطْلَقُ عَلَى قُوَّةٍ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِهَا عَمَلٌ عَجِيبٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيم: 12] ، وَيُطْلَقُ عَلَى جِبْرِيلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاء: 193، 194] وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: 4] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ [النبأ: 38] . وَالْقُدُسُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى النَّزَاهَةِ وَالطَّهَارَةِ. وَالْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: 30] .

وَرُوحُ الْقُدُسِ رُوحٌ مُضَافٌ إِلَى النَّزَاهَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحُ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ فَتَكُونُ مِنْهُ عِيسَى وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَأْيِيدًا لَهُ لِأَنَّ تَكْوِينَهُ فِي ذَلِكَ الرُّوحِ اللَّدُنِّيِّ الْمُطَهَّرِ هُوَ الَّذِي هَيَّأَهُ لِأَنْ يَأْتِيَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلَ وَالتَّأْيِيدُ بِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ وَيَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ فِي الْمَهْدِ وَحِينَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ هُنَا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثٌ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجَلَهَا» . وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِضَافَةُ (رُوحٍ) إِلَى (الْقُدُسِ) إِمَّا مِنْ إِضَافَةِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا إِلَى مَا حَقُّهُ أَنْ تُشْتَقَّ مِنْهُ الصِّفَةُ وَلَكِنِ اعْتَبَرَ طَرِيقَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِاقْتِضَاءِ الْإِضَافَةِ مُلَابَسَةَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَتِلْكَ الملابسة هُنَا تؤول إِلَى التَّوْصِيفِ وَإِلَى هَذَا قَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ صِفَةً حَقِيقَةً حَتَّى يكون فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَمَا قَبْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا تَمْهِيدٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ طُغْيَانِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ جَمِيعَ الرُّسُلِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِمُقَابَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَاوَى فِيهَا الْخَلَفُ السَّلَفَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سَجِيَّةٌ فِي الْجَمِيعِ. وَتَقْدِيمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدِ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَظَاهِرُهُ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُتَسَلِّطًا عَلَى الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ وَتَسَلُّطُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ غَرِيبٌ فَلِذَلِكَ صَرَفَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ طَرِيقَتَانِ: إِحْدَاهُمَا طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ قَالُوا: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ وَقَدْ كَانَ مَوْقِعُهَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِفْهَامِ التَّصْدِيرَ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنَّمَا خَصُّوا التَّقْدِيمَ بِالْهَمْزَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ كَلِمَاتِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذْ هِيَ الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَكْثَرِ اسْتِعْمَالًا فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَكَلِمَاتٌ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْهَا مَا هُوَ اسْمٌ مِثْلَ (أَيْنَ) ، وَمِنْهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ (هَلْ) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى قَدْ فَلَمَّا كَثُرَ دُخُولُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ حَذَفُوا الْهَمْزَةَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَأَصْلُ هَلْ فَعَلْتَ أَهَلْ فعلت فالتقدير فأكلما جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقُلِبَ، وَقِيلَ: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ

مَعْطُوفًا وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَحْذُوفٍ بِحَسَبِ مَا يَسْمَحُ بِهِ الْمَقَامُ. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَفِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَوَّلُ الْقَائِلِينَ بِهَا وَادَّعَى الدَّمَامِينِيُّ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مَسْبُوقٌ فِي هَذَا وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ سَبَقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ جَوَّزَ طَرِيقَةَ الْجُمْهُورِ وَجَوَّزَ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ هِيَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِهِ أَتُكَذِّبُونَهُمْ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَخْ. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِفْهَامِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً مَحْذُوفًا بَقِيَّتُهَا ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهَا مَا عُطِفَ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا إِلَّا فِي اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَالتَّقْدِيرُ فَأَمَّا مَعْنَى الْكَلَامِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لِأَنَّ الْعَطْفَ وَالِاسْتِفْهَامَ كِلَيْهِمَا مُتَوَجِّهَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهُمَا. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [165] : أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها أَنَّ الطَّرِيقَتَيْنِ جَائِزَتَانِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْحَقُّ وَأَمَّا عَدَمُ تَعَرُّضِهِ لِذَلِكَ عِنْدَ آيَاتِ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: 75] أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 44] . أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 85] فِيمَا مَضَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَذَلِكَ ذُهُولٌ مِنْهُ وَقَدْ تَدَارَكَهُ هُنَا. وَعِنْدِي جَوَازُ طَرِيقَةٍ ثَالِثَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْعَطْفِ وَالْمَعْنَى أَتَزِيدُونَ عَلَى مُخَالَفَاتِكُمُ اسْتِكْبَارَكُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَخْ وَهَذَا مُتَأَتٍّ فِي حُرُوفِ التَّشْرِيكِ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ فِي سُورَة يُونُس [51] وَقَوله النَّابِغَةِ: أَثَمَّ تَعَذَّرَانِ إِلَيَّ مِنْهَا ... فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ وَقَدْ رَأَيْتُ وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَوَجَدْتُ مَوَاقِعَهُ خَاصَّةً بِالِاسْتِفْهَامِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا رَأَيْتُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَمَعْنَى الْفَاءِ هُنَا تَسَبُّبُ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ تَقْفِيَةِ مُوسَى بِالرُّسُلِ أَيْ قَفَّيْنَا مُوسَى بِالرُّسُلِ فَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِكُمْ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ جَاءَكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَوْنَ الْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ فَفَعَلْتُمْ ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَكُلَّما، فَالْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالْفَاءُ حِينَئِذٍ عَاطِفَةٌ مُقَدَّرًا مَعْطُوفًا عَلَى الْمُقَدَّرِ الْمُؤَهَّلِ لِلتَّوْبِيخِ، وَهُوَ وَجْهٌ بَعِيدٌ، وَمَرْمَى الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ إِلَخْ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا الْإِخْبَارُ بِمَدْلُولِهَا. وَانْتَصَبَ (كُلَّمَا) بِالنِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى مَا الظَّرْفِيَّةِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ: اسْتَكْبَرْتُمْ، وَقُدِّمَ الظَّرْفُ لِيَكُونَ مُوَالِيًا لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُرَادِ مِنْهُ التَّعْجِيبُ لِيَظْهَرَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَجَبِ هُوَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ مِنْهُمُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ عَرَضَ فِيُُ

بَعْضِ الرُّسُلِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ، وَالتَّقْدِيرُ أَفَاسْتَكْبَرْتُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقَدَّمَ الظَّرْفَ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَجَبِ، وَقَدْ دَلَّ الْعُمُومُ الَّذِي فِي (كُلَّمَا) عَلَى شُمُولِ التَّكْذِيبِ أَوِ الْقَتْلِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَزْمَانِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَفْرَادِ الْمَظْرُوفَةِ فِيهَا. وتَهْوى مُضَارِعُ هَوِيَ بِكَسْرِ الْوَاوِ إِذَا أَحَبَّ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الِانْخِلَاعِ عَنِ الْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِانْغِمَاسِ فِي أَنْوَاعِ الْمَلَذَّاتِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ. وَالِاسْتِكْبَارُ الِاتِّصَافُ بِالْكِبْرِ وَهُوَ هُنَا التَّرَفُّعُ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَإِعْجَابُ الْمُتَكَبِّرِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُطِيعُوا الرُّسُلَ وَيَكُونُوا أَتْبَاعًا لَهُمْ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَكْبَرْتُمْ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: 34] وَقَوْلُهُ: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ مُسَبَّبٌ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ فَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْبَرُوا بَلَغَ بِهِمُ الْعِصْيَانُ إِلَى حَدِّ أَنْ كَذَّبُوا فَرِيقًا أَيْ صَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِمْ أَوْ عَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْكَاذِبِ وَقَتَلُوا فَرِيقًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ مَدْيَنَ: قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هود: 9] . وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَاف: 30] . وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ فِي لَفْظِ فَرِيقٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ نَحْوَ طَائِفَةٍ إِذَا وَقَعَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ فِي مَقَامِ التَّقْسِيمِ نَحْوَ يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمرَان: 159] . وَالتَّفْصِيلُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ الْإِجْمَالِ لِأَنَّ (كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ) أَفَادَ عُمُومَ الرَّسُولِ وَشَمِلَ هَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبُوهُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ إِذْ شَكُّوا غَيْرَ مَرَّةٍ فِيمَا يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِ مِرَارًا فِي أَوَامِرِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَحَمَلُوهُ عَلَى قَصْدِ التَّغْرِيرِ بِهِمْ وَالسَّعْيِ لِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا قَالُوا حِينَ بَلَغُوا الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِالْحُضُورِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ أَرِيحَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ مِثْلَ عِيسَى وَقَتَلُوا بَعْضَ الرُّسُلِ مِثْلَ أَشْعِيَاءَ وَزَكَرِيَّاءَ وَيَحْيَى ابْنِهِ وَأَرْمِيَاءَ. وَجَاءَ فِي تَقْتُلُونَ بِالْمُضَارِعِ عِوَضًا عَنِ الْمَاضِي لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ وَهِيَ حَالَةُ قَتْلِهِمْ رُسُلَهُمْ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ [الرّوم: 48] مَعَ مَا فِي صِيغَةِ تَقْتُلُونَ مِنْ مُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ فَاكْتَمَلَ بِذَلِكَ بَلَاغَةُ الْمَعْنَى وَحسن النّظم.

[سورة البقرة (2) : آية 88]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 88] وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) إِمَّا عَطْفٌ عَلَى قَوْله: اسْتَكْبَرْتُمْ [الْبَقَرَة: 87] أَوْ على كَذَّبْتُمْ [الْبَقَرَة: 87] فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَفْسِيرًا لِلِاسْتِكْبَارِ أَيْ يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ عَطْفِهِ عَلَى كَذَّبْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ تَفْصِيلِ الِاسْتِكْبَارِ بِأَنْ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ أَنْوَاعٌ: تَكْذِيبٌ وَتَقْتِيلٌ وَإِعْرَاضٌ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَإِبْعَادٌ لَهُمْ عَنْ مَقَامِ الْحُضُورِ فَهُوَ مِنَ الِالْتِفَاتِ الَّذِي نُكْتَتُهُ أَنَّ مَا أُجْرِيَ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْفَظَاعَةِ قَدْ أَوْجَبَ إِبْعَادَهُ عَنِ الْبَالِ وَإِعْرَاضَ الْبَالِ عَنْهُ فَيُشَارُ إِلَى هَذَا الْإِبْعَادِ بِخِطَابِهِ بِخِطَابِ الْبُعْدِ فَهُوَ كِنَايَةٌ (¬1) . وَقَدْ حَسَّنَ الِالْتِفَاتَ أَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِانْتِقَالِ الْكَلَامِ إِلَى سُوءِ مُقَابَلَتِهِمْ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُوَ غَرَضٌ جَدِيدٌ فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَحَدَّثَ عَنْهُمْ بِمَا هُوَ من شؤونهم مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا أُرِيدَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ الْخِطَابُ جَارِيًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَجْرَى عَلَى الْيَهُودِ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ. عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ عَلَنًا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ أُسْلُوبَ الْخِطَابِ جَرَى عَلَى الْغَيْبَةِ مِنْ مَبْدَأِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَة: 92] . وَالْقُلُوبُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْأَذْهَانِ عَلَى طَرِيقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي إِطْلَاقِ الْقَلْبِ عَلَى الْعَقْلِ. وَالْغُلْفُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَغْلَفٍ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْغِلَافُ مُشْتَقٌّ مِنْ غَلَّفَهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ غِلَافًا وَهُوَ الْوِعَاءُ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَالسَّاتِرُ لَهُ مِنْ وُصُولِ مَا يُكْرَهُ لَهُ. وَهَذَا كَلَامٌ كَانُوا يَقُولُونَهُ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْعُوهُمْ لِلْإِسْلَامِ قَصَدُوا بِهِ التَّهَكُّمَ وَقَطْعَ طَمَعِهِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَهُوَ كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] . وَفِي الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَغْلَفِ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا عَمَّا لَا يُلَائِمُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْغِلَافِ فَهُمْ يُخَيِّلُونَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْفَهْمِ وَيُرِيدُونَ أَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ مِنْ فَهْمِ الضَّلَالَاتِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ مُؤْذِنٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا ¬

(¬1) قلت نَظِير هَذَا الِالْتِفَات من الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة بعد إِجْرَاء صِفَات نقص قَول الشَّاعِر يذم من بخل فِي قَضَاء مُهِمّ: أَبى لَك كسب الْحَمد رَأْي مقصر ... وَنَفس أضاق الله بِالْخَيرِ بَاعهَا إِذا هِيَ حثته على الْخَيْر مرّة ... عصاها وَإِن همّت بشرّ أطاعها

لَا تَعِي مَا تَقُولُ وَلَو كَانَ حَقًا لَوَعَتْهُ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَهُمَا لِتَوْجِيهٍ يُلَاقِيهِمَا الرَّدُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أَيْ لَيْسَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ لِقُصُورٍ فِي أَفْهَامِهِمْ وَلَا لِرَبْوِهَا عَنْ قَبُولِ مِثْلِ مَا دُعُوا إِلَيْهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكَفْرِهِمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ. وَبِهَذَا حَصَلَ الْمَعْنَيَانِ الْمُرَادَانِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى فَرْضِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ (غُلْفٌ) جَمْعَ غِلَافٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ حَتَّى يُقَدِّرَ أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْحَقِّ فَلَا يَتَسَرَّبُ إِلَيْهَا الْبَاطِلُ. وَقَوْلُهُ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ وَفَضْحٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ لِحُجَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَمَّمُوا عَلَى ذَلِكَ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِاللَّعْنِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ فَحَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ وَالتَّبَصُّرَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ، فَاللَّعْنَةُ حَصَلَتْ لَهُمْ عِقَابًا عَلَى التَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ لِمَا أُوهِمُوهُ مِنْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ خُلِقَتْ بَعِيدَةً عَنِ الْفَهْمِ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ كَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ مُسْتَطِيعِينَ لِإِدْرَاكِ الْحَقِّ لَوْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالنَّظَرِ وَتَرْكِ الْمُكَابَرَةِ وَهَذَا مُعْتَقَدُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَدَا الْجَبْرِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ تَفْرِيعٌ على لَعَنَهُمُ وفَقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَالتَّقْدِيرُ فَإِيمَانًا قَلِيلًا وَمَا زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْلِيلِ وَالضَّمِيرُ لِمَجْمُوعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قَلِيلًا) صِفَةً لِلزَّمَانِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ الْفِعْلُ أَيْ فَحِينًا قَلِيلا يُؤمنُونَ. وَقيل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ مُشَارًا بِهِ إِلَى إِيمَانِهِمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ أَوْ إِلَى إِيمَانِهِمْ بِبَعْضِ مَا يَدْعُو لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُوَافِقُ دِينَهُمُ الْقَدِيم كالتوحيد ونبوءة مُوسَى أَوْ إِلَى إِيمَانِ أَفْرَادٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فَإِنَّ إِيمَانَ أَفْرَادٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَلْزِمُ صُدُورَ إِيمَانٍ مِنْ مَجْمُوعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَزْمِنَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ حُصُولَ إِيمَانَاتٍ قَلِيلَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قَلِيلًا) هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْعَدَمِ فَإِنَّ الْقِلَّةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَدَمِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ: قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَتَشَكَّى، وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فِي أَرْضِ نَصِيبِينَ «كَثِيرَةُ الْعَقَارِبِ قَلِيلَةُ الْأَقَارِبِ» أَرَادَ عَدِيمَةَ الْأَقَارِبِ وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ قَلِيلُ الْحَيَاءِ وَذَلِكَ كُلُّهُ إِمَّا مَجَازٌ لِأَنَّ الْقَلِيلَ شُبِّهَ بِالْعَدَمِ وَإِمَّا كِنَايَةٌ وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ آلَ إِلَى الِاضْمِحْلَالُُِ

[سورة البقرة (2) : آية 89]

فَكَانَ الِانْعِدَامُ لَازِمًا عُرْفِيًّا لِلْقِلَّةِ ادِّعَائِيًّا فَتَكُونُ (مَا) مَصْدَرِيَّةً وَالْوَجْهَانِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا فِي «الْكَشَّافِ» بِاخْتِصَارٍ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُمَا فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [62] فَقَالَ: «وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذْكِيرِ وَالْقِلَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ» وَكَأَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شَأْنِهِ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ فَلَوْ تَذَكَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ لَحَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَيْفَ وَخِطَابُهُمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ معتقدين ذَلِك. [89] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 89] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَة: 88] لِقَصْدِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبِيخِ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إِعْرَاضًا مُجَرَّدًا عَنِ الْأَدِلَّةِ لَكَانَ فِي إِعْرَاضِهِمْ مَعْذِرَةٌ مَا وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا وَكَفَرُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ وَالَّذِي كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَقَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَهُمْ وَلَيْسَ صِفَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مُشَاهَدًا مَعْلُومًا حَتَّى يُوصَفَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَصْفُ شَأْنٍ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْمَذَمَّةِ فِي هَذَا الْكُفْرِ وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: 41] . وَالِاسْتِفْتَاحُ ظَاهِرُهُ طَلَبُ الْفَتْحِ أَيِ النَّصْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَال: 19] وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَنْصَرُوا عَلَيْهِمْ بِسُؤَالِ اللَّهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ يَسْتَفْتِحُونَ بِمَعْنَى يَفْتَحُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ وَيُخْبِرُونَ كَمَا يُقَالُ فَتَحَ عَلَى الْقَارِئِ أَيْ عَلَّمَهُ الْآيَةَ الَّتِي يَنْسَاهَا فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ مِثْلَ زِيَادَتِهِمَا فِي اسْتَعْصَمَ وَاسْتَصْرَخَ وَاسْتَعْجَبَ وَالْمُرَادُ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَسُولًا سَيُبْعَثُ فَيُؤَيِّدُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعَاقِبُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ أَيْ لَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ الَّذِي عَرَفُوهُ كَفَرُوا بِهِ وَقَدْ عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْكِتَابُ لِيَكُونَ اللَّفْظُ أَشْمَلَ فَيَشْمَلَ الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ

فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ كِتَابٌ إِلَّا مَعَ رَسُولٍ. وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِمَا الْمَوْصُولَةِ دُونَ مَنْ لِأَجْلِ هَذَا الشُّمُولِ وَلِأَنَّ الْإِبْهَامَ يُنَاسِبُهُ الْمَوْصُولُ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّ مَا تَجِيءُ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعَاقِلِ. وَالْمُرَادُ بِمَا عَرَفُوا الْقُرْآنَ أَيْ أَنَّهُمْ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ جَهِلُوا انْطِبَاقَهَا عَلَى الْقُرْآنِ لِضَلَالِهِمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُهُمْ يَعْتَقِدُ صِدْقَ الْقُرْآنِ وَصِدْقَ الرَّسُولِ وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاسَى وَيَتَغَافَلُ حَسَدًا قَالَ تَعَالَى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 109] وَيَصِيرُ معنى الْآيَة: «وَمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ» وَعَرَفُوا أَنَّهُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَفَائِدَتُهَا هُنَا اسْتِحْضَارُ حَالَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ فِي حَالِ تَرَقُّبِهِمْ لِمَجِيئِهِ وَانْتِظَارِ النَّصْرِ بِهِ وَهَذَا مُنْتَهَى الْخِذْلَانِ وَالْبُهْتَانِ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا بِالْفَاءِ عَطْفٌ عَلَى جملَة كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ. وَ (لَمَّا) الثَّانِيَةُ تَتَنَازَعُ مَعَ (لَمَّا) الْأَوْلَى الْجَوَابَ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَفَرُوا بِهِ فَكَانَ مَوْقِعُ جُمْلَةِ (وَكَانُوا) إِلَخْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِ الْكِتَابِ مُصَدِّقًا مَوْقِعَ الْحَالِ لِأَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِهِ أَوِ التَّبْشِيرَ بِهِ يُنَاسِبُ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ «مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ» وَمَوْقِعُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِ الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ مَعْرُوفَيْنِ لَهُمْ بِالْأَمَارَاتِ والدلائل موقع المنشإ مِنَ الْمُتَفَرِّعِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ مَفَادَ جُمْلَةِ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَخْ وَجُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا إِلَخْ وَاحِدٌ وَإِعَادَةُ (لَمَّا) فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذين كفرُوا فَجَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا إِلَخْ قَصَدَ إِظْهَارَ اتِّحَادِ مَفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفْتَتَحَتَيْنِ بَلَمَّا وَزِيَادَةَ الرَّبْطِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنَ حَيْثُ انْفَصَلَ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ نَظْمٌ عَجِيبٌ وَإِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَطَرِيقَةُ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ مَعَ كَوْنِ الْمَعْمُولِ وَاحِدًا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فُصْحَى، قَالَ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: 188] وَقَالَ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 35] فَأَعَادَ (أَنَّكُمْ) قَبْلَ خَبَرِ الْأُولَى وَقَدْ عَدَلْنَا فِي هَذَا الْبَيَانِ عَنْ طَرِيقَةِ الزَّجَّاجِ وَطَرِيقَةِ الْمُبَرِّدِ وَطَرِيقَةِ الْفَرَّاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي حَاشِيَةِ الْخَفَاجِيِّ وَعَبْدِ الْحَكِيمِ وَصُغْنَاهُ مِنْ مَحَاسِنِ تِلْكَ الطَّرَائِقِ كُلِّهَا لِمَا فِي كُلِّ طَرِيقَةٍ مِنْهَا مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ جُمْلَةُ دُعَاءٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ وَالدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى

[سورة البقرة (2) : آية 90]

تَقْدِيرٌ وَقَضَاءٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَيْسَ غَيْرُهُ مَطْلُوبًا بِالْأَدْعِيَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [الْمَائِدَة: 64] وَقَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التَّوْبَة: 30] وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [98] . وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمُرَادُ التَّسَبُّبُ الذِّكْرِيُّ بِمَعْنَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا وَهُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يُسَبِّبُ أَنْ يَنْطِقَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا بَعْدَهَا كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخطيم: وَكنت امْرأ لَا أَسْمَعُ الدَّهْرَ سُبَّةً ... أُسَبُّ بِهَا إِلَّا كَشَفْتُ غِطَاءَهَا فَإِنِّي فِي الْحَرْبِ الضَّرُوسِ مُوَكَّلٌ ... بِإِقْدَامِ نَفْسٍ مَا أُرِيدُ بَقَاءَهَا فَعَطَفَ قَوْلَهُ: (فَإِنِّي) عَلَى قَوْلِهِ كَشَفْتُ غِطَاءَهَا لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يُوجِبُ بَيَانَ أَنَّهُ فِي الْحَرْبِ مِقْدَامٌ. وَاللَّامُ فِي (الْكَافِرِينَ) لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الدُّعَاءِ يَشْمَلُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِ هَذَا الْعُمُومِ بَلْ هُمْ أَوَّلُ أَفْرَادِهِ سَبْقًا لِلذِّهْنِ لِأَنَّ سَبَبَ وُرُودِ الْعَامِّ قَطْعِيُّ الدُّخُولِ ابْتِدَاءً فِي الْعُمُومِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فَصِيحَةٌ فِي إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ ابْتِدَاءُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ لِأَنَّ دُخُولَ الْمُرَادِ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِطَرِيقَةٍ بُرْهَانِيَّةٍ كَمَا تَدْخُلُ النَّتِيجَةُ فِي الْقِيَاسِ قَالَ بَشَّامَةُ بْنُ حَزْنٍ النَّهْشَلِيُّ: إِنَّا مُحَيُّوكِ يَا سَلْمَى فَحَيِّينَا ... وَإِنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فَاسْقِينَا أَرَادَ الْكِنَايَةَ عَنْ كَرَمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ حِينَ يُسْقَى كرام النَّاس. [90] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 90] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) اسْتِئْنَافٌ لِذَمِّهِمْ وَتَسْفِيهِ رَأْيِهِمْ إِذْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْكُفْرَ بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهُمْ مِنَ الْوَعْدِ بِمَجِيءِ رَسُولٍ بَعْدَ مُوسَى، إِرْضَاءً لِدَاعِيَةِ الْحَسَدِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَبْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ إِذْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ، فَهَذَا إِيقَاظٌ لَهُمْ نَحْوَ مَعْرِفَةِ دَاعِيهِمْ إِلَى الْكُفْرِ وَإِشْهَارٌ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وبِئْسَمَا مُرَكَّبٌ مِنْ (بِئْسَ) وَ (مَا) الزَّائِدَةِ. وَفِي بِئْسَ وَضِدِّهَا نِعْمَ خِلَافٌ فِي كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ أَوِ اسْمَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا فِعْلَانِ. وَفِي (مَا) الْمُتَّصِلَةِ بِهِمَا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ أَيْ تُفَسَّرُ بِاسْمٍ مُعَرَّفٍُُ

بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَغَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى صِلَةٍ احْتِرَازًا عَنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ فَقَوْلُهُ: بِئْسَمَا يُفَسَّرُ بِبِئْسَ الشَّيْءِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ. وَالْآخَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَهَذَانِ هُمَا أَوْضَحُ الْوُجُوهِ فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا (مَا) وَحْدَهَا كَانَتْ (مَا) مَعْرِفَةً تَامَّةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [الْبَقَرَة: 271] أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هِيَ وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ مَا جُمْلَةٌ تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ صِلَةً كَانَتْ (مَا) مَعْرِفَةً نَاقِصَةً أَيْ مَوْصُولَةً نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ (مَا) فَاعِلُ (بِئْسَ) . وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ بِئْسَ وَنِعْمَ اسْمٌ يُفِيدُ تَعْيِينَ الْمَقْصُودِ بِالذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ، وَيُسَمَّى فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَخْصُوصَ وَقَدْ لَا يُذْكَرُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ لِتَقَدُّمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْفُرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ وَالتَّقْدِيرُ كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ أَوْ خَبَرًا مَحْذُوفَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ (مَا) وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: اشْتَرَوْا إِمَّا صِفَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ أَوْ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولَةِ وأَنْ يَكْفُرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ عَلَى وِزَانِ قَوْلِكَ نِعْمَ الرَّجُلُ فُلَانٌ. وَالِاشْتِرَاءُ الِابْتِيَاعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: 16] فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مُجَازٌ أُطْلِقَ فِيهِ الِاشْتِرَاءُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ تَشْبِيهًا لِاسْتِبْقَائِهِ بِابْتِيَاعِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَهُمْ قَدْ آثَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَبْقَوْا عَلَيْهَا بِأَنْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ حَسَدًا، فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا [الْبَقَرَة: 89] بِمَعْنَى جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا صِفَتَهُ وَإِنْ فَرَّطُوا فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَمَعْنَى اشْتِرَاءِ أَنْفُسِهِمْ جَارٍ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ نَجَّوْهَا مِنَ الْعَذَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَقَوْلُهُ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ بِئْسَمَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ وَأَمَّا كَوْنُهُ اشْتِرَاءً فَبِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ أَيْضًا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ حَالِهِمْ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ إِلَيْهِمْ لِلدَّوَامِ عَلَى شَرِيعَةٍ نُسِخَتْ. وَإِنْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ صِدْقَ الرَّسُولِ وَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ لِمُجَرَّدِ الْمُكَابَرَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَالِاشْتِرَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِبْقَاءِ الدُّنْيَوِيِّ أَيْ بِئْسَ الْعِوَضُ بِذْلُهُمُ الْكُفْرَ وَرِضَاهُمْ بِهِ لِبَقَاءِ الرِّئَاسَةِ وَالسُّمْعَةِ وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ برسالة الصَّادِق بِالْآيَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [الْبَقَرَة: 86] .

وَقِيلَ: إِنَّ اشْتَرَوُا بِمَعْنَى بَاعُوا أَيْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَالْمُرَادُ بَذْلُهَا لِلْعَذَابِ فِي مُقَابَلَةِ إِرْضَاءِ مُكَابَرَتِهِمْ وَحَسَدِهِمْ وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الِاشْتِرَاءِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ مَجَازٌ بَعِيدٌ إِذْ هُوَ يُفْضِي إِلَى إِدْخَالِ الْغَلَطِ عَلَى السَّامِعِ وَإِفْسَادِ مَا أَحْكَمَتْهُ اللُّغَةُ مِنَ التَّفْرِقَةِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَيْهِ قَصْدُ قَائِلِهِ إِلَى بَيَانِ حَاصِلِ الْمَعْنَى، عَلَى أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: مَا عَرَفُوا وَقَوْلِهِ هُنَا: اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْتَ فِي غِنًى عَنِ التَّكَلُّفِ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ يَكُونُ اشْتَرَوْا مَعَ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ من قَوْله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ حَاوَلَ تِجَارَةً لِيَرْبَحَ فَأَصَابَهُ خُسْرَانٌ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ يَقْبَلُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكْفُرُوا وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْمُبَيَّنَ وَهُوَ مَا اشْتَرَوْا الْمُقْتَضِي أَنَّ الِاشْتِرَاءَ قَدْ مَضَى لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْآيَةِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اشْتِرَاءَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ عَمَلٌ اسْتَقَرَّ وَمَضَى، ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ بَيَانُ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ نُبِّهَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَكْفُرُونَ وَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا فِيمَا مَضَى أَيْضًا إِذْ كَانَ الْمُبَيَّنُ بِأَنْ يَكْفُرُوا مُعَبَّرًا عَنْهُ بالماضي بقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا. وَقَوْلُهُ: بَغْياً مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْفُرُوا لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِاشْتَرَوْا لِأَنَّ الِاشْتِرَاءَ هَنَا صَادِقٌ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِحُكْمِ الذَّمِّ وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْمُومِ، وَالْبَغْيُ هُنَا مَصْدَرُ بَغَى يَبْغِي إِذَا ظَلَمَ وَأَرَادَ بِهِ هُنَا ظُلْمًا خَاصًّا وَهُوَ الْحَسَدُ وَإِنَّمَا جُعِلَ الْحَسَدُ ظُلْمًا لِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْمُعَامَلَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ وَلَا حَقَّ لِلْحَاسِدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ مِنْ زَوَالِهَا نَفْعٌ، وَلَا مِنْ بَقَائِهَا ضُرٌّ، وَلَقَدْ أَجَادَ أَبُو الطَّيِّبِ إِذْ أَخَذَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَأَظْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ مَنْ بَاتَ حَاسِدًا ... لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ وَقَوْلُهُ: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: بَغْياً بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَأْوِيلِ بَغْياً بِمَعْنَى حَسَدًا. فَالْيَهُودُ كَفَرُوا حَسَدًا عَلَى خُرُوجِ النُّبُوءَةِ مِنْهُمْ إِلَى الْعَرَبِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَقَوله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أَيْ فَرَجَعُوا مِنْ تِلْكَ الصَّفْقَةِ وَهِيَ اشْتِرَاءُ أَنْفُسِهِمْ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ الْخَارِجِ بِسِلْعَتِهِ لِتِجَارَةٍ فَأَصَابَتْهُ خَسَارَةٌ فَرَجَعَُُ

[سورة البقرة (2) : آية 91]

إِلَى مَنْزِلِهِ خَاسِرًا. شَبَّهَ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْخُسْرَانِ بِرُجُوعِ التَّاجِرِ الْخَاسِرِ بَعْدَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ الْغَضَبُ الشَّدِيدُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّور: 35] أَيْ نُورٌ عَظِيمٌ وَقَوْلِهِ: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النُّور: 40] وَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: أَرَقٌ عَلَى أَرَقٍ وَمِثْلِيَ يَأْرَقُ وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ التَّكْرِيرِ بِاخْتِلَافِ صِيغَةٍ فِي مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ كَقَوْل الحطيئة: أَنْت آلُ شَمَّاسِ بْنِ لَأْيٍ وَإِنَّمَا ... أَتَاهُمْ بِهَا الْأَحْلَامُ وَالْحَسَبُ الْعَدُّ أَيِ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ أَيِ الْعَظِيمُ وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ: بَنِي الْحَسَبِ الْوَضَّاحِ وَالْمَفْخَرِ الْجَمِّ أَيِ الْعَظِيمِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ شِدَّةُ الْحَالِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ غَضَبَيْنِ وَهُمَا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِلْكُفْرِ وَلِلْحَسَدِ أَوْ لِلْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ هُوَ كَقَوْلِهِ: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 89] أَيْ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَالْمَهِينُ الْمُذِلُّ أَيْ فِيهِ كَيْفيَّة احتقارهم. [91] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 91] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 89] الْمَعْطُوفِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَة: 88] وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ مَعْطُوفًا عَلَى وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي اعْتِبَارِ الْعَطْفِ عَلَى مَا هُوَ مَعْطُوفٌ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَطْفِ حِكَايَاتِ أَحْوَالِهِمْ فِي مَعَاذِيرِهِمْ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَإِذَا دُعُوا قَالُوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ وَإِذَا سَمِعُوا الْكِتَابَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُنْتَظِرِيهِ حَسَدًا أَنْ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِذَا وُعِظُوا وَأُنْذِرُوا وَدُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَبِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَأَنْ يَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَعْرَضُوا وَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا أَيْ بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِنَا مُوسَى، وَهَذَا هُوَ مَجْمَعُ ضَلَالَاتِهِمْ وَمَنْبَعُ عِنَادِهِمْ فَلِذَلِكَ تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِتَطْوِيلِ الْمُحَاجَّةِ فِيهِ بِمَا هُنَا وَمَا بَعْدَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ الْآتِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [الْبَقَرَة: 106] الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَرَادُوا بِهِ الِاعْتِذَارَ وَتَعِلَّةَ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلِمُوا أَنَّهُمْ إِنِ امْتَنَعُوا امْتِنَاعًا مُجَرَّدًا عُدَّتْ عَلَيْهِمْ شَنَاعَةُ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يُدَّعَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَقَالُوا فِي مَعْذِرَتِهِمْ وَلِإِرْضَاءِ أَنْفُسِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيْ أَنَّ فَضِيلَةَ الِانْتِسَابِ لِلْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ أَيْ فَنَحْنُ نَكْتَفِي بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَزَادُوا إِذْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يَرْفُضُوهُ. وَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ نُؤْمِنُ أَيْ نَدُومُ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَقَدْ عَرَّضُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِنُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَقَطْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِيمَانَ بِغَيْرِهِ مُقْتَضِيًا الْكفْر بِهِ فههنا مُسْتَفَادٌ مِنْ مَجْمُوعِ جُمْلَتَيْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَجَوَابِهَا بِقَوْلِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ مُحَاكَاةً لِقَوْلِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وتصريح بِمَا لوحوا إِلَيْهِ ورد عَلَيْهِمْ أَيْ يَدُومُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَيَكْفُرُونَ كَذَلِكَ بِمَا وَرَاءَهُ فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ مُقْتَضٍ لِلْكُفْرِ بِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِعِ تَأْثِيرًا فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْغَرَابَةِ. وَفِي قَرْنِهِ بِوَاوِ الْحَالِ إِشْعَارٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَزَادَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ. وَالْوَرَاءُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ مَكَانٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي خَلْفَ الشَّيْءِ وَهُوَ عَرِيقٌ فِي الظَّرْفِيَّةِ وَلَيْسَ أَصْلُهُ مَصْدَرًا. جُعِلَ الْوَرَاءُ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُهُ الشَّخْصُ وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا مَجَازًا عَنِ الْمُجَاوِزِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ أَمَامَ السَّائِرِ فَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ فَإِذا صَارُوا وَرَاءَهُ فَقَدْ تَجَاوَزَهُ وَتَبَاعَدَ عَنْهُ قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالتَّعَقُّبِ تَقُولُ وَرَائِي فُلَانٌ بِمَعْنَى يَتَعَقَّبُنِي وَيَطْلُبُنِي وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] وَقَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومَ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ فَمِنْ ثَمَّ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْوَرَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْفِ وَالْأَمَامِ إِطْلَاقَ اسْمِ الضِّدَّيْنِ وَاحْتَجَّ بِبَيْتِ لَبِيدٍ وَبِقُرْآنِ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُوَازَنَةِ» كَوْنَهُ ضِدًّا. فَالْمُرَادُ بِمَا وَرَاءَهُ فِي الْآيَةِ بِمَا عَدَاهُ وَتَجَاوَزَهُ أَيْ بِغَيْرِهِ وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْغَيْرِ هُنَا خُصُوصُُُ

الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْحَقُّ حَالِيَّةٌ وَاللَّامُ فِي (الْحَقِّ) لِلْجِنْسِ وَالْمَقْصُودُ اشْتِهَارُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْجِنْسِ أَيْ وَهُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحَقِّيَّةِ الْمُسَلَّمِ ذَلِكَ لَهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ حَسَّانَ: وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ من آل هِشَام ... بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ لَمْ يُرِدْ حَسَّانُ انْحِصَارَ الْعُبُودِيَّةِ فِي الْوَالِدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ الْمُشْتَهِرُ بِهِ فَلَيْسَتِ اللَّامُ هُنَا مُفِيدَةً لِلْحَصْرِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ لَا تَطَّرِدُ إِفَادَتُهُ الْحَصْرَ عَلَى مَا فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . وَقِيلَ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِاعْتِبَارِ الْقَيْدِ أَعْنِي قَوْلَهُ مُصَدِّقاً أَيْ هُوَ الْمُنْحَصِرُ فِي كَوْنِهِ حَقًّا مَعَ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ حَقٌّ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ وَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذَا التَّفْسِيرِ يَعْتَبِرُ الْإِنْجِيلَ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِتَصْدِيقِ التَّوْرَاةِ بَلْ مُقْتَصِرًا عَلَى تَحْلِيلِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكَ يُشْبِهُ عَدَمَ التَّصْدِيقِ. فَفِي الْآيَةِ صَدٌّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا قَابَلُوا بِهِ الْإِنْجِيلَ وَزِيَادَةٌ فِي تَوْبِيخِهِمْ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَقُّ وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَمٌ فِي التَّمْثِيلِ لِلْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ وَعِنْدِي أَنَّهَا حَالٌ مُؤَسِّسَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ مُشْعِرٌ بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى مَضْمُونٍ وَهُوَ الْحَقُّ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْكِتَابُ حَقًّا وَلَا يُصَدِّقُ كِتَابًا آخَرَ وَلَا يُكَذِّبُهُ وَفِي مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ الْحَالِ زِيَادَةٌ فِي استحضار شؤونهم وَهَيْئَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي مَعْذِرَتِهِمْ هَذِهِ لِإِظْهَارِ أَن معاداة الْأَنْبِيَاء دَأْبٌ لَهُمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا كَذِبٌ إِذْ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمَا قتل أسلافهم الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ هُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى تَأْيِيدِ التَّوْرَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ بِهَا وَلَكِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. وَهَذَا إِلْزَامٌ لِلْحَاضِرِينَ بِمَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُمْ عَلَى حَقٍّ فِيمَا فَعَلُوا من قتل الْأَنْبِيَاء. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَقْتُلُونَ مَعَ أَنَّ الْقَتْلَ قَدْ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ فَذَلِكَ كَمَا جَاءَ الْحُطَيْئَةُ بِالْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الِاسْتِقْبَالُ فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَوْمَ يَلْقَى ربه. وَالْمرَاد بِأَنْبِيَاء اللَّهِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الْبَقَرَة: 61] .

[سورة البقرة (2) : الآيات 92 إلى 93]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 92 إِلَى 93] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 91] وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَعْلِيمُ الِانْتِقَالِ فِي الْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ إِلَى مَا يَزِيدُ إِبْطَالَ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَكْذَبَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ كَمَا بَيَّنَّا، تَرَقَّى إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ فِي مُقَابَلَتِهِمْ دَعْوَةَ مُوسَى الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ قَابَلُوا دَعْوَتَهُ بِالْعِصْيَانِ قَوْلًا وَفِعْلًا فَإِذَا كَانُوا أَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِمَعْذِرَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِمَا أنزل عَلَيْهِم فَلَمَّا ذَا قَابَلُوا دَعْوَةَ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مُوسَى بِالْقَتْلِ؟ وَلماذَا قَابَلُوا؟ دَعْوَةَ مُوسَى بِمَا قَابَلُوا. فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّ ذِكْرَهَا هُنَا فِي مَحَاجَّةٍ أُخْرَى وَغَرَضٍ جَدِيدٍ، وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِثْلَ تَأْلِيفٍ فِي عِلْمٍ يُحَالُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَلْ هُوَ جَامِعُ مَوَاعِظَ وَتَذْكِيرَاتٍ وَقَوَارِعَ وَمُجَادَلَاتٍ نَزَلَتْ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلِذَلِكَ تَتَكَرَّرُ فِيهِ الْأَغْرَاضُ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذِكْرَهَا حِينَئِذٍ عِنْدَ سَبَبِ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ تَكْرِيرَ حَدِيثِ رَفْعِ الطُّورِ هُنَا لِمَا نِيطَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَعْنًى فِي قَوْلِهِ: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا الْآيَةَ وَهِيَ نُكْتَةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ إِنَّ تَكْرِيرَ الْقِصَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ طَرِيقَتَهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرِيقَةُ أَسْلَافِهِمْ مَعَ مُوسَى وَهِيَ نُكْتَةٌ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِعَمَلِ أَسْلَافِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَرْعَ يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَالْوَلَدَ نُسْخَةٌ مِنْ أَبِيهِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ خِطَابِيٌّ. وَالْقَوْلُ فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ كَالْقَوْلِ فِي سابقتها [الْبَقَرَة: 63] وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي (الْبَيِّنَاتِ) . إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَاسْمَعُوا مُرَادٌ بِهِ الِامْتِثَالُ فَهُوَ كِنَايَةٌ كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ لَا يَسْمَعُ كَلَامِي أَيْ لَا يَمْتَثِلُ أَمْرِي إِذْ لَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا بِالسَّمَاعِ بِمَعْنَى الْإِصْغَاءِ إِلَى التَّوْرَاةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يَتَضَمَّنُهُ ابْتِدَاءٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَخْذِ بِالْقُوَّةِ الِاهْتِمَامُ بِهِ وَأَوَّلُ الِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ هُوَ سَمَاعُهُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ لَا يَشْمَل الِامْتِثَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَاسْمَعُوا دَالًّا عَلَى مَعْنًى جَدِيدٍ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ تَأْكِيدًا لِمَدْلُولِ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ شَامِلًا لِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَتَكُونَ نُكْتَةُ التَّأْكِيدِ حِينَئِذٍ هِيَ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ الْإِهْمَالِ وَالْإِخْلَالِ حَتَّى أَكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ تَبَيُّنِ عَدَمِ امْتِثَالِهِمْ فِيمَا يَأْتِي فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الْبَقَرَة: 63] . وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ إِشَارَاتِ الْقُرْآنِ إِلَى الْعبارَات الني نَطَقَ بِهَا مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُتِبَتْ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالسَّمَاعِ تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعِ مُخَاطَبَاتِ مُوسَى لَمَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، فَهَذَا مِنْ نُكَتِ اخْتِيَارِ هَذَا اللَّفْظِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِامْتِثَالِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّعْبِيرِ بِالْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَاسْمَعُوا وَإِنَّمَا أَجَابُوهُ بِأَمْرَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اسْمَعُوا تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ مَعْنًى صَرِيحًا وَمَعْنًى كِنَائِيًّا فَأَجَابُوا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ وَأَمَّا الْأَمْرُ الْكِنَائِيُّ فَقَدْ رَفَضُوهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ قَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَا تَضَمَّنَهُ وَاسْمَعُوا وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ شَافَهُوا نَبِيَّهُمْ بِالْعَزْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: سَمِعْنا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ أَيْ سَمِعْنَا هَذَا الْكَلَامَ، وَقَوْلُهُ: وَعَصَيْنا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَاسْمَعُوا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى امْتَثِلُوا لِيَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ وَيُبْعِدُهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي جَوَابِهِمْ بِكَلِمَةِ سَمِعْنا مُشِيرٌ إِلَى كَوْنِهِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: اسْمَعُوا لِأَنَّ شَأْنَ الْجَوَابِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى عِبَارَةِ الْكَلَامِ الْمُجَابِ بِهِ وَقَوْلُهُ: لِيَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جَعْلَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَاسْمَعُوا يُغْنِي عَنْ تَطَلُّبِ جَوَابٍ لِقَوْلِهِ: خُذُوا فَفِيهِ إِيجَازٌ، فَالْوَجْهُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ قَوْلَهُمْ: عَصَيْنا كَانَ بِلِسَانِ الْحَالِ يَعْنِي فَيَكُونُ قالُوا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَيْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَوْا فَكَأَنَّ لِسَانَهُمْ يَقُولُ عَصَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ عَصَيْنا وَقَعَ فِي زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ بِأَنْ قَالُوا عَصَيْنَا فِي حَثِّهِمْ عَلَى بَعْضِ الْأَوَامِرِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ لِمُوسَى حِينَ قَالَ لَهُمُ: ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً [الْمَائِدَة: 24] وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَقْرَبُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 64] .

وَالْإِشْرَابُ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ شَارِبًا، وَاسْتُعِيرَ لِجَعْلِ الشَّيْءِ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَدَاخِلًا فِيهِ وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ شِدَّةُ الِاتِّصَالِ وَالسَّرَيَانِ لِأَنَّ الْمَاءَ أَسْرَى الْأَجْسَامِ فِي غَيْرِهِ وَلِذَا يَقُولُ الْأَطِبَّاءُ الْمَاءُ مَطِيَّةُ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَمَرْكَبُهَا الَّذِي تُسَافِرُ بِهِ إِلَى أَقْطَارِ الْبَدَنِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارُوا الْإِشْرَابَ لِشِدَّةِ التَّدَاخُلِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ (¬1) تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أُشْرِبَ الثَّوْبُ الصَّبْغَ، قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا أَرَادُوا مُخَامَرَةَ حُبٍّ وَبُغْضٍ أَنْ يَسْتَعِيرُوا لِذَلِكَ اسْمَ الشَّرَابِ اهـ. وَقَدِ اشْتُهِرَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ فَهُجِرَ اسْتِعْمَالُ الْإِشْرَابِ بِمَعْنَى السَّقْيِ وَذِكْرُ الْقُلُوبِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ إِشْرَابَ الْعِجْلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مِنْ شَأْنِ الْقَلْبِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ تَأْلِيهِ الْعِجْلِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ حُبُّهُمُ الْعِجْلَ إِشْرَابًا لَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ حُبُّهُمُ الْعِجْلَ مَبْلَغَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِيهِ كَأَنَّ غَيْرَهُمْ أَشْرَبَهُمْ إِيَّاهُ كَقَوْلِهِمْ أُولِعَ بِكَذَا وَشُغِفَ. وَالْعِجْلُ مَفْعُولُ أُشْرِبُوا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَشْهُورٍ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ وَإِسْنَادِهَا إِلَى الذَّوَاتِ مِثْلِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُ لَحْمِهَا. وَإِنَّمَا شُغِفُوا بِهِ اسْتِحْسَانًا وَاعْتِقَادًا أَنَّهُ إِلَهُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ نَفْعَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهُ مِنْ ذَهَبٍ قَدَّسُوهُ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِمُ الذَّهَبَ. وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ الْإِعْجَابُ بِهِ بِفَرْطِ اعْتِقَادِهِمْ أُلُوهِيَّتَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بِكُفْرِهِمْ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ يَزِيدُ الْمُعْتَقِدَ تَوَغُّلًا فِي حُبِّ مُعْتَقَدِهِ. وَإِسْنَادُ الْإِشْرَابِ إِلَى ضَمِيرِ ذَوَاتِهِمْ ثُمَّ تَوْضِيحُهُ بِقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمُ مُبَالَغَةٌ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يَقَعُ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ وَالِاشْتِمَالِ وَمَا يَقَعُ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارا [النِّسَاء: 10] وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ مَا هُنَا لِأَنَّ الْأَكْلَ مُتَمَحِّضٌ لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرًا فِي الْبَطْنِ بِخِلَافِ الْإِشْرَابِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْقُلُوبِ. وَقَوْلُهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تذييل وَاعْتِرَاض ناشىء عَنْ قَوْلِهِمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا هُوَ خُلَاصَةٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] بَعْدَ أَنْ أُبْطِلَ ذَلِكَُُ ¬

(¬1) ذكر هَذِه الأبيات الْقُرْطُبِيّ فِي «تَفْسِيره» وَقَالَ إِنَّهَا لأحد النابغتين أَي النَّابِغَة الذبياني أَو النَّابِغَة الْجَعْدِي فِي زَوجته عَثْمَة كَانَ عتب عَلَيْهَا فِي بعض الْأَمر فَطلقهَا وَكَانَ محبا لَهَا. وبعدهما: أكاد إِذا ذكرت الْعَهْد مِنْهَا ... أطير لَو أَن إنْسَانا يطير

بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 91] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ وَقَوْلُهُ: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَلِذَلِكَ فَصَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مِنَ الْأَوَّلِ مَجْرَى التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ لِحَاصِلِهِ، وَالْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ كَمَا زَعَمْتُمْ يَعْنِي التَّوْرَاةَ فَبِئْسَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ هَذَا الْإِيمَانُ إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنَ الشَّنَائِعِ مِنْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي حِينِ قِيَامِ التَّوْرَاةِ فِيكُمْ فَكَيْفَ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا قَلِيلًا، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ هَذَا الْإِيمَانُ بِزَعْمِهِمْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كُلُّهَا مَقُولُ قُلْ وَالْأَمْرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّسَبُّبِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ إِيمَانُهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَعَلُوهُ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُتَصَلِّبُونَ فِي التَّمَسُّكِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ قِيدَ فِتْرٍ وَلَا يَسْتَمِعُونَ لِكِتَابٍ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ لِسَانَ حَالِهِمْ يُنَادِي بِأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ فِعْلًا إِلَّا وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ كِتَابِهِمْ، هَذَا وَجْهُ الْمُلَازَمَةِ وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَذْمُومَةً شَنِيعَةً فَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَدَاهَةِ فَأَنْتَجَ ذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ يَأْمُرُهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَظَائِعِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِالتَّوْرَاةِ وَإِبْطَالُ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ يَسْتَنْزِلُ طَائِرَهُمْ وَيَرْمِي بِهِمْ فِي مَهْوَاةِ الِاسْتِسْلَامِ لِلْحُجَّةِ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُمُ الْمَقْطُوعَ بِعَدَمِهِ فِي مَظْهَرِ الْمُمْكِنِ الْمَفْرُوضِ لِيَتَوَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَبْكِيتِهِمْ وَإِفْحَامِهِمْ نَحْوَ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] وَلِهَذَا أُضِيفَ الْإِيمَانُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْمُومَ هُوَ إِيمَانُهُمْ أَيِ الَّذِي دَخَلَهُ التَّحْرِيفُ وَالِاضْطِرَابُ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ إِنَّمَا هُوَ لِصَلَاحِ النَّاسِ وَالْخُرُوجِ بِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبُو هَاتِهِ الشَّنَائِعِ لَيْسُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ هُدًى وَنُورٌ فِي شَيْءٍ فَبَطَلَ بِذَلِكَ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُهُ: بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ جَوَابُ الشَّرْطِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ أَوْ قُلْ دَلِيلُ الْجَوَابِ وَلِأَجْلِ هَذَا جِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِإِنَّ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكَ الْحُصُولِ وَيَنْتَقِلُ مِنَ الشَّكِّ فِي حُصُولِهِ إِلَى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا كَمَا يفْرض الْمحَال وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَالِمٌ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَعْتَقِدُونَ وُقُوعَ الشَّرْطِ فَكَانَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ أَنْ لَا يُؤْتَى بِالشَّرْطِ الْمُتَضَمِّنِ لِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْفِيًّا وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ حَالِ الْمُخَاطَبِ أَنْ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا مَعَ إِذَا وَلَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ فَرَضَهُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِهِمْ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِإِنْ إِشْعَارٌ بِهَذَا

[سورة البقرة (2) : الآيات 94 إلى 95]

الْفَرْضِ حَتَّى يَقَعُوا فِي الشَّكِّ فِي حَالِهِمْ وَيَنْتَقِلُوا مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ حِينَ مَجِيءِ الْجَوَابِ وَهُوَ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَمَا قَالَه التفتازانيّ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْقَصْدِ التَّبْكِيتَ لِأَنَّهَا مَعَانٍ مُتَعَاقِبَةٌ يُفْضِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَمِنَ الْفَرْضِ يَتَوَلَّدُ التَّشْكِيكُ وَمِنَ التَّشْكِيكِ يَظْهَرُ التَّبْكِيتُ. وَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَجَوَابَهُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَإِيمَانُكُمْ لَا يَأْمُرُكُمْ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَخْ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِأَوَاصِرِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرٌ بِلَا دَاعٍ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِلَخْ يَتَطَلَّبُهُ مَزِيدَ تَطَلُّبٍ وَنَظَائِرُهُ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يُلَاقِي الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ الْمُثْبِتَ أَنَّ إِيمَانهم أَمرهم بِهَذَا الْمَذَامِّ فَكَيْفَ يَنْفِي بَعْدَ ذَلِكَ أَن يكون إميانهم يَأْمُرُهُمْ؟ وبِئْسَما هُنَا نَظِيرُ بِئْسَمَا الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَة: 90] سِوَى أَنَّ هَذَا لَمْ يُؤْتَ لَهُ بِاسْمٍ مَخْصُوصٍ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ وَالتَّقْدِيرُ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ عبَادَة الْعجل. [94، 95] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 94 إِلَى 95] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) إِبْطَالٌ لِدَعْوَى قَارَّةٍ فِي نُفُوسِهِمُ اقْتَضَاهَا قَوْلُهُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الِاعْتِذَارَ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُذْرِ أَنَّهُمْ مُتَصَلِّبُونَ فِي التَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ لَا يَعْدُونَهَا وَأَنَّهُمْ بِذَلِكَ اسْتَحَقُّوا مَحَبَّةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَتَكُونُ الْآخِرَةُ لَهُمْ فَلَمَّا أُبْطِلَتْ دَعْوَى إِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ بِإِلْزَامِهِمُ الْكَذِبَ فِي دَعْوَاهُمْ بِسَنَدِ مَا أَتَاهُ سَلَفُهُمْ وَهُمْ جُدُودُهُمْ مِنَ الْفَظَائِعِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَنْ أَوَامِرِ التَّوْرَاةِ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا فِي عَقَائِدِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الِانْفِرَادِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهَا لَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَارْتَكَبَ فِي إِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا طَرِيقَةَ الْإِحَالَةِ عَلَى مَا عَقَدُوا عَلَيْهِ اعْتِقَادَهُمْ مِنَ الثِّقَةِ بِحُسْنِ الْمَصِيرِ أَوْ عَلَى شَكِّهِمْ فِي ذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ لَدَيْهِمْ شَكُّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ إِيمَانَهُمْ

بِالتَّوْرَاةِ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى حَقِّهِ وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَفُتُّ فِي أَعَضَادِهِمْ وَيُسْقَطُ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ تَرَقُّبَ الْحَظِّ الْأُخْرَوِيِّ أَهُمُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُعْتَقِدُ الْمُتَدَيِّنُ فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ لِدَعْوَى أُخْرَى صَدَرَتْ مِنَ الْيَهُودِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْجَنَّةَ خَاصَّةً بِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] وَقَوْلِهِمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [الْبَقَرَة: 111] ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ ذِكْرُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بَيِّنًا لِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ فِي رَدِّ مُعْتَقَدٍ لَهُمْ بَاطِلٍ أَيْضًا لَا فِي خُصُوصِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ فِيهِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاسِبَةً تَمَامَ الْمُنَاسَبَةِ، وَنَحْنُ لَا نُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةِ هُنَا نَزَلَتْ مَعَ سَوَابِقِهَا لِلرَّدِّ عَلَى أَقْوَالِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمَحْكِيَّةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مَعَ الْآيَاتِ الرَّاجِعَةِ إِلَى رَدِّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لِلْمُنَاسَبَةِ بِجَمْعِ رَدِّ جَمِيعِ دَعَاوِيهِمْ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ غُنْيَةٌ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَحَدَّتِ الْيَهُودَ كَمَا تَحَدَّى الْقُرْآنُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] . وَإِنَّمَا فُصِلَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ السِّيَاقِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِلْقَاءُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ وَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ تَفْظِيعٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجٌ لَكِنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ كَانَ مُحَسَّنًا لِلْفَصْلِ دُونَ الْعَطْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ افْتِتَاحِ الِاحْتِجَاجِ بِقُلْ. وَالْكَلَامُ فِي لَكُمُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ نَعِيمُهَا ولَكُمُ خَبَرُ كانَتْ قُدِّمَ لِلْحَصْرِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَتَقْدِيمِهِ فِي قَوْلِ الْكُمَيْت يمدح هشاما بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ عَفَا عَنْهُ مِنْ قَصِيدَةٍ: لَكُمْ مَسْجِدَا اللَّهِ الْمَزُورَانِ والحصى ... لكم قَبْضَة مِنْ بَيْنِ أَثْرَى وَأَقْتَرَا وعِنْدَ اللَّهِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِكَانَتْ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَادِّخَارٍ أَيْ مُدَّخَرَةٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ مُرَادٌ بِهَا الْجَنَّةُ. وَانْتَصَبَ خالِصَةً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ (كَانَ) وَلَا وَجْهَ لِتَوَقُّفِ بَعْضِ النُّحَاةِ فِي مَجِيءِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ (كَانَ) . وَمَعْنَى الْخَالِصَةِ السَّالِمَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِكُمْ لَكُمْ فِيهَا فَهُوَ يؤول إِلَى مَعْنَى خَاصَّةً بِكُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ دُونِ فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْأَقْرَبِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْمُفَارَقَةِ فَلِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى تَخَالُفِ الْأَوْصَافِ أَوِ الْأَحْوَالِ، تَقُولُ هَذَا لَكَ دُونَ زَيْدٍ أَيْ لَا حَقَّ لِزَيْدٍ فِيهِ فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ وَمِنُُْ

قَوْلِهِ: خالِصَةً لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخُلُوصِ الصَّفَاءَ مِنَ الْمُشَارِكِ فِي دَرَجَاتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّعِيمِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ فَاللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [الْبَقَرَة: 111] . وَقَوْلُهُ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ- وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهُمْ- وَجَزَائِهِ- وَهُوَ تَمَنِّي الْمَوْتِ- أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَا يَخْلُصُ أَحَدٌ إِلَيْهَا إِلَّا بِالرُّوحِ حِينَ تُفَارِقُ جَسَدَهُ وَمُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ هُوَ الْمَوْتُ فَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ هُوَ سَبَبُ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَتَمَنَّوْا حُلُولَهُ كَمَا كَانَ شَأْنُ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَرْيًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ ... إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ وَارْتَجَزَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ حِينَ اقْتَحَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةً وَبَارِدٌ شَرَابُهَا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَدَعَا الْمُسْلِمُونَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ أَنْ يَرُدَّهُمُ الله سَالِمين: لكني أَسْأَلُ الرَّحْمَانَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أَوْ طَعْنَةً مِنْ يَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا وَجُمْلَةُ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً إِلَى آخِرِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الْبَقَرَة: 97] وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِعْلَامًا لَهُمْ لِيَزْدَادُوا يَقِينًا وَلِيَحْصُلَ مِنْهُ تَحَدٍّ لِلْيَهُودِ إِذْ يَسْمَعُونَهُ وَيَوَدُّونَ أَنْ يُخَالِفُوهُ لِئَلَّا يَنْهَضَ حُجَّةً عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي عَقِيدَةٍ مُخْتَلِطَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ كَشَأْنِ عَقَائِدِ الْجَهَلَةِ الْمَغْرُورِينَ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهُمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] وَقَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمُ اجْتَرَءُوا عَلَى اللَّهِ وَاكْتَسَبُوا السَّيِّئَاتِ حَسْبَمَاُُ

سُطِّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ فَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ النَّارَ تَمَسُّهُمْ أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَلِذَلِكَ يَخَافُونَ الْمَوْتَ فِرَارًا مِنَ الْعَذَابِ. وَالْمُرَادُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَا أَتَوْهُ مِنَ الْمَعَاصِي سَوَاءٍ كَانَ بِالْيَدِ أَمْ بِغَيْرِهَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، فَقِيلَ عُبِّرَ بِالْيَدِ هُنَا عَنِ الذَّاتِ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَة: 195] وَكَمَا عُبِّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْعَيْنِ فِي بَابِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ الْيَدَ أَهَمُّ آلَاتِ الْعَمَلِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهَا الْأَيْدِي حَقِيقَةً لِأَنَّ غَالِبَ جِنَايَاتِ النَّاسِ بِهَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ وَلَعَلَّ التَّكَنِّيَ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّ أَجْمَعَ مَعَاصِيهَا وَأَفْظَعَهَا كَانَ بِالْيَدِ فَالْأَجْمَعُ هُوَ تَحْرِيفُ التَّوْرَاةِ وَالْأَفْظَعُ هُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ حَرَمُوا النَّاسَ مِنْ هُدًى عَظِيمٍ. وَإِسْنَادُ التَّقْدِيمِ لِلْأَيْدِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ حَقِيقَةٌ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ لِأَنَّ الْقَدِيرَ إِذَا عَلِمَ بِظُلْمِ الظَّالِمِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ مُعَاقَبَتِهِ فَهَذَا كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: فَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا نَفَتْ صُدُورَ تَمَنِّي الْمَوْتِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا تَكْذِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُقَالُ لَعَلَّهُمْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ بِالْقَلْبِ لَوْ وَقَعَ لَنَطَقُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ لِقَصْدِ الْإِعْلَانِ بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْوَصْمَةِ فَسُكُوتُهُمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وَإِنْ كَانَ التَّمَنِّي مَوْضِعُهُ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ طَلَبٌ قَلْبِيٌّ إِذْ هُوَ مَحَبَّةُ حُصُولِ الشَّيْءِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَمانِيَّ [الْبَقَرَة: 78] أَنَّ الْأُمْنِيَّةَ مَا يُقَدَّرُ فِي الْقَلْبِ. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَهُودِ الْمُخَاطَبِينَ زَمَنَ النُّزُولِ ظَاهِرٌ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَمَنَّى الْمَوْتَ كَمَا أَخْبَرَتِ الْآيَةُ. وَهِيَ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عِنْدَ أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَيْقَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَأَيْقَنَ أَنَّ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَنَّاهُ أَحَدٌ لَأَعْلَنَ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِحِرْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُفِيدُ بِذَلِكَ إِعْجَازًا عَامًا عَلَى تَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ كَمَا أَفَادَ عَجْزَ الْعَرَبِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ علم جَمِيعُ الْبَاحِثِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ الْيَهُودَ الَّذين يأْتونَ بعد يهود عَصْرَ النُّزُولِ إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ يَهُودِيًّا تَمَنَّى الْمَوْتَ إِلَى الْيَوْمِ فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَتَمَنَّوْهُ أَيْ عَلِمَ اللَّهُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ فَأَخْبَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَتَحَدَّاهُمْ وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَسْجِيلِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْيَهُودُ فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ليصفهم بالظلم.

[سورة البقرة (2) : آية 96]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [الْبَقَرَة: 95] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ عَدَمَ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ لَيْسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَ الْبَشَرِ مِنْ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ مَا دَامَ الْمَرْءُ بِعَافِيَةٍ بَلْ هُمْ تَجَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى كَوْنِهِمْ أَحْرَصَ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ عَلَى الْحَيَاةِ حَتَّى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ بَعْثًا وَلَا نُشُورًا وَلَا نَعِيمًا فَنَعِيمُهُمْ عِنْدَهُمْ هُوَ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَإِلَى أَنْ تَمَنَّوْا أَنْ يُعَمَّرُوا أَقْصَى أَمَدِ التَّعْمِيرِ مَعَ مَا يَعْتَرِي صَاحِبَ هَذَا الْعُمُرِ مِنْ سُوءِ الْحَالَةِ وَرَذَالَةِ الْعَيْشِ. فَلِمَا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أُخِّرَتْ عَنْهَا، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي وَصْفِهِمْ بِالْأَحْرَصِيَّةِ الْمُتَجَاوِزَةِ الْحَدَّ عُطِفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفْصَلْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لَفُصِلَ كَمَا يُفْصَلُ التَّأْكِيدُ عَنِ الْمُؤَكَّدِ. وَقَوْلُهُ: لَتَجِدَنَّهُمْ مِنَ الْوِجْدَانِ الْقَلْبِيِّ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ جَمِيعُ النَّاسِ أَيْ جَمِيعُ الْبَشَرِ فَهُمْ أَحْرَصُهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْحِرْصَ على الْحَيَاة غريزية فِي النَّاسِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ فِيهِ مُتَفَاوِتُونَ قُوَّةً وَكَيْفِيَّةً وَأَسْبَابًا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَرَى كُلَّنَا يَهْوَى الْحَيَاةَ بِسَعْيِهِ ... حَرِيصًا عَلَيْهَا مُسْتَهَامًا بِهَا صَبَّا فَحُبُّ الجبان النَّفس أوده التُّقَى ... وَحُبُّ الشُّجَاعِ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ الْحَرْبَا وَنَكَّرَ (الْحَيَاةَ) قَصْدًا لِلتَّنْوِيعِ أَيْ كَيْفَمَا كَانَتْ تِلْكَ الْحَيَاةُ وَتَقُولُ يَهُودُ تُونُسَ مَا مَعْنَاهُ «الْحَيَاةُ وَكَفَى» . وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عَطْفٌ عَلَى (النَّاسِ) لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ تُقَدَّرُ مَعَهُ مِنَ التَّفْضِيلِيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ جَازَ إِظْهَارُهَا وَيَتَعَيَّنُ الْإِظْهَارُ إِذَا كَانَ الْمُفَضَّلُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ حِينَئِذٍ تَمْتَنِعُ كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْيَهُودَ مِنَ النَّاسِ وَلَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ إِضَافَتَهُ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا - عَلَى قَوْلِهِ- عَطْفًا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى أَوْ بِتَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَحْرَصْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَإِلَيْهِ مَالَ فِي «الْكَشَّافِ» .

وَقَوْلُهُ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ بَيَانٌ لِأَحْرَصِيَّتِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ وَتَحْقِيقٌ لِعُمُومِ النَّوْعِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الْمُنَكَّرَةِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْحِرْصَ لَا يَبْلُغُ بِهِمْ مَبْلَغَ الطَّمَعِ فِي الْحَيَاةِ الْبَالِغَةِ لِمُدَّةِ أَلْفِ سَنَةٍ فَإِنَّهَا مَعَ تَعَذُّرِهَا لَوْ تَمَّتْ لَهُمْ كَانَتْ حَيَاةَ خَسْفٍ وَأَرْذَلَ عَيْشٍ يُظَنُّ بِهِمْ أَنْ لَا يَبْلُغَ حُبُّهُمُ الْحَيَاةَ إِلَى تَمَنِّيهَا، وَقَدْ قَالَ الْحَرِيرِيُّ: وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْفَتَى ... مِنْ عَيْشِهِ عَيْشَ الْبَهِيمَةِ فَجِيءَ بِهَاتِهِ الْجُمْلَةِ لِتَحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ الْحِرْصَ يَشْمَلُ حَتَّى هَاتِهِ الْحَيَاةَ الذَّمِيمَةَ وَلِمَا فِي هَاتِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا فُصِلَتْ عَنْهَا. والود الْمحبَّة و (لَو) لِلتَّمَنِّي وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلَفْظِ الَّذِي يَوَدُّونَ بِهِ وَالْمَجِيءُ فِيهِ بِلَفْظِ الْغَائِبِ مُرَاعَاةٌ لِلْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (لَوْ) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ. وَقَوْلُهُ: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ بَيَان ليود أَيْ يَوَدُّ وُدًّا بَيَانُهُ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَصْلُ (لَوْ) أَنَّهُ حَرْفُ شَرْطٍ لِلْمَاضِي أَوْ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ أَصْلُ مَوْقِعِهِ مَعَ فِعْلِ يَوَدُّ وَنَحْوِهِ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ يَوَدُّ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لَمَا سَئِمَ أَوْ لَمَا كَرِهَ فَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ شَرْطِ (لَوْ) وَمَضْمُونُ مَفْعُولِ يَوَدُّ وَاحِدًا اسْتَغْنَوْا بِفِعْلِ الشَّرْطِ عَنْ مَفْعُولِ الْفِعْلِ فَحَذَفُوا الْمَفْعُولَ وَنَزَلَ حَرْفُ الشَّرْطِ مَعَ فِعْلِهِ مَنْزِلَةَ الْمَفْعُولِ فَلِذَلِكَ صَارَ الْحَرْفُ مَعَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُولِ فَاكْتَسَبَ الِاسْمِيَّةَ فِي الْمَعْنَى فَصَارَ فِعْلُ الشَّرْطِ مُؤَوَّلًا بِالْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَلِذَلِكَ صَارَ حَرْفُ (لَوْ) بِمَنْزِلَةِ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا صَارَ مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ فَصَارَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ اسْتِعْمَالًا غَلَبَ عَلَى (لَوِ) الْوَاقِعَةِ بَعْدَ فِعْلِ يَوَدُّ وَقَدْ يُلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ. هَذَا تَحْقِيقُ اسْتِعْمَالِ لَوْ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَارِي عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ وَلِغَلَبَةِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ وَشُيُوعِ هَذَا الْحَذْفِ ذَهَبَ بَعْضُ النُّحَاةِ إِلَى أَنَّ (لَوْ) تُسْتَعْمَلُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا وَأَثْبَتُوا لَهَا مِنْ مَوَاقِعِ ذَلِكَ مَوْقِعَهَا بَعْدَ يَوَدُّ وَنَحْوِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالتِّبْرِيزِيِّ وَالْعُكْبَرِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ فَيَقُولُونَ: لَا حَذْفَ وَيَجْعَلُونَ (لَوْ) حَرْفًا لِمُجَرَّدِ السَّبْكِ بِمَنْزِلَةِ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالْفِعْلَ مَسْبُوكًا بِمَصْدَرٍ وَالتَّقْدِيرُ يَوَدُّ أَحَدُهُمُ التَّعْمِيرَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَضْعَفُ تَحْقِيقًا وَأَسْهَلُ تَقْدِيرًا. وَقَوْلُهُ: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِأَحَدِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ الْمَصْدَرُ بَعْدَهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ زُهَيْرٍ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 98]

وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا علمْتُم وذتم ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ وَلَمْ يَجْعَلْ ضَمِيرَ شَأْنٍ لِدُخُولِ النَّفْيِ عَلَيْهِ كَالَّذِي فِي الْبَيْتِ لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاهْتِمَامُ بِالْخَبَرِ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَهُ فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ، وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى التَّعْمِيرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالْمُزَحْزِحُ الْمُبْعِدُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ الْبَصِيرُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَلِيمِ كَمَا فِي قَوْلِ عَلْقَمَةَ الْفَحْلِ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَنَّ الْقَدِيرَ إِذَا عَلِمَ بِمَا يَجْتَرِحُهُ الَّذِي يَعْصِيهِ وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْعِقَابَ نَازِلٌ بِهِ لَا محَال وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَلَا تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ ... لِيَخْفَى فَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَو يعجّل فينقم فَجَعَلَ قَوْلَهُ: يَعْلَمِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الرَّاجِعِ لِلتَّهْدِيدِ بِدَلِيلِ إِبْدَالِهِ مِنْهُ قَوْلَهُ يُؤَخَّرْ، الْبَيْتَ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي النُّعْمَانِ: عَلِمْتُكَ تَرْعَانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ ... وَتَبْعَثُ حُرَّاسًا عليّ وناظرا [97، 98] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 97 إِلَى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) مَوْقِعُ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْجُمَلِ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 91] . وَقَوْلِهِ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ [الْبَقَرَة: 93] . وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ [الْبَقَرَة: 94] . فَإِنَّ الْجَمِيعَ لِلرَّدِّ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا بِهِ عُذْرًا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُوَ عُذْرٌ كَاذِبٌ سَتَرُوا بِهِ السَّبَبَ فِي الْوَاقِعِ وَهُوَ الْحَسَدُ عَلَى نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فَجَاءَتْ هَاتِهِ الْمُجَادَلَاتُ الْمُصَدَّرَةُ بِقُلْ لِإِبْطَالِ مَعْذِرَتِهِمْ وَفَضْحِ مَقْصِدِهِمْ. فَأَبْطَلَ أَوَّلًا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا مِنْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْبَلُونَ مَا أُنْزِلَ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ قَابَلُوا رُسُلَهُمْ أَيْضًا بِالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى وَالْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ وَقَوْلِهِ: قُلْ بِئْسَما إِلَخُُْ.

وَأَبْطَلَ ثَانِيًا مَا تَضَمَّنَهُ من أَنهم شَدِيد والتمسك بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ حَرِيصُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مُتَبَاعِدُونَ عَنِ الْبُعْدِ عَنْهُ لِقَصْدِ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَأَبْطَلَ ثَالِثًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعُذْرُ هُوَ الصَّارِفُ لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ مَعَ إِثْبَاتِ أَنَّ الصَّارِفَ لَهُمْ هُوَ الْحَسَدُ بِقَوْلِهِ هُنَا: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِارْتِبَاطَ وُقُوعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَائِدًا عَلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمُجَابَةِ بِهَاتِهِ الْإِبْطَالَاتِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ هَذِهِ كَمَا فُصِلَتْ أَخَوَاتُهَا وَلِأَنَّهَا لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْجُمَلِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فَتُعْطَفُ عَلَيْهَا فَجَاءَت لذَلِك متسأنفة. وَالْعَدُوُّ الْمُبْغِضُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَا عَلَيْهِ يَعْدُو بِمَعْنَى وَثَبَ، لِأَنَّ الْمُبْغِضَ يَثِبُ عَلَى الْمَبْغُوضِ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُ وَوَزْنُهُ فَعُولٌ. وَجِبْرِيلُ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ لِلْمَلَكِ الْمُرْسَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ لِرُسُلِهِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ. وَفِيهِ لُغَاتٌ أَشْهَرُهَا جِبْرِيلُ كَقِطْمِيرٍ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَجَبْرِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهَذَا وَزْنُ فَعْلِيلٍ لَا يُوجَدُ لَهُ مِثَالٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ، وَجَبْرَئِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْضًا وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبَيْنَ الرَّاءِ وَالْيَاءِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجِدٍ وَقَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَجَبْرَئِلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّامِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ قَرَأَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَفِيهِ لُغَات أُخْرَى قرىء بِهَا فِي الشَّوَاذِّ. وَهُوَ اسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ كَلِمَةُ جَبْرَ وَكَلِمَةُ إِيلَ. فَأَمَّا كلمة جبر فَمَعْنَاه عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَقْلًا عَنِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى عَبْدٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِيلَ فَهِيَ عِنْدُ الْجُمْهُورِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى عَكْسِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَزَعَمَ أَنَّ جَبْرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيلَ الْعَبْدُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِهَا. وَقَدْ قَفَا أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ رَأْيَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي صَدْرِ رِسَالَتِهِ الَّتِي خَاطَبَ بِهَا عَلِيَّ بْنَ مَنْصُورٍ الْحَلَبِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْقَارِحِ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ «بِرِسَالَةِ الْغُفْرَانِ» فَقَالَ: «قَدْ عَلِمَ الْجَبْرُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي كُلِّ الْخَيْرَاتِ سَبِيلٌ أَنَّ فِي مَسْكَنِي حَمَاطَةً» إِلَخْ. أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ الَّذِي نَسَبَ جِبْرِيلَ إِلَى اسْمِهِ أَيِ اسْمِهِ جَبْرُ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْقَسَمَ وَهَذَا إِغْرَابٌ مِنْهُ وَتَنْبِيهٌ عَلَى تباصره باللغة. وعدواة الْيَهُودِ لِجِبْرِيلَ نَشَأَتْ مِنْ وَقْتِ نُزُولِهِ بِالْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا بِالْعَذَابِ وَالْوَعِيدِ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ حَدِيثٍ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ شَرْطٌ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ خَاصٌّ وَهُمُ الْيَهُودُ. قَصَدَ الْإِتْيَانَ بِالشُّمُولِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعَادِي جِبْرِيلَ إِنْ كَانَ لَهُ مُعَادٍ آخَرُ. وَقَدْ عُرِفَ الْيَهُودُ فِي الْمَدِينَةِ بِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ جِبْرِيلَ فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى النَّبِيءَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يعلمهُنَّ إِلَّا نبيء «فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ أَبْغَضُوهُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ بِمَا فِيهِ شِدَّةٌ وَبِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ» الْحَدِيثَ وَفِي سِفْرِ دَانْيَالَ مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الْإِصْحَاحَيْنِ الثَّامِنِ وَالتَّاسِعِ ذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَبَرَ لِدَانْيَالَ رُؤْيَا رَآهَا وَأَنْذَرَهُ بِخَرَابِ أُورَشْلِيمَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْبَابًا أُخْرَى لِبُغْضِهِمْ جِبْرِيلَ. وَمِنْ عَجِيبِ تَهَافُتِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّهُ مَلَكٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ وَيُبْغِضُونَهُ وَهَذَا مِنْ أَحَطِّ دَرَكَاتِ الِانْحِطَاطِ فِي الْعَقْلِ وَالْعَقِيدَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اضْطِرَابَ الْعَقِيدَةِ مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ انْحِطَاطِ الْأمة لِأَنَّهُ ينبىء عَن تظاهر آرَائِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ وَالْأَوْهَامِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ. الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ (نَزَّلَهُ) عَائِدٌ لِلْقُرْآنِ إِمَّا لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 91] وَإِمَّا لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ هُنَا عَلَى حَدِّ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَة: 83] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَائِمَةً مَقَامَ جَوَابِ الشَّرْطِ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا مُوجِبَ لِعَدَاوَتِهِ لِأَنَّهُ وَاسِطَةً أَذِنَهُ اللَّهُ بِالنُّزُولِ بِالْقُرْآنِ فَهُمْ بِمُعَادَاتِهِ إِنَّمَا يُعَادُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَالتَّقْدِيرُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَلَا يُعَادِهِ وَلْيُعَادِ اللَّهَ تَعَالَى. وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرُوهُ وَأَسْعَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَظْهَرُ ارْتِبَاطًا بِقَوْلِهِ بَعْدُ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ كَمَا سَتَعْرِفُونَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ قَدْ نَزَّلَهُ عَلَيْكَ سَوَاءٌ أَحَبُّوهُ أَمْ عَادُوهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِغَاظَةِ مِنْ بَابِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمرَان: 119] ، كَقَوْلِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ سَاحَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْإِسْفَارِ أَيْ فَلَا يُسَرُّ بِمَقْتَلِهِ فَإِنَّا قَدْ قَتَلْنَا قَاتِلَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الصَّبَاحِ فَإِنَّ قَاتِلَهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ مَنْ كَانَُُ

مَسْرُورًا بِمَقْتَلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِكِتَابِهِمْ وَفِيهِ هُدًى وَبُشْرَى، وَهَذِهِ حَالَةٌ تَقْتَضِي مَحَبَّةَ مَنْ جَاءَ بِهِ فَمِنْ حُمْقِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ عَدَاوَتُهُمْ لِمَنْ جَاءَ بِهِ فَالتَّقْدِيرُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْعَقْلِ أَوْ حِلْيَةَ الْإِنْصَافِ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ لِأَنَّهُمْ مُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَالْقَلْبُ هُنَا بِمَعْنَى النَّفْسِ وَمَا بِهِ الْحِفْظُ وَالْفَهْمُ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَلْبَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَعْنَوِيِّ نَحْوَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] كَمَا يُطْلِقُونَهُ أَيْضًا عَلَى الْعُضْوِ الْبَاطِنِيِّ الصَّنَوْبَرِيِّ كَمَا قَالَ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ومُصَدِّقاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوب فِي نَزَّلَهُ أَيِ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ لِجِبْرِيلَ أَيْ أَنْزَلَهُ مُقَارِنًا لِحَالَةٍ لَا تُوجِبُ عَدَاوَتَهُمْ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَذَلِكَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالْمُصَدِّقُ الْمُخْبِرُ بِصِدْقِ أَحَدٍ. وَأُدْخِلَتْ لَامُ التَّقْوِيَةِ عَلَى مَفْعُولِ مُصَدِّقاً لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْوِيَةِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ أَيْ هُوَ تَصْدِيقٌ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا التَّخْطِئَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَوَّهَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَوَصَفَ كُلًّا بِأَنَّهُ هُدًى وَنُورٌ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَتَصْدِيقُ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ مِنْ أَوَّلِ دَلَائِلِ صِدْقِ الْمُصَدِّقِ لِأَنَّ الدَّجَاجِلَةَ الْمُدَّعِينَ النُّبُوَّاتِ يَأْتُونَ بِتَكْذِيبِ مَنْ قَبْلَهُمْ لِأَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْهُدَى يُخَالِفُ ضَلَالَاتِ الدَّجَّالِينَ فَلَا يَسَعُهُمْ تَصْدِيقُهُمْ وَلِذَا حَذَّرَ الْأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ مِنَ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَبَةِ كَمَا جَاءَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ. وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا سبقه وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ السَّبْقِ لِأَنَّ السَّابِقَ يَجِيءُ قَبْلَ الْمَسْبُوقِ وَلَمَّا كَانَ كِنَايَةً عَنِ السَّبْقِ لَمْ يُنَافِ طُولَ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَالْقُرْآنِ وَلِأَنَّ اتِّصَالَ الْعَمَلِ بِهَا بَيْنَ أُمَمِهَا إِلَى مَجِيءِ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ سَبْقَهُمَا مُسْتَمِرًّا إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ الْقُرْآنِ فَكَانَ سَبْقُهُمَا مُتَّصِلًا. وَالْهُدَى وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْهُدَى بِهِ. وَالْبُشْرَى الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ أَمْرٍ سَارٍّ أَوْ بِتَرَقُّبِ حُصُولِهِ فَالْقُرْآنُ بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَكَمَالٍ وَرِضًى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُؤْتِيهِمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ. فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْخَمْسَةِ لِلْقُرْآنِ وَهِيَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِإِذن الله، وَبِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى قَلْبِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ هَادٍ أَبْلَغَ هُدًى، وَأَنَّهُ بُشْرَى

لِلْمُؤْمِنِينَ، الثَّنَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ بِكَرَمِ الْأَصْلِ وَكَرَمِ الْمَقَرِّ وَكَرَمِ الْفِئَةِ وَمَفِيضِ الْخَيْرِ عَلَى أَتْبَاعِهِ الْأَخْيَارِ خَيْرًا عَاجِلًا وَوَاعِدٌ لَهُمْ بِعَاقِبَةِ الْخَيْرِ. وَهَذِهِ خِصَالُ الرَّجُلِ الْكَرِيمِ مَحْتِدُهُ وَبَيْتُهُ وَقَوْمُهُ، السَّخِيُّ بِالْبَذْلِ الْوَاعِدِ بِهِ وَهِيَ خِصَالٌ نَظَرَ إِلَيْهَا بَيْتُ زِيَادِ الْأَعْجَم: إنّ المساحة وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ إِلَخْ قَدْ ظَهَرَ حُسْنُ مَوْقِعِهِ بِمَا عَلِمْتُمُوهُ مِنْ وَجْهِ مَعْنَى فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ لَمَّا كَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ جِبْرِيلَ لِأَجْلِ عَدَاوَتِهِمُ الرَّسُولَ وَرَجَعَتْ بِالْآخِرَةِ إِلَى إلزامهم بعدواتهم اللَّهَ الْمُرْسِلَ، لِأَنَّ سَبَبَ الْعَدَاوَةِ هُوَ مَجِيئُهُ بِالرِّسَالَةِ تَسَنَّى أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمُرْسِلُ، وَأَعْدَاءُ رُسُلِهِ لِأَنَّهُمْ عَادُوا الرَّسُولَ، وَأَعْدَاءُ الْمَلَائِكَةِ لِذَلِكَ، فَقَدْ صَارَتْ عَدَاوَتُهُمْ جِبْرِيلَ كَالْحَدِّ الْوَسَطِ فِي الْقِيَاسِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يلْتَفت للمقدمتين بالصغرى وَالْكُبْرَى فَعَدَاوَتُهُمُ اللَّهَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى لِأَنَّهَا الْعِلَّةُ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ التَّأَمُّلِ. وَعَدَاوَتُهُمُ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى لِأَنَّهَا السَّبَبُ الْجُزْئِيُّ الْمُثْبِتُ لَهُ فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِذِكْرِ عَدَاوَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُنَا حَتَّى يُجَابَ بِأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ عَلَى حَدٍّ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاء: 80] فَإِنَّ ذَلِكَ بَعِيدٌ. وَقَدْ أثبت لَهُم عدواة الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ مَعَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَادُوا جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَادُوهُمَا عَادُوا جِبْرِيلَ لِأَجْلِ قِيَامِهِ بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ جِنْسِهِ الْمَلَكِيِّ وَهُوَ تَبْلِيغُ أَمْرِ اللَّهِ التَّكْلِيفِيِّ فَإِنَّ ذَلِكَ خَصِيصَتُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 27] كَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ إِيَّاهُ لأجل ذَلِك آئلة إِلَى عَدَاوَةِ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ إِذْ تِلْكَ طَرِيقٌ لَيْسَ جِبْرِيلُ فِيهَا بِأَوْحَدَ وَكَذَلِكَ لَمَّا عَادُوا مُحَمَّدًا لِأَجْلِ مَجِيئِهِ بِالرِّسَالَةِ لِسَبَبٍ خَاصٍّ بِذَاتِهِ، كَانَتْ عداوتهم إِيَّاه آئلة إِلَى عَدَاوَةِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ جِنْسِ الرَّسُولِ فَمَنْ عَادَى وَاحِدًا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُعَادِيَهُمْ كُلَّهُمْ وَإِلَّا كَانَ فِعْلُهُ تَحَكُّمًا لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ. وَخَصَّ جِبْرِيلَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِعِقَابِ مُعَادِيهِ وَلِيَذْكُرَ مَعَهُ مِيكَائِيلَ وَلَعَلَّهُمْ عَادَوْهُمَا مَعًا أَوْ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ رَسُولُ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ وَأَنَّ مِيكَائِيلَ رَسُولُ الْخِصْبِ وَالسَّلَامِ وَقَالُوا: نَحْنُ نُحِبُّ مِيكَائِيلَ فَلَمَّا أُرِيدُ إِنْذَارُهُمْ بِأَنَّ عَدَاوَتَهُمُ الْمَلَائِكَةَ تَجُرُّ إِلَيْهِمْ عَدَاوَةَ اللَّهِ وَأُعِيدَ ذِكْرُ جِبْرِيلَ لِلتَّنْوِيهِ بِهِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ مِيكَائِيلَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِيكَائِيلَ تُكْسِبُ الْمُؤْمِنِينَ عَدَاوَتَهُ. وَفِي مِيكَائِيلَ لُغَاتٌ: إِحْدَاهَا: (مِيكَائِيلُ) بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ وَيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُُُ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 99 إلى 101]

الثَّانِيَةُ: (مِيكَائِلُ) بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ وَبِلَا يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ. الثَّالِثَةُ: (مِيكَالُ) بِدُونِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالْعَدُوُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ وَالْهَلَاكِ وَأَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي الْبَيْتَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] وَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عَادَاهُ اللَّهُ. وَلِهَذَا ذُكِرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِهِ الظَّاهِرِ وَلَمْ يَقِلْ فَإِنِّي عَدُوٌّ أَوْ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ الظَّاهِرُ هُنَا مِنَ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْخَلِيفَةِ: «أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِكَذَا» حَثًّا عَلَى الِامْتِثَالِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ وَجِيءَ بِالْعَامِّ لِيَكُونَ دُخُولُهُمْ فِيهِ كَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ كُفْرٌ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لما قبلهَا. [99- 101] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 99 إِلَى 101] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الْبَقَرَة: 97] عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ لِذِكْرِ كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَهَاتِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ فَعَطَفَهَا عَلَى قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَفِيهِ زِيَادَةُ إِبْطَالٍ لِقَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] . وَفِي الِانْتِقَالِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِقْبَالٌ عَلَيْهِ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ عَمَّا لَقِيَ مِنْهُمْ وَأَنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ لَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا مَنْ لَا يُؤْبَهُ بِتَكْذِيبِهِ لِكَوْنِ هَذَا الْمُنَزَلِ دَلَائِلَ وَاضِحَةً لَا تُقَصِّرُ عَنْ إِقْنَاعِهِمْ بِأَحَقِّيَّتِهَا وَلَكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُوقِنُوا بِحَقِيَّتِهَا. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ فَهُنَا جُمْلَةُ قَسَمٍ وَجَوَابُهُ حَذْفُ الْقَسَمِ لِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ عَطْفٌ عَلَى لَقَدْ أَنْزَلْنا فَهُوَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ أَيْضًا.

وَالْفَاسِقُ هُوَ الْخَارِجُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ فَسَقَتِ التَّمْرَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [الْبَقَرَة: 26] وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخَارِجِ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ فِي التَّمْرَةِ وَصْفٌ مَذْمُومٌ وَقَدْ شَاعَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْيَهُودِ بِهِ، وَالْمَعْنَى مَا يَكْفُرُ بِهَاتِهِ الْآيَاتِ إِلَّا مَنْ كَانَ الْفِسْقُ شَأْنَهُ وَدَأْبَهُ لِأَن ذَلِك بهيئه لِلْكُفْرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ الْمُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ الْمُتَمَرِّدُونَ فِيهِ. وَالْإِخْبَارُ وَقَعَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ. وَالتَّوْصِيفُ وَقَعَ باسم الْفَاعِل الْمَعْرُوف بِاللَّامِ. وَقَوْلُهُ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ لَا عَلَى خُصُوصِ الْجَوَابِ وَقُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ مُحَافَظَةً عَلَى صَدَارَتِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُهَا مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ وَالْوَاوَ عَاطِفَةُ مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَحْذُوفِ عَلِمْتُمْ إِبْطَالَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ. وَتَقْدِيمُ (كُلَّمَا) تَبَعٌ لِتَقْدِيمِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [الْبَقَرَة: 87] . وَالنَّبْذُ إِلْقَاءُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِنَقْضِ الْعَهْدِ شَبَّهَ إِبْطَالَ الْعَهْدِ وَعَدَمَ الْوَفَاءِ بِهِ بِطَرْحِ شَيْءٍ كَانَ مَمْسُوكًا بِالْيَدِ كَمَا سَمَّوُا الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْعَهْدِ وَالْوَفَاءَ بِهِ تَمَسُّكًا قَالَ كَعْبٌ: وَلَا تُمْسِكُ بِالْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَتْ وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ عَهْدُ التَّوْرَاةِ أَيْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَمَلِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ أَخَذًا مُكَرَّرًا حَتَّى سُمِّيَتِ التَّوْرَاةُ بِالْعَهْدِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَهْدِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِم أَن يؤموا بِالرَّسُولِ الْمُصَدِّقِ لِلتَّوْرَاةِ. وَأُسْنِدَ النَّبْذُ إِلَى فَرِيقٍ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْعُصُورِ الَّتِي نَقَضُوا فِيهَا الْعُهُودَ كَمَا تُؤْذِنُ بِهِ (كُلَّمَا) أَوِ احْتِرَاسًا مِنْ شُمُولِ الذَّمِّ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ قَلِيلٌ مِنْهُمْ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّهُ يُوَفِّي حَقَّ خَصْمِهِ فِي الْجِدَالِ فَلَا يَنْسُبُ لَهُ الْمَذَمَّةَ إِلَّا بِتَدَرُّجٍ وَتَدَبُّرٍ قَبْلَ الْإِبْطَالِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ لِأَنَّ النَّبْذَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعَمَلِ دُونَ الْكُفْرِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ إِلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَوَكُلَّما عَطَفَ الْقِصَّةَ عَلَى الْقِصَّةِ لغرابة هاته الشؤون. وَالرَّسُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ. وَالنَّبْذُ طَرْحُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ فَهُوَ يَقْتَضِي سَبْقُ الْأَخْذِ. وَكِتَابُ اللَّهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ

[سورة البقرة (2) : آية 102]

لِأَنَّهُ الْأَتَمُّ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ. فَالنَّبْذُ عَلَى هَذَا مُرَادٌ بِهِ تَرْكَهُ بَعْدَ سَمَاعِهِ فَنَزَلَ السَّمَاعُ مَنْزِلَةَ الْأَخْذِ وَنَزَلَ الْكُفْرُ بِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ مَنْزِلَةَ النَّبْذِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةُ وَأَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى تَرْجِيحِهِ بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّ النَّبْذَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ أَخْذِ الْمَنْبُوذِ وَهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِالْقُرْآنِ، وَالْأَصْلُ فِي إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَقِيلَ الْمَعْرِفَةُ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً كَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي إِعَادَةِ الِاسْمِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، أَوْ تَجْعَلُ النَّبْذَ تَمْثِيلًا لِحَالِ قِلَّةٍ اكْتِرَاثَ الْمُعْرِضِ بِالشَّيْءِ فَلَيْسَ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: وَراءَ ظُهُورِهِمْ تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ لِأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ تَجَاوَزَهُ فَخَلَّفَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَإِضَافَةُ الْوَرَاءِ إِلَى الظَّهْرِ لِتَأْكِيدِ بُعْدِ الْمَتْرُوكِ بِحَيْثُ لَا يَلْقَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجُعِلَ لِلظَّهْرِ وَرَاءً وَإِنْ كَانَ هُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْوَرَاءِ. فَالْإِضَافَةُ كَالْبَيَانِيَّةِ وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْلُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُمْ طَرَحُوا كِتَابَ اللَّهِ أَمَامَهُمْ لِأَنَّ الَّذِي وَرَاءَ الظَّهْرِ هُوَ الْوَجْهُ وَكَمَا أَنَّ الظَّهْرَ خَلْفٌ لِلْوَجْهِ كَذَلِكَ الْوَجْهَ وَرَاءٌ لِلظَّهْرِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَيْ بِذِكْرِ الظَّهْرِ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى وَرَاءٍ كَقَوْلِهِمْ مِنْ وَرَاءِ وَرَاءٍ. وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ أَوْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّوْرَاةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. [102] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 102] وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 101] الْآيَةَ بِذِكْرِ خَصْلَةٍ لَهُمْ عَجِيبَةٍ وَهِيَ أَخْذُهُمْ بِالْأَبَاطِيلِ بَعْدَ ذِكْرِ خَصْلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نَبْذُهُمْ لِلْكِتَابِ الْحَقِّ، فَذَلِكَ هُوَ مُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 101] الْقُرْآنَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ نَبَذُوا كِتَابَهُ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالتَّوْرَاةِ فَلَا يَتَّبِعُونَ مَا خَالَفَ أَحْكَامَهَا وَقَدِ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلتَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ السِّحْرِ وَالشِّرْكِ فَكَمَا قِيلَ لَهُمْ فِيمَا مَضَى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 85] يُقَالُ لَهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ تَارَةً وَتَكْفُرُونَ بِهِ تَارَةً أُخْرَى.

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةَ فَالْمَعْنَى لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَبَذُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ هَذَا الرَّسُولِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ نَبَذُوهَا مِنْ قَبْلُ حِينَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَن سُلَيْمَان نبيء وَمَا هُوَ بنبيء وَلَكِنَّهُ سَاحِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. والشَّياطِينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا شَيَاطِينَ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَاسٌ تَمَرَّدُوا وَكَفَرُوا وَأَتَوْا بِالْفَظَائِعِ الْخَفِيَّةِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: 112] وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ يُدَرِّسُونَهُ لِلنَّاسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا إِذْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْإِخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنِ الْإِنْسِ لِأَنَّ كُفْرَ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْجِنِّ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا يَحْتَاجُ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ فَكَتَبُوا أَصْنَافًا مِنَ السِّحْرِ وَقَالُوا: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَفْعَلْ كَذَا لِأَصْنَافٍ مِنَ السِّحْرِ وَخَتَمُوهُ بِخَاتَمٍ يُشْبِهُ نَقْشَ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ وَدَفَنُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّ سُلَيْمَانَ دَفَنَهُ وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَدْفِنَهُ وَدَلُّوا النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا كَانَ سُلَيْمَانُ إِلَّا سَاحِرًا وَمَا تَمَّ لَهُ الْمُلْكُ إِلَّا بِهَذَا. وَقِيلَ كَانَ آصَفُ ابْن بَرَخْيَا (¬1) كَاتِبُ سُلَيْمَانَ يَكْتُبُ الْحِكْمَةَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُ كُتُبَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ لِتَجِدَهَا الْأَجْيَالُ فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَغَرْتِ الشَّيَاطِينُ النَّاسَ عَلَى إِخْرَاجِ تِلْكَ الْكُتُبِ وَزَادُوا فِي خِلَالِ سُطُورِهَا سِحْرًا وَكُفْرًا وَنَسَبُوا الْجَمِيعَ لِسُلَيْمَانَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَفَرَ سُلَيْمَانُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَعَ سَبَبِ نُزُولِهَا- إِنْ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبٍ- أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَاتَ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَمْلَكَةُ يَهُوذَا وَمَلِكُهَا رَحْبَعَامُ ابْن سُلَيْمَانَ جَعَلُوهُ مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ سَئِمَتْ مُلْكَ سُلَيْمَانَ لِحَمْلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى ¬

(¬1) آصف بن برخيا يعده مؤرخو الْمُسلمين وزيرا لِسُلَيْمَان حكيما كَبِيرا وَلذَلِك ضربوا بِهِ الْأَمْثَال للسياسيين الناصحين وَلَكِن هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي كتب الإسرائيليين وَالْمَعْرُوف عِنْدهم آسَف بن برخيا أحد أَئِمَّة المغنين عِنْد دَاوُد الْملك وينسب إِلَيْهِ وضع بعض المزامير والأغاني المقدسة. فَلَعَلَّهُ قد عَاشَ إِلَى زمن سُلَيْمَان فاتخذه وزيرا لِأَنَّهُ من خَواص أَبِيه وَإِن لم يذكر هَذَا «لاروس» وَلَا «البستاني» .

مَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ فَجَاءَتْ أَعْيَانُهُمْ وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ يَرْبَعَامُ بْنُ نَبَاطَ مَوْلَى سُلَيْمَانَ لِيُكَلِّمُوا رَحْبَعَامَ قَائِلِينَ: إِنَّ أَبَاكَ قَاسٍ عَلَيْنَا وَأَمَّا أَنْتَ فَخَفِّفْ عَنَّا مِنْ عُبُودِيَّةِ أَبِيكَ لِنُطِيعَكَ فَأَجَابَهُمُ اذْهَبُوا ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيَّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَاسْتَشَارَ رَحْبَعَامُ أَصْحَابَ أَبِيهِ وَوُزَرَاءَهُ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِمُلَايَنَةِ الْأُمَّةِ لِتُطِيعَهُ. وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْفِتْيَانِ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِلْأُمَّةِ إِنَّ خِنْصَرِي أَغْلَظُ مِنْ مَتْنِ أَبِي فَإِذَا كَانَ أَبِي قَدْ أَدَّبَكُمْ بِالسِّيَاطِ فَأَنَا أُؤَدِّبُكُمْ بِالْعَقَارِبِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَأَجَابَهُمْ بِمَا أَشَارَ بِهِ الْأَحْدَاثُ خَلَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ طَاعَتَهُ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ يَرْبَعَامَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى طَاعَةِ رَحْبَعَامَ إِلَّا سبطا يهوذا وبنيامن وَاعْتَصَمَ رَحْبَعَامُ بِأُورَشْلِيمَ وَكُلُّ أُمَّتِهِ لَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ مُحَارِبٍ يَعْنِي رِجَالًا قَادِرِينَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَانْقَسَمَتِ المملكة من يَوْمئِذٍ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ مَمْلَكَةُ يَهُوذَا وَقَاعِدَتُهَا أُورَشْلِيمُ، وَمَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ وَمَقَرُّهَا السَّامِرَةُ، وَذَلِكَ سَنَةَ 975 قَبْلَ الْمَسِيحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [الْبَقَرَة: 62] الْآيَةَ وَلَا يَخْفَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالَةُ أُمَّةٍ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ فَإِنَّ خُصُومَ رَحْبَعَامَ لَمَّا سَلَبُوا مِنْهُ الْقُوَّةَ الْمَادِّيَّةَ لَمْ يَغْفُلُوا عَمَّا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْأَدَبِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ ابْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ وَالنُّبُوءَةِ وَالسُّمْعَةِ الْحَسَنَةِ فَلَمْ يَأْلُ أَعْدَاؤُهُ جُهْدَهُمْ مِنْ إِسْقَاطِ هَاتِهِ الْقُوَّةِ الْأَدَبِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنِ اجْتَمَعَ مُدَبِّرُو الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَضَعُوا أَكَاذِيبَ عَنْ سُلَيْمَانَ يَبُثُّونَهَا فِي الْعَامَّةِ ليقضوا بهَا وَطَرِيق أَحَدُهُمَا نِسْبَةُ سُلَيْمَانَ إِلَى السِّحْرِ وَالْكُفْرِ لِتَنْقِيصِ سُمْعَةِ ابْنِهِ رَحْبَعَامَ كَمَا صَنَعَ دُعَاةُ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ فِيمَا وَضَعُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَالثَّانِي تَشْجِيعُ الْعَامَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ مُلْكَ سُلَيْمَانَ وَابْنِهِ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ ابْنِهِ بِأَنَّ سُلَيْمَانَ مَا تَمَّ لَهُ الْمُلْكُ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَسْحَارِ وَالطَّلَاسِمِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا ظَفِرُوا بِهَا فَإِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُؤَسِّسُوا مُلْكًا يُمَاثِلُ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَمَا صَنَعَ دُعَاةُ انْقِلَابِ الدُّوَلِ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ مِنْ وَضْعِ أَحَادِيثِ انْتِظَارِ الْمَهْدِيِّ وَكَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ بَثِّ أَخْبَارٍ عَنِ الصَّالِحِينَ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ زَوَالِ الدَّوْلَةِ. وَلَا يَخْفَي مَا تُثِيرُهُ هَذِهِ الْأَوْهَامُ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَزْمِ بِنَجَاحِ السَّعْيِ وَجَعْلِهِمْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ خَيْبَةِ أَعْمَالِهِمْ وَلَحَاقِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ فَإِذَا قُضِيَ الْوَطَرُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ الْتَصَقَ أَثَرُهُ فِي النَّاسِ فَيَبْقَى ضُرُّ ضَلَالِهِ بَعْدَ اجْتِنَاءِ ثِمَارِهِ. وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْمَشْيُ وَرَاءَ الْغَيْرِ وَيَكُونُ مَجَازًا فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ وَبِرَأْيهِ وَفِي الِاعْتِقَادِ بِاعْتِقَادِ الْغَيْرِ تَقُولُ اتَّبَعَ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَاتَّبَعَ عَقِيدَةَ الْأَشْعَرِيِّ، وَالِاتِّبَاعُ هُنَا مَجَازٌ

لَا مَحَالَةَ لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ اتِّبَاعُهُ حَقِيقَةً. وَالتِّلَاوَةُ قِرَاءَةُ الْمَكْتُوبِ وَالْكِتَابِ وَعَرْضِ الْمَحْفُوظِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ (¬1) [الزمر: 71] فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَضَمُّنِهِ مَعْنَى تَكْذِبُ أَيْ تَتْلُو تِلَاوَةَ كَذِبٍ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ كَمَا يُقَال يقوّل عَلَى فُلَانٍ أَيْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَإِنَّمَا فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ حَرْفِ (عَلَى) . وَالْمُرَادُ بِالْمُلْكِ هُنَا مُدَّةُ الْمُلْكِ أَوْ سَبَبُ الْمُلْكِ بِقَرِينَةِ أَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمُلْكِ وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ وَقَعَ هَذَا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: وَمَا هِيَ إِلَّا فِي إِزَارٍ وَعِلْقَةٍ ... مُغَارَ ابْنِ هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا (¬2) يُرِيدُ أَزْمَانَ مُغَارِ ابْنِ هَمَّامٍ. وَكَذَلِكَ حَذَفَ الْمُضَافَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْحَوَادِثَ أَوِ الْأَسْبَابَ كَمَا تَقُولُ تَكَلَّمَ فُلَانٌ عَلَى خِلَافَةِ عُمَرَ أَوْ هَذَا كِتَابٌ فِي مُلْكِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ إِذَا اشْتُهِرَ بِصِفَةٍ أَوْ قِصَّةٍ صَحَّ إِطْلَاقُهُ وَإِرَادَةُ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوِ الْقِصَّةِ بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَتْ لَكَانَتْ مُضَافَةً إِلَى الِاسْمِ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ أَرَادَ مَتَاعِبَ لَيْلٍ لِأَنَّ اللَّيْلَ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أَهْلِ الْغَرَامِ بِأَنَّهُ وَقْتُ الشَّوْقِ وَالْأَرَقِ. وَالشَّيَاطِينُ قِيلَ أُرِيدَ بِهَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ أَيِ الْمُضَلِّلُونَ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: أُرِيدَتْ شَيَاطِينَ الْجِنِّ. وَأَلْ لِلْجِنْسِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيَاطِينِ أَهْلُ الْحِيَلِ وَالسَّحَرَةُ كَمَا يَقُولُونَ فُلَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ وَقَدْ عُدَّ مِنْ أُولَئِكَ نَاشِبٌ الْأَعْوَرُ أَحَدُ رِجَالِ يَوْمِ الوقيط. وَقَوله: تَتْلُوا جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجَمَاعَةُ، أَوْ هُوَ مُضَارِعٌ عَلَى بَابِهِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمْ أَحْبَارُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتْلُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا اعْتَقَدُوا مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَلَمْ تَزَلْ تَتْلُوهُ. وَسُلَيْمَانُ هُوَ النَّبِيءُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ يَسِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وُلِدَ سَنَةَ 1032 اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَتُوُفِّيَ فِي أُورَشْلِيمَ سَنَةَ 975 خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَوَلِيَُُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة آياتي وَهُوَ خطأ. (مصححه) . (¬2) الْعلقَة بِكَسْر الْعين قَمِيص بِلَا كمين وَهُوَ أول ثوب يتَّخذ للصبيان.

مُلْكَ إِسْرَائِيلَ سَنَةَ 1014 أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ دَاوُدَ النَّبِيءِ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَعَظُمَ مُلْكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مُدَّتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمُقَدّس وَكَانَ نبيئا حَكِيمًا شَاعِرًا وَجَعَلَ لِمَمْلَكَتِهِ أُسْطُولًا بَحْرِيًّا عَظِيمًا كَانَتْ تَمْخُرُ سُفُنُهُ الْبِحَارَ إِلَى جِهَاتٍ قَاصِيَةٍ مِثْلَ شَرْقِ إِفْرِيقْيَا. وَقَوْلُهُ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أَثَارَ اعْتِرَاضُهَا مَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْله: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مِنْ مَعْنَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى سُلَيْمَانَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكُفْرِ فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَاتَّبَعُوا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِنَّ كَانَ وَما أُنْزِلَ مَعْطُوفًا على مَا تَتْلُوا وَبَيْنَ اتَّبَعُوا وَبَيْنَ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ إِلَخْ إِنْ كَانَ وَما أُنْزِلَ مَعْطُوفًا عَلَى السِّحْرِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى وَاتَّبَعُوا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حِينَئِذٍ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ لِأَنَّ مَآلَهُ وَاتَّبَعُوا وَكَفَرُوا وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ نَفْيَ كُفْرِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ تَعْجِيلًا بِإِثْبَاتِ نَزَاهَتِهِ وَعِصْمَتِهِ وَلِأَنَّ اعْتِقَادَ كُفْرِهِ كَانَ سَبَبَ ضَلَالٍ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا كَتَبَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الْأَتْبَاعِ وَحُكْمَ الْمَتْبُوعِينَ وَاحِدٌ فَكَانَ خَبَرًا عَنِ الْيَهُودِ كَذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ سُلَيْمَانَ فِي كُتُبِهِمْ فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ أَنَّ سُلَيْمَانَ فِي زَمَنِ شَيْخُوخَتِهِ أَمَالَتْ نِسَاؤُهُ الْمِصْرِيَّاتُ وَالصَّيْدَوِنِيَّاتُ وَالْعَمُونِيَّاتُ قَلْبَهُ إِلَى آلِهَتِهِنَّ مِثْلَ (عَشْتَرُوتَ) إِلَهِ الصَّيدَوَنِيِّينَ (وَمُولُوكَ) إِلَهِ الْعَمُونِيِّينَ (الْفِينِيقِيِّينَ) وَبَنَى لِهَاتِهِ الْآلِهَةِ هَيَاكِلَ فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنْ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَوْصَاهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ آلِهَةً أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كَفَرُوا وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ تَشْنِيعُ حَالِ كُفْرِهِمْ إِذْ كَانَ مَصْحُوبًا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَهِيَ حَالٌ مُؤَسِّسَةٌ. وَالسِّحْرُ الشَّعْوَذَةُ وَهِيَ تَمْوِيهُ الْحِيَلِ بِإِخْفَائِهَا تَحْتَ حَرَكَاتٍ وَأَحْوَالٍ يَظُنُّ الرَّائِي أَنَّهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ مَعَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَفِيَ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الْحجر: 14، 15] وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ السِّحْرُ عَلَى الْخَدِيعَةِ تَقُولُ: سَحَرْتُ الصَّبِيَّ إِذَا عَلَلْتَهُ بِشَيْءٍ، قَالَ لَبِيدٌ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فِإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا عُلِمَ ظَاهِرُهُ وَخَفِيَ سَبَبُهُ وَهُوَ التَّمْوِيهُ وَالتَّلْبِيسُ وَتَخَيُّيلُ غَيْرِ الْوَاقِعِ وَاقِعًاُُ

وَتَرْوِيجُ الْمُحَالِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَنْزٌ مَسْحُورَةٌ إِذَا عَظُمَ ضَرْعُهَا وَقَلَّ لَبَنُهَا وَأَرْضٌ مَسْحُورَةٌ لَا تَنْبُتُ، قَالَ أَبُو عَطاء: فو الله مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَصَادِقٌ ... أَدَاءٌ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أَمْ سِحْرُ أَيْ شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. وَالْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغِيلَانَ سَحَرَةُ الْجِنِّ لِمَا تَتَشَكَّلُ بِهِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَتَعْرِضُهَا لِلْإِنْسَانِ. وَالسِّحْرُ مِنَ الْمَعَارِفِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي منبع المدنية الْأُولَى أَعْنِي بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ فَإِنَّهُ ظَهَرَ فِي بِلَادِ الْكَلْدَانِ وَالْبَابِلِيِّنَ وَفِي مِصْرَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الْأَرْبَعِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي تَيْنِكَ الْأُمَّتَيْنِ مِنْ تعاليم قوم نشأوا قَبْلَهُمَا فَقَدْ وُجِدَتْ آثَارٌ مِصْرِيَّةٌ سِحْرِيَّةٌ فِي عَصْرِ الْعَائِلَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ وَالْعَائِلَةِ السَّادِسَةِ (3951- 3703) ق. م. وَلِلْعَرَبِ فِي السِّحْرِ خَيَالٌ وَاسِعٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ السِّحْرَ يُقَلِّبُ الْأَعْيَانَ وَيُقَلِّبُ الْقُلُوبَ وَيُطَوِّعُ الْمَسْحُورَ لِلسَّاحِرِ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْغُولَ سَاحِرَةُ الْجِنِّ وَلِذَلِكَ تَتَشَكَّلُ لِلرَّائِي بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَمَّا رَأَوْا مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الْحجر: 14، 15] . وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ الْقَوْمَ عَطِشُوا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَطَلَبُوا الْمَاءَ فَوَجَدُوا امْرَأَةً عَلَى بَعِيرٍ لَهَا مَزَادَاتَانِ مِنْ مَاءٍ فَأَتَيَا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَقَى رَسُولُ اللَّهِ جَمِيعَ الْجَيْشِ ثُمَّ رَدَّ إِلَيْهَا مَزَادَتَيْهَا كَامِلَتَيْنِ فَقَالَت لقومها: فو الله إِنَّهُ لَأَسْحَرُ مَنْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، تَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» . وَلَمْ أَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ السِّحْرَ فَإِنَّ السِّحْرَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ خَصَائِصِ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ ضَلَاعَةٌ فِي الْأُمُورِ الْيَدَوِيَّةِ بَلْ كَانَتْ ضَلَاعَتُهُمْ فِكْرِيَّةً مَحْضَةً، وَكَانَ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسِّحْرِ الْيَهُودَ وَالصَّابِئَةَ وَهُمْ أَهْلُ بَابِلَ، وَمَسَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ هَؤُلَاءِ بِالسِّحْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدِ اعْتَقَدَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ فِي يَثْرِبَ سَحَرُوهُمْ فَلَا يُولَدُ لَهُمْ فَلِذَلِكَ اسْتَبْشَرُوا لَمَّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْثُرْ ذِكْرُ السِّحْرِ بَيْنَُُ

الْعَرَبِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِذْ قَدْ كَانَ فِيهَا الْيَهُودُ وَكَانُوا يُوهِمُونَ بِأَنَّهُمْ يَسْحَرُونَ النَّاسَ. وَيُدَاوِي مِنَ السِّحْرِ الْعَرَّافُ وَدَوَاءُ السِّحْرِ السَّلْوَةُ وَهِيَ خَرَزَاتٌ مَعْرُوفَةٌ تُحَكُّ فِي الْمَاءِ وَيُشْرَبُ مَاؤُهَا. وَوَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ النَّهْيُ عَنِ السِّحْرِ فَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ خِصَالِ الشِّرْكِ وَقَدْ وَصَفَتِ التَّوْرَاةُ بِهِ أَهْلَ الْأَصْنَامِ فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الْإِصْحَاحِ 18 «إِذَا دَخَلْتَ الْأَرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لَا تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ لَا يُوجَدُ فِيكَ مَنْ يَزُجُّ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ وَلَا مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً وَلَا عَائِفٌ وَلَا مُتَفَائِلٌ وَلَا سَاحِرٌ وَلَا مَنْ يَرْقَى رُقْيَةً وَلَا مَنْ يَسْأَلُ جَانًّا أَوْ تَابِعَةً وَلَا مَنْ يَسْتَشِيرُ الْمَوْتَى لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الرَّبِّ» . وَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ الْإِصْحَاحِ 20 « (6) وَالنَّفْسُ الَّتِي تَلْتَفِتُ إِلَى الْجَانِّ وَإِلَى التَّوَابِعِ لِتَزْنِيَ وَرَاءَهُمْ أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ تِلْكَ النَّفْسِ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شِعْبِهَا (27) وَإِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ جَانٌّ أَوْ تَابِعَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِجَارَةِ يَرْجُمُونَهُ دَمُهُ عَلَيْهِ» . وَكَانُوا يَجْعَلُونَهُ أَصْلًا دِينِيًّا لِمُخَاطَبَةِ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى وَتَسْخِيرِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ الْأَمْرَاضِ وَقَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فِي بَلَدِ الْكَلْدَانِ وَخَلَطُوهُ بِعُلُومِ النُّجُومِ وَعِلْمِ الطِّبِّ. وَأَرْجَعَ الْمِصْرِيُّونَ الْمَعَارِفَ السِّحْرِيَّةَ إِلَى جُمْلَةِ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ الَّتِي أَفَاضَهَا عَلَيْهِمْ «طُوطٌ» الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِدْرِيسُ وَهُوَ هَرْمَسَ عِنْدَ الْيُونَانِ. وَقَدِ اسْتَخْدَمَ الْكَلْدَانُ وَالْمِصْرِيُّونَ فِيهِ أَسْرَارًا مِنَ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ قَصْدًا لِإِخْرَاجِ الْأَشْيَاءِ فِي أَبْهَرِ مَظَاهِرِهَا حَتَّى تَكُونَ فَاتِنَةً أَوْ خَادِعَةً وَظَاهِرَةً، كَخَوَارِقِ عَادَاتٍ، إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ وَبَعْدَ ضَلَالِهِمْ عَنِ الْمَقْصِدِ الْعِلْمِيِّ مِنْهُ فَصَارَ عِبَارَةً عَنِ التَّمْوِيهِ وَالتَّضْلِيلِ وَإِخْرَاجِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، أَوِ الْقَبِيحِ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ أَوِ الْمُضِرِّ فِي صُورَةِ النَّافِعِ. وَقَدْ صَارَ عِنْدَ الْكَلْدَانِ وَالْمِصْرِيِّينَ خَاصِّيَّةً فِي يَدِ الْكَهَنَةِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ فِي ذَوَاتِهِمُ الرِّئَاسَةَ الدِّينِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ فَاتَّخَذُوا قَوَاعِدَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ لِتَسْخِيرِ الْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ وَإِخْضَاعِهِمْ بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى عِلَاجِ الْأَمْرَاضِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الضَّمَائِرِ بِوَاسِطَةِ الْفِرَاسَةِ وَالتَّأْثِيرِ بِالْعَيْنِ وَبِالْمَكَائِدِ. وَقَدْ نَقَلَتْهُ الْأُمَمُ عَنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ وَأَكْثَرُ مَا نَقَلُوهُ عَنِ الْكَلْدَانِيِّينَ فَاقْتَبَسَهُ مِنْهُمُ السُّرْيَانُ (الْأَشُورِيُّونَ) وَالْيَهُودُ وَالْعَرَبُ وَسَائِرُ الْأُمَمِ الْمُتَدَيِّنَةِ وَالْفُرْسُ وَالْيُونَانُ وَالرُّومَانُ.

وَأُصُولُ السِّحْرِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: زَجْرُ النُّفُوسِ بِمُقْدِمَاتٍ تَوْهِيمِيَّةٍ وَإِرْهَابِيَّةٍ بِمَا يَعْتَادُهُ السَّاحِرُ مِنَ التَّأْثِيرِ النَّفْسَانِيِّ فِي نَفْسِهِ وَمِنَ الضَّعْفِ فِي نَفْسِ الْمَسْحُورِ وَمِنْ سَوَابِقَ شَاهَدَهَا الْمَسْحُورُ وَاعْتَقَدَهَا فَإِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ السَّاحِرُ سُخِّرَ لَهُ وَإِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الْأَعْرَاف: 116] . الثَّانِي: اسْتِخْدَامُ مُؤَثِّرَاتٍ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى خَصَائِصَ طَبِيعِيَّةٍ كَخَاصِّيَّةِ الزِّئْبَقِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقَاقِيرُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْعُقُولِ صَلَاحًا أَوْ فَسَادًا وَالْمُفْتِرَةُ لِلْعَزَائِمِ وَالْمُخَدِّرَاتُ وَالْمُرْقِدَاتُ عَلَى تَفَاوُتِ تَأْثِيرِهَا، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ [طه: 69] . الثَّالِثُ: الشَّعْوَذَةُ وَاسْتِخْدَامُ خَفَايَا الْحَرَكَةِ وَالسُّرْعَةِ وَالتَّمَوُّجِ حَتَّى يُخَيَّلَ الْجَمَادُ مُتَحَرِّكًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] . هَذِهِ أَصُولُ السِّحْرِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَقَدْ قَسَّمَهَا الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ» إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ وَفِي بَعْضِهَا تَدَاخَلٌ. وَلِعُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ تَقْسِيمٌ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ جَدْوَى. وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا أَعْمَالٌ مُبَاشِرَةٌ لِلْمَسْحُورِ وَمُتَّصِلَةٌ بِهِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ قَابِلِيَّةِ نَفْسِهِ الضَّعِيفَةِ وَهُوَ لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَهُوَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِي إِثْبَاتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْمَزَاعِمِ هُوَ شَيْءٌ لَا أَثَرَ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لَا مُبَاشَرَةَ لَهُ بِذَاتِ مَنْ يُرَادُ سِحْرُهُ وَيَكُونُ غَائِبًا عَنْهُ فَيَدَّعِي أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَهَذَا مِثْلَ رَسْمِ أَشْكَالٍ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالطَّلَاسِمِ، أَوْ عَقْدِ خُيُوطٍ وَالنَّفْثُ عَلَيْهَا بَرُقْيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِنْجَادَ بِالْكَوَاكِبِ أَوْ بِأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ وَآلِهَةِ الْأَقْدَمِينَ، وَكَذَا كِتَابَةُ اسْمِ الْمَسْحُورِ فِي أَشْكَالٍ، أَوْ وَضْعِ صُورَتِهِ أَوْ بَعْضِ ثِيَابِهِ وَعَلَائِقِهِ وَتَوْجِيهِ كَلَامٍ إِلَيْهَا بِزَعْمِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ ذَاتِ الْمَسْحُورِ، أَوْ يَسْتَعْمِلُونَ إِشَارَاتٍ خَاصَّةً نَحْوَ جِهَتِهِ أَوْ نَحْوَ بَلَدِهِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْأَرْصَادِ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْقَبَسِ» أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَشَارَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُصْبُعِهِ فِي التَّشَهُّدِ قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ يَسْحَرُ النَّاسَ، أَوْ جَمْعِ أَجْزَاءٍ مُعَيَّنَةٍ وَضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ مَعَ نِيَّةٍ أَنَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ أَوِ الْجَمْعَ لِتَأْثِيرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِضُرٍّ أَوْ خَيْرٍ أَوْ مَحَبَّةٍ أَوْ بُغْضَةٍ

أَوْ مَرَضٍ أَوْ سَلَامَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُرِنَ بِاسْمِ الْمَسْحُورِ وَصُورَتِهِ أَوْ بِطَالِعِ مِيلَادِهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ التَّوَهُّمَاتِ وَلَيْسَ عَلَى تَأْثِيرِهَا دَلِيلٌ مِنَ الْعَقْلِ وَلَا مِنَ الطَّبْعِ وَلَا مَا يُثْبِتُهُ مِنَ الشَّرْعِ، وَقَدِ انْحَصَرَتْ أَدِلَّةُ إِثْبَاتِ الْحَقَائِقِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْفَخْرَ فِي «التَّفْسِيرِ» حَاوَلَ إِثْبَاتَهُ بِمَا لَيْسَ بِمُقْنِعٍ. وَقَدْ تَمَسَّكَ جَمَاعَةٌ لِإِثْبَاتِ تَأْثِيرِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ بِمَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» - عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَلَكَيْنِ أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ السِّحْرِ، وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مِثْلَهُ مُخْتَصَرًا، وَيَنْبَغِي التَّثَبُّتُ فِي عِبَارَاتِهِ ثُمَّ فِي تَأْوِيلِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَبِيدًا حَاوَلَ أَنْ يَسْحَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ سَحَرَةً فِي الْمَدِينَةِ وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ لَبِيدٌ لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إِبْطَالِ سِحْرِ لَبِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّهُ نَبِيءٌ لَا تَلْحَقُهُ أَضْرَارُهُمْ وَكَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ سِحْرُ السَّحَرَةِ عَلَى مُوسَى كَذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ سِحْرُ لَبِيدٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا عَرَضَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِضٌ جَسَدِيٌّ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ فَصَادَفَ أَنْ كَانَ مُقَارَنًا لِمَا عَمِلَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ مِنْ مُحَاوَلَةِ سِحْرِهِ وَكَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْبَاءً من الله لما بِمَا صَنَعَ لَبِيدٌ، وَالْعِبَارَةُ عَنْ صُورَةِ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَانَتْ مُجْمَلَةً فَإِنَّ الرَّأْيَ رُمُوزٌ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْخَبَرِ تَعْبِيرُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ أَصْلًا لِتَفْصِيلِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ إِنَّ لِتَأْثِيرِ هَاتِهِ الْأَسْبَابِ أَوِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ شُرُوطًا وَأَحْوَالًا بَعْضُهَا فِي ذَاتِ السَّاحِرِ وَبَعْضُهَا فِي ذَاتِ الْمَسْحُورِ، فَيَلْزَمُ فِي السَّاحِرِ أَنْ يَكُونَ مُفْرِطَ الذَّكَاءِ مُنْقَطِعًا لِتَجْدِيدِ الْمُحَاوَلَاتِ السِّحْرِيَّةِ جَسُورًا قَوِيَّ الْإِرَادَةِ كَتُومًا لِلسِّرِّ قَلِيلَ الِاضْطِرَابِ لِلْحَوَادِثِ سَالِمَ الْبِنْيَةِ مُرْتَاضَ الْفِكْرِ خَفِيَّ الْكَيْدِ وَالْحِيلَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ غَالِبُ السَّحَرَةِ رِجَالًا وَلَكِنْ كَانَ الْحَبَشَةُ يَجْعَلُونَ السَّوَاحِرَ نِسَاءً وَكَذَلِكَ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: 4] فَجَاءَ بِجَمْعِ الْإِنَاثِ وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ إِنَّ الْغِيلَانَ عَجَائِزُ مِنَ الْجِنِّ سَاحِرَاتٌ فَلِذَلِكَ تَسْتَطِيعُ التَّشَكُّلَ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَانَ مُعَلِّمُو السِّحْرِ يَمْتَحِنُونَ صَلَاحِيَةَ تَلَامِذَتِهِمْ لِهَذَا الْعِلْمِ بِتَعْرِيضِهِمْ لِلْمَخَاوِفِ وَأَمْرِهِمْ بِارْتِكَابِ الْمَشَاقِّ تَجْرِبَةً لِمِقْدَارِ عَزَائِمِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ. وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ فِي الْمَسْحُورِ فَخَوْرُ الْعَقْلِ، وَضعف الْعَزِيمَة، ولطاقة الْبِنْيَةِ، وَجَهَالَةُ الْعَقْلِ،

وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ قَابِلِيَّةً لَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْعَامَّةُ وَمَنْ يَتَعَجَّبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَصُولِ السِّحْرِ إِلْقَاءُ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ عَلَى الْمَسْحُورِ لِاخْتِبَارِ مِقْدَارِ عَقْلِهِ فِي التَّصْدِيقِ بِالْأَشْيَاءِ الْوَاهِيَةِ وَالثِّقَةِ بِالسَّاحِرِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود: 7] فَجَعَلُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ الْغَرِيبَ سِحْرًا. ثُمَّ تَحُفُّ بِالسِّحْرِ أَعْمَالٌ، الْقَصْدُ مِنْهَا التَّمْوِيهُ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ أَنْوَاعٌ: نَوْعٌ: الْغَرَضُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ اعْتِقَادِ السَّاحِرِ فِي نَجَاحِ عَمَلِهِ لِتَقْوَى عَزِيمَتُهُ فَيَشْتَدُّ تَأْثِيرُهُ عَلَى النُّفُوسِ وَهَذَا مِثْلُ تَلْقِينِ مُعَلِّمِي هَذَا الْفَنِّ تَلَامِذَتَهُمْ عِبَادَةَ كَوَاكِبَ وَمُنَاجَاتِهَا لِاسْتِخْدَامِ أَرْوَاحِهَا وَالِاسْتِنْجَادِ بِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ عَلَى اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ وَالْقُوَى الْمُتَعَاصِيَةِ لِيَعْتَقِدَ الْمُتَعَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَجَاحِ عَمَلِهِ فَيُقْدِمَ عَلَيْهِ بِعَزْمٍ، وَفِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ نَفْسَانِيٌّ عَجِيبٌ وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ وَالْمُنَاجَاةَ عَزَائِمَ- جَمْعُ عَزِيمَةٍ- وَيَقُولُونَ فُلَانٌ يَعْزِمُ إِذَا كَانَ يَسْحَرُ، ثُمَّ هُوَ إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَعْرِفَةَ قَدْ يَتَفَطَّنُ لِقِلَّةِ جَدْوَى تِلْكَ الْعَزَائِمِ وَقَدْ يَتَفَطَّنُ وَعَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ فَمُعَلِّمُوهُ لَا يَتَعَرَّضُونَ لَهُ فِي نِهَايَةِ التَّعْلِيمِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُدْخِلُوا عَلَيْهِ الشُّكُوكَ فِي مَقْدِرَتِهِ، فَلِذَلِكَ بَقِيَتْ تِلْكَ الْأَوْهَامُ يَتَلَقَّاهَا الْأَخْلَافُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ ضُرُوبٌ هِيَ فِي الْأَصْلِ تَجَارِبُ لِمِقْدَارِ طَاعَةِ الْمُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ بَقِيَتْ مُتَلَقَّاةً عِنْدَهُمْ عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِثْلَ ارْتِكَابِ الْخَبَائِثِ وَإِهَانَةِ الصَّالِحَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُقَدَّسَةِ إِيهَامًا بِأَنَّهَا تُبَلِّغُ إِلَى مَرْضَاةِ الشَّيَاطِينِ وَتَسْخِيرِهَا، وَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ اخْتِبَارٌ لِمِقْدَارِ خُضُوعِ الْمُتَعَلِّمِ، لِأَنَّ أَكْبَرَ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ نَبْذُ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الدِّينُ، وَلِأَنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا مِنَ الْمِلِّيِّينَ فَهُمْ يَبْلُغُونَ بِمُرِيدِيهِمْ إِلَى مَبَالِغِهِمُ السَّافِلَةِ، وَقَدْ سَمِعْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَوْنَ السِّحْرَ فِي الْمُسْلِمِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَتَأَتَّى لَهُمْ نَجَاحٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُلَطِّخُوا أَيْدِيَهُمْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ نَحْوٍ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ. وَنَوْعٌ: الْغَرَضُ مِنْهُ إِخْفَاءُ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ لِتَمْوِيهَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَى كُنْهِهَا، فَيَسْتَنِدُونَ فِي تَعْلِيلِ أَعْمَالِهِمْ إِلَى أَسْبَابٍ كَاذِبَةٍ كَنِدَائِهِمْ بِأَسْمَاءٍ سَمَّوْهَا لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا وَوَضْعِهِمْ أَشْكَالًا عَلَى الْوَرَقِ أَوْ فِي الْجُدْرَانِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا خَصَائِصَ التَّأْثِيرِ، وَاسْتِنَادِهِمْ لِطَوَالِعِ كَوَاكِبَ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَا سِيَّمَا الْقَمَرِ، وَمِنْ هَذَا تَظَاهُرُهُمْ لِلنَّاسِ بِمَظْهَرِ الزُّهْدِ وَالْهِمَّةِ. وَنَوْعٌ: يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى نُفُوذِ السِّحْرِ وَهُوَ التَّجَسُّسُ وَالتَّطَلُّعُ عَلَى خَفَايَا الْأَشْيَاءِ وَأَسْرَارِ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ السَّعْيِ بِالنَّمِيمَةِ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَاتِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ وَالْأَزْوَاجِ

حَتَّى يُفْشِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ سِرَّ الْآخَرِ فَيَتَّخِذَ السَّاحِرُ تِلْكَ الْأَسْرَارَ وَسِيلَةً يُلْقِي بِهَا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا بِإِظْهَارِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَالضَّمَائِرَ، ثُمَّ هُوَ يَأْمُرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرْهَبَهُمْ وَيَسْتَخْدِمُهُمْ بِمَا يَشَاءُ فَيُطِيعُونَهُ فَيَأْمُرُ الْمَرْأَةَ بِمُغَاضَبَةِ زَوْجِهَا وَطَلَبِ فِرَاقِهِ وَيَأْمُرُ الزَّوْجَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ وَهَكَذَا، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ السَّاحِرِ الْفِكْرِيَّةُ وَبِهِ تَكْثُرُ أَضْرَارُهُ وَأَخْطَارُهُ عَلَى النَّاسِ وَجُرْأَتُهُ على ارْتِكَاب المرغبات وَالْمُطَوِّعَاتِ بِاسْتِئْصَالِ الْأَمْوَالِ بِالسَّرِقَةِ يَسْرِقُهَا مَنْ لَا يَتَّهِمُهُ الْمَسْرُوقُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَبْنَائِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ يَسْتَهْوِيهِمُ السَّحَرَةُ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِلْإِخْلَاصِ لَهُمْ، وَيَنْتَهِي فِعْلُ السَّحَرَةِ فِي هَذَا إِلَى حَدِّ إِزْهَاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يَشْعُرُونَ بِأَنَّهَا تَفَطَّنَتْ لِخَدِيعَتِهِمْ أَوِ الَّتِي تَعَاصَتْ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِمْ يُغْرُونَ بِهَا مَنْ هِيَ آمَنُ النَّاسِ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتِطْلَاعُ ضَمَائِرِ النَّاسِ بِتَقْرِيرَاتٍ خَفِيَّةٍ وَأَسْئِلَةٍ تَدْرِيجِيَّةٍ يُوهِمُهُ بِهَا أَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْهَا لِيُعْلِمَهُ بِمُسْتَقْبَلِهِ. وَنَوْعٌ: يُجْعَلُ اخْتِبَارًا لِمِقْدَارِ مَرَاتِبِ أَذْهَانِ النَّاسِ فِي قَابِلِيَّةِ سِحْرِهِ وَذَلِكَ بِوَضْعِ أَشْيَاءَ فِي الْأَطْعِمَةِ خِيفَةَ الظُّهُورِ لِيَرَى هَلْ يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ وَضَعَهَا، وَبِإِبْرَازِ خَيَالَاتٍ أَوْ أَشْبَاحٍ يُوهِمُ بِهَا النَّاظِرَ أَنَّهَا جِنٌّ أَوْ شَيَاطِينُ أَوْ أَرْوَاحٌ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَشْكَالٌ مُمَوَّهَةٌ أَوْ أَعْوَانٌ مِنْ أَعْوَانِهِ مُتَنَكِّرَةٌ، لِيَنْظُرَ هَلْ يَقْتَنِعُ رَائِيهَا بِمَا أَخْبَرَهُ السَّاحِرُ عَنْهَا أَمْ يَتَطَلَّبُ كَشْفَ حَقِيقَتِهَا أَوِ اسْتِقْصَاءَ أَثَرِهَا. فَكَانَ السِّحْرُ قَرِينَ خَبَاثَةِ نَفْسِ، وَفَسَادِ دِينٍ، وَشَرِّ عَمَلٍ، وَإِرْعَابٍ وَتَهْوِيلٍ عَلَى النَّاسِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَا فَتِئَتِ الْأَدْيَانُ الْحَقَّةُ تُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْهُ وَتَعُدُّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مُرُوقًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْآلِهَةِ وَالْجِنِّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْآلِهَةِ فِي عَقَائِدِ الْأَقْدَمِينَ، وَقَدْ حَذَّرَ مُوسَى قَوْمَهُ مِنَ السِّحْرِ وَأَهْلِهِ فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ 18 أَنَّ مِمَّا خَاطَبَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ: «مَتَى دَخَلْتَ الْأَرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لَا تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ لَا يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ (¬1) ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ وَلَا مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً وَلَا عَائِفٌ وَلَا مُتَفَائِلٌ وَلَا سَاحِرٌ وَلَا مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً وَلَا مَنْ يَسْأَلُ جَانًّا أَوْ تَابِعَةً وَلَا مَنْ يَسْتَثِيرُ الْمَوْتَى» . وَجَعَلَتِ التَّوْرَاةُ جَزَاءَ السَّحَرَةِ الْقَتْلَ فَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ الْإِصْحَاحَيْنِ 20- 27 «وَإِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ جَانٌّ أَوْ تَابِعَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» . ¬

(¬1) «الْمُنْتَقى» للباجي 7/ 117. جَامع الْعقل. قتل الغيلة (مصححه) .

وَذَكَرُوا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَكْتُبُهَا السَّحَرَةُ فِي التَّمَائِمِ أَسْمَاءُ أَصْنَامٍ. وَقَدْ حَذَّرَ الْإِسْلَامُ مِنْ عَمَلِ السِّحْرِ وَذَمَّهُ فِي مَوَاضِعَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي إِثْبَاتِ حَقِيقَةٍ وُجُودِيَّةٍ لِلسِّحْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّهُ تَحْذِيرٌ مِنْ فَسَادِ الْعَقَائِدِ وَخَلْعِ قُيُودِ الدِّيَانَةِ وَمِنْ سَخِيفِ الْأَخْلَاقِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَإِنْكَارِهَا وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْأَحْوَالِ فِيمَا أَرَاهُ فَكُلُّ فَرِيقٍ نَظَرَ إِلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ مَا يُدْعَى بِالسِّحْرِ. وَحَكَى عِيَاضٌ فِي «إِكْمَال الْمعلم» أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِ حَقِيقَتِهِ. قُلْتُ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ وَصْفُ كَيْفِيَّةِ السِّحْرِ الَّذِي أَثْبَتُوا حَقِيقَتَهُ فَإِنَّمَا أَثْبَتُوهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَذَهَبَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ تمويه وتخييل وَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْخِفَّةِ وَالشَّعْوَذَةِ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكَايَةُ عِيَاضٍ فِي «الْإِكْمَالِ» ، قُلْتُ وَمِمَّنْ سُمِّيَ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الِإسْتِرَابَادِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَذَافِرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ تَدْخُلُ فِي عِقَابِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْقَاتِلِينَ وَالْمُتَحَيِّلِينَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَلَا تَدَخُلُ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَهُوَ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الْمَلَاحِدَةُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُهُ إِلْحَادًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ آنِفًا. وَشَدَّدَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُوبَةَ فِي تَعَاطِيهِ. قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ السَّاحِرُ وَلَا يُسْتَتَابُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا يُقْتَلُ بَلْ يُؤَدَّبُ إِلَّا إِذَا أَدْخَلَ بِسِحْرِهِ أَضْرَارًا عَلَى مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْعَهْدِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى (¬1) » رَأَى مَالِكٌ أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَسْتَتِرُ صَاحِبُهُ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَالزَّنْدَقَةِ لِأَجْلِ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْمَوَّازِ وَأَصْبَغُ هُوَ كَالزِّنْدِيقِ إِنْ أَسَرَّ السِّحْرَ لَا يُسْتَتَابُ وَإِنْ أَظْهَرَهُ اسْتُتِيبَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ لَا خِلَافٌ لَهُ قَالَ الْبَاجِيُّ فَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ السِّحْرِ هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ أَصْبَغُ يَكْشِفُ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَيُثْبِتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَفِي «الْكَافِي» لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إِذَا عَمِلَ السِّحْرَ لِأَجْلِ الْقَتْلِ وَقَتَلَ بِهِ قُتِلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا، وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» السِّحْرَ فِي بَابِ الْغِيلَةِ، فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْقَبَسِ» وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسْحُورَ لَا يَعْلَمُ بِعَمَلِ السِّحْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ، قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي جُعِلَ جَزَاؤُهُ الْقَتْلُ هُوَ مَا كَانَ كُفْرًا صَرِيحًا مَعَ الِاسْتِتَارِ بِهِ أَوْ حَصَلَ بِهِ إِهْلَاكُ النُّفُوسِ وَذَلِكَ أَنَّ السَّاحِرَ كَانَ يَعِدُ مَنْ يَأْتِيهِ لِلسِّحْرِ بِأَنَّ فُلَانًا يَمُوتُ اللَّيْلَةَ أَوْ غَدًا أَوْ يُصِيبُهُ جُنُونٌ ثُمَّ يَتَحَيَّلُ فِي إِيصَالِ ¬

(¬1) كَذَا وَلَعَلَّ المُرَاد من يرج أَو يجوز بِهِ.

سُمُومٍ خَفِيَّةٍ مِنَ الْعَقَاقِيرِ إِلَى الْمَسْحُورِ تُلْقَى لَهُ فِي الطَّعَامِ بِوَاسِطَةِ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْحُورِ فَيُصْبِحُ الْمَسْحُورُ مَيِّتًا أَوْ مُخْتَلَّ الْعَقْلِ فَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَالِكٍ بِأَنَّ جَزَاءَهُ الْقَتْلُ أَيْ إِنْ قَتَلَ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَبِدُونِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَصِحُّ فِقْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَوْلُ مَالِكٍ فِي السِّحْرِ لَيْسَ اسْتِنَادًا لِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ فِي خُصُوصِ السِّحْرِ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ تَحْقِيقِ الْمُنَاطِ بِتَطْبِيقِ قَوَاعِدِ التَّعْزِيرِ وَالْإِضْرَارِ، وَلِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِطْلِاقَاتٌ عَجِيبٌ صُدُورُهَا مِنْ أَمْثَالِهِمْ، عَلَى أَنَّ السِّحْرَ أَكْثَرُ مَا يُتَطَلَّبُ لِأَجْلِ تَسْخِيرِ الْمُحِبِّينَ مَحْبِوبِيهِمْ فَهُوَ وَسِيلَةٌ فِي الْغَالِبِ لِلزِّنَا أَوْ لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْمَحْبُوبِ أَوِ الزَّوْجِ. سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ يَعْقِدُ الرِّجَالَ عَنِ النِّسَاءِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ تُطْعِمُ رَجُلًا شَيْئًا فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ فَقَالَ: لَا يُقْتَلَانِ فَأَمَّا الَّذِي يَعْقِدُ فَيُؤَدَّبُ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَقَدْ أَتَتْ أَمْرًا عَظِيمًا قِيلَ أَفَتُقْتَلُ فَقَالَ: لَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ» رَأَى أَنَّ فِعْلَهَا لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ اهـ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ السَّاحِرُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُحْبَسُ حَتَّى تَتْرُكَهُ فَجَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ وَوَجَّهَ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهُ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ بَلْ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ رَدُّ مَا لَزِمَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفِيهِ إِهْلَاكُ النَّفْسِ فَفِيهِ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا تَابَ وَمَنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ فَقَدْ خَلَطَ فَإِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمُ اهـ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُسْأَلُ السَّاحِرُ عَنْ سِحْرِهِ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ فَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَجْوِيزُ تَغْيِيرِ الْأَشْكَالِ لِأَسْبَابِ قِرَاءَةِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ أَوْ تَدْخِينِ الْأَدْوِيَةِ وَعُلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُ مُحَرَّمًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فَإِنِ اعْتَرَفَ بِسَحْرِ إِنْسَانٍ وَأَنَّ سِحْرَهُ يَقْتُلُ غَالِبًا قُتِلَ قَوَدًا (يَعْنِي إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِهِ) وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سِحْرِي قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ سِحْرُهُ لِغَيْرِ الْقَتْلِ فَمَاتَ مِنْهُ فَهُوَ قَتْلٌ خَطَأٌ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ مُخَفَّفَةً فِي مَالِهِ. وَيَجِبُ أَنْ يُسْتَخْلَصَ مِنِ اخْتلَافهمْ وَمن متفرق أَقْوَالِهِمْ مَا يَكُونُ فِيهِ بَصِيرَةٌ لِإِجْرَاءِ أَعْمَالِ مَا يُسَمَّى بِالسِّحْرِ وَصَاحِبُهُ بِالسَّاحِرِ مَجْرَى جِنَايَاتِ أَمْثَالِهِ وَمِقْدَارِ مَا أَثَّرَهُ مِنَ

الِاعْتِدَاءِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلَا أَوْهَامٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ السَّاحِرِ الْيَوْمَ عَلَى اللَّاعِبِ بِالشَّعْوَذَةِ فِي الْأَسْمَارِ وَذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ اللَّهْوِ فَلَا يَنْبَغِي عَدُّ ذَلِكَ جِنَايَةً. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. يَتَعَيَّنُ أَنَّ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مُلْكِ سُلَيْمانَ أَي وَمَا تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ لَكِنَّهُ سِحْرٌ يَشْتَمِلُ عَلَى كفر عَظِيم وَتعلم الْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَمَعَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا فَيَكُونُ عَطْفًا على مَا تَتْلُوا الَّذِي هُوَ صَادِقٌ عَلَى السِّحْرِ فَعُطِفَ (مَا أُنْزِلَ) عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ أَشَدُّ مِمَّا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ مَعَ السِّحْرِ الْمَوْضُوعِ مِنْهُمْ، فَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الِاعْتِبَارِ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ السِّحْرِ مُقْتَبَسٌ مِمَّا ظَهَرَ بِبَابِلَ فِي زَمَنِ هَذَيْنِ الْمُعَلِّمَيْنِ وَعَطْفُ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ تَغَايُرِ الْمَفْهُومِ وَالِاعْتِبَارِ وَارِدٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ) : إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا ... مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَقِيلَ: أُرِيدَ مِنَ السِّحْرِ أَخَفُّ مِمَّا وَضَعَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّ غَايَةَ مَا وُصِفَ بِهِ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ بِبَابِلَ فِي زَمَنِ هَذَيْنِ الْمُعَلِّمَيْنِ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَالْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ (الْمَلَكَيْنِ) بِفَتْحِ لَامِ الْمَلَكَيْنِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبْزَى بِكَسْرِ اللَّامِ. وَكُلُّ هَاتِهِ الْوُجُوهِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ نُزُولِ شَيْءٍ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ إِذَا فَصَّلْتَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ هَذَيْنِ الْمُعَلِّمَيْنِ عِلْمَ السِّحْرِ. فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أُنْزِلَ عُطِفَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمانَ فَهُوَ مَعْمُول لتتلوا الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى تَكْذِبُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ أَيْ مَا تَكْذِبُهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، أَيْ يَنْسُبُونَ بَعْضَ السِّحْرِ إِلَى مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ. قَالَ الْفَخْرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِيُُ

مُسْلِمٍ وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ نَازِلًا عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَمْرُ اللَّهِ بِهِ وَكَيْفَ يَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةُ تَعْلِيمَهُ مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ أَوْ فِسْقٌ. وَقِيلَ: (مَا) نَافِيَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى (مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) أَيْ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بِوَضْعِ السِّحْرِ كَمَا يَزْعُمُ الَّذِينَ وَضَعُوهُ، وَلَا أُنْزِلَ السِّحْرُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ. وَتَعْرِيفُ الْمَلَكَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ أَوْ هُوَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ مَعْهُودَيْنِ لَدَى الْعَارِفِينَ بِقِصَّةِ ظُهُورِ السِّحْرِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ (هَارُوتَ وَمَارُوتَ) بَدَلٌ مِنَ (الشَّيَاطِينِ) وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيَاطِينِ شَيْطَانَانِ وَضَعَا السِّحْرَ لِلنَّاسِ هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِه: قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] وَهَذَا تَأْوِيلٌ خَطَأٌ إِذْ يَصِيرُ قَوْلُهُ: عَلَى الْمَلَكَيْنِ كَلَامًا حَشْوًا. وَعَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ مِنْ أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا كَوْنُ السِّحْرِ مُنْزَلًا إِنَّ حُمِلَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْهُ وَهُوَ الْإِنْزَالُ مِنَ اللَّهِ، الثَّانِي كَوْنُ الْمُبَاشِرِ لِذَلِكَ مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، الثَّالِثُ كَيْفَ يَجْمَعُ الْمَلَكَانِ بَيْنَ قَوْلِهِمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ وَقَوْلِهِمَا فَلا تَكْفُرْ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ قَصْدُ الْفِتْنَةِ مَعَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا الرَّابِعُ كَيْفَ حَصَرَا حَالَهُمَا فِي الِاتِّصَافِ بِأَنَّهُمَا فِتْنَةٌ فَمَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَصَدِّيهِمَا لِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا مَلَكَيْنِ فَالْإِشْكَالُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَا مَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ فَهُمَا قَدْ عَلِمَا مَضَّرَةَ الْكُفْرِ بِدَلِيلِ نَهْيِهِمَا عَنْهُ وَعَلِمَا مَعْنَى الْفِتْنَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمَا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَمَّا ذَا تَوَرَّطَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ وَدَفْعُ هَذَا الْإِشْكَالِ بِرُمَّتِهِ أَنَّ الْإِنْزَالَ هُوَ الْإِيصَالُ وَهُوَ إِذَا تَعَدَّى بِعَلَى دَلَّ عَلَى إِيصَالٍ مِنْ عُلُوٍّ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي إِيصَالِ الْعِلْمِ مِنْ وَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَالْإِنْزَالُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ وَبِمَعْنَى الْإِيدَاعِ فِي الْعَقْلِ أَوْ فِي الْخِلْقَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ قَدْ بَرَعَا فِي هَذَا السِّحْرِ وَابْتَكَرَا مِنْهُ أَسَالِيبَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمَا تَلَقِّيهَا مِنْ مُعَلِّمٍ شَأْنُ الْعَلَّامَةِ الْمُتَصَرِّفِ فِي عِلْمِهِ الْمُبْتَكِرِ لِوُجُوهِ الْمَسَائِلِ وَعِلَلِهَا وَتَصَارِيفِهَا وَفُرُوعِهَا. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ إِنْزَالَ السِّحْرِ إِذِ السِّحْرُ أَمْرٌ مَوْجُودٌ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنَّهُ إِنْزَالُ الْأَمْرِ لِلْمَلَكَيْنِ أَوْ إِنْزَالُ الْوَحْيِ أَوِ الْإِلْهَامِ لِلْمَلَكَيْنِ بِأَنْ يَتَصَدَّيَا لِبَثِّ خَفَايَا السِّحْرِ بَيْنَ الْمُتَعَلِّمِينَ ليبطل انْفِرَاد شرمذة بِعِلْمِهِ فَيَنْدَفِعُ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي. ثُمَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ تَعْمِيمِ تَعْلِيمِهِ أَنَّ السَّحَرَةَ فِي بَابِلَ كَانُوا اتَّخِذُوا السِّحْرَ وَسِيلَةً لِتَسْخِيرِ الْعَامَّةِ لَهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ثُمَّ تَطَلَّعُوا مِنْهُ إِلَى تَأْسِيسِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ- أَيِ السَّحَرَةُ- مُتَرْجِمُونَ عَنْهُمْ وَنَاطِقُونَ بِإِرَادَةِ الْآلِهَةِ فَحَدَثَ فَسَادٌ عَظِيمٌ وَعَمَّتِ الضَّلَالَةُ فَأَرَادَ اللَّهُ عَلَى مُعْتَادِ حِكْمَتِهِ إِنْقَاذَ الْخَلْقِ مِنْ ذَلِكَ فَأَرْسَلَ

أَوْ أَوْحَى أَوْ أَلْهَمَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنْ يَكْشِفَا دَقَائِقَ هَذَا الْفَنِّ لِلنَّاسِ حَتَّى يَشْتَرِكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَعْلَمُوا أَنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا عَلَى ذَلِكَ وَيَرْجِعَ النَّاسُ إِلَى صَلَاحِ الْحَالِ فَانْدَفَعَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَسَتَعْرِفُ دَفْعَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ الْآيَةَ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ (الْمَلِكَيْنِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَيْنِ كَانَا يَمْلِكَانِ بِبَابِلَ قَدْ عَلِمَا عِلْمَ السِّحْرِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ اللَّامِ فَالْأَظْهَرُ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ وَأَنَّهُمَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ كَانَ حَكَمَا مَدِينَةَ بَابِلَ وَكَانَا قَدِ اطَّلَعَا عَلَى أَسْرَارِ السِّحْرِ الَّتِي كَانَتْ تَأْتِيهَا السَّحَرَةُ بِبَابِلَ أَوْ هُمَا وَضَعَا أَصْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ كُفْرٌ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ الْكُفْرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ هُمَا مَلَكَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَشَكَّلَا لِلنَّاسِ يُعَلِّمَانِهِمُ السِّحْرَ لِكَشْفِ أَسْرَارِ السَّحَرَةِ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ أَوْ رُسُلٌ فَكَانُوا يُسَخِّرُونَ الْعَامَّةَ لَهُمْ فَأَرَادَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ ذَبَّا عَنْ مَقَامِ النُّبُوءَةِ فَأَنْزَلَ مَلَكَيْنِ لِذَلِكَ. وَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فِي زَمَنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ جَائِزٌ عَلَى جِهَةِ الِابْتِلَاءِ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ فَالطَّائِعُ لَا يَتَعَلَّمُهُ وَالْعَاصِي يُبَادِرُ إِلَيْهِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِمُنَافَاتِهِ عُمُومَ قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ قَالُوا: كَمَا امْتَحَنَ اللَّهُ قَوْمَ طَالُوتَ بِالنَّهْرِ إِلَخْ وَلَا يَخْفَى فَسَادُ التَّنْظِيرِ. وَبَابِلُ بَلَدٌ قَدِيمٌ مِنْ مُدُنِ الْعَالَمِ وَأَصْلُ الِاسْمِ بِاللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ بَابُ إِيلُو أَيْ بَابُ اللَّهِ وَيُرَادِفُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ بَابُ إِيلَ وَهُوَ بَلَدٌ كَائِنٌ عَلَى ضَفَّتَيِ الْفُرَاتِ بِحَيْثُ يَخْتَرِقُهُ الْفُرَاتُ يَقْرُبُ مَوْضِعُهُ مِنْ مَوْقِعِ بَلَدِ الْحِلَّةِ الْآنَ عَلَى بُعْدِ أَمْيَالٍ مِنْ مُلْتَقَى الْفُرَاتِ وَالدِّجْلَةِ. كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْعَالَمِ الْقَدِيمِ بَنَاهَا أَوَّلًا أَبْنَاءُ نُوحٍ بَعْدَ الطُّوفَانِ فِيمَا يُقَالُ ثُمَّ تَوَالَى عَلَيْهَا اعْتِنَاءُ أَصْحَابِ الْحَضَارَةِ بِمُوَاطِنِ الْعِرَاقِ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ النَّمْرُوذِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ مِنْ أَبْنَاءِ نُوحٍ وَلَكِنَّ ابْتِدَاءَ عَظَمَةِ بَابِلَ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 3755 ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسٍ وَخَمْسِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ إِحْدَى عَوَاصِمَ أَرْبَعَةٍ لِمَمْلَكَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهِيَ أَعْظَمُهَا وَأَشْهَرُهَا وَلَمْ تَزَلْ هِمَمُ مُلُوكِ الدَّوْلَتَيْنِ الْكَلْدَانِيَّةِ وَالْأَشُورِيَّةِ مُنْصَرِفَةً إِلَى تَعْمِيرِ هَذَا الْبَلَدِ وَتَنْمِيقِهِ فَكَانَ بَلَدَ الْعَجَائِبِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْبَسَاتِينِ وَمَنْبَعِ الْمَعَارِفِ الْأَسْيَوِيَّةِ وَالْعَجَائِبِ السِّحْرِيَّةِ وَقَدْ نَسَبُوا إِلَيْهَا قَدِيمًا الْخَمْرَ الْمُعَتَّقَةَ وَالسِّحْرَ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:

سَقَى اللَّهُ أَيَّامَ الصِّبَا مَا يَسُرُّهَا ... وَيَفْعَلُ فِعْلَ الْبَابِلِيِّ الْمُعَتَّقِ (¬1) وَلِاشْتِهَارِ بَابِلَ عِنْدَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ بِمَعَارِفِ السِّحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَعْرِيفِ السِّحْرِ صَحَّ جَعْلُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ: أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ إِشَارَةً إِلَى قِصَّةٍ يَعْلَمُونَهَا. وَ (هَارُوتَ وَمَارُوتَ) بَدَلٌ مِنَ (الْمَلَكَيْنِ) وَهُمَا اسْمَانِ كَلْدَانِيَّانِ دَخَلَهُمَا تَغْيِيرُ التَّعْرِيفِ لِإِجْرَائِهِمَا عَلَى خِفَّةِ الْأَوْزَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَارُوتَ مُعَرَّبُ (هَارُوكَا) وَهُوَ اسْمُ الْقَمَرِ عِنْدَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَأَنَّ مَارُوتَ مُعَرَّبُ (مَا رُودَاخَ) وَهُوَ اسْمُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْآلِهَةِ لَا سِيَّمَا الْقَمَرِ فَإِنَّهُ أَشَدُّ الْكَوَاكِبِ تَأْثِيرًا عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ رَمْزُ الْأُنْثَى، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ أَشْرَفُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ عِنْدَهُمْ وَلَعَلَّهُ كَانَ رَمْزَ الذَّكَرِ عِنْدَهُمْ كَمَا كَانَ بَعْلٌ عِنْدَ الْكَنْعَانِيِّينَ الْفِنِيقِيِّينَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِسْنَادَ هَذَا التَّقْدِيس للكواكب ناشىء عَنِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُقَدَّسِينَ وَأَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ رُفِعُوا لِلسَّمَاءِ فِي صُورَةِ الْكَوَاكِبِ فَيَكُونُ (هَارُوكَا) وَ (مَارُودَاخُ) قَدْ كَانَا مِنْ قُدَمَاءِ عُلَمَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ وَالْحَاكِمَيْنِ فِي الْبِلَادِ وَهُمَا اللَّذَانِ وَضَعَا السِّحْرَ وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمَا فِي الْقِصَّةِ بِالْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَلِأَهْلِ الْقِصَصِ هُنَا قِصَّةٌ خُرَافِيَّةٌ مِنْ مَوْضُوعَاتِ الْيَهُودِ فِي خُرَافَاتِهِمُ الْحَدِيثَةِ اعْتَادَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذِكْرَهَا مِنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ مِثْلُ الْبَيْضَاوِيِّ وَالْفَخْرِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَالْقُرْطُبِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ إِلَى كَذِبِهَا وَأَنَّهَا مِنْ مَرْوِيَّاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَقَدْ وَهِمَ فِيهَا بَعْضُ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْحَدِيثِ فَنَسَبُوا رِوَايَتَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ وَالْعَجَبُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ أَخْرَجَهَا مُسْنَدَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّهَا مَدْسُوسَةٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَوْ أَنَّهُ غَرَّهُ فِيهَا ظَاهِرُ حَالِ رُوَاتِهَا مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مُوسَى بْنَ جُبَيْرٍ وَهُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ وَاعْتَذَرَ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ صَحِيحَةٌ إِلَّا أَنَّ الْمَرْوِيَّ رَاجِعٌ إِلَى أَخْبَارِ الْيَهُودِ فَهُوَ بَاطِلٌُُ ¬

(¬1) الَّذِي ذكره الواحدي والمعري فِي تَفْسِير الْبَيْت أَنه أَرَادَ بالبابلي الْخمر وَكنت رَأَيْت فِي بعض كتب الْأَدَب أَن بعض من نَاظر المتنبي انتقد هَذَا الإطناب مَعَ أَنه كَانَ يَسْتَطِيع أَن يَقُول سَقَاهَا خمرًا لَا سِيمَا وَقد قَالَ مَا يسرها، قلت: وقرينة كَونه المُرَاد وَصفه بالمعتق وَهُوَ من أَوْصَاف الْخمر، والعذر للمتنبي أَنه أَرَادَ سَقَاهَا الله خمرًا كخمر بابل فَلَا ضير فِي ذَلِك. [.....]

فِي نَفْسِهِ وَرُوَاتُهُ صَادِقُونَ فِيمَا رَوَوْا وَهَذَا عُذْرٌ قَبِيحٌ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أُسْنِدَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَقَدْ كَانَ الشُّيُوخُ يُخَطِّئُونَ ابْنَ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَجْلِ ذِكْرِهِ الْقِصَّةَ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقَوْلُهُ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ «هاروت وماروت» و (مَا) نَافِيَةٌ وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا لِمُتَعَلِّمِي السِّحْرِ إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَوْلٌ مُقَارِنٌ لِوَقْتِ التَّعْلِيمِ لَا مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا كَانَا مُعَلِّمَيْنِ وَطَوَى ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمَضْمُونِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ أَوْ هُوَ مِنْ لَحْنِ الْخِطَابِ مَفْهُومٌ لِلْغَايَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ الْفِتْنَةُ لَفْظٌ يَجْمَعُ مَعْنَى مَرَجٍ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِ أَحَدٍ وَتَشَتُّتِ بَالِهِ بِالْخَوْفِ وَالْخَطَرِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى غَيْرِ عَدْلٍ وَلَا نِظَامٍ وَقَدْ تُخَصَّصُ وَتُعَمَّمُ بِحَسَبِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ بِحَسَبِ الْمَقَامِ يُقَالُ فِتْنَةُ الْمَالِ وَفِتْنَةُ الدِّينِ. وَلِمَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ يَخْتَلِفُ ثَبَاتُ النَّاسِ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ رَجَاحَةِ عُقُولِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ عَلَى حُسْنِ الْمَخَارِجِ مِنْهَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِهَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يُكَنَّى بِالْفِتْنَةِ عَنْهَا كَثِيرًا وَلِذَلِكَ تَسَامَحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فَفَسَّرَ الْفِتْنَةَ بِالِابْتِلَاءِ وَجَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّاسِ فَتَنْتُ الذَّهَبَ أَوِ الْفِضَّةَ إِذَا أَذَابَهُمَا بِالنَّارِ لِتَمْيِيزِ الرَّدِيءِ مِنَ الْجَيِّدِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَلَّدًا فَإِنَّ مَعْنَى الِاخْتِبَارِ غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ فِي لَفْظِ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مَا فِي الْإِذَابَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْمَرَجِ وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فِتْنَةً وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] وَقَالَ: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 27] . وَالْإِخْبَارُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ فِتْنَةٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَقَدْ أُكِّدَتِ الْمُبَالَغَةُ بِالْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَا يُصَرِّحَانِ أَنْ لَيْسَ فِي عِلْمِهِمَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ وَأَنَّهُ فِتْنَةٌ مَحْضَةٌ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ فِي مِقْدَارِ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَا فِتْنَةً لِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُمَا عَمِلَ بِهِ. فَلَا تَكْفُرْ كَمَا كَفَرَ السَّحَرَةُ حِينَ نَسَبُوا التَّأْثِيرَاتِ لِلْآلِهَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ سِرَّهَا. وَفِي هَذَا مَا يُضْعِفُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ مِنْ تَعْلِيمِهِمَا النَّاسَ السِّحْرَ إِظْهَارَ كَذِبِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْأُلُوهِيَّةِ أَوِ النُّبُوءَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ قَوْلَهُمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فَجَعَلَا كَثْرَةَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِالسِّحْرِ الَّذِي تَصَدَّيَا لِتَعْلِيمِهِ بِمَنْزِلَةِ انْحِصَارِ أَوْصَافِهِمَا فِي الْفِتْنَةِ وَوَجْهُ

ابْتِدَائِهِمَا لِمَنْ يُعَلِّمَانِهِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يُبَيِّنَا لَهُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ فِي مَبَادِئِهِ يَظْهَرُ كَأَنَّهُ فِتْنَةٌ وَشَرٌّ فَيُوشِكُ أَنْ يَكْفُرَ مُتَعَلِّمُهُ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ تِلْكَ التَّعَالِيمِ إِيَّاهُ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ قَدْ تَوَطَّنَتْ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ظُهُورَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَّامَةٌ عَلَى أُلُوهِيَّةِ مَنْ يُظْهِرُهَا، وَقَوْلُهُمَا: فَلا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَعْجَلْ بِاعْتِقَادِ ذَلِكَ فِينَا فَإِنَّكَ إِذَا تَوَغَّلْتَ فِي مَعَارِفِ السِّحْرِ عَلِمْتَ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ مِنْ خَصَائِصِ النُّفُوسِ أَوْ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ فَالْفِتْنَةُ تَحْصُلُ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ حِينَ يَرَى ظَوَاهِرَهُ وَعَجَائِبَهُ عَلَى أَيْدِي السَّحَرَةِ وَلِمَنْ كَانَ فِي مَبْدَأِ التَّعْلِيمِ فَإِذَا تَحَقَّقَ فِي عِلْمِهِ انْدَفَعَتِ الْفِتْنَةُ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمَا فَلا تَكْفُرْ فالكفر هُوَ الْفِتْنَة وقولهما فَلا تَكْفُرْ بِمَنْزِلَةِ فَلَا تَفْتَتِنْ وَقَدِ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ الْمُتَقَدِّمُ. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. تَفْرِيعٌ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا الْمُقْتَضِي أَنَّ التَّعْلِيمَ حَاصِلٌ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَيَتَعَلَّمُونَ رَاجِعٌ لِأَحَدِ، الْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ النَّفْي مَدْخُولا لمن الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى كُلُّ أَحَدٍ فَصَارَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا. قَوْلُهُ: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ إِشَارَةٌ إِلَى جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ السِّحْرِ وَهُوَ أَقْصَى تَأْثِيرَاتِهِ إِذْ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ طَرَفِي آصِرَةٍ مَتِينَةٍ إِذْ هِيَ آصِرَةُ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: 21] فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ وَحْدَهَا آصِرَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ آصِرَةُ الصَّدَاقَةِ وَالْأُخُوَّةِ وَتَفَارِيعِهِمَا، وَالرَّحْمَةُ وَحْدَهَا آصِرَةٌ مِنْهَا الْأُبُوَّةٌ وَالْبُنُوَّةٌ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِآصِرَةٍ جَمَعَتِ الْأَمْرَيْنِ وَكَانَتْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ بِجَعْلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِتْقَانِ وَقَدْ كَانَ يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى شَيْخُنَا الْجَلِيلُ سَالِمٌ أَبُو حَاجِبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. وَهَذَا التَّفْرِيقُ يَكُونُ إِمَّا بِاسْتِعْمَالِ مُفْسِدَاتٍ لِعَقْلِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى يُبْغِضَ زَوْجَهُ وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الْحِيَلِ وَالتَّمْوِيهَاتِ وَالنَّمِيمَةِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى (أَحَدٍ) مِنْ قَوْلِهِ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ أَيْ وَمَا الْمُتَعَلِّمُونَ بِضَارِّينَ بِالسِّحْرِ أَحَدًا. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ

تَأْثِيرُ حِيَلِهِ بِاخْتِلَافِ قَابِلِيَّةِ الْمَسْحُورِ، وَتِلْكَ الْقَابِلِيَّةُ مُتَفَاوِتَةٌ وَلَهَا أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ أَجْمَلَتْهَا الْآيَة بِالِاسْتِثْنَاءِ منقوله: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ أَسْبَابَ الْقَابِلِيَّةِ لِأَثَرِ السِّحْرِ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ فَهَذَا إِجْمَالٌ حَسَنٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ لِأَنَّهُمْ تَخَلَّقُوا بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَفْصِيلِ الْأَسْبَابِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ إِبْطَالُ أَنْ تَكُونَ للسحر حَالَة ذاتة وَقَوَاعِدُ غَيْرُ مُمَوَّهَةٍ، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَأَصْلُ الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ هُوَ إِبَاحَةُ الْفِعْلِ، وَاسْتَأْذَنَ طَلَبَ الْإِذْنَ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي الدُّخُولِ لِلْبَيْتِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ مَجَازًا فِي مَعْنَى التَّمْكِينِ إِمَّا بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي [الْمَائِدَة: 110] وَإِمَّا بِاسْتِمْرَارِ الْأَسْبَابِ الْمُودَعَةِ فِي الْأَشْيَاءِ وَالْقُوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 166] فَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ إِلَّا بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي قَابِلِ السِّحْرِ مِنِ اسْتِعْدَادٍ لِأَنْ يُضَرَّ بِهِ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ وَإِمْكَانَ التَّأَثُّرِ مَخْلُوقٌ فِي صَاحِبِهِ فَهُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ كَذَا قَرَّرَهُ الرَّاغِبُ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مِمَّا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَلِمَةُ إِذَنْ (وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَنَظِيرِهِ لَفْظَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْد: 11] أَيْ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُلْحِقُ أَضْرَارَهَا لِلنَّاسِ وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي فَرَّقَ الْمُتَكَلِّمُونَ بَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا وَهِيَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ وَالْأَمْرُ وَالْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ) . فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ السِّحْرَ قَدْ يَضُرُّ وَقَدْ لَا يَضُرُّ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ إِيصَالُ أَشْيَاءَ ضَارٌّ بِطَبْعِهَا وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ يَعْنِي مَا يَضُرُّ النَّاسَ ضُرًّا آخَرَ غَيْرَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فَضَمِيرُ (يَضُرُّهُمْ) عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ (يَتَعَلَّمُونَ) وَالْمَعْنَى أَنَّ أُمُورَ السِّحْرِ لَا يَأْتِي مِنْهَا إِلَّا الضُّرُّ أَيْ فِي الدُّنْيَا فَالسَّاحِرُ لَا يَسْتَطِيعُ سِحْرَ أَحَدٍ لِيَصِيرَ ذَكِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ بَلِيدًا أَوْ لِيَصِيرَ غَنِيًّا بَعْدَ الْفَقْرِ وَهَذَا زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ الْمُشْتَغِلِينَ بِهِ وَهُوَ مَقْصِدُ الْآيَةِ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُهُمْ تَأْسِيسًا لَا تَأْكِيدًا وَالْمُلَاحَظُ فِي هَذَا الضُّرِّ وَالنَّفْعِ هُوَ مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَسَيُفِيدُهُ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ بِجَمْعِهَا بَيْنَ إِثْبَاتِ الضُّرِّ وَنَفْيِ النَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ مُفَادَ الْحَصْرِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا لَيْسَ إِلَّا ضُرًّا كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ:

تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ لِتِلْكَ النُّكْتَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ ضُرٌّ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ يَتَعَلَّمُونَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَجْلِ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَصْلِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ أَيِ اتَّبَعُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا إِلَخْ وَالضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ تَبَعًا لِضَمِيرِ وَاتَّبَعُوا، أَوِ الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ فِي حَالِ أَنَّهُمْ تَحَقَّقَ عِلْمُهُمْ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ عَلِمُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْقَسَمِ وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ لِرَبْطِهِ بِالْقَسَمِ ثُمَّ يَحْذِفُونَ الْقَسَمَ كَثِيرًا اسْتِغْنَاءً لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ دَلَالَةً الْتِزَامِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ جَوَابٌ بِدُونِ مُجَابٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ لَامٌ تُفِيدُ تَأْكِيدَ الْقَسَمِ وَيَكْثُرُ دُخُولُهَا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهَا لَامُ الِابْتِدَاءِ وَالِاحْتِمَالَانِ حَاصِلَانِ فِي كُلِّ كَلَامٍ صَالِحٍ لِلْقَسَمِ وَلَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ فَإِنَّ حَذْفَ لَفْظِ الْقَسَمِ مُشْعِرٌ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ غَيْرُ حَرِيصٍ عَلَى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ كَمَا كَانَ ذِكْرُ إِنَّ وَحْدَهَا فِي تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَضْعَفَ تَأْكِيدًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُمَا أَدَاتَا تَأْكِيدٍ. قَالَ الرَّضِيُّ إِنَّ مَوَاقِعَ لَامِ الْقَسَمِ فِي نَظَرِ الْجُمْهُورِ هِيَ كُلُّهَا لَامَاتُ الِابْتِدَاءِ. وَالْكُوفِيُّونَ لَا يُثْبِتُونَ لَامَ الِابْتِدَاءِ وَيَحْمِلُونَ مَوَاقِعَهَا عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ وَالْخِلَافُ فِي هَذَا مُتَقَارِبٌ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَنِ اشْتَراهُ يَجُوزُ كَوْنُهَا لَامَ قَسَمٍ أَيْضًا تَأْكِيدًا لِلْمَعْلُومِ أَيْ عَلِمُوا تَحْقِيقَ أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لِمُشْتَرِي السِّحْرِ وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لَامَ ابْتِدَاءٍ وَالِاشْتِرَاءُ هُوَ اكْتِسَابُ شَيْءٍ بِبَذْلِ غَيْرِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اكْتَسَبُوهُ بِبَذْلِ إِيمَانِهِمُ الْمُعَبِّرِ عَنْهُ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَالْخَلَاقُ الْحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ خَاصَّةً. فَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مِنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» وَقَالَ الْبُعَيْثُ بْنُ حُرَيْثٍ: وَلَسْتُ وَإِنْ قَرُبْتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ ... خَلَاقِي وَلَا دِينِي ابْتِغَاءَ التَّحَبُّبِ وَنَفْيُ الْخَلَاقِ وَهُوَ نَكِرَةٌ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِمِنَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَاطِيَ هَذَا السِّحْرِ جُرْمُ كُفْرٍ أَوْ دُونَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُتَعَاطِيهِ حَظٌّ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا انْتَفَى كُلُُُّ

حَظٍّ مِنَ الْخَيْرِ ثَبَتَ الشَّرُّ كُلُّهُ لِأَنَّ الرَّاحَةَ مِنَ الشَّرِّ خَيْرٌ وَهِيَ حَالَةُ الْكَفَافِ وَقَدْ تَمَنَّاهَا الْفُضَلَاءُ أَوْ دُونَهُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَطْفٌ عَلَى وَلَقَدْ عَلِمُوا عَطْفُ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وشَرَوْا بِمَعْنَى بَاعُوا بِمَعْنَى بَذَلُوا وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: لَمَنِ اشْتَراهُ وَمَعْنَى بَذْلِ النَّفْسِ هُوَ التَّسَبُّبُ لَهَا فِي الْخَسَارِ وَالْبَوَارِ. وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُقْتَضٍ لِنَفْيِ الْعِلْمِ بِطَرِيقِ لَوِ الِامْتِنَاعِيَّةِ وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ غَيْرُ الْعِلْمِ الْمُثْبَتِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا إِلَّا أَنَّ الَّذِي عَلِمُوهُ هُوَ أَنَّ مكتسب السحر مَاله خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ وَالَّذِي جَهِلُوهُ هُنَا هُوَ أَنَّ السِّحْرَ شَيْءٌ مَذْمُومٌ وَفِيهِ تَجْهِيلٌ لَهُمْ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ صَاحِبَهُ لَا خَلَاقَ لَهُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ نَفْيَ الْخَلَاقِ يَسْتَلْزِمُ الْخُسْرَانَ إِذْ مَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ دَلِيلُ مَفْعُولِهِ وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ وَنَفْيِهِ فِي مَعْلُومٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ لَا خَلَاقَ لِصَاحِبِ السِّحْرِ عَيْنُ مَعْنَى كَون السحر مذوما فَكَيْفَ يُعَدُّونَ غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِذَمِّهِ وَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وَلَهُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْ دَفْعِ الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ أُخْرَى أَحَدُهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ الْعِلْمِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا فِي عِلْمِهِمْ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ بِعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِهِ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ أَيْ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ هُوَ عِلْمُ كَوْنِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَذَمَّةَ السِّحْرِ عِلْمًا كُلِّيًّا وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا لِكَوْنِ صَنِيعِهِمْ مِنْهُ كَمَا قَالُوا إِنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ كُبْرَى الْقِيَاسِ وَالْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ يَعْلَمَانِ صُغْرَاهُ وَأَنَّ الْفَقِيهَ كَالصَّيْدَلَانِيِّ وَالْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ كَالطَّبِيبِ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ. الثَّالِثُ أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ أَيْ فَهُمْ ظَنُّوا أَنَّ عَدَمَ الْخِلَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَذَابَ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الرَّابِعُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ التَّفَكُّرُ وَمِنَ الْمُثْبَتِ الْعِلْمُ الْغَرِيزِيُّ وَهَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ جِدًّا إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ بِأَنَّ مَنِ اكْتَسَبَ السِّحْرَ لَا خَلَاقَ لَهُ عِلْمًا غَرِيزِيًّا فَلَوْ قِيلَ الْعِلْمُ التَّصَوُّرِيُّ وَالْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ لَقَدْ عَلِمُوا ولَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ طِبَاقٌ عَجِيبٌ.

[سورة البقرة (2) : آية 103]

وَهُنَالِكَ جَوَابٌ آخَرُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ مُعَادِ ضمير عَلِمُوا وَضمير لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فَضَمِيرُ لَقَدْ عَلِمُوا رَاجِعٌ إِلَى الْجِنِّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ السِّحْرَ وَضَمِيرَا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ رَاجِعَانِ إِلَى الْإِنْسِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا السِّحْرَ وَشَرَوْا بِهِ أنفسهم، قَالَه فطرب وَالْأَخْفَشُ وَبِذَلِكَ صَارَ الَّذِينَ أُثْبِتَ لَهُمُ الْعِلْمُ غَيْرَ الْمَنْفِيّ عَنْهُم. [103] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 103] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) أَيْ لَوْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَاتَّقَوُا اللَّهَ فَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى إِنْكَارِ مَا بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ لَكَانَتْ لَهُمْ مَثُوبَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَثُوبَةُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ نَفْعٍ حَمَلَهُمْ على المكابرة. و (لَو) شَرْطِيَّةٌ امْتِنَاعِيَّةٌ اقْتَرَنَ شَرْطُهَا بِأَنَّ مَعَ الْتِزَامِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فِي جُمْلَتِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ من المَال و (أَن) مَعَ صِلَتِهَا فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ وَمَا فِي جمل الصِّلَةِ مِنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ الْفَائِدَةَ فَأَغْنَى عَنِ الْخَبَرِ. وَقِيلَ خَبَرُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثَابِتٌ أَيْ وَلَوْ إِيمَانُهُمْ ثَابِتٌ. وَقَوْلُهُ: لَمَثُوبَةٌ يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ (لَوْ) فَإِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِاللَّامِ الَّتِي يَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوِ) الْمُثْبَتِ بِهَا وَالْجَوَابُ هُنَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَهِيَ لَا تَقَعُ جَوَابًا لِلَوْ فِي الْغَالِبِ وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ غير ظَاهر الترتب وَالتَّعْلِيقِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِأَنَّ مَثُوبَةَ اللَّهِ خَيْرٌ سَوَاءٌ آمَنَ الْيَهُودُ وَاتَّقَوْا أَمْ لَمْ يَفْعَلُوا. قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ الْجَوَابُ مَحْذُوف أَي لأثيبوا وَمَثُوبَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ. وَعَدَلَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَالَ: أُوثِرَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي جَوَابِ (لَوْ) عَلَى الْفِعْلِيَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا كَمَا عَدَلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ فِي سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر: 73] لِذَلِكَ اهـ. وَمُرَادُهُ أَنَّ تَقْدِير الْجَواب لأثيبوا مَثُوبَةً مِنَ اللَّهِ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، أَوْ لَمَثُوبَةً بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْفِعْلُ أَوْ بَدَلُهُ يَدُلَّانِ عَلَى الْحُدُوثِ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَثُوبَةِ وَثَبَاتَهَا وَثَبَاتَ الْخَيْرِيَّةِ لَهَا لِيَحْصُلَ مَجْمُوعُ مَعَانٍ عَدَلَ عَنِ النَّصْبِ الْمُؤَذِّنِ بِالْفِعْلِ إِلَى الرَّفْعِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْحُدُوثَ بَلِ الثُّبُوتَُُ،

وَيَنْتَقِلُ مِنْ إِفَادَتِهَا الثُّبُوتَ إِلَى إِفَادَةِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ بِالْعُدُولِ عَنْ نَصْبِ الْمَصْدَرِ إِلَى رَفْعِهِ كَمَا فِي سَلامٌ عَلَيْكُمْ والْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] وَدَلَالَتِهَا عَلَى ثَبَاتِ نِسْبَةِ الْخَيْرِيَّةِ لِلْمَثُوبَةِ مِنْ كَوْنِ النِّسْبَةِ مُسْتَفَادَةً مِنْ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَتَيْنِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَصْدَرِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى نِسْبَةٍ لِفَاعِلِهِ فَلَوْ قِيلَ (لَمَثُوبَةً) بِالنَّصْبِ لَكَانَ تَقْدِيره لأثيبوا مَثُوبَةً فَإِذَا حُوِّلَتْ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَرْفُوعِ لَزِمَ أَنْ تُعْتَبَرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النِّسْبَةِ قَبْلَ الرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَصْدَرُ الْمَرْفُوعُ لَا نِسْبَةَ فِيهِ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَمَثُوبَةً لَهُمْ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ سَلَامًا وَحَمْدًا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّكَ تُرِيدُ سَلَّمْتُ سَلَامًا وَحَمِدْتُ حَمْدًا، فَإِذَا قُلْتَ سَلَامٌ وَحَمْدٌ كَانَ التَّقْدِيرُ سَلَامٌ مِنِّي وَحَمْدٌ مِنِّي، وَهَذَا وَجْهُ تَنْظِيرِ «الْكَشَّافِ» وَقَرِينَةُ كَوْنِ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي الْأَصْلِ مَنْصُوبًا وُقُوعُهُ جَوَابًا لِلَوِ الْمُتَأَصِّلِ فِي الْفِعْلِيَّةِ، ثُمَّ إِذَا سَمِعَ قَوْلَهُ (خَيْرُ) عِلْمِ السَّامِعِ أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمَثُوبَةِ بَعْدَ تَحْوِيلِهَا فَاسْتَفَادَ ثَبَاتَ الْخَيْرِيَّةِ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِبَيَانِ إِفَادَةِ الْجُمْلَةِ ثَبَاتَ الْخَيْرِيَّةِ لِلْمَثُوبَةِ لِأَنَّهُ لِصَرَاحَتِهِ لَا يَحْتَاجُ لِلْبَيَانِ فَإِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ خَبَرِهَا لِمُبْتَدَئِهَا. وَبِهَذَا ظهر الترتب لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَثُوبَةِ بِأَنَّهَا خَيْرٌ أَنَّهَا تَثْبُتُ لَهُمْ لَوْ آمَنُوا. وَعِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ فَإِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مُعَلَّقًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا عُلِمَ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَيْئًا يَهُمُّهُمْ. وَلَمَّا كَانَتْ (لَوِ) امْتِنَاعِيَّةً وَوَقَعَ فِي مَوْضِعِ جَوَابِهَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ تَامَّةٌ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مُمْتَنِعٌ ثُبُوتُهُ لِمَنِ امْتَنَعَ مِنْهُ شَرْطُ لَوْ فَيَكُونُ تَنْكِيلًا عَلَيْهِمْ وَتَمْلِيحًا بِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ (لَوْ) لِلتَّمَنِّي عَلَى حَدِّ لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً [الشُّعَرَاء: 102] . وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَوِ الَّتِي لِلتَّمَنِّي هِيَ لَوِ الشَّرْطِيَّةٌ أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَمَنَّى إِنَّ كَانَ مَحْبُوبًا: وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا وَاسْتُدِلَّ عَلَى هَذَا بِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لِلتَّمَنِّي أُجِيبَتْ جَوَابَيْنِ جَوَابًا مَنْصُوبًا كَجَوَابِ لَيْتَ وَجَوَابًا مُقْتَرِنًا بِاللَّامِ كَجَوَابِ الِامْتِنَاعِيَّةِ كَقَوْلِ الْمُهَلْهَلِ: فَلَوْ نَبَشَ الْمَقَابِرَ عَنْ كُلَيِبٍ ... فَيُخْبِرُ بِالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ وَيَوْمَ الشَّعْثَمَيْنِ لَقَرَّ عَيْنَا ... وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: فَيُخْبِرُ وَقَوْلِهِ: لَقَرَّ عَيْنَا. وَالتَّمَنِّي عَلَى تَقْدِيرِهِ مَجَازٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الدُّعَاءِ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَوْ تَمْثِيلٍ لِحَالِ الدَّاعِي لِذَلِكَ بِحَالِ الْمُتَمَنِّي فَاسْتَعْمَلَ لَهُ الْمُرَكَّبَ الْمَوْضُوعَُُ

[سورة البقرة (2) : آية 104]

لِلتَّمَنِّي أَوْ هُوَ مَا لَوْ نَطَقَ بِهِ الْعَرَبِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَنَطَقَ بِالتَّمَنِّي عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: 21] وَنَحْوِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ لَمَثُوبَةٌ مُسْتَأْنِفًا وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ. وَالْمَثُوبَةُ اسْمُ مَصْدَرِ أَثَابَ إِذَا أَعْطَى الثَّوَابَ وَالثَّوَابُ الْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى لِخَيْرِ الْمُعْطِي، وَيُقَالُ ثَوَبَ وَأَثْوَبَ بِمَعْنَى أَثَابَ فَالْمَثُوبَةُ عَلَى وَزْنِ الْمُفْعُولَةِ كَالْمَصْدُوقَةِ وَالْمَشُورَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ. وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شَرْطٌ ثَانٍ مَحْذُوفُ الْجَوَابِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لدلَالَة المثوبة مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَثُوبَةَ اللَّهِ لَمَا اشْتَرَوُا السِّحْرَ. وَلَيْسَ تَكْرِيرُ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ فِي فَوَاصِلِ الْقُرْآنِ بِإِيطَاءٍ لِأَنَّ الْإِيطَاءَ إِنَّمَا يُعَابُ فِي الشِّعْرِ دُونَ النَّثْرِ لِأَنَّ النَّثْرَ إِنَّمَا يَعْتَدُّ فِيهِ بِمُطَابَقَةِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ التَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ النَّفْع الْحق. [104] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 104] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ (¬1) تَطَلُّبُ سَبَبِ نُزُولِهَا لِيَظْهَرَ مَوْقِعُهَا وَوَجْهُ مَعْنَاهَا، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ كَلِمَةَ لَا ذَمَّ فِيهَا وَلَا سَخَفَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيعَةَ وَالْقُرْآنَ يَتَطَلَّبُونَ مِنْهُ الْإِعَادَةَ وَالتَّأَنِّيَ فِي إِلْقَائِهِ حَتَّى يَفْهَمُوهُ وَيَعُوهُ فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ لَا تَتَحَرَّجْ مِنَّا وَارْفُقْ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ يَشْتُمُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَلَوَاتِهِمْ سِرًّا وَكَانَتْ لَهُمْ كَلِمَةً بِالْعِبْرَانِيَّةِ تُشْبِهُ كَلِمَةَ رَاعِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَمَعْنَاهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ سَبٌّ، وَقِيلَ مَعْنَاهَا لَا سَمِعْتَ، دُعَاءً فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كُنَّا نَسُبُّ مُحَمَّدًا سِرًّا فَأَعْلِنُوا بِهِ الْآنَ أَوْ قَالُوا هَذَا وَأَرَادُوا بِهِ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ رَعَنَ إِذَا اتَّصَفَ بِالرُّعُونَةِ وَسَيَأْتِي، فَكَانُوا يَقُولُونَ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ نَاوِينَ بِهَا السَّبَّ فَكَشَفَهُمُ اللَّهُ وَأَبْطَلَ عَمَلَهُمْ بِنَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَوْلِ هَاتِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْمُنَافِقُونَ عَنْهَا وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى سِرِّهِمْ. ¬

(¬1) أَي مثلهَا من الْآيَات الَّتِي نزلت فِي أَحْوَال مُعينَة وَلم يشْرَح فِي أَثْنَائِهَا مَا يفصح عَن سَبَب نُزُولهَا إيجازا واستغناء بِعلم المخاطبين بهَا يَوْم نُزُولهَا بِالسَّبَبِ الَّذِي أوجب نُزُولهَا، فَإِذا لم ينْقل السَّبَب لمن لم يحضرهُ لم يعلم المُرَاد مِنْهَا.

وَمُنَاسَبَةُ نُزُولِ هَاتِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي السِّحْرِ وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَمِّهِ، أَنَّ السِّحْرَ كَمَا قَدَّمْنَا رَاجِعٌ إِلَى التَّمْوِيهِ، وَأَنَّ مِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ مَا هُوَ تَمْوِيهُ أَلْفَاظٍ وَمَا مَبْنَاهُ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمَسْحُورِ بِحَسَبِ نِيَّة السَّاحر وتوجهه النَّفْسِيِّ إِلَى الْمَسْحُورِ، وَقَدْ تَأَصَّلَ هَذَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَاقْتَنَعُوا بِهِ فِي مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ أَذَى الشَّخْصِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَا يُعْلَمُ مَغْزَاهُمَا كَخِطَابِهِ بِلَفْظٍ يُفِيدُ مَعْنًى وَمَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ أَذًى، أَوْ كَإِهَانَةٍ صَوَّرَتْهُ أَوِ الْوَطْءِ عَلَى ظِلِّهِ، كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ فِي حُصُولِ الْأَذَى، كَانَ هَذَا شَبِيهًا بِبَعْضِ ضُرُوبِ السِّحْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِعَارِ مَنِ اسْتَهْوَاهُمُ السِّحْرُ وَاشْتَرَوْهُ نَاسَبَ ذِكْرَ هَاتِهِ الْحَالَةِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى افْتِتَانِهِمْ بِالسِّحْرِ وَحُبِّهِ دُونَ بَقِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَهَاتِهِ الْمُنَاسَبَةُ هِيَ مُوجَبُ التَّعْقِيبِ فِي الذِّكْرِ. وَإِنَّمَا فُصِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَّا قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ فِي تَأْدِيبِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ يَحْصُلُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْيَهُودِ فِي نِفَاقِهِمْ وَأَذَاهُمْ وَالْإِشْعَارُ لَهُمْ بِأَنَّ كَيْدَهُمْ قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ. وَقَدْ كَانُوا يَعُدُّونَ تَفَطُّنَ الْمَسْحُورِ لِلسِّحْرِ يُبْطِلُ أَثَرَهُ فَأَشْبَهُهُ التَّفَطُّنُ لِلنَّوَايَا الْخَبِيثَةِ وَصَرِيحِ الْآيَاتِ قَبْلَهَا فِي أَحْوَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ الْمُنَافِيَةِ لِأُصُولِ دِينِهِمْ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُفْتَتَحَ بِالنِّدَاءِ وَالتَّنْبِيهِ وَنَحْوِهِ نَحْوَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَيَا زَيْدُ وَأَلَّا وَنَحْوَهَا لَا يُنَاسِبُ عَطْفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ بِحَيْثُ لَا يُعْطَفُ إِلَّا بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مُتَرَتِّبًا عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ بَعِيدٌ عَنِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَأَوْسَعُ مِنْ جِهَةِ التَّنَاسُبِ. وراعِنا أَمْرٌ مِنْ رَاعَاهُ يُرَاعِيهِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي رَعَاهُ يَرْعَاهُ إِذَا حَرَسَهُ بِنَظَرِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالتَّلَفِ وَرَاعِي مِثْلَ رَعَى قَالَ طَرَفَةُ: خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى حِفْظِ مَصْلَحَةِ الشَّخْصِ وَالرِّفْقِ بِهِ وَمُرَاقَبَةِ نَفْعِهِ وَشَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَمِنْهُ رَعَاكَ اللَّهُ وَرَعَى ذِمَامَهُ، فَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَاعِنَا) هُوَ فِعْلُ طَلَبٍ مِنَ الرَّعْيِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَيِ الرِّفْقِ وَالْمُرَاقَبَةِ أَيْ لَا تَتَحَرَّجْ مِنْ طَلَبِنَا وَارْفُقْ بِنَا. وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا انْظُرْنا أَبَدَلَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: راعِنا كَلِمَةٌ تُسَاوِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَعَدَدِ الْحُرُوفِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَذَرَّعَ بِهَا الْكُفَّارُ لِأَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الْبَلَاغَةِ فَإِنْ نَظَرَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْنَى حَرَسَ وَصَارَ مَجَازًا عَلَى تَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ هَذَا مِنَ النَّظَرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرِّفْقُ وَالْمُرَاقَبَةُ فِي التَّيْسِيرِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: انْظُرْنا بِضَمِّ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ الظَّاءِ وَأَنَّهُ مِنَ النَّظَرِ لَا مِنَ الِانْتِظَارِ.

[سورة البقرة (2) : آية 105]

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَصْلٍ مِنْ أَصُولِ الْفِقْهِ- وَهُوَ مِنْ أَصُولِ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ- يُلَقَّبُ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَهِيَ الْوَسَائِلُ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى أَمْرٍ مَحْظُورٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْمَعُوا أُرِيدَ بِهِ سَمَاعٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْوَعْيُ وَمَزِيدُ التَّلَقِّي حَتَّى لَا يَحْتَاجُوا إِلَى طَلَبِ الْمُرَاعَاةِ أَوِ النَّظَرِ وَقِيلَ: أَرَادَ مِنِ (اسْمَعُوا) امْتَثِلُوا لِأَوَامِرِ الرَّسُولِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْيَهُودُ خَاصَّةً أَيْ تَأَدَّبُوا أَنْتُمْ مَعَ الرَّسُولِ وَلَا تَتَأَسَّوْا بِالْيَهُودِ فِي أَقْوَالِهِمْ: فَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْكَافِرِينَ دُونَ الْيَهُودِ زِيَادَةٌ فِي ذَمِّهِمْ. وَلَيْسَ هُنَا مِنَ التَّذْيِيلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَصْلُحُ مَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْمِيمِ حُكْمِ الْكَافِرِينَ لِتَذْيِيلِ مَا قبله. [105] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 105] مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهُ فِي تَأْدِيبِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ التَّعْرِيضِ بِالْيَهُودِ وَهَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ حَسَدِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرٌ لِاتِّحَادِ الْمَآلِ وَلِأَنَّ الدَّاعِيَ لِلسَّبِّ وَالْأَذَى هُوَ الْحَسَدُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ رُجُوعٌ إِلَى كَشْفِ السَّبَبِ الَّذِي دَعَا لِامْتِنَاعِ الْيَهُودِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] أَيْ لَيْسَ الصَّارِفُ لَهُمْ تَمَسَّكُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بَلْ هُوَ الْحَسَدُ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرٍ، فَبَيَّنَ أَدِلَّةَ نَفْيِ كَوْنِ الصَّارِفِ لَهُمْ هُوَ التَّصَلُّبُ وَالتَّمَسُّكُ بِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 91] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ وَنَشَأَ عَنْهُ مِنَ الْمُجَادَلَاتِ وَبَيَانِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ أَوَامِرِ دِينِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمُ السِّحْرَ وَبَيَّنَ الْآنَ حَقِيقَة الصَّارِف عَن الْإِيمَان بِالْقُرْآنِ وَالْمُوجَبَ لِلشَّتْمِ وَقَوْلِ الْبُهْتَانِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى بَيَان النّسخ. و (الود) بِضَمِّ الْوَاوِ الْمَحَبَّةُ وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا تَمَنَّاهُ فَلَيْسَ الْوُدُّ هُوَ خُصُوصَ التَّمَنِّي وَلَا الْمَحَبَّةِ

الْمُفْرِطَةِ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ. وَذَكَرَ (الَّذِينَ كَفَرُوا) هُنَا دُونَ الْيَهُودِ لِقَصْدِ شُمُولِ هَذَا الْحُكْمِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَعًا تَمْهِيدًا لِمَا يَأْتِي مِنْ ذِكْرِ حِكْمَةِ النَّسْخِ وَمِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 111] الْآيَاتِ. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ دُونَ مَا يَوَدُّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا كِتَابَهُمْ لِأَنَّ كُتُبَهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ حَيْثُمَا وَجَدُوهُ وَبِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ الْمُقَفَّى عَلَى آثَارِهِمْ وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ فِيهَا أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا حَسَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّبُوءَةِ وَحَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ وَبِهَذَا تَخَلَّصَ الْكَلَامُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَوْعِظَةِ النَّصَارَى مَعَ مَوْعِظَةِ الْيَهُودِ. وَلَمَّا كَانَ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قَدْ يُوهِمُ كَوْنُ الْبَيَانِ قَيْدًا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَلَا الْمُشْرِكِينَ كَالِاحْتِرَاسِ وَلِيَكُونَ جَمْعًا لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي التَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الْبَقَرَة: 114] وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (أَنْ يُنَزَّلَ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً. وَالتَّعْبِيرُ بِالتَّنْزِيلِ دُونَ الْإِنْزَالِ لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ إِذْ الْقُرْآنُ نَزَلَ مُنَجَّمًا لِتَسْهِيلِ حِفْظِهِ وَفَهْمِهِ وَكِتَابَتِهِ وَلِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ تَدْرِيجًا. وَقَرَأَهُ ابْن كثير وَابْن عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً أَيْضًا وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَفْيَ وِدَادَتِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمُطْلَقِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَ دُفْعَةً أَوْ مُنَجَّمًا. وَالْخَيْرُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ، قَالَ النَّابِغَةُ: فَلَسْتُ عَلَى خَيْرٍ أَتَاكَ بِحَاسِدٍ وَأَرَادَ بِهِ هُنَا النُّبُوءَةَ وَمَا أَيَّدَهَا مِنَ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ وَالنَّصْرِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ. وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ عَطْفٌ عَلَى مَا يَوَدُّ لِتَضَمُّنِهِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يُرِيدُونَهُ. وَالرَّحْمَةُ هُنَا مِثْلُ الْخَيْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ هُوَ رَحْمَةٌ بِهِمْ وَمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ جَعْلُهَا لِأَحَدٍ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاخْتِصَاصِ وَالتَّخْصِيصِ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَعْنِي جَعْلَ الْحُكْمِ خَاصًّا غَيْرَ عَامٍّ سَوَاءٌ خَصَّ وَاحِدًا أَوْ أَكَثَرَ. وَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِيهِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ كَلَامٌ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ أَيْ مَنْ يَشَاءُ اخْتِصَاصَهُ بِالرَّحْمَةِ. وَالْمَشِيئَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ وَلَمَّا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُرَادِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى

[سورة البقرة (2) : آية 106]

كَانَتْ مَشِيئَتُهُ أَيْ إِرَادَتُهُ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَيْفِيَّاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ مِنْ تعلقات الْعلم الإلاهي بِإِبْرَازِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 32] فَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِهَا لَا سِيَّمَا الرَّحْمَةِ الْمُرَادُ مِنْهَا النُّبُوءَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْتَصُّ بِهَا مِنْ خَلْقِهِ قَابِلًا لَهَا فَهُوَ يَخْلُقُهُ عَلَى صَفَاءِ سَرِيرَةٍ وَسَلَامَةِ فِطْرَةٍ صَالِحَةٍ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ شَيْئًا فَشَيْئًا قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [يُوسُف: 22] وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: 124] وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ النُّبُوءَةُ حَاصِلَةً بِالِاكْتِسَابِ لِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلنُّبُوءَةِ مَنْ أَرَادَهُ لَهَا لِخَطَرِ أَمْرِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ فَهُوَ مُمْكِنُ الِاكْتِسَابِ كَالصَّلَاحِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهِمَا فَرُبَّ فَاسِقٍ صَلُحَتْ حَالُهُ وَرُبَّ جَاهِلٍ مُطْبِقٍ صَارَ عَالِمًا بِالسَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لِصَاحِبِهَا مِنَ اسْتِعْدَادٍ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ وَعِنَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِعَبْدِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الِاسْتِعْدَادَاتُ لِمَرَاتِبِ الرَّحْمَةِ مِنَ النُّبُوءَةِ فَمَا دُونَهَا غَيْرَ بَادِيَةٍ لِلنَّاسِ طَوَى بِسَاطَ تَفْصِيلِهَا لِتَعَذُّرِهِ وَوُكِلَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمَا عَلِمَهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ رِفْقًا بِأَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْفَضْلَ يَشْمَلُ إِعْطَاءَ الْخَيْرِ وَالْمُعَامَلَةَ بِالرَّحْمَةِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَاجِبَ مُرِيدِ الْخَيْرِ التَّعَرُّضُ لِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَتَجَلَّى عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ فَيَتَخَلَّى عَنِ الْمَعَاصِي وَالْخَبَائِثِ وَيَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَالطَّاعَاتِ عَسَى أَنْ يُحِبَّهُ رَبُّهُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» . [106] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 106] مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْآيَاتِ قَبْلَهَا أَنَّ الْيَهُودَ اعْتَذَرُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] وَأَرَادُوا بِهِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِغَيْرِهِ، وَهُمْ فِي عُذْرِهِمْ ذَلِكَ يَدَّعُونَ أَنَّ شَرِيعَتَهُمْ لَا تُنْسَخُ وَيَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّهُ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْعُهُ مُبْطِلًا لِلتَّوْرَاةِ وَيُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ بِمَا سَمَّوْهُ الْبَدَاءَ وَهُوَ لُزُومُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يَحْسُنُ تَشْرِيعُهُ وَأَنَّهُ يَبْدُو لَهُ الْأَمْرُ ثُمَّ يعرض عَنهُ ويبذل شَرِيعَةً بِشَرِيعَةٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ عُذْرَهُمْ وَفَضَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِهِمْ حَتَّى يَتَصَلَّبُوا فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [الْبَقَرَة: 91] وَقَوْلُهُ:

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ [الْبَقَرَة: 94] إِلَخْ وَبِأَنَّهُمْ لَا دَاعِيَ لَهُمْ غَيْرُ الْحَسَدِ بِقَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَى قَوْلِهِ: ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الْبَقَرَة: 105] الْمُنْبِئِ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْحَسَدُ، فَلَمَّا بَيَّنَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَرَادَ نَقْضَ تِلْكَ السَّفْسَطَةِ أَوِ الشُّبْهَةِ الَّتِي رَامُوا تَرْوِيجَهَا عَلَى النَّاسِ بِمَنْعِ النَّسْخِ. وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذَا هُوَ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَهُوَ أَصْلُ النَّسْخِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ بَعْدَهَا وَيَطْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَحْكَامِ شَرِيعَةٍ بِأَحْكَامٍ تُبْطِلُهَا مِنْ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ عَدَلَ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْيَهُودِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ وَعَطَفَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ [الْبَقَرَة: 108] وَلِقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ شَرِيعَةٍ. وَفِي هَذَا إِعْرَاضٌ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْيَهُودِ لِأَنَّ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ أَهَمُّ وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ لِأَنَّهُ إِذَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَغْيِيرِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِمَصْلَحَةٍ تَظْهَرُ حِكْمَةُ تَغْيِيرِ بَعْضِ الشَّرَائِعِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَهَاتِهِ الْآيَةِ سَبَبَ نُزُولٍ، فَفِي «الْكَشَّاف» و «المعالم» : نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ الْيَهُودُ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» أَنَّ الْيَهُودَ طَعَنُوا فِي تَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ وَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَيْءٍ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ فَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلِذَلِكَ يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (نَنْسَخْ) بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ السِّينِ وَهُوَ أَصْلُ مُضَارِعِ نَسَخَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَكَسْرِ السِّينِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَنْسَخَ مَهْمُوزًا بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ أَيْ نَأْمُرُ بنسخ آيَة. و (مَا) شَرْطِيَّةٌ وَأَصْلُهَا الْمَوْصُولَةُ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ كَانَتِ اسْمًا لِلشَّرْطِ يَسْتَحِقُّ إِعْرَابَ الْمَفَاعِيلِ وَتُبَيَّنُ بِمَا يُفَسِّرُ إِبْهَامَهَا وَهِيَ أَيْضًا تُوجِبُ إِبْهَامًا فِي أَزْمَانِ الرَّبْطِ لِأَنَّ الرَّبْطَ وَهُوَ التَّعْلِيقُ لَمَّا نِيطَ بِمُبْهَمٍ صَارَ مُبْهَمًا فَلَا تَدُلُّ عَلَى زَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَزْمَانِ تَعْلِيقِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ وَرَبْطِهِ بِهِ. و (مِنْ آيَةٍ) بَيَانٌ لِمَا. وَالْآيَةُ فِي الْأَصْلِ الدَّلِيلُ وَالشَّاهِدُ عَلَى أَمر. قَالَ الْحَرْث بْنُ حِلِّزَةَ: مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا ... تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُُُ

وَوَزْنُهَا فِعَلَةٌ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَعَيْنُهَا يَاءٌ أَوْ وَاوٌ قُلِبَتْ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا آيِيُّ أَوْ آوِيُّ. ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْآيَةُ عَلَى الْمُعْجِزَةِ لِأَنَّهَا دَلِيلُ صِدْقِ الرَّسُولِ قَالَ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: 59] . وَتُطْلَقُ الْآيَةُ عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ مَوْعِظَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ إِطْلَاقٌ قُرْآنِيٌّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النَّحْل: 101] وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ مِنْ مَعَانِي الْآيَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَمَارَةَ الَّتِي يُعْطِيهَا الْمُرْسَلُ لِلرَّسُولِ لِيُصَدِّقَهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ وَكَانُوا إِذَا أَرْسَلُوا وِصَايَةً أَوْ خَبَرًا مَعَ رَسُولٍ أَرْفَقُوهُ بِأَمَارَةٍ يُسَمُّونَهَا آيَةً لَا سِيَّمَا الْأَسِيرُ إِذَا أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ بِرِسَالَةٍ كَمَا فَعَلَ نَاشِبٌ الْأَعْوَرُ حِينَ كَانَ أَسِيرًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ بِلْعَنْبَرَ رِسَالَةً وَأَرَادَ تَحْذِيرَهُمْ بِمَا يُبَيِّتُهُ لَهُمْ أَعْدَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَسَرُوهُ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَهُمْ كَذَا بِآيَةِ مَا أَكَلْتُ مَعَكُمْ حَيْسًا. وَقَالَ سُحَيْمٌ الْعَبْدُ: أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهَ يَا فَتًى ... بِآيَةِ مَا جَاءَتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا وَلِذَا أَيْضًا سَمَّوُا الرِّسَالَةَ آيَةً تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مُجَاوِرِهِ عُرْفًا. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ هَنَا حُكْمُ الْآيَةِ سَوَاءٌ أُزِيلَ لَفْظُهَا أَمْ أُبْقِيَ لَفْظُهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حِكْمَةِ إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ لَا إِزَالَةُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ. وَالنَّسْخُ إِزَالَةُ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ آخَرَ قَالَهُ الرَّاغِبُ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ صُورَةٍ أَوْ ذَاتٍ وَإِثْبَاتِ غَيْرِهَا عِوَضَهَا تَقُولُ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ لِأَنَّ شُعَاعَهَا أَزَالَ الظِّلَّ وَخَلَفَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَنَسَخَ الظِّلُّ الشَّمْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ خَيَالَ الْجِسْمِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الْجِسْمِ الْمُسْتَنِيرِ وَبَيْنَ شُعَاعِ الشَّمْسِ الَّذِي أَنَارَهُ قَدْ خَلَفَ الشُّعَاعَ فِي مَوْضِعِهِ وَيُقَالُ نَسَخْتُ مَا فِي الْخَلِيَّةِ مِنَ النَّحْلِ وَالْعَسَلِ إِلَى خَلِيَّةٍ أُخْرَى، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِزَالَةِ فَقَطْ دُونَ تَعْوِيضٍ كَقَوْلِهِمْ نَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ وَعَلَى الْإِثْبَاتِ لَكِنْ عَلَى إِثْبَاتٍ خَاصٍّ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمُزِيلِ، وَأَمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ فَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ وَإِنْ أَوْهَمَهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُمْ نَسَخْتُ الْكِتَابَ إِذَا خَطَطْتَ أَمْثَالَ حُرُوفِهِ فِي صَحِيفَتِكَ إِذْ وَجَدُوهُ إِثْبَاتًا مَحْضًا لَكِنَّ هَذَا تَوَهَّمٌ لِأَنَّ إِطْلَاقَ النَّسْخِ عَلَى مُحَاكَاةِ حُرُوفِ الْكِتَابِ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِالصُّورَةِ أَو تمثيلية بتشبيه الْحَالَةِ بِحَالَةِ مَنْ يُزِيلُ الْحُرُوفَ مِنَ الْكِتَابِ الْأَصْلِيِّ إِلَى الْكِتَابِ الْمُنْتَسَخِ ثُمَّ جَاءَتْ مِنْ ذَلِكَ النُّسْخَةُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] وَقَالَ: وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَعْرَاف: 154] وَأَمَّا قَوْلُهُمُُْ

الْوَلَدُ نُسْخَةٌ مِنْ أَبِيهِ فَمَجَازٌ عَلَى مَجَازٍ. وَلَا يُطْلَقُ النَّسْخُ عَلَى الزَّوَالِ بِدُونِ إِزَالَةٍ فَلَا تَقُولُ نَسَخَ اللَّيْلُ النَّهَارَ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ بَلْ هُوَ الظُّلْمَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنِ انْعِدَامِ الْجَرْمِ الْمُنِيرِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّسْخِ هُنَا الْإِزَالَةُ وَإِثْبَاتُ الْعِوَضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الأصولين بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ فَخَرَجَ التَّشْرِيعُ الْمُسْتَأْنَفُ إِذْ لَيْسَ بِرَفْعٍ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ رَفْعُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالشَّرْعِ الْمُسْتَأْنِفِ. إِذِ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ هِيَ الْبَقَاءُ عَلَى عَدَمِ التَّكْلِيفِ الَّذِي كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَتَعَرَّضُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُبَاحَاتِ إِلَّا فِي مَظِنَّةِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهَا أَوْ فِي مَوْضِعِ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوِ الْوَاجِبَاتِ. فَالْأَوَّلُ نَحْوَ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة: 198] فِي التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ حَيْثُ ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ تَحْرِيمَ التِّجَارَةِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ ذِي الْمَجَازِ (¬1) كَمَا سَيَأْتِي. وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاء: 24] بَعْدَ ذِكْرِ النِّسَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَة: 187] لِحَصْرِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ فِي خُصُوصِ زَمَنِ النَّهَارِ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي التَّعْرِيفِ رَفْعُ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا لَوْلَا رَفْعُهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا زِيَادَةَ قَيْدٍ فِي التَّعْرِيفِ وَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْلُومِ دَوَامُهُ بِخِطَابٍ يَرْفَعُهُ لِيَخْرُجَ عَنْ تَعْرِيفِ النَّسْخِ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُغَيَّى بِغَايَةٍ عِنْدَ انْتِهَاءِ غَايَتِهِ وَرَفْعُ الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَمْرٍ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى التَّكْرَارِ. وَحَيْثُ تَبَيَّنَتْ حِكْمَةُ نَسْخِ الْآيَاتِ عُلِمَ مِنْهُ حِكْمَةُ نَسْخِ الشَّرَائِعِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَأَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِسْلَامِ قَدْ نَسَخَ التَّوْرَاةَ وَزَعَمُوا أَنَّ دَوَامَ التَّوْرَاةِ مَانِعٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 91] وَهُوَ أَحْوَالٌ: الْأَوَّلُ مَجِيءُ شَرِيعَةٍ لِقَوْمٍ مَجِيئًا مُؤَقَّتًا لِمُدَّةِ حَيَاةِ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ بِهَا ¬

(¬1) ذَلِك أَن الْعَرَب كَانُوا إِذا انصرفوا من سوق ذِي الْمجَاز لَيْلَة التَّرويَة يحرمُونَ البيع إِلَى انْقِضَاء الْحَج قَالَ النَّابِغَة يذكر نَاقَته: كَادَت تساقطني رحلي وميئرتي ... بِذِي الْمجَاز وَلم تحسس بِهِ نغما من صَوت حرمية قَالَت وَقد ظعنوا ... هَل فِي مخيمكم من يَشْتَرِي أدما قَالَت لَهَا وَهِي تسْعَى تَحت لبتها ... لَا تحطمنك إِن البيع قد زرما

فَإِذَا تُوُفِّيَ ارْتَفَعَتِ الشَّرِيعَةُ كَشَرِيعَةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَةِ يُوسُفَ وَشَرِيعَةِ شُعَيْبٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ إِلَى قَوْلِهِ: إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غَافِر: 34] وَبَقِيَ النَّاسُ فِي فَتْرَةٍ وَكَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ يُرِيدُ الِاهْتِدَاءَ أَنْ يَتَّبِعَ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ أَوْ بَعْضَهَا كَمَا كَانُوا يَتَّبِعُونَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا جَاءَتْ شَرِيعَةٌ بَعْدَهَا فَلَيْسَتِ الثَّانِيَةُ بِنَاسِخَةٍ لِلْأُولَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهَا نَسْخٌ يُخَيَّرُ النَّاسُ فِي مُتَابَعَتِهَا الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي زَمَنِ الفترة كَمَا إِذا كَانَتْ عَبْسٌ مَثَلًا يَجُوزُ لَهَا اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ بِشَرِيعَتِهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ. الثَّانِي أَنْ تَجِيءَ شَرِيعَةٌ لِقَوْمٍ مَأْمُورِينَ بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا كَشَرْعِ مُوسَى ثُمَّ تَجِيءُ بَعْدَهَا شَرِيعَةٌ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِأَسْرِهَا وَلَكِنَّهَا تَرْفَعُ بَعْضَ أَحْكَامِهَا وَتُثَبِّتُ بَعْضًا كَشَرِيعَةِ عِيسَى فَهَذِهِ شَرِيعَةٌ نَاسِخَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا تَنْسَخُ بَعْضًا وَتُفَسِّرُ بَعْضًا، فَالْمَسِيحُ رَسُولٌ نَسَخَ بَعْضَ التَّوْرَاةِ وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَى نَسْخِهِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَبَاقٍ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فَهُوَ فِي مُعْظَمِهَا مُبَيِّنٌ وَمُذَكِّرٌ وَمُفَسِّرٌ كَمَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلِ أَشْعِيَاءَ وَأَرْمِيَاءَ وَزَكْرِيَاءَ الْأَوَّلِ وَدَانْيَالَ وَأَضْرَابِهِمْ وَلَا يُخَالِفُ هَذَا النَّوْعُ نَسْخَ أَحْكَامِ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا بِكَوْنِهِ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ ثَانٍ. الثَّالِثُ مَجِيءُ شَرِيعَةٍ بَعْدَ أُخْرَى بِحَيْثُ تُبْطِلُ الثَّانِيَةُ الْأُولَى إِبْطَالًا عَامًّا بِحَيْثُ تُعَدُّ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ بَاطِلَةً سَوَاءً فِي ذَلِكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي نَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الثَّانِيَةُ فِيهَا بِشَيْءٍ يُخَالِفُ مَا فِي الْأُولَى أَمْ فِيمَا سَكَتَتِ الشَّرِيعَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ رَفَعَ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَلَقَّى شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ فِيمَا لَمْ يَتَكَلَّمِ الْإِسْلَامُ فِيهِ بِشَيْءٍ بَلْ يَأْخُذُ أَحْكَامَ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ نَاظِرٌ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] . وَقَوْلُهُ: أَوْ نُنْسِها قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ (نُنْسِهَا) بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِسِينٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَاءٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (نَنْسَأْهَا) بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِسِينٍ مَفْتُوحَةٍ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَاءٌ فَعَلَى قِرَاءَةِ تَرْكِ الْهَمْزِ فَهُوَ مِنَ النِّسْيَانِ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعُمُومِ أَيْ نُنْسِ النَّاسَ إِيَّاهَا وَذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ قِرَاءَتِهَا حَتَّى يَنْسَاهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْهَمْزِ فَالْمَعْنَى أَوْ نُؤَخِّرُهَا أَيْ نُؤَخِّرُ تِلَاوَتَهَا أَوْ نُؤَخِّرُ الْعَمَلَ بِهَا وَالْمُرَادُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِقِرَاءَتِهَا أَوْ بِحُكْمِهَا

فَكُنِّيَ عَنْهُ بالنسء وَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ مُقَابِلٌ لِلنَّسْخِ وَهُوَ أَنْ لَا يُذَكِّرَ الرَّسُولُ النَّاسَ بِالْعَمَلِ بِحُكْمٍ مَشْرُوعٍ وَلَا يَأْمُرُ مَنْ يَتْرُكُهُ بِقَضَائِهِ حَتَّى يَنْسَى النَّاسُ الْعَمَلَ بِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَائِمًا لَمَا سَكَتَ الرَّسُولُ عَنْ إِعَادَةِ الْأَمْرِ بِهِ وَلَمَا أُقِرَّ تَارِكُهُ عِنْدَ مُوجِبِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ أَجِدْ لِهَذَا مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ وَنَظِيرُهُ فِي السُّنَّةِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلِذَلِكَ كَانَ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَقُولُ مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. وَمَعْنَى النَّسْءِ مُشْعِرٌ بِتَأْخِيرٍ يَعْقُبُهُ إِبْرَامٌ وَحِينَئِذٍ فَالْمَعْنَى بَقَاءُ الْحُكْمِ مُدَّةً غَيْرَ مَنْسُوخٍ أَوْ بَقَاءُ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ مُدَّةً غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ. أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ إِنْسَاءَ الْآيَةِ بِمَعْنَى تَأْخِيرِ مَجِيئِهَا مَعَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ وَالِاحْتِمَالَاتُ الْمَفْرُوضَةُ فِي نَسْخِ حُكْمٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ تَتَأَتَّى فِي نَسْخِ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ وَإِنْسَائِهَا أَوْ نَسْئِهَا. وَقَوْلُهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها جَوَابُ الشَّرْطِ وَجَعْلُهُ جَوَابًا مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ وَهُمَا النَّسْخُ وَالْإِنْسَاءُ أَوِ النَّسْءُ لَا يُفَارِقَانِ حَالَيْنِ وَهُمَا الْإِتْيَانُ فِي وَقْتِ النَّسْخِ وَوَقْتِ الْإِنْسَاءِ بِشَيْءٍ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٌ مِنَ الْمَنْسِيِّ أَوِ الْمَنْسُوءِ أَوْ مِثْلِهِ فَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَعَ النَّسْخِ هُوَ النَّاسِخُ مِنْ شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ وَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَعَ الْإِنْسَاءِ مِنَ النِّسْيَانِ هُوَ النَّاسِخُ أَيْضًا مِنْ شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ هُوَ مَا يَجِيءُ مِنَ الْأَحْكَامِ غَيْرُ نَاسِخٍ وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ مُخَالِفٌ يَنْزِلُ بَعْدَ الْآخَرِ وَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَعَ النَّسْءِ أَيِ التَّأْخِيرِ هُوَ مَا يُقَارِنُ الْحُكْمَ الْبَاقِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ فِي مُدَّةِ عَدَمِ النَّسْخِ. وَقَدْ أَجْمَلْتُ جِهَةَ الْخَيْرِيَّةِ وَالْمِثْلِيَّةِ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فَتَجِدُهُ مُرَادًا إِذِ الْخَيْرِيَّةُ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِمَالُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَصْلَحَةَ النَّاسِ، أَوْ مَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَضَرَّةً، أَوْ مَا فِيهِ جَلْبُ عَوَاقِبَ حَمِيدَةٍ، أَوْ مَا فِيهِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ، أَوْ مَا فِيهِ رِفْقٌ بِالْمُكَلَّفِينَ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ فِي مَوَاضِعِ الشِّدَّةِ وَإِنْ كَانَ حَمْلُهُمْ عَلَى الشِّدَّةِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مَصْلَحَةً. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالَاتِ النَّسْخِ وَالْإِنْسَاءِ أَوِ النَّسْءِ هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمِثْلِ مَعًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنْهُمَا لَا تَخْلُو مِنَ الِاشْتِمَالِ عَلَى الْخَيْرِ مِنْهَا أَوِ الْمِثْلِ لَهَا فَلِذَلِكَ جِيءَ بَأَوْ فِي قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها فَهِيَ مُفِيدَةٌ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَعَ جَوَازِ الْجَمْعِ.

وَتَحْقِيقُ هَاتِهِ الصُّوَرِ بِأَيْدِيكُمْ، وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ أَمْثَالًا تُرْشِدُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَتُغْنِي عَنِ الْبَقِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْتِزَامِ الدَّرَجِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ فَنَقُولُ: (1) نَسْخُ شَرِيعَةٍ مَعَ الْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهَا كَنَسْخِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالْإِسْلَامِ. (2) نَسْخُ شَرِيعَةٍ مَعَ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا كَنَسْخِ شَرِيعَةِ هُودٍ بِشَرِيعَةِ صَالِحٍ فَإِنَّ لِكُلٍّ فَائِدَةً مُمَاثِلَةً لِلْأُخْرَى فِي تَحْدِيدِ أَحْوَالِ أُمَّتَيْنِ مَتَقَارِبَتَيِ الْعَوَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ فَهُودٌ نَهَاهُمْ أَنْ يَبْنُوا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً يَعْبَثُونَ وَصَالِحٌ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ وَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِلنَّاقَةِ بِسُوءٍ. (3) نَسْخُ حُكْمٍ فِي شَرِيعَةٍ بِخَيْرٍ مِنْهُ مِثْلُ نَسْخِ كَرَاهَةِ الْخَمْرِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ [الْبَقَرَة: 219] بِتَحْرِيمِهَا بَتَاتًا فَهَذِهِ النَّاسِخَةُ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ دُونَ الرِّفْقِ وَقَدْ يَكُونُ النَّاسِخُ خَيْرًا فِي الرِّفْقِ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقُرْبَانِ النِّسَاءِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ بَعْدَ وَقْتِ الْإِفْطَارِ عِنْدَ الْغُرُوبِ إِذَا نَامَ الصَّائِمُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَة: 187] قَالَ فِي الْحَدِيثِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنُزُولِهَا. (4) نَسْخُ حُكْمٍ فِي الشَّرِيعَةِ بِحُكْمٍ مِثْلِهِ كَنَسْخِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِتَعْيِينِ الْفَرَائِضِ وَالْكُلُّ نَافِعٌ لِلْكُلِّ فِي إِعْطَائِهِ مَالًا، وَكَنَسْخِ فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ مَعَ جَعْلِ ثَوَابِ الْخَمْسِينَ لِلْخَمْسِ فَقَدْ تَمَاثَلَتَا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ، وَكَنَسْخِ آيَةِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [الْبَقَرَة: 184] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَة: 185] إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 184] فَأثْبت كَوْنِ الصَّوْمِ خَيْرًا مِنَ الْفِدْيَةِ. (5) إِنْسَاءٌ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ لِشَرِيعَةٍ مَعَ مَجِيءِ خَيْرٍ مِنْهَا، تَأْخِيرُ ظُهُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي حِينِ الْإِتْيَانِ بِشَرَائِعَ سَبَقَتْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا هِيَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَّةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا وَالْعَصْرِ الَّذِي شُرِعَتْ فِيهِ فَإِنَّ الشَّرَائِعَ تَأْتِي لِلنَّاسِ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ حَتَّى يَتَهَيَّأَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ لِقَبُولِ الشَّرِيعَةِ الْخَاتِمَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ فَالْخَيْرِيَّةُ هُنَا بِبَعْضِ مَعَانِيهَا وَهِيَ نِسْبِيَّةٌ. (6) إِنْسَاءُ شَرِيعَةٍ بِمَعْنَى تَأْخِيرِ مَجِيئِهَا مَعَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وُقُوعَهُ بَعْدَ حِينٍ وَمَعَ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا كَتَأْخِيرِ شَرِيعَةِ عِيسَى فِي وَقْتِ الْإِتْيَانِ بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَهِيَ خَيْرٌ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ الِاشْتِمَالِ عَلَى مُعْظَمِ الْمَصَالِحِ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ. (7) إِنْسَاءٌ بِمَعْنَى تَأْخِيرِ الْحُكْمِ الْمُرَادِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهُ كَتَأْخِيرِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَهُوَ مُرَادٌ مَعَ الْإِتْيَانِ بِكَرَاهَتِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَقَطْ فَإِنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ خَيْرٌ مِنَ التَّحْرِيمِ مِنْ حَيْثُ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ شَيْءٍ افْتَتَنُوا بِمَحَبَّتِهِ. (8) إِنْسَاءُ شَرِيعَةٍ بِمَعْنَى بَقَائِهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ مَعَ الْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَيْ أَوْسَعُ وَأَعَمُّ مَصْلَحَةً وَأَكْثَرُ

ثَوَابًا لَكِنْ فِي أُمَّةٍ أُخْرَى أَوْ بِمِثْلِهَا كَذَلِكَ. (9) إِنْسَاءُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَعْنَى بَقَائِهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ مَعَ الْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي بَابٍ آخَرَ أَعَمُّ مَصْلَحَةً أَوْ بِمِثْلِهَا فِي بَابٍ آخَرَ أَيْ مِثْلِهَا مَصْلَحَةً أَوْ ثَوَابًا مِثْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي وَقْتِ الصَّلَوَاتِ وَيَنْزِلُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. (10) نِسْيَانُ شَرِيعَةٍ بِمَعْنَى اضْمِحْلَالُهَا كَشَرِيعَةِ آدَمَ وَنُوحٍ مَعَ مَجِيءِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَهِيَ أَفْضَلُ وَأَوْسَعُ وَشَرِيعَةِ إِدْرِيسَ مَثَلًا وَهِيَ مِثْلُ شَرِيعَةِ نُوحٍ. (11) نِسْيَانُ حُكْمِ شَرِيعَةٍ مَعَ مَجِيءِ خَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ، كَانَ فِيمَا نَزَلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِيَا مَعًا وَجَاءَتْ آيَةُ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النِّسَاء: 23] عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْكُلُّ مُتَمَاثِلٌ فِي إِثْبَاتِ الرَّضَاعَةِ وَلَا مَشَقَّةَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي رَضْعَةٍ أَوْ عَشْرٍ لِقُرْبِ الْمِقْدَارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ النِّسْيَانِ التَّرْكُ وَهُوَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ وَصُوَرُهُ إِلَى مَعْنَى وَصُوَرِ الْإِنْسَاءِ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها إِظْهَارُ مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَهُمُّهُمْ أَنْ تُنْسَخَ شَرِيعَةٌ بِشَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٌ فِي شَرِيعَةٍ بِحُكْمٍ آخَرَ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي حِكْمَتِهِ وَلَا رُبُوبِيَّتِهِ لِأَنَّهُ مَا نَسَخَ شَرْعًا أَوْ حُكْمًا وَلَا تَرَكَهُ إِلَّا وَهُوَ قَدْ عَوَّضَ النَّاسَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْهُ حِينَئِذٍ أَوْ مَا هُوَ مِثْلُهُ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَمَا أَخَّرَ حُكْمًا فِي زَمَنٍ ثُمَّ أَظْهَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَوَّضَ النَّاسَ فِي إِبَّانِ تَأْخِيرِهِ مَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ مَظْهَرُ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ يَرُبُّ الْخَلْقَ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالرَّحْمَةِ، وَمُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَاحِدٌ وَهُوَ حِفْظُ نِظَامِ الْعَالَمِ وَضَبْطُ تَصَرُّفِ النَّاسِ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَعْصِمُ أَحْوَالَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَالِ بِحَسَبِ الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ وَالْأَحْوَالِ إِلَى أَنْ جَاءَ بِالشَّرِيعَةِ الْخَاتِمَةِ وَهِيَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَقَالَ أَيْضًا: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِخَيْرٍ أَوْ بِمِثْلٍ رَاجِعٌ إِلَى كُلٍّ مِنَ النَّسْخِ وَالْإِنْسَاءِ فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِخَيْرٍ مِنَ الْمَنْسُوخَةِ أَوِ الْمُنْسَاةِ أَوْ بِمِثْلِهَا وَلَيْسَ الْكَلَامُ مِنَ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها هُوَ إِمَّا إِتْيَانُ تَعْوِيضٍ أَوْ إِتْيَانُ تَعْزِيزٍ. وَتَوْزِيعُ هَذَا

الضَّابِطِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ غَيْرُ عَزِيزٍ. وَالْمَعْنَى إِنَّا لَمْ نَتْرُكِ الْخَلْقَ فِي وَقْتٍ سُدًى، وَأَنْ لَيْسَ فِي النَّسْخِ مَا يتَوَهَّم مِنْهُ البداء. وَفِي الْآيَةِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فِي التَّقْسِيمِ قَدْ جَمَعَ هَاتِهِ الصُّوَرَ الَّتِي سَمِعْتُمُوهَا وَصُوَرًا تَنْشَقُّ مِنْهَا لَا أَسْأَلُكُمُوهَا لِأَنَّهُ مَا فُرِضَتْ مِنْهَا صُورَةٌ بَعْدَ هَذَا إِلَّا عَرَفْتُمُوهَا. وَمِمَّا يَقِفُ مِنْهُ الشَّعْرُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ النَّظَرُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: نُنْسِها أَنَّهُ إِنْسَاءُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ لِلْآيَةِ أَوْ لِلسُّورَةِ، أَيْ إِذْهَابُهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ أَوْ إِنْسَاؤُهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا فَيَكُونُ نِسْيَانُ النَّاسِ كُلِّهِمْ لَهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ دَلِيلًا عَلَى النَّسْخِ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ «قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ فَغَدَيَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُمَا: «إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ وَأُنْسِيَ فَالْهُوَا عَنْهَا» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ أَغْرَبَ بِهِ الطَّبَرَانِيُّ وَكَيْفَ خَفَى مِثْلُهُ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ نِسْيَانَ النَّبِيءِ مَا أَرَادَ اللَّهُ نَسْخَهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُثْبِتَهُ قُرْآنًا جَائِزٌ، أَيْ لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ آفَةٌ فِي الْبَشَرِ فَالنَّبِيءُ مَعْصُومٌ عَنْهُ قَبْلَ التَّبْلِيغِ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّبْلِيغِ وَحِفْظِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ فَجَائِزٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَسْقَطَ آيَةً مِنْ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لِأُبَيٍّ لِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي قَالَ حَسِبْتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا اهـ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ النِّسْيَانَ الْعَارِضَ الَّذِي يُتَذَكَّرُ بَعْدَهُ جَائِزٌ وَلَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ لِمُنَافَاتِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وَأَمَّا النِّسْيَانُ الْمُسْتَمِرُّ لِلْقُرْآنِ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: 7] هُوَ مِنْ بَابِ التَّوْسِعَةِ فِي الْوَعْدِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ بِبَرَاءَةٌ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا وَمَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ اهـ. فَهُوَ غَرِيبٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنْ هُنَالِكَ سُورَةً نُسِخَتْ قِرَاءَتُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَنِسْيَانُ الْمُسْلِمِينَ لِمَا نُسِخَ لَفْظُهُ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ عَجِيبٍ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ اهـ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ وَاقِعٌ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ وَوُقُوعِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ فَقِيلَ: إِنَّ خِلَافَهُ لَفْظِيٌّ وَتَفْصِيلُ

[سورة البقرة (2) : آية 107]

الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَدْ قَسَّمُوا نَسْخَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ وَمَدْلُولَاتِهَا إِلَى أَقْسَامٍ: نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ مَعًا وَهُوَ الْأَصْلُ وَمَثَّلُوهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ التِّلَاوَةِ وَهَذَا وَاقِعٌ لِأَنَّ إِبْقَاءَ التِّلَاوَةِ يُقْصَدُ مِنْهُ بَقَاءُ الْإِعْجَازِ بِبَلَاغَةِ الْآيَةِ وَمِثَالُهُ آيَةُ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ [الْأَنْفَال: 65] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ وَمَثَّلُوهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: كَانَ فِيمَا يُتْلَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَبَقَاءِ الْحُكْمِ وَقَدْ تَأَوَّلُوا قَوْلَ عُمَرَ كَانَ فِيمَا يُتْلَى أَنَّهُ كَانَ يُتْلَى بَيْنَ النَّاسِ تَشْهِيرًا بِحُكْمِهِ. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرَى أَنَّ الْآيَةَ إِذَا نُسِخَ حُكْمُهَا لَا تَبْقَى كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ فَفِي الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: 234] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ. [107] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 107] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) . مَسُوقٌ لبَيَان حِكْمَة النّسخ وَالْإِتْيَانِ بِالْخَيْرِ وَالْمِثْلِ بَيَانًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ الَّذِي اسْتَبْعَدُوهُ وَتَذَرَّعُوا بِهِ لِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ هُوَ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِتَعْوِيضِ الْمَنْسُوخِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ تَعْزِيزِ الْمُبَقَّى بِمِثْلِهِ أُرِيدَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى كَشْفِ مَا بَقِيَ مِنَ الشُّبْهَةِ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمُنْكِرُ وَمَا هِيَ الْفَائِدَةُ فِي النَّسْخِ حَتَّى يَحْتَاجَ لِلتَّعْوِيضٍ؟ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَتَصَدَّى لِبَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَمُنَاسَبَتِهَا لِلْأَحْوَالِ وَالْأَعْصَارِ وَلِبَيَانِ تَفَاصِيلِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْمِثْلِيَّةِ فِي كُلِّ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ. وَلَمَّا كَانَ التَّصَدِّي لِذَلِكَ أَمْرًا لَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ عُقُولُ السَّامِعِينَ لِعُسْرِ إِدْرَاكِهِمْ مَرَاتِبَ الْمَصَالِحِ وَتَفَاوُتِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْصِيلِ قَوَاعِدٍ مِنْ أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، عَدَلَ بِهِمْ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ وَأُجْمِلَتْ لَهُمُ الْمَصْلَحَةُ بِالْحِوَالَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَشِذُّ عَنْهَا مُمْكِنٌ مُرَادٌ، وَعَلَى سَعَةِ مُلْكِهِ الْمُشْعِرِ بِعَظِيمِ عِلْمِهِ، وَعَلَى حَاجَةِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ رَبٌّ سِوَاهُ وَلَا وَلِيٌّ دُونَهُ وَكَفَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُهُمْ

عَلَى مَصَالِحِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْعُدُولَ تَوْجِيهًا أَنَّ التَّصَدِّيَ لِلْبَيَانِ يَفَتْحُ بَابَ الْجِدَالِ فِي إِثْبَاتِ الْمَصْلَحَةِ وَتَفَاوُتِ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ. وَلِأَنَّ أَسْبَابَ التَّشْرِيعِ وَالنَّسْخِ أَقْسَامٌ، مِنْهُ مَا ظَهَرَ وَجْهُهُ بِالنَّصِّ فَيُمْكِنُ إِفْهَامُهُمْ إِيَّاهُ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الْمَائِدَة: 91] الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: 43] الْآيَةَ وَنَحْوَ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الْأَنْفَال: 66] الْآيَةَ. وَمِنْهَا مَا يَعْسُرُ إِفْهَامُهُمْ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَتَفْصِيلٍ مِنْ شَأْنِ الْمُشَرِّعِينَ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي عُرِفَتْ بِالْقِيَاسِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ. وَمِنْهَا مَا لَمْ يُطْلَعْ عَلَى حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِيمَا يَلِيهِ، وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ هَاتِهِ التَّفَاصِيلِ يعسر أَو يتَعَذَّر إِفْهَامُهُمْ إِيَّاهُ وَقَعَ الْعُدُولُ الْمَذْكُورُ. وَلِكَوْنِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِلْأُولَى فُصِلَتْ عَنْهَا. وَالْخِطَابُ فِي تَعْلَمْ لَيْسَ مُرَادًا مِنْهُ ظَاهِرَةُ الْوَاحِدِ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ إِمَّا خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ خَارِجٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِتَشْبِيهِ مَنْ لَيْسَ حَاضِرًا لِلْخِطَابِ وَهُوَ الْغَائِبُ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ فِي كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُخَاطَبًا لِشُهْرَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ صَالِحٍ لَهُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَظُنُّ بِهِ أَوْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَوْ بِعَدَمِ جَرَيَانِهِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ، وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ الْقُطْبُ وَالطِّيبِيُّ مِنْ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» وَعَلَيْهَا يَشْمَلُ هَذَا الْخِطَابُ ابْتِدَاءَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ وَمَنْ عَسَى أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَتُرَوَّجَ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَغَنِيٌّ عَنِ التَّقْرِيرِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا أُدْخِلَ فِيهِ لِيَسْمَعَ غَيْرُهُ. وَإِمَّا مُرَادٌ بِهِ ظَاهِرُهُ وَهُوَ الْوَاحِدُ فَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ هُوَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ فَيَنْتَقِلُ مِنْ خِطَابِ النَّبِيءِ إِلَى مُخَاطَبَةِ أُمَّتِهِ انْتِقَالًا كِنَائِيًّا لِأَنَّ عِلْمَ الْأُمَّةِ مِنْ لَوَازِمِ عِلْمِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولٌ لُزُومًا عُرْفِيًّا فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِهِ بِعُنْوَانِ الرِّسَالَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أُمَّتُهُ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ فِي بَابِ الْعَقَائِدِ وَالتَّشْرِيعِ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ فَتَارَةً يُرَادُ مِنَ الْخِطَابِ تَوَجُّهُ مَضْمُونِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ وَلِأُمَّتِهِ وَتَارَةً يُقْصَدُ مِنْهُ تَوَجُّهُ الْمَضْمُونِ لِأُمَّتِهِ فَقَطْ على قَاعِدَة الْكِنَايَة فِي جَوَازِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ مَعَ الْكِنَائِيِّ، وَهَاهُنَا لَا يَصْلُحُ تَوَجُّهُ الْمَضْمُونِ لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَرِّرُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْكِرَ عَنْهُ وَإِنَّمَا التَّقْرِيرُ لِلْأُمَّةِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ تِلْكَ الْكِنَايَةِ التَّعْرِيضُ بِالْيَهُودِ. وَإِنَّمَا سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ

[سورة البقرة (2) : آية 108]

دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْمُبَالَغَةِ مَعَ الْإِيجَازِ فِي لَفْظِ الضَّمِيرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ شَأْنُ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّفْيِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 33] أَيْ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَا يَجْرِي فِيهِمَا مِنَ الْأَحْوَالِ، فَهُوَ مُلْكُهُ أَيْضًا فَهُوَ يُصَرِّفُ الْخَلْقَ كَيْفَ يَشَاءُ. وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّهُ تَقْرِيرِيٌّ وَصَرَّحَ بِهِ الْقُطْبُ فِي «شَرْحِهِ» وَلَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِفْهَامٌ دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ إِلَّا وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ التَّقْرِيرُ. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ مُتَنَزِّلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ قَدِيرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلِذَا فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَعِنْدِي أَنَّ مُوجِبَ الْفَصْلِ هُوَ أَنْ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ بِمَنْزِلَةِ التَّكْرِيرِ لِلْأُولَى لِأَنَّ مَقَامَ التَّقْرِيرِ وَمَقَامَ التَّوْبِيخِ كِلَاهُمَا مَقَامُ تَكْرِيرٍ لِمَا بِهِ التَّقْرِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَعْدِيدًا على الْمُخَاطب. [108] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) (أَمْ) حَرْفُ عَطْفٍ مُخْتَصٌّ بِالِاسْتِفْهَامِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ (¬1) فَإِذَا عَطَفْتَ أَحَدَ مُفْرَدَيْنِ مُسْتَفْهِمًا عَنْ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا أَوْ مُسَوًّى بَيْنَهُمَا فِي احْتِمَالِ الْحُصُولِ فَهِيَ بِمَعْنَى (أَوِ) الْعَاطِفَةِ وَيُسَمِّيهَا النُّحَاةُ مُتَّصِلَةً، وَإِذَا وَقَعَتْ عَاطِفَةً جُمْلَةً دَلَّتْ عَلَى انْتِقَالٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِلَى اسْتِفْهَامٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى بَلِ الِانْتِقَالِيَّةِ وَيُسَمِّيهَا النُّحَاةُ مُنْقَطِعَةً وَالِاسْتِفْهَامُ مُلَازِمٌ لِمَا بَعْدَهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَهِيَ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهَا فِي مَعْنَى الْخَبَرُ لِأَنَّهُمَا لِلتَّقْرِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّ وُقُوعَهُمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَوْ لِلتَّقْرِيرِ يَحْسُنُ موقع (أم) بعد هما كَمَا هُوَ الْغَالِبُ والاستفهام الَّذِي بعد هما هُنَا إِنْكَارٌ وَتَحْذِيرٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ تَامَّةٌ فَإِنَّ التَّقْرِيرَ ¬

(¬1) لِأَن التَّحْقِيق أَن همزَة التَّسْوِيَة همزَة اسْتِفْهَام تدل على اسْتِوَاء أَمريْن بِمَعْنى اسْتِوَاء الْجَواب لَو سَأَلَ سَائل عَن أحد أَمريْن.

الَّذِي قَبْلَهَا مُرَادٌ مِنْهُ التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَلَطِ وَأَنْ يَكُونُوا كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي بَعْدَهَا مُرَادٌ مِنْهُ التَّحْذِيرُ كَذَلِكَ وَالْمُحَذَّرُ مِنْهُ فِي الْجَمِيعِ مُشْتَرَكٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ الْمَذْمُومَةِ وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ (أَمْ) هُنَا مُتَّصِلَةً لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهَا لَيْسَا عَلَى حَقِيقَتِهِمَا لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ جَوَّزَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» كَوْنَ (أَمْ) هُنَا مُتَّصِلَةً بِوَجْهٍ مَرْجُوحٍ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَتَكَلَّفَا لِذَلِكَ مِمَّا لَا يُسَاعِدُ اسْتِعْمَالَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَأَفْرَطَ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» فَزَعَمَ أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْمُتَّصِلَةِ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ فَاعِلِ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِأَمْ وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا سَأَلُوا سُؤَالَ قَوْمِ مُوسَى فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِنَّمَا قَصَدُوا التَّعَنُّتَ وَكَانَ الْجَمِيعُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ عَدَمِ صَلُوحِيَّةِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ السَّابِقَيْنِ لِلْحَمْلِ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَوْلُهُ: تُرِيدُونَ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: رَسُولَكُمْ وَلَيْسَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ بِمُرَجَّحٍ كَوْنَ الْخِطَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْكَلَامِ بَعْدَ (أَمِ) الْمُنْقَطِعَةِ يَسْمَحُ بِانْتِقَالِ الْخِطَابِ. وَقَوْلُهُ: تُرِيدُونَ يُؤْذَنُ بِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ رُبَّمَا جَاشَ فِي نُفُوسِ بَعْضِهِمْ أَوْ رُبَّمَا أَثَارَتْهُ فِي نُفُوسِهِمْ شُبَهُ الْيَهُودِ فِي إِنْكَارِهِمُ النَّسْخَ وَإِلْقَائِهِمْ شُبْهَةَ الْبَدَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَبْعَثُ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سُؤَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: كَما سُئِلَ مُوسى تَشْبِيةٌ وَجْهُهُ أَنَّ فِي أَسْئِلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى كَثِيرًا مِنَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي تُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ كَقَوْلِهِمُ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: 138] أَوْ مِنَ الْعَجْرَفَةِ كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَة: 55] فَيَكُونُ التَّحْذِيرُ مِنْ تَسَلْسُلِ الْأَسْئِلَةِ الْمُفْضِيَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ رَاجِعًا إِلَى أَسْئِلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِمْ وَعَمَّا يَجُرُّ لَهُمُ الْمَشَقَّةَ كَقَوْلِهِمْ مَا لَوْنُها [الْبَقَرَة: 69] وَمَا هِيَ [الْبَقَرَة: 70] . قَالَ الْفَخْرُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورٍ لَا خَيْرَ لَهُمْ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا لِيَعْلَمُوهَا كَمَا سَأَلَ الْيَهُودُ مُوسَى اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَسْبَابًا أُخْرَى لِلنُّزُولِ، مِنْهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ لَمَّا مَرُّوا بِذَاتِ الْأَنْوَاطِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مِثْلَهَا وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَخْبَارٍ ضَعِيفَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لِمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَإِنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْإِنْكَارِ التَّحْذِيرِيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ قَصْدًا لِلْوِصَايَةِ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْوِصَايَةِ وَالتَّحْذِيرِ لَا يَقْتَضِيَانِ

وُقُوعَ الْفِعْلِ بَلْ يَقْتَضِيَانِ عَدَمَهُ. وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنْ تَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي صَلَاحِيَّةِ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ نَسْخِهَا لَا فِي صَلَاحِيَّةِ الْأَحْكَامِ النَّاسِخَةِ عِنْدَ وُقُوعِهَا. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ تَذْيِيلٌ لِلتَّحْذِيرِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ كُفْرٌ أَوْ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ يُنَافِي حُرْمَةَ الرَّسُولِ وَالثِّقَةَ بِهِ وَبِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ أَحْوَالُ أَهْلِ الْكُفْرِ أَيْ لَا تَتَبَدَّلُوا بِآدَابِكُمْ تَقَلُّدَ عَوَائِدِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي سُؤَالِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» : «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» وَإِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كُفْرًا شَائِعٌ فِي أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ وَأَلْفَاظِ السَّلَفِ كَمَا قَالَتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ زَوْجَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: «إِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ» تُرِيدُ الزِّنَا، فَإِذن ذِكْرَ جُمْلَةٍ بَعْدَ جُمْلَةٍ يُؤْذِنُ بِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاضِحَ التَّنَاسُبِ عَلِمَ الْمُخَاطَبُ أَنَّ هُنَالِكَ مُنَاسَبَةً يَرْمُزُ إِلَيْهَا الْبَلِيغُ فَهُنَا تَعْلَمُ أَنَّ الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ مَعْنًى كُلِّيٌّ عَامٌّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ سُؤَالُهُمُ الرَّسُولَ كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى فَتَكُونُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ كُفْرًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّذْيِيلِ الْمُعَرَّفِ فِي بَابِ الْإِطْنَابِ بِأَنَّهُ تَعْقِيبُ الْجُمْلَةِ بِجُمْلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى مَعْنَاهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْحُجَّةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ تَأْكِيدُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَزِيَادَةٌ فَالتَّذْيِيلُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِطْنَابِ مِنْ حَيْثُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَقْرِيرِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَيَزِيدُ عَلَيْهِ بِفَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِفَائِدَةِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَأَبْدَعُهُ مَا أُخْرِجَ مُخْرَجَ الْأَمْثَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ وَوَجِيزِ اللَّفْظِ مِثْلَ هَاتِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لَا تَلُمُّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ وَالْمُؤَكَّدُ بِجُمْلَةِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ هُوَ مَفْهُومُ جُمْلَةِ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَا مَنْطُوقُهَا فَهِيَ كَالتَّذْيِيلِ الَّذِي فِي بَيْتِ النَّابِغَةِ. وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ يَتَبَدَّلِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: 61] . وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: فَقَدْ ضَلَّ جَوَابًا لِمَنِ الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الضَّلَالِ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الْحَاصِلُ عَقِبَ تَبَدُّلِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ وَلَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِ الْجَوَابِ مُتَرَتِّبًا عَلَى الشَّرْطِ وَلَا يُرِيبُكَ فِي ذَلِكَ وُقُوعُ جَوَابِ الشَّرْطِ فِعْلًا مَاضِيًا مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا اقْتِرَانُ الْمَاضِي بِقَدِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحَقُّقِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ يَأْتُونَ بِالْجَزَاءِ مَاضِيًا لِقَصْدُُِ

الدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مَعَهُ حَتَّى إِنَّه عِنْد مَا يَحْصُلُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ يَكُونُ الْجَزَاءُ قَدْ حَصَلَ فَكَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ الشَّرْطِ نَحْوَ: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى [طه: 81] وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يُحْمَلُ كُلُّ جَزَاءٍ جَاءَ مَاضِيًا فَإِنَّ الْقَرِينَةَ عَلَيْهِ أَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ قَدْ عَلَامَةً عَلَى هَذَا الْقَصْدِ وَلِهَذَا قَلَّمَا خَلَا جَوَابٌ مَاضٍ لِشَرْطٍ مُضَارِعٍ إِلَّا وَالْجَوَابُ مُقْتَرِنٌ بِقَدْ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ غَيْرَ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ بِخِلَافِهِ مَعَ قَدْ فَكَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْجَزَاءَ مَاضِيًا مُرِيدِينَ أَنَّ حُصُولَ مَضْمُونِ الشَّرْطِ كَاشِفٌ عَنْ كَوْنِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ قَدْ حَصَلَ أَوْ قَدْ تَذَكَّرَهُ النَّاسُ نَحْوَ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُف: 77] وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ تَحْقِيقُ الْجَزَاءِ فِي مِثْلِهِ هُوَ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْجَوَابُ مِنْ مَعْنَى الِانْكِشَافِ أَوِ السَّبْقِ أَوْ غَيْرِهِمَا بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ فَلَا تَعْجَبْ إِذْ قَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ (¬1) وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ حَتَّى وَقَعَ فِي الِارْتِدَادِ كَمَا تَقُولُ مَنْ وَقَعَ فِي الْمَهْوَاةِ فَقَدْ خَبَطَ خَبْطَ عَشْوَاءٍ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَاضِي أَنَّهُ حَصُلَ وَأُرِيدَ بِالضَّلَالِ مَا حَفَّ بِالْمُرْتَدِّ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْخِذْلَانِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَى الِارْتِدَادِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ غَرَضِ الْآيَةِ. وَالسَّوَاءُ الْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ: غَشَّيْتُهُ وَهُوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَةٍ ... عَضْبًا أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا وَوَسَطُ الطَّرِيقِ هُوَ الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ الْوَاضِحَةُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي إِلَى الْغَايَة. [109، 110] ¬

(¬1) وَمثل هَذَا أَن يكون الشَّرْط وَالْجَزَاء ماضيين فَإِن ذَلِك يدل على أَن الْمَعْنى إِن تحقق هَذَا تحقق هَذَا نَحْو إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: 116] . وَيقرب مِنْهُ مَجِيء الْجَزَاء جملَة اسمية لدلالتها على ثُبُوت مضمونها دون زمَان أصلا نَحْو قَوْله مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [الْبَقَرَة: 97] أَي من يتَحَقَّق عداوته لجبريل فلتدم عداوته لِأَنَّهُ نزله وَنَحْو قَول الشَّاعِر: من صدّ عَن نيرانها ... فَأَنا ابْن قيس لَا براح أَي فليصد فَأَنا الْمَعْرُوف بالشجاعة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 109 إلى 110]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 109 إِلَى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) مُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ إِخْبَارٌ عَنْ حَسَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَخَاصَّةً الْيَهُودَ مِنْهُمْ، وَآخِرَتُهَا شُبْهَةُ النَّسْخِ، فَجِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَصْرِيحٍ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 105] الْآيَةَ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَوَدُّوا مَجِيءَ هَذَا الدِّينِ الَّذِي اتَّبَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُمْ يَوَدُّونَ بَقَاءَ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى كُفْرِهِ وَيَوَدُّونَ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَدِ اسْتَطْرَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ [الْبَقَرَة: 106] الْآيَاتِ لِلْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ فُصِلَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ لِكَوْنِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ إِذْ هِيَ بَيَانٌ لِمَنْطُوقِهَا وَلِمَفْهُومِهَا. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْن عَطِيَّة» و «الْكَشَّاف» و «أَسبَاب النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَتَيَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ (¬1) وَفِيهِ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَزَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا لِحُذَيْفَةَ وَعَمَّارٍ: «أَلَمْ تَرَوْا مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ مَا هُزِمْتُمْ فَارْجِعُوا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ خَيْرٌ وَنَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ» فَرَدَّا عَلَيْهِمْ وَثَبَتَا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَالْوُدُّ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ. وَإِنَّمَا أَسْنَدَ هَذَا الحكم أَي الْكَثِيرِ مِنْهُمْ وَقَدْ أَسْنَدَ قَوْلَهُ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 105] إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ تَمَنِّيَهُمْ أَنْ لَا يَنْزِلَ دِينٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ يَسْتَلْزِمُ تَمَنِّيهِمْ أَنْ يَتَّبِعَ الْمُشْرِكُونَ دِينَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى حَتَّى يَعُمَّ ذَلِكَ الدِّينُ جَمِيعَ بِلَادِ الْعَرَبِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ شَرِقَتْ لِذَلِكَ صُدُورُهُمْ جَمِيعًا فَأَمَّا عُلَمَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ فَخَابُوا وَعَلِمُوا أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَفِي ذَلِكَ إِيمَانٌ بِمُوسَى وَعِيسَى وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوا دِينَنَا، فَهُمْ لَا يَوَدُّونَ رُجُوعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الشِّرْكِ الْقَدِيمِ لِأَنَّ فِي مَوَدَّةِ ذَلِكَ تَمَنِّي الْكُفْرِ وَهُوَ رَضِيَ بِهِ. وَأَمَّا عَامَّةُ الْيَهُودِ وَجَهَلَتُهُمْ فَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْحَسَدُ وَالْغَيْظُ ¬

(¬1) الْمِدْرَاس بِكَسْر الْمِيم بَيت تَعْلِيم التَّوْرَاة لتلامذة الْيَهُود.

إِلَى مَوَدَّةِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الشِّرْكِ وَلَا يَبْقُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ الْمُوَافِقَةِ لِدِينِ مُوسَى فِي مُعْظَمِهِ نِكَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ وَبِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاء: 51] وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْمُكْتَنِزِ مَا يَدُلُّكُمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْبِيرِ بِ يَرُدُّونَكُمْ دُونَ لَوْ كَفَرْتُمْ لِيُشَارَ إِلَى أَنَّ وُدَادَتِهِمْ أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الشِّرْكِ لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى أَمْرٍ سَابِقٍ وَلَوْ قِيلَ لَوْ كَفَرْتُمْ لَكَانَ فِيهِ بَعْضُ الْعُذْرِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لِاحْتِمَالِهِ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ مَصِيرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ. وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ مَجِيءِ كُفَّاراً مَعْمُولًا لِمَعْمُولِ وَدَّ كَثِيرٌ لِيُشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ وَدُّوا أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ كُفَّارًا بِاللَّهِ أَيْ كُفَّارًا كُفْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَن مَا صدق مَا وَدُّوهُ بَلْ هُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَفْهُومِ مَا وَدُّوهُ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حَقٌّ مِنْ جِهَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ بِخِلَافِ الشِّرْكِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمْ خَاصَّةً عُلَمَائَهُمْ وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ. ولَوْ هُنَا بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَلِذَلِكَ يُؤَوَّلُ مَا بَعْدَهَا بِمَصْدَرٍ. وحَسَداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَدَّ أَيْ أَنَّ هَذَا الْوُدَّ لَا سَبَبَ لَهُ إِلَّا الْحَسَدُ لَا الرَّغْبَةُ فِي الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ جِيءَ فِيهِ بِمِنِ الِابْتِدَائِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَأَصُّلِ هَذَا الْحَسَدِ فِيهِمْ وَصُدُورِهِ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ (عِنْدِ) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ لِيَزْدَادَ بَيَانُ تَمَكُّنِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحَسَدًا لَا بِقَوْلِهِ: وَدَّ. وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً لِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا مِمَّا يُثِيرُ غَضَبَ الْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ [الحجرات: 7] فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ مَنْ يَوَدُّ لَهُمْ ذَلِكَ يَعُدُّونَهُ أَكْبَرَ أَعْدَائِهِمْ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مُثِيرًا لِلْغَضَبِ خِيفَ أَنْ يَفْتِكُوا بِالْيَهُودِ وَذَلِكَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْدَعَ عَفْوٍ وَحِلْمٍ حَتَّى يَكُونُوا قُدْوَةً فِي الْفَضَائِلِ.

وَالْعَفْوُ تَرْكُ عُقُوبَةِ الْمُذْنِبِ. وَالصَّفْحُ- بِفَتْحِ الصَّادِّ- مصدر صفح صَفْحًا إِذَا أَعْرَضَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ وَلَّاهُ مِنْ صَفْحَةِ وَجْهِهِ، وَصَفَحَ وَجْهَهُ أَيُّ جَانِبَهُ وَعَرْضَهُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ مُوَاجَهَتِهِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ أَيْ عَدَمِ لَوْمِهِ وَتَثْرِيبِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الرَّاغِبِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَفْوِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَلَمْ يَسْتَغْنَ بِاصْفَحُوا لِقَصْدِ التَّدْرِيجِ فِي أَمْرِهِمْ بِمَا قَدْ يُخَالِفُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ تَلَطُّفًا مِنَ اللَّهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَيْ حَتَّى يَجِيءَ مَا فِيهِ شِفَاءُ غَلِيلِكُمْ قِيلَ هُوَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلِ قُرَيْظَةَ، وَقِيلَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكِتَابِيِّينَ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَايَةٌ مُبْهَمَةٌ لِلْعَفْوِ وَالصَّفْحِ تَطْمِينًا لِخَوَاطِرِ الْمَأْمُورَيْنِ حَتَّى لَا يَيْأَسُوا مِنْ ذَهَابِ أَذَى الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ بَطَلًا وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَسْلُوكٌ فِي حَمْلِ الشَّخْصِ عَلَى شَيْءٍ لَا يُلَائِمُهُ كَقَوْل النَّاس حَتَّى يقْضِي اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِتَرْكِ الْعَفْوِ انْتَهَتِ الْغَايَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِجْلَاءُ بُنِيَ النَّضِيرِ. وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ فَضِيلَةَ الْعَفْوِ أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَدَّعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ» ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمُ الْآنَ وَلَكِنَّهُ لِحِكْمَتِهِ أَمَرَكُمْ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الِائْتِسَاءِ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ كُلُّهَا هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْخَالِقِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ، وَجُمْلَةُ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ [الْبَقَرَة: 111] تَفْرِيعٌ مَعَ اعْتِرَاضٍ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ شَدِيدَتَي الِاتِّصَالِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَالِاعْتِرَاضُ هُوَ مَجِيءُ مَا لَمْ يُسَقْ غَرَضُ الْكَلَامِ لَهُ وَلَكِنْ لِلْكَلَامِ وَالْغَرَضِ بِهِ عَلَاقَةً وَتَكْمِيلًا وَقَدْ جَاءَ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ هُنَا فِي مَعْنَى تَفْرِيعِ الْكَلَامِ عَلَى الْكَلَامِ لَا تَفْرِيعَ مَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَى الْمَدْلُولِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ لَا يَتَفَرَّعُ عَنْ وَدِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِهِ تَفَرَّعَ عَنْ ذِكْرِ هَذَا الْوِدِّ الَّذِي هُوَ أَذًى وَتَجِيءُ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ اعْتِرَاضًا. وَقَدْ جَوَّزَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [43] ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَاحْتَجَّ لَهُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 112]

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النِّسَاء: 135] عَلَى قَوْلِ وَنَقْلِ بَعْضِ تَلَامِذَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَبَسَ [11- 13] إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ لَا يَكُونُ مَعَ الْفَاءِ وَرَدَّهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ لِمُنَافَاتِهِ كَلَامَهُ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ رُكْنَاهُ فَالْأَمْرُ بِهِمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالدَّوَامِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ. وَقَوْلُهُ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ مُنَاسِبٌ لِلْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِلْأَمْرِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ قَدْرَ عَفْوِكُمْ وَصَفْحِكُمْ وَلَكِنَّهُ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمُ جَوَائِزَهُ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَالْبَصِيرُ الْعَلِيمُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَن عدم إِضَاعَة جَزَاءِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ لِأَنَّ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا فَهُوَ يُرَتِّبُ عَلَيْهِ مَا يُنَاسِبُهُ إِذْ لَا يُذْهِلُهُ جَهْلٌ وَلَا يَعُوزُهُ عَجْزٌ، وَفِي هَذَا وَعْدٌ لَهُمْ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَصِيرًا بِمَا يَعْمَلُ الْمُسْلِمُونَ كَانَ بَصِيرًا بِمَا يعْمل غَيرهم. [111، 112] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 111 إِلَى 112] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) عَطْفٌ عَلَى وَدَّ كَثِيرٌ [الْبَقَرَة: 109] وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [الْبَقَرَة: 109] الْآيَةَ اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالضَّمِيرُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. وَمَقُولُ الْقَوْلِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَائِلِ فَالْيَهُودُ قَالَتْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَالنَّصَارَى قَالَتْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصَارَى، جمع الْقُرْآنُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ بِجَمْعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ وَهُوَ نَفْي دُخُولِ الْجَنَّةِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفِ لِأَجْلِ تَفْرِيعِ الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ تَفْرِيقٌ مَا اخْتَصَّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُوداً أَوْ نَصارى

فَكَلِمَةُ (أَوْ) مِنْ كَلَامِ الْحَاكِي فِي حِكَايَتِهِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْكَلَام المحكي فأوهنا لِتَقْسِيمِ الْقَوْلَيْنِ لِيُرْجِعَ السَّامِعُ كُلَّ قَوْلٍ إِلَى قَائِلِهِ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ (أَوْ) لَيْسَتْ مِنْ مِقُولِهِمُ الْمَحْكِيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مِقْوَلِهِمْ لَاقْتَضَى أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَا ثِقَةَ لَهُ بِالنَّجَاةِ وَأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إِمْكَانَ نَجَاةِ مُخَالِفِهِ وَالْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ خِلَافَ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَشُكُّ فِي نَجَاةِ نَفْسِهِ وَلَا يَشُكُّ فِي ضَلَالِ مُخَالِفِهِ وَهِيَ أَيْضًا قَرِينَةٌ عَلَى تَعْيِينِ كُلٍّ مِنْ خَبَرَيْ كانَ لِبَقِيَّةِ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَرِكَةِ الَّتِي قَالَهَا كُلُّ فَرِيقٍ بِإِرْجَاعِ هُودًا إِلَى مَقُولِ الْيَهُودِ وَإِرْجَاعِ نَصَارَى إِلَى مَقُولِ النَّصَارَى. فَأَوْ هَاهُنَا لِلتَّوْزِيعِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوعِ كَوْنِهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِيجَازٌ مُرَكَّبٌ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ لِحَذْفِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلِجَمْعِ الْقَوْلَيْنِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قالُوا وَمِنْ إِيجَازِ الْقَصْرِ لِأَنَّ هَذَا الْحَذْفَ لَمَّا لَمْ يَعْتَمِدْ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الْمَحُوجَةِ لِتَقْدِيرٍ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِجَلْبِ حَرْفٍ أَوْ كَانَتْ (أَوْ) تَعْبِيرًا عَنِ الْمَحْذُوفِ بِأَقَلِّ عِبَارَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ قِسْمًا ثَالِثًا مِنْ أَقْسَامِ الْإِيجَازِ وَهُوَ إِيجَازُ حَذْفٍ وَقَصْرٍ مَعًا. وَقَدْ جَعَلَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» هَاتِهِ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْإِجْمَالِيِّ أَخَذًا مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» لِقَوْلِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» «فَلَفَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ثِقَةً بِأَنَّ السَّامِعَ يَرُدُّ إِلَى كُلِّ فَرِيقِ قَوْلَهُ وَأَمِنَّا مِنَ الْإِلْبَاسِ لِمَا عُلِمَ مِنَ التَّعَادِي بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ» فَقَوْلُهُ: فَلَفَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَرَادَ بِهِ اللَّفَّ الَّذِي هُوَ لَقَبٌ لِلْمُحَسِّنِ الْبَدِيعِيِّ الْمُسَمَّى اللَّفُّ وَالنَّشْرُ وَلِذَلِكَ تَطَلَّبُوا لِهَذَا اللَّفِّ نَشْرًا وَتَصْوِيرًا لِلَّفِّ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ قالُوا: مَعَ مَا بَيَّنَهُ وَهُوَ لَفٌّ إِجْمَالِيٌّ يُبَيِّنُهُ نَشْرَهُ الْآتِي بَعْدَهُ وَلِذَلِكَ لَقَّبُوهُ اللَّفُّ الْإِجْمَالِيُّ. ثُمَّ وَقَعَ نَشْرُ هَذَا اللَّفِّ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى فَعُلِمَ مِنْ حَرْفِ (أَوْ) تَوْزِيعُ النَّشْرِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ التفتازانيّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ جَرَى الِاسْتِعْمَالُ فِي النَّفْيِ الْإِجْمَالِيِّ أَنْ يُذْكَرَ نَشْرُهُ بِكَلِمَةِ (أَوْ) . وَالْهُودُ جَمْعُ هَائِدٍ أَيْ مُتَّبِعِ الْيَهُودِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الْبَقَرَة: 62] الْآيَةَ وَجَمْعُ فَاعِلٍ عَلَى فِعْلٍ غَيْرُ كَثِيرٍ وَهُوَ سَمَاعِيٌّ مِنْهُ قَوْلُهُمْ عَوَّذَ جَمْعُ عَائِذٍ وَهِيَ الْحَدِيثَةُ النِّتَاجِ مِنَ الظِّبَاءِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَمِنْهُ أَيْضًا عَائِطٌ وَعَوْطٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي بَقِيَتْ سِنِينَ لَمْ تَلِدْ، وَحَائِلٌ وَحَوْلٌ، وَبَازِلٌ وَبَزْلٌ، وَفَارِهٌ وَفُرْهٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ هُودًا جَمْعًا مَعَ أَنَّهُ خَبَّرَ عَنْ ضَمِيرِهِ (كَانَ) وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ (مِنْ) مُفْرَدًا لَفَظًا وَمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَجَرَى ضَمِيرُهُ عَلَى مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ وَجَرَى خَبَرًا وَضَمِيرًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنى. وَالْإِشَارَة ب تِلْكَ إِلَى الْقَوْلَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى

كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَالْإِخْبَارُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِمَّا لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أُمْنِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَارَتْ إِلَى أَمَانِيَّ كَثِيرَةٍ وَإِمَّا إِرَادَةُ أَنَّ كُلَّ أَمَانِيهِمْ كَهَذِهِ وَمُعْتَادِهِمْ فِيهَا فَيَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَالْأَمَانِيُّ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الْبَقَرَة: 78] وَجُمْلَةُ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَوْلُهُ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَمْرٌ بِأَنْ يُجَابُّوا بِهَذَا وَلِذَلِكَ فَصَلَهُ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] الْآيَةَ وَأَتَى بِإِنَّ الْمُفِيدَةَ لِلشَّكِّ فِي صِدْقِهِمْ مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ الصِّدْقِ لِاسْتِدْرَاجِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ صَادِقِينَ حِينَ يَعْجِزُونَ عَنِ الْبُرْهَانِ لِأَنَّ كُلَّ اعْتِقَادٍ لَا يُقِيمُ مُعْتَقِدِهِ دَلِيلَ اعْتِقَادِهِ فَهُوَ اعْتِقَادٌ كَاذِبٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ دَلِيلٌ لَاسْتَطَاعَ التَّعْبِيرَ عَنْهُ وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَا يَكُونُ صَادِقًا عِنْدَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّجَ عَلَيْهِ اعْتِقَادَهُ. وَ (بَلَى) إِبْطَالٌ لِدَعْوَاهُمَا. وَ (بَلَى) كَلِمَةٌ يُجَابُ بِهَا الْمَنْفِيُّ لِإِثْبَاتِ نَقِيضِ النَّفْيِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ سَوَاءٌ وَقَعَتْ بَعْدَ اسْتِفْهَامٍ عَنْ نَفْيِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ بَعْدَ خَبَرٍ مَنْفِيٍّ نَحْوَ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى [الْقِيَامَة: 3، 4] ، وَقَوْلُ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ: يُخْبِرُكَ الْوَاشُونَ أَنْ لَنْ أُحِبُّكُمْ ... بَلَى وَسُتُورُ اللَّهِ ذَاتُ الْمَحَارِمِ وَقَوْلُهُ: مَنْ أَسْلَمَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ عَنْ (بَلَى) لِجَوَابِ سُؤَالِ مَنْ يَتَطَلَّبُ كَيْفَ نَقَضَ نَفْيَ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ أَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ حِكْرَةً لِأَحَدٍ وَلَكِنْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ أَسْلَمَ إِلَخْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُ أَجْرُهُ هُوَ فِي مَعْنَى لَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِأَنَّ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. وَمَنْ قُدِّرَ هُنَا فِعْلًا بَعْدَ (بَلَى) أَيْ يَدْخُلُهَا مَنْ أَسْلَمَ فَإِنَّمَا أَرَادَ تَقْدِيرَ مَعْنَى لَا تَقْدِيرَ إِعْرَابٍ إِذْ لَا حَاجَةَ لِلتَّقْدِيرٍ هُنَا. وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ تَسْلِيمُ الذَّاتِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ شِدَّةُ الِامْتِثَالِ لِأَنَّ أَسْلَمَ بِمَعْنَى أَلْقَى السِّلَاحَ وَتَرَكَ الْمُقَاوَمَةَ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] . وَالْوَجْهُ هُنَا الذَّاتُ عَبَّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ لِأَنَّهُ الْبَعْضُ الْأَشْرَفُ مِنَ الذَّاتِ كَمَا قَالَ الشَّنْفَرِيُّ: إِذَا قَطَعُوا رَأْسِي وَفِي الرَّأْسِ أَكْثَرِيُُُّ (¬1) ¬

(¬1) مصراع بَيت وَتَمَامه: وغودر عِنْد الْمُلْتَقى ثمّ سائري

[سورة البقرة (2) : آية 113]

وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوَجْهِ عَلَى الذَّاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَن: 27] . وَأُطْلِقَ الْوَجْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَقُولُ جَاءَ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ أَيْ عَلَى حَقِيقَتِهِ قَالَ الْأَعْشَى: وَأَوَّلُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَاءٌ بِالْهَوَى الْجَائِرِ وَوُجُوهُ النَّاسِ أَشْرَافُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَسْلَمَ) بِمَعْنَى أَخْلَصَ مُشْتَقًّا مِنَ السَّلَامَةِ أَيْ جَعْلِهِ سَالِمًا وَمِنْهُ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ [الزمر: 29] . وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ جِيءَ بِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لِإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يُغْنِي إِسْلَامُ الْقَلْبِ وَحْدَهُ وَلَا الْعَمَلُ بِدُونِ إِخْلَاصٍ بَلْ لَا نَجَاةَ إِلَّا بِهِمَا وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَوْقَ ذَلِكَ إِذْ لَا يَخْلُو امْرِؤٌ عَنْ تَقْصِيرٍ. وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ (من) كَمَا أَفْرَاد الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ اعْتِبَارًا بِإِفْرَادِ اللَّفْظِ وَهَذَا مِنْ تَفَنُّنِ الْعَرَبِيَّةِ لِدَفْعِ سآمة التّكْرَار. [113] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 113] وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 111] لزيارة بَيَانِ أَنَّ الْمُجَازَفَةَ دَأْبُهُمْ وَأَنَّ رَمْيَ الْمُخَالِفِ لَهُمْ بِأَنَّهُ ضَالٌّ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ فَهُمْ يَرْمُونَ الْمُخَالِفِينَ بِالضَّلَالِ لِمُجَرَّدِ الْمُخَالِفَةِ، فَقَدِيمًا مَا رَمَتِ الْيَهُودُ النَّصَارَى بِالضَّلَالِ وَرَمَتِ النَّصَارَى الْيَهُودَ بِمِثْلِهِ فَلَا تَعْجَبُوا مِنْ حُكْمِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَفِي ذَلِكَ إِنْحَاءٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَطْمِينٍ لِخَوَاطِرِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْ طَعْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِسْلَامِ حُجَّةً لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى مُنَاوَأَتِهِ وَثَبَاتًا عَلَى شِرْكِهِمْ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ التَّصْرِيحُ بِالْكَلَامِ الدَّالِّ فَهُمْ قَدْ قَالُوا هَذَا بِالصَّرَاحَةِ حِينَ جَاءَ وَفْدُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ أَعْيَانُ دِينِهِمْ مِنَ النَّصَارَى (¬1) فَلَمَّا بَلَغَ مَقْدِمُهُمُُُ ¬

(¬1) نَجْرَان بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم قَبيلَة من عرب الْيمن كَانُوا ينزلون قَرْيَة كَبِيرَة تسمى نَجْرَان بَين الْيمن واليمامة وهم على دين النَّصْرَانِيَّة وَلَهُم الْكَعْبَة اليمانية الْمَشْهُورَة وَهِي كنيستهم الَّتِي ذكرهَا الْأَعْشَى فِي شعره. وَقد وَفد وَفد مِنْهُم على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِتِّينَ رجلا عَلَيْهِم اثْنَا عشر نَقِيبًا وَرَئِيسهمْ السَّيِّد وَهُوَ عبد الْمَسِيح. وَأمين الْوَفْد العاقب واسْمه الْأَيْهَم وَكَانَ وفودهم فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة.

الْيَهُودَ أَتَوْهُمْ وَهُمْ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاظَرُوهُمْ فِي الدِّينِ وَجَادَلُوهُمْ حَتَّى تَسَابُّوا فَكَفَرَ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ وَقَالُوا لِلنَّصَارَى مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ فَكَفَرَ وَفْدُ نَجْرَانَ بِمُوسَى وَبِالتَّوْرَاةِ وَقَالُوا لِلْيَهُودِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ. وَقَوْلُهُمْ عَلى شَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالشَّيْءُ الْمَوْجُودُ هُنَا مُبَالَغَةٌ أَيْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ. فَالشَّيْءُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْعُرْفِيُّ أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأِ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ أَيْ لَمْ أُعْطَ شَيْئًا نَافِعًا مُغْنِيًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَلَمْ أُمْنَعْ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» ، فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ عُمُومٍ وَالْمُرَادُ بِهَا فِي مَجَارِي الْكَلَامِ نَفِيُ شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْغَرَضِ الْجَارِي فِيهِ الْكَلَامُ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا كَالْعَامِّ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ أَيْ لَيْسُوا عَلَى حَظٍّ مِنَ الْحَقِّ فَالْمُرَادُ هُنَا لَيْسَتْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكِتَابِ الشَّرْعِيِّ فَكُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ رَمَى الْآخَرَ بِأَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكِتَابِ لَا حَظَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ جِيءَ بِهَا لِمَزِيدِ التَّعَجُّبِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ وَكُلُّ كِتَابٍ يَتْلُونَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقِّ لَوِ اتَّبَعَهُ أَهْلُهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، وَلَا يَخْلُو أَهْلُ كِتَابِ حَقٍّ مِنْ أَنْ يَتَّبِعُوا بَعْضَ مَا فِي كِتَابِهِمْ أَوْ جُلَّ مَا فِيهِ فَلَا يُصَدَّقُ قَوْلُ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْهَيْئَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ بِسَبَبِ اشْتِمَالِهَا عَلَى نِسْبَةٍ خَبَرِيَّةٍ تُفِيدُ أَنَّ مَا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عُدِلَ بِهِ عَنِ الْخَبَرِ لِادِّعَاءِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ اتِّصَافُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِهِ فَيُؤْتَى بِهِ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّذْكِيرِ بِهِ وَلَفْتِ الذِّهْنِ إِلَيْهِ فَصَارَ حَالًا لَهُ. وَضَمِيرُ قَوْلِهِ: هُمْ عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ وَقِيلَ عَائِدٌ إِلَى النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكِتَابِ) جَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَهُوَ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ كَمَا يُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُمِّيِّينَ، وَحَدَاهُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَرَاجَمُوا بِالنِّسْبَةُُِ

إِلَى نِهَايَةِ الضَّلَالِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَا يَلِيقُ بِهِمُ الْمُجَازَفَةُ وَمِنْ حَقِّهِمُ الْإِنْصَافُ بِأَنْ يُبَيِّنُوا مَوَاقِعَ الْخَطَأِ عِنْدَ مُخَالِفِيهِمْ. وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ التَّعْرِيفَ لِلْعَهْدِ وَجَعَلَ الْمَعْهُودَ التَّوْرَاةَ أَيْ لِأَنَّهَا الْكِتَابُ الَّذِي يَقْرَأهُ الْفَرِيقَانِ. وَوَجْهُ التَّعْجِيبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ التَّوْرَاةَ هِيَ أَصْلٌ لِلنَّصْرَانِيَّةِ وَالْإِنْجِيلَ نَاطِقٌ بِحَقِّيَّتِهَا فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلنَّصَارَى ادِّعَاءُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ كَمَا فَعَلَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ نَاطِقَةٌ بِمَجِيءِ رُسُلٍ بَعْدَ مُوسَى فَكَيْفَ سَاغَ لِلْيَهُودِ تَكْذِيبُ رَسُولِ النَّصَارَى. وَإِذَا جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا لِلنَّصَارَى خَاصَّةً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ التَّوْرَاةَ كَمَا ذَكَرْنَا أَوِ الْإِنْجِيلَ النَّاطِقَ بِأَحَقِّيَّةِ التَّوْرَاةِ وَفِي يَتْلُونَ دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّعَجُّبُ مُشْرَبًا بِضَرْبٍ مِنَ الِاعْتِذَارِ أَعْنِي أَنَّهُمْ يَقْرَأُونَ دون تدبر وهدا مِنَ التَّهَكُّمِ وَإِلَّا لَقَالَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةً لِلِانْتِصَارِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أَيْ يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَ فَرِيقٍ آخَرَ غَيْرَ الْفَرِيقَيْنِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمْ مُقَابِلُ الَّذِينَ يَتْلُونَ الْكِتَابَ وَأُرِيدَ بِهِمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ وَإِطْلَاقُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ [الْبَقَرَة: 118] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَة: 118] يَعْنِي كَذَلِكَ قَالَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَذَّبُوا الْأَدْيَانَ كُلَّهَا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِقَوْلِ أَهْلِ الضَّلَالِ الْبَحْتِ. وَهَذَا اسْتِطْرَادٌ لِلْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا قَابَلُوا بِهِ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، أَيْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَقَالَةِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ مَقَالَتَهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] . وَالتَّشْبِيهُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْكَافِ فِي كَذلِكَ تَشْبِيهٌ فِي الِادِّعَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَالتَّقْدِيرُ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَتْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلِهَذَا يَكُونُ لَفْظُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ كَافُ التَّشْبِيهِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ قَوْلِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَبَيْنَ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُشَابَهَةٌ تَامَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قَدْ كَذَّبُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ.

[سورة البقرة (2) : آية 114]

وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ قالَ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الاهتمام بِبَيَان الماثلة وَإِمَّا لِيُغْنِيَ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ إِيجَازًا بَدِيعًا لِأَنَّ مُفَادَ حَرْفِ الْعَطْفِ التَّشْرِيكُ وَمُفَادَ كَافِ التَّشْبِيهِ التَّشْرِيكُ إِذِ التَّشْبِيهُ تَشْرِيكٌ فِي الصِّفَةِ. وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ أَوْ لِزِيَادَتِهِ أَكَّدَ قَوْلَهُ كَذلِكَ بِقَوْلِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَهُوَ صِفَةٌ أَيْضًا لِمَعْمُولِ قَالُوا الْمَحْذُوفِ أَيْ قَالُوا مَقُولًا مِثْلَ قَوْلِهِمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ كَذلِكَ تَأْكِيدًا لِمِثْلِ قَوْلِهِمْ وَتَعْتَبِرَ تَقْدِيمَهُ مِنْ تَأْخِيرٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَجوز صَاحب «الْكَشْف» وَجَمَاعَةٌ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُ: مِثْلَ قَوْلِهِمْ أَوْ قَوْلُهُ: كَذلِكَ تَأْكِيدًا لِلْآخَرِ وَأَنَّ مَرْجِعَ التَّشْبِيهِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْقَوْلِ وَمَنْهَجِهِ فِي صُدُورِهِ عَنْ هَوًى، وَمَرْجِعَ الْمُمَاثَلَةِ إِلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي اللَّفْظِ فَيَكُونُ عَلَى كَلَامِهِ تَكْرِيرًا فِي التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ التَّشَابُهِ. وَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الْآيَةَ، جَاءَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِظْهَارُ مَا أَكَنَّتْهُ ضَمَائِرهُمْ مِنَ الْهَوَى وَالْحَسَدِ مُتَفَرِّعٌ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ وَمُسَبَّبٌ عَنْهَا وَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّوْبِيخُ وَالْوَعِيدُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِإِضَافَةِ (بَيْنَ) رَاجِعٌ إِلَى الْفرق الثَّلَاث و (مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يَعُمُّ مَا ذُكِرَ وَغَيْرُهُ. وَالْجُمْلَة تذييل. [114] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 114] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) عَطْفٌ عَلَى وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الْبَقَرَة: 113] بِاعْتِبَارِ مَا سَبَقَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَفَانِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْجُرْاءَةِ وَسُوءِ الْمَقَالَةِ أَيْ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا وَمَا تَقَدَّمُهُ ظُلْمٌ وَلَا كَظُلْمِ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَهَذَا اسْتِطْرَادٌ وَاقِعٌ مُعْتَرِضًا بَيْنَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِذِكْرِ مَسَاوِئِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُوءِ تَلَقِّيهُمْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ لِهَدْيِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ. وَالْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ الْآيَةَ كَمَا سَيَأْتِي وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى مَنْعِ أَهْلِ مَكَّةَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّخُولِ لِمَكَّةَ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ

حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ خِفْيَةً وَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمُ الصِّبَاءَ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي بُخْتُنَصَّرَ مَلِكِ أَشُورَ وَغَزْوِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثَلَاثَ غَزَوَاتٍ أَوَّلَاهَا فِي سَنَةِ 606 قَبْلَ الْمَسِيحِ زَمَنَ الْمَلِكِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكِ الْيَهُودِ سَبَى فِيهَا جَمْعًا مِنْ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ. وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ سَبَى فِيهَا رُؤَسَاءَ المملكة وَالْملك يهواكين بْنَ يَهُويَاقِيمَ وَنَهَبَ الْمَسْجِدَ الْمُقَدَّسَ مِنْ جَمِيعِ نَفَائِسِهِ وَكُنُوزِهِ. وَالثَّالِثَةُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ صِدْقِيَا فَأَسَرَ الْمَلِكَ وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ وَأَحْرَقَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَجَمِيعَ الْمَدِينَةِ وَسَبَى جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَانْقَرَضَتْ بِذَلِكَ مَمْلَكَةُ يَهُوذَا وَذَلِكَ سَنَةَ 578 قَبْلَ الْمَسِيحِ وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوَاقِعَةُ بِالسَّبْيِ الثَّالِثِ فَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ قَدْ مَنَعَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وَتَسَبَّبَ فِي خَرَابِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي غَزْوِ طَيْطَسَ الرُّومَانِيِّ لِأُورَشْلِيمَ سَنَةَ 79 قَبْلَ الْمَسِيحِ فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَحْرَقَ التَّوْرَاةَ وَتَرَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَرَابًا إِلَى أَنْ بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ فَتْحِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ. وَعَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ لِذِكْرِهَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي بِنَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ هُوَ التَّعْوِيلُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْمَأْثُورَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْمُنَاسِبَةُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُفِّيَ أَهْلُ الْكِتَابِ حَقَّهُمْ مَنْ فَضْحِ نَوَايَاهُمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ شَنْشَنَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ مَعَ كُلِّ مَنْ جَاءَهُمْ بِمَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَابُهُوهُمْ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة: 105] عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى بَيَانِ مَا تَفَرَّعَ عَنْ عَدَمِ وِدَادَةِ الْمُشْرِكِينَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَبَيَّنَ أَنَّ ظُلْمَهُمْ فِي ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ إِذْ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ وَسَدُّوا طَرِيقَ الْهُدَى وَحَالُوا بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي هُوَ فَخْرُهُمْ وَسَبَبُ مَكَانَتِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا شَأْنُ طَالِبِ صَلَاحِ الْخَلْقِ بَلْ هَذَا شَأْنُ الْحَاسِدِ الْمُغْتَاظِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَنْ إِنْكَارِيٌّ وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ مَنْ أَنَّهَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أَشُرِبَتْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ صَارَ الْكَلَامُ مِنْ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ.

وَالظُّلْمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ وَالْمَعْنَيَانِ صَالِحَانِ هُنَا. وَإِنَّمَا كَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِظُلْمٍ عَجِيبٍ فَقَدْ ظَلَمُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُوءِ السُّمْعَةِ بَيْنَ الْأُمَمِ. وَجَمَعَ الْمَسَاجِدَ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مَنَعُوا الْكَعْبَةَ فَقَطْ إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الْجَمْعَ يَجِيءُ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: 37] ، وَإِمَّا لِمَا فِيهِ مِنْ أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْبَيْتُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْحَطِيمُ، وَإِمَّا لِمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَيْضًا مِنَ الْخَيْفِ وَمِنًى وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَكُلُّهَا مَسَاجِدُ وَالْإِضَافَةُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى مَعْنَى لَامِ التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ، وَإِمَّا لِقَصْدِ دُخُولِ جَمِيعِ مَسَاجِدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ تَعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ وَوَقَعَ فِي سِيَاقِ مَنْعِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ لِيَشْمَلَ الْوَعِيدُ كُلَّ مُخَرِّبٍ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَانِعٍ من الْعِبَادَة بتطيله عَنْ إِقَامَةِ الْعِبَادَاتِ وَيَدْخُلُ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا عَلَى حُكْمِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَالْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ وَلَعَلَّ ضَمِيرَ الْجَمْعِ الْمَنْصُوبَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَدْخُلُوها يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسَاجِدِ مَسَاجِدُ مَعْلُومَةٌ لِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَا يَتَعَدَّى لِكُلِّ مَنْ مَنَعَ مَسْجِدًا إِذْ هُوَ عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ فِي أَمْثَالِ الْمُعَاقَبِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَنْعِ مَنْعُ الْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا كَالطَّوَافِ وَالْجَمَاعَةِ إِذَا قُصِدَ بِالْمَنْعِ حِرْمَانُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَأَهِّلِينَ لَهَا مِنْهَا. وَلَيْسَ مِنْهُ غَلْقُ الْمَسَاجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْفَذِّ لَا تُفَضَّلُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ غَلْقُهَا مِنْ دُخُولِ الصِّبْيَانِ وَالْمُسَافِرِينَ لِلنَّوْمِ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: غَلْقُ بَابِ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ حفظ وصيانة اهـ. وَكَذَلِكَ مَنْعُ غَيْرِ الْمُتَأَهِّلِ لِدُخُولِهِ وَقَدْ مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ الطَّوَافَ وَالْحَجَّ وَمَنَعَ مَالِكٌ الْكَافِرَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَعْلُومٌ مَنْعُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ. وَالسَّعْيُ أَصْلُهُ الْمَشْيُ ثُمَّ صَارَ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي التَّسَبُّبِ الْمَقْصُودِ كَالْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ نَحْوَ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: 22] وَيُعَدَّى بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ نَحْوَ: سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ فَالْمَنْعُ هُنَا حَقِيقَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَالسَّعْيُ مَجَازٌ فِي التَّسَبُّبِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ فَهُوَ مَجَازٌ عَلَى مَجَازٍ. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَالْمَنْعُ مَجَازٌ وَالسَّعْيُ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ بُخْتُنَصَّرَ وَطِيطَسَ لَمْ يَمْنَعَا أَحَدًا مِنَ الذِّكْرِ وَلَكِنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْخَرَابِ بِالْأَمْرِ بِالتَّخْرِيبِ فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْمَنْعِ وَآلَ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تُغْنِي عَن سُؤال ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَظْلَمُ أَوْ عَنْ قَوْلِهِ: سَعى لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا أَظْلَمُ النَّاسِ أَوْ سَمِعَ هَذِهِ الْجُرْأَةَ وَهِيَ السَّعْيُ فِي الْخَرَابِ تَطَلَّبَ بَيَانُ جَزَاءِ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أَوْ فَعَلَ هَذَا. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ مَنْ أَظْلَمُ وَقَوْلِهِ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ. وَالْإِشَارَة بأولئك بَعْدَ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتُحْضِرُوا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ لِيُخْبَرَ عَنْهُمْ بَعْدَ تِلْكَ الْإِشَارَةِ بِخَبَرِهِمْ جَدِيرُونَ بِمَضْمُونِهِ عَلَى حَدِّ مَا تَقَدَّمَ فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ لَيْسَ هُوَ بَيَانُ جَزَاءِ فِعْلِهِمْ أَوِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ بَلِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ هَاتِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بَيَانِ عَجَائِبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُرَتِّبُ الْعِقَابَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَعْلَمَ جَدَارَتَهُمْ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ عُقُوبَتَيْنِ دُنْيَوِيَّةً وَهِيَ الْخَوْفُ وَالْخِزْيُ وَأُخْرَوِيَّةً وَهِيَ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ. وَمَعْنَى مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْفِعْلَةِ أَنْ يَدْخُلُوا تِلْكَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي مَنَعُوهَا إِلَّا وَهُمْ خَائِفُونَ فَإِنَّ مَا كَانَ إِذَا وَقَعَ أَنْ وَالْمُضَارِعُ فِي خَبَرِهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّ كَانَ لَفْظُ (كَانَ) لَفْظَ الْمَاضِي وَأَنْ هَذِهِ هِيَ الَّتِي تَسْتَتِرُ عِنْدَ مَجِيءِ اللَّامِ نَحْوَ مَا كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ فَلَا إِشْعَارَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمُضِيٍّ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ لِلِاسْتِحْقَاقِ أَيْ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهُمُ الدُّخُولُ فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ الْخَوْف فهم حقيقيون بِهَا وَأَحْرِيَاءُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا وَعِيدٌ بِأَنَّهُمْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُرْفَعَ أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَشَعَائِرِ اللَّهِ هُنَاكَ وَتَصِيرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِلَّا خَائِفِينَ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ فَكَانُوا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ حَتَّى نَادَى مُنَادِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ» فَدَخَلَهُ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ مَذْعُورِينَ أَنْ يُؤْخَذُوا بِالسَّيْفِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ. وَعَلَى تَفْسِيرِ مَساجِدَ اللَّهِ بِالْعُمُومِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها أَيْ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُدْخُلُوهَا خَاشِعِينَ مِنَ اللَّهِ فيفسر الْخَوْف بالخشعية مِنَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ كَانُوا ظَالِمِينَ بِوَضْعِ الْجَبَرُوتِ فِي مَوْضِعِ الْخُضُوعِ فَاللَّامُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ مَا كانَ لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ وَهَذَا الْوَجْهُ وَإِنْ فَرَضَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ مَكَانَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ تَرَتَّبَ عَمَّا قَبْلَهُ يُنَافِيهِ لِأَنَّ هَذَا الِابْتِغَاءَ مُتَقَرِّرٌ وَسَابِقٌ عَلَى الْمَنْعِ وَالسَّعْيِ فِي الْخَرَابِ.

[سورة البقرة (2) : آية 115]

وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى مَا قَبْلَهُ ليَكُون مَقْصُودا الِاسْتِئْنَاف اهْتِمَامًا بِهِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لَا يَهْتَمُّ بِهِ السَّامِعُونَ كَمَالَ الِاهْتِمَامِ وَلِأَنَّهُ يَجْرِي مِنَ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي قَبْلَهُ مَجْرَى الْبَيَانِ مِنَ الْمُبِينِ فَإِنَّ الْخِزْيَ خَوْفٌ وَالْخِزْيُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ وَذَلِكَ مَا نَالَ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ الشَّنِيعِ وَالْأَسْرِ، وَمَا نَالَهُمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ خِزْيِ الِانْهِزَامِ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ عُطِفَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تَتْمِيمٌ لَهَا إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّ لَهُمْ عَذَابَيْنِ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ مُؤْذِنٌ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ سَبَبِ انْصِرَافِ النَّبِيءِ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ فَإِنَّ مَنْعَهُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنَ اسْتِقْبَالِ غَيْرِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 217] . [115] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 115] وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) لَمَّا جَاءَ بِوَعِيدِهِمْ وَوَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ تَسْلِيَةَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَنِكَايَةَ الْمُشْرِكِينَ بِفَسْخِ ابْتِهَاجِهِمْ بِخُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا وَانْفِرَادِهِمْ هُمْ بِمَزِيَّةِ جِوَارِ الْكَعْبَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا مَا تَفَاضَلَتْ جِهَاتُهَا إِلَّا بِكَوْنِهَا مَظِنَّةً لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَتَذَكُّرِ نِعَمِهِ وَآيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ فَإِذَا كَانَتْ وِجْهَةُ الْإِنْسَانِ نَحْوَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَيْنَمَا تَوَلَّى فَقَدْ صَادَفَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ وِجْهَتَهُ الْكُفْرُ وَالْغُرُورُ وَالظُّلْمُ فَمَا يُغْنِي عَنْهُ الْعِيَاذُ بِالْمَوَاضِعِ الْمُقَدَّسَةِ بَلْ هُوَ فِيهَا دَخِيلٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُقْلَعَ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: 34] وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ» . فَالْمُرَادُ مِنَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فِي الْآيَةِ تَعْمِيمُ جِهَاتِ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسِيرِ الشَّمْسِ قسمَيْنِ قسم يبتدىء مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَقِسْمٌ يَنْتَهِي فِي حَيْثُ تَغْرُبُ وَهُوَ تَقْسِيمٌ اعْتِبَارِيٌّ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ مُنَاسِبٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَالتَّقْسِيمُ الذَّاتِيُّ لِلْأَرْضِ هُوَ تَقْسِيمُهَا إِلَى شَمَالِيٍّ وَجَنُوبِيٍّ لِأَنَّهُ تَقْسِيمٌ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ آثَارِ الْحَرَكَةِ الْأَرْضِيَّةِ.

[سورة البقرة (2) : آية 116]

وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِذْنٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَوَجَّهَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيَّةِ جِهَةٍ شَاءَ، وَلَعَلَّ مُرَادَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى تِلْكَ الْمَشْرُوعِيَّةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قُبَيْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِذِ الشَّأْنُ تَوَالِي نُزُولِ الْآيَاتِ وَآيَةُ نَسْخِ الْقِبْلَةِ قَرِيبَةُ الْمَوْقِعِ مِنْ هَذِهِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الْآيَةِ عَامًّا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فَتَشْمَلُ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ وَالِانْصِرَافَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ لَا لَهُمْ، فَلَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَنْعِ شَيْءٍ مِنْهَا عَنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ. ووَجْهُ اللَّهِ بِمَعْنَى الذَّاتِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ تَقُولُ: لِوَجْهِ زَيْدٍ أَيْ ذَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: 112] وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَمَلِهِ فَحَيْثُ أَمَرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرِضَاهُ مَنُوطٌ بِالِامْتِثَالِ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ رِضَاهُ بِهِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي سَبِيلِ الدِّينِ لِبِلَادِ الْحَبَشَةِ ثُمَّ لِلْمَدِينَةِ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الْوَجْهِ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي التَّذْيِيلِ: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ فَقَوْلُهُ: واسِعٌ تَذْيِيلٌ لِمَدْلُولٍ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَالْمُرَادُ سَعَةُ مُلْكِهِ أَوْ سَعَةُ تَيْسِيرِهِ وَالْمَقْصُودُ عَظَمَةُ اللَّهِ، أَنه لَا جِهَةَ لَهُ وَإِنَّمَا الْجِهَاتُ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا رِضَى اللَّهِ تَفْضُلُ غَيْرَهَا وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَتَوَجَّهُ لِقَصْدِ مَرْضَاتِهِ، وَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِأَنَّهَا الْمُرَادُ بِهَا الْقِبْلَةُ فِي الصَّلَاة. [116] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 116] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِقَالُوا عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَهِيَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِشَارَةً إِلَى ضَلَالٍ آخَرَ اتَّفَقَ فِيهِ الْفِرَقُ الثَّلَاث. وَقد قرىء بِالْوَاوِ (وَقَالُوا) عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقالَتِ الْيَهُودُ [الْبَقَرَة: 113] وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِدُونِ وَاوِ عَطْفٍ وَكَذَلِكَ ثَبَتَتِ الْآيَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الشَّامِ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا كَأَنَّ السَّامِعَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مَا مَرَّ مِنْ عَجَائِبِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ جَمْعًا وَتَفْرِيقًا تَسَنَّى لَهُ أَنْ يَقُولَ لَقَدْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ مُسَاوِيهِمْ عَجَبًا فَهَلِ انْتَهَتْ مُسَاوِيهِمْ أَمْ لَهُمْ مَسَاوٍ أُخْرَى لِأَنَّ مَا سَمِعْنَاهُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا مَسَاوٍ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ فِطَرٍ خَبِيثَةٍ.

وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى هَذِهِ الضَّلَالَةِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ رُجُوعًا إِلَى جَمْعِهِمْ فِي قَرَنٍ إِتْمَامًا لِجَمْعِ أَحْوَالِهِمُ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: 105] وَفِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَة: 113] . وَقَدْ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِآيَةٍ جَمَعَتِ الْفَرِيقَ الثَّالِثَ فِي مَقَالَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الْبَقَرَة: 118] إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَة: 118] . وَالْقَوْلُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ وَلِذَلِكَ نَصَبَ الْجُمْلَةَ وَأُرِيدَ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الِاعْتِقَادِ. وَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً جَاءَ بِلَفْظِ (اتَّخَذَ) تَعْرِيضًا بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ بِأَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَلْتَئِمُ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَلَدًا لِلَّهِ وَيَقُولُونَ اتَّخَذَهُ اللَّهُ. وَالِاتِّخَاذُ الِاكْتِسَابُ وَهُوَ يُنَافِي الْوَلَدِيَّةَ إِذِ الْوَلَدِيَّةُ تُولَدُ بِدُونِ صُنْعٍ فَإِذَا جَاءَ الصُّنْعُ جَاءَتِ الْعُبُودِيَّةُ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا التَّخَالُفُ هُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَنْتِجَ وُجُودَ الشَّيْءِ مِنْ وُجُودِ ضِدِّهِ كَمَا يَقُولُ قَائِلٌ: الْقَتْلُ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا تُكَفَّرُ مِثْلُ الرِّدَّةِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِالنِّسْبَةِ للْمُشْرِكين ناشىء عَنْ جَهَالَةٍ وَبِالنِّسْبَةِ لأهل الْكِتَابَيْنِ ناشىء عَنْ تَوَغُّلِهِمَا فِي سُوءِ فَهْمِ الدِّينِ حَتَّى تَوَهَّمُوا التَّشْبِيهَاتِ وَالْمَجَازَاتِ حَقَائِقَ فَقَدْ وَرَدَ وَصْفُ الصَّالِحِينَ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّصَارَى وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَبُو عِيسَى وَأَبُو الْأُمَّةِ فَتَلَقَّفَتْهُ عُقُولٌ لَا تَعْرِفُ التَّأْوِيلَ وَلَا تُؤَيِّدُ اعْتِقَادَهَا بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ فَظَنَّتْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ 14 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ «أَنْتُمْ أَوْلَادٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ لَا تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ» وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الْإِصْحَاحِ 5 «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ يُدْعَوْنَ» وَفِيهِ «وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» وَفِي الْإِصْحَاحِ 6 «انْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا» وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْأَنَاجِيلِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَفَهِمُوهَا بِسُوءِ الْفَهْمِ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَتِهَا وَلَمْ يُرَاعُوا أُصُولَ الدِّيَانَةِ الَّتِي تُوجِبُ تَأْوِيلَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ أَمْثَالُ هَاتِهِ الْعِبَارَاتِ أَحْسَنُوا تَأْوِيلَهَا وَتَبَيَّنُوا دَلِيلَهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ» .

وَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ عَنْ شَنِيعِ هَذَا الْقَوْلِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَلَدِيَّةَ نَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ كَمَالًا فِي الشَّاهِدِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ كَمَالًا فِي الشَّاهِدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَسُدُّ بَعْضَ نَقَائِصِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالْفَقْرِ وَتَسُدُّ مَكَانَهُ عِنْدَ الِاضْمِحْلَالِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَآذَنَ بِالْحُدُوثِ وَبِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لِإِبْطَالِهِ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى الْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَاللَّامُ لِلْمُلْكِ وَ (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هِيَ مَجْمُوعُ الْعَوَالِمِ العلوية والسفلية. و (مَا) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ تَقَعُ عَلَى الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى الْمَجْمُوعِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْمُفَصَّلِ» وَاخْتَارَهُ الرَّضِيُّ. وَقِيلَ: (مَا) تَغْلِبُ أَوْ تَخْتَصُّ بِغَيْرِ الْعُقَلَاء وَمن تخْتَص بِالْعُقَلَاءِ وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ الْمُشْتَهَرُ بَيْنَ النُّحَاةِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا وَعَلَيْهِ فَهُمْ يُجِيبُونَ عَلَى نَحْوِ هَاتِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ التَّغْلِيبِ تَنْزِيلًا لِلْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ مُسَاوِيَةٍ لِغَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَوْجُودَاتِ تَصْغِيرًا لِشَأْنِ كُلِّ مَوْجُودٍ. وَالْقُنُوتُ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ مَعَ خَوْفٍ وَإِنَّمَا جَاءَ قانِتُونَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُنُوتِ عَنْ إِرَادَةٍ وَبَصِيرَةٍ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ بَعْدَ (كُلٍّ) دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيِ الْعُقَلَاءُ لَهُ قَانِتُونَ وَتَنْوِينُ (كُلٍّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [الْبَقَرَة: 148] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَهُ قانِتُونَ حُجَّةٌ ثَالِثَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْخُضُوعَ مِنْ شِعَارِ الْعَبِيدِ أَمَّا الْوَلَدُ فَلَهُ إِدْلَالٌ عَلَى الْوَالِدِ وَإِنَّمَا يَبَرُّ بِهِ وَلَا يَقْنُتُ، فَكَانَ إِثْبَاتُ الْقُنُوتِ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الْوَلَدِيَّةِ بِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا لِثُبُوتِ مُسَاوِي نَقِيضِهِ وَمُسَاوِي النَّقِيضِ نَقِيضٌ وَإِثْبَاتُ النَّقِيضِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا هُوَ نَقِيضٌ لَهُ. وَفَصْلُ جُمْلَةِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ حَتَّى لَا يَظُنَّ السَّامِعُ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلدَّلِيلِ الْمَسُوقِ لَهُ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ وَلَدَهُ أَعْتَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نَفْيَ الْوَلَدِيَّةِ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَنَافِي الْمَاهِيَّتَيْنِ وَهُوَ استرواح حسن.

[سورة البقرة (2) : آية 117]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 117] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) هُوَ بِالرَّفْعِ خَبْرٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِاتِّبَاعِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ [الْبَقَرَة: 18] وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا يُسَمُّونَهُ بِالنَّعْتِ الْمَقْطُوعِ. وَالْبَدِيعُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْدَاعِ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُنْشَآتِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ وَذَلِكَ هُوَ خَلْقُ أُصُولِ الْأَنْوَاعِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ مُتَوَلِّدَاتِهَا، فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ إِبْدَاعٌ وَخَلْقُ الْأَرْضِ إِبْدَاعٌ وَخَلْقُ آدَمَ إِبْدَاعٌ وَخَلْقُ نِظَامِ التَّنَاسُلِ إِبْدَاعٌ. وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَقِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ بَدَعَ الْمُجَرَّدِ مِثْلَ قَدَرَ إِذَا صَحَّ وَوَرَدَ بَدَعَ بِمَعْنَى قَدَرَ بِقِلَّةٍ أَوْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَبْدَعَ وَمَجِيءُ فَعِيلٍ مِنْ أَفْعَلَ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرو بن معديكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ (¬1) يُرِيدُ الْمَسْمَعَ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَ أَيْ كَأْسًا مَرْوِيَّةً. فَيَكُونُ هُنَا مِمَّا جَاءَ قَلِيلًا وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 32] وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: بَشِيراً وَنَذِيراً [الْبَقَرَة: 119] . وَقَدْ قِيلَ فِي الْبَيْتِ تَأْوِيلَاتٌ مُتَكَلَّفَةٌ وَالْحَقُّ أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ قَلِيلٌ حُفِظَ فِي أَلْفَاظٍ مِنَ الْفَصِيحِ غَيْرِ قَلِيلَةٍ مِثْلِ النَّذِيرِ وَالْبَشِيرِ إِلَّا أَنَّ قِلَّتَهُ لَا تُخْرِجُهُ عَنِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّ شُهْرَتَهُ تَمْنَعُ مِنْ جَعْلِهِ غَرِيبًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوَلَّدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ فِي مَادَّةٍ أُخْرَى. ¬

(¬1) أغار الصمَّة بن بكر الْجُشَمِي فِي خيل من قيس على بني زبيد رَهْط عَمْرو فسبى الصمَّة بن بكر رَيْحَانَة أُخْت عَمْرو وَلم يسْتَطع عَمْرو افتكاكها مِنْهُ، فَرغب من الصمَّة أَن يردهَا إِلَيْهِ فَأبى وَذهب بهَا وَهِي تنادي يَا عَمْرو يَا عَمْرو فَقَالَ عَمْرو هاته الأبيات وَبعدهَا: سباها الصّمّة الجشميّ غصبا ... كأنّ بَيَاض غرتها صديع وحالت دونهَا فرسَان قيس ... تكشّف عَن سواعدها الدروع إِذا لم تستطع شَيْئا فَدَعْهُ ... وجاوزه إِلَى مَا تَسْتَطِيع وَكله للزمان فَكل خطب ... سما لَك أَو سموت لَهُ ولوع هَذَا هُوَ الصَّحِيح وللرواة فِي هَذِه الْقِصَّة اختلافات لَا يعْتد بهَا.

وَذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّ بَدِيعَ هُنَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مَأْخُوذٌ مِنْ بَدُعَ بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ كَانَتِ الْبَدَاعَةُ صِفَةً ذَاتِيَّةً لَهُ بِتَأْوِيلِ بَدَاعَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَأُضِيفَتْ إِلَى فَاعِلِهَا الْحَقِيقِيِّ عَلَى جَعْلِهِ مُشَبَّهًا بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَأَجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ ليَكُون ضَمِيره فاعلالها لَفْظًا عَلَى نَحْوِ زَيْدٌ حَسَنُ الْوَجْهِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ بَدِيعُ الشِّعْرِ، أَيْ بَدِيعَةٌ سَمَاوَاتُهُ. وَأَمَّا بَيْتُ عَمْرٍو فَإِنَّمَا عَيَّنُوهُ لِلتَّنْظِيرِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا فِيهِ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ السَّمِيعُ بِمَعْنَى الْمَسْمُوعِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ سَمِيعٌ بِمَعْنَى مَسْمُوعٍ مَعَ أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ غَيْرُ مُطَّرِدٍ. الثَّانِي أَنَّ سَمِيعٌ وَقَعَ وَصْفًا لِلذَّاتِ وَهُوَ الدَّاعِي وَحُكْمُ سَمِعَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مَا لَا يَسْمَعُ أَنْ تَصِيرَ مِنْ أَخَوَات ظَنَّ فَيَلْزَمُ مَجِيءُ مَفْعُولٍ ثَانٍ بَعْدَ النَّائِبِ الْمُسْتَتِرِ وَهُوَ مَفْقُودٌ الثَّالِثُ أَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى وَصْفِ الدَّاعِي بِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ بَلْ عَلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُسْمِعٌ أَيِ الدَّاعِي الْقَاصِدُ لِلْإِسْمَاعِ الْمُعْلِنُ لِصَوْتِهِ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ دَاعٍ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ. وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِبَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُرَادٌ بِهِ أَنه بديع مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي هَذَا الْوَصْفِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ بُنُوَّةِ مَنْ جَعَلُوهُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، فَلَا شَيْءَ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ أَهْلٌ لِأَنْ يَكُونَ وَلَدًا لَهُ بَلْ جَمِيعُ مَا بَيْنَهُمَا عَبِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 116] وَلِهَذَا رُتِّبَ نَفْيُ الْوَلَدِ عَلَى كَونه بديع السَّمَوَات وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [10] بِقَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إِلَخْ كَشْفٌ لِشُبْهَةِ النَّصَارَى وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَّخِذُ وَلَدًا بَلْ يُكَوِّنُ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا بِتَكْوِينٍ وَاحِدٍ وَكُلُّهَا خَاضِعَةٌ لِتَكْوِينِهِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى تَوَهَّمُوا أَنَّ مَجِيءَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَكْوِينَ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ لَا شَيْءَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا وُجِدَ بِوَاسِطَةٍ تَامَّةٍ أَوْ نَاقِصَةٍ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمرَان: 59] فَلَيْسَ تَخَلُّقُ عِيسَى مِنْ أُمٍّ دُونَ أَبٍ بِمُوجِبِ كَوْنِهِ ابْنَ الله تَعَالَى. و (كَانَ) فِي الْآيَةِ تَامَّةٌ لَا تَطْلُبُ خَبَرًا أَيْ يَقُولُ لَهُ: إِيجَدْ فَيُوجَدُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ وَالْمَقُولَ وَالْمُسَبَّبُ هُنَا تَمْثِيلٌ لِسُرْعَةِ وُجُودِ الْكَائِنَاتِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ بِهِمَا بِأَنْ شَبَّهَ فِعْلَ اللَّهِ

[سورة البقرة (2) : آية 118]

تَعَالَى بِتَكْوِينِ شَيْءٍ وَحُصُولِ الْمُكَوَّنِ عَقِبَ ذَلِكَ بِدُونِ مُهْلَةٍ بِتَوَجُّهِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ بِكَلِمَةِ الْأَمْرِ وَحُصُولِ امْتِثَالِهِ عَقِبَ ذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ أَقْرَبُ الْحَالَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّقْرِيبُ بِهَا فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَّسِعُ اللُّغَةُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهَا وَإِلَى نَحْوِ هَذَا مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَنَظَرَهُ بِقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: إِذْ قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ ... قُدُمًا فَآضَتْ كَالْفَنِيقِ الْمُحْنَقِ (¬1) وَالَّذِي يُعَيِّنُ كَوْنَ هَذَا تَمْثِيلًا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ خِطَابُ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَيْسَ هَذَا التَّقْرِيرُ الصَّادِرُ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَبْنِيًّا عَلَى مَنْعِ الْمُعْتَزِلَةِ قِيَامَ صِفَةِ الْكَلَامِ بِذَاتِهِ تَعَالَى إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى اعْتِبَارِ قِيَامِ صِفَةِ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ تَأْوِيلُهُ بِمَا تَأَوَّلُوا بِهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً وَلِذَلِكَ سَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ ابْن عَطِيَّة. [118] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَةٌ 118] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] الْمَعْطُوفِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى [الْبَقَرَة: 113] . لِمُنَاسَبَةِ اشْتِرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ قَوْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ وَهِيَ وَقالَتِ الْيَهُودُ لأَنهم الَّذين ابتدأوا بِذَلِكَ أَيَّامَ مُجَادَلَتِهِمْ فِي تَفَاضُلِ أَدْيَانِهِمْ وَيَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْرِكِينَ مَا يُوجِبُ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَجَمَعَ الْكُلَّ فِي وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرِيقٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِيهِ مُقْتَبَسًا مِنَ الْآخَرِ بل جَمِيعه ناشىء مِنَ الْغُلُوِّ فِي تَقْدِيسِ الْمَوْجُودَاتِ الْفَاضِلَةِ وَمَنْشَؤُهُ سُوءُ الْفَهْمِ فِي الْعَقِيدَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ كِتَابٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنْشَأِ قَوْلُُِ ¬

(¬1) الأنساع جمع نسع وَهُوَ الحزام الَّذِي يشد على بطن الرَّاحِلَة. وَمعنى قَوْلهَا للبطن ألحق أَنَّهَا شدت على الْبَطن حَتَّى ضمر الْبَطن والتحق بِالظّهْرِ. والقدم بِضَم الْقَاف وَضم الدَّال الْمُضِيّ سَرِيعا وسكنه للضَّرُورَة والفنيق الْفَحْل. والمحنق: الضامر.

أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أَمْ مَأْخُوذَةً مِنْ أَقْوَالِ قَادَتِهِمْ كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَدَّمَ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَعْلَقُ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ هُوَ جَدِيدٌ فِيهِمْ وَفَاشٍ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا كَانُوا مُخْتَرِعِي هَذَا الْقَوْلِ نُسِبَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ نُظِرَ بِهِمُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، إِذْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ لِرُسُلِهِمْ. ولَوْلا هُنَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ قُصِدَ مِنْهُ التَّعْجِيزُ وَالِاعْتِذَارُ عَنْ عَدَمِ الْإِصْغَاءِ لِلرَّسُولِ اسْتِكْبَارًا بِأَنَّ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ أَحْرِيَاءَ بِالرِّسَالَةِ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهَالَةِ لَا يَقُولُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الرِّسَالَةَ وَالْحَاجَةَ إِلَى الرُّسُلِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أَرَادُوا مُطْلَقَ آيَةٍ فَالتَّنْكِيرُ لِلنَّوْعِيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَجُحُودٌ لِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَحَسْبُكَ بِأَعْظَمِهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ التَّنْكِيرِ وَقَدْ سَأَلُوا آيَاتٍ مُقْتَرَحَاتٍ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] الْآيَاتِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْآيَاتِ هِيَ عَجَائِبُ الْحَوَادِثِ أَوِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا دَرَوْا أَنَّ الْآيَةَ الْعِلْمِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَوْضَحُ الْمُعْجِزَاتِ لِعُمُومِهَا وَدَوَامِهَا وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ الرَّسُولُ بِالْقُرْآنِ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ آيَةً لَوْ كَانُوا أَهْلَ إِنْصَافٍ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أَيْ كَمِثْلِ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهْمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَدْ قَالَ الْيَهُودُ لِمُوسَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَة: 55] وَسَأَلَ النَّصَارَى عِيسَى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الْمَائِدَة: 112] . وَفِي هَذَا الْكَلَام تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِثْلُ مَا لَاقَاهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ أُرْدِفَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ [الْبَقَرَة: 119] الْآيَةَ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الْجَوَابِ لِمَقَالَةِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَهُوَ جَوَابٌ إِجْمَالِيٌّ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى تَنْظِيرِ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّنْظِيرُ كِنَايَةً عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ جَوَابِ مَقَالِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُجَابَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَرْتَبَةِ مَنْ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَيْسَتْ أَفْهَامُهُمْ بِأَهْلٍ لِإِدْرَاكِ مَا فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ آيَةٍ وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ تَقْرِيرًا أَيْ تَشَابَهَتْ عُقُولُهُمْ فِي الْأَفْنِ وَسُوءِ النَّظَرِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ تَعْلِيلًا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ جَوَابِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِلْجَوَابِ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَوَابِ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ

يُوقِنُونَ وَقَدْ بَيَّنَتْ لَهُمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَيْسُوا أَهْلًا لِلْجَوَابِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بَلْ دَيْدَنُهُمُ الْمُكَابَرَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ كَذلِكَ (قَالَ) إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَبَيْنَ جُمْلَةِ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ وَتُجْعَلُ جُمْلَةُ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ هِيَ الْجَوَابَ عَنْ مَقَالَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى لَقَدْ أَتَتْكُمُ الْآيَةُ وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الَّذِينَ يُوقِنُونَ أَيْ دُونَكُمْ فَيَكُونُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] . وَوَقَعَ الْإِعْرَاضُ عَنْ جَوَابِ قَوْلِهِمْ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ لِأَنَّهُ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: 21] . وَالْقَوْلُ فِي مَرْجِعِ التَّشْبِيهِ وَالْمُمَاثَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى نَحْوِ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَة: 113] . وَقَوْلِهِ: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أَيْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ مُتَشَابِهَةً فِي الْأَفْنِ وَسُوءِ النَّظَرِ فَلِذَا اتَّحَدُوا فِي الْمَقَالَةِ. فَالْقُلُوبُ هُنَا بِمَعْنَى الْعُقُولِ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَشابَهَتْ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ التَّشْبِيهِ وَهِيَ أَقْوَى فِيهِ مِنْ حُرُوفِهِ وَأَقْرَبُ بِالتَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ مَا جَاءَ فِي ذَلِك قَول الصابىء: تَشَابَهَ دَمْعِي إِذْ جَرَى وَمُدَامَتِي ... فَمِنْ مِثْلِ مَا فِي الْكَأْسِ عَيْنِي تَسْكُبُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جُعِلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُمَاثِلَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعْرَقُ فِيهَا إِذْ هُمْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَلَيْسَ ادِّعَاؤُهُمْ وَلَدًا لِلَّهِ بِأَكْثَرَ مِنِ ادِّعَائِهِمْ شَرِكَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ الله فِي الإلاهية فَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُلْحَقَيْنِ بِهِمْ لِأَنَّ دَعْوَى الِابْنِ لِلَّهِ طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْلِ مِلَّتِهِمْ وَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ تَأَتَّى الرُّجُوعُ إِلَى بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي يُوقِنُونَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ خُلُقًا لَهُمْ فَأَمَّا الَّذِينَ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ النَّظَرِ وَالْمُكَابَرَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ يَحُولُ دُونَ حُصُولِ الْيَقِينِ وَالْمُكَابَرَةُ تَحُولُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فَأَصْحَابُ هَذَيْنِ الْخُلُقَيْنِ لَيْسُوا مِنَ الْمُوقِنِينَ.

[سورة البقرة (2) : آية 119]

وَتَبْيِينُ الْآيَاتِ هُوَ مَا جَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ الَّذِي تَحَدَّى بِهِ جَمِيعَهُمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَالْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُوقِنُوا وَلَا يُشَكِّكُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ يُعْرِضُوا حَتَّى يَحُولَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيقَانِ أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُظْهِرُونَ الْيَقِينَ وَيَعْتَرِفُونَ بِالْحَقِّ لَا لِقَوْمٍ مِثْلِكُمْ من المكابرين. [119] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 119] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ حِكَايَاتِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، الْقَصْدُ مِنْهَا تَأْنِيسُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَسَفِهِ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يُمَاثِلُ مَا لَقِيَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَتَأَيَّدُ بِهِمُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُوَ يَلْقَى مِنْهُمْ مَا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَشَدَّ وَقَدْ قَالَ «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَآمَنَ بِي الْيَهُودُ كُلُّهُمْ» فَكَانَ لِتَذْكِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ تَهْدِئَةً لِخَاطِرِهِ الشَّرِيفِ وَعَذَرَ لَهُ إِذْ أَبْلَغَ الرِّسَالَةَ وَتَطْمِينٌ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ غير مسؤول عَنْ قَوْمٍ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَحِيمِ. وَفِيهِ تَمْهِيدٌ لِلتَّأْيِيسِ مِنْ إِيمَانِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَجِيءَ بِالتَّأْكِيدِ وَإِن كَانَ النَّبِي لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَبَيَانِ أَنَّهُ يُنَوِّهُ بِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَنْوِيهِ شَأْنِ الرَّسُولِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ تَشْرِيفًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِزِّ الْحُضُورِ لِمَقَامِ التَّكَلُّمِ مَعَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ كَأَنَّ اللَّهَ يُشَافِهُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فَلِذَا لَمْ يَقُلْ لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ مُتَعَلق بأرسلناك. وَالْحَقُّ هُوَ الْهُدَى وَالْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ من وُجُوه الْحق المعجزات وَهِيَ كُلُّهَا مُلَابَسَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ بَعْضُهَا بِمُلَابَسَةِ التَّبْلِيغِ وَبَعْضُهَا بِمُلَابَسَةِ التَّأْيِيدِ. فَالْمَعْنَى أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: بَشِيراً وَنَذِيراً حَالَانِ وَهُمَا بِزِنَةٍ فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَأْخُوذَانِ مِنْ بَشَّرَ الْمُضَاعَفِ وَأَنْذَرَ الْمَزِيدِ فَمَجِيئُهُمَا مِنَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَالْقَوْلِ فِي بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 117] الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَقِيلَ: الْبَشِيرُ مُشْتَقٌّ مِنْ بَشَرَ الْمُخَفَّفِ الشِّينِ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 120]

وَقَوْلُهُ: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهُوَ إِمَّا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَرْسَلْناكَ أَوْ عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: بَشِيراً وَنَذِيراً وَيَجُوزُ كَوْنُ الْوَاوِ لِلْحَالِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّ (لَا) حَرْفُ نَهْيٍ جَازِمٌ لِلْمُضَارِعِ وَهُوَ عَطْفُ إِنْشَاءٍ عَلَى خَبَرٍ وَالسُّؤَالُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاهْتِمَامِ وَالتَّطَلُّعِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَالِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الْمُتَطَلِّعِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِ يَكْثُرُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ فَظَاعَةِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ حَتَّى إِنَّ الْمُتَفَكِّرَ فِي مَصِيرِ حَالِهِمْ يَنْهَى عَنِ الِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يُحِيطُ بِهَا الْوَصْفُ وَلَا يَبْلُغُ إِلَى كُنْهِهَا الْعَقْلُ فِي فَظَاعَتِهَا وَشَنَاعَتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ يَرِدُ لِمَعْنَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ نَحْوَ قَوْلِ عَائِشَةَ: «يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلُ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ» وَلِهَذَا شَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلْقَاءُ الْمَسَائِلِ الصَّعْبَةِ بِطَرِيقَةِ السُّؤَالِ نَحْوَ (فَإِنْ قُلْتَ) لِلِاهْتِمَامِ. وَقَرَأَهُ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى أَنَّ (لَا) نَافِيَةٌ أَيْ لَا يَسْأَلُكَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ وَالسُّؤَالُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ وَاللَّوْمِ مِثْلُ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ» أَيْ لَسْتَ مُؤَاخَذًا بِبَقَاءِ الْكَافِرِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَلَّغْتَ لَهُمُ الدَّعْوَةَ. وَمَا قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حَالِ أَبَوَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ اسْتِنَادٌ لِرِوَايَةٍ وَاهِيَةٍ وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مُجَافِيًا لِلْبَلَاغَةِ إِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ تَأْنِيسٌ وَتَسْكِينٌ فَالْإِتْيَانُ مَعَهُ بِمَا يُذَكِّرُ الْمُكَدِّرَاتِ خُرُوجٌ عَنِ الْغَرَضِ وَهُوَ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِفساد الْوَضع. [120] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 120] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) عَطْفٌ عَلَى قَوْله: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ [الْبَقَرَة: 119] أَوْ عَلَى إِنَّا أَرْسَلْناكَ [الْبَقَرَة: 119] وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ الْمُؤَيِّسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ قَبْلَهُ التَّأْنِيسَ وَالتَّسْلِيَةَ عَلَى نَحْوِ مَجِيءِ الْعِتَابِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْعَفْوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] وَهَذَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالنَّفْيُ بِلَنْ مُبَالغَة فِي التأييس لِأَنَّهَا لنفي الْمُسْتَقْبل وتأبيده. وَالْمِلَّةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الدِّينُ وَالشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَجْمُوعُ عَقَائِدَ وَأَعْمَالٍ يَلْتَزِمُهَا طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهَا وَتَكُونُ جَامِعَةً لَهُمْ كَطَرِيقَةٍ يَتَّبِعُونَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَمَلَّ الْكِتَابَ فَسُمِّيَتِ الشَّرِيعَةُ مِلَّةً لِأَنَّ الرَّسُولَ أَوْ وَاضِعَ الدِّينِ يُعْلِمُهَا لِلنَّاسِ وَيُمْلِلُهَا عَلَيْهِمْ كَمَا سُمِّيَتْ دِينًا بِاعْتِبَارِ قَبُولِ الْأُمَّةِ لَهَا وَطَاعَتِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ. وَمَعْنَى الْغَايَةِ فِي حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ الْكِنَايَةُ عَنِ الْيَأْسِ مِنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَرْضَوْنَ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ مِلَّتَهُمْ فَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مِلَّتَهُ، وَلَمَّا كَانَ اتِّبَاعُ النَّبِيءِ مِلَّتَهُمْ مُسْتَحِيلًا كَانَ رِضَاهُمْ عَنْهُ كَذَلِكَ عَلَى حَدِّ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: 40] وَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 2، 3] وَالتَّصْرِيحُ بِلَا النَّافِيَةِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا النَّصارى لِلتَّنْصِيصِ عَلَى استقلالهم بِالنَّفْيِ وَعدم الِاقْتِنَاعُ بِاتِّبَاعِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ لِإِظْهَارِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: 82] وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيءِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّبِعٍ مِلَّتَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ كِتَابَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أَمْرٌ بِالْجَوَابِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَرْضى مِنْ خُلَاصَةِ أَقْوَالٍ لَهُمْ يَقْتَضِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُمْ لَا يُرْضِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا يَدْعُوهُمُ النَّبِيءُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مِلَّتَهُمْ هُدًى فَلَا ضَيْرَ عَلَيْهِ إِنِ اتَّبَعَهَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 111] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّلَوُّنِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَوَابِهِمْ بِمَا هُوَ الْأُسْلُوبُ فِي الْمُجَاوَبَةِ مِنْ فِعْلِ الْقَوْلِ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَالُوا مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. وهُدَى اللَّهِ مَا يُقَدِّرُهُ لِلشَّخْصِ مِنَ التَّوْفِيقِ أَيْ قُلْ لَهُمْ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ هُدًى إِلَّا أَنْ يَهْدِيَكُمُ اللَّهُ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهُدَى اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيَّ هُوَ الْهُدَى يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْهُدَى إِبْطَالًا لِغُرُورِهِمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ هُوَ الْهُدَى وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ ضَلَالٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْهُدَى وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنَ الْهُدَى لِأَنَّ أَكْثَرَهُ مِنَ الْبَاطِلِ. فَإِضَافَةُ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفٌ، وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ شَيْءٌ حَرَّفُوهُ وَوَضَعُوهُ، فَيَكُونُ الْقَصْرُ إِمَّا حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا بِأَنْ يُرَادَ هُوَ الْهُدَى الْكَامِلُ فِي الْهِدَايَةِ فَهُدَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ

بِالنِّسْبَةِ إِلَى هُدَى الْقُرْآنِ كُلًّا هُدًى لِأَنَّ هُدَى الْقُرْآنِ أَعَمُّ وَأَكْمَلُ فَلَا يُنَافِي إِثْبَاتَ الْهِدَايَةِ لِكِتَابِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] وَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ [الْمَائِدَة: 46] وَإِمَّا قَصْرًا إِضَافِيًّا أَيْ هُوَ الْهُدَى دُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مِلَّةٍ مُبْدَلَةٍ مَشُوبَةٍ بِضَلَالَاتٍ وَبِذَلِكَ أَيْضًا لَا يَنْتَفِي الْهُدَى عَنْ كَثِيرٍ من التعاليم والنصائح الصَّالِحَةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَأَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالتَّجْرِبَةِ لَكِنَّهُ هُدًى نَاقِصٌ. وَقَوْلُهُ: هُوَ الْهُدى الضَّمِير ضمير فصل. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْهُدَى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ هُمَا ضَمِيرُ الْفَصْلِ وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِفَادَةُ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْقَصْرِ وَتَأْكِيدِهِ لِلْعِنَايَةِ بِهِ فَأَيُّهُمَا اعْتَبَرْتَهُ طَرِيقَ قَصْرٍ كَانَ الْآخَرُ تَأْكِيدًا لِلْقَصْرِ وَلِلْخَبَرِ أَيْضًا. وَالتَّوْكِيدُ بِأَنَّ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِ نِسْبَتِهِ وَإِبْطَالِ تَرَدُّدِ الْمُتَرَدِّدِ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْإِضَافِيَّ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ رَدَّ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ قَدْ لَا يَتَفَطَّنُ الْمُخَاطَبُ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ فَزِيدَ هُنَا مُؤَكَّدٌ آخَرُ وَهُوَ حَرْفُ (إِنَّ) اهْتِمَامًا بِتَأْكِيدِ هَذَا الْحُكْمِ. فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِدَّةُ مُؤَكِّدَاتٍ هِيَ: حَرْفُ إِنَّ وَالْقَصْرُ، إِذِ الْقَصْرُ تَأْكِيدٌ على تَأْكِيد مَا فِي «الْمِفْتَاحِ» فَهُوَ فِي قُوَّةِ مُؤَكِّدَيْنِ، مَعَ تَأْكِيدِ الْقَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَهِيَ تَنْحَلُّ إِلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدَيْنِ وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا تَأْكِيدُ الْقَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ (إِنَّ) . وَلَعَلَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا الْيَهُودُ لِقَطْعِ مَعْذِرَةِ الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَة: 143] ، فَأَعْلَمَ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُلِينُ مِنْ تَصَلُّبِ الْيَهُودِ فِي عِنَادِهِمْ فَتَكُونُ إِيمَاءً إِلَى تَمْهِيدِ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ. اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ وَذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِلْخَبَرِ وَتَحْقِيقٌ لَهُ. وَعَبَّرَ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ هُنَالِكَ بِالْمِلَّةِ نَظَرًا لِاعْتِقَادِهِمْ وَشُهْرَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْأَهْوَاءِ بَعْدَ أَنْ مَهَّدَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فَإِنَّ الْهَوَى

رَأَيٌ نَاشِئٌ عَنْ شَهْوَةٍ لَا عَنْ دَلِيلٍ، وَلِهَذَا لَمْ يُؤْتَ بِالضَّمِيرِ الرَّاجِعِ لِلْمِلَّةِ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فَشَمِلَتْ أَهْوَاؤُهُمُ التَّكْذِيبَ بِالنَّبِيءِ وَبِالْقُرْآنِ وَاعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مِلَّتَهُمْ لَا يَنْقُضُهَا شَرْعٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ تَحْذِيرٌ لِكُلِّ مَنْ تَلَقَّى الْإِسْلَامَ أَنْ لَا يَتَّبِعَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَهْوَاءَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ تَحْذِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَدَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ اللَّامَ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ فَالْجَوَابُ لَهَا. وَجِيءَ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي تَأْتِي فِي مَوَاقِعِ عَدَمِ الْقَطْعِ بِوُقُوعِ شَرْطِهَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضٌ ضَعِيفٌ فِي شَأْنِ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَالْوَلِيُّ الْقَرِيبُ وَالْحَلِيفُ. وَالنَّصِيرُ كُلُّ مَنْ يُعِينُ أَحَدًا عَلَى مَنْ يُرِيدُ بِهِ ضُرَّا وَكِلَاهُمَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَلِيٍّ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى مَانِعٍ مِنْ عِقَابِهِ وَيُقَدَّرُ مِثْلُهُ بَعْدَ وَلا نَصِيرٍ أَيْ نَصِيرٌ مِنَ اللَّهِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَلِيٍّ مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ. وَعَطْفُ النَّصِيرِ عَلَى الْوَلِيِّ احْتِرَاسٌ لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلِيِّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ نَصِيرٍ إِذْ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ وَلِيٌّ لِكَوْنِهِ دَخِيلًا فِي قَبِيلَةٍ وَيَكُونُ أَنْصَارُهُ مِنْ جِيرَتِهِ. وَكَانَ الْقَصْدُ مِنْ نَفْيِ الْوِلَايَةِ التَّعْرِيضَ بِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فَنَفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ حَيْثُ لَمْ يَتَّبِعُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نَفَى الْأَعَمَّ مِنْهُ وَهَذِهِ نُكْتَةُ عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْيِ الْأَعَمِّ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ جُمْلَةُ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ إِلَى آخِرِهَا عَلَى تَحْذِيرٍ مِنَ الطَّمَعِ فِي اسْتِدْنَاءِ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى بِشَيْءٍ مِنَ اسْتِرْضَائِهِمْ طَمَعًا فِي إِسْلَامِهِمْ بِتَأَلُّفِ قُلُوبِهِمْ فَأَكَّدَ ذَلِكَ التَّحْذِيرَ بِعَشَرَةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ الْقَسَمُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ. وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِإِنَّ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي خَبَرِهَا. وَاسْمِيَّةُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَتَأْكِيدُ النَّفْيِ بِمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَلِيٍّ. وَالْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَتَبْيِينِهِ بِقَوْلِهِ مِنَ الْعِلْمِ. وَجَعْلُ الَّذِي جَاءَ (أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ) هُوَ الْعِلْمُ كُلُّهُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغَيْرِهِ لِنُقْصَانِهِ. وَتَأْكِيدُ مِنْ وَلِيٍّ بِعَطْفِ وَلا نَصِيرٍ الَّذِي هُوَ آيِلٌ إِلَى مَعْنَاهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَفْهُومُهُ، فَهُوَ كالتأكيد بالمرادف.

[سورة البقرة (2) : آية 121]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 121] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى [الْبَقَرَة: 120] مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى [الْبَقَرَة: 120] لِتَضَمُّنِهِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَيْسُوا يَوْمَئِذٍ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى؟ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِشَرِيعَةٍ؟ وَمَنِ الَّذِي هُوَ عَلَى هُدًى مِمَّنِ اتَّبَعَ هَاتَيْنِ الشَّرِيعَتَيْنِ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَتَلَوْهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِبَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ [الْبَقَرَة: 91] إِلَخْ. وَهُوَ صَدْرُ هَاتِهِ الْمُحَاوَرَاتِ وَمَا تَخَلَّلَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ وَالْبَيَانِ. فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَجَوَابٌ قَاطِعٌ لِمَعْذِرَتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَلِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجَوَابِ، وَلِأَنَّ الْمَحْكِيَّ بِهَا مُبَايِنٌ لِمَا يُقَابِلُهُ الْمُتَضَمِّنُ لَهُ قَوْلُهُ: قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَلَمَّا انْتُقِلَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] وَقَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 118] . وَقَوْلُهُ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِذْ هُمُ الْآنَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ. وَانْتَصَبَ حَقَّ تِلاوَتِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمَصْدَرِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ تِلَاوَة حَقًا. و (الْحق) هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ أَيْ تِلَاوَةً مُسْتَوْفِيَةً قِوَامَ نَوْعِهَا لَا يَنْقُصُهَا شَيْءٌ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي التِّلَاوَةِ وَتِلْكَ هِيَ التِّلَاوَةُ بِفَهْمِ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ الْمَتْلُوِّ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُرَادُ مِنْهُ إِفْهَامُ السَّامِعِ فَإِذَا تَلَاهُ الْقَارِئُ وَلَمْ يَفْهَمْ جَمِيعَ مَا أَرَادَهُ قَائِلُهُ كَانَتْ تِلَاوَتُهُ غَامِضَةً، فَحَقُّ التِّلَاوَةِ هُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْمَتْلُوِّ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ جُمْلَةٌ هِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ، وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي تَعْرِيفِهِمْ دُونَ الضَّمِيرِ وَغَيْرِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي اسْتُحْضِرُوا

[سورة البقرة (2) : الآيات 122 إلى 123]

بِوَاسِطَتِهَا حَتَّى أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِاتِّصَافِهِمْ بِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِجَدَارَتِهِمْ بِالْحُكْمِ الْمُسْنَدِ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى حَدِّ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] فَلَا شَكَّ أَنَّ تِلَاوَتَهُمُ الْكِتَابَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ تُثْبِتُ لَهُمْ أَوْحَدِيَّتَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ لِأَنَّ إِيمَانَ غَيْرِهِمْ بِهِ كَالْعَدَمِ. فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ. فَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى (الْكِتَابِ) مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. وَإِذَا كَانُوا هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْطِبَاقِ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي كُتُبِهِمْ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُمْ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الْمُقَفَّى وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّادِقِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكَذَبَةِ حَتَّى يَسْتَيْقِنُوا انْطِبَاقَ الصِّفَاتِ عَلَى النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ فَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ ضَمِيرَ بِهِ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ إِلَى الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ [الْبَقَرَة: 120] أَيْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ فَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ رَاجِعٌ لِلْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، أَوِ التَّوْرَاةِ فَقَطْ لِأَنَّهَا مُعْظَمُ الدِّينَيْنِ وَالْإِنْجِيلُ تَكْمِلَةٌ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ مِنَ الْيَهُودِ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ مِنَ النَّصَارَى. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ كَالْقَوْلِ فِي أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِحُكْمِ مَفْهُومِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ عَنِ التَّصْرِيحِ بِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ هُمُ الرَّابِحُونَ فَفِي الْآيَةِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَهُمْ كَافِرُونَ فَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ هُمُ الْفَائِزُونَ وَالْكَافِرُونَ هم الخاسرون. [122، 123] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 122 إِلَى 123] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) أُعِيدَ نِدَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِدَاءَ التَّنْبِيهِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّذْكِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ فِي الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ الْمَاضِي لِأَجْلِهِ، فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ نِدَاءَهُمْ أَوَّلًا بِمِثْلِ هَاتِهِ الْمَوْعِظَةِ فِي ابْتِدَاءِ التَّذْكِيرِ

بِأَحْوَالِهِمُ الْكَثِيرَةِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 46] فَذِكْرُ مِثْلِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ هُنَاكَ كَذِكْرِ الْمَطْلُوبِ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ وَذِكْرُهَا هُنَا كَذِكْرِ النَّتِيجَةِ فِي الْمَنْطِقِ عَقِبَ الْبُرْهَانِ تَأْيِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ وَفَذْلَكَةً لَهُ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَقَدْ أُعِيدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي ذكرت بهَا هُنَا لَك لِلتَّنْبِيهِ عَلَى نُكْتَةِ التَّكْرِيرِ لِلتَّذْكِيرِ وَلَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا من التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالشَّفَاعَةِ فَهُنَالِكَ قَدَّمَ وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 48] وَأَخَّرَ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [الْبَقَرَة: 48] وَهُنَا قَدَّمَ وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَأَخَّرَ لَفْظَ الشَّفَاعَةِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ تَنْفَعُها وَهُوَ تَفَنُّنٌ وَالتَّفَنُّنُ فِي الْكَلَامِ تَنْتَفِي بِهِ سَآمَةُ الْإِعَادَةِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّكْرِيرِ. وَقَدْ حَصُلَ مَعَ التَّفَنُّنِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ إِذْ جَاءَتِ الشَّفَاعَةُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُسْنَدًا إِلَيْهَا الْمَقْبُولِيَّةُ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْعَدْلِ بِسَبَبِ نَفْيِ قَبُولِهَا وَنَفْيُ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ أَخْذِ الْفِدَاءِ فَعَطَفَ نَفْيَ أَخَذِ الْفِدَاءِ لِلِاحْتِرَاسِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدَّمَ الْفِدَاءَ لِأَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْمَقْبُولِيَّةُ وَنَفْيُ قَبُولِ الْفِدَاءِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ فَعَطَفَ نَفْيَ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ الْفِدَاءِ لِلِاحْتِرَاسِ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا قَدْ جُعِلَ فِي الْآيَتَيْنِ أَوَّلًا وَذُكِرَ الْآخَرُ بَعْدَهُ. وَأَمَّا نَفْيُ الْقَبُولِ مَرَّةً عَنِ الشَّفَاعَةِ وَمَرَّةً عَنِ الْعَدْلِ فَلِأَنَّ أَحْوَالَ الْأَقْوَامِ فِي طَلَبِ الْفِكَاكِ عَنِ الْجُنَاةِ تَخْتَلِفُ، فَمَرَّةً يُقَدِّمُونَ الْفِدَاءَ فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَدَّمُوا الشُّفَعَاءَ، وَمَرَّةً يُقَدِّمُونَ الشُّفَعَاءَ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُمْ عَرَضُوا الْفِدَاءَ. وَقَوْلُهُ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ مُرَادٌ مِنْهُ أَنَّهُ لَا عَدْلَ فَيُقْبَلُ وَلَا شَفَاعَةَ شَفِيعٍ يَجِدُونَهُ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ لِأَنَّ دَفْعَ الْفِدَاءِ مُتَعَذِّرٌ وَتَوَسُّطَ الشَّفِيعِ لِمِثْلِهِمْ مَمْنُوعٌ إِذْ لَا يَشْفَعُ الشَّفِيعُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فَيَكُونُ نَفْيُ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: على لَا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ (¬1) يُرِيدُ أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَوْصُوفِ بِنَفْيِ صِفَتِهِ الْمُلَازِمَةِ ¬

(¬1) قَائِله امْرُؤ الْقَيْس، وَقَبله: وَإِنِّي زعيم إِن رجعت مملكا ... بسير ترى مِنْهُ الفرانق أزدرا على لَا حب إِلَخ ... ... إِذا سافه العوذ الديا فِي جرجرا القرانق بِضَم الْفَاء وَكسر النُّون هُوَ الَّذِي يدل صَاحب الْبَرِيد. وأزدرا أفعل تَفْضِيل لُغَة فِي أصْدرَا قرىء بهَا قَوْله تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً [الزلزلة: 4] . اللاحب: الطَّرِيق الْوَاسِع. والمنار: الْعَلامَة. وسافه: شده. والديافي مَنْسُوب إِلَى دياف- بِكَسْر الدَّال- قَرْيَة تنْسب لَهَا كرام الْإِبِل. وجرجرا: أَي صَوت. وَالْمعْنَى أَنه يعدانه إِذا رَجَعَ ليعيدن السّير فِي طَرِيق صعبة المسالك. وَفِي «شرح التفتازانيّ على الْمِفْتَاح» فِي بَاب الإيجاز والإطناب ذكر أول هَذَا الْبَيْت هَكَذَا: سدا بيدَيْهِ ثمَّ أج بسيره ... على لاحب ... إِلَخ. قَالَ وَهُوَ فِي وصف ظليم وسدا بِمَعْنى مد وَهُوَ مجَاز عَن السرعة. وأج الظليم إِذا جرى وَسمع لَهُ حفيف.

[سورة البقرة (2) : آية 124]

لَهُ كَقَوْلِهِمْ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ (¬1) وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْمَنَاطِقَةُ بِأَنَّ السَّالِبَةَ تَصْدُقُ مَعَ نَفْيِ الْمَوْضُوعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالًا فِي أَصْلِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَا وَالْمَنَاطِقَةُ تَبِعُوا فِيهِ أَسَالِيبَ الْيُونَانِ. وَالْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرَتِهَا. وَهُنَا خَتَمَ الْحِجَاجَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَلِكَ مِنْ براعة المقطع. [124] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 124] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) لَمَّا كَمُلَتِ الْحُجَجُ نُهُوضًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي عَمِيقِ ضَلَالِهِمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَتَبْيِنِ سُوءِ نَوَايَاهُمُ الَّتِي حَالَتْ دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِفَضْلِهِ، وَسَجَّلَ ذَلِكَ عَلَى زُعَمَاءِ الْمُعَانِدِينَ أَعْنِي الْيَهُودَ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: 40] مَرَّتَيْنِ، وَأَدْمَجَ مَعَهُمُ النَّصَارَى اسْتِطْرَادًا مَقْصُودًا، ثُمَّ أُنْصِفَ الْمُنْصِفُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَتْلُونَ الْكِتَابَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، انْتَقَلَ إِلَى تَوْجِيهِ التَّوْبِيخِ وَالتَّذْكِيرِ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِمِلَّتِهِ، وَأَنَّهُمْ زَرْعُ إِسْمَاعِيلَ وَسَدَنَةُ الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ، وَكَانُوا قَدْ وُخِزُوا بِجَانِبٍ مِنَ التَّعْرِيضِ فِي خِلَالِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي جَرَتْ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلصِّفَةِ الَّتِي جَمَعَتْهُمْ وَإِيَّاهُمْ مِنْ حَسَدِ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْرٍ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ لَيْسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْ قَوْلِهِمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الْبَقَرَة: 118] . فَلَمَّا أَخَذَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَظَّهُمْ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْمَوْعِظَةِ كَامِلًا فِيمَا اخْتَصُّوا بِهِ، وَأَخَذُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ حَظَّهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا اشْتَرَكُوا فِيهِ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِإِعْطَائِهِمْ حَظَّهُمْ مِنَ الْمَوْعِظَةِ كَامِلًا فِيمَا ¬

(¬1) ينجحر أَي يدْخل جُحْره وَهُوَ بجيم ثمَّ حاء. وَقيل هَذَا المصراع قَوْله: لَا تفزع الأرنب أهوالها كَذَا فِي «شرح التفتازانيّ على الْمِفْتَاح» فِي بَاب الإيجاز.

اخْتَصُّوا بِهِ، فَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَدَعْوَتِهِ لِعَقِبِهِ عَقِبَ ذِكْرِ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هِيَ الِاتِّحَادُ فِي الْمَقْصِدِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَذْكِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنِّعَمِ وَالتَّخْوِيفِ، تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْإِنْصَافِ فِي تَلَقِّي الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَالْحَسَدِ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِنَيْلِ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَوْعِظَةُ الْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً وَبَنِي إِسْرَائِيلَ تَبَعًا لَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى نَسَبِهِمْ إِلَيْهِ بِكَوْنِهِمْ حَفَظَةَ حَرَمِهِ، وَمُنْتَمِينَ قَدِيمًا لِلْحَنِيفِيَّةِ وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِمْ دِينٌ يُخَالِفُ الْحَنِيفِيَّةَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. فَحَقِيقٌ أَنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ وَإِذِ ابْتَلى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ افْتِتَاحُهُ بِإِذْ عَلَى نَحْوِ افْتِتَاحِ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَإِنَّ الْأَوَّلَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَقَدْ وَقَعَ عَقِبَ التَّعَجُّبِ مِنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَالِقِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَة: 28] ، عُقِّبَتْ تِلْكَ التَّذْكِرَةُ بإنذار من كيفر بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [الْبَقَرَة: 38] الْآيَةَ، ثُمَّ خُصَّ مِنْ بَيْنِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَهْدُ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقُ الرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ. فَتَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِتَذْكِيرِ الْفَرِيقَيْنِ بِأَبِيهِمُ الْأَقْرَبِ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ أَيُّ وَجْهٍ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ فِيهِ ابْتِدَاءً الْعَرَبَ، وَيَضُمُّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ مَعَهُمْ فِي قَرَنٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ مُعْظَمُ الثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِذِكْرِ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَمَا تَبِعَهُ إِلَى أَنْ ذُكِرَتِ الْقِبْلَةُ وَسَطَ ذَلِكَ، ثُمَّ طَوَى بِالِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ سَلَفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [الْبَقَرَة: 133] لِيُفْضِيَ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [الْبَقَرَة: 135] فَيَرْجِعُ إِلَى تَفْضِيلِ الْحَنِيفِيَّةِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَكَذَلِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَقَدِ افْتَتَحَ ذِكْرَ هَذَيْنِ الطَّوْرَيْنِ بِفَضْلِ ذِكْرِ فَضْلِ الْأَبَوَيْنِ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، فَجَاءَ الْخَبَرَانِ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ عَلَى أَبْدَعِ وَجْهٍ وَأَحْكَمِ نَظْمٍ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ وَاذْكُرْ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذِ ابْتَلى عُطِفَ عَلَى قَوْله نِعْمَتِيَ [الْبَقَرَة: 122] أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَابْتِلَائِي

إِبْرَاهِيمَ، وَيَلْزَمُهُ تَخْصِيصُ هَاتِهِ الْمَوْعِظَةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَخَلَّلَ وَاتَّقُوا يَوْماً [الْبَقَرَة: 123] بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ وَذَلِكَ يُضَيِّقُ شُمُولَ الْآيَةِ، وَقَدْ أُدْمِجَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وَقَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقْصِدٌ آخَرُ وَهُوَ تَمْهِيدُ الِانْتِقَالِ إِلَى فَضَائِلِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ عَجِبُوا مِنْ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَذَرَّعُوا بِذَلِكَ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ بِوُقُوعِ النَّسْخِ فِيهِ، وَإِلَى تَنْفِيرِ عَامَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنِ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُ غَيَّرَ قِبْلَتَهُمْ لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ أَجْدَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَبْقَاهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيَّةِ هَذَا الدِّينِ. وَالِابْتِلَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَلَاءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [الْبَقَرَة: 49] ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِيهِ لِأَنَّ الَّذِي يُكَلِّفُ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ يَكُونُ تَكْلِيفُهُ مُتَضَمِّنًا انْتِظَارَ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ فَيَلْزَمُهُ الِاخْتِبَارُ فَهُوَ مَجَازٌ عَلَى مَجَازٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا التَّكْلِيفُ لِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ إِمَّا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَإِمَّا مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَلَيْسَ فِي إِسْنَادِ الِابْتِلَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِشْكَالٌ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً، وَكَيْفَمَا كَانَ فَطَرِيقُ التَّكْلِيفِ وَحْيٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِنُبُوءَةٍ لِتَتَهَيَّأَ نَفْسُهُ لِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ فَلَمَّا امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ وَإِذِ ابْتَلى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِابْتِلَاءُ هُوَ الْوَحْيُ بِالرِّسَالَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً تَفْسِيرًا لِابْتَلَى. وَالْإِمَامُ الرَّسُول والقدوة. و (إِبْرَاهِيم) اسْمُ الرَّسُولِ الْعَظِيمِ الْمُلَقَّبِ بِالْخَلِيلِ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَحَ (وَتُسَمِّي الْعَرَبُ تَارَحَ آزَرَ) بْنَ نَاحُورَ بْنِ سُرُوجِ، ابْن رَعْوِ، ابْن فَالِحَ، ابْن عَابِرَ ابْن شَالِحَ ابْن أَرْفِكْشَادَ، ابْن سَامِ ابْن نُوحٍ هَكَذَا تَقُولُ التَّوْرَاةُ. وَمَعْنَى إِبْرَاهِيمَ فِي لُغَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ أَبٌ رَحِيمٌ أَوْ أَبٌ رَاحِمٌ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اسْمَ إِبْرَاهِيمَ إِبْرَامُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَوْحَى إِلَيْهِ وَكَلَّمَهُ أَمَرَهُ أَنْ يُسَمَّى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ أَبَا لِجُمْهُورٍ مِنَ الْأُمَمِ، فَمَعْنَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى هَذَا أَبُو أُمَمٍ كَثِيرَةٍ. وُلِدَ فِي أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ سَنَةَ 1996 سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، ثُمَّ انْتَقَلَ بِهِ وَالِدُهُ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ (وَهِيَ أَرْضُ الْفِنِيقِيِّينَ) فَأَقَامُوا بِحَارَانَ (هِيَ حَوْرَانُ)

ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا لِقَحْطٍ أَصَابَ حَارَانَ فَدَخَلَ مِصْرَ وَزَوْجُهُ سَارَّةُ وَهُنَالِكَ رَامَ مَلِكُ مِصْرَ افْتِكَاكَ سَارَّةَ فَرَأَى آيَةً صَرَفَتْهُ عَنْ مَرَامِهِ فَأَكْرَمَهَا وَأَهْدَاهَا جَارِيَةً مِصْرِيَّةً اسْمُهَا هَاجَرُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَمَّاهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ هَاجَرَ بِوَادِي مَكَّةَ ثُمَّ لَمَّا شَبَّ إِسْمَاعِيلُ بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ هُنَالِكَ. وَتُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ سَنَةَ 1773 ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ. وَفِي اسْمِهِ لُغَاتٌ لِلْعَرَبِ: إِحْدَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ وَقَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَالثَّانِيَةُ إِبْرَاهَامُ وَقَعَتْ فِي قِرَاءَةِ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ حَيْثُمَا وَقَعَ اسْمُ إِبْرَاهِيمَ، الثَّالِثَةُ إِبْرَاهِمُ وَقَعَتْ فِي رَجَزٍ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عُذْتُ بِمَا عاذ بِهِ إِبْرَاهِيم ... مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَائِمْ وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ فِي شَرْحِ حِرْزِ الْأَمَانِيِّ عَنِ الْفَرَّاءِ فِي إِبْرَاهِيمَ سِتَّ لُغَاتٍ: إِبْرَاهِيمُ، إِبْرَاهَامُ، إِبْرَاهُومُ، إِبْرَاهِمُ، (بِكَسْرِ الْهَاءِ) ، إِبْرَاهَمُ (بِفَتْحِ الْهَاءِ) إِبْرَاهُمُ (بِضَمِّ الْهَاءِ) . وَلَمْ يَقْرَأْ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ إِلَّا بِالْأُولَى وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالثَّانِيَةِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا سَيَقَعُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَمَعَ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَهُوَ لَمْ يُكْتَبْ فِي مُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ الْأَصْلِيَّةِ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ لَمْ أَجِدْ فِي مَصَاحِفِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ مَكْتُوبًا إِبْرَاهَمَ بِمِيمٍ بَعْدَ الْهَاءِ وَلَمْ يُكْتَبْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ إِبْرَاهَامُ بِالْأَلْفِ بَعْدِ الْهَاءِ عَلَى وَفْقِ قِرَاءَةِ هِشَامٍ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ذَكْوَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا خُلَيْدٍ الْقَارِئَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مَوْضِعًا إِبْرَاهَامُ قَالَ أَبُو خُلَيْدٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالَ عِنْدَنَا مُصْحَفٌ قَدِيمٌ فَنَظَرَ فِيهِ ثُمَّ أَعْلَمَنِي أَنَّهُ وَجَدَهَا فِيهِ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن مِهْرَانَ رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أهل دمشق يقرأون إِبْرَاهَامَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ هَا مُصْحَفُ عُثْمَانَ عِنْدِي ثُمَّ دَعَا بِهِ فَإِذَا فِيهِ كَمَا قَرَأَ أَهْلُ دِمَشْقَ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ لَفْظُ (إِبْرَاهِيمُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْرِيفُ إِبْرَاهِيمَ بِإِضَافَةِ اسْمِ رَبٍّ إِلَى اسْمِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وَإِذِ ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ.

وَالْكَلِمَاتُ الْكَلَامُ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ إِذِ الْكَلِمَةُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْجُمَلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، وَأَجْمَلَهَا هُنَا إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ تَفْصِيلَ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا بَسْطَ الْقِصَّةِ وَالْحِكَايَةِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ فَضْلِ إِبْرَاهِيمَ بِبَيَانِ ظُهُورِ عَزْمِهِ وَامْتِثَالِهِ لِتَكَالِيفٍ فَأَتَى بِهَا كَامِلَةً فَجُوزِيَ بِعَظِيمِ الْجَزَاءِ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي إِجْمَالِ مَا لَيْسَ بِمَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَلَعَلَّ جَمْعَ الْكَلِمَاتِ جَمْعُ السَّلَامَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أُصُولُ الْحَنِيفِيَّةِ وَهِيَ قَلِيلَةُ الْعَدَدِ كَثِيرَةُ الْكُلْفَةِ، فَلَعَلَّ مِنْهَا الْأَمْرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِالِاخْتِتَانِ، وَبِالْمُهَاجَرَةِ بِهَاجَرَ إِلَى شَقَّةٍ بَعِيدَةٍ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ أَمْرُهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ فِي الرُّؤْيَا، وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ بَلَاءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] . وَقَوْلُهُ: فَأَتَمَّهُنَّ جِيءَ فِيهِ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الِامْتِثَالِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْعَزْمِ. وَالْإِتْمَامُ فِي الْأَصْلِ الْإِتْيَانُ بِنِهَايَةِ الْفِعْلِ أَوْ إِكْمَالُ آخِرِ أَجْزَاءِ الْمَصْنُوعِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ أَتَمَّ إِلَى ضَمِيرِ (كَلِمَاتٍ) مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِحَاوِي الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ كَالْمَكَانِ لَهُ وَفِي مَعْنَى الْإِتْمَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْم: 37] ، وَقَوْلُهُ: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات: 105] ، فَالْإِفْعَالُ هُنَا بِمَعْنَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهَمْزِ التَّصْيِيرَ أَيْ صَيَّرَهَا تَامَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَاقِصَةً إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهَا ثُمَّ أَتَى بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأَتَمَّهُنَّ مَعَ إِيجَازِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِتْقَانِهِ وَالْفَوْرِ فِيهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُزْءِ الْقِصَّةِ فَيَكُونُ عَطْفُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ ابْتُلَى فَامْتَثَلَ كَقَوْلِكَ دَعَوْتُ فُلَانًا فَأَجَابَ. وَجُمْلَةُ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَمَّا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مِنْ تَعْظِيمِ الْخَبَرِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ، لِمَا يَقْتَضِيه ظَرْفُ (إِذْ) مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى قِصَّةٍ مِنَ الْأَخْبَارِ التَّارِيخِيَّةِ الْعَظِيمَةِ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اقْتِصَاصِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُجَاوَبَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ابْتَلى. وَالْإِمَامُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَمِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ وَهُوَ وَزْنُ فَعَّالٍ مِنْ صِيَغِ الْآلَةِ سَمَاعًا كَالْعِمَادِ وَالنِّقَابِ وَالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ، فَأَصْلُهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَمُّ أَيِ الْقَصْدُ وَلَمَّا كَانَ الدَّالُّ عَلَى الطَّرِيقِ يَقْتَدِي بِهِ السائر دَلَّ الْإِمَامُ عَلَى الْقُدْوَةِ وَالْهَادِي. وَالْمُرَادُ بِالْإِمَامِ هُنَا الرَّسُولُ فَإِنَّ الرِّسَالَةَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْإِمَامَةِ وَالرَّسُولُ أَكْمَلُ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ. وَإِنَّمَا عدل عَن التَّعْبِير بِرَسُولًا إِلَى إِماماً لِيَكُونَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّ رِسَالَتَهُ تَنْفَعُ

الْأُمَّةَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهَا بِطَرِيقِ التَّبْلِيغِ، وَتَنْفَعُ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ بِطَرِيقِ الِاقْتِدَاءِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحَلَ إِلَى آفَاقٍ كَثِيرَةٍ فَتَنَقَّلَ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ إِلَى الْعِرَاقِ وَإِلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَمِصْرَ، وَكَانَ فِي جَمِيعِ مَنَازِلِهِ مَحَلَّ التَّبْجِيلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّبْجِيلَ يَبْعَثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ دِينَ بَرْهَمَا الْمُتَّبَعَ فِي الْهِنْدِ أَصْلُهُ مَنْسُوبٌ إِلَى اسْمِ إِبْرَاهَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ تَحْرِيفٍ أُدْخِلَ عَلَى ذَلِكَ الدِّينِ كَمَا أُدْخِلَ التَّحْرِيفُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَلِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الْآتِي وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ فِي ذُرِّيَّتِهِ الْإِمَامَةُ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ رِسَالَةٍ وَمُلْكٍ وَقُدْوَةٍ عَلَى حَسَبِ التَّهَيُّؤِ فِيهِمْ، وَأَقَلُّ أَنْوَاعِ الْإِمَامَةِ كَوْنُ الرَّجُلِ الْكَامِلِ قُدْوَةً لِبَنِيهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَتَلَامِيذِهِ. وَقَوْلُهُ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي جَوَابٌ صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَلِذَا حُكِيَ بِقَالَ دُونَ عَاطِفٍ عَلَى طَرِيقِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] وَالْمَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ يُسَمُّونَهُ عَطْفَ التَّلْقِينِ وَهُوَ عَطْفُ الْمُخَاطَبِ كَلَامًا عَلَى مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ تَنْزِيلًا لِنَفْسِهِ فِي مَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ يُكْمِلُ لَهُ شَيْئًا تَرَكَهُ الْمُتَكَلِّمُ إِمَّا عَنْ غَفْلَةٍ وَإِمَّا عَنِ اقْتِصَارٍ فَيُلَقِّنُهُ السَّامِعُ تَدَارُكَهُ بِحَيْثُ يَلْتَئِمُ مِنَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامٌ تَامٌّ فِي اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «بَايَعْتُ النَّبِيءَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- إِلَخْ- فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِلَّذِي سَأَلَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ «إِنَّ وَرَاكِبَهَا» ، وَقَدْ لَقَّبُوهُ عَطْفَ التَّلْقِينِ كَمَا فِي «شرح التفتازانيّ عَلَى الْكَشَّافِ» وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ وُقُوعِ مِثْلِهِ فِي مَوْقِعِ الْعَطْفِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُحْذَفَ كَلِمَةُ عَطْفَ وَنُسَمِّي هَذَا الصِّنْفَ مِنَ الْكَلَامِ بِاسْمِ التَّلْقِينِ وَهُوَ تَلْقِينُ السَّامِعِ الْمُتَكَلِّمِ مَا يَرَاهُ حَقِيقًا بِأَنْ يُلْحِقَهُ بِكَلَامِهِ، فَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقَةِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْغَالِبُ كَمَا هُنَا، وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الإنكاري وَالْحَال كَقَوْل تَعَالَى: قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً [الْبَقَرَة: 170] فَإِنَّ الْوَاوَ مَعَ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ وَاوُ الْحَالِ وَلَيْسَ وَاوَ الْعَطْفِ فَهُوَ إِنْكَارٌ عَلَى إِلْحَاقِهِمُ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ وَدَعْوَاهُمْ، وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ لَمَّا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ» فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِبُيُوتِنَا وَقَيْنِنَا، وَلِلْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَطْفَ التَّلْقِينِ مِنَ الْحُكْمِ حُكْمُ

الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ خَبَرًا وَطَلَبًا، فَإِذَا كَانَ كَمَا هُنَا عَلَى طَرِيقِ الْعَرْضِ عُلِمَ إِمْضَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ إِيَّاهُ، بِإِقْرَارِهِ كَمَا فِي الْآيَةِ أَوِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ «إِلَّا الْإِذْخِرَ» ، ثُمَّ هُوَ فِي الْإِنْشَاءِ إِذَا عُطِفَ مَعْمُولُ الْإِنْشَاءِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ لَهُ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَطْفِ فِي الْإِنْشَاءِ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْإِنْشَاءِ لَزِمَ تَأْوِيلُ عَطْفِ التَّلْقِينِ فِيهِ بِأَنَّهُ عَلَى إِرَادَةِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولٍ لَازِمِ الْإِنْشَاءِ فَفِي الْأَمْرِ إِذَا عَطَفَ الْمَأْمُورُ مَفْعُولًا عَلَى مَفْعُولِ الْآمِرِ كَانَ الْمَعْنَى زِدْنِي مِنَ الْأَمْرِ فَأَنَا بِصَدَدِ الِامْتِثَالِ وَكَذَا فِي الْمَنْهِيِّ. وَالْمَعْطُوفُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ أَيْ وَبَعْضٌ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَوْ وَجَاعِلُ بَعْضٍ مِنْ ذُرِّيَّتِي. وَالذُّرِّيَّةُ نَسْلُ الرَّجُلِ وَمَا تَوَالَدَ مِنْهُ وَمِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ إِمَّا مِنَ الذَّرِّ اسْمًا وَهُوَ صِغَارُ النَّمْلِ، وَإِمَّا مِنَ الذَّرِّ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ، وَإِمَّا مِنَ الذُّرَى وَالذَّرْوِ (بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ) وَهُوَ مَصْدَرُ ذَرَتِ الرِّيحُ إِذَا سَفَتْ، وَإِمَّا مِنَ الذَّرْءِ بِالْهَمْزِ وَهُوَ الْخَلْقُ، فَوَزْنُهَا إِمَّا فُعْلِيَّةُ بِوَزْنِ النَّسَبِ إِلَى ذَرٍّ وَضَمِّ الذَّالِ فِي النَّسَبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا قَالُوا فِي النَّسَبِ إِلَى دَهْرٍ دُهْرِيٍّ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَإِمَّا فُعِّيلَةٌ أَوْ فُعُّولَةٌ مِنَ الذُّرَى أَوِ الذَّرْوِ أَوِ الذَّرْءِ بِإِدْغَامِ الْيَائَيْنِ أَوِ الْيَاءِ مَعَ الْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ مَعَ الْهَمْزَةِ بَعْدَ قَلْبِهَا يَاءً وَكُلُّ هَذَا تَصْرِيفٌ لِاشْتِقَاقِ الْوَاضِعِ فَلَيْسَ قِيَاسَ التَّصْرِيفِ. وَإِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وَلَمْ يَقُلْ وَذُرِّيَّتِي لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لَمْ تَجْرِ بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعَ نَسْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ يَصْلُحُونَ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فَلَمْ يَسْأَلْ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً لِأَنَّ سُؤَالَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ. وَإِنَّمَا سَأَلَ لِذَرِّيَّتِهِ وَلَمْ يَقْصُرِ السُّؤَالَ عَلَى عَقِبِهِ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَصَبِيَّةِ الْقَائِلِ لِأَبْنَاءِ دِينِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي تَفَاوُتًا فَيَرَى أَبْنَاءَ الِابْنِ وَأَبْنَاءَ الْبِنْتِ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْجِدِّ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْقَرَابَةِ، وَأَمَّا مَبْنَى الْقَبَلِيَّةِ فَعَلَى اعْتِبَارَاتٍ عُرْفِيَّةٍ تَرْجِعُ إِلَى النُّصْرَةِ وَالِاعْتِزَازِ فَأَمَّا قَوْلُ: بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ فَوَهْمٌ جَاهِلِيٌّ، وَإِلَّا فَإِنَّ بَنِي الْأَبْنَاءِ أَيْضًا بَنُوهُمْ أَبْنَاءُ النِّسَاءِ الْأَبَاعِدِ، وَهَلْ يَتَكَوَّنُ نَسْلٌ إِلَّا مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ. وَكَذَا قَوْلُ:

وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... فِيهَا خُلِقْنَ وَلِلْأَبْنَاءِ أَبْنَاءُ فَذَلِكَ سَفْسَطَةٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْأَحَقِّ بِالْبَرِّ مِنْ أَبَوَيْهِ «أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ [لُقْمَان: 14] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ اسْتِجَابَةٌ مَطْوِيَّةٌ بِإِيجَازٍ وَبَيَانٍ لِلْفَرِيقِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ فِيهِ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّ حُكْمَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَثْبُتُ نَقِيضُهُ لِلْآخَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرِ الصِّنْفُ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الدَّعْوَةُ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ ذِكْرُ الصِّنْفِ الْآخَرِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ هُمُ الَّذِينَ يُحْرَمُونَ مَنْ دَعْوَتِه، قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: 67، 68] وَلِأَنَّ الْمُرَبِّي يَقْصِدُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمَفَاسِدِ قَبْلَ الْحَثِّ عَلَى الْمَصَالِحِ، فَبَيَانُ الَّذِينَ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الدَّعْوَةُ أَوْلَى مِنْ بَيَانِ الْآخَرِينَ. ويَنالُ مُضَارِعُ نَالَ نَيْلًا بِالْيَاءِ إِذَا أَصَابَ شَيْئًا وَالْتَحَقَ بِهِ أَيْ لَا يُصِيبُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ أَيْ لَا يَشْمَلُهُمْ، فَالْعَهْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ. وَسُمِّيَ وَعْدُ اللَّهِ عَهْدًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَصَارَ وَعْدُهُ عَهْدًا وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ النَّبِيءُ عَهْدًا فِي قَوْلِهِ «أَنْشُدُكَ عَهْدُكُ وَوَعْدُكُ» ، أَيْ لَا يَنَالُ وَعْدِي بِإِجَابَةِ دَعَوْتِكَ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُفَسَّرَ الْعَهْدُ هُنَا بِغَيْرِ هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مَوَاقِعَ مِنَ الْقُرْآنِ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْعَهْدِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَمِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ هُنَا لِأَنَّ الْيَهُودَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ لِإِبْرَاهِيمَ عَهْدًا بِأَنَّهُ مَعَ ذُرِّيَّتِهِ فَفِي ذِكْرِ لَفْظِ الْعَهْدِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ صَرِيحَ الْكَلَامِ لِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ ابْتِدَاءً الْمُشْرِكُونَ أَيِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ أَيْضًا عَمَلَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 113] وَقَدْ وَصَفَ الْقُرْآنُ الْيَهُودَ بِوَصْفِ الظَّالِمِينَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْمَائِدَة: 45] فَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةُ وَأَعْلَاهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى.

[سورة البقرة (2) : آية 125]

وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ لَيْسُوا جَدِيرِينَ بِالْإِمَامَةِ لِاتِّصَافِهِمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الظُّلْمِ كَالشِّرْكِ وَتَحْرِيفِ الْكِتَابِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى حَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى إِذَا عَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ عَلِمُوا انْطِبَاقَهُ عَلَيْهِمْ. وَإِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِوَصْفِ الظَّالِمِينَ إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ نَفْيِ أَنْ يَنَالَهُمْ عَهْدُ اللَّهِ فَيَفْهَمُ مِنَ الْعِلَّةِ أَنَّهُ إِذَا زَالَ وَصْفُ الظُّلْمِ نَالَهُمُ الْعَهْدُ. وَفِي الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْكَبِيرَةِ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِإِسْنَادِ الْإِمَامَةِ إِلَيْهِ أَعَنَى سَائِرَ وِلَايَاتِ الْمُسْلِمِينَ: الْخِلَافَةُ وَالْإِمَارَةُ وَالْقَضَاءُ وَالْفَتْوَى وَرِوَايَةُ الْعَلَمِ وَإِمَامَةُ الصَّلَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الْفَاسِقُ حَالَ فِسْقِهِ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ» تَسْلِيمُ ذَلِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ الْمَازِرِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ إِذَا عُقِدَ لِلْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ثُمَّ فَسَقَ وَجَارَ فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ بِكُفْرٍ وَجَبَ خَلْعُهُ وَأَمَّا بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي فَقَالَ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَخْلَعُ وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا يُخْلَعُ بِالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَتَعْطِيلِ الْحُدُودِ وَيَجِبُ وَعْظُهُ وَتَرْكُ طَاعَتِهِ فِيمَا لَا تَجِبُ فِيهِ طَاعَةٌ وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْعِهِ فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِفِتْنَةٍ وَحَرْبٍ فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى جَوْرِهِ أَوْلَى مِنَ اسْتِبْدَالِ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ انطلاق أَيْدِي السُّفَهَاءِ وَالْفُسَّاقِ فِي الْأَرْضِ وَهَذَا حُكْمُ كُلِّ وِلَايَةٍ فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، وَمَا نُقِلَ عَن أبي حينفة مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْفَاسِقِ خَلِيفَةً وَعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِهِ قَاضِيًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْجَصَّاصُ هُوَ خَطَأٌ فِي النَّقْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعَشَرَةِ (عَهْدِي) بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ وَجْهٌ مِنَ الْوُجُوهِ فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِإِسْكَان الْيَاء. [125] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) تَدَرُّجٌ فِي ذِكْرِ مَنْقَبَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ بَيْتَهُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَة. و (إِذْ) أَضَافَهَا إِلَى جَلَالَتِهِ فَقَالَ: (بَيْتِي) ، وَاسْتِهْلَالٌ لِفَضِيلَةِ الْقِبْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ على ابْتَلى [الْبَقَرَة: 124] وَأُعِيدَتْ (إِذْ) لِلتَّنْبِيهِ عَلَى

اسْتِقْلَالِ الْقِصَّةِ وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُعَدَّ بِنِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى حُصُولِ مَضْمُونِ هَذِهِ بَعْدَ حُصُولِ الْأُخْرَى أَوْ قَبْلَهُ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذَلِكَ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْفَضَائِلِ، وَلِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. وَالْبَيْتُ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمَكَانِ الْمُتَّخَذِ مَسْكَنًا لِوَاحِدٍ أَوْ عَدَدٍ مِنَ النَّاسِ فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَهُوَ مَكَانٌ مِنَ الْأَرْضِ يُحِيطُ بِهِ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ بَقِيَّةِ بُقْعَتِهِ مِنَ الْأَرْضِ لِيَكُونَ السَّاكِنُ مُسْتَقِلًّا بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَتْبَعُهُ فَيَكُونُ مُسْتَقِرًّا لَهُ وَكُنَّا يَكُنَّهُ مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَسَاتِرًا يَسْتَتِرُ فِيهِ عَنِ النَّاسِ ومحطا لأثاثه وشؤونه، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَهُوَ الْغَالِبُ وَقَدْ يَكُونُ لِجَمَاعَةٍ مِثْلَ دَارِ النَّدْوَةِ فِي الْعَرَبِ وَخَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ يَكُونُ مُحِيطَ الْبَيْتِ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ كَالْكَعْبَةِ وَدَارِ النَّدْوَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَدِيمٍ مِثْلَ الْقِبَابِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ نَسِيجِ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها [النَّحْل: 80] ، وَلَا يَكُونُ بَيْتًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْتُورًا أَعْلَاهُ عَنِ الْحَرِّ وَالْقَرِّ وَذَلِكَ بِالسَّقْفِ لِبُيُوتِ الْحَجَرِ وَبُيُوتِ الْأَدِيمِ وَالْخِيَامِ. وَالْبَيْتُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ كَمَا غُلِبَ النَّجْمُ عَلَى الثُّرَيَّا. وَأَصْلُ أَلِ الَّتِي فِي الْأَعْلَامِ بِالْغَلَبَةِ هِيَ أَلِ الْعَهْدِيَّةِ وَذَلِكَ إِذَا كَثُرَ عَهْدُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسٍ بَيْنَ طَائِفَةٍ أَوْ قَوْمٍ صَارَ اسْمُ جِنْسِهِ مَعَ أَلِ الْعَهْدِيَّةِ كَالْعَلَمِ لَهُ ثُمَّ قَدْ يَتَعَهَّدُونَ مَعَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ كَمَا فِي النَّجْمِ لِلثُّرَيَّا وَالْكِتَابِ لِلْقُرْآنِ وَالْبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ، وَقَدْ يُنْسَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ إِمَّا بِقِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَالصَّعِقِ عَلَمٌ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ نُفَيْلٍ وَإِمَّا بِانْحِصَارِ الْجِنْسِ فِيهِ كَالشَّمْسِ. وَالْكَعْبَةُ بَيْتٌ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ شَرِيكٍ فَيَأْوِي إِلَيْهِ مَنْ يَدِينُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَطُوفُ بِهِ مَنْ يَقْصِدُ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَفِي قَوْلِهِ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 37] وَقَدْ عُرِفَتِ الْكَعْبَةُ بَاسِمِ الْبَيْتِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ زُهَيْرٌ: فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ ... رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ وَالْمَثَابَةُ مَفْعَلَةٌ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ إِذَا رَجَعَ وَيُقَالُ مَثَابَةٌ وَمُثَابٌ مِثْلَ مَقَامَةٍ وَمَقَامٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَثَابَةِ أَنَّهُ يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِالتَّعْظِيمِ وَيَلُوذُونَ بِهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ سُكَّانُ مَكَّةَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَكُلُّ مَنْ يُجَاوِرُهُمْ وَيَدْخُلُ فِي حَلِفِهِمْ، فَتَعْرِيفُ النَّاسِ لِلْجِنْسِ الْمَعْهُودِ، وَتَعْلِيقٌ لِلنَّاسِ بِمَثَابَةٍ عَلَى التَّوْزِيعِ أَيْ يَزُورُهُ نَاسٌ وَيَذْهَبُونَ فَيَخْلُفُهُمْ نَاسٌ.

وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا ذِكْرَ مَنْقَبَةِ الْبَيْتِ وَالْمِنَّةُ عَلَى سَاكِنِيهِ كَانَ الْغَرَضُ التَّذْكِيرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أَنْ جَعْلَهُ لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ قَوْمٌ إِلَّا وَيَخْلُفُهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَكَانَ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ الزَّائِرِينَ قَائِمِينَ مَقَامَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْتِ وَسُكَّانِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُ تَعْرِيفِ النَّاسِ عَلَى الْعَهْدِ أَيْ يَثُوبُ إِلَيْهِ النَّاسُ الَّذِينَ أَلِفُوهُ وَهُمْ كُمَّلُ الزَّائِرِينَ فَهُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ مِرَارًا، وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَالْأَمْنُ مَصْدَرٌ أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْبَيْتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ أَمْنٍ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْأَمْنِ مُبَالَغَةً. وَالْأَمْنُ حُفِظُ النَّاسِ مِنَ الْأَضْرَارِ فَتَشْرِيدُ الدَّعَّارِ وَحِرَاسَةُ الْبِلَادِ وَتَمْهِيدُ السُّبُلِ وَإِنَارَةُ الطُّرُقِ أَمْنٌ، وَالِانْتِصَافُ مِنَ الْجُنَاةِ وَالضَّرْبُ عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ وَإِرْجَاعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا أَمْنٌ، فَالْأَمْنُ يُفَسَّرُ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ أَخَذَ الْقَوِيِّ مَالَ الضَّعِيفِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَحَاكُمٌ وَلَا شَرِيعَةٌ كَانَ الْأَمْنُ يَوْمَئِذٍ هُوَ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، فَجعل الله لَهُم الْبَيْتَ أَمْنًا لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَصُدُّ الْقَوِيَّ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلَ فِيهِ الضَّعِيفَ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] فَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَرَعَهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَمَا أَقَامَهُ مِنْ حُكَّامِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْنًا كَافِيًا. قَالَ السُّهَيْلِيُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمرَان: 97] إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ تَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِعْمَةٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِذَرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَضْرَابِهَا عَلَى حُكْمِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ فِي الْحَرَمِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 191] الْآيَةَ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَعْلِ فِي الْآيَةِ إِمَّا الْجَعْلُ التَّكْوِينِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيَسَّرَهُمْ إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَإِمَّا الْجَعْلُ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ فَأَبْلَغَهُ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَبَثَّهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ فَتَلْقَاهُ أَعْقَابُهُمْ تَلَقِّي الْأُمُورِ الْمُسَلَّمَةِ، فَدَامَ ذَلِكَ الْأَمْنُ فِي الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ بِمَا شَرَعَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْنِ فِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَتَمَّ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُرِيبُكُمْ مَا حَدَثَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْخَوْفِ فِي حِصَارِ الْحَجَّاجِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَلَا مَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الرُّعْبِ وَالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ فِي زَمَنِ الْقَرَامِطَةِ حِينَ غَزَاهُ الْحَسَنُ ابْن بَهْرَامَ الْجُنَّابِيُّ (نِسْبَةٌ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا جُنَّابَةُ بِتَشْدِيدِ

النُّونِ) كَبِيرُ الْقَرَامِطَةِ إِذْ قَتَلَ بِمَكَّةَ آلَافًا مِنَ النَّاسِ وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ يَا كِلَابُ أَلَيْسَ قَالَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ الْمَكِّيُّ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمرَان: 97] أَيُّ أَمْنٍ هُنَا؟ وَهُوَ جَاهِلٌ غَبِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْأَمْرَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَأْمَنًا فِي مُدَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ وَازِعٌ عَنِ الظُّلْمِ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ مِثْلَ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الْبَقَرَة: 228] . وَقَوْلُهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَطْفًا عَلَى جَعَلْنَا فَيَكُونُ هَذَا الِاتِّخَاذُ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ الْجَعْلِ فَالْمَعْنَى أَلْهَمْنَا النَّاسَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى، أَوْ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ فَامْتَثَلُوا وَاتَّخَذُوهُ، فَهُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ الْجَعْلِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ جَعَلْنَا ذَلِكَ فَاتَّخَذُوا، وَقَرَأَهُ بَاقِي الْعَشَرَةِ بِكَسْرِ الْخَاءِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ أَيْ قُلْنَا اتَّخِذُوا بِقَرِينَةِ الْخِطَابِ فَيَكُونُ الْعَامِلُ الْمَعْطُوفُ مَحْذُوفًا بِالْقَرِينَةِ وَبَقِيَ مَعْمُولُهُ كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: فَعَلَا فُرُوعُ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ ... بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا أَرَادَ وَبَاضَتْ نَعَامُهَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِأَفْرَاخِ الطَّيْرِ أَطْفَالٌ، فَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَى مُفَادٍ وَاحِدٍ. ومقام إِبْرَاهِيمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَقُومُ عِنْدَهَا يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِهِ، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ ... مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَائِمْ وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمرَان: 97] إِذِ الدُّخُولُ مِنْ عَلَائِقِ الْبَيْتِ، وَيُطْلَقُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَجْرِ الَّذِي كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بِنَائِهِ الْكَعْبَةَ لِيَرْتَفِعَ لِوَضْعِ الْحِجَارَةِ فِي أَعْلَى الْجِدَارِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ ثَبَتَتْ آثَارُ قَدَمَيْهِ فِي الْحَجَرِ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَأَيْتُ فِي الْمَقَامِ أَثَرَ أَصَابِعِهِ وَأَخْمَصَ قَدَمَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا الْحَجَرُ يُعْرَفُ إِلَى الْيَوْمِ بِالْمَقَامِ، وَقَدْ رَكَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعِهِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَكَانَ الرُّكُوعُ عِنْدَهُ مِنْ سُنَّةِ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّوَافِ. وَالْمُصَلَّى مَوْضِعُ الصَّلَاةِ وَصَلَاتُهُمْ يَوْمَئِذٍ الدُّعَاءُ وَالْخُضُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُُُ

قَدْ وَضَعَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَوَضَعَ الْحَجَرَ الَّذِي كَانَ يَرْتَفِعُ عَلَيْهِ لِلْبِنَاءِ حَوْلَهَا فَكَانَ الْمُصَلَّى عَلَى الْحَجَرِ الْمُسَمَّى بِالْمَقَامِ فَذَلِكَ يَكُونُ الْمُصَلَّى مُتَّخَذًا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ. وَالْقِرَاءَتَانِ تَقْتَضِيَانِ أَنَّ اتِّخَاذَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى كَانَ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَكُنِ الْحَجَرُ الَّذِي اعْتَلَى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ فِي الْبِنَاءِ مَخْصُوصًا بِصَلَاةٍ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ مَشْمُولٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ كَانَ عَامُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ سُنَّتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْمَقَامِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُثِيرُ مَعْنًى آخَرَ لِلْآيَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا لِلْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَجُمْلَةِ وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ اعْتِرَاضًا اسْتِطْرَادِيًّا، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي الْآيَةِ يَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ عُمَرَ «فَنَزَلَتْ» أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْعُ الصَّلَاةِ عِنْدَ حَجَرِ الْمَقَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لَهُمْ لِيَسْتَقِيمَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاتَّخَذُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَإِنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ حِكَايَةِ مَا كَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَصِيغَةَ الْأَمْرِ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَتَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَى التَّشْرِيعِ لِلْمُسْلِمِينَ، إِعْمَالًا لِلْقُرْآنِ بِكُلِّ مَا تَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَقَوْلُهُ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، الْعَهْدُ أَصْلُهُ الْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: 124] ، فَإِذَا عُدِّيَ بِإِلَى كَانَ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ الْمُؤَكِّدِ عَلَى الْمُوصَى الْعَمَلِ بِهَا فَعَهِدَ هُنَا بِمَعْنَى أَرْسَلَ عَهْدًا إِلَيْهِ أَيْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عَهْدًا، فَالْمَعْنَى وَأَوْصَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ طَهِّرا أَنْ تَفْسِيرِيَّةَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَالتَّفْسِيرُ لِلْقَوْلِ الضِّمْنِيِّ وَالْمُفَسِّرِ هُوَ مَا بَعْدَ (أَنْ) فَلَا تَقْدِيرَ فِي الْكَلَامِ وَلَوْلَا قَصْدُ حِكَايَةِ الْقَوْلِ لَمَا جَاءَ بَعْدَ (أَنْ) بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَلَقَالَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِي إِلَخْ.

وَالْمُرَادُ مِنْ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّطْهِيرِ مِنْ مَحْسُوسٍ بِأَنْ يُحْفَظَ مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَالْأَوْسَاخِ لِيَكُونَ الْمُتَعَبِّدُ فِيهِ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ دُونَ تَكْدِيرٍ، وَمِنْ تَطْهِيرٍ مَعْنَوِيٍّ وَهُوَ أَنْ يُبْعَدَ عَنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِالْقَصْدِ مِنْ بِنَائِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحَقِّ كَالْعُدْوَانِ وَالْفُسُوقِ، وَالْمُنَافِيَةِ لِلْمُرُوءَةِ كَالطَّوَافِ عُرْيًا دُونَ ثِيَابِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطَهِّرُوهُ مِمَّا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: 34] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَة: 28] . وَالطَّائِفُونَ وَالْعَاكِفُونَ وَالرَّاكِعُونَ وَالسَّاجِدُونَ أَصْنَافُ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي الْبَيْتِ مِنْ طَوَافٍ وَاعْتِكَافٍ وَصَلَاةٍ، وَهُمْ أَصْنَافُ الْمُتَلَبِّسِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ انْفَرَدَتْ بَعْضُ الطَّوَائِفِ بِبَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوِ اجْتَمَعَتِ الصِّفَاتُ فِي طَائِفَةٍ أَوْ طَوَائِفٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ وَضْعِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَصْهَارُهُ مِنْ جُرْهُمٍ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ. وَقَدْ جَمَعَ الطَّائِفَ وَالْعَاكِفَ جَمْعَ سَلَامَةِ، وَجَمْعَ الرَّاكِعَ وَالسَّاجِدَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ وَبُعْدًا عَنْ تَكْرِيرِ الصِّيغَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ بِخِلَافِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ [التَّحْرِيم: 5] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَاب: 35] الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ «جَمَعَ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ جَمْعَ سَلَامَةٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ يَطُوفُونَ أَيْ يُجَدِّدُونَ الطَّوَافَ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ وَهُوَ قُرْبُ هَذَيْنِ مِنَ الْبَيْتِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَا فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ سَلَامَةٍ» ، وَهَذَا الْكَلَامُ يُؤْذِنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ جَمْعِ السَّلَامَةِ وَجَمْعِ التَّكْسِيرِ مِنْ حَيْثُ الْإِشْعَارِ بِالْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ ابْن جِنِّي فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ الْأَنْصَارِيِّ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: «جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى بِبَوَادِرِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا مُكَسَّرًا وَالْمَصْدَرُ إِذَا كُسِرَ بَعُدَ بِتَكْسِيرِهِ عَنْ شِبْهِ الْفِعْلِ، وَإِذَا جَازَ تَعَلُّقُ الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ مُكَسَّرًا نَحْوَ «مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ أَخَاهُ» كَانَ تَعَلُّقُ حَرْفِ الْجَرِّ بِهِ أَجْوَزَ» . فَصَرِيحُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّكْسِيرَ يُبْعِدُ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ عَنْ شِبْهِ الْفِعْلِ.

[سورة البقرة (2) : آية 126]

وَخُولِفَ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ زِيَادَةٌ فِي التَّفَنُّنِ وَإِلَّا فَإِنَّ السَّاجِدَ يُجْمَعُ عَلَى سُجَّدٍ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِمَا إِذَا اقْتَرَنَا أَنْ يُخَالَفَ بَيْنَ صِيغَتَيْهِمَا قَالَ كُثَيِّرٌ: لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلَامَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا وَقَدْ عَلِمْتُمْ مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ أَنَّ جَمْعَ فَاعِلٍ عَلَى فُعُولٍ سَمَاعِيٌّ فَمِنْهُ شُهُودٌ وَهُجُوعٌ وَهُجُودٌ وَسُجُودٌ. وَلَمْ يَعْطِفِ السُّجُودَ عَلَى (الركع) لِأَن الوصفين مُتَلَازِمَانِ وَلَوْ عَطَفَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُمَا وصفان مفترقان. [126] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً [الْبَقَرَة: 125] لإِفَادَة مَنْقَبَةٍ ثَالِثَةٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي اسْتِجَابَةِ دَعَوْتِهِ بِفَضْلِ مَكَّةَ وَالنِّعْمَةِ عَلَى سَاكِنِيهَا إِذَا شَكَرُوا، وَتَنْبِيهٌ ثَالِثٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ لِيَتَذَكَّرُوا دَعْوَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ الْمُشْعِرَةِ بِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَتَّى خَصَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِدَعْوَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَعْرِضُ الْمُشْرِكُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي سَأَلَهَا أَبُوهُمْ فَيَتَّضِحُ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَفِي ذَلِكَ بَعْثٌ لَهُمْ عَلَى الِاتِّصَافِ بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغْبَةً فِي الِاقْتِدَاءِ بِأَسْلَافِهِمْ وَحَنِينًا إِلَى أَحْوَالِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ كُلُّهُ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّ مَا يُدْلُونَ بِهِ مِنَ النَّسَبِ لِإِبْرَاهِيمَ وَمِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، كَمَا عَرَضَ بِالْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَة: 125] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَلَداً مُرَادٌ بِهِ الْمَوْضِعُ الْقَائِمُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ حِينَ دُعَائِهِ وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَابْنَهُ وَعَزَمَ عَلَى بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِيهِ إِنْ كَانَ الدُّعَاءُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، أَوِ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ الْكَعْبَةُ إِنْ كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَإِنَّ الِاسْتِحْضَارَ بِالذَّاتِ مُغْنٍ عَنِ الْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ

بِالْيَدِ لِأَنَّ تَمْيِيزَهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ مُغْنٍ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِشَارَةِ حِينَئِذٍ وَاضِحٌ. وَأَصْلُ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِهَا عَنْ زِيَادَةِ تَبْيِينِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ تَبْيِينًا لَفْظِيًّا لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بَيَانٌ، وَقَدْ يَزِيدُونَ الْإِشَارَةَ بَيَانًا فَيَذْكُرُونَ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ اسْمًا يُعْرَبُ عَطْفَ بَيَانٍ أَوْ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قُصِدَ اسْتِحْضَارُهُ مِنْ بَعْضِ أَوْصَافِهِ كَقَوْلِكَ هَذَا الرَّجُلُ يَقُولُ كَذَا، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِنْ تَرَكْتَ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ اعْتِمَادًا عَلَى حُضُورِ الْمُرَادِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ عَدَلَ هُنَا عَنْ بَيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ اكْتِفَاءً عَنْهُ بِمَا هُوَ الْوَاقِع عِنْدِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ دَعَا دَعْوَتَهُ وَهُوَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَنَى فِيهِ الْكَعْبَةَ لِأَنَّ الْغَرَضَ لَيْسَ تَفْصِيلَ حَالَةِ الدُّعَاءِ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ وَفَضِيلَةِ مَحَلِّ الدَّعْوَةِ وَجَعْلِ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا وَرِزْقِ أَهْلِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَتِلْكَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِعْرَاضِ عَمَّا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالْمَقْصُودِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْبَلَدَ مَفْعُولًا ثَانِيًا اسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [35] لَمَّا جَعَلَ آمِناً مَفْعُولًا ثَانِيًا بَيَّنَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِلَفْظِ (الْبَلَدِ) ، فَحَصَلَ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ دَعَا لِبَلَدٍ بِأَنْ يَكُونَ آمِنًا. وَالْبَلَدُ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَحَيِّزِ عَامِرًا أَوْ غَامِرًا، وَهُوَ أَيْضًا الْأَرْضُ مُطْلَقًا، قَالَ صَنَّانٌ الْيَشْكُرِيُّ: لَكِنَّهُ حَوْضُ مَنْ أَوْدَى بِإِخْوَتِهِ ... رَيْبُ الْمَنُونِ فَأَضْحَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ يُرِيدُ بَيْضَةَ النَّعَامِ فِي أُدْحِيِّ النَّعَامِ أَيْ مَحَلِّ بَيْضِهِ، وَيُطْلَقُ الْبَلَدُ عَلَى الْقَرْيَةِ الْمُكَوَّنَةِ مِنْ بُيُوتٍ عِدَّةٍ لِسُكْنَى أَهْلِهَا بِهَا وَهُوَ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ هُوَ أَشْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَلَدِ عَلَى الْأَرْضِ الْمُتَّسِعَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ الْمَحْكِيَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَقَرَّى مَكَّةُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ بِهَا إِلَّا بَيْتُ إِسْمَاعِيلَ أَوْ بَيْتٌ أَوْ بَيْتَانِ آخَرَانِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْتَدَأَ عِمَارَتَهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ مِنْ حَجَرٍ، وَلِأَنَّ إِلْهَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ لِذَلِكَ لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى مَصِيرَهَا مَهِيعَ الْحَضَارَةِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ إِرْهَاصًا لِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ كَانَ مَأْهُولًا بِسُكَّانٍ وَقْتَ مَجِيءِ إِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ وَابْنِهِ، وَالْعَرَبُ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ عَشَائِرُ مِنْ جُرْهُمٍ وَقُطُورَا وَالْعَمَالِقَةِ وَالْكَرْكَرِ فِي جِهَاتِ أَجْيَادَ وَعَرَفَاتَ. وَالْآمِنُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَمِنَ ضِدُّ خَافَ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَدَمُ الْخَوْفِ مِنْ عَدْوٍ وَمِنْ قِتَالٍ وَذَلِكَ مَا مَيَّزَ اللَّهُ مَكَّةَ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْأَمْنُ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ مُطْلَقًا فَتَعَيَّنَ ذِكْرُ

مُتَعَلِّقِهِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْأَمْنِ مَا يَصِحُّ اتِّصَافُهُ بِالْخَوْفِ وَهُوَ ذُو الْإِدْرَاكِيَّةِ، فَالْإِخْبَارُ بِآمِنًا عَنِ الْبَلَدِ إِمَّا بِجَعْلِ وَزْنِ فَاعِلٍ هُنَا لِلنِّسْبَةِ بِمَعْنَى ذَا أَمْنٍ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: كَلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبٍ أَيْ ذِي نَصَبٍ، وَإِمَّا عَلَى إِرَادَةِ آمِنًا أَهْلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِمُلَابَسَةِ الْمَكَانِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ أَرْضًا فِيهَا بَيْتٌ أَوْ بَيْتَانِ. فَالتَّقْدِيرُ فِي الْكَلَامِ اجْعَلْ هَذَا الْمَكَانَ بَلَدًا آمِنًا أَيْ قَرْيَةَ آمِنَةً فَيَكُونُ دُعَاءً بِأَنْ يَصِيرَ قَرْيَةً وَأَنْ تَكُونَ آمِنَةً. وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ دُعَائِهِ قَرْيَةً بَنَى أُنَاسٌ حَوْلَهَا وَنَزَلُوا حَذْوَهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» هُنَا وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ دُعَاءً لِلْبَلَدِ بِحُصُولِ الْأَمْنِ لَهُ وَأَمَّا حِكَايَةُ دَعْوَتِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [35] بِقَوْلِهِ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً فَتِلْكَ دَعْوَةٌ لَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ بَلَدًا. وَلَقَدْ كَانَتْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ هَذِهِ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ النُّبُوءَةِ فَإِنَّ أَمْنَ الْبِلَادِ وَالسُّبُلِ يَسْتَتْبِعُ جَمِيعَ خِصَالِ سَعَادَةِ الْحَيَاةِ وَيَقْتَضِي الْعَدْلَ وَالْعِزَّةَ وَالرَّخَاءَ إِذْ لَا أَمْنَ بِدُونِهَا، وَهُوَ يَسْتَتْبِعُ التَّعْمِيرَ وَالْإِقْبَالَ عَلَى مَا يَنْفَعُ وَالثَّرْوَةَ فَلَا يَخْتَلُّ الْأَمْنُ إِلَّا إِذَا اخْتَلَتِ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ وَإِذَا اخْتَلَّ اخْتَلَّتِ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ تَيْسِيرَ الْإِقَامَةِ فِيهِ عَلَى سُكَّانِهِ لِتَوْطِيدِ وَسَائِلِ مَا أَرَادَهُ لِذَلِكَ الْبَلَدِ مِنْ كَوْنِهِ مَنْبَعَ الْإِسْلَامِ. وَالثَّمَرَاتُ جَمْعُ ثَمَرَةٍ وَهِيَ مَا تَحْمِلُ بِهِ الشَّجَرَةُ وَتُنْتِجُهُ مِمَّا فِيهِ غِذَاءٌ لِلْإِنْسَانِ أَوْ فَاكِهَةٌ لَهُ، وَكَأَنَّ اسْمَهُ مُنْتَسِبٌ مِنِ اسْمِ التَّمْر بِالْمُثَنَّاةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يُرِيدُونَ بِالثَّمَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ التَّمْرَ الرَّطْبَ وَبِالْمُثَنَّاةِ التَّمْرَ الْيَابِسَ. وَلِلثَّمَرَةِ جُمُوعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَهِيَ ثَمَرٌ بِالتَّحْرِيكِ وَثِمَارٌ، وَثُمُرٌ، بِضَمَّتَيْنِ، وَأَثْمَارٌ، وَأَثَامِيرُ، قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَكَمَةً جُمِعَتْ عَلَى أَكَمٍ وَإِكَامٍ وَأُكُمٍ وَآكَامٍ وَأَكَامِيمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّمَرَاتِ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيْ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ تَعْرِيفَ الِاسْتِغْرَاقِ مَجِيءُ مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، وَفِي هَذَا دُعَاءٌ لَهُمْ بِالرَّفَاهِيَةِ حَتَّى لَا تَطْمَحَ نُفُوسُهُمْ لِلِارْتِحَالِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِ أَهْلَهُ يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ لِأَنَّ أَهْلَهُ عَامٌّ إِذْ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ مُضَافٍ وَبَدَلُ الْبَعْضِ مُخَصَّصٌ.

وَخَصَّ إِبْرَاهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ لَهُمْ حِرْصًا عَلَى شُيُوعِ الْإِيمَانِ لِسَاكِنِيهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ خَصَّتِ الْمُؤْمِنِينَ تَجَنَّبُوا مَا يَحِيدُ بِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، فَجَعَلَ تَيْسِيرَ الرِّزْقِ لَهُمْ عَلَى شَرْطِ إِيمَانِهِمْ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، أَوْ أَرَادَ التَّأَدُّبَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَسَأَلَهُ سُؤَالًا أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ وَلَعَلَّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ رَدِّ اللَّهِ عَلَيْهِ عُمُومَ دُعَائِهِ السَّابِقِ إِذْ قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] فَقَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: 124] أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِإِجْرَاءِ رِزْقِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَعْقَبَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا. وَمَقْصِدُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ دَعْوَتِهِ هَذِهِ أَنْ تَتَوَفَّرَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَسْبَابُ الْإِقَامَةِ فِيهَا فَلَا تَضْطَرُّهُمُ الْحَاجَةُ إِلَى سُكْنَى بَلَدٍ آخَرَ لِأَنَّهُ رَجَا أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً لِمَا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ لِأَجْلِهِ مِنْ إِقَامَةِ التَّوْحِيدِ وَخِصَالِ الْحَنِيفِيَّةِ وَهِيَ خِصَالُ الْكَمَالِ، وَهَذَا أَوَّلُ مَظَاهِرِ تَكْوِينِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي دَعَا أَفْلَاطُونُ لِإِيجَادِهَا بَعْدَ بِضْعَةَ عَشَرَ قَرْنًا. وَجُمْلَةُ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ جَاءَتْ عَلَى سُنَنِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَالْأَجْوِبَةِ مَفْصُولَةً، وَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قالَ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ إِعَادَةَ الْقَوْلِ لِطُولِ الْمَقُولِ الْأَوَّلِ فَقَدْ غَفَلَ عَنِ الْمَعْنَى وَعَنِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْقَيْدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ مُبْتَدَأً وَضُمِّنَ الْمَوْصُولُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ عَلَى طَرِيقَةٍ شَائِعَةٍ فِي مِثْلِهِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] أَنَّ عَطْفَ التَّلْقِينِ فِي الْإِنْشَاءِ إِذَا كَانَ صَادِرًا مِنَ الَّذِي خُوطِبَ بِالْإِنْشَاءِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ الْغَرَضِ مِنَ الْإِنْشَاءِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ آلَ الْمَعْنَى هُنَا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ فَضْلَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ ذُرِّيَّتَهُ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، أَوْ أَظْهَرَ سِعَةَ رَحْمَتِهِ بِرِزْقِ سُكَّانِ مَكَّةَ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ. وَمَعْنَى (أُمَتِّعُهُ) أَجْعَلُ الرِّزْقَ لَهُ مَتَاعًا، وقَلِيلًا صِفَةٌ لمصدر مَحْذُوف لبعد قَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ وَالْمَتَاعُ الْقَلِيلُ مَتَاعُ الدُّنْيَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِقَوْلِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ لَمْ يُنْعَمْ عَلَى الْكَافِرِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ فِي

[سورة البقرة (2) : آية 127]

الدُّنْيَا مَلَاذَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِدْرَاجِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْدُودَةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا لَفْظِيًّا وَإِنْ عَدَّهُ السُّبْكِيُّ فِي عِدَادِ الْخِلَافِ الْمَعْنَوِيِّ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَغْتَرَّ الْكَافِرُ بِأَنَّ تَخْوِيلَهُ النِّعَمَ فِي الدُّنْيَا يُؤْذِنُ بِرِضَى اللَّهِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْعَذَاب هُنَا. و (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِ مَصِيرِهِ إِلَى الْعَذَابِ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَمْتِيعِهِ بِالْمَتَاعِ الْقَلِيلِ. وَالِاضْطِرَارُ فِي الْأَصْلِ الِالْتِجَاءُ وَهُوَ بِوَزْنِ افْتَعَلَ مُطَاوِعُ أَضَرَّهُ إِذَا صَيَّرَهُ ذَا ضَرُورَةٍ أَيْ حَاجَةٍ، فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ اضْطُرَّ قَاصِرًا لِأَنَّ أَصْلَ الْمُطَاوَعَةِ عَدَمُ التَّعَدِّي وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَاءَ عَلَى تَعْدِيَتِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسٍ يُقَالُ اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا أَيْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [24] : نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ. وَقَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ وَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ أَوْ لِلْحَالِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ وَتَقْدِيره هِيَ. [127] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 127] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) هَذِهِ مَنْقَبَةٌ ثَالِثَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَذْكِيرٌ بِشَرَفِ الْكَعْبَةِ، وَوَسِيلَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً [الْبَقَرَة: 128] إِلَخْ، وَتَمْهِيدٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ إِنْكَارَهُمُ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ الَّذِي يَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَة: 142] وَلِأَجْلِ اسْتِقْلَالِهَا بِهَاتِهِ الْمَقَاصِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَاتُ قَبْلَهَا عُطِفَتْ عَلَى سَوَابِقِهَا مَعَ الِاقْتِرَانِ بِإِذْ تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ. وَخُولِفَ الْأُسْلُوبُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ فِي حِكَايَةِ الْمَاضِي أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ وَإِذْ رَفَعَ إِلَى كَوْنِهِ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ

وَحِكَايَتُهَا كَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ دَالٌّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ فَاسْتِعْمَالُهُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ الْمَاضِي بِالْحَالِ لِشُهْرَتِهِ وَلِتَكَرُّرِ الْحَدِيثِ عَنْهُ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ لِحُبِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِجْلَالِهِمْ إِيَّاهُ لَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ مَنَاقِبَهُ وَأَعْظَمَهَا بِنَاءُ الْكَعْبَةِ فَشَبَّهَ الْمَاضِي لِذَلِكَ بِالْحَالِ وَلِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَة: 124] إِلَى هُنَا مِمَّا يُوجِبُ امْتِلَاءَ أَذْهَانِ السامعين بإبراهيم وشؤونه حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَهُمْ وَكَأَنَّ أَحْوَالَهُ حَاضِرَةٌ مُشَاهَدَةٌ، وَكَلِمَةُ (إِذْ) قَرِينَةٌ عَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ لِأَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النُّحَاةِ أَنَّ إِذْ تَخْلُصُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي. وَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَسَاسُ الْبِنَاءِ الْمُوَالِي لِلْأَرْضِ الَّذِي بِهِ ثَبَاتُ الْبِنَاءِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا هَذَا اللَّفْظُ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الْقَاعِدَ فِي اللُّصُوقِ بِالْأَرْضِ فَأَصْلُ تَسْمِيَةِ الْقَاعِدَةِ مَجَازٌ عَنِ اللُّصُوقِ بِالْأَرْضِ ثُمَّ عَنْ إِرَادَةِ الثَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ وَهَاءُ التَّأْنِيثِ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ هَاءِ عَلَامَةٍ. وَرَفْعُ الْقَوَاعِدِ إِبْرَازُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَالِاعْتِلَاءُ بِهَا لِتَصِيرَ جِدَارًا لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَتَّصِلُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَيَصِيرُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالْجِدَارُ إِذَا اتَّصَلَ بِالْأَسَاسِ صَارَ الْأَسَاسُ مُرْتَفِعًا، وَيَجُوزُ جَعْلُ الْقَوَاعِدِ بِمَعْنَى جُدْرَانِ الْبَيْتِ كَمَا سَمَّوْهَا بِالْأَرْكَانِ وَرَفَعُهَا إِطَالَتُهَا، وَقَدْ جَعَلَ ارْتِفَاعَ جُدْرَانِ الْبَيْتِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُفَادَ مِنَ اخْتِيَارِ مَادَّةِ الرَّفْعِ دُونَ مَادَّةِ الْإِطَالَةِ وَنَحْوَهَا مَعْنَى التَّشْرِيفِ، وَفِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِلْقَوَاعِدِ كِنَايَةٌ عَنْ ثُبُوتِهِ لِلْبَيْتِ، وَفِي إِسْنَادِ الرَّفْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الرَّفْعِ الْمَذْكُورِ أَيْ بِدُعَائِهِ الْمُقَارِنِ لَهُ. وَعَطْفُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ تَنْوِيهٌ بِهِ إِذْ كَانَ مُعَاوِنَهُ وَمُنَاوِلَهُ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ عَمَلِ إِبْرَاهِيمَ وَعَمَلِ إِسْمَاعِيلَ أُوقِعَ الْعَطْفُ عَلَى الْفَاعِلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أُسْلُوبِ الْعَطْفِ فِيمَا ظَهَرَ لِي وَلَا يَحْضُرُنِي الْآنَ مِثْلَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْفَاعِلِينَ فِي صُدُورِ الْفِعْلِ تَجْعَلُ عَطْفَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ انْتِهَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ سَوَاءً فِي صُدُورِ الْفِعْلِ تَجْعَلُ الْمَعْطُوفَ مُوَالِيًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَإِسْمَاعِيلُ اسْمُ الِابْنِ الْبِكْرِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ وَلَدُهُ مِنْ جَارِيَتِهِ هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ،

[سورة البقرة (2) : آية 128]

وُلِدَ فِي أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ بَيْنَ قَادِشَ وَبَارِدَ سَنَةَ 1910 عَشْرٍ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ. وَمَعْنَى إِسْمَاعِيلَ بِالْعِبْرِيَّةِ سَمِعَ اللَّهُ أَيْ إِجَابَةُ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ أُمِّهِ هَاجَرَ إِذْ خَرَجَتْ حَامِلًا بِإِسْمَاعِيلَ مُفَارِقَةً الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ سَارَّةُ مَوْلَاتُهَا حِينَ حَدَثَ لِسَارَّةَ مِنَ الْغَيْرَةِ مِنْ هَاجَرَ لَمَّا حَمَلَتْ هَاجَرُ وَلَمْ يَكُنْ لِسَارَّةَ أَبْنَاءٌ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ هُوَ مُعَرَّبٌ عَنْ يَشْمَعِيلَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَسْمَعُ لَهُ اللَّهُ، وَلَمَّا كَبِرَ إِسْمَاعِيلُ رَأَى إِبْرَاهِيمُ رُؤْيَا وَحْيٍ أَنْ يَذْبَحَهُ فَعَزَمَ عَلَى ذَبْحِهِ فَفَدَاهُ اللَّهُ، وَإِسْمَاعِيلُ يَوْمَئِذٍ الِابْنُ الْوَحِيدُ لِإِبْرَاهِيمَ قَبْلَ وِلَادَةِ إِسْحَاقَ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ 1773 ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ تَقْرِيبًا، وَدُفِنَ بِالْحَجَرِ الَّذِي حَوْلَ الْكَعْبَةِ. وَجُمْلَةُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ حَالًا مِنْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ الدُّعَاءُ لِذَرِّيَّتِهِ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ حِينَئِذٍ صَغِيرًا. وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ الْقَوْلِ إِلَى نُطْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَا قَالَهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ هُوَ ضَرْبٌ مِنِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ قَدْ مَهَّدَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ حَتَّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ صَاحِبُ الْقَوْلِ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِيغَالِ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ التَّقَبُّلِ مِنْهُمَا، وَتَعْرِيفُ جُزْءَيْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَيْنِ لِلْمُبَالِغَةِ فِي كَمَالِ الْوَصْفَيْنِ لَهُ تَعَالَى بِتَنْزِيلِ سَمْعِ غَيْرِهِ وَعِلْمِ غَيْرِهِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقٍ خَاصٍّ أَيِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لِدُعَائِنَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُكَ وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ مُقَيَّدٌ وَهُوَ نَوْعٌ مُغَايِرٌ لِلْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ عُلَمَاء الْمعَانِي. [128] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 128] رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) فَائِدَةُ تَكْرِيرِ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارُ أَنَّ كُلَّ دَعْوَى مِنْ هَاتِهِ الدَّعَوَاتِ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ دَعْوَةٍ إِلَى أُخْرَى

فَإِنَّ الدَّعْوَةَ الْأُولَى لِطَلَبِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَالثَّانِيَةَ لِطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ فَجُمْلَةُ النِّدَاءِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ هُنَا وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [الْبَقَرَة: 129] . وَالْمُرَادُ بِمُسْلِمَيْنِ لَكَ الْمُنْقَادَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذِ الْإِسْلَامُ الِانْقِيَادُ، وَلَمَّا كَانَ الِانْقِيَادُ لِلْخَالِقِ بِحَقٍّ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَأَنْ لَا يُشْرِكَ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ مُلَازِمَةً لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ إِسْلَامًا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] فَإِنَّهُ فَكَّكَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ إِسْلَامَهُمْ كَانَ عَنْ خَوْفٍ لَا عَنِ اعْتِقَادٍ، فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ مُتَغَايِرَانِ مَفْهُومًا وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فِي الْمَاصَدَقَ، فَالتَّوْحِيدُ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ إِيمَانٌ لَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ انْقِيَادٌ إِذِ الِانْقِيَادُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْأَعْمَالِ، وَانْقِيَادُ الْمَغْلُوبِ الْمُكْرَهِ إِسْلَامٌ لَمْ يَنْشَأْ عَنِ اعْتِقَادِ إِيمَانٍ، إِلَّا أَنَّ صُورَتَيِ الِانْفِرَادِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ نَادِرَتَانِ. أَلْهَمَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ اسْمَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ادَّخَرَهُ بَعْدَهُ لِلدِّينِ الْمُحَمَّدِيِّ فَنُسِيَ هَذَا الِاسْمُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُلَقَّبْ بِهِ دِينٌ آخَرُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الْمُحَمَّدِيُّ إِتْمَامًا لِلْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَجِيءُ بَيَانٌ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [67] . وَمَعْنَى طَلَبِ أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ هُوَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ فِي مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَطَلَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ مِنْ قَبْلُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [الْبَقَرَة: 131] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا ومُسْلِمَةً مَعْمُولَيْنِ لِفِعْلِ وَاجْعَلْنا بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَهَذَا دُعَاءٌ بِبَقَاءِ دِينِهِمَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا لِلتَّبْعِيضِ، وَإِنَّمَا سَأَلَا ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّرِّيَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحِرْصِ عَلَى حُصُولِ الْفَضِيلَةِ لِلذُرِّيَّةِ وَبَيْنَ الْأَدَبِ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّ نُبُوءَةَ إِبْرَاهِيمَ تَقْتَضِي عِلْمَهُ بِأَنَّهُ سَتَكُونُ ذُرِّيَّتُهُ أُمَمًا كَثِيرَةً وَأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ جَرَتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ فَدَعَا اللَّهَ بِالْمُمْكِنِ عَادَةً، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الدُّعَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] . وَمِنْ هُنَا ابْتُدِئَ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّوْحِيدِ وَاتَّبَعُوا الشِّرْكَ، وَالتَّمْهِيدُ لِشَرَفِ الدِّينِ الْمُحَمَّدِيِّ.

وَالْأُمَّةُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يَجْمَعُهَا جَامِعٌ لَهُ بَالٌ مِنْ نَسَبٍ أَوْ دِينٍ أَوْ زَمَانٍ، وَيُقَالُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مَثَلًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ بِزِنَةِ فِعْلَةٍ وَهَذِهِ الزِّنَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ لَقْطَةٍ وَضِحْكَةٍ وَقُدْوَةٍ، فَالْأُمَّةُ بِمَعْنَى مَأْمُومَةٍ اشْتُقَّتْ مِنَ الْأَمِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَقْصِدُهَا الْفِرَقُ الْعَدِيدَةُ الَّتِي تَجْمَعُهَا جَامِعَةُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، مِثْلُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهَا ترجع إليا قَبَائِلُ الْعَرَبِ، وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَنْعَام: 38] فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَأُمَمٍ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ فِي حِكْمَةِ إِتْقَانِ خَلْقِهِمْ وَنِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَجَدْتُمُوهُ كَأُمَمٍ أَمْثَالِكُمْ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ كَانَ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ. وَقَدِ اسْتُجِيبَتْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ تَلَاحَقُوا بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا حَتَّى أَسْلَمَ كُلُّ الْعَرَبِ إِلَّا قَبَائِلَ قَلِيلَةً لَا تَنْخَرِمُ بِهِمْ جَامِعَةُ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129] ، وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَلَمْ يَلْتَئِمْ مِنْهُمْ عَدَدُ أُمَّةٍ. وَقَوْلُهُ: وَأَرِنا مَناسِكَنا سُؤَالٌ لِإِرْشَادِهِمْ لِكَيْفِيَّةِ الْحَجِّ الَّذِي أُمِرَا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَمْرًا مُجْمَلًا، فَفِعْلُ أَرِنا هُوَ مِنْ رَأَى الْعِرْفَانِيَّةِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ ثَابِتٌ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» وَتَعَدَّتْ بِالْهَمْزِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَحَقُّ رَأَى أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعِلْمِ بِجَعْلِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ شَبِيهًا بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ هَمْزُ التَّعْدِيَةِ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَأَمَّا تَعْدِيَةُ أَرَى إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ وَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْإِخْبَارَ عَنْ مَعْرِفَةِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتٍ فَيَذْكُرُ اسْمَ الذَّاتِ أَوَّلًا وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ مُرَادَهُ فَيُكْمِلُهُ بِذِكْرِ حَالٍ لَازِمَةٍ إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ فَيَقُولُ رَأَيْتُ الْهِلَالَ طَالِعًا مَثَلًا ثُمَّ يَقُولُ: أَرَانِي فُلَانٌ الْهِلَالَ طَالِعًا، وَكَذَلِكَ فِعْلُ عَلِمَ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ بَابِ ظَنَّ كُلِّهِ وَمِثْلُهُ بَابُ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ عَدَلْتَ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي بَابِ ظَنَّ أَوْ عَنِ الْخَبَرِ فِي بَابِ كَانَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِمَصْدَرٍ فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ فِي أَفْعَالِ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ لَاسْتَغْنَيْتَ عَنِ الْخَبَرِ وَالْمَفْعُولِ الثَّانِي فَتَقُولُ

[سورة البقرة (2) : آية 129]

كَانَ حُضُورُ فُلَانٍ أَيْ حَصَلَ وَعَلِمْتُ مَجِيءَ صَاحِبِكَ وَظَنَنْتُ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَقَدْ رُوِيَ قَوْلُ الْفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ: عَسَى أَنْ يُرْجِعَ الْأَيَّا ... مُ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا وَقَالَ حَطَائِطُ بْنُ يَعْفُرَ: أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هُزْلًا لَعَلَّنِي ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا فَإِنَّ جُمْلَةَ مَاتَ هُزْلًا لَيْسَتْ خَبَرًا عَنْ جَوَادًا إِذِ الْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ نَكِرَةً، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُعَدَّ الْخَبَرُ فِي بَابِ كَانَ وَالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي بَابِ ظَنَّ أَحْوَالًا لَازِمَةً لِتَمَامِ الْفَائِدَةِ وَأَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْخَبَرِ أَوِ الْمَفْعُولِ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْصُوبِ تَسَامُحٌ وَعِبَارَةٌ قَدِيمَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَرِنا بِسُكُونِ الرَّاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ كَسْرَةِ الرَّاءِ تَخْفِيفًا أَيْضًا، وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمَلِ الدُّعَاءِ. وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ مَنْسَكٍ وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ نَسَكَ نَسْكًا مِنْ بَابِ نَصَرَ أَيْ تَعَبَّدَ أَوْ مِنْ نَسُكَ بِضَمِّ السِّينِ نَسَاكَةً بِمَعْنَى ذَبَحَ تَقَرُّبًا، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَحِقُّ طَلَبُ التَّوْفِيقِ لَهُ وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [الْبَقَرَة: 200] . [129] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 129] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) كُرِّرَ النِّدَاءُ لِأَنَّهُ عَطْفُ غَرَضٍ آخَرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ وَهُوَ غَرَضُ الدُّعَاءِ بِمَجِيءِ الرِّسَالَةِ فِي ذُرِّيَّتِهِ لِتَشْرِيفِهِمْ وَحِرْصًا عَلَى تَمَامِ هَدْيِهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: فِيهِمْ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ لِتَكُونَ الدَّعْوَةُ بِمَجِيءِ رَسُولٍ بِرِسَالَةٍ عَامَّةٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الرَّسُولُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ مُتَعَلِّقَ رَسُولًا لِيَعُمَّ، فَالنِّدَاءُ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمَلِ الدَّعَوَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَمَظْهَرُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ كِلَيْهِمَا، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ رُسُلِ غَيْرِ الْعَرَبِ فَلَيْسُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَشُعَيْبٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُودٌ وَصَالِحٌ هُمَا مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ فَلَيْسَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ.

وَجَاءَ فِي التَّوْرَاةِ (فِي الْإِصْحَاحِ 17 مِنَ التَّكْوِينِ) «ظَهَرَ الرَّبُّ لِإِبْرَامَ أَيْ إِبْرَاهِيمَ» وَقَالَ لَهُ: أَنَا اللَّهُ الْقَدِيرُ سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلًا فَأَجْعَلُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَأُكَثِّرُكَ كَثِيرًا جِدًّا وَفِي فِقْرَةِ 20 وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثَمِّرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا» . وَذَكَرَ عَبْدُ الْحَقِّ الْإِسْلَامِيُّ السَّبْتِيُّ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَأَهْلُهُ فِي سَبْتَةَ وَكَانَ مَوْجُودًا بِهَا سَنَةَ 736 سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ «الْحُسَامُ الْمَحْدُودُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ» : أَنَّ كَلِمَةَ كَثِيرًا جِدًّا أَصْلُهَا فِي النَّصِّ الْعِبْرَانِيِّ «مَادًّا مَادًّا» وَأَنَّهَا رَمْزٌ فِي التَّوْرَاةِ لِاسْمِ مُحَمَّدٍ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ لِأَنَّ عَدَدَ حُرُوفِ «مَادًّا مَادًّا» بِحِسَابِ الْجُمَّلِ عِنْدَ الْيَهُودِ تَجْمَعُ عَدَدَ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ وَهُوَ عَدَدُ حُرُوفِ مُحَمَّدٍ اهـ وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْبَقَاعِيُّ فِي «نَظْمِ الدُّرَر» . وَمعنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ قِرَاءَةَ تَذْكِيرٍ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ بِكِتَابٍ فِيهِ شَرْعٌ. فَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ الْجُمْلَةُ مِنْ جُمَلِ الْقُرْآنِ، سُمِّيَتْ آيَةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ بِمَجْمُوعِ مَا فِيهَا مِنْ دَلَالَةِ صُدُورِ مِثْلِهَا مِنْ أُمِّيٍ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَمَا نُسِجَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَظْمٍ أَعْجَزَ النَّاسَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ دَلَالَةً لَمْ تَتْرُكْ مَسْلَكًا لِلضَّلَالِ فِي عَقَائِدِ الْأُمَّةِ بِحَيْثُ أَمِنَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْإِشْرَاكِ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْله: يَتْلُوا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ تَتَكَرَّرُ تِلَاوَتُهُ. وَالْحِكْمَةَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَدَقَائِقِ شَرَائِعِهِ وَهِيَ مَعَانِي الْكِتَابِ وَتَفْصِيلُ مَقَاصِدِهِ، وَعَنْ مَالِكٍ: الْحِكْمَةُ مَعْرِفَةُ الْفِقْهِ وَالدِّينِ وَالِاتِّبَاعِ لِذَلِكَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِلَاهُمَا نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ عَطْفَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْكِتَابِ يَقْتَضِي شَيْئًا مِنَ الْمُغَايَرَةِ بِزِيَادَةِ مَعْنًى وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُ مَعْنَى الْحِكْمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [269] . وَالتَّزْكِيَةُ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّقَائِصِ وَأَكْبَرُ النَّقَائِصِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الْقُرْآنِ وَأَبَوْا إِلَّا الْبَقَاءَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقَدْ جَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الذِّكْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ وَجُودِهَا لِأَنَّ أَوَّلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَكُونُ تَعْلِيمُ مَعَانِيهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [الْقِيَامَة: 18، 19] الْعِلْمُ تَحْصُلُ بِهِ التَّزْكِيَةُ وَهِيَ فِي الْعَمَلِ بِإِرْشَادِ الْقُرْآنِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 إلى 131]

وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيبِ الْإِجَابَةِ أَيْ لِأَنَّكَ لَا يَغْلِبُكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِكَ وَحِكْمَتِكَ شَيْءٌ. وَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [الْبَقَرَة: 10] وَقَوْلُهُ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 32] . [130، 131] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 130 إِلَى 131] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) مُوقِعُ هَاتِهِ الْآيَاتِ مِنْ سَوَابِقِهَا مُوقِعُ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فَضَائِلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى [الْبَقَرَة: 124] إِلَى هَنَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ هَاتِهِ الْفَضَائِلِ لَا يَعْدِلُ عَنْ دِينِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ إِلَّا سَفِيهُ الْعَقْلِ أَفِنَ الرَّأْيِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى سَوَابِقِهَا بِالْفَاءِ وَإِنَّمَا عَدَلَ مِنَ الْفَاءِ إِلَى الْوَاوِ لِيَكُونَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي تَكْمِيلِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حَقِيقٌ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَا مِنْ خُصُوصِ مَا حَكَى عَنْهُ فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ وَفِي التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ حَادُوا عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ مُتَضَمِّنًا لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالدَّلَالَةُ عَنِ التَّفْرِيعِ لَا تَفُوتُ لِأَنَّ وُقُوعَ الْجُمْلَةِ بَعْدَ سَوَابِقِهَا مُتَضَمِّنَةٌ هَذَا الْمَعْنَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا نَتِيجَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ كَمَا تَقُولُ أَحْسَنَ فُلَانٌ تَدْبِيرَ الْمُهِمِّ وَهُوَ رَجُلٌ حَكِيمٌ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تَقُولَ فَهُوَ رَجُلٌ حَكِيمٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْإِنْكَارِ قَدْ يَكُونُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ قَصْدِ الِاسْتِفْهَامِ فَيَكُونُ كِنَايَةً، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ إِرَادَةِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فَيَكُونُ مَجَازًا فِي الْإِنْكَارِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْنَى النَّفْيِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ الْعِلْمِ بِفَضْلِهَا وَوُضُوحِهَا أَمْرٌ مُنْكَرٌ مُسْتَبْعَدٌ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْمُنْكِرِ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ فَاعِلِهِ اسْتُعْمِلَ الِاسْتِفْهَامُ فِي مَلْزُومِهِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَالِاسْتِبْعَادُ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْمَعْرَضِ لَكَانَ السُّؤَالُ وَجِيهًا، وَالِاسْتِثْنَاء قرينَة عَن إِرَادَةِ النَّفْيِ وَاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ كِنَائِيَّيْنِ، أَوْ تَرْشِيحٌ لِلْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ وَهُمَا الْإِنْكَارُ. وَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَجِيءُ فِيهِ مَا قَالُوا فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ

فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَوْ فِي مَجَازَيْهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمَوْضُوعِ لَهُمَا الْحَقِيقِيُّ وَعَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ إِذِ الَّذِينَ رَأَوْا ذَلِكَ مَنَعُوا بِعِلَّةِ أَنَّ قَصْدَ الدَّلَالَةِ بِاللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّلَالَةِ بِهِ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ فَإِذَا دَلَّ عَلَى مَعْنَى تَمَّتْ دَلَالَتُهُ وَأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمَجَازِيَّيْنِ دَلَالَةٌ بِاللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فَتَقْضِي أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَدْلُولِهِ الْحَقِيقِيِّ إِلَى مَدْلُولٍ مَجَازِيٍّ وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّلَالَةِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ، أَمَّا الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عَقْلِيَّةٌ سَوَاءٌ بَقِيَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ أَمْ تَعَطَّلَتْ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اسْتِعْمَالَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ كَمَا تَكَرَّرَ فِي كُلِّ كِنَايَةٍ لَمْ يَرِدْ فِيهَا الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فَقَالَ النُّحَاةُ: الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ نَفْيٌ وَلِذَا يَجِيءُ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَلَكِنَّهُ يَكْثُرُ فِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الْمُنْكَرِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا وَلِهَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ كَلَامٍ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ كَأَنَّ مُجِيبًا أَجَابَ السَّائِلَ بِقَوْلِهِ: «لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. وَالرَّغْبَةُ طَلَبُ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ، فَحَقُّ فِعْلِهَا أَنْ يَتَعَدَّى بِفِي وَقَدْ يُعَدَّى بِعْنَ إِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى الْعُدُولِ عَنْ أَمْرٍ وَكَثُرَ هَذَا التَّضْمِينُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ مَنْسِيًّا. وَالْمِلَّةُ الدِّينُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: 120] . وسفه بِمَعْنَى اسْتَخَفَّ لِأَنَّ السَّفَاهَةَ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَاضْطِرَابُهُ يُقَالُ تَسَفَّهَهُ اسْتَخَفَّهُ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: مَشِينَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمُ وَمِنْهُ السَّفَاهَةُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ ارْتِكَابُ أَفْعَالٍ لَا يَرْضَى بِهَا أَهْلُ الْمُرُوءَةِ. وَالسَّفَهِ فِي الْمَالِ وَهُوَ إِضَاعَتُهُ وَقِلَّةُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَسُوءُ تَنْمِيَتِهِ. وَسَفَّهَهُ بِمَعْنَى اسْتَخَفَّهُ وَأَهَانَهُ لِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ يَنْشَأُ عَنْهُ الْإِهَانَةُ وَسَفِهَ صَارَ سَفِيهًا وَقَدْ تَضُمُّ الْفَاءُ فِي هَذَا. وَانْتِصَابُ نَفْسَهُ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ أَهْمَلَهَا وَاسْتَخَفَّهَا وَلَمْ يُبَالِ بِإِضَاعَتِهَا دُنْيًا وَأُخْرَى وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ وَأَصْلُهُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ أَيْ خَفَّتْ وَطَاشَتْ فَحُوِّلَ الْإِسْنَادُ إِلَى صَاحِبِ النَّفْسِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِلْمُلَابَسَةِ قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ أَنَّ السَّفَاهَةَ

سَرَتْ مِنَ النَّفْسِ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ شِدَّةٍ تَمَكُّنِهَا بِنَفْسِهِ حَتَّى صَارَتْ صِفَةً لِجُثْمَانِهِ، ثُمَّ انْتَصَبَ الْفَاعِلُ عَلَى التَّمْيِيزِ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْإِبْهَامِ فِي الْإِسْنَادِ الْمُجَازِيِّ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَجِيءُ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ لِأَنَّ تَنْكِيرَ التَّمْيِيزِ أَغْلَبِيٌّ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ تَسْفِيهُ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُقَامٌ عَلَى أَسَاسِ الْحَنِيفِيَّةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: 123] وَقَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [الْبَقَرَة: 128] وَقَالَ: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَة: 132] إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] . وَجُمْلَةُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الدَّالَّةُ عَلَى رِفْعَةِ دَرَجَةِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا وَضَمِنَ لَهُ النُّبُوءَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ وَأَمْرَهُ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ لِتَوْحِيدِهِ وَاسْتَجَابَ لَهُ دَعَوَاتِهِ. وَقَدْ دَلَّتْ تِلْكَ الْجُمَلُ عَلَى اخْتِيَارِ اللَّهِ إِيَّاهُ فَلَا جَرَمَ أُعْقِبَتْ بِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ لِفَذْلَكَتِهَا وَزَائِدَةٌ بِذِكْرِ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَفِي ذَلِكَ اهْتِمَامٌ بِتَقْرِيرِ اصْطِفَائِهِ وَصَلَاحِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْأَخِيرِ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى آخِرِهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ اصْطَفَيْناهُ وَبَيْنَ الظَّرْفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، إِذْ هُوَ ظَرْفٌ لَاصْطَفَيْنَاهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، قُصِدَ مِنْ هَذِهِ الظَّرْفِيَّةِ التَّخَلُّصُ إِلَى مَنْقَبَةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ هُوَ دَلِيلُ اصْطِفَائِهِ حَيْثُ خَاطَبَهُ اللَّهُ بِوَحْيٍ وَأَمَرَهُ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ أَسْلِمْ مِنْ مَعَانٍ جِمَاعُهَا التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَإِخْلَاصُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ أَيْضًا وَقْتُ ظُهُورِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِصْلَاحَ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ مَفْعُولَ أَسْلِمْ وَمُتَعَلِّقَهُ مَحْذُوفَانِ يُعْلَمَانِ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ أَسْلِمْ نَفْسَكَ لِي كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَشَاعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ مَفْعُولِ أَسْلِمْ فَنَزَلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ يُقَالُ أَسْلَمَ أَيْ دَانَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: 67] .

[سورة البقرة (2) : آية 132]

وَقَوْلُهُ: قالَ أَسْلَمْتُ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] . وَقَوْلُهُ: قالَ أَسْلَمْتُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ بَادَرَ بِالْفَوْرِ دُونَ تَرَيُّثٍ كَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُهُ جَوَابًا، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: إِنَّمَا قَالَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ أَسْلَمْتُ لَكَ لِيَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ وَبِدَلِيلِهِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ خَالِقًا عَالِمًا حَصَلَ لَهُ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ فَلَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ صَادَفَ ذَلِكَ عقلا رشدا. [132] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 132] وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) لِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ أَنْ يَكُونُوا حَرِيصِينَ عَلَى صَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِ أُمَّتِهِمْ كَانَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ ذَلِكَ أَنْ يَحْرِصُوا عَلَى دَوَامِ الْحَقِّ فِي النَّاسِ مُتَّبَعًا مَشْهُورًا فَكَانَ مِنْ سُنَنِهِمُ التَّوْصِيَةُ لِمَنْ يَظُنُّونَهُمْ خَلَفًا عَنْهُمْ فِي النَّاسِ بِأَنْ لَا يَحِيدُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَلَا يُفَرِّطُوا فِيمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْهُ، فَإِنَّ حُصُولَهُ بِمُجَاهَدَةِ نُفُوسٍ وَمُرُورِ أَزْمَانٍ فَكَانَ لِذَلِكَ أَمْرًا نَفِيسًا يَجْدُرُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِ. وَالْإِيصَاءُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ الْمُخَاطَبِ خُصُوصًا أَوْ عُمُومًا، وَفِي فَوْتِهِ ضُرٌّ، فَالْوَصِيَّةُ أَبْلَغُ مِنْ مُطْلَقِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَلَا تُطْلَقُ إِلَّا فِي حَيْثُ يَخَافُ الْفَوَاتَ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي وَلِذَلِكَ كَثُرَ الْإِيصَاءُ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْمَوْتِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [الْبَقَرَة: 133] ، وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُودِعٍ فَأَوْصِنَا» الْحَدِيثَ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوصَى كَالْوَصِيَّةِ عِنْدَ السَّفَرِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَمَنِ: «كَانَ آخِرَ مَا أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ حِينَ وَضَعَتْ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ حَسِّنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ» ، وَجَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» .

فَوَصِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ إِمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا تُشْعِرُ بِهِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [الْبَقَرَة: 133] وَإِمَّا فِي مَظَانِّ خَشْيَةُ الْفَوَاتِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى الْمِلَّةِ أَوْ عَلَى الْكَلِمَةِ أَيْ قَوْلُهُ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: 131] فَإِنْ كَانَ بِالْمِلَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُلَازِمُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوْصَى بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ جَامِعٌ لِمَعَانِي مَا فِي الْمِلَّةِ. وَبَنُو إِبْرَاهِيمَ ثَمَانِيَةٌ: إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ أَكْبَرُ بَنِيهِ وَأُمُّهُ هَاجَرُ، وَإِسْحَاقُ وَأَمُّهُ سَارَّةُ وَهُوَ ثَانِي بَنِيهِ، وَمَدْيَانُ، وَمَدَانُ، وَزَمْرَانُ، وَيِقْشَانُ، وَبِشْبَاقُ، وَشُوحُ، وَهَؤُلَاءِ أُمُّهُمْ قَطُورَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَوْتِ سَارَّةَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ خَبَرٌ مُفَصَّلٌ فِي التَّوْرَاةِ سِوَى أَنَّ ظَاهِرَ التَّوْرَاةِ أَنَّ مَدْيَانَ هُوَ جَدُّ أُمَّةِ مَدْيَنَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ خَائِفًا مِنْ مِصْرَ نَزَلَ أَرْضَ مَدْيَانَ وَأَنْ يَثْرُونَ أَوْ رَعُوئِيلَ (هُوَ شُعَيْبٌ) كَانَ كَاهِنَ أَهْلِ مَدْيَنَ. وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ زَوْجِهِ رُفْقَةَ الْأَرَامِيَّةِ تَزَوَّجَهَا سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ فِي حَيَاةِ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ رَجُلًا وَلُقِّبَ بِإِسْرَائِيلَ وَهُوَ جَدُّ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَاتَ يَعْقُوبُ بِأَرْضِ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَدُفِنَ بِمَغَارَةِ الْمَكْفُلِيَّةِ بِأَرْضِ كَنْعَانَ (بَلَدِ الْخَلِيلِ) حَيْثُ دُفِنَ جَدُّهُ وَأَبُوهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَعَطْفُ يَعْقُوبَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ هُنَا إِدْمَاجٌ مَقْصُودٌ بِهِ تَذْكِيرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (الَّذِي هُوَ يَعْقُوبُ) بِوَصِيَّةِ جَدِّهِمْ فَكَمَا عَرَّضَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دِينٍ أَوْصَى بِهِ أَبُوهُمْ عَرَّضَ بِالْيَهُودِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا انْتَسَبُوا إِلَى إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَعْقُوبُ الَّذِي هُوَ جَامِعُ نَسَبِهِمْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ لِتُقَامَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ اتِّبَاعِهِمُ الْإِسْلَامَ. وَقَوْلُهُ: يَا بَنِيَّ إِلَخْ حِكَايَةُ صِيغَةِ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ. وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ (أَوْصَى) مُتَضَمِّنًا لِلْقَوْلِ صَحَّ مَجِيءُ جُمْلَةٍ بَعْدَهُ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَصْلُحَ لِحِكَايَةِ الْوَصِيَّةِ لِتُفَسِّرَ جُمْلَةَ (أَوْصَى) ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِأَنِ التَّفْسِيرِيَّةَ الَّتِي كَثُرَ مَجِيئُهَا بَعْدَ جُمْلَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، لِأَنَّ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مَحْكِيًّا بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُحْكَى بِالْمَعْنَى، فَلَمَّا أُرِيدَ هُنَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ بِنَصِّهِ (مَا عَدَا مُخَالَفَةَ الْمُفْرَدَاتِ الْعَرَبِيَّةِ) عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ فِعْلِ الْقَوْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا تَجِيءُ بَعْدَهُ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةَ بِحَالٍ، وَلِهَذَا

يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّهُ مُقَدَّرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وَصَّى وَنَحْوَهُ نَاصِبٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيًّا. واصْطَفى لَكُمُ اخْتَارَ لَكُمُ الدِّينَ أَيِ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتَارَهُ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ وَأَنَّهُ فَضَّلَهُمْ بِهِ لِأَنَّ اصْطَفَى لَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ادَّخَرَهُ لِأَجْلِهِ، وَأَرَادَ بِهِ دِينُ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَمَعْنَى فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ النَّهْيُ عَنْ مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ أَعَنَى مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ حَيَاتِهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مُلَازَمَتِهِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يَدْرِي مَتَى يَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَنَهْيُ أَحَدٍ عَنْ أَنْ يَمُوتَ غَيْرَ مُسْلِمِ أَمْرٌ بِالِاتِّصَافِ بِالْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ الْحَيَاةِ فَالْمُرَادُ مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّهْيِ شِدَّةُ الْحِرْص على تِلْكَ الْمَنْهِيِّ. وَلِلْعَرَبِ فِي النَّهْيِ الْمُرَادِ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ لَازِمِهِ طُرُقٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَجْعَلُوا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لِلْمُخَاطَبِ عَلَى اجْتِنَابِهِ فَيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ لَازِمِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ لَا تَنْسَ كَذَا أَيْ لَا تَرْتَكِبُ أَسْبَابَ النِّسْيَانِ، وَمِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا أَيْ لَا تَفْعَلُ فَأَعْرِفُكَ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَا يُنْهِي عَنْهَا الْمُخَاطَبُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «فَلَا يُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي» ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَقْدُورًا لِلْمُخَاطِبِ وَلَا يُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ النَّهْيَ عَنْهُ وَلَكِنْ عَمَّا يَتَّصِلُ بِهِ أَوْ يُقَارِنُهُ فَيَجْعَلُ النَّهْيَ فِي اللَّفْظِ عَنْ شَيْءٍ وَيُقَيِّدُهُ بِمُقَارِنِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مُضْطَرٌّ لِإِيقَاعِهِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ اضْطُرَّ لِإِيقَاعِ مُقَارِنِهِ نَحْوَ قَوْلِكَ لَا أَرَاكَ بِثِيَابٍ مُشَوَّهَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُمْكِنَ الْحُصُولِ وَيَجْعَلُهُ مُفِيدًا مَعَ احْتِمَالِ الْمَقَامِ لِأَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَهُمَا نَحْوَ لَا تَجِئْنِي سَائِلًا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ لَا يَسْأَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَجِيءَ وَلَا يَسْأَلَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَجِيءَ بِالْمَرَّةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِثْبَاتُ أَنَّ بَنِي إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا طَرَأَ عَلَى بَنِيهِ بَعْدَ ذَاكَ مِنَ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا اقْتَضَتْهُ أَحْوَالٌ عَرَضَتْ وَهِيَ دُونَ الْكَمَالِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَقَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الْحَج: 78] .

[سورة البقرة (2) : آية 133]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 133] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تَفْصِيلٌ لِوَصِيَّةِ يَعْقُوبَ بِأَنَّهُ أَمَرَ أَبْنَاءَهُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَهِيَ نَظِيرُ مَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ فَأَجْمَلَ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَتَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [الْبَقَرَة: 135] وَإِبْطَالٌ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَأَنَّهُ أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ فَلَزِمَتْ ذُرِّيَّتَهُ فَلَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا ذَلِكَ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ بِدُونِ سَنَدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 140] الْآيَةَ فَلِذَلِكَ جِيءَ هُنَا بِتَفْصِيلِ وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ إِبْطَالًا لِدَعَاوِي الْيَهُودِ وَنَقْضًا لِمُعْتَقَدِهِمُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْبَأَ بِهِ الْإِنْكَارُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِلَخْ. وأَمْ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ كُنْتُمْ شُهَداءَ عَلَى جُمْلَةِ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: 132] فَإِنَّ أَمْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ كَيْفَمَا وَقَعَتْ، وَهِيَ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ إِلَى مُجَادَلَةِ مَنِ اعْتَقَدُوا خِلَافَ ذَلِكَ الْخَبَرِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَمْ يُلَازِمُهَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ [الْبَقَرَة: 108] إِلَخْ فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِظُهُورِ أَنَّ عَدَمَ شُهُودِهِمُ احْتِضَارَ يَعْقُوبَ مُحَقَّقٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَجَازٌ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ مَحَامِلِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَجَازِيِّ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ مَأْلُوفٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارِيًّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ الْوَاقِعُ فِيهِ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَظِنَّةِ حَالِ مَنْ يَدَّعِي خِلَافَ الْوَاقِعِ حَتَّى يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ جَوَّزَ كَوْنَ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِنْكَارَ يُسَاوِي النَّفْيَ مُسَاوَاةً تَامَّةً وَغَفَلُوا عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبَيْنَ النَّفْيِ الْمُجَرَّدِ فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ مَجَازًا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ النَّفْيُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ وُقُوعُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْغَفْلَةِ، فَتَعِينَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ الْيَهُودَ وَأَنَّ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اعْتِقَادٍ اعْتَقَدُوهُ يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ

وَسَوَابِقِهِ وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ يَعْقُوبَ مَاتَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَأَوْصَى بِهَا فَلَزِمَتْ ذُرِّيَّتَهُ، فَكَانَ مَوْقِعَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْيَهُودِ وَاضِحًا وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعُوا مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِعِلْمِهِ إِذْ لَمْ يَشْهَدُوا كَمَا سَيَأْتِي، فَالْمَعْنَى مَا كُنْتُمْ شُهَدَاءَ احْتِضَارَ يَعْقُوبَ. ثمَّ أكمل الله الْقِصَّةَ تَعْلِيمًا وَتَفْصِيلًا وَاسْتِقْصَاءً فِي الْحُجَّةِ بِأَنْ ذَكَرَ مَا قَالَهُ يَعْقُوبُ حِينَ اخْتِصَارِهِ وَمَا أَجَابَهُ أبناؤه وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ، فَالْإِنْكَارُ يَنْتَهِي عِنْدَ قَوْلِهِ: (الْمَوْتُ) وَالْبَقِيَّةُ تَكْمِلَةٌ لِلْقِصَّةِ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرَةٌ اعْتِمَادًا عَلَى مَأْلُوفِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يُطَالُ فِيهِ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] ، فَلَمَّا قَالَ هُنَا: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، عَلِمَ السَّامِعُ مَوْقِعَ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ نَعْبُدُ إِلهَكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُمْ لَوِ ادَّعَوْا ذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ إِذْ هُوَ عَيْنُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخَبَرِ، وَبِذَلِكَ يَسْتَقِرُّ كِلَا الْكَلَامَيْنِ فِي قَرَارِهِ، وَلَمْ يَكُنْ دَاعٍ لِجَعْلِ (أَمْ) مُتَّصِلَةً بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا تَكُونُ هِيَ مُعَادِلَةً لَهُ، كَأَنْ يُقَدِّرَ أَكُنْتُمْ غَائِبِينَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أَمْ شُهَدَاءَ وَأَنَّ الْخِطَابَ لِلْيَهُودِ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَلَا لِجَعْلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعْنَى جَعْلِ الِاسْتِفْهَامِ لِلنَّفْيِ الْمَحْضِ أَيْ مَا شَهِدْتُمُ احْتِضَارَ يَعْقُوبَ أَيْ عَلَى حَدٍّ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَص: 44] وَحَّدَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمرَان: 44] كَمَا حَاوَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ، وَإِنَّمَا حَدَاهُ إِلَى ذَلِكَ قِيَاسُهُ عَلَى غَالِبِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَعَ أَنَّ مَوْقِعَهُ هُنَا مَوْقِعٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ وَهُوَ مِنِ الْإِيجَازِ وَالْإِكْمَالِ إِذْ جَمَعَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي التَّقَوُّلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدُوهُ، وَتَعْلِيمُهُمْ مَا جَهِلُوهُ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ الْبَدِيعِ أُعِيدَتْ إِذْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ لِيَكُونَ كَالْبَدَلِ مِنْ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ فَيَكُونُ مَقْصُودًا بِالْحُكْمِ أَيْضًا. وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيِ الْحَاضِرِ لِلْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَوَجْهُ دَلَالَةِ نَفْيِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَسَبُوهُ إِلَى يَعْقُوبَ هُوَ أَنَّ تَنْبِيهَهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الشَّكَّ فِي مُعْتَقَدِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ الْمَنْفِيِّ شُهُودُ الْمُخَاطَبِينَ مَحْضَرَهَا فَهَذَا مِنْ مَجِيءِ الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَقَوْلُهُ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] فَيَكُونُ الْكَلَامُ نَفْيًا لِشُهُودِهِمْ مَعَ إِفَادَةِ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، أَيْ وَلَوْ شَاهَدْتُمْ مَا اعْتَقَدْتُمْ خِلَافَهَا

فَلَمَّا اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا كَالضَّرُورِيِّ وَبَّخَهُمْ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى النَّظَرِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي اسْتَنَدُوا إِلَيْهَا فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا طُرُقٌ غَيْرُ مُوَصِّلَةٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُونَ وَجِهَةَ الِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْيِ الْحُضُورِ مَعَ أَنَّ نَفْيَ الْحُضُورِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْمُدَّعِي لِأَنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ، فَالْمَقْصُودُ هُنَا الِاسْتِدْرَاجُ فِي إِبْطَالِ الدَّعْوَى بِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى مُدَّعِيهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بَدَلٌ مِنْ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ وَفَائِدَةُ الْمَجِيءِ بِالْخَبَرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، هِيَ قَصْدُ اسْتِقْلَالِ الْخَبَرِ وَأَهَمِّيَّةُ الْقِصَّةِ وَقَصْدُ حِكَايَتِهَا عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِهَا، وَقَصْدُ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِأَنَّ حَالَةَ حُضُورِ الْمَوْتِ لَا تَخْلُو مِنْ حَدَثٍ هَامٍّ سَيُحْكَى بَعْدَهَا فَيَتَرَقَّبُهُ السَّامِعُ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ جَاءَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَقْتُ التَّعْجِيلِ بِالْحِرْصِ عَلَى إِبْلَاغِ النَّصِيحَةِ فِي آخِرِ مَا يَبْقَى مِنْ كَلَامِ الْمُوصِي فَيَكُونُ لَهُ رُسُوخٌ فِي نُفُوسِ الْمُوصَيْنِ، أخرج أَبُو دَاوُود وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «وَعْظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا» الْحَدِيثَ. وَجَاءَ يَعْقُوبُ فِي وَصِيَّتِهِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِفْهَامِ لِيَنْظُرَ مِقْدَارَ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الدِّينِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى خَالِصِ طَوِيَّتِهِمْ لِيُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مَا سَيُوصِيهِمْ بِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَجِيءَ فِي السُّؤَالِ بِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ دُونَ مَنْ لِأَنَّ مَا هِيَ الْأَصْلُ عِنْدَ قَصْدِ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْبُدَهُ الْعَابِدُونَ. وَاقْتَرَنَ ظَرْفُ بَعْدِي بِحَرْفِ (مِنْ) لَقَصْدِ التَّوْكِيدِ فَإِنَّ (مِنْ) هَذِهِ فِي الْأَصْلِ ابتدائية فقولك: حئت مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ يُفِيدُ أَنَّكَ جِئْتَ فِي أَوَّلِ الْأَزْمِنَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ حَرْفِ تَأْكِيدٍ. وَبَنُو يَعْقُوبَ هُمُ الْأَسْبَاطُ أَيْ أَسْبَاطُ إِسْحَاقَ وَمِنْهُمْ تَشَعَّبَتْ قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمُ اثْنَا عشر ابْنا: رأوبين، وَشَمْعُونُ، وَلَاوَى، وَيَهُوذَا، وَيَسَاكِرُ، وَزَبُولُونُ، (وَهَؤُلَاءِ أُمُّهُمْ لِيئَةَ) وَيُوسُفُ وَبِنْيَامِينُ (أُمُّهُمَا رَاحِيلُ) وَدَانُ وَنَفْتَالَى (أُمُّهُمَا بِلِهَةَ) وَجَادُ وَأُشِيرُ (أُمُّهُمَا زُلْفَةُ) . وَقَدْ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ جَمِيعَهُمْ صَارُوا أَنْبِيَاءَ وَأَنَّ يُوسُفَ كَانَ رَسُولًا. وَوَاحِدُ الْأَسْبَاطِ سِبْطٌ- بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْبَاءِ- وَهُوَ ابْنُ الِابْنِ أَيِ الْحَفِيدُ، وَقَدْ

اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِ سِبْطٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [160] عَنِ الزَّجَّاجِ: الْأَظْهَرِ أَنَّ السِّبْطَ عِبْرَانِيٌّ عُرِّبَ اهـ. قُلْتُ: وَفِي الْعِبْرَانِيَّةِ سِيبَطُ بِتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ السِّينِ سَاكِنَةٌ. وَجُمْلَةُ: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِدُونِ وَاوٍ وَلَيْسَتِ اسْتِئْنَافًا لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وَلَا تَمَامَ لَهُ قَبْلَ حُصُولِ الْجَوَابِ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ إِلهَكَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ بِأَنْ يَقُولَ نَعْبُدُ اللَّهَ لِأَنَّ إِضَافَةَ إِلَهٍ إِلَى ضَمِيرِ يَعْقُوبَ وَإِلَى آبَائِهِ تُفِيدُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَ يَعْقُوبُ وَآبَاؤُهُ يَصِفُونَ اللَّهَ بِهَا فِيمَا لقنه لأبنائه مُنْذُ نَشْأَتِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا سَكَنُوا أَرْضَ كَنْعَانَ وَفِلَسْطِينَ مُخْتَلِطِينَ وَمُصَاهِرِينَ لِأُمَمٍ تَعْبُدُ الْأَصْنَامَ مِنْ كَنْعَانِيِّينَ وَفِلَسْطِينِيِّينَ وَحِثِّيِّينَ وَأَرَامِيِّينَ ثُمَّ كَانَ مَوْتُ يَعْقُوبَ فِي أَرْضِ الْفَرَاعِنَةِ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى. وَأَيْضًا فَمِنْ فَوَائِدِ تَعْرِيفِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ أَبِيهِمْ وَإِلَى لَفْظِ آبَائِهِ أَنَّ فِيهَا إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ مُقْتَدُونَ بِسَلَفِهِمْ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِعَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ضَرْبٌ مِنْ مُحَسِّنِ الِاطِّرَادِ تَنْوِيهًا بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ الْأَسْلَافِ كَقَوْلِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ قَعِينَ: إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ وَإِنَّمَا أُعِيدَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ: وَإِلهَ آبائِكَ لِأَنَّ إِعَادَةَ الْمُضَافِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَفْصَحُ فِي الْكَلَامِ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَإِطْلَاقُ الْآبَاءِ عَلَى مَا شَمِلَ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ عَمٌّ لِيَعْقُوبَ إِطْلَاقٌ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ وَلِأَنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ. وَقَدْ مَضَى التَّعْرِيفُ بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ. وَأَمَّا إِسْحَاقُ فَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَأُمُّهُ سَارَّةُ. وُلِدَ سَنَةَ 1896 سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ وَهُوَ جَدٌّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمٍ تَقْرُبُ لَهُمْ. وَالْيَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّ الِابْنَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ وَفَدَاهُ اللَّهُ هُوَ إِسْحَاقُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ هُوَ إِسْمَاعِيلُ فِي صِغَرِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ وَلَدٌ غَيْرُهُ لِيَظْهَرَ كَمَالُ الِامْتِثَالِ

وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ التَّوْرَاةَ لَمَّا ذَكَرَتْ قِصَّةَ الذَّبِيحِ وَصَفَتْهُ بِالِابْنِ الْوَحِيدِ لِإِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْحَاقُ وَحِيدًا قَطُّ، وَتُوُفِّيَ إِسْحَاقُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمِيلَادِ وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي مَغَارَةِ الْمكفيلَةِ فِي حَبْرُونَ (بَلَدِ الْخَلِيلِ) . وَقَوْلُهُ: إِلهاً واحِداً تَوْضِيحٌ لِصِفَةِ الْإِلَهِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ فَقَوْلُهُ: إِلهاً حَالٌ مِنْ إِلهَكَ وَوُقُوعُ (إِلَهًا) حَالًا مِنْ (إِلَهِكَ) مَعَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لَهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ إِجْرَاءِ الْوَصْفِ عَلَيْهِ بِوَاحِدٍا فَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الْوَصْفُ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ لَفْظُ إِلَهًا وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وَصْفِ وَاحِدًا لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِطْنَابٍ فَفِي الْإِعَادَةِ تَنْوِيهٌ بِالْمَعَادِ وَتَوْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ إِذْ يُعَادُ اللَّفْظُ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ وَصْفٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ وَيَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ تَوْكِيدُ اللَّفْظِ السَّابِقِ تَبَعًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّوْكِيدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] وَقَوْلُهُ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاء: 7] وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشُّعَرَاء: 132، 133] إِذْ أَعَادَ فِعْلَ أَمَدَّكُمْ وَقَوْلُ الْأَحْوَصِ الْأَنْصَارِيِّ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تَخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ: إِذَا قُمْتُ قُمْتُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادِ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلهاً واحِداً بَدَلًا مِنْ إِلهَكَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مِثْلَ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: 63] ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِتَقْدِيرِ امْدَحُ فَإِنَّ الِاخْتِصَاصَ يَجِيءُ مِنَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَمِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَعْبُدُ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ نَعْبُدُ، جِيءَ بِهَا اسْمِيَّةٌ لِإِفَادَةِ ثَبَاتِ الْوَصْفِ لَهُمْ وَدَوَامِهِ بَعْدَ أَنْ أُفِيدَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مَعْنَى التجدد والاستمرار.

[سورة البقرة (2) : آية 134]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 134] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) عُقِّبَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَة: 124] بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تَضَمَّنَتِ الثَّنَاءَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ وَالتَّنْوِيهَ بِشَأْنِهِمْ وَالتَّعْرِيضَ بِمَنْ لَمْ يَقْتَفِ آثَارَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ وَكَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَنْتَحِلُ مِنْهُ الْمَغْرُورُونَ عُذْرًا لِأَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ نَحْنُ وَإِنْ قَصَّرْنَا فَإِنَّ لَنَا مِنْ فَضْلِ آبَائِنَا مَسْلَكًا لِنَجَاتِنَا، فَذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْأَعْمَالِ لَا بِالِاتِّكَالِ. وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ عَائِدَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَبِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِاسْمٍ مُؤَنَّثٍ لَفْظُهُ وَهُوَ أُمَّةٌ. وَالْأُمَّةُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [الْبَقَرَة: 128] . وَقَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ صِفَةٌ لِأُمَّةٍ وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ، وَأَصْلُ الْخَلَاءِ الْفَرَاغُ فَأَصْلُ مَعْنَى خَلَتْ خَلَا مِنْهَا الْمَكَانُ فَأَسْنَدَ الْخُلُوَّ إِلَى أَصْحَابِ الْمَكَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِنُكْتَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْخَبَرُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِ غَيْرِهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ كَوْنَهَا خَلَتْ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، وَلِذَا فَقَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ الْآيَةَ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ قَدْ خَلَتْ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْيَهُودِ أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ صَلَاحُ آبَائِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ طَرِيقَتَهُمْ، فَقَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ بِمَا كَسَبَتْ وَبِمَا كَسَبْتُمْ ثَوَابُ الْأَعْمَالِ بِدَلِيلِ التَّعْبِيرِ فِيهِ بَلَهَا وَلَكُمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْكَلَامَ مِنْ نَوْعِ الِاحْتِبَاكِ وَالتَّقْرِيرِ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْكُمْ مَا كَسَبْتُمْ أَيْ إِثْمُهُ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا انْتَزَعَ الْأَشْعَرِيُّ التَّعْبِيرَ عَنْ فِعْلِ الْعَبْدِ بِالْكَسْبِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدَيْنِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ لِقَصْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ أَيْ مَا كَسَبَتِ الْأُمَّةُ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا وَمَا كسبتم لَا يتحاوزكم، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ فَإِنَّهُمْ لِغُرُورِهِمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا كَانَ لِأَسْلَافِهِمْ مِنَ الْفَضَائِلِ يُزِيلُ مَا ارْتَكَبُوهُ هُمْ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْ يَحْمِلُهُ عَنْهُمْ أَسْلَافُهُمْ. وَقَوله: وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّفْصِيلِ

[سورة البقرة (2) : آية 135]

لِمَعْنَى خَلَتْ، فَإِنْ جَعَلْتَ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ خَاصًّا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَقَوله: وَلا تُسْئَلُونَ إِلَخْ تَكْمِيلٌ لِلْأَقْسَامِ أَيْ وَعَلَى كُلِّ مَا عَمِلَ مِنَ الْإِثْمِ وَلِذَا عَبَّرَ هُنَالِكَ بِالْكَسْبِ الْمُتَعَارَفِ فِي الِادِّخَارِ وَالتَّنَافُسِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالْعَمَلِ. وَإِنَّمَا نَفَى السُّؤَالَ عَنِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْجَرِيمَةِ فَإِنَّ الْمَرْءَ يُؤْخَذُ بِجَرِيمَتِهِ فَيُسْأَلُ عَنْهَا وَيُعَاقَبُ وَقَدْ يُسْأَلُ الْمَرْءُ عَنْ جَرِيمَةِ غَيْرِهِ وَلَا يُعَاقَبُ كَمَا يُلَامُ عَلَى الْقَوْمِ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مَا لَا يَلِيقُ وَهُوَ شَائِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَالَ زُهَيْرٌ: لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْحَيُّ جَرَّ عَلَيْهِمْ ... بِمَا لَا يُوَاتِيهِمْ حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَمِ فَنَفْيُ أَصْلِ السُّؤَالِ أَبْلَغُ وَأَشْمَلُ لِلْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ مُرَادًا بِهِ الْأَعْمَالَ الذَّمِيمَةَ الْمُحِيطَةَ بِهِمْ كَانَ قَوْله: وَلا تُسْئَلُونَ إِلَخِ احْتِرَاسًا وَاسْتِيفَاءً لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ أَيْ كُلُّ فَرِيقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ عَمَلُهُ أَوْ تَبِعَتُهُ وَلَا يَلْحَقُ الْآخَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا السُّؤَالُ عَنْهُ، أَيْ لَا تُحَاسَبُونَ بِأَعْمَالِ سَلَفِكُمْ وَإِنَّمَا تحاسبون بأعمالكم. [135] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 135] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا. الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: 130] ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَمَّهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ تَلَقِّي الْإِسْلَامِ الَّذِي شَمِلَ خِصَالَ الْحَنِيفِيَّةِ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِعْرَاضِهِمْ وَمِقْدَارَ غُرُورِهِمْ بِأَنَّهُمْ حَصَرُوا الْهُدَى فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ أَيْ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ حَصَرَ الْهُدَى فِي دِينِهِ. وَوَجْهُ الْحَصْرِ حَاصِلٌ مِنْ جَزْمِ تَهْتَدُوا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ فَيُفِيدُ مَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا لَا يَرَاهُ الْيَهُودُ مُهْتَدِيًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ نَصْرَانِيًّا لَا يَرَاهُ النَّصَارَى مُهْتَدِيًا أَيْ نَفَوُا الْهُدَى عَنْ مُتَّبِعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا غَايَةُ غُرُورِهِمْ. وَالْوَاو فِي قَالَ عَائِدَةٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِقَرِينَةِ مَسَاقِ الْخِطَابِ فِي أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الْبَقَرَة: 133] وَقَوْلِهِ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَة: 134] . وَ (أَوْ) فِي قَوْلِهِ: أَوْ نَصارى تَقْسِيمٌ بَعْدَ الْجَمْعِ لِأَنَّ السَّامِعَ يَرُدُّ كُلًّا إِلَى مَنْ قَالَهُ، وَجَزَمَ تَهْتَدُوا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ لِلْإِيذَانِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِيُفِيدَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ أَنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى غَيْرِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَلَسْتُمْ بِمُهْتَدِينَ.

قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. جُرِّدَتْ جُمْلَةُ (قُلْ) مِنَ الْعَاطِفِ لِوُقُوعِهَا فِي مَقَامِ الْحِوَارِ مُجَاوَبَةً لِقَوْلِهِمْ كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ بَلْ لَا اهْتِدَاءَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهَا لَمَّا جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ أَبْطَلَ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ. وَانْتَصَبَ (مِلَّةَ) بِإِضْمَارِ تَتَبُّعٍ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ لِأَنَّ كُونُوا هُوداً بِمَعْنَى اتَّبِعُوا الْيَهُودِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَطْفًا عَلَى هُوداً وَالتَّقْدِيرُ بَلْ نَكُونُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أَيْ أَهْلَ مِلَّتِهِ كَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لَمَّا وَفَدَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسْلِمَ: «إِنِّي مِنْ دِينٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ» يَعْنِي النَّصْرَانِيَّةَ. وَالْحَنِيفُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَنَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْمَيْلُ فِي الرَّجُلِ قَالَتْ أُمُّ الْأَحْنَفِ ابْن قَيْسٍ فِيمَا تُرَقِّصُهُ بِهِ: وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ وَالْمُرَادُ الْمَيْلُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الَّذِي بِهِ حَنَفٌ يَمِيلُ فِي مَشْيِهِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مَدْحًا لِلْمِلَّةِ لِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ ظُهُورِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا فِي ضَلَالَةٍ عَمْيَاءَ فَجَاءَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ مَائِلًا عَنْهُمْ فَلُقِّبَ بِالْحَنِيفِ ثُمَّ صَارَ الْحَنِيفُ لَقَبَ مَدْحٍ بِالْغَلَبَةِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ (حَنِيفًا) حَالًا مِنْ (إِبْرَاهِيمَ) وَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا لِمِلَّةٍ إِلَّا أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ إِلَّا أَنْ تُؤَوَّلَ مِلَّةٌ بَدِينٍ عَلَى حد إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] أَيْ إِحْسَانِهِ أَوْ تَشْبِيهِ فَعِيلٍ إِلَخْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ مِنْ إِسْلَامِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جُمْلَةٌ هِيَ حَالَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمُشْرِكُونَ بِقَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أَيْ لَا نَكُونُ هُودًا وَلَا نَصَارَى فَيَتَوَهَّمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَّا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْمَدْحِ لَهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَضَائِلِهِ وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ غَلِطَ فِيهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» غَلَطًا فَاحِشًا كَمَا سَيَأْتِي.

[سورة البقرة (2) : آية 136]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 136] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ قُلْ بَلْ مِلَّةَ [الْبَقَرَة: 135] لِتَفْصِيلِ كَيْفِيَّةِ هَاتِهِ الْمِلَّةِ بَعْدَ أَنْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَالْأَمْرُ بِالْقَوْلِ أَمْرٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِالْقَوْلِ إِلَّا لِأَنَّهُ يُطَابِقُ الِاعْتِقَادَ، إِذِ النِّسْبَةُ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِلصِّدْقِ لَا لِلْكَذِبِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِعْلَانُ بِهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ الظَّاهِرَةِ بِحُصُولِ فَضِيلَةِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ لِأَهْلِ هَاتِهِ الْمِلَّةِ وَلِمَا فِيهِ مِنِ الْإِنْصَافِ وَسَلَامَةِ الطَّوِيَّةِ، لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ الرَّاغِبُونَ وَيَكْمَدَ عِنْدَ سَمَاعِهِ الْمُعَانِدُونَ وَلِيَكُونَ هَذَا كَالِاحْتِرَاسِ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيْ نَحْنُ لَا نَطْعَنُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَشَرِيعَةِ عِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيئُونَ وَلَا نُكَذِّبُهُمْ وَلَكُنَّا مُسْلِمُونَ لِلَّهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَقِيَ عَلَى أَسَاسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ تَفْصِيلًا لَهَا وَكَمَالًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْهَا حِينَ أَرَادَ اللَّهُ إِكْمَالَهَا فَكَانَتِ الشَّرَائِعُ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كَمُنْعَرِجَاتِ الطَّرِيقِ سُلِكَ بِالْأُمَمِ فِيهَا لِمَصَالِحٍ نَاسَبَتْ أَحْوَالَهُمْ وَعُصُورَهُمْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يُسْلَكُ بِمَنْ أَتْعَبَهُ الْمَسِيرُ طَرِيقٌ مُنْعَرِجٌ لِيَهْدَأَ مَنْ رَكَّزَ السَّيَّارَةَ فِي الْمَحَجَّةِ فَيَحُطَّ رَحْلَهُ وَيَنَامَ ثُمَّ يُرْجَعُ بِهِ بَعْدَ حِينٍ إِلَى الْجَادَّةِ، وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى أَنِ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَاخْتُتِمَ بِقَوْلِهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَوُسِّطَ ذِكْرُ مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيئِينَ بَيْنَ ذَلِكَ. وَجُمِعَ الضَّمِيرُ لِيَشْمَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ. وَجَعْلُهُ بَدَلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ النَّبِيءُ وَأُمَّتُهُ. وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي الْكَلَامَيْنِ اللَّذَيْنِ لِلنَّبِيءِ فِيهِمَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِمُبَاشَرَةِ الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِإِرْشَادِهِمْ وَزَجْرِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إِلَخْ وَقَوْلِهِ الْآتِي: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ [الْبَقَرَة: 139] وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لِلْأُمَّةِ فِيهِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِمَضْمُونِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي سِيَاقِ التَّعْلِيمِ أَعْنِي قَوْلَهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَخْ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ عُلُومُ الرِّسَالَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَاحِدٌ مِنْ هَاتِهِ الْكَلَامَاتِ، عَنِ الْإِيذَانِ بِشُمُولِ الْأُمَّةِ مَعَ النَّبِيءِ، أَمَّا هُنَا فَظَاهِرٌ بِجَمْعِ الضَّمَائِرِ كُلِّهَا، وَأَمَّا

فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِلَخْ فَلِكَوْنِهِ جَوَابًا مُوَالِيًا لِقَوْلِهِمْ: كُونُوا هُوداً [الْبَقَرَة: 135] بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَعُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فَلِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفْرَدَ قُلْ جَمَعَ الضَّمَائِرَ فِي أَتُحَاجُّونَنا، ورَبُّنا، ولَنا، وأَعْمالُنا، ونَحْنُ، ومُخْلِصُونَ، فَانْظُرْ بَدَائِعَ النَّظْمِ فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ وَدَلَائِلَ إِعْجَازِهَا. وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ الْحَقُّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرَائِعِ. وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْقُرْآنُ، وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنْ وَحْيٍ وَمَا أُوتُوهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا آمَنَّا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ تِلْكَ الشَّرَائِعَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَن بَعْضهَا نسح بَعْضًا، وَأَنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا نَسَخَ جَمِيعَهَا فِيمَا خَالَفَهَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ بَعْضِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ بِلَفْظِ (أُنْزِلَ) وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ (أُوتِيَ) تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْرَدْ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ وَلَمْ تُعْطَفْ مُتَعَلَّقَاتُهُ بِدُونِ إِعَادَةِ الْأَفْعَالِ تَجَنُّبًا لِتَتَابُعِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَإِنَّهُ كَتَتَابُعِ الْإِضَافَاتِ فِي مَا نَرَى. وَالْأَسْبَاطُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ آنِفًا. وَجُمْلَةُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهِمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِحَقٍّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا السُّؤَال الْمُقدر ناشىء عَنْ ضَلَالَةٍ وَتَعَصُّبٍ حَيْثُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِرَسُولٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْكُفْرِ بِغَيْرِهِ وَأَنَّ تَزْكِيَةَ أَحَدٍ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ زَلَّةٌ فِي الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَخْلَاقِ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ وَالتَّلَامِذَةِ فَاقْتَلَعَهَا الْإِسْلَامُ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» رَدًّا عَلَى مَنِ انْتَصَرَ فِي الْفَلْسَفَةِ لِأَرِسْطُو وَتَنَقَّصَ أَفْلَاطُونَ «وَالْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمِقْدَارِ لَا يُخْرِجُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ إِلَى الطَّعْنِ فِي أَسَاتِيذِهِ» . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ وَكَفَرُوا بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اعْتِقَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ. وَأحد أَصْلُهُ وَحَدٌ بِالْوَاوِ وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدٌ وَهُوَ لُغَةٌ فِي وَاحِدٍ وَمُخَفَّفٌ مِنْهُ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ فَأُبْدِلَتْ وَاوُهُ هَمْزَةً تَخْفِيفًا ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْفَرْدِ الْوَاحِدِ فَتَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى مَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ وَذَلِكَ

[سورة البقرة (2) : آية 137]

حِينَ يَجْرِي عَلَى مُخْبَرٍ عَنْهُ أَوْ مَوْصُوفٍ نَحْوِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: 1] وَاسْتِعْمَالُهُ كَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْكَلَامِ وَمِنْهُ اسْمُ الْعَدَدِ أَحَدَ عَشَرَ، وَتَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى فَرْدٍ مِنْ جِنْسٍ وَذَلِكَ حِينَ يُبَيَّنُ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى جِنْسٍ نَحْوَ خُذْ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَيُؤَنَّثُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [الْبَقَرَة: 282] وَهَذَا اسْتِعْمَال كَثِيرٌ وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْأَوَّلِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى فَرْدٍ مِنْ جِنْسٍ لَكِنَّهُ لَا يُبَيِّنُ بَلْ يُعَمَّمُ وَتَعْمِيمُهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْإِثْبَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التَّوْبَة: 6] ، وَقَدْ يَكُونُ تَعْمِيمُهُ فِي النَّفْيِ وَهُوَ أَكْثَرُ أَحْوَالِ اسْتِعْمَالِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] وَقَوْلُ الْعَرَبِ: أَحَدٌ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ يُفِيدُ الْعُمُومَ كَشَأْنِ النَّكِرَاتِ كُلِّهَا فِي حَالَةِ النَّفْيِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَحَدٍ لَفْظٌ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ وَتَصْرِيفُهُ وَاحِدٌ وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ مَوَاقِعُ اسْتِعْمَالِهِ الْمُتَفَرِّعَةُ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَصَارَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفِ، وَهَذَا يَجْمَعُ مُشَتَّتَ كَلَامٍ طَوِيلٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي لَفْظِ أَحَدٍ وَهُوَ مَا احْتَفَلَ بِهِ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْعِقْدِ الْمَنْظُومِ فِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ» . وَقَدْ دَلَّتْ كَلِمَةُ بَيْنَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَآخَرُ لِأَنَّ بَيْنَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 133] . [137] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 137] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] وَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 138] وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي الِاعْتِرَاضِ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ كَثِيرًا وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ بَعْضُ النُّحَاةِ وَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ إِعْلَانًا أَيْ أَعْلِنُوا دِينَكُمْ وَاجْهَرُوا بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَإِنِ اتَّبَعَكُمُ الَّذِينَ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 135] فَإِيمَانُهُمُ اهْتِدَاءٌ وَلَيْسُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى هُدًى خِلَافًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا فَدَلَّ مَفْهُومُ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى هُدًى مَا دَامُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِالْإِسْلَامِ.

وَجَاءَ الشَّرْطُ هُنَا بِحَرْفِ (إِنِ) الْمُفِيدَةِ لِلشَّكِّ فِي حُصُولِ شَرْطِهَا إِيذَانًا بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ غَيْرُ مَرْجُوٍّ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَلَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ إِيمَانًا مُمَاثِلًا لِإِيمَانِكُمْ، فَالْمُمَاثَلَةُ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْمُشَابَهَةِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَصْحَابِ الْعَقِيدَةِ وَلَيْسَتْ مُشَابَهَةٌ مُعْتَبِرًا فِيهَا تَعَدُّدُ الْأَدْيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ السِّيَاقُ، وَقِيلَ لَفْظُ مِثْلِ زَائِدٌ، وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَكُلُّهَا وُجُوهٌ مُتَكَلَّفَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا طَالِبِي هُدًى وَلَا حَقٍّ إِذْ لَا أَبْيَنَ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِيَّاهُمْ وَلَا إِنْصَافَ أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ. وَالشِّقَاقُ شِدَّةُ الْمُخَالَفَةِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّقِّ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُوَ الْفَلْقُ وَتَفْرِيقُ الْجِسْمِ، وَجِيءَ بِفِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الشِّقَاقِ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ ظَرْفٌ مُحِيطٌ بِهِمْ. وَالْإِتْيَانُ بِإِنْ هُنَا مَعَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ هُوَ الْمَظْنُونُ بِهِمْ لِمُجَرَّدِ الْمُشَاكَلَةِ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ آمَنُوا. وَفَرَّعَ قَوْلَهُ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ إِعْلَامَهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي شِقَاقٍ مَعَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ أَنْصَارِهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَحَرَّجُ لَهُ السَّامِعُ فَوَعَدَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ شَرَّهُمُ الْحَاصِلَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ. وَالسِّينُ حَرْفٌ يَمْحَضُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمُضَارِعِ وَهُوَ كَحَرْفِ سَوْفَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي سِوَى زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ. وَقِيلَ إِنَّ سَوْفَ أَوْسَعُ مَدًى وَاشْتُهِرَ هَذَا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ فَصَارُوا يَقُولُونَ سَوَّفَهُ إِذَا مَاطَلَ الْوَفَاءَ بِالْآخَرِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ السِّينِ وَسَوْفَ فِي الِاسْتِقْبَالِ لِيَكُونَ لِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ خُصُوصِيَّةٌ ثُمَّ إِنَّ كِلَيْهِمَا إِذَا جَاءَ فِي سِيَاقِ الْوَعْدِ أَفَادَ تَخْفِيفَ الْوَعْدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَم: 47] فَالسِّينُ هُنَا لِتَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ سُوءَ شِقَاقِهِمْ. وَمَعْنَى كِفَايَتِهِمْ كِفَايَةُ شَرِّهِمْ وَشِقَاقِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ تَعَصُّبٍ لِدِينِهِمْ وَكَانُوا مُعْتَضِدِينَ بِأَتْبَاعٍ وَأَنْصَارٍ وَخَاصَّةً النَّصَارَى مِنْهُمْ، وَكِفَايَةُ النَّبِيءِ كِفَايَةٌ لِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُ مَا جَاءَ لِشَيْءٍ يَنْفَعُ ذَاتُهُ.

[سورة البقرة (2) : آية 138]

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ السَّمِيعُ لِأَذَاهُمْ بِالْقَوْلِ الْعَلِيمِ بِضَمَائِرِهِمْ أَيِ اطْمَئِنَّ بِأَنَّ اللَّهَ كَافِيكَ مَا تَتَوَجَّسُ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذَاهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وعد ووعيد. [138] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 138] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] وَمَا بَيْنَهَا اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ وَالْمَعْنَى آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ إِيمَانًا صِبْغَةَ اللَّهِ. وَصِبْغَةُ- بِكَسْرِ الصَّادِ- أَصْلُهَا صِبْغٌ بِدُونِ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُصْبَغُ بِهِ بِزِنَةِ فِعْلٍ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ ذِبْحٍ وَقِشْرٍ وَكِسْرٍ وَفِلْقٍ. وَاتِّصَالُهُ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيث لإِرَادَة الْوَاحِدَة مِثْلَ تَأْنِيثِ قِشْرَةٍ وَكَسْرَةٍ وَفِلْقَةٍ، فَالصِّبْغَةُ الصِّبْغُ الْمُعَيَّنُ الْمَحَضَّرُ لِأَنْ يُصْبَغَ بِهِ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَائِبٌ عَنْ عَامِلِهِ أَيْ صَبَغْنَا صِبْغَةَ اللَّهِ كَمَا انْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الرّوم: 6] بَعْدَ قَوْلِهِ: يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الرّوم: 5] بِتَقْدِيرِ وَعْدَهُمُ النَّصْرَ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: 135] أَيِ الْمِلَّةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ شِعَارَنَا كَالصِّبْغَةِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ مَنْصُوبًا وَصَفًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَالتَّقْدِيرُ آمَنَّا إِيمَانًا صِبْغَةَ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمُلَائِمُ لِإِطْلَاقِ صِبْغَةَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ، وَمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَفْكِيكِ النَّظْمِ تَهْوِيلٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِأَنَّ الْتِئَامَ الْمَعَانِي وَالسِّيَاقِ يَدْفَعُ التَّفَكُّكَ، وَهَلِ الِاعْتِرَاضُ وَالْمُتَعَلِّقَاتُ إِلَّا مِنْ قَبِيلِ الْفَصْلِ يَتَفَكَّكُ بِهَا الْأَلْفَاظُ وَلَا تُؤَثِّرُ تَفَكُّكًا فِي الْمَعَانِي، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِسِيبَوَيْهَ مَصْدَرًا مُبَيِّنًا لِلْحَالَةِ مِثْلَ الْجِلْسَةِ وَالْمِشْيَةِ وَجَعَلُوا نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ أَيْ لِشَيْءٍ هُوَ عَيْنُهُ أَيْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُؤَكَّدِ (بِالْفَتْحِ) وَالتَّأْكِيدِ مُتَّحِدَانِ فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لَآمَنَّا لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالصِّبْغَةَ مُتَلَازِمَانِ عَلَى حَدِّ انْتِصَابِ وَعْدَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ تَوْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ [الرّوم: 4، 5] وَفِيه تكلفنان لَا يَخْفَيَانِ. وَالصِّبْغَةُ هُنَا اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يَغْتَسِلُ بِهِ الْيَهُودُ عُنْوَانًا عَلَى التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَالْأَصْلُ فِيهَا عِنْدَهُمُ الِاغْتِسَالُ الَّذِي جَاءَ فَرْضَهُ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى الْكَاهِنِ إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ قُرْبَانَ كَفَّارَةٍ

عَنِ الْخَطِيئَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالِاغْتِسَالُ الَّذِي يَغْتَسِلُهُ الْكَاهِنُ أَيْضًا فِي عِيدِ الْكَفَّارَةِ عَنْ خَطَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَعِنْدَ النَّصَارَى الصِّبْغَةُ أَصْلُهَا التَّطَهُّرُ فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِ وَهُوَ اغْتِسَالٌ سَنَّهُ النَّبِيءُ يحيى بن زَكَرِيَّاء لِمَنْ يَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ فَكَانَ يَحْيَى يَعِظُ بَعْضَ النَّاسِ بِالتَّوْبَةِ فَإِذَا تَابُوا أَتَوْهُ فَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَغْتَسِلُوا فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِ رَمَزًا لِلتَّطَهُّرِ الرُّوحَانِيِّ وَكَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ «مَعْمُوذِيتَ» بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَبِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ فِي آخِرِهِ وَيَقُولُونَ أَيْضا معموذيتا بِأَلْفٍ بَعْدِ التَّاءِ وَهِيَ كَلِمَةٌ مِنَ اللُّغَةِ الْآرَامِيَّةِ مَعْنَاهَا الطَّهَارَةُ، وَقَدْ عَرَّبَهُ الْعَرَبُ فَقَالُوا مَعْمُودِيَّةَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهَاءُ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ وَيَاؤُهُ التَّحْتِيَّةُ مُخَفَّفَةٌ. وَكَانَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ حِينَ تَعَمَّدَ بِمَاءِ الْمَعْمُودِيَّةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ بِالرِّسَالَةِ وَدَعَا الْيَهُودَ إِلَى مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ وَحَدَثَ كُفْرُ الْيَهُودِ بِمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى وَقَدْ آمَنَ بِهِ يَحْيَى فَنَشَأَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَبَيْنَ يَحْيَى وَعِيسَى فَرَفَضَ الْيَهُودُ التَّعْمِيدَ، وَكَانَ عِيسَى قَدْ عَمَّدَ الْحَوَارِيِّينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، فَتُقُرِّرَ فِي سُنَّةِ النَّصَارَى تَعْمِيدَ مَنْ يَدْخُلُ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ كَبِيرًا، وَقَدْ تَعَمَّدَ قُسْطَنْطِينُ قَيْصَرُ الرُّومِ حِينَ دَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، أَمَّا مَنْ يُوَلَدُ لِلنَّصَارَى فَيُعَمِّدُونَهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ وِلَادَتِهِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الصِّبْغَةِ عَلَى الْمَعْمُودِيَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصَارَى الْعَرَبِ سَمُّوا ذَلِكَ الْغَسْلِ صِبْغَةً، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يُثْبِتُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّهُ إِطْلَاقٌ قَدِيمٌ عِنْدَ النَّصَارَى إِذْ قَالَ: «وَكَانَتِ النَّصَارَى إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ غَمَسُوهُ بَعْدَ السَّابِعِ فِي مَاءِ مَعْمُودِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ صِبْغَةً لَهُمْ» . أَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْمَعْمُودِيَّةِ (صِبْغَةً) فَهُوَ خَفِيٌّ إِذْ لَيْسَ لِمَاءِ الْمَعْمُودِيَّةِ لَوْنٌ فَيُطْلَقُ عَلَى التَّلَطُّخِ بِهِ مَادَّةُ ص ب غ وَفِي «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ» (¬1) أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ ص ب ع أَيْ غَطَسَ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا عُرِّبَ أَبْدَلُوا الْعَيْنَ الْمُهْمَلَةَ غَيْنًا مُعْجَمَةً لَعَلَّهُ لندرة مَادَّة صبع بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِطْلَاقُ الصِّبْغَةِ عَلَى مَاءِ الْمَعْمُودِيَّةِ أَوْ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِهِ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهٍ وَجْهُهُ تَخْيِيلِيٌّ إِذْ تَخَيَّلُوا أَنَّ التَّعْمِيدَ يُكْسِبُ الْمُعَمَّدَ بِهِ صِفَةَ النَّصْرَانِيَّةِ وَيُلَوِّنُهُ بِلَوْنِهَا كَمَا يُلَوِّنُ الصِّبْغُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ الصِّبْغِ عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ وَخُلُقِهِمْ وَأَنْشَدُوا لِبَعْضِ مُلُوكِ هَمْدَانَ: ¬

(¬1) فِي مَادَّة الصابئة.

وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ صَبَغْنَا عَلَى ذَلِكَ أَبْنَاءَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ وَقَدْ جَعَلَ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ أَحْوَاضًا صَغِيرَةً فِيهَا مَاءٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَخْلُوطٌ بِبَقَايَا الْمَاءِ الَّذِي أُهْرِقَ عَلَى عِيسَى حِينَ عمده يحيى وَإِنَّمَا تَقَاطَرَ مِنْهُ جُمِعَ وَصُبَّ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ تُؤْخَذُ مَقَادِيرُ تُعْتَبَرُ مُبَارَكَةً لِأَنَّهَا لَا تخلوعن جُزْءٍ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي تَقَاطَرَ مِنَ اغْتِسَالِ عِيسَى حِينَ تعميده كَمَا ذَلِك فِي أَوَائِلِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ. فَقَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعًا أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّ الصِّبْغَةَ نَشَأَتْ فِيهِمْ وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْمُودِيَّةُ مَشْرُوعَةً لَهُمْ لِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى عَقَائِدِهِمْ رُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ صِبْغَةَ الْإِسْلَامِ الِاعْتِقَادُ وَالْعَمَلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ حَاصِلًا بِصِبْغَةِ الْقِسِّيسِ فَإِيمَانُنَا بِصِبْغِ اللَّهِ وَتَلْوِينِهِ أَيْ تَكْيِيفِهِ الْإِيمَانَ فِي الْفِطْرَةِ مَعَ إِرْشَادِهِ إِلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الصِّبْغَةِ عَلَى الْإِيمَانِ اسْتِعَارَةٌ عَلَاقَتُهَا الْمُشَابِهَةٌ وَهِيَ مُشَابَهَةٌ خَفِيَّةٌ حَسَّنَهَا قَصْدُ الْمُشَاكَلَةِ، وَالْمُشَاكَلَةُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى الِاسْتِعَارَةِ وَإِنَّمَا قَصْدُ الْمُشَاكَلَةِ بَاعِثٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا الْعُلَمَاءُ الْمُشَاكَلَةَ لِخَفَاءِ وَجْهِ التَّشْبِيهِ فَأَغْفَلُوا أَنْ يُسَمُّوهَا اسْتِعَارَةً وَسَمُّوهَا الْمُشَاكَلَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْإِتْيَانُ بِالِاسْتِعَارَةِ لِدَاعِي مُشَاكَلَةِ لَفْظٍ لِلَفْظٍ وَقَعَ مَعَهُ. فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمَقْصُودُ مُشَاكَلَتَهُ مَذْكُورًا فَهِيَ الْمُشَاكَلَةُ، وَلَنَا أَنْ نَصِفَهَا بِالْمُشَاكَلَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ كَقَوْلِ ابْنِ الرَّقَعْمَقِ (¬1) : قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا اسْتَعَارَ الطَّبْخَ لِلْخِيَاطَةِ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَذْكُورٍ بَلْ مَعْلُومًا مِنَ السِّيَاقِ سُمِّيَتْ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: مَنْ مُبْلِغٌ أَفَنَاءَ يَعْرُبَ كُلِّهَا ... أَنِّي بَنَيْتُ الْجَارَ قَبْلَ الْمَنْزِلِ اسْتَعَارَ الْبِنَاءَ لِلِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ شَاكَلَ بِهِ بِنَاءَ الْمَنْزِلِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَلَامِ الْمَعْلُومِ ¬

(¬1) هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَنْطَاكِي ويكنى أَبَا حَامِد توفّي سنة 399 هـ وكني أَبَا الرقعمق (برَاء مَفْتُوحَة وقاف مَفْتُوحَة وَعين سَاكِنة وَمِيم مَفْتُوحَة آخِره قَاف) وَلم أَقف على مَعْنَاهُ وَهُوَ لَيْسَ بعربي وَلَعَلَّه لفظ هزلي وَقبل هَذَا الْبَيْت قَوْله: إِخْوَاننَا قصدُوا الصّبوح بسحرة ... فَأتى رسولهم إليّ خصيصا

[سورة البقرة (2) : آية 139]

مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَ الْمَنْزِلِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: صِبْغَةَ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ أَدَقُّ مِنْ تَقْدِيرِ بَيْتِ أَبِي تَمَّامٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 135] عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّعْمِيدِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً إِنْكَارِيٌّ وَمَعْنَاهُ لَا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ فِي شَأْنِ صِبْغَتِهِ، فَانْتَصَبَ (صِبْغَةَ) عَلَى التَّمْيِيزِ، تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ مُحَوَّلٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ ثَانٍ يُقَدَّرُ بَعْدَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ وَالتَّقْدِيرُ وَمَنْ صِبْغَتُهُ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : وَقُلْ مَا ذَكَرَ النُّحَاةُ فِي التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. وَقَدْ تَأْتِي بِهَذَا التَّحْوِيلِ فِي التَّمْيِيزِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ إِذْ حُذِفَ كَلِمَتَانِ بِدُونِ لَبْسٍ فَإِنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَتِ الْأَحْسَنِيَّةُ إِلَى مَنْ جَازَ دُخُولُ مَنِ التَّفْضِيلِيَّةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْوِيلَ جَعَلَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ صِبْغَةُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِانْتِفَاءِ الْأَحْسَنِيَّةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُضَافُ الْمُقَدَّرُ أَيْ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ عَطْفٌ عَلَى آمَنَّا وَفِي تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ عابِدُونَ إِفَادَةُ قَصْرٍ إِضَافِيٍّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ اصْطَبَغُوا بِالْمَعْمُودِيَّةِ لَكِنَّهُمْ عبدُوا الْمَسِيح. [139] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 139] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) . اسْتِئْنَافٌ عَنْ قَوْلِهِ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] كَمَا تقدم هُنَا لَك، وتُحَاجُّونَنا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ جَوَابُ كَلَامِهُمُ السَّابِقُ وَلِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 140] . وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَعْنَى الْمُحَاجَّةُ فِي اللَّهِ الْجِدَال فِي شؤونه بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ إِذْ لَا مُحَاجَّةَ فِي الذَّاتِ بِمَا هِيَ ذَاتٌ وَالْمُرَادُ الشَّأْنُ الَّذِي حَمَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُحَاجَّةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ نَسَخَ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّهُ فَضَّلَهُ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ، وَمُحَاجَّتَهُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَسَدِ وَاعْتِقَادِ اخْتِصَاصِهِمْ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَتِهِ.

فَلِذَلِكَ كَانَ لِقَوْلِهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ مُوقِعٌ فِي تَأْيِيدِ الْإِنْكَارِ أَيْ بَلَغَتْ بِكُمُ الْوَقَاحَةُ إِلَى أَنْ تُحَاجُّونَا فِي إِبْطَالِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِلَا دَلِيلٍ سِوَى زَعْمِكُمْ أَنَّ اللَّهَ اخْتَصَّكُمْ بِالْفَضِيلَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّنَا كَمَا هُوَ ربكُم فَلَمَّا ذَا لَا يَمُنُّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكُمْ؟. فَجُمْلَةُ وَهُوَ رَبُّنا حَالِيَّةٌ أَيْ كَيْفَ تُحَاجُّونَنَا فِي هَاتِهِ الْحَالَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حَصَلَ بَيَانٌ لِمَوْضُوعِ الْمُحَاجَّةِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَهِيَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ ارْتِقَاءً فِي إِبْطَالِ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْمَرْبُوبِيَّةَ تُؤَهِّلُ لِإِنْعَامِهِ كَمَا أَهَّلَتْهُمْ، ارْتقى فَجعل مرج رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَعْمَالَهُمْ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَكْرَمَكُمْ لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَعَلَّهُ أَكْرَمَنَا لِأَجْلِ صَالِحَاتِ أَعْمَالِنَا فَتَعَالَوْا فَانْظُرُوا أَعْمَالَكُمْ وَانْظُرُوا أَعْمَالَنَا تَجِدُوا حَالَنَا أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ مِنْكُمْ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «كَأَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ يَنْتَحُونَهُ إِفْحَامًا وَتَبْكِيتًا فَإِنَّ كَرَامَةَ النُّبُوءَةِ إِمَّا تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَالْكُلُّ فِيهِ سَوَاءٌ وَإِمَّا إِفَاضَةُ حَقٍّ عَلَى الْمُسْتَعِدِّينَ لَهَا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَكَمَا أَنَّ لَكُمْ أَعْمَالًا رُبَّمَا يَعْتَبِرُهَا اللَّهُ فِي إِعْطَائِهَا فَلَنَا أَيْضًا أَعْمَالٌ» . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي لَنا أَعْمالُنا لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ لَنَا أَعْمَالُنَا لَا أَعْمَالُكُمْ فَلَا تُحَاجُّونَا فِي أَنَّكُمْ أَفْضَلُ مِنَّا، وَعَطَفَ وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مُشَارِكِينَ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ لَنَا أَعْمَالَنَا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَا عَمِلُوا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَعْمَالِ الْآخَرِينَ وَهُوَ نَظِيرُ عَطْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَ دِينِ عَلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ [الْكَافِرُونَ: 6] . وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُصَنَّفِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] . وَجُمْلَةُ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ عَطْفٌ آخَرَ عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ ارْتِقَاءٌ ثَالِثٌ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَحَقُّ بِإِفَاضَةِ الْخَيْرِ فَإِنَّهُمْ وَإِنِ اشْتَرَكُوا مَعَ الْآخَرِينَ فِي الْمَرْبُوبِيَّةِ وَفِي الصَّلَاحِيَةِ لِصُدُورِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَالْمُسْلِمُونَ قَدْ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَمُخَالِفُوهُمْ قَدْ خَلَطُوا عِبَادَةَ اللَّهِ بِعِبَادَةِ غَيره، أَي فَلَمَّا ذَا لَا نَكُونُ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى رِضَى اللَّهِ مِنْكُمْ إِلَيْهِ؟. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مُفِيدَةُ الدَّوَامِ عَلَى الْإِخْلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] .

[سورة البقرة (2) : آية 140]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 140] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ وَهِيَ إِضْرَابٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ وَفِيهَا تَقْدِيرُ اسْتِفْهَامٍ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَذَلِكَ لِمَبْلَغِهِمْ مِنَ الْجَهْلِ بِتَارِيخِ شَرَائِعِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَبْنَاءَهُ كَانُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَلِدَلَالَةِ آيَاتٍ أُخْرَى عَلَيْهِ مِثْلَ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا [آل عمرَان: 67] وَمِثْلَ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمرَان: 65] وَالْأُمَّةُ إِذَا انْغَمَسَتْ فِي الْجَهَالَةِ وَصَارَتْ عَقَائِدُهَا غُرُورًا وَمِنْ دُونِ تَدَبُّرٍ اعْتَقَدَتْ مَا لَا يَنْتَظِمُ مَعَ الدَّلِيلِ وَاجْتَمَعَتْ فِي عَقَائِدِهَا الْمُتَنَاقِضَاتُ، وَقَدْ وَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي الْكَعْبَةِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ فِي الْكَعْبَةِ فَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمرَان: 67] وَقَالَ الله: وَإِن اسْتَقْسَمَ بِهَا قَطُّ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. فَرَمَاهُمْ بِفَقْدِ التَّعَقُّلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِيَاءِ الْغَائِبِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ أُمْ مُتَّصِلَةً مُعَادِلَةً لِقَوْلِهِ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ [الْبَقَرَة: 139] فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أمرا ثَانِيًا لَا حَقًا لِقَوْلِهِ: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا وَلَيْسَ هَذَا الْمَحْمَلُ بِمُتَعَيِّنٍ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الِالْتِفَاتِ مَنَاصًّا مِنْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ التَّقْدِيرُ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آل عمرَان [65] : قل يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ التَّقْرِيرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِأَمْرٍ جَهِلَتْهُ عَامَّتُهُمْ وَكَتَمَتْهُ خَاصَّتُهُمْ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ يُشِيرُ إِلَى خَاصَّةِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ تَرَكُوا عَامَّةَ أُمَّتِهِمْ مُسْتَرْسِلِينَ عَلَى عَقَائِدِ الْخَطَأِ وَالْغُرُورِ وَالضَّلَالَةِ وَهُمْ سَاكِتُونَ لَا يُغَيِّرُونَ عَلَيْهِمْ إِرْضَاءً لَهُمْ وَاسْتِجْلَابًا لِمَحَبَّتِهِمْ وَذَلِكَ أَمُرُّ إِذَا طَالَ عَلَى الْأُمَّةِ تَعَوَّدَتْهُ

[سورة البقرة (2) : آية 141]

وَظَنَّتْ جَهَالَتُهَا علما فَلم ينجع فِيهَا إِصْلَاحٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَرَى الْمُصْلِحِينَ قَدْ أَتَوْا بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيُّ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي فِي كُتُبِهِمْ عَسَى أَنْ يُرَاجِعُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُعِيدُوا النَّظَرَ إِنْ كَانُوا مُتَرَدِّدِينَ أَوْ أَنْ يَفِيئُوا إِلَى الْحَقِّ إِنْ كَانُوا مُتَعَمِّدِينَ الْمُكَابَرَةَ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ شَهَادَةٌ عِنْدَهُ بَلَغَتْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عَلَى جُمْلَةٍ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ اغْتِرَارِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَبْنَاءَهُ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى وَلَيْسَ هَذَا احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بَقِيَّةُ مَقُولِ الْقَوْلِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِأَنَّ الْقَادِرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَافِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَانِعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ هَذَا فِي مَوَاضِع. [141] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 141] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) تَكْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا لِزِيَادَةِ رُسُوخِ مَدْلُولِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ اهْتِمَامًا بِمَا تَضَمَّنُهُ لِكَوْنِهِ مَعْنًى لَمْ يَسْبِقْ سَمَاعُهُ لِلْمُخَاطَبِينَ فَلَمْ يَقْتَنِعْ فِيهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَمِثْلُ هَذَا التَّكْرِيرِ وَارِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ لَبِيدٌ: فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةِ يُشَبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا (¬1) فَإِنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الْغُبَارَ الْمُتَطَايِرَ بِالنَّارِ الْمَشْبُوبَةِ وَاسْتَطْرَدَ بِوَصْفِ النَّارِ بِأَنَّهَا هَبَّتْ عَلَيْهَا رِيحُ الشَّمَالِ وَزَادَتْهَا دُخَانًا وَأَوْقَدَتْ بِالْعَرْفَجِ الرَّطِيبِ لِكَثْرَةِ دُخَّانِهِ، أَعَادَ التَّشْبِيهَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ غَرِيب مبتكر. ¬

(¬1) الضَّمِير الْمثنى لحِمَار الْوَحْش وإتانه الْمَذْكُورين فِي قَوْله قبله «أَو ملمع وسقت لَا حقب لاحه» وَمعنى تنَازعا تسابقا فِي غُبَار ممتد والسبط الطَّوِيل يَعْلُو ظله فِي الشَّمْس والمشعلة صفة مَوْصُوف مَحْذُوف أَي نَار والمشمولة الَّتِي هبت عَلَيْهَا ريح الشمَال ونابت العرفج الْجَدِيد نَبَاته، والعرفج نبت مَعْرُوف. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 142]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 142] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) قَدْ خَفِيَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْآيِ الَّتِي بَعْدَهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا أَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّ الْقِبْلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْهَا هُوَ نَسْخُهَا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُتَرَقَّبَ طَعْنُ الطَّاعِنِينَ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّسْخِ أَيْ بَعْدَ الْآيَاتِ النَّاسِخَةِ لِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دَأَبِهِمْ مِنَ التَّرَصُّدِ لِلطَّعْنِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، وَالْأَصْلُ مُوَافَقَةُ التِّلَاوَةِ لِلنُّزُولِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَزَلَ مُتَأَخِّرًا وَيُتْلَى مُتَقَدِّمًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِبْلَةِ الْمُحَوَّلَةِ الْقِبْلَةُ الْمَنْسُوخَةُ وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَعْنِي الشَّرْقَ وَهِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ، وَلَمْ يَشْفِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ «أَسْبَابِ النُّزُولِ» الْغَلِيلَ فِي هَذَا، عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيِ الَّذِي قَبْلَهَا غَيْرُ وَاضِحَةٍ فَاحْتَاجَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَكَلُّفِ إِبْدَائِهَا. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فَهْمِي أَنَّ مُنَاسَبَةَ وُقُوعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا مُنَاسَبَةٌ بَدِيعَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا تَكَرَّرَ فِيهَا التَّنْوِيهُ بِإِبْرَاهِيمَ وَمِلَّتِهِ، وَالْكَعْبَةِ وَأَنَّ مَنْ يَرْغَبُ عَنْهَا قَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ، فَكَانَتْ مَثَارًا لِأَنْ يَقُولَ الْمُشْرِكُونَ، مَا وَلَّى مُحَمَّدًا وَأَتْبَاعَهُ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا بِمَكَّةَ أَيِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَأْبَى عَنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَكَيْفَ تَرَكَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؟ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: 115] . وَقَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: 120] كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَأَنْبَأَ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِمْ وَأَتَى فِيهِ بِهَذَا الْمَوْقِعِ الْعَجِيبِ وَهُوَ أَنْ جَعَلَهُ بَعْدَ الْآيَاتِ الْمُثِيرَةِ لَهُ وَقَبْلَ الْآيَاتِ الَّتِي

أُنْزِلَتْ إِلَيْهِ فِي نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، لِئَلَّا يَكُونَ الْقُرْآنُ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ نَازِلًا بَعْدَ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ فَيَشْمَخُوا بِأُنُوفِهِمْ يَقُولُونَ غَيَّرَ مُحَمَّدٌ قِبْلَتَهُ مِنْ أَجْلِ اعْتِرَاضِنَا عَلَيْهِ فَكَانَ لِمَوْضِعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا أَفْضَلُ تَمَكُّنٍ وَأَوْثَقُ رَبْطٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ نُزُولِهَا قَبْلَ آيَةِ النَّسْخِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: 144] الْآيَاتِ، لِأَنَّ مَقَالَةَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تَوَقُّعَهَا حَاصِلٌ قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَاشِئٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْكَعْبَةِ. فَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَبْيِينُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ، فَقَدْ عُرِفَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودَ أَوْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنَاسَبَ أَنْ يُقَالَ سَيَقُولُونَ بِالْإِضْمَارِ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ لَمْ يَزَلْ قَرِيبًا مِنَ الْآيِ السَّابِقَةِ إِلَى قَوْله: وَلا تُسْئَلُونَ [الْبَقَرَة: 134، 141] الْآيَةَ. وَيُعَضِّدُنَا فِي هَذَا مَا ذَكَرَ الْفَخْرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّفَهَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ سَبَقَ وَصْفُهُمْ بِهَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ، وَالَّذِي يَبْعَثُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَيْنُ الَّذِي يَبْعَثُ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ السُّفَهَاءَ هُنَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ. أَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا السُّفَهاءُ بِالْيَهُودِ فَقَدْ وَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ مِنْ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ لِظُهُورِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ نَاشِئٌ عَنْ تَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ قَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهِ قَبْلَ سَمَاعِ الْآيَةِ النَّاسِخَةِ لِلْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُوَافَقَةُ التِّلَاوَةِ لِلنُّزُولِ فَكَيْفَ يَقُولُ السُّفَهَاءُ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ حُدُوثِ دَاعٍ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَطْعَنُونَ فِي التَّحَوُّلِ عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مَسْجِدُهُمْ وَهُوَ قِبْلَتُهُمْ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (¬1) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ حَدِيثَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَوَقَعَ فِيهِ «فَقَالَ السُّفَهَاءُ- وَهُمُ الْيَهُودُ- مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ (¬2) مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بِغَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَكِنْ قَالَ عِوَضَهَا: «وَكَانَتِ الْيَهُودُ ¬

(¬1) انْظُر: «فتح الْبَارِي» لِابْنِ حجر (1/ 502- دَار الْمعرفَة- كتاب الصَّلَاة (31) بَاب التَّوَجُّه نَحْو الْقبْلَة حَيْثُ كَانَ. (¬2) الْمصدر السَّابِق (1/ 95) ، دَار الْمعرفَة، كتاب الْإِيمَان (30) بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.

قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ» ، وَأَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ (¬1) مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ هَاتَيْنِ الزِّيَادَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْأُولَى مُدْرَجَةٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ مُدْرَجَةٌ مِنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ لِأَنَّ مُسْلِمًا وَالتِّرْمِذِيَّ وَالنَّسَائِيَّ قَدْ رَوَوْا حَدِيثَ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ، فَاحْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ قَوْلِهِ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ بِمَعْنَى التَّحْقِيقِ لَا غير أَي قد قَالَ السُّفَهَاءُ مَا وَلَّاهُمْ. وَوَجْهُ فَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَمَّا قَبْلَهَا بِدُونِ عَطْفٍ، اخْتِلَافُ الْغَرَضِ عَنْ غَرَضِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ مَحْضٌ لَيْسَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. وَالْأَوْلَى بَقَاءُ السِّينِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى صَرْفِهِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ وَقَدْ عَلِمْتُمُ الدَّاعِيَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ أَبْعَدُ مِنَ الِاضْطِرَابِ إِذَا وَقَعَ وَأَنَّ الْجَوَابَ الْعَتِيدَ قَبْلَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ أَقْطَعُ لِلْخَصْمِ وَأَرَدُّ لِشَغْبِهِ» وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْمُسْتَقْبَلِ مَوْضِعَ الْمَاضِي لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ فِيهِ وَقَالَ الْفَخْرُ إِنَّهُ مُخْتَارُ الْقَفَّالِ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا تَكَلُّفٌ يَنْبَغِي عَدَمُ التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا ... فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ [الْإِسْرَاء: 51] وَإِذَا كَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ ثُبُوتُ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَشُيُوعُ ذَلِكَ كَانَ لِتَأْوِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَكَانَ فِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: 115]- وَقَوْلِهِ-: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى [الْبَقَرَة: 120] . وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ سَفُهَ بِضَمِّ الْفَاءِ إِذَا صَارَ السَّفَهُ لَهُ سَجِيَّةً وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: 130] وَفَائِدَةُ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى بُلُوغِهِمُ الْحَدَّ الْأَقْصَى مِنَ السَّفَاهَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ سُفَهَاءُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَإِذَا قُسِمَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ أَصْنَافًا كَانَ هَؤُلَاءِ صِنْفَ السُّفَهَاءِ فَيُفْهَمُ أَنَّهُ لَا سَفِيهَ غَيْرُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ سَفِيهٌ سَوَاءٌ كَانَ الْقَائِلُ الْيَهُودَ أَوِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. ¬

(¬1) الْمصدر السَّابِق (8/ 171، كتاب التَّفْسِير سُورَة الْبَقَرَة (12) بَاب سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إِلَخ.

وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ حِكَايَةً لِقَوْلِ السُّفَهَاءِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ بِالضَّمِيرِ أَوْ بِمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِعْلُ (وَلَّاهُمْ) أَصْلُهُ مُضَاعَفُ وَلَّى إِذَا دَنَا وَقَرُبَ، فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ فَيُقَالُ وَلَّاهُ مِنْ كَذَا أَيْ قَرَّبَهُ مِنْهُ وَوَلَّاهُ عَنْ كَذَا أَيْ صَرَفَهُ عَنْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَلَامِ فَكَثُرَ أَنْ يَحْذِفُوا حَرْفَ الْجَرِّ الَّذِي يُعَدِّيهِ إِلَى مُتَعَلِّقٍ ثَانٍ فَبِذَلِكَ عَدَّوْهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ كَثِيرًا عَلَى التَّوَسُّعِ فَقَالُوا وَلَّى فُلَانًا وَجْهَهُ مَثَلًا دُونَ أَنْ يَقُولُوا وَلَّى فُلَانٌ وَجْهَهُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ عَنْ فُلَانٍ فَأَشْبَهَ أَفْعَالَ كَسَا وَأَعْطَى وَلذَلِك لم يعبأوا بِتَقْدِيمِ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى الْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: 15] أَصْلُهُ فَلَا تُوَلُّوا الْأَدْبَارَ مِنْهُمْ، فَالْأَدْبَارُ هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ رُفِعَ لَقِيلَ وَلِيَ دُبُرُهُ الْكَافِرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النِّسَاء: 115] أَيْ نَجْعَلُهُ وَالِيًا مِمَّا تَوَلَّى أَيْ قَرِيبًا لَهُ أَيْ مُلَازِمًا لَهُ فَهَذَا تَحْقِيق تَصَرُّفَات هَذَا الْفِعْلِ. وَجُمْلَةُ مَا وَلَّاهُمْ إِلَخْ هِيَ مَقُولُ الْقَوْلِ فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ كُلُّهَا عَائِدَةٌ عَلَى مُعَادٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ وَمُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ فِي أَصْلِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالتَّخْطِئَةِ وَاضْطِرَابِ الْعَقْلِ. وَالْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ فِي قَوْلِهِ: عَنْ قِبْلَتِهِمُ الْجِهَةُ الَّتِي يُوَلُّونَ إِلَيْهَا وُجُوهَهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَأَخْبَارُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالْقِبْلَةُ فِي أَصْلِ الصِّيغَةِ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ فِعْلَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَهِيَ زِنَةُ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى هَيْئَةِ فِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ أَيِ التَّوَجُّهِ اشْتُقَّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ بِحَذْفِ السِّينِ وَالتَّاءِ ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ الْمُسْتَقْبِلُ مَجَازًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ الِانْصِرَافَ لَا يَكُونُ عَنِ الْهَيْئَةِ قَالَ حَسَّانُ فِي رِثَاءِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْقِبْلَةُ اسْمَ مَفْعُولٍ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ كَالذِّبْحِ وَالطِّحْنِ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ كَمَا قَالُوا: مَا لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قِبْلَةٌ وَلَا دِبْرَةٌ أَيْ وِجْهَةٌ. وَإِضَافَةُ الْقِبْلَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَزِيدِ اخْتِصَاصِهَا بِهِمْ إِذْ لَمْ يَسْتَقْبِلْهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُصَلِّينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَقْبِلُونَ فِي صَلَاتِهِمْ،

وَهَذَا مِمَّا يُعَضِّدُ حَمْلَ «السُّفَهَاءُ» عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِمُ الْيَهُودُ لَقِيلَ عَنْ قِبْلَتِنَا إِذْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُضِيفُوا تِلْكَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ فَسَّرَ «السُّفَهَاءُ» بِالْيَهُودِ وَنَسَبَ إِلَيْهِمُ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَمَلَ الْإِضَافَةَ عَلَى أَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَقْبَلُوا تِلْكَ الْقِبْلَةَ مُدَّةَ سَنَةٍ وَأَشْهُرٍ فَصَارَتْ قِبْلَةً لَهُمْ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورِ اللَّفْظِ حِكَايَةً لِقَوْلِ السُّفَهَاءِ وَهُمْ يُرِيدُونَ بِالضَّمِيرِ أَوْ بِمُسَاوِيهِ فِي كَلَامِهِمْ عَوْدَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: الَّتِي كانُوا عَلَيْها أَيْ كَانُوا ملازمين لَهَا فعلى هُنَا لِلتَّمَكُّنِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ شِدَّةُ الْمُلَازَمَةِ مِثْلُ وَقَوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، وَفِيهِ زِيَادَةُ تَوْجِيهٍ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِغْرَابِ أَيْ كَيْفَ عَدَلُوا عَنْهَا بعد أَن لارموها وَلَمْ يَكُنِ اسْتِقْبَالُهُمْ إِيَّاهَا مُجَرَّدَ صُدْفَةٍ فَإِنَّهُمُ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِقْبَالُ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِنَّمَا بُنِيَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا تَجِدُ فِي أَسْفَارِ «التَّوْرَاةِ» الْخَمْسَةِ ذِكْرًا لِاسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَكِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي سَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِنَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ جَمَعَ شُيُوخَ إِسْرَائِيلَ وَجُمْهُورَهُمْ وَوَقَفَ أَمَامَ الْمَذْبَحِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا اللَّهَ دُعَاءً جَاءَ فِيهِ: «إِذَا انْكَسَرَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ أَمَامَ الْعَدُوِّ ثُمَّ رَجَعُوا وَاعْتَرَفُوا وَصَلَّوْا نَحْوَ هَذَا الْبَيْتِ فَأَرْجِعْهُمْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتَ لِآبَائِهِمْ وَإِذَا خَرَجَ الشَّعْبُ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَصَلَّوْا إِلَى الرَّبِّ نَحْوَ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَهَا وَالْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتَهُ لِاسْمِكَ فَاسْمَعْ صَلَاتَهُمْ وَتَضَرُّعَهُمْ» إِلَخْ، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِسُلَيْمَانَ وَقَالَ لَهُ «قَدْ سَمِعْتُ صَلَاتَكَ وَتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي» ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَقُصَارَاهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ هَيْئَةٌ فَاضِلَةٌ، فَلَعَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْتَزَمُوهُ لَا سِيَّمَا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمُ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ الْيَهُودُ يَظُنُّونَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الْقِبْلَةِ رُبَّمَا تَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُوَافِقًا لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَجَرَى كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ»

عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَلَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا مِنْ دِينِ الْيَهُودِ، كَمَا عَلِمْتَ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ مَا فِيهِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّ النَّصَارَى يَسْتَقْبِلُونَ الْمَشْرِقَ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ يَسْتَقْبِلُونَهَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَيَمَّنُونَ فِي دُعَائِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى صَوْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ جِهَتِهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي هُمْ بِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ جِهَاتِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا وَمَا بَيْنَهُمَا فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَادَةً عِنْدَهُمْ تَوَهَّمُوهُ مِنَ الدِّينِ وَتَعَجَّبُوا مِنْ مُخَالَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ فِي إِنْجِيلِهِمْ تَغْيِيرٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَعْيِينُ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الرُّومَ يَجْعَلُونَ أَبْوَابَ هَيَاكِلِهِمْ مُسْتَقْبِلَةً لِمَشْرِقِ الشَّمْسِ بِحَيْثُ تَدْخُلُ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا مِنْ بَاب الهيكل وَتَقَع عَلَى الصَّنَمِ صَاحِبِ الْهَيْكَلِ الْمَوْضُوعِ فِي مُنْتَهَى الْهَيْكَلِ عَكَسُوا ذَلِكَ فَجَعَلُوا أَبْوَابَ الْكَنَائِسِ إِلَى الْغَرْبِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمَذْبَحُ إِلَى الْغَرْبِ وَالْمُصَلُّونَ مُسْتَقْبِلِينَ الشَّرْقَ، وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ أَن بولس هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَهَذِهِ حَالَةُ النَّصَارَى فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى مِنَ الْعُصُورِ الْوُسْطَى إِلَى الْآنَ تَوَسَّعُوا فَتَرَكُوا اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كَنَائِسُهُمْ مُخْتَلِفَةَ الِاتِّجَاهِ وَكَذَلِكَ الْمَذَابِحُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي الْكَنِيسَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ اسْتَقْبَلَهَا عِنْدَ الدُّعَاءِ وَعند الصَّلَاة وَأَنه بَنَاهَا لِلصَّلَاةِ حَوْلَهَا فَإِنَّ دَاخِلَهَا لَا يَسَعُ الْجَمَاهِيرَ مِنَ النَّاسِ وَإِذَا كَانَ بِنَاؤُهَا لِلصَّلَاةِ حَوْلَهَا فَهِيَ أَوَّلُ قِبْلَةٍ وُضِعَتْ لِلْمُصَلِّي تُجَاهَهَا وَبِذَلِكَ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عُذْتُ بِمَا عاذ بِهِ إبراهم ... مُسْتَقْبل المعبة وَهُوَ قَائِمٌ أَمَّا تَوَجُّهُهُ إِلَى جِهَتِهَا مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنْهَا فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِهِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْتِزَامِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَعَانِي إِكْمَالِ الدِّينِ بِهَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةً ثمَّ تحولوا عَنْهَا إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى وَلَيْسَتِ الَّتِي تَحَوَّلَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَّا جِهَةَ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا ثَلَاثَة، أَوَّلُهَا وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَة [قُرْآن] (¬1) وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ» وَرَوَاهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَفِيهِ أَنَّ نُزُولَ آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ لِلْكَعْبَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أَصْلُ الْبَابِ وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ. ثَانِيهَا: حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَفِيهِ «فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ» . الثَّالِثُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: 144] فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ- ثُمَّ قَالَ- فَصَلَّى مَعَ النَّبِيءِ رَجُلٌ ثمَّ خرج بعد مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ» ، وَحُمِلَ ذِكْرُ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي رِوَايَتَيِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذِكْرُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي رِوَايَةِ الْبَرَاءِ كُلٌّ عَلَى أَهْلِ مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، وَهُنَالِكَ آثَارٌ أُخْرَى تُخَالِفُ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ. فَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ كَانَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَقِيلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ نِصْفَ شَعْبَانَ مِنْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ تَأَلُّفًا لِلْيَهُودِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُوَ فِي مَكَانٍ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ أَمَامَهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعًا، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ ثُمَّ نَسَخَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [الْبَقَرَة: 143] الْآيَةَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ ¬

(¬1) زِيَادَة من «الْمُوَطَّأ» (1/ 195) تَحْقِيق عبد الْبَاقِي، «كتاب الْقبْلَة» بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة، وَمن «صَحِيح البُخَارِيّ» ، انْظُر «فتح الْبَارِي» (1/ 506) ، دَار الْمعرفَة، كتاب الصَّلَاة (32) بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة، وَهَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي «صَحِيح مُسلم» وَهُوَ من رُوَاته كَمَا سَيذكرُ المُصَنّف.

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَة: 144] دَالًّا عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَرَأَى أَنْ يَتَّبِعَ قِبْلَةَ الدِّينَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا غُيِّرَتِ الْقِبْلَةُ قَالَ السُّفَهَاءُ وَهُمُ الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقِيلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا اشْتَاقَ مُحَمَّدٌ إِلَى بَلَدِهِ وَعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَنُسِبَ إِلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى نَحْوَ الْكَعْبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى وَفِي الْحَدِيثِ ضَعْفٌ. وَقَوْلُهُ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جَوَابٌ قَاطِعٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا مَوَاقِعُ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ فَالْجِهَاتُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَبَعًا لِلْأَشْيَاءِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا الْمَمْلُوكَة لَهُ، وَلَيْسَت مُسْتَحِقَّةً لِلتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِقْبَالِ اسْتِحْقَاقًا ذَاتِيًّا. وَذِكْرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ مُرَادٌ بِهِ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: 115] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْكِنَايَةَ عَنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِأَنَّ اصْطِلَاحَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ الْأَرْضَ إِلَى جِهَتَيْنِ شَرْقِيَّةٍ وَغَرْبِيَّةٍ بِحَسَبِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَيْسَ لِبَعْضِ الْجِهَاتِ اخْتِصَاصٌ بِقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرُهُ بِاسْتِقْبَالِ بَعْضِ الْجِهَاتِ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا كَالتَّيَمُّنِ أَوِ التَّذَكُّرِ فَلَا بِدْعَ فِي التَّوَلِّي لِجِهَةٍ دُونَ أُخْرَى حَسَبَ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ تَرْجِيحِ التَّوْلِيَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَلَى التَّوْلِيَةِ إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْهُدَى دُونَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّعْرِيضَ جِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ مِنَ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ فَرِيقَيْنِ كَانَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي أَمَرَهُ مَنْ بِيَدِهِ الْهُدَى بِالْعُدُولِ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي شَارَكَهُ فِيهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ إِلَى حَالَةِ اخْتُصَّ هُوَ بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ أَقْوَى مِنْ آيَةِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] . وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَهُمْ طَرِيقَ الْإِعْرَاضِ والتبكيت لِأَن إِنْكَار هم كَانَ عَنْ عِنَادٍ لَا عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ فَأُجِيبُوا بِمَا لَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْحيرَة وَلم تبين لَهُمْ حِكْمَةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَلَا أَحَقِّيَّةُ الْكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبَالِ وَذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ الْمُؤْمِنُونَ.

فَأَمَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى قَوْلِ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى الْيَهُودِ اسْتِقْبَالَ جِهَةِ الْمَغْرِبِ وَإِلَى النَّصَارَى اسْتِقْبَالَ جِهَةِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَيَأْتِي عَلَى تفسيرهم أَن تَقول أَنْ ذِكْرَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِشَارَةٌ إِلَى قِبْلَةِ النَّصَارَى وَقِبْلَةِ الْيَهُودِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ جَوَابًا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تَرْجِيحِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَمِ جَدْوَاهُ هُنَا، أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إِيمَاءً إِلَى قِبْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هُنَا وَسِيلَةُ الْخَيْرِ وَمَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] فَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ هَدْيٍ إِلَى خَيْرٍ وَمِنْهُ الْهَدْيُ إِلَى اسْتِقْبَالِ أَفْضَلِ جِهَةٍ. فَجُمْلَةُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهَا بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لِعَدَمِ وُضُوحِ اشْتِمَالِ جُمْلَةِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ عَلَى مَعْنَى جُمْلَةِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِذْ مَفَادُ الْأُولَى أَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعَهَا لِلَّهِ أَيْ فَلَا تَتَفَاضَلُ الْجِهَاتُ وَمَفَادُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ أَيِ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّافِلَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ فِي الْفَرِيضَةِ كَالْقِتَالِ وَالْمَرِيضِ لَا يَجِدُ مَنْ يُوَجِّهُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ لِرُخْصَةٍ فِي النَّافِلَةِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ لَا يَسْتَقِرُّ بِهَا. فَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ مِنْ أَحَدِ جَوَانِبِهَا وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فِي مَوْضِعٍ يُعَايِنُ مِنْهُ الْكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ الَّتِي يُعَايِنُهَا فَإِذَا طَالَ الصَّفُّ مِنْ أَحَدِ جَوَانِبِ الْكَعْبَةِ وَجَبَ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّفِّ غَيْرَ مُقَابِلٍ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ أَنْ يَسْتَدِيرَ بِحَيْثُ يُصَلُّونَ دَائِرِينَ بِالْكَعْبَةِ صَفًّا وَرَاءَ صَفٍّ بِالِاسْتِدَارَةِ، وَأَمَّا الَّذِي تَغِيبُ ذَاتُ الْكَعْبَةِ عَنْ بَصَرِهِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يَتَوَخَّى أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِهَتَهَا فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَتَوَخَّى الْمُصَلِّي جِهَةَ مُصَادَفَةِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ خَطٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَوَجَدَ وَجْهَهُ قُبَالَةَ جِدَارِهَا، وَهَذَا شَاقٌّ يَعْسُرُ تَحَقُّقُهُ إِلَّا بِطَرِيقِ إِرْصَادِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ (¬1) وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِاسْتِقْبَالِ الْعَيْنِ وَبِاسْتِقْبَالِ السَّمْتِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ وَاخْتَارَهُ أَحَدُ أَشْيَاخِ أَبِي الطَّيِّبِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْكِنْدِيُّ وَنَقَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَتَوَخَّى الْمُصَلِّي أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِهَةَ أَقْرَبِ مَا بَيَّنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ بِحَيْثُ لَوْ مَشَى بِاسْتِقَامَةٍ لَوَصَلَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِاسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ أَيْ جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَالْبَاجِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ مِنَ التَّيْسِيرِ وَرَفْعِ ¬

(¬1) قَالَه ابْن رشد فِي «الْبِدَايَة» (1/ 111) ، دَار الْمعرفَة، وَفِيه: «إِن إِصَابَة الْعين شَيْء لَا يدْرك إِلَّا

[سورة البقرة (2) : آية 143]

الْحَرَجِ، وَمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَوْضِعِ صَلَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ لِأَنَّ الله أذن لرَسُوله بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالك أَن جِبْرِيل هُوَ الَّذِي أَقَامَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبْلَةَ مَسْجِدِهِ. وَبَيَّنَ الْمَازِرِيُّ مَعْنَى الْمُسَامَتَةِ بِأَنْ يَكُونَ جُزْءٌ مِنْ سَطْحِ وَجْهِ الْمُصَلَّى وَجُزْءٌ مِنْ سَمْتِ الْكَعْبَةِ طَرَفَيْ خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِكَوْنِ صَفِّ الْمُصَلِّينَ كَالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْوَاصِلِ بَين طرفِي خطين مُتَبَاعِدَيْنِ خَرَجَا مِنَ الْمَرْكَزِ إِلَى الْمُحِيطِ فِي جِهَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ نُقْطَةٍ مِنْهُ مَمَرٌّ لِخَارِجٍ مِنَ الْمَرْكَزِ إِلَى الْمُحِيطِ اهـ، وَاسْتَبْعَدَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا الْكَلَامَ بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْبَعِيدِ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْبَيْتِ لَا يُطَاقُ، وَبِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ ذَوِي صَفٍّ مِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُ الْبَيْتِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَبَعْضُ هَذَا الصَّفِّ خَارج عَن سمت الْبَيْتِ قَطْعًا وَوَافَقَهُ الْقَرَافِيُّ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْبَيْتَ لِمُسْتَقْبِلِيهِ كَمَرْكَزِ دَائِرَةٍ لِمُحِيطِهَا وَالْخُطُوطُ الْخَارِجَةُ مِنْ مَرْكَزٍ لِمُحِيطِهِ كُلَّمَا قَرُبَتْ مِنْهُ اتَّسَعَتْ وَلَا سِيَّمَا فِي الْبُعْدِ. فَإِذَا طَالَتِ الصُّفُوفُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَجِّهِينَ نَحْوَ الْجِهَةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِأَنَّهَا قِبْلَةُ الصَّلَاةِ. وَمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسِيَ الِاسْتِقْبَالَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ صَلَاتِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا اسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُكَلَّفِ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ أَبَدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ فَرْضَ الْمُكَلَّفِ هُوَ إِصَابَةُ سَمْتِ الْكَعْبَةِ. [143] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَة: 142] إِلَخْ وَجُمْلَةِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَخْ، وَالْوَاو اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْوَاوِ الِاسْتِئْنَافِيَّةِ، فَالْآيَةُ السَّابِقَةُ لَمَّا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ هُدُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ لَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَسْتَطْرِدَ لِذِكْرِ فَضِيلَةٍ أُخْرَى لَهُمْ هِيَ خَيْرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَهِيَ فَضِيلَةُ كَوْنِ الْمُسْلِمِينَ عُدُولًا خِيَارًا

لِيَشْهَدُوا عَلَى الْأُمَمِ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةَ بَعْدَهَا هِيَ فِي ذِكْرِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْقِبْلَةُ. وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ فَيَتَعَيَّنُ تَعَرُّفُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَمَا هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» فَاخْتَلَفَ شَارِحُوهُ فِي تَقْرِير كَلَامه وَتبين مُرَادِهِ، فَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَفْهُومِ أَيْ مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْبَقَرَة: 142] أَيْ كَمَا جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَوْ كَمَا جَعَلَنَا قِبْلَتَكُمْ أَفْضَلَ قِبْلَةٍ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» اهـ. أَيْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يُومِئُ إِلَى أَنَّ الْمَهْدِيَّ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَإِلَى أَنَّ الْمَهْدِيَّ إِلَيْهِ هُوَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَقْتَ قَوْلِ السُّفَهَاءِ مَا وَلَّاهُمْ [الْبَقَرَة: 142] عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَهَذَا يَجْعَلُ الْكَافَ بَاقِيَةً عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى وَصْفِ «الْكَشَّافِ» الْجَعْلِ بِالْعَجِيبِ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْحَمْلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْإِشَارَةِ وَإِنْ كَانَ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا مِنْ دُونِ إِرَادَةِ بُعْدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْنًى تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ فَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ إِلَى مَذْكُورٍ مُتَقَرِّرٍ فِي الْعِلْمِ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى سَنَنِ الْإِشَارَاتِ. وَحَمَلَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» الْكَافَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ التَّشْبِيهِ، فَأَمَّا الطِّيبِيُّ وَالْقُطْبُ فَقَالَا الْكَافُ فِيهِ اسْمٌ بِمَعْنَى مِثْلِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِجَعَلْنَاكُمْ أَيْ مِثْلُ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ جَعَلْنَاكُمْ فَلَيْسَ تَشْبِيهًا وَلَكِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالَةٍ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ: يَهْدِي وَهُوَ الْأَمْرُ الْعَجِيبُ الشَّأْنِ أَيِ الْهُدَى التَّامُّ، وَوَجْهُ الْإِتْيَانِ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِالْجَعْلِ الْعَجِيبِ، فَالتَّعْظِيمُ هُنَا لِبَدَاعَةِ الْأَمْرِ وَعَجَابَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْقُطْبَ سَاقَ كَلَامًا نَقَضَ بِهِ صَدْرَ كَلَامِهِ. وَأَمَّا الْقَزْوِينِيُّ صَاحب «الْكَشْف» والتفتازانيّ فَبَيَّنَاهُ بِأَنَّ الْكَافَ مُقْحَمَةٌ كَالزَّائِدَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ فَيَصِيرُ اسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذَا نَائِبًا مَنَابَ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِجَعَلْنَاكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ جَعَلْنَاكُمْ أَيْ فَعَدَلَ عَنِ الْمَصْدَرِ إِلَى اسْمِ إِشَارَتِهِ النَّائِبِ عَنْهُ لِإِفَادَةِ عَجَابَةِ هَذَا الْجَعْلِ بِمَا مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ عَلَامَةِ الْبُعْدِ الْمُتَعَيِّنِ فِيهَا لِبُعْدِ الْمَرْتَبَةِ. وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ بِإِيهَامِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُشَبِّهُ أَنْ يُشَبِّهَ هَذَا فِي غَرَابَتِهِ لَمَا وَجَدَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا قريب من قَوْله النَّابِغَةِ: «وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا»

فَلَيْسَتِ الْكَافُ بِزَائِدَةٍ وَلَا هِيَ لِلتَّشْبِيهِ وَلَكِنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الزَّائِدَةِ، وَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَحْمَلِ فَيَدُلُّ على ذَلِك تصريحه فِي نَظَائِرِهِ إِذْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 59] الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى مِثْلِ أَيْ مِثْلِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ وَأَوْرَثْنَاهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي حَدَا صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» إِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَا يَطَّرِدُ فِيهِ اعْتِبَارُ مُشَارٍ إِلَيْهِ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَّجِهُ اعْتِبَارُ مُشَارٍ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَلَكِنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» قَدْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [112] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا فَقَالَ: «كَمَا خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَعْدَائِكَ كَذَلِكَ فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْدَائِهِمْ» اهـ وَمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ حَسَنٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْرِبِ النَّاظِرُونَ فِيهِ بِعَطَنٍ. وَالتَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ: كَذلِكَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ ظَاهِرٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ أَوْ كَالظَّاهِرِ ادِّعَاءً، فَقَدْ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَذْكُورًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: 101] الْآيَةَ. وَكَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَأَلْفَيْتُ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا ... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ وَقَدْ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَفْهُومًا مِنَ السِّيَاقِ فَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ التَّشْبِيهِ وَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ: كَذَا فَلْيَجِلَّ الْخَطْبُ وَلْيَفْدَحِ الْأَمْرُ ... فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لَمْ يَفِضْ دَمْعُهَا عُذْرُ قَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي «شَرْحِهِ» (¬1) الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وَهُوَ فِي صَدْرِ الْقَصِيدَةِ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَا يُشَبَّهُ بِهِ فَقُطِعَ النَّظَرُ فِيهِ عَنِ التَّشْبِيهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي لَازِمِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ اهـ، يَعْنِي أَنَّ الشَّاعِرَ أَشَارَ إِلَى الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَهُوَ مَوْتُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الطُّوسِيِّ، وَمِثْلُهُ قَول الْأَسدي من شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» يَرْثِي أَخَاهُ (¬2) : فَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ وَيَفْ ... نَى الْعِلْمُ فِيهِ وَيَدْرُسُ الْأَثَرُُُ ¬

(¬1) من كتب التبريزي: شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام، 2 شرح الْمُشكل من ديوَان أبي تَمام. والتبريزي: هُوَ يحيى بن عَليّ مُحَمَّد الشَّيْبَانِيّ التبريزي، أَبُو زَكَرِيَّا، من أَئِمَّة اللُّغَة وَالْأَدب. توفّي سنة 502 هـ. «الْأَعْلَام» (8/ 157) . (¬2) وَقيل الْبَيْت لِابْنِ كناسَة فِي رثاء حَمَّاد الراوية، وَقَالَ الجاحظ هُوَ لبَعض الشُّعَرَاء فِي رثاء بعض الْعلمَاء.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ التنويه بالْخبر فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَرُومُ الْمُتَكَلِّمُ تَشْبِيهَهُ ثُمَّ لَا يَجِدُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ وَفِي هَذَا قَطْعٌ لِلنَّظَرِ عَنِ التَّشْبِيهِ فِي الْوَاقِعِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَحَدِ شُعَرَاءِ فَزَارَةَ فِي الْأَدَبِ من «الحماسة» : كَذَلِك أُدِّبْتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... أَنِّي رَأَيْتُ مِلَاكَ الشِّيمَةِ الْأَدَبَا أَيْ أُدِّبْتُ هَذَا الْأَدَبَ الْكَامِنَ الْعَجِيبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: كَذَلِكَ خِيمُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ ... إِذَا مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ خِيمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عِنْدَ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ الْحَقُّ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْأَنْعَام: 53] فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ شَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِتْنَةً أَخْذًا مِنْ فِعْلِ فَتَنَّا. وَالْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامٍ مُتَأَخِّرٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا علمت آنِفا لِأَنَّهُ الْجعل الْمَأْخُوذِ مِنْ جَعَلْناكُمْ، وَتَأْخِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنِ الْإِشَارَةِ اسْتِعْمَالٌ بَلِيغٌ فِي مَقَامِ التَّشْوِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: 78] أَوْ مِنْ كَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا لِلْبَيْضَاوِيِّ إِذْ جَعَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْهَدْيَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 142] وَلَعَلَّهُ رَأَى لُزُومَ تَقَدُّمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَالْوَسَطُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَمْكِنَةٍ تُحِيطُ بِهِ أَوْ لِلشَّيْءِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُحِيطَةٍ بِهِ لَيْسَ هُوَ إِلَى بَعْضِهَا أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى بَعْضٍ عُرْفًا وَلَمَّا كَانَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ اخْتِرَاقِ مَا يُحِيطُ بِهِ أَخَذَ فِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَالْعِزَّةِ طَبْعًا كَوَسَطِ الْوَادِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرُّعَاةُ وَالدَّوَابُّ إِلَّا بَعْدَ أَكْلِ مَا فِي الْجَوَانِبِ فَيَبْقَى كَثِيرُ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، وَوَضْعًا كَوَسَطِ الْمَمْلَكَةِ يُجْعَلُ مَحَلَّ قَاعِدَتِهَا وَوَسَطُ الْمَدِينَةِ يُجْعَلُ مَوْضِعَ قَصَبَتِهَا لِأَنَّ الْمَكَانَ الْوَسَطَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَدُوَّ بِسُهُولَةٍ، وَكَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ لِأَنْفَسِ لُؤْلُؤَةٍ فِيهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ مَعْنَى النَّفَاسَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْخِيَارِ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْوَسَطِ عُرْفًا فَأَطْلَقُوهُ عَلَى الْخِيَارِ النَّفِيسِ كِنَايَةً قَالَ زُهَيْرٌ: هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْضِلِ وَقَالَ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [الْقَلَم: 28] . وَيُقَالُ أَوْسَطُ الْقَبِيلَةِ لِصَمِيمِهَا. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوَسَطِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاقِعَةِ عَدْلًا بَيْنَ خُلُقَيْنِ

ذَمِيمَيْنِ فِيهِمَا إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ كَالشَّجَاعَةِ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ، وَالْكَرَمِ بَيْنَ الشُّحِّ وَالسَّرَفِ وَالْعَدَالَةِ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالْقَسَاوَةِ، فَذَلِكَ مَجَازٌ بِتَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمَوْهُومِ بِالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ فَلِذَلِكَ رُوِيَ حَدِيثُ: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَقَدْ شَاعَ هَذَانِ الإطلاقان حَتَّى صَارا حَقِيقَتَيْنِ عُرْفِيَّتَيْنِ. فَالْوَسَطُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فُسِّرَ بِالْخِيَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 110] وَفُسِّرَ بِالْعُدُولِ وَالتَّفْسِيرُ الثَّانِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي «سنَنه» من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْجَمْعُ فِي التَّفْسِيرَيْنِ هُوَ الْوَجْهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَوُصِفَتِ الْأُمَّةُ بِوَسَطٍ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ فَهُوَ لِجُمُودِهِ يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ مِثْلُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ فِي الْجُمُودِ وَالْإِشْعَارِ بِالْوَصْفِيَّةِ بِخِلَافِ نَحْوِ رَأَيْتُ الزَّيْدَيْنِ هَذَيْنِ فَإِنَّهُ وَصَفٌ بِاسْمٍ مُطَابِقٍ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةٍ بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ مَحْضَةٌ لَا تشعر بِصفة فِي الذَّاتِ. وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ هَنَا مُرَاد بِهِ جَمِيع الْمُسْلِمِينَ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ لِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ صَلَّى لَهَا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَداءَ قَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهَا شَهَادَةُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا عَلَى الْأُمَمِ فَلَا يَخْتَصُّ الضَّمِيرُ بِالْمَوْجُودِينَ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْآيَةُ ثَنَاءٌ على الْمُسلمين بِأَن اللَّهَ قَدِ ادَّخَرَ لَهُمُ الْفَضْلَ وَجَعَلَهُمْ وَسَطًا بِمَا هَيَّأَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ بَيَانًا جَعَلَ أَذْهَانَ أَتْبَاعِهَا سَالِمَةً مِنْ أَنْ تُرَوَّجَ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَاتُ الَّتِي رَاجَتْ عَلَى الْأُمَمِ، قَالَ فَخْرُ الدِّينِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا وسطا بمنعي أَنَّهُمْ مُتَوَسِّطُونَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفْرِطِ وَالْمُفَرِّطِ وَالْغَالِي وَالْمُقَصِّرِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فَجَعَلُوا الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، وَلَمْ يُقَصِّرُوا كَمَا قَصَّرَتِ الْيَهُودُ فَبَدَّلُوا الْكُتُبَ وَاسْتَخَفُّوا بِالرُّسُلِ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَيِ الْمُجْتَهِدِينَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ (¬1) ، وَفِي بَيَانِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ طُرُقٌ: الْأَوَّلُ قَالَ الْفَخْرُ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَةِ الْأُمَّةِ وَخَيْرِيَّتِهَا فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى مَحْظُورٍ لَمَا اتَّصَفُوا بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُ قَوْلِهِمْ حُجَّةً اه، أَيْ لِأَنَّ مَجْمُوعَ الْمُجْتَهِدِينَ عُدُولٌ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ احْتِمَالِ تَخَلُّفِ وَصْفِ الْعَدَالَةِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِمْ، وَيُبْطِلُ هَذَا أَنَّ الْخَطَأَ لَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ وَلَا الْخَيْرِيَّةَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ ¬

(¬1) ذكر هَذَا من الْمُفَسّرين الْقُرْطُبِيّ فِي (2/ 156) ، الألوسي فِي (2/ 4، القاسمي فِي (2/ 286) .

وَهَذَا رَدٌّ مُتَمَكِّنٌ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي هِيَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ تَسْتَلْزِمُ الْعِصْمَةَ مِنْ وُقُوعِ الْجَمِيعِ فِي الْخَطَأِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَوْ كَانَ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بَاطِلٌ لَانْثَلَمَتْ عَدَالَتُهُمُ اهـ، يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتِ الْعَدَالَةَ الْكَامِلَةَ لِاجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَوْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ لَانْثَلَمَتْ عَدَالَتُهُمْ أَيْ كَانَتْ نَاقِصَةً وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ قَالَ جَمَاعَةٌ الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ وَهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ لَا تُنَافِي الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ وَقَدْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ عَنِ اجْتِهَادٍ أَمَّا إِجْمَاعُهُمْ عَلَى مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ فَيَنْدَرِجُ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ فِيهَا مَدْحٌ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا لَا لِخُصُوصِ عُلَمَائِهَا فَلَا مَعْنًى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا مِنْ هَاتِهِ الْجِهَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ الْأُمَّةِ لَا مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِهَا، فَالْوَجْهُ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ لِلشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ وَبِمَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نِسْبَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ صفة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا هُوَ تَشْرِيعٌ مُؤَصَّلٌ أَوْ بَيَانٌ مُجْمَلٌ مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَالرَّكَعَاتِ وَصِفَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَمِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ إِثْبَاتِ الشَّرِيعَةِ، بِهِ فُسِّرَتِ الْمُجْمَلَاتُ وَأُسِّسَتِ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالُوا بِكَفْرِ جَاحِدِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُ (¬1) ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَبَرَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وِفَاقَ الْعَوَامِّ وَاعْتَبَرَ فِيهِ غَيْرُهُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ الَّذِي يَصِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا (¬2) . وَأَمَّا كَوْنُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ إِنَّ الْآيَةَ يُسْتَأْنَسُ بِهَا لِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا وَعَلِمْنَا أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْخِيَارُ الْعَدْلُ الْخَارِجُ مِنْ بَيْنِ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ عُقُولَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا تُنَشَّأُ عَلَيْهِ عُقُولُهُمْ مِنَ الِاعْتِيَادِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَمُجَانَبَةِ الْأَوْهَامِ السَّخِيفَةِ الَّتِي سَاخَتْ فِيهَا عُقُولُ الْأُمَمِ، وَمِنَ الِاعْتِيَادِ بِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ مِنْ طُرُقِ الْعُدُولِ وَإِثْبَاتِ أَحْكَامِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ اسْتِنْبَاطًا بِالنِّسْبَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَفَهْمًا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ عُقُولَ أَفْرَادِ هَاتِهِ الْأُمَّةِ عُقُولٌ قَيِّمَةٌ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا وَسَطًا، ثُمَّ هَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ تَخْتَلِفُ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ طَبَقَةٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَكُلَّ فَرْدٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي ذُكِرَ ¬

(¬1) انْظُر «حَاشِيَة الْعَطَّار على جمع الْجَوَامِع» (2/ 238) ، دَار الْكتب العلمية، و «تيسير التَّحْرِير» (3/ 259، ط مصطفى الْحلَبِي. (¬2) قَالَ الْغَزالِيّ: «يجب على الْمُجْتَهد أَن ينظر أول شَيْء فِي الْإِجْمَاع، فَإِن وجد فِي الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا ترك النّظر فِي الْكتاب وَالسّنة فَإِنَّهُمَا يقبلان النّسخ وَالْإِجْمَاع لَا يقبله، فالإجماع على خلاف مَا فِي الْكتاب وَالسّنة دَلِيل قَاطع على النّسخ إِذْ لَا تَجْتَمِع الْأمة على الْخَطَأ» انْظُر «الْمُسْتَصْفى» مَعَ «مُسلم الثُّبُوت» (2/ 392، دَار صادر.

أَثْبَتَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَا يَقَعُ فِي الضَّلَالِ لَا عَمْدًا وَلَا خَطَأً، أَمَّا التَّعَمُّدُ فَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْعَدَالَةَ وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْخِلْقَةَ عَلَى اسْتِقَامَةِ الرَّأْيِ فَإِذَا جَازَ الْخَطَأُ عَلَى آحَادِهِمْ لَا يَجُوزُ تَوَارُدُ جَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ نَظَرًا، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرَانِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ مُتَابَعَةً لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ شَرَائِعَهُمْ لَمْ تُحَذِّرْهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا تَأْوِيلَهَا، ثُمَّ إِنَّ الْعَامَّةَ تَأْخُذُ نَصِيبًا مِنْ هَذِهِ الْعِصْمَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَهُوَ الْجُزْءُ النَّقْلِيُّ فَقَطْ وَبِهَذَا يَنْتَظِمُ الِاسْتِدْلَالُ. وَقَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عِلَّةٌ لِجَعْلِهِمْ وَسَطًا فَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ وَغَايَاتٍ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ لَا كَصُدُورِ الْمَعْلُولِ عَنِ الْعِلَّةِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَا بِوُجُوبٍ وَإِلْجَاءٍ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ مِنْهَا خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ تَعَالَى لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ. وَ (النَّاسُ) عَامٌّ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْأُمَمُ الْمَاضُونَ وَالْحَاضِرُونَ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ. فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ حُكْمُ هَاتِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَالْحَاضِرِينَ بِتَبْرِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِالرُّسُلِ الْمَبْعُوثِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِتَضْلِيلِ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ بِرُسُلِهِمْ وَالْمُكَابِرِينَ فِي الْعُكُوفِ عَلَى مِلَلِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ نَاسِخِهَا وَظُهُورِ الْحَقِّ، وَهَذَا حُكْمٌ تَارِيخِيٌّ ديني عَلَيْهِ إِذَا نَشَأَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ نَشَأَتْ عَلَى تَعَوُّدِ عَرْضِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا عَلَى مِعْيَارِ النَّقْدِ الْمُصِيبِ. وَالشَّهَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ هِيَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (¬1) وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتُ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ اللَّهُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قَالَ عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً اه. فَقَوْلُهُ «ثُمَّ قَرَأَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ لَا أَنَّهَا عَيْنُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّعْلِيلِ هُوَ الشَّهَادَةُ الْأُولَى لِأَنَّهَا الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْ جَعَلْنَا أُمَّةً وَسَطًا، وَأَمَّا مَجِيءُ شَهَادَةِ الْآخِرَةِ عَلَى طِبْقِهَا فَذَلِكَ لِمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ تَكُونُ عَلَى وَفْقِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ [طه: 124- 126] . ¬

(¬1) انْظُر «فتح الْبَارِي» (13/ 316) . كتاب الِاعْتِصَام (19) بَاب وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.

وَمِنْ مُكَمِّلَاتِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وُجُوبُ دَعْوَتِنَا الْأُمَمَ لِلْإِسْلَامِ، لِيَقُومَ ذَلِكَ مَقَامَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ حَتَّى تَتِمَّ الشَّهَادَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُعْرِضِينَ. وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْأُمَمِ تَكُونُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى فِي الْآيَةِ بِتَعْدِيَتِهَا بِعَلَى إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُعْظَمَ شَهَادَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَهَمُّهَا شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُعْرِضِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ إِيمَانُهُمْ فَالِاكْتِفَاءُ بِعَلَى تَحْذِيرٌ لِلْأُمَمِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يُشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَتَنْوِيهٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِحَالَةِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ وَصْمَةِ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَبِحَالَةِ تَشْرِيفِهِمْ بِهَاتِهِ الْمَنْقَبَةِ وَهِيَ إِثْقَافُ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً مَعْطُوفٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَيْسَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ هُوَ تَكْمِيلٌ لِلشَّهَادَةِ الْأُولَى لِأَنَّ جَعْلَنَا وَسَطًا يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الشَّهَادَةِ لَنَا وَانْتِفَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْنَا، فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ عَلَيْنَا فِيهَا هِيَ شَهَادَتُهُ بِذَاتِهِ عَلَى مُعَاصِرِيهِ وَشَهَادَةُ شَرْعِهِ عَلَى الَّذِينَ أَتَوا بعده إِنَّمَا بِوَفَائِهِمْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ شَرْعُهُ وَإِمَّا بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّسُولِ بِصِدْقِ الْأُمَّةِ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ، وَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصِّحَاح» : «فَلَيُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي» . وَتَعْدِيَةُ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عَلَى الْأُمَّةِ بِحَرْفِ عَلَى مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَإِلَّا فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ لِلْأُمَّةِ وَقِيلَ بَلْ لِتَضْمِينِ شَهِيداً مَعْنَى رَقِيبًا وَمُهَيْمِنًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّنْوِيهِ بِالشَّهَادَةِ وَتَشْرِيفِهَا حَتَّى أَظْهَرَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلّا بعد حصطولها. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ شَهِيدٌ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى الْعِلْمِ بِالسَّمَاعِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ وَإِنْ لم ير بِعَيْنِه أَوْ يَسْمَعْ بِأُذُنَيْهِ، وَأَنَّ التَّزْكِيَةَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْمُزَكِّيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ وَأَعْدَلَ مِنَ الْمُزَكَّى، وَأَنَّ الْمُزَكَّى لَا يَحْتَاجُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَشْهَدُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَاَ هَلْ بَلَّغْتُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ» فَجَعَلَ اللَّهَ هُوَ الشَّاهِدَ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ النُّكَتِ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لَا أُرَاهُ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ

بِتَشْرِيفِ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى أَنَّهَا تَشْهَدُ عَلَى الْأُمَمِ وَالرُّسُلِ وَهِيَ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهَا إِلَّا رَسُولُهَا، وَقَدْ يَكُونُ تَقْدِيمُهُ لِتَكُونَ الْكَلِمَةُ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْآيَةُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ كَلِمَةً ذَاتَ حَرْفِ مَدٍّ قَبْلَ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ لِأَنَّ الْمَدَّ أَمْكَنُ لِلْوَقْفِ وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مُفِيدٌ لِقَصْرِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي كَلَامِهِمْ. وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: 142] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ مِنْ شَرْعِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ تَحْوِيلِ ذَلِكَ إِلَى شَرْعِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَمَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً إِلَى آخِرِهَا اعْتِرَاضٌ. وَالْجَعْلُ هُنَا جَعْلُ التَّشْرِيعِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَفْعُوله من شؤون التَّعَبُّدِ لَا من شؤون الْخَلْقِ وَهُوَ لَفْظُ الْقِبْلَةِ، وَلِذَلِكَ فَفِعْلُ جَعَلَ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى شَرَعْنَا، فَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَعَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِاسْمِهِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِمُحَاكَاةِ كَلَامِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ حِينَ قَالُوا مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحِكْمَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا لِنَعْلَمَ أَيْ مَا جَعَلْنَا تِلْكَ قِبْلَةً مَعَ إِرَادَةِ نَسْخِهَا فَأَلْزَمْنَاكَهَا زَمَنًا إِلَّا لِنَعْلَمَ إِلَخْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ اسْتِثْنَاءٌ مَنْ عِلَلٍ وَأَحْوَالٍ أَيْ مَا جَعَلْنَا ذَلِكَ لِسَبَبٍ وَفِي حَالٍ إِلَّا لِنُظْهِرَ مَنْ كَانَ صَادِقَ الْإِيمَانِ فِي الْحَالَتَيْنِ حَالَةِ تَشْرِيعِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَالَةِ تَحْوِيلِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَذَكَرَ عَبْدُ الْحَكِيمِ (¬1) أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ لَمَّا اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حَمِيَّةً لِقِبْلَةِ الْعَرَبِ، وَالْيَهُودُ كَانُوا تَأَوَّلُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعُذْرَ فِي التَّظَاهُرِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] فَنَافَقُوا وَهُمْ يَتَأَوَّلُونَ لِلصَّلَاةِ مَعَهُ بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَزِيَادَةٌ عَلَى صَلَوَاتِهِمُ الَّتِي هُمْ مُحَافِظُونَ عَلَيْهَا إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ مَعَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُنَافِي تَعْظِيمَ شَعَائِرِهِمْ ¬

(¬1) أَي السيالكوتي.

إِذْ هُمْ مُسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ صَارَتْ صِفَةُ الصَّلَاةِ مُنَافِيَةً لِتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِمْ لِأَنَّهَا اسْتِدْبَارٌ لِمَا يَجِبُ اسْتِقْبَالُهُ فَلَمْ تبْق لَهُم سمة لِلتَّأْوِيلِ فَظَهَرَ مَنْ دَامَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَعْرَضَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَجَعْلُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ عِلَّةَ هَذَيْنِ التَّشْرِيعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مِنَ التَّشْرِيعِ كَمَا يَقْتَضِيهِ لَامُ التَّعْلِيلِ وَتَقْدِيرُ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ وَأَنْ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا يَحْدُثُ وَلَا يَتَجَدَّدُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هَنَا عَلَمُ حُصُولِ ذَلِكَ وَهُوَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الَّذِي عُلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ سَيَقَعُ فَهَذَا تَعَلُّقٌ خَاصٌّ وَهُوَ حَادِثٌ لِأَنَّهُ كَالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ أَغْفَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَدَّهُ فِي تَعَلُّقَاتِ الْعِلْمِ (¬1) . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ كِنَايَةً عَنْ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ فَيَذْكُرُ عِلْمَهُ وَهُوَ يُرِيدُ عِلْمَ النَّاسِ كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قُبَيْصَةَ الطَّائِيُّ: وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جُبَّاؤُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَرَادَ لِيَظْهَرَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا فَأَعْلَمُهُ أَنَا وَيَعْلَمُهُ النَّاسُ فَجَاءَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لِلْمُتَّبِعِ وَالْمُنْقَلِبِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (نَعْلَمَ) مَجَازًا عَن التحيز لنظهر لِلنَّاسِ بِقَرِينَةِ كَلِمَةِ (مَنْ) الْمُسَمَّاةُ بِمَنِ الْفَصْلِيَّةِ كَمَا سَمَّاهَا ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ فُرُوعِ مَعَانِي مَنْ الِابْتِدَائِيَّةِ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَهَذَا لَا يُرِيبُكَ إِشْكَالٌ يَذْكُرُونَهُ، كَيْفَ يَكُونُ الْجَعْلُ الْحَادِثُ عِلَّةً لِحُصُولِ الْعِلْمِ الْقَدِيم إِذْ تبين لَكَ أَنَّهُ رَاجِعٌ لِمَعْنًى كِنَائِيٍّ. وَالِانْقِلَابُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، يُقَالُ انْقَلَبَ إِلَى الدَّارِ، وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ ¬

(¬1) بعد أَن كتبت هَذَا بسنين وجدت فِي الرسَالَة الخاقانية للمحقق عبد الْحَكِيم السلكوتي فِي تَحْقِيق الْمذَاهب فِي علم الله تَعَالَى قَوْله: «وَقيل إِن علمه تَعَالَى لَهُ تعلقات أزلية بِكُل مَا يصلح أَن يعلم» ، وتعلقات متجددة بالمتجددات من حَيْثُ تجددها ووقوعها فِي أزمنة متغيرة والتغيير فِي التعلقات والإضافات لَا يضر بِكَمَالِهِ، لِأَن ذَلِك التجدد لَيْسَ بِنُقْصَان فِي ذَاته بل لِأَن كَمَاله التَّام يَقْتَضِي أَن [.....]

زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ وَرَاءَهُ لِأَنَّ الْعَقِبَيْنِ هُمَا خَلْفُ السَّاقَيْنِ أَيِ انْقَلَبَ على طَرِيق عَقِيبه وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ رُجُوعًا إِلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ. وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مَفْعُولُ (نَعْلَمُ) وَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ جُمْلَةَ وَإِنْ كانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعلَّة لجملة لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فَإِنَّهَا مكا كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الِاتِّبَاعِ وَالِانْقِلَابِ إِلَّا لِأَنَّهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا تَسَاهُلَ فِيهِ فَيَظْهَرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الْخَالِصُ مِنَ الْمَشُوبِ وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ عَائِدٌ لِلْحَادِثَةِ أَوِ الْقِبْلَةِ بِاعْتِبَارِ تَغَيُّرِهَا. وَإِن مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالْكَبِيرَةُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّدِيدَةِ الْمُحْرِجَةِ لِلنُّفُوسِ، تَقُولُ الْعَرَبُ كَبُرَ عَلَيْهِ كَذَا إِذَا كَانَ شَدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ [الْأَنْعَام: 35] . وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لِنَعْلَمَ أَيْ لِنُظْهِرَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وَمَنْ يَنْقَلِب على عَقِيبه وَنَحْنُ غَيْرُ مُضَيِّعِينَ إِيمَانَكُمْ. وَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّعْظِيمِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب قَالَ: « [و] «1» كَانَ [الَّذِي] «2» مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَن تحوّل [قبل الْبَيْت] «3» رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: «قتلوا» إِشْكَال لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قِتَالٌ قَبْلَ تَحْويل الْقبْلَة وسنين ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيءُ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الْآيَةَ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْإِضَاعَةُ إِتْلَافُ الشَّيْءِ وَإِبْطَالُ آثَارِهِ وَفُسِّرَ الْإِيمَانُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالصَّلَاةِ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ. وَتَعَلَّقَ (يَضِيعُ) بِالْإِيمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فَإِنْ فُسِّرَ الْإِيمَانُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ التَّقْدِيرُ لِيُضِيعَ

_ (1، 2، 3) زِيَادَة من «صَحِيح البُخَارِيّ» انْظُر «فتح الْبَارِي» (8/ 171) . [[لَيست فِي المطبوعة = التونسية]]

حَقَّ إِيمَانِكُمْ حِينَ لَمْ تُزَلْزِلْهُ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى قِبْلَةٍ لَا تَوَدُّونَهَا، وَإِنْ فُسِّرَ الْإِيمَانُ بِالصَّلَاةِ كَانَ التَّقْدِيرُ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ فَضْلَ صَلَاتِكُمْ أَوْ ثَوَابَهَا، وَفِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الصَّلَاةِ تَنْوِيهٌ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَعَنْ مَالِكٍ: «إِنِّي لَأَذْكُرُ بِهَذَا قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ الصَّلَاةُ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ» . وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ نَسْخَ حُكْمٍ، يَجْعَلُ الْمَنْسُوخَ بَاطِلًا فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُ الْعَمَلِ بِهِ فَلِذَلِكَ تَوَجَّسُوا خِيفَةً عَلَى صَلَاة إخْوَانهمْ اللَّذين مَاتُوا قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِثْلِ أَسْعَدَ بن زُرَارَة والبراء بْنِ مَعْرُورٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَظَنَّ السَّائِلُونَ أَنَّهُمْ سَيَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ مَا صَلَّوْهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَلِهَذَا أُجِيبَ سُؤَالُهُمْ بِمَا يَشْمَلُهُمْ وَيَشْمَلُ مَنْ مَاتُوا قَبْلُ فَقَالَ إِيمانَكُمْ، وَلم يقل إيمَانكُمْ عَلَى حَسَبِ السُّؤَالِ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تَأْكِيدٌ لِعَدَمِ إِضَاعَةِ إِيمَانِهِمْ وَمِنَّةٌ وَتَعْلِيمٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ إِنَّمَا يلغى الْعَمَل بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي مَا مَضَى. وَالرَّءُوفُ الرَّحِيمُ صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ مُشْتَقَّةٌ أُولَاهُمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَالرَّأْفَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالرَّحْمَةِ فِي إِطْلَاقِ كَلَامِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَلَيْهِ دَرَجَ الزَّجَّاجُ وَخَصَّ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الرَّأْفَةَ بِمَعْنَى رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ، فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ الرَّأْفَةُ أَكْثَرُ مِنَ الرَّحْمَةِ أَيْ أَقْوَى أَيْ هِيَ رَحْمَةٌ قَوِيَّةٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْجَوْهَرِيِّ الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ فِي «الْمُجْمَلِ» الرَّأْفَةُ أَخَصُّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلَا تَكَادُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَالرَّحْمَةُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، فَاسْتَخْلَصَ الْقَفَّالُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ قَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنَّ الرَّأْفَةَ مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةُ الضُّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النُّور: 2] ، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَاسْمٌ جَامِعٌ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِفْضَالُ وَالْإِنْعَامُ اهـ. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهَا وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ وَعَبْدُ الْحَكِيمِ وَرُبَّمَا كَانَ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ بَيْنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا وَأَيًّا مَا كَانَ مَعْنَى الرَّأْفَةِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ رَءُوفٍ وَرَحِيمٍ فِي الْآيَةِ يُفِيدُ تَوْكِيدَ مَدْلُولِ أَحَدِهِمَا بِمَدْلُولِ الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ. وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ تَفْسِيرِ الْمُحَقِّقِينَ لِمَعْنَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الرَّحْمَةَ الْقَوِيَّةَ لِمُسْتَحَقِّهَا وَيَرْحَمُ مُطْلَقَ الرَّحْمَةِ مِنْ دُونِ ذَلِكَ.

[سورة البقرة (2) : آية 144]

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَتَقْدِيمُ (رَءُوفٍ) لِيَقَعَ لَفْظُ رَحِيمٍ فَاصِلَةً فَيَكُونُ أَنْسَبَ بِفَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِانْبِنَاءِ فَوَاصِلِهَا عَلَى حَرْفٍ صَحِيحٍ مَمْدُودٍ يَعْقُبُهُ حَرْفٌ صَحِيحٌ سَاكِنٌ وَوَصْفُ رَءُوفٍ مُعْتَمِدٌ سَاكِنُهُ عَلَى الْهَمْزِ وَالْهَمْزُ شَبِيهٌ بِحُرُوفِ الْعِلَّةِ فَالنُّطْقُ بِهِ غَيْرُ تَامِّ التَّمَكُّنِ عَلَى اللِّسَانِ وَحَرْفُ الْفَاءِ لِكَوْنِهِ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا أَشْبَهَ حَرْفَ اللِّينِ فَلَا يَتَمَكَّنُ عَلَيْهِ سُكُونُ الْوَقْفِ. وَتَقْدِيمُ بِالنَّاسِ عَلَى متعلّقه وَهُوَ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِنَايَتِهِ بِهِمْ إِيقَاظًا لَهُمْ لِيَشْكُرُوهُ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (لَرَءُوفٌ) بواو سَاكِنة بعد الْهمزَة وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِدُونِ وَاوٍ مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ بِوَزْنِ عَضُدٍ وَهُوَ لُغَةٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. [144] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَإِفْضَاءٌ لِشَرْعِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] بَعْدَ أَنْ مَهَّدَ اللَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفَانِينِ التَّهْيِئَةِ وَإِعْدَادِ النَّاسِ إِلَى تَرَقُّبِهِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثُمَّ قَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ [الْبَقَرَة: 120] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [الْبَقَرَة: 125] ثُمَّ قَوْلِهِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ. وَ (قَدْ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلتَّحْقِيقِ أَلَا تَرَى أَهْلَ الْمَعَانِي نَظَّرُوا هَلْ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِقَدْ فِي الْخَبَرِ فَقَالُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إِنَّ هَلْ لِطَلَبِ التَّصْدِيقِ فَحَرْفُ قَدْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الْفِعْلِ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّ مَعَ الْأَسْمَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ إِنَّهَا جَوَابٌ لِقَوْمٍ يَنْتَظِرُونَ الْخَبَرَ وَلَوْ أَخْبَرُوهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَهُ لَمْ يَقُلْ قَدْ فَعَلَ كَذَا اهـ. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ بِهِ كَانَ الْخَبَرُ بِهِ مَعَ تَأْكِيدِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ لِدَفْعِ الِاسْتِبْطَاءِ عَنْهُ

وَأَنْ يطمئنه لِأَن النَّبِي كَانَ حَرِيصًا عَلَى حُصُولِهِ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِحُصُولِهِ فَتحصل كنايتان مترتبان. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مَعَ (قَدْ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْمَقْصُودُ تَجَدُّدُ لَازِمِهِ لِيَكُونَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ اللَّازِمِ وَهُوَ الْوَعْدُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى قَدِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُضَارِعِ أَنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ مِثْلَ رُبَّمَا يَفْعَلُ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كأنّ أثوابه مبحّت بِفِرْصَادِ (¬1) وَسَتَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الْأَنْعَام: 33] فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالتَّقَلُّبُ مُطَاوِعُ قَلَّبَهُ إِذَا حَوَّلَهُ وَهُوَ مِثْلُ قَلَبَهُ بِالتَّخْفِيفِ، فَالْمُرَادُ بِتَقْلِيبِ الْوَجْهِ الِالْتِفَاتُ بِهِ أَي تحويله عَن جِهَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَهُوَ هُنَا تَرْدِيدُهُ فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ أَخَذُوا مِنَ الْعُدُولِ إِلَى صِيغَة التفعيل الدّلَالَة عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِمَا فِي هَذَا التَّحْوِيلِ مِنَ التَّرَقُّبِ وَالشِّدَّةِ فَالتَّفْعِيلُ لِقُوَّةِ الْكَيْفِيَّةِ، قَالُوا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَعُ فِي رَوْعِهِ إِلْهَامًا أَنَّ اللَّهَ سَيُحَوِّلُهُ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُرَدِّدُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ فَقِيلَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ، وَعِنْدِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَقْلِيبُ وَجْهِهِ عِنْدَ تَهَيُّؤِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ يَتَرَقَّبُ جِبْرِيلَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ هَذَا التَّقْلِيبُ. وَالْفَاءُ فِي فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فَاءُ التَّعْقِيبِ لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ بِالصَّرَاحَةِ بَعْدَ التَّمْهِيد لَهَا بِالْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، وَالتَّوْلِيَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] ، فَمَعْنَى فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً لَنُوَجِّهَنَّكَ إِلَى قِبْلَةٍ تَرْضَاهَا. فَانْتَصَبَ قِبْلَةً عَلَى التَّوَسُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَأَصْلُهُ لَنُوَلِّيَنَّكَ مِنْ قِبْلَةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ تَوْلِيَةَ وَجْهِهِ لِلْكَعْبَةِ سَيَحْصُلُ عَقِبَ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذَا وَعْدٌ اشْتَمَلَ عَلَى أَدَاتَيْ تَأْكِيدٍ وَأَدَاةِ تَعْقِيبٍ وَذَلِكَ غَايَةُ اللُّطْفِ وَالْإِحْسَان. وَعبر بترضاها لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَيْلَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ مَيْلٌ لِقَصْدِ الْخَيْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَجْدَرُ بُيُوتِ اللَّهِ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ¬

(¬1) الْبَيْت فِي «شرح شَوَاهِد الْمُغنِي» (169) للهذلي، وَقيل: لِعبيد بن الأبرص. هَذَا وَلَيْسَ فِي «أشعار الهذليين» هَذَا الْبَيْت وَانْظُر «اللِّسَان» (قدد) قَالَ ابْن بري: الْبَيْت لِعبيد بن اَوْ برص، وَالشَّاهِد أَيْضا فِي «الصِّحَاح» ، وَهُوَ فِي «ديوَان عبيد» (64) .

وَلِأَنَّ فِي اسْتِقْبَالِهَا إِيمَاءً إِلَى اسْتِقْلَالِ هَذَا الدِّينِ عَنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا كَانَ الرِّضَى مُشْعِرًا بِالْمَحَبَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَعَقُّلٍ اخْتِيرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ تُحِبُّهَا أَوْ تَهْوَاهَا أَوْ نَحْوِهِمَا فَإِنَّ مَقَامَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْبُو عَنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَيْلُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ الْعَارِضَةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِي جَانِبِ قِبْلَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ جَاءَ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعْدِ وَتَعْجِيلٌ بِهِ وَالْمعْنَى فول وَجْهَكَ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَرِينَةِ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُجَادَلَةِ مَعَ السُّفَهَاءِ فِي شَأْنِ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ. وَالْخُطَّابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ إِرْضَاءِ رَغْبَتِهِ، وَسَيَعْقُبُهُ بِتَشْرِيكِ الْأُمَّةِ مَعَهُ فِي الْأَمر بقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. وَالشَّطْرُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْجِهَةُ وَالنَّاحِيَةُ وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِتِلْقَاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَفَسَّرَ الْجُبَّائِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ الشَّطْرَ هُنَا بِأَنَّهُ وَسَطُ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ عَلَى نِصْفِ الشَّيْءِ فَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ مَكَانٌ اقْتَضَى أَنَّ نِصْفَهُ عِبَارَةٌ عَنْ نِصْفِ مِقْدَارِهِ وَمِسَاحَتِهِ وَذَلِكَ وَسَطُهُ، وَجَعَلَا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كِنَايَةً عَنِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي نِصْفِ مِسَاحَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ (أَيْ تَقْرِيبًا) قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذكرنَا وَجْهَان أَحدهمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ وَقَفَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، الثَّانِي لَوْ لَمْ نُفَسِّرِ الشَّطْرَ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الشَّطْرِ فَائِدَةٌ إِذْ يُغْنِي أَنْ يَقُولَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَلَكَانَ الْوَاجِبُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا إِلَى خُصُوصِ الْكَعْبَةِ. فَإِنْ قُلْتَ مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قَبْلَ قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ وهلا قَالَ: فِي السَّمَاءِ فَوَلِّ وَجْهَكَ إِلَخْ، قُلْتُ فَائِدَتُهُ إِظْهَارُ الِاهْتِمَامِ بِرَغْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا بِحَيْثُ يُعْتَنَى بِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْقِبْلَةِ بِجُمْلَةِ تَرْضاها. وَمَعْنَى (نُوَلِّيَنَّكَ) نُوَجِّهَنَّكَ، وَفِي التَّوْجِيهِ قُرْبٌ مَعْنَوِيٌّ لِأَنَّ وَلَّى الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الْقُرْبِ الْحَقِيقِيِّ فَهُوَ بِمَعْنَى الِارْتِبَاطِ بِهِ، وَمِنْهُ الْوَلَاءُ وَالْوَلِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ مِنْ قَبِيلِ الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرُ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى كَذَا ثُمَّ يُعَدُّونَهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَالِثٍ بِحَرْفِ عَنْ

فَيَقُولُونَ وَلَّى عَنْ كَذَا وَيُنْزِلُونَهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَفْعُولَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيُقَدِّرُونَ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى جِهَةِ كَذَا مُنْصَرِفًا عَنْ كَذَا أَيِ الَّذِي كَانَ يَلِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَبِاخْتِلَافِ هَاتِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ تَخْتَلِفُ الْمَعَانِي كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْقِبْلَةُ هُنَا اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ الْمُصَلِّي وَهُوَ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْهَيْئَةِ وَإِمَّا مِنَ اسْمِ الْمَفْعُولِ (¬1) كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَسْجِد الْحَرَامِ الْمَسْجِدُ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَرَامُ الْمَجْعُولُ وَصْفًا لِلْمَسْجِدِ هُوَ الْمَمْنُوعُ. أَيِ الْمَمْنُوعُ مَنْعَ تَعْظِيمٍ وَحُرْمَةٍ فَإِنَّ مَادَّةَ التَّحْرِيمِ تُؤْذِنُ بِتَجَنُّبِ الشَّيْءِ فَيُفْهَمُ التَّجَنُّبُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَقَدِ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَصْفُ مَكَّةَ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ أَيِ الْمَمْنُوع عَن الْجَبَابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ وَالْمُعْتَدِينَ وَوُصِفَ بِالْمُحَرَّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إِبْرَاهِيم: 37] ، أَيِ الْمُعَظَّمِ الْمُحْتَرَمِ وَسُمِّيَ الْحَرَمَ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [الْقَصَص: 57] فَوَصْفُ الْكَعْبَةِ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَحَرَمِ مَكَّةَ بِالْحَرَمِ أَوْصَافٌ قَدِيمَةٌ شَائِعَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَأَمَّا اسْمُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ مِنَ الْأَلْقَابِ الْقُرْآنِيَّةِ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حَرِيمِ الْكَعْبَةِ الْمُحِيطِ بِهَا وَهُوَ مَحَلُّ الطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ بِالْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ صَلَاةٌ ذَاتُ سُجُودٍ وَالْمَسْجِدُ مَكَانُ السُّجُودِ فَاسْمُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْمِسَاحَةِ الْمَحْصُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْكَعْبَةِ وَلَهَا أَبْوَابٌ مِنْهَا بَابُ الصَّفَا وَبَابُ بَنِي شَيْبَةَ وَلَمَّا أُطْلِقَ هَذَا الْعَلَمُ عَلَى مَا أَحَاطَ بِالْكَعْبَةِ لَمْ يَتَرَدَّدِ النَّاسُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُنَا الْكَعْبَةُ لِاسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِأَنَّ الْقِبْلَةَ صُرِفَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ وَأَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَقَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ «وَذَكَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الْبَيْتِ (¬2) بِمَا يُجَاوِرُهُ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ الْفَخْرُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَقُولُ لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ فِي كُتُبِ مَذْهَبِهِ. وَانْتَصَبَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَلِّ وَلَيْسَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. ¬

(¬1) وَهُوَ الَّذِي اسْتَظْهرهُ المُصَنّف. انْظُر شرح الْآيَة مَا قبل السَّابِقَة. (¬2) فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» لِابْنِ الْعَرَبِيّ (الشَّيْء) (1/ 43) ، دَار الْمعرفَة.

وَقَوْلُهُ: وَحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْمِيمِ حُكْمِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِعُمُومِ ضَمِيرَيْ كُنْتُمْ ووُجُوهَكُمْ لِوُقُوعِهِمَا فِي سِيَاقِ عُمُومِ الشَّرْطِ بِحَيْثُمَا وَحِينَمَا لِتَعْمِيمِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ خطاب للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَضَى الْحَالُ تَخْصِيصَهُ بِالْخِطَابِ بِهِ لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ لِيَكُونَ تَبْشِيرًا لَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَعُمَّ الرَّسُولَ وَأَمَتَّهُ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا، وَلَمَّا خِيفَ إِيهَامُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ خَاصًّا بِهِ أَوْ أَنْ تُجْزِئَ فِيهِ الْمَرَّةُ أَوْ بَعْضُ الْجِهَاتِ كَالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ أُرِيدَ التَّعْمِيمُ فِي الْمُكَلَّفِينَ وَفِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ لَكِنْ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ وَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فَزِيدَ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ الْأَمْكِنَةِ تَصْرِيحًا وَتَأْكِيدًا لِدَلَالَةِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِضَافَةِ شَطْرَ إِلَى ضَمِيرِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لِأَنَّ شَطْرَ نَكِرَةٌ أَشْبَهَتِ الْجَمْعَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ فَكَانَتْ إِضَافَتُهَا كَإِضَافَةِ الْجُمُوعِ، وَتَأْكِيدًا لِدَلَالَةِ الْأَمْرِ التَّشْرِيعِيِّ عَلَى التَّكْرَارِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ هَذَا الْحُكْمِ فَكَأَنَّهُ أُفِيدَ مَرَّتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ وَأَحْوَالِهِمْ أُولَاهُمَا إِجْمَالِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ تَفْصِيلِيَّةٌ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ هَذَا الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ الْعِبَادَةُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِمِقْدَارِ اسْتِحْضَارِ الْمَعْبُودِ يَقْوَى الْخُضُوعُ لَهُ فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي إِخْلَاصِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَذَلِكَ مِلَاكُ الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، وَلَمَّا تَنَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْحِسُّ تَعَيَّنَ لِمُحَاوِلِ اسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مُذَكِّرًا بِهِ مِنْ شَيْءٍ لَهُ انْتِسَابٌ خَاصٌّ إِلَيْهِ، قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةً عَقْلِيَّةً مُدْرِكَةً لِلْمُجَرَّدَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ، وَقُوَّةً خَيَالِيَّةً مُتَصَرِّفَةً فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَقَلَّمَا تَنْفَكُّ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَنْ مُقَارَنَةِ الْقُوَّةِ الْخَيَالِيَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ اسْتِحْضَارَ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ مُجَرَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضَعَ لَهُ صُورَةً خَيَالِيَّةً يُحِسُّهَا حَتَّى تَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ الْخَيَالِيَّةُ مُعِينَةً عَلَى إِدْرَاكِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَجْلِسِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِوَجْهِهِ وَيُبَالِغَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَفِي الْخِدْمَةِ لَهُ، فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ يَجْرِي مَجْرَى كَوْنِهِ مُسْتَقْبِلًا لِلْمَلِكِ، وَالْقُرْآنُ وَالتَّسْبِيحَاتُ تَجْرِي مَجْرَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ) اهـ.

فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِحْضَارُ الذَّاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحِسِّ فَاسْتِحْضَارُهَا يَكُونُ بِشَيْءٍ لَهُ انْتِسَابٌ إِلَيْهَا مُبَاشَرَةً كَالدِّيَارِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ كَالْبَرْقِ وَالنَّسِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِالشَّبَهِ كَالْغَزَالِ عِنْدَ الْمُحِبِّينَ، وَقَدِيمًا مَا اسْتَهْتَرَتِ الشُّعَرَاءُ بِآثَارِ الْأَحِبَّةِ كَالْأَطْلَالِ فِي قَوْلِهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ وَأَقْوَالِهِمْ فِي الْبَرْقِ وَالرِّيحِ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وِدِّي وَجِيرَتِي ... بِذِي الطَّيِّسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْحِسُّ فَوَسِيلَةُ اسْتِحْضَارِ ذَاتِهِ هِيَ اسْتِحْضَارُ مَا فِيهِ مَزِيدُ دَلَالَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى. لَا جَرَمَ أَنَّ أَوْلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنْ يُجْعَلَ وَسِيلَةً لِاسْتِحْضَارِ الْخَالِقِ فِي نَفْسِ عَبْدِهِ هِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي كَانَ وُجُودُهَا لِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنْ كُلِّ مَا يُوهِمُ أَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالْعِبَادَةِ وَتِلْكَ هِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَرَّدَهَا مِنْ أَنْ يَضَعَ فِيهَا شَيْئًا يُوهِمُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَمْ يُسَمِّهَا بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَنَى الْكَعْبَةَ أَوَّلَ بَيْتٍ، وَبَنَى مَسْجِدًا فِي مَكَانِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَبَنَى مَسَاجِدَ أُخْرَى وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي التَّوْرَاةِ بِعُنْوَانِ مَذَابِحَ، فَقَدْ بنت الصابئة وَأهل الشّرك بَعْدَ نُوحٍ هَيَاكِلَ لِتَمْجِيدِ الْأَوْثَانِ وَتَهْوِيلِ شَأْنِهَا فِي النُّفُوسِ فَأَضَافُوهَا إِلَى أَسْمَاءِ أُنَاسٍ مِثْلِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ، أَوْ إِلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَذَكَرَ الْمَسْعُودِيُّ فِي «مُرُوجِ الذَّهَبِ» عِدَّةً مِنَ الْهَيَاكِلِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ لِهَذَا الشَّأْنِ وَمِنْهَا هَيْكَلُ سَنْدُوسَابَ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَهَيْكَلُ مَصْلِينَا فِي جِهَة الرقة بناه الصَّابِئَةُ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مِنْ سَدَنَتِهِ، وَقِيلَ أَنَّ عَادًا بَنَوْا هَيَاكِلَ مِنْهَا جِلِّقُ هَيْكَلُ بِلَادِ الشَّامِ. فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي أُقِيمَتْ لِمُنَاقِضَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ كَانَ مِنَ اسْتِحْضَارِ الْخَالِقِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ إِضَافَةً إِلَيْهِ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى كَثْرَتِهَا لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ مِنْ إِقَامَتِهَا، وَبِكَوْنِ إِقَامَتِهَا لِذَلِكَ وَبِأَسْبَقِيَّةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي هَذَا الْغَرَضِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي ثَلَاثَةً فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَسْبَقِيَّةُ لِأَنَّ السَّابِقَ مِنْهَا قَدِ امْتَازَ عَلَى اللَّاحِقِ بِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي دَلَّ مُؤَسِّسُ ذَلِكَ اللَّاحِقِ عَلَى تَأْسِيسِهِ قَالَ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: 108] ، وَقَالَ

فِي ذِكْرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، أَيْ لِأَنَّهُ أُسِّسَ بِنِيَّةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمرَان: 96] فَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ فَالْبُيُوتُ الَّتِي أُقِيمَتْ بَعْدَهُ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ آثَارِ اهْتِدَاءٍ اهْتَدَاهُ بَانُوهَا بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ هَيْكَلٍ أُقِيمُ لِلْعِبَادَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوَّلَ هَيْكَلٍ أُقِيمُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ وَإِعْلَانِ ذَلِكَ وَإِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ هُوَ الْكَعْبَةُ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ أَوَّلُ مَنْ حَاجَّ الْوَثَنِيِّينَ بِالْأَدِلَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ قَاوَمَ الْوَثَنِيَّةَ بِقُوَّةِ يَدِهِ فَجَعَلَ الْأَوْثَانَ جِذَاذًا، ثُمَّ أَقَامَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ ذَلِكَ الْهَيْكَلَ الْعَظِيمَ لِيَعْلَمَ كُلُّ أَحَدٍ يَأْتِي أَنَّ سَبَبَ بِنَائِهِ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَدْ مَضَتْ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ الْعُصُورُ فَصَارَتْ رُؤْيَتُهُ مُذَكِّرَةً بِاللَّهِ تَعَالَى، فَفِيهِ مَزِيَّةُ الْأَوَّلِيَّةِ، ثُمَّ فِيهِ مَزِيَّةُ مُبَاشَرَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَاءَهُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ دُونَ مَعُونَةِ أَحَدٍ، فَهُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَعْرَقُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى الرِّسَالَةِ مَعًا وَهُمَا قُطْبَا إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ. ثُمَّ سُنَّ الْحَجُّ إِلَيْهِ لِتَجْدِيدِ هَذِهِ الذِّكْرَى وَلِتَعْمِيمِهَا فِي الْأُمَمِ الْأُخْرَى، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى الْمَوْجُودَاتِ بِالِاسْتِقْبَالِ لِمَنْ يُرِيدُ اسْتِحْضَارَ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ الْحَقَّةِ وَمَا بُنِيَتْ بُيُوتُ اللَّهِ مِثْلُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَّا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ طَوِيلَةٍ، فَكَانَ هُوَ قِبْلَةَ الْمُسْلِمِينَ. قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّ شَرْطَ اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بُنِيَ بَعْدَ مُوسَى بِمَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَغَايَةُ مَا كَانَ مِنَ اسْتِقْبَالِهِ بَعْدَ دَعْوَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ اسْتِقْبَالٌ لِأَجْلِ تَحَقُّقِ قَبُولِ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا، ثُمَّ إِنِ اخْتِيَارَ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ كَانَ دَعْوَةً فَهِيَ دَعْوَةُ نَبِيءٍ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ إِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ فَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ تَعْمِيرَ الْبَلَدِ الْمُقَدَّسِ كَمَا وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ وَوَعَدَ مُوسَى فَأَرَادَ زِيَادَةَ تَغَلْغُلِ قُلُوبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فِي التَّعَلُّقِ بِهِ فَبَيَّنَ لَهُمُ اسْتِقْبَالَ الْهَيْكَلِ الْإِيمَانِيَّ الَّذِي أَقَامَهُ فِيهِ نَبِيُّهُ سُلَيْمَانُ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْبَدُ مِمَّا يَدْعُو نُفُوسَهُمْ إِلَى الْحِرْصِ عَلَى بَقَاءِ الْأَقْطَارِ بِأَيْدِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَعَ اللَّهُ لَهُمُ الِاسْتِقْبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ سُلَيْمَانَ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِزِيَادَةٍ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَإِنَّمَا أَتَوا معززين فتشريعه اللَّهِ تَعَالَى

اسْتِقْبَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ تَكْمِيلٌ لِمَعْنَى الْخُشُوعِ فِي صَلَاةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ الَّتِي ادَّخَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ لِتَكُونَ تَكْمِلَةُ الدِّينِ تَشْرِيفًا لِصَاحِبِهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ إِنْ كَانَ الِاحْتِمَال الأول، فَإِن كَانَ الثَّانِي فَالْأَمْرُ لَنَا بِالِاسْتِقْبَالِ لِئَلَّا تَكُونَ صَلَاتُنَا أَضْعَفَ اسْتِحْضَارًا لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ غَيْرِنَا. وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَانَ مُقَارِنًا لِمَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ اسْتِقْبَالُهُ جِهَةَ الْكَعْبَةِ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعِلَّتُهُ أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي عَظَّمَهُ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ وَالَّذِي لَمْ يُدَاخِلْهُ إِشْرَاكٌ وَلَا نُصِبَتْ فِيهِ أَصْنَامٌ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ دَلِيلٍ لِاسْتِقْبَالِ جِهَتِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ اسْتِحْضَارَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ تَأْلِيفُ قُلُوبِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَلِيَظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَقًّا وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ نِفَاقًا لِأَنَّ الْأَخِيرَيْنِ قَدْ يَتَّبِعُونَ الْإِسْلَامَ ظَاهِرًا وَيَسْتَقْبِلُونَ فِي صَلَاتِهِمْ قِبْلَتَهُمُ الْقَدِيمَةَ فَلَا يَرَوْنَ حَرَجًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْقِبْلَةُ خَافُوا مِنْ قَصْدِهِمْ لِاسْتِدْبَارِهَا فَأَظْهَرُوا مَا كَانُوا مستبطينه مِنَ الْكُفْرِ كَمَا أَشَارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [الْبَقَرَة: 142] الْآيَةَ. وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ لِخَضْدِ شَوْكَةِ مُكَابَرَةِ قُرَيْشٍ وَطَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ مَكَّةَ لَشَمَخُوا بِأُنُوفِهِمْ وَقَالُوا هَذَا بَلَدُنَا وَنَحْنُ أَهْلُهُ وَاسْتِقْبَالُهُ حَنِينٌ إِلَيْهِ وَنَدَامَةٌ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 114] وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: 115] إِيمَاءٌ إِلَيْهِ كَمَا قدمْنَاهُ، وَعَلَيْهِ فَفِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَمْرَ قُرَيْشٍ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الزَّوَالِ وَأَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ سَتَكُونُ الْفَيْصَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَإِلَى جِهَتِهِ لِلْبَعِيدِ عَنْهُ. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) . اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَجُمْلَةِ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ [الْبَقَرَة: 149] الْآيَةَ.

وَالْأَظْهَرُ أَن المُرَاد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَأَحْبَارُ النَّصَارَى كَمَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِصِلَةِ: أُوتُوا الْكِتابَ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَبَ الْبِشَارَةِ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ. وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا أَن المُرَاد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى الْكفْر ليظْهر موقع قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ، يَقْتَضِي أَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ إِذْ أَنْكَرُوا اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ لِاعْتِقَادِهِمْ بُطْلَانَهُ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّونَهُمْ مُعْتَقِدِينَ ذَلِكَ، وَلِيَظْهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِي هُوَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ. وَقَدْ دَلَّ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ الْحَقُّ عَلَى الْقَصْرِ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لِلْكَعْبَةِ هُوَ الْحَقُّ دُونَ غَيْرِهِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ بِنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ قِبْلَتَهُمْ سَتَبْطُلُ وَلَعَلَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِنْذَارَاتِ أَنْبِيَائِهِمْ مِثْلِ أَرْمِيَا وَأَشْعِيَا الْمُنَادِيَةِ بِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّ اسْتِقْبَالَهُ يَصِيرُ اسْتِقْبَالَ الشَّيْءِ الْمَعْدُومِ. وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالضَّمِيرُ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ أَيْ عَنْ عَمَلِهِمْ بِغَيْرِ مَا عَلِمُوا فَالْمُرَادُ بِمَا يَعْمَلُونَ هَذَا الْعَمَلَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَالسَّفَهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَعِيدِ بِجَزَائِهِمْ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَادِرِ مَا أَنَا بِغَافِلٍ عَن المجرم تَحْقِيق لِعِقَابِهِ إِذْ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْقَادِرِ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ إِلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ كَانَ وَعِيدًا لَهُمْ وَوَعِيدُهُمْ يَسْتَلْزِمُ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ وَعْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَتَهُمْ فَإِنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا جَرَمَ أَنْ سَيَلْزَمُ جَزَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْتِثَالِ تَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ الَّذِي لَا يَغْفُلُ عَنْ عَمَلِ أُولَئِكَ لَا يَغْفُلُ عَنْ عَمَلِ هَؤُلَاءِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَن وعد للْمُسلمين عَلَى الِامْتِثَالِ لِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ.

[سورة البقرة (2) : آية 145]

وَيَسْتَلْزِمُ وَعِيدًا لِلْكَافِرِينَ عَلَى عَكْسِ مَا تَقْتَضِيهِ الْقِرَاءَةُ السَّابِقَةُ وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَهُوَ تَذْيِيلٌ إِجْمَالِيٌّ لِيَأْخُذَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنْهُ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا وَجُمْلَةِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: 145] الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: لَيَعْلَمُونَ وَقَوْلِهِ: عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْبَقَرَة: 96] الْجِنَاسُ التَّامُّ الْمُحَرَّفُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالْجِنَاسُ النَّاقِصُ الْمُضَارِعُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ. [145] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) وَلَئِنْ أَتَيْتَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 144] ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّهُمْ يعلمُونَ وَلَا يعْملُونَ فَلَمَّا أُفِيدَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي إِفَادَتِهِ التَّعْرِيضَ بِأَنَّهُمْ مُكَابِرُونَ نَاسَبَتْ أَنْ يُحَقِّقَ نَفْيُ الطَّمَعِ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْقِبْلَةَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَطْمَعَ السَّامِعُ بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَحَقِّيَّتَهَا، فَلِذَا أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ اتِّبَاعِهِمْ بِالْقَسَمِ وَاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ، وَبِالتَّعْلِيقِ عَلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ عَادَة. وَالْمرَاد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ أَحْبَارُهُمْ يَكُونُ قُدْوَةً لِعَامَّتِهِمْ فَإِذَا لَمْ يَتَّبِعْ أَحْبَارُهُمْ قِبْلَةَ الْإِسْلَامِ فَأَجْدَرُ بِعَامَّتِهِمْ أَنْ لَا يَتِّبِعُوهَا. وَوَجْهُ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامَ الْإِضْمَارِ هُنَا الْإِعْلَانُ بِمَذَمَّتِهِمْ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صَرِيحَةً فِي تَنَاوُلِهِمْ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَوْقِعِ الْإِضْمَارِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْعِنَايَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الذِّهْنِ. وَالْمُرَادُ بِكُلِّ آيَةٍ آيَاتٌ مُتَكَاثِرَةٌ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ هُوَ قِبْلَةُ الْحَنِيفِيَّةِ. وَإِطْلَاقُ لَفْظِ (كُلِّ) عَلَى الْكَثْرَةِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ ... بِكُلِّ مُغَارِ الْفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ وَأَصْلُهُ مَجَازٌ لِجَعْلِ الْكَثِيرِ مِنْ أَفْرَادِ شَيْءٍ مُشَابِهًا لِمَجْمُوعِ عُمُومِ أَفْرَادِهِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَصَارَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي كُلِّ لَا يَحْتَاجُ اسْتِعْمَاله إِلَى قرينَة وَلَا إِلَى اعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ بِعُمُومِ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ حَتَّى إِنَّهُ يَرِدُ فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ عُمُومُ أَفْرَادٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ هُنَا بِكُلِّ آيَةٍ فَإِنَّ الْآيَاتِ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا عَدَدٌ يُحَاطُ بِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النَّحْل: 69] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 96] وَقَالَ النَّابِغَةُ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ وَتَكَرَّرَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ سَحًّا وَتَسْكَابًا فَكُلُّ عَشِيَّةٍ ... يَجْرِي إِلَيْهَا الْمَاءُ لَمْ يَتَصَرَّمِ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» قَالَ فِي مَادَّةِ كُلِّ «وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُ كُلِّ بِمَعْنَى بَعْضِ ضِدٌّ» فَأَثْبَتَ الْخُرُوجَ عَنْ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَلَكِنَّهُ جَازَفَ فِي قَوْلِهِ «بِمَعْنَى بَعْضِ» وَكَانَ الْأَصْوَبُ أَنْ يَقُولَ بِمَعْنَى كَثِيرٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ أَحَقِّيَّةُ الْكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبَالِ لَيْسَ عَنْ شُبْهَةٍ حَتَّى تُزِيلَهُ الْحُجَّةُ وَلَكِنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ فَلَا جَدْوَى فِي إِطْنَابِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ. وَإِضَافَةُ قِبْلَةٍ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِهِ لِكَوْنِهَا قِبْلَةَ شَرْعِهِ، وَلِأَنَّهُ سَأَلَهَا بِلِسَانِ الْحَالِ. وَإِفْرَادُ الْقِبْلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمَا قِبْلَتَيْنِ، إِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَأَكْثَرُ مِنْ قِبْلَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَكَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي اسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ، فَإِفْرَادُ لَفْظِ (قِبْلَتِهِمْ) عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَ قِبْلَةَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ غَيْرَ مُتَّبِعٍ قِبْلَةَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إِظْهَارُ مُكَابَرَتِهِمْ تَأْيِيسًا مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ تَنْزِيهُ النَّبِيءِ وَتَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْيَأْسِ من رُجُوع الْمُؤمنِينَ إِلَى

اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ بِأَنَّ هَذَا دَأْبُهُمْ وَشِنْشِنَتُهُمْ مِنَ الْخِلَافِ فَقَدِيمًا خَالَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي قِبْلَتِهِمْ حَتَّى خَالَفَتِ النَّصَارَى قِبْلَةَ الْيَهُودِ مَعَ أَنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ هِيَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ. وَجُمْلَةُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْعَطْفِ بعد الْإِخْبَار بِأَنَّهُ لَا يُتَّبَعُ قِبْلَتُهُمْ زِيَادَةُ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِي ذَلِكَ بِحَيْثُ يُفْرَضُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوِ اتَّبَعَ أَهْوَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْموقع لإن لِأَنَّ لَهَا مَوَاقِعَ الشَّكِّ وَالْفَرْضُ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْعِلْمِ بَيَان لما جَاءَك أَي من بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ وَالَّذِي هُوَ الْعِلْمُ فَجَعَلَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ هُوَ الْعِلْمَ كُلَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ. وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى وَهُوَ الْحُبُّ الْبَلِيغُ بِحَيْثُ يَقْتَضِي طَلَبَ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ وَلَوْ بِحُصُولِ ضُرٍّ لِمُحَصِّلِهِ، فَلِذَلِكَ غَلَبَ إِطْلَاقُ الْهَوَى عَلَى حُبٍّ لَا يَقْتَضِيهِ الرُّشْدُ وَلَا الْعَقْلُ وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعِشْقِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْهَوَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَقِيدَةِ الضَّلَالِ وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْعَقَائِدِ الْمُنْحَرِفَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ. وَقَدْ بُولِغَ فِي هَذَا التَّحْذِيرِ بِاشْتِمَالِ مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ عَلَى عِدَّةِ مُؤَكِّدَاتٍ أَوْمَأَ إِلَيْهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَفَصَّلَهَا صَاحِبُ «الْكَشْفِ» إِلَى عَشْرَةٍ وَهِيَ: الْقَسَمُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ، وَاللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ الْقَسَمَ تَأْكِيدًا، وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ فِي خَبَرِهَا، وَاسْمِيَّةُ الْجُمْلَةِ، وَجَعْلُ حَرْفِ الشَّرْطِ الْحَرْفَ الدَّالَّ عَلَى الشَّكِّ وَهُوَ (إِنِ) الْمُقْتَضِي إِنَّ أَقَلَّ جُزْءٍ مِنَ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ كَافٍ فِي الظُّلْمِ، وَالْإِتْيَانُ بِإِذَنِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَزَائِيَّةِ فَإِنَّهَا أَكَّدَتْ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، وَالْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِهِ: مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ وَالِاهْتِمَامُ بِالْوَازِعِ يَؤُولُ إِلَى تَحْقِيقِ الْعِقَابِ عَلَى الِارْتِكَابِ لِانْقِطَاعِ الْعُذْرِ، وَجَعْلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ هُوَ نَفْسَ الْعِلْمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمِينَ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمَعْهُودِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِينَ هُوَ لَهُمْ سَجِيَّةٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ مَا يَؤُولُ إِلَى تَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ أَوْ تَحْقِيقِ سَبَبِهِ

أَوْ تَحْقِيقِ حُصُولِ الْجَزَاءِ أَوْ تَهْوِيلِ بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لِأَجْلِهِ الشَّرْطُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْعِلْمِ هُنَا عَنِ الْوَحْيِ وَالْيَقِينِ الْإِلَهِيِّ إِعْلَانٌ بِتَنْوِيهِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَلَفْتٌ لِعُقُولِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ لِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَقْوَى دلَالَة على الانصاف بِالظُّلْمِ مِنْ إِنَّك لظَالِم كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: 67] . وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلِلظُّلْمِ مَرَاتِبُ دَخَلَتْ كُلُّهَا تَحْتَ هَذَا الْوَصْفِ وَالسَّامِعُ يَعْلَمُ إِرْجَاعَ كُلِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ النَّفْسِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى عَقَائِدِهِمُ الضَّالَّةِ فَيَنْتَهِي ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُلْقِي فِي خَالِدِ الْعَذَابِ. قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ إِنَّ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الْبَقَرَة: 120] فَعَبَّرَ هُنَالِكَ بَاسْمِ الْمَوْصُولِ (الَّذِي) وَعَبَّرَ هَنَا بَاسْمِ الْمَوْصُولِ (مَا) ، وَقَالَ هُنَالِكَ «بَعْدَ» وَقَالَ هُنَا «مِنْ بَعْدِ» ، وَجَعَلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ هُنَالِكَ انْتِفَاءَ وَلِيٍّ وَنَصِيرٍ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ هُنَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ صَاحِبُ «دُرَّةُ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةُ التَّأْوِيلِ» (¬1) وَحَاوَلَ إِبْدَاءَ خُصُوصِيَّاتٍ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْآيَتَانِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَشْفِي، وَالَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ كَلَامُهُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ (الَّذِي) وَ (مَا) وَإِنْ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي أَنَّهُمَا اسْمَا مَوْصُولٍ إِلَّا أَنَّهُمَا الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَرَضِ الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ الْعِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِأَصْلِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَبِبُطْلَانِ مِلَّةِ الْيَهُودِ وَمِلَّةِ النَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ، وَبِإِثْبَاتِ عِنَادِ الْفَرِيقَيْنِ فِي صِحَّةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ [الْبَقَرَة: 116]- إِلَى قَوْلِهِ- قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى [الْبَقَرَة: 120] ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَصْرَحَ الْعِلْمِ وَأَقْدَمَهُ، وَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الصَّرِيحِ فِي التَّعْرِيفِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِبْطَالِ قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِبَيَانِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] وَذَلِكَ تَشْرِيعٌ فَرْعِيٌّ فَالتَّحْذِيرُ الْوَاقِعُ بَعْدَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ اتِّبَاعِ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَمْرِ ¬

(¬1) وَهُوَ الإِمَام فَخر الدَّين الرَّازِيّ المتوفي سنة (606 هـ) . تكلم فِيهِ على الْآيَات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة الَّتِي يقْصد الْمُلْحِدُونَ التطلاق مِنْهَا إِلَى عيبها، وَأجَاب عَنْهَا.

[سورة البقرة (2) : آية 146]

الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَهَمِّيَّةٌ مِثْلُ مَا لِلتَّحْذِيرِ مِنَ اتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ بِأَسْرِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ النَّبِيءَ فِي أَمْرِ قِبْلَتِهِمْ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ مَا لِلْعِلْمِ الَّذِي جَاءَهُ فِي بُطْلَانِ أُصُولِ مِلَّتِهِمْ، فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي تَعْرِيفِهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُلْحَقِ بِالْمَعَارِفِ وَهُوَ (مَا) لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ نُقِلَتْ لِلْمَوْصُولِيَّةِ. وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ (مِنْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى (بَعْدِ) بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَعَتْ بعد الْآيَة الأول فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعِيدُ فَصْلٍ فَكَانَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَهُ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ هُوَ جُزْئِيٌّ مِنْ عُمُومِ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ فِي إِبْطَالِ جَمِيعِ مِلَّتِهِمْ، فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُشَارَ إِلَى كَوْنِهِ جُزْئِيًّا لَهُ بِإِيرَادِ (من) الابتدائية. [146] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 146] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: 145] إِلَخْ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ [الْبَقَرَة: 148] إِلَخِ اعْتِرَاضُ اسْتِطْرَادٍ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَطَاعِنِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِبْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَإِنَّ طَعْنَهُمْ كَانَ عَنْ مُكَابَرَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْقِبْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ حَقٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 144] ، فَاسْتَطْرَدَ بِأَنَّ طَعْنَهُمْ فِي الْقِبْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ مَجْمُوعِ طَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاسْتِطْرَادِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [الْبَقَرَة: 148] ، فَقَدْ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ. فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَعْرِفُونَهُ لَا يَعُودُ إِلَى تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَارَتِ الْجُمْلَةُ تَكْرِيرًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِمَّا إِلَى الرَّسُولِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِمُعَادٍ مُنَاسِبٍ لِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، لَكِنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَكَرَّرَ خِطَابُهُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [الْبَقَرَة: 143] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [الْبَقَرَة: 144] ، وَقَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً [الْبَقَرَة: 144] ، وَقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ [الْبَقَرَة: 144] فَالْإِتْيَانُ بِالضَّمِيرِ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ مِنَ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَقَّ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ فَيَشْمَلُ

رِسَالَةَ الرَّسُولِ وَجَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا إِلَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [الْبَقَرَة: 145] . وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ تَشْبِيهٌ فِي جَلَاءِ الْمَعْرِفَةِ وَتَحَقُّقِهَا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمَرْءِ بِعَلَائِقِهِ مَعْرِفَةٌ لَا تَقْبَلُ اللَّبْسَ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ تَشْبِيهًا لِشِدَّةِ الْقُرْبِ الْبَيِّنِ. وَخَصَّ الْأَبْنَاءَ لِشِدَّةٍ تَعَلُّقِ الْآبَاءِ بِهِمْ فَيَكُونُ التَّمَلِّي مِنْ رُؤْيَتِهِمْ كَثِيرًا فَتَتَمَكَّنُ مَعْرِفَتُهُمْ فَمَعْرِفَةُ هَذَا الْحَقِّ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ يَعْلَمُونَهُ إِلَى يَعْرِفُونَهُ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَعَلَّقُ غَالِبًا بِالذَّوَاتِ وَالْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ قَالَ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] وَقَالَ زُهَيْرٌ: فَلَأْيًا عَرَفَتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ وَتَقُولُ عَرَفْتُ فُلَانًا وَلَا تَقُولُ عَرَفْتُ عِلْمَ فُلَانٍ، إِلَّا إِذَا أَرَدْتَ أَنَّ عِلْمَهُ صَارَ كَالْمُشَاهَدِ عِنْدَكَ، وَلِهَذَا لَا يُعَدَّى فِعْلُ الْعِرْفَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا تُعَدَّى أَفْعَالُ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ، وَلِهَذَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِفَةِ الْعِلْمِ فَيُقَالُ الْعَلِيمُ، وَلَا يُوصَفُ بِصِفَةِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يُقَالُ اللَّهُ يَعْرِفُ كَذَا، فَالْمَعْنى يعْرفُونَ الصِّفَات الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَامَاتِهِ الْمَذْكُورَةَ فِي كُتُبِهِمْ، وَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ. وَالْمُرَادُ بُقُولِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِذَلِكَ عُرِّفُوا بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيْ عَلِمُوا عِلْمَ التَّوْرَاةِ وَعِلْمَ الْإِنْجِيلِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِالْعِنَادِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَمٌّ لَهُم بِأَنَّهُم يكتموددن الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَهَؤُلَاءِ مُعْظَمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ قَبْلَ ابْنِ صُورِيَّا وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَبَقِيَ فَرِيقٌ آخَرُ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيُعْلِنُونَ بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ آمنُوا بالنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمِنَ النَّصَارَى مِثْلُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَصُهَيْبٍ. أَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكْتُمُوهُ فَلَا يُعْبَأُ بِهِمْ فِي هَذَا الْمُقَامِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَلَا يَشْمَلُهُمْ قَوْلُهُ: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ.

[سورة البقرة (2) : آية 147]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 147] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [الْبَقَرَة: 146] ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا الْحَقُّ، وَحَذْفُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا جَرَى عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بَعْدَ جَرَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الدِّيَارِ «رَبْعٌ قَوَاءٌ» وَبَعْدَ ذِكْرِ الْمَمْدُوحِ «فَتًى» وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» . وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نَهَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] وَقَوْلِهِمُ الْكَرَمُ فِي الْعَرَبِ هَذَا التَّعْرِيفُ لِجُزْئَيِ الْجُمْلَةِ الظَّاهِرِ وَالْمُقَدَّرِ يُفِيدُ قَصْرَ الْحَقِيقَةِ عَلَى الَّذِي يَكْتُمُونَهُ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ أَيْ لَا مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِظْهَارُ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ. وَالِامْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرَاءِ وَهُوَ الشَّكُّ، وَالِافْتِعَالُ فِيهِ لَيْسَ لِلْمُطَاوَعَةِ وَمَصْدَرُ الْمِرْيَةِ لَا يُعْرِفُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ دَائِمًا بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ. وَالْمَقْصُودُ من خطاب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ [الْبَقَرَة: 120] ، وَقَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ تَحْذِيرُ الْأُمَّةِ وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ تَحْذِيرٍ مُهِمٍّ لِيَكُونَ خِطَابُ النَّبِيءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلَاهُمْ بِكَرَامَتِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَّةِ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ النَّجَاةِ بَابٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ وَقَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ من يصلح هَا الْخطاب. [148] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الْبَقَرَة: 146] ، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الْبَقَرَة: 145] مَعَ اعْتِبَارِ مَا اسْتُؤْنِفَ عَنْهُ مِنَ الْجُمَلِ، ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ لقّن الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا يُجِيبُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ فَضِيلَةَ قِبْلَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَيْأَسَهُمْ مِنْ تَرَقُّبِ اعْتِرَافِ الْيَهُودِ بِصِحَّةِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، ذُيِّلَ ذَلِكَ

بِهَذَا التَّذْيِيلِ الْجَامِعِ لِمَعَانٍ سَامِيَةٍ، طَيًّا لِبِسَاطِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْيَهُودِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ «دَعْ هَذَا» أَوْ «عُدْ عَنْ هَذَا» ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ اتِّجَاهًا مِنَ الْفَهْمِ وَالْخَشْيَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَيِ اتْرُكُوا مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُهِمَّنَّكُمْ خِلَافُهُمْ فَإِنَّ خِلَافَ الْمُخَالِفِ لَا يُنَاكِدُ حَقَّ الْمُحِقِّ. وَفِيهِ صَرْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَهْتَمُّوا بِالْمَقَاصِدِ وَيَعْتَنُوا بِإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: 177] الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ أعقبه بقوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ، فَقَوله: يْنَ مَا تَكُونُوا فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ. فَهَكَذَا تَرْتِيبُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَتَرْتِيبِ الْخُطَبِ بِذِكْرِ مُقَدِّمَةٍ وَمَقْصِدٍ وَبَيَانٍ لَهُ وَتَعْلِيلٍ وَتَذْيِيلٍ. وَ (كُلِّ) اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، وَهُوَ مُبْهَمٌ يَتَعَيَّنُ بِمَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ فَإِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عُوِّضَ عَنْهُ تَنْوِينُ كُلٍّ وَهُوَ التَّنْوِينُ الْمُسَمَّى تَنْوِينُ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَهُوَ عِوَضٌ عَنْهُ. وَحَذْفُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلُّ) هُنَا لِدَلَالَةِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ (أُمَّةٌ) لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ فِي اخْتِلَافِ الْأُمَمِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا الْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ يُقَدَّرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ لَفْظِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 285] أَوْ يُقَدَّرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ لَفْظٍ تَقَدَّمَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ [النِّسَاء: 33] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَمِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَخَالُفِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ فِي قِبْلَةِ الصَّلَاةِ، فَالتَّقْدِيرُ وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وِجْهَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الْبَقَرَة: 116] . وَالْوِجْهَةُ حَقِيقَتُهَا الْبُقْعَةُ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَهِيَ وَزْنُ فِعْلَةِ مُؤَنَّثُ فِعْلٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ ذِبْحٍ، وَلِكَوْنِهَا اسْمَ مَكَانٍ لَمْ تُحْذَفِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ عِنْدَ اقْتِرَانِ الِاسْمِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ فِي مِثْلِهِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي فِعْلَةٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ. وَتُسْتَعَارُ الْوِجْهَةُ لِمَا يَهْتَمُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنَ الْأُمُورِ تَشْبِيهًا بِالْمَكَانِ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِ تَشْبِيهَ مَعْقُول بمحسوس، ولفظجْهَةٌ فِي الْآيَةِ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَالتَّعْبِيرُ بِهِ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ وَهُوَ مِنَ الْمَحَاسِنِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَة: 48] .

وَضَمِيرُ هوَ عَائِدٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ (كُلٍّ) الْمَحْذُوفِ. وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِمُوَلِّيهَا مَحْذُوفٌ إِذِ التَّقْدِيرُ هُوَ مُوَلِّيهَا نَفْسَهُ أَوْ وَجْهَهُ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [الْبَقَرَة: 142] وَالْمَعْنَى هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا وملازم لَهَا. وَقِرَاءَة الْجُمْهُورُ «مُوَلِّيهَا» بِيَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ «هُوَ مُوَلَّاهَا» بِأَلْفٍ بَعْدَ اللَّامِ بِصِيغَةِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ يُوَلِّيهِ إِيَّاهَا مُوَلٍّ وَهُوَ دِينُهُ وَنَظَرُهُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوِجْهَةِ الْقِبْلَةُ فَاسْتَبِقُوا أَنْتُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لِكُلِّ أُمَّةٍ قِبْلَةٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْزَمُوا قِبْلَتَكُمُ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّكُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هَيْكَلُ قِبْلَةٍ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْزَمُوا قِبْلَتَكُمُ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّكُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لِكُلِّ قَوْمٍ قِبْلَةٌ فَلَا يَضُرُّكُمْ خِلَافُهُمْ وَاتْرُكُوهُمْ وَاسْتَبِقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جِهَةٌ مِنَ الْكَعْبَةِ سَيَسْتَقْبِلُونَهَا. وَمَعَانِي الْقُرْآنِ تُحْمَلُ عَلَى أَجْمَعِ الْوُجُوهِ وأشملها. وَقَوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ تَفْرِيعٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ لَمَّا تَعَدَّدَتِ الْمَقَاصِدُ. فَالْمُنَافَسَةُ تَكُونُ فِي مُصَادَفَةِ الْحَقِّ. وَالِاسْتِبَاقُ افْتِعَالٌ وَالْمُرَادُ بِهِ السَّبْقُ وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ إِلَّا أَنَّهُ تُوُسِّعَ فِيهِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ [يُوسُف: 25] أَوْ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبِقُوا مَعْنَى اغْتَنِمُوا. فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِبَاقِ هُنَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى مُصَادَفَةِ الْخَيْرِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ والخيرات جَمْعُ خَيْرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا قَالُوا سُرَادِقَاتٍ وَحَمَّامَاتٍ. وَالْمُرَادُ عُمُومُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْخَيْرِ مَحْمُودَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّوْبَةِ خشيَة هاذم اللَّذَّاتِ وَفَجْأَةِ الْفَوَاتِ قَالَ تَعَالَى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمرَان: 133] ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 10- 12] وَمِنْ ذَلِكَ فَضِيلَةُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيد: 10] وَقَالَ مُوسَى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] . وَقَوله: يْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُعْطَفُ إِذْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى فَاسْتَبِقُوا إِلَى الْخَيْرِ لِتَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ يَأْتِي بِهِمُ اللَّهُ لِلرَّفِيقِ الْحَسَنِ لِأَنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالنَّاسِ جَمِيعًا خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 149 إلى 150]

وَ (كَانَ) تَامَّةٌ أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تُوجَدُونَ مِنْ مَوَاقِعِ الْخَيْرِ وَمَوَاقِعِ السُّوءِ. وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ جَلْبُهُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ حَقِيقَتِهِ فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْبِ وَالطَّاعَةِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ: أَتَاكَ بِيَ اللَّهُ الَّذِي نَوَّرَ الْهُدَى ... وَنُورٌ وَإِسْلَامٌ عَلَيْكَ دَلِيلُ أَرَادَ سَخَّرَنِي إِلَيْكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهَا» أَيِ اهْدِهَا وَقَرِّبْهَا لِلْإِسْلَامِ وَيسْتَعْمل فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَفِي الْعِلْمِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لُقْمَان: 16] . وَتَجِيءُ أَقْوَال فِي تفطسير أَيْنَما تَكُونُوا عَلَى حَسَبِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَقَبَّلَ اللَّهُ أَعْمَالَكُمْ فِي اسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ فَإِنَّهُ الْمُهِمُّ، لَا اسْتِقْبَال الْجِهَات أَو الْمَعْنى إِنَّكُمْ إِنَّمَا تَسْتَقْبِلُونَ مَا يُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ فَاسْعَوْا فِي مَرْضَاتِهِ بِالْخَيْرَاتِ يَعْلَمُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، أَوْ هُوَ تَرْهِيبٌ أَيْ فِي أَيَّةِ جِهَةٍ يَأْتِ الله بكم فيثيت وَيُعَاقِبُ، أَوْ هُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَيْ فَأَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَبَادِرُوا بِالطَّاعَةِ قَبْلَ الْفَوْتِ بِالْمَوْتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوه. وَقَوله: نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ يُنَاسِبُ جَمِيعَ الْمعَانِي الْمَذْكُورَة. [149، 150] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 149 إِلَى 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 144] عَطْفَ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ مِنْ جِنْسِهِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لَا تَهَاوُنَ فِي الْقِيَامِ بِهِ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ كَالسَّفَرِ، فَالْمُرَادُ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ خَرَجْتَ

مُسَافِرًا لِأَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ فِي الِاهْتِدَاءِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سُقُوطَ الِاسْتِقْبَالِ عَنْهُ، وَفِي مُعْظَمِ هَاتِهِ الْآيَةِ مَعَ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ زِيَادَةُ اهْتِمَامٍ بِأَمْرِ الْقِبْلَةِ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [الْبَقَرَة: 147] . وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ زِيَادَةُ تَحْذِيرٍ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَأُعِيدَ لَفْظُ الْجُمْلَةِ السَّالِفَةِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّعْلِيل بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وَقَوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ الْآيَةَ. وَالْمَقْصِدُ التَّعْمِيمُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي السَّفَرِ لِلْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَصَلَ مِنْ تَكْرِيرِ مُعْظَمِ الْكَلِمَاتِ تَأْكِيدٌ لِلْحُكْمِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ النَّبِيءِ الْكَعْبَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ مَرَّتَيْنِ. وَتَكَرَّرَ إِنَّهُ الْحَقُّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَكَرَّرَ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَطَرُّقِ التَّسَاهُلِ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرًا لِلْحَقِّ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، وَزِيَادَةً فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ التَّأْكِيدَ، مِنْ زِيَادَةِ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، وَمِنْ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ، لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ: وَهِيَ جُمْلَةُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ الْآيَاتِ، وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَجُمْلَة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ الْآيَاتِ، وَفِيهِ إِظْهَارُ أَحَقِّيَّةِ الْكَعْبَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْحَقِّ لَا يَزِيدُهُ إِنْكَارُ الْمُنْكِرِينَ إِلَّا تَصْمِيمًا، وَالتَّصْمِيمُ يَسْتَدْعِي إِعَادَةَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مَا صُمِّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ فَوَائِدِ هَذَا التَّحْوِيلِ وَمَا حَفَّ بِهِ، مَا يَدْفَعُ قَلِيلَ السَّآمَةِ الْعَارِضَةِ لِسَمَاعِ التَّكْرَارِ، فَذَكَرَ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ إِلَخْ، وَذكر قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ إِلَخْ.

وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ رَاجِعٌ إِلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ حُكْمُ التَّحْوِيلِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَقَامِ، فَالضَّمِيرُ هُنَا كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الْبَقَرَة: 146] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغَيْبَة. وَقَوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: فَوَلُّوا الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَامْتِثَالِهِ، أَيْ شَرَعْتُ لَكُمْ ذَلِكَ لِنَدْحَضَ حُجَّةَ الْأُمَمِ عَلَيْكُمْ، وَشَأْنُ تَعْلِيلِ صِيَغِ الطَّلَبِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ لِلطَّلَبِ بِاعْتِبَارِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ. فَإِنَّ مَدْلُولَ صِيغَةِ الطَّلَبِ هُوَ إِيجَادُ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ لَا الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ الطَّالِبِ طَالَبًا وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ الِامْتِثَالُ لِلْآمِرِ فَيُكْتَفَى بِحُصُولِ سَمَاعِ الطَّلَبِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَقْصُودًا. وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّاسِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ يَشْمَلُ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّ مِنْ شُبْهَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَا نَتَّبِعُ هَذَا الدِّينَ إِذْ لَيْسَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْحُجَّةُ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّدًا اقْتَدَى بِنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَى اتِّبَاعِهِ. وَلِجَمِيعِ النَّاسِ مِمَّنْ عَدَاكُمْ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، أَيْ لِيَكُونَ هَذَا الدِّينُ مُخَالِفًا فِي الِاسْتِقْبَالِ لِكُلِّ دِينٍ سَبَقَهُ فَلَا يَدَّعِي أَهْلُ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُقْتَبِسٌ مِنْهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ظُهُورَ الِاسْتِقْبَالِ يَكُونُ فِي أَمْرٍ مُشَاهَدٍ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ غَيْرَهُ لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَعَلَى هَذَا يكون قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 144] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الْبَقَرَة: 146] . وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى حُجَّةِ النَّاسِ مَعَانٍ أُخَرُ أُرَاهَا بَعِيدَةً. وَالْحُجَّةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُقْصَدُ بِهِ إِثْبَاتُ الْمُخَالِفِ، بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مِنْهُ تَفَصِّيًا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلَّذِي غَلَبَ مُخَالِفَهُ بِحُجَّتِهِ قَدْ حَجَّهُ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ فَهُوَ إِتْيَانُ الْمُحْتَجِّ بِمَا يَظُنُّهُ حُجَّةً وَلَوْ مغالطة يُقَال احْتَجَّ وَيُقَال حَاجَّ إِذَا أَتَى بِمَا يَظُنُّهُ حُجَّةً قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَة: 258] ، فَالْحُجَّةُ لَا تُطْلَقُ حَقِيقَةً إِلَّا عَلَى الْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ النَّاهِضِ الْمُبَكِّتِ لِلْمُخَالِفِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا عَلَى الشُّبْهَةِ فَمَجَازٌ لِأَنَّهَا تُورَدُ فِي صُورَةِ الْحُجَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ

داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: 16] ، وَهَذَا هُوَ فِقْهُ اللُّغَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّافُ» ، وَأَمَّا مَا خَالَفَهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَخْلِيطِ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّفَصِّيَ مِنْ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِنْدَ قَاطِبَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْعُلَمَاءِ، إِلَّا خِلَافًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَصَارَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُقْتَضِيًا أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ حُجَّةً لِمُشَابَهَتِهِ لِلْحُجَّةِ فِي سِيَاقِهِمْ إِيَّاهُ مَسَاقَ الْبُرْهَانِ أَيْ فَاسْتِثْنَاءُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِحُجَّةٍ أَيْ بِمَا يُشْبِهُ الْحُجَّةَ، فَحَرْفُ إِلَّا يَقْتَضِي تَقْدِيرَ لَفْظِ حُجَّةٍ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ لَيْسَ ببدع لاسيما مَعَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ يُخَالِفُ الْأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَشْغَبُونَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ. وَجُمْلَةُ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ مَعْطُوفٌ على قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا وَهُوَ أَنَّهُ تَعْلِيلُ الِامْتِثَالِ فَالْمَعْنَى أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِاسْتِيفَاءِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُكُمْ إِلَى أَفْضَلِ بَيْتٍ بُنِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِامْتِثَالِ مَا أُمِرْنَا بِهِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ الِاسْتِقَامَةُ وَبِهَا دُخُول الْجنَّة. وَقد روى التِّرْمِذِيّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِتْمَامِ النِّعْمَةِ دُخُول الْجنَّة» ، أَي غَايَة إتْمَام النِّعْمَة عَلَيْنَا دُخُولُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَاهَا (¬1) فَالْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ هُنَا إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا إِتْمَامُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ نَاقِصًا، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَة: 124] أَيِ امْتَثَلَهُنَّ امْتِثَالًا تَامًّا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهَا ثُمَّ فَعَلَ بَعْضًا آخَرَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ وَلِتَكُونَ نِعْمَتِي نِعْمَةً وَافِرَةً فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ عَطْفٌ عَلَى وَلِأُتِمَّ أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ امْتِثَالِكُمْ فَيَحْصُلُ الِاهْتِدَاءُ مِنْكُمْ إِلَى الْحَقِّ. وَحَرْفُ لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ مَعْنَى الرَّجَاءِ وَهُوَ قُرْبُ ذَلِكَ وَتَوَقُّعُهُ. وَمَعْنَى جَعْلِ ذَلِكَ الْقُرْبِ عِلَّةً أَنَّ اسْتِقْبَالَهُمُ الْكَعْبَةَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُعْتَدِينَ فِي ¬

(¬1) فَإِن الحَدِيث عَن معَاذ قَالَ: مر النبيء بِرَجُل يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك تَمام نِعْمَتك قَالَ تَدْرِي مَا تَمام النِّعْمَة؟ تَمام النِّعْمَة دُخُول الْجنَّة والفوز من النَّار .

[سورة البقرة (2) : آية 151]

سَائِرِ أُمُورِهِمْ لِأَنَّ الْمَبَادِئَ تَدُلُّ عَلَى الْغَايَاتِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَقَالَ حَبِيبٌ: إِنَّ الْهِلَالَ إِذَا رَأَيْتَ نَمَاءَهُ ... أيقنت أَن يصير بَدْرًا كَامِلا [151] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 151] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) تشبيهن لِلْعِلَّتَيْنِ مِنْ قَوْله: لِأُتِمَّ [الْبَقَرَة: 150] وَقَوله: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْبَقَرَة: 150] أَيْ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ كَنِعْمَةِ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُعِلَ الْإِرْسَالُ مُشَبَّهًا بِهِ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَأَظْهَرُ تَحْقِيقًا لِلْمُشَبَّهِ أَيْ أَنَّ الْمَبَادِئَ دَلَّتْ عَلَى الْغَايَاتِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» وَنُكِّرَ (رَسُولٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَلِتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الَّتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فِيكُمْ وَمَا بَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَمِنْ قَوْمِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى تَيْسِيرًا لِهِدَايَتِهِمْ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129] وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى عُمُوم الْمُؤمنِينَ منالعرب وَغَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164] أَيْ جِنْسِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ آنَسُ لَهُمْ مِمَّا لَوْ كَانَ رَسُولُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى: وَلِذَلِكَ عُلِّقَ بِفِعْلِ أَرْسَلْنا حَرْفُ فِي وَلَمْ يُعَلَّقْ بِهِ حَرْفُ إِلَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ [المزمل: 15] ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ احْتِجَاجٍ وَهَذَا مَقَامُ امْتِنَانٍ فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ مَا بِهِ تَمَامُ الْمِنَّةِ وَهِيَ أَنْ جَعَلَ رَسُولَهُمْ فِيهِمْ وَمِنْهُمْ، أَيْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي قَوْمِهِمْ وَهُوَ عَرَبِيٌّ مِثْلُهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْعَرَبُ أَيِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَالْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ يَوْمَئِذٍ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَدْنَانِيُّونَ وَالْقَحْطَانِيُّونَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْأَحْلَافِ وَالْمَوَالِي مِثْلِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الْإِسْرَائِيلِيِّ، إِذْ نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالْإِفْهَامِ، فَالرَّسُولُ يُكَلِّمُهُمْ بِلِسَانِهِمْ فَيَفْهَمُونَ جَمِيعَ مَقَاصِدِهِ، وَيُدْرِكُونَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، وَيَفُوزُونَ بِمَزِيَّةِ

نَقْلِ هَذَا الدِّينِ إِلَى الْأُمَمِ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ يَنَالُهَا كل من تعلّم اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ كَغَالِبِ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَبْلِيغُ الْإِسْلَامِ بِوَاسِطَةِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ فَيَكُونُ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا، وَيَسْهُلُ انْتِشَارُهُ سَرِيعًا. وَالرَّسُولُ الْمُرْسَلُ فَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ ذَلُولٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مُطَابَقَةِ مَوْصُوفِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 16] فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء. وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ وَسَمَّاهُ أَوَّلًا آيَاتٍ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ كُلِّ كَلَامٍ مِنْهُ مُعْجِزَةً، وَسَمَّاهُ ثَانِيًا كِتَابًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِتَابَ شَرِيعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: 129] . عبر بيتلو لِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرٌّ وَقِرَاءَةُ النَّبِيءِ لَهُ مُتَوَالِيَةٌ وَفِي كُلِّ قِرَاءَةٍ يَحْصُلُ عِلْمٌ بِالْمُعْجِزَةِ لِلسَّامِعِينَ. وَقَوْلُهُ: وَيُزَكِّيكُمْ إِلَخْ التَّزْكِيَةُ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزَّكَاةِ وَهِيَ النَّمَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي أَصْلِ خِلْقَةِ النُّفُوسِ كَمَالَاتٍ وَطَهَارَاتٍ تَعْتَرِضُهَا أَرْجَاسٌ نَاشِئَةٌ عَنْ ضَلَالٍ أَوْ تَضْلِيلٍ، فَتَهْذِيبُ النُّفُوسِ وَتَقْوِيمُهَا يَزِيدُهَا مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْمُودَعِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] ، وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ» ، فَفِي الْإِرْشَادِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْكَمَالِ نَمَاءٌ لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْفِطْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أَيْ يعلمكم الشَّرِيعَة فالكاب هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِتَابَ تَشْرِيعٍ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَيُعَلِّمُكُمْ أُصُولَ الْفَضَائِلِ، فَالْحِكْمَةُ هِيَ التَّعَالِيمُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ وَالْفَسَادِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَأْتِي أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 269] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقُدِّمَتْ جُمْلَةُ: وَيُزَكِّيكُمْ عَلَى جُمْلَةِ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ هُنَا عَكْسُ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي حِكَايَةِ قَول إِبْرَاهِيم: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: 129] ، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَدَّمَ فِيهَا مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مَنْفَعَةُ تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمُ اهْتِمَامًا بِهَا وَبَعْثًا لَهَا بِالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ

[سورة البقرة (2) : آية 152]

وَسَائِلِهَا وَتَعْجِيلًا لِلْبِشَارَةِ بِهَا. فَأَمَّا فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ رُتِّبَتِ الْجُمَلُ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فِي الْخَارِجِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ التَّخَالُفِ مِنَ التَّفَنُّنِ. وَقَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ تَعْمِيمٌ لِكُلِّ مَا كَانَ غَيْرَ شَرِيعَةٍ وَلَا حِكْمَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَأَحْوَالِ سِيَاسَةِ الدُّوَلِ وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَعَادَ قَوْلَهُ: وَيُعَلِّمُكُمُ مَعَ صِحَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْعَطْفِ تَنْصِيصًا عَلَى الْمُغَايَرَةِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ هُوَ الْكِتَابُ وَالْحِكْمَةُ، وَتَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ: مَا لَمْ تَكُونُوا مَفْعُولا لَا مُبْتَدَأٌ حَتَّى لَا يَتَرَقَّبَ السَّامِعُ خَبَرًا لَهُ فَيَضِلُّ فَهْمُهُ فِي ذَلِكَ الترقب، وَاعْلَم أأن حَرْفَ الْعَطْفِ إِذَا جِيءَ مَعَه بِإِعَادَة عَامل كَانَ عَاطِفُهُ عَامِلًا عَلَى مِثْلِهِ فَصَارَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَكِنَّ الْعَاطِفَ حِينَئِذٍ أَشْبَهُ بِالْمُؤَكِّدِ لمدلول الْعَامِل. [152] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 152] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ عَلَى جُمَلِ النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَيْ إِذْ قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِهَاتِهِ النِّعَمِ فَأَنَا آمُرُكُمْ بِذِكْرِي. وَقَوْلُهُ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فِعْلَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الذِّكْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ وَمِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّهَا وَالْكُلُّ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِتَذَكُّرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ لِنَذْكُرَ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ- قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: 135] وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ-، وَمَأْمُورُونَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَلْسِنَتِنَا فِي جُمَلٍ تَدُلُّ عَلَى حَمْدِهِ وَتَقْدِيسِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى طَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» . وَالذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: أَذْكُرْكُمْ يَجِيءُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي قَوْله: فَاذْكُرُونِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَالتَّقْدِيرُ اذْكُرُوا عَظَمَتِي وَصِفَاتِي وَثَنَائِي وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَوِ اذْكُرُوا نِعَمِي وَمَحَامِدِي، وَهُوَ تَقْدِيرٌ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَأَمَّا أَذْكُرْكُمْ فَهُوَ مَجَازٌ، أَيْ أُعَامِلْكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ بِزِيَادَةِ النِّعَمِ وَالنَّصْرِ وَالْعِنَايَةِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ أَخْلُقْ مَا يَفْهَمُ مِنْهُ النَّاسُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَفِي الْأَرْضِ فَضْلَكُمْ وَالرِّضَى عَنْكُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمرَان: 110] ، وَحُسْنَ مَصِيرِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيَّيْنِ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ دَلَالَةِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 153 إلى 154]

الِاقْتِضَاءِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَذَكُّرَ الذَّوَاتِ وَلَا ذِكْرَ أَسْمَائِهَا بَلِ الْمُرَادُ تَذَكُّرُ مَا يَنْفَعُهُمْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِي أَمْرٌ بِالشُّكْرِ الْأَعَمِّ مِنَ الذِّكْرِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مُطْلَقًا، وَتَعْدِيَتُهُ لِلْمَفْعُولِ بِاللَّامِ هُوَ الْأَفْصَح وَتسَمى هَذِه اللَّامُ لَامَ التَّبْلِيغِ وَلَامَ التَّبْيِينِ كَمَا قَالُوا نَصَحَ لَهُ وَنَصَحَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَعْساً لَهُمْ [مُحَمَّد: 8] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى وَأَثْنَيْتُ جَاهِدًا ... وَعَطَّلْتُ أَعْرَاضَ الْعُبَيْدِ بْنِ عَامِرِ وَقَوْلِهِ: وَلا تَكْفُرُونِ نَهْيٌ عَنِ الْكُفْرَانِ لِلنِّعْمَةِ، وَالْكُفْرَانُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا جَحْدُ النِّعْمَةِ وَإِنْكَارُهَا ثُمَّ قَصْدُ إِخْفَائِهَا، ثُمَّ السُّكُوتُ عَنْ شُكْرِهَا غَفْلَةً وَهَذَا أَضْعَفُ الْمَرَاتِبِ وَقَدْ يُعْرِضُ عَنْ غَيْرِ سُوءِ قَصْدٍ لَكِنَّهُ تَقْصِيرٌ. قَالَ ابْن عرقة: «لَيْسَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلا تَكْفُرُونِ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشُّكْرِ مُطْلَقٌ (أَيْ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ فَلَا عُمُومَ لَهُ) فَيَصْدُقُ بِشُكْرِهِ يَوْمًا وَاحِدًا فَلَمَّا قَالَ وَلا تَكْفُرُونِ أَفَادَ النَّهْيَ عَنِ الْكُفْرِ دَائِمًا» اه، يُرِيدُ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَعُمُّ، مِثْلَ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ أَخُو النَّفْي. [153، 154] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 153 إِلَى 154] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) هَذِهِ جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَة: 150] وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَعْلِيله بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [الْبَقَرَة: 150] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 150] إِلَى قَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: 152] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 177] لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ تَكْمِلَةً لِدَفْعِ الْمَطَاعِنِ فِي شَأْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَلَهُ أَشَدُّ اتِّصَال بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ الْمُتَّصِل بقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَة: 150] . وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُطْنِبٌ ابْتُدِئَ بِهِ إِعْدَادُ الْمُسْلِمِينَ لِمَا هُمْ أَهْلُهُ مِنْ نَصْرِ دِينِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى خَوَّلَهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ مِنْ جَعْلِهِمْ أُمَّةً وَسَطًا وَشُهَدَاءَ عَلَى

النَّاسِ، وَتَفْضِيلِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اسْتِقْبَالِ أَفْضَلِ بُقْعَةٍ، وَتَأْيِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَأَمْرِهِمْ بِالِاسْتِخْفَافِ بِالظَّالِمِينَ وَأَنْ لَا يَخْشَوْهُمْ، وَتَبْشِيرِهِمْ بِأَنَّهُ أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الِامْتِثَالِ لِلْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ كَالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ وَالذِّكْرَ بِهِمَا تَهْيِئَةُ النُّفُوسِ إِلَى عَظِيمِ الْأَعْمَالِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهُ أَمَرَهُمْ هُنَا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا عَوْنٌ لِلنَّفْسِ عَلَى عَظِيمِ الْأَعْمَالِ، فَنَاسَبَ تَعْقِيبَهَا بِهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ من قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ مُشْعِرٌ بِأَنَّ أُنَاسًا مُتَصَدُّونَ لِشَغْبِهِمْ وَتَشْكِيكِهِمْ وَالْكَيْدِ لَهُمْ، فَأُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَكُلُّهَا مُتَمَاسِكَةٌ مُتَنَاسِبَةُ الِانْتِقَالِ عَدَا آيَةِ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: شاكِرٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 158] فَسَيَأْتِي تَبْيِينُنَا لِمَوْقِعِهَا. وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِخَبَرٍ مُهِمٍّ عَظِيمٍ، فَإِنَّ شَأْنَ الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَهُولُ الْمُخَاطَبَ أَنْ يُقَدَّمَ قبلهَا مَا يهيء النَّفْسَ لِقَبُولِهَا لِتَسْتَأْنِسَ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَفْجَأَهَا. وَفِي افْتِتَاحِ هَذَا الْخِطَابِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ سَيُعْقَبُ بِالنَّدْبِ إِلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ وَبَلْوًى شَدِيدَةٍ، وَذَلِكَ تَهْيِئَةٌ لِلْجِهَادِ، وَلَعَلَّهُ إِعْدَادٌ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْمَغَازِي كَانَ قُبَيْلَ زَمَنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِذْ كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ فِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَتْ غَزْوَةُ بُوَاطَ وَالْعُشَيْرَةِ وَبَدْرٍ الْأُولَى فِي رَبِيعٍ وَجُمَادَى مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قِتَالٌ، وَكَانَتْ بَدْرٌ الْكُبْرَى فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَتْ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِنَحْوِ شَهْرَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] أَنَّ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي أَنَّ نَاسًا قُتِلُوا قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، أَنَّهُ تَوَهُّمٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنِ الْبَرَاءِ، فَإِنَّ أَوَّلَ قَتْلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَهِيَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِنَحْوِ شَهْرَيْنِ، وَالْأَصَحُّ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيءُ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» الْحَدِيثَ فَلَمْ يَقُلِ: (الَّذِينَ قُتِلُوا) . فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَهْيِئَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِلصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْحَرْبِ، وَتَحْبِيبٌ لِلشَّهَادَةِ إِلَيْهِمْ.

وَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ بُعَيْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [الْبَقَرَة: 45] الْآيَةَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ هُنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّها لَكَبِيرَةٌ عِلْمًا مِنْهُ بِضَعْفِ عَزَائِمِهِمْ عَنْ عَظَائِمِ الْأَعْمَالِ وَقَالَ هُنَالِكَ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا هُنَا، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يُسِرَّ لَهُمْ مَا يَصْعُبُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمُ الْخَاشِعُونَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ هُنَالِكَ، وَزَادَ هُنَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَمْتَثِلُ هَذَا الْأَمْرَ وَيُعَدُّ لِذَلِكَ فِي زُمْرَةِ الصَّابِرِينَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ تَذْيِيلٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيِ اصْبِرُوا لِيَكُونَ اللَّهُ مَعَكُمْ لِأَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ عَطَفَ النَّهْيَ عَلَى الْأَمْرِ قَبْلَهُ لِمُنَاسَبَةِ التَّعَرُّضِ لِلْغَزْوِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مَعَهُ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمَّا أُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَرَفُوا أَنَّ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَقْوَى مَا يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ نَبَّهَ مَعَ ذَلِكَ على أَن هَذَا الصَّبْرَ يَنْقَلِب شكرا عِنْد مَا يَرَى الشَّهِيدُ كَرَامَتَهُ بعد الشَّهَادَة، وَعند مَا يُوقِنُ ذَوُوهُ بِمَصِيرِهِ مِنَ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، فَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا نَهْيٌ عَنِ الْقَوْلِ النَّاشِئِ عَنِ اعْتِقَادٍ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا مَا يَعْتَقِدُ فَالْمَعْنَى وَلَا تَعْتَقِدُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَكْمِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ فَإِنَّهُ قَالَ: «قُتِلَ أُنَاسٌ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ» ، فَأَعْقَبَ قَوْلَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ بِأَنَّ فَضِيلَةَ شَهَادَتِهُمْ غَيْرُ مَنْقُوصَةٍ. وَارْتَفَعَ أَمْواتٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ لَا تَقُولُوا هُمْ أَمْوَاتٌ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِي إِبْطَالًا لِمَضْمُونِ الْمَنْهِيِّ عَنْ قَوْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بَلْ قُولُوا هُمْ أَحْيَاءٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ إِخْبَارُ الْمُخَاطَبِينَ هَذَا الْخَبَرَ الْعَظِيمَ، فَقَوْلُهُ: «أَحْيَاءٌ» هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ بَلْ الْإِضْرَابِيَّةِ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا حَيَاةٌ غَيْرُ جِسْمِيَّةٍ وَلَا مَادِّيَّةٍ

[سورة البقرة (2) : الآيات 155 إلى 157]

بَلْ حَيَاةٌ رُوحِيَّةٌ، لَكِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مُطْلَقِ حَيَاةِ الْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ لِلْأَرْوَاحِ كُلِّهَا حَيَاةً وَهِيَ عَدَمُ الِاضْمِحْلَالِ وَقَبُولُ التَّجَسُّدِ فِي الْحَشْرِ مَعَ إِحْسَاسٍ مَا بِكَوْنِهَا آئلة إِلَى نَعِيمٍ أَوْ جَحِيمٍ، وَأَمَّا حَيَاةُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهِيَ حَيَاةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى إِدْرَاكَاتِ التَّنَعُّمِ بِلَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالِانْكِشَافَاتِ الْكَامِلَةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تُجْعَلُ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرْعَى مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا» . وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اتِّصَالَ اللَّذَّاتِ بِالْأَرْوَاحِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَوَسُّطِ الْحَوَاسِّ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلَمَّا انْفَصَلَتِ الرُّوحُ عَنِ الْجَسَدِ عُوِّضَتْ جَسَدًا مُنَاسِبًا لِلْجَنَّةِ ليَكُون وَسِيلَة لنعميها. [155، 157] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 155 إِلَى 157] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ. عَطَفَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 153] عَطْفَ الْمَقْصِدِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلُ، وَلَكَ أَنْ تجْعَل قَوْله: وَنَبْلُوكُمْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 150] الْآيَاتِ لِيُعْلِمَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَمَنْزِلَةَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ لَحَاقِ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُرْتَبِطَةِ بِأَسْبَابِهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَصَائِبَ مَظْهَرٌ لِثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لِقَضَائِهِ فَيَنَالُونَ بِذَلِكَ بَهْجَةَ نُفُوسِهِمْ بِمَا أَصَابَهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَيَزْدَادُونَ بِهِ رِفْعَةً وَزَكَاءً، وَيَزْدَادُونَ يَقِينًا بِأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ لِهَذَا الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لِنَوَالَ حُظُوظٍ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ثَوَابٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 153] الْآيَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ لِيَكُونَ نَصِيحَةً لِعِلَاجِ الْأَمْرَيْنِ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَالْهُدَى وَالِابْتِلَاءِ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهِ مَا يُصَيِّرُ الْجَمِيعَ خَبَرًا بِقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. وَجِيءَ بِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) تَهْوِينًا لِلْخَبَرِ الْمُفْجِعِ، وَإِشَارَةً إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الِابْتِلَاءِ وَبَيْنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ اللَّذَيْنِ سَلَّطَهُمَا اللَّهُ عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ عُقُوبَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النَّحْل: 112] وَلِذَلِكَ جَاءَ هُنَا بِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَجَاءَ هُنَالِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُلَابَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ، وَهُوَ أَنِ اسْتَعَارَ لَهَا اللبَاس الملازم لِلَّابِسِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ

الْعَالِيَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ أَوْ بُيِّنَتْ بِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا زَادَ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) قَبْلَ اسْمِ ذَلِكَ الْجِنْسِ إِلَّا لِقَصْدِ التَّقْلِيلِ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ بَعْدَهَا لَوْ شَاءَ الْمُتَكَلِّمُ لَأَغْنَى غَنَاءَهَا، فَمَا ذَكَرَ كَلِمَةَ شَيْءٍ إِلَّا وَالْقَصْدُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَنْكِيرَ اسْمِ الْجِنْسِ لَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ وَلَا لِلتَّنْوِيعِ، فَبَقِيَ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّحْقِيرِ وَهَذَا كَقَوْلِ السَّرِيِّ مُخَاطِبًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الصَّابِي: فَشَيْئًا مِنْ دَمِ الْعُنْقُو ... دِ أَجْعَلُهُ مَكَانَ دَمِي (¬1) فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ عُدُولٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ بِخَوْفٍ وَجُوعٍ أَمَّا لَوْ ذَكَرَ لَفْظَ شَيْءٍ مَعَ غَيْرِ اسْمِ جِنْسٍ كَمَا إِذَا أُتْبِعَ بِوَصْفٍ أَوْ لَمْ يُتْبَعْ أَوْ أُضِيفَ لِغَيْرِ اسْمِ جِنْسٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّنْوِيعِ نَحْوُ قَوْلِ قُحَيْطٍ الْعِجْلِيِّ: فَلَا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فِيهَا ... وَمَنَعُكَهَا بِشَيْءٍ يُسْتَطَاعُ فَقَدْ فَسَّرَهُ الْمَرْزُوقِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مَعْنَى بِشَيْءٍ بِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي مِنْ غَلَبَةٍ أَوْ مَعَازَةٍ أَوْ فِدَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ اه. وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمُقَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَة: 178] فَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَوْ هُوَ الْعَفْوُ عَلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ، وَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي ربيعَة: وَمن ماليء عَيْنَيْهِ مِنْ شَيْءِ غَيْرِهِ ... إِذَا رَاحَ نَحْوَ الْجَمْرَةِ الْبَيْضُ كَالدُّمَى أَيْ مِنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ غَيْرِ امْرَأَتِهِ. وَقَوْلِ أَبَى حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ: إِذَا مَا تَقَاضَى الْمَرْءَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... تَقَاضَاهُ شَيْءٌ لَا يَمَلُّ التَّقَاضِيَا أَيْ شَيْءٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: 10] أَيْ مِنِ الْغَنَاءِ. ¬

(¬1) قبل هَذَا الْبَيْت قَوْله: أَبَا إِسْحَاق يَا سكني ألوذ بِهِ ومعتصمي أرقت دمى وأعوزني سليل الْكَرم وَالْكَرم يُرِيد أَنه احْتجم ورام شرب قَلِيل من الْخمر ليعتاض بِهِ عَمَّا ضَاعَ من دَمه فِي زَعمه.

وَكَأَنَّ مُرَاعَاةَ هَذَيْنِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ فِي كَلِمَةِ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي دَعَا الشَّيْخَ عَبَدَ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» إِلَى الْحُكْمِ بِحُسْنِ وَقْعِ كَلِمَةِ شَيْءٍ فِي بَيْتِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَبَيْتِ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ، وَبِقِلَّتِهَا وَتَضَاؤُلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: لَوِ الْفَلَكُ الدَّوَّارُ أَبْغَضْتَ سَعْيَهُ ... لَعَوَّقَهُ شَيْءٌ عَنِ الدَّوَرَانِ لِأَنَّهَا فِي بَيْتِ أَبِي الطَّيِّبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعْنَى التَّقْلِيلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَلَا التَّنْوِيعِ لِقِلَّةِ جَدْوَى التَّنْوِيعِ هُنَا إِذْ لَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ مُعَوِّقَ الْفَلَكِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا. وَالْمُرَادُ بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا مَعَانِيهَا الْمُتَبَادِرَةُ وَهِيَ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنِ الْقِلَّةِ وَتَأَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَأَمَّا الْجُوعُ فَكَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ قِلَّةِ الْأَزْوَادِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ مَا يَنْشَأُ عَنْ قِلَّةِ الْعِنَايَةِ بِنَخِيلِهِمْ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى الْغَزْوِ، وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ يَكُونُ بِقِلَّةِ الْوِلَادَةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ نِسَائِهِمْ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: شُعَبُ الْعِلَافِيَّاتِ بَيْنَ فُرُوجِهِمْ ... وَالْمُحْصَنَاتُ عَوَازِبُ الْأَطْهَارِ وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى يَمْدَحُ هَوْذَةَ بْنَ عَلِيٍّ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ بِكَثْرَةِ غَزَوَاتِهِ: أَفِي كُلِّ عَام أَنْت حاشم غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْمَجْدِ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نِسَائِك وَكَذَلِكَ نَقْصُ الْأَنْفُسَ بِالِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا يُصِيبُهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ مَصَائِبَ تَرْجِعُ إِلَى هَاتِهِ الْأُمُورِ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَمْوَالِ يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: 188] فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ [آل عمرَان: 10] فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) . وَجُمْلَة: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، وَالْخطاب للرسول عَلَيْهِ السَّلَام بِمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ مِمَّنْ شَمِلَهُ قَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ وَهُوَ عَطْفُ إِنْشَاءٍ عَلَى خبر وَلَا ضير فِيهِ عِنْدَ مَنْ تَحَقَّقَ أَسَالِيبَ الْعَرَبِ وَرَأَى فِي كَلَامِهِمْ كَثْرَةَ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَعَكْسِهِ.

وَأُفِيدَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّذِي هُوَ حُصُولُ الصَّلَوَاتِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى لِلصَّابِرِينَ بِطَرِيقَةِ التَّبْشِيرِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ تَكْرِيمًا لِشَأْنِهِ، وَزِيَادَةً فِي تَعَلُّقِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِحَيْثُ تَحْصُلُ خَيْرَاتُهُمْ بِوَاسِطَتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ إِسْنَادُ الْبَلْوَى إِلَى اللَّهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الرَّسُولِ، وَإِسْنَادُ الْبِشَارَةِ بِالْخَيْرِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِلَى الرَّسُولِ. وَالْكَلَامُ عَلَى الصَّبْرِ وَفَضَائِلِهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 45] . وَوَصْفُ الصَّابِرِينَ بِأَنَّهُمُ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِلَخْ لِإِفَادَةِ أَنَّ صَبْرَهُمْ أَكْمَلُ الصَّبْرِ إِذْ هُوَ صَبْرٌ مُقْتَرِنٌ بِبَصِيرَةٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ يَعْلَمُونَ عَنْدَ الْمُصِيبَةِ أَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَجْزَعُونَ مِمَّا يَأْتِيهِمْ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ فَيُثِيبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ هُنَا الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ لِلِاعْتِقَادِ إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا وُضِعَ لِلصِّدْقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُعْتَبَرًا إِذَا كَانَ تَعْبِيرًا عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَلَيْسَ لِمَنْ قَالَ هَاتِهِ الْكَلِمَاتِ بِدُونِ اعْتِقَادٍ لَهَا فَضْلٌ وَإِنَّمَا هُوَ كَالَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ، وَقَدْ عَلَّمَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَامِعَةَ لِتَكُونَ شِعَارَهُمْ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ يَقْوَى بِالتَّصْرِيحِ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ النَّفْسِ لِلْمُدْرَكَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ ضَعِيفٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْوِيَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْحِسِّ، وَلِأَنَّ فِي تَصْرِيحِهِمْ بِذَلِكَ إِعْلَانًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ وَتَعْلِيمًا لَهُ لِلنَّاسِ. وَالْمُصِيبَةُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ [النِّسَاء: 72] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالتَّوْكِيدُ بِإِنَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّ الْمُقَامَ مَقَامُ اهْتِمَامٍ، وَلِأَنَّهُ يُنْزِلُ الْمُصَابَ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ كَوْنُهُ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى وَعَبْدًا لَهُ إِذْ تُنْسِيهِ الْمُصِيبَةُ ذَلِكَ وَيَحُولُ هَوْلُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُشْدِهِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْمُلْكِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ مِثْلُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَهَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ صَبْرِهِمْ. وَالصَّلَوَاتُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّزْكِيَاتِ وَالْمَغْفِرَاتِ وَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْهَا الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ مَعَانِي الصَّلَاةِ مَجَازًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الْأَحْزَاب: 56] . وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّهَا أَقْوَالٌ تُنْبِئُ عَنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِأَحَدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ

[سورة البقرة (2) : آية 158]

أَشْهَرُ مَعَانِيهَا هُوَ الدُّعَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَة: 3] وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ إِسْنَادُ هَذَا الْفِعْلِ لِمَنْ لَا يُطْلَبُ الْخَيْرُ إِلَّا مِنْهُ مُتَعَيِّنًا لِلْمَجَازِ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ حُصُولُ الْخَيْرِ، فَكَانَتِ الصَّلَاةُ إِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى اللَّهِ أَوْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ دَالَّةً عَلَى الرَّحْمَةِ وَإِيصَالِ مَا بِهِ النَّفْعُ مِنْ رَحْمَةٍ أَوْ مَغْفِرَةٍ أَوْ تَزْكِيَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بَيَانٌ لفضيلة صفتهمْ إِذا اهْتَدَوْا لِمَا هُوَ حَقُّ كُلِّ عَبْدٍ عَارِفٍ فَلَمْ تُزْعِجْهُمُ الْمَصَائِبُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَاجِبًا عَنِ التَّحَقُّقِ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَخْلُو مِنَ الْأَكْدَارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا فَهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَصَائِبَ سَبَبًا فِي اعْتِرَاضِهِمْ عَلَى اللَّهِ أَوْ كُفْرِهِمْ بِهِ أَوْ قَوْلِ مَا لَا يَلِيقُ أَوْ شَكِّهِمْ فِي صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الدِّينَ الْمَرْضِيَّ لِلَّهِ لَمَا لَحِقَنَا عَذَابٌ وَمُصِيبَةٌ، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالِ الَّذِينَ حَذَّرَنَا اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النِّسَاء: 78] ، وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ أَنَّ جَزَاءَ الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَمُسَبَّبَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ، تَعْرِضُ لِعُرُوضِ سَبَبِهَا، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ سَبَبَ الْمُصِيبَةِ عُقُوبَةً لِعَبْدِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ أَدَبٍ أَوْ نَحْوِهِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِرَفْعِ دَرَجَاتِ النَّفْسِ، وَلَهَا أَحْوَالٌ وَدَقَائِقُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِذَا رَاقَبَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ لُطْفٌ وَنِكَايَةٌ يَظْهَرُ أَثَرُ أَحدهمَا للعارفين. [158] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) هَذَا كَلَامٌ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، نَزَلَ هَذَا بِسَبَبِ تَرَدُّدٍ وَاضْطِرَابٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَذَلِكَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي نَقْرَؤُهَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِلْحَاقِهَا بِبَعْضِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِهَا بِمُدَّةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُشْبِهُ فِعْلَ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالسُّفَهَاءِ مِنَ الْقِبْلَةِ وَإِنْكَارِ

الْعُدُولِ عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ إِلْحَاقِهَا بِهَذَا الْمَكَانِ مَوْقِعُ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الِاعْتِرَاضِ، فَقَدْ كَانَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى هَاجَرَ وَابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَطَشِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ (¬1) عَنِ ابْنِ عَبَّاس عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَمَّا تَرَكَهَا إِبْرَاهِيمُ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ وَمَعَهَا ابْنُهَا وَهُوَ رَضِيعٌ وَتَرَكَ لَهَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، فَلَمَّا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا وَأَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا فَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا (¬2) ، فَسَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا صَهٍ ثمَّ تسمّعت فَسمِعت أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا» ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَذَكُّرًا لِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَأَمَرَ بِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَلْحَقَهُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، أَوْ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ أَبْنَائِهِ فَعَلَ ذَلِكَ فَتَقَرَّرَ فِي الشَّعَائِرِ عِنْدَ قُرَيْشٍ لَا مَحَالَةَ. وَقَدْ كَانَ حَوَالِيَ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَجَرَانِ كَانَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا عَمْرُو ابْن لُحَيٍّ إِلَى مَكَّةَ فعبدها الْعَرَب إِحْدَاهمَا يُسَمَّى إِسَافًا وَالْآخَرُ يُسَمَّى نَائِلَةَ، كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْضُوعًا قُرْبَ جِدَارِ الْكَعْبَةِ وَالْآخَرُ مَوْضُوعًا قُرْبَ زَمْزَمَ، ثُمَّ نَقَلُوا الَّذِي قُرْبَ الْكَعْبَةِ إِلَى جِهَةِ زَمْزَمَ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَذْبَحُونَ لَهُمَا، فَلَمَّا جَدَّدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ احْتِفَارَ زَمْزَمَ بَعْدَ أَنْ دَثَرَتْهَا جُرْهُمُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَبَنَى سِقَايَةَ زَمْزَمَ نَقَلَ ذَيْنَكَ الصَّنَمَيْنِ فَوَضَعَ إِسَافًا عَلَى الصَّفَا وَنَائِلَةَ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْنَامًا صَغِيرَةً وَتَمَاثِيلَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فِي طَرِيقِ الْمَسْعَى، فَتَوَهَّمَ الْعَرَبُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ طَوَافٌ بِالصَّنَمَيْنِ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَغَسَّانُ يَعْبُدُونَ مَنَاةَ وَهُوَ صَنَمٌ بِالْمُشَلَّلِ قُرْبَ قُدَيْدٍ فَكَانُوا لَا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَحَرُّجًا مِنْ أَنْ يَطُوفُوا بِغَيْرِ صَنَمِهِمْ، فِي الْبُخَارِيِّ فِيمَا عَلَّقَهُ (¬3) عَنْ مَعْمَرٍ إِلَى عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ قَالُوا يَا نَبِيءَ اللَّهِ كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ «تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ» . ¬

(¬1) لم أَجِدهُ فِيهِ، وَهُوَ فِي (60) «كتاب الْأَنْبِيَاء» 9، بَاب يزفون: النسلان فِي الْمَشْي حَدِيث 1183. انْظُر «فتح الْبَارِي» 6/ 396، دَار الْمعرفَة. (¬2) فِي الْمصدر السَّابِق (فَذَلِك سغي النَّاس بَينهمَا) . (¬3) وَقد وَصله أَحْمد وَغَيره.

فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأُزِيلَتِ الْأَصْنَامُ وَأُبِيحُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَسَعَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الْأَنْصَارُ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَسَأَلَ جَمْعٌ مِنْهُمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» (¬1) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَاتِهِ (¬2) الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ» الْآيَةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ، وَفِيهِ كَلَامُ مَعْمَرٍ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ. فتأكيد الْجُمْلَة بأنّ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مُتَرَدِّدُونَ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَهُمْ أَمْيَلُ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَامَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِسِنِينَ فَوَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي اضْطِرَابِ الْفَرْقِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَالْمَنَاسِكِ. وَالصَّفَا والمروة اسمان لجبيلين مُتَقَابِلَيْنِ فَأَمَّا الصَّفَا فَهُوَ رَأْسُ نِهَايَةِ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَأَمَّا الْمَرْوَةُ فَرَأْسٌ هُوَ مُنْتَهَى جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ. وَسُمِّيَ الصَّفَا لِأَنَّ حِجَارَتَهُ مِنَ الصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الصُّلْبُ، وَسُمِّيَتِ الْمَرْوَةُ مروة لِأَن حجارها مِنَ الْمَرْوِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبَيْضَاءُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ وَيُذْبَحُ بِهَا لِأَنَّ شَذْرَهَا يُخْرِجُ قِطَعًا مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ وَهِيَ تُضْرَبُ بِحِجَارَةٍ مِنَ الصَّفَا فَتَتَشَقَّقُ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا الْمُشَقَّرِ (¬3) كُلَّ يَوْمٍ تَفَرَّعُ ¬

(¬1) أخرجه أَيْضا البُخَارِيّ فِي: 25، «كتاب الْحَج» ، 79، بَاب وجوب الصَّفَا والمروة ... وَمُسلم فِي: 15، «كتاب الْحَج» ، 43، بَاب بَيَان أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة ركن لَا يَصح الْحَج إلّا بِهِ. حَدِيث 259 و260 و261. (¬2) فِي «الْمُوَطَّأ» 1/ 373، تَحْقِيق عبد الْبَاقِي، (هَذِه) . (¬3) المشقر كمعظم جبل بِالْيمن تتَّخذ من حجارته فؤوس تكسر الْحِجَارَة لصلابتها. [.....]

وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لطف بِأَهْل بِمَكَّة فَجَعَلَ لَهُمْ جَبَلًا مِنَ الْمَرْوَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي اقْتِدَاحِهِمْ وَفِي ذَبَائِحِهِمْ، وَجَعَلَ قُبَالَتَهُ الصَّفَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي بِنَائِهِمْ. وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ سَبْعِمِائَةٍ وَسَبْعِينَ ذِرَاعًا وَطَرِيقُ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا يَمُرُّ حَذْوَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالصَّفَا قَرِيبٌ مِنْ بَابٍ يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَيَصْعَدُ السَّاعِي إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِمِثْلِ الْمُدَرَّجَةِ. وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَشِعَارَةٍ بِكَسْرِ الشِّينِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ مُشْتَقٌّ مَنْ شَعَرَ إِذَا عَلِمَ وَفَطِنَ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ أَيْ مُعْلَمٌ بِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أُشْعِرَ الْبَعِيرُ إِذَا جُعِلَ لَهُ سِمَةٌ فِي سَنَامِهِ بِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْهَدْيِ. فَالشَّعَائِرُ مَا جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى أَدَاءِ عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الْمُعَظَّمَةُ مِثْلُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي يَقَعُ عِنْدَهَا الْإِحْرَامُ، وَمِنْهَا الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامِ وَالْمَقَامُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَعَرَفَةُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَالْجِمَارُ. وَمَعْنَى وَصْفِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمَا عَلَامَتَيْنِ عَلَى مَكَانِ عِبَادَةٍ كَتَسْمِيَةِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ مَوَاقِيتَ فَوَصْفُهُمَا بِذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا عِبَادَةٌ إِذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِمَا عِبَادَةٌ جُعِلَا عَلَامَةً عَلَيْهَا غَيْرُ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، وَإِضَافَتُهُمَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ عَلَى عِبَادَتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ تَفْرِيعٌ عَلَى كَوْنِهِمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَأَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْمَنَاسِكِ فَلَا يُرِيبُهُ مَا حَصَلَ فِيهِمَا مِنْ صُنْعِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُقَدَّسَ لَا يُزِيلُ تَقْدِيسَهُ مَا يَحُفُّ بِهِ من سيء الْعَوَارِضِ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ فَلا جُناحَ عَلَى نَفْيِ مَا اخْتَلَجَ فِي نُفُوسِهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَالْجُنَاحُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْإِثْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَحَ إِذَا مَالَ لِأَنَّ الْإِثْمَ يَمِيلُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ، فَاعْتَبَرُوا فِيهِ الْمَيْلَ عَنِ الْخَيْرِ عَكْسَ اعْتِبَارِهِمْ فِي حَنَفٍ أَنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الشَّرِّ إِلَى الْخَيْرِ. وَالْحَجُّ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْقَصْدِ وَفِي الْعرف غلب عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ وَلِذَلِكَ صَارَ بِالْإِطْلَاقِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسًا بِالْغَلَبَةِ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَهُمَا (أَيِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) فِي الْمَعَانِي كَالنَّجْمِ وَالْبَيْتِ فِي الذَّوَاتِ (¬1) » ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُضَافٍ إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَقَامِ الِاعْتِنَاءِ بِالتَّنْصِيصِ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ نَحْوَ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إِلَى قَوْلِهِ: ¬

(¬1) فِي «الْكَشَّاف» ، وَالنَّقْل مِنْهُ، (الْأَعْيَان) .

وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: 197] ، وَوَرَدَ مُضَافًا فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: 97] لِأَنَّهُ مَقَامُ ابْتِدَاءِ تَشْرِيعٍ فَهُوَ مَقَامُ بَيَانٍ وَإِطْنَابٍ. وَفِعْلُ حَجَّ بِمَعْنَى قَصَدَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْقَصْدِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ الْمَفْعُولِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ. وَأَمَّا صِحَّةُ قَوْلِكَ حَجَّ فُلَانٌ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» بِدُونِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ فَذَلِكَ حَذْفٌ لِلتَّعْوِيلِ عَلَى الْقَرِينَةِ فَغَلَبَةُ إِطْلَاقِ الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ أَقَلُّ مِنْ غَلَبَةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْحَجِّ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ. وَالْعُمْرَةُ اسْمٌ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ أَوْ فِي وَقْتِهِ بِدُونِ حُضُورِ عَرَفَةَ فَالْعُمْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَجِّ مِثْلُ صَلَاةِ الْفَذِّ بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ بِصِيغَةِ الِاسْمِ عَلَمُ الْغَلَبَةِ عَلَى زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ، وَفِعْلُهَا غَلَبَ عَلَى تِلْكَ الزِّيَارَةِ تَبَعًا لِغَلَبَةِ الِاسْمِ فَسَاوَاهُ فِيهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْمَفْعُولُ هُنَا وَلَمْ يُسْمَعْ، وَالْغَلَبَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْآخَرِ نَادِرًا. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنِ الَّذِي يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَيُصَدِّقُ بِالْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ، وَالْوَاجِبِ وَالرُّكْنِ، لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ يُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الْمَذْكُورَاتِ فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ لِعُرْوَةَ «لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَقَالَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا» ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ إِبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ وَقَوْلُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَفْعَلَ إِبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إِبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ تَحَرَّجَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّة أَو لمن كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ اه. وَمُرَادُهُ أَنَّ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ وَهُوَ صَادِقٌ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْوُجُوبِ فَهُوَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا مُجْمَلٌ، بِخِلَافِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَفْعَلَ فَهُوَ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ التَّالِي وَهُوَ صَادِقٌ بِحُرْمَةِ الْفِعْلِ وَكَرَاهِيَتِهِ فَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا مُجْمَلٌ، نَعَمْ إِنَّ التَّصَدِّيَ لِلْإِخْبَارِ بِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنْ فَاعِلِ شَيْءٍ يَبْدُو مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا هَذَا عُرْفُ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ فَقَوْلُكَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي فِعْلِ كَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ إِذْ لَا يَعْمِدُ أَحَدٌ إِلَى وَاجِبٍ أَوْ فَرْضٍ أَوْ مَنْدُوبٍ

فَيَقُولُ فِيهِ إِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي فِعْلِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَهِمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْآيَةِ عَدَمَ فَرْضِيَّةِ السَّعْيِ، وَلَقَدْ أَصَابَ فَهْمًا مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، غَيْرَ أَنَّ هُنَا سَبَبًا دَعَا لِلتَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ السَّاعِي وَهُوَ ظَنُّ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ فِي ذَلِكَ إِثْمًا، فَصَارَ الدَّاعِي لِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ السَّاعِي هُوَ مُقَابَلَةَ الظَّنِّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ قَصْدِ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ اللَّاحِقَةِ بِنُزُولِ الْآيَةِ أَوِ السَّابِقَةِ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَ عُرْوَةُ فِيمَا رَوَاهُ «وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ» يُرِيدُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بالسنن وأسبابا النُّزُولِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ جَهْلَهُ بِاللُّغَةِ لِأَنَّ اللُّغَةَ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِ مَفَادَاتِهَا الْحَدِيثُ وَالْكَبِيرُ، وَلِهَذَا أَيْضًا قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ «بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي» تُرِيدُ ذَمَّ كَلَامِهِ مِنْ جِهَةِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ مِنْ سُوءِ فَهْمِ مَقْصِدِ الْقُرْآنِ لَوْ دَامَ عَلَى فَهْمِهِ ذَلِكَ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الصَّرَاحَةِ فِي قَوْلِ الْحَقِّ، فَصَارَ ظَاهِرُ الْآيَةِ بِحَسَبَ الْمُتَعَارَفِ مُؤَوَّلًا بِمَعْرِفَةِ سَبَبِ التَّصَدِّي لِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ الطَّائِفِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَالْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ فِي الْآيَةِ جُنَاحٌ عَرَضَ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة فِي وَقت نَصْبِ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ لِذَاتِ السَّعْيِ، فَلَمَّا زَالَ سَبَبُهُ زَالَ الْجُنَاحُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: 128] فَنَفَى الْجُنَاحَ عَنِ التَّصَالُحِ وَأَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ فَالْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ عَنِ الصُّلْحِ مَا عَرَضَ قَبْلَهُ مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: 182] مَعَ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ إِثْمٌ عَارِضٌ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفْتِ الْمَذَاهِبُ فِي حُكْمِ السَّعْيِ (¬1) فَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَقَدِ اهْتَمَّ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَادَرَ إِلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» و «الْمُوَطَّأ» فَلَمَّا تَرَدَّدَ فِعْلُهُ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ وَالْفَرْضِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ فَرْضُ قَضَاءٍ لَحِقَ الِاحْتِيَاطَ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ بِسَائِرِ الْبَدَنِ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ فَيُقَاسُ عَلَى الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْإِحْرَامِ، بِخِلَافِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُمَا فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ صَلَاةٌ، وَبِخِلَافِ تَرْكِ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ، وَبِخِلَافِ رَمْيِ الْجِمَارِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ بَعُضْوٍ وَهُوَ الْيَدُ. وَقَوْلِي لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ ¬

(¬1) انْظُر «فتح الْقَدِير» (2/ 157، 158) ، «الْبَدَائِع» (2/ 133، 143) ، «رد الْمُخْتَار» (3/ 203) ، «شرح الرسَالَة» (1/ 471) ، «الشَّرْح الْكَبِير» (2/ 34) ، «شرح الْمِنْهَاج» (2/ 126، 127) ، «الْمَجْمُوع» (8/ 71، 72، 73، 75) ، «الْمُغنِي» 3/ 388، 389) ، «الْفُرُوع» (3/ 517) «كشاف القناع» (5/ 21) .

لِإِخْرَاجِ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ إِلَّا أَنه بِهِ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ وَهُوَ الْإِفَاضَةُ فَأَغْنَى عَنْ جَعْلِهِ فَرْضًا، وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» (¬1) ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ مُتَرَادِفَانِ عِنْدَنَا فِي الْحَجِّ، فَالْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ لَكِنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ مُسَاوٍ لِلْفَرْضِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالنُّسُكِ وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فِي الدَّلَالَةِ فَلَا يَكُونُ فَرْضًا بَلْ وَاجِبًا لِأَنَّ الْآيَةَ قَطْعِيَّةُ الْمَتْنِ فَقَطْ وَالْحَدِيثُ ظَنِّيٌّ فِيهِمَا، وَالْجَوَابُ أَن مَجْمُوع الظَّوَاهِر مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَإِلَّا فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا دَلِيلَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ فَمَتَى يَثْبُتُ هَذَا النَّوْعُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْفَرْضِ؟ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ مِنَ الْحَثِّ عَلَى السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِمَفَادِ قَوْلِهِ: مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ الْإِتْيَانُ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا مِنْ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ أَوْ نَوَافِلَ فَقَطْ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ خَيْراً خُصُوصَ السَّعْيِ لِأَنَّ خَيْرًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَهِيَ عَامَّةٌ وَلِهَذَا عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِئَلَّا يَكُونَ الْخَيْرُ قَاصِرًا عَلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [الْبَقَرَة: 184] لِأَنَّهُ أُرِيدَ هُنَالِكَ بَيَانُ أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ فِي الْفِطْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ أَوْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى إِطْعَامِ مِسْكِينٍ أَفْضَلُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتَطَوَّعَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى فَعَلَ طَاعَةً وَتَكَلَّفَهَا، وَيُطْلَقُ مُطَاوِعُ طَوَّعَهُ أَيْ جَعَلَهُ مُطِيعًا فَيَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّعِ غَالِبًا لِأَنَّ التَّبَرُّعَ زَائِدٌ فِي الطَّاعَةِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَانْتِصَابُ خَيْراً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ أَوْ بِتَضْمِينِ تَطَوَّعَ مَعْنَى فَعَلَ أَوْ أَتَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ مِنَ التَّطَوُّعِ أَيْ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَنَّهَا لِإِفَادَةِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ بَعْدَ ذِكْرِ تَشْرِيعٍ عَظِيمٍ، عَلَى أَنَّ تَطَوَّعَ لَا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى تَبَرَّعَ بَلْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى أَتَى بِطَاعَةٍ أَوْ تَكَلَّفَ طَاعَةً. ¬

(¬1) أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» (6/ 421) ، ط الْحلَبِي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 159 إلى 160]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ تَطَوَّعَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يَطَّوَّعْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَيَاءِ الْغَيْبَةِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ. ومِنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا جُوزِيَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ أَيْ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مُحْسِنٍ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَنْهُ إِحْسَانُهُ، وَذَكَرَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ تَرْكَ الثَّوَابِ عَنِ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جُحُودٍ لِلْفَضِيلَةِ أَوْ جَهْلٍ بِهَا فَلِذَلِكَ نُفِيَا بِقَوْلِهِ: شاكِرٌ عَلِيمٌ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ شاكِرٌ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ شَأْنَ اللَّهِ فِي جَزَاءِ الْعَبْدِ عَلَى الطَّاعَةِ بِحَالِ الشَّاكِرِ لِمَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعْمَةً، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْبِيهِ تَمْثِيلُ تَعْجِيلِ الثَّوَابِ وَتَحْقِيقِهِ لِأَنَّ حَالَ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ بشكر المحسن. [159، 160] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 159 إِلَى 160] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) عَوْدٌ بِالْكَلَامِ إِلَى مَهْيَعِهِ الَّذِي فُصِلَ عَنْهُ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ شَرْعِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي كَتْمِهِمْ دَلَائِلَ صِدْقِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ دِينِهِ الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي كَتْمِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلْعَهْدِ فَإِنَّ الْمَوْصُول يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ وَعَلَيْهِ فَلَا عُمُومَ هُنَا، وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ هُنَا لِلْجِنْسِ فَهُوَ كَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ فَيَعُمُّ وَيَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَلَا يُخَصَّصُ بِسَبَبِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادَ سَبَبِهِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ الصَّالِحِ هُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى صُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ وَدَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا يَشْمَلُهُ مَفْهُومُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَمُنَاسَبَةُ وَقْعِ هَاتِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا كَانَ مِنَ الْأَفَانِينِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُتَفَنِّنَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا قَابَلَ بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْبِيهِهِمْ فِيهَا بِحَالِ سَلَفِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ دَعْوَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِلَى مَبْلَغِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 75]

إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: 101] الْآيَةَ وَمَا قَابَلَ بِهِ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، ثُمَّ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ وَفَائِهِمْ بِوَصَايَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ سَدَنَةُ بَيْتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 114] الْآيَاتِ، فَنَوَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ وَبِالْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالِهَا وَشَعَائِرِهَا وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146] (يُرِيدُ عُلَمَاءَهُمْ) ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِتَكْمِلَةِ فَضَائِلِ الْكَعْبَةِ وَشَعَائِرِهَا، فَلَمَّا تَمَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا رَمَاهُمْ بِهِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْخَطَابَةِ هِيَ إِيفَاءُ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ حَقَّهُ وَتَقْصِيرُ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى مَا يُهِمُّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ اسْتِطْرَادٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ تَخَلَّلَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ. فَجُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِلَخِ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ يَعْرِفُ مِنْهُ السَّامِعُ تَفْصِيلَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ إجماله، والتوكيد بإنّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَالْكَتْمُ وَالْكِتْمَانُ عَدَمُ الْإِخْبَارِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ مِنْ حَادِثٍ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ وَمِنْهُ كَتْمُ السِّرِّ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ غَيْرَكَ وَتَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُخْبِرُهُ غَيْرَهُ. وَعَبَّرَ فِي: يَكْتُمُونَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ كَاتِمُونَ لِلْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمَعْنِيَ بِهِ قَوْمٌ مَضَوْا مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْمَاضِينَ وَالْآتِينَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي ذَلِك. وَالْمرَاد بِمَا أَنْزَلْنَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ مِنَ الدَّلَائِلِ والإرشاد، وَالْمرَاد بِالْكتاب التَّوْرَاةُ. وَالْبَيِّنَاتُ جُمَعُ بَيِّنَةٍ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَشَمَلَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَيَشْمَلُ الْأَدِلَّةَ الْمُرْشِدَةَ إِلَى الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بدلائل صدق لَا سِيمَا الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ فِي إِخْوَةِ إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ ظَهَرَتْ بِعْثَتُهُ بَيْنَهُمْ وَانْتَشَرَتْ مِنْهُمْ، وَالْهُدَى هُوَ مَا بِهِ الْهُدَى أَيِ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ فَيَشْمَلُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.

وَالْكِتْمَانُ يَكُونُ بِإِلْغَاءِ الْحِفْظِ وَالتَّدْرِيسِ وَالتَّعْلِيمِ، وَيَكُونُ بِإِزَالَتِهِ مِنَ الْكِتَابِ أَصْلًا وَهُوَ ظَاهِرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الْأَنْعَام: 91] ، يَكُونُ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ عَنْ مُرَادِ الشَّارِعِ لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْمَعْنَى كِتْمَانٌ لَهُ، وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ يَكْتُمُونَ الدَّالِّ عَلَى الْمَكْتُومِ عَنْهُ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ يَكْتُمُونَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ لِيَتَأَتَّى نِسْيَانُهُ وَإِضَاعَتُهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُتَعَلِّقٌ بِ (يَكْتُمُونَ) وَذَكَرَ هَذَا الظَّرْفَ لِزِيَادَةِ التَّفْظِيعِ لِحَالِ الْكِتْمَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَعَ انْتِفَاءِ الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَتَمُوا مَا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ لَكَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ أَنْ يَقُولُوا كَتَمْنَاهُ لِعَدَمِ اتِّضَاحِ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ بُيِّنَ وَوَضَحَ فِي التَّوْرَاةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ لِأَجْلِ النَّاسِ أَيْ أَرَدْنَا إِعْلَانَهُ وَإِشَاعَتَهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ بَيِّنًا، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَتَوْهُ مِنَ الْكِتْمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ كِتْمَانًا لِلْحَقِّ وَحِرْمَانًا مِنْهُ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ الَّذِي جُعِلَ لِأَجْلِهِ فَفِعْلُهُمْ هَذَا تَضْلِيلٌ وَظُلْمٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّاسِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الشَّرَائِعَ لِهُدَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيِ النَّاسِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وَسَّطَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِهِ لِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ بِحَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ جَعَلَتْهُمْ كَالْمُشَاهِدِينَ لِلسَّامِعِ فَأُشِيرَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْصَافِهِمْ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَفَادَتِ الْإِشَارَةُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ هِيَ سَبَبُ الْحُكْمِ وَهُوَ إِيمَاءٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى حَدِّ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِيَكُونَ أَبْعَثَ لِلسَّامِعِ عَلَى التَّأَمُّلِ مِنْهُمْ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ أَوْ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي الْآيَة إِيمَان إِلَى وَجْهِ تَرَتُّبِ اللَّعْنِ عَلَى الْكِتْمَانِ وَهُمَا الْإِيمَاءُ بِالْمَوْصُولِ إِلَى وَجه بِنَاء الْخَبَر أَيْ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَالْإِيمَاءُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَحْرَوِيَّتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَأْكِيدُ الْإِيمَاءِ إِلَى التَّعْلِيلِ قَائِمًا مُقَامَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ.

وَاللَّعْنُ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ مَعَ إِذْلَالٍ وَغَضَبٍ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالْعَذَابِ فِي جَهَنَّمَ، وَأَمَّا لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ الدُّعَاءُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُبْعِدَهُمُ اللَّهُ عَنْ رَحْمَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَعَنَهُمْ أَيْضًا فِيمَا مَضَى إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ لَعْنِهِمْ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، وَكَرَّرَ فِعْلَ يَلْعَنُهُمُ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ تَكْرِيرِهِ لاخْتِلَاف معنى اللعنين فَإِنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّهِ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَاللَّعْنُ مِنَ الْبَشَرِ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [الْأَحْزَاب: 56] لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي: اللَّاعِنُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيْ يَلْعَنُهُمْ كُلُّ لَاعِنٍ، وَالْمُرَادُ بِاللَّاعِنِينَ الْمُتَدَيِّنُونَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَأَصْحَابَهُ وَيَغْضَبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَطَّلِعُونَ عَلَى كِتْمَانِ هَؤُلَاءِ فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ بِالتَّعْيِينِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى تَعْيِينِهِمْ فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ بِالْعُنْوَانِ الْعَامِّ أَيْ حِينِ يَلْعَنُونَ كُلَّ مَنْ كَتَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ حِينَ يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ. وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُبَيِّنُوا التَّوْرَاةَ وَلَا يُخْفُوهَا كَمَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمرَان: 187] . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ اللَّعْنَةِ عَلَى إِضَاعَةِ عَهْدِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ مَرَّاتٍ وَأَشْهَرُهَا الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (حُورِيبَ) حَسْبَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي (مُؤَابٍ) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اللَّعْنَةُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَمِنْهُ: «أَنْتُمْ وَاقِفُونَ الْيَوْم جميعكم أما الرَّبِّ إِلَهِكُمْ ... لِكَيْ تَدْخُلُوا فِي عَهْدِ الرَّبِّ وَقَسَمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ فِيكُمُ الْيَوْمَ مُنْصَرِفٌ عَنِ الرَّبِّ ... فَيَكُونُ مَتَى يَسْمَعُ كَلَامَ هَذِهِ اللَّعْنَةِ يَتَبَرَّكُ فِي قَلْبِهِ ... حِينَئِذٍ يَحُلُّ غَضَبُ الرَّبِّ وَغَيْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَتَحُلُّ عَلَيْهِ كُلُّ اللَّعَنَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَمْحُو الرَّبُّ اسْمَهُ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ ويفرزه الرب للشر مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ جَمِيعِ لَعَنَاتِ الْعَهْدِ الْمَكْتُوبَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ هَذَا ... لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الثَلَاثِينَ: «وَمَتَى أَتَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْأُمُورُ الْبَرَكَةُ وَاللَّعْنَةُ جَعَلْتُهُمَا قُدَّامَكَ»

وَفِيهِ: «أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ» . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِاللَّعْنَةِ الْمَسْطُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ مَتْلُوَّةٌ دَائِمًا بَيْنَهُمْ فَكُلَّمَا قَرَأَ الْقَارِئُونَ هَذَا الْكَلَامَ تَجَدَّدَتْ لَعْنَةُ الْمَقْصُودِينَ بِهِ، وَالَّذِينَ كَتَمُوا مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هم أَيْضا يقرأون التَّوْرَاة فَإِذا قرأوا لَعْنَةَ الْكَاتِمِينَ فَقَدْ لَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَأَمَّا الَّذِينَ يَلْعَنُونَ الْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ غَيْرَ الْكَاتِمِينَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَهُمْ غَيْرُ مَشْمُولِينَ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَبِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ اللَّاعِنُونَ بِاللَّامِ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ لَامَ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَاسِطَةٌ بَيْنَ لَامِ الْحَقِيقَةِ وَلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ. وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى التَّعْرِيفِ مَعَ أَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ مَعْرُوفًا لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ مَجْهُولٌ، أَوْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ أَيْ يَلْعَنُهُمُ الَّذِينَ لَعَنُوهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَوْصَوْا بِإِعْلَانِ الْعَهْدِ وَأَنْ لَا يَكْتُمُوهُ. وَلَمَّا كَانَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِيمَاءٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ مِنْ غَيْرِ أُولَئِكَ يَكُونُ حَقِيقًا بِمَا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَخَبَرُهُ فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا ذَمَّ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فَالْمُسْلِمُونَ مُحَذَّرُونَ من مثله، وَلذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا بَعْدَ أَنْ قَالَ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى الْآيَةَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ (¬1) . فَالْعَالِمُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَ مِنْ عِلْمِهِ مَا فِيهِ هُدًى لِلنَّاسِ لِأَنَّ كَتْمَ الْهُدَى إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْخَبَرَ كَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ عَنْ نَظَرٍ كَالِاجْتِهَادَاتِ إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّ فِيهَا خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي تُومِئُ إِلَيْهِ الْعِلَّةُ أَنْ يَبُثَّ فِي النَّاسِ مَا يُوقِعَهُمْ فِي أَوْهَامٍ بِأَنْ يُلَقِّنَهَا وَهُوَ لَا يُحْسِنُ تَنْزِيلَهَا وَلَا تَأْوِيلَهَا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَهُ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ فِي: (3) «كتاب الْعلم» (42) ، بَاب حفظ الْعلم، حَدِيث (118) . انْظُر «فتح الْبَارِي» (1/ 213، دَار الْمعرفَة.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهَا النَّبِيءُ فَذَكَرَ لَهُ أَنَسٌ حَدِيثَ الْعَرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَقَطَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ وَدِدْتُ أَنَّهُ لم يحدثه، أَو يتلفقون مِنْ ظَاهِرِهِ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ فَيَجْعَلُونَهُ مَعْذِرَةً لَهُمْ فِيمَا يُعَامِلُونَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلْمِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» : لَا يَحِلُّ لِلْعَالِمِ أَنْ يَذْكُرَ لِلظَّالِمِ تَأْوِيلًا أَوْ رُخْصَةً يَتَمَادَى مِنْهَا إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَمَنْ يَذْكُرُ لِلظَّالِمِ مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» مِنْ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِذَا ضَعُفَ وَاضْطُرَّ السُّلْطَانُ إِلَى مَا يُجَهِّزُ بِهِ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى النَّاسِ الْعُشْرَ أَوْ غَيْرَهُ لِإِقَامَةِ الْجَيْشِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَذِكْرُ هَذِهِ الْمَظْلَمَةِ مِمَّا يُحْدِثُ ضَرَرًا فَادِحًا فِي النَّاسِ. وَقَدْ سَأَلَ سُلْطَانُ قُرْطُبَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدَّاخِلُ يَحْيَى بن يحيى اليثي عَنْ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ عَلَى قُرْبَانِ بَعْضِ جَوَارِيهِ فِيهِ فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ يَصُومُ سِتِّينَ يَوْمًا وَالْفُقَهَاءُ حَاضِرُونَ مَا اجْتَرَءُوا عَلَى مُخَالَفَةِ يَحْيَى فَلَمَّا خَرَجُوا سَأَلُوهُ لِمَ خَصَصْتَهُ بِأَحَدِ الْمُخَيَّرَاتِ فَقَالَ لَوْ فَتَحْنَا لَهُ هَذَا الْبَابَ لَوَطِئَ كُلَّ يَوْمٍ وَأَعْتَقَ أَوْ أَطْعَمَ فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْأَصْعَبِ لِئَلَّا يَعُودَ اه. قُلْتُ فَهُوَ فِي كَتْمِهِ عَنْهُ الْكَفَّارَتَيْنِ الْمُخَيَّرِ فِيهِمَا قَدْ أَعْمَلَ دَلِيلَ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْجُرْأَةِ عَلَى حُرْمَةِ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ. فَالْعَالِمُ إِذَا عُيِّنَ بِشَخْصِهِ لِأَنْ يُبَلِّغَ عِلْمًا أَوْ يُبَيِّنَ شَرْعًا وَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ مِثْلَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِبْلَاغِ كُتُبِهِ أَوْ لِدَعْوَةِ قَوْمِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا بِشَخْصِهِ فَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَعْلَمُهُ قَدِ احْتَاجَتِ الْأُمَّةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْهُ خَاصَّةً بِحَيْثُ يَتَفَرَّدُ بِعِلْمِهِ فِي صُقْعٍ أَوْ بَلَدٍ حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى أُنَاسٍ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَتَعَسَّرُ بِحَيْثُ إِنْ لَمْ يُعَلِّمْهَا إِيَّاهُ ضَلَّتْ مِثْلُ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الِاعْتِقَادِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ وُجُوبًا مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِ إِنِ انْفَرَدَ بِهِ فِي عَصْرٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ كَانَ هُوَ أَتْقَنَ لِلْعِلْمِ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ يَتَفَهَّمُونَ أَوْ يَتَعَلَّمُونَ فَإِذَا جَاءُوكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا» . وَإِنْ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ أَمْثَالِهِ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُعَلِّمُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ وَفَوَائِدِهَا الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ أَوْ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا

يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَمِمَّا يُعَدُّ قَدْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ أَنْ تُعَيَّنَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ لِيُعَلِّمَهُمْ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَرَى أَنَّ فِي عِلْمِهِمْ بِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ وَقُدْرَةً عَلَى فَهْمِهِ وَحُسْنِ وَضْعِهِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِلتَّعَلُّمِ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَهُمْ مَقْدِرَةٌ عَلَى تَلَقِّيهِ وَإِدْرَاكِهِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْكِتْمَانَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ أَعْلَاهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَقِيَّةُ الْمَرَاتِبِ تُؤْخَذُ بِالْمُقَايَسَةِ، وَهَذَا يَجِيءُ أَيْضًا فِي جَوَابِ الْعَالِمِ عَمَّا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ فَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ أَوْ كَانَ قَدْ عُيِّنَ لِلْجَوَابِ مِثْلُ مَنْ يُعَيَّنُ لِلْفَتْوَى فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ فَعَلَيْهِ بَيَانُهُ إِذَا عَلِمَ احْتِيَاجَ السَّائِلِ وَيَجِيءُ فِي انْفِرَادِهِ بِالْعِلْمِ أَوْ تَعْيِينِهِ لِلْجَوَابِ وَفِي عَدَمِ انْفِرَادِهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الْوُجُوبِ الْعَيْنِيِّ وَالْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ. وَفِي غَيْرِ هَذَا فَهُوَ فِي خيرة أَو يُجِيبَ أَوْ يَتْرُكَ. وَبِهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ «السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَخَصَّصَ عُمُومَهُ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ بِتَخْصِيصَاتٍ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ قَدْ أَشَرْنَا إِلَى جُمَاعِهَا. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي كِتْمَانِ الشَّاهِدِ بِحَقِّ شَهَادَتِهِ. وَالْعُهْدَةُ فِي وَضْعِ الْعَالِمِ نَفْسَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا يَأْنَسُهُ مِنْ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ وَمَا يَسْتَبْرِئُ بِهِ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. وَالْعُهْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الطَّالِبِينَ وَالسَّائِلِينَ عَلَيْهِ لِيُجْرِيَهَا عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ عَلَى مَا يَتَوَسَّمُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْأَحْوَالِ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَوْ حَالِ سَائِلِهِ فَلْيَسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ. وَيَجِبُ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ حِكْمَةِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْهُدى حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ ضَابِطًا لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ كِتْمَانُ مَا يُكْتَمُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أَيْ فَهُمْ لَا تَلْحَقُهُمُ اللَّعْنَةُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مَنْصُوبٌ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ. وَشَرْطٌ لِلتَّوْبَةِ أَنْ يُصْلِحُوا مَا كَانُوا أَفْسَدُوا وَهُوَ بِإِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 161 إلى 162]

فَلَا يَكْفِي اعْتِرَافُهُمْ وَحْدَهُمْ أَوْ فِي خَلَوَاتِهِمْ، فَالتَّوْبَةُ هُنَا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ كِتْمَانِهِمُ الشَّهَادَةَ لَهُ الْوَارِدَةَ فِي كُتُبِهِمْ وَإِطْلَاقُ التَّوْبَةِ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَارِدٌ كَثِيرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ تَوْبَةُ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا زَادَ بَعْدَهُ وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا لِأَنَّ شَرْطَ كُلِّ تَوْبَةٍ أَنْ يَتَدَارَكَ التَّائِبُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مِمَّا أَضَاعَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَابَ عَنْهُ. وَلَعَلَّ عَطْفَ وَبَيَّنُوا عَلَى أَصْلَحُوا عَطْفُ تَفْسِيرٍ. وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِغَيْرِ بَيَانٍ بَلْ لِفَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى الَّذِينَ تابُوا فَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ وَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ مَنْ تَابُوا مِنَ الْكَاتِمِينَ لَا يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ يُمَثِّلُ النُّكْتَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ. وَقُرِنَتِ الْجُمْلَةُ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَفَادِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ يَعْقُبُهَا رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ. وَفِي «صَحِيح البحاري» (¬1) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلِ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحر والعطش أَو (¬2) مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ» . فَجَاءَ فِي الْآيَةِ نَظْمٌ بَدِيعٌ تَقْدِيرُهُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا انْقَطَعَتْ عَنْهُمُ اللَّعْنَةُ فَأَتُوبُ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَرْضَى، وَزَادَ تَوَسُّطُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ وَهُوَ إيجاز بديع. [161، 162] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 161 إِلَى 162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ لِإِفَادَةِ حَالِ فَرِيقٍ آخَرَ مُشَارِكٍ لِلَّذِي قَبْلَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ لَعْنَةِ اللَّهِ وَاللَّاعِنِينَ وَهِيَ لَعْنَةٌ أُخْرَى. وَهَذَا الْفَرِيقُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّ الْكُفْرَ يُطْلَقُ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قُرِنُوا سَابِقًا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ فِي: (80) «كتاب الدَّعْوَات» (4) ، «بَاب التَّوْبَة» ، حَدِيث (6308. انْظُر «فتح الْبَارِي» (11/ 102) . (¬2) فِي المطبوعة وَاو الْعَطف والتصويب من الْمصدر السَّابِق. قَالَ ابْن حجر: «أَو، شكّ من أبي شهَاب» .

قَالَ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: 105] الْآيَةَ وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَة: 118] فَلَمَّا اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ بِبَيَانِ لَعْنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ عُقُوبَةِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا فَالْقَوْلُ فِي الِاسْتِئْنَافِ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [الْبَقَرَة: 159] مِنْ كَوْنِهِ بَيَانِيًّا أَوْ مُجَرَّدًا. وَقَالَ الْفَخْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ وَهُوَ شَامِلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُمُونَ وَغَيْرِهِمْ وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ أَيْ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْمِيمِ الْحُكْمِ بَعْدَ إِنَاطَتِهِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْمُرَادَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خُصُوصَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ (¬1) وَمَاتُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ ذَكَرَ لَعْنَتَهُمْ أَحْيَاءً ثُمَّ لَعَنْتَهُمْ أَمْوَاتًا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ إِعَادَةَ وَكَفَرُوا لَا نُكْتَةَ لَهَا لِلِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ يُقَالَ وَالَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، عَلَى أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَفَادُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَعَ اسْتِثْنَائِهَا، وَاللَّعْنَةُ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا معنى لجعلهما لَعْنَتَيْنِ، وَلِأَنَّ تَعْقِيبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَة: 163] يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْمُشْرِكُونَ لِتَظْهَرَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَلْعَنُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَسَائِرُ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُوَحِّدِينَ لِلْخَالِقِ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّمَا يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعُمُومُ (النَّاسِ) عُرْفِيٌّ أَيِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَقَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها تَصْرِيحٌ بِلَازِمِ اللَّعْنَةِ الدَّائِمَةِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِجَهَنَّمَ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُقَامِ مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] ، كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَة: 26] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّعْنَةِ وَيُرَادَ أَثَرُهَا وَلَازِمُهَا. وَقَوْلُهُ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أَيْ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ عَظِيمٌ يَصُدَّهُمْ عَنْ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ كُفْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. والإنظار الْإِمْهَال، نطره نَظَرَهُ أَمْهَلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ وَلَا هُمْ يُمْهَلُونَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ إِذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ دُونَ الْجِزْيَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 15، 16] وَهِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ. ¬

(¬1) يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى السَّابِق: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ [الْبَقَرَة: 159] .

[سورة البقرة (2) : آية 163]

وَقِيلَ: يُنْظَرُونَ هُنَا مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا يَتَعَدَّى بِإِلَى أَيْ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ وَالتَّحْقِيرِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِخِلَافِ قَوْله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ فَالْمَقْصُودُ التَّجَدُّدُ لِيَكُونُوا غَيْرَ آيِسِينَ من التَّوْبَة. [163] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 163] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [الْبَقَرَة: 161] . وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَنَالُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ مِنَ اللَّعْنَةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ وَأَشْرَكُوا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَفِي هَذَا الْعَطْفِ زِيَادَةُ تَرْجِيحٍ لِمَا انْتَمَيْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. وَالْخِطَابُ بِكَافِ الْجَمْعِ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى خِطَابُهُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ لِلْقُرْآنِ وَسَامِعٍ فَالضَّمِيرُ عَامٌّ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ ابْتِدَاءً الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا. وَالْإِلَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلِذَلِكَ تَعَدَّدَتِ الْآلِهَةُ عِنْدَهُمْ وَأُطْلِقَ لَفْظُ الْإِلَهِ عَلَى كُلِّ صَنَمٍ عَبَدُوهُ وَهُوَ إِطْلَاقٌ نَاشِئٌ عَنِ الضَّلَالِ فِي حَقِيقَةِ الْإِلَهِ لِأَنَّ عِبَادَةَ مَنْ لَا يُغْنِي عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ عَابِدِهِ شَيْئًا عَبَثٌ وَغَلَطٌ، فَوَصْفُ الْإِلَهِ هُنَا بِالْوَاحِدِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ فَلَيْسَ إِطْلَاقُ الْإِلَهِ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ نَقَلًا فِي لُغَةِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ تَحْقِيقٌ لِلْحَقِّ. وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِ جَمْعِ الْآلِهَةِ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَهُوَ فِي مَقَامِ التَّغْلِيطِ لِزَعْمِهِمْ نَحْوُ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَحْقَاف: 28] ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الْجَمْعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطْلَقْ فِي الْقُرْآنِ الْإِلَهُ بِالْإِفْرَادِ عَلَى الْمَعْبُودِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبِهَذَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِكْدَادِ عَقْلِكَ فِي تَكَلُّفَاتٍ تَكَلَّفَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. وَالْإِخْبَارُ عَن إِلَهكُم بإله تَكْرِيرٌ لِيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِوَاحِدٍ وَالْمَقْصُودُ وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ وَسَّطَ لَفْظَ إِلهٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ عَالَمُ الْمَدِينَةِ عَالَمٌ فَائِقٌ وَلِيَجِيءَ مَا كَانَ أَصْلُهُ مَجِيءَ النَّعْتِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلْمَوْصُوفِ لِأَنَّهُ صَارَ نَعْتًا

إِذْ أَصْلُ النَّعْتِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ثَابِتًا وَأَصْلُ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا حَادِثًا، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ أَنْ يُعَادَ الِاسْمُ أَوِ الْفِعْلُ بَعْدَ ذكره ليبنى على وَصْفٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ كَقَوْلِهِ إِلهاً واحِداً [الْبَقَرَة: 133] . وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 27] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ... وَالتَّنْكِيرُ فِي إِلهٌ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَقْرِيرُ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ واحِدٌ خِلَافًا لِصَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الْأَنْعَام: 19] إِذْ جَعَلَ التَّنْكِيرَ فِي إِلهٌ لِلْإِفْرَادِ وَجَعَلَ تَفْسِيرَهُ بِالْوَاحِدِ بَيَانًا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الْإِفْرَادِ فِي الْقَصْدِ مِنَ التَّنْكِيرِ مَصِيرٌ لَا يَخْتَارُهُ الْبَلِيغُ مَا وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ وَتَنْصِيصٌ عَلَيْهَا لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَمَالَ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمُبَالَغَةِ هُوَ نَسِيجُ وَحْدِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَهَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُشْرِكُونَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» . وَقَدْ أَفَادَتْ جُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ التَّوْحِيدَ لِأَنَّهَا نَفَتْ حَقِيقَةَ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَخَبَرُ لَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي لَا مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَالتَّقْدِيرُ لَا إِلَه مَوْجُود إِلَّا هُوَ. وَقَدْ عَرَضَتْ حَيْرَةٌ لِلنُّحَاةِ فِي تَقْدِيرِ الْخَبَرِ فِي هَاتِهِ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ مَوْجُودٍ يُوهِمُ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ إِلَهٌ لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ التَّكَلُّمِ بِهَاتِهِ الْجُمْلَةِ، وَأَنَا أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْطَالُ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ ادَّعَوْا آلِهَةً مَوْجُودَةً الْآنَ وَأَمَّا انْتِفَاءُ وُجُودِ إِلَهٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَعْلُومٌ لِأَنَّ الْأَجْنَاسَ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ لَا يُتَرَقَّبُ وَجُودُهَا مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ مُثْبِتِي الْآلِهَةَ يُثْبِتُونَ لَهَا الْقِدَمَ فَلَا يُتَوَهَّمُ تَزَايُدُهَا، وَنُسِبَ إِلَى الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لِخَبَرٍ هُنَا وَأَنَّ أَصْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ إِلَهٌ فَقَدَّمَ إِلهٌ وَأَخَّرَ (هُوَ) لِأَجْلِ الْحَصْرِ بِإِلَّا وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ «رِسَالَةً» ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا مَفَاهِيمَ لَهَا فَلَيْسَ تَقْدِيرُ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ بِقَوْلِكَ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ بَلْ إِنَّ التَّقْدِيرَ لِإِظْهَارِ مَعَانِي الْكَلَامِ وَتَقْرِيبِ الْفَهْمِ وَإِلَّا فَإِنَّ لَا النَّافِيَةَ إِذَا نَفَتِ النَّكِرَةَ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ أَيْ نَفْيِ تَحَقُّقِ الْحَقِيقَةِ فَمَعْنَى لَا إِلَهَ انْتِفَاءُ الْأُلُوهِيَّةِ إِلَّا اللَّهُ أَي إلّا الله. وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وَصْفَانِ لِلضَّمِيرِ، أَيِ الْمُنْعِمِ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ وَدَقَائِقِهَا وَهُمَا وَصْفَانِ لِلْمَدْحِ وَفِيهِمَا تَلْمِيحٌ لِدَلِيلِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بهَا لِأَنَّهُ منعم، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمُنْعِمٍ وَلَيْسَ فِي الصِّفَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَصْرِ وَلَكِنَّهُمَا تَعْرِيضٌ بِهِ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِبْطَالِ أُلُوهِيَّةِ غَيْرِهِ

[سورة البقرة (2) : آية 164]

فَكَانَ مَا يَذْكُرُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأُلُوهِيَّةِ هُوَ فِي مَعْنَى قَصْرِهَا عَلَيْهِ تَعَالَى، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفَيِ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى أَنَّ فِي ذِكْرِ صِفَةِ الرَّحْمَنِ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ أَبَوْا وَصْفَ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْإِلَهِ الْمَنْفِيِّ أَيْ أَنَّ جِنْسَ الْإِلَهِ مَنْفِيٌّ إِلَّا هَذَا الْفَرْدَ، وَخَبَرُ (لَا) فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْمَوَاضِعِ يَكْثُرُ حَذْفُهُ لِأَنَّ لَا التَّبْرِئَةِ مُفِيدَةٌ لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَالْفَائِدَةُ حَاصِلَةٌ مِنْهَا وَلَا تَحْتَاجُ لِلْخَبَرِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَقْيِيدُ النَّفْيِ بِحَالَةٍ نَحْوَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَرِهُوا بَقَاءَ صُورَةِ اسْمٍ وَحَرْفٍ بِلَا خَبَرٍ ذَكَرُوا مَعَ اسْمِ لَا خَبَرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا شَيْئًا يَسُدُّ مَسَدَّ الْخَبَرِ فِي الصُّورَةِ حَذَفُوا الْخَبَرَ مَعَ لَا نَحْوَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَنَحْوَ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةَ. وَلِأَبِي حَيَّانَ هُنَا تكلفات. [164] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) مَوْقِعُ هَاتِهِ الْآيَةِ عَقِبَ سَابِقَتِهَا مَوْقِعُ الْحُجَّةِ مِنَ الدَّعْوَى، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَنَ أَنَّ الْإِلَهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَهِيَ قَضِيَّةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتَلَقَّى بِالْإِنْكَارِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَنَاسَبَ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ لِمَنْ لَا يَقْتَنِعُ فَجَاءَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا يَسَعُ النَّاظِرَ إِلَّا التَّسْلِيم إِلَيْهَا. فَإِن هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِلَفْتِ الْأَنْظَارِ إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ. وَلَيْسَتْ إِنَّ هُنَا بِمُؤْذِنَةٍ بِتَعْلِيلٍ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا صَالِحًا لِتَعْلِيلِ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَوْقِعُ لِفَاءِ الْعَطْفِ فَحِينَئِذٍ يُغْنِي وُقُوعُ

(إِنَّ) عَنِ الْإِتْيَانِ بِفَاءِ الْعَطْفِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَقَدْ بَسَطْنَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [الْبَقَرَة: 61] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ دَلَائِلِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ إِثْرَ ذِكْرِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهَا إِذَا أُثْبِتَتْ بِهَا الْوَحْدَانِيَّةُ ثَبَتَ الْوُجُودُ بِالضَّرُورَةِ. فَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ دَهْرِيِّهِمْ وَمُشْرِكِهِمْ وَالْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً، وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ كُلُّهَا وَاضِحَةٌ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ مَعَ وُضُوحِهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَسْرَارٍ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي دَرْكِهَا حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِقْدَارَ الْأَدِلَّةِ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ قَرَائِحِهِمْ وَعُلُومِهِمْ. وَالْخَلْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَاخْتِيرَ هُنَا لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِلْعِبْرَةِ أَيْضًا فِي نَفْسِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنِّظَامِ الْجَامِعِ بَيْنَهَا فَكَمَا كُلَّ مَخْلُوقٍ مِنْهَا أَوْ فِيهَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ فَكَذَلِكَ مَجْمُوعُ خَلْقِهَا، وَلَعَلَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَهُوَ النِّظَامُ الْمُنْضَبِطُ فِي أَحْوَالِ الْأَرْضِ مَعَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالسَّمَاوَاتِ. والسَّماواتِ جَمْعُ سَمَاءٍ وَالسَّمَاءُ إِذَا أُطْلِقَتْ مُفْرَدَةً فَالْمُرَادُ بِهَا الْجَوُّ الْمُرْتَفِعُ فَوْقَنَا الَّذِي يَبْدُو كَأَنَّهُ قُبَّةٌ زَرْقَاءُ وَهُوَ الْفَضَاءُ الْعَظِيمُ الَّذِي تَسْبَحُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: 5] ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: 6] ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [الْبَقَرَة: 22] . وَإِذَا جُمِعَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا أَجْرَامٌ عَظِيمَةٌ ذَاتُ نِظَامٍ خَاصٍّ مِثْلُ الْأَرْضِ وَهِيَ السَّيَّارَاتُ الْعَظِيمَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَالَّتِي عُرِفَتْ مِنْ بَعْدُ وَالَّتِي سَتُعْرَفُ: عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ وَالْمِرِّيخُ وَالشَّمْسُ وَالْمُشْتَرِي وَزُحَلُ وَأُرَانُوسُ وَنِبْتُونُ. ولعلها هِيَ السَّمَوَات السَّبْعُ وَالْعَرْشُ الْعَظِيمُ، وَهَذَا السِّرُّ فِي جمع (السَّمَوَات) هُنَا وَإِفْرَادِ (الْأَرْضِ) لِأَنَّ الْأَرْضَ عَالَمٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى طَبَقَاتِهَا أَوْ أَقْسَامِ سَطْحِهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي خلق مَجْمُوع السَّمَوَات مَعَ الْأَرْضِ آيَاتٍ، فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ الْخَلْقُ وَجُعِلَتِ الْأَرْضُ مَعْطُوفًا على السَّمَوَات لِيَتَسَلَّطَ الْمُضَافُ عَلَيْهِمَا. وَالْآيَةُ فِي هَذَا الْخَلْقِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ عَرَفَ أَسْرَارَ هَذَا النِّظَامِ وَقَوَاعِدَ

الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سَيْرِ مَجْمُوعِ هَاتِهِ السَّيَّارَاتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْتَرِيهِ خَلَلٌ وَلَا خَرْقٌ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] ، وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْأَسْرَارِ تَكْوِينُهَا عَلَى هَيْئَةِ كُرَيَّةٍ قَالَ الْفَخْرُ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْحُسَامِ يَقْرَأُ «كِتَابَ الْمِجَسْطِيِّ» عَلَى عُمَرَ الْأَبْهَرِيِّ فَقَالَ لَهُمَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَوْمًا مَا الَّذِي تَقْرَءُونَهُ فَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ أُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] فَأَنَا أُفَسِّرُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا وَلَقَدْ صَدَقَ الْأَبْهَرِيُّ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي بِحَارِ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ اه. قُلْتُ وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الْخَلْقِ أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بِمَا يَحْتَاجُهُ كُلٌّ فَلَا يَنْقُصُ مِنَ الْمُمِدِّ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ يمده غَيره يما يُخْلِفُ لَهُ مَا نَقَصَ، وَهَكَذَا نَجِدُ الْمَوْجُودَاتِ مُتَفَاعِلَةً، فَالْبَحْرُ يُمِدُّ الْجَوَّ بِالرُّطُوبَةِ فَتَكُونُ مِنْهُ الْمِيَاهُ النَّازِلَةُ ثُمَّ هُوَ لَا يَنْقُصُ مَعَ طُولِ الْآبَادِ لِأَنَّهُ يُمِدُّهُ كُلُّ نَهْرٍ وَوَادٍ. وَهِيَ آيَةٌ لِمَنْ كَانَ فِي الْعَقْلِ دُونَ هَاتِهِ الْمَرْتَبَةِ فَأَدْرَكَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا الْخَلْقِ مَشْهَدًا بَدِيعًا فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَظُهُورِ الْكَوَاكِبِ فِي الْجَوِّ وَغُرُوبِهَا. وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَحُفُّ بِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ كَالنُّجُومِ الثَّوَابِتِ وَالشُّهُبِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ جِبَالٍ وَبِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَحَيَوَانٍ فَذَلِكَ مِنْ تَفَارِيعِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تَذْكِيرٌ بِآيَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ لَا تَخْفَى على أحد من الْعُقَلَاءِ وَهِيَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَعْنِي اخْتِلَافَ حَالَتَيِ الْأَرْضِ فِي ضِيَاءٍ وَظُلْمَةٍ، وَمَا فِي الضِّيَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ لِلنَّاسِ وَمَا فِي الظُّلْمَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ لَهُمْ لِحُصُولِ سُكُونِهِمْ وَاسْتِرْجَاعِ قُوَاهُمُ الْمَنْهُوكَةِ بِالْعَمَلِ. وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ لِخَاصَّةِ الْعُقَلَاءِ إِذْ يَعْلَمُونَ أَسْبَابَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهُ مِنْ آثَارِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلِهَذَا جُعِلَتِ الْآيَةُ فِي اخْتِلَافِهِمَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آيَةٌ. وَالِاخْتِلَافُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخَلْفِ وَهُوَ أَن يجيئ شَيْءٌ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ يَخْلُفُهُ فِي مَكَانِهِ وَالْخِلْفَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْخَلْفُ قَالَ زُهَيْرٌ: «بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً»

وَقَدْ أُضِيفَ الِاخْتِلَافُ لِكُلٍّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ فَتَحْصُلُ مِنْهُ فَوَائِدُ تُعَاكِسُ فَوَائِدَ الْآخَرِ بِحَيْثُ لَوْ دَامَ أَحَدُهُمَا لانقلب النَّفْع ضَرَرا قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الْقَصَص: 71، 72] . وَلِلِاخْتِلَافِ مَعْنًى آخَرُ هُوَ مُرَادٌ أَيْضًا وَهُوَ تَفَاوُتُهُمَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ فَمَرَّةً يَعْتَدِلَانِ وَمَرَّةً يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ أَزْمِنَةِ الْفُصُولِ وَبِحَسَبِ أَمْكِنَةِ الْأَرْضِ فِي أَطْوَالِ الْبِلَادِ وَأَعْرَاضِهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ لِأَنَّهُ آثَارُ الصُّنْعِ الْبَدِيعِ فِي شَكْلِ الْأَرْضِ وَمِسَاحَتِهَا لِلشَّمْسِ قُرْبًا وَبُعْدًا. فَفِي اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ بِالِاخْتِلَافِ هُنَا سِرٌّ بَدِيعٌ لِتَكُونَ الْعِبَارَةُ صَالِحَةً لِلْعِبْرَتَيْنِ. وَاللَّيْلُ اسْمٌ لِعَرْضِ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ الَّذِي يَعُمُّ مِقْدَارَ نِصْفٍ مِنْ كُرَةِ الْأَرْضِ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ مُقَابِلٍ لِلشَّمْسِ فَإِذَا حُجِبَ قُرْصُ الشَّمْسِ عَنْ مِقْدَارِ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ بِسَبَبِ التَّقَابُلِ الْكُرَوِيِّ تَقَلَّصَ شُعَاعُ الشَّمْسِ عَنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَأَخَذَ النُّورُ فِي الضَّعْفِ وَعَادَتْ إِلَيْهِ الظُّلْمَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي مَا أَزَالَهَا إِلَّا شُعَاعُ الشَّمْسِ وَيَكُونُ تَقَلُّصُ النُّورِ مُدَرَّجًا مَنْ وَقْتِ مَغِيبِ قُرْصِ الشَّمْسِ عَنْ مُقَابَلَةِ الْأُفُقِ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ الْغُرُوبِ ثُمَّ وَقْتِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ ثُمَّ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ إِلَى أَنْ يَحْلُكَ السَّوَادُ فِي وَقْتِ الْعَشَاءِ حِينَ بَعُدَ قُرْصُ الشَّمْسِ عَنِ الْأُفُقِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ الْمَغِيبُ، وَكُلَّمَا اقْتَرَبَ قُرْصُ الشَّمْسِ مِنَ الْأُفُقِ الْآخَرِ أَكْسَبَهُ ضِيَاءً مِنْ شُعَاعِهَا ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ إِلَى الْإِسْفَارِ إِلَى الشُّرُوقِ إِلَى الضُّحَى، حَيْثُ يَتِمُّ نُورُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الْمُتَّجِهَةِ إِلَى نِصْفِ الْكُرَةِ تَدْرِيجًا. وَذَلِكَ الضِّيَاءُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّهَارِ وَهُوَ النُّورُ التَّامُّ الْمُنْتَظِمُ عَلَى سَطْحِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَسْتَنِيرُ سَطْحُ الْكُرَةِ بِالْقَمَرِ فِي مُعْظَمِ لَيَالِيهِ اسْتِنَارَةً غَيْرَ تَامَّةٍ، وَبِضَوْءِ بَعْضِ النُّجُومِ اسْتِنَارَةً ضَعِيفَةً لَا تَكَادُ تُعْتَبَرُ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ تَعَاقُبِهِمَا وَخَلْفِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، وَمِنْ بَلَاغَةِ عِلْمِ الْقُرْآنِ أَنْ سَمَّى ذَلِكَ اخْتِلَافًا تَسْمِيَةً مُنَاسِبَةً لِتَعَاقُبِ الْأَعْرَاضِ عَلَى الْجَوْهَرِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ غَيْرُ

ذَاتِيٍّ فَإِنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يَخْتَلِفُ فَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَيْسَا ذَاتَيْنِ وَلَكِنَّهُمَا عَرَضَانِ خِلَافَ مُعْتَقَدِ الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ أَنَّ اللَّيْلَ جِسْمٌ أَسْوَدُ كَمَا صَوَّرَهُ الْمِصْرِيُّونَ الْقُدَمَاءُ عَلَى بَعْضِ الْهَيَاكِلِ وَكَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي اللَّيْلِ: فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشَّمْس: 3- 4] . وَقَوْلُهُ: وَالْفُلْكِ عَطْفٌ عَلَى خَلْقِ واخْتِلافِ فَهُوَ مَعْمُول لفي أَيْ وَفِي الْفُلْكِ، وَوَصْفُهَا بِالَّتِي تَجْرِي الْمَوْصُولِ لِتَعْلِيلِ الْعَطْفِ أَيْ أَنَّ عَطْفَهَا عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَجْرِي فِي الْبَحْرِ، وَفِي كَوْنِهَا نِعْمَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَجْرِي بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، فَأَمَّا جَرْيُهَا فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ آيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا آيَةُ خَلْقِ الْبَحْرِ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ الْفُلْكُ خَلْقًا عَجِيبًا عَظِيمًا إِذْ كَانَ مَاءً غَامِرًا لِأَكْثَرِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَمَا رُكِّبَ فِي مَائِهِ مِنَ الْأَمْلَاحِ وَالْعَقَاقِيرِ الْكِيمْيَاوِيَّةِ لِيَكُونَ غَيْرَ مُتَعَفِّنٍ بَلْ بِالْعَكْسِ يُخْرِجُ لِلْهَوَاءِ أَجْزَاءً نَافِعَةً لِلْأَحْيَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالثَّانِيَةُ آيَةُ سَيْرِ السُّفُنِ فِيهِ وَهُوَ مَاءٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ فَجَرْيُ السُّفُنِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْسَانَ لِلتَّفَطُّنِ لِهَذَا التَّسْخِيرِ الْعَجِيبِ الَّذِي اسْتَطَاعَ بِهِ أَنْ يَسْلُكَ الْبَحْرَ كَمَا يَمْشِي فِي الْأَرْضِ، وَصُنْعُ الْفُلْكِ مِنْ أَقْدَمِ مُخْتَرَعَاتِ الْبَشَرِ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَقْدَمِ عُصُورِ الْبَشَرِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لِلْفُلْكِ الرِّيَاحَ الدَّوْرِيَّةَ وَهِيَ رِيَاحٌ تَهُبُّ فِي الصَّبَاحِ إِلَى جِهَةٍ وَفِي الْمَسَاءِ إِلَى جِهَةٍ فِي السَّوَاحِلِ تنشأ عَن إحْيَاء أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ الْهَوَاءُ الَّذِي فِي الْبَرِّ حَتَّى يَخِفَّ الْهَوَاءُ فَيَأْتِي هَوَاءٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ لِيَخْلُفَ ذَلِكَ الْهَوَاءَ الْبَرِّيَّ الَّذِي تَصَاعَدَ فَتَحْدُثُ رِيحٌ رُخَاءٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ وَيَقَعُ عَكْسُ ذَلِكَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَتَأْتِي رِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْبَرِّ إِلَى الْبَحْرِ، وَهَذِهِ الرِّيحُ يَنْتَفِعُ بِهَا الصَّيَّادُونَ وَالتُّجَّارُ وَهِيَ تَكُونُ أَكْثَرَ انْتِظَامًا فِي مَوَاقِعَ مِنْهَا فِي مَوَاقِعَ أُخْرَى. وَسَخَّرَ لِلْفُلْكِ رِيَاحًا مَوْسِمِيَّةً وَهِيَ تَهُبُّ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ وَإِلَى عَكْسِهَا فِي أَشْهُرٍ أُخْرَى تَحْدُثُ مِنَ اتِّجَاهِ حَرَارَةِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ مَدَارِ السَّرَطَانِ وَمَدَارِ الْجَدْيِ، مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ عِنْدَ انْتِقَالِ الشَّمْسِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ إِلَى جِهَةِ مَدَارِ السَّرَطَانِ وَإِلَى جِهَةِ مَدَارِ الْجَدْيِ، فَتَحْدُثُ هَاتِهِ الرِّيحُ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي شطوط الْيمن وَحضر موت وَالْبَحْرِ الْهِنْدِيِّ وَتُسَمَّى الرِّيحَ التِّجَارِيَّةَ.

وَأَمَّا كَوْنُهَا نِعْمَةً فَلِأَن فِي هَذَا التَّسْخِيرِ نَفْعًا لِلتِّجَارَةِ وَالزِّيَارَةِ وَالْغَزْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ مَعَ الِاخْتِصَارِ. وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي كَثْرَتِهَا، وَهُوَ وَمُفْرَدُهُ سَوَاءٌ فِي الْوَزْنِ فَالتَّكْسِيرُ فِيهِ اعْتِبَارِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ مُفْرَدِهِ فُلُكٌ بِضَمَّتَيْنِ كَعُنُقٍ وَكُسِّرَ عَلَى فُلْكٍ مِثْلَ عُرْبٍ وَعُجْمٍ وَأُسْدٍ وَخُفِّفَ الْمُفْرَدُ بِتَسْكِينِ عَيْنِهِ لِأَنَّ سَاكِنَ الْعَيْنِ فِي مَضْمُومِ الْفَاءِ فَرْعُ مَضْمُومِ الْعين مَا قُصِدَ مِنْهُ التَّخْفِيف على مت بَيَّنَهُ الرَّضِيُّ فَاسْتَوَى فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقِيلَ الْمُفْرَدُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَالْجَمْعُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ قِيلَ أَسْدٌ وَأُسُدٌ وَخَشْبٌ وَخُشُبٌ ثُمَّ سُكِّنَتِ اللَّامُ تَخْفِيفًا، وَالِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ ضَمُّ الْفَاءِ وَسُكُونُ اللَّامِ قَالَ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ [هود: 37] . والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشُّعَرَاء: 119] وَقَالَ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَقَالَ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [إِبْرَاهِيم: 32] ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ [يُونُس: 22] ، ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ مُفْرَدِهِ التَّذْكِيرُ قَالَ تَعَالَى: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى السَّفِينَةِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: 41] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ [هود: 42] كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] . وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إِذْ عَدَّ لَفْظَ الْفُلْكِ مِمَّا أُنِّثَ بِدُونِ تَاءٍ وَلَا أَلِفٍ فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ «وَالْفُلْكُ تَجْرِي وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ» لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِاسْتِعْمَالِهِ مُؤَنَّثًا وَإِنْ كَانَ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلٍ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَجُوزُ فِي مُفْرَدِهِ فَقَطْ ضَمُّ اللَّامِ مَعَ ضَمِّ الْفَاءِ وَقُرِئَ بِهِ شَاذًّا وَالْقَوْلُ بِهِ ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ هُوَ بِضَمِّ اللَّامِ أَيْضًا لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعُ وَهُوَ مَرْدُودٌ إِذْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُ قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى السَّاكِنِ. وَفِي امْتِنَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَرَيَانِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ (¬1) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مِثْلِ رُكُوبِهِ لِلْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» (¬2) وَتَبِعَهُ أَهْلُ «الصَّحِيحِ» حَدِيثَ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فِي بَابِ التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ الثَّانِي مِنَ «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فَنَامَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا على الأسرة قَالَت فَقُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا» الْحَدِيثَ. ¬

(¬1) ذكر ذَلِك الْقُرْطُبِيّ فِي شَرحه لِلْآيَةِ، وَفِي مَوَاضِع أخر فِي (7/ 341، 8/ 325) . (¬2) فِي 21 «كتاب الْجِهَاد» (18) ، بَاب التَّرْغِيب فِي الْجِهَاد، حَدِيث 39. وَأخرجه البُخَارِيّ فِي: (56) ، «كتاب الْجِهَاد» (3) ، بَاب الدُّعَاء بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَة للرِّجَال وَالنِّسَاء وَمُسلم فِي: (33) «كتاب الْإِمَارَة» (49) ، بَاب فضل الْغَزْو فِي الْبَحْر، حَدِيث (160) .

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ» الحَدِيث. وَعَلِيهِ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنْ لَا يَحْمِلَ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ مُؤَوَّلٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَرْكِ التَّغْرِيرِ (¬1) وَأَنَا أَحْسَبُهُ قَدْ قَصَدَ مِنْهُ خَشْيَةَ تَأَخُّرِ نَجَدَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ لِأَنَّ السُّفُنَ قَدْ يَتَأَخَّرُ وُصُولُهَا إِذَا لَمْ تُسَاعِفْهَا الرِّيَاحُ الَّتِي تَجْرِي بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ وَلِأَنَّ رُكُوبَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ فِي سُفُنِ ذَلِكَ الْعَصْرِ مَظِنَّةُ وُقُوعِ الْغَرَقِ، وَلِأَنَّ عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي تَعْرِيضُهُ لِلْخَطَرِ فَذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ لِلنَّاسِ. وَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ اسْتَأْذَنَ مُعَاوِيَةُ عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهِ فَرَكِبَهُ لِغَزْوِ (قُبْرُصَ) ثُمَّ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفِي غَزْوَةِ (قُبْرُصَ) ظَهَرَ تَأْوِيل رُؤْيا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ نَهَى عَنْ رُكُوبِهِ ثُمَّ رَكِبَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَن مَالك كَرَاهَة سَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَحَدِيثُ أُمِّ حَرَامٍ يَرُدُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَلَكِنْ تَأَوَّلَهَا أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اطِّلَاعِهِنَّ عَلَى عَوْرَاتِ الرِّجَالِ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ فَخَصَّهُ أَصْحَابُهُ بِسُفُنِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِصِغَرِهَا وَضِيقِهَا وَتَزَاحُمِ النَّاسِ فِيهَا مَعَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْبَرِّ مُمْكِنًا سَهْلًا وَأَمَّا السُّفُنُ الْكِبَارُ كَسُفُنِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الِاسْتِتَارُ وَقِلَّةُ التَّزَاحُمِ فَلَيْسَ بِالسَّفَرِ فِيهَا لِلْمَرْأَةِ بَأْسٌ عِنْدَ مَالِكٍ (¬2) . وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَبْلَهُ جِيءَ بِهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِيَأْتِيَ عَطْفُ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ فَتَبْقَى الْجُمْلَةُ بِمَقْصِدِ الْعِبْرَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَالصِّلَةُ الْأُولَى وَهِيَ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ تَذْكِيرٌ بِالْعِبْرَةِ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مِنَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مَا لَيْسَ فِي نَحْوِ كَلِمَةِ الْمَطَرِ وَالْغَيْثِ، وَإِسْنَادُ الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَوْجَدَ أَسْبَابَ نُزُولِ الْمَاءِ بِتَكْوِينِهِ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ. وَالسَّمَاءُ الْمُفْرَدُ هُوَ الْجَوُّ وَالْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ الَّذِي يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ السَّامِعِينَ. ¬

(¬1) قَالَه الْقُرْطُبِيّ فِي (2/ 195) . (¬2) «التَّمْهِيد» لِابْنِ الْبر (1/ 233، 234) ، ط. الْمغرب.

وَوجه الْعبْرَة فِيهِ أَنَّ شَأْنَ الْمَاءِ الَّذِي يَسْقِي الْأَرْضَ أَنْ يَنْبُعَ مِنْهَا فَجَعْلُ الْمَاءِ نَازِلًا عَلَيْهَا مِنْ- ضِدِّهَا وَهُوَ السَّمَاءُ- عِبْرَةٌ عَجِيبَةٌ. وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِمَنْ يَجِيءُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ جَعْلَ الْمَاءِ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ يَصِيرُ مَاءً فِي الكرة الهوائية عِنْد مَا يُلَامِسُ الطَّبَقَةَ الزَّمْهَرِيرِيَّةَ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ تصير زمهريرا عِنْد مَا تَقِلُّ حَرَارَةُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلَعَلَّ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَخَاصَّةً الْقَمَرِ أَهْوِيَةً بَارِدَةً يَحْصُلُ بِهَا الزَّمْهَرِيرُ فِي ارْتِفَاعِ الْجَوِّ فَيَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي تَكْوِينِ الْبُرُودَةِ فِي أَعْلَى الْجَوِّ فأسند إِلَيْهَا بإنزال الْمَاءِ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَرُبَّمَا يُسْتَرْوَحُ لِهَذَا بِحَدِيثٍ مَرْوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْ بَحْرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ أَيْ أَنَّ عُنْصُرَ الْمَائِيَّةِ يَتَكَوَّنُ هُنَالك ويصل بالمجاورة حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى جَوِّنَا قَلِيلٌ مِنْهُ فَإِذَا صَادَفَتْهُ الْأَرْضُ تكون من ازدواجهما الْمَاءُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: 43] ، وَلَعَلَّهَا جِبَالُ كُرَةِ الْقَمَرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ أَنَّ نَهَارَ الْقَمَرِ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَيْلُهُ كَذَلِكَ، فَيَحْصُلُ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى شِدَّةِ الْبَرْدِ فَإِذَا كَانَتْ مُدَّةُ شِدَّةِ الْبَرْدِ هِيَ مُدَّةَ اسْتِقْبَالِهِ الْأَرْضَ أَحْدَثَ فِي جَوِّ الْأَرْضِ عُنْصُرَ الْبُرُودَةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ بِالْفَاءِ لِسُرْعَةِ حَيَاةِ الْأَرْضِ إِثْرَ نُزُولِ الْمَاءِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ الْفِعْلُ وَالْفَاءُ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَمَوْضِعُ مِنَّةٍ. وَأُطْلِقَتِ الْحَيَاةُ عَلَى تَحَرُّكِ الْقُوَى النَّامِيَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ قُوَّةُ النَّبَاتِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْحَيَاةَ حَقِيقَةً هِيَ ظُهُورُ الْقُوَى النَّامِيَةِ فِي الْحَيَوَانِ فَشُبِّهَتِ الْأَرْضُ بِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا الْحَيَاةَ حَقِيقَةً فِي ظُهُورِ قَوَى النَّمَاءِ وَجَعَلْنَا النَّبَاتَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَبِالْمَوْتِ فَقَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْمُرَادُ إِحْيَاءُ مَا تُرَادُ لَهُ الْأَرْضُ وَهُوَ النَّبَاتُ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ أَحْيَا وَمَوْتٍ طِبَاقَانِ. وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَطْفٌ إِمَّا عَلَى أَنْزَلَ فَيَكُونُ صِلَةً ثَانِيَةً وَبِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ قَبْلَهُ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةً ثَالِثَةً، وَإِمَّا عطف على فَأَحْيا فَيَكُونُ مَعْطُوفًا ثَانِيًا عَلَى الصِّلَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ بَيَانِيَّةٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ عَطْفًا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَة وَهُوَ فَأَحْيا فَمِنْ

فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ تَبْعِيضِيَّةٌ وَهِيَ ظَرْفٌ لَغْوٌ، أَيْ أَكْثَرَ فِيهَا عَدَدًا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ يَنْبَثُّ بَعْضٌ كَثِيرٌ مِنْ كُلِّ أَنْوَاعِهِ، فَالتَّنْكِيرُ فِي دَابَّةٍ لِلتَّنْوِيعِ أَي أَكثر الله مِنْ كُلِّ الْأَنْوَاعِ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِنَوْعٍ دُونَ آخَرَ. وَالْبَثُّ فِي الْأَصْلِ نَشْرُ مَا كَانَ خَفِيًّا وَمِنْهُ بَثَّ الشَّكْوَى وَبَثَّ السِّرَّ أَيْ أَظْهَرَهُ. قَالَتِ الْأَعْرَابِيَّةُ «لَقَدْ أَبْثَثْتُكَ مَكْتُومِي وَأَطْعَمْتُكَ مَأْدُومِي» وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ قَالَتِ السَّادِسَةُ «وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ» أَيْ لَا يَبْحَثُ عَن سر زوحته لِتَفْشُوَهُ لَهُ، فَمَثَّلَتِ الْبَحْثَ بِإِدْخَالِ الْكَفِّ لِإِخْرَاجِ الْمَخْبُوءِ (¬1) ، ثمَّ اسْتعْمل البث مَجَازًا فِي انْتِشَارِ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَامِنًا كَمَا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي مُطْلَقِ الِانْتِشَارِ، قَالَ الْحَمَاسِيُّ: وَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... وَفِي الأَرْض مثبوت شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ وَبَثُّ الدَّوَابِّ عَلَى وَجْهِ عَطْفِهِ عَلَى فِعْلِ أَنْزَلَ هُوَ خَلْقُ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ عَلَى الْأَرْضِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْبَثِّ لِتَصْوِيرِ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الْمُتَكَاثِرِ فَالْمَعْنَى وَخَلَقَ فَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. وَعَلَى وَجْهِ عَطْفِ وَبَثَّ عَلَى فَأَحْيا فَبَثُّ الدَّوَابِّ انْتِشَارُهَا فِي الْمَرَاعِي بَعْدَ أَنْ كَانَتْ هَازِلَةً جَاثِمَةً وَانْتِشَارُ نَسْلِهَا بِالْوِلَادَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ انْتِشَارٌ وَبَثٌّ وَصَفَهُ لَبِيدٌ بِقَوْلِهِ: رُزِقَتْ مَرَابِيعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا ... وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا فَعَلَا فُرُوعُ الْأَيْهُقَانِ وَأَطْفَلَتْ ... بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا وَالْآيَةُ أَوْجَزُ مِنْ بَيْتَيْ لَبِيدٍ وَأَوْفَرُ مَعْنًى فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ أَوْجَزُ مِنَ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلَهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أَوْجَزُ مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَا فُرُوعُ الْأَيْهُقَانِ وَأَعَمُّ وَأَبْرَعُ بِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِعَارَةِ الْحَيَاةِ، وَقَوْلَهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أَوْجَزُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَطْفَلَتْ الْبَيْتَ مَعَ كَوْنِهِ أَعَمَّ لِعَدَمِ اقْتِصَارِهِ عَلَى الظِّبَاءِ وَالنَّعَامِ. وَالدَّابَّةُ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ آذَنَتْ كَلِمَةُ كُلِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْأَنْوَاعِ فَانْتَفَى احْتِمَالُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الدَّابَّةِ خُصُوصُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أُصُولَ عِلْمِ التَّارِيخِ الطَّبِيعِيِّ وَهُوَ الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ الْمَعْدِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ، زِيَادَةً عَلَى مَا فِي بَقِيَّةِ الْآيَة سَابِقًا وَلَا حَقًا مِنَ الْإِشَارَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الرَّاجِعَةِ لِعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَعِلْمِ الطَّبِيعَةِ وَعِلْمِ الْجُغْرَافْيَا الطَّبِيعِيَّةِ وَعِلْمِ حَوَادِثِ الْجَوِّ (¬2) . ¬

(¬1) قيل: إِنَّه كَانَ بجسدها عيب أَو دَاء فَكَانَ لَا يدْخل يَده فِي ثوبها فيمسه لعلمه أَن ذَلِك يؤذيها، تصفه باللطف. وَقيل: إِن ذَلِك ذمّ لَهُ، أَي لَا يتفقد أمورها ومصالحها كَقَوْلِهِم: مَا أَدخل يَدي فِي هَذَا الْأَمر أَي لَا أتفقده. (¬2) قَالَ آولوسي فِي رخر شَرحه لهَذِهِ الْآيَة: «وَفِي الْآيَة إِثْبَات الِاسْتِدْلَال بالحجج الْعَقْلِيَّة. وتنبيه على شرف علم الْكَلَام وَفضل أَهله، وَرُبمَا أشارت إِلَى شرف علم الْهَيْئَة» . (2/ 33) ، ط. المنيرية.

وَقَوْلُهُ: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ عَطْفٌ عَلَى مَدْخُولِ فِي وَهُوَ مِنْ آيَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ وَرُكُودَهَا آيَةٌ، وَاخْتِلَافَ مَهَابِّهَا آيَةٌ، فَلَوْلَا الصَّانِعُ الْحَكِيمُ الَّذِي أَوْدَعَ أَسْرَارَ الْكَائِنَاتِ لَمَا هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ لَمَا رَكَدَتْ، وَلَمَا اخْتَلَفَتْ مَهَابُّهَا بَلْ دَامَتْ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا مَوْضِعُ الْعبْرَة، وَمن تصريف الرِّيَاح أَيْضا مَوْضِعُ نِعْمَةٍ وَهُوَ أَنَّ هُبُوبَهَا قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَوْضِعٍ لِلتَّنْفِيسِ مِنَ الْحَرَارَةِ أَو لجلب الأسحبة أَوْ لِطَرْدِ حَشَرَاتٍ كَالْجَرَادِ وَنَحْوِهِ أَوْ لِجَلْبِ مَنَافِعَ مِثْلِ الطَّيْرِ. وَقَدْ يحْتَاج أهل مَكَان إِلَى اخْتِلَافِ مَهَابِّهَا لِتَجِيءَ رِيحٌ بَارِدَةٌ بَعْدَ رِيحٍ حَارَّةٍ أَوْ رِيحٌ رَطْبَةٌ بَعْدَ رِيحٍ يَابِسَةٍ، أَوْ لِتَهُبَّ إِلَى جِهَةِ السَّاحِلِ فَيَرْجِعُ أَهْلُ السُّفُنِ مِنَ الْأَسْفَارِ أَوْ مِنَ الصَّيْدِ، فَكُلُّ هَذَا مَوْضِعُ نِعْمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَاهَدُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَوْضِعُ عِبْرَةٍ أَعْجَبُ وَمَوْضِعُ نِعْمَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ أَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ بِهَوَاءٍ خَلَقَهُ مَعَهَا، بِهِ يَتَنَفَّسُ الْحَيَوَانُ وَهُوَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكُرَةِ بَحْرِهَا وَبَرِّهَا مُتَّصِلٌ بِسَطْحِهَا وَيَشْغَلُ مِنْ فَوْقِ سَطْحِهَا ارْتِفَاعًا لَا يَعِيشُ الْحَيَوَانُ لَوْ صَعِدَ إِلَى أَعْلَاهُ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤَلَّفًا مِنْ غَازَيْنِ هَمَّا (النَّيِتْرُوجِينُ وَالْأُكْسُجِينُ) وَفِيهِ جُزْءٌ آخَرُ عَارِضٌ فِيهِ وَهُوَ جَانِبٌ مِنَ الْبُخَارِ الْمَائِيِّ الْمُتَصَاعِدِ لَهُ مِنْ تَبَخُّرِ الْبِحَارِ وَرُطُوبَةِ الْأَرْضِ بِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْبُخَارُ هُوَ غَازٌ دَقِيقٌ لَا يُشَاهَدُ، وَهَذَا الْهَوَاءُ قَابِلٌ لِلْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ حَارٍّ أَوْ بَارِدٍ، وَحَرَارَتُهُ تَأْتِي مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَمِنْ صُعُودِ حَرَارَةِ الْأَرْضِ حِينَ تُسَخِّنُهَا الشَّمْسُ وَبُرُودَتُهُ تَجِيءُ مِنْ قِلَّةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ وَمِنْ بُرُودَةِ الثُّلُوجِ الصاعدة من الأَرْض وَمن الزَّمْهَرِيرِ الَّذِي يَتَزَايَدُ بِارْتِفَاعِ الْجَوِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَارَةُ مِنْ طَبْعِهَا أَنْ تُمَدِّدَ أَجْزَاءَ الْأَشْيَاءِ فَتَتَلَطَّفُ بِذَلِكَ التَّمَدُّدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْكِيمْيَاءِ، وَالْبُرُودَةُ بِالْعَكْسِ، كَانَ هَوَاءٌ فِي جِهَةٍ حَارَّةٍ كَالصَّحْرَاءِ وَهَوَاءٌ فِي جِهَةٍ بَارِدَةٍ كَالْمُنْجَمِدِ وَقَعَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْهَوَاءَيْنِ فِي الْكَثَافَةِ فَصَعِدَ الْخَفِيفُ وَهُوَ الْحَارُّ إِلَى الْأَعْلَى وَانْحَدَرَ الْكَثِيفُ إِلَى الْأَسْفَلِ وَبِصُعُودِ الْخَفِيفِ يَتْرُكُ فَرَاغًا يَخْلُفُهُ فِيهِ الْكَثِيفُ طَلَبًا لِلْمُوَازَنَةِ فَتَحْدُثُ حَرَكَةٌ تُسَمَّى رِيحًا، فَإِذَا كَانَتِ الْحَرَكَةُ خَفِيفَةً لِقُرْبِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْهَوَاءَيْنِ سُمِّيَتِ الْحَرَكَةُ نَسِيمًا وَإِذَا اشْتَدَّتِ الْحَرَكَةُ وَأَسْرَعَتْ فَهِيَ الزَّوْبَعَةُ.

فَالرِّيحُ جِنْسٌ لِهَاتِهِ الْحَرَكَةِ وَالنَّسِيمُ وَالزَّوْبَعَةُ وَالزَّعْزَعُ أَنْوَاعٌ لَهُ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَاتِهِ الرِّيَاحِ الْإِعَانَةُ عَلَى تَكْوِينِ السَّحَابِ وَنَقْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَتَنْقِيَةِ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ مِمَّا يَحِلُّ بِهَا مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْمُضِرَّةِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَنِعْمَةٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدِ اخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ التَّصْرِيفِ هُنَا دُونَ نَحْوِ لَفْظِ التَّبْدِيلِ أَوِ الِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي يَصْلُحُ مَعْنَاهُ لِحِكَايَةِ مَا فِي نفس الْأَمْرِ مِنْ حَالِ الرِّيَاحِ لِأَنَّ التَّصْرِيفَ تَفْعِيلٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْمُبَالَغَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْشَأَ الرِّيحِ هُوَ صَرْفُ بَعْضِ الْهَوَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَصَرْفُ غَيْرِهِ إِلَى مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَدِّرَ: وَتَصْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى الرِّيَاحَ، وَجَعَلَ التَّصْرِيفَ لِلرِّيحِ مَعَ أَنَّ الرِّيحَ تَكَوَّنَتْ بذلك التصريف لِأَنَّهَا تحصل مَعَ التَّصْرِيفِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْحَاصِل فِي وَقْتَ الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [الْبَقَرَة: 159] وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ، وَأَنْ تَجْعَلَ التَّصْرِيفَ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ أَيْ تَبْدِيلِ رِيحٍ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ وَيَفُوتُ الْإِعْجَازُ الْعِلْمِيُّ وَيَكُونُ اخْتِيَارُ لَفْظِ التَّصْرِيفِ دُونَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ. وَجَمَعَ الرِّيَاحَ هُنَا لِأَنَّ التصريف اقْتضى الْعدَد لِأَنَّهَا كُلَّمَا تَغَيَّرَ مَهَبُّهَا فَقَدْ صَارَتْ رِيحًا غَيْرَ الَّتِي سبقت. وقرأه الْجُمْهُورُ (الرِّيَاحِ) بِالْجَمْعِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الرِّيحِ) بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَاسْتِفَادَةِ الْعُمُومِ مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا سَوَاءٌ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رِيحِ الْخَيْرِ وَإِن الرّيح بِالْإِفْرَادِ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رِيحِ الشَّرِّ وَاعْتَضَدُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا رَأَى الرِّيحَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا لَا رِيحًا» ، وَهِيَ تَفْرِقَةُ أَغْلَبِيَّةٍ وَإِلَّا فَقَدْ غُيِّرَ بِالْإِفْرَادِ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ، وَالْعَكْسُ فِي قِرَاءَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ. وَالْحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّفْرِقَةِ فَأَحْسَنُ مَا يُعَلَّلُ بِهِ أَنَّ الرِّيحَ النَّافِعَةَ لِلنَّاسِ تَجِيءُ خَفِيفَةً وَتَتَخَلَّلُ مَوْجَاتِهَا فَجَوَاتٌ فَلَا تَحْصُلُ مِنْهَا مَضَرَّةٌ فَبِاعْتِبَارٍ تَخَلُّلِ الْفَجَوَاتِ لِهُبُوبِهَا جُمِعَتْ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْعَاصِفُ فَإِنَّهُ لَا يَتْرُكُ لِلنَّاسِ فَجْوَةً فَلِذَلِكَ جُعِلَ رِيحًا وَاحِدَةً وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَالرِّيَاحُ جَمْعُ رِيحٍ وَالرِّيحُ بِوَزْنِ فِعْلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَعَيْنُهَا وَاوٌ انْقَلَبَتْ يَاءً لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي الْجَمْعِ أَرْوَاحٌ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ رِيَاحٌ فَانْقِلَابُ الْوَاوِ فِيهِ يَاءً كَانْقِلَابِهَا فِي الْمُفْرِدِ لِسَبَبِ الْكَسْرَةِ كَمَا قَالُوا دِيمَةٌ وَدِيَمٌ وَحِيلَةٌ وَحِيَلٌ وَهُمَا مِنَ الْوَاوِيِّ.

وَقَوْلُهُ: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ عَطْفٌ عَلَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أَوْ عَلَى الرِّياحِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَتَصْرِيفِ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ أَيْ نَقْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ. وَهُوَ عِبْرَةٌ وَمِنَّةٌ أَمَّا الْعِبْرَةُ فَفِي تَكْوِينِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَتَسْخِيرِهِ وَكَوْنِهِ فِي الْفَضَاءِ، وَأَمَّا الْمِنَّةُ فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَتَكْوِينُهُ مِنَّةٌ وَتَسْخِيرُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعِ مِنَّةٌ وَكَوْنُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَّةٌ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ ارْتِفَاعٍ فَيُفِيدُ اخْتِرَاقَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ لَاخْتَنَقَ النَّاسُ فَهَذَا مَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا عِبْرَةٌ وَمِنَّةٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَتَكْوِينُهُ عِبْرَةٌ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ تَصَاعُدِ أَبْخِرَةِ الْبِحَارِ وَرُطُوبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تُبَخِّرُهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ وَلِذَا لَمْ يَخْلُ الْهَوَاءُ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ إِلَّا أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ شَفَّافٌ غَازِيٌّ فَإِذَا جَاوَرَ سَطْحًا بَارِدًا ثَقُلَ وَتَكَاثَفَ فَصَارَ ضَبَابًا أَوْ نَدًى أَوْ سَحَابًا، وَإِنَّمَا تَكَاثَفَ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْبُخَارِ تَجْتَمِعُ فَتَقِلُّ قُدْرَةُ الْهَوَاءِ عَلَى حَمْلِهِ، ثُمَّ إِذَا تَكَامَلَ اجْتِمَاعُهُ نَزَلَ مَطَرًا، وَلِكَوْنِ الْبُخَارِ الصَّاعِدِ إِلَى الْجَوِّ أَكْثَرَ بُخَارِ الْبَحْرِ لِأَنَّ الْبَحْرَ أَكْثَرُ سَطْحِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ كَانَتِ السَّحْبُ أَكْثَرَ مَا تَتَكَوَّنُ مِنْ جِهَةِ الْبِحَارِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَطَرَ كُلَّهُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ وَأَنَّ خَرَاطِيمَ السَّحَابِ تَتَدَلَّى إِلَى أَمْوَاجِ الْبَحْرِ فَتَمْتَصُّ مِنْهُ الْمَاءَ ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ: سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَنَاتِمُ سُودٌ مَاؤُهُنَّ ثَجِيجُ شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ وَقَالَ الْبَدِيعُ الْإِصْطِرْلَابِيُّ (¬1) : أُهْدِي لِمَجْلِسِكَ الشَّرِيفِ وَإِنَّمَا ... أُهْدِي لَهُ مَا حُزْتُ مِنْ نَعْمَائِهِ كَالْبَحْرِ يمطره السَّحَاب وَمَاله ... فَضْلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ مَائِهِ فَلَوْلَا الرِّيَاحُ تُسَخِّرُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ لَكَانَ الْمَطَرُ لَا يَنْزِلُ إِلَّا فِي الْبِحَارِ. وَمَوْضِعُ الْمِنَّةِ فِي هَذَا فِي تَكْوِينِهِ حَتَّى يَحْمِلَ الْمَاءَ لِيُحْيِيَ الْأَرْضَ، وَفِي تَسْخِيرِهِ لِيَنْتَقِلَ، وَفِي كَوْنِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ مُسَخَّرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَتَكَامَلَ مَا فِي الْجَوِّ مِنَ الْمَاءِ فَيَثْقُلُ السَّحَابُ فَيَنْزِلُ مَاءٌ إِذَا لَمْ تَبْقَ فِي الْهَوَاءِ مَقْدِرَةٌ عَلَى حَمْلِهِ قَالَ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرَّعْد: 12] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ دَلَائِلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ وَالْآيَاتِ، ¬

(¬1) هبة الله بن الْحُسَيْن لقب بالبديع وَوصف بالاصطرلابي لِأَنَّهُ صانع آلَة الأصطرلاب توفّي سنة 534 هـ. [.....]

وَجَمَعَ الْآيَاتِ لِأَنَّ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ آيَاتٍ. فَإِنْ أُرِيدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى وُجُودِ الله تَعَالَى فقد كَانَتْ دَلَائِلَ وَاضِحَةً وَكَانَ رَدًّا عَلَى الدَّهْرِيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ وَكَانَ ذِكْرُهُمْ بَعْدَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ (¬1) الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ تَكْمِيلًا لِأَهْلِ النِّحَلِ فِي الْعَرَبِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: 165] رُجُوعًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا الْوَجْهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَالَمِ عَلَى الصَّانِعِ وَهُوَ دَلِيلٌ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ. وَإِنْ أُرِيدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَاتِهِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَلْزِمَةِ لِوُجُودِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَاتِهِ الدَّلَائِلِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَقْلٍ بِخِلَافِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الوحدانية، وَلِأَنَّهُ ذكره بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَلِأَنَّ دُهْمَاءَ الْعَرَبِ كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا مِنَ الْمُعَطِّلِينَ الدَّهْرِيِّينَ. وَكِفَايَةُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَدَّعُونَ لِلْأَصْنَامِ قُدْرَةً عَلَى الْخَلْقِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] . وَإِنْ أُرِيدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآثَارِ لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي تُثْبِتُ الِاشْتِرَاكَ لِلْآلِهَةِ فِي الْإِيجَادِ مِثْلِ مَجُوسِ الْفُرْسِ وَمُشْرِكِي الْيُونَانِ. فَوَجْهُ دَلَالَةِ هَاتِهِ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْبَدِيعَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَذَلِكَ التَّدْبِيرَ فِي تَكْوِينِهَا وَتَفَاعُلِهَا وَذَهَابِهَا وَعَوْدِهَا وَمَوَاقِيتِهَا كُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا حَكِيمًا مُتَّصِفًا بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْحكمَة وَهِي الصِّفَات الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأُلْهَانِيَّةِ، وَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمَوْصُوفُ بِهَاتِهِ الصِّفَاتِ وَاحِدًا لِاعْتِرَافِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ نَوَامِيسَ الْخَلْقِ وَتَسْيِيرَ الْعَالَمِ مِنْ فِعْلِ الله تَعَالَى، إِذا لَمْ يَدَّعُوا لِشُرَكَائِهِمُ الْخَلْقَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ الِاسْتِدْلَالَ بِبَعْضِ مَا هُنَا عَلَى أَنْ لَا إِلَهَ مَعَ اللَّهِ، فَالْمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ شُرَكَائِهِمْ، وَأَمَّا طَرِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيَّةُ فَهِيَ بِالْبُرْهَانِ الْمُلَقَّبِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الرِّجَالِ وَيُطْلَقُ عَلَى قَبِيلَةِ الرَّجُلِ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ: فَلَوْ أَن قومِي أنقطتني رِمَاحُهُمْ ¬

(¬1) يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى السَّابِق: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الْآيَة.

[سورة البقرة (2) : آية 165]

وَيُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ. وَذكر لفظ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ لِلَّذِينَ يَعْقِلُونَ أَوْ لِلْعَاقِلِينَ لِأَنَّ إِجْرَاءَ الْوَصْفِ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ يُومِئُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ، وَمِنْ مُكَمِّلَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، فَإِنَّ لِلْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ خَصَائِصَ تُمَيِّزُهَا وَتَشْتَهِرُ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة: 56] ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ لِلَّذِينَ سَجِيَّتُهُمُ الْعَقْلُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِآيَاتِ ذَلِكَ لَيْسَتْ عُقُولُهُمْ بِرَاسِخَةٍ وَلَا هِيَ مَلَكَاتٌ لَهُمْ وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي سُورَةِ يُونُسَ. [165] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. عَطْفٌ عَلَى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 164] إِلَخْ لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ تَضَمَّنَتْ أَنَّ قَوْمًا يَعْقِلُونَ استدلوا بِخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ فَوَحَّدُوهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ شَأْنَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا لِذَلِكَ فَاتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ شُرَكَاءَ مَعَ قِيَامِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، فَهَؤُلَاءُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ هُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ آنِفًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [الْبَقَرَة: 161] الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْإِخْبَارِ بِهِ وَفَائِدَةَ تَقْدِيمهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَة: 8] وَعَطْفُهُ عَلَى ذِكْرِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ وَكَوْنُ الْخَبَرِ مِنَ النَّاسِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْ شَأْنِهِمْ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَتَّخِذُ مَا صدقهَا فَرِيقٌ لَا فَرْدٌ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْدَادِ الْأَمْثَالُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى النِّدِّ بِكَسْرِ النُّونِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 22] . وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مَعَ الله لِأَن كلمة دُونَ تؤذن بالحيلولة لِأَنَّهَا بِمَعْنَى وَرَاءَ فَإِذَا قَالُوا اتَّخَذَهُ دُونَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَفْرَدَهُ وَأَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَإِذَا قَالُوا اتَّخَذَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُ بَعْضَ حَائِلٍ عَنِ اللَّهِ أَيْ أَشْرَكَهُ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّهِ فِي أَوْقَاتِ الشُّغْلِ بِعِبَادَةِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ خَال مِنْ ضَمِيرِ يَتَّخِذُ، وَقَوْلُهُ: يُحِبُّونَهُمْ بَدَلٌ مَنْ يَتَّخِذُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الِاتِّخَاذَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ صفة لمن، وجوّز أَنْ يكون صفة لأندادا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهِ إِيهَامَ الضَّمَائِرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ الْمُحِبَّ هُمُ الْأَنْدَادُ يُحِبُّونَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ (مَنْ) تَفْظِيعًا لِحَالِهِمْ فِي هَذَا الِاتِّخَاذِ وَهُوَ اتِّخَاذُ أَنْدَادٍ سَوَّوْهَا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي مَحَبَّتِهَا وَالِاعْتِقَادِ فِيهَا. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْدَادِ هُنَا وَفِي مَوَاقِعِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، الْأَصْنَامُ لَا الرُّؤَسَاءُ (¬1) كَمَا قِيلَ، وَعَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّونَهُمْ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمَّا اعْتَقَدُوا أُلُوهِيَّتَهَا فَقَدْ صَارَتْ جَدِيرَةً بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ بِدُونِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْمَحَبَّةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الْحُسْنِ عِنْدَهَا بِمُعَايَنَةٍ أَوْ سَمَاعٍ أَوْ حُصُولِ نَفْعٍ مُحَقَّقٍ أَوْ مَوْهُومٍ لِعَدَمِ انْحِصَارِ الْمَحَبَّةِ فِي مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَيْلَ إِلَى الْخُلُقِ (بِضَمِّ الْخَاءِ) الْحَسَنِ وَإِلَى الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَالْكَمَالِ، مَحَبَّةٌ أَشَدُّ مِنْ مَحَبَّةِ مَحَاسِنِ الذَّاتِ فَتَشْتَرِكُ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَبَّةِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ الْحَاصِلِ فِي النَّفْسِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَبَبِ حُصُولِهِ. فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحُبَّ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ الْمَرْءِ وَحُصُولِ النَّفْعِ مِنْهُ وَحُسْنِ السُّمْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَرَهْ فَنَحْنُ نُحِبُّ اللَّهَ لِمَا نَعْلَمُهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَلِمَا يَصِلُنَا مِنْ نِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَنُحِبُّ رَسُولَهُ لِمَا نَعْلَمُ مِنْ كَمَالِهِ وَلِمَا وَصَلَ إِلَيْنَا عَلَى يَدَيْهِ وَلِمَا نَعْلَمُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِنَا وَنَجَاتِنَا، وَنُحِبُّ أَجْدَادَنَا، وَنُحِبُّ أَسْلَافَنَا مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَنُحِبُّ الْحُكَمَاءَ وَالْمُصْلِحِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي مَدْيَنَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ مُحِبٍّ قَدْ أَحَبَّ وَمَا رَأَى ... وَعِشْقُ الْفَتَى بِالسَّمْعِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى وَبِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ تَكُونُ الْكَرَاهِيَةُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْمَحَبَّةِ بِاللَّهِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ طَاعَةَ الْمُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ لَازِمٌ عُرْفِيٌّ لَهَا قَالَ الْجَعْدِيُّ: لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ أَوْ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُحِبُّونَ ثَوَابَ اللَّهِ أَوْ نِعْمَتَهُ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللَّهِ، إِمَّا لِأَنَّهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْجَائِزَاتِ وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا طَلَبُ الْمُلَائِمِ. ¬

(¬1) أَي الَّذين كَانُوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم، ورجّح هَذَا لِأَنَّهُ تَعَالَى ذكر بعد هَذِه الْآيَة إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَة: 166] .

وَاللَّذَّةُ لَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ وَكِلَا الدَّلِيلَيْنِ ظَاهِرُ الْوَهَنِ كَمَا بَيَّنَهُ الْفَخْرُ، وعَلى هَذَا التَّفْصِيل بَين إطلاقي الْمَحَبَّةِ هُنَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ رَاجِعًا إِلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا وَجَعَلَهَا فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّونَهُمْ أَيْضًا مَجَازًا وَعَلَى ذَلِكَ دُرِجَ فِي «الْكَشَّافِ» وَكَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَشْبِيهِ اسْمٍ بِمِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ تَشْبِيهَ فَرْدٍ مِنَ الْحَقِيقَةِ بِآخَرَ مِنْهَا. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ. وَقَوْلُهُ: كَحُبِّ اللَّهِ مُفِيدٌ لِمُسَاوَاةِ الْحُبَّيْنِ لِأَنَّ أَصْلَ التَّشْبِيهِ الْمُسَاوَاةُ وَإِضَافَةُ حُبٍّ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ إِلَى الْمَجْهُولِ. فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ حُذِفَ هُنَا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ أَيْ كَيْفَمَا قَدَّرْتَ حُبَّ مُحِبٍّ لِلَّهِ فَحُبُّ هَؤُلَاءِ أَنْدَادَهُمْ مُسَاوٍ لِذَلِكَ الْحُبِّ، وَوَجْهُ هَذَا التَّعْمِيمِ أَنَّ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْأَنْدَادَ مِنَ الْأَصْنَامِ أَوِ الْجِنَّ أَوِ الْكَوَاكِبِ وَيَعْتَرِفُ بِوُجُودِ اللَّهِ وَيُسَوِّي بَيْنَ الْأَنْدَادِ وَبَيْنَهُ، وَيُسَمِّيهِمْ شُرَكَاءَ أَو أَبنَاء الله تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لِلَّهِ تَعَالَى الْإِلَهِيَّةَ الْكُبْرَى وَيَجْعَلُ الْأَنْدَادَ شُفَعَاءَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَنْدَادِ وَيَنْسَى اللَّهَ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الْحَشْر: 19] ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ صَابِئَةُ الْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ، وَلِلَّهِ تَعَالَى مُحِبُّونَ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَمِنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ، فَمَحَبَّةُ هَؤُلَاءِ أَنْدَادَهُمْ مُسَاوِيَةٌ لِمَحَبَّةِ مُحِبِّي اللَّهِ إِيَّاهُ أَيْ مُسَاوِيَةٌ فِي التَّفْكِيرِ فِي نُفُوسِ الْمُحِبِّينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فَيَصِحُّ أَنْ تُقَدِّرَ يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يحب أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ أَوْ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ إِيَّاهُ أَوْ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، وَقَدْ سَلَكَ كُلَّ صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ مَا قَدَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ إِنْكَارُ مَحَبَّتِهِمُ الْأَنْدَادَ مِنْ أَصْلِهَا لَا إِنْكَارَ تَسْوِيَتِهَا بِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِمُمَاثَلَةِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِتَشْوِيهِهَا وَلِلنِّدَاءِ عَلَى انْحِطَاطِ عُقُولِ أَصْحَابِهَا وَفِيهِ إِيقَاظٌ لِعُيُونِ مُعْظَمِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاءُ لَهُمْ كَمَا كَثُرَتْ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَنُبِّهُوا إِلَى أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ مَحَبَّةِ التَّابِعِ وَمَحَبَّةِ الْمَتْبُوعِ وَمَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ وَمَحَبَّةِ الْخَالِقِ لَعَلَّهُمْ يَسْتَفِيقُونَ فَإِذَا ذَهَبُوا يَبْحَثُونَ عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ الْأَصْنَامُ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَتَطَلَّبُوا أَسْبَابَ الْمَحَبَّةِ وَجَدُوهَا مَفْقُودَةً كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَم: 42] مَعَ مَا فِي هَذِه الْحَالِ مِنْ زِيَادَةِ مُوجِبِ الْإِنْكَارِ.

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أَيْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ مَحَبَّةِ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ أَنْدَادَهُمْ، عَلَى مَا بَلَغُوا مِنَ التَّصَلُّبِ فِيهَا، وَمِنْ مَحَبَّةِ بَعْضِهِمْ لِلَّهِ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِاللَّهِ مَعَ الْأَنْدَادِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ الْمُحِبِّينَ وَإِنْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا مِنَ التَّصَلُّبِ فِي مَحْبُوبِيهِمْ لَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةً مُجَرَّدَةً عَنِ الْحُجَّةِ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ أَصْحَابِ الِاعْتِقَادِ الصَّمِيمِ الْمَعْضُودِ بِالْبُرْهَانِ، وَلِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِهِمْ لِأَغْرَاضٍ عَاجِلَةٍ كَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الْمُلِمَّاتِ بِخِلَافِ حُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فَإِنَّهُ حُبٌّ لِذَاتِهِ وَكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْحُبِّ ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ أَغْرَاضٌ أَعْظَمُهَا الْأَغْرَاضُ الْآجِلَةُ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ. وَالْمَقْصُودُ تَنْقِيصُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى فِي إِيمَانِهِمْ بِآلِهَتِهِمْ فَكَثِيرًا مَا كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا مَا أَمَّلُوهُ. فَمَوْرِدُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَحَبَّتَيْنِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا التَّشْبِيهُ مُخَالِفٌ لِمَوْرِدِ التَّفْضِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا، لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ نَاظِرَةٌ إِلَى فَرْطِ الْمَحَبَّةِ وَقْتَ خُطُورِهَا، وَالتَّفْضِيلُ نَاظِرٌ إِلَى رُسُوخِ الْمحبَّة وَعدم تزلزلها، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَمُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ مَعَ زِيَادَةِ تَحْرِيرِهِ، وَهَذَا يُغْنِيكَ عَنِ احْتِمَالَاتٍ وَتَمَحُّلَاتٍ عَرَضَتْ هُنَا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَبَعْضِ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» . رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ لَمَّا أَرَادَ قِتَالَ بَنِي أَسَدٍ حِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ حُجْرًا مَلِكَهُمْ مَرَّ عَلَى ذِي الْخُلَصَةِ الصَّنَمِ الَّذِي كَانَ بِتَبَالَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ فَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الصَّنَمِ فَخَرَجَ لَهُ الْقَدَحُ النَّاهِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (¬1) فَكَسَرَ تِلْكَ الْقِدَاحَ وَرَمَى بِهَا وَجْهَ الصَّنَمِ وَشَتَمَهُ وَأَنْشَدَ: لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخُلَصِ الْمُوتُورَا ... مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا ثُمَّ قَصَدَ بَنِي أَسَدٍ فَظَفِرَ بِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَلْكَانَ جَاءَ إِلَى سَعْدٍ الصَّنَمِ بِسَاحِلِ جُدَّةَ وَكَانَ مَعَهُ إِبِلٌ فَنَفَرَتْ إِبِلُهُ لَمَّا رَأَتِ الصَّنَمَ (¬2) فَغَضِبَ الْمَلْكَانِيُّ عَلَى الصَّنَمِ وَرَمَاهُ بِحَجَرٍ وَقَالَ: أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَمَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ وَهَلْ سَعِدٌ إِلَّا صَخْرَةٌ بِتَنَوْفَةٍ ... مِنَ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو لِغَيٍّ وَلَا رُشْدِ ¬

(¬1) ذُو الخلصة بِضَم الْخَاء وَفتح اللَّام صنم كَانَ لخثعم وزبيد ودوس وهوازن، وَهُوَ صَخْرَة قد نقشت فِيهَا صُورَة الخلصة والخلصة زهرَة مَعْرُوفَة، وَكَانَ عِنْد ذِي الخلصة أزلام ثَلَاثَة يستقسمون بهَا وَهِي الناهي والآمر والمرتضى. وَذُو الخلصة هَدمه جرير بن عبد الله البَجلِيّ بِإِذن من صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) كَانَ هَذَا الصَّنَم حجرا طَويلا ضخما.

وَإِنَّمَا جِيءَ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ بِوَاسِطَةِ كَلِمَةِ أَشَدُّ قَالَ التفتازانيّ: آثَرَ أَشَدُّ حُبًّا عَلَى أَحَبُّ لِأَنَّ أَحَبَّ شَاعَ فِي تَفْضِيلِ الْمَحْبُوبِ عَلَى مَحْبُوبٍ آخَرَ تَقُولُ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَفِي الْقُرْآنِ: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 24] إِلَخْ. يَعْنِي أَنَّ فِعْلَ أَحَبَّ هُوَ الشَّائِعُ وَفِعْلَ حُبَّ قَلِيلٌ فَلِذَلِكَ خَصُّوا فِي الِاسْتِعْمَالِ كُلًّا بِمَوَاقِعَ نَفْيًا لِلَّبْسِ فَقَالُوا: أَحَبَّ وَهُوَ مُحِبٌّ وَأَشَدُّ حُبًّا وَقَالُوا حَبِيبٌ مِنْ حَبَّ وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَبَّ أَيْضا. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ شَرْحًا لِحَالِ ضَلَالِهِمُ الْفَظِيعِ فِي الدُّنْيَا مِنَ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لِلَّهِ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّةِ وَحْدَانِيَّتِهِ حَتَّى كَانَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مُؤْذِنًا بِالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَزِيدَ فِي شَنَاعَتِهِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَحَبُّوهَا كَحُبِّهِ، نَاسَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ ذَكَرَ عَاقِبَتَهُمْ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ وَوَصَفَ فَظَاعَةَ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فَظَّعَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوب وَلَوْ يَرَى بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخِطَابَ، وَذَلِكَ لِتَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الْفَظَاعَةِ وَالسُّوءِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَهَا النَّاسُ لَظَهَرَتْ لِجَمِيعِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَالَّذِينَ ظَلَمُوا) مَفْعُولُ (تَرَى) على الْمَعْنيين، و (إِذْ) ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِتَعَلُّقِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْمَرْئِيَّاتِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَوْرِدُ الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّ وَقْتَ الرُّؤْيَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، إِذِ الْمَعْنَى لَوْ تَرَاهُمُ الْآنَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَوْ تَرَى الْآن حَالهم، وقرأه الْجُمْهُورُ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالتَّحْتِيَّةِ فَيَكُونُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَاعِلَ يَرَى وَالْمَعْنَى أَيْضًا لَوْ يَرَوْنَ الْآنَ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَرَى لِدَلَالَةِ الْمُقَامِ، تَقْدِيره لَوْ يَرَوْنَ عَذَابَهُمْ أَوْ لَوْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَكُونُ (إِذِ) اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ أَيْ لَوْ يَنْظُرُونَ الْآنَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَيَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا. والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مُقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَكُونَ

شَامِلًا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَجَعَلَ اتِّخَاذَهُمُ الْأَنْدَادَ ظُلْمًا لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى عِدَّةِ حُقُوقٍ فَقَدِ اعْتَدَوْا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ، وَاعْتَدَوْا عَلَى مَنْ جَعَلُوهُمْ أَنْدَادًا لِلَّهِ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ مِثْلِ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى، وَمِثْلِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا رِجَالًا صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا اتَّخَذَ قَوْمُهُمْ لَهُمْ تَمَاثِيلَ ثُمَّ عَبَدُوهَا، وَمِثْلِ (اللَّاتِ) يَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَانَ يَلِتُّ السَّوِيقَ لِلْحَجِيجِ (¬1) وَأَنَّ أَصْلَهُ اللَّاتُّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، فَبِذَلِكَ ظَلَمُوهُمْ إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِهَوْلٍ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ السُّؤَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 116] وَقَالَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] الْآيَةَ- وَقَالَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الْفرْقَان: 17] الْآيَةَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ بِتَعْرِيضِهَا لِلسُّخْرِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَلِلْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَظَلَمُوا أَعْقَابَهُمْ وَقَوْمَهُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ فَتَمْضِي عَلَيْهِ الْعُصُورُ وَالْأَجْيَالُ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ مَفْعُولَ ظَلَمُوا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ ظَلَمُوا بِمَعْنَى أَشْرَكُوا كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَعَلَيْهِ فَالْفِعْلُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ صَارَ كَاللَّقَبِ. وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مُعْتَرِضَةٌ وَالْغَرَضُ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ صَارَ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِمُ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَهَذَا كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسَيِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ» . وَتَرْكِيبُ لَو تَرَى وَمَا أَشْبَهَهُ نَحْوُ لَوْ رَأَيْتَ مِنَ التَّرَاكِيبِ الَّتِي جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فَبُنِيَتْ عَلَى الِاخْتِصَارِ وَقَدْ تَكَرَّرَ وُقُوعُهَا فِي الْقُرْآنِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ وَتَهْوِيلِ الْأَمْرِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصْوِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ وَنَظِيرُهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَام: 93] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَام: 27] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْد: 31] ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ عِنْدَ قَوْلِ الشَّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ: وَقَدْ سَاءَنِي مَا جَرَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا ... بَنِي عَمِّنَا لَوْ كَانَ أَمْرًا مُدَانِيَا «حَذْفُ الْجَوَابِ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ لَئِنْ قُمْتُ إِلَيْكَ ثُمَّ سَكَتَ تَزَاحَمَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الظُّنُونِ الْمُعْتَرِضَةِ لِلتَّوَعُّدِ مَا لَا يَتَزَاحَمُ ¬

(¬1) فِي «الرَّوْض» لِلسُّهَيْلِي أَنه عَمْرو بن لحي.

لَوْ نَصَّ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْعَذَابِ» ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ: أَنَّ الْقُوَّةَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْعَذابَ أَوْ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ لِطُولِ الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَالتَّعْلِيلُ بِمَضْمُونِ الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ أَيْ لَرَأَيْتَ مَا هُوَ هَائِلٌ لِأَنَّهُ عَذَابُ اللَّهِ وَلِلَّهِ الْقُوَّةُ جَمِيعًا. وَجَمِيعًا اسْتُعْمِلَ فِي الْكَثْرَة والشدة فَقُوَّةُ غَيْرِهِ كَالْعَدَمِ وَهَذَا كَاسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِ الْكَثْرَةِ فِي مَعْنَى الْقُوَّةِ وَأَلْفَاظِ الْقِلَّةِ فِي مَعْنَى الْوَهَنِ كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُلِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ أَرَادَ شَدِيدَ الْغَرَامِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ أَنَّ الْقُوَّةَ بِكَسْر الْهمزَة عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: مَاذَا أَرَى وَمَا هَذَا التَّهْوِيلُ؟ فَقِيلَ: إِنَّ الْقُوَّةَ وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا حِينَئِذٍ لِلتَّعْلِيلِ الَّتِي تُغْنِي غَنَاءَ الْفَاءِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي مَوَاقِعِ احْتِيَاجِ مَا قَبْلَهَا لِلتَّعْلِيلِ حَتَّى تَكُونَ صَرِيحَةً فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ إِذْ يُرِيهِمُ اللَّهُ الْعَذَابَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ [الْبَقَرَة: 167] . وَانْتَصَبَ (جَمِيعًا) عَلَى التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ (الْقُوَّةَ) أَيْ جَمِيعَ جِنْسِ الْقُوَّةِ ثَابِتٌ لِلَّهِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِقُوَّةِ غَيْرِهِ فَمَفَادُ جَمِيعٍ هُنَا مَفَادُ لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] . وَقَدْ جَاءَ (لَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ بِشَرْطِ مُضَارِعٍ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْجُمْهُورِ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّ لَوْ لِلشَّرْطِ فِي الْمَاضِي وَأَنَّ الْمُضَارِعَ إِذَا وَقَعَ شَرْطًا لَهَا يُصْرَفُ إِلَى مَعْنَى الْمَاضِي إِذَا أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةٍ مَاضِيَةٍ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا مُتَعَيِّنًا لِلْمُسْتَقْبَلِ فَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ بِالْمَاضِي فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهِ وَتَكَلَّفُوا فِي كَثِيرٍ مِنْهَا كَمَا وَقَعَ لِصَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» ، وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ لَو حرف بِالْمَعْنَى إِنَّ لِمُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ لَا لِلِامْتِنَاعِ، وَذَهَبَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التسهيل» و «الْخُلَاصَة» إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ وَهُوَ يُرِيدُ الْقلَّة النسبية بِالنِّسْبَةِ لِوُقُوعِ الْمَاضِي وَإِلَّا فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ وَفَصِيحِ الْعَرَبِيَّةِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 166 إلى 167]

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ الَّذِي تُفِيدُهُ (لَوْ) مُتَفَاوِتُ الْمَعْنَى وَمَرْجِعُهُ إِلَى أَنَّ شَرْطَهَا وَجَوَابَهَا مَفْرُوضَانِ فَرْضًا وَغَيْرُ مَقْصُودٍ حُصُولُ الشَّرْطِ فَقَدْ يَكُونُ مُمْكِنَ الْحُصُولِ وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعَبِّرَ بِالِانْتِفَاءِ دُونَ الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الْحُصُولِ فَأَمَّا الِانْتِفَاءُ فَأَعَمُّ، وَأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ بَعْدَهَا مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا لَيْسَ لِمُرَاعَاةِ مِقْدَارِ الِامْتِنَاعِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِمَقَاصِدَ أُخْرَى مُخْتَلفَة بالاختلاف مَفَادِ الْفِعْلَيْنِ فِي مَوَاقِعِهَا فِي الشُّرُوطِ وَغَيْرِهَا، إِذْ كَثِيرًا مَا يُرَادُ تَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوُ قَوْلِ تَوْبَةَ: وَلَوْ تَلْتَقِي أَصْدَاؤُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا ... وَمِنْ بَيْنِ رَمْسَيْنَا مِنَ الْأَرْضِ سَبْسَبُ لَظَلَّ صَدَى صَوْتِي وَإِنْ كُنْتُ رِمَّةً ... لِصَوْتِ صَدَى لَيْلَى يَهَشُّ وَيَطْرَبُ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَمِثْلُهُ هَذِه الْآيَة. [166، 167] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 166 إِلَى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) إِذْ ظَرْفٌ وَقَعَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ ظَرْفِ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [الْبَقَرَة: 165] أَيْ لَوْ تَرَاهُمْ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ حَالَ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَهِيَ حَالَةٌ فَظِيعَةٌ وَتَشْتَمِلُ عَلَى حَالِ اتِّخَاذ لَهُم وتبرئ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ حَالَةٌ شَنِيعَةٌ وَهُمَا حَاصِلَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ (إِذْ) هُنَا مَاضِيًا مَعَ أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَإِنْ دَرَجْتَ عَلَى أَنَّ إِذْ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا لِلْمَاضِي عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْقِيقِ مِثْلَ الْفِعْلِ الْمَاضِي الَّذِي مَعَهَا فَتَكُونُ تَرْشِيحًا لِلتَّبَعِيَّةِ، وَإِنْ دَرَجْتَ عَلَى أَنَّهَا تَرِدُ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَنَسَبَهُ فِي «التَّسْهِيلِ» إِلَى بَعْضِ النُّحَاةِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمرَان: 152] عَلَى أَنْ يَكُونَ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ وَقَالَ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غَافِر: 71] فَيَكُونُ الْمَجَازُ فِي فِعْلِ تَبَرَّأَ خَاصَّةً.

وَالتَّبَرُّؤُ تَكَلُّفُ الْبَرَاءَةِ وَهِيَ التَّبَاعُدُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ قُرْبِهِ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا وَلذَلِك يُقَال تبارءا إِذَا أَبْعَدَ كُلٌّ الْآخَرَ مِنْ تَبِعَةٍ مُحَقَّقَةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَةٍ. والَّذِينَ اتُّبِعُوا بِالْبِنَاءِ إِلَى الْمَجْهُولِ هُمُ الَّذِينَ ضَلَّلُوا الْمُشْرِكِينَ وَنَصَّبُوا لَهُمُ الْأَنْصَابَ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَقَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: اتُّبِعُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أَيْ نُجَازِيهِمْ عَلَى إِخْلَافِهِمْ. وَمَعْنَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُمْ تَنَصُّلُهُمْ مِنْ مَوَاعِيدِ نَفْعِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّذِي وَعَدُوهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ، وَصَرَفُهُمْ عَنِ الِالْتِحَاقِ بِهِمْ حِينَ هُرِعُوا إِلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ وَرَأَوُا الْعَذابَ حَالِيَّةٌ أَيْ تَبَرَّءُوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ، وَمَعْنَى رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَسْبَابَهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ أُعِدَّ لِمَنْ أَضَلَّ النَّاسَ فَجَعَلُوا يَتَبَاعَدُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ لِئَلَّا يَحِقَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْمُضَلِّلِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْعَذَابِ مَجَازًا فِي إِحْسَاسِ التَّعْذِيبِ كَالْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ: يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ [الْأَنْعَام: 49] فَمَوْقِعُ الْحَالِ هَنَا حَسَنٌ جِدًّا وَهِيَ مُغْنِيَةٌ عَنِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمُقَامُ لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنْ مُوجِبِ هَذَا التَّبَرُّؤِ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ فَيُقَالُ رَأَوُا الْعَذَابَ فَلَمَّا أُرِيدَ تَصْوِيرُ الْحَالِ وَتَهْوِيلُ الِاسْتِفْظَاعِ عُدِلَ عَنِ الِاسْتِئْنَافِ إِلَى الْحَالِ قَضَاءً لِحَقِّ التَّهْوِيلِ وَاكْتِفَاءً بِالْحَالِ عَنِ الِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ مَوْقِعَهُمَا مُتَقَارِبٌ، وَلَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ تَبَرَّأَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا حِينَئِذٍ يَصِيرُ إِعَادَةً لِمَعْنَى جملَة: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فَتَصِيرُ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لَهَا وَيَفُوتُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ. وَضَمِيرُ رَأَوُا ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ عَائِدٌ إِلَى فَرِيقَيِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَالَّذِينَ اتُّبِعُوا. وَجُمْلَةُ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ تَبَرَّأَ أَيْ وَإِذْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ. وَالتَّقَطُّعُ الِانْقِطَاعُ الشَّدِيدُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُطَاوِعُ قَطَّعَهُ بِالتَّشْدِيدِ مُضَاعِفُ قَطَعَ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُمَدُّ لِيُرْتَقَى عَلَيْهِ فِي النَّخْلَةِ أَوِ السَّطْحِ، وَقَوْلُهُ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَتْ هَيْئَتَهُمْ عِنْدَ خَيْبَةِ أَمَلِهِمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا النَّعِيمَ الَّذِي تَعِبُوا لِأَجْلِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ وَقَدْ جَاءَ إِبَّانَهُ فِي ظَنِّهِمْ فَوَجَدُوا عِوَضَهُ الْعَذَابَ، بِحَالِ الْمُرْتَقِي إِلَى النَّخْلَةِ لِيَجْتَنِيَ الثَّمَرَ الَّذِي كَدَّ لِأَجْلِهِ طُولَ السَّنَةِ فَتَقَطَّعَ بِهِ السَّبَبُ عِنْدَ ارْتِقَائِهِ فَسَقَطَ هَالِكًا، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ قَدْ عَلِمَ كُلُّهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ لَا نَجَاةَ لَهُمْ فَحَالُهُمْ كَحَالِ السَّاقِطِ مِنْ عُلْوٍ لَا تُرْجَى لَهُ

سَلَامَةٌ، وَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ بَدِيعَةٌ لِأَنَّهَا الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا وَهِيَ: تَشْبِيهُ الْمُشْرِكِ فِي عِبَادَتِهِ الْأَصْنَامَ وَاتِّبَاعِ دِينِهَا بِالْمُرْتَقِي بِجَامِعِ السَّعْيِ، وَتَشْبِيهُ الْعِبَادَةِ وَقَبُولِ الْآلِهَةِ مِنْهُ بِالْحَبْلِ الْمُوَصِّلِ، وَتَشْبِيهُ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ بِالثَّمَرَةِ فِي أَعْلَى النَّخْلَةِ لِأَنَّهَا لَا يَصِلُ لَهَا الْمَرْءُ إِلَّا بَعْدَ طُولٍ وَهُوَ مُدَّةُ الْعُمُرِ، وَتَشْبِيهُ الْعُمُرِ بِالنَّخْلَةِ فِي الطُّولِ، وَتَشْبِيهُ الحرمان من الْمَوْصُول للنعيم بتقطع الْحَبْلِ، وَتَشْبِيهُ الْخَيْبَةِ بِالْبُعْدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وَتَشْبِيهُ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ بِالسُّقُوطِ الْمُهْلِكِ. وَقَلَّمَا تَأْتِي فِي التَّمْثِيلِيَّةِ صُلُوحِيَّةِ أَجْزَاءِ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ فِيهَا لِأَنْ تَكُونَ تَشْبِيهَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَالْوَارِدُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ فِي أَشْيَاءَ قَلِيلَةٍ كَقَوْلِ بِشَارٍ الَّذِي يُعَدُّ مِثَالًا فِي الْحُسْنِ: كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤسنا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهُ فَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ أَكْثَرُ مِنْ تَشْبِيهَاتٍ ثَلَاثَةٍ. فَالْبَاءُ فِي (بِهِمْ) لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ أَيْ فَسَقَطُوا، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَحَلُّ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ الْحَبْلَ لَوْ تَقَطَّعَ غَيْرَ مُلَابِسٍ لِلْمُرْتَقِي عَلَيْهِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضُرٌّ إِذْ يُمْسِكُ بِالنَّخْلَةِ وَيَتَطَلَّبُ سَبَبًا آخَرَ يَنْزِلُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهُمْ أَوْ نَحْوَهُ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَنْ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ التَّعْدِيَةِ فَقَدْ بَعُدَ عَنِ الْبَلَاغَةِ، وَبِهَذِهِ الْبَاءِ تَقُومُ مَعْنَى التَّمْثِيلِيَّةِ بِالصَّاعِدِ إِلَى النَّخْلَةِ بِحَبْلٍ وَهَذَا الْمَعْنَى فَائِتٌ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: تَقَطَّعَ أَسْبَابُ اللُّبَانَةِ وَالْهَوَى ... عَشِيَّةَ جَاوَزْنَا حَمَاةَ وَشَيْزَرَا وَقَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَظْهَرُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ ضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ عَائِدَانِ إِلَى مَجْمُوعِ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى أَنَّ فِي صِلَةِ الَّذِينَ اتُّبِعُوا تَنْبِيهًا عَلَى إِغَاظَةِ الْمَتْبُوعِينَ وَإِثَارَةِ حَسْرَتِهِمْ وَذَلِكَ عَذَابٌ نَفْسَانِيٌّ يُضَاعِفُ الْعَذَابَ الْجُثْمَانِيَّ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ. وَ (لَوْ) فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ لِحَرْفِ (لَوْ) وَأَصْلُهَا الشَّرْطِيَّةُ حُذِفَ شَرْطُهَا وَجَوَابُهَا وَاسْتُعِيرَتْ لِلتَّمَنِّي بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْعَسِيرَ الْمَنَالِ يَكْثُرُ تَمَنِّيهِ، وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ ثَبَتَتْ لَنَا كَرَّةٌ لَتَبَرَّأْنَا مِنْهُمْ وَانْتَصَبَ مَا كَانَ جَوَابًا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ التَّمَنِّي وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ مِنْ مَعَانِي لَوْ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ وَأَصْلُهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ وَهُوَ فِي الْآيَةِ مُرَشَّحٌ بِنَصْبِ الْجَوَابِ.

وَالْكَرَّةُ الرَّجْعَةُ إِلَى مَحَلٍّ كَانَ فِيهِ الرَّاجِعُ وَهِيَ مَرَّةٌ مِنَ الْكَرِّ وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِمَكَانٍ سَابِقٍ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (الْكَرَّةِ) هُنَا لِظُهُورِهِ. وَالْكَافُ فِي كَمَا تَبَرَّءُوا لِلتَّشْبِيهِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْمُجَازَاةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ أَنْ يُمَاثِلَ الْفِعْلَ الْمَجَازَى قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ، وَهَذِهِ الْكَافُ قَرِيبَةٌ مِنْ كَافِ التَّعْلِيلِ أَوْ هِيَ أَصْلُهَا وَأَحْسَنُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ: أَهُزُّ بِهِ فِي نَدْوَةِ الْحَيَّ عِطْفَهُ ... كَمَا هَزَّ عِطْفِي بِالْهِجَانِ الْأَوَارِكِ وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْكَافِ وَبَيْنَ كَافِ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا إِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيْتِ أَبِي كَبِيرٍ جُعِلَتْ لِلْمُجَازَاةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَمَا بَعْدَ الْكَافِ بَاعِثٌ عَلَى الْمُشَبَّهِ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] . وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا بعد مَا عَلِمُوا الْحَقِيقَةَ وَانْكَشَفَ لَهُمْ سُوءُ صَنِيعِهِمْ فَيَدْعُوهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى دِينِهِمْ فَلَا يُجِيبُونَهُمْ لِيُشْفُوا غَيْظَهُمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ خَذَلُوهُمْ وَلِتَحْصُلَ لِلرُّؤَسَاءِ خَيْبَةٌ وَانْكِسَارٌ كَمَا خَيَّبُوهُمْ فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ قُلْتَ هُمْ إِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا جَمِيعًا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ فَلَا يَدْعُوهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ حَتَّى يَمْتَنِعُوا مِنْ إِجَابَتِهِمْ، قُلْتُ بَابُ التَّمَنِّي وَاسْعٌ فَالْأَتْبَاعُ تَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ وَيَعُودَ الْمَتْبُوعُونَ فِي ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ وَقَدْ يُقَالُ اتَّهَمَ الْأَتْبَاعُ مَتْبُوعِيهِمْ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ لِعِلْمِهِمْ غَالِبًا وَالْأَتْبَاعُ مَغْرُورُونَ لِجَهْلِهِمْ فَهُمْ إِذَا رَجَعُوا جَمِيعًا إِلَى الدُّنْيَا رَجَعَ الْمَتْبُوعُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّضْلِيلِ عَلَى عِلْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا رَأَوْهُ يَوْمَ الْقِيَامَة لم يزعهم لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُوقِنِينَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَرَجَعَ الْأَتْبَاعُ عَالِمِينَ بِمَكْرِ الْمَتْبُوعِينَ فَلَا يُطِيعُونَهُمْ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِقِصَّةِ تَبَرِّي الْمَتْبُوعِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ لِلْإِرَاءَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ يُرِيهِمُ عَلَى أُسْلُوبِ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] .

وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُرِيهِمْ عَوَاقِبَ أَعْمَالِهِمْ إِرَاءً مِثْلَ هَذَا الْإِرَاءِ إِذْ لَا يَكُونُ إِرَاءٌ لِأَعْمَالِهِمْ أَوْقَعَ مِنْهُ فَهُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ كَأَنَّهُ يُرَامُ أَنْ يُرِيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِي كَيْفِيَّةٍ شَنِيعَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ أَشْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا مِثْلُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ فِي نَحْوِ شِعْرِي شِعْرِي، أَوْ بِمُرَادِفِهِ نَحْوُ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ حَالٌ مِنْ أَعْمالَهُمْ وَمَعْنَى يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ يُرِيهِمْ مَا هُوَ عَوَاقِبُ أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ لِأَنَّهَا انْقَضَتْ فَلَا يُحِسُّونَ بِهَا. وَالْحَسْرَةُ حُزْنٌ فِي نَدَامَةٍ وَتَلَهُّفٍ وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْحَسْرِ وَهُوَ الْكَشْفُ لِأَنَّ الْكَشْفَ عَنِ الْوَاقِعِ هُوَ سَبَبُ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عَدَمِ الْحَيْطَةِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ حَالٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِقَصْدِ التَّذْيِيلِ لِمَضْمُونِ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ تَعَيَّنَ أَنَّ تَمَنِّيَهُمُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا وَحُدُوثَ الْخَيْبَةِ لَهُمْ مَنْ صُنْعِ رُؤَسَائِهِمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا إِدْخَالُ أَلَمِ الْحَسَرَاتِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَهُمْ بَاقُونَ فِي النَّارِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَعُدِلَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ «وَمَا يَخْرُجُونَ» إِلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ، وَلَيْسَ لِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا نُكْتَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِذْ لَا تَتَأَتَّى بِسِوَى هَذَا التَّقْدِيمِ، فَلَيْسَ فِي التَّقْدِيمِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصٍ لِمَا عَلِمْتَ وَلِأَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْمُسْنَدِ الْمُشْتَقِّ لَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْمَعَانِي، بَلِ الِاخْتِصَاصُ مَفْرُوضٌ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ خَاصَّةً، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ بِأَنَّ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ فِي قَوْلِ الْمُعَذَّلِ الْبَكْرِيِّ: هُمْ يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ ... وَأَجْرَدَ سَبَّاقٍ يَبُذُّ الْمَغَالِيَا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ اه. وَادَّعَى صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» أَن تَقْدِيم الْمُسْتَند إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْمُشْتَقِّ قَدْ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 169]

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: 91]- وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود:29]- وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: 107] فَالْوَجْهُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْمُشْتَقِّ لَا يُفِيدُ بِذَاتِهِ التَّخْصِيصَ وَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ بَعْضِ مَوَاقِعِهِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ بِالْقَرَائِنِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. مَا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ وَلَا يَدْعُو إِلَيْهِ. [168، 169] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 168 إِلَى 169] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ كَالْخَاتِمَةِ لِتَشْوِيهِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ الَّتِي ابْتَدَأَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَة: 161] الْآيَةَ، إِذْ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ إِجْمَالًا ثُمَّ أَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَة: 163] وَاسْتَدَلَّ عَلَى إِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 164] الْآيَاتِ ثُمَّ وَصَفَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَوَصَفَ هُنَا بَعْضَ مَسَاوِئِ دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِيمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَهُ هُنَا أَنه وَقع بعد مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَتِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَة: 164] الْآيَةَ، وَهُوَ تَمْهِيدٌ وَتَلْخِيصٌ لِمَا يَعْقُبُهُ مَنْ ذِكْرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا الَّتِي سَتَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 172] . فالخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ شَأْنُ خطاب الْقُرْآن بيا أَيُّهَا النَّاسُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِلْإِبَاحَةِ، إِذْ لَيْسَ الْكُفَّارُ بِأَهْلٍ لِلْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَقَوْلُهُ: كُلُوا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.

وَقَوْلُهُ: حَلالًا طَيِّباً تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ فِيمَا أَعْنَتُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَحَرَمُوهَا مِنْ نِعَمٍ طَيِّبَةٍ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ إِبَاحَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَوْصَافِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحِلِّ وَالتَّحْرِيمِ. وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنْ مَنْعِ أَكْلِ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِي، وَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: 138] الْآيَاتِ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَيْ مِمَّا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَمن فِي قَوْلِهِ: مِمَّا فِي الْأَرْضِ لِلتَّبْعِيضِ، فَالتَّبْعِيضُ رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِ الْمَأْكُولِ بَعْضًا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ وَلَيْسَ رَاجِعًا إِلَى كَوْنِ الْمَأْكُولِ أَنْوَاعًا دُونَ أَنْوَاعٍ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ غَرَضَ الْآيَةِ، فَمَا فِي الْأَرْضِ عَامٌّ خَصَّصَهُ الْوَصْفُ بِقَوْلِهِ: حَلالًا طَيِّباً فَخَرَجَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الثَّابِتُ تَحْرِيمُهَا بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. وَقَوْلُهُ: حَلالًا طَيِّباً حَالَانِ مِنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ، أَوَّلُهُمَا لِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالثَّانِي لِبَيَانِ عِلَّتِهِ لِأَنَّ الطَّيِّبَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تَقْصِدَهُ النُّفُوسُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِذَا ثَبَتَ الطَّيِّبُ ثَبَتَتِ الْحِلِّيَةُ لِأَنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا فِيهِ نَفْعُهُمُ الْخَالِصُ أَوِ الرَّاجِحُ. وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا مَا تستطيبه النُّفُوسُ بِالْإِدْرَاكِ الْمُسْتَقِيمِ السَّلِيمِ مِنَ الشُّذُوذِ وَهِيَ النُّفُوسُ الَّتِي تَشْتَهِي الْمُلَائِمَ الْكَامِلَ أَوِ الرَّاجِحَ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ تَنَاوُلُهُ بِضُرٍّ جُثْمَانِيٍّ أَوْ رُوحَانِيٍّ وَسَيَأْتِي مَعْنَى الطَّيِّبِ لُغَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَة: 4] فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَفِي هَذَا الْوَصْفِ مَعْنًى عَظِيمٌ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى قَاعِدَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ الشَّرْعُ فِيهَا بِشَيْءٍ أَنْ أَصْلَ الْمَضَارِّ مِنْهَا التَّحْرِيمُ وَأَصْلَ الْمَنَافِعِ الْحِلُّ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِ الشَّيْءِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عَوَارِضِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ الْمُوجِبِ تَحْرِيمَهُ، إِذِ التَّحْرِيمُ حِينَئِذٍ حُكْمٌ لِلْعَارِضِ لَا لِلْمَعْرُوضِ. وَقَدْ فُسِّرَ الطَّيِّبُ هُنَا بِمَا يُبِيحُهُ الشَّرْعُ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّكْرَارِ، وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ لَفْظٍ فِي مَعْنًى غَيْرِ مُتَعَارَفٍ عِنْدَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ الضَّمِيرُ لِلنَّاسِ لَا مَحَالَةَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَلَبِّسُونَ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ دَوْمًا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَحَظُّهُمْ مِنْهُ التَّحْذِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ.

وَاتِّبَاعُ الْخُطْوَاتِ تَمْثِيلِيَّةٌ، أَصْلُهَا أَنَّ السَّائِرَ إِذَا رَأَى آثَارَ خُطْوَاتِ السَّائِرِينَ تَبِعَ ذَلِكَ الْمَسْلَكَ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ مَا سَارَ فِيهِ السَّائِرُ قَبْلَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ لِلْمَطْلُوبِ، فَشَبَّهَ الْمُقْتَدِي الَّذِي لَا دَلِيلَ لَهُ سِوَى الْمُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ يَظُنُّ مَسْلَكَهُ مُوَصِّلًا، بِالَّذِي يَتَّبِعُ خُطْوَاتِ السَّائِرِينَ وَشَاعَتْ هَاتِهِ التَّمْثِيلِيَّةُ حَتَّى صَارُوا يَقُولُونَ هُوَ يَتَّبِعُ خُطَا فُلَانٍ بِمَعْنَى يَقْتَدِي بِهِ وَيَمْتَثِلُ لَهُ. وَالْخُطْوَاتُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ خُطْوَةٍ- مِثْلُ الْغُرْفَةِ وَالْقُبْضَةِ بِضَمِّ أَوَّلَهِمَا بِمَعْنَى الْمَخْطُوِّ- وَالْمَغْرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَخْطُوَّةٍ اسْمٌ لِمَسَافَةٍ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ عِنْدَ مَشْيِ الْمَاشِي فَهُوَ يَخْطُوهَا، وَأَمَّا الْخَطْوَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ فَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ الْخَطْوِ وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَخْطُوِّ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (خُطْوَاتِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى أَصْلِ جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ، وَالْإِتْبَاعُ يُسَاوِي السُّكُونَ فِي الْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ. وَالِاقْتِدَاءُ بِالشَّيْطَانِ إِرْسَالُ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُوَسْوِسُهُ لَهَا من الخواطر الشرية، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مَوْجُودَاتٌ مُدْرَكَةٌ لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ لَعَلَّهُ كَاتِّصَالِ الْجَاذِبِيَّةِ بِالْأَفْلَاكِ وَالْمِغْنَاطِيسِ بِالْحَدِيدِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّوَجُّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ حَدَثَتْ فِي النَّفْسِ خَوَاطِرُ سَيِّئَةٌ، فَإِنْ أَرْسَلَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَهُ لِاتِّبَاعِهَا وَلَمْ يَرْدَعْهَا بِمَا لَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالْعَزِيمَةِ حققها فِي فَاعله، وَإِنْ كَبَحَهَا وَصَدَّهَا عَنْ ذَلِكَ غَلَبَهَا. وَلِذَلِكَ أَوْدَعَ اللَّهُ فِينَا الْعَقْلَ وَالْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ وَكَمَّلَ لَنَا ذَلِكَ بِالْهُدَى الدِّينِيِّ عَوْنًا وَعِصْمَةً عَنْ تَلْبِيَتِهَا لِئَلَّا تُضِلَّنَا الْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ حَتَّى نَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» لِأَنَّهُ لَمَّا هَمَّ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ الْقُوَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَمَّا عَدَلَ عَنْهَا فَذَلِكَ حِينَ غَلَّبَ الْإِرَادَةَ الْخَيْرِيَّةَ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْخَوَاطِرِ الْخَيْرِيَّةِ وَهِيَ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّوَجُّهَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا تَنَازَعَ الدَّاعِيَانِ فِي نُفُوسِنَا احْتَجْنَا فِي التَّغَلُّبِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِعُقُولِنَا وَآرَائِنَا وَقُدْرَتِنَا، وَهُدَى اللَّهِ تَعَالَى إِيَّانَا وَذَلِكَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بِالْكَسْبِ، وَعَنْهُ يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَاللَّامُ فِي الشَّيْطانِ لِلْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ وَهُوَ أَصْلُ الشَّيَاطِينِ وَآمِرُهُمْ فَكُلُّ مَا يَنْشَأُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي خَطَا الْخُطْوَاتِ الْأُولَى.

وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّاسِ مَعْلُومَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَانُوا فِي الْحَجِّ يَرْمُونَ الْجِمَارَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرْجُمُونَ الشَّيْطَانَ، أَوْ تُجْعَلُ (إِنَّ) لِلتَّأْكِيدِ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْحُكْمِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُمْ لِاتِّبَاعِهِمُ الْإِشَارَاتِ الشَّيْطَانِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَدَاوَتَهُ كَمَا قَالَ عَبْدَةُ: إِنَّ الَّذِينَ تُرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ فِي مِثْلِ هَذَا وَتُغْنِي غَنَاءَ الْفَاءِ وَهُوَ شَأْنُهَا بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَشَّارٍ: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا لِأَنَّ عُنْصُرَ خِلْقَتِهِ مُخَالِفٌ لِعُنْصُرِ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ فَاتِّصَالُهُ بِالْإِنْسَانِ يُؤْثِرُ خِلَافَ مَا يُلَائِمُهُ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَمْثِيلُ الشَّيْطَانِ فِي صُورَةِ الْعَدُوِّ الْمُتَرَبِّصِ بِنَا الدَّوَائِرَ لِإِثَارَةِ دَاعِيَةِ مُخَالَفَتِهِ فِي نُفُوسِنَا كَيْ لَا نَغْتَرَّ حِينَ نَجِدُ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ فِي أَنْفُسِنَا فَنَظُنُّهَا مَا نَشَأَتْ فِينَا إِلَّا وَهِيَ نَافِعَةٌ لَنَا لِأَنَّهَا تَوَلَّدَتْ مِنْ نُفُوسِنَا، وَلِأَجْلِ هَذَا أَيْضًا صُوِّرَتْ لَنَا النَّفْسُ فِي صُورَةِ الْعَدُوِّ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ. وَمَعْنَى الْمُبِينِ الظَّاهِرُ الْعَدَاوَةِ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ وَلَيْسَ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ بِمَعْنَى أَظْهَرَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُظْهِرُ لَنَا الْعَدَاوَةَ بَلْ يُلَبِّسُ لَنَا وَسْوَسَتَهُ فِي لِبَاسِ النَّصِيحَةِ أَوْ جَلْبِ الْمُلَائِمِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ وَلِيًّا فَقَالَ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: 119] ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ فَضَحَهُ فَلَمْ يَبْقَ مُسْلِمٌ تَرُوجُ عَلَيْهِ تَلْبِيسَاتُهُ حَتَّى فِي حَالِ اتِّبَاعِهِ لِخُطْوَاتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا وَسَاوِسُهُ الْمُضِرَّةُ إِلَّا أَنَّهُ تَغْلِبُهُ شَهْوَتُهُ وَضَعْفُ عَزِيمَتِهِ وَرِقَّةُ دِيَانَتِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَيَئُولُ إِلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِلْعِلَّةِ إِذْ يَسْأَلُ السَّامِعُ عَنْ ثُبُوتِ الْعَدَاوَةِ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ وَمَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَقِيلَ إِنَّما يَأْمُرُكُمْ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِالسُّوءِ إِلَخْ أَيْ يُحَسِّنُ لَكُمْ مَا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَرَفْنَاهُ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ. وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ عَنِ الْوَسْوَسَةِ وَالتَّزْيِينِ إِذْ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ صِيَغَ أَمْرٍ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ فِي التَّسْوِيلِ وَالْوَسْوَسَةِ وَفِي تَلَقِّيهِمْ

مَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِحَالِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ وَيَكُونُ لَفْظُ يَأْمُرُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ مُفِيدا مَعَ ذَلِك الرَّمْزِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا إِرَادَةَ لَهُمْ وَلَا يَمْلِكُونَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِحَالِهِمْ وَإِثَارَةٌ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَهُمْ. وَالسُّوءُ الضُّرُّ مِنْ سَاءَهُ سَوْءًا، فَالْمَصْدَرُ بِفَتْحِ السِّينِ وَأَمَّا السُّوءُ بِضَمِّ السِّينِ فَاسْمٌ لِلْمَصْدَرِ. وَالْفَحْشَاءُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فَحُشَ إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمَعْرُوفَ فِي فِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ وَاخْتُصَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَا تَجَاوَزَ حَدَّ الْآدَابِ وَعَظُمَ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ وَسَاوِسَ النَّفْسِ تَئُولُ إِلَى مَضَرَّةٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ الْمُفْضِي لِلثَّأْرِ أَوْ إِلَى سَوْأَةٍ وَعَارٍ كَالزِّنَا وَالْكَذِبِ، فَالْعَطْفُ هُنَا عَطْفٌ لِمُتَغَايِرَيْنِ بِالْمَفْهُومِ وَالذَّاتِ لَا مَحَالَةَ بِشَهَادَةِ اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِدُخُولِ كِلَيْهِمَا تَحْتَ وَصْفِ الْحَرَامِ أَوِ الْكَبِيرَةِ وَأَمَّا تَصَادُقُهُمَا مَعًا فِي بَعْضِ الذُّنُوبِ كَالسَّرِقَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ كَسَائِرِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُتَصَادِقَةِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يُشِيرُ إِلَى مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ رُسُومِ الْعِبَادَاتِ وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ لِدِينِ اللَّهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَخَصَّهُ بِالْعَطْفِ مَعَ أَنَّهُ بَعْضُ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ. وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (مَا) وَهُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ، وَمَعْنَى مَا لَا تَعْلَمُونَ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ رِضَا اللَّهِ وَأَمْرِهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَحْيِ وَإِلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْقِيَاسِ وَأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْمُسْتَقْرَاةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ: إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَالَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مُقَدِّمَةٌ قَطْعِيَّةٌ مُسْتَقْرَاةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا وَهِيَ وُجُوبُ عَمَلِهِ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ وَخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَهُوَ إِذَا أَفْتَى بِهِ وَأَخْبَرَ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كُلِّفَ بِهِ من الظَّن (¬1) . [170] ¬

(¬1) قَالَ الألوسي عِنْد شرح وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ «وَظَاهر الْآيَة الْمَنْع من اتِّبَاع الظَّن رَأْسا لِأَن الظَّن مُقَابل للْعلم لُغَة وعرفاه وَيشكل عَلَيْهِ أَن الْمُجْتَهد يعْمل بِمُقْتَضى ظَنّه الْحَاصِل عِنْده من النُّصُوص فَكيف يسوغ اتِّبَاعه للمقلد، وَأجِيب بِأَن الحكم المظنون للمجتهد يجب الْعَمَل بِهِ للدليل الْقَاطِع وَهُوَ الْإِجْمَاع وكل حكم يجب الْعَمَل بِهِ قطعا علم قطعا بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى: وَإِلَّا لم يجب الْعَمَل بِهِ قطعا، وكل مَا علم قطعا أَنه حكم الله تَعَالَى فَهُوَ مَعْلُوم قطعا، فَالْحكم المظنون للمجتهد مَعْلُوم قطعا وخلاصته أَن الظَّن كَاف فِي طَرِيق تَحْصِيله ثمَّ بِوَاسِطَة الْإِجْمَاع على وجوب

[سورة البقرة (2) : آية 170]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 170] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: 168] ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِطَابِ فِي ذَلِكَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ ائْتَمَرُوا لِأَمْرِهِ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَخَاصَّةً بِأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَالْمُسْلِمُونَ مُحَاشَوْنَ عَنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ زِيَادَةُ تَفْظِيعٍ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لَهُمُ اتِّبَاعَهُمْ خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ فِيمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتَشَبَّثُوا بِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَدَبُّرٍ. بَلْ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِضْرَابَ إِعْرَاضٍ بِدُونِ حُجَّةٍ إِلَّا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ. وَفِي ضَمِيرِ لَهُمُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: 168] . وَالْمُرَادُ بِمَا ألفوا عَلَيْهِ ءاباءهم، مَا وَجَدُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الشِّرْكِ كَمَا قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] وَالْأُمَّةُ: الْمِلَّةُ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَقَوْلُهُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمَّا حَكَاهُ عَنْهُمْ رَدَّ قَوْلَهُمْ هَذَا بِاسْتِفْهَامٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الرَّدُّ ثُمَّ التَّعْجِيبُ، فَالْهَمْزَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْكَارِ كِنَايَةً وَفِي التَّعْجِيبِ إِيمَاءً، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْكَارِ الرَّدُّ وَالتَّخْطِئَةُ لَا الْإِنْكَارُ بِمَعْنَى النَّفْيِ. وَ (لَوْ) لِلشَّرْطِ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، تَقْدِيرُهُ: لَاتَّبَعُوهُمْ، وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ الِارْتِبَاطُ الَّذِي بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَإِنَّمَا صَارَتِ الْهَمْزَةُ لِلرَّدِّ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ يُجَابُ عَنْهُ بِالْإِثْبَاتِ بِقَرَائِنِ حَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمُسْتَفْهِمِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ بَدِيعِ التَّرَاكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَعْلَاهَا إِيجَازًا وَ (لَوْ) فِي مِثْلِهِ تُسَمَّى وَصَلْيَةً وَكَذَلِكَ (إِنَّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ (لَوْ) . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْوَاوِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَا لِلْحَالِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ جِنِّي وَالْمَرْزُوقِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ ... فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا وَنَحْوٌ مِنْهُ بَيْتُ «الْكِتَابِ» : عَاوِدْ هَرَاةَ وَإِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبَا (¬1) وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ وَمَا بَعْدَهَا مَنْصُوبَةُ الْمَوْضِعِ بِعَاوِدْ كَمَا أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا مَنْصُوبَةُ الْمَوْضِعِ بِمَا قَبْلَهَا وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا: أَزُورُكَ رَاغِبًا فِيَّ وَأُحْسِنُ إِلَيْكَ شَاكِرًا إِلَيَّ، فَرَاغِبًا وَشَاكِرًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ بِمَا قَبْلَهُمَا وَهُمَا فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَمَا قَبْلَهُمَا نَائِبٌ عَنِ الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لَهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ رَغِبْتَ فِيَّ زُرْتُكَ وَإِنْ شَكَرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، وَسَأَلْتُ مَرَّةً أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِ: عَاوِدْ هَرَاةَ وَإِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبًا كَيْفَ مَوْقِعُ الْوَاوِ هُنَا وَأَوْمَأْتُ فِي ذَلِكَ لَهُ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَرَأَيْتُهُ كَالْمُصَانِعِ فِي الْجَوَابِ لَا قُصُورًا بِحَمْدِ اللَّهِ عَنْهُ وَلَكِنْ فُتُورًا عَنْ تَكَلُّفِهِ فَأَجْمَمْتُهُ، وَقَالَ الْمَرْزُوقِيُّ هُنَالِكَ: قَوْلُهُ: «وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ جَمَالُكَ بِمِئْزَرٍ مُرَدًّى مَعَهُ بُرْدٌ وَالْحَالُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ مَعْنَى الْحَالِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِكَ لَأَفْعَلَنَّهُ كَائِنًا مَا كَانَ أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا أَوْ إِنْ كَانَ ذَاكَ، وَالثَّانِي كَبَيْتِ «الْكِتَابِ» : عَاوِدْ هراة وَإِن معمورا خَرِبًا لِأَنَّ الْوَاوَ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَمْرٍو وَفِيهِ لَفْظُ الشَّرْطِ وَمَعْنَاهُ وَمَا قَبْلَهُ نَائِبٌ عَنِ الْجَوَابِ، وَتَقْدِيرُهُ: إِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبَا فَعَاوِدْهَا وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا عَلَى مِئْزَرٍ فَلَيْسَ الْجَمَالُ بِذَلِكَ» اه. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي نَظِيرَتِهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: «الْوَاوُ ¬

(¬1) هُوَ لرجل من ربيعَة قَالَه يرثي زوجه فِي وَاقعَة فتح عبد الله بن خازم هراة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَبعده قَوْله: وأسعد الْيَوْم مشغوفا إِذا طَربا وارجع بطرفك نَحْو الخندقين ترى ... رزءا جَلِيلًا وأمرا مفظعا عجبا هاما تزقّى وأوصالا مفرّقة ... ومنزلا مقفرا من أَهله خربا

لِلْحَالِ» ، ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ جِنِّي وَالْمَرْزُوقِيِّ أَنَّ الْحَالَ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ الْوَاوِ وَهُوَ الَّذِي نَحَّاهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا وَرَجَّحَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ، وَذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّ الْحَالَ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ تَقْدِيرُهَا أَيَتَّبِعُونَهُمْ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْوَاوِ وَاوَ الْحَالِ فَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَيْسَتْ مُقَدَّمَةً مِنْ تَأْخِيرٍ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا مَعَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ بَلِ الْهَمْزَةُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ تِلْكَ الْحَالَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: «الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ» وَقُدِّرَ هُنَا وَفِي الْمَائِدَةِ مَحْذُوفًا هُوَ مَدْخُولُ الْهَمْزَةِ فِي التَّقْدِيرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ فَقَدَّرَهُ هُنَا أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وَقَدَّرَهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَحَسْبُهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي رَأْيِهِ، فَمَنْ لَا يُقَدِّرُ مَحْذُوفًا يَجْعَلُ الْهَمْزَةَ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ. الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ قِيلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِيهِ وَهُوَ وَجِيهٌ جِدًّا أَيْ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ، وَعَلَيْهِ فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ تَارَةً تَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِي كَمَا فِي الْآيَةِ أَيْ يَقُولُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ إِلَخْ فَهُوَ مِنْ مَجِيءِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ مِنْ كَلَامَيْ مُتَكَلِّمَيْنِ عَطْفَ التَّلْقِينِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] ، وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي بَيْتِ «الْحَمَاسَةِ» وَبَيْتِ «الْكِتَابِ» وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِي تَلْقِينًا لِلْمَحْكِيِّ عَنْهُ وَتَقْدِيرًا لَهُ مِنْ كَلَامِهِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ وَقِيلَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ وَنَسَبَهُ الرَّضِيُّ لِلْجَرْمِيِّ وَقَدَّرُوا الْجُمْلَةَ بِشَرْطِيَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَتَّبِعُونَهُمْ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ وَيَهْتَدُونَ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُعَرِّبِينَ عِنْدَنَا فِي نَظَائِرِهِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مُخْتَارُ الرَّضِيِّ أَنَّ الْوَاوَ فِي مِثْلِهِ لِلِاعْتِرَاضِ إِمَّا فِي آخِرِ الْكَلَامِ كَمَا هُنَا وَإِمَّا فِي وَسَطِهِ، وَلَيْسَ الِاعْتِرَاضُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْوَاوِ وَلَكِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ يَرْجِعُ إِلَى وَاوِ الْحَالِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْمُقْتَرِنُ بِهَذِهِ الْوَاوِ فَلِكَوْنِهِ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ أَوِ الْمَعْطُوفِ أَوِ الِاعْتِرَاضِ مِنْ كَلَامٍ سَابِقٍ غَيْرِ شَرْطٍ، كَانَ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فِيهِ ضَعِيفًا، لِذَلِكَ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ أَوِ انْسَلَخَ عَنْهُ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ جِنِّي وَالْمَرْزُوقِيِّ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ بَاقِيَةٌ وَلِذَلِكَ جَعَلَا يُقَرِّبَانِ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ يُومِئَانِ إِلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ كَوْنِ الْجُمْلَةِ

حَالِيَّةً وَكَوْنِهَا شَرْطِيَّةً، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا وَحُسَّنَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَوَجْهُ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ إِذَا ذُكِرَ فِيهِ حُكْمٌ وَذُكِرَ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ سَبَبٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَكَانَ لِذَلِكَ السَّبَبِ أَفْرَادٌ أَوْ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مَظِنَّةٌ لِأَنْ تَتَخَلَّفَ السَّبَبِيَّةُ عِنْدَهُ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا مَعَهُ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِإِنْ أَوْ لَوْ دَلَالَةً عَلَى الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيقِ بَيْنَ الْحَالَةِ الْمَظْنُونِ فِيهَا تَخَلُّفُ التَّسَبُّبِ وَبَيْنَ الْفِعْلِ الْمُسَبَّبِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ وَجُمْلَةَ الْجَزَاءِ تَدُلُّ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَيَسْتَغْنُونَ حِينَئِذٍ عَنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ الَّذِي عُقِّبَ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا النَّوْعُ بِحَرْفَيْ (إِنْ- وَلَوْ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى نُدْرَةِ حُصُولِ الشَّرْطِ أَوِ امْتِنَاعِهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ نَادِرَ الْحُصُولِ جَاءُوا مَعَهُ بِإِنْ كَبَيْتِ عَمْرٍو، وَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَاءُوا مَعَهُ بِلَوْ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِلَوْ لِشَرْطٍ شَدِيدِ النُّدْرَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ لَوْ مَعَهُ مَجَازًا مُرْسَلًا تَبَعِيًّا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (إِنْ- وَلَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ خَرَجَتَا عَنِ الشُّرْطِيَّةِ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الْأَحْزَاب: 52] أَنَّ لَوْ فِيهِ لِلْفَرْضِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: مَفْرُوضًا إِعْجَابَكَ حُسْنُهُنَّ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هُنَا إِنَّ الشَّرْطَ فِي مِثْلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّسْوِيَةِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي جَوَابًا عَلَى الصَّحِيحِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ وَإِنَّمَا يُقَدِّرُونَ الْجَوَابَ تَوْضِيحًا لِلْمَعْنَى وَتَصْوِيرًا لَهُ اه. وَسَمَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ النُّحَاةِ (إِنْ- وَلَوْ) هَاتَيْنِ وَصْلِيَّتَيْنِ، وَفَسَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «الْمُطَوَّلِ» بِأَنَّهُمَا لِمُجَرَّدِ الْوَصْلِ وَالرَّبْطِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ. وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقْتَ مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ فَقَدْ حَانَ أَنْ نُبَيِّنَ لَكَ وَجْهَ الْحَقِّ فِي الْوَاوِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي سَمِعْتَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْوَاوِ مُعْتَبَرًا مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَأَنَّهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ كَلَامٍ آخَرَ فَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ لَا مَحَالَةَ عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى التَّلْقِينِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (¬1) [الزمر: 43] وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ مَجِيءَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (قل أَو لَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ) وَلم أَجدهَا فِي «مُعْجم عبد الْبَاقِي» مَادَّة يعْقلُونَ ويهتدون.

[سورة البقرة (2) : آية 171]

بَيْتُ: «قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ» الْمُتَقَدِّمُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى جَوَابِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ فَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الرَّضِيِّ بِالِاعْتِرَاضِ مِثْلَ قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ فَإِنَّ مَوْقِعَ الشَّرْطِ فِيهِ لَيْسَ مَوْقِعَ الْحَالِ بَلْ مَوْقِعُ رَدِّ سُؤَالِ سَائِلٍ يَقُولُ: أَتَنْفِي عَنْ نَفْسِكَ الذَّنْبَ. وَقَدْ كَثُرَ الْقَوْلُ فِي إِثْبَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أَيْ لَا يُدْرِكُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي إِلْزَامِهِمْ بِالْخَطَأِ فِي اتِّبَاع آبَائِهِم من غَيْرِ تَبَصُّرٍ وَلَا تَأَمُّلٍ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كَلِمَةِ شَيْءٍ. وَمُتَعَلِّقُ وَلا يَهْتَدُونَ مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ مُمْتَنِعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ لِآبَائِهِمْ عُقُولًا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ، وَفِيهِمْ بَعْضُ الِاهْتِدَاءِ مِثْلُ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى بَعْضِ مَا عَلَيْهِ أُمُورُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ كَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَحِفْظِ الْعَهْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا صَحَّ وُقُوعُ (لَوِ) الشَّرْطِيَّةِ هُنَا. وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْكَلَامَ عَلَى (لَوْ) هَذِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهَا لَا يُوجَدُ مُفَصَّلًا فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَقَدْ أَجْحَفَ فِيهِ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ لِأَنَّهَا ذَمٌّ لِلَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ تَقْلِيدٌ لِلْمُتَّبَعِينَ مَا أنزل الله (¬1) . [171] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) لَمَّا ذَكَرَ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى اتِّبَاعِ الدِّينِ بِالْإِعْرَاضِ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [الْبَقَرَة: 170] ، وَذَكَرَ فَسَادَ عَقِيدَتِهِمْ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: 165] الْآيَةَ، فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمَضْرُوبِ لَهُمُ الْمَثَلُ هُنَا هُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً وَعَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي قَوْله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَة: 165] ، وَعَيْنُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: 168] ، وَعَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: ¬

(¬1) قَالَ الألوسي: «فِي الْآيَة دَلِيل على الْمَنْع من التَّقْلِيد لمن قدر على النّظر، وَأما اتِّبَاع الْغَيْر فِي الدَّين بعد الْعلم بِدَلِيل مَا إِنَّه مُلْحق فاتباع فِي الْحَقِيقَة لما أنزل الله تَعَالَى، وَلَيْسَ من التَّقْلِيد المذموم فِي شَيْء، وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: 43] «روح الْمعَانِي» (2/ 40، 41) ، ط المنيرية.

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ [الْبَقَرَة: 170] ، عُقِّبَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِتَمْثِيلِ فَظِيعِ حَالِهِمْ إِبْلَاغًا فِي الْبَيَانِ وَاسْتِحْضَارًا لَهُمْ بِالْمِثَالِ، وَفَائِدَةُ التَّمْثِيلِ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: 17] . وَإِنَّمَا عَطَفَهُ بِالْوَاوِ هُنَا وَلَمْ يُفَصِّلْهُ كَمَا فُصِّلَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا لِأَنَّهُ أُرِيدَ هُنَا جَعْلُ هَذِهِ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً لَهُمْ فِي تَلَقِّي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ لَمْ يَعْطِفْهُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. وَالْمَثَلُ هُنَا لَمَّا أُضِيفَ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَ ظَاهِرًا فِي تَشْبِيهِ حَالِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحَالِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ مَنْ يَنْعِقُ بِهَا فِي أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَبَصُّرٍ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ: دَاعٍ وَمَدْعُوٍّ وَدَعْوَةٍ، وَفَهْمٍ وَإِعْرَاضٍ وَتَصْمِيمٍ، وَكُلٌّ مِنْ هَاتِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّمْثِيلِ وَقَدْ أَوْجَزَتْهُ الْآيَةُ إِيجَازًا بَدِيعًا، وَالْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً هُوَ تَشْبِيهُ حَالِ الْكُفَّارِ لَا مَحَالَةَ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَشْبِيهُ حَالِ النَّبِيءِ وَحَالِ دَعْوَتِهِ، وَلِلْكُفَّارِ هُنَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا حَالَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَاعِي الْإِسْلَامِ، وَالثَّانِيَةُ حَالَةُ الْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْحَالَتَيْنِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [الْبَقَرَة: 170] وَأَعْظَمُهُ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، فَجَاءَ هَذَا الْمَثَلُ بَيَانًا لِمَا طُوِيَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ غَنَمِ الَّذِي يَنْعِقُ لِأَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْمُشَبَّهُونَ وَالَّذِي يَنْعَقُ يُشْبِهُهُ دَاعِي الْكفَّار فَلَمَّا ذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَهَلْ هَذَا الْأُسْلُوبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْبِيهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ لَهُمْ بِالَّذِي يَنْعِقُ؟ قُلْتُ: كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: 17] ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْمُرَكَّبَيْنِ غَيْرَ مَنْظُورٍ إِلَيْهَا اسْتِقْلَالًا وَأَيُّهَا ذَكَرْتَ فِي جَانِبِ الْمركب المشبّه والمربه الْمُشَبَّهِ بِهِ أَجْزَأَكَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَالِبُ أَنْ يَبْدَءُوا الْجُمْلَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُرَكَّبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا يُقَابِلُ الْمَذْكُورَ فِي الْمُرَكَّبِ الْمُشَبَّهِ نَحْوِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَقَدْ لَا يَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ [آل عمرَان: 117] الْآيَةَ. وَالَّذِي يُقَابل ايُنْفِقُونَ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ هُوَ قَوْله: رْثَ قَوْمٍ [آل عمرَان: 177] وَقَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ

سَنابِلَ [الْبَقَرَة: 261] وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَابِلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ هُوَ زَارِعُ الْحَبَّةِ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ أَصْلًا وَقَالَ تَعَالَى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ [الْبَقَرَة: 264] الْآيَةَ، وَالَّذِي يُقَابِلُ الصَّفْوَانَ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ هُوَ الْمَالُ الْمُنْفَقُ لَا الَّذِي يُنْفِقُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ» إِلَخْ، وَالَّذِي يُقَابِلُ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَأْجَرَ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَوَابِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ قَبْلَنَا، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ أَصْلًا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَعَلَيْهِ فَالتَّقْدِيرَاتُ الْوَاقِعَةُ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنَا تَقَادِيرُ لِبَيَانِ الْمَعْنَى، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِحَالِ الَّذِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ، أَوْ تَشْبِيهَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى الْأَصْنَامِ بِحَالِ الدَّاعِي لِلْغَنَمِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْغَنَمُ تَسْمَعُ صَوْتَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ وَلَا تَفْهَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاعِقُ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً مِنْ تَكْمِلَةِ أَوْصَافِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَذَلِكَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ إِتْمَامٍ لِلتَّشْبِيهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَ الْمُشْرِكِينَ بِقِلَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَلِأَنْ يَكُونَ احْتِرَاسًا فِي التَّشْبِيهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَ الْأَصْنَامِ حِينَ يَدْعُوهَا الْمُشْرِكُونَ بِالْغَنَمِ حِينَ يَنْعِقُ بِهَا رُعَاتُهَا فَهِيَ لَا تَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ لَا دُعَاءً وَلَا نِدَاءً فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَة: 74] ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [الْبَقَرَة: 74] . وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْ يَكُونَ التَّمْثِيلُ عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ وَلَعَلَّهُ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّشْبِيهَ التَّمْثِيلِيَّ يَحْتَمِلُ كُلَّ مَا حَمَّلْتُهُ مِنَ الْهَيْئَةِ كُلِّهَا، وَهَيْئَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تلقي الدعْوَة مُشْتَمِلَة عَلَى إِعْرَاضٍ عَنْهَا وَإِقْبَالٍ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ [الْبَقَرَة: 170] الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ كُلُّهَا تُشْبِهُ حَالَ النَّاعِقِ بِمَا لَا يسمع، فالنبي يَدْعُوهُمْ كَنَاعِقٍ بِغَنَمٍ لَا تَفْقَهُ دَلِيلًا، وَهُمْ يَدْعُونَ أَصْنَامَهُمْ كَنَاعِقٍ بِغَنَمٍ لَا تَفْقَهُ شَيْئًا. وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ صُلُوحِيَّةُ آيَاتِهِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ يَفْرِضُهَا السَّامِعُ. وَالنَّعْقُ نِدَاءُ الْغَنَمِ وَفِعْلُهُ كَضَرَبَ وَمَنَعَ وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَلَعَلَّ وَزْنَ ضَرَبَ فِيهِ أَفْصَحُ وَإِنْ كَانَ وَزْنُ مَنَعَ أَقْيَسَ، وَقَدْ أَخَذَ الْأَخْطَلُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ يَصِفُ جَرِيرًا

بِأَنْ لَا طَائِلَ فِي هِجَائِهِ الْأَخْطَلَ: فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الظَّلَامِ ضَلَالَا وَالدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ قِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَا يَصِحُّ، وَقِيلَ الدُّعَاءُ لِلْقَرِيبِ وَالنِّدَاءُ لِلْبَعِيدِ، وَقِيلَ الدُّعَاءُ مَا يُسْمَعُ وَالنِّدَاءُ قَدْ يُسْمَعُ وَقَدْ لَا يُسْمَعُ وَلَا يَصِحُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا نَوْعَانِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَفْهَمُهَا الْغَنَمُ، فَالدُّعَاءُ مَا يُخَاطَبُ بِهِ الْغَنَمُ مِنَ الْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الزَّجْرِ وَهِيَ أَسمَاء الْأَصْوَات، والنداء رَفْعُ الصَّوْتِ عَلَيْهَا لِتَجْتَمِعَ إِلَى رُعَاتِهَا، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعَ وُجُودِ الْعَطْفِ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ لَا يُعْطَفُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ النِّدَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ لِإِسْمَاعِ الْكَلَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا نِدَاءُ الرِّعَاءِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا لِلتَّعَاوُنِ عَلَى ذَوْدِ الْغَنَمِ، وَسَيَأْتِي مَعْنَى النِّدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الْأَعْرَاف: 43] فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَوْلُهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ أَخْبَارٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي بِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ أَنْ أَجْرَى عَلَيْهِمُ التَّمْثِيلَ، وَالْأَوْصَافُ إِنْ رَجَعَتْ لِلْمُشْرِكِينَ فَهِيَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْأَصْنَامِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ يَنْعِقُ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ وَتَكُونُ شَاهِدًا عَلَى صِحَّةِ الْوَصْفِ بِالْعَدَمِ لِمَنْ لَا يَصِحُّ اتِّصَافُهُ بِالْمَلَكَةِ كَقَوْلِكَ لِلْحَائِطِ: هُوَ أَعْمَى، إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمَّا فَرَضَهَا الْمُشْرِكُونَ عُقَلَاءَ آلِهَةً وَأُرِيدَ إِثْبَاتُ انْعِدَامِ الْإِحْسَاسِ مِنْهُمْ عُبِّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَهَكُّمًا بِالْمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مَرْيَم: 42] . وَقَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ تقريع كَمَجِيءِ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الْبُرْهَانِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا لِلْمُشْرِكِينَ فَالِاسْتِنْتَاجُ عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ لِخَفَاءِ النَّتِيجَةِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، أَيْ إِنْ تَأَمَّلْتُمْ وَجَدْتُمُوهُمْ لَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُمْ كَالْأَنْعَامِ وَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ إِلَخْ، وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا لِلْأَصْنَامِ فَالِاسْتِنْتَاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَبَاوَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوهَا. وَمَجِيءُ الضَّمِيرِ لَهُمْ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ تَهَكَّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعُقَلَاءِ كَمَا تقدم.

[سورة البقرة (2) : آية 172]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 172] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) اعْتِرَاضٌ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ بِالِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِإِبَاحَةِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، جَرَتْ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ، فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ تَوْبِيخِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَنْ حَرَّمُوا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِلَى تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَقَدْ أُعِيدَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 168] بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ لِيَكُونَ خِطَابُ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْخطاب هُنَا بيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْكَلَامُ عَلَى الطَّيِّبَاتِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ الدَّالِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالِامْتِنَانِ، وَالْأَمْرُ فِي اشْكُرُوا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنَعِمِ وَاجِبٌ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الشُّكْرِ بِحَرْفِ اللَّامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: 152] . وَالْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي الِاسْمِ الظَّاهِرِ إِشْعَارًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهُ يُومِئُ إِلَى أَلَّا تُشْكَرَ الْأَصْنَامُ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ بِاعْتِرَافِ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ فَلَا تَسْتَحِقُّ شُكْرًا. وَهَذَا مِنْ جَعْلِ اللَّقَبِ ذَا مَفْهُومٍ بِالْقَرِينَةِ إِذِ الضَّمِيرُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ. وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالشَّرْطِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أَيِ اشْكُرُوهُ عَلَى مَا رَزَقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَتَّصِفُ بِأَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ هَذَا الْفَرِيقَ وَهَذِهِ سَجِيَّتُكُمْ، وَمِنْ شَأْنِ كَانَ إِذَا جَاءَتْ وَخَبَرُهَا جُمْلَةٌ مُضَارِعِيَّةٌ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْعُنْوَانِ لَا عَلَى الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يُوسُف: 43] أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ صِفَاتِكُمْ، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ لَا تُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ فَاشْكُرُوهُ وَحْدَهُ. فَالْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ هُنَا الِاعْتِقَادُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْخُضُوعُ وَالِاعْتِرَافُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنهُ مَا تقدم مِنْ قَوْله وَاشْكُرُوا.

[سورة البقرة (2) : آية 173]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ مَا هِيَ الطَّيِّبَاتُ فَجَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُبَيِّنًا الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ أَضْدَادُ الطَّيِّبَاتِ، لِتُعْرَفَ الطَّيِّبَاتُ بطرِيق المضادة المستفادة مِنْ صِيغَةِ الْحَصْرِ، وَإِنَّمَا سَلَكَ طَرِيقَ بَيَانِ ضِدَّ الطَّيِّبَاتِ لِلِاخْتِصَارِ فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قَلِيلَةٌ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْحَصْرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَأَحَلُّوا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ هُنَا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقَصْرِ قَلْبُ اعْتِقَادِ أَحَدٍ وَإِنَّمَا حَصَلَ الرَّدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ. وإِنَّما بِمَعْنَى مَا وَإِلَّا أَيْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا حَرَّمَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ. وَالْحَرَامُ: الْمَمْنُوعُ مَنْعًا شَدِيدًا. وَالْمَيْتَةُ بِالتَّخْفِيفِ هِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الذَّاتُ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَوْتُ فَمُخَفَّفُهَا وَمُشَدَّدُهَا سَوَاءٌ كَالْمَيِّتِ وَالْمَيْتِ، ثُمَّ خُصَّ الْمُخَفَّفُ مَعَ التَّأْنِيثِ بِالدَّابَّةِ الَّتِي تُقْصَدُ ذَكَاتُهَا إِذَا مَاتَتْ بِدُونِ ذَكَاةٍ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ نَقْلِ الشَّرْعِ وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ قِبَلَ الشَّرْعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ إِطْلَاقِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (الْمَيْتَةَ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَإِضَافَةُ التَّحْرِيمِ إِلَى ذَاتِ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُوَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُقْصَدُ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ نَوْعِهَا نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَقَامِ نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] فَيُقَدَّرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُضَافٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَوْ يُقَالُ: أُقِيمَ اسْمُ الذَّاتِ مَقَامَ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ مَا تَقْصِدُ لَهُ قُصِرَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا عُمِّمَ احْتِيَاطًا، فَنَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ مُتَعَيَّنٌ لِحُرْمَةِ تَزَوُّجِهِنَّ وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِع ذَلِك كمات اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ، فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ يَحْرُمَ تَقْبِيلُهُنَّ أَوْ مُحَادَثَتُهُنَّ، وَنَحْو: فَاجْتَنِبُوهُ [الْمَائِدَة: 90] بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَيْسِرِ

وَالْأَزْلَامُ مُتَعَيَّنٌ لِاجْتِنَابِ اللَّعِبِ بِهَا دُونَ نَجَاسَةِ ذَوَاتِهَا. وَالْمَيْتَةُ هُنَا عَامٌّ لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ، فَتَحْرِيمُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ هُوَ نَصُّ الْآيَةِ وَصَرِيحُهَا لِوُقُوعِ فِعْلِ حَرَّمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 172] وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا الْأَكْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ كَالِانْتِفَاعِ بِصُوفِهَا وَمَا لَا يَتَّصِلُ بِلَحْمِهَا مِمَّا كَانَ يُنْتَزَعُ مِنْهَا فِي وَقْتِ حَيَاتِهَا فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِقَرْنِهَا وَأَظْلَافِهَا وَرِيشِهَا وَأَنْيَابِهَا لِأَنَّ فِيهَا حَيَاةً إِلَّا نَابَ الْفِيلِ الْمُسَمَّى الْعَاجَ، وَلَيْسَ دَلِيلُهُ عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ مُنْتَزَعًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ أُخِذَ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَشَارَ إِلَى خَبَاثَةِ لَحْمِهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِكُلِّ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنْ فِعْلِ حَرَّمَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي حَيِّزِ الْإِثْبَاتِ لَا عُمُومَ لَهُ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْمَيْتَةَ كُلٌّ وَلَيْسَ كُلِّيًّا فَلَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَيَرْجِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ إِلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي الْأَخْذِ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ أَوْ أَوَاخِرِهَا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَرْجِعُ إِلَى إِعْمَالِ دَلِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَفِيهِ مَرَاتِبُ وَعَلَيْهِ قَرَائِنُ وَلَا أَحْسُبَهَا مُتَوَافِرَةً هُنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ بِوَجْهٍ وَلَا يُطْعَمُهَا الْكِلَابُ وَلَا الْجَوَارِحُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا مُؤَكَّدًا بِهِ حُكْمُ الْحَظْرِ، فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِيمَا عَدَا اسْتِدْلَالَهُ. وَأَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَلَهُ شِبْهٌ مِنْ جِهَةٍ ظَاهِرِهِ كَشِبْهِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، وَمِنْ جِهَةِ بَاطِنِهِ كَشِبْهِ اللَّحْمِ، وَلِتَعَارُضِ هَذَيْنِ الشِّبْهَيْنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ (¬1) إِذَا دُبِغَ فَقَالَ أَحْمَدُ ابْن حَنْبَلٍ: لَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِالدَّبْغِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ مَا عَدَا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ جِلْدَ الْكَلْبِ بِجِلْدِ الْخِنْزِيرِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَطْهُرُ ظَاهِرُ الْجِلْدِ بِالدَّبْغِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ صُلْبًا لَا يُدَاخِلُهُ مَا يُجَاوِرُهُ، وَأَمَّا بَاطِنُهُ فَلَا يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ وَلِذَلِكَ قَالَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ فِي غَيْرِ وَضْعِ الْمَاءِ فِيهِ، وَمَنَعَ أَنْ يُصَلَّى بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاةً مَيْتَةً كَانَتْ لِمَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» ، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» (¬2) ، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ لَمْ يَبْلُغَا مَبْلَغَ الصِّحَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَلَكِنَّ صِحَّتَهُمَا ثَبَتَتْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي طَهَارَةَ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ ¬

(¬1) انْظُر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي «الْبِدَايَة» لِابْنِ رشد (1/ 78) ، دَار الْمعرفَة. (¬2) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأحمد وَابْن مَاجَه عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

لِأَنَّ الدَّبْغَ يُزِيلُ مَا فِي الْجِلْدِ مِنْ تَوَقُّعِ الْعُفُونَةِ الْعَارِضَةِ لِلْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُذَكَّى فَهُوَ مُزِيلٌ لِمَعْنَى الْقَذَارَةِ وَالْخَبَاثَةِ الْعَارِضَتَيْنِ لِلْمَيْتَةِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْمَيْتَةِ مَيْتَةُ الْحُوتِ وَنَحْوِهِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ الَّتِي لَا تَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَة: 96] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِيمَا أَرَى هِيَ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَمُوتُ غَالِبًا إِلَّا وَقَدْ أُصِيبَ بِعِلَّةٍ وَالْعِلَلُ مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ تَتْرُكُ فِي لَحْمِ الْحَيَوَانِ أَجْزَاءً مِنْهَا فَإِذَا أَكَلَهَا الْإِنْسَانُ قَدْ يُخَالِطُ جُزْءًا مِنْ دَمِهِ جَرَاثِيمُ الْأَمْرَاضِ، مَعَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي فِي الْحَيَوَانِ إِذَا وَقَفَتْ دَوْرَتُهُ غُلِّبَتْ فِيهِ الْأَجْزَاءُ الضَّارَّةُ عَلَى الْأَجْزَاءِ النَّافِعَةِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الذَّكَاةُ لِأَنَّ الْمُذَكَّى مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ غَالِبًا وَلِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ الَّذِي فِيهِ تَجْعَلُ لَحْمَهُ نَقِيًّا مِمَّا يُخْشَى مِنْهُ أَضْرَارٌ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْجَنِينِ: أَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ (¬1) لِأَنَّهُ لِاتِّصَالِهِ بِأَجْزَاءِ أَمِّهِ صَارَ اسْتِفْرَاغُ دَمِ أُمِّهِ اسْتِفْرَاغًا لِدَمِهِ وَلِذَلِكَ يَمُوتُ بِمَوْتِهَا فَسَلِمَ مِنْ عَاهَةِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ مَدْلُولُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُؤْكَلُ الْجَنِينُ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا فَاعْتَبَرَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ لَمْ يُذَكَّ، وَتَنَاوَلَ الْحَدِيثُ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا. وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْحُوتِ الْجَرَادَ تُؤْكَلُ مَيْتَتُهُ لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ ذَكَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْن عبد الحكم مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تَمَسُّكًا بِمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ» اه. وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِنَأْكُلُ أَمْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالا من ضمير «كُنَّا» فَهُوَ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ إِمَّا بِأَكْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ وَإِمَّا بِتَقْرِيرِهِ ذَلِكَ فَتُخَصُّ بِهِ الْآيَةُ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ» فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» (¬2) ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ إِلَّا أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةَ أَمْثَالِهِ كَالطَّرْحِ فِي المَاء السخن أَوْ قَطْعِ مَا لَا يَعِيشُ بِقطعِهِ. وَلَعَلَّ مَالك رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَضْعَفَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الِاضْطِرَارِ فِي السَّفَرِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْنَعُونَ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّ ضَمَّ الْجَرَادِ فِي غَرَائِرَ ¬

(¬1) الْمصدر السَّابِق (1/ 442) ، دَار الْمعرفَة. (¬2) وَابْن رشد أَيْضا كَمَا فِي الْمصدر السَّابِق (1/ 80) ، دَار الْمعرفَة، وَقَالَ فِي (1/ 467) ، دَار الْمعرفَة: «هَذَا الحَدِيث فِي غَالب ظَنِّي لَيْسَ هُوَ فِي الْكتب الْمَشْهُورَة من كتب الحَدِيث» . [.....]

فَضَمُّهُ ذَلِكَ ذَكَاةٌ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي «الْمُوَطَّأِ» حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي الْجَرَادِ إِنَّهُ مِنَ الْحُوتِ وَبَيَّنْتُ تَوَهُّمَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «كَشْفُ الْمُغَطَّى عَلَى الْمُوَطَّا» (¬1) . وَأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَأْكُلُ الدَّمَ، كَانُوا يَأْخُذُونَ المباعر فيملأونها دَمًا ثُمَّ يَشْوُونَهَا بِالنَّارِ وَيَأْكُلُونَهَا، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الدَّمِ أَنَّ شُرْبَهُ يُورِثُ ضَرَاوَةً فِي الْإِنْسَانِ فَتَغْلُظُ طِبَاعُهُ وَيَصِيرُ كَالْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ، وَهَذَا مُنَافٍ لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّهَا جَاءَتْ لِإِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِبْعَادِ الْإِنْسَانِ عَنِ التَّهَوُّرِ وَالْهَمَجِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قُيِّدَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالْمَسْفُوحِ أَيِ الْمِهْرَاقِ، لِأَنَّهُ كَثِيرٌ لَوْ تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ اعْتَادَهُ وَلَوِ اعْتَادَهُ أَوْرَثَهُ ضَرَاوَةً، وَلِذَا عَفَّتِ الشَّرِيعَةُ عَمَّا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَقَاسَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ نَجَاسَةَ الدَّمِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَدَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ قَذَارَةً. وَالدَّمُ مَعْرُوفٌ مَدْلُولُهُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ إِفْرَازٌ مِنَ الْمُفْرَزَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغِذَاءِ وَبِهِ الْحَيَاةُ وَأَصْلُ خِلْقَتِهِ فِي الْجَسَدِ آتٍ مِنَ انْقِلَابِ دَمِ الْحَيْضِ فِي رَحِمِ الْحَامِلِ إِلَى جَسَدِ الْجَنِينِ بِوَاسِطَةِ الْمُصْرَانِ الْمُتَّصِلِ بَيْنَ الرَّحِمِ وَجَسَدِ الْجَنِينِ وَهُوَ الَّذِي يُقْطَعُ حِينَ الْوِلَادَةِ، وَتَجَدُّدُهُ فِي جَسَدِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ بُرُوزِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَكُونُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ بِوَاسِطَةِ هَضْمِ الْكَبِدِ لِلْغِذَاءِ الْمُنْحَدَرِ إِلَيْهَا مِنَ الْمَعِدَةِ بَعْدَ هَضْمِهِ فِي الْمَعِدَةِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْكَبِدِ مَعَ عِرْقٍ فِيهَا فَيَصْعَدُ إِلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَدْفَعُهُ إِلَى الشَّرَايِينِ وَهِيَ الْعُرُوقُ الْغَلِيظَةُ وَإِلَى الْعُرُوقِ الرَّقِيقَةِ بِقُوَّةِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ بِالْفَتْحِ وَالْإِغْلَاقِ حَرَكَةً مَاكِينِيَّةً هَوَائِيَّةً، ثُمَّ يَدُورُ الدَّمُ فِي الْعُرُوق منتقلا مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بعض بِوَاسِطَة حركات الْقَلْبِ وَتَنَفُّسِ الرِّئَةِ وَبِذَلِكَ الدَّوَرَانِ يَسْلَمُ مِنَ التَّعَفُّنِ فَلِذَلِكَ إِذَا تَعَطَّلَتْ دَوْرَتُهُ حِصَّةً طَوِيلَةً مَاتَ الْحَيَوَانُ. وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ هُوَ لَحْمُ الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ بِهَذَا الِاسْمِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخِنْزِيرَ الْوَحْشِيَّ دُونَ الْإِنْسِيِّ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا تَرْبِيَةَ الْخَنَازِيرِ وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ وَارِدًا عَلَى الْخِنْزِيرِ الْوَحْشِيِّ فَالْخِنْزِيرُ الْإِنْسِيُّ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ أَوْ مُسَاوٍ لِلْوَحْشِيِّ. وَذِكْرُ اللَّحْمِ هُنَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ لِلْأَكْلِ فَلَا دَلَالَةَ فِي ذِكْرِهِ عَلَى إِبَاحَةِ شَيْءٍ آخَرَ مِنْهُ وَلَا عَلَى عَدَمِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِبَعْضِ الْجِسْمِ عَلَى جَمِيعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَن زَكَرِيَّاء رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 4] ، وَأَمَّا نَجَاسَتُهُ وَنَجَاسَةُ شَعْرِهِ أَوْ إِبَاحَتُهَا فَذَلِكَ غَرَضٌ آخر لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ. ¬

(¬1) «كشف المغطى من الْمعَانِي والألفاظ الْوَاقِعَة فِي الْمُوَطَّأ» .

وَقَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ ذِكْرِ اللَّحْمِ هُنَا وَتَرْكِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَجُوهٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْمَقْصِدَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ ذُكِّيَ أَمْ لَمْ يُذَكَّ اه. وَمُرَادُهُ بِهَذَا أَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُحَرَّمُ إِذَا كَانَ مَيْتَةً وَفِيهِ بُعْدٌ، وَقَالَ الْأَلُوسِيُّ خَصَّهُ لِإِظْهَارِ حُرْمَتِهِ، لِأَنَّهُمْ فَضَّلُوهُ عَلَى سَائِرِ اللُّحُومِ فَرُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا وُقُوعَ تَحْرِيمِهِ اه. يُرِيدُ أَنَّ ذِكْرَهُ لِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ أَيْ ذَلِكَ اللَّحْمَ الَّذِي تَذْكُرُونَهُ بِشَرَاهَةٍ، وَلَا أَحْسَبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِينَ اسْتَجَادُوا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ هُمُ الرُّومُ دُونَ الْعَرَبِ، وَعِنْدِي أَنَّ إِقْحَامَ لَفْظِ اللَّحْمِ هُنَا إِمَّا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِمَّا لِلْإِيمَاءِ إِلَى طَهَارَةِ ذَاتِهِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ أَكْلُهُ لِئَلَّا يُفْضِي تَحْرِيمه بِالنَّاسِ إِلَى قَتْلِهِ أَوْ تَعْذِيبِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ بِطَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، وَإِمَّا لِلتَّرْخِيصِ فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْرِزُونَ بِهِ الْجِلْدَ. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْقَاذُورَاتِ بِإِفْرَاطٍ فَتَنْشَأُ فِي لَحْمِهِ دُودَةٌ (¬1) مِمَّا يَقْتَاتُهُ لَا تَهْضِمُهَا مَعِدَتُهُ فَإِذَا أُصِيبَ بِهَا آكِلُهُ قَتَلَتْهُ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ الْبَحْثُ فِي حُرْمَةِ خِنْزِيرِ الْمَاءِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فَارِغَةٌ إِذْ أَسْمَاءُ أَنْوَاعِ الْحُوتِ رُوعِيَتْ فِيهَا الْمُشَابَهَةُ كَمَا سَمُّوا بَعْضَ الْحُوتِ فَرَسَ الْبَحْرِ وَبَعْضَهُ حَمَامَ الْبَحْرِ وَكَلْبَ الْبَحْرِ، فَكَيْفَ يَقُولُ أَحَدٌ بِتَأْثِيرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» تَوَقَّفَ مَالِكٌ أَنْ يُجِيبَ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرٌ. قَالَ ابْنُ شَأْسٍ: رَأَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ تَوَقُّفَ مَالِكٍ حَقِيقَةٌ لِعُمُومِ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [الْمَائِدَة: 96] وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ متوقّف فِيهِ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنَ الْجَوَابِ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتَهُمْ إِيَّاهُ خِنْزِيرًا وَلِذَلِكَ قَالَ أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَسْمِيَتُهُ خِنْزِيرًا ثُمَّ السُّؤَالُ عَنْ أَكْلِهِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُونَ أَكَلُوا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، أَيْ فَيَرْجِعُ كَلَامُ مَالِكٍ إِلَى صَوْنِ أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ أَلَّا يُتَلَاعَبَ بِهَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ أَكْلَ خِنْزِيرِ الْبَحْرِ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ أَخْذًا بِأَنَّهُ سُمِّيَ خِنْزِيرًا، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِصَاحِبِ الرَّأْيِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَلَّا يَكُونَ لِذَلِكَ الْحُوتِ اسْمٌ آخَرُ فِي لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ فَيَكُونُ أَكْلُهُ مُحَرَّمًا عَلَى فَرِيقٍ وَمُبَاحًا لِفَرِيقٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيْ مَا أُعْلِنَ بِهِ أَوْ نُودِيَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهَلَّ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْكَلَامِ وَمِثْلُهُ اسْتَهَلَّ وَيَقُولُونَ: اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صَارِخًا إِذَا رَفَعَ ¬

(¬1) وَتسَمى فِي الفرنسية () وَالْمَرَض يُسمى () .

صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ: هَلَّا لَقَصْدِ التَّنْبِيهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِرَفْعِ الصَّوْتِ وَهَلَا أَيْضًا اسْمُ صَوْتٍ لِزَجْرِ الْخَيْلِ، وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهِلَالِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ عِنْدِي مِنْ تَلْفِيقَاتِ اللُّغَوِيِّينَ وَأَهْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَلَعَلَّ اسْمَ الْهِلَالِ إِنْ كَانَ مُشْتَقًّا وَكَانُوا يُصِيحُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَهُوَ الَّذِي اشْتَقَّ مِنْ هَلَّ وَأَهَّلَ بِمَعْنَى رَفَعَ صَوْتَهُ، لِأَنَّ تَصَارِيفَ أَهَلَّ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّهُمْ سَمَّوُا الْهِلَالَ شَهْرًا مِنَ الشُّهْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ذَبَحَتْ أَوْ نَحَرَتْ لِلصَّنَمِ صَاحُوا بِاسْمِ الصَّنَمِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالُوا بِاسْمِ اللَّاتِ أَوْ بِاسْمِ الْعُزَّى أَوْ نَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الْأُمَمِ الَّتِي تَعْبُدُ آلِهَةً إِذَا قُرِّبَتْ لَهَا الْقَرَابِينُ، وَكَانَ نِدَاءُ الْمَعْبُودِ وَدُعَاؤُهُ عِنْدَ الذّبْح إِلَيْهِ عَادَة عِنْدَ الْيُونَانِ كَمَا جَاءَ فِي «الْإِلْيَاذَةِ» لِهُومِيرُوسَ. فَأُهِلَّ فِي الْآيَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أَيْ مَا أَهَلَّ عَلَيْهِ الْمُهِلُّ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ، وَضُمِّنَ (أُهِلَّ) مَعْنَى تُقُرِّبَ فَعُدِّيَ لِمُتَعَلِّقِهِ بِالْبَاءِ وَبِاللَّامِ مِثْلُ تُقُرِّبَ، فَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى مَا أُهِلَّ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّضْمِينِ تَحْرِيمُ مَا تُقُرِّبَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ نُودِيَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ اللَّهِ الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا. وَأَمَّا مَا يَذْبَحُهُ سُودَانُ بَلَدِنَا بِنِيَّةِ أَنَّ الْجِنَّ تَشْرَبُ دَمَهُ وَلَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ زَعْمًا بِأَنَّ الْجِنَّ تَفِرُّ مِنْ نُورَانِيَّةِ اسْمِ اللَّهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَهُ مُسْلِمِينَ وَلَا يُخْرِجُهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» : الْأَظْهَرُ جَوَازُ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: «فَمَنِ اضْطُرَّ» إِلَخْ الْفَاءُ فِيهِ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ لَا لِتَفْرِيعِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُضْطَرِّ لَا يَنْشَأُ عَنِ التَّحْرِيمِ، وَالْمُضْطَرُّ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَةُ أَيِ الْحَاجَةُ أَيِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ حَالٌ، وَالْبَغْيُ الظُّلْمُ، وَالْعُدْوَانُ الْمُحَارَبَةُ وَالْقِتَالُ، وَمَجِيءُ هَذِهِ الْحَالِ هُنَا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُضْطَرِّ فِي حَالِ إِبَاحَةِ هَاتِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُ بِأَنَّهُ بِأَكْلِهَا يَكُونُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُلْجِئُ إِلَى الْبَغْيِ وَالِاعْتِدَاءِ فَالْآيَةُ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الرُّخْصَةِ وَهِيَ رَفْعُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ الَّتِي يَشْعُرُ عِنْدَهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ دَأَبُهُ الْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ بِأَنَّهُ سَيَبْغِي وَيَعْتَدِي

وَهَذَا تَحْدِيدٌ مُنْضَبِطٌ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي تَحَمُّلِ الْجُوعِ وَلِتَفَاوُتِ الْأَمْزِجَةِ فِي مُقَاوَمَتِهِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُحَدِّدُ الضَّرُورَةَ بِخَشْيَةِ الْهَلَاكِ وَمُرَادُهُمُ الْإِفْضَاءُ إِلَى الْمَوْتِ وَالْمَرَضِ وَإِلَّا فَإِنَّ حَالَةَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهَا الْأَكْلُ، فَعُلِمَ أَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ عَنِ الْمُضْطَرِّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنُوطٌ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ، فَإِذَا تَنَاوَلَ مَا أَزَالَ بِهِ الضَّرُورَةَ فَقَدْ عَادَ التَّحْرِيمُ كَمَا كَانَ، فَالْجَائِعُ يَأْكُلُ مَنْ هَاتِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا أَكْلًا يُغْنِيهِ عَنِ الْجُوعِ وَإِذَا خَافَ أَنْ تَسْتَمِرَّ بِهِ الْحَاجَةُ كَمَنْ تَوَسَّطَ فَلَاةً فِي سَفَرٍ أَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْ بَعْضِ هَاتِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى إِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَتَّفِقُ لَهُ وِجْدَانُهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَمِنْ عَجَبِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَشْبَعُ وَلَا يَتَزَوَّدُ خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ الْجَائِعَ بِالْبَقَاءِ عَلَى بَعْضِ جُوعِهِ وَيَأْمُرُ السَّائِرَ بِالْإِلْقَاءِ بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّدْ، وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ بِتَفَاسِيرَ أُخْرَى فَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ الْبَاغِي وَالْعَادِي عَلَى الْإِمَامِ لَا عَاصٍ بِسَفَرِهِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فَأَجَابَ الْمَالِكِيَّةَ: بِأَنَّ عِصْيَانَهُ بِالسَّفَرِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ أَكْبَرَ وَهِيَ إِتْلَافُ نَفْسِهِ بِتَرْكِ أَكْلِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ إِلْجَاءٌ مَكِينٌ. وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِي قِيَاسِهِ عَلَى ضَرُورَةِ الْجُوعِ ضَرُورَةُ التَّدَاوِي، فَقِيلَ لَا يُتَدَاوَى بِهَاتِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا بِشَيْءِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ كَالْخَمْرِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَسْتَشْكِلُونَهُ لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَهِيَ حِفْظُ الْحَيَاةِ، وَعِنْدِي أَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ تَحَقُّقَ الْعِلَّةِ فِيهِ مُنْتَفٍ إِذْ لَمْ يَبْلُغِ الْعِلْمُ بِخَصَائِصِ الْأَدْوِيَةِ ظَنَّ نَفْعِهَا كُلِّهَا إِلَّا مَا جُرِّبَ مِنْهَا، وَكَمْ مِنْ أَغْلَاطٍ كَانَتْ لِلْمُتَطَبِّبِينَ فِي خَصَائِصِ الدَّوَاءِ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ بَعْضِهِمْ إِبَاحَةَ تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ قُوَّةُ ظَنِّ الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ بِنَفْعِ الدَّوَاءِ الْمُحَرَّمِ مِنْ مَرَضٍ عَظِيمٍ وَتَعَيُّنِهِ أَوْ غَلَبَ ذَلِكَ فِي التَّجْرِبَةِ فَالْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى أَكْلِ الْمُضْطَرِّ وَإِلَّا فَلَا (¬1) . وَقَرَأَ بو جَعْفَرٍ: فَمَنِ اضْطُرَّ بِكَسْرِ الطَّاءِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ اضْطُرِرَ بِرَاءَيْنِ أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ فَلَمَّا أُرِيدَ إِدْغَامُ الرَّاءِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الطَّاءِ بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ الطَّاءِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ الِامْتِنَانُ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَغْفِرَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِالنَّاسِ، فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ ¬

(¬1) انْظُر: «حَاشِيَة ابْن عابدين» (4/ 113، 215) ، «حَاشِيَة الدسوقي» (4/ 353، 354) ، «الْفَوَاكِه الدواني» (2/ 441) ، «حَوَاشِي الشرواني وَابْن قَاسم على «التُّحْفَة» (9/ 170) «قليوبي وعميرة» (3/ 203) ، «كشاف القناع» (2/ 76، 6/ 116، 200) ، «الْإِنْصَاف» (2/ 463، 474) ، «الْفُرُوع» (2/ 165) وَمَا بعْدهَا.

[سورة البقرة (2) : آية 174]

عَمَّا تُمْكِنُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ لَا بِمَعْنَى تَجَاوُزِ الذَّنْبِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَا الْقَلِيبِ «وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ» . وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ عَنِ الْمُضْطَرِّ حُكْمٌ يُنَاسِبُ مَنِ اتَّصَفَ بالمغفرة وَالرَّحْمَة. [174] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 174] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) عَوْدٌ إِلَى مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَاحِقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى [الْبَقَرَة: 159] بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [الْبَقَرَة: 173] تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَحْدَثَهُ الْيَهُودُ فِي دِينِهِمْ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ وَتَحْلِيلِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا التَّوْسِيعَ وَالتَّضْيِيقَ تركُوا أَن يقرؤا مِنْ كِتَابِهِمْ مَا غَيَّرُوا الْعَمَلَ بِأَحْكَامِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الْأَنْعَام: 91] كَمَا فَعَلُوا فِي تَرْكِ قِرَاءَةِ حُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي فِي التَّوْرَاةِ حِينَ دَعَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ الْيَهُودِ لِيَقْرَأَ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنَ التَّوْرَاةِ فَوَضَعَ الْيَهُودِيُّ يَدَهُ عَلَى الْكَلَامِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَلِجَرَيَانِهِ عَلَى مُنَاسَبَةِ إِبَاحَةِ مَا أُبِيحَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ جَاءَ قَوْلُهُ هُنَا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ لِقَصْدِ الْمُشَاكَلَةِ. وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى ابْتِدَاءِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ إِبْطَالٌ لِمَا شَرَعَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي دِينِهِمْ فَكَوْنُ التَّخَلُّصِ مُلَوَّنًا بِلَوْنَيِ الْغَرَضِ السَّابِقِ وَالْغَرَضِ اللَّاحِقِ. وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِهِمْ بِغَيْرِ الْمَوْصُولِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى سَبَب الْخَبَر وَعِلَّتِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] . وَالْقَوْلُ فِي الْكِتْمَانِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى [الْبَقَرَة: 159] وَالْكِتَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْكِتَابُ الْمَعْهُودُ مِنَ السِّيَاقِ وَهُوَ كِتَابُ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ، فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ (أَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالَّذِينَ يَكْتُمُونَهُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَيْ يَكْتُمُونَ الْبِشَارَةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْتُمُونَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَدَّلُوهَا.

وَقَوْلُهُ: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ مِنَ النَّاسِ جَزَاءً عَلَى إِفْتَائِهِمْ بِمَا يُلَائِمُ هَوَاهُمْ مُخَالِفًا لِشَرْعِهِمْ أَوْ عَلَى الْحُكْمِ بِذَلِكَ، فَالثَّمَنُ يُطْلَقُ عَلَى الرِّشْوَةِ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ يُدْفَعُ عِوَضًا عَنْ جَوْرِ الْحَاكِمِ وَتَحْرِيفِ الْمُفْتِي. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِشْهَارِهِمْ لِئَلَّا يَخْفَى أَمْرُهُمْ عَلَى النَّاسِ وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلسَّبَبِيَّةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالْمَوْصُولِ، وَفِعْلُ يَأْكُلُونَ مُسْتَعَارٌ لِأَخْذِ الرِّشَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالثَّمَنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانِ الْحَالِ، أَيْ مَا يَأْكُلُونَ وَقْتَ كِتْمَانِهِمْ وَاشْتِرَائِهِمْ إِلَّا النَّارَ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْمُضَارِعِ. وَالْأَكْلُ مُسْتَعَارٌ لِلِانْتِفَاعِ مَعَ الْإِخْفَاءِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ انْتِفَاعٌ بِالطَّعَامِ وَتَغْيِيبٌ لَهُ فَهُوَ خَفِيٌّ لَا يَظْهَرُ كَحَالِ الرِّشْوَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِآكِلِ الرِّشْوَةِ عَلَى كِتْمَانِ الْأَحْكَامِ أَكْلُ نَارٍ تَعَيَّنَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَجَازًا، فَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي تَعَلُّقِ الْأَكْلِ بِالنَّارِ وَلَيْسَتْ هِيَ لَهُ وَإِنَّمَا لَهُ سَبَبُهَا أَعْنِي الرِّشْوَةَ، قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَهُوَ الَّذِي يُوهِمُهُ ظَاهِرُ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» لَكِنَّهُ صَرَّحَ أَخِيرًا بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ فِي الطَّرَفِ بِأَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ النَّارِ عَلَى الرِّشْوَةِ إِطْلَاقًا لِلِاسْمِ عَلَى سَبَبِهِ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ يُوَبِّخُ امْرَأَتَهُ وَكَانَ يَقْلَاهَا: أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ أَرَادَ الْحَلْفَ بِطَرِيقَةِ الدُّعَاءِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ دَمًا أَيْ دِيَةَ دَمٍ فَقَدْ تَضَمَّنَ الدُّعَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَتْلِ أَحَدِ أَقَارِبِهِ وَبِذَهَابِ مُرُوءَتِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِأَخْذِ الدِّيَةِ عَنِ الْقَتِيلِ وَلَا يَرْضَوْنَ إِلَّا بِالْقَوَدِ. وَاخْتَارَ عَبْدُ الْحَكِيمِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شُبِّهَتِ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ أَكْلِهِمُ الرِّشَا بِالْهَيْئَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مَنْ أَكْلِهِمُ النَّارَ وَأِطْلِقَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا غَيْرَ مَحْسُوسَةٍ لِأَنَّهَا هَيْئَةٌ مُتَخَيَّلَةٌ كَقَوْلِهِ: (أَعْلَامُ يَاقُوتٍ نُشِرْنَ عَلَى رِمَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدِ) فَالْمُرَكَّبُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 175]

أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ مَا يَأْخُذُونَ إِلَّا أَخْذًا فَظِيعًا مُهْلِكًا فَإِنْ تَنَاوَلَهَا كَتَنَاوُلِ النَّارِ لِلْأَكْلِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ هَلَاكٌ مِنْ وَقْتِ تَنَاوُلِهَا بِالْيَدِ إِلَى حُصُولِهَا فِي الْبَطْنِ، وَوَجْهُ كَوْنِ الرِّشْوَةِ مُهْلِكَةً أَنَّ فِيهَا اضْمِحْلَالَ أَمْرِ الْأُمَّةِ وَذَهَابَ حُرْمَةِ الْعُلَمَاءِ وَالدِّينِ فَتَكُونُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمرَان: 103] أَيْ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ وَالِاضْمِحْلَالِ. وَالَّذِي يَدْعُو إِلَى الْمَصِيرِ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُطُونِهِمْ فَإِنَّ الرِّشْوَةَ لَا تُؤْكَلُ فِي الْبَطْنِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَكَّبُ كُلُّهُ اسْتِعَارَةً، وَلَوْ جُعِلَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي خُصُوصِ لَفْظِ النَّارِ لَكَانَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُرَكَّبِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَلَوْلَا قَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِمْ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ يَأْكُلُونَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ حَقِيقَةً عرفية فِي غصب الْحَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ مُسْتَقْبَلًا، أَيْ مَا سَيَأْكُلُونَ إِلَّا النَّارَ عَلَى أَنَّهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ وَجِيهٌ، وَنُكْتَةُ اسْتِعَارَةِ الْأَكْلِ هُنَا إِلَى اصْطِلَائِهِمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ هِيَ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَنِ هُنَا الرِّشْوَةُ، وَقَدْ شَاعَ تَسْمِيَةُ أَخْذِ الرَّشْوَةِ أَكْلًا. وَقَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ نَفْيٌ لِلْكَلَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنِ الْغَضَبِ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ كَلَامِ التَّكْرِيمِ، فَلَا يُنَافِي قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحجر: 93] . وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ، وَذَلِكَ إِشْعَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَتِ التَّزْكِيَةُ أَعْقَبَهَا الذَّمُّ وَالتَّوْبِيخُ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ذَمِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ يَوْمئِذٍ سكُوت. [175] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 175] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) إِنْ جَعَلْتَ أُولئِكَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا لِجُمْلَةٍ هِيَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اسْمُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 174] فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [الْبَقَرَة: 174] وَنُكْتَةُ تَكْرِيرِهِ أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِأَحْكَامٍ أُخْرَى

غَيْرِ الْحُكْمِ السَّابِقِ وَأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ لِأَهَمِّيَّتِهَا يَنْبَغِي أَلَّا تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً تَابِعَةً لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَلْ تُفْرَدُ بِالْحُكْمِيَّةِ. وَإِنْ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً مُسْتَقِلًّا مَعَ جُمْلَتِهِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ سَبَبِ انْغِمَاسِهِمْ فِي عَذَابِ النَّارِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَسْتَوْجِبُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ فَيُبَيَّنُ بِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الضَّلَالَ وَنَبَذُوا الْهُدَى وَاخْتَارُوا الْعَذَابَ وَنَبَذُوا الْمَغْفِرَةَ، وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ اسْمَ إِشَارَةٍ لِتَفْظِيعِ حَالِهِمْ لِأَنَّهُ يُشِيرُ لَهُمْ بِوَصْفِهِمُ السَّابِقِ وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ. وَمَعْنَى اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى فِي كِتْمَانِ الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ أَخْفَوْهَا أَوْ أَفْسَدُوهَا بِالتَّأْوِيلِ فَقَدِ ارْتَفَعَ مَدْلُولُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا وَإِذَا ارْتَفَعَ مَدْلُولُهَا نُسِيَ الْعَمَلُ بِهَا فَأَقْدَمَ النَّاسُ عَلَى مَا حَذَّرْتَهُمْ مِنْهُ، فَفِي كِتْمَانِهِمْ حَقٌّ رُفِعَ وَبَاطِلٌ وُضِعَ. وَمَعْنَى اشْتِرَاءِ الْعَذَابِ بِالْمَغْفِرَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ الْكِتْمَانَ عَنْ عَمْدٍ وَعِلْمٍ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَهُمْ قَدْ رَضُوا بِالْعَذَابِ وَإِضَاعَةِ الْمَغْفِرَةِ فَكَأَنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِالْمَغْفِرَةِ الْعَذَابَ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى اشْتَرَوُا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] . وَقَوْلُهُ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تَعْجِيبٌ مِنْ شِدَّةِ صَبْرِهِمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ، وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ التَّعْجِيبِ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ مُشَاهَدَةِ صَبْرِهِمْ عَلَى الْعَذَابِ وَهَذَا الصَّبْرُ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَاتِهِ الْآيَةِ بَنَى التَّعْجِيبَ عَلَى تَنْزِيلِ غَيْرِ الْوَاقِعِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ لِشِدَّةِ اسْتِحْضَارِ السَّامِعِ إِيَّاهُ بِمَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ جَعْلِ الْمُحَقَّقِ الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاصِلِ، وَمِنْهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَتَنْزِيلُ المتخيل منزلَة الْمشَاهد كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: تَبَصَّرْ خَلِيلِي هَلْ تَرَى مَنْ ظَعَائِنٍ ... تَحَمَّلْنَ بِالْعَلْيَاءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثُمِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ وَقَفَ بِالدَّارِ بَعْدَ عِشْرِينَ حَجَّةً، وَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ: دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وُدِّي وَجِيرَتِي ... بِذِي الطَّيِّسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: 5- 6] عَلَى جَعْلِ لَتَرَوُنَّ جَوَاب لَوْ.

[سورة البقرة (2) : آية 176]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 176] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِرَبْطِ الْكَلَامِ اللَّاحِقِ بِالسَّابِقِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي أَمْثَالِهِ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمَا ارْتَبَطَ بِهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ عِلَّةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ مِثْلِكَ رَائِعُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَالْكَلَامُ السَّابِقُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَوْلُهُ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَة: 175] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَكِتْمَانُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْكِتَابِ كِتْمَانٌ لِلْحَقِّ وَذَلِكَ فَسَادٌ وَتَغْيِيرٌ لِمُرَادِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا يُكْتَمُ مِنَ الْحَقِّ يَخْلُفُهُ الْبَاطِلُ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِكِتْمَانِهِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفُ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ تَنْزِيلِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ هُوَ عَيْنُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 174] وَهُوَ كِتَابُهُمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لِيَكُونَ الْمَوْضُوعُ فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ فَالْجُمْلَةُ فُصِّلَتْ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِجَرَيَانِهَا مِنْهَا مَجْرَى الْعِلَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ السَّابِقُ هُوَ الْكِتْمَانَ الْمَأْخُوذَ من يَكْتُمُونَ [الْبَقَرَة: 174] ، أَيْ إِنَّمَا كَتَمُوا مَا كَتَمُوا بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَعَلِمُوا أَنَّهُ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِشَّرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ التَّوْرَاةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَتَمُوا دَلَائِل صدق النَّبِي حَسَدًا وَعِنَادًا لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَالْكِتَابُ هُنَا غَيْرُ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 174] . وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِاسْتِغْرَابِ تَعَمُّدِهِمْ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَإِنَّ هَذَا الصُّنْعَ الشَّنِيعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ عَظِيمٍ، فَبُيِّنَ بُقُولِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ تَذْيِيلٌ وَلَكِنَّهُ عَطَفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَكْمِلَةَ وَصْفِ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَوَعِيدَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اخْتَلَفُوا عَيْنُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [الْبَقَرَة: 174] ، والَّذِينَ اشْتَرَوُا [الْبَقَرَة: 175] ، فَالْمَوْصُولَاتُ كُلُّهَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 177]

وَالْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ الْمَجْرُورِ بِفِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: نَزَّلَ الْكِتابَ فَهُوَ الْقُرْآنُ فَيَكُونُ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيُنَاسِبَ اسْتِقْلَالَ جُمْلَةِ التَّذْيِيلِ بِذَاتِهَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِاخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَوِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِهِ كُلِّهِ أَوْ تَكْذِيبِ مَا لَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَتَصْدِيقِ مَا يُؤَيِّدُ كُتُبَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَجْرُورِ بِفِي هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 174] يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَيِ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يقرّونه وَالَّذِي يُغَيِّرُونَهُ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْإِنْجِيلِ وَالْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ، وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ مَا يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ هُوَ اخْتِلَافَ مَعَاذِيرِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ إِذْ قَالُوا: سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لَكِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْجِنْسَ أَيِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِالْقُرْآنِ. وَفَائِدَةُ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: الْكِتابَ أَنْ يَكُونَ التَّذْيِيلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ مُتَفَاوِتَةُ الْبُعْدِ. وَوَصْفُ الشِّقَاقِ بِالْبَعِيدِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيْ بِعِيدٌ صَاحِبُهُ عَنِ الْوِفَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود: 118] . [177] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

(177) قَدَّمَنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 153] أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] ، وَأَنَّهُ خِتَامٌ لِلْمُحَاجَّةِ فِي شَأْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ مَا بَيْنَ هَذَا وَذَلِكَ كُلُّهُ اعْتِرَاضٌ أُطْنِبَ فِيهِ وَأُطِيلَ لِأَخْذِ مَعَانِيهِ بَعْضِهَا بِحُجَزِ بَعْضٍ. فَهَذَا إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَسَدِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ مُرَادٌ مِنْهُ تَلْقِينُ الْمُسْلِمِينَ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَهْوِيلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِبْطَالَ الْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا فَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ رَأَوْا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ بِاسْتِقْبَالِهِمْ قِبْلَتَهُمْ فَلَمَّا تَحَوَّلُوا عَنْهَا لَمَزُوهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْبِرِّ، يَقُولُ عَدِّ عَنْ هَذَا وَأَعْرِضُوا عَنْ تَهْوِيلِ الْوَاهِنِينَ وَهَبُوا أَنَّ قِبْلَةَ الصَّلَاةِ تَغَيَّرَتْ أَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِلَا قِبْلَةٍ أَصْلًا فَهَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُ أَثَرٌ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَاتِّصَافِهَا بِالْبِرِّ، فَذِكْرُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اقْتِصَارٌ عَلَى أَشْهَرِ الْجِهَاتِ أَوْ هُوَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَقِبْلَةِ النَّصَارَى لِإِبْطَالِ تَهْوِيلِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ. وَالْبِرُّ سِعَةُ الْإِحْسَانِ وَشِدَّةُ الْمَرْضَاةِ وَالْخَيْرُ الْكَامِلُ الشَّامِلُ وَلِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ الْأَفْعَالُ الْقَوِيَّةُ الْإِحْسَانِ فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَبِرُّ الْحَجَّ وَقَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمرَان: 92] ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بِرُّ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فِي تَلَقِّي شَرَائِعِهِ وَأَوَامِرِهِ. وَنَفْيُ الْبِرِّ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ مَعَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: إِمَّا لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاشْتِغَالُ بِهِ قُصَارَى هِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ أَسْقَطَهُ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ وَصَلَوَاتِ النَّوَافِلِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إِلَخْ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ جِمَاعُ صَلَاحِ النَّفْسِ وَالْجَمَاعَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَة: 19] الْآيَاتِ فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ الْبِرَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ قِبْلَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ وَلِذَلِكَ نُفِيَ الْبَرُّ عَنْ تَوْلِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَيْسَ الْبِرَّ بِرَفْعِ الْبِرَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ وَالْخَبَرُ هُوَ أَنْ تُوَلُّوا وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ

وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ الْبِرَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تُوَلُّوا اسْمُ لَيْسَ مُؤَخَّرٌ، وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ فِي بَابِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا إِذَا كَانَ أَحَدُ مَعْمُولَيْ هَذَا الْبَابِ مُرَكَّبًا مِنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ وَفِعْلِهَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ فِي الْمَعْمُولِ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَرْفَعَهُ وَأَنْ يَنْصِبَهُ وَشَأْنُ اسْمِ لَيْسَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَدِيرَ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً بِهِ، فَوَجْهُ قِرَاءَةِ رَفْعِ الْبِرَّ أَنَّ الْبِرَّ أَمْرٌ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْأَدْيَانِ مَرْغُوبٌ لِلْجَمِيعِ فَإِذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً فِي حَالَةِ النَّفْيِ أَصْغَتِ الْأَسْمَاعُ إِلَى الْخَبَرِ، وَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَلِأَنَّ أَمْرَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ هُوَ الشُّغْلُ الشَّاغِلُ لَهُمْ فَإِذَا ذُكِرَ خَبَرُهُ قَبْلَهُ تَرَقَّبَ السَّامِعُ الْمُبْتَدَأَ فَإِذَا سَمِعَهُ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الذَّاتِ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهَا: «فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ» وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الْملك: 30] وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: وَقَدْ خِفْتُ مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ أَيْ وَعِلٍ هُوَ مَخَافَةُ أَيِّ خَائِفٍ، وَمَنْ قَدَّرَ فِي مِثْلِهِ مُضَافًا أَيْ بِرُّ مَنْ آمَنَ أَوْ وَلَكِنْ ذُو الْبِرِّ فَإِنَّمَا عُنِيَ بَيَانُ الْمَعْنَى لَا أَنَّ هُنَالِكَ مِقْدَارًا لِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْبَلَاغَةِ إِلَى كَلَام مغول كَمَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ لَقَرَأْتُ وَلَكِنِ الْبِرُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ التَّقْدِيرِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْبِرِّ بِجُمْلَةِ: مَنْ آمَنَ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ هُوَ الْبَارُّ لَا نَفْسُ الْبِرِّ وَكَيْفَ يَقْرَأُ كَذَلِكَ والْبِرَّ مَعْطُوف بلكن فِي مُقَابَلَةِ الْبِرِّ الْمُثْبَتِ فَهَلْ يَكُونُ إِلَّا عَيْنُهُ وَلِذَا لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ إِلَّا الْبِرَّ بِكَسْرِ الْبَاءِ، عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ مَرْوِيَّةٌ وَلَيْسَتِ اخْتِيَارًا وَلَعَلَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَلَكِنِ الْبِرُّ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ لَكِنَّ وَرَفْعِ الْبِرِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِتَشْدِيدِ نُونِ (لَكِنَّ) وَنَصْبِ (الْبِرِّ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَتَعْرِيفُ وَالْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ مِثْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ أَنَّهَا أَخَفُّ مَعَ عَدَمِ الْتِبَاسِ التَّعْرِيفِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ عَطْفَ (النَّبِيِّينَ) عَلَى (الْكِتَابِ) قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي (الْكِتَابِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ فَأُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُفْرَدِ طَلَبًا لِخِفَّةِ اللَّفْظِ. وَمَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِهَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 4]

مِنْ كَلَامٍ وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [الْبَقَرَة: 285] ، وَقَالَ الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ فَلَوْ صَحَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا بِهِ تَوْجِيهَ قِرَاءَتِهِ (وَكِتَابِهِ) الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ بَلْ عَنَى بِهِ الْأَسْمَاء المنفية بِلَا التَّبْرِئَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ نَحْوِ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَنَحْوِ لَا رِجَالَ فِي الدَّارِ فِي تَطَرُّقِ احْتِمَالِ نَفْيِ جِنْسِ الْجُمُوعِ لَا جِنْسِ الْأَفْرَادِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ فَلَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» . وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَفِي الْمَنْفِيّ بِلَا التَّبْرِئَةِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ تَعْبِيرُ أَهْلِ اللِّسَانِ مَرَّةً بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَمَرَّةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَبَعًا لِحِكَايَةِ الصُّورَةِ الْمُسْتَحْضَرَةِ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُنَاسِبَةِ لِمَقَامِ الْكَلَامِ، فَأَمَّا فِي الْمَنْفِيّ بِلَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَلَكَ أَنْ تَقُولَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا رِجَالَ فِي الدَّارِ عَلَى السَّوَاءِ إِلَّا إِذَا رَجَّحَ أَحَدَ التَّعْبِيرَيْنِ مُرَجِّحٌ لَفْظِيٌّ، وَأَمَّا فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ فَكَذَلِكَ فِي صِحَّةِ التَّعْبِيرِ بِالْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ سِوَى أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ احْتِمَالُ إِرَادَةِ الْعَهْدِ وَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُفْرِدِ وَالْجَمْعِ وَيَنْدَفِعُ بِالْقَرَائِنِ. وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى حُبِّهِ مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ حُبِّ الْمَالِ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً [الْبَقَرَة: 5] وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَبْعَدِ الْأَحْوَالِ مِنْ مَظِنَّةِ الْوَصْفِ فَلِذَلِكَ تُفِيدُ مُفَادَ كَلِمَةِ مَعَ وَتَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الْإِنْسَان: 8] وَقَوْلِ زُهَيْرٍ: مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ فِيهِ وَالنَّدَى خُلُقَا قَالَ الْأَعْلَمُ فِي «شَرْحِهِ» أَيْ فَكَيْفَ بِهِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْحَالة اهـ. وَلَيْسَ هَذَا مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ مَعَانِي عَلَى بَلْ هُوَ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ أُرِيدَ بِهِ تَحَقُّقُ ثُبُوتِ مَدْلُولِ مَدْخُولِهَا لِمَعْمُولِ مُتَعَلِّقِهَا، لِأَنَّهُ لِبُعْدِ وُقُوعِهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَالِ لَا مَحَالَةَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالَ مَعَ حُبِّهِ لِلْمَالِ وَعَدَمِ زَهَادَتِهِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ مَرْضَاةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُهُ هَذَا بِرًّا. وَذَكَرَ أَصْنَافًا مِمَّنْ يُؤْتُونَ الْمَالَ لِأَنَّ إِتْيَانَهُمُ الْمَالَ يَنْجُمُ عَنْهُ خَيْرَاتٌ وَمَصَالِحُ. فَذَكَرَ ذَوِي الْقُرْبَى أَيْ أَصْحَابَ قَرَابَةِ الْمُعْطِي فَاللَّامُ فِي (الْقُرْبَى) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَمَرَ الْمَرْءَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ مُوَاسَاتَهُمْ تُكْسِبُهُمْ مَحَبَّتَهُمْ إِيَّاهُ وَالتِّئَامَهُمْ وَهَذَا الْتِئَامُ الْقَبَائِلِ الَّذِي

أَرَادَهُ اللَّهُ بقوله: لِتَعارَفُوا [الحجرات: 13] فَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِوَصْفِ فَقْرِهِمْ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْهَدِيَّةِ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَشَامِلٌ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُتَضَائِقِينَ وَتَرْفِيهِ عَيْشَتِهِمْ، إِذِ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّحَابُبُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْيَتَامَى وَهُمْ مَظِنَّةُ الضَّعْفِ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ الْيَتِيمُ الْمُحْتَاجُ حَاجَةً دُونَ الْفَقْرِ وَإِنَّمَا هُوَ فَاقِدٌ مَا كَانَ يُنِيلُهُ أَبُوهُ مِنْ رَفَاهِيَةِ عَيْشٍ، فَإِيتَاؤُهُمُ الْمَالَ يَجْبُرُ صَدْعَ حَيَاتِهِمْ. وَذَكَرَ السَّائِلِينَ وَهُمُ الْفُقَرَاء. والمسكنة: الذَّال مُشْتَقَّةٌ مِنَ السّكُون وَوزن مسكني مِفْعِيلٌ لِلْمُبَالِغَةِ مِثْلَ مِنْطِيقٍ. وَالْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ الَّذِي أَذَلَّهُ الْفَقْرُ وَقَدِ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمِسْكِينَ غَيْرُ الْفَقِيرِ هُوَ أَقَلُّ فَقْرًا مِنَ الْفَقِيرِ وَقِيلَ هُوَ أَشَدُّ فَقْرًا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَدْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعَا وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التَّوْبَة: 60] وَنَظِيرُهَا فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الْبَقَرَة: 215] . وَذَكَرَ السَّائِلِينَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ كَنَّى عَنْهُمْ بِالسَّائِلِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَرْء أَن تمنع نَفْسُهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ غَالِبًا. فَالسُّؤَالُ عَلَامَةُ الْحَاجَةِ غَالِبًا، وَلَوْ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْعَلَامَاتِ الِاعْتِيَادِيَّةِ لَارْتَفَعَتِ الْأَحْكَامُ فَلَوْ تَحَقَّقَ غِنَى السَّائِلِ لَمَا شُرِعَ إِعْطَاؤُهُ لِمُجَرَّدِ سُؤَالِهِ، وَرَوَوْا: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَلَوْ جَاءَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسٍ» وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ وَهُوَ الْغَرِيبُ أَعْنِي الضَّيْفَ فِي الْبَوَادِي إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَبَائِلِ نزل أَو خانات أَوْ فَنَادِقُ وَلَمْ يَكُنِ السَّائِرُ يَسْتَصْحِبُ مَعَهُ الْمَالَ وَإِنَّمَا يَحْمِلُ زَادَ يَوْمِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّ الضِّيَافَةِ فَرْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ فِي الْبَوَادِي وَنَحْوِهَا. وَذَكَرَ الرِّقَابَ وَالْمُرَادُ فِدَاءُ الْأَسْرَى وَعِتْقُ الْعَبِيدِ. ثُمَّ ذَكَرَ الزَّكَاةَ وَهِيَ حَقُّ الْمَالِ لِأَجْلِ الْغِنَى وَمَصَارِفُهَا مَذْكُورَة فِي آياتها. وَذَكَرَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الثِّقَةِ بِالْمُعَاهِدِ وَمِنْ كَرَمِ النَّفْسِ وَكَوْنِ الْجِدِّ وَالْحَقِّ لَهَا دُرْبَةً وَسَجِيَّةً، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالظَّرْفِ وَهُوَ إِذَا عَاهَدُوا أَيْ وَقْتَ حُصُولِ الْعَهْدِ فَلَا يَتَأَخَّرُ وَفَاؤُهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ عِنْدَ بَذْلِ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَا يُعَاهِدُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْوَفَاءَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِنْ عَلِمُوا أَلَّا يَفُوا فَلَا يُعَاهِدُوا. وَعَطَفَ وَالْمُوفُونَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْوَصْفِ فَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُغَايَرَةِ الْوَصْفَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ عَلَائِقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأُصُولِ الدِّينِ وَالثَّانِي مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَذَكَرَ الصابرين فِي الْبَأْسَاءِ لِمَا فِي الصَّبْرِ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 45] ثُمَّ ذَكَرَ مَوَاقِعَهُ الَّتِي لَا يَعْدُوهَا وَهِيَ حَالَةُ الشِّدَّةِ، وَحَالَةُ الضُّرِّ، وَحَالَةُ الْقِتَالِ، فَالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ اسْمَانِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ وَلَيْسَا وَصْفَيْنِ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُمَا أَفْعَلُ مُذَكَّرًا، وَالْبَأْسَاءُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ سُوءُ الْحَالَةِ مِنْ فَقْرٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَقَدْ غَلَبَ فِي الْفَقْرِ وَمِنْهُ الْبَئِيسُ الْفَقِيرُ، فَالْبَأْسَاءُ الشِّدَّةُ فِي الْمَالِ، وَالضَّرَّاءُ شِدَّةُ الْحَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضُّرِّ وَيُقَابِلُهَا السَّرَّاءُ وَهِيَ مَا يَسُرُّ الْإِنْسَانَ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَالْبَأْسُ النِّكَايَةُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ وَنَحْوُهَا كَالْخُصُومَةِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النَّمْل: 33] بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الْحَشْر: 14] وَالشَّرُّ أَيْضًا بَأْسٌ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَرْبُ. فَلِلَّهِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءُ الْبَدِيعُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيبٍ وَحَكِيمٍ غَيْرَ الْعَلَّامِ الْحَكِيمِ. وَقَدْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ جِمَاعَ الْفَضَائِلِ الْفَرْدِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاشِئِ عَنْهَا صَلَاحُ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَصَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ. فَالْإِيمَانُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ هُمَا مَنْبَعُ الْفَضَائِلِ الْفَرْدِيَّةِ، لِأَنَّهُمَا يَنْبَثِقُ عَنْهُمَا سَائِرُ التَّحَلِّيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالزَّكَاةُ وَإِيتَاءُ الْمَالِ أَصْلُ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَالْمُوَاسَاةُ تَقْوَى عَنْهَا الْأُخُوَّةُ وَالِاتِّحَادُ وَتُسَدِّدُ مَصَالِحَ للْأمة كَثِيرَة ويبذل الْمَالِ فِي الرِّقَابِ يَتَعَزَّزُ جَانِبُ الْحُرِّيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ لِلشَّارِعِ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَحْرَارًا. وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَرْدِيَّةٌ وَهِيَ عُنْوَانُ كَمَالِ النَّفْسِ، وَفَضِيلَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَهِيَ ثِقَةُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَالصَّبْرُ فِيهِ جِمَاعُ الْفَضَائِلِ وَشَجَاعَةُ الْأُمَّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فَحَصَرَ فِيهِمُ الصِّدْقَ وَالتَّقْوَى حَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِمْ مَعْنَى الْبِرِّ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِ الْمَلَائِكَة وَبَعض النبيئين، وَلِأَنَّهُمْ حَرَمُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ حُقُوقهم، وَلم يفقوا بِالْعَهْدِ، وَلَمْ يَصْبِرُوا. وَفِيهَا أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْيَوْمِ الآخر، والنبيئين، والكتب وَسَلَبُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ. وَنَصْبُ (الصَّابِرِينَ) وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَرْفُوعَاتٍ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي عَطْفِ النُّعُوتِ مِنْ تَخْيِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بَيْنَ الْإِتْبَاعِ فِي الْإِعْرَابِ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْقَطْعِ قَالَهُ الرَّضِيُّ، وَالْقَطْعُ يَكُونُ بِنَصْبِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَوْ مَجْرُورًا وَبِرَفْعِ مَا هُوَ بِعَكْسِهِ لِيَظْهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ الْقَطْعُ حِينَ يَخْتَلِفُ الْإِعْرَابُ إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ

الْقَطْعَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ الْإِعْرَابِ، فَأَمَّا النَّصْبُ فَبِتَقْدِيرِ فِعْلِ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ فِعْلِ أَخُصُّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمَدْحَ بَيْنَ الْمَمْدُوحِينَ وَالذَّمَّ بَيْنَ الْمَذْمُومِينَ. وَقَدْ حَصَلَ بِنَصْبِ (الصَّابِرِينَ) هُنَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ قَطْعٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ إِعْرَابُهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْإِطْنَابِ فَإِذَا خُولِفَ إِعْرَابُ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ كَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَمْثِلَة وشواهد» اهـ. قُلْتُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ (¬1) «وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فَابْتَدَأْتَهُ، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ وَالصَّابِرِينَ وَلَوْ رُفِعَ الصَّابِرِينَ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ جَيِّدًا، وَلَوِ ابْتَدَأْتَهُ فَرَفَعْتَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ جَيِّدًا، وَنَظِيرُ هَذَا النَّصْبِ قَوْلُ الْخِرْنِقِ: لَا يَبْعَدَنْ قومِي الَّذين همو ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ بِنَصْبِ النَّازِلِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ نَصْبَ هَذَا عَلَى أَنَّكَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تُحَدِّثَ النَّاسَ وَلَا مَنْ تُخَاطِبُ بِأَمْرٍ جَهِلُوهُ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَجَعَلْتَهُ ثَنَاءً وَتَعْظِيمًا وَنَصْبُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ أَذْكُرُ أَهْلَ ذَلِكَ وَأَذْكُرُ الْمُقِيمِينَ وَلَكِنَّهُ فِعْلٌ لَا يسْتَعْمل إِظْهَاره» اهـ قُلْتُ: يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النِّسَاء: 162] عَطْفًا عَلَى لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [النِّسَاء: 162] ، وَفِي سُورَةِ الْعُقُود وَالصَّابِئُونَ [الْمَائِدَة: 69] عَطْفًا عَلَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: 69] . الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن فِي نَصْبِ الصَّابِرِينَ بِتَقْدِيرِ أَخُصُّ أَوْ أَمْدَحُ تَنْبِيهًا عَلَى خَصِيصِيَّةِ الصَّابِرِينَ وَمَزِيَّةِ صِفَتِهِمُ الَّتِي هِيَ الصَّبْرُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ وَمَا لَهُمْ فِي النَّصْبِ عَلَى ¬

(¬1) رَاجع «الْكتاب» لَهُ (1/ 248) ، دَار صادر.

[سورة البقرة (2) : آية 178]

الِاخْتِصَاصِ من الِافْتِنَانِ اهـ» وَأَقُولُ: إِنَّ تَكَرُّرَهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَتَقَارُبَ الْكَلِمَاتِ يربأ بِهِ على أَنْ يَكُونَ خَطَأً أَوْ سَهْوًا وَهُوَ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مُخَالِفَتَيْنِ إِعْرَابُهُ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ نَصْبَهُ عَطْفٌ عَلَى مَفَاعِيلَ آتَى أَيْ وَآتَى الْمَالَ الصَّابِرِينَ أَيِ الْفُقَرَاءَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ حِينَ تُصِيبُهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَالصَّابِرِينَ حِينَ الْبَأْسِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لِلْغَزْوِ وَيُحِبُّونَ أَنْ يَغْزُوا، لِأَنَّ فِيهِمْ غِنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التَّوْبَة: 92] . وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ نَصْبَ وَالصَّابِرِينَ وَقَعَ خَطَأً مِنْ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ وَأَنَّهُ مِمَّا أَرَادَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْمُصْحَفَ الَّذِي كَتَبُوهُ: «إِنِّي أَجِدُ بِهِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» وَهَذَا مُتَقَوَّلٌ عَلَى عُثْمَانَ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ يُرِيدُ بِاللَّحْنِ مَا فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ مِنْ إِشَارَاتٍ مِثْلَ كِتَابَةِ الْأَلِفِ فِي صُورَةِ الْيَاءِ إِشَارَةً إِلَى الْإِمَالَةِ وَلَمْ يَكُنِ اللَّحْنُ يُطْلَقُ عَلَى الْخَطَأِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَالصَّابِرُونَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى وَالْمُوفُونَ. [178] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 178] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) أُعِيد الْخطاب بيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ هَذَا صِنْفٌ مِنَ التَّشْرِيعِ لِأَحْكَامٍ ذَاتِ بَالٍ فِي صَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ وَاسْتِتْبَابِ نِظَامِهِ وَأَمْنِهِ حِينَ صَارَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ جَمَاعَةً ذَاتَ اسْتِقْلَالٍ بِنَفْسِهَا وَمَدِينَتِهَا، فَإِنَّ هَاتِهِ الْآيَاتِ كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ عَامَ الْهِجْرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] الْآيَةَ. تِلْكَ أَحْكَامٌ مُتَتَابِعَةٌ مِنْ إِصْلَاحِ أَحْوَالِ الْأَفْرَادِ وَأَحْوَالِ الْمُجْتَمَعِ، وَابْتُدِئَ بِأَحْكَامِ الْقِصَاصِ، لِأَنَّ أَعْظَمَ شَيْءٍ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَحْوَالِ اخْتِلَالُ حِفْظِ نُفُوسِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَفْرَطَ الْعَرَبُ فِي إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِتَارِيخِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَقَدْ بَلَغَ بِهِمْ تَطَرُّفُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى وَشْكِ الْفَنَاءِ لَوْ طَالَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَدَارَكْهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ،

فَكَانُوا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِغَنِيمَةِ أَنْعَامِهِ وَعَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ فَيُدَافِعُ الْمُغَارُ عَلَيْهِ وَتَتْلَفُ نُفُوسٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ طَلَبُ الثَّارَاتِ فَيَسْعَى كُلُّ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فِي قَتْلِ قَاتِلِ وَلِيِّهِ وَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ قَتَلَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ وَاحِدٍ كُفْءٍ لَهُ، أَو عدد يَرَاهُمْ لَا يُوَازُونَهُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِالتَّكَايُلِ فِي الدَّمِ أَيْ كَأَنَّ دَمَ الشَّرِيفِ يُكَالُ بِدِمَاءٍ كَثِيرَةٍ فَرُبَّمَا قَدَّرُوهُ بِاثْنَيْنِ أَوْ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِمِائَةٍ، وَهَكَذَا يَدُورُ الْأَمْرُ وَيَتَزَايَدُ تَزَايُدًا فَاحِشًا حَتَّى يَصِيرَ تَفَانِيًا قَالَ زُهَيْرٌ: تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعَدَ مَا ... تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشِمِ وَيَنْتَقِلُ الْأَمْرُ مِنْ قَبِيلَةٍ إِلَى قَبِيلَةٍ بِالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْحِلْفِ وَالنُّصْرَةِ، حَتَّى صَارَتِ الْإِحَنُ فَاشِيَّةً فَتَخَاذَلُوا بَيْنَهُمْ وَاسْتَنْصَرَ بَعْضُ الْقَبَائِلِ عَلَى بَعْضٍ فَوَجَدَ الْفُرْسُ وَالرُّومُ مَدْخَلًا إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فَحَكَمُوهُمْ وَأَرْهَبُوهُمْ، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... حَتَّى فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمرَان: 103] أَيْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً بِأَسْبَابِ الْغَارَاتِ وَالْحُرُوبِ فَأَلَفَّ بَيْنَكُمْ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَكُنْتُمْ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُ فَضَرَبَ مَثَلًا لِلْهَلَاكِ الْعَاجِلِ الَّذِي لَا يُبْقِي شَيْئًا بِحُفْرَةِ النَّارِ فَالْقَائِمُ عَلَى حَافَّتِهَا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَلَاكِ إِلَّا أَقَلُّ حَرَكَةٍ. فَمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ لَا مَحِيدَ عَنِ الْأَخْذِ بِهِ فَضَمِيرُ عَلَيْكُمُ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِمَنْ تَوَجَّهَ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ وَلِيِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَصْلُ الْكِتَابَةِ نَقْشُ الْحُرُوفِ فِي حَجَرٍ أَوْ رَقٍّ أَوْ ثَوْبٍ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النَّقْشُ يُرَادُ بِهِ التَّوَثُّق بِمَا نُقِشَ بِهِ دوَام تَذَكُّرِهِ أَطْلَقَ كتب على معنى حَقَّ وَثَبَتَ أَيْ حَقَّ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ. وَالْقِصَاصُ اسْمٌ لِتَعْوِيضِ حَقِّ جِنَايَةٍ أَوْ حَقِّ غُرْمٍ عَلَى أَحَدٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ الْمَحْقُوقِ إِنْصَافًا وَعَدْلًا، فَالْقِصَاصُ يُطْلَقُ عَلَى عُقُوبَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا جَنَى، وَعَلَى مُحَاسَبَةِ رَبِّ الدَّيْنِ بِمَا عَلَيْهِ لِلْمَدِينِ مِنْ دَيْنٍ يَفِي بِدَيْنِهِ، فَإِطْلَاقَاتُهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ فِي الْحُقُوقِ وَالتَّبِعَاتِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْغَمْصِ. وَهُوَ بِوَزْنِ فِعَالٍ وَهُوَ وَزْنُ مَصْدَرِ فَاعَلَ مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَائِرٌ مَقْصُوصُ الْجَنَاحِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِقَصُّ لِآلَةِ الْقَصِّ أَيِ الْقَطْعِ وَقُصَّةُ الشَّعْرِ بِضَمِّ الْقَافِ مَا يُقَصُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي حَقَّيْنِ مُتَبَادِلَيْنِ بَيْنَ جَانِبَيْنِ يُقَالُ قَاصَّ فُلَانٍ فُلَانًا إِذَا طَرَحَ مِنْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ مِقْدَارًا

بدين لَهُ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ فَشُبِّهَ التَّنَاصُفُ بِالْقَطْعِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ النِّزَاعَ النَّاشِبَ قَبْلَهُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقَوْدُ وَهُوَ تَمْكِينُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مِنْ قَتْلِ قَاتِلِ مَوْلَاهُ قِصَاصًا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] ، وَسُمِّيتْ عُقُوبَةُ مَنْ يَجْرَحُ أَحَدًا جُرْحًا عَمْدًا عُدْوَانًا بِأَنْ يَجْرَحَ ذَلِكَ الْجَارِحَ مِثْلَ مَا جَرَحَ غَيْرَهُ قِصَاصًا قَالَ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَة: 45] وَسَمُّوا مُعَامَلَةَ الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ جُرْمِهِ قِصَاصًا وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: 194] ، فَمَاهِيَّةُ الْقِصَاصِ تَتَضَمَّنُ مَاهِيَّةَ التَّعْوِيضِ وَالتَّمَاثُلِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى يَتَحَمَّلُ مَعْنَى الْجَزَاءِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْقَتْلِ لِلْقَاتِلِ وَتَتَحَمَّلُ مَعْنَى التَّعَادُلِ وَالتَّمَاثُلِ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِمَا هُوَ كَالْعِوَضِ لَهُ وَالْمِثْلِ، وَتَتَحَمَّلُ مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْقَاتِلِ مِمَّنْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي قَتْلِ الْقَتِيلِ فَأَفَادَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ حَقَّ الْمُؤَاخَذَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَتْلِ الْقَتْلَى فَلَا يَذْهَبُ حَقُّ قَتِيلٍ بَاطِلًا وَلَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْقَاتِلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِهْمَالِ دَمِ الْوَضِيعِ إِذَا قَتَلَهُ الشَّرِيفُ وَإِهْمَالِ حَقِّ الضَّعِيفِ إِذَا قَتَلَهُ الْقَوِيُّ الَّذِي يُخْشَى قَوْمُهُ، وَمِنْ تَحَكُّمِهِمْ بِطَلَبِ قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ إِذَا قَتَلَ أَحَدٌ رَجُلًا شَرِيفًا يَطْلُبُونَ قَتْلَ رَجُلٍ شَرِيفٍ مِثْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْتُلُونَ الْقَاتِلَ إِلَّا إِذَا كَانَ بَوَاءً للمقتول أَي كف ءا لَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْمَجْدِ وَيَعْتَبِرُونَ قِيمَةَ الدِّمَاءِ مُتَفَاوِتَةً بِحَسب تفَاوت السودد وَالشَّرَفِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ تَكَايُلًا مِنَ الْكَيْلِ، قَالَتِ ابْنَةُ بَهْدَلِ بْنِ قَرَقَةَ الطَّائِيِّ تَسْتَثِيرُ رَهْطَهَا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَتَلَ أَبَاهَا وَتَذْكُرُ أَنَّهَا مَا كَانَتْ تَقْنَعُ بِقَتْلِهِ بِهِ لَوْلَا أَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ تَكَايُلَ الدِّمَاءِ: أَمَا فِي بَنِي حِصْنٍ مِنِ ابْنِ كَرِيهَةَ ... مِنَ الْقَوْمِ طَلَّابِ التِّرَاتِ غَشَمْشَمِ فَيَقْتُلُ جَبْرًا بِامْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ (¬1) قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ شَرْعُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ رَدْعُ أَهْلِ الْعُدْوَانِ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ الْأَنْفُسِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ جَزَاءَهُمُ الْقَتْلُ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْجِبِلَّةِ فَلَا تُعَادِلُ عُقُوبَةٌ الْقَتْلَ فِي الرَّدْعِ وَالِانْزِجَارِ، وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَطْمِينُ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْتَقِمُ لَهُمْ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَى قَتِيلِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الْإِسْرَاء: 33] أَيْ لِئَلَّا يَتَصَدَّى أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ لِلِانْتِقَامِ مِنْ قَاتِلِ مَوْلَاهُمْ ¬

(¬1) جبر هُوَ اسْم قَاتل أَبِيهَا.

بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى صُورَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ رَهْطَيْنِ فَيَكْثُرُ فِيهِ إِتْلَافُ الْأَنْفُسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صَدْرِ الْآيَةِ، وَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] . وَأَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ دَمُ رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَأَقَادَ مِنْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى فَتْحِ الطَّائِفِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: بَحْرَةَ الرُّغَاءِ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ وَذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْقَتْلى، لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَالْقِصَاصُ لَا يَكُونُ فِي ذَوَاتِ الْقَتْلَى، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ وَحَذْفُهُ هُنَا لِيَشْمَلَ الْقصاص سَائِر شؤون الْقَتْلَى وَسَائِرَ مَعَانِي الْقِصَاصِ فَهُوَ إِيجَازٌ وَتَعْمِيمٌ. وَجَمْعُ الْقَتْلى بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ فِي قَتْلَاكُمْ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَتْلَى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْقَتِيلُ هُوَ مَنْ يَقْتُلُهُ غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ وَالْقَتْلُ فِعْلُ الْإِنْسَانِ إِمَاتَةَ إِنْسَانٍ آخَرَ فَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِدُونِ فِعْلِ فَاعِلٍ قَتِيلًا. وَجُمْلَةُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِجُمْلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحُرِّ وَمَا بَعْدَهُ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ وَالتَّقْدِيرِ الْحُرُّ يَقْتَصُّ أَوْ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِلَخْ وَمَفْهُومُ الْقَيْدِ مَعَ مَا فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ لَا بِغَيْرِهِ وَالْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لَا بِغَيْرِهِ، وَالْأُنْثَى تُقْتَلُ بِالْأُنْثَى لَا بِغَيْرِهَا. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ بِاطِّرَادٍ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمَعْمُولِ بِهِ مِنْهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَحْمَلِ مَعْنَاهَا، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» «قَالَ مَالِكٌ أَحْسُنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فَهَؤُلَاءِ الذُّكُورُ وَقَوْلَهُ: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ بَيْنَ الْإِنَاثِ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْقِصَاصُ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ كَمَا يكون يبن الرِّجَالِ. وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ» . أَيْ وَخُصَّتِ الْأُنْثَى بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهَا مَشْمُولَةٌ لِعُمُومِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: الْحُرُّ وَقَوْلِهِ: الْعَبْدُ مُرَادٌ بِهَا خُصُوصُ الذُّكُورِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ طَائِفَةٍ إِنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ النَّوْعِ إِذَا قَتَلَ نَوْعَهُ فَبَيَّنَتْ حُكْمَ الْحُرِّ

إِذَا قَتَلَ حُرًّا وَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا وَالْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ إِذَا قَتَلَ الْآخَرَ، فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ [الْمَائِدَة: 45] الْآيَة اهـ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّقْيِيدُ لِبَيَانِ عَدَمِ التَّفَاضُلِ فِي أَفْرَادِ النَّوْعِ، وَلَا مَفْهُومَ لَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ تَفَاضُلِ الْأَنْوَاعِ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَالُوا: لَنَقْتُلَنَّ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرَ بِالْأُنْثَى، وَذَلِكَ وَقَعَ فِي قِتَالٍ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ وَهُوَ لَا يُغْنِي فِي إِقَامَةِ مَحْمَلِ الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ مَفْهُومِ الْقَيْدِ لِأَنَّ شَرْطَ اعْتِبَارِهِ أَلَّا يَظْهَرَ لِذِكْرِ الْقَيْدِ سَبَبٌ إِلَّا الِاحْتِرَازَ عَنْ نَقِيضِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ سَبَبٌ غَيْرُ الِاحْتِرَازِ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْمَفْهُومِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ وَلَا أُنْثَى بِذَكَرٍ وَلَا عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَإِنَّ دَلِيلَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ عِنْدَ مَنْ نَفَى الْمُسَاوَاةَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى. الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا كَانَ حُكْمًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] وَنَقَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حِكَايَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَيْفَ تَصْلُحُ نَسْخًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَمَحَلُّهُ مَا لم يَأْتِي فِي شَرْعِنَا خِلَافُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي الْقَتْلى هُوَ نِهَايَةُ الْكَلَامِ وَقَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ الْمُسَاوَاةِ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى لِأَنَّ الْقَتْلَى عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ أَوَّلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، قُلْتُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّفْصِيلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا وَأَنَّ الْكَلَامَ بِأَوَاخِرِهِ فَالْخَاصُّ يُخَصِّصُ الْعَامَّ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا إِنَّ ذَلِكَ كَالتَّمْثِيلِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي «الْكَشَّافِ» هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَيَبْقَى بَعْدَ هَاتِهِ التَّأْوِيلَاتِ سُؤَالٌ قَائِمٌ عَنْ وَجْهِ تَخْصِيصِ الْأُنْثَى بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَهَلْ تَخْرُجُ الْأُنْثَى عَنْ كَوْنِهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ الْجِنْسَانِ إِذْ لَيْسَ صِيغَةُ الذُّكُورِ فِيهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنِ النِّسَاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ (الْ)

لَمَّا صَيَّرَتْهُ اسْمَ جِنْسٍ صَارَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ وَبَطَلَ مَا فِيهِ مِنْ صِيغَةِ تَأْنِيثٍ كَمَا يَبْطُلُ مَا فِيهِ مِنْ صِيغَةِ جَمْعٍ إِنْ كَانَتْ فِيهِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ سَأَلْتُ الْعَلَّامَةَ الْجِدَّ الْوَزِيرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ مَجِيءِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الْمُشْعِرَةِ بِأَلَّا يُقْتَصَّ مِنْ صِنْفٍ إِلَّا لِقَتْلِ مُمَاثِلِهِ فِي الصِّفَةِ فَتَرَكَ لِي وَرَقَةً بِخَطِّهِ فِيهَا مَا يَأْتِي: الظَّاهِرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ (يَعْنِي آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ) نَزَلَتْ إِعْلَامًا بِالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَأْنِيسًا وَتَمْهِيدًا لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَتْ إِنَاطَةَ الْحُكْمِ بِلَفْظِ النَّفْسِ الْمُتَنَاوَلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنْ حُكْمًا لِلْعَبِيدِ وَلَا لِلْإِنَاثِ، وَصُدِّرَتْ بِقَوْلِهِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [الْمَائِدَة: 45] ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ (يَعْنِي آيَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) صُدِّرَتْ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ وَنَاطَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْحُرِّيَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْأَصْنَافِ كُلِّهَا ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْعَبِيدِ وَالْإِنَاثِ رَدًّا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ لَهُمْ، وَخَصَّصَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لِلدَّلَالَةِ على أَن عدمهَا مَعْصُومٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَّ لَهَا مِنَ الْأُنْثَى وَلَمْ يَقْتَصَّ لَهَا مِنَ الذَّكَرِ صَارَ الدَّمُ مَعْصُومًا تَارَةً لِذَاتِهِ غَيْرَ مَعْصُومٍ أُخْرَى وَهَذَا مِنْ لُطْفِ التَّبْلِيغِ حَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا لِدَلِيلِهِ، فَقَوْلُهُ: كَتَبَ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ حكم جاهلي اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا إِبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَرْكِ الْقِصَاصِ لِشَرَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، فَقَصَدَتِ التَّسْوِيَةَ بِقَوْلِهِ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ أَيْ لَا فَضْلَ لِحُرٍّ شَرِيفٍ عَلَى حَرٍّ ضَعِيفٍ وَلَا لِعَبِيدِ السَّادَةِ عَلَى عَبِيدِ الْعَامَّةِ وَقَصَدَتْ مَنْ ذِكْرِ الْأُنْثَى إِبْطَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِجِنَايَةِ الْأُنْثَى وَاعْتِبَارِهَا غَيْرَ مُؤَاخَذَةٍ بِجِنَايَاتِهَا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ أَنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْبَيْتَ لِعُمَرَ ابْن أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرٌ إِسْلَامِيٌّ مِنْ صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ الْوَجْهُ أَلَّا يَقُولَ: بِالْأُنْثى الْمُشْعِرُ بِأَنَّ الْأُنْثَى لَا تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ مَعَ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يُقْتَصُّ مِنْهَا لِلرَّجُلِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَيْدَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْجَارِيَ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْأُنْثَى لَا تَقْتُلُ إِلَّا أُنْثَى، إِذْ لَا يَتَثَاوَرُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَذِكْرُ بِالْأُنْثى خَارِجٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ كَمَخْرَجِ وَصْفِ السَّائِمَةِ فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الْآيَةَ لَا يَلْتَئِمُ مِنْهَا مَعْنًى سَلِيمٌ مِنَ الْإِشْكَالِ إِلَّا مَعْنَى إِرَادَةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ مِنْ جِهَةِ مَا وَرَدَ عَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ انْتِقَاضٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى مَحْمَلُهُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مُسَاوَاةُ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ دُونَ تَفَاضُلٍ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَدِلَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَصْنَافِ مَعَ بَعْضٍ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ وَفِي عَدَمِهَا كَعَدَمِ تَسْوِيَةِ الْأَحْرَارِ بِالْعَبِيدِ عِنْدَ الَّذِينَ لَا يُسَوُّونَ بَيْنَ صِنْفَيْهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذَا الْقَيْدِ الَّذِي فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: الْقَتْلى وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُخَصِّصًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ إِلَّا الْقِصَاصَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَاسْتِثْنَاؤُهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ غَيْرُ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْمَعَاهَدُ فَفِي حُكْمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ إِيَّاهُ مَذَاهِبُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَنَفَيَا الْقِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَأَخَذَا بِحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ قَالَا لَا قِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ قَتْلَ عُدْوَانٍ وَأَثْبَتَا الْقِصَاصَ مِنْهُ إِذَا قَتَلَ غِيلَةً. وَأَمَّا الْقِصَاصُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فَلَيْسَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَة: 45] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَنَفَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ الْقِصَاصَ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ اسْتِنَادًا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسُكُوتِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتِنَادًا لِآثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، وَقِيَاسًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ مِنَ الْحُرِّ فِي إِصَابَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ فَالنَّفْسُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ. وَالْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ لِقَتْلِهِ الْحُرَّ ثَابِتٌ عِنْدَهُمَا بِالْفَحْوَى، وَالْقِصَاصُ مِنَ الذَّكَرِ لِقَتْلِ الْأُنْثَى ثَابِتٌ بِلَحْنِ الْخِطَابِ. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ. الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ أَيْ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ لَا لِتَفْرِيعِ حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ بِهَا عَلَى حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ أَخْذَ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ صُوَرِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَقَطْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَالتَّصَدِّي لِتَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ حَقِّ الْقِصَاصِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالنَّاسِ قَبُولُ الصُّلْحِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ أُخُوَّةِ

الْإِسْلَامِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: «هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَقَدْ فَسَّرُوهَا تَفْسِيرًا قَرَّبُوهُ عَلَى قَدْرِ أَفْهَامِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ» ثُمَّ أَخَذَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا بِمَا لَمْ يَكْشِفْ مَعْنًى وَمَا أَزَالَ إِشْكَالًا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ مَنَاحٍ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِهَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ خَمْسَةً مِنْهَا، وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» تَأْوِيلًا آخَرَ، وَذَكَرَ الطَّيِّبِيُّ تَأْوِيلَيْنِ رَاجِعَيْنِ إِلَى تَأْوِيلِ «الْكَشَّافِ» ، وَاتَّفَقَ جَمِيعُهُمْ على أَن الْمَقْصد مِنْهَا التَّرْغِيبُ فِي الْمُصَالَحَةِ عَنِ الدِّمَاءِ، وَيَنْبَغِي أَلَّا نَذْهَبَ بِأَفْهَامِ النَّاظِرِ طَرَائِقَ قِدَدًا، فَالْقَوْلُ الْفَصْلُ أَنْ نقُول: إِن مَا صدق مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ هُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِأَخِيهِ هُوَ الْقَاتِل وَصفا بِأَنَّهُ أَخٌ تَذْكِيرًا بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَرْقِيقًا لِنَفْسِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ الْقَاتِلَ أَخًا لَهُ كَانَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَلَّا يَرْضَى بِالْقَوْدِ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ أَخِيهِ، وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: قَتَلَ أَخُوهُ ابْنًا لَهُ عَمْدًا فَقُدِّمَ إِلَيْهِ لِيَقْتَادَ مِنْهُ فَأَلْقَى السَّيْفَ وَقَالَ: أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً ... إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ كِلَاهُمَا خَلَفٌ مِنْ فَقْدِ صَاحِبِهِ ... هَذَا أَخِي حِينِ أَدْعُوهُ وَذَا وَلَدي وَمَا صدق شَيْءٌ هُوَ عرض الصُّلْحِ، وَلَفْظُ شَيْءٍ اسْمٌ مُتَوَغِّلٌ فِي التَّنْكِيرِ دَالٌّ عَلَى نَوْعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُسْنُ مَوْقِعِ كَلِمَةِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] . وَمَعْنَى عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ أَنَّهُ أَعْطَى الْعَفْوَ أَيِ الْمَيْسُورَ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ عِوَضِ الصُّلْحِ. وَمِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ أَنَّهُ الْمَيْسُورُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَا يُجْحِفُ بِبَاذِلِهِ وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ الْعَفْوُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَاف: 199] ، وَإِيثَارُ هَذَا الْفِعْلِ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِمُرَاعَاةِ التَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحَةِ وَهِيَ مِنْ خُلُقِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّرْغِيبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ أَخِيهِ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ عِوَضِ الدَّمِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَخْتَلِفُ فَقَدْ يُعْرَضُ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ مَالٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَقَدْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ إِبِلٌ أَوْ عَرُوضٌ أَوْ مُقَاصَّةُ دِمَاءٍ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ إِذْ لَيْسَ الْعِوَضُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مُعَيَّنًا كَمَا هُوَ فِي دِيَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ. (واتّباع) وَ (أَدَاءٌ) مَصْدَرَانِ وَقَعَا عِوَضًا عَنْ فِعْلَيْنِ وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَتَّبِعِ اتِّبَاعًا وَلْيُؤَدِّ أَدَاءً فَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى الرَّفْعِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالتَّحْقِيقُ الْحَاصِلُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ كَمَا عَدَلَ إِلَى الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ [هود: 69] بَعْدَ قَوْلِهِ: قالُوا سَلاماً [هود: 69] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَطَوُّرُ الْمَصْدَرِ الَّذِي أَصْلُهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ إِلَى مَصِيرِهِ مَرْفُوعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] ، فَنَظْمُ الْكَلَامِ: فَاتِّبَاعٌ حَاصِلٌ مِمَّنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وَأَدَاءٌ

حَاصِلٌ مِنْ أَخِيهِ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا تَحْرِيضٌ لِمَنْ عُفِيَ لَهُ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ مَا عُفِيَ لَهُ وَتَحْرِيضٌ لِأَخِيهِ عَلَى أَدَاءِ مَا بَذَلَهُ بِإِحْسَانٍ. وَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَبُولِ وَالرِّضَا، أَيْ فَلْيَرْضَ بِمَا عُفِيَ لَهُ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ فِي (اتِّبَاعٌ) عَائِد إِلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ فِي أَدَاءٌ عَائِدٌ إِلَى (أَخِيه) ، وَالْمعْنَى: فليرضى بِمَا بَذَلَ لَهُ مِنَ الصُّلْحِ الْمُتَيَسَّرِ، وَلْيُؤَدِّ بَاذِلُ الصُّلْحِ مَا بَذَلَهُ دُونَ مُمَاطَلَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِإِلَى عَائِدَانِ عَلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ. وَمَقْصِدُ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الرِّضَا بِأَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ دَمِ الْقَتِيلِ بَدَلًا مِنَ الْقِصَاصِ لِتَغْيِيرِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَيَّرُونَ بِهِ مِنْ أَخْذِ الصُّلْحِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَيُعِدُّونَهُ بَيْعًا لِدَمِ مَوْلَاهُمْ كَمَا قَالَ مُرَّةُ الْفَقْعَسِيُّ: فَلَا تَأْخُذُوا عَقْلًا مِنَ الْقَوْمِ إِنَّنِي ... أَرَى الْعَارَ يَبْقَى وَالْمَعَاقِلَ تَذْهَبُ وَقَالَ غَيْرُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ صُلْحًا عَنْ قَتِيلٍ: فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً ... لسقنا لَهُم سَببا مِنَ الْمَالِ مُفْعَمًا وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمْ ... رِضَا الْعَارِ فَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَفْوِ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ وَأَمَّا قَتْلُ الْخَطَأِ فَإِنَّ شَأْنَهُ الدِّيَةُ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَإِطْلَاقُ وَصْفِ الْأَخِ عَلَى الْمُمَاثِلِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ تَأْسِيسُ أَصْلٍ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ جَعَلَ بِهِ التَّوَافُقُ فِي الْعَقِيدَةِ كَالتَّوَافُقِ فِي نَسَبِ الْأُخُوَّةِ، وَحَقًّا فَإِنَّ التَّوَافُقَ فِي الدِّينِ آصِرَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَالتَّوَافُقَ فِي النَّسَبِ آصِرَةٌ جَسَدِيَّةٌ وَالرُّوحُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَسَدِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ فِي أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُزِيلُ الْإِيمَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْقَاتِلَ أَخًا لِوَلِيِّ الدَّمِ وَتِلْكَ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ مَعَ كَوْنِ الْقَاتِلِ عَاصِيًا. وَقَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ الْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ وَتَسْتَحْسِنُهُ فَهُوَ مِمَّا تُسَرُّ بِهِ النُّفُوسُ وَلَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ وَلَا تُنْكِرُهُ، وَيُقَالُ لِضِدِّهِ مُنْكَرٌ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عمرَان: 110] فِي سُورَة آل عِمْرَانَ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ فَاتِّبَاعٌ مُصَاحِبٌ لِلْمَعْرُوفِ أَيْ رِضًا وَقَبُولٌ، وَحُسْنُ اقْتِضَاءٍ إِنْ وَقَعَ مَطْلٌ، وَقَبُولُ التَّنْجِيمِ إِنْ سَأَلَهُ الْقَاتِلُ. وَالْأَدَاءُ: الدَّفْعُ وَإِبْلَاغُ الْحَقِّ وَالْمُرَادُ بِهِ إِعْطَاءُ مَالِ الصُّلْحِ، وَذَكَرَ مُتَعَلِّقَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ إِلَيْهِ الْمُؤْذِنُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِبْلَاغِ مَالِ الصُّلْح إِلَى ولي الْمَقْتُولِ بِأَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَيْهِ وَلَا يُكَلِّفَهُ الْحُضُورَ بِنَفْسِهِ لِقَبْضِهِ أَوْ إِرْسَالَ مَنْ يَقْبِضُهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْطُلُهُ، وَزَادَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ: بِإِحْسانٍ أَيْ دُونَ غَضَبٍ وَلَا كَلَامٍ كَرِيهٍ أَوْ جَفَاءِ مُعَامَلَةٍ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَبُولُ الْعَفْوِ وَإِحْسَانُ الْأَدَاءِ وَالْعُدُولُ عَنِ الْقِصَاصِ، تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ فَهُوَ رَحْمَةٌ مِنْهُ أَيْ أَثَرُ رَحْمَتِهِ، إِذِ التَّخْفِيفُ فِي الْحُكْمِ أَثَرُ الرَّحْمَةِ، فَالْأَخْذُ بِالْقِصَاصِ عَدْلٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَفْوِ رَحْمَةٌ. وَلَمَّا كَانَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ كَافِيَةً فِي تَحْقِيقِ مَقْصَدِ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ مِنِ ازْدِجَارِ النَّاسِ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَتَحْقِيقِ حِفْظِ حَقِّ الْمَقْتُولِ بِكَوْنِ الْخِيرَةِ لِلْوَلِيِّ كَانَ الْإِذْنُ فِي الْعَفْوِ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِالْجَانِبَيْنِ، فَالْعَدْلُ مُقَدَّمٌ وَالرَّحْمَةُ تَأْتِي بَعْدَهُ. قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى مَا كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِ الْعَمْدِ دُونَ الْعَفْوِ وَدُونَ الدِّيَةِ كَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ: «مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا فَمَاتَ يُقْتَلُ قَتْلًا وَلَكِنَّ الَّذِي لَمْ يَتَعَمَّدْ بَلْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي يَدِهِ فَأَنَا أَجْعَلُ لَكَ مَكَانًا يُهْرَبُ إِلَيْهِ وَإِذَا بَغَى إِنْسَانٌ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَقْتُلَهُ بِغَدْرٍ فَمِنْ عِنْدِ مَذْبَحِي تَأْخُذُهُ لِلْمَوْتِ» ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ حُكْمَ الْإِنْجِيلِ الْعَفْوُ مُطْلَقًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي شَرِيعَةِ عِيسَى، لِأَنَّهُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمرَان: 50] ، فَلَعَلَّهُ مِمَّا أَخَذَهُ عُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةِ مِنْ أَمْرِهِ بِالْعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ لَكِنَّهُ حُكْمٌ تُنَزَّهُ شَرَائِعُ اللَّهِ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إِلَى انْخِرَامِ نِظَامِ الْعَالَمِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ حَالِ الْجَانِي بِالْقَتْلِ فِي الْإِسْلَامِ يَتَوَقَّعُ الْقِصَاصَ وَيَضَعُ حَيَاتَهُ فِي يَدِ وَلِيِّ دَمِ الْمَقْتُولِ فَلَا يَدْرِي أَيَقْبَلُ الصُّلْحَ أَمْ لَا يَقْبَلُ، وَبَيْنَ مَا لَوْ كَانَ وَاثِقًا بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُ عَلَى قَتْلِ عَدُوِّهِ وَخَصْمِهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 179]

فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. تَفْرِيعٌ عَنْ حُكْمِ الْعَفْوِ لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي شُكْرَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أَنْجَاهُ بِشَرْعِ جَوَازِ الْعَفْوِ وَبِأَنْ سَخَّرَ الْوَلِيَّ لِلْعَفْوِ، وَمِنَ الشُّكْرِ أَلَّا يَعُودَ إِلَى الْجِنَايَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ عَادَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْمُرَادُ تَشْدِيدُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [الْمَائِدَة: 95] ، ثُمَّ لَهُ مِنْ حُكْمِ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ مَا لِلْقَاتِلِ ابْتِدَاءً عِنْدَهِمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا أَعْنِي الْقَتْلَ فَقَالُوا: إِنْ عَادَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ إِلَى الْقَتْلِ مَرَّةً أُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ وَلَا يُمَكِّنُ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ هُنَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَوْ عَذَابَ الدُّنْيَا أَنَّ تَكَرُّرَ الْجِنَايَةِ يُوجِبُ التَّغْلِيظَ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَصِيرُ لَهُ دُرْبَةً فَعَوْدُهُ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ يُؤْذِنُ بِاسْتِخْفَافِهِ بِالْأَنْفُسِ فَيَجِبُ أَنْ يُرَاحَ مِنْهُ النَّاسُ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ قَتَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ حُكْمَ الْعَفْوِ إِنْ رَضِيَ بِهِ الْوَلِيُّ لِأَنَّ الْحَقَّ حَقُّهُ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِتَفْوِيضِهِ إِلَى الْإِمَامِ لِيَنْظُرَ هَلْ صَارَ هَذَا الْقَاتِلُ مُزْهِقَ أَنْفُسٍ، وَيَنْبَغِيَ إِنْ عُفِيَ عَنْهُ أَنْ تُشَدَّدَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ أَكْثَرَ مِنْ ضَرْبِ مِائَةٍ وَحَبْسِ عَامٍ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هَذَا الْحُكْمَ بَعْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَانِيَ غَيْرُ جَدِيرٍ فِي هَاتِهِ الْمَرَّةِ بِمَزِيدِ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ مِنَ الْفِقْهِ دَقِيقٌ، قَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ ثُمَّ يَدْفَعُ الدِّيَةَ ثُمَّ يَغْدُرُهُ وَلِيُّ الدَّمِ فَيَقْتُلُهُ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قِصَّةُ حُصَيْنِ بْنِ ضَمْضَمٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا زُهَيْرٌ بِقَوْلِهِ: لَعَمْرِي لِنِعْمَ الْحَيُّ جَرَّ عَلَيْهُمُ ... بِمَا لَا يُوَاتِيهِمْ حُصَيْنُ بن ضَمْضَم [179] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 179] وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) تَذْيِيلٌ لَهَاتِهِ الْأَحْكَامِ الْكُبْرَى طَمْأَنَ بِهِ نُفُوسَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلِيَاءَ الدَّمِ وَالْقَاتِلِينَ فِي قَبُولِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فَبَيَّنَ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً، وَالتَّنْكِيرُ فِي حَياةٌ لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لَكُمْ أَيْ لِنُفُوسِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ ارْتِدَاعَ النَّاسِ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، فَلَوْ أُهْمِلَ

حُكْمُ الْقِصَاصِ لَمَا ارْتَدَعَ النَّاسُ لِأَنَّ أَشَدَّ مَا تَتَوَقَّاهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ مِنَ الْحَوَادِثِ هُوَ الْمَوْتُ، فَلَوْ عَلِمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مُسْتَخِفًّا بِالْعُقُوبَاتِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ لَمَّا أَصَابَ دَمًا وَهَرَبَ فَعَاقَبَهُ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ بِهَدْمِ دَارِهِ بِهَا: سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلِيَّ قَضَاءَ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا وَأَذْهَلُ عَنْ دَارِي وَأَجْعَلُ هَدْمَهَا ... لِعِرْضِي مِنْ بَاقِي الْمَذَمَّةِ حَاجِبَا وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِي تِلَادِي إِذَا انْثَنَتْ ... يَمِينِي بِإِدْرَاكِ الَّذِي كُنْتُ طَالِبَا وَلَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ لِلْأَخْذِ بِالثَّأْرِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَأَفْرَطُوا فِي الْقَتْلِ وَتَسَلْسَلَ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ التَّرْغِيبُ فِي أَخْذِ مَالِ الصُّلْحِ وَالْعَفْوِ بِنَاقِضٍ لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الِازْدِجَارَ يَحْصُلُ بِتَخْيِيرِ الْوَلِيِّ فِي قَبُولِ الدِّيَةِ فَلَا يَطْمَئِنُّ مُضْمِرُ الْقَتْلِ إِلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ إِلَّا نَادِرًا وَكَفَى بِهَذَا فِي الِازْدِجَارِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أُولِي الْأَلْبابِ تَنْبِيهٌ بِحَرْفِ النِّدَاءِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةِ الْقِصَاصِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا أَهْلُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ إِذْ هُوَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ كَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بِمِثْلِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ رَزِيَّةً ثَانِيَةً لَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ هُوَ حَيَاةٌ لَا رَزِيَّةٌ لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إِكْمَالًا لِلْعِلَّةِ أَيْ تَقْرِيبًا لِأَنْ تَتَّقُوا فَلَا تَتَجَاوَزُوا فِي أَخْذِ الثَّأْرِ حَدَّ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَلَعَلَّ لِلرَّجَاءِ وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: 21] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَاقَ مَا كَانَ سَائِرًا مَسْرَى الْمَثَلِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ (الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ) وَقَدْ بَيَّنَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «مِفْتَاح الْعُلُوم» و «ذيله» مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ قَدْ دَلَّ عَلَى إِبْطَالِ التَّكَايُلِ بِالدِّمَاءِ وَعَلَى إِبْطَالِ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ إِذَا لَمْ يَظْفَرُوا بِالْقَاتِلِ وَهَذَا لَا تُفِيدُهُ كلمتهم الجامعة.

[سورة البقرة (2) : آية 180]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِبَيَانِ حُكْمِ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَشْرِيعٌ وَلَمْ يَفْتَتِحْ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْعُهَا إِحْدَاثَ شَيْءٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ، لِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَزِيدِ تَنْبِيهٍ لِتَلَقِّي الْحُكْمِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَقَايَا عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرًا مَا يَمْنَعُونَ الْقَرِيبَ مِنَ الْإِرْثِ بِتَوَهُّمِ أَنَّهُ يَتَمَنَّى مَوْتَ قَرِيبِهِ لِيَرِثَهُ، وَرُبَّمَا فَضَّلُوا بَعْضَ الْأَقَارِبِ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْإِحَنِ وَبِهَا تَخْتَلُّ الْحَالَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بِإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مَنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ كَانَ تَغْيِيرُهَا إِلَى حَالِ الْعَدْلِ فِيهَا مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّا تَفْصِيلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَة: 178] . أَمَّا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ حُكْمِ الْقِصَاصِ فَهُوَ جَرَيَانُ ذِكْرِ مَوْتِ الْقَتِيلِ وَمَوْتِ الْقَاتِلِ قِصَاصًا. وَالْقَوْلُ فِي كُتِبَ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ قَرِيبٌ مِنَ النَّصِّ فِيهِ. وَتَجْرِيدُهُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِ مَرْفُوعِهِ مُؤَنَّثًا لَفْظًا لِاجْتِمَاعِ مُسَوِّغَيْنِ لِلتَّجْرِيدِ وَهُمَا كَوْنُ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ بِفَاصِلٍ، وَقَدْ زَعَمَ الشَّيْخُ الرَّضِيُّ أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذَيْنِ الْمُسَوِّغَيْنِ يُرَجِّحُ تَجْرِيدَ الْفِعْلِ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَالدَّرْكُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ حُضُورُ أَسْبَابِهِ وَعَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ الْمُتَخَيَّلَ لِلنَّاسِ قَدْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ لِيُصَيِّرَهُ مَيِّتًا قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ فَإِنَّ حُضُورَ الشَّيْءِ حُلُولُهُ وَنُزُولُهُ وَهُوَ ضِدُّ الْغَيْبَةِ، فَلَيْسَ إِطْلَاقُ حَضَرَ هُنَا مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ الْفِعْلِ عَلَى مُقَارَبَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَلَا عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَمَا فِي إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 6] ، فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [الْمَائِدَة: 98] ، وَلَكِنَّهُ

إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ إِلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حُضُورُ أَسْبَابِهِ، وَأَمَّا الْحُضُورُ فَمُسْتَعَارٌ لِلْعَرْوِ وَالظُّهُورِ، ثُمَّ إِنَّ إِطْلَاقَ الْمَوْتِ عَلَى أَسْبَابِهِ شَائِعٌ قَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ: وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعَفْوِ والتمسوا ... قولا يبرّؤكم إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ وَالْخَيْرُ الْمَالُ وَقِيلَ الْكَثِيرُ مِنْهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْمَالِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ. كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ اسْتَأْثَرُوا بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ اسْتَأْثَرَ بِمَالِهِ أَقْرَبُ الذُّكُورِ لَهُ مِنْ أَبٍ أَوْ عَمٍّ أَوِ ابْنِ عَمِّ الْأَدْنِينَ فَالْأَدْنِينَ، وَكَانَ صَاحِبُ الْمَالِ رُبَّمَا أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ أَوْ بِجَمِيعِهِ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ أَصْدِقَائِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَاخْتَصُّوا بِجَمَاعَتِهِمْ شَرَّعَ اللَّهُ لَهُمْ تَشْرِيكَ بَعْضِ الْقَرَابَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّنْ كَانُوا قَدْ يُهْمِلُونَ تَوْرِيثَهُ مِنَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْوَالِدَيْنِ فِي حَالِ وُجُودِ الْبَنِينَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَعَبَّرَ بِفِعْلِ (تَرَكَ) وَهُوَ مَاضٍ عَنْ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ إِنْ يَتْرُكْ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اقْتِرَابِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمُضِيِّ إِذَا أَوْشَكَ أَنْ يَصِيرَ مَاضِيًا، وَالْمعْنَى: إِن أوحشك إِنْ يَتْرُكَ خَيْرًا أَوْ شَارَفَ أَنْ يَتْرُكَ خَيْرًا، كَمَا قَدَّرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: 9] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 96] فِي سُورَةِ يُونُسَ أَيْ حَتَّى يُقَارِبُوا رُؤْيَةَ الْعَذَابِ. وَالْوَصِيَّةُ فَعِيلَةٌ من وصّى فَهُوَ الْمُوَصَّى بِهَا فَوَقَعَ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ لِيَتَأَتَّى بِنَاءُ فَعِيلَةٍ بِمَعْنَى مُفَعُولَةٍ لِأَنَّ زِنَةَ فَعِيلَةٍ لَا تُبْنَى مِنَ الْقَاصِرِ. وَالْوَصِيَّةُ الْأَمْرُ بِفِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مِمَّا فِيهِ نَفْعٌ لِلْمَأْمُورِ أَوْ لِلْآمِرِ فِي مَغِيبِ الْآمِرِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ فِيمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى أَمْرٍ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجَلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا إِلَخْ» . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَصِيَّةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَكُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَقَوْلُهُ: لِلْوالِدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصِيَّةِ مَعْمُولٌ لَهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمَصْدَرِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيله بِأَن وَالْفِعْلِ، وَالْوَصِيَّة مَرْفُوعٌ نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ لِفِعْلِ كُتِبَ، وإِذا ظَرْفٌ.

وَالْمَعْرُوفُ الْفِعْلُ الَّذِي تَأْلَفُهُ الْعُقُولُ وَلَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ فَهُوَ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ سُمِّيَ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُ لِكَثْرَةِ تَدَاوُلِهِ وَالتَّأَنُّسِ بِهِ صَارَ مَعْرُوفًا بَيْنَ النَّاسِ، وَضِدُّهُ يُسَمَّى الْمُنْكَرَ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 110] فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا الْعَدْلُ الَّذِي لَا مُضَارَةَ فِيهِ وَلَا يَحْدُثُ مِنْهُ تَحَاسُدٌ بَيْنَ الْأَقَارِبِ بِأَنْ يَنْظُرَ الْمُوصِي فِي تَرْجِيحِ مَنْ هُوَ الْأَوْلَى بِأَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِ لِقُوَّةِ قَرَابَةٍ أَوْ شِدَّةِ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ إِنْ تَوَخَّى ذَلِكَ اسْتَحْسَنَ فِعْلَهُ النَّاسُ وَلَمْ يَلُومُوهُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَصِيَّةِ أَلَّا تكون للإضرار يوارث أَوْ زَوْجٍ أَوْ قَرِيبٍ وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [الْبَقَرَة: 182] . وَالْبَاءُ فِي (بِالْمَعْرُوفِ) لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ تَقْدِيرُ مَا يُوصِي بِهِ وَتَمْيِيزُ مَنْ يُوصَى لَهُ وَوَكَلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُوصِي فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَى تَرْجِيحِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْعَطَاءِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَقَوْلُهُ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِ كُتِبَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ وعَلَى الْمُتَّقِينَ صِفَةٌ أَيْ حَقًّا كَائِنًا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَعْمُولَ حَقًّا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ الْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ فِي شَيْءٍ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مؤكدا بِمَا زَاده عَلَى مَعْنَى فِعْلِهِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَاصِلٌ بِإِعَادَةِ مَدْلُولِ الْفِعْلِ، نَعَمْ إِذَا أَوْجَبَ ذَلِكَ الْمَعْمُولُ لَهُ تَقْيِيدًا يَجْعَلُهُ نَوْعًا أَوْ عَدَدًا فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنِ التَّأْكِيدِ. وَخَصَّ هَذَا الْحَقَّ بِالْمُتَّقِينَ ترغيبا فِي الرضى بِهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَّقِي فَهُوَ أَمْرٌ نَفِيسٌ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ عَلَى الْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعُصَاةِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ مِنَ التَّقْوَى وَأَنَّ غَيْرَهُ مَعْصِيَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَصَّ الْمُتَّقُونَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لِلرُّتْبَةِ لِيَتَبَارَى النَّاسُ إِلَيْهَا. وَخَصَّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ مِنَ الْمُوصِي، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الْأَوْلَادَ أَوْ يُوصُونَ لِسَادَةِ الْقَبِيلَةِ. وَقَدَّمَ الْوَالِدَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمَا أَرْجَحُ فِي التَّبْدِيَةِ بِالْوَصِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ يُوصُونَ بِإِيثَارِ بَعْضِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ يُوصُونَ بِكَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، وَمِنْ أَشْهَرِ الْوَصَايَا فِي ذَلِكَ وَصِيَّةُ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ إِذْ أَوْصَى لِابْنِهِ مُضَرٍ بِالْحَمْرَاءِ، وَلِابْنِهِ رَبِيعَةَ بِالْفَرَسِ،

وَلِابْنِهِ أَنْمَارَ بِالْحِمَارِ، وَلِابْنِهِ إِيَادٍ بِالْخَادِمِ، وَجَعَلَ الْقِسْمَةَ فِي ذَلِكَ لِلْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُوصُونَ لِلْأَبَاعِدِ طَلَبًا لِلْفَخْرِ وَيَتْرُكُونَ الْأَقْرَبِينَ فِي الْفَقْرِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِيجَابِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا ثَبَتَ بِهَا حُكْمُ وُجُوبِ الْإِيصَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَقَدْ وَقَّتَ الْوُجُوبَ بِوَقْتِ حُضُورِ الْمَوْتِ وَيَلْحَقُ بِهِ وَقْتُ تَوَقُّعِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمِقْدَارَ الْمُوصَّى بِهِ وَقَدْ حَرَّضَتِ السُّنَّةُ عَلَى إِعْدَادِ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الصِّحَّةِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْجَأَهُ الْمَوْتُ. وَالْآيَةُ تُشْعِرُ بِتَفْوِيضِ تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ الْمُوَصَّى بِهِ إِلَى مَا يَرَاهُ الْمُوصِي، وَأَمَرَهُ بِالْعَدْلِ بِقَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ فَتَقَرَّرَ حُكْمُ الْإِيصَاءِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْقَرَابَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَأْخُذُهُ الْأَبْنَاءُ، ثُمَّ إِنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ نَسْخًا مُجْمَلًا فَبَيَّنَتْ مِيرَاثَ كُلِّ قَرِيبٍ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَبْقَ حَقُّهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِيصَاءِ الْمَيِّتِ لَهُ بَلْ صَارَ حَقُّهُ ثَابِتًا مُعَيَّنًا رِضِيَ الْمَيِّتُ أَمْ كَرِهَ، فَيَكُونُ تَقَرُّرُ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ اسْتِئْنَاسًا لِمَشْرُوعِيَّةِ فَرَائِضِ الْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الْفَرَائِضِ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] فَجَعَلَهَا وَصِيَّةَ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ إِبْطَالًا لِلْمِنَّةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُوصِي. وَبِالْفَرَائِضِ نُسِخَ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ مَنْدُوبَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ إِذَا نُسِخَ بَقِيَ النَّدْبُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، فَفِي الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي النَّبِيءُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلَمَةَ مَاشِيَيْنِ فَوَجَدَنِي النَّبِيءُ لَا أَعْقِلُ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] الْآيَة اهـ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آخِرَ عَهْدٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْوَصَايَا سُؤَالُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمَالُ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ إِلَخْ. وَقِيلَ نُسِخَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْوَصِيَّةِ فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُثَيْمٍ وَهُوَ شُذُوذٌ

وَخِلَافٌ لِمَا اشْتُهِرَ فِي السُّنَّةِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً لِلْوَارِثِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ وَالْمَقْصُودُ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِثْلَ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ وَبِهَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَة وطاووس وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِبَقَاءِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بَقِيَتْ مَفْرُوضَةً لِلْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ وَهَذَا قَول الْحسن وطاووس وَالضَّحَّاكِ وَالطَّبَرِيِّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَقَالَ بِهِ مِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَقِيَتْ مَنْدُوبَةً لِلْأَقْرَبِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقَارِبُهُ فِي حَاجَةٍ وَلَمْ يُوصِ لَهُمْ فَبِئْسَ مَا صَنَعَ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَقِيلَ تخْتَص بِالْقَرَابَةِ لَو أَوْصَى لِغَيْرِهِمْ بَطُلَتْ وَتُرَدُّ عَلَى أَقَارِبِهِ قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ مَنْ تُعْتَمَدُ أَقْوَالُهُمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ إِذَا لَمْ يَخْشَ بِتَرْكِهَا ضَيَاعَ حَقِّ أَحَدٍ عِنْدَ الْمُوصِي مَطْلُوبَةٌ، وَأَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ لِحَدِيثِ «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» ، إِذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قَالَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَشْرُوعِيَّةِ الْفَرَائِضِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ بَيَانًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ وَتَحْرِيضًا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ الْوَصِيَّةَ فِي الْمَالِ حَقًّا شَرْعِيًّا، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى هَلْ كَانَ النَّبِيءُ أَوْصَى فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَتْ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ وَلَمْ يُوَصِّ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَاب الله اهـ، يُرِيدُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ لَا يُورَثُ فَكَذَلِكَ لَا يُوصِي بِمَالِهِ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا لِلْمَرِيضِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ أَنْ يَقُولُوا لَهُ أَوْصِ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَكُونُ لِوَارِثٍ لِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ «السُّنَنِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ خَارِجَةَ وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ كِلَاهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيءَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَخَصَّ بِذَلِكَ عُمُومَ الْوَالِدَيْنِ وَعُمُومَ الْأَقْرَبِينَ وَهَذَا التَّخْصِيصُ نَسْخٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ أَحَادٍ فَقَدِ اعْتُبِرَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَوَاتِرِ، لِأَنَّهُ سَمِعَهُ الْكَافَّةُ وَتَلَقَّاهُ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ مَرَضَ فَعَادَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَمَنَعَهُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَرَثَةٌ وَلَوْ عَصَبَةٌ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ جَازَ لِلْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَمَضَى ذَلِكَ أَخْذًا بِالْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَّةِ فِي قَوْلِهِ «إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ» إِلَخْ. وَقَالَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَالِ جَامِعٌ لَا عَاصِبٌ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي إِمْضَائِهَا لِلْوَارِثِ إِذَا أَجَازَهَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنَّهَا إِذَا أَجَازَهَا الْوَارِثُ مَضَتْ. هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ كَيْفِيَّةَ قِسْمَةِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةَ هُنَا صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهَا ظَاهِرُهَا، فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ قَالُوا: بَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بِمَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ فَلَا نَسْخَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَالْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ يَقُولُ مِنْهُمْ مَنْ يَرَوْنَ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَزَلْ مَفْرُوضَةً لِغَيْرِ الْوَارِثِ: إِنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتِ الِاخْتِيَارَ فِي الْمُوَصَّى لَهُ وَالْإِطْلَاقَ فِي الْمِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ، وَمَنْ يَرَى مِنْهُمُ الْوَصِيَّةَ قَدْ نُسِخَ وُجُوبُهَا وَصَارَتْ مَنْدُوبَةً يَقُولُونَ: إِنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا فَأَصْبَحَتِ الْوَصِيَّةُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ عُمُومَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ، وَنَسَخَتِ الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِي لَفْظِ (الْوَصِيَّةِ) وَالتَّخْصِيصَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، وَالتَّقْيِيدَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ كِلَاهُمَا نُسِخَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُنَاقِضُ آيَةَ الْوَصِيَّةِ، لِاحْتِمَالِهَا أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ بَعْدَ إِعْطَاءِ الْوَصَايَا أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصِيَّةِ بَلْ ظَاهِرُهَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النِّسَاء: 11] ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثَانِ الْوَارِدَانِ فِي ذَلِكَ آحَادًا لَا يَصْلُحَانِ لِنَسْخِ الْقُرْآنِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَوْنَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَقَدْ ثَبَتَ حُكْمٌ جَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ وَهُوَ النَّدْبُ أَوِ الْوُجُوبُ عَلَى الْخِلَافِ فِي غَيْرِ الْوَارِثِ وَفِي الثُّلُثِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْمُسْتَنِدِ لِلْأَحَادِيثِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ حُكْمٌ جَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنَ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَنِدٌ لِلْإِجْمَاعِ، هَذَا تَقْرِيرُ أَصْلِ اسْتِنْبَاطِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهِ مَا يَدْفَعُ عَنِ النَّاظِرِ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ لِلْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي تَقْرِيرِ كَيْفيَّة النّسخ.

[سورة البقرة (2) : آية 181]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) الضَّمَائِرُ الْبَارِزَةُ فِي (بَدَّلَهُ وسَمعه وإثمه ويبدلونه) عَائِدَةٌ إِلَى الْقَوْلِ أَوِ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الْمُوصِي وَدَلَّ عَلَيْهِ لفظ الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَة: 180] ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَمِعَهُ إِذْ إِنَّمَا تُسْمَعُ الْأَقْوَالُ وَقِيلَ هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْإِيصَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: الْوَصِيَّةُ أَيْ كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْفِعْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَة: 180] ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ الْوَاقِعَةَ بِالْمَعْرُوفِ، لِأَنَّ الْإِثْمَ فِي تَبْدِيلِ الْمَعْرُوفِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: 182] . وَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ هُنَا الْإِبْطَالُ أَو النَّقْص وَمَا صدق (مَنْ بَدَّلَهُ) هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ خَاصَّةِ الْوَرَثَةِ كَالْأَبْنَاءِ وَمِنَ الشُّهُودِ عَلَيْهَا بِإِشْهَادٍ مِنَ الْمُوصِي أَوْ بِحُضُورِ مَوْطِنِ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ [الْمَائِدَة: 106] فَالتَّبْدِيلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّبْدِيلِ جَعْلُ شَيْءٍ فِي مَكَانِ شَيْءٍ آخَرَ وَالنَّقْضُ يَسْتَلْزِمُ الْإِتْيَانَ بِضِدِّ الْمَنْقُوضِ وَتَقْيِيدَ التَّبْدِيلِ بِظَرْفِ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ أَيْ لِأَنَّهُ بَدَّلَ مَا سَمِعَهُ وَتَحَقَّقَهُ وَإِلَّا فَإِنَّ التَّبْدِيلَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مَعْلُومٍ مَسْمُوعٍ إِذْ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى الْمَجْهُولِ. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما إِثْمُهُ إِضَافِيٌّ، لِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُوصِي وَإِلَّا فَإِنَّ إِثْمَهُ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَجْعَلْهُ لَهُ الْمُوصِي مَعَ عِلْمِهِ إِذَا حَابَاهُ مُنَفِّذُ الْوَصِيَّةِ أَوِ الْحَاكِمُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» ، وَإِنَّمَا انْتَفَى الْإِثْمُ عَنِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ اسْتَبْرَأَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَوْصَى بِالْمَعْرُوفِ فَلَا وِزْرَ عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَةِ النَّاسِ بَعْدَهُ لَمَا أَوْصَى بِهِ، إِذْ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْم: 38- 39] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ إِبْطَالُ تَعَلُّلِ بَعْضِ النَّاسِ بِتَرْكِ الْوَصِيَّةِ بِعِلَّةِ خِيفَةِ أَلَّا يُنَفِّذَهَا الْمَوْكُولُ إِلَيْهِمْ تَنْفِيذُهَا، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالْإِيصَاءِ وَوُجُوبُ التَّنْفِيذِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى نَاظِرِ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ بَدَّلَهُ فَعَلَيْهِ إِثْمُهُ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أَي هَذَا التَّبْدِيلَ يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ وَيَضْرِبُ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَلَى يَدِ مَنْ يُحَاوِلُ هَذَا التَّبْدِيلَ لِأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُقَرِّرُ شَرْعًا.

[سورة البقرة (2) : آية 182]

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَعِيدٌ لِلْمُبَدِّلِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنْ تَحَيَّلَ النَّاسُ لِإِبْطَالِ الْحُقُوقِ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ وَجَارُوا بِأَنْوَاعِ الْجَوْرِ فَاللَّهُ سَمِيعٌ وَصِيَّةَ الْمُوصِي وَيَعْلَمُ فِعْلَ الْمُبَدِّلِ، وَإِذَا كَانَ سَمِيعًا عَلِيمًا وَهُوَ قَادِرٌ فَلَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُجَازَاةِ الْمُبَدِّلِ. وَالتَّأْكِيدُ بِأَنْ نَاظَرَ إِلَى حَالَةِ الْمُبَدِّلِ الْحُكْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ لِأَنَّهُ فِي إِقْدَامِهِ عَلَى التَّبْدِيلِ يَكُونُ كَمَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فَلِذَلِكَ أَكَّدَ لَهُ الْحُكْمَ تَنْزِيلًا لَهُ منزلَة الْمُنكر. [182] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 182] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) تَفْرِيعٌ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّبْدِيلِ، فَكَمَا تَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ فِي الْوَصِيَّةِ وَعِيدُ الْمُبَدِّلِ لَهَا، وَتَفَرَّعَ عَنْ وَعِيدِ الْمُبَدِّلِ الْإِذْنُ فِي تَبْدِيلٍ هُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ تَبْدِيلُ الْوَصِيَّةِ الَّتِي فِيهَا جَوْرٌ وَحَيْفٌ بِطَرِيقَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ نَالَهُ الْحَيْفُ مِنْ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ كَانَ جَدِيرًا بِالْإِيصَاءِ إِلَيْهِ فَتَرَكَهُ الْمُوصِي أَوْ كَانَ جَدِيرًا بِمِقْدَارٍ فَأَجْحَفَ بِهِ الْمُوصِي لِأَنَّ آيَة الْوَصِيَّة حضرت قِسْمَةَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي اتِّبَاعِ وَصِيَّتِهِ وَجَعَلَتْ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى أَمَانَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا حَافَ حَيْفًا وَاضِحًا وَجَنَفَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أُمِرَ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِالصُّلْحِ. وَمَعْنَى خَافَ هُنَا الظَّنُّ وَالتَّوَقُّعُ لِأَنَّ ظَنَّ الْمَكْرُوهِ خَوْفٌ فَأَطْلَقَ الْخَوْفَ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الظَّنُّ وَالتَّوَقُّعُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا تَوَقَّعَهُ الْمُتَوَقِّعُ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ أَنَّ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ لَا يُخِيفَانِ أَحَدًا وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْمُصْلِحُ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَوْفِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا أَيْ أَظُنُّ وَأَعْلَمُ شَيْئًا مَكْرُوهًا وَلِذَا قَالَ قَبْلَهُ: تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَالْجَنَفُ الْحَيْفُ وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ. وَالْإِثْمُ الْمَعْصِيَةُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْجَنَفِ هُنَا تَفْضِيلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ الْمُسَاوِي لَهُ أَوِ الْأَحَقِّ، فَيَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَكِنَّهُ فِي الْوَاقِعِ حَيْفٌ فِي الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ مَا كَانَ قَصْدُ الْمُوصِي بِهِ حِرْمَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَوْ تَفْضِيلَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 184]

وَالْإِصْلَاحُ جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا يُقَالُ: أَصْلَحَهُ أَيْ جَعَلَهُ صَالِحًا، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الدُّخُولِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِالْمُرَاضَاةِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ صَالِحَيْنِ بَعْدَ أَنْ فَسَدُوا، وَيُقَالُ: أصلح بَينهم لتضمينه مَعْنَى دَخَلَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِبَيْنَ فِي الْآيَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُمُ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: مُوصٍ إِذْ يَقْتَضِي مُوصًى لَهُمْ، وَمَعْنَى فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: 173] أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ حَرَجٌ مِنْ تَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ وَجَدَ فِي وَصِيَّةِ الْمُوصِي إِضْرَارًا بِبَعْضِ أَقْرِبَائِهِ، بِأَنْ حَرَمَهُ مَنْ وَصِيَّتِهِ أَوْ قَدَّمَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ نَسَبًا، أَوْ أَوْصَى إِلَى غَنِيٍّ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَتَرَكَ فَقِيرَهُمْ فَسَعَى فِي إِصْلَاحِ ذَلِكَ وَطَلَبَ مِنَ الْمُوصِي تَبْدِيلَ وَصِيَّتِهِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَعَى فِي إِصْلَاحٍ بَيْنَهُمْ، أَوْ حَدَثَ شِقَاقٌ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ آثَرَ بَعْضَهُمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى تَنْفِيذِ وَصَايَا الْمُوصِينَ حَتَّى جَعَلَ تَغْيِيرَ جَوْرِهِمْ مُحْتَاجًا لِلْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ مَغْفُورٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مُوصٍ» عَلَى أَنَّهُ اسْم فَاعل أَو أَوْصَى وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ «مُوَصٍّ» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلِ وَصَّى الْمُضَاعَفِ. [183، 184] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 183 الى 184] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. حُكْمُ الصِّيَامِ حُكْمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأُمَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الرَّامِيَةِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحُ حَالِ الْأَفْرَادِ فَرْدًا فَرْدًا إِذْ مِنْهَا يَتَكَوَّنُ الْمُجْتَمَعُ. وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنْ سَابِقَتِهَا لِلِانْتِقَالِ إِلَى غَرَضٍ آخر، وافتتحت بيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا فِي النِّدَاءِ مِنْ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِمَا سَيُقَالُ بَعْدَهُ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْوُجُوبِ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَة: 180] الْآيَةَ. وَالصِّيَامُ- وَيُقَالُ الصَّوْمُ- هُوَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: اسْمٌ لِتَرْكِ جَمِيعِ الْأَكْلِ وَجَمِيعِ الشُّرْبِ وَقُرْبَانِ النِّسَاءِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ بِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِنَذْرٍ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ.

وَالصِّيَامُ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ فَعَّالٍ وَعَيْنُهُ وَاوٌ قُلِبَتْ يَاءً لِأَجْلِ كَسْرَةِ فَاءِ الْكَلِمَةِ، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ الصَّوْمُ، وَقَدْ وَرَدَ الْمَصْدَرَانِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يُطْلَقُ الصِّيَامُ حَقِيقَةً فِي اللُّغَةِ إِلَّا عَلَى تَرْكِ كُلِّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَأُلْحِقَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ قُرْبَانِ كُلِّ النِّسَاءِ، فَلَوْ تَرَكَ أَحَدٌ بَعْضَ أَصْنَافِ الْمَأْكُولِ أَوْ بَعْضَ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ صِيَامًا كَمَا قَالَ الْعَرْجِيُّ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا وَلِلصِّيَامِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى مَجَازِيَّةٌ كَإِطْلَاقِهِ عَلَى إِمْسَاكِ الْخَيْلِ عَنِ الْجَرْيِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا وَأُطْلِقَ عَلَى تَرْكِ شُرْبِ حِمَارِ الْوَحْشِ الْمَاءَ، وَقَالَ لَبِيَدٌ يَصِفُ حِمَارَ الْوَحْشِ وَأَتَانَهُ فِي إِثْرِ فَصْلِ الشِّتَاءِ حَيْثُ لَا تَشْرَبُ الْحمر مَاء لاجترائها بِالْمَرْعَى الرَّطْبِ: حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً ... جَزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الصَّوْمِ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ فَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ الصَّوْمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ فِي صَوْمِهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ، وَإِنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنِ الشَّهْوَتَيْنِ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ، لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا فِي «الْأَسَاسِ» وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الصَّوْمِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ عِيسَى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مَرْيَم: 26] فَلَيْسَ إِطْلَاقًا لِلصَّوْمِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الصَّوْمَ كَانَ يَتْبَعُهُ تَرْكُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الصِّيَامِ فِي الْآيَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ جِنْسُ الصِّيَامِ الْمَعْرُوفِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَعْرِفُونَ الصَّوْمَ، فَقَدْ جَاءَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهَا: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُهُ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ مَا هَذَا، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: نَحْنُ أَحَقُّ بمُوسَى مِنْكُم فصَام وَأَمَرَ بِصَوْمِهِ» فَمَعْنَى سُؤَالِهِ هُوَ السُّؤَالُ عَنْ مَقْصِدِ الْيَهُودِ مِنْ صَوْمِهِ لَا تَعْرِفُ أَصْلَ صَوْمِهِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ فَوَجَبَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ

فَالْمَأْمُورُ بِهِ صَوْمٌ مَعْرُوفٌ زِيدَتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا قُيُودُ تَحْدِيدِ أَحْوَالِهِ وَأَوْقَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَة: 187]- وَقَوْلِهِ- شَهْرُ رَمَضانَ [الْبَقَرَة: 185] الْآيَةِ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: 185] وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إِجْمَالًا وَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ. فَحَصَلَ فِي صِيَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُ صِيَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قُيُودِ مَاهِيَّةِ الصِّيَامِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ صِيَامُنَا مُمَاثِلًا لِصِيَامِهِمْ تَمَامَ الْمُمَاثَلَةِ. فَقَوْلُهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَشْبِيهٌ فِي أَصْلِ فَرْضِ مَاهِيَّة الصَّوْم لَا فِي الْكَيْفِيَّاتِ، وَالتَّشْبِيهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ وُجُوهِ الْمُشَابَهَةِ وَهُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ الْمُرَادُ فِي الْقَصْدِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ الْحَوَالَةَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُمَمِ السَّابِقَة، وَلَكِن فيهم أَغْرَاضًا ثَلَاثَةً تَضَمَّنَهَا التَّشْبِيهُ: أَحَدُهَا الِاهْتِمَامُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّنْوِيهُ بِهَا لِأَنَّهَا شَرَعَهَا اللَّهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِمَنْ كَانُوا قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرَعَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّرَادَ صَلَاحِهَا وَوَفْرَةَ ثَوَابِهَا. وَإِنْهَاضَ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّي هَذِه الْعِبَادَة كي لَا يَتَمَيَّزَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمُ» الْحَدِيثَ وَيُحِبُّونَ التَّفْضِيلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَطْعَ تَفَاخُرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ شَرِيعَةٍ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 156، 157] . فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَغْتَبِطُونَ أَمْرَ الصَّوْمِ وَقَدْ كَانَ صَوْمُهُمُ الَّذِي صَامُوهُ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ إِنَّمَا اقْتَدَوْا فِيهِ بِالْيَهُودِ، فَهُمْ فِي تَرَقُّبٍ إِلَى تَخْصِيصِهِمْ مِنَ اللَّهِ بِصَوْمٍ أُنُفٍ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ التَّشْبِيهِ لِأَهْلِ الْهِمَمِ من الْمُسلمين إِذا أَلْحَقَهُمُ اللَّهُ بِصَالِحِ الْأُمَمِ فِي الشَّرَائِعِ الْعَائِدَةِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] . وَالْغَرَضُ الثَّانِي أَنَّ فِي التَّشْبِيهِ بِالسَّابِقِينَ تَهْوِينًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَسْتَثْقِلُوا

هَذَا الصَّوْمَ فَإِنَّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْغَيْرِ أُسْوَةً فِي الْمَصَاعِبِ، فَهَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ قَدْ يَسْتَعْظِمُ الصَّوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَمْنَعُهُ وُجُودُهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ وَلِمَنْ يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى الضِّمْنِيَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. وَالْغَرَضُ الثَّالِثُ إِثَارَةُ الْعَزَائِمِ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى لَا يَكُونُوا مُقَصِّرِينَ فِي قَبُولِ هَذَا الْفَرْضِ بَلْ لِيَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ تَفُوقُ مَا أَدَّى بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَة. وَوَقع وَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» قَوْلُهُ: «كَانَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي كَيْفِيَّةِ صِيَامِنَا أَنَّهُ كَانَ مِثْلَ صِيَامِ مَنْ قَبْلَنَا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَنَتَعَرَّضُ لَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 187] . فَهَذِهِ الْآيَةُ شَرَعَتْ وُجُوبَ صِيَامِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ فِعْلَ كُتِبَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَابْتِدَاءُ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ تَقَدَّمَ عَامًا ثُمَّ فُرِضَ رَمَضَانُ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ وَفِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَامَ أَوَّلَ رَمَضَانَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ وَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ قَدْ فُرِضَ عَامًا فَقَطْ وَهُوَ أَوَّلُ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَة. وَالْمرَاد بالذين مِنْ قَبْلِكُمْ من كَانَ قيل الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَعْنِي الْيَهُودَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْمُخَاطَبُونَ ويعرفون ظَاهر شؤونهم وَكَانُوا عَلَى اخْتِلَاطٍ بِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ لِلْيَهُودِ صَوْمٌ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ صَوْمُ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ سَنَتِهِمْ وَهُوَ الشَّهْرُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (تِسْرِي) يَبْتَدِئُ الصَّوْمُ مِنْ غُرُوبِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ إِلَى غُرُوبِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ وَهُوَ يَوْمُ كَفَّارَةِ الْخَطَايَا وَيُسَمُّونَهُ (كَبُّورَ) ثُمَّ إِنَّ أَحْبَارَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى وَهِيَ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ مِنَ الْأَشْهُرِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَالسَّابِعِ وَالْعَاشِرِ مِنْ سَنَتِهِمْ تِذْكَارًا لِوَقَائِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَوْمَ يَوْمِ (بُورِيمْ) تِذْكَارًا لِنَجَاتِهِمْ مِنْ غَصْبِ مَلِكِ الْأَعَاجِمِ (أَحْشُويُرُوشَ) فِي وَاقِعَةِ (اسْتِيرَ) ، وَعِنْدَهُمْ صَوْمُ التَّطَوُّعِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ، أَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ نَصٌّ عَلَى تَشْرِيعِ صَوْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ صَوْمَ الْيَهُودِ وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» ، ثُمَّ إِنَّ رُهْبَانَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا اقْتِدَاءً بِالْمَسِيحِ إِذْ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ بَعْثَتِهِ،

وَيُشْرَعُ عِنْدَهُمْ نَذْرُ الصَّوْمِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَرْكُ الْأَقْوَاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، أَوْ هُوَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ أَكْلَةٌ خَفِيفَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ الصِّيَامِ وَمَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُول لأَجله لكتب. وَ (لَعَلَّ) إِمَّا مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى كَيِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، وَإِمَّا تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ شَأْنِ اللَّهِ فِي إِرَادَتِهِ مِنْ تَشْرِيعِ الصَّوْمِ التَّقْوَى بِحَالِ الْمُتَرَجِّي مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا مَا، وَالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ اتِّقَاءُ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا كَانَ الصِّيَامُ مُوجِبًا لِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ قِسْمَانِ، قِسْمٌ يَنْجَعُ فِي تَرْكِهِ التَّفَكُّرُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فَتَرْكُهُ يَحْصُلُ بِالْوَعْدِ عَلَى تَرْكِهِ وَالْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْغَيْرِ، وَقِسْمٌ يَنْشَأُ مِنْ دَوَاعٍ طَبِيعِيَّةٍ كَالْأُمُورِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَعَنِ الشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَدْ يَصْعُبُ تَرْكُهَا بِمُجَرَّدِ التَّفَكُّرِ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ وَسِيلَةً لِاتِّقَائِهَا، لِأَنَّهُ يَعْدِلُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي هِيَ دَاعِيَةُ تِلْكَ الْمَعَاصِي، لِيَرْتَقِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ عَنْ حَضِيضِ الِانْغِمَاسِ فِي الْمَادَّةِ إِلَى أَوْجِ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلِارْتِيَاضِ بِالصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ وَالِانْتِفَاضِ مِنْ غُبَارِ الْكُدُرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» أَيْ وِقَايَةٌ وَلَمَّا تَرَكَ ذِكْرَ مُتَعَلِّقِ جُنَّةٍ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْوِقَايَةِ الْمَرْغُوبَةِ، فَفِي الصَّوْمِ وِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَآثِمِ وَوِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَوِقَايَةٌ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَدْوَاءِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ظَرْفٌ لِلصِّيَامِ مِثْلَ قَوْلِكَ الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَضُرُّ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّيامُ وَبَيْنَ أَيَّاماً وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ إِلَى تَتَّقُونَ لِأَنَّ الْفَصْلَ لَمْ يَكُنْ بِأَجْنَبِيٍّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، إِذِ الْحَالُ وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) كُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ عَامِلِ الْمَفْعُولِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صِيَامٌ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَامِلِ فِي ذَلِكَ الْعَامِلُ وَهُوَ كُتِبَ فَإِنَّ عَامِلَ الْعَامِلِ فِي الشَّيْءِ عَامِلٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلِجَوَازِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْمَعْمُولُ ظَرْفًا، لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ وَهَذَا مُخْتَارُ الزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّضِيِّ، وَمَرْجِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى تَجَنُّبِ تَشْتِيتِ الْكَلَامِ بِاخْتِلَالِ نِظَامِهِ الْمَعْرُوفِ، تَجَنُّبًا لِلتَّعْقِيدِ الْمُخِلِّ بِالْفَصَاحَةِ. وَالْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَبِخَاصَّةٍ الْعَرَبُ هُوَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْخُمُورِ وَلَهْوِ النِّسَاءِ وَالدَّعَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَفِّرُ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ وَالدَّمَوِيَّةَ

فِي الْأَجْسَادِ، فَتَقْوَى الطَّبَائِعُ الْحَيَوَانِيَّةُ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْقُوَّةِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ. وَتَطْغَيَانِ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، فَجَاءَتِ الشَّرَائِعُ بِشَرْعِ الصِّيَامِ، لِأَنَّهُ يَفِي بِتَهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى، إِذْ هُوَ يُمْسِكُ الْإِنْسَانَ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُثِيرَاتِ إِفْرَاطِهَا، فَتَكُونُ نَتِيجَتُهُ تَعْدِيلَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الِاكْتِفَاءِ بِهَا إِلَى أَوْقَاتٍ أُخْرَى. وَالصَّوْمُ بِمَعْنَى إِقْلَالِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَبْلُغُ حَدَّ الشِّبَعِ أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْكَلِ: أَصْلٌ قَدِيمٌ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى لَدَى الْمِلِّيِّينَ وَلَدَى الْحُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِيِّينَ، وَالْحِكْمَةُ الْإِشْرَاقِيَّةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِإِزَالَةِ كُدُرَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ عَنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ قُوَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا رُوحَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأُخْرَى حَيَوَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَإِذْ كَانَ الْغِذَاءُ يُخَلِّفُ لِلْجَسَدِ مَا يُضَيِّعُهُ مِنْ قُوَّتِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِضَاعَةً تَنْشَأُ عَنِ الْعَمَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ زِيَادَةُ الْغِذَاءِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ تُوَفِّرُ لِلْجِسْمِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُهُ وَكَانَ نُقْصَانُهُ يُقَتِّرُ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حِفْظُ الْحَيَاةِ بِدُونِهِ، وَكَانَ تَغَلُّبُ مَظْهَرِ إِحْدَى الْقُوَّتَيْنِ بِمِقْدَارِ تَضَاؤُلِ مَظْهَرِ الْقُوَّةِ الْأُخْرَى، فَلِذَلِكَ وَجَدُوا أَنَّ ضَعْفَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ يُقَلِّلُ مَعْمُولَهَا فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى الْجَسَدِ وَيَتَدَرَّجُ بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى يَصِيرَ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَوَانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَّا حَيَاةُ الْجِسْمِ الْحَافِظَةُ لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَعْدِيلُ مِقْدَارِ هَذَا التَّنَاقُصِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا تُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُضَيِّعُ الْمَقْصُودَ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِلْعَوَالِمِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَهَذَا التَّعَادُلُ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ هُوَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ فِي الْمِلَلِ وَوَضْعِيَّتِهِ فِي حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ تَخْتَلِفُ الشَّرَائِعُ اخْتِلَافًا مُنَاسِبًا لِلْأَحْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ هِيَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَفِيتُ الْمَقْصِدُ مِنَ الْحَيَاتَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَ الْكَيْفِيَّاتِ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ مِنَ الصِّيَامِ هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ. قِيلَ فِي «هَيَاكِلِ النُّورِ» (¬1) «النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَكُوتِ إِنَّمَا شَغَلَهَا عَنْ عَالَمِهَا الْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَمُشَاغَلَتُهَا، فَإِذَا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالْفَضَائِلِ الرُّوحَانِيَّةِ وَضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أَحْيَانًا إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَتَتَّصِلُ بِأَبِيهَا الْمُقَدَّسِ وَتَتَلَقَّى مِنْهُ الْمَعَارِفَ» ، فَمِنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الْبَرَاهِمَةِ أَكْلَ لُحُومِ الْحَيَوَانِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى النَّبَاتِ ¬

(¬1) هُوَ للسهروردي.

أَوِ الْأَلْبَانِ، وَكَانَ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ يَرْتَاضُونَ عَلَى إِقْلَالِ الطَّعَامِ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى يَعْتَادُوا تَرْكَهُ أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً، وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ التَّدْرِيجَ فِي إِقْلَالِ الطَّعَامِ تَدْرِيجًا لَا يُخْشَى مِنْهُ انْخِرَامُ صِحَّةِ الْبَدَنِ أَنْ يَزِنَ الْحَكِيمُ شَبَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِأَعْوَادٍ مِنْ شَجَرِ التِّينِ رَطْبَةً ثُمَّ لَا يُجَدِّدُهَا فَيَزِنُ بِهَا كُلَّ يَوْمٍ طَعَامَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى زِنَتِهَا وَهَكَذَا يَسْتَمِرُّ حَتَّى تَبْلُغَ مِنَ الْيُبْسِ إِلَى حَدٍّ لَا يُبْسَ بَعْدَهُ فَتَكُونُ هِيَ زِنَةُ طَعَامِ كُلِّ يَوْمٍ. وَفِي «حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ» لِلسَّهْرُوَرْدِيِّ «وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ يَرْتَاضُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَارِكًا لِلُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ مُقَلِّلًا لِلطَّعَامِ مُنْقَطِعًا إِلَى التَّأَمُّلِ لنُور الله اهـ» . وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنَ الْمُتَعَذِّرِ عَلَى الْهَيْكَلِ الْبَشَرِيِّ بِمَا هُوَ مُسْتَوْدَعُ حَيَاةٍ حَيَوَانِيَّةٍ أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ حَيَوَانِيَّتِهِ، فَمِنَ الْمُتَعَذِّرِ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ الْبَاتُّ عَنْ إِمْدَادِ حَيَوَانِيَّتِهِ بِمَطْلُوبَاتِهَا فَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ لِتَطَلُّبِ ارْتِقَاءِ نَفْسِهِ أَنْ يَتَدَرَّجَ بِهِ فِي الدَّرَجَاتِ الْمُمْكِنَةِ مِنْ تَهْذِيبِ حَيَوَانِيَّتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِيهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، لِذَلِكَ كَانَ الصَّوْمُ أَهَمِّ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْغَرَضِ، لِأَنَّ فِيهِ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ هُمَا الِاقْتِصَادُ فِي إِمْدَادِ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ وَتَعَوُّدُ الصَّبْرِ بِرَدِّهَا عَنْ دَوَاعِيهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْبُلُوغُ إِلَى الْحَدِّ الْأَتَمِّ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا كَمَا عَلِمْتَ، حَاوَلَ أَسَاطِينُ الْحِكْمَةِ النَّفْسَانِيَّةِ الْإِقْلَالَ مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَالَجَ الْإِقْلَالَ بِنَقْصِ الْكَمِّيَّاتِ وَهَذَا صَوْمُ الْحُكَمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَهُ مِنْ جَانِبِ نَقْصِ أَوْقَاتِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَهَذَا صَوْمُ الْأَدْيَانِ وَهُوَ أَبْلَغُ إِلَى الْقَصْدِ وَأَظْهَرُ فِي مَلَكَةِ الصَّبْرِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ دُرْبَةٌ عَلَى تَرْكِ شَهَوَاتِهِ، فَيَتَأَهَّلُ لِلتَّخَلُّقِ بِالْكَمَالِ فَإِنَّ الْحَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَمَالَاتِ وَالْفَضَائِلِ هُوَ ضَعْفُ التَّحَمُّلِ لِلِانْصِرَافِ عَنْ هَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ ... وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا فَيُوشِكُ أَنْ تَلْقَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةً ... إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّوْمِ ارْتِيَاضَ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَإِثَارَةِ الشُّعُورِ بِمَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْخَصَاصَةِ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ، وَاسْتِشْعَارَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجِدَّةِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَأَهْلِ الشَّظَفِ فِي أصُول الملذات بني الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشرَاب وَاللَّهْو، فَلَمَّا ذَا اخْتَلَفَتِ الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ فِي كَيْفيَّة الصّيام وَلماذَا الْتَزَمَتِ الدِّيَانَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي كَيْفِيَّتِهِ صُورَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تَكِلْ ذَلِكَ إِلَى الْمُسْلِمِ يَتَّخِذُ لِإِرَاضَةِ نَفْسِهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ الْمُرَادَةِ؟.

قُلْتُ: شَأْنُ التَّعْلِيمِ الصَّالِحِ أَنْ يَضْبُطَ لِلْمُتَعَلِّمِ قَوَاعِدَ وَأَسَالِيبَ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا فَإِنَّ مُعَلِّمَ الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّة يضْبط للتعلم كَيْفِيَّاتٍ مِنَ الْحَرَكَاتِ بِأَعْضَائِهِ وَتَطَوُّرَ قَامَتِهِ انْتِصَابًا وَرُكُوعًا وَقُرْفُصَاءَ، بَعْضُ ذَلِكَ يُثْمِرُ قُوَّةَ عَضَلَاتِهِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ اعْتِدَالَ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ وَظَائِفَ شَرَايِينِهِ، وَهِيَ كَيْفِيَّاتٌ حَدَّدَهَا أَهْلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدْنَوْا بِهَا حُصُولَ الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَوْ وَكَّلَ ذَلِكَ لِلطَّالِبِينَ لَذَهَبَتْ أَوْقَاتٌ طَوِيلَةٌ فِي التَّجَارِبِ وَتَعَدَّدَتِ الْكَيْفِيَّاتُ بِتَعَدُّدِ أَفْهَامِ الطَّالِبِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ وَهَذَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . وَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ من فَقَوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ شَهْرُ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ رَمَضَانَ بِأَيَّامٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ وَوَصَفَ بِمَعْدُودَاتٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ أَيْضًا تَهْوِينًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمَعْدُودَاتُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ عَدًّا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الْكَثِيرُ لَا يُعَدُّ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ فِي وَصْفِ الْجَمْعِ مَجِيئُهُ فِي التَّأْنِيثِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ وَإِنْ كَانَ مَجِيئُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ الَّذِي فِيهِ هَاءُ تَأْنِيثٍ أَكْثَرَ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي بَعْدَهُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: 185] صِفَةُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] وَتَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ نَحْوَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَعْدُودَاتٌ جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَصِيحٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ تُرِكَ فِيهِ تَحْقِيقًا وَذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْوَصْفِ الْجَارِي عَلَى جَمْعٍ مُذَكَّرٍ إِذَا أَنَّثُوهُ أَنْ يَكُونَ مُؤَنَّثًا مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُوِّلَ بِالْجَمَاعَةِ وَالْجَمَاعَةُ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ الْجَمْعِ أَجْرَوْا وَصْفَهُ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ وَأَنَّ الْجَمْعَ يَنْحَلُّ إِلَى جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ فَأَنَا أَرَى أَنَّ مَعْدُودَاتٍ أَكْثَرُ مِنْ مَعْدُودَةٍ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] لِأَنَّهُمْ يُقَلِّلُونَهَا غُرُورًا أَوْ تَغْرِيرًا، وَقَالَ هُنَا مَعْدُوداتٍ لِأَنَّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: 197] وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ فِي جمع جمل جِمالَتٌ [المرسلات: 33] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ جِمَالٍ، وَعَنِ الْمَازِنِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ لِمَا لَا يَعْقِلُ يَجِيءُ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ تَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يَجِيءُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَقول: الأجذاع انكسرن اهـ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ غَيْرُ رَمَضَانَ بَلْ هِيَ أَيَّامٌ وَجَبَ صَوْمُهَا على الْمُسلمين عِنْد مَا فُرِضَ

الصِّيَامُ بِقَوْلِهِ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ثُمَّ نُسِخَ صَوْمُهَا بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَهِيَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَهِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعَاذٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ رَمَضَانَ إِلَّا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَمَا فِي «الصَّحِيحِ» وَهُوَ مَفْرُوضٌ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْأَيَّامِ الْبِيضِ كَانَ فَرْضًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ رِوَايَةً، فَلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَا لَفْظًا وَلَا أَثَرًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ السَّائِلِ الَّذِي قَالَ: «لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» . فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. تَعْقِيبٌ لِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ بِحُكْمِ الرُّخْصَةِ، فَالْفَاءُ لِتَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ لَا لِلتَّفْرِيعِ، وَتَقْدِيمُهُ هُنَا قَبْلَ ذِكْرِ بَقِيَّةِ تَقْدِيرِ الصَّوْمِ تَعْجِيلٌ بِتَطْمِينِ نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِئَلَّا يَظُنُّوا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ. وَالْمَرِيضُ مَنْ قَامَ بِهِ الْمَرَضُ وَهُوَ انْحِرَافُ الْمِزَاجِ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ بِحَيْثُ تَثُورُ فِي الْجَسَدِ حُمًّى أَوْ وَجَعٌ أَوْ فَشَلٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْمَرَضِ الْمُوجِبِ لِلْفِطْرِ، فَأَمَّا الْمَرَضُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْمَرِيضُ مَعَهُ الصَّوْمَ بِحَالٍ بِحَيْثُ يَخْشَى الْهَلَاكَ أَوْ مُقَارَبَتَهُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ بَلْ يُوجِبُ الْفِطْرَ، وَأَمَّا الْمَرَضُ الَّذِي دُوَنَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَذَهَبَ مُحَقِّقُو الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ الْمَرَضُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ مَعَ الصِّيَامِ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَشَقَّةِ الصَّوْمِ لِلصَّحِيحِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُعْتَادَيْنِ، بِحَيْثُ يُسَبِّبُ لَهُ أَوْجَاعًا أَوْ ضَعْفًا مُنْهِكًا أَوْ تُعَاوِدُهُ بِهِ أَمْرَاضٌ سَاكِنَةٌ أَوْ يَزِيدُ فِي انْحِرَافِهِ إِلَى حَدِّ الْمَرَضِ أَوْ يُخَافُ تَمَادِي الْمَرَضِ بِسَبَبِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ، وَأَعْدَلُ الْعِبَارَاتِ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْمَرَضَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَبَاحَ للْمَرِيض الْفِطْرَ إِلَّا لِأَنَّ لِذَلِكَ الْمَرَضِ تَأْثِيرًا فِي الصَّائِمِ، وَيَكْشِفُ ضَابِطَ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعَ عَشَرَ إِذْ قَالَ: «إِنَّ الْمَشَاقَّ قِسْمَانِ: قِسْمٌ ضَعِيفٌ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ تِلْكَ الْعِبَادَةُ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ وَكَالصَّوْمِ، وَكَالْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ فِي الْجِهَادِ، وَقِسْمٌ هُوَ مَا تَنْفَكُّ عَنْهُ الْعِبَادَةُ وَهَذَا أَنْوَاعٌ: نَوْعٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ

كَوَجَعِ إِصْبَعٍ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَزِيدُ وَجَعَ الْإِصْبَعِ وَهَذَا لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَنَوْعٌ لَهُ تَأْثِيرٌ شَدِيدٌ مَعَ الْعِبَادَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَنَوْعٌ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فَيُوجِبُ مَا يُوجِبُهُ» (¬1) . وَذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَالْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ وَهُوَ الْوَجَعُ وَالِاعْتِلَالُ يُسَوِّغُ الْفِطْرَ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مُؤَثِّرًا فِيهِ شِدَّةً أَوْ زِيَادَةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ سَبَبَ الْفِطْرِ كَمَا جَعَلَ السَّفَرَ سَبَبَ الْفِطْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى الْفِطْرِ ضَرُورَةٌ كَمَا فِي السَّفَرِ، يُرِيدُونَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الزَّائِدَةِ غَالِبًا، قِيلَ دَخَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّهُ وَجَعَتْنِي إِصْبَعِي هَذِهِ فَأَفْطَرْتُ، وَعَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: اعْتَلَلْتُ بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً فِي رَمَضَانَ فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بن رَاهَوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِي: أَفْطَرْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ: نَعَمْ أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَفْطَرَ، وَإِنَّمَا هَذِهِ حَالَةٌ خَاصَّةٌ تَصْلُحُ مِثَالًا وَلَا تَكُونُ شَرْطًا، وَعُزِيَ إِلَى الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ إِذْ أَيْنَ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْإِفْطَارِ فِي الصِّيَامِ، وَفِي هَذَا الْخِلَافِ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ فِي تَحْدِيدِ مَدَى الِانْحِرَافِ وَالْمَرَضِ الْمُسَوِّغَيْنِ إِفْطَارَ الصَّائِمِ، فَعَلَى الْفَقِيهِ الْإِحَاطَةُ بِكُل ذَلِك ونقربه مِنَ الْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُسَافِرِ وَلِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ أَيْ أَوْ كَانَ بِحَالَةِ السَّفَرِ وَأَصْلُ (عَلَى) الدَّلَالَةُ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا فِي التَّمَكُّنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ثُمَّ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا فُلَانٌ عَلَى سَفَرٍ أَيْ مُسَافِرٌ لِيَكُونَ نصا فِي التَّلَبُّس، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا يَقُولُونَ عَلَى سَفَرٍ لِلْعَازِمِ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ ... مَاذَا عَلَى الْبَدْرِ الْمُحَجَّبِ لَوْ سَفَرْ ... إِنَّ الْمُعَذَّبَ فِي هَوَاهُ عَلَى سَفَرْ أَرَادَ أَنَّهُ عَلَى وَشْكِ الْمَمَاتِ فَخَطَأٌ مِنْ أَخْطَاءِ الْمُوَلَّدِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ، عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُفْطِرُ حَتَّى يَأْخُذَ فِي السَّيْرِ فِي السَّفَرِ دُونَ مُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَرَادَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فَرُحِّلَتْ دَابَّتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ وَقَدْ تَقَارَبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ رَكِبَ وَقَالَ: هَذِهِ السُّنَّةُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِذَا أَصْبَحَ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ ¬

(¬1) «الفروق» للقرافي (1/ 118) ، عَالم الْكتاب.

بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَبَالَغَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ، وَمِنَ الْعَجَبِ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ إِيَّاهُ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَلَقَدْ أَجَادَ أَبُو عُمَرَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ: يُفْطِرُ إِذَا سَافَرَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَرَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ» ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ فَسَقَطَ مَا يُخَالِفُهُ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَمْ يَقُلْ: فَصِيَامُ أَيَّامٍ أُخَرَ، تَنْصِيصًا عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ أَيَّامٍ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِذِ الْعَدَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مِقْدَارٍ مُمَاثِلٍ. فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ إِنِ اعْتُبِرَ أَيَّامٍ أَعَمَّ مِنْ أَيَّامِ الْعِدَّةِ أَيْ مِنْ أَيَّامِ الدَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ، أَوْ تَكُونُ مِنْ تَمْيِيزَ عِدَّةٌ أَيْ عِدَّةٌ هِيَ أَيَّامٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمرَان: 125] . وَوَصَفَ الْأَيَّامَ بِأُخَرَ وَهُوَ جَمْعُ الْأُخْرَى اعْتِبَارًا بِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ إِذْ كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَاخْتِيرَ فِي الْوَصْفِ صِيغَةُ الْجَمْعِ دُونَ أَنْ يُقَالَ أُخْرَى لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ وَصْفٌ لِعِدَّةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يُوقِعُ فِي لَبْسٍ لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَيَّامِ هِيَ أَيَّامٌ فَلَا يعتني بِدفع مثل هَذَا الظَّنِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ أُخْرَى لِمُرَاعَاةِ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْمَوْصُوفِ مَعَ طَلَبِ خِفَّةِ اللَّفْظِ. وَلَفْظُ (أُخَرَ) مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَعَلَّلَ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ عَلَى أُصُولِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ الْوَصْفِيَّةَ وَالْعَدْلَ، أما الوصفية ظَاهِرَة وَأما الْعَدْلُ فَقَالُوا: لَمَّا كَانَ جَمْعُ آخَرَ وَمُفْرَدُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ وَكَانَ غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْزَمَ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ أَصْلِهِ وَهُوَ اسْمُ التَّفْضِيلِ إِذَا جُرِّدَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَمِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَمَّا نَطَقَ بِهِ الْعَرَبُ مُطَابِقًا لِمَوْصُوفِهِ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهِ عَنْ أَصْلِهِ (وَالْعُدُولُ عَنِ الْأَصْلِ يُوجِبُ الثِّقَلَ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادِ الِاسْتِعْمَالِ) فَخَفَّفُوهُ لِمَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِمَا، وَفِيهِ مَا فِيهِ.

وَلَمْ تُبَيِّنِ الْآيَةُ صِفَةَ قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَأَطْلَقَتْ (عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخُرَ) ، فَلَمْ تُبَيِّنْ أَتَكُونُ مُتَتَابِعَةً أَمْ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا؟ وَلَا وُجُوبَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا أَوْ جَوَازَ تَأْخِيرِهَا، وَلَا وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفِطْرِ مُتَعَمِّدًا فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، وَيَتَجَاذَبُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلُ التَّمَسُّكِ بِالْإِطْلَاقِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُقَيِّدُهُ كَمَا يُتَمَسَّكُ بِالْعَامِّ إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْمُخَصِّصُ، وَدَلِيلٌ أَنَّ الْأَصْلَ فِي قَضَاءِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةِ الْعِبَادَةِ الْمَقْضِيَّةِ. فَأَمَّا حُكْمُ تَتَابُعِ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ، تُرِيدُ نُسِخَتْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالتَّتَابُعِ كَمَا قَالَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَفِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ. فَلِذَلِكَ أَلْغَى الْجُمْهُورُ إِعْمَالَ قَاعِدَةِ جَرَيَانِ قَضَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى صِفَةِ الْمَقْضِيِّ وَلَمْ يُقَيِّدُوا مُطْلَقَ آيَةِ قَضَاءِ الصَّوْمِ بِمَا قُيِّدَتْ بِهِ آيَةُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَقُولُ: يَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبَ وَأَنْ يُرِيدَ الِاسْتِحْبَابَ. وَأَمَّا الْمُبَادَرَةُ بِالْقَضَاءِ، فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ، وَأَصْلُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ لَا يَجِبُ فِيهِ الْفَوْرُ بَلْ هُوَ مُوَسَّعٌ إِلَى شَهْرِ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الْمُوَالِيَةِ لِلشَّهْرِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ، وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ. وَهَذَا وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْفَوْرِ، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَشَذَّ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ: يُشْرَعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ ثَانِي يَوْم من شَوَّالٍ الْمُعَاقِبِ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ حِفْظًا لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَيْسَ لِأَيَّامِ الْقَضَاءِ حُرْمَةٌ وَقَالَ قَتَادَةُ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْعِبَادَةِ يُسَاوِي أَصْلَهُ.

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (¬1) . عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وَالْمَعْطُوفُ بَعْضُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَبَدَلِ الْبَعْضِ أَيْ وَكُتِبَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ فَإِنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. وَالْمُطِيقُ هُوَ الَّذِي أَطَاقَ الْفِعْلَ أَيْ كَانَ فِي طَوْقِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالطَّاقَةُ أَقْرَبُ دَرَجَاتِ الْقُدْرَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْعَجْزِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ: هَذَا مَا لَا يُطَاقُ، وَفَسَّرَهَا الْفَرَّاءُ بِالْجَهْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرَأَ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ) . وَهِيَ تَفْسِيرٌ فِيمَا أَحْسَبُ، وَقَدْ صَدَرَ مِنْهُ نَظَائِرُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقِيلَ الطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ مُطْلَقًا. فَعَلَى تَفْسِيرِ الْإِطَاقَةِ بِالْجَهْدِ فَالْآيَةُ مُرَادٌ مِنْهَا الرُّخْصَةُ عَلَى مَنْ تَشْتَدُّ بِهِ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ فِي الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ. وَقَدْ سَمَّوْا مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّيْخَ الْهَرِمَ وَالْمَرْأَةَ الْمُرْضِعَ وَالْحَامِلَ فَهَؤُلَاءِ يُفْطِرُونَ وَيُطْعِمُونَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُونَهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، ثُمَّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمُ الْقَضَاءَ قَضَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْهُ لَمْ يَقْضِ مِثْلَ الْهَرِمِ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةُ فِي الْفِطْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْفِدْيَةَ إِلَّا عَلَى الْهَرِمِ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي بِخِلَافِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، وَمَرْجِعُ الِاخْتِلَافِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ هَلْ هِيَ لِأَجْلِ الْفِطْرِ أَمْ لِأَجْلِ سُقُوطِ الْقَضَاءِ؟ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُمَا إِلَّا أَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ، فَقَدَ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ هَرِمَ وَبَلَغَ عَشْرًا بَعْدَ الْمِائَةِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا. وَعَلَى تَفْسِيرِ الطَّاقَةِ بِالْقُدْرَةِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ لَهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ بِالْإِطْعَامِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ بِالْإِجْمَاعِ قَالُوا فِي حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ: إِنَّهَا حِينَئِذٍ تَضَمَّنَتْ حُكْمًا كَانَ فِيهِ تَوْسِعَةٌ وَرُخْصَةٌ ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ، وَذَكَرَ أَهْلُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ ذَلِكَ فُرِضَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَة: 185] وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (مَسَاكِين) بِصِيغَة الْجمع، وَهِي قِرَاءَة المُصَنّف.

نَسَخَتْهَا آيَةُ شَهْرُ رَمَضانَ [الْبَقَرَة: 185] ثُمَّ أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مَنْ يُطِيقُهُ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ التَّابِعِينَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ فِي تَدَرُّجِ تَشْرِيعِ التَّكَالِيفِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ تَغْيِيرِ مُعْتَادِهِمْ كَمَا تَدَرَّجَ فِي تَشْرِيعِ مَنْعِ الْخَمْرِ. وَنُلْحِقُ بِالْهَرِمِ وَالْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ كُلَّ مَنْ تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ أَوْ تَوَقُّعٌ ضُرٍّ مِثْلَهُمْ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَاخْتِلَافِ أَزْمَانِ الصَّوْمِ مِنِ اعْتِدَالٍ أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ، وَبِاخْتِلَافِ أَعْمَالِ الصَّائِمِ الَّتِي يَعْمَلُهَا لِاكْتِسَابِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ كَالصَّائِغِ وَالْحَدَّادِ وَالْحَمَّامِيِّ وَخِدْمَةِ الْأَرْضِ وَسَيْرِ الْبَرِيدِ وَحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَتَعْبِيدِ الطُّرُقَاتِ وَالظِّئْرِ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْفِدْيَةُ بِالْإِطْعَامِ إِمَّا بِإِضَافَةِ الْمُبَيَّنِ إِلَى بَيَانِهِ كَمَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: (فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ) ، بِإِضَافَةِ فِدْيَةٍ إِلَى طَعَامٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ (فِدْيَةٌ) وَإِبْدَالِ (طَعَامُ) مِنْ (فِدْيَةٌ) . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرَ (مَسَاكِينَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ جَمْعِ مِسْكِينٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، فَقِرَاءَةُ الْجَمْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ جَمْعِ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ مِثْلَ رَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ، وَقِرَاءَةُ الْإِفْرَادِ اعْتِبَارٌ بِالْوَاجِبِ عَلَى آحَادِ الْمُفْطِرِينَ. وَالْإِطْعَامُ هُوَ مَا يُشْبِعُ عَادَةً مِنَ الطَّعَامِ الْمُتَغَذَّى بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَقَدَّرَهُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ إِلَخْ، وَالتَّطَوُّعُ: السَّعْيُ فِي أَنْ يَكُونَ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ أَيْ طَاعَ طَوْعًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَالْخَيْرُ مَصْدَرُ خَارَ إِذَا حَسُنَ وَشَرُفَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِتَضْمِينِ تَطَوَّعَ مَعْنَى أَتَى، أَوْ يَكُونُ خَيْراً صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ تَطَوُّعًا خَيْرًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَيْرَ هُنَا مُتَطَوَّعٌ بِهِ فَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي الْكَلَامُ بِصَدَدِهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ إِطْعَامٌ غَيْرُ وَاجِبٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَمَنْ زَادَ عَلَى إِطْعَامِ

[سورة البقرة (2) : آية 185]

مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فَهُوَ خَيْرٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ: من أَرَادَ إطْعَام مَعَ الصِّيَامِ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَنْ زَادَ فِي الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُدِّ وَهُوَ بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ الْمُدُّ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خُبْزًا وَلَحْمًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ حِينَ شَاخَ. وخَيْرٌ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْأَوَّلِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ خَيْرًا آخَرَ أَيْ خَيْرَ الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ الثَّانِي تَفْضِيلًا أَيْ فَالتَّطَوُّعُ بِالزِّيَادَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا وَحَذَفَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الظَّاهِرُ رُجُوعُهُ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ نَازِلًا فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْقَادِرِ فَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا تَرْغِيبٌ فِي الصَّوْمِ وَتَأْنِيسٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي إِبَاحَتِهِ لِصَاحِبِ الْمَشَقَّةِ كَالْهَرِمِ فَكَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً وَمَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ تَفْضِيلًا لِلصَّوْمِ عَلَى الْفِطْرِ إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي السَّفَرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَأَمَّا فِي الْمَرَضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْمَرَضِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَذْيِيلٌ أَيْ تَعْلَمُونَ فَوَائِدَ الصَّوْمِ عَلَى رُجُوعِهِ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْقَادِرِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَوَائِدَ الصَّوْمِ دُنْيَا وَثَوَابَهُ أُخْرَى، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ثَوَابَهُ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْأُخَرِ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) لِأَنَّ عِلْمَهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَكُونَ مُحَقَّقًا لِخَفَاءِ الْفَائِدَتَيْنِ. [185] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَكْمِلَةٌ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَأَنْ لَا نَسْخَ فِي خِلَالِ هَاتِهِ الْآيَاتِ، فَقَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضانَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هِيَ أَيِ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَالْجُمْلَةُ

مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 184] يُثِيرُ سُؤَالَ السَّامِعِ عَنْ تَعْيِينِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ شَهْرًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَيَّاماً: بَدَلَ تَفْصِيلٍ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِذَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَفْصِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِأَحْوَالِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَهُمْ يَحْذِفُونَ ضَمِيرَهُ، وَإِذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ نَسْخًا لِصَدْرِ الْآيَةِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَان مُبْتَدأ خبرهم قَوْلُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِالْفَاءِ حِينَئِذٍ مُرَاعَاةٌ لِوَصْفِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، أَوْ عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ (¬1) أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ. وَالشَّهْرُ جُزْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ تَقْسِيمِ السَّنَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [التَّوْبَة: 36] وَالشَّهْرُ يَبْتَدِئُ مِنْ ظُهُورِ الْهِلَالِ إِلَى الْمُحَاقِ ثُمَّ ظُهُورِ الْهِلَالِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ الْهِلَالَ يَظْهَرُ لَهُمْ فَيُشْهِرُونَهُ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَثْبُتُ الشَّهْرُ عِنْدَهُمْ. وَرَمَضَانُ عَلَمٌ وَلَيْسَ مَنْقُولًا إِذْ لَمْ يُسْمَعْ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَعْلَانِ مِنْ رَمِضَ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِذَا احْتَرَقَ لِأَنَّ الْفَعْلَانَ، يَدُلُّ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا، وَقِيلَ هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَرَمَضَانُ عَلَمٌ عَلَى الشَّهْرِ التَّاسِعِ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَمَرِيَّةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْمُحَرَّمِ فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَفْتَتِحُونَ أَشْهُرَ الْعَامِ بِالْمُحَرَّمِ لِأَنَّ نِهَايَةَ الْعَامِ عِنْدَهُمْ هِيَ انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَمُدَّةُ الرُّجُوعِ إِلَى آفَاقِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَبَيْدًا جَعَلَ جُمَادَى الثَّانِيَةَ وَهُوَ نِهَايَةُ فَصْلِ الشِّتَاءِ شَهْرًا سَادِسًا إِذْ قَالَ: حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً ... جُزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا وَرَمَضَانُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَهِيَ الْحَرَارَةُ لِأَنَّ رَمَضَانَ أَوَّلُ أَشْهُرِ الْحَرَارَةِ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنَ النَّسِيءِ فِي السَّنَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذْ كَانَتِ ¬

(¬1) تَمَامه: وأكرومة الحيّين خلو كَمَا هيا

السَّنَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى سِتَّةِ فُصُولٍ كُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا شَهْرَانِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْخَرِيفُ وَشَهْرَاهُ مُحَرَّمٌ وَصَفَرٌ، الثَّانِي رَبِيعٌ الْأَوَّلُ وَهُوَ وَقْتُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَظُهُورِ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَشَهَرَاهُ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَشَهْرُ رَبِيعٍ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَصْفٌ لِشَهْرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ «الرُّطَبُ شَهْرَيْ رَبِيعٍ» ، الثَّالِثُ الشِّتَاءُ وَشَهْرَاهُ جُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الثَّانِيَةُ قَالَ حَاتِمٌ: فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لَا يُبْصِرُ الْكَلْبُ من ظلمائها الظّنبا لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ ... حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خَيْشُومِهِ الذَّنَبَا الرَّابِعُ الرَّبِيعُ الثَّانِي- وَالثَّانِي وَصْفٌ لِلرَّبِيعِ- وَهَذَا هُوَ وَقْتُ ظُهُورِ النَّوْرِ وَالْكَمْأَةِ وَشَهْرَاهُ رَجَبٌ وَشَعْبَانُ، وَهُوَ فَصْلُ الدَّرِّ وَالْمَطَرِ قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ غَزَوَاتِ النُّعْمَانِ ابْن الْحَارِثِ: وَكَانَتْ لَهُمْ رِبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَهَا ... إِذَا خَضْخَضَتْ مَاءَ السَّمَاءِ الْقَبَائِلُ وَسَمَّوْهُ الثَّانِيَ لِأَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الرَّبِيعِ الْأَوَّلِ فِي حِسَابِ السَّنَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ الثَّانِ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ فِي رِوَايَة وراوي «رَبِيعُ النَّاسِ» ، وَسَمَّوْا كُلًّا مِنْهُمَا رَبِيعًا لِأَنَّهُ وَقْتُ خَصْبٍ، الْفَصْلُ الْخَامِسُ، الصَّيْفُ وَهُوَ مَبْدَأُ الْحَرِّ وَشَهْرَاهُ رَمَضَانُ وَشَوَّالٌ، لِأَنَّ النُّوقَ تَشُولُ أَذْنَابَهَا فِيهِ تَطْرِدُ الذُّبَابَ. السَّادِسُ الْقَيْظُ وَشَهْرَاهُ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ تُقَسِّمُ السَّنَةَ إِلَى أَرْبَعَةٍ، كُلُّ فَصْلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ الرَّبِيعُ وَشُهُورُهُ رَجَبٌ وَشَعْبَانُ وَرَمَضَانُ، وَالصَّيْفُ وَشُهُورُهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْخَرِيفُ وَشُهُورُهُ مُحَرَّمٌ وَصَفَرٌ وَالرَّبِيعُ الْأَوَّلُ، وَالشِّتَاءُ وَشُهُورُهُ شَهْرُ رَبِيعٍ الثَّانِي- عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَصْفَانِ لِشَهْرٍ لَا لِرَبِيعٍ- وَجُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الثَّانِيَةُ. وَلَمَّا كَانَتْ أَشْهُرُ الْعَرَبِ قَمَرِيَّةً وَكَانَتِ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ أَقَلَّ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ الَّتِي تَجِيءُ بِهَا الْفُصُولُ تَنْقُصُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَسْرًا، وَرَامُوا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَوَقْتِ السَّلَامَةِ مِنَ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ جَعَلُوا لِلْأَشْهُرِ كَبْسًا بِزِيَادَةِ شَهْرٍ فِي السَّنَةِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّسِيءِ.

وَأَسْمَاءُ الشُّهُورِ كُلُّهَا أَعْلَامٌ لَهَا عَدَا شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَشَهْرِ رَبِيعٍ الثَّانِي فَلِذَلِكَ وَجَبَ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهْرِ مَعَهُمَا ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّ مَعْنَاهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ مِنْ فَصْلِ الرَّبِيعِ أَعْنِي الْأَوَّلَ، فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي صِفَتَانِ لِشَهْرٍ، أَمَّا الْأَشْهُرُ الْأُخْرَى فَيَجُوزُ فِيهَا ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهْرِ بِالْإِضَافَةِ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ النَّوْعِ إِلَى وَاحِدِهِ مِثْلَ شَجَرِ الْأَرَاكِ وَمَدِينَةِ بَغْدَادَ، وَبِهَذَا يُشْعِرُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ وَالْمُحَقِّقِينَ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ رَمَضَانُ إِلَّا بِإِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ مَصْدَرٌ، حَتَّى تَكَلَّفَ لِمَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ صَارَ بِإِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ عَلَمًا فَمَنَعَ جُزْءَ الْعَلَمِ مِنَ الصَّرْفِ كَمَا مَنَعَ هُرَيْرَةَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ تَكَلَّفَ شَطَطًا وَخَالَفَ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» بِنَصْبِ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا انْجَرَّ إِلَيْهِمْ هَذَا الْوَهْمُ مِنِ اصْطِلَاحِ كِتَابِ الدِّيوَانِ كَمَا فِي «أَدَبِ الْكَاتِبِ» . وَإِنَّمَا أضيف لفظ الشَّهْرُ إِلَى رَمَضَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ الْإِيجَازَ الْمَطْلُوب لَهُم يتقضي عَدَمَ ذِكْرِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ الْأَشْهَرُ فِي فَصِيحِ كَلَامِهِمْ وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ جَمِيعِ أَيَّامِهِ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ رَمَضَانُ لَكَانَ ظَاهِرًا لَا نَصًّا، لَا سِيَّمَا مَعَ تَقَدُّمِ قَوْله أَيَّاماً [الْبَقَرَة: 184] فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ أَنَّهَا أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْجُزْءَ الْمَعْرُوفَ بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَمَرِيَّةِ هُوَ الَّذِي جُعِلَ ظَرْفًا لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الصِّيَامِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الدِّينِ فَكُلَّمَا حَلَّ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مِنَ السَّنَةِ الْمُسَمَّى بِشَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدَاءُ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَلما كانم ذَلِكَ حُلُولَهُ مُكَرَّرًا فِي كُلِّ عَامٍ كَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ مُكَرَّرًا فِي كُلِّ سَنَةٍ إِذْ لَمْ يُنَطِ الصِّيَامُ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ مَخْصُوصٍ وَلِأَنَّ مَا أُجْرِي عَلَى الشَّهْرِ مِنَ الصِّفَاتِ يُحَقِّقُ أَنَّ المُرَاد مِنْهُ جَمِيع الْأَزْمِنَةُ الْمُسَمَّاةُ بِهِ طُولَ الدَّهْرِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ وَقَعَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ عَالِمًا بِاخْتِصَاصِهَا بِمَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمَوْصُولُ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدَثِ الدِّينِيِّ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، فَيَكُونَ الْكَلَامُ تَذْكِيرًا بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا بِهَذَا الْفَضْلِ وَأُجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مُخْتَصٌّ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ بِحَيْثُ تُجْعَلُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِاتِّصَافِ ذِي الصِّلَةِ بِمَضْمُونِهَا فِي التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ بَلْ ذَلِكَ غَرَضٌ أَغْلَبِيٌّ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ تَتَبُّعُ كَلَامِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ

عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْكَلَامِ لَا يَسْمَحُ بِاعْتِبَارِهِ خَبَرًا لِأَنَّ لَفْظَ شَهْرُ رَمَضانَ خَبَرٌ وَلَيْسَ هُوَ مُبْتَدَأً، وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءُ إِنْزَالِهِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ فِيهِ ابْتِدَاءَ النُّزُولِ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْفِيلِ فَعَبَّرَ عَنْ إِنْزَالِ أَوَّلِهِ بِاسْمِ جَمِيعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُنَزَّلَ مُقَدَّرٌ إِلْحَاقُ تَكْمِلَتِهِ بِهِ كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] وَذَلِكَ قَبْلَ إِكْمَالِ نُزُولِهِ فَيَشْمَلُ كُلَّ مَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ بَعْدُ، وَقد تقدم عِنْد قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ أنزل فِي مثله لِأَن الشَّهْر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قَدِ انْقَضَى قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الصَّوْمِ بِعِدَّةِ سِنِينَ، فَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَان فرض من السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ فَبَيْنَ فَرْضِ الصِّيَامِ وَالشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ حَقِيقَةً عِدَّةُ سِنِينَ فَيَتَعَيَّنُ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ الْمُرَادَ أُنْزِلَ فِي مِثْلِهِ أَيْ فِي نَظِيرِهِ مِنْ عَامٍ آخَرَ. فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَوَاقِيتِ الْمَحْدُودَةِ اعْتِبَارًا يُشْبِهُ اعْتِبَارَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْمُتَجَدِّدِ، وَإِنَّمَا هَذَا اعْتِبَارٌ لِلتَّذْكِيرِ بِالْأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ الْمِقْدَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] ، فَخَلَعَ اللَّهُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ الَّتِي قَارَنَهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ فِي الْفَضْلِ أَنْ جَعَلَ لِتِلْكَ الْمَوَاقِيتِ فَضْلًا مُسْتَمِرًّا تَنْوِيهًا بِكَوْنِهَا تَذْكِرَةً لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لِأَجْلِهِ سُنَّةَ الْهَدْيِ فِي الْحَجِّ، لِأَنَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأَظْهَرَ عَزْمَ إِبْرَاهِيمَ وَطَاعَتَهُ رَبَّهُ وَمِنْهُ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ تَعْظِيمَ الْيَوْمِ الْمُوَافِقِ لِيَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجِيءُ مِنْ هَذَا إِكْرَامُ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ وَتَعْظِيمِ وُلَاةِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَائِمِينَ مَقَامَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأُمَّةِ صَوْمُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُتَتَابِعَةً مَضْبُوطَةَ الْمَبْدَأِ وَالنِّهَايَةِ مُتَّحِدَةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ وُقِّتَ بِشَهْر معيّن وَجعل قَمَرِيًّا لِسُهُولَةِ ضَبْطِ بَدْئِهِ وَنِهَايَتِهِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَالتَّقْدِيرِ، وَاخْتِيرَ شَهْرُ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ الْأَشْهُرِ لِأَنَّهُ قَدْ شُرِّفَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ لَمَّا كَانَ لِقَصْدِ تَنْزِيهِ الْأُمَّةِ وَهُدَاهَا نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ تَطْهِيرُ النُّفُوسِ وَالتَّقَرُّبِ مِنَ الْحَالَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَاقِعًا فِيهِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ تَحَنُّثِهِ فِي غَارِ حِرَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلْقِينَا لِبَقِيَّةٍ

مِنَ الْمِلَّةِ الحنيفية فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِالصَّوْمِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرَ رَمَضَانَ» 0، وَقَالَ ابْن سعد: جَاءَهُ الْوَحْيُ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لسبع عشرَة حلت مِنْ رَمَضَانَ. وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حَالَانِ مِنَ (الْقُرْآنِ) إِشَارَةً بِهِمَا إِلَى وَجْهِ تَفْضِيلِ الشَّهْرِ بِسَبَبِ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْأَوَّلِ: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ، وَبِالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْهُدَى الْخَفِيِّ الَّذِي يُنْكِرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَجِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْفُرْقَانُ مَصْدَرُ فَرَقَ وَقَدْ شَاعَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ إِعْلَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْأَوَّلِ: ضَرْبٌ مِنَ الْهُدَى غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْهُدَى الثَّانِي، فَلَا تِكْرَارَ. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى التَّبْيِينِ بَعْدَ الْفَصْلِ بِمَا عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ مِنِ اسْتِينَاسٍ وَتَنْوِيهٍ بِفَضْلِ الصِّيَامِ وَمَا يُرْجَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى نُفُوسِ الصَّائِمِينَ بِالتَّقْوَى وَمَا حَفَّ اللَّهُ بِهِ فَرْضَهُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَيْسِيرٍ عِنْدَ حُصُولِ مَشَقَّةٍ مِنَ الصِّيَامِ. وَضَمِيرُ مِنْكُمُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 183] مِثْلَ الضَّمَائِرِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وشَهِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَضَرَ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا شَهِدَ بَدْرًا وَشَهِدَ أُحُدًا وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ أَوْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ حَضَرَهَا فَنَصَبَ الشَّهْرَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ فِيهِ لِفِعْلِ شَهِدَ أَيْ حَضَرَ فِي الشَّهْرِ أَيْ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ. إِلَخْ.

أَيْ فَمَنْ حَضَرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ كُلَّهُ وَيُفْهَمْ أَنَّ مَنْ حَضَرَ بَعْضَهُ يَصُومُ أَيَّامَ حُضُورِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: 18] فَيَكُونُ انْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ عَلِمَ بِحُلُولِ الشَّهْرِ، وَلَيْسَ شَهِدَ بِمَعْنَى رَأَى لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: شَهِدَ بِمَعْنَى رَأَى، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَاهَدَ، وَلَا الشَّهْرُ هُنَا بِمَعْنَى هِلَالِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْهِلَالِ كَمَا حَكَوْهُ عَنِ الزَّجَّاجِ وَأَنْشَدَ فِي «الْأَسَاسِ» قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ: فَأَصْبَحَ أَجْلَى الطَّرْفِ مَا يَسْتَزِيدُهُ ... يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهُوَ نَحِيلُ أَيْ يَرَى هِلَالَ الشَّهْرِ لِأَنَّ الْهِلَالَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ فِعْلُ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ وَمَنْ يَفْهَمُ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ مُعَلَّقٌ وُجُوبُ صَوْمِهِ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ هِلَالَ رَمَضَانَ فَمَنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ عَلَى طَرِيقِ ثُبُوتِ الشَّهْرِ وَإِنَّمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِحَدِيثِ «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ» وَفِي مَعْنَى الْإِقْدَارِ لَهُ مَحَامِلُ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: (القرءان) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ السَّاكِنَةِ وَبَعْدَ الْهَمْزَةِ أَلِفٌ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ السَّاكِنَةِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ قَالُوا فِي وَجْهِ إِعَادَتِهِ مَعَ تَقَدُّمِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً [الْبَقَرَة: 184] إِنَّهُ لَمَّا كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ بِالْإِطْعَامِ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَهِيَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] إِلَخْ وَقَدْ سَقَطَ الْوُجُوبُ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِنَصِّهَا فَلَمَّا نُسِخَ حُكْمُ تِلْكَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ شَهْرُ رَمَضانَ الْآيَةَ وَصَارَ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ خِيفَ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الرُّخْصَةِ قَدْ نُسِخَ فَوَجَبَ الصَّوْمُ أَيْضًا حَتَّى عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَأُعِيدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّاسِخَةِ تَصْرِيحًا بِبَقَاءِ تِلْكَ الرُّخْصَةِ، وَنُسِخَتْ رُخْصَةُ الْإِطْعَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْحَضَرِ وَالصِّحَّةِ لَا غَيْرَ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى كَوْنِ هَاتِهِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنْ دَرَجْنَا عَلَى أَنَّهُمَا نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَانَ الْوَجْهُ فِي إِعَادَةِ هَذَا الْحُكْمِ هُوَ هَذَا الْمَوْضِعُ الْجَدِيرُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ تَعْيِينِ أَيَّامِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَهُوَ تَعْجِيلٌ بِالْإِعْلَامِ بِالرُّخْصَةِ رِفْقًا بِالسَّامِعِينَ، أَوْ أَنَّ إِعَادَتَهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ إِذَا كَانَ

شَهِدَ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَعَلِمَ، مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَأْكِيدِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ وَلِزِيَادَةِ بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً إِلَخْ بَيَّنَ بِهِ حِكْمَةَ الرُّخْصَةِ أَيْ شَرَعَ لَكُمُ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِكُمُ الْيُسْرَ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ نَفْيٌ لِضِدِّ الْيُسْرِ، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةُ قَصْرٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا يُرِيدُ بِكُمْ إِلَّا الْيُسْرَ، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ إِلَى جُمْلَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً هُوَ جُمْلَةُ الْإِثْبَاتِ لِتَكُونَ تَعْلِيلًا لِلرُّخْصَةِ، وَجَاءَتْ بَعْدَهَا جُمْلَةُ النَّفْيِ تَأْكِيدًا لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ تَعْلِيلًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] إِلَى هُنَا فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَتْ تَلُوحُ فِي صُورَةِ الْمَشَقَّةِ وَالْعُسْرِ فَإِنَّ فِي طَيِّهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهَا الْيُسْرَ أَيْ تَيْسِيرَ تَحْصِيلِ رِيَاضَةِ النَّفْسِ بِطَرِيقَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ إِرْهَاقِ أَصْحَابِ بَعْضِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى أَنْفُسَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: (الْيُسْر) و (الْعسر) بِسُكُونِ السِّينِ فِيهِمَا، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرَ بِضَمِّ السِّينِ ضَمَّةَ إِتْبَاعٍ. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إِلَخْ إِذْ هِيَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ كَمَا عَلِمْتَ فَإِنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إِلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا تُسَمَّى شِبْهَ الزَّائِدَةِ وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ مَادَّةِ أَمَرَ اللَّذَيْنِ مَفْعُولُهُمَا أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ فِعْلِهَا، فَحَقُّ ذَلِكَ

الْمَفْعُولِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ فِعْلُ الْإِرَادَةِ وَفِعْلُ مَادَّةِ الْأَمْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ وَلَكِنْ كَثُرَ فِي الْكَلَامِ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: 8] قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَصْلُهُ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] وَالْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ اللَّامِ مَنْصُوبٌ بِأَنْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً. وَالْمَعْنَى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَأَنْ تُكَبِّرُوا اللَّهَ، وَإِكْمَالُ الْعِدَّةِ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِيَأْتِيَ بِعِدَّةِ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ كَامِلَةً، فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ حِكْمَةً تَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، فَبِالْقَضَاءِ حَصَلَتْ حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ وَبِرُخْصَةِ الْإِفْطَارِ لِصَاحِبِ الْعُذْرِ حَصَلَتْ رَحْمَةُ التَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَلِتُكْمِلُوا) بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مُضَارِعُ أَكْمَلَ وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مُضَارِعُ كَمَّلَ. وَقَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ تَعْلِيلًا وَهُوَ فِي مَعْنَى عِلَّةٍ غَيْرِ مُتَضَمِّنَةٍ لِحِكْمَةٍ وَلَكِنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمَقْصِدِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يُكَبِّرُوهُ. وَالتَّكْبِيرُ تَفْعِيلٌ مُرَادٌ بِهِ النِّسْبَةُ وَالتَّوْصِيفُ أَيْ أَنْ تَنْسِبُوا اللَّهَ إِلَى الْكِبَرِ وَالنِّسْبَةُ هُنَا نِسْبَةٌ بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، وَالْكِبَرُ هُنَا كِبَرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا جِسْمِيٌّ فَهُوَ الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ وَالتَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ كُلِّهَا، أَيْ لِتَصِفُوا اللَّهَ بِالْعَظَمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَقُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَالتَّفْعِيلُ هُنَا مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلٍ الْمَنْحُوتِ مِنْ قَوْلٍ يَقُولُهُ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: بَسْمَلَ وَحَمْدَلَ وَهَلَّلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ، أَيْ لِتَقُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ فِي الْوَاقِعِ كَالْحُكَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالسَّادَةِ وَالْقَادَةِ، وَمِنْ كُلِّ عَظِيمٍ فِي الِاعْتِقَادِ كَالْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، وَإِثْبَاتُ الْأَعْظَمِيَّةِ لِلَّهِ فِي كَلِمَةِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) كِنَايَةٌ عَنْ وَحْدَانِيَّتِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ مَنْ عَدَاهُ وَالنَّاقِصُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا لَا تُلَاقِي شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاة لإبطال السُّجُود لغير الله، وَشرع التَّكْبِير عِنْد نحر الْبدن فِي الْحَج لإبطال مَا كَانُوا يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى أصنامهم، وَكَذَلِكَ شرع التَّكْبِيرُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ يُكَبِّرَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَيُكَبِّرَ الْإِمَامُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ.

وَفِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ خُصُوصِيَّةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَزَلَّفُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ بِالْأَكْلِ وَالتَّلْطِيخِ بِالدِّمَاءِ، فَكَانَ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ بِالصَّوْمِ وَأَنَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنْ ضَرَاوَةِ الْأَصْنَامِ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَعْلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ فَإِنَّ التَّكْبِيرَ تَعْظِيمٌ يَتَضَمَّنُ شُكْرًا وَالشُّكْرُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بِفِعْلِ الْقُرْبِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ وَأَيَّامِ الْفِطْرِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ الشُّكْرِ لُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ يَوْمَ الْفِطْرِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْبِيرِ إِذْ جَعَلَتْهُ مِمَّا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُفَصَّلٍ فِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ، وَمُجْمَلٌ فِي وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَعَدَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَحْوَالِ. فَأَمَّا لَفْظُ التَّكْبِيرِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ لَفْظُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْمَشْهُورُ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ يُكَرِّرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا شَاءَ الْمَرْءُ زَادَ عَلَى التَّكْبِيرِ تَهْلِيلًا وَتَحْمِيدًا فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِذَا أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى التَّكْبِيرِ كَبَّرَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ وَاسِعٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجْزِئُ غَيْرَ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ. وَأَمَّا وَقْتُهُ: فَتَكْبِيرُ الْفِطْرِ يَبْتَدِئُ مَنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْمُصَلِّي مَنْ بَيْتِهِ إِلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ وَمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّ الصَّلَاةِ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، وَيُسَنُّ فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ افْتِتَاحُ الْأُولَى بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالثَّانِيَةِ بِسِتٍّ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ وَعَمِلَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ عهد النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَمَا بَعْدَهُ وَتَلَقَّاهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ وَالْأَمْرُ وَاسِعٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الْإِمَامُ فِي خُطْبَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيُكَبِّرُ مَعَهُ الْمُصَلُّونَ حِينَ تَكْبِيرِهِ وَيُنْصِتُونَ لِلْخُطْبَةِ فِيمَا سِوَى التَّكْبِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ النَّاسُ مِنْ وَقْتِ اسْتِهْلَالِ هِلَالِ الْفِطْرِ إِلَى انْقِضَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ التَّكْبِيرُ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْفِطْرِ فَهُوَ مَوْرِدُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.

[سورة البقرة (2) : آية 186]

فَأَمَّا فِي الْأَضْحَى فَيُزَادُ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْفِطْرِ التَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْهُ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 203] . [186] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ الْمُتَعَاطِفَةِ أَيْ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا ... وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَة: 185] ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ تَبْلِيغٍ فَقَالَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، أَيِ الْعِبَادَ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ مَعَهُمْ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَتَدْعُونِ فَأَسْتَجِيبُ لَكُمْ إِلَّا أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ لِيَحْصُلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَعْظِيمُ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَسْأَلُهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَوَابِ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الدُّعَاءِ هَلْ يَكُونُ جَهْرًا أَوْ سِرًّا، وَلِيَكُونَ نَظْمُ الْآيَةِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَكْرَمَهُمْ فَقَالَ: وَإِذَا سَأَلُوا عَنْ حَقِّهِمْ عَلَيَّ فَإِنِّي قَرِيبٌ مِنْهُمْ أُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ، وَجُعِلَ هَذَا الْخَيْرُ مُرَتَّبًا عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِهِمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ يَهْجِسُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعُوا الْأَمْرَ بِالْإِكْمَالِ وَالتَّكْبِيرِ وَالشُّكْرِ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ لَنَا جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ؟ وَأَنَّهُمْ قَدْ يَحْجِمُونَ عَنْ سُؤَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ الصَّرِيحُ بِأَنَّ هَذَا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ مَادَّةِ السُّؤَالِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ قَالَ عَلْقَمَةُ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَالْعُلَمَاءُ يَفْتَتِحُونَ الْمَسَائِلَ الْمُهِمَّةَ فِي كُتُبِهِمْ بِكَلِمَةِ (فَإِنْ قُلْتَ) وَهُوَ اصْطِلَاحُ «الْكَشَّافِ» . وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَجْرِيدُ الْجَوَابِ مِنْ كَلِمَةِ قُلْ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مَوَاقِعِ السُّؤَالِ مِنَ الْقُرْآن نَحْو يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ [الْبَقَرَة: 189] ، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: 220] ، مَعَ مَا فِي هَذَا النَّظْمِ الْعَجِيبِ مِنْ زِيَادَةِ إِخْرَاجِ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ إِذْ جَاءَ بِحُكْمٍ عَامٍّ

فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَقَالَ سَأَلَكَ عِبادِي وَقَالَ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وَلَوْ قِيلَ وَلْيَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُمْ لَكَانَ حُكْمًا جُزْئِيًّا خَاصًّا بِهِمْ، فَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ قَبْلَهَا وَمُنَاسَبَتِهَا لَهُنَّ وَارْتِبَاطِهَا بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ اعْتِرَاضُ جُمْلَةٍ. وَقِيلَ إِنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ اقْتَرَنَتْ بِالْوَاوِ بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ، قِيلَ إِنَّهُ ذَكَرَ الدُّعَاءَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الشُّكْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ يَجِبُ أَنْ يَسْبِقَهُ الثَّنَاءُ. وَالْعِبَادُ الَّذِينَ أُضِيفُوا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَلَوَازِمِهِ وَجَزَائِهِ وَهُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا فِي ذِكْرِ الْعِبَادِ مُضَافًا لِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] بِمَعْنَى الْمُشْرِكِينَ فَاقْتَضَاهُ أَنَّهُ فِي مَقَامِ تَنْدِيمِهِمْ عَلَى اسْتِعْبَادِهِمْ لِلْأَصْنَامِ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ: فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ إِيجَازًا لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَفْرُوضٌ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَهِيَ إِيهَامٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى جَوَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِنَفْسِهِ إِذْ حَذَفَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَسَاطَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ. واحتيج للتَّأْكِيد بإنّ، لِأَنَّ الْخَبَرَ غَرِيبٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى قَرِيبًا مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَرَوْنَهُ. وأُجِيبُ خبر ثَان لإنّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ الَّذِي قَبْلَهُ تَمْهِيدًا لَهُ لِتَسْهِيلِ قَبُولِهِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ «دَعَانِ» فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لِأَنَّ حَذْفَهَا فِي الْوَقْفِ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ عَدَا أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلَا تُحْذَفُ عِنْدَهُمْ فِي الْوَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَلِأَنَّ الرَّسْمَ يُبْنَى عَلَى حَالِ الْوَقْفِ، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ ابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ وَيَعْقُوبُ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَعَاصِمٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَوْ وَقَعَتْ فَاصِلَةً لَكَانَ الْحَذْفُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [الْبَقَرَة: 40] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، وَإِلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَرْجُوَّةٌ دَعَوَاتُهُ، وَإِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ.

[سورة البقرة (2) : آية 187]

وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ الدَّاعِي تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْتِزَامَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ فَيُفِيدُ التَّلَازُمَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا رَبْطُ الْجَوَابِ بالسؤال وَلَيْسَ ربط لِلدُّعَاءِ بِالْإِجَابَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إِنْ دَعُونِي أَجَبْتُهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي تَفْرِيعٌ عَلَى أُجِيبُ أَيْ إِذَا كُنْتُ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي فَلْيُجِيبُوا أَوَامِرِي، وَاسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَصْلُ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ أَنَّهُ الْإِقْبَالُ عَلَى الْمُنَادِي بِالْقُدُومِ، أَوْ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْحُضُورِ نَحْوَ (لَبَّيْكَ) ، ثُمَّ أُطْلِقَ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا يَطْلُبُهُ الطَّالِبُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِتَحْقِيقِهِ يَقْطَعُ مَسْأَلَتَهُ فَكَأَنَّهُ أَجَابَ نِدَاءَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِجَابَةِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ فَيَكُونَ وَلْيُؤْمِنُوا بِي عَطْفًا مُغَايِرًا وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الْفِعْلُ وَمِنَ الْأَمْرِ الثَّانِي الدَّوَامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِجَابَةِ مَا يَشْمَلُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ، فَذِكْرُ وَلْيُؤْمِنُوا عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ. وَالرُّشْدُ إِصَابَةُ الْحَقِّ وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَفَرِحَ وَضَرَبَ، وَالْأَشْهَرُ الْأَوَّلُ. [187] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. انْتِقَالٌ فِي أَحْكَامِ الصِّيَامِ إِلَى بَيَانِ أَعْمَالٍ فِي بَعْضِ أَزْمِنَةِ رَمَضَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا تُنَافِي عِبَادَةَ الصِّيَامِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِانْتِقَالِ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ. وَذَكَرُوا لِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامًا مُضْطَرِبًا غَيْرَ مُبِينٍ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ وَسَهِرَ بَعْدَهَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يُبَاشِرْ أَهْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَ عُمَرُ يُرِيدُ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ فَبَاشَرَهَا» ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ

بْنِ عَازِبٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ يُرِيدُ طَعَامَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: حَتَّى نُسَخِّنَ لَكَ شَيْئًا فَنَامَ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَوَجَدْتُهُ نَائِمًا فَقَالَت: خيبة لم فَبَقِيَ كَذَلِكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُوعِ، وَفِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ حَدِيثِ الْبَراء بن عاوب قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، وَوَقَعَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلَ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ، فَقِيلَ: كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ مِنْ بَعْدِ النَّوْمِ أَوْ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حُكْمًا مَشْرُوعًا بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَسْخًا لِشَيْءٍ تَقَرَّرَ فِي شَرْعِنَا وَقَالَ: هُوَ نَسْخٌ لِمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ النَّصَارَى. وَمَا شُرِعَ الصَّوْمُ إِلَّا إِمْسَاكًا فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ فَلَا أَحْسِبُ أَنَّ الْآيَةَ إِنْشَاءٌ لِلْإِبَاحَةِ وَلَكِنَّهَا إِخْبَارٌ عَنِ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ فِي أَصْلِ تَوْقِيتِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِبْطَالُ شَيْءٍ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَنَّ الْأَكْلَ بَيْنَ اللَّيْلِ لَا يَتَجَاوَزُ وَقْتَيْنِ وَقْتَ الْإِفْطَارِ وَوَقْتَ السُّحُورِ وَجَعَلُوا وَقْتَ الْإِفْطَارِ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَشَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنَامُونَ إِثْرَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقِيَامِهَا فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ لَمْ يَأْكُلُوا إِلَّا أَكْلَةَ السَّحُورِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ كَشَأْنِهِمْ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَادُوا جَعْلَ النَّوْمِ مَبْدَأَ وَقْتِ الْإِمْسَاكِ اللَّيْلِيِّ ظَنُّوا أَنَّ النَّوْمَ إِنْ حَصَلَ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ الْمُعْتَادِ يَكُونُ أَيْضًا مَانِعًا مِنَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ إِلَى وَقْتِ السُّحُورِ وَإِنَّ وَقْتَ السُّحُورِ لَا يُبَاحُ فِيهِ إِلَّا الْأَكْلُ دُونَ الْجِمَاعِ إِذْ كَانُوا يَتَأَثَّمُونَ مِنَ الْإِصْبَاحِ فِي رَمَضَانَ عَلَى جَنَابَةٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَرَى ذَلِكَ يَعْنِي بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّ هَذَا قَدْ سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَقْتَضِيهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، وَلَعَلَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْ بَعْضَ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي شرع لَهُم فِيهَا صِيَامُ رَمَضَانَ فَحَدَثَتْ هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُتَقَارِبَةُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَنْ رَقَدَ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ لَمْ يَطْعَمْ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَأَكَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهَذَا الْحُكْمِ

لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ إِذْ عَلِمَ اللَّهُ مَا ضَيَّقَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُفْشُوا ذَلِكَ وَلَا أَخْبَرُوا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَلَعَلَّهُ مِنْ زِيَادَاتِ الرَّاوِي. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ شُرِّعَ ثُمَّ نُسِخَ فَلَا أَحْسِبُهُ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الدِّينِ الَّذِي شَرَّعَ الصَّوْمَ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَوْمًا فِي السَّنَةِ ثُمَّ دَرَّجَهُ فَشَرَّعَ الصَّوْمَ شَهْرًا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْرِضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَا يُبِيحُ الْفِطْرَ إِلَّا سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَيْلَةُ الصِّيَامِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَعْقُبُهَا صِيَامُ الْيَوْمِ الْمُوَالِي لَهَا جَرْيًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي إِضَافَةِ اللَّيْلَةِ لِلْيَوْمِ الْمُوَالِي لَهَا إِلَّا لَيْلَةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَالرَّفَثُ فِي «الأساس» و «اللِّسَان» أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْكَلَامُ مَعَ النِّسَاء فِي شؤون الِالْتِذَاذِ بِهِنَّ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْجِمَاعِ كِنَايَةً، وَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الظَّاهِر، وتعديته بإلى لِيَتَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِفْضَاءُ. وَقَوْلُ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا أَيْ أُحِلَّ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ، ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ لَوْ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنَتًا وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ فِي النَّهَارِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ اسْتِعَارَةٌ بِجَامِعِ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ حِينَئِذٍ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ أَحْيَاهَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتِ اعتبرتها فِي قَوْله: لَابَسَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ، إِذَا اتَّصَلَ بِهِ لَكِنَّهُمْ صَيَّرُوهَا فِي خُصُوصِ زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فَجَاءَ الْقُرْآنُ فَأَحْيَاهَا وَصَيَّرَهَا اسْتِعَارَةً أَصْلِيَّةً جَدِيدَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَبَعِيَّةً مَنْسِيَّةً وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسِلِ وتَخْتانُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: «الِاخْتِيَانُ مُرَاوَدَةُ الْخِيَانَةِ» بِمَعْنَى أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخَوْنِ وَأَصْلُهُ تَخْتَوِنُونَ فَصَارَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَخِيَانَةُ الْأَنْفُسِ تَمْثِيلٌ لِتَكْلِيفِهَا مَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ كأنّ ذَلِك تَعْزِير بِهَا إِذْ يُوهِمُهَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَشْرُوعَةٌ عَلَيْهَا وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِمُغَالَطَتِهَا فِي التَّرَخُّصِ بِفِعْلِ مَا تَرَوْنَهُ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فَتُقْدِمُونَ تَارَةً

وَتُحْجِمُونَ أُخْرَى كَمَنْ يُحَاوِلُ خِيَانَةً فَيَكُونُ كَالتَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخادِعُونَ [الْبَقَرَة: 9] . وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّكُمْ تُلْجِئُونَهَا لِلْخِيَانَةِ أَوْ تَنْسُبُونَهَا لَهَا، وَقِيلَ: الِاخْتِيَانُ أَشَدُّ مِنَ الْخِيَانَةِ كَالِاكْتِسَابِ وَالْكَسْبِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ [النِّسَاء: 107] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَالْآنَ إِشَارَةً إِلَى تَشْرِيعِ الْمُبَاشَرَةِ حِينَئِذٍ بَلْ مَعْنَاهُ فَالْآنَ اتَّضَحَ الْحُكْمُ فَبَاشِرُوهُنَّ وَلَا تَخْتَانُوا أَنْفُسَكُمْ. وَالِابْتِغَاءُ الطَّلَبُ، وَمَا كَتَبَهُ اللَّهُ: مَا أَبَاحَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصِّيَامِ أَوِ اطْلُبُوا مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ عَسَى أَنْ يَتَكَوَّنَ النَّسْلُ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ وَبَقَاءِ النَّوْعِ فِي الْأَرْضِ. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. عَطَفَ عَلَى بَاشِرُوهُنَّ، وَالْخَيْطُ سِلْكُ الْكَتَّانِ أَوِ الصُّوفِ أَوْ غَيْرِهِمَا يُلْفَقُ بِهِ بَيْنَ الثِّيَابِ بِشَدِّهِ بِإِبْرَةٍ أَوْ مَخِيطٍ، يُقَالُ خَاطَ الثَّوْبَ وَخَيَّطَهُ. وَفِي خَبَرِ قُبُورِ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَبْرِهِ كَالْخَيْطِ، وَالْخَيْطُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الشُّعَاعُ الْمُمْتَدُّ فِي الظَّلَامِ وَالسَّوَادُ الْمُمْتَدُّ بِجَانِبِهِ قَالَ أَبُو دُؤَادٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ: فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ (¬1) ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وَقَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ الشُّعَاعُ النَّاشِئُ عَنِ الْفَجْرِ، وَقِيلَ بَيَانِيَّةٌ وَقِيلَ تَبْعِيضِيَّةٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي دُؤَادٍ «مِنَ الصُّبْحِ» لِأَنَّ الْخَيْطَ شَائِعٌ فِي السِّلْكِ الَّذِي يُخَاطُ بِهِ فَهُوَ قَرِينَةُ إِحْدَى الْمَعْنَيَيْنِ لِلْمُشْتَرِكِ، وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» تَشْبِيهًا بَلِيغًا، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ اشْتِهَارُ إِطْلَاقِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ بَعْضِ الْكَلَامِ، كَالْآيَةِ وَبَيْتِ أَبِي دُؤَادٍ، وَعِنْدِي أَنَّ الْقُرْآنَ مَا أَطْلَقَهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ كَالنَّصِّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى دُونَ إِرَادَةِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَشْبِيهٍ وَاضِحٍ. ¬

(¬1) السدفة الضَّوْء بلغَة قيس والظلمة بلغَة تَمِيم فَهِيَ من الأضداد فِي الْعَرَبيَّة.

وَقَدْ جِيءَ فِي الْغَايَةِ بِحَتَّى وَبِالتَّبَيُّنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ يَكُونُ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْفَجْرِ لِلنَّاظِرِ وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ تَحْدِيدٌ لِنِهَايَةِ وَقْتِ الْإِفْطَارِ بِصَرِيحِ الْمَنْطُوقِ وَقَدْ عُلِمَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ زَمَنِ الصَّوْمِ، إِذْ لَيْسَ فِي زَمَانِ رَمَضَانَ إِلَّا صَوْمٌ وَفِطْرٌ وَانْتِهَاءُ أَحَدِهِمَا مَبْدَأُ الْآخَرِ فَكَانَ قَوْلُهُ: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ بَيَانًا لِنِهَايَةِ وَقْتِ الصِّيَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا وَلَمْ يَقُلْ ثُمَّ صُومُوا لِأَنَّهُمْ صَائِمُونَ مِنْ قَبْلُ. وإِلَى اللَّيْلِ غَايَةٌ اخْتِيرَ لَهَا (إِلَى) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الْفِطْرِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِأَن إِلَى لَا تَمْتَدُّ مَعَهَا الْغَايَةُ بِخِلَافِ حَتَّى، فَالْمُرَادُ هُنَا مُقَارَنَةُ إِتْمَامِ الصِّيَامِ بِاللَّيْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ثُمَّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ اهْتِمَامٌ بِتَعْيِينِ وَقْتِ الْإِفْطَارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْبِشَارَةِ لَهُمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَبَّازُ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِنْ قُدَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِثُمَّ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عَنِ الْفَجْرِ احْتِجَاجًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ النِّيَّة إِلَى الصحوة الْكُبْرَى. بِنَاءً عَلَى أَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَأَنَّ إِتْمَامَ الصِّيَامِ يَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ بَعْدَ تَبْيِينِ الْخَيْطَيْنِ مِنَ الْفَجْرِ صُومُوا أَوْ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فَيَنْتِجُ مَعْنَى صُومُوا بَعْدَ تَرَاخٍ عَنْ وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْمَصِيرِ إِلَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ الْخَفِيفَةِ غَفْلَةٌ عَنْ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي عَطْفِ (ثُمَّ) لِلْجُمَلِ. هَذَا، وَقَدْ رُوِيَتْ قِصَّةٌ فِي فَهْمِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِي نُزُولِهَا مُفَرَّقَةً، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عَمِدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّكَ لِعَرِيضُ الْقَفَا، إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» . وَرَوَيَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ نَزَلَتْ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ مِنَ الْفَجْرِ، فَيَظْهَرُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ مِثْلَ مَا عَمِلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَدْ كَانَ عَمِلَهُ غَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَإِنَّ عَدِيًّا أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ سَنَةَ عَشْرٍ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ فُرِضَ

سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَبْقَى الْمُسْلِمُونَ سَبْعَ أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ، فَمَحَلُّ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ وَقَعَ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ شَرْعِ الصِّيَامِ، وَمَحْمَلُ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ عَدِيًّا وَقَعَ فِي مِثْلِ الْخَطَأِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمُوهُ، فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَخْ فَهُوَ قَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ مُسْتَكْمَلَةً، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ عَمِلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ أَيْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ صَوْمِ النَّذْرِ وَفِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ فَرْضِ رَمَضَانَ وَفِيهَا مِنَ الْفَجْرِ عَلِمُوا أَنَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ خَطَأٌ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلُ ذَلِكَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَحَدِيثُ سَهْلٍ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّةِ سَنَدِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيهِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ وَقَوْلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفَجْرِ مَرْوِيًّا بِالْمَعْنَى فَجَاءَ رَاوِيهِ بِعِبَارَاتٍ قَلِقَةٍ غَيْرِ وَاضِحَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ الرَّاوِي: «فَأَنْزَلَ بَعْدُ- أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ- مِنَ الْفَجْرِ» وَكَانَ الْأَوْضَحُ أَنْ يَقُولَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا- إِلَى قَوْلِهِ- مِنَ الْفَجْرِ. وأيّا مَا كَانَ فَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخَيْطِ فِي الْآيَةِ ظَاهِرٌ لِلْعَرَبِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ مِنْ قَبِيلِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِهِمُ الْمُرَادَ مِنْهُ لَا يَقْدَحُ فِي ظُهُورِ الظَّاهِرِ، فَالَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، فَهِمُوا أَشْهَرَ مَعَانِي الْخَيْطِ وَظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَتَبَيَّنَ عَلَى أَنْ تَكُونَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةً أَيْ يَكُونُ تَبَيُّنُهُ بِسَبَبِ ضَوْءِ الْفَجْرِ، فَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ- أَوْ إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ الْفِطْنَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ مُوَجَّهَةٌ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَاشِرُوهُنَّ لِقَصْدِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَكِفُ صَالِحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ لَهَاتِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَقِيلَ مُطَلَّقُ مَسْجِدٍ وَهُوَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ مَذْهَبُ

مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَحْكَامُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَلَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ هَذَا الْمُفَسِّرِ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. تَذْيِيلٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا شَرَّعَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ. فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهَا بِالْحُدُودِ عَيْنُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ التَّحْدِيدَاتُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْكَلَام السَّابِق وَهِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ وَقَوْلِهِ: إِلَى اللَّيْلِ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَحْدِيدٌ يُفْضِي تَجَاوُزُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ دُخُولُ أَحْكَامِ الْإِبَاحَةِ فِي الْإِشَارَةِ مِثْلَ: أُحِلَّ لَكُمْ وَمِثْلَ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. وَالْحُدُودُ الحواجز وَنِهَايَاتُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي إِذَا تَجَاوَزَهَا الْمَرْءُ دَخَلَ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَشُبِّهَتِ الْأَحْكَامُ بِالْحُدُودِ لِأَنَّ تَجَاوُزَهَا يُخْرِجُ مِنْ حِلٍّ إِلَى مَنْعٍ وَفِي الْحَدِيثِ «وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا» ، وَسَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها. وَقَوْلُهُ: فَلا تَقْرَبُوها نَهَى عَنْ مُقَارَبَتِهَا الْمُوقِعَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الْحَدِّ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْخُرُوجِ غَالِبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْأَنْعَام: 152] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَة: 229] . كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ حَدِيثُ «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَالْقَوْلُ فِي: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] أَيْ كَمَا بَين الله أَحْكَامَ الصِّيَامِ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ أَي جَمِيع رياته لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالْمَقْصِدُ أَنَّ هَذَا شَأْنُ اللَّهِ فِي إِيضَاحِ أَحْكَامِهِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، أَيْ إِرَادَةٌ لِاتِّقَائِهِمُ الْوُقُوعَ فِي الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمُ الْأَحْكَامَ لَمَا اهْتَدَوْا لِطَرِيقِ الِامْتِثَالِ، أَوْ لَعَلَّهُمْ يَلْتَبِسُونَ بِغَايَةِ الِامْتِثَالِ وَالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورَاتِ عَلَى وَجْهِهَا فَتَحْصُلُ لَهُمْ صِفَةُ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ لَهُمْ لَأَتَوْا بِعِبَادَاتٍ غَيْرِ مُسْتَكْمِلَةٍ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَعْذُورِينَ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيَان وَغير مؤاخذيم بِإِثْمِ التَّقْصِيرِ

[سورة البقرة (2) : آية 188]

إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ صِفَةَ التَّقْوَى أَيْ كَمَالَ مُصَادَفَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَعَلَّ يَتَّقُونَ عَلَى هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ مِثْلَ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفُ الْمَفْعُول للقرينة. [188] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [الْبَقَرَة: 187] تَحْذِيرٌ مِنَ الْجُرْأَةِ على مُخَالفَة حكم الصِّيَامِ بِالْإِفْطَارِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْلِ الْحَرَامِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ أَكْلٌ آخَرُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالْمُشَاكَلَةُ زَادَتِ الْمُنَاسَبَةَ قُوَّةً، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ عِدَادِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ لِإِصْلَاحِ مَا اخْتَلَّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى نَظَائِرِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلُ تَشْرِيعٍ عَظِيمٌ لِلْأَمْوَالِ فِي الْإِسْلَامِ. كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ شِنْشِنَةً مَعْرُوفَةً لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ كَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِمُ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ اكْتِسَابَهُمْ كَانَ مِنَ الْإِغَارَةِ وَمِنَ الْمَيْسِرِ، وَمِنْ غَصْبِ الْقَوِيِّ مَالَ الضَّعِيفِ، وَمِنْ أَكْلِ الْأَوْلِيَاءِ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ واليتامى، وَمن الْغرَر وَالْمُقَامَرَةِ، وَمِنَ الْمُرَابَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ عَن طِيبِ نَفْسٍ. وَالْأَكْلُ حَقِيقَتُهُ إِدْخَالُ الطَّعَامِ إِلَى الْمَعِدَةِ مِنَ الْفَمِ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَة لِلْأَخْذِ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ دُونَ إِرْجَاعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ يُشْبِهُ الْأَكْلَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى إِحْرَاقِ مَالِ الْغَيْرِ اسْمُ الْأَكْلِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ اسْمُ الْأَكْلِ، وَلَيْسَ الْأَكْلُ هُنَا اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَيْئَةِ آخِذِ مَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ بِقَصْدِ عَدَمِ إِرْجَاعِهِ وَهَيْئَةِ الْأَكْلِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْأَمْوَالُ جَمْعُ مَالٍ وَنُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ «مَا بِقَدْرِهِ يَكُونُ قَدْرُ إِقَامَةِ نِظَامِ مَعَاشِ أَفْرَادِ النَّاسِ فِي تنَاول الضروريات والحاجيات وَالتَّحْسِينِيَّاتِ بِحَسَبِ مَبْلَغِ حَضَارَتِهِمْ حَاصِلًا بِكَدْحٍ» ، فَلَا يُعَدُّ الْهَوَاءُ مَالًا، وَلَا مَاءُ الْمَطَرِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ مَالًا، وَلَا التُّرَابُ مَالًا، وَلَا كُهُوفُ الْجِبَالِ وَظِلَالُ الْأَشْجَارِ مَالًا، وَيُعَدُ الْمَاءُ الْمُحْتَفَرُ بِالْآبَارِ مَالًا، وَتُرَابُ الْمُقَاطِعِ مَالًا، وَالْحَشِيشُ وَالْحَطَبُ مَالًا، وَمَا يَنْحِتُهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ فِي جَبَلٍ مَالًا.

وَالْمَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَا تَحْصُلُ تِلْكَ الْإِقَامَةُ بِذَاتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ الْأَطْعِمَةُ كَالْحُبُوبِ، وَالثِّمَارِ، وَالْحَيَوَانِ لِأَكْلِهِ وَلِلِانْتِفَاعِ بِصُوفِهِ وَشَعْرِهِ وَلَبَنِهِ وَجُلُودِهِ وَلِرُكُوبِهِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [النَّحْل: 80] وَقَالَ: لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ [غَافِر: 79] وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الْإِبِلَ مَالًا قَالَ زُهَيْرٌ: صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ وَقَالَ عُمَرُ: «لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا» ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ وَأَثْبَتُهَا، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَاصِلَةٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَحْوَالِ الْمُتَعَامِلِينَ وَلَا عَلَى اصْطِلَاحَاتِ الْمُنَظِّمِينَ، فَصَاحِبُهُ يَنْتَفِعُ بِهِ زَمَنَ السِّلْمِ وَزَمَنَ الْحَرْبِ وَفِي وَقْتِ الثِّقَةِ وَوَقْتِ الْخَوْفِ وَعِنْدَ رِضَا النَّاسِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ وَعِنْدَ احْتِيَاجِ النَّاسِ وَعَدَمِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَإِنَّمَا مَالُكَ مَا أَكَلْتَ فَأَمْرَيْتَ أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَغْنَيْتَ» فَالْحَصْرُ هُنَا لِلْكَمَالِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ حَيْثُ النَّفْعِ الْمَادِّيِّ وَالنَّفْعِ الْعَرَضِيِّ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا تَحْصُلُ تِلْكَ الْإِقَامَةُ بِهِ وَبِمَا يُكْمِلُهُ مِمَّا يَتَوَقَّفُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ كَالْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَلِلْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَالنَّارِ لِلطَّبْخِ وَالْإِذَابَةِ، وَالْمَاءِ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ، وَآلَاتِ الصِّنَاعَاتِ لِصُنْعِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْحَطَبِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ دُونَ النَّوْعِ الثَّانِي لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أَشْيَاءَ رُبَّمَا كَانَتْ فِي أَيْدِي النَّاسِ فَضَنَّتْ بِهَا وَرُبَّمَا حَالَتْ دُونَ نَوَالِهَا مَوَانِعُ مِنْ حَرْبٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ وُعُورَةِ طَرِيقٍ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا تَحْصُلُ الْإِقَامَةُ بِعِوَضِهِ مِمَّا اصْطَلَحَ الْبَشَرُ عَلَى جَعْلِهِ عِوَضًا لِمَا يُرَادُ تَحْصِيلُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالْعُمْلَةِ، وَأَكْثَرُ اصْطِلَاحِ الْبَشَرِ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَعْدَنَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْبَشَرِ مِنَ التَّعَامُلِ بِالنُّحَاسِ وَالْوَدَعِ وَالْخَرَزَاتِ وَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ التَّعَامُلِ بِالْحَدِيدِ الْأَبْيَضِ وَبِالْأَوْرَاقِ الْمَالِيَّةِ وَهِيَ أَوْرَاقُ الْمَصَارِفِ الْمَالِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ حُجَجُ الْتِزَامٍ مِنَ الْمَصْرِفِ بِدَفْعِ مِقْدَارِ مَا بِالْوَرَقَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ اعْتِبَارُهُ إِلَّا فِي أَزْمِنَةِ السِّلْمِ وَالْأَمْنِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُتَقَارِبُ الْأَفْرَادِ، وَالْأَوْرَاقُ الَّتِي تُرَوِّجُهَا الْحُكُومَاتُ بِمَقَادِيرَ مَالِيَّةٍ يَتَعَامَلُ بِهَا رَعَايَا تِلْكَ الْحُكُومَاتِ. وَقَوْلِي فِي التَّعْرِيفِ: حَاصِلًا بِكَدْحٍ، أَرَدْتُ بِهِ أَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِسَعْيٍ فِيهِ كُلْفَةٌ

وَلِذَلِكَ عَبَّرْتُ عَنْهُ بِالْكَدْحِ وَذَلِكَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَالَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا والاكتساب لَهُ ثَلَاثَة طُرُقٍ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: طَرِيقُ التَّنَاوُلِ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الْملك: 15] وَهَذَا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ وَثَمَرِ شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَالْعَسَلِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِلَا مُزَاحَمَةٍ وَقَدْ يَكُونُ بِمُزَاحَمَةٍ فَيَكُونُ تَحْصِيلُهُ بِالسَّبْقِ كَسُكْنَى الْجِبَالِ وَالْتِقَاطِ الْكَمْأَةِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: الِاسْتِنْتَاجُ وَذَلِكَ بِالْوِلَادَةِ وَالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْحَلْبِ، وَبِالصَّنْعَةِ كَصُنْعِ الْحَدِيدِ وَالْأَوَانِي وَاللِّبَاسِ وَالسِّلَاحِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: التَّنَاوُلُ مِنْ يَدِ الْغَيْرِ فِيمَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ إِمَّا بِتَعَامُلٍ بِأَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ مَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَأْخُذُ مِنَ الْغَيْرِ مَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ، أَوْ بِإِعْطَاءِ مَا جَعَلَهُ النَّاسُ عَلَّامَةً عَلَى أَنَّ مَالِكَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَأْخُذَ بِهِ مَا قُدِّرَ بِمِقْدَارِهِ كَدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ فِي شَيْءٍ مُقَوَّمٍ بِهِمَا، وَإِمَّا بِقُوَّةٍ وَغَلَبَةٍ كَالْقِتَالِ عَلَى الْأَرَاضِي وَعَلَى الْمِيَاهِ. وَالْبَاطِلُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَطَلَ إِذَا ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخَسْرًا أَيْ بِدُونِ وَجْهٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَجْهَ هُوَ مَا يُرْضِي صَاحِبَ الْمَالِ أَعْنِي الْعِوَضَ فِي الْبُيُوعَاتِ وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ فِي التَّبَرُّعَاتِ. وَالضَّمَائِرُ فِي مِثْلِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِعْلُ: وَلا تَأْكُلُوا وَقَعَ فِي حَيِّزِ النَّهْيِ فَهُوَ عَامٌّ، فَأَفَادَ ذَلِكَ نَهْيًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كُلِّ أَكْلٍ وَفِي جَمِيع الْأَمْوَال، قُلْنَا هُنَا جَمْعَانِ جَمْعُ الْآكِلِينَ وَجَمْعُ الْأَمْوَالِ الْمَأْكُولَةِ، وَإِذَا تَقَابَلَ جَمْعَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقَابَلَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ الْآخَرِ عَلَى التَّوْزِيعِ نَحْوَ رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النِّسَاء: 102]- قُوا أَنْفُسَكُمْ [التَّحْرِيم: 6] ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لَكِنْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ يُقَابَلُ بِفَرْدٍ غَيْرِهِ لَا بِفَرْدِ نَفْسِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وَقَوْلِهِ فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقَابَلَةِ كُلِّ فَرْدٍ بِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ [غَافِر: 9] ، وَالتَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرَائِنِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ هُنَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي أَيْ لَا يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ آخَرَ

بِالْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ لِأَنَّ بَيْنَ تَقْتَضِي تَوَسُّطًا خِلَالَ طَرَفَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الطَّرَفَيْنِ آكِلٌ وَمَأْكُولٌ مِنْهُ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْآكِلُ غَيْرَ الْمَأْكُولِ وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ. وَمَعْنَى أَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ أَكْلُهَا بِدُونِ وَجْهٍ، وَهَذَا الْأَكْلُ مَرَاتِبُ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مَا عَلِمَهُ جَمِيعُ السَّامِعِينَ مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ بَاطِلًا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْحِيلَةِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَلْحَقَهُ الشَّرْعُ بِالْبَاطِلِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَقَدْ كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ وَهَذَا مِثْلُ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: 275] ، وَمثل رَشْوَةِ الْحُكَّامِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَفِي الْحَدِيثِ: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنْعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هِيَ خَمْسُونَ حَدِيثًا. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَصْفُ الْبَاطِلِ بِالنَّظَرِ وَهَذَا مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَاطِلِ، وَالْعُلَمَاءُ فِيهِ بَيْنَ مُوَسِّعٍ وَمُضَيِّقٍ مِثْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَبَدَانَ الْحَضْرَمِيِّ وامرئ الْقَيْس فالكندي اخْتَصَمَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عَطْفٌ عَلَى تَأْكُلُوا أَيْ لَا تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَخَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالنَّهْيِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَشْمَلُهَا وَهُوَ أَكْلُ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ هَذِهِ شَدِيدَةُ الشَّنَاعَةِ جَامِعَةٌ لِمُحَرَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُعْطِيَ الرَّشْوَةِ آثِمٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مَالًا بَلْ آكَلَ غَيْرَهُ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ وتُدْلُوا مَنْصُوبًا بِأَنْ مُضْمَرَةً بَعْدَهَا فِي جَوَابِ النَّهْيِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ لَا تَأْكُلُوهَا بَيْنَكُمْ مُدْلِينَ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الرَّشْوَةُ خَاصَّةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ الِاعْتِنَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ. وَالْإِدْلَاءُ فِي الْأَصْلِ إِرْسَالُ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالدَّفْعِ.

فَالْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، لَا تَدْفَعُوا أَمْوَالَكُمْ لِلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا بِهَا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ فَالْإِدْلَاءُ بِهَا هُوَ دَفْعُهَا لِإِرْشَاءِ الْحُكَّامِ لِيَقْضُوا لِلدَّافِعِ بِمَالِ غَيْرِهِ فَهِيَ تَحْرِيمٌ لِلرَّشْوَةِ وَلِلْقَضَاءِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلِأَكْلِ الْمَقْضِيِّ لَهُ مَالًا بِالْبَاطِلِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بِالْبَاطِلِ فِي حَالِ انْتِشَابِ الْخُصُومَاتِ بِالْأَمْوَالِ لَدَى الْحُكَّامِ لِتَتَوَسَّلُوا بِقَضَاءِ الْحُكَّامِ، إِلَى أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ حِينَ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَكْلَهَا بِالْغَلَبِ، وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى فَرْضِ هَذَا الِاحْتِمَالِ هُوَ مُرَاعَاةُ الْقِصَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّقَيُّدَ بِتِلْكَ الْقِصَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ سَنَدُهَا لَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّشْوَةِ لِأَجْلِ أَكْلِ الْمَالِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَالِ بِدُونِ رَشْوَةٍ بِدَلَالَةِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ. وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ إِرْشَاءِ الْحُكَّامِ لِأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُغَيِّرُ صِفَةَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ وَلَوْ بِدُونِ إِرْشَاءٍ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّشْوَةِ إِنَّمَا كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَقِّ، وَلَا جَرَمَ أَنْ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّ مَا تَصَدَّى الْإِسْلَامُ لِتَأْسِيسِهِ تَغْيِيرًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا مَنْعَ أَمْوَالِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ فَكَانُوا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الضُّعَفَاءِ قَالَ صَنَّانُ الْيَشْكُرِيُّ: لَوْ كَانَ حَوْضَ حِمَارٍ مَا شَرِبْتَ بِهِ ... إِلَّا بِإِذْنِ حِمَارٍ آخَرَ الْأَبَدِ لَكِنَّهُ حَوْضُ مَنْ أَوْدَى بِإِخْوَتِهِ ... رَيْبُ الْمَنُونِ فَأَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ وَأَمَّا إِرْشَاءُ الْحُكَّامِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْذُلُونَ الرِّشَا لِلْحُكَّامِ، وَلَمَّا تَنَافَرَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ إِلَى هَرَمِ بْنِ قُطْبَةَ الْفَزَارِيِّ بَذَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ إِنْ حَكَمَ لَهُ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى الْآخَرِ فَلَمْ يَقْضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ قَضَى بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا كَرُكْبَتِي الْبَعِيرِ الْأَدْرَمِ الْفَحْلِ تَسْتَوِيَانِ فِي الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ الْأَعْشَى فِي ذَلِكَ مِنْ أَبْيَاتٍ: حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمُ ... أَزْهَرُ مِثْلُ الْقَمَرِ الْبَاهِرِ لَا يَقْبَلُ الرَّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الْخَاسِرِ وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَنِ ارْتَشَى مِنْ حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ النَّهْشَلِيُّ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِل دَفعهَا إِلَيْهِ عَبَّادُ بْنُ أَنْفِ الْكَلْبِ فِي مُنَافَرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ معبد بن نَضْلَة الْفَقْعَسِيِّ لِيُنَفِّرَهُ

عَلَيْهِ فَفَعَلَ، وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَنِ ارْتَشَى فِي الْإِسْلَامِ يَرْفَأُ غُلَامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَشَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِيُقَدِّمَهُ فِي الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ إِلَى عُمَرَ لِأَنَّ يَرْفَأَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي الْإِذْنِ لِلنَّاسِ وَكَانَ الْحَقُّ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْإِذْنِ لِلْأَسْبَقِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا غَيْرُهُ إِلَى التَّقْدِيمِ كَانَ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَسْبَقِ اعْتِدَاءً عَلَى حَقِّ الْأَسْبَقِ فَكَانَ جَوْرًا وَكَانَ بَذْلُ الْمَالِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِهِ إِرْشَاءً وَلَا أَحْسِبُ هَذَا إِلَّا مِنْ أَكَاذِيبِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ لِلْغَضِّ مِنْ عَدَالَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَإِنْ صَحَّ وَلَا إِخَالُهُ: فَالْمُغِيرَةُ لَمْ يَرَ فِي ذَلِكَ بَأْسًا لِأَنَّ الضُّرَّ اللَّاحِقَ بِالْغَيْرِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ رَآهُ إِحْسَانًا وَلَمْ يَقْصِدِ التَّقْدِيمَ فَفَعَلَهُ يَرْفَأُ إِكْرَامًا لَهُ لِأَجَلِ نُوَالِهِ، أَمَّا يَرْفَأُ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى دَقِيقِ هَذَا الْحُكْمِ. فَالرَّشْوَةُ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِنَصِّ هَاتِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ لِلْقَضَاءِ بِالْجَوْرِ فَهِيَ لِأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَلَيْسَتْ هِيَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى النَّهْيِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُوكِلُ الْمَالِ لَا آكِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْقَضَاءِ بِالْحَقِّ فَهِيَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ وَاجِبٌ، وَمِثْلُهَا كُلُّ مَالٍ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْقَضَاءِ مِنَ الْخُصُومِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ أَبَاحُوا لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْقَضَاءِ سَوَاءٌ فِيهِ كِلَا الْخَصْمَيْنِ. وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ حُرْمَةِ أَكْلِ الْمَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ فَجُعِلَ الْمَالُ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَحَدٌ بِوَاسِطَةِ الْحُكْمِ إِثْمًا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُنَفَّذُ إِلَّا ظَاهِرًا (¬1) ، وَهَذَا مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِيهِ لَوْلَا خِلَافٌ وَقَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُنَفَّذُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا إِذَا كَانَ بِحِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ وَادَّعَاهُ الْمَحْكُومُ لَهُ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ أَيْ كَانَ الْقَضَاءُ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ وَكَانَ مُسْتَنِدًا لِشَهَادَةِ شُهُودٍ وَكَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُبْتَدَأَ، هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ غَالِبُ فُقَهَاءِ مَذْهَبِهِ وَبَعْضُهُمْ يَخُصُّهُ بِالنِّكَاحِ. وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خطب امْرَأَة هودونها فَأَبَتْ إِجَابَتَهُ فَادَّعَى عَلَيْهَا، عِنْدَ عَلِيٍّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ زُورًا فَقَضَى عَلِيٌّ بِشَهَادَتِهِمَا فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لَمَّا قَضَى عَلَيْهَا، إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ سَنَدِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى كَوْنِهِ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ لَا يُعَارِضُ الْأَحْوَالَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ نَحْوَ حَدِيثِ «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ ¬

(¬1) انْظُر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» (4/ 120) ، الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من [آل عمرَان: 77) .

[سورة البقرة (2) : آية 189]

فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» ، عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا اتَّهَمَهَا بِأَنَّهَا تُرِيدُ بِإِحْدَاثِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ إِظْهَارَ الْوَهَنِ فِي الْحُكْمِ وَالْإِعْلَانِ بِتَكْذِيبِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَلَعَلَّهَا إِذَا طُلِبَ مِنْهَا الْعَقْدُ أَنْ تَمْتَنِعَ فَيُصْبِحَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ فِيمَا يَقَعُ صَحِيحًا وَفَاسِدًا شَرْعًا مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِصِحَّتِهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ الْمُدْلِيَ بِالْأَمْوَالِ لِلْحُكَّامِ لِيَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ عَالِمٌ لَا مَحَالَةَ بِصُنْعِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَشْنِيعُ الْأَمْرِ وَتَفْظِيعُهُ إِعْلَانًا بِأَنَّ أَكْلَ الْمَالِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ هُوَ مِنَ الَّذِينَ أَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ عَنْ عِلْمٍ وَعَمْدٍ فَجُرْمُهُ أَشَدُّ. [189] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ شَرَائِعِ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِصْلَاحِ النِّظَامِ، دَعَا إِلَيْهِ مَا حَدَثَ مِنَ السُّؤَالِ، فَقَدْ رَوَى الْوَاحِدِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَ الْيَهُودِ سَأَلَ أَنْصَارِيًّا عَنْ الْأَهِلَّةِ وَأَحْوَالِهَا فِي الدِّقَّةِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بَدْرًا ثُمَّ تَتَنَاقَصُ حَتَّى تَخْتَفِيَ فَسَأَلَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ نُزُولَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ نُزُولِ آيَاتِ فَرْضِ الصِّيَامِ بِبِضْعِ سِنِينَ لِأَنَّ آيَةَ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها مُتَّصِلَةٌ بِهَا. وَسَيَأْتِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ عَامِ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ. فَمُنَاسَبَةُ وَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ تَوْقِيتُ الصِّيَامِ بِحُلُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ ذِكْرُ الْمَوَاقِيتِ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَمِنْ كَمَالِ النِّظَامِ ضَبْطُ الْأَوْقَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ شُرِعَ الْحَجُّ أَيْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. وَابْتُدِئَتِ الْآيَة ب يَسْئَلُونَكَ لِأَنَّ هُنَالِكَ سُؤَالًا وَاقِعًا عَنْ أَمْرِ الْأَهِلَّةِ. وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي افتتحت ب يَسْئَلُونَكَ هِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأَحْكَامٍ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهَا فَيَكُونُ مَوْقِعُهَا فِي الْقُرْآنِ مَعَ آيَاتٍ تُنَاسِبُهَا نَزَلَتْ فِي وَقْتِهَا أَوْ قُرِنَتْ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ

وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَا: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَمْتَلِئَ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ لَمْ أَقِفْ لِهَذَا السَّبَبِ عَلَى إِسْنَادٍ. وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي قَوْله: يَسْئَلُونَكَ مَعَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ رَجُلَانِ- نَظَرًا لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ يَهُمُّ جَمِيعَ السَّامِعِينَ أَثْنَاءَ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ مِنْ تَمَامِ ضَبْطِ النِّظَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتَشْرَفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِمَعْرِفَتِهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ سَأَلَ بِالْقَوْلِ وَمَنْ سَأَلَ فِي نَفْسَهُ. وَذَكَرَ فَوَائِدَ خَلْقِ الْأَهِلَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْحَجِّ وَقْتًا مِنَ الْأَشْهُرِ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ النَّسِيءِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ. وَالسُّؤَالُ: طَلَبَ أَحَدٌ مِنْ آخَرَ بَذْلَ شَيْءٍ أَوْ إِخْبَارًا بِخَبَرٍ، فَإِذَا كَانَ طَلَبَ بَذْلٍ عُدِّيَ فِعْلُ السُّؤَالِ بِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ طَلَبَ إِخْبَارٍ عُدِّيَ الْفِعْلُ بِحَرْفِ «عَنْ» أَوْ مَا يَنُوبُ مَنَابَهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ آيَاتٌ مفتتحة ب يَسْئَلُونَكَ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ غَيْرُ بعيد بَعْضهَا عَن بَعْضٍ، جَاءَ بَعْضُهَا غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَبَعْضُهَا مَعْطُوفًا بِهِ وَهِيَ الثَّلَاثُ الْأَوَاخِرُ مِنْهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُفْتَتَحَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَبْيِينِ تَجَرُّدِهَا عَنِ الْعَاطِفِ لِأَنَّهَا فِي اسْتِئْنَافِ أَحْكَامٍ لَا مُقَارَنَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِالْفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، وَلَا يَتَطَلَّبُ لَهَا سِوَى الْمُنَاسَبَةِ لِمَوَاقِعِهَا. وَأَمَّا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ الْأَوَاخِرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْعَاطِفِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَحْكَامٍ لَهَا مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا فَكَانَ السُّؤَالُ الْمَحْكِيُّ فِيهَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَنْشَأَ عَنِ الَّتِي قبلهَا فَكَانَت حَقِيقَة بِالْوَصْلِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا سَيَتَّضِحُ فِي مَوَاقِعِهَا. وَالسُّؤَالُ عَنِ الْأَهِلَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِهَا إِذِ الذَّوَاتُ لَا يُسْأَلُ إِلَّا عَنْ أَحْوَالِهَا، فَيُعْلَمُ هُنَا تَقْدِيرٌ وَحَذْفٌ أَيْ عَنْ أَحْوَالِ الْأَهِلَّةِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ السُّؤَالِ وَاقِعًا بِهَا غَيْرَ مَفْرُوضٍ فَهُوَ يَحْتَمِلُ السُّؤَالَ عَنِ الْحِكْمَةِ وَيَحْتَمِلُ السُّؤَالَ عَنِ السَّبَبِ، فَإِنْ كَانَ عَنِ الْحِكْمَةِ فَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ جَارٍ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ حِينَئِذٍ اسْتِثْبَاتُ كَوْنِ الْمُرَادِ الشَّرْعِيِّ مِنْهَا مُوَافِقًا لِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَوَاقِيتَ لَيْسَ مِمَّا يَخْفَى حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَارَفٌ لَهُمْ، فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ سُؤَالِهِمْ إِنْ كَانَ وَاقِعًا هُوَ تَحَقُّقُ الْمُوَافَقَةِ لِلْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ. وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ فَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ

غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ، فَيَكُونُ إِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِصَرْفِ السَّائِلِ إِلَى غَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا صُرِفَ إِلَيْهِ هُوَ الْمُهِمُّ لَهُ، لِأَنَّهُمْ فِي مَبْدَأِ تَشْرِيعٍ جَدِيدٍ وَالْمَسْئُولُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَانَ الْمُهِمُّ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي صَلَاحِ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آجَالُ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعِبَادَاتِ كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْعِدَّةِ، وَلِذَلِكَ صَرَفَهُمْ عَن بَيَان مسؤولهم إِلَى بَيَانِ فَائِدَةٍ أُخْرَى، لَا سِيَّمَا وَالرَّسُول لم يَجِيء مُبَيِّنًا لِعِلَلِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالسَّائِلُونَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أُصُولِ مَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ مَا يُهَيِّئُهُمْ إِلَى فَهْمِ مَا أَرَادُوا عِلْمَهُ بِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ اللَّفْظِيِّ بَلْ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَعْلِيمَهُمْ مُقَدِّمَاتٍ لِذَلِكَ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَرَّضَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ لِبَيَانِهِ لَبَيَّنَ أَشْيَاءَ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ وَلَا تَقْبَلُهَا عُقُولُهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى طَعْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِتَكْذِيبِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ فِيمَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى ظَوَاهِرِهِ كَقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7، 8] وَقَوْلِهِمْ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ. أَنْشُدُهُ فِي «الْمِفْتَاحِ» وَلَمْ يَنْسُبْهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَائِلِهِ وَلَمْ أَرَهُ فِي غَيْرِهِ. أَتَتْ تَشْتَكِي مِنِّي مُزَاوَلَةَ الْقِرَى ... وَقَدْ رَأَتِ الْأَضْيَافُ يَنْحَوْنَ مَنْزِلِي فَقُلْتُ لَهَا لَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهَا ... هُمُ الضَّيْفُ جِدِّي فِي قِرَاهِمْ وَعِجِّلِي وَإِلَى هَذَا نَحَا صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُظَنُّ بِهِمُ السُّؤَالُ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ الْأَهِلَّةِ لِظُهُورِهَا، وَعَلَى أَنَّ الْوَارِدَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ وَثَعْلَبَةَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا سَأَلَا عَنِ السَّبَبِ إِذْ قَالَا: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا إِلَخْ. وَالْأَهِلَّةُ: جَمْعُ هِلَالٍ وَهُوَ الْقَمَرُ فِي أَوَّلِ اسْتِقْبَالِهِ الشَّمْسَ كُلَّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، قِيلَ وَالثَّالِثَةُ، وَمَنْ قَالَ إِلَى سبع فَإِنَّمَا أَرَادَ الْمجَاز، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْهِلَالَ، وَيُطْلَقُ الْهِلَالُ عَلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ الْهِلَالِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْهِلَالُ هِلَالًا لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِذَلِكَ، وَإِنَّ هَلَّ وَأَهَلَّ بِمَعْنَى رَفَعَ صَوْتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 173] .

وَقَوْلُهُ: مَواقِيتُ لِلنَّاسِ أَيْ مَوَاقِيتُ لِمَا يُوَقَّتُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ أَيْ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ لِأَعْمَالِ النَّاسِ، وَلَمْ تُذْكَرِ الْأَعْمَالُ الْمُوَقَّتَةُ بِالْأَهِلَّةِ لِيَشْمَلَ الْكَلَامُ كُلَّ عَمَلٍ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّوْقِيتِ، وَعَطَفَ الْحَجَّ عَلَى النَّاسِ مَعَ اعْتِبَار الْمُضَاف الْمَحْذُوفِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَاحْتِيَاجُ الْحَجِّ لِلتَّوْقِيتِ ضَرُورِيٌّ إِذْ لَوْ لَمْ يُوَقَّتْ لَجَاءَ النَّاسُ لِلْحَجِّ مُتَخَالِفِينَ فَلَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَسْفَارِهِمْ وَحُلُولِهِمْ بِمَكَّةَ وَأَسْوَاقِهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَتْ مُوَقَّتَةً بِالْأَهِلَّةِ، وَبِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ تَوْقِيتَهُ بِالْهِلَالِ تَكْمِيلِيٌّ لَهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَقْصُورَةٌ عَلَى الذَّاتِ فَلَوْ جَاءَ بِهَا الْمُنْفَرِدُ لَحَصَلَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ وَلَكِنْ شُرِعَ فِيهِ تَوْحِيدُ الْوَقْتِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّ الصَّعْبَ يَخِفُّ بِالِاجْتِمَاعِ وَلِيَكُونَ حَالُهُمْ فِي تِلْكَ الْمدَّة متماثلا فَلَا يَشُقُّ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ فِي اخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا. وَالْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ وَالْمِيقَاتُ جَاءَ بِوَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ مِنْ وَقَّتَ وَسَمَّى الْعَرَبُ بِهِ الْوَقْتَ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا مُشْتَقًّا مِنَ الشُّهْرَةِ، لِأَنَّ الَّذِي يَرَى هِلَالَ الشَّهْرِ يُشْهِرُهُ لَدَى النَّاسِ. وَسَمَّى الْعَرَبُ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ مِيقَاتًا كَأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ الْوَقْتُ عَيْنُهُ. وَقِيلَ: الْمِيقَاتُ أَخَصُّ مِنَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ وَقْتٌ قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، قُلْتُ: فَعَلَيْهِ يَكُونُ صَوْغُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْآلَةِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ يَكُونُ وَسِيلَةً لِتَحْدِيدِ الْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ آلَةٌ لِلضَّبْطِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا وَقْتَ لَهَا فَلَا تَكُونُ لِلْأَهِلَّةِ فَائِدَةٌ فِي فِعْلِهَا. وَمَجِيءُ ذِكْرِ الْحَجِّ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَطِيعُونَ الْحَج حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَمْنَعُونَهُمْ- إِشَارَةً إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ ثَابِتٌ وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَالُوا دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَهُ (¬1) . وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 97] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: 197] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ¬

(¬1) فِيهِ نظر إِذْ الْأَظْهر أَن هَذِه الْآيَة نزلت بعد فرض الْحَج كَمَا قدمنَا قَرِيبا.

وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. معطوفة على يَسْئَلُونَكَ وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ هِيَ مَواقِيتُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ مَقُولًا لِلْمُجِيبِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا كَانَ مُوَالِيًا أَوْ مُقَارِنًا لِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ كَانَ مُثَارَ تَرَدُّدٍ وَإِشْكَالٍ عَلَيْهِمْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، فَكَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ مِنْ بِلَادِهِمْ جَعَلُوا مِنْ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ أَلَّا يَدْخُلَ الْمُحْرِمُ بَيْتَهُ مِنْ بَابِهِ أَوْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ الْمُحْرِمُونَ إِذَا أَرَادُوا أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ تَسَنَّمُوا عَلَى ظُهُورِ الْبُيُوتِ أَوِ اتَّخَذُوا نَقْبًا فِي ظُهُورِ الْبُيُوتِ إِنْ كَانُوا مَنْ أَهْلِ الْمَدَرِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخيام دخلُوا من خَلْفَ الْخَيْمَةِ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ يَدِينُونَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْحُمْسُ فَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ هَذَا، وَالْحُمْسُ جَمْعُ أَحْمَسَ وَالْأَحْمَسُ الْمُتَشَدِّدُ بِأَمْرِ الدِّينِ لَا يُخَالِفُهُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَثَقِيفٌ وَجُشْمٌ وَبَنُو نَصْرِ ابْن مُعَاوِيَةَ وَمُدْلِجٌ وَعَدْوَانُ وَعَضَلٌ وَبَنُو الْحَارِثِ بن عبد مَنَاة، وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَكُلُّهُمْ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ وَحَرَّمَهَا مَا عَدَا بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَإِنَّهُمْ تَحَمَّسُوا لِأَنَّ أُمَّهُمْ قُرَشِيَّةٌ. وَمَعْنَى نَفْيِ الْبِرِّ عَنْ هَذَا نَفْيٌ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِأَنَّهُ غُلُوٌّ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنَّ الْحَجَّ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى أَفْعَالٍ رَاجِعَةٍ إِلَى تَرْكِ التَّرَفُّهِ عَنِ الْبَدَنِ كَتَرْكِ الْمَخِيطِ وَتَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصِدُ مِنْ تَشْرِيعِهِ إِعْنَاتَ النَّاسِ بَلْ إِظْهَارَ التَّجَرُّدِ وَتَرْكَ التَّرَفُّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنِ الْحُمْسُ يَفْعَلُونَ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ الْبِرُّ نَفْيُ جِنْسِ الْبِرِّ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [الْبَقَرَة: 177] وَالْقَرِينَةُ هُنَا هِيَ قَوْلُهُ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَلَمْ يَقُلْ هُنَالِكَ: وَاسْتَقْبِلُوا أَيَّةَ جِهَةٍ شِئْتُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَتَيْنِ إِظْهَارُ الْبِرِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي الْآيَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا نَفَى عَنْهُ الْبِرَّ، وَهَذَا هُوَ مَنَاطُ الشَّبَهِ وَالِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَّلَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْصَارِ، قِيلَ: اسْمُهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَقِيلَ: رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ.

كَانَ دَخَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنْ بَابِهِ اقْتِدَاءً برَسُول الله فقاله لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمْ دَخَلْتَ وَأَنْتَ قَدْ أَحْرَمْتَ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ: دَخَلْتَ أَنْتَ فَدَخَلْتُ بِدُخُولِكَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَحْمَسُ فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا دِينِي دينك رضيت بهداك فَنَزَلَتِ الْآيَةُ ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الرَّسُولَ نَهَى غَيْرَ الْحُمْسِ عَنْ تَرْكِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي إِبْطَالِهِ، وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ عَطِيَّةَ» عَنِ السُّدِّيِّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَابًا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فَوَقَفَ الرَّجُلُ وَقَالَ: إِنِّي أَحْمَسُ فَقَالَ لَهُ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: وَأَنَا أَحْمَسُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيءَ أَعْلَنَ إِبْطَالَ دُخُولِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا. وَأَنَّ الْحُمْسَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، وَأَقُولُ: الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَا يَدْخُلُونَ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ مِنْ بَابه فكأنّه عبّر بِذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَرِوَايَةُ السُّدِّيِّ وَهْمٌ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا يُظَنُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُنَافِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: 177] . واتَّقى فِعْلٌ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَجَرُّ بِأَنْ تَأْتُوا بِالْبَاءِ الزَّائِدَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَيْسَ، وَمُقْتَضَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا الْمَنْفِيَّ مِنَ الْبِرِّ ظَنًّا قَوِيًّا فَلِذَلِكَ كَانَ مُقْتَضَى حَالِهِمْ أَنْ يُؤَكَّدَ نَفْيُ هَذَا الظَّنِّ. وَقَوْلُهُ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَيْسَ الْبِرُّ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ الْبِرُّ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ كَعَطْفِ أَمْرٍ عَلَى نَهْيٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي سَنَةَ خَمْسٍ حِينَ أَزْمَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعُمْرَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَوَى أَنْ يَحُجَّ

[سورة البقرة (2) : آية 190]

بِالْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَصُدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «الْبِيُوتَ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي الْآيَةِ بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى خِلَافِ صِيغَةِ جَمْعِ فَعْلٍ عَلَى فُعُولٍ فَهِيَ كَسْرَةٌ لِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ حَرَكَةِ الضَّمِّ للتَّخْفِيف كَمَا قرأوا عُيُونٍ [الْحجر: 45] . وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى أَصْلِ صِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبَعْضِ الثِّقَلِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الثِّقَلِ الْمُوجِبِ لِتَغْيِيرِ الْحَرَكَةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» : وَالَّذِي أَخْتَارُهُ لِنَفْسِي إِذَا قَرَأْتُ أَكْسِرُ الْحُرُوفَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى قَالُونَ إِلَّا الْهَمْزَةَ فَإِنِّي أَتْرُكُهُ أَصْلًا إِلَّا فِيمَا يُحِيلُ الْمَعْنَى أَوْ يُلْبِسُهُ وَلَا أَكْسِرُ بَاءَ بُيُوتٍ وَلَا عَيْنَ عُيُونٍ، وَأَطَالَ بِمَا فِي بَعْضِهِ نَظَرٌ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ لِنَفْسِهِ بِتَرْجِيحِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي نَصْبِ الْبِرُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرُّ [الْبَقَرَة: 177] وَفِي تَشْدِيدِ نُونِ لكِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ تَظْفَرُونَ بِمَطْلَبِكُمْ مِنَ الْبِرِّ: فَإِنَّ الْبِرَّ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ فَلَا تَفْعَلُوا شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ زَادُوا فِي الْحَجِّ مَا لَيْسَ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ وَاحْتِمَالَاتٌ أُخْرَى كُلُّهَا بَعِيدَةٌ: فَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ وَلَيْسَ الْبِرُّ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَا كَانُوا يَأْتُونَهُ مِنَ النَّسِيءِ قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَفِيهِ بُعْدٌ حَقِيقَةً وَمَجَازًا وَمَعْنًى لِأَنَّ الْآيَاتِ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنِ الْأَهِلَّةِ، وَالنَّسِيءُ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَئُولُ إِلَى اسْتِعَارَةٍ غَيْرِ رَشِيقَةٍ، وَقِيلَ: مَثَلٌ ضُرِبَ لِسُؤَالِهِمْ عَنِ الْأَهِلَّةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَأَمَرَهُمْ بِتَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لِحُصُولِ الْجَوَابِ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: كَانُوا يَنْذِرُونَ إِذَا تَعَسَّرَ عَلَيْهِمْ مَطْلُوبُهُمْ أَلَّا يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمْ مِنْ أَبْوَابِهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا بَعِيدٌ مَعْنًى، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَسَنَدًا، إِذْ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا سَبَب النُّزُول. [190] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 190] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) جُمْلَةُ وَقاتِلُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَيْسَ الْبِرُّ [الْبَقَرَة: 189] إِلَخْ، وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ دَعَا إِلَيْهِ اسْتِعْدَادُ

النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سِتٍّ وَتَوَقُّعُ الْمُسْلِمِينَ غَدْرَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ قِتَالٌ مُتَوَقَّعٌ لِقَصْدِ الدِّفَاعِ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فِي [سُورَةِ الْحَجِّ: 39] وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَآيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَأَرْجَفَ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَبَايَعَ النَّاسُ وَالرَّسُول عَلَى الْمَوْتِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ثُمَّ انْكَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَلَامَةِ عُثْمَان. ونزول هذهف الْآيَاتِ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَالَّتِي نَرَاهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ يُنْبِئُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قد أضمروا ضد النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا تَهَيُّؤَ الْمُسْلِمِينَ لِقِتَالِهِمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 191] إِرْشَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَتِ الْآيَاتُ الْمُتَكَلِّمَةُ عَنِ الْقِتَالِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فَارَقَتْهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: 196] ، الْآيَاتِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ضَرْبُ مُدَّةٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ فَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ إِذَا حَلُّوا بِبَلَدِهِمْ وَأَلَّا يَفُوا لَهُمْ فَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْعُمْرَةِ فَأُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ إِنْ هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَهَذَا إِذْنٌ فِي قِتَالِ الدِّفَاعِ لِدَفْعِ هُجُومِ الْعَدُوِّ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَهَا آيَةُ بَرَاءَةٌ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَة: 36] نَاسِخَةٌ لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى نَسْخَ الْمَفْهُومِ وَلَا يَرَى الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا، وَهِيَ أَيْضًا نَاسِخَةٌ لَهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا وَلَا يَرَى نَسْخَ الْمَفْهُومِ، وَهِيَ وَإِنْ نَزَلَتْ لِسَبَبٍ خَاصٍّ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ يُبَادِئُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصَّصُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمُ الَّذِينَ هُمْ مُتَهَيِّئُونَ لِقِتَالِكُمْ أَيْ لَا تُقَاتِلُوا الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، أَيِ الْقَيْدُ لِإِخْرَاجِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ لَا لِإِخْرَاجِ الْمُحَاجِزِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ، فَإِنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا. ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ، أَيْ فَفِعْلُ يُقاتِلُونَكُمْ مُسْتَعْمل فِي مُقَارنَة الْفِعْلِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 180] . وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ وَهِيَ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا وَهُوَ الْقَتْلُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ مِنْ جَانِبَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ إِذَا قُتِلَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقْتَلَ كَانَتِ الْمُفَاعَلَةُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ

[سورة البقرة (2) : آية 191]

بِمَعْنَى مُفَاعَلَةِ أَسْبَابِ الْقَتْلِ أَيِ الْمُحَارَبَةِ، فَقَوْلُهُ وَقاتِلُوا بِمَعْنَى وَحَارِبُوا وَالْقِتَالُ الْحَرْبُ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهَا مِنْ هُجُومٍ وَمَنْعِ سُبُلٍ وَحِصَارٍ وَإِغَارَةٍ وَاسْتِيلَاءٍ عَلَى بِلَادٍ أَوْ حُصُونٍ. وَإِذَا أُسْنِدَتِ الْمُفَاعَلَةُ إِلَى أَحَدِ فَاعِلَيْهَا فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِالْفِعْلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَعَلَ فَاعِلَ الْمُفَاعَلَةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ فَجَعَلَ فَاعِلَهُ ضَمِيرَ عَدُوِّهِمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ دَافِعُوا الَّذِينَ يَبْتَدِئُونَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُبَادَأَةِ دَلَائِلُ الْقَصْدِ لِلْحَرْبِ بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْأَعْدَاءَ خَرَجُوا لِحَرْبِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَتَّى يَضْرِبُوا وَيَهْجُمُوا لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ يَفُوتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَدَارُكُهَا، وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ لَا مَحَالَةَ، وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، أَوْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: 191] تَخْصِيصًا أَوْ تَقْيِيدًا بِبَعْضِ الْبِقَاعِ. فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْتَدُوا أَيْ لَا تَبْتَدِئُوا بِالْقِتَالِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَحْذِيرٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَذَلِكَ مُسَالَمَةٌ لِلْعَدُوِّ وَاسْتِبْقَاءٌ لَهُمْ وَإِمْهَالٌ حَتَّى يَجِيئُوا مُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ وَلَا تَعْتَدُوا فِي الْقِتَالِ إِنْ قَاتَلْتُمْ فَفَسَّرَ الِاعْتِدَاءَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَرْجِعُ إِلَى تَجَاوُزِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالِاعْتِدَاءُ الِابْتِدَاءُ بِالظُّلْمِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ آنِفًا. [191، 192] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 191] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 192] فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. هَذَا أَمْرٌ بِقَتْلِ مَنْ يُعْثَرُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ عَمَّمَ الْمَوَاقِعَ وَالْبِقَاعَ زِيَادَةً فِي أَحْوَالِ الْقَتْلِ وَتَصْرِيحًا بِتَعْمِيمِ الْأَمَاكِنِ فَإِنَّ أَهَمِّيَّةَ هَذَا الْغَرَضِ تَبْعَثُ عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِاقْتِضَاءِ عُمُومِ الْأَشْخَاصِ تَعْمِيمَ الْأَمْكِنَةِ لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مَأْذُونِينَ بِذَلِكَ فَكُلُّ مَكَانٍ يَحُلُّ فِيهِ الْعَدُوُّ فَهُوَ مَوْضِعُ قِتَالٍ، فَالْمَعْنَى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ إِنْ قَاتَلُوكُمْ. وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُكَمِّلَةً لَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ قَتْلٌ خَاصٌّ غَيْرُ قِتَالِ الْوَغَى فَحَصَلَتِ الْمُغَايِرَةُ الْمُقْتَضِيَةُ الْعَطْفَ، وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا وَاقْتُلُوهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَقَاتِلُوهُمْ

مِثْلَ الْآيَةِ قَبْلَهَا تَنْبِيهًا عَلَى قَتْلِ الْمُحَارِبِ وَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْعُثُورِ عَلَيْهِ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لِلْقِتَالِ وَأَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مُحَارِبًا فَهُوَ قَاتِلٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ. وثَقِفْتُمُوهُمْ بِمَعْنَى لَقِيتُمُوهُمْ لِقَاءَ حَرْبٍ وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ، وَفَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ وُجُودٌ عَلَى حَالَةِ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أَيْ يَحِلُّ لَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تُخْرِجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ الَّتِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهَا، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَعْدٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَيَكُونُ هَذَا اللِّقَاءُ لِهَذِهِ الْبُشْرَى فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَسْعَوْا إِلَيْهِ حَتَّى يُدْرِكُوهُ وَقَدْ أَدْرَكُوهُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَفِيهِ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنَّصْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الْفَتْح: 27] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ تَذْيِيلٌ وأل فِيهِ لِلْجِنْسِ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَنَفْيٌ لِلتَّبِعَةِ عَنْهُمْ فِي الْقِتَالِ بِمَكَّةَ إِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ. وَالْفِتْنَةُ إِلْقَاءُ الْخَوْفِ وَاخْتِلَالُ نِظَامِ الْعَيْشِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الْبَقَرَة: 102] ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَقِيَهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي مَكَّةَ مِنَ الْأَذَى بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَالسُّخْرِيَةِ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ، فَالْمُشْرِكُونَ مَحْقُوقُونَ مِنْ قَبْلُ فَإِذَا خَفَرُوا الْعَهْدَ اسْتَحَقُّوا الْمُؤَاخَذَةَ بِمَا مَضَى فِيمَا كَانَ الصُّلْحُ مَانِعًا مِنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ لَتَكَرُّرِ إِضْرَارِهَا بِخِلَافِ أَلَمِ الْقَتْلِ، وَيُرَادُ مِنْهَا أَيْضًا الْفِتْنَةُ الْمُتَوَقَّعَةُ بِنَاءً عَلَى تَوَقُّعِ أَنْ يَصُدُّوهُمْ عَنِ الْبَيْتِ أَوْ أَنْ يَغْدُرُوا بِهِمْ إِذَا حَلُّوا بِمَكَّةَ، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْمُسْلِمُونَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْعَامَ الْقَابِلَ بِالسُّيُوفِ فِي قِرَابِهَا، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا إِعْلَانُ عُذْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَإِلْقَاءُ بُغْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى أَهُبَّةِ قِتَالِهِمْ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِصُدُورٍ حَرِجَةٍ حَنِقَةٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ خُصُوصَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنَ الْكَلَامِ الْمُذَيَّلِ.

وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) . الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ الَّتِي أَفَادَتِ الْأَمْرَ بِتَتَبُّعِ الْمُقَاتِلِينَ بِالتَّقْتِيلِ حَيْثُمَا حَلُّوا سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَبِكِينَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ كَانُوا فِي حَالَةِ تَنَقُّلٍ أَوْ تَطَلُّعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْمُحَارِبِ لَا تَنْضَبِطُ وَلَيْسَتْ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لِلنَّظَرِ فِي نَوَايَاهُ وَالتَّوَسُّمِ فِي أَغْرَاضِهِ، إِذْ قد يبادره إِلَى اغْتِيَالِ عَدُوِّهِ فِي حَالِ تَرَدُدِّهِ وَتَفَكُّرِهِ، فَخَصَّ الْمَكَانَ الَّذِي عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي شَمِلَهَا قَوْلُهُ: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَيْ إِنْ ثَقِفْتُمُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غَيْرَ مُشْتَبِكِينَ فِي قِتَالٍ مَعَكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا حِفْظُ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمرَان: 97] ، فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ مَنْعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ أَنْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ قِتَالٍ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَجُعِلَتْ غَايَةَ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَيْ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ فَاقْتُلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُمْ خَرَقُوا حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَوْ تُرِكَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْمِثْلِ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَادَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَاتَلَتِهِمْ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا النَّهْيِ فَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَتْلُ مَنْ ثُقِفُوا مِنْهُمْ كَذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِذْنِ بِقَتْلِهِمْ حِينَئِذٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ اشْتِبَاكٍ مَعَهُمْ بِقِتَالٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسِيلَةً لَهَزْمِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوهُمْ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْقَتْلَ بِدُونِ قِتَالٍ وَالْقَتْلَ بِقِتَالٍ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ أَيْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَاقْتُلُوهُمْ هُنَالِكَ، أَيْ فَاقْتُلُوا مَنْ ثَقِفْتُمْ مِنْهُمْ حِينَ الْمُحَارَبَةِ، وَلَا يَصُدُّكُمُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَنْ تَقَصِّي آثَارِهِمْ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَام ملْجأ يلجؤون إِلَيْهِ إِذَا انْهَزَمُوا. وَقَدِ احْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي انْتِظَامِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 190] إِلَى قَوْلِهِ هُنَا- كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى دَعْوَى نَسْخِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ

فَزَعَمَ أَنَّ آيَاتٍ مُتَقَارِنَةً بَعْضَهَا نَسَخَ بَعْضًا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَارِنَةَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ نَزَلَتْ كَذَلِكَ وَمَعَ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمَانِعَةِ مِنْ دَعْوَى كَوِنِ بَعْضِهَا قَدْ نَزَلَ مُسْتَقِلًّا عَنْ سَابِقِهِ وَلَيْسَ هُنَا مَا يُلْجِئُ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّرَاكِيبِ الْبَلَاغِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ الْمَعَانِي الْحَاصِلَةِ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ لِلْمُقَاتِلِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِمَا جَعَلَهُ لِهَذَا الْمَسْجِدِ مِنَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ حُرْمَةُ نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا كَانَ قِتَالُ الْكُفَّارِ عِنْدَهُ قِتَالًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْهُ وَمُنَاوَاةً لِدِينِهِ فَقَدْ صَارُوا غَيْرَ مُحْتَرِمِينَ لَهُ وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ هُنَالِكَ تَأْيِيدًا لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) ثَلَاثَتُهَا بِأَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (وَلَا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ) بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ، فَقَالَ الْأَعْمَشُ لِحَمْزَةَ أَرَأَيْتَ قِرَاءَتَكَ هَذِهِ كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ قَاتِلًا بَعْدَ أَنْ صَارَ مَقْتُولًا؟ فَقَالَ حَمْزَةُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ قَالُوا قتلنَا اهـ يُرِيدُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ وَالْمَعْنَى وَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَاقْتُلُوا مَنْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ (قَتَلُوا) إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بِمَعْنَى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسْنِدُ فِعْلَ بَعْضِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمِلَّةِ أَوِ الْفِرْقَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِهَا مِنْ ضَمِيرٍ كَمَا هُنَا أَوِ اسْمٍ ظَاهِرٍ نَحْوَ قَتَلَتْنَا بَنُو أَسَدٍ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْقَتْلُ فَيَشْمَلُ الْقَتْلَ بِاشْتِبَاكِ حَرْبٍ وَالْقَتْلُ بِدُونِ مَلْحَمَةٍ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ بِالنَّصِّ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ إِذَا حَارَبَ فِي الْحَرَمِ أَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مُقَاتَلَةٌ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ عَدُوٌّ وَقَالَ: لَا أُقَاتِلُكُمْ وَأَمْنَعُكُمْ مِنَ الْحَجِّ وَلَا أَبْرَحُ مِنْ مَكَّةَ لَوَجَبَ قِتَالُهُ وَإِنْ لم يبْدَأ بِالْقِتَالِ نَقْلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنْ مَالِكِيَّةِ الْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْبَقَرَة: 193] .

وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَتِهَا عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُحَارِبِ إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ وَكَذَا الْجَانِي إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَارًّا مِنَ الْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: بِجَوَازِ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التَّوْبَة: 5] الْآيَةَ قَدْ نَسَخَ هَاتِهِ الْآيَةَ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ بِنَاءً عَلَى تَأَخُّرِ نُزُولِهَا عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْعَامُّ الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الْعَمَلِ يَنْسَخُ الْخَاصَّ اتِّفَاقًا. وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ أَبُو بَرْزَةَ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتُلُوهُ» وَابْنُ خَطَلٍ هَذَا هُوَ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ التَّيْمِيُّ كَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَجَعَلَ دَأْبَهُ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامَ فَأَهْدَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ دَمَهُ فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ عَاذَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَأَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ حِينَئِذٍ، فَكَانَ قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ قَتْلَ حَدٍّ لَا قَتْلَ حَرْبٍ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَضَعَ الْمِغْفَرَ عَنْ رَأْسِهِ وَقَدِ انْقَضَتِ السَّاعَةُ الَّتِي أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فِيهَا مَكَّةَ. وَبِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُتَقَرِّرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ بِقَتْلِ مَنْ قَاتَلَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ أَنَّ الْقِتَالَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِحُرْمَتِهِ لِلِاسْتِخْفَافِ، فَكَذَلِكَ عِيَاذُ الْجَانِي بِهِ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِذَا الْتَجَأَ الْمُجْرِمُ الْمُسْلِمُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ جَازَ قَتْلُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ الْكَافِرُ إِذَا الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ إِلَّا إِذَا قَاتَلَ فِيهِ لِنَصِّ هَاتِهِ الْآيَةِ وَهِيَ مُحْكَمَةٌ عِنْدَهُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَهُوَ قَول طَاوُوس وَمُجَاهِدٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : حَضَرْتُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُقْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَطْمَارٌ فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ وَتَصَدَّرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَقَالَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ: مَنِ السَّيِّدُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِصَاغَانَ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْسِ، وَمَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمُ الْمُقَدَّسُ فَقَالَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ: سَلُوهُ عَنِ الْعَادَةِ فِي مُبَادَرَةِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ أَسْئِلَتِهِمْ، وَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إِذَا الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ هَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَسُئِلَ عَنِ الدَّلِيلِ فَقَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قُرِئَ (وَلَا تَقْتُلُوهُمْ) فَالْآيَةُ نَصٌّ وَإِنْ قُرِئَ (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ) فَهِيَ تَنْبِيهٌ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى النَّهْيِ

عَنِ الْقَتْلِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الزِّنْجَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ، فَقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] فَقَالَ الصَّاغَانِيُّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْتَ بِهَا عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ وَالَّتِي احْتَجَجْتُ بِهَا خَاصَّةٌ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ فَأُبْهِتَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ بديع الْكَلَام اهـ. وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ نَاسِخٌ وَحَدِيثُ ابْنِ خَطَلٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ قَتْلَ ابْنِ خَطَلٍ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فِيهِ مَكَّةَ فَيَدْفَعُهُ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ انْتَهَتْ بِالْفَتْحِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَعَ حِينَئِذٍ الْمِغْفَرَ وَذَلِكَ أَمَارَةُ انْتِهَاءِ سَاعَةِ الْحَرْبِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : الْكَافِرُ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُ وَلَمْ يَجْنِ جِنَايَةً وَلَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْقَتْلَ الَّذِي اقْتَضَتْهُ آيَةُ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَهُوَ مِمَّا شَمَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، الْإِشَارَة إِلَى الْقَتْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوهُمْ أَيْ كَذَلِكَ الْقَتْلُ جَزَاؤُهُمْ عَلَى حَدِّ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] وَنُكْتَةُ الْإِشَارَةِ تَهْوِيلُهُ أَيْ لَا يَقِلُّ جَزَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْقَتْلِ وَلَا مَصْلَحَةٌ فِي الْإِبْقَاءِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، فَقَوْلُهُ كَذلِكَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِلِاهْتِمَامِ وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 190] لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ لَيْسَتْ جَزَاءً إِذْ لَا انْتِقَامَ فِيهَا بَلِ الْقِتَالٌ سِجَالٌ يَوْمًا بِيَوْمٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنْ قِتَالِكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَفُور رَحِيم، فينبعي أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ سُنَّةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِانْتِهَاءِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ تَنْبِيهٌ لِوُجُوبِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ إِنِ انْتَهَوْا بِمَوْعِظَةٍ وَتَأْيِيدٍ لِلْمَحْذُوفِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَالِانْتِهَاءُ: أَصْلُهُ مُطَاوِعُ نَهَى يُقَالُ: نَهَاهُ فَانْتَهَى ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَفِّ عَنْ عَمَلٍ

[سورة البقرة (2) : آية 193]

أَوْ عَنْ عَزْمٍ لِأَنَّ النَّهْيَ هُوَ طَلَبُ تَرْكِ فِعْلٍ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَبُ بَعْدَ تَلَبُّسِ الْمَطْلُوبِ بِالْفِعْلِ أَوْ قَبْلَ تَلَبُّسِهِ بِهِ قَالَ النَّابِغَةُ: لَقَدْ نَهَيْتُ بَنِي ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ ... وَعَنْ تَرَبُّعِهِمْ فِي كُلِّ إِصْفَارٍ أَيْ عَنِ الْوُقُوعِ فِي ذَلِك. [193] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 193] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَلَّا تُعْطَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَا أُجْمِلَ مِنْ غَايَةِ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 191] إِلَى هُنَا تَفْصِيلًا لِجُمْلَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ لِأَنَّ عُمُومَ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ تَنْشَأُ عَنْهُ احْتِمَالَاتٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ وَقَدِ انْقَضَى بَيَانُ أَحْوَالِ الْبِقَاعِ وَأَفْضَتِ التَّوْبَةُ الْآنَ إِلَى بَيَانِ تَحْدِيدِ الْأَحْوَالِ بِغَايَةِ أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ. فَإِذَا انْتَهَتِ الْفِتْنَةُ فَتِلْكَ غَايَةُ الْقِتَالِ، أَيْ إِنْ خَاسُوا بِالْعَهْدِ وَخَفَرُوا الذِّمَّةَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ عَهْدِهِمْ فَلَكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ أُخْرَى مِنْ بَعْدُ يَفْتِنُونَكُمْ بِهَا وَحَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَهَذَا كُلُّهُ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [الْبَقَرَة: 191] ، فَإِعَادَةُ فِعْلِ وَقاتِلُوهُمْ لِتُبْنَى عَلَيْهِ الْغَايَةُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَبِتِلْكَ الْغَايَةِ حَصَلَتِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهِيَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا سَاغَ عَطْفُهُ عَلَى مِثْلِهِ. فَ (حَتَّى) فِي قَوْلِهِ: حَتَّى لَا تَكُونَ إِمَّا أَنْ تُجْعَلَ لِلْغَايَةِ مُرَادِفَةَ إِلَى، وَإِمَّا أَنْ تُجْعَلَ بِمَعْنَى كَيِ التَّعْلِيلِيَّةِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ الْقِتَال لما غيي بِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْغَايَةَ هِيَ الْمَقْصِدُ، وَمَتَّى كَانَتِ الْغَايَةُ غَيْرَ حِسِّيَّةٍ نَشَأَ عَنْ (حَتَّى) مَعْنَى التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ غَايَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [الْبَقَرَة: 217] . وأيّا مَا كَانَ فَالْمُضَارِعُ مَنْصُوبٌ بعد (حَتَّى) بِأَن مُضْمَرَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْغَايَةِ.

وَالْفِتْنَةُ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا كَالْمُرَادِ بِهَا هُنَالِكَ، وَلَمَّا وَقَعَتْ هُنَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَمَّتْ جَمِيعَ الْفِتَنِ فَلِذَلِكَ سَاوَتِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 191] فَإِعَادَةُ الْفِتْنَةِ مُنَكَّرَةً هُنَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ بَيْنَ الْمُعْرِبِينَ فِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَهِيَ غَيْرُ الْأُولَى لِأَنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ فَشَمَلَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْفِتْنَةِ مُسَاوِيًا لِلْفِتْنَةِ الْمُعَرَّفَةِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَتَقَيَّدَ بِثَلَاثَةِ قُيُودٍ بِالْقَرِينَةِ أَيْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَتْ فِتَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ: «ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ» . وَانْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَام فتنزل فِتْنَتُهُمْ فِيهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُقْتَلُوا جَمِيعًا فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ بِفَنَاءِ الْفَاتِنِينَ. وَقَدْ يُفْرَضُ انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَمَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ ضُعَفَاءَ أَمَامَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ يَخْشَوْنَ بَأْسَهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ التَّصَلُّبِ فِي دِينِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَمْ تَكُنْ بِالَّتِي تَضْمَحِلُّ عِنْدَ ضَعْفِهِمْ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى إِرْضَاءِ الْعَقِيدَةِ يَصْدُرُ حَتَّى مِنَ الضَّعِيفِ كَمَا صَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْمَدِينَةِ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَقَتْلِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْحَارِثِيَّ فِي خَيْبَرَ، وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَإِمَّا إِفْنَاؤُهُمْ بِالْقَتْلِ، وَقَدْ حَصَلَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَفَرِيقٌ أَسْلَمُوا، وَفَرِيقٌ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تقبل من مُشْرِكين الْعَرَبِ الْجِزْيَةُ، وَمِنْ ثَمَّ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِتْنَةَ هُنَا بِالشِّرْكِ تَفْسِيرًا بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَعْنَى لَا بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ. وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ عَطْفٌ عَلَى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَهُوَ مَعْمُول لِأَن الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ (حَتَّى) أَيْ وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، أَيْ حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ هُنَالِكَ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ وَحْدَهُ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الدِّينَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوَاهِي الَّتِي لَا أَفْرَادَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَلَا يَحْتَمِلُ تَعْرِيفُهُ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لَامُ الِاخْتِصَاصِ أَيْ حَتَّى يَكُونَ جِنْسُ الدِّينِ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] ، وَذَلِكَ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ، إِذْ لَا نَظَرَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْأَفْرَادِ، وَالْمَعْنَى: وَيَكُونَ دِينُ الَّذِينَ تُقَاتِلُونَهُمْ خَالِصًا لِلَّهِ لَا حَظَّ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَخْلِيصُ بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ وَعُمُومُ الْإِسْلَامِ لَهَا لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا لِأَنْ تَكُونَ قَلْبَ الْإِسْلَامِ وَمَنْبَعَ مَعِينِهِ فَلَا يَكُونُ الْقَلْبُ صَالِحًا إِذَا كَانَ مَخْلُوطَ الْعَنَاصِرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَثَرًا جَيِّدًا قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَاتَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانٌ آخَرُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، أَيْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنْ نَقْضِ الصُّلْحِ أَوْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الشِّرْكِ بِأَنْ آمَنُوا فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ لِبُعْدِ الصِّفَةِ بِطُولِ الْكَلَامِ وَلِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ التَّصْرِيحَ بِأَهَمِّ الْغَايَتَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ نَسَخَ أَوَّلَهُ وَأَوْجَبَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قَائِمٌ مَقَامَ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَالْمَعْنَى فَإِنِ انْتَهَوْا عَنْ قِتَالِكُمْ وَلَمْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِ فَلَا تَأْخُذُوهُمْ بِالظِّنَّةِ وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ ظَالِمِينَ وَإِذْ لَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مَجَازٌ بَدِيعٌ. وَالْعُدْوَانُ هُنَا إِمَّا مَصْدَرُ عَدَا بِمَعْنَى وَثَبَ وَقَاتَلَ أَيْ فَلَا هُجُومَ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا مَصْدَرُ عَدَا بِمَعْنَى ظَلَمَ كَاعْتَدَى فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهُ عُدْوَانًا مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: عَلَى الظَّالِمِينَ كَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِالسُّوءِ سَيِّئَةً. وَهَذِهِ المشاكلة تقديرية.

[سورة البقرة (2) : آية 194]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فُصِلَتْ عَنْ سَوَابِقِهَا لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعْمِيمَ الْأَمْكِنَةِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ كَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَتَسَاءَلُ عَمَّا يُمَاثِلُ الْبِقَاعَ الْحَرَامَ وَهُوَ الْأَزْمِنَةُ الْحَرَامُ أَعْنِي الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الَّتِي يُتَوَقَّعُ حَظْرُ الْقِتَالِ فِيهَا. فَإِنْ كَانَ هَذَا تَشْرِيعًا نَازِلًا عَلَى غَيْرِ حَادِثَةٍ فَهُوَ اسْتِكْمَالٌ وَاسْتِفْصَالٌ لِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُهِمِّ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا عَلَى سَبَبٍ كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامِ الْقَضِيَّةِ لَمَّا قَصَدُوا مَكَّةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ مُعْتَمِرِينَ خَشَوْا أَلَّا يَفِيَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِدُخُولِ مَكَّةَ أَوْ أَنْ يَغْدُرُوهُمْ وَيَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِالْقِتَالِ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ وَهُمْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَإِنْ دَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ انْتَهَكُوا حُرْمَةَ الشَّهْرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَوْ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ: أَنَهَيْتَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَالَ: نَعَمْ، فَأَرَادُوا قِتَالَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْ إِنِ اسْتَحَلُّوا قِتَالَكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَاتِلُوهُمْ أَيْ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ قِتَالَ الْمُدَافَعَةِ، فَإِطْلَاقُ الشَّهْرِ هُنَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَاضِحُ التَّقْدِيرِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ وَصْفِهِ بِالْحَرَامِ، وَالتَّقْدِيرُ حُرْمَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَتَكْرِيرُ لَفْظِ الشَّهْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهُ التَّعَدُّدُ بَلِ التَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ جِهَةِ إِبْطَالِ حُرْمَتِهِ أَيِ انْتِهَاكُهُمْ حُرْمَتَهُ تُسَوِّغُ لَكُمُ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، أَنَّ قُرَيْشًا صَدَّتْهُمْ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الرُّجُوعَ عَامَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي دَخَلْتُمْ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ الَّذِي صُدِدْتُمْ فِيهِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: «يَوْمٌ بِيَوْمٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالشَّهْرِ الْحَرامِ لِلتَّعْوِيضِ كَقَوْلِهِمْ: صَاعًا بِصَاعٍ وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَهْرَانِ بَلِ الْمُرَادُ انْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ وَهُمَا انْتِهَاكَانِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّهْرِ هُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ حُكْمًا عَامًّا وَيَشْمَلُ كُلَّ شَهْرٍ خَاصٍّ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْمَقْصُودِ شَهْرَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ شَهْرَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ. وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مُتَتَابِعَةٌ هِيَ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَحُرْمَتُهَا لِوُقُوعِ الْحَجِّ فِيهَا ذَهَابًا وَرُجُوعًا وَأَدَاءً، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ مُفْرَدٌ وَهُوَ رَجَبٌ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَهْرُ الْعُمْرَةِ وَقَدْ حَرَّمَتْهُ مُضَرٌ كُلُّهَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: رَجَبُ مُضَرٍ، وَقَدْ أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التَّوْبَة: 36] . وَقَوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ تَعْمِيم للْحكم وَلذَلِك عطفه ليَكُون كالحجة لما قبله من قَوْله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: 191] وَقَوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ إِلَخ، فالجملة تذييل وَالْوَاو اعتراضية. وَمَعْنَى كَوْنِهَا قِصَاصًا أَيْ مُمَاثِلَةً فِي الْمُجَازَاةِ وَالِانْتِصَافِ، فَمَنِ انْتَهَكَهَا بِجِنَايَةٍ يُعَاقَبُ فِيهَا جَزَاءَ جِنَايَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحُرْمَةَ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِقَصْدِ الْأَمْنِ فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى غَدْرِ الْأَمْنِ أَوِ الْإِضْرَارِ بِهِ فَعَلَى الْآخَرِ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّاسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُرْمَةِ الْأَزْمِنَةِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ حُرْمَةَ الْمَكَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: 191] ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْحُرُمَاتِ بِلَفْظِ (قِصَاصٍ) إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فَذْلَكَةٌ، وَسُمِّيَ جَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً مُشَاكَلَةً عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: 193] . وَقَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ يَشْمَلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْأَحْوَالِ كَكَوْنِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ بِالِاتِّقَاءِ فِي الِاعْتِدَاءِ أَيْ بِأَلَّا يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُنْتَقِمِ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَضَبٍ فَهُوَ مَظِنَّةُ الْإِفْرَاطِ. وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِكَلِمَةِ اعْلَمْ إِيذَانٌ بِالِاهْتِمَامِ بِمَا سَيَقُولُهُ، فَإِنَّ قَوْلَكَ فِي الْخِطَابِ: اعْلَمْ إِنْبَاءٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَا سَيُلْقَى لِلْمُخَاطَبِ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ

[سورة البقرة (2) : آية 195]

فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [24] ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِعَانَةِ بِالنَّصْرِ وَالْوِقَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي حُرُمَاتِهِ فِي غَيْرِ أَحْوَالِ الِاضْطِرَارِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فَهُوَ يَجْعَلُهُمْ بِمحل عنايته. [195] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 190] إِلَخْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِقِتَالِ عَدُوِّهِمْ وَكَانَ الْعَدُوُّ أَوْفَرَ مِنْهُمْ عُدَّةَ حَرْبٍ أَيْقَظَهُمْ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمُخَاطَبُونَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ لَا خُصُوصَ الْمُقَاتِلِينَ. وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ. مَعَ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ- تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ يُقَصِّرُونَ فِي الْإِتْيَانِ عَلَى مُنْتَهَى الِاسْتِعْدَادِ لِعَدُوٍّ قَوِيٍّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَثِقَةً بِهِ، وَمُلِئَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ النَّصْرَ وَأَخِيرًا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ نُبِّهُوا عَلَى أَنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لَهُمْ بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُمْ أَخْذَ الْعُدَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِبَذْلِ الْوُسْعِ لِوَسَائِلِ النَّصْرِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابٌ نَاطَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا النِّظَامُ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ فِي الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا، فَتَطَلُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ دُونَ أَسْبَابِهَا غَلَطٌ وَسُوءُ أَدَبٍ مَعَ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا كَيْ لَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَة: 24] فَالْمُسْلِمُونَ إِذَا بَذَلُوا وُسْعَهُمْ، وَلَمْ يُفَرِّطُوا فِي شَيْءٍ ثُمَّ ارْتَبَكُوا فِي أَمْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَاللَّهُ نَاصِرُهُمْ، وَمُؤَيِّدُهُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتَحْصِيلِهِ وَلَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ هم أَذِلَّةٌ، إِذْ هم يؤمئذ جُمْلَةُ الْمُسْلِمِينَ وَإِذْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ، فَأَمَّا أَقْوَامٌ يُتْلِفُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهَوَاتِهِمْ، وَيُفِيتُونَ الْفُرَصَ وَقْتَ الْأَمْنِ فَلَا يَسْتَعِدُّونَ لِشَيْءٍ ثُمَّ يَطْلُبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ بِتَفْرِيطِهِمْ، وَلَعَلَّهُ يَتَدَارَكُهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى اسْتِبْقَاءِ الدِّينِ. وَالْإِنْفَاقُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: 3] . و

(سَبِيل اللَّهِ) طَرِيقُهُ، وَالطَّرِيقُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يُضَافُ إِلَى مَا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ النَّاسُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّرِيقِ الْعَمَلَ الْمُوصِلَ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي اللَّفْظِ وَمَجَازٌ فِي الْإِسْنَادِ، وَقَدْ غَلَبَ (سَبِيلُ اللَّهِ) فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ فِي الْجِهَادِ. أَيِ الْقِتَالِ لِلذَّبِّ عَنْ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْعَتَادِ، وَالْخَيْلِ، وَالزَّادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَظْرُوفٌ لِلْجِهَادِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَلَيْسَتْ (فِي) هُنَا مُسْتَعْمَلَةً لِلتَّعْلِيلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، عُقِّبَ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَهَا عَوَاقِبُ ضَارَّةٌ إِبْلَاغًا لِلنَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ لِئَلَّا يَدْفَعَ بِهِمْ يَقِينُهُمْ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي وَسَائِلِ الْحَذَرِ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالنُّفُوسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ يَجْمَعُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَارِيفِ الْحَرْبِ وَحِفْظِ النُّفُوسِ، وَلِذَلِكَ فَالْجُمْلَةُ فِيهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَإِنَّمَا عُطِفَتْ وَلَمْ تُفْصَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا غَرَضٌ آخَرُ مِنْ أَغْرَاضِ الْإِرْشَادِ. وَالْإِلْقَاءُ رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ بِإِلَى وَإِلَى الْمَرْمِيِّ فِيهِ بِفِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْمَفْعُولُ إِذْ لَمْ يَذْكَرْ غَيْرَهْ، وَأَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ كَمَا قَالُوا لِلْمُنْقَادِ «أَعْطَى بِيَدِهِ» أَيْ أَعْطَى يَدَهُ لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِمَ فِي الْحَرْبِ وَنَحْوِهِ يَشُدُّ بِيَدِهِ، فَزِيَادَةُ الْبَاءِ كَزِيَادَتِهَا فِي وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مَرْيَم: 25] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَالْمَعْنَى وَلَا تُعْطُوا الْهَلَاكَ أَيْدِيَكُمْ فَيَأْخُذَكُمْ أَخذ الموثق، وَجل التَّهْلُكَةَ كَالْآخِذِ وَالْآسِرِ اسْتِعَارَةً بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ بِالْمُلْقِي، وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْيَدُ مَعَ هَذَا مَجَازًا عَنِ الذَّاتِ بِعَلَاقَةِ الْبَعْضِيَّةِ لِأَنَّ الْيَدَ أَهَمُّ شَيْءٍ فِي النَّفْسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا فِي الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ أَيْ أَلْقَتِ الشَّمْسُ نَفْسَهَا. وَقِيلَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَالْأَيْدِي مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الذَّاتِ كِنَايَةً

عَنِ الِاخْتِيَارِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بِاخْتِيَارِكُمْ. وَالتَّهْلُكَةُ بِضَمِّ اللَّامِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمَ مَصْدَرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْمَصَادِرِ وَزْنُ التَّفْعُلَةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا فِي الْمَصَادِرِ التَّفْعِلَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ مَصْدَرُ مُضَاعَفِ الْعَيْنِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ كَزَكَّى وَغَطَّى، أَوِ الْمَهْمُوزُ اللَّامِ كَجَزَّأَ وَهَيَّأَ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ لَهُ نَظِيرَيْنِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ التَّضُرَّةَ وَالتَّسُرَّةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ أَضَرَّ وَأَسَرَّ بِمَعْنَى الضُّرِّ وَالسُّرُورِ، وَفِي الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ التَّنْضُبَةَ وَالتَّتْفُلَةَ (الْأَوَّلُ اسْمُ شَجَرٍ، وَالثَّانِي وَلَدُ الثَّعْلَبِ) . وَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» أَنَّ الْخَلِيلَ قَرَأَهَا (التَّهْلِكَةِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَلَا أَحْسِبُ الْخَلِيلَ قَرَأَ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ فِي الْمَشْهُورِ وَلَا الشَّاذِّ فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ فَلَعَلَّ الْخَلِيلَ نَطَقَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ فَلَمْ يَضْبُطْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ حَقَّ الضَّبْطِ، فَإِنَّ الْخَلِيلَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِحَرْفٍ غَيْرِ مَأْثُورٍ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ النَّهْيُ عَنِ التَّسَبُّبِ فِي إِتْلَافِ النَّفْسِ أَوِ الْقَوْمِ عَنْ تَحَقُّقِ الْهَلَاكِ بِدُونِ أَنْ يُجْتَنَى مِنْهُ الْمَقْصُودُ. وَعَطَفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِنْفَاقِ وَإِلَى سَبَبِ الْأَمْرِ بِهِ فَإِنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْخُرُوجَ بِدُونِ عُدَّةٍ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ لِلْهَلَاكِ كَمَا قِيلَ: كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْإِنْفَاقُ، وَلِأَنَّ اعْتِقَادَ كِفَايَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَنَصْرِ دِينِهِ فِي هَزِمِ الْأَعْدَاءِ اعْتِقَادٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ كَالَّذِي يُلْقِي بِنَفْسِهِ لِلْهَلَاكِ وَيَقُولُ سَيُنْجِينِي اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا النَّهْيُ قَدْ أَفَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الْإِيجَازِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِي مَعْنَى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَخَافُوا الْعَيْلَةَ وَإِنْ لم إلّا يكز سهم أَو مشقص فَأْتِ بِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ أَنْفِقُوا أَمْرٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ، والتهلكة: الْإِسْرَافُ فِيهَا أَوِ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّ إِطْلَاقَ التَّهْلُكَةِ عَلَى السَّرَفِ بَعِيدٌ وَعَلَى الْبُخْلِ أَبْعَدُ.

الثَّانِي أَنَّهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَيِ الصَّدَقَةُ والتهلكة الْإِمْسَاك وببعده عَدَمُ مُنَاسَبَةِ الْعَطْفِ وَإِطْلَاقُ التَّهْلُكَةِ عَلَى الْإِمْسَاكِ. الثَّالِثُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، وَالْإِلْقَاءُ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ زَادٍ. الرَّابِعُ الْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ: الِاسْتِسْلَامُ فِي الْحَرْبِ أَيْ لَا تَسْتَسْلِمُوا لِلْأَسْرِ. الْخَامِسُ أَنَّهُ الِاشْتِغَالُ عَنِ الْجِهَادِ وَعَنِ الْإِنْفَاقِ فِيهِ بِإِصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفٍّ لِلرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا وَتَركنَا الْغَزْو اهـ، وَالْآيَةُ تَتَحَمَّلُ جَمِيعَ الْمَعَانِي الْمَقْبُولَةِ. وَوُقُوعُ فِعْلِ تُلْقُوا فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي عُمُومَ كُلِّ إِلْقَاءٍ بِالْيَدِ لِلتَّهْلُكَةِ أَيْ كُلِّ تَسَبُّبٍ فِي الْهَلَاكِ عَنْ عَمْدٍ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ مُحَرَّمًا مَا لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضٍ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ مَا يَكُونُ حِفْظُهُ مُقَدَّمًا عَلَى حِفْظِ النَّفْسِ مَعَ تَحَقُّقِ حُصُولِ حِفْظِهِ بِسَبَبِ الْإِلْقَاءِ بِالنَّفْسِ إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ حِفْظِ بَعْضِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. فَالتَّفْرِيطُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِلْقَاءٌ بِالْأُمَّةِ وَالدِّينِ إِلَيْهَا بِإِتْلَافِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَهُوَ اقْتِحَامُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ (مِنَ التَّابِعِينَ) وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجَشُونِ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ (مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَكَانَ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَطَمَعٍ فِي نَجَاةٍ أَوْ فِي نِكَايَةِ الْعَدُوِّ أَوْ قَصْدِ تَجْرِئَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أحد بمرأى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

[سورة البقرة (2) : آية 196]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْسِنُوا الْإِحْسَانُ فِعْلُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا نَافِعًا مُؤْلِمًا لَا يَكُونُ مُحْسِنًا فَلَا تَقُولَ إِذَا ضَرَبْتَ رَجُلًا تَأْدِيبًا: أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ وَلَا إِذَا جَارَيْتَهُ فِي مَلَذَّاتٍ مُضِرَّةٍ أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا مُضِرًّا مُلَائِمًا لَا يُسَمَّى مُحْسِنًا. وَفِي حَذْفِ مُتَعَلِّقِ أَحْسِنُوا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حَالٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» . وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ يُلَابِسُهَا الْإِحْسَانُ وَيَحُفُّ بِهَا، فَفِي الِاعْتِدَاءِ يَكُونُ الْإِحْسَانُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِدَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّلَاحُ الْمَطْلُوبُ، وَفِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ الْإِحْسَانُ بِالرِّفْقِ بِالْأَسِيرِ وَالْمَغْلُوبِ وَبِحِفْظِ أَمْوَالِ الْمَغْلُوبِينَ وَدِيَارِهِمْ مِنَ التَّخْرِيبِ وَالتَّحْرِيقِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: «مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ» ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِحْسَانٌ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَبْدَهُ غَايَةُ مَا يَطْلُبُهُ النَّاسُ إِذْ مَحَبَّةُ اللَّهِ الْعَبْدَ سَبَبَ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَالْمُرَادُ الْمُحْسِنُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. [196] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. هَذَا عَوْدٌ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [الْبَقَرَة: 189] إِلَخْ وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِلْمُنَاسَبَةِ طَرِيقَةٌ قُرْآنِيَّةٌ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَطْفًا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَقَدْ كَانُوا نَاوِينَ الْعُمْرَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْحَجُّ،

فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْعُمْرَةُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْحَجُّ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ تَبْشِيرًا بِأَنَّهُمْ سَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْحَجِّ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ. وَالْإِتْمَامُ إِكْمَالُ الشَّيْءِ وَالْإِتْيَانُ عَلَى بَقَايَا مَا بَقِيَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَهُ. وَمِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِوَصْفِ فِعْلٍ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْوَصْفُ كَالْإِتْمَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ أَيْ كَمِّلُوهُ إِنْ شَرَعْتُمْ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَة: 187] عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ [التَّوْبَة: 4] وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ: أَسْرِعِ السِّيَرَ لِلَّذِي يَسِيرُ سَيْرًا بَطِيئًا، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَجِيءَ الْأَمْرُ بِوَصْفِ الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 150] ، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: أَسْرِعِ السَّيْرَ فَادْعُ لِي فُلَانًا تُخَاطِبُ بِهِ مُخَاطَبًا لَمْ يَشْرَعْ فِي السَّيْرِ بَعْدُ، فَأَنْتَ تَأْمُرُهُ بِإِحْدَاثِ سَيْرٍ سَرِيعٍ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: «وَسِّعْ فَمَ الرَّكِيَّةِ، وَقَوْلُهُمْ: وَسِّعْ كُمَّ الْجُبَّةِ وَضَيِّقْ جَيْبَهَا» أَيْ أَوْجِدْهَا كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْبِيرِ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ شَيْئَيْنِ وَهُوَ أَقَلُّ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً هُوَ الْحَدَثُ الَّذِي مِنْهُ مَادَّةُ تِلْكَ الصِّيغَةِ. وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهِيَ أَمْرٌ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بِمَعْنَى أَلَّا يَكُونَ حَجًّا وَعُمْرَةً مَشُوبَيْنِ بِشَغَبٍ وَفِتْنَةٍ وَاضْطِرَابٍ أَوْ هِيَ أَمْرٌ بِإِكْمَالِهِمَا وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنْهُمَا بَعْدَ الْإِهْلَالِ بِهِمَا وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُمَا شَنَآنُ الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهِيَ أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِمَا تَامَّيْنِ أَيْ مُسْتَكْمِلَيْنِ مَا شُرِعَ فِيهِمَا. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَأَنَّ هَذَا التَّحْرِيضَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ هُنَا هُمَا الصَّرُورَةُ فِي الْحَجِّ وَكَذَا فِي الْعُمْرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا. وَاللَّامُ فِي (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَهُمَا عِبَادَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ مُتَمَيِّزَتَانِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ، فَالْحَجُّ هُوَ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لِلْجَمَاعَةِ وَفِيهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَالْعُمْرَةُ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ لِكُلِّ فَرْدٍ بِخُصُوصِهِ. وَأَصْلُ الْحَجِّ فِي اللُّغَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا تَكَرُّرُ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ كَثْرَةُ قَاصِدِيهِ. وَعَنِ

ابْنِ السِّكِّيتِ: الْحَجُّ كَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّرَدُّدِ يُقَالُ حَجَّ بَنُو فُلَانٍ فُلَانًا أَطَالُوا الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَفِي «الْأَسَاسِ» : فُلَانٌ تَحُجُّهُ الرِّفَاقُ أَي تقصده اهـ. فَجَعَلَهُ مُفِيدًا بِقَصْدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَقَوْلِ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ وَاسْمُهُ الرَّبِيعُ: وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرَقَانِ الْمُزَعْفَرَا وَالْحَجُّ مِنْ أَشْهُرِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ مِمَّا وَرِثُوهُ عَنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الْحَج: 27] الْآيَةَ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ هُمْ أَقْدَمُ أُمَّةٍ عُرِفَتْ عِنْدَهَا عَادَةُ الْحَجِّ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ زِيَارَةَ الْكَعْبَةِ سَعْيٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الْحَجِيجَ وَرَوَاحِلَهُمْ: عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ ... فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ وَكَانُوا يَتَجَرَّدُونَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ وَلَا يَمَسُّونَ الطِّيبَ وَلَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ وَلَا يَصْطَادُونَ، وَكَانَ الْحَجُّ طَوَافًا بِالْبَيْتِ وَسَعْيًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَوُقُوفًا بِعَرَفَةَ وَنَحْرًا بِمِنًى. وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ لَا يَأْكُلُ مُدَّةَ الْحَجِّ أَقْطًا وَلَا سَمْنًا- أَيْ لِأَنَّهُ أَكْلُ الْمُتَرَفِّهِينَ- وَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ مُتَجَرِّدًا مِنَ الثِّيَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَظِلُّ مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ صَامِتًا لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَهُمْ فِي الْحَجِّ مَنَاسِكُ وَأَحْكَامٌ ذَكَرْنَاهَا فِي «تَارِيخِ الْعَرَبِ» . وَكَانَ لِلْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لِلْعَرَبِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ، وَأَشْهَرُ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ فَقَدْ كَانُوا يَحُجُّونَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ تَابُوتُ الْعَهْدِ أَيْ إِلَى هَيْكَلِ (أُورْشَلِيمَ) وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ لِيَذْبَحُوا هُنَاكَ فَإِنَّ الْقَرَابِينَ لَا تَصِحُّ إِلَّا هُنَاكَ وَمِنْ هَذِهِ الْمَرَّاتِ مَرَّةٌ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَاتَّخَذَتِ النَّصَارَى زِيَارَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَجًّا، أَشْهَرُهَا زِيَارَاتُهُمْ لِمَنَازِلِ وِلَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزِيَارَةِ (أُورْشَلِيمَ) ، وَكَذَا زِيَارَةُ قَبْرِ (مَارْبُولِسْ) وَقَبْرِ (مَارْبُطْرُسْ) بِرُومَةَ، وَمِنْ حَجِّ النَّصَارَى الَّذِي لَا يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ أَقْدَمُ حَجِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَحُجُّونَ إِلَى مَدِينَةِ (عَسْقَلَانَ) مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، وَالْمَظْنُونُ أَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا حَجَّهَا هُمْ نَصَارَى الشَّامِ مِنَ الْغَسَاسِنَةِ لِقَصْدِ صَرْفِ النَّاسِ عَنْ زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ وَهُوَ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ فِي قَوْلِهِ يَصِفُ وُحُوشًا جَرَفَهَا السَّيْلُ: كَأَنَّ الْوُحُوشَ بِهِ عَسْقَلَا ... نُ صَادَفْنَ فِي قَرْنِ حَجٍّ ذِيَافَا

أَيْ أَصَابَهُنَّ سُمٌّ فَقَتَلَهُنَّ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ. وَقَدْ كَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ وَالْكِلْدَانِ حَجٌّ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ، وَلِلْيُونَانِ زِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ لِمَوَاقِعَ مُقَدَّسَةٍ مِثْلَ أُولُمْبِيَا وَهَيْكَلِ (زِفِسْ) وَلِلْهُنُودِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ الَّتِي خَرَجُوا لِقَضَائِهَا، وَذِكْرُ الْحَجِّ مَعَهَا إِدْمَاجٌ (¬1) ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ يَوْمَئِذٍ، إِذْ كَانَ الْحَجُّ بِيَدِ الْمُشْرِكِينَ فَفِي ذِكْرِهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَصِيرَ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعْمِيرِ وَهُوَ شَغْلُ الْمَكَانِ ضِدُّ الْإِخْلَاءِ وَلَكِنَّهَا بِهَذَا الْوَزْنِ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ مِيقَاتَهَا مَا عَدَا أَشْهُرَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ، فَكَانُوا يَقُولُونَ «إِذَا بَرِئَ الدُّبُرُ، وَعَفَا الْأَثَرُ، وَخَرَجَ صَفَرٌ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ» وَلَعَلَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ لِتَكُونَ الْعُمْرَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ وَإِرَاحَةِ الرَّوَاحِلِ. وَاصْطَلَحَ الْمُضَرِيُّونَ عَلَى جَعْلِ رَجَبٍ هُوَ شَهْرُ الْعُمْرَةِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَتْهُ مُضَرٌ فَلُقِّبَ بِرَجَبِ مُضَرٍ، وَتَبِعَهُمْ بَقِيَّةُ الْعَرَبِ، لِيَكُونَ الْمُسَافِرُ لِلْعُمْرَةِ آمِنًا مِنْ عَدُوِّهِ وَلِذَلِكَ لَقَّبُوا رَجَبًا (مُنْصِلَ الْأَسِنَّةِ) وَيَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فُجُورًا. وَقَوْلُهُ لِلَّهِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْعَرَبُ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَنْوُونَ الْحَجَّ إِلَّا لِلَّهِ وَلَا الْعُمْرَةَ إِلَّا لَهُ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ بَيْتُ اللَّهِ وَحَرَمُهُ، فَالتَّقْيِيدُ هُنَا بِقَوْلِهِ لِلَّهِ تَلْوِيحٌ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَيْسَا لِأَجْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَكَانُوا هُمْ سَدَنَةَ الْحَرَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، كَيْ لَا يَسْأَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي لَاقَوْا فِيهِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَصُدُّ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَحُجُّونَ لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الصَّالِحَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ إِذَا حَفَّ بِهِ مَا يكدره لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَارِفًا عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْعَارِضِ عَنْهُ، وَمِنْ طُرُقِ إِزَالَتِهِ الْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ لِتَجْرِيدِ النِّيَّةِ مِمَّا كَانَ يُخَامِرُ نَوَايَا النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا وَضَعُوا هُبَلًا عَلَى الْكَعْبَةِ وَوَضَعُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ أَشْرَكُوا بِطَوَافِهِمْ وَسَعْيِهِمُ الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ كِلْتَا الْفَائِدَتَيْنِ. ¬

(¬1) فِي «كشاف اصْطِلَاحَات الْفُنُون» للتهانوي، مَادَّة إدماج، ج (1/ 464) : الإدماج فِي اصْطِلَاح يهل البديع: أَن يضمن كَلَام سيق لمعنء» ، معنى آخر، وَهَذَا الْمَعْنى الآخر يجب أَن لَا يكون مُصَرحًا بِهِ وَلَا يكون فِي الْكَلَام إِشْعَار بِأَنَّهُ مسوق لأَجله.

وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَا الْعُمْرَةِ وَلَكِنْ دَلِيلُ حُكْمِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عِنْدَهُمَا غَيْرُ هَذِهِ الْآيَة، وَعَلِيهِ فمجمل الْآيَةِ عِنْدَهُمَا عَلَى وُجُوبِ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ لِمَنْ أَحْرَمَ لَهُمَا، فَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ عَدَّهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَهِيَ سَبْعُ عِبَادَاتٍ عِنْدَنَا هِيَ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْحَجُّ، وَالْعمْرَة، وَالطّواف، والائتمام، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ النَّوَافِلَ كُلَّهَا بِالشُّرُوعِ. وَمَنْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ النَّوَافِلِ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ يَرَ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً يَجْعَلُ حُكْمَ إِتْمَامِهَا كَحُكْمِ أَصْلِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ فِي الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الطَّلَبِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَرَأَ، (وَالْعُمْرَةُ) بِالرَّفْعِ حَتَّى لَا تَكُونَ فِيمَا شَمَلَهُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَيُخْتَصُّ بِالْحَجِّ. وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ كَالْحَجِّ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ مُرَادًا بِهِ الْإِتْيَانُ بِهِمَا تَامَّيْنِ أَيْ مُسْتَجْمِعِي الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ، فَالْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ عَلَى أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قَالُوا: إِذْ لَيْسَ هُنَا كَلَامٌ عَلَى الشُّرُوعِ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالْإِتْمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَعْضُودٌ بِقِرَاءَةِ «وَأَقِيمُوا الْحَجَّ» وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ هُنَا الْإِتْيَانَ عَلَى آخِرِ الْعِبَادَةِ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالشُّرُوعِ، لِأَنَّ الْإِتْمَامَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشُّرُوعِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ حَمْلَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ بِأَصْلِ الْمَاهِيَّةِ لَا بِصِفَتِهَا اسْتِعْمَالٌ قَلِيلٌ كَمَا عَرَفْتَ، وَقِرَاءَةُ: «وَأَقِيمُوا» لِشُذُوذِهَا لَا تَكُونُ دَاعِيًا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْآحَادِ، إِذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا إِلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ التَّكَنِّيَ بِالْإِتْمَامِ عَنْ إِيجَابِ الْفِعْلِ مصير إِلَى خلال الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى: إِذَا شَرَعْتُمْ فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَيَكُونُ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَإِيجَازًا بَدِيعًا، وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ السِّيَاقُ كَمَا قَدَّمْنَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَوَوُا الْعُمْرَةَ، عَلَى أَنَّ شَأْنَ إِيجَابِ الْوَسِيلَةِ بِإِيجَابِ الْمُتَوَسِّلِ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوصُ عَلَى وُجُوبِهِ هُوَ الْمَقْصِدَ فَكَيْفَ يَدَّعِي الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَتِمُّوا هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ إِيجَابُ الشُّرُوعِ، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا أَشَارَ لَهُ الْعِصَامُ.

فَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ الْعُمْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَابِرِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالنَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِهِمَا، وَبِه قَالَ عَمْرو ابْن عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَة وَعَطَاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ مِثْلَ الْحَجِّ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، لِأَن عِبَادَةً مِثْلَ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا بِتَلْفِيقَاتٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْلَا التَّحَرُّجُ وَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَقُلْتُ: الْعمرَة وَاجِبَة اهـ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ قَوْلُهُ: لَمْ أَسْمَعْ إِلَخْ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: 97] وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عِبَادَتَانِ وَاجَبَتَانِ هُمَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّ شَأْنَ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِحَدِيثِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَحَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلم يذكر فيهمَا الْعُمْرَةَ، وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «لَا أَزْيَدُ وَلَا أَنْقُصُ: فَقَالَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ وَلَمْ يَحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ قُرِنَتْ فِيهَا مَعَ الْحَجِّ، وَبِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبِالِاحْتِيَاطِ. وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ الْحِلِّ مِنْهَا فِي مُدَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ، فَفِي الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ قَالَ: أَحْسَنْتَ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ! قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهَلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِهِ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، يُرِيدُ عُمَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ أَبَا مُوسَى أَهَّلَ بِإِهْلَالٍ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيءُ كَانَ مُهِلًّا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا فَهُوَ قَارِنٌ وَالْقَارِنُ مُتَلَبِّسٌ بِحَجٍّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِلَّ فِي أَثْنَاءِ حَجِّهِ وَتَمَسَّكَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ قَارنا وَلمن يُحِلَّ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي النَّفَقَةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عَطْفٌ عَلَى أَتِمُّوا، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ. وَلَا سِيَّمَا الْحَجِّ لِأَنَّ وَقْتَهُ يَفُوتُ غَالِبًا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ. وَالْإِحْصَارُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْعُ الذَّاتِ مِنْ فِعْلٍ مَا، يُقَالُ: أَحْصَرَهُ مَنْعَهُ مَانِعٌ قَالَ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 273] أَيْ مَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ: وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ وَهُوَ فِعْلٌ مَهْمُوزٌ لَمْ تُكْسِبْهُ هَمْزَتُهُ تَعْدِيَةً، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ حَصَرَهُ وَنَظِيرُهُمَا صَدَّهُ وَأَصَدَّهُ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ أَحْصَرَ الْمَهْمُوزِ فِي الْمَنْعِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ الْعَدُوِّ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ حَصَرَ الْمُجَرَّدِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعَدُوِّ، قَالَ: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَلَّبَ أَحدهمَا فِي أَحَدَهُمَا كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ قَالَ: أَحْصَرَ حَقِيقَةٌ فِي مَنْعِ غَيْرِ الْعَدُوِّ وَحصر حَقِيقَةٌ فِي مَنْعِ الْعَدُوِّ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجِ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ عَكَسَ وَهُوَ ابْنُ فَارِسٍ لَكِنَّهُ شَاذٌّ جِدًّا. وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ كَرِيهٌ لَهُمْ فَأَلْقَى إِلَيْهِمُ الْكَلَامَ إِلْقَاءَ الْخَبَرِ الَّذِي يُشَكُّ فِي وُقُوعِهِ، وَالْمَقْصُودُ إِشْعَارُهُمْ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَيَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْعُمْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَحْوِ الِاخْتِلَافِ فِي الْوَضْعِ أَوْ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْإِحْصَارَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مَا يَعُمُّ الْمَنْعَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْنُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْمِيمَ فِيهِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِيجَازِ فِي جَمْعِ أَحْكَامِ الْإِحْصَارِ ثُمَّ تَفْرِيقِهَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَلَى حُكْمِ الْإِحْصَارِ بِغَيْرِ عَدُوٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِالسُّنَّةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أُرِيدَ بِهَا الْمَنْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ دُونَ مَنْعِ الْعَدُوِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِحْصَارِ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَعَلَتْ عَلَى الْمَحْصَرِ هَدْيًا وَلَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْهَدْيِ فِيمَنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ

أَيْ مَشْرُوعِيَّةِ الْهَدْيِ لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ أَمَّا مَنْ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ نُسُكُهُ لَا لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ بِوُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ كَسْرٍ مِنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَقِفَ الْمَوْقِفَ مَعَ النَّاسِ مَعَ وُجُوبِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ لِمَا فِي «الْمُوَطَّأِ» مِنْ حَدِيثِ مَعْبَدِ بْنِ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى وَيَفْتَدِيَ، فَإِذَا أَصَحَّ اعْتَمَرَ، فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِذَلِكَ أَبَا أَيُّوبَ وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا وُقُوفُ عَرَفَةَ، بِخِلَافِ حِصَارِ الْعَدُوِّ، وَاحْتَجَّ فِي «الْمُوَطَّأِ» بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ، وَوَجَّهَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ بِالتَّفْرِقَةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ مِنْ ذَاتِ الْحَاجِّ فَلِذَلِكَ كَانَ مُطَالَبًا بِالْإِتْمَامِ، وَأَمَّا فِي إِحْصَارِ الْعَدُوِّ فَالْمَانِعُ خَارِجِيٌّ، وَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ صَلُحَتْ لِكُلِّ مَنْعٍ لَكِنَّهَا فِي مَنْعِ غَيْرِ الْعَدُوِّ أَظْهَرُ وَقَدْ تَأَيَّدَتْ أَظْهَرِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ فِيهِمَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الْهَدْيِ وَهُوَ اقْتِصَارٌ عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ وَمُخَالَفَةُ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَنْعٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ فِيهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَلَا سَعْيٌ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ بَلْ إِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ حَلَّ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ مَا يَقْتَضِيهِ حَدِيثُ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ فَعُمُومُهَا نَسَخَ خُصُوصَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ نَزَلَتْ قَبْلَهُ فَهُوَ آحَادٌ لَا يُخَصِّصُ الْقُرْآنَ عِنْدَهُ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ مُتَوَاتِرٌ لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَزِيدُونَ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ هُنَا مَنْعُ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَإِذا أَمِنْتُمْ وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ إِحْصَارُ عَدُوٍّ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى الْمُحْصِرِ أَمَّا مُحْصَرُ الْعَدُوِّ فَبِنَصِّ الْآيَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ: إِنْ زَالَ عُذْرُهُ فَعَلَيْهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحَدِ رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ

وَهُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ دُونَ الْمُسْنَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْهَدْيِ وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فَعَلَيْكُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدِّرَ فِعْلَ أَمْرٍ أَيْ فَاهْدُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَكِلَا التَّقْدِيرَيْنِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ. وَوُجُوبُهُ فِي الْحَجِّ ظَاهِرٌ وَفِي الْعُمْرَةِ كَذَلِكَ بِأَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ إِتْمَامُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ. وَ (اسْتَيْسَرَ) هُنَا بِمَعْنَى يَسُرَ فَالسِّينُ وَالتَّاء للتَّأْكِيد كاستعصب عَلَيْهِ بِمَعْنَى صَعُبَ أَيْ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْهَدْيِ بِإِمْكَانِ تَحْصِيلِهِ وَإِمْكَانِ تَوْجِيهِهِ، فَاسْتَيْسَرَ هَنَا مُرَادٌ جَمِيعُ وُجُوهِ التَّيَسُّرِ. وَالْهَدْيُ اسْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ لِلَّهِ فِي الْحَجِّ فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَهْدَى، وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ هَدِيَّةٍ كَمَا جُمِعَتْ جَدِيَّةِ السَّرْجِ عَلَى جَدْيٍ (¬1) ، فَإِنْ كَانَ اسْما فَمن بَيَانِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ جمعا فَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، وَأَقَلُّ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهَدْيِ الْغَنَمُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا، وَهَذَا الْهَدْيُ إِنْ كَانَ قَدْ سَاقَهُ قَاصِدُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعَهُ ثُمَّ أُحْصِرَ فَالْبَعْثُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ فَعَلَيْهِ تَوْجِيهُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي حُكْمِهِ مِنْ وُجُوبِهِ وَعَدَمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَصَالِحِ الْحَجِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا فَاتَتِ الْمَنَاسِكُ لَا يَفُوتُ مَا يَنْفَعُ فَقُرَاءَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا. وَقَوْلُهُ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ الْآيَةَ بَيَانٌ لِمُلَازَمَةِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّهْيَ عَنِ الْحَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مُنَافَيَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ وَيُعْلَمُ اسْتِمْرَارُ حُكْمِ الْإِحْرَامِ فِي الْبَقِيَّةِ بِدَلَالَةِ الْقِيَاسِ وَالسِّيَاقِ وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ عَنِ الْإِحْلَالِ لِعَدَمِ وُضُوحِ الْمُلَازَمَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَا أَمْكَنَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ اسْتِبْقَاءُ الشَّعَثِ الْمَقْصُودِ فِي الْمَنَاسِكِ. وَالْمَحِلُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَكَانُ الْحُلُولِ أَوْ زَمَانِهِ يُقَالُ: حَلَّ بِالْمَكَانِ يَحِلُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ مَقَامُ الشَّيْءِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَبْلَغُهُ وَهُوَ ذَبْحُهُ لِلْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ مَحِلُّهُ: هُوَ مَحِلُّ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَهُوَ مِنًى وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ الْآيَةَ، الْمُرَادُ مَرَضٌ يَقْتَضِي الْحَلْقَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ بِالْجَسَدِ أَمْ بِالرَّأْسِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَسَخِ الشَّدِيدِ وَالْقَمْلِ، لِكَرَاهِيَةِ التَّصْرِيحِ بِالْقَمْلِ. وَكَلِمَةُ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ أَيْ أَذًى نَاشِئٌ عَنْ رَأْسِهِ. ¬

(¬1) جدية السرج شَيْء محشو يَجْعَل تَحت دفتي السرج. [.....]

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيءِ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ مَا كُنْتُ أَرَى الْجُهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لكم عَامَّة اهـ» وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِمَا هُوَ مَرْذُولٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَقَوْلُهُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ مَحْذُوفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِظُهُورِهِ أَيْ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فَلْيَحْلِقْ رَأْسَهُ وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ وَمِقْدَارَهَا وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَالنُّسُكُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ السِّينِ مَعَ تَثْلِيثِ النُّونِ الْعِبَادَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّبِيحَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا التَّعَبُّدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَكَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ إِذَا عَبَدَ وَذَبَحَ لِلَّهِ وَسُمِّيَ الْعَابِدُ نَاسِكًا، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى مَعْبُودٍ وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ» يَعْنِي الضَّحِيَّةَ. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى أُحْصِرْتُمْ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْنِ زَوَالَ الْإِحْصَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ الْحَجُّ، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ التَّمَتُّعِ وَذِكْرَ صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أُفُقِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ فِعْلِ الْحَجِّ. وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ الذكري. وَجِيء بإذا لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَالْأَمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَيْضًا السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ أَمِنَ كَفَرِحَ أَمْنًا، أَمَانًا، وَأَمْنًا، وَأَمَنَةً وَإِمْنًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ قَاصِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُونِ مِنْهُ فيتعدى بِمن تَقُولُ: أَمِنْتُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْمُونِ تَقُولُ: أَمِنْتُ فُلَانًا إِذَا جَعَلْتَهُ آمِنًا مِنْكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْنَ ضِدُّ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ وَفِي الْقُرْآنِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التَّوْبَة: 6] فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْقِتَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: 126] .

وَهَذَا دَلِيلٌ على أَن الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَا يَشْمَلُ مَنْعَ الْعَدُوِّ وَلِذَلِكَ قِيلَ (إِذَا أَمِنْتُمْ) وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ هُنَا لِأَنَّهُ خَرَجَ لِأَجْلِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُكْمِ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَاءُوا فِي عَامِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُعْتَمِرِينَ وَنَاوِينَ إِنْ مُكِّنُوا مِنَ الْحَجِّ أَنْ يَحُجُّوا، وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ إِذَا زَالَ عَنْهُ الْمَانِعُ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُكْمِ الْخَائِفِ. وَقَوله: فَمن تمنع جَوَابُ (إِذَا) وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَمِنْتُمْ بَعْدَ الْإِحْصَارِ وَفَاتَكُمْ وَقْتُ الْحَجِّ وَأَمْكَنَكُمْ أَنْ تَعْتَمِرُوا فَاعْتَمِرُوا وَانْتَظرُوا الْحَج إِلَى عَامِ قَابِلٍ، وَاغْتَنِمُوا خَيْرَ الْعُمْرَةِ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ عِوَضًا عَنْ هَدْيِ الْحَجِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ أُرِيدَ بِهِ الْإِحْصَارُ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ الْمُحْصَرُ مِنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ أُرِيدَ بِهِ حُصُولُ الْأَمْنِ مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِعُمْرَةٍ وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْحَجِّ، أَيْ أَنَّهُ فَاتَهُ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفُتْهُ مَكَانُ الْحَجِّ، وَيُعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَمِنَ وَقَدْ بَقِيَ مَا يَسَعُهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ. وَمَعْنَى تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ انْتَفَعَ بِالْعُمْرَةِ عَاجِلًا، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا إِمَّا بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهَا، أَوْ بِسُقُوطِ وُجُوبِهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ إِسْقَاطِ السَّفَرِ لَهَا إِذْ هُوَ قَدْ أَدَّاهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِالْحِلِّ مِنْهَا ثُمَّ إِعَادَةُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَانْتَفَعَ بِأَلَّا يَبْقَى فِي كُلْفَةِ الْإِحْرَامِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَهَذَا رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَبَاحَ الْعُمْرَةَ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَعْظَمِ الْفُجُورِ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْعُمْرَةِ صِلَةُ فِعْلِ تَمَتَّعَ، وَقَوْلُهُ: إِلَى الْحَجِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ معنى (إِلَى) تَقْدِيره مُتَرَبِّصًا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ أَوْ بَالِغًا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ أَيْ أَيَّامِهِ وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ فُهِمْ مِنْ كَلِمَةِ (إِلَى) أَنَّ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ زَمَنًا لَا يَكُونُ فِيهِ الْمُعْتَمِرُ مُحْرِمًا وَهُوَ الْإِحْلَالُ الَّذِي بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَعَلَيهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لِأَجْلِ الْإِحْلَالِ الَّذِي بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَهْدِ وَقْتَ الْإِحْصَارِ فِيمَا أَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْآيَةُ جَاءَتْ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَيْ الِانْتِفَاعِ وَأَشَارَتْ إِلَى مَا سَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّمَتُّعِ وَبِالْقِرَانِ وَهُوَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَبْطَلَ بِهَا شَرِيعَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْمُ التَّمَتُّعِ يَشْمَلُهَا لَكِنَّهُ خَصَّ التَّمَتُّعَ بِأَنْ يُحْرِمَ الْحَاجُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحِلُّ مِنْهَا ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى أُفُقِهِ، وَخَصَّ الْقرَان بِأَن يقرن الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي إِهْلَالٍ وَاحِدٍ وَيَبْدَأَ فِي فِعْلِهِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يَحِلَّ مِنْهَا وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرْدِفَ الْحَجَّ

عَلَى الْعُمْرَةِ كُلُّ ذَلِكَ شَرَعَهُ اللَّهُ رُخْصَةً لِلنَّاسِ، وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهَدْيَ جَبْرًا لِمَا كَانَ يَتَجَشَّمُهُ مِنْ مَشَقَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ تَمَتُّعًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّمَتُّعِ وَفِي صِفَتِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةٍ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ تَمَتَّعْنَا على عهد النَّبِي وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ثُمَّ قَالَ رجل من بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ (يُرِيدُ عُثْمَانَ) ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَرَى لِلْقَارِنِ إِذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَبِحَجَّةٍ مَعًا وَتَمَّمَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِ حَجِّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِنِّي جِئْتُ مِنَ الْيَمَنِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِمَكَّةَ مُحْرِمًا (أَيْ عَامَ الْوَدَاعِ) فَقَالَ لِي بِمَ أَهَلَلْتَ؟ قُلْتُ أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ فَقَالَ لِي هَلْ مَعَكَ هَدْيٌ قُلْتُ لَا فَأَمَرَنِي فطفت وسعيت ثمَّ أَمرنِي فَأَحْلَلْتُ وَغَسَلْتُ رَأْسِي وَمَشَّطَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَلَمَّا حَدَّثَ أَبُو مُوسَى عُمَرَ بِهَذَا قَالَ عُمَرُ: «إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ يَأْمُرُنَا بِالْإِتْمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ» ، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ يُخَالِفُونَ رَأْيَ عُمَرَ وَيَأْخُذُونَ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى- وَبِحَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» ، وَقَدْ يَنْسِبُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَهُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا رَأْيُ عُمَرَ لَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي التَّمَتُّعِ إِلَى أَنْ يَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَعَلَّهُ رَأَى الْإِحْلَالَ لِلْمُتَلَبِّسِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُنَافِيًا لِنِيَّتِهِ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَعَلَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْآحَادَ مُخَصِّصًا لِلْمُتَوَاتِرِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مُتَوَاتِرٌ، إِذْ قَدْ شَهِدَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَقَلُوا حَجَّهُ وَأَنه أهل بهما جَمِيعًا. نَعَمْ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَرَيَانِ إِفْرَادَ الْحَجِّ أَفْضَلَ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ الشَّيْخَيْنِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى التَّمَتُّعَ خَاصًّا بِالْمُحْصَرِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُ وُقُوفُ

عَرَفَةَ فَيَجْعَلُ حَجَّتَهُ عُمْرَةً وَيَحُجُّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى إِلَى الْحَجِّ أَيْ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ الْقَابِلِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ إِلَى الْحَجِّ أَيْ إِلَى أَيَّامِ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ الْآيَةَ عُطِفَتْ عَلَى فَمَنْ تَمَتَّعَ، لِأَنَّ فَمَنْ تَمَتَّعَ مَعَ جَوَابِهِ وَهُوَ فَمَا اسْتَيْسَرَ مُقَدَّرٌ فِيهِ مَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعَ واجدا الْهَدْي فعطف عَلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. وَجَعَلَ اللَّهُ الصِّيَامَ بَدَلًا عَنِ الْهَدْيِ زِيَادَةً فِي الرُّخْصَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلِذَلِكَ شَرَعَ الصَّوْمَ مُفَرَّقًا فَجَعَلَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَسَبْعَةً بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ. فَقَوْلُهُ: فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَشْهُرِهِ إِن كَانَ قد أَمْكَنَهُ الِاعْتِمَارُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ فَتِلْكَ صِفَةٌ أُخْرَى لَا تَعَرُّضَ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَذْلَكَةُ الْحِسَابِ (¬1) أَيْ جَامِعَتُهُ فَالْحَاسِبُ إِذَا ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَ عِنْدَ إِرَادَةِ جَمْعِ الْأَعْدَادِ فَذَلِكَ أَيِ الْمَعْدُودُ كَذَا فَصِيغَتْ لِهَذَا الْقَوْلِ صِيغَةَ نَحْتٍ مِثْلَ بَسْمَلَ إِذَا قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ وَحَوْقَلَ إِذَا قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَحُرُوفُ فَذْلَكَةَ مُتَجَمِّعَةٌ مِنْ حُرُوفِ فَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: ثَلَاثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رَيِّي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ دَاءُ فَلَفْظُ فَذْلَكَةَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ غَلَبَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَذْلَكَةِ عَلَى خُلَاصَةِ جَمْعِ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ جَرَى بِغَيْرِ كَلِمَةِ «ذَلِكَ» كَمَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إِنَّهَا فَذْلَكَةٌ مَعَ كَوْنِ الْوَاقِعِ فِي الْمَحْكِيِّ لَفْظُ «تِلْكَ» لَا لَفْظُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ: ثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ فَتِلْكَ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى الشِّمَامِ (أَيْ إِلَى الشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ) وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفَذْلَكَةِ فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ، فَقِيلَ هُوَ مُجَرَّدُ تَوْكِيدٍ كَمَا تَقُولُ كَتَبْتُ بِيَدِي يَعْنِي أَنَّهُ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ مَا وَقَعَ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى أَيْ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ وَلَا يُفِيدُ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحُكْمِ فِي الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَمَّا ذَكَرَ مِثْلَهُ كَقَوْلِ الْعَرَبِ عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ. وَعَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ صَوْمُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بَدَلًا ¬

(¬1) نصّ عَلَيْهِ فِي الْبَيْضَاوِيّ وحاشيته لمولانا عِصَام الدَّين.

مِنَ الثَّلَاثَةِ أُزِيلُ ذَلِكَ بِجَلِيَّةِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَالَ «الْوَاوُ قَدْ تَجِيءُ لِلْإِبَاحَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ فَفَذْلَكْتُ نَفْيًا لتوهم الْإِبَاحَة اهـ» وَهُوَ يُرِيدُ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الْجَمْعُ وَلَا يَتَعَيَّنُ. وَفِي كِلَا الْكَلَامَيْنِ حَاجَةٌ إِلَى بَيَانِ مَنْشَأِ تَوَهُّمِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ فَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ فِي الْوَاوِ حَتَّى زَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَرِدُ لَهُ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ يُسْتَفَادُ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لَا أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَجَعَلَ أَقَلَّ الْعَدَدَيْنِ لِأَشَقِّ الْحَالَتَيْنِ وَأَكْثَرَهُمَا لِأَخَفِّهِمَا، فَلَا جَرَمَ طَرَأَ تَوَهُّمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ وَأَنَّ السَّبْعَةَ رُخْصَةٌ لِمَنْ أَرَادَ التَّخْيِيرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّوَهُّمَ، بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَابُ صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا تَفْرِيقُهَا رُخْصَةٌ وَرَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَحَصَلَتْ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَاف: 142] إِذْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنَاجَاةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُ أَبْلَغَهَا إِلَيْهِ مُوَزَّعَةً تَيْسِيرًا. وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ حِكْمَةِ كَوْنِ الْأَيَّامِ عَشَرَةً فَأَجَبْتُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَشَأَ مِنْ جَمْعِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُمَا عَدَدَانِ مُبَارَكَانِ، وَلَكِنْ فَائِدَةُ التَّوْزِيعِ ظَاهِرَةٌ، وَحِكْمَةُ كَوْنِ التَّوْزِيعِ كَانَ إِلَى عَدَدَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ لَا مُتَسَاوِيَيْنِ ظَاهِرَةٌ لِاخْتِلَافِ حَالَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْحَجِّ فَفِيهَا مَشَقَّةٌ، وَحَالَةُ الِاسْتِقْرَارِ بِالْمَنْزِلِ. وَفَائِدَةُ جَعْلِ بَعْضِ الصَّوْمِ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ جَعْلُ بَعْضِ الْعِبَادَةِ عِنْدَ سَبَبِهَا، وَفَائِدَةُ التَّوْزِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعَةٍ أَنَّ كِلَيْهِمَا عَدَدٌ مُبَارَكٌ ضُبِطَتْ بِمِثْلِهِ الْأَعْمَالُ دِينِيَّةً وقضائية. وَأما قَوْله: كامِلَةٌ فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِصِيَامِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ طَرِيقُ كَمَالٍ لِصَائِمِهِ، فَالْكَمَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْرَبِ شَيْءٍ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ أَوْ بَدَلُهُ وَهُوَ الصِّيَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهَدْيَ عَلَى الْغَرِيب عَن مَكَّةَ كَيْ لَا يُعِيدَ السَّفَرَ لِلْعُمْرَةِ فَأَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ السَّفَرِ فَلِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَهَذَا

قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ هَدْيٌ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، لِأَنَّهُمْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي إِعَادَةِ الْعُمْرَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ وَوُجُوبُ الْهَدْيِ، فَهُوَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَحَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ بَلْدَةِ مَكَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ مَا جَاوَرَهَا فَقَالَ مَالِكٌ: مَا اتَّصَلَ بِمَكَّةَ ذَلِك مِنْ ذِي طوى وَهُوَ عَلَى أَمْيَالٍ قَلِيلَةٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَنَسَبَهُ ابْنُ حَبِيبٍ إِلَى مَالِكٍ وَغَلَّطَهُ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ عَرَفَةَ، وَمَرٍّ، وَعُرَنَةَ، وَضَجْنَانَ، وَالرَّجِيعِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَذِي طُوًى، وَفَجٍّ، وَمَا يَلِي ذَلِك. وَقَالَ طَاوُوس: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كُلُّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْحَرَمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ مَنْ كَانُوا دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ سَوَاءٌ كَانُوا مَكِّيِّينَ أَوْ غَيْرَهُمْ سَاكِنِي الْحَرَمِ أَوِ الْحِلِّ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وِصَايَةٌ بِالتَّقْوَى بَعْدَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَن مَشَقَّةٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِهَا، فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَامٌّ، وَكَوْنُ الْحَجِّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ أَجْدَرُ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ افْتُتِحَ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا اهْتِمَامًا بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَقْتَصِرْ بِأَنْ يُقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الْمَطْلُوبُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ مِنَ الْخَبَرِ، لَكِن لَمَّا أُرِيدَ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ افْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، فَأَفَادَ مُفَادَ إِنَّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة

[سورة البقرة (2) : آية 197]

: 194] . [197] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (197) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْإِعْلَامِ بِتَفْصِيلِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 97] فَإِنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِفَرْضِ الْحَجِّ إِجْمَالًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا بَيَانُ أَعْمَالِهِ، وَهُوَ بَيَانٌ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْمُبَيَّنِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَاقِعٌ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةَ تِسْعٍ، تَهْيِئَةً لِحَجِّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَبَيْنَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنُزُولِ آيَةِ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: 196] نَحْوَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ فَتَكُونُ فِيمَا نَرَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ. وَهِيَ وِصَايَةٌ بِفَرَائِضِ الْحَجِّ وَسُنَنِهِ وَمِمَّا يَحِقُّ أَنْ يُرَاعَى فِي أَدَائِهِ، وَذُكِرَ مَا أَرَادَ اللَّهُ الْوِصَايَةَ بِهِ مِنْ أَرْكَانِهِ وَشَعَائِرِهِ. وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ بَسَطَ تَفَاصِيلَهَا وَأَحْوَالَهَا مَعَ تَغْيِيرِ مَا أَدْخَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهَا. وَوَصَفَ الْأَشْهُرَ بِمَعْلُومَاتٍ حِوَالَةً عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، فَهِيَ مِنَ الْمَوْرُوثَةِ عِنْدَهُمْ عَنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مِنْ مَبْدَأِ شَوَّالٍ إِلَى نِهَايَة أَيَّام النَّحْر، وَبَعْضُهَا بَعْضُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّهُمْ حَرَّمُوا قَبْلَ يَوْمِ الْحَجِّ شَهْرًا وَأَيَّامًا وَحَرَّمُوا بَعْدَهُ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْحَرَامِ كُلِّهِ، لِتَكُونَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ مُدَّةً كَافِيَةً لِرُجُوعِ الْحَجِيجِ إِلَى آفَاقِهِمْ، وَأَمَّا رَجَبُ فَإِنَّمَا حَرَّمَتْهُ مُضَرُ لِأَنَّهُ شَهْرُ الْعُمْرَةِ. فَقَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أَيْ فِي أَشْهُرٍ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ: مُدَّةُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ «الرَّطْبُ شَهْرَا رَبِيعٍ» . وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ تَهْوِينًا لِمُدَّةِ تَرْكِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ، لِصُعُوبَةِ تَرْكِ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَلِذَلِكَ قُلِّلَتْ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّمَا هِيَ

عَشْرُ لَيَالٍ فَإِنْ تَخَلَّجَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ، تَعْنِي أَكْلَ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التَّوْبَة: 36] الْآيَةَ، وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ بَيَانُ وَقْتِ الْحَجِّ وَلَا أَنْثَلِجُ لَهُ. وَالْأَشْهُرُ الْمَقْصُودَةُ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ لَا غَيْرَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ شَهْرٌ أَوِ الْعَشْرُ الْأَوَائِلُ مِنْهُ أَوِ التِّسْعُ فَقَطْ، أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْهُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ بِالثَّانِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بِالثَّالِثِ الشَّافِعِيُّ، وَالرَّابِعُ قَول فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» غَيْرَ مَعْزُوٍّ. وَإِطْلَاقُ الْأَشْهُرِ عَلَى الشَّهْرَيْنِ وَبَعض الشَّهْر عِنْدَ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مُخَرَّجٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَرَبِ الدُّخُولَ فِي الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ كَاسْتِكْمَالِهِ، كَمَا قَالُوا: ابْنُ سَنَتَيْنِ لِمَنْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَة، وَكَثْرَة هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ أَوْقَعَ بَعْضَ أَعْمَالِ الْحَجِّ مِمَّا يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ بَعْدَ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَنْ يَرَاهُ أَوْقَعَهُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ دَمًا وَمَنْ يَرَى خِلَافَهُ يَرَى خِلَافَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُجْزِئُ وَيَكُونُ لَهُ عُمْرَةً كَمَنْ أَحْرَمَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَعَلَيْهِ: يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُجْزِئُ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّخَعِيُّ: يَجُوزُ الْإِحْرَامُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرَّهَ الْعُمْرَةَ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْحِجَّةِ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَضْرِبُ فَاعِلَهُ بِالدُّرَّةِ، وَدَلِيلُ مَالِكٍ فِي هَذَا مَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ، وَاحْتَجَّ النَّخَعِيُّ بقوله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: 189] إِذْ جَعَلَ جَمِيعَ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْمِيمُ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ لِتَوْقِيتِ الْحَجِّ بَلْ مَسَاقُ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَهِلّة صَالِحَة للتوفيق إِجْمَالًا، مَعَ التَّوْزِيعِ فِي التَّفْصِيلِ فَيُوَقَّتُ كُلُّ عَمَلٍ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ ظُهُورِ الْأَهِلَّةِ عَلَى مَا تُبَيِّنُهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلِاحْتِمَالِ الْآيَةِ عِدَّةُ مَحَامِلَ فِي وَجْهِ ذِكْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا أَرَى لِلْأَئِمَّةِ حُجَّةً فِيهَا لِتَوْقِيتِ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ تَفْرِيعٌ عَلَى هَاتِهِ الْمُقَدِّمَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ فِيهَا وَبَيَانِ أَهَمِّ أَحْكَامِهِ. وَمَعْنَى فَرَضَ: نَوَى وَعَزَمَ، فَنِيَّةُ الْحَجِّ هِيَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ، وَيُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ مُقَارَنَتُهَا لِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْحَجِّ وَهُوَ التَّلْبِيَةُ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ كَسَوْقِ الْهَدْيِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَدْخُلُ الْحَجُّ بِنِيَّةٍ وَلَوْ لَمْ يُصَاحِبْ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا مُقَارَنَتُهَا لِجُزْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ السُّنَّةَ مُقَارَنَةُ الْإِهْلَالِ لِلِاغْتِسَالِ وَالتَّلْبِيَةِ وَاسْتِوَاءِ الرَّاحِلَةِ بِرَاكِبِهَا. وَضَمِيرُ فِيهِنَّ لِلْأَشْهُرِ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ لِغَيْرِ عَاقِلٍ فَيَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ. وَقَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ جَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ، وَالرَّابِطُ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ مَا فِي مَعْنَى فَلا رَفَثَ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى (مَنْ) لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَلَا يَرْفُثُ. وَقَدْ نَفَى الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ نَفْيَ الْجِنْسِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهَا وَإِبْعَادَهَا عَنِ الْحَاجِّ، حَتَّى جُعِلَتْ كَأَنَّهَا قَدْ نَهَى الْحَاجُّ عَنْهَا فَانْتَهَى فَانْتَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَة: 228] وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ بِأَنْ شُبِّهَتْ حَالَةُ الْمَأْمُورِ وَقْتَ الْأَمْرِ بِالْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَ امْتِثَالِهِ فَكَأَنَّهُ امْتَثَلَ وَفَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَصَارَ بِحَيْثُ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَعَلَ كَمَا قَرَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، فَأَطْلَقَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ أَوَاخِرِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ الْمَنْفِيَّةِ بِ لَا، عَلَى اعْتِبَارِ (لَا) نَافِيَةً لِلْجِنْسِ نَصًّا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ (رَفَثٍ) وَ (فُسُوقٍ) عَلَى أَنَّ (لَا) أُخْتُ لَيْسَ نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ غَيْرُ نَصٍّ وَقَرَأَ (وَلَا جِدَالَ) بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ (لَا) نَافِيَةً لِلْجِنْسِ نَصًّا وَعَلَى أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: الرَّفْعُ بِمَعْنَى لَا يَكُونُ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ يَعْنِي أَنَّ خَبَرَ (لَا) مَحْذُوفٌ وَأَنَّ الْمَصْدَرَيْنِ نَائِبَانِ عَنْ فِعْلَيْهِمَا وَأَنَّهُمَا رُفِعَا لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ مِثْلَ رَفْعِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] وَانْتَهَى الْكَلَامُ ثُمَّ ابْتَدَأَ النَّفْيَ فَقَالَ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ عَلَى أَنَّ فِي الْحَجِّ خَبَرَ (لَا) ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ.

وَالرَّفَثُ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْفُحْشُ مِنْهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ: وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمٍ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَفَرِحَ وَكَرُمَ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ. وَأَحْسِبُ أَنَّ الْكِنَايَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُونَ غَيْرِهِ لِقَصْدِ جَمْعِ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَقُّونَ ذَلِكَ، قَالَ النَّابِغَةُ: حَيَّاكَ رَبِّي فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا يُرِيدُ مِنَ الدَّيْنِ الْحَجَّ وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: لَهْوُ النِّسَاءِ بِالْغَزَلِ. وَهَذَا خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ مُبَالَغَةُ النَّهْيِ اقْتَضَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الْحَجِّ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ بِصَرَاحَةٍ، فَالدُّخُولُ فِي الْإِحْرَامِ يَمْنَعُ مِنَ الْجِمَاعِ إِلَى الْإِحْلَالِ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَذَلِكَ جَمِيعُ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ حَصَلَ نِسْيَانٌ فَقَالَ مَالِكٌ هُوَ مُفْسِدٌ وَيُعِيدُ حَجَّهُ إِذَا لَمْ يَمْضِ وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَإِلَّا قَضَاهُ فِي الْقَابِلِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ حُصُولَ الِالْتِذَاذِ قَدْ نَافَى تَجَرُّدَ الْحَجِّ وَالزُّهْدَ الْمَطْلُوبَ فِيهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعَمُّدٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ: لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَأَمَّا مُغَازَلَةُ النِّسَاءِ وَالْحَدِيثُ فِي شَأْنِ الْجِمَاعِ فَذَرِيعَةٌ يَنْبَغِي سَدُّهَا، لِأَنَّهُ يَصْرِفُ الْقَلْبَ عَنِ الِانْقِطَاعِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ. وَلَيْسَ مِنَ الرَّفَثِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ الْقَدِيمِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْغَزَلِ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ إِنْشَاءَ الرَّفَثِ، وَقَدْ حَدَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِبَيْتٍ فِيهِ ذِكْرُ لَفْظٍ مِنَ الرَّفَثِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ حُصَيْنُ بْنُ قَيْسٍ: أَتَرْفَثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّفَثَ مَا كَانَ عِنْدَ النِّسَاءِ أَيِ الْفِعْلُ الَّذِي عِنْدَ النِّسَاءِ أَيِ الْجِمَاعُ. وَالْفُسُوقُ مَعْرُوفٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ قِيلَ أَرَادَ بِهِ هُنَا النَّهْيَ عَنِ الذَّبْحِ لِلْأَصْنَامِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَكَأَنَّهُ قَالَهُ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِبْطَالِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الظَّاهِرَ شُمُولُ الْفُسُوقِ لِسَائِرِ الْفِسْقِ وَقَدْ سَكَتَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ حُكْمِ الْإِتْيَانِ بِالْفُسُوقِ فِي مُدَّةِ الْإِحْرَامِ. وَقَرْنُ الْفُسُوقِ بِالرَّفَثِ الَّذِي هُوَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ يَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْفُسُوقِ فِي مُدَّةِ الْإِحْرَامِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ كَذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْفُسُوقَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ سِوَى ابْنِ حَزْمٍ فَقَالَ فِي «الْمُحَلَّى» : إِنَّ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْحَجِّ، وَالَّذِي

يَظْهَرُ أَنَّ غَيْرَ الْكَبَائِرِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَأَنَّ تَعَمُّدَ الْكَبَائِرِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ وَهُوَ أَحْرَى بِإِفْسَادِهِ مِنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ الَّذِي هُوَ الْتِذَاذٌ مُبَاحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجِدَالُ مَصْدَرُ جَادَلَهُ إِذَا خَاصَمَهُ خِصَامًا شَدِيدًا وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ [فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: 107] ، إِذْ فَاتَنَا بَيَانُهُ هُنَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْجِدَالِ هُنَا فَقِيلَ السَّبَابُ وَالْمُغَاضَبَةُ، وَقِيلَ تَجَادُلُ الْعَرَبِ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ إِذْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقِفُ فِي عَرَفَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقِفُ فِي جَمْعٍ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُدَارَسَةَ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مِنَ الْجِدَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الْوَزِيرِ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمَّا أَتَمَّ تَفْسِيرَ «الْكَشَّافِ» وَضَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ بِقَصْدِ أَنْ يُطَالِعَهُ الْعُلَمَاءُ يَحْضُرُونَ الْمَوْسِمَ وَقَالَ: مَنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُجَادِلَ فِي شَيْءٍ فَلْيَفْعَلْ، فَزَعَمُوا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ قَائِلًا: بِمَاذَا فَسَّرْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَأَنَّهُ وَجَمَ لَهَا، وَأَنَا أَحْسَبُ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَعْرَضَ عَنْ مُجَاوَبَتِهِ، لِأَنَّهُ رَآهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِدَالِ الْمَمْنُوعِ فِي الْحَجِّ وَبَيْنَ الْجِدَالِ فِي الْعِلْمِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ حُدُودِ الدِّينِ لَيْسَتْ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَجُرُّ إِلَى الْمُغَاضَبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَيُنَافِي حُرْمَةَ الْحَجِّ وَلِأَجْلِ مَا فِي أَحْوَالِ الْجِدَالِ مِنَ التَّفْصِيلِ كَانَتِ الْآيَةُ مُجْمِلَةً فِيمَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِدَالِ فَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ عَقَّبَ بِهِ النَّهْيَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ لِقَصْدِ الِاتِّصَافِ بِأَضْدَادِ تِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فَمَا تَفْعَلُوا يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَأُطْلِقُ عِلْمُ اللَّهِ وَأُرِيدُ لَازِمُهُ وَهُوَ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْمَعْلُومِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ إِلَخْ. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ. مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ الْكِنَايَةِ عَنِ التَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ الْخَيْر، وَالْمعْنَى وَأَكْثرُوا مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ. وَالتَّزَوُّدُ إِعْدَادُ الزَّادِ وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْمُسَافِرُ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الزَّادُ كَمَا يُقَالُ تَعَمَّمَ وَتَقَمَّصَ أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ مَعَهُ.

فَالتَّزَوُّدُ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِكْثَارِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ اسْتِعْدَادًا لِيَوْمِ الْجَزَاءِ شُبِّهَ بِإِعْدَادِ الْمُسَافِرِ الزَّادَ لِسَفَرِهِ بِنَاءً عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ السَّفَرِ وَالرَّحِيلِ عَلَى الْمَوْتِ. قَالَ الْأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا لِمَدْحِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ فِيهَا بَعْضَ مَا يَدْعُو النَّبِي إِلَيْهِ أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مَنِ التقى ... وَلَا قيت بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ بِمَا كَانَ أَرْصَدَا فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ أَيِ التَّقْوَى أَفْضَلُ مِنَ التَّزَوُّدِ لِلسَّفَرِ فَكُونُوا عَلَيْهَا أَحْرَصَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ التَّزَوُّدُ مَعَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ عَلَى وَجْهِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَيَكُونُ أَمْرًا بِإِعْدَادِ الزَّادِ لِسَفَرِ الْحَجِّ تَعْرِيضًا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَجِيئُونَ إِلَى الْحَجِّ دُونَ أَيِّ زَادٍ وَيَقُولُونَ نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ (¬1) فَيَكُونُونَ كَلًّا عَلَى النَّاسِ بِالْإِلْحَافِ. فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالتَّزَوُّدِ تَنْبِيهًا بِالتَّفْرِيعِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ التَّقْوَى لِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ مَاءِ الْوَجْهِ وَالْعِرْضِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُونِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَلَمْ يَزِدْ إِلَّا قَوْلُهُ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الْمُشِيرُ إِلَى أَن التوقي مِمَّا يَرْغَبُ فِيهِ أَهْلُ الْعُقُولِ. وَالْأَلْبَابُ: جَمْعُ لُبٍّ وَهُوَ الْعَقْلُ، وَاللُّبُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الْخَالِصُ مِنْهُ، وَفِعْلُهُ لَبُبَ يَلُبُّ بِضَمِّ اللَّامِ قَالُوا وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَعُلَ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ مِنَ المضاعف إِلَّا عذا الْفِعْلِ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنْ يُونُسَ وَقَالَ ثَعْلَبٌ مَا أَعْرِفُ لَهُ نَظِيرًا. فَقَوْلُهُ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ أَيِ التَّقْوَى أَفْضَلُ مِنَ التَّزَوُّدِ لِلسَّفَرِ فَكُونُوا عَلَيْهَا أَحْرَصَ، وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالتَّزَوُّدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مَعَ الْمَجَازِيِّ إِفَادَةُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ زَادُ الْآخِرَةِ بِمُنَاسَبَةِ الْأَمْرِ بِالتَّزَوُّدِ لِحُصُولِ التَّقْوَى الدُّنْيَوِيَّةِ بِصَوْنِ الْعِرْضِ. ¬

(¬1) كَانُوا يَقُولُونَ: كَيفَ نحج بَيت الله وَلَا يطعمنا؟ وَكَانُوا يقدمُونَ مَكَّة بثيابهم الَّتِي قطعُوا بهَا سفرهم بَين الْيمن وَمَكَّة فيطوفون فِيهَا، وَكَانَ بَقِيَّة الْعَرَب يسمونهم الطلس لأَنهم يأْتونَ طلسا من الْغُبَار.

[سورة البقرة (2) : آية 198]

وَالتَّقْوَى مَصْدَرُ اتَّقَى إِذَا حَذِرَ شَيْئًا، وَأَصلهَا تقيي قَلَبُوا يَاءَهَا وَاوًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، فَالصِّفَةُ بِالْيَاءِ كامرأة تقيى كخزبى وَصَدْيَى، وَقَدْ أُطْلِقَتْ شَرْعًا عَلَى الْحَذَرِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] . [198] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِمُنَاسَبَةِ النَّهْيِ عَنْ أَعْمَالٍ فِي الْحَجِّ تُنَافِي الْمَقْصِدَ مِنْهُ فَنَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى إِبَاحَةِ مَا كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْهُ فِي الْحَجِّ وَهُوَ التِّجَارَةُ بِبَيَانِ أَنَّهَا لَا تُنَافِي الْمَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ التِّجَارَةَ لِلْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ حَرَامًا. فَالْفَضْلُ هُنَا هُوَ الْمَالُ، وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ التِّجَارَةُ لِأَجْلِ الرِّبْحِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] . وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ سُوقِ ذِي الْمَجَازِ إِلَى مَكَّةَ حَرُمَ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ قَالَ النَّابِغَةُ: كَادَتْ تُسَاقِطُنِي رَحْلِي وَمِيثَرَتِي ... بِذِي الْمَجَازِ وَلَمْ تُحْسِسْ بِهِ نَغَمَا (¬1) مِنْ صَوْتِ حِرْمِيَّةٍ قَالَتْ وَقَدْ ظَعَنُوا ... هَلْ فِي مُخِفِّيكُمُ مَنْ يَشْتَرِي أَدَمَا قُلْتُ لَهَا وَهِيَ تَسْعَى تَحْتَ لَبَّتِهَا ... لَا تَحْطِمَنَّكِ إِنَّ الْبَيْعَ قَدْ زَرِمَا أَيِ انْقَطَعَ الْبَيْعُ وَحَرُمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ، وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي موسم الْحَج) اهـ. أَيْ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِزِيَادَة فِي مواسم الْحَجِّ. وَقَدْ كَانَتْ سُوقُ عُكَاظَ تَفْتَحُ مُسْتَهَلَّ ذِي الْقِعْدَةِ وَتَدُومُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَفِيهَا تُبَاعُ نَفَائِسُ السِّلَعِ وَتَتَفَاخَرُ الْقَبَائِلُ وَيَتَبَارَى الشُّعَرَاءُ، فَهِيَ أَعْظَمُ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ وَكَانَ مَوْقِعُهَا بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ عُكَاظَ إِلَى مَجَنَّةَ ثُمَّ إِلَى ذِي الْمَجَازِ، وَالْمَظْنُونُ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ بَيْنَ هَاتَيْنِ السُّوقَيْنِ بَقِيَّةَ شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ لِأَنَّ النَّابِغَةَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَقَامَ بِذِي الْمَجَازِ أَرْبَعَ لَيَالٍ وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ذِي الْمَجَازِ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ يَذْكُرُ رَاحِلَتَهُ: ¬

(¬1) الضمائر الثَّلَاثَة المستترة فِي الْأَفْعَال فِي هَذَا الْبَيْت عَائِدَة إِلَى الرَّاحِلَة الْمَذْكُورَة فِي أَبْيَات قبله.

بَاتَتْ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ وَاحِدَةً ... بِذِي الْمَجَازِ تُرَاعِي مَنْزِلًا زِيَمَا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ هُنَالِكَ حَاجًّا فَقَالَ: كَادَتْ تُسَاقِطُنِي رَحْلِي وَمِيثَرَتِي فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [الْبَقَرَة: 197] الْآيَةَ، عُطِفَ الْأَمْرُ عَلَى النَّهْيِ، وَقَوْلُهُ: (إِذَا أَفَضْتُمْ) شَرْطٌ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) . وَالْإِفَاضَةُ هُنَا: الْخُرُوجُ بِسُرْعَةٍ وَأَصْلُهَا مِنْ فَاضَ الْمَاءُ إِذَا كَثُرَ عَلَى مَا يَحْوِيهِ فَبَرَزَ مِنْهُ وَسَالَ وَلذَلِك سموا إِحَالَة الْقِدَاحِ فِي الْمَيْسِرِ إِفَاضَةً وَالْمُجِيلَ مُفِيضًا، لِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْقِدَاحَ مِنَ الرَّبَابَةِ بِقُوَّةٍ وَسُرْعَةٍ أَيْ بِدُونِ تَخَيُّرٍ وَلَا جَسٍّ لِيَنْظُرَ الْقَدَحَ الَّذِي يَخْرُجُ، وَسَمَّوُا الْخُرُوجَ مِنْ عَرَفَةَ إِفَاضَةً لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَتَكُونُ لِخُرُوجِهِمْ شِدَّةٌ، وَالْإِفَاضَةُ أُطْلِقَتْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ عَرَفَةَ وَالْخُرُوجِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ. وَالْعَرَبُ كَانُوا يُسَمُّونَ الْخُرُوجَ مِنْ عَرَفَةَ الدَّفْعَ، وَيُسَمُّونَ الْخُرُوجَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِفَاضَةً، وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ مَجَازٌ لِأَنَّ الدَّفْعَ هُوَ إِبْعَادُ الْجِسْمِ بِقُوَّةٍ، وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْإِفَاضَةِ عَلَى الْخَرُوجَيْنِ لِمَا فِي أَفَاضَ مِنْ قُرْبِ الْمُشَابَهَةِ مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الْكَثْرَةِ دُونَ الشِّدَّةِ. وَلِأَنَّ فِي تَجَنُّبِ دَفَعْتُمْ تَجَنُّبًا لِتَوَهُّمِ السَّامِعِينَ أَنَّ السَّيْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَفْعِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِي دَفْعِهِمْ ضَوْضَاءَ وَجَلَبَةً وَسُرْعَةَ سَيْرٍ فَنَهَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ: «لَيْسَ الْبِرُّ بِالْإِيضَاعِ فَإِذَا أَفَضْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ» . وَ (عَرَفَاتٌ) اسْمُ وَادٍ وَيُقَالُ: بَطْنٌ وَهُوَ مَسِيلٌ مُتَّسَعٌ تَنْحَدِرُ إِلَيْهِ مِيَاهُ جِبَالٍ تُحِيطُ بِهِ تُعْرَفُ بِجِبَالِ عَرَفَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ جُعِلَ عَرَفَاتٌ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ الْوَادِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ، وَيُقَالُ لَهُ: عَرَفَةُ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُ النَّاسِ يَوْمُ عَرَفَةَ مُوَلَّدٌ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مَحْضٍ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: يُقَالُ عَرَفَاتٌ وَعَرَفَةُ، وَقَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثِ «يَوْمَ عَرَفَةَ» ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُقَالُ: يَوْمُ عَرَفَاتٍ. وَفِي وَسَطِ وَادِي عَرَفَةَ جُبَيْلٌ يَقِفُ عَلَيْهِ نَاسٌ مِمَّنْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَيَخْطُبُ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ بِالنَّاسِ يَوْمَ تَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الظُّهْرِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ

النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَبُنِيَ فِي أَعْلَى ذَلِكَ الْجُبَيْلِ عَلَمٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وقف فِيهِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَقِفُ الْأَئِمَّةُ يَوْمَ عَرَفَةَ عِنْدَهُ. وَلَا يُدْرَى وَجْهُ اشْتِقَاقٍ فِي تَسْمِيَةِ الْمَكَانِ عَرَفَاتٍ أَوْ عَرَفَةَ، وَلَا أَنَّهُ عَلَمٌ مَنْقُولٌ أَوْ مُرْتَجَلٌ، وَالَّذِي اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ أَصْلٌ وَالْآخَرَ طَارِئٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْأَصْلَ (عَرَفَاتٌ) مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ وَأَنَّ عَرَفَةَ تَخْفِيفٌ جَرَى عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ (عَرَفَةَ) وَأَنَّ عَرَفَاتٍ إِشْبَاعٌ مِنْ لُغَةِ بَعْضِ الْقَبَائِلِ. وَذِكْرُ (عَرَفَاتٍ) بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنُ الْحَجِّ وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» . سُمِّيَ الْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ الَّذِي هُوَ عَلَى زِنَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ فَعَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ الصَّرْفَ مَعَ وُجُودِ الْعَلَمِيَّةِ. وَجَمْعُ الْمُؤَنَّثِ لَا يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُزِيلُ مَا فِي الْمُفْرِدِ مِنَ الْعِلْمِيَّةِ إِذِ الْجَمْعُ بِتَقْدِيرِ مُسَمَّيَاتٍ بِكَذَا، فَمَا جُمِعَ إِلَّا بَعْدَ قَصْدِ تَنْكِيرِهِ، فَالتَّأْنِيثُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّرْفَ مَعَ الْعِلْمِيَّةِ أَوِ الْوَصْفِيَّةِ هُوَ التَّأْنِيثُ بِالْهَاءِ. وَذِكْرُ الْإِفَاضَةِ مِنْ (عَرَفَاتٍ) يَقْتَضِي سَبْقَ الْوُقُوفِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا إِفَاضَةَ إِلَّا بَعْدَ الْحُلُولِ بِهَا، وَذِكْرُ (عَرَفَاتٍ) بِاسْمِهِ تَنْوِيهٌ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِهِ رُكْنٌ فَلَمْ يُذَكَرْ مِنَ الْمَنَاسِكِ بِاسْمِهِ غَيْرُ عَرَفَةَ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْأَرْكَانِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُؤْخَذُ رُكْنُ الْإِحْرَامِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [الْبَقَرَة: 197] ، وَأَمَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ. وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى فَإِذَا أَفَضْتُمْ خَارِجِينَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ. وَالتَّصْرِيحُ بَاسِمِ (عَرَفَاتٍ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلرَّدِّ عَلَى قُرَيْشٍ إِذْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ فِي (جَمْعٍ) وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ لِأَنَّهُمْ حُمْسٌ، فَيَرَوْنَ أَنَّ الْوُقُوفَ لَا يَكُونُ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَلَمَّا كَانَتْ مُزْدَلِفَةُ مِنَ الْحَرَمِ كَانُوا يَقِفُونَ بِهَا وَلَا يَرْضَوْنَ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ عَرَفَةَ مِنَ الْحِلِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى الْمُزْدَلِفَةَ فِي الْإِفَاضَةِ الثَّانِيَةِ بِاسْمِهَا وَقَالَ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ

لِأَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُفِيضُ مِنْهُ النَّاسُ بَعْدَ إِفَاضَةِ عَرَفَاتٍ، فَذَلِكَ حِوَالَةٌ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ. وَ (الْمَشْعَرُ) اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الشُّعُورِ أَيِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الشِّعَارِ أَيِ الْعَلَامَةِ، لِأَنَّهُ أُقِيمَتْ فِيهِ عَلَامَةٌ كَالْمَنَارِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ آخِرَ الْمَسَاءِ فَيُدْرِكُهُمْ غُبْسُ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَهُمْ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ فَخَشُوا أَنْ يَضِلُّوا الطَّرِيقَ فَيَضِيقُ عَلَيْهِمُ الْوَقْتُ. وصف الْمَشْعَرَ بِوَصْفِ (الْحَرَامِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ بِخِلَافِ عَرَفَاتٍ. وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ (الْمُزْدَلِفَةُ) ، سُمِّيَتْ مُزْدَلِفَةَ لِأَنَّهَا ازْدَلَفَتْ مِنْ مِنًى أَيِ اقْتَرَبَتْ لِأَنَّهُمْ يَبِيتُونَ بِهَا قَاصِدِينَ التَّصْبِيحَ فِي مِنًى. وَيُقَالُ لِلْمُزْدَلِفَةِ أَيْضًا (جَمْعٌ) لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَجِيجِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْوُقُوفِ بِهَا، الْحُمْسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: فَبَاتَ بِجَمْعٍ ثُمَّ رَاحَ إِلَى مِنًى ... فَأَصْبَحَ رَادًّا يَبْتَغِي الْمَزْجَ بِالسَّحْلِ (¬1) فَمَنْ قَالَ: إِنَّ تَسْمِيَتَهَا جَمْعًا لِأَنَّهَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فَقَدْ غَفَلَ عَنْ كَوْنِهِ اسْمًا مِنْ عَهْدِ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَتُسَمَّى الْمُزْدَلِفَةُ أَيْضًا (قُزَحَ) - بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ وَزَايٍ مَفْتُوحَةٍ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ-، بِاسْمِ قَرْنِ جَبَلٍ بَيْنَ جِبَالٍ مِنْ طَرَفِ مُزْدَلِفَةَ وَيُقَالُ لَهُ: الْمِيقَدَةُ لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ النِّيرَانَ، وَهُوَ مَوْقِفُ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَوْقِفُ الْإِمَامِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ عَلَى قُزَحَ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصْبَحَ بِجَمْعٍ أَتَى قُزَحَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْمَبِيتَ سُنَّةٌ وَأَمَّا النُّزُولُ حِصَّةً فَوَاجِبٌ. وَذَهَبَ عَلْقَمَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنٌ مِنَ الْحَجِّ فَمَنْ فَاتَهُ بَطَلَ حَجُّهُ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ. ¬

(¬1) من أَبْيَات يصف فِيهَا رجلا فِي الْحَج طلب أَن يَشْتَرِي عسلا من منى والراد الطَّالِب، والمزج من أَسمَاء الْعَسَل، والسحل النَّقْد وَأطْلقهُ فِي الْبَيْت على الدَّرَاهِم المنقودة من الْوَصْف بِالْمَصْدَرِ.

وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى يُجِيزَهُمْ أَحَدُ (بَنِي صُوفَةَ) وَهُمْ بَنُو الْغَوْثِ بْنِ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرٍ وَكَانَتْ أُمُّهُ جُرْهُمِيَّةً، لُقِّبَ الْغَوْثُ بِصُوفَةَ لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ لَا تَلِدُ فَنَذَرَتْ إِنْ هِيَ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَنْ تَجْعَلَهُ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ فَوَلَدَتِ الْغَوْثَ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ صُوفَةً يَرْبُطُونَ بِهَا شَعْرَ رَأْسِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَنْذُرُونَهُ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ وَتُسَمَّى الرَّبِيطَ، فَكَانَ الْغَوْثُ يَلِي أَمْرَ الْكَعْبَةِ مَعَ أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمَ فَلَمَّا غَلَبَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ عَلَى الْكَعْبَةِ جَعَلَ الْإِجَازَةَ لِلْغَوْثِ ثُمَّ بَقِيَتْ فِي بَنِيهِ حَتَّى انْقَرَضُوا، وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي جَعَلَ أَبْنَاءَ الْغَوْثِ لِإِجَازَةِ الْحَاجِّ هُمْ مُلُوكُ كِنْدَةَ، فَكَانَ الَّذِي يُجِيزُ بِهِمْ مِنْ عَرَفَة يَقُول: لَا همّ إِنِّي تَابِعٌ تِبَاعَهْ ... إِنْ كَانَ إِثْمٌ فَعَلَى قُضَاعَهْ لِأَنَّ قُضَاعَةَ كَانَتْ تُحِلُّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَلَمَّا انْقَرَضَ أَبْنَاءُ صُوفَةَ صَارَتِ الْإِجَازَةُ لِبَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاءَةَ بْنِ تَمِيمٍ وَرِثُوهَا بِالْقُعْدُدِ فَكَانَتْ فِي آلِ صَفْوَانَ مِنْهُمْ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بَيْدِ كِرِبِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ أَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ: لَا يَبْرَحُ النَّاسُ مَا حَجُّوا مُعَرَّفَهُمْ ... حَتَّى يُقَالَ أَجِيزُوا آلَ صَفْوَانَا وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي أَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ فَيَكُونُ هَذَا أَمْرًا بِالذِّكْرِ عَلَى الْعُمُومِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِذِكْرٍ خَاصٍّ فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ الْخَاصِّ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلَهُ: كَما هَداكُمْ فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَلَّا تُعْطَفَ بَلْ تُفْصَلُ وَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَعُطِفَتْ بِالْوَاوِ بِاعْتِبَارِ مُغَايَرَتِهَا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلِ الذِّكْرِ وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَهِيَ مُغَايَرَةٌ ضَعِيفَةٌ لَكِنَّهَا تُصَحِّحُ الْعَطْفَ كَمَا فِي قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هَمَّامٍ الشَّيْبَانِيِّ: أَيَا ابْنَ زَيَّابَةَ إِنْ تَلْقَنِي ... لَا تَلْقَنِي فِي النِّعَمِ الْعَازِبِ وَتَلْقَنِي يَشْتَدُّ بِي أَجْرَدٌ ... مُسْتَقْدِمُ الْبَرَكَةِ كَالرَّاكِب

[سورة البقرة (2) : آية 199]

فَإِنَّ جُمْلَةَ تَلْقَنِي الثَّانِيَةَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ لَا تَلْقَنِي فِي النِّعَمِ الْعَازِبِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَلْقَنِي رَاعِيَ إِبِلٍ وَذَلِكَ النَّفْيُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ فَارِسًا إِذْ لَا يَخْلُو الرَّجُلُ عَنْ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ فَكَانَ الظَّاهِرُ فَصْلَ جملَة تلقني تشتد بِي أَجْرَدُ لَكِنَّهُ وَصَلَهَا لِمُغَايِرَةٍ مَا. وَقَوْلُهُ: كَما هَداكُمْ تَشْبِيهٌ لِلذِّكْرِ بِالْهُدَى وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَمَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُشَابِهَةُ فِي التَّسَاوِي أَيِ اذْكُرُوهُ ذِكْرًا مُسَاوِيًا لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ فَيُفِيدُ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَالْمُكَافَأَةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِنَّ الْكَافَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّعْلِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَافِ الْمُجَازَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [الْبَقَرَة: 167] وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَافِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) كَيْفَ كَانَتْ، وَقِيلَ ذَلِك خَاص بِمَا الْكَافَّةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْكَاف المقترنة بِمَا وَفِي غَيْرِهَا. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْهُدَى الْمَأْخُوذِ مِنْ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ وَ «إِنْ» مُخَفَّفَةٌ. مِنْ إِنَّ الثَّقِيلَةِ. وَالْمُرَادُ ضَلَالُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَغْيِيرِ الْمَنَاسِكِ وَغير ذَلِك. [199] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 199] ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْإِخْبَارِيِّ لِلتَّرَقِّي فِي الْخَبَرِ وَأَنَّ الْإِفَاضَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هُنَا هِيَ عين الْإِفَاضَة الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [الْبَقَرَة: 198] وَأَن الْعَطف بثم لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْإِفَاضَةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ هُوَ مُتَعَلِّقُ أَفِيضُوا أَيْ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ إِشَارَةً إِلَى عَرَفَاتٍ فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا الْأَمْرَ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا بِغَيْرِهَا إِبْطَالًا لِعَمَلِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يَقِفُونَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَلَى (قُزَحَ) الْمُسَمَّى بِجَمْعٍ وَبِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَهُوَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي جُمْهُورِهِمْ مَنْ عَدَا قُرَيْشًا. عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِيَوْمِ عَرَفَةَ فِي الْمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْحُمْسَ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ اهـ

فَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: أَفِيضُوا جَمِيعُ الْمُسلمين وَالْمرَاد بِالنَّاسِ عُمُومُ النَّاسِ يَعْنِي مَنْ عَدَا قُرَيْشًا وَمَنْ كَانَ مِنَ الْحُمْسِ الَّذِينَ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَلَدُوا وَكِنَانَةُ وَأَحْلَافُهُمْ. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا أَدْرِي قَبْلَ الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ ابْتَدَعَتْ أَمْرَ الْحُمْسِ رَأْيًا قَالُوا: نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَقَاطِنُو مَكَّةَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقِّنَا وَلَا مِثْلُ مَنْزِلِنَا فَلَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا مِنَ الْحِلِّ كَمَا تُعَظِّمُونَ الْحَرَمَ- يَعْنِي لِأَنَّ عَرَفَةَ مِنَ الْحِلِّ- فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفَّتِ الْعَرَبُ بِحَرَمِكُمْ وَقَالُوا: قَدْ عَظَّمُوا مِنَ الْحِلِّ مِثْلَ مَا عَظَّمُوا مِنَ الْحَرَمِ فَلِذَلِكَ تَرَكُوا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِك اهـ، يَعْنِي فَكَانُوا لَا يُفِيضُونَ إِلَّا إِفَاضَةً وَاحِدَةً بِأَنْ يَنْتَظِرُوا الْحَجِيجَ حَتَّى يَرِدُوا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي مُزْدَلِفَةَ وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مُزْدَلِفَةَ بِجَمْعٍ، لِأَنَّهَا يُجْمَعُ بِهَا الْحُمْسُ وَغَيْرُهُمْ فِي الْإِفَاضَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ رَدَّتْ عَلَى قُرَيْشٍ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا الْإِفَاضَةَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، فَتَكُونُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي وَالتَّرْتِيبِ فِي الزَّمَنِ أَيْ بَعْدَ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَهِيَ مِنَ السُّنَّةِ الْقَدِيمَةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُقَالُ، وَكَانَ عَلَيْهَا الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَت الْإِجَازَةُ فِيهَا بِيَدِ خُزَاعَةَ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُمْ لِبَنِي عُدْوَانَ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ تَوَلَّى الْإِجَازَةَ مِنْهُمْ أَبَا سَيَّارَةَ عُمَيْلَةَ بْنَ الْأَعْزَلِ أَجَازَ بِالنَّاسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةَ فَأُبْطِلَتِ الْإِجَازَةُ وَصَارَ النَّاسُ يَتْبَعُونَ أَمِيرَ الْحَجِّ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَخْرُجُونَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ يَوْمَ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرَ وَهُوَ أَعْلَى جَبَلٍ قُرْبَ مِنًى وَكَانَ الَّذِي يُجِيزُ بِهِمْ يَقِفُ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَدْعُو بِدُعَاءٍ يَقُولُ فِيهِ: «اللَّهُمَّ بَغِّضْ بَيْنَ رِعَائِنَا، وَحَبِّبْ بَيْنَ نِسَائِنَا، وَاجْعَلِ الْمَالَ فِي سُمَحَائِنَا، اللَّهُمَّ كُنْ لَنَا جَارًا مِمَّنْ نَخَافُهُ، أَوْفَوْا بِعَهْدِكُمْ، وَأَكْرِمُوا جَارَكُمْ، وَاقْرُوا ضَيْفَكُمْ» ، فَإِنْ قَرُبَ طُلُوعُ الشَّمْسِ قَالَ: «أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ» وَيَرْكَبُ أَبُو سَيَّارَةَ حِمَارًا أَسْوَدَ فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ بِهِمْ وَتَبِعَهُ النَّاسُ وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ رَاجِزُهُمْ: خَلُّوا السَّبِيلَ عَنْ أَبِي سَيَّارَهْ ... وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ حَتَّى يُجِيزَ سَالِمًا حِمَارَهْ ... مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهْ أَيْ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ كُنْ لَنَا جَارًا مِمَّنْ نَخَافُهُ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 إلى 202]

فَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أَيْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُفِيضُ مِنْهُ سَائِرُ النَّاسِ وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي مُزْدَلِفَةَ، وَلَوْلَا مَا جَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ لَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرَ لِتَكُونَ الْآيَةُ ذَكَرَتِ الْإِفَاضَتَيْنِ بِالصَّرَاحَةِ وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ بَعْدُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [الْبَقَرَة: 200] . وَقَوله: مِنْ رَبِّكُمْ عَطْفٌ عَلَى أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِقُرَيْشٍ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْوُقُوف بِعَرَفَة. [200، 202] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 200 إِلَى 202] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الْبَقَرَة: 199] لِأَنَّ تِلْكَ الْإِفَاضَةَ هِيَ الدَّفْعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى أَوْ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَمِنًى هِيَ مَحَلُّ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَمَرَتْ بِأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الرَّمْيِ ثُمَّ الْهَدْي بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَمَّ الْحَجُّ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقُضِيَتْ مَنَاسِكُهُ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ إِلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ ثُمَّ يَنْحَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَأْتِي الْكَعْبَةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ تَمَّ الْحَجُّ وَحَلَّ لِلْحَاجِّ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا قُرْبَانَ النِّسَاءِ. وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ مَنْسَكٍ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَكَ نَسْكًا مِنْ بَابِ نَصَرَ إِذَا تَعَبَّدَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرِنا مَناسِكَنا [الْبَقَرَة: 128] فَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوْ هُوَ اسْمُ مَكَانٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: قَضَيْتُمْ لِئَلَّا نَحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ عِبَادَاتِ مَنَاسِكِكُمْ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ مَناسِكَكُمْ بِفَكِّ الْكَافَيْنِ وَقَرَأَهُ السُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِإِدْغَامِهِمَا وَهُوَ الْإِدْغَامُ الْكَبِيرُ (¬1) . ¬

(¬1) الْإِدْغَام يَنْقَسِم إِلَى كَبِير وصغير، فالكبير هُوَ مَا كَانَ فِيهِ المدغم والمدغم فِيهِ متحركين سَوَاء كَانَا مثلين أَو جِنْسَيْنِ أَو متقاربين، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يسكن الأول ويدغم فِي الثَّانِي فَيحصل فِيهِ عملان فَصَارَ كبيراف. وَالصَّغِير هُوَ مَا كَانَ فِيهِ المدغم سَاكِنا فيدغم فِي الثَّانِي فَيحصل فِيهِ عمل وَاحِد وَلذَا سمي بِهِ. انْظُر «الإتقان» و «شرح الشاطبي» .

وَقَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِهِ وَبِالِاسْتِغْفَارِ تَحْضِيضًا عَلَيْهِ وَإِبْطَالًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِفُضُولِ الْقَوْلِ وَالتَّفَاخُرِ، فَإِنَّهُ يَجُرُّ إِلَى الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ، وَالْمَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مُنْغَمِسًا فِي الْعِبَادَةِ فِعْلًا وَقَوْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَوْلُهُ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بَيَانٌ لِصِفَةِ الذِّكْرِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ إِلَخْ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ فِي أَيَّامِ مِنًى بِالتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَمَفَاخِرِ أَيَّامِهِمْ، فَكَانُوا يَقِفُونَ بَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى أَيْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَسْجِدُ الْخَيْفِ وَبَيْنَ الْجَبَلِ (أَيْ جَبَلِ مِنًى الَّذِي مَبْدَؤُهُ الْعَقَبَةُ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الْجَمْرَةُ) فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ» عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ وَذَكَرَ أَقْوَالًا نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُ ذِكْرِ اللَّهِ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَتَعْمِيرِ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْذِنُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الْآبَاءِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أضلّ أَوْ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْطُوفُ بِهَا فِي مِثْلِ مَا هُنَا أَوْلَى بِمَضْمُونِ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَفَادَتْ (أَوْ) مَعْنًى مِنَ التَّدَرُّجِ إِلَى أَعْلَى، فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وَشُبِّهَ أَوَّلًا بِذِكْرِ آبَائِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يشتغلون فِي ذَلِك الْمَنَاسِكِ بِذِكْرٍ لَا يَنْفَعُ وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمْ أَنْ يُعَوِّضُوهُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ ذِكْرِ الْآبَاءِ بِالتَّفَاخُرِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّيٍّ: إِنَّ (أَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَنَفَيَا اشْتِرَاطَ تَقَدُّمِ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ وَاشْتِرَاطَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ. وَعَلَيْهِ خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا إِظْهَارُ أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِثْلَ آبَائِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَكُونُ أَشَدَّ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالذِّكْرِ. وَ (أَشَدَّ) لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ تَقْدِيرُهُ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فَتَكُونُ فَتْحَةُ أَشَدَّ الَّتِي فِي آخِرِهِ فَتْحَةَ نَصْبٍ، فَنَصْبُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَذِكْرِكُمْ وَالتَّقْدِيرُ:

ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَصْبُ ذِكْراً يَظْهَرُ أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِأَشَدَّ، وَإِذْ قَدْ كَانَ (أَشَدَّ) وَصْفًا لِذِكْرٍ الْمُقَدَّرِ صَارَ مَآلُ التَّمْيِيزِ إِلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ بِمُرَادِفِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْقَصْدَ مِنَ التَّمْيِيزِ الَّذِي هُوَ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قِلَّةً لَا تُنَافِي الْفَصَاحَةَ اكْتِفَاءً بِاخْتِلَافِ صُورَةِ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَرَادِفَيْنِ، مَعَ إِفَادَةِ التَّمْيِيزِ حِينَئِذٍ تَوْكِيدَ الْمُمَيَّزِ كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ أَشَحُّ النَّاسِ رَجُلًا، وَهُمَا خَيْرُ النَّاسِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ» ، قُلْتُ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ تَمْيِيزِ (نِعْمَ) توكيدا فِي قَوْله جَرِيرٍ: تَزَوُّدْ مِثْلَ زَادِ أَبِيكَ فِينَا ... فَنِعْمَ الزَّادُ زَادَ أَبِيكَ زَادَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ أَشَدَّ عَلَى الْحَال من (ذكر) الْمُوَالِي لَهُ وَأَنَّ أَصْلَ أَشَدَّ نَعْتٌ لَهُ وَكَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ: أَوْ ذِكْرًا أَشَدَّ، فَقَدَّمَ النَّعْتَ فَصَارَ حَالًا، وَالدَّاعِي إِلَى تَقْدِيمِ النَّعْتِ حِينَئِذٍ هُوَ الِاهْتِمَامُ بِوَصْفِ كَوْنِهِ أَشَدَّ، وَلِيَتَأَتَّى إِشْبَاعُ حَرْفِ الْفَاصِلَةِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَلِيُبَاعِدْ مَا بَيْنَ كَلِمَاتِ الذِّكْرِ الْمُتَكَرِّرَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ (أَشَدَّ) مَعْطُوفًا على (ذكر) الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ، فَالْكُوفِيُّونَ لَا يَمْنَعُونَهُ وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ ابْنِ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاء: 1] بِجَرِّ الْأَرْحَامِ وَقَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 77] أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ جَوَّزَهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ لَا بِالْحَرْفِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» ، وَعَلَيْهِ فَفَتْحَةُ أَشَدَّ نَائِبَةٌ عَنِ الْكَسْرَةِ، لِأَنَّ أَشَدَّ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَانْتِصَابُ ذِكْراً عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ. وَلِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَخْرِيجَانِ آخَرَانِ لِإِعْرَابِ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِيهِمَا تَعَسُّفٌ دَعَاهُ إِلَيْهِمَا الْفِرَارُ مِنْ تَرَادُفِ التَّمْيِيزِ وَالْمُمَيَّزِ، وَلِابْنِ جِنِّي تَبَعًا لِشَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ تَخْرِيجٌ آخَرُ، دَعَاهُ إِلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَكَانَ تَخْرِيجُهُ أَشَدَّ تَعَسُّفًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ» ، وَسَلَكَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَنَظِيرَتُهَا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ

فِي «تَفْسِيرِهِ» «وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ عَوِيصَةٌ مَا رَأَيْتُ مَنْ يَفْهَمُهَا مِنَ الشُّيُوخِ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنَ الْحُبَابِ وَمَا قَصَّرَ الطَّيْبِيُّ فِيهَا وَهُوَ الَّذِي كَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْهَا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 77] يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَكَلَامُهُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ التُّونِسِيِّينَ عَلَى نَسْخِهِ لِأَنِّي كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَمَّا قَدِمَ الْوَاصِلُ بِكِتَابِ الطَّيْبِيِّ فَقُلْتُ لَهُ: نَنْظُرُ مَا قَالَ: فِي أَشَدَّ خَشْيَةً فَنَظَّرْنَاهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مَا قَالَ النَّاسُ فَحَضَّ الشَّيْخُ إِذْ ذَاكَ على نسخهَا اهـ» . وَقَوْلُهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِلَخ، الْفَاء للتفصيل لِأَن مَا بعْدهَا تَقْسِيم لفريقين من النَّاس المخاطبين بقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ إِلَخْ فَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الذِّكْرَ يَشْمَلُ الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَخَاصَّةً فِي مَظَانِّ الْإِجَابَةِ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْقَاصِدِينَ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَقْصِدُونَ إِلَّا تَيَمُّنًا وَرَجَاءً فَكَانَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وَادْعُوهُ، ثُمَّ أُرِيدُ تَفْصِيلُ الدَّاعِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَفَاوُتِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ تِلْكَ الْمَنَاسِكُ، وَإِنَّمَا لم يفعل الذِّكْرَ الْأَعَمَّ مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي لَيْسَ بِدُعَاءٍ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْصِيلِهِ تَفْصِيلًا يُنَبِّهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، وَالْمُقَسَّمُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْجِيرِ الْحَجِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِآيَةِ بَرَاءَةَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُهْمِلُونَ الدُّعَاءَ لِخَيْرِ الْآخِرَةِ مَا بَلَغَتْ بِهِمُ الْغَفْلَةُ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّعْرِيضُ بِذَمِّ حَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: آتِنا تَرَكَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِهِ أَيْ أَعْطِنَا عَطَاءً فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُقَدَّرُ الْمَفْعُولُ بِأَنَّهُ الْإِنْعَامُ أَوِ الْجَائِزَةُ أَوْ مَحْذُوفٌ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: حَسَنَةً فِيمَا بَعْدُ، أَيْ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً. و «الخلاق» بِفَتْحِ الْخَاءِ الْحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفِيسُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَاقَةِ وَهِيَ الْجَدَارَةُ، يُقَالُ خَلُقَ بِالشَّيْءِ بِضَمِّ اللَّامِ إِذَا كَانَ جَدِيرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الْجَدَارَةِ مُسْتَلْزِمًا نَفَاسَةَ مَا بِهِ الْجَدَارَةُ دَلَّ مَا اشْتُقَّ مِنْ مُرَادِفِهَا عَلَى النَّفَاسَةِ سَوَاءٌ قُيِّدَ بِالْمَجْرُورِ كَمَا هُنَا أَمْ أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ خَلَاقَ لَهُ» أَي من الْخَيْرِ وَقَوْلُ الْبُعَيْثِ بْنِ حُرَيْثٍ: وَلَسْتُ وَإِنْ قُرِّبْتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ ... خَلَاقِي وَلَا دِينِي ابْتِغَاءَ التَّحَبُّبِ

وَجُمْلَةُ وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ يَقُولُ فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ مِثْلُهَا، وَالْمَقْصُودُ: إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ الْكُفَّارُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَلَّا يَدْعُوا إِلَّا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْآخِرَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَعَلَّ الْحَالَ لِلتَّعْجِيبِ. وحَسَنَةً أَصْلُهَا صِفَةٌ لِفِعْلَةٍ أَوْ خَصْلَةٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَنَزَّلَ الْوَصْفَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ مِثْلَ تَنْزِيلِهِمُ الْخَيْرَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِالْخَيْرِيَّةِ، وَمِثْلُ تَنْزِيلِ صَالِحَةٍ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي وَوَقَعَتْ حَسَنَةً فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الْعُمُومُ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرَّا وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ بِحَسَبِ مَا يَصْلُحُ لَهُ كُلُّ سَائِلٍ مِنَ الْحَسَنَتَيْنِ. وَإِنَّمَا زَادَ فِي الدُّعَاءِ وَقِنا عَذابَ النَّارِ لِأَنَّ حُصُولَ الْحَسَنَةِ فِي الْآخِرَةِ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ عَذَابٍ مَا فَأُرِيدَ التَّصْرِيحُ فِي الدُّعَاءِ بِطَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ الْمُعْطَى لِأَحَدٍ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَوَزْنُهُ عَلَى صِيغَةِ فَعِيلٍ، وَلَمْ أَدْرِ أَصْلَ اشْتِقَاقِهِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا إِذَا عَيَّنُوا الْحَظَّ لِأَحَدٍ يَنْصَبُ لَهُ وَيَظْهَرُ وَيَشْخَصُ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْأَسَاسِ» وَالرَّاغِبِ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» أَوْ هُوَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَلَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ مَعْنَى فَاعِلٍ وَلَا مَعْنَى مَفْعُولٍ، وَإِطْلَاقُ النَّصِيبِ عَلَى الشِّقْصِ الْمُشَاعِ فِي قَوْلِهِمْ نَصِيبُ الشَّفِيعِ مَجَازٌ بِالْأَوَّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي مَادَّةِ (كَفَلَ) أَنَّهُ لَا يُقَالُ هَذَا نَصِيبُ فُلَانٍ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أُعِدَّ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مُفْرَدًا فَلَا يُقَالُ نَصِيبٌ وَهَذَا غَرِيبٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ سِوَى أَنَّ الْفَخْرَ نَقَلَ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ الْمُظَفَّرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 85] . وَوَقَعَ فِي كَلَامِ

الزَّجَّاجِ وَابْنِ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: 136] قَالَ الزَّجَّاجُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلُهُمْ جَعَلَ مِنْ كَذَا وَكَذَا نَصِيبًا يَتَضَمَّنُ بَقَاءَ نَصِيبٍ آخَرَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حكم الأول اهـ. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ الدَّاعِينَ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ الْمُبَارَكَةِ إِلَّا أَنَّهُ وَعَدَ بِإِجَابَةِ شَيْءٍ مِمَّا دُعُوا بِهِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ أَحْوَالُهُمْ وَحِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَلَّا يَجُرَّ إِلَى فَسَادٍ عَامٍّ لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِذَلِكَ نُكِّرَ (نَصِيبٌ) لِيَصْدُقَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَأَمَّا إِجَابَةُ الْجَمِيعِ إِذَا حَصَلَتْ فَهِيَ أَقْوَى وَأَحْسَنُ. وكسبوا بِمَعْنَى طَلَبُوا، لِأَنَّ كَسَبَ بِمَعْنَى طَلَبَ مَا يَرْغَبُ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَسْبِ هُنَا الْعَمَل وبالنصيب نَصِيبُ الثَّوَابِ فَتَكُونُ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشِيرٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً لِلتَّنْبِيهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ شَيْءٌ اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ فِي ضَلَالٍ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، وَزِيَادَةُ تَبْشِيرٍ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، لِأَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ فِيهِ سَرِيعَةُ الْحُصُولِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحِسَابَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ. وَالْحِسَابُ فِي الْأَصْلِ الْعَدُّ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا أَوْ قَضَاؤُهَا، فَصَارَ الْحِسَابُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحَقِّ يُقَالُ حَاسَبَهُ أَيْ كَافَأَهُ أَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] وَقَالَ جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ: 36] أَيْ وِفَاقًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَهَاهُنَا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَإِيصَالُ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَاسْتِفَادَةُ التَّبْشِيرِ بِسُرْعَةِ حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إِجَابَتَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ. وَالْمَعْنَى فَإِذَا أَتْمَمْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مَنَاسِكَ حَجِّكُمْ فَلَا تَنْقَطِعُوا عَنْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ بِتَعْظِيمِهِ وَحَمْدِهِ، وَبِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِتَحْصِيلِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَخَيْرِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَشْتَغِلُوا بِالتَّفَاخُرِ،

فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ كَمَا كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُمْ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَكَمَا يَذْكُرُهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْآنَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ إِلَّا بِطَلَبِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ أَعْطَاكُمْ نَصِيبًا مِمَّا سَأَلْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ إِن اللَّهَ يُعَجِّلُ باستجابة دعائكم.

[سورة البقرة (2) : آية 203]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 203] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) مَعْطُوفٌ عَلَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [الْبَقَرَة: 200] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَإِعَادَةُ فِعْلِ اذْكُرُوا لِيُبْنَى عَلَيْهِ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ أَيْ قَوْلُهُ: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ لِبُعْدِ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ تَقْيِيدُ الذِّكْرِ بِصِفَتِهِ ثُمَّ تَقْيِيدُهُ بِزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ. فَالذِّكْرُ الثَّانِي هُوَ نَفْسُ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمُغَايَرَةِ بِمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ زَمَانِهِ. وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنَى، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، يُقِيمُ النَّاسُ فِيهَا بِمِنَى وَتُسَمَّى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ النَّاسَ يُقَدِّدُونَ فِيهَا اللَّحْمَ، وَالتَّقْدِيدُ تَشْرِيقٌ، أَوْ لِأَنَّ الْهَدَايَا لَا تُنْحَرُ فِيهَا حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ. وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِقَامَتَهُمْ بِمِنَى بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنَى وَهِيَ بَعْدَ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَالِكٍ، وَهِيَ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ فِي [سُورَةِ الْحَجِّ: 28] . فَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ، وَهِيَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنَى بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ لَا مِنَ الْمَعْدُودَاتِ،

وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ فَقَطْ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الْحَج: 28] لِأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لَا نَحْرَ فِيهِ وَلَا ذَبْحَ إِجْمَاعًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ فَلَيْسَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ عِنْدَهُمَا مَعْلُومًا وَلَا مَعْدُودًا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَعْدُودَاتٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ وَهُوَ الذِّكْرُ عِنْدَ الرَّمْيِ وَعِنْدَ نَحْرِ الْهَدَايَا. وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَشْغَلُونَهَا بِالتَّفَاخُرِ وَمُغَازَلَةِ النِّسَاءِ، قَالَ الْعَرَجِيُّ: مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنَى ... حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ حِينَ جمّرت ... وكفّ خصيب زيّنت ببنان فو الله مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْحَجَّ قَدِ انْتَهَى بِانْتِهَاءِ الْعَاشِرِ، بَعْدَ أَنْ أَمْسَكُوا عَنْ مَلَاذِّهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً فَكَانُوا يَعُودُونَ إِلَيْهَا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا، وَذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا هُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ الثَّلَاثَةُ تُرْمَى الْجِمَارُ الثَّلَاثَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُبْتَدَأُ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ تُرْمَى الْجَمْرَتَانِ الْأُخْرَيَانِ كُلُّ جَمْرَةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيُكَبَّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَآخِرُهَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَفِي أَحْكَامِ الرَّمْيِ وَوَقْتِهِ وَعَكْسِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ بِجَمْرَةِ مَسْجِدِ مِنَى وَالْمَبِيتِ بِغَيْرِ مِنَى خِلَافَاتٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي مِنَى فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَاجِبَةٌ فَلَيْسَ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي إِلَّا فِي مِنَى، وَمَنْ لَمْ يَبِتْ فِي مِنَى فَقَدْ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلَا يُرَخَّصُ فِي الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مِنَى إِلَّا لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمَغِيبَ عَنْ مِنَى فَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لِلْعَبَّاسِ الْمَبِيتَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ أَنَّهُ عَلَى سِقَايَةِ زَمْزَمَ، وَرَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ مِنْ أَجْلِ حَاجَتِهِمْ إِلَى رَعْيِ الْإِبِلِ فِي الْمَرَاعِي الْبَعِيدَةِ عَنْ مِنَى وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ أَنْ يَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَرْجِعُوا مِنَ الْغَدِ فَيَرْمُونَ، وَرَخَّصَ لِلرِّعَاءِ الرَّمْيَ بِلَيْلٍ، وَرَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَنْ تَعَجَّلَ إِلَى وَطَنِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْإِقَامَةَ بِمِنَى الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِلْإِذْنِ بِالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ حُضُورِ بَعْضِ أَيَّامِ مِنَى لِمَنْ أَعْجَلَهُ الرُّجُوعُ إِلَى وَطَنِهِ، وَجِيءَ بِالْفَاءِ لِتَعْقِيبِ ذِكْرِ الرُّخْصَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى بِعِبَادِهِ. وَفِعْلَا تَعَجَّلَ وتَأَخَّرَ: مُشْعِرَانِ بِتَعَجُّلٍ وَتَأَخُّرٍ فِي الْإِقَامَةِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ اسْمُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، فَالْمُرَادُ، مِنَ التَّعَجُّلِ عَدَمُ اللُّبْثِ وَهُوَ النَّفْرُ عَنْ مِنَى وَمِنَ التَّأَخُّرِ اللُّبْثُ فِي مِنَى إِلَى يَوْمِ نَفْرِ جَمِيعِ الْحَجِيجِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ تَعَجَّلَ وتَأَخَّرَ مَعْنَاهُمَا مُطَاوَعَةُ عَجَّلَهُ وَأَخَّرَهُ فَإِنَّ التَّفَعُّلَ يَأْتِي لِلْمُطَاوَعَةِ كَأَنَّهُ عَجَّلَ نَفْسَهُ فَتَعَجَّلَ وَأَخَّرَهَا فَتَأَخَّرَ فَيَكُونُ الْفِعْلَانِ قَاصِرَيْنِ لَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ لَهُمَا وَلَكِنَّ الْمُتَعَجَّلَ عَنْهُ وَالْمُتَأَخَّرَ إِلَيْهِ مَفْهُومَانِ مِنِ اسْمِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، أَيْ تَعَجُّلِ النَّفْرِ وَتَأَخُّرِ النَّفْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِتَكَلُّفِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى الْعَجَلَةِ أَوْ إِلَى التَّأَخُّرِ فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا لِظُهُورِهِ أَيْ فَمَنْ تَعَجَّلَ النَّفْرَ وَمَنْ تَأَخَّرَهُ. فَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْمَعْنَى فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يُشْكِلُ بِأَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ يَقْتَضِي تَوَهُّمَ حُصُولِهِ فَيَصِيرُ التَّأَخُّرُ إِلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ رُخْصَةً مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَدُفِعَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا عَلَى فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُبِيحُونَ التَّعْجِيلَ، وَفَرِيقٌ يُبِيحُونَ التَّأْخِيرَ إِلَى الرَّابِعِ فَوَرَدَتِ الْآيَةُ لِلتَّوْسِعَةِ فِي الْأَمْرَيْنِ، أَوْ تَجْعَلُ مَعْنَى نَفْيِ الْإِثْمِ فِيهِمَا كِنَايَةً عَنِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ، وَلَا مَانِعَ فِي الْكَلَامِ مِنَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ كَمَا خُيِّرَ الْمُسَافِرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ. وَعِنْدِي أَنَّ وَجْهَ ذِكْرِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِالذِّكْرِ فِي أَيَّامِ مِنَى وَتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ فِيهَا بِالْفُضُولِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ خِيفَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّعْجِيلَ بِالنَّفْرِ أَوْلَى تباعدا من مُوَاقَعَةِ مَا لَا

يَحْسُنُ مِنَ الْكَلَامِ، فَدَفَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَإِذَا نُفِيَ هَذَا التَّوَهُّمُ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ لِلْمُتَأَخِّرِ فَضِيلَةُ الْإِقَامَةِ بِتِلْكَ الْمَنَازِلِ الْمُبَارَكَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى أَيْ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي تَأَخُّرِهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ فِي أَيَّامِ مِنَى، وَإِلَّا فَالتَّأَخُّرُ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَتَّقِ إِثْمٌ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (لَا) مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ ذَلِكَ وَبِدُونِ هَذَا لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِزِيَادَةِ قَوْلِهِ لِمَنِ اتَّقى وَإِنْ تَكَلَّفُوا فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَى تَقْرِيرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وِصَايَةٌ بِالتَّقْوَى وَقَعَتْ فِي آخِرِ بَيَانِ مَهَامِّ أَحْكَامِ الْحَجِّ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَاذْكُرُوا اللَّهَ أَو مُعْتَرضَة بَيْنَ وَمَنْ تَأَخَّرَ وَبَيْنَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ [الْبَقَرَة: 204] إِلَخْ. وَقَدِ اسْتُحْضِرَ حَالُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَحْكَامِ الْحَجِّ فِي حَالِ حجهم لِأَن فَاتِحَة هَاتِهِ الْآيَاتِ كَانَتْ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ [الْبَقَرَة: 197] إِلَخْ وَلَمَّا خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وَهِيَ آخِرُ أَيَّامِ الْحَجِّ وَأُشِيرَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفَرُّقِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ بِقَوْلِهِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَخْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ لِلرَّاجِعِينَ مِنَ الْحَجِّ أَنْ يُرَاقِبُوا تَقْوَى اللَّهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَلَا يَجْعَلُوا تَقْوَاهُ خَاصَّةً بِمُدَّةِ الْحَجِّ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ فَإِذَا انْقَضَى الْحَجُّ رَجَعُوا يَتَقَاتَلُونَ وَيُغِيرُونَ وَيُفْسِدُونَ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ. وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى وَتَحْذِيرٌ مِنْ خِلَافِهَا لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ سَعَى لِمَا يَجْلِبُ رِضَا الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ وَتَجَنَّبَ سُخْطَهُ. فَالْأَمْرُ فِي اعْلَمُوا لِلتَّذْكِيرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْبَقَرَة: 196] . وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَلِذَلِكَ نَاسَبَ قَوْلُهُ: تُحْشَرُونَ حَالَتَيْ تَفَرُّقِ الْحَجِيجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ وَاجْتِمَاعِ أَفْرَادِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاخْتِيرَ لَفْظُ (تُحْشَرُونَ) هُنَا دُونَ تَصِيرُونَ أَوْ تُرْجَعُونَ، لِأَنَّ تُحْشَرُونَ أَجْمَعُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَصِيرِ وَعَلَى الرُّجُوعِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُجْتَمِعِينَ كُلُّهُمْ كَمَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ حِينَ اسْتِحْضَارِ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ النَّاسَ بَعْدَ. الْحَجِّ يُحْشَرُونَ إِلَى مَوَاطِنِهِمْ فَذَكَّرَهُمْ بِالْحَشْرِ الْعَظِيمِ، فَلَفْظُ تُحْشَرُونَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ من وُجُوه كثير، وَالْعَرَبُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 إلى 206]

كَانُوا يَتَفَرَّقُونَ رَابِعَ أَيَّامِ مِنَى فَيَرْجِعُونَ إِلَى مَكَّةَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ فَيَرْجِعُ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى مَوْطِنِهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَذْكُرُ التَّفَرُّقَ يَوْمَ رَابِعِ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْمُحَصَّبِ فِي مِنَى: فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ ... أَشَتَّ وَأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ الْمُحَصَّبِ غَدَاةَ غَدَوْا فَسَالِكٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وَآخَرُ مِنْهُمْ جَازِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ وَقَالَ كُثَيِّرٌ: وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ ... وَمَسَّحَ بِالْأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ وَشُدَّتْ عَلَى دَهَمِ الْمَهَارَى رِحَالُنَا ... وَلَمْ يَنْظُرِ الْغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَنَا ... وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الْأَبَاطِحُ وَالْمَعْنَى لِيَكُنْ ذِكْرُكُمُ اللَّهَ وَدُعَاؤُكُمْ فِي أَيَّامِ إِقَامَتِكُمْ فِي مِنَى، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمُوَالِيَةُ لِيَوْمِ الْأَضْحَى، وَأَقِيمُوا فِي مِنَى تِلْكَ الْأَيَّامَ فَمن دَعَتْهُ حاجاته إِلَى التَّعْجِيلِ بِالرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنَى وَهُمَا الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالثَّالِثَ عشر مِنْهُ. [204- 206] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 204 إِلَى 206] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا [الْبَقَرَة: 200] إِلَخْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَالِكَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ الصُّرَحَاءَ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَابَلَ ذِكْرَهُمْ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَانْتَقَلَ هُنَا إِلَى حَالِ فَرِيقٍ آخَرِينَ مِمَّنْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَهُمْ مُتَظَاهِرُونَ بِأَنَّهُمْ رَاغِبُونَ فِيهَا، مَعَ مُقَابَلَةِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْآخِرَةَ وَالْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ عَلَى الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 207] . وَ (مِنْ) بِمَعْنَى بَعْضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] فَهِيَ صَالِحَةٌ

لِلصِّدْقِ عَلَى فَرِيقٍ أَوْ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ (وَمن) الْمَوْصُولَةُ كَذَلِكَ صَالِحَةٌ لِفَرِيقٍ وَشَخْصٍ. وَالْإِعْجَابُ إِيجَادُ الْعُجْبِ فِي النَّفْسِ وَالْعَجَبُ: انْفِعَالٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ خُفِيَ سَبَبُهُ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ مَا يَخْفَى سَبَبُهُ أَنْ تَرْغَبَ فِيهِ النَّفْسُ، صَارَ الْعجب مستلزما للاستحسان فَيُقَالُ أَعْجَبَنِي الشَّيْءُ بِمَعْنَى أَوْجَبَ لِي اسْتِحْسَانَهُ، قَالَ الْكَوَاشِيُّ يُقَالُ فِي الِاسْتِحْسَانِ: أَعْجَبَنِي كَذَا، وَفِي الْإِنْكَارِ: عَجِبْتُ مِنْ كَذَا، فَقَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ أَيْ يَحْسُنُ عِنْدَكَ قَوْلُهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ هُنَا مَا فِيهِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى حَالِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُهِمُّ الرَّسُولَ وَيُعْجِبُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صِفَةَ قَوْلِهِ فِي فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذَلِكَ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا يُضَادُّ قَوْلَهُ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ إِلَى آخِرِهِ. وَالْخِطَابُ إِمَّا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُظْهِرُ لَكَ مَا يُعْجِبُكَ مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَحُبُّ الْخَيْرِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْكُفَّارِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِ «مِنْ» الْمُنَافِقِينَ وَمُعْظَمُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَفِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ يَثْرِبَ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، أَوْ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْأَخْنَس بن شرِيف الثَّقَفِيُّ وَاسْمُهُ أُبَيٌّ وَكَانَ مَوْلًى لِبَنِي زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَخْوَالُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَوَدَّةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ بَلْ خَنَسَ أَيْ تَأَخَّرَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى بَدْرٍ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ أحلافه فصدهم عَن الِانْضِمَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ مُنَافِقٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ يُظْهِرُ الْوُدَّ لِلرَّسُولِ فَلَمَّا انْقَضَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ قِيلَ: إِنَّهُ حَرَقَ زَرْعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ حَمِيرًا لَهُمْ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَاتِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَم: 10، 11] وَنَزَلَتْ فِيهِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهمزَة: 1] ، وَقِيلَ بَلْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ ثَقِيفٍ عَدَاوَةٌ فَبَيَّتَّهُمْ لَيْلًا فَأَحْرَقَ زَرْعَهُمْ وَقَتَلَ مَوَاشِيَهُمْ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَعَلَى هَذَا فَتَقْرِيعُهُ لِأَنَّهُ غَدَرَهُمْ وَأَفْسَدَ. وَيَجُوزُ أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ تَرُوجَ عَلَيْهِمْ حيل الْمُنَافِقين وتنبيه لَهُمْ إِلَى اسْتِطْلَاعِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَجُوزُ أَن يتَعَلَّق بيعجبك فَيُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] أَيْ إِعْجَابُكَ بِقَوْلِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ الْحُصُولَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فِي الْآخِرَةِ

تَجِدُهُمْ بِحَالَةٍ لَا تُعْجِبُكَ فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ (فِي) ظَرْفِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَيَجُوزٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكَلِمَةِ قَوْلُهُ أَيْ كَلَامه عَن شؤون الدُّنْيَا مِنْ مَحَامِدِ الْوَفَاءِ فِي الْحَلِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْوُدِّ لِلنَّبِيءِ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا فِي أُمُورِ الدِّينِ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ فَيُرَادُ بِهَذَا الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. وَحَرْفُ (فِي) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِمَعْنَى عَنْ وَالتَّقْدِيرُ قَوْلُهُ: عَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَمَعْنَى يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ يَقْرِنُ حُسْنَ قَوْلِهِ وَظَاهِرَ تَوَدُّدِهِ بِإِشْهَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ مُطَابِقٌ لِمَا فِي لَفْظِهِ، وَمَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ حَلِفُهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ. وَإِنَّمَا أَفَادَ مَا فِي قَلْبِهِ مَعْنَى الْمُطَابَقَةِ لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْهَدَ اللَّهَ حِينَ قَالَ كَلَامًا حُلْوًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا أَنَّ قَلْبَهُ كَلِسَانِهِ قَالَ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التَّوْبَة: 62] وَمَعْنَى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أَنَّهُ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ أَيِ الْعَدَاوَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ لَدَّهُ يَلَدُّهُ بِفَتْحِ اللَّامِ لِأَنَّهُ مِنْ فَعِلَ، تَقُولُ: لَدِدْتَ يَا زَيْدُ بِكَسْرِ الدَّالِّ إِذَا خَاصَمَ، فَهُوَ لَادٌّ وَلَدُودٌ فَاللَّدَدُ شِدَّةُ الْخُصُومَةِ وَالْأَلَدُّ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ قَالَ الْحَمَاسِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ مَقْرُومٍ: وَأَلَدَّ ذِي حَنَقٍ عَلَيَّ كَأَنَّمَا ... تَغْلِي حَرَارَةُ صَدْرِهِ فِي مِرْجَلِ فَأَلَدُّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَلَيْسَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُؤَنَّثَهُ جَاءَ عَلَى فَعْلَاءَ فَقَالُوا: لَدَّاءُ وَجَمْعَهُ جَاءَ عَلَى فُعْلٍ قَالَ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مَرْيَم: 97] وَحِينَئِذٍ فَفِي إِضَافَتِهِ لِلْخِصَامِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَاهُ شَدِيدَ الْخِصَامِ مِنْ جِهَةِ الْخِصَامِ فَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَجُعِلَ الْخِصَامُ أَلَدَّ أَيْ نُزِّلَ خِصَامُهُ مَنْزِلَةَ شَخْصٍ لَهُ خِصَامٌ فَصَارَا شَيْئَيْنِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: خِصَامُهُ شَدِيدُ الْخِصَامِ كَمَا قَالُوا: جُنَّ جُنُونُهُ وَقَالُوا: جَدَّ جَدُّهِ، أَوِ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى فِي أَيْ وَهُوَ شَدِيدُ الْخِصَامِ فِي الْخِصَامِ أَيْ فِي حَالِ الْخِصَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ بَعْدَ وَهُوَ تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ خِصَامُهُ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْخِصَامَ لَا يُوصَفُ بِالْأَلَدِّ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُؤَوَّلَ بِأَنَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْخَصْمِ وَحِينَئِذٍ فَالتَّأْوِيلُ مَعَ عَدَمِ التَّقْدِيرِ أَوْلَى، وَقِيلَ الْخِصَامُ هُنَا جَمْعُ خَصْمٍ كَصَعْبٍ وَصِعَابٍ وَلَيْسَ هُوَ مَصْدَرًا وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ الْإِضَافَةُ أَيْ وَهُوَ أَلَدُّ النَّاسِ الْمُخَاصِمِينَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ إِذَا ظَرْفٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. وتَوَلَّى إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ التَّوْلِيَةِ وَهِيَ الْإِدْبَارُ وَالِانْصِرَافُ يُقَالُ وَلَّى وَتَوَلَّى وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [الْبَقَرَة: 142] أَيْ وَإِذَا فَارَقَكَ سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ. وَمُتَعَلِّقُ تَوَلَّى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تَوَلَّى عَنْكَ، وَالْخِطَابُ الْمُقَدَّرُ يَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَإِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِلَايَةِ: يُقَالُ وَلِيَ الْبَلَدَ وَتَوَلَّاهُ، أَيْ وَإِذَا صَارَ وَالِيًا أَيْ إِذَا تَزَعَّمَ وَرَأَسَ النَّاسَ سَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَقَدْ كَانَ الْأَخْنَسُ زَعِيمَ مَوَالِيهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ. وَقَوْلُهُ: سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها السَّعْيُ حَقِيقَتُهُ الْمَشْيُ الْحَثِيثُ قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى [الْقَصَص: 20] وَيُطْلَقُ السَّعْيُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء: 19] وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ الْبَيْتَيْنِ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ النَّاسِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوْ لِتَخْفِيفِ الْإِضْرَارِ قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَمِنَّا قَبْلَهُ السَّاعِي كُلَيْبٌ ... فَأَيُّ الْفَضْلِ إِلَّا قَدْ وُلِينَا وَقَالَ لَبِيدٌ: وَهُمُ السُّعَاةُ إِذَا الْعَشِيرَةُ أَفْظَعَتْ الْبَيْتَ. وَيُطلق على الْخرص وَبَذْلِ الْعَزْمِ لِتَحْصِيلِ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: 22] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ أَيْ ذَهَبَ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ غَازِيًا وَمُغِيرًا لِيُفْسِدَ فِيهَا. فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا فَعَلَهُ الْأَخْنَسُ بِزَرْعِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِكُفْرِهِ وَكَذِبِهِ فِي مَوَدَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَوْ كَانَ وُدُّهُ صَادِقًا لَمَا آذَى أَتْبَاعَهُ. أَوْ إِلَى مَا صَنَعَهُ بِزَرْعِ ثَقِيفٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بَيَّتَ ثَقِيفًا وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ وَهُمْ قَوْمُهُ فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ فَأَحْرَقَ زُرُوعَهُمْ وَقَتَلَ مَوَاشِيَهُمْ. لِأَنَّ صَنِيعَهُ هَذَا بِقَوْمٍ وَإِنْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ كُفَّارًا لَا يُهِمُّ الْمُسْلِمِينَ ضُرُّهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ انْتِصَارًا لِلْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي حَالَةِ حَرْبٍ مَعَهُمْ فَكَانَ فِعْلُهُ يَنُمُّ عَنْ خُبْثِ طَوِيَّةٍ لَا تَتَطَابَقُ

مَعَ مَا يُظْهِرُهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلِينِ الْقَوْلِ إِذْ مِنْ شَأْنِ أَخْلَاقِ الْمَرْءِ أَنْ تَتَمَاثَلَ وَتَتَظَاهَرَ فَاللَّهُ لَا يَرْضَى بِإِضْرَارِ عَبِيدِهِ وَلَوْ كُفَّارًا ضُرًّا لَا يَجُرُّ إِلَى نَفْعِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْزُهُمْ حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بَلْ إِفْسَادًا وَإِتْلَافًا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِمَدْلُولِ سَعى لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِالسَّعْيِ الْعَمَلُ وَالِاكْتِسَابُ فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّعْيَ هُوَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ لِلْفَسَادِ وَهُوَ الْغَارَةُ وَالتَّلَصُّصُ لِغَيْرِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ لِيُفْسِدَ فِيها فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْإِفْسَادَ مَقْصُودٌ لِهَذَا السَّاعِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَعى مَجَازًا فِي الْإِرَادَةِ وَالتَّدْبِيرِ أَيْ دَبَّرَ الْكَيْدَ لِأَنَّ ابْتِكَارَ الْفَسَادِ وَإِعْمَالَ الْحِيلَةِ لِتَحْصِيلِهِ مَعَ إِظْهَارِ النُّصْحِ بِالْقَوْلِ كَيْدٌ وَيَكُونُ لِيُفْسِدَ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلِ سَعى وَالتَّقْدِيرُ أَرَادَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَدَبَّرَهُ، وَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [الْبَقَرَة: 185] فَاللَّامُ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ وَمَا بَعْدَ اللَّامِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرَةِ مَعَهُ (أَنْ) مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: 32] وَقَوْلِ جُزْءِ بْنِ كُلَيْبٍ الْفَقْعَسِيِّ: تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا إِذِ التَّقْدِيرُ تَبَغَّى الِاسْتِيَادَ مِنَّا، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: أَتَى بِالْفِعْلِ وَاللَّامِ لِأَنَّ تَبَغَّى مِثْلُ أَرَادَ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: 32] وَالْمَعْنَى يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ كَذَلِكَ قَالَ تَبَغَّى لِيَسْتَادَ أَيْ تَبَغَّى الِاسْتِيَادَ مِنَّا اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ يَتَأَتَّى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقَعُ فِيهِ مَفْعُولُ الْفِعْلِ عِلَّةً لِلْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ، فَالْبَلِيغُ يَأْتِي بِهِ مُقْتَرِنًا بِلَامِ الْعِلَّةِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَفْعُولًا بِهِ يُعْلَمُ مِنْ تَقْدِيرِ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقًا بِسَعَى لِإِفَادَةِ أَنَّ سَعْيَهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ أَهْلِ أَرْضِكُمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ إِعَادَةُ فِيها مِنْ قَوْلِهِ: لِيُفْسِدَ فِيها بَيَانًا لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ مَعَ إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ يُتْلِفُهُ. وَالْحَرْثُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ الزَّرْعُ، وَالنَّسْلُ أَطْفَالُ الْحَيَوَانِ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسْلِ الصُّوفِ نُسُولًا

إِذَا سَقَطَ وَانْفَصَلَ، وَعِنْدِي أَنَّ إِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ كِنَايَةٌ عَنِ اخْتِلَالِ مَا بِهِ قِوَامُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَانُوا أَهْلَ حَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ هَذَيْنِ بَلِ الْمُرَادُ ضَيَاعُ مَا بِهِ قِوَامُ النَّاسِ، وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَقِيلَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا صَنَعَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَن من ينتسب فِي مِثْلِ ذَلِك صَرِيحًا أَو كِنَايَة مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ التَّذْيِيلِ وَهِيَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ تَحْذِيرًا وَتَوْبِيخًا. وَمَعْنَى نَفْيِ الْمَحَبَّةِ نَفْيُ الرِّضَا بِالْفَسَادِ، وَإِلَّا فَالْمَحَبَّةُ- وَهِيَ انْفِعَالُ النَّفْسِ وَتَوَجُّهٌ طَبِيعِيٌّ يَحْصُلُ نَحْوُ اسْتِحْسَانٍ نَاشِئٍ- مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهَا فَالْمُرَادُ لَازِمُهَا وَهُوَ الرِّضَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْإِرَادَةُ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ. وَلَا شكّ أَن الْقَدِير إِذَا لَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ يُعَاقِبْ فَاعِلَهُ، إِذْ لَا يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ فَسَادًا وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ وَالْحَرْثُ لِلْمُشْرِكِينَ: لِأَنَّ إِتْلَافَ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ رَزْءٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقِتَالُ بِإِتْلَافِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ آلَاتُ الْإِتْلَافِ وَأَسْبَابُ الِاعْتِدَاءِ. وَالْفَسَادُ ضِدَّ الصَّلَاحِ، وَمَعْنَى الْفَسَادِ: إِتْلَافُ مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاسِ نَفْعًا مَحْضًا أَوْ رَاجِحًا، فَإِتْلَافُ الْأَلْبَانِ مَثَلًا إِتْلَافُ نَفْعٍ مَحْضٍ، وَإِتْلَافُ الْحَطَبِ بِعِلَّةِ الْخَوْفِ مِنَ الِاحْتِرَاقِ إِتْلَافُ نَفْعٍ رَاجِحٍ وَالْمُرَادُ بِالرُّجْحَانِ رُجْحَانُ اسْتِعْمَاله عِنْد النَّاسِي لَا رُجْحَانُ كَمِّيَّةِ النَّفْعِ عَلَى كَمِّيَّةِ الضُّرِّ، فَإِتْلَافُ الْأَدْوِيَةِ السَّامَّةِ فَسَادٌ، وَإِنْ كَانَ التَّدَاوِي بِهَا نَادِرًا لَكِنَّ الْإِهْلَاكَ بِهَا كَالْمَعْدُومِ لِمَا فِي عُقُولِ النَّاسِ مِنَ الْوَازِعِ عَنِ الْإِهْلَاكِ بِهَا فَيُتَفَادَى عَنْ ضُرِّهَا بِالِاحْتِيَاطِ رَوَاجِهَا وَبِأَمَانَةِ مَنْ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِتْلَافُ الْمَنَافِعِ الْمَرْجُوحَةِ فَلَيْسَ مِنَ الْفَسَادِ كَإِتْلَافِ الْخُمُورِ بَلْهَ إِتْلَافِ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ بِالْمَرَّةِ كَإِتْلَافِ الحيّات والعقارب والفيران وَالْكِلَابِ الْكَلِبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَسَادُ غَيْرَ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ فِي الْفَسَادِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَعْطِيلًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِحِكْمَةِ صَلَاحِ النَّاسِ فَإِنَّ الْحَكِيمَ لَا يُحِبُّ تَعْطِيلَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، فَقِتَالُ الْعَدُوِّ إِتْلَافٌ لِلضُّرِّ الرَّاجِحِ وَلِذَلِكَ يُقْتَصَرُ فِي الْقِتَالِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ إِتْلَافُ الضُّرِّ بِدُونِ زِيَادَةٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَهَى عَنْ إِحْرَاقِ الدِّيَارِ فِي الْحَرْبِ وَعَنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ إِلَّا إِذَا رَجَحَ فِي نَظَرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ أَنَّ بَقَاءَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَزِيدُ قُوَّةَ الْعَدُوِّ وَيُطِيلُ مُدَّةَ الْقِتَالِ وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى هَزِيمَةٍ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ: الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.

وَقَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ إِي وَإِذَا وَعَظَهُ وَاعِظٌ بِمَا يَقْتَضِي تَذْكِيرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى غَضِبَ لِذَلِكَ، وَالْأَخْذُ أَصْلُهُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي الِاسْتِيلَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] وَفِي الْقَهْر نَحْو فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ [الْأَنْعَام: 42] . وَفِي التَّلَقِّي مِثْلُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمرَان: 81] وَمِنْهُ أُخِذَ فُلَانٌ بِكَلَامٍ فُلَانٍ، وَفِي الِاحْتِوَاءِ وَالْإِحَاطَةِ يُقَالُ أَخَذَتْهُ الْحُمَّى وَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أَيِ احْتَوَتْ عَلَيْهِ عَزَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْعِزَّةُ صِفَةٌ يَرَى صَاحِبُهَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا يُعَارَضُ فِي كَلَامِهِ لِأَجْلِ مَكَانَتِهِ فِي قَوْمِهِ وَاعْتِزَازِهِ بِقُوَّتِهِمْ قَالَ السَّمَوْأَلُ: وَنُنْكِرُ إِنْ شِئْنَا عَلَى النَّاسِ قَوْلَهُمْ ... وَلَا يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ حِينَ نَقُولُ وَمِنْهُ الْعِزَّةُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ وَإِنَّمَا تَكُونُ غَالِبًا فِي الْعَرَبِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْقَبِيلَةِ، وَقَدْ تُغْنِي الشَّجَاعَةُ عَنِ الْكَثْرَةِ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ، وَقَالُوا: لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ وَقَالَ السَّمَوْأَلُ وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ وَمِنْهَا جَاءَ الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَة: 209] . فَ (الْ) فِي (الْعِزَّةِ) لِلْعَهْدِ أَيِ الْعِزَّةُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنْ قَبُولِ اللَّوْمِ أَوِ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ تَقْتَضِي مَعْنَى الْمَنَعَةِ فَأَخْذُ الْعِزَّةِ لَهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِصْغَائِهِ لِنُصْحِ النَّاصِحِينَ. وَقَوْلُهُ: بِالْإِثْمِ الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ الْمُلَابِسَةُ لِلْإِثْمِ وَالظُّلم وَهُوَ احتراس لِأَنَّ مِنِ الْعِزَّةِ مَا هُوَ مَحْمُودٌ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقين: 8] أَيْ فَمَنَعَتْهُ مِنْ قَبُولِ الْمَوْعِظَةِ وَأَبْقَتْهُ حَلِيفَ الْإِثْمِ الَّذِي اعْتَادَهُ لَا يَرْعَوِي عَنْهُ وَهُمَا قَرِينَانِ. وَقَوْلُهُ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ تَفْرِيعٌ عَلَى هَاتِهِ الْحَالَةِ، وَأَصْلُ الْحَسْبِ هُوَ الْكَافِي كَمَا سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي آلِ عِمْرَانَ [173] . وَلَمَّا كَانَ كَافِي الشَّيْءِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِهِ وَمِمَّا يُرْضِيهِ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ أَطْلَقَ الْحَسَبَ عَلَى الْجَزَاءِ كَمَا هُنَا. وَجَهَنَّمُ عَلَمٌ عَلَى دَارِ الْعُقَابِ الْمُوقَدَةِ نَارًا، وَهُوَ اسْمٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ اعْتَبَرَتْهُ كَأَسْمَاءِ الْأَمَاكِنِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلْعِلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ وَهُوَ

[سورة البقرة (2) : آية 207]

قَوْلُ الْأَكْثَرِ: جَاءَ مِنْ لُغَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ عَنِ اشْتِقَاقِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا زَعَمَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَهْمِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ وَزْنَهُ فَعَنَّلْ بِزِيَادَةِ نُونَيْنِ أَصْلُهُ فَعْنَلْ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ ضُعِفَّتْ وَقِيلَ وَزْنُهُ فَعَلَّلْ بِتَكْرِيرِ لَامِهِ الْأُولَى وَهِيَ النُّونُ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْخُمَاسِيِّ وَمَنْ قَالَ: أَصْلُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ كَهْنَامُ فَعُرِّبَتْ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ أَصْلُهَا عِبْرَانِيَّةٌ كِهِنَامُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْهَاءِ فَعُرِّبَتْ وَأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ وَزْنَ فَعَنَّلْ لَا وُجُودَ لَهُ لَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِهِ لِوُجُودِ دَوْنَكَ اسْمُ وَادٍ بِالْعَالِيَةِ وَحَفَنْكَى اسْمٌ لِلضَّعِيفِ وَهُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ وَكَافٍ وَأَلِفٍ وَهُمَا نَادِرَانِ، فَيَكُونُ جَهَنَّمُ نَادِرًا، وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ رَكِيَّةُ جَهَنَّم أَي بعيدَة الْقَعْرِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ تَشْبِيهِ الرَّكِيَّةِ بِجَهَنَّمَ، لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَ جَهَنَّمَ أَنَّهَا كَالْبِئْرِ الْعَمِيقَةِ الْمُمْتَلِئَةِ نَارًا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصّلت يرثي زيدا بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَكَانَا مَعًا مِمَّنْ تَرَكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا ... تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنَ النَّارِ مُظْلِمًا وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ جَهَنَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَسَمَّاهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ نَارًا وَجَعَلَ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: 24] . وَقَوْلُهُ: وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أَيْ جَهَنَّمُ، وَالْمِهَادُ مَا يُمَهَّدُ أَيْ يُهَيَّأُ لِمَنْ يَنَامُ، وَإِنَّمَا سَمَّى جَهَنَّمَ مِهَادًا تَهَكُّمًا، لِأَنَّ الْعُصَاةَ يُلْقَوْنَ فِيهَا فَتُصَادِفُ جنُوبهم وظهورهم. [207] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) هَذَا قَسِيمُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ [الْبَقَرَة: 204] وَذِكْرُهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِطْرَادِ اسْتِيعَابًا لِقِسْمَيِ النَّاسِ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي تَمَحَّضَ فِعْلُهُ لِلْخَيْرِ حَتَّى بَلَغَ غَايَةَ ذَلِكَ وَهُوَ تَعْرِيضُ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَنْفَسُ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ لِلْهَلَاكِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَإِنَّمَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ النَّاسِ لِلْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ.

وَ (يَشْرِي) مَعْنَاهُ يَبِيع كَمَا أَن يَشْتَرِي بِمَعْنَى يَبْتَاعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] . وَاسْتُعْمِلَ (يَشْرِي) هُنَا فِي الْبَذْلِ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ أَيْ هَلَاكًا فِي نَصْرِ الدِّينِ وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ النَّفْسَ أَغْلَى مَا عِنْد الْإِنْسَان. ومَرْضاتِ اللَّهِ رِضَاهُ فَهُوَ مَصْدَرُ رَضِيَ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلِ زِيدَتْ فِيهِ التَّاءُ سَمَاعًا كَالْمَدْعَاةِ وَالْمَسْعَاةِ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ النَّمِرِيِّ بْنِ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ (¬1) الْمُلَقَّبِ بِالرُّومِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ أَسَرَهُ الرُّومُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي جِهَاتِ الْمَوْصِلِ وَاشْتَرَاهُ بَنو كلب فَكَانَ مَوْلَاهُمْ وَأَثْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَكَّةَ وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ صُهَيْبٌ مُهَاجِرًا فَلَحِقَ بِهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِيُوثِقُوهُ فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَانْتَثَلَ كِنَانَتَهُ وَكَانَ رَامِيًا وَقَالَ لَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ وَأَيْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ بِمَا فِي كِنَانَتِي ثُمَّ أَضْرَبَ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ تَخْرُجُ مِنْ عِنْدِنَا غَنِيًّا وَقَدْ جِئْتَنَا صُعْلُوكًا، وَلَكِنْ دُلَّنَا على مَالك وتخلي عَنْكَ وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّهُمْ عَلَى مَالِهِ، فَلَمَّا قدم على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ ربح البيع أيا يَحْيَى وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ إِنْ كَفَّارَ مَكَّةَ عَذَّبُوا صُهَيْبًا لِإِسْلَامِهِ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ وَخَرَجَ مُهَاجِرًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَأَنَّ صُهَيْبًا أَوْ غَيْرَهُ مُلَاحَظٌ فِي أَوَّلِ مَنْ تَشْمَلُهُ. وَقَوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ تذييل أَي رؤوف بِالْعِبَادِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَالرَّأْفَةُ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِهَا وَهُوَ إِيتَاءُ الْخَيْرَاتِ كَالرَّحْمَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ (الْعِبَادِ) تَعْرِيفُ اسْتِغْرَاقٍ، لِأَن الله رؤوف بِجَمِيعِ عِبَادِهِ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا فَمِنْهُمْ مَنْ تَنَالُهُ رَأْفَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِمَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنَالُهُ رَأْفَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ فَإِنَّ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمُ الْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ أَيْ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْ قَبِيلِ الَّذِي يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] ، وَالْعِبَادُ ¬

(¬1) كَانَ صُهَيْب من الْمُؤمنِينَ الْأَوَّلين، أسلم هُوَ وعمار بن يَاسر فِي يَوْم أحد، شهد بَدْرًا، وَتُوفِّي سنة 37 هـ.

إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ يُرَادُ بِهِ عِبَادٌ مُقَرَّبُونَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فِي [سُورَةِ الْحِجْرِ: 42] . وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّذْيِيلِ لِلْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ وَجَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَبِيدَهُ فَاللَّهُ رَءُوفٌ بِهِمْ كَرَأْفَةِ الْإِنْسَانِ بِعَبْدِهِ فَإِنْ كَانَ مَا صَدَقَ (مَنْ) عَامًّا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي كُلِّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ، فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِهِمْ فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ هَذَا التذييل بِمَنْزِلَة الْمثل مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ وَهُوَ من لَوَازِم التَّذْيِيلَ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الرَّأْفَةِ بِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ عِبَادًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا صَدَقَ (مَنْ) صُهَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ صُهَيْبٌ مِنْهُمْ، وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ صُهَيْبًا كَانَ عَبْدًا لِلرُّومِ ثُمَّ لِطَائِفَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ بَنُو كَلْبٍ وَهُمْ لَمْ يَرْأَفُوا بِهِ، لِأَنَّهُ عُذِّبَ فِي اللَّهِ فَلَمَّا صَار عبد الله رَأَفَ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: 204] إِلَى قَوْله رَؤُفٌ بِالْعِبادِ مَعَانٍ مِنْ مَعَانِي أَدَبِ النُّفُوسِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَخْلَاقِهَا تُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبَ التَّوَسُّمِ فِي الْحَقَائِقِ وَدَوَاخِلِ الْأُمُورِ وَعَدَمَ الِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ إِلَّا بَعْدَ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُغَرُّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ مُنْطَوٍ عَلَى بَاطِنِ سُوءٍ وَيُعْطِي مِنْ لِسَانِهِ حَلَاوَةَ تَعْبِيرٍ وَهُوَ يُضْمِرُ الشَّرَّ وَالْكَيْدَ قَالَ الْمُعَرِّيُّ: وَقَدْ يُخْلِفُ الْإِنْسَانُ ظَنَّ عَشِيرَةٍ ... وَإِنْ رَاقَ مِنْهُ مَنْظَرٌ وَرُوَاءُ وَقَدْ شَمِلَ هَذَا الْحَالُ قَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» بِأَحَدِ مَعْنَيَيْهِ الْمُحْتَوِي عَلَيْهِمَا وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَتَبْلُغُ هَلْهَلَةُ دِينِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى أَنَّ مَا يَقُولُهُ صِدْقٌ وَهُوَ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُبَيِّتُ فِي نَفْسِهِ الْخِصَامَ وَالْكَرَاهِيَةَ. وَعَلَامَةُ الْبَاطِنِ تَكُونُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمَرْءِ فَالَّذِي يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَلَا يَكُونُ صَاحِبَ ضَمِيرٍ طَيِّبٍ، وَأَنَّ الَّذِي لَا يُصْغِي إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ إِذَا دَعَوْتَهُ إِلَيْهِ وَيُظْهِرُ عَلَيْهِ الِاعْتِزَازَ بِالظُّلْمِ لَا يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ وَلَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ الذَّمِيمَةَ، وَالَّذِي لَا يَشِحُّ بِنَفْسِهِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ يُنْبِئُ خُلُقُهُ عَنْ إِيثَارِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ وَمَنْ لَا يَرْأَفُ فَاللَّهُ لَا يرأف بِهِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 إلى 209]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 208 إِلَى 209] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) اسْتِئْنَافٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ انتهازا للفرصة بالدعوة إِلَى الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى تَقْسِيمِ النَّاسِ تُجَاهَ الدِّينِ مَرَاتِبَ، أَعْلَاهَا مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 207] لِأَنَّ النَّفْسَ أَغْلَى مَا يُبْذَلُ، وَأَقَلَّهَا مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: 204] أَيْ يُضْمِرُ الْكَيْدَ وَيُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ مَا فِيهِ نَفْعُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَدَى عَلَى قَوْمٍ مُسَالِمِينَ فَنَاسَبَ بعد ذَلِك أَنْ يُدْعَى النَّاسُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السِّلْمِ وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ تَقْوَى وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَعْنَى طَلَبِ الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ. وَالْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْعُنْوَانِ، وَلِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْصُولِ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ. وَ (الدُّخُولُ) حَقِيقَتُهُ نُفُوذُ الْجِسْمِ فِي جِسْمٍ أَوْ مَكَانٍ مُحَوَّطٍ كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى حُلُولِ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ يُقَالُ دَخَلَ بِلَادَ بَنِي أَسَدٍ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاتِّبَاعِ وَالِالْتِزَامِ وَشِدَّةِ التَّلَبُّس بِالْفِعْلِ. و (السّلم) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَقَرَأَ بَاقِي الْعَشَرَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَيُقَالُ سَلَمٌ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاء: 94] وَحَقِيقَةُ السِّلْمِ الصُّلْحُ وَتَرْكُ الْحَرْبِ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُزَعُ وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا بِكَسْرِ السِّينِ وَاشْتِقَاقِهِ مِنَ السَّلَامَةِ وَهِيَ النَّجَاةُ مَنْ أَلَمٍ أَوْ ضُرٍّ أَوْ عِنَادٍ يُقَالُ أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِفُلَانٍ أَيْ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا بِدُونِ مُقَاوَمَةٍ، وَاسْتَسْلَمَ طَلَبَ السِّلْمِ أَيْ تَرَكَ الْمُقَاوَمَةَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَسِلْمٌ

أَمْ حَرْبٌ، أَيْ أَأَنْتَ مُسَالِمٌ أَمْ مُحَارِبٌ، وَكُلُّهَا مَعَانٍ مُتَوَلِّدٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَلِذَلِكَ جَزَمَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ بِأَنَّ السِّلْمَ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا وَبِالتَّحْرِيكِ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِيمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْآخَرُ. قَالُوا وَيُطْلَقُ السِّلْمُ بِلُغَاتِهِ الثَّلَاثِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ فِي قَضِيَّةِ رِدَّةِ قَوْمِهِ: دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأَيْتُهُمُو تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَا فَلَسْتُ مُبَدِّلًا بِاللَّهِ رَبًّا ... وَلَا مُسْتَبْدِلًا بِالسِّلْمِ دِينَا وَهَذَا الْإِطْلَاقُ انْفَرَدَ بِذِكْرِهِ أَصْحَابُ التَّفْسِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» وَلَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْأَسَاسِ» وَصَاحِبُ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَذَكَرَهُ فِي «الْقَامُوسِ» تَبَعًا لِلْمُفَسِّرِينَ وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» حِكَايَةَ قَوْلٍ فِي تَفْسِيرِ السِّلْمِ هُنَا فَهُوَ إِطْلَاقٌ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِثُبُوتِهِ وَبَيْتُ الْكِنْدِيِّ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْمُسَالَمَةِ أَيِ الْمُسَالَمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «دِينًا» بِمَعْنى الْعَادة اللَّازِمَة كَمَا قَالَ الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ: تَقُولُ وَقَدْ أَدَرْتَ لَهَا وَضِينِي ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ السِّلْمُ بِكَسْرِ السِّينِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالسَّلْمُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُسَالَمَةُ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِكَسْرِ السِّينِ لَا غَيْرَ وَقَرَأَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالَّتِي فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ السِّينِ قَالَ الطَّبَرِيُّ تَوْجِيهًا مِنْهُ لِمَعْنَاهُ هُنَا إِلَى أَنَّهُ الْإِسْلَامُ دُونَ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ. وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ وَقَالَ: اللُّغَةُ لَا تُؤْخَذُ هَكَذَا وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ بِالسَّمَاعِ لَا بِالْقِيَاسِ وَيَحْتَاجُ مَنْ فَرَّقَ إِلَى دَلِيلٍ. فَكَوْنُ السِّلْمِ مِنْ أَسْمَاءِ الصُّلْحِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فَهُوَ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ وَكَوْنُهُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا صَحَّ ذَلِك جَازَ أَي يَكُونَ مُرَادًا أَيْضًا وَيَكُونُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَعَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسِّلْمِ الْمُسَالَمَةَ كَمَا يَقْتَضِيهِ خِطَابُهُمْ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِي هُوَ كَاللَّقَبِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَمْرَهُمْ بِالدُّخُولِ فِي الْمُسَالَمَةِ دُونَ الْقِتَالِ، وَكَمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي (ادْخُلُوا) مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهَا طَلَبُ تَحْصِيلِ فِعْلٍ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا أَوْ كَانَ مُفَرَّطًا فِي بَعْضِهِ. فَالَّذِي يَبْدُو لِي أَنْ تَكُونَ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] الْآيَاتِ تَهْيِئَةٌ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لِصَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ وَإِرْجَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَالْإِرْجَافِ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ حِينَ أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ وَاسْتَطْرَدَ بَعْدَهُ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأُلْحِقَ بِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَضْعِهِ فِي مَوْضِعه بَين فِي تِلْكَ الْآيَاتِ، اسْتُؤْنِفَ هُنَا أَمْرُهُمْ بِالرِّضَا بِالسِّلْمِ وَالصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا آسِفِينَ مِنْ وُقُوعِهِ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَدْ قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ فَكَيْفَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا رَوَاهُ أَهْلُ «الصَّحِيحِ» فَتَكُونُ مُدَّةُ مَا بَيْنَ نُزُولِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَتَرَدُّدِ الرُّسُلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَا بَيْنَ وُقُوعِ الصُّلْحِ هِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] إِلَى هُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: 210] رَاجِعًا إِلَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ [الْبَقَرَة: 204] أَوْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: 207] كَمَا سَيَأْتِي يَكُونُ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَةِ ذَاتِ الْمَعَادِ وَالْجُمْلَةِ ذَاتِ الضَّمِيرِ. فَأَمَّا إِذَا فُسِّرَ السِّلْمُ بِالْإِسْلَامِ أَيْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بِزِيَادَةِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالتَّغَلْغُلِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ إِذَا اسْتَقَرَّ وَتَمَكَّنَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] . وَقَالَ النَّابِغَةُ: أَبَى غَفْلَتِي أَنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ ... تَحَرَّكَ دَاءٌ فِي فُؤَادِيَ دَاخِلُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي (ادْخُلُوا) الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ وَقِيلَ أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ فَتَكُونُ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ. فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِمَعْنَى أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ فَيَكُونُ تَهَكُّمًا بِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ كَاللَّقَبِ لِمَنِ اتَّبَعَ الدِّينَ اتِّبَاعًا حَقًّا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ عَلَى هَذَا أَنْ يُثْبِتَ لِلْمُنَافِقِينَ وَصْفَ الْإِسْلَامِ وَيَطْلُبَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ دُونَ الْعَكْسِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] . وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا: الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَيُؤَوَّلُ ادْخُلُوا بِمَعْنَى

شِدَّةِ التَّلَبُّسِ أَيْ بِتَرْكِ مَا لم يَجِيء بِهِ الدِّينُ، لِأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى تَحْرِيمِ السَّبْتِ وَتَرْكِ شُرْبِ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَبَعْضِ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَيَّامَ تَهَوُّدِهِمْ إِذَا صَحَّ مَا رَوَاهُ أَهْلُ «أَسْبَابِ النُّزُولِ» أَنَّ طَائِفَةً مِنْ مُؤْمِنِي الْيَهُودِ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّلْمِ هُنَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَيُرَادُ السِّلْمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنِ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ بِأَلَّا يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَرْبًا لِبَعْضٍ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبِتَنَاسِي مَا كَانَ بَيْنَ قَبَائِلِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَاتِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ كَذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ وَكَانُوا يَذْكُرُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ تِرَاتِهِمْ وَيَفْخَرُونَ فَخْرًا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْحَمِيَّةِ، أُمِرُوا عَقِبَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» فَتَكُونُ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِصْلَاحِ أَحْوَالِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبِهَا تَكُونُ الْآيَةُ أَصْلًا فِي كَوْنِ السِّلْمِ أَصْلًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ رَفْعُ التَّهَارُجِ كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ أَيِ التَّقَاتُلِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّلْمِ هُنَا السِّلْمَ مَعَ الله تَعَالَى مَعَ مَعْنَى الْمَجَازِ، أَيِ ادْخُلُوا فِي مُسَالَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ كَمَا أَطْلَقَ الْحَرْبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَجَازًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْبَقَرَة: 279] وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» . وَ (كَافَّةً) اسْمٌ يُفِيدُ الْإِحَاطَةَ بِأَجْزَاءِ مَا وَصَفَ بِهِ، وَهُوَ فِي صُورَةِ صَوْغِهِ كَصَوْغِ اسْمِ الْفَاعِلَةِ مِنْ كَفَّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُصَادَفَةٌ فِي صِيغَةِ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْكَفِّ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ صُورَة لَفظهَا وَبني مَعْنَاهَا الْمَقْصُودِ فِي الْكَلَامِ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ، وَتُفِيدُ مُفَادَ أَلْفَاظِ التَّوْكِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ. وَالتَّاءُ الْمُقْتَرِنَةُ بِهَا مُلَازِمَةٌ لَهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَيْفَمَا كَانَ الْمُؤَكَّدُ بِهَا مُؤَنَّثًا كَانَ أَوْ مُذَكَّرًا مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا، نَحْوَ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَة: 36] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ (كَافَّةً) فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ حَالٌ مِنِ اسْمٍ قَبْلَهُ كَمَا هُنَا فَقَوْلُهُ: «كَافَّةً» حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ادْخُلُوا أَيْ حَالَةَ كَوْنِكُمْ جَمِيعًا لَا يُسْتَثْنَى مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْجِهَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ فِي ذِكْرِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ وَمِنَ الْمَفْعُولِ أَنَّ (كَافَّةً) إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ وَالْإِحَاطَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا حَالًا مِمَّا جَرَتْ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً وَلَا

يَكُونُ مَوْصُوفُهَا إِلَّا مِمَّا يَعْقِلُ، وَلَكِنَّ الزَّجَّاجَ وَالزَّمَخْشَرِيَّ جَوَّزَا جَعْلَ كَافَّةً حَالًا مِنَ السِّلْمِ وَالسِّلْمُ مُؤَنَّثٌ، وَفِي «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ عَلَى الْمُغَنِي لْلدَّمَامِينِيِّ» أَنَّهُ وَقَعَ كَافَّةً اسْمًا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَغَيْرَ حَالٍ بَلْ مُضَافًا فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِآلِ كَاكْلَةَ «قَدْ جَعَلْتُ لِآلِ كَاكْلَةَ عَلَى كَافَّةِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ عَامٍ مِائَتَيْ مِثْقَالٍ ذَهَبًا إِبْرِيزًا فِي كُلِّ عَامٍ» . وَاعْلَمْ أَنِّ تَحْجِيرَ مَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ إِذَا سَوَّغَتْهُ الْقَوَاعِدُ تَضْيِيقٌ فِي اللُّغَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ اتِّبَاعُ الْعَرَبِ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ أَدْخَلَ فِي الْفَصَاحَةِ لَا مُوجِبًا لِلْوُقُوفِ عِنْدَهُ دُونَ تَعَدِّيهِ فَإِذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ نَهَضَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، تَحْذِيرٌ مِمَّا يَصُدُّهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِطَرِيقِ النَّهْيِ، عَنْ خِلَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنِ الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ هُوَ مِنْ مَسَالِكِ الشَّيْطَانِ الْمَعْرُوفِ بِأَنَّهُ لَا يُشِيرُ بِالْخَيْرِ، فَهَذَا النَّهْيُ إِمَّا أَخَصُّ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ بَيَانِ عِلَّةِ الْأَمْرِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسِّلْمِ غَيْرَ شُعَبِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا خَامَرَ نُفُوسَ جُمْهُورِهِمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ إِعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ «أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا» وَكَمَا قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِعْلَهُ لَفَعَلْنَا وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا خَيْرًا، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا خَامَرَ نُفُوسَهُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ الصُّلْحِ هُوَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ بَيَانِ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسِّلْمِ شُعَبَ الْإِسْلَامِ، وَالْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: 168] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَفْرِيعٌ عَلَى النَّهْيِ أَيْ فَإِنِ اتَّبَعْتُمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَزَلَلْتُمْ أَوْ فَإِنْ زَلَلْتُمْ فَاتَّبَعْتُمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَرَادَ بِالزَّلَلِ الْمُخَالَفَةَ لِلنَّهْيِ. وَأَصْلُ الزَّلَلِ الزَّلَقُ أَيِ اضْطِرَابُ الْقَدَمِ وَتَحَرُّكُهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ إِثْبَاتُهَا بِهِ، وَاسْتُعْمِلَ الزَّلَلُ هُنَا مَجَازًا فِي الضُّرِّ النَّاشِئِ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ مِنْ بِنَاءِ التَّمْثِيلِ عَلَى التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا شُبِّهَتْ

هَيْئَةُ مَنْ يَعْمَلُ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بِهَيْئَةِ الْمَاشِي عَلَى أَثَرِ غَيْرِهِ شُبِّهَ مَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الضُّرِّ فِي ذَلِكَ الْمَشْيِ بِزَلَلِ الرِّجْلِ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ الْمُزْلَقَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ هُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْمُزْلَقَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَقَوْلُهُ: زَلَلْتُمْ تَخْيِيلٌ وَهُوَ تَمْثِيلِيَّةٌ فَهُوَ مِنَ التَّخْيِيلِ الَّذِي كَانَ مَجَازًا وَالْمَجَازُ هُنَا فِي مُرَكَّبِهِ. وَالْبَيِّنَاتُ: الْأَدِلَّةُ وَالْمُعْجِزَاتُ وَمَجِيئُهَا ظُهُورهَا وَبَيَانُهَا، لِأَنَّ الْمَجِيءَ ظُهُورُ شَخْصِ الْجَائِي بَعْدَ غَيْبَتِهِ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِإِنْ لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذَا الزَّلَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ لِعَدَمِ رَغْبَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي حُصُولِهِ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ بِظَاهِرِهِ دُونَ قَلْبِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا خَامَرَ نُفُوسَهُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ الصُّلْحِ هُوَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ. وَقَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، وأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مفعول فَاعْلَمُوا، وَالْمَقْصُودُ عِلْمُ لَازِمِهِ وَهُوَ الْعِقَابُ. وَالْعَزِيزُ فَعِيلٌ مِنْ عَزَّ إِذَا قَوِيَ وَلَمْ يُغْلَبْ، وَأَصله مِنَ الْعِزَّةِ وَقَدْ مر الْكَلَام عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [الْبَقَرَة: 206] وَهُوَ ضِدٌّ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى عَزِيزٌ مُسْتَلْزِمًا تَحَقُّقَهُمْ أَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ لَا يُفْلِتُهُمْ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ لَا يَنْجُو مَنْ يُنَاوِئُهُ. وَالْحَكِيمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ حَكَمَ أَيْ قَوِيُّ الْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ فَهُوَ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ الْمُتْقِنَ لِلْأُمُورِ لَا يُفْلِتُ مُسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةِ، فَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَإِلَّا فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: فَاعْلَمُوا تَنْزِيلًا لِعِلْمِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ أَوْ مِنَ الِامْتِعَاضِ بِالصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ الرَّسُولُ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ إعذار لَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ بِإِبْرَامِ الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْنٍ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَهِنُ لِأَحَدٍ، وَلِأَنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَيَخْتَارُ لِلْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ نَصْرُ دِينِهِ وَقَدْ رَأَيْتُمُ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِنَايَةِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُخْزِيهِ وَلَا يُضَيِّعُ أَمْرَهُ وَمِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 210]

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ الدَّوَامَ عَلَيْهِ فالمعنيّ: ب (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) : الِاتِّصَافُ بِمَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ الْمُعْجِزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، نَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ «تَفْسِيرِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ» دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالذَّنْبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ وَأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ تَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْبَيِّنَاتِ لَا بَعْدَ حُصُولِ الْيَقِينِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي عَدَمِ حُصُولِ الْيَقِينِ إِنْ كَانَتِ الْأَدِلَّةُ كَافِيَةً. وَفِي «الْكَشَّافِ» رُوِيَ أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَسَمِعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ لَا يَقُولُ الْحَكِيمُ كَذَا لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عَلَيْهِ اهـ وَفِي الْقُرْطُبِيِّ عَنْ «تَفْسِيرِ النَّقَّاشِ» نِسْبَةُ مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ كُنْتُ أَقْرَأُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُور رَحِيم، ويجنبي أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ كَلَامُ مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ كَلَامُ اللَّهِ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ فانتبهت فَقَرَأت أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْمَائِدَة: 38] فَقَالَ أَصَبْتَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَقُلْتُ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ لَا قُلْتُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ؟ قَالَ يَا هَذَا عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ وَلَوْ غَفَرَ وَرَحِمَ لما قطع. [210] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 210] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) إِنْ كَانَ الْإِضْمَارُ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَضَمِيرُ يَنْظُرُونَ رَاجِعٌ إِلَى مَعَادٍ مَذْكُورٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ إِمَّا مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: 204] ، وَإِمَّا إِلَى مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 207] ، أَوْ إِلَى كِلَيْهِمَا لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ يَنْتَظِرُونَ يَوْمَ الْجَزَاءِ، فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ يَنْتَظِرُهُ شَكًّا فِي الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يَنْتَظِرُهُ انْتِظَارَ الرَّاجِي لِلثَّوَابِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يُونُس: 102] فَانْتِظَارُهُمْ أَيَّامَ الَّذِينَ خَلَوُا انْتِظَارُ تَوَقُّعِ سُوءٍ انْتِظَار النَّبِيءِ مَعَهُمُ انْتِظَارُ تَصْدِيقِ وَعِيدِهِ. وَإِنْ كَانَ الْإِضْمَارُ جَارِيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ [الْبَقَرَة: 208] وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ إِلَى الَّذِينَ زَلُّوا الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ [الْبَقَرَة: 209] ، وَهُوَ حِينَئِذٍ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، إِمَّا لِمُجَرَّدِ تَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 208] ، وَإِمَّا لِزِيَادَةِ نُكْتَةِ إِبْعَادِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ زَلَلْتُمْ عَنْ عِزِّ الْحُضُورِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَلْ يَنْظُرُونَ يَعْنِي التَّارِكِينَ الدُّخُولَ فِي السَّلْمِ، وَقَالَ الْفَخْرُ الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَى أَنَّ السِّلْمَ أُرِيدَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ هِيَ. فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِمَنْ يُعْجِبُكَ أَوْ لَهُ وَلِمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْعَجِيبَتَيْنِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ تُثِيرَانِ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ جَزَاءِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ جَوَابًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا فَجُمْلَةُ هَلْ يَنْظُرُونَ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ خَشْيَةَ يَوْمِ الْجَزَاءِ أَوْ طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلَّذِينَ زَلُّوا مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ [الْبَقَرَة: 209] فَالْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُون جملَة أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَة: 209] لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنْ زَلَلْتُمْ فَاللَّهُ لَا يُفْلِتُكُمْ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَمُ الْإِفْلَاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْيَهُودِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ. وَعَلَى كُلِّ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي لَا تَتَنَافَى فَقَدْ جَاءَ نَظْمُ قَوْلِهِ هَلْ يَنْظُرُونَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ نَظْمًا جَامِعًا لِلْمَحَامِلِ كُلِّهَا مِمَّا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ إِعْجَازِ هَذَا الْكَلَامِ الْمَجِيدِ الدَّالِّ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ. وَحَرْفُ (هَلْ) مُفِيدٌ الِاسْتِفْهَامَ وَمُفِيدٌ التَّحْقِيقَ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ أَمْرٍ يُرَادُ تَحْقِيقُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ أَئِمَّةُ الْمَعَانِي إِنَّ هَلْ لِطَلَبِ تَحْصِيلِ نِسْبَةٍ حِكْمِيَّةٍ تَحْصُلُ فِي عِلْمِ الْمُسْتَفْهِمِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ أَصْلَ هَلْ أَنَّهَا مُرَادِفَةُ قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ خَاصَّةً، يَعْنِي قَدْ الَّتِي لِلتَّحْقِيقِ وَإِنَّمَا اكْتَسَبَتْ إِفَادَةَ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ تَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظُهُورُ الْهَمْزَةِ فِي قَوْلِ زَيْدِ الْخَيْلِ: سَائل فوارس بربوع بِشِدَّتِنَا ... أَهَلْ رَأَوْنَا بِسَفْحِ الْقَاعِ ذِي الْأَكَمِ وَقَالَ فِي «الْمُفَصَّلِ» : وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ إِلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْأَلِفَ قَبْلَهَا لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ الْتُزِمَ حَذْفُهَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِمُلَازَمَةِ هَلْ لِلْوُقُوعِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ هَلْ تَرِدُ بِمَعْنَى قَدْ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّ مَوَارِدَهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَبِالْقُرْآنِ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْمُبَرِّدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى

عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الْإِنْسَان: 1] وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ وَلَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اقْتِرَانَ هَلْ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ وَلَا يَنْهَضُ احْتِجَاجُهُمْ بِهِ لِإِمْكَانِ تَخْرِيجِهِ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَرْفَيِ اسْتِفْهَامٍ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا يُؤَكِّدُ الْحَرْفَ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ كَقَوْلِ مُسْلِمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْوَالِبِيِّ: فَلَا وَالله لَا يلقى لِمَا بِي ... وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ فَجَمَعَ بَيْنَ لَامَيْ جَرٍّ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ هَلْ تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهَا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إنكاري لَا محَالة بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالْكَلَامُ خَبَرٌ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالنَّظَرُ: الِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ يُقَالُ نَظَرَهُ بِمَعْنَى تَرَقَّبَهُ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَرَقَّبُ أَحَدًا يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَى صَوْبِهِ ليرى شبحه عِنْد مَا يَبْدُو، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَفِيَ النَّظَرِ الْبَصَرِيِّ أَيْ لَا يَنْظُرُونَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا إِتْيَانَ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْظُرُ غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ لِشِدَّةِ هَوْلِ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا، أَوْ تُسْلَبُ أَبْصَارُهُمْ مِنَ النَّظَرِ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمُرَكَّبُ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ مِنَ الْإِنْكَار بل مُسْتَعْملا إِمَّا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الضَّمِيرِ، وَإِمَّا فِي الْوَعْدِ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، وَإِمَّا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْعِدَةُ بِظُهُورِ الْجَزَاءِ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَإِمَّا فِي التَّهَكُّمِ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُنَافِقِينَ الْيَهُودَ أَوِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَة: 55] . وَيجوز على هَذَا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْيَهُودِ: أَيْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَيَدْخُلُونَ فِي السِّلْمِ حَتَّى يَرَوُا اللَّهَ تَعَالَى فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الْبَقَرَة: 145] . وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 90، 92] ، وَسَيَجِيءُ الْقَوْلُ مُشَبَّعًا فِي مَوْقِعِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَ (الظُّلَلُ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ اسْمٌ جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَالظُّلَّةُ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ وَالَّذِي تَلَخَّصَ لِي مِنْ حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِشِبْهِ صِفَةٍ مُرْتَفِعَةٍ فِي الْهَوَاءِ تَتَّصِلُ بِجِدَارٍ أَوْ تَرْتَكِزُ عَلَى أَعْمِدَةٍ يُجْلَسُ تَحْتَهَا لِتَوَقِّي شُعَاعِ الشَّمْسِ، فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الظِّلِّ جُعِلَتْ عَلَى وَزْنِ فعلة بِمَعْنى مفعولة أَوْ مَفْعُولٍ بِهَا مِثْلَ الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ لِمَا يُقْبَضُ بِالْيَدِ. وَالْغُرْفَةُ بِضَمِّ الْغَيْنِ لِمَا يُغْتَرَفُ بِالْيَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [الْبَقَرَة: 249] فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الْعَشَرَةِ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ أَوْ مُشَبَّهٌ بِهَا تَشْبِيهًا بَلِيغًا: السَّحَّابَاتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تُشْبِهُ كُلُّ سَحَابَةٍ مِنْهَا ظُلَّةَ الْقَصْرِ. ومِنَ الْغَمامِ بَيَانٌ لِلْمُشَبَّهِ وَهُوَ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] . وَالْإِتْيَانُ حُضُورُ الذَّاتِ فِي مَوضِع من مَوْضِعٍ آخَرَ سَبَقَ حُصُولُهَا فِيهِ وَأُسْنِدَ الْإِتْيَانُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِثْبَاتِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ اتِّصَافَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ يَسْتَلْزِمُ التَّنَقُّلَ أَوِ التَّمَدُّدَ لِيَكُونَ حَالًّا فِي مَكَانٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِتْيَانُ وَكَانَ ذَلِك يسْتَلْزم التنقل الْجِسْمَ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، تَعَيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا أَوْ تَهَكُّمًا فَلَا حَاجَةَ لِلتَّأْوِيلِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ مَدْفُوعٌ بِالْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ وَعِيدًا مِنَ اللَّهِ لَزِمَ التَّأْوِيلَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ كَالتَّنَقُّلِ وَالتَّمَدُّدِ لِمَا عَلِمْتَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَصْلِ الْأَشْعَرِيِّ فِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ إِمَّا فِي مَعْنَى الْإِتْيَانِ أَوْ فِي إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ أَوْ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مِنْ مُضَافٍ أَوْ مَفْعُولٍ، وَإِلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَرْجِعُ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ تَشْكِيكَاتِ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى إِقْرَارِ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ دُونَ تَأْوِيلٍ فَالْإِتْيَانُ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لَكِن بِلَا كَيْفَ فَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالرُّؤْيَةِ أَيْ هُوَ إِتْيَانٌ لَا كَإِتْيَانِ الْحَوَادِثِ. فَإِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ لِدَفْعِ مَطَاعِنِ الْمَلَاحِدَةِ فَتَجِيءُ وُجُوهٌ مِنْهَا: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَقُولُ يَجُوزُ تَأْوِيلُ إِتْيَانِ الله بِأَنَّهُ مجَاز فِي التَّجَلِّي وَالِاعْتِنَاءِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيِّ بِإِظْهَارِ الْجَزَاءِ

إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ فِي الِاسْتِئْصَالِ يُقَالُ أَتَاهُمُ الْمَلِكُ إِذَا عَاقَبَهُمْ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قُلْتُ وَذَلِكَ فِي كُلِّ إِتْيَانٍ مُضَافٍ إِلَى مُنْتَقِمٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ فَاتِحٍ كَمَا تَقُولُ: أَتَاهُمُ السَّبُعُ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُمْ وَأَتَاهُمُ الْوَبَاءُ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ أَتَى عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُ وَاسْتَأْصَلَهُ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُ الْإِتْيَانِ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ وَالِاسْتِئْصَالُ قَالَ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: 2] وَقَالَ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النَّحْل: 26] وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ بِمُنَافٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ ظُهُورَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُدُوثَ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ يَكُونُ مَحْفُوفًا بِذَلِكَ لِتَشْعُرَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قَرِيبًا. الْوَجْه الثَّالِثُ: إِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِمْ عَذَابُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَكَوْنُهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ زِيَادَةُ تَنْوِيهٍ بِذَلِكَ الْمَظْهَرِ وَوَقْعِهِ لَدَى النَّاظِرِينَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: يَأْتِيهِمْ كَلَامُ اللَّهِ الدَّالُّ عَلَى الْأَمْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْكَلَامُ مَسْمُوعًا مِنْ قِبَلِ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ تَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ هُنَالِكَ مُضَافًا مُقَدَّرًا أَيْ يَأْتِيهم أَمر الله أَي قَضَاؤُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ أَوْ يَأْتِيهِمْ بَأْسُ اللَّهِ بِدَلِيلِ نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ وَقَوْلُهُ: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً [الْأَعْرَاف: 4] وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي ظُهُورِ الْأَمْرِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ، آيَاتُ اللَّهِ أَوْ بَيِّنَاتُهُ أَيْ دَلَائِلُ قُدْرَتِهِ أَوْ دَلَائِلُ صِدْقِ رُسُلِهِ وَيُبَعِّدُهُ قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْوَجْهِ الْخَامِسِ أَوْ إِلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ هُنَالِكَ مَعْمُولًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَة: 209] وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ أَوْ بِبَأْسِهِ. وَالْأَحْسَنُ تَقْدِيرُ أَمْرٍ عَامٍّ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ وَعْدًا وَوَعِيدًا. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 6] مَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ لَكِنْ بِمَا يُخَالِفُ الْمُتَعَارَفَ فِينَا، وَقِسْمٌ اتَّصَفَ اللَّهُ بِلَازِمِ مَدْلُولِهِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ

الْمُتَبَادِرُ من الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ دُونَ الْمَلْزُومَاتِ مِثْلَ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ، وَقِسْمٌ هُوَ مُتَشَابِهٌ وَتَأْوِيلُهُ ظَاهِرٌ، وَقِسْمٌ مُتَشَابِهٌ شَدِيدُ التَّشَابُهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أَشَدُّ إِشْكَالًا مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِاقْتِضَائِهِ الظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأْوِيلُهُ إِمَّا بِأَنَّ (فِي) بِمَعْنَى الْبَاءِ أَي يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَهِيَ ظُلَلٌ تَحْمِلُ الْعَذَابَ مِنَ الصَّوَاعِقِ أَوِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْعَذَابُ دُنْيَوِيًّا، أَوْ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَذَابِهِ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: 44] وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا رَأَى السَّحَابَ رُئِيَ فِي وَجْهِهِ الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، أَوْ عَلَى كَلَامِهِ تَعَالَى، أَوِ الْحَاجِبَةِ لِأَنْوَارٍ يَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَامَةً لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ابْتِدَاءِ فَصْلِ الْحِسَابِ يُدْرِكُ دَلَالَتَهَا أَهْلُ الْمَوْقِفِ وَبِالِانْكِشَافِ الْوِجْدَانِيِّ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَالْفَخْرِ» قِيلَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَالْغَمَامُ ظَرْفٌ لِإِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَأَمَّا عَلَى جَعْلِ ضَمِيرِ يَنْظُرُونَ مَقْصُودًا بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الْيَهُودِ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَهَكُّمًا أَيْ مَاذَا يَنْتَظِرُونَ فِي التَّبَاطُؤِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي أَحْوَالٍ اعْتَقَدُوهَا فَيُكَلِّمُهُمْ لِيَدْخُلُوا فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَة: 55] وَاعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ فِي الْغَمَامِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ، وَبَعْضُ التَّأْوِيلَاتِ تَقَدَّمَتْ مَعَ تَأْوِيلِ الْإِتْيَانِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «وَالْمَلَائِكَةُ» بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَإِسْنَادِ الْإِتْيَانِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ عَذَابِهِ وَهُمُ الْمُوكَّلُ إِلَيْهِمْ تَنْفِيذُ قَضَائِهِ، فَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ فَإِنْ كَانَ الْإِتْيَانُ الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَلَائِكَةِ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا فِي الْإِسْنَادِ فَإِسْنَادُهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ حَقِيقَةٌ فِي الْإِسْنَادِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجَازَ الْإِسْنَادِيَّ عِبَارَةٌ عَنْ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْقَرِينَةِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمَلِكِ: أَتَاكَ بِي اللَّهُ الَّذِي نَوَّرَ الْهُدَى ... وَنُورٌ وَإِسْلَامٌ عَلَيْكَ دَلِيلُ فَأَسْنَدَ الْإِتْيَانَ بِهِ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ ثُمَّ أَسْنَدَهُ بِالْعَطْفِ لِلنُّورِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِسْنَادُ

الْإِتْيَانِ بِهِ إِلَيْهِمَا مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ الْإِتْيَانِ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ «عَلَيْكَ دَلِيلٌ» . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «وَالْمَلَائِكَةِ» بِجَرِّ (الْمَلَائِكَةِ) عَطْفٌ عَلَى (ظُلَلٍ) . وَقَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِنَّ كَانَتْ خَبَرًا عَنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ وَالْفِعْلُ الْمَاضِي هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَلَكِنَّهُ أَتَى فِيهِ بِالْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ أَوْ قُرْبِ وُقُوعِهِ، وَالْمَعْنَى مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَسَوْفَ يُقْضَى الْأَمْرُ، وَإِمَّا عَطْفٌ عَلَى جملَة يَنْظُرُونَ إِن كَانَت جُمْلَةِ هَلْ يَنْظُرُونَ وَعِيدًا أَوْ وَعْدًا وَالْفِعْلُ كَذَلِكَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَعْنَى مَا يَتَرَقَّبُونَ إِلَّا مَجِيءَ أَمْرِ اللَّهِ وَقَضَاءِ الْأَمْرِ. وَإِمَّا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْمَاضِي عَلَى أَصْلِهِ وَحُذِفَتْ قَدْ، سَوَاءٌ كَانَتْ جُمْلَةُ هَلْ يَنْظُرُونَ خَبَرًا أَوْ وَعْدًا وَوَعِيدًا أَيْ وَحِينَئِذٍ قَدْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِمَّا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ لِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ يَكُونُ قَدْ قُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ كَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: 8] . وَالْقَضَاءُ: الْفَرَاغُ وَالْإِتْمَامُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْأَمْرِ) إِمَّا لِلْجِنْسِ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ أَيْ قُضِيَتِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، وَإِمَّا لِلْعَهْدِ أَيْ أَمْرُ هَؤُلَاءِ أَيْ عِقَابُهُمْ أَوِ الْأَمْرُ الْمَعْهُودُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُوَ الْجَزَاءُ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِمَعْنَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَالرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ: الْمَآبُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ الرَّاجِعُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي نِهَايَةِ الشَّيْءِ وَغَايَتِهِ وَظُهُورِ أَثَرِهِ، فَمِنْهُ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] . وَيَجِيءُ فِعْلُ رَجَعَ مُتَعَدِّيًا، تَقُولُ رَجَعْتُ زَيْدًا إِلَى بَلَدِهِ وَمَصْدَرُهُ الرَّجْعُ، وَيُسْتَعْمَلُ رَجَعَ قَاصِرًا تَقُولُ: رَجَعَ زَيْدٌ إِلَى بَلَدِهِ وَمَصْدَرُهُ الرُّجُوعُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ (تُرْجَعُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَرْجَعَهُ أَوْ مُضَارِعُ رَجَعَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُرْجِعُ الْأُمُورَ رَاجِعُهَا إِلَى اللَّهِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ على هَذَا الْعَدَم تَعَيُّنِ فَاعِلٍ عُرْفِيٍّ لِهَذَا الرَّجْعِ، أَوْ حُذِفَ لِدَفْعِ مَا يَبْدُو مِنَ التَّنَافِي بَيْنَ كَوْنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فَاعِلًا لِلرُّجُوعِ وَمَفْعُولًا لَهُ بِحَرْفِ إِلَى، وَقَرَأَهُ بَاقِي الْعَشَرَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مِنْ رَجَعَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الرُّجُوعُ فَالْأُمُورُ فَاعل ترجع.

[سورة البقرة (2) : آية 211]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 211] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) تَتَنَزَّلُ هَاتِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبُرْهَانِ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: 210] سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ وَعِيدًا أَوْ وَعْدًا أَمْ تَهَكُّمًا، وَأَيًّا مَا كَانَ مُعَادُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ قد دَلَّ بِكُلِّ احْتِمَالٍ عَلَى تَعْرِيضٍ بِفِرَقٍ ذَوِي غُرُورٍ وَتَمَادٍ فِي الْكُفْرِ وَقِلَّةِ انْتِفَاعٍ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِإِلْفَاتِهِمْ إِلَى مَا بَلَغَهُمْ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أُوتُوهُ مِنْ آيَاتِ الِاهْتِدَاءِ مَعَ قِلَّةِ غَنَاءِ الْآيَاتِ لَدَيْهِمْ عَلَى كَثْرَتِهَا، فَإِنَّهُمْ عَانَدُوا رَسُولَهُمْ ثُمَّ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا ضَعِيفًا ثُمَّ بَدَّلُوا الدِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْدِيلًا. وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: 210] لِأَهْلِ الْكِتَابِ: أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ هُنَا إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: بَنِي إِسْرائِيلَ لِزِيَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى فَضِيحَةِ حَالِهِمْ وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أَشَدَّ، أَيْ هُمْ قَدْ رَأَوْا آيَاتٍ كَثِيرَةً فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهُم أَن يبادوا بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ أَغْرَاضِ التَّشْرِيعِ الْمُتَتَابِعَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وسَلْ أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ يَسْأَلُ أَصْلُهُ اسْأَلْ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَقْلِ حَرَكَةِ حَرْفِ الْعِلَّةِ لِشِبْهِ الْهَمْزَةِ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ فَلَمَّا تَحَرَّكَ أَوَّلُ الْمُضَارِعِ اسْتَغْنَى عَنِ اجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَقِيلَ: سَلْ أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ الَّذِي جُعِلَتْ هَمْزَتُهُ أَلِفًا مِثْلَ الْأَمْرِ مِنْ خَافَ يَخَافُ خَفْ، وَالْعَرَبُ يُكْثِرُونَ مِنْ هَذَا التَّخْفِيفِ فِي سَأَلَ مَاضِيًا وَأَمْرًا إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ تَرَكُوا هَذَا التَّخْفِيفَ غَالِبًا. وَالْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ أَنْ يُجِيبَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ سُؤَالِهِ إِذْ لَا يعبأون بِسُؤَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّؤَالِ سُؤَالُ التَّقْرِيرِ لِلتَّقْرِيعِ، وَلَفْظُ السُّؤَالِ يَجِيءُ لِمَا تَجِيءُ لَهُ أَدَوَاتُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْرِيرِ إِظْهَارُ إِقْرَارِهِمْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضَى الْآيَاتِ فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ التَّقْرِيعُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَصْرِيحَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بَلْ مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ لَا يَسَعُهُمُ الْإِنْكَارُ.

وَالْمُرَادُ بِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) الْحَاضِرُونَ مِنَ الْيَهُودِ. وَالضَّمِيرُ فِي آتَيْناهُمْ لَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ إِيتَاءُ سَلَفِهِمْ لِأَنَّ الْخِصَالَ الثَّابِتَةَ لِأَسْلَافِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ، يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا لِلْخَلَفِ لِتُرَتِّبِ الْآثَارِ لِلْجَمِيعِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي مُصْطَلَحِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَنَاقَلُوا آيَاتِ رُسُلِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ وَأَيْقَنُوا بِهَا فَكَأَنَّهُمْ أُوتُوهَا مُبَاشَرَةً. وَ (كَمْ) اسْمٌ لِلْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فَيَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَيَكُونُ لِلْإِخْبَارِ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ دَلَّتْ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ وَلِذَلِكَ تَحْتَاجُ إِلَى مُمَيّز فِي الِاسْتِفْهَام وَفِي الْإِخْبَارِ، وَهِيَ هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُهَا فِي حيّز السُّؤَال، فالمسؤول عَنْهُ هُوَ عَدَدُ الْآيَاتِ. وَحَقُّ سَأَلَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا أَيْ لَيْسَ أَصْلُ مَفْعُولَيْهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَجُمْلَةُ كَمْ آتَيْناهُمْ لَا تَكُونُ مَفْعُولَهُ الثَّانِيَ إِذْ لَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ مَطْلُوبًا بَلْ هُوَ عَيْنُ الطَّلَبِ، فَفِعْلُ سَلْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَجْلِ الِاسْتِفْهَامِ، وَجُمْلَةُ كَمْ آتَيْناهُمْ فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي سَادَّةٌ مَسَدَّهُ. وَالتَّعْلِيقُ يَكْثُرُ فِي الْكَلَامِ فِي أَفْعَالِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ إِذَا جَاءَ بَعْدَ الْأَفْعَالِ اسْتِفْهَامٌ أَوْ نَفْيٌ أَوْ لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ لَامُ قَسَمٍ، وَأُلْحِقَ بِأَفْعَالِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ مَا قَارَبَ مَعْنَاهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، قَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» «ويشاركهن فِيهِ (أَي فِي التَّعْلِيقِ) مَعَ الِاسْتِفْهَامِ، نَظَرَ وَتَفَكَّرَ وَأَبْصَرَ وَسَأَلَ» ، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] وَلَمَّا أَخَذَ سَأَلَ هُنَا مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ فَقَدْ عُلِّقَ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِنَّ سَبَبَ التَّعْلِيق هُوَ أَن مَضْمُونُ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَرْفِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْلِيقِ لَيْسَ حَالَةً مِنْ حَالَاتِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِلْفِعْلِ الطَّالِبِ مَفْعُولَيْنِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ «لِأَنَّهُ كَلَامٌ قَدْ عَمِلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ فَلَا يكون إلّا مُبْتَدَأً لَا يَعْمَلُ فِيهِ شَيْءٌ قَبْلَهُ» اهـ وَذَلِكَ سَبَبٌ لَفْظِيٌّ مَانِعٌ مِنْ تَسَلُّطِ الْعَامِلِ عَلَى مَعْمُولِهِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ عَامِلًا فِيهِ مَعْنًى وَتَقْدِيرًا، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ بَاقِيَةً فِي مَحَلِّ الْمَعْمُولِ، وَأَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ مُوجِبَاتِ التَّعْلِيقِ أَقْوَى فِي إِبْعَادِهَا مَعْنَى مَا بَعْدَهَا عَنِ الْعَامِلِ الَّذِي يَطْلُبُهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهَا اسْتِفْهَامٌ لَيْسَ مِنَ الْخَبَرِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنَّ مَا تُحْدِثُهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ هُوَ مَعْنًى طَارِئٌ فِي الْكَلَامِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ بل هُوَ قد ضَعْفٌ بِوُقُوعِهِ بَعْدَ عَامِلٍ خَبَرِيٍّ فَصَارَ الِاسْتِفْهَامُ صُورِيًّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ عَمَلُ الْعَامِلِ إِلَّا لَفْظًا، فَقَوْلُكَ: عَلِمْتُ هَلْ قَامَ زَيْدٌ قَدْ دَلَّ عَلِمَ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ مُحَقَّقٌ فَصَارَ الِاسْتِفْهَامُ صُورِيًّا

وَصَارَ التَّعْلِيقُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ لَمَا صَحَّ كَوْنُ جُمْلَتِهِ مَعْمُولَةً لِلْعَامِلِ الْمُعَلَّقِ. قَالَ الرَّضِيُّ: «إِنَّ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ مُفِيدَةً لِاسْتِفْهَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ عَلِمْتُ وَأَزَيْدٌ قَائِمٌ بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى عَلِمْتُ الَّذِي يَسْتَفْهِمُ النَّاسُ عَنْهُ» اهـ، فَيَجِيءُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَكَ عَلِمْتُ أَزَيْدٌ قَائِمٌ يَقُولُهُ: مَنْ عَلِمَ شَيْئًا يَجْهَلُهُ النَّاسُ أَوْ يَعْتَنُونَ بِعِلْمِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ عَلِمْتُ زَيْدًا قَائِمًا، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَارِدُ بَعْدَ السُّؤَالِ حِكَايَةً لِلَفْظِ السُّؤَالِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ بَيَانًا لِجُمْلَةِ السُّؤَالِ قَالَ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ «سَأَلْنَاهُ أَنَّى اهْتَدَيْتَ إِلَيْنَا» أَيْ سَأَلْنَاهُ هَذَا السُّؤَالَ اهـ. وَهُوَ يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ سَلْ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ فَيَكُونُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي كَلَامًا فَقَدْ أُعْطِيَ سَلْ مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُنَاسِبٌ لِمَعْنَى لَفْظِهِ وَالْآخَرُ مُنَاسِبٌ لِمَعْنَى الْمُضَمَّنِ. وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» أَنَّ جُمْلَةَ كَمْ آتَيْناهُمْ بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ السُّؤَالِ، أَيْ سَلْهُمْ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، قَالَ السَّلْكُوتِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ» : فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، أَيْ وَلَا تَعْلِيقَ فِي الْفِعْلِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ تَكُونَ (كَمْ) خَبَرِيَّةً، أَيْ فَتَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَقَدْ قُطِعَ فِعْلُ السُّؤَالِ عَنْ مُتَعَلِّقِهِ اخْتِصَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ سَلْهُمْ عَنْ حَالِهِمْ فِي شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَبِذَلِكَ حَصَلَ التَّقْرِيعُ. وَيَكُونُ كَمْ آتَيْناهُمْ تَدَرُّجًا فِي التَّقْرِيعِ بِقَرِينَةِ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَلِبُعْدِ كَوْنِهَا خَبَرِيَّةً أَنْكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عَلَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَقَالَ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اقتطاع الْجُمْلَة الَّتِي فِيهَا كَمْ عَنْ جُمْلَةِ السُّؤَالِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ السُّؤَالُ عَنِ النِّعَمِ. ومِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ تَمْيِيزُ (كَمْ) دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الَّتِي يَنْتَصِبُ تَمْيِيزُ كَمِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى مَعْنَاهَا وَالَّتِي يُجَرُّ تَمْيِيزُ كَمِ الْخَبَرِيَّةِ بِتَقْدِيرِهَا ظَهَرَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَصْرِيحًا بِالْمُقَدَّرِ، لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ يَنْصِبُ مُضْمَرًا يَجُوزُ ظُهُورُهُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ إِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ حَتَّى، قَالَ الرَّضِيُّ: إِذَا فُصِلَ بَيْنَ كَمِ الْخَبَرِيَّةِ والاستفهامية وَبَين مميزهما بِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ وَجَبَ جَرُّ التَّمْيِيزِ بِمِنْ (أَيْ ظَاهِرِهِ) لِئَلَّا يَلْتَبِسَ التَّمْيِيزُ بِالْمَفْعُولِ نَحْو قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدُّخان: 25] ووَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الْقَصَص: 58] اهـ أَيْ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِمَفْعُولِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْفَاصِلِ، أَوْ هُوَ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لَا مَفْعُولٌ إِغَاثَةً لِفَهْمِ السَّامِعِ وَذَلِكَ مِنْ بَلَاغَةِ الْعَرَبِ، وَعِنْدِي أَنَّ مُوجِبَ ظُهُورِ مِنْ فِي حَالَةِ الْفَصْلِ هُوَ بعد المميّز عَن الْمُمَيَّزِ لَا غَيْرَ، وَقِيلَ: ظُهُورُ (مِنْ)

وَاجِبٌ مَعَ الْفَصْلِ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَجَائِزٌ مَعَ الْفَصْلِ بِغَيْرِهِ، كَمَا تقل عَبْدُ الْحَكِيمِ عَنِ الْيَمَنِيِّ وَالتَّفْتَازَانِيِّ فِي «شَرْحَيِ الْكَشَّافِ» . وَفِي «الْكَافِيَّةِ» أَنَّ ظُهُورَ (مِنْ) فِي مُمَيَّزِ (كَمِ) الْخَبَرِيَّةِ والاستفهامية جَائِز هَكَذَا أَطْلَقَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، لَكِنَّ الرَّضِيَّ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى شَاهِدٍ عَلَيْهِ فِي (كَمْ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِلَّا مَعَ الْفَصْلِ بِالْفِعْلِ وَأَمَّا فِي كَمِ الْخَبَرِيَّةِ فَظُهُورُ (مِنْ) مَوْجُودٌ بِكَثْرَةٍ بِدُونِ الْفَصْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ لَمْ يَعْبَأْ بِخُصُوصِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّضِيُّ، وَإِنَّمَا اعْتَدَّ بِظُهُورِ (مِنْ) فِي الْمُمَيَّزِ وَهُوَ الظَّاهِر. و (الْآيَة) هُنَا الْمُعْجِزَةُ وَدَلِيلُ صِدْقِ الرُّسُلِ، أَوِ الْكَلِمَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا آيَةٌ لِمُوسَى إِذْ أَخْبَرَ بِهَا قَبْلَ قُرُونٍ، وَآيَةٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ كَانَ التَّبْشِيرُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِقُرُونٍ، وَوَصْفُهَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ مُبَالَغَةٌ فِي الصِّفَةِ مِنْ فِعْلِ بَانَ أَيْ ظَهَرَ، فَيَكُونُ الظُّهُورُ ظُهُورَ الْعِيَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَظُهُورَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَفِي هَذَا السُّؤَالِ وَصِيغَتِهِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ فَبَدَّلُوهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ إِلَخ، أَفَادَ أأن الْمَقْصُودَ أَوَّلًا مِنْ هَذَا الْوَعيد هم بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَأَفَادَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ هِيَ نِعَمٌ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِتَذْيِيلِ خَبَرِهِمْ بِحُكْمِ مَنْ يُبَدِّلُ نِعَمَ اللَّهِ مُنَاسَبَةٌ وَهَذَا مِمَّا يَقْصِدُهُ الْبُلَغَاءُ، فَيُغْنِي مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ إِيجَازًا بَدِيعًا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ وَإِيجَازِ الْقَصْرِ مَعًا لِأَنَّهُ يُفِيدُ مُفَادَ أَنْ يُقَالَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ هِيَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُقَدِّرُوهَا حَقَّ قَدْرِهَا، فَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِضِدِّهَا بَعْدَ ظُهُورِهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ، لِأَنَّ مَنْ يُبَدِّلُ نِعْمَةَ اللَّهِ فَاللَّهُ مُعَاقِبُهُ، وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ بِهَذَا الْعُمُوم حكما جَامعا يَشْمَلُ الْمَقْصُودِينَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يُشْبِهُهُمْ وَلِذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْجَامِعِ بَعْدَ حُكْمٍ جُزْئِيٍّ تَقَدَّمَهُ فِي الْأَصْلِ تَعْرِيضًا يُشْبِهُ التَّصْرِيحَ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُحَدِّثَكَ أَحَدٌ بِحَدِيثٍ فَتَقُولَ فَعَلَ اللَّهُ بِالْكَاذِبِينَ كَذَا وَكَذَا تُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ فِيمَا حَدَّثَكَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِذَلِكَ الدُّعَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ مَوْقِعٌ. وَإِنَّمَا أُثْبِتَ لِلْآيَاتِ أَنَّهَا نِعَمٌ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ دَلَائِلَ صِدْقِ الرَّسُولِ فَكَوْنُهَا نِعَمًا لِأَنَّ

دَلَائِلَ الصِّدْقِ هِيَ الَّتِي تَهْدِي النَّاسَ إِلَى قَبُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ عَنْ بَصِيرَةٍ لِمَنْ لَمْ يَكُنِ اتبعهُ، وتزيد اللَّذين اتَّبَعُوهُ رُسُوخَ إِيمَانٍ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً [التَّوْبَة: 124] وَبِذَلِكَ التَّصْدِيقِ يَحْصُلُ تَلَقِّي الشَّرْعِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَاجِلَةٌ وَآجِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الْكَلَامَ الدَّالَّ عَلَى الْبِشَارَةِ بِالرَّسُولِ فَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا قُصِدَ بِهَا تَنْوِيرُ سَبِيلِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ عِنْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ لِئَلَّا يَتَرَدَّدُوا فِي صِدْقِهِ بَعْدَ انْطِبَاقِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي ائْتُمِنُوا عَلَى حِفْظِهَا. وَالتَّبْدِيلُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ بِأَنْ أَعْرَضُوا عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فَتَبَدَّلَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، إِذْ صَارَتْ بِالْإِعْرَاضِ سَبَبَ شَقَاوَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُؤْتَ لَهُمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَكُونُونَ عَلَى سَذَاجَةٍ هُمْ بِهَا أَقْرَبُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ بَعْدَ قَصْدِ الْمُكَابَرَةِ وَالْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُمَا يَزِيدَانِهِمْ تَعَمُّدًا لِارْتِكَابِ الشُّرُورِ، وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الْكُفْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَةِ وَظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ أَشْبَهَهُمْ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ الْمُشْرِكُونَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالتَّدَبُّرِ فِي هَدْيِهِ أَوِ التَّبْدِيلِ بِأَنِ اسْتَعْمَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ فِي غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهَا بِأَنْ جَعَلُوهَا أَسْبَابَ غُرُورٍ فَإِنَّ اللَّهَ مَا آتَى رَسُولَهُمْ تِلْكَ الْآيَاتِ إِلَّا لتفضيل أمته فتوكأوا عَلَى ذَلِكَ وَتَهَاوَنُوا عَلَى الدِّينِ فَقَالُوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] . وَالتَّبْدِيلُ جَعْلُ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْ آخَرَ، أَيْ تَعْوِيضُهُ بِهِ فَيَكُونُ تَعْوِيضَ ذَاتٍ بِذَاتٍ وَتَعْوِيضَ وَصْفٍ بِوَصْفٍ كَقَوْلِ أَبِي الشِّيصِ: بَدِّلْتُ مِنْ بُرْدِ الشَّبَابِ مُلَاءَةً ... خَلَقًا وَبِئْسَ مَثُوبَةُ الْمُقْتَاضِ فَإِنَّهُ أَرَادَ تبدل حَالَةِ الشَّبَابِ بِحَالَةِ الشَّيْبِ، وَكَقَوْلِ النَّابِغَةِ: عَهِدْتُ بِهَا حَيًّا كراما فبدّلت ... حناظيل آجَالِ النِّعَاجِ الْجَوَافِلِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ: نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ قَبِيلِ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ وَمَنْ يُبَدِّلْهَا أَيِ الْآيَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِظُهُورِ أَنَّ فِي لَفْظِ (نِعْمَةِ اللَّهِ) مَعْنًى جَامِعًا لِلْآيَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ الْمَجِيءُ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْوُضُوحِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالتَّمَكُّنِ، لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْمَجِيءِ عُرْفًا. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْعِقَابُ مُتَرَتِّبًا على التبديل الْوَاقِع بَعْدَ هَذَا التَّمَكُّنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَبْدِيلٌ عَنْ بَصِيرَةٍ

[سورة البقرة (2) : آية 212]

لَا عَنْ جَهْلٍ أَوْ غَلَطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 75] . وَحَذَفَ مَا بُدِّلَ بِهِ النِّعْمَةُ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَحْوَالِ التَّبْدِيلِ مِنْ كَتْمِ بَعْضِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضٍ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ. وَالْعِقَابُ نَاشِئٌ عَنْ تَبْدِيلِ تِلْكَ النِّعَمِ فِي أَوْصَافِهَا أَوْ فِي ذَوَاتِهَا، وَلَا يكون تبديلها إِلَّا لِقَصْدِ مُخَالَفَتِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ غَيْرَ تَبْدِيلٍ بَلْ تَأْيِيدًا وَتَأْوِيلًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيم: 28] لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ النِّعْمَةَ مَا هِيَ وَلَا تُؤْذِنُ بِالْمُسْتَبْدَلِ بِهِ هُنَالِكَ فَتَعَيَّنَ التَّصْرِيحُ بِالْمُسْتَبْدَلِ بِهِ، وَالْمُبَدِّلُونَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْمُبَدِّلِينَ فِي هَذِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ فِي كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [إِبْرَاهِيم: 30] . وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ وَهُوَ عِلَّتُهُ، لِأَنَّ جَعْلَ هَذَا الْحُكْمِ الْعَامِّ جَوَابًا لِلشَّرْطِ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فِعْلُ الشَّرْطِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْجَوَابِ، فَكَوْنُ اللَّهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ فَذِكْرُهُ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ الْفَائِدَةُ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ بَلِ التَّهْدِيدُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْدِيدُ الْمُبَدِّلِ فَدَلَّ عَلَى مَعْنَى: فَاللَّهُ يُعَاقِبُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَمَعْنَى شِدَّةِ عِقَابِهِ: أَنَّهُ لَا يُفْلِتُ الْجَانِيَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْعِقَابِ، وَقَدْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ نَفْسَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِجَعْلِ الْ فِي الْعِقَابِ عِوَضًا عَنِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ شَدِيدٌ مُعَاقَبَتُهُ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هَنَا مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ وَتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْكَلَامِ الْجَامِعِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ أَمْرٌ قَدْ عَلِمَهُ النَّاسُ مِنْ قَبْلُ، وَالْعِقَابُ هُوَ الْجَزَاءُ الْمُؤْلِمُ عَنْ جِنَايَةٍ وَجُرْمٍ، سُمِّيَ عِقَابًا لِأَنَّهُ يعقب الْجِنَايَة. [212] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) اسْتِئْنَافٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْوَالِ كُفَّارِ الْعَرَبِ الْمَعْنِيِّينَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ قَصْدًا وَتَعْرِيضًا مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَة: 210] ، وَالْمُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: 211] اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ خُلُقِهِمُ الْعَجِيبِ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَشُعَبِهِ الَّتِي سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ: رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُطِعَ عَنِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الِاسْتِطْرَادُ بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: 211] الْآيَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ مُعْلِنٍ وَمُنَافِقٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا هُمُ الْمُرَادَ لَقِيلَ زُيِّنَ لَهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يُنَاسِبُ حَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي. وَالتَّزْيِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا أَوِ الِاحْتِجَاجُ لِكَوْنِهِ زَيْنًا، لِأَنَّ التَّفْعِيلَ يَأْتِي لِلْجَعْلِ وَيَأْتِي لِلنِّسْبَةِ كَالتَّعْلِيمِ وَكَالتَّفْسِيقِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَالزَّيْنُ شِدَّةُ الْحُسْنِ. وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا مُرَادٌ بِهَا مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْمُلَائِمَاتِ وَالذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ مَشْهُورٌ لِلْحَيَاةِ وَمَا يُرَادِفُهَا فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا» أَيْ إِلَى مَنَافِعِ دُنْيَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ اشْتُهِرَ حَذْفُهُ. وَمَعْنَى تَزْيِينِ الْحَيَاةِ لَهُمْ، إِمَّا أَنَّ مَا خُلِقَ زَيْنًا فِي الدُّنْيَا قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَاشْتَدَّ تَوَغُّلُهُمْ فِي اسْتِحْسَانِهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الزَّيْنَةَ هِيَ حَسَنَةٌ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا يَخْتَصُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِجَعْلِهَا لَهُمْ زَيْنَةً كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّ اللَّامَ تُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، وَإِمَّا تَرْوِيجُ تَزْيِينِهَا فِي نُفُوسِهِمْ بِدَعْوَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ تُحَسِّنُ مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ كَالْأَقْيِسَةِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْخَوَاطِرِ الشَّهْوِيَّةِ. وَالْمُزَيِّنُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الزِّينَةِ، وَالْمُزَيِّنُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ الشَّيْطَانُ وَدُعَاتُهُ. وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ لِأَنَّ الْمُزَيَّنَ لَهُمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا خَلْقُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَسَنَةً بَدِيعَةً كَمَحَاسِنِ الذَّوَاتِ وَالْمَنَاظِرِ، وَمِنْهَا إِلْقَاءُ حُسْنِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ وَهِيَ غَيْرُ حَسَنَةٍ كَقَتْلِ النَّفْسِ، وَمِنْهَا إِعْرَاضُهُمْ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الْأُمُورِ النَّافِعَةِ حَتَّى انْحَصَرَتْ هِمَمُهُمْ فِي التَّوَغُّلِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَحْتَهَا الْعَارُ لَوْ كَانَ بَادِيًا، وَمِنْهَا ارْتِيَاضُهُمْ عَلَى الِانْكِبَابِ عَلَى اللَّذَّاتِ دُونَ الْفِكْرِ فِي الْمَصَالِحِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهَا أَنْ يُعَدَّ فَاعِلًا لِلتَّزْيِينِ حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ طُوِيَ ذِكْرُ هَذَا الْفَاعِلِ تَجَنُّبًا لِلْإِطَالَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْفَاعِلِ لِدِقَّتِهِ، إِذِ الْمُزَيِّنُ لَهُمُ الدُّنْيَا أَمْرٌ خَفِيٌّ فَيَحْتَاجُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى شَرْحٍ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَهُوَ مَا اكْتَسَبَتْهُ نُفُوسُهُمْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِاللَّذَّاتِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِهِ التَّنَافُسُ أَوِ التَّقْلِيدُ حَتَّى عَمُوا عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُخَالِطَةِ لِلَّذَّاتِ أَوْ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُخْتَصَّةِ الْمُغَشَّاةِ بِتَحْسِينِ الْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهِ ضَعْفُ الْعَزَائِمِ النَّاشِئُ عَنِ اعْتِيَادِ الِاسْتِرْسَالِ فِي جَلْبِ الْمُلَائِمَاتِ دُونَ كَبْحٍ لِأَزِمَّةِ الشَّهَوَاتِ، وَلِأَجْلِ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُونَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ رَبَّتِ الْأَدْيَانُ فِيهِمْ عَزِيمَةَ مُقَاوَمَةِ دَعْوَةِ النُّفُوسِ الذَّمِيمَةِ بِتَعْرِيفِهِمْ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّذَّاتُ مِنَ الْمَذَمَّاتِ وَبِأَمْرِهِمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ ضُرٌّ عَاجِلٌ أَوْ آجِلٌ حَتَّى يُجَرِّدُوهَا عَنْهَا إِنْ أَرَادُوا تَنَاوُلَهَا وَيَنْبِذُوا مَا هُوَ ذَمِيمَةٌ مَحْضَةٌ، وَرَاضَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَشَائِرِ وَالزَّوَاجِرِ حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ مَلَكَةٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُزَيَّنِ الدُّنْيَا لَهُمْ، لِأَنَّ زِينَتَهَا عِنْدَهُمْ ومعرضة لِلْحُكْمِ عَلَيْهَا بِالْإِثْبَاتِ تَارَةً وَبِالنَّفْيِ أُخْرَى، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْأَمْرِ الزَّيْنِ ظَاهِرُهُ مِنِ الْإِضْرَارِ وَالْقَبَائِحِ انْقَلَبَ زَيْنُهُ عِنْدَهُ شَيْنًا، خُصَّ التَّزْيِينُ بِهِمْ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ذَمُّهُمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ خُلُقِهِمْ، وَلِهَذَا لَزِمَ حَمْلُ التَّزْيِينِ عَلَى تَزْيِينٍ يُعَدُّ ذَمًّا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَزْيِينًا مَشُوبًا بِمَا يَجْعَلُ تِلْكَ الزِّينَةَ مَذَمَّةً، وَإِلَّا فَإِنَّ أَصْلَ تَزْيِينِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْمُقْتَضِي لِلرَّغْبَةِ فِيمَا هُوَ زَيْنٌ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِذَا رُوعِيَ فِيهِ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِرَعْيِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: 32] . وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَوَاقِعَ التَّزْيِينِ الْمَذْمُومِ فَحَصَرْتُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَا لَيْسَ بِزَيْنٍ أَصْلًا لَا ذَاتًا وَلَا صِفَةً، لِأَنَّ جَمِيعَهُ ذَمٌّ وَأَذًى وَلَكِنَّهُ زُيِّنَ لِلنَّاسِ بِأَوْهَامٍ وَخَوَاطِرَ شَيْطَانِيَّةٍ وَتَخْيِيلَاتٍ شِعْرِيَّةٍ كَالْخَمْرِ. الثَّانِي مَا هُوَ زَيْنٌ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ عَوَاقِبُ تَجْعَلُهُ ضُرًّا وَأَذًى كَالزِّنَا. الثَّالِثُ مَا هُوَ زَيْنٌ لَكِنَّهُ يَحِفُّ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ ذَمِيمًا كَنَجْدَةِ الظَّالِمِ وَقَدْ حَضَرَ لِي التَّمْثِيلُ لِثَلَاثَتِهَا بِقَوْلِ طَرَفَةَ: وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى ... وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ وَالدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ 2 وَكَرِّي إِذَا نَادَى الْمُضَافُ مُجَنَّبًا ... كَسِيِدِ الْغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِِِ

وَقَوْلُهُ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، وَهَذِهِ حَالَةٌ أَعْجَبُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ حَالَةُ التَّنَاهِي فِي الْغُرُورِ إِذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى افْتِتَانِهِمْ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى سَخِرُوا بِمَنْ لَمْ يَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَا هَدَاهُمُ الدِّينُ إِلَى وُجُوبِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ وَأَنْوَاعٍ تَنْطَوِي عَلَى خَبَائِثَ. وَالسَّخَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: كَالْفَرَحِ وَقَدْ تُسَكَّنُ الْخَاءُ تَخْفِيفًا وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْمُ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ مَشُوبٌ بِاحْتِقَارِ الْحَالِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهَا، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى وَصْفٍ نَفْسِيٍّ مِثْلُ عَجِبَ، وَيَتَعَدَّى بِمِنْ جَارَّةٍ لِصَاحِبِ الْحَالِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهَا فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ ابْتِدَاءً مَعْنَوِيًّا، وَفِي لُغَةِ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ. وَوَجْهُ سُخْرِيَتِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمُ احْتَقَرُوا رَأْيَهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّذَّاتِ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَأَفْنَوْهُمْ فِي ذَلِكَ وَرَأَوْهُمْ قَدْ أَضَاعُوا حُظُوظَهُمْ وَرَاءَ أَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي غَيْرِ نِعْمَةٍ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَا خُلُودَ فِي الدُّنْيَا وَلَا حَيَاةَ بَعْدَهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (أَنْشَدَهُ شِمْرُ) : وَأَحْمَقُ مِمَّنْ يَلْعَقُ الْمَاءَ قَالَ لِي ... دَعِ الْخَمْرَ وَاشْرَبْ مِنْ نَقَاخٍ (¬1) مَبَرَّدِ فَالسُّخْرِيَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ تَزْيِينِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ وَلِذَلِكَ يَصِحُّ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ لِيُفِيدَ تَقْيِيدَ حَالَةِ التَّزْيِينِ بِحَالَةِ السُّخْرِيَةِ، فَتَتَلَازَمُ الْحَالَانِ وَيُقَدَّرُ لِلْجُمْلَةِ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وهم يَسْخَرُونَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ الْكُفَّارُ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ بِلَالًا وَعَمَّارًا وَصُهَيْبًا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ تَرَكُوا الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَّ لِطَلَبِ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْآخِرَةِ وَهِيَ شَيْءٌ بَاطِلٌ، وَمِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَالْمُنَافِقُونَ. وَجِيءَ فِي فِعْلِ التَّزْيِينِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي فِعْلِ السُّخْرِيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ قَضَاءً لِحَقَّيِ الدَّلَالَةِ على أَن مَعْنيين فِعْلِ التَّزْيِينِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِيهِمْ لِأَنَّ الْمَاضِيَ يَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ، وَأَنَّ مَعْنَى يَسْخَرُونَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَيُعْلِمُ السَّامِعَ أَنَّ مَا هُوَ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ هُوَ أَيْضًا مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّ الشَّيْءَ الرَّاسِخَ فِي النَّفْسِ لَا تَفْتُرُ عَنْ تَكْرِيرِهِ، وَيُعْلِمُ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَمِرًّا هُوَ أَيْضًا مُحَقَّقٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَسْتَمِرُّ إِلَّا وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ نَفْسِ فَاعِلِهِ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَتُزَيَّنُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَسَخِرُوا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا اخْتِيرَ لِفِعْلِ التَّزْيِينِ خُصُوصُ الْمُضِيِّ ¬

(¬1) النقاخ: المَاء العذب.

وَلِفِعْلِ السُّخْرِيَةِ خُصُوصُ الْمُضَارَعَةِ إِيثَارًا لِكُلٍّ مِنَ الصِّفَتَيْنِ بِالْفِعْلِ الَّتِي هِيَ بِهِ أَجْدَرُ لِأَنَّ التَّزْيِينَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَسْبَقَ فِي الْوُجُودِ وَهُوَ مَنْشَأُ السُّخْرِيَةِ أُوثِرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ، لِيَدُلَّ عَلَى مَلَكَةٍ وَاعْتَمَدَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ بِالِاسْتِتْبَاعِ، وَالسُّخْرِيَةُ لَمَّا كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى التَّزْيِينِ وَكَانَ تَكَرُّرُهَا يَزِيدُ فِي الذَّمِّ، إِذْ لَا يَلِيقُ بِذِي الْمُرُوءَةِ السُّخْرِيَةُ بِغَيْرِهِ، أُوثِرَتْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَاعْتُمِدَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى التَّحَقُّقِ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُسْتَمِرَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَحَقِّقًا. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ أُرِيدَ مِنَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ سَخِرَ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُتَّقِينَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَهُمْ فَوْقَهُمْ لَكِنْ عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمٍ ظَاهِرٍ لِدَفْعِ إِيهَامِ أَنْ يَغْتَرَّ الْكَافِرُونَ بِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ وَيُضَمُّوا إِلَيْهِ كَذِبًا وَتَلْفِيقًا كَمَا فَعَلُوا حِينَ سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] إِذْ سَجَدَ الْمُشْرِكُونَ وَزَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا أَثْنَى عَلَى آلِهَتِهِمْ. فَعَدَلَ لِذَلِكَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْمِ الَّذِي سَبَقَ أَعنِي (الَّذين ءامنوا) لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَزِيَّةِ التَّقْوَى وَكَوْنِهَا سَبَبًا عَظِيمًا فِي هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرَصِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ لِيُفِيدَ فَضْلَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وُجُوبِ التَّقْوَى لِتَكُونَ سَبَبَ تَفَوُّقِهِمْ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ فَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرْآنِ أَنْ يَعْبَأَ بِذِكْرِ حَالِهِمْ لِيَكُونُوا دَوْمًا بَيْنَ شَدَّةِ الْخَوْفِ وَقَلِيلِ الرَّجَاءِ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. وَالْفَوْقِيَّةُ هُنَا فَوْقِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَهِيَ مَجَازٌ فِي تَنَاهِي الْفَضْلِ وَالسِّيَادَةِ كَمَا اسْتُعِيرَ التَّحْتُ لِحَالَةِ الْمَفْضُولِ وَالْمُسَخَّرِ وَالْمَمْلُوكِ. وَقُيِّدَتْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ تَنْصِيصًا عَلَى دَوَامِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ مَبْدَأُ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَمَا كَانَ حَظُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَثْرَةِ التَّقْوَى وَقِلَّتِهَا إِنَّهُمْ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِيمَانِ وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّنْوِيهِ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ الْأَحَقُّ بِالذِّكْرِ هُنَا وصف «الَّذين ءامنوا» قُلْتُ: وَأَمَّا بَيَانُ مَزِيَّةِ التَّقْوَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَلَهُ مُنَاسَبَاتٌ أُخْرَى. قلت فِي الْآيَةُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ لَا تظخر مَزِيَّتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ مَبْدَأُ أَيَّامِ الْجَزَاءِ فَغَيْرُ الْمُتَّقِينَ لَا تظهر لَهُمُ التَّفَوُّقُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُدْرِكُهُ الْكُفَّارُ بِالْحِسِّ

[سورة البقرة (2) : آية 213]

قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] نَعَمْ تَظْهَرُ مَزِيَّتُهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الذُّنُوبِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَادَةِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَائِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَوَعَدَ اللَّهُ الْفُقَرَاءَ بِالرِّزْقِ وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِقَطْعِ الرِّزْقِ عَنْهُمْ وَزَوَالِ حُظْوَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إِلَخْ تَذْيِيلٌ قُصِدَ مِنْهُ تَعْظِيمُ تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرْتَبِطًا بِمَا قَبْلَهُ فَالسَّامِعُ يَعْلَمُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ مَعْنًى مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ فَوْقِيَّةً عَظِيمَةً لَا يُحِيطُ بِهَا الْوَصْفُ، لِأَنَّهَا فَوْقِيَّةٌ مُنِحُوهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَفَضْلُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلِأَن من سُخْرِيَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ سَخِرُوا بِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِإِقْلَالِهِمْ. وَالْحِسَابُ هُنَا حَصْرُ الْمِقْدَارِ فَنَفْيُ الْحِسَابِ نَفْيٌ لِعِلْمِ مِقْدَارِ الرِّزْقِ، وَقَدْ شَاعَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا شَاعَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا يُعَدُّونَ بِالْأَصَابِعِ وَيُحِيطُ بِهَا الْعَدُّ كِنَايَةً عَنِ الْقِلَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَيْءٌ لَا يُحْصَى وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُنْفَى الْحِسَابُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ لَا يُعْقَلُ حِسَابُهُ وَهُوَ الْفَوْقِيَّةُ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: مَا تَمْنَعِي يَقْظَى فَقَدْ تُؤْتَيْنَهُ ... فِي النَّوْمِ غَيْرَ مُصَرَّدٍ مَحْسُوبِ [213] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَدْيَانِ أَمر كَانَ فِي الْبشر الْحِكْمَة اقتضته وَأَنه قد ارْتَفَعَ ذَلِكَ وَرَجَعَ اللَّهُ بِالنَّاسِ إِلَى وَحْدَةِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَهَا تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: 212] أَنَّ سَبَبَ إِصْرَارِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ هُوَ اسْتِبْدَالُهُمُ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِه الْحَالة غير مُخْتَصَّةٌ بِالَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ

لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ وَمَا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ لِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالتَّحَاسُدِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا اهـ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَنْظِيرِ مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ بِمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ. الثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [الْبَقَرَة: 214] أَخَذَ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً تَشْجِيعُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِذِكْرِ مَا قَابَلَتْ بِهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ أَنْبِيَاءَهَا وَمَا لَقُوا فِيهَا مِنَ الشَّدَائِدِ اهـ فَالْمُنَاسَبَةُ عَلَى هَذَا فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ [الْبَقَرَة: 212] إِلَخْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلْمُنَاسَبَةِ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا جَامِعٌ لِمَوْقِعِ تَذْيِيلٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمُقَدِّمَةٌ لِمَا بَعْدَهَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا أَفَادَتْ بَيَانَ حَالَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَيْفَ نَشَأَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْحق مِمَّا لأَجله تَدَارَكَهُمُ اللَّهُ بِبِعْثَاتِ الرُّسُلِ فِي الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ وَلُطْفُهُ مِمَّا يُمَاثِلُ الْحَالَةَ الَّتِي نَشَأَتْ فِيهَا الْبَعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَمَا لَقِيَهُ الرَّسُولُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْحق الَّذِي اخْتلفت فِيهِ الْأُمَمُ وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ كَوْنِ الْإِسْلَامِ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا سَبَقَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ الْعُظْمَى يَجِبُ الِاعْتِرَافُ بِهَا وَأَلَّا تَكُونَ مَثَارَ حَسَدٍ لِلنَّبِيءِ وَأُمَّتِهِ، رَدًّا عَلَى حَسَدِ الْمُشْرِكِينَ، إِذْ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى حَسَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ إِلَى قَوْلِهِ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْبَقَرَة: 142] . وَحَصَلَ مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ تَارِيخَ أَطْوَارِ الدِّينِ بَيْنَ عُصُورِ الْبَشَرِ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً الْوَحْدَةَ فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا سَيَأْتِي فَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فَبَعَثَ لَهُمْ أَنْبِيَاءَ مُتَفَرِّقِينَ لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النَّاسِ لِلدُّخُولِ فِي دِينٍ وَاحِدٍ عَامٍّ، فَالْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ مَعَ جُمْلَةِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [الْبَقَرَة: 208] بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَيِ ادْخُلُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً الْوَحْدَةَ فِي الضلال وَالْكفْر يكون اللَّهُ قَدْ نَبَّهَهُمْ أَنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ تَقَعُ لِأَجْلِ إِزَالَةِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ الَّذِي يَحْدُثُ فِي قُرُونِ الْجَهَالَةِ، فَكَذَلِكَ انْتَهَتْ تِلْكَ الْقُرُونُ إِلَى الْقَرْنِ الَّذِي أَعْقَبَتْهُ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: 212] . فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هَدَى إِلَى شَرِيعَةٍ تَجْمَعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَبْيِينًا لِفَضِيلَةِ هَذَا الدِّينِ وَاهْتِدَاءِ أَهْلِهِ إِلَى مَا لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَأْنِيسٌ بِهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. وَالنَّاسُ اسْمُ جَمْعٍ لَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ، وَ (الْ) فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ هُنَا لِلْعُمُومِ أَيِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ فَرِيقٌ مَعْهُودٌ وَلَكِنَّهُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْغَالِبِ الْأَغْلَبِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالنَّادِرِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو زَمَنٌ غَلَبَ فِيهِ الْخَيْرُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ شِرِّيرًا مِثْلَ عَصْرِ النُّبُوَّةِ وَلَا يَخْلُو زَمَنٌ غَلَبَ فِيهِ الشَّرُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ خَيِّرًا مِثْلَ نُوحٍ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 4] . وَالْأمة بضمة الْهَمْزَةِ: اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَمِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ أَيْ يَؤُمُّونَ غَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْجَمَاعَةُ أُمَّةً إِذَا اتَّفَقُوا فِي الْمَوْطِنِ أَوِ الدِّينِ أَوِ اللُّغَةِ أَوْ فِي جَمِيعهَا. وَالْوَصْف ب (وَاحِدَةٌ) فِي الْآيَةِ لِتَأْكِيدِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ (أُمَّةً) لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّةِ الْقَبِيلَةَ، فَيُظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ كَانَ النَّاسُ أَهْلَ نَسَبٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَجْمَعُهُمْ نَسَبٌ مُتَّحِدٌ. وَالْوَحْدَةُ هُنَا: مُرَادٌ بِهَا الِاتِّحَادُ وَالتَّمَاثُلُ فِي الدِّينِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعٍ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ إِلَخْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْحَقِّ وَالْهُدَى أَيْ كَانَ النَّاسُ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى رَوَى الطَّبَرِيُّ تَفْسِيرَهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ الْفَخْرُ: وَهُوَ مُخْتَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ قَالَ الْقَفَّالُ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ إِلَى قَوْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّ تَفْرِيعَ الْخَبَرِ بِبِعْثَةِ النَّبِيِّينَ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَتَعْلِيلَ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ انْتَظَمَ مِنْ ذَلِكَ كَلَامٌ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فَجَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ

بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَدُومُوا عَلَى الْحَقِّ خَشْيَةَ انْصِرَافِهِمْ عَنْهُ إِذَا ابْتَدَأَ الِاخْتِلَافُ يَظْهَرُ وَأَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْكُتُبِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ الرُّسُلِ لِأَجْلِ إِبْطَالِ اخْتِلَافٍ حَدَثَ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ هُوَ الِاخْتِلَافُ النَّاشِئُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحَقِّ كَمَا يَقْتَضِيهِ التَّفْرِيعُ عَلَى جُمْلَةِ كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وَعَلَى صَرِيحِ قَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ فَاخْتَلَفُوا بَعْدَ قَوْلِهِ أُمَّةً واحِدَةً، لِأَنَّ الْبَعْثَةَ تَرَتَّبَتْ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا عَلَى الْكَوْنِ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَعَلَى هَذَا الْفَهْمِ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ) إِلَخْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الضَّلَالِ لَصَحَّ تَفْرِيعُ الْبَعْثَةِ عَلَى نَفْسِ هَذَا الْكَوْنِ بِلَا تَقْدِيرٍ وَلَوْلَا أَنَّ الْقَرِينَةَ صَرَفَتْ عَنْ هَذَا لَكَانَ هُوَ الْمُتَبَادِرَ، وَلِهَذَا قَالَ ابْن عَطِيَّة كَانَ مَنْ قَدَّرَ النَّاسَ فِي الْآيَةِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَدَّرَ فِي الْكَلَامِ فَاخْتَلَفُوا وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَهُمْ كُفَّارًا كَانَتْ بَعْثَةُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمُ اهـ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْتَقْدِيرَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ [19] وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا لِأَنَّ الظَّاهِرَ اتِّحَادُ غَرَضِ الْآيَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ هُنَا عَنِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً وَنَحْنُ نَرَى اخْتِلَافَهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَدُومُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْهُدَى وَالصَّلَاحَ هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا حِينَ خَلَقَهُمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: 172] ، وَأَنَّهَا مَا غَشَّاهَا إِلَّا تَلْقِينُ الضَّلَالِ وَتَرْوِيجُ الْبَاطِلِ وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ النَّبِيئِينَ لِإِصْلَاحِ الْفِطْرَةِ إِصْلَاحًا جُزْئِيًّا فَكَانَ هَدْيُهُمْ مُخْتَلِفَ الْأَسَالِيبِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَشِدَّةِ الشَّكَائِمِ، فَكَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُيَسِّرُ وَمِنْهُمُ الْمُغَلِّظُ وَأَنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا لِإِكْمَالِ ذَلِكَ الْإِصْلَاحِ، وَإِعَادَةِ النَّاسِ إِلَى الْوَحْدَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْهُدَى وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمَعْنَى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقِينَ عَلَى الضَّلَالِ وَالشَّرِّ وَهُوَ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَلَيْهِ فَعَطْفُ قَوْلِهِ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ عَطْفٌ عَلَى اللَّفْظِ الظَّاهِرِ لَا تَقْدِيرَ مَعَهُ أَيْ كَانُوا كَذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهِ النَّبِيئِينَ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لِيُرْشِدُوا النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ بِالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِظْهَارُ أَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ النَّبِيئِينَ قَدْ وَقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا بُعِثُوا بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْقُرْآنِ لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَيَكُونُ

الْمَقْصُودُ بَيَانَ مَزِيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ. وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ فَإِنَّ فِعْلَ كَانَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ اتِّصَافُ اسْمِهَا الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِمَضْمُونِ خَبَرِهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَأَنَّ ذَلِكَ قَدِ انْقَطَعَ، إِذْ صَارَ النَّاسُ مُنْقَسِمِينَ إِلَى فِئَتَيْنِ فِئَةٍ عَلَى الْحَقِّ وَفِئَةٍ عَلَى الْبَاطِلِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَحْدَةَ فِي الْحَقِّ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَلَى النَّاسِ الرُّشْدَ وَالِاسْتِقَامَةَ وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ فَلَمْ يَكُونُوا بِحَاجَةٍ إِلَى بِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَى أَنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ فَظَهَرَ فِيهِمُ الْفَسَادُ، فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ قَوْمٌ كَانَ ذَلِكَ زَمَنَ نوح كفر رجل قَوْمِهِ فَهَلَكُوا بِالطُّوفَانِ إِلَّا مَنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ فَكَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ النَّاجُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ، وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ عَلَى الْحَقِّ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ الَّتِي سَتُودَعُ فِي بَنِي آدَمَ فَفَطَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172، 173] : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَحَدِ تَفَاسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَحُجَّتُهُمَا عَلَى ذَلِكَ أَن قَوْله: النَّبِيِّينَ جَمْعٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ (أَيْ لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ) فَيَقْتَضِي أَنَّ بَعْثَةَ كُلِّ النَّبِيئِينَ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ الْفَاءِ، وَالشَّرَائِعُ إِنَّمَا تُلُقِّيَتْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ كَوْنَ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً شَيْءٌ سَابِقٌ عَلَى شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَفَادًا مِنَ الْعَقْلِ، وَهُمَا يَعْنِيَانِ أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالنَّاسِ آدَمُ وَحَوَّاءُ. نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَوْمٍ، وَالَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي زَمَنٍ مِنْ أَزْمَانِ وُجُودِ النَّاسِ عَلَى الْأَرْضِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: 38] وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ زَمَنِ وُجُودِ آدَمَ إِلَى أَنْ أَشَرَكَ قَوْمُ نُوحٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَحْدَةَ عَلَى الْبَاطِلِ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ نُوحٍ فِي أَوَّلِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مَعَ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الضَّلَالَ

حَدَثَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَّهُمْ عَاجِلًا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ بِالطُّوفَانِ وَنَجَّى نُوحًا وَنَفَرًا مَعَهُ فَأَصْبَحَ جَمِيعُ النَّاسِ صَالِحِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. فَيَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَنْظُرَ الْآنَ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعْنَى فِي تَارِيخِ ظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَفِي أَسْبَابِ ذَلِكَ. النَّاسُ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ أَبَوَيْهِمْ لَمَّا وَلَدَا الْأَبْنَاءَ الْكَثِيرِينَ وَتَوَالَدَ أَبْنَاؤُهُمَا تَأَلَّفَتْ مِنْهُمْ فِي أَمَدٍ قَصِيرٍ عَائِلَةٌ وَاحِدَةٌ خُلِقَتْ مِنْ مِزَاجٍ نَقِيٍّ فَكَانَتْ لَهَا أمزجة متماثلة ونشأوا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَحْوَالِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا وَمَا كَانَتْ لِتَخْتَلِفَ إِلَّا اخْتِلَافًا قَلِيلًا لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ يُؤْبَهُ بِهِ وَلَا يُحْدِثُ فِي الْعَائِلَةِ تَنَافُرًا وَلَا تُغَالُبَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ أَرَادَهُ لِيَكُونَ أَفْضَلَ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ عَلَى حَالَةٍ صَالِحَةٍ لِلْكَمَالِ وَالْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] . فَآدَمُ خُلِقَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالذَّكَرِ جِسْمًا وَعَقْلًا وَأَلْهَمَهُ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَاتِّبَاعَهُ وَمَعْرِفَةَ الشَّرِّ وَتَجَنُّبَهُ فَكَانَتْ آرَاؤُهُ مُسْتَقِيمَةً تَتَوَجَّهُ ابْتِدَاءً لِمَا فِيهِ النَّفْعُ وَتَهْتَدِي إِلَى مَا يَحْتَاجُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ، وَتَتَعَقَّلُ مَا يُشَارُ بِهِ عَلَيْهِ فَتَمَيَّزَ النَّافِعُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُسَاعِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ فِكْرُهُ جَسَدٌ سَلِيمٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ وَحَوَّاءُ خُلِقَتْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالْأُنْثَى خَلْقًا مُشَابِهًا لِخَلْقِ آدَمَ، إِذْ أَنَّهَا خُلِقَتْ كَمَا خُلِقَ آدَمُ، قَالَ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: 1] فَكَانَتْ فِي انْسِيَاقِ عَقْلِهَا وَاهْتِدَائِهَا وَتَعَقُّلِهَا وَمُسَاعَدَةِ جَسَدِهَا عَلَى ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ عَلَيْهِ آدَمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْوَى عُنْصُرٍ فِي تَقْوِيمِ الْبَشَرِ عِنْدَ الْخِلْقَةِ هُوَ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ فَبِالْعَقْلِ تَأَتَّى لِلْبَشَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَصَائِصِهِ، وَأَنْ يَضَعَهَا فِي مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. هَكَذَا كَانَ شَأْنُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَمَا وَلَدَا مِنَ الْأَوْلَادِ نَشَأَ مِثْلَ نَشْأَتِهِمَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اهْتَدَى أَحَدُ بَنِي آدَمَ إِلَى دَفْنِ أَخِيهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ فِعْلِ الْغُرَابِ الْبَاحِثِ فِي الأَرْض فَكَانَت الِاسْتِنْبَاطُ الْفِكْرِيُّ وَالتَّقْلِيدُ بِهِ أُسَّ الْحَضَارَةِ الْبَشَرِيَّةِ. فَالصَّلَاحُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَدَامَ عَلَيْهِ دَهْرًا لَيْسَ بِالْقَصِيرِ، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَدُّ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، ذَلِكَ أَنَّ ارْتِدَادَ الْإِنْسَانِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِنَّمَا عَرَضَ لَهُ بِعَوَارِضَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ قَلِيلَةَ الْطُرُوِّ أَوْ مَعْدُومَتَهُ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الِانْحِرَافِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا تَعْدُو أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ:

الْأُول: خَلَلٌ يَعْرِضُ عِنْدَ تَكْوِينِ الْفَرْدِ فِي عَقْلِهِ أَوْ فِي جَسَدِهِ فَيَنْشَأُ مُنْحَرِفًا عَنِ الْفَضِيلَةِ لِتِلْكَ الْعَاهَةِ. الثَّانِي: اكْتِسَابُ رَذَائِلَ مِنَ الْأَخْلَاقِ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ قُوَاهُ الشَّهْوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَمِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ بِدَاعِيَةِ اسْتِحْسَانِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ مَفَاسِدَ يَخْتَرِعُهَا وَيَدْعُو إِلَيْهَا. الثَّالِثُ: خَوَاطِرُ خَيَالِيَّةٌ تَحْدُثُ فِي النَّفْسِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ كَالشَّهَوَاتِ وَالْإِفْرَاطِ فِي حُبِّ الذَّاتِ أَوْ فِي كَرَاهِيَةِ الْغَيْرِ مِمَّا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ فَيُفَكِّرُ صَاحِبُهَا فِي تَحْقِيقِهَا. الرَّابِعُ: صُدُورُ أَفْعَالٍ تَصْدُرُ مِنَ الْفَرْدِ بِدَوَاعٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَكْمِيلِيَّةٍ وَيَجِدُهَا مُلَائِمَةً لَهُ أَوْ لَذِيذَةً عِنْدَهُ فَيُلَازِمُهَا حَتَّى تَصِيرَ لَهُ عَادَةً وَتَشْتَبِهَ عِنْدَهُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ بِالطَّبِيعَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ إِذَا صَادَفَتْ سَذَاجَةً مِنَ الْعَقْلِ غَيْرَ بَصِيرَةٍ بِالنَّوَاهِي رَسَخَتْ فَصَارَتْ طَبْعًا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ لِلِانْحِطَاطِ عَنِ الْفِطْرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْأَوَّلُ كَانَ نَادِرَ الْحُدُوثِ فِي الْبَشَرِ، لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَبْدَانِ وَشَبَابَ وَاعْتِدَالَ الطَّبِيعَةِ وَبَسَاطَةَ الْعَيْشِ وَنِظَامَ الْبِيئَةِ كُلُّ تِلْكَ كَانَتْ مَوَانِعَ مِنْ طُرُوِّ الْخَلَلِ التَّكْوِينِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَوْعَ كُلِّ حَيَوَانٍ يُلَازِمُ حَالَ فِطْرَتِهِ فَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، لِأَنَّ الْبَشَرَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا عَائِلَةً وَاحِدَةً فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ يَسِيرُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ وَتَرْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْسَاسٍ وَاحِدٍ فَمِنْ أَيْنَ يَجِيئُهُ الِاخْتِلَافُ؟ وَالثَّالِثُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لَكِنَّ الْمَحَبَّةَ النَّاشِئَةَ عَنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَعَنِ الْإِلْفِ، وَالشَّفَقَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَاعِظَ الصَّادِرَةَ عَنِ الْأَبَوَيْنِ كَانَتْ حَجْبًا لِمَا يَهْجِسُ مِنْ هَذَا الْإِحْسَاسِ. وَالرَّابِعُ لَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يَكْثُرُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُودِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ الْحَاجَاتِ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ الطِّبَاعِ الْأَصْلِيَّةِ وَلِأَنَّ التَّحْسِينَاتِ كَانَتْ مَفْقُودَةً، وَإِنَّمَا هَذَا السَّبَبُ الرَّابِعُ مِنْ مُوجِبَاتِ الرُّقِيِّ وَالِانْحِطَاطِ فِي أَحْوَالِ الْجَمْعِيَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ الطَّارِئَةِ. أَمَّا حَادِثَةُ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ فَمَا هِيَ إِلَّا فَلْتَةٌ نَشَأَتْ عَنِ السَّبَبِ الثَّالِثِ عَنْ إِحْسَاسٍ وِجْدَانِيٍّ هُوَ الْحَسَدُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَغَبَّةِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَعْرِفِ الْمَوْتَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ وَلِذَلِكَ أَسْرَعَتْ إِلَيْهِ النَّدَامَةُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاحَ هُوَ حَالُ الْأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ أَوْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا.

وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي الْآبَاءِ دَوَامُ الِاسْتِقَامَةِ فِي النَّسْلِ، لِأَنَّ النَّسْلَ مُنْسَلٌّ مِنْ ذَوَاتِ الْأُصُولِ فَهُوَ يَنْقُلُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْخُلُقِيَّةِ وَالْخَلْقِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّسْلُ مُنْسَلًّا مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَانَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ مُحَصِّلًا عَلَى مَجْمُوعٍ مِنَ الْحَالَتَيْنِ فَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَالَتَانِ أَوْ تَقَارَبَتَا جَاءَ النَّسْلُ عَلَى أَحْوَالٍ مُسَاوِيَةِ الْمَظَاهِرِ لِأَحْوَالِ سَلَفِهِ، قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَكْسِهِ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْبَشَرِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ صَلَاحٌ مَا نَقَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ. ثُمَّ كَثُرَتِ الْعَائِلَةُ الْبَشَرِيَّةُ وَتَكَوَّنَتْ مِنْهَا الْقَبِيلَةُ فَتَكَاثَرَتْ وَنَشَأَ فِيهَا مَعَ الزَّمَانِ قَلِيلًا قَلِيلًا خَوَاطِرُ مُخْتَلِفَةٌ وَدَبَّتْ فِيهَا أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْوَالِ تَبَعًا لِاخْتِلَافٍ بَيْنَ حَالَيِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَجَاءَ النَّسْلُ عَلَى أَحْوَالٍ مُرَكَّبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِكُلٍّ مِنْ مُفْرَدِ حَالَتَيِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَبِذَلِكَ حَدَثَتْ أَمْزِجَةٌ جَدِيدَةٌ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ أَسْبَابُ الِانْحِطَاطِ الْأَرْبَعَةُ، وَصَارَتْ مُلَازِمَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْبَشَرِ بِحُكْمِ التَّنَاسُلِ وَالتَّلَقِّي، هُنَالِكَ جَاءَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَدْيِ الْبَشَرِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالتَّارِيخُ الدِّينِيُّ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الْآيَةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الرُّسُلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ ابْتَدَأَهُمْ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْآيَاتِ بِنُوحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ آدَمَ وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ أَنَّ آدَمَ يَقُولُ لِلَّذِينَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ايتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَبِهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ خَطِيئَةَ قَابِيلَ لَيْسَتْ مُخَالَفَةَ شَرْعٍ مَشْرُوعٍ، وَأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا وَأَنَّهُ نَبِيءٌ صَالِحٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَا يُهَذِّبُ أَبْنَاءَهُ وَيُعَلِّمُهُمْ بِالْجَزَاءِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مَعَ تَحَقُّقِ وُجُودِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ بِالْمُشَاهَدَةِ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ كَوْنَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً دَامَ مُدَّةً ثُمَّ انْقَضَى، فَيَكُونُ مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَقْدِيرُهَا فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ مُفَرَّعًا عَلَى الْكَوْنِ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْبَاطِلِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ أَوَّلُ النَّبِيِّينَ الْمَبْعُوثِينَ نُوحًا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ لِإِصْلَاحِ الْخَلْقِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ أَوَّلُهُمْ آدَمَ بُعِثَ لِبَنِيهِ لَمَّا قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُبْعَثْ بِشَرِيعَةٍ لِعَدَمِ الدَّوَاعِي إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرْشِدًا كَمَا يُرْشِدُ الْمُرَبِّي عَائِلَتَهُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ هُنَا الرُّسُلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْإِرْسَالُ بِالشَّرَائِعِ مُتَوَغِّلٌ فِي الْقِدَمِ وَقَبْلَهُ ظُهُورُ الشَّرْطِ وَهُوَ أَصْلُ ظُهُورِ الْفَوَاحِشِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ أَصْلُ

ذَمِيمِ الْفِعَالِ، وَقَدْ عَبَدَ قَوْمُ نُوحٍ الْأَصْنَامَ، عَبَدُوا وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَهُمْ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَزَالُوا فِي مَوَاطِنِ آدَمَ وَبَنِيهِ فِي (جِبَالِ نُوذٍ) مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ كَمَا قِيلَ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقُ وَنَسْرًا كَانُوا مِنْ صَالِحِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ اهـ، وَقِيلَ كَانُوا مِنْ صَالِحِي قَوْمِ آدَمَ، وَقِيلَ إِنَّ سُوَاعًا هُوَ ابْنُ شِيثَ وَأَنَّ يَغُوثَ ابْنُ سُوَاعٍ ويعوق ابْن سغوث وَنَسْرَ بن يَعُوقَ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنْ صَالِحِي عَصْرِ آدَمَ مَاتُوا فَنَحَتَ قَابِيلُ بْنُ آدَمَ لَهُمْ صُوَرًا ثُمَّ عَبَدُوهُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ (¬1) ، وَهَذَا كُلُّهُ زَمَنٌ مُتَوَغِّلٌ فِي الْقِدَمِ قَبْلَ التَّارِيخِ فَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِمَزِيدِ الِاحْتِرَازِ، وَأَقْدَمُ شَرِيعَةٍ أَثْبَتَهَا التَّارِيخُ شَرِيعَةُ بِرَهَمَانَ فِي الْهِنْدِ فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ مِنْ قَبْلِ الْقَرْنِ الثَّلَاثِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَفِي هَذَا الْعَهْدِ كَانَتْ فِي الْعِرَاقِ شَرِيعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَابِلَ وَضَعَهَا مَلِكُ بَابِلَ الْمَدْعُوُّ (حَمُورَابِي) وَيَظُنُّ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» بِاسْمِ (مَلِكِي صَادِقْ) الَّذِي لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ فِي شَالِيمَ وَبَارَكَ إِبْرَاهِيمَ وَدَعَا لَهُ. وَالْبَعْثُ: الْإِرْسَالُ وَالْإِنْهَاضُ لِلْمَشْيِ وَمِنْهُ بَعَثَ الْبَعِيرَ إِذَا أَنْهَضَهُ بَعْدَ أَنْ بَرَكَ وَالْبَعْثُ هُنَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ النَّبِيءَ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ. وَ (النَّبِيئِينَ) جَمْعُ نَبِيءٍ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِالْوَحْيِ وَعَلِمَ مَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِهِ وَصَلَاحُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ شَرِيعَةِ الْأُمَّةِ فَهُوَ رَسُولٌ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيءٌ، وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ فِي الْغَالِبِ النَّبِيءَ مُرَادًا بِهِ الرَّسُولُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ الْأَنْبِيَاءِ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُمْ وَأَزْمَانَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: 38] وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الْإِسْرَاء: 17] . وَعَدَدُ الرُّسُلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَالْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ هُنَا خُصُوصُ الرُّسُلِ مِنْهُمْ بِقَرِينَة قَوْله فَبَعَثَ وبقرينة الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وَالْإِنْذَارَ مِنْ خَصَائِصِ الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَةِ وَبِقَرِينَةِ مَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ. ¬

(¬1) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «كتاب ابْن الكبي» أَن هَذِه الْأَصْنَام عبدت فِي الْعَرَب وَقد بيّنت ذَلِك فِي «تَارِيخ الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة» .

فَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّبِيِّينَ) لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ الْمُلَقَّبُ بِالْعُرْفِيِّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَعَانِي. وَالْبِشَارَةُ: الْإِعْلَامُ بِخَيْرٍ حَصَلَ أَوْ سَيَحْصُلُ، وَالنِّذَارَةُ بِكَسْرِ النُّونِ الْإِعْلَامُ بِشَرٍّ وَضُرٍّ حَصَلَ أَوْ سَيَحْصُلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ. فَالرُّسُلُ هُمُ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ فَإِنَّ وَظِيفَتَهُمْ هِيَ ظُهُورُ صَلَاحِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا قُدْوَةً لَهُمْ، وَإِرْشَادُ أَهْلِهِمْ وَذَوِيِهِمْ وَمُرِيدِيهِمْ لِلِاسْتِقَامَةِ مَنْ دُونِ دَعْوَةٍ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ رِجَالٌ صَالِحُونَ، وَإِرْشَادُ مَنْ يَسْتَرْشِدُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَتَعْلِيمُ مَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِعِلْمِ الْخَيْرِ مِنَ الْأُمَّةِ. ثُمَّ هُمْ قَدْ يَجِيئُونَ مُؤَيِّدِينَ لِشَرِيعَةٍ مَضَتْ كَمَجِيءِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَجِيءِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى لِتَأْيِيدِ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُمْ تَعُلُّقٌ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَجِيءِ خَالِدِ بْنِ سِنَان الْعَبْسِي نبيئا فِي عَبْسٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ، الْإِنْزَالُ: حَقِيقَتُهُ تَدْلِيَةُ الْجِسْمِ مِنْ علو إِلَى أَسْفَل، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي وُصُولِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى مَرْتَبَةً إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَحْيَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَالٌّ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ الْخَلْقِ فَهُوَ وَارِدٌ لِلرُّسُلِ فِي جَانِبٍ لَهُ عُلُوُّ مَنْزِلَةٍ. وَأَضَافَ مَعَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيئِينَ إِضَافَةً مُجْمَلَةً وَاخْتِيرَ لَفْظُ مَعَ دُونَ عَلَيْهِمْ لِيَصْلُحَ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنْهُمْ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، وَلِمَنْ جَاءَ مُؤَيِّدًا لِمَنْ قَبْلَهُ مِثْلِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. وَالْكِتَابُ هُوَ الْمَكْتُوبُ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِكِتَابَتِهَا لِدَوَامِ حِفْظِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ مُدَارَسَتِهَا، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَيْهَا قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً إِنْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ فِي وَقْتِ الْإِطْلَاقِ قَدْ كُتِبَتْ أَوْ كُتِبَ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 1- 2] عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ هُنَالِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَجَازًا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَمَا هُنَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ قَدْ نَزَلَتْ وَكُتِبَتْ وَكُتِبَ بَعْضُ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ أُرِيدَ بِهَا مُقَارَنَةُ الزَّمَانِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعِيَّةِ هِيَ الْمُقَارَنَةُ فِي الْمَكَانِ وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْمَعِيَّةِ هُنَا لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 20] وَفِي الْحَدِيثِ «وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ» . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ وَأَنْزَلَ مَعَ النَّبِيئِينَ الْكُتُبَ الَّتِي نَزَلَتْ كُلَّهَا

وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ، فَالْمَعْنَى أَنْزَلَ مَعَ كل نَبِي كِتَابَهُ وَقَرِينَةُ التَّوْزِيعِ مَوْكُولَةٌ لِعِلْمِ السَّامِعِينَ لِاشْتِهَارِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَقُلِ الْكُتُبَ، لِأَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي مَقَامِ الِاسْتِغْرَاقِ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ مَا فِي الْإِفْرَادِ مِنِ الْإِيجَازِ وَدَفْعِ احْتِمَالِ الْعَهْدِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ كِتَابٌ وَاحِد مَعَ جمع النَّبِيئِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِغْرَاقَ لَا الْعَهْدَ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَوْنَ اللَّامِ لِلْعَهْدِ وَالْمَعْنَى أَنَزَلَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ كِتَابَهُ. وَالضَّمِيرُ فِي لِيَحْكُمَ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ فَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى الْكِتَابِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّهُ مُبَيِّنُ مَا بِهِ الْحُكْمُ، أَوْ فِعْلُ يَحْكُمُ مَجَازٌ فِي الْبَيَانِ. وَيَجُوزُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أَيْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِسْنَاد الْحُكْمِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّهُ الْمُسَبِّبُ لَهُ وَالْآمِرُ بِالْقَضَاءِ بِهِ، وَتَعْدِيَةُ (يَحْكُمُ) بِبَيْنَ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ مَحْكُومٌ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَحُكْمُ الْكِتَابِ بَيْنَ النَّاسِ بَيَانُ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كِنَايَة عَن إِظْهَاره الْحَقِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ إِلَّا عَنْ ضَلَالٍ أَوْ خَطَأٍ، وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَائِنَا إِنَّ الْمُصِيبَ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَاحِدٌ. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِبَيَانِ حَقِيقَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ اخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ مَعَ تَلَقِّيهِمْ دِينًا وَاحِدًا، وَالْمَعْنَى وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاخْتُلِفَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [هود: 110] . وَالْمَعْنَى وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا أَقْوَامُهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا كُتُبَهُمْ فَاسْتَغْنَى بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى لِتَضَمُّنِ جُمْلَةِ الْقَصْرِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا.

فَاللَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ لِإِبْطَالِ الضَّلَالِ الْحَاصِلِ مِنْ جَهْلِ الْبَشَرِ بِصَلَاحِهِمْ فَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِالْهُدَى، اتَّبَعَهُمْ مَنِ اتَّبَعَهُمْ فَاهْتَدَى وَأَعْرَضَ عَنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ فَبَقِيَ فِي ضَلَالَةٍ، فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِإِبْطَالِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، ثُمَّ أَحْدَثَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ بِعْدَهُمُ اخْتِلَافًا آخَرَ وَهُوَ اخْتِلَافُ كُلِّ قَوْمٍ فِي نَفْسِ شَرِيعَتِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا بَيَانُ عَجِيبِ حَالِ الْبَشَرِ فِي تَسَرُّعِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ تَارِيخِيَّةٌ مِنْ تَارِيخِ الشَّرَائِعِ، وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَالتَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ أَشْهَرُ أَهْلِ الشَّرَائِعِ يَوْمَئِذٍ فِيمَا صَنَعُوا بِكُتُبِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ اسْتِطْرَادِ الْقُرْآنِ فِي تَوْبِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَخَاصَّةً الْيَهُودَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ بَلِيغَةٌ قَالَ زُهَيْرٌ: إِنَّ الْبَخِيلَ مَلُومٌ حِينَ كَانَ ... وَلَكِنَّ الْجَوَادَ عَلَى عِلَّاتِهِ هَرَمُ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَمْدَحُ الْخَلِيفَةَ وَيَسْتَطْرِدُ بِهِجَاءِ جَرِيرٍ: إِلَى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ ... أَبُوهُ وَلَا كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهُ وَالضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكِتَابِ وَأَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَمُصَاحِبًا لَهُ فَإِذَا اخْتُلِفَ فِي الْكِتَابِ اخْتُلِفَ فِي الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ وَبِالْعَكْسِ عَلَى طَرِيقَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنْطِقِ. وَالِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ ذَهَابُ كُلِّ فَرِيقٍ فِي تَحْرِيفِ الْمُرَادِ مِنْهُ مَذْهَبًا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْآخَرِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لَا فِي الْفُرُوعِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أُصُولِهِ يُعَطِّلُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَرِّفَاتِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَقْصِدِ الْكِتَابِ هُمُ الَّذِينَ أُعْطُوا الْكِتَابَ لِيُزِيلُوا بِهِ الْخِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ فَأَصْبَحُوا هُمْ سَبَبَ خِلَافٍ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمُرَادَ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى تَشْنِيعُ حَالِ الَّذِينَ أُوتُوهُ بِأَنْ كَانُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرَائِعِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ بِخِلَافِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ كَوْنِ الْكِتَابِ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفَ، وَالْبَيِّنَاتُ جَمْعُ بَيِّنَةٍ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ.

وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ هُنَا الدَّلَائِلُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الصَّدُّ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ النُّصُوصُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ مَدْلُولَاتِهَا أَعْنِي قَوَاطِعَ الشَّرِيعَةِ، وَالظَّوَاهِرَ الْمُتَعَاضِدَةَ الَّتِي الْتَحَقَتْ بِالْقَوَاطِعِ. وَالظَّوَاهِرَ الَّتِي لَمْ يَدْعُ دَاعٍ إِلَى تَأْوِيلِهَا وَلَا عَارَضَهَا مُعَارِضٌ. وَالظَّوَاهِرُ الْمُتَعَارِضَةُ الَّتِي دَلَّ تَعَارُضُهَا عَلَى أَنَّ مَحْمَلَ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى حَالَةٍ لَا تُعَارِضُ حَالَةَ مَحْمَلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْأُصُولِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَتَوَارِيخِ التَّشْرِيعِ الدَّالَّةِ عَلَى نَسْخِ حُكْمٍ حُكْمًا آخَرَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّارِيخِ مِنْ نَحْوِ هَذَا نَاسِخٌ، أَوْ كَانَ الْحُكْمُ كَذَا فَصَارَ كَذَا، فَهَذِهِ بَيِّنَاتٌ مَانِعَةٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَوْ كَانَ غَرَضُ الْأُمَمِ اتِّبَاعَ الْحَقِّ وَمَجِيءُ الْبَيِّنَاتِ بُلُوغُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَظُهُورُ الْمُرَادِ مِنْهَا. وَالْبَعْدِيَّةُ هُنَا: بَعْدِيَّةُ اعْتِبَارٍ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا تَأَخُّرُ زَمَانِ الِاخْتِلَافِ عَنْ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ أَنَّ الْخِلَافَ كَانَ فِي حَالَةٍ تَقَرَّرَتْ فِيهَا دَلَائِلُ الْحَقِّ فِي نُفُوسِ الْمُخْتَلِفِينَ. وَقَوْلُهُ: بَغْياً بَيْنَهُمْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِاخْتَلَفُوا، وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ وَأَصْلُ الْبَغْيِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّلَبُ، ثُمَّ شَاعَ فِي طَلَبِ مَا لِلْغَيْرِ بِدُونِ حَقٍّ فَصَارَ بِمَعْنَى الظُّلْمِ مَعْنًى ثَانِيًا وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْحَسَدِ لِأَنَّ الْحَسَدَ ظُلْمٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ دَاعِيَ الِاخْتِلَافِ هُوَ التَّحَاسُدُ وَقَصْدُ كُلِّ فَرِيقٍ تَغْلِيطَ الْآخَرِ فَيُحَمِّلُ الشَّرِيعَةَ غَيْرَ مَحَامِلِهَا لِيُفْسِدَ مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ الْآخَرُ فَيُفْسِدُ كُلُّ فَرِيقٍ صَوَابَ غَيْرِهِ وَأَمَّا خَطَؤُهُ فَأَمْرُهُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: بَغْياً لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْبَغْيَ بِمَعْنَى الْحَسَدِ، وَأَنَّهُ ظُلْمٌ فِي نَفْسِ الْأُمَّةِ وَلَيْسَ ظُلْمًا عَلَى عَدُوِّهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ كُلٍّ مِنَ الْمَجْرُورِ وَهُوَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ وَتَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَهُوَ بَغْياً بِقَوْلِهِ: اخْتَلَفَ الَّذِي هُوَ مَحْصُورٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مَحْصُورًا فِي فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَا بِهِ، فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ شَيْئَيْنِ بَعْدَ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَا هُنَا لَيْسَ اسْتِثْنَاءَ أَشْيَاءَ بَلِ اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوهُ، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ هُمَا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وبَغْياً

إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَمُعَانِدِيهِ، وَلَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ قَبْلَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْخِلَافِ، وَلَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ عَنْ مَقْصِدٍ حَسَنٍ بَلْ كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ الْوَاحِدِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ وَبِدَافِعِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ. وَالْآيَةُ تَقْتَضِي تَحْذِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ أَيْ فِي أُصُولِ الْإِسْلَامِ، فَالْخِلَافُ الْحَاصِلُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ اخْتِلَافًا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا إِجْمَاعِيَّةٌ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَحْقِيقَهَا، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَتْ أُصُولُهُمْ فِي الْبَحْثِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، وَاتَّفَقُوا فِي أَكْثَرِ الْفُرُوعِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ الْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدِ الشَّارِعِ، وَقَدِ اسْتَبْرَءُوا لِلدِّينِ فَأَعْلَنُوا جَمِيعًا أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ كَلَّفَ الْمُجْتَهِدِينَ بِإِصَابَتِهِ وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مُخْطِئَهُ أَقَلُّ ثَوَابًا مِنْ مُصِيبِهِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي طَلَبِهِ إِثْمٌ. فَالِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا اخْتِلَافٌ جَلِيلُ الْمِقْدَارِ مُوَسِّعٌ لِلْأَنْظَارِ (¬1) . أَمَّا لَوْ جَاءَ أَتْبَاعُهُمْ فَانْتَصَرُوا لِآرَائِهِمْ مَعَ تَحَقُّقِ ضَعْفِ الْمُدْرِكِ أَوْ خَطَئِهِ لَقَصْدِ تَرْوِيجِ الْمَذْهَبِ وَإِسْقَاطِ رَأْيِ الْغَيْرِ فَذَلِكَ يُشْبِهُ الِاخْتِلَافَ الَّذِي شَنَّعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَذَّرَنَا مِنْهُ فَكُونُوا مِنْ مِثْلِهِ عَلَى حَذَرٍ وَلَا تَكُونُوا كَمَثَلِ قَوْلِ الْمُعَرِّيِّ: فَمُجَادِلٌ وَصَلَ الْجِدَالَ وَقَدْ دَرَى ... أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهِ لَيْسَ كَمَا زَعَمْ عَلِمَ الْفَتَى النَّظَّارُ أَنَّ بَصَائِرًا ... عَمِيَتْ فَكَمْ يخفى الْيَقِين وَكم يُعَمْ وَقَوْلُهُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا هَذَا الْعَطْفُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ عَلَى اخْتَلَفَ فِيهِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ الْقَصْرِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَطْفٌ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى سُرْعَةِ هِدَايَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِعَقِبِ الِاخْتِلَافِ اهـ، يُرِيدُ أَنَّهُ تَعْقِيبٌ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ سُرْعَةَ مِثْلِهِ وَإِلَّا فَهُدَى الْمُسْلِمِينَ وَقَعَ بَعْدَ أَزْمَانٍ مَضَتْ، حَتَّى تَفَاقَمَ اخْتِلَافُ الْيَهُودِ وَاخْتِلَافُ النَّصَارَى، وَفِيهِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْفَاءَ فَصِيحَةٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ التَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الِاخْتِلَافِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ لِهُدَى الْمُسْلِمِينَ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فَكَأَنَّ السَّامِعَ تَرَقَّبَ الْعِلْمَ بِعَاقِبَةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَقِيلَ: دَامَ هَذَا الِاخْتِلَافُ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ، فَقَدْ أَفْصَحَتْ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَة: 60] . ¬

(¬1) قَالَ المُصَنّف عِنْد شرح: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمرَان] : «والمسلمون وَإِن اخْتلفُوا فِي أَشْيَاء كَثِيرَة لم يكن اخْتلَافهمْ إِلَّا اخْتِلَافا علميا فرعيا، وَلم يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافا ينْقض أصُول دينهم، بل غَايَة الْكل الْوُصُول إِلَى الْحق من الدَّين وخدمة مَقَاصِد الشَّرِيعَة. انْظُر أَيْضا شرح [آل عمرَان: 105] و [الشورى: 10] .

وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ لَا مَحَالَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي اخْتَلَفُوا عَائِدٌ لِلْمُخْتَلِفِينَ كُلِّهِمْ، سَوَاءٌ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرَائِعِ بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَلذَلِك بَينه بقوله: مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ اخْتِلَافَ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْحَقِّ إِمَّا عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ حَسَدٍ وَبَغْيٍ. وَالْإِذْنُ: الْخِطَابُ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ أَذِنَ إِذَا أَصْغَى أُذُنَهُ إِلَى كَلَامِ مَنْ يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْخِطَابِ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْإِصْغَاءَ إِلَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ وَإِجَابَةَ مَطْلَبِهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْإِذْنُ أَشْيَعَ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ، وَبِذَلِكَ صَارَ لَفْظُ الْإِذْنِ قَابِلًا لِأَنْ يُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي مَعَانٍ مِنْ مُشَابِهَاتِ الْخِطَابِ بِالْإِبَاحَةِ، فَأُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّمْكِينِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ وَتَيْسِيرِهِ بِمَا فِي الشَّرَائِعِ مِنْ بَيَانِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى وَسَائِلِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ مَنْ يُيَسِّرُ لَكَ شَيْئًا فَكَأَنَّهُ أَبَاحَ لَكَ تَنَاوُلَهُ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ بِالْإِسْلَامِ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، أَوْ لِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتِ الرُّسُلُ لِتَحْصِيلِهِ، فَاخْتَلَفَ أَتْبَاعُهُمْ فِيهِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُحَقِّقُوا بِأَفْهَامِهِمْ مَقَاصِدَ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، فَحَصَلَ بِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وُضُوحُ الْحَقِّ وَالْإِرْشَادُ إِلَى كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ، فَحَصَلَ بِمَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِتْمَامُ مُرَاد الله مِمَّا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَذْيِيلٌ لِبَيَانِ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا إِجْمَالٌ، وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَتَأَخَّرَ تَمَامُ الْهُدَى إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا تَهَيَّأَ الْبَشَرُ بِمَجِيءِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ لِقَبُولِ هَذِه الشَّرِيعَة الجامعة، فَكَانَت الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تَمْهِيدًا وَتَهْيِئَةً لِقَبُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَكَمَا كَانَ الْبَشَرُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى هُدًى بَسِيطٍ ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ الضَّلَالَاتُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الْأَفْكَارِ الْبَشَرِيَّةِ، رَجَعَ الْبَشَرُ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةِ ارْتِقَاءِ الْأَفْكَارِ، وَهَذَا اتِّحَادٌ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ تَشَتُّتِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، و

[سورة البقرة (2) : آية 214]

فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ فَعَمِلُوا لَهُ إِلَى نِصْفَ النَّهَارِ فَقَالُوا لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ فَقَالَ لَهُمْ لَا تَفْعَلُوا أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَك مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوْا، وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ من أَشَاء» . [214] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَاحْتَاجَ إِلَى وَجْهِ مُنَاسَبَةٍ بِهِ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الْبَقَرَة: 213] كَلَامٌ ذُكِرَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ وَذُكِرَ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا لَقُوا مِنْهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمُدْمَجٌ لِتَشْجِيعِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: 120] فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ مُرَادِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 213] وَهُوَ الْمُضْرَبُ عَنْهُ ببل الَّتِي تضمنها أَمْ أَيْ دَعْ ذَلِكَ، أَحَسِبُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اهـ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ بِسُوءِ عَمَلِهِمْ وَالِاقْتِدَاءُ فِي المحامد، فَكَانَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَة إِجْمَال لِذَلِكَ وَقَدْ خُتِمَ بِقَوْلِهِ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخِتَامُ مَنْقَبَةً

لِلْمُسْلِمِينَ أُوقِظُوا أَنْ لَا يُزْهَوْا بِهَذَا الثَّنَاءِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَضَوْا حَقَّ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَعُقِّبَ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا عَسَى أَنْ يَعْتَرِضَهُمْ فِي طَرِيقِ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ اقْتِدَاءً بِصَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، فَكَمَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الضَّالُّونَ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَمِ حَرَّضَهُمْ هُنَا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهُدَى الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ وَعَكْسِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ تَطَاوُلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ وَمَا اشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ لِلْعَامِ الْقَابِلِ، وَيَكُونَ أَيْضًا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَة: 216] الْآيَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالشَّدَائِدِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ زِيَادَةً فِي الْمُنَاسَبَةِ. وأَمْ فِي الْإِضْرَابِ كَبَلْ إِلَّا أَنَّ أَمْ تُؤْذِنُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ هُنَا تَقْرِيرٌ بِذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ إِنْ كَانَ حَاصِلًا أَيْ بَلْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا دُونَ بَلْوَى وَهُوَ حُسْبَانٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ. وَحَسِبَ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْمَاضِي: فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَخَوَاتِ ظَنَّ، وَفِي مُضَارِعِهِ وَجْهَانِ كَسْرُ السِّينِ وَهُوَ أَجْوَدُ وَفَتْحُهَا وَهُوَ أَقْيَسُ وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَمَصْدَرُهُ الْحِسْبَانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسَابِ بِمَعْنَى الْعَدِّ فَاسْتُعْمِلَ فِي الظَّنِّ تَشْبِيهًا لِجَوَلَانِ النَّفْسِ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلْمِ مَا يَقَعُ بِجَوَلَانِ الْيَدِ فِي الْأَشْيَاءِ لِتَعْيِينِ عَدَدِهَا وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ فِعْلُ عَدَّ بِمَعْنَى ظَنَّ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَلَيْسَ فِيهِ الْتِفَات، وَجعل صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْتِفَاتًا بِنَاءً عَلَى تَقَدُّمِ قَوْلِهِ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الْبَقَرَة: 213] وَأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ أَمْ حَسِبُوا أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ الْحَاصِلِ بِأَمْ، صَارَ الْكَلَامُ افْتِتَاحًا مَحْضًا وَبِذَلِكَ يُتَأَكَّدُ اعْتِبَارُ الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، فَالِالْتِفَاتُ هُنَا غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَدُخُولُ الْجَنَّةِ هُنَا دُخُولُهَا بِدُونِ سَبْقِ عَنَاءٍ وَبَلْوَى، وَهُوَ دُخُولُ الَّذِينَ اسْتَوْفَوْا كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَحْسُوبٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ لَمْ تَأْتِهِ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ أَوْ أَتَتْهُ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمَ الضَّجَرِ

مِنْهُ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِك أَن تنالهم الْبَأْسَاءُ فَيَصْبِرُوا وَلَا يَرْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، لِذَلِكَ فَيَكُونُ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتَطَرُّقُ هَاتِهِ الْحَالَةِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الدِّينِ وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَزِيدِ فَضَائِلِ اتِّبَاعِ الرُّسُل، فَلذَلِك هيّء الْمُسْلِمُونَ لِتَلَقِّيهِ مِنْ قَبْلِ وُقُوعِهِ لُطْفًا بِهِمْ لِيَكُونَ حُصُولُهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَحَمَّلُوا مَضَضَ الْغُرْبَةِ، فَلَمَّا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ لَقُوا مِنْ أَذَى الْيَهُودِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَذَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَرَابَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِمَكَّةَ مَا كَدَّرَ عَلَيْهِمْ صَفْوَ حَفَاوَةِ الْأَنْصَارِ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْأَنْصَارَ لَقُوا مِنْ ذَلِكَ شِدَّةَ الْمُضَايَقَةِ فِي دِيَارِهِمْ بَلْ وَفِي أَمْوَالِهِمْ فَقَدْ كَانَ الْأَنْصَارُ يَعْرِضُونَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَتَنَازَلُوا لَهُمْ عَنْ حَظٍّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. ولَمَّا أُخْتُ لَمْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَمْ وَمَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتْ تَوْكِيدَ النَّفْيِ، لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ مِنْ حَرْفَيْ نَفْيٍ، وَمِنْ هَذَا كَانَ النَّفْيُ بِهَا مُشْعِرًا بِأَنَّ السَّامِعَ كَانَ يَتَرَقَّبُ حُصُولَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِهَا فَيَكُونُ النَّفْيُ بِهَا نَفْيًا لِحُصُولِ قَرِيبٍ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ حُصُولَ الْمَنْفِيِّ بِهَا يَكُونُ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَزِفَ (¬1) التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا (¬2) وَكَأَنْ قَدِ فَنَفَى بِلَمَّا ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنْ قَدِ، أَيْ وَكَأَنَّهُ قَدْ زَالَتْ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ أَحَسِبْتُمْ دُخُولَ الْجَنَّةِ فِي حَالَةِ انْتِفَاءِ مَا يُتَرَقَّبُ حُصُولُهُ لَكُمْ مِنْ مَسِّ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ذَلِكَ الدُّخُولَ السَّالِمَ من المحنة إِلَّا إِذَا تَحَمَّلْتُمْ مَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ. وَالْإِتْيَانُ مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ بَعْدَ الْعَدَمِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَتَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَالْمَثَلُ: الْمُشَابِهُ فِي الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: 17] . والَّذِينَ خَلَوْا هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ مَضَوْا وَانْقَرَضُوا وَأَصْلُ خَلَوْا خَلَا مِنْهُمُ الْمَكَانُ فَبُولِغَ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ مَكَانِهِمْ. ¬

(¬1) رِوَايَة «اللِّسَان» (أفد الترحل) . (¬2) فِي «تَاج الْعَرُوس» (برحالها) .

وَ (مِنْ) قَبْلِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بَخَلَوْا لِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ وَقَصْدِ إِظْهَارِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ: اتِّصَالُ الْجِسْمِ بِجِسْمٍ آخَرَ وَهُوَ مَجَازٌ فِي إِصَابَةِ الشَّيْءِ وَحُلُولِهِ، فَمِنْهُ مَسُّ الشَّيْطَانِ أَيْ حُلُولُ ضُرِّ الْجِنَّةِ بِالْعَقْلِ، وَمَسُّ سَقَرٍ: مَا يُصِيبُ مِنْ نَارِهَا، وَمَسَّهُ الْفَقْرُ وَالضُّرُّ: إِذَا حَلَّ بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا [الزمر: 8] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يُونُس: 12] وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الْأَعْرَاف: 73] فَالْمَعْنَى هُنَا: حَلَّتْ بِهِمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْبَقَرَة: 177] . وَقَوْلُهُ: وَزُلْزِلُوا أَيْ أُزْعِجُوا أَوِ اضْطَرَبُوا، وَإِنَّمَا الَّذِي اضْطَرَبَ نِظَامُ مَعِيشَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الْأَحْزَاب: 11] ، وَالزَّلْزَلَةُ تَحَرُّكُ الْجِسْمُ مِنْ مَكَانِهِ بِشِدَّةٍ، وَمِنْهُ زِلْزَالُ الْأَرْضِ، فَوَزْنُ زُلْزِلَ فُعْفِلَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ دَالٌّ على تكَرر الْفِعْل كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُبْكِبُوا فِيها [الشُّعَرَاء: 94] وَقَالُوا لَمْلَمَ بِالْمَكَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِ نُزُولَ إِقَامَةٍ. وحَتَّى غَايَةٌ لِلْمَسِّ وَالزَّلْزَالِ، أَيْ بَلَغَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى غَايَةٍ يَقُولُ عِنْدَهَا الرَّسُولُ وَالَّذِينَ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ مُخْبِرَةً عَنْ مَسٍّ حَلَّ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ وَمُنْذِرَةً بِحُلُولِ مِثْلِهِ بِالْمُخَاطَبِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، جَازَ فِي فِعْلِ يَقُولُ أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلَ رَسُولِ أُمَّةٍ سَابِقَةٍ أَيْ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ رَسُول المزلزلين فأل لِلْعَهْدِ، أَوْ حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَسُولٍ لِأُمَّةٍ سَبَقَتْ فَتَكُونَ الْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَكُونَ الْفِعْلُ مَحْكِيًّا بِهِ تِلْكَ الْحَالَةُ الْعَجِيبَةُ فَيُرْفَعُ بَعْدَ حَتَّى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُرَادَ بِهِ الْحَالُ يَكُونُ مَرْفُوعًا، وَبِرَفْعِ الْفِعْلِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَجَازَ فِيهِ أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلُ رَسُولِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فأل فِيهِ لِلْعَهْدِ وَالْمعْنَى: وزلزلوا وتزلزلون مِثْلَهُمْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مَنْصُوبًا لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمَّا يَقَعْ وَقْتَئِذٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ، فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَنْسَبُ بِظَاهِرِ السِّيَاقِ وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ أَنْسَبُ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَبِكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَحْصُلُ كِلَا الْغَرَضَيْنِ. وَمَتَى اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي اسْتِبْطَاءِ زَمَانِ النَّصْرِ. وَقَوْلُهُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بِقَرِينَةِ افْتِتَاحِهِ بِأَلَا، وَهُوَ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِقُرْبِ النَّصْرِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ قَوَارِعِ صَدْرِ الْآيَةِ مَا مَلَأَ الْقُلُوبَ

[سورة البقرة (2) : آية 215]

رُعْبًا، وَالْقَصْدُ مِنْهُ إِكْرَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهَا لَا يَبْلُغُ مَا يَمَسُّهَا مَبْلَغَ مَا مَسَّ مَنْ قَبْلَهَا، وَإِكْرَامٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى قَوْلِ مَا قَالَتْهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنِ اسْتِبْطَاءِ نَصْرِ اللَّهِ بِأَنْ يَجِيءَ نَصْرُ اللَّهِ لَهَاتِهِ الْأُمَّةِ قَبْلَ اسْتِبْطَائِهِ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى فتح مَكَّة. [215] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 215] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِابْتِدَاءِ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ سَأَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّائِلَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ ذَا مَالٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: بِمَاذَا يَتَصَدَّقُ وَعَلَى مَنْ يُنْفِقُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السَّائِلُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي أَنَّهُ تَكَرَّرَ السُّؤَالُ عَنْ تَفْصِيلِ الْإِنْفَاقِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَطَلَبُوا بَيَانَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِمَّا لِأَنَّ نُزُولَهَا وَقَعَ عَقِبَ نُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِمَّا لِأَمْرٍ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ المفتتحة بجملة يَسْئَلُونَكَ وَهِيَ سِتَّةُ أَحْكَامٍ. ثُمَّ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ فرض الزَّكَاة، فالسؤال حِينَئِذٍ عَن الْإِنْفَاق المتطوع بِهِ وَهِي محكمَة وَقيل نزلت قبل فَرْضِ الزَّكَاةِ فَتَكُونُ بَيَانًا لِمَصَارِفِ الزَّكَاةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الْآيَةَ فِي [سُورَةِ بَرَاءَةَ: 60] ، فَهُوَ بِتَخْصِيصٍ لِإِخْرَاجِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ بَرَاءَةَ. وماذا اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمُنْفِقِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمُنْفِقِ السُّؤَالُ عَنْ أَحْوَالِهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا مَوْقِعَ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْبَشَرِ وَقَدْ عَرَفَهَا السَّائِلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُنْفِقُونَ عَلَى الْأَهْلِ وَعَلَى النَّدَامَى وَيُنْفِقُونَ فِي الْمَيْسِرِ، يَقُولُونَ فُلَانٌ يُتَمِّمُ أَيِسَارَهُ أَيْ يَدْفَعُ عَنْ أَيِسَارِهِ أَقْسَاطَهُمْ مِنْ مَالِ الْمُقَامَرَةِ وَيَتَفَاخَرُونَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ. فَسَأَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عَنِ الْمُعْتَدِّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ إِذْ أُجِيبَ: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَجَاءَ بِبَيَانِ مَصَارِفِ الْإِنْفَاقِ الْحَقِّ وَعُرِفَ هَذَا الْجِنْسُ بِمَعْرِفَةِ أَفْرَادِهِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ارْتِكَابُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا قِيلَ، إِذْ لَا يُعْقَلُ

أَنْ يَسْأَلُوا عَنِ الْمَالِ الْمُنْفَقِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي يُنْفَقُ مِنْ ذَهَبٍ أَمْ مِنْ وَرِقٍ أَمْ مِنْ طَعَامٍ، لِأَنَّ هَذَا لَا تَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ أَغْرَاضُ الْعُقَلَاءِ، إِذْ هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنِ الْإِنْفَاقِ إِيصَالُ النَّفْعِ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّاتِ الْإِنْفَاقِ وَمَوَاقِعِهِ، وَلَا يُرِيبُكُمْ فِي هَذَا أَنَّ السُّؤَالَ هُنَا وَقَعَ بِمَا وَهِيَ يَسْأَلُ بِهَا عَنِ الْجِنْسِ لَا عَنِ الْعَوَارِضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ لِتَقْرِيبِ مَا تَرْجَمُوهُ مِنْ تَقْسِيمَاتٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَأَخَذَ بِهِ السَّكَّاكِيُّ، لِأَنَّهُ يَحْفِلُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَذَلِكَ لَا يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ. وَالْخَيْرُ: الْمَالُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 180] آيَةِ الْوَصِيَّةِ. وَمَا أَنْفَقْتُمْ شَرْطٌ، فَفِعْلُ أَنْفَقْتُمْ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الشَّرْطِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ فَيَنْزِلُ كَالْحَاصِلِ الْمُتَقَرِّرِ. وَاللَّام فِي فَلِلْوالِدَيْنِ لِلْمِلْكِ، بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ أَيْ فالحقيق بِهِ الْوَالِدين أَيْ إِنْ تُنْفِقُوا فَأَنْفِقُوا لِلْوَالِدَيْنِ أَوْ أَعْطُوا لِلْوَالِدَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: 177] الْآيَةَ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَهِيَ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حَقِّ الْمَالِ أَعْنِي الزَّكَاةَ وَلَا هِيَ مِنْ حَقِّ الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذَاتٌ كَالزَّوْجَةِ، بَلْ هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي هِيَ مَنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِكِفَايَةِ الْحَاجَةِ وَلِلتَّوْسِعَةِ وَأَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَقُومَ بِهَا أَشَدُّهُمْ قُرَابَةً بِالْمُعْوِزِينَ مِنْهُمْ، فَمِنْهَا وَاجِبَةٌ كَنَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّكَسُّبِ أَوْ يَنْتَقِلَ حَقُّ الْإِنْفَاقِ إِلَى غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَسَبِ عَادَةِ أَمْثَالِهِمْ، وَفِي تَحْدِيدِ الْقُرْبَى الْمُوجِبَةِ لِلْإِنْفَاقِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَلَيْسَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ بِمَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا حَتَّى نَحْتَاجَ لِلنَّسْخِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ هَاتِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ. وَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ عَنِ الْحَيِّ الْمَارِّ فِي سَفَرِهِ، يُنْفَقُ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ إِذَا امْتَثَلَ أَحَدٌ لِأَمْرِهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَزَائِهِ عَلَيْهِ حَائِلٌ. وَشَمَلَ عُمُومُ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ الْأَفْعَالَ الْوَاجِبَةَ وَالْمُتَطَوَّعَ بِهَا فَيَعُمُّ النَّفَقَات وَغَيرهَا.

[سورة البقرة (2) : آية 216]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقِتَالَ مِنَ الْبَأْسَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ [الْبَقَرَة: 214] فَقَدْ كُلِّفَتْ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا، فَقَدْ كُلِّفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقِتَالِ الْكَنْعَانِيِّينَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلِّفُوا بِالْقِتَالِ مَعَ طَالُوتَ وَهُوَ شَاوَلُ مَعَ دَاوُدَ، وَكُلِّفَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِتَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ مِنَ الْأَرْضِ. وَلَفْظُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ. وَآل فِي (الْقِتَالِ) لِلْجِنْسِ، وَلَا يَكُونُ الْقِتَالُ إِلَّا لِلْأَعْدَاءِ فَهُوَ عَامٌّ عُمُومًا عُرْفِيًّا أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ قِتَالُ عَدُوِّ الدِّينِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْدَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي الدِّينِ وَآذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَالْقِتَالُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الْقِتَالِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: 39] ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ قِتَالِ الْمُبَادِئِينَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كَمَا يَأْتِي، وَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنِ الْهِجْرَةِ، فَالْآيَةُ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ وَالنُّظُمِ الَّتِي حَوَتْهَا كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَة: 178] ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْبَقَرَة: 180] . فَعَلَى الْمُخْتَارِ يَكُونُ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ سَبَقَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ وَلِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ الْآيَةَ، أَوْ إِعَادَةً لِإِنْشَاءِ وُجُوبِ الْقِتَالِ زِيَادَةً فِي تَأْكِيدِهِ، أَوْ إِنْشَاءً أُنُفًا لِوُجُوبِ الْقِتَالِ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا إِذْنٌ فِي الْقِتَالِ وَإِعْدَادٌ لَهُ وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، حَالٌ لَازِمَةٌ وَهِيَ يَجُوزُ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا جُمْلَةً ثَانِيَةً مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ بِهَذَا لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ

تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنِ الْإِخْبَارِ لَازِمَ الْفَائِدَةِ، أَعْنِي كَتَبْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَنَحْنُ عَالِمُونَ أَنَّهُ شَاقٌّ عَلَيْكُمْ، وَرُبَّمَا رُجِحَ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَالْكُرْهُ بِضَمِّ الْكَافِ: الْكَرَاهِيَةُ وَنُفْرَةُ الطَّبْعِ مِنَ الشَّيْءِ وَمِثْلُهُ الْكُرْهُ بِالْفَتْحِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ وَنُفْرَةُ الطَّبْعِ، وَبِالْفَتْحِ هُوَ الْإِكْرَاهُ وَمَا يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْجَبْرِ عَلَى فِعْلٍ مَا بِأَذًى أَوْ مَشَقَّةٍ، وَحَيْثُ قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَاف: 15] وَلَمْ يَكُنْ هُنَا وَلَا هُنَا لَك مَعْنًى لِلْإِكْرَاهِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ وَإِبَايَةِ الطَّبْعِ كَمَا قَالَ الْحَمَاسِيُّ الْعُقَيْلِيُّ: بِكُرْهِ سُرَاتِنَا يَا آلَ عَمْرٍو ... نُغَادِيكُمْ بِمُرْهَفَةِ النِّصَالِ رَوَوْهُ بِضَمِّ الْكَافِ وَبِفَتْحِهَا. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْوَارِدَ مَوْرِدَ التَّذْيِيلِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ لِيَكُونَ جُزْئِيًّا مِنْ جُزْئِيَّاتِ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا. وَقد تحمل صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِحَمْلِ الْمَفْتُوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى الْمَجَازِ، وَقَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ وَالتَّفْتَازَانِيُّ بِمَا فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَإِذْ هُوَ مَصْدَرٌ فَالْإِخْبَارُ بِهِ مُبَالَغَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ أَيْ تُقْبِلٌ وَتُدْبِرُ. وَقِيلَ: الْكُرْهُ اسْمٌ للشَّيْء الْمَكْرُوه كالخبز. فَالْقِتَالُ كَرِيهٌ لِلنُّفُوسِ، لِأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمُقَاتِلِ وَبَيْنَ طُمَأْنِينَتِهِ وَلَذَّاتِهِ وَنَوْمِهِ وَطَعَامِهِ وَأَهْلِهِ وَبَيْتِهِ، وَيُلْجِئُ الْإِنْسَانَ إِلَى عَدَاوَةِ مَنْ كَانَ صَاحِبَهُ وَيُعَرِّضُهُ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ أَوْ أَلَمِ الْجِرَاحِ، وَلَكِنَّ فِيهِ دَفْعَ الْمَذَلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ وَاسْتِضْعَافِهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمْ فَاصْبِرُوا» ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقِتَالَ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا النَّاسُ إِلَّا إِذَا كَانَ تَرْكُهَا يُفْضِي إِلَى ضُرٍّ عَظِيمٍ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ ... وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَرَاهِيَة الطَّبْع الْفِعْل لَا تُنَافِي تَلَقِّيَ التَّكْلِيفِ بِهِ بِرِضًا لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّكْلِيفِ لَا يَخْلُو عَنْ مَشَقَّةٍ. ثُمَّ إِنَّ كَانَتِ الْآيَةُ خَبَرًا عَنْ تَشْرِيعٍ مَضَى، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَهُوَ كُرْهٌ حِكَايَةً لِحَالَةٍ مَضَتْ وَتِلْكَ فِي أَيَّامِ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ إِيجَابُ الْقِتَالِ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنْ يَثْبُتَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِعَشَرَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَائِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ كَرَاهِيَتِهِمُ الْقِتَالَ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةُ بَاقِيَةً إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ كَانُوا كَرِهُوا الصُّلْحَ وَاسْتَحَبُّوا الْقِتَالَ، لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ جَيْشٌ كَثِيرٌ فَيَكُونُ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ حِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الصُّلْحَ فِي وَقْتٍ أَحَبُّوا فِيهِ الْقِتَالَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَالْمَقْصُودُ الْإِفْضَاءُ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِتَطْمَئِنَّ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي كَرِهُوهُ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حِوَارِ عُمَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ، إِذِ الْكَلَامُ عَلَى الْقِتَالِ، فَتَقْدِيرُ السِّيَاقِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَمُنِعْتُمْ مِنْهُ وَهُوَ حُبٌّ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا الْقِتَالَ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوهُ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ إِنْشَاءَ تَشْرِيعٍ فَالْكَرَاهِيَةُ مَوْجُودَةٌ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَا تَكُونُ وَارِدَةً فِي شَأْنِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَوَّلُ الْوَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدِي لِيُنَاسِبَ قَوْله عقبه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَة: 217] . وَقَوْلُهُ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تَذْيِيلٌ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِدَفْعِ الِاسْتِغْرَابِ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكْرُوهًا فَكَانَ شَأْنُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ أَلَّا يَكْتُبَهُ عَلَيْهِمْ فَذَيَّلَ بِهَذَا لِدَفْعِ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ وَعَسى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: حَالِيَّةٌ مِنْ شَيْئاً عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ غَنِيًّا عَنِ الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ يَأْمُرُ فَيُطَاعُ، وَلَكِنْ فِي بَيَان الْحِكْمَة تَخْفِيفًا مِنْ مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ، وَفِيهِ تَعْوِيدُ الْمُسْلِمِينَ بِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ مُعَلَّلَةً مُذَلَّلَةً فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ، وَلَا تَعْتَمِدُ مُلَاءَمَةَ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتَهُ، إِذْ يَكْرَهُ الطَّبْعُ شَيْئًا وَفِيهِ نَفْعُهُ وَقَدْ يُحِبُّ شَيْئًا وَفِيهِ هَلَاكُهُ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ،

فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ لَذِيذًا مُلَائِمًا وَلَكِنَّ ارْتِكَابَهُ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، وَقَدْ يَكُونُ كَرِيهًا مُنَافِرًا وَفِي ارْتِكَابِهِ صَلَاحٌ. وَشَأْنُ جُمْهُورِ النَّاسِ الْغَفْلَةُ عَنِ الْعَاقِبَةِ وَالْغَايَةِ أَوْ جَهْلُهُمَا، فَكَانَتِ الشَّرَائِعُ وَحَمَلَتُهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ تُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ وَالْعَوَاقِبِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَافِعَةٍ مَكْرُوهَةً، وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ضَارَّةٍ مَحْبُوبَةً، وَهَلَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّافِعَ كُلَّهُ مَحْبُوبًا وَالضَّارَّ كُلَّهُ مَكْرُوهًا فَتَنْسَاقُ النُّفُوسُ لِلنَّافِعِ بِاخْتِيَارِهَا وَتَجْتَنِبُ الضَّارَّ كَذَلِكَ فَنُكْفَى كُلْفَةَ مَسْأَلَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ الَّتِي تَنَاظَرَ فِيهَا الْأَشْعَرِيُّ مَعَ شَيْخِهِ الْجِبَائِيِّ وَفَارَقَ الْأَشْعَرِيُّ مِنْ أَجْلِهَا نِحْلَةَ الِاعْتِزَالِ؟. قُلْتُ: إِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى بَنَتْ نِظَامَ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ النَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَحْدَاثِ، وَأَوْكَلَ لِلْإِنْسَانِ سُلْطَةَ هَذَا الْعَالَمِ بِحُكْمِ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ صَالَحًا لِلْأَمْرَيْنِ وَأَرَاهُ طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الْبَقَرَة: 213] ، وَقَدِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ النَّافِعُ أَكْثَرَ مِنَ الضَّارِّ وَلَعَلَّ وُجُودَ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ كَوَّنَهُ اللَّهُ لِتَكُونَ آلَةً لِحَمْلِ نَاسٍ عَلَى اتِّبَاعِ النَّافِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْحَدِيد: 25] ، وَقَدْ أَقَامَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الْمُتَضَادَّاتِ، وَجَعَلَ الْكَمَالَ الْإِنْسَانِيَّ حَاصِلًا عِنْدَ حُصُولِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ النَّافِعَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ إِذَا اخْتَلَّتْ بَعْضُ الصِّفَاتِ النَّافِعَةِ مِنْهُ انْتُقِصَتْ بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ النَّافِعَةِ مِنْهُ أَوِ اضْمَحَلَّتْ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْكَمَالَ أَقَلَّ مِنَ النَّقْصِ لِتَظْهَرَ مَرَاتِبُ النُّفُوسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمَبَالِغُ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ فِيهِ، فَاكْتَسَبَ النَّاسُ وَضَيَّعُوا وَضَرُّوا وَنَفَعُوا فَكَثُرَ الضَّارُّ وَقَلَّ النَّافِعُ بِمَا كَسَبَ النَّاسُ وَفَعَلُوا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [100] . وَكَمَا صَارَتِ الذَّوَاتُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ أَقَلَّ مِنْ ضِدِّهَا صَارَتْ صِفَاتُ الْكَمَالِ عَزِيزَةَ الْمَنَالِ، وَأُحِيطَتْ عِزَّتُهَا وَنَفَاسَتُهَا بِصُعُوبَةِ مَنَالِهَا عَلَى الْبَشَرِ وَبِمَا يَحُفُّ بِهَا مِنَ الْخَطَرِ وَالْمَتَاعِبِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا تَنْسَاقُ لَهَا النُّفُوسُ بِسُهُولَةٍ لَاسْتَوَى فِيهَا النَّاسُ فَلَمْ تَظْهَرْ مَرَاتِبُ الْكَمَالِ وَلَمْ يَقَعِ التَّنَافُسُ بَيْنَ النَّاسِ فِي تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَاقْتِحَامِ الْمَصَاعِبِ لِتَحْصِيلِهَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَلَا فَضْلَ فِيهَا لِلشَّجَاعَةِ وَالنَّدَى ... وَصَبْرِ الْفَتَى لَوْلَا لِقَاءِ شَعُوبِ فَهَذَا سَبَبُ صُعُوبَةِ الْكِمَالَاتِ عَلَى النُّفُوسِ.

[سورة البقرة (2) : آية 217]

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نِظَامَ الْوُجُودِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِتَوَلُّدِ الشَّيْءِ مِنْ بَيْنِ شَيْئَيْنِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِازْدِوَاجِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّوَلُّدَ يَحْصُلُ فِي الذَّوَاتِ بِطَرِيقَةِ التَّوَلُّدِ الْمَعْرُوفَةِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: 3] وَأَمَّا حُصُولُهُ فِي الْمَعَانِي، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِحُصُولِ الصِّفَةِ من بَين معنيي صِفَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ تَتَعَادَلَانِ فِي نَفْسٍ فَيَنْشَأُ عَنْ تَعَادُلِهِمَا صِفَةٌ ثَالِثَةٌ. وَالْفَضَائِلُ جُعِلَتْ مُتَوَلَّدَةً مِنَ النَّقَائِصِ فَالشَّجَاعَةُ مِنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَالْكَرَمُ مِنَ السَّرَفِ وَالشُّحِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَوَلَّدَ مِنْ شَيْئَيْنِ يَكُونُ أَقَلَّ مِمَّا تُوُلِّدَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، إِذْ لَيْسَ كُلَّمَا وُجِدَ الصِّفَتَانِ حَصَلَ مِنْهُمَا تَوَلُّدُ صِفَةٍ ثَالِثَةٍ، بَلْ حَتَّى يَحْصُلَ التَّعَادُلُ وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَ تَيْنَكِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ وَذَلِكَ عَزِيزُ الْحُصُولِ وَلَا شَكَّ أَنْ هَاتِهِ النُّدْرَةَ قَضَتْ بِقِلَّةِ اعْتِيَادِ النُّفُوسِ هَاتِهِ الصِّفَاتِ، فَكَانَتْ صَعْبَةً عَلَيْهَا لِقِلَّةِ اعْتِيَادِهَا إِيَّاهَا. وَوَرَاءَ ذَلِكَ فَاللَّهُ حَدَّدَ لِلنَّاسِ نِظَامًا لِاسْتِعْمَالِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ وَالضَّارَّةِ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَالتَّبِعَةُ فِي صُورَةِ اسْتِعْمَالِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَهَذَا النِّظَامُ كُلُّهُ تَهْيِئَةٌ لِمَرَاتِبِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْعَالَمِ الْأَبَدِيِّ عَالَمِ الْخُلُودِ وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ كَمَا يُقَالُ: «الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ» وَبِهَذَا تَكْمُلُ نَظَرِيَّةُ النَّقْضِ الَّذِي نَقَضَ بِهِ الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى شَيْخِهِ الْجِبَائِيِّ أَصْلَهُمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ فَيَكُونُ بَحْثُ الْأَشْعَرِيِّ نَقْضًا وَكَلَامُنَا هَذَا سَنَدًا وَانْقِلَابًا إِلَى اسْتِدْلَالٍ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْجَمِيعِ، وَمَفْعُولَا يَعْلَمُ وتَعْلَمُونَ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا مَا قَبْلَهُ أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمُ الْعِلْمُ فَيَظُنُّونَ الْمُلَائِمَ نَافِعًا وَالْمُنَافِرَ ضَارًّا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ أَنَّهُ الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ، وَأَنَّ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَنَا صِفَتُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا نُوقِنُ بِأَنَّ فِيهِ صِفَةً مُنَاسِبَةً لِحُكْمِ الشَّرْع فِيهِ فتطلبها بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ عَسَى أَنْ نُدْرِكَهَا، لِنُفَرِّعَ عَلَيْهَا وَنَقِيسَ وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا مَسَائِلُ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُجْرِي أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ. [217] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. مِنْ أَهَمِّ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا إِذَا صَادَفَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ إِذْ كَانَ مَحْجَرًا فِي الْعَرَبِ مِنْ عَهْدٍ

قَدِيمٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِسْلَامُ إِبْطَالَ ذَلِكَ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَصَالِحِ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 97] فَكَانَ الْحَالُ يَبْعَثُ عَلَى السُّؤَالِ عَنِ اسْتِمْرَارِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي نَظَرِ الْإِسْلَامِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مُرْسَلًا وَمُطَوَّلًا، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ فِي ثَمَانِيَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنِ الْهِجْرَةِ، فَلَقِيَ الْمُسْلِمُونَ الْعِيرَ فِيهَا تِجَارَةٌ مَنِ الطَّائِفِ وَعَلَى الْعِيرِ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَمْرًا وَأَسَرَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ وَفَرَّ مِنْهُمْ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً، وَذَلِكَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ وَهُمْ يَظُنُّونَهُ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَقَالُوا: اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَشَنَّعُوا ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِمُ الْغَنِيمَةَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَقِيلَ: رَدَّ الْأَسِيرَيْنِ وَأَخَذَ الْغَنِيمَةَ. فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] وَآيَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: 190] بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَتَانِ بَعْدَ هَذِهِ، كَانَ وَضْعُهُمَا فِي التِّلَاوَةِ قَبْلَهَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ لِتَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ إِكْمَالًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ الْأُخْرَيَانِ، وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ بِاعْتِبَارِ النُّزُولِ وَالتِّلَاوَةِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَنَّهَا تَكْمِلَةٌ وَتَأْكِيدٌ لِآيَةِ الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 194] . وَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ سُؤَالُ الْمُشْركين النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، هَلْ يُقَاتَلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ هُنَا وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَخْ وَقِيلَ: سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قِتَالِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَرَدَّتْ عَلَى سُؤَالِ النَّاسِ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا عَقِبَ آيَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَة: 216] ظَاهِرَةٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الشَّهْرِ الْحَرَامِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ أُحْسِنَ إِبْدَالُ النَّكِرَةِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ:

قِتالٍ فِيهِ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ فَيَجُوزُ فِيهِ إِبْدَالُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْبَعْضِ عَلَى أَنَّ وَصْفَ النَّكِرَةِ هُنَا بِقَوْلِهِ (فِيهِ) يَجْعَلُهَا فِي قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ. فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَيِّ قِتَالٍ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ إِنْكَارِيًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَوْنُ الْمُرَادِ جِنْسَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ اسْتِفْسَارًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَلَيْهَا السُّؤَالُ وَقَعَتْ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ السُّؤَالِ بِذَلِكَ الشَّهْرِ، إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ السَّائِلِ بَلِ الْمَقْصُودُ السُّؤَالُ عَنْ دَوَامِ هَذَا الْحُكْمِ الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِشَهْرٍ دُونَ شَهْرٍ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَ طَرِيقُ الْإِبْدَالِ هُنَا- وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ- لِأَجَلِ الِاهْتِمَامِ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لِأَجْلِ الشَّهْرِ أَيَقَعُ فِيهِ قِتَالٌ؟ لَا لِأَجْلِ الْقِتَالِ هَلْ يَقَعُ فِي الشَّهْرِ وَهُمَا مُتَآيِلَانِ، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ لِقَضَاءِ حَقِّ الِاهْتِمَامِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لِإِبْدَالِ عَطْفِ الْبَيَانِ تَنْفَعُ فِي مَوَاقِعَ كَثِيرَةٍ، عَلَى أَنَّ فِي طَرِيقِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ تَشْوِيقًا بِارْتِكَابِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. وَتَنْكِيرُ (قِتَالٍ) مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ، إِذْ لَيْسَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ قِتَالًا مُعَيَّنًا وَلَا فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ الْمُرَادُ هَذَا الْجِنْسُ فِي هَذَا الْجِنْسِ. وَ (فِيهِ) ظَرْفُ صِفَةٍ لِقِتَالٍ مُخَصَّصَةٍ لَهُ. وَقَوْلُهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ إِظْهَارُ لَفْظِ الْقِتَالِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَكُونَ الْجَوَابُ صَرِيحًا حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ هُوَ الْكَبِيرُ، وَلِيَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى طَبَقِ السُّؤَالِ فِي اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْ لَفْظَ الْقِتَالِ ثَانِيًا بِاللَّامِ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ تَعْرِيفِهِ بِاتِّحَادِ الْوَصْفَيْنِ فِي لَفْظِ السُّؤَالِ وَلَفْظِ الْجَوَابِ وَهُوَ ظَرْفُ (فِيهِ) ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَعْرِيفِ النَّكِرَةِ بِاللَّامِ إِذَا أُعِيدَ ذِكْرُهَا إِلَّا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تِلْكَ الْأُولَى لَا غَيْرُهَا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْوَصْفِ الْمُتَّحِدِ، قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: فالمسؤول عَنْهُ هُوَ الْمُجَابُ عَنْهُ وَلَيْسَ غَيْرُهُ كَمَا تُوُهِّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِضَرْبَةِ لَازِمٍ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ يَتْبَعُ الْقَرَائِنَ. وَالْجَوَابُ تَشْرِيعٌ إِنْ كَانَ السُّؤَالُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتِرَافٌ وَإِبْكَاتٌ إِنْ كَانَ السُّؤَالُ إِنْكَارًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ تَوَقَّعُوا أَنْ يُجِيبَهُمْ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فَيُثَوِّرُوا بِذَلِكَ الْعَرَبَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.

وَالْكَبِيرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ عَظِيمُ الْجُثَّةِ مِنْ نَوْعِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْقَوِيِّ وَالْكَثِيرِ وَالْمُسِنِّ وَالْفَاحِشِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، شَبَّهَ الْقَوِيَّ فِي نَوْعِهِ بِعَظِيمِ الْجُثَّةِ فِي الْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ مَأْلُوفٌ فِي أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَظِيمِ فِي الْمَآثِمِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، مِثْلَ تَسْمِيَةِ الذَّنْبِ كَبِيرَةً، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ» الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، فَالنَّكِرَةُ هُنَا لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، إِذْ لَا خُصُوصِيَّةَ لِقِتَالِ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَلَا لِقَتْلٍ فِي شَهْرٍ دُونَ غَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَمُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ قَدْ أَكَّدَتِ الْعُمُومَ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ أَجْدَرَ أَفْرَادِ الْقِتَالِ بِأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا هُوَ قِتَالُنَا الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّحَرُّجُ مِنْهُ، أَمَّا تَقَاتُلُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَخْتَصُّ إِثْمُهُ بِوُقُوعِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا قِتَالُ الْأُمَمِ الْآخَرِينَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ حِينَئِذٍ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَتَقْرِيرٌ لِمَا لِتِلْكَ الْأَشْهَرِ مِنَ الْحُرْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ، لَعَلَّهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ حُرْمَةَ الزَّمَانِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْإِثْمِ فِي مُدَّتِهِ. وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ زَمَنٌ لِلْحَجِّ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَخَوَاتِمِهِ وَلِلْعُمْرَةِ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَحْرُمِ الْقِتَالُ فِي خِلَالِهَا لِتَعَطَّلَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ أَيَّامَ كَانَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَائِدَةِ الْحَجِّ، قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 97] الْآيَةَ. وَتَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ، فَأَمَّا تَخْصِيصُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: 191، 194] . وَأَمَّا نَسْخُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلَى قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: 1، 5] فَإِنَّهَا صَرَّحَتْ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْهُدْنَةِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْوَاقِعُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا مُؤَقَّتًا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِالْأَبَدِ، وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ

كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ [التَّوْبَة: 13] . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَّلَهُمْ أَجَلًا وَهُوَ انْقِضَاءُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَهُوَ تِسْعَةٍ مِنِ الْهِجْرَةِ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ وَقَدْ خرج الْمُشْركُونَ لِلْحَجِّ فَقَالَ لَهُمْ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَخَّرَهَا آخِرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ عَامِ عَشَرَةٍ مِنِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَيْ تِلْكَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فَنَسَخَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَلِكَ قَاتَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ. وَأَغْزَى أَبَا عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْغَزْوِ فِي جَمِيعِ أَشْهُرِ السَّنَةِ يَغْزُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَوْلَى بِالْحُرْمَةِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا نُسِخَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» فَإِنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ. قُلْتُ: إِنْ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِيهَا تَبَعٌ لِتَعْظِيمِهَا وَحُرْمَتِهَا وَتَنْزِيهِهَا عَنْ وُقُوعِ الْجَرَائِمِ وَالْمَظَالِمِ فِيهَا فَالْجَرِيمَةُ فِيهَا تُعَدُّ أَعْظَمَ مِنْهَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا. وَالْقِتَالُ الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْقِتَالُ لِأَجْلِ الْحَقِّ عِبَادَةٌ فَنُسِخَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا لِذَلِكَ وَبَقِيَتْ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْجَرَائِمِ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ قَرَّرَتْ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِحِكْمَةِ تَأْمِينِ سُبُلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِذِ الْعُمْرَةُ أَكْثَرُهَا فِي رَجَبٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَبْطَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عَامِ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ إِذْ قَدْ صَارَتْ مَكَّةُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قُرَيْشٌ وَمُعْظَمُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْبَقِيَّةُ مُنِعُوا مِنْ زِيَارَةِ مَكَّةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَقْتَضِي إِبْطَالَ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ فِيهَا لِأَجْلِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَبْقَ الْحَجُّ إِلَّا لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا قِتَالَ بَيْنَهُمْ، إِذْ قِتَالُ الظُّلْمِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَقِتَالُ الْحَقِّ يَقَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا لَمْ يَشْغَلْ عَنْهُ شَاغِلٌ مِثْلُ الْحَجِّ، فَتَسْمِيَتُهُ

نَسْخًا تَسَامُحٌ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِهَاءُ مَوْرِدِ الْحُكْمِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْأَسْمَاءِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي خُطْبَتِهِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ حِينَئِذٍ الْعَمَلُ بِحُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ يَقْصِدُ الْحَجَّ. فَمَعْنَى نَسْخِ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ قَدِ انْقَضَتْ كَمَا انْتَهَى مَصْرِفُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ بِالْإِجْمَاعِ لِانْقِرَاضِهِمْ. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. إِنْحَاءٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِظْهَارٌ لِظُلْمِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَكَّتَهُمْ بِتَقْرِيرِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ فِيهِ كَانَ عَنْ خَطَأٍ فِي الشَّهْرِ أَوْ ظَنِّ سُقُوطِ الْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَعْظَمُوا فِعْلًا وَاسْتَنْكَرُوهُ وَهُمْ يَأْتُونَ مَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْهُ، ذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ لِذَاتِ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا حُرْمَتُهُ تَحْصُلُ بِجَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ ذَا حُرْمَةٍ، فَحُرْمَتُهُ تَبَعٌ لِحَوَادِثَ تَحْصُلُ فِيهِ، وَحُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِمُرَاعَاةِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهِمَا وَلَوَاحِقِهِمَا فِيهَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ استعظموا حُصُول الْقَتْل فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاسْتَبَاحُوا حُرُمَاتٍ ذَاتِيَّةً بِصَدِّ الْمُسْلِمِينَ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْكَعْبَةَ حَرَامًا وَحَرَّمَ لِأَجْلِ حَجِّهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَأَخْرَجُوا أَهْلَ الْحَرَمِ مِنْهُ، وَآذَوْهُمْ، لَأَحْرِيَاءُ بِالتَّحْمِيقِ وَالْمَذَمَّةِ، لِأَنَّ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ لِذَاتِهَا لَا تَبَعًا لِغَيْرِهَا. وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءَ يَسْأَلُهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ هَلْ يُنَجِّسُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «عَجَبًا لَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ تَسْتَحِلُّونَ دَمَ الْحُسَيْنِ وَتَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ» . وَيَحِقُّ التَّمَثُّلُ هُنَا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: أَتَغْضَبُ إِنْ أُذُنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا ... جَهَارًا وَلَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِِِ

وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّدَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ أَكْبَرُ إِثْمًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ إِثْمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ عِنْدِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ عِنْدِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَالتَّفْضِيلُ فِي قَوْلِهِ: أَكْبَرُ: تَفْضِيل فِي الْإِثْمِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ أَعْظَمُ إِثْمًا. وَالْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ مِنْهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ [الْأَعْرَاف: 86] . وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ: الْإِشْرَاكُ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَكْثَرُ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ إِنْكَارُ وَجُودِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّهْرِيِّينَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنِ الْكُفْرِ وَضَابِطِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَة: 6] إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: بِهِ الْبَاءُ فِيهِ لِتَعْدِيَةِ كُفْرٌ وَلَيْسَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. وكُفْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى صَدٌّ أَيْ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِاللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ الْقِتَالُ كَبِيرًا. وَ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مَعْطُوفٌ عَلَى (سَبِيلِ اللَّهِ) فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ (صَدَّ) تَبَعًا لِتَعَلُّقِ متبوعه بِهِ. وَعلم أَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ تَرْتِيبِ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى هَذَا النَّظْمِ إِلَى الصُّورَةِ الَّتِي جَاءَتِ الْآيَةُ عَلَيْهَا، بِأَنْ قُدِّمَ قَوْلُهُ (وَكُفْرٌ بِهِ) فَجُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى (صَدٍّ) قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ صَدٌّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ وَهُوَ (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى (سَبِيلِ اللَّهِ) الْمُتَعَلِّقِ بِ (صَدٌّ) إِذِ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ مُتَعَلِّقٌ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الِاسْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِهِ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ فَهُوَ مِنْ صِلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالدَّاعِي إِلَى هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَكُونَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبٍ أَدَقَّ مِنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِاهْتِمَامُ بِتَقْدِيمِ مَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْ جَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ أَفْظَعُ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَانَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، فَإِنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ يَجْمَعُ مَظَالِمَ كَثِيرَةً لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى النَّاسِ فِي مَا يَخْتَارُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَجَحْدٌ لِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ انْتِصَارُهُمْ لِأَصْنَامِهِمْ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً

إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] فَلَيْسَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ إِلَّا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ لِيُفَادَ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ بَعْدَ أَنْ دَلَّ عَلَيْهِ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، ثُمَّ عَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ إِخْرَاجَ أَهْلِهِ مِنْهُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْكُفْرَ يَتَعَدَّى إِلَى مَا يُعْبَدُ وَمَا هُوَ دِينٌ وَمَا يَتَضَمَّنُ دِينًا، عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُتَكَلَّفَ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَقَوْلُهُ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَيْ إِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ فِي إِخْرَاجِهِمْ مَظَالِمَ كَثِيرَةً فَقَدْ مَرِضَ الْمُهَاجِرُونَ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ مَنْ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى حَتَّى رُفِعَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِوُقُوعِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَإِنَّ لَهُ حُكْمًا يَخُصُّهُ. وَالْأَهْلُ: الْفَرِيقُ الَّذِينَ لَهُمْ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ اللَّفْظُ، فَمِنْهُ أَهْلُ الرَّجُلِ عَشِيرَتُهُ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ الْمُسْتَوْطِنُونَ بِهِ، وَأَهْلُ الْكَرَمِ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ، أَرَادَ بِهِ هُنَا الْمُسْتَوْطِنِينَ بِمَكَّةَ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّةَ مَنْ بَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: 34] وَقَوْلُهُ: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ، لِقَوْلِهِ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وَإِذْ قَدْ كَانَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْلِ كَانَ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الدِّينِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرَ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، لِأَنَّ تِلْكَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ جَرِيمَةِ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ. وَالْفِتْنَةُ: التَّشْغِيبُ وَالْإِيقَاعُ فِي الْحِيرَةِ وَاضْطِرَابُ الْعَيْشِ فَهِيَ اسْمٌ شَامِلٌ لِمَا يُعَظِّمُ مِنَ الْأَذَى الدَّاخِلِ عَلَى أَحَدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ بِالتَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ عِبَادَتِهِمْ، وَقَطِيعَتِهِمْ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالسُّخْرِيَةِ بِهِمْ وَالضَّرْبِ الْمُدْمِي وَالتَّمَالُؤِ عَلَى قَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ مَكَّةَ وَمَنْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَجْمُوعَ ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدًا مِنْ رِجَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ عَمْرٌو الْحَضْرَمِيُّ وَأَسْرِهِمْ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ.

وَ (أَكْبَرُ) أَيْ أَشَدُّ كِبَرًا أَيْ قُوَّةً فِي الْمَحَارِمِ، أَيْ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعَا إِلَى الِاعْتِرَاضِ بِهَا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صُدُورِ الْفِتْنَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ الْفِتْنَةُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ الَّتِي تَدَاوَلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ. إِذِ الْقِتَالُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الْأَذَى وَلَيْسَ الْقَتْلُ إِلَّا بَعْضَ أَحْوَالِ الْقِتَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: 39] فَسَمَّى فِعْلَ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُقَاتَلَةً وَسَمَّى الْمُسْلِمِينَ مُقَاتَلِينَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُضْمِرُونَ غَزْوَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسْتَعِدُّونَ لَهُ وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاسُونَ آثَارَ سِنِي جَدْبٍ فَقَوْلُهُ لَا يَزالُونَ وَإِنْ أَشْعَرَ أَنَّ قِتَالَهُمْ مَوْجُودٌ فَالْمُرَادُ بِهِ أَسْبَابُ الْقِتَالِ، وَهُوَ الْأَذَى وَإِضْمَارُ الْقِتَالِ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ إِنْ شَرَعُوا فِيهِ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ صَرِيحَ لَا يَزَالُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا يَدُومُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَ (حَتَّى) لِلْغَايَةِ وَهِيَ هُنَا غَايَةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِتْنَتَهُمْ وَقِتَالَهُمْ يَدُومُ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ غَرَضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ. وَقَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطاعُوا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، فَمَوْقِعُ هَذَا الشَّرْطِ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ مِمَّا قَدْ تُوهِمُهُ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَلِهَذَا جَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) الْمُشْعِرِ بِأَنَّ شَرْطَهُ مَرْجُوٌّ عَدَمُ وُقُوعِهِ. وَالرَّدُّ: الصَّرْفُ عَنْ شَيْءٍ وَالْإِرْجَاعُ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِإِلَى وَعَنْ، وَقَدْ حُذِفَ هُنَا أَحَدُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِوَاسِطَةِ إِلَى لِظُهُورِ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ دِينٍ إِذَا اعْتَقَدُوا صِحَّةَ دِينِهِمْ حَرَصُوا عَلَى إِدْخَالِ النَّاسِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: 120] ، وَقَالَ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا [النِّسَاء: 89] . وَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِإِنَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ فِي آحَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدُ الْحُصُولِ لِقُوَّةِ إِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ رَدَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنَاءً بَاطِلًا.

وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها. اعْتِرَاضٌ ثَانٍ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حِرْصَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَقَّبَهُ بِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَعْقَبَهُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَجِيءَ بِصِيغَةِ يَرْتَدِدْ وَهِيَ صِيغَةُ مُطَاوَعَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رُجُوعَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِنْ قُدِّرَ حُصُولُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُحَاوَلَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ رُجُوعُهُ عَنْهُ وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إِلَّا بِعَنَاءٍ، وَلَمْ يُلَاحَظِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُنَا إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِالدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا نِيطَ الْحُكْمُ بِالِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ دِينٍ وَمِنْ يَوْمِئِذٍ صَارَ اسْمُ الرِّدَّةِ لَقَبًا شَرْعِيًّا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْخُرُوجِ رُجُوعٌ إِلَى دِينٍ كَانَ عَلَيْهِ هَذَا الْخَارِجُ. وَقَوْلُهُ (فَيَمُتْ) مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَهُوَ كَشَرْطٍ ثَانٍ. وَفِعْلُ حَبِطَ مِنْ بَابِ سَمِعَ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ أَصْلُهُ مِنَ الْحَبَطِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ انْتِفَاخٌ فِي بُطُونِ الْإِبِلِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ فَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ تَمْثِيلٌ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَأْكُلُ الْخَضِرَ شَهْوَةً لِلشِّبَعِ فَيَئُولُ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، فَشَبَّهَ حَالَ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِنَفْعِهَا فِي الْآخِرَةِ فَلَمْ يَجِدْ لَهَا أَثَرًا بِالْمَاشِيَةِ الَّتِي أَكَلَتْ حَتَّى أَصَابَهَا الْحَبَطُ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُقَيَّدِ الْأَعْمَالُ بِالصَّالِحَاتِ لِظُهُورِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ. وَحَبَطُ الْأَعْمَالِ: زَوَالِ آثَارِهَا الْمَجْعُولَةِ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا شَرْعًا، فَيَشْمَلُ آثَارَهَا فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ سِرُّ قَوْلِهِ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. فَالْآثَارُ الَّتِي فِي الدُّنْيَا هِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ وَأَوَّلُهَا آثَارُ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ مِنْ حُرْمَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَآثَارُ الْعِبَادَاتِ وَفَضَائِلُ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَوَلَاءُ الْإِسْلَامِ وَآثَارُ الْحُقُوقِ مثل حق الْمُسلمين فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالْعَطَاءِ وَحُقُوقِ التَّوَارُثِ وَالتَّزْوِيجِ فَالْوِلَايَاتِ وَالْعَدَالَةِ وَمَا ضَمِنَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] .

وَأَمَّا الْآثَارُ فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَرْجُونَ ثَوَابَهَا بِقَرِينَةِ أَصْلِ الْمَادَّةِ وَمَقَامِ التَّحْذِيرِ لِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَتِ الْأَعْمَالُ الْمَذْمُومَةُ لَصَارَ الْكَلَامُ تَحْرِيضًا، وَمَا ذُكِرَتِ الْأَعْمَالُ فِي الْقُرْآنِ مَعَ حَبِطَتْ إِلَّا غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِالصَّالِحَاتِ اكْتِفَاءً بِالْقَرِينَةِ. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ، إِذِ الْأُمُورُ بِخَوَاتِمِهَا، فَقَدَ تَرَتَّبَ عَلَى الْكُفْرِ أَمْرَانِ: بُطْلَانُ فَضْلِ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ، وَالْعُقُوبَةُ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلِكَوْنِ الْخُلُودِ عُقُوبَةً أُخْرَى أُعِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا ذُكِرَ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. هَذَا وَقَدْ رَتَّبَ حَبَطَ الْأَعْمَالِ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ الِارْتِدَادِ وَالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الِارْتِدَادَ بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْمَائِدَة: 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: 65] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: 88] . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرْتَدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِذَا تَابَ مِنْ رِدَّتِهِ وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَابَ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ أَعْمَالُهُ الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ الِارْتِدَادِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نُذُورٌ أَوْ أَيْمَانٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ اسْتَأْنَفَ الْحَجَّ وَلَا يُؤْخَذُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ زَمَنَ الِارْتِدَادِ إلّا مَا لَو فَعَلَهُ فِي الْكُفْرِ أُخِذَ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِذَا عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ عَادَتْ إِلَيْهِ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا حُجَّةُ مَالِكٍ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الموافاة (¬1) شرطا هَاهُنَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْخُلُودَ فِي النَّارِ عَلَيْهَا فَمَنْ أَوْفَى عَلَى الْكُفْرِ خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَشْرَكَ ¬

(¬1) الموافاة لقب عِنْد قدماء الْمُتَكَلِّمين أول من عبر بِهِ الشَّيْخ الْأَشْعَرِيّ وَمَعْنَاهَا الْحَالة الَّتِي يخْتم بهَا عمر الْإِنْسَان من إِيمَان أَو كفر، فالكافر عِنْد الْأَشْعَرِيّ من علم الله أَنه يَمُوت كَافِرًا وَالْمُؤمن بِالْعَكْسِ وَهِي مَأْخُوذَة من إِطْلَاق الموافاة على الْقدوم إِلَى الله تَعَالَى أَي رُجُوع روحه إِلَى عَالم الْأَرْوَاح.

حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ اهـ يُرِيدُ أَنَّ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ وَالْجَوَابَيْنِ هُنَا تَوْزِيعًا فَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، وَلَعَلَّ فِي إِعَادَةِ وَأُولئِكَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ جَوَابٌ ثَانٍ، وَفِي إِطْلَاقِ الْآيِ الْأُخْرَى عَنِ التَّقْيِيدِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْقَيْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِلْغَاءٌ لِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَعَلَّ نَظَرَ مَالِكٍ فِي إِلْغَاءِ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ تَرْجِعُ إِلَى أُصُولِ الدِّينِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَغَالِبُ أَدِلَّةِ الْفُرُوعِ ظَنِّيَّةٌ، فَأَمَّا فِي أُصُولِ الِاعْتِقَادِ فَأُخِذَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ صَرِيحُ حُكْمِهَا، وَلِلنَّظَرِ فِي هَذَا مَجَالٌ، لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ رَاجِعٌ إِلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ كَالْحَجِّ. وَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ إِعْمَالُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ وَصَوَّبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَرِّرُهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «أَسَلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَمْتَ عَلَيْهِ مَنْ خَيْرٍ» ، فَهَلْ يَكُونُ الْمُرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ أَقَلَّ حَالًا مَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَةَ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ حَالَةُ خُلُوٍّ عَنِ الشَّرِيعَةِ فَكَانَ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ تَقْرِيرُهَا. وَقَدْ بُنِيَ عَلَى هَذَا خِلَافٌ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الصُّحْبَةِ لِلَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ مِثْلَ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْعَامِرِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَعَمْرو بن معديكرب، وَفِي «شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَلَى أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ» : وَفِي دُخُولِ مَنْ لَقِيَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ فِي الصَّحَابَةِ نَظَرٌ كَبِيرٌ اهـ قَالَ حُلولو فِي «شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ» وَلَوِ ارْتَدَّ الصَّحَابِيُّ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الرِّدَّةِ، هَلْ تُحْبِطُ الْعَمَلَ بِنَفْسِ وُقُوعِهَا أَوْ إِنَّمَا تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الْوَفَاةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ صُحْبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، أَمَّا قَبُولُ رِوَايَتِهِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَفِيهَا نَظَرٌ،

أَمَّا مَنِ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِ وَصَحِبَهُ فَفَضْلُ الصُّحْبَةِ حَاصِلٌ لَهُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا السِّرُّ فِي اقْتِرَانِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ خُلُوِّ بَقِيَّةِ نَظَائِرِهَا عَنْ ثَانِي الشَّرْطَيْنِ، قُلْتُ: تِلْكَ الْآيُ الْأُخَرُ جَاءَتْ لِتَهْوِيلِ أَمْرِ الشِّرْكِ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَا فِي آيَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ [الْمَائِدَة: 5] أَوْ وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنْهُ كَمَا فِي آيَةِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: 88] وَآيَةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنِ الشِّرْكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ حَبَطِ الْأَعْمَالِ، وَمِنَ الْخَسَارَةِ بِإِجْمَالٍ، أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ وَرَدَتْ عَقِبَ ذِكْرِ مُحَاوَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَالَجَتِهِمُ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ، فَكَانَ فَرْضُ وُقُوعِ الشِّرْكِ وَالِارْتِدَادِ مِنْهُمْ أَقْرَبَ، لِمُحَاوَلَةِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَذُكِرَ فِيهَا زِيَادَةَ تَهْوِيلٍ وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ دَلَائِل النُّبُوَّة، إِذا وَقَعَ فِي عَامِ الرِّدَّةِ، أَنَّ مَنْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِمْ أَثَرُ الشِّرْكِ حَاوَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الِارْتِدَادَ وَقَاتَلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَارْتَدَّ فَرِيقٌ عَظِيمٌ وَقَامَ لَهَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعَزْمِهِ وَيَقِينِهِ فَقَاتَلَهُمْ فَرَجَعَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ حَيًّا، فَلَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَأَيِسُوا مِنْ فَائِدَةِ الرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ فَائِدَةُ عَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَقَدْ أَشَارَ الْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: فَيَمُتْ بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ يَعْقُبُ الِارْتِدَادَ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُعْظَمَ الْمُرْتَدِّينَ لَا تَحْضُرُ آجَالُهُمْ عَقِبَ الِارْتِدَادِ فَيَعْلَمُ السَّامِعُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعَاقَبُ بِالْمَوْتِ عُقُوبَةً شَرْعِيَّةً، فَتَكُونُ الْآيَةُ بِهَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُسْجَنُ لِذَلِكَ فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كَافِرًا وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، وَلَمْ يَرَ قَتْلَ الْمُرْتَدَّةِ بَلْ قَالَ تُسْتَرَقُّ، وَقَالَ أَصْحَابُهُ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَمُعَاذُ بن جبل وطاووس وَعُبَيْدُ الله بن عَمْرو وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجشون وَالشَّافِعِيّ يقتل الْمُرْتَدِّ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَقِيلَ يُسْتَتَابُ شَهْرًا. وَحُجَّةُ الْجَمِيعِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ فقد قَاتل أبوبكر الْمُرْتَدِّينَ وَأَحْرَقَ عَلِيٌّ السَّبَائِيَّةَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أُلُوهِيَّةَ عَلِيٍّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ (مَنْ)

شَامِلَةٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْقَائِلُونَ لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ وَاحْتَجُّوا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ فَخَصُّوا بِهِ عُمُومَ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ» ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ عَجِيبٌ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ وَارِدٌ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ شَأْنِهَا أَلَّا تُقَاتِلَ، فَإِنَّهُ نَهَى أَيْضًا عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ أَفَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَا يُقْتَلُ؟ وَقَدْ شَدَّدَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُرْتَدِّ بِالزَّنْدَقَةِ أَيْ إِظْهَار الْإِسْلَام وَإِبْطَال الْكُفْرِ فَقَالَا: يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ تَائِبًا. وَمَنْ سَبَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّدَّةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخُرُوجُ مِنَ الْعَقِيدَةِ وَتَرْكُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى خُرُوجِ الْمُسْلِمِ مِنِ الْإِسْلَامِ تَصْرِيحُهُ بِهِ بِإِقْرَارِهِ نَصًّا أَوْ ضِمْنًا فَالنَّصُّ ظَاهِرٌ، وَالضِّمْنُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ بِلَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ نَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ مِثْلَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَالتَّرَدُّدِ إِلَى الْكَنَائِسِ بِحَالَةِ أَصْحَابِ دِينِهَا. وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ إِنْكَارَ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ، أَيْ مَا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيًّا قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي «الْفَائِقِ» «فِي التَّكْفِيرِ بِإِنْكَارِ الْمَعْلُومِ ضَرُورَةً خِلَافٌ» . وَفِي ضَبْطِ حَقِيقَتِهِ أَنْظَارٌ لِلْفُقَهَاءِ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ. وَحِكْمَةُ تَشْرِيعِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ- مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ بِالْأَصَالَةِ لَا يُقْتَلُ- أَنَّ الِارْتِدَادَ خُرُوجُ فَرْدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَهُوَ بِخُرُوجِهِ مِنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ لَمَّا خَالَطَ هَذَا الدِّينَ وَجَدَهُ غَيْرَ صَالِحٍ وَوَجَدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلَحَ فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالدِّينِ وَاسْتِخْفَافٌ بِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا تَمْهِيدُ طَرِيقٍ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْسَلَّ مِنْ هَذَا الدِّينِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْحِلَالِ الْجَامِعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ لِذَلِكَ زَاجِرٌ مَا انْزَجَرَ النَّاسُ وَلَا نَجِدُ شَيْئًا زَاجِرًا مِثْلَ تَوَقُّعِ الْمَوْتِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْمَوْتُ هُوَ الْعُقُوبَةَ لِلْمُرْتَدِّ حَتَّى لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَحَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة البقرة (2) : آية 218]

لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [الْبَقَرَة: 256] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هُوَ إِكْرَاهُ النَّاسِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَدْيَانِهِمْ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْإِسْلَام. [218] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) قَالَ الْفَخْرُ: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهُ أَجْرًا أَوْ ثَوَابًا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا وَمُهَاجِرًا وَكَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ مُجَاهِدًا (يَعْنِي فَتَحَقَّقَتْ فِيهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ) . الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْجِهَادَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَة: 216] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذكر من يَقُول بِهِ اهـ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ تَعْقِيبَ مَا قَبْلَهَا بِهَا مِنْ بَابِ تَعْقِيبِ الْإِنْذَارِ بِالْبِشَارَةِ وَتَنْزِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنِ احْتِمَالِ ارْتِدَادِهِمْ فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَاتِ التَّشْرِيعِ. وَ (الَّذِينَ هَاجَرُوا) هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَجْرِ وَهُوَ الْفِرَاقُ، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ مِنْهُ وَزْنُ الْمُفَاعَلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ هَجْرٌ نَشَأَ عَنْ عَدَاوَةٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَكُلٌّ مِنَ الْمُنْتَقِلِ وَالْمُنْتَقَلِ عَنْهُ قَدْ هَجَرَ الْآخَرَ وَطَلَبَ بُعْدَهُ، أَوِ الْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ: عَافَاكَ اللَّهُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هَجَرَ قَوْمًا هَجْرًا شَدِيدًا، قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ: إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجَرَةً ... بِكُوفَةَ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ وَالْمُجَاهَدَةُ مُفَاعَلَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجُهْدِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَهِيَ الْقِتَالُ لِمَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ الْجُهْدِ كَالْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَضُمُّ جُهْدَهُ إِلَى جُهْدٍ آخَرَ فِي نَصْرِ الدِّينِ مِثْلَ الْمُسَاعَدَةِ وَهِيَ ضَمُّ الرَّجُلِ سَاعِدَهُ إِلَى سَاعِدِ آخَرَ لِلْإِعَانَةِ وَالْقُوَّةِ، فَالْمُفَاعَلَةُ بِمَعْنَى الضَّمِّ وَالتَّكْرِيرِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي قِتَالِ مَنْ يَبْذُلُ جُهْدَهُ كَذَلِكَ لِقِتَالِهِ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ. وَ (سَبِيلِ اللَّهِ) مَا يُوصِلُ إِلَى رِضَاهُ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَالْجِهَادُ وَالْمُجَاهَدَةُ مِنَ الْمُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الإسلامية. وَكَرَّرَ الْمَوْصُولَ لِتَعْظِيمِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ كَأَنَّهُمَا مُسْتَقِلَّانِ فِي تَحْقِيقِ الرَّجَاءِ.

[سورة البقرة (2) : آية 219]

وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ رَجَاءَهُمْ رَحْمَةَ اللَّهِ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ لِتَأْكِيدِهِ لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ لَمَّا كَانَتَا مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ صَارَتَا كَاللَّقَبِ إِذْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْمُ الَّذِينَ آمَنُوا كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مُسْلِمِي قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ اسْمُ الْمُهَاجِرِينَ فَأَكَّدَ قَصْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ مِنَ الْمَوْصُولِ. وَالرَّجَاءُ: تَرَقُّبُ الْخَيْرِ مَعَ تَغْلِيبِ ظَنِّ حُصُولِهِ، فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلَفُ فَضْلًا مِنْهُ وَصِدْقًا، وَلَكِنَّ الْخَوَاتِمَ مَجْهُولَةٌ وَمُصَادَفَةُ الْعَمَلِ لِمُرَادِ اللَّهِ قَدْ تَفُوتُ لِمَوَانِعَ لَا يَدْرِيهَا الْمُكَلَّفُ وَلِئَلَّا يَتَّكِلُوا فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَمَلِ. [219، 220] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. اسْتِئْنَافٌ لِإِبْطَالِ عَمَلَيْنِ غَالِبَيْنِ عَلَى النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمَا شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرُ وَهَذَا مِنْ عِدَادِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي هَاتِهِ السُّورَةِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمَشْرُوعُ فِي بَيَانِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَة: 178] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، عَدَا مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ وَالزَّوَاجِرِ وَالْبَشَائِرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَالْقَصَصِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفَنُّنِ أَسَالِيبِهِ تَنْشِيطًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَالسَّامِعِينَ وَالْقَارِئِينَ وَمَنْ بُلِّغَ، وَقَدْ تَنَاسَقَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالسَّائِلُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ مُتْلِفَةٌ لِلْمَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَ الْخَمْرَ قَوْمٌ وَشَرِبَهَا آخَرُونَ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَهَا آيَةُ الْمَائِدَةِ [90] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. وَشُرْبُ الْخَمْرِ عَمَلٌ مُتَأَصِّلٌ فِي الْبَشَرِ قَدِيمًا لَمْ تُحَرِّمْهُ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ لَا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ بَلَهُ مَا دُونَهُ، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّ الْإِسْكَارَ حَرَامٌ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا فَكَلَامٌ لَا شَاهِدَ لَهُمْ عَلَيْهِ بَلِ الشَّوَاهِدُ عَلَى ضِدِّهِ مُتَوَافِرَةٌ، وَإِنَّمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا قَعَّدُوهُ فِي

أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِيَّةَ وَهِيَ حَفِظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ هِيَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كُنَّا نُسَاعِدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا نَظَرَتْ إِلَى حِفْظِ هَاتِهِ الْأُمُورِ فِي تَشْرِيعَاتِهَا، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ مُرَاعَاةً بِاطِّرَادٍ فِي غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا أَحْسَبُ ذَلِكَ يَتِمُّ، عَلَى أَنَّ مُرَاعَاتِهَا دَرَجَاتٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذَا بَيْدَ أَنَّ كُتُبَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَلَا التَّنْزِيهُ عَنْ شُرْبِهَا، وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بِيَدِ الْيَهُودِ أَنَّ نُوحًا شَرِبَ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ، وَأَنَّ لُوطًا شَرِبَ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ سُكْرًا أَفْضَى بِزَعْمِهِمْ إِلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ، وَالْأَخِيرُ مِنَ الأكاذيب لِأَن النبوءة تَسْتَلْزِمُ الْعِصْمَةَ، وَالشَّرَائِعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي إِبَاحَةِ أَشْيَاءَ فَهُنَالِكَ مَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى نَقْصِهِمْ فِي أَنْظَارِ الْعُقَلَاءِ، وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ: أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَا يَأْتِيهِ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَشْرَبُهَا شَارِبُوهَا إِلَّا لِلطَّرَبِ وَاللَّهْوِ وَالسُّكْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَزَّهُ عَنهُ الْأَنْبِيَاء وَلِأَنَّهَا يَشْرَبُونَهَا لِقَصْدِ التَّقَوِّي لِقِلَّةِ هَذَا الْقَصْدِ مِنْ شُرْبِهَا. وَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْرَاةِ «وَكَلَّمَ اللَّهُ هَارُونَ قَائِلًا: خَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا تَشْرَبْ أَنْتَ وَبُنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ لِكَيْ لَا تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا فِي أَجْيَالِكُمْ وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ وَبَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ» . وَشُيُوعُ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعْلُومٌ لِمَنْ عَلِمَ أَدَبَهُمْ وَتَارِيخَهُمْ فَقَدْ كَانَتِ الْخَمْرُ قِوَامَ أَوَدِ حَيَاتِهِمْ، وَقُصَارَى لَذَّاتِهِمْ وَمَسَرَّةَ زَمَانِهِمْ وَمَلْهَى أَوْقَاتِهِمْ، قَالَ طَرَفَةُ: وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى ... وَجِدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ لِلْعَرَبِ عَيْشٌ أَعْجَبُ مِنْهَا، وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَمْرِ» . فَلَا جَرَمَ أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فِي تَحْرِيمِهَا بِطَرِيقَةِ التَّدْرِيجِ فَأَقَرَّ حِقْبَةً إِبَاحَةَ شُرْبِهَا وَحَسْبُكُمْ فِي هَذَا الِامْتِنَانِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْل: 67] عَلَى تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَ السَّكَرَ بِالْخَمْرِ. وَقِيلَ السَّكَرُ: هُوَ النَّبِيذُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ، وَالْأَظْهَرُ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ. وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ بِأَيَّامٍ، أَيْ فِي آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ سَنَةِ خَمْسٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَامِ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ.

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنِ اتَّخَذُوا سَكَرًا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ، ثُمَّ إِنِ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ رَحْمَتَهُ بِالنَّاسِ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ فَجَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ آذَنَتْ بِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ وَصْفُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَنْفَعَةِ تَنْبِيهًا لَهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ إِلَّا مَحَاسِنَهَا فَيَكُونُ تَهْيِئَةً لَهُمْ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَقَدَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ» أَيِ ابْتَدَأَ يُهَيِّئُ تَحْرِيمَهَا يُقَالُ: تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِي كَذَا أَيْ عَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» : أَنَّهَا مُمَهِّدَةٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْبَتَاتِ وَلَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً بَلْ مُعَرِّضَةٌ أَيْ مُعَرِّضَةٌ بِالْكَفِّ عَنْ شُرْبِهَا تَنَزُّهًا. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَقَبْلَ آيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذَا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَسَخَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: 43] ، وَنسخت آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَنُسِبَ لِابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَن بن زين بْنِ أَسْلَمَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ هَذِهِ ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُمْ نَازِلَةً بَعْدَ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى وَإِذْ كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهَا وُضِعَتْ هُنَا إِلْحَاقًا بِالْقَضَايَا الَّتِي حَكَى سُؤَالَهُمْ عَنْهَا. وَأَنَّ مَعْنَى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي تَعَاطِيهِمَا بِشُرْبِ أَحَدِهِمَا وَاللَّعِبِ بِالْآخَرِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ وَصَفَ الْإِثْمَ فِيهَا بِوَصْفٍ كَبِيرٍ فَلَا تَكُونُ آيَةُ سُورَةِ الْعُقُودِ إِلَّا مُؤَكِّدَةً لِلتَّحْرِيمِ وَنَصًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا فِي آيَتِنَا هَذِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَنَافِعِ مَا قَدْ يَتَأَوَّلُهُ الْمُتَأَوِّلُونَ بالعذر فِي شُرْبِهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ نَاسًا شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَصَلَّى رَجُلَانِ فَجَعَلَا يَهْجُرَانِ كَلَامًا لَا يُدْرَى مَا هُوَ، وَشَرِبَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ فَزِعًا وَرَفَعَ شَيْئًا كَانَ

بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآلَى: لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَهَا بِآيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَالْخَمْرُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرِ خمر الشَّيْء يخمره مِنْ بَابِ نَصَرَ إِذَا سَتَرَهُ، سُمِّيَ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَصَارَ مُسْكِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْعَقْلَ عَنْ تَصَرُّفِهِ الْخَلْقِيِّ تَسْمِيَةً مَجَازِيَّةً وَهِيَ إِمَّا تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، أَوْ هُوَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى زنة الْمصدر وَقيل: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَشْرُوبٍ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ كَانَ عَصِيرَ عِنَبٍ أَوْ عَصِيرَ غَيْرِهِ أَوْ مَاءً نُبِذَ فِيهِ زَبِيبٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَتُرِكَ حَتَّى يَخْتَمِرَ وَيُزْبِدَ، وَاسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» . وَالْحَقُّ أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَمْرٌ وَنَبِيذٌ وَفَضِيخٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعْظَمَ شَرَابِ الْعَرَبِ يَوْمَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْ فَضِيخِ التَّمْرِ، وَأَنَّ أَشْرِبَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ خَمْسَةٌ غَيْرُ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهِيَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ وَبَعْضُهَا يُسَمَّى الْفَضِيخَ، وَالنَّقِيعَ، وَالسُّكُرْكَة، وَالْبِتْعَ. وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَبِالْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ، مَعْنَاهُ لَيْسَ مَعْدُودًا فِي الْخَمْسَةِ شَرَابُ الْعِنَبِ لقلَّة وجوده وليسر الْمُرَادُ أَنَّ شَرَابَ الْعِنَبِ لَا يُوجَدُ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ كَانَ شَرَابُ الْعِنَبِ يُجْلَبُ إِلَى الْحِجَازِ وَنَجْدٍ مِنَ الْيَمَنِ وَالطَّائِفِ وَالشَّامِ قَالَ عَمْرُو ابْن كُلْثُومٍ: وَلَا تبقي خمور الأندرين وَأَنْدَرِينُ بَلَدٌ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ. وَقَدِ انْبَنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي مُسَمَّى الْخَمْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافٌ فِي الْأَحْكَامِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ حَرَامٌ كَثِيرُهَا إِجْمَاعًا وَقَلِيلُهَا عِنْدَ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وَيُحَدُّ شَارِبُ الْكَثِيرِ مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي الْقَلِيلِ خِلَافٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْخَمْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَخْذًا بِمُسَمَّى الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَبِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ أَنَّ حِكْمَةَ التَّحْرِيمِ هِيَ الْإِسْكَارُ وَهُوَ ثَابِتٌ لِجَمِيعِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:

يُخْتَصُّ شَرَابُ الْعِنَبِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَا يُحَرَّمُ مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ، هَكَذَا يَنْقُلُ الْمُخَالِفُونَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدِيمِ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا حَتَّى رُبَّمَا أَوْهَمَ نَقْلُهُمْ أَنَّهُ لَا يَرَى عَلَى مَنْ سَكِرَ بِغَيْرِ الْخَمْرِ شَيْئًا، وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيهَامًا قَاعِدَةُ أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا لَا يَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ وَرُبَّمَا عَضَّدُوا ذَلِكَ بِمَنْقُولِ قَصَصٍ وَحَوَادِثَ كَقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ: أَبَاحَ الْعِرَاقِيُّ النَّبِيذَ وَشُرْبَهُ ... وَقَالَ حَرَامَانِ الْمُدَامَةُ وَالسُّكْرُ وَلَكِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ الْمُسْكِرَةَ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا مُحَرَّمٌ شُرْبُهُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ: (الْخمر) وَهُوَ النيء مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، (وَالطِّلَاءُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى صَارَ مُسْكِرًا، (وَالسَّكَرُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالْكَاف وَهُوَ النيء مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ أَيْ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ الْمَصْبُوبِ عَلَى الرُّطَبِ ثُمَّ يَصِيرُ مُسْكِرًا، (والنقيع) وَهُوَ النيء مِنْ نَبِيذِ الزَّبِيبِ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ حَرَامٌ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَنَجِسَةُ الْعَيْنِ لَكِنَّ الْخَمْرَ يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَيُحَدُّ شَارِبُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهَا، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ فَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا إِلَّا إِذَا سَكِرَ. الْقِسْمُ الثَّانِي الْأَشْرِبَةُ الْحَلَالُ شُرْبُهَا وَهِيَ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَ وَلَوْ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَنَبِيذُ الْخَلِيطَيْنِ مِنْهُمَا إِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ طُبِخَ أَمْ لَمْ يُطْبَخْ. وَالْمُثَلَّثُ وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ يَحِلُّ شُرْبُهَا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ اللَّهْوُ وَالطَّرَبُ بَلِ التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ (كَذَا) أَوْ إِصْلَاحُ هَضْمِ الطَّعَامِ أَوِ التَّدَاوِي وَإِلَّا حُرِّمَتْ وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا إِلَّا إِذَا سَكِرَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ دَلِيلُهُ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ لَمْ يَبْقَ فِيهَا الْإِسْكَارُ الْمُعْتَادُ، وَأَمَّا الْحَدُّ فَلَا وَجْهَ لِلتَّفْصِيلِ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى السُّكْرِ فَالْجَمِيعُ سَوَاءٌ فِي الْإِسْكَارِ، عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ الْحَدُّ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ السُّكْرِ وَلَيْسَ فِي الْآثَارِ مَا يَشْهَدُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَلَا أَرَى أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرِيعَةِ تَبْلُغُ إِلَى حَدِّ مُرْتَكِبِ الذَّرِيعَةِ قَبْلَ حُصُولِ الْمُتَذَرَّعِ إِلَيْهِ. وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ بِأَنَّ الْأَنْبِذَةَ شَرِبَهَا الصَّحَابَةُ هُوَ تَمَسُّكٌ أَوْهَى مِمَّا قَبْلَهُ، إِذِ الصَّحَابَةُ يُحَاشُونَ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرَاتِ وَإِنَّمَا شَرِبُوا الْأَنْبِذَةَ قَبْلَ اخْتِمَارِهَا، وَاسْمُ النَّبِيذِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُلْوِ وَالْمُخْتَمِرِ فَصَارَ اللَّفْظُ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، وَقَدْ خَالَفَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِمَامَهُ فِي ذَلِكَ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ.

وَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي شراب الْعِنَب النيء مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَالشَّرَابِ الْمَطْبُوخِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَةِ لَفَظُ الْخَمْرِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً فِي شَرَابِ الْعِنَبِ أَوْ فِي الْأَعَمِّ خِلَافٌ فِي التَّسْمِيَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْإِطْلَاقِ، فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْهُ كَيْفَ يَظُنُّ الْمُجْتَهِدُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّمُ خُصُوصَ شَرَابِ الْعِنَبِ وَيَتْرُكُ غَيْرَهُ مِمَّا يُسَاوِيهِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الصِّفَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ قَدْ سَوَّيْنَا فِيهَا جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ وَبَقِيَتْ لِلْخَمْرِ أَحْكَامٌ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ كَتَحْرِيمِ الْقَلِيلِ وَالْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى السُّكْرِ فَتِلْكَ هِيَ مَحَلُّ النَّظَرِ، قُلْنَا: هَذَا مُصَادَرَةٌ لِأَنَّنَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالشَّارِعِ أَنْ يُفَرِّقَ فِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ فِي الصِّفَاتِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» ثُبُوتًا لَا يَدَعُ لِلشَّكِّ فِي النُّفُوسِ مَجَالًا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ» رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ فِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» وَقَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» ، وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» ، وَقَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا نَجِدُ شَرَابَ الْعِنَبِ إِلَّا قَلِيلًا، وَعَامَّةُ شَرَابِنَا فَضِيخُ التَّمْرِ. كَمَا فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» . وَأَمَّا التَّوَسُّعُ فِي الْخَمْرِ بَعْدَ الطَّبْخِ، فَهُوَ تَشْوِيهٌ لِلْفِقْهِ وَلَطْخٌ، وَمَاذَا يُفِيدُ الطَّبْخُ إِنْ كَانَ الْإِسْكَارُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا. وَصْفُ اللَّهِ الْخَمْرَ بِأَنَّ فِيهَا إِثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ. وَالْإِثْمُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ بِفِعْلِ مَا فِيهِ فَسَادٌ وَلَا يُرْضِي اللَّهَ، وَأَشَارَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ فِي اشْتِقَاقِ الْإِثْمِ مَعْنَى الْإِبْطَاءِ عَنِ الْخَيْرِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: الْإِثْمُ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّمِّ الْوَارِدِ فِي الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْإِثْمَ ضِدُّ الثَّوَابِ، وَظَاهِرُ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْإِثْمَ هُوَ الْفِعْلُ الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ، فَهُوَ ضِدُّ الْقُرْبَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أَنَّهُمَا يَتَسَبَّبُ مِنْهُمَا مَا هُوَ إِثْمٌ فِي حَالِ الْعَرْبَدَةِ وَحَالِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ مِنَ التَّشَاجُرِ. وَإِطْلَاقُ الْكَبِيرِ عَلَى الْإِثْمِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَجْسَامِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَبِيرِ: الشَّدِيدُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجِيءَ بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ تَعَلُّقِ الْإِثْمِ وَالْمَنْفَعَةِ بِهِمَا لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ

أَشَدُّ أَنْوَاعِ التَّعَلُّقِ، وَهِيَ هُنَا ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ شَائِعَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجُعِلَتِ الظَّرْفِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا الْمُعْتَادِ. وَاخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِالْإِثْمِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مُتَعَاطِي شُرْبِهَا بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِثْمٌ كَبِيرٌ بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (كَثِيرٌ) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ مجَازًا اسْتُعِيرَ وَصْفُ الْكَثِيرِ لِلشَّدِيدِ تَشْبِيهًا لِقُوَّةِ الْكَيْفِيَّةِ بِوَفْرَةِ الْعَدَدِ. وَالْمَنَافِعُ: جُمَعُ مَنْفَعَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلَةٍ وَأَصْلُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا قُصِدَ مِنْهُ قُوَّةُ النَّفْعِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمِيمِيَّ أَبْلَغُ مِنْ جِهَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ دَالًّا عَلَى كَثْرَةِ مَا فِيهِ كَقَوْلِهِمْ مَسْبَعَةٌ وَمَقْبَرَةٌ أَيْ يَكْثُرُ فِيهِمَا النَّفْعُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ، فَالْمَنْفَعَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَبْلَغُ مِنَ النَّفْعِ. وَالْإِثْمُ الَّذِي فِي الْخَمْرِ نَشَأَ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا تَارَةً مِنَ الْإِفْرَاطِ فِيهِ وَالْعَرْبَدَةِ مِنْ تَشَاجُرٍ يَجُرُّ إِلَى الْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَفِيهَا ذَهَابُ الْعَقْلِ وَالتَّعَرُّضُ لِلسُّخْرِيَةِ، وَفِيهَا ذَهَابُ الْمَالِ فِي شُرْبِهَا، وَفِي الْإِنْفَاقِ عَلَى النَّدَامَى حَتَّى كَانُوا رُبَّمَا رَهَنُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ الْخَمَّارِينَ قَالَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ: وَلَسْنَا بِشَرْبٍ أُمَّ عَمْرٍو إِذَا انْتَشَوْا ... ثِيَابُ النَّدَامَى عِنْدَهُمْ كَالْمَغَانِمِ وَلَكِنَّنَا يَا أُمَّ عَمْرٍو نَدِيمُنَا ... بِمَنْزِلَةِ الرَّيَّانِ لَيْسَ بِعَائِمِ وَقَالَ عَنْتَرَةُ: وَإِذَا سَكِرْتُ فَإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ ... مَالِي وَعِرْضِي وَافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ وَكَانُوا يَشْتَرُونَ الْخَمْرَ بِأَثْمَانٍ غَالِيَةٍ وَيَعُدُّونَ الْمُمَاكَسَةَ فِي ثَمَنِهَا عَيْبًا، قَالَ لَبِيدٌ: أُغْلِي السِّبَاءَ بِكُلِّ أَدْكَنَ عَاتِقٍ ... أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وَفُضَّ خِتَامُهَا وَمِنْ آثَامِهَا مَا قَرَّرَهُ الْأَطِبَّاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهَا تُورِثُ الْمُدْمِنِينَ عَلَيْهَا أَضْرَارًا فِي الْكَبِدِ وَالرِّئَتَيْنِ وَالْقَلْبِ وَضَعْفًا فِي النَّسْلِ، وَقَدِ انْفَرَدَ الْإِسْلَامُ عَنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ بِتَحْرِيمِهَا، لأجل مَا فِيهَا مِنَ الْمَضَارِّ فِي الْمُرُوءَةِ حَرَّمَهَا بَعْضُ الْعَرَبِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمِمَّنْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ بِسَبَبِ أَنَّهُ شَرِبَ يَوْمًا حَتَّى سَكِرَ فَجَذَبَ ابْنَتَهُ وَتَنَاوَلَ ثَوْبَهَا، وَرَأَى الْقَمَر فَتكلم مَعَه كَلَامًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ حِينَ صَحَا آلَى لَا يَذُوقُ خَمْرًا مَا عَاشَ وَقَالَ:

رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا ... وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمًا وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي ... وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمًا فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيهَا ... وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا وَفِي «أَمَالِي الْقَالِي» نِسْبَةُ الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ الْعُدْوَانِيُّ، وَمِنْهُمْ عفيف بن معد يكرب الْكِنْدِيُّ عَمُّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيُّ، وَأَسْلُومُ الْبَالِي، وَسُوَيْدُ بْنُ عَدِيٍّ الطَّائِيُّ، (وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ) وَأَسَدُ بْنُ كُرَزٍ الْقَسْرِيُّ الْبَجَلِيُّ الَّذِي كَانَ يُلَقَّبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِرَبِّ بَجِيلَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَأُمِّيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَمِنْهَا مَنَافِعُ بَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مَا تُكْسِبُهُ مِنْ قُوَّةِ بَدَنِ الضَّعِيفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ التِّجَارَةِ فَقَدْ كَانَتْ تِجَارَةُ الطَّائِفِ وَالْيَمَنِ مِنَ الْخَمْرِ، وَفِيهَا مَنَافِعُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالطَّرَبِ، قَالَ طَرَفَةُ: وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى ... وَجِدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبَدِ وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مَالِيَّةٌ فَقَطْ فِرَارًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِمَنَافِعَ بَدَنِيَّةٍ لِلْخَمْرِ وَهُوَ جُحُودٌ لِلْمَوْجُودِ وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ مَنَافِعَ بَدَنِيَّةً وَلَكِنَّهَا بِالتَّحْرِيمِ زَالَتْ. وَذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَيْسِرُ عَطْفًا عَلَى الْخَمْرِ وَمُخْبِرًا عَنْهُمَا بِأَخْبَارٍ مُتَّحِدَةٍ فَمَا قِيلَ فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَوْ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنْ شُرْبِهَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْمَيْسِرِ، وَقَدْ بَانَ أَنَّ الْمَيْسِرَ قَرِينُ الْخَمْرِ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ نُفُوسِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَكْبَرُ لَهْوٍ يَلْهُونَ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَأْتُونَهُ وَقْتَ الشَّرَابِ إِذَا أَعْوَزَهُمُ اللَّحْمُ لِلشِّوَاءِ عِنْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ لِنَحْرِ الْجَزُورِ سَاعَتَئِذٍ بِوَسَائِلَ قَدْ تَبْلُغُ بِهِمْ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى جُزُرِ النَّاسِ بِالنَّحْرِ كَمَا فِي قِصَّةِ حَمْزَةَ، إِذْ نَحَرَ شَارِفًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ كَانَ حَمْزَةُ مَعَ شَرْبٍ فَغَنَّتْهُ قَيْنَتُهُ مُغْرِيَةً إِيَّاهُ بِهَذَا الشَّارِفِ: أَلَا يَا حَمَزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ ... وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ فَقَامَ إِلَيْهَا فَشَقَّ بَطْنَهَا وَأَخْرَجَ الْكَبِدَ فَشَوَاهُ فِي قِصَّةٍ شَهِيرَةٍ، وَقَالَ طَرَفَةُ يَذْكُرُ

اعْتِدَاءَهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إِبِلِ أَبِيهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ: فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلَالَةٌ ... عَقِيلَةُ شَيْخٍ كَالْوَبِيلِ يَلَنْدَدِ يَقُولُ وَقَدْ تَرَ الْوَظِيفَ وَسَاقَهَا ... أَلَسْتَ تَرَى أَنْ قَدْ أَتَيْتَ بِمُؤْيِدِ وَقَالَ أَلَا مَاذَا تَرَوْنَ بِشَارِبٍ ... شَدِيدٍ عَلَيْنَا بَغْيُهُ مُتَعَمِّدِ فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْمَيْسِرُ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ لِاقْتِنَاءِ اللَّحْمِ لِلشُّرْبِ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ قَرْنُهُ بِالشُّرْبِ، قَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ يَذْكُرُ الْإِبِلَ: نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَذَكَرَ لَبِيدٌ الْخَمْرَ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَيْسِرَ فِي مُعَلَّقَتِهِ فَقَالَ: أُغْلِي السِّبَاءَ بِكُلِّ أَدْكَنَ عَاتِقِ ... أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وَفُضَّ خِتَامُهَا ثُمَّ قَالَ: وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِهَا ... بِمَغَالِقٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُهَا وَذَكَرَهُمَا عَنْتَرَةُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَقَالَ يَذْكُرُ مَحَاسِنَ قِرْنِهِ الَّذِي صَرَعَهُ فِي الْحَرْبِ: رَبِذٍ يَدَاهُ بِالْقِدَاحِ إِذَا شَتَا ... هَتَّاكِ غَايَاتِ التِّجَارِ مُلَوَّمِ فَلِأَجْلِ هَذَا قُرِنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْخَمْرِ بِذِكْرِ الْمَيْسِرِ، وَلِأَجْلِهِ اقْتَرَنَا فِي سُؤَالِ السَّائِلِينَ عَنْهُمَا إِنْ كَانَ ثَمَّةَ سُؤَالٌ. وَالْمَيْسِرُ: اسْمُ جِنْسٍ عَلَى وَزْنِ مَفْعِلٍ مُشْتَقّ من الْيُسْر، وَهُوَ ضِدُّ الْعُسْرِ وَالشِّدَّةِ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِعْسَارِ، كَأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مُرَاعَاةً لِزِنَةِ اسْمِ الْمَكَانِ مِنْ يَسَرَ يَيْسِرُ وَهُوَ مَكَانٌ مَجَازِيٌّ جَعَلُوا ذَلِكَ التَّقَامُرَ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ الَّذِي فِيهِ الْيَسَارُ أَوِ الْيُسْرُ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى رَفَاهَةِ الْعَيْشِ وَإِزَالَةِ صُعُوبَةِ زَمَنِ الْمَحَلِّ وَكَلَبِ الشِّتَاءِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ مَصْدَرٌ كَالْمَوْعِدِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ مَفْتُوحَ السِّينِ إِذِ الْمَصْدَرُ الَّذِي عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَفْتُوحَ الْعَيْنِ مَا عَدَا مَا شَذَّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَيْسِرَ فِي الشَّاذِّ، إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا هَذَا الِاسْمَ عَلَى وَزْنِ الْمَصْدَرِ الشَّاذِّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ الْآنَ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ. وَالْمَيْسِرُ: قِمَارٌ كَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ مِنِ الْقِمَارِ الْقَدِيمِ الْمُتَوَغِّلِ فِي الْقِدَمِ كَانَ لِعَادٍ مِنْ قَبْلُ، وَأَوَّلُ مَنْ وَرَدَ ذِكْرُ لَعِبِ الْمَيْسِرِ عَنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ وَيُقَالُ

لُقْمَانُ الْعَادِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ، وَهُوَ غَيْرُ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَالْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ لَعِبًا بِالْمَيْسِرِ حَتَّى قَالُوا فِي الْمَثَلِ «أَيْسَرُ مِنْ لُقْمَانَ» وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَيْسَارٍ لَا يُفَارِقُونَهُ (¬1) هُمْ مِنْ سَادَةِ عَادٍ وَأَشْرَافِهِمْ، وَلِذَلِكَ يُشَبِّهُونَ أَهْلَ الْمَيْسِرِ إِذَا كَانُوا مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ بِأَيْسَارِ لُقْمَانَ قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ: وَهُمْ أَيْسَارُ لُقْمَانَ إِذَا ... أَغْلَتِ الشَّتْوَةُ أَبْدَاءَ الْجُزُرْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ الْبَلِيغَ. وَصِفَةُ الْمَيْسِرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَشْرَةَ قِدَاحٍ جَمْعُ قِدْحٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ مِنَ النِّبْلِ وَمِنَ السَّهْمِ فَهُوَ سَهْمٌ صَغِيرٌ مِثْلُ السِّهَامِ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ سِنَانٌ وَكَانُوا يسمونها الخطاء جَمْعُ حُظْوَةٍ وَهِيَ السَّهْمُ الصَّغِيرُ وَكُلُّهَا مِنْ قَصَبِ النَّبْعِ، وَهَذِهِ الْقِدَاحُ هِيَ: الْفَذُّ، وَالتَّوْأَمُ، وَالرَّقِيبُ، وَالْحِلْسُ، وَالنَّافِسُ، وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُعَلَّى، وَالسَّفِيحُ، وَالْمَنِيحُ، وَالْوَغْدُ، وَقِيلَ النَّافِسُ هُوَ الرَّابِعُ وَالْحِلْسُ خَامِسٌ، فَالسَّبْعَةُ الْأُوَلُ لَهَا حُظُوظٌ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى سَبْعَةٍ عَلَى تَرْتِيبِهَا، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ لَا حُظُوظَ لَهَا وَتُسَمَّى أَغْفَالًا جَمْعُ غُفْلٍ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهُوَ الَّذِي أُغْفِلَ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَهَذِهِ العلامات خطوط من وَاحِدٌ إِلَى سَبْعَةٍ (كَأَرْقَامِ الْحِسَابِ الرُّومَانِيِّ إِلَى الْأَرْبَعَةِ) ، وَقَدْ خَطُّوا الْعَلَامَاتِ عَلَى الْقِدَاحِ ذَاتِ الْعَلَامَاتِ بِالشَّلْطِ فِي الْقَصَبَةِ أَوْ بِالْحَرْقِ بِالنَّارِ فَتُسَمَّى الْعَلَامَةُ حِينَئِذٍ قَرْمَةً، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ تُوضَعُ فِي أَسَافِلِ الْقِدَاحِ. فَإِذَا أَرَادُوا التَّقَامُرَ اشْتَرَوْا جَزُورًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى مَا بَعْدَ التَّقَامُرِ وَقَسَّمُوهُ أَبِدَاءً أَيْ أَجْزَاءً إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا أَوْ إِلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ طَرِيقَتَيْنِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ يَضَعُونَ تِلْكَ الْقِدَاحَ فِي خَرِيطَةٍ مِنْ جِلْدٍ تُسَمَّى الرِّبَابَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ هِيَ مِثْلُ كِنَانَةِ النِّبَالِ وَهِيَ وَاسِعَةٌ لَهَا مَخْرَجٌ ضَيِّقٌ يَضِيقُ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ قِدْحَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَوَكَّلُوا بِهَذِهِ الرِّبَابَةِ رَجُلًا يُدْعَى عِنْدَهُمُ الْحُرْضَةَ وَالضَّرِيبَ وَالْمُجِيلَ، وَكَانُوا يُغَشُّونَ عَيْنَيْهِ بِمَغْمَضَةٍ، وَيَجْعَلُونَ عَلَى يَدَيْهِ خِرْقَةً بَيْضَاءَ يُسَمُّونَهَا الْمِجْوَلَ يَعْصِبُونَهَا عَلَى يَدَيْهِ أَوْ جِلْدَةً رَقِيقَةً يُسَمُّونَهَا السُّلْفَةَ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُون اللَّام، ويلتحق هَذَا الْحُرْضَةُ بِثَوْبٍ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْهُ ثُمَّ يَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ ¬

(¬1) هم: بيض، وحممة، وطفيل، وذفافة، وَمَالك، وفرعة، وثميل، وعمّار.

وَيَضَعُ الرِّبَابَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ وَرَاءَهُ رَجُلٌ يُسَمَّى الرَّقِيبَ أَوِ الْوَكِيلَ هُوَ الْأَمِينُ عَلَى الْحُرْضَةِ وَعَلَى الْأَيْسَارِ كَيْ لَا يَحْتَالَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَهُوَ الَّذِي يَأْمُرُ الْحُرْضَةَ بِابْتِدَاءِ الْمَيْسِرِ، يَجْلِسُونَ وَالْأَيْسَارُ حَوْلَ الْحُرْضَةِ جِثِيًّا عَلَى رُكَبِهِمْ، قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: دَفَعْتُ إِلَى الْمُجِيلِ وَقَدْ تَجَاثَوْا ... عَلَى الرُّكْبَاتِ مَطْلَعَ كُلِّ شَمْسِ ثُمَّ يَقُولُ الرَّقِيبُ لِلْحُرْضَةِ جَلْجِلِ الْقِدَاحَ أَيْ حَرِّكْهَا فَيُخَضْخِضُهَا فِي الرِّبَابَةِ كَيْ تَخْتَلِطَ ثُمَّ يُفِيضُهَا أَيْ يَدْفَعُهَا إِلَى جِهَةِ مَخْرَجِ الْقِدَاحِ مِنَ الرِّبَابَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى اسْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَيْسَارِ فَيَخْرُجُ قِدْحٌ فَيَتَقَدَّمُ الْوَكِيلُ فَيَأْخُذُهُ وَيَنْظُرُهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ دَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ لَهُ قُمْ فَاعْتَزِلْ فَيَقُومُ وَيَعْتَزِلُ إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ تُعَادُ الْجَلْجَلَةُ، وَقَدِ اغْتَفَرُوا إِذَا خَرَجَ أَوَّلُ الْقِدَاحِ غُفْلًا أَلَّا يُحْسَبَ فِي غُرْمٍ وَلَا فِي غُنْمٍ بَلْ يُرَدُّ إِلَى الرِّبَابَةِ وَتُعَادُ الْإِحَالَةُ وَهَكَذَا وَمَنْ خَرَجَتْ لَهُمُ الْقِدَاحُ الْأَغْفَالُ يَدْفَعُونَ ثَمَنَ الْجَزُورَ. فَأَمَّا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَصَفَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ الْجَزُورَ يُقَسَّمُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا فَظَاهِرٌ أَنَّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْقِدْحِ الْقَامِرَةِ شَيْئًا مِنْ أَبْدَاءِ الْجَزُورِ لِأَنَّ مَجْمُوعَ مَا عَلَى الْقِدَاحِ الرَّابِحَةِ مِنَ الْعَلَامَاتِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى أهل القداح الخاسرة غُرْمُ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَصَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْجَزُورَ يُقَسَّمُ إِلَى عَشَرَةِ أَبْدَاءٍ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ كُلُّ الْمُتَقَامِرِينَ بِرَابِحٍ، لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ عَشَرَةِ سِهَامٍ مِمَّا رُقِّمَتْ بِهِ الْقِدَاحُ وَحِينَئِذٍ إِذَا نَفِدَتِ الْأَجْزَاءُ انْقَطَعَتِ الْإِفَاضَةُ وَغَرِمَ أَهْلُ السِّهَامِ الْأَغْفَالِ ثَمَنَ الْجَزُورِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ سِهَامٌ ذَاتُ حُظُوظٍ بَعْدَ الَّذِينَ اسْتَوْفَوْا أَبْدَاءَ الْجَزُورِ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْمَيْسِرِ أَكْثَرُ مِنْ جَزُورٍ وَاحِدٍ قَالَ لَبِيدٌ: وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِهَا الْبَيْتَ وَإِذْ لَا غُنْمَ فِي الْمَيْسِرِ إِلَّا مِنَ اللَّحْمِ لَا مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَعَلَّ كُلًّا مِنْ وَصْفَيِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ كَانَ طَرِيقَةً لِلْعَرَبِ فِي الْمَيْسِرِ بِحَسَبِ مَا يَصْطَلِحُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَيْسِرِ، وَإِذَا لَمْ يُجْمَعِ الْعَدَدُ الْكَافِي مِنَ الْمُتَيَاسِرِينَ أَخَذَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ سَهْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَكَثُرَ بِذَلِكَ رِبْحُهُ أَوْ غُرْمُهُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا أَهْلُ الْكَرَمِ وَالْيَسَارِ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لخسارة عَظِيمَة، إِذْ لَمْ يَفُزْ قِدْحُهُ، وَيُقَالُ فِي هَذَا الَّذِي يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمٍ مُتَمِّمُ الْأَيْسَارِ قَالَ النَّابِغَةُ: إِنِّي أُتَمِّمُ أَيَسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ ... مَثْنَى الْأَيَادِي وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الْأَدُمَا

وَيُسَمُّونَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِمَثْنَى الْأَيَادِي كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ، لِأَنَّهُ يَقْصِدُ مِنْهُ تَكْرِيرَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الرِّبْحِ فَالْأَيَادِي بِمَعْنَى النِّعَمِ، وَكَانُوا يُعْطُونَ أَجْرَ الرَّقِيبِ وَالْحُرْضَةِ وَالْجَزَّارِ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ فَأَمَّا أَجْرُ الرَّقِيبِ فَيُعْطَاهُ مِنْ أَوَّلِ الْقِسْمَةِ وَأَفْضَلِ اللَّحْمِ وَيُسَمُّونَهُ بَدْءًا، وَأَمَّا الْحُرْضَةُ فَيُعْطَى لَحْمًا دُونَ ذَلِكَ وَأَمَّا الْجَزَّارُ فَيُعْطَى مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ الْقَسْمِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ نِصْفِ عَظْمٍ وَيُسَمُّونَهُ الرِّيمَ. وَمَنْ يَحْضُرُ الْمَيْسِرَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَيَاسِرِينَ يُسَمَّوْنَ الْأَعْرَانَ جَمْعَ عَرِنٍ بِوَزْنِ كَتِفٍ وَهُمْ يَحْضُرُونَ طَمَعًا فِي اللَّحْمِ، وَالَّذِي لَا يُحِبُّ الْمَيْسِرَ وَلَا يَحْضُرُهُ لِفَقْرِهِ سُمِّيَ الْبَرِمَ بِالتَّحْرِيكِ. وَأَصْلُ الْمَقْصِدِ مِنَ الْمَيْسِرِ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنِ الْقِمَارِ كُلِّهِ وَهُوَ الرِّبْحُ وَاللَّهْوُ يَدُلُّ لِذَلِكَ تَمَدُّحُهُمْ وَتُفَاخُرُهُمْ بِإِعْطَاءِ رِبْحِ الْمَيْسِرِ لِلْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْإِعْطَاءُ مُطَّرِدًا لِكُلِّ مَنْ يَلْعَبُ الْمَيْسِرَ لَمَا كَانَ تَمَدُّحٌ بِهِ قَالَ الْأَعْشَى: الْمُطْعِمُو الضَّيْفِ إِذَا مَا شَتَوْا ... وَالْجَاعِلُو الْقُوتَ عَلَى الْيَاسِرِ ثُمَّ إِنَّ كِرَامَهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا التَّرَفُّعَ عَنِ الطَّمَعِ فِي مَالِ الْقِمَارِ فَصَارُوا يَجْعَلُونَ الرِّبْحَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْيَتَامَى وَمَنْ يُلِمُّ بِسَاحَتِهِمْ مِنْ أَضْيَافِهِمْ وَجِيرَتِهِمْ، قَالَ لَبِيدٌ: أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطْفِلٍ ... بُذِلَتْ لِجِيرَانِ الْجَمِيعِ لِحَامُهَا فَالضَّيْفُ وَالْجَارُ الْجَنِيبُ كَأَنَّمَا ... هَبَطَا تَبَالَةَ مُخْصِبًا أَهْضَامُهَا فَصَارَ الْمَيْسِرُ عِنْدَهُمْ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْجُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَبْيَاتِ لَبِيدٍ، وَقَالَ عَنْتَرَةُ كَمَا تَقَدَّمَ: رَبِذٍ يَدَاهُ بِالْقِدَاحِ إِذَا شَتَا ... هَتَّاكِ غَايَاتِ التِّجَارِ مُلَوِّحِ أَيْ خَفِيفِ الْيَدِ فِي الْمَيْسِرِ لِكَثْرَةِ مَا لَعِبَ الْمَيْسِرَ فِي الشِّتَاءِ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ، وَقَالَ عُمَيْرُ ابْن الْجَعْدِ: يَسِرٍ إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ وَمُطْعِمٍ ... لِلَّحْمِ غَيْرِ كُبُنَّةٍ عُلْفُوفِ الْكُبُنَّةُ بِضَمَّتَيْنِ الْمُنْقَبِضُ الْقَلِيلُ الْمَعْرُوفِ وَالْعُلْفُوفُ كَعُصْفُورٍ الْجَافِي. فَالْمَنَافِعُ فِي الْمَيْسِرِ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ وَهِيَ دُنْيَوِيَّةٌ كُلُّهَا، وَالْإِثْمُ الَّذِي فِيهِ هُوَ مَا يُوقِعُهُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَمِنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ وَالِاعْتِيَادِ بِالْكَسَلِ وَالْبِطَالَةِ وَاللَّهْوِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَعَنِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا بِهِ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ وَتِلْكَ آثَامٌ لَهَا آثَارُهَا الضَّارَّةُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَيْسِرِ كُلَّ لَعِبٍ فِيهِ قِمَارٌ كَالنَّرْدِ، وَعَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْكَعْبَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا مِنْ مَيْسِرِ الْعَجَمِ» يُرِيدُ

النَّرْدَ، وَعَنْ عَلِيٍّ: النَّرْدُ وَالشَّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا خَلَا الشطرنج عَن الرِّهَانِ وَاللِّسَانِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالصَّلَاةِ عَنِ النِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَيْسِرِ لِأَنَّ الْمَيْسِرَ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْمَالِ وَأَخْذَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ وَجِيهٌ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْفِقْهِ. وَالنَّاسُ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ لِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِوَاسِطَةِ (فِي) الْمُفِيدَةِ الظَّرْفِيَّةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَاد النَّاس ينتقع بِالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، بَلِ الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتِهِ الْمَنَافِعَ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَفِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النَّحْل: 69] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ طَائِفَةً لِعَدَمِ صُلُوحِيَّةِ الْ هُنَا لِلْعَهْدِ وَلَوْ أُرِيدَ طَائِفَةٌ لَمَا صَحَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ وَمَنَافِعُ الشَّارِبِينَ وَالْيَاسِرِينَ كَمَا قَالَ: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: 15] . فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْوَجْهُ فِي ذِكْرِ مَنَافِعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ التَّحْرِيمِ وَالتَّمْهِيدَ إِلَيْهِ يَقْتَضِي تَنَاسِيَ الْمَنَافِعِ، قُلْتُ إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْمَنَافِعِ هِيَ بَيَانُ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ لِيَعْتَادَ الْمُسْلِمُونَ مُرَاعَاةَ عِلَلِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذَا الدِّينَ دِينًا دَائِمًا وَأَوْدَعَهُ أُمَّةً أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مُشَرِّعُونَ لِمُخْتَلِفِ وَمُتَجَدِّدِ الْحَوَادِثِ، فَلِذَلِكَ أَشَارَ لِعِلَلِ الْأَحْكَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: 12] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَلِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَوَاضِعِ خَفَاءِ الْعِلَلِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ نَفْعُهَا، وَالْمَيْسِرَ قَدِ اتَّخَذُوهُ ذَرِيعَةً لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ فَوَجَبَ بَيَانُ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ إِنْبَاءً بِحِكْمَةِ التَّحْرِيمِ، وَفَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَأْنِيسُ الْمُكَلَّفِينَ فِطَامِهِمْ عَنْ أَكْبَرِ لَذَائِذِهِمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ رَبَّهُمْ لَا يُرِيدُ إِلَّا صَلَاحَهُمْ دُونَ نِكَايَتِهِمْ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] وَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: 183] . وَهُنَالِكَ أَيْضًا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ عُذْرُهُمْ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ حَتَّى لَا يَسْتَكِينُوا لِهَذَا التَّحْرِيمِ وَالتَّنْدِيدِ عَلَى الْمَفَاسِدِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الْبَقَرَة: 187] .

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ حَاصِلًا مَعَ سُؤَالِهِمْ مَاذَا يُنْفِقُونَ، فَعُطِفَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا جَوَابُ سُؤَالِهِمْ مَاذَا يُنْفِقُونَ عَلَى آيَةِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ الْأُسْلُوبُ الَّذِي سَلَفَ فِي الْآيَاتِ الْمُخْتَلفَة بجمل يَسْئَلُونَكَ بِدُونِ عَطْفٍ فَجِيءَ بِهَذِهِ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَمُنَاسَبَةُ التَّرْكِيبِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ تَعَطُّلُ إِنْفَاقٍ عَظِيمٍ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَحَاوِيجُ، فَبَيَّنَتْ لَهُمُ الْآيَةُ وَجْهَ الْإِنْفَاقِ الْحَقَّ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ هَذَا مُعَاذُ ابْن جَبَلٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَقِيلَ هُوَ رُجُوعٌ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ عَمْرِو بْنِ الْجُمُوحِ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ الْمُجَابُ عَنْهُ بقوله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: 215] إِلَخْ، وَعَلَيْهِ فَالْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِهِ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمَوْضِعَيْنِ لِيَقَعَ الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَلِإِظْهَارِ مَا يَدْفَعُ تَوَقُّعَهُمْ تَعْطِيلَ نَفْعِ الْمَحَاوِيجِ وُصِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ. وَالْعَفْوُ: مَصْدَرُ عَفَا يَعْفُو إِذَا زَادَ وَنَمَى قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا [الْأَعْرَاف: 95] ، وَهُوَ هُنَا مَا زَادَ عَلَى حَاجَةِ الْمَرْءِ مِنَ الْمَالِ أَيْ فَضَلَ بَعْدَ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِمُعْتَادِ أَمْثَالِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْءَ لَيْسَ مُطَالَبًا بِارْتِكَابِ الْمَآثِمِ لِيُنْفِقَ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِمَّا اسْتَفْضَلَهُ مِنْ مَالِهِ وَهَذَا أَمْرٌ بِإِنْفَاقٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَفْضَلُ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِقَامَةُ مَصَالِحِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِقْدَارٌ لَهُ بَالٌ إِلَّا بِتَعْمِيمِهِ وَدَوَامِهِ لِتَسْتَمِرَّ مِنْهُ مَقَادِيرُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّعْمِيمُ وَالدَّوَامُ بِالْإِنْفَاقِ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَاتِ الْمُنْفِقِينَ فَحِينَئِذٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فَلَا يَتْرُكُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُخِلُّونَ بِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَأَصْلٌ اقْتِصَادِيٌّ عُمْرَانِيٌّ، وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» فَإِنَّ الْبَدَاءَةَ بِمَنْ يَعُولُ ضَرْبٌ مِنِ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَهُمْ فِي خَصَاصَةٍ احْتَاجُوا إِلَى الْأَخْذِ مِنْ أَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» أَيْ يَمُدُّونَ أَكُفَّهُمْ لِلسُّؤَالِ،

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنْفِقَ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ يُخَفِّفُ عَنِ الْفُقَرَاءِ بِتَقْلِيلِ عَدَدِ الدَّاخِلِينَ فِيهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِنَّكَ لَا تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» . وَلِهَذَا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِنْفَاقِ الْعَفْوِ، لِأَنَّهَا لِعُمُومِ الْمُنْفِقِينَ، فَلَا تَنَافِيَ أَنْ يُنْفِقَ أَحَدٌ مِنْ مَالِهِ الْمُحْتَاجِ هُوَ إِلَيْهِ أَوْ جَمِيعِ مَالِهِ إِذَا صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ هُوَ نَفَقَتُهُ. وَآل فِي الْعَفْوِ لِلْجِنْسِ الْمَعْرُوفِ لِلسَّامِعِينَ، وَالْعَفْوُ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ تَعْيِينَ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُنْفِقُ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْعَفْوَ كُلَّهُ مُنْفَقًا تَرْغِيبًا فِي الْإِنْفَاقِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِ، إِذْ قَدْ تَضَافَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ وَانْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إِنْفَاقٌ إِلَّا النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَإِلَّا الزَّكَوَاتِ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ مِنْ بَعْضِ مَا يَفْضُلُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الثَّرْوَةِ إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ أَبُو ذَرٍّ، إِذْ كَانَ يَرَى كَنْزَ الْمَالِ حَرَامًا وَيُنَادِي بِهِ فِي الشَّامِ فَشَكَاهُ مُعَاوِيَةُ لِعُثْمَانَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِإِرْجَاعِهِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ إِسْكَانِهِ بِالرَّبَذَةِ بِطَلَبٍ مِنْهُ، وَقَدِ اجْتَهَدَ عُثْمَانُ لِيَسُدَّ بَابَ فِتْنَةٍ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ (الْ) فِي الْعَفْوِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ نَمَاءُ الْمَالِ الْمُقَدَّرِ بِالنِّصَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (قُلِ الْعَفْوَ) بِنَصْبِ الْعَفْوِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَاذَا يُنْفِقُونَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ ذَا بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مُلْغَاةً فَتَكُونُ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَفْعُولا مقدما لينفقون فَنَاسَبَ أَنْ يَجِيءَ مُفَسِّرُ (مَا) فِي جَوَابِ السُّؤَالِ مَنْصُوبًا كَمُفَسَّرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الْعَفْوُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَعْلِ ذَا بَعْدَ مَا مَوْصُولَةً أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً كَانَتْ مُبْتَدَأً إِذْ لَا تَعْمَلُ فِيهَا صِلَتُهَا وَكَانَتْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ خَبَرًا عَنْ مَا الْمَوْصُولَةِ، وَكَانَ مُفَسَّرُهَا فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَنَاسَبَ أَنْ يُجَاءَ بِهِ مَرْفُوعًا كَمُفَسِّرِهِ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ فِي الِاعْتِبَارَيْنِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، أَيْ كَذَلِكَ الْبَيَانُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ، فَالْكَافُ

لِلتَّشْبِيهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ يُبَيِّنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وُجُوهِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . أَوِ الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْبَيَانِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ الْعَفْوَ، وَقَرَنَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِعَلَامَةِ الْبُعْدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِكَمَالِهِ فِي الْبَيَانِ، إِذْ هُوَ بَيَانٌ لِلْحُكْمِ مَعَ بَيَانِ عِلَّتِهِ حَتَّى تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِطِيبِ نَفْسٍ، وَحَتَّى يُلْحِقُوا بِهِ نَظَائِرَهُ، وَبَيَانٌ لِقَاعِدَةِ الْإِنْفَاقِ بِمَا لَا يَشِذُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُنْفِقِينَ، وَلِكَوْنِ الْكَافِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْخِطَابُ بَلْ مُجَرَّدُ الْبُعْدِ الِاعْتِبَارِيِّ لِلتَّعْظِيمِ لَمْ يُؤْتَ بِهَا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَقُلْ كَذَلِكُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ. وَاللَّامُ فِي لَكُمُ لِلتَّعْلِيلِ وَالْأَجَلِ وَهُوَ امْتِنَانٌ وَتَشْرِيفٌ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الْبَيَانَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِمَّا اخْتُصَّتْ بِهِ هَاتِهِ الْأُمَّةُ لِيَتَلَقَّوُا التَّكَالِيفَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْعِظَةِ الَّتِي تُلْقَى إِلَى كَامِلِ الْعَقْلِ مُوَضَّحَةً بِالْعَوَاقِبِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ لَهَاتِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاؤُهَا مُشَرِّعِينَ. وَبَيَّنَ فَائِدَةَ هَذَا الْبَيَانِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَيْ لِيَحْصُلَ لِلْأُمَّةِ تَفَكُّرٌ وَعِلْمٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ التَّفَكُّرَ مَظْرُوفٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ لَازِمٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَالْآخِرَةِ إِذْ لَا مَعْنَى لِوُقُوعِ التَّفَكُّرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الْحَظْرِ وَالْوُجُوبِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكَانَ بَيَانًا لِلتَّفَكُّرِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ خَاصَّةً وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ بِأَنْ قِيلَ: قُلْ فِيهِمَا نَفْعٌ وَضُرٌّ لَكَانَ بَيَانًا لِلتَّفَكُّرِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَذْكِيرٌ بِمَصْلَحَتَيِ الدَّارَيْنِ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ إِصْلَاحِ أُمُورِ الْأُمَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَوَقَعَ فِي كَلَامٍ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ ذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيَا عِنْده فَقَالَ لَهُ: «الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَدَارُ نَجَاةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوُّدَ مِنْهَا وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ وَمَسْجِدُ أَنْبِيَائِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا إِلَخْ» . وَلَا يَخْفَى أَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّفَكُّرِ هُوَ الْحُكْمُ الْمَنُوطُ بِالْعِلَّةِ وَهُوَ حُكْمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ثُمَّ مَا نَشَأَ عَنهُ قَوْله: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ كَذلِكَ لِكَوْنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْعَفْوِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ لَا يَظْهَرُ فِيهِ كَمَالُ الِامْتِنَانِ حَتَّى يُجْعَلَ نَمُوذَجًا لِجَلِيلِ الْبَيَانَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَحَتَّى يَكُونَ

مَحَلَّ كَمَالِ الِامْتِنَانِ وَحَتَّى تَكُونَ غَايَتُهُ التَّفَكُّرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُعْجِبُكُمْ كَوْنُهُ أَقْرَبَ لِاسْمِ الْإِشَارَة، لِأَن التَّعْلِيق بِمِثْلِ هَاتِهِ الْأُمُورِ اللَّفْظِيَّةِ فِي نُكَتِ الْإِعْجَازِ إِضَاعَةٌ لِلْأَلْبَابِ وَتَعَلُّقٌ بِالْقُشُورِ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ غَايَةُ هَذَا الْبَيَانِ وَحِكْمَتُهُ، وَالْقَوْلُ فِي لَعَلَّ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَتَفَكَّرُونَ لَا بِيُبَيِّنُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ. وَالْمَعْنَى لِيَحْصُلَ لَكُمْ فِكْرٌ أَيْ علم فِي شؤون الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا سِوَى هَذَا تكلّف. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عُطِفَ تَبْيِينُ مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى عَلَى تَبْيِينِ الْإِنْفَاقِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرَيْنِ بِحُكْمِ تَحْرِيمِ الميسر أَو التَّنْزِيه عَنْهُ فَإِنَّ الْمَيْسِرَ كَانَ بَابًا وَاسِعًا لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَحَاوِيجِ وَعَلَى الْيَتَامَى، وَقَدْ ذَكَرَ لَبِيدٌ إِطْعَامَ الْيَتَامَى بَعْدَ ذِكْرِ إِطْعَامِ لُحُومِ جَزُورِ الْمَيْسِرِ فَقَالَ: وَيُكَلِّلُونَ إِذَا الرِّيَاحُ تَنَاوَحَتْ ... خُلُجًا تُمَدُّ شَوَارِعًا أَيْتَامُهَا أَيْ تَمُدُّ أَيْدِيًا كَالرِّمَاحِ الشَّوَارِعِ فِي الْيُبْسِ أَيْ قِلَّةِ اللَّحْمِ عَلَى عِظَامِ الْأَيْدِي فَكَانَ تَحْرِيمُ الْمَيْسِرِ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ سَدِّ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْيَتَامَى وَفِيهِ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ السُّؤَالُ مُنَاسَبَةً حَسَنَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى الْوِصَايَةِ بِالْيَتَامَى وَذِكْرِ مُجْمَلِ أَحْوَالِهِمْ فِي جُمْلَةِ إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ هَذَا وَجْهَ عَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ بِبَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ السَّائِلَ عَنِ الْيَتَامَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: 34] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاء: 10] الْآيَاتِ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَذُكِرَ

ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَأنْزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى الْآيَةَ مَعَ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَعَلَّ ذِكْرَ آيَةِ النِّسَاءِ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْمُحَذِّرَةُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مِثْلُ آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [34] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَفِي «تَفْسِير الطَّبَرِيّ» بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ عَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ أَوْ أَنَّ مُرَادَ الرَّاوِي لَمَّا سَمِعَ النَّاسُ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ تَجَنَّبُوا النَّظَرَ فِي الْيَتَامَى فَذُكِّرُوا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ كَانَ السَّائِلُ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ غَيْرَ الْمُتَجَنِّبِ حِينَ نُزُولِ آيَةِ النِّسَاءِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّظَرَ فِي مَصَالِحِ الْأَيْتَامِ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ فِي حِفْظِ النِّظَامِ فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَسَائِرِ الْأُمَمِ فِي حَالِ الْبَسَاطَةِ يَكُونُ الْمَالُ بِيَدِ كَبِيرِ الْعَائِلَةِ فَقَلَّمَا تَجِدُ لِصَغِيرٍ مَالًا، وَكَانَ جُمْهُورُ أَمْوَالِهِمْ حَاصِلًا مِنَ اكْتِسَابِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِ الثَّرْوَةِ فِيهِمْ، فَكَانَ جُمْهُورُ الْعَرَبِ إِمَّا زَارِعًا أَوْ غَارِسًا أَوْ مُغِيرًا أَوْ صَائِدًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ مُبَاشِرِيهَا، فَإِذَا مَاتَ كَبِيرُ الْعَائِلَةِ وَتَرَكَ أَبْنَاءً صِغَارًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَكْتَسِبُوا كَمَا اكْتَسَبَ آبَاؤُهُمْ إِلَّا أَبْنَاءَ أَهْلِ الثَّرْوَةِ، وَالثَّرْوَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْأَنْعَامُ وَالْحَوَائِطُ إِذْ لَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ أَهْلَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَأَنَّ الْأَنْعَامَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِمَنْ يَرْعَاهَا فَإِنَّهَا عُرُوضٌ زَائِلَةٌ وَأَنَّ الْغُرُوسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي ثَرْوَةِ الْعَرَبِ مِلْكُ الْأَرْضِ إِذِ الْأَرْضُ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً إِلَّا لِلْعَامِلِ فِيهَا، عَلَى أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ الْيَتِيمِ يَسْتَضْعِفُهُ وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَكَرَمُ الْعَرَبِيِّ وَسَرَفُهُ وَشُرْبُهُ وَمَيْسِرُهُ لَا تُغَادِرُ لَهُ مَالًا وَإِنْ كَثُرَ. وَتَغَلُّبُ ذَلِكَ عَلَى مِلَاكِ شَهَوَاتِ أَصْحَابِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَرْكَهُ يَدْفَعُهُمْ إِلَى تَطَلُّبِ إِرْضَاءِ نُهْمَتِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ يُصْبِحَ الْيَتِيمُ بَيْنَهُمْ فَقِيرًا مَدْحُورًا، وَزِدْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ تَأَصَّلَ فِيهِمُ الْكِبْرُ عَلَى الضَّعِيفِ وَتَوْقِيرُ الْقَوِيِّ فَلَمَّا عَدِمَ الْيَتِيمُ نَاصِرَهُ وَمن يذب عِنْد كَانَ بِحَيْثُ يُعَرَّضُ لِلْمَهَانَةِ وَالْإِضَاعَةِ وَيُتَّخَذُ كَالْعَبْدِ لِوَلِيِّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ صَارَ وَصْفُ الْيَتِيمِ عِنْدَهُمْ مُلَازِمًا لِمَعْنَى الْخَصَاصَةِ وَالْإِهْمَالِ وَالذُّلِّ، وَبِهِ يَظْهَرُ مَعْنَى امْتِنَانِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ أَنْ حَفِظَهُ فِي حَالِ الْيُتْمِ مِمَّا يَنَالُ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضُّحَى: 6] . فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَهُمْ بِإِصْلَاحِ حَالِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى قِيلَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ الْيَتَامَى تَرَكُوا التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَاعْتَزَلُوا الْيَتَامَى وَمُخَالَطَتَهُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْإِصْلَاحُ جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا أَيْ ذَا صَلَاحٍ وَالصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَهُوَ كَوْنُ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ مُنْتَهَى مَا يُطْلَبُ لِأَجْلِهِ، فَصَلَاحُ الرَّجُلِ صُدُورُ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ مِنْهُ،

وَصَلَاحُ الثَّمَرَةِ كَوْنُهَا بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِأَكْلِهَا دُونَ ضُرٍّ، وَصَلَاحُ الْمَالِ نَمَاؤُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَصَلَاحُ الْحَالِ كَوْنُهَا بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْآثَارُ الْحَسَنَةُ. وإِصْلاحٌ لَهُمْ مُبْتَدَأٌ وَوَصْفُهُ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ. وَوَصَفَ الْإِصْلَاحَ بِ لَهُمْ دُونَ الْإِضَافَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ إِصْلَاحُهُمْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ قَصْرُهُ عَلَى إِصْلَاحِ ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّ أَصْلَ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ أَنْ تَكُونَ لِذَاتِ الْفَاعِلِ أَوْ ذَاتِ الْمَفْعُولِ فَلَا تَكُونُ عَلَى مَعْنَى الْحَرْفِ، وَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي عَهْدِ الْمُضَافِ فَعَدَلَ عَنْهَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ إِصْلَاحٌ مُعَيَّنٌ كَمَا عَدَلَ عَنْهَا فِي قَوْله: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يُوسُف: 59] وَلَمْ يَقُلْ بِأَخِيكُمْ لِيُوهِمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَخًا مَعْهُودًا عِنْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا جَمِيعُ الْإِصْلَاحِ لَا خُصُوصَ إِصْلَاحِ ذَوَاتِهِمْ فَيَشْمَلُ إِصْلَاحَ ذَوَاتِهِمْ وَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إِصْلَاحَ عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَالْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ، وَيَتَضَمَّنُ إِصْلَاحَ أَمْزِجَتِهِمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ وَالْأَخْطَارِ وَالْأَمْرَاضِ وَبِمُدَاوَاتِهِمْ، وَدَفْعِ الْأَضْرَارِ عَنْهُمْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ بِحَسَبِ مُعْتَادِ أَمْثَالِهِمْ دُونَ تَقْتِيرٍ وَلَا سَرَفٍ، وَيَشْمَلُ إِصْلَاحَ أَمْوَالِهِمْ بِتَنْمِيَتِهَا وَتَعَهُّدِهَا وَحِفْظِهَا. وَلَقَدْ أَبْدَعَ هَذَا التَّعْبِيرُ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ إِصْلَاحُهُمْ لَتُوُهِّمَ قَصْرُهُ عَلَى ذَوَاتِهِمْ فَيُحْتَاجُ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى إِصْلَاحِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْقِيَاسِ وَلَوْ قِيلَ قُلْ تَدْبِيرُهُمْ خَيْرٌ لَتَبَادَرَ إِلَى تَدْبِيرِ الْمَالِ فَاحْتِيجَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى إِصْلَاحِ ذَوَاتِهِمْ إِلَى فَحْوَى الْخِطَابِ. وخَيْرٌ فِي الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلَّذِينَ حَمَلَهُمُ الْخَوْفُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَى اعْتِزَالِ أُمُورِهِمْ وَتَرْكِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِعِلَّةِ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفِ فِيهَا كَمَا يُقَالُ: إِنَّ السَّلَامَةَ مِنْ سَلْمَى وَجَارَتِهَا ... أَنْ لَا تَحِلَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا فَالْمَعْنَى إِصْلَاحُ أُمُورِهِمْ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِهِمْ أَيْ أَفْضَلُ ثَوَابًا وَأَبْعَدُ عَنِ الْعِقَابِ، أَيْ خَيْرٌ فِي حُصُولِ غَرَضِكُمُ الْمَقْصُودِ مِنْ إِهْمَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَنْجَرُّ مِنْهُ إِثْمُ الْإِضَاعَةِ وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ ثَوَابُ السَّعْيِ وَالنَّصِيحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُقَابِلَ الشَّرِّ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمَعْنَى إِصْلَاحُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَتَرْكُ إِضَاعَتِهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ خَيْرٌ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لَيْسَ بِخَيْرٍ بَلْ هُوَ شَرٌّ، فَيَكُونُ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ

عَلَى هَذَا: التَّشْرِيعُ وَالتَّعْرِيضُ إِذِ التَّعْرِيضُ يُجَامِعُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تَقَعُ مَعَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَالْمُخَالَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخَلْطِ وَهُوَ جَمْعُ الْأَشْيَاءِ جَمْعًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ تَمْيِيزُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِيمَا تُرَادُ لَهُ، فَمِنْهُ خَلْطُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ والقمح وَالشعِير وَخَلْطُ النَّاسِ وَمِنْهُ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى إِصْلَاحِ الْمَالِ وَالتَّرْبِيَةِ عَنْ بُعْدٍ فَيَشْمَلُ الْمُصَاحَبَةَ وَالْمُشَارَكَةَ وَالْكَفَالَةَ وَالْمُصَاهَرَةَ إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُخَالَطَةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ جَوَابُ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ فَ (إِخْوَانُكُمْ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُشَاوَرَةَ وَالرِّفْقَ وَالنُّصْحَ. وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الْفَرَّاءِ «لَوْ نَصَبْتَهُ كَانَ صَوَابًا بِتَقْدِيرِ فَإِخْوَانَكُمْ تُخَالِطُونَ» وَهُوَ تَقْدِيرٌ سَمِجٌ، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَعْدُ فَمَحْمَلُ كَلَامِ الْفَرَّاءِ عَلَى إِرَادَةِ جَوَازِ تَرْكِيبِ مِثْلِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَا عَلَى أَنْ يُقْرَأَ بِهِ، وَلَعَلَّ الْفَرَّاءُ كَانَ جَرِيئًا عَلَى إِسَاغَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا يُسَوَّغُ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ دُونَ اشْتِرَاطِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَثُّ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ إِخْوَانًا كَانَ مِنَ الْمُتَأَكَّدِ مُخَالَطَتُهُمْ وَالْوِصَايَةُ بِهِمْ فِي هَاتِهِ الْمُخَالَطَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا إِخْوَانًا وَجَبَ بَذْلُ النُّصْحِ لَهُمْ كَمَا يُبْذَلُ لِلْأَخِ وَفِي الْحَدِيثِ «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وَيُتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّعْرِيضَ بِإِبْطَالِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنِ احْتِقَارِ الْيَتَامَى وَالتَّرَفُّعِ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَمُصَاهَرَتِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: 127] أَيْ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فَيَبْطُلُ التَّرَفُّعُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنِ الْإِخْبَارِ بِعِلْمِ اللَّهِ الْإِخْبَارُ بِتَرَتُّبِ آثَارِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَجَنُّبِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى تَنَزُّهٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْمُتَصَرِّفَ بِصَلَاحٍ وَالْمُتَصَرِّفَ بِغَيْرِ صَلَاحٍ وَفِيهِ أَيْضًا تَرْضِيَةٌ لِوُلَاةِ الْأَيْتَامِ فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ بَعْضِ مَحَاجِيرِهِمْ وَضَرْبِهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَمَا يُلَاقُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَصَاصَةِ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ الْأَعْظَمَ هُوَ إِرْضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لَا إِرْضَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ لَا يَهْتَمُّونَ إِلَّا بِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى

مَقَاصِدِهِمْ، وَفِي هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يُعْرِضَ النَّاسُ عَنِ النَّظَرِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى اتِّقَاءً لِأَلْسِنَةِ السُّوءِ، وَتُهْمَةِ الظَّنِّ بِالْإِثْمِ فَلَوْ تَمَالَأَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وِقَايَةً لِأَعْرَاضِهِمْ لَضَاعَتِ الْيَتَامَى، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ دَلَائِلَ وَوَرَاءَ الْمُتَصَرِّفِينَ عَدَالَةَ الْقُضَاةِ وَوُلَاةَ الْأُمُورِ يُجَازُونَ الْمُصْلِحَ بِالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ الْعَلَنِ وَيُجَازُونَ الْمُفْسِدَ بِالْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَتَامَى وبالتغريم بِمَا أَفَاتَهُ بِدُونِ نَظَرٍ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُصْلِحِ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ لَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» قَائِلًا «وَلِلْفَصْلِ» وَقَالَ فِي «الشَّرْحِ» : «وَأَشَرْتُ بِذِكْرِ الْفَصْلِ إِلَى دُخُولِهَا عَلَى ثَانِي الْمُتَضَادَّيْنِ نَحْوَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وحَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمرَان: 179] اهـ وَهُوَ مَعْنًى رَشِيقٌ لَا غِنَى عَنْ إِثْبَاتِهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَجعله وَجها ثَانِيًا فَقَالَ: «أَوْ أَتَأْتُونَ أَنْتُمْ مِنْ بَيْنِ مَنْ عَدَاكُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ الذُّكْرَانَ يَعْنِي أَنَّكُمْ يَا قَوْمَ لُوطٍ وَحْدَكُمْ مُخْتَصُّونَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ» اهـ فَجَعَلَ مَعْنَى (مِنْ) مَعْنَى مِنْ بَيْنَ، وَهُوَ لَا يَتَقَوَّمُ إِلَّا عَلَى إِثْبَاتِ مَعْنَى الْفَصْلِ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ معنى من الِابْتِلَاء وَمعنى الْبَدَلِيَّةِ حِينَ لَا يَصْلُحُ مُتَعَلِّقُ الْمَجْرُورِ لِمَعْنَى الِابْتِدَائِيَّةِ الْمَحْضِ وَلَا لِمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ الْمَحْضِ فَحَدَثَ مَعْنًى وَسَطٌ، وَبَحَثَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ الْفَصْلَ حَاصِلٌ مِنْ فِعْلِ يَمِيزَ وَمِنْ فِعْلِ يَعْلَمُ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ مَنْ لِلِابْتِدَاءِ أَوْ بِمَعْنَى عَنْ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ تَذْيِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالصُّعُوبَةُ الشَّدِيدَةُ أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَلَّفَكُمْ مَا فِيهِ الْعَنَتُ وَهُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْكُمْ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى فَتَجِدُوا ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْكُمْ وَعَنَتًا، لِأَنَّ تَجَنُّبَ الْمَرْءِ مُخَالَطَةَ أَقَارِبِهِ مِنْ إِخْوَةٍ وَأَبْنَاءِ عَمٍّ وَرُؤْيَتَهُ إِيَّاهُمْ مَضْيَعَةُ أُمُورِهِمْ لَا يَحْفُلُ بِهِمْ أَحَدٌ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ فِي الْجِبِلَّةِ وَهُمْ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَذَرًا وَتَنَزُّهًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا يَبْتَدِئُ الْمَرْءُ فِعْلَهُ يَسْتَطِيعُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ لِإِغْنَاءِ مَا بَعْدَهُ عَنْهُ، وَهَذَا حَذْفٌ شَائِعٌ فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ فَلَا يَكَادُونَ يَذْكُرُونَهُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: 20] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَا اقْتَضَاهُ شَرْطُ (لَوْ) مِنَ الْإِمْكَانِ وَامْتِنَاعِ الْوُقُوعِ أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ قَادِرٌ فَلَوْ شَاءَ لَكَلَّفَكُمُ الْعَنَتَ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا فَلِذَا لم يلكفكموه.

[سورة البقرة (2) : آية 221]

وَفِي جَمْعِ الصِّفَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَجْرِي عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صِفَاتُهُ كُلُّهَا وَبِذَلِكَ تَنْدَفِعُ إِشْكَالَاتٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقضَاءِ وَالْقدر. [221] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيَّامَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا زَالُوا مُخْتَلِطِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَدِينَةِ وَمَا هُمْ بِبَعِيدٍ عَنْ أَقْرِبَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرُبَّمَا رَغِبَ بَعْضُهُمْ فِي تَزَوُّجِ الْمُشْرِكَاتِ أَوْ رَغِبَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَزَوُّجِ نِسَاءٍ مُسْلِمَاتٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ أَوْقَعَ هَذَا الْبَيَانَ بِحِكْمَتِهِ فِي أَرْشَقِ مَوْقِعِهِ وَأَسْعَدِهِ بِهِ وَهُوَ مَوْقِعُ تَعْقِيبِ حُكْمِ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى، فَإِنَّ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَقَارِبَ وَمَوَالِيَ لَمْ يَزَالُوا مُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ يَتَامَى فَقَدُوا آبَاءَهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ بَيَانَ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى، وَكَانَتِ الْمُصَاهَرَةُ مِنْ أَعْظَمِ أَحْوَالِ الْمُخَالَطَةِ تَطَلَّعَتِ النُّفُوسُ إِلَى حُكْمِ هَاتِهِ الْمُصَاهَرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَعُطِفَ حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْيَتَامَى لَهَاتِهِ الْمُنَاسَبَةِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا مَرْثَدٍ الغنوي وَيُقَال مرثدا بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي هَاشِمٍ فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ سِرًّا لِيُخْرِجَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعَتْ بِقُدُومِهِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ وَكَانَتْ خَلِيلَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: وَيَحَكَ يَا مَرْثَدُ أَلَا تَخْلُو؟ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَتْ: فَتَزَوَّجْنِي قَالَ: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَتَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهَا، لِأَنَّهَا مُشْرِكَةٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ . وَالنِّكَاحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً وَيَقُولُونَ نَكَحَتْ فُلَانَةٌ فُلَانًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْوَطْءِ فَكِنَايَةٌ، وَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ. وَاخْتَارَهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا فَهُوَ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ

أَضْعَفُ. قَالُوا وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَعْنَى الْعَقْدِ فَقِيلَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَة: 230] ، لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي الْعَقْدُ فِي تَحْلِيلِ الْمَبْتُوتَةِ حَتَّى يَبْنِيَ بِهَا زَوْجُهَا كَمَا فِي حَدِيثِ زَوْجَةِ رِفَاعَةَ وَلَكِنَّ الْأَصْوَبَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ بِمَعْنَى الْعَقْدِ وَإِنَّمَا بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَقْدِ مِنَ الْوَطْءِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمَنْعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقْدِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْمُشْرِكُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَنْ يَدِينُ بِتَعَدُّدِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا آلِهَةً أُخْرَى مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقَابِلُهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْكُفَّارِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَلَكِنَّهُمْ أَنْكَرُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَصُّ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الْمَرْأَةَ الْمُشْرِكَةَ وَتَحْرِيمُ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ الرَّجُلَ الْمُشْرِكَ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا تَزَوُّجُ الْمُسْلِمِ الْمَرْأَةَ الْكِتَابِيَّةَ وَتَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ الرَّجُلَ الْكِتَابِيَّ فَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْهُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ لَقَبٌ لَا مَفْهُومَ لَهُ إِلَّا إِذَا جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ، وَقَدْ أَذِنَ الْقُرْآنُ بِجَوَازِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الْكِتَابِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْمَائِدَة: 5] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الْكِتَابِيَّةَ دُونَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى هَذَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، فَبَقِيَ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْكِتَابِيِّ لَا نَصَّ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا اسْتِنَادًا مِنْهُمْ إِلَى الِاقْتِصَارِ فِي مَقَامِ بَيَانِ التَّشْرِيعِ وَإِمَّا إِلَى أَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْقِيَاسِ وَسَنُشِيرُ إِلَيْهِ أَوْ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ لِفِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا أَهْلُ الْكِتَابِ صَارُوا مُشْرِكِينَ لِقَوْلِ الْيَهُودِ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَلِقَوْلِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَأُبُوَّةُ الْإِلَهِ تَقْتَضِي أُلُوهِيَّةَ الِابْنِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى جَنَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْهُ «لَاَ أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى» وَلَكِنَّ هَذَا مَسْلَكٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ إِدْخَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَعْنَى الْمُشْرِكِينَ بَعِيدٌ عَنِ الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ فَاشٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا تَمَّ فِي النَّصَارَى بِاطِّرَادٍ فَهُوَ لَا يَتِمُّ فِي الْيَهُودِ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ إِنَّمَا هُمْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ أَتْبَاعُ (فِنْحَاصٍ) كَمَا حَكَاهُ الْفَخْرُ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً وَأَنْ يُزَوَّجَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُسْلِمَةً فَإِنَّ آيَةَ سُورَةِ الْعُقُودِ خَصَّصَتْ عُمُومَ الْمَنْعِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْمَائِدَة: 5] ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ قَوْلَهُمُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَقَوْلَ الْآخَرِينَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فَبَقِيَ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ إِيَّاهُمْ مَشْمُولًا لِعُمُومِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذَا مَسْلَكٌ سَلَكَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَمِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مَنْ كَرِهَ تَزَوُّجَ الْكِتَابِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ حُذَيْفَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ. وَقَالَ شُذُوذٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَنْعِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الْكِتَابِيَّةَ، وَزَعَمُوا أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْعُقُودِ نَسَخَتْهَا آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَيَهُودِيَّةٍ تَزَوَّجَهَا وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَنَصْرَانِيَّةٍ تَزَوَّجَهَا، فَقَالَا لَهُ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْضَبُ فَقَالَ: لَوْ جَازَ طَلَاقُكُمَا لَجَازَ نِكَاحُكُمَا، وَلَكِنْ أُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا صَغَرَةً وَقَمَاءَةً، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا لَا يُسْنَدُ جَيِّدًا وَالْأَثَرُ الْآخَرُ عَنْ عُمَرَ أَسْنَدُ مِنْهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الْقَوْلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ وَإِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ لَهُمَا تَزَوُّجَهُمَا حَذَرًا مِنْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمَا النَّاسُ فَيَزْهَدُوا فِي الْمُسْلِمَاتِ. وحَتَّى يُؤْمِنَّ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ فَإِذَا آمَنَ زَالَ النَّهْيُ وَلِذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ وَلَمْ تُسْلِمْ زَوْجَتُهُ تَبِينُ مِنْهُ إِلَّا إِذَا أَسْلَمَتْ عَقِبَ إِسْلَامِهِ بِدُونِ تَأْخِيرٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ تَنْبِيهٌ عَلَى دَنَاءَةِ الْمُشْرِكَاتِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ تَزَوُّجِهِنَّ وَمِنَ الِاغْتِرَارِ بِمَا يَكُونُ لِلْمُشْرِكَةِ مِنْ حَسَبٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ مَالٍ وَهَذِهِ طَرَائِقُ الْإِعْجَابِ فِي الْمَرْأَةِ الْمَبَالَغُ عَلَيْهِ بقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ تَزَوُّجَ حُرَّةٍ مُؤْمِنَةٍ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً مُؤْمِنَةً خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً مُشْرِكَةً، فَالْأَمَةُ هُنَا هِيَ الْمَمْلُوكَةُ، وَالْمُشْرِكَةُ الْحُرَّةُ بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ فَالْكَلَامُ وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّنَاهِي فِي تَفْضِيلِ أَقَلِّ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى أَتَمِّ أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرًا مِنْ كُلِّ مُشْرِكَةٍ فَالْحُرَّةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنَ الْمُشْرِكَةِ بِدَلَالَةِ فَحَوَى الْخِطَابِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا السِّيَاقُ، وَلِظُهُورِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ فَإِنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ الْمُؤْمِنُونَ وَلقَوْله: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ فَإِنَّ الْإِعْجَابَ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ التَّفْضِيلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ فَإِنَّ فِي تَزَوُّجِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَافِعَ دِينِيَّةً وَفِي الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ مَنَافِعُ دُنْيَوِيَّةٌ وَمَعَانِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا الْمُنَافِيَةِ لِلدِّينِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ حِكْمَةِ التَّحْرِيمِ اسْتِئْنَاسًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» حَمْلُ الْأَمَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَعَبِيدُهُ وَأَصْلُهُ مَنْقُولٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ الْجُرْجَانِيِّ كَمَا فِي الْقُرْطُبِيِّ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ إِذْ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُشْرِكَةَ دُونَ الْمُؤْمِنَةِ، وَيُفِيتُ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِ أَقَلِّ أَفْرَادِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ عَلَى أَشْرَفِ أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْآخَرِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْأَمَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرْأَةِ، وَلَا إِطْلَاقُ الْعَبْدِ عَلَى الرَّجُلِ إِلَّا مُقَيَّدَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَيَا أَمَةَ اللَّهِ، وَكَوْنُ النَّاسِ إِمَاءَ اللَّهِ وَعَبِيدَهُ إِنَّمَا هُوَ نَظَرٌ لِلْحَقَائِقِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ. وَضَمِيرُ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكَةِ، وَ (لَوْ) وَصْلِيَّةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَقْصَى الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ تَفْضِيلِ الْمُشْرِكَةِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ أَفْضَلُ مِنْهَا حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ لَوْ الْوَصْلِيَّةِ وَالْوَاوِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [الْبَقَرَة: 170] . وَقَوْلُهُ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا تَحْرِيمٌ لِتَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِحُكْمِ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْكَافِرِ الْكِتَابِيِّ فَيَكُونُ دَلِيلُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ وَهُوَ إِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ تَلَقَّاهُ الصَّحَابَةُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى تَضَافُرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] فَعَلَّقَ النَّهْيَ بِالْكُفْرِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ حِينَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُؤْمِنُوا غَايَةٌ لِلنَّهْيِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إِذَا أَسْلَمَ هُوَ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ

مِنْ مُشْرِكَةٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَمْلُوكُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحُرَّ الْمُشْرِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً لِصَلُوحِيَّتِهِ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَالْوَاوُ فِي يَدْعُونَ وَاوُ جَمَاعَةِ الرِّجَالِ وَوَزْنُهُ يَفْعُونَ، وَغُلِّبَ فِيهِ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ وَإِنْكَاحِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى النَّارِ الدُّعَاءُ إِلَى أَسْبَابِهَا فَإِسْنَادُ الدُّعَاءِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَلَفْظُ النَّارِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ أُطْلِقَ عَلَى أَسْبَابِ الدُّخُولِ إِلَى النَّارِ فَإِنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ يَجُرُّ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَلَمَّا كَانَتْ رَابِطَةُ النِّكَاحِ رَابِطَةَ اتِّصَالٍ وَمُعَاشَرَةٍ نَهَى عَنْ وُقُوعِهَا مَعَ مَنْ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ خَشْيَةَ أَنْ تُؤَثِّرَ تِلْكَ الدَّعْوَةُ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَإِلْفًا يَبْعَثَانِ عَلَى إِرْضَاءِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَدِيدَةً لِأَنَّهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ، كَانَ الْبَوْنُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ بَعِيدًا جِدًّا لَا يَجْمَعُهُمْ شَيْءٌ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُبِحِ اللَّهُ مُخَالَطَتَهُمْ بِالتَّزَوُّجِ مِنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ. أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اعْتِقَادُ وُجُودِ اللَّهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّصَارَى الِاعْتِقَادُ بِبُنُوَّةِ عِيسَى وَالْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقُ عِيسَى، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ وَلم يبح تزوج الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْكِتَابِيِّ اعْتِدَادًا بِقُوَّةِ تَأْثِيرِ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَالْمُسْلِمُ يُؤْمِنُ بِأَنْبِيَاءِ الْكِتَابِيَّةِ وَبِصِحَّةِ دِينِهَا قَبْلَ النَّسْخِ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَالِبًا إِيَّاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْهُ جَانِبًا وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِدِينِ الْمُسْلِمَةِ وَلَا بِرَسُولِهَا فَيُوشِكُ أَنْ يَجُرَّهَا إِلَى دِينِهِ، لِذَلِكَ السَّبَبِ وَهَذَا كَانَ يُجِيبُ بِهِ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ سَالِمٌ أَبُو حَاجِبٍ عَنْ وَجْهِ إِبَاحَةِ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّةِ وَمَنْعِ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيِّ الْمُسْلِمَةَ. وَقَوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ الْآيَةَ أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَدْعُو بِهَذَا الدِّينِ إِلَى الْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ دَعْوَةُ الْمُشْرِكِينَ مُضَادَّةً لِدَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَفْظِيعُ دَعْوَتِهِمْ وَأَنَّهَا خِلَافُ دَعْوَةِ اللَّهِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ دُعَاءٌ لِأَسْبَابِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ. وَالْمَغْفِرَةُ هُنَا مَغْفِرَةُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ الْإِذْنُ فِيهِ إِمَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فَيَكُونُ بِإِذْنِهِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ (الْجَنَّةِ) وَالْمَغْفِرَةِ أَيْ حَاصِلَتَيْنِ بِإِذْنِهِ أَيْ إِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِمَا بَيَّنَ مَنْ طَرِيقِهِمَا.

[سورة البقرة (2) : آية 222]

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ الْإِذْنَ عَلَى التَّيْسِيرِ وَالْقَضَاءِ وَالْبَاءَ عَلَى أَنَّهَا ظَرْفُ لَغْوٍ فَرَأَى هَذَا الْقَيْدَ غَيْرَ جَزِيلِ الْفَائِدَةِ فَتَأَوَّلَ قَوْله: وَاللَّهُ يَدْعُوا بِمَعْنَى وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَجُمْلَةُ وَيُبَيِّنُ معطوفة على يَدْعُوا يَعْنِي يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ مَعَ بَيَانِهِ وَإِيضَاحِهِ حَتَّى تَتَلَقَّاهُ النُّفُوسُ بِمَزِيدِ الْقَبُولِ وَتَمَامِ الْبَصِيرَةِ فَهَذَا كَقَوْلِهِ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [الْبَقَرَة: 219] فَفِيهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً بِغَيْرِ صِيغَتِهِ. وَلَعَلَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مِثْلِهِ مَجَازٌ فِي الْحُصُول الْقَرِيب. [222] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَة: 221] ، بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ يُؤْذِنُ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَقْرَبُونَ نِسَاءَهُمْ إِذَا كُنَّ حُيَّضًا وَكَانُوا يُفْرِطُونَ فِي الِابْتِعَادِ مِنْهُنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ فَنَاسَبَ تَحْدِيدَ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَهُوَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُخَالِفُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ غَيْرَهُمْ، وَيَتَسَاءَلُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ أَحَقِّ الْمَنَاهِجِ فِي شَأْنِهَا. رُوِيَ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ هَذَا هُوَ أَبُو الدَّحْدَاحِ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ، وَرُوِيَ أَنَّ السَّائِلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَالسُّؤَالُ حَصَلَ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَذُكِرَ فِيهَا مَعَ مَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْبَاعِثُ عَلَى السُّؤَالِ أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ قَدِ امْتَزَجُوا بِالْيَهُودِ وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَبَاعَدُونَ عَنِ الْحَائِضِ أَشَدَّ التَّبَاعُدِ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ فَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ «إِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ لَهَا سَيْلٌ دَمًا فِي لَحْمِهَا فَسَبْعَةُ أَيَّامٍ تَكُونُ فِي طَمْثِهَا وَكُلُّ مَنْ مَسَّهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ وَكُلُّ مَا تَضْطَجِعُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا وَكُلُّ مَنْ مَسَّ فِرَاشَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ وَإِنِ اضْطَجَعَ مَعَهَا رَجُلٌ فَكَانَ طَمْثُهَا عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ» . وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ النَّصَارَى لَا يمتنعون من ذَلِكَ وَلَا أَحْسَبُ ذَلِكَ صَحِيحًا فَلَيْسَ فِي الْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَنْ كَانَتِ الْحَائِضُ عِنْدَهُمْ مَبْغُوضَةً

فَقَدْ كَانَ بَنُو سُلَيْحٍ أَهْلُ بَلَدِ الْحَضْرِ، وَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ نَصَارَى إِنْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الرَّبْضِ حَتَّى تَطْهُرَ وَفَعَلُوا ذَلِكَ بِنَصْرَةَ ابْنَةِ الضَّيْزَنِ مَلِكِ الْحَضْرِ، فَكَانَتِ الْحَالُ مَظِنَّةَ حِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبْعَثُ عَلَى السُّؤَالِ عَنْهُ. وَالْمَحِيضُ وَهُوَ اسْمٌ لِلدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ رَحِمِ الْمَرْأَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُنْتَظِمَةٍ وَالْمَحِيضُ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ مَفْعِلٍ مَنْقُولٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَصَادِرِ شَاذًّا عَنْ قِيَاسِهَا لِأَنَّ قِيَاسَ الْمَصْدَرِ فِي مِثْلِهِ فَتْحُ الْعَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ «يُقَالُ حَاضَتْ حَيْضًا وَمَحَاضًا وَمَحِيضًا وَالْمَصْدَرُ فِي هَذَا الْبَابِ بَابُهُ الْمَفْعَلِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) لَكِنَّ الْمَفْعِلَ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) جَيِّدٌ» وَوَجْهُ جَوْدَتِهِ مُشَابَهَتُهُ مُضَارِعَهُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ مِثْلُ الْمَجِيءِ وَالْمَبِيتِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْمَحِيضُ اسْمًا لِلدَّمِ السَّائِلِ مِنَ الْمَرْأَةِ عُدِلَ بِهِ عَنْ قِيَاسِ أَصْلِهِ مِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَكَانِ وَجِيءَ بِهِ عَلَى زِنَةِ الْمَكَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ صَارَ اسْمًا فَخَالَفُوا فِيهِ أَوْزَانَ الْأَحْدَاثِ إِشْعَارًا بِالنَّقْلِ فَرْقًا بَيْنَ الْمَنْقُولِ مِنْهُ وَالْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ حَيْضٌ وَهُوَ أَصْلُ الْمَصْدَرِ: يُقَالُ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا سَالَ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ حَاضَ السَّيْلُ إِذَا فَاضَ مَاؤُهُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَوْضُ حَوْضًا لِأَنَّهُ يَسِيلُ، أَبْدَلُوا يَاءَهُ وَاوًا وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنِ اسْمِ الْمَكَانِ إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لِلنَّقْلِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَكَلَّفَهُ مَنْ زَعَمَهُ مَدْفُوعًا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى قِيَاسِ اسْمِ الْمَكَانِ مُعْرِضًا عَمَّا فِي تَصْيِيرِهِ اسْمًا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي مُخَالَطَةِ قَاعِدَةِ الِاشْتِقَاقِ. وَالْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْمَحِيضِ السُّؤَالُ عَنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَقَدْ عَلِمَ السَّائِلُونَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَالْجَوَابُ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ. وَالْأَذَى: الضُّرُّ الَّذِي لَيْسَ بِفَاحِشٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] ، ابْتَدَأَ جَوَابِهِمْ عَمَّا يَصْنَعُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ الْحَائِضِ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْحَيْضَ أَذًى لِيَكُونَ مَا يَأْتِي مِنَ النَّهْيِ عَنْ قرْبَان الْمَرْأَة الْحَائِض نهيا مُعَلَّلًا فَتَتَلَقَّاهُ النُّفُوسُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَتَهَيَّأُ بِهِ الْأُمَّةُ لِلتَّشْرِيعِ فِي أَمْثَالِهِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِأَذًى إِشَارَةً إِلَى إِبْطَالِ مَا كَانَ مِنَ التَّغْلِيطِ فِي شَأْنِهِ وَشَأْنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَذًى مُنَكَّرٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَتَهُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَذَى فِي مُخَالَطَةِ الرَّجُلِ لِلْحَائِضِ وَهُوَ أَذًى لِلرَّجُلِ وَلِلْمَرْأَةِ وَلِلْوَلَدِ، فَأَمَّا أَذَى الرَّجُلِ فَأَوَّلُهُ الْقَذَارَةُ وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الدَّم سَائل مِنْ عُضْوِ التَّنَاسُلِ لِلْمَرْأَةِ وَهُوَ يشْتَمل على بييضات دقيقة يكون مِنْهَا تُخْلَقُ الْأَجِنَّةُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَيْضِ وَبَعْدَ أَنْ تختلط تِلْكَ البييضات بِمَاءِ الرَّجُلِ فَإِذَا انْغَمَسَ فِي الدَّمِ عُضْوُ التَّنَاسُلِ فِي الرَّجُلِ يَتَسَرَّبُ إِلَى قَضِيبِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ بِمَا فِيهِ فَرُبَّمَا احْتُبِسَ مِنْهُ جُزْءٌ فِي

قَنَاةِ الذَّكَرِ فَاسْتَحَالَ إِلَى عُفُونَةٍ تُحْدِثُ أَمْرَاضًا مُعْضِلَةً فَتُحْدِثُ بُثُورًا وَقُرُوحًا لِأَنَّهُ دَمٌ قَدْ فَسَدَ وَيَرِدُ أَيْ فِيهِ أَجْزَاءٌ حَيَّةٌ تُفْسِدُ فِي الْقَضِيبِ فَسَادًا مِثْلَ موت الْحَيّ فتؤول إِلَى تَعَفُّنٍ. وَأَمَّا أَذَى الْمَرْأَةِ فَلِأَنَّ عُضْوَ التَّنَاسُلِ مِنْهَا حِينَئِذٍ بصدد التهيؤ إل إِيجَادِ الْقُوَّةِ التَّنَاسُلِيَّةِ فَإِذَا أُزْعِجَ كَانَ إِزْعَاجًا فِي وَقت اشْتِغَاله بِعَمَل فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَرَضٌ وَضَعْفٌ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِدَمِ الْحيض أخذت البييضات فِي التَّخَلُّقِ قَبْلَ إبان صلاحيتها التخلق النَّافِعِ الَّذِي وَقَتُهُ بَعْدَ الْجَفَافِ، وَهَذَا قَدْ عَرَفَهُ الْعَرَبُ بِالتَّجْرِبَةِ قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ: وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حِيضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعْضِلِ (غُبَّرُ الْحَيْضَةِ جَمْعُ غُبْرَةٍ وَيُجْمَعُ عَلَى غُبَّرٍ وَهِيَ آخِرُ الشَّيْءِ، يُرِيدُ لَمْ تَحْمِلْ بِهِ أُمُهُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ) . وَالْأَطِبَّاءُ يَقُولُونَ إِنَّ الْجَنِينَ الْمُتَكَوِّنَ فِي وَقت الْحيض قد يَجِيءُ مَجْذُومًا أَوْ يُصَابُ بِالْجُذَامِ مِنْ بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَفْرِيعُ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالِاعْتِزَالُ التَّبَاعُدُ بِمَعْزِلٍ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ مُجَامَعَتِهِنَّ، وَالْمَجْرُورُ بِفِي: وَقْتٌ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِي زَمَنِ الْمَحِيضِ وَقَدْ كَثُرَتْ إِنَابَةُ الْمَصْدَرِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ كَمَا يَقُولُونَ آتِيكَ طُلُوعَ النَّجْمِ وَمَقْدِمَ الْحَاجِّ. وَالنِّسَاءُ اسْمُ جَمْعٍ للْمَرْأَة لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْأَزْوَاجُ كَمَا يَقْتَضِيهِ لفظ فَاعْتَزِلُوا الْمُخَاطَبِ بِهِ الرِّجَالُ، وَإِنَّمَا يَعْتَزِلُ مَنْ كَانَ يُخَالِطُ. وَإِطْلَاقُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ شَائِعٌ بِالْإِضَافَةِ كَثِيرًا نَحْوَ: يَا نِساءَ النَّبِيِّ [الْأَحْزَاب:30] ، وَبِدُونِ إِضَافَةٍ مَعَ الْقَرِينَةِ كَمَا هُنَا، فَالْمُرَادُ اعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ أَيِ اعْتَزِلُوا مَا هُوَ أَخَصُّ الْأَحْوَالِ بِهِنَّ وَهُوَ الْمُجَامَعَةُ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِاعْتِزَالِهِنَّ وَتَبْيِينًا لِلْمُرَادِ مِنَ الِاعْتِزَالِ وَأَنَّهُ لَيْسَ التَّبَاعُدَ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِالْأَبْدَانِ كَمَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ بَلْ هُوَ عَدَمُ الْقِرْبَانِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ، لِأَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَمُبَيِّنَةٌ لِلِاعْتِزَالِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ، وَلَكِنْ خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْحُكْمِ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْقِرْبَانِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ مَعْطُوفًا عَلَى التَّشْرِيعَاتِ. وَيُكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالْقِرْبَانِ بِكَسْرِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَرِبَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالْمُضَارِعِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ مُضَارِعُ قَرِبَ كَسَمِعَ مُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَفْعُولِ فَإِنَّ

الْجِمَاعَ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِيهِ دُونَ قَرُبَ بِالضَّمِّ الْقَاصِرِ يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ بِمَعْنَى دَنَا وَقَرِبَهُ كَذَلِكَ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمُجَامَعَةِ، لِأَنَّ فِيهَا قُرْبًا وَلَكِنَّهُمْ غَلَّبُوا قَرِبَ الْمَكْسُورَ الْعَيْنِ فِيهَا دُونَ قَرُبَ الْمَضْمُومِ تَفْرِقَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا قَالُوا بَعُدَ إِذَا تَجَافَى مَكَانُهُ وَبَعِدَ كَمَعْنَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيّ وَلذَلِك يَدْعُو بِلَا يَبْعَدْ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَطْهُرْنَ غَايَةٌ لِاعْتَزِلُوا وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ، وَالطُّهْرُ بِضَمِّ الطَّاءِ مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ النَّقَاءُ مِنَ الْوَسَخِ وَالْقَذَرِ وَفِعْلُهُ طَهُرَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَحَقِيقَةُ الطُّهْرِ نَقَاءُ الذَّاتِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ عَلَى النَّقَاءِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ طُهْرُ الْحَدَثِ الَّذِي يُقَدَّرُ حُصُولُهُ لِلْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ، وَيُقَالُ تَطَهَّرَ إِذَا اكْتَسَبَ الطَّهَارَةَ بِفِعْلِهِ حَقِيقَةً نَحْوَ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: 108] أَوْ مَجَازًا نَحْوَ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 82] ، وَيُقَالُ اطَّهَّرَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَهِيَ صِيغَةٌ تَطَهَّرَ وَقَعَ فِيهَا إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الْمَائِدَة: 6] وَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ مَعْنَى الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ كَانَ إِطْلَاقُ بَعْضِهَا فِي مَوْضِعِ بَعْضٍ اسْتِعْمَالًا فَصِيحًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ. وَلَمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمَحِيضَ أَذًى عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الطُّهْرَ هُنَا هُوَ النَّقَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْأَذَى فَإِنَّ وَصْفَ حَائِضٍ يُقَابَلُ بِطَاهِرٍ وَقَدْ سُمِّيَتِ الْأَقْرَاءُ أَطْهَارًا، وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّطَهُّرِ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: 108] فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ فِي الْخَلَاءِ بِالْمَاءِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَفَادَ مَنْعَ الْقِرْبَانِ إِلَى حُصُولِ النَّقَاءِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ بِالْجُفُوفِ وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذا تَطَهَّرْنَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا ثَانِيًا دَالًّا عَلَى لُزُومِ تَطَهُّرٍ آخَرَ وَهُوَ غَسْلُ ذَلِكَ الْأَذَى بِالْمَاءِ، لِأَنَّ صِيغَةَ تَطَهَّرَ تَدُلُّ عَلَى طَهَارَةٍ مُعْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ قَوْلُهُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَأْتُوهُنَّ، وَعَلَى الِاحْتِمَال الثَّانِي جَاءَ قِرَاءَةُ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الطُّهْرَ الْمُكْتَسَبَ وَهُوَ الطُّهْرُ بِالْغُسْلِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ مَعَ مَعْنَاهُ لَازِمُهُ أَيْضًا وَهُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّمِ لِيَقَعَ الْغَسْلُ مَوْقِعَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَبِذَلِكَ كَانَ مَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا، وَقَدْ رَجَّحَ الْمُبَرِّدُ قِرَاءَةَ حَتَّى يَطَّهَّرْنَ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ يُرَادُ بِهِمَا جَمِيعًا الْغَسْلُ وَهَذَا عَجِيبٌ صُدُورُهُ مِنْهُ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَيَيْنِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَضَادٌّ أَوَّلِيٌّ لِتَكَوُنَ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ مُفِيدَةً شَيْئًا جَدِيدًا.

وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ قَائِلًا: «لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرُبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا حَتَّى تَطْهُرَ» وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَلَا إِلَى تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ بِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الْمَنْعِ مِنْ قِرْبَانِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَطْهُرَ بِدَلِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ غَايَةَ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ هِيَ حُصُولُ الطُّهْرِ فَإِنْ حَمَلْنَا الطُّهْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فَهُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّمِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَيَحْصُلَ مِنَ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ اشْتِرَاطُ النَّقَاءِ وَالْغُسْلِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 6] وَإِنَّ حَمْلَ الطُّهْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لَا سِيَّمَا عَلَى قِرَاءَةِ (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) حَصَلَ مِنْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَمِنَ الشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ لَهُ اشْتِرَاطُ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ النَّقَاءِ عَادَةً، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْغُسْلِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ فِي مُجْمَلِ الطُّهْرِ الشَّرْعِيِّ هُنَا فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ غَسْلُ مَحَلِّ الْأَذَى بِالْمَاءِ فَذَلِكَ يُحِلُّ قِرْبَانَهَا وَهَذَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ الطُّهْرَ الشَّرْعِيَّ يُطْلَقُ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَعَلَى رَفْعُ الْحَدَثِ، وَالْحَائِضُ اتَّصَفَتْ بِالْأَمْرَيْنِ، وَالَّذِي يَمْنَعُ زَوْجَهَا مِنْ قِرْبَانِهَا هُوَ الْأَذَى وَلَا عَلَاقَةَ لِلْقِرْبَانِ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَسْلَ ذَلِكَ الْأَذَى، وَإِنْ كَانَ الطُّهْرَانُ مُتَلَازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِيَّةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيٌّ هُوَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِأَكْمَلِ أَفْرَادِ هَذَا الِاسْمِ احْتِيَاطًا، أَوْ رَجَعُوا فِيهِ إِلَى عَمَلِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْمَظْنُونُ بِالْمُسْلِمَاتِ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُنَّ كُنَّ لَا يَتَرَيَّثْنَ فِي الْغُسْلِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُنَّ الصَّلَاةَ فَلَا دَلِيلَ فِي فِعْلِهِنَّ على عدم إِجْزَاء مَا دُونَهُ، وَذهب مُجَاهِد وطاووس وَعِكْرِمَةُ إِلَى أَنَّ الطُّهْرَ هُوَ وُضُوءٌ كَوُضُوءِ الصَّلَاةِ أَيْ مَعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَهَذَا شَاذٌّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: إِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقْصَى أَمَدِ الْحَيْضِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُمْ جَازَ قِرْبَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ أَيْ مَعَ غَسْلِ الْمَحَلِّ خَاصَّةً، وَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَادَةِ الْمَرْأَةِ دُونَ أَقْصَى الْحَيْضِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقْرَبَهَا زَوْجُهَا إِلَّا إِذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَادَتِهَا لَمْ يَحِلَّ قُرْبَانُهَا وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي احْتِيَاطًا وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا

حَتَّى تكمل مُدَّة عَادَتهَا، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ انْقِطَاعَهُ لِأَكْثَرِ أَمَدِهِ انْقِطَاعٌ تَامٌّ لَا يُخْشَى بَعْدَهُ رُجُوعُهُ بِخِلَافِ انْقِطَاعِهِ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ يُتَقَصَّى أَثَرُهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِمُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا لِهَذَا التَّفْصِيلِ فَقَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّلْكُوتِيُّ (حَتَّى يَطْهُرْنَ) قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَتَنْزِلُ الْقِرَاءَتَانِ مَنْزِلَةَ آيَتَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُعَارِضَةً الْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ اقْتِضَاءُ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ الطُّهْرَ بِمَعْنَى النَّقَاءِ وَاقْتِضَاءُ الْأُخْرَى كَوْنَهُ بِمَعْنَى الْغُسْلِ جُمِعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ بِإِعْمَالِ كُلٍّ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ اهـ، وَهَذَا مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَعْهَدْ عَدَّ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ حَتَّى يَثْبُتَ التَّعَارُضُ، سَلَّمْنَا لَكِنَّهُمَا وَرَدَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهُمَا عَلَى مُقَيِّدِهِمَا بِأَنْ نَحْمِلَ الطُّهْرَ بِمَعْنَى النَّقَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالْغُسْلِ، سَلَّمْنَا الْعُدُولَ عَنْ هَذَا التَّقْيِيدِ فَمَا هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي خَصَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ بِحَالَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى أَوْ دُونَ حَالَاتٍ أُخَرَ، فَمَا هَذَا إِلَّا صُنْعٌ بِالْيَدِ، فَإِنْ قُلْتَ لِمَ بَنَوْا دَلِيلَهُمْ عَلَى تَنْزِيلِ الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْزِلَةَ الْآيَتَيْنِ وَلَمْ يَبْنُوهُ مِثْلَنَا عَلَى وُجُودِ (يَطْهُرْنَ) وَ (يَطَّهَّرْنَ) فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، قُلْتُ كَأَنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْآيَةِ هُمَا جُزْءَا آيَةٍ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّعَارُضِ بَيْنَ جُزْئَيْ آيَةٍ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا مُفَسِّرٌ لِلْآخَرِ أَوْ مُقَيِّدٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: فَأْتُوهُنَّ الْأَمْرُ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ النَّهْيِ مِثْلَ وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَة: 2] عُبِّرَ بِالْإِتْيَانِ هُنَا وَهُوَ شَهِيرٌ فِي التَّكَنِّي بِهِ عَنِ الْوَطْءِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرْبَانِ الْمَنْهِيِّ عَنهُ هُوَ الَّذِي الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ فَقَدْ عُبِّرَ بِالِاعْتِزَالِ ثُمَّ قُفِّيَ بِالْقِرْبَانِ ثُمَّ قُفِّيَ بِالْإِتْيَانِ وَمَعَ كُلِّ تَعْبِيرٍ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ وَحُكْمٌ جَدِيدٌ وَهَذَا مِنْ إِبْدَاعِ الْإِيجَازِ فِي الْإِطْنَابِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ حَيْثُ اسْمُ مَكَانٍ مُبْهَمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ مُلَازِمُ الْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةٍ تُحَدِّدُهُ لِزَوَالِ إِبْهَامِهَا، وَقَدْ أُشْكِلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ عَلَى الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَمَا أَرَى سَبَبَ إِشْكَالِهِ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى قَدِ اعْتَادَ الْعَرَبُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ سُلُوكَ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالْإِغْمَاضِ وَكَانَ فَهْمُهُ مَوْكُولًا إِلَى فِطَنِهِمْ وَمُعْتَادِ تَعْبِيرِهِمْ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ أَيْ إِلَّا مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ مِنْهُ مُدَّةَ الْحَيْضِ يَعْنِي الْقُبُلَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ (مِنْ) بِمَعْنَى فِي وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [الْأَحْقَاف: 4] وَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: 9] ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي رُزَيْنٍ مَسْعُودِ بْنِ مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ

[سورة البقرة (2) : آية 223]

أَنَّ الْمَعْنَى: مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَهِيَ الطُّهْرُ، فَحَيْثُ مَجَازٌ فِي الْحَالِ أَوِ السَّبَبِ وَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْأَسْبَابِ فَهِيَ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ مِنْهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيمَا قَبْلُ، وَأَمَّا (حَيْثُ) فَظَرْفُ مَكَانٍ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي التَّعْلِيلِ فَيَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمْرُهُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْغَايَةُ بِ (حَتَّى) فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ لِأَنَّ غَايَةَ النَّهْيِ تَنْتَهِي إِلَى الْإِبَاحَةِ فَالْأَمْرُ هُوَ الْإِذْنُ، وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَ (حَيْثُ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ مَجَازًا تَخْيِيلِيًّا أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَنْ تَأْتُوهُنَّ عِنْدَ انْتِهَاءِ غَايَةِ النَّهْيِ بِالتَّطَهُّرِ. أَوِ الْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمْرُهُ الَّذِي بِهِ أَبَاحَ التَّمَتُّعَ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، فَحَرْفُ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ، وَ (حَيْثُ) مُسْتَعَارٌ لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ حَالَةُ الْإِبَاحَةِ الَّتِي قَبْلَ النَّهْيِ كَأَنَّهُمْ كَانُوا مَحْجُوزِينَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْإِبَاحَةِ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا فَشُبِّهَتْ حَالَتُهُمْ بِحَالَةِ مَنْ حُبِسَ عِنْدَ مَكَانٍ ثُمَّ أُطْلِقَ سَرَاحُهُ فَهُوَ يَأْتِي مِنْهُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ مَا يُؤْذِنُ بِقَصْدِ تَحْدِيدِ الْإِتْيَانِ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَكَانِ النَّسْلِ، وَيُعَضِّدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَذْيِيلُ الْكَلَامِ بِجُمْلَةِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَهُوَ ارْتِفَاقٌ بِالْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ كَانَ لِمَنْفَعَتِهِمْ لِيَكُونُوا مُتَطَهِّرِينَ، وَأَمَّا ذِكْرُ التَّوَّابِينَ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ التَّوْبَةِ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ أَيْ إِنَّ التَّوْبَةَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنَ التَّطَهُّرِ أَيْ أَنَّ نِيَّةَ الِامْتِثَالِ أَعْظَمُ مِنْ تَحَقُّقِ مَصْلَحَةِ التَّطَهُّرِ لَكُمْ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَطَهُّرٌ رُوحَانِيٌّ وَالتَّطَهُّرُ جُثْمَانِيٌّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ (مِنْ) فِي الِابْتِدَاءِ وَحَقِيقَةِ (حَيْثُ) لِلْمَكَانِ وَالْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ بِهِ أَذَى الْحَيْضِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنْ جُمْلَةَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَإِذا تَطَهَّرْنَ وَجُمْلَةِ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 223] [223] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ ثَانٍ لِجُمْلَةِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 222] قُصِدَ بِهِ الِارْتِفَاقُ بِالْمُخَاطَبِينَ وَالتَّأَنُّسُ لَهُمْ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ قِرْبَانِ النِّسَاءِ فِي مُدَّةِ الْمَحِيضِ مَنْعٌ مُؤَقَّتٌ لِفَائِدَتِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ

يَعْلَمُ أَنَّ نِسَاءَهُمْ مَحَلُّ تَعَهُّدِهِمْ وَمُلَابَسَتِهِمْ لَيْسَ مَنْعُهُمْ مِنْهُنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِأَمْرٍ هَيِّنٍ عَلَيْهِمْ لَوْلَا إِرَادَةُ حِفْظِهِمْ مِنَ الْأَذَى، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا حَمَى الْحِمَى «لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ» وَتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْإِذْنِ بِإِتْيَانِهِنَّ أَنَّى شَاءُوا، وَالْعِلَّةُ قَدْ تُجْعَلُ مُقَدِّمَةً فَلَوْ أُوثِرَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لَأُخِّرَتْ عَنْ جُمْلَةِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَلَكِنْ أُوثِرَ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلَّتِي بَعْدَهَا لِأَنَّهُ أَحْكَمُ نَسِيجٍ نُظِمَ وَلِتَتَأَتَّى عَقِبَهُ الْفَاءُ الْفَصِيحَةُ. وَالْحَرْثُ مَصْدَرُ حَرَثَ الْأَرْضَ إِذَا شَقَّهَا بِآلَةٍ تَشُقُّ التُّرَابَ لِيُزْرَعَ فِي شُقُوقِهِ زَرِيعَةٌ أَوْ تُغْرَسَ أَشْجَارٌ. وَهُوَ هَنَا مُطْلَقٌ عَلَى مَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَإِطْلَاقُ الْحَرْثِ عَلَى الْمَحْرُوثِ وَأَنْوَاعِهِ إِطْلَاقٌ مُتَعَدِّدٌ فَيُطْلَقُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَجْعُولَةِ لِلزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: 138] أَيْ أَرْضُ زَرْعٍ مَحْجُورَةٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَزْرَعُوهَا. وَقَالَ: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمرَان: 14] أَيِ الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ والحقول. وَقَالَ: مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمرَان: 117] أَي فأهلكت زَرْعَهُمْ. وَقَالَ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: 22] يَعْنُونَ بِهِ جَنَّتَهُمْ أَيْ صَارِمِينَ عَرَاجِينَ التَّمْرِ. وَالْحَرْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْمَحْرُوثُ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرَ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْهُ، وَتَشْبِيهُ النِّسَاءِ بِالْحَرْثِ تَشْبِيهٌ لَطِيفٌ كَمَا شُبِّهَ النَّسْلُ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ فِي خِطْبَتِهِ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ» . وَالْفَاءُ فِي فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ لِابْتِنَاءِ مَا بَعْدَهَا عَلَى تَقَرُّرِ أَنَّ النِّسَاءَ حَرْثٌ لَهُمْ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ. وَكَلِمَةُ (أَنَّى) اسْمٌ لِمَكَانٍ مُبْهَمٍ تُبَيِّنُهُ جُمْلَةٌ مُضَافٌ هُوَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا فِي مَعْنَى كَيْفَ بِتَشْبِيهِ حَالِ الشَّيْءِ بِمَكَانِهِ، لِأَنَّ كَيْفَ اسْمٌ لِلْحَالِ الْمُبْهَمَةِ يُبَيِّنُهَا عَامِلُهَا نَحْوَ كَيْفَ

يَشاءُ [آل عمرَان: 6] وَقَالَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» : إِنَّ (أَنَّى) تَكُونُ بِمَعْنَى (مَتَى) ، وَقَدْ أُضِيفَ (أَنَّى) فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى جُمْلَةِ (شِئْتُمْ) وَالْمَشِيئَاتُ شَتَّى فَتَأَوَّلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى حَمْلِ (أَنَّى) عَلَى الْمَعْنى الْمجَازِي وَفَسرهُ بِكَيْفَ شِئْتُمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ الَّذِي عَضَّدُوهُ بِمَا رَوَوْهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَفِيهَا رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ عَلَى مَعْنَى مَتَى شِئْتُمْ وَتَأَوَّلَهُ جَمْعٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَكَانٍ مُبْهَمٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلُوهُ ظَرْفًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْمَكَانِ إِذَا لَمْ يُصَرَّحُ فِيهَا بِمَا يَصْرِفُ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَفَسَّرُوهُ بِمَعْنَى فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْمَرْأَةِ شِئْتُمْ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» تَفْسِيرًا مِنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلُوهُ اسْمَ مَكَانٍ غَيْرَ ظَرْفٍ وَقَدَّرُوا أَنَّهُ مَجْرُورٌ بِ (مِنْ) فَفَسَّرُوهُ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ شِئْتُمْ وَهُوَ يَئُولُ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِمَعْنَى كَيْفَ، وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ إِلَى سِيبَوَيْهِ. فَالَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْ مَوْقِعِ الْآيَةِ وَتُسَاعِدُ عَلَيْهِ مَعَانِي أَلْفَاظِهَا أَنَّهَا تَذْيِيلٌ وَارِدٌ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ قِرْبَانِ النِّسَاءِ فِي حَالِ الْحَيْضِ. فَتُحْمَلُ (أَنَّى) عَلَى مَعْنَى مَتَى وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأْتُوا نِسَاءَكُمْ مَتَى شِئْتُمْ إِذَا تَطَهَّرْنَ فَوِزَانُهَا وِزَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 2] . وَلَا مُنَاسَبَةَ تَبْعَثُ لِصَرْفِ الْآيَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ مَا طَارَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي مَحَامِلَ أُخْرَى لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا رَوَوْهُ مِنْ آثَارٍ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ يَضْطَرُّنَا إِلَى اسْتِفْصَالِ الْبَيَانِ فِي مُخْتَلَفِ الْأَقْوَالِ وَالْمَحَامِلِ مُقْتَنِعِينَ بِذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعَانِي الْآيَةِ، وَإِنَّهَا لَمَسْأَلَةٌ جَدِيرَةٌ بِالِاهْتِمَامِ، عَلَى ثِقَلٍ فِي جَرَيَانِهَا، عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَالْأَقْلَامِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسلم فِي «صَحِيحهمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مُجْبِيَةً جَاءَ الْوَلَدُ أُحْوَلَ، فَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الْآيَةَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلَّا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ

يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شرحا (أَي يطأونهن وَهُنَّ مُسْتَلْقِيَاتٍ عَنْ أَقَفِيَتِهِنَّ) وَمُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى شَرَى أَمْرُهُمَا (أَيْ تَفَاقَمَ اللَّجَاجُ) فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ مُقْبِلَاتٍ كُنَّ أَوْ مُدْبِرَاتٍ أَوْ مُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ (يُرِيدُ أَنَّهُ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُسْتَدْبِرَةٌ) فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ شَيْئًا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الْآيَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قَالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ فِي الْبُخَارِيِّ «يَأْتِيهَا فِي....» وَلَمْ يَزِدْ وَهُوَ يَعْنِي فِي كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ: أُنْزِلَتْ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي «غَرَائِبَ مَالِكٍ» وَالطَّبَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: أَثْفَرَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَعَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، تَشْبِيهًا لِلْمَرْأَةِ بِالْحَرْثِ أَيْ بِأَرْضِ الْحَرْثِ وَأَطْلَقَ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ عَلَى مَعْنَى: فَاحْرُثُوا فِي أَيِّ مَكَانٍ شِئْتُمْ. أَقُولُ: قَدْ أُجْمِلَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى هُنَا، وَأُبْهِمَ وَبَيَّنَ الْمُبْهَمَاتِ بِمُبْهَمَاتٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لِاحْتِمَالِ أَمَرَكُمُ اللَّهُ مَعَانِيَ لَيْسَ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالتَّشْرِيعِ مِنْهَا، إِذْ لَمْ يُعْهَدْ سَبْقُ تَشْرِيعٍ مِنَ اللَّهِ فِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [الْبَقَرَة: 222] فَرُبَّمَا أَشْعَرَ بِأَنَّ فِعْلًا فِي هَذَا الْبَيَانِ كَانَ يُرْتَكَبُ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الِانْكِفَافِ عَنْهُ وَأُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ فِعْلًا

فِي هَذَا الشَّأْنِ قَدْ يَلْتَبِسُ بِغَيْرِ التَّنَزُّهِ وَاللَّهُ يُحِبُّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ، مَعَ احْتِمَالِ الْمَحَبَّةِ عَنْهُ لِمَعْنَى التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِمَةِ مِثْلَ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التَّوْبَة: 108] ، وَاحْتِمَالُهَا لِمَعْنَى: وَيُبْغِضُ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَجُعِلْنَ حَرْثًا عَلَى احْتِمَالِ وُجُوهٍ فِي الشَّبَهِ فَقَدْ يُقَال: إِنَّهُ وُكِّلَ لِلْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ جُعِلَ شَائِعًا فِي الْمَرْأَةِ، فَلِذَلِكَ نِيطَ الْحُكْمُ بِذَاتِ النِّسَاءِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فَجَاءَ بِأَنَّى الْمُحْتَمِلَةِ لِلْكَيْفِيَّاتِ وَلِلْأَمْكِنَةِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي الْأَمْكِنَةِ وَوَرَدَتْ فِي الْكَيْفِيَّاتِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرِدُ لِلْأَزْمِنَةِ فَاحْتُمِلَ كَوْنُهَا أَمْكِنَةَ الْوُصُولِ مِنْ هَذَا الْإِتْيَانِ، أَوْ أَمْكِنَةَ الْوُرُودِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مَقْصُودٍ فَهِيَ أَمْكِنَةُ ابْتِدَاءِ الْإِتْيَانِ أَوْ أَمْكِنَةُ الِاسْتِقْرَارِ فَأُجْمِلَ فِي هَذَا كُلِّهِ إِجْمَالٌ بَدِيعٌ وَأُثْنِيَ ثَنَاءٌ حَسَنٌ. وَاخْتِلَافُ مَحَامِلِ الْآيَةِ فِي أَنْظَارِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ طَوْعُ عِلْمِ الْمُتَأَمِّلِ، وَفِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَمَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ لِفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي كُتُبِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ، وَفِي دَوَاوِينِ الْفِقْهِ، وَقَدِ اقْتَصَرْنَا عَلَى الْآثَارِ الَّتِي تَمَّتْ إِلَى الْآيَةِ بِسَبَبِ نُزُولٍ، وَتَرَكْنَا مَا عَدَاهُ إِلَى أَفْهَامِ الْعُقُولِ. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّطَهُّرِ فَكُرِّرَ ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِالْحِرْصِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى اللَّذَائِذِ الْعَاجِلَةِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَقَدِّمُوا اخْتِصَارًا لِظُهُورِهِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ هُنَا إِعْدَادُ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الثَّقَلِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ الْمُسَافِرُ. وَقَوْلُهُ: لِأَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ قَدِّمُوا، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ أَيْ لِأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ أَيْ لِنَفْعِهَا، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ تَحْرِيضٌ عَلَى امْتِثَالِ الشَّرْعِ بِتَجَنُّبِ الْمُخَالَفَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ التَّخَلِّي عَنِ السَّيِّئَاتِ وَالتَّحَلِّي بِالْوَاجِبَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، فَمَضْمُونُهَا أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ تَذْيِيلًا.

[سورة البقرة (2) : آية 224]

وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ يَجْمَعُ التَّحْذِيرَ وَالتَّرْغِيبَ، أَيْ فَلَاقُوهُ بِمَا يَرْضَى بِهِ عَنْكُمْ كَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: 39] وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَالْمُلَاقَاةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللِّقَاءِ وَهُوَ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ بِقَصْدٍ أَوْ مُصَادَفَةٍ. وَأَصْلُ مَادَّةِ لَقِيَ تَقْتَضِي الْوُقُوعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَكَانَتْ مُفِيدَةً مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ بِمُجَرَّدِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ لَقِيَ وَلَاقَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِعِلْمِ أَنَّهُمْ مُلَاقُوهُ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ تَنْزِيلًا لِعِلْمِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، لِيُزَادَ مِنْ تَعْلِيمِهِمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَعْلُومِ وَتَنَافُسًا فِيهِ عَلَى أَنَّنَا رَأَيْنَا أَنَّ فِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِكَلِمَةِ: اعْلَمُوا اهْتِمَامًا بِالْخَبَرِ وَاسْتِنْصَاتًا لَهُ وَهِيَ نُقْطَةٌ عَظِيمَةٌ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [24] . وَقَدْ رُتِّبَتِ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ حُصُولِ مَضَامِينِهَا فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْلَامُ بِمُلَاقَاةِ اللَّهِ هُوَ الْحَاصِلَ أَوَّلًا ثُمَّ يَعْقُبُهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى ثُمَّ الْأَمْرُ بِأَنْ يُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَخُولِفَ الظَّاهِرُ لِلْمُبَادَرَةِ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ، وَأُعْقِبَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى إِشْعَارًا بِأَنَّهَا هِيَ الِاسْتِعْدَادُ ثُمَّ ذُكِّرُوا بِأَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ فَجَاءَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ. وَقَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تَعْقِيبٌ لِلتَّحْذِيرِ بِالْبِشَارَةِ، وَالْمُرَادُ: الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يُسَرُّونَ بِلِقَاءِ اللَّهِ كَمَا جَاءَ: «مَنْ أَحَبِّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْبِشَارَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ امْتِثَالَ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَجُمْلَةُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، عَلَى الْأَظْهَرِ مِنْ جَعْلِ جُمْلَةِ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، اسْتِئْنَافًا غير معمولة لقل هُوَ أَذًى، وَإِذَا جَعَلْتَ جُمْلَةَ نِساؤُكُمْ مِنْ مَعْمُولِ الْقَوْلِ كَانَتْ جُمْلَةُ قُلْ هُوَ أَذىً [الْبَقَرَة: 222] معطوفة على جملَة: قُلْ هُوَ أَذىً إِذْ لَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا مَقُولًا لِلْقَوْلِ كَمَا اخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيّ. [224] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 223] عَطْفَ تَشْرِيعٍ عَلَى تَشْرِيعٍ فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَعَلُّقُ مَضْمُونَيْهِمَا بِأَحْكَامِ مُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ مَعَ كَوْنِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مَنْعًا مِنْ

قِرْبَانِ الْأَزْوَاجِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَكَوْنِ مَضْمُونِ هَذِه الْجُمْلَة تمهيدا لجملة لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْبَقَرَة: 226] ، فَوَقَعَ هَذَا التَّمْهِيدُ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، وَجُمْلَةِ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَسُلِكَ فِيهِ طَرِيقُ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عُطِفَ عَلَى نَهْيٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَة: 222] . وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ امْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُ بِهِ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً اهـ. وَفِيهِ تَكَلُّفٌ وَخُلُوٌّ عَنْ إِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ وَهِي وَقَدِّمُوا [الْبَقَرَة: 223] وَاتَّقُوا [الْبَقَرَة: 223] وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] اهـ أَيْ فَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِاسْتِحْضَارِ يَوْمِ لِقَائِهِ بَيَّنَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ التَّقْوَى دَقِيقِ الْمَسْلَكِ شَدِيدِ الْخَفَاءِ وَهُوَ التَّقْوَى بِاحْتِرَامِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ فَإِنَّ التَّقْوَى مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْأَسْمَاءِ كَانَ مُفَادُهَا التَّعَلُّقَ بِمُسَمَّى الِاسْمِ لَا بِلَفْظِهِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ اللَّفْظِيَّةَ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى الْمَدْلُولَاتِ إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْأَسْمَاءِ مِثْلُ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، فَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ فِي حُرْمَةِ أَسْمَائِهِ عِنْدَ الْحِنْثِ مَعَ بَيَانِ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنِ الْحِنْثِ، أَوْ لِبَيَانِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَعْرِيضِ اسْمِهِ تَعَالَى لِلِاسْتِخْفَافِ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ حَتَّى لَا يُضْطَرَّ إِلَى الْحِنْثِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآتِيَيْنِ، وَبَعْدَ هَذَا التَّوْجِيهِ كُلِّهِ فَهُوَ يَمْنَعُ مِنْهُ أَنَّ مَجِيءَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] مَجِيءَ التَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ مَانِعٌ مِنِ اعْتِبَارِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ حُكْمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَطُولُ بِهِ التَّذْيِيلُ وَشَأْنُ التَّذْيِيلِ الْإِيجَازُ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ: مَعْطُوفٌ عَلَى جملَة قُلْ [الْبَقَرَة: 222] بِتَقْدِيرِ قُلْ أَيْ: وَقُلْ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً أَوْ عَلَى قَوْله: وَقَدِّمُوا [الْبَقَرَة: 223] إِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَقَدِّمُوا مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ قُلْ. وَذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى قَرِيبِهِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِمُشَارَكَتِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِخَبَرِ الْإِفْكِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ خَتَنَهُ عَلَى أُخْتِهِ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمَانِ وَلَا يَدْخُلَ بَيْتَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَوَاوُ الْعَطْفِ لَا بُدَّ أَنْ تَرْبُطَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قبلهَا. وَتَعْلِيق الْجَعْلِ بِالذَّاتِ هُنَا هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالِاسْمِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ، وَحُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّةِ تُعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمُسَمَّى كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أَيْ وَلَيْسَ بَعْدَ اسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبٌ لِلْحَلِفِ.

وَالْعُرْضَةُ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ الْفُعْلَةِ وَهُوَ وَزْنٌ دَالٌّ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْقُبْضَةِ وَالْمُسْكَةِ وَالْهُزْأَةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَرَضَهُ إِذَا وَضَعَهُ عَلَى الْعُرْضِ أَيِ الْجَانِبِ، وَمَعْنَى الْعَرْضِ هُنَا جَعْلُ الشَّيْءِ حَاجِزًا مِنْ قَوْلِهِمْ عَرَضَ الْعُودَ عَلَى الْإِنَاءِ فَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْعُرْضَةِ عَلَى الْحَاجِزِ الْمُتَعَرِّضِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ يُسَاوِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى مَا يَكْثُرُ جَمْعُ النَّاسِ حَوْلَهُ فَكَأَنَّهُ يَعْتَرِضُهُمْ عَنِ الِانْصِرَافِ وَأَنْشَدَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَلَا تَجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ (¬1) وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ. وَاللَّام فِي قَوْله: لِأَيْمانِكُمْ لَامُ التَّعْدِيَة تتَعَلَّق بعرضة لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ: أَيْ تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ فَتَحْلِفُوا بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ ثُمَّ تَقُولُوا سَبَقَتْ مِنَّا يَمِينٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ: أَيْ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَجْلِ أَيْمَانِكُمُ الصَّادِرَةِ عَلَى أَلَّا تَبَرُّوا. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ وَهُوَ الْحَلِفُ سُمِّيَ الْحَلِفُ يَمِينًا أَخْذًا مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَهِيَ الْيَدُ الَّتِي يَفْعَلُ بِهَا الْإِنْسَانُ مُعْظَمَ أَفْعَالِهِ، وَهِيَ اشْتُقَّتْ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، لِأَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى يَتَيَسَّرُ بِهَا الْفِعْلُ أَحْسَنَ مِنَ الْيَدِ الْأُخْرَى، وَسُمِّيَ الْحَلِفُ يَمِينًا لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا تَحَالَفُوا أَنْ يُمْسِكَ الْمُتَحَالِفَانِ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ الْيُمْنَى مِنَ الْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْح: 10] فَكَانُوا يَقُولُونَ أَعْطَى يَمِينَهُ، إِذَا أَكَّدَ الْعَهْدَ. وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي لَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفِّ ذِي يَسَرَاتِ قِيلُهُ الْقِيلُ ثُمَّ اخْتَصَرُوا فَقَالُوا صَدَرَتْ مِنْهُ يَمِينٌ أَوْ حَلَفَ يَمِينًا، فَتَسْمِيَةُ الْحَلِفِ يَمِينًا مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مُقَارِنِهِ الْمُلَازِمِ لَهُ، أَوْ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ كَمَا سَمَّوُا الْمَاءَ وَادِيًا وَإِنَّمَا الْمَحَلُّ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحَلٌّ تَخْيِيلِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ غَالِبُ أَيْمَانِهِمْ فِي الْعُهُودِ وَالْحَلِفِ، وَهُوَ الَّذِي يَضَعُ فِيهِ الْمُتَعَاهِدُونَ أَيْدِيَهُمْ ¬

(¬1) قَالَ الطَّيِّبِيّ والتفتازاني أَوله: دَعونِي أنح وجدا لنوح الحمائم وَلم ينسباه. [.....]

بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، شَاعَ إِطْلَاقُ الْيَمِينِ عَلَى كُلِّ حَلِفٍ، جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَأُطْلِقَتِ الْيَمِينُ عَلَى قَسَمِ الْمَرْءِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ دُونَ عَهْدٍ وَلَا حَلِفٍ. وَالْقَصْدُ مِنَ الْحَلِفِ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ أَنْ يُشْهِدَ الْإِنْسَانُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرٍ أَوْ وَعْدٍ أَوْ تَعْلِيق، وَلذَلِك يَقُوله: بِاللَّهِ أَيْ أُخْبِرُ مُتَلَبِّسًا بِإِشْهَادِ اللَّهِ، أَوْ أَعِدُ أَوْ أُعَلِّقُ مُتَلَبِّسًا بِإِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَضَمَّنَ الْيَمِينُ مَعْنًى قَوِيًّا فِي الصِّدْقِ، لِأَنَّ مَنْ أَشْهَدَ بِاللَّهِ عَلَى بَاطِلٍ فَقَدِ اجْتَرَأَ عَلَيْهِ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْيَمِينِ إِشْهَادُ اللَّهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ [الْبَقَرَة: 204] كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ الْعَرَبِ يَعْلَمُ اللَّهُ فِي مَقَامِ الْحَلِفِ الْمُغَلَّظِ، وَلِأَجْلِهِ كَانَتِ الْبَاءُ هِيَ أَصْلَ حُرُوفِ الْقَسَمِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُلَابَسَةِ فِي أَصْلِ مَعَانِيهَا، وَكَانَتِ الْوَاوُ وَالتَّاءُ لَاحِقَتَيْنِ بِهَا فِي الْقَسَمِ الْإِنْشَائِيِّ دُونَ الِاسْتِعْطَافِيِّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنْ كَانَتِ الْعُرْضَةُ بِمَعْنَى الْحَاجِزِ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ حَائِلًا مَعْنَوِيًّا دُونَ فِعْلِ مَا حَلَفُوا عَلَى تَرْكِهِ مِنِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَهِي مُتَعَلقَة بتجعلوا، وأَنْ تَبَرُّوا مُتَعَلق بعرضة عَلَى حَذْفِ اللَّامِ الْجَارَّةِ، الْمُطَّرِدِ حَذْفُهَا مَعَ أَنْ، أَيْ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأَجْلِ أَنْ حَلَفْتُمْ بِهِ عُرْضَةً حَاجِزًا عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّقْوَى، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَهْيٌ عَنِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْيَمِينِ إِذَا كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ خَيْرٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ بِحَسَبِ حكم الشَّيْء الْمَحْلُوف عَلَى تَرْكِهِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ التَّحَرُّزُ حِينَ الْحَلِفِ وَعَدَمُ التَّسَرُّعِ لِلْأَيْمَانِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لِكَثْرَةِ التَّرَخُّصِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَغْضَبُ فَتُقْسِمُ بِاللَّهِ وَبِآلِهَتِهَا وَبِآبَائِهَا، عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ شَيْءٍ، لِيَسُدُّوا بِالْيَمِينِ بَابَ الْمُرَاجَعَةِ أَوِ النَّدَامَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» «كَانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوْ إِحْسَانٍ، ثُمَّ يَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَحْنَثَ فِي يَمِينِي، فَيَتْرُكُ فِعْلَ الْبِرِّ فَتَكُونُ الْآيَةُ وَارِدَةً لِإِصْلَاحِ خَلَلٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا حَلِفُ أَبِي بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى ابْنِ خَالَتِهِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِأَنَّهُ مِمَّنْ خَاضُوا فِي الْإِفْكِ. وَلَا تَظْهَرُ لِهَذَا الْقَوْلِ مُنَاسَبَةٌ بِمَوْقِعِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَلِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَلَّا يُكَلِّمَ خَتَنَهُ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيَّ،

وَكَانَ قَدْ طَلَّقَ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ وَالصُّلْحَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أَلَّا يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا. وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعُرْضَةُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُعَرِّضِ لِفِعْلٍ فِي غَرَضٍ، فَالْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِأَنْ تَحْلِفُوا بِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنِ الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْأَيْمَانُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهِيَ الْأَقْسَامُ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعُرْضَةٍ، وأَنْ تَبَرُّوا مَفْعُولُ الْأَيْمَانِ، بِتَقْدِيرِ لَا مَحْذُوفَةٌ بَعْدَ (أَنْ) وَالتَّقْدِيرُ أَلَّا تَبَرُّوا، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: 176] وَهُوَ كَثِيرٌ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَهْيًا عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَاتِ لِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَهَذَا النَّهْي يسلتزم: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ. أَوْ مَعْنَاهُ: لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِلْحَلِفِ، كَمَا قُلْنَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِتَكُونُوا أَبْرَارًا أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ، وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، قَالَ مَالِكٌ «بَلَغَنِي أَنَّهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَهْيًا عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْحَلِفِ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْحَلِفِ. تُعَرِّضُ الْحَالِفَ لِلْحِنْثِ. وَكَانَتْ كَثْرَةُ الْأَيْمَانِ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فِي جُمْلَةِ الْعَوَائِدِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَنَعْرِ الْحُمْقِ، فَنَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ تَمَدَّحُوا بِقِلَّةِ الْأَيْمَانِ قَالَ كُثَيِّرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايِي حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْضَةُ مُسْتَعَارًا لِمَا يَكْثُرُ الْحُلُولُ حَوْلَهُ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ كَالشَّيْءِ الْمُعَرَّضِ لِلْقَاصِدِينَ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُفْهِمُ الْإِذْنَ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ لَازِمُهُ، وَهُوَ الْوَعْدُ عَلَى الِامْتِثَالِ، عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَالْعُذْرُ فِي الْحِنْثِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ وَهُوَ أَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ وَسِيلَةً لِتَعْطِيلِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَإِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ تَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَصْدِيقِ الشَّهَادَةِ بِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْصِدًا جَلِيلًا يُشْكَرُ عَلَيْهِ الْحَالِفُ الطَّالِبُ لِلْبِرِّ لَكِنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لِقَطْعِ الْخَيْرَاتِ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ تَعَارَضَ أَمْرَانِ

[سورة البقرة (2) : آية 225]

مُرْضِيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا حَصَلَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَحْصُلِ الْآخَرُ. وَاللَّهُ يَأْمُرُنَا أَنْ نُقَدِّمَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمُرْضِيَيْنِ لَهُ، وَهُوَ مَا فِيهِ تَعْظِيمُهُ بِطَلَبِ إِرْضَائِهِ، مَعَ نَفْعِ خَلْقِهِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، دُونَ الْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ إِرْضَاؤُهُ بِتَعْظِيمِ اسْمِهِ فَقَطْ، إِذْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَعْظِيمَ اسْمِهِ قَدْ حَصَلَ عِنْدَ تَحَرُّجِ الْحَالِفِ مِنَ الْحِنْثِ، فَبَرُّ الْيَمِينِ أَدَبٌ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِتْيَانُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَرْضَاةٌ لِلَّهِ فَأَمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ مَرْضَاتِهِ عَلَى الْأَدَبِ مَعَ اسْمِهِ، كَمَا قِيلَ: الِامْتِثَالُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَدَبِ. وَقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا أَقْسَمَ أَيُّوبُ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ جِلْدَةٍ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا مِنْ مِائَةِ عَصًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَقْصِدِ أَيُّوبَ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِنْ أَيُّوبَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّحَلُّلِ مُحَافَظَةً عَلَى حِرْصِ أَيُّوبَ عَلَى الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ، وَكَرَاهَتِهِ أَنْ يَتَخَلَّفَ مِنْهُ مُعْتَادُهُ فِي تَعْظِيمِ اسْمِ رَبِّهِ، فَهَذَا وَجْهٌ مِنَ التَّحِلَّةِ، أَفْتَى اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ. وَلَعَلَّ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فَهِيَ مِنْ يُسْرِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتِهِ، فَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ ذَلِكَ إِذْ شَرَعَ لَنَا تَحِلَّةَ الْيَمِينِ بِالْكَفَّارَةِ وَلِذَلِكَ صَارَ لَا يُجْزِئُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَفْعَلَ الْحَالِفُ مِثْلَ مَا فعل أَيُّوب. [225] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 225] لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ لَمَّا أَفَادَتِ النَّهْيَ عَنِ التَّسَرُّعِ بِالْحَلِفِ إِفَادَةً صَرِيحَةً أَوِ الْتِزَامِيَّةً، كَانَتْ نُفُوسُ السَّامِعِينَ بِحَيْثُ يَهْجِسُ بِهَا التَّفَكُّرُ وَالتَّطَلُّعُ إِلَى حُكْمِ الْيَمِينِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ لَا سِيِّمَا إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [الْبَقَرَة: 224] نَهْيًا عَنِ الْحَلِفِ. وَالْمُؤَاخَذَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى الْعَدِّ وَالْمُحَاسَبَةِ، يُقَالُ أَخَذَهُ بِكَذَا أَيْ عَدَّهُ عَلَيْهِ لِيُعَاتِبَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: لَا تَأْخُذْنِي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ فَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْأَخْذِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.

وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالْيَمِينِ هِيَ الْإِلْزَامُ بِالْوَفَاءِ بِهَا وَعَدَمُ الْحِنْثِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَأْثَمَ إِذَا وَقَعَ الْحِنْثُ، إِلَّا مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي كَفَّارَتِهِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ. وَاللَّغْوُ مَصْدَرُ لَغَا إِذَا قَالَ كلَاما خطئا، يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو لَغوا كسعا، وَلَغَا يَلْغَى لَغْيًا كَسَعَى. وَلُغَةُ الْقُرْآنِ بِالْوَاوِ. وَفِي «اللِّسَانِ» : «أَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا قَوْلُهُمْ أَسَوْتُهُ أَسْوًا وَأَسًى أَصْلَحْتُهُ» وَفِي الْكَوَاشِي: «وَلَغَا يَلْغُو لَغْوًا قَالَ بَاطِلًا» ، وَيُطْلَقُ اللَّغْوُ أَيْضًا عَلَى الْكَلَامِ السَّاقِطِ، الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ الْخَطَأُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْأَسَاسِ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَجَازًا وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّفْسِيرِ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ مُتَابِعُوهُ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادُ بِهَا الْمُلَابَسَةُ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، صِفَةُ اللَّغْوِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَدَّرَهُ الْكَوَاشِيُّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى جَعْلِ اللَّغْوِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَلْغُوَا لَغْوًا مُلَابِسًا لِلْأَيْمَانِ، أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِالْأَيْمَانِ الصَّادِرَةِ صُدُورَ اللَّغْوِ، أَيْ غَيْرِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقَوْلِ. فَإِذَا جَعَلْتَ اللَّغْوَ اسْمًا بِمَعْنَى الْكَلَامِ السَّاقِطِ الْخَاطِئِ، لَمْ تَصِحَّ ظَرْفِيَّتُهُ فِي الْأَيْمَانِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَيْمَانِ، فَالظَّرْفِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُؤَاخِذُكُمْ، وَالْمَعْنَى لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ فِي أَيْمَانِكُمْ بِاللَّغْوِ، أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْمَانِكُمْ بِالْيَمِينِ اللَّغْوِ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ الْقَسَمُ وَالْحَلِفُ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بَعْضِ صِفَاتِهِ، أَو بعض شؤونه الْعُلْيَا أَوْ شَعَائِرِهِ. فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِاللَّهِ، وَبِرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَبِالْهَدْيِ، وَبِمَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَالْقَسَمُ عِنْدَهُمْ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ الثَّلَاثَةِ: الْوَاوُ وَالْبَاءُ وَالتَّاءُ، وَرُبَّمَا ذَكَرُوا لَفْظَ حَلَفْتُ أَوْ أَقْسَمْتُ، وَرُبَّمَا حَلَفُوا بِدِمَاءِ الْبُدْنِ، وَرُبَّمَا قَالُوا وَالدِّمَاءِ، وَقَدْ يُدْخِلُونَ لَامًا عَلَى عَمْرِ اللَّهِ، يُقَالُ: لَعَمْرُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: عَمَرَكَ اللَّهُ، وَلَمْ أَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِفُونَ بِأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ. فَهَذَا الْحَلِفُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْتِزَامُ فِعْلٍ، أَوْ بَرَاءَةٌ مِنْ حَقٍّ. وَقَدْ يَحْلِفُونَ بِأَشْيَاءَ عَزِيزَةٍ عِنْدَهُمْ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ أَوِ الِالْتِزَامِ، كَقَوْلِهِمْ وَأَبِيكَ وَلَعَمْرُكَ وَلَعَمْرِي، وَيَحْلِفُونَ بِآبَائِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَهَى عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْقَسَمِ أَنَّ بَعْضَ الْقَسَمِ يُقْسِمُونَ بِهِ عَلَى الْتِزَامِ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمُقْسِمُ لِيُلْجِئَ نَفْسَهُ إِلَى عَمَلِهِ وَلَا يَنْدَمَ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَسَمِ النَّذْرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُظْهِرَ عَزْمَهُ عَلَى فِعْلٍ لَا مَحَالَةَ مِنْهُ، وَلَا مَطْمَعَ لِأَحَدٍ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ، أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، قَالَ بِلِعَاءُ بْنُ قَيْسٍ:

وَفَارِسٍ فِي غِمَارِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسٍ ... إِذَا تَأَلَّى عَلَى مَكْرُوهَةٍ صَدَقَا (أَيْ إِذَا حَلَفَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَاعِبِ وَالْأَضْرَارِ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ كَرِيهَةً) فَصَارَ نُطْقُهُمْ بِالْيَمِينِ مُؤذنًا بالغرم، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ فِي أَغْرَاضِ التَّأْكِيدِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى صَارَ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى اللِّسَانِ كَمَا تَجْرِي الْكَلِمَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ الْحَلِفِ، وَصَارَتْ كَثْرَتُهُ فِي الْكَلَامِ لَا تَنْحَصِرُ، فَكَثُرَ التَّحَرُّجُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ كُثَيِّرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايِي حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأليّة برّت فأشبهه جَرَيَانُ الْحَلِفِ عَلَى اللِّسَانِ اللَّغْوَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْيَمِينُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ، لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا الْحَلِفَ، وَلَكِنَّهَا جَرَتْ مَجْرَى التَّأْكِيدِ أَوِ التَّنْبِيهِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. وَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَلَامًا عَجَبًا، وَغَيْرُ هَذَا لَيْسَ بِلَغْوٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ، رَوَاهُ عَنْهَا فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصّحاح» ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَأَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْحُجَّةُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ اللَّغْوَ قَسِيمًا لِلَّتِي كَسَبَهَا الْقَلْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا الْحَالِفُ الْيَمِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما [الْمَائِدَة: 89] فَمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ هُوَ مَا كَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ لِأَنَّ مَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ مُبَيَّنٌ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مُجمل بِما عَقَّدْتُمُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَا قَصْدَ فِيهَا إِلَى الْحَلِفِ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ دُونَ قَصْدٍ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْإِثْمِ وَبِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ يَعُمُّ، فَالْيَمِينُ الَّتِي لَا قَصْدَ فِيهَا لَا إِثْمَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَغَيْرُهَا تَلْزَمُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لِلْخُرُوجِ مِنِ الْإِثْمِ بِدَلِيلِ آيَةِ الْمَائِدَةِ إِذْ فَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الْمَائِدَة: 89] فَيَكُونُ فِي الْغَمُوسِ، وَفِي يَمِينِ التَّعْلِيقِ، وَفِي الْيَمِينِ عَلَى الظَّنِّ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلَافُهُ، الْكَفَّارَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: «لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلَافُ ظَنِّهِ» قَالَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : «وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ» وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي غَيْرِ «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ قَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمَكْحُولٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ. وَوَجْهُهُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ فِي الْيَمِينِ، وَلَا تَكُونُ

الْمُؤَاخَذَةُ إِلَّا عَلَى الْحِنْثِ لَا أَصْلِ الْقَسَمِ إِذْ لَا مُؤَاخَذَةَ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْحَلِفِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْبَرِّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ كَسْبَهُ الْحِنْثَ أَيْ تَعَمُّدَهُ الْحِنْثَ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَالْمُؤَاخَذَةُ أُجْمِلَتْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَبُيِّنَتْ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَالْحَالِفُ عَلَى ظَنٍّ يَظْهَرُ بَعْدُ خِلَافُهُ لَا تَعَمُّدَ عِنْدَهُ لِلْحِنْثِ، فَهُوَ اللَّغْوُ، فَلَا مُؤَاخَذَةَ فِيهِ، أَيْ لَا كَفَّارَةَ وَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَهُوَ كَاذِبٌ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ قَسَمٌ لَيْسَ بِلَغْوٍ، لِأَنَّ اللَّغَوِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ بَعْدَ اعْتِقَادِ الصِّدْقِ، وَالْقَائِلُ: «لَا وَاللَّهِ» كَاذِبًا، لَمْ يَتَبَيَّنْ حِنْثُهُ لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ، بَلْ هُوَ غَافِلٌ عَنْ كَوْنِهِ حَالِفًا، فَإِذَا انْتَبَهَ لِلْحَلِفِ وَجَبت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، لِأَنَّهُ حَلِفَهَا حِينَ حَلِفَهَا وَهُوَ حَانِثٌ. وَإِنَّمَا جَعَلْنَا تَفْسِيرَ (مَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) كَسْبَ الْقَلْبِ لِلْحِنْثِ، لِأَنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ فِي الْحِنْثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [الْبَقَرَة: 224] ، إِمَّا إِذْنٌ فِي الْحِنْثِ، أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْحَلِفِ خَشْيَةَ الْحِنْثِ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَقَوْلُهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بَيَانٌ وَتَعْلِيلٌ لِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْبَيَانِ حُكْمُ الْمُبَيَّنِ، لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: اللَّغْوُ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْكَذِبُ، فَتَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَا قَصْدٍ كَالَّتِي تَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ فِي لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ كَانَ بِقَصْدٍ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّدْقِ فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: اللَّغْوُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا إِثْمَ. وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اللَّغْوَ هُنَا، مُقَابِلًا لِمَا كَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ، وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ اللَّغْوِ وَأَثْبَتَهَا لِمَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ، وَالْمُؤَاخَذَةُ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَا عَلَى أَصْلِ الْحَلِفِ، فَاللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَا حَنِثَ فِيهَا وَلَمْ يَرَ بَيْنَ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةِ الْمَائِدَةِ تَعَارُضًا حَتَّى يَحْمِلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بَلْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ جَعَلَتِ اللَّغْوَ مُقَابِلًا لِمَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ، وَأَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ لِمَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ أَيْ عَزَمَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْمُؤَاخَذَةُ مُطْلَقَةٌ تَنْصَرِفُ إِلَى أَكْمَلِ أَفْرَادِهَا، وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ، أُرِيدَ بِهِ الْغَمُوسُ وَجَعَلَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ اللَّغْوَ مُقَابِلًا لِلْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ. وَالْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ: الرَّبْطُ، وَهُوَ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى الْأَيْمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْيَمِينُ الَّتِي فِيهَا تَعْلِيقٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ [الْمَائِدَة: 89] إِلَخْ، فَظَهَرَ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّغْوَ مَا قَابَلَ الْغَمُوسَ، وَالْمُنْعَقِدَةَ، وَهُوَ نَوْعَانِ لَا مَحَالَةَ، وَظَهَرَ حُكْمُ الْغَمُوسِ، وَهِي الْحلف بتعمد الْكَذِبِ، فَهُوَ الْإِثْمُ، وَحُكْمُ الْمُنْعَقِدَةِ أَنَّهُ الْكَفَّارَةُ، فَوَافَقَ مَالِكًا فِي الْغَمُوسِ وَخَالَفَهُ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ اللَّغْوِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِهِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 226 إلى 227]

وَفِي اللَّغْوِ غَيْرُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذَاهِبُ أَنْهَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى عَشَرَةٍ، لَا نُطِيلُ بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَمُنَاسِبَةِ اقْتِرَانِ وَصْفِ الْغَفُورِ بِالْحَلِيمِ هُنَا دُونَ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ هَذِهِ مَغْفِرَةٌ لِذَنْبٍ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّقْصِيرِ فِي الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِالْحَلِيمِ، لِأَنَّ الْحَلِيمَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ التَّقْصِيرُ فِي جَانِبِهِ، وَلَا يَغْضَبُ لِلْغَفْلَةِ، وَيقبل المعذرة. [226، 227] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 226 إِلَى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ إِلَى تَشْرِيعٍ فِي عَمَلٍ كَانَ يَغْلِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ. كَانَ مِنْ أَشْهَرِ الْأَيْمَانِ الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، أَيْمَانُ الرِّجَالِ عَلَى مُهَاجَرَةِ نِسَائِهِمْ، فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ مِنَ الْبِرِّ بَيْنَ الْمُتَعَاشِرِينَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: 19] فَامْتِثَالُهُ مِنَ التَّقْوَى، وَلِأَنَّ دَوَامَهُ مِنْ دَوَامِ الْإِصْلَاحِ، وَيَحْدُثُ بِفَقْدِهِ الشِّقَاقُ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّقْوَى. وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَلَا تَنْحَلُّ يَمِينُهُ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا كَلَامَ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُرِيدُ الْمَرْأَةَ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا، لِئَلَّا يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ، فَكَانَ يَحْلِفُ أَلَّا يَقْرَبَهَا مُضَارَّةً لِلْمَرْأَةِ» أَيْ وَيُقْسِمَ عَلَى ذَلِكَ لِكَيْلَا يَعُودَ إِلَيْهَا إِذَا حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ النَّدَمِ. قَالَ: «ثُمَّ كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَأَزَالَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأَمْهَلَ لِلزَّوْجِ مُدَّةً حَتَّى يَتَرَوَّى» فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَهَمِّ الْمَقَاصِدِ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ، الَّتِي مَهَّدَ لَهَا بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً [الْبَقَرَة: 224] . وَالْإِيلَاءُ: الْحَلِفُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ الْحَلِفُ مُطْلَقًا يُقَالُ آلَى يُولِي إِيلَاءً، وَتَأْلَى يَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى يَأْتَلِي ائْتِلَاءً، وَالِاسْمُ الْأَلُوَّةُ وَالْأَلِيَّةُ، كِلَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ وَاوِيُّ فَالْأُلُوَّةُ فُعُولَةٌ وَالْأَلِيَّةُ فَعِيلَةٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: «الْإِيلَاءُ حَلِفٌ يَقْتَضِي التَّقْصِيرَ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُلُوِّ وَهُوَ

التَّقْصِيرُ قَالَ تَعَالَى: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: 118] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النُّور: 22] وَصَارَ فِي الشَّرْعِ الْحَلِفَ الْمَخْصُوصَ» فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّ الْإِيلَاءَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَتَحَقَّقُ بِغَيْرِ مَعْنَى التَّرْكِ وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْأَلْوِ، وَتَشْهَدُ بِهِ مَوَارِدُ الِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّا نَجِدُهُمْ لَا يَذْكُرُونَ حَرْفَ النَّفْيِ بَعْدَ فِعْلِ آلَى وَنَحْوِهِ كَثِيرًا، وَيَذْكُرُونَهُ كَثِيرًا، قَالَ الْمُتَلَمِّسُ: آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا [النُّور: 22] أَيْ عَلَى أَنْ يُؤْتُوا وَقَالَ تَعَالَى هُنَا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فَعَدَّاهُ بِمِنْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى الْحَذْفِ وَالتَّضْمِينِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِيلَاءُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي هَذَا الْحَلِفِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَخْصُوصِ. وَمَجِيءُ اللَّامِ فِي لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ لِبَيَانِ أَنَّ التَّرَبُّصَ جُعِلَ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، فَاللَّامُ لِلْأَجْلِ مِثْلُ هَذَا لَكَ وَيُعْلَمُ مِنْهُ مَعْنَى التَّخْيِيرِ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ التَّرَبُّصُ بِوَاجِبٍ، فَلِلْمُوَلِّي أَنْ يَفِيءَ فِي أَقَلَّ مِنَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ الْإِيلَاءِ بِمِنْ، مَعَ أَنَّ حَقَّهُ أَنْ يُعَدَّى بِعَلَى لِأَنَّهُ ضُمِّنَ هُنَا مَعْنَى الْبُعْدِ، فَعُدِّيَ بِالْحَرْفِ الْمُنَاسِبِ لِفِعْلِ الْبُعْدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مُتَبَاعِدِينَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَالنِّسَاءُ: الزَّوْجَاتُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [الْبَقَرَة: 222] وَتَعْلِيقُ الْإِيلَاءِ بِاسْمِ النِّسَاءِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَنَحْوِهِمَا إِلَى الْأَعْيَانِ، مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [الْبَقَرَة: 173] . وَالتَّرَبُّصُ: انْتِظَارُ حُصُولِ شَيْءٍ لِغَيْرِ الْمُنْتَظَرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الْبَقَرَة: 228] ، وَإِضَافَةُ تَرَبُّصٍ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى «فِي» كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] . وَتَقْدِيمُ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَرَبُّصٌ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ التَّوْسِعَةِ الَّتِي وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَتَشْوِيقٌ لِذِكْرِ الْمسند إِلَيْهِ. وفاؤُ رَجَعُوا أَيْ رَجَعُوا إِلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ، وَحذف مُتَعَلق فاؤُ بِالظُّهُورِ الْمَقْصُودِ. وَالْفَيْئَةُ تَكُونُ بِالتَّكْفِيرِ عَنِ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.

وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ، أَيْ فَحِنْثُهُمْ فِي يَمِينِ الْإِيلَاءِ مَغْفُورٌ لَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْإِيلَاءَ حَرَامٌ، لِأَنَّ شَأْنَ إِيلَائِهِمْ الْوَارِدَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِالْمَرْأَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْإِيلَاءُ مُبَاحًا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْإِضْرَارُ وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ كَالَّذِي يَكُونُ لِقَصْدِ التَّأْدِيبِ، أَوْ لِقَصْدٍ آخَرَ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، غَيْرِ قَصْدِ الْإِضْرَارِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا. وَقَدْ آلَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، قِيلَ: لِمَرَضٍ كَانَ بِرِجْلِهِ، وَقِيلَ: لِأَجْلِ تَأْدِيبِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ قَدْ لَقِينَ مِنْ سِعَةِ حِلْمِهِ وَرِفْقِهِ مَا حدا ببعضهن إِلَى الْإِفْرَاطِ فِي الْإِدْلَالِ، وَحَمَلَ الْبَقِيَّةَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأُخْرَيَاتِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ. وَأَمَّا جَوَازُ الْإِيلَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْغَيْلِ، وَكَالْحِمْيَةِ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَإِبَاحَتُهُ حَاصِلَةٌ مِنْ أَدِلَّةِ الْمَصْلَحَةِ وَنَفْيِ الْمَضَرَّةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْحَلِفِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ ضَعْفِ الْعَزْمِ وَاتِّهَامِ أَنْفُسِهِمْ بِالْفَلْتَةِ فِي الْأَمْرِ، إِنْ لَمْ يُقَيِّدُوهَا بِالْحَلِفِ. وَعَزْمُ الطَّلَاقِ: التَّصْمِيمُ عَلَيْهِ، وَاسْتِقْرَارُ الرَّأْيِ فِيهِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَحْصُلُ لِكُلِّ مُوَّلٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ غَالِبُ الْقَصْدِ مِنِ الْإِيلَاءِ الْمُغَاضَبَةَ وَالْمُضَارَّةَ، فَقَوْلُهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دَلِيلٌ عَلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: فَإِنْ فاؤُ فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ لَمْ يَفِيئُوا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الطَّلَاقُ، فَهُمْ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَفِيئُوا أَوْ يُطَلِّقُوا فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَقَدْ وَقَعَ طَلَاقُهُمْ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ، أَيْ فَقَدْ لَزِمَهُمْ وَأَمْضَى طَلَاقَهُمْ، فَقَدْ حَدَّ اللَّهُ لِلرِّجَالِ فِي الْإِيلَاءِ أَجَلًا مَحْدُودًا، لَا يَتَجَاوَزُونَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودُوا إِلَى مُضَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يطلقوا، وَلَا نمدوحة لَهُمْ غَيْرُ هَذَيْنِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُوَلِّي أَجَلًا وَغَايَةً، أَمَّا الْأَجَلُ فَاتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَالِفِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيلَاءٍ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَحَمَّادٍ يَقُولُ: هُوَ إِيلَاءٌ، وَلَا ثَمَرَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ فِيمَا يَظْهَرُ، إِلَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلِفِ بِقَصْدِ الضُّرِّ مِنْ تَأْدِيبِ الْقَاضِي إِيَّاهُ إِذَا رَفَعَتْ زَوْجُهُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي وَمِنْ أَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالْفَيْئَةِ.

وَأَمَّا الْغَايَةُ فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ رَفَعَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُوقَفُ لَدَى الْحَاكِمِ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلم يفِيء فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَادِرِ يَكْفِي أَنْ يَفِيءَ بِالْعَزْمِ، وَالنِّيَّةِ، وَبِالتَّصْرِيحِ لَدَى الْحَاكِمِ، كَالْمَرِيضِ وَالْمَسْجُونِ وَالْمُسَافِرِ. وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ مَسْمُوعًا لِأَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالسَّمِيعِ مَعْنَاهُ الْعَلِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ بِعَلِيمٍ، فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِاحْتِمَالِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّ السَّمِيعُ مُرَادِفٌ لِلْعَلِيمِ وَلَيْسَ الْمَسْمُوعُ إِلَّا لَفْظَ الْمُولِي، أَوْ لَفْظَ الْحَاكِمِ، دُونَ الْبَيْنُونَةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ. وَقَوْلُهُ عَلِيمٌ يَرْجِعُ لِلنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ، الَّذِي صَارَ طَلَاقًا بِمُضِيِّ أَجَلِهِ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ صِيغَةَ الْإِيلَاءِ جَعَلَهَا الشَّرْعُ سَبَبَ طَلَاقٍ، بِشَرْطِ مُضِيِّ الْأَمَدِ عَلِيمٌ بِنِيَّةِ الْعَازِمِ عَلَى تَرْكِ الْفَيْئَةِ. وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَصَحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ جُعِلَ مُفَرَّعًا عَنْ عَزْمِ الطَّلَاقِ لَا عَنْ أَصْلِ الْإِيلَاءِ وَلِأَنَّ تَحْدِيدَ الْآجَالِ وَتَنْهِيَتَهَا مَوْكُولٌ لِلْحُكَّامِ. وَقَدْ خَفِيَ عَلَى النَّاسِ وَجْهُ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ أَجَلٌ حَدَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى حِكْمَتِهِ، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ ثُلُثُ الْعَامِ، فَلَعَلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مِثْلَهَا يُعْتَبَرُ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّ الثُّلُثَ اعْتُبِرَ مُعْظَمَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ، مِثْلُ ثُلُثِ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَشَارَ بِهِ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ. وَحَاوَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَوْجِيهَهُ بِمَا وَقَعَ فِي قِصَّةٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَزَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» رِوَايَتَهَا لِمَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَوْجُودَةِ لَدَيْنَا: وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، وَلَا رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْقَعْنَبِيِّ وَسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَلَا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ التَّمِيمِيِّ الَّتِي يَرْوِيهَا الْمَهْدِيُّ بْنُ تُومَرْتَ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي لَدَيْنَا فَلَعَلَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُوَطَّأِ الْمُسَمَّى «بِالْمُنْتَقَى» ، وَلَمْ يَعْزُهَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ لَيْلَةً يَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ يَتَعَرَّفُ أَحْوَالَ النَّاسِ فَمَرَّ بِدَارٍ سَمِعَ امْرَأَةً بِهَا تُنْشِدُ:

[سورة البقرة (2) : آية 228]

أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهُ فَلَوْلَا حَذَارِ اللَّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ فَاسْتَدْعَاهَا مِنَ الْغَدِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا أُرْسِلَ فِي بَعْثِ الْعِرَاقِ، فَاسْتَدْعَى عُمَرُ نِسَاءً فَسَأَلَهُنَّ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَسْتَطِيعُ الْمَرْأَةُ فِيهَا الصَّبْرَ عَلَى زَوْجِهَا قُلْنَ شَهْرَانِ وَيَقِلُّ صَبْرُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَيَنْفَدُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ فَأَمَرَ عُمَرُ قُوَّادَ الْأَجْنَادِ أَلَّا يُمْسِكُوا الرَّجُلَ فِي الْغَزْوِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ اسْتَرَدَّ الْغَازِينَ وَوَجَّهَ قَوْمًا آخَرِينَ. [228] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً. عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِشِدَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَلِلِاتِّحَادِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ التَّرَبُّصُ، إِذْ كِلَاهُمَا انْتِظَارٌ لِأَجْلِ الْمُرَاجَعَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَدِّمْ قَوْلَهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة: 229] عَلَى قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَ جَاءَتْ مُتَنَاسِقَةً مُنْتَظِمَةً عَلَى حَسَبِ مُنَاسَبَاتِ الِانْتِقَالِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِبْدَاعِ الْأَحْكَامِ وَإِلْقَائِهَا بِأُسْلُوبٍ سَهْلٍ لَا تَسْأَمُ لَهُ النَّفْسُ، وَلَا يَجِيءُ عَلَى صُورَةِ التَّعْلِيمِ وَالدَّرْسِ. وَسَيَأْتِي كَلَامُنَا عَلَى الطَّلَاقِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. وَجُمْلَةُ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ خَبَرِيَّةٌ مُرَادٌ بِهَا الْأَمْرُ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَهُوَ مَجَازٌ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، بِاسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّقَرُّرُ وَالْحُصُولُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19] بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمُرَكَّبِ الْإِنْشَائِيِّ، بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ بَيْنَ الْأَمْرِ مَثَلًا كَمَا هُنَا وَبَيْنَ الِامْتِثَالِ، حَتَّى يُقَدِّرَ الْمَأْمُورَ فَاعِلًا فَيُخْبِرُ عَنْهُ وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا تَمْثِيلِيًّا كَمَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ: «فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَهُ اللَّهُ ثِقَةً بِالِاسْتِجَابَةِ» قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: فَهُوَ

تَشْبِيهُ مَا هُوَ مَطْلُوبُ الْوُقُوعِ بِمَا هُوَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمَاضِي كَمَا فِي قَوْلِ النَّاسِ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوِ الْحَالِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: 197] وَأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْمُطَلَّقَاتِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، إِذْ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ هُنَا. وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِنَّ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَامٍّ مَخْصُوصٍ فِي هَذِهِ، بِمُتَّصِلٍ وَلَا بِمُنْفَصِلٍ، وَلَا مُرَادٍ بِهِ الْخُصُوصَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْجِنْسِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَهِيَ مُخَصَّصَةٌ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، فَأَخْرَجَتِ الْإِمَاءَ بِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجِنْسِ الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِغَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ، مِثْلِ الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي لَسْنَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ سِنَّ الْمَحِيضِ، وَالْآيِسَاتُ مِنَ الْمَحِيضِ، وَالْحَوَامِلُ، وَقَدْ بُيِّنَ حُكْمَهُنَّ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، إِلَّا أَنَّهَا يَخْرُجُ عَنْ دَلَالَتِهَا الْمُطَلَّقَاتُ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الْأَحْزَاب: 49] فَهِيَ فِي ذَلِكَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِمُخَصَّصٍ مُنْفَصِلٍ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ بِمُخَصَّصَاتٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فِيمَا عَدَا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةٍ، أَيْ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لِتِلْكَ الْأَصْنَاف. وَإِنَّمَا لجأوا إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْمُخَصَّصَ الْمُنْفَصِلَ نَاسِخًا، وَشَرْطُ النَّسْخِ تَقَرُّرُ الْمَنْسُوخِ، وَلَمْ يَثْبُتْ وُقُوعُ الِاعْتِدَادِ فِي الْإِسْلَامِ بِالْإِقْرَاءِ لِكُلِّ الْمُطَلَّقَاتِ. وَالْحَقُّ أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْمُخَصَّصِ الْمُنْفَصِلِ نَاسِخًا، أَصْلٌ غَيْرُ جَدِيرٍ بِالتَّأْصِيلِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ هُوَ وُرُودُهُ مُخْرَجًا مِنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِدَلِيلٍ، فَإِنَّ مَجِيءَ الْعُمُومَاتِ بَعْدَ الْخُصُوصَاتِ كَثِيرٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقَوْلُ بِنَسْخِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ وَلَا بِنَسْخِ الْخَاصِّ لِلْعَامِّ لِظُهُورِ سَبْقِهِ، وَالنَّاسِخُ لَا يَسْبِقُ وَبَعْدُ، فَمَهْمَا لَمْ يَقَعْ عَمَلٌ بِالْعُمُومِ فَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِنَسْخٍ.

وَ (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) أَيْ يَتَلَبَّثْنَ وَيَنْتَظِرْنَ مُرُورَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَزِيدَ بِأَنْفُسِهِنَّ تَعْرِيضًا بِهِنَّ، بِإِظْهَارِ حَالِهِنَّ فِي مَظْهَرِ الْمُسْتَعْجِلَاتِ، الرَّامِيَاتِ بِأَنْفُسِهِنَّ إِلَى التَّزَوُّجِ، فَلِذَلِكَ أُمِرْنَ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، أَيْ يُمْسِكْنَهُنَّ وَلَا يرسلنهن إِلَى الرِّجَال. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «فَفِي ذِكْرِ الْأَنْفُسِ تَهْيِيجٌ لَهُنَّ عَلَى التَّرَبُّصِ وَزِيَادَةُ بَعْثٍ لِأَنَّ فِيهِ مَا يَسْتَنْكِفْنَ مِنْهُ فَيَحْمِلُهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَرَبَّصْنَ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ (الْمُطَلَّقَاتِ) ، وَأَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، وَمِنْ هُنَالِكَ قَالَ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي التَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» وَرَدَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ بِأَنَّ حَقَّ تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ أَوْ بِفَاصِلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: اكْتَفَى بِحَرْفِ الْجَرِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ التَّوْكِيدَ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِذْ لَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّامِعِ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرَ الْمُطَلَّقَاتِ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ، الَّذِي تَضَمَّنَ الضَّمِيرُ خَبَرَهُ. وَانْتَصَبَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ خَلَفَهُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ. وَالْقُرُوءُ جَمْعُ قَرْءٍ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا- وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، أَوْ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ، فَلِذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى الطُّهْرِ أَوْ عَلَى الْحَيْضِ كَانَ إِطْلَاقًا عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَتَبِعَهُ الرَّاغِبُ، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا بِذَلِكَ وَجْهَ إِطْلَاقِهِ عَلَى الضِّدَّيْنِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ أَشْهَرَ مَعَانِي الْقَرْءِ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الطُّهْرُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ سَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا سُؤَالُهُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُطَلِّقُونَ إِلَّا فِي حَالِ الطُّهْرِ لِيَكُونَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ مَبْدَأَ الِاعْتِدَادِ، وَكَوْنُ الطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ هُوَ مَبْدَأَ الِاعْتِدَادِ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ مَا عَدَا ابْنَ شِهَابٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يُلْغَى الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُرُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّ الْقَرْءَ هُوَ الطُّهْرُ وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَوْضَحِ كَلَامَيْهِ، وَابْنِ حَنْبَلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ الطُّهْرُ الْوَاقِعُ بَيْنَ دَمَيْنِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ إِنَّهُ الْحَيْضُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ الطُّهْرُ الْمُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى الْحَيْضِ،

وَهُوَ وِفَاقٌ لِمَا فَسَّرَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْقَرْءَ الطُّهْرُ، فَلَا وَجْهَ لِعَدِّهِ قَوْلًا ثَالِثًا. وَمَرْجِعُ النَّظَرِ عِنْدِي فِي هَذَا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَقْصِدَيِ الشَّارِعِ مِنَ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعِدَّةَ قُصِدَ مِنْهَا تَحَقُّقُ بَرَاءَةِ رَحِمِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ حَمْلِ الْمُطَلِّقِ، وَانْتِظَارُ الزَّوْجِ لَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ. فَبَرَاءَةُ الرَّحِمِ تَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ أَوْ طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَمْدِيدٌ فِي الْمُدَّةِ انْتِظَارًا لِلرَّجْعَةِ. فَالْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ جُعِلَتْ عَلَامَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ فِي انْتِقَالِ الْمُلْكِ، وَفِي السَّبَايَا، وَفِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، مُخْتَلَفًا فِي بَعْضِهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى حَيْضٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الْحَمْلِ، بَلْ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ رِفْقًا بِالْمُطَلِّقِ، وَمَشَقَّةً عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، فَتَعَارَضَ الْمَقْصِدَانِ، وَقَدْ رَجَحَ حَقُّ الْمُطَلِّقِ فِي انْتِظَارِهِ أَمَدًا بَعْدَ حُصُولِ الْحَيْضَةِ الْأُولَى وَانْتِهَائِهَا، وَحُصُولِ الطُّهْرِ بَعْدَهَا، فَالَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرُوءَ أَطْهَارًا رَاعَوُا التَّخْفِيفَ عَنِ الْمَرْأَةِ، مَعَ حُصُولِ الْإِمْهَالِ لِلزَّوْجِ، وَاعْتَضَدُوا بِالْأَثَرِ. وَالَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرُوءَ حَيْضَاتٍ زَادُوا لِلْمُطَلِّقِ إِمْهَالًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي طُهْرٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الصَّحِيحِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي وَقَعَ الطَّلَاقُ فِيهِ مَعْدُودٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْقُرُوءِ. وَقُرُوءٌ صِيغَةُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، اسْتُعْمِلَ فِي الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ قِلَّةٌ تَوَسُّعًا، عَلَى عَادَاتِهِمْ فِي الْجُمُوعِ أَنَّهَا تَتَنَاوَبُ، فَأُوثِرَ فِي الْآيَةِ الْأَخَفُّ مَعَ أَمن اللّبْس بِوُجُود صَرِيحِ الْعَدَدِ. وَبِانْتِهَاءِ الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ تَنْقَضِي مُدَّةُ الْعِدَّةِ، وَتَبِينُ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ مُفَارِقِهَا، وَذَلِكَ حِينَ يَنْقَضِي الطُّهْرُ الثَّالِثُ وَتَدَخُلُ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا رَأَتْ أَوَّلَ نُقْطَةِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ، بَعْدَ تَحَقُّقِ أَنه دم الْحيض. وَمِنْ أَغْرَبِ الِاسْتِدْلَالِ لِكَوْنِ الْقَرْءِ الطُّهْرَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَأْنِيثِ اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. قَالُوا: وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ فَلِذَلِكَ ذُكِّرَ مَعَه لفظ (ثَلَاثَة) ، وَلَوْ كَانَ الْقَرْءُ الْحَيْضَةَ وَالْحيض مؤنث لقَالَ ثَلَاثُ قُرُوءٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» ، عَنْ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَيْرُ نَاهِضٍ فَإِنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ إِمَّا الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ حَقِيقِيًّا، وَإِلَّا فَهُوَ حَالُ الِاسْمِ مِنَ الِاقْتِرَانِ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ، أَوْ إِجْرَاءُ الِاسْمِ عَلَى اعْتِبَارِ تَأْنِيثٍ مُقَدَّرٍ مِثْلِ اسْمِ الْبِئْرِ، وَأَمَّا هَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ لُبِسَ حُكْمُ اللَّفْظِ بِحُكْمِ أَحَدِ مُرَادِفَيْهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِخْبَارٌ عَنِ انْتِفَاءِ إِبَاحَةِ الْكِتْمَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّ كِتْمَانَهُنَّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ التَّشْرِيعِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لَهُنَّ بِذَلِكَ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ هُوَ الدَّمُ وَمَعْنَاهُ كَتْمُ الْخَبَرِ عَنْهُ لَا كِتْمَانُ ذَاتِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: «كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا» أَيْ كَتَمْتُكَ حَالَ لَيْلٍ. وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ مَوْصُولٌ، فَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَهْدِ، أَي مَا خلاق مِنَ الْحَيْضِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْوَارِدَ فِي الْقُرْآنِ عَقِبَ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ، قَدْ أَلْحَقُوهُ بِالْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَأَمَّا مَنْ يُقْصِرُ لَفْظَ الْعُمُومِ فِي مِثْلِهِ عَلَى خُصُوصِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ إِلْحَاقُ الْحَوَامِلِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ نِيطَ بِكِتْمَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ. وَهَذَا مَحْمَلُ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الْحَيْضُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ: الْحَمْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَمْلَ لِيَلْحَقَ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ الْجَدِيدِ (أَيْ لِئَلَّا يَبْقَى بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَمُطَلِّقِهَا صِلَةٌ وَلَا تَنَازُعٌ فِي الْأَوْلَادِ) وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِيهِمْ، وَأَمَّا مَعَ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ كِتْمَانُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، وَإِذْ مَضَتْ مُدَّةُ الْأَقْرَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزَّوْجِ الْجَدِيدِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ التَّهْدِيدُ دُونَ التَّقْيِيدِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى التَّقْيِيدِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّهْدِيدِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِ نَفْيِ الْحَمْلِ بِكَوْنِهِنَّ مُؤْمِنَاتٍ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْكَوَافِرَ لَا يَمْتَثِلْنَ لِحُكْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْإِسْلَامِيِّ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِنْ كَتَمْنَ فَهُنَّ لَا يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَاتِ هَذَا الْكِتْمَانُ. وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِإِنْ، لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَقْصِدٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الشَّرْطِ فَيُؤْتَى بِإِذَا، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَفْرُوضًا، فَرْضًا لَا قَصْدَ لِتَحْقِيقِهِ وَلَا لِعَدَمِهِ جِيءَ بِإِنْ. وَلَيْسَ لَإِنْ هُنَا، شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الشَّكِّ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ، وَلَا تَنْزِيلَ إِيمَانِهِنَّ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ، خِلَافًا لِمَا قَرَّرَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ إِيمَانُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِمُرَادٍ هُنَا إِذْ لَا مَعْنَى لِرَبْطِ نَفْيِ الْحَمْلِ فِي الْإِسْلَامِ بِثُبُوتِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَصْدِيقِ النِّسَاءِ فِي دَعْوَى الْحَمْلِ وَالْحَيْضِ كَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ مُشَبَّهًا، وَمَتَى ارْتِيبَ فِي صِدْقِهِنَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا هُوَ الْمُحَقَّقُ، وَإِلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ وَالْعَارِفِينَ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: «لَوِ ادَّعَتْ ذَاتُ الْقُرُوءِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهِا فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ لَمْ تُصَدَّقْ، وَلَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ يَمِينِهَا» وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: خَمْسُونَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِيهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَجَرَى بِهِ عَمَلُ تُونُسَ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي، وَعَمَلُ فَاسَ كَمَا نَقَلَهُ السِّجِلْمَاسِيُّ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْكِتَابِيَّةَ لَا تُصَدَّقُ فِي قَوْلِهَا إِنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَقَوْلُهُ: وَبُعُولَتُهُنَّ. الْبُعُولَةُ جَمْعُ بَعْلٍ، وَالْبَعْلُ اسْمُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ. وَأَصْلُ الْبَعْلِ فِي كَلَامِهِمْ، السَّيِّدُ. وَهُوَ كَلِمَةٌ سَامِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، فَقَدْ سَمَّى الْكَنْعَانِيُّونَ (الْفِينِيقِيُّونَ) مَعْبُودَهُمْ بَعْلًا قَالَ تَعَالَى: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ [الصافات: 125] وَسُمِّيَ بِهِ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَمْرَ عِصْمَةِ زَوْجِهِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ كَانَ يُعْتَبَرُ مَالِكًا لِلْمَرْأَةِ وَسَيِّدًا لَهَا، فَكَانَ حَقِيقًا بِهَذَا الِاسْمِ، ثُمَّ لَمَّا ارْتَقَى نِظَامُ الْعَائِلَةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا بَعْدَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، أَخَذَ مَعْنَى الْمِلْكِ فِي الزَّوْجِيَّةِ يَضْعُفُ، فَأَطْلَقَ الْعَرَبُ لَفْظَ الزَّوْجِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا عِصْمَةُ نِكَاحٍ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ عَادِلٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يُثَنِّي الْفَرْدَ، فَصَارَا سَوَاءً فِي الِاسْمِ، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ بِهَذَا الِاسْمِ فِي أَغْلَبِ الْمَوَاضِعِ، غَيْرَ الَّتِي حَكَى فِيهَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] ، وَغَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَشَارَ فِيهَا إِلَى التَّذْكِيرِ بِمَا لِلزَّوْجِ مِنْ سِيَادَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النِّسَاء: 128] وَهَاتِهِ الْآيَةُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ حَقَّ الرَّجْعَةِ لِلرَّجُلِ جَبْرًا عَلَى الْمَرْأَةِ، ذَكَّرَ الْمَرْأَةَ بِأَنَّهُ بَعْلُهَا قَدِيمًا. وَقِيلَ: الْبَعْلُ: الذَّكَرُ، وَتَسْمِيَةُ الْمَعْبُودِ بَعْلًا لِأَنَّهُ رَمْزٌ إِلَى قُوَّةِ الذُّكُورَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الشَّجَرُ الَّذِي لَا يُسْقَى بَعْلًا، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى وَزْنِ فُعُولَةٌ، وَأَصْلُهُ فُعُولُ الْمُطَّرِدِ فِي جَمْعِ فَعْلٍ، لَكِنَّهُ زِيدَتْ فِيهِ الْهَاءُ لِتَوَهُّمِ مَعْنَى الْجَمَاعَة فِيهِ، وَنَظِيره قَوْلِهِمْ: فُحُولَةٌ وَذُكُورَةٌ وَكُعُوبَةٌ وَسُهُولَةٌ، جَمْعُ السَّهْلِ

ضِدُّ الْجَبَلِ، وَزِيَادَةُ الْهَاء على مِثْلِهِ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّهَا لَا تُؤْذِنُ بِمَعْنًى، غَيْرِ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ. وَضَمِيرُ بُعُولَتُهُنَّ، عَائِدٌ إِلَى (الْمُطَلَّقَاتِ) قَبْلَهُ، وَهُنَّ الْمُطَلَّقَاتُ الرَّجْعِيَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَدْ سَمَّاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مُطَلَّقَاتٍ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ أَنْشَئُوا طَلَاقَهُنَّ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْبُعُولَةِ عَلَى الْمُطَلِّقِينَ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ أَزْوَاجٌ لِلْمُطَلَّقَاتِ، إِلَّا أَنَّ صُدُورَ الطَّلَاقِ مِنْهُمْ إِنْشَاءٌ لِفَكِّ الْعِصْمَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُطَلِّقِينَ، عَسَى أَنْ تَحْدُثَ لَهُمْ نَدَامَةٌ وَرَغْبَةٌ فِي مُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] ، أَيْ أَمْرَ الْمُرَاجَعَةِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَا أَجْرَتْهُ الشَّرِيعَةُ فِي الْإِيلَاءِ، فَلِلْمُطَلِّقِينَ بِحَسَبِ هَذِهِ الْحَالَةِ حَالَةُ وَسَطٍ بَيْنِ حَالَةِ الْأَزْوَاجِ وَحَالَةِ الْأَجَانِبِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَالَةِ الْوَسَطِ أَوْقَعَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْبُعُولَةِ هُنَا، وَهُوَ مَجَازٌ قَرِينَتُهُ وَاضِحَةٌ، وَعِلَاقَتُهُ اعْتِبَارُ مَا كَانَ، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] . وَقَدْ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَجَازِ فَإِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْمُطَلَّقَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً عَنِ الْمُطَلِّقِ بِحَسَبِ الطَّلَاقِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لِلْمُطَلِّقِ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ، مَا دَامَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْعِدَّةِ، وَلَوْ بِدُونِ رِضَاهَا، وَجَبَ إِعْمَالُ مُقْتَضَى الْحَالَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: «لَا يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا بِدُونِ إِذْنٍ، وَلَوْ وَطِئَهَا بِدُونِ قَصْدِ مُرَاجَعَةٍ أَثِمَ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا مِنَ الْمَاءِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَتْ رَابِعَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى، مَا دَامَت تِلْكَ فِي الْعِدَّةُ» . وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِانْتِظَارِ مُرَاجَعَتِهِ، وَيُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ إِذَا مَاتَ مُطَلِّقُهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ قَضَى بِذَلِكَ فِي امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بِمُوَافَقَةِ عَلِيٍّ، رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، فَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ بِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ شَرْطٌ فِي إِنْفَاذِ الطَّلَاقِ، وَإِنْفَاذُ الطَّلَاقِ مَانِعٌ مِنِ الْمِيرَاثِ، فَمَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ فَالطَّلَاقُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِعْمَالِ وَالْإِلْغَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ شَكًّا فِي مَانِعِ الْإِرْثِ، وَالشَّكُّ فِي الْمَانِعِ يُبْطِلُ إِعْمَالَهُ. وَحَمَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْبُعُولَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَقَالَا «الزَّوْجِيَّةُ مُسْتَمِرَّةٌ بَيْنَ الْمُطَلِّقِ الرَّجْعِيِّ وَمُطَلَّقَتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ بُعُولَةً» وسوغا دُخُول الطَّلَاق عَلَيْهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا فَذَلِكَ ارْتِجَاعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَنُسِبَ إِلَى

سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَائِلُونَ بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْمُطَلِّقِ ومطلقته الرَّجْعِيَّة. و (أَحَق) قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَتَى بِهِ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] لَا سِيَّمَا إِنْ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَهَا مُفَضَّلٌ عَلَيْهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْضِيلٌ عَلَى بَابِهِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَقَرَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ بِمَا تَحْصِيلُهُ وَتَبْيِينُهُ: أَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ صِنْفَيْ حَقٍّ مُخْتَلِفَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ: هُمَا حَقُّ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ إِنْ رَغِبَ فِيهَا، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ إِنْ أَبَتْهَا، فَصَارَ الْمَعْنَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّ الْمُطَلَّقَاتِ، مِنْ حَقِّ الْمُطَلَّقَاتِ بِالِامْتِنَاعِ وَقَدْ نَسَجَ التَّرْكِيبَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَقَوْلُهُ: فِي ذلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى التَّرَبُّصِ بِمَعْنَى مُدَّتِهِ، أَيْ لِلْبُعُولَةِ حَقُّ الْإِرْجَاعِ فِي مُدَّةِ الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ لَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ الْقَيْدِ. هَذَا تَقْرِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهَا جَاءَتْ لِتَشْرِيعِ حُكْمِ الْمُرَاجَعَةِ فِي الطَّلَاقِ مَا دَامَتِ الْعِدَّةُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُجَرَّدَ تَشْرِيعٍ لِلْمُرَاجَعَةِ بَلِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِأَمْرَيْنِ: حُكْمِ الْمُرَاجَعَةِ، وَتَحْضِيضِ الْمُطَلِّقِينَ عَلَى مُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَفَارِقَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِكِلَيْهِمَا، رَغْبَةٌ فِي الرُّجُوعِ، فَاللَّهُ يُعْلِمُ الرِّجَالَ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَرْغَبُوا فِي مُرَاجَعَةِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَصْفَحُوا عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ مَظِنَّةُ الْبَصِيرَةِ وَالِاحْتِمَالِ، وَالْمَرْأَةُ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالْإِبَاءِ. وَالرَّدُّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [الْبَقَرَة: 217] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الرُّجُوعُ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ وَهُوَ الْمُرَاجَعَةُ، وَتَسْمِيَةُ الْمُرَاجَعَةِ رَدًّا يُرَجِّحُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَدِ اعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ قَطْعًا لِعِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقُوهُ فَتَأَوَّلُوا التَّعْبِيرَ بِالرَّدِّ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ سَائِرَةٌ فِي سَبِيلِ الزَّوَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَسُمِّيَتِ الْمُرَاجَعَةُ رَدًّا عَنْ هَذَا السَّبِيلِ الَّذِي أَخَذْتُ فِي سُلُوكِهِ وَهُوَ رَدٌّ مَجَازِيٌّ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً شَرْطٌ قُصِدَ بِهِ الْحَثُّ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ، وَلَيْسَ هُوَ للتَّقْيِيد.

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لَهُنَّ عَائِدًا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ (الْمُطَلَّقَاتُ) ، عَلَى نَسَقِ الضَّمَائِرِ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ لَمْ تَبْقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الرِّجَالِ عَلَقَةٌ حَتَّى يَكُونَ لَهُنَّ حُقُوقٌ وَعَلَيْهِنَّ حُقُوقٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لَهُنَّ ضَمِيرَ الْأَزْوَاجِ النِّسَاءِ اللَّائِي اقْتَضَاهُنَّ قَوْلُهُ بِرَدِّهِنَّ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. فَالْمُرَادُ بِالرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلرِّجالِ الْأَزْوَاجُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِرِجَالِهِنَّ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. وَالرَّجُلُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَقِيلَ: رَجُلُ فُلَانَةَ، كَانَ بِمَعْنَى الزَّوْجِ، كَمَا يُقَالُ لِلزَّوْجَةِ: امْرَأَةُ فُلَانٍ، قَالَ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [هود: 71]- إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود: 81] . وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى النِّسَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْبَقَرَة: 226] بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْإِيلَاءَ مِنَ النِّسَاءِ هَضْمٌ لِحُقُوقِهِنَّ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ، فَجَاءَ هَذَا الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَاصِّ لِمُنَاسَبَةٍ فَإِنَّ الْكَلَامَ تَدَرَّجَ مِنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ، حِينَ ذَكَرَ طَلَاقَهُنَّ بِقَوْلِهِ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [الْبَقَرَة: 227] ، إِلَى ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ بِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَمَّا اخْتَتَمَ حُكْمَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ صَارَ أُولَئِكَ النِّسَاءُ الْمُطَلَّقَاتُ زَوْجَاتٍ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِنَّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ الْجَدِيدِ، الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ الْمُبْتَدَأُ بِهِ فِي الْحُكْمِ، فَكَانَ فِي الْآيَةِ ضَرْبٌ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَعَادَتْ إِلَى أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ بِأُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ فِي الْإِيلَاءِ مِنَ النِّسَاءِ تَطَاوُلًا عَلَيْهِنَّ، وَتَظَاهُرًا بِمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلزَّوْجِ مِنْ حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْعِصْمَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِأَنَّ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحَقِّ مِثْلَ مَا لِلرِّجَالِ. وَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِثْلُ الَّذِي لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الْآخِرِ، وَبِالْعَكْسِ. وَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِذِكْرِ مَا لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى الرِّجَالِ، وَتَشْبِيهِهِ بِمَا لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّ حُقُوقَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ مَشْهُورَةٌ، مُسَلَّمَةٌ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ الْبَشَرِ، فَأَمَّا حُقُوقُ النِّسَاءِ فَلَمْ تَكُنْ مِمَّا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ أَوْ كَانَتْ مُتَهَاوَنًا بِهَا، وَمَوْكُولَةً إِلَى مِقْدَارِ حُظْوَةِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَامَهَا. وَأَعْظَمُ مَا أُسِّسَتْ بِهِ هُوَ مَا جَمَعَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَتَوَقَّعُهَا السَّامِعُونَ، فَقُدِّمَ لِيُصْغِيَ السَّامِعُونَ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُخِّرَ فَقِيلَ: وَمِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي هَذَا إِعْلَانٌ لِحُقُوقِ النِّسَاءِ، وَإِصْدَاعٌ بِهَا وَإِشَادَةٌ بِذِكْرِهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى بِالِاسْتِغْرَابِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَحَلَّ الِاهْتِمَامِ. ذَلِكَ أَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ إِزَاءَ الرَّجُلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانْتُ زَوْجَةً أَمْ غَيْرَهَا، هِيَ حَالَةٌ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً بَيْنَ مَظْهَرِ كَرَامَةٍ وَتَنَافُسٍ عِنْدَ الرَّغْبَةِ، وَمَظْهَرِ اسْتِخْفَافٍ وَقِلَّةِ إِنْصَافٍ، عِنْدَ الْغَضَبِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَنَاشِئٌ عَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَصِدْقِ الْمَحَبَّةِ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مَطْمَحَ نَظَرِ الرَّجُلِ، وَمَحَلَّ تَنَافُسِهِ، رَغْبَةً فِي الْحُصُولِ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُعَاشَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ مَرْمُوقَةً مِنَ الزَّوْجِ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ وَالْكَرَامَةِ قَالَ شَاعِرُهُمْ وَهُوَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ السَّعْدِيُّ: يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكِ رِحَالَ الْقَوْمِ وَالْقِرَبَا فَسَمَّاهَا رَبَّةَ الْبَيْتِ وَخَاطَبَهَا خِطَابَ الْمُتَلَطِّفِ حِينَ أَمَرَهَا فَأَعْقَبَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ غَيْرَ صَاغِرَةٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَالرَّجُلُ مَعَ ذَلِكَ يَرَى الزَّوْجَةَ مَجْعُولَةً لِخِدْمَتِهِ فَكَانَ إِذَا غَاضَبَهَا أَوْ نَاشَزَتْهُ، رُبَّمَا اشْتَدَّ مَعَهَا فِي خُشُونَةِ الْمُعَامَلَةِ، وَإِذا تخَالف رأياهما أَرْغَمَهَا عَلَى مُتَابَعَتِهِ، بِحَقٍّ أَوْ بِدُونِهِ، وَكَانَ شَأْنُ الْعَرَبِ فِي هَذَيْنِ الْمَظْهَرَيْنِ مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْحَضَارَةِ وَالْبَدَاوَةِ، وَتَفَاوُتِ أَفْرَادِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْجَلَافَةِ، وَتَفَاوُتِ حَالِ نِسَائِهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ وَالْإِبَاءِ وَالشَّرَفِ وَخِلَافِهِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نساؤنا يَأْخُذن مِنْ أَدَبِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَن أراجعك فو الله إِن أَزوَاج النَّبِي لِيُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَرَاعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيءَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ» الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ «كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا» وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ صَدْرًا لِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: «كُنَّا

مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ» إِلَى آخِرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا مِنْ أَزْدِ الْيَمَنِ، وَالْيَمَنُ أَقْدَمُ بِلَادِ الْعَرَبِ حَضَارَةً، فَكَانَتْ فِيهِمْ رِقَّةٌ زَائِدَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» وَقَدْ سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ذَلِكَ أَدَبًا فَقَالَ: فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ الْأَنْصَارِ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا إِذَا حَلَّتْ لَهُ، وَإِنْ شَاءُوا، زوجوها بِمن شاؤا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَبَقِيَتْ بَيْنَهُمْ، فَهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ آيَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ: 19] . وَفِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَآخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ يُنَاصِفَهُ مَالَهُ وَقَالَ لَهُ «انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ أَنْزِلُ لَكَ عَنْهَا» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ» الْحَدِيثَ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِالْإِصْلَاحِ، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَصْلَحَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ كَافَّةً، ضَبْطُ حُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ بِوَجْهٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَدْخَلٌ لِلْهَضِيمَةِ حَتَّى الْأَشْيَاءُ الَّتِي قَدْ يَخْفَى أَمْرُهَا قَدْ جَعَلَ لَهَا التَّحْكِيمُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [النِّسَاء: 35] وَهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّرَائِعِ عَهْدٌ بِمثلِهِ. وَأول إِعْلَام هَذَا الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحُقُوقِ، كَانَ بِهَاتِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْمَثَلُ أَصْلُهُ النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ، كَالشَّبَهِ وَالْمِثْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: 17] ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَثَلًا لِشَيْءٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَثَلًا لَهُ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ. وَهِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ. فَقَدْ يَكُونُ وَجْهُ الْمُمَاثَلَةِ ظَاهِرًا فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا فَيُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ هُنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَالْحُقُوقِ: أَجْنَاسًا أَوْ أَنْوَاعًا أَوْ أَشْخَاصًا لِأَنَّ مُقْتَضَى الْخِلْقَةِ، وَمُقْتَضَى الْمَقْصِدِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، التَّخَالُفُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي نِظَامِ الْعُمْرَانِ وَالْمُعَاشَرَةِ. فَلَا جَرَمَ يَعْلَمُ كُلُّ السَّامِعِينَ أَنْ لَيْسَتِ الْمُمَاثَلَةُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَتَعَيَّنَ صَرْفُهَا إِلَى مَعْنَى الْمُمَاثِلَةِ فِي أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ عَلَى إِجْمَالٍ تُبَيِّنُهُ تَفَاصِيلُ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ إِذَا

وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُقِمَّ بَيْتَ زَوْجِهَا، وَأَنْ تُجَهِّزَ طَعَامَهُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْإِنْفَاقُ عَلَى زَوْجِهَا بَلْ كَمَا تُقِمُّ بَيْتَهُ وَتُجَهِّزُ طَعَامَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَحْرُسَ الْبَيْتَ وَأَنْ يُحَضِرَ لَهَا الْمِعْجَنَةَ وَالْغِرْبَالَ، وَكَمَا تَحْضُنُ وَلَدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفِيَهَا مُؤْنَةَ الِارْتِزَاقِ كَيْ لَا تُهْمِلَ وَلَدَهُ، وَأَنْ يَتَعَهَّدَهُ بِتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ، وَكَمَا لَا تَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ بِزَوْجٍ فِي مُدَّةِ عِصْمَتِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجَةٍ أُخْرَى حَتَّى لَا تُحِسَّ بِهَضِيمَةٍ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَإِذَا تَأَتَّتِ الْمُمَاثَلَةُ الْكَامِلَةُ فَتُشَرَّعُ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُحْسِنَ مُعَاشَرَةَ زَوْجِهَا، بِدَلِيلِ مَا رُتِّبَ عَلَى حُكْمِ النُّشُوزِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: 34] وَعَلَى الرَّجُلِ مِثْلُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: 19] وَعَلَيْهَا حِفْظُ نَفْسِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَمَّنْ لَيست بِزَوْجَة [النُّور: 30] ثُمَّ قَالَ: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النُّور: 30] الْآيَةَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 5- 6] إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى فَلِذَلِكَ حُكْمٌ آخَرٌ، يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الرِّعَايَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «الرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي التَّشَاوُرِ فِي الرَّضَاعِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ [الْبَقَرَة: 233] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: 6] . وَتَفَاصِيلُ هَاتِهِ الْمُمَاثَلَةِ، بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْغَايَةِ، تُؤْخَذُ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى نَفْيِ الْإِضْرَارِ، وَإِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ لَهُنَّ حَقٌّ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْرُوفِ، غَيْرِ الْمُنْكَرِ، مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَالْآدَابِ، وَالْمَصَالِحِ، وَنَفْيِ الْإِضْرَارِ، وَمُتَابَعَةِ الشَّرْعِ. وَكُلُّهَا مَجَالُ أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَلَمْ أَرَ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ تَبْوِيبًا لِأَبْوَابِ تَجْمَعُ حُقُوقَ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي «سُنَنِ أبي دَاوُد» ، و «سنَن ابْنِ مَاجَهْ» ، بَابَانِ أَحَدُهُمَا لِحُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَالْآخَرُ لِحُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الرَّجُلِ، بِاخْتِصَارٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعِدُّونَ الرَّجُلَ مَوْلًى لِلْمَرْأَةِ فَهِيَ وَلِيَّةٌ كَمَا يَقُولُونَ، وَكَانُوا لَا يَدَّخِرُونَهَا تَرْبِيَةً، وَإِقَامَةً وَشَفَقَةً، وَإِحْسَانًا، وَاخْتِيَارَ مَصِيرٍ، عِنْدَ إِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا، لِمَا كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْأَكْفَاءِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ لَا يَرَوْنَ لَهَا حَقًّا فِي مُطَالَبَةٍ بِمِيرَاثٍ وَلَا بِمُشَارَكَةٍ فِي اخْتِيَارِ مَصِيرِهَا، وَلَا بِطَلَبِ مَا لَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ

فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النِّسَاء: 127] وَقَالَ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [الْبَقَرَة: 232] فَحَدَّدَ اللَّهُ لِمُعَامَلَاتِ النِّسَاءِ حُدُودًا، وَشَرَعَ لَهُنَّ أَحْكَامًا، قَدْ أَعْلَنَتْهَا عَلَى الْإِجْمَالِ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ، ثُمَّ فَصَّلَتْهَا الشَّرِيعَةُ تَفْصِيلًا، وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ فِي التَّنْبِيهِ إِلَى هَذَا عَطْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوِ الْفَضَائِلِ، وَعَطْفُ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ. وَقَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السَّالِمَةُ، الْمُجَرَّدَةُ مِنَ الِانْحِيَازِ إِلَى الْأَهْوَاءِ، أَوِ الْعَادَاتِ أَوِ التَّعَالِيمِ الضَّالَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَسَنُ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، أَوِ اقْتَضَتْهُ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَوِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، الَّتِي لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يُعَارِضُهَا. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْمَعْرُوفَ عَلَى مَا قَابَلَ الْمُنْكَرَ أَيْ وَلِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مُلَابِسًا ذَلِكَ دَائِمًا لِلْوَجْهِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَحْتَ هَذَا تَفَاصِيلُ كَبِيرَةٌ تُؤْخَذُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مَجَالٌ لِأَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ. فِي مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ. فَقَوْلُ مَنْ يَرَى أَنَّ الْبِنْتَ الْبِكْرَ يُجْبِرُهَا أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ، قَدْ سَلَبَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلِابْنِ، فَدَخَلَ ذَلِكَ تَحْتَ الدَّرَجَةِ، وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ جَبْرَهَا وَقَالَ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا قَدْ أَثْبَتَ لَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلذَّكَرِ، وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ الْمَرْأَةَ مِنَ التَّبَرُّعِ بِمَا زَاد على ثلاثها إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قَدْ سَلَبَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلرَّجُلِ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا كَالرَّجُلِ فِي تَبَرُّعِهَا بِمَا لَهَا قَدْ أَثْبَتَ لَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلرَّجُلِ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ حَقَّ الْخِيَارِ فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا إِذَا كَانَتْ بِهِ عَاهَةٌ قَدْ جَعَلَ لَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ وَقَوْلُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا ذَلِكَ قَدْ سَلَبَهَا هَذَا الْحَقَّ. وَكُلٌّ يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَوْ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَهَذَا الشَّأْنُ فِي كُلِّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حُقُوقِ الصِّنْفَيْنِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ تَسْوِيَةٍ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَوْ مِنْ تَفْرِقَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا فَكُونُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَحَلِّ التَّيَقُّظِ، وَخُذُوا بِالْمَعْنَى دُونَ التَّلَفُّظِ. وَدِينُ الْإِسْلَامِ حَرِيٌّ بِالْعِنَايَةِ بِإِصْلَاحِ شَأْنِ الْمَرْأَةِ، وَكَيْفَ لَا وَهِيَ نِصْفُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالْمُرَبِّيَةُ الْأُولَى، الَّتِي تُفِيضُ التَّرْبِيَةَ السَّالِكَةَ إِلَى النُّفُوسِ قَبْلَ غَيْرِهَا، وَالَّتِي تُصَادِفُ عُقُولًا لَمْ تَمَسَّهَا وَسَائِلُ الشَّرِّ، وَقُلُوبًا لَمْ تَنْفُذْ إِلَيْهَا خَرَاطِيمُ الشَّيْطَانِ. فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ التَّرْبِيَةُ خَيْرًا، وَصِدْقًا، وَصَوَابًا، وَحَقًّا، كَانَتْ أَوَّلُ مَا يَنْتَقِشُ فِي تِلْكَ الْجَوَاهِرِ الْكَرِيمَةِ، وَأَسْبَقَ مَا يَمْتَزِجُ بِتِلْكَ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ، فَهَيَّأَتْ لِأَمْثَالِهَا، مِنْ خَوَاطِرِ الْخَيْرِ، مَنْزِلًا رَحْبًا، وَلَمْ تُغَادِرْ لِأَغْيَارِهَا مِنَ الشُّرُورِ كَرَامَةً وَلَا حُبًّا.

وَدِينُ الْإِسْلَامِ دِينُ تَشْرِيعٍ وَنِظَامٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِإِصْلَاحِ حَالِ الْمَرْأَةِ، وَرَفْعِ شَأْنِهَا لِتَتَهَيَّأَ الْأُمَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، إِلَى الِارْتِقَاءِ وَسِيَادَةِ الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ إِثْبَاتٌ لِتَفْضِيلِ الْأَزْوَاجِ فِي حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ عَلَى نِسَائِهِمْ لِكَيْلَا يُظَنَّ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوعَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُطَّرِدَةٌ، وَلِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا التَّفْضِيلُ ثَابِتٌ عَلَى الْإِجْمَالِ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا التَّفْضِيلِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُقْتَضَيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ خَبَرٌ عَنْ (دَرَجَةٍ) ، قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تُفِيدُهُ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى اسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ، كَمَا أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 34] وَفِي هَذَا الِاهْتِمَامِ مَقْصِدَانِ أَحَدُهُمَا دَفْعُ تَوَهُّمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ، تَوَهُّمًا مِنْ قَوْلِهِ آنِفًا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَثَانِيهُمَا تَحْدِيدُ إِيثَارِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، لِإِبْطَالِ إِيثَارِهِمُ الْمُطْلَقَ، الَّذِي كَانَ مُتَّبَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالرِّجَالُ جَمْعُ رَجُلٍ، وَهُوَ الذَّكَرُ الْبَالِغُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ خَاصَّةً، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: امْرَأَةٌ رَجُلَةُ الرَّأْيِ، فَهُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ تُشْبِهُ الرَّجُلَ. وَالدَّرَجَةُ مَا يُرْتَقَى عَلَيْهِ فِي سُلَّمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَصِيغَتْ بِوَزْنِ فَعَلَةٍ مِنْ دَرَجَ إِذَا انْتَقَلَ عَلَى بُطْءٍ وَمَهْلٍ، يُقَالُ: دَرَجَ الصَّبِيُّ، إِذَا ابْتَدَأَ فِي الْمَشْيِ، وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلرِّفْعَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الزِّيَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ الْحُقُوقِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَقَرَّرَ تَشْبِيهُ الْمَزِيَّةُ فِي الْفَضْلِ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، فَتَبِعَ ذَلِكَ تَشْبِيهُ الْأَفْضَلِيَّةِ بِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي سَيْرِ الصَّاعِدِ، لِأَنَّ بِزِيَادَتِهَا زِيَادَةَ الِارْتِفَاعِ، وَيُسَمُّونَ الدَّرَجَةَ إِذَا نَزَلَ مِنْهَا النَّازِلُ: دَرَكَةً، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ بِهَا الْمَكَانَ النَّازِلَ إِلَيْهِ. وَالْعِبْرَةُ بِالْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ، فَإِن كَانَ الْمَقْصد مِنَ الدَّرَجَةِ الِارْتِفَاعَ كَدَرَجَةِ السُّلَّمِ وَالْعُلُوَّ فَهِيَ دَرَجَةٌ وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ النُّزُولَ كَدَرَكِ الدَّامُوسِ فَهِيَ دَرَكَةٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِنُزُولِ الصَّاعِدِ وَصُعُودِ النَّازِلِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ اقْتَضَاهَا مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي صِنْفِ الرِّجَالِ مِنْ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ الذُّكُورَةَ فِي الْحَيَوَانِ تَمَامٌ فِي الْخِلْقَةِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ صِنْفَ الذَّكَرِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ أَذْكَى مِنَ الْأُنْثَى، وَأَقْوَى جِسْمًا وَعَزْمًا، وَعَنْ إِرَادَتِهِ يَكُونُ الصَّدْرُ، مَا لَمْ يَعْرِضْ لِلْخِلْقَةِ عَارِضٌ يُوجِبُ انْحِطَاطَ بَعْضِ أَفْرَادِ الصِّنْفِ، وَتَفَوُّقَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْآخَرِ نَادِرًا، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْكَامُ التَّشْرِيعِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ النُّظُمِ التَّكْوِينِيَّةِ، لِأَنَّ وَاضِعَ الْأَمْرَيْنِ وَاحِدٌ.

وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ مَا فُضِّلَ بِهِ الْأَزْوَاجُ عَلَى زَوْجَاتِهِمْ: مِنَ الْإِذْنِ بِتَعَدُّدِ الزَّوْجَةِ لِلرَّجُلِ، دُونَ أَنْ يُؤْذَنَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِلْأُنْثَى، وَذَلِكَ اقْتَضَاهُ التَّزَيُّدُ فِي الْقُوَّةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَوَفْرَةِ عَدَدِ الْإِنَاثِ فِي مَوَالِيدِ الْبَشَرِ، وَمِنْ جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَالْمُرَاجَعَةِ فِي الْعِدَّةِ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ اقْتَضَاهُ التَّزَيُّدُ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَصِدْقُ التَّأَمُّلِ، وَكَذَلِكَ جَعْلُ الْمَرْجِعِ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى رَأْيِ الزَّوْج فِي شؤون الْمَنْزِلِ، لِأَنَّ كُلَّ اجْتِمَاعٍ يُتَوَقَّعُ حُصُولُ تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ فِيهِ، يَتَعَيَّنُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ قَاعِدَةٌ فِي الِانْفِصَالِ وَالصَّدْرُ عَنْ رَأْيٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ، وَلَمَّا كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ اجْتِمَاعَ ذَاتَيْنِ لَزِمَ جَعْلُ إِحْدَاهُمَا مَرْجِعًا عِنْدَ الْخِلَافِ، وَرَجَحَ جَانِبُ الرَّجُلِ لِأَنَّ بِهِ تَأَسَّسَتِ الْعَائِلَةُ، وَلِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الصَّوَابِ غَالِبًا، وَلِذَلِكَ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّرَاجُعُ، وَاشْتَدَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ النِّزَاعُ، لَزِمَ تَدَخُّلُ الْقَضَاءِ فِي شَأْنِهِمَا، وَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بَعْثُ الْحَكَمَيْنِ كَمَا فِي آيَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النِّسَاء: 35] . وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ حُكْمُ حُقُوقِ الرِّجَالِ غَيْرِ الْأَزْوَاجِ بِلَحْنِ الْخِطَابِ، لِمُسَاوَاتِهِمْ لِلْأَزْوَاجِ فِي صِفَةِ الرُّجُولَةِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ الْعِلَّةَ فِي ابْتِزَازِهِمْ حُقُوقَ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا أَسَّسَتِ الْآيَةُ حُكْمَ الْمُسَاوَاةِ وَالتَّفْضِيلِ، بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَزْوَاجُ إِبْطَالًا لِعَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَخَذْنَا مِنْهَا حُكْمَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ غَيْرِ الْأَزْوَاجِ عَلَى النِّسَاءِ، كَالْجِهَادِ وَذَلِكَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْقُوَّةُ الْجَسَدِيَّةُ، وَكَبَعْضِ الْوِلَايَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّةِ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمَرْأَةِ، وَالتَّفْضِيلِ فِي بَابِ الْعَدَالَةِ، وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالرِّعَايَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ، وَضَعْفُهَا فِي الْمَرْأَةِ وَسُرْعَةُ تَأَثُّرِهَا، وَكَالتَّفْضِيلِ فِي الْإِرْثِ وَذَلِكَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ رِئَاسَةُ الْعَائِلَةِ الْمُوجِبَةُ لِفَرْطِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ، وَكَالْإِيجَابِ عَلَى الرَّجُلِ إِنْفَاقَ زَوْجِهِ، وَإِنَّمَا عُدَّتْ هَذِهِ دَرَجَةً، مَعَ أَنَّ لِلنِّسَاءِ أَحْكَامًا لَا يُشَارِكُهُنَّ فِيهَا الرِّجَالُ كَالْحَضَانَةِ، تِلْكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: 32] لِأَنَّ مَا امْتَازَ بِهِ الرِّجَالُ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْفَضَائِلِ. فَأَمَّا تَأْدِيبُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَا زَوْجَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شُرِعَتْ فِيهِ تِلْكَ الْمَرَاتِبُ رَعْيًا لِأَحْوَالِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النِّسَاء: 34] أَنَّ ذَلِكَ يُجْرِيهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ، وَلَنَا فِيهِ نظر عِنْد مَا نَصِلُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[سورة البقرة (2) : آية 229]

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الْعَزِيزُ: الْقَوِيُّ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُوَّةُ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: 8] وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ وَالْحَكِيمِ: الْمُتْقِنُ الْأُمُورَ فِي وَضْعِهَا، مِنَ الْحِكْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْكَلَامُ تَذْيِيلٌ وَإِقْنَاعٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَّعَ حُقُوقَ النِّسَاءِ كَانَ هَذَا التَّشْرِيعُ مَظِنَّةَ الْمُتَلَقِّي بِفَرْطِ التَّحَرُّجِ مِنَ الرِّجَالِ، الَّذِينَ مَا اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوا أَنَّ لِلنِّسَاءِ مَعَهُمْ حُظُوظًا، غَيْرَ حُظُوظِ الرِّضَا وَالْفَضْلِ وَالسَّخَاءِ، فَأَصْبَحَتْ لَهُنَّ حُقُوقٌ يَأْخُذْنَهَا مِنَ الرِّجَالِ كَرْهًا، إِنْ أَبَوْا، فَكَانَ الرِّجَالُ بِحَيْثُ يَرَوْنَ فِي هَذَا ثَلْمًا لِعِزَّتِهِمْ، كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمُتَقَدِّمُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أَيْ قَوِيٌّ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَتَّقِي أَحَدًا، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ يَعْلَمُ صَلَاحَ النَّاسِ، وَأَنَّ عِزَّتَهُ تُؤَيِّدُ حِكْمَتَهُ فَيُنَفِّذُ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ بِالتَّشْرِيعِ، وَالْأَمْرَ الْوَاجِبَ امْتِثَالُهُ، وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَرِهُوا. [229] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ غَايَةِ الطَّلَاقِ الَّذِي يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ مِنِ امْرَأَتِهِ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الْبَقَرَة: 228] وَعَنْ بَعْضِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَنَ أَنَّ لِلنِّسَاءِ حَقًّا كَحَقِّ الرِّجَالِ، وَجَعَلَ لِلرِّجَالِ دَرَجَةً زَائِدَةً: مِنْهَا أَنَّ لَهُمْ حَقَّ الطَّلَاقِ، وَلَهُمْ حَقَّ الرَّجْعَةِ لِقَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [الْبَقَرَة: 228] وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَارِيًا عَلَى عَدَمِ تَحْدِيدِ نِهَايَةِ الطَّلَاقِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلَّهُ حُكْمَ تَحْدِيدِ الطَّلَاقِ، إِفَادَةً لِلتَّشْرِيعِ فِي هَذَا الْبَابِ وَدَفْعًا لِمَا قَدْ يَعْلَقُ أَوْ عَلِقَ بِالْأَوْهَامِ فِي شَأْنِهِ. رَوَى مَالِكٌ فِي جَامِعِ الطَّلَاقِ مِنَ «الْمُوَطَّأِ» : «عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا شَارَفَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا آوِيكِ وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمئِذٍ مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ» .

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا مِنْهُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي «مُسْتَدْرَكِهِ» إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ: وَاللَّهُ لَا تَرَكْتُكِ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ تُقَارِبُ هَذِهِ، وَفِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ وَأَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ وَنَزَلَ الطَّلاقُ مَرَّتانِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَحْدِيدٌ لِحُقُوقِ الْبُعُولَةِ فِي الْمُرَاجَعَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ (الطَّلَاقُ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي تَعْرِيفِ الْمَصَادِرِ وَفِي مَسَاقِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ التَّشْرِيعَ يَقْصِدُ بَيَانَ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [الْبَقَرَة: 275] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [الْبَقَرَة: 227] وَهَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى اخْتِيَارِهِ، فَالْمَقْصُودُ هُنَا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّهُ الطَّلَاقُ الْأَصْلِيُّ، وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ طَلَاقٌ بَائِنٌ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْمُرَاجَعَةِ لِذَاتِهِ، إِلَّا الطَّلْقَةُ الْوَاقِعَةُ ثَالِثَةً، بَعْدَ سَبْقِ طَلْقَتَيْنِ قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُبِينَةٌ بَعْدُ وَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ الثَّابِتِ بِالسَّنَةِ، فَبَيْنُونَتُهُ لِحَقٍّ عَارِضٍ كَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِيمَا تُعْطِيهِ مِنْ مَالِهَا فِي الْخُلْعِ، وَمِثْلِ الْحَقِّ الشَّرْعِيِّ فِي تَطْلِيقِ اللِّعَانِ، لِمَظِنَّةِ انْتِفَاءِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ بَعْدَ أَنْ تَلَاعَنَا، وَمِثْلِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهَا بِالطَّلَاقِ لِلْإِضْرَارِ بِهَا، وَحَذَفَ وَصْفَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ السِّيَاقَ دَالٌّ عَلَيْهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ مَرَّتَانِ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَنِ الطَّلَاقِ بِأَنَّهُ مَرَّتَانِ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: حَقُّ الزَّوْجِ فِي إِيقَاعِ التَّطْلِيقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَانِ، فَأَمَّا الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ فَلَيْسَتْ بِرَجْعِيَّةٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمَرَّتَيْنِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَة: 230] الْآيَةَ وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» وَسُؤَالُ الرَّجُلِ

عَنِ الثَّالِثَةِ، يَقْتَضِي أَنَّ نِهَايَةَ الثَّلَاثِ كَانَتْ حُكْمًا مَعْرُوفًا إِمَّا مِنَ السُّنَّةِ وَإِمَّا مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ وَجْهِ قَوْلِهِ (مَرَّتَانِ) وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ حُكْمِ جِنْسِ الطَّلَاقِ، بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ مِنْ فَاعِلِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْأَزْوَاجِ كَانَ لفظ الطَّلَاق آئلا إِلَى مَعْنَى التَّطْلِيق، كَمَا يؤول السَّلَامُ إِلَى مَعْنَى التَّسْلِيمِ. وَقَوْلُهُ مَرَّتانِ، تَثْنِيَةُ مَرَّةٍ، وَالْمَرَّةُ فِي كَلَامِهِمُ الْفِعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ مَوْصُوفِهَا أَوْ مُضَافِهَا، فَهِيَ لَا تَقَعُ إِلَّا جَارِيَةً عَلَى حَدَثٍ، بِوَصْفٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِإِضَافَةٍ وَنَحْوِهَا، وَتَقَعُ مُفْرَدَةً، وَمُثَنَّاةً، وَمَجْمُوعَةً، فَتَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكَرُّرِ الْفِعْلِ، أَوْ تَكَرُّرِ فِعْلِهِ تَكَرُّرًا وَاحِدًا، أَوْ تَكَرُّرِهِ تَكَرُّرًا مُتَعَدِّدًا، قَالَ تَعَالَى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التَّوْبَة: 101] وَتَقُولُ الْعَرَبُ «نَهَيْتُكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تَنْتَهِ» أَيْ مِرَارًا، وَلَيْسَ لَفْظُ الْمَرَّةِ بِمَعْنَى الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَعْطَيْتُكَ دِرْهَمًا مَرَّتَيْنِ، إِذَا أَعْطَيْتَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ دِرْهَمًا، فَلَا يُفْهَمُ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِرْهَمَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ أَعْطَيْتُكَ دِرْهَمَيْنِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ يُفِيدُ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ شُرِعَ فِيهِ حَقُّ التَّكْرِيرِ إِلَى حَدِّ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عَقِبَ مَرَّةٍ أُخْرَى لَا غَيْرُ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ فِي فَهْمِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ الْمُرَادَ: الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ، وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلٍ لِدَفْعِهِ فَقَدْ أَبْعَدَ عَنْ مَجَارِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَلَقَدْ أَكْثَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَعَاطِي التَّفْسِيرِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالتَّفْرِيعَ عَلَيْهَا، مَدْفُوعِينَ بِأَفْهَامٍ مُوَلِّدَةٍ، ثُمَّ طَبَّقُوهَا عَلَى طَرَائِقَ جَدَلِيَّةٍ فِي الِاحْتِجَاجِ لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي إِثْبَاتِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ أَوْ نَفْيِهِ، وَهُمْ فِي إِرْخَائِهِمْ طِوَلَ الْقَوْلِ نَاكِبُونَ عَنْ مَعَانِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ لَمْ يَفُتْهُ الْمَعْنَى وَلَمْ تَفِ بِهِ عِبَارَتُهُ كَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الطَّلَاقِ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَة: 228] فَيَكُونُ كَالْعَهْدِ فِي تَعْرِيفِ الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمرَان: 36] فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ مِمَّا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي [آل عمرَان: 35] . وَقَوْلُهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ جُمْلَةٌ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَيَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فِي مُجَرَّدِ الذِّكْرِ، لَا فِي وجود الحكم. و (إمْسَاك) خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ

فَالشَّأْنُ أَوْ فَالْأَمْرُ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ عَلَى طَرِيقَةِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: 18] وَإِذْ قَدْ كَانَ الْإِمْسَاكُ وَالتَّسْرِيحُ مُمْكِنَيْنِ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّتَيِ الطَّلَاقِ، كَانَ الْمَعْنَى فَإِمْسَاكٌ أَوْ تَسْرِيحٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ، أَيْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مَرَّةٍ مِنْهُ مُعَقَّبَةً بِإِرْجَاعٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَرْكٍ بِإِحْسَانٍ، أَيْ دُونَ ضِرَارٍ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ. وَعَلَيْهِ فَإِمْسَاكٌ وَتَسْرِيحٌ مَصْدَرَانِ، مُرَادٌ مِنْهُمَا الْحَقِيقَةُ وَالِاسْمُ، دُونَ إِرَادَةِ نِيَابَةٍ عَنِ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ رَاغِبًا فِي امْرَأَتِهِ فَشَأْنُهُ إِمْسَاكُهَا أَيْ مُرَاجَعَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاغِبًا فِيهَا فَشَأْنُهُ تَرْكُ مُرَاجَعَتِهَا فَتُسَرَّحُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِدْمَاجُ الْوِصَايَةُ بِالْإِحْسَانِ فِي حَالِ الْمُرَاجَعَةِ، وَفِي حَالِ تَرْكِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، إِبْطَالًا لِأَفْعَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا قَدْ يُرَاجِعُونَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ثُمَّ يُطَلِّقُونَهَا دَوَالَيْكَ، لِتَبْقَى زَمَنًا طَوِيلًا فِي حَالَةِ تَرْكٍ إِضْرَارًا بِهَا، إِذْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ مُنْتَهِيًا إِلَى عَدَدٍ لَا يَمْلِكُ بَعْدَهُ الْمُرَاجَعَةَ، وَفِي هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكٌ وَتَسْرِيحٌ مَصْدَرَيْنِ جُعِلَا بَدَلَيْنِ مِنْ فِعْلَيْهِمَا، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَأَصْلُهُمَا النَّصْبُ، ثُمَّ عَدَلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الدَّوَامِ، كَمَا عَدَلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ [هود: 69] وَقَدْ مَضَى أَوَّلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَيَكُونُ مُفِيدًا مَعْنَى الْأَمْرِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ فِعْلِهِ، وَمُفِيدًا الدَّوَامَ بِإِيرَادِ الْمَصْدَرَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَمْسِكُوا أَوْ سَرِّحُوا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ حُدِّدَ بِمَرَّتَيْنِ، قَابِلَةٌ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْإِمْسَاكِ بَعْدَهَا، وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ تَوْسِعَةً على النَّاس ليرتأوا بَعْدَ الطَّلَاقِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ وَحَالِ نِسَائِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ تَعْرِضُ لَهُمْ نَدَامَةٌ بَعْدَ ذَوْقِ الْفِرَاقِ وَيُحِسُّوا مَا قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْ عَوَاقِبِهِ حِينَ إِنْشَاءِ الطَّلَاقِ، عَنْ غَضَبٍ أَوْ عَنْ مَلَالَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] وَقَوْلَهُ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: 231] وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَتَّخِذُوهُ ذَرِيعَةً لِلْإِضْرَارِ بِالنِّسَاءِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ أَوِ التَّسْرِيحُ الْمُطْلَقَيْنِ وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِوَصِيَّةٍ أُخْرَى فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، إِدْمَاجًا لِلْإِرْشَادِ فِي أَثْنَاءِ التَّشْرِيعِ.

وَقَدَّمَ الْإِمْسَاكَ عَلَى التَّسْرِيحِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ الْأَهَمُّ، الْمُرَغَّبُ فِيهِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ. وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَتُهُ قَبْضُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ مَخَافَةَ أَنْ يَسْقُطَ أَوْ يَتَفَلَّتَ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِدَوَامِ الْمُعَاشَرَةِ. وَالتَّسْرِيحُ ضِدُّ الْإِمْسَاكِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِإِبْطَالِ سَبَبِ الْمُعَاشَرَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهُوَ سَبَبُ الرَّجْعَةِ ثُمَّ اسْتِعَارَةُ ذَلِكَ الْإِبْطَالِ لِلْمُفَارَقَةِ فَهُوَ مُجَازٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ. وَالْمَعْرُوفُ هُنَا هُوَ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْإِسْلَامُ أَوْ قَرَّرَتْهَا الْعَادَاتُ الَّتِي لَا تُنَافِي أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ يُنَاسِبُ الْإِمْسَاكَ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامِ الْعِصْمَةِ كُلِّهَا مِنْ إِحْسَانِ مُعَاشَرَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ فِرَاقٌ وَمَعْرُوفُهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُفَارَقَةِ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْبَذْلِ بِالْمُتْعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الْأَحْزَاب: 49] وَقَدْ كَانَ الْأَزْوَاجُ يَظْلِمُونَ الْمُطَلَّقَاتِ وَيَمْنَعُونَهُنَّ مِنْ حُلِيِّهِنَّ وَرِيَاشِهِنَّ، وَيُكْثِرُونَ الطَّعْنَ فِيهِنَّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» : «فَإِنْ قُلْتَ هَلَّا قِيلَ فَإِمْسَاكٌ بِإِحْسَانٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِمَعْرُوفٍ قُلْتُ عَادَتُهُمْ يُجِيبُونَ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَخَفُّ مِنَ الْإِحْسَانِ إِذِ الْمَعْرُوفُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَإِعْطَاءُ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانُ أَلَّا يَظْلِمَهَا مِنْ حَقِّهَا فَيَقْتَضِي الْإِعْطَاءَ وَبَذْلُ الْمَالِ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ فَجُعِلَ الْمَعْرُوفُ مَعَ الْإِمْسَاكِ الْمُقْتَضِي دَوَامَ الْعِصْمَةِ، إِذْ لَا يَضُرُّ تَكَرُّرُهُ وَجُعِلَ الْإِحْسَانُ الشَّاقُّ مَعَ التَّسْرِيحِ الَّذِي لَا يَتَكَرَّرُ» . وَقَدْ أَخَذَ قَوْمٌ مِنَ الْآيَةِ مَنْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ مَرَّتانِ التَّفْرِيقُ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ [الْبَقَرَة: 230] الْآيَةَ. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ: فَإِمْساكٌ

وَقَوْلُهُ فَإِنْ طَلَّقَها وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لِأَنَّ مِنْ إِحْسَانِ التَّسْرِيحِ أَلَّا يَأْخُذَ الْمُسَرِّحُ وَهُوَ الْمُطَلِّقُ عِوَضًا عَنِ الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ مُنَاسِبَةُ مَجِيءِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي جَمْعِ التَّشْرِيعَاتِ وَالْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ كُلُّ أَفْرَادِهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَالزَّوْجُ يَقِفُ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَحْكُمُ بِعَدَمِ لُزُومِهِ، وَوَلِيُّ الزَّوْجَةِ أَوْ كَبِيرُ قَبِيلَةِ الزَّوْجِ يَسْعَى وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى (وَقَدْ كَانَ شَأْنُ الْعَرَبِ أَنْ يَلِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ قَرَابَةِ الْجَانِبَيْنِ) وَبَقِيَّةُ الْأُمَّةِ تَأْمُرُ بِالِامْتِثَالِ لِذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ فِي التَّشْرِيعِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها [النِّسَاء: 5] وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ لِلْأَزْوَاجِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَنْ تَأْخُذُوا وَقَوْلِهِ: آتَيْتُمُوهُنَّ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ لِلْحُكَّامِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ لَقِيلَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقِيمُوا أَوْ أَلَّا تُقِيمَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَنَحْوُ ذَلِكَ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ» اهـ يَعْنِي لِظُهُورِ مَرْجِعِ كُلِّ ضَمِيرٍ مِنْ قَرَائِنِ الْمَقَامِ وَنَظَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ [13] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، إِذْ جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى آمِنُوا وَجَاهِدُوا أَيْ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْخِطَابَاتِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ التَّبْشِيرُ خَاصًّا بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْهُ. وَأَظْهَرُ مِنْ تنظير صَاحب «الْكَشَّاف» أَنْ تُنَظِّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الْبَقَرَة: 232] إِذْ خُوطِبَ فِيهِ الْمُطَلِّقُ وَالْعَاضِلُ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ. وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي آتَيْتُمُوهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى الْمُطَلَّقاتُ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَقْتَضِي عَدَدًا مِنَ الْمُطَلِّقِينَ وَالْمُطَلَّقَاتِ، وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ كُلُّهُ لِلْحُكَّامِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ: أَنْ تَأْخُذُوا. وَقَوْلَهُ: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ بِأَنَّ إِسْنَادَ الْأَخْذِ وَالْإِتْيَانِ لِلْحُكَّامِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَرَجَّحَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِسَلَامَتِهِ مِنْ تَشْوِيشِ الضَّمَائِرِ بِدُونِ نُكْتَةِ الْتِفَاتٍ وَوَهَّنَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْخُلْعَ قَدْ يَقَعُ بِدُونِ تَرَافُعٍ، فَمَا آتَاهُ الْأَزْوَاجُ لِأَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْمُهُورِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ على يَد الْحُكَّام فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَا يَجُوزُ وَلَا يُسْمَحُ بِهِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَضِدِّهِ قَدِيمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ: يَا شَاةُ مَا قَنَصٌ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ

وَقَالَ كَعْبٌ: إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ ... أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إِلَّا وَهُوَ مَجْدُولُ وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: شَيْئاً لِأَنَّهُ مِنَ النَّكِرَاتِ الْمُتَوَغِّلَةِ فِي الْإِبْهَامِ، تَحْذِيرًا مِنْ أَخْذِ أَقَلِّ قَلِيلٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَالًا أَوْ نَحْوَهُ، وَهَذَا الْمَوْقِعُ مِنْ مَحَاسِنِ مَوَاقِعِ كَلِمَةِ شَيْءٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] . وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ يَاءِ الْغَيْبَةِ، فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَخَالِعَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ يَخافا أَلَّا يُقِيما وَضَمِيرُ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما، وَأُسْنِدَ هَذَا الْفِعْلُ لَهُمَا دُونَ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ يَعْلَمَانِ شَأْنَهُمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ يَاءِ الْغَائِبِ وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ وَالضَّمِيرُ لِلْمُتَخَالِعَيْنِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ هُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوهُمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. وَالْخَوْفُ تَوَقُّعُ حُصُولِ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ. وَيُطْلَقُ عَلَى أَثَرِهِ وَهُوَ السَّعْيُ فِي مَرْضَاةِ الْمَخُوفِ مِنْهُ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ كَقَوْلِهِ: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: 175] وَتُرَادِفُهُ الْخَشْيَةُ، لِأَنَّ عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ مِمَّا يَخَافُهُ الْمُؤْمِنُ، وَالْخَوْفُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَخافُوهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ يَهْجُو رَجُلًا مِنْ فَقْعَسَ أَكَلَ كَلْبَهُ وَاسْمُهُ حَبْتَرٌ: يَا حَبْتَرُ لِمَ أَكَلْتَهُ لِمَهْ ... لَوْ خَافَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَرَّمَهُ وَخَرَّجَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» ، عَلَيْهِ قَوْلَ الْأَحْوَصِ فِيهَا عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَلَى مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ وَحُذِفَتْ عَلَى فِي الْآيَةِ لِدُخُولِهَا عَلَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْخَوْفَ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، يُرِيدُ ظَنَّ الْمَكْرُوهِ إِذِ الْخَوْفُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى حُصُولِ ظَنِّ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ خَوْفٌ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. وَإِقَامَةُ حُدُودِ اللَّهِ فَسَّرَهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهَا حُقُوقُ الزَّوْجِ وَطَاعَتُهُ وَالْبِرُّ بِهِ، فَإِذَا أضاعت الْمَرْأَة تِلْكَ فَقَدْ خَالَفَتْ حُدُودَ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ عَلَيْهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَاذِلَ الْحَرَامِ لِآخِذِهِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْإِثْمِ، وَفِي حَدِيثِ رِبَا الْفَضْلِ «الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ» ، وَضَمِيرُ افْتَدَتْ بِهِ لِجِنْسِ الْمُخَالَعَةِ، وَقَدْ تَمَحَّضَ الْمَقَامُ لِأَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا خَاصَّةً لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ مِنْهَا فَقَطْ. وَظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْخُلْعُ بِمَا زَادَ عَلَى الْمَهْرِ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفِرَاقِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَائِنًا إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَائِنًا لَمَا ظَهَرَتِ الْفَائِدَةُ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ، وَعَلَيْهِ ابْن عَبَّاس وطاووس وَعِكْرِمَةُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَرَّةً هُوَ طَلَاقٌ وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَبَعْضُهُمْ يَحْكِي عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ إِلَّا أَن يَنْوِي بالمخالفة الطَّلَاقَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ طَلَاقٌ لِتَقَرُّرِ عِصْمَةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنْ أَرَادُوا بِالْفَسْخِ مَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الْعِصْمَةِ الْأُولَى فَمَا الطَّلَاقُ كُلُّهُ إِلَّا رَاجِعًا إِلَى الْفُسُوخِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْخُلْعِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ الرَّجُلُ طَلْقَتَيْنِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ طَلْقَةُ الْخُلْعِ ثَالِثَةٌ فَلَا تَحِلُّ لِمُخَالِعِهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: لَا تُعَدُّ طَلْقَةً، وَلَهُمَا أَنْ يَعْقِدَا نِكَاحًا مُسْتَأْنَفًا. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَزِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: لَا يَكُونُ الْخُلْعُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ إِجْرَاءِ الْخُلْعِ بِدُونِ تَخَاصُمٍ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لَيْسَ صَرِيحًا لِلْحُكَّامِ وَقد صَحَّ من عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ رَأَوْا جَوَازَهُ بِدُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ. وَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى الطَّلَاقِ إِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ إِضْرَارٍ بِهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ إِضْرَارٍ بِهِنَّ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ إِذَا ثَبَتَ الْإِضْرَارُ يَمْضِي الطَّلَاقُ، وَيُرَدُّ عَلَيْهَا مَالُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مَاضٍ وَلَكِنَّهُ يَأْثَمُ

بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي النَّهْيِ، إِذا كَانَ لخارج عَنْ مَاهِيَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ النُّشُوزِ وَالشِّقَاقِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا خِيفَ فَسَادُ الْمُعَاشَرَةِ بِأَلَّا تُحِبَّ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَكَّدَ هَذَا الْحُكْمَ إِذْ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ لِأَنَّ مَفْهُومَ الِاسْتِثْنَاءِ قَرِيبٌ مِنَ الصَّرِيحِ فِي أَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَخَافَا ذَلِكَ لَا يَحِلُّ الْخُلْعُ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَخَافَا ذَلِكَ ثَبَتَ الْجُنَاحُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها ثُمَّ بِالْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ جَمِيلَةَ بِنْتِ أَوْ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بن سَلُولَ، وَبَيْنَ زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِذْ قَالَتْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ، أَوْ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسُ ثَابِتٍ شَيْءٌ، وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا فَقَالَ لَهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصَدَقَكِ» قَالَتْ «نَعَمْ وَأَزِيدُهُ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَمَّا الزَّائِدُ فَلَا» وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَذْكُرْ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْخُلْعِ، أَلَا يَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: 4] هَكَذَا أَجَابَ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي «أَحْكَامِ ابْن الْعَرَبِيّ» ، و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» . وَعِنْدِي أَنَّهُ جَوَابٌ بَاطِلٌ، وَمُتَمَسِّكٌ بِلَا طَائِلٍ، أَمَّا إِنْكَارُ كَوْنِ الْوَارِدِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ شَرْطًا، فَهُوَ تَعَسُّفٌ وَصَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ وَجْهِهِ، كَيْفَ وَقَدْ دَلَّ بِثَلَاثَةِ مَنْطُوقَاتٍ وَبِمَفْهُومَيْنِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً فَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَحِلُّ أَخْذُ أَقَلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا فَفِيهِ مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَفِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَفْهُومَ الَّذِي يَجِيءُ مَجِيءَ الْغَالِبِ هُوَ مَفْهُومُ الْقُيُودِ التَّوَابِعِ كَالصِّفَةِ وَالْحَالِ وَالْغَايَةِ، دُونَ مَا لَا يَقَعُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ. وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ لِلْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَمَوْرِدُهُ فِي عَفْوِ الْمَرْأَةِ عَنْ بَعْضِ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ ضَمِيرَ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ [النِّسَاء: 4] الْآيَةَ فَهُوَ إِرْشَادٌ لِمَا يَعْرِضُ فِي حَالِ الْعِصْمَةِ مِمَّا يَزِيدُ الْأُلْفَةَ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَوْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ سُلُوكُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوِ التَّرْجِيحُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الزَّائِدِ عَلَى مَا أَصْدَقَهَا المفارق، فَقَالَ طَاوُوس وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الزَّائِدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَمِيلَةَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ: أَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَأَزِيدُهُ «أَمَّا الزَّائِدُ فَلَا» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجُوزُ أَخْذُ الزَّائِدِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ أُخْتَهُ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَدِيقَةٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ فَتَرَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَيُطَلِّقُكِ» قَالَتْ: نَعَمْ وَأَزِيدُهُ، فَقَالَ لَهَا «رُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَزِيدِيهِ» وَبِأَنَّ جَمِيلَةَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ: وَأَزِيدُهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ ذَلِكَ أَيْ يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ مَا رُوِيَ «أَمَّا الزَّائِدُ فَلَا» وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا رَخَّصَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَتِ الْكَرَاهِيَةُ وَالنَّفْرَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ مِنَ مبدأ المعاشرة، دفعا للأضرار عَن الزَّوْج فِي خسارة مَا دَفعه من الصَّدَاقِ الَّذِي لَمْ يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِمَنْفَعَةٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَقَعُ فِي مَبْدَأِ الْمُعَاشَرَةِ لَا بَعْدَ التَّعَاشُرِ. فَقَوْلُهُ: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الرُّخْصَةِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ تَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ فِيمَا يُجْحِفُ بِالْأَزْوَاجِ، وَأَنه لَا يُبطلهُ عُمُومَ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ وَقَدْ أَشَارَ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْتَلُّ بِهِ ضَرُورِيٌّ أَوْ حَاجِيٌّ، بَلْ هُوَ آيِلٌ إِلَى التَّحْسِينَاتِ، وَقَدْ مَضَى عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَقَالَ فَرِيقٌ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [20] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَمَوْرِدُ آيَةِ النِّسَاءِ فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ فِرَاقَ امْرَأَتِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا، ثُمَّ يَزِيدُ فَيَأْخُذُ مِنْهَا مَالًا، بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَهِيَ فِي إِرَادَةِ الْمَرْأَةِ فِرَاقَ زَوْجِهَا عَنْ كَرَاهِيَةٍ.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. جُمْلَةُ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً وَمَا اتَّصَلَ بِهَا، وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ مَا جَرَى فِي الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا مِنْ مَنْعِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الطَّلَاقِ، إِلَّا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ مِنْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَكَانَتْ حُدُودُ اللَّهِ مُبَيَّنَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَجِيءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ تَبْيِينًا لِأَنَّ مَنْعَ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى الطَّلَاقِ هُوَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَحُدُودُ اللَّهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ الْفَوَاصِلُ الْمَجْعُولَةُ بَيْنَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، تَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَتَفْصِلُ بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ. وَالْإِقَامَةُ فِي الْحَقِيقَةِ الْإِظْهَارُ وَالْإِيجَادُ، يُقَالُ: أَقَامَ حَدًّا لِأَرْضِهِ، وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْعَمَلِ بِالشَّرْعِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحُدُودِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ عَلَى مُخَالَفَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ، هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَابِعَةٌ لِتَشْبِيهِ الْحُكْمِ بِالْحَدِّ. وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ وَأَفَادَتْ جُمَلَةُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ حَصْرًا وَهُوَ حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ، إِذْ مَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَظَهَرَ حَصْرُ حَالِ الْمُتَعَدِّي حُدُودَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ ظَالِمٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَمْيِيزُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَهُوَ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، اهْتِمَامًا بِإِيقَاعِ وَصْفِ الظَّالِمِينَ عَلَيْهِمْ. وَأَطْلَقَ فِعْلَ يَتَعَدَّ عَلَى مَعْنًى يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ الْحُدُودِ لِأَحْكَامِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ تَرْشِيحًا مُسْتَعَارٌ لِمُخَالَفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تُشْبِهُ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى صَاحِبِ الشَّيْءِ الْمَحْدُودِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ

[سورة البقرة (2) : آية 230]

» . [230] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. تَفْرِيعٌ مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة: 229] وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ، عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُكْسِبُهُ تَأْثِيرًا فِي تَفْرِيعِ هَذَا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ تخييرا بني الْمُرَاجَعَةِ وَعَدَمِهَا، فَرَتَّبَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُرَاجَعَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْإِمْسَاكِ فَإِنْ طَلَّقَها وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ فَإِنْ رَاجَعَهَا فَطَلَّقَهَا لِبَيَانِ حُكْمِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَدْ تَهَيَّأَ السَّامِعُ لِتَلَقِّيَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة: 229] إِذْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِك بَيَان لآخر عَدَدٍ فِي الرُّجْعَى وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ بَتَاتٌ، فَذِكْرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ، وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ إِلَخْ فَالْفَاءُ إِمَّا عاطفة لجملة فَإِنْ طَلَّقَها عَلَى جملَة فَإِمْساكٌ [الْبَقَرَة: 229] بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ فَإِمْساكٌ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِمْسَاكِ الْمُرَاجَعَةَ وَمِنَ التَّسْرِيحِ عَدَمَهَا، أَيْ فَإِنْ أَمْسَكَ الْمُطَلِّقُ أَيْ رَاجَعَ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِمَّا فَصِيحَةٌ لِبَيَانِ قَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [الْبَقَرَة: 229] ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْرِيحِ إِحْدَاثَ الطَّلَاقِ، أَيْ فَإِنِ ازْدَادَ بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ فَسَرَّحَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، وَإِعَادَةُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمُرَاجَعَةِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، تَصْرِيحًا بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالطَّلَاقِ هُنَا دُونَ التَّسْرِيحِ لِلْبَيَانِ وَلِلتَّفَنُّنِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَلَا يعوزك توزيعه عَلَيْهِمَا، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ رَاجِعٌ لِلْمُطَلِّقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الطَّلَاقِ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 229] . وَالْآيَةُ بَيَانٌ لِنِهَايَةِ حَقِّ الْمُرَاجَعَةِ صَرَاحَةً، وَهِيَ إِمَّا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَتَشْرِيعٌ إِسْلَامِيٌّ جَدِيدٌ، وَإِمَّا نَسْخٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إِذَا صَحَّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» ، فِي بَاب نسخ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ وَنَزَلَ الطَّلاقُ مَرَّتانِ. وَلَا يَصح بِحَالٍ عَطْفُ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا [الْبَقَرَة: 229] ، وَلَا صِدْقُ الضَّمِيرَيْنِ عَلَى مَا صَدَقَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما، وفَلا جُناحَ عَلَيْهِما لِعَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ حُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ

لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا [الْبَقَرَة: 229] إِلَخْ إِذْ لَا يَصِحُّ تَفْرِيعُ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا تَحِلُّ بَعْدَهُ الْمَرْأَةُ عَلَى وُقُوعِ الْخُلْعِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ، فَمِنَ الْعَجِيبِ مَا وَقَعَ فِي «شَرْحِ الْخَطَّابِيِّ عَلَى سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ لِكَوْنِ الْخُلْعِ فَسَخًا بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْخُلْعَ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ قَالَ: «فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا» وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مَعَانِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَحِلُّ لَهُ أَيْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ ثَلَاثِ تطليقاتٍ تَسْجِيلًا عَلَى الْمُطَلِّقِ، وَإِيمَاءً إِلَى عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ تَهَاوُنُ الْمُطَلِّقِ بِشَأْنِ امْرَأَتِهِ، وَاسْتِخْفَافُهُ بِحَقِّ الْمُعَاشَرَةِ، حَتَّى جَعَلَهَا لعبة تقلبها عواصف غَضَبِهِ وَحَمَاقَتُهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ عَلِمَ الْمُطَلِّقُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُحِقِّينَ فِي أَحْوَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَنَّ تَعْقِدَ عَلَى زَوْجٍ آخَرَ، لِأَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا الْعَقْدُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ أَرَ لَهُمْ إِطْلَاقًا آخَرَ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مجَازًا، وأيا مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَى الْمُدَّعُونَ أَنَّهُ مِنْ مَعَانِي النِّكَاحِ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ أَعْنِي الْمَسِيسَ، لَا يُسْنَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْمَرْأَةِ أَصْلًا، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ غَفَلُوا عَنْهَا فِي الْمَقَامِ. وَحِكْمَةُ هَذَا التَّشْرِيعِ الْعَظِيمِ رَدْعُ الْأَزْوَاجِ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِ أَزْوَاجِهِمْ، وَجَعْلُهُنَّ لُعَبًا فِي بُيُوتِهِمْ، فَجَعَلَ لِلزَّوْجِ الطَّلْقَةَ الْأُولَى هَفْوَةً، وَالثَّانِيَةَ تَجْرِبَةً، وَالثَّالِثَةَ فِرَاقًا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: «فَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْخضر فِي الثَّالِث هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: 78] . وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عَلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حُكْمَيْنِ وَهَمَا سَلْبُ الزَّوْج حق الرّجْعَة، بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ، وَسَلْبُ الْمَرْأَةِ حَقَّ الرِّضَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ إِلَّا بعد زوج، وَاشْتِرَاط التَّزَوُّجَ بِزَوْجٍ ثَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِقَصْدِ تَحْذِيرِ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، إِلَّا بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّرَيُّثِ، الَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَهُ رَجَاءٌ فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، لِلْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الْعَوْدِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَهُوَ عِقَابٌ لِلْأَزْوَاجِ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحُقُوقِ الْمَرْأَةِ، إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ ثَلَاثًا، بِعُقُوبَةٍ تَرْجِعُ إِلَى إِيلَامِ الْوِجْدَانِ، لِمَا ارْتَكَزَ

فِي النُّفُوسِ مِنْ شِدَّةِ النَّفْرَةِ مِنِ اقْتِرَانِ امْرَأَتِهِ بِرَجُلٍ آخَرَ، وَيَنْشُدُهُ حَالَ الْمَرْأَةِ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ (¬1) : وَفِي النَّاسِ إِنْ رَثَّتْ حِبَالُكَ وَاصِلٌ ... وَفِي الْأَرْضِ عَنْ دَارِ الْقِلَى مُتَحَوَّلُ وَفِي الطِّيبِيِّ قَالَ الزَّجَّاجُ: «إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِصُعُوبَةِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمَا التَّزَوُّجَ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِئَلَّا يُعَجِّلُوا وَأَنْ يُثْبِتُوا» وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اشْتِرَاطَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ هُوَ تَرْبِيَةٌ لِلْمُطَلِّقِينَ، فَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَتَهُ وَهِيَ الْعَقْدُ، إِلَّا أَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ وَسِيلَةً لِمَا يُقْصَدُ لَهُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْبِنَاءِ وَمَا بَعْدَهُ، كَانَ الْعَقْدُ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ وَطْءُ الْعَاقِدِ لِزَوْجِهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ فِيمَا قُصِدَ مِنْهُ، وَلَا يَعْبَأُ الْمُطَلِّقُ الْمُوقِعُ الثَّلَاثَ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَمَسَّ فِيهِ الْمَرْأَةَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا طَلَّقَ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ الْقُرَظِيُّ زَوْجَهُ تَمِيمَةَ ابْنَةَ وَهْبٍ طَلْقَةً صَادَفَتْ أُخْرَى الثَّلَاثَ، وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ، جَاءَتِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ (¬2) هَذَا الثَّوْبِ» وَأَشَارَتْ إِلَى هُدْبِ ثَوْبٍ لَهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ» قَالَتْ «نَعَمْ» قَالَ «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» الْحَدِيثَ، فَدَلَّ سُؤَالُهَا عَلَى أَنَّهَا تَتَوَقَّعُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِنِكَاحِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي تَحْلِيلٍ مِنْ بِتِّهَا، لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَايَةِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالْمُطَلِّقِ، فَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي يُحِلُّ الْمَبْتُوتَةَ هُوَ دُخُولُ الزَّوْجِ الثَّانِي بِالْمَرْأَةِ وَمَسِيسُهُ لَهَا، وَلَا أَحْسَبُ دَلِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الرُّجُوعَ إِلَى مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ، الَّذِي عَلِمَهُ سَائِرُ مَنْ فَهِمَ هَذَا الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الْفَصِيحَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَتْحِ دِلَاءِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ الْمُرَادِ بِهِ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَسِيسُ أَوْ هُوَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ، حَتَّى يَكُونَ مِنْ تَقْيِيدِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ هُوَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا نَسْخٌ أَمْ لَا، وَفِي أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ أَمْ لَا، كُلُّ ذَلِكَ دُخُولٌ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَ تَطْوِيلِ تَقْرِيرِهِ بَلْ حَسْبُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ عَلَى فَهْمِ هَذَا الْمَقْصِدِ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ ¬

(¬1) هُوَ بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء من بني قُرَيْظَة صَحَابِيّ. (¬2) الهدبة بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال نِهَايَة الثَّوْب الَّتِي تتْرك وَلَا تنسج فَتتْرك سدى بِلَا لحْمَة وَرُبمَا فتلوها وَهِي الْمُسَمَّاة فِي لِسَان أهل بلدنا بالفتول.

إِلَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَإِنَّهُ قَالَ: يُحِلُّ الْمَبْتُوتَةَ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى زَوْجٍ ثَانٍ، وَهُوَ شُذُوذٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ إِذْ أَيَّةُ فَائِدَةٍ تَحْصُلُ مِنَ الْعَقْدِ، إِنْ هُوَ إِلَّا تَعب للعاقدين، وَالْوَلِيّ، وَالشُّهُودِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ مَنُوطًا بِالْعَقْدِ، بِاعْتِبَارِ مَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ غَالِبًا، فَإِذَا تَخَلَّفَ مَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ اغْتُفِرَ، مِنْ بَابِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مَعْرُوفٌ، وَنَسَبَهُ النَّحَّاسُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَحْسَبُ ذَلِكَ سَهْوًا مِنْهُ وَاشْتِبَاهًا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ، مُرَتَّبًا عَلَى حُصُولِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ تَقَدَّمَتَاهُ فَوَجَبَ امْتِثَالُهُ وَعُلِمَتْ حِكْمَتُهُ فَلَا شَكَّ فِي أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ ذَلِكَ إِلَى كُلِّ طَلَاقٍ عَبَّرَ فِيهِ الْمُطَلِّقُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ تَغْلِيظًا، أَوْ تَأْكِيدًا، أَوْ كَذِبًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ طَلَاقًا بَعْدَ طَلَّاقَيْنِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ حِكْمَةُ التَّأْدِيبِ عَلَى سُوءِ الصَّنِيعِ، وَمَا الْمُتَلَفِّظُ بِالثَّلَاثِ فِي طَلَاقِهِ الْأَوَّلِ إِلَّا كَغَيْرِ الْمُتَلَفِّظِ بِهَا فِي كَوْنِ طَلْقَتِهِ الْأُولَى، لَا تَصِيرُ ثَانِيَةً، وَغَايَةُ مَا اكْتَسَبَهُ مَقَالُهُ أَنَّهُ عُدَّ فِي الْحَمْقَى أَوِ الْكَذَّابِينَ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ، وَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، كَمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ: «الْمُوَطَّأِ» وَمَا بَعْدَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ رِوَايَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ، وَوَرَدَ حَدِيثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ الْمُطَّلِبِيِّ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَسَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا مَلَّكَكَ اللَّهُ وَاحِدَةً فَأَمْرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ خِلَافَتِهِ حَدَثَتْ حَوَادِثُ مِنَ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: أَرَى النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ تَلَفَّظَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي طَلْقَةٍ لَيْسَتْ ثَالِثَةً، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ أَخْذًا بِمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَأَيَّدَ قَضَاؤُهُ بِسُكُوتِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، وَبِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الطَّلَاقَ بِالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ فِيهَا مَا الْتَزَمَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ فَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَيَّدُوهُ بِهِ مِنْ سُكُوتِ الصَّحَابَةِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ النَّحَارِيرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِثْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، وَخَاصَّةً أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

مَصْدَرِ الْقَضَاءِ وَالزَّجْرِ، فَهُوَ قَضَاءٌ فِي مَجَالِ الِاجْتِهَادِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ تَغْيِيرُهُ، وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ جُزْئِيٌّ لَا يَلْزَمُ اطِّرَادَ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَصَرُّفُ الْإِمَامِ بِتَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِمَصْلَحَةٍ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْن عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَحَجَّاجُ بن أَرْطَاة وطاووس وَالظَّاهِرِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَالِكِيَّةِ الْأَنْدَلُسِ: مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ، فَقِيهُ عَصْرِهِ بِقُرْطُبَةَ، وَأَصْبَغُ بْنُ الْحُبَابِ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُغِيثٍ الطُّلَيْطِلِيُّ الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْأَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالْأَثَرِ. وَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ كَثِيرَةٍ أُولَاهَا وَأَعْظَمُهَا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ثَالِثَةً، وَرَتَّبَ حُرْمَةَ الْعَوْدِ عَلَى حُصُولِ الثَّالِثَةِ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: هِيَ طَالِق طَلَاقا وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الطَّلْقَةُ ثَالِثَةً بِالْفِعْلِ وَالتَّكَرُّرِ كَذَبَ فِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا ثَلَاثٌ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَانِيَةٌ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمِ عَوْدِهَا إِلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَهَلْ هُوَ إِلَّا كَمَنْ قَالَ: قَرَأَتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ قَرَأَهَا وَاحِدَةً فَإِنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكُونُ كَاذِبًا» . الثَّانِيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَصَدَ مِنْ تَعَدُّدِ الطَّلَاقِ التَّوْسِعَةَ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ الْمُعَاشِرَ لَا يَدْرِي تَأْثِيرَ مُفَارَقَةِ عَشِيرِهِ إِيَّاهُ، فَإِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ يَظْهَرُ لَهُ النَّدَمُ وَعَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، فَيَخْتَارُ الرُّجُوعَ فَلَوْ جَعَلَ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ مَانِعَةً بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِنَ الرَّجْعَةِ، تَعَطَّلَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ إِثْبَات حق الرّجْعَة، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «الْبِدَايَةِ» (¬1) «وَكَأَنَّ الْجُمْهُورَ غَلَّبُوا حُكْمَ التَّغْلِيظِ فِي الطَّلَاقِ سَدًّا للذريعة وَلَكِن تبطل بِذَلِكَ الرُّخْصَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالرِّفْقَ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] . الثَّالِثَةُ قَالَ ابْنُ مُغِيثٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَمُوقِعُ الثَّلَاثِ غَيْرُ مُحْسِنٍ، لِأَنَّ فِيهَا تَرْكَ تَوْسِعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَخْرُجُ هَذَا بِقِيَاسٍ عَلَى غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : مِنْ ذَلِكَ قَول الْإِنْسَان: مَا لي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ قَالَ مَالِكٌ يُجْزِئُهُ الثُّلُثُ. الرَّابِعَةُ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «كَانَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرِ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلْقَةً وَاحِدَةً» . وَأَجَابَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ بِأَن رَاوِيه طَاوُوس وَقَدْ رَوَى بَقِيَّةُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ¬

(¬1) «بداية الْمُجْتَهد» لِابْنِ رشد الْحَفِيد (2/ 62) ، ط دَار الْمعرفَة.

مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَقَدْ عَصَى رَبَّهُ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجُهُ، وَهَذَا يوهن رِوَايَة طَاوُوس، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يُخَالِفُ الصَّحَابَةَ إِلَى رَأْيِ نَفْسِهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبر رِوَايَة طَاوُوس وَهْمٌ وَغَلَطٌ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا، فَالْمُرَادُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُوقِعُونَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَدَلَ إِيقَاعِ النَّاسِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ «إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ» فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ وَأَبِي بَكْرِ لَمَا قَالَ عُمَرُ إِنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا وَلَا عَابَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا جَوَابٌ ضَعِيفٌ، قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الرِّوَايَة عَن طَاوُوس بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ. وَأَقُولُ: أَمَّا مُخَالَفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا رَوَاهُ فَلَا يُوهِنُ الرِّوَايَةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَنَحْنُ نَأْخُذُ بِرِوَايَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِرَأْيِهِ، وَأَمَّا مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُوقِعُونَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَدَلَ إِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ وَمُنَافٍ لِأَلْفَاظِ الرِّوَايَةِ وَلِقَوْلِ عُمَرَ «فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ» فَإِنْ كَانَ إِمْضَاؤُهُ عَلَيْهِمْ سَابِقًا مِنْ عَهْدِ الرَّسُولِ لَمْ يَبْقَ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: «فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمْضَاؤُهُ سَابِقًا بَلْ كَانَ غَيْرَ مَاضٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ. الْخَامِسَةُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ الْمُطَّلَبِيَّ طَلَّقَ زَوْجَهُ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ أَوْ إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَة فارتجعها. وَأَجَابَ عَنْهُ أَنْصَارُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ لِأَنَّهُ رَوَى أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ وَفِي رِوَايَةٍ طَلَّقَ زَوْجَهُ ثَلَاثًا وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً فَاسْتَحْلَفَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ جَوَابٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ صَحَّتِ الزِّيَادَةُ أَمْ لَمْ تَصِحَّ فَقَدْ قَضَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَاحِدَةِ فِيمَا فِيهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ، وَلَا قَائِلَ مِنَ الْجُمْهُورِ بَالتَّوْهِيَةِ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ لَيْسَتْ فِي مَرْتَبَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ. السَّادِسَةُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ تَطْلِيقِ ابْنِ عُمَرَ زَوْجَهُ حِين أمره النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ طَلْقَةً صَادَفَتْ آخِرَ الثَّلَاثِ لَمَا جَازَ إِرْجَاعُهَا إِلَيْهِ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَقَدْ عَدَّهَا عَلَيْهِ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَهَذَا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا لِضَعْفِ الرِّوَايَةِ وَلِكَوْنِ مِثْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِمَّا لَا يَغْفُلُ عَنْهَا رُوَاةُ الْحَدِيثِ فِي كتب الصَّحِيح ك «الْمُوَطَّأ» و «صَحِيح البُخَارِيّ» و «مُسلم» . وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا. وَذَهَبَ مُقَاتِلٌ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ

لَا يَقَعُ طَلَاقًا بِالْمَرَّةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ الطَّلَاقَ الْمُفَرِّقَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْمُوعَ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوِ احْتَجَّ لَهُمَا بِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ لَكَانَ قَرِيبًا، لَوْلَا أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَعْتَرِي الْفُسُوخَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَاذٌّ وَبَاطِلٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، وَكَيْفَ لَا يَقَعُ طَلَاقًا وَفِيهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ. وَذَهَبَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَابْنُ دِينَارٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْبِكْرِ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ يَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِخِلَاف طَلَاق بالمبني بِهَا وَكَأَنَّ وَجْهَ قَوْلِهِمْ فِيهِ: وَأَن مَعْنَى الثَّلَاثِ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ تُبِينُهَا الْوَاحِدَةُ. وَوَصْفُ زَوْجاً غَيْرَهُ تَحْذِيرٌ لِلْأَزْوَاجِ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ بِذِكْرِ الْمُغَايِرَةِ يَتَذَكَّرُ أَنَّ زَوْجَتَهُ سَتَصِيرُ لِغَيْرِهِ كَحَدِيثِ الْوَاعِظِ الَّذِي اتعظ بقول الشَّاعِرِ: الْيَوْمَ عِنْدَكَ دَلُّهَا وَحَدِيثُهَا ... وَغَدًا لِغَيْرِكَ زَنْدُهَا وَالْمِعْصَمُ وَأَسْنَدَ الرَّجْعَةَ إِلَى الْمُتَفَارِقَيْنِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ عَلَّقَ ذَلِكَ بقوله: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ أَنْ يَسِيرَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي إِعَادَةِ الْخُصُومَاتِ. وحُدُودَ اللَّهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَشَرَائِعُهُ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَتَجَاوَزُهَا فَكَأَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَهَا. وَحَقِيقَةُ الْحُدُودِ هِيَ الْفَوَاصِلُ بَيْنَ الْأَرَضِينَ وَنَحْوِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 229] وَالْإِقَامَةُ اسْتِعَارَةٌ لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحُدُودِ إِلَى الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِمْ: نَقَضَ فُلَانٌ غَزْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها فَالْبَيَانُ صَالِحٌ لِمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّاظِرِينَ. وَالْمرَاد ب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْأَحْكَامَ فَهْمًا يُهَيِئُهُمْ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَبِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا، وَلَا يَتَحَيَّلُونَ فِي فَهْمِهَا. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَةُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَة: 229] الْمُتَقَدّمَة آنِفا. ووَ تِلْكَ

[سورة البقرة (2) : آية 231]

حُدُودُ اللَّهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا قَرِيبًا. وَتَبْيِينُ الْحُدُودِ ذِكْرُهَا لِلنَّاسِ مُوَضَّحَةً مُفَصَّلَةً مُعَلَّلَةً، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِفِعْلِ يُبَيِّنُها، وَوَصْفُ الْقَوْمِ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ صَرِيحٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالَّذِينَ يُدْرِكُونَ مَا فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وإقحام كلمة (لقوم) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ سَجِيَّتُهُمْ وَمَلَكَةٌ فِيهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 164] . [231] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا [الْبَقَرَة: 230] الْآيَةُ عَطْفُ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ، وَتَشْرِيعٍ عَلَى تَشْرِيعٍ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ الْوَصَاةِ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْفُرْقَةِ، وَمَا تَبِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرِ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ طَلَاقًا فِيهِ أَجَلٌ. وَالْأَجَلُ هُنَا لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ أَجَلٌ مَعْهُودٌ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَعْنِي أَجَلَ الِانْتِظَارِ وَهُوَ الْعِدَّةُ، وَهُوَ التَّرَبُّصُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَبُلُوغُ الْأَجَلِ: الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُشَارَفَةُ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْأَجَلَ إِذَا انْقَضَى زَالَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْبُلُوغُ عَلَى مُشَارَفَةِ الْوُصُولِ وَمُقَارَبَتِهِ، تَوَسُّعًا أَيْ مَجَازًا بِالْأَوَّلِ. وَفِي الْقَاعِدَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِالْفِعْلِ عَنْ أُمُورٍ: أَحَدُهَا، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمُتَعَارَفُ عَنْ حُصُولِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَصْلُ. الثَّانِي: عَنْ مُشَارَفَتِهِ نَحْوَ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: 240] أَيْ يُقَارِبُونَ الْوَفَاةَ، لِأَنَّهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ.

الثَّالِثُ: إِرَادَتُهُ نَحْوَ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَة: 6] . الرَّابِعُ: الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ نَحْوَ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: 104] أَيْ قَادِرِينَ. وَالْأَجَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يُمْهَلُ إِلَيْهَا الشَّخْصُ فِي حُدُوثِ حَادِثٍ مُعَيَّنٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [الْقَصَص: 28] . وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ هُنَا آخِرُ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَبَلَغْنَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ وَصُولٌ بَعْدَ مَسِيرٍ إِلَيْهِ، وَأَسْنَدَ (بَلَغْنَ) إِلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ اللَّاتِي يَنْتَظِرْنَ انْقِضَاءَ الْأَجَلِ، لِيَخْرُجْنَ مِنْ حَبْسِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا، لِلْأَوَّلِينَ تَوْسِعَةً لِلْمُرَاجَعَةِ، وَلِلْأَخِيرَاتِ تَحْدِيدًا لِلْحِلِّ لِلتَّزَوُّجِ. وَأُضِيفَ الْأَجَلُ إِلَى ضَمِيرِ النِّسَاءِ لَهَاتِهِ النُّكْتَةِ. وَالْقَوْلُ فِي الْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ مَضَى قَرِيبًا. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَكْرِيرُ الْحُكْمِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [الْبَقَرَة: 229] فَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِمَا قَالَهُ الْفَخْرُ: إِنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ أَفَادَتِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَهَذِهِ أَفَادَتْ ذَلِكَ التَّخْيِيرَ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الْعِدَّةِ، تَذْكِيرًا بِالْإِمْسَاكِ وَتَحْرِيضًا عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَيَسْتَتْبِعُ هَذَا التَّذْكِيرُ الْإِشَارَةَ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْإِمْسَاكِ، مِنْ جِهَةِ إِعَادَةِ التَّخْيِيرِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَذَكَرَ التَّسْرِيحَ هُنَا مَعَ الْإِمْسَاكِ، لِيُظْهِرَ مَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَلِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِشَارَةِ إِلَى رَغْبَةِ الشَّرِيعَةِ فِي الْإِمْسَاكِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِهِ فِي الذِّكْرِ إِذْ لَوْ يَذْكُرِ الْأَمْرَانِ لَمَا تَأَتَّى التَّقْدِيمُ الْمُؤْذِنُ بِالتَّرْغِيبِ وَعِنْدِي أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُعِيدَ الْحُكْمُ، وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا قَصَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الضِّرَارِ وَمَا تَلَا ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا أُبْعِدَ عَنْ تَذَكُّرِهِ الْجُمَلُ السَّابِقَةِ الَّتِي اقْتَضَى الْحَال الِاعْتِرَاض فِيهَا. وَقَوْلُهُ: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ قَيَّدَ التَّسْرِيحَ هُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَقَيَّدَ فِي قَوْلِهِ السَّالِفِ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، بِالْإِحْسَانِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ الْمَذْكُورَ هُنَالِكَ، هُوَ عَيْنُ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُعْرَضُ لِلتَّسْرِيحِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يُحْتَجْ هُنَا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ قَيْدِهِ وَقَيْدِ الْإِمْسَاكِ. أَوْ لِأَنَّ إِعَادَةَ أَحْوَالِ الْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ هُنَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنِ الْمُضَارَّةِ، وَالَّذِي تُخَافُ مُضَارَّتُهُ بِمَنْزِلَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الْإِحْسَانُ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْحَقَّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي عَدَمُ الْمُضَارَّةِ مِنْ فُرُوعِهِ، سَوَاءٌ فِي الْإِمْسَاكِ أَوْ فِي التَّسْرِيحِ، وَمُضَارَّةُ كُلٍّ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَخَفُّ مِنَ الْإِحْسَانِ فَلَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى

بِتَسْرِيحِهِنَّ مُقَارِنًا لِلْإِحْسَانِ، خِيفَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ عِنْدَ تَسْرِيحِهِنَّ لِلْوُجُوبِ فَعَقَّبَهُ بِهَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ» . وَقَوْلُهُ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومٍ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إِذِ الضِّرَارُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ، وَكَأَنَّ وَجْهَ عَطْفِهِ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ التَّشْوِيهُ بِذِكْرِ هَذَا الضِّدِّ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ أَضْدَادِ الْمَعْرُوفِ يَقْصِدُهُ الْأَزْوَاجُ الْمُخَالِفُونَ لِحُكْمِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَنُكْتَتُهُ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ فِي الذِّهْنِ بِطَرِيقَتَيْنِ غَايَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَقَالَ الْفَخْرُ: نُكْتَةُ عَطْفِ النَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ بِالضِّدِّ فِي الْآيَةِ هِيَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِخِلَافِ النَّهْيِ، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، وَفِيهَا نِزَاعٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَكِنَّهُ بَنَاهَا عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْإِمْسَاكِ حَيْثُمَا تَحَقَّقَ انْتَفَى الضِّرَارُ، وَحَيْثُمَا انْتَفَى الْمَعْرُوفُ تَحَقَّقَ الضِّرَارُ، فَيَصِيرُ الضِّرَارُ مُسَاوِيًا لنقيض الْمَعْرُوف، فلنا أَنْ نَجْعَلَ نُكْتَةَ الْعَطْفِ حِينَئِذٍ لِتَأْكِيدِ حُكْمِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ: بِطَرِيقَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ) ، كَمَا فِي قَوْلِ السَّمَوْأَلِ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظِّبَاتِ تَسِيلُ وَالضِّرَارُ مَصْدَرُ ضَارَّ، وَأَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، مِثْلُ خَاصَمَ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ مِثْلَ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الضُّرِّ، تَشْنِيعًا عَلَى مَنْ يَقْصِدُهُ بِأَنَّهُ مُفْحِشٌ فِيهِ. وَنَصَبَ ضِراراً عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ. وَقَوْلُهُ: لِتَعْتَدُوا جُرَّ بِاللَّامِ وَلَمْ يُعْطَفُ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْجَرَّ بِاللَّامِ هُوَ أَصْلُ التَّعْلِيلِ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ «تَعْتَدُوا» لِيَشْمَلَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَكُونُ اللَّامُ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّعْلِيلِ وَالْعَاقِبَةِ. وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ مَجَازًا فِي الْحُصُولِ، تَشْنِيعًا عَلَى الْمُخَالِفِينَ، فَحَرْفُ اللَّامِ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَوْلُهُ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ جَعَلَ ظُلْمَهُمْ نِسَاءَهُمْ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَالِ الْمُعَاشَرَةِ وَاضْطِرَابِ حَالِ الْبَيْتِ وَفَوَاتِ الْمَصَالِحِ بِشَغَبِ الْأَذْهَانِ فِي الْمُخَاصَمَاتِ. وَظَلَمَ نَفْسَهُ أَيْضًا بِتَعْرِيضِهَا لِعِقَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ.

وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. عَطْفُ هَذَا النَّهْيِ عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا لِزِيَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ صَنِيعِهِمْ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، لِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ، بِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِأَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي شَرَّعَ فِيهَا حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ، مُرِيدًا رَحْمَةَ النَّاسِ، فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ أَن يجعلوها هزءا. وَآيَاتُ اللَّهِ هِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ شَرَائِعِ الْمُرَاجِعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الْبَقَرَة: 228] إِلَى قَوْلِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 230] . وَالْهُزُءُ بِضَمَّتَيْنِ مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ إِذَا سَخِرَ وَلَعِبَ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ لَا تَتَّخِذُوهَا مُسْتَهْزَأً بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بِالَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْآيَاتِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْهُزُءَ مُرَادٌ بِهِ مَجَازُهُ وَهُوَ الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الرِّعَايَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِالشَّيْءِ الْمُهِمِّ يُعَدُّ لِاسْتِخْفَافِهِ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَهَمِّيَّتِهِ، كَالسَّاخِرِ وَاللَّاعِبِ. وَهُوَ تَحْذِيرٌ لِلنَّاسِ مِنَ التَّوَصُّلِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إِلَى مَا يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ، وَمَقَاصِدَ شَرْعِهِ، وَمِنْ هَذَا التَّوَصُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، مَا يُسَمَّى بِالْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى صُوَرٍ صَحِيحَةِ الظَّاهِرِ، بِمُقْتَضَى حُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ يَهِبُ مَالَهُ لِزَوْجِهِ لَيْلَةَ الْحَوْلِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَمِنْ أَبْعَدِ الْأَوْصَافِ عَنْهَا الْوَصْفُ بِالشَّرْعِيَّةِ. فَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مُحَذَّرُونَ أَنْ يَجْعَلُوا حُكْمَ اللَّهِ فِي الْعِدَّةِ، الَّذِي قُصِدَ مِنْهُ انْتِظَارُ النَّدَامَةِ وَتَذَكُّرُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، لَعَلَّهُمَا يَحْمِلَانِ الْمُطَّلِقَ عَلَى إِمْسَاكِ زَوْجَتِهِ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيُغَيِّرُوا ذَلِكَ وَيَجْعَلُوهُ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ النِّكَايَةِ، وَتَفَاقُمِ الشَّرِّ وَالْعَدَاوَةِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ طَلْقَةٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَات الله هزءا» يُرِيدُ أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ، بِحِكْمَةِ تَوَقُّعِ النَّدَامَةِ مَرَّةً أُولَى وَثَانِيَةً، فَجَعَلَهُ سَبَبُ نِكَايَةٍ وَتَغْلِيظٍ، حَتَّى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُرَاجَعَةِ إِذْ جَعَلَهُ مِائَةً. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُمْ دَعَاهُمْ بِالرَّغْبَةِ فَقَالَ:

[سورة البقرة (2) : آية 232]

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ، الَّذِي سَمَّاهُ نِعْمَةً كَمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ فِي قَوْله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: 103] فَكَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالِانْسِلَاخِ عَنْ تِلْكَ الضَّلَالَةِ، فَلَا تَرْجِعُوا إِلَيْهَا بِالتَّعَاهُدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى (نِعْمَةٍ) ، وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ بِهِ حَالٌ وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَة يَعِظُكُمْ خَبرا، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِدْرَاكُ مَصَالِحِ الدِّينِ، وَأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حُكْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْبَقَرَة: 219، 220] وَمَعْنَى إِنْزَالِ الْحِكْمَةِ أَنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَلِ، وَمِمَّا يَحْصُلُ أَثْنَاءَ مُمَارَسَةِ الدِّينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ فَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِالسَّنَةِ فَقَدْ فَسَّرَهَا بِبَعْضِ دَلَائِلِهَا. وَالْمَوْعِظَةُ وَالْوَعْظُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِمَا يُلِينُ الْقُلُوبَ، وَيُحَذِّرُ الْمَوْعُوظَ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْكِيرٌ بِالتَّقْوَى وَبِمُرَاعَاةِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَنْزِيلًا لَهُمْ فِي حِينِ مُخَالَفَتِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ، فَإِنَّ الْعَلِيمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ إِذَا عَلِمَ مُخَالَفَتَهُمْ لَا يَحُولُ بَيْنَ عِقَابِهِ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ، لِأَنَّ هَذَا الْعَلِيم قدير. [232] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَاطَبَةُ أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ بِأَلَّا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ مُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمُفَارِقِينَ بِإِمْسَاكِهِنَّ بِمَعْرُوفٍ وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الرَّغْبَةَ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَتْ تَأْلَفُهُ وَتُعَاشِرُهُ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ تَقْرِنَ رَغْبَتَهُ بِرَغْبَتِهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ سَرِيعَةُ

الِانْفِعَالِ قَرِيبَةُ الْقَلْبِ، فَإِذَا جَاءَ مَنْعٌ فَإِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ قَبَلِ الْأَوْلِيَاءِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَرْغِيبَ النِّسَاءِ فِي الرِّضَا بِمُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِنَّ وَنَهَى الْأَوْلِيَاءَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ عُرِفَ مِنْ شَأْنِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا قَارَبَهَا، الْأَنَفَةُ مِنْ أَصْهَارِهِمْ، عِنْدَ حُدُوثِ الشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَلَايَاهُمْ، وَرُبَّمَا رَأَوُا الطَّلَاقَ اسْتِخْفَافًا بِأَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ، فَحَمَلَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ عَلَى قَصْدِ الانتقام مِنْهُم عِنْد مَا يَرَوْنَ مِنْهُمْ نَدَامَةً، وَرَغْبَةً فِي الْمُرَاجَعَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ الْبَدَّاحَ بْنَ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّ طَلَّقَ زَوْجَهُ جُمَيْلَا - بِالتَّصْغِيرِ وَقِيلَ جُمَلَا وَقِيلَ جَمِيلَةُ- ابْنَةُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ: «إِنَّكَ طَلَّقْتَهَا طَلَاقًا لَهُ الرَّجْعَةُ، ثُمَّ تَرَكْتَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَيَّ أَتَيْتَنِي تَخْطُبُهَا مَعَ الْخُطَّابِ، وَالله لَا أنكحتكها أَبَدًا» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ مَعْقِلٌ «فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَرْجَعْتُهَا إِلَيْهِ» وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: نَزَلْتُ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ ابْنَةُ عَمٍّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ جَاءَ يُرِيدُ مُرَاجَعَتَهَا، وَكَانَتْ رَاغِبَةً فِيهِ، فَمَنَعَهُ جَابِرٌ مِنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وَالْمُرَادُ مِنْ أَجْلَهُنَّ هُوَ الْعِدَّةُ، وَهُوَ يَعْضُدُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ «دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ» فَجَعَلَ الْبُلُوغَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، بِمَعْنَى مُشَارَفَةِ بُلُوغِ الْأَجَلِ، وَجَعْلَهُ هُنَا بِمَعْنَى انْتِهَاءِ الْأَجَلِ. فَجُمْلَةُ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَة: 231] الْآيَةَ. وَالْخِطَابُ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ طَلَّقْتُمُ وتَعْضُلُوهُنَّ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مُوَجَّهٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ اخْتِلَافِ التَّوَجُّهِ، فَيَكُونُ مُوَجَّهًا إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِأَنَّ يَقَعُ مِنْهُ الطَّلَاقُ إِنْ كَانَ زَوْجًا، وَيَقَعُ مِنْهُ الْعَضْلُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى مِثْلِهِ فَلَا يَكَادُ يَخْفَى فِي اسْتِعْمَالِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ، غَيْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْآخَرُ، إِذْ لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ الْعَضْلُ وَلَا الْعَكْسُ، كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يَأْخُذُ مِنِ الْخِطَابِ مَا هُوَ بِهِ جَدِيرٌ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: طَلَّقْتُمُ أَوْقَعْتُمُ الطَّلَاقَ، فَهُمُ الْأَزْوَاجُ، وَبِقَوْلِهِ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ النَّهْيُ عَنْ صُدُورِ الْعَضْلِ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ النِّسَاءِ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْخِطَابَ لِلنَّاسِ عَامَّةً أَيْ إِذَا وُجِدَ فِيكُمُ الطَّلَاقُ وَبَلَغَ الْمُطَلَّقَاتُ أَجَلَهُنَّ، فَلَا يَقَعُ مِنْكُمُ الْعَضْلُ

وَوَجْهُ تَفْسِيرِهِ هَذَا بِقَوْلِهِ: «لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْعَضْلُ بَيْنَهُمْ وَهُمْ رَاضُونَ كَانُوا فِي حُكْمِ الْعَاضِلِينَ» . وَالْعَضْلُ: الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ وَعَدَمُ الِانْتِقَالِ، فَمِنْهُ عَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا عَسَرَتْ وِلَادَتُهَا وَعَضَّلَتِ الدَّجَاجَةُ إِذَا نَشِبَ بَيْضُهَا فَلَمْ يَخْرُجْ، وَالْمُعَاضَلَةُ فِي الْكَلَامِ: احْتِبَاسُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يَبْدُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ التَّعْقِيدُ، وَشَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَنْعِ الْوَلِيِّ مَوْلَاتَهُ مِنَ النِّكَاحِ. وَفِي الشَّرْعِ هُوَ الْمَنْعُ بِدُونِ وَجْهِ صَلَاحٍ، فَالْأَبُ لَا يُعَدُّ عَاضِلًا بِرَدِّ كُفْءٍ أَوِ اثْنَيْنِ، وَغَيْرُ الْأَبِ يُعَدُّ عَاضِلًا بِرَدِّ كُفْءٍ وَاحِدٍ. وَإِسْنَادُ النِّكَاحِ إِلَى النِّسَاءِ هُنَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْضُولُ عَنْهُ، وَالْمرَاد بأزواجهن طالبو الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَسَمَّاهُنَّ أَزْوَاجًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، لِقُرْبِ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْعَ ظُلْمٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ مِنْ قَبْلُ، فَهُمْ أَحَق بِأَن يرجّهن إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ شَرْطٌ لِلنَّهْيِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا عَلِمَ عَدَمَ التَّرَاضِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَرَأَى أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ سَتَعُودُ إِلَى دَخَلٍ وَفَسَادٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَوْلَاتَهُ نُصْحًا لَهَا، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ: وَهِيَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَحِقُّ لَهُ مَنْعُهَا مَعَ تَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ بِعَوْدِ الْمُعَاشَرَةِ، إِذْ لَا يَكُونُ الْوَلِيُّ أَدْرَى بِمَيْلِهَا مِنْهَا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ «رَضِيَ الْخَصْمَانِ وَلَمْ يَرْضَ الْقَاضِي» . وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ الْوِلَايَةَ لِلْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّ جَانِبَ الْمَرْأَةِ جَانِبٌ ضَعِيفٌ مَطْمُوعٌ فِيهِ، مَعْصُومٌ عَنِ الِامْتِهَانِ، فَلَا يَلِيقُ تَرْكُهَا تَتَوَلَّى مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ بِنَفْسِهَا لِأَنَّهُ يُنَافِي نَفَاسَتِهَا وَضَعْفِهَا، فَقَدْ يَسْتَخِفُّ بِحُقُوقِهَا الرِّجَالُ، حِرْصًا عَلَى مَنَافِعِهِمْ وَهِيَ تَضْعُفُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ. وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَشَارَ إِلَى حَقَّيْنِ: حَقِّ الْوَلِيِّ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِيَدِهِ لَمَا نَهَى عَنْ مَنْعِهِ، وَلَا يُقَالُ: نَهَى عَنِ اسْتِعْمَالِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ النَّهْيُ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ كَافِيًا، وَلَجِيءَ بِصِيغَةِ: مَا يَكُونُ لَكُمْ وَنَحْوِهَا وَحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الرِّضَا وَلِأَجْلِهِ أَسْنَدَ اللَّهُ النِّكَاحَ إِلَى ضَمِيرِ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ تُنْكِحُوهُنَّ أَزْوَاجَهُنَّ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، وَشَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ فَلَمْ يَشْتَرِطِ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْجَصَّاصُ بِأَنَّ اللَّهَ أَسْنَدَ النِّكَاحَ هُنَا لِلنِّسَاءِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بَعِيدٌ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى تَزَوَّجَتْ

دُونَ تَفْصِيلٍ بِكَيْفِيَّةِ هَذَا التَّزَوُّجِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ رِضَا الْمَرْأَةِ بِالزَّوْجِ هُوَ الْعَقْدُ الْمُسَمَّى بِالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ لِذَلِكَ دُونَ جَبْرٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ إِسْنَادُ النِّكَاحِ إِلَيْهِنَّ، أَمَّا وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فَلَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي شَأْنِ الْأَيَامَى وَلَا جَبْرَ عَلَى أَيِّمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، وَإِفْرَادُ الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ جَمَاعَةٌ، رَعْيًا لِتَنَاسِي أَصْلِ وَضْعِهَا مِنِ الْخِطَابِ إِلَى مَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ مِنْ مَعْنَى بُعْدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَقَطْ، فَإِفْرَادُهَا فِي أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي قَوْلِهِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ فَتَجْدِيدٌ لِأَصْلِ وَضْعِهَا. وَمَعْنَى أَزْكَى وَأَطْهَرُ أَنَّهُ أَوْفَرُ لِلْعِرْضِ وَأَقْرَبُ لِلْخَيْرِ، فَأَزْكَى دَالٌّ عَلَى النَّمَاءِ وَالْوَفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْضُلُونَهُنَّ حَمِيَّةً وَحِفَاظًا عَلَى الْمُرُوءَةِ مِنْ لَحَاقِ مَا فِيهِ شَائِبَةُ الْحَطِيطَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ عَدَمَ الْعَضْلِ أَوْفَرُ لِلْعِرْضِ لِأَنَّ فِيهِ سَعْيًا إِلَى اسْتِبْقَاءِ الْوُدِّ بَيْنَ الْعَائِلَاتِ الَّتِي تَقَارَبَتْ بِالصِّهْرِ وَالنَّسَبِ فَإِذَا كَانَ الْعَضْلُ إِبَايَةً لِلضَّيْمِ، فَالْإِذْنُ لَهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ حِلْمٌ وَعَفْوٌ وَرِفَاءٌ لِلْحَالِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ إِبَايَةِ الضَّيْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَطْهَرُ فَهُوَ مَعْنَى أَنْزَهُ، أَيْ أَنَّهُ أَقْطَعُ لِأَسْبَابِ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ وَالْأَحْقَادِ بِخِلَافِ الْعَضْلِ الَّذِي قَصَدْتُمْ مِنْهُ قَطْعَ الْعَوْدِ إِلَى الْخُصُومَةِ، وَمَاذَا تَضُرُّ الْخُصُومَةُ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ يَعْقُبُهَا رِضَا مَا تَضُرُّ الْإِحَنُ الْبَاقِيَةُ وَالْعَدَاوَاتُ الْمُتَأَصِّلَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُحْرَقَةُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَزْكى بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، نَاظِرًا لِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَطَهْرُ بِمَعْنَى فِيهِ السَّلَامَةُ مِنَ الذُّنُوبِ فِي الْآخِرَةِ، فَيكون أطهر مسلوب الْمُفَاضَلَةِ، جَاءَ عَلَى صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ قَوْلِهِ أَزْكى. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَذْيِيلٌ وَإِزَالَةٌ لِاسْتِغْرَابِهِمْ حِينَ تَلَقِّي هَذَا الْحُكْمِ، لِمُخَالَفَتِهِ لِعَادَاتِهِمُ الْقَدِيمَةِ، وَمَا اعْتَقَدُوا نفعا وصلاحا وإباء عَلَى أَعْرَاضِهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ النَّافِعَ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا ظَاهِرًا، فَمَفْعُولُ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ كَمَالُ زَكَاتِكُمْ وَطَهَارَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تعلمُونَ ذَلِك.

[سورة البقرة (2) : آية 233]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) انْتِقَالٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْعَضْلِ، وَكَانَتْ بَعْضُ الْمُطَلَّقَاتِ لَهُنَّ أَوْلَادٌ فِي الرَّضَاعَةِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِنَّ التَّزَوُّجُ وَهُنَّ مُرْضِعَاتٌ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَضُرُّ بِالْأَوْلَادِ، وَيُقَلِّلُ رَغْبَةَ الْأَزْوَاجِ فِيهِنَّ، كَانَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ مَثَارَ خِلَافٍ بَيْنِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَلِذَلِكَ نَاسَبَ التَّعَرُّضُ لِوَجْهِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ أَمْرَ الْإِرْضَاعِ مُهِمٌّ، لِأَنَّ بِهِ حَيَاةَ النَّسْلِ، وَلِأَنَّ تَنْظِيمَ أَمْرِهِ من أهم شؤون أَحْكَامِ الْعَائِلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِخْلَاصَ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَعْقَدِ مَا عُرِضَ لِلْمُفَسِّرِينَ. فَجُمْلَةُ وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الْبَقَرَة: 232] وَالْمُنَاسَبَةُ غَيْرُ خَفِيَّةٍ. وَالْوَالِدَاتُ عَامٌّ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ، وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْوَالِدَاتِ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الْبَقَرَة: 228] وَلِذَلِكَ وُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِالْعَطْفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اتِّحَادِ السِّيَاقِ، فَقَوْلُهُ: وَالْوالِداتُ مَعْنَاهُ: وَالْوَالِدَاتُ مِنْهُنَّ، أَيْ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ الْإِخْبَارُ عَنْهُنَّ فِي الْآيِ الْمَاضِيَةِ، أَيِ الْمُطَلَّقَاتِ اللَّائِي لَهُنَّ أَوْلَادٌ فِي سِنِّ الرَّضَاعَةِ، وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مُدَّةِ الْإِرْضَاعِ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ إِلَّا بَعْدَ الْفِرَاقِ، وَلَا يَقَعُ فِي حَالَةِ الْعِصْمَةِ إِذْ مِنَ الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَمُعْظَمِ الْأُمَمِ أَنَّ الْأُمَّهَاتَ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، وَأَنَّهُنَّ لَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ مَنْ تَمْتَنِعُ إِلَّا لِسَبَبِ طَلَبِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ جَدِيدٍ بَعْدَ فِرَاقِ وَالِدِ الرَّضِيعِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُرْضِعَ لَا يرغب الْأزْوَاج مِنْهَا لِأَنَّهَا تَشْتَغِلُ بِرَضِيعِهَا عَنْ زَوْجِهَا فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ.

وَجُمْلَةُ يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّشْرِيعُ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِلْوَالِدَاتِ وَالْإِيجَابِ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا فَإِنَّ الضَّمِيرَ شَامِلٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ كَمَا يَأْتِي، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِيجَابِ إِرْضَاعِ الْوَلَدِ عَلَى أُمِّهِ، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطَّلَاق: 6] وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ أَجْرُ الرَّضَاعَةِ، وَالزَّوْجَةُ فِي الْعِصْمَةِ لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَكِسْوَةٌ لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ، بَلْ لِأَجْلِ الْعِصْمَةِ. وَقَوْلُهُ: أَوْلادَهُنَّ صَرَّحَ بِالْمَفْعُولِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، إِيمَاءً إِلَى أَحَقِّيَّةِ الْوَالِدَاتِ بِذَلِكَ وَإِلَى تَرْغِيبِهِنَّ فِيهِ لِأَنَّ فِي قَوْله: أَوْلادَهُنَّ تذكيرا لَهُنَّ بِدَاعِي الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ- لَيْسَتِ الْآيَةُ وَارِدَةً إِلَّا لِبَيَانِ إِرْضَاعِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْلَادَهُنَّ، فَإِذَا رَامَتِ الْمُطَلَّقَةُ إِرْضَاعَ وَلَدِهَا فَهِيَ أَوْلَى بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَمْ طَلَبَتْ أَجْرَ مِثْلِهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَبَ إِذَا وَجَدَ مَنْ تُرْضِعَ لَهُ غَيْرَ الْأُمِّ بِدُونِ أَجْرٍ وَبِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْوَالِدَاتُ عَلَى الْعُمُومِ، سَوَاءٌ كُنَّ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا فِي الْقُرْطُبِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفُرْسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» أَنَّ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ومحمول عَلَى عُمُومِهِ فِي ذَاتِ الزَّوْجِ وَفِي الْمُطَلَّقَةِ مَعَ عُسْرِ الْأَبِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ: يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لِبَعْضِ الْوَالِدَاتِ، وَالْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّخْيِيرِ لِبَعْضِهِنَّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي هَذَا اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ مُطْلَقُ الطَّلَبِ وَلَا دَاعِي إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ إِرْضَاعِ الْأُمِّ وَلَدَهَا فِي الْعِصْمَةِ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْوَالِدَاتِ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ لَهُنَّ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْأَصَالَةِ. وَالْحَوْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَامُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَحَوُّلِ دَوْرَةِ الْقَمَرِ أَوِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهِ مِنْ مَبْدَأٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّمْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، فَتِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي مَا بَيْنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَرْجَعِ تُسَمَّى حَوْلًا.

وَحَوْلُ الْعَرَبِ قَمَرِيٌّ وَكَذَلِكَ أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ. وَوَصْفُ الْحَوْلَيْنِ بِكَامِلَيْنِ تَأْكِيدٌ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَوْلًا وَبَعْضَ الثَّانِي لِأَنَّ إِطْلَاقَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَسْنَانِ، عَلَى بَعْضِ الْمَدْلُولِ، إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ وَيُرِيدُونَ سَنَةً وَبَعْضَ الثَّانِيَةِ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: 197] . وَقَوْلُهُ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «بَيَانٌ لِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ كَقَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: 23] ، فَلَكَ بَيَانٌ لِلْمُهَيَّتِ لَهُ أَيْ هَذَا الْحُكْمُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْإِرْضَاعَ» أَيْ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، بِتَقْدِيرِ هَذَا الْحُكْمِ لِمَنْ أَرَادَ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «وَقَدْ يُصَرَّحُ بِهَذَا الْمُبْتَدَأُ فِي بَعْضِ التَّرَاكِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النِّسَاء: 25] وَمَا صدق (مَنْ) هُنَا مَنْ يُهِمُّهُ ذَلِكَ: وَهُوَ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا مِنْ وَلِيِّ الرَّضِيعِ وَحَاضِنِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ أَرَادَ إِتْمَامَ الرَّضَاعَةِ، وَأَبَاهُ الْآخَرُ، فَإِنْ أَرَادَا مَعًا عَدَمَ إِتْمَامِ الرَّضَاعَةِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الْآيَةَ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الرَّضَاعَ حَوْلَيْنِ رَعْيًا لِكَوْنِهِمَا أَقْصَى مُدَّةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا الطِّفْلُ لِلرَّضَاعِ إِذَا عَرَضَ لَهُ مَا اقْتَضَى زِيَادَةَ إِرْضَاعِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَلَيْسَ فِي نَمَائِهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ الرَّضَاعَ بَعْدُ، وَلَمَّا كَانَ خِلَافُ الْأَبَوَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَا يَنْشَأُ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافِ النَّظَرِ فِي حَاجَةِ مِزَاجِ الطِّفْلِ إِلَى زِيَادَةِ الرَّضَاعِ، جَعَلَ اللَّهُ الْقَوْلَ لِمَنْ دَعَا إِلَى الزِّيَادَةِ، احْتِيَاطًا لِحِفْظِ الطِّفْلِ. وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ فِي عُصُورِ قِلَّةِ التَّجْرِبَةِ وَانْعِدَامِ الْأَطِبَّاءِ، لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا يَقُومُ لِلطِّفْلِ مَقَامَ الرَّضَاعِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذا فطموه أَعْطَوْهُ الطَّعَامَ، فَكَانَتْ أَمْزِجَةُ بَعْضِ الْأَطْفَالِ بِحَاجَةٍ إِلَى تَطْوِيلِ الرَّضَاعِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى هَضْمِ الطَّعَامِ وَهَذِهِ عَوَارِضُ تَخْتَلِفُ. وَفِي عَصْرِنَا أَصْبَحَ الْأَطِبَّاءُ يَعْتَاضُونَ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ بِالْإِرْضَاعِ الصِّنَاعِيِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَحَ لِلصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، مَا لَمْ تَكُنْ بِهَا عَاهَةٌ أَوْ كَانَ اللَّبَنُ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ الْأَجْزَاءَ الَّتِي بهَا تَمام تَغْذِيَةُ أَجْزَاءِ بَدَنِ الطِّفْلِ، وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ الصِّنَاعِيَّ يَحْتَاجُ إِلَى فَرْطِ حَذَرٍ فِي سَلَامَةِ اللَّبَنِ مِنَ الْعُفُونَةِ: فِي قِوَامِهِ وَإِنَائِهِ. وَبِلَادُ الْعَرَبِ شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ فِي غَالِبِ السَّنَةِ وَلَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ حِفْظَ أَطْعِمَتِهِمْ مِنَ التَّعَفُّنِ بِالْمُكْثِ، فَرُبَّمَا كَانَ فِطَامُ الْأَبْنَاءِ فِي الْعَامِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ يَجُرُّ مَضَارَّ لِلرُّضَعَاءِ،

وَلِلْأَمْزِجَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ أَيْضًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلَيْنِ لِلْوَلَدِ الَّذِي يَمْكُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، فَرَضَاعُهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَهَكَذَا بِزِيَادَةِ كُلِّ شَهْرٍ فِي الْبَطْنِ يَنْقُصُ شَهْرٌ مِنْ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ حَتَّى يَكُونَ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَاف: 15] ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَنْزَعٌ إِلَى تَحْكِيمِ أَحْوَالِ الْأَمْزِجَةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا تَنْقُصُ مُدَّةُ مُكْثِهِ فِي الْبَطْنِ، تَنْقُصُ مُدَّةُ نُضْجِ مِزَاجِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَأَنَّ الْحَوْلَيْنِ غَايَةٌ لِإِرْضَاعِ كُلِّ مَوْلُودٍ. وَأَخَذُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الرَّضَاعَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهُمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَا يُجَابُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ. وَعَبَّرَ عَنِ الْوَالِدِ بِالْمَوْلُودِ لَهُ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ الْحَقِيقُ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ مَنَافِع الْوَلَد منجرة إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا حق بِهِ وَمُعْتَزٌّ بِهِ فِي الْقَبِيلَةِ حَسَبَ مُصْطَلَحِ الْأُمَمِ، فَهُوَ الْأَجْدَرُ بِإِعَاشَتِهِ، وَتَقْوِيمِ وَسَائِلِهَا. وَالرِّزْقُ: النَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ: اللِّبَاسُ، وَالْمَعْرُوفُ: مَا تَعَارَفَهُ أَمْثَالُهُمْ وَمَا لَا يُجْحِفُ بِالْأَبِ. وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُنَا مَا تَأْخُذُهُ الْمُرْضِعُ أجرا عَن إرضاعها، مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ لِلْمَرَاضِعِ كِسْوَةً وَنَفَقَةً، وَكَذَلِكَ غَالِبُ إِجَارَاتِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَهْلَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، بَلْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالْأَشْيَاءِ، وَكَانَ الْأُجَرَاءُ لَا يَرْغَبُونَ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ كِفَايَةَ ضَرُورَاتِهِمْ، وَهِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ، وَلِذَلِكَ أَحَالَ اللَّهُ تَقْدِيرَهُمَا عَلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ مِنْ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَسَعَتِهِمْ، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها. وَجُمَلُ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها إِلَى قَول: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ مُعْتَرَضَاتٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَعَلَى الْمَوْلُودِ وَجُمْلَةِ وَعَلَى الْوارِثِ فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تُضَارَّ والِدَةٌ إِلَى آخِرِهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ أَيْضًا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ يُفِيدُ أُصُولًا عَظِيمَةً لِلتَّشْرِيعِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ. وَالتَّكْلِيفُ تَفْعِيلٌ بِمَعْنَى جَعَلَهُ ذَا كُلْفَةٍ، وَالْكُلْفَةُ: الْمَشَقَّةُ، وَالتَّكَلُّفُ: التَّعَرُّضُ لِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَيُطْلَقُ التَّكْلِيفُ عَلَى الْأَمْرِ بِفِعْلٍ فِيهِ كُلْفَةٌ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ جَدِيدٌ. وَالْوُسْعُ، بِتَثْلِيثِ الْوَاوِ: الطَّاقَةُ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَسِعَ الْإِنَاءُ الشَّيْءَ إِذَا حَوَاهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ ضِدُّ ضَاقَ عَنْهُ، وَالْوُسْعُ هُوَ مَا يَسَعُهُ الشَّيْءُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَأَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ

لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي «الْأَسَاسِ» ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَجَازِ، فَكَأَنَّهُمْ شَبَّهُوا تَحَمُّلَ النَّفْسِ عَمَلًا ذَا مَشَقَّةٍ بِاتِّسَاعِ الظَّرْفِ لِلْمُحْوَى، لِأَنَّهُمْ مَا احْتَاجُوا لِإِفَادَةِ ذَلِك إلّا عِنْد مَا يَتَوَهَّمُ النَّاظِرُ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ، فَمِنْ هُنَا اسْتُعِيرَ لِلشَّاقِّ الْبَالِغِ حَدَّ الطَّاقَةِ. فَالْوِسْعُ إِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْوَاوِ فَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَذِبْحٍ، وَإِنْ كَانَ بِضَمِّهَا فَهُوَ مَصْدَرٌ- كَالصُّلْحِ وَالْبُرْءِ- صَارَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَ بِفَتْحِهَا فَهُوَ مَصْدَرٌ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالدَّرْسِ وَالتَّكْلِيفُ بِمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ مَنْفِيٌّ فِي الشَّرِيعَةِ. وَبَنَى فِعْلَ تُكَلَّفُ لِلنَّائِبِ لِيُحْذَفَ الْفَاعِلُ، فَيُفِيدُ حَذْفُهُ عُمُومَ الْفَاعِلِينَ، كَمَا يُفِيدُ وُقُوعُ نَفْسٍ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاق النَّفس، عُمُومَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِفِعْلِ تُكَلَّفُ: وَهُوَ الْأَنْفَسُ الْمُكَلَّفَةُ، وَكَمَا يُفِيدُ حَذْفُ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا وُسْعَها عُمُومَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ تُكَلَّفُ، وَهُوَ الْأَحْكَامُ الْمُكَلَّفُ بِهَا، أَيْ لَا يُكَلِّفُ أَحَدٌ نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا، وَذَلِكَ تَشْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ لِلْأُمَّةِ بِأَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُكَلِّفَ أَحَدًا إِلَّا بِمَا يَسْتَطِيعُهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ فِي التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ إِلَّا بِمَا يُسْتَطَاعُ: فِي الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَقَدْ قَالَ فِي آيَاتِ خِتَامِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَة: 286] . وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ (¬1) ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي آخِرِ السُّورَةِ. وَجُمْلَةُ لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها اعْتِرَاضٌ ثَانٍ، وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا، فَإِنَّهَا تَشْرِيعٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا بَلْ هِيَ كَالتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لِأَنَّ إِدْخَالَ الضُّرِّ عَلَى أَحَدٍ بِسَبَبِ مَا هُوَ بِضْعَةٌ مِنْهُ، يَكَادُ يَخْرُجُ عَنْ طَاقَةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الضِّرَارَ تَضِيقُ عَنْهُ الطَّاقَةُ، وَكَوْنُهُ بِسَبَبِ مَنْ يَتَرَقَّبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ نَفْعٍ أَشَدَّ أَلَمًا عَلَى النَّفْسِ، فَكَانَ ضُرُّهُ أَشَدَّ. وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ لَفْظُ الْوَالِدَةِ هَنَا دُونَ الْأُمِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ فِرَاقٍ أَوْ دَوَامِ عِصْمَةٍ، فَهُوَ كَالتَّذْيِيلِ، وَهُوَ نَهْيٌ لَهُمَا عَنْ أَنْ يُكَلِّفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مَا هُوَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَيَسْتَغِلَّ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ شَفَقَةِ الْآخَرِ عَلَى وَلَدِهِ فَيَفْتَرِصُ ذَلِك لإحراجه، والإشفاق عَلَيْهِ. ¬

(¬1) وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على وُقُوعه قَوْله تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] نَقله آولوسي فِي تَفْسِيره، (12/ 49) ، ط المنيرية.

وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» : عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها الْآيَةَ «يَقُولُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا عَلَيْهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُرْضِعُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنْهَا وَلَدَهَا، وَهِيَ تُحِبُّ أَنْ تُرْضِعَهُ» وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِوَلَدِها وبِوَلَدِهِ بَاءُ الْإِلْصَاقِ وَهِيَ لِتَعْدِيَةِ تُضَارَّ فَيَكُونُ مَدْخُولُ الْبَاءِ مَفْعُولًا فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ تُضَارَّ وَهُوَ مَسْلُوبُ الْمُفَاعَلَةِ مُرَادٌ مِنْهُ أَصْلُ الضُّرِّ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: لَا تَضُرُّ الْوَالِدَةُ وَلَدَهَا وَلَا الْمَوْلُودُ لَهُ وَلَدَهُ أَيْ لَا يَكُنْ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِتَعَنُّتِهِ وَتَحْرِيجِهِ سَبَبًا فِي إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِوَلَدِهِ أَيْ سَبَبًا فِي إلجاء الآخر إِلَى الِامْتِنَاعَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِرْضَاعِ الْأُمِّ وَلَدَهَا فَيَكُونُ فِي اسْتِرْضَاعِ غَيْرِ الْأُمِّ تَعْرِيضُ الْمَوْلُودِ إِلَى الضُّرِّ وَنَحْوِ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّفْرِيطِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (لَا تُضَارَّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً عَلَى أَنَّ (لَا) حرف نهي و (تضار) مَجْزُومٌ بِلَا النَّاهِيَةِ وَالْفَتْحَةُ لِلتَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ الَّذِي نَشَأَ عَنْ تَسْكِينِ الرَّاءِ الْأَوْلَى لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ وَتَسْكِينُ الرَّاءِ الثَّانِيَةِ لِلْجَزْمِ وَحُرِّكَ بِالْفَتْحَةِ لِأَنَّهَا أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّ (لَا) حَرْفُ نَفْيٍ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى نِيَّةِ بِنَاءِ الْفِعْلِ للْفَاعِل بِتَقْدِير: لَا (تُضَارِرْ) بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأَوْلَى وَبِنَائِهِ لِلنَّائِبِ بِتَقْدِيرِ فَتْحِ الرَّاءِ الْأَوْلَى، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً مَعَ إِشْبَاعِ الْمَدِّ كَذَا نُقِلَ عَنهُ فِي كتاب «الْقِرَاءَاتِ» وَالظَّاهِرِ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ لَا مِنْ ضَارَّ المضاعف. وَوَقع فِي «الْكَشَّافُ» أَنَّهُ قَرَأَ بِالسُّكُونِ مَعَ التَّشْدِيدِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ أَيْ إِجْرَاءٍ لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَلِذَلِكَ اغْتُفِرَ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ لَا تُضَارَّ والِدَةٌ لِأَنَّ جُمْلَةَ لَا تُضَارَّ مُعْتَرِضَةٌ، فَإِنَّهَا جَاءَتْ عَلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي جَاءَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها الَّتِي هِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْأَحْكَامِ لَا مَحَالَةَ لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ مِنْ قَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمَّا جَاءَتْ جُمْلَةُ لَا تُضَارَّ بِدُونِ عَطْفٍ عَلِمْنَا أَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ مِمَّا قَبْلَهُ ثُمَّ وَقَعَ الرُّجُوعُ إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْعَطْفَ عَلَى المستأنفات المعترضات لجيء بِالْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ. وَحَقِيقَةُ الْوَارِثِ هُوَ مَنْ يَصِيرُ إِلَيْهِ مَال الْمَيِّت بَعْدَ الْمَوْتِ بِحَقِّ الْإِرْثِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِقَرِينَةِ دُخُولِ عَلَى عَلَيْهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ عَدِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ إِشَارَةً إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِضْرَارِ الْمُسْتَفَادِ

مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها كَمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ مَحْذُوفًا وَحُكْمُ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَمَا هُوَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْإِضْرَارِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيًّا مَا كَانَ فَاعِلُهُ، عَلَى أَنَّ الْإِضْرَارَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَحْسُنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ عَلَى الَّذِي هُوَ مِنْ صِيَغِ الْإِلْزَامِ وَالْإِيجَابِ، عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْمَثَلِ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ لِمُمَاثَلَةِ الذَّوَاتِ وَهِيَ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ لَا لِمُمَاثَلَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ الْإِنْفَاق وَالْكِسْوَة وَارِثا أَنَّ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَاتَ، وَهَذَا إِيجَازٌ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلُودُ لَهُ فَعَلَى وَارِثِهِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ عَلَى الْوَاقِعَةَ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ هُنَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا مِثْلُ عَلَى الَّتِي فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ وَارِثُ الْأَبِ وَتَكُونُ الْ عِوَضًا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي دُخُولِ الْ عَلَى اسْمٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ وَلَا مَقْصُودٍ جِنْسُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مَذْكُورًا بَعْدَ اسْمٍ يَصْلُحُ لِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: 15] وَكَمَا قَالَ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 40- 41] أَيْ نَهَى نَفْسَهُ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ مَأْوَاهُ، وَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوجي المسّ مسّ أَرْنَبٌ وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ» وَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَارِثًا إِلَّا لِأَنَّهُ وَارِثٌ بِالْفِعْلِ لَا مَنْ يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا عَلَى تَقْدِيرِ مَوْتِ غَيْرِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَالِ مَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى خِلَافِهِ فَمَا قَالَ: وَعَلَى الْوارِثِ إِلَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْحَقِّ تَعْلِيقٌ بِهَذَا الشَّخْصِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَعَلَى الْأَقَارِبِ أَوِ الْأَوْلِيَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَلَامًا تَأْكِيدًا حِينَئِذٍ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْإِضْرَارِ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ خَاصٌّ فَإِنَّ فَاعِلَ تُضَارَّ مَحْذُوفٌ. وَالنَّهْيُ دَالٌّ عَلَى مَنْعِ كُلِّ إِضْرَارٍ يَحْصُلُ لِلْوَالِدَةِ فَمَا فَائِدَةُ إِعَادَةِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَارِثِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ إِذْ لَا قَائِلَ بِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْمُرْضِعِ عَلَى وَارِثِ الْأَبِ، سَوَاءٌ كَانَ إِيجَابُهَا عَلَى الْوَارِثِ فِي الْمَالِ الْمَوْرُوث بِأَن تكون مَبْدَأَةً عَلَى الْمَوَارِيثِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ إِلَّا بِالتَّجْهِيزِ ثُمَّ الدَّيْنِ ثُمَّ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ الرَّضِيعَ لَهُ حَظُّهُ فِي الْمَالِ الْمَوْرُوثِ وَهُوَ إِذَا صَارَ ذَا مَالٍ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ أَمْ كَانَ إِيجَابُهَا عَلَى الْوَارِثِ لَوْ لَمْ يَسَعْهَا الْمَالُ الْمَوْرُوثُ فَيَكْمُلُ مِنْ يَدِهِ، وَلِذَلِكَ طَرَقُوا فِي هَذَا بَابَ التَّأْوِيلِ إِمَّا تَأْوِيلُ مَعْنًى الْوَارِثِ وَإِمَّا تَأْوِيلُ مَرْجِعِ الْإِشَارَةِ وَإِمَّا كِلَيْهِمَا. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ وَارِثُ الطِّفْلِ أَيْ مَنْ لَوْ مَاتَ

الطِّفْلُ لَوَرِثَهُ هُوَ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَيَتَقَرَّرُ بِالْآيَةِ، أَنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى قَرَابَةِ الرَّضِيعِ وَهُمْ بِالضَّرُورَةِ قَرَابَةُ أَبِيهِ أَيْ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا: تَجِبُ نَفَقَةُ الرَّضِيعِ عَلَى الْأَقَارِبِ. عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ فِي الْإِرْثِ وَيَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَوْرِيثِ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ حَقًّا عَلَى الْقَرَابَةِ إِنْفَاقَ الْعَاجِزِ فِي مَالِهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ يَرِثُونَهُ إِذَا تَرَكَ مَالًا فَهُوَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ الدِّيَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَبَشِيرُ بْنُ نَصْرٍ قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْمُرَادُ وَارِثُ الْأَبِ وَأُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الرَّضِيعِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ مَالًا فَنَفَقَتُهُ مِنْ إِرْثِهِ. وَيَتَّجِهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْوَلَدِ إِلَى التَّعْبِير بالوارث؟ فتجيب بِأَنَّهُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَبَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الرَّضِيعِ لِعَدَمِ مَالٍ لِلرَّضِيعِ، فَلِهَذَا لَمَّا اكْتَسَبَ مَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الصِّغَارِ أَلَّا تَكُونَ لَهُمْ أَمْوَالٌ مُكْتَسَبَةٌ سِوَى الْمِيرَاثِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْآيَةَ تَكُونُ قَدْ تَرَكَتْ حُكْمَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْوَارِثِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ انْعِدَامِ غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [الْحجر: 23] يَعْنِي بِهِ أُمَّ الرَّضِيعِ قَالَهُ سُفْيَانُ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأُمِّ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» «وَهَذَا قَلَقٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَيْسَ لِقَوْلِنَا: فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ وَعَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعْنًى يُعْتَدُّ بِهِ» يَعْنِي أَنَّ إِرَادَةَ الْبَاقِي تَشْمَلُ صُورَةَ مَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي الْأَبَ وَلَا مَعْنَى لِعَطْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةَ أَنَّ الْوَارِثَ هُوَ وَلِيُّ الرَّضِيعِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى الْأَبِ مِنْ عَدَمِ الْمُضَارَّةِ. هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ لَا مَنْسُوخَةٌ وَأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ ذلِكَ هُوَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ ذلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّهْي عَن المشارة. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ لِمَالِكٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ اهـ. وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» فِي تَرْجَمَةِ مَا جَاءَ فِيمَنْ تَلْزَمُ النَّفَقَةُ مِنْ كِتَابِ إِرْخَاءِ السُّتُورِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أَيْ أَلَّا يُضَارَّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَعْنِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَلَّا يُضَارَّ الْوَارِثُ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ عَلَيْهِ رِزْقٌ وَكِسْوَةٌ اهـ يَعْنِي مَوْرِدَ الْآيَةِ بِمَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى حُكْمِهِ وَيَتْرُكُ مَا فِيهِ الْخِلَافُ. وَهُنَالِكَ تَأْوِيلٌ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، رَوَاهُ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ

عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ هُوَ مَنْسُوخٌ فَقَالَ النَّحَّاسُ: «مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ بَيَّنَ مَا النَّاسِخُ، وَالَّذِي يُبَيِّنُهُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لَهَا عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَةَ حَوْلٍ، وَالسُّكْنَى مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ نَسْخٌ أَيْضًا عَنِ الْوَارِثِ» يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَسَخَ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ نَسَخَ كُلَّ حَقٍّ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمِيرَاثِ، فَيَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ الْمِيرَاثَ، فَإِنَّهُ نَسَخَ كُلَّ حَقٍّ فِي الْمَالِ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ. وَعِنْدِي أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي فِي «مُدَوَّنَةِ سَحْنُونٍ» بَعِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَأَنَّ مَا نَحَاهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ النَّسْخَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَالنَّاسِخَ لِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، بَعْدَ جِهَازِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، إِلَّا الْمِيرَاثَ فَنَسَخَ بِذَلِكَ كُلَّ مَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَنْ يُدْفَعَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ مِثْلَ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: 180] الْآيَةَ، وَمِثْلَ الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الزَّوْجَةِ وَإِنْفَاقِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: 240] وَنُسِخَ مِنْهُ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَّا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» هَذَا إِذَا حُمِلَ الْوَارِثُ فِي الْآيَةِ عَلَى وَارِثِ الْمَيِّتِ أَيْ إِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ أَيًّا كَانُوا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَبْدَأُ الْمَوَارِيثِ. وَإِذَا حُمِلَ الْوَارِثُ عَلَى مَنْ هُوَ بِحَيْثُ يَرِثُ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ مَالًا، أَعْنِي قَرِيبَهُ، بِمَعْنَى أَنَّ عَلَيْهِ إِنْفَاقَ ابْنِ قَرِيبِهِ، فَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِوَضْعِ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ هَذَا الْحُكْمَ فِي وَقْتِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، لِإِقَامَةِ أَوَدِ نِظَامِهِمْ بِتَرْبِيَةِ أَطْفَالِ فُقَرَائِهِمْ، وَكَانَ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الطِّفْلِ فَكَمَا كَانَ يَرِثُ قَرِيبَهُ، لَوْ تَرَكَ مَالًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَن يُقَام بِبَيِّنَةٍ، كَمَا كَانَ حُكْمُ الْقَبِيلَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي ضَمِّ أَيْتَامِهِمْ وَدَفْعِ دِيَاتِهِمْ، فَلَمَّا اعْتَزَّ الْإِسْلَامُ صَار لِجَامِعَةِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ، كَانَ حَقًّا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِتَرْبِيَةِ أَبْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ تَرَكَ كَلًّا، أَوْ ضَيَاعًا، فَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَارِثِهِ» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إِطْعَامِ الْفَقِيرِ وَبَيْنَ إِرْضَاعِهِ، وَمَا هُوَ إِلَّا نَفَقَةٌ، وَلِمَثَلِهِ وُضِعَ بَيْتُ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ لِأَنَّهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْوَالِدَةِ وَالْمَوْلُودِ لَهُ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْجُمَلِ قَبْلَ هَذِهِ.

وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ عَنِ الْإِرْضَاعِ، لِأَنَّهُ فُصِلَ عَنْ ثَدْيِ مُرْضِعِهِ. وَعَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ تَراضٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَرَادَا أَيْ إِرَادَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّرَاضِي، إِذْ قَدْ تَكُونُ إِرَادَتُهُمَا صُورِيَّةً أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُرْغَمًا عَلَى الْإِرَادَةِ، بِخَوْفٍ أَوِ اضْطِرَارٍ. وَقَوْلُهُ: وَتَشاوُرٍ هُوَ مَصْدَرُ شَاوَرَ إِذَا طَلَبَ الْمَشُورَةَ. وَالْمَشُورَةُ قِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَشَاوِرِينَ يُشِيرُ بِمَا يَرَاهُ نَافِعًا فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُسْتَشِيرُ لِمَنْ يَسْتَشِيرُهُ: بِمَاذَا تُشِيرُ عَلَيَّ كَأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ يُشِيرُ لِلْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ النَّفْعُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، لِأَنَّ النَّاصِحَ الْمُدَبِّرَ كَالَّذِي يُشِيرُ إِلَى الصَّوَابِ وَيُعِينُهُ لَهُ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ، ثُمَّ عُدِّيَ بِعَلَى لَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّدْبِيرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الْعَسَلَ إِذا استخرجه، وأيا مَا كَانَ اشْتِقَاقُهَا فَمَعْنَاهَا إِبْدَاءُ الرَّأْيِ فِي عَمَلٍ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ مَنْ يُشَاوِرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] ، وَعَطَفَ التَّشَاوُرَ عَلَى التَّرَاضِي تَعْلِيما للزوجين شؤون تَدْبِيرِ الْعَائِلَةِ، فَإِنَّ التَّشَاوُرَ يُظْهِرُ الصَّوَابَ وَيَحْصُلُ بِهِ التَّرَاضِي. وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ حَقَّ إِرْضَاعِ الْحَوْلَيْنِ مُرَاعًى فِيهِ حَقُّ الْأَبَوَيْنِ وَحَقُّ الرَّضِيعِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ الرُّضَعَاءِ جَعَلَ اخْتِلَافَ الْأَبَوَيْنِ دَلِيلًا عَلَى تَوَقُّعِ حَاجَةِ الطِّفْلِ إِلَى زِيَادَةِ الرَّضَاعِ، فَأَعْمَلَ قَوْلَ طَالِبِ الزِّيَادَةِ مِنْهُمَا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا تَشَاوَرَ الْأَبَوَانِ وَتَرَاضَيَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْفِصَالِ كَانَ تَرَاضِيهُمَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا مِنْ حَالِ الرَّضِيعِ مَا يُغْنِيهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّمَالُؤُ عَلَى ضُرِّ الْوَلَدِ، وَلَا يُظَنُّ إِخْفَاءُ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ تَشَاوُرِهِمَا، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا حَالُ وَلَدِهِمَا. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ انْتِقَالٌ إِلَى حَالَةِ إِرْضَاعِ الطِّفْلِ غَيْرُ وَالِدَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْوَالِدَةِ إِرْضَاعُهُ، لِمَرَضِهَا، أَوْ تَزَوُّجِهَا أَوْ إِنْ أَبَتْ ذَلِكَ حَيْثُ يَجُوزُ لَهَا الْإِبَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الْإِرْضَاعَ لِأَوْلَادِكُمْ فَلَا إِثْمَ فِي ذَلِكَ. وَالْمُخَاطَبُ بِأَرَدْتُمْ: الْأَبَوَانِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَبَوَيْنِ فِي الْأُمَّةِ وَلَيْسَ الْمُخَاطَبُ خُصُوصَ الرِّجَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا سَبَقَ وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِحَالَةِ تَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِ الْأُمِّ، وَبِحَالَةِ فَقْدِ الْأُمِّ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنَّ حَالَةَ التَّرَاضِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا، لِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ مُؤْذِنٌ بِتَوَقُّعِهِ،

وَإِنَّمَا يُتَوَقَّعُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُمُّ مَوْجُودَةً وَأُرِيدَ صَرْفُ الِابْنِ عَنْهَا إِلَى مُرْضِعٍ أُخْرَى، لِسَبَبٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، وَهُمَا لَا يُرِيدَانِ ذَلِكَ إِلَّا حَيْثُ يَتَحَقَّقُ عَدَمُ الضُّرِّ لِلِابْنِ، فَلَوْ عُلِمَ ضُرُّ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَرْضِعُ لِأَوْلَادِهَا، لَا سِيَّمَا أَهْلَ الشَّرَفِ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ» . وَالِاسْتِرْضَاعُ أَصْلُهُ طَلَبُ إِرْضَاعِ الطِّفْلِ، أَيْ طَلَبُ أَنْ تُرْضِعَ الطِّفْلَ غَيْرُ أُمِّهِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي (تَسْتَرْضِعُوا) لِلطَّلَبِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، وَأَصْلُهُ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا مَرَاضِعَ لِأَوْلَادِكُمْ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُعَدَّى بِالسِّينِ وَالتَّاءِ الدَّالَّيْنِ عَلَى الطَّلَبِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ الْفِعْلُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَمَا بَعْدَهُ يُعَدَّى إِلَيْهِ بِالْحَرْفِ وَقَدْ يُحْذَفُ الْحَرْفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا حُذِفَ فِي اسْتَرْضَعَ وَاسْتَنْجَحَ، فَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَجْرُورِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ «وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ» وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا يَقْتَضِي أَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ دَخَلَتَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَهْمُوزِ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ فَزَادَتَاهُ تَعْدِيَةً لِثَانٍ، وَأَصْلُهُ أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، فَإِذَا قُلْتَ: اسْتَرْضَعْتُهَا صَارَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى الْحَدَثِ الْمُرَادِ طَلَبُهُ، فَإِنْ كَانَ حَدَثًا قَاصِرًا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ، عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، نَحْوَ اسْتَنْهَضْتُهُ فَنَهَضَ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، نَحْوَ اسْتَرْضَعْتُهَا فَأَرْضَعَتْ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرِينَةِ، إِذْ لَا يُطْلَبُ أَصْلُ الرَّضَاعِ لَا مِنَ الْوَلَدِ وَلَا مِنَ الْأُمِّ، وَكَذَا: اسْتَنْجَحْتُ اللَّهَ سَعْيِي، إِذْ لَا يُطْلَبُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِنْجَاحُ السَّعْيِ، وَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ نَجَاحِ اللَّهِ، فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْفِعْلِ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ إِلَى الثَّانِي بِحَذْفِ الْحَرْفِ، نَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَسَلُّطِ الطَّلَبِ عَلَى الْفِعْلِ هُنَا أَصْلًا، عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الِاعْتِبَارُ، لَتَعَذَّرَ طَلَبُ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِالسِّينِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ قَدْ يَطْلُبُ حُصُولَهُ فَمَا أَوْرَدُوهُ عَلَى «الْكَشَّافِ» : مِنْ أَنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُجَرَّدِ لَا الْمَزِيدِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ، وَكَانَتْ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ جَازَ اعْتِبَارُ بَعْضِهَا دَاخِلًا بَعْدَ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْخُولُهَا كُلِّهَا هُوَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يُرْضِعْنَ تَشْرِيعَ وُجُوبِ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْأُمَّهَاتِ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَحْدِيدُ مُدَّةِ الْإِرْضَاعِ وَوَاجِبَاتُ الْمُرْضِعِ عَلَى الْأَبِ، وَأَمَّا إِرْضَاعُ الْأُمَّهَاتِ فَمَوْكُولٌ إِلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي فِي الْعِصْمَةِ، إِذَا كَانَ مِثْلُهَا يُرْضِعُ، يُعْتَبَرُ إِرْضَاعُهَا أَوْلَادَهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي الْعِصْمَةِ،

إِذِ الْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ لَا حَقَّ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا، فَلَا تُرْضِعُ لَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا. مَا لَمْ يَعْرِضْ فِي الْحَالَيْنِ مَانِعٌ أَوْ مُوجِبٌ، مِثْلُ عَجْزِ الْمَرْأَةِ فِي الْعِصْمَةِ عَنِ الْإِرْضَاعِ لِمَرَضٍ، وَمِثْلُ امْتِنَاعِ الصَّبِيِّ مِنْ رَضَاعِ غَيْرِهَا، إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً بِحَيْثُ يُخْشَى عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَا يُرْضِعُ مِثْلُهَا وَهِيَ ذَاتُ الْقَدْرِ، قَدْ عَلِمَ الزَّوْجُ حِينَمَا تَزَوَّجَهَا أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُرْضِعُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا حَقُّ الْإِرْضَاعِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، إِذِ الْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عُرْفًا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ وَتَقَرَّرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَرَى فِي كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ: أَنَّ مَالِكًا خَصَّصَ عُمُومَ الْوَالِدَاتِ بِغَيْرِ ذَوَاتِ الْقَدْرِ، وَأَنَّ الْمُخَصَّصَ هُوَ الْعُرْفُ، وَكُنَّا نُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنِّي الْآنَ لَا أَرَى ذَلِكَ مُتَّجِهًا وَلَا أَرَى مَالِكًا عَمَدَ إِلَى التَّخْصِيصِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَسُوقَةٍ لِإِيجَابِ الْإِرْضَاعِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمْ إِلَى الْمَرَاضِعِ أُجُورَهُنَّ. فَالْمُرَادُ بِمَا آتَيْتُمُ: الْأَجْرُ، وَمَعْنَى آتَى فِي الْأَصْلِ دَفَعَ لِأَنَّهُ مُعَدَّى أَتَى بِمَعْنَى وَصَلَ، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ إِذَا أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ، لَمْ يَلْتَئِمْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فِعْلِ آتَيْتُمْ الْمَاضِي. وَتَأَوَّلَ فِي «الْكَشَّافِ» آتَيْتُمْ بِمَعْنَى: أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 6] تَبَعًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، وَالْمَعْنَى: إِذَا سَلَّمْتُمْ أُجُورَ الْمَرَاضِعِ بِالْمَعْرُوفِ، دُونَ إِجْحَافٍ وَلَا مَطْلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ آتَيْتُمْ بِتَرْكِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا جِئْتُمْ، أَيْ مَا قَصَدْتُمْ، فَالْإِتْيَانُ حِينَئِذٍ مَجَازٌ عَنِ الْقَصْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84] وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ تَذْيِيلٌ لِلتَّخْوِيفِ، وَالْحَثِّ عَلَى مُرَاقَبَةِ مَا شَرَعَ اللَّهُ، مِنْ غَيْرِ محاولة وَلَا مكابدة، وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيره آنِفا.

[سورة البقرة (2) : آية 234]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) انْتِقَالٌ إِلَى بَيَانِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَن عدَّة طَلَاق وَمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِرْضَاعِ عَقِبَ الطَّلَاقِ، تَقَصِّيًا لِمَا بِهِ إِصْلَاحُ أَحْوَالِ الْعَائِلَاتِ، فَهُوَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَيُتَوَفَّوْنَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتَزَمَتِ الْعَرَبُ فِيهَا الْبِنَاءَ لِلْمَجْهُولِ مِثْلَ عُنِيَ وَاضْطُرَّ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ فِعْلٍ قَدْ عُرِفَ فَاعِلُهُ مَا هُوَ، أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا لَهُ فَاعِلًا مُعَيَّنًا. وَهُوَ مِنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَوْ تَوَفَّاهُ الْمَوْتُ فَاسْتِعْمَالُ التَّوَفِّي مِنْهُ مَجَازٌ، تَنْزِيلًا لِعُمْرِ الْحَيِّ مَنْزِلَةَ حَقٍّ لِلْمَوْتِ، أَوْ لِخَالِقِ الْمَوْتِ، فَقَالُوا: تُوُفِّيَ فُلَانٌ كَمَا يُقَالُ: تُوُفِّيَ الْحَقُّ وَنَظِيرُهُ قُبِضَ فُلَانٌ، وَقُبِضَ الْحَقُّ فَصَارَ الْمُرَادُ مِنْ تُوُفِّيَ: مَاتَ، كَمَا صَارَ الْمُرَادُ مِنْ قَبَضَ وَشَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] وَقَالَ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [النِّسَاء: 15] وَقَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَة: 11] فَظَهَرَ الْفَاعِلُ الْمَجْهُولُ عِنْدَهُمْ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَبْقَى اسْتِعْمَالَ الْفِعْلِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِيجَازًا وَتَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ. وَقَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خَبَرُ (الَّذِينَ) وَقَدْ حَصَلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِضَمِيرِ يَتَرَبَّصْنَ، الْعَائِدِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَةِ، فَهُنَّ أَزْوَاجُ الْمُتَوَفِّينَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ قَائِمٌ مَقَامَ الظَّاهِرِ، وَهَذَا الظَّاهِرُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُبْتَدَأِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ مِنَ الِاكْتِفَاءِ فِي الرَّبْطِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى اسْمٍ مُضَافٍ إِلَى مِثْلِ الْعَائِدِ، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ، كَمَا فِي «التسهيل» و «شَرحه» ، وَلِذَلِكَ قَدَّرُوا هُنَا: (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ) بَعْدَهُمْ كَمَا قَالُوا: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ» أَيْ مِنْهُ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ إِلَخْ يَتَرَبَّصْنَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَذْفٌ لِمُضَافٍ، وَبِذَلِكَ قُدِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» دَاعِيَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَيَكُونُ يَتَرَبَّصْنَ: اسْتِئْنَافًا، وَكُلُّهَا تَقْدِيرَاتٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا بَعْدَ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: 228] . وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ: وَعَشْراً لِمُرَاعَاةِ اللَّيَالِي، وَالْمُرَادُ: اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا إِذْ لَا تَكُونُ لَيْلَةٌ بِلَا يَوْمٍ وَلَا يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ، وَالْعَرَبُ تَعْتَبِرُ اللَّيَالِيَ فِي التَّارِيخِ وَالتَّأْجِيلِ، يَقُولُونَ: كَتَبَ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ فِي شَهْرِ كَذَا، وَرُبَّمَا اعْتَبَرُوا الْأَيَّامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ [الْبَقَرَة: 196] وَقَالَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 184] لِأَنَّ عَمَلَ الصِّيَامِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْيَوْمِ لَا فِي اللَّيْلَةِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَالْعَرَبُ تُجْرِي أَحْكَامَ التَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ فِي أَسْمَاءِ الْأَيَّامِ إِذَا لَمْ تَجْرِ عَلَى لَفْظٍ مَذْكُورٍ، بِالْوَجْهَيْنِ قَالَ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: 103- 104] فَأَرَادَ بِالْعَشْرِ: الْأَيَّامَ وَمَعَ ذَلِكَ جَرَّدَهَا مِنْ عَلَامَةِ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ مَعَ لَيْلَتِهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مَنُوطَةً بِالْأَمَدِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ فِي مِثْلِهِ الْجَنِينُ تَحَرُّكًا بَيِّنًا، مُحَافَظَةً عَلَى أَنْسَابِ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّهُ جَعَلَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً وَهُوَ الْأَقْرَاءُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ يَعْلَمُ حَالَ مُطَلَّقَتِهِ مِنْ طُهْرٍ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ قُرْبَانِهِ إِيَّاهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَعَدَمِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُلُوقُ لَا يَخْفَى فَلَوْ أَنَّهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ نَسَبًا وَهُوَ يُوقِنُ بِانْتِفَائِهِ، كَانَ لَهُ فِي اللِّعَانِ مَنْدُوحَةٌ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَجُعِلَتْ عِدَّتُهُ أَمَدًا مَقْطُوعًا بِانْتِفَاءِ الْحَمْلِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةُ، فَإِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَمَا بَيْنَ اسْتِقْرَارِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْجَنِينُ عَقِبَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يَقْوَى تَدْرِيجًا، جُعِلَتِ الْعَشْرُ اللَّيَالِي الزَّائِدَةَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ، لِتَحَقُّقِ تَحَرُّكِ الْجَنِينِ تَحَرُّكًا بَيِّنًا، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ حَصَلَ الْيَقِينُ بِانْتِفَاءِ الْحَمْلِ إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ حَمْلٌ لَتَحَرَّكَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ يَتَحَرَّكُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَزِيدَتْ عَلَيْهَا الْعَشْرُ احْتِيَاطًا لِاخْتِلَافِ حَرَكَاتِ الْأَجِنَّةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، بِاخْتِلَافِ قُوَى الْأَمْزِجَةِ. وَعُمُومُ الَّذِينَ فِي صِلَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ، يَقْتَضِي عُمُومَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ، سَوَاءٌ كُنَّ حَرَائِرَ أَمْ إِمَاءً، وَسَوَاءٌ كُنَّ حَوَامِلَ أَمْ غَيْرَ حَوَامِلَ، وَسَوَاءٌ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ أَمْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِنَّ، فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ عِدَّتَهُنَّ عَلَى نِصْفِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ قِيَاسًا عَلَى تَنْصِيفِ الْحَدِّ، وَالطَّلَاقِ، وَعَلَى تَنْصِيفِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَقُلْ بِمُسَاوَاتِهِنَّ لِلْحَرَائِرِ، فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِلَّا الْأَصَمُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ

سِيرِينَ إِلَّا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عِدَّتُهُنَّ مِثْلُ الْحَرَائِرِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَالَتْ طَوَائِفُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنَّ إِجْمَاعَ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى تَنْصِيفِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْأَمَةِ الْمُتَوَفَّى زَوْجُهَا لَمِنْ مُعْضِلَاتِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، فَبِنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّنْصِيفِ لِذِي الرِّقِّ، فِيمَا نَصِفُ لَهُ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَنَرَى بِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِحِكْمَةٍ تُحَقِّقُ النَّسَبَ أَوْ عَدَمَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِقَصْدِ الْإِحْدَادِ عَلَى الزَّوْجِ، لَمَّا نَسَخَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِحْدَادِ حَوْلًا كَامِلًا، أَبْقَى لَهُنَّ ثُلُثَ الْحَوْلِ، كَمَا أَبْقَى لِلْمَيِّتِ حَقَّ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهَا حِكْمَةٌ غَيْرُ هَذَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ حِكْمَةِ انْتِظَارِ نَدَامَةِ الْمُطَّلِقِ، وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي بِصَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ أَنْ تُقَرِّرَ أَوْهَامَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَبْقَى مِنْهُ تُرَاثًا سَيِّئًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ عُهِدَ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِسْلَامِ إِبْطَالُ تَهْوِيلِ أَمْرِ الْمَوْتِ وَالْجَزَعِ لَهُ، الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَلِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ مِنَ الْوَفَاةِ وَضْعُ حَمْلِهَا، فَلَوْ كَانَتْ عِدَّةَ غَيْرِ الْحَامِلِ لِقَصْدِ اسْتِبْقَاءِ الْحُزْنِ لَاسْتَوَتَا فِي الْعِدَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ تَحَقُّقُ الْحَمْلِ أَوْ عَدَمُهُ، فَلْنَنْقُلِ النَّظَرَ إِلَى الْأَمَةِ نَجِدْ فِيهَا وَصَفَّيْنِ: الْإِنْسَانِيَّةُ وَالرِّقُّ، فَإِذَا سَلَكْنَا إِلَيْهِمَا طَرِيقَ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَجَدْنَا الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ لِتَعْلِيلِ الِاعْتِدَادِ الَّذِي حِكْمَتُهُ تَحَقُّقُ النَّسَبِ هُوَ وَصْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ إِذِ الْحَمْلُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ أَصْنَافِ النِّسَاءِ وَأَحْوَالُهُنَّ الِاصْطِلَاحِيَّةُ أَمَّا الرِّقُّ فَلَيْسَ وَصْفًا صَالِحًا لِلتَّأْثِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا نُصِّفَتْ لِلْعَبْدِ أَحْكَامٌ تَرْجِعُ إِلَى الْمُنَاسِبِ التَّحْسِينِيِّ: كَتَنْصِيفِ الْحَدِّ لِضَعْفِ مُرُوءَتِهِ، وَلِتَفَشِّي السَّرِقَةِ فِي الْعَبِيدِ، فَطُرِدَ حُكْمُ التَّنْصِيفِ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ. وَتَنْصِيفُ عِدَّةِ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، لِعِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِي مُرَاجَعَةِ أَمْثَالِهَا، فَإِذَا جَاءَ رَاغِبٌ فِيهَا بَعْدَ قُرْأَيْنِ تَزَوَّجَتْ، وَيَطَّرِدُ بَابُ التَّنْصِيفِ أَيْضًا. فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِلْأَمَةِ كَمِثْلِ الْحُرَّةِ، وَلَيْسَ فِي تَنْصِيفِهَا أَثَرٌ، وَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ. وَأَمَّا الْحَوَامِلُ فَالْخِلَافُ فِيهِنَّ قَوِيٌّ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ مِنَ الْوَفَاةِ وَضْعُ حَمْلِهِنَّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالك، عُمَرَ وَابْنِهِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرُ: «لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَزَوْجَهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ لَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ» وَحُجَّتُهُمْ

حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ زَوْجِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، تُوُفِّيَ عَنْهَا بِمَكَّةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ (¬1) وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ نِصْفِ شَهْرٍ كَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ» ، أَوْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: «قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي إِنْ بَدَا لَكِ» وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ [4] وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَعُمُومُ (أُولَاتِ الْأَحْمَالِ) ، مَعَ تَأَخُّرِ نُزُولِ تِلْكَ السُّورَةِ عَنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَقْضِي بِالْمَصِيرِ إِلَى اعْتِبَارِ تَخْصِيصِ عُمُومِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ، لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى- يَعْنِي سُورَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطَّلَاق: 1]- بَعْدَ الطُّولَى» أَيِ السُّورَةِ الطُّولَى أَيِ الْبَقَرَةِ- وَلَيْسَ الْمُرَادُ سُورَةَ النِّسَاءِ الطُّولَى. وَعِنْدِي أَنَّ الْحُجَّةَ لِلْجُمْهُورِ، تَرْجِعُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ تَيَقُّنُ حِفْظِ النَّسَبِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْحَمْلِ أَدَلَّ شَيْءٍ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ كَانَ مُغْنِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: «أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ» يُرِيدُ أَنَّهَا لَوْ طَالَ أَمَدُ حَمْلِهَا لَمَا حَلَّتْ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعًا بَيْنَ مُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي هَذَا الْقَوْلِ احْتِيَاطٌ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَحْسَنُ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَخْذِ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ مَعْنَاهُ أَنْ يُعْمَلَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا: فِي حَالَةٍ أَوْ زَمَنٍ أَوْ أَفْرَادٍ، غَيْرَ مَا أُعْمِلَ فِيهِ بِالْآخَرِ، بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ الْجَمْعِ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الْمُتَعَارِضَيْنِ مَعًا، وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ الْجَمْعَ بِإِعْمَالِ النَّصَّيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِدَادِ تَحْدِيدُ أَمَدِ التَّرَبُّصِ وَالِانْتِظَارِ، فَإِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، أَبْطَلْنَا مُقْتَضَى إِحْدَى الْآيَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا نُلْزِمُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِتَجَاوُزِ مَا حَدَّدَتْهُ لَهَا إِحْدَى الْآيَتَيْنِ، وَلَا نجد حَالَة نحقق فِيهَا مُقْتَضَاهُمَا، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، فَأَحْسَنُ العبارتين أَن نعبر بِالِاحْتِيَاطِ وَهُوَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَعَارَضَتَا بِعُمُومٍ وَخُصُوصٍ وَجْهِيٍّ، فَعَمَدْنَا إِلَى صُورَةِ التَّعَارُضِ وَأَعْمَلْنَا فِيهَا مَرَّةً مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَرَّةً مُقْتَضَى الْأُخْرَى، تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُقْتَضَيَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِمُرَجِّحِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ لَا جَمْعٌ لَكِنَّ ¬

(¬1) وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ فِي شَأْنه عَن الزُّهْرِيّ فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أمض لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم على أَعْقَابهم لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة» قَالَ الزُّهْرِيّ: يرثى لَهُ رَسُول الله أَن مَاتَ بِمَكَّة.

حَدِيثَ سُبَيْعَةَ فِي الصَّحِيحِ أَبْطَلَ هَذَا الْمَسْلَكَ لِلتَّرْجِيحِ كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَ سُورَةِ الطَّلَاقِ [4] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يُنَادِي عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: 4] هُنَالِكَ بِالْحَوَامِلِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» فِي اخْتِلَافِهِ وَأَبِي سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِرْسَالِهِمَا مَنْ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَخْبَرَتْهُمَا بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَا تَلْتَفِتُ الشَّرِيعَةُ عَلَى هَذَا إِلَى مَا فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى وَفَاةِ أَزْوَاجِهِنَّ؟ وَكَيْفَ لَا تَبْقَى بَعْدَ نَسْخِ حُزْنِ الْحَوْلِ الْكَامِلِ مُدَّةَ مَا يَظْهَرُ فِيهَا حَالُ الْمَرْأَةِ؟ وَكَيْفَ تَحِلُّ الْحَامِلُ لِلْأَزْوَاجِ لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَزَوْجُهَا لَمَّا يُوضَعُ عَنْ سَرِيرِهِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِ عُمَرَ؟ قُلْتُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ إِحْدَادَ الْحَوْلِ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مُتَوَفًّى عَنْهَا، وَالْأَزْوَاجُ فِي هَذَا الْحُزْنِ مُتَفَاوِتَاتٌ، وَكَذَلِكَ هُنَّ مُتَفَاوِتَاتٌ فِي الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الِانْتِظَارِ لِقِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ فِي غَالِبِ النِّسَاءِ، فَكُنَّ يَصْبِرْنَ عَلَى انْتِظَارِ الْحَوْلِ رَاضِيَاتٍ أَوْ كَارِهَاتٍ، فَلَمَّا أَبْطَلَ الشَّرْعُ ذَلِكَ فِيمَا أَبْطَلَ مِنْ أَوْهَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَمْ يَكْتَرِثْ بِأَنْ يُشَرِّعَ لِلنِّسَاءِ حُكْمًا فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَوَكِلَهُ إِلَى مَا يَحْدُثُ فِي نُفُوسِهِنَّ وَجَدَّتِهِنَّ، كَمَا يُوكِلُ جَمِيع الجبليات والطبيعيات إِلَى الْوِجْدَانِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لِلنَّاسِ مِقْدَارَ الْأَكَلَاتِ وَالْأَسْفَارِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوَ هَذَا، وَإِنَّمَا اهْتَمَّ بِالْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ حِفْظُ الْأَنْسَابِ، فَإِذَا قُضِيَ حَقُّهُ فَقَدْ بَقِيَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يفعلن فِي أَنْفسهنَّ مَا يَشَأْنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فَإِذَا شَاءَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا فَلْتَفْعَلْ. أَمَّا الْأَزْوَاجُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ فَعَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ دُونَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ لَهُنَّ الْمِيرَاثَ، فَالْعِصْمَةُ تَقَرَّرَتْ بِوَجْهٍ مُعْتَبَرٍ، حَتَّى كَانَتْ سَبَبَ إِرْثٍ، وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ لَا يَنْفِي احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ قَارَبَهَا خُفْيَةً، إِذْ هِيَ حَلَالٌ لَهُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادَ احْتِيَاطًا لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَإِنْ كَانَ لِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، فَقَدْ تُقَاسُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عَلَى الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الْأَحْزَاب: 49] . وَقَدْ ذَكَرُوا حَدِيثَ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَقَدْ مَاتَ زَوْجُهَا،

وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنَّ لَهَا مِثْلَ صَدَاقِ نِسَائِهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ فِي وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أَيْ إِذَا انْتَهَت الْمدَّة الْمعينَة بِالتَّرَبُّصِ، أَيْ إِذَا بَلَغْنَ بِتَرَبُّصِهِنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَجُعِلَ امْتِدَادُ التَّرَبُّصِ بُلُوغًا، عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ الشَّائِعِ فِي قَوْلِهِمْ بَلَغَ الْأَمَدَ، وَأَصْلُهُ اسْمُ الْبُلُوغِ وَهُوَ الْوُصُولُ، اسْتُعِيرَ لِإِكْمَالِ الْمُدَّةِ تَشْبِيهًا لِلزَّمَانِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَالْأَجَلُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَنِ جُعِلَتْ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ فِعْلٍ فِي نِهَايَتِهَا أَوْ فِي أَثْنَائِهَا تَارَةً. وَضَمِيرُ أَجَلَهُنَّ لِلْأَزْوَاجِ اللَّائِي تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، وَعُرِفَ الْأَجَلُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِنَّ دُونَ غَيْرِ الْإِضَافَةِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ لِمَا يُؤْذَنُ بِهِ إِضَافَةُ أَجْلٍ مَنْ كَوْنِهِنَّ قَضَيْنَ مَا عَلَيْهِنَّ، فَلَا تُضَايِقُوهُنَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. وَأُسْنِدَ الْبُلُوغُ إِلَيْهِنَّ وَأُضِيفَ الْأَجَلُ إِلَيْهِنَّ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَشَقَّةً هَذَا الْأَجَلِ عَلَيْهِنَّ. وَمَعْنَى الْجُنَاحِ هُنَا: الْحَرَجُ، لِإِزَالَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنِ اسْتِفْظَاعِ تَسَرُّعِ النِّسَاءِ إِلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنَّ أَهْلَ الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى قَدْ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَنَفَى اللَّهُ هَذَا الْحَرَجَ، وَقَالَ: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ تَغْلِيظًا لِمَنْ يَتَحَرَّجُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ تَعَلُّقٍ شَدِيدٍ بِعَهْدِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى، لَكَانَ دَاعِيَ زِيَادَةِ تَرَبُّصِهَا مِنْ نَفْسِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِك الدَّاعِي، فَلَمَّا ذَا التَّحَرُّجُ مِمَّا تَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهَا. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ وَقَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعْرُوفِ نَهْيًا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفْعَلَ مَا لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا وَعَادَةً، كَالْإِفْرَاطِ فِي الْحُزْنِ الْمُنكر شرعا وَعَادَة، أَوِ التَّظَاهُرِ بِتَرْكِ التَّزَوُّجِ بَعْدَ زَوْجِهَا، وَتَغْلِيظًا لِلَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلَى النِّسَاء تسرعهن للتزوج بَعْدَ الْعِدَّةِ، أَوْ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ، كَمَا فَعَلَتْ سُبَيْعَةُ أَيْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ. وَقَدْ دَلَّ مَفْهُومُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ عَلَى أَنَّهُنَّ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ مَنْهِيَّاتٌ عَنْ أَفْعَالٍ فِي أَنْفُسِهِنَّ كَالتَّزَوُّجِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنِ الْخِطْبَةِ وَالتَّزَيُّنِ، فَأَمَّا التَّزَوُّجُ فِي الْعِدَّةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ [الْبَقَرَة: 235] . وَأَمَّا مَا عَدَاهُ، فَالْخِلَافُ مَفْرُوضٌ فِي أَمْرَيْنِ: فِي الْإِحْدَادِ، وَفِي مُلَازَمَةِ الْبَيْتِ. فَأَمَّا الْإِحْدَادُ فَهُوَ مَصْدَرُ أَحَدَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَزِنَتْ وَلَبِسَتْ ثِيَابَ الْحُزْنِ وَتَرَكَتِ

الزِّينَةَ، وَيُقَالُ حِدَادٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ وَمَصْبُوغَ الثِّيَابِ إِلَّا الْأَبْيَضَ، وَتَرْكُ الْحُلِيِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ فَفِي الصَّحِيحِ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَجَعَلَ الْإِحْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا غَيْرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْحِكْمَةُ مِنَ الْإِحْدَادِ سَدُّ ذَرِيعَةِ كُلِّ مَا يُوَسْوِسُ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ رُؤْيَةِ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتَدَّةِ، حَتَّى يَبْتَعِدُوا عَنِ الرَّغْبَةِ فِي التَّعَجُّلِ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَعَطَاءٌ: لَا إِحْدَادَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ، أَخْذًا بِصَرِيحِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَرْقُبُهَا مُطَلِّقُهَا وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَسَى أَنْ تَتَسَاهَلَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَابْنُ سِيرِينَ: تُحِدُّ الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقَ الثَّلَاثِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي عِدَّةٍ يُحْفَظُ فِيهَا النَّسَبُ، وَالزَّوْجَةُ الْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، تُجْبَرُ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا، وُقُوفًا عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فَوَصَفَهَا بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ مُتَمَسَّكٌ ضَئِيلٌ، لِأَنَّ مَوْرِدَ الْوَصْفِ لَيْسَ مَوْرِدَ التَّقْيِيدِ، بَلْ مَوْرِدُ التَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ شَدَّدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الْإِحْدَادِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، أَفَتُكَحِّلُهُمَا- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا لَا» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوَلِ» (¬1) . وَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي مُدَّةِ إِحْدَادِهَا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ أَنْ تَجْعَلَ الصَّبْرَ فِي عَيْنَيْهَا ¬

(¬1) فسر هَذَا فِي «الْمُوَطَّأ» بِأَن الْمَرْأَة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا توفّي زَوجهَا دخلت حفضا- بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون الْفَاء وَهُوَ بَيت ردىء ولبست شَرّ ثِيَابهَا وَلم تمسس طيبا وَلَا شَيْئا حَتَّى يمر بهَا سنة ثمَّ تُؤْتى بِدَابَّة شَاة أَو طَائِر أَو حمَار فتفتض بِهِ أَي تمسح جلدهَا بِهِ وَتخرج وَهِي فِي شَرّ منظر فتعطى

بِاللَّيْلِ وَتَمَسَحَهُ بِالنَّهَارِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَفْتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ امْرَأَةً حَادًّا اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِكُحْلِ الْجِلَاءِ بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحَهُ بِالنَّهَارِ، رُوِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، قَالَ مَالك: «وَإِن كَانَتِ الضَّرُورَةُ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ» : وَلِذَلِكَ حَمَلُوا نَهْيَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْهُ أُمَّهَا أَنْ تَكْتَحِلَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْمُعْتَدَّةِ أَنَّهَا أَرَادَتِ التَّرَخُّصَ، فَقَيَّضَتْ أُمَّهَا لِتَسْأَلَ لَهَا. وَأَمَّا مُلَازَمَةُ مُعْتَدَّةِ الْوَفَاةِ بَيْتَ زَوْجِهَا فَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ التَّرَبُّصَ تَرَبُّصٌ بِالزَّمَانِ لَا يدل عَلَى مُلَازَمَةِ الْمَكَانِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْجُمْهُورَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [الْبَقَرَة: 240] فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِلَّا حِفْظُ الْمُعْتَدَّةِ، فَلَمَّا نُسِخَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَانَ النَّسْخُ وَارِدًا عَلَى الْمُدَّةِ وَهِيَ الْحَوْلُ، لَا عَلَى بَقِيَّةِ الْحُكْمِ، عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الْوَفَاةِ أَوْلَى بِالسُّكْنَى مِنْ مُعْتَدَّةِ الطَّلَاقِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] وَجَاءَ فِيهَا أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ [الطَّلَاق: 6] وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ: ثَبَتَ وُجُوبُ مُلَازَمَةِ الْبَيْتِ بِالسُّنَّةِ، فَفِي «الْمُوَطَّأ» و «الصِّحَاح» أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ ابْنَةِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ، أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَقَضَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ، وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ، وَكَانَتْ تُفْتِي بِالْخُرُوجِ، فَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَيْهَا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَالْوَرَعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ تَخْرُجُ لِلضَّرُورَةِ، وَتَخْرُجُ نَهَارًا لِحَوَائِجِهَا، مِنْ وَقْتِ انْتِشَارِ النَّاسِ إِلَى وَقْتِ هُدُوئِهِمْ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَلَا تَبِيتُ إِلَّا فِي الْمَنْزِلِ، وَشُرُوطُ ذَلِكَ وَأَحْكَامُهُ، وَوُجُودُ الْمَحَلِّ لِلزَّوْجِ، أَوْ فِي كِرَائِهِ، وَانْتِظَارُ الْوَرَثَةِ بَيْعَ الْمَنْزِلِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَحُكْمُ مَا لَوِ ارْتَابَتْ فِي الْحَمْلِ فَطَالَتِ الْعِدَّةُ،

مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَيْهَا هُنَا. وَمِنِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ تُوُفِّيَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ بِمَعْنَى مَاتَ بِتَأْوِيلِ إِنَّهُ تَوَفَّى أَجْلَهُ أَيِ اسْتَوْفَاهُ. وَأَنَا، وَإِنْ كُنْتُ الْتَزَمْتُ أَلَّا أَتَعَرَّضَ لِلْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِقِصَّةٍ طَرِيفَةٍ فِيهَا نُكْتَةٌ عَرَبِيَّةٌ، أَشَارَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ» وَفَصَلَهَا السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» ، وَهِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُشَيِّعُ جِنَازَةً، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَنِ الْمُتَوَفِّي؟ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ (أَيْ بِكَسْرِ الْفَاءِ سَائِلًا عَنِ الْمُتَوَفَّى- بِفَتْحِ الْفَاءِ- فَلَمْ يَقُلْ: فُلَانٌ بَلْ قَالَ «اللَّهُ» مُخَطِّئًا إِيَّاهُ، مُنَبِّهًا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ أَنْ يَقُولَ: مَنِ الْمُتَوَفَّى بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ عَرَفَ مَنِ السَّائِلِ أَنَّهُ مَا أَوْرَدَ لَفْظَ الْمُتَوَفِّي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكْسُوهُ جَزَالَةٌ وَفَخَامَةٌ، وَهُوَ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ- أَيْ إِلَى عَلِيٍّ- (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) بِلَفْظِ بِنَاءِ الْفَاعِلِ عَلَى إِرَادَةِ مَعْنَى: وَالَّذِينَ يَسْتَوْفُونَ مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ مَعَ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَأَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَلَغَتْهُ أَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ أَنْ يَضَعَ كِتَابًا فِي النَّحْوِ، وَقَالَ: إِنَّ الْحِكَايَةَ تُنَاقِضُهَا الْقِرَاءَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى عَلِيٍّ، فَجَعَلَ الْقِرَاءَةَ مُسَلَّمَةً وَتَرَدَّدَ فِي صِحَّةِ الْحِكَايَةِ، وَعَنِ ابْنِ جِنِّي: أَنَّ الْحِكَايَةَ رَوَاهَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ ابْنُ جِنِّي «وَهَذَا عِنْدِي مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ أَيْ وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ أَعْمَارَهُمْ أَوْ آجَالَهُمْ، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفَصِيحِ الْكَلَامِ» . وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ «لَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ لِلْمُتَوَفَّى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِمَاتَةُ وَثَانِيهُمَا الِاسْتِيفَاءُ وَأَخْذُ الْحَقِّ، بَلْ مَعْنَاهُ الِاسْتِيفَاءُ وَأَخْذُ الْحَقِّ لَا غَيْرُ، لَكِنَّ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ قَدْ يُقَدَّرُ مَفْعُولُهُ النَّفْسَ فَيَكُونُ الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَوِ الْمَلِكَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ الشَّائِعُ، وَقَدْ يُقَدَّرُ مُدَّةَ الْعُمْرِ فَيَكُونُ الْفَاعِلُ هُوَ الْمَيِّتَ لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَوْفَى مُدَّةَ عُمْرِهِ، وَهَذَا مِنَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الَّتِي لَا يَتَنَبَّهُ لَهَا إِلَّا الْبُلَغَاءُ، فَحِينَ عَرَفَ عَلِيٌّ مِنَ السَّائِلِ عَدَمَ تَنَبُّهِهِ لِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْ كَلَامُهُ عَلَيْهِ» .

[سورة البقرة (2) : آية 235]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ. عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهَذَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِدَّةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَهَا أَحْكَامَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَأَنَّ أَمَدَ الْعِدَّةِ مُحْتَرَمٌ، وَأَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ جَازَ أَنْ يَفْعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مَا أَرَدْنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يَبْلُغْنَهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَالتَّزَوُّجُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ حَرَامٌ، وَلَمَّا كَانَ التَّحَدُّثُ فِي التَّزَوُّجِ إِنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ الْمُتَحَدِّثُ حُصُولَ الزَّوَاجِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَتَسَابَقُوا إِلَى خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَمُوَاعَدَتِهَا، حِرْصًا عَلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَبَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ لَهُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وَرَخَّصَتْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلِذَلِكَ عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَابِقِهِ. وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: 158] . وَقَوله: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مَا مَوْصُولَة، وَمَا صدقهَا كَلَامٌ، أَيْ كَلَامٌ عَرَّضْتُمْ بِهِ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ يُطْلَقُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ ضروب الْمعَانِي المستفادة مِنَ الْكَلَامِ، وَقد بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَلَامٌ. وَمَادَّةُ فعّل فِيهِ دَالَّة عَلَى الْجُعْلِ مِثْلَ صُورٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ أَيْ جَعَلَ كَلَامَهُ بِجَانِبٍ، وَالْجَانِبُ هُوَ الطَّرَفُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَحِيدُ بِكَلَامِهِ مِنْ جَادَّةِ الْمَعْنَى إِلَى جَانِبٍ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ جَنَّبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ فِي جَانِبٍ. فَالتَّعْرِيضُ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا، غَيْرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِيبِ وَضْعًا، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ مَدْلُولِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ، مَعَ قَرِينَةٍ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ، فَعُلِمَ أَلَّا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ مَدْلُولِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ، وَتِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ: إِمَّا مُلَازِمَةٌ أَوْ مُمَاثِلَةٌ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْعَافِي لِرَجُلٍ كَرِيمٍ: جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَلِأَنْظُرَ وَجْهَكَ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ إِرَادَتِهِمْ مِثْلَ هَذَا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ

وَجَعَلَ الطِّيبِيُّ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 116] . فَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا حَاصِلٌ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ» فِي حَضْرَةِ مَنْ عُرِفَ بِأَذَى النَّاسِ، فَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ حَاصِلٌ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ بِمُمَاثَلَةِ حَالِ الشَّخْصِ الْمَقْصُودِ لِلْحَالَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ شَبِيهَةً بِالْمُلَازَمَةِ- لِأَنَّ حُضُورَ الْمُمَاثِلِ فِي الذِّهْنِ يُقَارِنُ حُضُورَ مَثِيلِهِ- صَحَّ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَكَّبَاتِ شَبِيهٌ بِالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِالْمُرَكَّبِ فَخُصَّ بِاسْمِ التَّعْرِيضِ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكِنَائِيَّ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّعْرِيضُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ، وَهَذَا هُوَ الْمُلَاقِي لِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَالتَّعْرِيضُ عِنْدَهُ مُغَايِرٌ لِلْكِنَايَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ شَبِيهًا بِهَا، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ التَّبَايُنُ. وَأَمَّا السَّكَّاكِيُّ فَقَدْ جَعَلَ بَعْضَ التَّعْرِيضِ مِنَ الْكِنَايَةِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ، فَصَارَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ الْوَجْهِيَّ، وَقَدْ حَمَلَ الطِّيبِيُّ وَالتَّفْتَازَانِيُّ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» عَلَى هَذَا، وَلَا إِخَالُهُ يَتَحَمَّلُهُ. وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مَعْنَى التَّعْرِيضِ، وَعَلِمْتَ حَدَّ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّرِيحِ فَأَمْثِلَةُ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ لَا تَخْفَى، وَلَكِنْ فِيمَا أُثِرَ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إِشْكَالٌ لَا يَنْبَغِي الْإِغْضَاءُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. إِنَّ الْمُعَرِّضَ بِالْخِطْبَةِ تَعْرِيضُهُ قَدْ يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ يُرِيدُهُ لِغَيْرِهِ بِوَسَاطَتِهِ، وَبَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَرْقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمُتَشَابِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ آخِرَ الثَّلَاثِ «كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ» أَيْ لَا تَسْتَبِدِّي بِالتَّزَوُّجِ قَبْلَ اسْتِئْذَانِي وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِذا حللت فآذنيين» وَبَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَهَذَا قَوْلٌ لَا خِطْبَةَ فِيهِ وَإِرَادَةُ الْمَشُورَةِ فِيهِ وَاضِحَةٌ. وَوَقَعَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا: «إِنَّكِ عَلَيَّ لَكَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ» .

فَأَمَّا إِنَّكِ عَلَيَّ لَكَرِيمَةٌ فَقَرِيبٌ مِنْ صَرِيحِ إِرَادَةِ التَّزَوُّجِ بِهَا وَمَا هُوَ بِصَرِيحٌ، فَإِذَا لَمْ تَعْقُبْهُ مُوَاعَدَةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا فَأَمْرُهُ مُحْتَمَلٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ وَأَمْرُهُ مُشْكِلٌ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ إِلَى إِشْكَالِهِ بِقَوْلِهِ: «قَالُوا وَمِثْلُ إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ أَكْثَرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَصْرِيحًا فَيَنْبَغِي تَرْكُ مِثْلِهِ» وَيُذْكَرُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّضَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَا أَحْسَبُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَحِيحًا. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ» : «قِيلَ إِنَّ شَيْخَنَا مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَيْدَرَةَ كَانَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ التَّعْرِيضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّعْرِيضُ مِنْهُمَا فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَصَرِيحِ الْمُوَاعَدَةِ» . وَلَفْظُ النِّسَاءِ عَامٌّ لَكِنَّ خُصَّ مِنْهُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَيُخَصُّ مِنْهُ الْمُطَلَّقَاتُ الرَّجْعِيَّاتُ بِدَلِيلِ الْقِيَاسِ وَدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ لَهَا حُكْمُ الزَّوْجَةِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ خِطْبَةِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي عِدَّتِهَا، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازَ التَّعْرِيضِ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ: مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ، وَهُوَ يُخَالِفُ كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ لِأَنَّ لِلطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ شَائِبَتَيْنِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ التَّعْرِيضَ فِي الْمُعْتَدَّة بعد وَفَاةٍ وَمَنَعَهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا حَكَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَقَوْلُهُ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ الْإِكْنَانُ الْإِخْفَاءُ. وَفَائِدَةُ عَطْفِ الْإِكْنَانِ عَلَى التَّعْرِيضِ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ، مَعَ ظُهُورِ أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَزْمٍ فِي النَّفْسِ، فَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنْ عَزْمِ النَّفْسِ الْمُجَرَّدِ ضَرُورِيٌّ مِنْ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ التَّعْرِيضِ، أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ تَكَلُّمُ الْعَازِمِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ جِبِلَّةً فِي الْبَشَرِ، لِضَعْفِ الصَّبْرِ عَلَى الْكِتْمَانِ، بَيَّنَ اللَّهُ مَوْضِعَ الرُّخْصَةِ أَنَّهُ الرَّحْمَةُ بِالنَّاسِ، مَعَ الْإِبْقَاءِ عَلَى احْتِرَامِ حَالَةِ الْعِدَّةِ، مَعَ بَيَانِ عِلَّةِ هَذَا التَّرْخِيصِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى نَفْيِ الْحَرَجِ، فَفِيهِ حِكْمَةُ هَذَا التَّشْرِيعِ الَّذِي لَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَأَخَّرَ الْإِكْنَانَ فِي الذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَبْقَى عَلَى مَا لِلْعِدَّةِ مِنْ حُرْمَةٍ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَادِرٌ وُقُوعُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَهُ لَكَانَ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ الْإِكْنَانِ إِلَى ذِكْرِ التَّعْرِيضِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُ زَائِدَ الْمَعْنَى عَلَى مَا يَشْمَلُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ، فَلَمْ يَتَفَطَّنِ السَّامِعُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، فَلَمَّا خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذِهِ

الْمُخَالَفَةَ تَرْمِي إِلَى غَرَضٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَلِيغِ فِي مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ عَلِمَ أَنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، فَأَبَاحَ لَكُمُ التَّعْرِيضَ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ، فَحَصَلَ بِتَأْخِيرِ ذِكْرِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَجَاءَ النَّظْمُ بَدِيعًا مُعْجِزًا، وَلَقَدْ أَهْمَلَ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ التَّعَرُّضَ لِفَائِدَةِ هَذَا الْعَطْفِ، وَحَاوَلَ الْفَخْرُ تَوْجِيهَهُ بِمَا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ (¬1) وَوَجَّهَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ تَوْجِيهِ الْفَخْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا تَطْمَئِنُّ لَهُ نَفْسُ الْبَلِيغِ (¬2) . فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اسْتِدْرَاكٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ صَرَاحَةً وَتَعْرِيضًا إِذْ لَا يَخْلُو ذُو عَزْمٍ مَنْ ذِكْرِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الْعِلْمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنِ الْإِذْنِ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا تُرِيدُ: إِنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ لِأَنَّكَ لَوْ كُنْتَ تُؤَاخِذُهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِعْلَهُ، لَآخَذْتَهُ كَمَا قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الْبَقَرَة: 187] هَذَا أَظْهَرُ مَا فُسِّرَ بِهِ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَقِيلَ: هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ لَا تُصَرِّحُوا وَتُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ تَعِدُوهُنَّ وَيَعِدْنَكُمْ بِالتَّزَوُّجِ. وَالسِّرُّ أَصْلُهُ مَا قَابَلَ الْجَهْرَ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ قُرْبَانِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْأَعْشَى: وَلَا تَقَرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فانكحن أَو تأبدوا وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْسِ: أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْحَيِّ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ حَقِيقَتُهُ، فَيَكُونُ سِرًّا مَنْصُوبًا عَلَى الْوَصْفِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَيْ وَعْدًا صَرِيحًا سِرًّا، أَيْ لَا تَكْتُمُوا الْمُوَاعَدَةَ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَجَنُّبِ مُوَاعَدَةِ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ إِلَّا وَعْدًا مَعْرُوفًا، وَهُوَ التَّعْرِيضُ الَّذِي سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنْوَاعِ ¬

(¬1) قَالَ الْفَخر: لما أَبَاحَ التَّعْرِيض وَحرم التَّصْرِيح فِي الْحَال قَالَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أَي أَنه يعْقد قلبه على أَنه سيصرح بذلك فِي الْمُسْتَقْبل فالآية الأولى تَحْرِيم للتصريح فِي الْحَال وَالْآيَة الثَّانِيَة إِبَاحَة للعزم على التَّصْرِيح فِي الْمُسْتَقْبل. (¬2) قَالَ: فَائِدَة عطف أَوْ أَكْنَنْتُمْ الْإِشْعَار بالتسوية بَين التَّعْرِيض وَبَين مَا فِي النَّفس فِي الْجَوَاز أَي هما سَوَاء فِي رفع الْحَرج عَن صَاحبهمَا.

الْوَعْدِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا، عُلِمَ النَّهْي عَن لمواعدة جَهْرًا بِالْأَوْلَى، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً مُتَّصِلٌ، وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّرِّ هُنَا كِنَايَة، أَي لَا تُوَاعِدُوهُنَّ قُرْبَانًا، وَكَنَّى بِهِ عَنِ النِّكَاحِ أَيِ الْوَعْدِ الصَّرِيحِ بِالنِّكَاحِ، فَيَكُونُ سِرًّا مَفْعُولًا بِهِ لِتُوَاعِدُوهُنَّ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّكَاحِ، إِذِ النِّكَاحُ عَقْدٌ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَالْقَوْلُ خِطْبَةٌ: صَرَاحَةً أَوْ تَعْرِيضًا وَهَذَا بِعِيدٌ: لِأَنَّ فِيهِ كِنَايَةً عَلَى كِنَايَةٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ حَظْرُ: صَرِيحِ الْخِطْبَةِ وَالْمُوَاعَدَةِ، وَإِبَاحَةُ التَّعْرِيضِ بِذَلِكَ يُلَوِّحُ بِصُوَرِ التَّعَارُضِ، فَإِنَّ مَآلَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ وَاحِدٌ، فَإِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَ الْخَاطِبِ وَالْمُعْتَدَّةِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَخْطُبُهَا وَبِأَنَّهَا تُوَافِقُهُ، فَمَا فَائِدَةُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ، إِنْ كَانَ الْمُفَادُ وَاحِدًا قُلْتُ: قَصَدَ الشَّارِعُ مِنْ هَذَا حِمَايَةَ أَنْ يَكُونَ التَّعَجُّلُ ذَرِيعَةً إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا يُعَطِّلُ حِكْمَةَ الْعِدَّةِ، إِذْ لَعَلَّ الْخَوْضَ فِي ذَلِكَ يَتَخَطَّى إِلَى بَاعِثِ تَعَجُّلِ الرَّاغِبِ إِلَى عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بِالْبِنَاءِ بِهَا فَإِنَّ دَبِيبَ الرَّغْبَةِ يُوقِعُ فِي الشَّهْوَةِ، وَالْمُكَاشَفَةُ تُزِيلُ سَاتِرَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ مِنَ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ الْحَيَاءَ الْمَوْجُودَ فِي الرَّجُلِ، حِينَمَا يَقْصِدُ مُكَاشَفَةَ الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا، وَالْحَيَاءُ فِي الْمَرْأَةِ أَشَدُّ حِينَمَا يُوَاجِهُهَا بِذَلِكَ الرَّجُلُ، وَحِينَمَا تَقْصِدُ إِجَابَتَهُ لِمَا يَطْلُبُ مِنْهَا، فَالتَّعْرِيضُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ يُؤْذِنُ بِمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ وَقَارِ الْحَيَاءِ فَهُوَ يَقْبِضُ عَنِ التَّدَرُّجِ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ، وَإِيذَانُهُ بِهَذَا الِاسْتِحْيَاءِ يَزِيدُ مَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحَيَاءِ فَتَنْقَبِضُ نَفْسُهَا عَنْ صَرِيحِ الْإِجَابَةِ، بَلْهُ الْمُوَاعَدَةَ فَيَبْقَى حِجَابُ الْحَيَاءِ مَسْدُولًا بَيْنَهُمَا وَبُرْقُعُ الْمُرُوءَةِ غَيْرَ مُنَضًّى وَذَلِكَ من توفير شَأْنِ الْعِدَّةِ فَلذَلِك رخص فِي التَّعْرِيضَ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ، وَمَنَعَ التَّصْرِيحَ إِبْقَاءً عَلَى حُرُمَاتِ الْعِدَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الْعَزْمُ هُنَا عَقْدُ النِّكَاحِ لَا التَّصْمِيمُ عَلَى الْعَقْدِ، وَلِهَذَا فَعُقْدَةُ النِّكَاحِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ، أُخِذَ مِنَ الْعَزْمِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ بِمَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ أَيْ لَا تُصَمِّمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَنَهَى عَنِ التَّصْمِيمِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ وَقَعَ مَا صَمَّمَ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: نَهَى عَنِ الْعَزْمِ مُبَالَغَةً، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ، مِثْلُ النَّهْيِ مِنَ الِاقْتِرَابِ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [الْبَقَرَة: 187] وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَعُقْدَةُ النِّكَاحِ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، كَقَوْلِهِمْ ضَرْبَةَ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَقِيلَ ضُمِّنَ عَزَمَ مَعْنَى أَبْرَمَ قَالَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» فِي الْبَابِ الثَّامِنِ. وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ أَيِ الْمَفْرُوضِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ الْمَذْكُورَةُ بِالتَّعْرِيفِ لِلْعَهْدِ. وَالْأَجَلُ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِعَمَلٍ مَا، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُدَّةُ الْعِدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِتَمَامٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [الْبَقَرَة: 234] آنِفًا. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَفِي تَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ وَفِي إِبَاحَةِ التَّعْرِيضِ. فَأَمَّا النِّكَاحُ أَيْ عَقْدُهُ فِي الْعِدَّةِ، فَهُوَ إِذَا وَقَعَ وَلَمْ يَقَعْ بِنَاءٌ بِهَا فِي الْعِدَّةِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَتَأَبَّدُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْعَاقِدِ أَوْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَأَبَّدُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» ، وَحَكَى ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةَ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِ مَالِكٍ. وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْعِدَّةِ فَفِيهِ الْفَسْخُ اتِّفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي تَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بن حَنْبَل بتأبد تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ أَصْلٌ ضَعِيفٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: بِفَسْخِ النِّكَاحِ وَلَا يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ بَعْدَ الْعِدَّةِ خَاطِبٌ مِنِ الْخِطَابِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ رَجَعَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا، وَقَدْ تَزَوَّجَ رُوَيْشِدٌ الثَّقَفِيُّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ فِي عِدَّتِهَا فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ مَهْرَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَالُ الصَّدَاقِ وَبَيْتِ الْمَالِ، إِنَّمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمَا لِلسُّنَّةِ» قِيلَ لَهُ: «فَمَا تَقُولُ أَنْتَ» ؟ قَالَ: «لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا جَلْدَ عَلَيْهِمَا» وَاسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَاضِي إِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ النَّاكِحِ فِي الْعِدَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ فِي حُكْمِهِ لِلْحُكْمِ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّنَازُعُ فِي شَأْنِهِ لَدَيْهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ التَّعْرِيجَ عَلَيْهِ، لَعَلَّهُمَا أَنْ يَأْخُذَا بِقَوْلِ مَنْ لَا يَرَوْنَ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 236 إلى 237]

وَأَمَّا الْخِطْبَةُ فِي الْعِدَّةِ وَالْمُوَاعَدَةُ فَحَرَامٌ مُوَاجَهَةُ الْمَرْأَةِ بِهَا، وَكَذَلِكَ مُوَاجَهَةُ الْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَأَمَّا مُوَاجَهَةُ وَلِيٍّ غَيْرِ مُجْبَرٍ فَالْكَرَاهَةُ، فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْبِنَاءُ فِي الْعِدَّةِ بَلْ بَعْدَهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: فِرَاقُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخِطْبَةُ حَرَامٌ، وَالنِّكَاحُ الْوَاقِعُ بَعْدَ الْعِدَّةِ صَحِيحٌ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. عَطْفٌ عَلَى الْكَلَام السَّابِق فِي قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَابْتُدِئَ الْخِطَابُ بِاعْلمَوُا لَمَّا أُرِيدَ قَطْعُ هَوَاجِسِ التَّسَاهُلِ وَالتَّأَوُّلِ، فِي هَذَا الشَّأْنِ، لِيَأْتِيَ النَّاسُ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ عَنْ صَفَاءِ سَرِيرَةٍ مِنْ كُلِّ دخل وحيلة، وَقدم تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] . وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ فَكَمَا يُؤَاخِذُكُمْ عَلَى مَا تُضْمِرُونَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ يَغْفِرُ لَكُمْ مَا وَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ عَنْهُ كَالتَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ حَلِيمٌ بِكُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ التَّعْرِيضِ رُخْصَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَنَّ الذَّرِيعَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَشَقَّةَ تَحْرِيمِهِ عَلَى النَّاسِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ هُنَا التَّجَاوُزُ لَا مَغْفِرَةُ الذَّنْبِ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَيْسَ بِإِثْمٍ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الشَّامِلُ لِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الْمَشَاقِّ، وَشَأْنُ التذييل التَّعْمِيم. [236، 237] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 236 إِلَى 237] لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

(237) اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ لِبَيَانِ حُكْمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ دَفْعِ الْمَهْرِ، كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَسُقُوطِهِ وَحُكْمِ الْمُتْعَةِ مَعَ إِفَادَةِ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا لَا تَخْفَى، فَإِنَّهُ لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، عَرَجَ هُنَا عَلَى الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ، فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [49] ، وَذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ هُنَا تَنْصِيفَ الْمَهْرِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ. وَحَقِيقَةُ الْجُنَاحِ الْإِثْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: 158] . وَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْجُنَاحِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِثْمِ، وَلِذَلِكَ حَمَلَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فِي الطَّلَاقِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تَفْسِيرُ الْجُنَاحِ بِالتَّبِعَةِ فَقَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ مِنْ إِيجَابِ الْمَهْرِ ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ تَبِعَةُ الْمَهْرِ، قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِثْبَاتٌ لِلْجُنَاحِ الْمَنْفِيِّ ثَمَّةَ» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهُ لَا طَلَبَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» مَسْبُوقٌ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ فِي «الْأَسَاسِ» هَذَا الْمَعْنَى لِلْجُنَاحِ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، فَإِنَّمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ لَا لِكَلِمَةِ جُناحَ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ كِنَايَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ التبعة بِدفع الْمهْر. وَالْوَجْهُ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَفْظَ الْجُنَاحِ، وَهُوَ مَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفُ، وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» عَنْ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْجُنَاحُ عَلَى الْمُطَلِّقِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَاصِدًا للذوق، وَذَلِكَ مَأْمُون قَبْلَ الْمَسِيسِ» وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الطِّيبِيِّ عَنِ الرَّاغِبِ- أَيْ فِي «تَفْسِيرِهِ» -. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَفْصِيلُ أَحْوَالِ دَفْعِ الْمَهْرِ أَوْ بَعْضِهِ أَوْ سُقُوطِهِ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ إِلَى آخِرِهِ تَمْهِيدٌ لِذَلِكَ وَإِدْمَاجٌ لِإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ التَّذَوُّقِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْمَسِيسِ عَنْ إِثَارَةِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الطَّلَاقَ قَبْلِ الْبِنَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ لِكَثْرَة مَا خص الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ يَقْصِدُوا مِنَ التَّزَوُّجِ دَوَامَ الْمُعَاشَرَةِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ فِعْلِ الذَّوَّاقِينَ

الَّذِينَ يُكْثِرُونَ تَزَوُّجَ النِّسَاءِ وَتَبْدِيلَهُنَّ، وَيَكْثُرُ النَّهْيُ عَنِ الطَّلَاقِ حَتَّى قَدْ يُظَنُّ مُحَرَّمًا، فَأَبَانَتِ الْآيَةُ إِبَاحَتَهُ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ بِمَعْنَى الْوِزْرِ. وَالنِّسَاءُ: الْأَزْوَاجُ، وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَهُوَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، أَيْ لَا جُنَاحَ فِي تَطْلِيقِكِمُ الْأَزْوَاجَ، وَ (مَا) ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَسِيسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبَانِ الْمَرْأَةِ. وَ (أَو) فِي قَوْله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً عاطفة على تَمَسُّوهُنَّ الْمَنْفِيّ، و (أَوْ) إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ مُفَادَ وَاوِ الْعَطْفِ فَتَدُلُّ عَلَى انْتِفَاء الْمَعْطُوف والمعطوق عَلَيْهِ مَعًا، وَلَا تُفِيدُ الْمُفَادَ الَّذِي تُفِيدُهُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ كَوْنُ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» وَصَرَّحَ بِهِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ لِأَنَّ مُفَادَ «أَوْ» فِي الْإِثْبَاتِ نَظِيرُ مُفَادِ النَّكِرَةِ وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُبْهَمُ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ اسْتَلْزَمَ نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَلِهَذَا كَانَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: 24] النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ كِلَيْهِمَا، لَا عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا انْبَنَتِ الْمَسْأَلَةُ الْأُصُولِيَّةُ وَهِيَ: هَلْ وَقَعَ فِي اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمٍ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفِ أَوْ، وَإِنَّ أَوْ إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَانَتْ كَالَّتِي تَقَعُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (أَوْ) فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً بِمَعْنَى إِلَّا أَوْ حَتَّى، وَهِيَ الَّتِي يَنْتَصِبُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا بِأَنْ وَاجِبَةَ الْإِضْمَارِ، بِنَاءً عَلَى إِمْكَانِهِ هُنَا وَعَلَى أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْخَفَاءِ فِي دَلَالَةِ أَوْ الْعَاطِفَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، عَلَى انْتِفَاءِ كِلَا الْمُتَعَاطِفَيْنِ إِذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِنَفْيِ أَحَدِهِمَا كَشَأْنِهَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً حَيْثُ اقْتَصَرَ فِي التَّفْصِيلِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: وَهُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ مَعَ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ فَرْضِ الصَّدَاقِ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي التَّقْسِيمِ السَّابِقِ، وَذَلِكَ أَنْسَبُ بِأَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْغَايَةِ، لَا لِلْعَطْفِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَهْمَلَ تَقْدِيرَ الْعَطْفِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَتِهِ، بَلْ لِأَنَّ غَيْرَهُ هُنَا أَوْضَحُ وَأَنْسَبُ، يَعْنِي وَالْمُرَادُ قَدْ ظَهَرَ مِنَ الْآيَةِ ظُهُورًا لَا يَدْعُ لِتَوَهُّمِ قَصْدِ نَفْيِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ خُطُورًا بِالْأَذْهَانِ، وَلِهَذَا اسْتَدْرَكَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَجَوَّزَ تَقْدِيرَهَا عَاطِفَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ حُكْمًا بِمَنْطُوقِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ صَدَاقِ أَمْثَالِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْ لَيْسَ لَهَا إِلَّا الْمُتْعَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَهَذَا الْحُكْمُ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اعْتَبَرَتِ النِّكَاحَ عَقْدًا لَازِمًا بِالْقَوْلِ، وَاعْتَبَرَتِ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ من متمماته غَيْرَ لَازِمٍ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ النِّكَاحِ، بَلْ يَلْزَمُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِصِيغَةٍ تَخُصُّهُ، وَهِيَ تَعْيِينُ مِقْدَارِهِ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ بِنِكَاحِ التَّسْمِيَةِ، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ الشُّرُوعُ فِي اجْتِنَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ ابْتِدَاءً مِنَ النِّكَاحِ وَهِيَ الْمَسِيسُ، فَالْمَهْرُ إِذَنْ مِنْ تَوَابِعِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ مَتْبُوعِهَا، بَلْ تَحْتَاجُ إِلَى مُوجِبٍ آخَرَ كَالْحَوْزِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالنَّفْسُ لِقَوْلِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَمْيَلُ. وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الطَّلَاقِ، لَمَّا أَشْعَرَتْ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَحَيْثُ أَشْعَرَتْ بِإِبَاحَةِ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ: بِالتَّصَدِّي لِبَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا مَوْضِعٌ هُوَ أَنْسَبُ بِذِكْرِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَحْنُ نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الْقَانُونَ الْعَامَّ لِانْتِظَامِ الْمُعَاشَرَةِ هُوَ الْوِفَاقُ فِي الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْمُعَاشَرَةَ نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا مُعَاشَرَةٌ حَاصِلَةٌ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ مُعَاشَرَةُ النَّسَبِ، الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَسَبِ شِدَّةِ قُرْبِ النّسَب وَبعده كمعاشرة الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ، وَالْإِخْوَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَأَبْنَاءِ الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، وَاخْتِلَافُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ يَسْتَتْبِعُ اخْتِلَافَهَا فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ، فَنَجِدُ فِي قِصَرِ زَمَنِ الْمُعَاشَرَةِ، عِنْدَ ضَعْفِ الْآصِرَةِ، مَا فِيهِ دَافِعٌ لِلسَّآمَةِ وَالتَّخَالُفِ النَّاشِئَيْنِ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْمُتَعَاشِرِينَ مِنْ تَنَافُرٍ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي مِقْدَارِ قُرْبِ النَّسَبِ تَأْثِيرًا فِي مِقْدَارِ الْمُلَاءَمَةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ قُرْبِ النَّسِيبِ، يَكُونُ الْتِئَامُ الذَّاتِ مَعَ الْأُخْرَى أَقْوَى وَأَتَمَّ، وَتَكُونُ الْمُحَاكَّةُ وَالْمُمَارَسَةُ وَالتَّقَارُبُ أَطْوَلَ، فَنَشَأَ مِنَ السَّبَبَيْنِ الْجِبِلِّيِّ، وَالِاصْطِحَابِيِّ، مَا يُقَوِّي اتِّحَادَ النُّفُوسِ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ، وَحُكْمِ التَّعَوُّدِ وَالْإِلْفِ، وَهَكَذَا يَذْهَبُ ذَلِكَ السَّبَبَانِ يَتَبَاعَدَانِ بِمِقْدَارِ مَا يَتَبَاعَدُ النَّسِيبُ. النَّوْع الثَّانِي: مُعَاشَرَةٌ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ مُعَاشَرَةُ الصُّحْبَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مُعَاشَرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَطُولُ أَوْ تَقْصُرُ، وَتَسْتَمِرُّ أَوْ تَغِبُ، بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي

وَضَعْفِهِ، وَبِحَسَبِ اسْتِطَاعَةِ الْوَفَاءِ بِحُقُوقِ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ، وَالتَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مُمْكِنٌ إِذَا لَمْ تَتَّحِدِ الطِّبَاعُ. وَمُعَاشَرَةُ الزَّوْجَيْنِ فِي التَّنْوِيعِ، هِيَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَفِي الْآثَارِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى آثَارِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَيَنْقُصُهَا مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ سَبَبُهُ الْجُبْلِيُّ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَكْثُرُ أَلَّا يَكُونَا قَرِيبَيْنِ وَسَبَبُهُ الِاصْطِحَابِيُّ، فِي أَوَّلِ عَقْدِ التَّزَوُّجِ حَتَّى تَطُولَ الْمُعَاشَرَةُ وَيَكْتَسِبَ كُلٌّ مِنَ الْآخَرِ خُلُقَهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جعل فِي رَغْبَةَ الرَّجُلِ فِي الْمَرْأَةِ إِلَى حَدِّ أَنْ خَطَبَهَا، وَفِي مَيْلِهِ إِلَى الَّتِي يَرَاهَا، مُذِ انْتَسَبَتْ بِهِ وَاقْتَرَنَتْ، وَفِي نِيَّتِهِ مُعَاشَرَتُهَا مُعَاشَرَةً طَيِّبَةً، وَفِي مُقَابَلَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ بِمِثْلِ ذَلِك مَا يغرز فِي نَفْسِ الزَّوْجَيْنِ نَوَايَا وَخَوَاطِرَ شَرِيفَةً وَثِقَةً بِالْخَيْرِ، تَقُومُ مَقَامَ السَّبَبِ الْجُبْلِيِّ، ثُمَّ تَعْقُبُهَا مُعَاشَرَةٌ وَإِلْفٌ تَكْمُلُ مَا يَقُومُ مَقَامَ السَّبَبِ الِاصْطِحَابِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا السِّرِّ النَّفْسَانِيِّ الْجَلِيلِ، بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: 21] . وَقَدْ يُعْرَضُ مِنْ تَنَافُرِ الْأَخْلَاقِ وَتَجَافِيهَا مَا لَا يُطْمَعُ مَعَهُ فِي تَكْوِينِ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَاحْتِيجَ إِلَى وَضْعِ قَانُونٍ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الصُّحْبَةِ، لِئَلَّا تَنْقَلِبَ سَبَبَ شِقَاقٍ وَعَدَاوَةٍ فَالتَّخَلُّصُ قَدْ يَكُونُ مَرْغُوبًا لِكِلَا الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَرْغُوبًا لِأَحَدِهِمَا وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ الْآخَرِ، فَلَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ جَانِبُ الزَّوْجِ لِأَنَّ رَغْبَتَهُ فِي الْمَرْأَةِ أَشَدُّ، كَيْفَ وَهُوَ الَّذِي سَعَى إِلَيْهَا وَرَغِبَ فِي الِاقْتِرَانِ بِهَا وَلِأَنَّ الْعَقْلَ فِي نَوْعِهِ أَشَدُّ، وَالنَّظَرَ مِنْهُ فِي الْعَوَاقِبِ أَسَدُّ، وَلَا أَشَدَّ احْتِمَالًا لِأَذًى وَصَبْرًا عَلَى سُوءِ خُلُقٍ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَهَذَا التَّخَلُّصِ هُوَ الْمُسَمَّى: بِالطَّلَاقِ، فَقَدْ يَعْمِدُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بَعْدَ لَأْيٍ، وَقَدْ تَسْأَلُهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقُهَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَذْكُرُ زَوْجَتَيْهِ: تِلْكَ عُرْسَايَ تَنْطِقَانِ عَلَى عَمْ ... دٍ إِلَى الْيَوْمِ قَوْلَ زُورٍ وَهَتْرِ سَالَتَانِي الطَّلَاق أَن رأتاما ... لِي قَلِيلًا قَدْ جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ وَقَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: تِلْكَ عُرْسِي غَضْبَى تُرِيدُ زِيَالِي ... أَلِبَيْنٍ تُرِيدُ أَمْ لِدَلَالِ إِنْ يَكُنْ طِبُّكِ الْفِرَاقَ فَلَا أَحْ ... فُلُ أَنْ تَعْطِفِي صُدُورَ الْجِمَالِِِ

وَجَعَلَ الشَّرْعُ لِلْحَاكِمِ إِذَا أَبَى الزَّوْجُ الْفِرَاقَ وَلَحِقَ الزَّوْجَةَ الضُّرُّ مِنْ عِشْرَتِهِ، بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهِ، أَنْ يُطَّلِقَهَا عَلَيْهِ. فَالطَّلَاقُ فَسْخٌ لِعُقْدَةِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ فَسْخٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلِ اكْتُفِيَ بِرِضَا وَاحِدٍ: وَهُوَ الزَّوْجُ، تَسْهِيلًا لِلْفِرَاقِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِالْمَرْأَةِ مَمْنُوعًا إِذْ لَمْ تَقَعْ تَجْرِبَةُ الْأَخْلَاقِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِسَبَبٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ، كَيْفَ يَعْمِدُ رَاغِبٌ فِي امْرَأَةٍ، بَاذِلٌ لَهَا مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ التَّعَرُّفِ بِهَا، لَوْلَا أَنْ قَدْ عَلِمَ مِنْ شَأْنِهَا مَا أَزَالَ رَجَاءَهُ فِي مُعَاشَرَتِهَا، فَكَانَ التَّخَلُّصُ وَقْتَئِذٍ قَبْلَ التَّعَارُفِ، أَسْهَلَ مِنْهُ بَعْدَ التَّعَارُفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مُضَارِعُ مَسَّ الْمُجَرَّدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، (تُمَاسُّوهُنَّ) - بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ مُضَارِعُ مَاسَّ لِأَنَّ كِلَا الزَّوْجَيْنِ يَمَسُّ الْآخَرَ. وَقَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ الْآيَةَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَطْفُ التَّشْرِيعِ عَلَى التَّشْرِيعِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّحَادَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ غَيْرُ شَرْطٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمَعْمُولُ لِلْفِعْلِ الْمُقَيَّدِ بِالظَّرْفِ وَهُوَ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ مَتِّعُوا الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَجْعَلُ مُعَادَ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَذَلِكَ لِأَدِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَقًّا تُؤَكِّدُ الْوُجُوبَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، فَالْمُحْسِنُ بِمَعْنَى الْمُحْسِنِ إِلَى نَفْسِهِ بِإِبْعَادِهَا عَنِ الْكُفْرِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمُسَمَّى لَهَا مَهْرٌ وَاجِبَةً، وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِئَلَّا يَكُونَ عَقْدُ نِكَاحِهَا خَلِيًّا عَنْ عِوَضِ الْمَهْرِ.

وَجَعَلَ جَمَاعَةٌ الْأَمْرَ هُنَا لِلنَّدْبِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ إِلَى أَحَدِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ نَدْبٌ خَاصٌّ مُؤَكِّدٌ لِلنَّدْبِ الْعَامِّ فِي مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَشُرَيْحٍ، فَجَعَلَهَا حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَجَعَلَهَا حَقًّا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَمَفْهُومُ جَعَلَهَا حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَقًّا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الْمُتَّقِينَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ كَثِيرُ الِامْتِثَالِ، عَلَى أَنَّنَا لَوْ حَمَلْنَا الْمُتَّقِينَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ لَكَانَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَعَارُضُ الْمَفْهُومِ وَالْعُمُومِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ الْخَاصَّ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ. وَفِي «تَفْسِير الأبي» عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ يُقْضَى بِهَا إِذْ لَا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا مِنَ الْمُتَّقِينَ إِلَّا رَجُلُ سُوءٍ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ قَالَ بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ عَلَى الْمَفْهُومِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَأَنَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، قُلْتُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِالْمَفْهُومِ لَا بُدَّ أَنْ يُخَصَّصَ بِخُصُوصِهِ عُمُومُ الْعَامِّ إِذَا تَعَارَضَا، على أَن لمَذْهَب مَالِكٍ أَنَّ الْمُتْعَة عَطِيَّة ومؤاساة، والمؤاساة فِي مَرْتَبَةِ التَّحْسِينِيِّ، فَلَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ بُذِلَ فِي غَيْرِ عِوَضٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى التَّبَرُّعَاتِ، وَالتَّبَرُّعَاتُ مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ لَا مِنَ الْحُقُوقِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُطَلِّقِ ثُمَّ أَثْبَتَ الْمُتْعَةَ، فَلَوْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةً لَانْتَقَضَ نَفْيُ الْجُنَاحِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجُنَاحَ نَفْيٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، قَدْ يُجْحِفُ بِالْمُطَلِّقِ بِخِلَافِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى حَسَبِ وُسْعِهِ وَلِذَلِكَ نَفَى مَالِكٌ نَدْبَ الْمُتْعَةِ لِلَّتِي طُلِّقَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا، قَالَ: فَحَسْبُهَا مَا فُرِضَ لَهَا أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ قَصَرَهَا عَلَى ذَلِكَ، رِفْقًا بِالْمُطَلِّقِ، أَيْ فَلَا تندب لَهَا ندب خَاصًّا، بِأَمْرِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: بِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْمَدْخُولَ بِهَا يُسْتَحَبُّ تَمْتِيعُهَا، أَيْ بِقَاعِدَةِ الْإِحْسَانِ الْأَعَمِّ وَلِمَا مَضَى مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ الْمُوَسِعُ مَنْ أُوسِعَ إِذَا صَارَ ذَا سَعَةٍ، وَالْمُقْتِرُ مَنْ أُقْتِرَ إِذَا صَارَ ذَا قَتْرٍ وَهُوَ ضِيقُ الْعَيْشِ، وَالْقَدْرُ- بِسُكُونِ الدَّالِ وَبِفَتْحِهَا- مَا بِهِ تَعْيِينُ ذَاتِ الشَّيْءِ أَوْ حَالِهِ، فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنَ الْأَجْرَامِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَالُ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا الْمَرْءُ فِي مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي الثَّرْوَةِ، وَهُوَ

الطَّبَقَةُ مِنَ الْقَوْمِ، وَالطَّاقَةُ مِنَ الْمَالِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الدَّالِ. وَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ إِيجَازًا لِظُهُورِ الْمَعْنَى، أَيْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ لَا يَحْسُنُ فِيهَا إِلَّا هَذَا الْوَجْهُ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا مُتْعَةَ لَهَا. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَيْ إِلَّا فِي حَالَةِ عَفْوِهِنَّ أَيِ النِّسَاءِ بِأَنْ يُسْقِطْنَ هَذَا النِّصْفَ، وَتَسْمِيَةُ هَذَا الْإِسْقَاطِ عَفْوًا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ حَقٌّ وَجَبَ عَلَى الْمُطَلِّقِ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِمَا اسْتَخَفَّ بِهَا، أَوْ بِمَا أَوْحَشَهَا، فَهُوَ حَقٌّ وَجَبَ لَغُرْمِ ضُرٍّ، فَإِسْقَاطُهُ عَفْوٌ لَا مَحَالَةَ، أَوْ عِنْدَ عَفْوِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وأل فِي النِّكَاحِ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ مُتَبَادِرٌ فِي عَقْدِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لَا فِي قَبُولِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا سُمِّيَ عَقْدًا، فَهُوَ غَيْرُ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَلِّقِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُطَلِّقَ، لَقَالَ: أَوْ تَعْفُو بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وَلَا دَاعِيَ إِلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَقِيلَ: جِيءَ بِالْمَوْصُولِ تَحْرِيضًا عَلَى عَفْوِ الْمُطَلِّقِ، لِأَنَّهُ كَانَتْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فَأَفَاتَهَا بِالطَّلَاقِ، فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ إِمْسَاكِ النِّصْفِ، وَيَتْرُكَ لَهَا جَمِيعَ صَدَاقِهَا، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، لَقَالَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةَ نِكَاحِهَا إِذْ لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ وَهُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، فَكَوْنُهُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْوَلِيِّ، فَكَوْنُهُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ عَقْدِ الْمَرْأَةِ عَلَى حُضُورِهِ، وَكَانَ شَأْنُهُمْ أَنْ يَخْطُبُوا الْأَوْلِيَاءَ فِي وَلَايَاهُمْ فَالْعَفْوُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةٌ، وَالِاتِّصَافُ بِالصِّلَةِ مَجَازٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إِذْ جَعَلَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ ذَكَرَتْ عَفْوَ الرَّشِيدَةِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهَا، وَنُسِبَ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْمُطَلِّقُ لِأَنَّ بِيَدِهِ عَقْدَ نَفْسِهِ وَهُوَ الْقَبُولُ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى عَليّ وَشُرَيْح وطاووس وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَمَعْنَى بِيَدِهِ

عُقْدَةُ النِّكاحِ أَنَّ بِيَدِهِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالْإِبْقَاءِ، وَالْفَسْخِ بِالطَّلَاقِ، وَمَعْنَى عَفْوِهِ: تَكْميِلُهُ الصَّدَاقَ، أَيْ إِعْطَاؤُهُ كَامِلًا. وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ الْمُطَلِّقِ حِينَئِذٍ لَا يُسَمَّى عَفْوًا بَلْ تَكْمِيلًا وَسَمَاحَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْفَعَ الصَّدَاقَ كَامِلًا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ عَفْوًا فِيهِ نَظَرٌ» إِلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهَا الْمَهْرَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ فَقَدْ عَفَا، أَوْ سَمَّاهُ عَفْوًا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ. الثَّانِي أَنَّ دَفْعَ الْمُطَلِّقِ الْمَهْرَ كَامِلًا لِلْمُطَلَّقَةِ إِحْسَانٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَشْرِيعٍ مَخْصُوصٍ، بِخِلَافِ عَفْوِ الْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، فَقَدْ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّ الْمَهْرَ لَمَّا كَانَ رُكْنًا مِنَ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى تَذْيِيلٌ أَيِ الْعَفْوُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَجِيءَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِلتَّغْلِيبِ، وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمُطَلِّقِينَ، وَإِلَّا لَمَا شَمِلَ عَفْوَ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّهُ كُلَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَظْهَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الْمُطَلِّقُ، لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُذَكَّرِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ مَوَاقِعِ التَّذْيِيلِ فِي آيِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: 128] . وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَفْوِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى: أَنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ إِلَى صِفَةِ التَّقْوَى مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْحَقِّ لَا يُنَافِي التَّقْوَى لَكِنَّهُ يُؤْذِنُ بِتَصَلُّبِ صَاحِبِهِ وَشِدَّتِهِ، وَالْعَفْوُ يُؤْذِنُ بِسَمَاحَةِ صَاحِبِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْقَلْبُ الْمَطْبُوعُ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالرَّحْمَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنَ الْقَلْبِ الصُّلْبِ الشَّدِيدِ، لِأَنَّ التَّقْوَى تَقْرُبُ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْوَازِعِ، وَالْوَازِعُ شَرْعِيٌّ وَطَبِيعِيٌّ، وَفِي الْقَلْبِ الْمَفْطُورِ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالسَّمَاحَةِ لِينٌ يَزَعُهُ عَنِ الْمَظَالِمِ وَالْقَسَاوَةِ، فَتَكُونُ التَّقْوَى أَقْرَبَ إِلَيْهِ، لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ تَذْيِيلٌ ثَانٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى التَّذْيِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ، لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَضُّلِ الدُّنْيَوِيِّ، وَفِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حُبُّ الْفَضْلِ.

[سورة البقرة (2) : آية 238]

فَأُمِرُوا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ بِأَنْ يَتَعَاهَدُوا الْفَضْلَ وَلَا يَنْسَوْهُ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ يُبَاعِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَيَضْمَحِلُّ مِنْهُمْ، وَمُوشِكٌ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى عَفْوِ غَيْرِهِ عَنْهُ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى، فَفِي تَعَاهُدِهِ عَوْنٌ كَبِيرٌ عَلَى الْإِلْفِ وَالتَّحَابُبِ، وَذَلِكَ سَبِيلٌ وَاضِحَةٌ إِلَى الِاتِّحَادِ وَالْمُؤَاخَاةِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ حُلُولِ التَّجْرِبَةِ. وَالنِّسْيَانُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْمَالِ وَقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [السَّجْدَة: 14] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلِمَةِ بَيْنَكُمْ، إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْعَفْوِ، إِذَا لَمْ يُنْسَ تَعَامُلُ النَّاسِ بِهِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَعْلِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي عَدَمِ إِهْمَالِ الْفَضْلِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ فِي الْعَفْوِ مَرْضَاةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يَرَى ذَلِكَ مِنَّا فَيُجَازِي عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [السطور: 48] . [238] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) الِانْتِقَالُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ فِي آيِ الْقُرْآنِ لَا تَلْزَمُ لَهُ قُوَّةُ ارْتِبَاطٍ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابَ تَدْرِيسٍ يُرَتَّبُ بِالتَّبْوِيبِ وَتَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ كِتَابُ تَذْكِيرٍ وَمَوْعِظَةٍ فَهُوَ مَجْمُوعُ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ فِي هَدْيِ الْأُمَّةِ وَتَشْرِيعِهَا وَمَوْعِظَتِهَا وَتَعْلِيمِهَا، فقد يجمع بِهِ الشَّيْءُ لِلشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ ارْتِبَاطٍ وَتَفَرُّعِ مُنَاسَبَةٍ، وَرُبَّمَا كَفَى فِي ذَلِكَ نُزُولُ الْغَرَضِ الثَّانِي عَقِبَ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ، أَوْ تَكُونُ الْآيَةُ مَأْمُورًا بِإِلْحَاقِهَا بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ إِحْدَى سُوَرِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ مُنَاسَبَةٍ فِي الْمَعَانِي، أَوْ فِي انْسِجَامِ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَلَعَلَّ آيَةَ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ نَزَلَتْ عَقِبَ آيَاتِ تَشْرِيعِ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ غَفْلَةٍ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، أَوِ اسْتِشْعَارِ مَشَقَّةٍ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالْعَدَدِ. وَإِذَا أَبَيْتَ أَلَّا تَطْلُبَ الِارْتِبَاطَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا طَالَ تِبْيَانُ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُتَوَالِيَةٍ: ابْتِدَاءً من قَوْله: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: 215] ، جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُرْتَبِطَةً بِالتَّذْيِيلِ الَّذِي ذُيِّلَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الْبَقَرَة: 237] فَإِنَّ اللَّهَ دَعَانَا إِلَى خُلُقٍ حُمَيْدٍ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنِ الْحُقُوقِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْخُلُقُ قَدْ يَعْسُرُ عَلَى النَّفْسِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَا تُحِبُّهُ مِنَ الْمَلَائِمِ، مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ كَالِانْتِقَامِ مِنَ الظَّالِمِ، وَكَانَ فِي طِبَاعِ الْأَنْفُسِ الشُّحُّ، عَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى دَوَاءَ

هَذَا الدَّاءِ بِدَوَاءَيْنِ، أَحَدُهُمَا دُنْيَوِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، الْمُذَكِّرُ بِأَنَّ الْعَفْوَ يُقَرِّبُ إِلَيْكَ الْبَعِيدَ، وَيُصَيِّرُ الْعَدُوَّ صَدِيقًا وَإِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ فَيُوشِكُ أَنْ تَقْتَرِفَ ذَنْبًا فَيُعْفَى عَنْكَ، إِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْفَضْلَ بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصْبحُوا لَا يتنازلون عَنِ الْحَقِّ. الدَّوَاءُ الثَّانِي أُخْرَوِيٌّ رُوحَانِيٌّ: وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ مُعِينَةً عَلَى التَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، حَثَّ اللَّهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَمَّا طَالَ تَعَاقُبُ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ تَشْرِيعَاتٍ تَغْلُبُ فِيهَا الْحُظُوظُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُكَلَّفِينَ، عُقِبَّتْ تِلْكَ التَّشْرِيعَاتُ بِتَشْرِيعٍ تَغْلِبُ فِيهِ الْحُظُوظُ الْأُخْرَوِيَّةُ، لِكَيْ لَا يَشْتَغِلَ النَّاسُ بِدِرَاسَةِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ التَّشْرِيعِ عَنْ دِرَاسَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «أُمِرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي تَضَاعِيفِ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ، لِئَلَّا يُلْهِيَهُمُ الِاشْتِغَالُ بِشَأْنِهِمْ عَنْهَا» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «لَمَّا ذَكَرَ حُقُوقَ النَّاسِ دَلَّهُمْ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ» وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِي الْعِنَايَةِ بِالصَّلَوَاتِ أَدَاءَ حَقِّ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَجَّهَ إِلَيْنَا مِنْ عِنَايَتِهِ بِأُمُورِنَا الَّتِي بِهَا قِوَامُ نِظَامِنَا وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 239] أَيْ مِنْ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَاتِ النِّظَامِيَّةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ تَكُونُ جُمْلَةُ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ مُعْتَرِضَةً وَمَوْقِعُهَا وَمَعْنَاهَا مِثْلُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: 45] بَيْنَ جُمْلَةِ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [الْبَقَرَة: 40] . وَبَيْنَ جُمْلَةِ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: 122] وَكَمَوْقِعِ جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَة: 153] بَيْنَ جُمْلَةِ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [الْبَقَرَة: 150] الْآيَةَ وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [الْبَقَرَة: 154] الْآيَةَ. وحافِظُوا صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ اسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَوْقَاتِهَا مِنْ أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْهَا وَالْمُحَافَظَةُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا حَقٌّ عَظِيمٌ يُخْشَى التَّفْرِيطُ فِيهِ.

وَالْمُرَادُ: الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ. «وأل» فِي الصَّلَوَاتِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمُتَكَرِّرَةُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُطْلَبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا. وَالصَّلاةِ الْوُسْطى لَا شَكَّ أَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُعَرَّفَةً بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَمَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا وُسْطَى، فَسَمعَهَا الْمُسلمُونَ وقرأوها، فَإِمَّا عَرَفُوا الْمَقْصُودَ مِنْهَا فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الِاحْتِمَالُ بَعْدَهُ فَاخْتَلَفُوا، وَإِمَّا شَغَلَتْهُمُ الْعِنَايَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ تَعْيِينِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، فَلَمَّا تَذَاكَرُوهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَنَبَعَ مِنْ ذَلِكَ خِلَافٌ شَدِيدٌ أَنْهَيْتُ الْأَقْوَالَ فِيهِ إِلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ قَوْلًا، بِالتَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ، وَقَدْ سَلَكُوا لِلْكَشْفِ عَنْهَا مَسَالِكَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَخْذِ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْوُسْطَى، أَوْ مِنِ الْوِصَايَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِالِاسْتِدْلَالِ بِوَصْفِ الْوُسْطَى: فَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ جَعْلَ الْوَصْفِ مِنَ الْوَسَطِ بِمَعْنَى الْخِيَارِ وَالْفَضْلِ، فَرَجَعَ إِلَى تَتَبُّعِ مَا وَرَدَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى بَعْضٍ، مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: 78] وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ» . وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ جَعْلَ الْوَصْفِ مِنَ الْوَسَطِ: وَهُوَ الْوَاقِعُ بَيْنَ جَانِبَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنَ الْعَدَدِ فَذَهَبَ يَتَطَلَّبُ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلَمَّا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ صَالِحَةً لِأَنْ تُعْتَبَرَ وَاقِعَةً بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَوْقَاتِ اعْتِبَارِيٌّ، ذَهَبُوا يُعَيِّنُونَ الْمَبْدَأَ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَبْدَأَ ابْتِدَاءَ النَّهَارِ، فَجَعَلَ مَبْدَأَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَقُضِيَ بِأَنَّ الْوُسْطَى الْعَصْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَبْدَأَ الظَّهْرَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ فُرِضَتْ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، فَجَعَلَ الْوُسْطَى: الْمَغْرِبَ. وَأما الَّذين تعلقوا بِدَلِيلِ الْوِصَايَةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ، فَذَهَبُوا يَتَطَلَّبُونَ أَشَقَّ صَلَاةٍ عَلَى النَّاس تكْثر المثبطات عَنْهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الظُّهْرُ لِأَنَّهَا أَشَقُّ صَلَاةٍ عَلَيْهِمْ بِالْمَدِينَةِ، كَانُوا أَهْلَ شُغْلٍ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ الظُّهْرُ وَهُمْ قَدْ أَتْعَبَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ، وَرُبَّمَا كَانُوا فِي إِكْمَالِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الْعِشَاءُ لِمَا وَرَدَ أَنَّهَا أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْعَصْرُ لِأَنَّهَا وَقْتُ شُغْلٍ وَعَمَلٍ وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الصُّبْحُ لِأَنَّهَا وَقْتُ نَوْمٍ فِي الصَّيْفِ، وَوَقْتُ تَطَلُّبِ الدِّفْءِ فِي الشِّتَاءِ.

وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْخِلَافِ: مَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا الصُّبْحُ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الشَّائِعَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ نَسِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مِنْ شِدَّةِ الشُّغْلِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: «شَغَلُونَا- أَيِ الْمُشْرِكُونَ- عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، أَضْرَمَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا» . وَالْأَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوَّلُهُمَا لِمَا فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَمَرَتَا كَاتِبَيْ مُصْحَفَيْهِمَا أَنْ يَكْتُبَا قَوْلَهُ تَعَالَى: حَافَظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ وَأَسْنَدَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تُسْنِدْهُ حَفْصَةُ، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرَ، بِحُكْمِ عَطْفِهَا عَلَى الْوُسْطَى تَعَيَّنَ كَوْنُهَا الصُّبْحَ، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مَسَالِكِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَأَفْضَلِيَّةُ الصُّبْحِ ثَابِتَةٌ بِالْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى مُخَصِّصًا لَهَا بِالذِّكْرِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: 78] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَتَوَسُّطُهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ وَقْتَهَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ نَهَارِيَّتَانِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ لَيْلِيَّتَانِ، وَالصُّبْحُ وَقْتٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَ نَافِلَتَهُ مُعَامَلَةَ نَوَافِلِ النَّهَارِ فَشَرَعَ فِيهَا الْإِسْرَارَ، وَفَرِيضَتَهُ مُعَامَلَةَ فَرَائِضِ اللَّيْلِ فَشَرَعَ فِيهَا الْجَهْرَ. وَمن جِهَة الْوِصَايَة بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، هِيَ أَجْدَرُ الصَّلَوَاتِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْمُثَبِّطَاتُ عَنْهَا، بِاخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ وَالْعُصُورِ وَالْأُمَمِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَقَدْ تَشُقُّ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْأُخْرَى عَلَى طَائِفَةٍ دُونَ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَقَالِيمِ وَالْفُصُولِ.

[سورة البقرة (2) : آية 239]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى قُصِدَ إِخْفَاؤُهَا لِيُحَافِظَ النَّاسُ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهَا بِاللَّامِ وَوَصَفَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْمُعَرَّفَيْنِ غَيْرَ مَفْهُومٍ وَأَمَّا قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى سَاعَةِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا قَدْ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الْإِبْهَامِ وَصَحَّتِ الْآثَارُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ. هَذَا خُلَاصَةُ مَا يُعْرَضُ هُنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أَمْرٌ بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِخُضُوعٍ، فَالْقِيَامُ الْوُقُوفُ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُتْرَكُ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَأَمَّا الْقُنُوتُ: فَهُوَ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ قَالَ تَعَالَى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيم: 12] وَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [النَّحْل: 120] وَسُمِّيَ بِهِ الدُّعَاءُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي يُدْعَى بِهِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ الرَّجُلَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. فَلَيْسَ قانِتِينَ هُنَا بِمَعْنَى قَارِئِينَ دُعَاءَ الْقُنُوتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إِنَّمَا سُمِّيَ قُنُوتًا اسْتِرْوَاحًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْوُسْطَى بِصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ «دَعَا النَّبِيءُ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ شَهْرًا وَذَلِكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ وَمَا كُنَّا نقنت» . [239] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَة: 238] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ لَا تَكُونُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّهَا عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ لِلَّهِ قَانِتِينَ، فَأَفَادَ هَذَا التَّفْرِيعُ غَرَضَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِصَرِيحِ لَفْظِهِ، وَالْآخَرُ بِلَازِمِ مَعْنَاهُ. وَالْخَوْفُ هُنَا خَوْفُ الْعَدُوِّ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَرْبَ بِأَسْمَاءِ الْخَوْفِ فَيَقُولُونَ الرَّوْعُ وَيَقُولُونَ الْفَزَعُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَتَحْمِلُنَا غَدَاةَ الرَّوْعِ جُرْدُ الْبَيْتِ.

وَقَالَ سَبْرَةُ بْنُ عُمَرَ الْفَقْعَسِيُّ: وَنِسْوَتُكُمْ فِي الروع باد وجوهها ... يُخَلْنَ إِمَاءً وَالْإِمَاءُ حَرَائِرُ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ» وَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْخَوْفِ عَلَى الْحَرْبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] . وَالْمَعْنَى: فَإِنْ حَارَبْتُمْ أَوْ كُنْتُمْ فِي حَرْبٍ، وَمِنْهُ سَمَّى الْفُقَهَاءُ صَلَاةَ الْخَوْفِ الصَّلَاةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يُصَافُّونَ الْعَدُوَّ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ وَإِيثَارُ كَلِمَةِ الْخَوْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِتَشْمَلَ خَوْفَ الْعَدُوِّ وَخَوْفَ السِّبَاعِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيق، وَغَيرهَا. وفَرِجالًا جَمْعُ رَاجِلٍ كَالصِّحَابِ ورُكْباناً جَمْعُ رَاكِبٍ وَهُمَا حَالَانِ مِنْ مَحْذُوفٍ أَيْ فَصَلُّوا رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا وَهَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَة: 238] لِأَنَّ هَاتِهِ الْحَالَةَ تُخَالِفُ الْقُنُوتَ فِي حَالَةِ التَّرَجُّلِ، وَتُخَالِفُهُمَا مَعًا فِي حَالَةِ الرُّكُوبِ. وَالْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْخُشُوعُ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقِيَامُ. وَهَذَا الْخَوْفُ يُسْقِطُ مَا ذُكِرَ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ هُنَا صَلَاةُ النَّاسِ فُرَادَى، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَأَظَلَّهُمُ الْعَدُوُّ وَلَمْ يَكُنْ حِصْنٌ بِحَيْثُ تَتَعَذَّرُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ صَلَاةِ الْجَيْشِ فِي الْحَرْبِ جَمَاعَةً الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِلنَّاسِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ فُرَادَى عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَتَمَكَّنُونَ مَعَهَا مِنْ مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ شَرَعَ لَهُمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَمَاعَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَيْضًا شَمِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلَّ خَوْفٍ مِنْ سِبَاعٍ أَوْ قُطَّاعِ طَرِيقٍ أَوْ مِنْ سَيْلِ الْمَاءِ، قَالَ مَالِكٌ: وَتُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلُّونَ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ وَيُعِيدُونَ، لِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ عِنْدَهُ. وَقَوْلُهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَرَادَ الصَّلَاةَ أَيِ ارْجِعُوا إِلَى الذِّكْرِ الْمَعْرُوفِ. وَجَاءَ فِي الْأَمْنِ بِإِذَا وَفِي الْخَوْفِ بِإِنْ بِشَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَكُونُ لَهُمُ النَّصْرُ وَالْأَمْنُ. وَقَوْلُهُ: كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ أَيِ اذْكُرُوهُ ذِكْرًا يُشَابِهُ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ فِي تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُشَابَهَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 240]

الْمُشَابَهَةُ فِي التَّقْدِيرِ الِاعْتِبَارِيِّ، أَيْ أَنْ يَكُونُ الذِّكْرُ بِنِيَّةِ الشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالْجَزَاءِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمُجَازَى بِهِ شَيْءٌ آخَرُ يُعْتَبَرُ كَالْمُشَابِهِ لَهُ، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمِقْدَارِ، وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْكَافَ كَافَ التَّعْلِيلِ، وَالتَّعْلِيلُ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ عَلَى قدر الْمَعْلُول. [240] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَة: 243] إِلَى آخِرِهَا فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَإِنَّ حُكْمَهَا يُخَالِفُ فِي الظَّاهِرِ حُكْمَ نَظِيرَتِهَا الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ هَاتِهِ الْآيَةُ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى آيَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ يَزْدَادُ مَوْقِعُهَا غَرَابَةً إِذْ هِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ مُتَأَخِّرَةً فِي الْوَضْعِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ حُكْمَ تَرَبُّصِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَوْلًا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ وَبِالْمِيرَاثِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلَمْ تَكْتُبْهَا، قَالَ: لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ عَن مَكَانَهُ بِابْن أَخِي» فَاقْتَضَى أَنَّ هَذَا هُوَ مَوْضِعُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا نَاسِخَةٌ لَهَا، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ وَضْعُهَا هُنَا بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ عُثْمَانَ «لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ عَنْ مَكَانِهِ» وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْمِيرَاثِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ مُجَاهِدٌ «شَرَعَ اللَّهُ الْعِدَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا، ثُمَّ نَزَلَتْ وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا يَوْمَئِذٍ مِيرَاثٌ مُعَيَّنٌ، فَكَانَ ذَلِكَ حَقَّهَا فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ» فَلَا تَعَرُّضَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْعِدَّةِ وَلَكِنَّهَا فِي بَيَانِ حُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ إِيجَابُ الْوَصِيَّةِ لَهَا بِالسُّكْنَى حَوْلًا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَبِسَ عَنِ التَّزَوُّجِ حَوْلًا مُرَاعَاةً لِمَا

كَانُوا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْحَوْلُ تَكْمِيلًا لِمُدَّةِ السُّكْنَى لَا للعدة، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَصْرَحُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمُ الْمُتَّبَعَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَمْكُثُ فِي شَرِّ بَيْتٍ لَهَا حَوْلًا، مُحِدَّةً لَابِسَةً شَرَّ ثِيَابِهَا مُتَجَنِّبَةً الزِّينَةَ وَالطِّيبَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَاشِيَةِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَة: 234] عَنِ «الْمُوَطَّأِ» ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَبْطَلَ ذَلِكَ الْغُلُوَّ فِي سُوءِ الْحَالَةِ، وَشَرَعَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَالْإِحْدَادَ، فَلَمَّا ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فِي مَبْدَأِ أَمْرِ تَغْيِيرِ الْعَادَةِ، أَمَرَ الْأَزْوَاجَ بِالْوَصِيَّةِ لِأَزْوَاجِهِمْ بِسُكْنَى الْحَوَلِ بِمَنْزِلِ الزَّوْجِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، إِنْ شَاءَتِ السُّكْنَى بِمَنْزِلِ الزَّوْجِ، فَإِنْ خَرَجَتْ وَأَبَتِ السُّكْنَى هُنَالِكَ لَمْ يُنْفَقْ عَلَيْهَا، فَصَارَ الْخِيَارُ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَقًّا عَلَيْهَا لَا تَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ، ثُمَّ نُسِخَ الْإِنْفَاقُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمِيرَاثِ، فَاللَّهُ لَمَّا أَرَادَ نَسْخَ عِدَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَاعَى لُطْفَهُ بِالنَّاسِ فِي قَطْعِهِمْ عَنْ مُعْتَادِهِمْ، أَقَرَّ الِاعْتِدَادَ بِالْحَوْلِ، وَأَقَرَّ مَا مَعَهُ مِنَ الْمُكْثِ فِي الْبَيْتِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ، لَكِنَّهُ أَوْقَفَهُ عَلَى وَصِيَّةِ الزَّوْجِ عِنْدَ وَفَاته لزوجه بِالسُّكْنَى، وَعَلَى قَبُولِ الزَّوْجَةِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ لَهَا أَوْ لَمْ تَقْبَلْ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا السُّكْنَى، وَلَهَا الْخُرُوجُ، وَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَنَسَخَ وَصِيَّةً السُّكْنَى حَوْلًا بِالْمَوَارِيثِ، وَبَقِيَ لَهَا السُّكْنَى فِي مَحَلِّ زَوَّجَهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ مَشْرُوعًا بِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ. وَقَوْلُهُ: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ: بِرَفْعِ (وَصِيَّةٍ) عَلَى الِابْتِدَاءِ، مُحَوَّلًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَأَصْلُهُ وَصِيَّةً بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، فَحُوِّلَ إِلَى الرَّفْعِ لِقَصْدِ الدَّوَامِ كَقَوْلِهِمْ: حمد وشكر، وفَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: 18] كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 18] وَقَوْلُهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [الْبَقَرَة: 229] وَلَمَّا كَانَ الْمَصْدَرُ فِي الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، فِي مِثْلِ هَذَا، دَالًّا عَلَى النَّوْعِيَّةِ، جَازَ عِنْدَ وُقُوعِهِ مُبْتَدَأً أَنْ يَبْقَى مُنَكَّرًا، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ فَرْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ حَتَّى يُنَافِيَ الِابْتِدَاءَ، بَلِ الْمَقْصُودُ النَّوْعُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لِأَزْواجِهِمْ خَبَرٌ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَصِيَّةً بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لِأَزْواجِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ لِإِفَادَةِ الْأَمْرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَصِيَّةُ الْمُتَوَفِّينَ، فَتَكُونُ مِنَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا مَنْ تَحْضُرُهُ الْوَفَاةُ مِثْلَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: 180] فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ إِذَا لَمْ يُوصِ الْمُتَوَفَّى لِزَوْجِهِ بِالسُّكْنَى

فَلَا سُكْنَى لَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَعَ الْوَصِيَّةِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ أَنَّ تَقْبَلَ الْوَصِيَّةَ، وَبَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ هِيَ وَصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَزْوَاجِ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ حَوْلًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] وَقَوْلُهُ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 12] فَذَلِكَ لَا يتَوَقَّف على إِيصَاءِ الْمُتَوَفِّينَ وَلَا عَلَى قَبُولِ الزَّوْجَاتِ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ يَجِبُ تَنْفِيذُهُ، وَعَلَيْهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِأَزْواجِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِوَصِيَّةٍ، وَتَعَلُّقُهُ بِهِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِعَدَمِ تَأَتِّي مَا قَرَّرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ: تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمَتَاعِ فِي قَوْلِهِ: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [الْبَقَرَة: 236] وَالْمَتَاعُ هُنَا هُوَ السُّكْنَى، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى حَذْفِ فِعْلِهِ أَيْ لِيُمَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، وَانْتَصَبَ مَتَاعًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِوَصِيَّةٍ وَالتَّقْدِيرُ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ بِمَتَاعٍ. وَ (إِلَى) مُؤْذِنَةٌ بِشَيْءٍ جُعِلَتْ غَايَتُهُ الْحَوْلَ، وَتَقْدِيرُهُ مَتَاعًا بِسُكْنَى إِلَى الْحَوْلِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَوَلِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهُوَ الْحَوَلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي تَعْتَدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، فَهُوَ كَتَعْرِيفِهِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ (¬1) : إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ وَقَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ حَالٌ مِنْ مَتاعاً مُؤَكِّدَةً، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَتاعاً بَدَلًا مُطَابِقًا، وَالْعَرَبُ تُؤَكِّدُ الشَّيْءَ بِنَفْيِ ضِدِّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَعْمَى يَمْدَحُ بني أُميَّة: خباء عَلَى الْمَنَابِرِ فُرْسَا ... نٌ عَلَيْهَا وَقَالَةٌ غَيْرُ خُرْسِ وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ هُوَ عَلَى قَوْلِ فِرْقَةٍ مَعْنَاهُ: فَإِنْ أَبَيْنَ قَبُولَ الْوَصِيَّةِ فَخَرَجْنَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ عَدَا الْخِطْبَةِ وَالتَّزَوُّجِ، وَالتَّزَيُّنِ فِي الْعِدَّةِ، فَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ. ¬

(¬1) كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة تحد الْبِنْت على أَبِيهَا حولا كَامِلا إِذا لم تكن ذَات زوج، وَقبل هَذَا الْبَيْت: تمنى ابنتاي أَن يعِيش أَبوهُمَا ... وَهل أَنا إلّا من ربيعَة أَو مُضر فَإِن حَان يَوْمًا أَن يَمُوت أبوكما ... فَلَا تخمشا وَجها وَلَا تحلقا شعر وقولا هُوَ الْمَرْء الَّذِي لَا حليفه ... أضاع وَلَا خَان الصّديق وَلَا غدر قَالَهَا لبيد لما بلغ مائَة وَعشْرين سنة يوصى ابْنَتَيْهِ بوصايا الْإِسْلَام.

[سورة البقرة (2) : آية 241]

وَعَلَى قَوْلِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى الَّتِي جَعَلَتِ الْوَصِيَّةَ مِنَ اللَّهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ خَرَجْنَ عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ لِلْإِيجَازِ، مِثْلَ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] أَيْ فَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ فَخَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ أَيْ مَنْ تَزَوَّجَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ عَدَا الْمُنْكَرِ كَالزِّنَا وَغَيْرِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْرُوفَ يُفَسَّرُ بِغَيْرِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهَا فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْخُرُوجُ وَكُلُّ ذَلِكَ فِعْلٌ فِي نَفْسِهَا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» «وَتَنْكِيرُ مَعْرُوفٍ هُنَا وَتَعْرِيفُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأُخْرَى، فَصَارَ هُنَالِكَ مَعْهُودًا» . وَأَحْسَبُ هَذَا غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ، وَأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ وَالنَّكِرَةُ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى عَلِيٍّ- بِفَتْحِ يَاءٍ يُتَوَفَّوْنَ- وَمَا فِيهَا مِنْ نُكْتَةٍ عَرَبِيَّةٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: 234] الْآيَة. [241] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 241] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [الْبَقَرَة: 240] جُعِلَ اسْتِيفَاءً لِأَحْكَامِ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَاتِ، بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ حُكْمُ مُتْعَةِ الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، فَعَمَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ طَلَبَ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُطَلَّقَاتِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ زَادَتْ أَحْكَامًا عَلَى الْآيَةِ الَّتِي سَبَقَتْهَا. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ إِلَى قَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [الْبَقَرَة: 236] قَالَ رَجُلٌ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَجَعَلَهَا بَيَانًا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، إِذْ عَوَّضَ وَصْفَ الْمُحْسِنِينَ بِوَصْفِ الْمُتَّقِينَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْوَصْفَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ لَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ جِنْسِ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُتْعَةِ مِنْ شَأْنِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ دَلَالَةَ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي الْآيَتَيْنِ سَوَاءٌ إِنْ كَانَ اسْتِحْبَابًا أَوْ كَانَ إِيجَابًا. فَالَّذِينَ حَمَلُوا الطَّلَبَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، حَمَلُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِالْأُولَى، وَمُعَوِّلُهُمْ فِي مَحْمَلِ الطَّلَبِ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى اسْتِنْبَاطِ عِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ جَبْرُ خَاطِرِ الْمُطَلَّقَةِ اسْتِبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَثْنِ مَالِكٌ مِنْ مَشْمُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا

[سورة البقرة (2) : آية 242]

الْمُخْتَلِعَةَ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي دَعَتْ إِلَى الْفُرْقَةِ دُونَ الْمُطَلِّقِ. وَالَّذِينَ حَمَلُوا الطَّلَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْوُجُوبِ، اخْتَلَفُوا فِي مَحْمَلِ الطَّلَبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ قَوْلَهُ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ لِجَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ ابْن جُبَيْرٍ وَابْنُ شِهَابٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الطَّلَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى تَأْوِيلِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [الْبَقَرَة: 236] . [242] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 242] كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَيْ كَهَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ، فَالْآيَاتُ هُنَا دَلَائِلُ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . [243، 244] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 243 إِلَى 244] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْحَذَرَ لَا يُؤَخِّرُ الْأَجَلَ، وَأَنَّ الْجَبَانَ قَدْ يَلْقَى حَتْفَهُ فِي مَظِنَّةِ النَّجَاةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّهَا تَمْهِيدٌ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَالْقِتَالُ مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ. فَالْكَلَامُ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] وَفَصَلَتْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ الْآيَاتُ النَّازِلَةُ خِلَالَهُمَا المفتتحة ب يَسْئَلُونَكَ [الْبَقَرَة: 217، 219، 220، 222] . وَمَوْقِعُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَوْقِعُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ قَبْلَ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْخَطَابَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ قَبْلَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ لِمَقَاصِدَ كَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ لَمَّا بَلَغَهُ اسْتِيلَاءُ جُنْدِ الشَّامِ عَلَى أَكثر الْبِلَاد، إِذْ افْتَتَحَ الْخُطْبَةَ فَقَالَ: «مَا هِيَ إِلَّا الْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَأَبْسُطُهَا أُنْبِئْتُ بُسْرًا هُوَ ابْنُ أَبِي أَرْطَاةَ مِنْ قَادَةِ جُنُودِ الشَّامِ قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سُيَدَالُونَ مِنْكُمْ

بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ» فَقَوْلُهُ: «مَا هِيَ إِلَّا الْكُوفَةُ» مُوقَعَةٌ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ عَلَى قَوْلِهِ: «لَأَظُنُّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ إِلَخْ» وَقَالَ عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ حِين قطعت رجل «مَا كُنَّا نَعُدُّكَ لِلصِّرَاعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبْقَى لَنَا أَكْثَرَكَ: أَبْقَى لَنَا سَمْعَكَ، وَبَصَرَكَ، وَلِسَانَكَ، وَعَقْلَكَ، وَإِحْدَى رِجْلَيْكَ» فَقَدَّمَ قَوْلَهُ: مَا كُنَّا نَعُدُّكَ لِلصِّرَاعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ بِالْحُجَّةِ قَبْلَ ذكر الدَّعْوَى تشويقا للدعوى، أَوْ حَمْلًا عَلَى التَّعْجِيلِ بِالِامْتِثَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكِيبَ (أَلَمْ تَرَ إِلَى كَذَا) إِذَا جَاءَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ فِيهِ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ السَّامِعِ أَنْ يَكُونَ رَآهُ، كَانَ كَلَامًا مَقْصُودًا مِنْهُ التَّحْرِيضُ عَلَى عِلْمِ مَا عُدِّيَ إِلَيْهِ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَلِذَلِكَ تَكُونُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ بَلْ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ أَوْ كِنَائِيٍّ، مِنْ مَعَانِي الِاسْتِفْهَامِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَكَانَ الْخِطَابُ بِهِ غَالِبًا مُوَجَّهًا إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَاطَبُ مَفْرُوضًا مُتَخَيَّلًا. وَلَنَا فِي بَيَانِ وَجْهِ إِفَادَةِ هَذَا التَّحْرِيضِ مِنْ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَجُّبِ أَوِ التَّعْجِيبِ، مِنْ عَدَمِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِمَفْعُولِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ، وَيَكُونُ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيًّا مِنْ أَخَوَاتِ ظَنَّ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ وَهُوَ صَوَابٌ لِأَنَّ إِلَى وَلَامَ الْجَرِّ يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلَامِ كَثِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ [النَّمْل: 33] أَيْ لَكِ وَقَالُوا: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ كَمَا يُقَالُ: أَحْمَدُ لَكَ اللَّهَ وَالْمَجْرُورُ بِإِلَى فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ الزَّائِدَ لَا يَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ أُلُوفٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَنَّهُ حَالٌ (¬1) ، عَلَى تَقْدِيرِ: مَا كَانَ مِنْ حَقِّهِمُ الْخُرُوجُ، وَتَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ أُلُوفٌ قَوْلُهُ: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَوْ تُجْعَلُ (إِلَى) تَجْرِيدًا لِاسْتِعَارَةِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ لِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَوْ قَرِينَةٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِتَضْمِينِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ مَعْنَى النَّظَرِ، لِيَحْصُلَ الِادِّعَاءُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْمُدْرَكَ بِالْعَقْلِ كَأَنَّهُ مُدْرَكٌ بِالنَّظَرِ، لِكَوْنِهِ بَيِّنَ ¬

(¬1) عِنْدِي أَن أصل اسْتِعْمَال فعل الرُّؤْيَة فِي معنى الْعلم وعده من أَخَوَات ظن أَنه اسْتِعَارَة الْفِعْل الْمَوْضُوع لإدراك المبصرات إِلَى معنى الْمدْرك بِالْعقلِ الْمُجَرّد لمشابهته للمدرك بالبصر فِي الوضوح وَالْيَقِين وَلذَلِك قد يصلونه بالحرف الَّذِي أَصله لتعدية فعل النّظر.

الصِّدْقِ لِمَنْ عَلِمَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى كَذَا فِي قَوْلِهِ: جُمْلَتَيْنِ: أَلَمْ تَعْلَمْ كَذَا وَتَنْظُرْ إِلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا فَإِنَّهُ كَثُرَ مَجِيءُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ فِي الْأَفْعَالِ الْمَنْفِيَّةِ، مِثْلَ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: 106] . وَالْقَوْلُ (¬1) فِي فِعْلِ الرُّؤْيَةِ وَفِي تَعْدِيَةِ حَرْفِ (إِلَى) نَظِيرُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَجْعَلَ الِاسْتِفْهَامَ إِنْكَارِيًّا، إِنْكَارًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِمَفْعُولِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالْقَوْلُ فِي حَرْفِ (إِلَى) نَظِيرُ الْقَوْلِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً ضُمِّنَ الْفِعْلُ مَعْنَى تَنْظُرُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ مَنْ غَفَلَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مُبْصَرٍ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا: حَقِيقَةً أَوْ تَنْزِيلًا، ثُمَّ نُقِلَ الْمُرَكَّبُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ الْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ فَصَارَ كَالْمَثَلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَرَى الْجُودَ يَجْرِي ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ وَاسْتِفَادَةُ التَّحْرِيضِ، عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِلَازِمِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ أَوِ الْمُقَرَّرِ بِهِ أَوِ الْمُنْكَوَرِ عِلْمُهُ، أَنْ يَكُونَ شَأْنَهُ أَنْ تَتَوَافَرَ الدَّوَاعِي عَلَى عِلْمِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحَرِّضُ عَلَى عِلْمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مُلَازَمَتِهِ لِهَذَا الْأُسْلُوبِ، سِوَى أَنَّهُمْ غَيَّرُوهُ بِاخْتِلَافِ أَدَوَاتِ الْخِطَابِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِنْ تَذْكِيرٍ وَضِدِّهِ، وَإِفْرَادٍ وَضِدِّهِ، نَحْوَ أَلَمْ تَرَيْ فِي خِطَابِ الْمَرْأَةِ وألم تَرَيَا وألم تَرَوْا وألم تَرَيْنَ، فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ هَذَا إِذَا خُوطِبَ بِهَذَا الْمُرَكَّبِ فِي أَمْرٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُبْصَرًا لِلْمُخَاطَبِ أَوْ مُطْلَقًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ خَرَجُوا خَائِفِينَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ جُبْنًا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ أُلُوفٌ فَإِنَّهُ جُمْلَةُ حَالٍ وَهِيَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَثْرَةُ الْعَدَدِ مَحَلًّا لِلتَّعْجِيبِ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْخَوْفَ مِنَ الْعَدْوِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْقَوْمِ الْكَثِيرِينَ أَلَّا يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ خَوْفًا وَهَلَعًا ¬

(¬1) إِنَّمَا كثر الِاسْتِفْهَام التقريري فِي الْأَفْعَال المنفية لقصد تَحْقِيق صدق الْمقر بعد إِقْرَاره لِأَن مقرره أورد لَهُ الْفِعْل الَّذِي يطْلب مِنْهُ الْإِقْرَار بِهِ مورد الْمَنْفِيّ كَأَنَّهُ يَقُول أفسح لَك المجال للإنكار إِن شِئْت أَن تَقول لم أفعل فَإِذا أقرّ بِالْفِعْلِ بعد ذَلِك لم يبْق لَهُ عذر بادعاء أَنه مكره فِيمَا أقرّ بِهِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْجَيْشِ إِذَا بَلَغَ الْأُلُوفَ لَا يُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ. فَقِيلَ هم من نَبِي إِسْرَائِيلَ خالفوا على نَبِي لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ لِلْجِهَادِ، فَفَارَقُوا وَطَنهمْ فِرَارًا مِنِ الْجِهَادِ، وَهَذَا الْأَظْهَر، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ تَمْثِيلًا لِحَالِ أَهْلِ الْجُبْنِ فِي الْقِتَالِ، بِحَالِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، بِجَامِعِ الْجُبْنِ وَكَانَت الْحَالة الشّبَه بِهَا أَظْهَرَ فِي صِفَةِ الْجُبْنِ وَأَفْظَعَ، مِثْلَ تَمْثِيلِ حَالِ الْمُتَرَدِّدِ فِي شَيْءٍ بِحَالِ مَنْ يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَلَا يُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا أَرْجَحُ الْوُجُوهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الشَّهِيرَةِ وَبِخَاصَّةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ هُمْ مِنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَهْلِ دَاوَرْدَانَ قُرْبَ وَاسِطَ (¬1) وَقَعَ طَاعُونٌ بِبَلَدِهِمْ فَخَرَجُوا إِلَى وَادٍ أَفْيَحَ فَرَمَاهُمُ اللَّهُ بِدَاءِ مَوْتٍ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى انْتفَخُوا وَنَتَنَتْ أَجْسَامُهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهَا. وَقِيلَ هُمْ مِنْ أَهْلِ أَذْرُعَاتٍ، بِجِهَاتِ الشَّامِ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ بِدَعْوَةِ النَّبِيءِ حِزْقِيَالِ بْن بُوزِي (¬2) فَتَكُونُ الْقِصَّةُ اسْتِعَارَةً شَبَّهَ الَّذِينَ يَجْبُنُونَ عَنِ الْقِتَالِ بِالَّذِينَ يَجْبُنُونَ مِنَ الطَّاعُونِ، بِجَامِعِ خَوْفِ الْمَوْتِ، وَالْمُشَبَّهُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَامَرَهُمُ الْجُبْنُ لَمَّا دُعُوا إِلَى الْجِهَادِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مَفْرُوضٌ وُقُوعُهُ قَبْل أَنْ يَقَعَ، لِقَطْعِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي قَدْ تَخْطُرُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ لَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ، وَهَذَا بَعِيدٌ يُبْعِدُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ. وَانْتَصَبَ حَذَرَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَعَامِلُهُ خَرَجُوا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ فَرُّوا مِنْ عَدِّوِهِمْ، مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَأَخْلَوْا لَهُ الدِّيَارَ، فَوَقَعَتْ لَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ مَصَائِبُ أَشْرَفُوا بِهَا عَلَى الْهَلَاكِ، ثُمَّ نَجَوْا، أَوْ أَوْبِئَةٌ وَأَمْرَاضٌ، كَانَتْ أَعْرَاضُهَا تُشْبِهُ أَعْرَاضَ الْمَوْتِ، مِثْلَ دَاءِ السَّكْتِ ثُمَّ بَرِئُوا مِنْهَا فَهُمْ فِي حَالِهِمْ تِلْكَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّاجِزِ: ¬

(¬1) داوردان بِفَتْح الدَّال بعْدهَا ألف ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء سَاكِنة كَذَا ضَبطهَا ياقوت وَهِي شَرْقي وَاسِط من جَزِيرَة الْعرَاق قرب دجلة. (¬2) حزقيال بن بوزي هُوَ ثَالِث أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل كَانَ معاصرا لأرمياء ودانيال من القرنين السَّابِع وَالسَّادِس قبل الْمَسِيح وَكَانَ من جملَة الَّذين أسرهم الأشوريون مَعَ الْملك يوياقيم ملك إِسْرَائِيل وَهُوَ يَوْمئِذٍ صَغِير فتنبأ فِي جِهَات الخابور فِي أَرض الكلدانيين حَيْثُ الْقرى الَّتِي كَانَت على نهر الخابور شَرْقي دجلة وَرَأى مرائي أفردت بسفر من أسفار كتب الْيَهُود وفيهَا إنذارات بِمَا يحل ببني إِسْرَائِيل من المصائب وَتُوفِّي فِي الْأسر. [.....]

وَخَارِجٌ أَخْرَجَهُ حُبُّ الطَّمَعِ ... فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَوْتِ وَقَعَ وَيُؤَيِّدُ أَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى حَادِثَةٍ وَلَيْسَتْ مَثَلًا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ الْآيَةَ وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُتَحَدِّثَ عَنْهُمْ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الْبَقَرَة: 246] وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النِّسَاء: 78]- وَقَوْلُهُ- قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمرَان: 154] . فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِدَعْوَةِ حِزْقِيَالَ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ لَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الرُّؤْيَا الَّتِي ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ حِزْقِيَالَ فِي الْإِصْحَاحِ 37 مِنْهُ إِذْ قَالَ: «أَخْرَجَنِي رُوحُ الرَّبِّ وَأَنْزَلَنِي فِي وَسَطِ بُقْعَةٍ مَلْآنَةٍ عِظَامًا وَمُرَّ بِي مِنْ حَوْلِهَا وَإِذَا هِيَ كَثِيرَةٌ وَيَابِسَةٌ فَقَالَ لِي يَا ابْنَ آدَمَ أَتَحْيَا هَذِهِ الْعِظَامُ؟ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي أَنْتَ تَعْلَمُ، فَقَالَ لِي تَنَبَّأْ عَلَى هَذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ، فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ، وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْمِ كَسَاهَا وَبُسِطَ الْجِلْدُ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ وَلَيْسَ فِيهَا رُوحٌ فَقَالَ لِي تَنَبَّأْ لِلرُّوحِ وَقُلْ قَالَ الرَّبُّ هَلُمَّ يَا رُوحُ مِنَ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ وَهَبَّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَنِي فَدَخَلَ فِيهِمُ الرُّوحُ فَحَيَوْا وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظِيمٌ جِدًّا جِدًّا» وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيءُ لِاسْتِمَاتَةِ قَوْمِهِ، وَاسْتِسْلَامِهِمْ لِأَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ «هَذِهِ الْعِظَامُ وَهِي كُلُّ بُيُوتِ إِسْرَائِيلَ هُمْ يَقُولُونَ يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا قَدِ انْقَطَعْنَا فَتَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ قَالَ السَّيِّد الرب هأنذا أَفْتَحُ قُبُورَكُمْ وَأُصْعِدُكُمْ مِنْهَا يَا شَعْبِي وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ وَأَجْعَلُ رُوحِي فِيكُمْ فَتَحْيَوْنَ» فَلَعَلَّ هَذَا الْمَثَلَ مَعَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَت فِيهِ مرائي هَذَا النَّبِي، وَهُوَ الْخَابُورُ، وَهُوَ قُرْبُ وَاسِطَ، هُوَ الَّذِي حَدَا بَعْضَ أَهْلِ الْقِصَصِ إِلَى دَعْوَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مِنْ أَهْلِ دَاوَرْدَانَ: إِذْ لَعَلَّ دَاوَرْدَانَ كَانَتْ بِجِهَاتِ الْخَابُورِ الَّذِي رَأَى عِنْدَهُ النَّبِيءُ حِزْقِيَالُ مَا رَأَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ الْقَوْلُ فِيهِ إِمَّا مَجَازٌ فِي التَّكْوِينِ وَالْمَوْتُ حَقِيقَةٌ أَيْ جَعَلَ فِيهِمْ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَهِيَ وُقُوفُ الْقَلْبِ وَذَهَابُ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحْسَاسِ، اسْتُعِيرَتْ حَالَةُ تَلَقِّي الْمُكَوِّنِ لِأَثَرِ الْإِرَادَةِ بِتَلَقِّي الْمَأْمُورِ لِلْأَمْرِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْعَارِضِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أُصِيبُوا بِمَا لَوْ دَامَ لَكَانَ مَوْتًا مُسْتَمِرًّا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مِنَ الْأَدْوَاءِ النَّادِرَةِ الْمُشْبِهَةِ دَاءَ

السَّكْتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مَجَازًا عَنِ الْإِنْذَارِ بِالْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ حَقِيقَةٌ، أَيْ أَرَاهُمُ اللَّهُ مَهَالِكَ شَمُّوا مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ، ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَحْيَاهُمْ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا حَقِيقِيًّا بِوَحْيِ اللَّهِ، لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَوْتُ مَوْتٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلتَّحْقِيرِ شَتْمًا لَهُمْ، وَرَمَاهُمْ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَثَبَّتَ فِيهِمْ رُوحَ الشَّجَاعَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مَوْعِظَةُ الْمُسْلِمِينَ بِتَرْكِ الْجُبْنِ، وَأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَدْفَعُ الْمَوْتَ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضُرِبَ بِهِمْ هَذَا الْمَثَلُ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ خَائِفِينَ مِنَ الْمَوْتِ، فَلَمْ يُغْنِ خَوْفُهُمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَأَرَاهُمُ اللَّهُ الْمَوْتَ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، لِيَصِيرَ خُلُقُ الشَّجَاعَةِ لَهُمْ حَاصِلًا بِإِدْرَاكِ الْحِسِّ. وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنَ الْقِصَّةِ هُوَ أَنَّهُمْ ذَاقُوا الْمَوْتَ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفِرَارَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَأَنَّهُمْ ذَاقُوا الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الْأَحْزَاب: 16] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا بَثُّ خُلُقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ شَكَرُوا اللَّهَ عَلَى مَا آتَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسَّرَ لَهُمْ مَا هُوَ صَعْبٌ. وَجُمْلَةُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا تَمْهِيدٌ لَهَا كَمَا عَلِمْتَ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِي النَّظْمِ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عَطْفًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَلَوْلَا طُولُ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] ، لَقُلْنَا: إِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ اتِّصَالَ الْغَرَضَيْنِ يُلْحِقُهَا بِهَا بِدُونِ عَطْفٍ. وَجُمْلَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ حَثٌّ عَلَى الْقِتَالِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ تَرْكِهِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ: ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. وَقُدِّمَ وَصْفُ سَمِيعٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ عَلِيمٌ، اهْتِمَامًا بِهِ هُنَا لِأَنَّ مُعْظَمَ أَحْوَالِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَسْمُوعَةِ، مِثْلَ جَلَبَةِ الْجَيْشِ وَقَعْقَعَةِ السِّلَاحِ وَصَهِيلِ الْخَيْلِ. ثُمَّ ذُكِرَ وَصْفُ عَلِيمٌ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَفِيهَا مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مِثْلُ خُلُقِ الْخَوْفِ، وَتَسْوِيلِ النَّفْسِ الْقُعُودَ عَنِ الْقِتَالِ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

[سورة البقرة (2) : آية 245]

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ مَعْنًى صَرِيحٍ وَتَعْرِيضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] . [245] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: 243] إِلَى آخِرِهَا، وَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: 246] الْآيَةَ، قُصِدَ بِهِ الِاسْتِطْرَادُ لِلْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِوَجْهِ اللَّهِ فِي طُرُقِ الْبِرِّ، لِمُنَاسَبَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ يَسْتَدْعِي إِنْفَاقَ الْمُقَاتِلِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِدَّةِ وَالْمَئُونَةِ مَعَ الْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ الْوَاجِدِ فَضْلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِإِعْطَاءِ الْعِدَّةِ لِمَنْ لَا عِدَّةَ لَهُ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُعْسِرِينَ مِنَ الْجَيْشِ، وَفِيهَا تَبْيِينٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 244] فَكَانَتْ ذَاتَ ثَلَاثَةِ أَغْرَاضٍ. وَالْقَرْض إِسْلَافُ الْمَالِ وَنَحْوِهِ بِنِيَّةِ إِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْبَذْلِ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ، فَيَشْمَلُ بِهَذَا الْمَعْنَى بَذْلَ النَّفْسِ وَالْجِسْمِ رَجَاءَ الثَّوَابِ، فَفِعْلُ (يُقْرِضُ) مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْضِيضِ وَالتَّهْيِيجِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْخَيْرِ كَأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ لَا يَدْرِي مَنْ هُوَ أَهْلُ هَذَا الْخَيْرِ وَالْجَدِيرُ بِهِ، قَالَ طَرَفَةُ: إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي ... عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ وَ (ذَا) بَعْدَ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ كَمَا تَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتَ شَخْصًا لَا تَعْرِفُهُ: (مَنْ ذَا) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ الْكَلَامِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِأَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِفْهَامِ كَانَ اسْتِعْمَالُ (ذَا) بَعْدَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِشَارَةِ الْمَجَازِيَّةِ بِأَنْ يَتَصَوَّرَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذِهْنِهِ شَخْصًا مَوْهُومًا مَجْهُولًا صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ فَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ وَتَطَّلُبِ مَعْرِفَةِ فَاعِلِهِ وَلِكَوْنِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يُلَازِمُ ذِكْرَ فِعْلٍ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، قَالَ النُّحَاةُ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّهُمْ وَكُوفِيُّهُمْ: بِأَنَّ (ذَا) مَعَ الِاسْتِفْهَامِ تَتَحَوَّلُ إِلَى اسْمٍ مَوْصُولٍ مُبْهَمٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، فَعَدُّوهُ اسْمَ مَوْصُولٍ، وَبَوَّبَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» فَقَالَ: «بَابُ إِجْرَائِهِمْ ذَا وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي

وَلَيْسَ يَكُونُ كَالَّذِي إِلَّا مَعَ (مَا) وَ (مَنْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ فَيَكُونُ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ الَّذِي وَيَكُونُ مَا- أَيْ أَوْ مَنْ- حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَإِجْرَاؤُهُمْ إِيَّاهُ مَعَ مَا- أَيْ أَوْ مَنْ- بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ» وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النَّحْل: 30] وَبَقِيَّةُ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ مِثْلُ اسْمِ (ذَا) عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَصَرُوا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ عَلَى (ذَا) وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ ذَا مَعَ الِاسْتِفْهَامِ يَصِيرُ اسْمَ مَوْصُولٍ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا مَعْنَى لِوُقُوعِ اسْمَيْ مَوْصُولٍ صِلَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُفِيدُ مُفَادَ اسْمِ الْمَوْصُولِ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ فِي مَعْنَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ، وَإِنَّمَا دَوَّنُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَنَاسَوْا مَا فِي اسْتِعْمَالِ ذَا فِي الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْمَجَازِ، فَكَانَ تَدْوِينُهَا قَلِيلَ الْجَدْوَى. وَالْوَجْهُ أَنَّ (ذَا) فِي الِاسْتِفْهَامِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ لِلْإِشَارَةِ وَإِنَّمَا هِيَ إِشَارَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَالْفِعْلُ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَوِزَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [النَّحْل: 24] وِزَانُ قَوْلِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُفَرِّغٍ يُخَاطِبُ بَغْلَتَهُ: نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ وَالْإِقْرَاضُ: فِعْلُ الْقَرْضِ. وَالْقَرْضُ: السَّلَفُ، وَهُوَ بَذْلُ شَيْءٍ لِيُرَدَّ مِثْلُهُ أَوْ مُسَاوِيهُ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي الْبَذْلِ الَّذِي يُرْجَى الْجَزَاءُ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا فِي تَحْقِيقِ حُصُولِ التَّعْوِيضِ وَالْجَزَاءِ. وَوَصْفُ الْقَرْضِ بِالْحَسَنِ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُبَرَّأً عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالْأَذَى، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبَ وَقِيلَ: الْقَرْضُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ السَّلَفُ، وَلَعَلَّهُ عُلِّقَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُقْرِضُ النَّاسَ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ كَأَنَّهُ أَقْرَضَ اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ الْقَرْضَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَوْا أَنَّ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَثَوَابَ الْقَرْضِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَمْثَالِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَيُضَاعِفَهُ» بِأَلِفٍ بَعْدِ الضَّادِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَرَفْعُ «فَيُضَاعِفُهُ» فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، عَلَى الْعَطْفِ عَلَى يُقْرِضُ، لِيَدْخُلَ فِي حَيِّزِ

التَّحْضِيضِ مُعَاقِبًا لِلْإِقْرَاضِ فِي الْحُصُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِنَصْبِ الْفَاءِ عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ، وَالْمَعْنَى عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أَصْلُ الْقَبْضِ الشَّدُّ وَالتَّمَاسُكُ، وَأَصْلُ الْبَسْطِ: ضِدُّ الْقَبْضِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَالْإِرْسَالُ، وَقَدْ تَفَرَّعَتْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مَعَانٍ: مِنْهَا الْقَبْضُ بِمَعْنَى الْأَخْذِ فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [الْبَقَرَة: 283] وَبِمَعْنَى الشُّحِّ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] وَمِنْهَا الْبَسْطُ بِمَعْنَى الْبَذْلِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [الرَّعْد: 26] وَبِمَعْنَى السَّخَاءِ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَة: 64] وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْقَابِضُ الْبَاسِطُ بِمَعْنَى الْمَانِعِ الْمُعْطِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَيَبْسُطُ) بِالسِّينِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَر وَزوج عَنْ يَعْقُوبَ بِالصَّادِ وَهُوَ لُغَةٌ. يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا: يَقْبِضُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَيَبْسُطُ الْجَزَاءَ وَالثَّوَابَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ يَقْبِضُ نُفُوسًا عَنِ الْخَيْرِ وَيَبْسُطُ نُفُوسًا لِلْخَيْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّقْتِيرِ عَلَى الْبَخِيلِ. وَفِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَمُمْسِكًا تَلَفًا» وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ «أَنَّهُ لَا يُبَالِي كَيْفَ قَرَأَ يَبْسُطُ وَبَسَطَهُ بِالسِّينِ أَوْ بِالصَّادِ» أَيْ لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الصِّرَاطِ وَالسِّرَاطِ، وَالْأَصْلُ هُوَ السِّينُ، وَلَكِنَّهَا قُلِبَتْ صَادًا فِي بَصَطَهُ وَيَبْصُطُ لِوُجُودِ الطَّاءِ بَعْدَهَا، ومخرجها بعيد عَن مَخْرَجِ السِّينِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ السِّينِ إِلَى الطَّاءِ ثَقِيلٌ بِخِلَافِ الصَّادِ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُمْسِكَ الْبَخِيلَ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَحْرُومٌ مِنْ خَيْرٍ كَثِيرٍ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ جَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ: «أَوَ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ» فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَقَالَ: «فَإِنِّي أَقْرَضْتُ اللَّهَ حَائِطًا فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ وَدَارٍ فَسَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لأبي الدحداح» .

[سورة البقرة (2) : آية 246]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) جُمْلَةُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ اسْتِئْنَافٌ ثَان من جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: 243] سِيقَ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ لِجُمْلَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 190] وَفِيهَا زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِفَظَاعَةِ حَالِ التَّقَاعُسِ عَنِ الْقِتَالِ بعد التهيؤ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّكْرِيرُ فِي مَثَلِهِ يُفِيدُ مَزِيدَ تَحْذِيرٍ وَتَعْرِيضٍ بِالتَّوْبِيخِ فَإِنَّ الْمَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَخْلَوْنَ مَنْ نَفَرٍ تَعْتَرِيهِمْ هَوَاجِسُ تُثَبِّطُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ، حُبًّا لِلْحَيَاةِ وَمِنْ نَفَرٍ تَعْتَرِضُهُمْ خَوَاطِرُ تُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ أَكْدَارِ الْحَيَاةِ، وَمَصَائِبِ الْمَذَلَّةِ، فَضَرَبَ اللَّهُ لِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ مَثَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَالثَّانِي قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَقَدْ قَدَّمَ أَحَدَهُمَا وَأَخَّرَ الْآخَرَ لِيَقَعَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ بَيْنَهُمَا. وَمُنَاسَبَةُ تَقْدِيمِ الْأُولَى أَنَّهَا تُشَنِّعُ حَالَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا وَاسْتَضْعَفُوا أَنْفُسَهُمْ، فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَنْسَبُ بِأَنْ تُقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْبَيْضَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَهَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْقَبُولِ مِنَ السَّامِعِينَ لَا مَحَالَةَ، وَمُنَاسَبَةُ تَأْخِيرِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا تَمْثِيلُ حَالِ الَّذِينَ عَرَفُوا فَائِدَةَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِمْ: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ إِلَخْ. فَسَأَلُوهُ دُونَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا عُيِّنَ لَهُمُ الْقِتَالُ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ هُوَ التَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ أَوْ بَعْدَ كُتُبِهِ عَلَيْهِمْ، فَلِلَّهِ بَلَاغَةُ هَذَا الْكَلَامِ، وَبَرَاعَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى أَلَمْ تَرَ [الْبَقَرَة: 243] فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ. وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِلْءِ وَهُوَ تَعْمِيرُ الْوِعَاءِ بِالْمَاءِ وَنَحْوِهِ، وَأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِالتَّشَاوُرِ لِقَوْلِهِمْ: تَمَالَأَ الْقَوْمُ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَالْكُلُّ مَأْخُوذٌ مِنْ مِلْءِ الْمَاءِ فَإِنَّهُم كَانُوا يملأون قِرَبَهُمْ وَأَوْعِيَتَهُمْ كُلَّ مَسَاءٍ عِنْدَ الْوِرْدِ، فَإِذَا مَلَأَ

أَحَدٌ لِآخَرَ فَقَدْ كَفَاهُ شَيْئًا مُهِمًّا لِأَنَّ الْمَاءَ قِوَامُ الْحَيَاةِ، فَضَرَبُوا ذَلِكَ مَثَلًا لِلتَّعَاوُنِ عَلَى الْأَمْرِ النَّافِعِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَالتَّمْثِيلُ بِأَحْوَالِ الْمَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَأَكْفَئُوا إِنَائِي» تَمْثِيلًا لِإِضَاعَتِهِمْ حَقَّهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُوسى إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانُوا مَعَ نَبِيءٍ بَعْدَ مُوسَى، فَإِنَّ زَمَانَ مُوسَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصْبُ مُلُوكٍ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الِانْتِفَاعَ بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ رَسُولُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلَا، وَكَانَ النَّصْرُ لَهُمْ مَعَهُ أَرْجَى لَهُمْ بِبَرَكَةِ رَسُولِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاخْتِلَافِ عَلَى رَسُولِهِمْ. وَتَنْكِيرُ نَبِيءٍ لَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ لَيْسَ هُوَ شَخْصَ النَّبِيءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ حَالُ الْقَوْمِ وَهَذَا دَأْبُ الْقُرْآنِ فِي قِصَصِهِ، وَهَذَا النَّبِيءُ هُوَ صَمْوِيلُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ شَمْوِيلُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا النبيء معهودا عِنْد السَّامِعِينَ حَتَّى يُعْرَفَ لَهُمْ بِالْإِضَافَةِ. وَفِي قَوْله: لِنَبِيٍّ لَهُمُ تَأْيِيدٌ لِقَوْلِ عُلَمَاءِ النَّحْوِ إِنَّ أَصْلَ الْإِضَافَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْجَرِّ، وَمَعْنَى ابْعَثْ لَنا مَلِكاً عَيِّنْ لَنَا مَلِكًا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَلِكٌ فِي حَالَةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَلِكٍ فَكَأَنَّ الْمَلِكَ غَائِبٌ عَنْهُمْ، وَكَأَنَّ حَالَهُمْ يَسْتَدْعِي حُضُورَهُ فَإِذَا عُيِّنَ لَهُمْ شَخْصٌ مَلِكًا فَكَأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنْهُمْ فَبُعِثَ أَيْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ بَعْثِ الْبَعِيرِ أَيْ إِنْهَاضِهِ لِلْمَشْيِ. وَقَوْلُهُ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ الْآيَةَ، اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَتَحْذِيرٌ، فَقَوْلُهُ: أَلَّا تُقاتِلُوا مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ بِهَلْ وَخَبَرٌ لَعَسَى مُتَوَقَّعٌ، وَدَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الْإِيجَازِ فَقَدْ حَكَى جُمَلًا كَثِيرَةً وَقَعَتْ فِي كَلَامٍ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَرَّرَهُمْ عَلَى إِضْمَارِهِمْ نِيَّةَ عَدَمِ الْقِتَالِ اخْتِبَارًا وَسَبْرًا لِمِقْدَارِ عَزْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِالنَّفْيِ فَقَالَ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى «هَلْ لَا تُقَاتِلُونَ» وَلَمْ يَقُلْ: هَلْ تُقَاتِلُونَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمُسْتَفْهِمِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مُقَدَّرًا، وَإِذَا خَرَجَ الِاسْتِفْهَامُ إِلَى مَعَانِيهِ الْمَجَازِيَّةِ كَانَتْ حَاجَةُ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى اخْتِيَارِ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مُتَأَكَّدَةً. وَتَوَقَّعَ مِنْهُمْ عَدَمَ الْقِتَالِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ عَدَمِ الْقِتَالِ إِنْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَجُمْلَةُ: أَلَّا تُقاتِلُوا يَتَنَازَعُ مَعْنَاهَا كُلٌّ مِنْ هَلْ وَعَسَى وَإِنْ، وَأُعْطِيَتْ لِعَسَى، فَلِذَلِكَ قُرِنَتْ بِأَنْ، وَهِيَ دَلِيلٌ لِلْبَقِيَّةِ فَيُقَدَّرُ لِكُلِّ عَامِلٍ مَا يَقْتَضِيهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّحْرِيضُ لِأَنَّ ذَا الْهِمَّةِ يَأْنَفُ

مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى التَّقْصِيرِ، فَإِذَا سُجِّلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِ دَوَاعِيهِ كَانَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يُوصِي غَيْرَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ عَسِيتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي عَسَى إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْمُخَاطَبِ، وَكَأَنَّهُمْ قَصَدُوا مِنْ كَسْرِ السِّينِ التَّخْفِيفَ بِإِمَاتَةِ سُكُونِ الْيَاءِ. وَقَوْلُهُ: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَاءَتْ وَاوُ الْعَطْفِ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ إِذْ كَانَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُفِيدُ إِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُمْ عَنْ كَلَامِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُؤَدِّي مِثْلَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَأَرَادُوا تَأْكِيدَ رَغْبَتِهِمْ، فِي تَعْيِينِ مَلِكٍ يُدَبِّرُ أُمُورَ الْقِتَالِ، بِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ كُلَّ خَاطِرٍ يَخْطُرُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّثْبِيطِ عَنِ الْقِتَالِ، فَجَعَلُوا كَلَامَ نَبِيئِهِمْ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ مُعْتَرِضٍ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِمُ الَّذِي كَمَّلُوهُ، فَمَا يَحْصُلُ بِهِ جَوَابُهُمْ عَنْ شَكِّ نَبِيِّهِمْ فِي ثَبَاتِهِمْ، فَكَانَ نَظْمُ كَلَامِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمرَان: 122] ، وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا [إِبْرَاهِيم: 12] . و (مَا) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَتَعَجُّبِيٌّ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّهِمْ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ سَبَبِهِ. وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ، ولَنا خَبَرُهُ، وَمَعْنَاهُ مَا حَصَلَ لَنَا أَوْ مَا اسْتَقَرَّ لَنَا، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَنا لَامُ الِاخْتِصَاصِ و «أَن» حَرْفُ مَصْدَرٍ وَاسْتِقْبَالٍ، ونُقاتِلْ مَنْصُوبٌ بِأَنْ، وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْمَصْدَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَفِعْلِهَا إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَجْرُورًا بِحَرْفِ جَرٍّ مُقَدَّرٍ قَبْلَ أَنْ مُنَاسِبٍ لِتَعَلُّقِ (لَا نُقَاتِلَ) بِالْخَبَرِ مَا لَنَا فِي أَلَّا نُقَاتِلَ أَيِ انْتِفَاءِ قِتَالِنَا أَوْ مَا لَنَا لِأَلَّا نُقَاتِلَ أَيْ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ قِتَالِنَا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ سَبَبٌ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ، أَوْ سَبَبٌ لِأَجْلِ تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لَنا: بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا لَنَا لِتَرْكِنَا الْقِتَالَ. وَمِثْلُ هَذَا النَّظْمِ يَجِيءُ بِأَشْكَالٍ خَمْسَةٍ: مِثْلَ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 11] وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: 154] فمالك وَالتَّلَدُّدَ حَوْلَ نَجْدٍ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88] ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ حَالٍ، وَلَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَخْتَلِفُ وَمَآلُ الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ.

و «مَا» مُبْتَدَأٌ وَ «لَنَا» خَبَرُهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَنَا. وَجُمْلَةُ «أَلَّا نُقَاتِلَ» حَالٌ وَهِيَ قَيْدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ لَا يَثْبُتُ لَنَا شَيْءٌ فِي حَالَةِ تَرْكِنَا الْقِتَالَ. وَهَذَا كَنَظَائِرِهِ فِي قَوْلك: مَالِي لَا أفعل أَو مَالِي أَفْعَلُ، فَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ مَجْرُورَةٌ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِفِي أَوْ لَامِ الْجَرِّ، مُتَعَلِّقٍ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَنا. وَجُمْلَةُ وَقَدْ أُخْرِجْنا حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِوَجْهِ الْإِنْكَارِ، أَيْ إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ تَرْكِ الْقِتَالِ لِأَنَّ أَسْبَابَ حُبِّ الْحَيَاةِ تَضْعُفُ فِي حَالَةِ الضُّرِّ وَالْكَدَرِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَبْنَاءِ. وَعَطْفُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الدِّيَارِ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْعَادِ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِهِ، وَعَلَى إِبْعَادِهِ مِنْ بَيْنِ مَا يُصَاحِبُهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى جَعْلِ الْوَاوِ عَاطِفَةً عَامِلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَأَبْعَدَنَا عَنْ أَبْنَائِنَا. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَخْ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَوَلَّوْا عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ تَمَنَّوْا قِتَالَ أَعْدَائِهِمْ وَفَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [الْبَقَرَة: 249] إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا الْقِتَالَ خُيِّلُوا أَنَّهُمْ مُحِبُّونَ لَهُ ثُمَّ نَكَصُوا عَنْهُ. وَمِنْ أَحْسَنِ التَّأْدِيب قَوْلُ الرَّاجِزِ: مَنْ قَالَ لَا فِي حَاجَة ... مسؤولة فَمَا ظَلَمْ وَإِنَّمَا الظَّالِمُ من ... يَقُولُ لَا بَعْدَ نَعَمْ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى قِصَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ تَارِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبْرَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَأْتِي بِذِكْرِ الْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ بِفَوَائِدِ مَا فِي التَّارِيخِ، وَيَخْتَارُ لِذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ تَارِيخِ أَهْلِ الشَّرَائِعِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِلْغَرَضِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ الْقُرْآنُ. هَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ حَادِثُ انْتِقَالِ نِظَامِ حُكُومَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصِّبْغَةِ الشُّورِيَّةِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا عِنْدَهُمْ بِعَصْرِ الْقُضَاةِ إِلَى الصِّبْغَةِ الْمَلَكِيَّةِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِعَصْرِ الْمُلُوكِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1380 قَبْلَ الْمِيلَادِ الْمَسِيحِيِّ، خَلَفَهُ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، الَّذِي عَهِدَ لَهُ مُوسَى فِي آخِرِ حَيَاتِهِ بِأَنْ يَخْلُفَهُ فَلَمَّا صَارَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى يُوشَعَ جَعَلَ

لِأَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُكَّامًا يَسُوسُونَهُمْ وَيَقْضُونَ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّاهُمُ الْقُضَاةَ فَكَانُوا فِي مُدُنٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْحُكَّامِ أَنْبِيَاءُ، وَكَانَ هُنَالِكَ أَنْبِيَاءُ غَيْرُ حُكَّامٍ، وَكَانَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسِيرُونَ عَلَى مَا يَظْهَرُ لَهُمْ، وَكَانَ من قضاتهم وَأَنْبِيَائِهِمْ صَمْوِيلُ بْنُ الْقَانَةِ، مِنْ سِبْطِ أَفْرَايِمْ، قَاضِيًا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مَحْبُوبًا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا شَاخَ وَكَبُرَ وَقَعَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْفِلَسْطِينِيِّينَ وَكَانَتْ سِجَالًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ كَانَ الِانْتِصَارُ لِلْفِلَسْطِينِيِّينَ، فَأَخَذُوا بَعْضَ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى إِنَّ تَابُوتَ الْعَهْدِ، الَّذِي سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَسَرَهُ الْفِلَسْطِينِيُّونَ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى (أُشْدُودِ) بِلَادِهِمْ وَبَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ عِدَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا رَأَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، ظَنُّوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ ضَعْفُ صَمْوِيلَ عَنْ تَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ انْتِظَامَ أَمْرِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِسَبَبِ النِّظَامِ الْمَلَكِيِّ، وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ يَتَوَقَّعُونَ هُجُومَ نَاحَاشَ: مَلِكِ الْعُمُونِيِّينَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، فَاجْتَمَعَتْ إِسْرَائِيلُ وَأَرْسَلُوا عُرَفَاءَهُمْ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، وَطَلَبُوا مِنْ صَمْوِيلَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُ بِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاسْتَاءَ صَمْوِيلُ مِنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرَهُمْ عَوَاقِبَ حُكْمِ الْمُلُوكِ «إِنَّ الْملك يَأْخُذ بَيْنكُم لِخِدْمَتِهِ وَخِدْمَةِ خَيْلِهِ وَيَتَّخِذُ مِنْكُمْ مَنْ يَرْكُضُ أَمَامَ مَرَاكِبِهِ، وَيَسْخَرُ مِنْكُمْ حِرَاثَيْنِ لِحَرْثِهِ، وَعَمَلَةً لِعُدَدِ حَرْبِهِ، وَأَدَوَاتِ مَرَاكِبِهِ، وَيَجْعَلُ بَنَاتِكُمْ عَطَّارَاتٍ وَطَبَّاخَاتٍ وَخَبَّازَاتٍ، وَيَصْطَفِي مِنْ حُقُولِكُمْ، وَكُرُومِكُمْ، وَزِيَاتِينِكُمْ، أَجْوَدَهَا فَيُعْطِيهَا لِعَبِيدِهِ، وَيَتَّخِذُكُمْ عَبِيدًا، فَإِذَا صَرَخْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ مَلِكِكُمْ لَا يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لَكُمْ، فَقَالُوا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ مَلِكٍ لِنَكُونَ مِثْلَ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَقَالَ لَهُمْ: هَلْ عَسِيتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ إِلَخْ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا يَقْتَضِي أَنَّ الْفِلَسْطِينِيِّينَ أَخَذُوا بَعْضَ مُدُنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ إِجْمَالًا فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ صَمْوِيلَ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُمْ أَسَرُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَأَطْلَقُوا كُهُولَهُمْ وَشُيُوخَهُمْ، وَفِي ذِكْرِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَبْنَاءِ تَلْهِيبٌ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبْنَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النِّسَاء: 75] .

[سورة البقرة (2) : آية 247]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) أَعَادَ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُمْ عَوَاقِبَ الْحُكُومَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَحَذَّرَهُمُ التَّوَلِّيَ عَنِ الْقِتَالِ، تَكَلَّمَ مَعَهُمْ كَلَامًا آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِإِنَّ إِيذَانٌ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يُتَلَقَّى بِالِاسْتِغْرَابِ وَالشَّكِّ، كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ صَمْوِيلَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ أَنَّهُ لَمَّا صَمَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي سُؤَالِهِمْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا، صَلَّى لِلَّهِ تَعَالَى فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَجِبْهُمْ إِلَى كُلِّ مَا طَلَبُوهُ، فَأَجَابَهُمْ وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا إِلَى مُدُنِكُمْ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ صِفَةَ الْمَلِكِ الَّذِي سَيُعَيِّنُهُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بِنْيَامِينَ اسْمُهُ شَاوَلُ بْنُ قَيْسٍ، فَوَجَدَ فِيهِ الصِّفَةَ وَهِيَ أَنَّهُ أَطْوَلُ الْقَوْمِ، وَمَسَحَهُ صَمْوِيلُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، إِذْ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ زَيْتًا، وَقَبَّلَهُ وَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَيَّامٍ فِي بَلَدِ الْمُصَفَّاةِ وَأَحْضَرَهُ وَعَيَّنَهُ لَهُمْ مَلِكًا، وَذَلِكَ سَنَةَ 1095 قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ فِي الْآيَةِ طَالُوتَ وَهُوَ شَاوُلُ وَطَالُوتُ لَقَبُهُ، وَهُوَ وَزْنُ اسْمِ مَصْدَرٍ مِنَ الطُّولِ، عَلَى وَزْنِ فَعَلُوتٍ مِثْلَ جَبَرُوتٍ وَمَلَكُوتٍ وَرَهَبُوتٍ وَرَغَبُوتٍ وَرَحَمُوتٍ، وَمِنْهُ طَاغُوتٌ أَصْلُهُ طَغَيُوتٌ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ، وَطَالُوتُ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طُولِ قَامَتِهِ، وَلَعَلَّهُ جُعِلَ لَقَبًا لَهُ فِي الْقُرْآنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي عُرِّفَ بِهَا لِصَمْوِيلَ فِي الْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِمُرَاعَاةِ التَّنْظِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَالُوتَ غَرِيمِهِ فِي الْحَرْبِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ لَقَبًا لَهُ فِي قَوْمِهِ قَبْل أَنْ يُؤْتَى الْمُلْكَ، وَإِنَّمَا يُلَقَّبُ بِأَمْثَالِ هَذَا اللَّقَبِ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُمُومِ. وَوَزْنُ فَعَلُوتٍ وَزْنٌ نَادِرٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ السَّامِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُؤْذَنُ بِهِ مَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ، فَإِنَّ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ لَا عِلَّةَ

لَهُ إِلَّا الْعِلْمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ، وَجَزَمَ الرَّاغِبُ بِأَنَّهُ اسْمٌ عَجَمِيٌّ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ وَلَعَلَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الِاسْمِ الْعَجَمِيِّ لَمَّا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْعَجَمِيِّ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَعُجْمَتُهُ عَارِضَةٌ وَلَيْسَ هُوَ عَجَمِيًّا بِالْأَصَالَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الِاسْمُ فِي لُغَة العبرانيين كداوود وشاوول، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِمَصِيرِهِ بِالْإِبْدَالِ إِلَى شِبْهِ وَزْنِ فَاعُولٍ، وَوَزْنُ فَاعُولٍ فِي الْأَعْلَامِ عَجَمِيٌّ، مِثْلُ هاروت وماروت وشاوول وداوود، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا قَابُوسَ مِنَ الصَّرْفِ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْقَبَسِ، وَكَأَنَّ عُدُولَ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ شَاوُلَ لِثِقَلِ هَذَا اللَّفْظِ وَخِفَّةِ طَالُوتَ. وَأَنَّى فِي قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا بِمَعْنَى كَيْفَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ، تَعَجَّبُوا مِنْ جَعْلِ مِثْلِهِ مَلِكًا، وَكَانَ رَجُلًا فَلَّاحًا مِنْ بَيْتٍ حَقِيرٍ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ شُجَاعًا، وَكَانَ أَطْوَل الْقَوْمِ، وَلَمَّا اخْتَارَهُ صَمْوِيل لِذَلِكَ، فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ، وَتَنَبَّأَ نُبُوءَاتٍ كَثِيرَةً، وَرَضِيَتْ بِهِ بَعْضُ إِسْرَائِيلَ، وَأَبَاهُ بَعْضُهُمْ، فَفِي سِفْرِ صَمْوِيلَ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ هُمْ بَنُو بَلِيعَالَ وَالْقُرْآنُ ذَكَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ ظَنُّوا أَنَّ مَلِكَهُمْ سَيَكُونُ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَقُوَّادِهِمْ. وَالسِّرُّ فِي اخْتِيَار نبيئهم لَهُمْ هَذَا الْمَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَبْقَى لَهُمْ حَالَتُهُمُ الشُّورِيَّةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَجَعَلَ مَلِكَهُمْ مِنْ عَامَّتِهِمْ لَا مِنْ سَادَتِهِمْ، لِتَكُونَ قَدَمُهُ فِي الْمُلْكِ غَيْرَ رَاسِخَةٍ، فَلَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَشْتَدَّ فِي اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِ، لِأَنَّ الْمُلُوكَ فِي ابْتِدَاءِ تَأْسِيسِ الدُّوَلِ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَيْرِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَلَمْ يَنْسَوْا مُسَاوَاتَهُمْ لِأَمْثَالِهِمْ، وَمَا يَزَالُونَ يَتَوَقَّعُونَ الْخَلْعَ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْخِلَافَةُ سُنَّةَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتِ الْوِرَاثَةُ مَبْدَأَ الْمُلْكِ فِي الْإِسْلَامِ، إِذْ عَهِدَ مُعَاوِيَةُ ابْن أَبِي سُفْيَانَ لِابْنِهِ يَزِيدَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسَعُهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ذَلِكَ لِأَنَّ شِيعَةَ بَنِي أُمَيَّةَ رَاغِبُونَ فِيهِ، ثُمَّ كَانَتْ قَاعِدَةُ الْوِرَاثَةِ لِلْمُلْكِ فِي دُوَلِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مِنْ تَقَالِيدِ الدُّوَلِ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ التَّارِيخِ، وَهِيَ سُنَّةٌ سَيِّئَةٌ وَلِهَذَا تَجِدُ مُؤَسِّسِي الدُّوَلِ أَفْضَلَ مُلُوكِ عَائِلَاتِهِمْ، وَقُوَّادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ لِقِصَرِ أَنْظَارِهِمْ، وَإِنَّمَا نَظَرُوا إِلَى قِلَّةِ جَدَّتِهِ، فَتَوَهَّمُوا ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْخِلَالِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَأَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ لَا وَفْرَةُ الْمَالِ وَمَاذَا تُجْدِي وَفْرَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقُهُ فِي الْمَصَالِحِ، وَقَدْ قَالَ الرَّاجِزُ: قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الْخَبَيْبَيْنِ قَدِي ... لَيْسَ الْإِمَامُ بِالشَّحِيحِ الْمُلْحِدِ

فَقَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُمْ قَادَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلُوا الْجُمْلَةَ حَالًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا أَحَقِّيَّتَهُمْ بِالْمُلْكِ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ مُسَلَّمٌ مَعْرُوفٌ، إِذْ هُمْ قادة وعرفاء، وشاوول رَجُلٌ مِنَ السُّوقَةِ، فَهَذَا تَسْجِيلٌ مِنْهُمْ بِأَرْجَحِيَّتِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ فَهِيَ حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَهَذَا إِبْدَاءٌ مَانِعٌ فِيهِ مِنْ وِلَايَتِهِ الْمُلْكَ فِي نَظَرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَشَأْنُ الْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ ذَا مَالٍ لِيَكْفِيَ نَوَائِبَ الْأُمَّةِ فَيُنْفِقَ الْمَالَ فِي الْعَدَدِ وَالْعَطَاءِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ مَنْ لَيْسَ بِذِي مَالٍ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِقُصُورِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ سِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ فَإِنَّهُمْ رَأَوُا الْمُلُوكَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ فِي بَذَخَةٍ وَسَعَةٍ، فَظَنُّوا ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْمُلْكِ. وَلِذَا أَجَابَهُمْ نَبِيئُهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ رَادًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ فَإِنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى اصْطِفَاءِ الْجُمْهُورِ إِيَّاهُمْ فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ، وَبِقَوْلِهِ: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ رَادًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ أَيْ زَادَهُ عَلَيْكُمْ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، فَأَعْلَمَهُمْ نَبِيئُهُمْ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا فِي سِيَاسَةِ أَمْرِ الْأُمَّةِ تَرْجِعُ إِلَى أَصَالَةِ الرَّأْيِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ بِالرَّأْيِ يَهْتَدِي لِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الْمَضَائِقِ، وَعِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِشَارَةِ أَوْ عِنْدَ خِلَافِ أَهْلِ الشُّورَى وَبِالْقُوَّةِ يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ فِي مَوَاقِعِ الْقِتَالِ فَيَكُونُ بِثَبَاتِهِ ثَبَاتُ نُفُوسِ الْجَيْشِ. وَقَدَّمَ النَّبِيءُ فِي كَلَامِهِ الْعِلْمَ عَلَى الْقُوَّةِ لِأَنَّ وَقْعَهُ أَعْظَمُ، قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي فَالْعِلْمُ الْمُرَادُ هُنَا، هُوَ عِلْمُ تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عِلْمُ النُّبُوءَةِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ طَالُوتَ لَمْ يَكُنْ مَعْدُودًا مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ. وَلَمْ يُجِبْهُمْ نَبِيئُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِهِ: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ فَإِنَّهُ بِبَسْطَةِ الْعِلْمِ وَبِالنَّصْرِ يَتَوَافَرُ لَهُ الْمَالُ لِأَنَّ «الْمَالَ تَجْلِبُهُ الرَّعِيَّةُ» كَمَا قَالَ أرسطاطاليس، وَلِأَنَّ الْمَلِكَ وَلَوْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ، فَثَرْوَتُهُ لَا تَكْفِي لِإِقَامَةِ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنَ الْخَلِيفَةِ فَمَا دُونَهُ أَنْ يَكُونَ ذَا سَعَةٍ، وَقَدْ وَلِيَ عَلَى الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَلَمْ يَكُونُوا ذَوِي يَسَارٍ، وَغِنَى الْأُمَّةِ فِي بَيْتِ مَالِهَا وَمِنْهُ تَقُومُ مَصَالِحُهَا، وَأَرْزَاقُ وُلَاةِ أُمُورِهَا.

[سورة البقرة (2) : آية 248]

وَالْبَسْطَةُ اسْمٌ مِنَ الْبَسْطِ وَهُوَ السِّعَةُ وَالِانْتِشَارُ، فَالْبَسْطَةُ الْوَفْرَةُ وَالْقُوَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَسَيَجِيءُ كَلَامٌ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ فِي الْأَعْرَافِ [69] . وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من كَلَام النَّبِي، فَيَكُونُ قَدْ رَجَعَ بِهِمْ إِلَى التَّسْلِيمِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. [248] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) أَرَادَ نَبِيئُهُمْ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَار لَهُم شاوول مَلِكًا، فَجَعَلَ لَهُمْ آيَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ التَّابُوتُ، أَيْ تَابُوتُ الْعَهْدِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي يَدِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةِ تَيْسِيرِ الله تَعَالَى إرجاع التَّابُوتِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُونِ قِتَالٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِلَسْطِينِيِّينَ أَرْجَعُوا التَّابُوتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةٍ ذُكِرَتْ فِي سِفْرِ صَمْوِيلَ، حَاصِلُهَا أَنَّ التَّابُوتَ بَقِيَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ فِي بِلَادِ فِلَسْطِينَ مَوْضُوعًا فِي بَيْتِ صَنَمِهِمْ دَاجُونَ وَرَأَى الْفِلَسْطِينِيُّونَ آيَاتٍ مِنْ سُقُوطِ صَنَمِهِمْ عَلَى وَجْهِهِ، وَانْكِسَارِ يَدَيْهِ وَرَأْسِهِ، وَإِصَابَتِهِمْ بِالْبَوَاسِيرِ فِي أَشْدُودَ وَتُخُومِهَا، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْجُرْذَانُ تُفْسِدُ الزُّرُوعَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اسْتَشَارُوا الْكَهَنَةَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِمْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ بِإِرْجَاعِهِ إِلَى إِسْرَائِيل لِأَنَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ غَضِبَ لِتَابُوتِهِ وَأَنْ يُرْجِعُوهُ مَصْحُوبًا بِهَدِيَّةٍ: صُورَةِ خَمْسِ بَوَاسِيرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَصُورَةِ خَمْسِ فِيرَانٍ مَنْ ذَهَبٍ، عَلَى عَدَدِ مُدُنِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ الْعَظِيمَةِ: أَشْدُودَ، وَغَزَّةَ، وَأَشْقَلُونَ، وَجَتْ، وَعَفْرُونَ. وَيُوضَعُ التَّابُوتُ عَلَى عَجَلَةٍ جَدِيدَةٍ تَجُرُّهَا بَقَرَتَانِ وَمَعَهُ صُنْدُوقٌ بِهِ التَّمَاثِيلُ الذَّهَبِيَّةُ، وَيُطْلِقُونَ الْبَقَرَتَيْنِ تَذْهَبَانِ بِإِلْهَامٍ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، فَفَعَلُوا وَاهْتَدَتِ الْبَقَرَتَانِ إِلَى أَنْ بَلَغَ التَّابُوتُ وَالصُّنْدُوقُ إِلَى يَدِ اللُّاوِيِّينَ فِي تُخُمِ بَيْتِ شَمْسٍ، هَكَذَا وَقَعَ فِي سِفْرِ صَمْوِيلَ غَيْرَ أَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ أَنَّ رُجُوعَ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ كَانَ قبل تمْلِيك شاوول، وَصَرِيحُ الْقُرْآنِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ كَلَامِ السِّفْرِ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا بِأَنْ تُحْمَلَ الْحَوَادِثُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِهَا فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كِتَابِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي

أَنَّ الْفِلَسْطِينِيِّينَ لَمَّا عَلِمُوا اتِّحَادَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ تَحْتَ مَلِكٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَّا لِقَصْدِ أَخْذِ الثَّأْرِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَتَخْلِيصِ تَابُوتِ الْعَهْدِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَدَبَّرُوا أَنْ يُظْهِرُوا إِرْجَاعَ التَّابُوتِ بِسَبَبِ آيَاتٍ شَاهَدُوهَا، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ حِدَّةَ بني إِسْرَائِيل تفل إِذَا أُرْجِعَ إِلَيْهِمُ التَّابُوتُ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرُّعْبُ حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ تَمْلِيكِ شَاوُلَ، وَابْتِدَاء ظُهُور الِانْتِصَار بِهِ. وَالتَّابُوتُ اسْمٌ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ فَوَزْنُهُ فَاعُولٌ، وَهَذَا الْوَزْنُ قَلِيلٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ إِنَّمَا هُوَ مُعَرَّبٌ مِثْلَ نَاقُوسٍ وَنَامُوسٍ، وَاسْتَظْهَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ وَزْنَهُ فَعَلُولٌ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ لِقِلَّةِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فَاؤُهَا وَلَامُهَا حَرْفَانِ مُتَّحِدَانِ: مِثْلَ سَلَسٌ وَقَلَقٌ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا أَثْبَتَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي مَادَّةِ تَوَبَ لَا فِي تَبَتَ. وَالتَّابُوتُ بِمَعْنَى الصُّنْدُوقِ الْمُسْتَطِيلِ: وَهُوَ صُنْدُوقٌ أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصُنْعِهِ صَنَعَهُ بَصْلَئِيلُ الْمُلْهَمُ فِي صِنَاعَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَنِجَارَةِ الْخَشَبِ، فَصَنَعَهُ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ- وَهُوَ شَجَرَةٌ مِنْ صِنْفِ الْقَرَظِ- وَجَعَلَ طُولَهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا وَعَرْضَهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا وَارْتِفَاعَهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَغَشَّاهُ بِذَهَبٍ مِنْ دَاخِلُ وَمِنْ خَارِجُ، وَصَنَعَ لَهُ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ، وَسَبَكَ لَهُ أَرْبَعَ حَلَقٍ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ، وَجَعَلَ لَهُ عَصَوَيْنِ مِنْ خَشَبٍ مُغَشَّاتَيْنِ بِذَهَبٍ لِتَدْخُلَ فِي الْحَلَقَاتِ لِحَمْلِ التَّابُوتِ، وَجَعَلَ غِطَاءَهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ عَلَى طَرِيقِ الْغِطَاءِ صُورَةً تَخَيَّلَ بِهَا اثْنَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَهَبٍ بَاسِطِينَ أَجْنِحَتَهُمَا فَوْقَ الْغِطَاءِ، وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَضَعَ فِي هَذَا التَّابُوتِ لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ اللَّذَيْنِ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمَا وَهِيَ الْأَلْوَاحُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ [الْأَعْرَاف: 154] . وَالسَّكِينَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى الِاطْمِئْنَانِ وَالْهُدُوءِ، وَفِي حَدِيثِ السَّعْيِ إِلَى الصَّلَاةِ «عَلَيْكُمْ بِالسِّكِّينَةِ» وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ التَّابُوتِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي حَرْبٍ أَوْ سِلْمِ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ وَاثِقَةً بِحُسْنِ الْمُنْقَلَبِ، وَفِيهِ أَيْضًا كُتُبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ مِمَّا تَسْكُنُ لِرُؤْيَتِهَا نُفُوس الْأُمَّةِ وَتَطْمَئِنُّ لِأَحْكَامِهَا، فَالظَّرْفِيَّةُ عَلَى الْأَوَّلِ مَجَازِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي حَقِيقِيَّةٌ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ إِطْلَاقُ السِّكِّينَةِ عَلَى شَيْءٍ شِبْهِ الْغَمَامِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَلَعَلَّهَا مَلَائِكَةٌ يُسَمَّوْنَ بِالسِّكِّينَةِ. وَالْبَقِيَّةُ فِي الْأَصْلِ مَا يَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُعْظَمِهِ، وَقَدْ بُيِّنَتْ هُنَا بِأَنَّهَا مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَهِيَ بَقَايَا مِنْ آثَارِ الْأَلْوَاحِ، وَمِنَ الثِّيَابِ الَّتِي أَلْبَسَهَا مُوسَى أَخَاهُ

هَارُونَ، حِينَ جَعَلَهُ الْكَاهِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْحَافِظَ لِأُمُورِ الدِّينِ، وَشَعَائِرِ الْعِبَادَةِ قِيلَ: وَمِنْ ذَلِكَ عَصَا مُوسَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ مَجَازًا عَنِ النَّفِيسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُحَافِظُونَ، عَلَى النَّفَائِسِ فَتَبْقَى كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: بَقِيَّةُ قِدْرٍ من قدور توورثت ... لِآلِ الْجُلَاحِ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرِ وَقَدْ فُسِّرَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ رُوَيْشِدٍ الطَّائِيِّ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ أَيْ تَأْتِينِي الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ فِي مَهَامِّكُمْ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ التَّلِيدِ عَلَى الْقَدِيمِ مِنَ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ. وَالْمُرَادُ مِنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ أَهْلُ بَيْتِهِمَا مِنْ أَبْنَاءِ هَارُونَ فَإِنَّهُمْ عُصْبَةُ مُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَتْرُكْ أَوْلَادًا، أَوْ مَا تَرَكَهُ آلُهُمَا هُوَ آثَارُهُمَا، فَيَئُولُ إِلَى مَعْنَى مَا تَرَكَ مُوسَى وَهَارُونُ وَآلُهُمَا، أَوْ أَرَادَ مِمَّا تَرَكَ مُوسَى وَهَارُونُ فَلَفْظُ آلٍ مُقْحَمٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] . وَهَارُونُ هُوَ أَخُو مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُوَ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ مِنْ سِبْطِ لَاوِي وُلِدَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ أَطْفَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ مُوسَى، وَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالرِّسَالَةِ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ سَيُشْرِكُ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ فَيَكُونُ كَالْوَزِيرِ لَهُ، وَأُوحِيَ إِلَى هَارُونَ أَيْضًا، وَكَانَ مُوسَى هُوَ الرَّسُولَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ مُعْظَمُ وَحْيِ اللَّهِ إِلَى هَارُونَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَارُونَ أَوَّلَ كَاهِنٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أَقَامَ لَهُمْ خِدْمَةَ خَيْمَةِ الْعِبَادَةِ، وَجَعَلَ الْكِهَانَةَ فِي نَسْلِهِ، فَهُمْ يَخْتَصُّونَ بِأَحْكَامٍ لَا تُشَارِكُهُمْ فِيهَا بَقِيَّةُ الْأُمَّةِ، مِنْهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَى الْكَاهِنِ، وَمَاتَ هَارُونُ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ، فِي جَبَلِ هُورَ عَلَى تُخُومِ أَرْضِ أَدُومَ فِي مُدَّةِ التِّيهِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ. وَقَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حَالٌ مِنَ (التَّابُوتِ) ، وَالْحَمْلُ هُنَا هُوَ التَّرْحِيلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التَّوْبَة: 92] لِأَنَّ الرَّاحِلَةَ تَحْمِلُ رَاكِبَهَا وَلِذَلِكَ تُسَمَّى حُمُولَةً وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ: «وَكَانَتِ الْحُمُرُ حُمُولَتَهُمْ» وَقَالَ النَّابِغَةُ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 249 إلى 251]

يُخَالُ بِهِ رَاعِي الْحُمُولَةِ طَائِرًا فَمَعْنَى حَمْلِ الْمَلَائِكَةِ التَّابُوتُ هُوَ تَسْيِيرُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ الْبَقَرَتَيْنِ السَّائِرَتَيْنِ بِالْعَجَلَةِ الَّتِي عَلَيْهَا التَّابُوتُ إِلَى مَحَلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ لَهُمَا إِلْفٌ بِالسَّيْرِ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، هَذَا هُوَ الْمُلَاقِي لِمَا فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْحَالَةِ أَيْ فِي رُجُوعِ التَّابُوتِ مِنْ يَدِ أَعْدَائِكُمْ إِلَيْكُمْ، بِدُونِ قِتَالٍ، وَفِيمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّابُوتُ مِنْ آثَارِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي مَجِيئِهِ مِنْ غَيْرِ سَائِقٍ وَلَا إِلْفٍ سَابِقٍ. [249- 251] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 249 الى 251] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ. عطفت الْفَاءُ جُمْلَةَ: (لَمَّا فَصَلَ) ، عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ [الْبَقَرَة: 248] إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 247] لِأَنَّ بَعْثَ الْمَلِكِ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلْقِتَالِ الَّذِي سَأَلُوا لِأَجْلِهِ بَعْثَ النَّبِيءِ، وَقَدْ حُذِفَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامٌ كَثِيرٌ مُقَدَّرٌ: وَهُوَ الرِّضَا بِالْمُلْكِ، وَمَجِيءُ التَّابُوتِ، وَتَجْنِيدُ الْجُنُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ. وَمَعْنَى فَصَلَ بِالْجُنُودِ: قَطَعَ وَابْتَعَدَ بِهِمْ، أَيْ تَجَاوَزُوا مَسَاكِنَهُمْ وَقُرَاهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ أَصْلَهُ فَصْلُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ ثُمَّ عَدُّوهُ إِلَى الْفَاعِلِ فَقَالُوا فَصَلَ نَفْسَهُ حَتَّى صَارَ بِمَعْنَى انْفَصَلَ، فَحَذَفُوا مَفْعُولَهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ مَصْدَرَهُ الْفَصْلُ بِوَزْنِ مَصْدَرِ

الْمُتَعَدِّي، وَلَكِنَّهُمْ رُبَّمَا قَالُوا فَصَلَ فُصُولًا نَظَرًا لِحَالَةِ قُصُورِهِ، كَمَا قَالُوا صَدَّهُ صَدًّا، ثُمَّ قَالُوا صَدَّ هُوَ صَدًّا، ثُمَّ قَالُوا صَدَّ صُدُودًا. وَنَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ صِفَةِ الْوَحْيِ «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ» أَيْ فَيَفْصِلُ نَفْسَهُ عَنِّي، وَالْمَعْنَى فَيَنْفَصِلُ عَنِّي. وَضَمِيرُ قالَ رَاجِعٌ إِلَى (طَالُوتَ) ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ إِلَى نَبِيئِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ طَالُوتُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا، يُوحَى إِلَيْهِ: إِمَّا اسْتِنَادًا لِإِخْبَارٍ تَلقاهُ من صمويل، وَإِمَّا لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ بِالشُّرْبِ مِنَ النَّهَرِ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا فِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ عَنِ اجْتِهَادِهِ، إِذْ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي شَرْعِهِمْ فَأَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ بِاجْتِهَادِهِ إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ أَوْ لِأَنَّهُ فِي شَرْعِهِمْ أَنَّ اللَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْجَيْشِ طَاعَةَ أَمِيرِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَطَاعَةُ الْمَلِكِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، وَكَانَ طَالُوتُ قَدْ رَأَى أَنْ يَخْتَبِرَ طَاعَتَهُمْ وَمِقْدَارَ صَبْرِهِمْ بِهَذِهِ الْبَلْوَى فَجَعَلَ الْبَلْوَى مِنَ اللَّهِ إِذْ قَدْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ بِهَا. وَعَلَى كُلٍّ فَتَسْمِيَةُ هَذَا التَّكْلِيفِ ابْتِلَاءً تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى إِلَى عُقُولِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِظْهَارُ الِاعْتِنَاءِ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَأَنَّ فِيهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُمْتَثِلِ، وَغَضَبَهُ عَلَى الْعَاصِي، وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّقْرِيبَاتِ فِي مُخَاطَبَاتِ الْعُمُومِ شَائِعَةٌ، وَأَكْثَرُ كَلَامِ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ سَائِرٌ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ كَثِيرِ الْعدَد، وَقَوي الْعَهْد أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ قُوَّةَ يَقِينِهِمْ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ، وَمُخَاطَرَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَحَمُّلَهُمُ الْمَتَاعِبَ وَعَزِيمَةَ مُعَاكَسَتِهِمْ نُفُوسَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ سَتَمُرُّونَ عَلَى نَهَرٍ، وَهُوَ نَهَرُ الْأُرْدُنِّ، فَلَا تَشْرَبُوا مِنْهُ فَمِنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي غَرْفَةٍ يَغْتَرِفُهَا الْوَاحِدُ بِيَدِهِ يَبُلُّ بِهَا رِيقَهُ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يَخْتَبِرُ بِهِ طَاعَةَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ السَّيْرَ فِي الْحَرْبِ يُعَطِّشُ الْجَيْشَ، فَإِذَا وَرَدُوا الْمَاءَ تَوَافَرَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى الشُّرْبِ مِنْهُ عَطَشًا وَشَهْوَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِبْقَاءَ نَشَاطِهِمْ: لِأَنَّ الْمُحَارِبَ إِذَا شَرِبَ مَاءً كَثِيرًا بَعْدَ التَّعَبِ، انْحَلَّتْ عُرَاهُ وَمَالَ إِلَى الرَّاحَةِ، وَأَثْقَلَهُ الْمَاءُ. وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ قَالَ طُفَيْلٌ يَذْكُرُ خَيْلَهُمْ: فَلَمَّا شَارَفْتَ أَعْلَامُ طَيٌّ ... وَطَيٌّ فِي الْمَغَارِ وَفِي الشِّعَابِ سَقَيْنَاهُنَّ مِنْ سَهْلِ الْأَدَاوِي ... فَمُصْطَبِحٌ عَلَى عَجَلٍ وَآبِي يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي مَارَسَ الْحَرْبَ مِرَارًا لَمْ يَشْرَبْ لِأَنَّهُ لَا يَسْأَمُ مِنَ الرَّكْضِ وَالْجَهْدِ، فَإِذَا كَانَ حَاجِزًا كَانَ أَخَفَّ لَهُ وَأَسْرَعَ، وَالْغِرُّ مِنْهُمْ يَشْرَبُ لِجَهْلِهِ لِمَا يُرَادُ مِنْهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا رَخَّصَ لَهُمْ فِي اغْتِرَافِ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَالنَّهَرُ بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ وَبِسُكُونِهَا لِلتَّخْفِيفِ، وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ شَعْرٌ وَبَحْرٌ وَحَجْرٌ فَالسُّكُونُ ثَابِتٌ لِجَمِيعِهَا. وَقَوْلُهُ: فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ فَلَيْسَ مُتَّصِلًا بِي وَلَا عَلَقَةَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَصْلُ «مِنْ» فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ تَبْعِيضٌ مَجَازِيٌّ فِي الِاتِّصَالِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمرَان: 28] وَقَالَ النَّابِغَةُ: إِذَا حَاوَلَتْ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَسَمَّى بَعْضُ النُّحَاةِ «مِنْ» هَذِهِ بِالِاتِّصَالِيَّةِ. وَمَعْنَى قَوْلِ طَالُوتَ «لَيْسَ مِنِّي» يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْغَضَبَ عَلَيْهِ وَالْبُعْدَ الْمَعْنَوِيَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَفْصِلُهُ عَنِ الْجَيْشِ، فَلَا يُكْمِلُ الْجِهَادَ مَعَهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إِظْهَارَ مَكَانَةِ مَنْ تَرَكَ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ وَوَلَائِهِ وَقُرْبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُرَادَهُ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي غُنْيَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّارِبُ مُبْعَدًا مِنَ الْجَيْشِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ هُوَ بَاقِي الْجَيْشِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّارِبِينَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَأَتَى بِهِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ لِيَقَعَ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا لِأَنَّ التَّأْكِيدَ شَدِيدُ الِاتِّصَالِ بِالْمُؤَكِّدِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْطُوق الأولى وَمَفْهُومِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ مَفْهُومَ (مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أَنَّ مَنْ طَعِمَهُ لَيْسَ مِنْهُ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمُغْتَرِفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ هُوَ كَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ فِي الْوَلَاءِ وَالْقُرْبِ، وَلَيْسَ هُوَ قِسْمًا وَاسِطَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الرُّخْصَةُ لِلْمُضْطَرِّ فِي بِلَالِ رِيقِهِ، وَلَمْ تَذْكُرْ كُتُبُ الْيَهُودِ هَذَا الْأَمْرَ بِتَرْكِ شُرْبِ الْمَاءِ مِنَ النَّهَرِ حِينَ مُرُورِ الْجَيْشِ فِي قِصَّةِ شَاوُلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ قَرِيبا مِنْهُ إِذْ قَالَ فِي سِفْرِ صَمْوِيلَ لَمَّا ذَكَرَ أَشَدَّ وَقْعَةٍ بَيْنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ فِلَسْطِينَ: «وَضَنُكَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ شَاوُلَ حَلَّفَ الْقَوْمَ قَائِلًا مَلْعُونٌ مَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا إِلَى الْمَسَاءِ حَتَّى أَنْتَقِمَ مِنْ أَعْدَائِي» وَذَكَرَ فِي سِفْرِ الْقُضَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ مِثْلَ وَاقِعَةِ النَّهَرِ، فِي حَرْبِ جَدْعُونَ قَاضِي إِسْرَائِيلَ لِلْمَدْيَانِيِّينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ تَكَرَّرَتْ لِأَنَّ مِثْلَهَا يَتَكَرَّرُ فَأَهْمَلَتْهَا كُتُبُهُمْ فِي أَخْبَارِ شَاوُلَ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَطْعَمْهُ بِمَعْنَى لَمْ يَذُقْهُ، فَهُوَ مِنَ الطَّعْمِ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَهُوَ الذَّوْقُ أَيِ اخْتِبَارُ الْمَطْعُومِ،

وَكَانَ أَصْلُهُ اخْتِبَارَ طَعْمِ الطَّعَامِ أَيْ مُلُوحَتِهِ أَوْ ضِدِّهَا، أَوْ حَلَاوَتِهِ أَوْ ضِدِّهَا، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ فَأَطْلَقَ عَلَى اخْتِبَارِ الْمَشْرُوبِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقَرِينَةِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيُّ وَقِيلَ الْعَرْجِيُّ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا (¬1) فَالْمَعْنَى لَمْ أَذُقْ. فَأَمَّا أَنْ يُطْلَقَ الطَّعْمُ عَلَى الشُّرْبِ أَيِ ابْتِلَاعِ الْمَاءِ فَلَا، لِأَنَّ الطَّعْمَ الْأَكْلُ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ مَنْفِيًّا، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الذَّوْقِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عَيَّرُوا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِخُرُوجِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَيْهِ فَقَالَ «أَطْعِمُونِي مَاءً» إِذْ لَمْ يُعْرَفُ فِي كَلَام الْعَرَب الْأَمر مِنَ الْإِطْعَامِ إِلَّا بِمَعْنَى الْأَكْلِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ الشَّرَابَ فَإِنَّمَا يَقُولُ اسْقُونِي لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ طَعِمَ بِمَعْنَى شَرِبَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى أَكَلَ (¬2) . وَالْغَرْفَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، الْمَرَّةُ مِنَ الْغَرْفِ وَهُوَ أَخْذُ الْمَاءِ بِالْيَدِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمَغْرُوفُ مِنَ الْمَاءِ. وَوَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ: بِيَدِهِ مَعَ أَنَّ الْغَرْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَقْدِيرَ مِقْدَارِ الْمَاءِ الْمَشْرُوبِ، فَيَتَنَاوَلُهُ بَعْضُهُمْ كَرْهًا، فَرُبَّمَا زَادَ عَلَى الْمِقْدَارِ فَجُعِلَتِ الرُّخْصَةُ الْأَخْذَ بِالْيَدِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَشَرِبُوا مِنْهُ عَلَى قِلَّةِ صَبْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِمُزَاوَلَةِ الْحُرُوبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ صَرَّحُوا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ النَّهَرِ فَقَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ قَالُوهُ لَمَّا رَأَوْا جُنُودَ الْأَعْدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ قُوَّةَ الْعَدُوِّ، وَكَانُوا يُسِرُّونَ الْخَوْفَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْجَيْشَانِ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا كِتْمَانَ مَا بِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ انْتِقَالٌ بَدِيعٌ إِلَى ذِكْرِ جُنْدِ جَالُوتَ وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ، وَهُوَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ جُلْيَاتٍ كَانَ طُولُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا، وَكَانَ مُسَلَّحًا مُدَرَّعًا، وَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَارِزَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِلصَّفِّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ مبارزته وعيرهم بجنبهم. ¬

(¬1) هُوَ شَاعِر جاهلي قتل يَوْم بدر والنقاخ بِضَم النُّون وبخاء مُعْجمَة هُوَ المَاء الصافي وَالْبرد قيل هُوَ النّوم وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ المَاء الْبَارِد وَالْخطاب لليلى بنت أبي مرّة بن عُرْوَة بن مَسْعُود. (¬2) لدلالته على الْهَلَع واضطراب الْفُؤَاد فيعتريه الْعَطش وَقد هجاه بَعضهم لذَلِك فَقَالَ: بلّ المنابر من خوف وَمن وَهل ... واستطعم المَاء لما جدّ فِي الْهَرَب فَأَشَارَ إِلَى هجائه بِأَنَّهُ طلب المَاء وَبِأَنَّهُ استطعمه أَي سَمَّاهُ طَعَاما.

وَقَوْلُهُ: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ الْآيَةَ، أَيِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْحَيَاةَ وَيَرْجُونَ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلِقَاءُ اللَّهِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ شَهَادَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ «مِنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» فَالظَّنُّ عَلَى بَابِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ خَبَرِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَا مَوْقِعَ لِلِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا تَثْبِيتَ أنفسهم وأنفس رفقائهم، وَلِذَلِكَ دَعَوْا إِلَى مَا بِهِ النَّصْرُ وَهُوَ الصَّبْر والتوكل فَقَالُوا وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مُؤَخِّرَةُ الْجَيْشِ فِئَةً، لِأَنَّ الْجَيْشَ يَفِيءُ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً هَذَا دُعَاؤُهُمْ حِينَ اللِّقَاءِ بِطَلَبِ الصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ، وَعَبَّرُوا عَنْ إِلْهَامِهِمْ إِلَى الصَّبْرِ بِالْإِفْرَاغِ اسْتِعَارَةً لقُوَّة الصَّبْر فَإِن الْقُوَّة وَالْكَثْرَةِ يَتَعَاوَرَانِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِمَا، كَقَوْلِ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ: كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ، فَاسْتُعِيرَ الْإِفْرَاغُ هُنَا لِلْكَثْرَةِ مَعَ التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ وَتَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ اسْتِعَارَةً لِعَدَمِ الْفِرَارِ شِبْهِ الْفِرَارِ وَالْخَوْفِ بِزَلَقِ الْقَدَمِ، فَشَبَّهَ عَدَمَهُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي الْمَأْزِقِ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهَزَمُوهُمْ إِلَخْ إِلَى انْتِصَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَهُوَ انْتِصَارٌ عَظِيمٌ كَانَ بِهِ نَجَاحُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فِلَسْطِينَ وَبِلَادِ الْعَمَالِقَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ فَقَدْ قَالَ مُؤَرِّخُوهُمْ إِنَّ طَالُوتَ لَمَّا خَرَجَ لِحَرْبِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ جَمَعَ جَيْشًا فِيهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ، فَلَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ حَصَلَ لَهُمْ ضَنْكٌ شَدِيدٌ وَاخْتَبَأَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ فِي جَبَلِ إِفْرَايِمْ فِي الْمَغَارَاتِ وَالْغِيَاضِ وَالْآبَارِ، وَلَمْ يَعْبُرُوا الْأُرْدُنَّ، وَوَجَمَ طالوت واستخار صمويل، وَخَرَجَ لِلْقِتَالِ فَلَمَّا اجْتَازَ نَهَرَ الْأُرْدُنِّ عَدَّ الْجَيْشَ الَّذِي مَعَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا نَحْوَ سِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، ثُمَّ وَقَعَتْ مُقَاتَلَاتٌ كَانَ النَّصْرُ فِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَشَجَّعَ الَّذين جبنوا واختبأوا فِي الْمَغَارَاتِ وَغَيْرِهَا فَخَرَجُوا وَرَاءَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَغَنِمُوا غَنِيمَةً كَثِيرَةً، وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ لِمِقْدَارِ الْمَدَدِ بَيْنَ الْحَوَادِثِ وَلَا تَنْصِيصَ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا وَالْمُتَأَخِّرِ وَمَعَ انْتِقَالَاتٍ فِي الْقِصَصِ غَيْرِ مُتَنَاسِبَةٍ، ظَهَرَ دَاوُدُ بْنُ يَسَّى الْيَهُودِيُّ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَمْوِيلَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ يَسَّى فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَيَمْسَحُ أَصْغَرَ أَبْنَاءِ يَسَّى لِيَكُونَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ بَعْد حِينٍ، وَسَاقَ اللَّهُ دَاوُدَ إِلَى شَاوُلَ (طَالُوتَ) بِتَقْدِيرٍ عَجِيبٍ فَحُظِيَ عِنْدَ شَاوُلَ، وَكَانَ دَاوُدُ مِنْ قَبْلُ رَاعِيَ غَنَمِ أَبِيهِ، وَكَانَ ذَا شَجَاعَةٍ وَنَشَاطٍ

وَحُسْنِ سَمْتٍ، وَلَهُ نُبُوغٌ فِي رَمْيِ الْمِقْلَاعِ، فَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ الْتَقَى الْفِلَسْطِينِيُّونَ مَعَ جَيْشِ طَالُوتَ وَخَرَجَ زَعِيمٌ مِنْ زُعَمَاءِ فِلَسْطِينَ اسْمُهُ جُلْيَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مُبَارَزَتَهُ فَانْبَرَى لَهُ دَاوُدُ وَرَمَاهُ بِالْمِقْلَاعِ فَأَصَابَ الْحَجَرُ جَبْهَتَهُ وَأَسْقَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَاعْتَلَاهُ دَاوُدُ وَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى شَاوُلَ وَانْهَزَمَ الْفِلَسْطِينِيُّونَ، وَزَوَّجَ شَاوُلُ ابْنَتَهُ الْمُسَمَّاةَ مِيكَالَ مِنْ دَاوُدَ، وَصَارَ دَاوُدُ بَعْدَ حِينٍ مَلِكًا عِوَضَ شَاوُلَ، ثُمَّ آتَاهُ اللَّهُ النُّبُوءَةَ فَصَارَ مَلِكًا نَبِيئًا، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ. وَيَأْتِي ذِكْرُ دَاوُدَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَام [83] . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. ذَيَّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ كُلَّ الْوَقَائِعِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي أَشَارَتْ بِهَا الْآيَاتُ السَّالِفَةُ لِتَدْفَعَ عَنِ السَّامِعِ الْمُتَبَصِّرِ مَا يُخَامِرُهُ مِنْ تَطَلُّبِ الْحِكْمَةِ فِي حَدَثَانِ هَذِهِ الْوَقَائِعِ وَأَمْثَالِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلِكَوْنِ مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةً مَنْ عِبَرِ الْأَكْوَانِ وَحِكْمَةً مِنْ حِكَمِ التَّارِيخِ، وَنُظُمِ الْعُمْرَانِ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهَا أَحَدٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَبْلَ إِدْرَاكِ مَا فِي مَطَاوِيهَا، عُطِفَتْ عَلَى الْعِبَرِ الْمَاضِيَةِ كَمَا عُطِفَ قَوْلُهُ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ [الْبَقَرَة: 247] وَمَا بعده من رُؤُوس الْآيِ. وَعدل عَن الْمُتَعَارف فِي أَمْثَالِهَا مِنْ تَرْكِ الْعَطْفِ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ (دَفْعُ) بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ. وَالدِّفَاعُ مَصْدَرُ دَافَعَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي دَفْعٍ لَا لِلْمُفَاعَلَةِ، كَقَوْل مُوسَى بن جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ: لَا أَشْتَهِي يَا قَوْمُ إِلَّا كَارِهًا ... بَابَ الْأَمِيرِ وَلَا دِفَاعَ الْحَاجِبِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: 38] أَيْ يَدْفَعُ لِأَنَّ الَّذِي يَدْفَعُ حَقِيقَةً هُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ الدَّفْعَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَدَّرَ أَسْبَابَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَجُعِلَ سَبَبُ الدِّفَاعِ بَعْضَهُمْ وَهُوَ مِنْ بَابِ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: 17] وَأَصْلُ مَعْنَى الدَّفْعِ الضَّرْبُ بِالْيَدِ لِلْإِقْصَاءِ عَنِ الْمَرَامِ. قَالَ: فَدَفَعْتُهَا فَتَدَافَعَتْ وَهُوَ ذَبٌّ عَنْ مَصْلَحَةِ الدَّافِعِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَوْلَا وُقُوعُ دَفْعِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا آخَرَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَإِيدَاعِهِ قُوَّةَ الدَّفْعِ وَبَوَاعِثَهُ فِي الدَّافِعِ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، أَيْ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ، وَاخْتَلَّ

نِظَامُ مَا عَلَيْهَا، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَجْنَاسٍ وَأَنْوَاعٍ وَأَصْنَافٍ، خَلَقَهَا قَابِلَةً لِلِاضْمِحْلَالِ، وَأَوْدَعَ فِي أَفْرَادِهَا سُنَنًا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ بَقَاؤُهَا إِلَى أَمَدٍ أَرَادَهُ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ قَانُونَ الْخَلَفِيَّةِ مُنْبَثًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ فَمَا مِنْ نَوْعٍ إِلَّا وَفِي أَفْرَادِهِ قُوَّةُ إِيجَادِ أَمْثَالِهَا لِتَكُونَ تِلْكَ الْأَمْثَالُ أَخْلَافًا عَنِ الْأَفْرَادِ عِنْدَ اضْمِحْلَالِهَا، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّنَاسُلِ فِي الْحَيَوَانِ، وَالْبَذْرِ فِي النَّبْتِ، وَالنَّضْحِ فِي الْمَعَادِنِ، وَالتَّوَلُّدِ فِي الْعَنَاصِرِ الْكِيمَاوِيَّةِ. وَوُجُودُ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ أَوَّلُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُوجِدَهَا قَدْ أَرَادَ بَقَاءَ الْأَنْوَاعِ، كَمَا أَرَادَ اضْمِحْلَالَ الْأَفْرَادِ عِنْدَ آجَالٍ مُعَيَّنَةٍ، لِاخْتِلَالِ أَوِ انْعِدَامِ صَلَاحِيَّتِهَا، وَنَعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذِهِ الْأَكْوَانِ لَا يُحِبُّ فَسَادَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَفْرَاد قُوَّة بهَا بَقَاء الْأَنْوَاع، أودع فِي الْأَفْرَاد أَيْضا قوى بهَا بَقَاء تِلْكَ الْأَفْرَاد بِقدر الطَّاقَة، وَهِي قوى تطلّب الملائم وَدفع الْمنَافِي، أَو تطلّب الْبَقَاء وكراهية الْهَلَاك، وَلذَلِك أودع فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إِدْرَاكَاتٍ تَنْسَاقُ بِهَا، بِدُونِ تَأَمُّلٍ أَوْ بِتَأَمُّلٍ، إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهَا وَبَقَاؤُهَا، كَانْسِيَاقِ الْوَلِيدِ لِالْتِهَامِ الثَّدْيِ، وَأَطْفَالِ الْحَيَوَانِ إِلَى الْأَثْدَاءِ وَالْمَرَاعِي، ثُمَّ تَتَوَسَّعُ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتُ، فَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا كُلُّ مَا فِيهِ جَلْبُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَاعْتِيَادٍ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ الشَّاهِيَةِ. وَأَوْدَعَ أَيْضًا فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إِدْرَاكَاتٍ تَنْدَفِعُ بِهَا إِلَى الذَّبِّ عَنْ أَنْفُسِهَا، وَدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْهَا، عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كَتَعْرِيضِ الْيَدِ بَيْنَ الْهَاجِمِ وَبَيْنَ الْوَجْهِ، وَتَعْرِيضِ الْبَقَرَةِ رَأْسَهَا بِمُجَرَّدِ الشُّعُورِ بِمَا يَهْجُمُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي تَفَوُّقِ قُوَّةِ الْهَاجِمِ عَلَى قُوَّةِ الْمُدَافِعِ، ثُمَّ تَتَوَسَّعُ هَاتِهِ الْإِدْرَاكَاتُ فَتَتَفَرَّعُ إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ دَفْعُ الْمَنَافِرِ مِنِ ابْتِدَاءٍ بِإِهْلَاكِ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الضُّرُّ، وَمِنْ طَلَبِ الْكِنَّ، وَاتِّخَاذِ السِّلَاحِ، وَمُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْهَلَاكِ، وَلَوْ بِآخِرِ مَا فِي الْقُوَّةِ وَهُوَ الْقُوَّةُ الْغَاضِبَةُ وَلِهَذَا تَزِيدُ قُوَّةُ الْمُدَافَعَةِ اشْتِدَادًا عِنْدَ زِيَادَةِ تَوَقُّعِ الْأَخْطَارِ حَتَّى فِي الْحَيَوَانِ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ أَسْبَابِ الْأَذَى لِمُرِيدِ السُّوءِ بِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا لِإِرَادَةِ بَقَائِهَا، وَقَدْ عَوَّضَ الْإِنْسَانَ عَمَّا وَهَبَهُ إِلَى الْحَيَوَانِ الْعَقْلَ وَالْفِكْرَةَ فِي التَّحَيُّلِ عَلَى النَّجَاةِ مِمَّنْ يُرِيدُ بِهِ ضَرَرًا، وَعَلَى إِيقَاعِ الضُّرِّ بِمَنْ يُرِيدُهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْصِدَهُ بِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِعْدَادِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ، أَوْ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ خَصَائِصَ فِيهَا مَنَافِعُ لِغَيْرِهِ وَلِنَفْسِهِ لِيَحْرِصَ كل على إبْقَاء الْآخَرِ، فَهَذَا نَامُوسٌ عَامٌّ، وَجَعَلَ

الْإِنْسَانَ بِمَا أَوْدَعَهُ مِنَ الْعَقْلِ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ. وَجَعَلَ لَهُ الْعِلْمَ بِمَا فِي الْأَنْوَاعِ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَبِمَا فِي أَفْرَادِ نَوْعِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ. فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابَ الدِّفَاعِ بِمَنْزِلَةِ دَفْعٍ مِنَ اللَّهِ يَدْفَعُ مُرِيدَ الضُّرِّ بِوَسَائِلَ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُرَادُ إِضْرَارُهُ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْوَسَائِلُ الَّتِي خَوَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَفْرَادَ الْأَنْوَاعِ، لَاشْتَدَّ طَمَعُ الْقُوَى فِي إِهْلَاكِ الضَّعِيفِ، وَلَاشْتَدَّتْ جَرَاءَةُ مَنْ يَجْلِبُ النَّفْعَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَنَافِعَ يَجِدُهَا فِي غَيْرِهِ، فَابْتَزَّهَا مِنْهُ، وَلَأَفْرَطَتْ أَفْرَادُ كُلِّ نَوْعٍ فِي جَلْبِ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ إِلَى أَنْفُسِهَا بِسَلْبِ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ لِغَيْرِهَا، مِمَّا هُوَ لَهُ، وَلَتَنَاسَى صَاحِبُ الْحَاجَةِ حِينَ الِاحْتِيَاجِ مَا فِي بَقَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ أَيْضًا. وَهَكَذَا يَتَسَلَّطُ كُلُّ ذِي شَهْوَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ قَوِيٍّ عَلَى ضَعِيفِهِ، فَيُهْلِكُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَيُهْلِكُ الْأَقْوَى الْقَوِيَّ، وَتَذْهَبُ الْأَفْرَادُ تِبَاعًا، وَالْأَنْوَاعُ كَذَلِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا أَقْوَى الْأَفْرَادِ مِنْ أَقْوَى الْأَنْوَاعِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ أَعْوَزَتْهُ حَاجَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ يَجِدُهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ نَوْعِهِ، كَحَاجَةِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، أَوْ مِنْ أَنْوَاعٍ أُخَرَ، كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْبَقَرَةِ، فَيَذْهَبُ هَدْرًا. وَلَمَّا كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ هُوَ الْمُهَيْمِنَ عَلَى بَقِيَّةِ مَوْجُودَاتِ الْأَرْضِ وَهُوَ الَّذِي تَظْهَرُ فِي أَفْرَادِهِ جَمِيعُ التَّطَوُّرَاتِ وَالْمَسَاعِي، خَصَّتْهُ الْآيَةُ بِالْكَلَامِ فَقَالَت: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ الْقُوَّةَ الشَّاهِيَةَ لِبَقَائِهِ وَبَقَاءِ نَوْعِهِ، وَجَعَلَ فِيهِ الْقُوَّةَ الْغَاضِبَةَ لِرَدِّ الْمُفْرِطِ فِي طَلَبِ النَّافِعِ لِنَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ اسْتِبْقَاءُ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يذب عَنْهَا لما فِي بَقَائِهَا مِنْ مَنَافِعَ لَهُ. وَبِهَذَا الدِّفَاعِ حَصَلَتْ سَلَامَةُ الْقَوِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَسَلَامَةُ الضَّعِيفِ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَوِيَّ إِذَا وَجَدَ التَّعَبَ وَالْمُكَدِّرَاتِ فِي جَلْبِ النَّافِعِ سَئِمَ ذَلِكَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الْفَسَادَ، لَوْلَا الدِّفَاعُ، دُونَ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ كَثِيرًا مَا تَنْدَفِعُ إِلَيْهِ الْقُوَّةُ الشَّاهِيَةُ بِمَا يُوجَدُ فِي أَكْثَرِ الْمَفَاسِدِ مِنَ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ الْقَصِيرَةِ الزَّمَنِ، وَلِأَن فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ أَوْ أَكْثَرِهَا الْمَيْلَ إِلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ، لِأَن طَبْعَ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ أَلَّا تُرَاعِيَ مَضَرَّةَ غَيْرِهَا، بِخِلَافِ النُّفُوسِ الصَّالِحَةِ، فَالنُّفُوسُ الشِّرِّيرَةُ أَعْمَدُ إِلَى انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْفَاسِدَةَ أَسْرَعُ فِي حُصُولِ آثَارِهَا وَانْتِشَارِهَا، فَالْقَلِيلُ مِنْهَا يَأْتِي عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الصَّالِحَاتِ، فَلَا جَرَمَ لَوْلَا دِفَاعُ النَّاسِ بِأَنْ يُدَافِعَ صَالِحُهُمُ الْمُفْسِدِينَ، لَأَسْرَعَ ذَلِكَ فِي فَسَادِ حَالِهِمْ، وَلَعَمَّ الْفَسَادُ أُمُورَهُمْ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 252]

وَأَعْظَمُ مَظَاهِرِ هَذَا الدِّفَاعِ هُوَ الْحُرُوبُ فَبِالْحَرْبِ الْجَائِرَةِ يَطْلُبُ الْمُحَارِبُ غَصْبَ مَنَافِعِ غَيْرِهِ، وَبِالْحَرْبِ الْعَادِلَةِ يَنْتَصِفُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَلِأَجْلِهَا تَتَأَلَّفُ الْعَصَبِيَّاتُ وَالدَّعَوَاتُ إِلَى الْحَقِّ، وَالْإِنْحَاءُ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهَزْمُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ إِنَّ دِفَاعَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَصُدُّ الْمُفْسِدَ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْفَسَادِ، وَنَفْسُ شُعُور الْمُفْسد بتأهب غَيره لدفاعه يصده عَنِ اقْتِحَامِ مَفَاسِدَ جَمَّةٍ. وَمَعْنَى فَسَادِ الْأَرْضِ: إِمَّا فَسَادُ الْجَامِعَةِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْلِيقُ الدِّفَاعِ بِالنَّاسِ، أَيْ لَفَسَدَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَإِمَّا فَسَادُ جَمِيعِ مَا يَقْبَلُ الْفَسَادَ فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ وَبَقِيَّةَ الْمَوْجُودَاتِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَلَفَسَدَ النَّاسُ. وَالْآيَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لِأَنَّا لَا نُحِبُّ فَسَادَ الْأَرْضِ، إِذْ فِي فَسَادِهَا- بِمَعْنَى فَسَادِ مَا عَلَيْهَا- اخْتِلَالُ نِظَامِنَا وَذَهَابُ أَسْبَابِ سَعَادَتِنَا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ «لَوْلَا» مِنْ تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ الدِّفَاعِ لِأَنَّ أَصْلَ لَوْلَا لَوْ مَعَ لَا النَّافِيَةِ، أَيْ لَوْ كَانَ انْتِفَاءُ الدِّفَاعِ مَوْجُودًا لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَرْكِيبِ (لَوْلَا) مِنْ (لَوْ) وَ (لَا) ، إِذْ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَى قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لِأَنَّ فَسَادَ الْأَرْضِ غَيْرُ وَاقِعٍ بَعْدَ فَرْضِ وُجُودِ الدِّفَاعِ، إِنْ قُلْنَا «لَوْلَا» حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ. وَعَلَّقَ الْفَضْلَ بِالْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ لِأَنَّ هَذِهِ الْمِنَّةَ لَا تخْتَص. [252] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 252] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَصُ الْمَاضِيَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ، وَلَكِنَّ الْحِكَمَ الْعَالِيَةَ فِي قَوْله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَة: 251] ، وَقَدْ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْمُشَاهِدِ لِوُضُوحِهَا وَبَيَانِهَا وَجُعِلَتْ آيَاتٍ لِأَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى عِظَمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ، وَتَعْرِيضًا بِالْمُنْكِرِينَ رِسَالَتَهُ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَجِيءَ بِقَوْلِهِ (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، لِلرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ بِتَذْكِيرِهِمْ أَنَّهُ مَا كَانَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَهُ كَمَا أَرْسَلَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ فِي حَالِهِ مَا يَنْقُصُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ.

[سورة البقرة (2) : آية 253]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا بَعْدَهَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْبَأَ بِاخْتِبَارِ الرُّسُلِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَا عَرَضَ لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَخَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الْبَقَرَة: 252] . جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ لَفْتًا إِلَى الْعِبَرِ الَّتِي فِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَمَّا أَنْهَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الْبَقَرَة: 252] تَذْكِيرًا بِأَنَّ إِعْلَامَهُ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالرُّسُلِ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ. إِذْ مَا كَانَ لِمِثْلِهِ قِبَلٌ بِعِلْمِ ذَلِكَ لَوْلَا وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَحَدُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلُ مَوْقِعِهِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: بَنِي عَمِّهِ دُنْيَا وَعَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كَاذِبِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُرْسَلِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِحْضَارِ حَتَّى كَأَنَّ جَمَاعَةَ الرُّسُلِ حَاضِرَةٌ لِلسَّامِعِ بَعْدَ مَا مَرَّ مِنْ ذِكْرِ عَجِيبِ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ وَمَا أَعْقَبَهُ مِنْ ذِكْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا أُفِيضَ الْقَوْلُ فِي الْقِتَالِ وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالِاعْتِبَارِ بِقِتَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البيّنات ولكنّهم أساؤوا الْفَهْمَ فَجَحَدُوا الْبَيِّنَاتِ فأفضى بهم سود فَهْمِهِمْ إِلَى اشْتِطَاطِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ حَتَّى أَفْضَى إِلَى الِاقْتِتَالِ. فَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَوْقِعِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أَيْ هِيَ قِصَّةُ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ، فَضَّلْنَا بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ فَحَسَدَتْ بَعْضُ الْأُمَمِ أَتْبَاعَ بَعْضِ الرُّسُلِ فَكَذَّبَ الْيَهُودُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَذَّبَ النَّصَارَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقُرِنَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِكَافِ الْبُعْدِ تَنْوِيهًا بِمَرَاتِبِهِمْ كَقَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 2] .

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَالرسل خَبَرٌ، وَلَيْسَ الرُّسُلُ بَدَلًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا الرُّسُلُ أَوْقَعُ فِي اسْتِحْضَارِ الْجَمَاعَةِ الْعَجِيبِ شَأْنُهُمُ الْبَاهِرِ خَبَرُهُمْ، وَجُمْلَةُ «فَضَّلْنَا» حَالٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَمْجِيدُ سُمْعَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ هَاتِهِ الْفِئَةَ الطَّيِّبَةَ مَعَ عَظِيمِ شَأْنِهَا قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، غَيْرَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَا جَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ وَمِنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَمَا لَقُوهُ مِنَ الْأَذَى فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، وَمَا أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ فِي هُدَى الْبَشَرِ، وَفِي عُمُومِ ذَلِكَ الْهُدَى وَدَوَامِهِ، وَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ، فَمَا بَالُكَ بِمَنْ هَدَى اللَّهُ بِهِمْ أُمَمًا فِي أَزْمَانٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الرُّسُلِ. وَيَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَتَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ بَعْضًا بِصِفَاتٍ يَتَعَيَّنُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ، أَوْ بِذِكْرِ اسْمِهِ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةً إِذْ قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَهَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِاشْتِهَارِهِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَسَّطَ بَيْنِهِمَا الْإِيمَاءَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِهِ، بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ. وَقَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَعْضِ هُنَا وَاحِدًا مِنَ الرُّسُلِ مُعَيَّنًا لَا طَائِفَةً، وَتَكُونَ الدَّرَجَاتُ مَرَاتِبَ مِنَ الْفَضِيلَةِ ثَابِتَةً لِذَلِكَ الْوَاحِدِ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَعْضِ جَمَاعَةً مِنَ الرُّسُلِ مُجْمَلًا، وَمِنَ الدَّرَجَاتِ دَرَجَاتٍ بَيْنَهُمْ لَصَارَ الْكَلَامُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بَعْضٌ فُضِّلَ عَلَى بَعْضٍ لَقَالَ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الْأَنْعَام: 165] . وَعَلَيْهِ فَالْعُدُولُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْوَصْفِ الْمَشْهُورِ بِهِ لِقَصْدِ دَفْعِ الِاحْتِشَامِ عَنِ الْمُبَلِّغِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ بِالْبَعْضِ عَنِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا

أَرَادَ نَفْسَهُ، وَعَن الْمُخَاطب كَقَوْلي أَبِي الطَّيِّبِ: إِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ ... فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ وَالَّذِي يُعَيِّنُ الْمُرَادَ فِي هَذَا كُلِّهِ هُوَ الْقَرِينَةُ كَانْطِبَاقِ الْخَبَرِ أَوِ الْوَصْفِ عَلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي ... عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ وَقَدْ جَاءَ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: 54، 55] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً- إِلَى أَنْ قَالَ- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: 45، 55] . وَهَذَا إِعْلَامٌ بِأَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَعَدَمِ تَعْيِينِ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَفْضُولِ: ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اشْتَرَكُوا فِي صِفَةِ خَيْرٍ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بِمَا لِلْبَعْضِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى الصِّفَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ، وَفِي تَمْيِيزِ صِفَاتِ التَّفَاضُلِ غُمُوضٌ، وَتَطَرُّقٌ لِتَوَقُّعِ الْخَطَأِ وَعُرُوضٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسَهْلٍ عَلَى الْعُقُولِ الْمُعَرَّضَةِ لِلْغَفْلَةِ وَالْخَطَأِ. فَإِذَا كَانَ التَّفْضِيلُ قَدْ أَنْبَأَ بِهِ رَبُّ الْجَمِيعِ، وَمَنْ إِلَيْهِ التَّفْضِيلُ، فَلَيْسَ مِنْ قَدْرِ النّاس أَن يتصدّوا لِوَضْعِ الرُّسُلِ فِي مَرَاتِبِهِمْ، وَحَسْبُهُمُ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَهَذَا مَوْرِدُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» يَعْنِي بِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّفْضِيلِ التَّفْصِيلِيِّ، بِخِلَافِ التَّفْضِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، كَمَا نَقُولُ: الرُّسُلُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ لِمَا تَظَاهَرَ مِنْ آيَاتِ تَفْضِيلِهِ وَتَفْضِيلِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَتَفْضِيلِ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَهِيَ مُتَقَارِنَةُ الدَّلَالَةِ تَنْصِيصًا وَظُهُورًا. إِلَّا أَنَّ كَثْرَتَهَا تُحَصِّلُ الْيَقِينَ بِمَجْمُوعِ مَعَانِيهَا عَمَلًا بِقَاعِدَةِ كَثْرَةُ الظَّوَاهِرِ تُفِيدُ الْقَطْعَ. وَأَعْظَمُهَا آيَةُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» يَعْنِي بِقَوْلِهِ: «أَنَا» نَفْسَهُ عَلَى أَرْجَحِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَقَوْلُهُ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى» ، فَذَلِكَ صَدَرَ قَبْلَ أَنْ يُنْبِئَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَهُ. وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ كَثِيرَةٌ عَرَفْنَا مِنْهَا: عُمُومَ الرِّسَالَةِ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَدَوَامَهَا طُولَ الدَّهْرِ، وَخَتْمَهَا لِلرِّسَالَاتِ، وَالتَّأْيِيدَ بِالْمُعْجِزَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تَلْتَبِسُ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَبِدَوَامِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، وَإِمْكَانِ أَنْ يُشَاهِدَهَا كُلُّ مَنْ يُؤَهِّلُ نَفْسَهُ لِإِدْرَاكِ الْإِعْجَازِ، وَبِابْتِنَاءِ شَرِيعَتِهِ عَلَى رَعْيِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالْبُلُوغِ بِالنُّفُوسِ إِلَى أَوَجِ الْكَمَالِ، وَبِتَيْسِيرِ إِدَانَةِ مُعَانَدِيهِ لَهُ، وَتَمْلِيكِهِ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ، وَبِجَعْلِ نَقْلِ مُعْجِزَتِهِ مُتَوَاتِرًا لَا يَجْهَلُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ، وَبِمُشَاهَدَةِ أُمَّتِهِ لِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ، وَإِمْكَانِ اقْتِرَابِهِمْ مِنْهُ وَائْتِنَاسِهِمْ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ عَطَفَ مَا دَلَّ عَلَى نَبِيئِنَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَى موسَى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- لِشِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَ شَرِيعَتَيْهِمَا، لِأَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ، مِمَّا قَبْلَهَا، بِخِلَافِ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَتَكْلِيمُ اللَّهِ مُوسَى هُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، بِأَنْ أَسْمَعَهُ كَلَامًا أَيْقَنَ أَنَّهُ صَادِرٌ بِتَكْوِينِ اللَّهِ، بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ أَصْوَاتًا مِنْ لُغَةِ مُوسَى تَضَمَّنَتْ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ، وَسَيَجِيءُ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: 164] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْبَيِّنَاتُ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ الْبَيِّنَةُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ، فَإِنَّ الرُّوحَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَلَكِ الْخَاصِّ كَقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: 4] . والقدس بِضَمِّ الْقَافِ وَبِضَمِّ الدَّالِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَسُكُونِهَا عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ بِمَعْنَى الْخُلُوصِ وَالنَّزَاهَةِ، فَإِضَافَةُ رُوحِ إِلَى الْقُدس من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصِّفَةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، وَقِيلَ الْقُدُسِ اسْمُ اللَّهِ كَالْقُدُّوسِ فَإِضَافَةُ رُوحٍ إِلَيْهِ إِضَافَةٌ أَصْلِيَّةٌ، أَيْ رَوْحٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ.

وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النَّحْل: 102] ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا» وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ» . وَإِنَّمَا وُصِفَ عِيسَى بِهَذَيْنِ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الرُّسُلِ أُيِّدُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ، وَلِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فَزَعَمُوا أُلُوهِيَّتَهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا ذُكِرَ مَعَهُ اسْمُ أُمِّهِ- مَهْمَا ذُكِرَ- لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَعَلَى أَنَّ مَرْيَمَ أَمَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا صَاحِبَةٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَذْكُرُ أَسْمَاءَ نِسَائِهَا وَإِنَّمَا تَكْنِي، فَيَقُولُونَ رَبَّةُ الْبَيْتِ، وَالْأَهْلُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يَذْكُرُونَ أَسْمَاءَ النِّسَاءِ إِلَّا فِي الْغَزَلِ، أَوْ أَسْمَاءَ الْإِمَاءِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْفَذْلَكَةِ- الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الرُّسُلُ إِلَى آخرهَا- وَبَين الْجُمْلَة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 254] ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ: فَإِنَّ مَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَتْ خِصَالَ الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ وَآثَارَهُمَا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَشْرِيعًا وَتَمْثِيلًا قِتَالُ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَنَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَبَثِّ الْهُدَى وَإِزْهَاقِ الضَّلَالِ. بَيَّنَ اللَّهُ بِهِذَا الِاعْتِرَاضِ حُجَّةَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا: بِأَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِذِ اخْتَلَفُوا عَلَى مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَوِ اتَّبَعُوا الْحَقَّ لَسَلَّمُوا وَسَالَمُوا. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ مُرَادًا بِهِ جُمْلَةُ الرُّسُلِ أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعَقَائِدِ

مِثْلَ اقْتِتَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْيَمَنِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَمُقَاتَلَةِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِصَارًا لِأَصْنَامِهِمْ، وَمُقَاتَلَةِ الْحَبَشَةِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ انْتِصَارًا لِبَيْعَةِ الْقُلَّيْسِ الَّتِي بَنَاهَا الْحَبَشَةُ فِي الْيَمَنِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَنَاوَوُهُ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَهْلَهُ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ دَلَائِلَ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتكون الْآيَة بإنحاء عَلَى الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيءَ وَنَاوَوُا الْمُسْلِمِينَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا ظَاهِرَةَ التَّفَرُّعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا [الْبَقَرَة: 244] إِلَخ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ «مِنْ بَعْدِهِمْ» ضَمِيرَ الرُّسُلِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ، أَيِ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ، فَيَكُونُ مُفِيدًا أَنَّ أُمَّةَ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا اخْتِلَافًا وَاقْتِتَالًا نَشَآ مِنْ تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا وَقَعَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُصُورٍ كَثِيرَةٍ بَلَغَتْ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ إِلَى حَدِّ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَمَا وَقَعَ لِلنَّصَارَى فِي عُصُورٍ بَلَغَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ إِلَى حَدِّ أَنْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَتَقَاتَلَتِ الْيَهُودُ غَيْرَ مَرَّةٍ قِتَالًا جَرَى بَيْنَ مَمْلَكَةِ يَهُوذَا وَمَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ، وَتَقَاتَلَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْيَعَاقِبَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَشْهَرُ مُقَاتَلَاتِ النَّصَارَى الْحُرُوبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي نَشَأَتْ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بَيْنَ أَشْيَاعِ الْكَاثُولِيكِ وَبَيْنَ أَشْيَاعِ مَذْهَبِ لُوثِيرَ الرَّاهِبِ الْجِرْمَانِيِّ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى إِصْلَاحِ الْمَسِيحِيَّةِ وَاعْتِبَارِ أَتْبَاعِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ كُفَّارًا لِادِّعَائِهِمْ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ، فَعَظُمَتْ بِذَلِكَ حروب بَين فرانسا وَأَسْبَانْيَا وَجِرْمَانْيَا وَانْكِلْتِرَا وَغَيْرِهَا مِنْ دُوَلِ أُورُوبَّا. وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ مَا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا مُتَوَاتِرًا بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» ، يُحَذِّرُهُمْ مَا يَقَعُ مِنْ حُرُوبِ الرِّدَّةِ وَحُرُوبِ الْخَوَارِجِ بِدَعْوَى التَّكْفِيرِ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ من دَلَائِل النبوءة الْعَظِيمَةِ. وَوَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» قَوْلُهُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ» ، وَذَلِكَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَنَّهُ الْقِتَالُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعَقِيدَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ الْوَاضِحَةُ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَّبِعِ الشَّرِيعَةِ وَمُعَانِدِهَا وَالَّتِي لَا تَقْبَلُ خَطَأَ الْفَهْمِ وَالتَّأْوِيلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَدَحْضَ الدِّينِ لِأَجْلِ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ اقْتِتَالَهُمْ فَاقْتَتَلُوا، وَشَاءَ اخْتِلَافَهُمْ فَاخْتَلَفُوا، وَالْمَشِيئَةُ هُنَا مَشِيئَةُ تَكْوِينٍ وَتَقْدِيرٍ لَا مَشِيئَةُ الرِّضَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّمَنِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّحْسِيرِ عَلَى امْتِنَاعِهِ وانتفائه المفاد بلو كَقَوْلِ طَرَفَةَ: فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ وَقَوْلُهُ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ: وَهُوَ مَا اقْتَتَلَ، لَكِنْ ذَكَرَ فِي الِاسْتِدْرَاكِ لَازِمَ الضِّدِّ لِجَوَابِ لَوْ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمَا اقْتَتَلُوا. وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَازِمِ الضِّدِّ فِي الِاسْتِدْرَاكِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ الِاقْتِتَالِ لِيَظْهَرَ أَنَّ مَعْنَى نَفْيِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَرْكُهُمُ الِاقْتِتَالَ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَ دَاعِيَةَ الِاخْتِلَافِ فِيهِمْ، فَبِتِلْكَ الدَّاعِيَةِ اخْتَلَفُوا، فَجَرَّهُمُ الْخِلَافُ إِلَى أَقْصَاهُ وَهُوَ الْخِلَافُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، فَاقْتَتَلُوا لِأَنَّ لُزُومَ الِاقْتِتَالِ لِهَذِهِ الْحَالَةِ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ شَائِعٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اخْتِلَافَ أُمَّةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ فَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي الْآيَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خَطَأِ أَهْلِ الدِّينِ فِيهِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُفْضِي بِبَعْضِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اخْتِلَافَ أُمَمِ الرُّسُلِ كُلٍّ لِلْأُخْرَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الْبَقَرَة: 113] ، فَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي الْآيَةِ ظَاهِرٌ، أَيْ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ فَاتَّبَعَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِ فَعَادَاهُ، فاقتتل الْفَرِيقَانِ. وأياما كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ يُنَادِي عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ بِالْمُخْتَلِفِينَ إِلَى كُفْرِ بَعْضِهِمْ بِمَا آمَنَ بِهِ الْآخَرُ لَا يَبْلُغُ بِالْمُخْتَلِفِينَ إِلَى التَّقَاتُلِ، لِأَنَّ فِيمَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بَيِّنَاتِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ كِفَايَةُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ إِذَا لَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَالْهَوَى أَوْ لَمْ يَعُمَّهُمْ سُوءُ الْفَهْمِ وَقِلَّةُ الْهُدَى. لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي خِلْقَةِ الْعُقُولِ اخْتِلَافَ الْمُيُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَجَعَلَ فِي تَفَاوُتِ الذَّكَاءِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ أَسْبَابًا لِاخْتِلَافِ قَوَاعِدِ الْعُلُومِ وَالْمَذَاهِبِ، فَأَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ إِذَنْ مَرْكُوزَةٌ فِي الطِّبَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ

ثُمَّ قَالَ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَصَارَ الْمَعْنَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اخْتَلَفُوا، لَكِنَّ الْخِلَافَ مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ. بَيْدَ أَن الله تَعَالَى قَدْ جَعَلَ- أَيْضًا- فِي الْعُقُولِ أُصُولًا ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً ظَنًّا قَرِيبًا مِنَ الْقَطْعِ بِهِ تَسْتَطِيعُ الْعُقُولُ أَنْ تُعَيِّنَ الْحَقَّ مِنْ مُخْتَلِفِ الْآرَاءِ، فَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ إِلَّا التَّأْوِيلَاتُ الْبَعِيدَةُ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمُكَابَرَةُ أَوْ كَرَاهِيَةُ ظُهُورِ الْمَغْلُوبِيَّةِ، أَو حب المدحة مِنَ الْأَشْيَاعِ وَأَهْلِ الْأَغْرَاضِ، أَوِ السَّعْيُ إِلَى عَرَضٍ عَاجِلٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا غَرَزَ فِي خِلْقَةِ النُّفُوسِ دَوَاعِيَ الْمَيْلِ إِلَى هَاتِهِ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فَمَا اخْتَلَفُوا خِلَافًا يَدُومُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَذَا الْخِلَافَ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، فَلَا عُذْرَ فِي الْقِتَالِ إِلَّا لِفَرِيقَيْنِ: مُؤْمِنٍ، وَكَافِرٍ بِمَا آمَنَ بِهِ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ النَّاشِئَيْنَ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ قَدْ كَانَا سَبَبَ قِتَالٍ مُنْذُ قَدِيمٍ، أَمَّا الْخِلَافُ النَّاشِئُ بَيْنَ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى التَّكْفِيرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبَ قِتَالٍ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ هُوَ بِهَا» لِأَنَّهُ إِذَا نَسَبَ أَخَاهُ فِي الدِّينِ إِلَى الْكُفْرِ فَقَدْ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْلِيدِ سَبَبِ التَّقَاتُلِ، فَرَجَعَ هُوَ بِإِثْمِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَرَى بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ كُفْرًا، فَقَدْ صَارَ هُوَ كَافِرًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ كُفْرًا. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» ، فَجَعَلَ الْقِتَالَ شِعَارَ التَّكْفِيرِ. وَقَدْ صَمَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ النَّصِيحَةِ الْجَلِيلَةِ فَاخْتَلَفُوا خِلَافًا بَلَغَ بِهِمْ إِلَى التَّكْفِيرِ وَالْقِتَالِ، وَأَوَّلُهُ خِلَافُ الرِّدَّةِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خِلَافُ الْحَرُورِيَّةِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ وَقَدْ كَفَّرُوا عَلِيًّا فِي قبُوله تحكيم الْحكمِي، ثُمَّ خِلَافُ أَتْبَاعِ الْمُقَنَّعِ بِخُرَاسَانَ الَّذِي ادّعى الإلاهية وَاتَّخَذَ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ، وَظَهَرَ سَنَةَ 159 وَهَلَكَ سَنَةَ 163، ثُمَّ خِلَافُ الْقَرَامِطَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْخِلَافِ الْمَذْهَبِيِّ لِأَنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ مِنَ الشِّيعَةِ ثُمَّ تَطَرَّفُوا فَكَفَرُوا وَادَّعَوُا الْحُلُولَ- أَيْ حُلُولَ الرَّبِّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ- وَاقْتَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنَ الْكَعْبَةِ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بَلَدِهِمْ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ سَنَةِ 293. وَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا خِلَافًا كَثِيرًا فِي الْمَذَاهِبِ جَرَّ بِهِمْ تَارَاتٍ إِلَى مُقَاتَلَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَأَكْثَرُهَا حُرُوبُ الْخَوَارِجِ غَيْرِ الْمُكَفِّرِينَ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ فِي الْمَشْرِقِ، وَمُقَاتَلَاتُ أَبِي يَزِيدَ النَّكَارِيِّ الْخَارِجِيِّ بِالْقَيْرَوَانِ وَغَيْرِهَا سَنَةَ 333، وَمُقَاتَلَةُ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ بِالْقَيْرَوَانِ سَنَةَ 407، وَمُقَاتَلَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 254]

بِبَغْدَادَ سَنَةَ 475، وَمُقَاتَلَةُ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ بِهَا سَنَةَ 445، وَأَعْقَبَتْهَا حَوَادِثُ شَرٍّ بَيْنَهُمْ مُتَكَرِّرَةٌ إِلَى أَنِ اصْطَلَحُوا فِي سَنَةِ 502 وَزَالَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وَقِتَالُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي سَاوَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ سَنَةِ 494 إِلَى سَنَةِ 523. ثُمَّ انْقَلَبَتْ إِلَى مُقَاتَلَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ. ثُمَّ انْقَلَبُوا أَنْصَارًا لِلْإِسْلَامِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَاتَلَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ التَّكْفِيرِ وَالتَّضْلِيلِ. لَا نَذْكُرُ غَيْرَهَا مِنْ مُقَاتَلَاتِ الدُّوَلِ وَالْأَحْزَابِ الَّتِي نخرت عظم الْإِسْلَامِ. وَتَطَرَّقَتْ كُلَّ جِهَةٍ مِنْهُ حَتَّى الْبَلَدَ الْحَرَامَ. فَالْآيَةُ تنادي على التعجيب وَالتَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ الْأُمَمِ فِي التَّقَاتُلِ لِلتَّخَالُفِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغُوا فِي أَصَالَةِ الْعُقُولِ أَوْ فِي سَلَامَةِ الطَّوَايَا إِلَى الْوَسَائِلِ الَّتِي يَتَفَادَوْنَ بِهَا عَنِ التَّقَاتُلِ، فَهُمْ مَلُومُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمُشِيرَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى صِفَةٍ أَكْمَلَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَعِدُّوا بِهَا إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ قَبْلَ ذَلِكَ الْإِبَّانِ، فَانْتِفَاءُ الْمَشِيئَةِ رَاجِعٌ إِلَى حِكْمَةِ الْخِلْقَةِ، وَاللَّوْمُ وَالْحَسْرَةُ رَاجِعَانِ إِلَى التَّقْصِيرِ فِي امْتِثَالِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَأَعَادَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لِيَعْلَمَ الْوَاقِفُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ فِي هُدَى اللَّهِ تَعَالَى مَقْنَعًا لَهُمْ لَوْ أَرَادُوا الِاهْتِدَاءَ، وأنّ فِي سَعَة قدرته تَعَالَى عصمَة لَهُم لَو خلقهمْ على أكمل من هَذَا الْخلق كَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ. فَاللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَلَكِنَّهُ يُكَمِّلُ حَالَ الْخَلْقِ بِالْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، وَهُمْ يُفَرِّطُونَ فِي ذَلِك. [254] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 254] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلُ مَوْقِعِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: 245] الْآيَة لأنّه لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى بَذْلِ نُفُوسِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 244] شَفَعَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245] عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 72] ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ لِآيَةِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لِأَنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ

أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ عُمُومِ الْإِنْفَاقِ الْمَطْلُوبِ فِي الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَفْعُولُ وَالْمُتَعَلِّقُ لِقَصْدِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْأَمْرِ بِالصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَتَجِيءُ آيَاتٌ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا رَزَقْناكُمْ حَثٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَاسْتِحْقَاقٌ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ حَثٌّ آخَرُ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ بِأَنَّ هُنَالِكَ وَقْتًا تَنْتَهِي الْأَعْمَالُ إِلَيْهِ وَيَتَعَذَّرُ الِاسْتِدْرَاكُ فِيهِ، وَالْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَانْتِفَاءُ الْبَيْعِ وَالْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ كِنَايَةٌ عَنْ تَعَذُّرِ التَّدَارُكِ لِلْفَائِتِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحَصِّلُ مَا يَعُوزُهُ بِطُرُقٍ هِيَ الْمُعَاوَضَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْبَيْعِ، وَالِارْتِفَاقِ مِنَ الْغَيْرِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْخُلَّةِ، أَوْ بِسَبَبِ تَوَسُّطِ الْوَاسِطَةِ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِخَلِيلٍ. وَالْخُلَّةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ- الْمَوَدَّةُ وَالصُّحْبَةُ، وَيَجُوزُ كَسْرُ الْخَاءِ وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ، وَتُطْلَقُ الْخُلَّةُ بِالضَّمِّ عَلَى الصَّدِيقِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَغَيْرُهُ وَالْمُذَكَّرُ وَغَيْرُهُ قَالَ الْحَمَاسِيُّ: أَلَا أَبْلِغَا خُلَّتِي رَاشِدًا ... وَصِنْوِي قَدِيمًا إِذَا مَا اتَّصَلْ وَقَالَ كَعْبٌ: أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً، الْبَيْتَ. فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هُنَا بِالْخُلَّةِ الْمَوَدَّةُ، وَنَفْيُ الْمَوَدَّةِ فِي ذَلِكَ لِحُصُولِ أَثَرِهَا وَهُوَ الدَّفْعُ عَنِ الْخَلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لُقْمَان: 33] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْخَلِيلِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ النَّفْعُ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ [الشُّعَرَاء: 88] ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا بَيْعٌ فِيهِ- وَمَا بَعْدَهُ- بِالرَّفْعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ وَالْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ الْأَجْنَاسُ لَا مَحَالَةَ، إِذْ هِيَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا آحَادَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَهِيَ أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ لَا نَكِرَاتٌ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ نَفْيُهَا إِرَادَةَ نَفْيِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَحْتَاجَ عِنْدَ قَصْدِ

التَّنْصِيصِ عَلَى إِرَادَةِ نَفْيِ الْجِنْسِ إِلَى بِنَاءِ الِاسْمِ عَلَى الْفَتْحِ، بِخِلَافِ نَحْوِ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ فِي قَوْلِ إِحْدَى صَوَاحِبِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهِامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَةٌ» بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْفَتْحِ لِنَفْيِ الْجِنْسِ نَصًّا فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ مَعْنًى، وَمِنَ التَّكَلُّفِ هُنَا قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ وَجْهَ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وُقُوعُ النَّفْيِ فِي تَقْدِيرِ جَوَابٍ لِسُؤَالٍ قَائِلٍ هَلْ بَيْعٌ فِيهِ أَوْ خُلَّةٌ أَوْ شَفَاعَةٌ. وَالشَّفَاعَةُ الْوَسَاطَةُ فِي طَلَبِ النَّافِعِ، وَالسَّعْيُ إِلَى مَنْ يُرَادُ اسْتِحْقَاقُ رِضَاهُ عَلَى مَغْضُوبٍ مِنْهُ عَلَيْهِ أَوْ إِزَالَةُ وَحْشَةٍ أَوْ بَغْضَاءَ بَيْنَهُمَا، فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّفْعِ ضِدِّ الْوَتْرِ، يُقَالُ شَفَعَ كَمَنَعَ إِذَا صَيَّرَ الشَّيْءَ شَفْعًا، وَشَفَعَ أَيْضًا كَمَنَعَ إِذَا سَعَى فِي الْإِرْضَاءِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ وَالْمَحْرُومَ يَبْعُدُ عَنْ وَاصِلِهِ فَيَصِيرُ وَتْرًا فَإِذَا سَعَى الشَّفِيعُ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَالرِّضَا فَقَدْ أَعَادَهُمَا شَفْعًا، فَالشَّفَاعَةُ تَقْتَضِي مَشْفُوعًا إِلَيْهِ وَمَشْفُوعًا فِيهِ، وَهِيَ- فِي عُرْفِهِمْ- لَا يَتَصَدَّى لَهَا إِلَّا مَنْ يَتَحَقَّقُ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ، وَيُقَالُ شَفَعَ فُلَانٌ عِنْدَ فُلَانٍ فِي فُلَانٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ أَيْ فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالُوا هَذَا جَدِيرٌ إِنْ خَطَبَ بِأَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ بِأَنْ يُشَفَّعَ» . وَبِهِذَا يَظْهَرُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَكُونُ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ وَتَكُونُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ قَالَ: فَذَاكَ فَتًى إِنْ تَأْتِهِ فِي صَنِيعَةٍ ... إِلَى مَالِهِ لَا تَأْتِهِ بِشَفِيعِ وَمِمَّا جَاءَ فِي مَنْشُورِ الْخَلِيفَةِ الْقَادِر بِاللَّه للسُّلْطَان مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ الْغَزْنَوِيِّ «وَلَّيْنَاكَ كُورَةَ خُرَاسَانَ وَلَقَّبْنَاكَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ، بِشَفَاعَةِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَائِينِيِّ» ، أَيْ بِوَاسِطَتِهِ وَرَغْبَتِهِ. فَالشَّفَاعَةُ- فِي الْعُرْفِ- تَقْتَضِي إِدْلَالَ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ لَدَيْهِ، وَلِهَذَا نَفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ اسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا عِنْدَ اللَّهِ بِإِدْلَالٍ، وَأَثْبَتَهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ- قَرِيبًا- مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] وَقَوْلِهِ:

وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] ، وَثَبَتَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَأُشِيرَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاء: 79] وَفُسِّرَتِ الْآيَةُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أُصُولِ اعْتِقَادِنَا إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي إِنْكَارِهَا وَمُلَبِّسُونَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ. وَالشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا الشَّفَاعَةُ الَّتِي لَا يَسَعُ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ رَدُّهَا، فَلَا يُعَارِضُ مَا وَرَدَ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّ تِلْكَ كَرَامَةٌ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَأَذِنَ لَهُ فِيهَا إِذْ يَقُولُ: «اشْفَعْ تُشَفَّعْ» فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] وَقَوْلِهِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] وَقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] . وَقَوْلُهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ نَشَأَتْ عَنْ قَوْلِهِ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ تَعْرِيضٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَعَقَّبَ بِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ وَالْمُهَدَّدَ بِهِ قَدْ جَلَبُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ فَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَهَذَا أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى الْمُعَاقَبِ لِأَنَّ الْمَظْلُومَ يَجِدُ لِنَفْسِهِ سَلْوًا بِأَنَّهُ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ، بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ الظُّلْمِ جُعِلُوا كَمَنِ انْحَصَرَ الظُّلْمُ فِيهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ ظَاهِرًا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صَالِحَةٌ أَيْضًا لِتَذْيِيلِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لِقِتَالِ الْمُشْركين الَّذين بدأوا الدِّينَ بِالْمُنَاوَأَةِ، فَهُمُ الظَّالِمُونَ لَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ. وَذِكْرُ الْكَافِرِينَ فِي مَقَامِ التَّسْجِيلِ فِيهِ تَنْزِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِنْفَاقَ إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ، فَتَرْكُهُ وَالْكُفْرُ مُتَلَازِمَانِ، فَالْكَافِرُونَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَظْلِمُونَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَوِّرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَكْمَلِ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَيُقَابِلُ حَالَهُمْ بِحَالِ الْكُفَّارِ تَغْلِيظًا وَتَنْزِيهًا، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا اعْتَقَدَ بَعْضُ فِرَقِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُبْطِلُ الْإِيمَانَ كَمَا قدّمناه.

[سورة البقرة (2) : آية 255]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 255] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَمَّا ذَكَرَ هَوْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ اسْتَأْنَفَ بِذِكْرِ تمجيد الله تعلى وَذِكْرِ صِفَاتِهِ إِبْطَالًا لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَقَطْعًا لِرَجَائِهِمْ، لِأَنَّ فِيهَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءً لِآيَاتِ تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأُودِعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هُنَا لِأَنَّهَا كَالْبَرْزَخِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الذَّاتِ هُنَا لِأَنَّهُ طَرِيقٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى الْمُنْفَرِدِ بِهَذَا الِاسْمِ، فَإِنَّ الْعَلَمَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُسَمَّاهُ إِلَى قَرِينَةٍ أَوْ مَعُونَةٍ لَوْلَا احْتِمَالُ تَعَدُّدِ التَّسْمِيَةِ، فَلَمَّا انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ كَانَ أَعْرَفَ الْمَعَارِفِ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْقَرَائِنِ وَالْمَعُونَاتِ، فَالْقَرَائِنُ كَالتَّكَلُّمِ وَالْخِطَابِ، وَالْمَعُونَاتُ كَالْمَعَادِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ وَالصِّلَةِ وَسَبْقِ الْعَهْدِ وَالْإِضَافَةِ. وَجُمْلَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» خَبَرٌ أَوَّلُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دَلَالَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْآلِهَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَة: 163] . وَقَوْلُهُ: الْحَيُّ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والْقَيُّومُ خَبَرٌ ثَانٍ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَإِبْطَالُ اسْتِحْقَاقِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَصْفَ الْإِلَهِيَّةِ لِانْتِفَاءِ الْحَيَاةِ، عَنْهُمْ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مَرْيَم: 42] وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا لِأَنَّهَا لَوْ عُطِفَتْ لَكَانَتْ كَالتَّبَعِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْكَشَّافِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مِنْ أَنَّهُ الْقَائِمُ

بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، أَيْ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُدَبِّرَ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ خِلَافًا لِمَا قَرَّرَ بِهِ التَّفْتَازَانِيُّ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِعِبَارَتِهِ. وَالْحَيُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَهِيَ صِفَةٌ بِهَا الْإِدْرَاكُ وَالتَّصَرُّفُ، أَعْنِي كَمَالَ الْوُجُودِ الْمُتَعَارَفِ، فَهِيَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِانْبِثَاثِ الرُّوحِ وَاسْتِقَامَةِ جَرَيَانِ الدَّمِ فِي الشَّرَايِينِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَالِقِ مَا يُقَارِبُ أَثَرَ صِفَةِ الْحَيَاةِ فِينَا، أَعْنِي انْتِفَاءَ الْجَمَادِيَّةِ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ عَوَارِضِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَفَسَرَّهَا الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّهَا «صِفَةٌ تُصَحِّحُ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِدْرَاكَ وَالْفِعْلَ» . وَفَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْحَيَّ بِالْبَاقِي، أَيِ الدَّائِمِ الْحَيَاةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ الْعَدَمُ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا كِنَايَةً فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْحَيَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَكُونُ إِلَّا مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً. وَقَالَ الْفَخْرُ: «الَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْحَيَّ- فِي أَصْلِ اللُّغَةِ- لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ صِحَّةِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَة. بل عبار عَنْ كَمَالِ الشَّيْءِ فِي جِنْسِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الجاثية: 5] ، وَحَيَاةُ الْأَشْجَارِ إِيرَاقُهَا. فَالصِّفَةُ الْمُسَمَّاةُ- فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ- بِالْحَيَاةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْجِسْمِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَا، فَالْمَفْهُومُ الْأَصْلِيُّ مِنْ لَفْظِ الْحَيِّ كَوْنُهُ وَاقِعًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَصِفَاتِهِ» . وَالْمَقْصُودُ بِوَصْفِ اللَّهِ هُنَا بِالْحَيِّ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَاهِيَّةَ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُدَبِّرُ أُمُورِ الْخَلْقِ جَمَادًا. وَالْحَيُّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ حَيِيَ، أَصْلُهُ حَيِيٌ كَحَذِرٍ أُدْغِمَتِ الْيَاءَانِ، وَهُوَ يَائِيٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا كِتَابَةُ السَّلَفِ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةَ حَيَوةٍ بِوَاوٍ بَعْدَ الْيَاءِ فَمُخَالِفَةٌ لِلْقِيَاسِ، وَقِيلَ كَتَبُوهَا عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ حَيَوةً أَيْ حَيَاةً، وَقِيلَ كَتَبُوهَا عَلَى لُغَةِ تَفْخِيمِ الْفَتْحَةِ. والقيّوم فَيْعُولٌ مِنْ قَامَ يَقُومُ وَهُوَ وَزْنُ مُبَالغَة، وَأَصله فيووم فَاجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقِيَامِ الْمُسْتَعْمَلِ- مَجَازًا مَشْهُورًا- فِي تَدْبِير شؤون النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْد: 33] . وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ عُمُومِ الْعِلْمِ لَهُ وَكَمَالُ الْحَيَاة وَإِبْطَال إلاهية

أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مُدَبِّرَ الْكَوْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلُوا آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءَ وَشُرَكَاءَ وَمُقْتَسِمِينَ أُمُورَ الْقَبَائِلِ. وَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْيُونَانِ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا لِكُلِّ إِلَهٍ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَأُمَمًا مِنَ الْبَشَرِ تَنْتَمِي إِلَيْهِ وَيَحْنَأُ عَلَيْهَا. وَجُمْلَةُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ «اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وَلِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا، فَالْجُمْلَةُ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَعْنَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. والسّنة فِعْلَةٌ مِنَ الْوَسَنِ، وَهُوَ أَوَّلُ النَّوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلهَا اسْم هيأة كَسَائِرِ مَا جَاءَ عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ من الواوي لفاء، وَقَدْ قَالُوا وَسَنَةٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى صِيغَةِ الْمَرَّةِ. وَالسِّنَةُ أَوَّلُ النَّوْمِ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ الرِّقَاعِ: وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَالنَّوْمُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ فُتُورٌ يَعْتَرِي أَعْصَابَ الدِّمَاغِ مِنْ تَعَبِ إِعْمَالِ الْأَعْصَابِ من تَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ الْبَدَنِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْهَضْمِ وَالْعَمَلِ الْعَصَبِيِّ، فَيَشْتَدُّ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ وَمَجِيءِ الظُّلْمَةِ فَيَطْلُبُ الدِّمَاغُ وَالْجِهَازُ الْعَصَبِيُّ الَّذِي يُدَبِّرُهُ الدِّمَاغُ اسْتِرَاحَةً طَبِيعِيَّةً فَيَغِيبُ الْحِسُّ شَيْئًا فَشَيْئًا وَتَثْقُلُ حَرَكَةُ الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ يَغِيبُ الْحِسُّ إِلَى أَنْ تَسْتَرْجِعَ الْأَعْصَابُ نَشَاطَهَا فَتَكُونَ الْيَقَظَةُ. وَنَفْيُ اسْتِيلَاءِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَحْقِيقٌ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ وَدَوَامِ التَّدْبِيرِ، وَإِثْبَاتٌ لِكَمَالِ الْعِلْمِ فَإِنَّ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ يُشْبِهَانِ الْمَوْتَ، فَحَيَاةُ النَّائِمِ فِي حَالِهِمَا حَيَاةٌ ضَعِيفَةٌ، وَهُمَا يَعُوقَانِ عَنِ التَّدْبِيرِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِمَا يَحْصُلُ فِي وَقْتِ اسْتِيلَائِهِمَا عَلَى الْإِحْسَاسِ. وَنَفْيُ السِّنَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُغْنِي عَنْ نَفْيِ النَّوْمِ عَنْهُ لِأَنَّ مِنَ الْأَحْيَاءِ مَنْ لَا تَعْتَرِيهِ السِّنَةُ فَإِذَا نَامَ نَامَ عَمِيقًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَأْخُذُهُ السِّنَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّوْمِ غَلَبَةً، وَقَدْ تَمَادَحَتِ الْعَرَبُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى السَهَرِ، قَالَ أَبُو كَبِيرٍ: فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنًا ... سُهُدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَحْجُبُ عِلْمَهُ شَيْءٌ حَجْبًا ضَعِيفًا وَلَا طَوِيلًا وَلَا غَلَبَةً وَلَا اكْتِسَابًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَطَلَّبَهُ الْفَخْرُ وَالْبَيْضَاوِيُّ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ مُرَاعًى فِيهِ تَرْتِيبُ الْوُجُودِ، وَأَنَّ ذِكْرَ النَّوْمِ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِرَاسِ. وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَشَّارٌ وَصَاغَهُ بِمَا يُنَاسِبُ صِنَاعَةَ الشِّعْرِ فَقَالَ: وَلَيْلٍ دَجُوجِيٍّ تَنَامُ بَنَاتُهُ ... وَأَبْنَاؤُهُ مِنْ طُولِهِ (¬1) وَرَبَائِبُهْ فَإِنَّهُ أَرَادَ مِنْ بَنَاتِ اللَّيْلِ وَأَبْنَائِهِ السَّاهِرَاتِ وَالسَّاهِرِينَ بِمُوَاظَبَةٍ، وَأَرَادَ بِرَبَائِبِ اللَّيْلِ مَنْ هُمْ أَضْعَفُ مِنْهُمْ سَهَرًا لِلَيْلٍ لِأَنَّ الرَّبِيبَ أَضْعَفُ نِسْبَةً مِنَ الْوَلَدِ وَالْبِنْتِ. وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَقْرِيرٌ لِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مَخْلُوقَاتُهُ، وَتَعْلِيلٌ لِاتِّصَافِهِ بِالْقَيُّومِيَّةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكًا لَهُ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ قَيُّومَهَا وَأَلَّا يُهْمِلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اسْتِغْرَاقُ أَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَاتِ، فَقَدْ دَلَّتِ الْجُمْلَةُ عَلَى عُمُومِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ لِلْعُمُومِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ عَنْ مِلْكِهِ مَوْجُودٌ فَحَصَلَ مَعْنَى الْحَصْرِ، وَلَكِنَّهُ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ- أَيْ لَا لِغَيْرِهِ- لِإِفَادَةِ الرَّدِّ عَلَى أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الصَّابِئَةِ عَبْدَةِ الْكَوَاكِبِ كَالسُّرْيَانِ وَالْيُونَانِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حُصُولِ مَعْنَى الْحَصْرِ بِالْعُمُومِ لَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إِبْطَالِ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَفَادَتْ تَعْلِيمَ التَّوْحِيدِ بِعُمُومِهَا، وَأَفَادَتْ إِبْطَالَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ بخصوصية الْقصر، وَهَذَا بلاغة معْجزَة. وَجُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِمَا أَفَادَهُ لَامُ الْمِلْكِ مِنْ شُمُولِ مِلْكِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَصْرِ ذَلِكَ الْمِلْكِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، فَبَطَلَ وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ عَن غَيره تَعَالَى، بِالْمُطَابَقَةِ. وَبَطَلَ حَقُّ الْإِدْلَالِ عَلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ- الَّتِي لَا تُرَدُّ- بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْإِدْلَالَ مِنْ شَأْنِ الْمُسَاوِي وَالْمُقَارِبِ، وَالشَّفَاعَةُ إِدْلَالٌ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ مُعْظَمِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِآلِهَتِهِمْ وَطَوَاغِيتِهِمْ ¬

(¬1) كتب فِي نُسْخَة ديوَان بشار «هوله» بهاء فِي أَوله وطبع كَذَلِك وبدا لي بعد ذَلِك أَنه تَحْرِيف وَأَن الصَّوَاب «طوله» بطاء عوض الْهَاء لِأَنَّهُ الْمُنَاسب لقَوْله: «تنام» .

أُلُوهِيَّةً تَامَّةً، بَلْ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، فَأَكَّدَ هَذَا الْمَدْلُولَ بِالصَّرِيحِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا. وذَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مُشَارٌ إِلَيْهِ مُعَيَّنٌ، وَالْعَرَبُ تَزِيدُ (ذَا) لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ وُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِفْهَامِ، حَتَّى إِذا أظهر عَدَمُ وُجُودِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ مُتَطَلِّعٍ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِادِّعَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي (مَنْ ذَا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: 245] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَالشَّفَاعَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 54] . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِحَقٍّ وَإِدْلَالٍ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِلْكُهُ، وَلَكِنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مَنْ أَرَادَ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ كَرَامَتَهُ عِنْدَهُ فَيَأْذَنَهُ بِأَنْ يَشْفَعَ فِيمَنْ أَرَادَ هُوَ الْعَفْوَ عَنْهُ، كَمَا يُسْنَدُ إِلَى الْكُبَرَاءِ مُنَاوَلَةُ الْمَكْرُمَاتِ إِلَى نُبَغَاءِ التَّلَامِذَةِ فِي مَوَاكِبِ الِامْتِحَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ النَّاسُ لِيُكَلِّمَ رَبَّهُ فَيُخَفِّفَ عَنْهُمْ هَوْلَ مَوْقِفِ الْحِسَابِ، فَيَأْتِي حَتَّى يَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَسُجُودُهُ اسْتِيذَانٌ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَشْفَعُ حَتَّى يُقَالَ اشْفَعْ، وَتَعْلِيمُهُ الْكَلِمَاتِ مُقَدَّمَةٌ لِلْإِذْنِ. وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ تَقْرِيرٌ وَتَكْمِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَلِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ جُمْلَتَيْ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ دَلَّتَا عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ بِمَا حَدَثَ وَوُجِدَ مِنَ الْأَكْوَانِ وَلَمْ تَدُلَّا عَلَى عِلْمِهِ بِمَا سَيَكُونُ فَأَكَّدَ وَكَمَّلَ بِقَوْلِهِ يَعْلَمُ الْآيَةَ، وَهِيَ أَيْضًا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِذْ قَدْ يتّجه سُؤال لماذَا حُرِمُوا الشَّفَاعَةَ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ فَقِيلَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّ

الشَّفَاعَةَ وَرُبَّمَا غَرَّتْهُمُ الظَّوَاهِر، وَالله يعْمل مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فَهُوَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلِأَجْلِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا. وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مَا هُوَ مُلَاحَظٌ لَهُمْ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَمَا خَفِيَ عَنْهُمْ أَوْ ذُهِلُوا عَنْهُ مِنْهَا، أَوْ مَا هُوَ وَاقِعٌ بَعْدَهُمْ وَمَا وَقَعَ قَبْلَهُمْ. وَأَمَّا عِلْمُهُ بِمَا فِي زَمَانِهِمْ فَأَحْرَى. وَقِيلَ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْمَاضِي هُوَ الْخَلْفُ، وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُمَا اسْتِعْمَالَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فِي تَمْثِيلِ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَرْءِ هُوَ أَمَامُهُ، فَهُوَ يَسْتَقْبِلُهُ وَيُشَاهِدُهُ وَيَسْعَى لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَا خَلْفَهُ هُوَ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَهُوَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَانْقَطَعَ وَلَا يُشَاهِدُهُ، وَقَدْ تَجَاوَزَهُ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ بَعْدُ وَقِيلَ أُمُورُ الدُّنْيَا وَأُمُورُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ فَرْعٌ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ المحسوسات والمعقولات. وأياما كَانَ فَاللَّفْظُ مَجَازٌ، وَالْمَقْصُودُ عُمُومُ الْعِلْمِ بِسَائِرِ الْكَائِنَاتِ. وَضَمِيرُ أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بِتَغْلِيبِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مَا يَشْمَلُ أَحْوَالَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، أَوْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى خُصُوصِ الْعُقَلَاءِ مِنْ عُمُومِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا يَخْتَصُّ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ- وَهُوَ الْبَعْضُ، لِضَمِيرِ وَلَا يُحِيطُونَ- لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَحْوَالِ الْعُقَلَاءِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِمَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 216] . وَمَعْنَى يُحِيطُونَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا تَامًّا، وَهُوَ مُجَازٌ حَقِيقَتُهُ أَنَّ الْإِحَاطَةَ بِالشَّيْءِ تَقْتَضِي الِاحْتِوَاءَ عَلَى جَمِيعِ أَطْرَافِهِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُ شَيْء من أَوَّلِهِ وَلَا آخِرِهِ، فَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ- عِلْمَ الْيَقِينِ- شَيْئًا مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، وَأَمَّا مَا يَدَّعُونَهُ فَهُوَ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ. فَالْعِلْمُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عِلْمِهِ بِمَعْنى الْمَعْلُوم، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَخْصِيصٌ لَهُ بِالْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهَا وَلَمْ يُنَصِّبِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً أَوْ عَادِيَّةً. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِما شاءَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُطْلِعُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّ عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: 26، 27] .

وَقَوْلُهُ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ تَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ كُلُّهَا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَبَيَانِ عَظَمَةِ مَخْلُوقَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ عَظَمَةَ شَأْنِهِ، أَوْ لِبَيَانِ سِعَةِ مُلْكِهِ- كَذَلِكَ- كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ مُتَرَتِّبَةً مُتَفَرِّعَةً. وَالْكُرْسِيُّ شَيْءٌ يُجْلَسُ عَلَيْهِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَعْوَادٍ أَوْ غَيْرِهَا مَوْضُوعَةٍ كَالْأَعْمِدَةِ مُتَسَاوِيَةٍ، عَلَيْهَا سَطْحٌ مِنْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ شَخْصًا وَاحِدًا فِي جُلُوسِهِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَكَانَ مُرْتَفِعًا فَهُوَ الْعَرْشُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةَ الْكُرْسِيِّ إِذْ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى لِاقْتِضَائِهِ التَّحَيُّزَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: إِنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ، وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعَظَمَتِهِ، فَقِيلَ هُوَ الْعَرْشُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْكُرْسِيَّ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعَرْشِ، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُمَا مُقْتَرِنَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْكُرْسِيُّ غَيْرَ الْعَرْشِ لَذُكِرَ مَعَهُ كَمَا ذُكِرَتِ السَّمَاوَاتُ مَعَ الْعَرْشِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [الْمُؤْمِنُونَ: 86] ، وَقِيلَ الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ دُونَ الْعَرْشِ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ» وَهُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ مِنَ الْعَرْشِ، أَيْ لِأَنَّ الْجَالِسَ عَلَى عَرْشٍ يَكُونُ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ فَيُوضَعُ لَهُ كُرْسِيٌّ لِئَلَّا تَكُونَ رِجْلَاهُ فِي الْفَضَاءِ إِذَا لَمْ يَتَرَبَّعْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ الْكُرْسِيُّ مَثَلٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ. وَقِيلَ مَثَلٌ لِمُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ فُلَانٌ صَاحِبُ كُرْسِيِّ الْعِرَاقِ أَيْ مُلْكِ الْعِرَاقِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «وَلَعَلَّهُ الْفَلَكُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِفَلَكِ الْبُرُوجِ» . قُلْتُ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ مُسَمَّاهَا فِي قَوْلِهِ (سُورَةِ نُوحٍ) : أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15، 16] ، فَيَجُوزُ أَن تكون السَّمَوَات طَبَقَاتٍ مِنَ الْأَجْوَاءِ مُخْتَلِفَةَ الْخَصَائِصِ مُتَمَايِزَةً بِمَا يَمْلَأُهَا مِنَ العناصر، وَهِي مسبح الْكَوَاكِبِ، وَلَقَدْ قَالَ تَعَالَى (سُورَةُ الْمُلْكِ) : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: 5] ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ هِيَ الْكَوَاكِبَ الْعَظِيمَةَ الْمُرْتَبِطَةَ بِالنِّظَامِ

الشَّمْسِيِّ وَهِيَ: فُلْكَانَ، وَعُطَارِدُ، وَالزُّهْرَةُ، وَهَذِهِ تَحْتَ الشَّمْسِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرِي، وَزُحَلُ، وَأُورَانُوسُ، وَنِبْتُونُ، وَهَذِهِ فَوْقَ الشَّمْسِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي الْبُعْدِ، إِلَّا أَنَّهَا فِي عِظَمِ الْحَجْمِ يَكُونُ أَعْظَمَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ زُحَلُ، ثُمَّ نِبْتُونُ، ثُمَّ أُورَانُوسُ، ثُمَّ الْمِرِّيخُ، فَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ أَكْبَرَهَا فَهُوَ الْمُشْتَرِي، وَالْكُرْسِيُّ دُونَهُ فَهُوَ زُحَلُ، وَالسَّبْعُ الْبَاقِيَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ، وَيُضَمُّ إِلَيْهَا الْقَمَرُ، وَإِنْ كَانَ الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَدِّ الْقَمَرِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَالشَّمْسُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَوَاكِبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 16] تَخْصِيصٌ لَهَا بِالذِّكْرِ لِلِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهَا نُورٌ لِلْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ الشَّمْسَ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِهَا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَإِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ أَفْلَاكًا سَبْعَةً لِشُمُوسٍ غَيْرِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَلِكُلِّ فَلَكٍ نِظَامُهُ كَمَا لِهَذِهِ الشَّمْسِ نِظَامُهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ- وَسُبْحَانَ مَنْ لَا تُحِيطُ بِعَظَمَةِ قُدْرَتِهِ الْأَفْهَامُ- فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَنَا إِلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسِعَةِ مَلَكُوتِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا ذَلِكَ لِأَنَّ تَفْصِيلَهُ لَيْسَ من غَرَض لاستدلال عَلَى عَظَمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْعُقُولَ لَا تَصِلُ إِلَى فَهْمِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى عُلُومٍ وَاسْتِكْمَالَاتٍ فِيهَا لَمْ تَتِمَّ إِلَى الْآنَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ. وَجُمْلَة وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ لِأَنَّهَا مِنْ تَكْمِلَتِهَا وَفِيهَا ضَمِيرٌ مَعَادُهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَ هَاتِهِ الْعَوَالِمَ لَا يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهَا. وآده جَعَلَهُ ذَا أَوَدٍ. وَالْأَوَدُ- بِالتَّحْرِيكِ- الْعِوَجُ، وَمَعْنَى آدَهُ أَثْقَلَهُ لِأَنَّ الْمُثْقَلَ يَنْحَنِي فَيَصِيرُ ذَا أَوَدٍ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِهِ، وَالْعُلُوُّ وَالْعَظَمَةُ مُسْتَعَارَانِ لِشَرَفِ الْقَدْرِ وَجَلَالِ الْقُدْرَةِ. وَلِهَذِهِ الْآيَةِ فَضْلٌ كَبِيرٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أُصُولِ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا اشْتَمَلَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ عَلَى ذَلِكَ وَكَمَا اشْتَمَلَتْ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ. فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ فِي اللَّيْلِ فَأَخَذَ مِنْ طَعَامِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَمَّا أَمْسَكَهُ قَالَ لَهُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ

[سورة البقرة (2) : آية 256]

حَتَّى تُصْبِحَ» فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَدَقَكَ وَذَلِكَ شَيْطَانٌ» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أُبَيِّ ابْن كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ- قُلْتُ- اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ» ، وَفِيهَا فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ مُجَرَّبَةٌ لِلتَّأْمِينِ عَلَى النَّفس وَالْبَيْت. [256] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 256] لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اسْتِئْنَاف بياني نَاشِئٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 244] إِذْ يَبْدُو لِلسَّامِعِ أَنَّ الْقِتَالَ لِأَجْلِ دُخُولِ الْعَدُوِّ فِي الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ. وَتَعْقِيبُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِهَاتِهِ الْآيَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَعَظَمَةِ الْخَالِقِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ شَوَائِبِ مَا كَفَرَتْ بِهِ الْأُمَمُ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسُوقَ ذَوِي الْعُقُولِ إِلَى قَبُولِ هَذَا الدِّينِ الْوَاضِحِ الْعَقِيدَةِ، الْمُسْتَقِيمِ الشَّرِيعَةِ، بِاخْتِيَارِهِمْ دُونَ جَبْرٍ وَلَا إِكْرَاهٍ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْعَلَ دَوَامَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بِمَحَلِّ السُّؤَالِ: أَيُتْرَكُونَ عَلَيْهِ أَمْ يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَالْإِكْرَاهُ الْحَمْلُ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ، أَيْ جَعْلِهِ ذَا كَرَاهِيَةٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَخْوِيفِ وُقُوعِ مَا هُوَ أَشَدُّ كَرَاهِيَةً مِنَ الْفِعْلِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ. وَالدِّينُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْد قَوْله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: 3] ، وَهُوَ هَنَا مُرَادُ بِهِ الشَّرْعُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ لِلْعَهْدِ، أَيْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَنَفْيُ الْإِكْرَاهِ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ قَسْرًا، وَجِيءَ بِنَفْيِ الْجِنْسِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ نَصًّا. وَهِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى إِبْطَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، لِأَنَّ أَمْرَ الْإِيمَانِ يَجْرِي على الِاسْتِدْلَال، والتمكين مِنَ النَّظَرِ، وَبِالِاخْتِيَارِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» . وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ كُلِّهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَاسْتِخْلَاصِ بِلَادِ الْعَرَبِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَدُومَ نُزُولُ السُّورَةِ سِنِينَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ بِأَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ هِيَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [176] يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا الْآيَةَ، فَنَسَخَتْ حُكْمَ الْقِتَالِ عَلَى قَبُولِ الْكَافِرِينَ الْإِسْلَامَ وَدَلَّتْ عَلَى الِاقْتِنَاعِ مِنْهُمْ بِالدُّخُولِ تَحْتَ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالذِّمَّةِ، وَوَضَّحَهُ عَمَلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ حِينَ خَلَصَتْ بِلَادُ الْعَرَبِ مِنَ الشَّرَكِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ دُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا حِينَ جَاءَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالرُّجُوعِ بِهِمْ إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ تَخْلِيصِ الْكَعْبَةِ مِنْ أَرْجَاسِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ تَهْيِئَةِ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ لِحَمْلِ هَذَا الدِّينِ وَحِمَايَةِ بَيْضَتِهِ، وَتَبَيَّنَ هَدْيُ الْإِسْلَامِ وَزَالَ مَا كَانَ يَحُولُ دُونَ اتِّبَاعِهِ مِنَ الْمُكَابَرَةِ، وَحَقَّقَ اللَّهُ سَلَامَةَ بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ كَمَا وَقَعَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» لَمَّا تَمَّ ذَلِكَ كُلُّهُ أَبْطَلَ اللَّهُ الْقِتَالَ عَلَى الدِّينِ وَأَبْقَى الْقِتَالَ عَلَى تَوْسِيعِ سُلْطَانِهِ، وَلذَلِك قَالَ (سُورَةُ التَّوْبَةِ 29) قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ الْقِتَالِ مِثْلِ قَوْله قبلهَا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ النَّازِلَةَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: آيَاتٌ أَمَرَتْ بِقِتَالِ الدِّفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التَّوْبَة: 36] ، وَقَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْبَقَرَة: 194] ،

وَهَذَا قِتَالٌ لَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ لِدَفْعِ غَائِلَةِ الْمُشْرِكِينَ. النَّوْعُ الثَّانِي: آيَاتٌ أَمَرَتْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ وَلَمْ تُغَيَّ بِغَايَةٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهَا مُقَيَّدًا بِغَايَةِ آيَةِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التَّوْبَة: 29] وَحِينَئِذٍ فَلَا تُعَارِضُهُ آيَتُنَا هَذِهِ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا غُيِّيَ بِغَايَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: 193] ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهَاتِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التَّوْبَة: 29] كَمَا نُسِخَ حَدِيثُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» ، هَذَا مَا يَظْهَرُ لَنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّوْبَة: 73] ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِهِ. وَلَعَلَّهُمَا يُرِيدَانِ مِنَ النَّسْخِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَسْخِهَا بِقِتَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ، يُعَارِضُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَوَجْهُ الْجمع هُوَ التَّنْصِيص. الْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَكِنَّهَا خَاصَّةٌ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ هِيَ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ «وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ جِنْسٍ يَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَيْهِ» ، يَعْنِي مَعَ بَقَاءِ طَائِفَةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْإِكْرَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ مِقْلَاتًا- أَيْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ- (¬1) تَنْذُرُ إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَسْلَمُوا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ يَهُودًا فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا بَلْ نُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. ¬

(¬1) المقلات- بِكَسْر الْمِيم- مُشْتَقَّة من القلت بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْهَلَاك، وَعَلِيهِ فالتاء فِيهِ أَصْلِيَّة وَلَيْسَت هَاء تَأْنِيث، وَوَقع فِي كَلَام ابْن عَبَّاس تكون الْمَرْأَة مقلى، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ فَيكون مقلاه مفعلة من قلى إِذا أبْغض.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو حُصَيْنٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفٍ وَلَهُ ابْنَانِ جَاءَ تُجَّارٌ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَتَنَصَّرَا وَخَرَجَا مَعَهُمْ، فَجَاءَ أَبُوهُمَا فَشَكَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَرُدُّهُمَا مُكْرَهَيْنِ فَنَزَلَتْ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ يَوْمَئِذٍ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِكْرَاهِ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ فِي إِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ كُرْهًا فِرَارًا مِنَ السَّيْفِ، عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النِّسَاء: 94] . وَهَذَا الْقَوْلُ تَأْوِيلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ وَحَمْلٌ لِلنَّفْيِ عَلَى الْإِخْبَارِ دُونَ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ التَّوْحِيدُ وَدِينٌ لَهُ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ وَإِنَّ نَفْيَ الْإِكْرَاهِ نَهْيٌ، وَالْمَعْنَى لَا تُكْرِهُوا السَّبَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُنَّ أَهْلُ دِينٍ وَأَكْرِهُوا الْمَجُوسَ مِنْهُمْ وَالْمُشْرِكَاتِ. وَقَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ. والرشد- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِفَتْحٍ فَفَتْحٍ- الْهُدَى وَسَدَادُ الرَّأْيِ، وَيُقَابِلُهُ الْغَيُّ وَالسَّفَهُ، وَالْغَيُّ الضَّلَالُ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ غَوَى الْمُتَعَدِّي فَأَصْلُهُ غَوِيٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتَا. وَضُمِّنَ تَبَيَّنَ مَعْنَى تَمَيَّزَ فَلذَلِك عدي بِمن، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ فِي بَلَدٍ مُسْتَقِلٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّبْيِينِ إِلَّا الْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ، وَفِيه بَيَان لنفي الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ إِذْ قَدْ تَفَرَّعَ عَنْ تَمَيُّزِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ ظُهُورُ أَنَّ مُتَّبِعَ الْإِسْلَامِ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَهُوَ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ اخْتِيَارًا. وَالطَّاغُوتُ الْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ، وَالْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ الصَّنَمَ الطَّاغِيَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ» ، وَيَجْمَعُونَ الطَّاغُوتَ عَلَى طَوَاغِيتَ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّغْيَانِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغُلُوُّ فِي الْكِبْرِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَمَكْرُوهٌ. وَوَزْنُ طَاغُوتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ طَغَيُوتٌ- فَعَلُوتٌ- مِنْ أَوْزَانِ الْمَصَادِرِ

مِثْلُ مَلَكُوتٍ وَرَهَبُوتٍ وَرَحَمُوتٍ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ- بَيْنَ عَيْنِهِ وَلَامِهِ- فَصُيِّرَ إِلَى فَلَعَوَتٍ طَيَغُوتٍ لِيَتَأَتَّى قَلْبُ اللَّامِ ألفا فَصَارَ طاغوت، ثُمَّ أُزِيلَ عَنْهُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَصَارَ اسْمًا لِطَائِفَةٍ مِمَّا فِيهِ هَذَا الْمَصْدَرُ فَصَارَ مِثْلَ مَلَكُوتٍ فِي أَنَّهُ اسْمُ طَائِفَةٍ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ- لَا مِثْلَ رَحَمُوتٍ وَرَهَبُوتٍ فِي أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ- فَتَاؤُهُ زَائِدَةٌ، وَجُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْأَصْنَامِ، وَأَصْلُهُ صِفَةٌ بِالْمَصْدَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ كَشَأْنِ الْمَصَادِرِ. وَعُطِفَ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّ نَبْذَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَا مَزِيَّةَ فِيهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَوَّضَهَا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى اسْتَمْسَكَ تَمَسَّكَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: 43] وَقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمرَان: 195] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: «فَاسْتَنْكَحُوا أُمَّ جَابِرٍ» إِذْ لَا مَعْنَى لِطَلَبِ التَّمَسُّكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى بَعْدَ الْإِيمَانِ، بَلِ الْإِيمَانُ التَّمَسُّكُ نَفْسُهُ. وَالْعُرْوَةُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مَا يُجْعَلُ كَالْحَلْقَةِ فِي طَرَفِ شَيْءٍ لِيُقْبَضَ عَلَى الشَّيْءِ مِنْهُ، فَلِلدَّلْوِ عُرْوَةٌ وَلِلْكُوزِ عُرْوَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ الْعُرْوَةُ فِي حَبْلٍ بِأَنْ يُشَدَّ طَرَفُهُ إِلَى بَعْضِهِ وَيُعْقَدَ فَيَصِيرَ مِثْلَ الْحَلْقَةِ فِيهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى مِنَ الْحَبْلِ الْوَثِيقِ. والْوُثْقى الْمَحْكَمَةُ الشَّدِّ. ولَا انْفِصامَ لَها أَيْ لَا انْقِطَاعَ، وَالْفَصْمُ الْقَطْعُ بِتَفْرِيقِ الِاتِّصَالِ دُونَ تَجْزِئَةٍ بِخِلَافِ الْقَصْمِ بِالْقَافِ فَهُوَ قَطْعٌ مَعَ إِبَانَةٍ وَتَجْزِئَةٍ. وَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى تَمْثِيلِيٌّ، شُبِّهَتْ هَيْأَةُ الْمُؤْمِنِ فِي ثَبَاتِهِ على الْإِيمَان بهيأة مَنْ أَمْسَكَ بِعُرْوَةٍ وُثْقَى مِنْ حَبْلٍ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى صَعْبٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ فِي هَوْلِ الْبَحْرِ، وَهِيَ هَيْأَةٌ معقولة شبهت بهيأة مَحْسُوسَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ، بِالْمُشَاهَدِ» وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ إِذْ قَالَ «مُثِّلَتْ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ بِحَالِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَدَلَّى مِنْ شَاهِقٍ فَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِأَنِ اسْتَمْسَكَ بِأَوْثَقِ عُرْوَةٍ مِنْ حَبْلٍ مَتِينٍ مَأْمُونٍ انْقِطَاعُهُ» ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ ثَابِتُ الْيَقِينِ سَالِمٌ مِنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ نَاجٍ مِنْ مَهَاوِي السُّقُوطِ فِي الْآخِرَةِ كَحَالِ مِنْ تَمَسَّكَ بِعُرْوَةِ حَبْلٍ مَتِينٍ لَا يَنْفَصِمُ.

[سورة البقرة (2) : آية 257]

وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ هَذِه فَائِدَة الْمُؤمن تَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَصِيرَةِ وَذَلِكَ مِمَّا تَطْلُبُهُ النُّفُوسُ، وَأَشَارَتْ إِلَى فَائِدَةِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الَّذِي هُوَ تَعْرِيضٌ بالوعد وَالثَّوَاب. [257] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) وَقَعَ قَوْلُهُ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: لَا انْفِصامَ لَها [الْبَقَرَة: 256] لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ وَآمَنُوا بِاللَّهِ قَدْ تَوَلَّوُا اللَّهَ فَصَارَ وَلِيَّهُمْ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لَهُمْ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَهُوَ ذَبُّ الشُّبُهَاتِ عَنْهُمْ، فَبِذَلِكَ يَسْتَمِرُّ تَمَسُّكُهُمْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَيَأْمَنُونَ انْفِصَامَهَا، أَيْ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنَّ اللَّهَ يَزِيدُهُ هُدًى. وَالْوَلِيُّ الْحَلِيفُ فَهُوَ يَنْصُرُ مَوْلَاهُ. فَالْمُرَادُ بِالنُّورِ نُورُ الْبُرْهَانِ وَالْحَقِّ، وَبِالظُّلُمَاتِ ظُلُمَاتُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّكِّ، فَاللَّهُ يَزِيدُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى لِأَنَّ اتِّبَاعَهُمُ الْإِسْلَامَ تَيْسِيرٌ لِطُرُقِ الْيَقِينِ فَهُمْ يَزْدَادُونَ تَوَغُّلًا فِيهَا يَوْمًا فَيَوْمًا، وَبِعَكْسِهِمُ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّ اخْتِيَارَهُمْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى خَتْمٍ ضُرِبَ عَلَى عُقُولِهِمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا، فَهُمْ يَزْدَادَونَ فِي الضَّلَالِ يَوْمًا فَيَوْمًا. وَلِأَجْلِ هَذَا الِازْدِيَادِ الْمُتَجَدِّدِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي- يُخْرِجُهُمْ- ويخرجونهم- وَبِهَذَا يَتَّضِحُ وَجْهُ تَعْقِيبِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِآيَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: 258] ثُمَّ بِآيَةِ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] ثُمَّ بِآيَةِ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فَإِنَّ جَمِيعَهَا جَاءَ لِبَيَانِ وُجُوهِ انْجِلَاءِ الشَّكِّ وَالشُّبُهَاتِ عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ صَدَقَ إِيمَانُهُمْ، وَلَا دَاعِيَ إِلَى مَا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ مِنْ تَأْوِيلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِالَّذِينَ أَرَادُوا ذَلِكَ، وَجَعْلِ النُّورِ وَالظُّلُمَاتِ تَشْبِيهًا لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، لِمَا عَلِمْتَ مِنْ ظُهُورِ الْمَعْنَى بِمَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ بِذَلِكَ، وَلَا يَحْسُنُ وَقْعُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، وَلِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْحَمْلِ عَلَى زِيَادَةِ تَضْلِيلِ الْكَافِرِ فِي كُفْرِهِ بِمَزِيدِ الشَّكِّ كَمَا

[سورة البقرة (2) : آية 258]

فِي قَوْلِهِ: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] ، وَلِأَنَّ الطَّاغُوتَ كَانُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْجَمِيعَ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ مَا أَطَالَ بِهِ فَخْرُ الدَّين من وجود الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْنَا. وَجُمْلَةُ يُخْرِجُهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ يُخْرِجُونَهُمْ حَالٌ مِنَ الطَّاغُوتِ. وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى الطَّاغُوتِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْعُقَلَاءِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبَ الْخُرُوجِ لَا مُخْرِجِينَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّاغُوتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [الْبَقَرَة: 256] . [258] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) جَرَى هَذَا الْكَلَامُ مَجْرَى الْحُجَّةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمِثَالِ لَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَأَنَّ الطَّاغُوتَ يُخْرِجُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، سَاقَ ثَلَاثَةَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا أَوَّلُهَا وَأَجْمَعُهَا لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى ضَلَالِ الْكَافِرِ وَهُدَى الْمُؤْمِنِ، فَكَانَ هَذَا فِي قُوَّةِ الْمِثَالِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَمْثِيلُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُجَادَلَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَعْثِ بِحَالِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا يَرِدُ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ أَلَمْ تَرَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَ مَجَازِيٌّ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهُ وَأَصْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: 243] . وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالِ إِلَاهِيَّةِ غَيْرِهِ لِانْفِرَادِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْمَشْهُودَةِ لِلنَّاسِ. وَمَعْنَى حَاجَّ خَاصَمَ، وَهُوَ

فِعْلٌ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَا يعرف لحاجّ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ دَالٌّ عَلَى وُقُوعِ الْخِصَامِ وَلَا تُعْرَفُ الْمَادَّةُ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُرْهَانُ الْمُصَدِّقُ لِلدَّعْوَى مَعَ أَنَّ حَاجَّ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا فِي مَعْنَى الْمُخَاصَمَةِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ [غَافِر: 47] مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] ، وَأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْخِصَامَ بِبَاطِلٍ، قَالَ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الْأَنْعَام: 80] وَقَالَ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَمَعْنَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أَنَّهُ خَاصَمَهُ خِصَامًا بَاطِلًا فِي شَأْنِ صِفَاتِ اللَّهِ رَبِّ إِبْرَاهِيمَ. وَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نُمْرُودُ بْنُ فَالِخِ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِحِ بْنِ أَرْفَخَشْدَ بْنِ سَامِ بْنِ كَوْشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، فَيَكُونُ أَخَا (رَعوَ) جَدِّ إِبْرَاهِيمَ. وَالَّذِي يُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَلِكٌ جَبَّارٌ، كَانَ مَلِكًا فِي بَابِلَ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ، وَبَنَى الصَّرْحَ الَّذِي فِي بَابِلَ، وَاسْمُهُ نُمْرُودُ- بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي آخِرِهِ- وَيُقَالُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ كُتُبُ الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَهِيَ فِي الْمَرْوِيَّاتِ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ رَبٍّ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْإِضَافَةُ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الَّذِي، وَالْإِضَافَةُ لِإِظْهَارِ غَلَطِهِ كَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ: نُبِّئْتُ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ ... فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُظْهِرَ شَرًّا لِأَهْلِ رَحِمِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ تَعْلِيلٌ حُذِفَتْ مِنْهُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ حَاجَّ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ الْعَظِيمِ الَّذِي سَهَّلَهُ عِنْدَهُ ازْدِهَاؤُهُ وَإِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ عِلَّةً غَائِيَّةً مَقْصُودَةً لِلْمُحَاجِّ مِنْ حِجَاجِهِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا غَائِيًّا أَيْ حَاجَّ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْمُلْكَ، فَاللَّامُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنًى يُؤَدَّى بِحَرْفٍ غَيْرِ اللَّامِ، وَالدَّاعِي لِهَاتِهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمُ، أَيْ أَنَّهُ وَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ كَمَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] ، أَيْ جَزَاءَ رِزْقِكُمْ. وَإِيتَاءُ الْمُلْكِ مَجَازٌ فِي التَّفَضُّلِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ جَعَلَهُ مَلِكًا وَخَوَّلَهُ ذَلِكَ، وَيَجِيءُ تَفْصِيلُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [83] . قِيلَ: كَانَ نُمْرُودُ أَوَّلَ مَلِكٍ فِي الْأَرْضِ وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ.

وَ (إِذْ قالَ) ظَرْفٌ لِـ (حَاجَّ) . وَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَدَأَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاحْتَجَّ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ يُدْرِكُهَا كُلُّ عَاقِلٍ وَهِيَ أَنَّ الرَّبَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِحْيَاءَ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ إِبْرَاهِيمُ الْحُجَّةَ بِدَلَالَةِ عَجْزِ النَّاسِ عَنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَأَرَادَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي أَنَّهُ يَخْلُقُ الْأَجْسَامَ الْحَيَّةَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَفِي تَقْدِيمِ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. وَذَلِكَ مَوضِع الْعبْرَة من سِيَاقِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَسَامِعِ أَهْلِ الشِّرْكِ، ثُمَّ أعقبه بِدلَالَة الْأَمَانَة، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَنْهِيَةَ حَيَاةِ الْحَيِّ، فَفِي الْإِحْيَاء وَالْأَمَانَة دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ الْبَشَرِ، فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَاللَّهُ هُوَ الْبَاقِي دُونَ غَيْرِهِ الَّذِينَ لَا حَيَاةَ لَهُمْ أَصْلًا كَالْأَصْنَامِ إِذْ لَا يُعْطُونَ الْحَيَاةَ غَيْرَهُمْ وَهُمْ فَاقِدُوهَا، وَدُونَ مَنْ لَا يَدْفَعُ الْمَوْتَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلُ هَذَا الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ. وَجُمْلَةُ قالَ أَنَا أُحْيِي بَيَان لحاجّ وَالتَّقْدِيرُ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ حِينَ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَقَدْ جَاءَ بِمُغَالَطَةٍ عَنْ جَهْلٍ أَوْ غُرُورٍ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْمِدُ إِلَى مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ فَيَعْفُو عَنْهُ، وَإِلَى بَرِيءٍ فَيَقْتُلُهُ، كَذَا نَقَلُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ مِنْ فِعْلِهِ هُوَ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا خَفِيٌّ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ مَحْسُوسٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلِفَ ضَمِيرِ (أَنَا) بِقَصْرِ الْأَلِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَفَتْحَةٍ غَيْرِ مُشْبَعَةٍ وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بِأَلِفِ (أَنَا) فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِثْلَهُمْ إِلَّا إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةُ قَطْعٍ مَضْمُومَةٌ أَوْ مَفْتُوحَةٌ كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَام: 163] فَيَقْرَأهُ بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ. وَفِي هَمْزَةِ الْقَطْعِ الْمَكْسُورَةِ رِوَايَتَانِ لِقَالُونَ عَنْ نَافِعٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الْأَعْرَاف: 188] وَهَذِهِ لُغَةٌ فَصَيْحَةٌ. وَقَوْلُهُ: قالَ إِبْراهِيمُ مُجَاوَبَةٌ فَقُطِعَتْ عَنِ الْعَطْفِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، وَقَدْ عَدَلَ إِبْرَاهِيمُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِحْيَاءِ الْمُحْتَجِّ بِهِ وَلَا مِنَ الْإِمَاتَةِ الْمُحْتَجِّ بِهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ لِمَا عَلِمَ مِنْ مُكَابَرَةِ خَصْمِهِ وَانْتَقَلَ إِلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخَصْمُ انْتِحَالَهُ، وَلِذَلِكَ بُهِتَ، أَيْ عَجَزَ لم يَجِدْ مُعَارَضَةً.

[سورة البقرة (2) : آية 259]

وَ (بُهِتَ) فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ يُقَالُ بَهَتَهُ فَبُهِتَ بِمَعْنَى أَعْجَزَهُ عَنِ الْجَوَابِ فَعَجَزَ أَوْ فَاجَأَهُ بِمَا لَمْ يَعْرِفْ دَفْعَهُ قَالَ تَعَالَى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: 40] وَقَالَ عُرْوَةُ الْعُذْرِيُّ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ وَمِنْهُ الْبُهْتَانُ وَهُوَ الْكَذِبُ الْفَظِيعُ الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ هُوَ حَوْصَلَةُ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى هدي الله لقوم الظَّالِمِينَ لِأَنَّ الظُّلْمَ حَائِلٌ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ التَّنَازُلِ إِلَى التَّأَمُّلِ مِنَ الْحُجَجِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِيمَا فِيهِ النَّفْعُ إِذِ الذِّهْنُ فِي شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ بِزَهْوِهِ وَغُرُورِهِ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْجَدَلِ فَهُوَ جِدَالُ الْمُكَابَرَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَرْوِيجِ الْبَاطِل والخطإ. [259] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) تَخْيِيرٌ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: 258] فِي مَعْنَى التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُرَادُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ» وَإِذْ قَدْ قَرَّرَ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا ثُبُوتَ انْفِرَاد الله بالإلهية، وَذَلِكَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ، أَعْقَبَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي إِنْكَارُهُ أَصْلُ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الصِّيغَتَيْنِ فِي التَّعَجُّبِ: يَقُولُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى كَذَا، وَيَقُولُونَ أَرَأَيْتَ مِثْلَ كَذَا أَوْ كَكَذَا، وَقَدْ يُقَالُ أَلَمْ تَرَ كَكَذَا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، وَفِي الحَدِيث «فَلم أره كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ» ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْخَيْرِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ فَتَقُولَ: أَلَمْ تَرَ كَالْيَوْمِ- فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ-، وَحَيْثُ حُذِفَ الْفِعْلُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَمَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى تَقْدِيرِهِ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي التَّعَجُّبِ مَعَ كَافِ التَّشْبِيهِ. وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ قِيلَ هُوَ أَرْمِيَا بْنُ حَلْقيَا، وَقِيلَ هُوَ عُزَيْرُ بْنُ شَرْخِيَا (عِزْرَا بْنُ سَرَّيَّا) . وَالْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ حِزْقِيَالُ ابْن بُوزِي نَبِيءُ إِسْرَائِيلَ كَانَ مُعَاصِرًا لِأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى بَابِلَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَزْمَ بُخْتُنَصَّرَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْيَهُودِ وَجَمْعِهِ آثَارِ الْهَيْكَلِ لِيَأْتِيَ بِهَا إِلَى بَابِلَ، جَمَعَ كُتُبَ شَرِيعَةِ مُوسَى وَتَابُوتَ الْعَهْدِ وَعَصَا مُوسَى وَرَمَاهَا فِي بِئْر فِي أُورْشَلِيمَ خَشْيَةَ أَنْ يَحْرِقَهَا بُخْتُنَصَّرُ، وَلَعَلَّهُ اتَّخَذَ عَلَامَةً يَعْرِفُهَا بِهَا وَجَعَلَهَا سِرًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَاءِ زَمَانِهِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ إِلَى بَابِلَ بَقِيَ هُنَالِكَ وَكَتَبَ كِتَابًا فِي مَرَاءٍ رَآهَا وَحْيًا تَدُلُّ عَلَى مَصَائِبِ الْيَهُودِ وَمَا يُرْجَى لَهُمْ مِنَ الْخَلَاصِ، وَكَانَ آخِرُ مَا كَتَبَهُ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ سَبْيِ الْيَهُودِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ بَعْدُ كَمَا وَرَدَ فِي تَارِيخِهِمْ، وَيُظَنُّ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَتَبَهُ «أَخْرَجَنِي رُوحُ الرَّبِّ وَأَنْزَلَنِي فِي وَسَطِ الْبُقْعَةِ وَهِيَ مَلْآنَةٌ عِظَامًا كَثِيرَةً وَأَمَّرَنِي عَلَيْهَا وَإِذَا تِلْكَ الْبُقْعَةُ يَابِسَةٌ فَقَالَ لِي: أَتَحْيَى هَذِهِ الْعِظَامُ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي الرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ. فَقَالَ لِي: تَنَبَّأْ عَلَى هَذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ قَالَ هَا أَنَا ذَا أُدْخِلُ فِيكُمُ الرُّوحَ وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَبًا وَأَكْسُوكُمْ لَحْمًا وَجِلْدًا. فَتَنَبَّأْتُ، كَمَا أَمَرَنِي فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عظم إِلَى عطمه، وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِاللَّحْمِ وَالْعَصَبِ كَسَاهَا وَبُسِطَ الْجِلْدُ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ وَدَخَلَ فِيهِمُ الرُّوحُ فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظِيمٌ جِدًّا» . وَلَمَّا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَعَادَ عُمْرَانَ أُورْشَلِيمَ فِي عَهْدِ عِزْرَا النَّبِيءِ فِي حُدُودِ سَنَةِ 450 قَبْلَ الْمَسِيحِ أَحْيَا النَّبِيءَ حِزْقِيَالَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَرَى مِصْدَاقَ نُبُوَّتِهِ، وَأَرَاهُ إِحْيَاءَ الْعِظَامِ، وَأَرَاهُ آيَةً فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَحِمَارِهِ- وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَعْضِ أَصْفِيَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ- وَجَعَلَ خَبَرَهُ آيَةً لِلنَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ

الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِمَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ لِقَوْمٍ أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْفِيَائِهِ، أَوْ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَفُقِدَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَجَاءَهُمْ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ وَتَحَقَّقَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ بِصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: «أَخْرَجَنِي رُوحُ الرَّبِّ وَأَمَّرَنِي عَلَيْهَا» . فَقَوْلُهُ: قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ أَتَحْيَى هَذِهِ الْعِظَامُ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي أَنْتَ تَعْلَمُ لِأَنَّ كَلَامه هَذَا ينبىء بِاسْتِبْعَادِ إِحْيَائِهَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ إِلَخ مِمَّا زَادَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْبَيَانِ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بَعْدَ مُرُورِ أَزْمِنَةٍ، وَيُظَنُّ مِنْ هُنَا أَنَّهُ مَاتَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 560 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ تَجْدِيدُ أُورْشَلِيمَ فِي حُدُودِ 458 فَتِلْكَ مِائَةُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً تَذْكِرَةً لَهُ بِتِلْكَ النُّبُوءَةِ وَهِيَ تَجْدِيدُ مَدِينَةِ إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها الْخَاوِيَةُ: الْفَارِغَةُ مِنَ السُّكَّانِ وَالْبِنَاءِ. وَالْعُرُوشُ جَمْعُ عَرْشٍ وَهُوَ السَّقْفُ. وَالظَّرْفُ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا خَاوِيَةٌ سَاقِطَةٌ عَلَى سَقْفِهَا وَذَلِكَ أَشَدُّ الْخَرَابِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْبِنَاءِ السَّقْفُ ثُمَّ تَسْقُطُ الْجُدْرَانُ عَلَى تِلْكَ السَّقُفُ. وَالْقَرْيَةُ هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ رَآهَا فِي نَوْمِهِ كَذَلِكَ أَوْ رَآهَا حِينَ خَرَّبَهَا رُسُلُ بُخْتُنَصَّرَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ سُبِيَ مَعَ (يَهُويَا قِيمَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ لَمْ يَقَعِ التَّخْرِيبُ فِي زَمَنِهِ بل وَقع رفي زَمَنِ (صِدِقْيَا) أَخِيهِ بَعْدَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَاسْتِبْعَادٍ، وَقَوْلُهُ: فَأَماتَهُ اللَّهُ التَّعْقِيبُ فِيهِ بِحَسَبِ الْمُعَقَّبِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَمَاتَهُ فِي وَقْتِ قَوْلِهِ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَامَ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فِي نَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثَهُ أَي أَحْيَاهُ وَهِي حَيَاةً خَاصَّةً رُدَّتْ بِهَا رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ لِأَنَّ جَسَدَهُ لَمْ يَبْلَ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا بَعْثٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ بَعْثِ الْحَشْرِ. وَقَوْلُهُ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ اعْتَقَدَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ أَوْ لِأَنَّهُ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَامَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَوَجَدَ الْوَقْتَ الَّذِي أَفَاقَ فِيهِ آخر نَهَار. وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ أَمْرٌ لِلِاعْتِبَارِ أَيْ فَانْظُرْهُ فِي حَالِ أَنَّهُ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ كَانَا مَعَهُ حِينَ أُمِيتَ أَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ فِي قَبْرِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أُمَّةٍ أَوْ فِي بَلَدٍ يَضَعُونَ الطَّعَامَ لِلْمَوْتَى الْمُكَرَّمِينَ كَمَا يَفْعَلُ الْمِصْرِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، أَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حِينَ خَرَجَ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فِي نَوْمِهِ كَمَا قِيلَ ذَلِكَ.

وَمَعْنَى لَمْ يَتَسَنَّهْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّنَةِ لِأَنَّ مَرَّ السِّنِينَ يُوجِبُ التَّغَيُّرَ وَهُوَ مِثْلُ تَحَجُّرِ الطِّينِ، وَالْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ لَا هَاءُ سَكْتٍ، وَرُبَّمَا عَامَلُوا هَاءَ سَنَةٍ مُعَامَلَةَ التَّاءِ فِي الِاشْتِقَاقِ فَقَالُوا أَسْنَتَ فُلَانٌ إِذَا أَصَابَتْهُ سَنَةٌ أَيْ مَجَاعَةٌ، قَالَ مَطْرُودٌ الْخُزَاعِيُّ، أَوِ ابْنُ الزِّبَعْرَى: عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٍ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينِ عِجَافِ وَقَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ قيل: كَانَ حِمَارُهُ قَدْ بَلِيَ فَلَمْ تَبْقَ إِلَّا عِظَامُهُ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ أَمَامَهُ. وَلَمْ يُؤْتِ مَعَ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ بِذِكْرِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَافٍ، فَإِنَّهُ رَآهُ عِظَامًا ثُمَّ رَآهُ حَيًّا، وَلَعَلَّهُ هَلَكَ فَبَقِيَ بِتِلْكَ السَّاحَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا حِزْقِيَالُ بَعِيدًا عَنِ الْعُمْرَانِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَنْوَاعَ الْإِحْيَاء إِذْ أحيى جَسَدَهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ- عَنْ غير إِعَادَة- وأحيى طَعَامَهُ بِحِفْظِهِ من التغيّر وأحيى حِمَارَهُ بِالْإِعَادَةِ فَكَانَ آيَةً عَظِيمَةً لِلنَّاسِ الْمُوقِنِينَ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَحْيَاءَ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَصْفِيَائِهِ. فَقَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاعْتِبَارِ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ إِلَى ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَقْصُودُ اعْتِبَارُهُ فِي اسْتِبْعَادِهِ أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ الْقَرْيَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَكَانَ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ انْظُرْ إِلَى مَا ذُكِرَ جَعَلْنَاهُ آيَةً لَكَ عَلَى الْبَعْثِ وَجَعَلْنَاكَ آيَةً لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَحِمَارَهُ، وَلَكِنْ رَأَوْا ذَاتَهُ وَتَحَقَّقُوهُ بِصِفَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ عِظَامُ بَعْضِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ هَلَكُوا، أَوْ أَرَادَ عِظَامَ الْحِمَارِ فَتَكُونَ (الْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ إِلَى الْعِظَامِ فِي قُوَّةِ الْبَدَلِ مِنْ حِمَارِكَ إِلَّا أَنَّهُ بَرَزَ فِيهِ الْعَامِلُ الْمَنَوِيُّ تَكْرِيرُهُ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ نُنْشِرُهَا بِالرَّاءِ مُضَارِعُ أَنْشَرَ الرُّبَاعِيِّ بِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: نُنْشِزُها- بالزاي- مضارع أنشزه إِذَا رَفَعَهُ، وَالنَّشْزُ الِارْتِفَاعُ، وَالْمُرَادُ ارْتِفَاعُهَا حِينَ تَغْلُظُ بِإِحَاطَةِ الْعَصَبِ وَاللَّحْمِ وَالدَّمِ بِهَا فَحَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْن مَعْنيانِ لكملة وَاحِدَةٍ، وَفِي كِتَابِ (حِزْقِيَالَ) «فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ، وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْمِ كَسَاهَا وَبُسِطَ الْجِلْدُ عَلَيْهَا» .

[سورة البقرة (2) : آية 260]

وَقَوْلُهُ: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَعْلَمُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ عَلِمَ فَيكون جَوَاب الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ الْآيَةَ، وَجَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى مَا فِي كَلَامِ هَذَا النَّبِيءِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ علمه فِي قَبْلُ وَتَجَدَّدَ علمه إِيَّاه. وقرأه حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ لَكِنَّهُ تُرِكَ عَطْفُهُ لِأَنَّهُ جُعِلَ كَالنَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ الْآيَة. [260] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] ، فَهُوَ مِثَالٌ ثَالِثٌ لِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 257] الْآيَةَ وَمِثَالٌ ثَانٍ لِقَضِيَّةِ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فَالتَّقْدِيرُ: أَوْ هُوَ كَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي إِلَخ. فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ الْوُصُولَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْمُعَايَنَةِ فِي دَلِيلِ الْبَعْثِ رَامَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْبُرْهَانِيِّ، إِلَى الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى بِالْمَحْسُوسِ. وَانْتَصَبَ كَيْفَ هُنَا عَلَى الْحَالِ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، كَانْتِصَابِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمرَان: 6] . وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ الْوَاوُ فِيهِ وَاوُ الْحَالِ، وَالْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعَامِلُ الْحَالِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَرِنِي وَالتَّقْدِيرُ: أَأُرِيكَ فِي حَالِ أَنَّكَ لَمْ تُؤْمِنْ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ مَجَازِيٌّ مُرَادٌ بِهِ لَفْتُ عَقْلِهِ إِلَى دَفْعِ هَوَاجِسِ الشَّكِّ، فَقَوْلُهُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي كَلَامٌ صَدَرَ عَنِ اخْتِبَارِهِ يَقِينَهُ وَإِلْفَائِهِ سَالِمًا مِنَ الشَّكِّ.

وَقَوْلُهُ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مَعْنَاهُ لينبت وَيَتَحَقَّقَ عِلْمِي وَيَنْتَقِلَ مِنْ مُعَالَجَةِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ إِلَى بَسَاطَةِ الضَّرُورَةِ بِيَقِينِ الْمُشَاهَدَةِ وَانْكِشَافِ الْمَعْلُومِ انْكِشَافًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَاوَدَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ يَطَمْئِنُ يَسْكُنُ، وَمَصْدَرُهُ الِاطْمِئْنَانُ، وَاسْمُ الْمَصْدَرِ الطُّمَأْنِينَةُ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي سُكُونِ الْأَجْسَامِ،. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ وَانْتِفَاءِ مُعَالَجَةِ الِاسْتِدْلَالِ أَصْلُهُ مَجَازٌ بِتَشْبِيهِ التَّرَدُّدِ وَعِلَاجِ الِاسْتِدْلَالِ بِالِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ، وَشَاعَ ذَلِكَ الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ، يُقَالُ اطْمَأَنَّ بَالُهُ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اطْمَأَنَّ وَزْنُهُ افْعَلَلَّ وَأَنَّهُ لَا قَلْبَ فِيهِ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَالْمِيمُ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ الْبَيِّنُ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِنَّ وُقُوع الْهمزَة لَا مَا أَكْثَرُ وَأَخَفُّ مِنْ وُقُوعِهَا عَيْنًا، وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أنّ اطأمنّ مقلوب وَأَصله اطْمَأَنَّ وَقَدْ سُمِعَ طَمْأَنْتُهُ وَطَأْمَنْتُهُ وَأَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى تَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَالَّذِي أَوْجَبَ الْخِلَافَ عَدَمُ سَمَاعِ الْمُجَرَّدِ مِنْهُ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ طَمَنَ. وَالْقَلْبُ مُرَادٌ بِهِ الْعِلْمُ إِذِ الْقَلْبُ لَا يَضْطَرِبُ عِنْدَ الشَّكِّ وَلَا يَتَحَرَّكُ عِنْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْفِكْرِ، وَأَرَادَ بِالِاطْمِئْنَانِ الْعِلْمَ الْمَحْسُوسَ وَانْشِرَاحَ النَّفْسِ بِهِ وَقَدْ دَلَّهُ اللَّهُ عَلَى طَرِيقَةٍ يَرَى بِهَا إِحْيَاءَ الْمَوْتَى رَأْيَ الْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ اعْلَمْ أَنَّ الطَّيْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ مُرَادِفًا لِطَائِرٍ فَإِنَّهُ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ وَأَصْلُهَا وَصْفٌ فَأَصْلُهَا الْوَحْدَةُ، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَزْهَرِيِّ وَقُطْرُبٍ وَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى وَجمعه أَيْضًا وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ طَائِرٍ كَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ وَالْمَصْدَرُ يَجْرِي عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجمع. وَجِيء بِمن للتَّبْعِيض لدلَالَة عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكْمَةَ التَّعَدُّدِ وَالِاخْتِلَافِ زِيَادَةٌ فِي تَحَقُّقِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَمْ يَكُنْ أَهْوَنَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ دُونَ بَعْضٍ، فَلِذَلِكَ عُدِّدَتِ الْأَنْوَاعُ، وَلَعَلَّ جَعْلَهَا أَرْبَعَةً لِيَكُونَ وَضْعُهَا عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَالْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ لِئَلَّا يَظُنَّ لِبَعْضِ الْجِهَاتِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَأَتِّي الْإِحْيَاءِ، وَيَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ طَيْرٍ وَاحِدٍ فَتَكُونُ اللَّامُ لِلْعَهْدِ إِشَارَةً إِلَى طَيْرٍ

حَاضِرٍ، أَيْ خُذْ أَرْبَعَةً مِنْ أَجْزَائِهِ ثُمَّ ادْعُهُنَّ، وَالسَّعْيُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْيِ لَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيَرَانِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى أَنَّهُنَّ أُعِيدَتْ إِلَيْهِنَّ حَيَاةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْحَيَاةِ السَّابِقَةِ، لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُنَّ لَمْ يَمُتْنَ تَمَامًا. وَذِكْرُ كُلِّ جَبَلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِجَعْلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطَّيْرِ عَلَى جَبَلٍ لِأَنَّ وَضْعَهَا عَلَى الْجِبَالِ تَقْوِيَةٌ لِتَفَرُّقِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهَا فُرِّقَتْ بِالْفَصْلِ مِنْ أَجْسَادِهَا وَبِوَضْعِهَا فِي أَمْكِنَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ وَعَسِرَةِ التَّنَاوُلِ. وَالْجَبَلُ قِطْعَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتُ حِجَارَةٍ وَتُرَابٍ نَاتِئَةٌ تِلْكَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ، وَفِي الْأَرْضِ جِبَالٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةُ الِارْتِفَاعِ، وَفِي بَعْضِهَا مَسَاكِنُ لِلْبَشَرِ مثل جبال طيّء، وَبَعْضُهَا تَعْتَصِمُ بِهِ النَّاسُ مِنَ الْعَدُوِّ كَمَا قَالَ السَّمَوْأَلُ: لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مِنْ نُجِيرُهُ ... مَنِيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهُوَ كليل وَمعنى فَصُرْهُنَّ أَدْنِهِنَّ أَوْ أَيْلِهِنَّ يُقَالُ صَارَهُ يَصُورُهُ وَيَصِيرُهُ بِمَعْنًى وَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ مُعَرَّبٌ، فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ نَبَطِيٌّ، وَعَنْ قَتَادَةَ هُوَ حَبَشِيٌّ، وَعَنْ وَهْبٍ هُوَ رُومِيٌّ، وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِإِدْنَائِهَا أَنْ يَتَأَمَّلَ أَحْوَالَهَا حَتَّى يَعْلَمَ بَعْدَ إِحْيَائِهَا أَنَّهَا لَمْ يَنْتَقِلْ جُزْءٌ مِنْهَا عَنْ مَوْضِعِهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ جُزْءاً لِأَنَّ تَجْزِئَتَهُنَّ إِنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ الذَّبْحِ. فَالتَّقْدِيرُ فَاذْبَحْهُنَّ ثُمَّ اجْعَلْ إِلَخ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَصُرْهُنَّ- بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- مَنْ صَارَهُ يَصُورُهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَصُرْهُنَّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- مَنْ صَارَ يَصِيرُ لُغَةٌ فِي هَذَا الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُزْءاً- بِسُكُونِ الزَّايِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الزَّايِ، وهما لُغَتَانِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 262]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 261 إِلَى 262] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) عَوْدٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا الْمَثَلُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 254] . وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ [الْبَقَرَة: 254] الْآيَةَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ الِاسْتِشْرَافَ لِمَا يَلْقَاهُ الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَنْ أَعْقَبَ بِدَلَائِلَ وَمَوَاعِظَ وَعِبَرٍ وَقَدْ تَهَيَّأَتْ نُفُوسُ السَّامِعِينَ إِلَى التمحّض لهَذَا الْمَقْصُود فَأُطِيلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِطَالَةً تُنَاسِبُ أَهَمِّيَّتَهُ. وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَشْبِيهُ حَالِ جَزَائِهِمْ وَبَرَكَتِهِمْ، وَالصِّلَةُ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ حَالِ إِنْفَاقِهِمْ بِتَقْدِيرِ مثل نَفَقَة الدَّين. وَقَدْ شُبِّهَ حَالُ إِعْطَاءِ النَّفَقَةِ وَمُصَادَفَتُهَا مَوْقِعَهَا وَمَا أُعْطِيَ مِنَ الثَّوَابِ لَهُمْ بِحَالِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ إِلَخ، أَيْ زُرِعَتْ فِي أَرْضٍ نَقِيَّةٍ وَتُرَابٍ طَيِّبٍ وَأَصَابَهَا الْغَيْثُ فَأَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ. وَحُذِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِيجَازًا لِظُهُورِ أَنَّ الْحَبَّةَ لَا تُنْبِتُ ذَلِكَ إِلَّا كَذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ هَيْأَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَجُعِلَ أَصْلُ التَّمْثِيلِ فِي التَّضْعِيف حبّة لِأَنَّ تَضْعِيفَهَا مِنْ ذَاتِهَا لَا بِشَيْءٍ يُزَادُ عَلَيْهَا، وَقَدْ شَاعَ تَشْبِيهُ الْمَعْرُوفِ بِالزَّرْعِ وَتَشْبِيهُ السَّاعِي بِالزَّارِعِ، وَفِي الْمَثَلِ «رُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ وَزَارِعٍ غَيْرِ حَاصِدٍ» . وَلَمَّا كَانَتِ الْمُضَاعَفَةُ تُنْسَبُ إِلَى أَصْلِ وَحْدَةٍ، فَأَصْلُ الْوَحْدَةِ هُنَا هِيَ مَا يُثِيبُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَسَنَاتِ الصَّغِيرَةِ، أَيْ مَا يَقَعُ ثَوَابًا عَلَى أَقَلِّ الْحَسَنَاتِ كَمَنَ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِنَّهُ فِي حَسَنَةِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ

الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ الْجَيْشُ يَوْمَئِذَ بِحَاجَةٍ إِلَى الْجِهَازِ- وَهُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ- فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: «عَلَيَّ جِهَازُ مَنْ لَا جِهَازَ لَهُ» فَجَهَّزَ الْجَيْشَ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَقِيلَ جَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ ذَهَبًا فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ دَرَجَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الله تَعَالَى لأنّها تَتَرَتَّبُ عَلَى أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَأَحْوَالِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَأَوْقَاتِ ذَلِكَ وَأَمَاكِنِهِ. وَلِلْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ الِامْتِثَالِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحُفُّ بِالصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ، تَأْثِيرٌ فِي تَضْعِيفِ الْأَجْرِ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَأَعَادَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ جَاءَ فِي عطفه بشم مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُعْطَفَ بِالْوَاوِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «لِإِظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ» يَعْنِي أَنَّ ثمَّ للتَّرْتِيب الرتبي لَا لِلْمُهْلَةِ الزَّمَنِيَّةِ تَرْفِيعًا لِرُتْبَةِ تَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى عَلَى رُتْبَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْعَطَاءَ قَدْ يَصْدُرُ عَنْ كَرَمِ النَّفْسِ وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ فَلِلنُّفُوسِ حَظٌّ فِيهِ مَعَ حَظِّ الْمُعْطَى، بِخِلَافِ تَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى فَلَا حَظَّ فِيهِ لنَفس الْمُعْطِي فإنّ الْأَكْثَر يميلون إِلَى التبجّح والتطاول على الْمُعْطى، فالمهلة فِي (ثمَّ) هُنَا مجازية إِذْ شُبِّهُ حُصُولُ الشَّيْءِ الْمُهِمِّ- فِي عِزَّةِ حُصُولِهِ- بِحُصُولِ الشَّيْءِ الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهُ، وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى هَذَا أَنَّهُ رَأَى مَعْنَى الْمُهْلَةِ هُنَا غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ حُصُولُ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكُ الْمَنِّ مَعًا. وَالْمَنُّ أَصْلُهُ الْإِنْعَامُ وَالْفَضْلُ، يُقَالُ مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى عَدِّ الْإِنْعَامِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] ، وَهُوَ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَ الصَّدَقَةِ وَالْعَطَاءِ تَعَيَّنَ لِلْمَعْنَى الثَّانِي. وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَنُّ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالتَّطَاوُلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرِّيَاءِ بِالْإِنْفَاقِ، وَبِالتَّطَاوُلِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَهِّزُهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَنِّ التَّمَدُّحُ بِمَوَاقِفِ الْمُجَاهِدِ فِي الْجِهَادِ أَوْ بِمَوَاقِفِ قَوْمِهِ، فَقَدْ قَالَ الْحُرَيْشُ بْنُ هِلَالٍ الْقُرَيْعِيُّ يَذْكُرُ خَيْلَهُ فِي غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 263 إلى 264]

شَهِدْنَ مَعَ النَّبِيءِ مَسُوَّمَاتٍ ... حُنَيْنًا وَهْيَ دَامِيَةُ الْحَوَامِي وَوَقْعَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَحَكَّتْ ... سَنَابِكَهَا عَلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَتَمَدَّحُ بِمَوَاقِعِ قَوْمِهِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: حَتَّى إِذَا قَالَ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ ... أَبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْجِعُوا عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا وَالْأَذَى هُوَ أَن يُؤْذِي الْمُنفق مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِإِسَاءَةٍ فِي الْقَوْلِ أَوْ فِي الْفِعْلِ قَالَ النَّابِغَةُ: عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ فَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُرَادًا بِهِ نَصْرُ الدِّينِ وَلَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، فَذَلِكَ هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِنْفَاقِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَدُونَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ تَتَفَاوَت أحوالها. [263، 264] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 263 إِلَى 264] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) تَخَلَّصَ مِنْ غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى التَّنْوِيهِ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الصَّدَقَاتُ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِلصَّدَقَةِ إِلَّا أَنَّهَا تَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَصَفَ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِصِفَةِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا [الْبَقَرَة: 262] الْآيَةَ انْتَقَلَ بِمُنَاسَبَةِ ذَلِكَ إِلَى طَرْدِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ فَإِنَِِّ

الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ أَكْثَرُ حُصُولًا لِكَوْنِ الصَّدَقَةِ مُتَعَلِّقَةً بِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بِخِلَافِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَنَالُهُمُ النَّفَقَةُ لَا يَعْلَمُهُمُ الْمُنْفِقُ. فَالْمَنُّ عَلَى الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ هُوَ تَذْكِيرُهُ بِالنِّعْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمِنْ فِقْرَاتِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَلِمِ النَّوَابِغِ» : «طَعْمُ الْآلَاءِ أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ. وَهُوَ أَمَرُّ مِنَ الْآلَاءِ عِنْدَ الْمَنِّ» الْآلَاءُ الْأَوَّلُ النِّعَمُ وَالْآلَاءُ الثَّانِي شَجَرٌ مُرُّ الْوَرَقِ، وَالْمَنُّ الْأَوَّلُ شَيْءٌ شِبْهُ الْعَسَلِ يَقَعُ كَالنَّدَى عَلَى بَعْضِ شَجَرِ بَادِيَةِ سِينَا وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَة: 57] ، والمنّ الثَّانِي تَذْكِيرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالنِّعْمَةِ. وَالْأَذَى الْإِسَاءَةُ وَالضُّرُّ الْقَلِيلُ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَذَى الصَّرِيحُ مِنَ الْمُنْعِمِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ كَالتَّطَاوُلِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْطَاهُ، أَوْ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعَطَاءِ، بَلْهَ تَعْيِيرِهِ بِالْفَقْرِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَذَى الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمَنِّ. وَأَشَارَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» إِلَى أَنَّ الْمَنَّ لَهُ أَصْلٌ وَمَغْرِسٌ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَصِفَاتِهِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَمَنْبَعُ الْأَذَى أَمْرَانِ: كَرَاهِيَةُ الْمُعْطِي إِعْطَاءَ مَالَهُ وَشِدَّةُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَرُؤْيَتُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقِيرِ، وَكِلَاهُمَا مَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ فَإِنَّ كَرَاهِيَةَ تَسْلِيمِ الْمَالِ حُمْقٌ لِأَنَّ مَنْ بَذَلَ الْمَالَ لِطَلَبِ رِضَا اللَّهِ وَالثَّوَابِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ أَشَرَفُ مِمَّا بَذَلَهُ، وَظَنُّهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقِيرِ جَهْلٌ بِخَطَرِ الْغِنَى، أَيْ أَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ بِمَا تَتَفَاوَتُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنَ التَّزْكِيَةِ لَا بِعَوَارِضِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ الَّتِي لَا تَنْشَأُ عَنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ. وَلَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِ كَشَتْمِهِ وَضَرْبِهِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ. أَوْسَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ بَيَانًا وَتَرْغِيبًا وَزَجْرًا بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَفَنُّنَاتٍ بَدِيعَةٍ فَنَبَّهَنَا بِذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ. وَكَيْفَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَقِوَامُ الْأُمَّةِ دَوَرَانُ أَمْوَالِهَا بَيْنَهَا، وَأَنَّ مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الِانْتِفَاعُ بِالثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوهٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ رَعْيِ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ وَرَعْيِ الْوِجْدَانِ الْخَاصِّ، وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ مَعَ الَّذِي كَدَّ لِجَمْعِ الْمَالِ وَكَسْبِهِ،

وَمُرَاعَاةِ الْإِحْسَانِ لِلَّذِي بَطَّأَ بِهِ جُهْدُهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَقَاصِدِ التَّشْرِيعِيَّةِ. وَلَقَدْ كَانَ مِقْدَارُ الْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ فِيهِ هُوَ مِيزَانَ ارْتِقَاءِ الْأُمَمِ وَتَدَهْوُرِهَا، وَلَا تَجِدُ شَرِيعَةً ظَهَرَتْ وَلَا دُعَاةَ خَيْرٍ دَعَوْا إِلَّا وَهُمْ يَجْعَلُونَ لِتَنْوِيلِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ حَظًّا مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي أَهْلِ الثَّرْوَةِ وموضعا عَظِيمًا مِنْ تَشْرِيعِهِمْ أَوْ دَعْوَتِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ بَيْنَ مُقَارِبٍ وَمُقَصِّرٍ أَوْ آمِلٍ وَمُدَبِّرٍ، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ شَرِيعَةً سَدَّدَتِ السَّهْمَ لِهَذَا الْغَرَضِ. وَعَرَفَتْ كَيْفَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْتَحَبِّ فِيهِ وَالْمُفْتَرَضِ. وَمثل هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُبَارَكَةِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَصَرَّفَتْ فِي نِظَامِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ تَصَرُّفًا عَجِيبًا أَقَامَتْهُ عَلَى قَاعِدَةِ تَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ بِكِفَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنَ الْأُمَّةِ مَؤُونَةَ حَاجَتِهِ، عَلَى وُجُوهٍ لَا تَحْرِمُ الْمُكْتَسِبَ لِلْمَالِ فَائِدَةَ اكْتِسَابِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ. فَأَوَّلُ مَا ابْتَدَأَتْ بِهِ تَأْمِينُ ثِقَةِ الْمُكْتَسِبِ- بِالْأَمْنِ عَلَى مَالِهِ- مِنْ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مُنْتَزِعٌ إِذْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: 29] وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» ، سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفِ نَفْسٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَتَنَاقَلُوهُ فِي آفَاقِ الْإِسْلَامِ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، فَكَانَ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ قَاعِدَةُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ لَا يَسْتَطِيعُ مُسْلِمٌ إِبْطَالهَا. وَقد أتبعت إِعْلَانُ هَذِهِ الثِّقَةِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ بِتَفَارِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالتَّوْثِيقَاتِ، كَمَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ فِي السّلف والتوثّق بِالْإِشْهَادِ كَمَا تُصَرِّحُ بِهِ الْآيَاتُ الْآتِيَةُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ تَنْصِيصًا وَاسْتِنْبَاطًا. ثُمَّ أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا أَلَّا تَبْقَى الْأَمْوَالُ مُتَنَقِّلَةً فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ عَائِلَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأُمَّةِ بَلِ الْمَقْصِدُ دَوَرَانُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْفَيْءِ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْر: 7] ، فَضَمِيرُ يَكُونُ عَائِدٌ إِلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَالًا أَيْ كَيْلَا يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً. وَالدُّولَةُ مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ مِنَ الْمَالِ، أَيْ شَرَعْنَا صَرْفَهُ لِمَنْ سَمَّيْنَاهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْجَيْشِ حَقٌّ فِيهِ، لِيَنَالَ الْفُقَرَاءُ مِنْهُ حُظُوظَهُمْ فَيُصْبِحُوا أَغْنِيَاءَ فَلَا يَكُونُ

مُدَالًا بَيْنَ طَائِفَةِ الْأَغْنِيَاءِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْخُذُ قَادَتُهُمُ الْمِرْبَاعَ وَيَأْخُذُ الْغُزَاةُ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ فَيَبْقَى الْمَالُ كُلُّهُ لِطَائِفَةٍ خَاصَّةٍ. ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الِانْتِزَاعِ مِنْ هَذَا الْمَالِ انْتِزَاعًا مُنَظَّمًا فَجَعَلَتْ مِنْهُ انْتِزَاعًا جَبْرِيًّا بَعْضَهُ فِي حَيَاةِ صَاحِبِ الْمَالِ وَبَعْضَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَأَمَّا الَّذِي فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ، وَمِنْهَا الزَّكَاةُ، وَهِيَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ عُشْرُ الْمَمْلُوكَاتِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا أَوْ رُبُعُ عُشْرِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَ تَشْرِيعِهَا بِقَوْلِهِ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» ، وَجَعَلَ تَوْزِيعَ مَا يَتَحَصَّلُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ النَّاسِ وَكِفَايَةِ مُؤَنِ الضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ، فَصَارُوا بِذَلِكَ ذَوِي حَقٍّ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، غَيْرَ مُهِينِينَ وَلَا مُهَدِّدِينَ بِالْمَنْعِ وَالْقَسَاوَةِ. وَالْتَفَتَ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ فَوَعَدَهُمْ عَلَى هَذَا الْعَطَاءِ بِأَفْضَلِ مَا وُعِدَ بِهِ الْمُحْسِنُونَ، مِنْ تَسْمِيَتِهِ قَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ تَوْفِيرِ ثَوَابِهِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَيَلْحَقُ بِهَذَا النَّوْعِ أَخْذُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَعَ أَنَّهَا حَقُّ الْمُحَارِبِينَ، فَانْتَزَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمْ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الْأَنْفَال: 41] فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ أَيْدِي الَّذِينَ اكْتَسَبُوهُ بِسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَلْحَقُ بِهِ النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ غَيْرَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْظُورٍ فِيهَا إِلَى الِانْتِزَاعِ إِذْ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ تَأَلُّفِ الْعَائِلَةِ، وَلَا نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا جِبِلِّيٌّ. أَمَّا نَفَقَةُ غَيْرِ الْبَنِينَ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ نَفَقَةَ الْقَرَابَةِ فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الِانْتِزَاعِ الْوَاجِبِ، وَمِنَ الِانْتِزَاعِ الْوَاجِبِ الْكَفَّارَاتُ فِي حِنْثِ الْيَمِينِ، وَفِطْرِ رَمَضَانَ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ. فَهَذَا تَوْزِيعُ بَعْضِ مَالِ الْحَيِّ فِي حَيَاتِهِ. وَأَمَّا تَوْزِيعُ الْمَالِ بَعْدَ وَفَاةِ صَاحِبِهِ فَذَلِكَ بِبَيَانِ فَرَائِضِ الْإِرْثِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يُعْطُونَ أَمْوَالَهُمْ لِمَنْ يُحِبُّونَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [180] ، وَكَانَ بَعْضُ الْأُمَمِ يَجْعَلُ الْإِرْثَ لِلْأَكْبَرِ. وَجُعِلَ تَوْزِيعُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، فَلَمْ تُعْطَ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ تَوْزِيعُهُ بِحَسَبِ الْقُرْبِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي

مَسَائِلِ الْحَجْبِ مِنَ الْفَرَائِضِ، وَبِحَسَبِ الْأَحْوَجِيَّةِ إِلَى الْمَالِ، كَتَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى لِأَنَّهُ يَعُولُ غَيْرَهُ وَالْأُنْثَى يَعُولُهَا غَيْرُهَا. وَالْتَفَتَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ فَتَرَكَ لَهُمْ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ أَمْوَالِهِمْ يُعَيِّنُونَ مَنْ يَأْخُذُهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى شَرْطِ أَلَّا يَكُونَ وَارِثًا، حَتَّى لَا يَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى تَنْفِيلِ وَارِثٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الِانْتِزَاعِ انْتِزَاعًا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْمُوَاسَاةِ بِالصَّدَقَاتِ وَالْعَطَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَإِسْلَافِ الْمُعْسِرِ بِدُونِ مُرَابَاةٍ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ انْتِزَاعُ أَعْيَانِ الْمَمْلُوكَاتِ مِنَ الْأُصُولِ فَالِانْتِزَاعُ لَا يَعْدُو انْتِزَاعَ الْفَوَائِدِ بِالْعَدَالَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. وَجُمْلَةُ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَتَنْكِيرُ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ أَقَلُّ قَوْلٍ مَعْرُوفٍ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، أَيْ لَا يُنْكِرُونَهُ. فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْحَسَنُ وَهُوَ ضِدُّ الْأَذَى. وَالْمَغْفِرَةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا التَّجَاوُزُ عَنِ الْإِسَاءَةِ أَيْ تَجَاوُزُ الْمُتَصَدِّقِ عَنِ الْمُلِحِّ أَوِ الْجَافِي فِي سُؤَالِهِ إِلْحَاحَهُ أَوْ جَفَاءَهُ مِثْلَ الَّذِي يَسْأَلُ فَيَقُولُ: أَعْطِنِي حَقَّ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيُرَادُ بِهَا أَيْضًا تَجَاوُزُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الذُّنُوبِ بِسَبَبِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ إِذَا كَانَ مَعَهَا قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْأَذَى يُوشِكُ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلتَّذْكِيرِ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَتَخَلَّقَ بِهِمَا الْمُؤْمِنُونَ وَهُمَا: الْغِنَى الرَّاجِعُ إِلَيْهِ التَّرَفُّعُ عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَطِيَّةِ بِمَا يُبَرِّدُ غَلِيلَ شُحِّ نَفْسِ الْمُعْطِي، وَالْحِلْمُ الرَّاجِعُ إِلَيْهِ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنْ رُعُونَةِ بَعْضِ الْعُفَاةِ. وَالْإِبْطَالُ جَعْلُ الشَّيْءِ بَاطِلًا أَيْ زَائِلًا غَيْرَ نَافِعٍ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ. فَمَعْنَى بُطْلَانِ الْعَمَلِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا أَمْ كَانَ مُتَطَوَّعًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا فَبُطْلَانُهُ عَدَمُ إِجْزَائِهِ بِحَيْثُ لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ مِنْ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ وَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَّ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ مِنَ الْعَمَلِ. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُتَطَوَّعًا بِهِ رَجَعَ الْبُطْلَانُ إِلَى عَدَمِ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنِ اعْتِبَارِ ثَوَابِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا جَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.

وَقَوْلُهُ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الْكَافُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُبْطِلُوا، أَيْ لَا تَكُونُوا فِي إِتْبَاعِ صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَهُوَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِنَّمَا يُعْطِي لِيَرَاهُ النَّاسُ وَذَلِكَ عَطَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَالْمَوْصُولُ مِنْ قَوْلِهِ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ مُرَادٌ بِهِ جِنْسٌ وَلَيْسَ مُرَاد بِهِ جنس وَلَيْسَ مُرَادٌ بِهِ مُعَيَّنًا وَلَا وَاحِدًا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ تَفْظِيعُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالرِّئَاءُ- بِهَمْزَتَيْنِ- فِعَالٌ مِنْ رَأَى، وَهُوَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ إِظْهَارِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ لِلنَّاسِ، فَصِيغَةُ الْفِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَأُولَى الْهَمْزَتَيْنِ أَصْلِيَّةٌ وَالْأَخِيرَةُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْيَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ، وَيُقَالُ رِيَاءٌ- بِيَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ- عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً بَعْدَ الْكَسْرَةِ. وَالْمَعْنَى تَشْبِيهُ بَعْضِ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَصَدَّقُونَ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَيُعْقِبُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، بِالْمُنْفِقِينَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ إِنْفَاقِهَا إِلَّا الرِّئَاءَ وَالْمِدْحَةَ- إِذْ هُمْ لَا يَتَطَلَّبُونَ أَجْرَ الْآخِرَةِ-. وَوَجْهُ الشَّبَهِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ مِمَّا أَعْطَوْا بِأَزْيَدَ مِنْ شِفَاءِ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ حُبِّ التَّطَاوُلِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَشِفَاءِ خُلُقِ الْأَذَى الْمُتَطَبِّعِينَ عَلَيْهِ دُونَ نَفْعٍ فِي الْآخِرَةِ. وَمُثِّلَ حَالَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ- تَمْثِيلًا يَسْرِي إِلَى الَّذِينَ يُتْبِعُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى بِقَوْلِهِ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ إِلَخ- وَضَمِيرُ مَثَلُهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِي يُنْفِقُ مَاله رئاء للنَّاس، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَانَ لَا مَحَالَةَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُشَبَّهِ، فَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ تَشْبِيهَاتٍ. مَثَّلَ حَالَ الْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ بِحَالِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ يُغَشِّيهِ، يَعْنِي يَخَالُهُ النَّاظِرُ تُرْبَةً كَرِيمَةً صَالِحَةً لِلْبَذْرِ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تُرَابٌ صَالِحٌ لِلزَّرْعِ فَحُذِفَتْ صِفَةُ التُّرَابِ إِيجَازًا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي يَرْقُبُ النَّاسُ أَنْ يُصِيبَهُ الْوَابِلُ هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَبْذُرُونَ فِيهِ، فَإِذَا زَرَعَهُ الزَّارِعُ وَأَصَابَهُ وَابِلٌ وَطَمِعَ الزَّارِعُ فِي زَكَاءِ زَرْعِهِ، جَرَفَهُ الْمَاءُ مِنْ وَجْهِ الصَّفْوَانِ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا وَبَقِيَ مَكَانُهُ صَلْدًا أَمْلَسَ فَخَابَ أَمَلُ زَارِعِهِ.

وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَدَقُّ مِنْ أَنْ نَجْعَلَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ إِنْفَاقِ الْكَافِرِ بِحَالِ تُرَابٍ عَلَى صَفْوَانٍ أَصَابَهُ وَابِلٌ فَجَرَفَهُ، وَأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ هُوَ سُرْعَةُ الزَّوَالِ وَعَدَمُ الْقَرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إِبْرَاهِيم: 18] فَإِنَّ مَوْرِدَ تِلْكَ الْآيَةِ مَقَامٌ آخَرُ. وَلَكَ (¬1) أَنْ تَجْعَلَ كَافَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي لَفْظِ صَدَقَاتِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ وَحُذِفَ مُضَافٌ بَيْنَ الْكَافِ وَبَيْنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْفَاقًا كَإِنْفَاقِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ. وَقَدْ رُوعِيَ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ عَكْسُ التَّمْثِيلِ لِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِحَبَّةٍ أَغَلَّتْ سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ. فَالتَّشْبِيهُ تَشْبِيهُ مُرَكَّبٍ مَعْقُولٍ بِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْأَمَلُ فِي حَالَةٍ تَغُرُّ بِالنَّفْعِ ثُمَّ لَا تَلْبَثُ أَلَّا تَأْتِيَ لِآمِلِهَا بِمَا أَمَّلَهُ فَخَابَ أَمَلُهُ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ رَجَاءِ حُصُولِ الثَّوَابِ لَهُمْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَيَكْثُرُ أَنْ تَعْرِضَ الْغَفْلَةُ لِلْمُتَصَدِّقِ فَيُتْبِعُ صَدَقَتَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى انْدِفَاعًا مَعَ خَوَاطِرَ خَبِيثَةٍ. وَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أُوقِعَ مَوْقِعًا بَدِيعًا مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ تَنْهَالُ بِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فَهُوَ بِمَوْقِعِهِ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ فَيَكُونَ مُنْدَرِجًا فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَإِجْرَاءُ ضَمِيرِ كَسَبُوا ضَمِيرَ جَمْعٍ لِتَأْوِيلِ الَّذِي يُنْفِقُ بِالْجَمَاعَةِ، وَصَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَثَلِ صَفْوَانٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَثَلٌ عَلَى نَحْوِ مَا جُوِّزَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] إِذْ تَقْدِيرُهُ فِيهِ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ فَلِذَلِكَ جَاءَ ضَمِيرُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ رَعْيًا لِلْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُعَادِ مُفْرَدًا، وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ اسْتِينَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مَغَبَّةِ أَمْرِ الْمُشَبَّهِ، وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ تَذْيِيلًا وَفَذْلَكَةً لِضَرْبِ الْمَثَلِ فَهُوَ عَوْدٌ عَنْ بَدْءِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ. ¬

(¬1) هَذَا مُقَابل قَوْلنَا فِي الصفحة السَّابِقَة «هُوَ حَال من ضمير تُبْطِلُوا» .

[سورة البقرة (2) : آية 265]

وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنْ صَفْوَانٍ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا مِنْهُ وَحُذِفَ عَائِدُ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ بِمَا جُرَّ بِهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ. وَمَعْنَى لَا يَقْدِرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْتَرْجِعُوهُ وَلَا انْتَفَعُوا بِثَوَابِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا مَوْضِعَهُ، فهم يبذلون مَا لَهُم لِغَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ عَلَيْهِم فِي آجلهم، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. وَالْمَعْنَى فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَحْصُدُونَ مِنْهُ زَرْعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها [الْكَهْف: 42] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تَذْيِيلٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهَذَا التَّذْيِيلُ مَسُوقٌ لِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَسَرُّبِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمَنَّ عَلَى مَنْ يُنْفقُونَ وأذاه. [265] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 265] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) عُطِفَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ عَلَى مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، لِزِيَادَةِ بَيَانِ مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنَ الْبَوْنِ وَتَأْكِيدًا لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْفِقِينَ بِإِخْلَاصٍ، وَتَفَنُّنًا فِي التَّمْثِيلِ. فَإِنَّهُ قَدْ مَثَّلَهُ فِيمَا سَلَفَ بِحَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، وَمَثَّلَهُ فِيمَا سَلَفَ تَمْثِيلًا غَيْرَ كَثِيرِ التَّرْكِيبِ لِتَحْصُلَ السُّرْعَةُ بِتَخَيُّلِ مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، فَلَمَّا مَثَّلَ حَالَ الْمُنْفِقِ رِئَاءً بِالتَّمْثِيلِ الَّذِي مَضَى أُعِيدَ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُنْفِقِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ بِمَا هُوَ أَعْجَبُ فِي حُسْنِ التَّخَيُّلِ فَإِنَّ الْأَمْثَالَ تُبْهِجُ السَّامِعَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ تركيبا وضمّنت الهيأة المشبّه بِهَا أَحْوَالًا حَسَنَةً تُكْسِبُهَا حُسْنًا لِيَسْرِيَ ذَلِكَ التَّحْسِينُ إِلَى الْمُشَبَّهِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَقَاصِدِ التَّشْبِيهِ.

وانتصب ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِالْوَصْفِ، أَيْ مُبْتَغِينَ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَمُثَبِّتِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَلَا يَحْسُنُ نَصْبُهُمَا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ «ابْتِغَاءَ» فَلِأَنَّ مُفَادَ الِابْتِغَاءِ هُوَ مُفَادُ اللَّامِ الَّتِي يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ لأَجله بإضمارها، لأنّ يؤول إِلَى مَعْنَى لِأَجْلِ طَلَبِهِمْ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَتَثْبِيتًا» فَلِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ. وَالتَّثْبِيتُ تَحْقِيقُ الشَّيْءِ وَتَرْسِيخُهُ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَبْحِ النَّفْسِ عَنِ التَّشَكُّكِ وَالتَّرَدُّدِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَلَا يَتْرُكُونَ مَجَالًا لِخَوَاطِرِ الشُّحِّ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَبَتَ قَدَمُهُ أَيْ لَمْ يَتَرَدَّدْ وَلَمْ يَنْكِصْ، فَإِنَّ إِرَاضَةَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا لَهَا أَثَرٌ فِي رُسُوخِ الْأَعْمَالِ حَتَّى تَعْتَادَ الْفَضَائِلَ وَتَصِيرَ لَهَا دَيْدَنًا. وَإِنْفَاقُ الْمَالِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَرَسُخُ بِهِ الطَّاعَةُ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ أَمْرًا هَيِّنًا عَلَى النَّفْسِ، وَتَكُونُ «مِنْ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّبْعِيضِ، لَكِنَّهُ تَبْعِيضٌ مَجَازِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، أَيْ تَثْبِيتًا لِبَعْضِ أَحْوَالِ النَّفْسِ. وَمُوقِعُ (مِنْ) هَذِهِ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِنْزَالِ وَالِاقْتِصَادِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ، بِحَيْثُ لَا يُطْلَبُ تَسَلُّطُ الْفِعْلِ عَلَى جَمِيعِ ذَاتِ الْمَفْعُولِ بَلْ يُكْتَفَى بِبَعْضِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَقْصُودُ التَّرْغِيبُ فِي تَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِدْرَاجُ إِلَى تَحْصِيلِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَ التَّبْعِيضَ فِيهَا حَقِيقِيًّا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَثْبِيتًا تَمْثِيلًا لِلتَّصْدِيقِ أَيْ تَصْدِيقًا لِوَعْدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصًا فِي الدِّينِ لِيُخَالِفَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَصْدِيقٍ لِلْآمِرِ بِهَا، أَيْ يَدُلُّونَ عَلَى تَثْبِيتٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَ (مِنْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ تَصْدِيقًا صَادِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَيَجِيءُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ التَّثْبِيتِ مَعْنًى أَخْلَاقِيٌّ جَلِيلٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَخْرُ، وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْحِكْمَةِ الْخُلُقِيَّةِ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَةِ الْفَاضِلَةِ فِي النَّفْسِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ عَقِبَ حُصُولِهَا إِلَى الْكَمَالَاتِ بِاخْتِيَارِهَا، وَبِلَا كُلْفَةٍ وَلَا

ضَجَرٍ. فَالْإِيمَانُ يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ وَأَفْعَالِ الْبِرِّ، وَالَّذِي يَأْتِي تِلْكَ الْمَأْمُورَاتِ يُثَبِّتُ نَفْسَهُ بِأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ الْآيَةُ تَحْرِيضًا عَلَى تَكْرِيرِ الْإِنْفَاقِ. وَمُثِّلَ هَذَا الْإِنْفَاقُ بِجَنَّةٍ بِرُبْوَةٍ إِلَخ، وَوَجْهُ الشّبَه هُوَ الهيأة الْحَاصِلَةُ مِنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ تَكَامَلَ بِهَا تَضْعِيف الْمَنْفَعَة، فالهيأة الْمُشَبَّهَةُ هِيَ النَّفَقَةُ الَّتِي حَفَّ بهَا طلب رَضِي اللَّهِ وَالتَّصْدِيقُ بِوَعْدِهِ فَضُوعِفَتْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً أَوْ دُونَهَا فِي الْكَثْرَة، والهيأة الْمُشَبَّهَةُ بهَا هِيَ هيأة الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ الْمَكَانِ الَّتِي جَاءَهَا التَّهْتَانُ فَزَكَا ثَمَرُهَا وَتَزَايَدَ فَأُكْمِلَتِ الثَّمَرَةُ، أَوْ أَصَابَهَا طَلٌّ فَكَانَتْ دُونَ ذَلِكَ. وَالْجَنَّةُ مَكَانٌ مِنَ الْأَرْضِ ذُو شَجَرٍ كَثِيرٍ بِحَيْثُ يُجَنُّ أَيْ يستر الْكَائِن فِيهِ فَاسْمُهَا مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَّ إِذَا سَتَرَ، وَأَكْثَرُ مَا تُطْلَقُ الْجَنَّةُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى ذَاتِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ الْمُخْتَلِفِ الْأَصْنَافِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مَغْرُوسًا نَخِيلًا بَحْتًا فَإِنَّمَا يُسَمَّى حَائِطًا. وَالْمُشْتَهِرُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ غَيْرِ النَّخِيلِ هُوَ الْكَرْمُ وَثَمَرُهُ الْعِنَبُ أَشْهَرُ الثِّمَارِ فِي بِلَادِهِمْ بَعْدَ التَّمْرِ، فَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَالطَّائِفِ. وَمِنْ ثِمَارِهِمُ الرُّمَّانُ، فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ مَعَهَا قِيلَ لَهَا جَنَّةٌ أَيْضًا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يُرَادُ بِهَا حَائِطُ النَّخْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ. فَعَطَفَ النَّخْلَ عَلَى الْجَنَّاتِ، وَذَكَرَ الْعَرِيشَ وَهُوَ مِمَّا يُجْعَلُ لِلْكَرْمِ، هَذَا مَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِحَبَّةٍ ثُمَّ بِجَنَّةٍ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ. وَالرَّبْوَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا مَكَانٌ مِنَ الْأَرْضِ مُرْتَفِعٌ دُونَ الْجُبَيْلِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ بِرُبْوَة بِضَمِّ الرَّاءِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَتَخْصِيصُ الْجَنَّةِ بِأَنَّهَا فِي رَبْوَةٍ لِأَنَّ أَشْجَارَ الرُّبَى تَكُونُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا وَأَزْكَى ثَمَرًا فَكَانَ لِهَذَا الْقَيْدِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا قُوَّةُ وَجْهِ الشَّبَهِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ ضِعْفَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ بِهِ الرَّاجِعُ إِلَى تَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ فِي تَخَيُّلِ السَّامِعِ.

[سورة البقرة (2) : آية 266]

وَ (الْأُكْلُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَبِضَمِّ الْكَافِ أَيْضًا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ كُلَّ فُعْلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ مُخَفَّفُ فُعُلٍ كَعُنْقٍ وَفُلْكٍ وَحُمْقٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُؤْكَلُ وَشَاعَ فِي ثِمَارِ الشَّجَرِ قَالَ تَعَالَى: ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ [سبإ: 16] وَقَالَ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إِبْرَاهِيم: 25] ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «أُكْلَهَا» بِسُكُونِ الْكَافِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَوْلُهُ: «ضِعْفَيْنِ» التَّثْنِيَةُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّكْرِيرِ- مِثْلُ لَبَّيْكَ- أَيْ آتَتْ أُكُلَهَا مُضَاعَفًا عَلَى تَفَاوُتِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا مَطَرٌ غَزِيرٌ كَفَاهَا مَطَرٌ قَلِيلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا دُونَ الضِّعْفَيْنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ لَهُ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ- مَعَ ذَلِكَ- مُتَفَاوِتٌ عَلَى تَفَاوُتِ مِقْدَارِ الْإِخْلَاصِ فِي الِابْتِغَاءِ وَالتَّثْبِيتِ كَمَا تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ الْجَنَّاتِ الزَّكِيَّةِ فِي مِقْدَارِ زَكَائِهَا وَلَكِنَّهَا لَا تخيب صَاحبهَا. [266] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَثَارَهُ ضَرْبُ الْمَثَلِ الْعَجِيبِ لِلْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، وَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرُبْوَةٍ إِلَى آخِرِ مَا وُصِفَ مِنَ الْمَثَلَيْنِ. وَلَمَّا أُتْبِعَ بِمَا يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى، ثُمَّ أُتْبِعَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَنْ يُتْبِعُوا صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُ السَّامِعِ لِتَلَقِّي مَثَلٍ لَهُمْ يُوَضِّحُ حَالَهُمُ الذَّمِيمَةَ كَمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِمَنْ كَانُوا بِضِدِّ حَالِهِمْ فِي حَالَةٍ مَحْمُودَةٍ. ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا مَثَلًا لِمُقَابِلِ مَثَلِ النَّفَقَةِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ وَهُوَ نَفَقَةُ الرِّئَاءِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ حُصُولُ خَيْبَةٍ وَيَأْسٍ فِي وَقْتِ تَمَامِ الرَّجَاءِ وَإِشْرَافِ الْإِنْتَاجِ، فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ:

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 265] الْآيَةَ. وَقَدْ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَعْظَمِ مَا يَحْسُنُ بِهِ أَحْوَالُ الْجَنَّاتِ وَمَا يُرْجَى مِنْهُ تَوَفُّرُ رَيْعِهَا، ثُمَّ وَصَفَ صَاحِبَهَا بِأَقْصَى صِفَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى فَائِدَةِ جَنَّتِهِ، بِأَنَّهُ ذُو عِيَالٍ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَفْعِهِمْ وَأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ- أَيْ صِغَارٌ- إِذِ الضَّعِيفُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» هُوَ الْقَاصِرُ، وَيُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى الْفَقِيرِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَالَ أَبُو خَالِدٍ الْعَتَّابِيُّ: لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا ... بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَسْبِ غَيْرَ تِلْكَ الْجَنَّةِ، فَهَذِهِ أشدّ الْأَحْوَال الْحِرْصِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ فَحَصَلَ مِنْ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَعْظَمُ التَّرَقُّبِ لِثَمَرَةِ هَذِهِ الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ الْمُعْطِي صَدَقَتَهُ فِي تَرَقُّبٍ لِثَوَابِهَا. فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، أَيْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَقْلَعُ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ، فِيهَا نَارٌ أَيْ شِدَّةُ حَرَارَةٍ- وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِرِيحِ السَّمُومِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ نَارٍ عَلَى شِدَّةِ الْحَرِّ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، فَأَحْرَقَتِ الْجَنَّةَ- أَيْ أَشْجَارَهَا- أَيْ صَارَتْ أَعْوَادُهَا يَابِسَةً، فَهَذَا مُفَاجَأَةُ الْخَيْبَةِ فِي حِينِ رَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيَوَدُّ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَحْذِيرٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: 12] . والهيأة الْمُشَبَّهَةُ محذوفة وَهِي هيأة الْمُنْفِقِ نَفَقَةً مُتْبَعَةً بِالْمَنِّ وَالْأَذَى. رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ يَوْمًا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ» ، فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: «قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ» ، قَالَ عُمَرُ: «أَيُّ عَمَلٍ» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِعَمَلٍ» ، قَالَ: صَدَقْتَ، لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجل إِلَيْهِ الشَّيْطَان لَمَّا فَنِيَ عُمْرُهُ فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَحْرَقَ عَمَلَهُ.

[سورة البقرة (2) : آية 267]

وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تَذْيِيلٌ، أَيْ كَهَذَا الْبَيَانِ الَّذِي فِيهِ تَقْرِيبُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ بَيَّنَ اللَّهُ نُصْحًا لَكُمْ، رَجَاءَ تَفَكُّرِكُمْ فِي الْعَوَاقِبِ حَتَّى لَا تَكُونُوا عَلَى غَفْلَةٍ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ نَحْوُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . [267] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 267] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) إِفْضَاءٌ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَاتِ بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَوَاعِظُ وترغيب وتحذير. وَهِي طَرِيقَةٌ بَلَاغِيَّةٌ فِي الْخَطَابَةِ وَالْخِطَابِ. فَرُبَّمَا قَدَّمُوا الْمَطْلُوب ثمَّ جاؤوا بِمَا يُكْسِبُهُ قَبُولًا عِنْدَ السَّامِعِينَ، وَرُبَّمَا قَدَّمُوا مَا يُكْسِبُ الْقَبُولَ قَبْلَ الْمَقْصُودِ كَمَا هُنَا. وَهَذَا مِنِ ارْتِكَابِ خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَقَةِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ فَصَارَ غَرَضًا دِينِيًّا مَشْهُورًا، وَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِإِيضَاحِهِ وَالتَّرْغِيبُ فِي أَحْوَالِهِ وَالتَّنْفِيرُ مِنْ نَقَائِصِهِ أَجْدَرَ بِالْبَيَانِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ فِي خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَهَا حِينَ دَخَلَ سُفْيَانُ الْغَامِدِيُّ- أَحَدَ قُوَّادِ أَهْلِ الشَّامِ- بَلَدَ الْأَنْبَارِ- وَهِيَ مِنَ الْبِلَادِ الْمُطِيعَةِ لِلْخَلِيفَةِ عَلِيٍّ- وَقَتَلُوا عَامِلَهَا حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْجِهَادَ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ. أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَن يغزوكم، فو الله مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذُلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ. هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَردت خيله الأنباء» إِلَخ. وَانْظُرْ كَلِمَةَ «الْجِهَادِ» فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ فَلَعَلَّ أَصْلَهَا الْقِتَالُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ فَحَرَّفَهَا قَاصِدٌ أَوْ غَافِلٌ وَلَا إِخَالُهَا تَصْدُرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَالْأَمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ فَتَكُونَ الْآيَةُ فِي الْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، أَو للنَّدْب وَهِي فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أَوْ هُوَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الطَّلَبِ فَتَشْمَلُ الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، وَالْأَدِلَّةُ الْأُخْرَى تُبَيِّنُ حُكْمَ كُلٍّ. وَالْقَيْدُ بِالطَّيِّبَاتِ يُنَاسِبُ تَعْمِيمَ النَّفَقَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ خِيَارُ الْأَمْوَالِ، فَيُطْلَقُ الطَّيِّبُ عَلَى الْأَحْسَنِ فِي صِنْفِهِ. وَالْكَسْبُ مَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ بسعيه كالتجارة وَالْإِجَارَة وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّيْدِ. وَيُطْلَقُ الطَّيِّبُ عَلَى الْمَالِ الْمُكْتَسَبِ بِوَجْهٍ حَلَالٍ لَا يُخَالِطُهُ ظُلْمٌ وَلَا غِشٌّ، وَهُوَ الطَّيِّبُ عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ- وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طِيبًا- تَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ» الْحَدِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» . وَلَمْ يَذْكُرِ الطَّيِّبَاتِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ اكْتِفَاء عَنهُ بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَسِيمِهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالطَّيِّبَاتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرَجْنا لَكُمْ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ مِمَّا اكْتَسَبَهُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ بِالْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْخَبِيثَةَ تُحَصَّلُ غَالِبًا مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ أَوِ التَّحَيُّلِ عَلَيْهِمْ وَغِشِّهِمْ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الثَّمَرَاتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْأَرْضِ غَالِبًا. وَالْمُرَادُ بِمَا أُخْرِجَ مِنَ الْأَرْضِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا يُعَالَجُ بِأَسْبَابِهِ كَالسَّقْيِ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ بِمَا أَوْجَدَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَدَّ الْمَعَادِنَ دَاخِلَةً فِي مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَتَجِبُ عَلَى الْمَعْدِنِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا بَلَغَ مِقْدَارَ النِّصَابِ، وَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ. وَهُوَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ الْخُمُسُ. وَبَعْضُهُمْ عَدَّ الرِّكَازَ دَاخِلًا فِيمَا أُخْرِجَ مِنَ الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَأُلْحِقَ فِي الْحُكْمِ بِالْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. ولعلّ المُرَاد بِمَا كَسَبْتُمُ الْأَمْوَالُ الْمُزَكَّاةُ مِنَ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ، وَبِالْمُخْرَجِ مِنَ الْأَرْضِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ الْمُزَكَّاةُ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أَصْلُ تَيَمَّمُوا تَتَيَمَّمُوا، حُذِفَتْ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ فِي الْمُضَارِعِ وَتَيَمَّمَ بِمَعْنَى قَصَدَ وَعَمَدَ. وَالْخَبِيثُ الشَّدِيدُ سُوءًا فِي صِنْفِهِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرَامِ وَعَلَى الْمُسْتَقْذَرِ قَالَ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: 157] وَهُوَ الضِّدُّ الْأَقْصَى لِلطَّيِّبِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّدِيءِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَوُقُوعُ لَفْظِهِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ.

وَجُمْلَةُ مِنْهُ تُنْفِقُونَ حَالٌ، وَالْجَار وَالْمَجْرُور معمولان لِلْحَالِ قُدِّمَا عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا تَقْصِدُوا الْخَبِيثَ فِي حَالِ أَلَّا تُنْفِقُوا إِلَّا مِنْهُ، لِأَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ مِنْ خُصُوصِ رَدِيءِ مَالِهِ. أَمَّا إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ وَمِنَ الرَّدِيءِ فَلَيْسَ بمنهي لَا سِيمَا فِي الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِهِ. وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» فِي الْبُيُوعِ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عَامِلًا عَلَى صَدَقَاتِ خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَبِيعُ الصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ بِصَاعٍ مِنْ جَنِيبٍ (¬1) . فَقَالَ لَهُ: بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مَنْ كُلِّ نِصَابٍ مِنْ نَوْعِهِ، وَلَكِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يَخُصَّ الصَّدَقَةَ بِالْأَصْنَافِ الرَّدِيئَةِ. وَأَمَّا فِي الْحَيَوَانِ فَيُؤْخَذُ الْوَسَطُ لِتَعَذُّرِ التَّنْوِيعِ غَالِبًا إِلَّا إِذَا أَكْثَرَ عَدَدَهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْدِيرِ الظَّرْفِ هُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَيَمَّمُوا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ وَصْلًا وَابْتِدَاءً، أَصْلُهُ تَتَيَمَّمُوا، وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِدْغَامِ. وَقَوْلُهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ تُنْفِقُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الْحَالِ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثِ شَرْعًا بِقِيَاسِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى اكْتِسَابِهِ قِيَاسَ مُسَاوَاةٍ أَيْ كَمَا تَكْرَهُونَ كَسْبَهُ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكْرَهُوا إِعْطَاءَهُ. وَكَأَنَّ كَرَاهِيَةَ كَسْبِهِ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَدَيْهِمْ مُتَقَرِّرَةً فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ الْخَبِيثِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُنْصَرِفًا إِلَى غَرَضٍ ثَانٍ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَالْمَعْنَى لَا تَأْخُذُوهُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ مُقْتَضٍ تَحْرِيمَ أَخْذِ الْمَالِ الْمَعْلُومَةِ حُرْمَتُهُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ وَلَا يُحِلُّهُ انْتِقَالُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْإِغْمَاضُ إِطْبَاقُ الْجَفْنِ وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ، فَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْهَنَاءِ وَالِاسْتِرَاحَةِ لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِغْمَاضِ رَاحَةَ النَّائِمِ قَالَ الْأَعْشَى: عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... جَفْنًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا ¬

(¬1) الْجمع صنف من التَّمْر رَدِيء والجنيب صنف طيب.

أَرَادَ فَاهْنَئِي. وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى لَازَمِهِ مِنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَيَدُلُّ عَلَى التَّسَامُحِ فِي الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ: لَمْ يَفُتْنَا بالوتر قوم وللضّ ... يم رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالْإِغْمَاضِ فَإِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي التَّغَافُلِ عَن الْمَكْرُوه الشَّديد قَالُوا أَغْمَضَ عَيْنَهُ عَلَى قَذًى وَذَلِكَ لِأَنَّ إِغْمَاضَ الْجَفْنِ مَعَ وُجُودِ الْقَذَى فِي الْعَيْنِ. لِقَصْدِ الرَّاحَةِ مِنْ تَحَرُّكِ الْقَذَى، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ زُرَارَةَ الكلائي (¬1) : وأغمضت الجفون عَلَى قَذَاهَا ... وَلَمْ أَسْمَعْ إِلَى قَالٍ وَقِيلِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ جَعْلِ الْكَلَامِ إِخْبَارًا، هُوَ تَقْيِيدٌ لِلنَّفْيِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ جَعْلِ النَّفْيِ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ أَمَا لَا تَأْخُذُوهُ إِلَّا إِذَا تَغَاضَيْتُمْ عَنِ النَّهْيِ وَتَجَاهَلْتُمُوهُ. وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ، أَوِ الَّتِي فِيهَا اسْتِسَاغَةُ الْحَرَامِ. حَمِيدٌ، أَيْ شَاكِرٌ لِمَنْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً طيّبة. وافتتحه باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] ، أَوْ نُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ فَأَعْطَوْا لِوَجْهِهِ مَا يَقْبَلُهُ الْمُحْتَاجُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ يَحْمَدُ مَنْ يُعْطِي لِوَجْهِهِ مِنْ طَيِّبِ الْكَسْبِ. وَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَكْثُرُ حَاجَةُ غَالِبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْغِنَى الْمُطْلَقُ فَلَا يُعْطَى لِأَجْلِهِ وَلِامْتِثَالِ أَمْرِهِ إِلَّا خَيْرَ مَا يُعْطِيهِ أَحَدٌ لِلْغَنِيِّ عَنِ الْمَالِ. وَالْحَمِيدُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدُ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَى فَاعِلِي الْخَيْرَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَحْمُودٌ، فَيَكُونُ حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ فَتَخَلَّقُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَالَاتٌ، فَكُونُوا أَغْنِيَاءَ الْقُلُوبِ عَنِ الشُّحِّ مَحْمُودِينَ عَلَى صَدَقَاتِكُمْ، وَلَا تُعْطُوا صَدَقَاتٍ تُؤْذِنُ بِالشُّحِّ وَلَا تشكرون عَلَيْهَا. [268] ¬

(¬1) الكلائي نِسْبَة إِلَى الكلاء بِوَزْن جَبَّار محلّة بِالْبَصْرَةِ قرب الشاطئ. والكلاء الشاطي. وَهَذِه الأبيات قَالَهَا بعد أَن مكث عَاما بِبَاب مُعَاوِيَة لم يُؤذن لَهُ ثمَّ أذن لَهُ وَأَدْنَاهُ وأولاه مصر، وَقَبله: دخلت على مُعَاوِيَة بن حَرْب ... وَلَكِن بعد يأس من دُخُول وَمَا نلْت الدُّخُول عَلَيْهِ حَتَّى ... حللت محلّة الرجل الذَّلِيل

[سورة البقرة (2) : آية 268]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ. اسْتِئْنَافٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَة: 267] لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ إِعْطَاءِ خِيَارِ أَمْوَالِهِمْ، وَيُغْرِيهِمْ بِالشُّحِّ أَوْ بِإِعْطَاءِ الرَّدِيءِ وَالْخَبِيثِ، وَيُخَوِّفُهُمْ مِنَ الْفَقْرِ إِنْ أَعْطَوْا بَعْضَ مَالِهِمْ. وَقَدَّمَ اسْمَ الشَّيْطَانِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُ مُؤْذِنٌ بِذَمِّ الْحُكْمِ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ وَشُؤْمِهِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا يُقَالُ فِي مِثَالِ عِلْمِ الْمَعَانِي «السَّفَّاحُ فِي دَارِ صَدِيقِكَ» ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَر الْفعْلِيّ تقوّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقَهُ. وَمَعْنَى يَعِدُكُمُ يُسَوِّلُ لَكُمْ وُقُوعَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا أَنْفَقْتُمْ خِيَارَ أَمْوَالِكُمْ، وَذَلِكَ بِمَا يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ تَخَلَّقُوا بِالْأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَسُمِّيَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَعْدًا مَجَازًا لِأَنَّ الْوَعْدَ إِخْبَارٌ بِحُصُولِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: أَنْجَزَ فُلَانٌ وَعْدَهُ أَوْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ، وَلَا يَقُولُونَ أَنْجَزَ خَبَرَهُ، وَيَقُولُونَ صَدَقَ خَبَرَهُ وَصَدَقَ وَعْدَهُ، فَالْوَعْدُ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ، وَبِذَلِكَ يُؤْذِنُ كَلَامُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. فَشَبَّهَ إِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِهِمْ تَوَقُّعَ الْفَقْرِ بِوَعْدٍ مِنْهُ بِحُصُولِهِ لَا مَحَالَةَ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ مَا فِي الْوَعْدِ مِنْ مَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَحُسْنُ هَذَا الْمَجَازِ هُنَا مُشَاكَلَتُهُ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً فَإِنَّهُ وَعْدٌ حَقِيقِيٌّ. ثُمَّ إِنَّ كَانَ الْوَعْدُ يُطْلَقُ عَلَى التَّعَهُّدِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا هُوَ كَلَامُ «الْقَامُوسِ» - تَبَعًا لِفَصِيحِ ثَعْلَبٍ- فَفِي قَوْلِهِ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مَجَازٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْخَيْرِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ، فَفِي قَوْلِهِ: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مَجَازَانِ. وَالْفَقْرُ شِدَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى لَوَازِمِ الْحَيَاةِ لِقِلَّةِ أَوْ فَقْدِ مَا يُعَاوِضُ بِهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ فِقَارِ الظَّهْرِ، فَأَصْلُهُ مَصْدَرُ فَقَرَهُ إِذَا كَسَرَ ظَهْرَهُ، جَعَلُوا الْعَاجِزَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَدْنَى حَرَكَةٍ لِأَنَّ الظَّهْرَ هُوَ مَجْمَعُ الْحَرَكَاتِ، وَمِنْ هَذَا تَسْمِيَتُهُمُ الْمُصِيبَةَ فَاقِرَةً، وَقَاصِمَةَ الظَّهْرِ، وَيُقَالُ فَقْرٌ وَفَقَرٌ وَفُقْرٌ وَفُقُرٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَبِفَتْحَتَيْنِ، وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِضَمَّتَيْنِ-، وَيُقَالُ رَجُلٌ فَقِيرٌ، وَيُقَالُ رَجُلٌ فَقْرٌ وَصْفَا بِالْمَصْدَرِ.

[سورة البقرة (2) : آية 269]

وَالْفَحْشَاءُ اسْمٌ لِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ شَدِيدِ السُّوءِ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا. مُشْتَقٌّ مِنَ الْفُحْشِ- بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ- تَجَاوُزِ الْحَدِّ. وَخَصَّهُ الِاسْتِعْمَالُ بِالتَّجَاوُزِ فِي الْقَبِيحِ، أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِفِعْلٍ قَبِيحٍ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَحْشَاءِ الْبُخْلَ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَحْشَاءِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْبُخْلِ وَإِنْ كَانَ الْبَخِيلُ يُسَمَّى فَاحِشًا. وَإِطْلَاقُ الْأَمْرِ عَلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَتَأْثِيرِ قُوَّتِهِ فِي النُّفُوسِ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَحْشَاءِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ لِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَعْدُ فِيهِ حَقِيقَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ. وَمَعْنَى «وَاسِعٌ» أَنَّهُ وَاسِعُ الْفَضْلِ، وَالْوَصْفُ بِالْوَاسِعِ مُشْتَقٌّ مِنْ وَسِعَ الْمُتَعَدِّي- إِذَا عَمَّ بِالْعَطَاءِ وَنَحْوِهِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِر: 7] ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: «لَا يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا» ، أَيْ لَا أَجِدُ فِيهِ سَعَةً، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي وَصْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بِشْرُهُ وَخُلُقُهُ» . فَالْمَعْنى هُنَا أنّه وَسِعَ النَّاسَ وَالْعَالمِينَ بعطائه. [269] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 269] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ وَتَذْيِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَاتُ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَتَلْقِينِ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، مِمَّا يُكْسِبُ الْعَامِلِينَ بِهِ رَجَاحَةَ الْعَقْلِ وَاسْتِقَامَةَ الْعَمَلِ.

فَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ إِلَى نَفَاسَةِ مَا وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا بِهِ حُكَمَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّة جُهَلَاءَ. فَالْمَعْنَى: هَذَا مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي آتَاكُمُ اللَّهُ، فَهُوَ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَة: 231] . قَالَ الْفَخْرُ: «نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيح وعد الرحمان عَلَى وَعْدِ الشَّيْطَانِ هُوَ أنّ وعد الرحمان تُرَجِّحُهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَقْلُ، وَوَعْدَ الشَّيْطَانِ تُرَجِّحُهُ الشَّهْوَةُ وَالْحِسُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا يَأْمُرَانِ بِتَحْصِيلِ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الْحِكْمَةِ هُوَ الْحُكْمُ الصَّادِقُ الْمُبَرَّأُ عَنِ الزَّيْغِ، وَحُكْمَ الْحِسِّ وَالشَّهْوَةِ يُوقِعُ فِي الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ. فَتَعْقِيبُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً [الْبَقَرَة: 268] ، بِقَوْلِهِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ تَعَالَى مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كُلَّهَا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ. وَالْحِكْمَةُ إِتْقَانُ الْعِلْمِ وَإِجْرَاءُ الْفِعْلِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: نَزَلَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَعُقُولِ الْيُونَانِ، وَأَيْدِي الصِّينِيِّينَ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُكْمِ- وَهُوَ الْمَنْعُ- لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالضَّلَالِ، قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1] ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِي اللِّجَامِ وَتُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ، حَكَمَةً. وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى إِيتَاءَهُ الْحِكْمَةَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُهُ مُسْتَعِدًّا إِلَى ذَلِكَ، مِنْ سَلَامَةِ عَقْلِهِ وَاعْتِدَالِ قُوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ قَابِلًا لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ مُنْقَادًا إِلَى الْحَقِّ إِذَا لَاحَ لَهُ، لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ هَوًى وَلَا عَصَبِيَّةٌ وَلَا مُكَابَرَةٌ وَلَا أَنَفَةٌ، ثُمَّ يُيَسِّرُ لَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ مِنْ حُضُورِ الدُّعَاةِ وَسَلَامَةِ الْبُقْعَةِ مِنَ الْعُتَاةِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَوَجُّهُهُ إِلَى اللَّهِ بِأَنْ يَزِيدَ أَسْبَابَهُ تَيْسِيرًا وَيَمْنَعَ عَنْهُ مَا يَحْجُبُ الْفَهْمَ فَقَدْ كَمُلَ لَهُ التَّيْسِيرُ. وَفُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ بِأَنَّهَا مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِمَا تَبْلُغُهُ الطَّاقَةُ، أَيْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَبِسُ الْحَقَائِقُ الْمُتَشَابِهَةُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ وَلَا يَغْلَطُ فِي الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ. وَالْحِكْمَةُ قُسِّمَتْ أَقْسَامًا مُخْتَلِفَةَ الْمَوْضُوعِ اخْتِلَافًا بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَقَالِيمِ. وَمَبْدَأُ ظُهُورِ عِلْمِ الْحِكْمَةِ فِي الشَّرْقِ عِنْدَ الْهُنُودِ الْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الصِّينِ

الْبُوذِيِّينَ، وَفِي بِلَادِ فَارِسَ فِي حِكْمَةِ زَرَادِشْتَ، وَعِنْدَ الْقِبْطِ فِي حِكْمَةِ الْكَهَنَةِ. ثُمَّ انْتَقَلَتْ حِكْمَةُ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الشَّرْقِيَّةِ إِلَى الْيُونَانِ وَهُذِّبَتْ وَصُحِّحَتْ وَفُرِّعَتْ وَقُسِّمَتْ عِنْدَهُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ: حِكْمَةٍ عَمَلِيَّةٍ، وَحِكْمَةٍ نَظَرِيَّةٍ. فَأَمَّا الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ فَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ، وَهِيَ تَنْحَصِرُ فِي تَهْذِيبِ النَّفْسِ، وَتَهْذِيبِ الْعَائِلَةِ، وَتَهْذِيبِ الْأُمَّةِ. وَالْأَوَّلُ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ التَّخَلُّقُ بِصِفَاتِ الْعُلُوِّ الْإِلَهِيِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ كَمَالٌ فِي الْإِنْسَانِ. وَالثَّانِي عِلْمُ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ. وَالثَّالِثُ عِلْمُ السِّيَاسَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ. وَأَمَّا الْحِكْمَة النظرية فِي الْبَاحِثَةُ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي تُعْلَمُ وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ لِتَمَامِ اسْتِقَامَةِ الْأَفْهَامِ وَالْأَعْمَالِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ عُلُومٍ: عِلْمٌ يُلَقَّبُ بِالْأَسْفَلِ وَهُوَ الطَّبِيعِيُّ، وَعِلْمٌ يُلَقَّبُ بِالْأَوْسَطِ وَهُوَ الرِّيَاضِيُّ، وَعِلْمٌ يُلَقَّبُ بِالْأَعْلَى وَهُوَ الْإِلَهِيُّ. فَالطَّبِيعِيُّ يَبْحَثُ عَنِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ لِلتَّكْوِينِ وَالْخَوَاصِّ وَالْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ حَوَادِثُ الْجَوِّ وَطَبَقَاتُ الْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الطِّبُّ وَالْكِيمْيَاءُ وَالنُّجُومُ. وَالرِّيَاضِيُّ الْحساب والهندسة والهيأة وَالْمُوسِيقَى، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْجَبْرُ وَالْمِسَاحَةُ وَالْحِيَلُ الْمُتَحَرِّكَةُ (الْمَاكِينِيَّةُ) وَجَرُّ الْأَثْقَالِ. وَأَمَّا الْإِلَهِيُّ فَهُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: مَعَانِي الْمَوْجُودَاتِ، وَأُصُولٌ وَمَبَادِئُ وَهِيَ الْمَنْطِقُ وَمُنَاقَضَةُ الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَإِثْبَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَصِفَاتِهِ، وَإِثْبَاتُ الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ، وَإِثْبَاتُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ ابْنُ سِينَا. فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ- مِنْ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ- فَقَدْ قَصَرُوا الْحِكْمَةَ فِي الْفَلْسَفَةِ عَلَى مَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى عِنْدَ الْيُونَانِ بِالْإِلَهِيَّاتِ.

وَالْمُهِمُّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَظَرِ الدِّينِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ عِلْمُ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَيُسَمَّى عِنْدَ الْيُونَانِ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ أَوْ مَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ. الثَّانِي مَا يَصْدُرُ عَنِ الْعِلْمِ بِهِ كَمَالُ نَفْسِيَّةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ. الثَّالِثُ تَهْذِيبُ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْيُونَانِ عَلَمُ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ. الرَّابِعُ تَقْوِيمُ الْأمة وَإِصْلَاح شؤونها وَهُوَ الْمُسَمَّى عِلْمُ السِّيَاسَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ وَالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ. وَدَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ لَا تَخْلُو عَنْ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ مُرَادًا بِهَا مَا فِيهِ صَلَاحُ النُّفُوسِ، مِنَ النُّبُوءَةِ وَالْهُدَى وَالْإِرْشَادِ. وَقَدْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ تُطْلَقُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا إِيقَاظٌ لِلنَّفْسِ وَوِصَايَةٌ بِالْخَيْرِ، وَإِخْبَارٌ بِتَجَارِبِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَكُلِّيَّاتٌ جَامِعَةٌ لِجِمَاعِ الْآدَابِ.. وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ- حِكْمَةَ لُقْمَانَ وَوَصَايَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: 12] الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَتْ لِشُعَرَاءِ الْعَرَب عناية بإبداع الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ وَهِيَ إِرْسَالُ الْأَمْثَالِ، كَمَا فَعَلَ زُهَيْرٌ فِي الْأَبْيَاتِ الَّتِي أَوَّلُهَا «رَأَيْتُ الْمَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءٍ. . . . . . . . .» وَالَّتِي افتتحها بِمن وَمن فِي مُعَلَّقَتِهِ. وَقَدْ كَانَتْ بِيَدِ بَعْضِ الْأَحْبَارِ صَحَائِفُ فِيهَا آدَابٌ وَمَوَاعِظُ مِثْلُ شَيْءٍ مِنْ جَامِعَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْثَالِهِ، فَكَانَ الْعَرَبُ يَنْقُلُونَ مِنْهَا أَقْوَالًا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي بَابِ الْحَيَاءِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ ، فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ» . وَالْحَكِيمُ هُوَ النَّابِغُ فِي هَاتِهِ الْعُلُومِ أَوْ بَعْضِهَا فَبِحِكْمَتِهِ يَعْتَصِمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالضَّلَالِ بِمِقْدَارِ مَبْلَغِ حِكْمَتِهِ، وَفِي الْغَرَضِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ حِكْمَتُهُ. وَعُلُومُ الْحِكْمَةِ هِيَ مَجْمُوعُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ هُدَى الْهُدَاةِ مِنْ أَهْلِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ إِصْلَاحِ عُقُولِ الْبَشَرِ، فَكَانَ مَبْدَأُ ظُهُورِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَدْيَانِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِهَا مَا

أَنْتَجَهُ ذَكَاءُ أَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ أَنْظَارِهِمُ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى أُصُولِ الْهُدَى الْأَوَّلِ. وَقَدْ مَهَّدَ قُدَمَاءُ الْحُكَمَاءِ طَرَائِقَ مِنَ الْحِكْمَةِ فَنَبَعَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ فِي عُصُورٍ مُتَقَارِبَةٍ كَانَتْ فِيهَا مَخْلُوطَةً بِالْأَوْهَامِ وَالتَّخَيُّلَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. بَيْنَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَالصِّينِ، ثُمَّ دَرَسَهَا حُكَمَاءُ الْيُونَانِ فَهَذَّبُوا وَأَبْدَعُوا، وَمَيَّزُوا عِلْمَ الْحِكْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَوَخَّوُا الْحَقَّ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَزَالُوا أَوْهَامًا عَظِيمَةً وَأَبْقَوْا كَثِيرًا. وَانْحَصَرَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ فِي طَرِيقَتَيْ سُقْرَاطَ وَهِيَ نَفْسِيَّةٌ، وَفِيثَاغُورْسَ وَهِيَ رِيَاضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ. وَالْأُولَى يُونَانِيَّةٌ وَالثَّانِيَةٌ لِإِيطَالْيَا الْيُونَانِيَّةِ. وَعَنْهُمَا أَخَذَ أَفْلَاطُونُ، وَاشْتُهِرَ أَصْحَابُهُ بِالْإِشْرَاقِيِّينَ، ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُ أَفْضَلُ تلامذته وَهُوَ أرسطاطاليس وَهَذَّبَ طَرِيقَتَهُ وَوَسَّعَ الْعُلُومَ، وَسُمِّيَتْ أَتْبَاعُهُ بِالْمَشَّائِينَ، وَلَمْ تَزَلِ الْحِكْمَةُ مِنْ وَقْتِ ظُهُورِهِ مُعَوِّلَةً عَلَى أُصُولِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَهُوَ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ إِيتَاءَهُ الْحِكْمَةَ. وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ مُنْجَرٌّ إِلَيْهِ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ وَالْهُدَى الْإِلَهِيِّ، وَمِنْ تَفَارِيعِ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَعْصِمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالضَّلَالِ بِمِقْدَارِ التَّوَغُّلِ فِي فَهْمِهَا وَاسْتِحْضَارِ مُهِمِّهَا لِأَنَّنَا إِذَا تَتَبَّعْنَا مَا يَحِلُّ بِالنَّاسِ مِنَ الْمَصَائِبِ نَجِدُ مُعْظَمَهَا مِنْ جَرَّاءِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَأَفَنِ الرَّأْيِ. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ نَجِدُ مَا يَجْتَنِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمُلَائِمَاتِ مُنْجَرًّا مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ، وَلَوْ أَنَّنَا عَلِمْنَا الْحَقَائِقَ كُلَّهَا لَاجْتَنَبْنَا كُلَّ مَا نَرَاهُ مُوقِعًا فِي الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَنْ يُؤْتَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلنَّائِبِ، عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ يُؤْتَ نَائِبُ فَاعِلٍ عَائِدٌ عَلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ- بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي فِعْلِ يُؤْتِ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ فَالْعَائِدُ ضَمِيرُ نَصْبٍ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تَذْيِيلٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ شَاءَ الله إيتَاء الْحِكْمَةَ هُوَ ذُو اللُّبِّ. وَأَنَّ تَذَكُّرَ الْحِكْمَة واستصحاب إرشادها بِمِقْدَارِ اسْتِحْضَارِ اللُّبِّ وَقُوَّتِهِ وَاللُّبُّ فِي الْأَصْلِ خُلَاصَةُ الشَّيْءِ وَقَلَبُهُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى عَقْلِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ

[سورة البقرة (2) : آية 270]

[270] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ الْمَسُوقِ لِلْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ وَصِفَاتِهِ الْمَقْبُولَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمُثَبِّطَاتِ عَنْهُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَة: 267] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ النَّفَقَاتِ وَصِفَاتِهَا، وَأُدْمِجَ النَّذْرُ مَعَ الْإِنْفَاقِ فَكَانَ الْكَلَامُ جَدِيرًا بِأَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا. وَالنَّذْرُ الْتِزَامُ قُرْبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ عَلَى النَّفْسِ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ تَجْهِيزُ غَازٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ. وَقَدْ عَرَفَتِ الْعَرَبُ النَّذْرَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ نَذَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ إِنْ رُزِقَ عَشَرَةُ أَوْلَادٍ لَيَذْبَحَنَّ عَاشِرَهُمْ قُرْبَانًا لِلْكَعْبَةِ، وَكَانَ ابْنُهُ الْعَاشِرُ هُوَ عَبْدَ اللَّهِ ثَانِيَ الذَّبِيحَيْنِ، وَأَكْرِمْ بِهَا مَزِيَّةً، وَنَذَرَتْ نَتِيلَةُ زَوْجُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- لَمَّا افْتَقَدَتِ ابْنَهَا الْعَبَّاسَ وَهُوَ صَغِير- أنّها إِن وَجَدَتْهُ لَتَكْسُوَنَّ الْكَعْبَةَ الدِّيبَاجَ فَفَعَلَتْ. وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدِّيبَاجَ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . وَفِي الْأُمَم السالفة كَانَ النَّذْرُ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمرَان: 35] . وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ، لِعَطْفِهِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَمْ مُعَلَّقًا، لِأَنَّ الْآيَةَ أَطْلَقَتْ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ مُرَادٌ بِهِ الْوَعْدُ بِالثَّوَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ، وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ» . وَمَسَاقُهُ التَّرْغِيبُ فِي النَّذْرِ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ لَا إِبْطَالُ فَائِدَةِ النَّذْرِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ عِبَادَهُ فَقَالَ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الْإِنْسَان: 7] . وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَفَقَةٍ ومِنْ نَذْرٍ بَيَان لما أَنْفَقْتُمْ ونذرتم، وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْبَيَانِ أَنْ يُفِيدَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَعْنَى الْمُبَيَّنِ، وَكَانَ مَعْنَى الْبَيَانِ هَنَا عَيْنَ مَعْنَى الْمُبَيَّنِ، تَعَيَّنَ

[سورة البقرة (2) : آية 271]

أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانَ الْمُنْفَقِ وَالْمَنْذُورِ بِمَا فِي تَنْكِيرِ مَجْرُورَيْ (مِنْ) مِنْ إِرَادَةِ أَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ فَأَكَّدَ بِذَلِكَ الْعُمُومِ مَا أَفَادَتْهُ مَا الشَّرْطِيَّةُ مِنَ الْعُمُومِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَكُونُ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَمَنْعِ الْخُصُوصِ» . وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِالْكَائِنَاتِ لَا يَشُكُّ فِيهِ السَّامِعُونَ، فَأُرِيدَ لَازِمُ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ لَازِمًا لَهُ لِأَنَّ الْقَادِرَ لَا يَصُدُّهُ عَنِ الْجَزَاءِ إِلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْسِنُ أَوِ الْمُسِيءُ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. هَذَا وَعِيدٌ قُوبِلَ بِهِ الْوَعْدُ الَّذِي كَنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ عَلَنًا وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ مَنَعُوا الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةَ فَقَدْ ظَلَمُوا مَصَارِفَهَا فِي حَقِّهِمْ فِي الْمَالِ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِإِلْقَائِهَا فِي تَبِعَاتِ الْمَنْعِ، وَإِنْ مَنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فَقَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِحِرْمَانِهَا مِنْ فَضَائِلِ الصَّدَقَاتِ وَثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَنْصَارُ جَمْعُ نَصِيرٍ، وَنَفْيُ الْأَنْصَارِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ النَّصْرِ وَالْغَوْثِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَخِلُوا بِنَصْرِهِمُ الْفَقِيرَ بِأَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْدِمُهُمُ النَّصِيرَ فِي الْمَضَائِقِ، وَيُقَسِّي عَلَيْهِمْ قُلُوبَ عِبَادِهِ، وَيُلْقِي عَلَيْهِمُ الْكَرَاهِيَةَ من النَّاس. [271] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الْبَقَرَة: 270] ، إِذْ أَشْعَرَ تَعْمِيمَ «مِنْ نَفَقَةٍ» بِحَالِ الصَّدَقَاتِ الْخَفِيَّةِ فَيَتَسَاءَلُ السَّامِعُ فِي نَفْسِهِ هَلْ إِبْدَاءُ الصَّدَقَاتِ يُعَدُّ رِيَاءً وَقَدْ سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: 264] ،

وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الْبَقَرَة: 270] قَدْ كَانَ قَوْلًا فَصْلًا فِي اعْتِبَارِ نِيَّاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَأَحْوَالِ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْهَا وَمَا يُخْفُونَهُ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ. فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ يَدْفَعُ تَوَهُّمًا مِنْ شَأْنِهِ تَعْطِيلُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْمَرْءُ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ ظُهُورِهَا فَيَخْشَى أَنْ يُصِيبَهُ الرِّيَاءُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّدَقاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَشْمَلُ كُلَّ الصَّدَقَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ أَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ. وَجَاء الشَّرْط بإن فِي الصَّدَقَتَيْنِ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَلَا مُقْتَضًى لِلْعُدُولِ عَنِ الْأَصْلِ، إِذْ كِلْتَا الصَّدَقَتَيْنِ مُرْضٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَفْضِيلُ صَدَقَةِ السِّرِّ قَدْ وَفَى بِهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: فَنِعِمَّا أَصْلُهُ فَنِعْمَ مَا، فَأُدْغِمَ الْمِثْلَانِ وَكُسِرَتْ عَيْنُ نِعْمَ لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَمَا فِي مِثْلِهِ نَكِرَةٌ تَامَّةٌ أَيْ مُتَوَغِّلَةٌ فِي الْإِبْهَامِ لَا يُقْصَدُ وَصْفُهَا بِمَا يُخَصِّصُهَا، فَتَمَامُهَا مِنْ حَيْثُ عَدَمِ إِتْبَاعِهَا بِوَصْفٍ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَاضِحَةُ الْمَعْنَى، وَلذَلِك تفسّر بِشَيْء. وَلَمَّا كَانَتْ كَذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ التَّمْيِيزِ لِضَمِيرِ نِعْمَ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَتِرِ، فَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَصْدِ إِلَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ حَتَّى إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ- إِذَا مَيَّزَ- لَا يُمَيِّزُ إِلَّا بِمِثْلِ الْمُمَيَّزِ. وَقَوْلُهُ هِيَ مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ، أَيِ الصَّدَقَاتُ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهَا الصَّدَقَاتُ الْمُبْدَاةُ، بِقَرِينَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرُ الْمَعْنى فَنعما إبداؤهما. وَقَرَأَ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ فَنِعِمَّا- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنْ نِعْمَ مَعَ مِيمِ مَا-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَاخْتِلَاسِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالسُّكُونِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ أَيْضًا عَنْ قَالُونَ وَأَبِي عَمْرٍو وَأَبِي بَكْرٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تَفْضِيلٌ لِصَدَقَةِ السِّرِّ لِأَنَّ فِيهَا إِبْقَاءً عَلَى مَاءِ وَجْهِ الْفَقِيرِ، حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُعْطِي. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَدَّ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ بِظِلِّهِ « ... وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ

شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ» ، (يَعْنِي مَعَ شِدَّةِ الْقُرْبِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ لِأَنَّ حِسَابَ الدَّرَاهِمِ وَمُنَاوَلَةَ الْأَشْيَاءِ بِتَعَاوُنِهِمَا، فَلَوْ كَانَتِ الشِّمَالُ مِنْ ذَوَاتِ الْعِلْمِ لَمَا أُطْلِعَتْ عَلَى مَا أَنْفَقَتْهُ الْيَمِينُ) . وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَدَقَةَ السِّرِّ عَلَى صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ حُمِلَتِ الصَّدَقَاتُ عَلَى الْعُمُومِ- كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ- إِجْرَاءً لِلَفْظِ الصَّدَقَاتِ مَجْرَى لَفْظِ الْإِنْفَاقِ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ- كَانَ إِخْفَاءُ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ أَفْضَلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنِ ألْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَنَّ هَذَا أحد قَول الشَّافِعِيِّ. وَعَنِ الْمَهْدَوِيِّ: كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ فِيهِمَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَاءَتْ ظُنُونُ النَّاسِ بِالنَّاسِ فَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ إِظْهَارَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْآثَارِ أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ. فَيَكُونُ عُمُومُ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَمُخَصِّصُ الْعُمُومِ الْإِجْمَاعُ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ الزَّكَاةِ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَخَصَّ مِنَ الْإِنْفَاق الْمَذْكُور فِي الْآيِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَكَانَ تَفْضِيلُ الْإِخْفَاءِ مُخْتَصًّا بِالصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: إِظْهَارُ الزَّكَاةِ أَفْضَلُ، وَإِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ، تَوَقَّفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي حِكْمَةِ ذِكْرِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْفُقَرَاءِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُبْدَاةَ أَيْضًا تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ. فَقَالَ الْعِصَامُ: «كَأَنَّ نُكْتَةَ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ الْإِبْدَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ إِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَظْهَرُ فِيهِ وَيَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ إِذْ يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِحَالِهِ، بِخِلَافِ الْإِخْفَاءِ، فَاشْتُرِطَ مَعَهُ إِيتَاؤُهَا لِلْفَقِيرِ حَثًّا عَلَى الْفَحْصِ عَنْ حَالِ مَنْ يُعْطِيهِ الصَّدَقَةَ» (أَيْ لِأَنَّ الْحَرِيصِينَ- مِنْ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ- يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِلصَّدَقَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَصُدُّهُمْ شَيْءٌ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلصَّدَقَاتِ الْخَفِيَّةِ) . وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: «لَمْ يَذْكُرِ الْفُقَرَاءَ مَعَ الْمُبْدَاةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الزَّكَاةُ وَمَصَارِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْمُخْفَاةُ فَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَمَصَارِفُهَا الْفُقَرَاءُ فَقَطْ» . وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَصْرِ الصَّدَقَةِ الْمُبْدَاةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ بَلِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ تَفْضِيلَ الْإِخْفَاءِ هَلْ يعمّ الْفَرِيضَة أَولا، الثَّانِي أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُتَطَوَّعَ بِهَا لَا يَمْتَنِعُ صَرْفُهَا لِغَيْرِ الْفُقَرَاءِ كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ.

[سورة البقرة (2) : آية 272]

وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَاشُورٍ جَدِّي فِي تَعْلِيقٍ لَهُ عَلَى حَدِيثِ فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ مِنْ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : «عَطْفُ إِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْإِخْفَاءِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا لِلْخَيْرِيَّةِ فِي الْآيَةِ- مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِلْفُقَرَاءِ- يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ لِإِخْفَاءِ حَالِ الْفَقِيرِ وَعَدَمِ إِظْهَارِ الْيَدِ الْعُلْيَا عَلَيْهِ» ، أَيْ فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى الْعِلَّةِ وَأَنَّهَا الْإِبْقَاءُ عَلَى مَاءِ وَجْهِ الْفَقِيرِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ لِانْتِفَاءِ شَائِبَةِ الرِّيَاء. وَقَوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وبجزم الرَّاء عطفاء عَلَى مَوْضِعِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ وَهِيَ جُمْلَةُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ التَّكْفِيرُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِخْفَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالنُّونِ أَيْضًا وَبِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ وَعْدٌ عَلَى إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ- عَلَى أَنَّ ضَمِيرَهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ- وَبِالرَّفْعِ. [272] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) اسْتِئْنَافٌ مُعْتَرَضٌ بِهِ بَيْنَ قَوْلِهِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: 271] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ يَلُوحُ مِنْ خِلَالِهَا أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ: مِنْهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُبْطِلُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَتَيَمَّمُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُ يُنْفِقُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْفَحْشَاءِ. وَكَانَ وُجُودُ هَذِهِ الْفِرَقِ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَقَّبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَسْكِينِ نَفْسِ رَسُولِهِ وَالتَّهْوِينِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ هُدَاهُمْ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ. فَالْهُدَى هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْجَاءِ لِحُصُولِ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ فَهُوَ عَلَى النَّبِيءِ، وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَنْ بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ عَدَمِ الْهُدَى وَأَشَدُّهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى نَاسٍ مَعْرُوفِينَ، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لأسماء ابْنة أَبِي بَكْرٍ أُمٌّ كَافِرَةٌ وَجَدٌّ كَافِرٌ فَأَرَادَتْ أَسْمَاءُ- عَامَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ- أَنْ تُوَاسِيَهُمَا بِمَالٍ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ الصَّدَقَةَ عَلَى قَرَابَتِهِمْ وَأَصْهَارِهِمْ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، فَنَهَى

النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْكُفَّارِ، إِلْجَاءً لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الْآيَاتِ، أَيْ هُدَى الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ فَرَخِّصْ لِلْمُسْلِمِينَ الصَّدَقَةَ على أُولَئِكَ الْكَفَرَة. فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِ. فَيَكُونُ نُزُولُ الْآيَةِ لِذَلِكَ السَّبَبِ نَاشِئًا عَنْ نُزُولِ آيَاتِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ سَبَبَ السَّبَبِ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى أَنْ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، دُونَ هُدَاهُمْ بِالْفِعْلِ أَوِ الْإِلْجَاءِ إِذْ لَا هَادِيَ لِمَنْ يُضْلِلُ اللَّهُ، وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا بِمُيَسَّرٍ لِلْهُدَى. وَالْخِطَابُ فِي لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مُعَادِ ضَمِيرِ هُدَاهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ يَسْمَعُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي فِي الضَّمِيرِ إِذَا اعْتَبَرْنَا مَا ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُتَرَدِّدُ فِي إِعْطَاءِ قَرِيبِكَ. وَ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ عَلَيْكَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ طَلَبِ فِعْلٍ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَى الرَّسُولِ، فَلَا يَحْزَنُ عَلَى عَدَمِ حُصُولِ هُدَاهُمْ لِأَنَّهُ أَدَّى وَاجِبَ التَّبْلِيغِ، أَوِ الْمَعْنَى لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُعَالِجِينَ لِإِسْلَامِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْإِنْفَاقِ حَتَّى تَسْعَوْا إِلَى هُدَاهُمْ بِطُرُقِ الْإِلْجَاءِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ وَهُوَ عَلَيْكَ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ هُداهُمْ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ الَّذِي حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ قَصْرَ الْمسند إِلَيْهِ إِلَى الْمُسْنَدِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ نَحْوَ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] وَقَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: 286] ، فَهُوَ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ غَيْرُ بَيِّنٍ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ فِي صُورَةِ الْإِثْبَاتِ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ اقْتَضَى أَنَّهُ إِذَا نُفِيَ فَقَدْ نُفِيَ ذَلِكَ الِانْحِصَارُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُكَيَّفَةَ بِالْقَصْرِ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ هِيَ جُمْلَةٌ مُقَيَّدَةٌ نِسْبَتُهَا بِقَيْدِ الِانْحِصَارِ أَيْ بِقَيْدِ انْحِصَارِ مَوْضُوعِهَا فِي مَعْنَى مَحْمُولِهَا. فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّفْيُ كَانَ مُقْتَضِيًا نَفْيَ النِّسْبَةِ الْمُقَيَّدَةِ، أَيْ نَفْيَ ذَلِكَ الِانْحِصَارِ، لِأَنَّ شَأْنَ النَّفْيِ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى كَلَامٍ مُقَيَّدٍ أَنْ يَنْصَبَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ.

لَكِنَّ أَئِمَّةَ الْفَنِّ حِينَ ذَكَرُوا أَمْثِلَةَ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ سَوَّوْا فِيهَا بَيْنَ الْإِثْبَاتِ- كَمَا ذَكَرْنَا- وَبَيْنَ النَّفْيِ نَحْوَ لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] ، فَقَدْ مَثَّلَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] فَقَالَ: «قَصَدَ تَفْضِيلَ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا» ، وَقَالَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِهِ هُنَالِكَ «عُدَّ قَصْرًا لِلْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، أَيِ الْغَوْلُ مَقْصُورٌ عَلَى عَدَمِ الْحُصُولِ فِي خُمُورِ الْجَنَّةِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى عَدَمِ الْحُصُولِ فِيمَا يُقَابِلُهَا، أَوْ عَدَمُ الْغُولِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ فِيهَا لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ فِي هَذِهِ الْخُمُورِ» . وَقَدْ أَحَلْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا، فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَةَ الْقَصْرِ بِالتَّقْدِيمِ فِي النَّفْيِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَصْرَ لَمَّا كَانَ كَيْفِيَّةً عَارِضَةً لِلتَّرْكِيبِ وَلَمْ يَكُنْ قَيْدًا لَفْظِيًّا بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَيْهِ كَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ مُسْتَصْحَبَةً مَعَ النَّفْيِ، فَنَحْوُ لَا فِيها غَوْلٌ يُفِيدُ قَصْرَ الْغَوْلِ عَلَى الِانْتِفَاءِ عَنْ خُمُورِ الدُّنْيَا وَلَا يُفِيدُ نَفْيَ قَصْرِ الْغَوْلِ عَلَى الْكَوْنِ فِي خُمُورِ الْجَنَّةِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ إِذْ قَالَ «وَبِالْجُمْلَةِ يُجْعَلُ حَرْفُ النَّفْيِ جُزْءًا أَوْ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُسْنَدِ أَوِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ» . وَعَلَى هَذَا بَنَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ وَجْهَ أَنْ لَمْ يُقَدَّمِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ أُوِّلَ لَقُصِدَ أَنَّ كِتَابًا آخَرَ فِيهِ الرَّيْبُ، لَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ كَانَ مُفَادُهُ هُدَاهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَيْكَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِفَادَةُ إِبْطَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ إِبْطَالُ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَى اللَّهِ، وَكِلَا الْمُفَادَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ إِذْ لَا يعْتَقد الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي. فَالْوَجْهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ كَتَقْدِيمِ يَوْمِ النَّدَى فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ سِوَى أَنَّهُ ... يَوْمَ النَّدَى قِسْمَتُهُ ضِيزَى بِنَفْيِ كَوْنِ هُدَاهُمْ حَقًّا عَلَى الرَّسُولِ تَهْوِينًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إِلَى اللَّهِ فَمِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ إِيجَادَ الْإِيمَانِ فِي الْكُفَّارِ يَكُونُ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَبِالْإِلْجَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَقَصَرَ هُدَاهُمْ عَلَى عَدَمِ الْكَوْنِ فِي إِلْجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ إِيَّاهُمْ لَا عَلَى عَدَمِ الْكَوْنِ فِي أَنَّهُ عَلَى اللَّهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِمَا فِي الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ مِنْ تَوَهُّمِ إِمْكَانِ هَدْيِهِمْ بِالْحِرْصِ أَوْ بِالْإِلْجَاءِ، فَمَصَبُّ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ الصِّلَةُ، أَعْنِي مَنْ يَشاءُ أَيْ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِلْجَاءِ مَنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ هَدْيَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ هُدَاهُمْ بِيَدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ هَدَاهُمْ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: 271] وموقعها زِيَادَة بَيَان فَضْلِ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا، وَأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا لِنَفْسِ الْمُتَصَدِّقِ فَلْيَخْتَرْ لِنَفْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْهَا بِنَبْذِ كُلِّ مَا يَدْعُو لِتَرْكِ بَعْضِهَا. وَقَوْلُهُ: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ إِنَّمَا تَكُونُ مَنْفَعَةُ الصَّدَقَاتِ لِأَنْفُسِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَلَا لِمُرَاعَاةِ حَالِ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى صَالِحٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ فِيهِ أُسْلُوبُ مَا حُفَّ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ- وَجُمْلَةِ- وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ عَطْفٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِبَيَانِ أَنَّ جَزَاءَ النَّفَقَاتِ بِمِقْدَارِهَا وَأَنَّ مَنْ نُقِصَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ فَهُوَ السَّاعِي فِي نَقْصِهِ. وَكَرَّرَ فِعْلَ تُنْفِقُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْآيَةِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِهِ وَجِيءَ بِهِ مَرَّتَيْنِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ عِنْدَ قَصْدِ بَيَانِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَالثَّوَابِ، وَجِيءَ بِهِ مَرَّةً فِي صِيغَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْخَبَرَ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، أَيِ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُنْفِقُوا إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ.

وَتَقْدِيم وَأَنْتُمْ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي وَزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَاتِهِ الْأَحْكَامُ جُمَلًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَمْ تُجْعَلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً مُقَيَّدَةً فَائِدَتُهَا بِقُيُودِ جَمِيعِ الْجُمَلِ وَأُعِيدَ لَفْظُ الْإِنْفَاقِ فِي جَمِيعِهَا بِصِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ تَكْرِيرًا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، لِتَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةً بِمَعْنَاهَا قَصِيرَةَ الْأَلْفَاظِ كَثِيرَةَ الْمَعَانِي، فَتَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَتَتَنَاقَلُهَا الْأَجْيَالُ. وَقَدْ أُخِذَ مِنَ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ- عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ- جَوَازُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالْمرَاد الكفّار الَّذِي يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْذِينَ لَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْجِيرَانُ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكَافِرِينَ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالْكَافِرُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا. فَقَالَ: «فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ- أَعْنِي الزَّكَاةَ- لَا تُعْطَى لِلْكُفَّارِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهَا إِنَّمَا فُرِضَتْ لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْمُسْلِمِينَ وَمُوَاسَاتِهِمْ، فَهِيَ مَالُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُؤْخَذُ بِمَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ، فَفِيهِ غِنَى الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا يُعْطِيهِ الْمَرْءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَالْجُمْهُورُ أَلْحَقُوهَا بِالصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَلْحَقَهَا بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَأَجَازَ إعطاءها إِلَى الْكَافِر. وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ زَكَاةِ الْفِطْرِ كَانَ أَشْبَهَ، فَإِنَّ الْعِيدَ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّهُ رَآهَا صَدَقَةَ شُكْرٍ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيَامِ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ فِيهَا حَالَ الْمُتَصَدِّقِ لَا حَالَ المتصدّق عَلَيْهِ. وَقَوله الْجُمْهُورِ أَصَحُّ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا لِكِفَايَةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي يَوْمِ عِيدِهِمْ وَلِيَكُونُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْسَعَ حَالًا مِنْهُمْ فِي سَائِرِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِي فُقَرَاء الْكَافرين.

[سورة البقرة (2) : آية 273]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) لِلْفُقَراءِ مُتَعَلِّقٌ بـ تنفقون الْأَخير، وَتَعَلُّقُهُ بِهِ يُؤذن بتعلّق مَعْنَاهُ بِنَظَائِرِهِ الْمُقَدَّمَةِ، فَمَا مِنْ نَفَقَةٍ ذُكِرَتْ آنِفًا إِلَّا وَهِيَ لِلْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الْجُمَلَ قَدْ عَضَّدَ بَعْضُهَا بَعْضًا. والَّذِينَ أُحْصِرُوا أَيْ حُبِسُوا وَأُرْصِدُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ هُنَا الْجِهَادُ فَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِي قَوْمٍ جُرِحُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فصاروا زمنى فَفِي للسبيبة وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ الْمَشْيُ لِلْجِهَادِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِمْ لِعَجْزِهِمُ الْحَاصِلِ بِالْجِهَادِ وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا بِصَدَدِ الْقِتَالِ يَحْتَاجُونَ للمعونة، فَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلَ الصُّفَّةِ (¬1) ، وَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالهمْ بِمَكَّة وجاؤوا دَارَ الْهِجْرَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ زِرَاعَةً وَلَا تِجَارَةً، فَمَعْنَى أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِيقُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ لِأَجْلِ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْهِجْرَة، فَفِي لِلتَّعْلِيلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي كُلِّ سِرِّيَّةٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ. وَمَعْنَى «أُحْصِرُوا» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُرْصِدُوا. وَ (فِي) بَاقِيَةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ التِّجَارَةِ لِقِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ، وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّجَرِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّاجِرِ أَنْ يُسَافِرَ لِيَبْتَاعَ وَيَبِيعَ فَهُوَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ أَوْ دَابَّتِهِ. ¬

(¬1) الصّفة- بِضَم الصَّاد وَتَشْديد الْفَاء- بهو وَاسع طَوِيل السّمك، وَهُوَ مَوضِع بناه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ بِالْمَدِينَةِ كالرواق ليأوي إِلَيْهِ فُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين خَرجُوا من أَمْوَالهم بِمَكَّة وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة فِي عَددهمْ وَكَانُوا يقلون ويكثرون، مِنْهُم أَبُو ذَر جُنْدُب الْغِفَارِيّ وَمِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة. وَمِنْهُم جعيل بن سراقَة الضمرِي وَلم أَقف على غَيرهم. وَذكر مرتضى فِي «شرح الْقَامُوس» أَنه جمع من أسمائهم اثْنَيْنِ وَتِسْعين، وَعَن أبي ذَر كُنَّا إِذا أمسينا حَضَرنَا بَاب رَسُول الله فيأمر كل رجل فَيَنْصَرِف بِرَجُل وَيبقى من بَقِي مَعَ رَسُول الله عشرَة أَو أقل يُؤْتى رَسُول الله بعشائه فنتعشى مَعَه فَإِذا فَرغْنَا قَالَ لنا: نَامُوا فِي الْمَسْجِد، كَانَ هَذَا فِي صدر أَيَّام الْهِجْرَة ثمَّ فتح الله على الْمُسلمين فاستغنوا وَخَرجُوا ودامت الصّفة حَيَاة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد عد أَبُو هُرَيْرَة من أَصْحَابهَا وَهُوَ أسلم عَام خَيْبَر.

وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أُحْصِرُوا. وَقَوْلُهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ حَالٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ، أَيِ الْجَاهِلُ بِحَالِهِمْ مِنَ الْفَقْرِ يَظُنُّهُمْ أَغْنِيَاءَ، وَمن لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ التَّعَفُّفَ مبدأ هَذَا الحسبان. وَالتَّعَفُّفُ تَكَلُّفُ الْعَفَافِ وَهُوَ النَّزَاهَةُ عَمًّا يَلِيقُ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» بَابُ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَخْرَجَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَعْقُوبُ يَحْسِبُهُمْ بِكَسْرِ السِّينِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَمَعْنَى تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أَيْ بِعَلَامَةِ الْحَاجَةِ وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بحالهم. والمخاطب بتعرفهم هُوَ الَّذِي تَصَدَّى لِتَطَلُّعِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ، فَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلْجَاهِلِ فِي قَوْلِهِ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ، كأنّه قيل: فبمَاذَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ فَقْرُهُمْ خَفِيًّا، وَكَيْفَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فَأُحِيلَ ذَلِكَ عَلَى مَظِنَّةِ الْمُتَأَمِّلِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: 75] . وَالسِّيمَا الْعَلَّامَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ سَامَ الَّذِي هُوَ مَقْلُوبُ وَسَمَ، فَأَصْلُهَا وِسْمَى، فَوَزْنُهَا عِفْلَى، وَهِيَ فِي الصُّورَةِ فِعْلَى، يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمْ سِمَةٌ فَإِنَّ أَصْلَهَا وَسْمَةٌ. وَيَقُولُونَ سِيمَى بِالْقَصْرِ وَسِيمَاءُ بِالْمَدِّ وَسِيمِيَاءُ بِزِيَادَةِ يَاءٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَبِالْمَدِّ، وَيَقُولُونَ سَوَّمَ إِذَا جَعَلَ سِمَةً. وَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَلَبُوا حُرُوفَ الْكَلِمَةِ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إِلَى التَّخْفِيفِ بِهَذِهِ الْأَوْزَانِ لِأَنَّ قَلْبَ عَيْنِ الْكَلِمَةِ مُتَأَتٍّ بِخِلَافِ قَلْبِ فَائِهَا. وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ كَلَامِهِمْ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ سَوَّمَ الْمقْلُوبِ، وَإِنَّمَا سُمِعَ مِنْهُ فِعْلٌ مُضَاعَفٌ فِي قَوْلِهِمْ سَوَّمَ فَرَسَهُ.

وَقَوْلُهُ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ بَيَانًا ثَانِيًا، لِكَيْفِيَّةِ حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ أُخِّرَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سبقه من الحقّ عَلَى تَوَسُّمِ احتياجهم بأنّهم محصرون لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ لَمْ يُغَادِرِ الْقُرْآنُ شَيْئًا مِنَ الْحَثِّ عَلَى إِبْلَاغِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَيْدِي الْفُقَرَاءِ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ بِهِ، وَأَظْهَرَ بِهِ مَزِيدَ الِاعْتِنَاءِ. وَالْإِلْحَافُ الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَنُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ ضَمِيرِ يَسْأَلُونَ بِتَأْوِيلِ مُلْحِفِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ السُّؤَالُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِلْحَافِ أوِ الْمُقَيَّدُونَ فِيهِ بِأَنَّهُمْ مُلْحِفُونَ- وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ نَفْيَ صُدُورِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ- مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ أَصْلًا، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الزَّجَاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَافِ مَعًا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ يُرِيدُ نَفْيَ الْمَنَارِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَقَرِينَةُ هَذَا الْمَقْصُودِ أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُحْسَبُونَ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِر: 18] أَيْ لَا شَفِيعَ أَصْلًا، ثُمَّ حَيْثُ لَا شَفِيعَ فَلَا إِطَاعَةَ، فَأَنْتَجَ لَا شَفِيعَ يُطَاعُ، فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ كَنَفْيِهِ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَجَعَلُوهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكِنَايَةِ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «إِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إِذَا كَانَ الْقَيْدُ الْوَاقِعُ بَعْدَ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ لِلنَّفْيِ لِأَنَّ شَأْنَ اللَّاحِبِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَارٌ، وَشَأْنَ الشَّفِيعِ أَنْ يُطَاعَ، فَيَكُونَ نَفْيُ اللَّازِمِ نَفْيًا لِلْمَلْزُومِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ، وَلَيْسَ الْإِلْحَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّؤَالِ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ضِدُّ الْإِلْحَافِ- وَهُوَ الرِّفْقُ وَالتَّلَطُّفُ- أَشْبَهَ باللَّازِمِ» (أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ مُطَّرِدَ اللُّزُومِ لِلْمَنْفِيِّ عَنْهُ) . وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ خَفِيفٍ دُونَ إِلْحَافٍ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُمْ أَنْ يَتَعَفَّفُوا، فَإِذَا سَأَلُوا سَأَلُوا بِغَيْرِ إِلْحَافٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَالْبَيَانِ لَهَا، وَالْأَظْهَرُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ- الَّذِي جُعِلَ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا- وَأَجَابَ الْفَخْرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَنَّهُمْ لَا

[سورة البقرة (2) : آية 274]

يَسْأَلُونَ، وَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْله: لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً تَعْرِيضٌ بِالْمُلْحِفِينَ فِي السُّؤَالِ، أَيْ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ فِي عَدَمِ السُّؤَالِ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. أُعِيدَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَذُكِرَ مَرَّةً رَابِعَةً، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُكْنَى بِهِ عَنْ أَثَرِهِ كَثِيرًا، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ مُرَغَّبًا فِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ مَعْرُوفًا لِلْمُسْلِمِينَ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِهِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِامْتِثَالِ الْمُنْفِقِ، أَيْ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ إِذْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ بَعْدَ كَوْنِهِ عَلِيمًا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ حَصَلَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَرَّاتِ الْأَرْبَعِ مِنَ التَّحْرِيضِ مَا أَفَادَ شِدَّةَ فَضْلِ الْإِنْفَاقِ بِأَنَّهُ نَفْعٌ لِلْمُنْفِقِ، وَصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَنَوَالُ الْجَزَاءِ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ ثَابِتٌ لَهُ فِي علم الله. [274] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تُفِيدُ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ فَضَائِلِ الْإِنْفَاقِ بَعْدَ أَنْ خُصِّصَ الْكَلَامُ بِالْإِنْفَاقِ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَأُدْخِلَ الْفَاءُ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَسَبُّبِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى صِلَةٍ مَقْصُودٍ مِنْهَا التَّعْمِيمُ، وَالتَّعْلِيلُ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ- وَهِيَ يُنْفِقُونَ- صَحَّ إِدْخَالُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ كَمَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَاءِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّسَبُّبِ وَمَا أُدْخِلَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ إِلَّا لِذَلِكَ. وَالسِّرُّ: الْخَفَاءُ. وَالْعَلَانِيَةُ: الْجَهْرُ وَالظُّهُورُ. وَذُكِرَ عِنْدَ رَبِّهِمْ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْأَجْرِ.

[سورة البقرة (2) : آية 275]

وَقَوْلُهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَة: 270] إِذْ هُوَ تَهْدِيدٌ لِمَانِعِي الصَّدَقَاتِ بِإِسْلَامِ النَّاسِ إِيَّاهُمْ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ بِهِمْ، وَهَذَا بِشَارَةٌ لِلْمُنْفِقِينَ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَخَافُونَ اعْتِدَاءَ الْمُعْتَدِينَ لِأَنَّ اللَّهَ أَكْسَبَهُمْ مَحَبَّةَ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، وَلَا تَحِلُّ بِهِمُ الْمَصَائِبُ الْمُحْزِنَةُ إِلَّا مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ فِي إِبَّانِهِ. أَمَّا انْتِفَاءُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَرُفِعَ خَوْفٌ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ إِذْ لَا يتَوَهَّم نفي الْفَرْدِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَجْنَاسٌ مَحْضَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [الْبَقَرَة: 254] ، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سآمة» . [275] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) نَظَمَ الْقُرْآنُ أَهَمَّ أَصُولِ حِفْظِ مَالِ الْأُمَّةِ فِي سِلْكِ هَاتِهِ الْآيَاتِ. فَبَعْدَ أَنِ ابْتَدَأَ بِأَعْظَمِ تِلْكَ الْأُصُولِ وَهُوَ تَأْسِيسُ مَالٍ لِلْأُمَّةِ بِهِ قِوَامُ أَمْرِهَا، يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْوَالِ أَخْذًا عَدْلًا مِمَّا كَانَ فَضْلًا عَن الْغنى فقرضه عَلَى النَّاسِ، يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مَفْرُوضًا وَهُوَ الزَّكَاةُ أَوْ تَطَوُّعًا وَهُوَ الصَّدَقَةُ، فَأَطْنَبَ فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي ثَوَابِهِ، والتحذير من إِمْسَاكِهِ، مَا كَانَ فِيهِ مَوْعِظَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ، عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى إِبْطَالِ وَسِيلَةٍ كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ ابْتِزَازِ الْأَغْنِيَاءِ أَمْوَالَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهِمْ،

وَهِيَ الْمُعَامَلَةُ بِالرِّبَا الَّذِي لَقَّبَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَدِينُ مَالًا لِدَائِنِهِ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الِانْتِظَارِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَدْفَعْ زَادَ فِي الدَّيْنِ، يَقُولُونَ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرِّبَا عَلَى الْمَدِينِ من وَقت إسلافه وَكُلَّمَا طَلَبَ النَّظْرَةَ أَعْطَى رِبًا آخَرَ، وَرُبَّمَا تَسَامَحَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مُشْتَهِرًا بِالْمُرَابَاةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَجَاءَ فِي خطْبَة حجّة الْوَدَاعِ «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَبْدَأُ بِهِ رِبَا عَمِّي عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . وَجُمْلَةُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا اسْتِئْنَافٌ، وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَقُومُونَ إِلَى آخِرِهِ. وَالْأَكْلُ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِلَاعُ الطَّعَامِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَأَخْذِهِ بِحِرْصٍ، وَأَصْلُهُ تَمْثِيلٌ، ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فَقَالُوا: أَكَلَ مَالَ النَّاسِ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى [النِّسَاء: 10]- أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ [الصافات: 91، 92] ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَخْذِ الْبَاطِلِ فَفِي الْقُرْآنِ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: 4] . وَالرِّبَا: اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ لَعَلَّهُمْ خَفَّفُوهُ مِنَ الرِّبَاءِ- بِالْمَدِّ- فَصَيَّرُوهُ اسْمَ مَصْدَرٍ، لِفِعْلِ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو رَبْوًا- بِسُكُونِ الْبَاءِ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا فِي «الصِّحَاحِ» وَبِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاءِ كَعُلُوٍّ- وَرِبَاءٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ مِثْلُ الرِّمَاءِ إِذَا زَادَ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الرّوم: 39] ، وَقَالَ: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَج: 5] ،- وَلِكَوْنِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ ثُنِّيَ عَلَى رَبَوَانِ. وَكُتِبَ بِالْأَلِفِ، وَكَتَبَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِالْيَاءِ نَظَرًا لِجَوَازِ الْإِمَالَةِ فِيهِ لِمَكَانِ كَسْرَةِ الرَّاءِ (¬1) ثُمَّ ثَنَّوْهُ بِالْيَاءِ لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ أَيْضًا- قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا رَأَيْتُ خَطَأً أَشْنَعَ مِنْ هَذَا، أَلَا يَكْفِيهِمُ الْخَطَأُ فِي الخطّ حَتَّى أخطؤوا فِي التَّثْنِيَةِ كَيفَ وهم يقرؤون وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا [الرّوم: 39]- بِفَتْحَةٍ عَلَى الْوَاوِ- فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الرّوم: 39] يُشِيرُ إِلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ، وَهُمَا كُوفِيَّانِ، وَبِقِرَاءَتِهِمَا يَقْرَأُ أَهْلُ الْكُوفَةِ. ¬

(¬1) من الْعَرَب من جعل الرَّاء الْمَكْسُورَة فِي الْكَلِمَة ذَات الْألف المنقلبة عَن وَاو تجوز إمالتها سَوَاء تقدّمت الرَّاء نَحْو رَبًّا أم تَأَخَّرت نَحْو دَار.

وَكُتِبَ الرِّبَا فِي الْمُصْحَفِ حَيْثُمَا وَقَعَ بِوَاوٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَالشَّأْنُ أَنْ يُكْتَبَ أَلِفًا، فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كُتِبَتْ كَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ أَيْ يَنْحُو بِالْأَلِفِ مَنْحَى الْوَاوِ، وَالتَّفْخِيمُ عَكْسُ الْإِمَالَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ التَّفْخِيمُ لُغَةَ قُرَيْشٍ حَتَّى يُكْتَبَ بِهَا الْمُصْحَفُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كُتِبَ كَذَلِكَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرِّبَا وَالزِّنَا، وَهُوَ أَبْعَدُ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَا يَتْرُكُ اشْتِبَاهًا بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الْإِسْرَاء: 32] . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَهُمْ نَبَطٌ يَقُولُونَ فِي الرِّبَا: رِبَوْ- بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ- فَكُتِبَتْ كَذَلِكَ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنَ الْجَمِيعِ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوهُ بِالْوَاوِ لِيُشِيرُوا إِلَى أَصْلِهِ كَمَا كَتَبُوا الْأَلِفَاتِ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْيَاءِ فِي أَوَاسِطِ الْكَلِمَاتِ بِيَاءَاتٍ عَلَيْهَا أَلِفَاتٌ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ أَنْ يَجْعَلُوا الرَّسْمَ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ اسْتَعْجَلُوا فَلَمْ يَطَّرِدْ فِي رَسْمِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَتَبُوا الزَّكَاةَ بِالْوَاوِ، وَكَتَبُوا الصَّلَاةَ بِالْوَاوِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ أَصْلَهَا هُوَ الرُّكُوعُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلْوَيْنِ لَا مِنَ الِاصْطِلَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَكَتَبُوا بَعْدَهَا أَلِفًا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا مَعْنًى لِلتَّعْلِيلِ بِهِ، بَلْ إِنَّمَا كَتَبُوا الْأَلِفَ بَعْدَهَا عِوَضًا عَنْ أَنْ يَضَعُوا الْأَلِفَ فَوْقَ الْوَاوِ، كَمَا وَضَعُوا الْمُنْقَلِبَ عَنْ يَاءٍ أَلِفًا فَوْقَ الْيَاءِ لِئَلَّا يَقْرَأَهَا النَّاسُ الرَّبْوَ. وَأُرِيدَ بِالَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا هُنَا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ وَالتَّشْنِيعَ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا التَّوَجُّهَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ وَهُمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنْهَا مَا دَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَسَبَقَ لَهُمْ تَشْرِيعٌ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [130] ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَجَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْوَعِيدَ مِنْ جُمْلَةِ أَصْنَافِ الْعَذَابِ خَاصًّا لِلْكَافِرِينَ لِأَجْلِ مَا تَفَرَّعَ عَنْ كُفْرِهِمْ مِنْ وَضْعِ الرِّبَا. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنْكَارُ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِعْطَاءَهُمُ الرِّبَا، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَعَاهُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي مَكَّةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [39] : وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ

وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلِأَنَّ بَعْدَ الْآيَةِ قَوْله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ. وَمِنْ عَادَاتِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ إِغْلَاظًا عَلَيْهِمْ، وَتَعْرِيضًا بِتَخْوِيفِ الْمُسْلِمِينَ، ليكرّه إيَّاهُم لأحوال أَهْلِ الْكُفْرِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فَمُرَادٌ مِنْهُ أَيْضًا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَة: 275] وَقَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [الْبَقَرَة: 276] . ثُمَّ عَطَفَ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [الْبَقَرَة: 278] الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَنْكَفَّ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا أَوْ لَعَلَّ بَعْضَهُمْ فُتِنَ بِقَوْلِ الْكُفَّارِ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا. فَكَانَتْ آيَةُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مَبْدَأَ التَّحْرِيمِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِغْلَاقَ بَابِ الْمَعْذِرَةِ فِي أَكْلِ الرِّبَا وَبَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ تَدَارُكِ مَا سَلَفَ مِنْهُ. وَالرِّبَا يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا السَّلَفُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا يُعْطِيهِ الْمُسَلِّفُ، وَالثَّانِي السَّلَفُ بِدُونِ زِيَادَةٍ إِلَى أَجَلٍ، يَعْنِي فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ الْمُسْتَسْلِفُ أَدَاءَ الدَّيْنِ عِنْدَ الْأَجَلِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ زِيَادَةً يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا عِنْدَ حُلُولِ كُلِّ أَجَلٍ. وَقَوْلُهُ: لَا يَقُومُونَ حَقِيقَةُ الْقِيَامِ النُّهُوضُ وَالِاسْتِقْلَالُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى تَحَسُّنِ الْحَالِ، وَعَلَى الْقُوَّةِ، مِنْ ذَلِكَ قَامَتِ السُّوقُ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ. فَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ الْمَنْفِيُّ هُنَا الْقِيَامَ الْحَقِيقِيَّ فَالْمَعْنَى: لَا يَقُومُونَ- يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، أَيْ إِلَّا قِيَامًا كَقِيَامِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامَ الْمَجَازِيَّ فَالْمَعْنَى إِمَّا عَلَى أَنَّ حِرْصَهُمْ وَنَشَاطَهُمْ فِي مُعَامَلَاتِ الرِّبَا كَقِيَامِ الْمَجْنُونِ تَشْنِيعًا لِجَشَعِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ مَا يُعْجِبُ النَّاسَ مِنِ اسْتِقَامَةِ حَالِهِمْ، وَوَفْرَةِ مَالِهِمْ، وَقُوَّةِ تِجَارَتِهِمْ، بِمَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى تَخَالَهُ قَوِيًّا سَرِيعَ الْحَرَكَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا. فَالْآيَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَعِيدٌ لَهُمْ بِابْتِدَاءِ تَعْذِيبِهِمْ مِنْ وَقْتِ الْقِيَامِ لِلْحِسَابِ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَهِيَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ

تَشْنِيعٌ، أَوْ تَوَعُّدٌ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا وَلُقِيِّ الْمَتَاعِبِ وَمَرَارَةِ الْحَيَاةِ تَحْتَ صُورَةٍ يَخَالُهَا الرَّائِي مُسْتَقِيمَةً. وَالتَّخَبُّطُ مُطَاوِعُ خَبَطَهُ إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا فَاضْطَرَبَ لَهُ، أَيْ تَحَرَّكَ تَحَرُّكًا شَدِيدًا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَازِمِ هَذَا التَّحَرُّكِ عَدَمُ الِاتِّسَاقِ، أَطْلَقَ التَّخَبُّطَ عَلَى اضْطِرَابِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ اتِّسَاقٍ. ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إِلَى فِعْلِ الْمُطَاوَعَةِ فَيَجْعَلُونَهُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ إِذَا أَرَادُوا الِاخْتِصَارَ، فَعِوَضًا عَنْ أَنْ يَقُولُوا خَبَطَهُ فَتَخَبَّطَ يَقُولُونَ تَخَبَّطَهُ كَمَا قَالُوا: اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا. فَتَخَبُّطُ الشَّيْطَانِ الْمَرْءَ جَعْلُهُ إِيَّاهُ مُتَخَبِّطًا، أَيْ مُتَحَرِّكًا عَلَى غَيْرِ اتِّسَاقٍ. وَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَجْنُون الذيب أَصَابَهُ الصَّرْعُ. فَيَضْطَرِبُ بِهِ اضْطِرَابَاتٍ، وَيَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَلَمَّا شبهت الهيأة بالهيأة جِيءَ فِي لفظ الهيأة الْمُشَبَّهِ بِهَا بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِهِمْ وَإِلَّا لما فهمت الهيأة الْمُشَبَّهُ بِهَا، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ. قَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ نَاقَتَهُ بِالنَّشَاطِ وَسُرْعَةِ السَّيْرِ، بَعْدَ أَنْ سَارَتْ لَيْلًا كَامِلًا: وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ (¬1) وَالْمَسُّ فِي الْأَصْلِ هُوَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ كَقَوْلِهَا (¬2) : «الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ» ، وَهُوَ إِذَا أُطْلِقَ مُعَرَّفًا بِدُونِ عَهْدِ مَسٍّ مَعْرُوفٍ دَلَّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَسِّ الْجِنِّ، فَيَقُولُونَ: رَجُلٌ مَمْسُوسٌ أَيْ مَجْنُونٌ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى زِيَادَةِ قَوْلِهِ مِنَ الْمَسِّ لِيَظْهَرَ الْمُرَادُ مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ تَخَبُّطٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ. وَ (مِنْ) ابتدائية مُتَعَلقَة بيتخبّطه لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ جَارٍ عَلَى مَا عَهِدَهُ الْعَرَبِيُّ مِثْلَ قَوْلِهِ: «طلعها كأنّه رُؤُوس الشَّيَاطِينِ» ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ إِلَّا أنّ هَذَا أَثَره مُشَاهَدٌ وَعِلَّتُهُ مُتَخَيَّلَةٌ وَالْآخَرَانِ مُتَخَيَّلَانِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ تَأْثِيرَ الشَّيَاطِينِ بِغَيْرِ الْوَسْوَسَةِ. وَعِنْدَنَا هُوَ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخَيِيلِهِمْ وَالصَّرَعُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عِلَلٍ ¬

(¬1) يُرِيد أَنَّهَا بعد أَن تسري اللَّيْل تصبح نشيطة لشدَّة قوتها بِحَيْثُ لَا يقل نشاطها. وَالْغِب بِكَسْر الْغَيْن بِمَعْنى عقب. وطائف الْجِنّ مَا يُحِيط بالإنسان من الصرع وَالِاضْطِرَاب قَالَ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا. والأولق اسْم مس الْجِنّ وَالْفِعْل مِنْهُ أولق بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول. (¬2) فِي حَدِيث أم زرع من «صَحِيح البُخَارِيّ» .

تَعْتَرِي الْجِسْمَ مِثْلِ فَيَضَانِ الْمِرَّةِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَشَنُّجِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ هَاتِهِ الْعِلَلُ كُلُّهَا تَنْشَأُ فِي الْأَصْلِ مِنْ تَوَجُّهَاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ، فَإِنَّ عَوَالِمَ الْمُجَرَّدَاتِ- كَالْأَرْوَاحِ- لَمْ تَنْكَشِفْ أَسْرَارُهَا لَنَا حَتَّى الْآنَ وَلَعَلَّ لَهَا ارْتِبَاطَاتٍ شُعَاعِيَّةً هِيَ مَصَادِرُ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الْإِشَارَةُ إِلَى كَما يَقُومُ لِأَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْبَاءَ سَبَبِيَّةٌ. وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، إِنْ كَانَ قَوْلًا لِسَانِيًّا فَالْمُرَادُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْ قَوْلُ دُعَاتِهِمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ، ظَنُّوا بِسُوءِ فَهْمِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا اضْطِرَابٌ فِي حِينِ تَحْلِيلِ الْبَيْعِ، لِقَصْدِ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِمْ إِذْ يَتَعَذَّرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا حَالِيًّا بِحَيْثُ يَقُولُهُ كُلُّ مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ وَجْهِ تَعَاطِيهِ الرِّبَا، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قالُوا مَجَازًا لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ مُسَاوَاةَ الْبَيْعِ لِلرِّبَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقُولَهُ قَائِلٌ، فَأُطْلِقَ الْقَوْلُ وَأُرِيدَ لَازِمُهُ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ تَخَالُفَ حُكْمِهِمَا فَحُرِّمَ الرِّبَا وَأُحِلَّ الْبَيْعُ، وَلَمَّا صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ مِثْلُ سَاغَ أَنْ يُقَالَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا كَمَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قُصِدَ إِلْحَاقُهُ بِهِ، كَمَا فِي سُؤَالِ الْكَشَّافِ وَبَنَى عَلَيْهِ جَعْلَ الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسُوا هُمْ بِصَدَدِ إِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ بَلْ هُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعَ، فَهُمَا فِي الْخُطُورِ بِأَذْهَانِهِمْ سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا بِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَبَقَاءِ الْبَيْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ سَبَقَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ إِلَى أَذْهَانِهِمْ فَأَحْضَرُوهُ لِيُثْبِتُوا بِهِ إِبَاحَةَ الرِّبَا، أَوْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَيْعَ هُوَ الْأَصْلَ تَعْرِيضًا بِالْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِهِ الرِّبَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي الْأُصُولِ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ (¬1) لِأَنَّ قِيَاسَ الْعَكْسِ إِنَّمَا يُلْتَجَأُ إِلَيْهِ عِنْدَ كِفَاحِ الْمُنَاظَرَةِ لَا فِي وَقْتِ اسْتِنْبَاطِ الْمُجْتِهِدِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. ¬

(¬1) هُوَ الِاسْتِدْلَال بِحكم الْفَرْع على حكم الأَصْل لقصد إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ ويقابله قِيَاس الطَّرْد وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِحكم الأَصْل على حكم الْفَرْع لإِثْبَات حكم الْفَرْع فِي نفس الْأَمر. مِثَال الأول أَن تَقول: النَّبِيذ مثل الْخمر فِي الْإِسْكَار، فَلَو كَانَ النَّبِيذ حَلَالا لكَانَتْ الْخمر حَلَالا وَهُوَ بَاطِل. وَمِثَال الثَّانِي أَن تَقول: النَّبِيذ مُسكر فَهُوَ حرَام كَالْخمرِ.

وَأَرَادُوا بِالْبَيْعِ هُنَا بَيْعَ التِّجَارَةِ لَا بَيْعَ الْمُحْتَاجِ سِلْعَتَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابٌ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ إِعْرَاضٌ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِذْ لَا جَدْوَى فِيهَا لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كُفْرًا وَنِفَاقًا فَلَيْسُوا مِمَّنْ تَشْمَلُهُمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ إِقْنَاعٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الْكُفَّارُ هُوَ شُبْهَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ الْعَلِيمَ قَدْ حَرَّمَ هَذَا وأباح ذَلِك، وَمَا ذَلِك إلّا لحكمة وَفُرُوقٌ مُعْتَبَرَةٌ لَوْ تَدَبَّرَهَا أَهْلُ التَّدَبُّرِ لَأَدْرَكُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَوَابِ كَشْفٌ لِلشُّبْهَةِ فَهُوَ مِمَّا وَكَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مَعَ أَنَّ ذِكْرَ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَقِبَ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَاتِ يُومِئُ إِلَى كَشْفِ الشُّبْهَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى شُبْهَةِ الْقَائِلِينَ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أَنَّ التِّجَارَةَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعَاتِ لِقَصْدِ انْتِفَاعِ التَّاجِرِ فِي مُقَابَلَةِ جَلْبِ السِّلَعِ وَإِرْصَادِهَا لِلطَّالِبِينَ فِي الْبَيْعِ النَّاضِّ، ثُمَّ لِأَجْلِ انْتِظَارِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ الْمُؤَجَّلِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْلَفَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَثَلًا عَلَى أَنَّهُ يُرْجِعُهَا لَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَهُوَ قَدْ أَعْطَاهُ هَذَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ لِأَجْلِ إِعْدَادِ مَالِهِ لِمَنْ يَسْتَسْلِفُهُ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ تَصَدَّى لِإِقْرَاضِهِ وَأَعَدَّ مَالَهُ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ لِأَجْلِ انْتِظَارِ ذَلِكَ بَعْدَ مَحِلِّ أَجَلِهِ. وَكَشْفُ هَاتِهِ الشُّبْهَةِ قَدْ تَصَدَّى لَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: «مَنْ بَاعَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشْرَةً بِعِشْرِينَ فَقَدْ جَعَلَ ذَاتَ الثَّوْبِ مُقَابَلًا بِالْعِشْرِينَ، فَلَمَّا حَصَلَ التَّرَاضِي عَلَى هَذَا التَّقَابُلِ صَارَتِ الْعِشْرُونَ عِوَضًا لِلثَّوْبِ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَمْ يَأْخُذِ الْبَائِعُ مِنَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا إِذَا أَقْرَضَهُ عَشْرَةً بِعِشْرِينَ فَقَدْ أَخَذَ الْمُقْرِضُ الْعَشَرَةَ الزَّائِدَةَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَلَا يُقَالُ إِنَّ الزَّائِدَ عِوَضُ الْإِمْهَالِ لِأَنَّ الْإِمْهَالَ لَيْسَ مَالًا أَوْ شَيْئًا يُشَارُ إِلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ عِوَضًا عَنِ الْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ» . وَمَرْجِعُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ إِلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ اعْتِبَارِيٍّ فَهِيَ تَفْرِقَةٌ قَاصِرَةٌ. وَأَشَارَ الْفَخْرُ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا إِلَى تَفْرِقَةٍ أُخْرَى زَادَهَا الْبَيْضَاوِيُّ تَحْرِيرًا، حَاصِلُهَا أَنَّ الَّذِي يَبِيعُ الشَّيْءَ الْمُسَاوِيَ عَشْرَةً بِأَحَدَ عَشَرَ يَكُونُ قَدْ مَكَّنَ الْمُشْتَرِيَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ إِمَّا بِذَاتِهِ وَإِمَّا بِالتِّجَارَةِ بِهِ، فَذَلِكَ الزَّائِدُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَسِيسُ الْحَاجَةِ أَوْ تَوَقُّعُ الرَّوَاجِ وَالرِّبْحِ، وَأَمَّا الَّذِي دَفَعَ دِرْهَمًا لِأَجْلِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ

مَنْفَعَةً أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ فَيَرْبَحَ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَوْهُومَةٌ غَيْرُ مُحَقَّقَةِ الْحُصُولِ، مَعَ أَنَّ أَخْذَ الزَّائِدِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَفَّالِ، لَكِنَّهَا يَرِدُ عَلَيْهَا أَنَّ انْتِفَاعَ الْمُقْتَرِضِ بِالْمَالِ فِيهِ سَدُّ حَاجَاتِهِ فَهُوَ كَانْتِفَاعِ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ، وَأَمَّا تَصَدِّيهِ لِلْمُتَاجَرَةِ بِمَالِ الْقَرْضِ أَوْ بِالسِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ فَأَمْرٌ نَادِرٌ فِيهَا. فَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا أَنَّ مَرْجِعَهَا إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ مُرَاعَاةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيِ الْمُقْتَرِضِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ كَانَ الِاقْتِرَاضُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُقْتَرِضِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ التَّدَايُنَ هَمًّا وَكَرْبًا، وَقَدِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالُ التَّاجِرِ حَالُ التَّفَضُّلِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ حَالَيِ الْمُسْلِفِ وَالْبَائِعِ، فَحَالُ بَاذِلِ مَالِهِ لِلْمُحْتَاجِينَ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَدْفَعُونَهُ مِنَ الرِّبَا فَيَزِيدَهُمْ ضيقا لأنّ المتسلّف مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَاهُ لَيْسَ بِيَدِهِ مَالٌ، وَحَالُ بَائِعِ السِّلْعَةِ تِجَارَةً حَالُ مَنْ تَجَشَّمَ مَشَقَّةً لِجَلْبِ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُتَفَضِّلُونَ وَإِعْدَادِهِ لَهُمْ عِنْدَ دُعَاءِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ بَذْلِهِمْ لَهُ مَا بِيَدِهِمْ مِنَ الْمَالِ. فَالتِّجَارَةُ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ غَنِيَّيْنِ: أَلَا تَرَى أَنَّ كِلَيْهِمَا بَاذِلٌ لِمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَآخِذٌ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَالْمُتَسَلِّفُ مَظِنَّةُ الْفَقْرِ، وَالْمُشْتَرِي مَظِنَّةُ الْغِنَى، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ اسْتِغْلَالٌ لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ وَأَحَلَّ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لِطَالِبِ الْحَاجَاتِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ مِنْ نَوْعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهَا مُؤَكَّدَةُ التَّعَيُّنِ عَلَى الْمُوَاسِي وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرًا عَلَى عَمَلِ الْمَعْرُوفِ. فَأَمَّا الَّذِي يَسْتَقْرِضُ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ أَوْ لِيُوَسِّعَ تِجَارَتَهُ فَلَيْسَ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ مُوَاسَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ إِقْرَاضُهُ بِحَال فَإِذا قرضه فَقَدْ تَطَوَّعَ بِمَعْرُوفٍ. وَكَفَى بِهَذَا تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَالَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفَخْرُ لِحِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَسْبَابًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا أَنَّ فِيهِ أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ فَرْقٌ غَيْرُ وَجِيهٍ.

الثَّانِي أَنَّ فِي تَعَاطِي الرِّبَا مَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنِ اقْتِحَامِ مَشَاقِّ الِاشْتِغَالِ فِي الِاكْتِسَابِ لِأَنَّهُ إِذَا تَعَوَّدَ صَاحِبُ الْمَالِ أَخْذَ الرِّبَا خَفَّ عَنْهُ اكْتِسَابُ الْمَعِيشَةِ، فَإِذَا فَشَا فِي النَّاسِ أَفْضَى إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالْعِمَارَةِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْقَرْضِ. الرَّابِعُ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا، وَفِي الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، فَلَوْ أُبِيحَ الرِّبَا لَتَمَكَّنَ الْغَنِيُّ مِنْ أَخْذِ مَالِ الضَّعِيفِ. وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا مَرَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ إِلَى عِلَّةِ تَحْرِيمِهِ وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [130] . هَذَا وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الْآيَةُ إِلَى حُكْمٍ هُوَ تَحْلِيلُ الْبَيْعِ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا لِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْلَانِ هَذَا التَّشْرِيعِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْمَوْعِظَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَ (الْ) فِي كُلٍّ مِنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَثَبَتَ بِهَا حُكْمُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمَا فِيهَا: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا وَالْآخَرُ يُسَمَّى رِبًا. أَوَّلُهُمَا مُبَاحٌ مُعْتَبَرٌ كَوْنُهُ حَاجِيًّا لِلْأُمَّةِ، وَثَانِيهِمَا مُحَرَّمٌ أُلْغِيَتْ حَاجِيَّتُهُ لِمَا عَارَضَهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ. وَظَاهِرُ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ بِجِنْسِهِ فَيَشْمَلُ التَّحْلِيلُ سَائِرَ أَفْرَادِهِ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [الْبَقَرَة: 275] أَذِنَ فِيهِ كَانَ فِي قُوَّةِ قَضِيَّةٍ مُوجَبَةٍ، فَلَمْ يَقْتَضِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ بِالصِّيغَةِ، وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِغْرَاقِ قِيَامَهَا فِي نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا شُمُولَ الْحِلِّ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْبَيْعِ. وَلَمَّا كَانَ الْبَيْعُ قَدْ تَعْتَرِيهِ أَسْبَابٌ تُوجِبُ فَسَادَهُ وَحُرْمَتَهُ تَتَبَّعَتِ الشَّرِيعَةُ أَسْبَابَ تَحْرِيمِهِ، فَتَعَطَّلَ احْتِمَالُ الِاسْتِغْرَاقِ فِي شَأْنِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَحَرَّمَ الرِّبا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْفِيِّ لِأَنَّ حَرَّمَ فِي مَعْنَى مَنَعَ، فَكَانَ مُقْتَضِيًا اسْتِغْرَاقَ جِنْسِ الرِّبَا بِالصِّيغَةِ إِذْ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يُصَيِّرُهُ حَلَالًا. ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ، أَوْ هُوَ مَنْقُولٌ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ.

فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةُ إِلَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، أَعْنِي الزِّيَادَةَ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَلَمْ يَأْخُذْ بِمَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ رِبَا الْفَضْلِ بِدُونِ نَسِيئَةٍ، قَالَ الْفَخْرُ: «وَلَعَلَّهُ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ» ، يَعْنِي أَنَّهُ حَمَلَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ عَلَى عُمُومِهِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الرِّبَا مَنْقُولٌ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَإِلَى هَذَا نَحَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَائِشَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَلْ رَأَى عُمَرُ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا نُقِلَ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ وَلَمْ يُبَيَّنْ جَمِيعُ الْمُرَادِ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ عِنْدَهُ مِمَّا يُشْبِهُ الْمُجْمَلَ، فَقَدْ حَكَى عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ آيَةُ الرِّبَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، وَإِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ أَبْوَابَ الرِّبَا، وَلَأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ مِصْرَ وَكُورِهَا» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَمْ يُرِدْ عُمَرُ بِذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَسِّرْ آيَةَ الرِّبَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَعُمَّ وُجُوهَ الرِّبَا بِالنَّصِّ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الرِّبَا فِي سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ حَدِيثًا. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا مُجْمَلٌ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْبَيَانِ وَبِالتَّفْسِيرِ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ تَحْقِيقَ حُكْمِهِ فِي صُوَرِ الْبُيُوعِ الْكَثِيرَةِ خَفِيٌّ لَمْ يَعُمُّهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّنْصِيصِ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَتَوَخَّوْنَ فِي عِبَارَاتِهِمْ مَا يُسَاوِي الْمَعَانِيَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ، فَهَؤُلَاءِ الْحَنَفِيَّةُ سَمَّوُا الْمُخَصِّصَاتِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَتَوَسَّعُونَ فِي مَعْنَى الْبَيَانِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا، أَيْ بِعُمُومَيْهَا: عُمُومِ الْبَيْعِ وَعُمُومِ الرِّبَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ جِنْسَ الْبَيْعِ وَجِنْسَ الزِّيَادَةِ لَزِمَ بَيَانُ أَيِّ بَيْعٍ وَأَيِّ زِيَادَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ كُلَّ بَيْعٍ وَكُلَّ زِيَادَةٍ فَمَا مِنْ بَيْعٍ إِلَّا وَفِيهِ زِيَادَةٌ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ أَبَاحَ جَمِيعَ الْبُيُوعِ وَآخِرُهَا حَرَّمَ الْجَمِيعَ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى بَيَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالَّذِي حَمَلَ الْجُمْهُورَ عَلَى اعْتِبَارِ لِفَظِ الرِّبَا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى جَدِيدٍ أَحَادِيثُ وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَلَّتْ عَلَى تَفْسِيرِ الرِّبَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأُصُولُهَا سِتَّةُ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ وَازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ» . الثَّانِي حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدًّا بِمُدٍّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدًّا بِمُدٍّ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدًّا بِمُدٍّ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدًّا بِمُدٍّ، فَمَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، فَسَمَّاهُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ رِبًا. الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ بِلَالًا جَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا فَقَالَ بِلَالٌ: تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِطَعْمِ النَّبِيءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ مِنْ هَذَا» فَسَمَّى التَّفَاضُلَ رِبًا. الرَّابِعُ حَدِيث «الْمُوَطَّأ» و «البُخَارِيّ» عَن ابْن سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَوَادَ بْنَ غزيّة جَاءَ فِي خَيْبَرَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» . الْخَامِسُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : قَالَتْ «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا النَّبِيءُ ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» فَظَاهِرُهُ أَنَّ تَحْرِيمَ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ كَانَ عَمَلًا بِآيَةِ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَلَيْسَ فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ مَعْنًى مِنْ مَعْنَى الرِّبَا الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ. السَّادِسُ حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ- وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ- أَنَّ الْعَالِيَةَ بِنْتَ أَيْنَعَ وَفَدَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَلَقِيَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي الْكُوفَةِ جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ، ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا بَاعَ الْجَارِيَةَ فَاشْتَرَتْهَا الْعَالِيَةُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: «بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ

قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ» ، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: «أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ إِلَّا رَأْسَ مَالِي» قَالَتْ: «فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ» فَجَعَلَتْهُ عَائِشَةُ مِنَ الرِّبَا وَلِذَلِكَ تَلَتِ الْآيَةَ. فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ السِّتَّةِ أَثْبَتَ الْفُقَهَاءُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ لِلرِّبَا فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: الْأَوَّلُ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الدَّيْنِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ. الثَّانِي رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ زِيَادَة فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي بَيْعِ الصِّنْفِ بِصِنْفِهِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. الثَّالِثُ رِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ بِمِثْلِهِ مُؤَخَّرًا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ نَوْعًا رَابِعًا: وَهُوَ مَا يؤول إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْنَافِ بِتُهْمَةِ التَّحَيُّلِ عَلَى الرِّبَا، وَتَرْجَمَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِبُيُوعِ الْآجَالِ، وَدَلِيلُ مَالِكٍ فِيهِ حَدِيثُ الْعَالِيَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا يَشْمَلُ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَعِنْدِي أَنَّ أَظْهَرَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ رِبَا الْفَضْلِ تُحْمَلُ عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَتَسْمِيَةُ التَّفَاضُلِ بِالرِّبَا فِي حَدِيثَيْ أَبِي سَعِيدٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَأَنَّ مَا رَاعَاهُ مَالِكٌ مِنْ إِبْطَالِ مَا يُفْضِي إِلَى تَعَامُلِ الرِّبَا إِنْ صَدَرَ مِنْ مَوَاقِعِ التُّهْمَةِ رَعْيٌ حَسَنٌ، وَمَا عَدَاهُ إِغْرَاقٌ فِي الِاحْتِيَاطِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ أَقْوَالِ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَغَيْرِهِ أَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ. وَلَا مُتَمَسَّكَ فِي نَحْوِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ كَانُوا قَرِيبِي عَهِدٍ بِرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ حَالُهُمْ مُقْتَضِيًا لِسَدِّ الذَّرَائِعِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : كَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا إِنَّمَا وَرَدَ فِي الدِّينَارِ الْمَضْرُوبِ وَالدِّرْهَمِ الْمَضْرُوبِ لَا فِي التِّبْرِ وَلَا فِي الْمَصُوغِ، فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: غَزَوْنَا وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رِجَالًا بِبَيْعِهَا فِي أُعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَقَالَ

: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءً عَيْنًا بِعَيْنٍ، مَنْ زَادَ وَازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: «أَلَا مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ الله أَحَادِيث قد كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ» فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: «لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي فِيهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ مُنْدَرِجَةٌ فِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى الْآيَةَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا. وَالْمَجِيءُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْبَلَاغِ، أَيْ مَنْ عَلِمَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَهَذَا عُذْرٌ لِمَنِ اسْتَرْسَلَ عَلَى مُعَامَلَةَ الرِّبَا قَبْلَ بُلُوغِ التَّحْرِيمِ إِلَيْهِ، فَالْمُرَادُ بِالْمَوْعِظَةِ هَذِهِ الْآيَةُ وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ. وَالِانْتِهَاءُ مُطَاوِعُ نَهَاهُ إِذَا صَدَّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّهَى- بِضَمِّ النُّونِ- وَهُوَ الْعَقْلُ. وَمَعْنَى «فَلَهُ مَا سَلَفَ» ، أَيْ مَا سَلَفَ قَبْضُهُ مِنْ مَالِ الرِّبَا لَا مَا سَلَفَ عَقْدُهُ وَلَمْ يُقْبَضْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ- الْآتِي- وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [الْبَقَرَة: 279] . وَقَوْلُهُ: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فَرَضُوا فِيهِ احْتِمَالَاتٍ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى «مَنْ جَاءَهُ» وَبَعْضُهَا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى مَا سَلَفَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ جَاءَهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّ مَعْنَى وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أَنَّ أَمْرَ جَزَائِهِ عَلَى الِانْتِهَاءِ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنَ الْإِيهَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّفْخِيمُ. فَالْمَقْصُودُ الْوَعْدُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَجُعِلَ الْعَائِدُ خَالِدًا فِي النَّارِ إِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَوْدُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، أَيْ عَادَ إِلَى اسْتِحْلَالِ الرِّبَا وَذَلِكَ نِفَاقٌ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ التَّعَامُلِ بِالرِّبَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلَ عَدَمَ إِقْلَاعِهِمْ عَنْهُ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ إِيمَانِهِمْ، فَالْخُلُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَوْدُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى وَالْخُلُودُ طُولُ الْمُكْثِ كَقَوْلِ لَبِيدٍ: فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا وَكَيْفَ سُؤَالُنَا ... صُمًّا خَوَالِدَ مَا يَبِينُ كَلَامُهَا وَمِنْهُ: خَلَّدَ اللَّهُ مُلْكَ فُلَانٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 276]

وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هاته الْآيَةِ وَنَحْوِهَا الْخَوَارِجُ الْقَائِلُونَ بِتَكْفِيرِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ كَمَا تَمَسَّكُوا بِنَظَائِرِهَا. وَغَفُلُوا عَنْ تَغْلِيظِ وَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ إِذِ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَرِيبٌ عَهْدُهُمْ بِكَفْرٍ. وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْكتاب وَالسّنة. [276] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 276] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ سُوءِ عَاقِبَةِ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ بُيِّنَتْ عَاقِبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِتَوَقُّعِ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ بِمَوْعِظَةِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ اسْتِطْرَادٌ لِبَيَانِ عَاقِبَةِ الصَّدَقَةِ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا بِبَيَانِ أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَفُوزُ بِالْخَيْرِ فِي الدَّارَيْنِ كَمَا بَاءَ الْمُرَابِي بِالشَّرِّ فِيهِمَا، فَهَذَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ دُنْيَوِيَّانِ. وَالْمَحْقُ هُوَ كَالْمَحْوِ: بِمَعْنَى إِزَالَةِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ مُحَاقٌ الْقَمَرِ ذَهَابُ نُورِهِ لَيْلَةَ السِّرَارِ. وَمَعْنَى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَنَّهُ يُتْلِفُ مَا حَصَلَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أَيْ يُضَاعِفُ ثَوَابَهَا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ إِلَّا بِمَعْنَى زِيَادَةِ ثَوَابِهَا، وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طيبا تلقاها الرحمان بِيَمِينِهِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَيُرْبِيهَا لَهُ كَمَا يُرْبِي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ» . وَلَمَّا جُعِلَ الْمَحْقُ بِالرِّبَا وَجُعِلَ الْإِرْبَاءُ بِالصَّدَقَاتِ كَانَتِ الْمُقَابَلَةُ مُؤْذِنَةً بِحَذْفِ مُقَابِلَيْنِ آخَرَيْنِ، وَالْمَعْنَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَيُبَارِكُ لِصَاحِبِهَا، عَلَى طَرِيقَةِ الِاحْتِبَاكِ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الرِّبَا. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الِاعْتِرَاضِ أَلَّا يَخْلُوَ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِيَاقِ الْكَلَامِ، كَانَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ مُؤْذِنًا بِأَنَّ الرِّبَا مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوهُ فَقَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَكَانَ هَذَا تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُرَابِيَ مُتَّسِمٌ بِخِلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَمُفَادُ التَّرْكِيبِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَحَدًا مِنَ الْكَافِرِينَ الْآثِمِينَ لِأَنَّ (كُلَّ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَلَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى

صُبْرَةٍ مَجْمُوعَةٍ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْكُلِّ الْجَمِيعِيِّ، وَأَمَّا الْكُلُّ الْمَجْمُوعِيُّ فَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ إِلَّا مَجَازًا. فَإِذَا أُضِيفَتْ (كُلُّ) إِلَى اسْمٍ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ وَفِي النَّفْيِ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ عَلَى (كُلُّ) كَانَ الْمَعْنَى عُمُومَ النَّفْيِ لِسَائِرِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّ النَّفْيَ كَيْفِيَّةٌ تَعَرِضُ لِلْجُمْلَةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَكَيَّفُ بِالسَّلْبِ عِوَضًا عَنْ تَكَيُّفِهِ بِالْإِيجَابِ، فَإِذَا قُلْتَ كُلُّ الدِّيَارِ مَا دَخَلْتُهُ، أَوْ لَمْ أَدْخُلْ كُلَّ دَارٍ، أَوْ كُلَّ دَارٍ لَمْ أَدْخُلْ، أَفَادَ ذَلِكَ نَفْيَ دُخُولِكَ أَيَّةَ دَارٍ مِنَ الدِّيَارِ، كَمَا أَنَّ مُفَادَهُ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ ثُبُوتُ دُخُولِكَ كُلَّ دَارٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ لِلَفْظِ كُلُّ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ النَّصْبَ لَا يُفْسِدْ مَعْنًى وَلَا يُخِلُّ بِمِيزَانٍ. وَلَا تَخْرُجُ (كُلُّ) عَنْ إِفَادَةِ الْعُمُومِ إِلَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي خَبَرٍ يُرِيدُ بِهِ إِبْطَالَ خَبَرٍ وَقَعَتْ فِيهِ (كُلُّ) صَرِيحًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: كُلُّ الْفُقَهَاءِ يُحَرِّمُ أَكْلَ لُحُومِ السِّبَاعِ، فَتَقُولُ لَهُ: مَا كُلُّ الْعُلَمَاءِ يُحَرِّمُ لُحُومَ السِّبَاعِ، فَأَنْتَ تُرِيدُ إِبْطَالَ الْكُلِّيَّةِ فَيَبْقَى الْبَعْضُ، وَكَذَلِكَ فِي رَدِّ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُخْطِئَةِ كَقَوْلِ الْمَثَلِ: «مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً» ، فَإِنَّهُ لِرَدِّ اعْتِقَادِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ: وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً وَقَدْ نَظَرَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر الْجُرْجَانِيُّ إِلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْأَخِيرِ فَطَرَدَهُ فِي اسْتِعْمَالِ (كُلُّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ بَعْدَ أَدَاةِ النَّفْيِ وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَجَزَ أَبِي النَّجْمِ يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِ رَفْعِ (كُلُّ) وَنَصْبِهِ فِي قَوْلِهِ «كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ» . وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ تَعَقُّبًا مُجْمَلًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ أَغْلَبِيٌّ، وَأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّفَ فِي مَوَاضِعَ. وَقَفَّيْتُ أَنَا عَلَى أَثَرِ التَّفْتَازَانِيِّ فَبَيَّنْتُ فِي تَعْلِيقِي «الْإِيجَازُ عَلَى دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ» أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْعَكْسُ وَحَاصِلُهُ مَا ذكرت هُنَا.

[سورة البقرة (2) : آية 277]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 277] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِمُقَابَلَةِ الذَّمِّ بِالْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرَتِهَا قَرِيبًا. وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ الصِّفَاتِ الْمُقَابِلَةَ لهاته الصِّفَات صفت غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُنَاسَبَةُ تَزْدَادُ ظُهُورًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الزَّكاةَ. [278، 279] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 278 إِلَى 279] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِفْضَاءٌ إِلَى التَّشْرِيعِ بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ أَمَامَهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ مَا هَيَّأَ النُّفُوسَ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [الْبَقَرَة: 275] مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: 275] فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ تَشْرِيعٌ وَقَعَ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِتَشْرِيعٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ وَلِذَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ الصَّرِيحِ الْمَقْصُودِ، وَمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ وَصْفٌ لِحَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَأُمِرُوا بِتَقْوَى اللَّهِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ الرِّبَا لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ هِيَ أَصْلُ الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرِّبَا مِنْ جُمْلَتِهَا. فَهُوَ كَالْأَمْرِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ. وَمَعْنَى وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا الْآيَةَ اتْرُكُوا مَا بَقِيَ فِي ذِمَمِ الَّذِينَ عَامَلْتُمُوهُمْ بِالرِّبَا، فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: «فَلَهُ مَا سَلَفَ» ، فَكَانَ الَّذِي سَلَفَ قَبْضُهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَمَا لَمْ يُقْبَضْ مَأْمُورًا بِتَرْكِهِ.

قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خِطَابًا لِثَقِيفٍ- أَهْلِ الطَّائِفِ- إِذْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ حِصَارِ الطَّائِفِ عَلَى صُلْحٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ- الَّذِي أَوْلَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ- بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ مُعَامَلَاتٌ بِالرِّبَا مَعَ قُرَيْشٍ، فَاشْتَرَطَتْ ثَقِيفٌ قَبْلَ النُّزُولِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ كُلَّ رِبًا لَهُمْ عَلَى النَّاسِ يَأْخُذُونَهُ، وَكُلَّ رِبًا عَلَيْهِمْ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ شَرْطَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابًا لَهُمْ- وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ- فَقَالُوا: لَا يَدَيْ لَنَا (¬1) بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذْ مَعْنَاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ، وَانْدَفَعَتْ إِشْكَالَاتٌ عَرَضَتْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَعْنِي إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِالشَّرْطِ فَقَدِ انْتَقَضَ الصُّلْحُ بَيْنَنَا، فَاعْلَمُوا أَنَّ الْحَرْبَ عَادَتْ جَذَعَةً، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» . وَتَنْكِيرُ حَرْبٍ لِقَصْدِ تَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ عَدَلَ عَنْ إِضَافَةِ الْحَرْبِ إِلَى اللَّهِ وَجِيءَ عِوَضًا عَنْهَا بِمَنْ وَنُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا بِإِذْنِهِ عَلَى سَبِيلِ مَجَازِ الْإِسْنَادِ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ وَالْمُبَاشِرُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَهُوَ مِنْ تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ قَبِلَ مِنْ ثَقِيفٍ النُّزُولَ عَلَى اقْتِضَاءِ مَا لَهُمْ مِنَ الرِّبَا عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الصُّلْحَ مَعَ ثَقِيفٍ عَلَى دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ تَمْكِينِهِمْ مِمَّا لَهُمْ قِبَلَ قُرَيْشٍ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا الثَّابِتَةِ فِي ذِمَمِهِمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ مَصْلَحَةً، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ مَا سَبَقَ التَّشْرِيعَ لَا يُنْقَضُ كَتَقْرِيرِ أَنْكِحَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يُقِرُّهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالِانْكِفَافِ عَنْ قَبْضِ مَالِ الرِّبَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ عَلَى خِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدُوهُ. ¬

(¬1) أَي لَا قدرَة لنا. فاليدان مجَاز فِي الْقُدْرَة لِأَنَّهُمَا آلتها، وَأَصله: لَا يدين لنا، فعاملوا الْمَجْرُور بِاللَّامِ مُعَاملَة الْمُضَاف إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلهم: لَا أَبَا لَهُ، بِإِثْبَات ألف أَبَا، قَالَه ابْن الْحَاجِب. وَقَالَ غَيره: اللَّام مقحمة بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 280]

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ فَوَاتَ التَّدَارُكِ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ قَبْلَهَا «فَلَهُ مَا سَلَفَ» وَجَاءَ هُنَا وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ تَقْتَضِي نَقْضَهَا، وَانْتِقَالَ الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ، وَالْفَوَاتَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَالرُّجُوعَ بهَا إِلَى رُؤُوس الْأَمْوَالِ أَوْ إِلَى الْقِيَمِ إِنْ فَاتَتْ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ مِنْ رَأس المَال. ورؤوس الْأَمْوَالِ أُصُولُهَا، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الرَّأْسِ عَلَى الْأَصْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ» . وَمَعْنَى لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ لَا تَأْخُذُونَ مَالَ الْغَيْرِ وَلَا يَأْخُذُ غَيْرُكُمْ أَمْوَالَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأْذَنُوا- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ الذَّالِ- أَمْرًا مِنْ أَذِنَ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَخَلَفٌ فَآذِنُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَبِذَالٍ مَكْسُورَةٍ- أَمْرًا مِنْ آذَنَ بِكَذَا إِذَا أَعْلَمَ بِهِ أَيْ فَآذِنُوا أَنْفُسَكُمْ وَمن حَوْلكُمْ. [280] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 280] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) عَطْفٌ عَلَى قَوْله: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَسْتَرْجِعُونَهَا مُعَجَّلَةً، إِذِ الْعُقُودُ قَدْ فُسِخَتْ. فَعَطَفَ عَلَيْهِ حَالَةً أُخْرَى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ حَالَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَفْهُومَةٌ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَدُلُّ عَلَى التَّسَبُّبِ، وَالْأَصْلُ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى وَإِنْ حَصَلَ ذُو عُسْرَةٍ، أَيْ غَرِيمٌ مُعْسِرٌ. وَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَى أَنْ (ذُو) تُضَافُ لِغَيْرِ مَا يُفِيدُ شَيْئًا شَرِيفًا. وَالنَّظِرَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- الِانْتِظَارُ.

وَالْمَيْسُرَةُ- بِضَمِّ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَبِفَتْحِهَا فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ- اسْمٌ لِلْيُسْرِ وَهُوَ ضِدُّ الْعُسْرِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهِيَ مَفْعُلَةٌ كَمَشْرُقَةٍ وَمَشْرُبَةٍ وَمَأْلُكَةٍ وَمَقْدُرَةٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَمَفْعَلَةٌ بِالْفَتْحِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ فَنَظِرَةٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَنَظِرَةٌ لَهُ. وَالصِّيغَةُ طَلَبٌ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ. فَإِن أُرِيد بالعسرة الْعَدَمُ أَيْ نَفَادُ مَالِهِ كُلِّهِ فَالطَّلَبُ لِلْوُجُوبِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْطَالُ حُكْمِ بَيْعِ الْمُعْسِرِ وَاسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ حُكْمٌ قَدِيمٌ فِي الْأُمَمِ كَانَ مِنْ حُكْمِ الْمِصْرِيِّينَ، فَفِي الْقُرْآنِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يُوسُف: 76] . وَكَانَ فِي شَرِيعَةِ الرُّومَانِ اسْتِرْقَاقُ الْمَدِينِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَثْبُتْ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعُسْرَةِ ضِيقُ الْحَالِ وَإِضْرَارُ الْمَدِينِ بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ فَالطَّلَبُ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، فَمَنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يُنْظِرْهُ وَلَوْ بِبَيْعِ جَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَالْإِنْظَارُ مَعْرُوفٌ وَالْمَعْرُوفُ لَا يَجِبُ. غَيْرَ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ بِقُرْطُبَةَ كَانُوا لَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ الدَّفْعِ، وَيُؤَجِّلُونَهُ بِالِاجْتِهَادِ لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ بِتَعْجِيلِ بَيْعِ مَا بِهِ الْخَلَاصُ. وَمَوْرِدُ الْآيَةِ عَلَى دُيُونِ مُعَامَلَاتِ الرِّبَا، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَمَّمُوهَا فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا خُصُوصَ السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ حُكْمَ الرِّبَا صَارَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا بَحْتًا، فَمَا عُيِّنَ لَهُ مِنْ طَلَبِ الْإِنْظَارِ فِي الْآيَةِ حُكْمٌ ثَابِتٌ لِلدَّيْنِ كُلِّهِ. وَخَالَفَ شُرَيْحٌ فَخَصَّ الْآيَةَ بِالدُّيُونِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى رِبًا ثُمَّ أُبْطِلَ رِبَاهَا. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ أَنَّ إِسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنِ الْمُعْسِرِ وَالتَّنْفِيسَ عَلَيْهِ بِإِغْنَائِهِ أَفْضَلُ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ صَدَقَةً لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيجَ الْكَرْبِ وَإِغَاثَةَ الْمَلْهُوفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعَشَرَةِ تَصَدَّقُوا- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَصَدَّقُوا فَقُلَبَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ صَادًا لِتَقَارُبِهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِي الصَّاد، وقرأه عَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ للتَّخْفِيف.

[سورة البقرة (2) : آية 281]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 281] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) جِيءَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً تَذْيِيلًا لِهَاتِهِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّرْهِيبِ مِنِ ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُدِبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ سَلَامَةً مِنْ آثَامِهَا، وَفِي فِعْلِ الْمَطْلُوبَاتِ اسْتِكْثَارًا مِنْ ثَوَابِهَا، وَالْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى اتِّقَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تُطْلَبُ فِيهِ السَّلَامَةُ وَكَثْرَةُ أَسْبَابِ النَّجَاحِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: «يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ» . وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بَعْدَ نُزُولِهَا وَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ تِسْعَةً، وَقِيلَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ هِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَقْصَى الْأَقْوَالَ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. [282] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 282] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) لَمَّا اهْتَمَّ الْقُرْآنُ بِنِظَامِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ فَابْتَدَأَ بِمَا بِهِ قِوَامُ عَامَّتِهِمْ مِنْ مُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَوَضُحَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ

التَّحْذِيرَ مِنْ مُضَايَقَةِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْمُوَاسَاةِ مُضَايَقَةَ الرِّبَا مَعَ مَا فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، ثَلَّثَ بِبَيَانِ التَّوَثُّقَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنَ الْإِشْهَادِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الرَّهْنُ وَالِائْتِمَانُ. وَإِنَّ تَحْدِيدَ التَّوَثُّقِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ بَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ تَكْثِيرُ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَدَوْرَانِ دُولَابِ التَّمَوُّلِ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ ظَاهِرَةٌ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى غُرَمَاءَ أَهْلِ الرِّبَا. وَالتَّدَايُنُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَاتِ لِأَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى تَنْمِيَةِ الْمَالِ قَدْ يَعُوزُهُ الْمَالُ فَيَضْطَرُّ إِلَى التَّدَايُنِ لِيُظْهِرَ مَوَاهِبَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الزِّرَاعَةِ، وَلِأَنَّ الْمُتَرَفِّهَ قَدْ يَنْضُبُ الْمَالُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَهُ قِبَلٌ بِهِ بَعْدَ حِينٍ، فَإِذَا لَمْ يَتَدَايَنِ اخْتَلَّ نِظَامُ مَالِهِ، فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ بَقَاءَ التَّدَايُنِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ كَيْلَا يَظُنُّوا أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا وَالرُّجُوعَ بالمتعاملين إِلَى رُؤُوس أَمْوَالِهِمْ إِبْطَالٌ لِلتَّدَايُنِ كُلِّهِ. وَأَفَادَ ذَلِكَ التَّشْرِيعَ بِوَضْعِهِ فِي تَشْرِيعٍ آخَرَ مُكَمِّلٍ لَهُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ لَهُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ لِمَجْمُوعِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ خُصُوصُ الْمُتَدَايِنِينَ، وَالْأَخَصُّ بِالْخِطَابِ هُوَ الْمَدِينُ لِأَنَّ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ دَائِنَهُ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ عَلَى مَالِهِ. فَعَلَى الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَطْلُبَ الْكِتَابَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهَا الدَّائِنُ، وَيُؤْخَذْ هَذَا مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَنْ مُوسَى وَشُعَيْبٍ، إِذِ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبٌ مُوسَى. فَلَمَّا تَرَاوَضَا عَلَى الْإِجَارَةِ وَتَعْيِينِ أَجَلِهَا قَالَ مُوسَى: «وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» ، فَذَلِكَ إِشْهَادٌ عَلَى نَفْسِهِ لِمُؤَاجِرِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُ شُعَيْبٌ ذَلِكَ. وَالتَّدَايُنُ تَفَاعَلٌ، وَأُطْلِقَ هُنَا- مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ صَادِرٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جِهَةُ الْمُسَلِّفِ- لأنّك تَقول ادّان مِنْهُ فَدَانَهُ، فَالْمُفَاعَلَةُ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ هم مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ لِأَنَّ فِي الْمَجْمُوعِ دَائِنًا وَمَدِينًا، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَانِبَيْنِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُفَاعَلَةَ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا كَمَا تَقُولُ تَدَايَنْتُ مِنْ زِيدٍ. وَزِيَادَةُ قَيْدِ بِدَيْنٍ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْإِطْنَابِ، كَمَا يَقُولُونَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلَمْسَتُهُ بِيَدِي، وَإِمَّا لِيَكُونَ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاكْتُبُوهُ، وَلَوْلَا ذِكْرُهُ لَقَالَ فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ فَلَمْ يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الْحَسَنَ، وَلِأَنَّهُ أَبْيَنُ لِتَنْوِيعِ الدَّيْنِ إِلَى مُؤَجَّلٍ وَحَالٍّ، قَالَهُ فِي «الْكَشَّافِ» .

وَقَالَ الطِّيبِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْفَرَائِدِ: يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ اسْتِعْمَالُ التَّدَايُنِ مَجَازًا فِي الْوَعْدِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا فَذَكَرَ قَوْلَهُ «بِدَيْنٍ» دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الْمَجَازِ. وَالدَّيْنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِوَضُ الْمُؤَخَّرُ قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً ... وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ وَقَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى طَلَبُ تَعْيِينِ الْآجَالِ لِلدُّيُونِ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الْخُصُومَاتِ وَالتَّدَاعِي فِي الْمُرَادَاتِ، فَأُدْمِجَ تَشْرِيعُ التَّأْجِيلِ فِي أَثْنَاءِ تَشْرِيعِ التَّسْجِيلِ. وَالْأَجَلُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَحْدُودَةُ النِّهَايَةِ مَجْعُولَةٌ ظَرْفًا لِعَمَلٍ غَيْرِ مَطْلُوبٍ فِيهِ الْمُبَادَرَةُ، لِرَغْبَةِ تَمَامِ ذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا. وَالْأَجَلُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَالْمَصْدَرُ التَّأْجِيلُ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْأَجَلِ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّوْسِعَةِ فِي الْعَمَلِ أُطْلِقَ الْأَجَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [الْبَقَرَة: 234] وَقَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَة: 235] . وَالْمُسَمَّى حَقِيقَتُهُ الْمُمَيَّزُ بِاسْمٍ يُمَيِّزُهُ عَمَّا يُشَابِهُهُ فِي جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ، فَمِنْهُ أَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، وَالْمُسَمَّى هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُعَيَّنِ الْمَحْدُودِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ تَحْدِيدُهُ بِنِهَايَةٍ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَ النَّاسِ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالتَّحْدِيدِ بِوَضْعِ الِاسْمِ بِجَامِعِ التَّعْيِينِ إِذْ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْ أَمْثَالِهِ إِلَّا بِذَلِكَ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّسْمِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى. فَالْمَعْنَى أَجَلٌ مُعَيَّنٌ بِنِهَايَتِهِ. وَالدَّيْنُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ وصف أجل بمسمّى إِدْمَاجًا لِلْأَمْرِ بِتَعْيِينِ الْأَجَلِ. وَقَوْلُهُ: بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعُمُّ كُلَّ دَيْنٍ: مِنْ قَرْضٍ أَوْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ- يَعْنِي بَيْعَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ إِذَا كَانَ ذَا ذِمَّةٍ إِلَى أَجَلٍ- وَكَانَ السَّلَمُ مِنْ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ.

وَالْأَمْرُ فِي «فَاكْتُبُوهُ» قِيلَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْبَقَرَة: 283] تَكْمِيلًا لِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ قَول دَاوُود، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ الْآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ قَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْبَقَرَة: 283] تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ أَزْمِنَةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَمر للتكرار، لَا سِيمَا مَعَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وَسَمَّاهُ الْأَقْدَمُونَ فِي عِبَارَاتِهِمْ نَسْخًا. وَالْقَصْدُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ التَّوَثُّقُ لِلْحُقُوقِ وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْخُصُومَاتِ، وَتَنْظِيمُ مُعَامَلَاتِ الْأُمَّةِ، وَإِمْكَانُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ، وَقَدْ تَأَكَّدَ بِهَذِهِ الْمُؤَكِّدَاتِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الْآيَةَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الِائْتِمَانِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنَ كَمَا سَيَأْتِي- فَإِنَّ حَالَةَ الِائْتِمَانِ حَالَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ تَطَرُّقِ التَّنَاكُرِ وَالْخِصَامِ- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْأُمَّةِ قَطْعَ أَسْبَابِ التَّهَارُجِ وَالْفَوْضَى فَأوجب عَلَيْهِم التوثّق فِي مَقَامَاتِ الْمُشَاحَنَةِ، لِئَلَّا يَتَسَاهَلُوا ابْتِدَاءً ثُمَّ يُفْضُوا إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي الْوُجُوبِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنِ الدَّائِنِ إِذَا طَلَبَ مِنْ مَدِينِهِ الْكَتْبَ حَتَّى لَا يَعُدَّ الْمَدِينُ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ فِي الْقَوَانِينِ مَعْذِرَةً لِلْمُتَعَامِلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «الصَّحِيحُ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ لِلْمَرْءَ أَنْ يَهَبَ هَذَا الْحَقَّ وَيَتْرُكَهُ بِإِجْمَاعٍ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ لِلِاحْتِيَاطِ» . وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ يَرُوجُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَلَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مَقَامَ التَّوَثُّقِ غَيْرُ مُقَامِ التَّبَرُّعِ. وَمَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَنْبِيهُ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ حَتَّى لَا يَتَسَاهَلُوا ثُمَّ يَنْدَمُوا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِبْطَالَ ائْتِمَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، كَمَا أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا دَفْعَ مُوجِدَةِ الْغَرِيمِ مِنْ تَوَثُّقِ دَائِنِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَقَاصِدِهَا قَطْعُ أَسْبَابِ الْخِصَامِ. وَقَوْلُهُ: فَاكْتُبُوهُ يَشْمَلُ حَالَتَيْنِ: الْأُولَى حَالَةُ كِتَابَةِ الْمُتَدَايِنَيْنِ بِخَطَّيْهِمَا أَوْ خَطِّ أَحَدِهِمَا وَيُسَلِّمُهُ لِلْآخَرِ إِذَا كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ مَعًا، لِأَنَّ جَهْلَ أَحَدِهِمَا بِهَا يَنْفِي ثِقَتَهُ بِكِتَابَةِ الْآخَرِ.

وَالثَّانِيَةُ حَالَةُ كِتَابَةِ ثَالِثٍ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا. فَيَكْتُبُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ وَيُسَلِّمُهُ بِيَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ إِذَا كَانَا لَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَهَذِهِ غَالِبُ أَحْوَالِ الْعَرَبِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. فَكَانَتِ الْأُمِّيَّةُ بَيْنَهُمْ فَاشِيَّةً، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْأَنْبَارِ وَالْحِيرَةِ وَبَعْضِ جِهَاتِ الْيَمَنِ وَفِيمَنْ يَتَعَلَّمُهَا قَلِيلًا مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِأَنْ يُوَسِّطُوا كَاتِبًا يَكْتُبُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ غَالِبَ حَالِهِمْ جَهْلُ الْكِتَابَةِ. فِعْلُ الْأَمْرِ بِهِ إِلَى الْكَاتِبِ مُبَالَغَةٌ فِي أَمْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ بِالِاسْتِكْتَابِ. وَالْعَرَبُ تَعْمِدُ إِلَى الْمَقْصُودِ فَتُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ مُبَالَغَةً فِي حُصُولِهِ كَقَوْلِهِمْ فِي الْأَمْرِ لِيَكُنْ وَلَدُكَ مُهَذَّبًا، وَفِي النَّهْيِ لَا تَنْسَ مَا أَوْصَيْتُكَ، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا. فَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ الطَّلَبِ هُوَ ظَرْفُ بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا لِلْكَاتِبِ، وَأَمَّا أَمْرُ الْكَاتِبِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ. وَقَوْلُهُ: بِالْعَدْلِ أَيْ بِالْحَقِّ، وَلَيْسَ الْعَدْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدَالَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الشَّاهِدُ فَيُقَالُ رَجُلٌ عَدْلٌ لِأَنَّ وُجُودَ الْبَاءِ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ الْآتِي: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. وَلِذَلِكَ قَصَرَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: فَاكْتُبُوهُ عَلَى أَنْ يَكْتُبَهُ كَاتِبٌ غَيْرُ الْمُتَدَايِنَيْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، فَإِنَّهُ كَالْبَيَانِ لِكَيْفِيَّةِ فَاكْتُبُوهُ، عَلَى أَنَّ كِتَابَةَ الْمُتَعَاقِدَيْنَ إِنْ كَانَا يُحْسِنَانِهَا تُؤْخَذُ بِلَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ حُجَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِصِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْخَطِّ، فَإِنَّ اسْتِكْتَابَ الْكَاتِبِ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِقِرَاءَةِ خَطِّهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ نَهْيٌ لِمَنْ تُطْلَبُ مِنْهُ الْكِتَابَةُ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنْهَا إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا، فَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ حُكْمًا مُوَجَّهًا لِلْمُتَدَايِنَيْنِ. وَهَذَا النَّهْيُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي مُقْتَضَاهُ فَقِيلَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَالَّذِي يُدْعَى لِأَنْ يَكْتُبَ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ. وَعَلَيْهِ فَالْإِجَابَةُ لِلْكِتَابَةِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ

وَالطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ إِلَّا كَاتِبٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى دِيَانَتِهِمْ لأنّهم إِذا تمالؤوا عَلَى الِامْتِنَاعِ أَثِمُوا جَمِيعًا، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَانِ الْمُتَدَايِنَيْنِ، وَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ طَالِبِ التَّوَثُّقِ أَحَدَهُمْ لَكَانَ وَجِيهًا، وَالْأَحَقُّ بِطَلَبِ التَّوَثُّقِ هُوَ الْمُسْتَقْرِضُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْحُضُورَ لِلْكِتَابَةِ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْإِضْرَارِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ نَادِرَةٍ كَبُعْدِ مَكَانِ الْمُتَدَايِنَيْنِ مِنْ مَكَانِ الْكَاتِبِ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى- بَعْدَ هَذَا- فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [الْبَقَرَة: 283] وَسَيَأْتِي لَنَا إِبْطَالُ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِ الْأَجْرِ عَلَى الْكِتَابَةِ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَالْأَجْرُ جَائِزٌ. وَيُلْحَقُ بِالتَّدَايُنِ جَمِيعُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا التَّوَثُّقُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وَقَوْلُهُ: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أَيْ كِتَابَةً تُشَابِهُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُشَابَهَةِ الْمُطَابقَة لَا المقاربة، فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ [الْبَقَرَة: 137] ، فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ. وَمَعْنَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يُجْحِفُ أَوْ يُوَارِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ مَا عَلَّمَ إِلَّا الْحَقَّ وَهُوَ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ النَّاسُ عَنْهُ بِالْهَوَى فَيُبَدِّلُونَ وَيُغَيِّرُونَ وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ بِالَّذِي عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ» . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِمُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِمُكَافِئِهِ وَالْعِوَضِ بِمُعَوِّضِهِ، أَيْ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَةً تُكَافِئُ تَعْلِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ الْكِتَابَةَ، بِأَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ بِهَا شُكْرًا عَلَى تَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ

أَسْبَابَ عِلْمِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الشُّكْرُ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا فِيهِ حِفْظُ الْحَقِّ وَلَا يُقَصِّرُ وَلَا يُدَلِّسُ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّشْبِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَص: 77] وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] . وَالْكَافُ عَلَى هَذَا إِمَّا نَائِبَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ بِهِ مَحْذُوفٍ عَلَى تَأْوِيلِ مَصْدَرِ فِعْلِ أَنْ يَكْتُبَ بِالْمَكْتُوبِ، وَ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَعْلِيقَهُ بِقَوْلِهِ فَلْيَكْتُبْ فَهُوَ وَجْهٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: فَلْيَكْتُبْ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَتَكْرِيرٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، فَهُوَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدَ النَّهْيِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أُعِيدَ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِبُعْدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِمَا وَلِيَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوهُ [الْأَعْرَاف: 148] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً [الْأَعْرَاف: 148] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمَلَّ وَأَمْلَى لُغَتَانِ: فَالْأُولَى لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَقَالَ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفرْقَان: 5] ، قَالُوا وَالْأَصْلُ هُوَ أَمْلَلَ ثُمَّ أُبْدِلَتِ اللَّامُ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ أَيْ عَكْسُ مَا فَعَلُوا فِي قَوْلِهِمْ تَقَضَّى الْبَازِيُّ إِذْ أَصْلُهُ تَقَضَّضَ. وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أَنْ يُلْقِيَ كَلَامًا عَلَى سَامِعِهِ لِيَكْتُبَهُ عَنْهُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ فِي «اللّسان» و «الْقَامُوس» . وَهُوَ مَقْصُور فِي التَّفْسِيرِ أَحْسَبُ أَنَّهُ نَشَأَ عَنْ حَصْرِ نَظَرِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَارِدَةِ فِي غَرَضِ الْكِتَابَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [5] : فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تَشْهَدُ بِأَنَّ الْإِمْلَاءَ وَالْإِمْلَالَ يَكُونَانِ لِغَرَضِ الْكِتَابَةِ وَلِغَرَضِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ كَمَا فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ، وَلِغَرَضِ الْحِفْظِ كَمَا يُقَالُ مَلَّ الْمُؤَدِّبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِلْحِفْظِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ تَحْفِيظِ الْعُمْيَانِ. فَتَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُفَسَّرَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ بِإِلْقَاءِ كَلَامٍ لِيُكْتَبَ عَنْهُ أَوْ لِيُرْوَى أَوْ لِيُحْفَظَ، وَالْحق هُنَا مَا حَقَّ أَيْ ثَبَتَ لِلدَّائِنِ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ عِبْرَةٌ لِلشُّهُودِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِ الْحُبْسِ وَنَحْوِهِ مَا لَمْ يُمْلِلْهُ عَلَيْهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ إِلَى الشَّاهِدِ الْإِحَاطَةَ بِمَا فِيهِ تَوَثُّقُهُ لِحَقِّهِ أَوْ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ عَلَى السَّدَارَةِ.

وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَتَّقِ، وَقَوْلِهِ: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ، أَيْ لَا يُنْقِصْ رَبَّ الدَّيْنِ شَيْئًا حِينَ الْإِمْلَاءِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ عَلَى هَذَا أَمْرٌ لِلْمَدِينِ بِأَنْ يُقِرَّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَغْبِنَ الدَّائِنَ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ بِهَذِهِ الْوِصَايَةِ فَلَوْ أَخْفَى الْمَدِينُ شَيْئًا أَوْ غَبَنَ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَبُّ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يَحْضُرُهَا كِلَاهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ إِلَى كاتِبٌ بِقَرِينَةِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالْكَاتِبِ فَإِنَّهُ الَّذِي قَدْ يَغْفُلُ عَنْ بَعْضِ مَا وَقَعَ إِمْلَاؤُهُ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ حَقٌّ لِكِلَا الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَإِذَا بَخَسَ مِنْهُ شَيْئًا أَضَرَّ بِأَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَالْبَخْسُ فَسَرَّهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِالنَّقْصِ وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ، فَهُوَ نَقْصٌ بِإِخْفَاءٍ. وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إِلَى مَعْنَاهُ الْغَبْنُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: «الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ، أَوِ الْمُخَادَعَةُ عَنِ الْقِيمَةِ، أَوِ الِاحْتِيَالُ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ أَوِ النُّقْصَانُ مِنْهُ» أَيْ عَنْ غَفلَة من صَاحِبِ الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ الشَّاهِدُ أَوِ الْمَدِينُ أَوِ الدَّائِنُ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ [الْأَعْرَاف: 85] . وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً السَّفِيهُ هُوَ مُخْتَلُّ الْعَقْلِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: 142] . وَالضَّعِيفُ الصَّغِيرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ [الْبَقَرَة: 266] . وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْعَاجِزُ كَمَنْ بِهِ بَكَمٌ وَعَمًى وَصَمَمٌ جَمِيعًا. وَوَجْهُ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ يُمِلَّ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ عَجْزَهُ يُسْقِطُ عَنْهُ وَاجِبَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِمَا يَسْتَدِينُهُ، وَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفِي صَدْرِهِ كُبَرَاءَ الْقَرَابَةِ. وَالْوَلِيُّ مَنْ لَهُ وَلَايَةٌ عَلَى السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَعُرَفَاءِ الْقَبِيلَةِ، وَفِي حَدِيثِ

وَفْدِ هَوَازِنَ: قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَرْفَعْ إِلَيَّ عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ» ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَفِي الْحُقُوقِ الْقِبْلِيَّةِ. وَمَعْنَى بِالْعَدْلِ أَيْ بِالْحَقِّ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَاضٍ إِذَا ظَهَرَ سَبَبُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ خَشْيَةَ التَّوَاطُؤِ عَلَى إِضَاعَةِ أَمْوَالِ الضُّعَفَاءِ. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى. عَطْفٌ عَلَى فَاكْتُبُوهُ، وَهُوَ غَيْرُهُ وَلَيْسَ بَيَانًا لَهُ إِذْ لَوْ كَانَ بَيَانًا لَمَا اقْتَرَنَ بِالْوَاوِ. فَالْمَأْمُورُ بِهِ المتداينون شيآن: الْكِتَابَةُ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكِتَابَةِ ضَبْطُ صِيغَةِ التَّعَاقُدِ وَشُرُوطِهِ وَتَذَكُّرُ ذَلِكَ خَشْيَةَ النِّسْيَانِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَمَّاهَا الْفُقَهَاءُ ذُكْرَ الْحَقِّ، وَتُسَمَّى عَقْدًا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ ... قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [الْبَقَرَة: 283] ، فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ فُقْدَانِ الْكَاتِبِ وَبَيْنَ الرَّهْنِ دَرَجَةً وَهِيَ الشَّهَادَةُ بِلَا كِتَابَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً [الْبَقَرَة: 283] صَارَ فِي مَعْنَى وَلَمْ تَجِدُوا شَهَادَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الْقُرْآنُ كَاتِبًا وَشَاهِدَيْنِ لِنُدْرَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْكِتَابَةِ وَأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ. وَاسْتَشْهِدُوا بِمَعْنَى أَشْهِدُوا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُمَا لِلطَّلَبِ أَيِ اطْلُبُوا شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالسَّعْيِ لِلْإِشْهَادِ وَهُوَ التَّكْلِيفُ الْمُتَعَلِّقُ بِصَاحِبِ الْحَقِّ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا تَكْلِيفًا لِمَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا أَلَّا يَمْتَنِعَ.

وَالشَّهَادَةُ حَقِيقَتُهَا الْحُضُورُ وَالْمُشَاهَدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا حُضُورٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُضُورٌ لِأَجْلِ الِاطِّلَاعِ عَلَى التَّدَايُنِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ مَعْرُوفٌ لِلشَّهَادَةِ عَلَى حُضُورٍ لِمُشَاهَدَةِ تَعَاقُدٍ بَيْنَ مُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِسَمَاعِ عَقْدٍ مِنْ عَاقِدٍ وَاحِدٍ مِثْلِ الطَّلَاقِ وَالْحُبْسِ. وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ صَاحِبُهُ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِقَصْدِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِمَنْ يَزْعُمُهُ، وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: 4] . وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ طَلَبَ الْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ الَّذِي فِي قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ وَقَدْ فَهِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ حُصُولُهُ. وَلِهَذَا أَمَرَ الْمُسْتَشْهَدَ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- بَعْدَ ذَلِكَ بِالِامْتِثَالِ فَقَالَ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ قِيلَ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَقِيلَ لِلنَّدْبِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَصَلَ بِهِ شَرْطَانِ: أَنَّهُمْ رِجَالٌ، وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَشْمَلُهُمُ الضَّمِيرُ. وَضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِقَوْلِهِ فِي طَالِعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ عَنِ الْإِحَاطَة بمواقع الْإِشْهَاد وَمَدَاخِلِ التُّهَمِ. وَالرَّجُلُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُفِيدُ وَصْفَ الذُّكُورَةِ فَخَرَجَتِ الْإِنَاثُ، وَيُفِيدُ الْبُلُوغَ فَخَرَجَ الصِّبْيَانُ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَفَادَ وَصْفَ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الْأُنْثَى فَيُذْكَرُ حُكْمُهَا بَعْدَ هَذَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يُوجِبُ التَّبَاعُدَ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمُعَاشَرَاتِ وَالْآدَابِ فَلَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِأَحْوَالِ الْعُدُولِ وَالْمُرْتَابِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، كَيْفَ وَقَدِ اشْتُرِطَ فِي تَزْكِيَةِ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ غَالِبِ أَهْلِ الْمِلَلِ اسْتِخْفَافُ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ بِحُقُوقِ مُخَالِفِهِ، وَذَلِكَ مِنْ تَخْلِيطِ الْحُقُوقِ وَالْجَهْلِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ. فَإِنَّ الْأَدْيَانَ السَّالِفَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاحْتِرَامِ حُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ، فَتَوَهَّمَ أَتْبَاعُهُمْ دَحْضَهَا. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ

عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» . وَهَذِهِ نُصُوصُ التَّوْرَاةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ تَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ أَوْ تَأْمُرُ بِأَشْيَاءَ وَتَخُصُّهَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتُسَوِّغُ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ مَعَ الْغَرِيبِ، وَلَمْ نَرَ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ التَّصْرِيحَ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْحُقُوقِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ نَعْتَدُّ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْمُسْلِمِينَ مَارِقِينَ عَنْ دِينِ الْحَقِّ مُنَاوِئِينَ لَهُمْ، وَيَرْمُونَ بِذَلِكَ نَبِيئَهُمْ فَمَنْ دُونَهُ، فَمَاذَا يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَابِعَةٌ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. عَلَى أَنَّ تَجَافِيَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَمْرٌ كَانَ كَالْجِبِلِّيِّ فَهَذَا الْإِسْلَامُ مَعَ أَمْرِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَدْلِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا نَرَى مِنْهُمُ امْتِثَالًا فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فِي شَأْنِهِمْ. وَفِي الْقُرْآنِ إِيمَاءٌ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» . وَفِي «الْبُخَارِيِّ» ، فِي حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ ذَهَبُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا بِهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، فَقَالوُا لِلَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمُ الْقَتِيلُ أَنْتُمْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَوْا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ» ، قَالُوا: «مَا لَنَا بَيِّنَةٌ» ، قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا» ، قَالُوا: «مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ ثُمَّ يَحْلِفُونَ» ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ وَوَدَاهُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. فَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ الْأَنْصَارِ فِي الْيَهُودِ: إِنَّهُمْ مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُوا كُلَّ الْقَوْمِ ثُمَّ يَحْلِفُونَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اعْتَدَّتِ الشَّرِيعَةُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ، قُلْتُ: اعْتَدَّتْ بِهَا لِأَنَّهَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي دَفْعِ الدَّعْوَى، فَرَأَتْهَا الشَّرِيعَةُ خَيْرًا مِنْ إِهْمَالِ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا. وَلِأَجْلِ هَذَا اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَشُرَيْحٌ بِقَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَقَضَى بِهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مُدَّةَ قَضَائِهِ فِي الْكُوفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ غير الْمُسلمين على الْمُسْلِمِينَ وَرَأَوْا أَنَّ مَا فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخٌ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ فَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ

إِلَى انْتِفَاءِ تُهْمَةِ تَسَاهُلِهِمْ بِحُقُوق الْمُسلمين، وَخَالفهُ الْجُمْهُورُ، وَالْوَجْهُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ مَعْرِفَةُ أَمَانَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَصِدْقِ أَخْبَارِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ قَبُولُ شَهَادَةِ الْعَبْدِ الْعَدْلِ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمُرَادُ الْأَحْرَارُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَبِيدِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ بِالْعُرْفِ وَبِالْقِيَاسِ، أَمَّا الْعُرْفُ فَلِأَنَّ غَالِبَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الرَّجُلِ وَالرِّجَالِ أَلَّا يَرِدَ مُطْلَقًا إِلَّا مُرَادًا بِهِ الْأَحْرَارُ، يَقُولُونَ: رِجَالُ الْقَبِيلَةِ وَرِجَالُ الْحَيِّ، قَالَ مَحْكَانُ التَّمِيمِيُّ: يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالَ الْحَيِّ وَالْغُرَبَا وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِمْ فِي الْمُجْتَمَعِ لِأَنَّ حَالَةَ الرِّقِّ تَقْطَعُهُمْ عَن غير شؤون مَالِكِيهِمْ فَلَا يَضْبِطُونَ أَحْوَالَ الْمُعَامَلَاتِ غَالِبًا وَلِأَنَّهُمْ يَنْشَؤُونَ عَلَى عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْمُرُوءَةِ، فَتَرْكُ اعْتِبَارِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ مَعْلُولٌ لِلْمَظِنَّةِ وَفِي النَّفْسِ عَدَمُ انْثِلَاجٍ لِهَذَا التَّعْلِيلِ. وَاشْتُرِطَ الْعَدَدُ فِي الشَّاهِدِ وَلَمْ يُكْتَفَ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ اتُّهِمَ الشَّاهِدُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ الظَّالِمُ الطَّالِبُ لِحَقٍّ مَزْعُومٍ فَيَحْمِلَهُ عَلَى تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى حَيْطَةٍ تَدْفَعُ التُّهْمَةَ فَاشْتُرَطَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَكَفَى بِهِ وَازِعًا، وَالْعَدَالَةُ لِأَنَّهَا تَزَعُ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ، وَزِيدَ انْضِمَامُ ثَانٍ إِلَيْهِ لِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَتَوَاطَأَ كِلَا الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الزُّورِ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّعَدُّدَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهَا إِذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ، وَلِهَذَا لَوْ رَوَى رَاوٍ حَدِيثًا هُوَ حُجَّةٌ فِي قَضِيَّةٍ لِلرَّاوِي فِيهَا حَقٌّ لَمَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ، وَقَدْ كَلَّفَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ مَعَهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمَ ثَلَاثًا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» إِذْ كَانَ ذَلِكَ فِي ادِّعَاءِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ عُمَرُ فِي الثَّالِثَةِ رَجَعَ، فَشَهِدَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فِي مَلَأٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَالْعَدَدُ هُوَ اثْنَانِ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ كَمَا هُنَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ أَيْ لَمْ يَكُنِ الشَّاهِدَانِ رَجُلَيْنِ، أَيْ بِحَيْثُ لَمْ يَحْضُرِ الْمُعَامَلَةَ رَجُلَانِ بَلْ حَضَرَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدَانِ. فَقَوْلُهُ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ

جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ جُزْءُ جُمْلَةٍ حُذِفَ خَبَرُهَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ أَنْسَبُ بِالْخَبَرِيَّةِ- وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَاسْتَشْهِدُوا- وَقَدْ فُهِمَ الْمَحْذُوفُ فَكَيْفَمَا قَدَّرْتَهُ سَاغَ لَكَ. وَجِيءَ فِي الْآيَة بكان النَّاقِصَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلَانِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّجُلَيْنِ كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ. وَفِيهِ مَرْمًى آخَرُ وَهُوَ تَعْوِيدُهُمْ بِإِدْخَالِ الْمَرْأَة فِي شؤون الْحَيَاةِ إِذْ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تَشْتَرِكُ فِي هَذِه الشؤون، فَجَعَلَ اللَّهُ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، وَهَذِهِ حَيْطَةٌ أُخْرَى مِنْ تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ خَشْيَةُ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّسْيَانِ لأنّ الْمَرْأَة أَضْعَف مِنَ الرَّجُلِ بِأَصْلِ الْجِبِلَّةِ بِحَسَبِ الْغَالِبِ، وَالضَّلَالُ هُنَا بِمَعْنَى النِّسْيَانِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنْ عَلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ مِنْهُ لَامُ التَّعْلِيلِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مَعَ أَنْ، وَالتَّعْلِيلُ فِي هَذَا الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُعَلَّلَ لِقَصْدِ إِقْنَاعِ الْمُكَلَّفِينَ، إِذْ لَا نَجِدُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمًا قَدْ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النُّفُوسُ إِلَّا جَعْلَ عِوَضِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِامْرَأَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فَصُرِّحَ بِتَعْلِيلِهِ. وَاللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ قَبْلَ أَنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ إِذِ التَّقْدِيرُ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدَانِ أَوْ فَلْيَشْهَدْ رجل وَامْرَأَتَانِ، وقرأوه بِنَصْبِ فَتُذَكِّرَ عَطْفًا عَلَى أَنْ تَضِلَّ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ إِنْ شَرْطِيَّةً وتضلّ فِعْلَ الشَّرْطِ، وَبِرَفْعِ تُذَكِّرُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مَجْزُومٍ وَالتَّقْدِيرُ فَهِيَ تُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [الْمَائِدَة: 95] . وَلَمَّا كَانَ «أَنْ تَضِلَّ» فِي مَعْنَى لِضَلَالِ إِحْدَاهُمَا صَارَتِ الْعِلَّةُ فِي الظَّاهِرِ هِيَ الضَّلَالَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بل العلّة هِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الضَّلَالِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى لِأَنَّ فَتُذَكِّرَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَضِلَّ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَهُوَ مِنْ تَكْمِلَتِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِآخِرِ الْكَلَامِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [الْبَقَرَة: 266] ، وَنَظِيرُهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ تَقُولَ: أَعْدَدْتُ الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وَأَعْدَدْتُ السِّلَاحَ أَنْ يَجِيءَ عَدُوٌّ فَأَدْفَعَهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى عِنْدَ نِسْيَانِهَا. وَوَجَّهَهُ صَاحِبُ

«الْكَشَّافِ» بِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ التَّذْكِيرِ حَتَّى صَارَ الْمُتَكَلِّمُ يُعَلِّلُ بِأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِهِ. وَادَّعَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَاهِرَةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ لُغَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا عِلَّةً- وَكَانَ لِلْعِلَّةِ عِلَّةٌ- قَدَّمُوا ذِكْرَ عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا بِالْفَاءِ لتحصل الدلالتان مَعًا بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمَثَّلُهُ بِالْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ «الْكَشَّافُ» ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُلْتَزَمٌ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ سَبَبَ الْعُدُولِ فِي مِثْلِهِ أَنَّ الْعِلَّةَ تَارَةً تَكُونُ بَسِيطَةً كَقَوْلِكَ: فَعَلْتُ كَذَا إِكْرَامًا لَكَ، وَتَارَةً تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ بِدَفْعِهِ. فَهُنَالِكَ يَأْتِي الْمُتَكَلِّمُ فِي تَعْلِيلِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فِي صُورَةِ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَالْمِثَالَيْنِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعَدُّدِ خَشْيَةَ حُصُولِ النِّسْيَانِ لِلْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، فَلِذَا أُخِذَ بِقَوْلِهَا حَقُّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَقُصِدَ تَذْكِيرُ الْمَرْأَةِ الثَّانِيَةِ إِيَّاهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَفِي قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْدَى وَالْأُخْرَى وَصْفَانِ مُبْهَمَانِ لَا يَتَعَيَّنُ شَخْصُ الْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَكَيْفَمَا وَضَعْتَهُمَا فِي مَوْضِعَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، فَلَوْ أَضْمَرَ لِلْإِحْدَى ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ لَكَانَ الْمَعَادُ وَاضِحًا سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ إِحْدَاهُمَا- الْمُظْهَرُ- فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا بِهِ، فَلَا يُظَنُّ أَنْ كَوْنَ لَفْظِ إِحْدَاهُمَا الْمُظْهَرِ فِي الْآيَةِ فَاعِلًا يُنَافِي كَوْنَهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ لَوْ أُضْمِرَ لَكَانَ الضَّمِيرُ مَفْعُولًا، وَالْمَفْعُولُ غَيْرَ الْفَاعِلِ كَمَا قَدْ ظَنَّهُ التَّفْتَازَانِيُّ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ فِي اعْتِبَارِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ هُوَ تَأَتِّي الْإِضْمَارِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْآيَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ نُكْتَةُ الْإِظْهَارِ هُنَا قَدْ تَحَيَّرَتْ فِيهَا أَفْكَارُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ، قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : «وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَرَّضَ لَهُ وَجْهُ تَكْرِيرِ لَفْظِ إِحْدَاهُمَا، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِذْ لَيْسَتِ الْمُذَكِّرَةُ هِيَ النَّاسِيَةَ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ إِحْدَاهُمَا الثَّانِيَةُ فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ فِي مَوْضِعِ الْإِلْبَاسِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى، فَلَا بُدَّ لِلْعُدُولِ مِنْ نُكْتَةٍ» . وَقَالَ الْعِصَامُ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» «نُكْتَةُ التَّكْرِيرِ أنّه كَانَ فصل التَّرْكِيبِ أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى

إِنْ ضَلَّتْ، فَلَمَّا قُدِّمَ إِنْ ضَلَّتْ وَأُبْرِزَ فِي مَعْرِضِ الْعِلَّةِ لَمْ يَصِحَّ الْإِضْمَارُ (أَيْ لعدم تقدم إمعاد) وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تَضِلَّ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ قَبْلَ ذِكْرِ إِحْدَاهُمَا (أَيْ لِأَنَّ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ وَصْفًا إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ وَصْفِ مُقَابِلٍ مَذْكُور) فأبدل بِإِحْدَاهُمَا (أَيْ أُبْدِلَ موقع لفظ لأخرى بِلَفْظِ إِحْدَاهُمَا) وَلَمْ يُغَيَّرْ مَا هُوَ أَصْلُ العلّة عَن هيأته لِأَنَّهُ كَانَ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ، أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما يَعْنِي فَهَذَا وَجْهُ الْإِظْهَارِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ» «قَالُوا: إِنَّ النُّكْتَةَ الْإِبْهَامُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ عَلَى صَاحِبَتِهَا مِنَ الضَّلَالِ وَالتَّذْكِيرِ، فَدَخَلَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ» يَعْنِي أَنَّهُ أَظْهَرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ لَا تَكُونُ إِلَّا مُذَكِّرَةً الْأُخْرَى، فَلَا تَكُونُ شَاهِدَةً بِالْأَصَالَةِ. وَأَصْلُ هَذَا الْجَوَابِ لِشِهَابِ الدِّينِ الْغَزْنَوِيِّ عَصْرِيِّ الْخَفَاجِيِّ عَنْ سُؤَالٍ وَجَّهَهُ إِلَيْهِ الْخَفَاجِيُّ، وَهَذَا السُّؤَالُ: يَا رَأْسَ أَهْلِ الْعُلُومِ السَّادَةِ الْبَرَرَهْ ... وَمَنْ نَدَاهُ عَلَى كُلِّ الْوَرَى نَشَرَهْ مَا سِرُّ تَكْرَارِ إِحْدَى دُونَ تُذْكِرُهَا ... فِي آيَةٍ لِذَوِي الْأَشْهَادِ فِي الْبَقَرَهْ وَظَاهِرُ الْحَالِ إِيجَازُ الضَّمِيرِ عَلَى ... تَكْرَارِ إِحْدَاهُمَا لَوْ أَنَّهُ ذَكَرَهْ وَحَمْلُ الْإِحْدَى عَلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ فِي ... أُولَاهُمَا لَيْسَ مَرْضِيًّا لَدَى الْمَهَرَهْ فَغُصْ بِفِكْرِكَ لِاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرِهِ ... مِنْ بَحْرِ عِلْمِكَ ثُمَّ ابْعَثْ لَنَا دُرَرَهْ فَأَجَابَ الْغَزْنَوِيُّ: يَا مَنْ فَوَائِدُهُ بِالْعِلْمِ مُنْتَشِرَهْ ... وَمَنْ فَضَائِلُهُ فِي الْكَوْنِ مُشْتَهِرَهْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ ... كِلَيْهِمَا فَهْيَ لِلْإِظْهَارِ مُفْتَقِرَهْ وَلَوْ أَتَى بِضَمِيرٍ كَانَ مُقْتَضِيًا ... تَعْيِينَ وَاحِدَةٍ لِلْحُكْمِ مُعْتَبَرَهْ وَمَنْ رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الْحَلَّ فَهْوَ كَمَا ... أَشَرْتُمُ لَيْسَ مَرْضِيًّا لِمَنْ سَبَرَهْ هَذَا الَّذِي سَمَحَ الذِّهْنُ الْكَلِيلُ بِهِ ... وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي الْفَحْوَى بِمَا ذَكَرَهْ وَقَدْ أَشَارَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ إِلَى رَدٍّ عَلَى جَوَابٍ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ (¬1) إِذْ جَعَلَ إِحْدَاهُمَا الْأَوَّلَ مُرَادًا بِهِ إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَجَعَلَ تَضِلَّ بِمَعْنَى تَتْلَفُ بِالنِّسْيَانِ، ¬

(¬1) هُوَ أَبُو الْقَاسِم الْحُسَيْن بن عَليّ الشهير بالمغربي استوزره البويهي بِبَغْدَاد وَتُوفِّي سنة 418. [.....]

وَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا الثَّانِيَ مُرَادًا بِهِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ. وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْمَدْلُولُ لَمْ يَبْقَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ وَتَشْتِيتٌ لِلضَّمَائِرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَيُنَزَّهُ تَخْرِيجُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْغَزْنَوِيُّ بِقَوْلِهِ: «وَمَنْ رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الْحَلَّ إِلَخ» . وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِظْهَارَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِنُكْتَةٍ هِيَ قَصْدُ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِمَدْلُولِهَا كَيْلَا تَحْتَاجَ إِلَى كَلَامٍ آخَرَ فِيهِ مَعَادُ الضَّمِيرِ لَوْ أُضْمِرَ، وَذَلِكَ يُرَشِّحُ الْجُمْلَةَ لِأَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْمَثَلِ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عِلَّةٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ تَعَدُّدِ الْمَرْأَةِ فِي الشَّهَادَةِ، فَالْمَرْأَةُ مُعَرَّضَةٌ لِتَطَرُّقِ النِّسْيَانِ إِلَيْهَا وَقِلَّةِ ضَبْطِ مَا يَهُمُّ ضَبْطُهُ، وَالتَّعَدُّدُ مَظِنَّةٌ لِاخْتِلَافِ مَوَادِّ النَّقْصِ وَالْخَلَلِ، فَعَسَى أَلَّا تَنْسَى إِحْدَاهُمَا مَا نَسِيَتْهُ الْأُخْرَى. فَقَوْلُهُ أَنْ تَضِلَّ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى تَعْلِيلٌ لِإِشْهَادِ امْرَأَةٍ ثَانِيَةٍ حَتَّى لَا تَبْطُلَ شَهَادَةُ الْأُولَى مِنْ أَصْلِهَا. وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا. عُطِفَ وَلا يَأْبَ عَلَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِاسْتِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ نَهَى مَنْ يُطْلَبُ إِشْهَادُهُ عَنْ أَنْ يَأْبَى، لِيَتِمَّ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ الْإِشْهَادُ. وَإِنَّمَا جِيءَ فِي خِطَابِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَجِيءَ فِي خِطَابِ الشُّهَدَاءِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ اهْتِمَامًا بِمَا فِيهِ التَّفْرِيطُ. فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُظَنُّ بِهِمَا إِهْمَالُ الْإِشْهَادِ فَأُمِرَا بِهِ، وَالشُّهُودُ يُظَنُّ بِهِمُ الِامْتِنَاعُ فَنُهُوا عَنْهُ، وَكُلٌّ يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ. وَتَسْمِيَةُ الْمَدْعُوِّينَ شُهَدَاءَ بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ الْقَرِيبِ، وَهُوَ الْمُشَارَفَةُ، وَكَأَنَّ فِي ذَلِكَ نُكْتَةً عَظِيمَةً: وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِشْهَادِ، قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ، فَصَارُوا شُهَدَاءَ. وَحُذِفَ مَعْمُولُ دُعُوا إِمَّا لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ- قَبْلَهُ- وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ أَيْ إِذَا مَا دُعُوا إِلَى الشَّهَادَةِ أَيِ التَّحَمُّلِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْإِبَايَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَةِ حَاصِلٌ بِالْأَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

حَذْفُ الْمَعْمُولِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ إِذَا مَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَعًا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا مَا دُعُوا إِلَى الْأَدَاءِ خَاصَّةً، وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: الشُّهَداءِ لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ التَّحَمُّلِ، وَيُبْعِدُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ- بَعْدَ هَذَا- وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ [الْبَقَرَة: 283] وَذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ الْإِبَايَةِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْأَدَاءِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ دُعُوا لِإِفَادَةِ شُمُولِ مَا يُدْعَونَ لِأَجْلِهِ فِي التَّعَاقُدِ: مِنْ تَحَمُّلٍ، عِنْد قصد الْإِشْهَاد، وَمِنْ أَدَاءٍ، عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْبَيِّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: «وَالتَّحَمُّلُ حَيْثُ يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْأَدَاءُ مِنْ نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ- إِنْ كَانَا اثْنَيْنِ- فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَا تَحِلُّ إِحَالَتُهُ عَلَى الْيَمِينِ» . وَالْقَوْلُ فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّحَمُّلَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مِنَ الْإِمَامِ، أَوْ بِمَا يُعَيِّنُهُ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ فَينْتَقل المتعاقدان لآخر، وَأَمَّا الْأَدَاءُ فَفَرْضُ عَيْنٍ إِنْ كَانَ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ فِي بَدَنِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَدَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ: بِأَنْ لَا يُوجَدَ بَدَلُهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِشَرْطِ عَدَالَةِ الْقَاضِي، وَقُرْبِ الْمَكَانِ: بِأَنْ يَرْجِعَ الشَّاهِدُ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي يَوْمِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَطَلَبِ الْمُدَّعِي. وَفِي هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ رَدٌّ بِالشَّهَادَةِ إِلَى مُخْتَلِفِ اجْتِهَادَاتِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ بَابٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَنْبَغِي فَتْحُهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ شُهُودًا، وَيَجْعَلَ لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شُغْلٌ إِلَّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا لَهَا» . قُلْتُ: وَقَدْ أَحْسَنَ. قُضَاةُ تُونُسَ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَأُمَرَاؤُهَا، فِي تَعْيِينِ شُهُودٍ مُنْتَصِبِينَ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ، يُؤْخَذُونَ مِمَّنْ يَقْبَلُهُمُ الْقُضَاةُ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ النَّظَرِ لِلْأُمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَّبَعًا فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ، بَلْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِشُهْرَةِ عَدَالَةِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَضَبْطِهِمْ لِلشُّرُوطِ وَكَتْبِ الْوَثَائِقِ فَيَعْتَمِدُهُمُ الْقُضَاةُ، وَيَكِلُونَ إِلَيْهِمْ مَا يَجْرِي فِي النَّوَازِلِ مِنْ كِتَابَةِ الدَّعْوَى وَالْأَحْكَامِ، وَكَانَ مِمَّا يُعَدُّ فِي تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ.

وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ. تَعْمِيمٌ فِي أَكْوَانِ أَوْ أَحْوَالِ الدُّيُونِ الْمَأْمُورِ بِكِتَابَتِهَا، فَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ هُنَا مَجَازَانِ فِي الْحَقِيرِ وَالْجَلِيلِ. وَالْمُعَامَلَاتُ الصَّغِيرَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْكَبِيرَةِ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنِ السَّآمَةِ هُنَا. وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ مِنْ تَكْرِيرِ فِعْلٍ مَا. وَالْخِطَابُ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ أَصَالَةً، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ خِطَابَ الْكَاتِبِ: لِأَنَّ الْمُتَدَايِنَيْنِ إِذَا دَعَوَاهُ لِلْكِتَابَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ. وَالنَّهْيُ عَنْهَا نهي عَن أَثَرهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ السَّآمَةَ تَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَلَا يُنْهَى عَنْهَا فِي ذَاتِهَا، وَقِيلَ السَّآمَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْكَسَلِ وَالتَّهَاوُنِ. وَانْتَصَبَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِير الْمَنْصُوب بتكتبوه، أَوْ عَلَى حَذْفِ كَانَ مَعَ اسْمِهَا. وَتَقْدِيمُ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ هُنَا، مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْعَكْسُ، كَتَقْدِيمِ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَة: 255] لِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ لِدَفْعِ مَا يَطْرَأُ مِنَ التَّوَهُّمَاتِ فِي قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِالصَّغِيرِ، وَهُوَ أَكْثَرُ، أَوِ اعْتِقَادِ عَدَمِ وُجُوبِ كِتَابَةِ الْكَبِيرِ، لَوِ اقْتُصِرَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الصَّغِيرِ. وَجُمْلَةُ إِلى أَجَلِهِ حَالٌ مِنَ الضَّمِير الْمَنْصُوب بتكتبوه، أَيْ مُغَيَّى الدَّيْنِ إِلَى أَجْلِهِ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ التَّغْيِيَةُ فِي الْكِتَابَةِ. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا. تَصْرِيحٌ بِالْعِلَّةِ لِتَشْرِيعِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ: بِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِيهَا زِيَادَةُ التَّوَثُّقِ، وَهُوَ أَقْسَطُ أَيْ أَشَدُّ قِسْطًا، أَيْ عَدْلًا، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لِلْحَقِّ، وَأَقَوْمُ لِلشَّهَادَةِ، أَيْ أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَأَقْرَبُ إِلَى نَفْيِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ، وَيُسْتَخْرَجُ مِنْهَا أَنَّ الْمَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي الْحُقُوقِ بَيِّنَةً، وَاضِحَةً، بَعِيدَةً عَنِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَالتَّوَهُّمَاتِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ، فَلِذَلِكَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْوَاحِدِ.

وَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ لِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ. وَاشْتِقَاقُ أَقْسَطُ مِنْ أَقْسَطَ بِمَعْنَى عَدَلَ، وَهُوَ رُبَاعِيٌّ، وَلَيْسَ مِنْ قَسَطَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى جَارَ، وَكَذَا اشْتِقَاقُ أَقْوَمُ مِنْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ إِذَا أَظْهَرَهَا جَارٍ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ بِجَوَازِ صَوْغِ التَّفْضِيلِ وَالتَّعَجُّبِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الْمَهْمُوزِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ نَحْوَ أَعْطَى أَمْ لِغَيْرِ التَّعْدِيَةِ نَحْوَ أَفْرَطَ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ أَقْسَطُ مُشْتَقًّا مِنْ قَاسِطٍ بِمَعْنَى ذِي قِسْطٍ أَيْ صِيغَةِ نَسَبٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ، إِذْ لَيْسَ لِهَذِهِ الزِّنَةِ فِعْلٌ. وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا بِأَنَّ صَوْغَهُ مِنَ الْجَامِدِ أَشَدُّ مِنْ صَوْغِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَالْجَوَابُ عِنْدِي أَنَّ النَّسَبَ هُنَا لَمَّا كَانَ إِلَى الْمَصْدَرِ شَابَهَ الْمُشْتَقَّ: إِذِ الْمَصْدَرُ أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ أَقْوَمُ مُشْتَقًّا مِنْ قَامَ الَّذِي هُوَ مُحَوَّلٌ إِلَى وَزْنِ فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- الدَّالِّ عَلَى السَّجِيَّةِ، الَّذِي يَجِيءُ مِنْهُ قَوِيمٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها. اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَوِ الْأَكْوَانِ فِي قَوْلِهِ: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ قِيلَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ الْحَاضِرَةَ لَيْسَتْ مِنَ الدَّيْنِ فِي شَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَوْنَ تِجَارَةٍ حَاضِرَةٍ. وَالْحَاضِرَةُ النَّاجِزَةُ، الَّتِي لَا تَأْخِيرَ فِيهَا، إِذِ الْحَاضِرُ، وَالْعَاجِلُ، وَالنَّاجِزُ: مُتَرَادِفَةٌ. وَالدَّيْنُ، وَالْأَجْلُ، وَالنَّسِيئَةُ: مُتَرَادِفَةٌ. وَقَوْلُهُ: تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً بَلِ الْبَيَانُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَقْرَبُ مِنْهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ مِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي نَوَادِرِهِ، وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: يُنْسَبُ إِلَى الْفَرَزْدَقِ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بِالْمَدِينَةِ حَاجَةً ... وَبِالشَّامِ أُخْرَى كَيْفَ يَلْتَقِيَانِِِ

إِذْ جَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ بَيَانا لحَاجَة وَأُخْرَى، أَوْ تَجْعَلُ تُدِيرُونَها صفة ثَانِيَة لتِجَارَة فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ ذِكْرِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى تَعْلِيلِ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ إِدَارَتَهَا أَغْنَتْ عَنِ الْكِتَابَةِ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَالْمُرَادُ بِالتِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ الْمُؤَجَّلَةُ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الدُّيُونِ، رَخَّصَ فِيهَا تَرْكَ الْكِتَابَةِ بِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ. وَقَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ، مَعَ مَا فِي زِيَادَةِ قَوْلِهِ: جُناحٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ رُخْصَةٌ، لِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تِجَارَةٌ بِالرَّفْعِ: عَلَى أَنَّ تَكُونَ تَامَّةٌ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ: عَلَى أَنَّ تَكُونَ نَاقِصَةٌ، وَأَنَّ فِي فِعْلِ تَكُونَ ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا عَائِدًا عَلَى مَا يُفِيدُهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، كَمَا فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ- أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ-: بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذا كَانَ يوماذا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا تَقْدِيرُهُ إِذَا كَانَ الْيَوْم يوماذا كَوَاكِبَ، وَقَوْلُهُ: أَلَّا أَصْلُهُ إِنْ لَا فَرُسِمَ مُدْغَمًا. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ. تَشْرِيعٌ لِلْإِشْهَادِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِغَيْرِ دَيْنٍ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ غَيْرَ تِجَارَةٍ حَاضِرَةٍ، وَهَذَا إِكْمَالٌ لِصُوَرِ الْمُعَامَلَةِ: فَإِنَّهَا إِمَّا تَدَايُنٌ، أَوْ آيِلٌ إِلَيْهِ كَالْبَيْعِ بِدَيْنٍ، وَإِمَّا تَنَاجُزٌ فِي تِجَارَةٍ، وَإِمَّا تَنَاجُزٌ فِي غَيْرِ تِجَارَةٍ كَبَيْعِ الْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ فِي غَيْرِ التَّجْرِ. وَقيل: المُرَاد بتبايعتم التِّجَارَةُ، فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْهَادِ بِدُونِ كِتَابَةٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَا شُرِعَتْ إِلَّا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ وَالتَّوَثُّقِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا أَمْرٌ: قِيلَ هُوَ لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ،

وَعَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَجَابِرِ بن زيد، وداوود الظَّاهِرِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ. وَقَدْ أَشْهَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ بَاعَهُ لِلْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ، وَكَتَبَ فِي ذَلِك «باسم الله الرحمان الرَّحِيمِ، هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ» وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّدْبِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ السَّلَفِ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَتَمَسَّكُوا بِالسُّنَّةِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ الِائْتِمَانِ، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْبَقَرَة: 283] الْآيَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِابْنِ عَطِيَّةَ فِي تَوْجِيهِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَرَدُّنَا لَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ. نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارَّةِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ مَصْدَرًا لِلْإِضْرَارِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ لَهُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَصْدَرًا لِلْإِضْرَارِ: لِأَنَّ يُضَارَّ يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْمَعْلُومِ وَلِلْمَجْهُولِ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ هَذِهِ الْمَادَّةِ هُنَا مَقْصُودٌ، لِاحْتِمَالِهَا حُكْمَيْنِ، لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا فَيُحْمَلُ عَلَى كِلَا مَعْنَيَيْهِ لِعَدَمِ تَنَافِيهِمَا، وَهَذَا مِنْ وَجْهِ الْإِعْجَازِ. والمضارّة: إِدْخَال الضرّ بِأَنْ يُوقِعَ الْمُتَعَاقِدَانِ الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ فِي الْحَرَجِ وَالْخَسَارَةِ، أَوْ مَا يجر إِلَى الْعقُوبَة، وَأَن يُوقع الشَّاهِدَانِ أحد الْمُتَعَاقدين فِي إِضَاعَة حق أَو تَعب فِي الْإِجَابَة إِلَى الشَّهَادَةِ. وَقَدْ أَخَذَ فُقَهَاؤُنَا مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً تَتَفَرَّعُ عَنِ الْإِضْرَارِ: مِنْهَا رُكُوبُ الشَّاهِدِ مِنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَمِنْهَا تَرْكُ اسْتِفْسَارِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ، وَمِنْهَا اسْتِفْسَارُهُ اسْتِفْسَارًا يُوقِعُهُ فِي الِاضْطِرَابِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِوُلَاةِ الْأُمُورِ جَعْلُ جَانِبٍ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ لِدَفْعِ مَصَارِيفِ انْتِقَالِ الشُّهُودِ وَإِقَامَتِهِمْ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمْ وَتَعْوِيضِ مَا سَيَنَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخَسَائِرِ الْمَالِيَّةِ فِي إِضَاعَةِ عَائِلَاتِهِمْ، إِعَانَةً عَلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَالسَّعَةِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ حُذِفَ مَفْعُولُ تَفْعَلُوا وَهُوَ مَعْلُومٌ، لِأَنَّهُ الْإِضْرَارُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لَا يُضَارَّ مِثْلُ «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ» وَالْفُسُوقُ: الْإِثْمُ الْعَظِيمُ، قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الحجرات: 11] . وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أَمَرَ بِالتَّقْوَى لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْخَيْرِ، وَبِهَا يَكُونُ تَرْكُ الْفُسُوقِ. وَقَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْجَهَالَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ، وَنِظَامِ الْعَالَمِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْعُلُومِ وَأَنْفَعُهَا، وَوَعْدٌ بِدَوَامِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جِيءَ فِيهِ بِالْمُضَارِعِ، وَفِي عَطْفِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ إِفَاضَةِ الْعُلُومِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِيُعَلِّمَكُمْ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَعَانِي الْوَاوِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ: لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِكُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا حَتَّى تَكُونَ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ، غَيْرَ محتاجة إِلَى غَيرهَا الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَعَادِ ضَمِيرِهَا، حَتَّى إِذَا سَمِعَ السَّامِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حَصَلَ لَهُ عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ، وَقَدْ لَا يَسْمَعُ إِحْدَاهَا فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ فِي فَهْمِ أُخْرَاهَا، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِظْهَارِ قَوْلُ الْحَمَاسِيِّ (¬1) : اللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ ... وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا وَاللُّؤْمُ دَاءٌ لِوَبْرٍ يُقْتَلُونَ بِهِ ... لَا يُقْتَلُونَ بِدَاءٍ غَيْرِهِ أَبَدًا فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ التَّشْنِيعَ بِالْقَبِيلَةِ وَمَنْ وَلَدَهَا، وَمَا وَلَدَتْهُ، أَظْهَرَ اللُّؤْمَ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ كَالتَّأْكِيدِ لِلثَّالِثَةِ لَمْ يُظْهِرِ اسْمَ اللُّؤْمِ بِهَا. هَذَا، وَلِإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّهْوِيلُ. وَلِلتَّكْرِيرِ مَوَاقِعُ يَحْسُنُ فِيهَا، وَمَوَاقِعُ لَا يَحْسُنُ فِيهَا، قَالَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» (¬2) ، فِي الْخَاتِمَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا أَنَّ الذَّوْقَ قَدْ يُدْرِكُ أَشْيَاءَ لَا يُهْتَدَى لأسبابها، وأنّ بِبَعْض الْأَئِمَّةِ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْخَطَأُ فِي التَّأْوِيلِ: «وَمِنْ ذَلِكَِِ ¬

(¬1) وَهُوَ الحكم ابْن مقداد ويدعى ابْن زهرَة وزهرة أمه وَيعرف بالحكم الْأَصَم الْفَزارِيّ، وتنسب الأبيات إِلَى عويف القوافي أَيْضا واسْمه عَوْف بن حصن الْفَزارِيّ. (¬2) ص 400 مطبعة الموسوعات بِمصْر.

مَا حُكِيَ عَنِ الصَّاحِبِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْأُسْتَاذُ ابْنُ الْعَمِيدِ يَخْتَارُ مِنْ شِعْرِ ابْنِ الرُّومِيِّ وَيُنَقِّطُ عَلَى مَا يَخْتَارُهُ، قَالَ الصَّاحِبُ فَدَفَعَ إِلَيَّ الْقَصِيدَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَتَحْتَ ضُلُوعِي جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ ... عَلَى مَا مَضَى أَمْ حَسْرَةٌ تَتَجَدَّدُ وَقَالَ لِي: تَأَمَّلْهَا، فَتَأَمَّلْتُهَا فَوَجَدْتُهُ قَدْ تَرَكَ خير بَيت فِيهَا لَمْ يُنَقِّطْ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُنْتَضًى ... وَحِلْمٍ كَحِلْمِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُغْمَدُ فَقُلْتُ: لِمَ تَرَكَ الْأُسْتَاذُ هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقَالَ: لَعَلَّ الْقَلَمَ تَجَاوَزَهُ، ثُمَّ رَآنِي مِنْ بَعْدُ فَاعْتَذَرَ بِعُذْرٍ كَانَ شَرًّا مِنْ تَرْكِهِ فَقَالَ: إِنَّمَا تَرَكْتُهُ لِأَنَّهُ أَعَادَ السَّيْفَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ الصَّاحِبُ: لَوْ لَمْ يُعِدْهُ لَفَسَدَ الْبَيْتُ، قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الصَّاحِبُ- ثُمَّ قَالَ- قَالَهُ أَبُو يَعْقُوبَ: إِنَّ الْكِنَايَةَ وَالتَّعْرِيضَ لَا يَعْمَلَانِ فِي الْعُقُولِ عَمَلَ الْإِفْصَاحِ وَالتَّكْشِيفِ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الْإِسْرَاء: 105] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ [الصَّمَدُ: 1، 2] عَمَلٌ لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: قَدِ اسْتَكْرَهُوا التَّكْرِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا لِلنَّوَى جُذَّ النَّوَى قُطِعَ النَّوَى حَتَّى قِيلَ: لَوْ سُلِّطَ بَعِيرٌ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ لَرَعَى مَا فِيهِ مِنَ النَّوَى، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ التَّكْرِيرَ الْمُسْتَحْسَنَ هُوَ تَكْرِيرٌ يَقَعُ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ، أَوِ التَّحْقِيرِ، فِي جُمَلٍ مُتَوَالِيَاتٍ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَالْمُسْتَقْبَحُ هُوَ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي جُمَلٍ فِي مَعْنًى، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّحْقِيرِ، فَالرَّاغِبُ مُوَافِقٌ لِلْأُسْتَاذِ ابْنِ الْعَمِيدِ، وَعَبْدُ الْقَاهِرِ مُوَافِقٌ لِلصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ الْحَمَاسَةِ (¬1) عِنْدَ قَوْلِ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ: لَمَّا رَأَيْتُ الشَّيْبَ لَاحَ بَيَاضُهُ ... بِمَفْرِقِ رَأْسِي قُلْتُ لِلشَّيْبِ مَرْحَبًا «كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ لَهُ مَرْحَبًا، لَكِنَّهُمْ يُكَرِّرُونَ الْأَعْلَامَ وَأَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ كَثِيرًا وَالْقَصْدُ بِالتَّكْرِيرِ التَّفْخِيمُ» . ¬

(¬1) فِي بَاب الْأَدَب من ديوَان الحماسة.

[سورة البقرة (2) : آية 283]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ التَّكْرِيرُ بِمَقْصُورٍ عَلَى التَّعْظِيمِ بَلْ مَقَامُهُ كُلُّ مَقَامٍ يُرَادُ مِنْهُ تَسْجِيلُ انْتِسَابِ الْفِعْلِ إِلَى صَاحِبِ الِاسْمِ الْمُكَرَّرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْتَيِ الْحَمَاسَةِ: «اللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ» إِلَخ. وَقَدْ وَقَعَ التَّكْرِيرُ مُتَعَاقِبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [78] : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [283] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الْبَقَرَة: 282] الْآيَةَ، فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ حُكْمٌ فِي الْحَضَرِ وَالْمُكْنَةِ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْكِتَابَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَكْتُبُ وَيَشْهَدُ فَقَدْ شُرِعَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ الرَّهْنُ، وَهَذَا آخِرُ الْأَقْسَامِ الْمُتَوَقَّعَةِ فِي صُوَرِ الْمُعَامَلَةِ، وَهِيَ حَالَةُ السَّفَرِ غَالِبًا، وَيُلْحَقُ بِهَا مَا يُمَاثِلُ السَّفَرَ فِي هَاتِهِ الْحَالَةِ. وَالرِّهَانُ جَمْعُ رَهْنٍ- وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رُهُنٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ- وَقَدْ قَرَأَهُ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِضَمِّ الرَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ. وَالرَّهْنُ هُنَا اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَرْهُونِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَالْخَلْقِ. وَمَعْنَى الرَّهْنِ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ مَتَاعِ الْمَدِينِ بِيَدِ الدَّائِنِ تَوْثِقَةً لَهُ فِي دَيْنِهِ. وَأَصْلُ الرَّهْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَدُلُّ عَلَى الْحَبْسِ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38] فَالْمَرْهُونُ مَحْبُوسٌ بِيَدِ الدَّائِنِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ قَالَ زُهَيْرٌ: وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا وَالرَّهْنُ شَائِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ: فَقَدْ كَانُوا يَرْهَنُونَ فِي الْحِمَالَاتِ وَالدِّيَاتِ إِلَى أَنْ يَقَعَ دَفْعُهَا، فَرُبَّمَا رَهَنُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَرُبَّمَا رَهَنُوا وَاحِدًا مِنْ صَنَادِيدِهِمْ، قَالَ الْأَعْشَى يَذْكُرُ أَنَّ كِسْرَى رَامَ أَخْذَ رَهَائِنَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ: آلَيْتُ لَا أُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهُنًا فَنُفْسِدَهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ (¬1) : فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكًا وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنَّهُ قَالَ لعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ: أَرْهِنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. وَمَعْنَى فَرِهَانٌ: أَيْ فَرِهَانٌ تُعَوَّضُ بِهَا الْكِتَابَةُ. وَوَصْفُهَا بِمَقْبُوضَةٍ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ، لِأَنَّ الرِّهَانَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَقْبُوضَةً، وَإِمَّا لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الرَّهْنِ لِلتَّوْثِقَةِ فِي الدُّيُونِ فِي الْحَضَرِ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَلِذَلِكَ إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الدَّيْنِ أُجِيبَ إِلَيْهِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ تَوْثِقَةٌ فِي الدَّيْنِ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ بِصَرِيحِهَا. وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ فَلِأَنَّ تَعْلِيقَهُ هُنَا عَلَى حَالِ السَّفَرِ لَيْسَ تَعْلِيقًا بِمَعْنَى التَّقْيِيدِ بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ بِمَعْنَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، إِذَا لَمْ يُوجَدِ الشَّاهِدُ فِي السَّفَرِ، فَلَا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ لِوُرُودِهِ مورد بَيَان حَالَة خَاصَّةٍ لَا لِلِاحْتِرَازِ، وَلَا تُعْتَبَرُ مَفَاهِيمُ الْقُيُودِ إِلَّا إِذَا سِيقَتْ مَسَاقَ الِاحْتِرَازِ، وَلِذَا لَمْ يَعْتَدُّوا بِهَا إِذَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ. وَلَا مَفْهُومَ لَهُ فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الرَّهْنَ مُعَامَلَةٌ لَهُمْ، فَلِذَلِكَ أُحِيلُوا عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَدْ أَخَذَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ تَقْيِيدِ الرَّهْنِ بِحَالِ السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ وُقُوعَ الرَّهْنِ مِنَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمن أَصْحَابه فِي الْحَضَرِ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الرَّهْنِ شَرْعًا، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَرْكِ الْقَبْضِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَلَوْ لَمْ يُقَارِنْ عُقْدَةَ الرَّهْنِ قَبْضٌ فَسَدَتِ الْعُقْدَةُ عِنْدَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِدُونِ قَبْضٍ، وَتَرَدَّدَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مُفَادِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ كَقَوْلِِِ ¬

(¬1) فِي بَاب الْأَدَب من ديوَان الحماسة.

الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ شَرْطٌ فِي اللُّزُومِ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يَقَعِ الْحَوْزُ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي اللُّزُومِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَثْبُتُ بِالصِّيغَةِ كَالْبَيْعِ، وَالْقَبْضُ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَلِذَلِكَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى تَحْوِيزِ الْمُرْتَهَنِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ التَّحْوِيزِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إِذْ لَيْسَ لَهُ مَا يُؤْثِرُهُ عَلَى بَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ، وَالْآيَةُ تَشْهَدُ لِهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقَبْضَ وَصْفًا لِلرَّهْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَاهِيَّةَ الرَّهْنِ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ. وَأَهْلُ تُونُسَ يَكْتَفُونَ فِي رَهْنِ الرِّبَاعِ وَالْعَقَارِ بِرَهْنِ رُسُومِ التَّمَلُّكِ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ فِي رَهْنِ الدَّيْنِ حَوْزًا. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى بُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرَّهْنَ عِوَضًا عَنِ الشَّهَادَة فِي التوثّق فَلَا وَجْهَ لِلِانْتِفَاعِ، وَاشْتِرَاطُ الِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ تَوَثُّقًا إِلَى مَاهِيَةِ الْبَيْعِ. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ. مُتَفَرِّعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ الدَّيْنِ: أَيْ إِنْ أَمِنَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ الْآخَرَ أَيْ وَثِقَ بَعْضُكُمْ بِأَمَانَةِ بَعْضٍ فَلَمْ يُطَالِبْهُ بِإِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ، فَالْبَعْضُ- الْمَرْفُوعُ- هُوَ الدَّائِنُ، وَالْبَعْضُ- الْمَنْصُوبُ- هُوَ الْمَدِينُ وَهُوَ الَّذِي ائْتمن. وَالْأَمَانَةُ مَصْدَرُ آمَنَهُ إِذَا جَعَلَهُ آمِنًا. وَالْأَمْنُ اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ وَسَلَامَتُهَا مِمَّا تَخَافُهُ، وَأُطْلِقَتِ الْأَمَانَةُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُؤَمَّنِ عَلَيْهِ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ. وَإِضَافَةُ أَمَانَتِهِ تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى صِفَةِ الْأَمِينِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [68] . وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا اسْمُ الْأَمَانَةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَعَلَى الرَّهْنِ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْحَقِّ لِأَنَّ اسْمَ الْأَمَانَاتِ لَهُ مَهَابَةٌ فِي النُّفُوسِ، فَذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا سُمِّيَ أَمَانَةً فَعَدَمُ أَدَائِهِ يَنْعَكِسُ خِيَانَةً لِأَنَّهَا ضِدُّهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» .

وَالْأَدَاءُ: الدَّفْعُ وَالتَّوْفِيَةُ، وَرَدُّ الشَّيْءِ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ فِيمَا لَا تُقْصَدُ أَعْيَانُهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَأَدَاءُ الدَّيْنِ أَيْ عَدَمُ جَحْدِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاء: 58] . وَالْمَعْنَى: إِذَا ظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ فِي غُنْيَةٍ عَنِ التَّوَثُّقِ فِي دُيُونِكُمْ بِأَنَّكُمْ أُمَنَاءُ عِنْدَ بَعْضِكُمْ، فَأَعْطُوا الْأَمَانَةَ حَقَّهَا. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ أَنَّ آيَةَ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ تُعْتَبَرُ تَكْمِيلًا لِطَلَبِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ طَلَبَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ عِنْدَ الَّذِينَ حَمَلُوا الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ عَلَى مَعْنَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَهُمُ الْجُمْهُور. وَمعنى كَونهَا تَكْمِيلًا لِذَلِكَ الطَّلَبِ أَنَّهَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشْهَادَ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، مَقْصُود بهما حُسْنُ التَّعَامُلِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَدَا لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا بِهِمَا فَنَعِمَّا، وَإِنِ اكْتَفَيَا بِمَا يَعْلَمَانِهِ مِنْ أَمَانٍ بَيْنَهُمَا فَلَهُمَا تَرْكُهُمَا. وَأُتْبِعَ هَذَا الْبَيَانُ بِوِصَايَةِ كِلَا الْمُتَعَامِلَيْنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَا الْأَمَانَةَ وَيَتَّقِيَا اللَّهَ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشْهَادَ عَلَى الدُّيُونِ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهُ، ادَّعَوْا أَنَّ نَاسِخَهُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الْآيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَمَحْمَلُ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ- إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ- أَنَّهُمْ عَنَوْا بِالنَّسْخِ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ. وَتَسْمِيَةَ مِثْلِ ذَلِكَ نَسْخًا تَسْمِيَةٌ قَدِيمَةٌ. أَمَّا الَّذِينَ يَرَوْنَ وُجُوبَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ بِالدُّيُونِ حُكْمًا مُحْكَمًا، وَمِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ، فَقَصَرُوا آيَةَ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الْآيَةَ عَلَى كَوْنِهَا تَكْمِلَةً لِصُورَةِ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الطَّبَرِيُّ وَلَمْ يَأْتِ بِكَلَامٍ وَاضِحٍ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ جَمْجَمَ الْكَلَامَ وَطَوَاهُ. وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَعْنِي حَالَةَ تَعَذُّرِ وُجُودِ الرَّهْنِ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، أَيْ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَأْمَنَ بَعْضُكُمْ فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا رَهْنًا وَأَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِلَى

آخِرِهِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْمَنْهُ لَا يُدَايِنُهُ، وَلَكِنْ طُوِيَ هَذَا تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْمُوَاسَاةِ وَالِاتِّسَامِ بِالْأَمَانَةِ. وَهَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى بَيَانِ حَالَة ترك التوثّق فِي الدُّيُونِ. وَأَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ عِنْدِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَشْرِيعٌ مُسْتَقِلٌّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّيُونِ: مِنْ إِشْهَادٍ، وَرَهْنٍ، وَوَفَاءٍ بِالدَّيْنِ، وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّبَايُعِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أُبْهِمَ الْمُؤْتَمَنُونَ بِكَلِمَةِ بَعْضٍ لِيَشْمَلَ الِائْتِمَانَ مِنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ: الَّذِي مِنْ قِبَلِ رَبِّ الدَّيْنِ، وَالَّذِي مِنْ قِبَلِ الْمَدِينِ. فَرَبُّ الدَّيْنِ يَأْتَمِنُ الْمَدِينَ إِذَا لَمْ يَرَ حَاجَةً إِلَى الْإِشْهَاد عَلَيْهِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِإِعْطَاءِ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ وَلَا فِي الْحَضَرِ. وَالْمَدِينُ يَأْتَمِنُ الدَّائِنَ إِذَا سَلَّمَ لَهُ رَهْنًا أَغْلَى ثَمَنًا بِكَثِيرٍ مِنْ قِيمَةِ الدَّيْنِ الْمُرْتَهَنِ فِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الرِّهَانَ تَكُونُ أَوْفَرَ قِيمَةً مِنَ الدُّيُونِ الَّتِي أُرْهِنَتْ لِأَجْلِهَا، فَأَمَرَ كُلَّ جَانِبٍ مُؤْتَمَنٍ أَنْ يُؤَدِّيَ أَمَانَتَهُ، فَأَدَاءُ الْمَدِينِ أَمَانَتَهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ، دُونَ مَطْلٍ، وَلَا جُحُودٍ، وَأَدَاءُ الدَّائِنِ أَمَانَتَهُ إِذَا أُعْطِيَ رَهْنًا مُتَجَاوِزَ الْقِيمَةِ عَلَى الدَّيْنِ أَنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ وَلَا يَجْحَدَهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ أَوْفَرُ مِنْهُ، وَلَا يُنْقِصَ شَيْئًا مِنَ الرَّهْنِ. وَلَفْظُ الْأَمَانَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْنِ: مَعْنَى الصِّفَةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْأَمِينُ، وَمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُؤَمَّنِ. فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ إِبْطَالُ غَلْقِ الرَّهْنِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ الْمَرْهُونُ مِلْكًا لِرَبِّ الدَّيْنِ، إِذَا لَمْ يُدْفَعِ الدَّيْنُ عِنْدَ الْأَجَلِ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» وَقَدْ كَانَ غَلْقُ الرَّهْنِ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ زُهَيْرٌ: وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ ... عِنْدَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا وَمَعْنَى أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَنْ يَقُولَ كِلَا الْمُتَعَامِلَيْنِ لِلْآخَرِ: لَا حَاجَةَ لَنَا بِالْإِشْهَادِ وَنَحْنُ يَأْمَنُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَذَلِكَ كَيْ لَا يَنْتَقِضَ الْمَقْصِدُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْ دَفْعِ مَظِنَّةِ اتِّهَامِ أَحَدِ الْمُتَدَايِنَيْنِ الْآخَرَ.

وَزِيدَ فِي التَّحْذِيرِ بِقَوْلِهِ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، وَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِيهِ مَعَ إِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ: «وَلْيَتَقِّ رَبَّهُ» لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ وَتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِي اؤْتُمِنَ وَقَعَ فِيهِ يَاءٌ هِيَ الْمَدَّةُ فِي آخِرِ (الَّذِي) وَوَقَعَ بَعْدَهُ هَمْزَتَانِ أُولَاهُمَا وَصَلْيَةٌ وَهِيَ هَمْزَةُ الِافْتِعَالِ، وَالثَّانِيَةُ قَطْعِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ، فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ ذَالِ الَّذِي وَبِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ كَسْرَةِ الذَّالِ لِأَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ سَقَطَتْ فِي الدَّرَجِ فَبَقِيَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى سُكُونِهَا إِذِ الدَّاعِي لِقَلْبِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ مَدًّا قَدْ زَالَ، وَهُوَ الْهَمْزَةُ الْأُولَى، فَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَصْحِيحٌ لِلْهَمْزَةِ إِذْ لَا دَاعِيَ لِلْإِعْلَالِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ: الَّذِيتُمِنَ بِيَاءٍ بَعْدَ ذَالِ الَّذِي، ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ: اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْهَمْزَةَ الْأَصْلِيَّةَ قَدِ انْقَلَبَتْ وَاوًا بَعْدَ هَمْزَةِ الِافْتِعَالِ الْوَصْلِيَّةِ لِأَنَّ الشَّأْنَ ضَمُّ هَمْزَةِ الْوَصْلِ مُجَانَسَةً لِحَرَكَةِ تَاءِ الِافْتِعَالِ عِنْدَ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فَلَمَّا حُذِفَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ فِي الدَّرَجِ بَقِيَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ واوا بعد كسرة ذَالِ (الَّذِي) فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً فَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَلْبَانِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الَّذِي اوْتُمِنَ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا تَبَعًا لِلضَّمَّةِ مُشِيرًا بِهَا إِلَى الْهَمْزَةِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إِلَى وَجْهِ الْأَدَاءِ فَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وِصَايَةٌ ثَانِيَةٌ لِلشُّهَدَاءِ تَجْمَعُ الشَّهَادَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدُ بِالْعَدْلِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ كُلِّهَا. فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ- بِعُمُومِهِ- بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِأَحْكَامِ الشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نَهْيٌ، وَأَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ إِفَادَةُ التَّكْرَارِ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ: أَيْ تَكْرَارِ الِانْكِفَافِ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ فِي أَوْقَاتِ عُرُوضِ فِعْلِهِ، وَلَوْلَا إِفَادَتُهُ التَّكْرَارَ لَمَا تَحَقَّقَتْ مَعْصِيَةٌ، وَأَنَّ التَّكْرَارَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ تَكْرَارٌ يَسْتَغْرِقُ الْأَزْمِنَةَ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا دَاعٍ لِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً بِحَقٍّ أَلَّا يَكْتُمَهُ عِنْدَ عُرُوضِ إِعْلَانِهِ: بِأَنْ يُبَلِّغَهُ إِلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، أَوْ يَقْضِيَ بِهِ، كُلَّمَا ظَهَرَ الدَّاعِي إِلَى الِاسْتِظْهَارِ بِهِ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ إِذَا خَشِيَ الشَّاهِدُ تَلَاشِيَ مَا فِي عِلْمِهِ: بِغَيْبَةٍ أَوْ طُرُوِّ نِسْيَانٍ، أَوْ عُرُوضِ مَوْتٍ، بِحَسَبِ مَا يَتَوَقَّعُ الشَّاهِدُ أَنَّهُ حَافِظٌ لِلْحَقِّ الَّذِي فِي عِلْمِهِ، عَلَى مِقْدَارِ طَاقَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ. وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ- آنِفًا- أَنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنَا بِأَنَّ مُرَادَهُ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا بِقَوْلِهِ: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ [الْبَقَرَة: 282] ، وَأَنَّهُ حَرَّضَ الشَّاهِدَ عَلَى الْحُضُورِ لِلْإِشْهَادِ إِذَا طُلِبَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: 282] فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمَامُ بِإِظْهَارِ الشَّهَادَةِ إِظْهَارًا لِلْحَقِّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُهُ بَيَانًا: قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَرَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ. فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَظَاهَرَ فِيهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ. وَلَكِنْ رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قَالَهَا ثَانِيَةً وَشَكَّ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الثَّالِثَةِ- ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا» الْحَدِيثَ. وَهُوَ مَسُوقٌ مَسَاقَ ذَمِّ مَنْ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا، وَأَنَّ ذَمَّهُمْ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَحْمَلِهِ قَالَ عِيَاضٌ: حَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ ذَمِّ مَنْ يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ، وَحَمَلُوا مَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا إِذَا شَهِدَ كَاذِبًا، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» : «خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . وَأَقُولُ: رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ» الْحَدِيثَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمَا رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، سَمِعَهُ كِلَاهُمَا، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمَا فِي حِكَايَتِهِ فَيَكُونُ لَفْظُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مُبَيِّنًا لَفْظَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا دُونَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا، أَيْ دُونَ أَنْ يَسْتَشْهِدَهُمْ مُشْهِدٌ، أَيْ أَنْ يَحْمِلُوا شَهَادَةً أَيْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْمَازِرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَحَمَلُوا مَا فِي الْحَدِيثِ- أَيْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- عَلَى مَا إِذَا شَهِدَ كَاذِبًا. فَهَذَا طَرِيقٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى حَمْلِ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُبَيَّنِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ ذَمَّ الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا الشَّاهِدُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ اللَّهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَهَذَا الْجَمْعُ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا» وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ تَرْجِعُ إِلَى إِعْمَالِ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَابٍ، بِتَأْوِيلِ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِئَلَّا يُلْغَى أَحَدُهُمَا. قُلْتُ: وَبَنَى عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فَرْعًا بِرَدِّ الشَّهَادَةِ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الشَّاهِدُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ» ، وَالَّذِي نَقَلَ ابْنُ مَرْزُوقٍ فِي «شَرْحِ مُخْتَصر خَلِيل عَن الْوَجِيزِ» «الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ قَبْلَ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ، وَبَعْدَ الدَّعْوَى وَقَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ وَجْهَانِ فَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ فَهَلْ يَصِيرُ مَجْرُوحًا وَجْهَانِ» . فَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ. فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ وَابْنُ مَرْزُوقٍ أَنَّ أَدَاءَ الشَّاهِدِ شَهَادَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا مَقْبُولٌ لِحَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ: «أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الشَّاهِدِ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا، فَيُخْبِرُهُ بِهَا، وَيُؤَدِّيهَا لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ» فَإِنَّ مَالِكًا ذَكَرَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَلَمْ يُذَيِّلْهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا عَمَلَ عَلَيْهِ- وَتَبِعَ الْبَاجِيَّ ابْنُ مَرْزُوقٍ فِي «شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ خَلِيلٍ» ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْمَذْهَبِ مَا يُخَالِفُهُ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَخَلِيلٌ، وَشَارِحُو مُخْتَصَرَيْهِمَا: أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ الشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ «وَفِي الْأَدَاءِ يُبْدَأُ بِهِ دُونَ طَلَبٍ فِيمَا تَمَحَّضَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ قَادِحَةٌ» وَقَالَ خَلِيلٌ- عَاطِفًا عَلَى مَوَانِعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ-: «أَوْ رَفَعَ قَبْلَ الطَّلَبِ فِي مَحْضِ حَقِّ الْآدَمِيِّ» .

وَكَذَلِكَ ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفَصِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْفَائِقُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْوَثَائِقِ» وَنَسَبَهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسلم لمَالِك» ، وَحمله عَلَى أَنَّ الْمُسْتَنَدَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ إِعْمَالُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَ نِسْبَةَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمُتَقَدِّمِ. وَادَّعَى ابْنُ مَرْزُوقٍ أَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ تَبِعَ ابْنَ شَاسٍ إِذْ قَالَ: «فَإِنْ بَادَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَمْ يُقْبَلْ» وَأَنَّ ابْنَ شَاسٍ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ قَالَ: «وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ نُصُوصُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ رَفَعَهَا قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَنْدُوبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تُرَدَّ» وَاعْتَضَدَ بِكَلَامِ الْبَاجِيِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا. وَقَدْ سَلَكُوا فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ مَسْلَكَيْنِ: مَسْلَكٍ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ مَسْلَكُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَسْلَكِ إِعْمَالِ قَاعِدَةِ رَدِّ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ وَأَنَّهُ رِيبَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ. وَالْإِثْمُ: الذَّنْبُ وَالْفُجُورُ. وَالْقَلْبُ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ وَالِانْفِعَالَاتِ النفسية والنوايا. وَأسد الْإِثْمُ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنَّمَا الْآثِمُ الْكَاتِمُ لِأَنَّ الْقَلْبَ- أَيْ حَرَكَاتِ الْعَقْلِ- يُسَبِّبُ ارْتِكَابَ الْإِثْمِ: فَإِنَّ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ إِصْرَارٌ قَلْبِيٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: [الْأَعْرَاف: 116] وَإِنَّمَا سَحَرُوا النَّاسَ بِوَاسِطَةِ مَرْئِيَّاتٍ وَتَخَيُّلَاتٍ وَقَوْلُ الْأَعْشَى: كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ لِأَنَّ الْفَرَقَ يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَهْوَالِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَهْدِيدٌ، كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ بِمِثْلِ الصَّنِيعِ لِأَنَّ الْقَادِرَ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤَاخَذَةِ إِلَّا الْجَهْلُ فَإِذَا كَانَ عَلِيمًا أَقَامَ قسطاس الْجَزَاء.

[سورة البقرة (2) : آية 284]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 284] لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) لِلَّهِ. تَعْلِيلٌ وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ نَحْوِ: اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [آل عمرَان: 176] وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة: 30] وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الْبَقَرَة: 234] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ تَصْرِيحًا وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ، فَجُمْلَةُ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِهَا هِيَ مَحَطُّ التَّصْرِيحِ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ- إِلَى- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 283] وَجُمْلَةُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هِيَ مَوْقِعُ الِاسْتِدْلَالِ، وَهِيَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، أَوْ عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ عَبِيدُهُ فَلَا يَفُوتُهُ عَمَلُكُمْ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ جُمْلَةُ «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ» مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ عَبِيدُهُ، وَهُوَ مُحَاسِبُكُمْ، وَنَظِيرُهَا فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: 13، 14] وَلَا يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا إِلَّا أُسْلُوبُ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَمَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ هُنَا: أَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الله ربّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَخَالِقُ الْخَلْقِ، فَإِذَا كَانَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ لِلَّهِ، مَخْلُوقًا لَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ لِأَنَّهُ مُكَوِّنُ ضَمَائِرِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، وَعُمُومُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ تَمَامِ مَعْنَى الْخَالِقِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي حَالَةِ اخْتِفَاءِ حَالِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا عَنْ خَالِقِهِ. وَمَالِكِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمُّ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ الصِّفَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ وجوب الْوُجُودِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَقَوْلُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الْآيَةَ.

وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ كَالتَّمْهِيدِ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 283] وَيَكُونَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اعْتِرَاضًا بَيْنَهُمَا. وَإِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ: إِظْهَارُهُ، وَهُوَ إِعْلَانُهُ بِالْقَوْلِ، فِيمَا سَبِيلُهُ الْقَوْلُ، وَبِالْعَمَلِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ وَإِخْفَاؤُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَعَطْفُ أَوْ تُخْفُوهُ لِلتَّرَقِّي فِي الْحِسَابِ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي عَطْفِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَفِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. وَمَا فِي النَّفْيِ يَعُمُّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْمُحَاسَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُسْبَانِ وَهُوَ الْعَدُّ، فَمَعْنَى يُحَاسِبْكُمْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: يَعُدُّهُ عَلَيْكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْمُجَازَاةُ كَمَا حَكَى الله تَعَالَى: [الشُّعَرَاء: 113] وَشَاعَ هَذَا فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، وَيُوَضِّحُهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا الْأَحْوَالَ الْمَغْفُورَةَ وَغَيْرَ الْمَغْفُورَةِ: لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَلَا يُقَصِّرُوا فِي اتّباع الْخيرَات النفيسة وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ غُفْرَانًا وَتَعْذِيبًا بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ عَلَى كُلٍّ مِمَّا نُبْدِيهِ وَمَا نُخْفِيهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» . وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْهَا بِهِ أَنْفُسُهَا» وَأَحْسَنُ كَلَامٍ فِيهِ مَا يَأْتَلِفُ مِنْ كَلَامَيِ الْمَازِرِيِّ وَعِيَاضٍ، فِي شَرْحَيْهِمَا «لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ» : وَهُوَ- مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ- أَنَّ مَا يَخْطُرُ فِي النَّفْسِ إِنْ كَانَ مُجَرَّدَ خَاطِرٍ وَتَرَدُّدٍ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، إِذْ لَا طَاقَةَ لِلْمُكَلَّفِ بِصَرْفِهِ عَنْهُ، وَهُوَ مَوْرِدُ حَدِيثِ التَّجَاوُزِ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاشَ فِي النَّفْسِ عَزْمٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَفْعَالٌ: مِثْلَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَالْحَسَدِ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمُؤَاخَذَة بِهِ لأنّ مِمَّا يَدْخُلُ فِي طَوْقِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ فِي الْخَارِجِ، فَإِنْ حَصَلَتِ الْآثَارُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَحْوَالِ الْخَوَاطِرِ إِلَى الْأَفْعَالِ كَمَنْ يَعْزِمُ عَلَى السَّرِقَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 285]

فَيَسْرِقُ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَيْهِ وَرَجَعَ عَنْ فِعْلِهِ اخْتِيَارًا لِغَيْرِ مَانِعٍ مَنَعَهُ، فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَهُوَ مَوْرِدُ حَدِيثِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» وَإِنْ رَجَعَ لِمَانِعٍ قَهَرَهُ عَلَى الرُّجُوعِ فَفِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلَانِ. أَيْ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى يُجَازِيكُمْ وَأَنَّهُ مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ مَوَارِدُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي أَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنَّ مَنْ سَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّمَا جَرَى عَلَى تَسْمِيَةٍ سَبَقَتْ ضَبْطَ الْمُصْطَلَحَاتِ الْأُصُولِيَّةِ فَأَطْلَقَ النَّسْخَ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي عِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، هِيَ الْبَيَانُ لِمَنْ يَشَاء فِي قَوْله تَعَالَى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِالَّتِي بَعْدَهَا» أَيْ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَة: 286] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمَشِيئَةَ هُنَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى أَحْوَال المبدى والمحفى، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ بِالْجَزْمِ، عَطْفًا عَلَى يُحَاسِبْكُمْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بِتَقْدِيرِ فَهُوَ يغْفر، وهم وَجْهَانِ فَصِيحَانِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ إِلَّا فِي الشَّاذِّ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ، بِمَا يَدُلُّ عَلَى عُمُوم الْقُدْرَة. [285] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَقِصَصًا، خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ تَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ، وَتَأْكِيدًا وَفَذْلَكَةً لِجَمِيعِ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ» . يَعْنِي: أَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْإِرْشَادِ،

وَالتَّشْرِيعِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ: مِمَّا هُوَ عَوْنٌ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إِيمَانًا خَالِصًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ، يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وُضِعَتْ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ مِنْ أَغْرَاضٍ مُتَنَاسِبَةٍ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ: هُوَ كَالْحَاصِلِ وَالْفَذْلَكَةِ، فَقَدْ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ اسْتَوْفَى تِلْكَ الْأَغْرَاضَ. وَوَرَدَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ قَوْلَهُ: آمَنَ الرَّسُولُ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: 284] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وأل فِي الرَّسُول للعد. وَهُوَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ النُّزُولِ قَالَ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ [التَّوْبَة: 13] . والْمُؤْمِنُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّسُولُ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ. وَالْمُؤْمِنُونَ- هُنَا- لَقَبٌ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِي جَعْلِهِ فَاعِلًا لِقَوْلِهِ: آمَنَ فَائِدَةٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِكَ: قَامَ الْقَائِمُونَ. وَقَوْلُهُ: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ جَمْعٌ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ (كُلٌّ) إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ مُتَعَدِّدٍ فِي حُكْمٍ، ثُمَّ إِرَادَةُ جَمْعِهِ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللِّهْبِيِّ، بَعْدَ أَبْيَاتٍ: كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نقليكم وتقلونا وَإِذ كَانَتْ (كُلٌّ) مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ الْإِضَافَةَ فَإِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ نُوِّنَتْ تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنْ مُفْرَدٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» . وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ (كُلٌّ) اسْمٌ مُعْرَبٌ لِأَنَّ التَّنْوِينَ قَدْ يُفِيدُ الْغَرَضَيْنِ فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ وَجَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مُبْتَدَأً وَجَعَلَ كُلٌّ مُبْتَدَأً ثَانِيًا وآمَنَ خَبَرُهُ، فَقَدْ شَذَّ عَنِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكُتُبِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ كِتَابٍ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَكِتَابِهِ، بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقُرْآنُ أَوْ جِنْسُ الْكِتَابِ. فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ: وَكُتُبِهِ، إِذِ الْمُرَادُ الْجِنْسُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ سَوَاءٌ فِي إِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ:

إِنَّ الْجَمْعَ فِي مَدْخُولِ الْ الْجِنْسِيَّةِ صُوَرِيٌّ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِذَا دَخَلَتْ الْ الْجِنْسِيَّةُ عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كَالْمُضَافِ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْإِضَافَةُ تَأْتِي لِمَا تَأْتِي لَهُ اللَّامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: «كِتَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ كُتُبِهِ- أَوِ- الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ» فَقِيلَ أَرَادَ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمُفْرَدِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ أَكْثَرُ مِنْ تَنَاوُلِ الْجَمْعِ حِينَ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ جِنْسِ الْجُمُوعِ، فَلَا يَسْرِي الْحُكْمُ لِمَا دُونَ عَدَدِ الْجَمْعِ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» «اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ» . وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْعَرَبُ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَلَا فِي اسْتِغْرَاقِهِ فِي الْإِثْبَاتِ. وَأَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ- إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ عَنْهُ- فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ مَعْنًى، مَعَ كَوْنِهِ أَخْصَرَ لَفْظًا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ مَعْنَى الْأَرْجَحِ وَالْأَقْوَى. وَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارَكِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِالْتِفَاتَ: بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مَقُولِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَعُطِفَ وَقالُوا عَلَيْهِ. أَوِ النُّونُ فِيهِ لِلْجَلَالَةِ أَيْ آمَنُوا فِي حَالِ أَنَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّنَا لَا نُفَرِّقُ فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ آمَنَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِالْيَاءِ: عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ. وَالتَّفْرِيقُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ التَّفْرِيقُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ: بِأَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] . وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا عَطْفٌ عَلَى آمَنَ الرَّسُولُ وَالسَّمْعُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الرِّضَا، وَالْقَبُولِ، وَالِامْتِثَالِ، وَعَكْسُهُ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يُطِيعُونَ وَقَالَ النَّابِغَةُ: تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمْعِهَا

[سورة البقرة (2) : آية 286]

أَيْ عَدَمُ امْتِثَالِهَا لِلرُّقْيَا. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ آمَنُوا، وَاطْمَأَنُّوا وَامْتَثَلُوا، وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، دُونَ الْمُضَارِعِ، لِيَدُلُّوا عَلَى رُسُوخِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِنْشَاءَ الْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَصِيَغُ الْعُقُودِ وَنَحْوِهَا تَقَعُ بِلَفْظِ الْمَاضِي نَحْوَ بِعْتُ. وَغُفْرَانَكَ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: أَيِ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. والمصير يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ اعْتِرَافًا بِالْبَعْثِ، وَجُعِلَ مُنْتَهِيًا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُنْتَهٍ إِلَى يَوْمٍ، أَوْ عَالَمٍ، تَظْهَرُ فِيهِ قُدْرَةُ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ تَمَامِ الِامْتِثَالِ وَالْإِيمَانِ. كَأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ آبِقِينَ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] . وَجَعْلُ الْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ تَمْثِيلًا لِلْمَصِيرِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ: كَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ: أَيِ الْمَصِيرُ إِلَيْكَ لَا إِلَى غَيْرِكَ، وَهُوَ قصر حَقِيقِيّ قصدُوا بِهِ لَازِمُ فَائِدَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْبُدُهُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ. [286] [سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 286] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ. الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيكون اعتراضا ين الْجُمَلِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالطَّاعَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الدِّينِ التَّكْلِيفَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَبْشِيرٌ بِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِمُ الْمُلَقَّنَةِ، أَوِ الَّتِي أُلْهِمُوهَا: وَهِيَ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا- إِلَى قَوْلِهِ- مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكِيَ دَعَوَاتِهِمْ تِلْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ عَلِمْنَا تَأْوِيلَ قَوْلِ رَبِّنَا: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: 284] بِأَنَّهُ يَدْخُلُهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا فِي الْوُسْعِ، مِمَّا أُبْدِيَ وَمَا أُخْفِيَ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ اخْتِيَارًا، أَوْ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَطَمْئِنُّ بِهِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَها مَا كَسَبَتْ إِلَخ يُبْعِدُ هَذَا إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ.

فَعَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ (¬1) أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 284] اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَوْهُ وَقَالُوا: لَا نُطِيقُهَا، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا» فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وَإِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُرَادُ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ لِأَنَّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةُ النَّظْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً، فَحَدَثَ بَيْنَ فَتْرَةِ نُزُولِهَا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَرَجًا. والوسع فِي الْقِرَاءَة بِضَمِّ الْوَاوِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُثَلَّثُ الْوَاوِ وَهُوَ الطَّاقَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُطَاقُ وَيُسْتَطَاعُ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ. وَالْمُسْتَطَاعُ هُوَ مَا اعْتَادَ النَّاسُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوهُ إِنْ تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلَامَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ فِي أَدْيَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِعُمُومِ (نَفْسًا) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَرَعَ التَّكْلِيفَ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، فَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي سِيَاقِ الْعُقُوبَاتِ، هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا. وَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ، بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْعَامَّةِ «الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ» . وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ مَظِنَّةَ الرُّخْصَةِ، وَضَبْطُ الْمَشَاقِّ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ» وَمَا وَرَدَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فَأَمْرٌ نَادِرٌ، فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَةِ، كَتَكْلِيفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالثَّبَاتِ لِلْعَشْرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُعَنْوَنَةُ فِي كُتُبِ الْأَصْلَيْنِ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَالتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَرَنَّتْ بِهَا كُتُبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا ¬

(¬1) فِي كتاب الْإِيمَان.

شَهِيرًا، دَعَا إِلَيْهِ الْتِزَامُ الْفَرِيقَيْنِ لِلَوَازِمِ أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ فَقَالَتِ الْأَشَاعِرَةُ: يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ تَعَالَى كُلُّهُ عَدْلٌ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْعِبَادِ، وَقَاعِدَتُهُمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَعَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ لَا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالِابْتِلَاءِ وَجَعْلِ الِامْتِثَالِ عَلَامَةً عَلَى السَّعَادَةِ، وَانْتِفَائِهِ عَلَامَةً عَلَى الشَّقَاوَةِ، وَتَرَتُّبِ الْإِثْم لأنّ الله تَعَالَى إِثَابَةَ الْعَاصِي، وَتَعْذِيبَ الْمُطِيعِ، فَبِالْأَوْلَى تَعْذِيبُ مَنْ يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مُسْتَحِيلٍ، أَوْ مُتَعَذَّرٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الصُّورَةِ وَمَا هُوَ بِنَافِخٍ، وَتَكْلِيفِ الْكَاذِبِ فِي الرُّؤْيَا بِالْعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَمَا هُوَ بِفَاعِلٍ. وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُمَا خَبَرَا آحَادٍ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا أُصُولُ الدِّينِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أنّه يجب الله فِعْلُ الصَّلَاحِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ هُوَ الِامْتِثَالُ وَإِلَّا لَصَارَ عَبَثًا وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِثَابَةُ الْعَاصِي. وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أُصُولِهَا: مِثْلِ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْف: 49] وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: 28] إِلَخ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخَوْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْمُنَاظَرَةُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا نَفَى قُدْرَةَ الْعَبْدِ، وَقَالَ بِالْكَسْبِ، وَفَسَّرَهُ بِمُقَارَنَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لِحُصُولِ الْمَقْدُورِ دُونَ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، أَلْزَمَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعِبَادَ بِمَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِهِمْ، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَالْتَزَمَ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ، وَخَالَفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الأشعريّ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَالْآيَةُ لَا تَنْهَضُ حجَّة على كلا الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ إِمْكَانِ ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ: هَلْ هُوَ وَاقِعٌ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ فِي الْحِكَايَةِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ- فِي «الْبُرْهَانِ» -: «وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَاتِ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالٍ هِيَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا

يُقْدِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ الْفِعْلِ مَعَ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ» وَمَا أَلْزَمَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْأَشْعَرِيَّ إِلْزَامٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَا يُطَاقُ مَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ الظَّاهِرَةُ، الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْكَسْبِ، لِلْفَرْقِ الْبَيِّنِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَبَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَسْتُورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْنًى لِإِدْخَالِ مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ، كَأَمْرِ أَبِي جَهْلٍ بِالْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَوْ بِالْمُحَالِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَبَا لَهَبٍ إِلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى قَوْلِهِ سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ [المسد: 1، 3] فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُخَاطَبْ بِطَلَبِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا خُوطِبَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ نَسْلَمُ مِنْ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ مُخَاطَبٌ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فِي الشَّرِيعَةِ، بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ فِي إِرَادَةِ الْبَشَرِ وَقُدَرِهِمْ، دُونَ مَا هُوَ بِحَسَبِ سِرِّ الْقَدَرِ، وَالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا الرَّدُّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ حَالٌ مِنْ «نَفْسًا» لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُسْعِ الَّذِي كُلِّفَتْ بِهِ النَّفْسُ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ جَاءَتْ بِخَيْرٍ كَانَ نَفْعُهُ لَهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِشَرٍّ كَانَ ضَرُّهُ عَلَيْهَا. وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَاصِلٌ مِنَ التَّعْلِيقِ بِوَاسِطَةِ «اللَّامِ» مَرَّةً وَبِوَاسِطَةٍ (عَلَى) أُخْرَى. وَأَمَّا كَسَبَتْ وَاكْتَسَبَتْ فَبِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْمُطَاوَعَةَ فِي اكْتَسَبَ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ هُنَا مرّة بكسبت وَأُخْرَى باكتسبت تَفَنُّنًا وَكَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ بِعَيْنِهَا، كَمَا فَعَلَ ذُو الرُّمَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمُطْعَمِ الصَّيْدِ هَبَّالٍ لِبُغْيَتِهِ ... أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ مُكْتَسِبَا (¬1) وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ وَابْتُدِئَ أَوَّلًا بِالْمَشْهُورِ الْكَثِيرِ، ثُمَّ أُعِيدَ بِمُطَاوِعِهِ، وَقَدْ تَكُونُ، فِي اخْتِيَارِ الْفِعْلِ الَّذِي أَصْلُهُ دَالٌّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشُّرُورَ يَأْمُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ، فَتَأْتَمِرُ ¬

(¬1) الهبال: الْمُحْتَال. وَالْمَقْصُود أَنه حذق بالصيد وَارثه عَن أَبِيه.

النَّفْسُ وَتُطَاوِعُهُ وَذَلِكَ تَبْغِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ فِي الذُّنُوبِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى اخْتِيَارِ النَّفْسِ لِلْحَسَنَاتِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْهَا النَّاسَ بِالْفِطْرَةِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ، وَكَانَ الشَّرُّ مُشْتَهًى لِلنَّفْسِ، فَهِيَ تَجِدُّ تَحْصِيلِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ فِعْلِهَا ذَلِكَ بالاكتساب. وَالْمرَاد بِمَا اكْتَسَبَتْ الشُّرُورُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكَسْبَ هُوَ اجْتِنَاءُ الْخَيْرِ، وَالِاكْتِسَابُ هُوَ اجْتِنَاءُ الشَّرِّ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ فَفِي الْقُرْآنِ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَام: 164]- ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يُونُس: 52]- وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اكْتَسَبَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ كَسَبَ خُصَّ بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ تَكَلُّفٌ. لَكِنْ لَمْ يرد التَّعْبِير باكتسبت فِي جَانِبِ فِعْلِ الْخَيْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخَذٌ حَسَنٌ لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ كَسْبًا وَاكْتِسَابًا فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ. وَلَمْ يَصِفِ الْعِبَادَ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ قَدَرَ وَإِنَّمَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْكَسْبَ، وَهُوَ قَوْلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ وَيَفِي بِتَحْقِيقِ إِضَافَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ، مَعَ الْأَدَبِ فِي عَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ الْكَسْبِ هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّجَّارُ، رَأْسُ الْفِرْقَةِ النَّجَّارِيَّةِ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، كَانَ مُعَاصِرًا لِلنَّظَّامِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ حَتَّى قَالَ الطَّلَبَةُ فِي وَصْفِ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ: «أَدَقُّ مِنْ كَسْبِ الْأَشْعَرِيِّ» . وَتَعْرِيفُ الْكَسْبِ، عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ: هُوَ حَالَة للْعَبد يُقَارِنُهَا خَلْقُ اللَّهِ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِهَا. وَعَرَّفَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ تَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ الْحَاصِلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. وَلِلْكَسْبِ تَعَارِيفُ أُخَرُ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكَسْبِ، وَمَا دَعَا إِلَى إِثْبَاتِهِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَجَبَ أَنْ يُقَرِّرَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِئَلَّا تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى بَعْضِ الْكَائِنَاتِ، إِعْمَالًا لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لِعُمُومِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، فَوَجَبَ إِعْمَالُ هَذَا الْعُمُومِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدَّعَى كَوْنُ الْعَبْدِ مَجْبُورًا عَلَى أَفْعَالِهِ، لِلْفَرْقِ الضَّرُورِيِّ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ، وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ،

كَحَرَكَةِ الْمَاشِي وَالْقَاتِلِ، ورعيا لحقّية التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ لِئَلَّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا، وَلِحَقِّيَّةِ الْوَعْدِ والوعيد لئلّا يكون بَاطِلًا، تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ، وَتَرْكِ مَا يُرِيدُ تَرْكَهُ، وَهِيَ مَيْلُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ سَمَّاهَا الْأَشْعَرِيُّ الِاسْتِطَاعَةَ، وَسَمَّاهَا كَسْبًا. وَقَالَ: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الْفِعْلَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا وَمَالَ إِلَيْهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي الْآيَةِ: لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا يَلْحَقُ غَيْرَهَا شَيْءٌ وَلَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا، وَكَأَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنِ اعْتِقَادِ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ أَثَرٌ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ فَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْكِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَة: 285] ، بِأَنِ اتَّبَعُوا الْقَبُولَ وَالرِّضَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْجَزَاءِ وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتِيَارُ حِكَايَةِ هَذَا عَنْهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْإِيذَانِ بِانْتِهَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَلْقِينًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ: بِأَنْ يَقُولُوا هَذَا الدُّعَاءَ، مِثْلَ مَا لُقِّنُوا التَّحْمِيدَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَيَكُونُ

التَّقْدِيرُ، قُولُوا: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ إِنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَقَّنَهُمْ مُنَاجَاةً بِدَعَوَاتٍ هِيَ مِنْ آثَارِ انْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ بِهِ طَلَبُ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُنْسَخَ ذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبِ اللَّهِ كَمَا غَضِبَ عَلَى الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاء: 160] . وَالْمُؤَاخَذَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ لَا تَأْخُذْنَا بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. وَالْمُرَادُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لَا يُرْضِيَانِ اللَّهَ تَعَالَى. فَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَعَوْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وُضِعَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَنْكَرَهُ أَحْمَدُ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ فِي غَيْرِ مَا يرجع إِلَى الْخطاب الْوَضْعِ. فَالْمَعْنَى رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُؤَاخَذَةَ فَبَقِيَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْإِتْلَافِ وَالْغَرَامَاتِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ «لَا تُؤَاخِذْنَا» أَيْ لَا تُؤَاخِذْنَا بِالْعِقَابِ عَلَى فِعْلٍ: نِسْيَانٍ أَوْ خَطَأٍ، فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ الدُّعَاءِ بِمَا عُلِمَ حُصُولُهُ، حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ سَبَبُهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيطُ وَالْإِغْفَالُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً إِلَخ فَصْلٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، بِإِعَادَةِ النِّدَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ: لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُنَادَى مُغْنِيَةٌ عَنْ إِعَادَةِ النِّدَاءِ لَكِنْ قُصِدَ مِنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ. وَالْحَمْلُ مَجَازٌ فِي التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ شَدِيدٍ يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِصْرِ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِصْرِ مَا يُؤْصَرُ بِهِ أَيْ يُرْبَطُ، وَتُعْقَدُ بِهِ الْأَشْيَاءُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْإِصَارُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ فِيمَا يَصْعُبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي آلِ عمرَان [81] : قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى مَا يَثْقُلُ عَمَلُهُ، وَالِامْتِثَالُ فِيهِ، وَبَذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ، فِي

سُورَةِ الْأَعْرَافِ [157] : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَمِنْ ثَمَّ حَسُنَتِ اسْتِعَارَةُ الْحَمْلِ لِلتَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ يُنَاسِبُ الثِّقَلَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَحْمِلْ تَرْشِيحًا مُسْتَعَارًا لِمُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً عَهْدًا لَا نَفِي بِهِ، وَنُعَذَّبُ بِتَرْكِهِ وَنَقْضِهِ» . وَقَوْلُهُ: كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا صِفَةٌ لِ إِصْراً أَيْ عَهْدًا مِنَ الدِّينِ، كَالْعَهْدِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْمَشَقَّةِ، مِثْلَ مَا كُلِّفَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ مِثْلِ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبِصِفَاتٍ فِي الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا نَادِرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَاتٍ، وَعَلَى قِلَّةِ اهْتِبَالٍ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» . وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ أَيْ مَا لَا نَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ. وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ بِمُعَافَاتِهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّدِيدَةِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ دُعَاءٌ بِمُعَافَاتِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِهَا الْأُمَمُ. وَالطَّاقَةُ فِي الْأَصْلِ الْإِطَاقَةُ خُفِّفَتْ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ كَمَا قَالُوا: جَابَةٌ وَإِجَابَةٌ وَطَاعَةٌ وَإِطَاعَةٌ. وَالْقَوْلُ فِي هَذَيْنِ الدُّعَاءَيْنِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا. وَقَوْلُهُ: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا لَمْ يُؤْتِ مَعَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا، إِمَّا لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْعَرَبُ تَكْرَهُ تَكْرِيرَ اللَّفْظِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ، وَإِمَّا لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعَوَاتِ الْمُقْتَرِنَةَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا فُرُوعٌ لِهَذِهِ الدَّعْوَات الثَّلَاث، فَإِذا اسْتُجِيبَ تِلْكَ حَصَلَتْ إِجَابَةُ هَذِهِ بِالْأَوْلَى فَإِنَّ الْعَفْوَ أَصْلٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَالْمَغْفِرَةَ أَصْلٌ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالرَّحْمَةَ أَصْلٌ لِعَدَمِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، كَانَ كَأَنَّهُ دُعَاءٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: أَنْتَ مَوْلانا فَصَلَهُ لِأَنَّهُ كَالْعِلَّةِ لِلدَّعَوَاتِ الْمَاضِيَةِ: أَيْ دَعَوْنَاكَ وَرَجَوْنَا مِنْكَ ذَلِكَ لِأَنَّكَ مَوْلَانَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمَوْلَى الرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ، وَلِيَكُونَ هَذَا أَيْضًا كَالْمُقَدَّمَةِ لِلدَّعْوَةِ الْآتِيَةِ.

وَقَوْلُهُ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ جِيءَ فِيهِ بِالْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْلًى، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْلَى أَنْ يَنْصُرَ مَوْلَاهُ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْجِيبِ وَالتَّحْسِيرِ فِي قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ: رَأَيْتُ مَوَالِي الْأُلَى يَخْذُلُونَنِي ... عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ وَفِي التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ إِيذَانٌ بِتَأْكِيدِ طَلَبِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ وِلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 257] وَفِي حَدِيثِ يَوْمِ أُحُدٍ لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوهُ «اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» . وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ إِذَا نُصِرُوا عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَدْ طَابَ عَيْشُهُمْ وَظَهَرَ دِينُهُمْ، وَسَلِمُوا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا. وَفِي «الصَّحِيحِ» ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ» وَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ مَنْ صَلَّى بِهِمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ بَرَكَةً وَتَعَوُّذًا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْمَضَارِّ، وَلَعَلَّ كَلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ.

3- سورة آل عمران

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 3- سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَام الصَّحَابَةِ: سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُول: «اقرأوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ» وَفِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ: قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيءَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ» وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» : أَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» وَسَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. فِي حَدِيثِهِ فِي «الصَّحِيحِ» . قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا فَضَائِلُ آلِ عِمْرَانَ وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ مَاتَانَ أَبُو مَرْيَم وءاله هُمْ زَوْجُهُ حَنَّةُ وَأُخْتُهَا زَوْجَةُ زَكَرِيَّاءَ النَّبِيءِ. وَزَكَرِيَّاءُ كَافِلُ مَرْيَمَ إِذْ كَانَ أَبُوهَا عِمْرَانُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَهَا حَمْلًا فَكَفَلَهَا زَوْجُ خَالَتِهَا. وَوَصَفَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزَّهْرَاءِ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ أَنَّهَا تُسَمَّى: الْأَمَانَ، وَالْكَنْزَ، وَالْمُجَادِلَةَ، وَسُورَةَ الِاسْتِغْفَارِ. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ اقْتَبَسَ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافٍ وُصِفَتْ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ مِمَّا سَاقَهُ الْقُرْطُبِيُّ، فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، مِنْ تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بِالِاتِّفَاقِ، بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقِيلَ: أَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِسُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَةَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي: أَنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْأَنْفَالَ نَزَلَتْ فِي

وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَيُبْعِدُ ذَلِكَ أَنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّذْكِيرِ بِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ يَوْمِ أُحُدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، عَنِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: 84] نَزَلَ بِسَبَبِ وَفْدِ نَجْرَانَ، هُوَ وَفْدُ السَّيِّدِ وَالْعَاقِبِ، أَيْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالُوا: نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَكَانَ نُزُولُهَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، أَيْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَهَذَا وَأقرب، فَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمرَان: 121] أَنَّهُ قِتَالُ يَوْمِ أُحُدٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: 144] فَإِنَّهُ مُشِيرٌ إِلَى الْإِرْجَافِ يَوْمَ أُحُدٍ بقتل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهَا نَزَلَ بَعْدَ الْبَقَرَةِ إِلَى نِهَايَةِ مَا يُشِير إِلَى حَدِيثِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ ثَمَانِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمرَان: 121] قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ [آل عمرَان: 79] الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: إِنَّنَا بَيَّنَّا إِمْكَانَ تَقَارُنِ نُزُولِ سُوَرٍ عِدَّةٍ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: نَزَلَتْ سُورَةُ كَذَا بَعْدَ سُورَةِ كَذَا، مُرَادًا مِنْهُ أَنَّ الْمَعْدُودَةَ نَازِلَةً بَعْدَ أُخْرَى أَنَّهَا ابْتُدِئَ نُزُولهَا بعد انْتِهَاء الْأُخْرَى، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا ابْتُدِئَ نُزُولُهَا بَعْدَ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الَّتِي سَبَقَتْهَا. وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الثَّامِنَةَ وَالْأَرْبَعِينَ فِي عداد نزُول سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَعَدَدُ آيِهَا مِائَتَانِ فِي عَدِّ الْجُمْهُورِ وَعَدَدُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالشَّامِ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ. وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، مِنَ الْأَغْرَاضِ: عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ، وَمُحَمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقْسِيمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَمَرَاتِبِ الْأَفْهَامِ فِي تَلَقِّيهَا، وَالتَّنْوِيهِ بِفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يَعْدِلُهُ دِينٌ، وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ دِينٌ عِنْدَ اللَّهِ، بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَالتَّنْوِيهِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمَا أُنْزِلَا قَبْلَ الْقُرْآنِ، تَمْهِيدًا لِهَذَا الدِّينِ فَلَا يَحِقُّ لِلنَّاسِ، أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَعَلَى التَّعْرِيف بدلائل إلاهية اللَّهِ تَعَالَى، وَانْفِرَادِهِ، وَإِبْطَالِ ضَلَالَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ: مَنْ جَعَلُوا لَهُ

شُرَكَاءَ، أَوِ اتَّخَذُوا لَهُ أَبْنَاءَ، وَتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى زَوَالٍ، وَأَلَّا يَغُرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَذَخِ، وَأَنَّ مَا أُعِدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَتَهْدِيدِهِمْ بِزَوَالِ سُلْطَانِهِمْ، ثُمَّ الثَّنَاءِ عَلَى عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلِ بَيْتِهِ، وَذِكْرِ مُعْجِزَةِ ظُهُورِهِ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، وَذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَقًا. وَإِبْطَال إلاهية عِيسَى، وَمِنْ ثَمَّ أَفْضَى إِلَى قَضِيَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ وَلَجَاجَتِهِمْ، ثُمَّ مُحَاجَّةِ أَهِلَ الْكِتَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهَا، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى الرُّسُلِ كُلِّهِمْ: أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَعْبَةَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ أَعَادَ إِلَيْهِ الدِّينَ الْحَنِيفَ كَمَا ابْتَدَأَهُ فِيهِ، وَأَوْجَبَ حَجَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ ضَلَالَاتِ الْيَهُودِ، وَسُوءَ مَقَالَتِهِمْ، وَافْتِرَائِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكِتْمَانِهِمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَذَكَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاتِّحَادِ وَالْوِفَاقِ، وَذَكَّرَهُمْ بِسَابِقِ سُوءِ حَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمْ تَظَاهُرَ مُعَانِدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَذَكَّرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِمْ وَكَيْدِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ فَكَانُوا مَثَلًا لِتَمْيِيزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاعْتِزَازِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالصَّبْرِ عَلَى تَلَقِّي الشَّدَائِدِ، وَالْبَلَاءِ، وَأَذَى الْعَدُوِّ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُمْ فِي نُفُوسِ عَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِيَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ بَدْرٍ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِمَا حَصَلَ فِيهِمَا، وَنَوَّهَ، بِشَأْنِ الشُّهَدَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ: مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي مُوَاسَاةِ الْأُمَّةِ، وَالْإِحْسَانِ، وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَتَرْكِ الْبُخْلِ، وَمَذَمَّةِ الرِّبَا وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِآيَاتِ التَّفْكِيرِ فِي مَلَكُوتِ الله. وَقد عملت أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَضِيَّةُ وَفْدِ نَجْرَانَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ. وَوَفْدُ نَجْرَانَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ نَجْرَانَ بَلَغَهُمْ مبعث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَهُمْ مِنْ أَصْدَقِ الْعَرَبِ تَمَسُّكًا بِدِينِ الْمَسِيحِ، وَفِيهِمْ رُهْبَانٌ مَشَاهِيرُ، وَقَدْ أَقَامُوا لِلْمَسِيحِيَّةِ كَعْبَةً بِبِلَادِهِمْ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْأَعْشَى حِينَ مَدَحَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَكَعْبَةُ نَجْرَان حتم عَلَيْك حَتَّى تُنَاخِي بِأَبْوَابِهَا فَاجْتَمَعَ وَفْدٌ مِنْهُمْ يَرْأَسُهُ الْعَاقِبُ- فِيهِ سِتُّونَ رَجُلًا- وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْوَفْدِ، وَمَعَهُ السَّيِّدُ وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ، وَهُوَ ثِمَالُ الْقَوْمِ وَوَلِيُّ تَدْبِيرِ الْوَفْدِ، وَمُشِيرُهُ وَذُوِِ

[سورة آل عمران (3) : آية 1]

الرَّأْيِ فِيهِ، وَفِيهِمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ الْبَكْرِيُّ، وَهُوَ أُسْقُفُهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ وَوَلِيُّ دِينِهِمْ، وَفِيهِمْ أَخُو أَبِي حَارِثَةَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ذَا رُتْبَةٍ: شَرَّفَهُ مُلُوكُ الرُّومِ وَمَوَّلُوهُ. فَلَقوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَادَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَفِي شَأْنِ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَكَابَرُوا، فَدَعَاهُمْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، فَأَجَابُوا ثُمَّ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ، وَتَخَلَّصُوا مِنْهُ، وَرَجَعُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَنَزَلَتْ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَأْنِهِمْ كَمَا فِي «سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ» عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَذَكَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ وَالْفَخْرُ، فَمَنْ ظَنَّ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ وَفَدُوا فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا انْجَرَّ إِلَيْهِ مِنِ اشْتِهَارِ سَنَةِ تِسْعٍ بِأَنَّهَا سَنَةُ الْوُفُودِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ مِنْ أَوَائِلِ الْمَدَنِيَّاتِ، وَتَرْجِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ يُعَيِّنَانِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ كَانَ قَبْلَ سنة الْوُفُود. [1] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) لَمَّا كَانَ أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ، الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، هُوَ قَضِيَّةٌ مُجَادَلَةِ نَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ وَفَدُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَيَانُ فَضْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، لَا جَرَمَ افْتُتِحَتْ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي، الْمَرْمُوزِ بِهَا إِلَى تَحَدِّي الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَكَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، ثُمَّ لِلنَّصَارَى مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ سَكَنُوا بِلَادَ الْعَرَبِ فَتَكَلَّمُوا بِلِسَانِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَيَنْدُرُ فِيهِمُ الْبُلَغَاءُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِثْلُ السَّمَوْأَلِ، وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً [آل عمرَان: 33] تَمْهِيدٌ لِمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ بِسَبَبِهِ وَبَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعَانِي الم أَوَّلَ الْبَقَرَةِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 2 إلى 4]

[2- 4] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 2 الى 4] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ. ابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِمُسْنَدٍ إِلَيْهِ خَبَرُهُ فِعْلِيٌّ: لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ اهْتِمَامًا بِهِ. وَجِيءَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ: لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً أَوْ حَالِيَّةً، رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى النَّصَارَى خَاصَّةً. وَأُتْبِعَ بِالْوَصْفَيْنِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لِنَفْيِ اللَّبْسِ عَنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَأْهِلُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ غَيْرُ قَيُّومٍ، فَالْأَصْنَامُ لَا حَيَاةَ لَهَا، وَعِيسَى فِي اعْتِقَادِ النَّصَارَى قَدْ أُمِيتَ، فَمَا هُوَ الْآنَ بِقَيُّومٍ وَلَا هُوَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِقَيُّومٍ عَلَى تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، وَكَيْفَ وَقَدْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وَكُذِّبَ، وَاخْتَفَى مِنْ أَعْدَائِهِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ. وَقَوْلُهُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالْخَبَرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ، أَوْ هُوَ تَعْرِيضٌ وَنِكَايَةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ- مَعَ ذَلِكَ- عَلَى الِاخْتِصَاصِ: أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْطَانِ، أَوْ مِنْ طَرَائِقِ الْكِهَانَةِ، أَوْ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. وَالتَّضْعِيفُ فِي نَزَّلَ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُوَ يُسَاوِي الْهَمْزَ فِي أَنْزَلَ، وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ يُؤْذِنُ بِقُوَّةِ الْفِعْلِ فِي كَيْفِيَّتِهِ أَوْ كَمِّيَّتِهِ، فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِغَيْرِ التَّضْعِيفِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: فَسَرَ وَفَسَّرَ، وَفَرَقَ وَفَرَّقَ، وَكَسَرَ وَكَسَّرَ، كَمَا أَتَوْا بِأَفْعَالٍ قَاصِرَةٍ بِصِيغَةِ الْمُضَاعَفَةِ، دُونَ تَعْدِيَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ، كَمَا قَالُوا: مَاتَ وَمَوَّتَ وَصَاحَ وَصَيَّحَ. فَإِمَّا إِذَا صَارَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَلَا أُوقِنُ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْفِعْلِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزِ، إِلَى التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ، لِقَصْدِ مَا عُهِدَ فِي التَّضْعِيفِ مِنْ تَقْوِيَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أَهَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي الْمُقَدَّمَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» ، هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، أَنْ قَالَ: إِنَّ نَزَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيمِ وَإِنَّ أَنْزَلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَيْنِ أُنْزِلَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَهَذَا لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَعْنَى التَّقْوِيَةِ الْمُدَّعَى لِلْفِعْلِ الْمُضَاعَفِ، إِلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ نَزَّلَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ التَّكْثِيرِ، وَهُوَ التَّوْزِيعُ وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] فَجَمَعَ بَيْنَ التَّضْعِيفِ وَقَوْلِهِ: جُمْلَةً واحِدَةً. وَأَزِيدُ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ نَزَلَا مُفَرَّقَيْنَ كَشَأْنِ كُلِّ مَا يَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ فِي مُدَّةِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ: إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ كِتَابًا نَزَلَ عَلَى رَسُولٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَمَعْنَى مُلَابَسَتِهِ لِلْحَقِّ اشْتِمَالُهُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي قَالَ تَعَالَى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الْإِسْرَاء: 105] . وَمَعْنَى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ لَهُ، وَجُعِلَ السَّابِقُ بَيْنَ يَدَيْهِ: لِأَنَّهُ يَجِيءُ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَمْشِي أَمَامَهُ. والتوراة اسْمٌ لِلْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ أَصْلُهُ طُورَا بِمَعْنَى الْهُدَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَلْوَاحِ الَّتِي فِيهَا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبَلِ الطُّورِ لِأَنَّهَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي كتب مُوسَى، فأطق ذَلِكَ الِاسْمُ عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ مُوسَى، وَالْيَهُودُ يَقُولُونَ (سِفْرُ طُورا) فَلَمَّا دَخَلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ التَّعْرِيفِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْأَوْصَافِ وَالنَّكِرَاتِ لِتَصِيرَ أَعْلَامًا بِالْغَلَبَةِ: مِثْلُ الْعَقَبَةِ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ مَنْ حَاوَلُوا تَوْجِيهًا لِاشْتِقَاقِهِ اشْتِقَاقًا عَرَبيا، فَقَالُوا: إنّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَرْيِ وَهُوَ الْوَقْدُ، بِوَزْنِ تِفْعَلَةٍ أَوْ فَوْعَلَةٍ، وَرُبَّمَا أَقْدَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دُخُولُ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ، وَأُجِيبَ بِأَنْ لَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهَا عَلَى الْمُعَرَّبِ كَمَا قَالُوا: الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَهَذَا جَوَابٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَزْنٌ عَرَبِيٌّ إِذْ هُوَ نُسِبَ إِلَى إِسْكَنْدَرٍ، فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنَّمَا أُلْزِمَ التَّعْرِيفَ لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ اسْمٍ بِمَعْنَى الْوَصْفِ اسْمِ عَلَمٍ فَلَمَّا عَرَّبُوهُ أَلْزَمُوهُ اللَّامَ لِذَلِكَ.

الثَّانِي أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِالْيَاءِ، وَهَذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَسَبَبُ كِتَابَتِهِ كَذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى لُغَةِ إِمَالَتِهِ. وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَاسْمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَمَعَهُ أَصْحَابُهُ. وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ قِيلَ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ (إِثَانْجَيْلِيُومُ) أَيِ الْخَبَرُ الطَّيِّبُ، فَمَدْلُولُهُ مَدْلُولُ اسْمِ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ كَلِمَةَ التَّعْرِيفِ فِي اللُّغَةِ الرُّومِيَّةِ، فَلَمَّا عَرَّبَهُ الْعَرَبُ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ حَرْفَ التَّعْرِيفِ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ أَنَّ الْإِنْجِيلَ فِي السُّرْيَانِيَّةِ- وَهِيَ الْآرَامِيَّةُ- (أَنْكَلِيُونُ) وَلَعَلَّ الثَّعْلَبِيَّ اشْتَبَهُ عَلَيْهِ الرُّومِيَّةُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَيْسَتْ سُرْيَانِيَّةً وَإِنَّمَا لَمَّا نَطَقَ بِهَا نَصَارَى الْعِرَاقِ ظَنَّهَا سُرْيَانِيَّةً، أَوْ لَعَلَّ فِي الْعِبَارَةِ تَحْرِيفًا وَصَوَابُهَا الْيُونَانِيَّةُ وَهُوَ فِي الْيُونَانِيَّةِ (أُووَانَيْلِيُونُ) أَيِ اللَّفْظُ الْفَصِيحُ. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ جَعْلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ النُّجْلِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ تَعَسُّفٌ أَيْضًا. وَهَمْزَةُ الْإِنْجِيلِ مَكْسُورَةٌ فِي الْأَشْهَرِ لِيَجْرِيَ عَلَى وَزْنِ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ إِفْعِيلًا مَوْجُودٌ بِقِلَّةٍ مِثْلَ إِبْزِيمٍ، وَرُبَّمَا نُطِقَ بِهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. ومِنْ قَبْلُ يَتَعَلَّقُ بِ أَنْزَلَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أُولَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَ «هَدًى» حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ مَنَوِيٌّ مَعْنًى، كَمَا اقْتَضَاهُ بِنَاءُ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ زَمَانُ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَتَقْدِيمُ مِنْ قَبْلُ عَلَى هُدىً لِلنَّاسِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَأَمَّا ذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ فَلِكَيْ لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هُدَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا كَالْمُقَدَّمَاتِ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، الَّذِي هُوَ تَمَامُ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْبَشَرِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] فَالْهُدَى الَّذِي سَبَقَهُ غَيْرُ تَامٍّ. ولِلنَّاسِ تَعْرِيفُهُ إِمَّا لِلْعَهْدِ: وهم النَّاس الَّذِي خُوطِبُوا بِالْكِتَابَيْنِ، وَإِمَّا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ: فَإِنَّهُمَا وَإِنْ خُوطِبَ بِهِمَا نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَإِنَّ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ يَهْتَدِي بِهِ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهْتَدِيَ، وَقَدْ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ تَشْمَلُهُمْ دَعْوَةُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ النَّاسُ الَّذِينَ دعاهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ

أَبْطَلَ أَحْكَامَ الْكِتَابَيْنِ، وَأَمَّا كَوْنُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا عِنْدَ مُعْظَمِ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَذَلِكَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ لَا مَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابَيْنِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ الِاسْتِغْرَاقِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَلْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْفرْقَان فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَرَقَ كَالشُّكْرَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالْبُهْتَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَال: 41] وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ. وَسُمِّيَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] وَالْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ تَفْضِيلٌ لِهَدْيِهِ عَلَى هَدْيِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَعْظَمُ أَحْوَالِ الْهُدَى، لِمَا فِيهَا مِنَ الْبُرْهَانِ، وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. وَإِعَادَةُ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيُوصِلَ الْكَلَامَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ [آل عمرَان: 4] الْآيَةَ أَيْ بِآيَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُمَهَّدٌ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِأَنَّ نَفْسَ السَّامِعِ تَتَطَلَّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذَا التَّنْزِيلَ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمُ اشْتَرَكُوا فِي الْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ- هُنَا- لِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ إِيجَازًا لِأَنَّ الصِّلَةَ تَجْمَعُهُمْ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مِنْ تَكْمِلَةِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ: لِمَجِيئِهِ مَجِيءَ التَّبْيِينِ لِشِدَّةِ عَذَابِهِمْ إِذْ هُوَ عَذَابُ عَزِيزٍ مُنْتَقِمٍ كَقَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 42] .

[سورة آل عمران (3) : آية 5]

وَالْعَزِيزُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [209] : فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَالِانْتِقَامُ: الْعِقَابُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بِغَضَبٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْكَارِهِ: نَاقِمٌ. وَجِيءَ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ (ذُو) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُلْكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ انْتِقَامٌ عَنِ اخْتِيَارٍ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَيْسَ هُوَ تَعَالَى مُنْدَفِعًا لِلِانْتِقَامِ بِدَافِعِ الطَّبْعِ أَو الحنق. [5] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 5] إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِوَصْفِ الْحَيِّ لِأَنَّ عُمُومَ الْعِلْمِ يُبَيِّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ. وَجِيءَ بِ (شَيْءٌ) هُنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قُصِدَ مِنْهُ عُمُومُ أَمْكِنَةِ الْأَشْيَاءِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ: بِمَا فِيهَا مِنْ بِحَارٍ، وَالْمُرَادُ بالسماء جنس السَّمَوَات: وَهِيَ الْعَوَالِمُ الْمُتَبَاعِدَةُ عَنِ الْأَرْضِ. وَابْتُدِئَ فِي الذِّكْرِ بِالْأَرْضِ لِيَتَسَنَّى التَّدَرُّجُ فِي الْعَطْفِ إِلَى الْأَبْعَدِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ أَشْيَاءَ الْأَرْضِ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أَمَّا أَشْيَاءُ السَّمَاءِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بَعْضَهَا فَضْلًا عَنْ علم جَمِيعهَا. [6] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 6] هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ. اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ يُبَيِّنُ شَيْئًا مِنْ مَعْنَى الْقَيُّومِيَّةِ، فَهُوَ كَبَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَخُصَّ من بَين شؤون الْقَيُّومِيَّةِ تَصْوِيرُ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى فِي اعْتِقَادهم إلاهية عِيسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ صَوَّرَهُ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ الْعَارِضَةَ لِلْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ وَتَصْوِيرِهِ: سَوَاءٌ الْمُعْتَادُ، وَغَيْرُ الْمُعْتَادِ. وكَيْفَ هُنَا لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ هِيَ دَالَّة على مجّد مَعْنَى الْكَيْفِيَّةِ أَيِ الْحَالَةِ، فَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي أَصْلِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهُ فِي اللُّغَةِ إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ

(كَيْفَ) مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُرُوفِ مَادَّةِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالتَّكَيُّفِ، وَهُوَ الْحَالَةُ وَالْهَيْئَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَكُونَ اسْمَ اسْتِفْهَامٍ، وَلَيْسَتْ (كَيْفَ) فِعْلًا لِأَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الزَّمَانِ، وَلَا حَرْفًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَادَّةِ اشْتِقَاقٍ. وَقَدْ تَجِيءُ (كَيْفَ) اسْمَ شَرْطٍ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَا مَا الزَّائِدَةُ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا تُفَارِقُهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْحَالَةِ، وَلَا يُفَارِقُهَا إِيلَاءُ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِيَّاهَا إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ أَنْتَ. فَإِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامًا فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ فَتَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، مُلْتَزَمًا تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ، وَإِذَا جُرِّدَتْ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ كَانَ مَوْقِعُهَا مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى حَسَبِ مَا يَطْلُبُهُ الْكَلَامُ الْوَاقِعَةُ هِيَ فِيهِ مِنَ الْعَوَامِلِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا- حِينَئِذٍ- فَالْأَظْهَرُ أَنْ تُعْتَبَرَ مُضَافًا إِلَيْهَا اسْمُ كَيْفَ وَيُعْتَبَرُ كَيْفَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ. وَجَرَى فِي كَلَامِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ فَتْحَةَ (كَيْفَ) فَتْحَةَ بِنَاءٍ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ فَتْحَةَ كَيْفَ فَتْحَةُ نَصْبٍ لَزِمَتْهَا لِأَنَّهَا دَائِمًا مُتَّصِلَةٌ بِالْفِعْلِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لَهُ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا، فَلِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْفَتْحِ إِيَّاهَا أَشْبَهَتْ فَتْحة الْبناء. فَكيف فِي قَوْلِهِ هُنَا كَيْفَ يَشاءُ يُعْرَبُ مَفْعُولا مُطلقًا «ليصوّركم» ، إِذِ التَّقْدِيرُ: حَالُ تَصْوِيرٍ يَشَاؤُهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفجْر: 6] . وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَا تَأْتِي فِي الشَّرْطِ إلّا مقترنة بِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ النَّاسِ: كَيْفَ شَاءَ فَعَلَ فَلَحْنٌ. وَكَذَلِكَ جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا قَدْ عُدَّ لَحْنًا عِنْدَ جُمْهُورِ أئمّة الْعَرَبيَّة. وذلّ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ عَلَى قَصْرِ صِفَةِ التَّصْوِيرِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ إِذْ هُوَ مُكَوِّنُ أَسْبَابِ ذَلِكَ التَّصْوِيرِ وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى كشف شبة النَّصَارَى إِذْ تَوَهَّمُوا أَنَّ تَخَلُّقَ عِيسَى بِدُونِ مَاءِ أَبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَشَرٍ وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَجَهِلُوا أَنَّ التَّصْوِيرَ فِي الْأَرْحَامِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّاتُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَلْقًا لِمَا كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ الْمُصَوَّرُ فِي الرَّحِمِ إِلَهًا.

[سورة آل عمران (3) : آية 7]

لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَفِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِنُزُولِهَا فِي مُجَادَلَةِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي هَذَا الطَّالِعِ قَصْرُ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وَقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. [7] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، مُتَعَلِّقٌ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ: وَهُوَ تَحْقِيقُ إِنْزَالِهِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِهِ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمرَان: 3] وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ لِأَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي مُجَادَلَةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَصُدِّرَتْ بِإِبْطَالِ عقيدتهم فِي إلاهية الْمَسِيح: فالإشارة إِلَى أَوْصَافِ الْإِلَهِ الْحَقَّةِ، تَوَجَّهَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى إِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فِي شَأْنِ زَعْمِهِمُ اعْتِرَافَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ بِإِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ إِذْ وُصِفَ فِيهَا بِأَنَّهُ رُوحُ الله وأنّه يحي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فَنُودِيَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ تَعَلُّقَ اشْتِبَاه وَسُوء بأويل. وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قَصْرُ صِفَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكِيدًا وَتَمْهِيدًا، إِبْطَالًا أَيْضًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] وَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفرْقَان: 5] . وَكَقَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشُّعَرَاء: 210- 212] ذَلِك أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ قَوْلُ كَاهِنٍ، وَقَوْلُ شَاعِرٍ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَقْوَالَ الْكُهَّانِ وَأَقْوَالَ الشُّعَرَاءِ مِنْ إِمْلَاءِ الْأَرْئِيَاءِ (جَمْعِ رَئِيٍّ) .

وَمِنْ بَدَائِعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ ذَكَرَ فِي الْقَصْرِ فِعْلَ أَنْزَلَ، الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ بِدُونِ صِيغَةِ الْقَصْرِ، إِذِ الْإِنْزَالُ يُرَادِفُ الْوَحْيَ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ الَّذِي آتَاكَ الْكِتَابَ. وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَ «مِنْهُ» خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وآياتٌ مُحْكَماتٌ مُبْتَدَأٌ. وَالْإِحْكَامُ فِي الْأَصْلِ الْمَنْعُ، قَالَ جَرِيرٌ: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا وَاسْتُعْمِلَ الْإِحْكَامُ فِي الْإِتْقَانِ وَالتَّوْثِيقِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ تَطَرُّقَ مَا يُضَادُّ الْمَقْصُودَ، وَلِذَا سُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً، وَهُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. أطلق الْمُحْكَمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَاضِحِ الدَّلَالَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، مَنْعًا لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرَدُّدِ فِي المُرَاد. وَأطلق التشابه هُنَا عَلَى خَفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ تَطَرُّقَ الِاحْتِمَالِ فِي مَعَانِي الْكَلَامِ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ تَعَيُّنِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَذَلِكَ مِثْلُ تَشَابُهِ الذَّوَاتِ فِي عَدَمِ تَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: أُمُّ الْكِتابِ أُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ كَثِيرُهُ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ فُرُوعُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ خَرِيطَةُ الرَّأْسِ، الْجَامِعَةُ لَهُ: أُمَّ الرَّأْسِ وَهِيَ الدِّمَاغُ، وَسُمِّيَتِ الرَّايَةُ الْأُمَّ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَنْضَوِي إِلَيْهَا، وَسُمِّيَتِ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ أُمَّ الْقُرَى، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ حَقِيقَةً فِي الْوَالِدَةِ، وَهِيَ أَصْلٌ لِلْمَوْلُودِ وَجَامِعٌ لِلْأَوْلَادِ فِي الْحَضَانَةِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، أُطْلِقَ اسْمُ الْأُمِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ أُمَّ الْقُرْآنِ. وَالْكتاب: الْقُرْآنُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أُمُّ الْكِتابِ هُنَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْد: 39] . وَقَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الْمُتَشَابِهَاتُ الْمُتَمَاثِلَاتُ، وَالتَّمَاثُلُ يَكُونُ فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيُبَيَّنُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَجْهِ التَّمَاثُلِ، وَقَدْ يُتْرَكُ بَيَانُهُ إِذَا كَانَ وَجْهُ التَّمَاثُلِ ظَاهِرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 70] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جِهَةَ التَّشَابُهِ.

وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ: إِلَى أنّ الْآيَات الْقُرْآنِ صِنْفَانِ: مُحْكَمَاتٌ وَأَضْدَادُهَا، الَّتِي سُمِّيَتْ مُتَشَابِهَاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ أَضْدَادُ الْمُحْكَمَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بُقُولِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمرَان: 7] أَيْ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا قِبَلَ لِأَمْثَالِهِمْ بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَعَانِيهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ، رَاجِعَةٌ إِلَى أَلْفَاظِ الْآيَاتِ. وَوَصَفَ الْمُحْكَمَاتِ بِأَنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأُمِّ الْأَصْلَ، أَوِ الْمَرْجِعَ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ: أَيْ هُنَّ أَصْلُ الْقُرْآنِ أَوْ مَرْجِعُهُ، وَلَيْسَ يُنَاسِبُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ إِلَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ إِذِ الْقُرْآنُ أُنْزِلَ لِلْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، فَالْمُحْكَمَاتُ هِيَ أُصُولُ الِاعْتِقَادِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْآدَابِ وَالْمَوَاعِظِ، وَكَانَتْ أُصُولًا لِذَلِكَ: بِاتِّضَاحِ دَلَالَتِهَا، بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهَا أَوْ تَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورة: 11]- لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: 23]- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: 185]- وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205]- وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 40] . وَبِاتِّضَاحِ مَعَانِيهَا بِحَيْثُ تَتَنَاوَلُهَا أَفْهَامُ مُعْظَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا وَتَتَأَهَّلُ لِفَهْمِهَا فَهِيَ أَصْلُ الْقُرْآنِ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي حَمْلِ مَعَانِي غَيْرِهَا عَلَيْهَا لِلْبَيَانِ أَوِ التَّفْرِيعِ. وَالْمُتَشَابِهَاتُ مُقَابِلُ الْمُحْكَمَاتِ، فَهِيَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ تَشَابَهَتْ فِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا هُوَ الْمُرَادَ. وَمَعْنَى تَشَابُهِهَا: أَنَّهَا تَشَابَهَتْ فِي صِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، أَيْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ. أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهَا صَادِقًا بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ أَوْ غَيْرِ مُنَاسِبَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مُرَادًا، فَلَا يَتَبَيَّنُ الْغَرَضُ مِنْهَا، فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِيمَا أَرَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْيِينِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ: مَرْجِعُهَا إِلَى تَعْيِينِ مِقْدَارِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [151] : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَالْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [23] : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَأَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَاتُ الَّتِي لَمْ تُبَيَّنْ كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّورِ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يُنْسَخْ وَالْمُتَشَابِهَ الْمَنْسُوخُ وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْوَصْفَيْنِ وَلَا لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ. وَعَنِ الْأَصَمِّ: الْمُحْكَمُ مَا اتَّضَحَ دَلِيلُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّدَبُّرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف: 11] فَأَوَّلُهَا مُحْكَمٌ وَآخِرُهَا مُتَشَابِهٌ. وَلِلْجُمْهُورِ مَذْهَبَانِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اتَّضَحَتْ دَلَالَتُهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِمَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، مِنْ جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ، وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمُوَافَقَاتِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ الْوَاضِحُ الدَّلَالَةِ، وَالْمُتَشَابِهَ الْخَفِيُّهَا، وَإِلَيْهِ مَالَ الْفَخْرُ: فالنص وَالظَّاهِر هُنَا الْمُحْكَمُ، لِاتِّضَاحِ دَلَالَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَيِ الظَّاهِرُ يَتَطَرَّقُهُ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ هُمَا الْمُتَشَابِهُ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي خَفَاءِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا: أَيِ الْمُؤَوَّلُ دَالًّا عَلَى مَعْنًى مَرْجُوحٍ، يُقَابِلُهُ مَعْنًى رَاجِحٌ، وَالْمُجْمَلُ دَالًّا على معنى مرجوع يُقَابله مرجوع آخَرُ، وَنُسِبَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الشَّاطِبِيُّ: فَالتَّشَابُهُ: حَقِيقِيٌّ، وَإِضَافِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَالْإِضَافِيُّ: مَا اشْتَبَهُ مَعْنَاهُ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مُرَاعَاةِ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإِذَا تَقَصَّى الْمُجْتَهِدُ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ فِيهَا مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَالتَّشَابُهُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ قَلِيلٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ وَبِالْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ كثير. وَقد دلّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَدَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1] وَقَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُس: 1] وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُحْكِمَ وَأُتْقِنَ فِي بَلَاغَتِهِ، كَمَا دَلَّتْ آيَاتٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: 23] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَشَابَهَ فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَقِّيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ: لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالْإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ فِي مَوَاضِعِهَا، بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَقَامَاتُ.

وَسَبَبُ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ كَوْنُهُ دَعْوَةً، وَمَوْعِظَةً، وَتَعْلِيمًا، وَتَشْرِيعًا بَاقِيًا، وَمُعْجِزَةً، وَخُوطِبَ بِهِ قَوْمٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ عَهْدٌ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّشْرِيعِ، فَجَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ مُنَاسِبٍ لِجَمْعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَادُوا الْأَسَالِيبَ التَّدْرِيسِيَّةَ، أَوِ الْأَمَالِيَ الْعِلْمِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِجِّيرَاهُمُ الْخَطَابَةَ وَالْمُقَاوَلَةَ، فَأُسْلُوبُ الْمَوَاعِظِ وَالدَّعْوَةِ قَرِيبٌ مِنْ أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ، وَهُوَ لِذَلِكَ لَا يَأْتِي عَلَى أَسَالِيبِ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ لِلْعِلْمِ، أَوِ الْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّشْرِيعِ، فأودعت الْعُلُوم الْمَقْصُود مِنْهُ فِي تَضَاعِيفِ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ، وَكَذَلِكَ أُودِعَ فِيهِ التَّشْرِيعُ، فَلَا تَجِدُ أَحْكَامَ نَوْعٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، كَالْبَيْعِ، مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، بَلْ تَلْفِيهِ مُوَزَّعًا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ مَقَامَاتُ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ، لِيَخِفَّ تَلَقِّيهِ عَلَى السَّامِعِينَ، وَيَعْتَادُوا عِلْمَ مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ فِي أُسْلُوبٍ قَدْ أَلِفُوهُ فَكَانَتْ مُتَفَرِّقَةً يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِالتَّدَبُّرِ. ثُمَّ إِنَّ إِلْقَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ كَانَ فِي زمَان طَوِيلٍ، يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِمِقْدَارِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ، وَتَحَمَّلَتْهُ مَقْدِرَتُهُمْ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ تَشْرِيعِهِ أُصُولٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَبَعْضَهُ فُرُوعٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهَا عَامًّا، أَوْ مُطْلَقًا، أَوْ مُجْمَلًا، وَبَعْضَهَا خَاصًّا، أَوْ مُقَيَّدًا، أَوْ مُبَيِّنًا، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ يَرَى تَخْصِيصَ عُمُومِ بَعْضِ عُمُومَاتِهِ بِخُصُوص بعض الخصوصات مَثَلًا، فَلَعَلَّ بَعْضًا مِنْهُمْ لَا يَتَمَسَّكُ إِلَّا بِعُمُومِهِ، حِينَئِذٍ، كَالَّذِي يَرَى الْخَاصَّ الْوَارِدَ بَعْدَ الْعَامِّ نَاسِخًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ التَّارِيخِ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلُومَ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا الْقُرْآنُ هِيَ مِنَ الْعُلُومِ الْعُلْيَا: وَهِيَ عُلُومٌ فِيمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ، وَعُلُومُ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ، وَعُلُومُ النِّظَامِ الْعُمْرَانِيِّ، وَالْحِكْمَةِ، وَعُلُومُ الْحُقُوقِ. وَفِي ضِيقِ اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَنِ الْإِيفَاءِ بِغَايَاتِ الْمُرَادَاتِ فِي هَاتِهِ الْعُلُومِ، وَقُصُورِ حَالَةِ اسْتِعْدَادِ أَفْهَامِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ لَهَا، مَا أَوْجَبَ تَشَابُهًا فِي مَدْلُولَاتِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ: مِنْهُ إِعْجَازٌ نَظْمِيٌّ وَمِنْهُ إِعْجَازٌ عِلْمِيٌّ، وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ مِنَ الْإِعْجَازِ بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدَّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. فَلَمَّا تَعَرَّضَ الْقُرْآنُ إِلَى بَعْضِ دَلَائِلِ الْأَكْوَانِ وَخَصَائِصِهَا، فِيمَا تَعَرَّضَ إِلَيْهِ، جَاءَ بِهِ مَحْكِيًّا بِعِبَارَةٍ تَصْلُحُ لِحِكَايَةِ حَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَرُبَّمَا كَانَ إِدْرَاكُ كُنْهِ حَالَتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَجْهُولًا لِأَقْوَامٍ، فَيَعُدُّونَ تِلْكَ الْآيَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَإِذَا جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا عَدَّهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ مُتَشَابِهًا مَا هُوَ إِلَّا مُحْكَمٌ.

عَلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ شَرِيعَةً دَائِمَةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فَتْحَ أَبْوَابِ عِبَارَاتِهِ لِمُخْتَلِفِ اسْتِنْبَاطِ الْمُسْتَنْبِطِينَ، حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ أَحْكَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَثَانِيهِمَا تَعْوِيدُ حَمَلَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِالتَّنْقِيبِ، وَالْبَحْثِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَقَاصِدِ مِنْ عَوِيصَاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ طَبَقَاتُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ صَالِحَةً- فِي كُلِّ زَمَانٍ- لِفَهْمِ تَشْرِيعِ الشَّارِعِ وَمَقْصِدِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَلَوْ صِيغَ لَهُمُ التَّشْرِيعُ فِي أُسْلُوبٍ سَهْلِ التَّنَاوُلِ لَاعْتَادُوا الْعُكُوفَ عَلَى مَا بَيْنَ أَنْظَارِهِمْ فِي الْمُطَالَعَةِ الْوَاحِدَةِ. مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتْ صَلُوحِيَّةُ عِبَارَاتِهِ لِاخْتِلَافِ مَنَازِعِ الْمُجْتَهِدِينَ، قَائِمَةً مَقَامَ تَلَاحُقِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَدْوِينِ كُتُبِ الْعُلُومِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْعُصُورِ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَصْلَ السَّبَبِ فِي وُجُودِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَبَقِيَ أَنْ نَذْكُرَ لَكَ مَرَاتِبَ التَّشَابُهِ وَتَفَاوُتَ أَسْبَابِهَا. وَأَنَّهَا فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا الْآنَ عَشْرُ مَرَاتِبَ: أُولَاهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِيدَاعُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقُصِدَ إِجْمَالُهَا: إِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْبَشَرِ لِفَهْمِهَا، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُودِ الْمُجْمَلِ، الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُهُ. وَإِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِمْ لِكُنْهِ فَهْمِهَا، فَأُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ أَوْ لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ فِي عَصْرٍ، أَوْ جِهَةٍ، لِفَهْمِهَا بِالْكُنْهِ وَمِنْ هَذَا أَحْوَالُ الْقِيَامَة، وَبَعض شؤون الرُّبُوبِيَّةِ كَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَثَانِيَتُهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَتَعَيَّنَ إِجْمَالُهَا، مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانٍ مَعْلُومَةٍ لَكِنْ بِتَأْوِيلَاتٍ: كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَنَحْوِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: 29] (¬1) . ثَالِثَتُهَا: مَعَانٍ عَالِيَةٌ ضَاقَتْ عَنْ إِيفَاءِ كُنْهِهَا اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفُ أَهْلِهَا، فَعُبِّرَ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُ مَعَانِيَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ، وَهَذَا مِثْلُ أَكْثَرِ صِفَاتِ الله نَحْو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ. ¬

(¬1) لَعَلَّ لفعل اسْتَوَى خُصُوصِيَّة فِي اللُّغَة أدْركهَا أهل اللِّسَان يَوْمئِذٍ كَانَ بهَا أَجْدَر بِالدّلَالَةِ على معنى تمكن الْخَالِق من مخلوقه وَلذَلِك اختير فِي الْآيَتَيْنِ دون فعل غلب أَو تمكن.

رَابِعَتُهَا: مَعَانٍ قَصُرَتْ عَنْهَا الْأَفْهَامُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْعُصُورِ، وَأُودِعَتْ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ وُجُودُهَا مُعْجِزَةً قُرْآنِيَّةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُصُورٍ قَدْ يَضْعُفُ فِيهَا إِدْرَاكُ الْإِعْجَازِ النَّظْمِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحجر: 22] يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: 5] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْل: 88] تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] وَذِكْرُ سَدِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ (¬1) . خَامِسَتُهَا: مَجَازَاتٌ وَكِنَايَاتٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَهَا أَوْهَمَ مَعَانِيَ لَا يَلِيقُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى: لِإِشْعَارِهَا بِصِفَاتٍ تُخَالِفُ كَمَالَ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوَقَّفَ فَرِيقٌ فِي مَحْمَلِهَا تَنْزِيهًا، نَحْوَ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: 27] (¬2) . وَسَادِسَتُهَا: أَلْفَاظٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ لَمْ تُعْرَفْ لَدَى الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمْ: قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ مِثْلَ: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 31] وَمِثْلَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النَّحْل: 47] (¬3) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَة: 114] وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] (¬4) . سَابِعَتُهَا: مُصْطَلَحَاتٌ شَرْعِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِخُصُوصِهَا، فَمَا اشْتَهَرَ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعْنَاهُ، صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً: كَالتَّيَمُّمِ، وَالزَّكَاةِ، وَمَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَقِيَ فِيهِ إِجْمَالٌ: كَالرِّبَا قَالَ عُمَرُ: «نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ فَتُوُفِّيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثَامِنَتُهَا: أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ خَفِيَتْ عَلَى أَقْوَامٍ فَظَنُّوا الْكَلَامَ بِهَا مُتَشَابِهًا، وَهَذَا مِثْلَ زِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وَمِثْلَ الْمُشَاكَلَةِ فِي قَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاء: 142] ¬

(¬1) هَذِه الْآيَات دلّت على معَان عَظِيمَة كشفتها الْعُلُوم الطبيعية والرياضية والتاريخية والجغرافية وتفصيلها يحْتَاج إِلَى تَطْوِيل. (¬2) إِذْ تطلق الْعين على الْحِفْظ والعناية قَالَ النَّابِغَة- عهدتك ترعاني بِعَين بَصِيرَة- وَتطلق الْيَد على الْقُدْرَة وَالْقُوَّة قَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ. وَيُطلق الْوَجْه على الذَّات تَقول: فعلته لوجه زيد. (¬3) رُوِيَ أَن عمر قَرَأَ على الْمِنْبَر أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَقَالَ: مَا تَقولُونَ فِي التخوف فَقَامَ شيخ من هُذَيْل فَقَالَ: هَذِه لغتنا، التخوف التنقص فَقَالَ عمر: هَل تعرف الْعَرَب ذَلِك فِي أشعارها قَالَ: نعم قَول أبي بكر يصف نَاقَته- تخوف الرجل مِنْهَا تامكا قردا- كَمَا تخوف عود النبعة السفن. (¬4) عَن ابْن عَبَّاس: لَا أَدْرِي مَا الأواه وَمَا الغسلين.

فَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ إِسْنَادَ خَادِعُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِسْنَادٌ بِمَعْنًى مَجَازِيٍّ اقْتَضَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ. وَتَاسِعَتُهَا: آيَاتٌ جَاءَتْ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ، فَفَهِمَهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَجَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوهَا، فَظَنُّوهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: 158] ، فِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ- وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ حَدَثًا لَمْ أَتَفَقَّهْ- لَا أَرَى بَأْسًا عَلَى أَحَدٍ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» فَقَالَتْ لَهُ: «لَيْسَ كَمَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ» إِلَخْ. وَمِنْهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 187] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [الْمَائِدَة: 93] الْآيَةَ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِيمَا شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا. عَاشِرَتُهَا: أَفْهَامٌ ضَعِيفَةٌ عَدَّتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَمَا هُوَ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَفْهَامُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَفْهَامُ الْمُشَبِّهَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الْقَلَم: 42] . وَلَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّا لَا نَصِلُ إِلَى عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] وَلَا مَا صُرِّحَ فِيهِ بِجَهْلِ وَقْتِهِ كَقَوْلِهِ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] . وَلَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى يُعَارِضُ الْحَمْلَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ، مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، أَوْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [64] مَعَ مَا فِي الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] إِنَّه لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ مِلَاكَ التَّشَابُهِ هُوَ عَدَمُ التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْمَعَانِي وَاللُّغَةِ: إِمَّا لِضِيقِهَا عَنِ الْمَعَانِي، وَإِمَّا لِضِيقِ الْأَفْهَامِ عَنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ فِي الْمَعْنَى، وَإِمَّا لِتَنَاسِي بَعْضِ اللُّغَةِ، فَيَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ الْإِحْكَامَ وَالتَّشَابُهَ: صِفَتَانِ لِلْأَلْفَاظِ، بِاعْتِبَارِ فَهْمِ الْمَعَانِي. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ، بَاسِمٍ مُفْرَدٍ لَيْسَ دَالًّا عَلَى أَجْزَاءٍ وَهُوَ أُمُّ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صِنْفَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ يَتَنَزَّلُ مِنَ الْكِتَابِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ أَيْ أَصْلِهِ وَمَرْجِعِهِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَمَقَاصِدِهِ. وَالْمَعْنَى: هُنَّ

كَأُمٍّ لِلْكِتَابِ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ أُمٌّ لِلْكِتَابِ فِي مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَعْنَى. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ يَذْكُرُ بَنِي أَسَدٍ: فَهُمْ دِرْعِي الَّتِي اسْتَلْأَمْتُ فِيهَا أَيْ مَجْمُوعُهُمْ كَالدِّرْعِ لِي، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ بِمَنْزِلَةِ حَلْقَةٍ مِنْ حِلَقِ الدِّرْعِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: 74] . وَالْكَلَامُ عَلَى (أُخَرُ) تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: 184] . فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ. تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالٍ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَسَّمَ الْكِتَابَ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي، تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَلَقِّي النَّاسِ لِلْمُتَشَابِهِ. أَمَّا الْمُحْكَمُ فَتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَاقْتَصَرَ فِي التَّفْصِيلِ عَلَى ذِكْرِ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِهِ: وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ كَيْفَ تَلَقِّيهِمْ لِلْمُتَشَابِهَاتِ لِأَنَّ بَيَانَ هَذَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ كَشْفُ شُبْهَةِ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْمُتَشَابِهَاتُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِّ تَأْوِيلِهَا، وَيُعْرَفُ حَالُ قَسِيمِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ لَا زَيْغَ فِي قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ ثُمَّ سَيُصَرِّحُ بِإِجْمَالٍ حَالَ الْمُهْتَدِينَ فِي تلقّي ومتشبهات الْقُرْآنِ. وَالْقُلُوبُ مَحَالُّ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ الْعُقُولُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [283] . وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الْمَقْصُودِ: مَا زاغَ الْبَصَرُ [النَّجْم: 17] وَيُقَالُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ. فَالزَّيْغُ أَخَصُّ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَقْصُودِ. وَالِاتِّبَاعُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُعَاوَدَةِ، أَيْ يَعْكُفُونَ عَلَى الْخَوْضِ فِي الْمُتَشَابِهِ، يُحْصُونَهُ، شُبِّهَتْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةُ بِمُلَازَمَةِ التَّابِعِ مَتْبُوعَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ عِلَّةَ الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِتْنَةِ، وَطَلَبُ أَنْ يُؤَوِّلُوهُ، وَلَيْسَ طَلَبُ تَأْوِيلِهِ فِي ذَاتِهِ بِمَذَمَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَإِنَّمَا مَحَلُّ الذَّمِّ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَأْوِيلًا لَيْسُوا أَهْلًا لَهُ فَيُؤَوِّلُونَهُ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. وَهَذَا دَيْدَنُ الْمَلَاحِدَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ: الَّذِينَ يَتَعَمَّدُونَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ تَكْثِيرًا لِسَوَادِهِمْ. وَلَمَّا وَصَفَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَقْصِدِ بِالزَّيْغِ فِي قُلُوبِهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ ذَمَّهُمْ بِذَلِكَ لِهَذَا الْمَقْصِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ اشْتِغَالٍ بِالْمُتَشَابِهِ إِذَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى هَذَا الْمَقْصِدِ يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ. فَالَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَالزَّنَادِقَةُ، وَالْمُشْرِكُونَ مِثَالُ تَأْوِيلِ الْمُشْرِكِينَ: قِصَّةُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ- إِذْ جَاءَهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ- مِنَ الْمُسْلِمِينَ- يَتَقَاضَاهُ أَجْرًا، فَقَالَ الْعَاصِي- مُتَهَكِّمًا بِهِ- «وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ- أَيْ حَسَبَ اعْتِقَادِكُمْ- فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ» فَالْعَاصِي تَوَهَّمَ، أَوْ أَرَادَ الْإِيهَامَ، أَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُوهِمَ دَهْمَاءَ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى تَكْذِيبِ الْخَبَرِ بِالْبَعْثِ، بِمُشَاهَدَةِ عَدَمِ رُجُوعِ أَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الدُّخان: 36] . وَمِثَالُ تَأْوِيلِ الزَّنَادِقَةِ: مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليّ بن رزام الطَّائِيُّ الْكُوفِيُّ قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ حِينَ كَانَ الْجَنَّابِيُّ- زَعِيمُ الْقَرَامِطَةِ- بِمَكَّةَ، وَهُمْ يَقْتُلُونَ الْحُجَّاجَ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ قد قَالَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ الْمَكِّيُّ «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فَأَيُّ أَمْنٍ هُنَا؟» قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا خَرَجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَة: 228] . وَالَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلُّ قَوْمٍ يَجْعَلُونَ الْبَحْثَ فِي الْمُتَشَابِهِ دَيْدَنَهُمْ، وَيُفْضُونَ بِذَلِكَ إِلَى خِلَافَاتٍ وَتَعَصُّبَاتٍ. وَكُلُّ مَنْ يَتَأَوَّلُ الْمُتَشَابِهَ عَلَى هَوَاهُ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى تَأْوِيلِهِ مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ وَاسْتِعْمَال عَرَبِيٍّ. وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: التَّأْوِيلُ بِحَسَبِ الْهَوَى، أَوِ التَّأْوِيلُ الْمُلْقِي فِي الْفِتْنَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الْآيَةَ، كَمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَتَّبِعُونَ أَنَّهُمْ يَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَهْتِرُونَ بِهِ، وَهَذَا مِلَاكُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَال من يتيع الْمُتَشَابِهَ لِلْإِيقَاعِ فِي الشَّكِّ وَالْإِلْحَادِ، وَبَيْنَ حَالِ مَنْ يُفَسِّرُ الْمُتَشَابِهَ وَيُؤَوِّلُهُ

إِذَا دَعَاهُ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ» قَالَ: مَا هُوَ- قَالَ: «فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ» - وَقَالَ- «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ» وَقَالَ: «وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» وَقَالَ: «قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى ثُمَّ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ أقبل بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُلْ: «مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفَوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى قَوْله: أُولُوا الْأَلْبابِ [الْبَقَرَة: 269]- قَالَتْ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» . وَيُقْصَدُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِنَصَارَى نَجْرَانَ، إِذْ أَلْزَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لِكَوْنِ اللَّهِ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ بِمَا يَقَعُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ نَحْوِ خَلَقْنَا وَأَمَرْنَا وَقَضَيْنَا، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الضَّمِيرَ لَهُ وَعِيسَى وَمَرْيَمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا- إِنْ صَحَّ عَنْهُمْ- هُوَ تَمْوِيهٌ إِذْ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ فِي ذَلِكَ الضَّمِيرِ طَرِيقَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ إِمَّا إِرَادَةَ التَّشْرِيكِ أَوْ إِرَادَةَ التَّعْظِيمِ فَمَا أَرَادُوا مِنِ اسْتِدْلَالِهِمْ هَذَا إِلَّا التَّمْوِيهَ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. جُمْلَةُ حَالٍ أَيْ وَهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ إِذْ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ لِأَمْثَالِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرَجِي» . وَمِنْ هُنَا أَمْسَكَ السَّلَفُ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ، غَيْرِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّشْرِيعِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ

بِمَا لَا أَعْلَمُ» . وَجَاءَ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أَوِ ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ (¬1) فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ أَشْيَاءَ فَأَحْضَرَهُ عُمَرُ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ أَيَّامًا، فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي» ثُمَّ أَرْجَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَأَوَّلَ عِنْدَ عُرُوضِ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» - «مِنَ الْكَائِدِينَ لِلْإِسْلَامِ الْبَاطِنِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ» . قُلْتُ: أَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا مُعْظَمَ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا، وَتَأَوَّلُوهُ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، وَأَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِي مُتَشَابِهِهِ، وَاعْتَقَدُوا سَبَبَ التَّشَابُهِ وَاقِعًا، فَالْأَوَّلُونَ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَالْأَخِيرُونَ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَوْ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَخَالَفُوا الْخَلَفَ وَالسَّلَفَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- «فِي الْعَوَاصِمِ» - «وَأَصْلُ الظَّاهِرِيِّينَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» يَعْنِي أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهُ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ. وَالْمُرَادُ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: الَّذِينَ تَمَكَّنُوا فِي عِلْمِ الْكِتَابِ، وَمَعْرِفَةِ مَحَامِلِهِ، وَقَامَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عَلَيْهِمُ الشُّبَهُ. وَالرُّسُوخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: رَسَخَتِ الْقَدَمُ تَرْسَخُ رُسُوخًا إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَمْ تَتَزَلْزَلْ، وَاسْتُعِيرَ الرُّسُوخُ لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَتَطَرَّقُهُ الْأَخْطَاءُ غَالِبًا، وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: الثَّابِتُونَ فِيهِ الْعَارِفُونَ بِدَقَائِقِهِ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ مَوَاقِعَ التَّأْوِيلِ، وَيَعْلَمُونَهُ. وَلِذَا فَقَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ: كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمرَان: 18] وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ فَوْرَكٍ، وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ اسْتَأْثَرَ ¬

(¬1) صبيغ بصاد مُهْملَة وباء مُوَحدَة وتحتية وغين مُعْجمَة بِوَزْن أَمِير- وَعسل- بِعَين مُهْملَة مَكْسُورَة وسين مُهْملَة سَاكِنة.

اللَّهُ بِعِلْمِهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَضِيلَةً. وَوَصَفَهُمْ بِالرُّسُوخِ، فَآذَنَ بِأَنَّ لَهُمْ مَزِيَّةً فِي فَهْمِ الْمُتَشَابِهِ: لِأَنَّ الْمُحْكَمَ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ الْكَلَامَ، فَفِي أَيِّ شَيْءٍ رُسُوخُهُمْ، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ: «أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ» . وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ جُمْلَةَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ، وَقَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الدِّينِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَصْفُهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أُثْبِتَ لِهَذَا الْفَرِيقِ، هُوَ حُكْمٌ مِنْ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي الْمُعْضِلَاتِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعَطْفِ هُوَ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَيَكُونُ الرَّاسِخُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَدْخُلُونَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ. وَلَوْ كَانَ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأً وَجُمْلَة: «يَقُولُونَ ءامنّا بِهِ» خَبَرًا، لَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا زَيْغَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الرَّاسِخِينَ فَائِدَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «تَسْمِيَتُهُمْ رَاسِخِينَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيع من يفهم كَلَام الْعَرَب، وَفِي أيّ شَيْء هُوَ رسوخهم إِذا لم يعلمُوا إلّا مَا يُعلمهُ الْجَمِيعُ وَمَا الرُّسُوخُ إِلَّا الْمَعْرِفَةُ بِتَصَارِيفِ الْكَلَامِ بِقَرِيحَةٍ مُعَدَّةٍ» وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّة لَا يعد وَأَن يَكُونَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَلَيْسَ إِبْطَالًا لِمُقَابِلِهِ إِذْ قَدْ يُوصَفُ بِالرُّسُوخِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَسْتَقِيمُ تَأْوِيلُهُ، وَمَا لَا مَطْمَعَ فِي تَأْوِيلِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي، وَهُوَ رَأْيُ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ: بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ (وَالرَّاسِخُونَ) مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُعَادِلًا لِجُمْلَةِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَأَجَابَ التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّ الْمُعَادِلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا، بَلْ قَدْ يُحْذَفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا قَالَ الْفَخْرُ: لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ إِذِ الْإِيمَانُ بِمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ أَمْرٌ غَيْرُ غَرِيبٍ وَسَنُجِيبُ عَنْ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَذَكَرَ الْفَخر حجَجًا أخر غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا غَيْرَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَأَنَّ خَفَاءَ الْمُرَادِ مُتَفَاوِتٌ، وَأَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الثَّانِي يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاوِتٌ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ تَأْوِيلَاتٍ قَرِيبَةً، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَلَّا يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، لَكِنَّ صَنِيعَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَأْوِيلِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَهْلٍ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُدُّونَ بَابَ التَّأْوِيلِ فِي الْمُتَشَابِهِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ «إِنَّ تَأْوِيلَ مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ- عَلَى الِاسْتِيفَاءِ- إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ، مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ: بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ، وَخَافُوا أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الرَّاسِخِينَ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ عَلَى الْكَمَالِ» . وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ انْبَنَى اخْتِلَافٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي تَأْوِيلِ مَا كَانَ مُتَشَابِهًا: مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ، عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ رَأْيُ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِهَا، عَلَى إِبْهَامِهَا وَإِجْمَالِهَا، وَتَفْوِيضَ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ عُلَمَائِنَا، قَبْلَ ظُهُورِ شُكُوكِ الْمُلْحِدِينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَذَلِكَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَعْضِ عَصْرِ تَابِعِيهِمْ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَيَقُولُونَ: طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، أَيْ أَشَدُّ سَلَامَةً لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلُوا تَأْوِيلَاتٍ لَا يُدْرَى مَدَى مَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَتَّسِقُ مَعَ مَا شَرَعَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الشَّرَائِعِ، مَعَ مَا رَأَوْا مِنِ اقْتِنَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ بِطَرِيقَتِهِمْ، وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي طَلَبِ التَّأْوِيلِ. وَكَانَ رَأْيُ جُمْهُورِ مَنْ جَاءَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ تَأْوِيلَهَا بِمَعَانٍ مِنْ طَرَائِقِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مِنْ مَجَازٍ، وَاسْتِعَارَةٍ، وَتَمْثِيلٍ، مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ تَعَطُّشُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اعْتَادُوا التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ وَفَهْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِطَرِيقَةِ الْخَلَفِ، وَيَقُولُونَ: طَريقَة الْخلف أَعم، أَيْ أَنْسَبُ بِقَوَاعِدِ

الْعِلْمِ وَأَقْوَى فِي تَحْصِيل الْعلم الْقَاطِع لِجِدَالِ الْمُلْحِدِينَ، وَالْمَقْنَعِ لِمَنْ يَتَطَلَّبُونَ الْحَقَائِقَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَقَدْ يَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا أَحْكَمُ أَيْ أَشَدُّ إِحْكَامًا لِأَنَّهَا تُقْنِعُ أَصْحَابَ الْأَغْرَاضِ كُلَّهُمْ. وَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ أوّل من صَدرا عَنْهُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- فِي «الْعَقِيدَةِ الْحَمَوِيَّةِ» - إِلَى رَدِّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى قَائِلٍ. وَالْمَوْصُوفُ بِأَسْلَمَ وَبِأَعْلَمَ الطَّرِيقَةُ لَا أَهْلُهَا فَإِنَّ أَهْلَ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ سَلِمُوا فِي دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ. وَلَيْسَ فِي وَصْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بِأَنَّهَا أَعْلَمُ أَوْ أَحْكَمُ، غَضَاضَةٌ مِنَ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْعُصُورَ الَّذِينَ دَرَجُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، فِيهِمْ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَحَامِلُهَا بِسَبَبِ ذَوْقِهِمُ الْعَرَبِيِّ، وَهَدْيِهِمُ النَّبَوِيِّ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعِيرُ الْبَحْثَ عَنْهَا جَانِبًا مِنْ هِمَّتِهِ، مِثْلَ سَائِرِ الْعَامَّةِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ طَيُّ الْبَحْثِ عَنْ تَفْصِيلِهَا أَسْلَمَ لِلْعُمُومِ، وَكَانَ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُؤَوِّلُوهَا بِهِ لَأَوْسَعُوا، لِلْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى بَيَانِهَا، مَجَالًا لِلشَّكِّ أَوِ الْإِلْحَادِ، أَوْ ضِيقِ الصَّدْرِ فِي الِاعْتِقَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ مِنْهُ مَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ الْمُتَشَابِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ يُعَادِلُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ الْمَشْهُورَيْنِ لِأَجْلِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ. فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ التَّأْوِيلِ حَقِيقٌ بِأَلَّا يُسَمَّى تَأْوِيلًا وَلَيْسَ أَحَدُ مَحْمَلَيْهِ بِأَقْوَى مِنَ الْآخَرِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ فِي الْوَضْعِ مِنَ الْآخَرِ، وَالْمَحْمَلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ سَبْقُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِمُقْتَضٍ تَرْجِيحَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَمْ مِنْ إِطْلَاقٍ مَجَازِيٍّ لِلَفْظٍ هُوَ أَسْبَقُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ إِطْلَاقِهِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَجَازِ بِمَقْبُولٍ عَلَى عُمُومِهِ. وَتَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ بِالْمُتَشَابِهِ لَيْسَتْ مُرَادَةً فِي الْآيَةِ. وَعَدُّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ جُمُودٌ. وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا ظَاهِرُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ أَشْهَرُ مِنْ مَعْنَى تَأْوِيلِهِ وَلَكِنَّ الْقَرَائِنَ أَوِ الْأَدِلَّةَ أَوْجَبَتْ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ فَهَذَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ. ثُمَّ إِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ قَدْ يَتَيَسَّرُ بِمَعْنًى مُسْتَقِيمٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمُرَادُ إِذَا جَرَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِثْلَ الْأَيْدِي وَالْأَعْيُنِ فِي

قَوْلِهِ: بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] وَقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] فَمَنْ أَخَذُوا مِنْ مِثْلِهِ أَنَّ لِلَّهِ أَعْيُنًا لَا يُعْرَفُ كُنْهُهَا، أَوْ لَهُ يَدًا لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا، فَقَدْ زَادُوا فِي قُوَّةِ الِاشْتِبَاهِ. وَمِنْهُ مَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُ احْتِمَالًا وَتَجْوِيزًا بِأَنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الظَّاهِرِ مُتَعَيِّنًا وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مَا أَوَّلُوهُ بِهِ فَعَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ وَالْمِثَالِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَة: 210] فَمِثْلُ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ تَأْوِيلِهِ وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ، أَنَّ مَا أَوَّلَهُ بِهِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ وَجْهٌ تَابِعٌ لِإِمْكَانِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشَدُّ مَوَاقِعِ التَّشَابُهِ وَالتَّأْوِيلِ. وَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ: أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى أَبْلَغِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ فِي مَقَامٍ يَسَعُ طَائِفَتَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالٌ مِنَ (الرَّاسِخُونَ) أَيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الْكِنَايَةَ عَنِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُعْتَقِدِ أَنْ يَقُولَ مُعْتَقَدَهُ، أَيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمْ شَكٌّ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَقُولُوا: لماذَا لم يجىء الْكَلَامُ كُلُّهُ وَاضِحًا، وَيَتَطَرَّقُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الرِّيبَةِ فِي كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ يَقُولُونَ لِغَيْرِهِمْ: أَيْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الرُّسُوخِ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِدْرَاكِ تَأْوِيلِهِ، لِيُعَلِّمُوهُمُ الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ الْإِيمَانِ، وَعَدَمَ التَّطَلُّعِ إِلَى مَا لَيْسَ فِي الْإِمْكَان، وَهَذَا يَقْرُبُ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ مُدْرَكِهِ لِلْعَامِّيِّ، إِذَا سَأَلَهُ عَنْ مَأْخَذِ الْحُكْمِ، إِذَا كَانَ الْمُدْرَكُ خَفِيًّا. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِ الْفَخْرِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِتَرْجِيحِ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَعَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ: يَقُولُونَ خَبرا، وَقَوْلهمْ: آمَنَّا بِهِ آمَنَّا بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ نَفْهَمْ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أَيْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ. وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بَيَانٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ، فَلِذَلِكَ قُطِعَتِ الْجُمْلَةُ. أَيْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 إلى 9]

وَزِيدَتْ كَلِمَةُ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مِنْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ الْمَجَازِيِّ، أَيْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ، وَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 197] . وَجُمْلَةُ وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تَذْيِيلٌ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ، مَسُوقٌ مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي اهْتِدَائِهِمْ إِلَى صَحِيحِ الْفَهْمِ. وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [197] . [8، 9] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 8 إِلَى 9] رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) دُعَاءٌ علّمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ: لِأَنَّ الْمَوْقِعَ الْمَحْكِيَّ مَوْقِعُ عِبْرَةٍ وَمَثَارٍ لِهَوَاجِسِ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمَصِيرِ إِلَى حَالِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَمَا هُمْ إِلَّا مِنْ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا فِي سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَالْمَشَاعِرِ، فَمَا كَانَ ضلالهم إلّا عَن حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ، وَاللُّطْفَ، وَوَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمرَان: 7] الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا قُصِدَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا، إِيقَاظَ الْأُمَّةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِهَا: تَحْذِيرًا لَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ، الَّذِي أَوْقَعَ الْأُمَمَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ وُجُودُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كُتُبِهَا، وَتَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْبَوَارِقِ الْبَاطِلَةِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنَ الرِّدَّةِ وَالْعِصْيَانِ، بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِتَوَهُّمِ أَنَّ التَّدَيُّنَ بِالدِّينِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ وُجُودِ الرَّسُولِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي صَلَاتِهِ مُدَّةَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّيْتُ

وَرَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَامَ فِي الثَّالِثَةِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَادُ تَمَسُّ ثِيَابَهُ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْآيَةِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا الْآيَةَ. فَزَيْغُ الْقَلْبِ يَتَسَبَّبُ عَنْ عَوَارِضَ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ: مِنْ خَلَلٍ فِي ذَاتِهِ، أَوْ دَوَاعٍ مِنَ الْخُلْطَةِ أَوِ الشَّهْوَةِ، أَوْ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ، تَحَوَّلُ بِالنَّفْسِ عَنِ الْفَضَائِلِ الْمُتَحَلِّيَةِ بِهَا إِلَى رَذَائِلَ كَانَتْ تَهْجِسُ بِالنَّفْسِ فَتَذُودُهَا النَّفْسُ عَنْهَا بِمَا اسْتَقَرَّ فِي النَّفْسِ مِنْ تَعَالِيمِ الْخَيْرِ الْمُسَمَّاةِ بِالْهُدَى، وَلَا يَدْرِي الْمُؤْمِنُ، وَلَا الْعَاقِلُ، وَلَا الْحَكِيمُ، وَلَا الْمُهَذَّبُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ تَحُلُّ فِيهَا بِهِ أَسْبَابُ الشَّقَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَدْرِي الشَّقِيُّ، وَلَا الْمُنْهَمِكُ، الْأَفِنُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ تَحُفُّ فِيهَا بِهِ أَسْبَابُ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ تَغَيُّرِ خَلْقٍ، أَوْ خُلُقٍ، أَوْ تَبَدُّلِ خَلِيطٍ، قَالَ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَام: 110] وَلِذَا كَانَ دَأْبُ الْقُرْآنِ قَرْنَ الثَّنَاءِ بِالتَّحْذِيرِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْإِنْذَارِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا تَحْقِيقٌ لِلدَّعْوَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ إِذْ أَسْنَدُوا الْهُدَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ كَرَمًا مِنْهُ، وَلَا يَرْجِعُ الْكَرِيمُ فِي عَطِيَّتِهِ، وَقَدِ استعاذ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّلْبِ بَعْدَ الْعَطَاءِ. وَإِذ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي مُتَصَرِّفٌ، وَهِيَ هُنَا مُتَصَرِّفَةٌ تَصَرُّفًا قَلِيلًا لِأَنَّهَا لَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ، كَانَتْ فِي معنى الظروف، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ كَانَتْ فِيهَا شَائِبَةُ تَصَرُّفٍ، كَمَا هِيَ فِي يَوْمَئِذٍ وَحِينَئِذٍ، أَيْ بَعْدَ زَمَنِ هِدَايَتِكَ إِيَّانَا. وَقَوْلُهُ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً طَلَبُوا أَثَرَ الدَّوَامِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ الرَّحْمَةُ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْعَ دَوَاعِي الزَّيْغِ وَالشَّرِّ. وَجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ تَيْسِيرَ أَسْبَابِهَا، وَتَكْوِينَ مُهَيِّئَاتِهَا، بِتَقْدِيرِ اللَّهِ إِذْ لَوْ شَاءَ لَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَرَّضًا لِنُزُولِ الْمَصَائِبِ وَالشُّرُورِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِمَوْجُودَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَيَّةٍ وَغَيْرِ حَيَّةٍ، هُوَ تِلْقَاءَهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِهِ بِإِيقَاظِ عَقْلِهِ لِاتِّقَاءِ الْحَوَادِثِ، وَبِإِرْشَادِهِ لِاجْتِنَابِ أَفْعَالِ الشُّرُورِ الْمُهْلِكَةِ، وَبِإِلْهَامِهِ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعُهُ، وَبِجَعْلِ تِلْكَ الْقُوَى الْغَالِبَةِ لَهُ قُوَى عَمْيَاءَ لَا تَهْتَدِي سَبِيلًا إِلَى قَصْدِهِ، وَلَا تُصَادِفُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] وَمِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ اللُّطْفِ أَحْوَالُ الِاضْطِرَارِ وَالِالْتِجَاءِ وَقَدْ كُنْتُ قُلْتُ كَلِمَةَ «اللُّطْفُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 إلى 11]

وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَجْلِ كَمَالِ الصِّفَةِ فِيهِ تَعَالَى لِأَنَّ هِبَاتِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا أَفَاضَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ شَيْءٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَة تَأْكِيد بإنّ، وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَبِطَرِيقِ الْقَصْرِ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اسْتَحْضَرُوا عِنْدَ طَلَبِ الرَّحْمَةِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَوْمُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ الْأَبَدِيِّ، فَأَعْقَبُوا بِذِكْرِ هَذَا الْيَوْمِ دُعَاءَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَخَاصَّةً يَوْمَ تَجَمُّعِ النَّاسِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إِبْرَاهِيم: 41] عَلَى مَا فِي تَذَكُّرِ يَوْمِ الْجَمْعِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْغُوَاةِ وَالْمُهْتَدِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ. وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ لَا رَيْبَ فِيهِ جَدِيرًا بِالْوُقُوعِ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ الرَّيْبِ فِي وُقُوعِهِ. وَنَفَوْهُ عَلَى طَرِيقَةِ نَفْيِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِارْتِيَابِ الْمُرْتَابِينَ، هَذَا إِذَا جَعَلْتَ (فِيهِ) خَبَرًا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ صِفَةً لِرَيْبٍ وَتَجْعَلَ الْخَبَرَ مَحْذُوفًا عَلَى طَرِيقَةِ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ، فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: عِنْدَنَا، أَوْ لَنَا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ الرَّيْبِ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِجَمْعِ النَّاسِ لَهُ، فَلَا يُخْلِفُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ، وَالْمِيعَادُ هُنَا اسْم مَكَان. [10، 11] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 10 إِلَى 11] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) اسْتِئْنَاف كَلَام ناشيء عَنْ حِكَايَةِ مَا دَعَا بِهِ الْمُؤْمِنُونَ: مِنْ دَوَامِ الْهِدَايَةِ، وَسُؤَالِ الرَّحْمَةِ، وَانْتِظَارِ الْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِذِكْرِ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ. وَتَعْقِيبُ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، بِذِكْرِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ،

إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ دَعْوَتَهُمُ استجيبت. وَالْمرَاد بالذين كَفَرُوا: الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا وَصْفٌ غَالِبٌ عَلَيْهِمْ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: الَّذِينَ كَفَرُوا بنبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدَ هُنَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَأَهْلُ نَجْرَانَ وَيُرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّهُمْ ذُكِّرُوا بِحَالِ فِرْعَوْنَ دُونَ حَالِ عَادٍ وَثَمُودَ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَعْلَقُ بِأَخْبَارِ فِرْعَوْنَ. كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ أَعْلَقُ بِأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَّ الرَّدَّ عَلَى النَّصَارَى مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَيَكُونَ التَّذْكِيرُ بِفِرْعَوْنَ لِأَنَّ وَعِيدَ الْيَهُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهَمُّ. وَمَعْنَى «تُغْنِي» تَجْزِي وَتَكْفِي وَتَدْفَعُ، وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول بعن نَحْوَ: «مَا أَغْنَى مَالِيَهْ» . وَلِدَلَالَةِ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى الْإِجْزَاءِ وَالدَّفْعِ، كَانَ مُؤْذِنًا بِأَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا يُدْفَعُ ضُرُّهُ، وَتُكْفَى كُلْفَتُهُ، فَلِذَلِكَ قَدْ يَذْكُرُونَ مَعَ هَذَا الْفِعْلِ مُتَعَلِّقًا ثَانِيًا وَيُعَدُّونَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ (مِنْ) كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَتَكُونُ (مِنْ) لِلْبَدَلِ وَالْعِوَضِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ أَمْرٍ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ هَذَا الْفِعْلِ، تَعْلِيقًا ثَانِيًا، بِاسْمِ ذَاتٍ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا أَخَصُّ حَالٍ اشْتُهِرَتْ بِهِ، أَوْ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ فَيُقَدَّرُ مَعْنَى اسْمٍ مُضَافٍ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالتَّقْدِيرُ هُنَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ طَاعَتِهِ، إِذَا كَانَتْ (مِنْ) لِلْبَدَلِ وَكَذَا قَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْم: 28] . وَعَلَى جَعْلِ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ تُقَدَّرُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ عَذَابِهِ، أَيْ غَنَاءً مُبْتَدِئًا مِنْ ذَلِكَ: عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: نَجَّاهُ مِنْ كَذَا أَيْ فَصَلَهُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) مَعَ هَذَا الْفِعْلِ، إِذا عدّي بعن، مماثلة لمن الْوَاقِعَةِ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يعدّ بعن، لِإِمْكَانِ اخْتِلَافِ مَعْنَى التَّعَلُّقِ بِاخْتِلَافِ مَسَاقِ الْكَلَامِ. وَالْغَالِبُ أَنْ يَأْتُوا بَعْدَ فِعْلِ أَغْنَى بِلَفْظِ (شَيْءٍ) مَعَ ذِكْرِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ كَمَا فِي الْآيَةِ، وَبِدُونِ ذِكْرِ مُتَعَلِّقَيْنِ، كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ، يَوْمَ أَسْلَمَ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا» .

وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: شَيْئاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ شَيْئًا مِنَ الْغَنَاءِ. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّحْقِيرِ أَيْ غَنَاءً ضَعِيفًا، بله الْغناء المهم، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي التَّعَدِّي. وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا كَيْفِيَّةُ تَصَرُّفِ هَذَا الْفِعْلِ التَّصَرُّفَ الْعَجِيبَ فِي كَلَامِهِمْ، وَانْفَتَحَ لَكَ مَا انْغَلَقَ مِنْ عِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَمَا دُونَهَا، فِي مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى وُقُوعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ [الْبَقَرَة: 155] . وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ مِنْ بَيْنِ أَعْلَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْغَنَاءَ يَكُونُ بِالْفِدَاءِ بِالْمَالِ، كَدَفْعِ الدِّيَاتِ وَالْغَرَامَاتِ، وَيَكُونُ بِالنَّصْرِ وَالْقِتَالِ، وَأَوْلَى مَنْ يُدَافِعُ عَنِ الرَّجُلِ، مِنْ عَشِيرَتِهِ، أَبْنَاؤُهُ، وَعَنِ الْقَبِيلَةِ أَبْنَاؤُهَا. قَالَ قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ: ثَأَرْتُ عَدِيًّا وَالْخَطِيمَ وَلَمْ أُضِعْ ... وَلَايَةَ أَشْيَاخٍ جُعِلْتُ إِزَاءَهَا وَالْأَمْوَالُ الْمَكَاسِبُ الَّتِي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ وَيُتَعَاوَضُ بِهَا، وَهِيَ جَمْعُ مَالٍ، وَغَلَبَ اسْمُ الْمَالِ فِي كَلَامِ جُلِّ الْعَرَبِ عَلَى الْإِبِلِ قَالَ زُهَيْرٌ: صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ وَغَلَبَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَفِي الْحَدِيثِ «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَاله إِلَيْهِ بِئْر حاء، وَيُطْلَقُ الْمَالُ غَالِبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَمَا فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ «أَيْنَ الْمَالُ الَّذِي عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِأَنَّهُ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَشَأْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ عَذَابَ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ لِاسْتِحْضَارِهِمْ كَأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَلَمْ تُفْصَلْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الَّتِي قبلهَا لَا وَعِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 12] .

وَالْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ مَا يُوقَدُ بِهِ كَالوَضُوءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ مَوْقِعُ كَافِ التَّشْبِيهِ مَوْقِعُ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: دَأْبُهُمْ فِي ذَلِكَ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، أَيْ عَادَتُهُمْ وَشَأْنُهُمْ كَشَأْنِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَالدَّأْبُ: أَصْلُهُ الْكَدْحُ فِي الْعَمَلِ وَتَكْرِيرُهُ، وَكَأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَصْدَرُهُ عَلَى فَعْلٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّهَا تَأْتِي مِنْ كَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَصَارَ حَقِيقَةً شَائِعَةً قَالَ النَّابِغَةُ: كَدَأْبِكَ فِي قَوْمٍ أَرَاكَ اصْطَنَعْتَهُمْ أَيْ عَادَتِكَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَالْمَعْنَى: شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ كَشَأْنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَقْرَوُا الْأُمَمَ الَّتِي أَصَابَهَا الْعَذَابُ، وَجَدُوا جَمِيعَهُمْ قَدْ تَمَاثَلُوا فِي الْكُفْرِ: بِاللَّهِ، وَبِرُسُلِهِ، وَبِآيَاتِهِ، وَكَفَى بِهَذَا الِاسْتِقْرَاءِ مَوْعِظَةً لِأَمْثَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ وَعِيدَ الِاسْتِئْصَالِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا إِذِ الْأَصْلُ أَنَّ حَالَ الْمُشَبَّهِ، أَظْهَرُ مَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ عِنْدَ السَّامِعِ. وَعَلَيْهِ فَالْأَخْذُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ هُوَ أَخْذُ الِانْتِقَامِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: 44، 45] . وَأُرِيدَ بِآلِ فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنُ وَآلِهِ لِأَنَّ الْآلَ يُطْلَقُ عَلَى أَشَدِّ النَّاسِ اخْتِصَاصًا بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالِاخْتِصَاصُ هُنَا اخْتِصَاصٌ فِي الْمُتَابَعَةِ وَالتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] فَلِذِكْرِ الْآلِ هُنَا مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا لَيْسَ لِذِكْرِ الْقَوْمِ إِذْ قَوْمُ الرجل قد يخالفون، فَلَا يَدُلُّ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُمْ فِي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 إلى 13]

الْحُكْمِ، قَالَ تَعَالَى: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: 60] فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ نَظَائِرِهَا، وَقَالَ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الشُّعَرَاء: 10، 11] . وَقَوْلُهُ: «كَذَّبُوا» بَيَانٌ لِدَأْبِهِمُ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَتَخْصِيصُ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ- مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ- لِأَنَّ هُلْكَهُمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ هُلْكِ عَادٍ وَثَمُودَ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَشْهَرُ وَلِأَنَّ تَحَدِّي مُوسَى إِيَّاهُمْ كَانَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ فَمَا أَغْنَتْهُمْ شَيْئًا تُجَاهَ ضَلَالِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ عَهْدًا بِزَمَان النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: 76] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الْحجر: 79] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] . [12، 13] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 12 إِلَى 13] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، لِلِانْتِقَالِ مِنَ النِّذَارَةِ إِلَى التَّهْدِيدِ، وَمِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِأَحْوَالِ سَلَفِهِمْ فِي الْكُفْرِ، إِلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِسَابِقِ أَحْوَالِهِمُ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ، وَأَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ سَتَنْدَكُّ لَهُ صُمُّ الْجِبَالِ. وَجِيءَ فِي هَذَا التَّهْدِيدِ بِأَطْنَبِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِطْنَابٍ لِمَزِيدِ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِوَصْفِ يَوْمٍ كَانَ عَلَيْهِمْ، يَعْلَمُونَهُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: 39] يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمرَان: 116] فَيَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ (هُمْ) إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِاسْتِقْلَالِ هَذِهِ النِّذَارَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الِاسْمُ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يُؤْتَ بِالضَّمِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ إِلَى قَوْله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا شَاهَدَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ.

وَقَدْ قِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا خُصُوصُ الْيَهُودِ، وَذَكَرُوا لِذَلِكَ سَبَبًا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: أَنَّ يَهُودَ يَثْرِبَ كَانُوا عَاهَدُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُدَّةٍ فَلَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّكْبَةِ. نَقَضُوا الْعَهْدَ وَانْطَلَقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَكَّةَ وَقَالُوا لَهُمْ: لَتَكُونَنَّ كَلِمَتُنَا وَاحِدَةً، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَلَبَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، جَمَعَ الْيَهُودَ وَقَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ عَرَفْتُمْ، أَنِّي نَبِيءٌ مُرْسَلٌ» فَقَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا أَغْمَارًا لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْتَ فِيهِمْ فُرْصَةً أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْنَاكَ لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَعَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فَالْغَلَبُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ هُوَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ، وَأَيْضًا فَالتَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَعَطْفُ بِئْسَ الْمِهادُ عَلَى سَتُغْلَبُونَ عَطْفُ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ- كِلْتَيْهِمَا بِتَاءِ الْخِطَابِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَهُمَا وَجْهَانِ فِيمَا يُحْكَى بِالْقَوْلِ لِمُخَاطَبٍ، وَالْخِطَابُ أَكْثَرُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] وَلَمْ يَقُلْ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ خِطَابٌ لِلَّذِينِ كَفَرُوا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلْمُحَاجَّةِ، فَأَعْقَبَ الْإِنْذَارَ وَالْوَعِيدَ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ. فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونَ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ سَتُغْلَبُونَ إِذْ لَعَلَّ كَثْرَةَ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَوِ الْيَهُودِ، أَوْ كِلَيْهِمَا، يُثِيرُ تَعَجُّبَ السَّامِعِينَ مِنْ غَلَبِهِمْ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْفِئَتَانِ هُمَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالِالْتِقَاءُ: اللِّقَاءُ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَاللِّقَاءُ مُصَادَفَةُ الشَّخْصِ شَخْصًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَيُطْلَقُ اللِّقَاءُ عَلَى الْبُرُوزِ لِلْقِتَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: 15] وَسَيَأْتِي. وَالِالْتِقَاءُ يُطْلَقُ كَذَلِكَ كَقَوْلِ أُنَيْفِ بْنِ زَبَّانَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ تَفْصِيلٌ لِلْفِئَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صَدْرُ جُمْلَةٍ لِلِاسْتِئْنَافِ فِي التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ، الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَالْجَمْعِ. وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] . وَالْخطاب فِي: يَرَوْنَهُمْ كَالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: رَأْيَ الْعَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكُفَّارَ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالتَّلَاحُمِ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ فَانْهَزَمُوا. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ جُعِلَتْ آيَةً لِمَنْ رَأَوْهَا وَتَحَقَّقُوا بَعْدَ الْهَزِيمَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا وَاهِمِينَ فِيمَا رَأَوْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَسْرَةً لَهُمْ، وَتَكُونُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَنْفَالِ [44] بِقَوْلِهِ: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ فَإِنَّ تِلْكَ يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ قَبْلَ التَّلَاحُمِ، حَتَّى يَسْتَخِفَّ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلِقَائِهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ رَأَوْهُمْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ فَدَخَلَهُمُ الرُّعْبُ وَالْهَزِيمَةُ، وَتَحَقَّقُوا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ انْكِشَافِ الْمَلْحَمَةِ فقد كَانَت إِرَادَة القلّة وَإِرَادَة الْكَثْرَةِ سَبَبَيْ نَصْرٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِمْ لَخَافُوا الْهَزِيمَةَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ هِيَ الْإِرَاءَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [44] : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله: (مقليهم) رَاجِعًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَأَصْلُهُ تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْكُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَقُولِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 14]

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: تَرَوْنَهُمْ- بِتَاء الْخِطَابِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ: عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ وأُخْرى كافِرَةٌ، أَوْ مِنْ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمَرْئِيِّينَ. إِنْ كَانَ الرَّاءُونَ هُمُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الرَّائِينَ، إِنْ كَانَ الرَّاءُونَ هُمُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا جَرَى ضَمِيرُهُ عَلَى الْغَيْبَةِ وَكِلْتَا الرُّؤْيَتَيْنِ قَدْ وَقَعَتْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكُلُّ فِئَةٍ عَلِمَتْ رُؤْيَتَهَا وَتُحُدِّيَتْ بِهَاتِهِ الْآيَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْعُدُولُ عَن التَّعْبِير بفئتكم وَفِئَتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، لِقَصْدِ صُلُوحِيَّةِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِكِلْتَا الْفِئَتَيْنِ، فَيُفِيدُ اللَّفْظُ آيَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ، بِطَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ. وَ «رَأْيَ الْعَيْنِ» مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الرُّؤْيَةِ: إِذْ كَانَ «فِعْلُ رَأَى» يَحْتَمِلُ الْبَصَرَ وَالْقَلْبَ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يسْتَعْمل مصدرا لرَأى الْقَلْبِيَّةِ، كَيْفَ وَالرَّأْيُ اسْمٌ لِلْعَقْلِ، وَتُشَارِكُهَا فِيهَا رَأَى الْبَصْرِيَّةُ، بِخِلَافِ الرُّؤْيَةِ فَخَاصَّةٌ بِالْبَصَرِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ كَيْفَمَا فُسِّرَتْ تَأْيِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: 44] . [14] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) زُيِّنَ. اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمرَان: 10] إِذْ كَانَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالٍ وَأَوْلَادٍ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. قُصِدَ مِنْهُ عِظَةُ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَغْتَرُّوا بِحَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتُعْجِبَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا، وَتُلْهِيَهُمْ عَنِ التَّهَمُّمِ بِمَا بِهِ الْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْغَايَاتِ يَسْتَدْعِي التَّحْذِيرَ مِنَ الْبِدَايَاتِ. وَقَدْ صُدِّرَ هَذَا الْوَعْظُ وَالتَّأْدِيبُ بِبَيَانِ مَدْخَلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النُّفُوسِ، حَتَّى يَكُونُوا عَلَى أَشَدِّ الْحَذَرِ مِنْهَا لِأَنَّ مَا قَرَارَتُهُ النَّفْسُ يَنْسَابُ إِلَيْهَا مَعَ الْأَنْفَاسِ.

وَالتَّزْيِينُ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ زَيْنًا أَيْ حَسَنًا، فَهُوَ تَحْسِينُ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إِلَى التَّحْسِينِ، وَإِزَالَةُ مَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الْقُبْحِ أَوِ التَّشْوِيهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَلَّاقُ مُزَيِّنًا. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: الْحَرْبُ أَوَّلَ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ... تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ فَالزِّينَةُ هِيَ مَا تكون فِي الشَّيْءِ مِنَ الْمَحَاسِنِ: الَّتِي تُرَغِّبُ النَّاظِرِينَ فِي اقْتِنَائِهِ، قَالَ تَعَالَى: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: 28] . وَكَلِمَةُ زَيْنٍ قَلِيلَةُ الدَّوَرَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ حُسْنِهَا وَخِفَّتِهَا قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: أَزْمَعَتْ خُلَّتِي مَعَ الْفَجْرِ بَيْنَا ... جَلَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ زَيْنَا وَفِي حَدِيثِ «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ أَبَا بَرَزَةَ الْأَسْلَمِيَّ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ- وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيَسْأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ الْحَوْضِ- فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَرَزَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِجُلَسَائِهِ: إِنَّ مُحَمَّدِيَّكُمْ هَذَا الدِّحْدَاحُ. قَالَ أَبُو بَرَزَةَ: «مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنِّي أَبْقَى فِي قَوْمٍ يُعَيِّرُونَنِي بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ» . فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: «إِنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ» . وَالشَّهَوَاتُ جَمْعُ شَهْوَةٍ، وَأَصْلُ الشَّهْوَةِ مَصْدَرُ شَهِيَ كَرَضِيَ، وَالشَّهْوَةُ بِزِنَةِ الْمَرَّةِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ مَصْدَرِ شَهِيَ أَنْ يَكُونَ بِزِنَةِ الْمَرَّةِ. وَأُطْلِقَتِ الشَّهَوَاتُ هُنَا عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَهَاةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ. وَتَعْلِيقُ التَّزْيِينِ بِالْحُبِّ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْمُزَيَّنَ لِلنَّاسِ هُوَ الشَّهَوَاتُ، أَيِ الْمُشْتَهَيَاتُ نَفْسُهَا، لَا حُبُّهَا، فَإِذَا زُيِّنَتْ لَهُمْ أَحَبُّوهَا فَإِنَّ الْحُبَّ يَنْشَأُ عَنِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَيْسَ الْحُبُّ بِمُزَيَّنٍ، وَهَذَا إِيجَازٌ يُغْنِي عَنْ أَنْ يُقَالَ زُيِّنَتْ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتُ فَأَحَبُّوهَا، وَقَدْ سَكَتَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ وَجْهِ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا التَّعْلِيقِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حُبُّ الشَّهَواتِ مَصْدَرًا نَائِبًا عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، مُبَيِّنًا لِنَوْعِ التَّزْيِينِ: أَيْ زُيِّنَ لَهُمْ تَزْيِينُ حُبٍّ، وَهُوَ أَشَدُّ التَّزْيِينِ، وَجُعِلَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتُ حُبًّا، فَحُوِّلَ وَأُضِيفَ إِلَى النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَجُعِلَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، كَمَا جُعِلَ مَفْعُولًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ص: 32] . وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حُبُّ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ

مَحْبُوبُ الشَّهَوَاتِ أَيِ الشَّهَوَاتُ الْمَحْبُوبَةُ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ زُيِّنَ كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ لَازِمُ التَّزْيِينِ وَهُوَ إِقْبَالُ النَّفْسِ عَلَى مَا فِي الْمُزَيَّنِ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ مَعَ سَتْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَضْرَارِ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّزْيِينِ، أَيْ تَحْسِينِ مَا لَيْسَ بِخَالِصِ الْحُسْنِ فَإِنَّ مُشْتَهَيَاتِ النَّاسِ تَشْتَمِلُ عَلَى أُمُورٍ مُلَائِمَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا مَضَارُّ، أَشَدُّهَا أَنَّهَا تُشْغِلُ عَنْ كَمَالَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِذَلِكَ كَانَتْ كَالشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ تُغَطَّى نَقَائِصُهُ بِالْمُزَيَّنَاتِ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِي تَعْلِيق زيّن بحب إِشْكَالٌ. وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ لِخَفَائِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْغَرَائِزِ وَالسَّجَايَا، لَمَّا جُهِلَ فَاعِلُهُ فِي مُتَعَارَفِ الْعُمُومِ، كَانَ الشَّأْنُ إِسْنَادَ أَفْعَالِهِ لِلْمَجْهُولِ: كَقَوْلِهِمْ عُنِيَ بِكَذَا، وَاضْطُرَّ إِلَى كَذَا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْكِنَايَةَ عَنْ لَازِمِ التَّزْيِينِ، وَهُوَ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِي الْمُزَيَّنِ مِنَ الْمَسَاوِي لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَبْقَ مَقْصُودًا بِحَالٍ، وَالْمُزَيَّنُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَحَبَّ الشَّهَوَاتِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي نِظَامِ الْخِلْقَةِ قَالَ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 72] . وَلَمَّا رَجَعَ التَّزْيِينُ إِلَى انْفِعَالٍ فِي الْجِبِلَّةِ، كَانَ فَاعِلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ خَالِقَ هَذِهِ الْجِبِلَّاتِ، فَالْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ لَا بِدَعْوَتِهِ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِذَا الْتَفَتْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ الْمُبَاشِرَةِ. كَانَ الْمُزَيِّنُ هُوَ مَيْلَ النَّفْسِ إِلَى الْمُشْتَهَى، أَوْ تَرْغِيبَ الدَّاعِينَ إِلَى تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ: مِنَ الْخِلَّانِ وَالْقُرَنَاءِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْمُزَيِّنُ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّزْيِينَ بِمَعْنَى التَّسْوِيلِ وَالتَّرْغِيبِ بِالْوَسْوَسَةِ لِلشَّهَوَاتِ الذَّمِيمَةِ وَالْفَسَادِ، وَقَصَرَهُ عَلَى هَذَا- وَهُوَ بَعِيدٌ- لِأَنَّ تَزْيِينَ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ فِي ذَاتِهِ قَدْ يُوَافِقُ وَجْهَ الْإِبَاحَةِ وَالطَّاعَةِ، فَلَيْسَ يُلَازِمُهَا تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا إِذَا جَعَلَهَا وَسَائِلَ لِلْحَرَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» وَسِيَاقُ الْآيَةِ تَفْضِيلُ مَعَالِي الْأُمُورِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْمُشْتَهَيَاتِ الْمَخْلُوطَةِ أَنْوَاعُهَا بِحَلَالٍ مِنْهَا وَحَرَامٍ، وَالْمُعَرَّضَةِ لِلزَّوَالِ، فَإِنَّ الْكَمَالَ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ لِتَبْلُغَ الدَّرَجَاتِ الْقُدْسِيَّةَ، وَتَنَالَ النَّعِيمَ الْأَبَدِيَّ الْعَظِيمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

وَبَيَانُ الشَّهَوَاتِ بِـ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَمَا بَعْدَهُمَا، بَيَانٌ بِأُصُولِ الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ: الَّتِي تَجْمَعُ مُشْتَهَيَاتٍ كَثِيرَةً، وَالَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، فَالْمَيْلُ إِلَى النِّسَاءِ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبْعِ، وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِدَاعِي طَلَبِ التَّنَاسُلِ إِذِ الْمَرْأَةُ هِيَ مَوْضِعُ التَّنَاسُلِ، فَجُعِلَ مَيْلُ الرَّجُلِ إِلَيْهَا فِي الطَّبْعِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ بَقَاءُ النَّوْعِ إِلَى تَكَلُّفٍ رُبَّمَا تَعْقُبُهُ سَآمَةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَشَدَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ» وَلَمْ يَذْكُرِ الرِّجَالَ لِأَنَّ مَيْلَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ أَضْعَفُ فِي الطَّبْعِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ مِنْهُنَّ لِلرِّجَالِ بِالْإِلْفِ وَالْإِحْسَانِ. وَمَحَبَّةُ الْأَبْنَاءِ- أَيْضًا- فِي الطَّبْعِ: إِذْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْوَالِدَيْنِ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، شُعُورًا وِجْدَانِيًّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنْهُمَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْجِيلُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَبِبَقَائِهِ بَقَاءُ النَّوْعِ، فَهَذَا بَقَاءُ النَّوْعِ بِحِفْظِهِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ، وَفِي الْوَلَدِ أَيْضًا حِفْظٌ لِلنَّوْعِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْعَارِضِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ مِنَ النَّوْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِضُ لَهُ الضَّعْفُ، بَعْدَ الْقُوَّةِ، فَيَكُونُ وَلَدُهُ دافعا عَنهُ عداء مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ، فَكَمَا دَفَعَ الْوَالِدُ عَنِ ابْنِهِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ، يَدْفَعُ الْوَلَدُ عَنِ الْوَالِدِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ. وَالذَّهَب وَالْفِضَّةِ شَهْوَتَانِ بِحُسْنِ مَنْظَرِهِمَا وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مِنْ حُلِيٍّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّقْدَانِ مِنْهُمَا: الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، شَهْوَةٌ لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مُنْذُ الْعُصُورِ الْمُتَوَغِّلَةِ فِي الْقِدَمِ مِنْ حُبِّ النُّقُودِ الَّتِي بِهَا دَفْعُ أَعْوَاضِ الْأَشْيَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا. وَالْقَناطِيرِ جَمْعُ قِنْطَارٍ وَهُوَ مَا يَزِنُ مِائَةَ رِطْلٍ، وَأَصْلُهُ مُعَرَّبٌ قِيلَ عَنِ الرُّومِيَّةِ اللَّاتِينِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ النَّقَّاشُ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي اللَّاتِينِيَّةِ «كِينْتَالُ» وَهُوَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ. فَمَا فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ الْقِنْطَارَ مَأْخُوذ من قتطرت الشَّيْءَ إِذَا رَفَعْتَهُ، تَكَلُّفٌ. وَقَدْ كَانَ الْقِنْطَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَزْنًا وَمِقْدَارًا، مِنَ الثَّرْوَةِ، يَبْلُغُهُ بَعْضُ الْمُثْرِينَ: وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَالُهُ مِائَةَ رِطْلٍ فِضَّةً، وَيَقُولُونَ: قَنْطَرَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَ مَالُهُ قِنْطَارًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ أَيْ مَا يُسَاوِي قِنْطَارًا مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ مِقْدَارُ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ.

وَ (الْمُقَنْطَرَةِ) أُرِيدَ بِهَا هُنَا الْمُضَاعَفَةُ الْمُتَكَاثِرَةُ، لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْوَصْفِ مِنِ اسْمِ الشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ، إِذَا اشْتُهِرَ صَاحِبُ الِاسْمِ بِصِفَةٍ، يُؤْذِنُ ذَلِكَ الِاشْتِقَاقُ بِمُبَالَغَةٍ فِي الْحَاصِلِ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ، وَإِبِلٌ مُؤَبَّلَةٌ، وَآلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ. وَالْخَيْلِ مَحْبُوبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا، لَمْ يُنْسِهَا مَا تَفَنَّنَ فِيهِ الْبَشَرُ مِنْ صُنُوفِ الْمَرَاكِبِ بَرًّا وَبَحْرًا وَجَوًّا، فَالْأُمَمُ الْمُتَحَضِّرَةُ الْيَوْمَ مَعَ مَا لديم مِنِ الْقِطَارَاتِ الَّتِي تَجْرِي بِالْبُخَارِ وَبِالْكَهْرَبَاءِ عَلَى السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَمِنْ سَفَائِنِ الْبَحْرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تُسَيِّرُهَا آلَاتُ الْبُخَارِ، وَمِنَ السَّيَّارَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُسَيَّرَةِ بِاللَّوَالِبِ تُحَرِّكُهَا حَرَارَةُ النِّفْطِ الْمُصَفَّى، وَمِنَ الطِّيَارَاتِ فِي الْهَوَاءِ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ الْبَشَرُ فِي عَصْرٍ مَضَى، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ النَّاسَ عَنْ رُكُوبِ ظُهُورِ الْخَيْلِ، وَجَرِّ الْعَرَبَاتِ بِمُطَهَّمَاتِ الْأَفْرَاسِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْأَفْرَاسِ. وَذَكَرَ الْخَيْلَ لِتَوَاطُؤِ نُفُوسِ أَهْلِ الْبَذَخِ عَلَى مَحَبَّةِ رُكُوبِهَا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ والْمُسَوَّمَةِ الْأَظْهَرُ فِيهِ مَا قِيلَ: إنّه الراعية، فو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ، يُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ إِذَا رَعَى بِهَا فِي الْمَرْعَى، فَتَكُونُ مَادَّةُ فَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ أَيِ الَّتِي تُتْرَكُ فِي الْمَرَاعِي مُدَدًا طَوِيلَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِسَعَةِ أَصْحَابِهَا وَكَثْرَةِ مَرَاعِيهِمْ، فَتَكُونُ خَيْلُهُمْ مُكَرَّمَةً فِي الْمُرُوجِ وَالرِّيَاضِ وَفِي الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ الْخَيْلِ «فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ» . وَقِيلَ: الْمُسَوَّمَةُ مِنَ السُّومَةِ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ السِّمَةُ أَيِ الْعَلَامَةُ مِنْ صُوفٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ لَهَا ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِكَرَمِهَا وَحُسْنِ بَلَائِهَا فِي الْحَرْبِ، قَالَ العتّابي: وَلَوْلَا هنّ قَدْ سَوَّمْتُ مهري ... وَفِي الرحمان لِلضُّعَفَاءِ كَافِ يُرِيدُ جَعَلْتُ لَهُ سُومَةَ أَفْرَاسِ الْجِهَادِ أَيْ عَلَامَتَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ السِّمَةِ وَالسُّومَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [273] . والْأَنْعامِ زِينَةٌ لِأَهْلِ الْوَبَرِ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] . وَفِيهَا مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 إلى 17]

الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [5] ، وَقَدْ لَا تَتَعَلَّقُ شَهَوَاتُ أَهْلِ الْمُدُنِ بِشِدَّةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَنْعَامِ لَكِنَّهُمْ يُحِبُّونَ مَشَاهِدَهَا، وَيُعْنَوْنَ بِالِارْتِيَاحِ إِلَيْهَا إِجْمَالًا. وَالْحَرْثِ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَرَثَ الْأَرْضَ إِذَا شَقَّهَا بِآلَةٍ لِيَزْرَعَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ، وَأُطْلِقَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَحْرُوثِ فَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَحُقُولِ الزَّرْعِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [الْبَقَرَة: 71] فِيهَا. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَفْرَدَ كَافَ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْمُخَاطَبِ الْوَاحِدِ هِيَ الْغَالِبُ فِي الِاقْتِرَانِ بِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ لِإِرَادَةِ الْبُعْدِ، وَالْبُعْدُ هُنَا بُعْدٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ وَالنَّفَاسَةِ. وَالْمَتَاعُ مُؤْذِنٌ بِالْقِلَّةِ وَهُوَ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مُدَّةً. وَمَعْنَى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ، مَفْعَلٌ من آب يؤوب، وَأَصْلُهُ مَأْوَبٌ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الْهَمْزَةِ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. [15- 17] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 15 إِلَى 17] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَإِنَّهُ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 14] الْمُقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَضِّ مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ. وَافْتَتَحَ الِاسْتِئْنَافَ بِكَلِمَةِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بالمقول، والمخاطب بقل

النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْعَرْضِ تَشْوِيقًا مِنْ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى تَلَقِّي مَا سَيُقَصُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الصَّفّ: 10] الْآيَةَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كثير، وَأَبُو عمر، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب: أأنبئكم بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوب، وَخلف: بتَخْفِيف الْهَمْزَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَهِيَ الْمُنَبَّأُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مُتَعَلِّقًا بقوله: «خير» و «جنّات» مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ: أَيْ لَهُمْ، أَوْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَدْ أُلْغِيَ مَا يُقَابِلُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ لَذَّةَ الْبَنِينَ وَلَذَّةَ الْمَالِ هُنَالِكَ مَفْقُودَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَذَّةُ الْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ إِذْ لَا دَوَابَّ فِي الْجَنَّةِ، فَبَقِيَ مَا يُقَابِلُ النِّسَاءَ وَالْحَرْثَ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَالْأَزْوَاجُ، لِأَنَّ بِهِمَا تَمَامُ النَّعِيمِ وَالتَّأَنُّسِ، وَزِيدَ عَلَيْهِمَا رِضْوَانُ اللَّهِ الَّذِي حُرِمَهُ مَنْ جَعَلَ حَظَّهُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى الْمُطَهَّرَةِ الْمُنَزَّهَةُ مِمَّا يَعْتَرِي نِسَاءَ الْبَشَرِ مِمَّا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ النُّفُوسُ، فَالطَّهَارَةُ هُنَا حِسِّيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ. وَعَطَفَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا عِنْدَ اللَّهِ: لِأَنَّ رِضْوَانَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ لِأَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَقْرِيبٌ رُوحَانِيٌّ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِضْوانٌ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ، دُونَ أَنْ يَقُولَ وَرِضْوَانٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ رَبِّهِمْ: لِمَا فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عَظَمَةِ ذَلِكَ الرِّضْوَانِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ الْوَعْدِ أَيْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا وَمَرَاتِبِ تَقْوَاهُمْ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ، وَلِتَضَمُّنِ بَصِيرٌ مَعْنَى عَلِيمٍ عُدِّيَ بِالْبَاءِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ لِتَكُونَ كَالْمَثَلِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى وَبِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ. وَمَعْنَى الْقَوْلِ هُنَا الْكَلَامُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ فِي الْخَبَرِ، وَالْجَارِي عَلَى

فَرْطِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّعَاءِ، فِي قَوْلِهِمْ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِلَخْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي كَذَلِكَ إِذَا سَعَى الدَّاعِي فِي وَسَائِلِ الْإِجَابَةِ وَتَرَقَّبَهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي تُرْشِدُ إِلَيْهَا التَّقْوَى، فَلَا يُجَازَى هَذَا الْجَزَاءَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ. وَقَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ الْآيَةَ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أَوْ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ يَقُولُونَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَذَكَرَ هُنَا أُصُولَ فَضَائِلِ صِفَاتِ الْمُتَدَيِّنِينَ: وَهِيَ الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي. وَالصِّدْقُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ الِاسْتِقَامَةِ وَبَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ. وَالْقُنُوتُ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْقَانُهَا وَهُوَ عِبَادَةٌ نَفْسِيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ. وَالْإِنْفَاقُ وَهُوَ أَصْلُ إِقَامَةِ أَوَدِ الْأُمَّةِ بِكِفَايَةِ حَاجِ الْمُحْتَاجِينَ، وَهُوَ قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْمَالُ شَقِيقُ النَّفْسِ. وَزَادَ الِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ، وَالسَّحَرُ سُدُسُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَدُّ إِخْلَاصًا، لِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ هُدُوءِ النُّفُوسِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى اهْتِمَامِ صَاحِبِهِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ، فَاخْتَارَ لَهُ هَؤُلَاءِ الصَّادِقُونَ آخِرَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ وَقْتُ صَفَاءِ السَّرَائِرِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الشَّوَاغِلِ. وَعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ، وَمَا بَعْدَهُ: سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ صِفَةً ثَانِيَةً، بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَمْ كَانَ ابْتِدَاءَ الصِّفَاتِ بَعْدَ الْبَيَانِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ طَرِيقَتَيْ تَعْدَادِ الصِّفَاتِ فِي الذِّكْرِ فِي كَلَامِهِمْ، فَيَكُونُ، بِالْعَطْفِ وَبِدُونِهِ، مِثْلَ تَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْوَالِ إِذْ لَيْسَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ بِمَقْصُورَةٍ عَلَى تَشْرِيكِ الذَّوَاتِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ نُكْتَةً زَائِدَةً عَلَى ذِكْرِهَا بِدُونِ الْعَطْفِ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا، وَأَحَالَ تَفْصِيلَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْبَقَرَة: 4] مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَسَكَتَ الْكَاتِبُونَ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ هُنَا وَهُنَاكَ، وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ تَرْكُ الْعَطْفِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ عَطْفُهَا مُؤْذِنًا بِمَعْنًى خُصُوصِيٍّ، يَقْصِدُهُ الْبَلِيغُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ شَأْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ أَنْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ فَيُنَاسِبَ الْمَعْمُولَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَاتُ، فَإِذَا عُطِفَتْ فَقَدْ نُزِّلَتْ كُلُّ صِفَةٍ مَنْزِلَةَ ذَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِقُوَّةِ الْمَوْصُوفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، حَتَّى كَأَنَّ الْوَاحِدَ صَارَ عَدَدًا، كَقَوْلِهِمْ وَاحِدٌ كَأَلْفٍ، وَلَا أَحْسَبُ لِهَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَطْفُ الصِّفَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَة الْبَقَرَة.

[سورة آل عمران (3) : آية 18]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 18] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) اسْتِئْنَافٌ وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] ذَلِكَ أَنَّ أَسَاسَ الْإِسْلَامِ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، وَإِعْلَانُ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنْ شَوَائِبِ الْإِشْرَاكِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي مَرَاتِبِ الْإِشْرَاكِ، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ: لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمرَان: 2، 3] . وَالشَّهَادَةُ حَقِيقَتُهَا خَبَرٌ يُصَدَّقُ بِهِ خَبَرُ مُخْبِرٍ وَقَدْ يُكَذَّبُ بِهِ خَبَرُ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] . وَإِذْ قَدْ كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فِي الْحُقُوقِ، كَانَ مَظِنَّةَ اهْتِمَامِ الْمُخْبِرِ بِهِ وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المُنَافِقُونَ: 1] وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ التَّلَازُمِ، فَشَهَادَةُ اللَّهِ تَحْقِيقُهُ وَحْدَانِيَّتَهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ تَحْقِيقُهُمْ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَبْلِيغُ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ تَحْقِيقُهُمْ ذَلِكَ بِالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ. فَإِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَوْ تَشْبِيهُ الْإِخْبَارِ بِالْإِخْبَارِ أَوِ الْمُخْبِرِ بِالْمُخْبِرِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ «شَهِدَ» بِمَعْنَى بَيَّنَ وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ، شَبَّهَ إِقَامَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ: مِنْ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِتَصْدِيقِ الدَّعْوَى فِي الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ بِمَا نَزَلُوا بِهِ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى الرُّسُلِ، وَمَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ مَحَامِدَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أُولُو الْعِلْمِ بِمَا أَقَامُوا مِنَ الْحُجَجِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ شَهَادَةَ اللَّهِ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ: إِقْرَارِ الْمَلَائِكَةِ، وَاحْتِجَاجِ أُولِي الْعِلْمِ، ثُمَّ تَبْنِيَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ شَهِدَ فِي مَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ، مِثْلَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [الْأَحْزَاب: 56] ، أَوْ عَلَى اسْتِعْمَالِ شَهِدَ فِي مَجَازٍ أَعَمَّ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ، حَتَّى يَكُونَ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ وَالْإِقْرَارُ وَالِاحْتِجَاجُ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ، بِنَاءً عَلَى عُمُومِ الْمَجَازِ.

وَانْتَصَبَ قائِماً بِالْقِسْطِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ أَيْ شَهِدَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَقِيَامِهِ بِالْعَدْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ فَيَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ شَهِدَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هَذِهِ قِيَامٌ بِالْقِسْطِ، فَالشَّاهِدُ بِهَا قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، قَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ [الْمَائِدَة: 8] . وَزَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ: أَنَّ كَوْنَهُ حَالًا مُؤَكِّدَةً وَهْمٌ، وَعَلَّلَهُ بِمَا هُوَ وَهْمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدْ الرَّصَّاعْ جَرَيَانَ بَحْثٍ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذِه الْحَال من سُورَةِ الصَّفِّ فِي دَرْسِ شَيْخِهِ مُحَمَّدْ ابْن عُقَابْ. وَالْقِيَامُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُوَاظَبَةِ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْد: 33] وَقَوْلِهِ: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: 25] وَتَقُولُ: الْأَمِيرُ قَائِمٌ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، كَمَا تَقُولُ: سَاهِرٌ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ «إقَام الصَّلَاةِ» وَقَوْلِ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ ... لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ حَوْلًا قَمِيطَا وَهُوَ فِي الْجَمِيعِ تَمْثِيلٌ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْقُسْطَاسِ- بِضَمِّ الْقَافِ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ ثَابِتَةٌ فِي اللُّغَاتِ الرُّومِيَّةِ وَهِيَ مِنَ اللَّاطِينِيَّةِ، وَيُطْلَقُ الْقِسْطُ وَالْقِسْطَاسُ عَلَى الْمِيزَانِ، لِأَنَّهُ آلَةٌ لِلْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الْإِسْرَاء: 35] وَقَالَ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْأَنْبِيَاء: 47] . وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْقِسْطَ فِي تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ عَلَى نُظُمِهَا، وَفِي تَقْدِيرِ بَقَاءِ الْأَنْوَاعِ، وَإِيدَاعِ أَسْبَابِ الْمُدَافَعَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَفِيمَا شَرَعَ لِلْبَشَرِ مِنَ الشَّرَائِعِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ: لِدَفْعِ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَهُوَ الْقَائِمُ بِالْعَدْلِ سُبْحَانَهُ، وَعَدْلُ النَّاسِ مُقْتَبَسٌ مِنْ مُحَاكَاةِ عَدْلِهِ. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَمْجِيدٌ وَتَصْدِيقٌ، نَشَأَ عَنْ شَهَادَةِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ تَلْقِينُ الْإِقْرَارِ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: 56] أَيِ اقْتِدَاءً بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَيُمَهِّدُ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ

[سورة آل عمران (3) : آية 19]

[19] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ إِنَّ الدِّينَ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ- فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هَذَا الدِّينِ بِأَجْمَعِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِهَا. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي أَوَّلِ غَرَضٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةُ: غَرَضِ مُحَاجَّةِ نَصَارَى نَجْرَانَ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مِنْ مُنَاسَبَاتِ افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ بِتَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وَتَفْضِيلِهِ بِأَنَّ هَدْيَهُ يَفُوقُ هَدْيَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، إِذْ هُوَ الْفُرْقَانُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أُسُّ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَعْرِيضٍ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَإِبْطَالٍ لِقَوْلِ وَفْدِ نَجْرَانَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامَ- «أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ» فَقَالَ لَهُمْ: «كَذَبْتُمْ» رَوَى الْوَاحِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ تَكَلَّمَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ: «أَسْلِمَا» قَالَا: «قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ» قَالَ: «كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ» ، نَاسَبَ أَنْ يُنَوِّهَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمَلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لَا يَخْلُو انْتِظَامُهَا عَنِ الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا اسْتِئْنَافًا، وَإِنَّمَا لَا تُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْمُحَادَثَاتِ وَالِاقْتِضَابَاتِ. وتوكيد الْكَلَام بإن تَحْقِيقٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ حَصْرِ حَقِيقَةِ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ: أَيِ الدِّينِ الْكَامِلِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ الدِّينَ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ- عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: 18] أَيْ شَهِدَ اللَّهُ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. وَالدِّينُ: حَقِيقَتُهُ فِي الْأَصْلِ الْجَزَاءُ، ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُطْلَقُ عَلَى: مَجْمُوعِ عَقَائِدَ، وَأَعْمَالٍ يُلَقِّنُهَا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَعِدُ الْعَامِلِينَ بِهَا بِالنَّعِيمِ وَالْمُعْرِضِينَ عَنْهَا بِالْعِقَابِ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا يَضَعُهُ بَعْضُ زُعَمَاءِ النَّاسِ مِنْ تِلْقَاءِ عَقْلِهِ فَتَلْتَزِمُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَسُمِّيَ الدِّينُ دِينًا لِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ مِنْهُ مُتَّبِعُهُ الْجَزَاءَ عَاجِلًا

أَوْ آجِلًا، فَمَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا وَهُمْ يَتَرَقَّبُونَ جَزَاءً مِنْ رَبِّ ذَلِكَ الدِّينِ، فَالْمُشْرِكُونَ يَطْمَعُونَ فِي إِعَانَةِ الْآلِهَةِ وَوَسَاطَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهُمْ، وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ. وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا» . وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ يَتَرَقَّبُونَ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَوَّلُ دِينٍ إِلَهِيٍّ كَانَ حَقًّا وَبِهِ كَانَ اهْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ طَرَأَتِ الْأَدْيَانُ الْمَكْذُوبَةُ، وَتَشَبَّهَتْ بِالْأَدْيَانِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- تَعْلِيمًا لِرَسُولِهِ- لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] وَقَالَ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يُوسُف: 76] . وَقَدْ عَرَّفَ الْعُلَمَاءُ الدِّينَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ «وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمُ الْمَحْمُودِ إِلَى الْخَيْرِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا» . وَالْإِسْلَامُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانُ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ لُقِّبَ أَتْبَاعُ هَذَا الدِّينِ بِالْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِمَصْدَرِ أَسْلَمَ إِذَا أَذْعَنَ وَلَمْ يُعَانِدْ إِذْعَانًا عَنِ اعْتِرَافٍ بِحَقٍّ لَا عَنْ عَجْزٍ، وَهَذَا اللَّقَبُ أَوْلَى بِالْإِطْلَاقِ عَلَى هَذَا الدِّينِ مِنْ لَقَبِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْمَظْهَرُ الْبَيِّنُ لِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَاطِّرَاحِ كُلِّ حَائِلٍ يَحُولُ دُونَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ اعْتِقَادٌ قَلْبِيٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الْحَج: 78] وَقَالَ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَثَرُ الْإِدْرَاكِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِقَادُ مَعَ الْمُكَابَرَةِ. وَرُبَّمَا أُطْلِقَ الْإِسْلَامُ عَلَى خُصُوصِ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانُ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مُنَاسِبٌ لِحَالَتَيِ التَّفْكِيكِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَاقِعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، خِطَابًا لِقَوْمٍ أَسْلَمُوا مُتَرَدِّدِينَ- قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، أَوِ التَّفْكِيكِ فِي تَصْوِيرِ الْمَاهِيَّةِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِحَقَائِقِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: مِنْ ذِكْرِ مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالْإِحْسَانِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَى الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ هُنَا وَتَعْرِيفُ الْإِسْلَامِ تَعْرِيفُ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ: لِأَنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الدِّينِ الْمُحَمَّدِيِّ.

فَقَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ صِيغَةُ حَصْرٍ، وَهِيَ تَقْتَضِي فِي اللِّسَانِ حَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الدِّينُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، عَلَى قَاعِدَةِ الْحصْر بتعريف جزئي الْجُمْلَةِ، أَيْ لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الِانْحِصَارَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَصْفٌ لِلدِّينِ، وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الِاعْتِبَارِ وَالِاعْتِنَاءِ وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ عِلْمٍ: فَأَفَادَ، أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَيَكُونُ قَصْرًا لِلْمُسْنَدِ، إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَيْدٍ فِيهِ، لَا فِي جَمِيعِ اعْتِبَارَاتِهِ: نَظِيرَ قَوْلِ الْخَنْسَاءِ: إِذَا قَبُحَ الْبُكَاءُ عَلَى قَتِيلٍ ... رَأَيْتُ بُكَاءَك الْحَسَنَ الْجَمِيلَا فَحَصَرَتِ الْحَسَنَ فِي بُكَائِهِ بِقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَقْصُورَ هُوَ الْحَسَنُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ، وَهَذَا الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ التَّقْيِيد بِوَقْت حج الْبُكَاءِ عَلَى الْقَتْلَى وَهُوَ قَصْرُ حُسْنِ بُكَائِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِيَكُونَ لِبُكَائِهَا عَلَى صَخْرٍ مَزِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى بُكَاءِ الْقَتْلَى الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ أَبَى اعْتِبَارَ الْقَصْرِ فِي الْبَيْتِ أَصْلًا صَاحِبُ الْمُطَوَّلِ. وَإِذْ قَدْ جَاءَتْ أَدْيَانٌ صَحِيحَةٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فَالْحَصْرُ مُؤَوَّلٌ: إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ عِنْدَ اللَّهِ، حِينَ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى وَقْتِ الْإِخْبَارِ إِذِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا حَقَائِقُ فِي الْحَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ لَيْسَ فِيهِ دِينٌ صَحِيحٌ غَيْرَ الْإِسْلَامِ إِذْ قَدْ عَرَضَ لِبَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، مِنْ خَلْطِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ، مَا اخْتَلَّ لِأَجْلِهِ مَجْمُوعُ الدِّينِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ عِنْدَ اللَّهِ فَيَكُونُ الْقَصْرُ بِاعْتِبَارِ سَائِرِ الْأَزْمَانِ وَالْعُصُورِ إِذْ لَا أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا غَايَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْبَشَرِ فِي صَلَاح شؤونهم، بَلْ كَانَ كُلُّ دِينٍ مَضَى مُقْتَصِرًا عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مَحْمَلَيِ الْآيَةِ، لِأَنَّ مُفَادَهُ أَعَمُّ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ حَاصِلِ صِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ- تُجَاهَ بَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ- أَتَمُّ. ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْجِيهِ الشَّرَائِعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ قَرْعِ الْأَسْمَاعِ بِعِبَارَاتِ التَّشْرِيعِ أَوِ التَّذَوُّقِ لِدَقَائِقِ تَرَاكِيبِهِ، بَلْ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا شَرَعَ لِلنَّاسِ هُوَ عَمَلُهُمْ بِتَعَالِيمِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَمَلَ، جَعَلَ اللَّهُ الشَّرَائِعَ مُنَاسِبَةً لِقَابِلَيَّاتِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا، وَجَارِيَةً عَلَى قَدْرِ قَبُولِ عُقُولِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعَمَلِ بِهَا بِدَوَامٍ وَانْتِظَامٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّدَيُّنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ

دَأْبًا وَعَادَةً لِمُنْتَحِلِيهِ، وَحَيْثُ النُّفُوسُ لَا تَسْتَطِيعُ الِانْصِيَاعَ إِلَى مَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ مُدْرَكَاتِهَا، لَا جَرَمَ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ. لِيُمْكِنَ لِلْأُمَمِ الْعَمَلُ بِتَعَالِيمِ شَرَائِعِهَا بِانْتِظَامٍ وَمُوَاظَبَةٍ. وَقَدْ كَانَتْ أَحْوَالُ الْجَمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، فِي أَوَّلِ عُهُودِ الْحَضَارَةِ، حَالَاتِ عُكُوفٍ عَلَى عَوَائِدَ وَتَقَالِيدَ بَسِيطَةٍ، ائتلفت رويدا رُوَيْدًا عَلَى حَسَبِ دَوَاعِي الْحَاجَاتِ، وَمَا تِلْكَ الدَّوَاعِي، الَّتِي تَسَبَّبَتْ فِي ائْتِلَافِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ، إِلَّا دَوَاعٍ غَيْرُ مُنْتَشِرَةٍ لِأَنَّهَا تَنْحَصِرُ فِيمَا يَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ، وَدَفْعِ الْآلَامِ عَنْهُ، ثُمَّ بِحِفْظِ حَيَاةِ مَنْ يَرَى لَهُ مَزِيدَ اتِّصَالٍ بِهِ، وَتَحْسِينِ حَالِهِ، فَبِذَلِكَ ائْتَلَفَ نِظَامُ الْفَرْدِ، ثُمَّ نِظَامُ الْعَائِلَةِ، ثُمَّ نِظَامُ الْعَشِيرَةِ، وَهَاتِهِ النُّظُمُ الْمُتَقَابِسَةُ هِيَ نُظُمٌ مُتَسَاوِيَةُ الْأَشْكَالِ إِذْ كُلُّهَا لَا يَعْدُو حِفْظَ الْحَيَاةِ، بِالْغِذَاءِ وَالدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ، وَدَفْعِ الْآلَامِ بِالْكِسَاءِ وَالْمَسْكَنِ وَالزَّوَاجِ، وَالِانْتِصَارِ لِلْعَائِلَةِ وَلِلْقَبِيلَةِ لِأَنَّ بِهَا الِاعْتِزَازَ، ثُمَّ مَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تَعَاوُنِ الْآحَادِ عَلَى ذَلِكَ، بِإِعْدَادِ الْمُعَدَّاتِ: وَهُوَ التَّعَاوُضُ وَالتَّعَامُلُ، فَلَمْ تَكُنْ فِكْرَةُ النَّاسِ تَعْدُو هَذِهِ الْحَالَةَ، وَبِذَلِكَ لم يكن لإحدى الْجَمَاعَاتِ شُعُورٌ بِمَا يَجْرِي لَدَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى، فَضْلًا عَنِ التَّفْكِيرِ فِي اقتباس إِحْدَاهَا مِمَّا يَجْرِي لَدَى غَيْرِهَا، وَتِلْكَ حَالَةُ قَنَاعَةِ الْعَيْشِ، وَقُصُورِ الْهِمَّةِ، وَانْعِدَامِ الدَّوَاعِي فَإِذَا حَصَلَتِ الْأَسْبَابُ الْآنِفَةُ عَدَّ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ فِي مُنْتَهَى السَّعَادَةِ. وَكَانَ التَّبَاعُدُ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ فِي الْمُوَاطِنِ مَعَ مَشَقَّةِ التَّوَاصُلِ، وَمَا يَعْرِضُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالْمَتَاعِبِ، حَائِلًا عَنْ أَنْ يُصَادِفَهُمْ مَا يُوجِبُ اقْتِبَاسَ الْأُمَمِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَشُعُورَ بَعْضِهَا بِأَخْلَاقِ بَعْضٍ، فَصَارَ الصَّارِفُ عَنِ التَّعَاوُنِ فِي الْحَضَارَةِ الْفِكْرِيَّةِ مَجْمُوعَ حَائِلَيْنِ: عَدَمِ الدَّاعِي، وَانْسِدَادِ وَسَائِلِ الصُّدْفَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا يَعْرِضُ مِنْ وِفَادَةِ وَافِدٍ، أَوِ اخْتِلَاطٍ فِي نَجْعَةٍ أَوْ مَوْسِمٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِنْ حَصَلَ فَسُرْعَانَ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، فَيُصْبِحُ فِي خَبَرِ كَانَ. فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْ أَقْوَامٍ، هَذِهِ حَالُهُمْ، أَنْ يَدْعُوَهُمُ الدَّاعِي إِلَى صَلَاحٍ فِي أَوْسَعَ مِنْ دَوَائِرِ مُدْرَكَاتِهِمْ، وَمُتَقَارِبِ تَصَوُّرِ عُقُولِهِمْ، أَلَيْسُوا إِذَا جَاءَهُمْ مُصْلِحٌ كَذَلِكَ لَبِسُوا لَهُ جِلْدَ النَّمِرِ، فَأَحَسَّ مِنْ سُوءِ الطَّاعَةِ حَرْقَ الْجَمْرِ، لِذَلِكَ لَمْ تَتَعَلَّقْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى،

فِي قَدِيمِ الْعُصُورِ، بِتَشْرِيعِ شَرِيعَةٍ جَامِعَةٍ صَالِحَةٍ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، بَلْ كَانَتِ الشَّرَائِعُ تَأْتِي إِلَى أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، فِي صِفَةِ عَرْضِ الْأُمَمِ لِلْحِسَابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَيَجِيءُ النَّبِيءُ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيءُ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيءُ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «فَجَعَلَ النَّبِيءُ وَالنَّبِيئَانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ» الْحَدِيثَ. وَبَقِيَ الْحَقُّ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَشَاعًا بَيْنَ الْأُمَمِ، فَفِي كُلِّ أُمَّةٍ تَجِدُ سَدَادًا وَأَفْنًا، وَبَعْضُ الْحَقِّ لَمْ يَزَلْ مَخْبُوءًا لَمْ يُسْفِرْ عَنْهُ الْبَيَانُ. ثُمَّ أَخَذَ الْبَشَرُ يَتَعَارَفُونَ بِسَبَبِ الْفُتُوحِ وَالْهِجْرَةِ، وَتَقَاتَلَتِ الْأُمَمُ الْمُتَقَارِبَةُ الْمَنَازِلِ، فَحَصَلَ لِلْأُمَمِ حَظٌّ مِنَ الْحَضَارَةِ، وَتَقَارَبَتِ الْعَوَائِدُ، وَتَوَسَّعَتْ مَعْلُومَاتُهُمْ، وَحَضَارَتُهُمْ، فَكَانَتْ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ: شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ غَيْرِهَا شَرِيعَةُ (حَمُورَابِي) فِي الْعِرَاقِ، وَشَرِيعَةُ الْبَرَاهِمَةِ، وَشَرِيعَةُ الْمِصْرِيِّينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يُوسُف: 76] . ثُمَّ أَعْقَبَتْهَا شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ كُبْرَى وَهِيَ شَرِيعَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي اخْتَلَطَ أَهْلُهَا بِأُمَمٍ كَثِيرَةٍ فِي مَسِيرِهِمْ فِي التِّيهِ وَمَا بَعْدَهُ، وَجَاوَرَتْهَا أَوْ أَعْقَبَتْهَا شَرَائِعُ مِثْلَ شَرِيعَةِ (زَرَادِشْتَ) فِي الْفُرْسِ، وَشَرِيعَةِ (كُنْفُشْيُوسَ) فِي الصِّينِ، وَشَرِيعَةِ (سُولُونَ) فِي الْيُونَانِ. وَفِي هَذِهِ الْعُصُورِ كُلِّهَا لَمْ تَكُنْ إِحْدَى الشَّرَائِعِ عَامَّةَ الدَّعْوَةِ، وَهَذِهِ أَكْبَرُ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْمُوسَوِيَّةُ لَمْ تدع غير بَين إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَدْعُ الْأُمَمَ الْأُخْرَى الَّتِي مَرَّتْ عَلَيْهَا، وَامْتَزَجَتْ بِهَا، وَصَاهَرَتْهَا، وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْمَسِيحِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى دَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا الْقِدِّيسُ بُولُسُ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً. إِلَى أَنْ كَانَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَعْدَ الْمَسِيحِ حُصُولُ تَقَابُسٍ وَتَمَازُجٍ بَيْنَ أَصْنَافِ الْبَشَرِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَوَائِدِ، بِسَبَبَيْنِ: اضْطِرَارِيٍّ، وَاخْتِيَارِيٍّ. أَمَّا الِاضْطِرَارِيُّ فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَرَامَتِ الْأُمَمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاتَّجَهَ أَهْلُ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ، وَأَهْلُ الْغَرْبِ إِلَى الشَّرْقِ، بِالْفُتُوحِ الْعَظِيمَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَهُمَا يَوْمَئِذٍ قُطْبَا الْعَالَمِ، بِمَا يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَمٍ تَنْتَمِي إِلَى سُلْطَانِهَا، فَكَانَتِ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَوَالَتْ أَزْمَانًا طَوِيلَةً.

وَأَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَهُوَ مَا أَبْقَاهُ ذَلِكَ التَّمَازُجُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَخْلَاقٍ وَعَوَائِدَ، حَسُنَتْ فِي أَعْيُنِ رَائِيهَا، فَاقْتَبَسُوهَا، وَأَشْيَاءَ قَبُحَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَحَذِرُوهَا، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ نَشَأَتْ يَقَظَةٌ جَدِيدَةٌ، وَتَأَسَّسَتْ مَدَنِيَّاتٌ مُتَفَنِّنَةٌ، وَتَهَيَّأَتِ الْأَفْكَارُ إِلَى قَبُولِ التَّغْيِيرَاتِ الْقَوِيَّةِ، فَتَهَيَّأَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى قَبُولِ التَّعَالِيمِ الْغَرِيبَةِ عَنْ عَوَائِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَتَسَاوَتِ الْأُمَمُ وَتَقَارَبَتْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ تَفَاوُتًا رُبَّمَا كَانَ مِنْهُ مَا زَاد بَعْضهَا تهيّئوا لِقَبُولِ التَّعَالِيمِ الصَّحِيحَةِ، وَقَهْقَرَ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ بِمَا دَاخَلَهَا مِنَ الْإِعْجَابِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهَا، أَوِ الْعُكُوفِ وَالْإِلْفِ عَلَى حَضَارَتِهَا. فَبَلَغَ الْأَجَلُ الْمُرَادُ وَالْمُعَيَّنُ لِمَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْحَقِّ الْخَاتِمَةِ الْعَامَّةِ. فَأَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ لِظُهُورِهِ، وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ بَيْن ظَهْرَانَيْ أُمَّةٍ لَمْ تَسْبِقْ لَهَا سَابِقَةُ سُلْطَانٍ، وَلَا كَانَتْ ذَاتَ سِيَادَةٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهَا أُمَّةٌ سَلَّمَهَا اللَّهُ مِنْ مُعْظَمِ رُعُونَاتِ الْجَمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَظْهَرَ هَذَا الدِّينَ بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ، وَلَا مِنْ ذُرِّيَّةِ مُلُوكٍ، وَلَا اكْتَسَبَ خِبْرَةً سَابِقَةً بِهِجْرَةٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ، لِيَكُونَ ظُهُور هَذَا تَحت الصَّرِيحِ، وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، مِنْ مِثْلِهِ آيَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ نَفَحَ بِهِ عِبَادَهُ. ثُمَّ جَعَلَ أُسُسَ هَذَا الدِّينِ مُتَبَاعِدَةً عَنْ ذَمِيمِ الْعَوَائِدِ فِي الْأُمَمِ، حَتَّى الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ بَيْنَهَا، وَمُوَافِقَةً لِلْحَقِّ وَلَوْ كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهَا، وَكَانَتْ أُصُولُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْفِطْرَةِ بِمَعْنَى أَلَّا تَكُونَ نَاظِرَةً إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ، غَيْرَ مَأْسُورٍ لِلْعَوَائِدِ وَلَا لِلْمَذَاهِبِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: 30] ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ سِينَا: «الْفِطْرَةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا دَفْعَةً وَهُوَ عَاقِلٌ، لَمْ يَسْمَعْ رَأْيًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يُعَاشِرْ أُمَّةً، لَكِنَّهُ شَاهَدَ الْمَحْسُوسَاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَى ذِهْنِهِ الْأَشْيَاءَ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ فَالْفِطْرَةُ لَا تَشْهَدُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فِيهِ فَالْفِطْرَةُ تُوجِبُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا تُوجِبُهُ الْفِطْرَةُ بِصَادِقٍ، بَلِ الصَّادِقُ مِنْهُ مَا تَشْهَدُ بِهِ فِطْرَةُ الْقُوَّةِ الَّتِي تُسَمَّى عَقْلًا، قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِضَهُ الْوَهْمُ» .

وَيَدْخُلُ فِي الْفِطْرَةِ الْآدَابُ الْعَتِيقَةُ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا كَافَّةُ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، وَارْتَاضَتْ نُفُوسُهُمْ بِهَا، إِذَا كَانَتْ تُفِيدُهُمْ كَمَالًا، وَلَا تُفْضِي إِلَى فَسَادٍ، وَذَلِكَ أُصُولُ قَوَاعِدِ حِفْظِ النَّسَبِ وَالْعِرْضِ خَاصَّةً. فَبِهَذَا الْأَصْلِ: أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينًا صَالِحًا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصُرِ. ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الْأَصْلُ فِي تِسْعَةِ مَظَاهِرَ خَادِمَةٍ لَهُ وَمُهَيِّئَةٍ جَمِيعَ النَّاسِ لِقَبُولِهِ. الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ: إِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ بِحَمْلِ الذِّهْنِ عَلَى اعْتِقَادٍ لَا يَشُوبُهُ تَرَدُّدٌ وَلَا تَمْوِيهٌ وَلَا أَوْهَامٌ وَلَا خُرَافَاتٌ، ثُمَّ بِكَوْنِ عَقِيدَتِهِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْخُضُوعِ لِوَاحِدٍ عَظِيمٍ، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِاتِّصَافِ هَذَا الْوَاحِدِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ التَّامَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الخضوع إِلَيْهِ اختياريا، ثُمَّ لِتَصِيرَ تِلْكَ الْكَمَالَاتُ مَطْمَحَ أَنْظَارِ الْمُعْتَقِدِ فِي التَّخَلُّقِ بِهَا ثُمَّ بِحَمْلِ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى تَطْهِيرِ عَقَائِدِهِمْ حَتَّى يَتَّحِدَ مَبْدَأُ التَّخَلُّقِ فِيهِمْ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمرَان: 64] . وَكَانَ إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ أَهَمَّ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَأَكْثَرَ مَا تَعَرَّضَ لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْفِكْرَةِ هُوَ مَبْدَأُ كُلِّ إِصْلَاحٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُرْجَى صَحَّ لِقَوْمٍ تَلَطَّخَتْ عُقُولُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ، وَخَسِئَتْ نُفُوسُهُمْ بِآثَارِ تِلْكَ الْعَقَائِدِ الْمُثِيرَةِ: خَوْفًا مِنْ لَا شَيْءٍ، وَطَمَعًا فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَإِذَا صَلُحَ الِاعْتِقَادُ أَمْكَنَ صَلَاحُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنْسَانٌ بِرُوحِهِ لَا بِجِسْمِهِ. ثُمَّ نَشَأَ عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ: عزّة النَّفس، وَأَصله الرَّأْيِ، وَحُرِّيَّةُ الْعَقْلِ، وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيمَا عَدَا الْفَضَائِلَ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْإِسْلَامُ شَرْحَ الْعَقَائِدِ إِكْثَارًا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ دِينٌ آخَرُ بَلْ إِنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الصَّحِيحَةِ، فَلَا تَرَى فِيهَا مِنْ شَرْحِ صِفَاتِ الْخَالِقِ إِلَّا قَلِيلًا. الْمَظْهَرُ الثَّانِي: جَمْعُهُ بَيْنَ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، بِالتَّزْكِيَةِ، وَبَيْنَ إِصْلَاحِ نِظَامِ الْحَيَاةِ، بِالتَّشْرِيعِ، فِي حِينِ كَانَ مُعْظَمُ الْأَدْيَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى نِظَامِ الْحَيَاةِ بِشَيْءٍ، وَبَعْضُهَا وَإِنْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ، بَلْ كَانَ مُعْظَمُ اهْتِمَامِهَا مُنْصَرِفًا إِلَى الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَادَاتِ،

وَقَدْ قَرَنَ الْقُرْآنُ الْمَصْلَحَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . الْمظهر الثَّالِثُ: اخْتِصَاصُهُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَمُجَادَلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِصُنُوفِ الْمُجَادَلَاتِ وَتَعْلِيلِ أَحْكَامِهِ، بِالتَّرْغِيبِ وَبِالتَّرْهِيبِ، وَذَلِكَ رَعْيٌ لِمَرَاتِبِ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَقْتَنِعُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَمِنْهُمُ الْمُكَابِرُ الَّذِي لَا يَرْعَوِي إِلَّا بِالْجَدَلِ وَالْخَطَابَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُتَرَهِّبُ الَّذِي اعْتَادَ الرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهُمُ الْمُكَابِرُ الْمُعَانِدُ، الَّذِي لَا يُقْلِعُهُ عَنْ شَغَبِهِ إِلَّا الْقَوَارِعُ وَالزَّوَاجِرُ. الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ جَاءَ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَهَذَا شَيْءٍ لَمْ يَسْبِقْ فِي دِينٍ قَبْلَهُ قَطُّ، وَفِي الْقُرْآنِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَاف: 158] ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ- وَكَانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّسُلَ كُلَّهُمْ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمْ. وَالِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ نُوحٍ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ: عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ انْحَصَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي أَتْبَاعِ نُوحٍ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الطُّوفَانِ سَائِرَ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 59] وأيّاما كَانَ احْتِمَالُ كَوْنِ سُكَّانِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِ نُوحٍ هُمْ مَنْ ضَمَّهُمْ وَطَنُ نُوحٍ، فَإِنَّ عُمُومَ دَعْوَتِهِ حَاصِلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ. الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ: الدَّوَامُ وَلَمْ يَدَّعِ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أَنَّ شَرِيعَتَهُ دَائِمَةٌ، بَلْ مَا مِنْ رَسُولٍ، وَلَا كِتَابٍ، إِلَّا تَجِدُ فِيهِ بِشَارَةً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ. الْمَظْهَرُ الْخَامِسُ: الْإِقْلَالُ مِنَ التَّفْرِيعِ فِي الْأَحْكَامِ بَلْ تَأْتِي بِأُصُولِهَا وَيُتْرَكُ التَّفْرِيعُ لِاسْتِنْبَاطِ الْمُجْتَهِدِينَ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 38] لِتَكُونَ الْأَحْكَامُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ. الْمَظْهَرُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَصَايَا الْأَدْيَانِ إِمْكَانُ الْعَمَلِ بِهَا، وَفِي أُصُولِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي تَأْتِي إِلَى النُّفُوسِ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَوَاطِرِ الشُّرُورِ لِأَنَّ

الشُّرُورَ، إِذَا تَسَرَّبَتْ إِلَى النُّفُوسِ، تَعَذَّرَ أَوْ عَسُرَ اقْتِلَاعُهَا مِنْهَا، وَكَانَتِ الشَّرَائِعُ تَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى مُتَابَعَةِ وَصَايَاهَا بِالْمُبَاشَرَةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ بِطَرِيقَتَيْنِ: طَرِيقَةٍ مُبَاشِرَةٍ، وَطَرِيقَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْفَسَادِ، وَغَالِبُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَأَحْسَبُهَا أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُرِيدَ بِالْمُشْتَبِهَاتِ فِي حَدِيثِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» . الْمَظْهَرُ السَّابِعُ: الرَّأَفَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ بِالِاقْتِصَارِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى مَوْضِعِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ تَطَلُّبِ إِبْرَازِ ذَلِكَ التَّشْرِيعِ فِي صُورَةٍ لَيِّنَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ- وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» وَكَانَتِ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تَحْمِلُ عَلَى الْمُتَابَعَةِ بِالشِّدَّةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْبَقَاءِ لِأَنَّهَا رُوعِيَ فِيهَا حَالُ قَسَاوَةِ أُمَمٍ فِي عُصُورٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ بِالَّتِي يُنَاسِبُهَا مَا قُدِّرَ مَصِيرُ الْبَشَرِ إِلَيْهِ مِنْ رِقَّةِ الطِّبَاعِ وَارْتِقَاءِ الْأَفْهَامِ. الْمَظْهَرُ الثَّامِنُ: امْتِزَاجُ الشَّرِيعَةِ بِالسُّلْطَانِ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّشْرِيعِ إِلَّا تَأْسِيسُ قَانُونٍ لِلْأُمَّةِ، وَمَا قِيمَةُ قَانُونٍ لَا تَحْمِيهِ الْقُوَّةُ وَالْحُكُومَةُ. وَبِامْتِزَاجِ الْحُكُومَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ أَمْكَنَ تَعْمِيمُ الشَّرِيعَةِ، وَاتِّحَادُ الْأُمَّةِ فِي الْعَمَلِ وَالنِّظَامِ. الْمَظْهَرُ التَّاسِعُ: صَرَاحَةُ أُصُولِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ فِي الْقُرْآنِ مَا تُسْتَقْرَى مِنْهُ قَوَاطِعُ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى تَكُونَ الشَّرِيعَةُ مَعْصُومَةً مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّحْرِيفَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى أَهْلِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَيَزْدَادُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] . وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. عَطَفَ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ سُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ فِي دِينِهِمْ.

وَجِيءَ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ بِطَرِيقَةٍ مُؤْذِنَةٍ بِوُرُودِ سُؤَالٍ إِذْ قَدْ جِيءَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: لِبَيَانِ سَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ، وَكَأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَجِيبٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِمْ إِخْبَارًا يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِهِ، وَإِبْطَالَ مَا يَتَرَاءَى مِنَ الْأَسْبَابِ غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ إِظْهَارِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِ الدِّينِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَدْ آذَنَ بِأَنَّ غَيره من الأدين لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِلْعُمُومِ، وَالدَّوَامِ، قَبْلَ التَّغْيِيرِ، بَلْهَ مَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، وَسُوءِ التَّأْوِيلِ، إِلَى يَوْمِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَكْمَلِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالِاخْتِلَافُ، وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ هُوَ الْبَغي بعد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ وَتَغْيِيرُهُمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا بَدَّلُوهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ بَعِيدٌ عَنْ مِثْلِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيفِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَظْهَرِ التَّاسِعِ، وَمِنْ ثَمَّ ذَمَّ عُلَمَاؤُنَا التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةَ، وَالَّتِي لَمْ يَدْعُ إِلَيْهَا دَاعٍ صَرِيحٌ. وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى نَظْمٍ عَجِيبٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا التَّحْذِيرُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، أَيْ فِي أُصُولِهِ، وَوُجُوبُ تَطَلُّبِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُنَاقِضُ مَقْصِدَ الدِّينِ، عِبْرَةً بِمَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَصَلَ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا فَهْمَ الدِّينِ. وَمِنْهَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْحَاصِلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اخْتِلَافُ كُلِّ أُمَّةٍ مَعَ الْأُخْرَى فِي صِحَّةِ دِينِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ [الْبَقَرَة: 113] ، وَثَانِيهِمَا اخْتِلَافُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا فِيمَا بَيْنَهَا وَافْتِرَاقُهَا فِرَقًا مُتَبَايِنَةَ الْمَنَازِعِ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا صَنَعُوا. وَمِنْهَا أنّ اخْتلَافهمْ ناشيء عَنْ بَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ بَغْيًا مِنْهُمْ وَحَسَدًا، مَعَ ظُهُورِ أَحَقِّيَّتِهِ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْبَقَرَة: 146، 147] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 109] أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَصَمَّمُوا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى دِينِهِمْ، وَوَدُّوا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ إِلَى الشِّرْكِ أَوْ إِلَى مُتَابَعَةِ دِينِهِمْ حَسَدًا عَلَى مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَلِأَجْلِ أَنْ يَسْمَحَ نَظْمُ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لِيَشْمَلَ كُلَّ اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ: مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الدِّينِ الْوَاحِدِ، وَمُخَالَفَةِ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ لِأَهْلِ الدِّينِ الْآخَرِ، وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الدِّينِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ لِذَلِكَ. وَجُعِلَ «بَغْيًا» عَقِبَ قَوْلِهِ: «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ» لِيَتَنَازَعهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (اخْتَلَفَ) وَمِنْ لَفْظِ (الْعِلْمُ) . وَأُخِّرَ بَيْنَهُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيقِ بِهِ: لِيَتَنَازَعهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (اخْتَلَفَ) وَفِعْلِ (جَاءَهُمْ) وَلَفْظِ (الْعِلْمُ) وَلَفْظِ (بَغْيًا) . وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْسَعُ مَعَانِيَ مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] وَقَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [4] كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ذَيْنِكَ الْمَوْضِعَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ. فَاخْتِلَافُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَشْمَلُ اخْتِلَافَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَيِ اخْتِلَافَ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ فِي أُمُور دينهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تشعر بهَا صِيغَةُ اخْتَلَفَ كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ بَعْدَ مُوسَى غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاخْتِلَافِهِمْ بَعْدَ سُلَيْمَانَ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ: مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ، وَمَمْلَكَةِ يَهُوذَا، وَكَيْفَ صَارَ لِكُلِّ مَمْلَكَةٍ مِنَ الْمَمْلَكَتَيْنِ تَدَيُّنٌ يُخَالِفُ تَدَيُّنَ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ

اخْتِلَافُ النَّصَارَى فِي شَأْنِ الْمَسِيحِ، وَفِي رُسُومِ الدِّينِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «بَينهم» حَالا لبغيا: أَيْ بَغْيًا مُتَفَشِّيًا بَيْنَهُمْ، بِأَنْ بَغَى كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى الْآخَرِ. وَيَشْمَلُ أَيْضًا الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: هُوَ حَقٌّ، وَقَالَ فَرِيقٌ: هُوَ مُرْسَلٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَكَفَرَ فَرِيقٌ، وَنَافَقَ فَرِيقٌ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَى مُنَاسَبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا وَصفا لبغيا: أَيْ بَغْيًا وَاقِعًا بَيْنَهُمْ. وَمَجِيءُ الْعِلْمِ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ جَاءَ مُؤْذِنَةٌ بِعِلْمٍ مُتَلَقًّى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَهُمْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَسَاءُوا فَكَانُوا عَلَى خِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ إِرْسَالِ الْهُدَى. وَانْتَصَبَ بَغْياً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَعَامِلُ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَفَرَّغَ لِلْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ كَانَ مِنْ أَزْمَانٍ وَعِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ وَالتَّقْدِيرُ: مَا اخْتَلَفُوا إِلَّا فِي زمن بعد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ وَمَا كَانَ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ بَغْيًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهُوَ- وَإِن كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَنْفِيًّا فِي اللَّفْظِ- إِلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ جَعَلَهُ فِي قُوَّةِ الْمُثْبَتِ، فَجَاءَ الْحَالُ مِنْهُ عَقِبَ ذَلِكَ، أَيْ حَالَ كَوْنِ الْمُخْتَلِفِينَ بَاغِينَ، فَالْمَصْدَرُ مُؤَوَّلٌ بِالْمُشْتَقِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهُ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ مِنِ (اخْتَلَفَ) بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صَارَ مُثْبَتًا كَمَا قَرَّرْنَا. وَقَدْ لَمَّحَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَالْبَغْيَ كُفْرٌ، لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِمْ إِلَى نَقْضِ قَوَاعِدِ أَدْيَانِهِمْ، وَإِلَى نُكْرَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ، لِأَنَّ سَرِيعَ الْحساب إنّما يبتدىء بِحِسَابِ مَنْ يَكْفُرُ بِآيَاتِهِ، والحساب هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] . وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقَعُوا فِي مِثْلِ مَا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَالْمُسْلِمُونَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمْ إِلَّا

[سورة آل عمران (3) : آية 20]

اخْتِلَافًا عِلْمِيًّا فَرْعِيًّا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافًا يَنْقُضُ أُصُولَ دِينِهِمْ بَلْ غَايَةُ الْكُلِّ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ مِنَ الدِّينِ، وَخِدْمَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَبَنُو إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَالرَّسُولُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَعَبَدُوا آلِهَةَ الْأُمَمِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالنَّصَارَى عَبَدُوا مَرْيَمَ وَالْمَسِيحَ، وَنَقَضُوا أُصُولَ التَّوْحِيدِ، وَادَّعَوْا حُلُولَ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَالَ أَحَدُ أَهْلِ التَّصَوُّفِ مِنْهُمْ كَلَامًا يُوهِمُ الْحُلُولَ حَكَمَ علماؤهم بقتْله. [20] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمرَان: 19] الْآيَةَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ قَدْ أَنْكَرُوهُ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ الرَّسُولِ فِي تَبْرِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى أَقَلِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَالْمُحَاجَّةُ مفاعلة وَلم يجىء فِعْلُهَا إِلَّا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَمَعْنَى الْمُحَاجَّةِ الْمُخَاصَمَةُ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ حَاجَّ فِي معنى المخاطمة بِالْبَاطِلِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: 80] وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [258] . فَالْمَعْنَى: فَإِن خاصموك خَاصم مُكَابَرَةٍ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ نُزُولِ السُّورَةِ، أَعْنِي قَضِيَّةَ وَفْدِ نَجْرَانَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ اهْتَمَّوْا بِالْمُحَاجَّةِ حِينَئِذٍ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَانْقَطَعَتْ مُحَاجَّتُهُمْ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَدْ تَظَاهَرُوا بِمُسَالَمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَة. وَقد لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ مُجَادَلَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَالْوَجْهُ أُطْلِقَ عَلَى النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: 88] أَيْ ذَاتَهُ.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا القَوْل طرايق ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ مُتَارَكَةٌ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْمُجَادَلَةِ أَيِ اعْتَرَفْتُ بِأَنْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى أَنْ أَزِيدَكُمْ بَيَانًا، أَيْ إِنِّي أَتَيْتُ بِمُنْتَهَى الْمَقْدُورِ مِنَ الْحُجَّةِ فَلَمْ تَقْتَنِعُوا، فَإِذْ لَمْ يُقْنِعْكُمْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ، فَلَيْسَتْ مُحَاجَّتُكُمْ إِيَّايَ إِلَّا مُكَابَرَةً وَإِنْكَارًا لِلْبَدِيهِيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ، وَمُبَاهَتَةً، فَالْأَجْدَرُ أَنْ أَكُفَّ عَنِ الِازْدِيَادِ. قَالَ الْفَخْرُ: فَإِنَّ الْمُحِقَّ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْمُبْطِلِ اللَّجُوجِ يَقُولُ: أَمَّا أَنَا فَمُنْقَادٌ إِلَى الْحَقِّ. وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ إِفَادَةُ قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ بِجُمْلَةِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ، ضَرْبًا مِنَ الْإِدْمَاجِ إِذْ أَدْمَجَ فِي قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ إِعَادَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّينَيْنِ. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْصُ عَلَى اهْتِدَائِهِمْ، وَالْإِعْذَارُ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ خَارِجٌ عَنِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَرُّرٌ لِلدَّعْوَةِ، أَيِ اتْرُكْ مُحَاجَّتَهُمْ وَلَا تَتْرُكْ دَعْوَتَهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحِجَاجِ الَّذِي حَاجَّهُمْ بِهِ خُصُوصَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا دَارَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ وَفْدِ نَجْرَانَ مِنَ الْحِجَاجِ الَّذِي عَلِمُوهُ فَمِنْهُ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُ مَا طُوِيَ ذِكْرُهُ. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ تَلْخِيصٌ لِلْحُجَّةِ، وَاسْتِدْرَاجٌ لِتَسْلِيمِهِمْ إِيَّاهَا، وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ مَآلُهَا إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ حَقًّا، وَأَحْسَنُهَا مَا قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا زِيَادَاتٍ زَادَتْهَا شَرَائِعُهُمْ، فَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: 123] أَمَرَهُ هُنَا أَنْ يُجَادِلَ النَّاس بِمثل قَوْله إِبْرَاهِيمَ: فَإِبْرَاهِيمُ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: 79] وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» أَيْ فَقَدْ قُلْتُ مَا قَالَهُ اللَّهُ، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تنكرون أنّي عتلى الْحَقِّ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْإِلْزَامَاتِ وَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: 125] .

الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ مَا قَالَهُ الْفَخْرُ وَحَاصِلُهُ مَعَ بَيَانِهِ أَنْ يكون هَذَا مُرْتَبِط بِقَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] أَيْ فَإِنْ حَاجُّوكَ فِي أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَقُلْ: إِنِّي بِالْإِسْلَامِ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلَا أَلْتَفِتُ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ مِثْلَكُمْ، فَدِينَيِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ هُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ (أَيْ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ دِينًا عِنْدَ اللَّهِ) . وَعَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ خَارِجًا عَنِ الْحُجَّةِ إِذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِ الْإِسْلَامِ هُوَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ مَرَّةً أُخْرَى بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّحْضِيضِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: 91] أَيْ قُلْ لِأُولَئِكَ: أَتُسْلِمُونَ. وَعِنْدِي أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَمَّا اقْتَضَى أَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَالْمُرَادُ بِفِعْلِ: «حَاجُّوكَ» الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْمُحَاجَّةِ: أَيْ فَإِنِ اسْتَمَرَّ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى مُحَاجَّتِهِمْ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا فَصْلًا جَامِعًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ دِينِكَ الَّذِي أُرْسِلْتَ بِهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ مُتَدَيِّنُونَ بِهِ. فَمَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَخْلَصْتُ عُبُودِيَّتِي لَهُ لَا أُوَجِّهُ وَجْهِي إِلَى غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا كُنْهُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الدِّينُ الْخَالِصُ، وَأَنَّهُمْ لَا يُلْفُونَ تَدَيُّنَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ. وَقَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَيَدْخُلُ الْمَعْطُوفُ فِي التَّفْرِيعِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَقُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ، أَيْ فَكَرِّرْ دَعْوَتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْطَاءِ وَالتَّحْضِيضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: 91] . وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ أَتُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو تَحَقُّقَ إِسْلَامِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ كَالْحَاصِلِ فِي الْمَاضِي. اعْلَم أَنَّ قَوْلَهُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي كُنْهِ الْإِسْلَامِ وَأُصُولِهِ أُلْقِيَتْ إِلَى النَّاسِ لِيَتَدَبَّرُوا مَطَاوِيَهَا فَيَهْتَدِيَ الضَّالُّونَ، وَيَزْدَادَ الْمُسْلِمُونَ يَقِينًا بِدِينِهِمْ إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَجِيءَ قَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ وَتَعْقِيبَهُ بِقَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ جَامِعِ مَعَانِي الْإِسْلَامِ حَتَّى

تَسْهُلَ الْمُجَادَلَةُ، وَتُخْتَصَرَ الْمُقَاوَلَةُ، وَيَسْهُلَ عَرْضُ الْمُتَشَكِّكِينَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، لِيَعْلَمُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ. وبيّنت هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يُتَرْجِمُ عَنْ حَقِيقَةِ اسْمِهِ فَإِنَّ اسْمَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ مُفِيدٌ مَعْنًى مَعْرُوفًا فِي لُغَتِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْإِلْقَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ وَنُزِّلَ الْفِعْل منزلَة الْفِعْلُ اللَّازِمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَعْنَى الْفَاعِلِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَسْلَمْتُنِي أَيْ أَسْلَمْتُ نَفَسِي، فَبَيَّنَ هُنَا هَذَا الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ مِنِ اسْمِ الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهِ الْتِبَاسٌ أَوْ تَأْوِيلٌ لِمَا لَا يُطَابِقُ الْمُرَادَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَجْهِيَ) أَيْ نَفْسِي: لِظُهُورِ أَلَّا يَحْسُنَ مَحْمَلُ الْوَجْهِ هُنَا عَلَى الْجُزْءِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا يُفِيدُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، بَلِ الْمَعْنَى الْبَيِّنُ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ كَامِلُ الذَّاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: 88] . وَإِسْلَامُ النَّفْسِ لِلَّهِ مَعْنَاهُ إِسْلَامُهَا لِأَجْلِهِ وَصَيْرُورَتُهَا مِلْكًا لَهُ، بِحَيْثُ يَكُونُ جَمِيعُ أَعْمَالِ النَّفْسِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَحْتَ هَذَا مَعَانٍ جَمَّةٌ هِيَ جِمَاعُ الْإِسْلَامِ: نَحْصُرُهَا فِي عَشَرَةٍ: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَلَّا يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُسْلِمْ نَفسه لله بَلْ أَسْلَمَ بَعْضَهَا. الْمَعْنَى الثَّانِي: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَظُ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُرَائِي وَلَا يُصَانِعُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا يُقَدِّمُ مَرْضَاةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: إِخْلَاصُ الْقَوْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقُولُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ إِلَّا فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى تَجِيءُ الصَّرَاحَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَلَى حَسَبِ الْمَقْدِرَةِ وَالْعِلْمِ، وَالتَّصَدِّي لِلْحُجَّةِ لِتَأْيِيدِ مُرَادِ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ امْتَازَ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا الْمَعْنَى النِّفَاقُ، وَالْمَلَقُ، قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ رَسُولِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [يس: 86] . الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَاعِيًا لِتَعَرُّفِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، لِيُجْرِيَ أَعْمَالَهُ عَلَى وَفْقِهِ، وَذَلِكَ بِالْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ، وَتَلَقِّيهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُودِ صِدْقِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، بِدُونِ تَحَفُّزٍ لِلتَّكْذِيبِ، وَلَا

مُكَابَرَةٍ فِي تَلَقِّي الدَّعْوَةِ، وَلَا إِعْرَاضٍ عَنْهَا بِدَاعِي الْهَوَى وَهُوَ الْإِفْحَامُ، بِحَيْثُ يَكُونُ عِلْمُهُ بِمُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ هُوَ ضَالَّتُهُ الْمَنْشُودَةُ. الْخَامِسُ: امْتِثَالُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ، عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ الصَّادِقِينَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى اتِّبَاعِ ذَلِكَ بِدُونِ تَغْيِيرٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَأَنْ يَذُودَ عَنْهُ مَنْ يُرِيدُ تَغْيِيرَهُ. السَّادِسُ: أَلَّا يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ حُكْمًا مَعَ اللَّهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، فَلَا يَتَصَدَّى لِلتَّحَكُّمِ فِي قَبُولِ بَعْضِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَبْذِ الْبَعْضِ. كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النُّور: 48، 49] ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَاب: 36] ، فَقَدْ أَعْرَضَ الْكُفَّارُ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا مَيِّتًا بُعِثَ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُتَطَلِّبًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى جَرْيِهِ فِيهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ: بِتَطَلُّبِهِ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِنَظَائِرِهِ التَّامَّةِ التَّنْظِيرِ بِمَا عُلِمَ أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاء: 83] وَلِهَذَا أَدْخَلَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ حُكْمَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ، تَحْتَ التَّقْوَى الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغبن: 16] . الثَّامِنُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ فِي الدِّينِ، وَعَنِ الْقَوْلِ فِيهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] . التَّاسِعُ: أَنْ تَكُونَ مُعَامَلَةُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَجَمَاعَاتِهَا، وَمُعَامَلَتُهَا الْأُمَمَ كَذَلِكَ، جَارِيَةً عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ. الْعَاشِرُ: التَّصْدِيقُ بِمَا غُيِّبَ عَنَّا، مِمَّا أَنْبَأَنَا اللَّهُ بِهِ: مِنْ صِفَاتِهِ، وَمِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْمُطْلَقُ. وَقَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ إِبْطَالٌ لِكَوْنِهِمْ حَاصِلِينَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَبُعْدُهمْ عَنْهُ أَشَدَّ الْبُعْدِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ أَلَّهُوا عِيسَى، وَجَعَلُوا مَرْيَمَ صَاحِبَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا أَصْلٌ لِبُطْلَانِ أَنْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 22]

لِلَّهِ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَصَانَعُوا الْأُمَمَ الْحَاكِمَةَ وَالْمُلُوكَ، فَأَسَّسُوا الدِّينَ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِذُّ لَهُمْ وَيُكْسِبُهُمُ الْحُظْوَةَ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُمْ- وَإِنْ لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ- قَدْ نَقَضُوا أُصُولَ التَّقْوَى، فَسَفَّهُوا الْأَنْبِيَاءَ وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَاسْتَهْزَءُوا بِدَعْوَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَغَيَّرُوا الْأَحْكَامَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَقَتَلُوا الْأَحْبَارَ، فَأَنَّى يَكُونُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَأَكْبَرُ مُبْطِلٍ لِذَلِكَ هُوَ تكذيبهم مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا مَعْنَاهُ: فَإِنِ الْتَزَمُوا النُّزُولَ إِلَى التَّحَقُّقِ بِمَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعُوكَ لِتَلَقِّي مَا تُبْلِغُهُمْ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَعَانِي إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِكَ لَهُمْ: آسْلَمْتُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ تَبِعَةٌ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، فَقَوْلُهُ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَقَعَ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى عِلَّةُ الْجَوَابِ، فَوُقُوعُهُ مَوْقِعَ الْجَوَابِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، أَيْ لَا تَحْزَنْ، وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ عَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ، وَخَيْبَتَكَ فِي تَحْصِيلِ إِسْلَامِهِمْ، كَانَ لِتَقْصِيرٍ مِنْكَ إِذْ لَمْ تُبْعَثْ إِلَّا لِلتَّبْلِيغِ، لَا لِتَحْصِيلِ اهْتِدَاءِ الْمُبَلَّغِ إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ أَتَمَّ الِاطِّلَاعِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرو، وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَأَبُو جَعْفَر، وَخلف «اتَّبَعَنِي» بِإِثْبَاتِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَصْلِ دون الْوَقْف. وقرأه الْبَاقُونَ بِإِثْبَات الْيَاء فِي الْوَصْل وَالْوَقْف. [21، 22] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 21 إِلَى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ، الْمُنَافِيَةِ إِسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ، فَالْمُرَادُ بِأَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ خُصُوصُ الْيَهُودِ، وَهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِمَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ

مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْمُنَاسَبَةُ: جَرَيَانُ الْجِدَالِ مَعَ النَّصَارَى وَأَنْ جُعِلُوا جَمِيعًا فِي قَرَنِ قَوْلِهِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمرَان: 20] . وَجِيءَ فِي هَاتِهِ الصِّلَاتِ بِالْأَفْعَالِ الْمُضَارِعَةِ لِتَدُلَّ عَلَى استحضار الْحَالة الفظية، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِفَادَةَ التَّجَدُّدِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ تَأَتَّى فِي قَوْلِهِ: يَكْفُرُونَ لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْلِهِ: وَيَقْتُلُونَ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ فِي زَمَنٍ مَضَى. وَالْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ يَهُودُ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ: لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ تَبِعَةَ أَسْلَافِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ سَدَادَ مَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمُ، الَّذين قتلوا زَكَرِيَّاء لِأَنَّهُ حَاوَلَ تَخْلِيصَ ابْنِهِ يَحْيَى مِنَ الْقَتْلِ، وَقَتَلُوا يَحْيَى لِإِيمَانِهِ بِعِيسَى، وَقتلُوا النَّبِي إِرْمِياءَ بِمِصْرَ، وَقَتَلُوا حَزْقِيَالَ النَّبِيءَ لِأَجْلِ تَوْبِيخِهِ لَهُمْ عَلَى سُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ مَعْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، وَقَتَلَ مَنْشَا ابْن حَزْقِيَالَ، مَلِكُ إِسْرَائِيلَ، النَّبِيءَ أَشْعِيَاءَ: نَشَرَهُ بِالْمِنْشَارِ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَحْمُوهُ، فَكَانَ هَذَا الْقَتْلُ مَعْدُودًا عَلَيْهِمْ، وَكَمْ قَتَلُوا مِمَّنْ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْجَرَائِمِ مَعْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِهَا، وَأَلَحُّوا فِي وُقُوعِهَا. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حَقٍّ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَضْمُونِ جملَة يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ إِذْ لَا يكون قتل النبيّين إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ لِظُهُورِ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّقْيِيدِ وَالِاحْتِرَازِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ نَبِيءٌ بِحَقٍّ، فَذِكْرُ الْقَيْدِ فِي مِثْلِهِ لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْإِشْكَالُ فِي الْقَيْدِ الْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ تَسَلُّطَ النَّفْيِ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الْبَقَرَة: 273] وَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ زِيَادَةُ تَشْوِيهِ فِعْلِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مُومِئًا إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ: وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَتَلُوهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْحَقِّ، فَقَدِ اكْتُفِيَ بِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّنَاعَةِ، فَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى زِيَادَةِ التَّشْنِيعِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعَشَرَةِ يَقْتُلُونَ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ- بِسُكُونِ الْقَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ «وَيُقَاتِلُونَ» - بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا- بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَتْلِ. وَالْفَاءُ فِي فَبَشِّرْهُمْ فَاءُ الْجَوَابِ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْط، دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ لِأَنَّ اسْمَ إِنَّ وَهُوَ مَوْصُولٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ، قَوْمًا مُعَيَّنِينَ، بَلْ كُلُّ من يتّصف بالصلة فَجَزَاؤُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ عَذَابًا أَلِيمًا. وَاسْتَعْمَلَ بَشِّرْهُمْ فِي مَعْنَى أَنْذِرْهُمْ تَهَكُّمًا. وَحَقِيقَةُ التَّبْشِيرِ: الْإِخْبَارُ بِمَا يُظْهِرُ سُرُورَ الْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي ضِدِّ حَقِيقَتِهِ، إِذْ أُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ الْعَذَابِ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِحُزْنِ الْمُخْبَرِينَ، فَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الضِّدِّ مَعْدُودٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، وَيُسَمُّونَهَا تَهَكُّمِيَّةً لِأَنَّ تَشْبِيهَ الضِّدِّ بِضِدِّهِ لَا يَرُوجُ فِي عَقْلِ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ، أَوِ التَّمْلِيحِ، كَمَا أَطْلَقَ عَمْرُو ابْنُ كُلْثُومٍ. اسْمَ الْأَضْيَافِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَطْلَقَ الْقِرَى عَلَى قَتْلِ الْأَعْدَاءِ، فِي قَوْلِهِ: نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا ... فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَن تشتمونا قزيناكم فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْتِزَاعِ شبه التضادّ وإلحافه بِشَبَهِ التَّنَاسُبِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لِأَنَّهُمْ تَمَيَّزُوا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا صِلَاتُ الْمَوْصُولِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُمْ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرُ (إِنَّ) وَجُمْلَةُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا. وَحَبَطُ الْأَعْمَالِ إِزَالَةُ آثَارِهَا النَّافِعَةِ مِنْ ثَوَابِ ونعيم فِي الْآخِرَةِ، وَحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَإِطْلَاقُ الْحَبَطِ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْإِبِلِ الَّتِي يُصِيبُهَا الْحَبَطُ وَهُوَ انْتِفَاخٌ فِي بُطُونِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، يَكُونُ سَبَبَ مَوْتِهَا، فِي حِينِ أَكَلَتْ مَا أَكَلَتْ لِلِالْتِذَاذِ بِهِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 إلى 25]

وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] . وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانُوا مُتَدَيِّنِينَ يَرْجُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ النَّفْعَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَالنَّفْعَ فِي الدُّنْيَا بِآثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَجَحَدُوا نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَوَّبُوا الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، فَقَدِ ارْتَدَّوْا عَنْ دِينِهِمْ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ بِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فَلَا جَرَمَ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا بِآثَارِهَا الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَا لَهُمْ مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ. وَجِيء بِمن الدَّالَّةِ عَلَى تَنْصِيصِ الْعُمُومِ لِئَلَّا يُتْرَكَ لَهُمْ مَدْخَلٌ إِلَى التَّأْوِيل. [23- 25] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 23 إِلَى 25] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ الْيَهُودِ فِي شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّعْجِيبِ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِعْمَالُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ لِيَكُونَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِهِ مُحَرِّضًا لِلْمُخَاطَبِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهَا بِحَرْفِ إِلَى: الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ النَّظَرِ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [44] : أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً، وَتَكُونَ (إِلَى) دَاخِلَةً عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَانْتِهَائِهِ الْمَجَازِيِّ إِلَيْهِ، فَتَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: 258] . وَعُرِفَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ لَقَبِهِمْ، أَعْنِي الْيَهُودَ: لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مَا يَزِيدُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْكِتَابِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ. عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصِّلَةِ أَيْضًا مِنْ تَوْهِينِ عِلْمِهِمُ الْمَزْعُومِ. وَالْكتاب: التَّوْرَاةُ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: هُوَ لِلْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ النَّصَارَى، أَيْ أَهْلُ نَجْرَانَ. وَالنَّصِيبُ: الْقِسْطُ وَالْحَظُّ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [202] . وَتَنْكِيرُ نَصِيباً لِلنَّوْعِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَهَاوُنٍ بِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ. ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ النَّصِيب، فَالْمُرَاد بِالْكتاب جِنْسُ الْكُتُبِ، وَالنَّصِيبُ هُوَ كِتَابُهُمْ، وَالْمُرَادُ: أُوتُوا بَعْضَ كِتَابِهِمْ، تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ إِلَّا حَظًّا يَسِيرًا، وَيَجُوزُ كَوْنُ مِنْ لِلْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى: أُوتُوا حَظًّا مِنْ حُظُوظِ الْكَمَالِ، هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ. وَجُمْلَةُ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ فِي مَوْضُوع الْحَالِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ التَّعْجِيبِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ضَمِيمَةِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَهُوَ، قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَجِيبُ لَا أَصْلَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَإِذَا جَعَلْتَ (تَرَ) قَلْبِيَّةً فَجُمْلَةُ يُدْعَوْنَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَقَدْ عَلِمْتَ بُعْدَهُ. وكِتابِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 101] . فَهُوَ غَيْرُ الْكِتَابِ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْكِتابِ كَمَا ينبىء بِهِ تَغْيِيرُ

الْأُسْلُوبِ. وَالْمَعْنَى: يُدْعَوْنَ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرِ فِي مَعَانِيهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَيَأْبَوْنَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابِ اللَّهِ عَيْنَ الْمُرَادِ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا غُيِّرَ اللَّفْظُ تَفَنُّنًا وَتَنْوِيهًا بِالْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، أَيْ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِهِمْ لِيَتَأَمَّلُوا مِنْهُ، فَيَعْلَمُوا تَبْشِيرَهُ بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَتَلْمِيحَهُ إِلَى صِفَاتِهِ. رُوِيَ، فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مِدْرَاسَ الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ- قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- قَالَا: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةَ فَهَلُمُّوا إِلَيْهَا، فَأَبَيَا، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ (ثُمَّ) عَاطِفَةُ جُمْلَةِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عَلَى جملَة يُدْعَوْنَ فالمعطوفة هُنَا فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ فَدَلَّتْ (ثُمَّ) عَلَى أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُسْتَمِرٌّ فِي أَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ تَبْعُدُ عَنْ زَمَانِ الدَّعْوَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ فَهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُعْرِضُ غَضَبًا، أَوْ لِعِظَمِ الْمُفَاجَأَةِ بِالْأَمْرِ غَيْرِ الْمُتَرَقَّبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ رُشْدُهُ، وَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ، فَيَرْجِعُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ إِثْرَ الدَّعْوَةِ دُونَ تَرَاخٍ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. فَدُخُولُ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَوَلَّوْنَ إِثْرَ الدَّعْوَةِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَتَوَلَّوْنَ بَعْدَ أَنْ أُوتُوا الْكِتَابَ وَنَقَلُوهُ، فَإِذَا دُعُوا إِلَى كِتَابِهِمْ تَوَلَّوْا. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتَوَلَّوْنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ ابْن عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ: وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَالتَّوَلِّي مَجَازٌ عَنِ النُّفُورِ وَالْإِبَاءِ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ إِذِ التَّوَلِّي هُوَ الْإِعْرَاضُ، وَلَمَّا كَانَتْ حَالًا لَمْ تَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ فَكَانَتْ دَالَّةً عَلَى تَجَدُّدِ الْإِعْرَاضِ، مِنْهُمُ الْمُفَادُ أَيْضًا مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِسَبَبِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً،

فَانْعَدَمَ اكْتِرَاثُهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمُ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ جَرَّأَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا الْإِعْرَاضِ. وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مَعَ بُطْلَانِهِ مُؤْذِنٌ أَيْضًا بِسَفَالَةِ هِمَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يُنَافِسُونَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ. وَعَبَّرَ عَنِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَوْلِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وأنّه قَول مُفْتَرًى مُدَلَّسٌ، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ عَقِيدَةُ الْيَهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ مَا تَقَوَّلُوهُ عَلَى الدِّينِ وَأَدْخَلُوهُ فِيهِ، فَلذَلِك أُتِي بفي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] ، وَكَانُوا أَيْضًا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ يَعْقُوبَ أَلَّا يُعَذِّبَ أَبْنَاءَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَفَاسِدِ هَذَا الْغُرُورِ وَالِافْتِرَاءِ بِإِيقَاعِهَا فِي الضَّلَالِ الدَّائِمِ، لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ غُرُورٍ فَالْإِقْلَاعُ عَنْهَا مَرْجُوٌّ، أَمَّا الْمَغْرُورُ فَلَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ إِقْلَاعٌ. وَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِغُرُورٍ كَثِيرٍ فِي تَفَارِيعِ دِينِهِمْ وَافْتِرَاءَاتٍ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ عَادَتْ عَلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ بِالْإِبْطَالِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجَالِ. وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ أَيْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ غُرُورًا فَكَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ جَزَاؤُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ وَوَفَّيْنَاهُمْ جَزَاءَهُمْ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّفْظِيعِ مَجَازًا. «وَكَيف» هُنَا خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَى نَوْعِهِ السِّيَاقُ، وإِذا ظَرْفٌ مُنْتَصِبٌ بِالَّذِي عَمِلَ فِي مَظْرُوفِهِ: وَهُوَ مَا فِي كَيْفَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّفْظِيعِيِّ كَقَوْلِكَ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فِي سُورَة النِّسَاء [41] .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 إلى 27]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 26 إِلَى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا هُوَ حَسَدٌ على زَوَال النبوءة مِنْهُمْ، وَانْقِرَاضِ الْمُلْكِ مِنْهُمْ، بِتَهْدِيدِهِمْ وَبِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُ لَا عَجَبَ أَن تنْتَقل النبوءة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعَرَبِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ شَرِيعَةٌ مُقَارِنَةٌ لِلسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ. واللَّهُمَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَاصٌّ بِنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ يَا اللَّهُ. وَلَمَّا كَثُرَ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مَعَهُ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْمِيمَ عِوَضٌ مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ يُرِيدُونَ أَنَّ لِحَاقَ الْمِيمِ بِاسْمِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَمَّا لَمْ يَقَعْ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّعَاءِ صَارَ غَنِيًّا عَنْ جَلْبِ حَرْفِ النِّدَاءِ اخْتِصَارًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمِيمَ تُفِيدُ النِّدَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِيمَ عَلَّامَةُ تَنْوِينٍ فِي اللُّغَةِ الْمَنْقُولِ مِنْهَا كَلِمَةُ (اللَّهُمَّ) مِنْ عِبْرَانِيَّةٍ أَوْ قَحْطَانِيَّةٍ وأنّ أَصْلهَا لَا هم مُرَادِفُ إِلَهٍ. وَيدل على هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ نَطَقُوا بِهِ هَكَذَا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: كَدَعْوَةٍ مِنْ أَبِي رَبَاحٍ ... يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الْكَبِيرُ وَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ كَذَلِكَ مَعَ النِّدَاءِ كَقَوْلِ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ: إِنِّي إِذا مَا حدت أَلَمَّا ... أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَا اللَّهُ كَثِيرًا. وَقَالَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ: إِنَّ الْمِيمَ عِوَضٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمَحْذُوفِ وَإِنَّهُ تَعْوِيضٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ: وَإِنَّ مَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ شُذُوذٌ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ اللَّهُمَّ مُخْتَزَلٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَجُمْلَةٍ أَصْلُهَا «يَا اللَّهُ أُمَّ» أَيْ أَقْبِلْ عَلَيْنَا بِخَيْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

وَالْمَالِكُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ بِجَمِيعِ مَا يَتَصَرَّفُ فِي أَمْثَالِهِ مِمَّا يُقْصَدُ لَهُ مِنْ ذَوَاتِهَا، وَمَنَافِعِهَا، وَثَمَرَاتِهَا، بِمَا يَشَاءُ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالِانْفِرَادِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِمُشَارَكَةٍ: وَاسِعَةٍ، أَوْ ضَيِّقَةٍ. والْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ نَوْعٌ مِنَ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَالْمِلْكُ بِالْكَسْرِ- جِنْسٌ وَالْمُلْكُ- بِالضَّمِّ- نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِهِ، وَمَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ أُمَّةٍ عَدِيدَةٍ تصرّف التَّدْبِير للشؤون، وَإِقَامَةِ الْحُقُوقِ، وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْعُدْوَانِ عَنْهَا، وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهَا، بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [247] وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: 4] ، فَمَعْنَى مَالِكِ الْمُلْكِ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي نَوْعِ الْمُلْكِ (بِالضَّمِّ) بِمَا يَشَاءُ، بِأَن يُرَاد بِالْملكِ هَذَا النَّوْعُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكِ الْأَوَّلِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ: أَيْ كُلُّ مُلْكٍ هُوَ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُلْكُ مَاهِيَّةً مِنَ الْمَوَاهِي، كَانَ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ مَالِكَ الْمُلْكِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِتَصْرِيفِ الْمُلْكِ، أَيْ لِإِعْطَائِهِ، وَتَوْزِيعِهِ، وَتَوْسِيعِهِ، وَتَضْيِيقِهِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي الْمَعْنَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِلْجِنْسِ، دُونَ اسْتِغْرَاقِ أَيِّ طَائِفَةٍ وَحِصَّةٍ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مِقْدَارِ الْجِنْسِ عَلَى الْقَرَائِنِ. وَلِذَلِكَ بُيِّنَتْ صِفَةُ مَالِكِ الْمُلْكِ بِقَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمرَان: 26] فَإِنَّ إِيتَاءَهُ وَنَزْعَهُ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ: إِيجَابًا، وَسَلْبًا، وَكَثْرَةً وَقِلَّةً. وَالنَّزْعُ: حَقِيقَةً إِزَالَةُ الْجِرْمِ مِنْ مَكَانِهِ: كَنَزْعِ الثَّوْبِ، وَنَزْعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَيُسْتَعَارُ لِإِزَالَةِ الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الْأَعْرَاف: 43] بِتَشْبِيهِ الْمَعْنَى الْمُتَمَكِّنِ بِالذَّاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَكَانِ، وَتَشْبِيهِ إِزَالَتِهِ بِالنَّزْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: تَنْزِعُ الْمُلْكَ أَيْ تُزِيلُ وَصْفَ الْمُلْكِ مِمَّنْ تَشَاءُ. وَقَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَمْثِيلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ يَكُونُ أَقْوَى تَصَرُّفِهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ بِيَدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَا يُوضَعُ فِي الْيَدِ، قَالَ عَنْتَرَةُ بْنُ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيُّ الطَّائِيُّ: فَمَا بِيَدَيْكَ خَيْرٌ أَرْتَجِيهِ ... وَغَيْرُ صُدُودِكَ الْخَطْبُ الْكَبِيرُ وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَافَةَ الْيَدِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَلَا تَشَابُهَ فِيهِ: لِظُهُورِ

الْمُرَادِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْخَيْرِ فِي تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى اكْتِفَاءٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: 81] أَيْ وَالْبَرْدَ. وَكَانَ الْخَيْرُ مُقْتَضًى بِالذَّاتِ أَصَالَةً وَالشَّرُّ مُقْتَضًى بِالْعَرَضِ قَالَ الْجَلَالُ الدِّوَانِيُّ فِي شَرْحِ دِيبَاجَةِ هَيَاكِلِ النُّورِ: «وَخُصَّ الْخَيْرُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَرَجِّي الْمُسْلِمِينَ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ خَيْرَهُمْ شَرٌّ لِضِدِّهِمْ كَمَا قِيلَ: مَصَائِبُ قوم عِنْد يَوْم فَوَائِدُ أَيِ «الْخَيْرُ مُقْتَضَى الذَّات والشرّ مقتضي بِالْعَرَضِ وَصَادِرٌ بِالتَّبَعِ لِمَا أَنَّ بَعْضَ مَا يَتَضَمَّنُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِشَرٍّ قَلِيلٍ، فَلَوْ تُرِكَتْ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةُ لِذَلِكَ الشَّرِّ الْقَلِيلِ، لَصَارَ تَرْكُهَا شَرًّا كَثِيرًا، فَلَمَّا صَدَرَ ذَلِكَ الْخَيْرُ لَزِمَهُ حُصُولُ ذَلِكَ الشَّرِّ» . وَحَقِيقَةُ «تُولِجُ» تُدْخِلُ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِتَعَاقُبِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ، وَلِازْدِيَادِ مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ وَعَكْسِهِ فِي الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ عَدَا أَيَّامِ الِاعْتِدَالِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَحَظَاتٌ قَلِيلَةٌ ثُمَّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا لَكِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُدْرَكُ فِي أَوَّلِهَا فَلَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ، وَفِي الظَّاهِرِ هِيَ يَوْمَانِ فِي كُلِّ نِصْفِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْعَوَامُّ وَأَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْخَوَاصُّ وَمَا يَفْهَمُهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ الْإِيلَاجَ يَشْمَلُ الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ وَالْفُصُولَ الَّتِي يُدْرِكُهَا سَائِرُ الْعَوَامِّ» . وَفِي هَذَا رَمْزٌ إِلَى مَا حَدَثَ فِي الْعَالَمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ وَالْإِشْرَاكِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ النَّاسُ عَلَى دِينٍ صَحِيحٍ كَدِينِ مُوسَى، وَإِلَى مَا حَدَثَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِبْطَالِ الضَّلَالَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، لِيَكُونَ الِانْتِهَاءُ بِقَوْلِهِ: وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، فَهُوَ نَظِيرُ التَّعْرِيضِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ الْآيَةَ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الرَّمْزِ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَخْ. وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ كَخُرُوجِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمُضْغَةِ، وَمِنْ مُحِّ الْبَيْضَةِ. وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِي عَكْسِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ:

[سورة آل عمران (3) : آية 28]

وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [31] . وَهَذَا رَمْزٌ إِلَى ظُهُورِ الْهُدَى وَالْمُلْكِ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، وَظُهُورِ ضَلَالِ الْكُفْرِ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَزَوَالِ الْمُلْكِ من خَلفهم يعد أَنْ كَانَ شِعَارَ أَسْلَافِهِمْ، بِقَرِينَةِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَخْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: «الْمَيِّتِ» بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ: بِسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي لَفْظِ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُهُ: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُوَ كَالتَّذْيِيلِ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَالرِّزْقُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعَامِ وَالثِّمَارِ كَقَوْلِهِ: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] وَقَوْلِهِ: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [الْكَهْف: 19] ، وَيُطْلَقُ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ- ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ [ص: 51- 54] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ رِزْقًا: لِأَنَّ بِهَا يُعَوَّضُ مَا هُوَ رِزْقٌ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا أُخْبِئَ لَهُمْ مِنْ كُنُوزِ الْمَمَالِكِ الْفَارِسِيَّةِ والقيصرية وَغَيرهَا. [28] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 28] لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) اسْتِئْنَافٌ عُقِّبَ بِهِ الْآيُ الْمُتَقَدِّمَةُ، الْمُتَضَمِّنَةُ عَدَاءَ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَحَسَدَ الْيَهُودِ لَهُمْ، وَتَوَلِّيَهُمْ عَنْهُ: مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمرَان: 116] إِلَى هُنَا. فَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ هَذِهِ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا تَقَدَّمَهَا: نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ- بَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ بَغْيَ الْمُخَالِفِينَ وَإِعْرَاضَهُمْ- أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ- بَعْدَ أَنْ سَفَّهَ الْآخَرُونَ دِينَهُمْ وَسَفَّهُوا أَحْلَامَهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ- يُعَدُّ ضَعْفًا فِي الدِّينِ وَتَصْوِيبًا لِلْمُعْتَدِينَ.

وَشَاعَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ وَصْفِ الْكُفْرِ عَلَى الشِّرْكِ، وَالْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَعَلَّ تَعْلِيقَ النَّهْيِ عَنِ الِاتِّخَاذِ بِالْكَافِرِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ صِلَاتٌ، وَأَنْسَابٌ، وَمَوَدَّاتٌ، وَمُخَالَطَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَكَانُوا بِمَظِنَّةِ الْمُوَالَاةِ مَعَ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ سَامِعٍ أَنَّ مَنْ يُشَابِهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَوْقِفِهِ تُجَاهَ الْإِسْلَامِ يَكُونُ تَوَلِّي الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ كَتَوَلِّيهِمُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ: مِثْلَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمرَان: 19] ، فَلِذَلِكَ كُلِّهِ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة» وَكَانَ كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُهَاجِرِينَ وَخُلَّصِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ تَأَوَّلَ فَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْش يعلمهُمْ بتجهيز النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا اسْتَفْتَتْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرِّ وَالِدَتِهَا وَصِلَتِهَا، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ أُمُّهَا إِلَى الْمَدِينَةِ رَاغِبَةً فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: صِلِي أُمَّكِ . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي فَرِيقٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مُتَوَلِّينَ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَبِي رَافِعِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ بِيَثْرِبَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْيَهُودَ إِذْ هُمْ كُفَّارُ جِهَتِهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ لَهُ حِلْفٌ مَعَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ عبَادَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَعِي خَمْسَمَائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَأَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَعَذَّبُوهُ عَذَابًا شَدِيدًا، فَقَالَ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُ، فَكَفُّوا عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ» قَالَ: «مُطَمْئِنًّا بِالْإِيمَانِ» فَقَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (مِنْ) لِتَأْكِيدِ الظَّرْفِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: مُبَاعِدِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فِي الْوَلَايَةِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلنَّهْيِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ اتِّخَاذَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَلَايَةَ الْمُؤْمِنِ الْكُفَّارَ الَّتِي تُنَافِي وَلَايَتَهُ الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ فِي تَوَلِّي الْكَافِرِينَ إِضْرَارٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلُ الْقُيُودِ أَنْ تَكُونَ لِلِاحْتِرَازِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِوُصْلَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: «أَنْتَ

مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» فِي مَعْنَى شِدَّةِ الِاتِّصَالِ حَتَّى كَأَنَّ أَحَدَهُمَا جُزْءٌ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ فِي الِانْفِصَالِ وَالْقَطِيعَةِ: لَسْتَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْكَ قَالَ النَّابِغَةُ: فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي فَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ النَّفْيِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ تَأْوِيلِ نَفْيِ الِاتِّصَالِ بِأَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَالْمَعْنَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُنَافِقُونَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: 144، 145] . وَقِيلَ: لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ آيَاتٍ كَثِيرَةً دَلَّتْ عَلَى النَّهْيِ عَنْ وَلَايَةِ الْكَافِرِينَ مُطْلَقًا: كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْمَائِدَة: 51]- وَقَوْلِهِ- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: 57] وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ مَالَ الْفَخْرُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِمَعْنَى ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْآيَةُ نَهْيٌ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ الْقَيْدِ أَوْ مُطْلَقًا، وَالْمُوَالَاةُ تَكُونُ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَبِالظَّاهِرِ فَقَطْ، وَتَعْتَوِرُهَا أَحْوَالٌ تَتْبَعُهَا أَحْكَامٌ، وَقَدِ اسْتَخْلَصْتُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَحْوَالٍ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَّخِذَ الْمُسْلِمُ جَمَاعَةَ الْكُفْرِ، أَوْ طَائِفَتَهُ، أَوْلِيَاءَ لَهُ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ، مَيْلًا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ كُفْرٌ، وَهِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَفِي حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ قَائِلًا قَالَ فِي مَجْلِسِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ» ، فَقَالَ آخَرُ: «ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» فَقَالَ الْقَائِلُ

: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ» . فَجَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الِانْحِيَازَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ لَوْلَا شَهَادَةُ الرَّسُولِ لِمَالِكٍ بِالْإِيمَانِ أَيْ فِي قَلْبِهِ مَعَ إِظْهَارِهِ بِشَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّكُونُ إِلَى طَوَائِفِ الْكُفْرِ وَمُظَاهَرَتُهُمْ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ وَمَحَبَّةٍ دُونَ الْمَيْلِ إِلَى دِينِهِمْ، فِي وَقْتٍ يَكُونُ فِيهِ الْكُفَّارُ مُتَجَاهِرِينَ بِعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، والاستهزاء بهم، وَإِذا هم كَمَا كَانَ مُعْظَمُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الِانْقِطَاعِ عَنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهَا، إلّا أنّ ارتكبها إِثْمٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا يُوشِكُ أَنْ يُوَالِيَهُمْ عَلَى مَضَرَّةِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ إِظْهَارُ الْحَمِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَالْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قل الْعَتَّابِيُّ: تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي ... صَدِيقُكَ إِنَّ الرَّأْيَ عَنْكَ لَعَازِبُ وَفِي مِثْلِهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: 9] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [الممتحنة: 9] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: 118] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانَ، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، جِوَارٌ وَحِلْفٌ فِي الْجَاهِلِيَّة، فداوموا عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانُوا يَأْنَسُونَ بِهِمْ وَيَسْتَنِيمُونَ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ أَصْحَابُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَبِي رَافِعِ ابْن أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَا يُؤْذِيَانِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: كَذَلِكَ، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ طَوَائِفُ الْكُفَّارِ مُتَجَاهِرِينَ بِبُغْضِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بِأَذَاهُمْ، كَمَا كَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: 82] وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُمْ حَمَوُا الْمُؤْمِنِينَ، وَآوَوْهُمْ، قَالَ الْفَخْرُ: وَهَذِهِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذْ قَدْ يَجُرُّ إِلَى اسْتِحْسَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَانْطِلَاءِ مَكَائِدِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: مُوَالَاةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الِانْتِصَارِ بِالْكُفَّارِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَحْكَامُهَا مُتَفَاوِتَةٌ، فَقَدْ قَالَ

مَالِكٌ، فِي الْجَاسُوسِ يَتَجَسَّسُ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّهُ يُوكَلُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ التَّجَسُّسَ يَخْتَلِفُ الْمَقْصِدُ مِنْهُ إِذْ قَدْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ غُرُورًا، وَيَفْعَلُهُ طَمَعًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْفَلْتَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ دَأْبًا وَعَادَةً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ذَلِكَ زَنْدَقَةٌ لَا تَوْبَةَ فِيهِ، أَيْ لَا يُسْتَتَابُ وَيُقْتَلُ كَالزِّنْدِيقِ، وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَام وَيسر الْكفَّار، إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ رِدَّةٌ وَيُسْتَتَابُ، وَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ. وَقَدِ اسْتَعَانَ الْمُعْتَمِدُ ابْنُ عَبَّادٍ صَاحِبُ إِشْبِيلِيَةَ بِالْجَلَالِقَةِ عَلَى الْمُرَابِطِينَ اللَّمْتُونِيِّينَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فُقَهَاءَ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَوْا أَمِير الْمُسلمين عليا بْنَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، بِكُفْرِ ابْنِ عَبَّادٍ، فَكَانَتْ سَبَبَ اعْتِقَالِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اسْتَتَابَهُ. الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَتَّخِذَ الْمُؤْمِنُونَ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فِي حِينِ إِظْهَارِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَحَبَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَرْضِهِمُ النُّصْرَةَ لَهُمْ، وَهَذِهِ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُسْتَعَانُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَافِرٍ تَبِعَهُ يَوْمَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ: «ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَحَدِيثُ «لَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» مُخْتَلَفٌ فِي سَنَدِهِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَنْسُوخٌ، قَالَ عِيَاضٌ: حَمَلَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِغَزْوِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حُنَيْنٍ، وَفِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بأنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِيَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لِبَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ: «إِنَّا وَأَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَإِنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ النَّصْرَ فَإِمَّا قَاتَلْتُمْ مَعَنَا وَإِلَّا أَعَرْتُمُونَا السِّلَاحَ» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا نَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمَعُونَةَ، وَإِذَا اسْتَأْذَنُونَا لَا نَأْذَنُ لَهُمْ: لِأَنَّ الْإِذْنَ كَالطَّلَبِ، وَلَكِن إِذا أخرجُوا مَعَنَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ نَمْنَعْهُمْ، وَرَامَ بِهَذَا الْوَجْهِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَجَازَ الِاسْتِعَانَةَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَعَنْ أَصْبَغَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا بِلَا تَأْوِيلٍ.

الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَتَّخِذَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدًا مِنَ الْكَافِرِينَ بِعَيْنِهِ وَلِيًّا لَهُ، فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ أَوْ لِقَرَابَةٍ، لِكَمَالٍ فِيهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَبَوَيْنِ: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَان: 15] وَاسْتَأْذَنَتْ أَسْمَاءُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرِّ وَالِدَتِهَا وَصِلَتِهَا، وَهِيَ كَافِرَةٌ، فَقَالَ لَهَا: «صِلِي أُمَّكِ» وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتجنة: 8] قِيلَ نَزَلَتْ فِي وَالِدَةِ أَسْمَاءَ، وَقِيلَ فِي طَوَائِفَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ: وَهُمْ كِنَانَةُ، وَخُزَاعَةُ، وَمُزَيْنَة، وَبَنُو الْحَرْث ابْن كَعْبٍ، كَانُوا يَوَدُّونَ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. وَعَنْ مَالِكٍ تَجُوزُ تَعْزِيَةُ الْكَافِرِ بِمَنْ يَمُوتُ لَهُ. وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَاحُ لِلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، لِمَا يُبْدِيهِ مِنْ مَحَبَّةِ النَّبِيءِ، وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَفَعَهُمْ يَوْمَ الطَّائِفِ إِذْ صَرَفَ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَنَسَ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الْآيَةَ. الْحَالَةُ السَّابِعَةُ: حَالَةُ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ: كَالتِّجَارَاتِ، وَالْعُهُودِ، وَالْمُصَالَحَاتِ، أَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَفَاصِيلُهَا فِي الْفِقْهِ. الْحَالَةُ الثَّامِنَةُ: حَالَةُ إِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ لِاتِّقَاءِ الضُّرِّ وَهَذِهِ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مُنْقَطع ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ لَيْسَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، ولكنّه أَشْبَهَ الْوَلَايَةَ فِي الْمُعَامَلَةِ. وَالِاتِّقَاءُ: تَجَنُّبُ الْمَكْرُوهِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (مِنْ) إِمَّا لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ تستّر فعديّ بِمن كَمَا يُعَدَّى فِعْلُ تَسَتَّرَ، وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى تَخَافُوا. وتُقاةً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الِاتِّقَاءِ، وَأَصْلُهُ وُقْيَةٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَبَعًا لِفِعْلِ اتَّقَى إِذْ قُلِبَتْ وَاوُهُ تَاءً لِيَتَأَتَّى إِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ، ثُمَّ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِاسْمِ مَصْدَرِهِ كَالتُّجَاةِ

وَالتُّكْلَةِ والتؤدة وَالتُّخْمَةِ إِذْ لَا وَجْهَ لِإِبْدَالِ الْفَاءِ تَاءً فِي مِثْلِ تُقَاةٍ إِلَّا هَذَا. وَشَذَّ تُرَاثٌ. يَدُلُّ لِهَذَا الْمَقْصِدِ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: «وَقَوْلُهُمْ تُجَاهَكَ بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِمُ اتَّجَهَ لَهُمْ رَأْيٌ» . وَفِي «اللِّسَانِ» فِي تُخْمَةٍ، «لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا التَّاءَ أَصْلِيَّةً لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ» . وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَرْنُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعَ أَفْعَالِهَا فِي نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: 102] وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ. وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ هُنَا: الْإِشَارَةُ إِلَى تَحَقُّقِ كَوْنِ الْحَالَةِ حَالَةَ تَقِيَّةٍ، وَهَذِهِ التَّقِيَّةُ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْهِجْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: 106] وَمِثْلُ الْحَالَةِ الَّتِي لَقِيَهَا مُسْلِمُو الْأَنْدَلُسِ حِينَ أَكْرَهَهُمُ النَّصَارَى عَلَى الْكُفْرِ فَتَظَاهَرُوا بِهِ إِلَى أَنْ تَمَكَّنَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، وَطَوَائِفُ مِنِ اسْتِئْذَانِ الْكُفَّارِ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُمُ الْعَدُوُّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ التُّقَاةُ غَيْرَ دَائِمَةٍ لِأَنَّهَا إِذَا طَالَتْ دَخَلَ الْكُفْرُ فِي الذَّرَارِي. وَقَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَمِنَ التَّسَاهُلِ فِي دَعْوَى التَّقِيَّةِ وَاسْتِمْرَارِهَا أَوْ طُولِ زَمَانِهَا. وَانْتِصَابُ نَفْسَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَأَصْلُهُ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا النَّزْعُ هُوَ أَصْلُ انْتِصَابِ الِاسْمَيْنِ فِي بَابِ التَّحْذِيرِ فِي قَوْلِهِمْ إِيَّاكَ الْأَسَدَ، وَأَصْلُهُ أُحَذِّرُكَ مِنَ الْأَسَدِ. وَقَدْ جُعِلَ التَّحْذِيرُ هُنَا مِنْ نَفْسِ اللَّهِ أَيْ ذَاتِهِ لِيَكُونَ أَعَمَّ فِي الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ غَضَبَهُ لَتُوُهِّمَ أَنَّ لِلَّهِ رِضًا لَا يَضُرُّ مَعَهُ، تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَالْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتْ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ الذَّاتِ عَلَّقَتِ الْحُكْمَ بِالذَّاتِ: كَقَوْلِهِمْ لَوْلَا فُلَانٌ لَهَلَكَ فُلَانٌ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْح: 25] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَعْلِيقُ شَرْطِ لَوْلَا عَلَى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي سَوَّغَ حَذْفَ الْخَبَرِ بَعْدَ لَوْلَا. وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَة: 116] . وَهَذَا إِعْذَارٌ وَمَوْعِظَةٌ وَتَهْدِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 29]

وَ (الْمَصِيرُ) : هُوَ الرُّجُوعُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ عَلِمَ مُثْبِتُو الْبَعْثِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، فَالتَّقْدِيمُ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ أَكَّدَ بِهِ صَرِيحَ التَّهْدِيدِ الَّذِي قبله. [29] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 29] قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) انْتِقَالٌ مِنَ التَّحْذِيرِ الْمُجْمَلِ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ تَفْصِيلِهِ، وَهُوَ إِشْعَارُ الْمُحَذَّرِ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَى مَا يُخْفُونَهُ مِنَ الْأَمْرِ. وَذَكَرَ الصُّدُورَ هُنَا وَالْمُرَادُ الْبَوَاطِنُ وَالضَّمَائِرُ: جَرْيًا عَلَى مَعْرُوفِ اللُّغَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْخَوَاطِرِ النَّفْسِيَّةِ إِلَى الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ، لِأَنَّ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ وَتَرَدُّدَاتِ التَّفَكُّرِ وَنَوَايَا النُّفُوسِ كُلَّهَا يُشْعَرُ لَهَا بِحَرَكَاتٍ فِي الصُّدُورِ. وَزَادَ أَوْ تُبْدُوهُ فَأَفَادَ تَعْمِيمَ الْعِلْمِ تَعْلِيمًا لَهُمْ بِسِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَقَامَ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي الْإِيضَاحَ. وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لِفِعْلِ قُلْ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ: لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا غَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى إِخْفَاءِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ وَإِبْدَائِهِ وَمَا فِي الْجُمْلَةِ مِنَ التَّعْمِيمِ يَجْعَلُهَا فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ ذُو قُدْرَةٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ إِذِ الْمُهَدِّدُ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: الْجَهْلُ بِجَرِيمَةِ الْمُجْرِمِ، أَوِ الْعَجْزُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِعُمُومِ عِلْمِهِ، وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ، عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُفْلِتُهُمْ مِنْ عِقَابِهِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ اللَّهِ دُونَ ضَمِيرِهِ فَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَالْجُمْلَةُ لَهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ [آل عمرَان: 28] الْآيَة.

[سورة آل عمران (3) : آية 30]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 30] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ فِيهَا: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أَمَدًا بَعِيدًا يَوْمَ تَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا. فَقُدِّمَ ظَرْفُهَا عَلَى عَامِلِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ عَرَبِيَّةٍ مَشْهُورَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَسْمَاءِ الزَّمَانِ، إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ، قَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ بِنَسْجٍ بَدِيعٍ. ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُ الزَّمَانِ هُوَ الْأَهَمَّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ ظَرْفًا لِشَيْءٍ مِنْ عَلَائِقِهِ، جِيءَ بِهِ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَجُعِلَ مَعْنَى بَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَصُوغًا فِي صِيغَةِ فِعْلٍ عَامِلٍ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ. أَوْ أَصْلُ الْكَلَامِ: يُحْضَرُ لِكُلِّ نَفْسٍ فِي يَوْمِ الْإِحْضَارِ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، فَتَوَدُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أَمَدًا بَعِيدًا، أَيْ زَمَانًا مُتَأَخِّرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْضَرْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَبَيْنَهُ عَلَى هَذَا يَعُودُ إِلَى مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، فَحُوِّلَ التَّرْكِيبُ، وَجُعِلَ (تَوَدُّ) هُوَ الناصب ليَوْم، لِيُسْتَغْنَى بِكَوْنِهِ ظَرْفًا عَنْ كَوْنِهِ فَاعِلًا. أَوْ يَكُونُ أَصْلُ الْكَلَامِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ مُحْضَرًا، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمَدًا بَعِيدًا لِيَكُونَ ضَمِيرُ بَيْنَهُ عَائِدًا إِلَى يَوْمَ أَيْ تَوَدُّ أَنَّهُ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَحْضُرْ كَقَوْلِهِ: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المُنَافِقُونَ: 10] وَهَذَا التَّحْوِيلُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ. وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الْكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ فَإِنَّ مَقْصِدَهُ مَا حَصَلَ فِي الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الِاهْتِمَامَ بِنَفْسِ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ ظَرْفُهُ. وَمِنْهُ مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَكْثُرُ مِثْلُ هَذَا فِي الْجُمَلِ الْمَفْصُولِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَجْرُورَ يُشْبِهَانِ الرَّوَابِطَ، فَالْجُمْلَةُ الْمَفْصُولَةُ إِذَا صُدِّرَتْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا أَكْسَبَهَا ذَلِكَ نَوْعَ ارْتِبَاطٍ بِمَا قَبْلَهَا: كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عِمْرَانَ: 35] وَنَحْوِهِمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» .

[سورة آل عمران (3) : آية 31]

وَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِـ (اذْكُرْ) ، وَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: الْمَصِيرُ وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ، وَقِيلَ بِقَوْلِهِ: (وَيُحَذِّرُكُمْ) وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ التَّحْذِيرَ حَاصِلٌ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ عَامِلَ الظَّرْفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ لِعَدَمِ الْتِئَامِ الْكَلَامِ حَقَّ الِالْتِئَامِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَوَدُّ هُوَ مَبْدَأُ الِاسْتِئْنَافِ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْأُخْرَى هُوَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ. وَقَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يجوز أَن كَون تَكْرِيرًا لِلتَّحْذِيرِ الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِ لَبِيدٍ: فَتَنَازَعَا سَبَطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتٍ عَرْنَجٍ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ تَحْذِيرًا مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ، وَالثَّانِي تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَجِدُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا عَمِلُوا مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمَوْعِظَةَ تَحْذِيرًا: لِأَنَّ الْمُحَذَّرَ لَا يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِالْوُقُوعِ فِي الْخَطَرِ، فَإِنَّ التَّحْذِيرَ تَبْعِيدٌ مِنَ الْوُقُوعِ وَلَيْسَ انْتِشَالًا بَعْدَ الْوُقُوعِ وَذَيَّلَهُ هُنَا بقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ لِمَصْلَحَةِ الْمُحَذَّرِينَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِبَادِ لِلِاسْتِغْرَاقِ: لِأَنَّ رَأْفَةَ اللَّهِ شَامِلَةٌ لِكُلِّ النَّاسِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] وَمَا وَعِيدُهُمْ إِلَّا لِجَلْبِ صَلَاحِهِمْ، وَمَا تَنْفِيذُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ إِلَّا لِصِدْقِ كَلِمَاتِهِ، وَانْتِظَامِ حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (أَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ بِعِبَادِهِ فَيَكُونَ بِشَارَة للْمُؤْمِنين. [31] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 31] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) انْتِقَالٌ إِلَى التَّرْغِيبِ بَعْدَ التَّرْهِيبِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ التَّرْهِيبَ الْمُتَقَدِّمَ خُتِمَ بقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمرَان: 30] وَالرَّأْفَةُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ المرءوف بِهِ الرؤوف، فَجَعْلُ

مَحَبَّةِ اللَّهِ فِعْلًا لِلشَّرْطِ فِي مَقَامِ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الرَّأْفَةِ تَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، فَالتَّعْلِيقُ عَلَيْهِ تَعْلِيقُ شَرْطٍ مُحَقَّقٍ، ثُمَّ رُتِّبَ عَلَى الْجَزَاءِ مَشْرُوطٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ لِكَوْنِهِ أَيْضًا مَقْطُوعَ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ غَايَةُ قَصْدِهِ تَحْصِيلُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ. وَالْمَحَبَّةُ: انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ يَنْشَأُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِحُسْنِ شَيْءٍ: مِنْ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ. أَوْ إِحْسَانٍ، أَوِ اعْتِقَادٍ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُسْتَحْسِنَ وَيَجُرُّ إِلَيْهِ الْخَيْرَ. فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الِانْفِعَالُ عَقَبَهُ مَيْلٌ وَانْجِذَابٌ إِلَى الشَّيْءِ الْمَشْعُورِ بِمَحَاسِنِهِ، فَيَكُونُ الْمُنْفَعِلُ مُحِبًّا، وَيَكُونُ الْمَشْعُورُ بِمَحَاسِنِهِ مَحْبُوبًا، وَتُعَدُّ الصِّفَاتُ الَّتِي أَوْجَبَتْ هَذَا الِانْفِعَالَ جَمَالًا عِنْدَ الْمُحِبِّ، فَإِذَا قَوِيَ هَذَا الِانْفِعَالُ صَارَ تَهَيُّجًا نَفْسَانِيًّا، فَسُمِّيَ عِشْقًا لِلذَّوَاتِ، وَافْتِنَانًا بِغَيْرِهَا. وَالشُّعُورُ بِالْحُسْنِ الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْحَوَاسِّ فِي إِدْرَاكِ الْمَحَاسِنِ الذَّاتِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَمَالِ، وَيُسْتَمَدُّ أَيْضًا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْكَمَالَاتِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَهِيَ الْمَدْعُوَّةُ بِالْفَضِيلَةِ، وَلِذَلِكَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُحِبُّونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْظِيمًا لِلْكِمَالَاتِ، وَاعْتِقَادًا بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَيُحِبُّ النَّاسُ أَهْلَ الْفَضْلِ الْأَوَّلِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْفَاضِلِينَ، وَيُحِبُّونَ سُعَاةَ الْخَيْرِ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَهُمْ لَمْ يَلْقَوْهُمْ وَلَا رَأَوْهُمْ. وَيَرْجِعُ الْجَمَالُ وَالْفَضِيلَةُ إِلَى إِدْرَاكِ النَّفْسِ مَا يُلَائِمُهَا: مِنَ الْأَشْكَالِ، وَالْأَنْغَامِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ، وَالْخِلَالِ. وَهَذِهِ الْمُلَاءَمَةُ تَكُونُ حِسِّيَّةً لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ الطَّبْعِ كَمُلَاءَمَةِ الْبُرُودَةِ فِي الصَّيْفِ، وَالْحَرِّ فِي الشِّتَاءِ، وَمُلَاءَمَةِ اللَّيِّنِ لِسَلِيمِ الْجِلْدِ، وَالْخَشِنِ لِمَنْ بِهِ دَاعِي حَكَّةٍ، أَوْ إِلَى حُصُولِ مَنَافِعَ كَمُلَاءَمَةِ الْإِحْسَانِ وَالْإِغَاثَةِ. وَتَكُونُ فِكْرِيَّةً لِأَجْلِ غَايَاتٍ نَافِعَةٍ كَمُلَاءَمَةِ الدَّوَاءِ لِلْمَرِيضِ، وَالتَّعَبِ لِجَانِي الثَّمَرَةِ، وَالسَّهَرِ لِلْمُتَفَكِّرِ فِي الْعِلْمِ، وَتَكُونُ لِأَجْلِ الْإِلْفِ، وَتَكُونُ لِأَجْلِ الِاعْتِقَادِ الْمَحْضِ، كَتَلَقِّي النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ فَضِيلَةٌ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ مَحَبَّةُ الْأَقْوَامِ عَوَائِدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي صَلَاحِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مَجْهُولَةَ السَّبَبِ كَمُلَاءَمَةِ الْأَشْكَالِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلنُّفُوسِ وَمُلَاءَمَةِ الْأَلْوَانِ اللَّطِيفَةِ.

وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَزِيدَ اتِّضَاحًا بِأَضْدَادِهَا كَالْأَشْكَالِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ، وَالْأَلْوَانِ الْكَرِيهَةِ، دَائِمًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ يَرَاهُ الْمَحْمُومُ. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْفَلَاسِفَةُ تَوْضِيحَ عِلَّةِ مُلَاءَمَةِ بَعْضِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَمَالِ لِلنُّفُوسِ: كَكَوْنِ الذَّاتِ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةَ الشَّكْلِ، وَكَوْنِ الْمُرَبَّعِ أَوِ الدَّائِرَةِ حَسَنًا لَدَى النَّفْسِ، وَالشَّكْلِ الْمُخْتَلِّ قَبِيحًا، وَمَعَ الِاعْتِرَافِ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي بَعْضِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَمَالِ وَالْقُبْحِ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: ضُرُوبُ النَّاسِ عُشَّاقٌ ضُرُوبَا وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَسْتَجِيدُ مِنَ الْمَلَابِسِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ الْآخَرُ وَيَسْتَحْسِنُ مِنَ الْأَلْوَانِ مَا يَسْتَقْبِحُهُ الْآخَرُ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْمُشَاهَدُ أَنَّ مُعْظَمَ الْأَحْوَالِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا النَّاسُ السَّالِمُو الْأَذْوَاقِ. فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَقَالَ سُقْرَاطُ: سَبَبُ الْجَمَالِ حُبُّ النَّفْعِ، وَقَالَ أَفْلَاطُونُ: «الْجمال أَمر إِلَّا هِيَ أَزَلِيٌّ مَوْجُودٌ فِي عَالَمِ الْعَقْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّغَيُّرِ قَدْ تَمَتَّعَتِ الْأَرْوَاحُ بِهِ قَبْلَ هُبُوطِهَا إِلَى الْأَجْسَامِ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَى الْأَجْسَامِ صَارَتْ مَهْمَا رَأَتْ شَيْئًا عَلَى مِثَالِ مَا عَهِدَتْهُ فِي الْعَوَالِمِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ عَالَمُ الْمِثَالِ مَالَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَأْلُوفُهَا مِنْ قَبْلِ هُبُوطِهَا» . وَذَهَبَ الطَّبَائِعِيُّونَ: إِلَى أَنَّ الْجَمَالَ شَيْءٌ يَنْشَأُ عِنْدَنَا عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَوَاسِّ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ «جَامِعِ أَسْرَارِ الطِّبِّ» لِلْحَكِيمِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْن زُهْرٍ الْقُرْطُبِيِّ «الْعِشْقُ الْحِسِّيُّ إِنَّمَا هُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ وَتَسْتَلِذُّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ النَّفْسَانِيَّ الَّذِي مَسْكَنُهُ الدِّمَاغُ قَرِيبٌ مِنَ النُّورِ الْبَصَرِيِّ الَّذِي يُحِيطُ بِالْعَيْنِ وَمُتَّصِلٌ بِمُؤَخَّرِ الدِّمَاغِ وَهُوَ الذُّكْرُ فَإِذَا نَظَرَتِ الْعَيْنُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ انْضَمَّ النُّورِيُّ الْبَصَرِيُّ وَارْتَعَدَ فَبِذَلِكَ الِانْضِمَامِ وَالِارْتِعَادِ يَتَّصِلُ بِالرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ فَيَقْبَلُهُ قَبُولًا حَسَنًا ثُمَّ يُودِعُهُ الذُّكْرَ فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْمَحَبَّةَ. وَيَشْتَرِكُ أَيْضًا بِالرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ الَّذِي مَسْكَنُهُ الْقَلْبُ لِاتِّصَالِهِ بِأَفْعَالِهِ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْفِكْرَةُ وَالْهَمُّ وَالسَّهَرُ» .

وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْشَأَ الشُّعُورِ بِالْجَمَالِ قَدْ يَكُونُ عَنِ الْمُلَائِمِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ الْعَصَبِيِّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ أَيْضًا كَتَأَثُّرِ الْمَحْمُومِ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، وَعَنِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ بِكَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمُ ... مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَ إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ ... عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَ وَعَنْ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ، وَعَنِ اعْتِقَادِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُمَارَسَةِ بِسَبَبِ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ مِنْ صَاحِبِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَالِ وَمِنَ الْمَحَبَّةِ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَهُوَ اسْتِحْسَانُ الذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ وَاسْتِقْبَاحُ الْأَشْيَاءِ الْمُوحِشَةِ فَنَرَى الطِّفْلَ الَّذِي لَا إِلْفَ لَهُ بِشَيْءٍ يَنْفِرُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَرَاهَا وَحِشَةً. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْجَمَالَ هَلْ يُقْصَرَانِ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ: فَالَّذِينَ قَصَرُوهُمَا عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ لَمْ يُثْبِتُوا غَيْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقْصُرُوهُمَا عَلَيْهَا أَثْبَتُوا الْمَحَبَّةَ الرَّمْزِيَّةَ، أَعْنِي الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَكْوَانِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ كَمَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَفْلَاطُونُ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ الْغَزَّالِيُّ وَفَخْرُ الدِّينِ وَقَدْ أُضِيفَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ إِلَى أَفْلَاطُونَ، فَقِيلَ مَحَبَّةٌ أَفْلَاطُونِيَّةٌ: لِأَنَّهُ بَحَثَ عَنْهَا وَعَلَّلَهَا فَإِنَّنَا نَسْمَعُ بِصِفَاتِ مَشَاهِيرِ الرِّجَالِ مِثْلِ الرُّسُلِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالَّذِينَ نَفَعُوا النَّاسَ، وَالَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْعَدْلِ، فَنَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا مَيْلًا إِلَى ذِكْرِهِمْ ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ الْمَيْلُ حَتَّى يَصِيرَ مَحَبَّةً مِنَّا إِيَّاهُمْ مَعَ أَنَّنَا مَا عَرَفْنَاهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُزَاوَلَةَ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ مِمَّا يُقَوِّي مَحَبَّةَ الْمُزَاوِلِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى، لَمَّا كَانَتْ كُلُّهَا كَمَالَاتٍ وَإِحْسَانًا إِلَيْنَا وَإِصْلَاحًا لِفَاسِدِنَا، أَكْسَبَنَا اعْتِقَادُهَا إِجْلَالًا لِمَوْصُوفِهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِجْلَالُ يَقْوَى إِلَى أَنْ يَصِيرَ مَحَبَّةً وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» فَكَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحَبَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ عِنْدَهَا وِجْدَانُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ أَيْ وِجْدَانُهُ جَمِيلًا عِنْدَ مُعْتَقِدِهِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 32]

فَأَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ يَرَوْنَ تَعْلِيقَ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مَجَازًا بِتَشْبِيهِ الرَّغْبَةِ فِي مَرْضَاتِهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي يَرَوْنَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ تَطَلُّبُ الْقُرْبِ مِنَ الْمَحْبُوبِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ وَاجْتِنَابُ فِرَاقِهِ. وَمِنْ آثَارِهَا مَحَبَّةُ مَا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ، وَاجْتِنَابُ مَا يُغْضِبُهُ، فَتَعْلِيقُ لُزُومِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الرَّسُولَ دَعَا إِلَى مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَإِلَى إِفْرَادِ الْوِجْهَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ فِي قَوْلِهِ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فَهُوَ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ المحبّة وَهُوَ الرضى وَسَوْقُ الْمَنْفَعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَجَلِّيَاتٍ لِلَّهِ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ. وَهُمَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ وَفِي الْقُرْآنِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَة: 18] . وَتَعْلِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى فَاتَّبِعُونِي الْمُعَلَّقِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ يَنْتَظِمُ مِنْهُ قِيَاسٌ شَرْطِيٌّ اقْتِرَانِيٌّ. وَيَدُلُّ عَلَى الْحُبَّ الْمَزْعُومَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَهُوَ حُبٌّ كَاذِبٌ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ، وَلِأَنَّ ارْتِكَابَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْبُوبُ إِغَاضَةٌ لَهُ وَتَلَبُّسٌ بِعَدُوِّهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فِيهِ مَلَامَةً ... إِنَّ الْمَلَامَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ فَعُلِمَ أَنَّ حُبَّ الْعَدُوِّ لَا يُجَامِعُ الْحُبَّ وَقَدْ قَالَ الْعِتَابِيُّ: تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي ... صَدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ مِثْلَ جُمْلَةِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: 284] الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقٌ لِلصِّفَتَيْنِ لِيَكُونَ النَّاسُ سَاعِينَ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة. [32] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 32] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) عودة إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ الْبَحْتِ: فَذْلَكَةً لِلْكَلَامِ، وَحِرْصًا عَلَى الْإِجَابَةِ، - فَابْتَدَأَ الْمَوْعِظَةَ أَوَّلًا بِمُقَدِّمَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: 10] - ثُمَّ شَرَعَ فِي الْمَوْعِظَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: 12] الْآيَةَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 إلى 34]

وَهُوَ تَرْهِيبٌ - ثُمَّ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِ فِي التَّرْغِيبِ بقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمرَان: 15] الْآيَةَ - ثُمَّ بِتَأْيِيدِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: 18] الْآيَةَ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ. - ثُمَّ جَاءَ بِطَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ [آل عمرَان: 20] الْآيَةَ ثُمَّ بِتَرْهِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ صَرِيحٍ وَلَكِنْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى الدَّلِيلِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمرَان: 21] - ثُمَّ بِطَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ التَّعْرِيضِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمرَان: 26] الْآيَاتِ. - ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَطِيعَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ [آل عمرَان: 28] . - ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّرْغِيبِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: الْكَافِرِينَ - وَخَتَمَ بِذِكْرِ عَدَمِ مَحَبَّةِ الْكَافِرِينَ رَدًّا لِلْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ [آل عمرَان: 10] الْآيَةَ لِيَكُونَ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ عَنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، نَفْيًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَافرين المعيّنين. [33، 34] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 33 إِلَى 34] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) انْتِقَالٌ مِنْ تَمْهِيدَاتِ سَبَبِ السُّورَةِ إِلَى وَاسِطَة بَين التَّمْهِيدِ وَالْمَقْصِدِ، كَطَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ، فَهَذَا تَخَلُّصٌ لِمُحَاجَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَابْتُدِئَ هُنَا بِذِكْرِ آدَمَ وَنُوحٍ وَهُمَا أَبَوَا الْبَشَرِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَبُو الْمَقْصُودِينَ بِالتَّفْضِيلِ وَبِالْخِطَابِ. فَأَمَّا آدَمُ فَهُوَ أَبُو الْبَشَرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَمِ كُلِّهَا إِلَّا شُذُوذًا مِنْ أَصْحَابِ النَّزَعَاتِ الْإِلْحَادِيَّةِ الَّذِينَ ظَهَرُوا فِي أُورُوبَّا وَاخْتَرَعُوا نَظَرِيَّةَ تَسَلْسُلِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِي نظرية فائلة. وَآدَمُ اسْمُ أَبِي الْبَشَرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَيْهِ وَضَعَهُ لِنَفْسِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا وَضَعَ مَبْدَأَ اللُّغَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَزَوْجُهُ أَنْ يُعَبِّرَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ أَسْمَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِهِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ الْمَخْصُوصُ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ اللَّوْنِ بِالْأُدْمَةِ خَاصٌّ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَعَلَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا اسْمَ ذَلِكَ اللَّوْنِ أَخْذًا مِنْ وَصْفِ لَوْنِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ كِتَابِ الْعَهْدِ عِنْدَ الْيَهُودِ مَا يَقْتَضِي: أَنَّ آدَمَ وُجِدَ عَلَى الْأَرْضِ فِي وَقْتٍ يُوَافِقُ سَنَةَ 3942 اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَثَلَاثَةِ آلَافٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَأَنَّهُ عَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَتَكُونُ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ 3012 اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثَةِ آلَافٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى هَذَا مَا تَقَبَّلَهُ الْمُؤَرِّخُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِضَبْطِ السِّنِينَ. وَالْمَظْنُونُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ النَّاظِرِينَ فِي شَوَاهِدِ حَضَارَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنَّ هَذَا الضَّبْطَ لَا يُعْتَمَدُ، وَأَنَّ وُجُودَ آدَمَ مُتَقَادِمٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَرَامِيَةِ الْبُعْدِ هِيَ أَكْثَرُ بِكَثِيرٍ مِمَّا حَدَّدَهُ سِفْرُ التَّكْوِينِ. وَأَمَّا نُوحٌ فَتَقُولُ التَّوْرَاةُ: إِنَّهُ ابْنُ لَامَكَ وَسُمِّيَ عِنْدَ الْعَرَبِ لَمَكَ بْنَ مُتُوشَالِخَ بْنِ أَخْنُوخَ (وَهُوَ إِدْرِيسُ عِنْدَ الْعَرَبِ) ابْنِ يَارِدَ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ بْنِ مَهْلَئِيلَ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ فَهَاءٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ. وَعَلَى تَقْدِيرِهَا وَتَقْدِيرِ سِنِيِّ أَعْمَارِهِمْ يَكُونُ قَدْ وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَأَلْفَيْنِ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَالْقَوْلُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ضَبْطِ تَارِيخ وجود ءادم. وَفِي زَمَنِ نُوحٍ وَقَعَ الطُّوفَانُ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ وَنَجَّاهُ اللَّهُ وَأَوْلَادَهُ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي الْفُلْكِ فَيَكُونُ أَبًا ثَانِيًا لِلْبَشَرِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَعُمَّ الْأَرْضَ وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ مُؤَرِّخُو الصِّينِ وَزَعَمُوا أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَشْمَلْ قُطْرَهُمْ فَلَا يَكُونُ نُوحٌ عِنْدَهُمْ أَبًا ثَانِيًا لِلْبَشَرِ. وَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى أَبْنَاءِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ سَامٍ، حام، وَيَافِثَ، وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ حَسَبِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وعمّر نوح تسعماية وَخَمْسِينَ سَنَةً عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما [العنكبوت: 14] وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ الطُّوفَانَ حَدَثَ وَعُمْرُ نُوحٍ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَأَنَّ نُوحًا صَارَ بَعْدَ الطُّوفَانِ فَلَّاحًا وَغَرَسَ الْكَرْمَ وَاتَّخَذَ الْخَمْرَ. وَذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ صِفَتَهُ بِدُونِ سَنَدٍ فَقَالَ: كَانَ نُوحٌ دَقِيقَ الْوَجْهِ فِي رَأْسِهِ طُولٌ عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ غَلِيظَ الْعَضُدَيْنِ كَثِيرَ لَحْمِ الْفَخِذَيْنِ ضَخْمَ السُّرَّةِ طَوِيلَ الْقَامَةِ جَسِيمًا طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، قِيلَ: إِنَّ مَدْفَنَهُ بِالْعِرَاقِ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ، وَقِيلَ فِي ذَيْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ، وَقِيلَ بِمَدِينَةِ الْكَرْكِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الطُّوفَانِ: فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَذِكْرُ شَرِيعَتِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى، وَفِي سُورَةِ نُوحٍ.

وَالْآلُ: الرَّهْطُ، وَآلُ إِبْرَاهِيمَ: أَبْنَاؤُهُ وَحَفِيدُهُ وَأَسْبَاطُهُ، وَالْمَقْصُودُ تَفْضِيلُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. وَشَمَلَ آلُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ عَقِبِهِ كَمُوسَى، وَمَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَكَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَحَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ. وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ: فَهُمْ مَرْيَمُ، وَعِيسَى، فَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ مَاتَانَ كَذَا سَمَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَصَالِحِيهِمْ، وَأَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ عِمْرَامُ بِمِيمٍ فِي آخِرِهِ فَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَفِي كُتُبِ النَّصَارَى: أَنَّ اسْمَهُ يُوهَاقِيمُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ لَهُ اسْمَانِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا عِمْرَانَ وَالِدَ مُوسَى وَهَارُونَ إِذِ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّمْهِيدُ لِذِكْرِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى احْتِمَالِ مَعْنَى الْآلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] وَلَكِنَّ الْآلَ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِلْحَمْلِ عَلَى رَهْطِ الرَّجُلِ وَقَرَابَتِهِ. وَمَعْنَى اصْطِفَاءِ هَؤُلَاءِ عَلَى الْعَالَمِينَ اصْطِفَاءُ الْمَجْمُوعِ عَلَى غَيْرِهِمْ، أَوِ اصْطِفَاءُ كُلِّ فَاضِلٍ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ. وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ حَالٌ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ. وَالذَّرِّيَّةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] وَقَدْ أُجْمِلَ الْبَعْضُ هُنَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِه الذُّرِّيَّة، فَمن لِلِاتِّصَالِ لَا لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بَيْنَ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ اتِّصَالُ الْقَرَابَةِ، فَكُلُّ بَعْضٍ فِيهَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمرَان: 28] . وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ تَذْكِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِشِدَّةِ انْتِسَابِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلُوا مُوجِبَ الْقَرَابَةِ مُوجِبَ عَدَاوَةٍ وَتَفْرِيقٍ. وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ بِأَقْوَالِ بَعْضِكُمْ فِي بَعْضِ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ: كَقَوْلِ الْيَهُودِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ وَتَكْذِيبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 إلى 36]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 35 الى 36] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ إِذْ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] . وَمَوْقِعُهَا هُنَا أَظْهَرُ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِعَامِلٍ، فَهِيَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِذْ هُنَا زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ أَن تتَعَلَّق باذكر مَحْذُوفًا، وَلَا يجوز تعلقهَا باصطفى: لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِفَضْلِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِفَضْلِ آدَمَ وَنُوحٍ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ. وَامْرَأَة عمرَان هِيَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُوذَا. قِيلَ: مَاتَ زَوْجُهَا وَتَرَكَهَا حُبْلَى فَنَذَرَتْ حَبْلَهَا ذَلِكَ مُحَرَّرًا أَيْ مُخَلَّصًا لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا يَنْذِرُونَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ ذَكَرًا. وَإِطْلَاقُ الْمُحَرَّرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِطْلَاقُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلُصَ لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَأَنَّهُ حُرِّرَ مِنْ أَسْرِ الدُّنْيَا وَقُيُودِهَا إِلَى حُرِّيَّةِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَظُنُّهُ ذَكَرًا فَصَدَرَ مِنْهَا النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا جَاءَ ذَكَرًا فَهُوَ مُحَرَّرٌ. وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا وَضَعَتْها وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي بَطْنِي بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ انْكَشَفَ مَا صَدَّقَهُ عَلَى أُنْثَى. وَقَوْلُهَا: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّحْذِيرِ لِظُهُورِ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ. وتأكيد الْخَبَر بإنّ مُرَاعَاةٌ لِأَصْلِ الْخَبَرِيَّةِ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِ الْمَوْلُودِ أُنْثَى إِذْ هُوَ بِوُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْمُتَرَقَّبِ لَهَا كَانَ بِحَيْثُ تَشُكُّ فِي كَوْنِهِ أُنْثَى وَتُخَاطِبُ نَفْسَهَا بِنَفْسِهَا بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ، فَلِذَا أَكَّدَتْهُ. ثُمَّ لَمَّا اسْتَعْمَلَتْ هَذَا الْخَبَرَ فِي الْإِنْشَاءِ اسْتَعْمَلَتْهُ بِرُمَّتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ الْمُرْسَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَكَّبَ يَكُونُ مَجَازًا بِمَجْمُوعِهِ لَا

بِأَجْزَائِهِ وَمُفْرَدَاتِهِ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ يَحْكِي مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهَا فِي لُغَتِهَا مِنَ الْمَعَانِي: وَهِيَ الرَّوْعَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ لِوِلَادَتِهَا أُنْثَى، وَمُحَاوَلَتُهَا مُغَالَطَةَ نَفْسِهَا فِي الْإِذْعَانِ لِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ تَحْقِيقُهَا ذَلِكَ لِنَفْسِهَا وَتَطْمِينُهَا بِهَا، ثُمَّ التَّنَقُّلُ إِلَى التَّحْسِيرِ عَلَى ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ أَوْدَعَ حِكَايَةَ كَلَامِهَا خُصُوصِيَّاتٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ تُعَبِّرُ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ قَصَدَتْهَا فِي مُنَاجَاتِهَا بِلُغَتِهَا. وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ اللَّازِمَةُ فِي قَوْلِهَا أُنْثى إِذْ بِدُونِ الْحَالِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُفِيدًا فَلِذَلِكَ أَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَضَعَتْ- بِسُكُونِ التَّاءِ- فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى امْرَأَةِ عِمْرَانَ. وَهُوَ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهَا الْمَحْكِيِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ مِنْهَا بِنَفَاسَةِ مَا وَضَعَتْ، وَأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مُطْلَقِ الذَّكَرِ الَّذِي سَأَلَتْهُ، فَالْكَلَامُ إِعْلَامٌ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ بِتَغْلِيطِهَا، وَتَعْلِيمٌ بِأَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَقَّبَ تَدْبِيرَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ: بِضَمِّ التَّاءِ، عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمَةِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِهَا الْمَحْكِيِّ، وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَيَكُونُ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ. وَجُمْلَةُ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ لِفَوَاتِ مَا قصدته فِي أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ ذَكَرًا، فَتُحَرِّرُهُ لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَتَعْرِيفُ الذَّكَرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِمَا هُوَ مُرْتَكِزٌ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي مَوَالِيدِ الذُّكُورِ، أَيْ لَيْسَ جِنْسُ الذَّكَرِ مُسَاوِيًا لِجِنْسِ الْأُنْثَى. وَقِيلَ: التَّعْرِيفُ فِي وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِلْمَعْهُودِ فِي نَفْسِهَا. وَجُمْلَةُ وَلَيْسَ الذَّكَرُ تَكْمِلَةٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْمَبْدُوءِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَالْمَعْنَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي رَغِبَتْ فِيهِ بِمُسَاوٍ لِلْأُنْثَى الَّتِي أُعْطِيَتْهَا لَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ عُلُوَّ شَأْنِ هَاتِهِ الْأُنْثَى وَجَعَلُوا نَفْيَ الْمُشَابَهَةِ عَلَى بَابِهِ مِنْ نَفْيِ مُشَابَهَةِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ وَإِلَى هَذَا مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُقْصَدُ بِهِ معنى التَّفْصِيل فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: لَيْسَ سَوَاءً كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ كَذَا مِثْلَ كَذَا، وَلَا هُوَ مِثْلَ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]- وَقَوْلِهِ- يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: 32] وَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ: فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَوْلِهِمْ: «مَرْعًى وَلَا كَالسَّعْدَانِ، وَمَاءٌ وَلَا كَصَدَّى» . وَلِذَلِكَ لَا يَتَوَخَّوْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ فِي مِثْلِهِ أَضْعَفَ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ لِلتَّشْبِيهِ أَثَرٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى، وَلَوْ قِيلَ: وَلَيْسَتِ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ لَفُهِمَ الْمَقْصُودُ. وَلَكِنْ قَدَّمَ الذَّكَرَ هُنَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَرْجُوُّ الْمَأْمُولُ فَهُوَ أَسْبَقُ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ يَجِيءُ النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ الْمُشَبَّهِ الْمَنْفِيِّ أَضْعَفَ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الرَّابِعَةِ: «غَدَوْتُ قَبْلَ اسْتِقْلَالِ الرِّكَابِ، وَلَا اغْتِدَاءَ اغْتِدَاءَ الْغُرَابِ» وَقَالَ فِي الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: «وَضَحِكْتُمْ وَقْتَ الدَّفْنِ، وَلَا ضَحِكَكُمْ سَاعَةَ الزَّفْنِ» وَفِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: «وَقُمْتُ» وَلَا كَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ» فَجَاءَ بِهَا كُلِّهَا عَلَى نَسَقِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَرَادَتْ تَسْمِيَتَهَا بِاسْمِ أَفْضَلِ نَبِيئَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ مَرْيَمُ أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ، وَخَوَّلَهَا أَنَّ أَبَاهَا سَمِيُّ أَبِي مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى. وَتَكَرَّرَ التَّأْكِيدُ فِي وَإِنِّي سَمَّيْتُها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ لِلتَّأْكِيدِ: لِأَنَّ حَالَ كَرَاهِيَتِهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهَا سَتُعْرِضُ عَنْهَا فَلَا تَشْتَغِلُ بِهَا، وَكَأَنَّهَا أَكَّدَتْ هَذَا الْخَبَرَ إِظْهَارًا لِلرِّضَا بِمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَتْ إِلَى الدُّعَاءِ لَهَا الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ، وَأَكَّدَتْ جُمْلَةَ أُعِيذُهَا مَعَ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِنْشَاءِ الدُّعَاءِ: لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ بِرُمَّتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَقْتَ الْخَبَرِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَكَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: «إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ

[سورة آل عمران (3) : آية 37]

» . [37] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً. تَفْرِيعٌ عَلَى الدُّعَاءِ مُؤْذِنٌ بِسُرْعَةِ الْإِجَابَةِ، وَضَمَائِرُ النَّصْبِ لِمَرْيَمَ. وَمَعْنَى تَقَبَّلَهَا: تَقَبَّلَ تَحْرِيرَهَا لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَيْ أَقَامَ اللَّهُ مَرْيَمَ مَقَامَ مُنْقَطِعٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: بِقَبُولٍ حَسَنٍ الْبَاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ: فَتَقَبَّلَهَا قَبُولًا حَسَنًا، فَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِيَصِيرَ كَالْآلَةِ لِلتَّقَبُّلِ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ ثَانٍ، وَهَذَا إِظْهَارٌ لِلْعِنَايَةِ بِهَا فِي هَذَا الْقَبُولِ، وَقَدْ عُرِفَ هَذَا الْقَبُولُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى زَكَرِيَّاءَ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَهَا زَكَرِيَّاءُ أَعْظَمُ أَحْبَارِهِمْ، وَأَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِإِقَامَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ قَبْلَهَا، وَكُلُّ هَذَا إِرْهَاصٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهَا رَسُولٌ نَاسِخٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ لِأَنَّ خِدْمَةَ النِّسَاءِ لِلْمَسْجِدِ الْمُقَدَّسِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً. وَمَعْنَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: أَنْشَأَهَا إِنْشَاءً صَالِحًا، وَذَلِكَ فِي الْخُلُقِ وَنَزَاهَةِ الْبَاطِنِ، فَشُبِّهَ إِنْشَاؤُهَا وَشَبَابُهَا بِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ الْغَضِّ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، (وَنَبَاتٌ) مفعول مُطلق لأنبت وَهُوَ مَصْدَرُ نَبَتَ وَإِنَّمَا أُجْرِيَ عَلَى أَنْبَتَ للتَّخْفِيف. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا. عُدَّ هَذَا فِي فَضَائِلِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَزِيدُ فَضْلَهَا لِأَنَّ أَبَا التَّرْبِيَةِ يُكْسِبُ خُلُقَهُ وَصَلَاحَهُ مُرَبَّاهُ. وَزَكَرِيَّاءُ كَاهِنٌ إِسْرَائِيلِيٌّ اسْمُهُ زَكَرِيَّاءُ مِنْ بَنِي أَبِيَّا بْنِ بَاكِرِ بْنِ بِنْيَامِينَ مِنْ كَهَنَةِ الْيَهُودِ، جَاءَتْهُ النُّبُوءَةُ فِي كِبَرِهِ وَهُوَ ثَانِي مَنِ اسْمُهُ زَكَرِيَّاءُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ اسْمُهَا (الْيَصَابَاتُ) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ نَسِيبَةَ مَرْيَمَ كَمَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا قِيلَ: كَانَتْ أُخْتَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَانَتْ خَالَتَهَا، أَوْ مِنْ قَرَابَةِ أُمِّهَا، وَلَمَّا وُلِدَتْ مَرْيَمُ كَانَ أَبُوهَا قَدْ مَاتَ فَتَنَازَعَ كَفَالَتَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِرْصًا.

عَلَى كَفَالَةِ بِنْتِ حَبْرِهِمُ الْكَبِيرِ، وَاقْتَرَعُوا عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِزَكَرِيَّاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعْلَ كَفَالَتِهَا لِلْأَحْبَارِ لِأَنَّهَا مُحَرَّرَةٌ لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ فَيَلْزَمُ أَنْ تُرَبَّى تَرْبِيَةً صَالِحَةً لِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا- بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ مِنْ كَفَلَهَا- أَيْ تَوَلَّى كَفَالَتَهَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: وَكَفَّلَهَا- بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ- أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ زَكَرِيَّاءَ كَافِلًا لَهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَكَرِيَّاءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ، مَمْدُودًا وَبِرَفْعِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِالْقَصْرِ، وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَن عَاصِم: بِالْهَمْز فِي آخِرِهِ وَنَصَبَ الْهَمْزَةَ. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. دَلَّ قَوْلُهُ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَكَانَتْ مَرْيَمُ مُلَازِمَةً لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَتْ تَتَعَبَّدُ بمَكَان تتخذه بهَا مِحْرَابًا، وَكَانَ زَكَرِيَّاءُ يَتَعَهَّدُ تَعَبُّدَهَا فَيَرَى كَرَامَةً لَهَا أَنَّ عِنْدَهَا ثِمَارًا فِي غَيْرِ وَقْتِ وُجُودِ صِنْفِهَا. كُلَّما مُرَكَّبَةٌ مِنْ (كُلَّ) الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِعُمُومِ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَمِنْ (مَا) الظَّرْفِيَّةِ وَصِلَتِهَا الْمُقَدَّرَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّ وَقْتِ دُخُولِ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا. وَانْتَصَبَ كُلَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] . فَجُمْلَةُ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً حَال من زَكَرِيَّا فِي قَوْله وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا [آل عمرَان: 36] .

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جملَة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا. والمحراب بِنَاءٌ يَتَّخِذُهُ أَحَدٌ لِيَخْلُوَ فِيهِ بِتَعَبُّدِهِ وَصَلَاتِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُتَّخَذُ فِي عُلُوٍّ يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِسُلَّمٍ أَوْ دَرَجٍ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَسْجِدِ. وَأُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ إِطْلَاقَاتٍ، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ أَوِ التَّوَسُّعِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ ... صَوَّرُوهَا فِي مَذْبَحِ الْمِحْرَابِ أَرَادَ فِي مَذْبَحِ الْبَيْعَةِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ لَا يُجْعَلُ فِيهِ مَذْبَحٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمِحْرَابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمُتَعَبِّدَ كَأَنَّهُ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ آلَةً لِمِحْرَبِ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ أُطْلِقَ الْمِحْرَابُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَوْضِعٍ كَشَكْلِ نِصْفِ قُبَّةٍ فِي طُولِ قَامَةٍ وَنِصْفٍ يُجْعَلُ بِمَوْضِعِ الْقِبْلَةِ لِيَقِفَ فِيهِ الْإِمَامُ لِلصَّلَاةِ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ مُوَلَّدٌ وَأَوَّلُ مِحْرَابٍ فِي الْإِسْلَامِ مِحْرَابُ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُنِعَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، مُدَّةَ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمِحْرابَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِحْرَابٌ جَعَلَتْهُ مَرْيَمُ لِلتَّعَبُّدِ. وَ (أَنَّى) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ، أَيْ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا، فَلِذَلِكَ كَانَ جَوَاب استفهامه قَوْله: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَاسْتِفْهَامُ زَكَرِيَّاءَ مَرْيَمَ عَنِ الرِّزْقِ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ وَوَقْتِ أَمْثَالِهِ. قِيلَ: كَانَ عِنَبًا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ. وَالرِّزْقُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْد قَوْله: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ مِنْ كَلَامِ مَرْيَمَ الْمَحْكِيِّ. وَالْحِسَابُ فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ بِمَعْنَى الْحَصْرِ لِأَنَّ الْحِسَابَ يَقْتَضِي حَصْرَ الشَّيْءِ الْمَحْسُوبِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَالْمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يُرِيدُ رِزْقَهُ بِمَا لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى فضل الله.

[سورة آل عمران (3) : آية 38]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 38] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) أَيْ فِي الْمَكَانِ، قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، وَقَدْ نَبَّهَهُ إِلَى الدُّعَاءِ مُشَاهَدَةُ خَوَارِقِ الْعَادَةِ مَعَ قَوْلِ مَرْيَمَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمرَان: 37] وَالْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَأَهْلُ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ، فَلِذَلِكَ عَمَدَ إِلَى الدُّعَاءِ بِطَلَبِ الْوَلَدِ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي حَسْرَةٍ مِنْ عَدَمِ الْوَلَدِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ حِينَئِذٍ فِي مَكَانٍ شَهِدَ فِيهِ فيضا إلاهيا. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْخَيْرِ يَتَوَخَّوْنَ الْأَمْكِنَةَ بِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ، وَالْأَزْمِنَةَ الصَّالِحَةَ كَذَلِكَ، وَمَا هِيَ إِلَّا كَالذَّوَاتِ الصَّالِحَةِ فِي أَنَّهَا مَحَالُّ تَجَلِّيَاتِ رِضَا اللَّهِ. وَسَأَلَ الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ لِأَنَّهَا الَّتِي يُرْجَى مِنْهَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحُصُولِ الْآثَارِ الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ. وَمُشَاهَدَةُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ خَوَّلَتْ لِزَكَرِيَّاءَ الدُّعَاءَ بِمَا هُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ، أَوْ مِنَ الْمُسْتَبْعَدَاتِ، لِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْفَيْضِ أَوْ مَكَانِهِ، فَلَا يُعَدُّ دُعَاؤُهُ بِذَلِكَ تَجَاوُزًا لِحُدُودِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ مِنَ الدُّعَاءِ وَمَا لَا يَجُوزُ. وَسميع هُنَا معنى مُجيب. [39- 41] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 39 إِلَى 41] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ لِلتَّعْقِيبِ أَيِ اسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ لِلْوَقْتِ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قائِمٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا بَيَانُ سُرْعَةِ إِجَابَتِهِ لِأَنَّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي صَلَاتِهِ. وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنالِكَ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَنَادَتْهُ أَنَّ الْمِحْرَابَ مِحْرَابُ مَرْيَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَادَتْهُ- بِتَاءِ تَأْنِيثٍ- لِكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ جَمْعًا، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ لِلْجَمْعِ يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْجَمَاعَةِ أَيْ نَادَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَادَاهُ مَلَكًا وَاحِدًا وَهُوَ جِبْرِيلُ وَقَدْ ثَبَتَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، فَيَكُونَ إِسْنَادُ النِّدَاءِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِ فِعْلِ الْوَاحِدِ إِلَى قَبِيلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: قَتَلَتْ بَكْرٌ كُلَيْبًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: فَنَادَاهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُنَادِي وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ عَلَى أَنَّهُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِبَاءٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: إِنَّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى الْحِكَايَةِ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فتأكيد الْكَلَام بإنّ الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَالْمَكْسُورَتِهَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لِغَرَابَتِهِ يُنَزِّلُ الْمُخْبَرَ بِهِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ الطَّالِبِ. وَمَعْنَى «يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى» يُبَشِّرُكَ بِمَوْلُودٍ يُسَمَّى يَحْيَى فَعُلِمَ أَنَّ يَحْيَى اسْمٌ لَا فِعْلٌ بِقَرِينَةِ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ وَذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [7] : إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى. وَيحيى مُعَرَّبُ يُوحَنَّا بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ عَجَمِيٌّ لَا مَحَالَةَ نَطَقَ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى زِنَةِ الْمُضَارِعِ مَنْ حَيِيَ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ أَوْ لِوَزْنِ الْفِعْلِ. وَقُتِلَ يَحْيَى فِي كُهُولَتِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَمْرِ (هِيرُودُسَ) قَبْلَ رَفْعِ الْمَسِيحِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ. وَقَدْ ضُمَّتْ إِلَى بِشَارَتِهِ بِالِابْنِ بِشَارَةٌ بِطِيبِهِ كَمَا رَجَا زَكَرِيَّاءُ، فَقِيلَ لَهُ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَمُصَدِّقًا حَالٌ مِنْ يَحْيَى أَيْ كَامِلَ التَّوْفِيقِ لَا يَتَرَدَّدُ فِي كَلِمَةٍ تَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ أُجْمِلَ هَذَا الْخَبَرُ لِزَكَرِيَّاءَ لِيَعْلَمَ أَنَّ حَادِثًا عَظِيمًا سَيَقَعُ يَكُونُ ابْنُهُ فِيهِ مُصَدِّقًا بِرَسُولٍ يَجِيءُ وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

وَوُصِفَ عِيسَى كَلِمَةً من الله لأنّ خُلِقَ بِمُجَرَّدِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكَلِمَةِ «كُنْ» أَيْ كَانَ تَكْوِينُهُ غَيْرَ مُعْتَادٍ وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمرَان: 45] . وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَجِيءِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ، وَمَعْرِفَةَ كَوْنِهِ صَادِقًا بِدُونِ تَرَدُّدٍ، هُدًى عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ التَّأَمُّلِ السَّرِيعِ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ فَازَ بِهَذَا الْوَصْفِ يَحْيَى فِي الْأَوَّلِينَ، وَخَدِيجَةُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: 33] ، وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا الْكَلِمَةُ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ التَّوْرَاةُ. وَالسَّيِّدُ فَيْعِلٌ مِنْ سَادَ يَسُودُ إِذَا فَاقَ قَوْمَهُ فِي مَحَامِدِ الْخِصَالِ حَتَّى قَدَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْفَضْلِ. فَالسُّؤْدُدُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَمِدُ كِفَايَةَ مُهِمَّاتِ الْقَبِيلَةِ وَالْبَذْلَ لَهَا وَإِتْعَابَ النَّفْسِ لِرَاحَةِ النَّاسِ قَالَ الْهُذَلِيُّ: وَإِنَّ سِيَادَةَ الْأَقْوَامِ فَاعْلَمْ ... لَهَا صُعَدَاءُ مَطْلَبُهَا طَوِيلُ أَتَرْجُو أَنْ تَسُودَ وَلَنْ تُعَنَّى ... وَكَيْفَ يَسُودُ ذُو الدَّعَةِ الْبَخِيلُ وَكَانَ السُّؤْدُدُ عِنْدهم يعْتَمد خلال مَرْجِعُهَا إِلَى إِرْضَاءِ النَّاس عَلَى أَشْرَفِ الْوُجُوهِ، وَمِلَاكُهُ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَال العظائم، وأصالة الرَّأْيُ، وَفَصَاحَةُ اللِّسَانِ. وَالسَّيِّدُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِ حَالِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ مَعًا وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَفِيهِ «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ- فَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ جَامِعًا خِصَالَ السُّؤْدُدِ الشَّرْعِيِّ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَنَازَلَ عَنْ حَقِّ الْخِلَافَةِ لِجَمْعِ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ، وَلِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ ابْن أَبِي سُفْيَانَ- فَقِيلَ لَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- قَالَ: هُمَا خَيْرٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمُعَاوِيَةُ أَسْوَدُ مِنْهُمَا» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «أَشَارَ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا مِنَ الِاسْتِصْلَاحِ وَإِقَامَةِ الْحُقُوقِ بِمَنْزِلَةٍ هُمَا فِيهَا خَيْرٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَلَكِنْ مَعَ تَتَبُّعِ الْجَادَّةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِرِضَا النَّاسِ يَنْخَرِمُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خِصَالِ السُّؤْدُدِِِ

وَمُعَاوِيَةُ قَدْ بَرَّزَ فِي خِصَالِ السُّؤْدُدِ الَّتِي هِيَ الِاعْتِمَالُ فِي إِرْضَاءِ النَّاسِ عَلَى أَشْرَفِ الْوُجُوهِ وَلَمْ يُوَاقِعْ مَحْذُورًا» . وَوَصَفَ اللَّهُ يَحْيَى بِالسَّيِّدِ لِتَحْصِيلِهِ الرِّئَاسَةَ الدِّينِيَّةَ فِيهِ مِنْ صِبَاهُ، فَنَشَأَ مُحْتَرَمًا مِنْ جَمِيعِ قَوْمِهِ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً [مَرْيَم: 12، 13] ، وَقَدْ قِيلَ السَّيِّدُ هُنَا الْحَلِيمُ التَّقِيُّ مَعًا: قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ الْحَلِيمُ فَقَطْ: قَالَه ابْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ السَّيِّدُ هُنَا الشَّرِيفُ: قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقِيلَ السَّيِّدُ هُنَا الْعَالِمُ: قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا. وَعَطْفُ سَيِّدًا عَلَى مُصَدِّقًا، وَعَطْفُ حَصُورًا وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْعَلِيمِ، وَلَا التَّقِّيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. والحصور فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ رَسُولٍ أَيْ حَصُورٌ عَنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ. وَذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي أَثْنَاءِ صِفَاتِ الْمَدْحِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدْحًا لَهُ، لِمَا تَسْتَلْزِمُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ بَرَاءَتِهِ مِمَّا يُلْصِقُهُ أَهْلُ الْبُهْتَانِ بِبَعْضِ أَهْلِ الزُّهْدِ مِنَ التُّهَمِ، وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي عَصْرِهِ فِي أَشَدِّ الْبُهْتَانِ وَالِاخْتِلَاقِ، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ مَدْحًا لَهُ لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ يَحْيَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ كَانُوا مُسْتَكْمِلِينَ الْمَقْدِرَةَ عَلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ لِيَحْيَى إِعْلَامًا لِزَكَرِيَّاءَ بِأَنَّ اللَّهَ وَهَبَهُ وَلَدًا إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ، إِذْ قَالَ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: 5، 6] وَأَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنِ انْقِطَاعِ عَقِبِ زَكَرِيَّاءَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِكَرَامَةِ زَكَرِيَّاءَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَوُسِّطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بَيْنَ صِفَاتِ الْكَمَالِ تَأْنِيسًا لِزَكَرِيَّاءَ وَتَخْفِيفًا مِنْ وَحْشَتِهِ لِانْقِطَاعِ نَسْلِهِ بَعْدَ يَحْيَى. وَقَوْلُهُ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ اسْتِفْهَامٌ مُرَادٌ مِنْهُ التَّعَجُّبُ، قُصِدَ مِنْهُ تَعَرُّفُ إِمْكَانِ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِحُصُولِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ إِلَّا

تَطَلُّبًا لِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُحَقِّقُ لَهُ الْبِشَارَةَ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الْوَعْدِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: 260] ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَزَّ وُقُوعُهَا فِي الْعَادَةِ. وَ (أَنَّى) فِيهِ بِمَعْنَى كَيْفَ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَكَانِ، لِتَعَذُّرِ عَمَلِ الْمَكَانَيْنِ اللَّذَيْنِ هما سَبَب التناسل وهما الْكِبَرُ وَالْعُقْرَةُ. وَهَذَا التَّعَجُّبُ يَسْتَلْزِمُ الشُّكْرَ عَلَى هَذِهِ الْمِنَّةِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّكْرِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجِهِ الْعَاقِرِ دُونَ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِامْرَأَةِ زَكَرِيَّاءَ. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ جَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ وَقَدْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ تَمَكُّنِ الْكِبَرِ مِنْهُ كَأَنَّهُ يَتَطَلَّبُهُ حَتَّى بَلَغَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النِّسَاء: 78] . وَالْعَاقِرُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ عَقَرَتْ رَحِمَهَا أَيْ قَطَعَتْهُ. وَلِأَنَّهُ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْأُنْثَى لَمْ يُؤَنَّثْ كَقَوْلِهِمْ حَائِضٌ وَنَافِسٌ وَمُرْضِعٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنَّثُ فِي غَيْرِ صِيغَةِ الْفَاعِلِ فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَقْرَى دُعَاءً عَلَى الْمَرْأَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «عَقْرَى حَلْقَى» وَكَذَلِكَ نُفَسَاءُ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ كَهَذَا الْفِعْلِ الْعَجِيبِ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْحَمْلِ مِنْ شَيْخٍ هَرِمٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ وَلَدٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّكْوِينَ حَصَلَ بِكَوْنِ زَكَرِيَّاءَ كَانَ قَبْلَ هِرَمِهِ ذَا قُوَّةٍ زَائِدَةٍ لَا تَسْتَقِرُّ بِسَبَبِهَا النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ فَلَمَّا هَرِمَ اعْتَدَلَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ فَصَارَتْ كَالْمُتَعَارَفِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالٍ فِي رَحِمِ امْرَأَتِهِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّكْوِينِ بِجُمْلَةِ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ هُوَ تَكْوِينُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَمَا قَالَهُ فِي جَانِبِ تَكْوِينِ عِيسَى. وَقَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَرَادَ آيَةً عَلَى وَقْتِ حُصُولِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَهَلْ هُوَ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ، فَالْآيَةُ هِيَ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ابْتِدَاءِ حَمْلِ زَوْجِهِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ: آيَةُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَارِدًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا. وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ وَيَعْلَمُونَهُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 إلى 44]

وَقَوْلُهُ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً جَعَلَ اللَّهُ حُبْسَةَ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ آيَةً عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَ مَا لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَعْصَابِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالدِّمَاغِ إِلَى أَعْصَابِ التَّنَاسُلِ بِحِكْمَةٍ عَجِيبَةٍ يَقْرُبُ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ الْإِحْسَاسِ لِمَنْ يَأْكُلُ الْبَلَاذِرَ لِقُوَّةِ الْفِكْرِ. أَوْ أَمَرَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ إِعَانَةً عَلَى انْصِرَافِ الْقُوَّةِ مِنَ الْمَنْطِقِ إِلَى التَّنَاسُلِ، أَيْ مَتَى تَمَّتْ ثَلَاثَةُ الْأَيَّامِ كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ. قَالَ الرَّبِيعُ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُ عُقُوبَةً لِتَرَدُّدِهِ فِي صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْمَلَكُ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّهُ سَأَلَ آيَةً فَأُعْطِيَ غَيْرَهَا. وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَمْرٌ بِالشُّكْرِ. وَالذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَالصَّلَاةِ إِنْ كَانَ قَدْ سُلِبَ قُوَّةَ النُّطْقِ، أَوِ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ إِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهَا فَقَطْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا رَمْزًا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع. [42- 44] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 42 إِلَى 44] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ. انْتِقَالٌ مِنْ ذِكْرِ أُمِّ مَرْيَمَ إِلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ. وَمَرْيَمُ عَلَمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَهُوَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمٌ قَدِيمٌ سُمِّيَتْ بِهِ أُخْتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ النَّصَارَى ذِكْرٌ لِاسْمِ أَبِي مَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى وَلَا لِمَوْلِدِهَا وَلَكِنَّهَا تَبْتَدِئُ فَجْأَةً بِأَنَّ عَذْرَاءَ فِي بَلَدِ النَّاصِرَةِ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ النَّجَّارِ، قَدْ حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ.

وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ اسْمَ مَرْيَمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُتَرَجِّلَةِ الَّتِي تُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرِّجَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ. (وَالزِّيرُ بِكَسْرِ الزَّايِ الَّذِي يُكْثِرُ زِيَارَةَ النِّسَاءِ) وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ- أَيْ لُغَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ- بِمَعْنَى الْعَابِدَةِ. وَتَكَرَّرَ فِعْلُ اصْطَفاكِ لِأَنَّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذَاتِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُهَا مُنَزَّهَةً زَكِيَّةً، وَالثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْغَيْرِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْأَوَّلُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ. وَعُدِّيَ الثَّانِي. وَنِسَاءُ الْعَالَمِينَ نِسَاءُ زَمَانِهَا، أَوْ نِسَاءُ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ. وَتَكْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ وَالِاصْطِفَاءُ يَدُلَّانِ عَلَى نُبُوءَتِهَا وَالنُّبُوءَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّسَالَةِ. وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِقَصْدِ الْإِعْجَابِ بِحَالِهَا، لِأَنَّ النِّدَاءَ الْأَوَّلَ كَفَى فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِقْبَالِهَا لِسَمَاعِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ الَّذِي يُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِعْجَابُ بِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: تَقُولُ وَقَدْ مَال الغبيط بنامعا ... عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ (فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ إِلَى التَّوْبِيخِ) . وَالْقُنُوتُ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [238] . وَقدم السُّجُود، لأنّ أَدْخَلُ فِي الشُّكْرِ وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ شُكْرٍ. وَقَوْلُهُ: مَعَ الرَّاكِعِينَ إِذْنٌ لَهَا بِالصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا مِنْ بَيْنِ نسَاء إِسْرَائِيل إِظْهَارًا لِمَعْنَى ارْتِفَاعِهَا عَنْ بَقِيَّةِ النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الرَّاكِعِينَ بِعَلَامَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ. وَهَذَا الْخِطَابُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: 45] لِقَصْدِ تَأْنِيسِهَا بِالْخَبَرِ الْمُوَالِي لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَاصِلُهُ يَجْلِبُ لَهَا حُزْنًا وَسُوءَ قَالَةٍ بَيْنَ النَّاسِ، مَهَّدَ لَهُ بِمَا يَجْلِبُ إِلَيْهَا مَسَرَّةً، وَيُوقِنُهَا بِأَنَّهَا بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَعْلَمَ بِأَنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهَا مَخْرَجًا وَأَنَّهُ لَا يُخْزِيهَا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 إلى 46]

وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى خُلُوِّ كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو كُتُبَهُمْ مِثْلَ: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ» أَيْ إِنَّكَ تُخْبِرُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ كَأَنَّكَ كُنْتَ لَدَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وَهِيَ الْأَقْلَامُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ كَانُوا يَقْتَرِعُونَ بِهَا فِي الْمُشْكِلَاتِ: بِأَنْ يَكْتُبُوا عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْمُقْتَرِعِينَ أَوْ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمُقْتَرَعِ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَصِيرُونَ إِلَى الْقُرْعَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ مَا يُرَجِّحُ الْحَقَّ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ وَجَعَلَ الْيَهُودُ الِاقْتِرَاعَ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ فِي الْمِدْرَاسِ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهَا مُرْشِدَةً إِلَى مَا هُوَ الْخَيْرُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ لِإِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مَوَاضِعُ تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ الْمُتَسَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْهِ. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي كَفَالَةِ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا أُمُّهَا حِنَّةُ، إِذْ كَانَتْ يَتِيمَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الِامْتِنَانِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ كَفَالَةَ زَكَرِيَّاءَ مَرْيَمَ كَانَتْ بَعْدَ الِاسْتِقْسَامِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَنَافُسِهِمْ فِي كفالتها. [45، 46] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 45 إِلَى 46] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ [آل عمرَان: 42] قُصِدَ مِنْهُ التَّكْرِيرُ لِتَكْمِيلِ الْمَقُولِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ. وَلِكَوْنِهِ بَدَلًا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى إِذْ قَالَتِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يُبَشِّرُكِ. وَالْكَلِمَةُ مُرَادٌ بِهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ وَهِيَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيُّ كَمَا فِي حَدِيثِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: «وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ» إِلَخْ. وَوَصْفُ عِيسَى بِكَلِمَةٍ مُرَادٌ بِهِ كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي تَكْوِينِ الْجَنِينِ أَيْ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْهُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ بِدُونِ وَاسِطَةِ أَسْبَابِ النَّسْلِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [الْبَقَرَة: 117] . وَقَوْلُهُ: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَبَّرَ عَنِ الْعَلَمِ وَاللَّقَبِ وَالْوَصْفِ بِالِاسْمِ. لِأَنَّ لِثَلَاثَتِهَا أَثَرًا فِي تَمْيِيزِ الْمُسَمَّى. فَأَمَّا اللَّقَبُ وَالْعَلَمُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْوَصْفُ الْمُفِيدُ لِلنَّسَبِ فَلِأَنَّ السَّامِعِينَ تَعَارَفُوا ذِكْرَ اسْمِ الْأَبِ فِي ذِكْرِ الْأَعْلَامِ لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَتُذْكَرُ الْأُمُّ فِي النَّسَبِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالْأَبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: زِيَادُ بن سُمَيَّةَ قَبْل أَنْ يُلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ لِأُمِّهِ مَفْخَرًا عَظِيمًا كَقَوْلِهِمْ: عَمْرُو ابْنُ هِنْدٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْعَرَبِ. والْمَسِيحُ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ. وَنُقِلَتْ إِلَى الْعَرَبيَّة علما بِالْغَلَبَةِ عَلَى عِيسَى وَقَدْ سَمَّى مُتَنَصِّرَةُ الْعَرَبِ بَعْضَ أَبْنَائِهِمْ «عَبْدَ الْمَسِيحِ» وَأَصْلُهَا مَسِّيِّحْ- بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ- وَنَطَقَ بِهِ بَعْضُ الْعَرَبِ بِوَزْنِ سِكِّينٍ. وَمَعْنَى مَسِيحٍ مَمْسُوحٌ بِدُهْنِ الْمَسْحَةِ وَهُوَ الزَّيْتُ الْمُعَطَّرُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَتَّخِذَهُ لِيَسْكُبَهُ عَلَى رَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ حِينَمَا جَعَلَهُ كَاهِنًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَارَتْ كَهَنَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمْسَحُونَ بِمِثْلِهِ مَنْ يُمَلِّكُونَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَهْدِ شَاوِلَ الْمَلِكِ، فَصَارَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَلِكِ: فَفِي أَوَّلِ سِفْرِ صَمْوِيلَ الثَّانِي مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ قَالَ دَاوُدُ لِلَّذِي أَتَاهُ بِتَاجِ شَاوِلَ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ بِطَالُوتَ «كَيْفَ لَمْ تَخَفْ أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ لِتُهْلِكَ مَسِيحَ الرَّبِّ» . فَيُحْتَمَلُ أَنَّ عِيسَى سُمِّيَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا يُسَمُّونَ بِمَلِكٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَقَبٌ لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ إِذِ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَصِيرَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ بَيْنَهُمْ وَاشْتُهِرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْوَجِيهُ ذُو الْوَجَاهَةِ وَهِيَ: التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَمْثَالِ، وَالْكَرَامَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَهِيَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَجْهِ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ، وَأَجْمَعُهَا لِوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْمَالِ، فَأُطْلِقَ الْوَجْهُ عَلَى أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ

الشَّائِعَةِ فَيُقَالُ: وَجْهُ النَّهَارِ لِأَوَّلِ النَّهَارِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمرَان: 72] وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ وَقَالَ الْأَعْشَى: وَلَاحَ لَهُمْ وَجْهُ الْعَشِيَّاتِ سَمْلَقُ وَيَقُولُونَ: هُوَ وَجْهُ الْقَوْمِ أَيْ سَيِّدُهُمْ وَالْمُقَدَّمُ بَيْنَهُمْ. وَاشْتُقَّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فِعْلُ وَجُهَ بِضَمِّ الْجِيمِ كَكَرُمَ فَجَاءَ مِنْهُ وَجِيهٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، فَوَجِيهُ النَّاسِ الْمُكَرَّمُ بَيْنَهُمْ، وَمَقْبُولُ الْكَلِمَةِ فِيهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. والْمَهْدُ شِبْهُ الصُّنْدُوقِ مِنْ خَشَبٍ لَا غِطَاءَ لَهُ يُمَهَّدُ فِيهِ مَضْجَعٌ لِلصَّبِيِّ مُدَّةَ رِضَاعِهِ يُوضَعُ فِيهِ لِحِفْظِهِ مِنَ السُّقُوطِ. وَخُصَّ تَكْلِيمُهُ بِحَالَيْنِ: حَالِ كَوْنِهِ فِي الْمَهْدِ، وَحَالِ كَوْنِهِ كَهْلًا، مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّ لِذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فَأَمَّا تَكْلِيمُهُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فَلِأَنَّهُ خَارِقُ عَادَةٍ إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ. وَأَمَّا تَكْلِيمُهُمْ كَهْلًا فَمُرَادٌ بِهِ دَعْوَتُهُ النَّاسَ إِلَى الشَّرِيعَةِ. فَالتَّكْلِيمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَفِي كِنَايَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهِيَ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الصَّالِحِينَ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالصَّالِحُونَ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصَّلَاحُ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالصَّلَاحُ اسْتِقَامَةُ الْأَعْمَالِ وَطَهَارَةُ النَّفْسِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] . وَالْكَهْلُ مَنْ دَخَلَ فِي عَشَرَةِ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ الَّذِي فَارَقَ عَصْرَ الشَّبَابِ، وَالْمَرْأَةُ شَهْلَةٌ بِالشِّينِ، وَلَا يُقَالُ كَهْلَةٌ كَمَا لَا يُقَالُ شَهْلٌ لِلرَّجُلِ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ قَدِيمًا سَمَّوْا شَهْلًا مِثْلَ شَهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الْمُلَقَّبِ الْفِنْدُ الزِّمَانِيُّ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ أُمِيتَ. وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ بُعِثَ ابْنَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ.

[سورة آل عمران (3) : آية 47]

وَقَوْلُهُ: وَجِيهاً حَال من بِكَلِمَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا صَدَّقَهَا. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ، وَيُكَلِّمُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ: لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ لَهَا حُكْمُ الْمُفْرَدِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْمَهْدِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (يُكَلِّمُ) . وَكَهْلًا عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، لِأَنَّهُمَا فِي مَوْضِعِ الْحَال، فعطف عَلَيْهِمَا بِالنَّصْبِ، وَمِنَ الصَّالِحِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. [47] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 47] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) قَوْله: قالَتْ رَبِّ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، مِنْ كَلَامِهَا، بَيْنَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَالنِّدَاءُ لِلتَّحَسُّرِ وَلَيْسَ لِلْخِطَابِ: لِأَنَّ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الْمَلَكُ، وَهِيَ قَدْ تَوَجَّهَتْ إِلَى اللَّهِ. والاستفهام فِي قَوْلهَا أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ وَلِذَلِكَ أُجِيبَ جَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ لِرَفْعِ إِنْكَارِهَا، وَالثَّانِي إِذَا قَضَى أَمْرًا إِلَخْ لِرَفْعِ تَعَجُّبِهَا. وَجُمْلَةُ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ إِلَخْ جَوَابُ اسْتِفْهَامِهَا وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها وَمَا بَعْدَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] وَالْقَائِلُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ- إِلَى قَوْله- وَكَهْلًا [آل عمرَان: 45، 46] أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَخْلُقُ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 48 إلى 49]

وَعُبِّرَ عَنْ تَكْوِينِ اللَّهِ لِعِيسَى بِفِعْلِ يَخْلُقُ: لِأَنَّهُ إِيجَادُ كَائِنٍ مِنْ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ لِإِيجَادِ مِثْلِهِ، فَهُوَ خَلْقٌ أنف غير ناشىء عَنْ أَسْبَابِ إِيجَادِ النَّاسِ، فَكَانَ لِفِعْلِ يَخْلُقُ هُنَا مَوْقِعٌ مُتَعَيِّنٌ، فَإِنَّ الصَّانِعَ إِذَا صَنَعَ شَيْئًا مِنْ مَوَادَّ مُعْتَادَةٍ وَصَنْعَةٍ مُعْتَادَةٍ، لَا يَقُولُ خَلَقْتُ وَإِنَّمَا يَقُول صنعت. [48، 49] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 48 إِلَى 49] وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) جُمْلَةُ وَيُعَلِّمُهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمرَان: 46] بَعْدَ انْتِهَاءِ الِاعْتِرَاضِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ: وَيُعَلِّمُهُ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَيْ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْكِتَابُ الْمَعْهُودُ. وَعَطْفُ التَّوْرَاةِ تَمْهِيدٌ لِعَطْفِ الْإِنْجِيلِ- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ- وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَرَسُولًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ (يُعَلِّمُهُ) لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ، لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَحَلٍّ مِنَ الْإِعْرَابِ، هِيَ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَنُصِبَ رَسُولًا عَلَى الْحَالِ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ قَوْلُهُ بِكَلِمَةٍ، فَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَفَتْحُ هَمْزَةِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ لِتَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ بَعْدَ رَسُولًا، أَيْ رَسُولًا بِهَذَا الْمَقَالِ لِمَا تَضَمَّنَهُ وَصْفُ رَسُولًا مِنْ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا بِكَلَامٍ، فَهَذَا مَبْدَأُ كَلَامٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.

وَمَعْنَى جِئْتُكُمْ أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ [الزخرف: 63] . وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا بِأَنَّهُ جَاءَ بِآيَةٍ. شَبَّهَ أَمْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةً بِمَجِيءِ الْمُرْسَلِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النَّبِيءُ رَسُولًا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِآيَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُقَارِنًا لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِي فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِفِعْلِ الْمَجِيءِ. وَالْمَجْرُور مُتَعَلق بجئتكم عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ مَعْنَى جِئْتُكُمْ: أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ آيَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنِّي عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ. وَالْخَلْقُ: حَقِيقَتُهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بِقَدْرٍ، وَمِنْهُ خَلْقُ الْأَدِيمِ تَقْدِيرُهُ بِحَسْبِ مَا يُرَادُ مِنْ قَطْعِهِ قَبْلَ قَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ قَالَ زُهَيْرٌ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خلقت وَبَعض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يُرِيدُ تَقْدِيرَ الْأَدِيمِ قَبْلَ قَطْعِهِ وَالْقَطْعُ هُوَ الْفَرْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مَشْهُورًا أَوْ مُشْتَرَكًا فِي الْإِنْشَاءِ، وَالْإِبْدَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ وَلَا احْتِذَاءٍ، وَفِي الْإِنْشَاءِ عَلَى مِثَالِ يُبْدِعُ وَيُقَدِّرُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: 11] فَهُوَ إِبْدَاعُ الشَّيْءِ وَإِبْرَازُهُ لِلْوُجُودِ وَالْخَلْقُ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته أَيْ: أُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ خَلْقَ الْحَيَوَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَأَنْفُخُ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الطَّيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [360] . وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَهِيَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَخْلُقُ، أَيْ شَيْئًا مُقَدَّرًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «الطَّيْرَ» وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ غَالِبًا وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ «الطَّائِرِ» .

وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِـ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْفُخُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكَافُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ- وَحْدَهُ- فَيَكُونُ طَائِرًا بِالْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَيَكُونُ طَيْرًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَى مُرَاعَاةِ انْفِرَادِ الضَّمِيرِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى. جَعَلَ لِنَفْسِهِ التَّقْدِيرَ، وَأَسْنَدَ لِلَّهِ تَكْوِينَ الْحَيَاةِ فِيهِ. وَالْهَيْئَةُ: الصُّورَةُ وَالْكَيْفِيَّةُ أَيْ أُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ صُورَةً كَصُورَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ كَهَيْئَةِ بِتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ. وَزَادَ قَوْلَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، وَنَفْيِ تَوَهُّمِ الْمُشَارَكَةِ فِي خَلْقِ الْكَائِنَاتِ. وَالْأَكْمَهُ: الْأَعْمَى، أَوِ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى. وَالْأَبْرَصُ: الْمُصَابُ بِدَاءِ الْبَرَصِ وَهُوَ دَاءٌ جِلْدِيٌّ لَهُ مَظَاهِرُ مُتَنَوِّعَةٌ مِنْهَا الْخَفِيفُ وَمِنْهَا الْقَوِيُّ وَأَعْرَاضُهُ بُقَعٌ بَيْضَاءُ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ تَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ فَإِنْ كَانَتْ غَائِرَةً فِي الْجِلْدِ فَهُوَ الْبَرَصُ وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِسَطْحِ الْجِلْدِ فَهُوَ الْبَهَقُ ثُمَّ تَنْتَشِرُ عَلَى الْجِلْدِ فَرُبَّمَا عَمَّتِ الْجِلْدَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِيرَ أَبْيَضَ، وَرُبَّمَا بَقِيَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنْ لَوْنِ الْجِلْدِ. وَأَسْبَابُهُ مَجْهُولَةٌ، وَيَأْتِي بِالْوِرَاثَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْدٍ، وَشُوهِدَ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِهِ تَكْثُرُ فِي الَّذِينَ يُقَلِّلُونَ مِنَ النَّظَافَةِ أَوْ يَسْكُنُونَ الْأَمَاكِن القذرة. وَالْعرب وَالْعِبْرَانِيُّونَ وَالْيُونَانُ يُطْلِقُونَ الْبَرَصَ عَلَى مَرَضٍ آخَرَ هُوَ مِنْ مَبَادِئِ الْجُذَامِ فَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِالْبَرَصِ إِذَا بَدَتْ أَعْرَاضُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَأَمَّا الْعَرَبُ فَكَانَ مُلُوكُهُمْ لَا يُكَلِّمُونَ الْأَبْرَصَ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الشَّاعِرِ مَعَ الْمَلِكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ. وَأَمَّا الْعِبْرَانِيُّونَ فَهُمْ أَشَدُّ فِي ذَلِكَ. وَقَدِ اهْتَمَّتِ التَّوْرَاةُ بِأَحْكَامِ الْأَبْرَصِ، وَأَطَالَتْ فِي بَيَانِهَا، وَكَرَّرَتْهُ مِرَارًا، وَيَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ مَرَضٌ يَنْزِلُ فِي الْهَوَاءِ وَيَلْتَصِقُ بِجُدْرَانِ الْمَنَازِلِ، وَقَدْ وَصَفَهُ الْوَحْيُ لِمُوسَى لِيُعَلِّمَهُ الْكَهَنَةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُعَلِّمَهُمْ طَرِيقَةَ عِلَاجِهِ، وَمِنْ أَحْكَامِهِمْ أَنَّ الْمُصَابَ يُعْزَلُ عَنِ الْقَوْمِ وَيُجْعَلُ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. وَلِهَذَا كَانَ إِعْجَازُ الْمَسِيحِ بِإِبْرَاءِ الْأَبْرَصِ أَهَمَّ الْمُعْجِزَاتِ فَائِدَةً عِنْدَهُمْ دِينًا وَدُنْيَا. وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ الْبَرَصَ فِي عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ وَفَصَّلُوا بَيْنَ أَنْوَاعِهِ الَّتِي تُوجِبُ الْخِيَارَ وَالَّتِي لَا تُوجِبُهُ وَلَمْ يَضْبِطُوا أَوْصَافَهُ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَحْدِيدِ أَجْلِ بُرْئِهِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 50 إلى 51]

وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى مُعْجِزَةٌ لِلْمَسِيحِ أَيْضًا، كَنَفْخِ الرُّوحِ فِي الطَّيْرِ الْمُصَوَّرِ مِنَ الطِّينِ، فَكَانَ إِذَا أَحْيَا مَيِّتًا كَلَّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ مَيِّتًا، وَوَرَدَ فِي الْأَنَاجِيلِ أَنَّهُ أَحْيَا بِنْتًا كَانَتْ مَاتَتْ فَأَحْيَاهَا عَقِبَ مَوْتِهَا. وَوَقَعَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ 17 أَنَّ عِيسَى صَعِدَ الْجَبَلَ وَمَعَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا أَخُوهُ وَأَظْهَرَ لَهُمْ مُوسَى وَإِيلِيَاءَ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَكَلُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمَا عِنْدَهُمْ مُدَّخَرٌ فِيهَا، لِتَكُونَ هَاتِهِ الْمُتَعَاطِفَاتُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أُنَبِّئُكُمْ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا آيَاتٍ تَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْإِيمَانَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ دَأْبُكُمُ الْمُكَابَرَةَ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ مِنْهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ بَادَرُوا دَعْوَتَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالشَّتْمِ. وَتَعَرُّضُ الْقُرْآنِ لِذِكْرِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى الَّذِينَ جَعَلُوا مِنْهَا دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّةِ عِيسَى، بِعِلَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَةِ الْبَشَرِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَهُوَ الْإِلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ سُفِسْطَائِيٌّ أَشَارَ اللَّهُ إِلَى كَشْفِهِ بِقَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَدَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [50، 51] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 50 إِلَى 51] وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) عَطْفٌ عَلَى «بِآيَةٍ» بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «بِآيَةٍ» ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جِئْتُكُمْ فَيُقَدَّرُ فِعْلُ جِئْتُكُمْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَمُصَدِّقاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُقَدَّرِ مَعَهُ، وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْله: وَرَسُولًا [آل عمرَان: 49] لِأَنَّ رَسُولًا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَمُصَدِّقاً مِنْ كَلَامِ عِيسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيَّ.

وَالْمُصَدِّقُ: الْمُخْبِرُ بِصِدْقِ غَيْرِهِ، وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلتَّقْوِيَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَصْدِيقٍ مُثْبَتٍ مُحَقَّقٍ، أَيْ مُصَدِّقًا تَصْدِيقًا لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ وَلَا نِسْبَةٌ إِلَى خَطَأٍ. وَجُعِلَ التَّصْدِيقُ مُتَعَدِّيًا إِلَى التَّوْرَاةِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَمَعْنَى مَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلِي، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ السَّابِقَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الْجَائِي فَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ السَّبْقِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ أَزْمِنَةٌ طَوِيلَةٌ، لِأَنَّهَا لَمَّا اتَّصَلَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى مَجِيئِهِ، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَسْبِقْهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ. وَيُسْتَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ كَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاهَدِ الْحَاضِرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ وَلِأُحِلَّ عَلَى رَسُولًا وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ: لِأَنَّ الْحَالَ تُشْبِهُ الْعِلَّةَ إِذْ هِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، فَإِذَا كَانَ التَّقْيِيدُ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ شَابَهَ الْمَفْعُولَ لأَجله، وشابه الجرور بِلَامِ التَّعْلِيلِ، فَصَحَّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ جِئْتُكُمْ. وَعَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يُنَافِي التَّصْدِيقَ لِأَنَّ النَّسْخَ إِعْلَامٌ بِتَغَيُّرِ الْحُكْمِ. وَانْحَصَرَتْ شَرِيعَةُ عِيسَى فِي إِحْيَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَمَا تَرَكُوهُ فِيهَا وَهُوَ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي تَحْلِيلِ بَعْضِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَعْيًا لِحَالِهِمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِهَذَا كَانَ رَسُولًا. قِيلَ أَحَلَّ لَهُمُ الشُّحُومَ، وَلُحُومَ الْإِبِلِ، وَبَعْضَ السَّمَكِ، وَبَعْضَ الطَّيْرِ: الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلُ، وَأَحَلَّ لَهُمُ السَّبْتَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مَا حُلِّلَ لَهُمْ، فَمَا قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الطَّلَاقَ فَهُوَ تَقَوُّلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ وَبَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ عَوَاقِبِهِ، وَحَرَّمَ تَزَوُّجَ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَيَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ دَعْوَةٌ: مِنْ تَذْكِيرٍ، وَمَوَاعِظَ، وَتَرْغِيبَاتٍ. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَقَوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمرَان: 49] . وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَحْصُلُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 53]

التَّأْكِيدُ بِمُجَرَّدِ تَقَدُّمِ مَضْمُونِهِ، فَتَكُونُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اعْتِبَارَانِ يَجْعَلَانِهَا بِمَنْزِلَةِ جُمْلَتَيْنِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُونِ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ لَا مَحَالَةَ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ كَشَأْنِهَا إِذَا وَقَعَتْ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ. بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَلِذَلِكَ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَهُوَ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ حَقِيقٌ بِالتَّقْوَى، وَلِكَوْنِهِ رَبَّ عِيسَى وَأَرْسَلَهُ تَقْتَضِي تَقْوَاهُ طَاعَةَ رَسُولِهِ. وَقَوْلُهُ: فَاعْبُدُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي تَعْلِيلًا ثُمَّ أَصْلًا لِلتَّفْرِيعِ. وَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَالَهُ كُلِّهِ أَيْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَشَبَّهَهُ بِصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ وَلَا يتحير. [52، 53] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 52 إِلَى 53] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) آذَنَ شَرْطُ لَمَّا بِجُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ، تَقْدِيرُهَا: فَوُلِدَ عِيسَى، وَكَلَّمَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَرْيَمَ، وَكَلَّمَ النَّاسَ بِالرِّسَالَةِ. وَأَرَاهُمُ الْآيَاتِ الْمَوْعُودَ بِهَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، فَكَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ إِلَى آخِرِهِ. أَيْ أَحَسَّ الْكُفْرَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِدَعْوَتِهِ فِي قَوْله: وَأَطِيعُونِ [آل عمرَان: 50] أَيْ

سَمِعَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ وَأُخْبِرَ بِتَمَالُئِهِمْ عَلَيْهِ. «وَمِنْهُم» مُتَعَلق بأحسّ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ يُفَسِّرُهُ وَصْفُ الْكُفْرِ. وَطلب النَّصْر الْإِظْهَار الدَّعْوَةِ لِلَّهِ، مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» وَقَالَ مُوسَى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه: 29] وَقَدْ عَرَضَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَنْصُرُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ. وَقَوْلُهُ: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ لَعَلَّهُ قَالَهُ فِي مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِبْلَاغًا لِلدَّعْوَةِ، وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ. وَالنَّصْرُ يَشْمَلُ إِعْلَانَ الدِّينِ وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ. وَوَصَلَ وصف أَنْصَارِي بإلى إِمَّا عَلَى تَضْمِينِ صِفَةِ أَنْصَارٍ مَعْنَى الضَّمِّ أَيْ مَنْ ضَامُّونَ نَصْرَهُمْ إِيَّايَ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ إِيَّايَ، الَّذِي وَعَدَنِي بِهِ إِذْ لَا بدّ لِحُصُولِ النَّصْرِ مِنْ تَحْصِيلِ سَبَبِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: 7] عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: 2] أَي ضامّينها فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَإِمَّا عَلَى جَعْلِهِ حَالًا مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمَعْنَى فِي حَالِ ذَهَابِي إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى تَبْلِيغِ شَرِيعَتِهِ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْكَوْنُ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْمَجْرُورُ هُوَ كَوْنٌ مِنْ أَحْوَالِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ الْحَوَارِيُّونَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ. وَالْحَوَارِيُّونَ: لَقَبٌ لِأَصْحَابِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَلَازَمُوهُ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنَ النَّبَطِيَّةِ وَمُفْرَدُهُ حَوَارِيٌّ قَالَهُ فِي الْإِتْقَانِ عَنِ ابْنِ حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَلَكِنَّهُ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْغَسَّالُ أَيْ غَسَّالُ الثِّيَابِ. وَفَسَّرَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ خَاصَّةِ مَنْ يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَرَابَتِهِ. وَغَلَبَ عَلَى أَصْحَابِ عِيسَى وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيءٍ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ» . وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي احْتِمَالَاتِ اشْتِقَاقِهِ وَاخْتِلَافِ مَعْنَاهُ وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْصَاقٌ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي فِيهَا حُرُوفُ الْحَاءِ وَالْوَاوِ وَالرَّاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ.

[سورة آل عمران (3) : آية 54]

وَالْحَوَارِيُّونَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ: سَمْعَانْ بُطْرُسْ، وَأَخُوهُ أَنْدَرَاوِسُ، وَيُوحَنَّا بْنُ زَبْدِي، وَأَخُوهُ يَعْقُوبُ- وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ صَيَّادُو سَمَكٍ- وَمَتَّى الْعَشَّارُ وتوما وفيليبس، وبرثو لماوس، وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفِي، وَلَبَاوِسُ، وَسَمْعَانُ الْقَانْوِي، وَيَهُوذَا الْأَسْخَرْيُوطِيُّ. وَكَانَ جَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ نَصْرَ عِيسَى لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ نَصْرٌ لِدِينِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ مَا يُفِيدُ حَصْرًا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تُفِيدُ تَعْرِيفًا، فَلَمْ يَحْصُلْ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، وَلَكِنَّ الْحَوَارِيِّينَ بَادَرُوا إِلَى هَذَا الِانْتِدَابِ. وَقَدْ آمَنَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ أَفْرَادٌ مُتَفَرِّقُونَ مِنَ الْيَهُودِ، مِثْلَ الَّذِينَ شَفَى الْمَسِيحُ مَرْضَاهُمْ، وَآمَنَ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ أُمُّهُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَأُمُّ يُوحَنَّا، وَحَمَاةُ سَمْعَانَ، وَيُوثَا امْرَأَةُ حُوزِي وَكِيلِ هِيرُودِسَ، وَسُوسَةُ، وَنِسَاءٌ أُخَرُ وَلَكِنَّ النِّسَاءَ لَا تُطْلَبُ مِنْهُنَّ نُصْرَةٌ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا آمَنَّا مِنْ كَلَامِ الْحَوَارِيِّينَ بَقِيَّةُ قَوْلِهِمْ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ الدُّعَاءِ دُعَاءً بِأَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيْ مَعَ الَّذِينَ شَهِدُوا لِرُسُلِ اللَّهِ بِالتَّبْلِيغِ، وَبِالصِّدْقِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ تَلَقَّوْا مِنْ عِيسَى- فِيمَا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ- فَضَائِلَ مَنْ يَشْهَدُ للرسل بِالصّدقِ. [54] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 54] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ وَأَحَسَّ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ وَالْمَكْرِ. وَضَمِيرُ مَكَرُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مِنْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الصَّفِّ [14] : قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ. وَالْمَكْرُ فِعْلٌ يُقْصَدُ بِهِ ضرّ ضُرُّ أَحَدٍ فِي هَيْئَةٍ تَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ تَلْبِيسُ فِعْلِ الْإِضْرَارِ بِصُورَةِ النَّفْعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: تَدْبِيرُ الْيَهُودِ لِأَخْذِ الْمَسِيحِ، وَسَعْيُهُمْ لَدَى وُلَاةِ الْأُمُورِ لِيُمَكِّنُوهُمْ مِنْ قَتْلِهِ. وَمَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ تَمْثِيلٌ لِإِخْفَاقِ اللَّهِ تَعَالَى مَسَاعِيَهُمْ فِي حَالِ ظَنِّهِمْ أَنْ قَدْ نَجَحَتْ مَسَاعِيهِمْ، وَهُوَ هُنَا مُشَاكَلَةٌ. وَجَازَ إِطْلَاقُ الْمَكْرِ عَلَى فِعْلِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 إلى 57]

اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مُشَاكَلَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [99] فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَبَعْضُ أَسَاتِذَتِنَا يُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ مُشَاكَلَةً تَقْدِيرِيَّةً. وَمَعْنَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ أَقْوَاهُمْ عِنْدَ إِرَادَةِ مُقَابَلَةِ مَكْرِهِمْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: أَنَّ الْإِمْلَاءَ وَالِاسْتِدْرَاجَ، الَّذِي يُقَدِّرُهُ لِلْفُجَّارِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، الشَّبِيهَ بِالْمَكْرِ فِي أَنَّهُ حسن الظَّاهِر سيّء الْعَاقِبَةِ، هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّلَاحُ الْعَامُّ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِي شَخْصًا أَوْ أَشْخَاصًا، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُجَرَّدٌ عَمَّا فِي الْمَكْرِ مِنَ الْقُبْحِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةً عَنِ الْوَصْفِ بِالْقُبْحِ أَوِ الشَّنَاعَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقَارِنُهَا الْأَحْوَالُ الَّتِي بِهَا تُقَبَّحُ بَعْضُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى سَفَاهَةِ رَأْيٍ، أَوْ سُوءِ طَوِيَّةٍ، أَوْ جُبْنٍ، أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ طَمَعٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. أَيْ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَكْرِ قُبْحٌ فَمَكْرُ اللَّهِ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَلَكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَجْعَلَ «خَيْرُ» بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ وَبِدُونِهِ. [55، 57] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 55 الى 57] إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) . اسْتِئْنَافٌ وَ (إِذْ) ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِشَيْءٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرْ إِذْ قَالَ اللَّهُ: كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] وَهَذَا حِكَايَةٌ لِأَمْرِ رَفْعِ الْمَسِيحِ وَإِخْفَائِهِ عَنْ أَنْظَارِ أَعْدَائِهِ. وَقَدَّمَ اللَّهُ فِي خِطَابِهِ إِعْلَامَهُ بِذَلِكَ اسْتِئْنَاسًا لَهُ، إِذْ لَمْ يَتِمَّ مَا يَرْغَبُهُ مِنْ هِدَايَةِ قَوْمِهِ. مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ،

وَتَبْشِيرًا لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ لِأَنَّ غَايَةَ هَمِّ الرَّسُولِ هُوَ الْهُدَى، وَإِبْلَاغُ الشَّرِيعَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالنِّدَاءُ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقْبَضُ نَبِيءٌ حَتَّى يُخَيَّرَ» . وَقَوْلُهُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ظَاهِرُ مَعْنَاهُ: إِنِّي مُمِيتُكَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِ تَوَفَّى الشَّيْءَ أَنَّهُ قَبَضَهُ تَامًّا وَاسْتَوْفَاهُ. فَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَيْ قَدَّرَ مَوْتَهُ، وَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ أَيْ أَنْفَذَ إِرَادَةَ اللَّهِ بِمَوْتِهِ، وَيُطْلَقُ التَّوَفِّي عَلَى النَّوْمِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الْأَنْعَام: 60]- وَقَوْلِهِ- اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42] . أَيْ وَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَمُتِ الْمَوْتَ الْمَعْرُوفَ فَيُمِيتُهَا فِي مَنَامِهَا مَوْتًا شَبِيهًا بِالْمَوْتِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ- ثُمَّ قَالَ- حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فَالْكُلُّ إِمَاتَةٌ فِي التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا الْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ بِالْبَيَانِ بِقَوْلِهِ: «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» ، فَالْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ غَايَةَ الِانْتِظَامِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ نَظْمُهُ عَلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ الْمَائِدَةِ: «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ الْوَفَاةَ الْمَعْرُوفَةَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ عِلْمِ مَا يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَحَمْلُهَا عَلَى النَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيسَى لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنَامَ وَلِأَنَّ النَّوْمَ حِينَئِذٍ وَسِيلَةٌ لِلرَّفْعِ فَلَا يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهِ وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمَقْصِدِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى الرَّفْعِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِيجَادُ مَعْنًى جَدِيدٍ لِلْوَفَاةِ فِي اللُّغَةِ بِدُونِ حُجَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّهَا وَفَاةُ مَوْتٍ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ «قَالَ مَالِكٌ: مَاتَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : «يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ» . وَقَالَ الرَّبِيعُ: هِيَ وَفَاةُ نَوْمٍ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمُخَلِّصُكَ فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ: مُتَوَفِّيكَ مُتَقَبِّلٌ عَمَلَكَ. وَالَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الْوَفَاةِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا، فَأَفْهَمَ أَنَّ لَهُ حَيَاةً خَاصَّةً أَخَصَّ مِنْ حَيَاةِ أَرْوَاحِ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ

أَخَصُّ مِنْ حَيَاةِ بَقِيَّةِ الْأَرْوَاحِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ مُتَفَاوِتَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ» وَرَوَوْا أَنَّ تَأْوِيلَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ فِي مَعْنَى حَيَاتِهِ وَفِي نُزُولِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ مَعْنَى الْوَفَاةِ فَجَعَلَهُ حَيًّا بِحَيَاتِهِ الْأُولَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَى الْوَفَاةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَجَعَلَ حَيَاتَهُ بِحَيَاةٍ ثَانِيَةٍ، فَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ وَرَفَعَهُ فِيهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُ عِنْدَهُ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَسَكَتَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ عَنْ تَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَلَقَدْ وُفِّقَا وَسُدِّدَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ كَحَيَاةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ- إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ- بَعْثًا لَهُ قَبْلَ إِبَّانِ الْبَعْثِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَقَدْ جَاءَ التَّعْبِيرُ عَنْ نُزُولِهِ بِلَفْظِ «يَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلَا يَمُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ يَخْلُصُ مِنْ هُنَالِكَ إِلَى الْآخِرَةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّ عَطْفَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إِذِ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبَ الزَّمَانِ أَيْ إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ ثُمَّ مُتَوَفِّيكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَمُوتُ فِي آخِرِ الدَّهْرِ سِوَى أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: «وَيَمْكُثُ (أَيْ عِيسَى) أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ تُؤَوَّلَ الْأَخْبَارُ الَّتِي يُفِيدُ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ حَيٌّ عَلَى مَعْنَى حَيَاةِ كَرَامَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، كَحَيَاةِ الشُّهَدَاءِ وَأَقْوَى، وَأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ نُزُولُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ تَأْوِيلٍ، أَنَّ ذَلِكَ يقوم مقَام الْبَعْض، وَأَنَّ قَوْلَهُ- فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُدْرَجٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ رَوَوْا حَدِيثَ نُزُولِ عِيسَى، وَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَغَيْرُ صَرِيحَةٍ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ فِي عَدِّ مَزَايَاهُ إِلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَالتَّطْهِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمُطَهِّرُكَ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْعِصْمَةِ وَالتَّنْزِيهِ لِأَنَّ طَهَارَةَ عِيسَى هِيَ هِيَ، وَلَكِنْ لَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ لَكَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً لَهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «كَفَرُوا» لِظُهُورِهِ أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِكَ وَهُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ مَا كَفَرُوا بِاللَّهِ بَلْ كَفَرُوا بِرِسَالَةِ عِيسَى، ولأنّ عِيسَى لَمْ يُبْعَثْ لِغَيْرِهِمْ فَتَطْهِيرُهُ لَا يُظَنُّ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.

وَالْفَوْقِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالِانْتِصَارِ، وَهِيَ فَوْقِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: الْحَوَارِيُّونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ شَرِيعَتُهُ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذْ مَضْمُونُ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ شَأْنِ جَزَاءِ اللَّهِ مُتَّبِعِي عِيسَى وَالْكَافِرِينَ بِهِ. وَثمّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْحَاصِلَ عِنْدَ مَرْجِعِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ مَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَهَمُّ مِنْ جَعْلِ مُتَّبِعِي عِيسَى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى، وَأَنَّ ضَمِيرَ مَرْجِعُكُمْ، وَمَا مَعَهُ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ، عَائِدٌ إِلَى عِيسَى وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونَ ثُمَّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ، زِيَادَةً عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ. وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ. وَحَقِيقَةُ الرُّجُوعِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ هُنَا فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْثَ لِلْحِسَابِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِهِ وَبِمُرَادِفِهِ نَحْوَ الْمَصِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ انْتِهَاءُ إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي أَجَلٍ أَرَادَهُ فَيَنْفُذُ فِيهِمْ مُرَادُهُ فِي الدُّنْيَا. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازَيْهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَمْعِ الْعَذَابَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجْرِي تَفْسِيرُ حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ إِلَى قَوْله فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. وَقَوْلُهُ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ تَفْصِيلِ الضَّمَائِرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَذِكْرُ عَذَابِ الدُّنْيَا هُنَا إِدْمَاجٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا خَاطَبَ الله بِهِ عِيسَى فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ أَيْضًا التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي ظُلْمِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُكَابَرَةٍ مِنْهُمْ وَحَسَدٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِسْنَادِ الْمَحَبَّةِ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تذييل لجملة فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَيْ وَلَا يَجِدُونَ ناصرين ينصرونهم علينا فِي تَعْذِيبِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَضِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْعَذَابَيْنِ: فَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ يَجْرِي عَلَى نِظَامِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا: مِنْ شِدَّةٍ وَضَعْفٍ وَعَدَمِ اسْتِمْرَارٍ، فَمَعْنَى انْتِفَاءِ النَّاصِرِينَ لَهُمْ مِنْهُ انْتِفَاءُ النَّاصِرِينَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مُتَفَاوِتٌ، وَقَدْ وَجَدَ الْيَهُودُ نَاصِرِينَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ مِثْلَ قِصَةِ اسْتِيرَ فِي الْمَاضِي وَقَضِيَّةِ فِلَسْطِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ: فَهُوَ مُطْلَقٌ هُنَا، وَمُقَيَّدٌ فِي آيَات كَثِيرَة بالتأييد، كَمَا قَالَ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [الْبَقَرَة: 167] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّفْصِيلِ كُلِّهِ فَهِيَ تَذْيِيلٌ ثَانٍ لِجُمْلَةِ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً بِصَرِيحِ مَعْنَاهَا، أَيْ أُعَذِّبُهُمْ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَتَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِهَا، بِكِنَايَةِ مَعْنَاهَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ مَحَبَّةِ اللَّهِ الظَّالِمِينَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلِذَلِكَ يُعْطِيهِمْ ثَوَابَهُمْ وَافِيًا. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَظَلَمَ النَّصَارَى اللَّهَ بِأَنْ نَقَصُوهُ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ لَهُ وَظَلَمُوا عِيسَى بِأَنْ نَسَبُوهُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَظَلَمَهُ الْيَهُودُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَذَاهُمْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 58]

وَعَذَابُ الدُّنْيَا هُوَ زَوَالُ الْمُلْكِ وَضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَالتَّشْرِيدُ فِي الْأَقْطَارِ، وَكَوْنُهُمْ يَعِيشُونَ تَبَعًا لِلنَّاسِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ هُوَ جَهَنَّمُ. وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ حَاوَلَهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَأَسْنَدَ فَنُوَفِّيهِمْ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظَمَةِ مَفْعُولِ هَذَا الْفَاعِلِ إِذِ الْعَظِيمُ يُعْطِي عَظِيما. وَالتَّقْدِير فيوفيهم أُجُورَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِدَلِيلِ مُقَابِلِهِ فِي ضِدِّهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَتَوْفِيَةُ الْأُجُورِ فِي الدُّنْيَا تَظْهَرُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، وَبَرَكَاتُهُ مَعَهُمْ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَحُسْنُ الذِّكْرِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَفِيهَا اكْتِفَاءٌ: أَيْ وَيُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنُوَفِّيهِمْ- بِالنُّونِ- وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ، فَيُوَفِّيهِمْ بِيَاءِ الْغَائِبِ على الِالْتِفَات. [58] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 58] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) تَذْيِيلٌ: فَإِنَّ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ أَعَمُّ مِنَ الَّذِي تُلِيَ هُنَا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: 45] وَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بالْكلَام أَو بالمذكور. وَجُمْلَةُ نَتْلُوهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى حَدِّ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ وَإِنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْضُ النُّحَاةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْآياتِ خَبَرُ ذلِكَ أَيْ إِنَّ تِلَاوَةَ ذَلِكَ عَلَيْكَ مِنْ آيَاتِ صِدْقِكَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَهُوَ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلنَّاسِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ نَتْلُوهُ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَمِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيِ الْحَكِيمُ عَالِمُهُ أَو تاليه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 إلى 60]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 59 إِلَى 60] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ: بَيَّنَ بِهِ مَا نَشَأَ مِنَ الْأَوْهَامِ، عِنْدَ النَّصَارَى، عَن وصف عِيسَى بِأَنَّهُ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَضَلُّوا بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِصَ النَّاسُوتِ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي إِبْطَالِ عَقِيدَةِ النَّصَارَى مِنْ تَأْلِيهِ عِيسَى، وَرَدِّ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَقْطَعُ دَلِيلٍ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ، فَقَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّ آدَمَ أَوْلَى بِأَنْ يُدَّعَى لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يكن آدم إلاها مَعَ أَنَّهُ خُلِقَ بِدُونِ أَبَوَيْنِ فَعِيسَى أَوْلَى بِالْمَخْلُوقِيَّةِ مِنْ آدَمَ. وَمَحَلُّ التَّمْثِيلِ كَون كليهمَا خلق مِنْ دُونِ أَبٍ، وَيَزِيدُ آدَمُ بِكَوْنِهِ مِنْ دُونِ أم أَيْضا، فَلذَلِك احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الْآيَةَ أَيْ خَلَقَهُ دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ بَلْ بِكَلِمَةِ كُنْ، مَعَ بَيَانِ كَوْنِهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى الله لَا يزِيد على آدم شَيْئا فِي كَوْنِهِ خَلْقًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، لَكُمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا خَلْقَهُ الْعَجِيبَ مُوجِبًا لِلْمَسِيحِ نِسْبَةً خَاصَّةً عِنْدَ اللَّهِ وَهِيَ الْبُنُوَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ نَفْسَ الْأَمْرِ وَالْوَاقِع. وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُ لِآدَمَ لَا لِعِيسَى إِذْ قَدْ عَلِمَ الْكُلُّ أَنَّ عِيسَى لَمْ يُخْلَقْ مِنْ تُرَابٍ، فَمَحَلُّ التَّشْبِيهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَجُمْلَةُ خَلَقَهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ كَمَثَلِ آدَمَ. وَثمّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ تَكْوِينَهُ بِأَمْرِ كُنْ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ خَلْقِهِ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ أَسْبَقُ فِي الْوُجُودِ وَالتَّكْوِينُ الْمشَار إِلَيْهِ بكن: هُوَ تَكْوِينُهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: كَوَّنَهُ مِنْ تُرَابٍ وَلَمْ يَقُلْ: قَالَ لَهُ كُنْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ أَحْيَاهُ، بَلْ قَالَ خَلَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ. وَقَوْلُ كُنْ تَعْبِيرٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِتَكْوِينِهِ حَيًّا ذَا رُوحٍ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ التكوين لَيْسَ بصنع يَدٍ، وَلَا نَحْتٍ بِآلَةٍ، وَلَكِنَّهُ بِإِرَادَةٍ وَتَعَلُّقِ قُدْرَةٍ وَتَسْخِيرِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ فِي تَكْوِينِ الْمُرَادِ، حَتَّى تَلْتَئِمَ وَتَنْدَفِعَ إِلَى إِظْهَارِ الْمُكَوَّنِ وَكُلُّ ذَلِكَ

[سورة آل عمران (3) : آية 61]

عَنْ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ بِالتَّنْجِيزِ، فَبِتِلْكَ الْكَلِمَةِ كَانَ آدَمُ أَيْضًا كَلِمَةً مِنَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوصَفْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ احْتِيَاجٌ إِلَى ذَلِكَ لِفَوَاتِ زَمَانِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: فَيَكُونُ وَلَمْ يقل فَكَانَ لاستحضار صُورَةَ تَكَوُّنِهِ، وَلَا يُحْمَلُ الْمُضَارِعُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، مِثْلَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] وَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا هُنَا لَا وَجْهَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هَذَا الْحَقُّ. وَمن رَبِّكَ حَالٌ مِنَ الْحَقِّ. وَالْخِطَابُ فِي فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ، وَالْمُعَرَّضُ بِهِمْ هُنَا هُمُ النَّصَارَى الْمُمْتَرُونَ الَّذِينَ امتروا فِي الإلاهية بِسَبَبِ تَحَقُّقِ أَنْ لَا أَب لعيسى. [61] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 61] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيمَاءٍ إِلَى أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ مُمْتَرُونَ فِي هَذَا الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: أَيْ فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مُحَاجَّتِهِمْ إِيَّاكَ مُكَابَرَةً فِي هَذَا الْحَقِّ أَوْ فِي شَأْنِ عِيسَى فَادْعُهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَالْمُلَاعَنَةِ. ذَلِكَ أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ مُكَابَرَةٌ مَحْضَةٌ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنِ الْعِلْمِ وَبَيَّنْتَ لَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ أَوْضَحُ مِمَّا حَاجَجْتَهُمْ بِهِ فَعَلِمْتَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَاجُّونَكَ عَنْ مُكَابَرَةٍ، وَقِلَّةِ يَقِينٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ بِالْمُلَاعَنَةِ الْمَوْصُوفَةِ هُنَا. وتَعالَوْا اسْمُ فِعْلٍ لِطَلَبِ الْقُدُومِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ أَمْرٌ مِنْ تَعَالَى يَتَعَالَى إِذَا قَصَدَ الْعُلُوَّ، فكأنّهم أَرَادوا بِهِ فِي الْأَصْلِ أَمْرًا بِالصُّعُودِ إِلَى مَكَانٍ عَالٍ تَشْرِيفًا لِلْمَدْعُوِّ، ثُمَّ شَاعَ

حَتَّى صَارَ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِالْقُدُومِ أَوِ الْحُضُورِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُ اسْمِ الْفِعْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَتْحِ آخِرِهِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي فِرَاسٍ الْحَمْدَانِيِّ: أَيَا جَارَتَا مَا أَنْصَفَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا ... تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي فَقَدْ لَحَّنُوهُ فِيهِ. وَمَعْنَى تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ائْتُوا وَادْعُوا أَبْنَاءَكُمْ وَنَحْنُ نَدْعُو أَبْنَاءَنَا إِلَى آخِرِهِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ نَبْتَهِلْ إِلَى آخِرِهِ. وَ (ثُمَّ) هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ. وَالِابْتِهَالُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَهْلِ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِاللَّعْنِ وَيُطْلَقُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الدَّاعِيَ بِاللَّعْنِ يَجْتَهِدُ فِي دُعَائِهِ وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ. وَمعنى فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ فَنَدْعُ بِإِيقَاعِ اللَّعْنَةِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. وَهَذَا الدُّعَاءُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ إِلْجَاءٌ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ أَوْ يَكُفُّوا. رَوَى الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيرَةِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلَاعَنَةِ قَالَ لَهُمُ العاقب: نلاعنه فو الله لَئِنْ كَانَ نَبِيئًا فَلَاعَنَنَا لَا نُفْلِحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا فَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَعَدَلُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَهَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ لَعَلَّهَا مِنْ طُرُقِ التَّنَاصُفِ عِنْدَ النَّصَارَى فَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا جَمَعَ فِي الْمُلَاعَنَةِ الْأَبْنَاءَ وَالنِّسَاءَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ مُكَابَرَتُهُمْ فِي الْحَقِّ وَحُبُّ الدُّنْيَا، عُلِمَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ أَهْلُهُ وَنِسَاؤُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ «أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ» وَأَنَّهُ يَخْشَى سُوءَ الْعَيْشِ، وَفُقْدَانَ الْأَهْلِ، وَلَا يَخْشَى عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارَكِ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِينَ يَحْضُرُهُمْ لِذَلِكَ وَأَبْنَاءُ أَهْلِ الْوَفْدِ وَنِسَاؤُهُمُ اللَّائِي كُنَّ مَعَهُمْ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 إلى 63]

وَالنِّسَاءُ: الْأَزْوَاجُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذَا أُضِيفَ لَفْظُ النِّسَاءِ إِلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ دُونَ مَا إِذَا وَرَدَ غَيْرَ مُضَافٍ، قَالَ تَعَالَى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: 32] وَقَالَ: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ النَّابِغَةُ: حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي ... وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا وَالْأَنْفُسُ أَنْفُسُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَنْفُسُ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ وَإِيَّانَا وَإِيَّاكُمْ، وَأَمَّا الْأَبْنَاءُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ شُبَّانُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَشْمَلُ الصِّبْيَانَ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَعُودَ عَلَيْهِمْ آثَارُ الْمُلَاعَنَةِ. وَالِابْتِهَالُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَهْلِ، وَهُوَ اللَّعْنُ، يُقَالُ: بَهَلَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَاللَّعْنَةُ بَهْلَةٌ وَبُهْلَةٌ- بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ- ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الِابْتِهَالُ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ قَالَ الْأَعْشَى: لَا تَقْعُدَنَّ وَقَدْ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ. وَهَذِهِ دَعْوَةُ إِنْصَافٍ لَا يَدْعُو لَهَا إِلَّا وَاثِقٌ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. وَهَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ لَمْ تَقَعْ لِأَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إِلَيْهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ النَّبِيءَ هَيَّأَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا لِيَصْحَبَهُمْ مَعَهُ لِلْمُبَاهَلَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ إِحْضَارَ نِسَائِهِ وَلَا إِحْضَارَ بعض الْمُسلمين. [62، 63] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 62 إِلَى 63] إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) جُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْله: الْكاذِبِينَ [آل عمرَان: 61] لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ عِيسَى عبد الله، وَزَعَمُوا أَنَّهُ غُلِبَ فَإِثْبَاتُ أَنَّهُ عَبْدٌ هُوَ الْحَقُّ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ عِيسَى.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَهُوَ الْقَصَصُ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّقْوِيَةِ الَّتِي أَفَادَهَا ضَمِيرُ الْفَصْلِ لِأَنَّ اللَّامَ وَحْدَهَا مُفِيدَةٌ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ وَضَمِيرَ الْفَصْلِ يُفِيدُ الْقَصْرَ أَيْ هَذَا الْقَصَصُ لَا مَا تَقُصُّهُ كُتُبُ النَّصَارَى وَعَقَائِدُهُمْ. والْقَصَصُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَالصَّادِ- اسْمٌ لِمَا يُقَصُّ، يُقَالُ: قَصَّ الْخَبَرَ قَصًّا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْقَصُّ أَخَصُّ مِنَ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ الْقَصَّ إِخْبَارٌ بِخَبَرٍ فِيهِ طُولٌ وَتَفْصِيلٌ وَتُسَمَّى الْحَادِثَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخْبَرَ بِهَا قِصَّةً- بِكَسْرِ الْقَافِ- أَيْ مَقْصُوصَةً أَيْ مِمَّا يَقُصُّهَا الْقُصَّاصُ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَنْتَصِبُ لِتَحْدِيثِ النَّاسِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ قَصَّاصٌ- بِفَتْحِ الْقَافِ-. فَالْقَصَصُ اسْمٌ لِمَا يُقَصُّ: قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ وَلَيْسَ هُوَ مَصْدَرًا، وَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَذَلِكَ تَسَامُحٌ مِنْ تَسَامُحِ الْأَقْدَمِينَ، فَالْقَصُّ بِالْإِدْغَامِ مَصْدَرٌ، وَالْقَصَصُ بِالْفَكِّ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ وَاسْمٌ لِلْخَبَرِ الْمَقْصُوصِ. وَقَوْلُهُ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ تَأْكِيدٌ لِحَقِّيَّةِ هَذَا الْقَصَصِ. وَدَخَلَتْ مِنَ الزَّائِدَةُ بَعْدَ حرف نفي تَنْصِيصًا على قصد النَّفْي الْجِنْسِ لِتَدُلَّ الْجُمْلَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ بِالصَّرَاحَةِ، وَدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْوَحْدَةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَيُوهِمُ أَنَّهُ قد يكون إِلَّا هان أَوْ أَكْثَرُ فِي شِقٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا يؤول إِلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ لَكِنْ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِيهِ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فَأَفَادَ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَالْحُكْمِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ الْيَهُودُ وَذَلِكَ ذِلَّةٌ وَعَجْزٌ لَا يَلْتَئِمَانِ مَعَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهٌ وَهُوَ غَيْرُ عَزِيزٍ وَهُوَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّتِهِ عَلَى اعْتِقَادِنَا لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا لِإِنْقَاذِهِ مِنْ أَيْدِي الظَّالِمِينَ. وَجُمْلَةُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقُلْ تَعالَوْا [آل عمرَان: 61] وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ إِذْ نَكَصُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الْمُكَابَرَةَ وَلَمْ يَتَطَلَّبُوا الْحَقَّ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَبَوُا الْمُبَاهَلَةَ قَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَسْلِمُوا» فَأَبَوْا فَقَالَ: «فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ» فَأَبَوْا فَقَالَ لَهُمْ: «فَإِنِّي أَنْبِذُ إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ»

[سورة آل عمران (3) : آية 64]

أَيْ أَتْرُكُ لَكُمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا فَقَالُوا: «مَا لَنَا طَاقَةٌ بِحَرْبِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّا نُصَالِحُكَ عَلَى أَلَّا تَغْزُوَنَا وَلَا تُخِيفَنَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ دِينِنَا (¬1) عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كُلَّ عَامٍ أَلْفَيْ حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَلْفًا فِي صَفَرٍ وَأَلْفًا فِي رَجَبٍ وَثَلَاثِينَ دِرْعًا عَادِيَّةً مِنْ حَدِيدٍ» وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَى طَلَبِ أَمِينٍ وَلَا عَلَى مِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي مَكَثَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَة بَينهم. [64] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 64] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) رُجُوعٌ إِلَى الْمُجَادَلَةِ، بَعْدَ انْقِطَاعِهَا بِالدُّعَاءِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، بَعَثَ عَلَيْهِ الْحِرْصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَإِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ زَيْغِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ عَنْ حَقِيقَةِ إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ بِحُجَّةٍ لَا يَجِدُونَ عَنْهَا موئلا وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى تَخْصِيصِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذِ عَقِيدَةِ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. فَجُمْلَةُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِجُمْلَةِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا [آل عمرَان: 61] لِأَنَّ مَدْلُولَ الْأُولَى احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِضِعْفِ ثِقَتِهِمْ بِأَحَقِّيَّةِ اعْتِقَادِهِمْ. وَمَدْلُولَ هَذِهِ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِصِحَّةِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا النَّصَارَى: لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْمَخْلُوقَ رَبًّا وَعَبَدُوهُ مَعَ اللَّهِ. وَتَعَالَوْا هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي طَلَبِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ وَهُوَ تَمْثِيلٌ: جُعِلَتِ الْكَلِمَةُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهَا بِشِبْهِ الْمَكَانِ الْمُرَادِ الِاجْتِمَاعُ عِنْدَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (تَعَالَوْا) قَرِيبًا. وَالْكَلِمَةُ هُنَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْكَلَامِ الْوَجِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] . ¬

(¬1) أَي بِالْإِكْرَاهِ.

وَ (سَوَاءٌ) هُنَا اسْمُ مَصْدَرِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى قَصْدٍ لَا شَطَطَ فِيهَا، وَهَذَانِ يَكُونَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَكَانٌ سَوَاءٌ وَسِوًى وَسَوًى بِمَعْنَى مُتَوَسِّطٍ قَالَ تَعَالَى: فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِمَعْنَى مَا يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا، لَا يَكُونُ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالٍ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَعَلَى كُلِّ مَعْنًى فَالسَّوَاءُ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ، وُصِفَ بِهِ كَلِمَةٍ، وَهُوَ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَصْدَرِ لَا مُطَابَقَةَ فِيهِ. وأَلَّا نَعْبُدَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ سَوَاءٍ، وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ، فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْجِهَةِ السَّادِسَةِ مِنْ جِهَاتِ قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ مِنْ مُغْنِي اللَّبِيبِ، وَاعْتَرَضَهُ الدَّمَامِينِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَرْدُودٌ مِنْ جِهَةِ مُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ سَوَاء وصف لكلمة وألّا نَعْبُدَ لَوْ جُعِلَ بَدَلًا من سَوَاء ءال إِلَى كَوْنِهِ فِي قُوَّة الْوَصْف لكلمة وَلَا يَحْسُنُ وَصْفُ كَلِمَةٍ بِهِ. وَضَمِيرُ بَيْنَنَا عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ: وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ إِلَى آخِرِهِ، التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ كُلِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا جِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ بَعْدَ نُهُوضِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ غَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَالْمَقَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ صَالِحٌ لِاقْتِلَاعِ حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ، فَصَارَ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ نَادِرَ الْوُقُوعِ مَفْرُوضًا، وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ صَارُوا بِحَيْثُ يُؤْيَسُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَأَمْسِكُوا أَنْتُمْ بِإِسْلَامِكُمْ، وَأَشْهِدُوهُمْ أَنَّكُمْ عَلَى إِسْلَامِكُمْ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِشْهَادِ التَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُظْهِرُوا إِعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي صُورَةِ الْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَحَقِّيَّةِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهَذَا مَعْنَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بِأَنا مُسلمُونَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 إلى 66]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 65 إِلَى 66] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ دُعَائِهِمْ لِكَلِمَةِ الْحَقِّ الْجَامِعَةِ لِحَقِّ الدِّينِ، إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مُحَاجَّتَهُمُ الْبَاطِلَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَعَمَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ تَوَصُّلًا إِلَى أَنَّ الَّذِي خَالَفَ دِينَهُمْ لَا يَكُونُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يَدَّعِي النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُحَاجَّةُ فَرْعٌ عَنِ الْمُخَالَفَةِ فِي الدَّعْوَى. وَهَذِهِ المحاجة على طَرِيقِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ فِي النَّفْيِ، أَو فِي مُحَاجَّتُهُمُ النَّبِيءَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، مُحَاجَّةٌ يَقْصِدُونَ مِنْهَا إِبْطَالَ مُسَاوَاةِ دِينِهِ لِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ فِي النَّفْيِ أَيْضًا. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الرَّسُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا أَيْ قُلْ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْنَافُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِبَ أَمْرِهِ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ تَعالَوْا فَيَكُونَ تَوْجِيهَ خِطَابٍ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مُبَاشَرَةً، وَيَكُونَ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ مَقُولِ الرَّسُولِ دُونَ هَذِهِ لِأَنَّ الأولى من شؤون الدَّعْوَةِ، وَهَذِهِ من طرق المجاحّة، وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الدَّعْوَةِ. وَالْكُلُّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ نَشَأَتْ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: 64] لِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي مَكَّةَ، وَبَعْدَهَا أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَكَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [] : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَسَيَجِيءُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا وَأُعْلِنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّة، وَبني الْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ، وَبَيْنَ النَّصَارَى فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَرَثَةُ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ

عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمُ ادِّعَاءً قَدِيمًا أَمْ كَانُوا قَدْ تَفَطَّنُوا إِلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَيْقَظُوا لِتَقْلِيدِهِ فِي ذَلِكَ، أَمْ كَانُوا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِفْحَامِ لِلرَّسُولِ حِينَ حَاجَّهُمْ بأنّ دينه هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَام فألجؤوه إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ مُخْرِجَةٍ عَنِ اتِّبَاعِهِ، فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ فِي دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُخْرِجَةً عَنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ تَابِعًا لِدِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا انْتَحَلُوهُ لِبَثِّ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِهِ بَين الْعَرَب، وَلَا سِيمَا النَّصْرَانِيَّةَ، فَإِنَّ دُعَاتَهَا كَانُوا يُحَاوِلُونَ انْتِشَارَهَا بَيْنَ الْعَرَبِ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا يَرُوجُ عِنْدَهُمْ سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتُّبِعَتْ فِي بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَهُنَالِكَ أَخْبَارٌ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ تُثِيرُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ: فَرُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ: «عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ- قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- قَالُوا: فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ» فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمُخَاطَبُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ النَّصَارَى كَالْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَرُوِيَ: أَنَّهُ تَنَازَعَتِ الْيَهُودُ وَنَصَارَى نَجْرَانَ بِالْمَدِينَةِ، عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، مِنْ يَهُودَ وَنَصَارَى. وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الْمُخَاطَبِينَ هُوَ الدَّاعِي لِتَكْرِيرِ الْخِطَابِ. وَقَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَنْعًا لِقَوْلِهِمْ: فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَتَفْصِيلُ هَذَا الْمَنْعِ: إِنَّكُمْ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِمَعْرِفَةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ زَادَ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّكُمْ لَا مُسْتَنَدَ لكم فِي علمكُم بِأُمُورِ الدِّينِ إِلَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَهُمَا قَدْ نَزَلَا مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ مَا كَانَتْ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى يُعْلَمَ الْمَزِيدُ عَلَيْهَا، وَذِكْرُ التَّوْرَاةِ عَلَى هَذَا لِأَنَّهَا أَصْلُ الْإِنْجِيلِ. وَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ نَفْيًا لِدَعْوَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، بِأَنَّ دِينَ الْيَهُودِ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَدِينَ النَّصَارَى هُوَ الْإِنْجِيلُ، وَكِلَاهُمَا نَزَلَ

بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ شَرِيعَةً لَهُ. قَالَ الْفَخْرُ: يَعْنِي وَلَمْ يُصَرَّحْ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ بِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى هَذَا نَشْرٌ بَعْدَ اللَّفِّ: لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ شَمِلَ الْفَرِيقَيْنِ، فَذِكْرُ التَّوْرَاةِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَذِكْرُ الْإِنْجِيلِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هُنَا لِقَصْدِ جَمْعِ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّخْطِئَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُود بادىء ذِي بَدْءٍ هُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ مَسَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَأْلِيفِ الْمُحَاجَّةِ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ وَقَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَيُبْطِلُ بِذَلِكَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ فِي الدِّينِ مُنْحَصِرٌ فِيهِمَا، وَهُمَا نَزَلَا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَا عَيْنَ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ زَادَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ انْتِسَابِ الْإِسْلَامِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَانْتِسَابِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِلَيْهِ، فَلَا يَقُولُونَ وَكَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْبَأَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا بِالْإِسْلَامِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْبِقْ أَنِ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَنْبَأَ بِذَلِكَ أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْتَحِلُوا هَذِهِ الْمَزِيَّةَ، وَاسْتَيْقَظْتُمْ لِذَلِكَ حَسَدًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَنَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ فِي أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَجِيءَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لَنَا وَلَكُمْ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْلَا انْتِظَامُ الدَّلِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَانَ مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْغَلَطِ.

وَقَدْ أَعْرَضَ فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ عَنْ إِبْطَالِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ صِحَّةِ النَّظَرِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ زِيَادَةِ الْفُرُوعِ، وَاتِّحَادِ الْأُصُولِ، وَأَنَّ مُسَاوَاةَ الدِّينَيْنِ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى اتِّحَادِ أُصُولِهِمَا سَنُبَيِّنُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا فَاكْتُفِيَ فِي الْمُحَاجَّةِ بِإِبْطَالِ مُسْتَنَدِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: «فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْعِ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: 67] عَلَى طَرِيقَةِ الدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْمُعْتَرِضِ كَافٍ فِي اتِّجَاهِ دَعْوَى الْمُسْتَدلّ. وَقَوله: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَا أَنْتُمْ بِإِثْبَاتِ أَلْفِ هَا وَبِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ، وَقَرَأَهُ قَالُونُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَتَسْهِيلِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَبِتَسْهِيلِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ وَبِإِبْدَالِهَا أَلِفًا أَيْضًا مَعَ الْمَدِّ، وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ دُونَ أَلِفٍ. وَوَقَعَتْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ فَيَكُونُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ سَبَبَ الْمُحَاجَّةِ فَمَا صَدَّقَ (مَا) عِلَّةٌ مِنَ الْعِلَلِ مَجْهُولَةٌ أَي سَبَب للمحاجّة مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ، فَلَا يُعْلَمُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الإنكاري، وَلَيْسَ عَيْنَيْهِ. وَحُذِفَتْ أَلِفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهَا إِذَا وَقَعَتْ مَجْرُورَةً بِحَرْفٍ نَحْوَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] وَقَوْلِ ابْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: عَلَامَ تَقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي وَالْأَلِفَاتُ الَّتِي تُكْتَبُ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ عَلَى صُورَةِ الْيَاءِ. إِذَا جُرَّ بِوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ (مَا) هَذِهِ يَكْتُبُونَ الْأَلِفَاتِ عَلَى صُورَةِ الْأَلِفِ: لِأَنَّ مَا صَارَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَتْ جُزْءَ الْكَلِمَةِ فَصَارَتِ الْأَلِفَاتُ كَالَّتِي فِي أَوَاسِطِ الْكَلِمَاتِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 67]

وَقَوْلُهُ: فِي إِبْراهِيمَ مَعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هُنَا دِينُهُ، فَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ، وَالْمُرَادُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ يَتَعَيَّنُ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [173] . وَ (هَا) من قَوْله: هَا أَنْتُمْ تَنْبِيهٌ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْتُمْ حَاجَجْتُمْ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي مَحل التَّعَجُّب والنكير وَالتَّنْبِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يُؤَكَّدُ غَالِبًا بِاسْمِ إِشَارَةٍ بعده فَيُقَال هَا أَنا ذَا، وَهَا أَنْتُم أُولَاءِ أَوْ هَؤُلَاءِ. وحاجَجْتُمْ خَبَرُ أَنْتُمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ حَاجَجْتُمْ حَالًا هِيَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِيهِ إِنْكَارِيٌّ، فَمَعْنَاهُ: فَلَا تُحَاجُّونَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مِثْلِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمرَان: 119] . وَقَوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَكْمِيلٌ لِلْحُجَّةِ أَيْ أَنَّ الْقُرْآن الَّذِي هومن عِنْدِ اللَّهِ أَثْبَتَ أَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَهْتَدُوا لِذَلِكَ لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [140] : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. [67] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 67] مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) نَتِيجَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ إِذْ قَدْ تَحَصْحَصَ مِنَ الْحُجَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ غَيْرُ الْحَنِيفِيَّةِ، وَأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لَمْ يُخْبِرَا بِأَنَّهُمَا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، فَأَنْتَجَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى حَالِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ إِذْ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَهَذَا سَنَدُهُ خُلُوُّ كُتُبِهِمْ عَنِ ادِّعَاءِ ذَلِكَ. وَكَيْفَ تَكُونُ الْيَهُودِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مَعَ خلوّها عَن فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِذِكْرِ فَرْضِهِ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ أَهْلُ الْمِلَلِ: «قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ» فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: فَحُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْزَلَ

اللَّهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: 97] الْآيَةَ فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَقَعَدَ الْكُفَّارُ» . ثُمَّ تَمَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَبْطَلَتْ دَعَاوَى الْفِرَقِ الثَّلَاثِ. وَالْحَنِيفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [135] . وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَفَادَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ نَفْيِ الضِّدِّ حَصْرًا لِحَالِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا يُوَافِقُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ حَنِيفًا بِقَوْلِهِ: مُسْلِماً لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ، وَقَالَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَنَفَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُوَافَقَةَ الْيَهُودِيَّةِ،. وَمُوَافَقَةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمُوَافَقَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَثَبَتَتْ مُوَافَقَتُهُ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [135] فِي مَوَاضِعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَأَنَّهُ كَانَ حَنِيفًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي كَانَ جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْقِي شَكًّا فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ إِسْلَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] الْأُصُولَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ مَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلْنَفْرِضْهَا فِي مَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: 79] فَقَدْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَعْلَنَهُ إِعْلَانًا لَمْ يَتْرُكْ لِلشِّرْكِ مَسْلَكًا إِلَى نُفُوسِ الْغَافِلِينَ، وَأَقَامَ هَيْكَلًا وَهُوَ الْكَعْبَةُ، أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ،- وَفَرَضَ حَجَّهُ عَلَى النَّاسِ: ارْتِبَاطًا بِمَغْزَاهُ، وَأَعْلَنَ تَمَامَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً [الْأَنْعَام: 80] وَأَخْلَصَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الْأَنْعَام: 81] وَتَطَلَّبَ الْهُدَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَة: 128]- وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 128] وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً [الْأَنْبِيَاء: 58] ، وَأَظْهَرَ الِانْقِطَاعَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشُّعَرَاء: 78- 81] ، وَتَصَدَّى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِفَاتِ اللَّهِ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 258]- وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَام: 83]- وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: 80] .

[سورة آل عمران (3) : آية 68]

وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَيْأَسَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَحَتَّى لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْقَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَكِنْ حَنِيفًا مُسْلِمًا) قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، حَيْثُ كَانَ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنهم على ملّلا إِبْرَاهِيمَ لكِنهمْ مشركون. [68] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 68] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) اسْتِئْنَاف ناشيء عَنْ نَفْيِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَلَيْسَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى وَلَا الْمُشْرِكُونَ بِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِدِينِكُمْ. وَ (أَوْلَى) اسْمُ تَفْضِيلٍ أَيْ أَشَدُّ وَلْيًا أَيْ قُرْبًا مُشْتَقٌّ مِنْ وَلِيَ إِذَا صَارَ وَلِيًّا، وَعُدِّيَ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِاتِّصَالِ أَيْ أَخَصُّ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ أَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى أَجْدَرَ فَيَضْطَرُّ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: بِإِبْراهِيمَ أَيْ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا إِبْرَاهِيمَ هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي حَيَاتِهِ: مِثْلَ لُوطٍ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمُحَاوَلَةِ الَّذِينَ حَاوَلُوا اتِّبَاعَ الْحَنِيفِيَّةِ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا، مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ ابْن أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِيهِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِي قَيْسٍ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، أَنْ يُسْلِمَ» وَهُوَ لَمْ يُدْرِكِ الْإِسْلَامَ فَالْمَعْنَى كَادَ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ عَلَى دِينِكَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّك لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، قَالَ زَيْدٌ: أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَا أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى دِينٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا

نَصْرَانِيّا وَكَانَ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَقَاوَلَهُ مِثْلَ مُقَاوَلَةِ الْيَهُودِيِّ، غَيْرَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ قَالَ: أَنْ تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدِ اتَّفَقَا لَهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَزَلْ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي عَلَى دين إِبْرَاهِيم وَهَذَا أُمْنِيَّةٌ مِنْهُ لَا تُصَادِفُ الْوَاقِعَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي» وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلَ بَلْدَحٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ كَمَا تَفْعَلُ قُرَيْشٌ. وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ أنبت لَهَا مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: وَهذَا النَّبِيُّ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْمُشْتَهِرِ بِوَصْفٍ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ» فَالْإِشَارَةُ اسْتُعْمِلَتْ فِي اسْتِحْضَارِ الدَّوَابِّ الْمَعْرُوفَةِ بِالتَّسَاقُطِ عَلَى النَّارِ عِنْدَ وَقُودِهَا، وَالنَّبِيءُ لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ، حِينَئِذٍ، وَلَا قُصِدَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَاتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي حُضُورِ التَّكَلُّمِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ النَّبِيءِ هُوَ النَّاطِقَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: «نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ» أَيْ وَالْمُتَكَلِّمُ الَّذِي تَحْمِلِينَهُ. وَالِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، بَدَلًا مِنْهُ، هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ جِهَةَ الْإِشَارَةِ مَا هِيَ. وَعُطِفَ النَّبِيءُ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا إِبْرَاهِيمَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُتَابَعَتَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَتْ مُتَابَعَةً عَامَّةً فَكَوْنُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهَا فِي أُصُولِهَا. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ. فَالْمَقْصُودُ مَعْنَاهُ اللَّقَبِيُّ، فَإِنَّ وَصْفَ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ لَقَبًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ خِطَابُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ، مِثْلَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، أَنَّهُمْ قَدْ تَخَلَّقُوا بِأُصُولِ شَرْعِهِ، وَعَرَفُوا قَدْرَهُ، وَكَانُوا لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ دَائِبًا بِذِكْرِهِ،

[سورة آل عمران (3) : آية 69]

فَهَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنِ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا أُصُولَ شَرْعِهِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَمِنَ الَّذِينَ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ وَأُنْسُوا ذِكْرَ شَرْعِهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا سَأَلَ عَنْ صَوْمِ الْيَهُودِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى فَقَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ» وَصَامَهُ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِصَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ أَيْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ إِبْرَاهِيمَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهَذَا النَّبِيءُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يَشْمَلُ الْمُذَيَّلَ قَطْعًا، ثُمَّ يَشْمَلُ غَيْرَهُ تَكْمِيلًا كَالْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا [آل عمرَان: 67] تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ مِنْهُمْ لَيْسُوا بمؤمنين. [69] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 69] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) اسْتِئْنَافٌ مُنَاسَبَتُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ- إِلَى قَوْله- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ [آل عمرَان: 64- 68] إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ عبّر عَنْهُم بطَائفَة مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانَت المحاجة مَعَهُمُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، دَعَوْا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ. وَجُمْلَةُ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَدَّتْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل. فَلَو شَرْطِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي مَجَازًا لِأَنَّ التَّمَنِّيَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ الِامْتِنَاعِيِّ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ وَدَّتْ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ لَحَصَلَ مَوْدُودُهُمْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّمَنِّيَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ لَوِ الِامْتِنَاعِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَقَامَاتِ. وَلَيْسَ هُوَ مَعْنًى أَصْلِيًّا مِنْ مَعَانِي لَوْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 70 إلى 71]

وَقَوْلُهُ: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أَيْ وَدُّوا إِضْلَالَكُمْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ وَدُّوا أَنْ يَجْعَلُوهُمْ عَلَى غَيْرِ هُدًى فِي نَظَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَيْ يُذَبْذِبُوهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِضْلَالُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ وِدُّ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يُهَوِّدُوهُمْ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُمْ إِذَا أَضَلُّوا النَّاسَ فَقَدْ صَارُوا هُمْ أَيْضًا ضَالِّينَ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ ضَلَالٌ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ ضَالِّينَ بِرِضَاهُمْ بِالْبَقَاءِ عَلَى دِينٍ مَنْسُوخٍ وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ يُنَاسِبُ الِاحْتِمَالَيْنِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بالحالتين دَقِيق. [70، 71] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 70 إِلَى 71] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) الْتِفَاتٌ إِلَى خِطَابِ الْيَهُودِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالْآيَاتُ: الْمُعْجِزَاتُ، وَلِذَلِكَ قَالَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. وَإِعَادَةُ نِدَائِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ ثَانِيَةً لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَتَسْجِيلِ بَاطِلِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَلَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ تَلْبِيسُ دِينِهِمْ بِمَا أَدْخَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْخُرَافَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، حَتَّى ارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ بِجَمِيعِهِ. وَكِتْمَانُ الْحَقِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كِتْمَانُهُمْ تَصْدِيقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَمَاتُوهَا وَعَوَّضُوهَا بِأَعْمَالِ أَحْبَارِهِمْ وَآثَارِ تَأْوِيلَاتِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا. [72- 74] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 72 الى 74] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. عَطْفٌ عَلَى وَدَّتْ طائِفَةٌ [آل عمرَان: 69] . فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى حَاوَلَتِ الْإِضْلَالَ بِالْمُجَاهَرَةِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ حَاوَلَتْهُ بِالْمُخَادَعَةِ: قِيلَ أُشِيرَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ،

وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، أَغْوَاهُمُ الْعُجْبُ بِدِينِهِمْ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُكَابَرَةِ دَبَّرُوا لِلْكَيْدِ مَكِيدَةً أُخْرَى، فَقَالُوا لِطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ: «آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ مُظْهِرِينَ أَنَّكُمْ صَدَّقْتُمُوهُ ثُمَّ اكْفُرُوا آخِرَ النَّهَارِ لِيَظْهَرَ أَنَّكُمْ كَفَرْتُمْ بِهِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ فَيَقُولَ الْمُسْلِمُونَ مَا صَرَفَ هَؤُلَاءِ عَنَّا إِلَّا مَا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدِّينَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ» فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ الْحِكَايَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ قَالُوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ فَحَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا تَنْوِيهًا بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ أَطْلَقُوا هَذِهِ الصِّلَةَ عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ إِذْ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَوجه النَّهَارِ أَوَّلُهُ وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [آل عمرَان: 45] . وَقَوْلُهُ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدُوا بِهِ الِاحْتِرَاسَ أَلَّا يَظُنُّوا مِنْ قَوْلِهِمْ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ أَنَّهُ إِيمَانٌ حَقٌّ، فَالْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقًّا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَا تُؤْمِنُوا بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ دِينَكُمْ فَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ. وَهَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ إِلْزَامِهِمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ بَشَّرَتْ بِمَجِيءِ رَسُولٍ مُقَفٍّ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَا يَجِيءُ إِلَّا بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَضَلُّوا عَنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي مَجِيئِهِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ تَحْصِيل الْحَاصِل، فينزّه فِعْلُ اللَّهِ عَنْهُ، فَالرَّسُولُ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ مُوسَى لَا يَكُونُ إِلَّا نَاسِخًا لِبَعْضِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَجَمْعُهُمْ بَيْنَ مَقَالَةِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ مَقَالَةِ: وَلا تُؤْمِنُوا مِثْلَ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الْأَنْفَال: 17] . وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ، أُمِرَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِبْعَادِ حُصُولِ اهْتِدَائِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِهِمْ، لِأَنَّ هُدَى غَيْرِهِ أَيْ مُحَاوَلَتَهُ هُدَى النَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ، إِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ. فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ: لِأَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ فَهُوَ صُورَةُ الْهُدَى وَلَيْسَ بِهُدًى وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ:

آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ- وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، إِذْ أَرَادُوا صُورَةَ الْإِيمَانِ، وَمَا هُوَ بِإِيمَانٍ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ إِظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ. أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ. أَشْكَلَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ سَابِقَتِهَا وَصْفَ نَظْمِهَا، وَمَصْرِفَ مَعْنَاهَا: إِلَى أَيِّ فَرِيقٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهَا أَشْكَلُ آيَةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وُجُوهًا ثَمَانِيَةً. تَرْجِعُ إِلَى احْتِمَالَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ. الِاحْتِمَالُ الأول أَنَّهَا تكلمة لِمُحَاوَرَةِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَنَّ جُمْلَةَ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْحِوَارِ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَأْتِي وُجُوهٌ نَقْتَصِرُ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ وَاضِحَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَعْلِيلَ قَوْلِهِمْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ عَلَى أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِرَادَتَهُمُ اسْتِحَالَةَ نَسْخِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَاسْتِحَالَةَ بَعْثَةِ رَسُولٍ بَعْدَ مُوسَى، وَأَنَّهُ يُقَدَّرُ لَامُ تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٌ قَبْلَ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ حَذْفٌ شَائِعٌ مِثْلُهُ. ثُمَّ إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ حَرْفُ نَفْيٍ بَعْدَ (أَنْ) يدل عَلَيْهِ هَذَا السِّيَاقُ وَيَقْتَضِيهِ لَفْظُ (أَحَدٌ) الْمُرَادُ مِنْهُ شُمُولُ كُلِّ أَحَدٍ: لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ مُرَادًا مِنْهُ الشُّمُولُ إِلَّا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَمَا فِي مَعْنَى النَّفْيِ مِثْلَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، فَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ (أَحَدٌ) فِي الْكَلَامِ الْمُوجِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ بِالْوَحْدَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَاسِبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لِأَن لَا يوتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَحَذْفُ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ، ظَاهِرَةً وَمُقَدَّرَةً، كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: 176] ، أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ قَصْدَهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَثْبِيتُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى مُلَازَمَةِ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يُجَوِّزُونَ نَسْخَ أَحْكَامِ اللَّهِ، وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ النَّسْخَ يَقْتَضِي الْبَدَاءَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَرَادُوا إِنْكَار أَن يوتى أحد النبوءة كَمَا أُوتِيَهَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ قَوْلَهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ بِهَمْزَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَحَرْفُ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّقْسِيمِ مِثْلَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: 24] (أَوْ) مَعْطُوفٌ عَلَى النَّفْيِ، أَوْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ: عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرَيْنِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ- أَو- وَكَيف يحاجونكم عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وواو الْجَمْعِ فِي يُحاجُّوكُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (أَحَدٌ) لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْإِنْكَارِ. وَفَائِدَةُ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِمُ الْمُبَادَرَةُ بِمَا يُفِيدُ ضَلَالَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِمَّا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ بَقِيَّةً لِقَوْلِهِ: «إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ» . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ- وَقَوْلِهِمْ- وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَيْ قُلْتُمْ ذَلِكَ حَسَدًا مِنْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَقَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، أَيْ مُرَادُكُمُ التَّنَصُّلُ مِنْ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَمَعْتُمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِمَا آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُمُ الْفَوْزُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُحَاجُّونَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِأَنَّكُمْ كَافِرُونَ، وَإِذَا كَانَ الْفَوْزُ لَكُمْ كُنْتُمْ قَدْ أَخَذْتُمْ بِالْحَزْمِ إِذْ لَمْ تُبْطِلُوا دِينَ الْيَهُودِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَوَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ نَظْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، لِيَكُونَ لِكُلِّ كَلَامٍ حُكِيَ عَنْهُمْ تَلْقِينُ جَوَابٍ عَنْهُ: فَجَوَابُ قَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. وَجَوَابُ قَوْلِهِمْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَخْ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ

إِلَخْ. فَهَذَا مِلَاكُ الْوُجُوهِ، وَلَا نُطِيلُ بِاسْتِيعَابِهَا إِذْ لَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ. وَكَلِمَةُ أَحَدٌ اسْمُ نَكِرَةٍ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهَا شَخْصٌ أَوْ إِنْسَانٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ عَرِيبٍ وَدِيَارٍ وَنَحْوِهِمَا وَنَدَرَ وُقُوعُهُ فِي حَيِّزِ الْإِيجَابِ، وَهَمْزَتُهُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ وَأَصْلُهُ وَحَدَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَرِدُ وَصْفًا بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ جُزْءٌ مِنْ حَرْفِ (أَنْ) . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ أُولَاهُمَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ وَالثَّانِيَةُ جُزْءٌ مِنْ حَرْفِ (أَنْ) وَسَهَّلَ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) . زِيَادَةُ تَذْكِيرٍ لَهُمْ وَإِبْطَالٌ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ عَلَى طَرْحِ الْحَسَدِ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كَمَا أَعْطَى اللَّهُ الرِّسَالَةَ مُوسَى كَذَلِكَ أَعْطَاهَا مُحَمَّدًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: 54] . وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَمَنْ يَحْسَبُ أَنَّ الْفَضْلَ تَبَعٌ لِشَهَوَاتِهِمْ وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الْفَضْلَ بيد الله إِلَخ أَي أنّ الْفضل بِيَدِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِنَوَالِ فَضْلِهِ. وواسِعٌ اسْمُ فَاعِلِ الْمَوْصُوفِ بِالسِّعَةِ. وَحَقِيقَةُ السِّعَةِ امْتِدَادُ فَضَاءِ الْحَيِّزِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ ظَرْفٍ امْتِدَادًا يَكْفِي لِإِيوَاءِ مَا يَحْوِيهِ ذَلِكَ الْحَيِّزُ بِدُونِ تَزَاحُمٍ وَلَا تَدَاخُلٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَحْوِيِّ، يُقَالُ أَرْضٌ وَاسِعَةٌ وَإِنَاءٌ

وَاسِعٌ وَثَوْبٌ وَاسِعٌ، وَيُطْلَقُ الِاتِّسَاعُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ عَلَى وَفَاءِ شَيْءٍ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ نَوْعُهُ دُونَ مَشَقَّةٍ يُقَالُ: فُلَانٌ وَاسِعُ الْبَالِ، وَوَاسِعُ الصَّدْرِ، وَوَاسِعُ الْعَطَاءِ. وَوَاسِعُ الْخُلُقِ، فَتَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ أَوْ كَثْرَةِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ أَوْ يُوصَفُ بِهِ أَو يعلق بِهِ مِنْ أَشْيَاءَ وَمَعَانٍ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى ثَانِيًا. وواسِعٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْمِ عَدَمُ تَنَاهِي التَّعَلُّقَاتِ لِصِفَاتِهِ ذَاتِ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَاسِعُ الْعِلْمِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَاسِعُ الْعَطَاءِ، فَسِعَةُ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنَّهَا لَا حَدَّ لِتَعَلُّقَاتِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِوَصْفِ وَاسِعٍ، لِأَنَّهُ الْوَاسِعُ الْمُطْلَقُ. وَإِسْنَادُ وَصْفِ وَاسِعٍ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مجازي أَيْضا لأنّ الْوَاسِعُ صِفَاتُهُ وَلِذَلِكَ يُؤْتَى بَعْدَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فِعْلِ السِّعَةِ بِمَا يُمَيِّزُ جِهَةَ السِّعَةِ مِنْ تَمْيِيزٍ نَحْوَ: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا. فَوَصْفُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ وَاسِعٌ هُوَ سِعَةُ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ وَقَعَ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَأَحْسَبُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِصِفَةِ وَاسِعٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: عَلِيمٌ صفة ثَانِيَة بِقُوَّة عِلْمِهِ أَيْ كَثْرَةِ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى. وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ هُنَا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُؤْتِيَهُ فَضْلَهُ وَيَدُلَّ عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ مَا يَظْهَرُ مِنْ آثَارِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ مَتَى ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ فَضَائِلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: 124] . وَجُمْلَةُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِجُمْلَةِ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بَعْضٌ مِمَّا هُوَ فَضْلُهُ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [105] .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 76]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 75 إِلَى 76] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [آل عمرَان: 72] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمرَان: 69] عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْمُنَاسَبَةُ بَيَانُ دَخَائِلِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ النَّاشِئَةِ عَنْ حَسَدِهِمْ وَفِي انْحِرَافِهِمْ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَقَدْ حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خِيَانَةَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الله هُنَا أنّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ تَعَفُّفًا عَنِ الْخِيَانَةِ وَفَرِيقًا لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ مُتَعَلِّلِينَ لِإِبَاحَةِ الْخِيَانَةِ فِي دِينِهِمْ، قِيلَ: وَمِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَمِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَكِلَاهُمَا مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ ذَمُّ الْفَرِيقِ الثَّانِي إِذْ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ إِبَاحَةُ الْخَوْنِ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَخْ وَلِذَلِكَ طَوَّلَ الْكَلَامَ فِيهِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ إِنْصَافًا لِحَقِّ هَذَا الْفَرِيقِ، لِأَنَّ الْإِنْصَافَ مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِ الْإِسْلَام، وَإِذ كَانَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ دِينَهُمْ يُبِيحُ لَهُمْ خِيَانَةَ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ صَارَ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِهَذَا الْقَوْلِ لَازِمًا لِجَمِيعِهِمْ أِمِينِهِمْ وَخَائِنِهِمْ، لِأَنَّ الْأَمِينَ حِينَئِذٍ لَا مَزِيَّةَ لَهُ إِلَّا فِي أَنَّهُ تَرَكَ حَقًّا يُبِيحُ لَهُ دِينُهُ أَخْذَهُ، فَتَرَفَّعَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَتَرَفَّعُ الْمُتَغَالِي فِي الْمُرُوءَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ مَضْمُونِ صِلَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا: فَفِي الْأَوَّلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ قُوَّةِ الْأَمَانَةِ، مَعَ إِمْكَانِ الْخِيَانَةِ وَوُجُودِ الْعُذْرِ لَهُ فِي عَادَةِ أَهْلِ دِينِهِ، وَفِي الثَّانِي لِلتَّعْجِيبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَوْنُ خُلُقًا لِمُتَّبِعِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ يَزِيدُ التَّعْجِيبُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا فَيُكْسِبُ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِمَا زِيَادَةَ عَجَبِ حَالٍ.

وَعُدِّيَ تَأْمَنْهُ بِالْبَاءِ مَعَ أَنَّ مِثْلَهُ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ [يُوسُف: 64] ، لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى تُعَامِلُهُ بِقِنْطَارٍ لِيَشْمَلَ الْأَمَانَةَ بِالْوَدِيعَةِ، وَالْأَمَانَةَ بِالْمُعَامَلَةِ عَلَى الِاسْتِيمَانِ، وَقِيلَ الْبَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ أَوْ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ وَهُوَ مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْبَيْتِ لِلظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: 24] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ يُؤَدِّهِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الضَّمَائِرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِإِسْكَانِ هَاءِ الضَّمِيرِ فِي يُؤَدِّهِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا الْإِسْكَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْهَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْزَمَ وَإِذَا لَمْ تُجْزَمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُكْسَرَ فِي الْوَصْلِ (هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَزْمَ الْجَوَابِ لَا يَظْهَرُ عَلَى هَاءِ الضَّمِيرِ بَلْ عَلَى آخِرِ حَرْفٍ مِنَ الْفِعْلِ وَلَا يَجُوزُ تَسْكِينُهَا فِي الْوَصْلِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ الَّتِي سَكَّنُوا فِيهَا الْهَاءَ) . وَقِيلَ هُوَ إِجْرَاءٌ لِلْوَصْلِ مُجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَأُرَاهُ كَانَ يَخْتَلِسُ الْكَسْرَ فَغَلَطَ عَلَيْهِ مَنْ نَقَلَهُ وَكَلَامُ الزَّجَّاجُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ رَاعَى فِيهِ الْمَشْهُورَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمَقِيسِ، وَاللُّغَةُ أَوْسَعُ من ذَلِك، وَالْقِرَاءَة حُجَّةٌ. وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ بِاخْتِلَاسِ الْكَسْرِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّ مَذْهَبَ بَعْضِ الْعَرَبِ يَجْزِمُونَ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا يَقُولُونَ ضَرَبْتُهْ كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيمَ أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ وَأَصْلُهُ الرَّفْعُ وَهَذَا كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: لَمَّا رَأَى أَلَّا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ ... مَالَ إِلَى أَرْطَاةِ حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ وَالْقِنْطَارُ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمرَان: 14] . وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْمَسْكُوكِ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي وَزْنُهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنَ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطِ وَهُوَ مُعَرَّبُ دِنَّارٍ مِنَ الرُّومِيَّةِ. وَقَدْ جُعِلَ الْقِنْطَارُ وَالدِّينَارُ مَثَلَيْنِ لِلْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مَا يُفِيدُهُ الْفَحْوَى مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا هُوَ دُونَ الْقِنْطَارِ، وَوُقُوعِ الْخِيَانَةِ فِيمَا هُوَ فَوْقَ الدِّينَارِ.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أُطْلِقَ الْقِيَامَ هُنَا عَلَى الْحِرْصِ وَالْمُوَاظَبَةِ: كَقَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمرَان: 18] أَيْ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْعَدْلَ. وَعُدِّيَ «قَائِمًا» بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْقِيَامَ مَجَازٌ عَلَى الْإِلْحَاحِ وَالتَّرْدَادِ فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ قَرِينَةٌ وَتَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ يَصِيرُ الْفِعْلُ بَعْدَهُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُقَدَّرَ مَعَهَا اسْمُ زَمَانٍ مُلْتَزَمٍ حَذْفُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَحِينَئِذٍ يُقَالُ مَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ. وَلَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ مَدْلُولَهَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا هِيَ نَائِبَةٌ عَنِ الظَّرْفِ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ مَوْقِعِ (مَا) فِي سِيَاقِ كَلَامٍ يُؤْذِنُ بِالزَّمَانِ، وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي دُخُولِ (مَا) عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَصَرِّفِ مِنْ مَادَّةِ دَامَ وَمُرَادِفِهَا. وَ (مَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى: لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا فِي مُدَّةِ دَوَامِ قِيَامِكَ عَلَيْهِ أَيْ إِلْحَاحِكَ عَلَيْهِ. وَالدَّوَامُ حَقِيقَتُهُ اسْتِمْرَارُ الْفِعْلِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي طُولِ الْمُدَّةِ، لِتَعَذُّرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَ وُجُودِ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى الْعُمْرُ لَمْ يَحْصُلِ الْإِلْحَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنْ أَوْقَاتٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَوْقِعُ (مَا) وَالتَّقْدِيرُ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ إِلَّا زَمَانًا تَدُومُ عَلَيْهِ فِيهِ قَائِمًا فَيَكُونُ مَا بَعْدَ (إِلَّا) نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا مِنْ مَصَادِرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَعْنَى (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ حَالًا. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ قائِماً لِلِاهْتِمَامِ بِمَعْنَى الْمَجْرُورِ، فَفِي تَقْدِيمِهِ مَعْنَى الْإِلْحَاحِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَكُنْ قِيَامُكَ عَلَيْهِ لَا يُرْجِعُ لَكَ أَمَانَتَكَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَإِنَّمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ لِكَمَالِ الْعِنَايَة بتمييزه لَا ختصاصه بِهَذَا الشَّأْنِ الْعَجِيبِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَنْ أَقْوَالٍ اخْتَلَقُوهَا، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَصْدُرُ عَنِ الِاعْتِقَادِ، فَلِذَا نَابَ مَنَابَهُ فَأُطْلِقَ عَلَى الظَّنِّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَرَادُوا بِالْأُمِّيِّينَ مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقَدِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْأُمِّيِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَحَرْفُ (فِي) هُنَا لِلتَّعْلِيلِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّعْلِيلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ (فِي) وَالتَّقْدِيرُ فِي مُعَامَلَةِ الْأُمِّيِّينَ. وَمَعْنَى لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ حُقُوقِهِمْ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ، فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّيِّينَ أَيْ ذَوَاتِهِمْ مُرَادٌ مِنْهُ أَعْلَقُ أَحْوَالِهِمْ بالغرض الَّذِي سبق لَهُ الْكَلَامُ. فَالسَّبِيلُ هُنَا طَرِيقُ الْمُؤَاخَذَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ السَّبِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: 91] وَقَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ [التَّوْبَة: 93] وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ الْعَرَبُ بِالطَّرِيقِ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: وَهَلْ أَنَا إِنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ ... مِنَ السَّرْحِ مَوْجُودٌ عَلَيَّ طَرِيق وقصدهم بذلك أَنْ يُحَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَطَاوَلُوا بِمَا أُوتُوهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ. أَوْ أَرَادُوا الْأُمِّيِّينَ بِمَعْرِفَةِ التَّوْرَاةِ، أَيِ الْجَاهِلِينَ: كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وأيّاما كَانَ فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا عَنْ خُلُقٍ عَجِيبٍ فِيهِمْ، وَهُوَ اسْتِخْفَافُهُمْ بِحُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الدِّينِ، وَاسْتِبَاحَةُ ظُلْمِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْجَاهِلَ أَوِ الْأُمِّيَّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُدْحَضَ حَقُّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا سُوءُ فَهْمِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ أَحْكَامًا فَرَّقَتْ فِيهَا بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْحُقُوقِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤَاسَاةِ وَالْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ: «فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تعْمل إِبْرَاء يبرىء كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. الْأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ» وَجَاءَ فِي «الْإِصْحَاحِ» 23 مِنْهُ: «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ وَلِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا» وَلَكِنْ شَتَّانَ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَبَيْنَ الْمُؤَاسَاةِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا إِنَّمَا كَانَ لِقَصْدِ الْمُؤَاسَاةِ، وَالْمُؤَاسَاةُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ مَعَ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَتِ الْيَهُودُ: الْأَمْوَالُ كُلُّهَا كَانَتْ لَنَا، فَمَا فِي أَيْدِي الْعَرَبِ مِنْهَا فَهُوَ لَنَا، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِ أَمْوَالنَا مِنْهُم. وَهَذَا الْخُلُقَانِ الذَّمِيمَانِ اللَّذَانِ حَكَاهُمَا اللَّهُ عَنِ الْيَهُودِ قَدِ اتَّصَفَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ حُقُوقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَتَأَوَّلُوهَا بِأَنَّهُمْ صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ، فِي حِينِ لَا حَرْبَ وَلَا ضَرْبَ.

[سورة آل عمران (3) : آية 77]

وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الزَّعْمِ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَال أَي يعتمدون الْكَذِبَ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا قَاسُوهُ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِمْ لَيْسَ الْقِيَاسُ فِيهِ بِصَحِيحٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالْكَذِبِ، إِذِ الشُّبْهَةُ الضعيفة كالعهد. و (بلَى) حَرْفُ جَوَابٍ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ فَهُوَ هُنَا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: 75] . و (بلَى) غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَام الْمَنْفِيِّ بَلْ يُجَاب بهَا عِنْد قَصْدِ الْإِبْطَالِ، وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِهَا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْفِيِّ، وَجِيءَ فِي الْجَوَابِ بِحُكْمٍ عَامٍّ لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَغَيْرَهُ: تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى، وَقَصْدًا فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أَيْ لَمْ يَخُنْ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ عَهْدٌ، وَاتَّقى» رَبَّهُ فَلَمْ يَدْحَضْ حق غَيره إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: 13] أَيِ الْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ ضِدِّ الْمَذْكُورِ بِقَرِينَة الْمقَام. [77] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ، وَلِلْحِلْفِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقُرَيْشٍ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ ذِكْرُ الْخُلُقِ الْجَامِعِ لِشَتَاتِ مَسَاوِئِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، دَعَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَدْ جَرَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْيَهُودِ مُفَرَّقَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [40] : أَوْفُوا بِعَهْدِي، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 41] . مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [الْبَقَرَة: 102] . وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ

الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: 174] . فَعَلِمْنَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ تَسْمِيَةِ دِينِهِمْ بِالْعَهْدِ وَبِالْمِيثَاقِ، فِي مَوَاضِعَ، لِأَنَّ مُوسَى عَاهَدَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَبَيَّنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْبَارِ. وَمَعْنَى وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدْ شَاعَ نَفْيُ الْكَلَامِ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَضَبِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْإِقْبَالِ وَالْعِنَايَةِ، وَنَفْيُ النَّظَرِ فِي الْغَضَبِ فَالنَّظَرُ الْمَنْفِيُّ هُنَا نَظَرٌ خَاصٌّ. وَهَاتَانِ الْكِنَايَتَانِ يَجُوزُ مَعَهُمَا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَا يُقْلِعُونَ عَنْ آثَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْ رِقَّةِ الدِّيَانَةِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى لَهُ صَلَاحٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا يُنَمِّيهِمْ أَيْ لَا يُكْثِرُ حُظُوظَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. وَفِي مَجِيءِ هَذَا الْوَعِيدِ، عَقِبَ الصِّلَةِ، وَهِيَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ، إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ شَابَهَهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ حَلَفَ يَمِينًا بَاطِلَةً، وَكُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا يَعْرِفُهُ مِنْ قِصَّةِ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ، فَفِي «الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلْفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ الْآيَةَ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: «مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عبد الرحمان» قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي» فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيِّنَتَكَ أَوْ يَمِينَهُ- قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ الْحَدِيثَ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الْآيَةَ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَاتِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةٍ وَجَبَتْ فِيهَا يَمِينٌ لردّ دَعْوَى:

[سورة آل عمران (3) : آية 78]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) أَيْ مِنَ الْيَهُودِ طَائِفَةٌ تُخَيِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَشْيَاءَ أَنَّهَا مِمَّا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، إِمَّا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ بَعْضِ أَفْعَالِهِمُ الذَّمِيمَةِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَإِمَّا لِلتَّخْلِيطِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُشَكِّكُوهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ، أَوْ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَاللَّيُّ مُجْمَلٌ، وَلَكِنَّهُ مُبَيَّنٌ بِقَوْلِهِ: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَاللَّيُّ فِي الْأَصْلِ: الْإِرَاغَةُ أَيْ إِدَارَةُ الْجِسْمِ غَيْرِ الْمُتَصَلِّبِ إِلَى غَيْرِ الصَّوْبِ الَّذِي هُوَ مُمْتَدٌّ إِلَيْهِ: فَمِنْ ذَلِكَ لَيُّ الْحَبْلِ، وَلَيُّ الْعِنَانِ لِلْفَرَسِ لِإِدَارَتِهِ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ صَوْبِ سَيْرِهِ، وَمِنْهُ لَيُّ الْعُنُقِ، وَلَيُّ الرَّأْسِ بِمَعْنَى الِالْتِفَاتِ الشَّزْرِ والإعراض قَالَ تَعَالَى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المُنَافِقُونَ: 5] . وَاللَّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِمَعْنَى تَحْرِيفِ اللِّسَانِ عَنْ طَرِيقِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ إِلَى طَرِيقِ حَرْفٍ آخَرَ يُقَارِبُهُ لِتُعْطِيَ الْكَلِمَةُ فِي أُذُنِ السَّامِعِ جَرْسَ كَلِمَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ «رَاعِنَا» وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي السَّلَامِ عَلَى النبيء: «السام عَلَيْكُم» أَيِ الْمَوْتُ أَوِ «السِّلَامُ- بِكَسْرِ السِّينِ- عَلَيْكَ» وَهَذَا اللَّيُّ يُشَابِهُ الْإِشْمَامَ وَالِاخْتِلَاسَ وَمِنْهُ إِمَالَةُ الْأَلِفِ إِلَى الْيَاءِ، وَقَدْ تَتَغَيَّرُ الْكَلِمَاتُ بِالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَبِاخْتِلَافِ صِفَاتِ الْحُرُوفِ. وَالظَّاهِرُ أنّ الْكتاب هُوَ التَّوْرَاةُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا إِذا قرؤوا بَعْضَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ نَطَقُوا بِحُرُوفٍ مِنْ كَلِمَاتِهَا بَيْنَ بَيْنَ لِيُوهِمُوا الْمُسْلِمِينَ مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ مَقْدِرَةٌ وَمِرَاسٌ فِي هَذَا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ أَنَّ بَعْضَ الْأَزَارِقَةِ أَعَادَ بَيْتَ عُمَرَ ابْن أَبِي رَبِيعَةَ فِي مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَأَتْ رَجُلًا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصَرُ

فَجَعَلَ يَضْحَى يَحْزَى وَجَعَلَ يَخْصَرُ يَخْسَرُ بِالسِّينِ لِيُشَوِّهَ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ غَضِبَ مِنْ إِقْبَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى سَمَاعِ شِعْرِهِ. وَفِي الأحاجي والألغاز كثير مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ لِلَّاهِي إِلَهًا فَوْقَهُ فَيَقُولُهَا أَحَدٌ بِحَضْرَةِ نَاسٍ وَلَا يُشْبِعُ كَسْرَةَ اللَّاهِي يَخَالُهَا السَّامِعُ لِلَّهِ فَيَظُنُّهُ كَفَرَ. أَوْ لَعَلَّهُم كَانُوا يقرؤون مَا لَيْسَ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْكَيْفِيَّاتِ أَوِ اللُّحُونِ الَّتِي كَانُوا يقرؤون بِهَا التَّوْرَاةَ لِيُخَيِّلُوا للسامعين أَنهم يقرؤون التَّوْرَاةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّيُّ هُنَا مَجَازًا عَنْ صَرْفِ الْمَعْنَى إِلَى مَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِمْ لَوَى الْحُجَّةَ أَيْ أَلْقَى بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهُوَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ: بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَوْضُوعَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى الله، وأياما كَانَ فَهَذَا اللَّيُّ يَقْصِدُونَ مِنْهُ التَّمْوِيهَ عَلَى الْمُسلمين لغَرَض، حكما فَعَلَ ابْنُ صُورِيَّا فِي إِخْفَاءِ حُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي فِي التَّوْرَاةِ وَقَوْلِهِ: نُحَمِّمُ وَجهه. والمخاطب يتحسبوه الْمُسْلِمُونَ دُونَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ظَنِّ الْيَهُودِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي هَاتِهِ الْأَفْعَالِ: يَلْوُونَ، وَيَقُولُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ دَأْبُهُمْ. وَتَكْرِيرُ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ، وَاسْمُ الْجَلَالَةِ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالِاسْمَيْنِ، وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِمَا، وَالْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ الْحَمَاسَةِ فِي بَابِ الْأَدَبِ عِنْدَ قَوْلِ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ: لما رَأَيْتُ الشَّيْبَ لَاحَ بَيَاضُهُ ... بِمَفْرِقِ رَأْسِي قُلْتُ لِلشَّيْبِ مَرْحَبًا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: «قُلْتُ لَهُ مَرْحَبًا لَكِنَّهُمْ يُكَرِّرُونَ الْأَعْلَامَ وَأَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ كَثِيرًا وَالْقَصْدُ بِالتَّكْرِيرِ التَّفْخِيمُ» قُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... قَهَرَ الْمَوْتَ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيل ذَلِك عِنْد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 إلى 80]

وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ يَلْوُونَ: بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ مُضَارِعُ لَوَى، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَهُ: يُلَوُّونَ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ مُضَارِعُ لَوَّى بِوَزْنِ فَعَّلَ لِلْمُبَالِغَةِ وَلَمْ أَرَ نِسْبَةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فِي كتب الْقرَاءَات. [79، 80] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 79 إِلَى 80] مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ: فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَيَّ الْيَهُودِ أَلْسِنَتَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّحْرِيفِ، اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ التَّحْرِيفِ الَّذِي عِنْدَ النَّصَارَى لِمُنَاسَبَةِ التَّشَابُهِ فِي التَّحْرِيفِ إِذْ تَقُولُ النَّصَارَى عَلَى الْمَسِيحِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَالْمُرَادُ بِالْبَشَرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ تَنْزِيهُ عِيسَى عَنْ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، رَدًّا عَلَى النَّصَارَى، فَيَكُونُ رُجُوعًا إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ- إِلَى قَوْلِهِ- بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: 64] . وَفِي «الْكَشَّافِ» قِيلَ نَزَلَتْ لِأَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ. قَالَ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيئَكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ» . قُلْتُ: أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ حَدِيثًا مَقْبُولًا فَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا قصّ مِنْهَا الرَّدُّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَاتِ. وَوَقَعَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ الْيَهُودِيَّ وَالسَّيِّدَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ قَالَا يَا مُحَمَّدُ: «أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِبَشَرٍ نَفْيٌ لِاسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَأَصْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْكَلَامِ مَا كَانَ فُلَانٌ فَاعِلًا كَذَا، فَلَمَّا أُرِيدَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ

عَدَلَ عَنْ نَفْيِ الْفِعْلِ إِلَى نَفْيِ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ، وَجَعَلَ نَفْيَ الْجِنْسِ عَنِ الشَّخْصِ بِوَاسِطَةِ نَفْيِ الِاسْتِحْقَاقِ إِذْ لَا طَرِيقَةَ لِحَمْلِ اسْمِ ذَاتٍ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، فَصَارَ التَّرْكِيبُ: مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَيُقَالُ أَيْضًا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى [طه: 118] . فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَيْسَ قَوْلُ كُونُوا عِباداً لِي حَقًّا لِبَشَرٍ أَيِّ بَشَرٍ كَانَ. وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ أَصْلُ لَامِ الْجُحُود الَّتِي فِي نَحْوَ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [الْأَنْفَال: 33] ، فَتَرَاكِيبُ لَامِ الْجَحُودِ كُلِّهَا مِنْ قَبِيلِ قَلْبِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، بِحَيْثُ يُنْفَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَجْعُولًا لِأَجْلِ فِعْلِ كَذَا، أَيْ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جُحُودًا. وَالْمَنْفِيُّ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِيتَاءُ الْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ، وَلَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ مَصَبَّ النَّفْيِ هُوَ الْمَعْطُوفُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي أَيْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ كُونُوا عِبَادًا لِي إِذَا آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ إِلَخْ. وَالْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ كَالْعَبِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «الَّذِي اسْتَقْرَيْتُ فِي لَفْظِ الْعِبَادِ أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ لَا يُقْصَدُ مَعَهُ التَّحْقِيرُ، وَالْعَبِيدُ يُقْصَدُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: «يَا عِبَادِيَ» وَسَمَّتِ الْعَرَبُ طَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ سَكَنُوا الْحِيرَةَ وَدَخَلُوا تَحْتَ حُكْمِ كِسْرَى بِالْعِبَادِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ تَنَصَّرُوا فَسَمَّوْهُمْ بِالْعِبَادِ، بِخِلَافِ جَمْعِهِ عَلَى عَبِيدٍ كَقَوْلِهِمْ: هُمْ عَبِيدُ الْعَصَا، وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ الْمُطَلِّبِ هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأبي وَمِنْه قَول الله تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] لأنّه مَكَان تَشْفِيقٌ وَإِعْلَامٌ بِقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظَةُ الْعِبَادِ تَقْتَضِي الطَّاعَةَ لَمْ تَقَعْ هُنَا، وَلِذَلِكَ آنَسَ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّظَرِ يُسْلَكُ بِهِ سُبُلُ الْعَجَائِبِ فِي مَيْزَةِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الطَّرِيقَة الْعَرَبيَّة السلبية» . اه. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ قَيْدٌ قُصِدَ مِنْهُ تَشْنِيعُ الْقَوْلِ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلْقَائِلِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْسَلَخُوا عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى إِلَى عُبُودِيَّةِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ لِمَعْبُودِينَ، فَإِنَّ النَّصَارَى لَمَّا جَعَلُوا عِيسَى رَبًّا لَهُمْ، وَجَعَلُوهُ ابْنًا لِلَّهِ، قَدْ لَزِمَهُمْ أَنَّهُمُ انْخَلَعُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ فَلَا جَدْوَى لقَولهم: نَحن عبد اللَّهِ وَعَبِيدُ عِيسَى، فَلِذَلِكَ

جُعِلَتْ مَقَالَتُهُمْ مُقْتَضِيَةً أَنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ دُونِ اللَّهِ، وَالْمعْنَى أنّ لآمر بِأَنْ يَكُونَ النَّاسُ عِبَادًا لَهُ هُوَ آمِرٌ بِانْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أَيْ وَلَكِنْ يَقُول كونُوا ربانيين أَي كُونُوا مَنْسُوبِينَ لِلرَّبِّ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِ الْمَنْسُوبِ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ. وَمعنى ذَلِك أَنْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالرَّبَّانِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا يُقَالُ اللِّحْيَانِيُّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ، وَالشَّعْرَانِيُّ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ. وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أَيْ لِأَنَّ عِلْمَكُمُ الْكِتَابَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَنْ إِشْرَاكِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ اللَّامِ- مُضَارِعُ علم. وقرأه ابْن عَامِرٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ مُضَارِعُ عَلَّمَ الْمُضَاعَفِ. وتَدْرُسُونَ مَعْنَاهُ تَقْرَءُونَ أَيْ قِرَاءَةً بِإِعَادَةٍ وَتَكْرِيرٍ: لِأَنَّ مَادَّةَ دَرَسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَحُومُ حَوْلَ مَعَانِي التَّأَثُّرِ مِنْ تَكَرُّرِ عَمَلٍ يُعْمَلُ فِي أَمْثَاله، فَمِنْهُ قَوْلهم: دَرَسَتِ الرِّيحُ رَسْمَ الدَّارِ إِذَا عَفَتْهُ وَأَبْلَتْهُ، فَهُوَ دَارِسٌ، يُقَالُ مَنْزِلٌ دَارِسٌ، وَالطَّرِيقُ الدَّارِسُ الْعَافِي الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ. وَثَوْبٌ دَارِسٌ خَلَقٌ، وَقَالُوا: دَرَسَ الْكِتَابَ إِذَا قَرَأَهُ بِتَمَهُّلٍ لِحِفْظِهِ، أَوْ لِلتَّدَبُّرِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ إِلَخْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَعَطَفَ التَّدَارُسَ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الدِّرَاسَةَ أَخَصُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَسَمَّوْا بَيْتَ قِرَاءَةِ الْيَهُودِ مِدْرَاسًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى مِدْرَاسَ الْيَهُودِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمُ إِلَخْ. وَمَادَّةُ دَرَسَ تَسْتَلْزِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْمَفْعُولِ فَلِذَلِكَ صَارَ دَرْسُ الْكِتَابِ مَجَازًا فِي فَهْمِهِ وَإِتْقَانِهِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ عَلَى بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ.

وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَمَصْدَرُهُ فِي غَالِبِ مَعَانِيهِ الدَّرْسُ، وَمَصْدَرُ دَرَسَ بِمَعْنَى قَرَأَ يَجِيءُ عَلَى الْأَصْلِ دَرْسًا وَمِنْهُ سُمِّيَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ دَرْسًا. وَيَجِيءُ عَلَى وَزْنِ الْفِعَالَةِ دِرَاسَةٌ وَهِيَ زِنَةٌ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفِعْلِ، مِثْلَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ، إِلْحَاقًا لِذَلِكَ بِمَصَادِرِ الصِّنَاعَاتِ كَالتِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَأْمُرُكُمْ» بِالرَّفْعِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْأَصْلُ فِيمَا إِذَا أُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ بَعْدَ فِعْلٍ مَنْفِيٍّ، ثُمَّ انْتَقَضَ نَفْيُهُ بِلَكِنْ، احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ: أَيْ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا إِلَخْ وَلَا هُوَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ أَرْبَابًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَنْ يَقُولَ وَلَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ، وَلَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِأَنْ: لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أُوتِيَ الْكِتَابَ أَلَا يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا، وَالْمَقْصُودُ عَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَ، فَلِذَلِكَ اضْطُرَّ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى جَعْلِ لَا زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَلَيْسَتْ لِنَفْيٍ جَدِيدٍ. وَقَرَأَهُ الدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ الضَّمَّةِ إِلَى السُّكُونِ. وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: أَنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَصَوَّرُوا صُوَرَ النَّبِيئِينَ، مِثْلَ يَحْيَى وَمَرْيَمَ، وَعَبَدُوهُمَا، وَصَوَّرُوا صور الْمَلَائِكَة، واقتران التَّصْوِيرُ مَعَ الْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ الصُّورَةِ وَالتَّعَبُّدِ عِنْدَهَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «إِنْ قِيلَ نَفْيُ الْأَمْرِ أَعَمُّ مِنَ النَّهْيِ فَهَلَّا قِيلَ وَيَنْهَاكُمْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُمْ وَتَقَوُّلِهِمْ عَلَى الرُّسُلِ» . وَأَقُولُ: لَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِلَا يَأْمُرُكُمْ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَلَمَّا نُفِيَ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ نُفِيَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ أَرْبَابًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ كَانَ سَائِرُ أَحْوَالِهِمْ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهَا مِنْهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ هَذَا مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ تَتَلَبَّسَ بِهِ أُمَّةٌ مُتَدَيِّنَةٌ فَاقْتَصَرَ، فِي الرَّدِّ عَلَى الْأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَبِالظَّرْفِ الْمُفِيدِ مَزِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى ارْتِكَابِهِمْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 82]

فَهُنَالِكَ سَبَبَانِ لِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُرْضِيًّا أَنْبِيَاءَهُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِالْكُفْرِ. فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ مَنْ يَتَّبِعُونَهُمُ التَّلَبُّسَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا مِنْهُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ فَالْمُوَاجَهُ بِالْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَمَعْنَى أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالْخِطَابُ لِلنَّصَارَى وَلَيْسَ دِينُهُمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِسْلَامٌ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْإِيمَانُ أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِقَوْلِ رَجُلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا نَسْجُدُ لَكَ» ، وَلَا أُرَاهُ- لَوْ كَانَ صَحِيحًا- أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ قَاصِدَةً إِيَّاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: ثُمَّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسُّجُودِ إِلَيْهِ، وَلَمَا عَرَّجَ عَلَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا بِأَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ والنبيين أَرْبَابًا. [81، 82] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 81 إِلَى 82] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) عَطَفَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمرَان: 80] أَيْ مَا أَمَرَكُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَوَّلْتُمْ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَمَرُوكُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَأَضَعْتُمُوهُ حِينَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ لِيُبَلِّغُوهُ إِلَيْكُمْ، فَالْمَعْطُوفُ هُوَ ظَرْفُ (إِذْ) وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ (إِذْ) بِقَوْلِهِ: أَأَقْرَرْتُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ (إِذْ) بِمَعْنَى زَمَانٍ غَيْرِ ظَرْفٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ أَخَذَ الله مِيثَاق النَّبِيين، فَالْمَقْصُودُ الْحِكَايَةُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَا مَعَهُ فَيَكُونُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ مَعْطُوفًا بِحَذْفِ الْعَاطِفِ. كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جُمَلِ الْمُحَاوَرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قالُوا أَقْرَرْنا. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاق النَّبِيين: مِنْ أَنَّ النَّبِيِّينَ أَعْطَوْا مِيثَاقًا لِلَّهِ فَقَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ قَالُوا: أَقْرَرْنَا إِلَخْ. وَيَكُونَ قَوْله: لَما آتَيْتُكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَتَنْصُرُنَّهُ هُوَ صِيغَةُ الْمِيثَاقِ. وَهَذَا الْمِيثَاقُ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيع الْأَنْبِيَاء، يؤذنهم فِيهِ بِأَنَّ رَسُولًا يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِنَصْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِعْلَامُ أُمَمَهِمْ بذلك ليَكُون هَذَا الْمِيثَاقُ مَحْفُوظًا لَدَى سَائِرِ الْأَجْيَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ إِلَخْ إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ التَّوَلِّي وَالْفِسْقُ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أُمَمُهُمْ كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَالَ: فَاشْهَدُوا أَيْ عَلَى أُمَمِكُمْ. وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129] ، وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَالَ لِيَ الرَّبُّ أقيم لَهُم نبيئا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» . وَإِخْوَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَبِيئًا إِسْرَائِيلِيًّا لَقَالَ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِي تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ مِنْ غُمُوضٍ وَلَعَلَّ النَّص الْأَصْلِيّ أصرح مِنْ هَذَا الْمُتَرْجَمِ. وَالْبِشَارَاتُ فِي كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل وَفِي الأناجيل كَثِيرَةٌ فَفِي مَتَّى قَوْلُ الْمَسِيحِ «وَتَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ- أَيْ يَبْقَى أَخِيرًا- إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَكْرِزُ (¬1) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى» وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ الْمَسِيحِ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ- وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سيرسله الْأَب بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ- وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزَّى رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ¬

(¬1) وَقعت كلمة يكرز فِي تَرْجَمَة إنجيل متّى، وَلَعَلَّ مَعْنَاهَا وَيحسن تَبْلِيغ الدَّين. [.....]

وَفِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ زِيَادَةُ تَنْوِيهٍ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَبِهِ فَسَّرَ مُحَقِّقُو الْمُفَسِّرِينَ من السّلف وَالْخلف مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْن عَبَّاس، وطاووس، وَالسُّدِّيُّ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَقِيقَةً نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (تَوَهَّمُوهُ مُتَعَيِّنًا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ تَوَلَّى مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِينَ، وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ) فَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَسَلَكُوا مَسَالِكَ مُخْتَلِفَةً مِنَ التَّأْوِيلِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ إِضَافَةَ الْمِيثَاقِ لِلنَّبِيِّينَ إِضَافَةً تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ أَيْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ مِيثَاقَ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ حَذْفَ الْمُضَافِ أَي أُمَم النبيئين أَو أَوْلَاد النبيئين وَإِلَيْهِ مَالَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: إِنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ لَفْظَ النَّبِيئِينَ غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَقَوْلُهُ: لَمَا آتَيْنَاكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمَا» بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، لأنّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَآتَيْنَاكُمْ صِلَتُهُ وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ وَمِنْ كِتَابٍ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَعُطِفَ ثُمَّ جاءَكُمْ عَلَى آتَيْنَاكُمْ أَيِ الَّذِي آتَيْنَاكُمُوهُ وَجَاءَكُمْ بَعْدَهُ رَسُولٌ. وَلَتُؤْمِنُنَّ اللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالْجَوَابُ سَدَّ مَسَدَّ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَضَمِيرُ بِهِ عَائِد على الْمَذْكُور أَي لتؤمنّن بِمَا آتيناكم وبالرسول، أَو هُوَ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ وَحُذِفَ مَا يَعُودُ عَلَى مَا آتَيْنَاكُمْ لِظُهُورِهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ لَامِ لَمَا فَتَكُونُ اللَّام للتَّعْلِيل مُتَعَلق بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أَيْ شُكْرًا عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ وَعَلَى أَنْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مُصَدِّقًا لِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَلَا يَضُرُّ عَمَلُ مَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ فِيمَا قَبْلَهَا فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا ثُمَّ عَلَّلَ جَوَابَ الْقَسَمِ بِأَنَّهُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ الْإِيتَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى تَعْلِيق لَما آتَيْتُكُمْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ، لَا لَأَخْذِ الْعَهْدِ. وَلَامُ لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَمُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.

[سورة آل عمران (3) : آية 83]

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَر: آتينكم- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ آتَيْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَجُمْلَةُ قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ. وَالْإِقْرَارُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْقِيقِ بِالْوَفَاءِ مِمَّا أُخِذَ مِنَ الْمِيثَاقِ. وَالْإِصْرُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُوَثَّقُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِصَارِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ مَا يُعْقَدُ وَيُسَدُّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] . وَقَوْلُهُ: فَاشْهَدُوا إِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهِيَ بِمَعْنَى التَّوَثُّقِ وَالتَّحْقِيقِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: 18] وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً عَلَى أُمَمِهِمْ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَالْمَعْنَى فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ شَاهِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا شَهِدَ النَّبِيئُونَ عَلَى الْأُمَمِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ مَنْ تَوَلَّى مِمَّنْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْأُمَمُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي خُوطِبَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [12] : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ فِسْقَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَشَدُّ فِسْقٍ فَجَعَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْفسق كَالْعدمِ. [83] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 83] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) تَفْرِيعٌ عَنِ التَّذْكِيرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تَبْغُونَ بتاء الْخطاب فَهُوَ خِطَابٍ لِأَهْلِ الْكِتَابِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمرَان: 80] وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ،

وَيَعْقُوبُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، إِعْرَاضًا عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكُلُّهُ تَفْرِيعُ ذِكْرِ أَحْوَالِ خَلَفِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ كَيْفَ اتَّبَعُوا غَيْرَ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ بِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْجِيبِ. وَدِينُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ لِتَشْرِيفِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَوْمَئِذٍ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُوَ دِينُ اللَّهِ. وَمَعْنَى تَبْغُونَ وتطلبون يُقَالُ بَغَى الْأَمْرَ يَبْغِيهِ بُغَاءً- بِضَمِّ الْبَاءِ وَبِالْمَدِّ، وَيُقْصَرُ- وَالْبُغْيَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَهَاءٍ فِي آخِرِهِ قِيلَ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ اسْمٌ، وَيُقَالُ ابْتَغَى بِمَعْنَى بَغَى، وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلطَّلَبِ وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ الْبَغْيُ، لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعِ الْبَغْيُ إِلَّا فِي مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ وَالْجَوْرِ، وَذَلِكَ فِعْلُهُ قَاصِرٌ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الطَّلَبِ وَبَيْنَ الِاعْتِدَاءِ، فَأَمَاتُوا الْمَصْدَرَ الْقِيَاسِيَّ لِبَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ وَخَصُّوهُ بِبَغَى بِمَعْنَى اعْتَدَى وَظَلَمَ: قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى: 42] وَيُقَالُ تَبَغَّى بِمَعْنَى ابْتَغَى. وَجُمْلَةُ وَلَهُ أَسْلَمَ» حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] . وَمَعْنَى طَوْعاً وَكَرْهاً أَنَّ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ أَسْلَمَ عَنِ اخْتِيَارٍ لِظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ بِالْجِبِلَّةِ وَالْفِطْرَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوِ الْإِسْلَامِ كَرْهًا هُوَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ أَيْ أَكْرَهَتْهُ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ أَوْ هُوَ إِسْلَامُ الْكَافِرِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَرُؤْيَةُ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، أَوْ هُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. وَالْكَرْهُ- بِفَتْحِ الْكَافِ- هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَالْكُرْهُ- بِضَمِّ الْكَافِ- الْمَكْرُوهِ. وَمَعْنَى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّهُ يُرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ فَفِعْلُ رَجَعَ الْمُتَعَدِّي أُسْنِدَ إِلَى الْمَجْهُولِ. لِظُهُورِ فَاعِلِهِ، أَيْ يُرْجِعُكُمُ اللَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْقِيَامَةِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا، عَقِبَ التَّوْبِيخِ وَالتَّحْذِيرِ، أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي لَا مَفَرَّ مِنْ حُكْمِهِ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ دِينٍ أَمَرَهُ بِهِ، وَحَقُّهُ أَنْ يُسْلِمَ إِلَيْهِ نَفْسَهُ مُخْتَارًا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَهَا اضْطِرَارًا. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَرْهاً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بياء الْغَيْبَة.

[سورة آل عمران (3) : آية 84]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 84] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) الْمُخَاطَبُ بِفِعْلِ قُلْ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولَ ذَلِكَ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ: مُسْلِمُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيْ أُنْزِلَ عَلَيَّ لِتَبْلِيغِكُمْ فَجَعَلَ إِنْزَالَهُ عَلَى الرَّسُولِ وَالْأُمَّةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أُنْزِلَ، وَعَدَّى فِعْلَ (أُنْزِلَ) هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِنْزَالَ يَقْتَضِي عُلُوًّا فَوُصُولُ الشَّيْءِ الْمُنَزَّلِ وُصُولُ اسْتِعْلَاءٍ وَعُدِّيَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِنْزَالَ يَتَضَمَّنُ الْوُصُولَ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى) . وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ. وَاسْتِئْنَافٌ: لِتَلْقِينِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ كَلَامًا جَامِعًا لِمَعْنَى الْإِسْلَامِ لِيَدُومُوا عَلَيْهِ، وَيُعْلِنُ بِهِ لِلْأُمَمِ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمرَان: 83] . وَمَعْنَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّنَا لَا نُعَادِي الْأَنْبِيَاءَ، وَلَا يَحْمِلُنَا حُبُّ نَبِيئِنَا عَلَى كَرَاهَتِهِمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ وَتَقْدِيرُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ وَآخَرَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: 119] . وَهُنَا انْتَهَتِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ نَصَارَى نَجْرَان. [85] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 85] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، كَمَا عَلِمْتَ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَنَحْنُ

[سورة آل عمران (3) : آية 86]

نَاجُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْمَعْنَى مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِإِظْهَارِ حَرْفَيِ الْغَيْنِ مِنْ كَلِمَةِ مَنْ يَبْتَغِ وَكَلِمَةِ غَيْرَ وَرَوَى السُّوَسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِدْغَامَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَهُوَ الْإِدْغَام الْكَبِير. [86] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 86] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يُنَاسِبُ مَا سَبَقَهُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِ الْإِسْلَامِ. (وَكَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ وَالْمَقْصُودُ إِنْكَارُ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ إِمَّا الْهِدَايَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ وَلُطْفِهِ بِهِ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ ظَاهِرٌ وَإِمَّا الْهِدَايَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِعْمَالِ الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْتَاجِ مِنْهَا، وَإِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوجِدُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِبْعَادِ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا وَعَلِمُوا مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْبِيَائِهِمْ، إِذْ عَبَدَ الْيَهُودُ الْأَصْنَامَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَعَبَدَ النَّصَارَى الْمَسِيحَ، وَقَدْ شَهِدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ لِقِيَامِ دَلَائِلِ الصِّدْقِ، ثُمَّ كَابَرُوا، وَشَكَّكُوا النَّاسَ. وَجَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُوا، فَلَا مَطْمَعَ فِي هَدْيِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تَسْرِي الْهِدَايَةُ لِمَنْ أَنْصَفَ وَتَهَيَّأَ لِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ دُونَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ أَسْلَمُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ ثُمَّ نَدِمُوا فَرَاسَلُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْأَلُونَهُمْ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ فَنَزَلَتْ، وَمِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ. وَقَوْلُهُ: وَشَهِدُوا عَطْفٌ عَلَى إِيمانِهِمْ أَيْ وَشَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ الِاسْمَ الشَّبِيهَ بِالْفِعْلِ فِي الِاشْتِقَاقِ يَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَطْفُ الْفِعْل عَلَيْهِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 87 إلى 89]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 87 إِلَى 89] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) الْإِشَارَةُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَجْمَعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [161] . وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [160] ، وَمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِقُرَيْشٍ وَقِيلَ بِنَصَارَى الشَّامِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْأَلَهُمْ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَسْلَمَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عِلَّةٌ لِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ لِأَنَّهُ غَفُور رَحِيم. [90] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) قَالَ قَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَوْصُولُ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ، فَالْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِمُوسَى كَفَرُوا بِعِيسَى وَازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَالْيَهُودُ كَمَا عَلِمْتَ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا فَعَبَدُوهُ وَأَلَّهُوهُ ثمَّ ازدادوا كفرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَأْوِيلُ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِمَّا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 48] أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا فَتُقْبَلُ وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ. عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَدَلِيلُهُ الْحَصْرُ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. وَإِمَّا أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُظْهِرُونَهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 91]

مِنَ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا، فَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْقَبُولِ عَدَمُ تَصْدِيقِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَإِمَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ فَصَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا، فَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَهُمْ كَاذِبُونَ، فَيَكُونُ عَدَمُ الْقَبُولِ بِمَعْنَى عَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ لَهُمْ، وَأَسْرَارُهُمْ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْضُ الْيَهُودِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ: مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، فَالْمُرَادُ بِالِازْدِيَادِ الِاسْتِمْرَارُ وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا بِالْمُرَادِفِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وأياما كَانَ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ مُتَعَيِّنٌ: لِأَنَّ ظَاهِرَهَا تُعَارِضُهُ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَأَنَّ تَوْبَةَ الْعُصَاةِ مَقْبُولَةٌ، وَلَوْ وَقَعَ نَقْضُهَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَسَيَجِيءُ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [137] وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. [91] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، نَشَأَ عَنْ حُكْمِ فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ حَتَّى رَسَخَ فِيهِمْ وَصَارَ لَهُمْ دَيْدَنًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الَّذِينَ ازْدَادُوا كُفْرًا الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِلْأُولَى أُعِيدَتْ لِيُبْنَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِالْمَوْصُولِ هُنَا الْعُمُومُ مِثْلُ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مُؤْذِنَةٌ بِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ اسْمِ الشَّرْطِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ هِيَ عِلَّةُ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَرِنْ خَبَرُ الْمَوْصُولِ بِالْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ

الَّتِي قَبْلَهَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمرَان: 90] لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، بِخِلَافِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَسَبَبُ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ خَبَرِ (إِنَّ) وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا مُقْتَرِنَةً بِالْفَاءِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: 14] وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ خَبَرَ (إِنَّ) . وَمَعْنَى فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ يَفْتَدُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ قَبُولِ الِافْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا ضَرُورَةً أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. وَالْمِلْءُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- مَا يَمْلَأُ وِعَاءً، وَمِلْءُ الْأَرْضِ فِي كَلَامِهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ الْمُتَعَذِّرَةِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ عَدَدُ رِمَالِ الدَّهْنَاءِ، وَعَدَدُ الْحَصَى، وَمُيِّزَ هَذَا الْمِقْدَارُ بِذَهَبًا لِعِزَّةِ الذَّهَبِ وَتَنَافُسِ النَّاسِ فِي اقْتِنَائِهِ وَقَبُولِ حَاجَةِ مَنْ بَذَلَهُ قَالَ الْحَرِيرِيُّ: وَقَارَنَتْ نُجْحَ الْمَسَاعِي خَطْرَتُهُ وَقَوْلُهُ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ جُمْلَةٌ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ وَلَوْ فِي حَالِ فَرْضِ الِافْتِدَاءِ بِهِ، وَحَرْفُ (لَوْ) لِلشَّرْطِ وَحَذْفُ جَوَابِهِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلِكَثْرَتِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ لَوْ وَإِنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ فِي مِثْلِهِ مُجَرَّدَتَانِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا إِلَّا الْمُبَالَغَةُ، وَلَقَّبُوهُمَا بِالْوَصْلِيَّتَيْنِ: أَيْ أَنَّهُمَا لِمُجَرَّدِ الْوَصْلِ وَالرَّبْطِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ. وَتَرَدَّدُوا أَيْضًا فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ هَذَا الْمَوْقِعَ، وَفِي الْوَاوِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا وَاوُ الْحَالِ وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ جِنِّيٍّ، وَالْمَرْزُوقِيُّ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً عَلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضِدُّ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النِّسَاء: 135] . وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ، ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ رَادًّا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ حَقِيقًا بِالرَّدِّ: فَإِنَّ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ مَوْقِعًا مَعَ هَذِهِ الْوَاوِ.

هَذَا وَإِنَّ مَوَاقِعَ هَذِهِ الْوَاوِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي بَعْدَهَا شَرْطٌ مَفْرُوضٌ هُوَ غَايَةُ مَا يُتَوَقَّعُ مَعَهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الَّذِي قَبْلَهَا، فَيَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُ لِقَصْدِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب: لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ ... فَاعْلَمْ وَإِنْ ردّيت بردا وَلذَلِك جَرَتْ عَادَةُ النُّحَاةِ أَنْ يُقَدِّرُوا قَبْلَهَا شَرْطًا هُوَ نَقِيضُ الشَّرْطِ الَّذِي بَعْدَهَا فَيَقُولُونَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا- إِنْ لَمْ تُرَدَّ بُرْدًا بَلْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا- وَكَذَا قَوْلُ النَّابِغَةِ: سَأَكْعَمُ كَلْبِي أَنْ يَرِيبَكَ نَبْحُهُ ... وَلَوْ كُنْتُ أَرْعَى مُسْحَلَانِ فَحَامِرَا وَلِأَجْلِ ذَلِكَ، وَرَدَ إِشْكَالٌ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّ مَا بَعْدَ وَلَوِ فِيهَا هُوَ عَيْنُ مَا قَبْلَهَا، إِذِ الِافْتِدَاءُ هُوَ عَيْنُ بَذْلِ مِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ إِنْ لَمْ يَفْتَدِ بِهِ بَلْ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى تَأْوِيلَاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمَعْنَى لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبَا يُنْفِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا يَفْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْوَجْهُ بِعِيدٌ، إِذْ لَا يُقَدَّرُ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ افْتِدَاءً حَتَّى يُبَالَغَ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى ملْء الْأَرْضِ ذَهَبًا، يُرِيدُ أنّ كلمة بملء الْأَرْضِ فِي قُوَّةِ كَلِمَةِ فِدْيَةٍ وَاخْتُصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالضَّمِيرِ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ كَلِمَةٌ (مِثْلُ) قَبْلَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ: أَيْ وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ أَيْ وَلَوْ زَادَ ضِعْفَهُ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ [الزمر: 47] . وَعِنْدِي أَنَّ مَوْقِعَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ غَفَلَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الشَّرْطُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ، مُحَقَّقٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنَ الْمُخَاطب فيريد تَقْرِيره، فَلَا يَقْتَضِي أَنَّ شَرْطَهَا هُوَ غَايَةٌ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ مُجَرَّدَ اسْتِغْرَابٍ مِنَ الْحُكْمِ فَيَقَعُ بِإِعَادَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْحُكْمُ تَثْبِيتًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: «ادْرِ مَا تَقُولُ» فَيُجِيبُ الْمُتَكَلِّمُ بِإِعَادَةِ السُّؤَالِ تَقْرِيرًا لَهُ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَنْ بَيِّنَةٍ، نَعَمْ إِنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنِ الْغَايَةِ وَذَلِكَ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا: قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيرًا مُعْدِمًا قَالَتْ وَإِنِِْ

وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ وَيَبْقَى الْجَوَابُ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ وَقَدْ يُذْكَرُ السُّؤَالُ وَلَا يُذْكَرُ الْجَوَابُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر: 43] فَلَوْ ذُكِرَ الْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْرِكِينَ لَأَجَابُوا بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ جَوَابُ سُؤَالِ مُتَعَجِّبٍ مِنَ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فَأُجِيبَ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ بَيْتِ كَعْبٍ. فَمُفَادُ هَذَا الشَّرْطِ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ عَطْفًا عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ افْتَدَى: أَيْ لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا يَجْعَلُهُ رَهِينَةً. وَلَوْ بَذَلَهُ فِدْيَةً، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِحَقٍّ قَدْ يُعْطِي فِيهِ رَهْنًا إِلَى أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ أَوِ الْعَفْوُ، وَكَذَلِكَ فِي الدُّيُونِ، وَكَانُوا إِذَا تَعَاهَدُوا عَلَى صُلْحٍ أَعْطَتِ الْقَبَائِلُ رَهَائِنَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ: وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا قُدِّ ... مَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: «نَرْهَنُكَ السِّلَاحَ وَاللَّامَةَ» . وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَذْلَكَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [آل عمرَان: 90] الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تَكْمِيلٌ لِنَفْيِ أَحْوَالِ الْغَنَاءِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِشَيْءٍ قَدْ يُعْطِي فِدْيَةً مِنْ مَالٍ، وَقَدْ يَكْفُلُهُ مَنْ يُوثَقُ بِكَفَالَتِهِمْ، أَوْ يَشْفَعُ لَهُ مَنْ هُوَ مَسْمُوعُ الْكَلِمَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْكَفِيلِ وَالشَّفِيع نَاصِر.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمرَان: 91] الْآيَةَ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمرَان: 93] . وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِبَيَانِ بَعْضِ وَسَائِلِ الْبِرِّ إِيذَانٌ بِأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِ الْبِرِّ، وَأَنَّ الْبِرَّ مَعْنًى نَفْسَانِيٌّ عَظِيمٌ لَا يَخْرِمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا مَا يُفْضِي إِلَى نَقْضِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الِاسْتِقَامَةِ النَّفْسَانِيَّةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرَانِ: أَوَّلُهُمَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالتَّنْوِيهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، وَثَانِيهِمَا التَّنْوِيهُ بِالْبِرِّ الَّذِي الْإِنْفَاقُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ. وَمُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْوَ سَابِقَتِهَا أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ لَمَّا بَيَّنَتْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ أَعْظَمُ مَا يُنْفِقُهُ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةَ مَا يَنْفَعُ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يبلغ بِصَاحِبِهِ إِلَى مَرْتَبَةَ الْبِرِّ، فَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ قَدْ عَلِمَهَا الْفُطَنَاءُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ خِطَابٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ مَا يُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. وَالْبِرُّ كَمَالُ الْخَيْرِ وَشُمُولُهُ فِي نَوْعِهِ: إِذِ الْخَيْرُ قَدْ يَعْظُمُ بِالْكَيْفِيَّةِ، وَبِالْكَمِّيَّةِ، وَبِهِمَا مَعًا، فَبَذْلُ النَّفْسِ فِي نَصْرِ الدِّينِ يَعْظُمُ بِالْكَيْفِيَّةِ فِي مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ بِالْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَكَذَلِكَ إِنْقَاذُ الْغَرِيقِ فِي حَالَةِ هَوْلِ الْبَحْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَعَدُّدٌ، وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ يَعْظُمُ بِالتَّعَدُّدِ، وَالْإِنْفَاقُ يَعْظُمُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَزَاءُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ إِذَا بَلَغَ كَمَالَ الْجَزَاءِ وَشُمُولَهُ كَانَ بَرًّا أَيْضًا.

وَرَوَى النَّوَّاسُ بْنُ سِمْعَانَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَمُقَابَلَةُ الْبِرِّ بِالْإِثْمِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِرَّ ضِدُّ الْإِثْمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 177] . وَقَدْ جُعِلَ الْإِنْفَاقُ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الْمُحَبِّ غَايَةً لِانْتِفَاءِ نَوَالِ الْبِرِّ، وَمُقْتَضَى الْغَايَةِ أَنَّ نَوَالَ الْبِرِّ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبْلَ الْإِنْفَاقِ مَسَافَاتٍ مَعْنَوِيَّةً فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْبِرِّ، وَتِلْكَ هِيَ خِصَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا بَقِيَتْ غَيْرَ مَسْلُوكَةٍ، وَأَنَّ الْبِرَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنِهَايَتِهَا وَهُوَ الْإِنْفَاقُ مِنَ المحبوب، فَظهر ل (حتّى) هُنَا مَوْقِعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْلُفُهَا فِيهِ غَيْرُهَا: لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ إِلَّا أَنْ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنَ الْمُحَبِّ وَحْدَهُ يُوجِبُ نَوَالَ الْبِرَّ، وَفَاتَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الَّتِي أَشْعَرَتْ بِهَا (حتّى) الغائية. و (تنالوا) مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوَالِ وَهُوَ التَّحْصِيلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبِرِّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ: لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْإِنْفَاقُ الْمَخْصُوصُ، فَبِدُونِهِ لَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ. وَالْإِنْفَاقُ: إِعْطَاءُ الْمَالِ وَالْقُوتِ وَالْكِسْوَة. وَمَا صدق (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُحِبُّونَ الْمَالَ: أَي المَال النَّفِيسَ الْعَزِيزَ عَلَى النَّفْسِ، وَسَوَّغَ هَذَا الْإِبْهَامَ هُنَا وُجُودُ تُنْفِقُوا إِذِ الْإِنْفَاقُ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ بذل المَال ف (من) لِلتَّبْعِيضِ لَا غَيْرَ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْيِينِ فَقَدْ سَهَا لأنّ التبيينية لَا بدّ أَنْ تُسْبَقَ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ. وَالْمَالُ الْمَحْبُوبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَرَغَبَاتِهِمْ، وَسَعَةِ ثَرَوَاتِهِمْ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْهُ أَيِ التَّصُدُّقُ دَلِيلٌ عَلَى سَخَاءٍ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ بَقِيَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الشُّحِّ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: 9] وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ إِذْ تَجُودُ أَغْنِيَاؤُهَا عَلَى فُقَرَائِهَا بِمَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ فَتَشْتَدُّ بِذَلِكَ أَوَاصِرُ الْأُخُوَّةِ، وَيَهْنَأُ عَيْشُ الْجَمِيعِ.

رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ بِئْرَ حَاءٍ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي بِئْرُ حَاءٍ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَخٍ (¬1) ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ خِصَالَ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . فَالْبِرُّ هُوَ الْوَفَاءُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ فِي أَفْعَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: 2] فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَعْمِيمُ أَنْوَاعِ الْإِنْفَاقِ، وَتَبْيِينُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُنْفِقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ نَفِيسًا بِحَسْبِ حَالِ صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [التَّوْبَة: 79] . ¬

(¬1) فِي رِوَايَة يحيى بن يحيى عَن مَالك فبخ بفاء قبل الْبَاء الْمُوَحدَة وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» بخ بِدُونِ الْفَاء.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 إلى 95]

وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ مُرَادٌ بِهِ صَرِيحُهُ أَيْ يَطَّلِعُ عَلَى مِقْدَارِ وَقْعِهِ مِمَّا رَغَّبَ فِيهِ، وَمُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجَزَاء عَلَيْهِ. [93- 95] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 93 إِلَى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) هَذَا يَرْتَبِطُ بِالْآيِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا [آل عمرَان: 67] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ وَانْتِقَالَاتٌ فِي فُنُونِ الْخِطَابِ. وَهَذِهِ حُجَّةٌ جُزْئِيَّةٌ بَعْدَ الْحُجَجِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ دِينَ الْيَهُودِيَّةِ لَيْسَ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ لَمْ يَكُنْ مَا حُرِّمَ مِنَ الطَّعَامِ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ مُحَرَّمًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مَا حُرِّمَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا طَعَامًا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْحُجَّةُ ظَاهِرَةٌ وَيَدُلُّ لِهَذَا الِارْتِبَاطِ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [آل عمرَان: 95] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْيَهُودَ- مَعَ ذَلِكَ- طَعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الْيَهُودِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِتَارِيخِ تَشْرِيعِهِمْ، أَوْ تَضْلِيلًا مِنْ أَحْبَارِهِمْ لِعَامَّتِهِمْ، تَنْفِيرًا عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ فِي سَذَاجَتِهِمْ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُونَ بِالْمَأْلُوفَاتِ، فَيَعُدُّونَهَا كَالْحَقَائِقِ، وَيُقِيمُونَهَا مِيزَانًا لِلْقَبُولِ وَالنَّقْدِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِي بَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ، وَحَسْبُكُمْ أَنَّ دِينًا عَظِيمًا وَهُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَزُمْرَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِيهِ وَحَفَدَتِهِ، لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ.

وَتَعْرِيفُ (الطَّعَامِ) تَعْرِيف الْجِنْس، و (كلّ) لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ مَا فِي التَّوْرَاةِ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ النَّسَخِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَكْلَ عِرْقِ النَّسَا الَّذِي عَلَى الْفَخِذِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّذُرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ نَهَوْهُ عَنْ أَكْلِ مَا فِيهِ عِرْقُ النَّسَا لِأَنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِوَجَعِ نَسَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ فِي الْبَدْوِ فَلَمْ تَسْتَقِمْ عَافِيَتُهُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهِ النَّسَا. وَمَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الطَّعَامِ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَبَعْضُهُ أَرَادَ بِهِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الْمُشْتَهَاةِ، وَهَذَا مِنْ جِهَادِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْعَزْمِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي التَّشْرِيعِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَعَلَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ تَأَسَّوْا بِأَبِيهِمْ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ تَصْرِيحٌ بِمَحَلِّ الْحُجَّةِ مِنَ الرَّدِّ إِذِ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا تَنَاسَوْهُ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِكَوْنِ يَعْقُوبَ كَانَ قَبْلَ مُوسَى، وَقَالَ الْعِصَامُ: يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ بِقَوْلِهِ: حِلًّا لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ حِلًّا وَتَبَيَّنَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، صَارَ ذِكْرُ الْقَيْدِ لَغْوًا لَوْلَا تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، وَقَصْدُ إِعْلَانِ التَّسْجِيلِ بِخَطَئِهِمْ وَالتَّعْرِيضُ بِغَبَاوَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قُلْنَاهُ أَوْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ: مِنْ قَوْلِكُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلتَّعْجِيزِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِهَا إِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الصِّدْقِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا فَاءُ التَّفْرِيعِ.

وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ التَّفْرِيعِ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ نِهَايَةٌ لِتَسْجِيلِ كَذِبِهِمْ أَيْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ فَمَنِ افْتَرَى مِنْكُمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَا التَّوْرَاةَ فَيْصَلًا بَيْنَنَا، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدَّعُوهُ شُبْهَةً لَهُمْ فِي الِاخْتِلَاقِ، وَجُعِلَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ لِتَعَلُّقِهِ بِدِينِ اللَّهِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْأَمْرِ. وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَهُوَ مُرَادِفُ الِاخْتِلَاقِ. وَالِافْتِرَاءُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَرْيِ، وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ قِطَعًا لِيُصْلَحَ بِهِ مِثْلَ أَنْ يُحْذَى النَّعْلَ وَيُصْنَعَ النَّطْعُ أَوِ الْقِرْبَةُ. وَافْتَرَى افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى لَعَلَّهُ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْفَرْيِ، يُقَالُ: افْتَرَى الْجِلْدَ كَأَنَّهُ اشْتَدَّ فِي تَقْطِيعِهِ أَوْ قَطَّعَهُ تَقْطِيعَ إِفْسَادٍ، وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِ افْتَرَى. فَأَطْلَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِأَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَقَعِ اسْمُ الِافْتِرَاءِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، كَأَنَّ أَصْلَهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَذِبِ وَتَلْمِيحٌ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مُرَادِفًا لِلْكَذِبِ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الْكَذِبِ، فَالِافْتِرَاءُ مُرَادِفٌ لِلْكَذِبِ، وَإِرْدَافُهُ بِقَوْلِهِ هُنَا: «الْكَذِبَ» تَأْكِيدٌ لِلِافْتِرَاءِ، وَتَكَرَّرَتْ نَظَائِرُ هَذَا الْإِرْدَافِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. فَانْتَصَبَ «الْكَذِبُ» عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق الموكّد لِفِعْلِهِ. وَاللَّامُ فِي الْكَذِبِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] . وَالْكَذِبُ: الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِ الْخَبَرِ مُوَافِقًا لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ أَوْ هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْخَبَرِ الْمُخَالَفَةُ لِلْوَاقِعِ وَالْمُخَالَفَةُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ كَانَ ذَلِكَ مَذْمُومًا وَمَسَبَّةً وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدًا وُقُوعُهُ لِشُبْهَةٍ أَوْ سُوءِ تَأَمُّلٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُحَقَّرُ الْمُخْبِرُ بِهِ، وَالْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعْنَى بِالْكَذِبِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ. ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ فِي جَانِبِهِ الصِّدْقُ هُوَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجَزْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 إلى 97]

بِالتَّوْرَاةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [الْبَقَرَة: 95] وَبَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ إِعْلَانِ كَذِبِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ قَالَ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِمْ لِأَنَّ صِدْقَ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْآخَرِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَالْكِنَائِيِّ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً تَفْرِيعٌ عَلَى صَدَقَ اللَّهُ لَأَنَ اتِّبَاعَ الصَّادِقِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مَنْجَاةٌ مِنَ الْخَطَرِ. [96، 97] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً. هَذَا الْكَلَامُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [آل عمرَان: 95] لِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ الْمُنَوَّهَ بِشَأْنِهِ كَانَ مَقَامًا لِإِبْرَاهِيمَ فَفَضَائِلُ هَذَا الْبَيْتِ تُحَقِّقُ فَضِيلَةَ شَرْعِ بَانِيهِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ خِطَابِيٌّ، وَهُوَ أَيْضًا إِخْبَارٌ بِفَضِيلَةِ الْكَعْبَةِ، وَحُرْمَتِهَا- فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ-. وَقَدْ آذَنَ بِكَوْنِ الْكَلَامِ تَعْلِيلًا مَوْقِعُ (إِنَّ) فِي أَوَّلِهِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ بِإِنَّ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ وَلَيْسَ لِرَدِّ إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، أَوْ شَكِّ شَاكٍّ. وَمِنْ خَصَائِصِ (إِنَّ) إِذَا وَرَدَتْ فِي الْكَلَامِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، أَنْ تُغْنِيَ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، كَمَا فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ. وَلِمَا فِي هَذِهِ مِنْ إِفَادَةِ الرَّبْطِ اسْتُغْنِيَ عَنِ الْعَطْفِ لِكَوْنِ (إِنَّ) مُؤْذِنَةً بِالرَّبْطِ. وَبَيَانُ وَجْهِ التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَمَّا كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْهُدَى وَإِعْلَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِيَكُونَ عَلَمًا مَشْهُودًا بِالْحِسِّ عَلَى مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيِ الْإِشْرَاكِ، فَقَدْ كَانَ جَامِعًا لِدَلَائِلِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ شَرَفُ الْأَوَّلِيَّةِ وَدَوَامُ الْحُرْمَةِ عَلَى مَمَرِّ الْعُصُورِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْهَيَاكِلِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي نَشَأَتْ بعده، وَهُوَ مائل، كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً إِلَهِيَّةً عَلَى أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ الَّذِي

قَارَنَ إِقَامَتَهُ هُوَ الدَّيْنُ الْمُرَادُ لله، وَهَذَا يؤول إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] . وَهَذَا التَّعْلِيلُ خِطَابِيٌّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وأَوَّلَ اسْمٌ لِلسَّابِقِ فِي فِعْلٍ مَا فَإِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ فَهُوَ السَّابِقُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الشَّأْنِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ. وَالْبَيْت بِنَاء يأوي وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، فَيَكُونُ بَيْتَ سُكْنَى، وَبَيْتَ صَلَاةٍ، وَبَيْتَ نَدْوَةٍ، وَيَكُونُ مَبْنِيًّا مِنْ حَجَرٍ أَوْ مِنْ أَثْوَابِ نَسِيجِ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ، وَيَكُونُ مِنْ أَدَمٍ فَيُسَمَّى قُبَّةً قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: 81] . وَمَعْنَى وُضِعَ أُسِّسَ وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَكَانُ مَوْضِعًا. وَأَصْلُ الْوَضْعِ أَنَّهُ الْحَطُّ ضِدُّ الرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الْمَرْفُوعُ بَعِيدًا عَنِ التَّنَاوُلِ، كَانَ الْمَوْضُوعُ هُوَ قَرِيبَ التَّنَاوُلِ، فَأُطْلِقَ الْوَضْعُ لِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ لِلْمُتَنَاوَلِ، وَالتَّهْيِئَةِ للِانْتِفَاع. و (النّاس) تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وبكة اسْمُ مَكَّةَ. وَهُوَ لُغَةٌ- بِإِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً- فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ عُدَّتْ مِنَ الْمُتَرَادِفِ: مَثَلُ لَازِبٍ فِي لَازِمٍ، وَأَرْبَدَ وَأَرْمَدَ أَيْ فِي لَوْنِ الِرَمَادِ، وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ بَكَّةَ بِالْبَاءِ اسْمُ مَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ مَكَّةَ بِالْمِيمِ اسْمُ بَقِيَّةِ الْمَوْضِعِ، فَتَكُونُ بَاءُ الْجَرِّ- هُنَا- لِظَرْفِيَّةِ مَكَانِ الْبَيْتِ خَاصَّةً. لَا لِسَائِرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْتُ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ بَكَّةَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَلْدَةِ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَمًا عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِسُكْنَى وَلَدِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ بَلَدًا، فَيَكُونُ أَصْلُهُ

مِنَ اللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ، لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا مَدِينَةَ (بَعْلَبَكَّ) أَيْ بَلَدَ بَعْلٍ وَهُوَ مَعْبُودُ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَمِنْ إعجاز الْقُرْآن اخْتِيَار هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ ذِكْرِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ، فَلَاحِظْ أَيْضًا الِاسْمَ الْأَوَّلَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْل: 91] وَقَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيم: 35] . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَكَّةَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَكِّ وَهُوَ الِازْدِحَامُ، وَلَا أَحْسَبُ قُصِدَ ذَلِكَ لِوَاضِعِ الِاسْمِ. وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِ الْبَيْتِ بِاسْمِهِ الْعَلَمَ بِالْغَلَبَةِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ، إِلَى تَعْرِيفِهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ بِأَنَّهُ (الَّذِي بِبَكَّةَ) : لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ صَارَتْ أَشْهَرَ فِي تَعَيُّنِهِ عِنْدَ السَّامِعِينَ، إِذْ لَيْسَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ بَيْتٌ لِلْعِبَادَةِ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ اسْمِ الْكَعْبَةِ: فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْكَعْبَةِ عَلَى الْقُلَّيْسِ الَّذِي بَنَاهُ الْحَبَشَةُ فِي صَنْعَاءَ لِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَقَّبُوهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ. وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ سَبْقِ الْكَعْبَةِ فِي الْوُجُودِ قَبْلَ بُيُوتٍ أُخَرَ مِنْ نَوْعِهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ، فَقَالُوا: هِيَ أَوَّلُ بِنَاءٍ، وَقَالُوا: أَنَّهَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً مِنْ عَهْدِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثُمَّ دُرِسَتْ، فَجَدَّدَهَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَتْ فِي هَذَا أَقَاصِيصُ أَسَانِيدُهَا ضِعَافٌ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُهَا، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى الضِّرَاحَ- بِوَزْنِ غُرَابٍ- وَلَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ وَجُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ، وَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ. قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «كَانَ قَبْلَ الْبَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَعْبَةَ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ بِنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ لَزِيدَ ذِكْرُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ بِنَاءٍ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ أُمَمًا وَعُصُورًا كَانَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ بُرْجُ بَابِلَ، بُنِيَ إِثْرَ الطُّوفَانِ، وَمَا بَنَاهُ الْمِصْرِيُّونَ قَبْلَ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا بَنَاهُ الكلدان فِي بدل إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ رِحْلَتِهِ إِلَى مِصْرَ، وَمِنْ ذَلِكَ بَيْتُ أَصْنَامِهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ هَاجَرُ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ مَلِكُ مِصْرَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الثافات: 97] فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِوَجْهٍ ظَاهِرٍ، وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاءُ مَسَالِكَ فِيهِ: وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَوَّلِ، أَوْ تَأْوِيلِ الْبَيْتِ، أَوْ تَأْوِيلِ فِعْلِ وُضِعَ،

أَوْ تَأْوِيلِ النَّاسِ، أَوْ تَأْوِيلِ نَظْمِ الْآيَةِ، وَالَّذِي أَرَاهُ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ دِينٍ وَهُدًى، فَلَيْسَ غَرَضُ الْكَلَامِ فِيهِ ضَبْطَ أَوَائِلِ التَّارِيخِ، وَلَكِنْ أَوَائِلُ أَسْبَابِ الْهُدَى، فَالْأَوَّلِيَّةُ فِي الْآيَةِ عَلَى بَابِهَا، وَالْبَيْتُ كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتِ عِبَادَةٍ حَقَّةٍ وُضِعَ لِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وُضِعَ لِلنَّاسِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ وَاضِعٍ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْتَ سُكْنَى لَقِيلَ وَضَعَهُ النَّاسُ، وَبِقَرِينَةِ مَجِيءِ الْحَالَيْنِ بَعْدُ وَهُمَا قَوْلُهُ: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي مَعْنَى بَيْتٍ، وَإِذَا كَانَ أَوَّلَ بَيْتِ عِبَادَةٍ حَقٍّ، كَانَ أَوَّلَ مَعْهَدٍ لِلْهُدَى، فَكَانَ كلّ هدى مقتسبا مِنْهُ فَلَا مَحِيصَ لِكُلِّ قَوْمٍ كَانُوا عَلَى هُدًى مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهِ وَبِفَضْلِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْمِلَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أُسُسِ مِلَّةِ بَانِيهِ، وَهَذَا المفاد من تَفْرِيع قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الْبَقَرَة: 95] . وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَرَوَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ؟ قَالَ: «لَا، قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا وَهُدًى» فَجَعَلَ مُبَارَكًا وَهُدًى حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُضِعَ لَا مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي النَّظْمِ لَا يَنْسَاقُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْهُدَى كَمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وُضِعَ هُوَ الْخَبَرُ لِتَعَيُّنِ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: الْكَعْبَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ أَوَّلَ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا مِنْ جِنْسِ الْبُيُوتِ كُلِّهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الْأَشْرَفَ مَجَازًا. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ الْمَعْهُودِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْكُتُبِ أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهُمْ يَعْتَرِفُ بِأَصَالَةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَوَّلُ مَعْبَدٍ بِإِجْمَاعِهِمْ هُوَ الْكَعْبَةُ فَيَلْزَمُهُمُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ أَفْضُلُ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ.

وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَوَّلِيَّةُ مُوجِبَةَ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَةِ لَا تَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ، إِذْ هِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنْ طُولِ أَزْمَانِ التَّعَبُّدِ فِيهَا، وَبِنِسْبَتِهَا إِلَى بَانِيهَا، وَبِحُسْنِ الْمَقْصِدِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: 108] . وَقَدْ جَمَعَتِ الْكَعْبَةُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَزَايَا فَكَانَتْ أَسْبَقَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ أَسْبَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِتِسْعَةِ قُرُونٍ. فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى الْكَعْبَةَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1900 قَبْلَ الْمَسِيحِ وَسُلَيْمَانُ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَنَةَ 1000 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَالْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ بِيَدِهِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بِيَدِ رَسُولٍ. وَأَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهَا الْعَمَلَةُ لِسُلَيْمَانَ بِأَمْرِهِ. وَرُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاسْتَشْكَلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ قُرُونًا فَكَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ دُرِسَ فَجَدَّدَهُ سُلَيْمَان. وَأَقُول: لَا شكّ أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ كَمَا هُوَ نَصُّ كِتَابِ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ [سبأ: 13] الْآيَةَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا مَرَّ بِبِلَادِ الشَّامِ وَوَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يُورِثَ تِلْكَ الْأَرْضَ نَسْلَهُ عَيَّنَ الله لَهُ الْوَضع الَّذِي سَيَكُونُ بِهِ أَكْبَرُ مَسْجِدٍ تَبْنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الْمَجْعُولَةِ مَذْبَحًا لِلْقُرْبَانِ. وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي بَنَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهَا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ دُثِرَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ حَتَّى هَدَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ إِلَى إِقَامَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَهْمَلَتْهُ كُتُبُ الْيَهُودِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى مَذَابِحَ فِي جِهَاتٍ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُعْطِي تِلْكَ الْأَرْضَ لِنَسْلِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَى أَيْضًا بِمَوْضِعِ مَسْجِدِ أُرْشَلِيمَ مَذْبَحًا.

ومُبارَكاً اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَ لَهُ بَرَكَةً وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الْخَيْرِ. أَيْ جُعِلَتِ الْبَرَكَةُ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلُهُ مُثَابًا وَمُحَصَّلًا عَلَى خَيْرٍ يَبْلُغُهُ عَلَى مَبْلَغِ نِيَّتِهِ، وَقَدَّرَ لِمُجَاوِرِيهِ وَسُكَّانِ بَلَدِهِ أَنْ يَكُونُوا بِبَرَكَةِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفَاهِيَةِ الْحَالِ، وَأَمَرَ بِجَعْلِ دَاخِلِهِ آمِنًا، وَقَدَّرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَرَكَةً. وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [92] . وَوَصَفَهُ بِالْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُدىً مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ سَبَبُ هُدَى. وَجُعِلَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ: لِأَنَّ شُهْرَتَهُ وَتَسَامُعَ النَّاسِ بِهِ، يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّسَاؤُلِ عَنْ سَبَبِ وَضْعِهِ، وَأَنَّهُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِنْ خُبْثِ الشِّرْكِ فَيَهْتَدِي بِذَلِكَ الْمُهْتَدِي، وَيَرْعَوِي الْمُتَشَكِّكُ. وَمِنْ بَرَكَةِ ذَاتِهِ أَنَّ حِجَارَتَهُ وَضَعَتْهَا عِنْدَ بِنَائِهِ يَدُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدُ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ يَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ. وَانْتَصَبَ مُبارَكاً وَهُدىً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ. وَجُمْلَةُ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ بِمَا حَفَّ بِهِ مِنَ الْمَنَاقِبِ وَالْمَزَايَا فَغُيِّرَ الْأُسْلُوبُ لِلِاهْتِمَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُجْعَلِ الْجُمْلَةُ حَالًا، فَتُعْطَفُ عَلَى الْحَالَيْنِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ مُبَارَكًا وَهُدًى وَصْفَانِ ذَاتِيَّانِ لَهُ، وَحَالَانِ مُقَارِنَانِ، وَالْآيَاتُ عَوَارِضُ عَرَضَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، أَوْ هِيَ حَالٌ ثَالِثَةٌ وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَمَا قَبْلَهَا مُفْرِدَانِ وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَاوَ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، فَتَكُونُ فِي صُورَتِهَا جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْأَفْصَحِ فِي مِثْلِهَا مِنْ عَدَمِ الِاقْتِرَانِ بِالْوَاوِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، فَلَوْ قُرِنَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَالْتُبِسَتْ بِوَاوِ الْحَالِ، فَكُرِهَتْ فِي السَّمْعِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْقَطْعِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ، أَوْ نَقُولُ هِيَ حَالٌ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى الْأَحْوَالِ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ، فَاسْتَغْنَتْ بِالضَّمِيرِ عَنْ رَابِطِ الْعَطْفِ. وَوَصْفُ الْآيَاتِ بِبَيِّنَاتٍ لِظُهُورِهَا فِي عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ. وَجِمَاعُ هَذِهِ

الْآيَاتِ هِيَ مَا يَسَرَّهُ اللَّهُ لِسُكَّانِ الْحَرَمِ وَزَائِرِيهِ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَضْرَارِ، عَلَى حَالَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْعَرَبِ، وَقَمَعُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، مَعَ تَكَالُبِهِمْ عَلَى إِرْضَاءِ نُفُوسِهِمْ. وَأَعْظَمُهَا الْأَمْنُ، الَّذِي وُطِّنَ عَلَيْهِ نُفُوسُ جَمِيعِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ تَدَيُّنِهِمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُلَاقِي قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَنَالُهُ بِسُوءٍ، وَتَوَاضُعُ مِثْلِ هَذَا بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْقَبَائِلِ، ذَاتِ اخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، آيَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ. وَكَذَلِكَ تَأْمِينُ وَحْشِهِ مَعَ افْتِتَانِ الْعَرَبِ بِحُبِّ الصَّيْدِ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ مَنْ قَصْمِ كُلِّ مَنْ رَامَهُ بِسُوءٍ، وَمَا انْصِرَافُ الْأَحْبَاشِ عَنْهُ بَعْدَ امْتِلَاكِهِمْ جَمِيعَ الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ إِلَّا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِيهِ. وَمِنْهَا انْبِثَاقُ الْمَاءِ فِيهِ لِإِسْمَاعِيلَ حِينَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَافْتِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ حِينَ أَرَادَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قُرْبَانَهُ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَتَوَارَثُوا خَبَرَهُ أَبًا عَنْ جَدٍّ مِنْ نُزُولِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَبِي قَبِيسٍ بِمَرْأَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَعَلَّهُ حَجَرٌ كَوْكَبِيٌّ. وَمِنْهَا تَيْسِيرُ الرِّزْقِ لِسَاكِنِيهِ مَعَ قُحُولَةِ أَرْضِهِ، وَمُلُوحَةِ مَائِهِ. وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ أَصْلُ الْمَقَامِ أَنَّهُ مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ وَهُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى خُصُوصِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَرَفْعُ مَقَامٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ عَلَى لَلَّذِي بِبَكَّةَ، أَيْ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ الْبَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةٍ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ عَلَى الْحَذْفِ الَّذِي سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، التَّابِعِينَ لِاصْطِلَاحِ السَّكَّاكِيِّ، بِالْحَذْفِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي عَلَى تَرْكِهِ، وَذَلِكَ فِي الرَّفْعِ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الذَّمِّ، أَوِ التَّرَحُّمِ، بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ الْقَيْنِيِّ: فَإِنَّ بَنِي لَأْمِ بْنِ عَمْرٍو أَرُومَةٌ ... سَمَتْ فَوْقَ صَعْبٍ لَا تُنَالُ مَرَاقِبُهُ نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ ... بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهُ هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ.

وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَنَّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ مَحَلُّ قِيَامِهِ لِلصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَة: 125] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ ... مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَائِمْ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْحَجَرَ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الصَّخْرَةِ الَّتِي ارْتَقَى عَلَيْهَا لِيَرْفَعَ جُدْرَانَ الْكَعْبَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَمَّا يُعْتَرَضُ بِهِ مِنْ لُزُومِ تَبْيِينِ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ هَذَا الْمُفْرَدَ فِي قُوَّةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ آيَاتٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى نُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِمُعْجِزَةٍ لَهُ وَعَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ الْأَثَرِ مَعَ تَلَاشِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ فِي طِيلَةِ الْقُرُونِ آيَةٌ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً عَطْفٌ عَلَى مَزَايَا الْبَيْتِ وَفَضَائِلِهِ مِنَ الْأَمْنِ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَامْتِنَانٌ بِمَا تَقَرَّرَ فِي مَاضِي الْعُصُورِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَفْظًا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ فِيهِ قَدْ تَقَرَّرَ وَاطَّرَدَ، وَهَذَا الِامْتِنَانُ كَمَا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقَضُ بِمَنْ وُلِدَ أَكْمَهَ أَوْ عَرَضَ لَهُ مَا أَزَالَ بَعْضَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ حُكْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ وَنِعَمٍ مُتَعَدِّدَاتٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إِذَايَتِهِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى قَبْلَ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَازِعٌ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَمْنِ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَفِي فِتْنَةِ الْقَرَامِطَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أَوَّلَ هَذِه السُّورَة [آل عمرَان: 7] .

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِتَأْمِينِ دَاخِلِهِ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِأَذًى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَحْمَلِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا حُكْمٌ نُسِخَ يَعْنُونَ نَسَخَتْهُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا. رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، أنّه قَالَ لعَمْرو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ- أَيْ لِحَرْبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ-: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ لَا يحلّ لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يُعْضَدَ بِهَا شَجَرَةٌ. فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» . قَالَ: فَقَالَ لِي عَمْرٌو: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ (الْخَرْبَةُ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- الْجِنَايَةُ وَالْبَلِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى النَّاسِ) وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِأَنْ يُقْتَلَ ابْنُ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَنْ أَصَابَ جِنَايَةً فِي الْحَرَمِ أَوْ خَارِجَهُ ثُمَّ عَاذَ بِالْحَرَمِ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ وَيُقَادُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ الْأَرْبَعَةُ: لَا يُقْتَصُّ فِي الْحَرَمِ مِنَ اللَّاجِئِ إِلَيْهِ من خَارجه مَا دَامَ فِيهِ ولكنّه لَا يُبَايَعُ وَلَا يُؤَاكَلُ وَلَا يُجَالَسُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ. وَيَرْوُونَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُمَا آنِفًا. وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: «مَنْ كَانَ خَائِفًا مِنَ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِآمِنٍ وَلَا تَجُوزُ إِذَايَتُهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ مُكَالَمَتِهِ» .

وَقَالَ فَرِيقٌ: هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَتَى مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا جَنَى فِي الْحَرَمِ أُقِيدَ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: 194] أَوِ اسْتَنَدُوا إِلَى أَدِلَّةٍ مِنَ الْقِيَاسِ، وَقَالَ شُذُوذٌ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي جَنَى فِي الْحَرَمِ وَهَؤُلَاءِ طَرَدُوا دَلِيلَهُمْ. وَقَدْ أَلْمَمْنَا بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: 191] . وَقَدْ جَعَلَ الزَّجَّاجُ جُمْلَةَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آيَةً ثَانِيَةً مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَهِيَ بَيَانٌ لِ (آيَاتٌ) ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] . وَإِنَّمَا جَازَ بَيَانُ الْمُفْرَدِ بِجُمْلَةٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ إِذِ التَّقْدِيرُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ. وَلَمْ يَنْظُرْ ذَلِكَ بِمَا اسْتُعْمِلَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَرِّبَ هَذَا الْوَجْهُ. وَعِنْدِي فِي نَظِيره قَول الْحَرْث بْنِ حِلِّزَةَ: مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا ... تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ آيَةٌ شَارِقُ الشَّقِيقَةِ إِذْ جَا ... ءَتْ مَعَدٌّ لِكُلِّ حَيٍّ لِوَاءُ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ حُجْرًا أَعْنِي ابْنَ أُمِّ قَطَامِ ... وَلَهُ فَارِسِيَّةٌ خَضْرَاءُ ثُمَّ قَالَ: وَفَكَكْنَا غُلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ عَنْهُ ... بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالْعَنَاءُ فَجَعَلَ (وَفَكَكْنَا) هِيَ الْآيَةَ الرَّابِعَةَ بِاتِّفَاقِ الشُّرَّاحِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَفَكُّنَا غُلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ آيَاتٌ بَاقِيًا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ وَقَدْ بُيِّنَ بِآيَتَيْنِ وَتُرِكَتِ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا أَيْ وَلَمْ يَذْكُرِ الثُّلُثَ الثَّالِثَ.

وَهُوَ تَنْظِيرٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُ الثُّلُثُ الثَّالِثُ، فَهُمُ الصَّمِيمُ، بِخِلَافِ الْآيَةِ فَإِنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ لَمْ يُعْرَفْ. وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إِلَخْ مُتَضَمِّنًا الثَّالِثَةَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. حُكْمٌ أَعْقَبَ بِهِ الِامْتِنَانَ: لِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْبَيْتِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: مُبَارَكًا وَهُدًى، وَوَاجِبًا حَجُّهُ. فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْأَحْوَالِ. وَالْحَجُّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [197] ، وَفِيهِ لُغَتَانِ- فَتْحُ الْحَاءِ وَكَسْرُهَا- وَلَمْ يُقْرَأْ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهِ فِي الْقُرْآنِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-. وَيَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي فُرِضَ بِهَا الْحَجُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَدِلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ، فَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ حَجِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّمَا كَانَ تَقَرُّبًا إِلَى الله، واستصحابا للحنيفية. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مَرَّتَيْنِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَوَقَفَ مَعَ النَّاسِ. فَأَمَّا إِيجَابُ الْحَجِّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ تَمَالَأَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، فَلَا يُعَدُّ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَجِّ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ إِلَّا تَحَنُّثًا وَتَقَرُّبًا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُ الْحَجُّ فُرِضَ يَوْمَئِذٍ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي وَقْتِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ، وَلَمْ يَعْزُ الْأَقْوَالَ إِلَى أَصْحَابِهَا، سِوَى أَنَّهُ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ فُرِضَ

عَامَ الْخَنْدَقِ، بَعْدَ انْصِرَافِ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ انْصِرَافُهُمْ آخِرَ سِنَةِ خَمْسٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّ وَجَبَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلٌ رَابِعٌ تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَيَكُونُ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَقَرَّرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ مُحْصَرِينَ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَوَقَعَتْ حَجَّةُ سَنَةِ تِسْعٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ صِيغَتَانِ: لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَرْفُ (عَلَى) الدَّالُّ عَلَى تَقَرُّرِ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْمَجْرُورِ بِهَا. وَقَدْ تَعَسَّرَ أَوْ تَعَذَّرَ قِيَامُ الْمُسْلِمِينَ بِأَدَاءِ الْحَجِّ عَقِبَ نُزُولِهَا، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِيجَابِ الْحَجِّ يَوْمَئِذَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِأَدَاءِ الْحَجِّ مَهْمَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَمْنَعُونَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. وَقَوْلُهُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ لِتَقْيِيدِ حَالِ الْوُجُوبِ، وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ حَجُّ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَصِيرُ الْكَلَامُ: لِلَّهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَنْ يَحُجَّ الْمُسْتَطِيعُ مِنْهُمْ، وَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِ جَمِيعِ النَّاسِ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ لَا يَتَّجِهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَفَنَّنُ فِي الْكَلَامِ لِعِلْمِ السَّامِعِ بِأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَرْضٌ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ فَاعِلُ حَجَّ، وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْلِكَ: اسْتَطَاعَ الصَّوْمَ، أَوِ اسْتَطَاعَ حَمْلَ الثِّقْلِ، وَمعنى اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَجَدَ سَبِيلًا وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَالْكَلَامُ بِأَوَاخِرِهِ. وَالسَّبِيلُ هُنَا مَجَازٌ فِيمَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْحَجِّ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ السَّبِيلِ أَقْوَالٌ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا، وَاتَّحَدَتْ أَغْرَاضُهَا، فَلَا يَنْبَغِي بَقَاءُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا مُثْبَتًا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا، فَسَبِيلُ الْقَرِيبِ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ سَهْلٌ جِدًّا، وَسَبِيلُ الْبَعِيدِ الرَّاحِلَةُ وَالزَّادُ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: السَّبِيلُ الْقُدْرَةُ وَالنَّاسُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ

لَا زَادَ لَهُ وَيَسْتَطِيعُ الِاحْتِرَافَ فِي طَرِيقِهِ: فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُزْرِي فَلْيُسَافِرْ وَيَكْتَسِبْ فِي طَرِيقِهِ، وَقَالَ بِمِثْلِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهِيَةَ السَّفَرِ فِي الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ طَرِيقًا غَيْرَهُ كَأَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الْحَج: 27] وَلَمْ أَجِدْ لِلْبَحْرِ ذِكْرًا. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْنِيسٌ مِنْ مَالِكٍ وَلَيْسَتِ الْآيَةُ بِالَّتِي تَقْتَضِي سُقُوطَ سَفَرِ الْبَحْرِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ» وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عِبَادَةٌ كالحجّ، وَكره ماك لِلْمَرْأَةِ السَّفَرَ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ كَشَفَةٌ لَهَا، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ السَّلَامَةُ هِيَ الْغَالِبَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزِ الْإِلْقَاءُ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَحَالُ سَفَرِ الْبَحْرِ الْيَوْمَ أَسْلَمُ مِنْ سَفَرِ الْبَرِّ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ عَارِضَةٍ فِي الْحُرُوبِ إِذَا شَمِلَتِ الْبِحَارَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أَنَّ الْخِطَابَ بِالْحَجِّ وَالِاسْتِطَاعَةَ لِلْمَرْءِ فِي عَمَلِهِ لَا فِي عَمَلِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ فِي الْحَيَاةِ لِعُذْرٍ، فَالْعَاجِزُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَرَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَجَّ التَّطَوُّعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْحَجِّ وَكَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، صَارَ قَادِرًا فِي الْجُمْلَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى . وَأَجَابَ عَنْهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ أَجَابَهَا بِمَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى طَاعَةِ أَبِيهَا، وَطَاعَةِ رَبِّهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُبَارك. لَا تجزىء إلّا إنابة الْأُجْرَة دُونَ إِنَابَةِ الطَّاعَةِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَتِ الِاسْتِطَاعَةُ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرِ أَوْ عَدَمِ اقْتِضَائِهِ إِيَّاهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي. فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ابْنُ الْقَصَّارِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَتَأَوَّلُوهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل، وداوود الظَّاهِرِيِّ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَرِوَايَةُ ابْنِ نَافِعٍ وَأَشْهَبَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِنِينَ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ لَبَيَّنَهُ أَيْ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ السِّتِّينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَوْرُ بِالْحَجِّ إِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا خَشْيَةَ الْمَوْتِ، وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَمَعْنَى الْفَوْرِ أَنْ يُوقِعَهُ الْمُكَلَّفُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي يَحِينُ وَقْتُهَا أَوَّلًا عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُقَابِلُ قَوْلِهِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَيكون المُرَاد بِمن كَفَرَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْكُفْرِ هُنَا تَغْلِيظٌ لِأَمْرِ تَرْكِ الْحَجِّ. وَالْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ تَشْوِيهُ صُنْعِهِ بِأَنَّهُ كَصَنِيعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفَضِيلَةِ حَرَمِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ، وَقَالَ قَوْمٌ بِظَاهِرِهِ: إِنَّ تَرَكَ الْحَجِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَفَرَ. وَنُسِبَ لِلْحَسَنِ. وَلَمْ يَلْتَزِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ لِلْمُقَابَلَةِ وَجَعَلُوهَا جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً. كَالتَّذْيِيلِ، بَيَّنَ بِهَا عَدَمَ اكْتِرَاثِ اللَّهِ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِمن كَفَرَ مَنْ كَفَرَ بِالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُ لَا اعْتِدَادَ بِحَجِّهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَحُجَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَالْمُوَحِّدُونَ لَهُ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 99]

وَفِي قَوْلِهِ: غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ رَمْزٌ إِلَى نَزْعِهِ وِلَايَةَ الْحَرَمِ مِنْ أَيْدِيهِمْ: لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَضَ الْحَجَّ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْهُ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ النَّاسِ، فَهُوَ لَا يُعْجِزُهُ مَنْ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ مُرَاده تَعَالَى. [98، 99] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 98 إِلَى 99] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) ابْتِدَاء كرم رَجَعَ بِهِ إِلَى مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَوْعِظَتِهِمْ فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ الْآيَةَ. أَمَرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالصَّدْعِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. بَعْدَ أَنْ مَهَّدَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ دَلَائِلَ صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ وَلِذَلِكَ افْتَتَحَ بِفِعْلِ قُلْ اهْتِمَامًا بِالْمَقُولِ، وَافْتَتَحَ الْمَقُولَ بِنِدَاءِ أَهْلَ الْكِتَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: إِمَّا الْقُرْآنُ، وَإِمَّا دَلَائِلُ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْكُفْرُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ وَاضِحٌ، وَإِمَّا آيَاتُ فَضِيلَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْكُفْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَجَحْدُهُمْ لِآيَاتِهِ مَعَ ذَلِكَ الْيَقِينِ أَشَدُّ إِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ وَاللَّهُ شَهِيدٌ مُجَرَّدَ خَبَرٍ إِلَّا إِذَا نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ. وَقَوْلُهُ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ تَوْبِيخٌ ثَانٍ وَإِنْكَارٌ عَلَى مُجَادَلَتِهِمْ لِإِضْلَالِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ضَلَالَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ، وَفُصِلَ بِلَا عَطْفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِالْقَصْدِ، وَلَوْ عُطِفَ لَصَحَّ الْعَطْفُ.

وَالصَّدُّ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا: يُقَالُ صَدَّهُ عَنْ كَذَا فَصَدَّ عَنْهُ. وَقَاصِرُهُ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ. فَمُتَعَدِّيهِ بِمَعْنَى جَعْلِ الْمَصْدُودِ مُعْرَضًا أَيْ صَرْفُهُ، وَيُقَالُ: أَصُدُّهُ عَنْ كَذَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَسَبِيلُ اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَدِلَّةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ. وَالْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِمَّا مُحَاوَلَةُ إِرْجَاعِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ بِإِلْقَاءِ التَّشْكِيكِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُلَاقِي مَعْنَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْهِ الرَّاجِعَيْنِ لِلْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ. وَإِمَّا صَدُّ النَّاسِ عَنِ الْحَجِّ أَيْ صَدُّ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ حَجِّ الْكَعْبَة، وترغيبهم فِي حَجِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، بِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَا يُلَاقِي الْكُفْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِهِمُ الْقِبْلَةَ فِي قَوْلِهِمْ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ صَدُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. وَقَوْلُهُ: تَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ تَبْغُونَ السَّبِيلَ فَأَنَّثَ ضَمِيرَهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ: قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: 108] . وَالْبَغْيُ الطَّلَبُ أَيْ تَطْلُبُونَ. وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ- ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ عَوِجَ كَفَرِحَ، وَمَصْدَرُهُ الْعَوَجُ كَالْفَرَحِ. وَقَدْ خَصَّ الِاسْتِعْمَالُ غَالِبًا الْمَصْدَرَ بِالِاعْوِجَاجِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ،، كَالْحَائِطِ وَالْقَنَاةِ. وَخَصَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَصْدَرِ بِالِاعْوِجَاجِ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ كَاعْوِجَاجِ الْأَرْضِ وَالسَّطْحِ، وَبِالْمَعْنَوِيَّاتِ كَالدِّينِ. وَمَعْنَى تَبْغُونَها عِوَجاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَجًا بَاقِيًا عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، فَيَكُونُ عِوَجاً مَفْعُولَ تَبْغُونَها، وَيَكُونُ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَبْغُونَهَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ كَمَا قَالُوا: شَكَرْتُكَ وَبِعْتُكَ كَذَا: أَيْ شَكَرْتُ لَكَ وَبِعْتُ لَكَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، أَيْ تَتَطَلَّبُونَ نِسْبَةَ الْعِوَجِ إِلَيْهَا، وتصوّرونها بَاطِلَة زائغة. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَجًا، وَصْفًا لِلسَّبِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ تَبْغُونَهَا عَوْجَاءَ شَدِيدَةَ الْعِوَجِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَبْغُونَها مَفْعُولَ تَبْغُونَ، وَيَكُونُ عِوَجًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ أَيْ تَرُومُونَهَا مُعْوَجَّةً أَيْ تَبْغُونَ سَبِيلًا مُعْوَجَّةً وَهِيَ سَبِيلُ الشِّرْكِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 إلى 101]

وَالْمَعْنَى: تَصُدُّونَ عَنِ السَّبِيلِ الْمُسْتَقِيمِ وَتُرِيدُونَ السَّبِيلَ الْمُعْوَجَّ فَفِي ضَمِيرِ تَبْغُونَها اسْتِخْدَامٌ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ الْمَصْدُودَ عَنْهَا هِيَ الْإِسْلَامُ، وَالسَّبِيلُ الَّتِي يُرِيدُونَهَا هِيَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حَالٌ أَيْضًا تُوَازِنُ الْحَالَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهَا وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ وَمَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ أَنَّهَا سَبِيلُ اللَّهِ. وَقَدْ أَحَالَهُمْ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَخْزِ قُلُوبِهِمْ، وَانْثِنَائِهِمْ بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ وَتَذْكِيرٌ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورَ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مَوْعِظَتِهِمُ السَّابِقَةِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ إِلَّا أَنَّ هَذَا أَغْلَظُ فِي التَّوْبِيخِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ اعْتِقَادِ غَفْلَتِهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ حَالَهُمْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ حَالِ مَنْ يعْتَقد ذَلِك. [100، 101] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 100 إِلَى 101] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسُوءِ دُعَائِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ خَاطَبَهُمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ خِلَافَ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ [آل عمرَان: 98] وَلَمْ يَقُلْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْفَرِيقُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَأَشَارَ بِهِ هُنَا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ أَرَادَ شَاسًا وَحْدَهُ، وَجَعَلَهُ فَرِيقًا كَمَا جَعَلَ أَبَا سُفْيَانَ نَاسًا فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» وَسِيَاقُ الْآيَةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا جَرَتْ

عَلَى حَادِثَةٍ حَدَثَتْ وَأَنَّ لِنُزُولِهَا سَبَبًا. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ تَخَاذَلُوا وَتَحَارَبُوا حَتَّى تَفَانَوْا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَآخِرُهَا يَوْمُ بُعَاثٍ الَّتِي انْتَهَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ زَالَتْ تِلْكَ الْأَحْقَادُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَأَصْبَحُوا عُدَّةً لِلْإِسْلَامِ، فَسَاءَ ذَلِكَ يَهُودَ يَثْرِبَ فَقَامَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ شَيْخٌ قَدِيمٌ مِنْهُمْ، فَجَلَسَ إِلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ حُرُوبَ بُعَاثٍ، فَكَادُوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَنَادَى كُلُّ فَرِيقٍ: يَا لَلْأَوْسِ! وَيَا لَلْخَزْرَجِ! وَأَخَذُوا السِّلَاحَ، فَجَاءَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْجَاهِلِيَّةَ- وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! وَفِي رِوَايَةٍ: أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! أَيْ أَتَدْعُونَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ- وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ، فَمَا فَرَغَ مِنْهَا حَتَّى أَلْقَوُا السِّلَاحَ، وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كَانَ طَالِعٌ أَكْرَهَ إِلَيْنَا مِنْ طُلُوعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْلَحَ اللَّهُ بَيْنَنَا مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ وَلَا أَوْحَشَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَأَصْلُ الرَّدِّ الصَّرْفُ وَالْإِرْجَاعُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الْحَج: 5] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ بَعْدَ الْمُخَالَطَةِ فَيُفِيدُ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ، فِيمَا أَنْشَدَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ: فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضًا ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودًا وكافِرِينَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ يَرُدُّوكُمْ وَالْقَصْدُ من التّصريح بِهِ تَوْضِيحُ فَوَاتِ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ كَانُوا فِيهَا لَوْ يَكْفُرُونَ. وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْعَادِ استبعادا لكفرهم ونفيا لَهُ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 إلى 103]

وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ حَالِيَّةٌ، وَهِيَ مَحَطُّ الِاسْتِبْعَادِ وَالنَّفْيِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيهِمْ وَازِعٌ لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَأَيُّ وَازِعٍ، فَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ الْقُرْآنُ وَمَوَاعِظُهُ. وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَفِيكُمْ رَسُولُهُ حَقِيقِيَّةٌ وَمُؤْذِنَةٌ بِمَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنَّةٍ جَلِيلَةٍ، وَهِيَ وُجُودُ هَذَا الرَّسُولِ الْعَظِيمِ بَيْنَهُمْ، تِلْكَ الْمَزِيَّةُ الَّتِي فَازَ بِهَا أَصْحَابُهُ الْمُخَاطَبُونَ. وَبِهَا- يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «لَا تسبّوا أَصْحَابِي فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» النَّصِيفُ نِصْفُ مُدٍّ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّ لَهُمْ وَازِعَيْنِ عَنْ مُوَاقَعَةِ الضَّلَالِ: سَمَاعُ الْقُرْآنِ، وَمُشَاهَدَةُ أَنْوَارِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّ وُجُودَهُ عِصْمَةٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا الرَّسُولُ فَقَدْ مَضَى إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَبَاقٍ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بالدّين فَلَا يخْش عَلَيْهِ الضَّلَالُ. فَالِاعْتِصَامُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلتَّمَسُّكِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا حَيَاةَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [102، 103] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 102 إِلَى 103] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

(103) انْتَقَلَ مِنْ تَحْذِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الِانْخِدَاعِ لِوَسَاوِسِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَى تَحْرِيضِهِمْ عَلَى تَمَامِ التَّقْوَى، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ صَلَاحٍ لَهُمْ وَرُسُوخًا لِإِيمَانِهِمْ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْرِي إِلَى جَمِيعِ مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالتَّقْوَى تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وحاصلها امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فِي الْأَعْمَالِ الظّاهرة، والنّوايا الْبَاطِنَة. وَحَقُّ التَّقْوَى هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا تَقْصِيرٌ، وَتَظَاهُرٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ الْقُدْرَة، والتّقوى مقدورة لِلنَّاسِ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَعَارُضٌ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَلَا نَسْخٌ، وَقِيلَ: هَاتِهِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لِأَنَّ هَاتِهِ دَلَّتْ عَلَى تَقْوَى كَامِلَةٍ كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَرَوَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يقوى لهَذَا» فَنزلت قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَ هَذِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَتَيْنِ للْوُجُوب، وَعَلَى اخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنَ التَّقَوَيَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لَا نَسْخٌ، كَمَا حَقَّقَهُ المحقّقون، وَلَكِن شا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْبَيَانَ. وَالتُّقَاةُ اسْمُ مَصْدَرِ. اتَّقَى وَأَصْلُهُ وُقَيَةٌ ثُمَّ وُقَاةٌ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً تَبَعًا لِإِبْدَالِهَا فِي الِافْتِعَالِ إِبْدَالًا قَصَدُوا مِنْهُ الْإِدْغَامَ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: 28] . وَقَوْلُهُ: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى حَالَةٍ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَمَحَطُّ النَّهْيِ هُوَ الْقَيْدُ: أَعْنِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ وَالْمُسْتَثْنَى وَهُوَ جُمْلَةُ الْحَالِ، لِأَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ، وَهَذَا الْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ مُفَارَقَةِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ

مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ عِلَاقَتُهُ اللُّزُومُ، لِمَا شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ سَاعَةَ الْمَوْتِ أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ فَالنَّهْيُ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ فِي سَائِرِ أَحْيَانِ الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ، لَكَانَ تَرْخِيصًا فِي مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَعْنًى فَاسِدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ثَنَّى أَمْرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ لَأُخْرَاهُمْ، بِأَمْرِهِمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ حَالِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَذَلِكَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ لِيَكْتَسِبُوا بِاتِّحَادِهِمْ قُوَّةً وَنَمَاءً. وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنْ عَصَمَ وَهُوَ طَلَبُ مَا يَعْصِمُ أَيْ يَمْنَعُ. وَالْحَبْلُ: مَا يُشَدُّ بِهِ لِلِارْتِقَاءِ، أَوِ التَّدَلِّي، أَوْ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ اجْتِمَاعِهِمْ وَالْتِفَافِهِمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَوَصَايَاهُ وَعُهُودِهِ بِهَيْئَةِ اسْتِمْسَاكِ جَمَاعَةٍ بِحَبْلٍ أُلْقِيَ إِلَيْهِم من مُنْقِذٍ لَهُمْ مِنْ غَرَقٍ أَوْ سُقُوطٍ، وَإِضَافَةُ الْحَبْلِ إِلَى اللَّهِ قَرِينَةُ هَذَا التَّمْثِيلِ. وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً حَالٌ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ إِرَادَةَ التَّمْثِيلِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْرَ بِاعْتِصَامِ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي حَالِ انْفِرَادِهِ اعْتِصَامًا بِهَذَا الدِّينِ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْأَمْرُ بِاعْتِصَامِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَيَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الدّين، فَالْكَلَام أَمر لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى هَاتِهِ الْهَيْئَةِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمُنَاسِبُ لِتَمَامِ الْبَلَاغَةِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الِاعْتِصَامُ لِلتَّوْثِيقِ بِالدِّينِ وَعُهُودِهِ، وَعَدَمِ الِانْفِصَالِ عَنْهُ، وَيُسْتَعَارُ الْحَبْلُ لِلدِّينِ وَالْعُهُودِ كَقَوْلِهِ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمرَان: 112] وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ تَرْشِيحًا لِلْأُخْرَى، لِأَنَّ مَبْنَى التَّرْشِيحِ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْوِيَةِ التَّشْبِيهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ لَفْظِ مَا هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُسْتَعَارِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُلَائِمِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى، إِذْ

لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ إِلَّا قُوَّةً. وَلَيْسَت الِاسْتِعَارَةُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى جَدِيدٍ حَتَّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ الْجَدِيدَةَ، الْحَاصِلَةَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الثَّانِيَةِ، صَارَتْ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا هِيَ اعْتِبَارَاتٌ لَطِيفَةٌ تَزِيدُ كَثْرَتُهَا الْكَلَامَ حُسْنًا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّوْرِيَةُ، فَإِنَّ فِيهَا حُسْنًا بِإِيهَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْآخَرُ مَقْصُودًا، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ صَرِيحًا فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الدِّينِ بَلْ ظَاهِرُهُ أنّه أَمر للْمُؤْمِنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إِلَى أَمْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: جَمِيعاً مُحْتَمِلًا لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَفَرَّقُوا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ اعتصموا جَمِيعًا كَقَوْلِهِم: ذَمَمْتُ وَلَمْ تُحْمَدْ. عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَفَرَّقُوا أَمْرًا ثَانِيًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى طَلَبِ الِاتِّحَادِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [140] وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ. وَقَوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَصْوِير لِحَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا لِيَحْصُلَ مِنِ اسْتِفْظَاعِهَا انْكِشَافُ فَائِدَةِ الْحَالَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا عَلَيْهَا وَهِيَ الِاعْتِصَامُ جَمِيعًا بِجَامِعَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نَجَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي اخْتَارَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ، وَفِي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى إِجَابَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالِاتِّفَاقِ. وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ مَوَاعِظِ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] وَقَالَ عَنْ شُعَيْبٍ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَاف: 86] وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] . وَهَذَا التَّذْكِيرُ خَاصٌّ بِمن أسلم من الْمُسلمين بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ

لِلصَّحَابَةِ وَلَكِنَّ الْمِنَّةَ بِهِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ جِيلٍ يُقَدِّرُ أَنْ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ إِسْلَامُ الْجِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ لَكَانُوا هُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً مُعْتَبَرٌ فِيهَا التَّعْقِيبُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ إِذِ النِّعْمَةُ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْعَدَاوَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَ حُصُولِ التَّأْلِيفِ عَقِبَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَفْرَادٌ قَلِيلُونَ مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْقَرِيبَةِ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي عَدَاوَةٍ وَحُرُوبٍ، فَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ دَامَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهَا كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ، وَالْعَرَبُ كَانُوا فِي حُرُوبٍ وَغَارَاتٍ (¬1) بَلْ وَسَائِرُ الْأُمَمِ الَّتِي دَعَاهَا الْإِسْلَامُ كَانُوا فِي تَفَرُّقٍ وَتَخَاذُلٍ فَصَارَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ إِخْوَانًا وَأَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَنْسَابٍ، وَلَا تَبَاعُدُ مَوَاطِنَ، وَلَقَدْ حَاوَلَتْ حُكَمَاؤُهُمْ وَأُولُو الرَّأْيِ مِنْهُمُ التَّأْلِيفَ بَيْنَهُمْ، وَإِصْلَاحَ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، بِأَفَانِينِ الدَّعَايَةِ مِنْ خَطَابَةٍ وَجَاهٍ وَشِعْرٍ (¬2) فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مَا ابْتَغَوْا حَتَّى أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْإِسْلَامِ فَصَارُوا بِذَلِكَ التَّأْلِيفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَانِ. ¬

(¬1) كَانَت قبائل الْعَرَب أَعدَاء بَعضهم لبَعض فَمَا وجدت قَبيلَة غرّة من الْأُخْرَى إِلَّا شنّت عَلَيْهَا الْغَارة. وَمَا وجدت الْأُخْرَى فرْصَة إِلَّا نادت بالثارة. وَكَذَلِكَ تَجِد بطُون الْقَبِيلَة الْوَاحِدَة وَكَذَلِكَ تَجِد بني الْعم من بطن وَاحِد أَعدَاء متغالبين على الْمَوَارِيث والسؤدد، قَالَ أَرْطَأَة بن سهية الذبياني من شعراء الأموية: وَنحن بَنو عَم على ذَات بَيْننَا ... زرابي فِيهَا بغضة وتنافس (¬2) مثل خطاب شُيُوخ بني أَسد لامرى الْقَيْس حِين عزم على قِتَالهمْ أخذا بثأره. وَمثل توَسط هرم بن سِنَان والْحَارث بن عَوْف. وَقَالَ زُهَيْر: وَمَا الْحَرْب إِلَّا مَا علمْتُم وذقتم ... الأبيات. وَقَالَ النَّابِغَة: أَلا يَا لَيْتَني والمرء ميت ... الأبيات

وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ الْأَخِ، مِثْلُ الْإِخْوَةِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْإِخْوَانُ بِالْأَخِ الْمَجَازِيِّ وَالْإِخْوَةُ بِالْأَخِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ تَعَالَى: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ [النُّور: 61] وَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ فِي الْجَمْعِ أَوِ الْمُفْرَدِ وَإِلَّا لَبَطَلَ كَوْنُ اللَّفْظِ مَجَازًا وَصَارَ مُشْتَرَكًا، لَكِنْ لِلِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُغَلِّبَ إِطْلَاقُ إِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ الْمَوْضُوعَتَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُغَلِّبُهَا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَالْأُخْرَى فِي الْحَقِيقِيِّ. وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَشْنَعِ حَالَةٍ إِلَى أَحْسَنِهَا: فَحَالَةٌ كَانُوا عَلَيْهَا هِيَ حَالَةُ الْعَدَاوَةِ وَالتَّفَانِي وَالتَّقَاتُلِ، وَحَالَةٌ أَصْبَحُوا عَلَيْهَا وَهِيَ حَالَةُ الْأُخُوَّةِ وَلَا يُدْرِكُ الْفرق بَين الْحَالَتَيْنِ إِلَّا مَنْ كَانُوا فِي السُّوأَى فَأَصْبَحُوا فِي الْحُسْنَى، وَالنَّاسُ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ بُؤْسٍ وَضَنْكٍ وَاعْتَادُوهَا صَارَ الشَّقَاءُ دَأْبَهَمْ، وَذَلَّتْ لَهُ نُفُوسُهُمْ فَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَلَا يتفظّنوا لِوَخِيمِ عَوَاقِبِهِ، حتّى إِذا هيّىء لَهُمُ الصَّلَاحُ، وَأَخَذَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمُ اسْتَفَاقُوا مِنْ شَقْوَتِهِمْ، وَعَلِمُوا سُوءَ حَالَتِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى جَمَعَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الِامْتِنَانِ بَيْنَ ذِكْرِ الْحَالَتَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَتِهِ الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ أَصْبَحْتُمْ إِخْوَانًا مصاحبين نعْمَة من اللَّهِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْأُخُوَّةِ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ اللِّهْبِيِّ: كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها عَطْفٌ عَلَى كُنْتُمْ أَعْداءً فَهُوَ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِنْقَاذِ مِنْ حَالَةٍ أُخْرَى بَئِيسَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُهْلِكَاتِ. وَالشَّفَا مِثْلُ الشَّفَةِ هُوَ حَرْفُ الْقَلِيبِ وَطَرَفِهِ، وَأَلِفُهُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ. وَأَمَّا وَاوُ شَفَةٍ فَقَدْ حُذِفَتْ وَعُوِّضَتْ عَنْهَا الْهَاءُ مِثْلُ سَنَةٍ وَعِزَةٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوهُ عَلَى شَفَوَاتٍ وَلَا على شفين بَلْ قَالُوا شِفَاهٌ كَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِالْهَاءِ كَالْأَصْلِ.

فَأَرَى أَنَّ شَفَا حُفْرَةِ النَّارِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانُوا عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ وَالتَّفَانِي الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ زُهَيْرٌ بِقَوْلِهِ: تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَمِ بِحَالِ قَوْمٍ بَلَغَ بِهِمُ الْمَشْيُ إِلَى شَفَا حَفِيرٍ مِنَ النَّارِ كَالْأُخْدُودِ فَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهَلَاكِ السَّرِيعِ التَّامِّ إِلَّا خُطْوَةٌ قَصِيرَةٌ، وَاخْتِيَارُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا هُنَا لِأَنَّ النَّارَ أَشَدُّ الْمُهْلِكَاتِ إِهْلَاكًا، وَأَسْرَعُهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي حَمْلِ الْآيَةِ لِيَكُونَ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَتَيْنِ مَحْسُوسَتَيْنِ هُمَا: نِعْمَةُ الْأُخُوَّةِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ، وَنِعْمَةُ السَّلَامَةِ بَعْدَ الْخَطَرِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: نَجَاةً مِنَ الْبَأْسَاءِ بَعْدَ وُقُوعِ وَالْإِنْقَاذُ مِنْ حَالَتَيْنِ شَنِيعَتَيْنِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ نَارَ جَهَنَّمَ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: شَفا حُفْرَةٍ مُسْتَعَارًا لِلِاقْتِرَابِ اسْتِعَارَةَ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ. وَالنَّارُ حَقِيقَةٌ، وَيُبْعِدُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُفْرَةٍ إِذْ لَيْسَتْ جَهَنَّمُ حُفْرَةً بل هِيَ عَالَمٌ عَظِيمٌ لِلْعَذَابِ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ» لَكِن ذَلِكَ رُؤْيَا جَاءَتْ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَهِيَ لَا يُحِيطُ بِهَا النَّظَرُ. وَيَكُونُ الِامْتِنَانُ عَلَى هَذَا امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَهُمْ لِيَقِينِهِمْ بِدُخُولِ الْكَفَرَةِ النَّارَ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَفَاهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ نَارَ الْحَرْبِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ نَارَ الْحَرْبِ لَا تُوقَدُ فِي حُفْرَةٍ بَلْ تُوقَدُ فِي الْعَلْيَاءِ لِيَرَاهَا مَنْ كَانَ بَعِيدًا كَمَا قَالَ الْحَارِثُ: وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدُ النَّارَ ... عِشَاءً تُلْوِي بِهَا الْعَلْيَاءُ فَتَنَوَّرَتْ نَارُهَا مِنْ بَعِيدٍ ... بِخَزَازَى أَيَّانَ مِنْكَ الصِّلَاءُ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُلَابِسِينَ لَهَا وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى مُقَارَبَتِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها لِلنَّارِ عَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ لِشَفَا حُفْرَةٍ وَعَادَ عَلَيْهِ بالتأنيث لاكتسابه التّأنيث مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 إلى 105]

وَتَشْرَقَ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ حَتَّى تَكْمُلَ عُقُولُهُمْ، وَيَتَبَيَّنُوا مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَالْبَيَانُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْإِيضَاحِ. وَالْآيَاتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا النعم، كَقَوْل الْحَرْث بْنِ حِلِّزَةَ: مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا ... تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا دَلَائِلُ عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِهِمْ وَتَثْقِيفِ عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا غَايَةٌ فِي الْإِفْصَاحِ عَنِ الْمَقَاصِدِ وَإِبْلَاغِ الْمَعَانِي إِلَى الأذهان. [104، 105] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 104 إِلَى 105] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) هَذَا مُفَرَّعٌ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ لَهُمْ نِعْمَةَ نَقْلِهِمْ مِنْ حَالَتَيْ شَقَاءٍ وَشَنَاعَةٍ إِلَى حَالَتَيْ نَعِيمٍ وَكَمَالٍ، وَكَانُوا قَدْ ذَاقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْأَمَّرَيْنِ ثُمَّ الْأَحْلَوَيْنِ، فَحَلَبُوا الدَّهْرَ أَشَطْرَيْهِ، كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَسْعَوْا بِكُلِّ عَزْمِهِمْ إِلَى انْتِشَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ سُوءِ مَا هُوَ فِيهِ إِلَى حُسْنَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً خَيِّرَةً. وَفِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ حُبُّ الْمُشَارِكَةِ فِي الْخَيْرِ لِذَلِكَ تَجِدُ الصَّبِيَّ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَعْجَبَهُ نَادَى مَنْ هُوَ حَوْلَهُ لِيَرَاهُ مَعَهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ حَرِيًّا بِأَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ، وَلَوْ عُطِفَ بِهَا لَكَانَ أُسْلُوبًا عَرَبِيًّا إِلَّا أَنَّهُ عُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ

مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ لَكَانَ هُوَ حَرِيًّا بِأَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مَذْكُورًا لِأَجْلِ التَّفَرُّعِ عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّبَعِ. وَفِيهِ مِنْ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ فِي التَّقْسِيمِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْخَطَابَةِ: وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كُفْرَهُمْ وَصَدَّهُمُ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمرَان: 98، 99] الْآيَةَ. وَقَابَلَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ إِذْ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: 102] وَقَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الْآيَةَ. وَصِيغَةُ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ صِيغَةُ وُجُوبٍ لِأَنَّهَا أَصْرَحُ فِي الْأَمْرِ مِنْ صِيغَةِ افْعَلُوا لِأَنَّهَا أَصْلُهَا. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ غَيْرَ مَعْلُومٍ بَيْنَهُمْ مِنْ قِبَلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْأَمْرُ لِتَشْرِيعِ الْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 110] فَالْأَمْرُ لِتَأْكِيدِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَوُجُوبِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَقَدْ كَانَ الْوُجُوبُ مُقَرَّرًا مِنْ قَبْلُ بِآيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: 3] ، أَوْ بِأَوَامِرَ نَبَوِيَّةٍ. فَالْأَمْرُ لِتَأْكِيدِ الْوُجُوبِ أَيْضًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، مِثْلُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النِّسَاء: 136] . وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ وَالطَّائِفَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَاف: 38] . وأصل الأمّة فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَؤُمُّ قَصْدًا وَاحِدًا: مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَوْطِنٍ أَوْ دِينٍ، أَوْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ مَا يَجْمَعُهَا بِالْإِضَافَةِ أَوِ الْوَصْفِ كَقَوْلِهِمْ: أُمَّةُ الْعَرَبِ وَأُمَّةُ غَسَّانَ وَأُمَّةُ النَّصَارَى. وَالْمُخَاطَبُ بِضَمِيرِ (مِنْكُمْ) إِنْ كَانَ هُمْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ

الْخِطَابَاتِ السَّابِقَةِ آنِفًا جَازَ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) بَيَانِيَّةً وَقُدِّمَ الْبَيَانُ عَلَى المبيّن وَيكون مَا صدق الْأُمَّةِ نَفْسُ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَصْحَابُ هَذَا الْوَصْفِ قَدْ أُمِرُوا بِأَنْ يُكَوِّنُوا مِنْ مَجْمُوعِهِمُ الْأُمَّةَ الْمَوْصُوفَةَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْمَقْصُودُ تَكْوِينُ هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ التَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ فَإِذَا تَخَلَّقُوا بِهِ تَكَوَّنَتِ الْأُمَّةُ الْمَطْلُوبَةُ. وَهِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ. وَهِيَ أَهْلُ الْمَدِينَة الفاضلة المنشود لِلْحُكَمَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ الْمُوجَزِ. وَفِي هَذَا مُحَسِّنُ التَّجْرِيدِ: جُرِّدَتْ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أُمَّةٌ أُخْرَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ مِنْ بَنِيهِ أَنْصَارٌ. وَالْمَقْصُودُ: وَلْتَكُونُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى تَكُونُوا أُمَّةً هَذِهِ صِفَتُهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَيَكُونُ جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُوطِبُوا بِأَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ، وَلَا جَرَمَ فَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِتَبْلِيغِهَا. وَأَعْلَمُ بِمَشَاهِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَيَشْهَدُ لهَذَا قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ: «لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» وَإِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ مَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الضَّمِيرِ خِطَابًا لأَصْحَاب محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ وَالْفَرِيقُ، أَيْ: وَلْيَكُنْ بَعْضُكُمْ فَرِيقًا يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالطَّبَرِيُّ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَهُمْ خَاصَّةُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ وَهُمْ خَاصَّةُ الرُّوَاةِ. وَأَقُولُ: عَلَى هَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ جِيلٍ بَعْدَهُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْهُدَى. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ،

وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ [التَّوْبَة: 122] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالضَّمِيرِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِيَّاهُمْ أَيْضًا، كَانَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الطَّائِفَةَ إِذْ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مَأْمُورِينَ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلْ يَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالطَّبَرِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ جَمَاعَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ حُصُولُ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فُرِضَ عَلَى الْأُمَّةِ وُقُوعُهُ. عَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) بَيَانِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأُمَّةَ وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِقَامَةُ ذَلِكَ فِيهِمْ وَأَنْ لَا يَخْلُوا عَنْ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ الْحَاجَةِ وَمِقْدَارِ الْكَفَاءَةِ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا جَارِيًا عَلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ وَصْفِ الْقَبِيلَةِ بِالصِّفَاتِ الشَّائِعَةِ فِيهَا الْغَالِبَةِ عَلَى أَفْرَادِهَا كَقَوْلِهِمْ: بَاهِلَةُ لِئَامٍ، وَعُذْرَةُ عُشَّاقٍ. وَعَلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَجْرِي الِاعْتِبَارَاتُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا كَمَا سَيَأْتِي. إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ تَتَفَاوَتُ: فَمِنْهَا مَا هُوَ بَيِّنٌ يَقُومُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ فَيَقُومُ بِهِ أَهْلُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، يَعْنِي إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ كَفَى عَنْ قِيَامِ الْبَاقِينَ، وَتَتَعَيَّنُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا بِتَوَفُّرِ شُرُوطِ الْقِيَامِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيهَا. كَالْقُوَّةِ عَلَى السِّلَاحِ فِي الْحَرْبِ، وَكَالسِّبَاحَةِ فِي إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، وَالْعِلْمِ بِأُمُورِ الدِّينِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَذَلِكَ تَعَيُّنُ الْعَدَدِ الَّذِي يَكْفِي لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ مِثْلَ كَوْنِ الْجَيْشِ نِصْفَ عَدَدِ جَيْشِ الْعَدُوِّ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ مُتَعَلِّقًا فَالْمَأْمُورُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ فِيهِمُ الشُّرُوطُ، وَمَجْمُوعُ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوِ الْقَبِيلَةِ،

لِتَنْفِيذِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْعَدَدُ الْكَافِي مِمَّنْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا لَمْ يَقُومُوا بِهِ كَانَ الْإِثْمُ عَلَى الْبَلَدِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، لِسُكُوتِ جَمِيعِهِمْ، وَلِتَقَاعُسِ الصَّالِحِينَ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، مَعَ سُكُوتِهِمْ أَيْضًا ثُمَّ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ فَإِنَّمَا يُثَابُ الْبَعْضُ خَاصَّةً. وَمَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَثُّ دَعْوَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْخَيْرَ اسْمٌ يَجْمَعُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ: فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ» الْحَدِيثَ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ عَطْفُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى مُغَايِرِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الْعَطْفِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْخَيْرِ مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَكُونُ الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَحُذِفَتْ مَفَاعِيلُ يَدْعُونَ وَيَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ أَيْ يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس: 25] . وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا يُعْرَفُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْمَقْبُولِ الْمَرْضِيِّ بِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَانَ مَأْلُوفًا مَقْبُولًا مَرْضِيًّا بِهِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ، وَفِي الشَّرَائِعِ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّلَاحُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعَوَارِضِ. وَالْمُنْكَرُ مَجَازٌ فِي الْمَكْرُوهِ، وَالْكُرْهُ لَازِمٌ للإنكار لأنّ النكر فِي أَصْلِ اللِّسَانِ هُوَ الْجَهْلُ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ غَيْرِ الْمَأْلُوفِ نَكِرَةً، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْبَاطِلُ وَالْفَسَادُ، لِأَنَّهُمَا مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي الْجِبِلَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعَوَارِضِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْخَيْرِ- وَالْمَعْرُوف- وَالْمُنكر) تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِحَسْبِ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ وَالْمَقْدِرَةُ فَيُشْبِهُ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ عَيَّنَ جَعْلَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ لِلْبَيَانِ،

وَتَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلْتَكُنْ أُمَّةٌ هِيَ أَنْتُمْ أَيْ وَلْتَكُونُوا أُمَّةً يَدْعُونَ مُحَاوَلَةً لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمرَان: 110] الْآيَة. وَمُسَاوَاةُ مَعْنَيَيِ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ هَاتِهِ الْأُمَّةُ، الَّتِي قَامَتْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَالِكَ. وَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ أَنْ تَقُومَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ أَقْسَامِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ هُوَ بَيَانُ الْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرُ بِهِ، وَبَيَانُ الْمُنْكَرِ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَمَّا امْتِثَالُ الْمَأْمُورِينَ وَالْمَنْهِيِّينَ لِذَلِكَ، فَمَوْكُولٌ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ» فَذَلِكَ مَرْتَبَةُ التَّغْيِيرِ، وَالتَّغْيِيرُ يَكُونُ بِالْيَدِ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ، أَيْ تَمَنِّي التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلَا يَكُونَانِ بِهِمَا. وَالْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ إِنْ كَانَا ضَرُورِيَّيْنِ كَانَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَا نَظَرِيَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيهِمَا أَهْلُ الْعِلْمِ. وَلِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ شُرُوطٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْفِقْهِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، إلَّا أَنِّي أُنَبِّهُ إِلَى شَرْطٍ سَاءَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاء: يشْتَرط أَن لَا يَجُرَّ النَّهْيُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ. وَهَذَا شَرْطٌ قَدْ خَرَمَ مَزِيَّةَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ ذَرِيعَةً لِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ. وَلَقَدْ سَاءَ فهمهم فِيهِ إِذا مُرَادُ مُشْتَرِطِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْأَمْرَ أَنَّ أَمْرَهُ يَجُرُّ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ لَا أَن يخَاف أَو يُتَوَهَّمَ إِذِ الْوُجُوبُ قَطْعِيٌّ لَا يُعَارِضُهُ إِلَّا ظَنٌّ أَقْوَى. وَلَمَّا كَانَ تَعْيِينُ الْكَفَاءَةِ لِلْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ، فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَمَرَاتِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ، وَإِفْهَامِ النَّاسِ ذَلِك، رأى أيمة الْمُسْلِمِينَ تَعْيِينَ وُلَاةٍ لِلْبَحْثِ عَنْ

الْمُنَاكِرِ وَتَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ بِتَغْيِيرِهَا، وَسَمَّوْا تِلْكَ الْوِلَايَةَ بِالْحِسْبَةِ، وَقَدْ أَوْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي هَاتِهِ الْوِلَايَةِ أُمِّ الشِّفَاءِ، وَأَشْهَرُ مِنْ وَلِيَهَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ابْنُ عَائِشَةَ، وَكَانَ رَجُلًا صُلْبًا فِي الْحَقِّ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي الْمَغْرِبِ وِلَايَةُ السُّوق وَقد وَليهَا فِي قُرْطُبَةَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مَرْتَنِيلَ الْقُرْطُبِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشَجِّ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْقَاسِمِ تُوُفِّيَ سَنَةَ 220. وَكَانَتْ فِي الدَّوْلَةِ الْحَفْصِيَّةِ وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ مِنَ الْوِلَايَاتِ النَّبِيهَةِ وَرُبَّمَا ضُمَّتْ إِلَى الْقَضَاءِ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي تُونُسَ بَعْدَ الدَّوْلَةِ الْحَفْصِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِفَاتِ أُمَّةٍ وَهِيَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا جُمَلُ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَهُمْ مُفْلِحُونَ: لِأَنَّ الْفَلَاحَ لَمَّا كَانَ مُسَبِّبًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةٍ لَهُمْ، وَيَجُوزُ جَعْلُ جُمْلَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حَالًا مِنْ أُمَّةٍ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ بِشَارَتُهُمْ بِالْفَلَاحِ الْكَامِلِ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا بِدُونِ عَطْفٍ، مِثْلَ فَصْلِ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] لَكِنَّ هَذِهِ عُطِفَتْ أَوْ جَاءَتْ حَالًا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا جَزَاءً عَنِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهِيَ أَجْدَرُ بِأَنْ تُلْحَقَ بِهَا. وَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرُ صِفَةِ الْفَلَاحِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ إِمَّا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ مَعَ الْمَقْدِرَةِ عَلَيْهِ وَإِمَّا قَصْرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِفَلَاحِ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ- قَبْلُ-: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمرَان: 103] لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ التَّفَرُّقِ فِي أَبْشَعِ صُوَرِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَدَيْهِمْ من مطالعة أَحْوَال الْيَهُودِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ إِذْ تَكْثُرُ النَّزَعَاتُ وَالنَّزَغَاتُ وَتَنْشَقُّ الْأُمَّةُ بِذَلِكَ انْشِقَاقًا شَدِيدًا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 إلى 107]

وَالْمُخَاطَبُ بِهِ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ مَعَ أنّه لَا شَكَّ فِي أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْحَالَةُ الشَّبِيهَةُ بِحَالِ الَّذِينَ تفرّقوا وَاخْتلفُوا. وَأُرِيد بالّذين تفرّقوا وَاخْتلفُوا الّذين اخْتلفُوا فِي أُصُولِ الدِّينِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ. وَقُدِّمَ الِافْتِرَاقُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ عِلَّةُ التَّفَرُّقِ وَهَذَا مِنَ الْمُفَادَاتِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ وَذِكْرِ الْأَشْيَاء مَعَ مقارناتها، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 282] . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الِافْتِرَاقِ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ الْأُمَّةِ بَعْضًا، أَوْ تَفْسِيقِهِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَعْصَارِ، وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَنَحْنُ إِذَا تَقَصَّيْنَا تَارِيخَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا نَجِدُ افْتِرَاقًا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأُصُولِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الَّتِي فِيهَا عِصْمَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الِاخْتِلَافِ لَوْ قُيِّضَتْ لَهَا أَفْهَامٌ. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مُقَابِلَ قَوْلِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهَذَا جَزَاء لَهُم عَلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَعَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي تجنّب أَسبَابه. [106، 107] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 106 إِلَى 107] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ

(107) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ مَعْنَى كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ: أَيْ يَكُونُ عَذَابٌ لَهُمْ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِضَافَةِ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ إِلَى الْجُمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ اذْكُرْ مَحْذُوفًا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ صفة ل (يَوْم) عَلَى تَقْدِيرِ: تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ فِيهِ وُجُوهٌ. وَفِي تَعْرِيفِ هَذَا الْيَوْمِ بِحُصُولِ بَيَاضِ وُجُوهٍ وَسَوَادِ وُجُوهٍ فِيهِ، تَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، وَتَشْوِيقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ الْمُبْيَضَّةِ، وَالْوُجُوهِ الْمُسْوَدَّةِ: تَرْهِيبًا لِفَرِيقٍ وَتَرْغِيبًا لِفَرِيقٍ آخَرَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ عِلْمَ السَّامِعِينَ بِوُقُوعِ تَبْيِيضِ وُجُوهٍ وَتَسْوِيدِ وُجُوهٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ: فِي الْآيَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] وَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: 38- 41] . وَالْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ حَقِيقِيَّانِ يُوسَمُ بِهِمَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُمَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ خَاصَّانِ لِأَن هَذَا م أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَلَا دَاعِيَ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ السَّابِقِ، سُلِكَ فِيهِ طَرِيقُ النَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، وَفِيهِ إِيجَازٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَهُمُ الْكَافِرُونَ يُقَالُ لَهُمْ أكفرتم إِلَى آخر: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. قدّم عِنْدَ وَصْفِ الْيَوْمِ ذِكْرُ الْبَيَاضِ، الَّذِي هُوَ شِعَارُ أَهْلِ النَّعِيمِ، تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ ظُهُورِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ، وَلِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ سِمَةِ أَهْلِ النَّعِيمِ، عَقِبَ وَعِيدِ بِالْعَذَابِ، حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، إِذْ

يَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا فِي يَوْمٍ فِيهِ نُعَيْمٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ قَدَّمَ فِي التَّفْصِيلِ ذِكْرَ سِمَةِ أَهْلِ الْعَذَابِ تَعْجِيلًا بِمُسَاءَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ أَكَفَرْتُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُحْذَفُ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ لِظُهُورِهِ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مُسْتَفْهِمٍ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ جَوَابُ أَمَّا، وَلذَلِك لم تدحل الْفَاءُ عَلَى أَكَفَرْتُمْ لِيَظْهَرَ أَنْ لَيْسَ هُوَ الْجَوَابُ وَأَنَّ الْجَوَابَ حُذِفَ بِرُمَّتِهِ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مَجْهُولٌ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ لَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُمْ فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ رَأَوْهُمْ وَعَلَيْهِمْ سِمَةُ الْكُفْرِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ «فَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ ثُمَّ يُخْتَلَجُونَ دوني، فَأَقُول: أصيحابي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» وَالْمُسْتَفْهِمُ سَلَفُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَعَ كِنَايَتِهِ عَنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ. وَيحْتَمل أنّه يَقُوله تَعَالَى لَهُمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ مَجَازٌ عَنِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْلِيطِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ تَغْيِيرُهُمْ شَرِيعَةَ أَنْبِيَائِهِمْ وَكِتْمَانُهُمْ مَا كَتَمُوهُ فِيهَا، أَوْ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَعِيسَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [آل عمرَان: 90] وَهَذَا هُوَ الْمَحْمَلُ الْبَيِّنُ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ وَلَفْظُهُ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُ مَسُوقٌ لِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَوَقَعَتْ تَأْوِيلَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا بِهَا فِيمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ الْقُرْآنُ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ: الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» مِثْلَ أَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأَوَّلَ الْآيَةَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ فِي ثَالِثَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ كِتَابِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُحَارِبِينَ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: «مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ» يَوْمَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 إلى 109]

تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا هَذِهِ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ. يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَرَوَاهُ أَبُو غَسَّانَ مَالِكٌ الْهَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ أَحْدَثُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرًا بِالرِّدَّةِ أَوْ بِشَنِيعِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ وَنَقْضِ الشَّرِيعَةِ، مِثْلُ الْغُرَابِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ النُّبُوءَةَ لَعَلِيٍّ، وَمِثْلُ غُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَتْبَاعِ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَتْبَاعِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ بِهِ مَقَالَتُهُ إِلَى الْكُفْرِ تَصْرِيحًا وَلَا لُزُومًا بَيِّنًا مِثْلِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ فِي حُكْمِ المتأوّلين وَمن يؤول قَوْلَهُمْ إِلَى لَوَازِمَ سَيِّئَةٍ. وَذَوْقُ الْعَذَابِ مَجَازٌ لِلْإِحْسَاسِ وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ علاقته التَّقْيِيد. [108، 109] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 108 إِلَى 109] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) تَذْيِيلَاتٌ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. وَالتِّلَاوَةُ اسْمٌ لِحِكَايَةِ كَلَامٍ لِإِرَادَةِ تَبْلِيغِهِ بِلَفْظِهِ وَهِيَ كَالْقِرَاءَةِ إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ تَخْتَصُّ بِحِكَايَةِ كَلَامٍ مَكْتُوبٍ فَيَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِشَارَةِ هِيَ الْآيَاتُ الْمَبْدُوءَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: 59] إِلَى هُنَا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خُتِمَ بِتَذْيِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمرَان: 58] فَيَكُونُ كُلُّ تَذْيِيلٍ مُسْتَقِلًّا بِطَائِفَةِ الْجُمَلِ الَّتِي وَقَعَ هُوَ عَقِبَهَا. وَخُصَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ صِحَّةَ عَقِيدَةِ الْإِسْلَام، والمبطلة لدعازي الْفِرَقِ الثَّلَاثِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

وَالْمُشْرِكِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: 59] وَقَوْلِهِ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [الْمَائِدَة: 74] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمرَان: 66] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: 68] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمرَان: 79] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها [آل عمرَان: 93] وَقَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آل عمرَان: 96] ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْثَالٍ وَمَوَاعِظَ وَشَوَاهِدَ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْإِخْبَارِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَيْ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْوَاقِعِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ بَيَّنَتْ عَقَائِدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفَصَّلَتْ أَحْوَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمِنَ الْحَقِّ اسْتِحْقَاقُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لِمَا عُومِلَ بِهِ عَدْلًا من الله، وَلذَا قَالَ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ النَّاسَ وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لِفَعَلَهُ، لَكِنَّهُ وَعَدَ بِأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدًا فَحَقَّ وَعْدُهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الظُّلْمَ إِذْ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَتِهِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا لِإِفَادَةِ تَقْوَى الْحُكْمِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ إِرَادَةِ ظُلْمِ الْعَالَمِينَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنْكِيرُ (ظُلْمًا) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ جِنْسِ الظُّلْمِ عَنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَا يُعَدُّ ظُلْمًا فِي مَجَالِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مُنْتَفٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 284] عَطْفٌ عَلَى التَّذْيِيلِ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يُرِيدُ صَلَاحَ حَالِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِإِضْرَارِهِمْ إِلَّا لِلْجَزَاءِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ. فَلَا يُرِيدُ ظُلْمَهُمْ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا فَلَا يَفُوتُهُ ثَوَابُ مُحْسِنٍ وَلَا جَزَاءُ مُسِيءٍ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي بَعْدَ الْأَوْلَى

[سورة آل عمران (3) : آية 110]

بِدُونِ إِضْمَارٍ لِلْقَصْدِ إِلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِنَفْسِهَا، غَيْرَ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، حَتَّى تَصْلُحَ لِأَنْ يُتَمَثَّلَ بِهَا، وَتَسْتَحْضِرَهَا النُّفُوسُ وَتَحْفَظَهَا الْأَسْمَاعُ. [110] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 110] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. يَتَنَزَّلُ هَذَا مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِأَمْرِهِمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَمَا بَعْدَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كُنْتُم، فَهُوَ موذن بِتَعْلِيلِ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ خَيْرِيَّتُهُمْ يَجْدُرُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ يُؤَكَّدَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهُ، إِنْ كَانَ قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ إِمَّا لِأَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ لِأَوَّلِنَا وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا. وَإِضَافَةُ خَيْرَ إِلَى أُمَّةٍ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ: أَيْ كُنْتُمْ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ، وَأَهْلُ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ، مِثْلُ الْقَرْنِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَشْهُورٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُف: 45] أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَمُدَّةِ عَصْرٍ كَامِلٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَفْضَلَ الْقُرُونِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْعَالَمِ، لِأَنَّ رَسُولَهُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ لَا يُمَاثِلُهُ هَدْيُ أَصْحَابِ الرُّسُلِ الَّذِينَ مَضَوْا، فَإِنْ أَخَذْتَ الْأُمَّةَ بِاعْتِبَارِ الرَّسُولِ فِيهَا فَالصَّحَابَةُ أَفْضَلُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مَعَ رَسُولِهَا، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . وَالْفضل ثَابت للجموع عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ أُخِذَتِ الْأُمَّةُ مَنْ عَدَا الرَّسُولَ، فَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ بِدُونِ رُسُلِهَا، وَهَذَا تَفْضِيلٌ لِلْهُدَى الَّذِي اهْتَدَوْا بِهِ، وَهُوَ هُدَى رَسُولِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِضَمِيرِ كُنْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فِي كُلِّ جِيلٍ ظَهَرُوا

فِيهِ، وَمَعْنَى تَفْضِيلِهِمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَا تَقُومُ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لَا يَخْلُو مُسْلِمٌ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، عَلَى حَسْبِ مَبْلَغِ الْعِلْمِ وَمُنْتَهَى الْقُدْرَةِ، فَمِنَ التَّغْيِيرِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِلَى التَّغْيِيرِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ لِأَنَّ وُجُودَ طَوَائِفِ الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ أَوْجَبُ فَضِيلَةٍ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِكَوْنِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مِنْهَا كَمَا كَانَتِ الْقَبِيلَةُ تفتخر بِمَحَامِد طوائقها، وَفِي هَذَا ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِعْلُ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي زَمَنٍ مَضَى، دُونَ دَلَالَةٍ عَلَى اسْتِمْرَارٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ، قَالَ تَعَالَى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: 96] أَيْ وَمَا زَالَ، فَمَعْنَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وُجِدْتُمْ عَلَى حَالَةِ الْأَخْيَرِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَيْ حَصَلَتْ لَكُمْ هَذِهِ الْأَخْيَرِيَّةُ بِحُصُولِ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا، لأنّهم اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ، وَالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى وَجهه، والذبّ عَنهُ النُّقْصَانِ وَالْإِضَاعَةِ لِتَحَقُّقِ أَنَّهُمْ لَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبِهِمْ، وَقَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا اسْتَطَاعَ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، كُلَّمَا سَنَحَ سَانِحٌ يَقْتَضِيهِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا إِذا بنينَا عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 104] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا [آل عمرَان: 105] الْآيَةَ، لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِيمَا مَضَى تَفْعَلُونَهَا إِمَّا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، حِرْصًا عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَاسْتِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ فِي مُصَادَفَتِكُمْ لِمَرْضَاتِهِ وَمُرَادِهِ، وَإِمَّا بِوُجُوبٍ سَابِقٍ حَاصِلٍ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ [الْعَصْر: 3] وَحِينَئِذٍ فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمرَان: 104] تَأْكِيدًا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ بِتَأْكِيدِ وُجُوبِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ.

وَمِنَ الْحَيْرَةِ الْتِجَاءُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى جَعْلِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ بِكَوْنِهِمْ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ أُمَّةٍ بِمَعْنَى كَوْنِهِمْ كَذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ أَوْ ثُبُوتِ هَذَا الْكَوْنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ جَعْلِ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ. وَالْمُرَادُ بِأُمَّةٍ عُمُومُ الْأُمَمِ كُلِّهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي إِضَافَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِلَى النَّكِرَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَتُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ. وَقَوْلُهُ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِظْهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [طه: 88] أَيْ أَظْهَرَ بِصَوْغِهِ عِجْلًا جَسَدًا. وَالْمَعْنَى: كُنْتُمْ خَيْرَ الْأُمَمِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا. وَفَاعِلُ أُخْرِجَتْ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ مُوجِدُ الْأُمَمِ، وَالسَّائِقُ إِلَيْهَا مَا بِهِ تَفَاضُلُهَا. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ جَمِيعُ الْبَشَرِ مِنْ أَوَّلِ الْخَلِيقَةِ. وَجُمْلَةُ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ حَالٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ إِذْ مَدْلُولُهَا لَيْسَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ حَتَّى تَحْكِيَ الْخَيْرِيَّةَ فِي حَالِ مُقَارَنَتِهَا لَهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِلتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّوْصِيفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَالْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا قَرِيبًا. وَإِنَّمَا قَدَّمَ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى قَوْلِهِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُمَا الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمَسُوقِ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضِيلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الْحَاصِلَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 104] وَالِاهْتِمَامُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّقْدِيمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ فِي عِدَادِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا التَّفْضِيلَ عَلَى الْأُمَمِ، لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَفْضَلِيَّةِ أَثَرًا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى

بَعْضِ الْفِرَقِ، فَالْإِيمَانُ قُصِدَ بِهِ التَّفْضِيلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذين كَانُوا يفتخروم بِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 19] وَذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قُصِدَ بِهِ التَّفْضِيلُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ أَضَاعُوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [الْمَائِدَة: 79] . فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ وَجْهُ التَّفْضِيلِ عَلَى الْأُمَمِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ، فَقَدْ شَارَكَنَا فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بَعْضُ الْجَمَاعَاتِ مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَنَا، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ عَلَى حَسْبِ شَرَائِعِهِمْ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، لَتَعَذَّرَ أَنْ يَتْرُكَ الْأُمَمُ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّ الْغَيْرَةَ عَلَى الدِّينِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نُفُوسِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ. قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ صَالِحِي الْأُمَمِ كَانُوا يَلْتَزِمُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّعُونَ فِي حِلِّ التَّقِيَّةِ، وَهَذَا هَارُونُ فِي زَمَنِ مُوسَى عَبَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ مُحَاوَرَةَ مُوسَى مَعَهُ بِقَوْلِهِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 92- 94] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 113، 114] الْآيَةَ فَتِلْكَ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَقَدْ كَانُوا فِئَةً قَلِيلَةً بَيْنَ قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا جَمْهَرَةَ الْأُمَّةِ. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَعِصْمَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مُنْكَرًا، وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَأْمُورَةَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي

ضَمْنِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ سُكُوتُهَا مُنْكَرٍ يَقَعُ، وَلَا عَنْ مَعْرُوفٍ يُتْرَكُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِنْ كَانَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِمَعْنَى الشَّرْعِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ فِي هَذَا النَّوْعِ بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعَاتِ الْمُنْعَقِدَةِ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَيْهِ سُفُسْطَائِيٌّ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْكَرًا إِلَّا بَعْدَ إِثْبَاتِ حُكْمِهِ شَرْعًا، وَطَرِيقُ إِثْبَاتِ حُكْمِهِ الْإِجْمَاعُ، فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى مُنْكَرٍ عِنْدَ اللَّهِ خَطَأً مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مُنْكَرًا حَتَّى يَنْهَى عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمْ هُوَ غَايَةُ وُسْعِهِمْ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ قَدْ غَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فَنَبَّهَهُمْ هَذَا الْعَطْفُ إِلَى إِمْكَانِ تَحْصِيلِهِمْ عَلَى هَذَا الْفَضْلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُتَرَدِّدُونَ فِي أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانَ مُخَيْرِيقُ مُتَرَدِّدًا زَمَانًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ تَرَدَّدُوا فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَصَدَ بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ قَلِيلٌ وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَآمَنَ بِي الْيَهُودُ كُلُّهُمْ» . وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ (آمَنَ) هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوِ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ لَقَبٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي مِنْهُ أُطْلِقَتْ صِلَةُ الَّذِينَ

آمَنُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ أَسْلَمَ، وَصَبَأَ، وَأَشْرَكَ، وَأَلْحَدَ، دُونَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقَاتِ لَهَاتِهِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ اتَّصَفَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي صَارَتْ أَعْلَامًا عَلَى أَدْيَانٍ مَعْرُوفَةٍ، فَالْفِعْلُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ: تَهَوَّدَ، وتنصّر، وَتَزَنْدَقَ، وَتَحَنَّفَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرَةٌ وَهِيَ جَعْلُ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرْطِ الِامْتِنَاعِ، مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ مَعْرُوفٌ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْمُرَادَ: لَوْ آمَنُوا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَهُ. وَأَجْمَلُ وَجْهَ كَوْنِ الْإِيمَانِ خَيْرًا لَهُمْ لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ فِي الرَّجَاءِ وَالْإِشْفَاقِ. وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِامْتِنَاعِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِمُقْتَضَى جَعْلِ إِيمَانِهِمْ فِي حَيِّزِ شَرْطِ (لَوِ) الِامْتِنَاعِيَّةِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ بَقِيَ بِوَصْفِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُبْقِي وَصْفَهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَدَيَّنُوا بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ وَصْفَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَشْمَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَوْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَجِيءَ بِالِاحْتِرَاسِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَقَ عَلَيْهِ لَقَبُ الْمُؤْمِنِ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَكَانَ اسْمُهُ حُصَيْنًا وَهُوَ مِنْ بَنِي قينقاع، وأخيه، وعمصته خَالِدَةَ، وَسَعْيَةَ أَوْ سِنْعَةَ بْنِ غَرِيضِ بْنِ عَادِيًّا التَّيْمَاوَيِّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيًّا، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بْنِ سَعْيَةَ الْقُرَظِيِّ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُخَيْرِيقٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَوْ مِنْ بَنِي قينقاع، وَمثل أصمحة النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّهُ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَعَوَّضَ عَنْ إِظْهَارِهِ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ نَصْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَحِمَايَتَهُ لَهُمْ بِبَلَدِهِ، حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ، فَقَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَصَلَّى عَلَيْهِ حِينَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَرِيقٌ مُتَّقٍ فِي دِينِهِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَؤُلَاءِ مِثْلُ مَنْ بَقِيَ مُتَرَدِّدًا فِي الْإِيمَانِ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَذَى الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ النَّصَارَى مِنْ نَجْرَانَ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَمِثْلُ مُخَيْرِيقٍ الْيَهُودِيِّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، عَلَى الْخِلَافِ فِي إِسْلَامِهِ، فَإِنَّهُ أَوْصَى بِمَالِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمْ

[سورة آل عمران (3) : آية 111]

صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِدِينِهِمْ. وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ فَاسِقٌ عَنْ دِينِهِ، مُحَرِّفٌ لَهُ، مِنَاوٍ لِأَهْلِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ مِثْلُ الَّذِينَ سَمُّوا الشَّاةَ لِرَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ خَيْبَرٍ، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا أَنْ يَرْمُوا عَلَيْهِ صَخْرَة. [111] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 111] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 110] لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ يُؤْذِنُ بِمُعَادَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةً مِنْ بَأْسِهِمْ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ حِيَالَ الْمَدِينَةِ فِي خَيْبَرَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، وَقُرَيْظَةَ، وَكَانُوا أَهْلَ مَكْرٍ، وَقُوَّةٍ، وَمَالٍ، عدّة، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فِي قِلَّةٍ فَطَمْأَنَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ بَأْسَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْشَوْنَ ضُرَّهُمْ، لَكِنْ أَذَاهُمْ. أَمَّا النَّصَارَى فَلَا مُلَابَسَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَخْشَوْهُمْ. وَالْأَذَى هُوَ الْأَلَمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ إِسْحَاقِ بْنِ خَلَفٍ: أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ... وَكُنْتُ أُبْقِي عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ وَمَعْنَى يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يَفِرُّونَ مُنْهَزِمِينَ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ احْتِرَاسٌ أَيْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةَ مُنْهَزِمِينَ لَا تَوْلِيَةَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ مُتَأَمِّلِينَ فِي الْأَمْرِ. وَفِي الْعُدُولِ عَنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ إِلَى جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ مَعًا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا دَيْدَنُهُمْ وَهَجِيرَاهُمْ. لَوْ قَاتَلُوكُمْ، وَكَذَلِكَ فِي قِتَالِهِمْ غَيْرَكُمْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 112]

وَ (ثُمَّ) لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ كَوْنُ رُتْبَةِ مَعْطُوفِهَا أَعْظَمَ مِنْ رُتْبَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ. وَهُوَ غَيْرُ التَّرَاخِي الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ التَّرَاخِي الْمَجَازِيَّ أَنْ يُشَبَّهَ مَا لَيْسَ بِمُتَأَخِّرٍ عَنِ الْمَعْطُوفِ بِالْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ، وَإِغْرَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِهِمْ. [112] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 112] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. يَعُودُ ضَمِيرُ (عَلَيْهِمْ) إِلَى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 110] وَهُوَ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ. وَالْجُمْلَةُ بَيَانِيَّةٌ لِذِكْرِ حَالٍ شَدِيدٍ مِنْ شَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَمَعْنَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ اتِّصَالُهَا بِهِمْ وَإِحَاطَتُهَا، فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ شُبِّهَتِ الذِّلَّةُ، وَهِيَ أَمر مَعْقُول، بَقِيَّة أَوْ خَيْمَةٍ شَمِلَتْهُمْ وَشُبِّهَ اتِّصَالُهَا وَثَبَاتُهَا بِضَرْبِ الْقُبَّةِ وَشَدِّ أَطْنَابِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وثُقِفُوا فِي الْأَصْلِ أُخِذُوا فِي الْحَرْبِ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الْأَنْفَال: 57] وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنٍ مِنْ أَخْذِ الشَّيْءِ، وَتَصَرُّفٍ فِيهِ بِشِدَّةٍ، وَمِنْهَا سُمِّيَ الْأَسْرُ ثِقَافًا، وَالثِّقَافُ آلَةٌ كَالْكَلُّوبِ تُكْسَرُ بِهِ أَنَابِيبُ قَنَا الرِّمَاحِ. قَالَ النَّابِغَة: عضّ الشّقاف عَلَى صُمِّ الْأَنَابِيبِ وَالْمَعْنَى هُنَا: أَيْنَمَا عُثِرَ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَيْنَمَا وُجِدُوا، أَيْ هُمْ لَا يُوجَدُونَ إِلَّا مَحْكُومِينَ، شَبَّهَ حَالَ مُلَاقَاتِهِمْ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِحَالِ أَخْذِ الْأَسِيرِ لِشِدَّةِ ذُلِّهِمْ.

وَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الْحَبَلُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَهْدِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [256] وَعَهْدُ اللَّهِ ذِمَّتُهُ، وَعَهْدُ النَّاسِ حِلْفُهُمْ، وَنَصْرُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَحْوَالٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ الَّتِي لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ مُتَلَبِّسِينَ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبُوا بِذِلَّةٍ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الذِّلَّةِ إِلَّا إِذَا تَلَبَّسُوا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِقَبَائِلَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَمَّا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ فَلَا نَصْرَ لَهُمْ. وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا أعزّة بيشرب وَخَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، فَأَصْبَحُوا أَذِلَّةً، وَعَمَّتْهُمُ الْمَذَلَّةُ فِي سَائِرِ أقطار الدُّنْيَا. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا وَهُوَ مَجَازٌ لِمَعْنَى صَارُوا إِذْ لَا رُجُوعَ هُنَا. وَالْمَسْكَنَةُ الْفَقْرُ الشَّدِيدُ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْمِسْكِينِ وَهُوَ الْفَقِيرُ، وَلَعَلَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ السُّكُونِ وَهُوَ سُكُونٌ خَيَالِيٌّ أُطْلِقَ عَلَى قِلَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْعَيْشِ. وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ تقديرها لَهُم وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمُغَيَّبٍ لِأَنَّ الْيَهُودَ الْمُخْبِرَ عَنْهُمْ قَدْ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ حِينَ أُخِذَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ، ثُمَّ بِإِجْلَائِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زمن عمر. مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. الْإِشَارَةُ إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. وَمَعْنَى يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [آل عمرَان: 21] أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 114]

وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْبَاءُ سَبَبُ السَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً ثَانِيَةً إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا ثَانِيًا. (وَمَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَهَذَا نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ فَكُفْرُهُمْ بِالْآيَاتِ سَبَبُهُ الْعِصْيَانُ، وَقَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ سَببه الاعتداء. [113، 114] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 113 إِلَى 114] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 110] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد. و (سَوَاء) اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ. وَجُمْلَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ إِلَخْ ... مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ لَيْسُوا سَواءً وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلِاهْتِمَامِ بهؤلاء الْأمة، فلأمّة هُنَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ. وَإِطْلَاقُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكتاب: ليَكُون ذَا الثَّنَاءُ شَامِلًا لِصَالِحِي الْيَهُودِ، وَصَالِحِي النَّصَارَى، فَلَا يُخْتَصُّ بِصَالِحِي الْيَهُودِ، فَإِنَّ صَالِحِي الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى وَاتَّبَعُوهُ، وَكَذَلِكَ صَالِحُو النَّصَارَى قَبْلَ

[سورة آل عمران (3) : آية 115]

بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَهْلُ تَهَجُّدٍ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ وَقَدْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَمَعْنَى قَائِمَةٌ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِدِينِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: سُوقٌ قَائِمَةٌ وَشَرِيعَةٌ قَائِمَةٌ. وَالْآنَاءُ أَصْلُهُ أَأْنَاءُ بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، وَهُوَ جَمْعُ إِنًى- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ النُّونِ مَقْصُورًا- وَيُقَالُ أَنَى- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: 53] أَيْ مُنْتَظَرِينَ وَقْتَهُ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَسْجُدُونَ حَالٌ، أَيْ يَتَهَجَّدُونَ فِي اللَّيْلِ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِمْ، فَقُيِّدَتْ تِلَاوَتُهُمُ الْكِتَابَ بِحَالَةِ سُجُودِهِمْ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَبْلَغُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: يَتَهَجَّدُونَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صُورَةِ فِعْلِهِمْ. وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يُسَارِعُونَ إِلَيْهَا أَيْ يَرْغَبُونَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا. وَالْمُسَارَعَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، تَشْبِيهًا لِلِاسْتِكْثَارِ وَالِاعْتِنَاءِ بِالسَّيْرِ السَّرِيعِ لِبُلُوغِ الْمَطْلُوبِ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ تَخْيِيلِيَّةٌ تُؤْذِنُ بِتَشْبِيهِ الْخَيْرَاتِ بِطَرِيقٍ يَسِيرُ فِيهِ السَّائِرُونَ، وَلِهَؤُلَاءِ مَزِيَّةُ السُّرْعَةِ فِي قَطْعِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَجْمُوعَ الْمُرَكَّبِ مِنْ قَوْلِهِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تَمْثِيلًا لِحَالِ مُبَادَرَتِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ بِحَالِ السَّائِرِ الرَّاغِبِ فِي الْبُلُوغِ إِلَى قَصْدِهِ يُسْرِعُ فِي سَيْرِهِ. وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [176] . وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِسَبَبِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ من الْأَوْصَاف. [115] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 115] وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

(115) تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمرَان: 113] إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمرَان: 114] وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفْعَلُوا- بِالْفَوْقِيَّةِ- فَهُوَ وَعْدٌ لِلْحَاضِرِينَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّالِحِينَ السَّابِقِينَ مِثْلُهُمْ، بِقَرِينَةِ مَقَامِ الِامْتِنَانِ، وَوُقُوعِهُ عَقِبَ ذِكْرِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ وَيَفْعَلُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا لِخِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَائِدًا إِلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ. وَالْكُفْرُ: ضِدُّ الشُّكْرِ أَيْ هُوَ إِنْكَارُ وُصُولِ النِّعْمَةِ الْوَاصِلَةِ. قَالَ عَنْتَرَةُ: نُبِّئْتُ عَمْرًا غَيْرَ شَاكِرِ نِعْمَتِي ... وَالْكَفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ وَقَالَ تَعَالَى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ وَأَصْلُ الشُّكْر وَالْكفْر أيتعديا إِلَى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُمَا النِّعْمَةَ كَمَا فِي الْبَيْتِ. وَقَدْ يُجْعَلُ مَفْعُولُهُمَا الْمُنْعِمُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ شَكَرْتُ لَهُ وَكَفَرْتُ لَهُ. قَالَ النَّابِغَةُ: شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: 152] وَقد عدّي تَكْفُرُونِ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَائِبُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى خَيْرٍ بِتَأْوِيلِ خَيْرٍ بِجَزَاءِ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ وَأُطْلِقَ الْكُفْرُ هُنَا عَلَى تَرْكِ جَزَاءِ فِعْلِ الْخَيْرِ، تَشْبِيهًا لِفِعْلِ الْخَيْرِ بِالنِّعْمَةِ. كَأَنَّ فَاعِلَ الْخَيْرِ أَنْعَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [التغابن: 17] فَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِمَا هـ من لَوَازِم الْعُرْفِيَّةِ. وَهُوَ الْكُفْرُ، عَلَى أَنَّ فِي الْقَرِينَةِ اسْتِعَارَةً مُصَرِّحَةً مِثْلَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 27] . وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِذْ جَعَلَ طَاعَتَنَا إِيَّاهُ كَنِعْمَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا شُكْرًا، وَتَرْكَ ثَوَابِهَا كُفْرًا فَنَفَاهُ. وَسَمَّى نَفْسَهُ الشَّكُورَ. وَقد عدّي الْكفْر أَن هُنَا إِلَى النِّعْمَةِ عَلَى أصل تعديته.

[سورة آل عمران (3) : آية 116]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 116] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ وَعْدِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا عَطْفُ الْأَوْلَادِ هُنَا لِأَنَّ الْغَنَاءَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ يَكُونُ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَالْمَالُ يَدْفَعُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ فِي فِدَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَالْوَلَدُ يُدَافِعُونَ عَنْ أَبِيهِمْ بِالنَّصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ فِي طَالِعَةِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ مَعَ الْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ وَلا أَوْلادُهُمْ لِتَأْكِيدِ عَدَمِ غَنَاءِ أَوْلَادِهِمْ عَنْهُمْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَقْعُدُونَ عَنِ الذَّبِّ عَنْ آبَائِهِمْ. وَيَتَعَلَّقُ مِنَ اللَّهِ بِفِعْلِ لَنْ تُغْنِيَ عَلَى مَعْنَى (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ أَيْ غَنَاءٍ يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِالْعَفْوِ عَنْ كُفْرِهِمْ. وَانْتَصَبَ (شَيْئًا) عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِفِعْلِ لَنْ تُغْنِيَ أَيْ شَيْئًا مِنْ غَنَاءٍ. وَتَنْكِيرُ شَيْئًا لِلتَّقْلِيلِ. وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً، عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ فِي أَمْثَالِهَا أَنْ يَكُونَ بِدُونِ عَطْفٍ، لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُنْصَبًّا عَلَيْهَا التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنْ) فَيَكْمُلُ لَهَا مِنْ أَدِلَّةِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا خَمْسَةُ أَدِلَّة هِيَ: التّكيد ب إِنَّ، وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَوصف خَالدُونَ.

[سورة آل عمران (3) : آية 117]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 117] مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ... إِلَخْ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ إِنْفَاقِهِمُ الْأَمْوَالَ فِي الْخَيْرِ مِنْ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَإِعْطَاءِ الدِّيَاتِ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقَتْلَى. ضَرَبَ لِأَعْمَالِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْوَالِ مَثَلًا، فَشَبَّهَ هَيْئَةَ إِنْفَاقِهِمُ الْمُعْجِبِ ظَاهِرُهَا، الْمُخَيِّبِ آخِرُهَا، حِينَ يُحْبِطُهَا الْكُفْرُ، بِهَيْئَةِ زَرْعٍ أَصَابَتْهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ فَأَهْلَكَتْهُ، تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَلَمَّا كَانَ التَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيًّا لَمْ يَتَوَخَّ فِيهِ مُوَالَاةَ مَا شَبَّهَ بِهِ إِنْفَاقَهُمْ لِأَدَاةِ التَّمْثِيلِ، فَقِيلَ: كَمَثَلِ رِيحٍ، وَلَمْ يَقُلْ: كَمَثَلِ حَرْثِ قَوْمٍ. وَالْكَلَامُ عَلَى الرِّيحِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالصِّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُمِيتُ لِكُلِّ زَرْعٍ أَوْ وَرَقٍ يَهُبُّ عَلَيْهِ فَيَتْرُكُهُ كَالْمُحْتَرِقِ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الصِّرِّ عَلَى الرِّيحِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ وَإِنَّمَا الصِّرُّ اسْمُ الْبَرْدِ. وَأَمَّا الصَّرْصَرُ فَهُوَ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ وَقَدْ تَكُونُ بَارِدَةً. وَمَعْنَى الْآيَةِ غَنِيٌّ عَنِ التَّأْوِيلِ، وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الصِّرُّ هُنَا اسْمًا لِلرِّيحِ الْبَارِدَةِ وَجَعَلَهُ مُرَادِفَ الصَّرْصَرِ. وَقَدْ أَقَرَّهُ الْكَاتِبُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْإِطْلَاقَ فِي الْأَسَاسِ وَلَا ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ. وَفِي قَوْله يها صِرٌّ إِفَادَةُ شِدَّةِ بِرْدِ هَذِهِ الرِّيحِ، حَتَّى كَأَنَّ جِنْسَ الصِّرِّ مَظْرُوفٌ فِيهَا، وَهِيَ تَحْمِلُهُ إِلَى الْحَرْثِ. وَالْحَرْثُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ: أَيْ مَحْرُوثُ قَوْمٍ أَيْ أَرْضًا مَحْرُوثَةً وَالْمُرَادُ أَصَابَتْ زَرْعَ حَرْثٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِي الْحَرْثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمرَان: 14] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 118]

وَقَوْلُهُ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِدْمَاجٌ فِي خِلَالِ التَّمْثِيلِ يُكْسِبُ التَّمْثِيلَ تَفْظِيعًا وَتَشْوِيهًا وَلَيْسَ جُزْءًا مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا. وَقَدْ يَذْكُرُ الْبُلَغَاءُ مَعَ الْمُشَبَّهِ بِهِ صِفَاتٍ لَا يَقْصِدُونَ مِنْهَا غَيْرَ التَّحْسِينِ أَوِ التَّقْبِيحِ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بَيْضٌ يَعَالِيلُ فَأَجْرَى عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْمُشَبَّهِ بِهِ صِفَاتٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي التَّشْبِيهِ. وَالسَّامِعُونَ عَالِمُونَ بِأَنَّ عِقَابَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ غَايَةٌ فِي الشِّدَّةِ، فَذَكَرَ وَصْفَهُمْ بِظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ لِتَذْكِيرِ السَّامِعِينَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ، وَجِيء بقوله ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ. وَقَوْلُهُ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ الضَّمَائِرُ فِيهِ عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ حِينَ لَمْ يَتَقَبَّلْ نَفَقَاتِهِمْ بَلْ هُمْ تَسَبَّبُوا فِي ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ جَعَلَهُ اللَّهُ شَرْطًا فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنْذَرَهُمْ لَمْ يَكُنْ عِقَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُمْ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الله لَا يُخَالف وَعْدَهُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ عَن نَفسه. [118] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 118] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) الْآنَ إِذْ كَشَفَ اللَّهُ دَخَائِلَ مَنْ حَوْلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَتَمَّ كَشْفٍ، جَاءَ مَوْقِعُ التَّحْذِيرِ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمِِْ

بِقَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا [آل عمرَان: 119] إِلَخْ ... وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، دُونَ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَهَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِنْتَاجِ فِي صِنَاعَةِ الْخَطَابَةِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّمْهِيدَاتِ وَالْإِقْنَاعَاتِ. وَحَقُّهُ الِاسْتِئْنَافُ الِابْتِدَائِيُّ كَمَا هُنَا. وَالْبِطَانَةُ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- فِي الْأَصْلِ دَاخِلُ الثَّوْبِ، وَجَمْعُهَا بَطَائِنُ، وَفِي الْقُرْآنِ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرَّحْمَن: 54] وَظَاهِرُ الثَّوْبِ يُسَمَّى الظِّهَارَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ-. وَالْبِطَانَةُ أَيْضًا الثَّوْبُ الَّذِي يُجْعَلُ تَحْتَ ثَوْبٍ آخَرَ، وَيُسَمَّى الشِّعَارَ، وَمَا فَوْقَهُ الدِّثَارَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» ثُمَّ أُطْلِقَتِ الثِّيَابِ فِي شِدَّةِ الْقُرْبِ مِنْ صَاحِبِهَا. وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً أَنهم كَانُوا يحالفونهم وَيَوَدُّونَهُمْ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ بَقِيَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ كَانُوا أَحْلَافَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ مَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) فِيهِ زَائِدَةٌ وَ (دُونَ) اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى حَوْلَكُمْ، وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التَّوْبَة: 16] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَ (دُونَ) بِمَعْنَى غَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الْفَتْح: 27] مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَدَخَائِلُهُمْ تَقْتَضِي التَّحْذِيرَ مِنِ اسْتِبْطَانِهِمْ. وَجُمْلَةُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا صِفَةٌ لِبِطَانَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَيْسَ مِنَ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُفِيدُ تَخْصِيصَ النَّكِرَةِ عَمَّا شَارَكَهَا، لَكِنَّهُ يَظْهَرُ بِظُهُورِ آثَارِهِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ هَذَا شَأْنُهَا وَسَمْتُهَا، وَوَكَلَهُمْ إِلَى تَوَسُّمِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ وَقَوْلُهُ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ جُمْلَتَيْنِ فِي مَحَلِّ الْوَصْفِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقَةِ تَرْكِ عطف الصِّفَات، ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ

أَيْ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ عَلَامَاتِ عَدَاوَتِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَتَتَوَسَّمُونَ تِلْكَ الصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يُجْعَلُ مِنْ دُونِكُمْ وَصْفًا، وَتَكُونُ الْجُمَلُ بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفَاتٍ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ غَيْرِ أهل ملّتنا، وهذ الْخِلَالُ ثَابِتَةٌ لَهُمْ فَهِيَ صَالِحَةٌ لِلتَّوْصِيفِ، وَلِتَعْلِيلِ النَّهْيِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ عَدَاوَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ لَا سِيَّمَا عَدَاوَةُ قَوْمٍ يَرَوْنَ هَذَا الدِّينَ قَدْ أَبْطَلَ دِينَهُمْ، وَأَزَالَ حُظُوظَهُمْ. كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَمَعْنَى لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لَا يقصّرون فِي حبالكم، وَالْأَلْوُ التَّقْصِيرُ وَالتَّرْكُ، وَفِعْلُهُ أَلَا يَأْلُو، وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ فَيُعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى الْمَنْعِ فِيمَا يَرْغَبُ فِيهِ الْمَفْعُولُ، فَقَالُوا لَا آلُوكَ جَهْدًا، كَمَا قَالُوا لَا أَدَّخِرُكَ نُصْحًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَاعَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ التَّضْمِينُ مَنْسِيًّا، فَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرِّ كَمَا يُعَدَّى إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ هُنَا: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي خَبَالِكُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَا يَمْنَعُونَكُمْ، لِأَنَّ الْخَبَالَ لَا يُرْغَبُ فِيهِ وَلَا يُسْأَلُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْبِطَانَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْبِطَانَةِ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ مَنِ اسْتَبْطَنَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ بِضِدِّ ذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ سَعْيِهِمْ بِالضُّرِّ، بِالْفِعْلِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي السَّعْيِ بِالْخَيرِ. والخبال اختلال الْأَمْرِ وَفَسَادُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ فَسَادُ الْعَقْلِ خَبَالًا، وَفَسَادُ الْأَعْضَاءِ. وَقَوْلُهُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ الْوُدُّ: الْمَحَبَّةُ، وَالْعَنَتُ: التَّعَبُ الشَّدِيدُ، أَيْ رَغِبُوا فِيمَا يعنتكم و (مَا) هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ، غَيْرُ زَمَانِيَّةٍ، فَفِعْلُ عَنِتُّمْ لَمَّا صَارَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ زَالَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُضِيِّ. وَمَعْنَى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ظَهَرَتْ مِنْ فَلَتَاتِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَعَبَّرَ بِالْبَغْضَاءِ عَنْ دَلَائِلِهَا.

[سورة آل عمران (3) : آية 119]

وَجُمْلَةُ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ حَالِيَّةٌ. (وَالْآيَاتُ) فِي قَوْلِهِ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ بِمَعْنَى دَلَائِلِ سُوءِ نَوَايَا هَذِهِ الْبِطَانَةِ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: 75] وَلَمْ يَزَلِ الْقُرْآنُ يُرَبِّي هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى إِعْمَالِ الْفِكْرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَعَرُّفِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهَا: فِي التَّشْرِيعِ، وَالْمُعَامَلَةِ لِيُنْشِئَهَا أُمَّةَ عِلْمٍ وَفِطْنَةٍ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَاتِ آيَاتِ فِرَاسَةٍ وَتَوَسُّمٍ، قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَوْ تَفْقَهُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ أَعَمُّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ. وَجُمْلَةُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ مُسْتَأْنَفَةٌ. [119] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 119] هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، قُصِدَ مِنْهُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ خُلُقِ الْفَرِيقَيْنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ يُحِبُّونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُبْغِضُونَهُمْ، وَكُلُّ إِنَاءٍ بِمَا فِيهِ يَرْشَحُ، وَالشَّأْنُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَجْلِبُ الْمَحَبَّةَ إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَقَاصِدُ وَالْأَخْلَاقُ. وَتَرْكِيبُ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ ونظائره مثل هأنا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85]-: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّعْجِيبُ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجْمُوع الْحَالين قيل: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ فَالْعَجَبُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي حَالِ بُغْضِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ إِلَّا وَالْقَصْدُ التَّعَجُّبُ مِنْ مَضْمُونِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَجُمْلَةُ وَلا يُحِبُّونَكُمْ جُمْلَةُ حَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: تُحِبُّونَهُمْ لِأَنَّ محلّ التّعجيب هُوَ مَجْمُوعُ الْحَالَيْنِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّعْجِيبِ شَيْءٌ مِنَ التَّغْلِيطِ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ إِيقَاظٍ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ كَالْعُذْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِبْطَانِهِمْ

أَهْلَ الْكِتَابِ بَعْدَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى هُدًى ذَهَبَ زَمَانُهُ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ التَّحْرِيفَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ يَرْمُقُونَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالضَّلَالَةِ وَاتِّبَاعِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ. وَهَذَانَ النَّظَرَانِ، مِنَّا وَمِنْهُمْ، هُمَا أَصْلُ تَسَامُحِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ، وَتَصَلُّبِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِمْ. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ. جُمْلَةُ وَتُؤْمِنُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تُحِبُّونَهُمْ كَمَا أَنَّ جُمْلَةَ وَإِذا لَقُوكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَكُلُّهَا أَحْوَالٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى ضَمَائِرِ الْخِطَابِ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ. والتعريف فِي بِالْكِتابِ لِلْجِنْسِ وَأُكِّدَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ، وَأَرَادَ بِهَذَا جَمَاعَةً مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ أَشْهَرُهُمْ زَيْدُ بْنُ الصِّتِيتِ الْقَيْنُقَاعِيُّ. وَالْعَضُّ: شَدُّ الشَّيْءِ بِالْأَسْنَانِ. وَعَضُّ الْأَنَامِلِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَالتَّحَسُّرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَضَّ أَنَامِلَ مَحْسُوسًا، وَلَكِنْ كُنِّيَ بِهِ عَنْ لَازَمِهِ فِي الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اضْطَرَبَ بَاطِنُهُ مِنَ الِانْفِعَالِ صَدَرَتْ عَنْهُ أَفْعَالٌ تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِنْفِعَالَ، فَقَدْ تَكُونُ مُعِينَةً عَلَى دَفْعِ انْفِعَالِهِ كَقَتْلِ عَدُوِّهِ، وَفِي ضِدِّهِ تَقْبِيلُ مَنْ يُحِبُّهُ، وَقَدْ تَكُونُ قَاصِرَةً عَلَيْهِ يَشْفِي بِهَا بَعْضَ انْفِعَالِهِ، كَتَخَبُّطِ الصَّبِيِّ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَضِبَ، وَضَرْبِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ مِنَ الْغَضَبِ، وَعَضِّهِ أَصَابِعَهُ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَرْعِهِ سِنَّهُ مِنَ النَّدَمِ، وَضَرْبِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ مِنَ التَّحَسُّرِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّأَوُّهُ وَالصِّيَاحُ وَنَحْوُهَا، وَهِيَ ضُرُوبٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْجَزَعِ، وَبَعْضُهَا جِبِلِّيٌّ كَالصِّيَاحِ، وَبَعْضُهَا عَادِيٌّ يُتَعَارَفُهُ النَّاسُ وَيَكْثُرُ بَيْنَهُمْ، فَيَصِيرُونَ يَفْعَلُونَهُ بِدُونِ تَأَمُّلٍ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ:

فَأَقْبَلَ أَقْوَامٌ لِئَامٌ أَذِلَّةٌ ... يَعَضُّونَ من غيظ رُؤُوس الْأَبَاهِمِ وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ عَلَى فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ ضَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ بِتَقْدِيرِ حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَيْ عَلَى الْتِئَامِكُمْ وَزَوَالِ الْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ [آل عمرَان: 100] ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّعْلِيقِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِتَقْرَعِنَّ عَلَى السِّنِّ مِنْ نَدَمٍ ... إِذَا تَذَكَّرْتِ يَوْمًا بَعْضَ أَخْلَاقِي ومِنَ الْغَيْظِ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ. وَالْغَيْظُ: غَضَبٌ شَدِيدٌ يُلَازِمُهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ. وَقَوْلُهُ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ كَلَامٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مُخَاطَبُونَ مُعَيَّنُونَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى الَّذِينَ يَعَضُّونَ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا خَلَوْا، فَلَا يُتَصَوَّرُ مُشَافَهَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ قُصِدَ إِسْمَاعُهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الِاتِّصَافَ بِالْغَيْظِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ عُمُومُ كُلِّ مُخَاطَبٍ نَحْوَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة: 12] . وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ بِالْغَيْظِ صَرِيحُهُ طَلَبُ مَوْتِهِمْ بِسَبَبِ غَيْظِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مُلَازَمَةِ الْغَيْظِ لَهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ إِنْ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ سَبَبِ غَيْظِهِمْ، وَهُوَ حُسْنُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْتِظَامُ أَمْرِهِمْ، وَازْدِيَادُ خَيْرِهِمْ، وَفِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِلُزُومِ أَلَمِ الْغَيْظِ لَهُمْ، وَبِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ بِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُكَنِّي بِهِمَا مُرَادٌ هُنَا، وَالتَّكَنِّي بِالْغَيْظِ وَبِالْحَسَدِ عَنْ كَمَالِ الْمُغِيظِ مِنْهُ الْمَحْسُودِ مَشْهُورٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مُحَسَّدٌ، أَيْ هُوَ فِي حَالَةِ نِعْمَةٍ وَكَمَالٍ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَمَا بَيْنَهَا كَالِاعْتِرَاضِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مُطْلِعُكَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 120]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. زَادَ اللَّهُ كَشْفًا لِمَا فِي صُدُورِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أَيْ تُصِبْكُمْ حَسَنَةٌ وَالْمَسُّ الْإِصَابَةُ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالْخَيْرِ وَالْآخَرُ بِالشَّرِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ، وَبِالْآخَرِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ، تَفَنُّنٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [275] . وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هُنَا الْحَادِثَةُ أَوِ الْحَالَةُ الَّتِي تَحْسُنُ عِنْدَ صَاحِبِهَا أَوْ تَسُوءُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا الِاصْطِلَاحَ الشَّرْعِيَّ. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي أَذَى الْعَدُوِّ: بِأَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالصَّبْرِ وَالْحَذَرِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْحَذَرِ بِالِاتِّقَاءِ أَيِ اتِّقَاءَ كَيْدِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، وَقَوْلِهِ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أَيْ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الضُّرُّ كُلُّهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَذًى، فَالْأَذَى ضُرٌّ خَفِيفٌ، فَلَمَّا انْتَفَى الضُّرُّ الْأَعْظَمُ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي دَفْعِهِ إِلَى شَدِيدِ مقاومة من الْقِتَال وَحِرَاسَةٍ وَإِنْفَاقٍ، كَانَ انْتِفَاءُ مَا بَقِيَ مِنَ الضُّرِّ هَيِّنًا، وَذَلِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، مَعَ الْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ الْأَذَى إِلَى مَا يُوصِلُ ضُرًّا عَظِيمًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يَدْعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: لَا يَضُرُّكُمْ- بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ بِمَعْنَى أَضَرَّهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الضَّادِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 122]

وَضَمِّ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً- مِنْ ضَرَّهُ يَضُرُّهُ، وَالضَّمَّةُ ضَمَّةُ إِتْبَاعٍ لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْإِدْغَامِ لِلتَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ: سُكُونِ الْجَزْمِ وَسُكُونِ الْإِدْغَامِ، وَيَجُوزُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ فِي الْمُضَارِعِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ: الضَّمُّ لِإِتْبَاعِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَالْفَتْحُ لِخِفَّتِهِ، وَالْكَسْرُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِالضَّمِّ فِي الْمُتَوَاتر. [121، 122] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 121 إِلَى 122] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِ الظَّرْفِ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمرَان: 118] وَمِثْلُ يَفْرَحُوا بِها [آل عمرَان: 120] وَعَلَيْهِ فَهُوَ آتٍ كَمَا أَتَتْ نَظَائِرُهُ فِي أَوَائِلِ الْآيِ وَالْقِصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَقِصَّةٍ عَلَى وَذَلِكَ انْتِقَالٌ اقْتِضَابِيٌّ فَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ. وَلَا يَأْتِي فِي هَذَا تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِفِعْلٍ مِمَّا بَعْدَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تُبَوِّئُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مَبْدَأَ الْغَرَضِ، وَقَوْلُهُ: هَمَّتْ لَا يَصْلُحُ لِتَعْلِيقِ إِذْ غَدَوْتَ لِأَنَّهُ مَدْخُولُ (إِذْ) أُخْرَى. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ أَوْضَحِ مَظَاهِرِ كَيْدِ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ، الْمُنَافِقين، وَلَمَّا كَانَ شَأْن الْمُنَافِقين من الْيَهُود وَأَهْلِ يَثْرِبَ وَاحِدًا، وَدَخِيلَتُهُمَا سَوَاءً، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى مَا تُدَبِّرُهُ الْيَهُودُ، جَمَعَ اللَّهُ مَكَائِدَ الْفَرِيقَيْنِ بِذِكْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ الْكَائِنَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ حِينَ نَزَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَحْلَافِهِمْ سَفْحَ جَبَلِ أُحُدٍ، حَوْلَ الْمَدِينَةِ، لِأَخْذِ الثَّأْرِ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَاسْتَشَارَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَفْعَلُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، فَأَشَارَ جُمْهُورُهُمْ بِالتَّحَصُّنِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ الْمَدِينَةَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّيَارِ والحصون فغلبوهم، وَإِن رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ، وَأَشَارَ فَرِيقٌ بِالْخُرُوجِ وَرَغِبُوا فِي الْجِهَادِ وَأَلَحُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِ الْمُشِيرِينَ بِالْخُرُوجِ، وَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، ثُمَّ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَرَدُّدٌ فِي الْخُرُوجِ فَرَاجَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيءٍ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ» . وَخَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى جَبَلِ أُحُدٍ وَكَانَ الْجَبَلُ وَرَاءَهُمْ، وَصَفَّهُمْ لِلْحَرْبِ، وَانْكَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ هَزِيمَةٍ خَفِيفَةٍ لَحِقَتِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَكِيدَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأس الْمُنَافِقين، إِذا انْخَزَلَ هُوَ وَثُلُثُ الْجَيْشِ، وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ سَبْعَمِائَةٍ، وَعَدَدُ جَيْشِ أَهْلِ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَهَمَّتْ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ من الْمُسلمين بالانخذال، ثُمَّ عَصَمَهُمُ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أَيْ نَاصِرُهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْهَمِّ الشَّيْطَانِيِّ، الَّذِي لَوْ صَارَ عَزْمًا لَكَانَ سَبَبَ شَقَائِهِمَا، فَلِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمَا بَرَّأَهُمَا اللَّهُ مِنْ فِعْلِ مَا هَمَّتَا بِهِ، وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ وَفِينَا نَزَلَتْ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَانْكَشَفَتِ الْوَاقِعَةُ عَنْ مَرْجُوحِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: «اعْلُ هُبْلُ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» وَقُتِلَ حَمْزَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَمَثَّلَتْ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ، إِذْ بَقَرَتْ عَنْ بَطْنِهِ وَقَطَعَتْ قِطْعَةً مِنْ كَبِدِهِ لِتَأْكُلَهَا لِإِحْنَةٍ كَانَتْ فِي قَلْبِهَا عَلَيْهِ إِذْ قَتَلَ أَبَاهَا عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا. وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ. وَالْغُدُوُّ: الْخُرُوجُ فِي وَقْتِ الْغَدَاةِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِكَ ابْتِدَائِيَّةٌ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 إلى 125]

وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ. وَالْكَلَامُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ غَدَوْتَ أَيْ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ وَهُوَ بَيْتُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-. وتُبَوِّئُ تَجْعَلُ مَبَاءً أَيْ مَكَانَ بَوْءٍ. وَالْبَوْءُ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ هُنَا الْمَقَرُّ لِأَنَّهُ يَبُوءُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَانْتَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ (تُبَوِّئُ) ، ومقاعد مَفْعُولٌ ثَانٍ إِجْرَاء لفعل تبوّىء مَجْرَى تُعْطِي. وَالْمَقَاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ. وَهُوَ مَكَانُ الْقُعُودِ أَيِ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْقُعُودُ ضِدُّ الْوُقُوفِ وَالْقِيَامِ، وَإِضَافَةُ مقاعد لاسم لِلْقِتالِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِالْقِتَالِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْجَيْشُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَائِقَةٌ بِحَرَكَاتِهِ، فَأَطْلَقَ الْمَقَاعِدَ هُنَا عَلَى مَوَاضِعِ الْقَرَارِ كِنَايَةً، أَوْ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْمَقَرَّ وَالْمَكَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [الْقَمَر: 55] . وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ مَقَاعِدَ جَرَى فِيهَا عَلَى الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَقْدٌ إِذْ قَالَ فِي رِثَاءِ أبي إِسْحَاق الصابىء: أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا ... عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ أَنَّ ابْنَ سِنَانٍ قَالَ: إِيرَادُهُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُكْرَهُ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى مَنْ تَحْتَمِلُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ وَهُمُ الْعُوَّادُ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ الْأَمْرُ سَهْلًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: قَدْ جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَتْ مَرْضِيَّةً وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى مَنْ تَقْبُحُ إضافتها إِلَيْهِ. [123، 125] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 123 إِلَى 125] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ

(125) إِذْ قَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ لَمْ تَنْكَشِفْ عَنْ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، عَقَّبَ اللَّهُ ذِكْرَهَا بِأَنْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ إِيَّاهُمُ النَّصْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ نَصْرٌ عَظِيمٌ إِذْ كَانَ نَصْرَ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ عَلَى جَيْشٍ كَثِيرٍ، ذِي عُدَدٍ وَافِرَةٍ، وَكَانَ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ سادة قُرَيْش، وأئمّة الشِّرْكِ، وَحَسْبُكَ بِأَبِي جَهْلِ بن هِشَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ ضُعَفَاءُ. وَالذُّلُّ ضِدُّ الْعِزِّ فَهُوَ الْوَهَنُ وَالضَّعْفُ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ انْهِزَامَ يَوْمِ أُحُدٍ لَا يَفِلُّ حِدَّةَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَعِزَّةً. وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَمُتَعَلِّقِ فِعْلِهَا أَعْنِي إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالْفَاءُ تَقَعُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ.. فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ بِتِلْكَ الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلشُّكْرِ فَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ بِمُلَازَمَةِ التَّقْوَى تَأَدُّبًا بِنِسْبَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: 70] . وَمِنَ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ النَّصْرِ أَنْ يَثْبُتُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا تَفُلَّ حِدَّتَهُمْ هَزِيمَةُ يَوْمِ أُحُدٍ. وَظَرْفُ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ زَمَانِيٌّ وَهُوَ متعلّق «بنصركم» لِأَنَّ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ لَا يَوْمَ أُحُدٍ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَخُصَّ هَذَا الْوَقْتُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ ظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَكَانَ جَدِيرًا بِالتَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ. وَالْمَعْنَى: إِذْ تَعِدُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللَّهِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَمَا كَانَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إِلَّا بِوَعْدٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُولَهُ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالتَّقْرِيرِيُّ يَكْثُرُ أَنْ يُورَدَ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [243] . وَإِنَّمَا جِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الَّذِي يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِقِلَّتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَشَوْكَتِهِ، كَالْآيِسِينَ مِنْ كِفَايَةِ هَذَا الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ تَلْقِينًا لِمَنْ يُخَالِجُ نَفْسَهُ الْيَأْسُ مِنْ كِفَايَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بِأَنْ يُصَرِّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ لَازِمُهُ، وَهَذَا إِثْبَاتُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ كَافٍ. وَلِأَجْلِ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ كَانَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: بَلى لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَسَعُ الْمُمَارَاةُ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [19] ، فَكَانَ (بَلَى) إِبْطَالًا لِلنَّفْيِ، وَإِثْبَاتًا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَافِيًا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جَاءَ- فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [9]- عِنْدَ ذِكْرِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِمَدَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَدَدُهُ أَلْفٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى خَمْسَةِ آلَافٍ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الله وعدهم بِثَلَاثَة آلَاف ثمّ صيّرهم إِلَى خَمْسَة آلَاف. وَوجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ أنّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَطْمَعَهُمْ بِالزِّيَادَةِ بقوله: مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: 9] أَيْ مُرْدَفِينَ بِعَدَدٍ آخَرَ، وَدَلَّ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا وَجِلِينَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الْعَدُوِّ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ» أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ زِيَادَةَ تَثْبِيتِهِمْ ثُمَّ زَادَهُمْ أَلْفَيْنِ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَرَّ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَاهَدَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَعْضُهُمْ شَهِدَ آثَارَ قَتْلِهِمْ رِجَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَوَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِـ (مُنْزَلِينَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ فِي مَوْقِعِ الْقِتَالِ عِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْحجر: 8] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنْزَلِينَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيف الزَّاي- وقرأه ابْن عَامر- بِفَتْح النّون وَتَشْديد الزَّايِ-. وَأَنْزَلَ وَنَزَّلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَالضَّمِيرَانِ: الْمَرْفُوعُ وَالْمَجْرُورُ، فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ عَائِدَانِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَرَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَلَيْهِ فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مَوْقِعُ وَعْدٍ، فَهُوَ الْمَعْنَى مَعْطُوفٌ عَلَى يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَرِدَ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهُ قُدِّمَ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، تَعْجِيلًا لِلطُّمَأْنِينَةِ إِلَى نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ تَقْدِيمُهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ كَمَا فِي قَوْلِ صَنَّانِ بْنِ عَبَّادٍ الْيَشْكُرِيِّ: ثُمَّ اشْتَكَيْتُ لْأَشْكَانِي وَسَاكِنُهُ ... قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أَوْ قَبْرٌ عَلَى قَهَدِ قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي شَرْحِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ: قُدِّمَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحَسَّنَهُ شِدَّةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ (أَيْ فَالْعَامِلُ وَهُوَ الْفِعْلُ آخِذٌ حَظَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَلَا الْتِفَاتَ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا عَنِ الْمَعْطُوفِ) وَلَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ وَزَيْدًا عَمْرًا كَانَ أَضْعَفَ، لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ لَيْسَ فِي قُوَّةِ اتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتَ: مَرَرْتُ وَزَيْدٌ بِعَمْرٍو، لَمْ يَجُزْ مِنْ جِهَةِ أَنَّكَ لَمْ تُقَدِّمِ الْعَامِلَ، وَهُوَ الْبَاءُ، عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ. وَمِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ بِهِ قَوْلُ زَيْدٍ: جَمَعْتَ وَعَيْبًا غِيبَةً وَنَمِيمَةً ... ثَلَاثَ خِصَالٍ لَسْتَ عَنْهَا بِمُرْعَوِي وَمِنْهُ قَوْلُ آخَرَ: لَعَنَ الْإِلَهُ وَزَوْجَهَا مَعَهَا ... هِنْدَ الْهُنُودِ طَوِيلَةَ الْفِعْلِ

وَلَا يَجُوزُ وَعَيْبًا جَمَعْتَ غِيبَةً وَنَمِيمَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ فَمِمَّا قَرُبَ مَأْخَذُهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَلَكِنَّ الْجَمَاعَةَ لَمْ تَتَلَقَّ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ التَّقْدِيمِ فِيهِ، وَوَافَقَهُ الْمَرْزُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْطُوفِ فِي مِثْلِ مَا حَسُنَ تَقْدِيمُهُ فِيهِ خَاصٌّ بِالضَّرُورَةِ فِي الشِّعْرِ، فَلِذَلِكَ خَرَّجْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْآيَةِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْجُمَلِ أَوْسَعُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ صُورِيٌّ. وَوَقَعَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» - فِي حَرْفِ الْوَاوِ- أَنَّ تَقْدِيمَ مَعْطُوفِهَا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ السِّيدِ فِي شَرْحِ أَبْيَات الْجمل، والتفتازانيّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الدَّمَامِينِيُّ فِي «تُحْفَةِ الْغَرِيبِ» . وَجَعَلَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ عَائِدَيْنَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ سَيَمُدُّونَ جَيْشَ الْعَدُوِّ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَمَنْ مَعَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الْآيَةَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ «الْكَشَّافُ» وَمُتَابِعُوهُ. فَيَكُونُ مُعَادُ الضَّمِيرَيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ لِلنَّاسِ الَّذِينَ حَضَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ يَأْتُوكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّرْطِ: أَيْ إِنْ صَبَرْتُمْ وَاتَّقَيْتُمْ وَأَتَاكُمْ كُرْزٌ وَأَصْحَابُهُ يُعَاوِنُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِأَكْثَرِ مِنْ أَلْفٍ وَمِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، قَالُوا فَبَلَغَتْ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَدَلَ عَنْ إِمْدَادِهِمْ فَلَمْ يُمِدَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ، أَيْ بِالْمَلَائِكَةِ الزَّائِدِينَ عَلَى الْأَلْفِ. وَقِيلَ: لَمْ يُمِدَّهُمْ بِمَلَائِكَةٍ أَصْلًا، وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ: مِثْلُ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالزُّهْرِيِّ: إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلٌ صَادِرٌ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالُوا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَصْبِرُوا، فَلَمَّا لَمْ يَصْبِرُوا

وَاسْتَبَقُوا إِلَى طَلَبِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُمْدِدْهُمُ اللَّهُ وَلَا بِمَلَكٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَدَلًا مِنْ وَإِذْ غَدَوْتَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَيَأْتُوكُمْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ تَحْقِيقِ سُرْعَةِ النَّصْرِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ وَيَأْتُوكُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَمَعْنَى مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا الْمُبَادَرَةُ السَّرِيعَةُ، فَإِنَّ الْفَوْرَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِضَافَةُ الْفَوْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْآتِينَ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ اخْتِصَاصِ الْفَوْرِ بِهِمْ، أَيْ شِدَّةِ اتِّصَافِهِمْ بِهِ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِأَنَّهُ فَوْرُهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ خَرَجَ من فوره. و (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ (هَذَا) إِلَى الْفَوْرِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ الْقَرِيبِ، وَتِلْكَ كِنَايَة أَو استعادة لِكَوْنِهِ عَاجِلًا. ومُسَوِّمِينَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ سَوَّمَهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّومَةِ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ الْعَلَامَةُ مَقْلُوبُ سِمَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ سِمَةٍ وَسْمَةٌ. وَتُطْلَقُ السُّومَةُ عَلَى عَلَامَةٍ يَجْعَلُهَا الْبَطَلُ لِنَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ مِنْ صُوفٍ أَوْ رِيشٍ مُلَوَّنٍ، يَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى رَأْسِ فَرَسِهِ، يَرْمُزُ بِهَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَّقِي أَنْ يَعْرِفَهُ أَعْدَاؤُهُ، فَيُسَدِّدُوا إِلَيْهِ سِهَامَهُمْ، أَوْ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ، فَهُوَ يَرْمُزُ بِهَا إِلَى أَنَّهُ وَاثِقٌ بِحِمَايَتِهِ نَفْسَهُ بِشَجَاعَتِهِ، وَصِدْقِ لِقَائِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمرَان: 14] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ وَالِاسْتِفْعَالِ تَكْثُرَانِ فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ. وَوَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ كِنَايَةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ شِدَادًا. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَعْدَادَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مُنَاسِبَةٌ لِجَيْشِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ جَيْشَ الْعَدُوِّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ أَلْفًا فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِمَدَدِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا خَشُوا أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَدُوِّ مَدَدٌ مِنْ كُرْزٍ الْمُحَارِبِيِّ. وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَيْ بِجَيْشٍ لَهُ قَلْبٌ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 126 إلى 128]

وَمَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ كُلُّ رُكْنٍ مِنْهَا أَلْفٌ، وَلَمَّا لَمْ تَنْقَشِعْ خَشْيَتُهُمْ مِنْ إِمْدَادِ الْمُشْرِكِينَ لِأَعْدَائِهِمْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَهُوَ جَيْشٌ عَظِيمٌ لَهُ قَلْبٌ وَمَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ وَسَاقَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَمِيسُ، وَهُوَ أَعْظَمُ تَرْكِيبًا وَجَعَلَ كُلَّ رُكْنٍ مِنْهُ مُسَاوِيًا لِجَيْشِ العدوّ كلّه. [126- 128] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 126 إِلَى 128] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [الْبَقَرَة: 123] وَالْمَعْنَى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ حِينَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ بِهِ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ ذَلِكَ الْوَعْدَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ وَعَدَكُمُ النَّصْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَال: 70] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَطْفَ الْإِخْبَارِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِمْدَادِ الْمُسْتَفَادِ من يُمْدِدْكُمْ [آل عمرَان: 125] أَوْ إِلَى الْوَعْدِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمرَان: 125] الْآيَةَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. وبُشْرى مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ (جَعَلَهُ) أَيْ مَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْدَادَ وَالْوَعْدَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ بُشْرَى، أَيْ جَعَلَهُ بُشْرَى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَ (لكم) متعلّق ب (بشرى) . وَفَائِدَةُ التَّصْرِيحِ بِهِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْبُشْرَى إِلَيْهِمْ هِيَ

الدَّلَالَةُ عَلَى تَكْرِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِأَنْ بَشَّرَهُمْ بُشْرَى لِأَجْلِهِمْ كَمَا فِي التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] . وَالْبُشْرَى اسْمٌ لِمَصْدَرِ بَشَّرَ كَالرُّجْعَى، وَالْبُشْرَى خَبَرٌ بِحُصُولِ مَا فِيهِ نَفْعٌ وَمَسَرَّةٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ أَيْقَنُوا بِهِ فَكَانَ فِي تَبْيِينِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ طَمْأَنَةٌ لِنُفُوسِهِمْ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَرْكَنُ إِلَى الصُّوَرِ الْمَأْلُوفَةِ. وَالطَّمْأَنَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ: السُّكُونُ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِيَقِينِ النَّفْسِ بِحُصُولِ الْأَمْرِ تَشْبِيهًا لِلْعِلْمِ الثَّابِتِ بِثَبَاتِ النَّفْسِ أَيْ عَدَمِ اضْطِرَابِهَا، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260]-. وَعُطِفَ وَلِتَطْمَئِنَّ عَلَى بُشْرى فَكَانَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ عِلَلٍ، أَيْ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَجْلِ شَيْءٍ إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ. وَجُمْلَةُ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَذْيِيلٌ أَيْ كُلُّ نَصْرٍ هُوَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُنَا لِأَنَّهُمَا أَوْلَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ يَنْصُرُ مَنْ يُرِيدُ نَصْرَهُ، وَالْحَكِيمُ يَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ نَصْرَهُ وَكَيْفَ يُعْطَاهُ. وَقَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً متعلّق ب (النّصر) بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِبَعْضِ أَحْوَالِ النَّصْرِ، أَيْ لِيَقْطَعَ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالطَّرَفُ- بِالتَّحْرِيكِ- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّاحِيَةِ، وَيُخَصُّ بِالنَّاحِيَةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى الْمَكَانِ، قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: 41] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْجُزْءِ الْمُتَطَرِّفِ مِنَ الْجَسَدِ

كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسِ فَيَكُونُ مُسْتَعَارًا هُنَا لِأَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لِيَقْطَعَ مِنْ جِسْمِ الشِّرْكِ أَهَمَّ أَعْضَائِهِ، أَيْ لِيَسْتَأْصِلَ صَنَادِيدَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَتَنْكِيرُ (طَرَفًا) لِلتَّفْخِيمِ، وَيُقَالُ: هُوَ مِنْ أَطْرَافِ الْعَرَبِ، أَيْ مِنْ أَشْرَافِهَا وَأَهْلِ بُيُوتَاتِهَا. وَمَعْنَى أَوْ يَكْبِتَهُمْ يُصِيبَهُمْ بِغَمٍّ وَكَمَدٍ، وَأَصْلُ كَبَتَ كَبَدَ بِالدَّالِ إِذَا أَصَابَهُ فِي كَبِدِهِ. كَقَوْلِهِمْ: صُدِرَ إِذَا أُصِيبَ فِي صَدْرِهِ، وَكُلِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي كُلْيَتِهِ، وَمُتِنَ إِذَا أُصِيبَ فِي مَتْنِهِ، وَرُئِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي رِئَتِهِ، فَأُبْدِلَتِ الدَّالُ تَاءً وَقَدْ تُبْدَلُ التَّاءُ دَالًا كَقَوْلِهِمْ: سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَبَتَهُ أَيْ حَلَقَهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ مَقَرُّهُ الْكَبِدُ، وَالْغَضَبَ مَقَرُّهُ الصَّدْرُ وَأَعْضَاءُ التَّنَفُّسِ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ يَمْدَحُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ حِينَ سَفَرِهِ عَنْ أَنْطَاكِيَةَ: لِأَكْبِتَ حَاسِدًا وَأُرِي عَدُوًّا ... كَأَنَّهُمَا وَدَاعُكَ وَالرَّحِيلُ وَقَدِ اسْتَقْرَى أَحْوَالَ الْهَزِيمَةِ فَإِنَّ فَرِيقًا قُتِلُوا فَقُطِعَ بِهِمْ طَرَفٌ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفَرِيقًا كُبِتُوا وَانْقَلَبُوا خَائِبِينَ، وَفَرِيقًا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا، وَفَرِيقًا عُذِّبُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالذُّلِّ، وَالصَّغَارِ، وَالْأَسْرِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ، بَعْدَ أَخْذِ بَلَدِهِمْ وَ «أَوْ» بَيْنَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِلتَّقْسِيمِ. وَهَذَا الْقَطْعُ وَالْكَبْتُ قَدْ مَضَيَا يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ فِي ذَلِكَ النَّصْرِ الْمُبِينِ الْعَزِيزِ النَّظِيرِ. وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِ لَفْظِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيُ أَنْ يكون للنّبيء، أَي لِقِتَالِهِ الْكُفَّارَ بِجَيْشِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي قِلَّةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْقِتَالِ، أَيْ فَالنَّصْرُ حَصَلَ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: 17] .

وَلَفْظُ (الْأَمْرِ) مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ الشَّأْنُ، وَ (الْ) فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَيْ مِنَ الشَّأْنِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ وَهُوَ النَّصْرُ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ صَرْفِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الِاشْتِغَالِ بِشَأْنِ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ قَطْعِ طَرَفِهِمْ، وَكَبْتِهِمْ أَوْ تَوْبَةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَعْذِيبٍ لَهُم: أَي فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَيْنَا نُحَقِّقُهُ مَتَى أَرَدْنَا، وَيَتَخَلَّفُ مَتَى أَرَدْنَا عَلَى حَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُنَا، وَذَلِكَ كَالِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَفْظُ (الْأَمْرِ) بِمَعْنَى شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمُ اهْتِمَامٌ. وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ تَخَوُّفِ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِلْحَاحِهِ فِي الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ. وَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يودّ استيصال جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ وَجَدَ مُقْتَضَى ذَلِكَ وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرِ اسْتِيصَالَهُمْ جَمِيعًا بَلْ جَعَلَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ أَلْوَانًا فَانْتَقَمَ مِنْ طَائِفَةٍ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُمْ، وَمِنْ بَقِيَّتِهِمْ بِالْكَبْتِ، وَهُوَ الْحُزْنُ عَلَى قَتْلَاهُمْ، وَذَهَابُ رُؤَسَائِهِمْ، وَاخْتِلَالُ أُمُورِهِمْ، وَاسْتَبْقَى طَائِفَةً لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ، فَيَكُونُوا قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَيَوْمَ الْفَتْحِ: مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخِي أَبِي جَهْلٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَذَّبَ طَائِفَةً عَذَابَ الدُّنْيَا بِالْأَسْرِ، أَوْ بِالْقَتْلِ: مِثْلَ ابْنِ خَطَلٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» . وَوُضِعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْأَمر هُوَ الْأَمْرِ الدَّائِرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اسْتِئْنَاسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، ثُمَّ

أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عِقَابِهِمْ، فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِرْضَاءٌ لَهُ مِنْ جَانِبِ الِانْتِصَارِ لَهُ، وَفِي بَعْضِهَا إِرْضَاءٌ لَهُ مِنْ جَانِبِ تَطْوِيعِهِمْ لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى بَقِيَّةِ عُقُوبَاتِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ. وَلِكَوْنِ التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَقَعَ فِي خِلَالِ الْإِشَارَةِ إِلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ، كَأَنَّ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ إِيمَاءً إِلَى مَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِحِكْمَةِ الْهَزِيمَةِ اللَّاحِقَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، إِذْ كَانَ فِي اسْتِبْقَاءِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَمْ يُصِبْهُمُ الْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ، ادِّخَارُ فَرِيقٍ عَظِيمٍ مِنْهُمْ لِلْإِسْلَامِ فِيمَا بَعْدُ، بَعْدَ أَنْ حَصَلَ رُعْبُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وَإِنْ حَسَبُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَيَّ حِسَابٍ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ شَجَاعَتِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُتَعَلِّقًا بِأَحْوَالِ يَوْمِ أُحُدٍ: لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَنْبُو عَنْهُ، وَحَالُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: خائِبِينَ. وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَّ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ يَمْسَحُونَ الدَّمَ عَنْ وَجْهِ نَبِيِّهِمْ، فَقَالَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ» أَيْ فِي حَالِ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْخَيْرِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَمَعْنَاهُ: لَا تَسْتَبْعِدْ فَلَاحَهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَوِّلٌ عَلَى إِرَادَةِ:: فَذُكِّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِظُهُورِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِأَنَّ النَّبِيءَ تَعَجَّبَ مِنْ فَلَاحِهِمْ أَوِ اسْتَبْعَدَهُ، وَلَمْ يَدَّعِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، أَوْ عَمَلًا، حَتَّى يُقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَمَّى أُنَاسًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِنَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْلَمُوا . وَقِيلَ: إِنَّهُ هَمَّ بِالدُّعَاءِ، أَوِ اسْتَأْذَنَ اللَّهَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِيصَالِ، فَنُهِيَ. وَيَرُدُّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نبيئا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يعلمُونَ . و

ورد أَنَّهُ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَمَا ثَبَتَ مِنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ. وَأَغْرَبَ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ نَسْخًا لِمَا كَانَ يَدْعُو بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُنُوتِهِ عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَلِحْيَانَ، الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَسَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامٌ ضَعِيفٌ كُلُّهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ لِنَسْخِ ذَلِكَ وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ عِلَلِ النَّصْرِ الْوَاقِعِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَتَفْسِيرُ مَا وَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة أخذا بكامل الْأَدَبِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَعْلَمَهُ فِي هَذَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ نَفْعُ الْإِسْلَامِ، وَنِقْمَةُ الْكُفْرِ، تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَعَلَّهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا. وَإِذْ جَعَلْنَا دُعَاءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبَائِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُنُوتِ شَرْعًا تَقَرَّرَ بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَدُّوِ مُبَاحٌ، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ قَبِيلِ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ، نَسَخَتْ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ اسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ أَوْلَوِيَّةِ الْفِعْلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَرْمَى، وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا، وَأَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى حَتَّى: أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ إِيمَانِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا تَابَ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يَجْهَلُ هَذَا أَحَدٌ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانِهِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ عِلَلِ النَّصْرِ، فَكَيْفَ يشتّت الْكَلَام، وتنتثر الْمُتَعَاطِفَاتُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْأَمْرِ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ شَيْءٌ، مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَوْ تَوْبَتِهِمْ شَيْءٌ، أَوْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ تَوْبَةٌ عَلَيْهِمْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 129]

فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا جَمَعَ الْعُقُوبَاتِ مُتَوَالِيَةً: فَقَالَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، قُلْتُ: رُوعِيَ قَضَاءُ حَقِّ جَمْعِ النَّظِيرِ أَوَّلًا، وَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ ثَانِيًا، بِجَمْعِ الْقَطْعِ وَالْكَبْتِ، ثُمَّ جَمْعِ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ، عَلَى نَحْوِ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو الطَّيِّبِ عَن نقد من نَقْدِ قَوْلِهِ فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ: وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ إِذْ قَدَّمَ مِنْ صِفَتَيْهِ تَشْبِيهَهُ بِكَوْنِهِ فِي جَفْنِ الرَّدَى لِمُنَاسَبَةِ الْمَوْتِ، وَأَخَّرَ الْحَالَ وَهِيَ وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ لِمُضَادَّةِ قَوْلِهِ كَلْمَى حَزِينَةً، فِي قِصَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ. وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لَامُ الْمِلْكِ، وَكَافُ الْخِطَابِ لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ إِذْ رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا وَجِيزًا مَحْذُوفًا مِنْهُ بَعْضُ الْكَلِمَاتِ، وَلَمْ أَظْفَرْ، فِيمَا حَفِظْتُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَعَلَّهَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4] وَسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمرَان: 154] ويَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمرَان: 154] فَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى فَلَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ أَجْدَرُ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ إِنْ وَقَعَتْ فَضْلٌ مِنَ الله تَعَالَى. [129] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 129] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 132]

(129) تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْحَالين على التَّوْزِيع بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمَّا كَانَ مَظِنَّةَ التَّطَلُّعِ لِمَعْرِفَةِ تَخْصِيصِ فَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ، أَوْ تَعْمِيمِ الْعَذَابِ، ذَيَّلَهُ بِالْحِوَالَةِ عَلَى إِجْمَالِ حَضْرَةِ الْإِطْلَاقِ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ أَسْرَارَ تَخْصِيصِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يُعَيَّنُ لَهُ، أَسْرَارٌ خَفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خلق لَهُ. [130- 132] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 130 إِلَى 132] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) لَوْلَا أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى يَوْمِ أُحُدٍ لَمْ يَكْمُلْ، إِذْ هُوَ سَيُعَادُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ إِلَى قَوْلِهِ: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ... [آل عمرَان: 171] الْآيَةَ لَقُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا اقْتِضَابُ تَشْرِيعٍ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ نَعْتَبِرَهُ اسْتِطْرَادًا فِي خِلَالِ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ فِي وُقُوعِهِ فِي هَذَا الْأَثْنَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا أَحْفَظُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ مَرْوِيًّا. وَقَالَ الْفَخْرُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْجِهَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا أَنْفَقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى جُيُوشِهِمْ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا مِنَ الرِّبَا، خِيفَ أَنْ يَدْعُوَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا. وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ مُسْتَبْعَدَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ وَعِيدَ الْكُفَّارِ عَقَّبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْوَعِيدَ لَا يَخُصُّهُمْ بَلْ يَتَنَاوَلُ الْعُصَاةَ، وَذَكَرَ أَحَدَ صُوَرِ الْعِصْيَانِ وَهِيَ أَكْلُ الرِّبَا. وَهُوَ فِي ضَعْفِ مَا قبله، وَعِنْدِي بادىء ذِي بَدْءٍ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى اطِّرَادِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ مُدَّةَ نُزُولِ السُّورَةِ قَابِلَةٌ، لِأَنْ تَحْدُثَ فِي خِلَالِهَا حَوَادِثُ يَنْزِلُ فِيهَا قُرْآنٌ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ

السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا فَكُتِبَتْ هُنَا وَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ إِذْ هُوَ مُلْحَقٌ إِلْحَاقًا بِالْكَلَامِ. وَيَتَّجِهُ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ وَجْهِ إِعَادَةِ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ- بِمَا هُوَ أَوْفَى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ- سُورَةِ الْبَقَرَةِ- فَكَانَتْ هَذِهِ تَمْهِيدًا لِتِلْكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّهْيُ فِيهَا بَالِغًا مَا فِي- سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا وَأَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا: كَيْفَ نُنْهَى عَنِ الرِّبَا، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْعِ، وَيَكُونُ وَصْفُ الرِّبَا بِ أَضْعافاً مُضاعَفَةً نَهْيًا عَنِ الرِّبَا الْفَاحِشِ وَسَكَتَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْأَضْعَافِ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي- سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ دَايَنَ بَعْضًا بِالْمُرَابَاةِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي مُدَّةِ نُزُولِ قِصَّةِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى أَكْلِ الرِّبَا، وَعَلَى مَعْنَى الرِّبَا، وَوَجْهُ تَحْرِيمِهِ،- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ-. وَقَوْلُهُ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً حَال من الرِّبَوا وَالْأَضْعَافُ جَمْعُ ضِعْفٍ- بِكَسْرِ الضَّادِ- وَهُوَ معادل الشَّيْء فِي الْمِقْدَارِ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ وَمُمَاثِلُهُ مُتَلَازِمَيْنِ، لَا تَقُولُ: عِنْدِي ضِعْفُ دِرْهَمِكَ، إِذْ لَيْسَ الْأَصْلُ عِنْدَكَ، بَلْ يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: عِنْدِي دِرْهَمَانِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَضِعْفُهُ، إِذَا كَانَ أَصْلُ الدِّرْهَمِ عِنْدَكَ، وَتَقُولُ: لَكَ دِرْهَمٌ وَضِعْفُهُ، إِذَا فَعَلْتَ كَذَا. وَالضِّعْفُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِأَلْ نَحْوَ ضِعْفِهِ، فَإِذَا أُرِيدَ الْجَمْعُ جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا هُنَا، وَإِذَا عُرِّفَ الضِّعْفُ بِأَلْ صَحَّ اعْتِبَارُ الْعَهْدِ وَاعْتِبَارُ الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: 37] فَإِنَّ الْجَزَاءَ أَضْعَافٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَقَوْلُهُ: مُضاعَفَةً صِفَةٌ لِلْأَضْعَافِ أَيْ هِيَ أَضْعَافٌ يَدْخُلُهَا التَّضْعِيفُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَايَنُوا أَحَدًا إِلَى أَجَلٍ دَايَنُوهُ بِزِيَادَةٍ، وَمَتَى أَعْسَرَ عِنْدَ الْأَجَلِ أَوْ رَامَ التَّأْخِيرَ زَادَ مِثْلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَيَصِيرُ الضِّعْفُ ضِعْفًا، وَيَزِيدُ، وَهَكَذَا، فَيَصْدُقُ

بِصُورَةِ أَنْ يجْعَلُوا الدَّيْنَ مُضَاعَفًا بِمِثْلِهِ إِلَى الْأَجَلِ، وَإِذَا ازْدَادَ أَجَلًا ثَانِيًا زَادَ مِثْلَ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالْأَضْعَافُ مِنْ أَوَّلِ التَّدَايُنِ لِلْأَجَلِ الْأَوَّلِ، وَمُضَاعَفَتُهَا فِي الْآجَالِ الْمُوَالِيَةِ، وَيَصْدُقُ بِأَنْ يُدَايِنُوا بِمُرَابَاةٍ دُونَ مِقْدَارِ الدَّيْنِ ثُمَّ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْآجَالِ، حَتَّى يَصِيرَ الدَّيْنُ أَضْعَافًا، وَتَصِيرَ الْأَضْعَافُ أَضْعَافًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْحَالُ وَارِدَةٌ لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ فَلَا تُفِيدُ مَفْهُومًا: لِأَنَّ شَرْطَ اسْتِفَادَةِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْقُيُودِ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَيْدُ الْمَلْفُوظُ بِهِ جَرَى لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْحَالُ وَارِدَةٌ لقصد التشنيع وإراءة هَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ غَالِبُ الْمَدِينِينَ تَسْتَمِرُّ حَاجَتُهُمْ آجَالًا طَوِيلَةً، كَانَ الْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ مُطَّرِدًا، وَحِينَئِذٍ فَالْحَالُ لَا تُفِيدُ مَفْهُومًا كَذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّقْيِيدُ بَلِ التَّشْنِيعُ، فَلَا يَقْتَصِرُ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرِّبَا الْبَالِغِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ الرِّبَا أَقَلَّ مِنْ ضِعْفِ رَأْسِ الْمَالِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. فَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ هُوَ مَصَبَّ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا حَتَّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ الضَّعْفِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَجَاءَتْ بَعْدَهَا آيَةُ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تُنَاسِبُ ابْتِدَاءَ التَّشْرِيعِ، وَصِيغَةُ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَذَابَ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا. وَذَكَرَ غُرُورَ مَنْ ظَنَّ الرِّبَا مِثْلَ الْبَيْعِ، وَقِيلَ فِيهَا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ [الْبَقَرَة: 275] الْآيَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَمَفْهُومُ الْقَيْدِ مُعَطَّلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا هِيَ قَصْدُ الشَّرِيعَةِ حَمْلَ الْأُمَّةِ عَلَى مُوَاسَاةِ غَنِيِّهَا مُحْتَاجِهَا احْتِيَاجًا عَارِضًا مُوَقَّتًا بِالْقَرْضِ، فَهُوَ مَرْتَبَةٌ دُونَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمُوَاسَاةِ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاسَاةَ مِنْهَا فَرْضٌ كَالزَّكَاةِ، وَمِنْهَا نَدْبٌ كَالصَّدَقَةِ وَالسَّلَفِ، فَإِنِ انْتَدَبَ لَهَا الْمُكَلَّفُ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُ عِوَضٍ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ، وَذَلِكَ أَن الْعَادة الْمَاضِيَةَ فِي الْأُمَمِ، وَخَاصَّةً الْعَرَبَ، أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتَدَايَنُ إِلَّا لِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّ الْأُمَّةِ مُوَاسَاتَهُ. وَالْمُوَاسَاةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا، فَهُوَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ يُرِيدُ الْمُعَامَلَةَ لِلرِّبْحِ كَالْمُتَبَايِعِينَ

وَالْمُتَقَارِضَيْنِ: لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ فِي الْعُرْفِ بَيْنَ التَّعَامُلِ وَبَيْنَ التَّدَايُنِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ميّز هاته الواهي بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِحَقَائِقِهَا الذَّاتِيَّةِ، لَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَعَاقِدِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْمَحْ لِصَاحِبِ الْمَالِ فِي اسْتِثْمَارِهِ بِطَرِيقَةِ الرِّبَا فِي السَّلَفِ، وَلَو كَانَ المستسلف غَيْرَ مُحْتَاجٍ، بَلْ كَانَ طَالِبَ سَعَةٍ وَإِثْرَاءٍ بِتَحْرِيكِ المَال الّذي يتسلّفه فِي وُجُوهِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسُمِحَ لِصَاحِبِ الْمَالِ فِي اسْتِثْمَارِهِ بِطَرِيقَةِ الشَّرِكَةِ وَالتِّجَارَةِ وَدَيْنِ السَّلَمِ، وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ الرِّبَا تَفْرِقَةً بَيْنَ الْمَوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْبُعْدَ بِالْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكَسَلِ فِي استثمار المَال، وإلجاؤهم إِلَى التَّشَارُكِ والتعاون فِي شؤون الدُّنْيَا، فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، مَعَ تَجْوِيزِ الرِّبْحِ مِنَ التِّجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا تَحْقِيقًا لِهَذَا الْمَقْصِدِ. وَلَقَدْ قَضَى الْمُسْلِمُونَ قُرُونًا طَوِيلَةً لَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّعَامُلِ بِالرِّبَا، وَلَمْ تَكُنْ ثَرْوَتُهُمْ أَيَّامَئِذٍ قَاصِرَةً عَنْ ثَرْوَةِ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ فِي الْعَالَمِ، أَزْمَانَ كَانَتْ سيادة الْعَالم بيدهم، أَوْ أَزْمَانَ كَانُوا مستقلّين بإدارة شؤونهم، فَلَمَّا صَارَتْ سِيَادَةُ الْعَالَمِ بِيَدِ أُمَمٍ غَيْرِ إِسْلَامِيَّةٍ، وَارْتَبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِغَيْرِهِمْ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَانْتَظَمَتْ سُوقُ الثَّرْوَةِ الْعَالَمِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ الْقَوَانِينِ الَّتِي لَا تَتَحَاشَى الْمُرَابَاةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا تَعْرِفُ أَسَالِيبَ مُوَاسَاةِ الْمُسْلِمِينَ، دُهِشَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمُ الْيَوْمَ يَتَسَاءَلُونَ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الْآيَةِ صَرِيحٌ، وَلَيْسَ لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مُبِيحٌ. وَلَا مُخَلِّصَ من هَذَا الْمضيق إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الدُّوَلُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَوَانِينَ مَالِيَّةً تُبْنَى عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَصَارِفِ، وَالْبُيُوعِ، وَعُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ المركبة من رُؤُوس الْأَمْوَالِ وَعَمَلِ الْعُمَّالِ. وَحَوَالَاتِ الدُّيُونِ وَمُقَاصَّتِهَا وَبَيْعِهَا. وَهَذَا يَقْضِي بِإِعْمَالِ أَنْظَارِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّدَارُسِ بَيْنَهُمْ فِي مَجْمَعٍ يَحْوِي طَائِفَةً مِنْ كُلِّ فُرْقَةٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ الْآيَاتِ الْخَمْسَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 إلى 134]

وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ تَحْذِيرٌ وَتَنْفِيرٌ مِنَ النَّارِ وَمَا يُوقِعُ فِيهَا، بِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ لِلْكَافِرِينَ وَإِعْدَادُهَا لِلْكَافِرِينَ. عَدْلٌ مِنَ الله تَعَالَى وَحِكْمَة لأنّ ترتّب الْأَشْيَاءِ عَلَى أَمْثَالِهَا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْحِرْمَانَ مِنْ رَحَمَاتِهِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَرْضَوْنَ بِمُشَارَكَةِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الْحَقَّ يُوجِبُ كَرَاهِيَةَ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْكُفْرِ. وَذَاكَ تَعْرِيضٌ وَاضِحٌ فِي الْوَعِيدِ عَلَى أَخْذِ الرِّبَا. وَمُقَابِلُ هَذَا التَّنْفِيرِ التَّرْغِيبُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمرَان: 133] ، وَالتَّقْوَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ. وَتَعْرِيفُ النَّارِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْوَصْفُ لِلنَّارِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التَّحْرِيم: 6] ، وَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاء: 91] الْآيَةَ. [133، 134] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 133 إِلَى 134] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ سارِعُوا دُونَ وَاوِ عَطْفٍ. تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ سارِعُوا.. مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ، أَوْ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، لِجُمْلَةِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ مُسَارَعَةٌ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَلِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَة والجنّة يؤول إِلَى الْأَمْرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ جَازَ عَطْفُ الْجُمْلَة على الْجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، فَلِذَلِكَ قَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ وَسارِعُوا. بِالْعَطْفِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُنْبِئُنَا بِأَنَّهُ يجوز الْفَصْل والوصل فِي بَعْضِ الْجُمَلِ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَالسُّرْعَةُ الْمُشْتَقُّ مِنْهَا سَارِعُوا مَجَازٌ فِي الْحِرْصِ وَالْمُنَافَسَةِ وَالْفَوْرِ إِلَى عَمَلِ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةُ حَقِيقَةً، وَهِيَ سُرْعَةُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَاد عِنْد النفير كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» .

وَالْمُسَارَعَةُ، عَلَى التَّقَادِيرِ كُلِّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَتَعْلِيقُهَا بِذَاتِ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ عَلَى إِرَادَةِ أَحْوَالِهَا عِنْدَ ظُهُورِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالذَّاتِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، مُجَرَّدَةً عَنِ مَعْنَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، قَصْدَ الْمُبَالِغَةِ فِي طَلَبِ الْإِسْرَاعِ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِمَا يَدُلُّ فِي الْوَضْعِ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّأْكِيدَ وَالْمُبَالَغَةَ دُونَ التَّكْرِيرِ، وَنَظِيرُهُ التَّثْنِيَةُ فِي قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: 4] . وَتَنْكِيرُ (مَغْفِرَةٍ) وَوَصْلُهَا بِقَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ مَعَ تأتّي الْإِضَافَةِ بِأَنْ يُقَالَ إِلَى مَغْفِرَةِ رَبِّكُمْ، لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَوَصْفِ الْجَنَّةِ بِأَنَّ عَرْضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ. وَالْعَرْضُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الطُّولَ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاتِّسَاعِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْعَرِيضَ هُوَ الْوَاسِعُ فِي الْعُرْفِ بِخِلَافِ الطَّوِيلِ غَيْرِ الْعَرِيضِ فَهُوَ ضَيِّقٌ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعُدَيْلِ: وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنِي ... بِسَاطٌ بِأَيْدِي النَّاعِجَاتِ عَرِيضُ وَذِكْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي تَمْثِيلِ شِدَّةِ الِاتِّسَاعِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ عَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيُوَافِقَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ مِنْ عُلَمَائِنَا بِأَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ، وَأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرْضُهَا حَقِيقَةً، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ لَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَدْ رُوِيَ: الْعَرْشُ سَقْفُ الْجَنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقِ الْآنَ وَسَتُخْلَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الظَّاهِرِيُّ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ تُخْلَقَ فِي سَعَةِ الْفَضَاءِ الَّذِي كَانَ يَمْلَؤُهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَوْ فِي سَعَةِ فَضَاءٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَفِي حَدِيثِ رُؤْيَا رَآهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ الَّذِيِِ

فِيهِ قَوْلُهُ: «إنّ جِبْرِيل وميكاييل قَالَا لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعَ فَإِذَا فَوْقَهُ مِثْلُ السَّحَابِ، قَالَا: هَذَا مَنْزِلُكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ» . أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) . أَعْقَبَ وَصْفَ الْجَنَّةِ بِذِكْرِ أَهْلِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يزِيد التّنويه بِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُقَلَاءُ يَتَخَيَّرُونَ حُسْنَ الْجِوَارِ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: مَنْ مَبْلَغٌ أَفَنَاءَ يَعْرُبَ كُلِّهَا ... أَنِّي بَنَيْتُ الْجَارَ قَبْلَ الْمَنْزِلِ وَجُمْلَةُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجَنَّةِ عَقِبَ ذِكْرِ النَّارِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَعَرَّفُوا مَنِ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ: فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُتَّقِينَ أَكْمَلُ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّقْوَى، فَإِعْدَادُهَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا- فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى- الَّذِينَ لَا يَلِجُونَ النَّارَ أَصْلًا- عَدْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى- فَيَكُونُ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمرَان: 131] ، وَيَكُونُ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ التَّائِبِينَ قَدْ أَخَذُوا بحظّ من الدَّارَيْنِ، لِمُشَابِهَةِ حَالِهِمْ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ عَدْلًا مِنَ اللَّهِ وَفَضْلًا، وَبِمِقْدَارِ الِاقْتِرَابِ مِنْ أَحَدِهِمَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِنَصِيبٍ مِنْهُ، وَأُرِيدَ الْمُتَّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِعْدَادُ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مُقَدَّرُونَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْعَاقِبَةِ. وَقَدْ أَجْرَى عَلَى الْمُتَّقِينَ صِفَاتِ ثَنَاءٍ وَتَنْوِيهٍ، هِيَ لَيْسَتْ جِمَاعَ التَّقْوَى، وَلَكِنَّ اجْتِمَاعَهَا فِي مَحَلِّهَا مُؤذن بأنّ ذَلِك الْمَحَلَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا قَدِ اسْتَكْمَلَ مَا بِهِ التَّقْوَى، وَتِلْكَ هِيَ مُقَاوَمَةُ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: الْإِنْفَاقُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْإِنْفَاقُ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَإِعْطَاءُ الْمَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالسَّرَّاءُ فَعْلَاءُ، اسْمٌ لِمَصْدَرِ

[سورة آل عمران (3) : آية 135]

سَرَّهُ سَرًّا وسرورا. والضّراء كَذَلِك مِنْ ضَرَّهُ، أَيْ فِي حَالَيِ الِاتِّصَافِ بِالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، وَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُنَا لِأَنَّ السَّرَّاءَ فِيهَا مَلْهَاةٌ عَنِ الْفِكْرَةِ فِي شَأْنِ غَيْرِهِمْ، وَالضَّرَّاءَ فِيهَا مَلْهَاةٌ وَقِلَّةُ مَوْجِدَةٍ. فَمُلَازَمَةُ الْإِنْفَاقِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ نَفْعِ الْغَيْرِ بِالْمَالِ، الَّذِي هُوَ عَزِيزٌ على النّفس، قد صَارَت لَهُمْ خُلُقًا لَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ حَاجِبٌ وَلَا يَنْشَأُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ نَفْسٍ طَاهِرَةٍ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ. وَكَظْمُ الْغَيْظِ إِمْسَاكُهُ وَإِخْفَاؤُهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَظَمَ الْقِرْبَةَ إِذَا مَلَأَهَا وَأَمْسَكَ فَمَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْإِمْسَاكِ مَعَ الِامْتِلَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْوَى الْقُوَى تَأْثِيرًا عَلَى النَّفْسِ الْقُوَّةُ الْغَاضِبَةُ فَتَشْتَهِي إِظْهَارَ آثَارِ الْغَضَبِ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ إِمْسَاكَ مَظَاهِرِهَا، مَعَ الِامْتِلَاءِ مِنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَزِيمَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ، وَقَهْرِ الْإِرَادَةِ لِلشَّهْوَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ قُوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَفْوُ عَنِ النّاس فِيمَا أساؤوا بِهِ إِلَيْهِمْ. وَهِيَ تَكْمِلَةٌ لِصِفَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ لِأَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ قَدْ تَعْتَرِضُهُ نَدَامَةٌ فَيَسْتَعْدِي عَلَى مَنْ غَاظَهُ بِالْحَقِّ، فَلَمَّا وُصِفُوا بِالْعَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ وَصْفٌ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ، مُسْتَمِرٌّ مَعَهُمْ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي نَفْسٍ سَهُلَ مَا دُونَهَا لَدَيْهَا. وَبِجِمَاعِهَا يَجْتَمِعُ كَمَالُ الْإِحْسَانِ وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مُحْسِنُونَ وَاللَّهُ يحبّ الْمُحْسِنِينَ. [135] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 135] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ

(135) إِنْ كَانَ عَطْفَ فَرِيقٍ آخَرَ، فَهُمْ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ، بَلْ هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَإِنْ كَانَ عَطْفَ صِفَاتِ، فَهُوَ تَفْضِيلٌ آخَرُ لِحَالِ الْمُتَّقِينَ بِأَنْ ذَكَرَ أَوَّلًا حَالَ كَمَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ تَدَارُكِهِمْ نَقَائِصَهُمْ. وَالْفَاحِشَةُ الْفَعْلَةُ الْمُتَجَاوِزَةُ الْحَدِّ فِي الْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النَّجْم: 32] وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ فَحَشَ بِمَعْنَى قَالَ قَوْلًا ذَمِيمًا، كَمَا فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا» ، أَوْ فَعَلَ فِعْلًا ذَمِيمًا، وَمِنْهُ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: 28] . وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعْرِيفَ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ فَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، وَظُلْمُ النَّفْسِ هُوَ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ، وَعَطْفُهَا هُنَا عَلَى الْفَوَاحِشِ كَعَطْفِ الْفَوَاحِشِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النَّجْم: 32] . فَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الْمَعْصِيَةُ الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الْكَبِيرَةُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ هِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى الْغَيْرِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الْكَبِيرَةُ الْقَاصِرَةُ عَلَى النَّفْسِ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى مَعْنَى الْمِثَالِ. وَالذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ ذِكْرُ الْقَلْبِ وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَنْهُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَأَمَّا ذِكْرُ اللِّسَانِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ هُنَا ذِكْرُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَالِاسْتِغْفَار: طلب الغفر أَيِ السِّتْرُ لِلذُّنُوبِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، وَلِذَلِكَ صَارَ يُعَدَّى إِلَى الذَّنْبِ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: 55] . وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الصَّفْحِ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ نَدَامَةٍ، وَنِيَّةِ إِقْلَاعٍ عَنِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، كَانَ الِاسْتِغْفَارُ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ، إِذْ كَيْفَ يَطْلُبُ الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ مَنْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ، أَوْ عَازِمٌ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ، وَلَوْ طَلَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَكَانَ أَكْثَرَ إِسَاءَةً مِنَ

الذَّنْبِ، فَلِذَلِكَ عُدَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا رُتْبَةً مِنْ مَرَاتِبِ التَّقْوَى. وَلَيْسَ الِاسْتِغْفَارُ مُجَرَّدَ قَوْلِ (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) بِاللِّسَانِ وَالْقَائِلُ مُلْتَبِسٌ بِالذُّنُوبِ. وَعَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: «اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ» وَفِي كَلَامِهَا مُبَالَغَةٌ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِالْقَوْلِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِتَذَكُّرِ الذَّنْبِ وَالْحِيلَةِ لِلْإِقْلَاعِ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاسْتَغْفَرُوا وَجُمْلَةِ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ تَسْدِيدُ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى اسْتِغْفَارِ اللَّهِ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالنَّصَارَى فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عِيسَى رَفَعَ الْخَطَايَا عَنْ بَنِي آدَمَ بِبَلِيَّةِ صَلْبِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِتْمَامٌ لِرُكْنَيِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يُشِيرُ إِلَى النَّدَمِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْإِصْرَارِ، وَهَذَانِ رُكْنَا التَّوْبَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» ، وَأَمَّا تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ فِيهِ بِسَبَبِ الذَّنْبِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ إِذَا تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ، وَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنَ التَّدَارُكِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي «ذَكَرُوا» أَيْ: ذَكَرُوا اللَّهَ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِصْرَارِ. وَالْإِصْرَارُ: الْمَقَامُ عَلَى الذَّنْبِ، وَنَفْيُهُ هُوَ مَعْنَى الْإِقْلَاعِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ يَعْلَمُونَ سُوءَ فِعْلِهِمْ، وَعِظَمَ غَضَبِ الرَّبِّ، وَوُجُوبَ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ تَفَضَّلَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فَمَحَا بِهَا الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ. وَقَدِ انْتَظَمَ مِنْ قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يُصِرُّوا وَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَنْتَظِمُ مِنْهَا مَعْنَى التَّوْبَةِ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ

الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» إِذْ قَالَ: «وَهِيَ عِلْمٌ، وَحَالٌ، وَفِعْلٌ. فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ ضُرِّ الذُّنُوبِ، وَكَوْنِهَا حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ رَبِّهِ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْأَلَمُ يُسَمَّى نَدَمًا، فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على الْقلب انبعثت مِنْهُ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ هُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ (الْإِقْلَاعُ) ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (نَفْيُ الْإِصْرَارِ) ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمَاضِي بِتَلَافِي مَا فَاتَ» . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَكَرُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى انْفِعَالِ الْقَلْبِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِقْلَاعُ وَنَفْيُ الْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدَةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ الْمُثِيرِ لِلِانْفِعَالِ النفساني. وَقد رتّبت هَاتِهِ الْأَرْكَانَ فِي الْآيَةِ بِحَسْبِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَقْصُودِ: لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَحْصُلُ بَعْدَ الذَّنْبِ، فَيَبْعَثُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ الِاسْتِغْفَارَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْلَا حُصُولُهُ لَمَا كَانَتِ الْفَعْلَةُ مَعْصِيَةً. فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ بَعْدَ الذِّكْرِ وَنَفْيِ الْإِصْرَارِ، عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيب حُصُول مَضْمُونِهَا بَعْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ مَا جِيءَ بِهِ قَبْلَهَا فِي الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ. ثُمَّ إِن كَانَ الْإِصْرَارِ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ، كَمَا فُسِّرَ بِهِ كَانَ نَفْيُهُ بِمَعْنَى الْإِقْلَاعِ لِأَجْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ بِحَسْبِ الظَّاهِرِ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَنْبٍ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِصْرَارِ اعْتِقَادُ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ فَنَفْيُهُ هُوَ التَّوْبَةُ الْخَالِصَةُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْإِقْلَاعِ مَعَهُ إِذِ التَّلَبُّسُ بِالذَّنْبِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِهِ من الْآن.

[سورة آل عمران (3) : آية 136]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 136] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) اسْتِئْنَاف للتنويه بِسَدَادِ عَمَلِهِمْ: مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقَبُولِ اللَّهِ مِنْهُمْ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اسْتَوْجَبُوا الْإِشَارَةَ لِأَجْلِهَا. وَهَذَا الْجَزَاءُ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ وَعْدٌ مِنَ الله تَعَالَى، تفضّلا مِنْهُ: بِأَنْ جَعَلَ الْإِقْلَاعَ عَنِ الْمَعَاصِي سَبَبًا فِي غُفْرَانِ مَا سَلَفَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْجَنَّاتُ فَإِنَّمَا خَلَصَتْ لَهُمْ لِأَجْلِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَوْ أُخِذُوا بِسَالِفِ ذُنُوبِهِمْ لَمَا اسْتَحَقُّوا الْجَنَّاتِ فَالْكُلُّ فَضْلٌ مِنْهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ تَذْيِيلٌ لِإِنْشَاءِ مَدْحِ الْجَزَاءِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَهُوَ كثير فِي فَصِيحٌ الْكَلَامِ، وَسُمِّيَ الْجَزَاءُ أَجْرًا لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ وَعْدٍ لِلْعَامِلِ بِمَا عَمِلَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَامِلِينَ) لِلْعَهْدِ أَيْ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ هَذَا الْجَزَاءُ، وَهَذَا تَفْضِيل لَهُ وَالْعَمَل الْمُجَازَى عَلَيْهِ أَيْ إِذَا كَانَ لِأَصْنَافِ الْعَامِلِينَ أُجُورٌ، كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، فَهَذَا نِعْمَ الْأجر لعامل. [137] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 137] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: تَمْهِيدٌ لِإِعَادَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ، كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَهَذَا مُقَدِّمَةُ التّسلية والبشارة الْآيَتَيْنِ. ابْتُدِئَتْ هَاتِهِ الْمُقَدِّمَةُ بِحَقِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ: وَهِيَ الِاعْتِبَارُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.

وَجِيءَ بِ (قَدْ) ، الدَّالَّةِ عَلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ، تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنِ انْكِسَارِ الْخَوَاطِرِ مِنْ جَرَّاءِ الْهَزِيمَةِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِنَصْرِ دِينِ اللَّهِ، وَبَعْدَ أَنْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ سنّة هَذَا الْعَامِل أَنْ تَكُونَ الْأَحْوَالُ فِيهِ سِجَالًا وَمُدَاوَلَةً، وَذَكَّرَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَقَالَ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ. وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهِمْ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَحْسَبُ أَنَّ النَّصْرَ حَلِيفُهُمْ. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَانْقَرَضَتْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمرَان: 137] . وَالسُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ- وَهِيَ السِّيرَةُ مِنَ الْعَمَلِ أَوِ الْخُلُقِ الَّذِي يلازم الْمَرْء صُدُورَ الْعَمَلِ عَلَى مِثَالِهَا قَالَ لَبِيدٌ: مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا وَقَالَ خَالِدٌ الْهُذَلِيُّ يُخَاطِبُ أَبَا ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيَّ: فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سُرَّتُهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وَقَدْ تردّد اعْتِبَار أئمّة اللُّغَةِ إِيَّاهَا جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ، أَوِ اسْمَ مَصْدَرِ سَنَّ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السَّنُ بِمَعْنَى وَضْعِ السُّنَّةِ، وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [38] : سُنَّةَ اللَّهِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِمْ تُرْبًا وَجَنْدَلَا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ كَمَا أُقِيمَ تُرْبًا وَجَنْدَلًا مَقَامَ تَبًّا وَسُحْقًا فِي النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى تُرَابٌ لَهُ وَجَنْدَلٌ لَهُ أَيْ حُصِبَ بِتُرَابٍ وَرُجِمَ بِجَنْدَلٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي مَادَّةِ سَنَّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ السنّة اسْم مصدر، وَلَا أَتَى بِهَا عَقِبَ فِعْلِ سَنَّ، وَلَا ذَكَرَ مَصْدَرًا لِفِعْلِ سَنَّ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُ سَنَّ هُوَ الْمُشْتَقُّ مِنَ السُّنَّةِ اشْتِقَاقَ الْأَفْعَالِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ، وَهُوَ اشْتِقَاقٌ نَادِرٌ. وَالْجَارِي بِكَثْرَةٍ عَلَى أَلْسِنَة المفسّرين والمعربين: أَنَّ السُّنَّةَ اسْمُ مَصْدَرِ سَنَّ وَلَمْ يَذْكُرُوا لِفِعْلِ سَنَّ مَصْدَرًا

[سورة آل عمران (3) : آية 138]

قِيَاسِيًّا. وَفِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [فاطر: 43] وَفَسَّرُوا السُّنَنَ هُنَا بِسُنَنِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَالْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أَحْوَالٌ لِلْأُمَمِ، جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ، وَهِيَ أَنَّ قُوَّةَ الظَّالِمِينَ وَعُتُوَّهُمْ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَمْرٌ زَائِلٌ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الْمُحِقِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ وَأُرِيدَ النَّظَرُ فِي آثَارِهِمْ لِيَحْصُلَ مِنْهُ تَحَقُّقُ مَا بَلَغَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، أَوِ السُّؤَالُ عَنْ أَسْبَابِ هَلَاكِهِمْ، وَكَيْفَ كَانُوا أُولِي قُوَّةٍ، وَكَيْفَ طَغَوْا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، فاستأصلهم الله أَو لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُشَاهَدَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ مُشَاهَدَةَ عَيَانٍ، فَإِنَّ لِلْعَيَانِ بَدِيعَ مَعْنًى لِأَنَّ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُ الْمُكَذِّبِينَ، وَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ عَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ، وَكُلُّهُمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ يَسْتَطِيعُونَ مُشَاهَدَةَ آثَارِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ عِلْمِ التَّارِيخِ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ، وَأَسْبَابِ صَلَاحِ الْأُمَمِ وَفَسَادِهَا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْمَعْنَوِيُّ هُوَ النَّظَرُ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَمَا يَقْرُبُ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ وَقُصُورِهِ» . وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ مَنْ كَانُوا أُمِّيِّينَ، وَلِأَنَّ الْمُشَاهِدَةَ تُفِيدُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ عِلْمًا وَتَقْوًى عِلْمَ مَنْ قَرَأَ التَّارِيخَ أَوْ قصّ عَلَيْهِ. [138] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 138] هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) تَذْيِيلٌ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ الْحَاضِرِينَ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَجْيَالِ، وَالْإِشَارَةُ إِمَّا إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَإِمَّا إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 139]

وَالْبَيَانُ: الْإِيضَاحُ وَكَشْفُ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ. وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ النَّاسِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْذِيرُ وَالتَّخْوِيفُ. فَإِنْ جَعَلْتَ الْإِشَارَةَ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: 137] الْآيَةَ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ عَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَ النَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَلَا بَيْنَ الْهَزِيمَةِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَهِيَ هُدًى لَهُمْ لِيَنْتَزِعُوا الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ سَبَبَ النَّجَاحِ حَقًّا هُوَ الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَهِيَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ لِيَحْذَرُوا الْفَسَادَ وَلَا يغترّوا كَمَا اغترّت عَادٌ إِذْ قَالُوا: «مَنْ أَشَدُّ منّا قوّة» . [139] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 139] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا نَهْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَسْبَابِ الْفَشَلِ. وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ، وَأَصْلُهُ ضَعْفُ الذَّاتِ: كَالْجِسْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 4] ، وَالْحَبْلُ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا خَلَقًا وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي خَوَرِ الْعَزِيمَةِ وَضِعْفِ الْإِرَادَةِ وَانْقِلَابِ الرَّجَاءِ يَأْسًا، وَالشَّجَاعَةِ جُبْنًا، وَالْيَقِينِ شَكًّا، وَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ. وَأَمَّا الْحُزْنُ فَهُوَ شِدَّةُ الْأَسَفِ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْكَآبَةِ وَالِانْكِسَارِ. وَالْوَهَنُ وَالْحَزَنُ حَالَتَانِ لِلنَّفْسِ تَنْشَآنِ عَنِ اعْتِقَادِ الْخَيْبَةِ وَالرُّزْءِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الِاسْتِسْلَامُ وَتَرْكُ الْمُقَاوَمَةِ. فَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ فِي الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، كَمَا يُنْهَى عَنِ النِّسْيَانِ، وَكَمَا يُنْهَى أَحَدٌ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فِي نَحْوِ لَا أَرَيَنَّ فُلَانًا فِي مَوْضِعِ كَذَا أَيْ لَا تَتْرُكْهُ يَحُلُّ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ عَلَى هَذَا النَّهْيِ قَوْلَهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: 137] إِلَخْ ... وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهَذِهِ بِشَارَةٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْعُلُوُّ هُنَا علوّ مَجَازِيٌّ وَهُوَ عُلُوُّ الْمَنْزِلَةِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 140 إلى 141]

وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قُصِدَ بِهِ تَهْيِيجُ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِذْ قَدْ عَلِمَ الله أنّهم مُؤمنُونَ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَاحَ عَلَيْهِمُ الْوَهَنُ وَالْحَزَنُ مِنَ الْغَلَبَةِ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ عَلِمْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ، وَجِيءَ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا عَدَمُ تَحْقِيقِ شَرْطِهَا، إِتْمَامًا لِهَذَا الْمَقْصِدِ. [140، 141] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 140 الى 141] إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. تَسْلِيَةٌ عَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ عَجِيبٍ فِي الْحَرْبِ، إِذْ لَا يَخْلُو جَيْشٌ مِنْ أَنْ يُغْلَبَ فِي بَعْضِ مَوَاقِعِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَدُوَّ غَلَبَ. وَالْمَسُّ هُنَا الْإِصَابَةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [214] مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ. وَالْقَرْحُ- بِفَتْحِ الْقَافِ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ- الْجُرْحُ، وَبِضَمِّهَا فِي لُغَةِ غَيرهم، وقرأه الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ: بِضَمِّ الْقَافِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلْهَزِيمَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ، فَإِنَّ الْهَزِيمَةَ تُشَبَّهُ بِالثُّلْمَةِ وَبِالِانْكِسَارِ، فَشُبِّهَتْ هُنَا بِالْقَرْحِ حِينَ يُصِيبُ الْجَسَدَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ الْجِرَاحَ الَّتِي تُصِيبُ الْجَيْشَ لَا يُعْبَأُ بِهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا النَّصْرُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّسْلِيَةَ وَقَعَتْ عَمَّا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ. وَالْقَوْمُ هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ. وَالْمَعْنَى إِنْ هُزِمْتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكُنْتُمْ كفافا. وَلذَلِك أعقبه بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يَمْسَسْكُمْ لِقُرْبِهِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ، وَعَمَّا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِبُعْدِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَوْلُهُ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ لَيْسَ هُوَ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَغْنَى عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، وَالْمعْنَى: إِن يمسكم قَرْحٌ فَلَا تَحْزَنُوا أَوْ فَلَا تَهِنُوا وَهُنَا بِالشَّكِّ فِي وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ دِينِهِ إِذْ قَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ

فَلَمْ تَكُونُوا مَهْزُومِينَ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ كَفَافًا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرٌ مُبِينٌ. وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ بِمَا أَصَابَ الْعَدُوَّ يَوْمَ بَدْرٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَسْلِيَةً وَلَيْسَ إِعْلَامًا بِالْعُقُوبَةِ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَان: كَيفَ كَانَ قتالكم لَهُ قَالَ «الْحَرْب بَيْننَا سِجَال ينَال منّا وننال مِنْهُ، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ» . وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ، فَالْإِشَارَةُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَهَذَا الْخَبَرُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ تَعْلِيلٍ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. والْأَيَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعَ يَوْمٍ مُرَادٍ بِهِ يَوْمَ الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِمْ: يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ بُعَاثٍ وَيَوْمُ الشَّعْثَمَيْنِ، وَمِنْهُ أَيَّامُ الْعَرَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى الزَّمَانِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: وَمَا تَنْقُصُ الْأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدُ أَيِ الْأَزْمَانُ. وَالْمُدَاوَلَةُ تَصْرِيفُهَا غَرِيبٌ إِذْ هِيَ مَصْدَرُ داول فلَان فلَانا الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ دُولَةً وَدُولَةً عِنْدَ الْآخَرِ أَيْ يدوله كلّ مِنْهُمَا أَيْ يُلْزِمُهُ حَتَّى يَشْتَهِرَ بِهِ، وَمِنْهُ دَالَ يَدُولُ دَوْلًا اشْتَهَرَ، لِأَنَّ الْمُلَازِمَةَ تَقْتَضِي الشُّهْرَةَ بِالشَّيْءِ، فَالتَّدَاوُلُ فِي الْأَصْلِ تَفَاعُلٌ مِنْ دَالَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ وَالْكَلَامِ، يُقَالُ: كَلَامٌ مُدَاوَلٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوا دَاوَلْتُ الشَّيْءَ مَجَازًا، إِذَا جَعَلْتَ غَيْرَكِ يَتَدَاوَلُونَهُ، وَقَرِينَةُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَقُولَ: بَيْنَهُمْ. فَالْفَاعِلُ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ لَا حَظَّ لَهُ مِنِ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ لَهُ الْحَظُّ فِي الْجَعْلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: اضْطَرَرْتُهُ إِلَى كَذَا، أَيْ جَعَلْتُهُ مُضْطَرًّا مَعَ أَنَّ أَصْلَ اضْطَرَّ أَنَّهُ مُطَاوِعُ ضَرَّهُ. والنَّاسِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ هَذَا مِنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، فَلَا يُخْتَصُّ بِالْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ.

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) . عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، فَمَضْمُونُ هَذِهِ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُتَحَقِّقٌ مِنْ قبل أَن يمسهم الْقَرْحُ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا هُنَا مَعْنَى الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا رَاسِخًا كَامِلًا فَقَدْ صَارَ الْمَعْنَى: أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِرُسُوخِ إِيمَانِهِمْ يَحْصُلُ بَعْدَ مَسِّ الْقَرْحِ إِيَّاهُمْ، وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ بِأَسْرِهَا، أَيْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، عِلْمًا كَالْعِلْمِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ فِي الْفَلْسَفَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ صِفَةُ كَمَالٍ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عِلْمًا بِوَجْهٍ كُلِّيٍّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِزَمَانٍ، مِثَالُهُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقَمَرَ جِسْمٌ يُوجَدُ فِي وَقْتِ تَكْوِينِهِ، وَأَنَّ صِفَتَهُ تَكُونُ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّ عَوَارِضَهُ النُّورَانِيَّةَ الْمُكْتَسَبَةَ مِنَ الشَّمْسِ وَالْخُسُوفِ وَالسَّيْرِ فِي أَمَدِ كَذَا. أَمَّا حُصُولُهُ فِي زَمَانه عِنْد مَا يَقَعُ تَكْوِينُهُ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ عَوَارِضِهِ، فَغَيْرُ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ عَلِمَ الْجُزْئِيَّاتِ عِنْدَ حُصُولِهَا فِي أَزْمِنَتِهَا لَلَزِمَ تَغَيُّرُ عِلْمِهِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرَ الْقَدِيمِ، أَوْ لَزِمَ جَهْلُ الْعَالِمِ، مِثَالُهُ: أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسِفُ سَاعَةَ كَذَا عِلْمًا أَزَلِيًّا، فَإِذَا خَسَفَ بِالْفِعْلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فَيَلْزَمُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ السَّابِقِ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَغَيُّرُ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِهِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ إِذْ حُدُوثُ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الْمَوْصُوفِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَزُولَ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَلِبُ الْعِلْمُ جَهْلًا، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَلِمَ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسِفُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْقَمَرُ الْآنَ قَدْ خَسَفَ بِالْفِعْلِ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالُوا: إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ زَمَانِيٍّ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ قَبْلَ حُصُولِهَا، وَعِنْدَ حُصُولِهَا. وَأَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ الْفَلَاسِفَةِ بِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ مِنْ

قَبِيلِ الْإِضَافَةِ أَيْ نِسْبَةٍ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمَعْلُومِ، وَالْإِضَافَاتُ اعْتِبَارِيَّاتُ، وَالِاعْتِبَارِيَّاتُ عَدَمِيَّاتٌ، أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الصِّفَةِ ذَاتِ الْإِضَافَةِ: أَيْ صِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ، أَيْ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْلُومِهَا. فَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ إِضَافَةً فَتَغَيُّرُهَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ مَوْصُوفِهَا وَهُوَ الْعَالِمُ، وَنَظَّرُوا ذَلِكَ بِالْقَدِيمِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ قَبْلَ الْحَادِثِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي ذَاتِ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ صِفَةً ذَاتَ إِضَافَةٍ أَيْ ذَاتَ تَعَلُّقٍ، فَالتَّغَيُّرُ يَعْتَرِي تَعَلُّقَهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ الصِّفَةُ فَضْلًا عَنْ تَغَيُّرِ الْمَوْصُوفِ، فَعِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسَفُ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ خَاسِفٌ الْآنَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ كَانَ خَاسِفًا بِالْأَمْسِ، عِلْمٌ وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ مَوْصُوفُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَتِ الصِّفَةُ، أَوْ تَغَيَّرَ مُتَعَلِّقُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، إِلَّا أَنَّ سَلَفَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةَ أَبَوُا التَّصْرِيحَ بَتَغَيُّرِ التَّعَلُّقِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ ذِكْرُ تَعَلُّقَيْنِ لِلْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَالْآخَرُ حَادِثٌ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، نَظَرًا لِكَوْنِ صِفَةِ الْعِلْمِ لَا تَتَجَاوَزُ غَيْرَ ذَاتِ الْعَالِمِ تَجَاوُزًا مَحْسُوسًا. فَلِذَلِكَ قَالَ سَلَفُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسَفُ فِي سَنَتِنَا هَذِهِ فِي بَلَدِ كَذَا سَاعَةَ كَذَا، فَعِنْدَ خُسُوفِ الْقَمَرِ كَذَلِكَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ خَسَفَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مَجْمُوعٌ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْأَزَلِ، وَمَنْ كَوْنِهِ يَحْصُلُ فِي وَقْتِهِ فِيمَا لَا يَزَالُ، قَالُوا: وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِنَا حِينَ نَعْلَمُ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسِفُ بِمُقْتَضَى الْحِسَابِ ثُمَّ عِنْدَ خُسُوفِهِ نَعْلَمُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ خُسُوفُهُ بِعِلْمٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ احْتِيَاجَنَا لِعِلْمٍ مُتَجَدِّدٍ إِنَّمَا هُوَ لَطَرَيَانِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِثْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَهُشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فِي الْأَزَلِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْحَقَائِقِ، وَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَحَاصِلٌ بَعْدَ حُدُوثِهَا لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنَ التَّصْدِيقَاتِ، وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ سَبْقِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، رَادًّا عَلَى السَّلَفِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسَفُ عَيْنُ عِلْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَوْنِهِ سَيَقَعُ غَيْرُ حَقِيقَةِ كَوْنِهِ وَقَعَ، فَالْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا يُغَايِرُ الْعِلْمَ بِالْآخَرِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَعَلِّقَيْنِ يَسْتَدْعِي اخْتِلَافَ

الْعَالِمِ بِهِمَا. الثَّانِي التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْطِ فَإِنَّ شَرْطَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَيَقَعُ هُوَ عَدَمُ الْوُقُوعِ، وَشَرْطُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَقَعَ الْوُقُوعُ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمَانِ شَيْئًا وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ شَرْطَاهُمَا. الثَّالِثُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَقَعَ الْجَهْلُ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ وَبِالْعَكْسِ وَغَيْرُ الْمَعْلُومِ غَيْرُ الْمَعْلُومِ (هَكَذَا عَبَّرَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَيِ الْأَمْرُ الْغَيْرُ الْمَعْلُومِ مُغَايِرٌ لِلْمَعْلُومِ) وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِالْتِزَامِ وُقُوعِ التَّغَيُّرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُتَغَيِّرَاتِ، وأنّ ذَاته تَعَالَى تَقْتَضِي اتِّصَافَهُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي سَتَقَعُ، بِشَرْطِ وُقُوعِهَا، فَيَحْدُثُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا وُجِدَتْ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَيَزُولُ عِنْدَ زَوَالِهَا، وَيَحْصُلُ عِلْمٌ آخَرُ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ جَهْمٍ وَهِشَامٍ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْحَوَادِثِ، وَهَذَا تَجْهِيلٌ. وَأَجَابَ عَنْهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْمَوَاقِفِ» بِأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْحَادِثَ سَيَقَعُ عَلَى الْوَصْفِ الْفُلَانِيِّ، فَلَا جَهْلَ فِيهِ، وَأَنَّ عَدَمَ شُهُوده تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا لَيْسَ بِجَهْلٍ، إِذْ هِيَ مَعْدُومَةٌ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ لَوْ عَلِمَهَا تَعَالَى شُهُودِيًّا حِينَ عَدِمَهَا لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ الْجَهْلُ، لِأَنَّ شُهُودَ الْمَعْدُومِ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَالْعِلْمُ الْمُتَغَيِّرُ الْحَادِثِ هُوَ الْعِلْمُ الشُّهُودِيُّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ ثَمَّةَ عِلْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَشْرُوطُ بِالشُّرُوطِ، وَالْآخَرُ حَادث وَهُوَ الْمَعْلُوم الْحَاصِلَةُ عِنْدَ حُصُولِ الشُّرُوط وَلَيْسَت بِصفة مستقلّة، وإنّما هِيَ تعلّقات وإضافات، وَلذَلِك جرى فِي كَلَام المتأخّرين، مِنْ عُلَمَائِنَا وَعُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِطْلَاقُ إِثْبَاتِ تَعَلُّقِ حَادِثٍ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَوَادِثِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» الَّتِي جَعَلَهَا لِتَحْقِيقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَنْسُوبٍ لِقَائِلٍ، بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ، وَقد رَأَيْت التفتازانيّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَعَلَّ الشّيخ عبد الْحَكِيمَ نَسِيَ أَنْ يَنْسُبَهُ. وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ: فأمّا الّذين أَبُو إِطْلَاقَ الْحُدُوثِ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمَعْلُومِ أَيْ تَمَيُّزُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِالْبُرْهَانِ،

وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ. وَأَقْبَلْتُ والخطي يخْطر بَينا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأُطْلِقَ الْعَلَمُ وَأُرِيدَ مَلْزُومُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ تَمْثِيلًا أَيْ فِعْلُ ذَلِكَ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ وَإِلَيْهِ مَالَ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ تَعَلُّقُ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَادِثِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ، أَيْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مَوْجُودِينَ. قَالَه الْبَيْضَاوِيّ والتفتازانيّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا ظَاهِرُهُ أَيْ لِيَعْلَمَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، تَعَيَّنَ التَّأْوِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا لِأَجْلِ لُزُومِ حُدُوثِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ أُحُدٍ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمُ الْقَرْحِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَرَادَ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ ثَبَاتُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَدَمُ تزلزلهم فِي حَال الشدّة، وَأَشَارَ التفتازانيّ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَارِدٌ مورد التَّمْثِيل، نَاظر إِلَى كَوْنِ الْعِلْمِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَاصِلًا مِنْ قَبْلُ، لَا لِأَجْلِ التَّحَرُّزِ عَنْ لُزُومِ حُدُوثِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ عَطْفٌ عَلَى الْعِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَجَعَلَ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اتِّخَاذِ الْقَتْلَى شُهَدَاءَ عِلَّةً مِنْ عِلَلِ الْهَزِيمَةِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلَى هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ الْهَزِيمَةَ. وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبَّرَ عَنْ تَقْدِير الشَّهَادَة لَهُم بِالِاتِّخَاذِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فَضِيلَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَاقْتِرَابٌ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أَيِ الْكَافِرِينَ فَهُوَ فِي جَانِبِ الْكُفَّارِ، أَيْ فَقَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَة: 52] . والتّمحيص: التنقية والتخليص مِنَ الْعُيُوبِ. وَالْمَحْقُ: الْإِهْلَاكُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَسَّ الْقَرْحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ فَاعِلًا فِعْلًا وَاحِدًا: هُوَ فَضِيلَةٌ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَزِيَّةٌ فِي جَانِبِ الْكَافِرِينَ، فَجَعَلَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَمْحِيصًا وَزِيَادَةً فِي

[سورة آل عمران (3) : آية 142]

تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ لِلْكَافِرِينَ هَلَاكًا، لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ فِي بَدْرٍ تَنَاسَوْهُ، وَمَا انْتَصَرُوهُ فِي أُحُدٍ يَزِيدُهُمْ ثِقَةً بِأَنْفُسِهِمْ فَيَتَوَاكَلُونَ يَظُنُّونَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَهَبَ بَأْسُهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ازْدِيَادٍ، فَلَا يُنْقِصُهُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، والكفّار فِي تنَاقض فَمَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نَفِدَ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْعِبَرِ قَدْ تُكْسِبُ بَعْضَ النُّفُوسِ كَمَالًا وَبَعْضَهَا نَقْصًا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: فَحُبُّ الْجَبَانِ الْعَيْشَ أَوْرَدَهُ التُّقَى ... وَحُبُّ الشُّجَاعِ الْعَيْشَ أَوْرَدَهُ الْحَرْبَا وَيَخْتَلِفُ الْقَصْدَانِ وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ ... إِلَى أَنْ نَرَى إِحْسَانَ هَذَا لَنَا ذَنْبًا وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 124، 125] ، وَقَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: 82] وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ تَقْدِيرِ الله تَعَالَى. [142] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 142] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، هِيَ بِمَعْنَى (بَلِ) الِانْتِقَالِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَهِيَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ مُنْقَطِعَةً تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ، لِمُلَازَمَتِهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، حَتَّى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهَا لَا تُفَارِقُ الدَّلَالَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، وَقَالَ غَيره: ذَلِك هُوَ الْغَالِبُ وَقَدْ تُفَارِقُهُ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى مُفَارَقَتِهَا لِلِاسْتِفْهَامِ بِشَوَاهِدٍ تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. فَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَهِنُوا [آل عمرَان: 139] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا مَسَّهُمُ الْقَرْحُ فَحَزِنُوا وَاعْتَرَاهُمُ الْوَهَنُ حَيْثُ لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَ النَّصْرِ الَّذِي شَاهَدُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ، بَيَّنَ اللَّهُ أَنْ لَا وَجْهَ لِلْوَهَنِ لِلْعِلَلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ هُنَا: أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ الَّذِي هُوَ مَرْغُوبُهُمْ لَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ يَبْذُلُوا نُفُوسَهُمْ فِي نَصْرِ الدِّينِ فَإِذَا حَسِبُوا دُخُولَ الْجَنَّةِ يَحْصُلُ دُونَ ذَلِك، فقد أخطأوا.

وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيطِ وَالنَّهْيِ، وَلذَلِك جَاءَ ب (أم) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّغْلِيطِ: أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ دُونَ أَنْ تُجَاهِدُوا وَتَصْبِرُوا عَلَى عَوَاقِبِ الْجِهَادِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من قدّر ل (أم) هُنَا مُعَادِلًا مَحْذُوفًا، وَجَعَلَهَا مُتَّصِلَةً، فَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا [آل عمرَان: 139] كَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَجُمْلَةُ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ مَصَبُّ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حِينَ لَا يَعْلَمُ اللَّهُ الّذين جاهدوا. و (لمّا) حَرْفُ نَفْيٍ أُخْتُ (لَمْ) إِلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ نَفْيًا مِنْ (لَمْ) ، لِأَنَّ (لَمْ) لِنَفْيِ قَوْلِ الْقَائِلِ فَعَلَ فُلَانٌ، و (لمّا) لِنَفْيِ قَوْلِهِ قَدْ فَعَلَ فُلَانٌ. قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ (لَا) لنفي يَفْعَلُ وَ (لَنْ) لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ وَ (مَا) لِنَفْيِ لَقَدْ فَعَلَ وَ (لَا) لِنَفْيِ هُوَ يَفْعَلُ. فَتَدُلُّ (لَمَّا) عَلَى اتِّصَالِ النَّفْيِ بِهَا إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ، بِخِلَافِ (لَمْ) ، وَمِنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ اسْتُفِيدَتْ دَلَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُتَرَقَّبُ الثُّبُوتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِكَ اسْتَمَرَّ النَّفْيُ إِلَى الْآنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: و (لمّا) بِمَعْنَى (لَمْ) إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ [14] : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَابَ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ. وَالْقَوْلُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ. وَأُرِيدَ بِحَالَةِ نَفْيِ عِلْمِ اللَّهِ بِالَّذِينَ جَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ الْكِنَايَةُ عَنْ حَالَةِ نَفْيِ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا فَذَلِكَ الْمَعْلُومُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فَكَمَا كَنَّى بِعِلْمِ اللَّهِ عَنِ التَّحَقُّقِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: 140] كَنَّى بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ نَفْيِ الْوُقُوعِ. وَشَرْطُ الْكِنَايَةِ هُنَا مُتَوَفِّرٌ وَهُوَ جَوَازُ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَلْزُومِ مَعَ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِجَوَازِ إِرَادَةِ انْتِفَاءِ عِلْمِ اللَّهِ بِجِهَادِهِمْ مَعَ إِرَادَةِ انْتِفَاءِ

[سورة آل عمران (3) : آية 143]

جِهَادِهِمْ. وَلَا يَرِدُ مَا أوردهُ التفتازانيّ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ فِي النَّفْيِ بُنِيَتْ عَلَى الْكِنَايَةِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ، إِذْ شَأْنُ التَّرَاكِيبِ اسْتِقْلَالُهَا فِي مُفَادِهَا وَلَوَازِمِهَا. وَعَقَّبَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَعْطُوفًا بِوَاوِ الْمَعِيَّةِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُول مَعَه، لتنتظم الْقُيُودِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَتَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فِي حَالِ انْتِفَاءِ عِلْمِ اللَّهِ بِجِهَادِكُمْ مَعَ انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِصَبْرِكُمْ، أَيْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَجْتَمِعِ الْعِلْمَانِ. وَالْجِهَادُ يَسْتَدْعِي الصَّبْرَ، لِأَنَّ الصَّبْرَ هُوَ سَبَبُ النَّجَاحِ فِي الْجِهَادِ، وَجَالِبُ الِانْتِصَارِ، وَقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ عَنِ الشَّجَاعَةِ، فَقَالَ: صَبْرُ سَاعَةٍ . وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ، يَعْتَذِرُ عَنِ انْتِصَارِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ. سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا وَقَدْ تَسَبَّبَ فِي هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ضَعْفُ صَبْرِ الرُّمَاةِ، وَخِفَّتُهُمْ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَفِي الْجِهَادِ يُتَطَلَّبُ صَبْرُ المغلوب على الغلب حَتَّى لَا يَهِنَ وَلَا يستسلم. [143] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 143] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) كَلَامٌ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ بِإِجْمَالٍ بَالِغٍ غَايَةَ الْإِيجَازِ، لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ، وَالْمَعْذِرَةِ، وَالْمَلَامِ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ. وَالْخِطَابُ لِلْأَحْيَاءِ، لَا مَحَالَةَ، الَّذِينَ لَمْ يَذُوقُوا الْمَوْتَ، وَلَمْ يَنَالُوا الشَّهَادَةَ، وَالَّذِينَ كَانَ حَظُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ الْهَزِيمَةُ، فَقَوْلُهُ: كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أُرِيدَ بِهِ تَمَنِّي لِقَاءَ الْعَدُوِّ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَدَمُ رِضَاهُمْ بِأَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَدِينَةِ، وَيَقِفُوا مَوْقِفَ الدِّفَاعِ، كَمَا أَشَارَ بِهِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الشُّجَاعَةَ وَحُبَّ اللِّقَاءِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْمَوْتُ، نَظَرًا لِقُوَّةِ الْعَدُوِّ وَكَثْرَتِهِ،

فَالتَّمَنِّي هُوَ تَمَنِّي اللِّقَاءِ وَنَصْرُ الدِّينِ بِأَقْصَى جُهْدِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ اكْتِرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَلَفِ نَفْسِهِ فِي الدِّفَاعِ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَلَاكِهِ قَدْ أَبْلَى فِي الْعَدُوِّ، وَهَيَّأَ النَّصْرَ لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُ، جَعَلَ تَمَنِّيَهُمُ اللِّقَاءَ كَأَنَّهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، تَنْزِيلًا لِغَايَةِ التَّمَنِّي مَنْزِلَةَ مَبْدَئِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَمْرًا مَعَ الْإِغْضَاءِ عَنْ شِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَتَمَنِّيهِمْ إِيَّاهُ كَتَمَنِّي شَيْءٍ قَدْ جَهِلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَصَائِبِ. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيْ رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ، وَمَعْنَى رُؤْيَتِهِ مُشَاهَدَةُ أَسْبَابِهِ الْمُحَقَّقَةِ، الَّتِي رُؤْيَتُهَا كَمُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ تَمْثِيلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ الرُّؤْيَةُ عَلَى شِدَّةِ التَّوَقُّعِ، كَإِطْلَاقِ الشَّمِّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ: وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ ... فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ وَكَإِطْلَاقِهِ فِي قَول ابْن معد يكرب يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ: فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَنْ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأُجِبْتُمْ إِلَى مَا تَمَنَّيْتُمْ فقد رَأَيْتُمُوهُ، أَو التَّقْدِير: فَإِن كَانَ تمنّيكم حقّا فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَيْنَ بَلَاءُ مَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الْفرْقَان: 19] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ [56] : فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى رَأَيْتُمُوهُ، أَوْ هُوَ تَفْرِيعٌ أَيْ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ وَكَانَ حَظُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرَ، دُونَ الْغَنَاءِ فِي وَقْتِ الْخَطَرِ، فَأَنْتُمِِْ

[سورة آل عمران (3) : آية 144]

مَبْهُوتُونَ. وَمَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَطْلُبُ أَمْرًا حَتَّى يُفَكِّرَ فِي عَوَاقِبِهِ، وَيَسْبُرَ مِقْدَارَ تَحَمُّلِهِ لِمَصَائِبِهِ. وَمَحَلُّ الْمَعْذِرَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَمَحَلُّ الْمُلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ بِمَعْنَى تَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ مُشَارَفَةَ الْمَوْتِ إِيَّاكُمْ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ مَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، أَيْ فَكَيْفَ وَجَدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ، وَكَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَقَامِ مَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ. إِذْ قَدْ جَبُنُوا وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَخَفُّوا إِلَى الْغَنِيمَةِ، فَالْكَلَامُ مَلَامٌ مَحْضٌ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ بِمَلُومٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّوْمَ على تمنّي مَا لَا يَسْتَطِيعُ كَمَا قيل: (إِذْ لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ) . كَيْفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» . وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ» وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: لكنّني أسأَل الرّحمان مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْتِ، بِمَعْنَى أَسْبَابِهِ، تَنْزِيلًا لِرُؤْيَةِ أَسْبَابِهِ مَنْزِلَةَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ كَالِاسْتِخْدَامِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَى أَسْبَابِ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ تَنْزِيلِهَا منزلَة الْمَوْت. [144] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) عُطِفَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْمَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمرَان: 142] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمرَان: 143] وَكُلُّ هَاتِهِ

الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِتَابِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، كَانَتْ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ مِنْ هَذَا الْمَلَامِ بِنَصِيبِهِ الْمُنَاسِبِ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِهِ ظَاهِرًا كَانَ أَمْ بَاطِنًا. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاضْطِرَابِ حِينَ أُرْجِفَ بِمَوْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الْقَدِيمِ وَإِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنُكَلِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَمُّوا بِتَرْكِ الْقِتَالِ وَالِانْضِمَامِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَثَبَتَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ. وَمُحَمّد اسْمُ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ لَهُ: لِمَ سَمَّيْتَهُ مُحَمَّدًا وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: رَجَوْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ. وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مُحَمَّدًا قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ. ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ» أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ وِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، جَدُّ جَدِّ الْفَرَزْدَقِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْرَانَ مِنْ رَبِيعَةَ. وَهَذَا الِاسْم مَنْقُول مِنِ اسْمِ مَفْعُولِ حَمَّدَهُ تَحْمِيدًا إِذَا أَكْثَرَ مِنْ حَمْدِهِ، وَالرَّسُولُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَلُوبٌ وَرَكُوبٌ وَجَزُورٌ. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَانْقَرَضَتْ كَقَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: 137] وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: (مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي) وَقَصَرَ مُحَمَّدًا عَلَى وَصْفِ الرِّسَالَةِ قَصْرَ مَوْصُوفٍ عَلَى الصِّفَةِ. قَصْرًا إِضَافِيًّا، لِرَدِّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ رَدَّ إِنْكَارٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَصْرَ قَلْبٍ أَوْ قَصْرَ إِفْرَادٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ «لِرَسُولٍ» ، فَتَكُونُ هِيَ مَحَطَّ الْقَصْرِ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مَوْصُوفٌ بِخُلُوِّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَيِ انْقِرَاضِهِمْ.

وَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَ خُلُوِّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا صَدَرَ عَنْهُمْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ عَزْمُهُمْ عَلَى تَرْكِ نُصْرَةِ الدِّينِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِلْعَدُوِّ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يُنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَ خُلُوِّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، حَيْثُ يَجِدُونَ أَتْبَاعَهُمْ ثَابِتِينَ عَلَى مِلَلِهِمْ حَتَّى الْآنَ فَكَانَ حَالُ الْمُخَاطَبِينَ حَالَ مَنْ يَتَوَهَّمُ التَّلَازُمَ بَيْنَ بَقَاءِ الْمِلَّةِ وَبَقَاءِ رَسُولِهَا، فَيَسْتَدِلُّ بِدَوَامِ الْمِلَّةِ عَلَى دَوَامِ رَسُولِهَا، فَإِذَا هَلَكَ رَسُولُ مِلَّةٍ ظَنُّوا انْتِهَاءَ شَرْعِهِ وَإِبْطَالَ اتِّبَاعِهِ. فَالْقَصْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَصْرُ قَلْبٍ، وَهُوَ قَلْبُ اعْتِقَادِهِمْ لَوَازِمَ ضِدَّ الصِّفَةِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهَا، وَهِيَ خُلُوُّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، وَتِلْكَ اللَّوَازِمُ هِيَ الْوَهَنُ وَالتَّرَدُّدُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهَذَا يُشْعِرُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ هُوَ وَصْفُ الرِّسَالَةِ فَيَكُونُ مَحَطُّ الْقَصْرِ هُوَ قَوْلُهُ: «رَسُولٌ» دُونَ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَيَكُونُ الْقَصْرُ قَصْرَ إِفْرَادٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنِ اعْتَقَدَ وَصْفَهُ بِالرِّسَالَةِ مَعَ التَّنَزُّهِ عَنِ الْهَلَاكِ، حِينَ رَتَّبُوا عَلَى ظَنِّ مَوْتِهِ ظُنُونًا لَا يَفْرِضُهَا إِلَّا مَنْ يَعْتَقِدُ عِصْمَتَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِئْنَافًا لَا صِفَةً، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ مَا يَقْتَضِي اسْتِبْعَادَ خَبَرِ مَوْتِهِ، بَلْ هُمْ ظَنُّوهُ صِدْقًا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ نُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ قَصْرَ الْمَوْصُوفِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَيُنْكِرُهُ، فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِطَرِيقِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، الَّذِي كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي خِطَابِ مَنْ يَجْهَلُ الْحُكْمَ الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ وَيُنْكِرُهُ دُونَ طَرِيقٍ، إِنَّمَا كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» . وَقَوْلُهُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ إِلَخْ ... وَالْفَاءُ لِتَعْقِيبِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ، وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ إِنْشَاءَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى مَضْمُونِهَا، وَهُوَ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ، لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْقِيبِ الْمُفَادِ مِنْ فَاءِ الْعَطْفِ

مَعْنًى إِلَّا ترتّب مَضْمُون المعطوفة عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، فَالْفَاءُ حِينَئِذٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ، كَشَأْنِهَا مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى تَرَتُّبُ إِنْكَار أَن ينقبلوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ عَلَى تَحَقَّقَ مَضْمُونُ جملَة الْقصر: لأنّه إِذا تحقّق مَضْمُون جُمْلَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَلْبُ الِاعْتِقَادِ أَوْ إِفْرَادُ أَحَدِ الِاعْتِقَادَيْنِ، تَسَبَّبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ انْقِلَابُهُمْ عَلَى الْأَعْقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ أَمْرًا مُنْكَرًا جَدِيرًا بِعَدَمِ الْحُصُولِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ مِنْهُمْ، وَهَذَا الْحُكْمُ يُؤَكِّدُ مَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ الْقَصْرِ، مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ خِلَافَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالتَّعْرِيضِ الْمُسْتَفَادِ، مِنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، وَالْأُخْرَى بِالتَّصْرِيحِ الْوَاقِعِ فِي هَاتِهِ الْجُمْلَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ تَسَبُّبِ الِانْقِلَابِ عَلَى خُلُوِّ الرَّسُولِ، وَهُوَ التَّسَبُّبُ الْمُفَادُ مِنَ الْفَاءِ أَيْ إِنْكَارُ مَجْمُوعِ مَدْلُولِ الْفَاءِ وَمَدْلُولِ مَدْخُولِهَا مثل إِنْكَار الترتّب وَالْمُهْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [يُونُس: 51] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَثُمَّ تَعَذَّرَانِ إِلَيَّ مِنْهَا ... فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ وَقَدْ رَأَيْتُ بِأَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَعْلَهُمْ خُلُوَّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ سَبَبًا لِارْتِدَادِهِمْ عِنْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْهَمْزَةُ غَيْرُ مُقَدَّمَةٍ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فَاءِ السَّبَبِيَّةِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهُمْ بِخُلُوِّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ- مَعَ بَقَاءِ أَتْبَاعِهِمْ مُتَمَسِّكِينَ- سَبَبًا لِانْقِلَابِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا خُلُوَّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلَلِهِمْ، وَلَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ جعلُوا علمهمْ بذلك سَبَبًا فِي تَحْصِيلِ نَقِيضِ أَثَرِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا يَعْرِضُ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْجَدَلِيِّ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَكَلُّفٌ وَتَدْقِيقٌ كَثِيرٌ. وَذَهَبَ جمَاعَة إِلَى أنّ الْفَاء لمجرّد التّعقيب الذِّكْرِيِّ، أَوِ الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّهُ عَطْفُ إِنْكَارٍ تَصْرِيحِيٍّ عَلَى إِنْكَارٍ تَعْرِيضِيٍّ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَإِنْ كَانَ سَهْلًا غير أنّه يفيت خُصُوصِيَّةَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ دُونَ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّ شَأْنَ الْفَاءِ الْمُفِيدَةِ

[سورة آل عمران (3) : آية 145]

لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْمَحْضِ أَنْ يَعْطِفَ بِهَا الْأَوْصَافَ نَحْوَ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: 1، 2] أَوْ أَسْمَاءَ الْأَمَاكِنِ نَحْوَ قَوْلِهِ: بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ... فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ ... إِلَخْ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، يُقَالُ: انْقَلَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، أَيْ حَالِ الْكُفْرِ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْأَصْلِ يَكُونُ مُسَبَّبًا عَلَى طَرِيقٍ. وَالْأَعْقَابُ جَمْعُ عقب وَهُوَ مؤخّر الرَّجُلِ، وَفِي الْحَدِيثِ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النّار» وَالْمرَاد مِنْهُ جِهَةُ الْأَعْقَابِ أَيِ الْوَرَاءُ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَلَوْ قَلِيلًا، لِأَنَّ الِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ إِبْطَالٌ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ، فَالْمُرْتَدُّ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَبِالنَّاسِ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الشَّاكِرَ الثَّابِتَ عَلَى الْإِيمَانِ يُجَازَى بِالشُّكْرِ لِأَنَّهُ سَعَى فِي صَلَاح نَفسه وَصَلَاح النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّلَاحَ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْعِتَابُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ ثَبَتُوا وَوَعَظُوا النَّاسَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ وُقُوعِ الِارْتِدَادِ عِنْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدْ وَقَعَ مَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَظَنُّوا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ مَقْصُورًا عَلَى حَيَاتِهِ، ثُمَّ هَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ فِيهَا إِنْبَاءٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ. [145] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 145] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاو اعتراضية. فَإِن كَانَت مِنْ تَتِمَّةِ الْإِنْكَارِ عَلَى هَلَعِهِمْ عِنْدَ ظَنِّ مَوْتِ الرَّسُولِ، فَالْمَقْصُودُ عُمُومُ الْأَنْفُسِ لَا خُصُوصُ نَفْسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَكُونُ الْآيَةُ لَوْمًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى ذُهُولِهِمْ عَنْ حِفْظِ اللَّهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ، وَمِنْ أَنْ

يُخْتَرَمَ عُمُرُهُ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَة: 67] عَقِبَ قَوْلِهِ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: 67] الدَّالِّ عَلَى أَنَّ عِصْمَتَهُ مِنَ النَّاسِ لأجل تَبْلِيغ الشّلايعة. فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْحَيَاةَ حَتَّى يُبَلِّغَ شَرْعَهُ، وَيُتِمَّ مُرَادَهُ، فَكَيْفَ يَظُنُّونَ قَتْلَهُ بِيَدِ أَعْدَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْإِعْلَانِ بِإِتْمَامِ شَرْعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] الْآيَةَ. بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَعَلِمَ أَنَّ أَجَلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَرُبَ، وَقَالَ: مَا كَمُلَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ. فَالْجُمْلَةُ، عَلَى هَذَا، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا إِنْكَارًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى الَّذِينَ فَزِعُوا عِنْدَ الْهَزِيمَةِ وَخَافُوا الْمَوْتَ، فَالْعُمُومُ فِي النَّفس مَقْصُود أَي مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمُ الْخَوْفُ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا. وَجِيءَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِصِيغَةِ الْجُحُودِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ مَوْتٌ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَالْجُمْلَةُ، عَلَى هَذَا، مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ تُلْقَى فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا مُدَاوَاةُ النُّفُوسِ مِنْ عَاهَاتٍ ذَمِيمَةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ انْتِهَاءَ الْأَجَلِ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ وَقْتَهُ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لُقْمَان: 34] ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ، إِلَّا فِي سَبِيل الله، فتعيّن عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمَوْتَ بِالْأَجَلِ، وَالْمُرَادُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَوَضْعُهُ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُلُوغِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِ (كُنْ) ، وَمَرَّةً بِقَدَرٍ مَقْدُورٍ، وَمَرَّةً بِالْقَلَمِ، وَمَرَّةً بِالْكِتَابِ. وَالْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: كِتاباً مُؤَجَّلًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْإِذْنِ، أَوْ مِنَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: 38] و «مؤجّلا» حَالًا ثَانِيَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتاباً مَصْدَرَ كَاتَبَ الْمُسْتَعْمَلِ فِي كُتُبٍ لِلْمُبَالِغَةِ، وَقَوْلُهُ: مُؤَجَّلًا صِفَةٌ لَهُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ كِتَابًا مُؤَجَّلًا أَيْ مؤقتا. وَجعله صَاحب «الْكَشَّافُ» مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا أَيْ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَما كانَ لِنَفْسٍ الْآيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُ مَعَ صِفَتِهِ وَهِيَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 146 إلى 148]

مُؤَجَّلًا يُؤَكِّدُ مَعْنَى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ يُفِيدُ أَنَّ لَهُ وَقْتًا قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: 24] بَعْدَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] الْآيَةَ. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ. أَيْ مَنْ يُرِدِ الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، كَالَّذِي يُفَضِّلُ الْحَيَاةَ عَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِينَ اسْتَعْجَلُوا لِلْغَنِيمَةِ فَتَسَبَّبُوا فِي الْهَزِيمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُظُوظَهَا يُحْرَمُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَحُظُوظِهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ خَيْرِ الدُّنْيَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ حَسَنٌ، وَهَلْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَّا لِإِصْلَاحِ الدُّنْيَا وَالْإِعْدَادِ لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ الْكَامِلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمرَان: 148] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أَيِ الْغَنِيمَةَ أَوِ الشَّهَادَةَ، وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ. وَجُمْلَةُ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ تَذْيِيلٌ يَعُمُّ الشَّاكِرِينَ مِمَّنْ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَيَعُمُّ الْجَزَاءَ كُلٌّ بِحَسْبِهِ، أَيْ يَجْزِي الشَّاكِرِينَ جَزَاءَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ جَزَاءَ الدُّنْيَا فَقَط. [146- 148] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 146 إِلَى 148] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

(148) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ [آل عمرَان: 144] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَهُوَ عَطْفُ الْعِبْرَةِ عَلَى الْمَوْعِظَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ مَوْعِظَةٌ لِمَنْ يَهُمُّ بِالِانْقِلَابِ، وَقَوْلَهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ عِبْرَةٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ صَبْرِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ إِصَابَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ، فِي حَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِمُمَاثَلَةِ الْحَالَيْنِ. فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ أَصْحَابِ أُحُدٍ بِحَالِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَثَلِ لَيْسَ هُوَ خُصُوصُ الِانْهِزَامِ فِي الْحَرْبِ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُمَثَّلُ. وَأَمَّا التّشبيه فَهُوَ بَصِير الْأَتْبَاعِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ أَوْ مَوْتِ الْمَتْبُوعِ. «وَكَأَيِّنْ» كَلِمَةٌ بِمَعْنَى التَّكْثِيرِ، قِيلَ: هِيَ بَسِيطَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْثِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَأَيِّ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَتْ (أَيُّ) هَذِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا تَذْكِيرُ الْمُسْتَفْهِمِ بِالتَّكْثِيرِ، فَاسْتِفْهَامُهَا مَجَازِيٌّ، وَنُونُهَا فِي الْأَصْلِ تَنْوِينٌ، فَلَمَّا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً جُعِلَ تَنْوِينُهَا نُونًا وَبُنِيَتْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ وَفِيهَا لُغَاتٌ أَرْبَعُ، أَشْهَرُهَا فِي النَّثْرِ كَأَيِّنْ بِوَزْنِ كَعَيِّنْ (هَكَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ إِذَا وَزَنُوا الْكَلِمَاتِ الْمَهْمُوزَةَ أَنْ يُعَوِّضُوا عَنْ حَرْفِ الْهَمْزَةِ بِحَرْفِ الْعَيْنِ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ الْهَمْزَةُ بِالْأَلْفِ أَوِ الْيَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي صُورَةِ إِحْدَاهُمَا) ، وَأَشْهَرُهَا فِي الشّعْر كَائِن بِوَزْن اسْمُ فَاعِلِ كَانَ، وَلَيْسَتْ بَاسِمِ فَاعِلٍ خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، بَلْ هِيَ مُخَفَّفُ كَأَيِّنْ. وَلَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَخْفِيفِهَا تَوْجِيهَاتٌ أَصْلُهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْعَرَبُ بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: وَتَفْصِيلُهُ يَطُولُ. وَأَنَا أَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا رَامُوا التَّخْفِيفَ جَعَلُوا الْهَمْزَةَ أَلِفًا، ثُمَّ الْتَقَى سَاكِنَانِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ السَّاكِنَةَ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ الْمَكْسُورَةُ فَشَابَهَتِ اسْمَ فَاعِلِ (كَانَ) فَجَعَلُوهَا هَمْزَةً كَالْيَاءِ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ أَلْفٍ زَائِدَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ كَأَيِّنْ لِأَنَّهَا أَخَفُّ فِي النَّظْمِ وَأَسْعَدُ بِأَكْثَرِ الْمَوَازِينِ فِي أَوَائِل الأبيات وأواسطها بِخِلَافِ كَائِنٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: اللُّغَتَانِ الْجَيِّدَتَانِ كَأَيِّنٍ وَكَائِنٍ. وَحَكَى الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ الْحُبَابِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا

أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ الْكِنَانِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِشَيْخِنَا ابْنِ عُصْفُورٍ: لِمَ أَكْثَرْتَ فِي شَرْحِكَ لِلْإِيضَاحِ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى كَائِنٍ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ الْمُسْتَنْصِرِ (يَعْنِي مُحَمَّدَ الْمُسْتَنْصِرَ ابْنَ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْحَفْصِيَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ وَلِيُّ الْعَهْدِ) فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشَامٍ (يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيَّ نَزِيلَ تُونُسَ وَدَفِينَهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 646) فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَمَّا يَحْفَظُ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى قِرَاءَةِ كَأَيِّنْ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ غَيْرَ بَيْتِ الْإِيضَاحِ: وَكَائِنٍ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أُصِبْتُ هُوَ الْمُصَابَا قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: فَلَمَّا سَأَلَنِي أَنَا قُلْتُ: أَحْفَظُ فِيهَا خَمْسِينَ بَيْتًا فَلَمَّا أَنْشَدْتُهُ نَحْوَ عَشْرَةٍ قَالَ: حَسْبُكَ، وَأَعْطَانِي خَمْسِينَ دِينَارًا، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشَامٍ جَالِسًا بِالْبَابِ فَأَعْطَيْتُهُ نِصْفَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، عَلَى وَزْنِ كَلِمَةِ كَصَيِّبٍ وَقَرَأَهُ ابْنُ كثير كَأَيِّنْ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْكَافِ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بِوَزْنِ كَاهِنٍ. وَالتَّكْثِيرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ كَأَيِّنْ وَاقِعٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا وَهُوَ لَفْظُ (نَبِيءٍ) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْعَدَدِ، فَلَا يَتَجَاوَزُ جَمْعَ الْقِلَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا فِي مَعْنَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَلِمْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَعْلَمْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، وَيَحْضُرُنِي أَسْمَاءُ سِتَّةٍ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْأَنْبِيَاء: أرمياء قتلته بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَحَزْقِيَالُ قَتَلُوهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَشْعِيَاءُ قَتَلَهُ منسا بن حزقيال مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ وَبَّخَهُ وَوَعَظَهُ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ فَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ، وزكرياء، وَيحيى، قتلتهما بَنُو إِسْرَائِيلَ لِإِيمَانِهِمَا بِالْمَسِيحِ، وَقَتَلَ أَهْلُ الرَّسِّ مِنَ الْعَرَبِ نَبِيئَهُمْ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ فِي مُدَّةِ عَدْنَانَ، وَالْحَوَارِيُّونَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قُتِلَ وَلَمْ يَهِنُوا فِي إِقَامَةِ دِينِهِ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِثَبَاتِ أَتْبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ مَعَ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ إِذِ الْعِبْرَةُ فِي خُلُوِّ الرَّسُولِ وَبَقَاءِ أَتْبَاعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ رَسُولٌ إِلَّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ قُتِلَ فِي جِهَادٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا سَمِعْنَا بِنَبِيءٍ قُتِلَ فِي الْقِتَالِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: (قُتِلَ) بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: (قَاتَلَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ فَعَلَى قِرَاءَةِ (قُتِلَ) - بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ- فَمَرْفُوعُ الْفِعْلِ هُوَ ضَمِيرُ نَبِيءٍ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعُ الْفِعْلَيْنِ ضَمِيرَ نَبِيءٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنْ (نَبِيءٍ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعُ الْفِعْلَيْنِ لِفْظُ (رِبِّيُّونَ) فَيَكُونُ قَوْلُهُ (مَعَهُ) حَالًا مِنْ (رِبِّيُّونَ) مُقَدَّمًا. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الصَّالِحِ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى تَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْهَزِيمَةِ وَفِي حَالِ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ مَعَهُ رِبِّيُّونَ يَخْتَلِفُ حُسْنُ الْوَقْفِ عَلَى كَلِمَةِ (قُتِلَ) أَوْ عَلَى كلمة (كثير) . و (الرّبيّون) جَمْعُ رِبِّيٍّ وَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِشَرِيعَةِ الرَّبِّ مِثْلُ الرَّبَّانِيِّ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَتَلَامِذَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَجُوزُ فِي رَائِهِ الْفَتْحُ، عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْكَسْرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ وَهُوَ الَّذِي قرىء بِهِ فِي الْمُتَوَاتِرِ. وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ هُوَ ثَبَاتُ الرَّبَّانِيِّينَ عَلَى الدِّينِ مَعَ مَوْتِ أَنْبِيَائِهِمْ وَدُعَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: كَثِيرٌ صِفَةُ رِبِّيُّونَ وَجِيءَ بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ، مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ جَمْعٌ، لِأَنَّ لَفْظَ كَثِيرٌ وَقَلِيل يُعَامل موصوفهما مُعَامَلَةَ لِفَظِ شَيْءٍ أَوْ عَدَدٍ، قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء: 1] وَقَالَ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 109] وَقَالَ: اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَال: 26] وَقَالَ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً [الْأَنْفَال: 43] . وَقَوْلُهُ: فَما وَهَنُوا أَيِ الرِّبِّيُّونَ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَهِنُونَ فَالْقُدْوَةُ الْمَقْصُودَةُ هُنَا، هِيَ الِاقْتِدَاءُ بِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَجْدَرَ بِالْعَزْمِ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَمَعَ بَيْنَ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ تَقَارُبًا قَرِيبًا مِنَ التَّرَادُفِ فَالْوَهَنُ قِلَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى النُّهُوضِ فِي الْأَمْرِ، وَفِعْلُهُ كَوَعَدَ وَوَرِثَ

وَكَرُمَ. وَالضَّعْفُ- بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا- ضِدُّ الْقُوَّةِ فِي الْبَدَنِ، وَهُمَا هُنَا مَجَازَانِ، فَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى خَوَرِ الْعَزِيمَةِ، وَدَبِيبِ الْيَأْسِ فِي النُّفُوسِ وَالْفِكْرِ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالْفَشَلِ فِي الْمُقَاوَمَةِ. وَأَمَّا الِاسْتِكَانَةُ فَهِيَ الْخُضُوعُ وَالْمَذَلَّةُ لِلْعَدُوِّ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ تَرْتِيبُهَا فِي الذِّكْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ: فَإِنَّهُ إِذَا خَارَتِ الْعَزِيمَةُ فَشَلَتِ الْأَعْضَاءُ، وَجَاء الاستسلام، فتبعته الْمَذَلَّةُ وَالْخُضُوعُ لِلْعَدُوِّ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاء، وَكَانَت النّبوءة هَدْيًا وَتَعْلِيمًا، فَلَا بِدْعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَأْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَتْبَاعِ الْحَقِّ، أَنْ لَا يُوهِنَهُمْ، وَلَا يُضْعِفَهُمْ، وَلَا يُخْضِعَهُمْ، مُقَاوَمَةُ مُقَاوِمٍ، وَلَا أَذَى حَاسِدٍ، أَوْ جَاهِلٍ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ خَبَّابًا قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً أَلَا تَدْعُو اللَّهَ» فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: «لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمَشَّطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الْآيَةُ عَطْفٌ عَلَى فَما وَهَنُوا لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِرَبَاطَةِ الْجَأْشِ، وَثَبَاتِ الْقَلْبِ، وَصَفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الثَّبَاتِ مِنْ أَقْوَالِ اللِّسَانِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِ عِنْدَ الِاضْطِرَابِ وَالْجَزَعِ، أَيْ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لَمْ يُخَالِجْهُمْ بِسَبَبِهِ تَرَدُّدٌ فِي صِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ، وَلَا بَدَرَ مِنْهُمْ تَذَمُّرٌ، بَلْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ جَزَاءً عَلَى تَقْصِيرٍ مِنْهُمْ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبِ نَصْرِ دِينِهِ، أَوْ فِي الْوَفَاءِ بِأَمَانَةِ التَّكْلِيفِ، فَلِذَلِكَ ابْتَهَلُوا إِلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَهُمْ جَزَاءً عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ النَّصْرَ وَأَسْبَابَهُ ثَانِيًا فَقَالُوا: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَلَمْ يَصُدُّهُمْ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ عَنْ رَجَاءِ النَّصْرِ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» فَقَصَرَ قَوْلَهَمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي يَنْدُرُ

فِيهَا صُدُورُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إِلَى آخِرِهِ، فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ قَالُوا أقوالا تنبىء عَنِ الْجَزَعِ، أَوِ الْهَلَعِ، أَوِ الشَّكِّ فِي النَّصْرِ، أَوِ الِاسْتِسْلَامِ لِلْكُفَّارِ. وَفِي هَذَا الْقَصْرِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ جَزِعُوا مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كَلَّمْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ. وَقُدِّمَ خَبَرُ (كَانَ) عَلَى اسْمِهَا فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْصُورٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ أَقْوَالِهِمْ حِينَئِذٍ فِي مَقَالَةِ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فَالْقَصْرُ حَقِيقِيّ لأنّه قصر لِقَوْلِهِمُ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، حِينَ حُصُولِ مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْقَيْدُ مُلَاحَظٌ مِنَ الْمَقَامِ، نَظِيرَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: 51] فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ خَاصٍّ، تَقْيِيدًا مَنْطُوقًا بِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تَوْجِيهِ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّ الْمصدر المنسبك المؤوّل أَعْرَفُ مِنَ الْمَصْدَرِ الصّريح لدلَالَة المؤوّل عَلَى النِّسْبَةِ وَزَمَانِ الْحَدَثِ، بِخِلَافِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي بَابِ (كَانَ) فِي غَيْرِ صِيَغِ الْقَصْرِ، وَأَمَّا فِي الْحَصْرِ فَمُتَعَيِّنٌ تَقْدِيمُ الْمَحْصُورِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْأَمْرِ، وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْكَبَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمْرِنَا، أَيْ دِينِنَا وَتَكْلِيفِنَا، فَيَكُونُ عَطْفَ خَاصٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِطَلَبِ غُفْرَانِهِ، وَتَمَحُّضُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِبَقِيَّةِ الذُّنُوبِ وَهِيَ الصَّغَائِرُ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِسْرَافِ فِي الْأَمْرِ التَّقْصِيرُ فِي شَأْنِهِمْ وَنِظَامِهِمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أُهْبَةِ الْقِتَالِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، أَوِ الْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ كَلِمَةِ أَمْرٍ، بِأَنْ يَكُونُوا شَكُّوا أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ مَعَ عَدُوِّهِمْ نَاشِئًا عَنْ سَبَبَيْنِ: بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، فَالْبَاطِنُ هُوَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الذُّنُوبِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ تَقْصِيرُهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 إلى 150]

وَقَوْلُهُ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ إِعْلَامٌ بِتَعْجِيلِ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ لِحُصُولِ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَثَوَابُ الدُّنْيَا هُوَ الْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ هُوَ مَا كتب لَهُم حِينَئِذٍ مِنْ حُسْنِ عَاقِبَةِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الثَّوَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [103]- لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تَذْيِيلٌ أَيْ يُحِبُّ كُلَّ مُحْسِنٍ، وَمَوْقِعُ التَّذْيِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ هُمْ مِنَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا، فَاللَّامُ لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَذِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ (الْ) الْجِنْسِيَّةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، وَأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ الْمُفَادَ مِنْ (الْ) إِذَا كَانَ مَدْخُولُهَا مُفْرَدًا وَجُمْلَة سَوَاء. [149، 150] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 149 إِلَى 150] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّوْبِيخِ وَاللَّوْمِ وَالْعِتَابِ إِلَى التَّحْذِيرِ، لِيَتَوَسَّلَ مِنْهُ إِلَى مُعَاوَدَةِ التَّسْلِيَةِ، عَلَى مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ كُلِّهِ، مِنَ الْحَقَائِقِ الْحُكْمِيَّةِ وَالْمَوَاعِظِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْعِبَرِ التَّارِيخِيَّةِ، مَا لَا يُحْصِيهِ مُرِيدُ إِحْصَائِهِ. وَالطَّاعَةُ تُطْلَقُ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الْآمِرِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ الْغَالِبِ، فَيُقَالُ طَاعَتْ قَبِيلَةُ كَذَا وَطَوَّعَ الْجَيْشُ بِلَادَ كَذَا. والَّذِينَ كَفَرُوا شَائِعٌ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَاللَّفْظُ صَالِحٌ بِالْوَضْعِ لِكُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُشْرِكٍ وَكِتَابِيٍّ، مُظْهِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ. وَالرَّدُّ عَلَى الْأَعْقَابِ: الِارْتِدَادُ، وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمَا عِنْد قَوْله: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: 144] فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ

أَرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُخَامِرَهُمْ خَاطِرُ الدُّخُولِ فِي صُلْحِ الْمُشْرِكِينَ وَأَمَانِهِمْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِظْهَارَ الضَّعْفِ أَمَامَهُمْ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا مَالُوا إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَجُوهُمْ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، بِإِظْهَارِ عَدَمِ كَرَاهِيَةِ دِينِهِمُ الْمُخَالِفِ لَهُمْ، حَتَّى يَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَالرَّدُّ عَلَى الْأَعْقَابِ عَلَى هَذَا يَحْصُلُ بِالْإِخَارَةِ وَالْمَآلِ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ فِي طَاعَةِ مُسْلِمِي الْأَنْدَلُسِ لِطَاغِيَةِ الْجَلَالِقَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى تَسْفِيهِ رَأْيِ مَنْ قَالَ: «لَوْ كَلَّمْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ» كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الطَّاعَةِ طَاعَةُ الْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ، أَيِ الِامْتِثَالُ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيئًا مَا قُتِلَ فَارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ. وَمَعْنَى الرَّدِّ عَلَى الْأَعْقَابِ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَحْصُلُ مُبَاشَرَةً فِي حَالِ طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ مَا تَضَمَّنَهُ مَا قَبْلَهُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ غَايَةَ الظُّهُورِ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُوَالَاةِ وَالْحَلِفِ فَنَاسَبَ إِبْطَالَهَا بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا التَّذْكِيرِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ: وَهُوَ أَنَّ نَقْضَ الْوَلَاءِ وَالْحِلْفِ أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنَّ لِلْوَلَاءِ عِنْدَهُمْ شَأْنًا كَشَأْنِ النَّسَبِ، وَهَذَا مَعْنًى قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْوَلَاءُ وَلَاءَ سَيِّدِ الْمُوَالِي كُلِّهِمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا تَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي طَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ وَتَرْكِ وَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ يُقَوِّي مُنَاسِبَةَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَزِيدُ إِرَادَتَهُ ظُهُورًا. وخَيْرُ النَّاصِرِينَ هُوَ أَفْضَلُ الْمَوْصُوفِينَ بِالْوَصْفِ، فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ، وَفِي مَوْقِعِهِ، وَفَائِدَتِهِ، فَالنَّصْرُ يُقْصَدُ مِنْهُ دَفْعُ الْغَلَبِ عَنِ الْمَغْلُوبِ، فَمَتَى كَانَ الدَّفْعُ أَقْطَعَ لِلْغَالِبِ كَانَ النَّصْرُ أَفْضَلَ، وَيُقْصَدُ مِنْهُ دَفْعُ الظُّلْمِ فَمَتَى كَانَ النَّصْرُ

[سورة آل عمران (3) : آية 151]

قَاطِعًا لِظُلْمِ الظَّالِمِ كَانَ مَوْقِعُهُ أَفْضَلَ، وَفَائِدَتُهُ أَكْمَلَ، فَالنَّصْرُ لَا يَخْلُو مِنْ مِدْحَةٍ لِأَنَّ فِيهِ ظُهُورَ الشُّجَاعَةِ وَإِبَاءَ الضَّيْمِ وَالنَّجْدَةِ. قَالَ وَدَّاكُ بْنُ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ: إِذَا اسْتَنْجَدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ ... لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ تَأْيِيدًا لِظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ، كَانَ فِيهِ دَخَلٌ وَمَذَمَّةٌ، فَإِذَا كَانَ إِظْهَارًا لِحَقِّ الْمُحِقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، اسْتَكْمَلَ الْمَحْمَدَةَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصْرَ الظَّالِمِ بِمَا يُنَاسِبُ خُلُقَ الْإِسْلَامِ لَمَّا قَالَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا ومظلوما» فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ ظَالِمًا؟ فَقَالَ: «أَنْ تَنْصُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَكُفُّهُ عَن ظلمه» . [151] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) رُجُوعٌ إِلَى تَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَطْمِينِهِمْ، وَوَعْدِهِمْ بِالنَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ. وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَتُهُ رَمْيُ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ [الشُّعَرَاء: 44] ، أَوْ فِي الْمَاءِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [الْقَصَص: 7] وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِفْضَاءِ بِالْكَلَامِ يُلْقُونَ السَّمْعَ [الشُّعَرَاء: 223] وَعَلَى حُصُولِ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ كَأَنَّ مُلْقِيًا أَلْقَاهُ أَيْ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تهيّؤ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ [الْمَائِدَة: 64] وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْجَعْلِ وَالتَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الْأَحْزَاب: 26] . والرعب: الْفَزَعُ مِنْ شِدَّةِ خَوْفٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ الرُّعْبُ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَالرُّعُبُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ لِلْعِوَضِ وَتُسَمَّى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هَذِهِ بِتِلْكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً بِما كَسَبا [الْمَائِدَة: 38] ، وَهَذَا جَزَاءٌ دُنْيَوِيٌّ رَتَّبَهُ

اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ رَتَّبَ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ آثَارًا خَبِيثَةً، فَإِنَّ الشِّرْكَ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ مَنْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ يَرْتَكِزُ فِي نُفُوسِ مُعْتَقَدِيهِ عَلَى غَيْرِ دَلِيلٍ، كَانَ مِنْ شَأْنِ مُعْتَقِدِهِ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرِبَ النَّفْسِ مُتَحَيِّرًا فِي الْعَاقِبَةِ فِي تَغَلُّبِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ هُمْ أَخَصُّ بِهِ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ مَا لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْغَيْرَةِ. فَلَا تَزَالُ آلِهَتُهُمْ فِي مُغَالَبَةٍ وَمُنَافَرَةٍ. كَمَا لَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُمْ كَذَلِكَ، وَالَّذِينَ حَالُهُمْ كَمَا وَصَفْنَا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ فِي الثِّقَةِ بِالنَّصْرِ فِي حُرُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ لَا يَدْرُونَ هَلِ الرِّبْحُ مَعَ آلِهَتِهِمْ أَمْ مَعَ أَضْدَادِهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً صِلَةٌ أُجْرِيَتْ عَلَى الْمُشْرِكِ بِهِ لَيْسَ الْقَصْدُ بِهَا تَعْرِيفُ الشُّرَكَاءِ، وَلَكِنْ قُصِدَ بِهَا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ فِيمَا أَشْرَكُوا وَاعْتَقَدُوا، فَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مُتَزَلْزِلَةٌ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ سُلْطَانٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبٌ فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ نَازِلًا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَاللَّهُ يَقُولُ سَنُلْقِي» أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَسْتَكِنُّ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يَدْعُوَ دَاعِي ظُهُورِهَا، فَالرُّعْبُ وَالشَّجَاعَةُ صِفَتَانِ لَا تَظْهَرَانِ إِلَّا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَتَقْوَيَانِ وَتَضْعُفَانِ، فَالشُّجَاعُ تَزِيدُ شَجَاعَتُهُ بِتَكَرُّرِ الِانْتِصَارِ، وَقَدْ يَنْزَوِي قَلِيلًا إِذَا انْهَزَمَ ثُمَّ تَعُودُ لَهُ صِفَتُهُ سَرْعَى. كَمَا وَصَفَهُ عَمْرُو بْنُ الْإِطْنَابَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقُولِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي وَقَوْلِ الْحُصَيْنِ بْنِ الْحُمَامِ: تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ ... لِنَفْسَيْ حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا وَكَذَلِكَ الرُّعْبُ وَالْجُبْنُ قَدْ يَضْعُفُ عِنْدَ حُصُولِ بَارِقَةِ انْتِصَارٍ، فَالْمُشْرِكُونَ لما انْهَزمُوا بادىء الْأَمْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَّتْ عَزِيمَتُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا ابْتَلَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَزِيمَةِ رَاجَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالِازْدِهَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ

عَاوَدَتْهمُ صِفَاتُهُمْ، (وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ) . فَقَوْلُهُ: سَنُلْقِي أَيْ إِلْقَاءَ إِعَادَةِ الصِّفَةِ إِلَى النُّفُوسِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ السِّينَ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ أَيْ أَلْقَيْنَا وَنُلْقِي، وَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الرُّعْبَ كَانَتْ لَهُ مَظَاهِرُ: مِنْهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ فِي مُكْنَتِهِمْ أَنْ يُوغِلُوا فِي اسْتِيصَالِهِمْ إِلَّا أَنَّ الرُّعْبَ صَدَّهُمْ عَنْ ذَلِك، لأنّهم خَافُوا أَن تعود عَلَيْهِم الْهَزِيمَة، وتدور عَلَيْهِم الدائرة، وَمِنْهَا أنّهم لَمَّا انْصَرَفُوا قَاصِدِينَ الرُّجُوعَ إِلَى مَكَّةَ عَنَّ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ نَدَمٌ، وَقَالُوا: لَوْ رَجَعْنَا فَاقْتَفَيْنَا آثَارَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّا قَتَلْنَاهُمْ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَلُّ وَالطَّرِيدُ، فَلْنَرْجِعْ إِلَيْهِمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَانْتَدَبُوا، وَكَانُوا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَمُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحَةِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَحْمِلُ الْآخَرَ ثُمَّ يَنْزِلُ الْمَحْمُولُ فَيَحْمِلُ الَّذِي كَانَ حَامِلَهُ، فَقَيَّضَ اللَّهُ مَعْبَدَ بْنَ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّ وَهُوَ كَافِرٌ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: «إِنَّ خُزَاعَةَ قَدْ سَاءَهَا مَا أَصَابَكَ وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ لَمْ تُرْزَأْ فِي أَصْحَابِكَ» ثُمَّ لَحِقَ مَعْبَدٌ بِقُرَيْشٍ فَأَدْرَكَهُمْ بِالرَّوْحَاءِ قَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ، قَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ خَرَجُوا يَطْلُبُونَكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، مَا تَقُولُ؟! قَالَ: مَا أَرَى أَنَّكَ تَرْتَحِلُ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ وَلَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْهُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ: كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ تَرْدِي بِأَسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مَيْلٍ مَعَازِيلِ فَظَلْتُ أَعْدُو وأظنّ الْأَرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لَا تَرْجِعُوا فَإِنِّي أَرَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لِلْقَوْمِ قِتَالٌ غَيْرُ الَّذِي كَانَ.

[سورة آل عمران (3) : آية 152]

وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّطُ عَلَى النَّفْسِ، وَنُفِيَ تَنْزِيلُهُ وَأُرِيدَ نَفْيُ وَجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَزَلَ أَيْ لَأَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُمِ النَّاسَ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اعْتِقَادٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَالتَّنْزِيلُ إِمَّا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى نصب الأدلّة عَلَيْهِم كَقَوْلِهِمْ: «نَزَلَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَعُقُولِ الْفُرْسِ وَأَيْدِي الصِّينِ» وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْوَحْيِ، أَوْ بِالْأَمَارَاتِ، كَانَ نَفْيُ تَنْزِيلِ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِشْرَاكِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ السُّلْطَانِ نَفْسِهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ: لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ وَقَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَأْوَى مَفْعَلٌ مِنْ أَوَى إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَالْمَثْوَى مَفْعَلٌ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ فَالنَّارُ مَصِيرُهُمْ وَمَقَرُّهُمْ وَالْمرَاد الْمُشْركُونَ. [152] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 152] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمرَان: 151] وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَإِظْهَارٌ لِاسْتِمْرَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرَمَزَ إِلَى الثِّقَةِ بِوَعْدِهِمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَبْيِينٍ لِسَبَبِ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ: تَطْمِينًا لَهُمْ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ وَمُمَاثِلِهِ السَّابِقِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ (التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ) وَلِيَتَوَسَّلَ

بِذَلِكَ إِلَى إِلْقَاءِ تَبِعَةِ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْلِفْهُمْ وَعْدَهُ، وَلَكِنَّ سُوءَ صَنِيعِهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي الْمُصِيبَةِ كَقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 79] . وَصِدْقُ الْوَعْدِ: تَحْقِيقُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى الصِّدْقِ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَقَدْ عُدِّيَ صَدَقَ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَحَقُّهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [23]-: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ- يُقَالُ: صَدَقَنِي أَخُوكَ وَكَذَبَنِي إِذَا قَالَ لَكَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ (صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ) فَمَعْنَاهُ صَدَقَنِي فِي سِنِّ بَكْرِهِ بِطَرْحِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ. فَنُصِبَ وَعْدَهُ هُنَا عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ صَدَقَكُمْ فِي وَعْدِهِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ صَدَقَ مَعْنَى أَعْطَى. وَالْوَعْدُ هُنَا وَعْدُ النَّصْرِ الْوَاقِعِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: 7] أَوْ بِخَبَرٍ خَاصٍّ فِي يَوْمِ أُحُدٍ. وَإِذْنُ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وتيسير الْأَسْبَاب. و (إِذْ) فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِقَوْلِهِ: صَدَقَكُمُ أَيْ: صَدَقَكُمُ اللَّهُ الْوَعْدَ حِينَ كُنْتُمْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحِسَّ تَحْقِيقٌ لِوَعْدِ اللَّهِ إيّاهم بالنّصر، و (إِذْ) فِيهِ لِلْمُضِيِّ، وَأُتِيَ بَعْدَهَا بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ أَيْ لِحِكَايَةِ تَجَدُّدِ الْحَسِّ فِي الْمَاضِي. وَالْحَسُّ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- الْقَتْلُ أَطْلَقَهُ أَكْثَرُ اللُّغَوِيِّينَ، وَقَيَّدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِالْقَتْلِ الذَّرِيعِ، وَهُوَ أَصْوَبُ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ (حَتَّى) حَرْفُ انْتِهَاءٍ وَغَايَةٍ، يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْمَعْنَى: إِذْ تَقْتُلُونَهُمْ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ، وَاسْتَمَرَّ قَتْلُكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى حُصُولِ الْفَشَلِ لَكُمْ والتنازع بَيْنكُم. و (حتّى) هُنَا جارّة و (إِذا) مجرور بهَا. و

(إِذا) اسْمُ زَمَانٍ، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى الزَّمَانِ مُطْلَقًا كَمَا هُنَا، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ أَنَّهُ أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ تَبَعًا لقَوْله: تَحُسُّونَهُمْ. و (إِذا) هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّهَا إِذَا صَارَتْ لِلْمُضِيِّ انْسَلَخَتْ عَنِ الصَّلَاحِيَةِ لِلشَّرْطِيَّةِ، إِذِ الشَّرْطُ لَا يَكُونُ مَاضِيًا إِلَّا بِتَأْوِيلٍ لِذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ لِجَوَابٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكَلُّفِ تَقْدِيرِهِ: انْقَسَمْتُمْ، وَلَا إِلَى جَعْلِ الْكَلَامِ بَعْدَهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِلَى آخِرِهَا. وَالْفَشَلُ: الْوَهَنُ وَالْإِعْيَاءُ، وَالتَّنَازُعُ: التَّخَالُفُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِصْيَانِ هُنَا عِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَقد رتّبت الْأَفْعَال الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَسْبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ، إِذْ كَانَ الْفَشَلُ، وَهُوَ ضَجَرُ بَعْضِ الرُّمَاةِ مِنْ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِهِمْ لِلطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، قَدْ حَصَلَ أَوَّلًا فَنَشَأَ عَنْهُ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ فِي مُلَازَمَةِ الْمَوْقِفِ وَفِي اللَّحَاقِ بِالْجَيْشِ لِلْغَنِيمَةِ، وَنَشَأَ عَنِ التَّنَازُعِ تَصْمِيمُ مُعْظَمِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَوْقِفِ الَّذِي أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمُلَازَمَتِهِ وَعَدَمِ الِانْصِرَافِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يَقْتَضِ الْحَالُ الْعُدُولَ عَنْهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْأَمْرِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ فِي أَمْرِكُمْ أَيْ شَأْنِكُمْ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ أَرَادَ بِهِ النَّصْرَ إِذْ كَانَتِ الرِّيحُ أَوَّلَ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، حَتَّى شُوهِدَتْ نِسَاؤُهُمْ مُشَمِّرَاتٍ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي أَعْلَى الْجَبَلِ هَارِبَاتٍ مِنَ الْأَسْرِ، وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَنْ يَثْبُتُوا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، الْغَنِيمَةَ، الْتَحَقُوا بِالْغُزَاةِ، فَرَأَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ قَائِدُ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، غِرَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَاهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ فَانْكَشَفُوا وَاضْطَرَبَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَبَادَرُوا الْفِرَارَ وَانْهَزَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِفَشَلِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَشْدِيدٌ فِي الْمَلَامِ وَالتَّنْدِيمِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا تُحِبُّونَ هُوَ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ (فَشِلْتُمْ، وَتَنَازَعْتُمْ، وَعَصَيْتُمْ) ، وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْغَنِيمَةِ بِاسْمِهَا، إِلَى الْمَوْصُولِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ عَجِلُوا فِي طَلَبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْمَعْذِرَةِ إِذْ كَانَ فَشَلُهُمْ وَتَنَازُعُهُمْ وَعِصْيَانُهُمْ عَنْ سَبَبٍ مِنْ أَغْرَاضِ الْحَرْبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ جُبْنٍ، وَلَا عَنْ ضَعْفِ إِيمَانٍ، أَوْ قَصْدِ خِذْلَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ تَفْصِيل لتنازعتم، وَتَبْيِينٌ لِ (عَصَيْتُمْ) ، وَتَخْصِيصٌ لَهُ بِأَنَّ الْعَاصِينَ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ الْمُتَنَازِعِينَ، إِذِ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ لَيْسُوا بِعَاصِينَ، وَلِذَلِكَ أُخِّرَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ إِلَى بَعْدِ الْفِعْلَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَقِّبَ بِهَا قَوْلَهُ: وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْجُمْلَةِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ ثَلَاثِ جُمَلٍ وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِرَادَةُ نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ الْغَنِيمَةَ لَمْ يَحْرِصْ عَلَى ثَوَابِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُفَرِّطًا فِي الْآخِرَةِ مُطْلَقًا، وَلَا حَاسِبًا تَحْصِيلَ خَيْرِ الدُّنْيَا فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ مُفِيتًا عَلَيْهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَرَادُوا ثَوَابَ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ، إِذْ لَيْسَ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، مَعَ عَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِدَالٍّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِالْآخِرَةِ، وَإِنْكَارٍ لَهَا، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، فَقَطْ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُخَالَفَةُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ عِصْيَانًا، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ كَانَتْ عَنِ اجْتِهَادٍ لَا عَنِ اسْتِخْفَافٍ، إِذْ كَانُوا قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَنَا بِالثَّبَاتِ هُنَا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَنَا وَلِلْوُقُوفِ هُنَا حَتَّى تَفُوتَنَا الْغَنَائِمُ، فَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ، فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هُنَا

[سورة آل عمران (3) : آية 153]

عِصْيَانًا لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ اجْتِهَادٍ، فَإِنَّ شَأْنَ الْحَرْبِ الطَّاعَةُ لِلْقَائِدِ مِنْ دُونِ تَأْوِيلٍ، أَوْ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ كَانَ بَعِيدًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ تَأْوِيلًا لِإِرْضَاءِ حُبِّ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا لِدَلِيلِ وُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ. وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّرْفَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، كَمَا كَانَ الْقَتْلُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّ حِكْمَتَهُ الِابْتِلَاءُ، لِيَظْهَرَ لِلرَّسُولِ وَلِلنَّاسِ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ أَسْرَارًا عَظِيمَةً فِي الْمُحَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَجْمَلَ هَذَا الِابْتِلَاءَ هُنَا وَسَيُبَيِّنُهُ. وَعَقَّبَ هَذَا الْمَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ تَسْكِينًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَلَطُّفٌ مَعَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْرِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْعَفْوِ عَلَى الْمَلَامِ فِي مَلَامِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] ، فَتِلْكَ رُتْبَةٌ أَشْرَفُ مِنْ رُتْبَةِ تَعْقِيبِ الْمَلَامِ بِذِكْرِ الْعَفْوِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ إِذْ عَجَّلَ لَهُمُ الْإِعْلَامَ بِالْعَفْوِ لِكَيْلَا تَطِيرَ نُفُوسُهُمْ رَهْبَةً وَخَوْفًا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَأْكِيدُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَفْوٌ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون عفوا بعد مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ صَالِحَةً لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تسلب الْإِيمَان. [153] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 153] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ

(153) إِذْ تُصْعِدُونَ متعلّق بقوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [آل عمرَان: 152] أَيْ دَفَعَكُمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَنْتُمْ مُصْعِدُونَ. وَالْإِصْعَادُ: الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى صَعِيدًا، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ وَالْإِصْعَادُ أَيْضًا السَّيْرُ فِي الْوَادِي، قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: أَصْعِدُوا يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْوَادِي. وَالْمَعْنَى: تَفِرُّونَ مُصْعِدِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَذْهَبُونَ فِي الْأَرْضِ أَي فِرَارًا، ف إِذْ) ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي عَقِبَ صَرْفَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَكَانَ مِنْ آثَارِهِ. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أَيْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَاللَّيُّ مَجَازٌ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقُ مِثْلُ الْعَطْفِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، فَالْمَعْنَى وَلَا يَلْوِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَأُوجِزَ بِالْحَذْفِ، وَالْمُرَادُ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، يَعْنِي: فَرَرْتُمْ لَا يَرْحَمُ أَحَدٌ أَحَدًا وَلَا يَرْفُقُ بِهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْجِدِّ فِي الْهُرُوبِ حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ لِيَدُوسَ الْآخَرَ لَوْ تَعَرَّضَ فِي طَرِيقِهِ. وَجُمْلَةُ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ حَالٌ، وَالْأُخْرَى آخِرُ الْجَيْشِ أَيْ مِنْ وَرَائِكُمْ. وَدُعَاءُ الرَّسُولِ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ لِلثَّبَاتِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْهَزِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ دُعَاءُ الرَّسُولِ النَّاسَ بِقَوْلِهِ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» . وَقَوْلُهُ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا إِنْ كَانَ ضَمِيرُ فَأَثابَكُمْ ضَمِيرَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ [آل عمرَان: 154] فَهُوَ عَطْفٌ على صَرَفَكُمْ [آل عمرَان: 152] أَيْ تَرَتَّبَ عَلَى الصَّرْفِ إِثَابَتُكُمْ. وَأَصْلُ الْإِثَابَةِ إِعْطَاءُ الثَّوَابِ وَهُوَ شَيْءٌ يَكُونُ جَزَاءً عَلَى عَطَاءٍ أَوْ فِعْلٍ. وَالْغَمُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ، فَيَكُونُ أَثَابَكُمْ إِمَّا اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قبيل الصُّبْح مُرَادة طَحُونًا أَيْ جَازَاكُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِصْعَادِ الْمُقَارِنِ لِلصَّرْفِ أَنْ أَثَابَكُمْ غَمًّا أَيْ قَلَقًا لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ، وَالْمُرَادُ أَنْ عَاقَبَكُمْ بِغَمٍّ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: 21]

وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَلَامٍ لَا تَوْبِيخٍ، وَمَقَامُ لَا تَنْدِيمٍ. وَإِمَّا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا لِلْحَرْبِ خَرَجُوا طَالِبِينَ الثَّوَابَ، فَسَلَكُوا مَسَالِكَ بَاءُوا مَعَهَا بِعِقَابٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: أَخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (¬1) وَقَوْلِ الْآخَرِ: قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً قَمِيصًا. وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا نَشَأَ عَنْ هَذَا الْغَمِّ مِنْ عِبْرَة، وَمن توجّه عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بَعْدَهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَمٍّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْغُمُومِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْبَةِ الْأَمَلِ فِي النَّصْرِ بَعْدَ ظُهُورِ بَوَارِقِهِ، وَمِنَ الِانْهِزَامِ، وَمِنْ قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، وَجَرْحِ مَنْ جُرِحَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْبَاءِ لِلْعِوَضِ، أَيْ: جَازَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا فِي نُفُوسِكُمْ عِوَضًا عَنِ الْغَمِّ الَّذِي نَسَبْتُمْ فِيهِ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ، فَالْإِثَابَةُ مَجَازٌ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْجَمِيلِ بِمِثْلِهِ أَيْ جَازَاكُمْ بِغَمٍّ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَمٍّ بَاءُ الْعِوَضِ. وَالْغَمُّ الْأَوَّلُ غَمُّ نَفْسِ الرَّسُولِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي غَمُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ اغْتَمَّ وَحَزِنَ لِمَا أَصَابَكُمْ، كَمَا اغْتَمَمْتُمْ لِمَا شَاعَ مِنْ قَتْلِهِ فَكَانَ غمّه لأجلكم جزاءا عَلَى غَمِّكُمْ لِأَجْلِهِ. وَقَوْلُهُ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ تَعْلِيلٌ أَوَّلُ لِ (أَثَابَكُمْ) أَيْ أَلْهَاكُمْ بِذَلِكَ الْغَمِّ لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، فَهُوَ أَنْسَاهُمْ بِمُصِيبَةٍ صَغِيرَةٍ مُصِيبَةً كَبِيرَةً، وَقِيلَ: (لَا) زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى: لِتَحْزَنُوا، فَيَكُونُ زِيَادَةً فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ إِنْ كَانَ قَوْله: فَأَثابَكُمْ تَهَكُّمًا أَوِ الْمَعْنَى فَأَثَابَكُمُ ¬

(¬1) محدرجة بحاء مُهْملَة وبجيم بعد الرَّاء أَي مفتولة: وَهُوَ صفة لموصوف مَحْذُوف أَرَادَ أسواطا.

[سورة آل عمران (3) : آية 154]

الرَّسُولُ غمّا لكيلا تحزنوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ: أَيْ سَكَتَ عَنْ تَثْرِيبِكُمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ إِلَّا الِاغْتِمَامُ لِأَجْلِكُمْ، لِكَيْلَا يُذَكِّرَكُمْ بِالتَّثْرِيبِ حُزْنًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ جَبْرًا لِخَوَاطِرِكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَصَابَكُمْ بِالْغَمِّ الَّذِي نَشَأَ عَنِ الْهَزِيمَةِ لِتَعْتَادُوا نُزُولَ الْمَصَائِبِ، فَيَذْهَبُ عَنْكُمُ الْهَلَعُ وَالْجَزَعُ عِنْدَ النَّوَائِبِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا فاتَكُمْ وَمَا أَصابَكُمْ طِبَاقٌ يُؤْذِنُ بِطِبَاقٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ، لِأَنَّ مَا فَاتَ هُوَ النَّافِعِ وَمَا أَصَابَ هُوَ مِنَ الضَّارِّ. [154] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 154] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهُوَ يرجّح كَون الضَّمِير فَأَثابَكُمْ مِثْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ هَذَا رُجُوعًا إِلَى سِيَاقِ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَالْمَعْنَى ثُمَّ أَغْشَاكُمْ بِالنُّعَاسِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ. وَسُمِّيَ الْإِغْشَاءُ إِنْزَالًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نُعَاسًا مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةٍ خَاصَّةٍ، كَانَ كَالنَّازِلِ مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُشَرَّفَةِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلَتِ السَّكِينَةُ. وَالْأَمَنَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- الْأَمْنُ، وَالنُّعَاسُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ أَوْ أَوَّلُ النَّوْمِ، وَهُوَ يُزِيلُ التَّعَبَ وَلَا يَغِيبُ صَاحِبُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَمَنَةً إِذْ لَو نَامُوا نوما ثَقِيلًا لَأَخَذُوا، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالزُّبَيْرُ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: غَشِيَنَا نُعَاسٌ حَتَّى إِنَّ السَّيْفَ لِيَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِنَا. وَقَدِ اسْتَجَدُّوا بِذَلِكَ نَشَاطَهُمْ، وَنَسُوا حُزْنَهُمْ، لِأَنَّ الْحُزْنَ تَبْتَدِئُ خِفَّتُهُ بَعْدَ أَوَّلِ نَوْمَةٍ تُعْفِيهِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَحْزَانِ الْمَوْتِ وَغَيْرِهَا. وَ (نُعَاسًا) بَدَلٌ عَلَى (أَمَنَةٍ) بَدَلٌ مُطَابِقٌ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَدَّمَ النُّعَاسُ وَيُؤَخَّرَ أَمَنَةٌ: لِأَنَّ أَمَنَةً بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ أَوِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ [11] : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ولكنّه قدّم الأمنة هُنَا تَشْرِيفًا لِشَأْنِهَا لِأَنَّهَا جُعِلَتْ كَالْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ لِنَصْرِهِمْ، فَهُوَ كَالسَّكِينَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مَفْعُولَ أَنْزَلَ، وَيُجْعَلَ النُّعَاسُ بَدَلًا مِنْهُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَغْشَى- بِالتَّحْتِيَّةِ- عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى نُعَاسٍ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِالْفَوْقِيَّةِ- بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى أَمَنَةً، وَلِذَلِكَ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا. لَمَّا ذَكَرَ حَالَ طَائِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، تَخَلَّصَ مِنْهُ لِذِكْرِ حَالِ طَائِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ وَصَفَهَا بِمِنْكُمْ كَمَا وَصَفَ الْأُولَى. وَطائِفَةٌ مُبْتَدَأٌ وُصِفَ بِجُمْلَةِ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [آل عمرَان: 155] الْآيَةَ. وَمَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْهَمُّ وَذَلِكَ بِعَدَمِ رِضَاهُمْ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَبِشِدَّةِ تَلَهُّفِهِمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَتَحَسُّرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِمَّا يَظُنُّونَهُ مُنْجِيًا لَهُمْ لَوْ عَمِلُوهُ: أَيْ مِنَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَاتَ، وَإِذْ كَانُوا كَذَلِكَ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ فِي اضْطِرَاب وتحرّق يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ وَمِنَ الْمَنَامِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ الْآتِي: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمرَان: 156] . وَقِيلَ مَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَدْخَلَتْ عَلَيْهِمُ الْهَمَّ بِالْكُفْرِ وَالِارْتِدَادِ، وَكَانَ رَأْسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مُعَتَّبُ بْنَ قُشَيْرٍ. وَجُمْلَةُ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ إِمَّا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَإِمَّا حَالٌ مِنْ (طَائِفَةٌ) . وَمَعْنَى يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أَنَّهُمْ

ذَهَبَتْ بِهِمْ هَوَاجِسُهُمْ إِلَى أَن ظنُّوا بِاللَّهِ ظُنُونًا بَاطِلَةً مِنْ أَوْهَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يُخْلِصُوا الدِّينَ لِلَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضَ مَا لَهُمْ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَهل لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ زِيَادَةِ (مِنْ) قَبْلَ النَّكِرَةِ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّفْيِ، وَهُوَ تَبْرِئَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا سَبَبًا فِي مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ. حَتَّى نَشَأَ عَنْهُ مَا نَشَأَ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأٌ وَغُرُورٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ إِذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُؤَيَّدًا بِالنَّصْرِ. وَالْقَوْلُ فِي هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ كَالْقَوْلِ فِي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا شَأْنُ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ. وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى السِّيَادَةِ الَّذِي مِنْهُ الْإِمَارَةُ، وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَظُنُّونَ لِأَنَّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمَعْنَى لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَيْ مِنْ شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ، أَو من أَمر تَدْبِيرِ النَّاسِ شَيْءٌ، أَيْ رَأْيٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، أَيْ مَا قُتِلَ قَوْمُنَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِفَاءَ الْقَتْلِ مَعَ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، بَلِ الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: (هَاهُنَا) ، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْخَزْرَجِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا تَنَصُّلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ وَتَعْرِيضٌ بِالنَّبِيءِ وَمَنْ أَشَارَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَغِبُوا فِي إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ غَيْرَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ تَخْلِيطٌ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ رَسُولِهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ، فَإِنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَهَدْيًا وَلَهُ قَدَرٌ وَتَيْسِيرٌ، وَكَذَلِكَ لِرَسُولِهِ الدَّعْوَةُ وَالتَّشْرِيعُ وَبَذْلُ الْجُهْدَ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعْصُومٌ، وَلَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ سِجَالًا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ وَقَدْ سَأَلَهُ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ لَهُ؟

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. فَظَنُّهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ ظَنُّ الْجَاهِلِيَّةَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِيمَانَ أَصْلًا فَهَؤُلَاءِ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ فَبَقِيَتْ مَعَارِفُهُمْ كَمَا هِيَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِالْفِئَةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، وَرُبَّمَا أُرِيدَ بِهِ حَالَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَاهِلِ أَيِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الدِّينَ وَالتَّوْحِيدَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقَتِ الْجَهْلَ عَلَى مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُنْتَضَى ... وَحِلْمٍ كَحِلْمِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُغْمَدُ وَأُطْلِقَتِ الْجَهْلُ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ قَالَ السَّمَوْأَلُ. فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ: وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَأَحْسَبُ أَنَّ لَفْظَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَصَفَ بِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ تَنْفِيرًا مِنَ الْجَهْلِ، وَتَرْغِيبًا فِي الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْقُرْآنُ فِي مَقَامَاتِ الذَّمِّ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: 50] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى [الْأَحْزَاب: 33] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الْفَتْح: 26] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا، وَفِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَانَ يَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ. وَقَالُوا: شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَيَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ الْحَقِّ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَظُنُّونَ كَأَنَّهُ قِيلَ الْبَاطِلُ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ عَقَائِدَ الْجَاهِلِيَّةِ إِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهَا أَو تَارِكًا بهَا.

وَجُمْلَةُ يُخْفُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُولُونَ أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ نِيَّتِهِمْ غَيْرَ ظَاهِرِهِ، فَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ إِعْلَانٌ بِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَقَوْلَهُمْ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا هُوَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ صُورَةَ الْعِتَابِ عَنْ تَرْكِ مَشُورَتِهِمْ فَنِّيَّتُهُمْ مِنْهُ تَخْطِئَةُ النَّبِيءِ فِي خُرُوجِهِ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى أُحُدٍ، وَأَنَّهُمْ أَسَدُّ رَأْيًا مِنْهُ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إِذْ كَانُوا قَدْ قَالُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ، أَوْ هِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ إِذَا أَظْهَرُوا قَوْلَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرْجِعُ الْجُمْلَةُ إِلَى مَعْنَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ يَظُنُّونَ لِأَنَّهَا لَمَّا بَيَّنَتْ جُمْلَةَ هِيَ بَدَلٌ فَهِيَ أَيْضًا كَالَّتِي بَيَّنَتْهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَجْلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْقَالَةَ فَشَتْ وَبَلَغَتِ الرَّسُولَ، وَلَا يَحْسُنُ كَوْنُ جُمْلَةِ يَقُولُونَ لَوْ كانَ إِلَى آخِرِهِ مُسْتَأْنَفَةً خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ صَدَرَتْ مِنْ مَعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: غَشِيَنِي النُّعَاسُ فَسَمِعْتُ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. فَحَكَى الْقُرْآنُ مَقَالَتَهُ كَمَا قَالَهَا، وَأُسْنِدَتْ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا وَرَضُوا بِهَا. وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعُذْرَ الْبَاطِلَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ غَيْرُ مُحْتَاجَيْنِ إِلَى أَمْرِكُمْ. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُلَّهُ- بِالنَّصْبِ- تَأْكِيدًا لِاسْمِ إِنَّ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى نِيَّةِ الِابْتِدَاءِ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ.

لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. وَالْجَوَابُ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الرَّيْبِ، إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ هُوَ جَوَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَيَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ جَرْيًا عَلَى حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا قَرَّرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا الْجَوَابُ جَارٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ جَرَيَانُ الْأَشْيَاءِ عَلَى قَدَرٍ مِنَ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمُ لِذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي مُصَادَفَةِ الْمَأْمُولِ، فَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ وَنَظَائِرُهُ بِمُقْتَضٍ تَرْكَ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ قَدَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاءَهُ غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ لَنَا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالسَّعْيِ فِيمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ كَاشِفًا عَنْ مُصَادَفَةِ قدر اللَّهِ لِمَأْمُولِنَا، فَإِنِ اسْتَفْرَغْنَا جُهُودَنَا وَحُرِمْنَا الْمَأْمُولَ، عَلِمْنَا أَنَّ قَدَرَ اللَّهِ جَرَى مِنْ قَبْلُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِنَا. فَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنَّا، وَإِعْرَاضٌ عَمَّا أَقَامَنَا اللَّهُ فِيهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ لِمَعْنَى الْقَدَرِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ لَمْ تَكُونُوا هَاهُنَا وَكُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَخَرَجَ الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمُوتُوا مَقْتُولِينَ فَقُتِلُوا فِي مَضَاجِعِهِمُ الَّتِي اضْطَجَعُوا فِيهَا يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ مَصَارِعِهِمْ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ قدّر، وَمعنى لَبَرَزَ خَرَجَ إِلَى الْبَرَازِ وَهُوَ الْأَرْضُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَاءَ (بُيُوتِكُمْ) - بِالْكَسْرِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالضَّمِّ-. وَالْمَضَاجَعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَحَلُّ الضُّجُوعِ، وَالضُّجُوعُ: وَضْعُ الْجَنْبِ بِالْأَرْضِ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَمَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ الضَّجْعُ، وَأَمَّا الضُّجُوعُ فَغَيْرُ قِيَاسِيٍّ، ثُمَّ غَلَبَ إِطْلَاقُ الْمَضْجَعِ عَلَى مَكَانِ النَّوْمِ قَالَ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: 16] وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ» . فَحَقِيقَةُ الضُّجُوعِ هُوَ وَضْعُ الْجَنْبِ لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَصَارِعِ الْقَتْلَى عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَحُسْنُهَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ، مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ كَانُوا يَبْقُونَ فِي بُيُوتِهِمْ مُتَمَتِّعِينَ بِفُرُوشِهِمْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 155]

وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ [آل عمرَان: 153] وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ بَعْضُهَا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعَلِّلَةِ، وَبَعْضُهَا مُعْتَرِضَةٌ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمرَان: 153] . والصّدور هُنَا بِمَعْنَى الضَّمَائِرِ، وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ أَثَره، وَهُوَ إِظْهَاره لِلنَّاسِ وَالْحُجَّةُ عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الضَّمَائِرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: 140] . وَالتَّمْحِيصُ تَخْلِيصُ الشَّيْءِ مِمَّا يُخَالِطُهُ مِمَّا فِيهِ عَيْبٌ لَهُ فَهُوَ كَالتَّزْكِيَةِ. وَالْقُلُوبُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَقَائِدِ، وَمَعْنَى تمحيص مَا فِيهِ قُلُوبِهِمْ تَطْهِيرُهَا مِمَّا يُخَامِرُهَا مِنَ الرَّيْبِ حِينَ سَمَاعِ شُبَهِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي يَبُثُّونَهَا بَيْنَهُمْ. وَأُطْلِقَ الصُّدُورُ عَلَى الضَّمَائِرِ لِأَنَّ الصَّدْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِثْمُ مَا حاك فِي الصّدر» وَأُطْلِقَ الْقَلْبُ عَلَى الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ مَا بِهِ يَحْصُلُ التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِقَادُ. وَعُدِّيَ إِلَى الصُّدُورِ فِعْلُ الِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ اخْتِبَارُ الْأَخْلَاقِ وَالضَّمَائِرِ: مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلِيَتَمَيَّزَ مَا فِي النَّفْسِ. وَعُدِّيَ إِلَى الْقُلُوبِ فِعْلُ التَّمْحِيصِ لِأَنَّ الظُّنُونَ وَالْعَقَائِدَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ لِتَكُونَ مَصْدَرَ كلّ خير. [155] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ سَبَبِ الْهَزِيمَةِ الْخَفِيِّ، وَهِيَ اسْتِزْلَالُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، وَأَرَادَ بِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَ (اسْتَزَلَّهُمُ) بِمَعْنَى أَزَلَّهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ زَالِّينَ، وَالزَّلَلُ

مُسْتَعَارٌ لِفِعْلِ الْخَطِيئَةِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلُ اسْتَفَادَ وَاسْتَبْشَرَ وَاسْتَنْشَقَ وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً ... أَبَا جَابر فاستنكحنوا أُمَّ جَابِرِ أَيْ نَكَحُوا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: 6] وَقَوْلُهُ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: 34] . وَلَا يَحْسُنُ حَمْلُ السِّينِ وَالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى الطَّلَبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَوْمُهُمْ عَلَى وُقُوعِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ زَلَلٌ وَاقِعٌ. وَالْمُرَادُ بِالزَّلَلِ الِانْهِزَامُ، وَإِطْلَاقُ الزَّلَلِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ كَإِطْلَاقِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ النَّصْرُ قَالَ تَعَالَى: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا [آل عمرَان: 147] . وَالْبَاءُ فِي بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَأُرِيدَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا مُفَارَقَةُ مَوْقِفِهِمْ، وَعِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالتَّنَازُعُ، وَالتَّعْجِيلُ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ كَانَ مِنْ آثَار الشَّيْطَان، رماهم فِيهِ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا إِلْقَاءُ تَبِعَةِ ذَلِكَ الِانْهِزَامِ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَإِبْطَالُ مَا عَرَّضَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ رَمْيِ تَبِعَتِهِ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْخُرُوجِ، وَتَحْرِيضِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ. وَذَلِكَ شَأْنُ ضِعَافِ الْعُقُولِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِمْ مُقَارِنُ الْفِعْلِ بِسَبَبِهِ، وَلِأَجْلِ تَخْلِيصِ الْأَفْكَارِ مِنْ هَذَا الْغَلَطِ الْخَفِيِّ وَضَعَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ بَابَ الْقَضِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالْقَضِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَرْتَبَةَ حَقِّ الْيَقِينِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ انْتَقَلَ بِهِمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ فَسَبَبُ مُصِيبَتِهِمْ هِيَ أَفْعَالُهُمُ الَّتِي أَمْلَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمْ وَأَضَلَّهُمْ، فَلَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى السَّبَبِ، وَالْتُبِسَ عَلَيْهِمْ بِالْمُقَارَنِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا الضَّلَالِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَبَيْنَ تَدَارُكِ خَطَئِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَحْبِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنَِِ

[سورة آل عمران (3) : آية 156]

الَّذِينَ تَوَلَّوْا نَفْسُ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ... [آل عمرَان: 152] الْآيَاتِ. وَضَمِيرُ مِنْكُمْ رَاجِعٌ إِلَى عَامَّةِ جَيْشِ أُحُدٍ فَشَمِلَ الَّذِينَ ثَبَتُوا وَلَمْ يَفِرُّوا. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا جَمَاعَةٌ هَرَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا احْتِمَالَاتٌ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْفَخْرُ، وَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أُعِيدَ الْإِخْبَارُ بِالْعَفْوِ تَأْنِيسًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ. [156] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 156] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) تَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مُخَالَجَةِ عَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَانٌ لِسُوءِ عَاقِبَةِ تِلْكَ الْعَقَائِدِ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ تَلَطُّفٌ بِهِمْ جَمِيعًا بَعْدَ تَقْرِيعِ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَاللَّام فِي قَوْلهم: لِإِخْوانِهِمْ لَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ بَلْ هِيَ لَامُ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا لِأَنَّ الْإِخْوَانَ لَيْسُوا مُتَكَلَّمًا مَعَهُمْ بَلْ هُمُ الَّذِينَ مَاتُوا وَقُتِلُوا، وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَانِ الْأَقَارِبُ فِي النَّسَبِ، أَيْ مِنَ الْخَزْرَجِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ مِنَ الْمُؤمنِينَ. و (إِذْ) هُنَا ظَرْفٌ لِلْمَاضِي بِدَلِيلِ فِعْلَيْ (قَالُوا وضربوا) ، وَقَدْ حُذِفَ فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا ماتُوا تَقْدِيرُهُ: فَمَاتُوا فِي سَفَرِهِمْ أَوْ قُتِلُوا فِي الْغَزْوِ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ، فَالضَّرْبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّيْرِ لِأَنَّ أَصْلَ الضَّرْبِ

هُوَ إِيقَاعُ جِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ وَقَرْعُهُ بِهِ، فَالسَّيْرُ ضَرْبٌ فِي الْأَرْضِ بِالْأَرْجُلِ، فَأُطْلِقَ عَلَى السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] ، وَعَلَى مُطْلَقِ السَّفَرِ كَمَا هُنَا، وَعَلَى السَّفَرِ لِلْغَزْوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: 94] وَقَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النِّسَاء: 101] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا السَّفَرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَلُومُهُمْ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ التِّجَارَةُ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَرْنُهُ مَعَ الْقَتْلِ فِي الْغَزْوِ لِكَوْنِهِمَا كَذَلِكَ فِي عَقِيدَةِ الْكُفَّارِ. وغُزًّى جَمْعُ غَازٍ. وَفُعَّلٌ قَلِيلٌ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ النَّاقِصِ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَصِيحٌ. وَنَظِيرُهُ عُفًّى فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: لَهَا قُلُبٌ عُفَّى الْحِيَاضِ أُجُونُ وَقَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ عِلَّةٌ لِ (قَالُوا) بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ اعْتِقَادِ ذَلِكَ مَعَ الْإِعْلَانِ بِهِ تَوْجِيهًا لِلنَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيهِ بِهِمْ أَيْ فَإِنَّكُمْ إِنِ اعْتَقَدْتُمُ اعْتِقَادَهُمْ لَحِقَكُمْ أَثَرُهُ كَمَا لَحِقَهُمْ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ) إِلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّعْلِيلُ خَارِجٌ عَنِ التَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا فَتَرَتَّبَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ كَانَ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ صِلَةِ (الَّذِينَ) ، وَمِنْ جملَة الْأَحْوَال المشبّه بِهَا، فَيُعْلَمُ أَنَّ النّهي عَن التّشبّه بِهِمْ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الضُّرِّ. وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ الْأَسَفِ أَيِ الْحُزْنِ، وَكَانَ هَذَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مُصَابَهُمْ نَشَأَ عَنْ تَضْيِيعِهِمُ الْحَزْمَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا سَلَكُوا غَيْرَ مَا سَلَكُوهُ لَنَجَوْا فَلَا يَزَالُونَ متلهّفين على مافتهم. وَالْمُؤْمِنُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فَإِذَا خَابَ سَلَّمَ لِحُكْمِ الْقَدَرِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 إلى 158]

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُضْمِرُوا الْعَوْدَ إِلَى مَا نهوا عَنهُ. [157، 158] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 157 إِلَى 158] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) ذَكَرَ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، فَجَعَلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَوْتَ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، إِذَا أَعْقَبَتْهُمَا الْمَغْفِرَةُ خَيْرًا مِنَ الْحَيَاةِ وَمَا يَجْمَعُونَ فِيهَا، وَجَعَلَ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسِيلَةً لِلْحَشْرِ وَالْحِسَابِ فَلْيَعْلَمْ أَحَدٌ بِمَاذَا يُلَاقِي رَبَّهُ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَعَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمرَان: 156] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ أَيْ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ قَبْلَهَا قَسَمًا مُقَدَّرًا، وَرَدَ بَعْدَهُ شَرْطٌ فَلِذَلِكَ لَا تَقَعُ إِلَّا مَعَ الشَّرْطِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَغْفِرَةٌ هِيَ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَالْجَوَابُ هُوَ قَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ لِظُهُورِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ لَكُمْ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: مِتُّمْ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَاضِيَهُ مِثْلَ خَافَ، اعْتَبَرُوهُ مَكْسُورَ الْعَيْنِ وَجَعَلُوا مُضَارِعَهُ مِنْ بَابِ قَامَ فَقَالُوا: يَمُوتُ، وَلَمْ يَقُولُوا: يُمَاتُ، فَهُوَ مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَتَيْنِ. وَأَمَّا سُفْلَى مُضَرَ فَقَدْ جَاءُوا بِهِ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ بَاب: قَامَ فقرأوه: مُتُّمْ. وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، مِمَّا تَجْمَعُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي جَمَعُوهَا وَطَمِعْتُمْ أَنْتُمْ فِي غُنْمِهَا. وَقُدِّمَ الْقَتْلُ فِي الْأُولَى وَالْمَوْتُ فِي الثَّانِيَةِ اعْتِبَارًا بِعَطْفِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْحُكْمِ فَإِنَّ كَوْنَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ أَمْرٌ قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الْمَوْتِ فِي غَيْرِ السَّبِيلِ مِثْلُ ذَلِكَ أَمْرٌ خَفِيٌّ مُسْتَبْعَدٌ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمَوْتِ فِي

[سورة آل عمران (3) : آية 159]

الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يُعْقِبَهُ الْحَشْرُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّفَنُّنِ، وَمِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَجَعْلِ الْقَتْلِ مَبْدَأَ الْكَلَام وَعوده. [159] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ الَّذِي حُكِيَ فِيهِ مُخَالَفَةُ طَوَائِفٍ لِأَمْرِ الرَّسُولِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ، وَمَا حُكِيَ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِيمَا صَنَعُوا. وَلِأَنَّ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ مَظَاهِرَ كَثِيرَةً مِنْ لين النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْخُرُوجِ، وَحَيْثُ لَمْ يُثَرِّبْهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ مُغَادَرَةِ مَرَاكِزِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ عَفْوُ اللَّهِ عَنْهُمْ يُعْرَفُ فِي مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ، أَلَانَ اللَّهُ لَهُمُ الرَّسُولَ تَحْقِيقًا لِرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِرَحْمَتِهِ فَلَانَ لَهُمُ الرَّسُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ إِيَّاهُ رَاحِمًا، قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] . وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ لِنْتَ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ: إِذْ كَانَ لِينُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِينًا لَا تَفْرِيطَ مَعَهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، وَلَا مُجَارَاةً لَهُمْ فِي التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِاسْمِ الرَّحْمَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ: بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا الْقَصْرُ مُفِيدٌ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مُسْتَوْجِبَةً الْغِلَظَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَانَ خُلُقَ رَسُولِهِ رَحْمَةً بِهِمْ، لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ فِي سِيَاسَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَزِيدَتْ (مَا) بَعْدَ بَاءِ الْجَرِّ لِتَأْكِيدِ الْجُمْلَة بِمَا فِيهِ مِنَ الْقصر، فتعيّن بزيادتها كَوْنِ التَّقْدِيمِ لِلْحَصْرِ، لَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَنُبِّهَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» .

وَاللِّينُ هُنَا مَجَازٌ فِي سِعَةِ الْخَلْقِ مَعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الصَّفْحِ عَنْ جَفَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ. وَدَلَّ فِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: لِنْتَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ تَقَرَّرَ وَعُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ، وَأَنَّ فِطْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ خَلَقَهُ كَذَلِكَ واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: 124] ، فَخُلُقُ الرَّسُولِ مُنَاسِبٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَجِيءُ بِشَرِيعَةٍ يُبَلِّغُهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّبْلِيغُ مُتَعَيَّنٌ لَا مُصَانَعَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَأَثَّرُ بِخُلُقِ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَتَنْفِيذِهَا فِيهِمْ، وَهَذَا عَمَلٌ لَهُ ارْتِبَاطٌ قَوِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ خُلُقِ الرَّسُولِ لِطِبَاعِ أُمَّتِهِ حَتَّى يُلَائِمَ خُلُقَهُ الْوَسَائِلُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا لِحَمْلِ أُمَّتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ النَّاجِحَةِ فِي الْبُلُوغِ بِهِمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ. أرسل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفْطُورًا عَلَى الرَّحْمَة، فَكَانَ لينه رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِالْأُمَّةِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ بِدُونِ تَسَاهُلٍ وَبِرِفْقٍ وَإِعَانَةٍ عَلَى تَحْصِيلِهَا، فَلِذَلِكَ جُعِلَ لِينُهُ مُصَاحِبًا لِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهِ، إِذْ هُوَ قد بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنِ اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ بَيْنَ الْعَرَبِ أَوَّلَ شَيْءٍ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ هُمْ مُبَلِّغِي الشَّرِيعَةِ لِلْعَالَمِ. وَالْعَرَبُ أُمَّةٌ عُرِفَتْ بِالْأَنَفَةِ، وَإِبَاءِ الضَّيْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ. وَسُرْعَةِ الْفَهْمِ. وَهُمُ الْمُتَلَقُّونَ الْأَوَّلُونَ لِلدِّينِ فَلَمْ تَكُنْ تَلِيقُ بِهِمُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ، وَلَكِنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى اسْتِنْزَالِ طَائِرِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ، لِيَتَجَنَّبُوا بِذَلِكَ الْمُكَابَرَةَ الَّتِي هِيَ الْحَائِلُ الْوَحِيدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِذْعَانِ إِلَى الْحَقِّ. وَوَرَدَ أَنَّ صفح النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَفْوَهُ وَرَحْمَتَهُ كَانَ سَبَبًا فِي دُخُولِ كَثِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ التَّشْرِيعِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ إِذْ لَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْمُشَاوَرَةَ

لِلِاسْتِعَانَةِ بِآرَائِهِمْ، بَلِ الْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ فَظًّا لَنَفَرَكَ كَثِيرٌ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَهَلَكُوا، أَوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمرَان: 154] فَالْمَعْنَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا لَأَعْلَنُوا الْكُفْرَ وَتَفَرَّقُوا عَنْكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّكَ لِنْتَ لَهُمْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ خَاصَّةً، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ إِلَخْ يُنَافِي ذَلِكَ الْمحمل. والفظّ: السيء الْخُلُقِ، الْجَافِي الطَّبْعِ. وَالْغَلِيظُ الْقَلْبِ: الْقَاسِيهِ، إِذِ الْغِلْظَةُ مَجَازٌ عَنِ الْقَسْوَةِ وَقِلَّةِ التَّسَامُحِ، كَمَا كَانَ اللِّينُ مَجَازًا فِي عَكْسِ ذَلِكَ، وَقَالَتْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ لِعُمَرَ- حِينَ انْتَهَرَهُنَّ- «أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ» يُرِدْنَ أَنْتَ فَظٌّ وَغَلِيظٌ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ. وَالِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ. ومِنْ حَوْلِكَ أَيْ مِنْ جِهَتِكَ وَإِزَائِكَ، يُقَالُ: حوله وحوليه وحواليه وحواله وحياله وَبِحِيَالِهِ. وَالضَّمِيرُ لِلَّذِينَ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ، أَيِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الدِّينِ لِأَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ الشِّدَّةَ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ: شُبِّهَتْ هَيْئَةُ النُّفُورِ مِنْهُ وَكَرَاهِيَةُ الدُّخُولِ فِي دِينِهِ بِالِانْفِضَاضِ مِنْ حَوْلِهِ أَيِ الْفِرَارِ عَنْهُ مُتَفَرِّقِينَ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ حَوْلَهُ مُتَّبِعُونَ لَهُ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْفُ عَنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا مُنَاسِبٌ لِلِّينِ، فَأَمَّا الْعَفْوُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَأَمْرُهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَطْفُ وَشاوِرْهُمْ فَلِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ كَانَ عَنْ تَشَاوُرٍ مَعَهُمْ وَإِشَارَتِهِمْ، وَيَشْمَلُ هَذَا الضَّمِيرُ جَمِيعَ الَّذِينَ لَان لَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ سَوَاءٌ مَنْ صَدَرَ مِنْهُمْ أَمْرٌ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَالْمُشَاوَرَةُ مَصْدَرُ شَاوَرَ، وَالِاسْمُ الشُّورَى وَالْمَشُورَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الشِّينِ- أَصْلُهَا مَفْعُلَةٌ- بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَوَقَعَ فِيهَا نَقْلُ حَرَكَةِ الْوَاوِ إِلَى السَّاكِنِ-. قِيلَ: الْمُشَاوَرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الدَّابَّةَ إِذَا اخْتَبَرَ جَرْيَهَا عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَفِعْلُ شَارَ الدَّابَّةَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِشْوَارِ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَرْكُضُ فِيهِ الدَّوَابُّ. وَأَصْلُهُ

مُعَرَّبُ (نَشْخُوَارْ) بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ مَا تُبْقِيهِ الدَّابَّةُ مِنْ عَلَفِهَا. وَقِيلَ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الْعَسَل أَي جناه مِنَ الْوَقْبَةِ لِأَنَّ بِهَا يُسْتَخْرَجُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ الْمُشكل من شؤون الْمَرْءِ فِي نَفسه أَو شؤون الْقَبِيلَة أَو شؤون الْأُمَّةِ. وَ (الْ) فِي الْأَمْرِ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمُهِمُّ الَّذِي يُؤْتَمَرُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَمْرٌ أَمِرٌ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِهِ- فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ-: «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ» . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَمْرِ أَمْرُ الْحَرْبِ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشَاوَرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةُ بِرَأْيِ الْمُسْتَشَارِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فضمير الْجَمِيع فِي قَوْلِهِ: وَشاوِرْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً: أَيْ شَاوِرِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ لِنْتَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ خَطَلُ رَأْيِهِمْ فِيمَا بَدَا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ أَنْ تَسْتَعِينَ بِرَأْيِهِمْ فِي مَوَاقِعَ أُخْرَى، فَإِنَّمَا كَانَ مَا حَصَلَ فلتة مِنْهُم، وَعشرَة قَدْ أَقَلْتُهُمْ مِنْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ اسْتِشَارَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَالْمُرَادُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِسْلَامَ أَوْ لَا يَزِيدُوا نِفَاقًا، وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشُّورَى مَأْمُورٌ بهَا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِ (الْأَمْرِ) وَهُوَ مُهِمَّاتُ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحُهَا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَمْرِ التّشريع لأنّ أَمر التَّشْرِيعِ إِنْ كَانَ فِيهِ وَحْيٌ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَحْيٌ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَاد للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشْرِيعِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الشُّورَى لِأَنَّ شَأْنَ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا لِلْآرَاءِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَسْتَشِيرُ غَيْرَهُ إِلَّا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاجْتِهَادِهِ. كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هُنَا هِيَ الْمُشَاورَة فِي شؤون الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هُنَا وَمَدَحَهَا فِي ذِكْرِ الْأَنْصَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38]

وَاشْتَرَطَهَا فِي أَمْرِ الْعَائِلَةِ فَقَالَ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما [الْبَقَرَة: 233] . فَشَرَعَ بِهَاتِهِ الْآيَاتِ الْمُشَاوَرَةَ فِي مَرَاتِبِ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا: وَهِيَ مَصَالِحُ الْعَائِلَةِ وَمَصَالِحِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْبَلَدِ، وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ: وَشاوِرْهُمْ هَلْ هُوَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، وَهَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السّلام-، أَوْ عَامٌّ لَهُ وَلِوُلَاةِ أُمُورِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْوُجُوبِ وَالْعُمُومِ، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ الْمُشَاوَرَةُ، فَيُشَاوِرُونَ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يُشْكِلُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَيُشَاوِرُونَ وُجُوهَ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَيُشَاوِرُونَ وُجُوهَ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِهِمْ وَيُشَاوِرُونَ وُجُوهَ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى وُجُوبِهَا بِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلصَّوَابِ فَقَالَ: وَالشُّورَى مِسْبَارُ الْعَقْلِ وَسَبَبُ الصَّوَابِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِتَحَرِّي الصَّوَابِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ. وَاعْتِرَاض عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ قَوْلَهُ: فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ وَلَمْ يَعْتَرِضْ كَوْنَهَا وَاجِبَةً، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ ذَكَرَ ذَلِكَ جَازِمًا بِهِ وَابْنُ عَرَفَةَ اعْتَرَضَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ بِعَدَمِ عَزْلِ الْأَمِيرِ إِذَا ظَهَرَ فِسْقُهُ، يَعْنِي وَلَا يَزِيدُ تَرْكُ الشُّورَى عَلَى كَوْنِهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَهُوَ فِسْقٌ. وَقُلْتُ: مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَإِنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ فَارِقٌ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّ الْفِسْقَ مَضَرَّتُهُ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَتَرْكُ التَّشَاوُرِ تَعْرِيضٌ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِلْخَطَرِ وَالْفَوَاتِ، وَمَحْمَلُ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْوُجُوبِ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ فِي التَّشْرِيعِ إِلَّا لِدَلِيلٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أنّ هَذَا الْأَمر لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمَّةُ، وَهُوَ عَامٌّ لِلرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، تَطْيِيبًا لِنُفُوسِ أَصْحَابِهِ وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ. وَرَدَّ هَذَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْجَصَّاصِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَفْرَغُوا

جُهْدَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الصَّوَابِ عَمَّا سُئِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ، بَلْ فِيهِ إِيحَاشُهُمْ فَالْمُشَاوَرَةُ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ، فِي صَدْرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَالَ الْفَخْرُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ. وَلَمْ يَنْسِبِ الْعُلَمَاءُ لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلًا فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ الْجَصَّاصَ قَالَ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ: هَذَا يَدُلُّ على جلالة وَقع الْمَشُورَةِ لِذِكْرِهَا مَعَ الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِهَا. وَمَجْمُوعُ كَلَامَيِ الْجَصَّاصِ يَدُلُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبُهَا. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْوُجُوب بالنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ الْحسن وسُفْيَان، قَالَا: وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ وَتَشِيعَ فِي أُمَّتِهِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا وَحْيَ فِيهِ. وَقَدِ اسْتَشَارَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي الْخُرُوجِ لِبَدْرٍ، وَفِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَفِي شَأْنِ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَاسْتَشَارَ عُمُومَ الْجَيْشِ فِي رَدِّ سَبْيِ هَوَازِنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِنْ كَانَتْ بِوَحْيٍ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتِ اجْتِهَادِيَّةً، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَاد للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالِاجْتِهَادُ إِنَّمَا يَسْتَنِدُ لِلْأَدِلَّةِ لَا لِلْآرَاءِ وَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يَسْتَشِيرُ فِي اجْتِهَادِهِ، فَكَيْفَ تَجِبُ الِاسْتِشَارَةُ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الْخَطَإِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَإٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمْ يَزَلْ مِنْ سُنَّةِ خُلَفَاءِ الْعَدْلِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ «صَحِيحِهِ» : «وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بعد النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ: كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَمْرُ يَنْزِلُ بَعْدَكَ لَمْ ينزل فِيهِ قُرْآن وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْكَ فِيهِ شَيْءٌ- قَالَ: اجْمَعُوا لَهُ الْعَابِدَ مِنْ أُمَّتِي وَاجْعَلُوهُ بَيْنَكُمْ شُورَى وَلَا تَقْضُوهُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ» وَاسْتَشَارَ أَبُو

بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِي أَمْرِ الْخَلِيفَةِ بَعْدَ وَفَاة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْأَمْرَ شُورَى بَعْدَهُ فِي سِتَّةٍ عَيَّنَهُمْ، وَجَعَلَ مُرَاقَبَةَ الشُّورَى لِخَمْسِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ عُمَرُ يَكْتُبُ لِعُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّشَاوُرِ، وَيَتَمَثَّلُ لَهُم فِي كِتَابه بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ) : خَلِيلَيَّ لَيْسَ الرَّأْيُ فِي صَدْرِ وَاحِدٍ ... أَشِيرَا عَلَيَّ بِالَّذِي تَرَيَانِ هَذَا وَالشُّورَى ممّا جبل لله عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ أَيْ فَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّلَاحِ وَتَطَلُّبِ النَّجَاحِ فِي الْمَسَاعِي، وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ أَصْلِ الْبَشَرِ بِالتَّشَاوُرِ فِي شَأْنِهِ إِذْ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] ، إِذْ قَدْ غَنِيَ اللَّهُ عَنْ إِعَانَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الرَّأْيِ وَلَكِنَّهُ عَرَضَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مُرَادَهُ لِيَكُونَ التَّشَاوُرُ سُنَّةً فِي الْبَشَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِتَكْوِينِهِ، فَإِنَّ مُقَارَنَةَ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ فِي أَصْلِ التَّكْوِينِ يُوجِبُ إِلْفَهُ وَتَعَارُفَهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الشُّورَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا ذَاتَ لَهَا فِي الْوُجُودِ جَعَلَ اللَّهُ إِلْفَهَا لِلْبَشَرِ بِطَرِيقَةِ الْمُقَارَنَةِ فِي وَقْتِ التَّكْوِينِ. وَلَمْ تَزَلِ الشُّورَى فِي أَطْوَارِ التَّارِيخِ رَائِجَةً فِي الْبَشَرِ فَقَدِ اسْتَشَارَ فِرْعَوْنُ فِي شَأْنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَماذا تَأْمُرُونَ [الْأَعْرَاف: 110] . وَاسْتَشَارَتْ بِلْقِيسُ فِي شَأْنِ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ وَإِنَّمَا يُلْهِي النَّاسَ عَنْهَا حُبُّ الِاسْتِبْدَادِ، وَكَرَاهِيَةُ سَمَاعِ مَا يُخَالِفُ الْهَوَى، وَذَلِكَ مِنَ انْحِرَافِ الطَّبَائِعِ وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَلِذَلِكَ يُهْرَعُ الْمُسْتَبِدُّ إِلَى الشُّورَى عِنْدَ الْمَضَائِقِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: الشُّورَى مَحْمُودَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَضِيَ الِاسْتِبْدَادَ إِلَّا رَجُلٌ مَفْتُونٌ مُخَادِعٌ لِمَنْ يَطْلُبُ عِنْدَهُ فَائِدَةً، أَوْ رَجُلٌ فَاتِكٌ يُحَاوِلُ حِينَ الْغَفْلَةِ، وَكِلَا الرَّجُلَيْنِ فَاسِقٌ. وَمَثَلُ أَوَّلِهُمَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً ... إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ وَمَثَلُ ثَانِيهِمَا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ:

إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ ... وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبَا وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي أَمْرِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ ... وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الشُّورَى قَوْلُ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ: إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِحَزْمِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ وَلَا تَحْسَبِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً ... مَكَانُ الْخَوَافِي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ وَهِيَ أَبْيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُثْبَتَةٌ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الْعَزْمُ هُوَ تَصْمِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْفِعْلِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (عَزَمْتَ) لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَنْ قَوْلِهِ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ التَّفْرِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ: فَإِذَا عَزَمْتَ بَعْدَ الشُّورَى أَيْ تَبَيَّنَ لَكَ وَجْهُ السَّدَادِ فِيمَا يَجِبُ أَنْ تَسْلُكَهُ فَعَزَمْتَ عَلَى تَنْفِيذِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَفْقِ بَعْضِ آرَاءِ أَهْلِ الشُّورَى أَمْ كَانَ رَأْيًا آخَرَ لَاحَ لِلرَّسُولِ سَدَادُهُ فَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ آرَاءِ أَهْلِ الشُّورَى رَأْيٌ، وَفِي الْمَثَلِ: «مَا بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ رَأْيٌ» . وَقَوْلُهُ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التَّوَكُّلُ حَقِيقَتُهُ الِاعْتِمَادُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ مَعَ رَجَاءِ السَّدَادِ فِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ شَأْنُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَالتَّوَكُّلُ انْفِعَالٌ قَلْبِيٌّ عَقْلِيٌّ يَتَوَجَّهُ بِهِ الْفَاعِلُ إِلَى اللَّهِ رَاجِيًا الْإِعَانَةَ وَمُسْتَعِيذًا مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْعَوَائِقِ، وَرُبَّمَا رَافَقَهُ قَوْلٌ لِسَانِيٌّ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ إِذَا، وَفَرْعٌ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَبَادِرْ وَلَا تَتَأَخَّرْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ لِلتَّأَخُّرِ آفَاتٍ، وَالتَّرَدُّدُ يُضَيِّعُ الْأَوْقَاتِ، وَلَوْ كَانَ التَّوَكُّلُ هُوَ جَوَابُ إِذَا لَمَا كَانَ لِلشُّورَى فَائِدَةٌ لِأَنَّ الشُّورَى كَمَا عَلِمْتَ لِقَصْدِ اسْتِظْهَارِ أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ لِحُصُولِ الْفِعْلِ الْمَرْغُوبِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَقْرَبِهِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا الْعَمَلُ بِمَا يَتَّضِحُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ التَّوَكُّلِ مِنْ أَوَّلِ خُطُورِ الْخَاطِرِ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِالشُّورَى مِنْ فَائِدَةٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ آيَةٍ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى مَعْنَى التَّوَكُّلِ الَّذِي حَرَّفَ الْقَاصِرُونَ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مَعْنَاهُ، فَأَفْسَدُوا هَذَا الدِّينَ مِنْ مَبْنَاهُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 160]

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَامَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ مُلَاحَظَةُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَاعْتِقَادُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَهَذَا، أَدَبٌ عَظِيمٌ مَعَ الْخَالِقِ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَلِذَلِكَ أحبّه الله. [160] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [آل عمرَان: 157] أَوْ عَنْ قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ [آل عمرَان: 156] الْآيَةَ. وَلَوْ حُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ لَكَانَ إِخْبَارًا بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَا يَجْهَلُ مُؤْمِنٌ أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَدَّرَ نَصْرَ أَحَدٍ فَلَا رَادَّ لِنَصْرِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ خَذْلَهُ فَلَا مَلْجَأَ لَهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ فِي جَانِبِ اللَّهِ لَا يَجْهَلُهُ مُعْتَرِفٌ بِإِلَهِيَّتِهِ، مُؤْمِنٌ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَهَلْ بَعْدَ اعْتِقَادِ نَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ فِي مُلْكِهِ مَجَالٌ لِاعْتِقَادِ وُجُودِ مُمَانِعٍ لَهُ فِي إِرَادَتِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَر مرَادا بِهِ غَيْرَ ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ، وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرًا لِتَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، حَتَّى لَا يَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ لِأَنَّ رَدَّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَدَارُكِهَا مَسْلَاةٌ لِلنَّفْسِ، وَعَزَاءٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَوْمًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَخَذْلَهُ إِيَّاهُمْ فِي بَعْضِهَا، لَا يَكُونُ إِلَّا لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ، فَعَلَيْهِمُ السَّعْيُ فِي أَسْبَابِ الرِّضَا الْمُوجِبُ لِلنَّصْرِ، وَتَجَنُّبُ أَسْبَابِ السُّخْطِ الْمُوجِبِ لِلْخَذْلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: 7] وَقَوْلُهُ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمرَان: 153] وَقَوْلُهُ الْآتِي: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمرَان: 165] وَعَلَيْهِمُ التَّطَلُّبُ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي قُدِّرَ لَهُمُ النَّصْرُ لِأَجْلِهَا فِي مِثْلِ يَوْمِ بَدْرٍ، وَأَضْدَادِهَا الَّتِي كَانَ بِهَا الْخَذْلُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، وَفِي التَّفْكِيرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ وَاسِعٌ لِمُكَاشَفَاتِ الْحَقَائِقِ وَالْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ

عَلَى قَدْرِ سَعَةِ التَّفْكِيرِ الْجَائِلِ فِي ذَلِكَ، فَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقٌ لِلْأَفْكَارِ مِنْ عِقَالِهَا، وَزَجٌّ بِهَا فِي مَسَارِحِ الْعِبَرِ، وَمَرَاكِضِ الْعِظَاتِ، وَالسَّابِقُونَ الْجِيَادُ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْحَضُّ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَهُ: لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَاطَبَهُمْ بِفُنُونِ الْمَلَامِ وَالْمَعْذِرَةِ وَالتَّسْلِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: 137] إِلَى هُنَا، جَمَعَ لَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ جَامِعٍ نَافِعٍ فِي تَلَقِّي الْمَاضِي، وَصَالِحٍ لِلْعَمَلِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ مَبْنِيًّا عَلَى تَنْزِيلِ الْعَالِمِ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، حَيْثُ أَظْهَرُوا مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَمِنَ التَّأَوُّلِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الثَّبَاتِ، وَمِنَ التَّلَهُّفِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، مَا جَعَلَ حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ النَّصْرَ وَالْخَذْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ غَلَبِ الْعَدُوِّ وَمُرِيدِ الْإِضْرَارِ. وَالْخِذْلَانُ ضِدُّهُ: وَهُوَ إِمْسَاكُ الْإِعَانَةِ مَعَ الْقُدْرَة، مَأْخُوذ مِنْ خَذَلَتِ الْوَحْشِيَّةُ إِذَا تَخَلَّفَتْ عَنِ الْقَطِيعِ لِأَجْلِ عَجْزِ وَلَدِهَا عَنِ الْمَشْيِ. وَمَعْنَى إِنْ يَنْصُرْكُمُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ إِنْ يُرِدْ هَذَا لَكُمْ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَقَامَ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فَلا غالِبَ لَكُمْ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَرْتِيبِ عَدَمِ الْغَلَبِ عَلَى حُصُولِ النَّصْرِ بِالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ نَفْيِ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ: فَلا غالِبَ لَكُمْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْلُومِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ قُمْتَ فَأَنْتَ لَسْتَ بِقَاعِدٍ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَيُقَدَّرُ كَذَلِكَ حَمْلًا عَلَى نَظِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِ تَأْوِيلٍ فِيهِ. وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ. وَجَعْلُ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: فَلا غالِبَ لَكُمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا تُغْلَبُوا، لِلتَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْجَوَابِ، لِأَنَّ عُمُومَ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ أَغْلَبِيٌّ وَقَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا أَيْ لَا تُغْلَبُوا مِنْ بَعْضِ الْمُغَالِبِينَ، فَأُرِيدَ بِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ دَفْعُ التَّوَهُّمِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ إِنْكَارِيٌّ أَيْ فَلَا يَنْصُرُكُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 161]

وَكَلِمَةُ مِنْ بَعْدِهِ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الْمُغَايرَة والمجاوزة: أَيْ فَمَنِ الَّذِي يَنْصُرُكُمْ دُونَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَيْ دُونَ اللَّهِ، فَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لَا مَحَالَةَ، وَاسْتِعْمَالُ (بَعْدُ) فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] وَأَصْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ كَالتَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ: بِأَنْ مُثِّلَتِ الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ تَقْدِيرِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ مَنْ أَسْلَمَ الَّذِي اسْتَنْصَرَ بِهِ وَخَذَلَهُ فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ مَعَكَ إِذَا وَلَّى عَنْك فقد خذللك فَحَذَفَ مَا يَدُلُّ على الْحَالة الْمُشبه بِهَا وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِلَازِمَةٍ وَهُوَ لَفْظُ مِنْ بَعْدِهِ. وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى ارْتِكَابِ أَسْبَابِ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ، وَأَسْبَابٍ نَفْسَانِيَّةٍ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَاتِّبَاعُ رِضَى الله تَعَالَى. [161] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عطف الْغَرَض رعلى الْغَرَضِ وَمَوْقِعُهُ عَقِبَ جُمْلَةِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ [آل عمرَان: 160] . الْآيَةَ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللَّهِ والخذل بِيَدِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيضَ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ لِيَكُونَ لَطِيفًا بِمَنْ يُرْضُونَهُ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ النَّصَائِحُ وَالْمَوَاعِظُ مُوَجَّهَةً إِلَيْهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ، نُبِّهُوا إِلَى شَيْءٍ يَسْتَخِفُّ بِهِ الْجَيْشُ فِي الْغَزَوَاتِ، وَهُوَ الْغُلُولُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَيَحْذَرُوهُ وَيَكُونُوا مِمَّا هُوَ أَدْعَى لِغَضَبِ اللَّهِ أَشَدَّ حَذَرًا فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْغُلُولِ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ تَعَجُّلُهُمْ إِلَى أَخْذِ الْغَنَائِمِ. وَالْغُلُولُ: تَعَجُّلٌ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ غَالِّ الْغَنِيمَةِ. وَلَا تَجِدُ غَيْرَ هَذَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِتَعْقِيبِ آيَةِ النَّصْرِ بِآيَةِ الْغُلُولِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ الَّتِي أَتَتِ السُّورَةُ عَلَى قِصَّتِهَا لَمْ يَقَعْ فِيهَا غُلُولٌ وَلَا كَائِنٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا غَنِيمَةٌ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَضِيَّةِ غُلُولٍ وَقَعَتْ يَوْمَ بَدْرٍ

فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ أَوْ فِي سَيْفٍ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَزْوَةِ أُحُدٍ فَضْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي حِرْصِ الْأَعْرَابِ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ يَوْمَ حُنَيْنٍ الْوَاقِعِ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ بِخَمْسِ سِنِينَ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ: يُغَلَّ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ-. وَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغُلُولِ وَهُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِدُونِ إِذْنِ أَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْغُلُولُ مَصْدَرٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، وَيُطْلَقُ الْغُلُولُ عَلَى الْخِيَانَةِ فِي الْمَالِ مُطْلَقًا. وَصِيغَةُ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ صِيغَةُ جَحُودٍ تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمرَان: 79] فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ كَمَا هُنَا أَفَادَتِ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّهْيِ. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نَهْيُ جَيْشِ النَّبِيءِ عَن أَن يغلو لِأَنَّ الْغُلُولَ فِي غَنَائِم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلُولٌ لِلنَّبِيءِ، إِذْ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ فَمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءَ لَا يَغُلُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْغُلُولُ فِي جَيْشِهِ فَإِسْنَادُ الْغُلُولِ إِلَى النّبيء مجَاز عَقْلِي لِمُلَابَسَةِ جَيْشِ النَّبِيءِ نَبِيئَهُمْ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا كَانَ لِجَيْشِ نَبِيءٍ أَنْ يَغُلَّ. وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَأْوِيلَاتٌ لِلْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا سَمَاجَةٌ. وَمَعْنَى ومَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مُشَهَّرًا مَفْضُوحًا بِالسَّرِقَةِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا فِي الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ لِلْجَاحِظِ: أَنَّ مَزْيَدًا- رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ- سَرَقَ نَافِجَةَ مِسْكٍ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَسْرِقُهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ فَقَالَ: إِذَنْ أَحْمِلُهَا طَيِّبَةَ الرِّيحِ خَفِيفَةَ الْمحمل. وَهَذَا تلميح وَتَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بِغَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالدَّرْكُ عَلَى مَنْ حَكَاهُ قَالُوا: لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ لِيُسَلِّمَ

مُصْحَفَهُ لِيَحْرِقَهُ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُصْحَفِ الَّذِي كُتِبَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَإِنِّي غَالٌّ مُصْحَفِي فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَغُلَّ مُصْحَفَهُ فَلْيَفْعَلْ. وَلَا أَثِقُ بِصِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْغُلُولِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ بَعْدَ التَّفْضِيحِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ مَسُوقٌ مَسَاقُ النَّهْيِ، وَجِيءَ بِ (ثُمَّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى طُولِ مُهْلَةِ التَّفْضِيحِ، وَمِنْ جُمْلَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تُوَفَّى مَا كَسَبَتْ نَفْسُ مَنْ يَغْلُلْ، فَقَدْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهِيَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَهُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْمَغْنَمِ بِغَيْرِ إِذْنِ أَمِيرِ الْجَيْشِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مِثْلُ السَّرِقَةِ، وَأَصَحُّ مَا فِي الْغُلُولِ حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ خَيْبَرَ قَاصِدًا وَادِيَ الْقُرَى وَكَانَ لَهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ يُدْعَى مِدْعَمًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ تَصُبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» . وَمَنْ غَلَّ فِي الْمَغْنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا غَلَّهُ وَيُؤَدَّبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَجَمَاعَةٌ: يُحْرَقُ مَتَاعُ الْغَالِّ كُلُّهُ عَدَا سِلَاحَهُ وَسَرْجَهُ، وَيُرَدُّ مَا غَلَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَأَلْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- عَنْهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَأْوِيلِهِ فَالْأَخْذُ بِهِ إِغْرَاقٌ فِي التَّعَلُّقِ بِالظَّوَاهِرِ وَلَيْسَ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي شَيْء.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 162 إلى 163]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 162 إِلَى 163] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَهُوَ كَالْبَيَانِ لِتَوْفِيَةِ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِلْمُمَاثَلَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ فَهُوَ بِمَعْنَى لَا يَسْتَوُونَ. وَالِاتِّبَاعُ هُنَا بِمَعْنَى التَّطَلُّبِ: شَبَّهَ حَالَ الْمُتَوَخِّي بِأَفْعَالِهِ رِضَى اللَّهِ بِحَالِ الْمُتَطَلِّبِ لِطِلْبَةٍ فَهُوَ يَتْبَعُهَا حَيْثُ حَلَّ لِيَقْتَنِصَهَا، وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ حُسْنُ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مُحْتَاجٌ إِلَى فَرْطِ اهْتِمَامٍ، وَفِي فِعْلِ (بَاءَ) مِنْ قَوْلِهِ: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ صَاحِبِ الْمَعَاصِي بِالَّذِي خَرَجَ يَطْلُبُ مَا يَنْفَعُهُ فَرَجَعَ بِمَا يَضُرُّهُ، أَوْ رَجَعَ بِالْخَيْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] . وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ حَالُ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، أَوْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَادَ الضّمير ل فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَلِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: دَرَجاتٌ لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ مَنَازِلُ رِفْعَةٍ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ تشريف لمنازلهم. [164] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) اسْتِئْنَافٌ لِتَذْكِيرِ رِجَالِ يَوْمِ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ عَلَى مُصِيبَةِ الْهَزِيمَةِ حَظًّا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ

شَاعَ تَصْبِيرُ الْمَحْزُونِ وَتَعْزِيَتُهُ بِتَذْكِيرِهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَلَهُ مَزِيدُ ارْتِبَاطٍ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: 159] ، وَكَذَلِكَ جَاءَتْ آيُ هَذَا الْغَرَضِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ نَاشِئًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، مُتَفَنِّنَةً فِي مَوَاقِعِهَا بِحَسَبِ مَا سَمَحَتْ بِهِ فُرَصُ الْفَرَاغِ مِنْ غَرَضٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ فَمَا تَجِدُ طَرَّادَ الْكَلَامِ يَغْدُو طَلْقًا فِي حَلْبَةِ الِاسْتِطْرَادِ إِلَّا وَتَجِدُ لَهُ رَوَاحًا إِلَى مُنْبَعَثِهِ. وَالْمَنُّ هُنَا: إِسْدَاءُ الْمِنَّةِ أَيِ النِّعْمَةِ، وَلَيْسَ هُوَ تَعْدَادُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [264] ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْمَنِّ مَنًّا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ. وَالْكُلُّ مَحْمُودٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَنَّ إِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْدَاءِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَطَوْلُ اللَّهِ لَيْسَ بمجحود. وَالْمرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَي من أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ. وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِ (مَنَّ) لِأَنَّ الْإِنْعَامَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ حَصَلَ أَوْقَاتَ الْبَعْثِ. وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْمُمَاثَلَةُ لَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا سَبَبًا لِقُوَّةِ التَّوَاصُلِ، وَهِيَ هُنَا النَّسَبُ، وَاللُّغَةُ، وَالْوَطَنُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ صَمِيمِهِمْ لَيْسَ انْتِسَابُهُ إِلَيْهِمْ بِوَلَاءٍ أَو لصق، وكأنّه هَذَا وَجْهُ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ أَيْ كَوْنُهُ عَرَبِيًّا يُوجِبُ أُنْسَهُمْ بِهِ وَالرُّكُونَ إِلَيْهِ وَعَدَمَ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ يَجْعَلُهُمْ سَرِيعِينَ إِلَى فَهْمِ مَا يَجِيءُ بِهِ، وَكَوْنُهُ جَارًا لَهُمْ وَرَبِيًّا فِيهِمْ يُعَجِّلُ لَهُمُ التَّصْدِيقَ بِرِسَالَتِهِ، إِذْ يَكُونُونَ قَدْ خَبَرُوا أَمْرَهُ، وَعَلِمُوا فَضْلَهُ، وَشَاهَدُوا اسْتِقَامَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ. وَعَنِ النِّقَاشِ: قِيلَ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا وِلَادَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَغْلِبَ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَ: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» .

وَهَذِهِ الْمِنَّةُ خَاصَّةٌ بِالْعَرَبِ وَمَزِيَّةٌ لَهُمْ، زِيَادَةً عَلَى الْمِنَّةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَالْعَرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ظُهُورَ الدِّينِ بَيْنَهُمْ لِيَتَلَقَّوْهُ التَّلَقِّيَ الْكَامِلَ الْمُنَاسِبَ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ فَهْمِهِمْ لِدَقَائِقِ اللُّغَةِ، ثُمَّ يَكُونُوا هُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْبَشَرِ، فَيَكُونُوا أَعْوَانًا عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَلِمَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْعَرَبِ وَأَتْقَنَ لِسَانَهُمْ وَالْتَبَسَ بِعَوَائِدِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمُ اقْتِرَابٌ مِنْ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ وَهُوَ مُعْظَمُهَا، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا إِلَّا النَّسَبُ وَالْمَوْطِنُ وَمَا هُمَا إِلَّا مُكَمِّلَانِ لِحُسْنِ التَّلَقِّي، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً بِحَيْثُ إِنَّ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ كَانَ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْفَهْمِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الدِّينُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِنَ الْعَرَب» . وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ بَلَاغَةِ اللَّفْظِ وَكَمَالِ الْمَعْنَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَكَانُوا صَالِحِينَ لِفَهْمِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِتُرْجُمَانٍ. وَالتَّزْكِيَةُ: التَّطْهِيرُ، أَيْ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ بِهَدْيِ الْإِسْلَامِ. وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ هُوَ تَبْيِينُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِ أَلْفَاظِهِ، لِتَكُونَ مَعَانِيهِ حَاضِرَةً عِنْدَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَقْنِينِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كلّه مَانع للأنفس مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْحِكْمَةِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 269] . وَعَطْفُ الْحِكْمَةِ عَلَى الْكِتَابِ عَطْفُ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ نَحْوُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: 9] وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» وَفِي الْكِتَابِ مَا هُوَ عِلْمٌ وَلَيْسَ حِكْمَةً مِثْلُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 165]

وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ حَالٌ، وَإِن مُخَفَّفَةٌ مُهْمَلَةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُ عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ إِذْ لَا وَجْهَ لِزَوَالِ عَمَلِهَا مَعَ بَقَاءِ مَعْنَاهَا، وَلَا وَجْهَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَفْتُوحَةِ إِذَا خُفِّفَتْ فَقَدْ قَدَّرُوا لَهَا اسْمًا هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، بَلْ نَجِدُ الْمَكْسُورَةَ أَوْلَى بِبَقَاءِ الْعَمَلِ عِنْدَ التَّخْفِيفِ لِأَنَّهَا أُمُّ الْبَابِ فَلَا يَزُولُ عَمَلُهَا بِسُهُولَةٍ، وَقَالَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ: يَبْطُلُ عَمَلُهَا وَتَكُونُ بَعْدَهَا جُمْلَةً، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِإِهْمَالِهَا أَنَّهَا لَا تَنْصِبُ مُفْرَدَيْنِ بَلْ تَعْمَلُ فِي ضَمِيرِ شَأْنٍ وَجُمْلَةٍ إِمَّا اسْمِيَّةٍ، أَوْ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مِنَ النَّوَاسِخِ غَالِبًا. وَوُصِفَ الضَّلَالُ بِالْمُبِينِ لِأَنَّهُ لِشِدَّتِهِ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى أَحَدٍ بِشَائِبَةِ هُدًى، أَوْ شُبْهَةٍ، فَكَانَ حَالُهُ مُبَيِّنًا كَوْنَهُ ضَلَالًا كَقَوْلِهِ: قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النَّمْل: 13] . وَالْمُرَادُ بِهِ ضَلَالُ الشِّرْكِ وَالْجَهَالَةِ وَالتَّقَاتُلِ وَأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ قَوْلُهُ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ الْعُصُورِ وَيُرَادُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ. وَيُرَادُ بِإِسْنَادِ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ إِلَيْهِ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِسْنَادِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْهُ مُبَاشَرَةً أَو بالواسطة. [165] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 165] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) عُطِفَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ التَّعْجِيبِيُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: أَنَّى هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ وَيَتَعَجَّبُ السَّامِعُ مِنْ صُدُورِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا عَلِمُوا مَا أَتَوْا مِنْ أَسْبَابِ الْمُصِيبَةِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ، وَقَدْ جَاءَ مَوْقِعُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَ مَا تَكَرَّرَ: مِنْ تَسْجِيلِ تَبِعَةِ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ بِمَا ارْتَكَبُوا مِنْ عِصْيَانِ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَمِنَ الْعَجَلَةِ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالرِّضَا بِمَا وَقَعَ، وَذَكَّرَهُمُ النَّصْرَ الْوَاقِعَ يَوْمَ بَدْرٍ، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ هُنَا إِنْكَارَ تَعَجُّبِهِمْ مِنْ إِصَابَةِ الْهَزِيمَةِ إِيَّاهُمْ

(وَلَمَّا) اسْمُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ شَرْطِهِ، فَالْمَعْنَى: قُلْتُمْ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ: أَنَّى هَذَا،. وَجُمْلَةُ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها صفة «لمصيبة» ، وَمَعْنَى أَصَبْتُمْ غَلَبْتُمُ الْعَدُوَّ وَنِلْتُمْ مِنْهُ مِثْلَيْ مَا أَصَابَكُمْ بِهِ، يُقَالُ: أَصَابَ إِذا غلب، وَأُصِيب إِذَا غَلَبَ، قَالَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَقَدْ أَصَبْتُ وَلَمْ أُصَبْ ... جَذَعَ الْبَصِيرَةِ قَارِحَ الْإِقْدَامِ وَالْمُرَادُ بِمِثْلَيْهَا الْمُسَاوِيَانِ فِي الْجِنْسِ أَوِ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ أَيْ: إِنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ مِثْلَيْ مَا أَصَابَكُمْ، وَالْمُمَاثَلَةُ هُنَا مُمَاثَلَةٌ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ، لَا فِي الْجِنْسِ، فَإِنَّ رَزَايَا الْحَرْبِ أَجْنَاسٌ: قَتْلٌ، وَأَسْرٌ، وَغَنِيمَةٌ، وَأَسْلَابٌ، فَالْمُسْلِمُونَ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أحد الْقَتْل: إِذا قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، فَهَذَا أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ مِثْلٌ آخَرُ فِي الْمِقْدَارِ إِذِ الْأَسِيرُ كَالْقَتِيلِ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ أَصَابُوا قَتْلَى إِلَّا أَنَّ عَدَدَهُمْ أَقَلُّ فَهُوَ مِثْلٌ فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْمِقْدَارِ وَالْقِيمَةِ. وَ (أَنَّى) اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ قَصَدُوا بِهِ التَّعَجُّبَ وَالْإِنْكَارَ، وَجُمْلَةُ قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا جَوَابُ (لمّا) ، والاستفهام بأنّى هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ. ثُمَّ ذُيِّلَ الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ إِنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ عَلَى نَصْرِكُمْ وَعَلَى خِذْلَانِكُمْ، فَلَمَّا عَصَيْتُمْ وَجَرَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الْغَضَبَ قَدَّرَ اللَّهُ لكم الخذلان.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 إلى 168]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 166 إِلَى 168] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمرَان: 165] وَهُوَ كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى مَعْنَى التَّسْلِيمِ أَيْ: هَبُوا أَنَّ هَذِهِ مُصِيبَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْهَا عِوَضٌ، فَهِيَ بِقَدَرِ اللَّهِ، فَالْوَاجِبُ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ بَعْضِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ. وَقَوْلُهُ: وَما أَصابَكُمْ أَرَادَ بِهِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ وَهِيَ مُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ مَا أَصَابَكُمْ لِيُعَيِّنَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَمَّا مَا أَصَابَكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما أَصابَكُمْ مَعْنَاهُ بَيَانُ سَبَبِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَلِذَلِكَ قَرَنَ الْخَبَرَ بِالْفَاءِ. ويَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَهِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِعْلَانُ ذِكْرِ الْمُصِيبَةِ وَأَنَّهَا بِإِذْنِ اللَّهِ إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ إِظْهَارِ الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ مَا أَصابَكُمْ دُونَ أَنْ يُعَادَ لَفْظُ الْمُصِيبَةِ فَتَفَنُّنٌ، أَوْ قَصْدُ الْإِطْنَابِ. وَالْإِذْنُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ إِذْ لَا مَعْنَى لِتَوَجُّهِ الْإِذْنِ إِلَى الْمُصِيبَةِ فَهُوَ مَجَازٌ فِي تَخْلِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُصِيبَةِ وَبَيْنَ الْمُصَابِينَ، وَعَدَمِ تَدَارُكِ ذَلِكَ بِاللُّطْفِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْإِذْنَ تَخْلِيَةٌ بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَمَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبِّبَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نِظَامٍ، فَإِذَا جَاءَتِ الْمُسَبَّبَاتُ مِنْ قِبَلِ أَسْبَابِهَا فَلَا عَجَبَ، وَالْمُسْلِمُونَ أَقَلُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَدًا فَانْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَرَامَةٌ لَهُمْ، وَانْهِزَامُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عَادَةٌ وَلَيْسَ بِإِهَانَةٍ. فَهَذَا الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى فَبِإِذْنِ اللَّهِ عذف الْعِلَّةَ عَلَى السَّبَبِ. وَالْعِلْمُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الظُّهُورِ وَالتَّقَرُّرِ فِي الْخَارِجِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:

وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شجاعها أَرَادَ لتظهر شَجَاعَتِي وَجُبْنِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا. والَّذِينَ نافَقُوا هُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ وَمن انخزل مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قيل لَهُم: تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا. قَالَهُ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لمّا رأى انخزالهم قَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيئَكُمْ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا. وَالْمُرَادُ بِالدَّفْعِ حِرَاسَةُ الْجَيْشِ وَهُوَ الرِّبَاطُ أَيِ: ادْفَعُوا عَنَّا مَنْ يُرِيدُنَا مِنَ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ ذَلِكَ أَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتّبعناكم، أَي لم نَعْلَمُ أَنَّهُ قِتَالٌ، قِيلَ: أَرَادوا أنّ هَذَا لَيْسَ بِقِتَالٍ بَلْ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ قُرَيْشًا لَا يَنْوُونَ الْقِتَالَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَاصِلا قبل انخزالهم، وَعَلَى هَذَيْنِ فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ الْمُسَمَّى بِالتَّصْدِيقِ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا لَوْ نُحْسِنُ الْقِتَالَ لَاتَّبَعْنَاكُمْ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَقَوْلُهُمْ حِينَئِذٍ تَهَكُّمٌ وَتَعَذُّرٌ. وَمَعْنَى هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أَنَّ مَا يُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ دلَالَة على أَنهم يبطنون الْكُفْرِ مِنْ دَلَالَةِ أَقْوَالِهِمْ: إِنَّا مُسْلِمُونَ، وَاعْتِذَارِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. أَيْ إِنَّ عُذْرَهُمْ ظَاهِرُ الْكَذِبِ، وَإِرَادَةِ تَفْشِيلِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقُرْبِ مَجَازٌ فِي ظُهُورِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ. وَيَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ بِقَوْلِهِ: أَقْرَبُ لِأَنَّ أَقْرَبُ تَفْضِيلٌ يَقْتَضِي فَاضِلًا وَمَفْضُولًا، فَلَا يَقَعُ لبس فِي تعلّق مَجْرُورَيْنِ بِهِ لِأَنَّ السَّامِعَ يَرُدُّ كُلَّ مَجْرُورٍ إِلَى بَعْضِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَغْزَى هَذَا الِاقْتِرَابِ، لِأَنَّهُمْ يُبْدُونَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ جُعِلُوا إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ، فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدُونَهُ لَيْسَ مُوَافِقًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ لِلْكُفْرِ أَهْلَ الْكُفْرِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 إلى 172]

وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ نافَقُوا، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، إِذَا كَانَ مَضْمُونُ صِلَتِهِ أَشْهَرَ عِنْدَ السَّامِعِينَ، إِذْ لَعَلَّهُمْ عُرِفُوا مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا فَذَكَرَ هُنَا وَصْفًا لَهُمْ لِيَتَمَيَّزُوا كَمَالَ تَمْيِيزٍ. وَاللَّامُ فِي (لِإِخْوَانِهِمْ) لِلتَّعْلِيلِ وَلَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، قَالُوا: كَمَا هِيَ فِي قَوْله: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمرَان: 156] . وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَانِ هَنَا عَيْنُ الْمُرَادِ هُنَاكَ، وَهُمُ الْخَزْرَجُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُمْ مِنْ جِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ وَقَعَدُوا حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَمَعْنَى لَوْ أَطَاعُونَا أَيِ امْتَثَلُوا إِشَارَتَنَا فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَفَعَلُوا كَمَا فَعَلْنَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا قُتِلُوا- بِتَخْفِيفِ التَّاءِ- من الْقَتْل. وقرأه هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- مِنَ التَّقْتِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، وَهُوَ يُفِيدُ مَعْنَى تَفْظِيعِهِمْ مَا أَصَابَ إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ طَعْنًا فِي طَاعَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَي ادرأوه عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ سَبَبَ مَوْتِ إخْوَانكُمْ هُوَ عصين أَمركُم. [169- 172] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 169 إِلَى 172] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ

(172) قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ عَطْفٌ على قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمرَان: 168] ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا فِيهِ تَبْكِيتُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ إِخْوَانِهِمْ قَدْ ذَهَبُوا سُدًى، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَوْتَ لَا مَفَرَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ خِطَابِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِيَّتِهِمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ مَنْ يَسْتَأْهِلُ الْمَعْرِفَةَ، فَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً وَهُوَ إِبْطَالٌ لِمَا تَلَهَّفَ مِنْهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى إِضَاعَةِ قَتْلَاهُمْ. وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهُ، وَلِيُعَلِّمَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي عَدَمِ إِرَادَةِ مُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ. وَالْحُسْبَانُ: الظَّنُّ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ وَبِالْأَحْرَى يَكُونُ نهيا عَن الْجَزْم بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّذِينَ قُتِلُوا- بتَخْفِيف التَّاء- وقرأه ابْنُ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- أَيْ قُتِّلُوا قَتْلًا كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فَلِذَلِكَ كَانَ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ غَيْرُ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهَا أَضْرَبَتْ عَنْ حُكْمِ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُضْرِبْ عَنْ مُفْرَدٍ مِنَ الْجُمْلَةِ، فَالْوَجْهُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنْ تَكُونَ اسْمِيَّةً مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ وَالْخَبَرِ الظَّاهِرِ، فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهُ السَّبْعَة- بِالرَّفْع-، وقرىء- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ فِعْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَحَسِبْتُمْ أَحْيَاءً، وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ لِلْمُجَاهِدِينَ مَوْتًا ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: قُتِلُوا، وَنَفَى عَنْهُمُ الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَمْوَاتَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ أَحْيَاءُ الْأَرْوَاحِ، حَيَاةً زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ، غَيْرَ مُضْمَحِلَّةٍ، بَلْ هِيَ حَيَاةٌ بِمَعْنَى تَحَقُّقِ آثَارِ الْحَيَاةِ لِأَرْوَاحِهِمْ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّاتِ وَالْمُدْرَكَاتِ السَّارَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمَسَرَّتِهِمْ بِإِخْوَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ حياتهم حَيَاة خَاصَّةٌ بِهِمْ، لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَعَارَفَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَعْنِي حَيَاةَ

الْأَجْسَامِ وَجَرَيَانِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، وَنَبَضَاتِ الْقَلْبِ، وَلَا هِيَ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ الثَّابِتَةُ لِأَرْوَاحِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا لِحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ وَهُوَ رِزْقُ النَّعِيمِ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنْ عَلَّقْنَا عِنْدَ رَبِّهِمْ بِقَوْلِهِ: أَحْياءٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ عَلَّقْنَاهُ بِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَمَّا كَانَ الرِّزْقُ النَّاشِئُ عَنْهَا كَائِنًا عِنْدَ اللَّهِ، كَانَتْ حَيَاةً غَيْرَ مَادِّيَّةٍ وَلَا دُنْيَوِيَّةٍ، وَحِينَئِذٍ فَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِكَيْنُونَةِ هَذَا الرِّزْقِ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُرْزَقُونَ. وَالِاسْتِبْشَارُ: حُصُولُ الْبِشَارَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ كَمَا هما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: 6] وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ الْمَسَرَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالْمَسَرَّةِ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، لِأَنَّ فِي بَقَائِهِمْ نِكَايَةً لِأَعْدَائِهِمْ، وَهُمْ مَعَ حُصُولِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَعْدَاءِ يَتَمَنَّوْنَ هَلَاكَ أَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّ فِي هَلَاكِهِمْ تَحْقِيقَ أُمْنِيَّةٍ أُخْرَى لَهُمْ وَهِيَ أُمْنِيَّةُ نَصْرِ الدِّينِ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ رُفَقَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُجَاهِدُونَ مَعَهُمْ، وَمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَمْ يُسْتَشْهَدُوا فَيَصِيرُوا إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. ومِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ بِمَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَصِيرُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ رِفَاقِهِمْ بِأَمْنِهِمْ وَانْتِفَاءِ مَا يُحْزِنُهُمْ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَ (لَا) عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ وَمُفِيدَةٌ مَعْنَاهَا، وَلَمْ يُبْنَ اسْمُ (لَا) عَلَى الْفَتْحِ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْجِنْسِ وَلَا احْتِمَالَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ فَلَا حَاجَةَ لِبِنَاءِ النَّكِرَةِ عَلَى الْفَتْحِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوجي كليل نهامة، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَهْ» بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ الثَّلَاثَةِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ مُنِحَتِ الْكَشْفَ عَلَى مَا يَسُرُّهَا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَنَّ هَذَا الْكَشْفَ ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُ خاصّا الْأَحْوَال السَّارَّةِ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ لَهَا. وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ لَذَّةَ الْأَرْوَاحِ تَحْصُلُ بِالْمَعْرِفَةِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الرَّازِيَّ حَصَرَ اللَّذَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ فِي الْمَعَارِفِ. وَهِيَ لَذَّةُ الْحُكَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ سَيِّئَةً. وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ لِأَصْحَابِ أُحُدٍ بِأَنَّهُمْ لَا تَلْحَقُهُمْ نَكْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَضَمِيرُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ فَهُمْ مُسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا وَالضَّمِيرُ لِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] فَكَرَّرَ أَغْوَيْنَاهُمْ، وَلِأَنَّ هَذَا اسْتِبْشَارٌ مِنْهُ عَائِدٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُ عَائِدٌ لِرِفَاقِهِمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ الْقَرْحِ، وَالْأُولَى عَائِدَةٌ لِإِخْوَانِهِمْ. وَالنِّعْمَةُ: هِيَ مَا يَكُونُ بِهِ صَلَاحٌ، وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي النِّعْمَةِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) - عَلَى أَنَّهُ عطف على بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَفْخِيمُ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِبْشَارِ وَانْشِرَاحِ الْأَنْفُسِ بِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمُ الْمَسَرَّةَ الْجُثْمَانِيَّةَ الْجُزْئِيَّةَ وَالْمَسَرَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ لَذَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِشَرَفِ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ وَشَرَفِ الْعِلْمِ بِهَا، وَحُصُولِ الْمَسَرَّةِ لِلنَّفْسِ مِنَ انْكِشَافِهَا لَهَا وَإِدْرَاكِهَا، أَيِ اسْتَبْشَرُوا بِأَنْ عَلِمُوا حَقِيقَةً كُلِّيَّةً وَسِرًّا جَلِيلًا مِنْ أَسْرَارِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَكَمَالَاتِهِ، الَّتِي تَعُمُّ آثَارُهَا، أَهْلَ الْكَمَالِ كُلَّهُمْ، فَتَشْمَلُ الَّذِينَ أَدْرَكُوهَا وَغَيْرَهُمْ، وَلَوْلَا هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيلُ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى زِيَادَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ بِزِيَادَتِهِ زِيَادَةُ نِعْمَةٍ وَفَضْلٍ لِلْمُسْتَبْشِرِينَ مِنْ جِنْسِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ الْأَوَّلَيْنِ، بَلْ حَصَلَتْ نِعْمَةٌ وَفضل آخرَانِ. وقرأه الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) - عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا اسْتَبْشَرَ بِهِ الشُّهَدَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، فَتَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَجُمْلَةُ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ إِثْرَ أُحُدٍ مِنَ الْإِرْجَافِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ، بَعْدَ أَنْ بَلَغُوا الرَّوْحَاءَ، خَطَرَ لَهُمْ أَنْ لَوْ لَحِقُوا الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ. وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ هَذَا وَمَا وَقَعَ لِمَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 إلى 175]

تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: 149] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقَرْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمرَان: 140] . وَالظَّاهِرُ أنّه هُنَا للقرح الْمَجَازِيُّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ فَيُقَال القروح. [173- 175] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 173 إِلَى 175] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِلَى آخِرِهِ، بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمرَان: 172] ، أَوْ صِفَةً لَهُ، أَوْ صِفَةً ثَانِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: 171] عَلَى طَرِيقَةِ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي الْأَخْبَارِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ، دُونَ أَنْ تُعْطَفَ الصِّلَةُ عَلَى الصِّلَةِ، اهْتِمَامًا بِشَأْنِ هَذِهِ الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَا تَكُونَ كَجُزْءِ صِلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [آل عمرَان: 175] أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، كَمَا سَيَأْتِي. وَهَذَا تَخَلُّصٌ بِذِكْرِ شَأْن من شؤون الْمُسْلِمِينَ كَفَاهُمُ اللَّهُ بِهِ بَأْسَ عَدُوِّهِمْ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ بِعَامٍ، إِنْجَازًا لِوَعْدِهِمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ قَالَ: مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ كَرِهَ الْخُرُوجَ إِلَى لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَكَادَ لِلْمُسْلِمِينَ لِيُظْهِرَ إِخْلَافَ الْوَعْدِ مِنْهُمْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْإِرْجَافِ بَيْنَ الْعَرَبِ بِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَاعَلَ رَكْبًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَارِّينَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قُرْبَ مَكَّةَ قَاصِدِينَ الْمَدِينَةَ لِلْمِيرَةِ، أَنْ يُخْبِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَهُمْ جَيْشًا عَظِيمًا، وَكَانَ مَعَ الرَّكْبِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، فَأَخْبَرَ نُعَيْمٌ وَمَنْ مَعَهُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَزَادَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ اسْتِعْدَادًا وَحَمِيَّةً لِلدِّينِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْمَوْعِدِ

وَهُوَ بَدْرٌ، فَلَمْ يَجِدُوا الْمُشْرِكِينَ وانتظروهم هُنَالك، وَكَانَتْ هُنَالِكَ سُوقٌ فَاتَّجَرُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ غَيْرَ مَذْمُومِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَيِ الرَّكْبُ الْعَبْدِيُّونَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ جَمَعُوا أَيْ جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَدَدَهُمْ وَأَحْلَافَهُمْ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ لَفْظَ النَّاسَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، وَجَعَلُوهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِعْمَالِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسَ مُرَادًا بِهِ وَاحِدٌ أَوْ نَحْوُهُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: 54] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِ (النَّاسَ) مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: فَزادَهُمْ إِيماناً أَيْ زَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرِ فِي فَزادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فِعْلِ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسُ، ولمّا كَانَ ذَاك الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ تَخْوِيفُ الْمُسْلِمِينَ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ قَصْدِهِمْ. وَحَصَلَ مِنْهُ خِلَافُ مَا أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، جَعَلَ مَا حَصَلَ بِهِ زَائِدًا فِي إِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ الْعَزْمِ عَلَى النَّصْرِ وَالْجِهَادِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمَسْأَلَةُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِيمَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] يَعْنِي صَلَاتَكُمْ. أَمَّا التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَلَا يَقْبَلُ النَّقْصَ، وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَلِذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ إِذَا تَكَرَّرَتْ أَدِلَّتُهُ، أَوْ طَالَ زَمَانُهُ، أَوْ قَارَنَتْهُ التَّجَارِبُ، يَزْدَادُ جَلَاءً وَانْكِشَافًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَلَكَةِ، فَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ، بِقَرِينَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُطْلِقْ وَصْفَ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ بَلْ مَا ذَكَرَ إِلَّا الزِّيَادَةَ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: 260] .

وَقَوْلُهُمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كَلِمَةٌ لَعَلَّهُمْ أُلْهَمُوهَا أَوْ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَسْبُ أَيْ كَافٍ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ، قَالُوا: وَمِنْهُ اسْمُهُ تَعَالَى الْحَسِيبُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ. وَقِيلَ: الْإِحْسَابُ هُوَ الْإِكْفَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى كَفَى، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَامُوسِ. وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَوْضِيحِهِ بِأَنَّ دُخُولَ الْعَوَامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، وَقَوْلهمْ: بحسبك دِرْهَمٌ، يُنَافِي دَعْوَى كَوْنِهِ اسْمَ فِعْلٍ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْعَوَامِلُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ لَفْظًا دُونَ مَعْنًى، فَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ مِثْلُ: قَبْلُ وَبَعْدُ، كَقَوْلِهِم: أعْطه درهيمن فَحَسْبُ، وَيَتَجَدَّدُ لَهُ مَعْنَى حِينَئِذٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى لَا غَيْرَ. وَإِضَافَتُهُ لَا تفيده تعريفا لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ وَلِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ لِأَنَّهُ لَجُمُودِهِ شَابَهَ الْمَصْدَرَ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمَ فِعْلٍ فَهُوَ كَالْمَصْدَرِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ شَأْنُ الْمَصَادِرِ، وَمَعْنَاهَا: إِنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِاللَّهِ نَاصِرًا وَإِنْ كَانُوا فِي قِلَّةٍ وَضَعْفٍ. وَجُمْلَةُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَسْبُنَا اللَّهُ فِي كَلَامِ الْقَائِلِينَ، فَالْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَا تُطْلَبُ فِيهِ إِلَّا الْمُنَاسَبَةُ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِتَقَدُّمِ دَلِيلِهِ. والْوَكِيلُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَوْكُولٍ إِلَيْهِ. يُقَالُ: وَكَلَ حَاجَتَهُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي قَضَائِهَا وَفَوَّضَ إِلَيْهِ تَحْصِيلَهَا، وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا يَسْتَطِيع الْقيام بشؤونه بِنَفْسِهِ: رَجُلٌ وَكَلٌ- بِفَتْحَتَيْنِ- أَيْ كَثِيرُ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِهِ، فَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِشَأْنِ مَنْ وَكَّلَهُ، وَهَذَا الْقِيَامُ بِشَأْنِ الْمُوَكِّلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمُوَكَّلِ فِيهَا، وَبِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ فِي دَفْعِ الْعَدَاءِ وَالْجَوْرِ فَالْوَكِيلُ النَّاصِرُ وَالْمُدَافِعُ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: 66] ، وَمِنْهُ فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النِّسَاء: 109] . وَمِنْهُ الْوَكِيلُ فِي الْخُصُومَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي شؤون الْحَيَاةِ فَالْوَكِيلُ الْكَافِلُ وَالْكَافِي مِنْهُ:

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الْإِسْرَاء: 2] كَمَا قَالَ: قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النَّحْل: 91] وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْوَكِيلُ، وَقَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمِنْهُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَالِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا اسْمُ الْكَفِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. وَقَدْ حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَكِيلَ عَلَى مَا يَشْمَلُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [102] ، فَقَالَ: وَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ رَقِيبٌ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلرَّقِيبِ وَالْحَافِظِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُعْنَى النَّاسُ بِحِفْظِهَا وَرِقَابَتِهَا وَادِّخَارِهَا، وَلِذَلِكَ يَتَقَيَّدُ وَيَتَعَمَّمُ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعْقِيبٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ ثَبَاتِ إِيمَانِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَهُوَ تَعْقِيبٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ فَانْقَلَبُوا، لِأَنَّ الِانْقِلَابَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ الَّذِي بَلَغَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمَعُوا لَهُم وَلم يعبأوا بِتَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخَرَجُوا فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُلَابِسِينَ لِنِعْمَةٍ وَفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ. فَالنِّعْمَةُ هِيَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْفَضْلُ فَضْلُ الْجِهَادِ. وَمَعْنَى لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لَمْ يُلَاقُوا حَرْبًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ إِمَّا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ بَدَلًا أَوْ صِفَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ مُبْتَدَأً، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِلَى آخِرِهِ إِنَّمَا مَقَالُهُمْ يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ بِهِ. وَرَابِطُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» عَلَى هَذَا التَّقْدِير، هُوَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ. ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى الْمَقَالِ فَلَفْظُ الشَّيْطَانِ عَلَى هَذَا مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَلَفْظُهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِك الْمقَال ناشىء

[سورة آل عمران (3) : آية 176]

عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ دَبَّرُوا مَكِيدَةَ الْإِرْجَافِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ لِتَخْوِيفِ الْمُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ رَكْبِ عَبْدِ الْقَيْسِ. وَإِمَّا أَنْ تَعُودَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ لَهُمُ النَّاسُ لِأَنَّ النَّاسَ مُؤَوَّلٌ بشخص، أَعنِي نعميا بْنَ مَسْعُودٍ، فَالشَّيْطَانُ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ شَيْطَانٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَقَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ تَقْدِيرُهُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، فَحَذَفَ الْمَفْعُول الأول لفعل (يُخَوِّفُ) بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلا تَخافُوهُمْ فَإِنَّ خَوَّفَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذْ هُوَ مُضَاعَفُ خَافَ الْمُجَرَّدِ، وَخَافَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَصَارَ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمرَان: 28] . وَضَمِيرُ فَلا تَخافُوهُمْ عَلَى هَذَا يَعُودُ إِلَى أَوْلِياءَهُ وَجُمْلَةُ وَخافُونِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَلا تَخافُوهُمْ وَجُمْلَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شَرْطٌ مُؤَخَّرٌ تَقَدَّمَ دَلِيلُ جَوَابِهِ، وَهُوَ تَذْكِيرٌ وَإِحْمَاءٌ لِإِيمَانِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مُؤمنُونَ حقّا. [176] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 176] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) نَهْيٌ لِلرَّسُولِ عَنْ أَنْ يَحْزَنَ مِنْ فِعْلِ قَوْمٍ يَحْرِصُونَ عَلَى الْكُفْرِ أَيْ عَلَى أَعْمَالِهِ وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يَتَوَغَّلُونَ فِيهِ وَيُعَجِّلُونَ إِلَى إِظْهَارِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرَصِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: يُسارِعُونَ، فَقِيلَ: ذَلِكَ مِنَ التَّضْمِينِ ضَمَّنَ يُسَارِعُونَ مَعْنَى يَقَعُونَ، فَعُدِّيَ بِفِي، وَهِيَ طَرِيقَةُ «الْكَشَّافِ» وَشُرُوحِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ

تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَ حَالَ حِرْصِهِمْ وجدّهم فِي تفكير النَّاسِ وَإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ وَانْتِهَازِهِمُ الْفُرَصَ بِحَالِ الطَّالِبِ الْمُسَارِعِ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ يَخْشَى أَنْ يَفُوتَهُ وَهُوَ مُتَوَغِّلٌ فِيهِ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى سُرْعَتِهِمْ سُرْعَةِ طَالِبِ التَّمْكِينِ، لَا طَالِبِ الْحُصُولِ، إِذْ هُوَ حَاصِلٌ عِنْدَهُمْ وَلَوْ عُدِّيَ بِإِلَى لَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا عِنْدَ الْمُسَارَعَةِ. قِيلَ: هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: قَوْمٌ أَسْلَمُوا ثُمَّ خَافُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَارْتَدُّوا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحْزِنَهُ تَسَارُعُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِعِلَّةٍ يُوقِنُ بِهَا الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَمَوْقِعُ إِنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ إِفَادَةُ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَنَفْيُ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ مُرَادٌ بِهِ نَفْيُ أَنْ يُعَطِّلُوا مَا أَرَادَهُ إِذْ قَدْ كَانَ اللَّهُ وَعَدَ الرَّسُولَ إِظْهَارَ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَانَ سَعْيُ الْمُنَافِقِينَ فِي تَعْطِيلِ ذَلِكَ، نَهَى اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَحْزُنَ لِمَا يَبْدُو لَهُ مِنَ اشْتِدَادِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُعَاكَسَةِ الدَّعْوَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا إِبْطَالَ مُرَادِ اللَّهِ، تَذْكِيرًا لَهُ بِأَنَّهُ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ. وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا النَّهْيِ: هُوَ أَنَّ نَفْسَ الرَّسُولِ، وَإِنْ بَلَغَتْ مُرْتَقَى الْكَمَالِ، لَا تعدو أَن تَعْتَرِيهَا فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الشِّدَّةِ أَحْوَالُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ: مِنْ تَأْثِيرِ مَظَاهِرِ الْأَسْبَابِ، وَتَوَقُّعِ حُصُولِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ عِنْدَهَا، كَمَا وَقَعَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ، وَإِذَا انْتَفَى إِضْرَارُهُمُ اللَّهَ انْتَفَى إِضْرَارُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَحْزُنْكَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- مِنْ حَزَنَهُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْحُزْنَ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ- مِنْ أَحْزَنَهُ. وَجُمْلَةُ يُرِيدُ اللَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ جَزَائِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ السَّلَامَةَ مِنْ كَيْدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَذَلَهُمْ وَسَلَبَهُمُ التَّوْفِيقَ فَكَانُوا مُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ. وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ مِنْ شَيْء نَافِع.

[سورة آل عمران (3) : آية 177]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 177] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) تَكْرِيرٌ لِجُمْلَةِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً قُصِدَ بِهِ، مَعَ التَّأْكِيدِ، إِفَادَةُ هَذَا الْخَبَرِ اسْتِقْلَالًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ. وَفِي اخْتِلَافِ الصِّلَتَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ كُلِّ صِلَةٍ مِنْهُمَا هُوَ سَبَبُ الْخَبَرِ الثَّابِتِ لِمَوْصُولِهَا، وَتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً الْمُتَقَدِّمُ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٌ أَسْنَامُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا مَعَ زِيَادَةِ بَيَانِ اشْتِهَارِهِمْ هُمْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ. وَالِاشْتِرَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِبْدَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَة الْبَقَرَة [16] . [178] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 178] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمرَان: 169] وَالْمَقْصُودُ مُقَابَلَةُ الْإِعْلَامِ بِخِلَافِ الْحُسْبَانِ فِي حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا تَلُوحُ لِلنَّاظِرِ حَالَةَ ضُرٍّ، وَالْأُخْرَى تَلُوحُ حَالَةَ خَيْرٍ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِينَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمرَان: 176] إِذْ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحُزْنِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ اللَّهَ شَيْئًا، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِ خَبَرًا لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِخْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ: أَنْ لَا يَحْسَبُوا أَنَّ بَقَاءَهُمْ نَفْعٌ لَهُمْ بَلْ هُوَ إِمْلَاءٌ لَهُمْ يَزْدَادُونَ بِهِ آثَامًا، لِيَكُونَ أَخْذُهُمْ بَعْدَ

ذَلِكَ أَشَدَّ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَفَاعِلُ الْفِعْلِ (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-. فَالْخِطَابُ إِمَّا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ حُسْبَانٍ لَمْ يَقَعْ، فَالنَّهْيُ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ أَوْ عَنْ حُسْبَانٍ هُوَ خَاطِرٌ خَطَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ حُسْبَانُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِمْلَاءَ لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، أَوِ الْمُخَاطَبُ الرَّسُولُ وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ، مِمَّنْ يَظُنُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ مِثْلِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْخِطَابِ كُلُّ مُخَاطَبٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ- الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- فَالنَّهْيُ مَقْصُودٌ بِهِ بُلُوغَهُ إِلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ، وَيُمِرَّ عَيْشَهُمْ بِهَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ فِي الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا تَأْخِيرُ حَيَاتِهِمْ، وَعَدَمُ اسْتِئْصَالِهِمْ فِي الْحَرْبِ، حَيْثُ فَرِحُوا بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِأَنَّ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلَاهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِمْلَاءِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْمَالِهِمْ فِي كَيْدِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرْبِهِمْ وَعَدَمُ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، يُقَالُ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ فِي الْمَرْعَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَلْوِ بِالْوَاوِ وَهُوَ سَيْرُ الْبَعِيرِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ قَالُوا: أَمْلَيْتُ لِلْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ إِذَا وَسَّعْتُ لَهُ فِي الْقَيْدِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنَ الْخَبَبِ وَالرَّكْضِ، فَشُبِّهَ فِعْلُهُ بِشِدَّةِ السَّيْرِ، وَقَالُوا: أَمْلَيْتُ لِزَيْدٍ فِي غَيِّهِ أَيْ تَرَكْتُهُ: عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَأَمْلَى اللَّهُ لِفُلَانٍ أَخَّرَ عِقَابَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَاف: 183] وَاسْتُعِيرَ التَّمَلِّي لِطُولِ الْمُدَّةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ فَقَالُوا: مَلَّأَكَ اللَّهُ حَبِيبَكَ تَمْلِيئَةً، أَيْ أَطَالَ عُمُرَكَ مَعَهُ. وَقَوْلُهُ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ (أَنَّ) أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَلَيْسَتِ الزَّائِدَةُ، وَقَدْ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةً وَاحِدَةً كَمَا تُكْتَبُ إِنَّمَا الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) أُخْتِ (أَنَّ) وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ، الَّتِي هِيَ حَرْفُ حَصْرٍ بِمَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا) ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَدَثَ بَعْدَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا فِي الرَّسْمِ الْقَدِيمِ، عَلَى هَذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَاتُ

الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَنَا أَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَنَّمَا) مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ هِيَ أَنَّمَا أُخْتُ إِنَّمَا الْمَكْسُورَةِ وَأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنْ) وَ (مَا) الْكَافَّةِ الزَّائِدَةِ وَأَنَّهَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا انْحِصَارَ إِمْهَالِنَا لَهُمْ فِي أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَرِحُوا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْقَتْلِ وَبِالْبَقَاءِ بِقَيْدِ الْحَيَاةِ قَدْ أَضْمَرُوا فِي أَنْفُسِهِمُ اعْتِقَادَ أَنَّ بَقَاءَهُمْ مَا هُوَ إِلَّا خَيْرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ الْقَتْلَ شَرًّا لَهُمْ، إِذْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَزَاءِ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ لِكُفْرِهِمْ بِالْبَعْثِ. فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ فِي ظَنِّهِمْ. وَلِهَذَا يَكُونُ رَسْمُهُمْ كَلِمَةَ (أَنَّمَا) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ فِي الْمُصْحَفِ جَارِيًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اصْطِلَاحُ الرَّسْمِ. وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَكُونُ سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ صَارَ كَالْمَتْرُوكِ، وَسُلِكَتْ طَرِيقَةُ الْإِبْدَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ، ثُمَّ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الظَّنِّ بِالْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ يَسْتَدْعِي تَشَوُّفَ السَّامِعِ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الظَّنُّ، وَهِيَ مَدْلُولُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْ نَفْسِهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وَزَادَ تَقْرِيرًا. وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِ الْإِمْلَاءِ خَيْرًا، أَيْ مَا هُوَ بِخَيْرٍ لِأَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِثْمًا. وَ (إِنَّمَا) هَذِهِ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) حَرْفُ التَّوْكِيدِ وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ وَهِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ أَيْ: مَا نُمْلِي لَهُمْ إِلَّا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، أَيْ فَيَكُونُ أَخْذُهُمْ بِهِ أَشَدَّ فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ إِثْمًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَيَشْتَدُّ عِقَابُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْإِمْلَاءُ لَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. وَاللَّام فِي لِيَزْدادُوا إِثْماً لَامُ الْعَاقِبَةِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] أَيْ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ فَيَزْدَادُونَ إِثْمًا، فَلَمَّا كَانَ ازْدِيَادُ الْإِثْمِ

[سورة آل عمران (3) : آية 179]

نَاشِئًا عَنِ الْإِمْلَاءِ، كَانَ كَالْعِلَّةِ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَازْدِيَادُ الْإِثْمِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَهُوَ حِينَ أَمْلَى لَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ بِهِ إِثْمًا، فَكَانَ الِازْدِيَادُ مِنَ الْإِثْمِ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالْعِلَّةِ، أَمَّا عِلَّةُ الْإِمْلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فَهِيَ شَيْءٌ آخَرُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ حِكْمَةِ خلق أَسبَاب الضلال وَأَهْلِهِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ الْحِكْمَةِ فِي شَأْنِهِ. وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَلَى حُسْبَانِ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ حَاصِلٌ، لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى التَّلَازُمِ بَيْنَ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ وَبَيْنَ ازْدِيَادِهِمْ مِنَ الْإِثْمِ فِي مدّة الْإِمْلَاء. [179] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 179] مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ مَا فِي مُصِيبَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ النَّافِعَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى، فَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: 166] بَيَّنَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ دَوَامَ اللَّبْسِ فِي حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاخْتِلَاطِهِمْ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ زَمَانًا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي مِثْلِهِ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَذَلِكَ أَيَّامَ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ عَقِبَ هِجْرَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الِاقْتِنَاعِ مِنَ النَّاسِ بِحُسْنِ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَبْدَأَ الِانْشِقَاقُ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي النُّفُوسِ، وَقَرَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ الْمُقَامَ فِي أَمْنٍ، أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْهِيَةِ الِاخْتِلَاطِ وَأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَكْتُمُونَ نِفَاقَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِقْبَالٍ، وَرَأَوُا انْتِصَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْضَحَهُمْ وَيُظْهِرَ نِفَاقَهُمْ، بِأَنْ أصَاب الْمُؤمنِينَ يقرح الْهَزِيمَةِ حَتَّى أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ فَرَحَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَجَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِفَاقَهُمْ بَادِيًا لِلْعِيَانِ كَمَا قَالَ:

جَزَى اللَّهُ الْمَصَائِبَ كُلَّ خَيْرٍ ... عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صديقي وَمَا صدق مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ. وَحَرْفَا (عَلَى) الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، فِي قَوْلِهِ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ مَعْنَى مَجْرُورِهَا وَيَتَبَيَّنُ الْوَصْفُ الْمُبْهَمُ فِي الصِّلَةِ بِمَا وَرَدَ بَعْدَ (حَتَّى) من قَوْله: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ. وَمَعْنَى مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْيُ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِلَّهِ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ [آل عمرَان: 79] إِلَخْ ... فَقَوْلُهُ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ الْخَالِصِ وَالْمُنَافِقِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصِ مِنَ النِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُلْ: لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ غَايَةٌ لِلْجُحُودِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَذْرَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ بَعْدَ وَقْتِ الْإِخْبَارِ وَلَا وَاقِعًا مِنْهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يَحْصُلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، فَإِذَا حَصَلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ صَارَ هَذَا الْوَذْرَ مُمْكِنًا، فَقَدْ تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِحُصُولِهِ وَبِعَدَمِ حُصُولِهِ، وَمَعْنَاهُ رُجُوع إِلَى حَال الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِحَالَةِ الِاسْتِحَالَةِ. وَلِحَتَّى اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بَعْدَ نَفْيِ الْجُحُودِ، فَمَعْنَاهَا تَنْهِيَةُ الِاسْتِحَالَةِ: ذَلِكَ أَنَّ الْجُحُودَ أَخَصُّ مِنَ النَّفْيِ لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الصِّيغَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ اسْمِ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ كَالْمُسْتَحِيلِ، فَإِذَا غَيَّاهُ الْمُتَكَلِّمُ بِغَايَةٍ كَانَتْ تِلْكَ الْغَايَةُ غَايَةً لِلِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْجُحُودِ، وَلَيْسَتْ

غَايَةً لِلنَّفْيِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهَا أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْغَايَةِ يَثْبُتُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهَذَا كُلُّهُ لَمْحٌ لِأَصْلِ وَضْعِ صِيغَةِ الْجُحُودِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ لَا لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعْنَى مُطْلَقِ النَّفْيِ، وَقَدْ أَهْمَلَ التَّنْبِيهَ عَلَى إِشْكَالِ الْغَايَةِ هُنَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمُتَابِعُوهُ، وَتَنَبَّهَ لَهَا أَبُو حَيَّانٍ، فَاسْتَشْكَلَهَا حَتَّى اضطرّ إِلَى تأوّل النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ، فَجَعَلَ التَّقْدِيرَ: إِنَّ اللَّهَ يُخَلِّصُ بَيْنَكُمْ بِالِامْتِحَانِ، حَتَّى يَمِيزَ. وَأَخَذَ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَحْسَنَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُعَطِّلًا لِوُجُودِ قَرِينَةٍ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمَفْهُومِ، وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ وُضُوحٌ وَتَوْقِيفٌ عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ رَشِيقٍ. وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الطَّيِّبِ مَعْنَاهَا الْفَصْلُ أَيْ فَصْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَبَحَثَ فِيهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [220] . وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِضَمِيرِ مَا أَنْتُمْ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ جَاهِلِينَ بِأَحْوَالِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَمِيزَ- بِفَتْحِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا سَاكِنَةٍ- مِنْ مَازَ يَمِيزُ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ- مِنْ مَيَّزَ مُضَاعَفِ مَازَ. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ لَكُمُ الْخَبِيثَ فَتَعْرِفُوا أَعْدَاءَكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ إِطْلَاعُكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ أَسْبَابًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِزَّ أَعْدَاءَكُمْ فَيُظْهِرُوا لَكُمُ الْعَدَاوَةَ فَتَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ مُؤَسَّسًا عَلَى اسْتِفَادَةِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَالنَّتَائِجِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا.

[سورة آل عمران (3) : آية 180]

وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يَجُوزُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى لَا يَجْعَلَهُ الْمُنَافِقُونَ حُجَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فِي نَفْيِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ رَسُولَهُ وَمِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ أَنْ لَا يُفْشِيَ مَا أَسَرَّهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: 26، 27] الْآيَةَ، فَيَكُونُ كَاسْتِثْنَاءٍ مِنْ عُمُومِ لِيُطْلِعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ مِنِ انْتِفَاءِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ كَاسْتِثْنَاءٍ مِنْ مُفَادِ الْغَيْبِ أَيْ: إِلَّا الْغَيْبَ الرَّاجِعَ إِلَى إِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَمْ يَضْمَنِ اللَّهُ لِرُسُلِهِ إِطْلَاعَهُمْ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يُطْلِعُهُمْ، وَقَدْ لَا يُطْلِعُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الْأَنْفَال: 60] . وَقَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِيمَانُ الْخَاصُّ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ عَنِ الْهَوَى، وَبِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ، فَعَلَيْهِمُ الطَّاعَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ أَوْ أُرِيدَ الدَّوَامُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْحَالَةَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهَا قَدْ يُتَوَقَّعُ مِنْهَا تَزَلْزُلُ إِيمَانِ الضُّعَفَاءِ وَرَوَاجُ شُبَهِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَوْقِعُ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ظَاهِرٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَآمِنُوا خِطَابًا لِلْكُفَّارِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِلْكَفَّارِ فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ ظَاهِرٌ، وَمُنَاسَبَةُ تَفْرِيعِهِ عَمَّا تَقَدَّمَ انْتِهَازُ فُرَصِ الدَّعْوَةِ حَيْثُمَا تأتّت. [180] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) عَطْفٌ عَلَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا أُنْزِلَ فِي شَأْنِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ

عَنْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [37] بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا فِي شَأْنِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسلمين يَوْمئِذٍ مبرّؤون مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَمِنْ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ فِيمَنْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ، وَهَلْ يَمْنَعُهَا يَوْمَئِذٍ إِلَّا مُنَافِقٌ. وَلَعَلَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ مَنَعَ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَمَعْنَى حُسْبَانِهِ خَيْرًا أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ قَدِ اسْتَبْقَوْا مَالَهُمْ وَتَنَصَّلُوا عَنْ دَفْعِهِ بِمَعَاذِيرَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ. أَمَّا شُمُولُهَا لِمَنْعِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعُمُومِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ إِنْ كَانَ الْمَوْصُولُ لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ، فَبِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَحْسِبَنَّ- بِكَسْرِ السِّينِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ- بِفَتْحِ السِّينِ-. وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْراً لَهُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (هُوَ) ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَقَدْ يُبْنَى كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لَا يَخْتَصُّ بِالْوُقُوعِ مَعَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَطْلُبُ اسْمًا وَخَبَرًا، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فَصْلًا مَعَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، يَعْنِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا ضَمِيرُ فَصْلٍ وَلِذَلِكَ حَكَى أَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ (هُوَ) ضَمِيرًا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِنَابَةِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ عَنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ، وَلَعَلَّ الَّذِي حَسَّنَهُ أَنَّ الْمَعَادَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَلَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ بِضَمِيرِ النَّصْبِ، بِخِلَافِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ كَالْعُمْدَةِ فِي الْكَلَامِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبُخْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ يَبْخَلُونَ، مِثْلُ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ: إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ ثُمَّ إِذَا كَانَ ضَمِيرَ فَصْلٍ فَأَحَدُ مَفْعُولَيْ حَسِبَ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ

ضَمِيرِ الْفَصْلِ عَلَيْهِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَوْقِيَّةِ فَالْمَحْذُوفُ مُضَافٌ حَلَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحَلَّهُ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا وَعَلَى قِرَاءَةِ التَّحْتِيَّةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بُخْلَهُمْ خَيْرًا. وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- وَيُقَالُ: بَخَلٌ بِفَتْحِهِمَا، وَفِعْلُهُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مَضْمُومُ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ. وَبَقِيَّةُ الْعَرَبِ تَجْعَلُهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَبِلُغَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ جَاءَ الْقُرْآنُ لِخِفَّةِ الْكَسْرَةِ وَالْفَتْحَةِ وَلِذَا لَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِهَا. وَهُوَ ضِدُّ الْجُودِ، فَهُوَ الانقباض عَن إِعْطَاءِ الْمَالِ بِدُونِ عِوَضٍ، هَذَا حَقِيقَتُهُ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْعِ صَاحِبِ شَيْءٍ غَيْرُ مَالٍ أَنْ يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ بِشَيْئِهِ بِدُونِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ إِلَّا مَجَازًا، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَثَرٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَخِيلُ الَّذِي أُذْكَرُ عِنْدَهُ فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ» وَيَقُولُونَ: بَخِلَتِ الْعَيْنُ بِالدُّمُوعِ، وَيُرَادِفُ الْبُخْلَ الشُّحُّ، كَمَا يُرَادِفُ الْجُودَ السَّخَاءُ وَالسَّمَاحُ. وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ كَوْنِهِ خَيْرًا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: «وَتَعْطُو برخص غير ششن» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْمُقَامِ إِفَادَةَ نَفْيِ تَوَهُّمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَجُمْلَةُ سَيُطَوَّقُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. وَيُطَوَّقُونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّاقَةِ، وَهِيَ تَحَمُّلُ مَا فَوْقَ الْقُدْرَةِ أَيْ سَيَحْمِلُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ، أَيْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّوْقِ، وَهُوَ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الرَّقَبَةِ فَوْقَ الصَّدْرِ، أَيْ تُجْعَلُ أَمْوَالُهُمْ أَطْوَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُعَذَّبُونَ بِحَمْلِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ فِي أَمْثَالِهِمْ تَقَلَّدَهَا (أَيِ الْفِعْلَةَ الذَّمِيمَةَ) طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشَهَّرُونَ بِهَذِهِ الْمَذَمَّةِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَيَلْزَمُونَ عِقَابَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَذْيِيلٌ لِمَوْعِظَةِ الْبَاخِلِينَ وَغَيْرِهِمْ: بِأَنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ، وَمَا مِنْ بَخِيلٍ إِلَّا سَيَذْهَبُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 182]

فِي ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللَّهُ، فَهُوَ يَرِثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَيْ يَسْتَمِرُّ مُلْكُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ زَوَالِ الْبَشَرِ كُلِّهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ بِبَعْضِ ذَلِكَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَا فِي ضمنهما تَبَعًا لَهُمَا، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ مِنْ بُخْلٍ وَصَدَقَةٍ، فَالْآيَةُ مَوْعِظَةٌ وَوَعِيدٌ وَوَعْدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ قَوْله: خَبِيرٌ. [181، 182] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 181 إِلَى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) اسْتِئْنَافُ جُمْلَةِ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْبُخْلِ لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي مَعْرِضِ دَفْعِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ آخِرَ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَائِلُ ذَلِكَ: قِيلَ هُوَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ، حَبْرُ الْيَهُودِ، لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: 245] فَقَالَ حُيَيٌّ: إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَقِيلَ: قَالَهُ فَنِحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى يَهُودِ قَيْنُقَاعَ يَدْعُوهُمْ، فَأَتَى بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَوَجَدَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى فنحَاص حَبْرهمْ، فَدَعَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فَنِحَاصُ: مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَاجَةٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمَا اسْتَقْرَضَنَا أَمْوَالَنَا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ وَلَطَمَ فَنِحَاصَ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَشَاعَ قَوْلُهُمَا فِي الْيَهُودِ. وَقَوْلُهُ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ تَهْدِيدٌ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِبُطْلَانِ كَلَامِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِهَاتِهِ الْعِبَارَةِ بِدُونِ مُحَاشَاةٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِالرَّسُولِ وَقُرْآنِهِ إِثْمٌ عَظِيمٌ وَكُفْرٌ عَلَى كُفْرٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّهْدِيدُ عَلَى كَلَامٍ فَاحِشٍ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ

وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ بَلْ لَازَمَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ إِمَّا كِتَابَتُهُ فِي صَحَائِفِ آثَامِهِمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُكْتَبَ فِي صَحَائِفِ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ وُجُودَ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَمْرٌ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنَ الْكِتَابَةِ عَدَمُ الصَّفْحِ عَنْهُ وَلَا الْعَفْوُ بَلْ سَيُثْبَتُ لَهُمْ وَيُجَازُونَ عَنْهُ فَتَكُونُ الْكِتَابَةُ كِنَايَةً عَنِ الْمُحَاسَبَةِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَعِيدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَهْدِيدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مِنْ (سَنَكْتُبُ) وَبِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلَهُمُ) عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ (نَكْتُبُ) وَ (نَقُولُ) بِنُونٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: سَيُكْتَبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكِتَابَةِ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلُهُمُ) عَلَى أَنه نَائِب الْفَاعِل. (وَيَقُولُ) بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ. وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ زِيَادَةٌ فِي مَذَمَّتِهِمْ بِذِكْرِ مَسَاوِي أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ هُمْ غَيْرُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ بَلْ هُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، فَذُكِرَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ الِاجْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَاتِّحَادُ الضَّمَائِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُعَادِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَذَامِّ الَّتِي تُنَاطُ بِالْقَبَائِلِ. قَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ يَوْمِ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُخَاطِبُ أَهْلَ الْعِرَاقِ: أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ أَضْمَرْتُمُ الشَّرَّ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ.. إِلَخْ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ مَاتَ وَمَنْ طَرَأَ بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عُطِفَ أَثَرُ الْكُتُبِ عَلَى الْكُتُبِ أَيْ سَيُجَازَوْنَ عَنْ ذَلِكَ بِدُونِ صَفْحٍ، وَنَقُولُ ذُوقُوا وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ. وَالذَّوْقُ حَقِيقَتُهُ إِدْرَاكُ الطُّعُومِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ فَعَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّوْقَ فِي الْعُرْفِ يَسْتَتْبِعُ تَكَرُّرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لِأَنَّ الذَّوْقَ يَتْبَعُهُ الْأَكْلُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ «ذُوقُوا» اسْتِعَارَةً.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 183 إلى 184]

وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ لِلْعَذَابِ الْمُشَاهَدِ يَوْمَئِذٍ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ لِلْعَذَابِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لِعِظَمِ هَوْلِهِ مِمَّا يُتَسَاءَلُ عَنْ سَبَبِهِ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عَلَى مَجْرُورِ الْبَاءِ، لِيَكُونَ لِهَذَا الْعَذَابِ سَبَبَانِ: مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ، وَعَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَوْجَبَ حُصُولَ الْعَذَابِ، وَعَدْلُ اللَّهِ أَوْجَبَ كَوْنَ هَذَا الْعَذَابِ فِي مِقْدَارِهِ الْمُشَاهَدِ مِنَ الشِّدَّةِ حتّى لَا يظنّوا أَنَّ فِي شِدَّتِهِ إِفْرَاطًا عَلَيْهِمْ فِي التعذيب. [183، 184] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 183 إِلَى 184] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) أُبْدِلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمرَان: 181] لِذِكْرِ قَوْلَةٍ أُخْرَى شَنِيعَةٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ كَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِقُرْبَانٍ، أَيْ حَتَّى يَذْبَحَ قُرْبَانًا فَتَأْكُلَهُ نَارٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتِلْكَ عَلَامَةُ الْقَبُولِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا حصل فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ذُبِحَ أَوَّلُ قُرْبَانٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ فَأَحْرَقَتْهُ. كَمَا فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. إِلَّا أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَا تَطَّرِدُ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا زَعَمَهُ الْيَهُودُ لِأَنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ تَجِيءُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ تَصْدِيقَ الْأُمَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلَهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ.

وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْجَدَلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسْلِيمِ، أَيْ إِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ امْتِنَاعُكُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ انْتِظَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ كَذَّبْتُمُ الرُّسُل الَّذين جاؤوكم بِهَا وَقَتَلْتُمُوهُمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّسْلِيمَ يَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بهم، مثل زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى وَأَشْعِيَاءَ وَأَرْمِيَاءَ، فَالْإِيمَانُ بِهِمْ أَوَّلَ الْأَمْرِ يسْتَلْزم أَنهم جاؤوا بِالْقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَقَتْلُهُمْ آخِرًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ عَدَمَ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْيَهُودِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَأْتِيَ خَلَفُهُمْ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ سَلَفُهُمْ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْعَهْدِ لَهُمْ بِذَلِكَ كَذِبٌ وَمَعَاذِيرُ بَاطِلَةٌ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَبِالَّذِي قُلْتُمْ عُدِلَ إِلَى الْمَوْصُولِ لِلِاخْتِصَارِ وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً إِلَى قَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: 77، 80] أَيْ نَرِثُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ. ثمَّ سلى الله نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ دَلِيلُ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَلَا عَجَبَ أَو فَلَا تخزن لِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ مِثْلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِيمَا جِئْتَ بِهِ. والبيّنات: الدَّلَائِلُ عَلَى الصِّدْقِ، وَالزُّبُرُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلِ رَسُولٍ، أَيْ مَزْبُورٍ بِمَعْنَى مَخْطُوطٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ زَبَرَ إِذَا زَجَرَ أَوْ حَبَسَ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُقْصَدُ لِلْحُكْمِ. وَأُرِيدَ بِالزُّبُرِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، مِمَّا يَتَضَمَّنُ مَوَاعِظَ وَتَذْكِيرًا مثل كتاب دَاوُود وَالْإِنْجِيلِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ: إِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ فَهُوَ كُتُبُ الشَّرَائِعِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَهْدِ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَوَصْفُهُ بِالْمُنِيرِ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِلْحَقِّ كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] وَالْعَطْفُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى التَّوْزِيعِ، فَبَعْضُ الرُّسُلِ جَاءَ بِالزُّبُرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، وَكُلُّهُمْ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 185]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالزُّبُرِ بِعَطْفِ الزُّبُرِ بِدُونِ إِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: وَبِالزُّبُرِ- بِإِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ- وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْكِتَابِ- بِدُونِ إِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ- وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ- وَبِالْكِتَابِ- بِإِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ- وَهَذَا انْفَرَدَ بِهِ هِشَامٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كُتِبَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ مَصَاحِفِ الشَّامِ الْعَتِيقَةِ، وَلَيْسَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِهِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ شَاذَّةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي كُتِبَتْ بِإِثْبَاتِ الْبَاءِ فِي قَوْله: وَبِالْكِتابِ [فاطر: 25] كَانَتْ مُمْلَاةً مِنْ حُفَّاظِ هَذِهِ الرِّوَايَة الشاذّة. [185] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) هَذِهِ الْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِأَصْلِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَفْنِيدُ الْمُنَافِقِينَ فِي مَزَاعِمِهِمْ أَنَّ النَّاسَ لَوِ اسْتَشَارُوهُمْ فِي الْقِتَالِ لَأَشَارُوا بِمَا فِيهِ سَلَامَتُهُمْ فَلَا يَهْلِكُوا، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَدْفَعُ تَوَهُّمَهُمْ أَنَّ الِانْهِزَامَ كَانَ خِذْلَانًا مِنَ اللَّهِ وَتَعَجُّبَهُمْ مِنْهُ كَيْفَ يَلْحَقُ قَوْمًا خَرَجُوا لِنَصْرِ الدِّينِ وَأَنْ لَا سَبَبَ لِلْهَزِيمَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ [آل عمرَان: 155] ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ فِي تِلْكَ الرَّزِيَّةِ فَوَائِدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ [آل عمرَان: 153] وَقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: 166] ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ فَقَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 166] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ [آل عمرَان: 156] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ حَزِنُوا لَهُمْ إِنَّمَا هُمْ أَحْيَاءٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَا يُضَيِّعُ اللَّهُ أَجَرَهُمْ وَلَا فَضْلَ ثَبَاتِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ سَلَامَةَ الْكُفَّارِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْزِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَنْ

تَسُرَّ الْكَافِرِينَ، وَأَبْطَلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَقَالَ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمرَان: 154] وَبِقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمرَان: 168] إِلَى قَوْله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: 168] خَتَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِلْغَرَضَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ وَالْحُزْنَ إِنَّمَا نَشَآ عَلَى مَوْتِ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْ خِيرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي أَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ غَايَةَ كُلِّ حَيٍّ فَلَوْ لَمْ يَمُوتُوا الْيَوْمَ لَمَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَأْسَفُوا عَلَى مَوْتِ قَتْلَاكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَفْتِنْكُمُ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَصْرَ قَلْبٍ لِتَنْزِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى قَتْلَاهُمْ وَعَلَى هَزِيمَتِهِمْ، مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَتَرَقَّبُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ، مَعَ أَنَّ نِهَايَةَ الْأَجْرِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أَيْ تُكْمَلُ لَكُمْ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ، بِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ أُجُورٌ عَظِيمَةٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَأْيِيدِهِمْ لِلدِّينِ: مِنْهَا النَّصْرُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِنْهَا كَفُّ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فِي أَيَّامِ مَقَامِهِمْ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ تَمَكَّنُوا مِنَ الْهِجْرَةِ. وَالذَّوْقُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى وِجْدَانِ الْمَوْتِ، تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمرَان: 181] وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى حُصُولِ الْمَوْتِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدُّخان: 56] وَيُقَالُ ذَاقَ طَعْمَ الْمَوْتِ. وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا. وَيُطْلِقُهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى مُطْلَقِ الْإِعْطَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْأُجُورُ جَمْعُ الْأَجْرِ بِمَعْنَى الثَّوَابِ، وَوَجْهُ جَمْعِهِ مُرَاعَاةُ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ. وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْحَشْرِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ خُمُودِ الْمَوْتِ إِلَى نُهُوضِ الْحَيَاةِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ زُحْزِحَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ، وَمَعْنَى: زُحْزِحَ أُبْعِدَ. وَحَقِيقَةُ فِعْلِ زُحْزِحَ أَنَّهَا جَذْبٌ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مُضَاعَفُ زَحَّهُ عَنِ الْمَكَانِ إِذَا جَذَبَهُ بِعَجَلَةٍ. وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّ فِي الثَّانِي غُنْيَةً عَنِ

[سورة آل عمران (3) : آية 186]

الْأَوَّلِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى نِعْمَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ. وَمَعْنَى فَقَدْ فازَ نَالَ مُبْتَغَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْفَوْزِ عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالزَّحْزَحَةِ عَنِ النَّارِ مَعْلُومٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ الشَّرْطِ إِلَّا لِهَذَا. وَالْعَرَبُ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا عَلَى الْقَرَائِنِ، فَقَدْ يَكُونُ الْجَوَابُ عَيْنَ الشَّرْط لبَيَان التحقّق، نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَقَدْ يَكُونُ عَيَّنَهُ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَقَدْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى بُلُوغِ أَقْصَى غَايَاتِ نَوْعِ الْجَوَابِ وَالشَّرْطِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ، وَقَوْلِ الْعَرَبِ: «مَنْ أَدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّانِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَجَمِيعُ مَا قُرِّرَ فِي الْجَوَابِ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] . [186] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) اسْتِئْنَافٌ لِإِيقَاظِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَرِضُ أَهْلَ الْحَقِّ وَأَنْصَارَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَلْوَى، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُوهِنُهُمُ الْهَزِيمَةُ فَلَيْسُوا أَحْرِيَاءَ بِنَصْرِ الْحَقِّ، وَأَكَّدَ الْفِعْلَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الِابْتِلَاءِ، إِذْ نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْكِيدِ مِنَ الْخَفِيفَةِ. فَأَصْلُ لَتُبْلَوُنَّ لَتُبْلَوُونَنَّ فَلَمَّا تَوَالَى ثَلَاثُ نُونَاتٍ ثَقُلَ فِي النُّطْقِ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ فَالْتَقَى سَاكِنَانِ: وَاوُ الرَّفْعِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ، فَحُذِفَتْ وَاوُ الرَّفْعِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَصْلًا فِي الْكَلِمَةِ فَصَارَ لَتُبْلَوُنَّ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ وَفِي تَوْكِيدِهِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 187]

وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَيُرَادُ بِهِ هُنَا لَازِمَةٌ وَهُوَ الْمُصِيبَةُ، لِأَنَّ فِي الْمَصَائِبِ اخْتِبَارًا لِمِقْدَارِ الثَّبَاتِ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ هُوَ نَفَقَاتُ الْجِهَادِ، وَتَلَاشِي أَمْوَالِهِمُ الَّتِي تَرَكُوهَا بِمَكَّةَ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ هُوَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ. وَجُمِعَ مَعَ ذَلِكَ سَمَاعُ الْمَكْرُوهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَبَعْدَهُ. وَالْأَذَى هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ هُنَا بِالْكَثِيرِ، أَيِ الْخَارِجِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تَحْتَمِلُهُ النُّفُوسُ غَالِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْفَشَلِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمُ النَّصْرُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى أَيِ الدَّوَامِ عَلَى أُمُورِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى بَثِّهِ وَتَأْيِيدِهِ، فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الِابْتِلَاءِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فَيَشْمَلُ الْجِهَادَ، وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فَفِي وَقْتَيِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً عَدَمَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ حَتَّى تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِآيَاتِ السَّيْفِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. قَالَهُ الْقَفَّالُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِتَأْوِيلٍ: فَإِنَّ الْمَذْكُورَ. وَ (عَزْمِ الْأُمُورِ) مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيِ الْأُمُورِ الْعَزْمِ، وَوَصَفَ الْأُمُورَ وَهُوَ جَمْعٌ بِعَزْمٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ أَصْلَ عَزْمٍ أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَيَلْزَمُ لَفْظُهُ حَالَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهَا. وَالْعَزْمُ إِمْضَاءُ الرَّأْيِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ بَعْدَ تَبْيِينِ السَّدَادِ. قَالَ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: 159] وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَزْمُ فِي الْخَيِّرَاتِ، قَالَ تَعَالَى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 35] وَقَالَ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] . وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا تَنَالُوا ثَوَابَ أَهْلِ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عزم الْأُمُور. [187] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ

(187) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمرَان: 186] فَإِنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّ الطَّعْنَ فِي كَلَامِهِ وَأَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمرَان: 181] . وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى أَخْذِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَة: 34] وَنَحْوِهِ. والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هُمُ الْيَهُودُ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَى سَلَفِهِمْ مِنْ عَهْدِ رَسُولِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِمْ فِي سَائِرِ أَجْيَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ. وَجُمْلَةُ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ بَيَانٌ لِلْمِيثَاقِ، فَهِيَ حِكَايَةُ الْيَمِينِ حِينَ اقْتُرِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ بِصِيغَةِ خِطَابِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كَمَا قَرَأَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: لَيُبَيِّنُنَّهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى طَرِيقَةِ الْحِكَايَةِ بِالْمَعْنَى، حَيْثُ كَانَ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَهْدَ غَائِبِينَ فِي وَقَتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ. وَلِلْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وُجُوهٌ: بِاعْتِبَارِ كَلَامِ الْحَاكِي، وَكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ كَالْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي نَحْوِ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَا يَفْعَلُ كَذَا، وَأُقْسِمُ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: 49] قرىء- بِالنُّونِ وَالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- لَنُبَيِّتَنَّهُ لَتُبَيِّتَنَّهُ لَيُبَيِّتَنَّهُ، إِذَا جُعِلَ تَقَاسَمُوا فِعْلًا مَاضِيًا فَإِذَا جُعِلَ أَمْرًا جَازَ وَجْهَانِ: فِي لَنُبَيِّتَنَّهُ النُّونُ وَالتَّاءُ الْفَوْقِيَّةُ. وَالْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ وَإِعْرَابِ لَتُبَيِّنُنَّهُ كَالْقَوْلِ فِي لَتُبْلَوُنَّ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا. وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بأمرين: هما بَيَان الْكِتَابُ أَيْ عَدَمُ إِجْمَالِ مَعَانِيهِ أَوْ تَحْرِيفِ تَأْوِيلِهِ، وَعَدَمُ كِتْمَانِهِ أَيْ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَلا تَكْتُمُونَهُ عَطْفٌ عَلَى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يُقْرَنْ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهَا لَا تُقَارِنُ الْفِعْلَ الْمَنْفِيَّ لِتَنَافِي مُقْتَضَاهُمَا. وَقَوْلُهُ: فَنَبَذُوهُ عُطِفَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالَّذِينَ نَبَذُوهُ هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ فِي عُصُورِهِمُ الْأَخِيرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ عَهْدِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي بَيْنَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ نَبْذِهِمْ إِيَّاهُ مَنْظُورٌ

فِيهِ إِلَى مُبَادَرَتِهِمْ بِالنَّبْذِ عَقِبَ الْوَقْتِ الَّذِي تحقّق فِيهِ أثر أَخْذُ الْمِيثَاقِ، وَهُوَ وَقْتُ تَأَهُّلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ لِتَبْيِينِ الْكِتَابِ وَإِعْلَانِهِ فَهُوَ إِذَا أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى فَهْمِ الْكِتَابِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَعَانِيهِ بَادَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ الْمَقْدِرَةَ وَسِيلَةً لِسُوءِ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْكِتْمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مُسْتَعْمَلَةً فِي لَازِمِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْمُسَارَعَةِ لِذَلِكَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَالِ إِيَّاهُ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ وَصَرْفِ الْفِكْرَةِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْقِيبُ بِحَسَبِ الْحَوَادِث الَّتِي أساؤوا فِيهَا التَّأْوِيلَ وَاشْتَرَوْا بِهَا الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، لِأَنَّ الْمِيثَاقَ لَمَّا كَانَ عَامًّا كَانَتْ كُلُّ جُزْئِيَّةٍ مَأْخُوذًا عَلَيْهَا الْمِيثَاقُ، فَالْجُزْئِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَعْمَلُوا فِيهَا بِالْمِيثَاقِ يَكُونُ فِيهَا تَعْقِيبُ مِيثَاقِهَا بِالنَّبْذِ وَالِاشْتِرَاءِ. وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْعَهْدِ تَشْبِيهًا لِلْعَهْدِ بِالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَوَرَاءُ الظُّهُورِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِضَاعَةِ وَالْإِهْمَالِ، لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الْمُهْتَمِّ بِهِ الْمُتَنَافَسِ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ نُصْبَ الْعَيْنِ وَيُحْرَسَ وَيُشَاهَدَ. قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] . وَشَأْنُ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ عَنْهُ أَنْ يُسْتَدْبَرَ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ النَّبْذِ لِإِخْلَافِ الْعَهْدِ. وَالضَّمِيرَانِ: الْمَنْصُوبُ وَالْمَجْرُورُ، يَجُوزُ عَوْدُهُمَا إِلَى الْمِيثَاقِ أَيِ اسْتَخَفُّوا بِعَهْدِ اللَّهِ وَعَوَّضُوهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ أَهْمَلُوا مَا وَاثَقُوا عَلَيْهِ مِنْ تَبْيِينِ الْكِتَابِ وَعَدَمُ كِتْمَانِهِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُمَا إِلَى الْكِتَابِ أَيْ أَهْمَلُوا الْكِتَابَ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِهِ، وَالْمُرَادُ إِهْمَالُ أَحْكَامِهِ وَتَعْوِيضُ إِقَامَتِهَا بِنَفْعٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَوْعَيِ الْإِهْمَالِ، وَهُمَا إِهْمَالُ آيَاتِهِ وَإِهْمَالُ مَعَانِيهِ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُبَادَلَةِ وَالثَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرُّشَى وَالْجَوَائِزِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالظُّلْمِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْعَامَّةِ عَلَى تَأْيِيدِ الْمَظَالِمِ وَالْمَفَاسِدِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَتَأْوِيلُ كُلِّ حُكْمٍ فِيهِ ضَرْبٌ عَلَى أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ بِمَا يُطْلِقُ أَيْدِيَهُمْ فِي ظُلْمِ الرَّعِيَّةِ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَتَحْذِيرَاتِ الَّذِينَ يَصْدَعُونَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكِرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ

[سورة آل عمران (3) : آية 188]

الْكِتَابِ إِلَّا أَنَّ حُكْمَهَا يَشْمَلُ مَنْ يَرْتَكِبُ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْحُكْمِ والعلّة فِيهِ. [188] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 188] لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) تَكْمِلَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِبَيَانِ حَالَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اخْتِلَالَ أَمَانَتِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ، وَهَذَا ضَرْبٌ آخَرُ جَاءَ بِهِ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى ذِكْرِ صِلَتِهِ الْعَجِيبَةِ مِنْ حَالِ مَنْ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَالْخِسَّةَ ثُمَّ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِانْكِسَارِ لِمَا فَعَلَ أَوْ تَطَلُّبِ السِّتْرِ عَلَى شَنْعَتِهِ، بَلْ يَرْتَقِي فَيَتَرَقَّبُ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِ، وَيَتَطَلَّبُ الْمَحْمَدَةَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَوْصُولُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُعَرَّفِ بلام الْعَهْد لأنّ أُرِيدَ بِهِ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، فَمَعْنَى يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُوا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ نَبْذُ الْكِتَابِ وَالِاشْتِرَاءُ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا وإنّما فَرَحهمْ بِمَا نَالُوا بِفِعْلِهِمْ مِنْ نَفْعٍ فِي الدُّنْيَا. وَمَعْنَى: يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَفَظَةُ الشَّرِيعَةِ وَحُرَّاسُهَا وَالْعَالِمُونَ بِتَأْوِيلِهَا، وَذَلِكَ خِلَافُ الْوَاقِعِ. هَذَا ظَاهِرُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَتَوْا إِضْلَالَ أَتْبَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَبُّوا الْحَمْدَ بِأَنَّهُمْ عُلَمَاءٌ بِكُتُبِ الدِّينِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَن الْغَزْو ويعتذرون بِالْمَعَاذِيرِ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّ لَهُمْ نِيَّةَ الْمُجَاهِدِينَ، وَلَيْسَ الْمَوْصُولُ بِمَعْنَى لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِبَوَّابِهِ: «اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ

فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَمَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ» - ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمرَان: 187] حَتَّى قَوْله: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمرَان: 188] الْآيَةَ. وَالْمَفَازَةُ: مَكَانُ الْفَوْزِ. وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي مَنْ يحلّه يفوز بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَدُوِّ سُمِّيَتِ الْبَيْدَاءُ الْوَاسِعَةُ مَفَازَةً لِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ فِيهَا يَفُوزُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَطَلَبَةِ الْوَتَرِ عِنْدَهُ وَكَانُوا يَتَطَلَّبُونَ الْإِقَامَةَ فِيهَا. قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ أَضَعُ الْبَيْتَ فِي صَمَّاءَ مُظْلِمَةٍ ... تُقَيِّدُ الْعِيرَ لَا يَسْرِي بِهَا السَّارِي تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا ... مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ وَلَمَّا كَانَتِ الْمَفَازَةُ مُجْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْفَوْزِ الْحَاصِلِ فِيهَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْعَذابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) مَعْنَاهُ الْبَدَلِيَّةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: 7] ، أَوْ بِمَعْنَى (عَنْ) بِتَضْمِينِ مَفَازَةٍ مَعْنَى مَنْجَاةٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامر، وَأَبُو عمور، وَأَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ- بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-. وأمّا سِينُ (تَحْسَبَنَّ) فَقَرَأَهَا- بِالْكَسْرِ- نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَهَا- بِالْفَتْحِ- الْبَاقُونَ. وَقَدْ جَاءَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى نَظْمٍ بَدِيعٍ إِذْ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ الْحُسْبَانِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَفْعُولُ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ إِلَخْ أَنْفُسَهُمْ. وَأُعِيدَ فِعْلُ الْحُسْبَانِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمرَان: 188] مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ بِالْفَاءِ وَأُتِيَ بَعْدَهُ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي: وَهُوَ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: 188] فَتَنَازَعَهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لَا تَحْسَبَنَّ

[سورة آل عمران (3) : آية 189]

الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمرَان: 188]- بِتَاءِ الْخِطَابِ- يَكُونُ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ اعْتِرَاضًا بِالْفَاءِ أَيْضًا وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ الْحُسْبَانِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْفَائِدَةِ، مِنْ تَشْوِيقِ السَّامِعِ إِلَى سَمَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْ حُسْبَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلَا تَحْسِبَنَّهُمْ:- بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِخِطَابِ الْوَاحِدِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- عَلَى أَنَّهُ لِخِطَابِ الْجَمْعِ، وَحَيْثُ إنّهما قرءا أَوَّلَهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَضَمُّ الْبَاءِ- يَجْعَلُ فَاعِلَ (يَحْسَبَنَّ) وَمَفْعُولَهُ مُتَّحِدَيْنِ أَيْ لَا يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاتِّحَادُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِلْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الظَّنِّ كَمَا هُنَا وَأُلْحِقَتْ بِهَا أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ، وَهِي: (وجد) و (عدم) و (فقد) . وَأَمَّا سِينُ «تَحْسَبَنَّهُمْ» فَالْقِرَاءَاتُ مُمَاثِلَةٌ لِمَا فِي سين يَحسبن. [189] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 189] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) تَذْيِيلٌ بِوَعِيدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَكْتُمُونَ من خلائقهم. [190- 194] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 190 إِلَى 194] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ

(194) هَذَا غَرَضٌ أُنُفٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَتَابَعَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، انْتُقِلَ بِهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقْصِدِ وَالْمُتَخَلِّلَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ، إِلَى غَرَضٍ جَدِيدٍ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا وَالتَّنْوِيهُ بِالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ آيَاتٍ. وَمِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ يَكُونُ إِيذَانًا بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ عَلَى أَغْرَاضِ السُّورَةِ، عَلَى تَفَنُّنِهَا، فَقَدْ كَانَ التَّنَقُّلُ فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ إِلَى مُشَاكِلِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِانْتِقَالُ الْآنَ إِلَى غَرَضٍ عَامٍّ: وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ، وَهَذَا النَّحْوُ فِي الِانْتِقَالِ يَعْرِضُ لِلْخَطِيبِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَغْرَاضِهِ عَقِبَ إِيفَائِهَا حَقَّهَا إِلَى غَرَضٍ آخَرَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَشَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ بِالْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ أَغْرَاضِ الرِّسَالَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي خِتَامِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَالْمُرَادُ بِ خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هُنَا: إِمَّا آثَارُ خَلْقِهَا، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي جُعِلَ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] . وَأولُوا الْأَلْبَابِ أَهْلُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ لبّ الشَّيْء هُوَ خُلَاصَتُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [الْبَقَرَة: 164] إِلَخْ. ويَذْكُرُونَ اللَّهَ إِمَّا مِنَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَإِمَّا مِنَ الذِّكْرِ القلبي وَهُوَ التفكّر، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ عُمُومَ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَقَوْلِهِمْ: اشْتَهَرَ كَذَا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ هِيَ مُتَعَارَفُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي السَّلَامَةِ، أَيْ أَحْوَالِ الشُّغْلِ وَالرَّاحَةِ وَقَصْدِ النَّوْمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَحْوَالَ الْمُصَلِّينَ: مِنْ قَادِرٍ، وَعَاجِزٍ، وَشَدِيدِ الْعَجْزِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَطْفٌ مُرَادِفٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِيمَا سبق التفكّر، وَإِعَادَتَهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمُتَفَكَّرِ فِيهِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ ذكر اللِّسَان. والتفكّر عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ

شَأْنُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أَتَرَى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ. وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةِ أَثَرِ الْخَلْقِ، أَوِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَالْإِضَافَةُ إِمَّا عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى (فِي) . وَقَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ: أَيْ يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ: رَبَّنَا إِلَخْ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أُرِيدَ بِهِ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدُّعَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيفَ تواطأ الْجمع مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ عَلَى قَوْلِ هَذَا التَّنْزِيهِ وَالدُّعَاء عِنْد التفكّر مَعَ اخْتِلَافِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَأَثُّرِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا يُلَازِمُونَهُ عِنْدَ التَّفَكُّرِ وَعَقِبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ فَصَارَ هَجِّيرَاهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا [الْبَقَرَة: 285] الْآيَاتِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا حِكَايَةً لِتَفَكُّرِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ، فَهُوَ كَلَامُ النَّفْسِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُتَفَكِّرِينَ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي صِحَّةِ التَّفَكُّرِ لِأَنَّهُ تَنَقَّلَ مِنْ مَعْنًى إِلَى مُتَفَرِّعٍ عَنْهُ، وَقَدِ اسْتَوَى أُولُو الْأَلْبَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ هُنَا فِي إِدْرَاكِ هَذِهِ الْمعَانِي، فأوّل التفكّر أَنْتَجَ لَهُمْ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تُخْلَقْ بَاطِلًا، ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَسُؤَالِهِ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي الْمَخْلُوقَاتِ طَائِعًا وَعَاصِيًا، فَعَلِمُوا أَنَّ وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، فَاسْتَعَاذُوا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَتَوَسَّلُوا إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا غَايَةَ مَقْدُورِهِمْ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ إِذِ اسْتَجَابُوا لِمُنَادِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَأَلُوا غُفْرَانَ الذُّنُوبِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْمَوْتَ عَلَى الْبِرِّ إِلَى آخِرِهِ ... فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ يَخْلُو مِنْ هَذِهِ التَّفَكُّرَاتِ وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَشَاعَتْ بَيْنَهُمُ، اهْتَدَى لِهَذَا التَّفْكِيرِ مَنْ لَمْ يَكُنِ انْتَبَهَ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَصَارَ شَائِعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ.

وَمَعْنَى مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا، أَوْ مَا خَلَقْتَ هَذَا فِي حَالِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهِيَ حَالٌ لَازِمَةُ الذِّكْرِ فِي النَّفْيِ وَإِنْ كَانَتْ فَضْلَةً فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: 38] فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ عَقَائِدِ مَنْ يُفْضِي اعْتِقَادُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ بَاطِلٌ أَوْ خُلِّيَ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَالْعَرَبُ تَبْنِي صِيغَةَ النَّفْيِ عَلَى اعْتِبَارِ سَبْقِ الْإِثْبَاتِ كَثِيرًا. وَجِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ لِأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ حَقٌّ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ أَنْ لَا يَسْتَوِيَ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، فَعَلِمُوا أَنَّ لِكُلٍّ مُسْتَقَرًّا مُنَاسِبًا فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الْمُجَنَّبِينَ عَذَابَ النَّارِ. وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مَسُوقٌ مَسَاقُ التَّعْلِيلِ لِسُؤَالِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّار، كَمَا توذن بِهِ (إِنَّ) الْمُسْتَعْمَلَةُ لِإِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَقَامَ لِلتَّأْكِيدِ هُنَا. وَالْخِزْيُ مَصْدَرُ خَزِيَ يَخْزَى بِمَعْنَى ذَلَّ وَهَانَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ، وَأَخْزَاهُ أذلّه على رُؤُوس الْأَشْهَادِ، وَوَجْهُ تَعْلِيلِ طَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ بِأَنَّ دُخُولَهَا خِزْيٌ بَعْدَ الْإِشَارَة إِلَى مُوجب ذَلِكَ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِمْ: عَذابَ النَّارِ أَنَّ النَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِيهَا قَهْرٌ لِلْمُعَذَّبِ وَإِهَانَةٌ عَلَنِيَّةٌ، وَذَلِكَ مَعْنًى مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [بالشعراء: 87] وَذَلِكَ لِظُهُورِ وَجْهِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ مَنْ يَدْخُلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَالْخِزْيُ لَا تُطِيقُهُ الْأَنْفُسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ تَأَوَّلُوهُ عَلَى مَعْنَى فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ خِزْيًا عَظِيمًا. وَنَظَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِ رُعَاةِ الْعَرَبِ: «مَنْ أَدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّانِ فَقَدْ أَدْرَكَ» أَيْ فَقَدْ أدْرك مرعى مخصبا لِئَلَّا يَكُونَ مَعْنَى الْجَزَاءِ ضَرُورِيَّ الْحُصُولِ مِنَ الشَّرْطِ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يُخَلِّي الْكَلَامَ عَنِ الْفَائِدَةِ حِينَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمرَان: 185] . وَلِأَجْلِ هَذَا أَعْقَبُوهُ بِمَا فِي الطِّبَاعِ التَّفَادِي بِهِ عَنِ الْخِزْيِ وَالْمَذَلَّةِ بِالْهَرَعِ إِلَى أَحْلَافِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، فَعَلِمُوا أَنْ لَا نَصِيرَ فِي الْآخِرَةِ لِلظَّالِمِ فَزَادُوا بِذَلِكَ

تَأْكِيدًا لِلْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِذْ قَالُوا: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أَيْ لأهل النَّار من أَنْصَارٌ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْخِزْيَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً أَرَادُوا بِهِ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُنَادِي، الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْكَلَامِ. وَالنِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ رَفْعًا قَوِيًّا لِأَجْلِ الْإِسْمَاعِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النِّدَاءِ- بِكَسْرِ النُّونِ وَبِضَمِّهَا- وَهُوَ الصَّوْتُ الْمُرْتَفِعُ. يُقَالُ: هُوَ أَنْدَى صَوْتًا أَيْ أَرْفَعُ، فَأَصْلُ النِّدَاءِ الْجَهْرُ بِالصَّوْتِ وَالصِّيَاحُ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ دُعَاءُ الشَّخْصِ شَخْصًا لِيُقْبِلَ إِلَيْهِ نِدَاءً، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْفَعَ الصَّوْتَ بِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ حُرُوفًا مَمْدُودَةً مِثْلَ (يَا) وَ (آ) وَ (أَيَا) وَ (هَيَا) . وَمِنْهُ سُمِّي الْأَذَانُ نِدَاءً، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِسْمَاعِ وَالدَّعْوَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَفْعُ صَوْتٍ، وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْفَهْمِ بِحُرُوفٍ مَعْلُومَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [فصلت: 104، 105] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ هُنَا لِأَنَّ النَّبِيءَ يَدْعُو النَّاسَ بِنَحْوِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَيَا بَنِي فُلَانٍ وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ مَعَانِي النِّدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [43] . وَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَ (أَنْ) فِي أَنْ آمِنُوا تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي فِعْلِ (يُنَادِي) مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَجَاءُوا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي (فَآمَنَّا) : لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالسَّبْقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَقَدْ تَوَسَّمُوا أَنْ تَكُونَ مُبَادَرَتُهُمْ لِإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مَشْكُورَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَذَلُوا كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنَ اتِّبَاعِ الدِّينِ كَانُوا حَقِيقِينَ بِتَرَجِّي الْمَغْفِرَةِ. وَالْغَفْرُ وَالتَّكْفِيرُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَادَّةِ الْمُشْتَقَّيْنِ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ الْغَفْرُ وَالْغُفْرَانُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ وَالتَّكْفِيرِ فِي تَعْوِيضِ الذَّنْبِ بِعِوَضٍ، فَكَأَنَّ الْعِوَضَ كَفَّرَ الذَّنْبَ أَيْ سَتَرَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ. وَكَفَّارَةُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالذُّنُوبِ مَا كَانَ قَاصِرًا عَلَى ذَوَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ طَلَبُوا مَغْفِرَتَهُ،

وَأَرَادُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا كَانَ فِيهِ حَقُّ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ سَأَلُوا تَكْفِيرَهَا عَنْهُمْ. وَقِيلَ هُوَ مُجَرَّدُ تَأْكِيدٍ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقِيلَ أَرَادُوا مِنَ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرَ وَمِنَ السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرَ لِأَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ أَدَلُّ عَلَى الْإِثْمِ مِنَ السَّيِّئَةِ. وَسَأَلُوا الْوَفَاةَ مَعَ الْأَبْرَارِ، أَيْ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى حَالَةِ الْبِرِّ، بِأَنْ يُلَازِمَهُمُ الْبِرُّ إِلَى الْمَمَاتِ وَأَنْ لَا يَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، فَإِذَا مَاتُوا كَذَلِكَ مَاتُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ. فَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْمَعِيَّةُ مَعَ الْأَبْرَارِ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالدَّلَالَةِ، لِأَنَّهُ بِرٌّ يُرْجَى دَوَامُهُ وَتَزَايُدُهُ لِكَوْنِ صَاحِبِهِ ضِمْنُ جَمْعٍ يَزِيدُونَهُ إِقْبَالًا عَلَى الْبِرِّ بِلِسَانِ الْمَقَالِ وَلِسَانِ الْحَالِ. ولمّا سَأَلُوا أَسبَاب الْمَثُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَرَقَّوْا فِي السُّؤَالِ إِلَى طَلَبِ تَحْقِيقِ الْمَثُوبَةِ، فَقَالُوا: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ. وَتَحْتَمِلُ كَلِمَةُ (عَلَى) أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْوَعْدِ، وَمَعْنَاهَا التَّعْلِيلُ فَيَكُونُ الرُّسُلُ هُمُ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى الْوَعْدِ عَلَى الرُّسُلِ أَنَّهُ وَعْدٌ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (عَلَى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أَيْ وَعْدًا كَائِنًا عَلَى رُسُلِكَ أَيْ، مُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ الْجَارِّ فِي مِثْلِهِ كَوْنٌ غَيْرُ عَامٍّ بَلْ هُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ، وَمَعْنَى (عَلَى) حِينَئِذٍ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ، أَوْ تُجْعَلُ (عَلَى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ مَا وَعَدْتَنا أَيْضًا، بِتَقْدِيرِ كَوْنٍ عَامٍّ لَكِنْ مَعَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى رُسُلِكَ، أَيْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَالْمَوْعُودُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ أَوْ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهِمُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَثَوَابُ الدُّنْيَا: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمرَان: 148] وَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّور: 55] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: 105] . وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: عَلى رُسُلِكَ خُصُوصُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفُ «رُسُلٍ» تَعْظِيمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إِبْرَاهِيم: 47] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: 37] .

فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ وَبِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَمَا فَائِدَةُ سُؤَالِهِمْ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِمْ؟ قُلْتُ: لَهُ وُجُوه: أَحدهَا: أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ حُصُولُهُ أَمَارَةً عَلَى حُصُولِ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِمَا سَأَلُوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ آتِينَ بِمَا يُبَلِّغُهُمْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ وَيَخْشَوْنَ لَعَلَّهُمْ قَدْ خَلَطُوا أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ بِمَا يُبْطِلُهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَجِيءِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا دُونَ الْفَاءِ إِذْ جَعَلُوهُ دَعْوَةً مُسْتَقِلَّةً لِتَتَحَقَّقَ وَيَتَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَلَمْ يَجْعَلُوهَا نَتِيجَةَ فِعْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُصُولِهِ. وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمرَان: 195] مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا هُنَا عَدَمَ إِضَاعَةِ أَعْمَالِهِمْ. الثَّانِي: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَرَادُوا طَلَبَ التَّوْفِيقِ إِلَى أَسْبَابِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ. فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ مِنَ التَّوْفِيقِ لِلْأَعْمَالِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: قَالَ فِيهِ مَا حَاصِلُهُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ حَتَّى لَا يَظْهَرُوا بِمَظْهَرِ الْمُسْتَحِقِّ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَذَلُّلًا، أَيْ كَسُؤَالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمَغْفِرَةَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ. الرَّابِعُ: أَجَابَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفرق (273) بأنّهم سَأَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَهُ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا قَبْلَهُ قَوْلَهُمْ: وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ لَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَأَعَادُوا سُؤَالَ النَّجَاةِ مِنْ خِزْيِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَوْعُودَ الَّذِي سَأَلُوهُ هُوَ النَّصْرَ عَلَى الْعَدُوِّ خَاصَّةً، فَالدُّعَاءُ بِقَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَعْجِيلُ ذَلِكَ لَهُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ إِذَا دَعَا بِهَذَا فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يَرَى مِصْدَاقَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِ خَبَّابِ بن الْأَرَتِّ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيءِ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا، وَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً» إِلَخْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 195]

وَقَدِ ابتدأوا دُعَاءَهُمْ وَخَلَّلُوهُ بِنِدَائِهِ تَعَالَى: خمس مَرَّات إِظْهَار لِلْحَاجَةِ إِلَى إِقْبَالِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَقَالَ: يَا رَبِّ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِمَّا يَخَافُ وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ» ، واقرأوا: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ. [195] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُنَاجَاةَ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الدُّعَاءِ قَابِلٌ لِلْإِجَابَةِ. وَ (اسْتَجَابَ) بِمَعْنَى أَجَابَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلَ: اسْتَوْقَدَ وَاسْتَخْلَصَ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ، وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيِّ: أَنَّ اسْتَجَابَ أَخَصُّ مِنْ أَجَابَ لِأَنَّ اسْتَجَابَ يُقَالُ لِمَنْ قَبِلَ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَأَجَابَ أَعَمُّ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَجَابَ بِالْقَبُولِ وَبِالرَّدِّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْتِجَابَةُ هِيَ التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ، لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. وَيُقَالُ: اسْتَجَابَ لَهُ وَاسْتَجَابَهُ، فَعُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِاللَّامِ، كَمَا قَالُوا: حَمِدَ لَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ أَيْضًا مِثْلُهُمَا. قَالَ كَعْبُ بْنُ سَعْدٍ الْغَنَوِيُّ، يَرْثِي قَرِيبًا لَهُ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَتَعْبِيرُهُمْ فِي دُعَائِهِمْ بِوَصْفِ رَبَّنا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ بِالْمَرْبُوبِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُ، وَمِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَلِتَتَأَتَّى الْإِضَافَةُ الْمُفِيدَةُ التَّشْرِيفَ وَالْقُرْبَ، وَلِرَدِّ حُسْنِ دُعَائِهِمْ بِمِثْلِهِ بِقَوْلِهِمْ: «رَبَّنَا، رَبَّنَا» .

وَمَعْنَى نَفْيِ إِضَاعَةِ عَمَلِهِمْ نَفْيُ إِلْغَاءِ الْجَزَاءِ عَنْهُ: جَعْلُهُ كَالضَّائِعِ غَيْرِ الْحَاصِلِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ. فَنَفْيُ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ وَعْدٌ بِالِاعْتِدَادِ بِعَمَلِهِمْ وَحُسْبَانِهِ لَهُمْ، فَقَدْ تَضَمَّنَتِ الِاسْتِجَابَةُ تَحْقِيقَ عَدَمِ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ مِنْ وَجَلِ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمرَان: 194] تَحْقِيقَ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْحَبَطِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَيَانٌ لِعَامِلٍ وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ هُنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَتَوْا بِهَا أَكْبَرُهَا الْإِيمَانُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ أَكْثَرَ تَكَرُّرًا خِيفَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَظَّ لَهُنَّ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَدَفَعَ هَذَا بِأَنَّ لِلنِّسَاءِ حَظَّهُنَّ فِي ذَلِكَ فَهُنَّ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ يُسَاوِينَ الرِّجَالَ، وَهُنَّ لَهُنَّ حَظُّهُنَّ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ لِأَنَّهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى الْمَرْضَى وَيُدَاوِينَ الْكَلْمَى، وَيَسْقِينَ الْجَيْشَ، وَذَلِكَ عَمَلٌ عَظِيمٌ بِهِ اسْتِبْقَاءُ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ لَا يُقْصَرُ عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ إِتْلَافُ نُفُوسِ عَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (مِنْ) فِيهِ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ بَعْضُ الْمُسْتَجَابِ لَهُمْ مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ بِمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ وَاحِدٌ وَأَمْرَهُمْ سَوَاءٌ. قَالَ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: 67] إِلَخْ ... وَقَوْلُهُمْ: هُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَفِي عَكْسِهِ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَدْ حَمَلَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِسَاءَكُمْ وَرِجَالَكُمْ يَجْمَعُهُمْ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أَيْ لِأَنَّ شَأْنَكُمْ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَضَاعَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا سَوَاءً فِي تَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: 32] .

وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ هَذَا تَعْلِيلًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِلتَّسَاوِي فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ أَنْتُمْ فِي عِنَايَتِي بِأَعْمَالِكُمْ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَضَاءٌ لِحَقِّ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُتَسَاوِينَ فِيهَا، لِيَكُونَ تَمْهِيدًا لِبِسَاطِ تَمْيِيزِ الْمُهَاجِرِينَ بِفَضْلِ الْهِجْرَةِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا، الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْخَاصِّ، وَاشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ مَا تَفَاضَلُوا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْهِجْرَةُ الَّتِي فَازَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ. وَالْمُهَاجَرَةُ: هِيَ تَرْكُ الْمَوْطِنِ بِقَصْدِ اسْتِيطَانِ غَيْرِهِ، وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهَا لِلتَّقْوِيَةِ كَأَنَّهُ هَجَرَ قَوْمَهُ وَهَجَرُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْرِصُوا عَلَى بَقَائِهِ، وَهَذَا أَصْلُ الْمُهَاجَرَةِ أَنْ تَكُونَ لِمُنَافَرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ تَصْدُقُ بِهِجْرَةِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَبِهِجْرَةِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عَلَى هاجَرُوا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي هَاجَرَ أَيْ هَاجَرُوا مُهَاجِرَةً لَزَّهُمْ إِلَيْهَا قَوْمُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْرَاجُ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ أَمْ بِالْإِلْجَاءِ، مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَقَدْ هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ الْهِجْرَةَ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَة لما لَا قوه مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِجْرَتَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، لِمَا لَاقَوْهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَا يُوجَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ، وَكَيْفَ وَاخْتِفَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَدُلُّ عَلَى حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صَدِّهِ عَنِ الْخُرُوجِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ كَعْبٍ: فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا أَيْ قَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْرُجُوا مِنْ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِمَّا فِيهِ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ الْإِلْجَاءُ إِلَى الْخُرُوجِ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَرَقَةَ ابْن نَوْفَلٍ: «يَا لَيْتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ» ، وَقَوْلُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «أَو مخرجيّ هُمْ؟ فَقَالَ: مَا جَاءَ نَبِيءٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 198]

بِهِ إِلَّا عُودِيَ» . وَقَوْلُهُ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ أَصَابَهُمُ الْأَذَى وَهُوَ مَكْرُوهٌ قَلِيلٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُمُ الضُّرُّ أَوْلَى بِالثَّوَابِ وَأَوْفَى. وَهَذِهِ حَالَةٌ تَصْدُقُ بِالَّذِينَ أُوذُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِلْقِسْمَيْنِ ثَوَابًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا- عَكْسَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ تَصْدُقُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فَاسْتَشْهَدُوا أَوْ بَقُوا. وَقَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ إِلَخْ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ. وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ تقدّم آنِفا. [196- 198] [سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 196 إِلَى 198] لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمرَان: 195] بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ عَدَمُ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ جَزَاءً كَامِلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ ذَلِكَ مِنْ حِرْمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَاعِي الْإِيمَانِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرَّاءِ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَغُرَّهُ حُسْنُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا. وَالْغَرُّ وَالْغُرُورُ: الْإِطْمَاعُ فِي أَمْرٍ مَحْبُوبٍ عَلَى نِيَّةِ عَدَمِ وُقُوعِهِ، أَوْ إِظْهَارِ الْأَمْرِ الْمُضِرِّ فِي صُورَةِ النَّافِعِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغِرَّةِ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- وَهِيَ الْغَفْلَةُ، وَرَجُلٌ غِرٌّ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- إِذَا كَانَ يَنْخَدِعُ لِمَنْ خَادَعَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ» أَيْ يَظُنُّ الْخَيْرَ بِأَهْلِ الشَّرِّ إِذَا أَظْهَرُوا لَهُ الْخَيْرَ.

وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِظُهُورِ الشَّيْءِ فِي مَظْهَرٍ مَحْبُوبٍ، وَهُوَ فِي الْعَاقِبَةِ مَكْرُوهٌ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ الْغُرُورِ إِلَى التَّقَلُّبِ لِأَنَّ التَّقَلُّبَ سَبَبُهُ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَالْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّكَ. وَنَظِيرُهُ: «لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» . وَ (لَا) نَاهِيَةٌ لِأَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا تَجِيءُ مَعَ النَّفْيِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَغُرَّنَّكَ- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ وَقَرَأَهَا رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِنُونٍ سَاكِنَةٍ-، وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ. وَالتَّقَلُّبُ: تَصَرُّفٌ عَلَى حَسَبِ الْمَشِيئَةِ فِي الْحُرُوبِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: 4] . والبلاد: الْأَرْضُ. وَالْمَتَاعُ: الشَّيْءُ الَّذِي يُشْتَرَى لِلتَّمَتُّعِ بِهِ. وَجُمْلَةُ مَتاعٌ قَلِيلٌ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لَا يَغُرَّنَّكَ. وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ الْعَاجِلَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [آل عمرَان: 185] . وَجُمْلَةُ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى آخِرِهَا افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا ضِدُّ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا لِأَنَّ مَعْنَى لَا يَغُرَّنَّكَ إِلَخْ وَصْفُ مَا هُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَيْ غَيْرُ دَائِمٍ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ لَهُمْ مَنَافِعُ دَائِمَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: لَكِن- بِتَخْفِيفِ النُّونِ سَاكِنَةً مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ- وَهِيَ مُهْمَلَةٌ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَفْتُوحَةً- وَهِيَ عَامِلَةٌ عَمَلَ إِنَّ. وَالنُّزُلُ- بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ وَبِضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الزَّايِ- مَا يُعَدُّ لِلنَّزِيلِ وَالضَّيْفِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْقِرَى، قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 31، 32] .

[سورة آل عمران (3) : آية 199]

وَ (الْأَبْرَارِ) جَمْعُ الْبَرِّ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْمَبَرَّةِ وَالْبِرِّ، وَهُوَ حُسْنُ الْعَمَلِ ضدّ الْفُجُور. [199] [سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمرَان: 198] اسْتِكْمَالًا لِذِكْرِ الْفَرْقِ فِي تَلَقِّي الْإِسْلَامِ: فَهَؤُلَاءِ فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُظْهِرُوا إِيمَانَهُمْ لِخَوْفِ قَوْمِهِمْ مِثْلِ النَّجَاشِيِّ أَصْحَمَةَ، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُحَرِّفُونَ الدِّينَ، وَالْآيَةُ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ عُرِفُوا بِالْإِيمَانِ لَمَا كَانَ مِنْ فَائِدَةٍ فِي وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا الصِّنْفُ بعكس حَال المنافين. وأكّد الْخَبَر بأنّ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ لَمَّا صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ: انْظُرُوا إِلَيْهِ يُصَلِّي عَلَى نَصْرَانِيٍّ لَيْسَ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَرَهُ قَطُّ. عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ وَفَاةَ النَّجَاشِيِّ حَصَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ هُنَا مَنْ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ وَتَصْدِيقَهُ مِنَ الْيَهُودِ مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ، وَكَذَا مَنْ آمَنَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ أَيِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَرَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ إِنْ صَحَّ خَبَرُ إِسْلَامِهِمْ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِهِ أَحْرِيَاءٌ بِمَا سَيَرِدُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ اسْمَ الْإِشَارَةِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إِلَى أَنَّهُ يُبَادِرُ لَهُمْ بِأَجْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَجْعَلُهُ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة.

[سورة آل عمران (3) : آية 200]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 200] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) خُتِمَتِ السُّورَةُ بِوِصَايَةٍ جَامِعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تُجَدِّدُ عَزِيمَتَهُمْ وَتَبْعَثُ الْهِمَمَ إِلَى دَوَامِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ كَيْ لَا يُثَبِّطَهُمْ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ جُمَّاعُ الْفَضَائِلِ وَخِصَالُ الْكَمَالِ، ثُمَّ بِالْمُصَابَرَةِ وَهِيَ الصَّبْرُ فِي وَجْهِ الصَّابِرِ، وَهَذَا أَشَدُّ الصَّبْرِ ثَبَاتًا فِي النَّفْسِ وَأَقْرَبُهُ إِلَى التَّزَلْزُلِ، ذَلِك أَنَّ الصَّبْرَ فِي وَجْهِ صَابِرٍ آخَرَ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِ الصَّابِرِ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ قِرْنٍ لَهُ فِي الصَّبْرِ قَدْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَفُوقُهُ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُصَابِرَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَبْرِهِ حَتَّى يَمَلَّ قِرْنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَنِي مِنْ صَبْرِهِ شَيْئًا، لِأَنَّ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ تَكُونُ لِأَطْوَلِ الصَّابِرِينَ صَبْرًا، كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فِي اعْتِذَارِهِ عَنِ الِانْهِزَامِ: سَقَيْنَاهُمُ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا فَالْمُصَابَرَةُ هِيَ سَبَبُ نَجَاحِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ: لَا أَنْتَ مُعْتَادٌ فِي الْهَيْجَا مُصَابَرَةً ... يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا وَقَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَمْرٌ لَهُمْ بِالْمُرَابَطَةِ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ، وَهُوَ رَبْطُ الْخَيل للحراسة فِي غَيْرِ الْجِهَادِ خَشْيَةَ أَنْ يَفْجَأَهُمُ الْعَدُوُّ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَكِيدُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُفَاجَأَتِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَيْقَاظًا مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَفِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنَ «الْبُخَارِيِّ» : بَابُ فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا إِلَخْ. وَكَانَتِ الْمُرَابَطَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ رَبْطُ الْفَرَسِ لِلْحِرَاسَةِ فِي الثُّغُورِ أَيِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ الْعَدُوُّ الْوُصُولَ مِنْهَا إِلَى الْحَيِّ مِثْلِ الشِّعَابِ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَمَا رَأَيْتُ مَنْ وَصَفَ ذَلِكَ مِثْلَ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ إِذْ قَالَ: وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتِي ... فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامُهَا فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبًا عَلَى ذِي هَبْوَةٍ ... حَرِجٍ إِلَى إِعْلَامِهِنَّ قَتَامُهَا حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا

فَذَكَرَ أَنَّهُ حَرَسَ الْحَيَّ عَلَى مَكَانٍ مُرْتَقَبٍ، أَيْ عَالٍ بِرَبْطِ فَرَسِهِ فِي الثَّغْرِ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُرَابِطُونَ فِي ثُغُورِ بِلَادِ فَارِسٍ وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ فِي الْبَرِّ، ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَ سُلْطَانُ الْإِسْلَامِ وَامْتَلَكُوا الْبِحَارَ صَارَ الرِّبَاطُ فِي ثغور البخار وَهِيَ الشُّطُوطُ الَّتِي يُخْشَى نُزُولُ الْعَدُوِّ مِنْهَا: مِثْلَ رِبَاطِ الْمِنِسْتِيرِ بِتُونِسَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَرِبَاطِ سَلَا بِالْمَغْرِبِ، وَرُبُطِ تُونِسَ وَمَحَارِسِهَا: مِثْلِ مَحْرَسِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ قُرْبَ صَفَاقِسَ. فَأَمَرَ اللَّهُ بِالرِّبَاطِ كَمَا أَمَرَ بِالْجِهَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ خُفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرابِطُوا إِعْدَادَ الْخَيْلِ مَرْبُوطَةً لِلْجِهَادِ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ فِي الثُّغُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرابِطُوا انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، لِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فذلكم الرِّبَاط، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» . وَنُسِبَ هَذَا لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ» ، أَيْ وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» . وَأَعْقَبَ هَذَا الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِأَنَّهَا جُمَّاعُ الْخَيْرَاتِ وَبِهَا يُرْجَى الْفَلَاحُ.

4- سورة النساء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 4- سُورَةُ النِّسَاءِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ سُورَةَ النِّسَاءِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ» . وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: «لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى» يَعْنِي سُورَةَ الطَّلَاقِ- أَنَّهَا شَارَكَتْ هَذِهِ السُّورَةَ فِي التَّسْمِيَةِ بِسُورَة النِّسَاء، وأنّ هَذِه السُّورَة تميّز عَن سُورَة الطَّلَاق باسم سُورَة النّساء الطُّولَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ صَرِيحًا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ «بَصَائِرِ ذَوي التَّمْيِيز» للفيروزآبادي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ النِّسَاءِ الْكُبْرَى، وَاسْمُ سُورَةِ الطَّلَاقِ سُورَةُ النِّسَاءِ الصُّغْرَى. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ (¬1) . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِإِضَافَةٍ إِلَى النِّسَاءِ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِأَحْكَامِ صِلَةِ الرَّحِمِ، ثُمَّ بِأَحْكَامٍ تَخُصُّ النِّسَاءَ، وَأَنَّ فِيهَا أَحْكَامًا كَثِيرَةً مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ: الْأَزْوَاجُ، وَالْبَنَاتُ، وَخُتِمَتْ بِأَحْكَامٍ تَخُصُّ النِّسَاءَ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ، لِمَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ، لِثَمَانِ أَشْهُرٍ خَلَتْ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا مُتَأَخِّرًا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي خِلَالِ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَيْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ الْأَنْفَالِ ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ سُورَةُ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ الْمُمْتَحَنَةِ، ثُمَّ النِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَكُونُ سُورَةُ النِّسَاءِ نَازِلَةً بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي هِيَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي هُوَ فِي سَنَةِ سِتٍّ حَيْثُ تَضَمَّنَتْ سُورَةُ ¬

(¬1) صفحة 169 جُزْء 1 مطابع شركَة الإعلانات الشرقية بِالْقَاهِرَةِ سنة 1384.

الْمُمْتَحَنَةِ شَرْطَ إِرْجَاعِ مَنْ يَأْتِي الْمُشْرِكِينَ هَارِبًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَدَا النِّسَاءِ، وَهِيَ آيَةُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: 10] الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ يَتِيمٌ، وَغَطَفَانُ أَسْلَمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ، إِذْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ بَعْدَ سَنَةِ خَمْسٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ عِنْدَ الْهِجْرَةِ. وَهُوَ بَعِيدٌ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ لأنّها افتتحت بيا أَيُّهَا النَّاسُ، وَمَا كَانَ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ لَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَكِّيَّ بِإِطْلَاقَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ صَدْرُهَا بِمَكَّةَ وَسَائِرُهَا بِالْمَدِينَةِ. وَالْحَقُّ أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى إِرَادَةِ دُخُولِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْخِطَابِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَلَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَدَنِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَفِيهَا آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَالتَّيَمُّمُ شرع يَوْم غزَاة الْمُرَيْسِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ. فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ نُزُولَ سُورَةِ النِّسَاءِ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَطَالَتْ مُدَّةُ نُزُولِهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا مُفَصَّلَةٌ تَقَدَّمَتْ مُجْمَلَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْتَامِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، فَمُعْظَمُ مَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ شَرَائِعُ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي مُعْظَمِ نَوَاحِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ نُظُمِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْحُكْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ نُزُولِ سَائِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَبَيْنَ نُزُولِ آيَةِ الْكَلَالَةِ، الَّتِي فِي آخِرِهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ أُمِرُوا بِإِلْحَاقِهَا بِسُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي فِيهَا الْآيَةُ الْأُولَى. وَوَرَدَتْ فِي السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى آيَةَ الشِّتَاءِ، وَآيَةِ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ آيَةَ الصَّيْفِ. وَيَتَعَيَّنُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النِّسَاء: 75] يَعْنِي مَكَّةَ. وَفِيهَا آيَةُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاء: 58] نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الشَّيْبِيِّ، صَاحِبِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى تَحْقِيرِ دِينِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا- فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا» إِلَخْ،

وَسِوَى التَّهْدِيدِ بِالْقِتَالِ، وَقَطْعِ مَعْذِرَةِ الْمُتَقَاعِدِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَتَوْهِينِ بَأْسِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَارَ إِلَى وَهْنٍ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مُعْظَمَهَا، بَعْدَ التَّشْرِيعِ، جِدَالٌ كَثِيرٌ مَعَ الْيَهُودِ وَتَشْوِيهٌ لِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَجِدَالٌ مَعَ النَّصَارَى لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَلَكِنَّهُ أَوْسَعُ مِمَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّصَارَى أَخَذَتْ تَظْهَرُ بِسَبَبِ تَفَشِّي الْإِسْلَامِ فِي تُخُومِ الْحِجَازِ الشَّامِيَّةِ لِفَتْحِ مُعْظَمِ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةُ وَالتِّسْعِينَ مِنَ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الزلزلة: 1] . وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، وَمِائَةٌ وَسِتٌّ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَغْرَاضٍ وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرُهَا تَشْرِيعُ مُعَامَلَاتِ الْأَقْرِبَاءِ وَحُقُوقِهِمْ، فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِأَنْ يَشْكُرُوا رَبَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يُرَاعُوا حُقُوقَ النَّوْعِ الَّذِي خُلِقُوا مِنْهُ، بِأَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمُ الْقَرِيبَةَ وَالْبَعِيدَةَ، وَبِالرِّفْقِ بِضُعَفَاءَ النَّوْعِ مِنَ الْيَتَامَى، وَيُرَاعُوا حُقُوقَ صِنْفِ النِّسَاءِ مِنْ نَوْعِهِمْ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِنَّ، وَالْإِشَارَة إِلَى عُقُود النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ، وَشَرْعِ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النِّسَاءِ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِانْحِرَافِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ، وَمُعَاشَرَتِهِنَّ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَهُنَّ، وَبَيَانِ مَا يَحِلُّ لِلتَّزَوُّجِ مِنْهُنَّ، وَالْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الصِّهْرِ، وَأَحْكَامِ الْجَوَارِي بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ حُقُوقُ مَصِيرِ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ، وَتَقْسِيمِ ذَلِكَ، وَحُقُوقُ حِفْظِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَحِفْظِهَا لَهُمْ وَالْوِصَايَةِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ أَحْكَامُ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَأَحْكَامُ الْقَتْلِ عَمْدًا وَخَطَأً، وَتَأْصِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُقُوقِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بِدُونِ مُصَانَعَةٍ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالْأَمْرُ بِالْبِرِّ، وَالْمُوَاسَاةُ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَالتَّمْهِيدُ لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.

[سورة النساء (4) : آية 1]

وَطَائِفَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالطَّهَارَةِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ. ثُمَّ أَحْوَالُ الْيَهُودِ، لِكَثْرَتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَائِحُهُمْ، وَأَحْكَامُ الْجِهَادِ لِدَفْعِ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَحْكَامُ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمَسَاوِيهِمْ، وَوُجُوبُ هِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَإِبْطَالُ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ مَوَاعِظُ، وَتَرْغِيبٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا لِلْغَيْرِ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا مَنْ حُرِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، أَوْ بِحُكْمِ الْفِطْرَةِ. وَالتَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِصْلَاحِ. وَبَثُّ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. [1] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. جَاءَ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ: لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَوْمَئِذٍ وَفِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ. فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ،- إِذْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ- وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ جَمِيعِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ بِلُغَتِهِمْ، وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ لِلرُّومِ وَفَارِسَ وَمِصْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ لِتُتَرْجَمَ لَهُمْ بِلُغَاتِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدُ هَذَا النِّدَاءِ جَامِعًا لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، نُودِيَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّذَكُّرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، إِذْ قَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَعْوَةً تَظْهَرُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَحْدَةِ النَّوْعِ وَوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْوَى فِي اتَّقُوا رَبَّكُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشُّرَكَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ. وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مُنَاسِبَةٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ. وَعَبَّرَ بِ (رَبَّكُمْ) ، دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى الرَّبِّ مَا يَبْعَثُ الْعِبَادَ عَلَى

الْحِرْصِ فِي الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ الَّذِي يَرُبُّ مَمْلُوكَهُ أَي، يدبّر شؤونه، وَلِيَتَأَتَّى بِذِكْرِ لَفْظِ (الرَّبِّ) طَرِيقُ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِتَقْوَاهُ حَقَّ التَّقْوَى، وَالدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمُخَاطَبِينَ صِلَةً تُعَدُّ إِضَاعَتُهَا حَمَاقَةً وَضَلَالًا. وَأَمَّا التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْهَا: تقوى الْمُؤمنِينَ بِالْحَذَرِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْيَتَامَى مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. ثُمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى. وَوَصْلُ خَلَقَكُمْ بِصِلَةِ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَجِيبِ هَذَا الْخَلْقِ وَحَقِّهِ بِالِاعْتِبَارِ. وَفِي الْآيَةِ تَلْوِيحٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَحَقِّيَّةِ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الدِّينُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ أَوْ نَسَبًا مِنَ الْأَنْسَابِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ دِينُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِأُمَمٍ مُعَيَّنَةٍ. وَفِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُبَيَّنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ. وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ: هِيَ آدَمُ. وَالزَّوْجُ: حَوَّاءُ، فَإِنَّ حَوَّاءَ أُخْرِجَتْ مِنْ آدَمَ. مِنْ ضِلْعِهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْها. وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جُزْءٍ مِنْ آدَمَ. قِيلَ: مِنْ بَقِيَّةِ الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا آدَمُ. وَقِيلَ: فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِنْ ضِلْعِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» . وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَخَلَقَ زَوْجَهَا مِنْ نَوْعِهَا لَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ أُنْثَى كُلِّ نَوْعٍ هِيَ مِنْ نَوْعِهِ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها عَلَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، فَهُوَ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ جَدِيرٌ بِأَنْ

يُتَّقَى، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي هَذِهِ الصِّلَاتِ زِيَادَةَ تَحْقِيقِ اتِّصَالِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ مَا حَصَلَ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ فَكُلُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ يَنْتَمِي إِلَى أَصْلٍ فَوْقَهُ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَاتِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ اللَّهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ تَوْفِيَةً بِمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِلْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِتَفْصِيلِ حَالَةِ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَلَوْ غُيِّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فَجِيءَ بِالصُّورَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ سَبْقِ إِجْمَالٍ، فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَثَّ مِنْهَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ أَخْرَجَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ. وَالزَّوْجُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْأُنْثَى الْأُولَى الَّتِي تَنَاسَلَ مِنْهَا الْبَشَرُ، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا فَإِذَا اتَّخَذَ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَا زَوْجًا فِي بَيْتٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لَفْظِ الزَّوْجِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَجْمُوعِ الْفَرْدَيْنِ، فَإِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَسَامُحٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ (زَوْجَةٌ) ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَحْنًا. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ قيل لَهُ: فقد قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: أَذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ ذُو خُصُومَةٍ ... أَرَاكَ لَهَا بِالْبَصْرَةِ الْعَامَ ثَاوِيَا فَقَالَ: إِنَّ ذَا الرُّمَّةِ طَالَمَا أَكَلَ الْمَالِحَ وَالْبَقْلَ فِي حَوَانِيتِ الْبَقَّالِينَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مُوَلَّدٌ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، قَصَدُوا بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الْعِبْرَةَ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَصْلُهُ وَاحِدٌ، وَيَخْرُجُ هُوَ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ وَالْخَصَائِصِ، وَالْمِنَّةُ عَلَى الذُّكْرَانِ بِخَلْقِ النِّسَاءِ لَهُمْ، وَالْمِنَّةُ عَلَى النِّسَاءِ بِخَلْقِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، ثُمَّ مَنَّ عَلَى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ. وَالْبَثُّ: النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] . وَوَصَفَ الرِّجَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ، بِكَثِيرٍ، وَهُوَ مُفْرد، لأنّ كثير يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] . وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لدلَالَة وصف الرجل بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. شُرُوعٌ فِي التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ، وَأُعِيدَ فِعْلُ اتَّقُوا: لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا، وَهِيَ التَّسَاهُلُ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْأَيْتَامِ. وَاسْتَحْضَرَ اسْمَ اللَّهِ الْعَلَمَ هُنَا دُونَ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّكُمْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ السَّامِعِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ إِيثَارُ الْمَهَابَةِ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فَهُوَ مَقَامُ ترغيب. وَمعنى تَسائَلُونَ بِهِ يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهِ فِي الْقَسَمِ فَالْمُسَايَلَةُ بِهِ تُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْعَظَمَةِ، فَكَيْفَ لَا تَتَّقُونَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور تسائلون- بِتَشْدِيدِ السِّينِ- لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي السِّينِ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاتِّحَادِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْهَمْسُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: تَسَاءَلُونَ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا. وَالْأَرْحامَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِالْجَرِّ- عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْأَرْحَامَ مَأْمُورًا بِتَقْوَاهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ اتِّقَائِهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ اتِّقَاءِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ

[سورة النساء (4) : آية 2]

فِي مَعْنَيَيْهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْآيَةُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْأَرْحَامِ أَيِ الَّتِي يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: «نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ» كَمَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] فَأَخَذَتْ عُتْبَةَ رَهْبَةٌ وَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَحْمَلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ أَبَاهُ جُمْهُورُ النُّحَاةِ اسْتِعْظَامًا لِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، حَتَّى قَالَ الْمُبَرِّدُ: «لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ بِهَاتِهِ الْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ نَعْلِي وَخَرَجْتُ مِنَ الصَّلَاةِ» وَهَذَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ وَغُرُورٍ بِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَلَقَدْ أَصَابَ ابْنُ مَالِكٌ فِي تَجْوِيزِهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَتَكُونُ تَعْرِيضًا بِعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ بِالرَّحِمِ وَأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ يُهْمِلُونَ حُقُوقَهَا وَلَا يَصِلُونَهَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ، فَنَاقَضَتْ أَفْعَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ، وَأَيْضًا هم قد آذَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: 128] وَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164] . وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ تَتِمَّةً لِمَعْنَى الَّتِي قبلهَا. [2] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ هُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ فَيَجْعَلُونَ لِلْأَرْحَامِ مِنَ الْحَظِّ مَا جَعَلَهُمْ يُقْسِمُونَ بِهَا كَمَا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ. وَشَيْءٌ هَذَا شَأْنُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تُرَاعَى أَوَاصِرُهُ وَوَشَائِجُهُ وَهُمْ لَمْ يَرْقُبُوا ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ... [النِّسَاء: 1] .

وَالْإِيتَاءُ حَقِيقَتُهُ الدَّفْعُ وَالْإِعْطَاءُ الْحِسِّيُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ حَقًّا لَهُ، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: 1] وَفِي الْحَدِيثِ: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا» . وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَجَمْعُ يَتِيمَةٍ، فَإِذَا جُمِعَتْ بِهِ يَتِيمَةٌ فَهُوَ فَعَائِلُ أَصْلُهُ يَتَائِمُ، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مكانيّ فَقَالُوا يتامىء ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ أَلِفًا وَحُرِّكَتِ الْمِيمُ بِالْفَتْحِ، وَإِذَا جُمِعَ بِهِ يَتِيمٌ فَهُوَ إِمَّا جَمْعُ الْجَمْعِ بِأَنْ جُمِعَ أَوَّلًا عَلَى يَتْمَى، كَمَا قَالُوا: أَسِيرٌ وَأَسْرَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى يَتَامَى مِثْلُ أَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَوْ جَمْعُ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ لِكَوْنِهِ صَارَ اسْمًا مِثْلَ أَفِيلٍ وَأَفَائِلَ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مِنَ الْقَلْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِجَمْعِ يَتِيمَةٍ عَلَى يَتَائِمَ، وَبِجَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ فِي قَوْلِ بِشْرٍ النَّجْدِيِّ: أَأَطْلَالَ حُسْنٍ فِي الْبِرَاقِ الْيَتَائِمِ ... سَلَامٌ عَلَى أَطْلَالِكُنَّ الْقَدَائِمِ وَاشْتِقَاقُ الْيَتِيمِ مِنَ الِانْفِرَادِ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ أَيِ الْمُنْفَرِدَةُ بِالْحُسْنِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَأَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ كَأَنَّهُ بَقِيَ مُنْفَرِدًا لَا يَجِدُ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْتَدَّ الْعَرَبُ بِفَقْدِ الْأُمِّ فِي إِطْلَاقِ وَصْفِ الْيَتِيمِ إِذْ لَا يَعْدَمُ الْوَلَدُ كَافِلَةً، وَلَكِنَّهُ يُعْدَمُ بِفَقْدِ أَبِيهِ مَنْ يُدَافِعُ عَنْهُ وَيُنْفِقُهُ. وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا رَاعَوْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى يَتِيمًا إِذْ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ إِطْلَاق الشَّرِيعَة لَا سم الْيَتِيمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي اللُّغَةِ مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ صَغِيرًا وَكَبِرَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْإِطْلَاقَ صَحِيحًا. وَقَدْ أُرِيدَ بِالْيَتَامَى هُنَا مَا يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَغَلَبَ فِي ضَمِيرِ التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوالَهُمْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْيَتِيمِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لَهُ مَا دَامَ مُطْلَقًا عَلَيْهِ اسْمُ الْيَتِيمِ، إِذِ الْيَتِيمُ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ لَفْظِ الْإِيتَاءِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْيَتِيمِ، فَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ آتُوا بِغَيْرِ مَعْنَى ادْفَعُوا. وَذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ لَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ مَعَ وُجُودِ الْكِبَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ آتُوا

بِمَعْنَى عَيِّنُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَلِيَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ وَمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ تَأْسِيسَاتِ أَحْكَامٍ، لَا تَأْكِيدَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، أَوْ تَقْيِيدَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «يُرَادُ بِإِيتَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ وَوُلَاةُ السُّوءِ وَقُضَاتِهِ وَيَكُفُّوا عَنْهَا أَيْدِيَهُمُ الْخَاطِفَةَ حَتَّى تَأْتِيَ الْيَتَامَى إِذَا بَلَغُوا سَالِمَةً» فَهُوَ تَأْوِيلٌ لِلْإِيتَاءِ بِلَازِمَةٍ وَهُوَ الْحِفْظُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ كِنَايَةً بِإِطْلَاقِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، أَو مجَاز بالمئال إِذِ الْحِفْظُ يُؤَوَّلُ إِلَى الْإِيتَاءِ، وَعَلِيهِ فَيَكُونُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْأَمْرُ بِحِفْظِ حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنَ الْإِضَاعَةِ لَا تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النِّسَاء: 6] الْآيَةَ. وَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ الْيَتَامَى بِالَّذِينَ جَاوَزُوا حَدَّ الْيُتْمِ وَيَبْقَى الْإِيتَاءُ بِمَعْنَى الدَّفْعِ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ فِي فَوْرِ خُرُوجِهِمْ مِنْ حَدِّ الْيَتِيمِ، أَوْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ الْآتِي: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 6] . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ أَيِ انْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جُمُودٌ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الِانْفِرَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا وُضِعَ اللَّفْظُ لِلِانْفِرَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ انْعِدَامُ الْأَبِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ الْوَلَدِ مُنْفَرِدًا وَمَا هُوَ بِمُنْفَرِدٍ فَإِنَّ لَهُ أُمًّا وَقَوْمًا. قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ مَالَهُ، فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَدَّ الْمَالَ لِابْنِ أَخِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ وَتُعْطُوا الطَّيِّبَ. وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ تَبَدَّلَ وَنَظَائِرِهِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة فالبقرة [61] قَالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ هُنَاكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْخَبِيثُ هُوَ الْمَأْخُوذَ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْمَتْرُوكَ. وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ الْمَعْنَوِيُّ دُونَ الْحِسِّيِّ، وَهُمَا اسْتِعَارَتَانِ فَالْخَبِيثُ الْمَذْمُومُ أَوِ الْحَرَامُ، وَالطَّيِّبُ عَكْسُهُ وَهُوَ الْحَلَالُ: وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي الْبَقَرَةِ [168] . فَالْمَعْنَى: وَلَا تَكْسِبُوا الْمَالَ الْحَرَامَ

وَتَتْرُكُوا الْحَلَالَ أَيْ لَوِ اهْتَمَمْتُمْ بِإِنْتَاجِ أَمْوَالِكُمْ وَتَوْفِيرِهَا بِالْعَمَلِ وَالتَّجْرِ لَكَانَ لَكُمْ مِنْ خِلَالِهَا مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا هُوَ ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَبْلُ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ بَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ إِذَا لَمْ يُمْتَثَلِ الْأَمْرُ، وَهَذَا الْوَجْه ينبىء عَن جعل التبدّل مَجَازًا وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نَهْيٌ ثَالِثٌ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ أَوْلِيَائِهِمْ، فَيَنْتَسِقُ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَنَهْيَانِ: أُمِرُوا أَنْ لَا يَمْنَعُوا الْيَتَامَى مِنْ مَوَارِيثِهِمْ ثُمَّ نُهُوا عَنِ اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا، وَالنَّهْيُ وَالْأَمْرُ الْأَخِيرُ تَأْكِيدَانِ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ. وَالْأَكْلُ اسْتِعَارَةٌ لِلِانْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنَ انْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ أَقْوَى أَحْوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُهُ فِي دَاخِلِ جَسَدِهِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إِرْجَاعِهِ، وَضَمَّنَ تَأْكُلُوا مَعْنَى تَضُمُّوا فَلذَلِك عدي بإلى أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِأَنْ تَضُمُّوهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ. وَلَيْسَ قَيْدُ إِلى أَمْوالِكُمْ مَحَطَّ النَّهْيِ، بَلِ النَّهْي وَاقع على أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْآكِلِ مَالٌ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَالَ يَتِيمِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُجُودَ أَمْوَالٍ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى التَّكَثُّرَ، ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَأْكُلُونَ حُقُوقَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَلَى أَنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ مِنَ التَّقْيِيدِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ نَهْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَجَنَّبُوا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ [220] : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فَقَدْ فَهِمُوا أَنَّ ضَمَّ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَصِيِّ حَرَامٌ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَشْمُولًا لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ وَلَكِنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الضَّمِّ. وَهُمَا فِي فَهْمِ الْعَرَبِ نَهْيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ الْأَغْنِيَاءِ أَمْوَالَ الْيَتَامَى حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْفُقَرَاءِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِذْ لَيْسَ الْأَدْوَنُ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ. وَالْحُوبُ- بِضَمِّ الْحَاءِ- لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِفَتْحِهَا- لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ: هِيَ حَبَشِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ: لِمَوْقِعِ إِنَّ مِنْهَا، أَيْ نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ

[سورة النساء (4) : آية 3]

إِثْمٌ عَظِيمٌ. وَلِكَوْنِ إِنَّ فِي مِثْلِهِ لمُجَرّد الاهتمام لتفيد التَّعْلِيلِ أَكَّدَ الْخَبَرَ بكان الزَّائِدَة. [3] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) اشْتِمَالُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَلِمَةِ الْيَتامى يُؤْذِنُ بِمُنَاسَبَتِهَا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَمْرَ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ وَعَدَدِهِنَّ فِي جَوَابِ شَرْطِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ فِي الْيَتَامَى مِمَّا خُفِيَ وَجْهُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أَيْ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِيجَازًا بَدِيعًا إِذْ أَطْلَقَ فِيهَا لَفْظَ الْيَتَامَى فِي الشَّرْطِ وَقُوبِلَ بِلَفْظِ النِّسَاءِ فِي الْجَزَاءِ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْيَتَامَى هُنَا جَمْعُ يَتِيمَةٍ وَهِيَ صِنْفٌ مِنَ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] . وَعلم أَنَّ بَيْنَ عَدَمِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ، ارْتِبَاطًا لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا لَكَانَ الشَّرْطُ عَبَثًا. وَبَيَانُهُ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَتْ: «يَا بْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَلَا يُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرِهِنَّ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: 127] . فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ» . وَعَائِشَةُ لَمْ تُسْنِدْ هَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سِيَاقَ كَلَامِهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَنْ تَوْقِيفٍ،

وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بِسِيَاقِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّهَا مَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ مُعَايَنَةِ حَالِ النُّزُولِ، وَأَفْهَامِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَقَرَّهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَتْ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ إِيجَازُ لَفْظِ الْآيَةِ اعْتِدَادًا بِمَا فَهِمَهُ النَّاسُ مِمَّا يَعْلَمُونَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَتَكُونُ قَدْ جَمَعَتْ إِلَى حُكْمِ حِفْظِ حُقُوقِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ حِفْظَ حُقُوقِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْبَنَاتُ الْيَتَامَى مِنْ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَمَوْعِظَةُ الرِّجَالِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجْعَلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ شَافِعَةَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا مُرَغِّبَ فِيهِنَّ لَهُمْ فَيَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُونَ الْقَرَابَةَ سَبَبًا لِلْإِجْحَافِ بِهِنَّ فِي مُهُورِهِنَّ. وَقَوْلُهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، مَعْنَاهُ اسْتَفْتَوْهُ طَلَبًا لِإِيضَاحِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَوِ اسْتَفْتَوْهُ فِي حُكْمِ نِكَاح الْيَتَامَى، وَله يَهْتَدُوا إِلَى أَخْذِهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ أَيْ مَا يُتْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى، أَيْ كَانَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكَلَامُهَا هَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَرَّجُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا تَتَحَرَّجُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا القَوْل فمحلّ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَفَرَّعَ عَنِ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، فَيكون نسج الْآيَةِ قَدْ حِيكَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِيُدْمَجَ فِي خِلَالِهِ تَحْدِيدُ النِّهَايَةِ إِلَى الْأَرْبَعِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَإِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ إِنْفَاقِهِنَّ أَخَذَ مَالَ يَتِيمِهِ فَتَزَوَّجَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُلَازَمَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ تَزَوُّجَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِيَامُ بِهِ صَارَ ذَرِيعَةً إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِذَا غَلَبَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنَ الزِّنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَا، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَنَسِّكَ أَنْ يَهْجُرَ جَمِيعَ الْمَآثِمِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَشَدَّ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَضْعُفُ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَيَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقِيلَ فِي هَذَا وُجُوهٌ أُخَرُ هِيَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا.

وَمَعْنَى مَا طابَ مَا حَسُنَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مِمَّا حَلَّ لَكُمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ التشريع. وَمَا صدق مَا طابَ النِّسَاءُ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُؤْتَى بِ (مِنْ) الْمَوْصُولَةِ لَكِنْ جِيءَ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، لِأَنَّهَا نُحِيَ بِهَا مَنْحَى الصِّفَةِ وَهُوَ الطَّيِّبُ بِلَا تَعْيِينِ ذَاتٍ، وَلَوْ قَالَ (مَنْ) لَتَبَادَرَ إِلَى إِرَادَةِ نِسْوَةٍ طَيِّبَاتٍ مَعْرُوفَاتٍ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ حَالُ (مَا) فِي الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» . فَإِذَا قُلْتَ: مَا تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ مَا صِفَتُهَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا مَثَلًا، وَإِذَا قَلْتَ: مَنْ تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ تَعْيِينَ اسْمِهَا وَنَسَبِهَا. وَالْآيَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمُثْبِتَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مُعَلَّقٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ فِي الْيَتَامَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْإِرْشَادِ، وَأَنَّ النِّكَاحَ شُرِّعَ بِالتَّقْرِيرِ لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَعَ إِبْطَالِ مَا لَا يَرْضَاهُ الدِّينُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَنِكَاحِ الْمَقْتِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُخْلُوهُ عَنِ الصَّدَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَحْوَالُ مَنْ طابَ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهَا أَحْوَالًا مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ النِّسَاءَ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كُلُّهُ لِأَنَّ (مِنْ) إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَكِلَاهُمَا تَقْتَضِي بَقَاءَ الْبَيَانِ عَلَى عُمُومِهِ، لِيَصْلُحَ لِلتَّبْعِيضِ وَشَبَهِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَلَكُمْ فِي نِكَاحِ غَيْرِ أُولَئِكَ الْيَتَامَى مَنْدُوحَةٌ عَنْ نِكَاحِهِنَّ مَعَ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَفِي هَذَا إِدْمَاجٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ فِي خِلَالِ حُكْمِ الْقِسْطِ لِلْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. وَصِيغَةُ مَفْعَلٍ وَفُعَالٍ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ إِلَى سِتَّةٍ وَقِيلَ إِلَى عَشَرَةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَصَحَّحَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» عِنْدَ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: أُحَادٌ أَمْ سُدَاسٌ فِي آحَاد ... ليبلتنا الْمَنُوطَةُ بِالتَّنَادِي

تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى مَعْنَى تَكْرِير اسْم الْعدَد لِقَصْدِ التَّوْزِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر: 1] أَيْ لِطَائِفَةٍ جَنَاحَانِ، وَلِطَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِطَائِفَةٍ أَرْبَعَةٌ. وَالتَّوْزِيعُ هُنَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ فِي السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، فَمِنْهُمْ فَرِيقٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يتزوّجوا اثْنَتَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ تَكُونُ أَزْوَاجُهُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، كَقَوْلِكَ لِجَمَاعَةٍ: اقْتَسِمُوا هَذَا المَال در همين در همين، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلَى حَسَبِ أَكْبَرِكُمْ سِنًّا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ مُسْتَفَادٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاقْتِصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا ثَبَتَ مِنْ الِاقْتِصَارِ، عَلَى أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةٍ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» . وَلَعَلَّ الْآيَةَ صَدَرَتْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلِ نُزُولهَا، تمهيدا لشرع الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَدْلِ فِي التَّنَازُلِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِالْمُكَلَّفِ إِلَى الْوَاحِدَةِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِهِ إِلَى الَّتِي دُونَهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْجُهَّالِ- لَمْ يُعَيِّنْهُمْ- أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرِّجَالِ تَزَوُّجَ تِسْعِ نِسَاءٍ تَوَهُّمًا بِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُرَادِفَةٌ لِاثْنَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، فَحَصَلَتْ تِسْعَةٌ وَهِيَ الْعَدَدُ الَّذِي جَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَهَذَا جَهْلٌ شَنِيعٌ فِي مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الرَّافِضَةِ، وَإِلَى بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِك قولا لداوود الظَّاهِرِيِّ وَلَا لِأَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِلَى قَوْمٍ لَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِمْ، وَقَالَ الْفَخْرُ: هُمْ قَوْمٌ سُدًى، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَصَّاصُ مُخَالِفًا أَصْلًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْفَرَسِ إِلَى قَوْمٍ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَجَعَلُوا الِاقْتِصَارَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى: إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدَدِ، وَتَمَسَّكَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ، فَإِنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَتَطَلُّبُ الْأَدِلَّةِ الْقَوَاطِعِ فِي انْتِزَاعِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ تَطَلُّبٌ لِمَا يَقِفُ بِالْمُجْتَهِدِينَ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ، فَإِنَّ مَبْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَسَاسِ الْفِطْنَةِ. وَمَسْلَكُهُ هُوَ مَسْلَكُ اللَّمْحَةِ الدَّالَّةِ.

وَظَاهِرُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ يَعُمُّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَيُعْزَى إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٍ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أبي عبد الرحمان، وَمُجَاهِدٍ، وَذهب إِلَيْهِ دَاوُود الظَّاهِرِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَيُنْسَبُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مُنَاسِبِ التَّنْصِيفِ لِلْعَبِيدِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ. وَمَنِ ادَّعَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فَقَدْ جَازَفَ الْقَوْلَ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، أَيْ فَوَاحِدَةً لِكُلِّ مَنْ يَخَافُ عَدَمَ الْعَدْلِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فَأُحَادٌ أَوْ فَمَوْحَدٌ لِأَنَّ وَزْنَ مفعل وفعال فِي الْعدَد لَا يَأْتِي إِلَّا بَعْدَ جَمْعٍ وَلَمْ يَجْرِ جَمْعٌ هُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَوَاحِدَةً- بِالنَّصْبِ-، وَانْتَصَبَ وَاحِدَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ كِفَايَةٌ. وَخَوْفُ عَدَمِ الْعَدْلِ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَيْ عَدَمُ التَّسْوِيَةِ، وَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالْبَشَاشَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَرْكِ الضُّرِّ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ وَطَوْقُهُ دُونَ مَيْلِ الْقَلْبِ. وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ تَعَدُّدَ النِّسَاءِ لِلْقَادِرِ الْعَادِلِ لِمَصَالِحَ جَمَّةٍ: مِنْهَا أَنَّ فِي ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى تَكْثِيرِ عَدَدِ الْأُمَّةِ بِازْدِيَادِ الْمَوَالِيدِ فِيهَا، وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ يُعِينُ عَلَى كَفَالَةِ النِّسَاءِ اللَّائِي هُنَّ أَكْثَرُ مِنَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ فِي الْمَوَالِيدِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورَةِ، وَلِأَنَّ الرِّجَالَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فِي الْحُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ مَا لَا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ أَطْوَلُ أَعْمَارًا مِنَ الرِّجَالِ غَالِبًا، بِمَا فَطَرَهُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ حَرَّمَتِ الزِّنَا وَضَيَّقَتْ فِي تَحْرِيمِهِ لِمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَنْسَابِ وَنِظَامِ الْعَائِلَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ تَوَسَّعَ عَلَى النَّاسِ فِي تَعَدُّدِ النِّسَاءِ لِمَنْ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ مَيَّالًا لِلتَّعَدُّدِ مَجْبُولًا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا قَصْدُ الِابْتِعَادِ عَنِ الطَّلَاقِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.

وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَدٌّ لِلزَّوْجَاتِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنْ جَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَحْدِيدٍ لِلتَّزَوُّجِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِثْلُ الْقَرَافِيِّ، وَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالتَّحْدِيدِ، فَأَمَّا أَصْلُ التَّحْدِيدِ فَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَدْلَ لَا يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ اخْتَلَّ نِظَامُ الْعَائِلَةِ، وَحَدَثَتِ الْفِتَنُ فِيهَا، وَنَشَأَ عُقُوقُ الزَّوْجَاتِ أَزْوَاجَهُنَّ، وَعُقُوقُ الْأَبْنَاءِ آبَاءَهُمْ بِأَذَاهُمْ فِي زَوْجَاتِهِمْ وَفِي أَبْنَائِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْأَذَى فِي التَّعَدُّدِ لِمَصْلَحَةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً غَيْرَ عَائِدَةٍ عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ. وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فِي التَّعَدُّدِ إِلَى الْأَرْبَعِ فَقَدْ حَاوَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَوْجِيهَهُ فَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى غَايَةٍ مُرْضِيَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَتَهُ نَاظِرَةٌ إِلَى نِسْبَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُعَدَّلِ فِي التَّعَدُّدِ فَلَيْسَ كُلُّ رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا، فَلْنَفْرِضِ الْمُعَدَّلَ يَكْشِفُ عَنِ امْرَأَتَيْنِ لِكُلِّ رجل، يدلّنا ذَلِك عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ ضَعْفُ الرِّجَالِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّهُ يَكْثُرُ النِّسَاءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ. وَقَوْلُهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَواحِدَةً، فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ، أَيْ فَوَاحِدَةً مِنَ الْأَزْوَاجِ أَوْ عَدَدٍ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ مِنَ الْعَدْلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ الضُّرِّ، وَإِنْ عَطَفْتَهُ عَلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَالتَّسَرِّي بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَانَ الْعَدْلُ فِي الْإِمَاءِ الْمُتَّخَذَاتِ لِلتَّسَرِّي مَشْرُوطًا قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ بِحَسَبِ الْمَقْدِرَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي التَّسَرِّي الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا. وَقَدْ مَنَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ قِيَاسِ الْإِمَاء على الْحَرَائِر فِي نِهَايَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَدْخُلُ فِي حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ وَأَنْظَمُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ

مِنَ التَّوْزِيعِ عَلَى حَسَبِ الْعَدْلِ. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. وأَدْنى بِمَعْنَى أَقْرَبَ، وَهُوَ قُرْبٌ مَجَازِيٌّ أَيْ أَحَقُّ وَأَعْوَنُ عَلَى أَنْ لَا تَعُولُوا، وَ «تَعُولُوا» مُضَارِعُ عَالَ عَوْلًا، وَهُوَ فِعْلٌ وَاوِيُّ الْعَيْنِ، بِمَعْنَى جَارَ وَمَالَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ، يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا إِذَا مَالَ، وَعَالَ فُلَانٌ فِي حُكْمِهِ أَيْ جَارَ، وَظَاهِرٌ أَنَّ نُزُولَ الْمُكَلَّفِ إِلَى الْعَدَدِ الَّذِي لَا يُخَافُ مَعَهُ عَدَمُ الْعَدْلِ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْجَوْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَيُفِيدُ زِيَادَةَ تَأْكِيدِ كَرَاهِيَةِ الْجَوْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ قَوْلَهُ: فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ ذَلِكَ أَسْلَمُ مِنَ الْجَوْرِ، لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُعَرِّضُ الْمُكَلَّفَ إِلَى الْجَوْرِ وَإِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْعَدْلِ، إِذْ لِلنَّفْسِ رَغَبَاتٌ وَغَفَلَاتٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا وَيَكُونُ تَرْغِيبًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ التَّعَدُّدِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِذْ هُوَ سَدَّ ذَرِيعَةَ الْجَوْرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْعَدْلُ شَرْطًا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الَّذِي نَحَّاهُ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. وَقيل: «معنى أَلا تَعُولُوا» أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَالَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ يعولهم بِمَعْنى مَالهم، يَعْنِي فَاسْتَعْمَلَ نَفْيَ كَثْرَةِ الْعِيَالِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَوْلَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْعِيَالِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ يَعُولُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشَيْءٍ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ فَمَا يُخْبِرُ الْمُخْبَرَ بِهِ إِلَّا إِذَا رَآهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ. كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ يَأْكُلُ، وَفُلَانٌ يَنَامُ، أَيْ يَأْكُلُ كَثِيرًا وَيَنَامُ كَثِيرًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ كَوْنُهُ مَعْنًى لِعَالَ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عَالَ بِمَعْنَى كَثُرَتْ عِيَالُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَعَالَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بَعِيدٌ، وَكِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ، لَا يُلَائِمُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِخُصُوصِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ السِّعَةَ فِي الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوَاحِدَةِ

[سورة النساء (4) : آية 4]

يُقَلِّلُ النَّفَقَةَ وَيُقَلِّلُ النَّسْلَ فَيُبْقِي عَلَيْهِ مَالَهُ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْحَاجَةَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْإِمَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى مَا يُتَنَاسَلُ مِنْهُنَّ، وَلِذَلِكَ رَدَّ جَمَاعَةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ هَذَا الْوَجْهَ بَيْنَ مُفْرِطٍ وَمُقْتَصِدٍ. وَقَدْ أَغْلَظَ فِي الرَّدِّ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ فِي اللُّغَةِ، اشْتَبَهَ بِهِ عَالَ يَعِيلُ بِعَالَ يَعُولُ. وَاقْتَصَدَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. وَانْتَصَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلشَّافِعِيِّ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْجَوَارِي مِثْلَ تَعَدُّدِ الْحَرَائِرِ فَلَا مَفَرَّ مِنَ الْإِعَالَةِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ فِيهِ تَكَلُّفٌ. وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء: 1] . [4] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) جَانِبَانِ مُسْتَضْعَفَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْيَتِيمُ، وَالْمَرْأَةُ. وَحَقَّانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا أَصْحَابُهُمَا: مَالُ الْأَيْتَامِ، وَمَالُ النِّسَاءِ، فَلِذَلِكَ حَرَسَهُمَا الْقُرْآنُ أَشَدَّ الْحِرَاسَةِ فَابْتَدَأَ بِالْوِصَايَةِ بِحَقِّ مَالِ الْيَتِيمِ، وَثَنَّى بِالْوِصَايَةِ بِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي مَالٍ يَنْجَرُّ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ تَوَسُّطُ حُكْمِ النِّكَاحِ بَيْنَ الْوِصَايَتَيْنِ أحسن مُنَاسبَة تهيّىء لِعَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ. فَقَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِيتَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَزَادَهُ اتِّصَالًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَرَى عَلَى وُجُوبِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةَ الِانْتِقَالِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ فِي أَمْثَالِ هَذَا كُلُّ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ، فَهُوَ خِطَابٌ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْنَى تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ فِيهِ يَدٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّذِينَ إِلَيْهِمُ الْمَرْجِعُ فِي الضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي ظَلَمَةِ الْحُقُوقِ أَرْبَابَهَا. وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ ابْتِدَاءً هُمُ الْأَزْوَاجُ،

لِكَيْلَا يَتَذَرَّعُوا بِحَيَاءِ النِّسَاءِ وَضَعْفِهِنَّ وَطَلَبِهِنَّ مَرْضَاتَهُمْ إِلَى غَمَصِ حُقُوقِهِنَّ فِي أَكْلِ مُهُورِهِنَّ، أَوْ يَجْعَلُوا حَاجَتَهُنَّ لِلتَّزَوُّجِ لِأَجْلِ إِيجَادِ كَافِلٍ لَهُنَّ ذَرِيعَةً لِإِسْقَاطِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ فِي أَكْلِ مُهُورِهِنَّ، وَإِلَّا فَلَهُنَّ أَوْلِيَاءُ يُطَالِبُونَ الْأَزْوَاجَ بِتَعْيِينِ الْمُهُورِ، وَلَكِنْ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَتَاعِبُ وَكُلَفٌ قَدْ يملّها صَاحب بالحقّ فَيَتْرُكَ طَلَبَهُ، وَخَاصَّةً النِّسَاءُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ. وَإِلَى كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَزْوَاجِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا قَرَّرَتْ دَفْعَ الْمُهُورِ وَجَعَلَتْهُ شَرْعًا، فَصَارَ الْمَهْرُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ النِّكَاحِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَغير ذَلِك [النِّسَاء: 24] . وَالْمَهْرُ عَلَامَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُخَادَنَةِ، لَكِنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الزَّوْجُ يُعْطِي مَالًا لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ وَيُسَمُّونَهُ حُلْوَانًا- بِضَمِّ الْحَاءِ- وَلَا تَأْخُذُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنْ جَعَلَ الْمَالَ لِلْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لِأَنَّ عَادَةَ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنْ يَأْكُلَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ. وَعَنِ الْحَضْرَمِيِّ: خَاطَبَتِ الْآيَةُ الْمُتَشَاغِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ امْرَأَةً بِأُخْرَى، وَلَعَلَّ هَذَا أَخَذَ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَلَيْسَ صَرِيحَ اللَّفْظِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ عُمُومُ النِّسَاءِ وَعُمُومُ الصَّدُقَاتِ. وَالصَّدُقَاتُ جَمْعُ صَدُقَةٍ- بِضَمِّ الدَّالِ- وَالصَّدُقَةُ: مَهْرُ الْمَرْأَةِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ يَسْبِقُهَا الْوَعْدُ بِهَا فَيَصْدُقُهُ الْمُعْطِي. وَالنِّحْلَةُ- بِكَسْرِ النُّونِ- الْعَطِيَّةُ بِلَا قَصْدِ عِوَضٍ، وَيُقَالُ: نُحْلٌ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ-. وَانْتَصَبَ نِحْلَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ «صَدُقَاتِهِنَّ» ، وَإِنَّمَا صَحَّ مَجِيءُ الْحَالِ مُفْرِدَةً وَصَاحِبُهَا جَمْعٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمُفْرَدِ الْجِنْسُ الصَّالِحُ لِلْأَفْرَادِ كُلِّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِحْلَةٌ مَنْصُوبًا على المصدرية لآتوا لِبَيَانِ النَّوْعِ مِنَ الْإِيتَاءِ أَيْ إِعْطَاءِ كَرَامَةٍ. وَسُمِّيَتِ الصَّدُقَاتُ نِحْلَةً إِبْعَادًا لِلصَّدُقَاتِ عَنْ أَنْوَاعِ الْأَعْوَاضِ، وَتَقْرِيبًا بِهَا إِلَى الْهَدِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ الصَّدَاقُ عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ بَيْنَ

الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قُصِدَ مِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ، وَإِيجَادُ آصِرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَبَادُلُ حُقُوقٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتِلْكَ أَغْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَلَوْ جُعِلَ لَكَانَ عِوَضُهَا جَزِيلًا وَمُتَجَدِّدًا بِتَجَدُّدِ الْمَنَافِعِ، وَامْتِدَادِ أَزْمَانِهَا، شَأْنُ الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ هَدِيَّةً وَاجِبَةً عَلَى الْأَزْوَاجِ إِكْرَامًا لِزَوْجَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُخَادَنَةِ وَالسِّفَاحِ، إِذْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي الْبَشَرِ اخْتِصَاصَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ تَكُونُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ يُنَالُ بِالْقُوَّةِ، ثُمَّ اعْتَاضَ النَّاسُ عَنِ الْقُوَّةِ بَذْلَ الْأَثْمَانِ لأولياء النِّسَاء ببيعهم بناتهم ومولياتهم، ثُمَّ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ وَكَمُلَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَصَارَتِ الْمَرْأَةُ حَلِيلَةَ الرَّجُلِ شريكته فِي شؤونه وَبَقِيَتِ الصَّدُقَاتُ أَمَارَاتٍ عَلَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ الْقَدِيمِ تُمَيِّزُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَنْ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَعَادَةً، وَكَانَتِ الْمُعَاشَرَةُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النِّكَاحِ خَالِيَةً عَنْ بَذْلِ الْمَالِ لِلْأَوْلِيَاءِ إِذْ كَانَتْ تَنْشَأُ عَنِ الْحُبِّ أَوِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى انْفِرَادٍ وَخُفْيَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الزِّنَى الْمُوَقَّتُ، وَمِنْهُ الْمُخَادَنَةُ، فَهِيَ زِنًا مُسْتَمِرٌّ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النِّسَاء: 25] وَدُونَ ذَلِكَ الْبِغَاءُ وَهُوَ الزِّنَا بِالْإِمَاءِ بِأُجُورٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ النَّهْيَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النُّور: 33] وَهُنَالِكَ مُعَاشَرَاتٌ أُخْرَى، مِثْلُ الضِّمَادِ وَهُوَ أَنْ تَتَّخِذَ ذَاتُ الزَّوْجِ رَجُلًا خَلِيلًا لَهَا فِي سَنَةِ الْقَحْطِ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا مَعَ نَفَقَةِ زَوْجِهَا. فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ الصَّدَاقَ نِحْلَةً، فَأَبْعَدَ الَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِلَازِمِ مَعْنَاهَا فَجَعَلُوهَا كِنَايَةً عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْأَزْوَاجِ أَوِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِيتَاءِ الصَّدُقَاتِ، وَالَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ فَرَضَهَا لَهُنَّ، وَالَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِمَعْنَى الشَّرْعِ الَّذِي يُنْتَحَلُ أَيْ يُتَّبَعُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً الْآيَةَ أَيْ فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ لَكُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَيِ الْمَذْكُورِ. وَأَفْرَدَ ضَمِيرَ «مِنْهُ» لِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ حَمْلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِمَّا أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهَا إِنْ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ، وَإِمَّا أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهُمَا إِنْ أَرَدْتَ السَّوَادَ وَالْبَلَقَ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ، وَيْلَكَ!! أَيْ أَجْرَى الضَّمِيرَ كَمَا

يُجْرَى اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ضَمِيرٍ (مِثْلَهُ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [36] . وَجِيءَ بِلَفْظِ نَفْساً مُفْرَدًا مَعَ أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ طِبْنَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ اسْمُ جِنْسٍ نَكِرَةٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَأُسْنِدَ الطَّيِّبُ إِلَى ذَوَاتِ النِّسَاءِ ابْتِدَاءً ثُمَّ جِيءَ بِالتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الطَّيِّبِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَبَيْنَ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ طِيبُ نَفْسٍ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الضَّغْطِ وَالْإِلْجَاءِ. وَحَقِيقَةُ فِعْلِ (طابَ) اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِالْمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ، وَأَصْلُهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ لِحُسْنِ مَشْمُومِهَا، وَطَيِّبُ الرِّيحِ مُوَافَقَتُهَا لِلسَّائِرِ فِي الْبَحْرِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُس: 22] ، وَمِنْهُ أَيْضًا مَا تَرْضَى بِهِ النَّفْسُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: 168] ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِمَا يَزْكُو بَيْنَ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: 2] وَمِنْهُ فِعْلُ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً هُنَا أَيْ رَضِينَ بِإِعْطَائِهِ دُونَ حَرَجٍ وَلَا عَسْفٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ. وَقَوْلُهُ: فَكُلُوهُ اسْتَعْمَلَ الْأَكْلَ هُنَا فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ الَّذِي لَا رُجُوعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، أَيْ فِي مَعْنَى تَمَامِ التَّمَلُّكِ. وَأَصْلُ الْأَكْلِ فِي كَلَامِهِمْ يُسْتَعَارُ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ اسْتِيلَاءً لَا رُجُوعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ حَائِلًا بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ رُجُوعِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَلَكِنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الِانْتِفَاعِ لِأَجْلِ الْمُشَاكَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: 2] فَتِلْكَ مُحَسِّنُ الِاسْتِعَارَةِ. وهَنِيئاً مَرِيئاً حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَهُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ من هُنَا وهنيء- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- بِمَعْنَى سَاغَ وَلَمْ يُعَقِّبْ نَغْصًا. وَالْمَرِيءُ مِنْ مَرُوَ الطَّعَامَ- مُثَلَّثُ الرَّاء- بِمَعْنى هنىء، فَهُوَ تَأْكِيدٌ يُشْبِهُ الِاتِّبَاعَ. وَقِيلَ: الْهَنِيءُ الَّذِي يَلَذُّهُ الْآكِلُ وَالْمَرِيءُ مَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا ترشيحا لاستعارة فَكُلُوهُ بِمَعْنَى خُذُوهُ أَخْذَ مِلْكٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي انْتِفَاءِ التَّبِعَةِ عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي أَخْذِ مَا طَابَتْ لَهُمْ بِهِ نُفُوسُ أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ حَلَالًا مُبَاحًا، أَوْ حَلَالًا لَا غُرْمَ فِيهِ.

[سورة النساء (4) : آية 5]

وَإِنَّمَا قَالَ: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّبْعِيضِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَا يَعْرَى الْعَقْدُ عَنِ الصَّدَاقِ، فَلَا تُسْقِطْهُ كُلَّهُ إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمَّا تَأَوَّلُوا ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنَ التَّبْعِيضِ، وَجَعَلُوا هِبَةَ جَمِيعِ الصَّدَاقِ كَهِبَتِهِ كُلِّهِ أَخْذًا بِأَصْلِ الْعَطَايَا، لِأَنَّهَا لَمَّا قَبَضَتْهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ مَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الْمُكَارَمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَسَائِلِ الْبَيْعِ: إِنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْيَدِ ثُمَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا يُعْتَبَرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، وَهَذَا عِنْدَنَا فِي الْمَالِكَاتِ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ دُونَ الْمَحْجُورَاتِ تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِغَيْرِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْحَجْرِ فَإِنَّ الصَّغِيرَاتِ غَيْرَ دَاخِلَاتٍ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ. فَدَخَلَ التَّخْصِيصُ لِلْآيَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: ذَلِكَ لِلثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي حَمْلِ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمَرْأَةِ فِي هِبَتِهَا بَعْضَ صَدَاقِهَا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا رُجُوعَ لَهَا، وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَهَا الرُّجُوعِ، لِأَنَّهَا لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا لَمَا رَجَعَتْ. وَرَوَوْا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ «إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فَأَيُّمَا امْرَأَةً أَعْطَتْهُ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا» وَهَذَا يَظْهَرُ إِذا كَانَ مَا بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ قَرِيبًا، وَحَدَثَ مِنْ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَطِيَّةِ خِلَافُ مَا يُؤْذَنُ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ السَّابِقِ لِلْعَطِيَّةِ. وَحَكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء: 1] . [5] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: 4] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إِيجَابِ أَنْ يُؤْتَى كُلُّ مَالٍ لِمَالِكِهِ مِنْ أَجْلِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الْأَمْوَالِ مَالِكِيهَا مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: 2، 4] . أَوْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.

وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ الْحَالِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا السَّفِيهُ مِنْ مَالِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي يُؤْتَى فِيهَا مَالَهُ، وَقَدْ يُقَالُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَدَّمَ هُنَالِكَ حُكْمُ مَنْعِ تَسْلِيمِ مَالِ الْيَتَامَى لِأَنَّهُ أَسْبَقُ فِي الْحُصُولِ، فَيَتَّجِهُ لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْمُقْتَضَى أَنْ نَقُولَ قَدَّمَ حُكْمَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَحْرَصُ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَمْوَالِ لِلسُّفَهَاءِ لَاتَّخَذَهُ الظَّالِمُونَ حُجَّةً لَهُمْ، وَتَظَاهَرُوا بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْنَعُونَ الْأَيْتَامَ أَمْوَالَهُمْ خَشْيَةً مِنَ اسْتِمْرَارِ السَّفَهِ فِيهِمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْآنَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ غَيْرُ الْأَتْقِيَاءِ، إِذْ يَتَصَدَّوْنَ لِلْمُعَارَضَةِ فِي بَيِّنَاتِ ثُبُوتِ الرُّشْدِ لِمُجَرَّدِ الشَّغَبِ وَإِمْلَالِ الْمَحَاجِيرِ مِنْ طَلَبِ حُقُوقِهِمْ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ كَمِثْلِ الْخِطَابِ فِي وَآتُوا الْيَتامى وَآتُوا النِّساءَ هُوَ لِعُمُومِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الْحَج: 1] لِيَأْخُذَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْحُكْمِ حَظَّهُ مِنَ الِامْتِثَالِ. والسفهاء يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَتَامَى، لِأَنَّ الصِّغَرَ هُوَ حَالَةُ السَّفَهِ الْغَالِبَةِ، فَيَكُونُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْإِيتَاءِ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى إِلَى التَّعْبِيرِ هُنَا بِالسُّفَهَاءِ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْمَنْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ السَّفَهُ، سَوَاءً كَانَ عَنْ صِغَرٍ أَمْ عَنِ اخْتِلَالِ تَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ الْكَبِيرِ اسْتِطْرَادًا لِلْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْسَعُ تَشْرِيعًا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [130] . وَالْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ أَمْوَالُ الْمَحَاجِيرِ الْمَمْلُوكَةُ لَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إِشَارَةً بَدِيعَةً إِلَى أَنَّ الْمَالَ الرَّائِجَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَقٌّ لِمَالِكِيهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ تَلُوحُ فِيهِ حُقُوق الْأمة جَمْعَاءَ لِأَنَّ فِي حُصُولِهِ مَنْفَعَةً لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا مِنَ الثَّرْوَةِ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالصَّالِحَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ يُنْفِقُ أَرْبَابُهَا وَيَسْتَأْجِرُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ثُمَّ تُورَثُ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا فَيَنْتَقِلُ الْمَالُ بِذَلِكَ مِنْ يَدٍ إِلَى غَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ الْعَاجِزُ وَالْعَامِلُ وَالتَّاجِرُ وَالْفَقِيرُ وَذُو الْكَفَافِ، وَمَتَى قَلَّتِ الْأَمْوَالُ

مِنْ أَيْدِي النَّاسِ تَقَارَبُوا فِي الْحَاجَةِ وَالْخَصَاصَةِ، فَأَصْبَحُوا فِي ضَنْكٍ وَبُؤْسٍ، وَاحْتَاجُوا إِلَى قَبِيلَةٍ أَوْ أُمَّةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ ابْتِزَازِ عِزِّهِمْ، وَامْتِلَاكِ بِلَادِهِمْ، وَتَصْيِيرِ مَنَافِعِهِمْ لِخِدْمَةِ غَيْرِهِمْ، فَلِأَجْلِ هَاتِهِ الْحِكْمَةِ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ إِلَى جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي إِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأَمْوَالَ وَالثَّرْوَةَ الْعَامَّةَ. وَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَا أَحْسَبُ أَنَّ حَكِيمًا مِنْ حُكَمَاءِ الِاقْتِصَادِ سَبَقَ الْقُرْآنَ إِلَى بَيَانِهَا. وَقَدْ أَبْعَدَ جَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ فِي يَدِ الْأَوْلِيَاءِ، وَجَعَلُوا الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُمْ حَقِيقَةً، وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَنَّ السُّفَهَاءَ مِنْ نَوْعِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَأَنَّ أَمْوَالَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الدِّينِ. وقارب ابْن الْعَرَب إِذْ قَالَ: «لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ وَتَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ» وَبِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْبَيَانِ كَانَ لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ شَأْنٌ. وَأَبْعَدَ فَرِيقٌ آخَرُونَ فَجَعَلُوا الْإِضَافَةَ حَقِيقِيَّةٌ أَيْ لَا تُؤْتُوا- يَا أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ- أَمْوَالَكُمْ لِمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْوُجُوهِ، وَلَا إِخَالُ الْحَامِلَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا الْحَيْرَةَ فِي وَجه الْجمع بَيْنَ كَوْنِ الْمَمْنُوعِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفْتُهُ بِالْبُعْدِ لِأَنَّ قَائِلَهُ جَعَلَهُ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ وَلَوْ جَعَلَهُ وَجْهًا جَائِزًا يَقُومُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَمْوَالِ صِفَةٌ تَزِيدُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وُضُوحًا وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فَجَاءَ فِي الصِّفَةِ بِمَوْصُولٍ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَإِيضَاحًا لِمَعْنَى الْإِضَافَة، فإنّ (قِياماً) مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ بِمَعْنَى فِعَالٍ: مِثْلُ عِوَذٍ بِمَعْنَى عِيَاذٍ، وَهُوَ مِنَ الْوَاوِيِّ وَقِيَاسُهُ قِوَمٌ، إِلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِالْيَاءِ شُذُوذًا كَمَا شَذَّ جِيَادٌ فِي جَمْعِ جَوَادٍ وَكَمَا شَذَّ طِيَالٌ فِي لُغَةِ ضَبَّةَ فِي جَمْعِ طَوِيلٍ، قَصَدُوا قَلْبَ الْوَاوِ أَلِفًا بَعْدَ الْكَسْرَةِ كَمَا فَعَلُوهُ فِي قِيَامٍ وَنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَزْنِ فِعَالٍ مُطَّرِدٌ، وَفِي غَيْرِهِ شَاذٌّ لِكَثْرَةِ فِعَالٍ فِي الْمَصَادِرِ، وَقِلَّةِ فِعَلٍ فِيهَا، وَقِيَمٌ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ. كَذَا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: «قِيَمًا» بِوَزْنِ فِعَلٍ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «قِيَامًا» ، وَالْقِيَامُ مَا بِهِ يُتَقَوَّمُ الْمَعَاشُ وَهُوَ وَاوِيٌّ أَيْضًا

وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَمْوَالِ بِهِ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ قَوْلِ الْخَنْسَاءِ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَقْوِيمٌ عَظِيمٌ لِأَحْوَالِ النَّاسِ. وَقِيلَ: قِيَمًا جَمْعُ قِيمَةٍ أَيِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَمًا أَيْ أَثْمَانًا لِلْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِالْمَعْنَى الْجَلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ أَيْ لَا تُؤْتُوهُمُ الْأَمْوَالَ إِيتَاءَ تَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ، وَلَكِنْ آتَوْهُمْ إِيَّاهَا بِمِقْدَارِ انْتِفَاعِهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: تُسَلَّمُ لِلْمَحْجُورِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَالِهِ، وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ ارْزُقُوهُمْ واكْسُوهُمْ بِ (مِنْ) إِلَى تَعْدِيَتِهَا بِ (فِي) الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ، حِينَ لَا يَقْصِدُ التَّبْعِيضَ الْمُوهِمَ لِلْإِنْقَاصِ مِنْ ذَاتِ الشَّيْءِ، بَلْ يُرَادُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ الشَّيْءِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِعْلُ: تَارَةً مِنْ عَيْنِهِ، وَتَارَةً مِنْ ثَمَنِهِ، وَتَارَةً مِنْ نِتَاجِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مُكَرَّرًا مُسْتَمِرًّا. وَانْظُرْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ يُرِيدُ الْإِبِلَ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ قَتِيلٍ مِنْهُمْ، أَيْ نَشْرَبُ بِأَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ، فَإِمَّا شَرِبْنَا بِجَمِيعِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا أَوْ نَسْتَرْجِعُ مِنْهَا فِي الْقِمَارِ، وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، فَأَهْمَلَ مُعْظَمُهُمُ التَّنْبِيهَ عَلَى وَجْهِ الْعُدُولِ إِلَى (فِي) ، وَاهْتَدَى إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بَعْضَ الِاهْتِدَاءِ فَقَالَ: أَيِ اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَّحُوا حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الرِّبْحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ. فَقَوْلُهُ: «لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ» مُسْتَدْرَكٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَاقْتَضَى نَهْيًا عَنِ الْإِنْفَاقِ مَنْ صُلْبِ الْمَالِ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لِيَسْلَمَ إِعْطَاؤُهُمُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ مِنَ الْأَذَى، فَإِنَّ شَأْنَ مَنْ يُخْرِجُ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَسْتَثْقِلَ سَائِلَ الْمَالِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطِي، وَالَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطَى، وَلِأَنَّ جَانِبَ السَّفِيهِ مَلْمُوزٌ بِالْهَوْنِ،

[سورة النساء (4) : آية 6]

لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ وَلِيَّهُ عَلَى الْقَلَقِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْيَتِيمِ فَيُسْمِعُهُ مَا يَكْرَهُ مَعَ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهِ خَلَلٌ فِي الْخِلْقَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَمَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ السَّفِيهَ غَالِبًا يَسْتَنْكِرُ مَنْعَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ وَاسِعِ الْمَطَالِبِ، فَقَدْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ، أَوْ يَصْدُرُ مِنْهُ كَلِمَاتٌ مَكْرُوهَةٌ لِوَلِيِّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَوْلِيَاءَ بِأَنْ لَا يَبْتَدِئُوا مَحَاجِيرَهُمْ بِسَيِّئِ الْكَلَامِ، وَلَا يُجِيبُوهُمْ بِمَا يَسُوءُ، بَلْ يَعِظُونَ الْمَحَاجِيرَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ طُرُقَ الرَّشَادِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَيُذَكِّرُونَهُمْ بِأَنَّ الْمَالَ مَالُهُمْ، وَحِفْظَهُ حِفْظٌ لِمَصَالِحِهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَهُوَ بَقَاءُ الْكَرَامَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَمَوَالِيهِمْ، وَرَجَاءُ انْتِفَاعِ الْمَوَالِي بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَا قَالَ: إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ وَقَدْ شَمِلَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ كُلَّ قَوْلٍ لَهُ موقع فِي حَالَ مَقَالِهِ. وَخَرَجَ عَنْهُ كُلُّ قَوْلٍ مُنْكَرٍ لَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ وَلَا الْخُلُقُ بِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَزَّ، فَالْمَعْرُوفُ قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَكْرَهُهُ السَّفِيهُ إِذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِهِ. [6] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاء: 5] لِتَنْزِيلِهَا مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْغَايَةِ لِلنَّهْيِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ خُصُوصَ الْيَتَامَى فَيَتَّجِهُ أَن يُقَال: لماذَا عُدِلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَعَنِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمُسَاوِي لِلْأَوَّلِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِآخَرَ أَخَصَّ وَهُوَ الْيَتَامَى، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ السُّفَهَاءِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ فِي حَالَةِ الِابْتِلَاءِ مَرْجُوٌّ كَمَالُ عُقُولِهِمْ، وَمُتَفَاءَلٌ بِزَوَالِ السَّفَاهَةِ عَنْهُمْ، لِئَلَّا يَلُوحَ شِبْهُ تَنَاقُضٍ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالسَّفَهِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ أَعَمَّ مِنَ الْيَتَامَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ حُكْمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ بِالْيَتَامَى دُونَ السُّفَهَاءِ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْجَى

فِيهِ تغيّر الْحَالِ، وَهُوَ مُرَاهَقَةُ الْبُلُوغِ، حِينَ يُرْجَى كَمَالُ الْعَقْلِ وَالتَّنَقُّلُ مِنْ حَالِ الضَّعْفِ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ، أَمَّا مَنْ كَانَ سَفَهُهُ فِي حِينِ الْكِبَرِ فَلَا يُعْرَفُ وَقْتٌ هُوَ مَظِنَّةٌ لِانْتِقَالِ حَالِهِ وَابْتِلَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: الْيَتامى لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَالضَّمِيرِ، لَوْ عَبَّرَ بِالضَّمِيرِ. وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْغَايَةِ، لِأَنَّ إِفَادَتَهَا الْغَايَةَ بِالْوَضْعِ، وَكَوْنَهَا ابْتِدَائِيَّةً أَوْ جَارَّةً اسْتِعْمَالَاتٌ بِحَسَبِ مَدْخُولِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [152] . وَ (إِذا) ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ (حَتَّى) الدَّاخِلَةِ عَلَى (إِذا) ابْتِدَائِيَّةٌ لَا جَارَّةٌ. وَالْمَعْنَى: ابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى وَقَتِ إِنْ بَلَغُوا النِّكَاحَ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَهِي عِنْدَهُ الِابْتِلَاءُ، وَحَيْثُ عُلِمَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ لِأَجْلِ تَسْلِيمِ الْمَالِ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَأَثَرُهُ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْوَالِ. وَسَيُصَرَّحُ بِذَلِكَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي. وَالِابْتِلَاءُ هُنَا: هُوَ اخْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْيَتِيمِ فِي الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُدْفَعُ لِلْيَتِيمِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ، وَيَرُدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الدَّارِ شَهْرًا كَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا يُفَوَّضُ إِلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ لِرَبَّةِ الْمَنْزِلِ، وَضَبْطِ أُمُورِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْأَزْمَانِ وَالْبُيُوتِ. وَزَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاخْتِبَارَ فِي الدِّينِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ شَرْطٍ إِذْ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ آثَارِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ الدِّينِ. وَبُلُوغُ النِّكَاحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بُلُوغُ وَقْتِ النِّكَاحِ أَيِ التَّزَوُّجِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الصِّبَا لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ مَعْرُوفَةٌ، عُبِّرَ عَنْهَا فِي الْآيَةِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّبْكِيرِ بتزويج الْبِنْت عَن

الْبُلُوغِ. وَمِنْ طَلَبِ الرَّجُلِ الزَّوَاجَ عِنْدَ بُلُوغِهِ، وَبُلُوغِ صَلَاحِيَّةِ الزَّوَاجِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَبِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْمِزَاجِ الدَّمَوِيِّ وَالْمِزَاجِ الصَّفْرَاوِيِّ، فَلِذَلِكَ أَحَالَهُ الْقُرْآنُ عَلَى بُلُوغِ أَمَدِ النِّكَاحِ، وَالْغَالِبُ فِي بُلُوغِ الْبِنْتِ أَنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ بُلُوغِ الذَّكَرِ، فَإِنْ تَخَلَّفَتْ عَنْ وَقْتِ مَظِنَّتِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَدَلُّ بِالسِّنِّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَقْصَى الْبُلُوغِ عَادَةً، فَقَالَ مَالِكٌ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: هُوَ ثَمَانُ عَشْرَةَ سَنَةً لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذُّكُورِ، وَقَالَ: فِي الْجَارِي سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلذُّكُورِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ لِلْبَنَاتِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ، وَبِهِ قَالَ أَصْبَغُ، وَابْنُ وَهْبٍ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَرَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ، وَعَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُوَ مِعْيَارُ بُلُوغِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَادَفَ أَنْ رَآهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مَلَامِحُ الرِّجَالِ، فَأَجَازَهُ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّنِّ فِي كَلَامٍ ابْنِ عُمَرَ إِيمَاءً إِلَى ضَبْطِ الْإِجَازَةِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَتَعَجَّبْ مِنْ ترك هَؤُلَاءِ الأئمّة تَحْدِيدَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَشَدُّ مِنْ عَجَبِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ مَعْلُومٌ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْوَلَدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَتَبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ . وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَوَقْتُ الِابْتِلَاءِ يَكُونُ بَعْدَ التَّمْيِيزِ لَا مَحَالَةَ، وَقَبْلَ الْبُلُوغِ: قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمَالِ لِلْإِضَاعَةِ لِأَنَّ عَقْلَ الْيَتِيمِ غَيْرُ كَامِلٍ، وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِابْتِلَاءُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَعُبِّرَ عَنِ اسْتِكْمَالِ

قُوَّةِ النَّمَاءِ الطَّبِيعِيِّ بِ بَلَغُوا النِّكاحَ، فَأُسْنِدَ الْبُلُوغُ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَدْعُو الرَّجُلَ لِلتَّزَوُّجِ وَيَدْعُو أَوْلِيَاءَ الْبِنْتِ لِتَزْوِيجِهَا، فَهُوَ الْبُلُوغُ الْمُتَعَارَفُ الَّذِي لَا مُتَأَخَّرَ بَعْدَهُ، فَلَا يُشْكَلُ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يُزَوِّجُونَ بَنَاتِهُمْ قَبْلَ سِنِّ الْبُلُوغِ، وَأَبْنَاءَهُمْ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَجُّلٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَغْرَاضٍ عَارِضَةٍ، وَلَيْسَ بُلُوغًا مِنَ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْبَنَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً شَرْطٌ ثَانٍ مُقَيِّدٌ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِذا بَلَغُوا. وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ (إِذا) ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ نَصًّا فِي الْجَوَابِ، وَتَكُونَ (إِذا) نَصًّا فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ جَوَابَ (إِذا) مُسْتَغْنٍ عَنِ الرَّبْطِ بِالْفَاءِ لَوْلَا قَصْدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ. وَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ انْتِهَاءَ الْحَجْرِ إِلَى الْبُلُوغِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ مِنَ الْمَحْجُورِ الرُّشْدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَطْعٌ لِمَعَاذِيرِ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ أَنْ يُمْسِكُوا أَمْوَالَ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَهُمْ مُدَّةً لِزِيَادَةِ التَّمَتُّعِ بِهَا. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَعْنَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكَلَامِ هُنَا، إِذْ كَانَ بِدُونِ عَطْفٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ بِالْقَرِينَةِ، أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا سَبَبٌ لِتَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ، فَلَا يَكْفِي حُصُولُ أَحَدِهِمَا وَلَا نَظَرَ إِلَى الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ جُمْلَةِ شَرْطٍ بُنِيَتْ عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ آخَرَ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا إِلَّا عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَشْرُوطٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ الشَّرْطَيْنِ يُفِيدُ كَوْنَ الثَّانِي مِنْهُمَا فِي الذِّكْرِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُصُولِ. وَنَسَبَهُ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» إِلَى ثَعْلَبٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْحُصُولِ يَكُونُ عَلَى نَحْوِ تَرْتِيبِهِمَا فِي اللَّفْظِ، وَنَسَبَهُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَفَّالِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ» ، وَالْإِمَامِ الرَّازِّيِّ فِي «النِّهَايَةِ» ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا فِي تَعْلِيقِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْإِيمَانِ، وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُهَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرٌ لِلْخِلَافِ

فِي الْإِخْبَارِ وَإِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ، كَمَا هُنَا، وَإِنَّمَا قَدْ يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِنْشَاءِ التَّعَالِيقِ فِي الْأَيْمَانِ، وَأَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يَرَوْنَ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا. وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ الشَّرْطَيْنِ شَرْطًا فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ، سَوَاءً ارْتَبَطَتْ بِالْفَاءِ- كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ- أَمْ لَمْ تَرْتَبِطْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود: 34] . وَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطَانِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [الْأَحْزَاب: 50] . فَقَوْلُهُ: إِنْ وَهَبَتْ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هِبَةَ الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي تُعَيِّنُ عَلَيْهِ تَزَوُّجَهَا، فَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: إِنْ أَرَادَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَا شَرْطَيْنِ لِلْإِحْلَالِ لِظُهُورِ أَنَّ إِحْلَالَ الْمَرْأَةِ لَا سَبَبَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَّا أَنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا. وَفِي كِلْتَا حَالَتَيِ الشَّرْطِ الْوَارِدِ عَلَى شَرْطٍ يَجْعَلُ جَوَابَ أَحَدِهِمَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَوْ جَوَابَ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْآخَرِ: عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْأَخْفَشِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَعَدُّدِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ دَخَلْتَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْتَ آمِنٌ» وَفِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ صَلَّيْتَ إِنْ صُمْتَ أُثِبْتَ» مِنْ كُلِّ تَرْكِيبٍ لَا تَظْهَرُ فِيهِ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ. هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي أَطَالَ فِيهِ كثير وَخَصَّهَا تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ بِرِسَالَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَأَلَ عَنْهَا الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ الشَّيْخَ ابْنَ الْحَاجِبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ كِتَابِ «الْوَفَيَاتِ» ، وَلم يفصّلها، وفصّلها، الدَّمَامِينِيُّ فِي «حَاشِيَةِ مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَإِينَاسُ الرُّشْدِ هُنَا عِلْمُهُ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ رُؤْيَةُ الْإِنْسِيِّ أَيِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَوَّلِ مَا يُتَبَادَرُ مِنَ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ فِي الْمُبْصَرَاتِ، نَحْوَ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارا [الْقَصَص: 29] أَمْ فِي الْمَسْمُوعَاتِ، نَحْوَ قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ فِي بَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ:

آنَسَتْ نبأة وأفزعها الْقِنّـ ... ـاص عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ وَكَأَنَّ اخْتِيَارَ آنَسْتُمْ هُنَا دُونَ عَلِمْتُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ أَوَّلُ الْعِلْمِ بِرُشْدِهِمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَالُهُمْ دُونَ تَرَاخٍ وَلَا مَطْلٍ. وَالرُّشْدُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَتُفْتَحُ الرَّاءُ فَيُفْتَحُ الشِّينُ، وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَهُوَ انْتِظَامُ تَصَرُّفِ الْعَقْلِ، وَصُدُورِ الْأَفْعَالِ عَنْ ذَلِكَ بِانْتِظَامٍ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ابْتَلُوا الْيَتامى. وَالْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْأَوْصِيَاءُ، فَيَكُونُ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ حُكْمًا، فَقَالُوا: يَتَوَلَّى الْوَصِيُّ دَفْعَ مَال مَحْجُوره عِنْد مَا يَأْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدَ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَرْشِيدَ مَحْجُورِهِ بِتَسْلِيم مَاله إِلَيْهِ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مَنْ أَقَامَهُ الْأَبُ وَالْقَاضِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِتَرْشِيدِ الْمَحْجُورِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ لِفَسَادِ النَّاسِ الْيَوْمَ وَعَدَمِ أَمْنِهِمْ أَنْ يَتَوَاطَئُوا مَعَ الْمَحَاجِيرِ لِيُرْشِدُوهُمْ فيسمحوا لَهُم بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ فِي أَوْصِيَاءِ زَمَانِنَا أَنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ رَفْعِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ وَثُبُوتِ الرُّشْدِ عِنْدَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَوَاطُؤِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَنْ يُرْشِدَ الوصيّ مَحْجُوره ويبرىء الْمَحْجُورُ الْوَصِيَّ لِسَفَهِهِ وَقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنِ اسْتَحْسَنَ الْمُوَثَّقُونَ الْإِشْهَادَ بِثُبُوتِ رُشْدِ الْمَحْجُورِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ، أَمَّا وَصِيُّ الْقَاضِي فَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُرَشِّدُ مَحْجُورَهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ لَدَى الْقَاضِي، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ. وَعِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَيَتَوَلَّى تَنْفِيذَهُ مَنْ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ ذَلِكَ الْبَابِ مِنَ الْوُلَاةِ، كَشَأْنِ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةِ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْفِيذُ أُمُورِ الْمَحَاجِيرِ وَالْأَوْصِيَاءِ هُوَ الْقَاضِي، وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ بِلَا كُلْفَةٍ. وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي تَقَدُّمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ عَلَى الْبُلُوغِ لِمَكَانٍ (حَتَّى) الْمُؤْذِنَةِ بِالِانْتِهَاءِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ لِلْمَحْجُورِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ لِلِابْتِلَاءِ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

وَالْآيَةُ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي أنّه إِذا لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطَانِ مَعًا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، لَا يُدْفَعُ الْمَالُ لِلْمَحْجُورِ. وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا بَعْدَ بُلُوغِهِ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ: يُنْتَظَرُ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ أُطْلِقَ مِنَ الْحَجْرِ. وَهَذَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَيْضًا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ إِذْ لَيْسَ الْحَجْرُ إِلَّا لِأَجْلِ السَّفَهِ وَسُوءِ التَّصَرُّفِ فَأَيُّ أَثَرٍ لِلْبُلُوغِ لَوْلَا أَنَّهُ مَظِنَّةُ الرُّشْدِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَ الْبُلُوغِ فَمَا أَثَرُ سَبْعِ السِّنِينَ فِي تَمَامِ رُشْدِهِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَهُوَ بَالِغٌ أَوِ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِأَجْلِ مَرَضٍ فِي فِكْرِهِ، أَوْ لِأَجَلِ خَرَفٍ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذْ عِلَّةُ التَّحْجِيرِ ثَابِتَةٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ: لَا حَجْرَ عَلَى بَالِغٍ. وَحُكْمُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاث بطرِيق التغليب: فَالْأُنْثَى الْيَتِيمَةُ إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً دُفِعَ مَالُهَا إِلَيْهَا. وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُشْداً تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ نَوْعِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَادُهَا اعْتِبَارِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، فَرُشْدُ زَيْدٍ غَيْرُ رُشْدِ عَمْرٍو، وَالرُّشْدُ فِي الْمَالِ غَيْرُ الرُّشْدِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] ، وَقَالَ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] . وَمَاهِيَّةُ الرُّشْدِ هِيَ انْتِظَامُ الْفِكْرِ وَصُدُورُ الْأَفْعَالِ عَلَى نَحْوِهِ بِانْتِظَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، فَالْمُرَادُ مِنَ النَّوْعِيَّةِ نَحْوَ الْمُرَادِ مِنَ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ سَاوَى الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ تَوَهُّمُ الْجَصَّاصِ أَنَّ فِي تَنْكِيرِ (رُشْداً) دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ حُسْنِ التَّصَرُّفِ وَاكْتِفَائِهِ بِالْبُلُوغِ، بِدَعْوَى أَنَّ اللَّهَ شَرَطَ رُشْدًا مَا وَهُوَ صَادِقٌ بِالْعَقْلِ إِذِ الْعَقْلُ رُشْدٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّشْدَ كُلَّهُ. وَهَذَا ضَعْفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعُمُومُ فِي الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا أَفْرَادَ لَهَا. وَقَدْ أُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْيَتَامَى: لِأَنَّهَا قَوِيَ اختصاصها بهم عِنْد مَا صَارُوا رُشَدَاءَ فَصَارَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ إِضَاعَةُ مَا لِلْقَرَابَةِ وَلِعُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَمْوَالِ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً عُطِفَ عَلَى وَابْتَلُوا الْيَتامى بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً إِلَخْ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: 2] وَتَفْضِيحٌ لِحِيلَةٍ كَانُوا يَحْتَالُونَهَا قَبْلَ بُلُوغِ الْيَتَامَى أَشُدَّهُمْ: وَهِيَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْأَوْلِيَاءُ اسْتِهْلَاكَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَبْلَ أَنْ يَتَهَيَّئُوا لِمُطَالَبَتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ، فَيَأْكُلُوهَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ فِي وَقْتِ النُّزُولِ كَانَتْ أَعْيَانًا مِنْ أَنْعَامٍ وَتَمْرٍ وَحَبٍّ وَأَصْوَافٍ فَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهَا مِمَّا يُكْتَمُ وَيُخْتَزَنُ، وَلَا مِمَّا يَعْسُرُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ كَالْعَقَارِ، فَكَانَ أَكْلُهَا هُوَ اسْتِهْلَاكُهَا فِي مَنَافِعِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِيهِمْ، فَإِذَا وَجَدَ الْوَلِيُّ مَالَ مَحْجُورِهِ جَشَعَ إِلَى أَكْلِهِ بِالتَّوَسُّعِ فِي نَفَقَاتِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَرَاكِبِهِ وَإِكْرَامِ سُمَرَائِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِسْرَافِ، فَإِنَّ الْإِسْرَافَ الْإِفْرَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ والتوسّع فِي شؤون اللَّذَّاتِ. وَانْتَصَبَ (إِسْرافاً) عَلَى الْحَالِ: أَوْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَلَيْسَ الْقَصْدُ تَقْيِيدَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ بِذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَشْوِيهُ حَالَةِ الْأَكْلِ. وَالْبِدَارُ مَصْدَرُ بَادَرَهُ، وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَدْرِ، وَهُوَ الْعَجَلَةُ إِلَى الشَّيْءِ، بَدَرَهُ عَجِلَهُ، وَبَادَرَهُ عَاجَلَهُ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا قُصِدَ مِنْهَا تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي إِسْرَافِهِمْ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَ مُشَارَفَتِهِمُ الْبُلُوغَ، وَتَوَقُّعِ الْأَوْلِيَاءِ سُرْعَةَ إِبَّانِهِ، بِحَالِ مَنْ يَبْدُرُ غَيْرَهُ إِلَى غَايَةٍ وَالْآخَرُ يَبْدُرُ إِلَيْهَا فَهُمَا يَتَبَادَرَانِهَا، كَأَنَّ الْمَحْجُورَ يُسْرِعُ إِلَى الْبُلُوغِ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَالْوَصِيَّ يُسْرِعُ إِلَى أَكْلِهِ لِكَيْلَا يَجِدُ الْيَتِيمُ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ، فَيَذْهَبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إِثْبَاتِ حُقُوقِهِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِمَصْدَرِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَكْبَرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ كَبِرَ كَعَلِمَ إِذَا زَادَ فِي السِّنِّ، وَأَمَّا كَبُرَ- بِضَم الْمُوَحدَة- فَهُوَ إِذَا عَظُمَ فِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ- شَقَّ. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. عُطِفَ عَلَى وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً إِلَخْ الْمُقَرَّرِ بِهِ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: 2]

لِيَتَقَرَّرَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِلتَّرْخِيصِ فِي ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْأَكْلِ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْوَصِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ مَالِ مَحْجُورِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِنْفَاقِ بَعْضِ مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْطِ وَصِيَّهُ الْفَقِيرَ بِالْمَعْرُوفِ أَلْهَاهُ التَّدْبِيرُ لِقُوتِهِ عَنْ تَدْبِيرِ مَالِ مَحْجُورِهِ. وَفِي لَفْظِ الْمَعْرُوفِ (حَوَالَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ حَالَ الْوَصِيِّ وَيَتِيمِهِ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ حَدِيث أبي دَاوُود: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ» قَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِف وَلَا مبادر وَلَا مُتَأَثِّلٍ» . وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَأْخُذُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَرْضِ لَا غَيْرَ. قَالَ عُمَرُ: «إِنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ احْتَجْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ» وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الْوَصِيِّ إِنْ أَيْسَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ وَيَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ وَيَهْنَأَ الْجَرْبَى مِنْ إِبِلِهِ وَيَلُوطَ الْحَوْضَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ نَاطَ الْحُكْمَ بِالْفَقْرِ لَا بِالِاضْطِرَارِ، وَنَاطَهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالِاضْطِرَارُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا إِذَا سَافَرَ مِنْ أَجْلِ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ قُوتَهُ فِي السَّفَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصِيِّ الْحَاكِمِ هَلْ هُوَ مِثْلُ وَصِيِّ الْأَبِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ هَلْ يَأْخُذُ أَجْرَ مِثْلِهِ عَلَى عَمَلِهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَعْفِفْ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، فَمَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ قَالَ: لَا يَأْكُلُ الْغَنِيُّ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ مَنَعَهُ الِانْتِفَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّلَفِ وَالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُمْ جُمْهُور تقدّمت أَسْمَاءَهُم. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرَ مِثْلِهِ جَازَ لَهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ وَخِدْمَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَمَلُهُ مُجَرَّدَ التَّفَقُّدِ لِلْيَتِيمِ وَالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ.

وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاء: 10] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: 188] وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ سَلَكَ بِالْآيَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرَادُ فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا أَيْ مِنَ الْيَتَامَى، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا كَذَلِكَ، وَهِيَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتَامَى فَالْغَنِيُّ يُعْطَى كِفَايَتَهُ، وَالْفَقِيرُ يُعْطَى بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ فِعْلَ (اسْتَعْفَفَ: يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بِمَالِهِ وَلَا يَتَوَسَّعْ بِمَالِ مَحْجُورِهِ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يُقَتِّرُ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ. وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ وَالْكِيَا الطَّبَرِيُّ (¬1) فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَهُوَ أَمر بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الدَّفْعِ، لِيَظْهَرَ جَلِيًّا مَا يُسَلِّمُهُ الْأَوْصِيَاءُ لِمَحَاجِيرِهِمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا مَا بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِمَّا تَخَلَّفَ عِنْدَ الْأَوْصِيَاءِ، وَفِيهِ بَرَاءَةٌ لِلْأَوْصِيَاءِ أَيْضًا مِنْ دَعَاوِي الْمَحَاجِيرِ مِنْ بَعْدُ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا التشريع قعطا لِلْخُصُومَاتِ. وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَبِكُلٍّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُسَمَّ أَصْحَابُهَا: فَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِحَقِّ الْوَصِيِّ كَانَ الْإِشْهَادُ مَنْدُوبًا ¬

(¬1) هُوَ عَليّ بن عَليّ الطّبري- نِسْبَة إِلَى طبرستان كورة قرب الرّيّ- الملقب الكيا الطَّبَرِيّ وَيُقَال الكيا الهرّاسي- والكيا بِهَمْزَة مَكْسُورَة فِي أَوله فكاف مَكْسُورَة، مَعْنَاهُ الْكَبِير بلغَة الْفرس. والهراسي بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الرَّاء نِسْبَة إِلَى الهريسة إمّا إِلَى بيعهَا أَو صنعها. الشَّافِعِي ولد سنة 450 وتوفّي فِي بَغْدَاد سنة 504.

[سورة النساء (4) : آية 7]

لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ رفع التهارج وَقع الْخُصُومَاتِ، كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [الْبَقَرَة: 282] وَلِلشَّرِيعَةِ اهْتِمَامٌ بِتَوْثِيقِ الْحُقُوقِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَمُ لنظام الْمُعَامَلَات. وأياما كَانَ فقد جعل الله الْوَصِيُّ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الدَّفْعِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَوْلَا أَنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمَحْجُورُ لَمْ يكن لِلْأَمْرِ بالتوثّق فَائِدَةٌ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ الْفَخْرَ احْتَجَّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ فِي تَرَتُّبِ حُكْمِ الضَّمَانِ، إِذِ الضَّمَانُ مِنْ آثَارِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَسَبَبُهُ هُوَ انْتِفَاءُ الْإِشْهَادِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ فَمِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَأَثَرُهُمَا الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُصَدَّقٌ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ عَدَّهُ أَمِينًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَأَى الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحْمَلَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ. وَجَاءَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً تَذْيِيلًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّاتٌ وَتَحْرِيضَاتٌ فَوَكَلَ الْأَمْرَ فِيهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَسِيبُ: الْمُحَاسِبُ. وَالْبَاءُ زَائِدَة للتوكيد. [7] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى النَّتِيجَةِ لِحُكْمِ إِيتَاءِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَمَجْرَى الْمُقَدِّمَةِ لِأَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] . وَمُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْآيِ السَّابِقَةِ بِهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا إِيثَارَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْأَشِدَّاءِ بِالْأَمْوَالِ، وَحِرْمَانَ الضُّعَفَاءِ، وَإِبْقَاءَهُمْ عَالَةً عَلَى أَشِدَّائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي مَقَادَتِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَمْنَعُونَ عَنْ مَحَاجِيرِهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ أَكْبَرُ الْعَائِلَةِ يَحْرِمُ إِخْوَتَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَعَهُ فَكَانَ أُولَئِكَ لِضَعْفِهِمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحِرْمَانِ، وَيَقْنَعُونَ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِ أَقَارِبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ نَازَعُوهُمْ أَطْرَدُوهُمْ وَحَرَمُوهُمْ، فَصَارُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ. وَأَخَصُّ النَّاسِ بِذَلِكَ النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَجِدْنَ ضَعْفًا مِنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَيَخْشَيْنَ عَارَ الضَّيْعَةِ،

وَيَتَّقِينَ انْحِرَافَ الْأزْوَاج، فيتّخذن رضى أَوْلِيَائِهِنَّ عُدَّةً لَهُنَّ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، أَمَرَ عَقِبَهُ بِأَمْرِهِمْ بِأَنْ يَجْعَلُوا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. فَإِيتَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ تَحْقِيقٌ لِإِيصَالِ نَصِيبِهِ مِمَّا تَرَكَ لَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَتَوْرِيثُ الْقَرَابَةِ إِثْبَاتٌ لِنَصِيبِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَذُكِرَ النِّسَاءُ هُنَاكَ تَمْهِيدًا لِشَرْعِ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى [النِّسَاء: 8] فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ الْمِيرَاثَ، وَلَا يُنَاسِبُ إِيتَاءَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى. وَلَا جَرَمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ شرائع الْإِسْلَام شرع الْمِيرَاث، فقد كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِعُظَمَاءِ الْقَبَائِلِ وَمَنْ تَلْحَقُهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ حُسْنُ الْأُحْدُوثَةِ، وَتَجْمَعُهُمْ بِهِمْ صِلَاتُ الْحِلْفِ أَوِ الِاعْتِزَازِ وَالْوِدِّ، وَكَانُوا إِذَا لَمْ يُوصُوا أَوْ تَرَكُوا بَعْضَ مَالِهِمْ بِلَا وَصِيَّةٍ يُصْرَفُ لِأَبْنَاءِ الْمَيِّتِ الذُّكُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُكُورٌ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ يصرفونه إِلَى عصبته مِنْ أُخْوَةٍ وَأَبْنَاءِ عَمٍّ، وَلَا تُعْطَى بَنَاتُهُ شَيْئًا، أَمَّا الزَّوْجَاتُ فَكُنَّ مَوْرُوثَاتٍ لَا وَارِثَاتٍ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ بِالْبُنُوَّةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَبْنَاءُ ذُكُورًا، فَلَا مِيرَاثَ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يَرِثُ أَمْوَالَنَا مَنْ طَاعَنَ بِالرُّمْحِ، وَضَرَبَ بِالسَّيْفِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ وَرِثَ أَقْرَبُ الْعُصْبَةِ: الْأَبُ ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ الْعَمُّ وَهَكَذَا، وَكَانُوا يُوَرِّثُونَ بِالتَّبَنِّي وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ ابْنَ غَيْرِهِ ابْنًا لَهُ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَ الْمُتَبَنِّي جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأُبُوَّةِ. وَيُوَرِّثُونَ أَيْضًا بِالْحِلْفِ وَهُوَ أَنْ يَرْغَبَ رَجُلَانِ فِي الْخُلَّةِ بَيْنَهُمَا فَيَتَعَاقَدَا عَلَى أَنَّ دَمَهُمَا وَاحِدٌ وَيَتَوَارَثَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَقَعْ فِي مَكَّةَ تَغْيِيرٌ لِأَحْكَامِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ مَا يُخَالِفُ أَحْكَامَ سُكَّانِهَا، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ مُعْظَمُ أَقَارِبِ الْمُهَاجِرِينَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ صَارَ التَّوْرِيثُ: بِالْهِجْرَةِ، فَالْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَبِالْحِلْفِ، وَبِالْمُعَاقَدَةِ، وَبِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَاهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ

جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: 33] الْآيَةَ مِنْ هَاتِهِ السُّورَةِ. وَشَرَعَ اللَّهُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ تَوَالَدَ الْمُسْلِمُونَ وَلَحِقَ بِهِمْ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ مُؤْمِنِينَ، فَشَرَعَ اللَّهُ الْمِيرَاثَ بِالْقَرَابَةِ، وَجَعَلَ لِلنِّسَاءِ حُظُوظًا فِي ذَلِكَ فَأَتَمَّ الْكَلِمَةَ، وَأَسْبَغَ النِّعْمَةَ، وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ الْمِيرَاثِ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ بِالْوِلَادَةِ وَمَا دُونَهَا. وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَوَّلَ إِعْطَاءٍ لِحَقِّ الْإِرْثِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَرَبِ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْمُقَدِّمَةِ جَاءَتْ بِإِجْمَالِ الْحَقِّ وَالنَّصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَلَاهُ تَفْصِيلُهُ، لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِجْمَالِ حِكْمَةُ وُرُودِ الْأَحْكَامِ الْمُرَادِ نَسْخُهَا إِلَى أَثْقَلَ لِتَسْكُنَ النُّفُوسُ إِلَيْهَا بِالتَّدْرِيجِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُحَّةٍ (¬1) فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَاتَانِ بِنْتَاهُ وَقَدِ اسْتَوْفَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَمَا تَرَى يَا رَسُول الله؟ فو اللَّهِ مَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ» . فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفِيهَا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] . قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وصاحبها» فَقَالَ لعمتهما «أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ» . وَيُرْوَى: أَنَّ ابْنَيْ عَمِّهِ سُوَيْدٌ وَعُرْفُطَةُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَتَادَةُ وَعُرْفُجَةُ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا الْعَمَّ أَوِ ابْنَيِ الْعَمِّ قَالَ، أَوْ قَالَا لَهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نُعْطِي مَنْ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا وَلَا يَنْكَى عَدُوًّا» فَقَالَ «انْصَرِفْ أَوِ انْصَرِفَا، حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِنَّ» فَنَزَلَتْ آيَةُ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الْآيَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَلِيِّ الْبِنْتَيْنِ فَقَالَ: «لَا تُفَرِّقُ مِنْ مَالِ أَبِيهِمَا شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا» ¬

(¬1) الكحّة بضمّ الْكَاف وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة لُغَة فِي القحة وَهِي الْخَالِصَة.

[سورة النساء (4) : آية 8]

وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [23] . وَقَوْلُهُ: بَيَان ل مِمَّا تَرَكَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى لَا يَسْتَأْثِرَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي أَبْنَاءَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَيْلِهِ كَمَا أَوْصَى نزار بن معّد بْنُ عَدْنَانَ لِأَبْنَائِهِ: مُضَرَ، وَرَبِيعَةَ، وَإِيَادٍ، وَأَنْمَارٍ، فَجَعَلَ لِمُضَرَ الْحَمْرَاءَ كُلَّهَا، وَجَعَلَ لِرَبِيعَةَ الْفَرَسَ، وَجَعَلَ لِإِيَادٍ الْخَادِمَ، وَجَعَلَ لِأَنْمَارٍ الْحِمَارَ، وَوَكَلَهُمْ فِي إِلْحَاقِ بَقِيَّةِ مَالِهِ بِهَاتِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمَيِّ فِي نَجْرَانَ، فَانْصَرَفُوا إِلَيْهِ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الْمَثَلَ: إِنَّ الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ. وَقَوْلُهُ: نَصِيباً مَفْرُوضاً حَالٌ مِنْ (نَصِيبٌ) فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِنَصِيبٍ الْجِنْسُ جَاءَ الْحَالُ مِنْهُ مُفْرَدًا وَلَمْ يُرَاعَ تَعَدُّدُهُ، فَلَمْ يَقُلْ: نَصِيبَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ نَصِيبَيْنِ، وَلَا قيل: أنصباء مَفْرُوضَةٌ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ مُوَزَّعًا لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ، بَلْ روعي الْجِنْسُ فَجِيءَ بِالْحَالِ مُفْرَدًا ومَفْرُوضاً وَصْفٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا أَنَّهُ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 11] . وَهَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تشريع الْمَوَارِيث. [8] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: 7] إِلَى آخِرِهَا. وَهَذَا أَمْرٌ بِعَطِيَّةٍ تُعْطَى مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ: أَمَرَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُسْهِمُوا لِمَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمْ غَيْرِ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْإِرْثِ، مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا مَجَالِسَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ. وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: 7] وَقَوْلُهُ: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: 7] يَقْتَضِيَانِ مَقْسُومًا، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ.

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى النَّدْبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، إِذْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ غَيْرُ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ «لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَجَعَلُوا الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ الْوَرَثَةَ الْمَالِكِينَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمَالِكِينَ أَمَرَ أَنْفُسِهِمُ فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي صَالِحٍ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمَآلُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْأَمْرَ مُوَجَّهٌ إِلَى صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْمِيرَاثِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي وَصِيَّتِهِ شَيْئًا لِمَنْ يَحْضُرُ وَصِيَّتَهُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ غَيْرِ الَّذِينَ أَوْصَى لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ تَبَعًا لِنَسْخِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ بِمَعْنَى تَعْيِينِ مَا لِكُلِّ مُوصًى لَهُ مِنْ مِقْدَارٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ فِي نَفْسِ الْمِيرَاثِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ قَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ هُوَ الْمِيرَاثُ نَفْسُهُ. وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أَيْ قُولُوا لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْمَوَارِيثَ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِتَفْصِيلِ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِلْآيَةِ، وَكَفَاكَ بِاضْطِرَابِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهَا تَوْهِينًا لِتَأْوِيلَاتِهِمْ.

[سورة النساء (4) : آية 9]

وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ قَوْلًا حَسَنًا وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ تَسْلِيَةً لِبَعْضِهِمْ عَلَى مَا حُرِمُوا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة. [9] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 9] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) مَوْعِظَةٌ لِكُلِّ مَنْ أُمِرَ أَوْ نُهِيَ أَوْ حُذِّرَ أَوْ رُغِّبَ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ، فِي شَأْنِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِ الضِّعَافِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْأَمْرِ بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَ بِإِثَارَةِ شَفَقَةِ الْآبَاءِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ بِأَنْ يُنَزِّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَوْرُوثِينَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا هُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُنَزِّلُوا ذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْزِلَةَ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ أَكَلُوا هُمْ حُقُوقَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَزَادَ إِثَارَةَ الشَّفَقَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ خَلْقٌ ضِعَافٌ بِقَوْلِهِ: ضِعافاً، ثُمَّ أَعْقَبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَهُوَ حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالتَّهْدِيدِ عَلَى أَكْلِهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا. فَيُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بأنّ نصيب أَبْنَاءَهُم مِثْلُ مَا فَعَلُوهُ بِأَبْنَاءِ غَيْرِهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ (يَخْشَ) حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَنْظُرُ كُلَّ سَامِعٍ بِحَسَبِ الْأَهَمِّ عِنْدَهُ مِمَّا يَخْشَاهُ أَنْ يُصِيبَ ذُرِّيَّتَهُ. وَجُمْلَةُ لَوْ تَرَكُوا إِلَى خافُوا عَلَيْهِمْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَجُمْلَةُ خافُوا عَلَيْهِمْ جَوَابُ (لَوْ) . وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَمَّا كَانَتْ وَصْفًا مَفْرُوضًا حَسُنَ التَّعْرِيفُ بِهَا إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّعْرِيفِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْخَشْيَةِ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْرِفُ مَضْمُونَ هَذِهِ الصِّلَةِ لَوْ فَرْضَ حُصُولِهَا لَهُ، إِذْ هِيَ أَمْرٌ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ النَّاسِ. وَوَجْهُ اخْتِيَارِ (لَوْ) هُنَا مِنْ بَيْنِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ أَنَّهَا هِيَ الْأَدَاةُ الصَّالِحَةُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِمْكَانِهِ، فَيَصْدُقُ مَعَهَا الشَّرْطُ الْمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَالْمُسْتَبْعَدُهُ

وَالْمُمْكِنُهُ: فَالَّذِينَ بَلَغُوا الْيَأْسَ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَلَهُمْ أَوْلَادٌ كِبَارٌ أَوْ لَا أَوْلَادَ لَهُمْ، يَدْخُلُونَ فِي فَرْضِ هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَخَافُوا عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ أَمْرُهُمْ أَظْهَرُ. وَفِعْلُ (تَرَكُوا) مَاضٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْحَدَثِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: 240] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء: 201] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى مَلِكٍ كَادَ الْجِبَالُ لِفَقْدِهِ ... تَزُولُ زَوَالَ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الصَّخْرِ أَيْ وَقَارَبَتِ الرَّاسِيَاتُ الزَّوَالَ إِذِ الْخَوْفُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُقَارَبَةِ الْمَوْتِ لَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالْمَعْنَى: لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا لَخَافُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ السُّوءِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الْأَوْصِيَاءِ، وَمِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحرمُونَ النِّسَاء ميراثهن، ويحرمون صِغَارَ إِخْوَتِهِمْ أَوْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ مِنْ مِيرَاثِ آبَائِهِمْ، كُلُّ أُولَئِكَ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ، وَالتَّخْوِيفِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ هَذَا الْخِطَابُ بِأَصْحَابِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النِّسَاء: 8] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لِمَضْمُونِهَا بِهَذَا التَّخْوِيفِ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَبْعَثُ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا لِلْحَقِّ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي أَوْلِيَاءِ السُّوءِ، وَأَنْ يَحْرُسُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَلِّغُوا حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَضَاعُوا ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَلْحَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْكُلَ قَوِيَّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، فَإِنَّ اعْتِيَادَ السُّوءِ يُنْسِي النَّاسَ شَنَاعَتَهُ، وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ضَرَاوَةً عَلَى عَمَلِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [34] . وَقَوْلُهُ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فُرِّعَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ وَإِنْ كَانَا أَمْرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ: لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَمَّا عُضِّدَ بِالْحُجَّةِ اعْتُبِرَ كَالْحَاصِلِ فَصَحَّ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِم القَوْل.

[سورة النساء (4) : آية 10]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تُفِيدُ تَكْرِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتَامَى، جَرَّتْهُ مُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِقِسْمَةِ أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتَامَى لِكَثْرَةِ تَزَوُّجِ الرِّجَالِ فِي مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ، فَقَلَّمَا يَخْلُو مَيِّتٌ عَنْ وَرَثَةٍ صِغَارٍ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِشِدَّةِ عِنَايَةِ الشَّارِعِ بِهَذَا الْغَرَض، فَلذَلِك عَادَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ. وَقَوْلُهُ: ظُلْماً حَالٌ مِنْ يَأْكُلُونَ مُقَيِّدَةٌ لِيَخْرُجَ الْأَكْلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: 6] ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: 29] . ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (نَارًا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا مُرَادًا بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَفِعْلُ يَأْكُلُونَ نَاصِبٌ (نَارًا) الْمَذْكُورَ عَلَى تَأْوِيلِ يَأْكُلُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَطْلَقَ النَّارَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى قَدْ أَكَلُوا مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَعَلَى هَذَا فَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً عَطْفُ مُرَادِفٍ لِمَعْنَى جُمْلَةِ يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّارِ مُسْتَعَارًا لِلْأَلَمِ بِمَعْنَى أَسْبَابِ الْأَلَمِ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِعَذَابٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ مُسْتَعَارًا لِلتَّلَفِ لِأَنَّ شَأْنَ النَّارِ أَنْ تَلْتَهِمَ مَا تُصِيبُهُ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا هِيَ سَبَبٌ فِي مَصَائِبَ تَعْتَرِيهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَالنَّارِ إِذَا تَدْنُو مِنْ أَحَدٍ فَتُؤْلِمُهُ وَتُتْلِفُ مَتَاعَهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا بِمَصَائِبَ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَة: 276] وَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً جَارِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.

[سورة النساء (4) : آية 11]

وَذِكْرُ فِي بُطُونِهِمْ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ وَتَرْشِيحٍ لِاسْتِعَارَةِ يَأْكُلُونَ لِمَعْنَى يَأْخُذُونَ وَيَسْتَحْوِذُونَ. وَالسِّينُ فِي سَيَصْلَوْنَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ أَيِ اسْتِقْبَالٍ، أَيْ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فتمحّضه للاستقبال، سوءا كَانَ اسْتِقْبَالًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهِيَ مُرَادِفَةُ سَوْفَ، وَقِيلَ: إِنَّ سَوْفَ أَوْسَعُ زَمَانًا. وَتُفِيدَانِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ وَكَذَلِكَ التَّوَعُّدِ. وَيَصْلَوْنَ مُضَارِعُ صَلِيَ كَرَضِيَ إِذَا قَاسَى حَرَّ النَّارِ بِشِدَّةٍ، كَمَا هُنَا، يُقَالُ: صَلِيَ بِالنَّارِ، وَيَكْثُرُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ فِعْلِ صَلِيَ وَنُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: لَا تَصْطَلِي النَّار إلّا يجمرا أَرِجًا ... قَدْ كسّرت من يلجوج لَهُ وَقَصَا وَهُوَ الْوَارِدُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بِاطِّرَادٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ صَلِيَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ أَصْلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ وَمَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ. وَالسَّعِيرُ النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ أَيِ الْمُلْتَهِبَةُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، بُنِيَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ مِنَ الْمُضَاعَفِ، كَمَا بُنِيَ السَّمِيعُ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْحَكِيمُ مِنْ أَحْكَمَ. [11] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. تَتَنَزَّلُ آيَةُ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: 7] وَهَذَا الْمَقْصِدُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: 7] إِلَخْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ: يُوصِيكُمُ مَفْصُولَةً لِأَنَّ كِلَا الْمَوْقِعَيْنِ مُقْتَضٍ لِلْفَصْلِ.

وَمِنَ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَصْدِيرُ تَشْرِيعِهَا بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ هِيَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ نَفْعُ الْمَأْمُورِ وَفِيهِ اهْتِمَامُ الْآمِرِ لِشِدَّةِ صَلَاحِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَا يَعْهَدُ بِهِ الْإِنْسَان، فِيمَا يصنع بِأَبْنَائِهِ وَبِمَالِهِ وَبِذَاتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَصِيَّةً. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ: «مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ «كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» فَنَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ «إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ» فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَتَا سَعْدٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ادْعُ لِي أَخَاهُ» ، فَجَاءَ، فَقَالَ: «ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنُ وَلَكَ مَا بَقِيَ» وَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ. بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فُرُوضَ الْوَرَثَةِ، وَنَاطَ الْمِيرَاثُ كُلَّهُ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِبِلِّيَّةً وَهِيَ النَّسَبُ، أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الْجِبِلِّيَّةِ، وَهِيَ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ طَلَبَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى جِبِلِّيٌّ، وَكَوْنُهَا الْمَرْأَةَ الْمُعَيَّنَةَ يَحْصُلُ بِالْإِلْفِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْجِبِلَّةِ. وَبَيَّنَ أَهْلَ الْفُرُوضِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَرْجِعَ الْمَالِ بَعْدَ إِعْطَاءِ أَهْلِ الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ احْتِوَاءِ أَقْرَبِ الْعُصْبَةِ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَقْصِدَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَلَمْ يُبَيِّنْ حَظَّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَدْ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ، وَهِيَ احتواء المَال فاحتيج إِلَى ذِكْرِ فَرْضِ الْأُمِّ. وَابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِيرَاثِ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ.

وَالْأَوْلَادُ جَمْعُ وَلَدٍ بِوَزْنِ فَعَلٍ مِثْلُ أَسَدٍ وَوَثَنٍ، وَفِيهِ لُغَةُ وِلْدٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَكَأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِعْلٌ الَّذِي بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالذِّبْحِ وَالسِّلْخِ. وَالْوَلَدُ اسْمٌ لِلِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَجَمْعُهُ أَوْلَادٌ. وفِي هُنَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتِ الْوَصِيَّةُ كَأَنَّهَا مَظْرُوفَةٌ فِي شَأْنِ الْأَوْلَادِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ كَاتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وَمَجْرُورُهَا مَحْذُوفٌ قَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، لِظُهُورِ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَوْلَادِ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْوَصِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ: فِي إِرْثِ أَوْلَادِكُمْ، وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَدَّرِ عَلَى حَدِّ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] فَجَعَلَ الْوَصِيَّةَ مَظْرُوفَةً فِي هَذَا الشَّأْنِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ وَاحْتِوَائِهِ عَلَيْهَا. وَجُمْلَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يُوصِيكُمُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ مَعْنَى مَضْمُونِ الْوَصِيَّةِ، فَهِيَ مِثْلُ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ صَارَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْإِرْثِ وَهُوَ الْأُنْثَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِ عَهْدٌ مِنْ قَبْلُ إِذْ كَانَ الذُّكُورُ يَأْخُذُونَ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ كُلَّهُ وَلَا حَظَّ لِلْإِنَاثِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: 7] . وَقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جَعَلَ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ حَظُّ الذَّكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ تَعْيِينُ حَظٍّ لِلْأُنْثَيَيْنِ حَتَّى يُقَدَّرَ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَضْعِيفُ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى حَظِّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُرَادُ صَالِحًا لِأَنْ يُؤَدَّى بِنَحْوِ: لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ ذَكَرٍ، أَوْ لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ ذَكَرٍ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا بَيَانَ الْمُضَاعَفَةِ. وَلَكِنْ قَدْ أُوثِرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَى صَارَ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ أَهَمَّ مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ، إِذْ كَانَتْ مَهْضُومَةَ الْجَانِبِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ الْإِسْلَامُ يُنَادِي بِحَظِّهَا فِي أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِلَخْ مُعَادُ الضَّمِيرِ هُوَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ، وَهُوَ

جَمْعُ وَلَدٍ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ وَلَا الْمَدْلُولِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فلمّا كَانَ مَا صدقه هُنَا النِّسَاءَ خَاصَّةً أُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ بِالتَّأْنِيثِ. وَمَعْنَى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَمِنْ مَعَانِي (فَوْقَ) الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَا يُعْطَيَانِ إِلَّا لِلْبَنَاتِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ تَقْسِيمَ الْأَنْصِبَاءِ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ مِنْ مِقْدَارٍ إِلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِقْدَارَ الْأَوَّلَ. وَالْوَصْفُ بِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ مَفْهُومًا وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَا تُعْطَيَانِ الثُّلُثَيْنِ، وَزَادَ فَقَالَ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَبَقِيَ مِيرَاثُ الْبِنْتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ فِي الْآيَة فألحقهما الْجُمْهُور بِالثلَاثِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَحْسَنُ مَا وُجِّهَ بِهِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ «إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ تَأْخُذُ مَعَ أَخِيهَا إِذَا انْفَرَدَ الثُّلُثَ فَأَحْرَى أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ مَعَ أُخْتِهَا» يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبِنْتَيْنِ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِأُخْتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَكُونُ حَظُّهَا مَعَ أُخْتٍ أُنْثَى أَقَلَّ مِنْ حَظِّهَا مَعَ أَخٍ ذَكَرٍ، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَوْلَى بِتَوْفِيرٍ نَصِيبِهِ، وَقَدْ تَلَقَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِبَعْضِ الَّذِينَ تَلَقَّفُوهُ. وَعَلَّلَهُ وَوَجَّهَهُ آخَرُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا الثُّلُثَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْبِنْتَانِ أَقَلَّ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِتَوْرِيثِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي النِّصْفِ مَحْمَلًا فِي الْآيَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا قَالَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ لَفَظَ (فَوْقَ) زَائِدًا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: 12] . وَشَتَّانَ بَيْنَ فَوْقَ الَّتِي مَعَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَفَوْقَ الَّتِي بِمَعْنَى مَكَانِ الْفِعْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، أَيْ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدٌ لِسُنَّةٍ عَرَفُوهَا. وَرَدَّ الْقُرْطُبِيُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد مَا أَعْطَى ابْنُ عَبَّاسٍ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ عَلَى أَنَّ اخْتِلَالَ الْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ وَاحِدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا حَدِيثُ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ فِي هَذَا الْخِلَافِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ اخْتِلَافًا هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

وَقَوْلُهُ: فَلَهُنَّ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءٍ، وَالْمُرَادُ مَا يَصْدُقُ بِالْمَرْأَتَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً» - بِنَصْبِ وَاحِدَةٍ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَتْ، وَاسْمُ كَانَتْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فِي أَوْلادِكُمْ مِنْ مُفْرَدِ وَلَدٍ، أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الْوَلَدُ بِنْتًا وَاحِدَةً، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ وُجِدَتْ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً. وَصِيغَةُ أَوْلادِكُمْ صِيغَةُ عُمُومٍ لِأَنَّ أَوْلَادَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ، وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَهَذَا الْعُمُومُ، خَصَّصَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: خَصَّ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ. وَصَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَافَقَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» . الثَّانِي: اخْتِلَافُ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. الثَّالِثُ: قَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ قَرِيبَهُ فِي شَيْءٍ. الرَّابِعُ: قَاتِلُ الْخَطَأِ لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ عَائِدٌ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قِسْمَةِ مَالِ الْمَيِّتِ. وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ

لِيَكُونَ كَالْعُنْوَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلِكُلٍّ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ السَّابِقِ: فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاء: 11] . وَقَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ زَادَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ أَيْ: لَا غَيْرُهُمَا، لِيُعْلَمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أَنَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ صَاحِبُ فَرْضٍ لَا تَحْجُبُهُ كَانَ عَلَى فَرْضِهِ مَعَهَا وَهِيَ عَلَى فَرْضِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَرْضُهُمَا وَلِلْأُمِّ ثُلُثُهَا وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، حَمْلًا عَلَى قَاعِدَةِ تَعَدُّدِ أَهْلِ الْفُرُوضِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَرْضُهُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، لِئَلَّا تَأْخُذَ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ فِي صُورَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي «سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى زَيْدٍ «أَيْنَ تُجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ» فَأَجَابَ زَيْدٌ «إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ تَقُولُ بِرَأْيِكَ وَأَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي» . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْأَبِ مَعَ الْأُمِّ الثُّلُثَيْنِ، وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بِدُونِ فَرْضٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْعِصَابَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلِأُمِّهِ- بِضَمِّ همزَة أمّه-، وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أَيْ إِنْ كَانَ إِخْوَةٌ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ فَيَنْقُلُونَهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا لَا يَنْقُلُهَا إِلَى السُّدُسِ إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ذُكُورًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ الْجَمْعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ إِنَاثًا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ، وَالْأُخْتَانِ أَيْضًا، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَخُ الْوَاحِدُ أَوِ الْأُخْتُ فَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِهِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّدُسِ الَّذِي يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ عَنْهُ الْأُمَّ: هَلْ يَأْخُذُهُ الْإِخْوَةُ أَمْ يَأْخُذُهُ الْأَبُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ بِالثَّانِي الْجُمْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاجِبَ قَدْ يَكُونُ مَحْجُوبًا. وَكَيْفَمَا كَانَ فَقَدِ اعْتَبَرَ اللَّهُ لِلْإِخْوَةِ حَظًّا

مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأُمِّ وَلَمْ يَكُنْ أَبٌ لَكَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ بَقِيَّةُ الْمَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي هَذَا تَعْضِيدٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ. الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ قَيْدٌ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ: أَيْ تَقْتَسِمُونَ الْمَالَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءِ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ. وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ بَعْدَ ذِكْرِ صِنْفَيْنِ مِنَ الْفَرَائِضِ: فَرَائِضُ الْأَبْنَاءِ، وَفَرَائِضُ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَصِنْفٍ وَاحِدٍ إِذْ كَانَ سَبَبُهُمَا عَمُودَ النَّسَبِ الْمُبَاشِرِ. وَالْمَقْصِدُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَتَقَدُّمِهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدَّيْنُ بَعْدَهَا تَتْمِيمًا لِمَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَنَّ الدَّيْنَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقٌّ سَابِقٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْمَدِينَ لَا يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا مَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ دَيْنِ دَائِنِهِ. فَمَوْقِعُ عَطْفِ أَوْ دَيْنٍ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ كَرَّرَ اللَّهُ هَذَا الْقَيْدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِجُمْلَةِ يُوصِي بِها لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: 180] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوصِي بِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمَيِّتُ، كَمَا عَادَ ضَمِيرُ مَا تَرَكَ [النِّسَاء: 7] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: يُوصَى- بِفَتْح الصَّاد- مَبْنِيا لِلنَّائِبِ أَيْ يُوصِي بِهَا مُوصٍ. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً

[سورة النساء (4) : آية 12]

خَتَمَ هَذِهِ الْفَرَائِضَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَهِيَ أُصُولُ الْفَرَائِضِ بِقَوْلِهِ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ الْآيَةَ، فَهُمَا إِمَّا مُسْند إِلَيْهِمَا قدّ مَا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ إِذْ يُلْقِي سَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا بِشَرَاشِرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُمَا خَبَرَيْنِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَال، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُرَادُ جَمْعُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ وزلّت بَعْدَ قَوْلِهِ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَدَانَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ أَيْ: الْمَذْكُورُونَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَهُوَ إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَإِمَّا حَالٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوِينَ فِي نَفْعِكُمْ مُتَفَاوِتُونَ تَفَاوُتًا يَتْبَعُ تَفَاوُتَ الشَّفَقَةِ الْجِبِلِّيَّةِ فِي النَّاسِ وَيَتْبَعُ الْبُرُورَ وَمِقْدَارَ تَفَاوُتِ الْحَاجَاتِ. فَرُبَّ رَجُلٍ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَنْفَعَهُ أَبَوَاهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَرُبَّمَا عَرَضَتْ حَاجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَعْرِضْ فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي كَانَ يَعْتَمِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَاعْتَمَدُوا أَحْوَالًا غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ وَلَا مَوْثُوقًا بِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَشَرْعُ الْإِسْلَامِ نَاطَ الْفَرَائِضَ بِمَا لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَفَرَضَ الْفَرِيضَةَ لَهُمْ نَظَرًا لِصِلَتِهِمُ الْمُوجِبَةِ كَوْنَهُمْ أَحَقَّ بِمَالِ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْآبَاءِ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاضِحُ الْمُنَاسَبَةِ. [12] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 12] وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.

هَذِهِ فَرِيضَةُ الْمِيرَاثِ الَّذِي سَبَبُهُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ أَعْطَاهَا اللَّهُ حَقَّهَا الْمَهْجُورَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَيْنِ: أَمَّا الرَّجُلُ فَلَا يَرِثُ امْرَأَتَهُ لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ، فَهُوَ قَدْ صَارَ بِمَوْتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ قَرَابَتِهَا مِنْ آبَاءٍ وَإِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ كَانَ أَوْلَادُهَا أَحَقَّ بِمِيرَاثِهَا إِنْ كَانُوا كِبَارًا، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا قَبَضَ أَقْرِبَاؤُهُمْ مَالَهُمْ وَتَصَرَّفُوا فِيهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَرِثُ زَوْجَهَا بَلْ كَانَتْ تُعَدُّ مَوْرُوثَةً عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَرَثَتُهُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ: 19] . فَنَوَّهَ اللَّهُ فِي هَذِه الْآيَات بِصِلَةِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الَّتِي وَصَفَهَا بِالْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ فِي قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: 21] . وَالْجَمْعُ فِي أَزْواجُكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكْتُمْ كَالْجَمْعِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ، مُرَادٌ بِهِ تَعَدُّدُ أَفْرَادِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهَاهُنَا قَدِ اتّفقت الأمّة عى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ أَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي الرُّبْعِ أَوْ فِي الثُّمْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ لَهُنَّ، لِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ بِيَدِ صَاحِبِ الْمَالِ فَكَانَ تَعَدُّدُهُنَّ وَسِيلَةً لِإِدْخَالِ الْمَضَرَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ بِخِلَافِ تَعَدُّدِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ أَيْ لِمَجْمُوعِهِنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكَ زَوْجُهُنَّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَهَذَا حَذَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيجَازُ الْكَلَامِ. وَأُعْقِبَتْ فَرِيضَةُ الْأَزْوَاجِ بِذِكْرِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنَ الْإِيصَاءِ وَمِنَ التَّدَايُنِ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا ذِكْرُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عَقِبَ ذِكْرِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ مِنْ رِجَالِهِنَّ فَجَرْيًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُتَّبَعِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ أَنْ يُعَقَّبَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْفَرَائِضِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَصِيَّةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ.

بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ مِيرَاثَ ذِي الْأَوْلَادِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَفَصَّلَهُ فِي أَحْوَالِهِ حَتَّى حَالَةِ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ، انْتَقَلَ هُنَا إِلَى مِيرَاثِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَهُوَ الْمَوْرُوثُ كَلَالَةً، وَلِذَلِكَ قَابَلَ بِهَا مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ. وَالْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْكَلَالِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ قَالَ الْأَعْشَى: فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ حَفِيٍّ حَتَّى أُلَاقِي مُحَمَّدَا وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَوَصَفَتِ الْعَرَبُ بِالْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ غَيْرَ الْقُرْبَى، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا وُصُولَهُ لِنَسَبِ قَرِيبِهِ عَنْ بُعْدٍ، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ الْكَلَالَةَ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُسَمُّوهُ: فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحَمَى لَهُ ... وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يُغْضَبُ ثُمَّ أَطْلَقُوهُ عَلَى إِرْثِ الْبَعِيدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا مَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَرِثَ الْمَجْدَ لَا عَنْ كَلَالَةٍ. وَقَدْ عَدَّ الصَّحَابَةُ مَعْنَى الْكَلَالَةِ هُنَا مِنْ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: الْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلَافَةُ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ» . وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ» أَيْ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ وَيُنْسَبُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: 176] وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُرَجِّحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ ذِكْرَهَا بَعْدَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَالْأَبَوَيْنِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا حَالَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْحَالَيْنِ.

وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: كَلالَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ الَّذِي هُوَ كَلَالَةٌ مِنْ وَارِثِهِ أَيْ قَرِيبٌ غَيْرُ الْأَقْرَبِ لِأَنَّ الْكَلَالَةَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا كِلَا الْقَرِيبَيْنِ. وَقَوله: أَوِ امْرَأَةٌ عُطِفَ عَلَى رَجُلٌ الَّذِي هُوَ اسْمُ (كَانَ) فَيُشَارِكُ الْمَعْطُوفُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي خَبَرِ (كَانَ) إِذْ لَا يَكُونُ لَهَا اسْمٌ بِدُونِ خَبَرٍ فِي حَالِ نُقْصَانِهَا. وَقَوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَقُلْنَا لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ وَجَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ نَعْلَمُ بِحُكْمِ مَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُمَا الْأَخُ وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَتْ نِهَايَةُ حَظِّهِمَا الثُّلُثَ فَقَدْ بَقِيَ الثُّلُثَانِ فَلَوْ كَانَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ هُمَا الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَاقْتَضَى أَنَّهُمَا أَخَذَا أَقَلَّ الْمَالِ وَتُرِكَ الْبَاقِي لِغَيْرِهِمَا وَهَلْ يَكُونُ غَيْرُهُمَا أَقْرَبَ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مُرَادٌ بِهِمَا اللَّذَانِ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِيَكُونَ الثُّلُثَانِ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوِ الْأَعْمَامِ أَوْ بَنِي الْأَعْمَامِ. وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ بِهَذَا فَرْضًا لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِلْغَاءِ جَانِبِ الْأُمُومَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ جَانِبُ نِسَاءٍ وَلَمْ يُحْتَجْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَصِيرِ بَقِيَّةِ الْمَالِ لِمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَالَ أَمْرَ الْعِصَابَةِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ. وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَيْنِ لِلْأُمِّ إِذْ قَدْ يُفْرَضُ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ نصيب هُوَ الثُّلُث وَيبقى الثُّلُثَانِ لِعَاصِبٍ أَقْوَى وَهُوَ الْأَبُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكَلَالَةِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَافَقَ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَانِ لِلْأُمِّ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْكَلَالَةَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا أَبٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَأَعْطَيْنَاهُمَا الثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْمَالِ لِمَنْ هُوَ دُونُ الْإِخْوَة فِي التَّعْصِيب فَهَذَا فِيمَا أَرَى هُوَ الَّذِي حَدَا سَائِرَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى حَمْلِ الْأَخِ وَالْأُخْت على الَّذين لِلْأُمِّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِصُورَةٍ أُخْرَى سَنَتَعَرَّضُ لَهَا.

غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. غَيْرَ مُضَارٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُوصى الْأَخِيرِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ يُوصَى تَكْرِيرًا، كَانَ حَالًا مِنْ ضَمَائِرِ نَظَائِرِهِ. ومُضَارٍّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ بِتَقْدِيرِ كَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ أَيْ غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَتَهُ بِإِكْثَارِ الْوَصَايَا، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يقْصد الْمُوصي مِنْ وَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ. وَالْإِضْرَارُ مِنْهُ مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مَالِهِ وَقَدْ حَدَّدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَمِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَارِثِ وَلَا يَقْصِدُ الْقُرْبَةَ بِوَصِيَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ. وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُوصِي وَقَصْدُهُ الْإِضْرَارَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَهْيٌ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. ويتعيّن أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَيْد مقيّدا لِلْمُطْلَقِ فِي الْآيِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُطْلَقَاتِ مُتَّحِدَةُ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ. فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَقد أَخَذَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ مَسْأَلَةِ قَصْدِ الْمُعْطِي مِنْ عَطِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِوَارِثِهِ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَطَايَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تُرَدُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مَا فِي الْوَصَايَا الثَّانِي مِنَ «الْمُدَوَّنَةِ» ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ يُوجِبُ رَدَّ الْوَصِيَّةِ وَبَحْثُ ابْنِ عَرَفَةَ مَكِينٌ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ إِذَا تَبَيَّنَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَرَى تَأْثِيرَ الْإِضْرَارِ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ نَاجِي عَلَى تَهْذِيبِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فِي أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لَا يُوهِنُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَبِهِ الْفَتْوَى. وَقَوله: وَصِيَّةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:

[سورة النساء (4) : الآيات 13 إلى 14]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْهُ فَهُوَ خَتْمٌ لِلْأَحْكَامِ بِمِثْلِ مَا بُدِئَتْ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النِّسَاء: 11] وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَقَوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَذِكْرُ وَصْفِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَقَدِّمَةَ إِبْطَالٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ كَانُوا شَرَّعُوا مَوَارِيثَهُمْ تَشْرِيعًا مَثَارُهُ الْجَهْلُ وَالْقَسَاوَةُ. فَإِنَّ حِرْمَانَ الْبِنْتِ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ مِنَ الْإِرْثِ جَهْلٌ بِأَنَّ صِلَةَ النِّسْبَةِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ مُمَاثِلَةٌ لِصِلَةِ نِسْبَةِ جَانِبِ الْأَبِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ، وَحِرْمَانُهُمُ الصِّغَارَ مِنَ الْمِيرَاثِ قَسَاوَةٌ مِنْهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمِيرَاثَ وَأَنْصِبَاءَهُ بَيْنَ أَهْلِ أُصُولِ النَّسَبِ وَفُرُوعِهِ وَأَطْرَافِهِ وَعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَسَكَتَتْ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْعُصْبَةِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوَالِي الْعَتَاقَةِ وَمَوَالِي الْحِلْفِ، وَقَدْ أَشَارَ قَوْله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [75] وَقَوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [6] إِلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ الْآتِي قَرِيبًا وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاء: 33] إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْرِيثُ بِالْوَلَاءِ عَلَى الْإِجْمَالِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَبَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْرِيثَ الْعَصَبَةِ بِمَا رَوَاهُ رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَمَا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ- غَيْرَ النَّسَائِيِّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ» وَسَنُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي موَاضعه الْمَذْكُورَة. [13، 14] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 13 إِلَى 14] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 16]

الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعَانِي وَالْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ الَّذِي يُمَيَّزُ عَنْ مَكَانٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ تَجَاوُزَهُ، وَاسْتُعْمِلَ الْحُدُودُ هُنَا مَجَازًا فِي الْعَمَلِ الَّذِي لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَمَعْنَى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنَّهُ يُتَابِعُ حُدُودَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ. وَقَوله: خالِداً فِيها اسْتُعْمِلَ الْخُلُودُ فِي طُولِ الْمُدَّةِ. أَوْ أُرِيدَ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعِصْيَانُ الْأَتَمُّ وَهُوَ نَبْذُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ وَنَبَذُوا الْكُفْرَ، فَكَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا الْإِسْلَامِ، فَمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ تَابَ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ تَقْسِيمٌ، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْخُلُودَ، وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَطْفَ وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ عَلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ التَّقْسِيمُ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِهِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ، أَوْ تَقُولُ إِنَّ مَحَطَّ الْعَطْفِ هُوَ وَصْفُهُ بِالْمُهِينِ لِأَنَّ الْعَرَبَ أُبَاةُ الضَّيْمِ، شُمُّ الْأُنُوفِ، فَقَدْ يَحْذَرُونَ الْإِهَانَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْذَرُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ الْمَأْثُورَةِ فِي حِكَايَاتِهِمُ (النَّارُ وَلَا الْعَارُ) . وَفِي كِتَابِ «الْآدَابِ» فِي أَعْجَازِ أَبْيَاتِهِ «وَالْحُرُّ يَصْبِرُ خَوْفَ الْعَارِ لِلنَّارِ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ نُدْخِلْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا- بنُون العظمة، وقرأه الْجُمْهُورُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْم الْجَلالَة. [15، 16] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 15 إِلَى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً

(16) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، وَافْتِتَاحُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ أَعْضَلُ، لِاقْتِضَائِهِ اتِّصَالَهَا بِكَلَامٍ قَبْلَهَا. وَقَدْ جَاءَ حدّ الزِّنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ غَزْوَة بني الْمُطلق عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي سُورَةِ النُّورِ أَشَدُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي فِي سُورَةِ النُّورِ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ. فَإِذَا مَضَيْنَا عَلَى مُعْتَادِنَا فِي اعْتِبَارِ الْآيِ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُوَرِهَا، قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَحِرَاسَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَجَعَلْنَا الْوَاوَ عَاطِفَةً هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء: 4] وَجَزَمْنَا بِأَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ شَرْعِ الْعقُوبَة على الزِّنَا فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ فِي سُورَةِ النُّورِ. اهـ، وَحَكَى ابْنُ الْفُرْسِ فِي تَرْتِيبِ النَّسْخِ أَقْوَالًا ثَمَانِيَةً لَا نطيل بهَا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ حُكْمَ تَشْرِيعٍ عَقِبَ تَشْرِيعٍ لِمُنَاسَبَةٍ: هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامًا مِنَ النِّكَاحِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وَمَا النِّكَاحُ إِلَّا اجْتِمَاعُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى مُعَاشَرَةٍ عِمَادُهَا التَّآنُسُ وَالسُّكُونُ إِلَى الْأُنْثَى، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ إِلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ اجْتِمَاعِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِيهِ شرعا، وَهُوَ الزِّنَا الْمُعَبَّرُ عَنهُ بالفاحشة. فالزنا هُوَ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ فِي خَرْقِ الْقَوَانِينِ الْمَجْعُولَةِ لِإِبَاحَةِ اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ. ففِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَرِيقُ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَرْأَةِ السَّبْيَ أَوِ الْغَارَةَ أَوِ التَّعْوِيضَ أَوْ رَغْبَةً الرجل فِي مُصَاهَرَةِ قَوْمٍ وَرَغْبَتَهُمْ فِيهِ أَوْ إِذْنَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَسْتَبْضِعَ مِنْ رَجُلٍ وَلَدًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْإِسْلَامِ بَطَلَتِ الْغَارَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِبْضَاعُ، وَلذَلِك تَجِد الزِّنَا لَا يَقَعُ إِلَّا

خِفْيَةً لِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِقَوَانِينِ النَّاسِ فِي نِظَامِهِمْ وأخلاقهم. وسمّي الزِّنَا الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْفَسَادِ وَأَصْلُ الْفُحْشِ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْكَرَاهِيَةِ وَالذَّمِّ، مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوْ حَالٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى وُقُوعِ الْعَمَلِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ نَسْخِهِمَا. وَمَعْنَى: يَأْتِينَ يَفْعَلْنَ، وأصل الْإِتْيَان الْمَجِيءُ إِلَى شَيْءٍ فَاسْتُعِيرَ هُنَا الْإِتْيَانُ لِفِعْلِ شَيْءٍ لِأَنَّ فَاعِلَ شَيْءٍ عَنْ قَصْدٍ يُشْبِهُ السَّائِرَ إِلَى مَكَانٍ حَتَّى يَصِلَهُ، يُقَالُ: أَتَى الصَّلَاةَ، أَيْ صَلَّاهَا، وَقَالَ الْأَعْشَى: لِيَعْلَمَ كُلُّ الْوَرَى أَنَّنِي ... أَتَيْتُ الْمُرُوءَةَ مِنْ بَابِهَا وَرُبَّمَا قَالُوا: أَتَى بِفَاحِشَةٍ وَبِمَكْرُوهٍ كَأَنَّهُ جَاءَ مُصَاحِبًا لَهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمْ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالنِّسَاءُ اسْمُ جَمْعِ امْرَأَةٍ، وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَتُطْلَقُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِنَاثِ مُطْلَقًا، وَعَلَى الزَّوْجَاتِ خَاصَّةً وَيُعْرَفُ الْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] ثُمَّ قَالَ- وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: 11] فَقَابَلَ بِالنِّسَاءِ الْقَوْمَ. وَالْمُرَادُ الْإِنَاثُ كُلُّهُنَّ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النِّسَاء: 11] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ النِّسَاءِ فَيَشْمَلُ الْعَذَارَى الْعَزَبَاتِ. وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ وَالضَّمَائِرُ الْمُوَالِيَةُ لَهُ، عَائِدَةٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيَتَعَيَّنُ لِلْقِيَامِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ مَنْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ. فَضَمِيرُ نِسائِكُمْ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِيرُ فَاسْتَشْهِدُوا مَخْصُوصٌ بِمَنْ يُهِمُّهُ الْأَمْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَضَمِيرُ فَأَمْسِكُوهُنَّ مَخْصُوصٌ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ الْمَذْكُورَ سِجْنٌ وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْقُضَاةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَهَذِهِ عُمُومُهَا مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ. وَهَذِه الْآيَة هِيَ الْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ. وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ مَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ سَوَاءٌ.

وَالْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ الْبُيُوتُ الَّتِي يُعَيِّنُهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ لِذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِمْسَاكَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ بَلْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَى بُيُوتٍ أُخْرَى إلّا إِذا حوّلت بَيْتُ الْمَسْجُونَةِ إِلَى الْوَضْعِ تَحْتَ نَظَرِ الْقَاضِي وَحِرَاسَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ ذِكْرِ الْعِدَّةِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطَّلَاق: 1] . وَمَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يَتَقَاضَاهُنَّ. يُقَالُ: تَوَفَّى فُلَانٌ حَقَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَاسْتَوْفَاهُ حَقَّهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْعُمْرَ مُجَزَّءًا. فَالْأَيَّامُ وَالزَّمَانُ وَالْمَوْتُ يَسْتَخْلِصُهُ مِنْ صَاحِبِهِ مُنَجَّمًا إِلَى أَنْ تَتَوَفَّاهُ. قَالَ طَرَفَةُ: أَرَى الْعُمْرَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ ... وَمَا تَنْقُصُ الْأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدُ وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ: إِذَا مَا تَقَاضَى الْمَرْءَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... تَقَاضَاهُ شَيْءٌ لَا يَمَلُّ التَّقَاضِيَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ تُوُفِّيَ فُلَانٌ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ تَوَفَّى عُمُرَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ الْمَوْتَ هُوَ الْمُتَقَاضِيَ لِأَعْمَارِ النَّاسِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ هُوَ أَثَرُ آخِرِ أَنْفَاسِ الْمَرْءِ، فَالتَّوَفِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَارِدٌ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي اللُّغَةِ. وَمعنى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ حُكْمًا آخَرَ. فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلْأَمْرِ الْبَيِّنِ بِمَعْنَى الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالطَّرِيقِ الْجَادَّةِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ زَجْرٌ مُوَقَّتٌ سَيَعْقُبُهُ حُكْمٌ شَافٍ لِمَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْطِ عَلَيْهِنَّ مِمَّا فَعَلْنَ. وَيَشْمَلُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ جَمِيع النِّسَاء اللائي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرِهِنَّ. وأمّا قَوْله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها فَهُوَ مُقْتَضٍ نَوْعَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ تَثْنِيَةُ الَّذِي وَهُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْمُذَكَّرِ، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ اسْمُ مَوْصُولِ النِّسَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ المُرَاد ب الَّذانِ صِنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ: وَهُمَا صِنْفُ

الْمُحْصَنِينَ، وَصِنْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَقَوَّمُ مَعْنًى بَيِّنٌ غَيْرُ مُتَدَاخِلٍ وَلَا مُكَرَّرٍ. وَوَجْهُ الْإِشْعَارِ بِصِنْفَيِ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ التَّحَرُّزُ مِنِ الْتِمَاسِ الْعُذْرِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَيِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ عُقُوبَةً وَاحِدَةً عَلَى الزِّنَى وَهِيَ عُقُوبَةُ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ، وَلِلرِّجَالِ عُقُوبَةً عَلَى الزِّنَى، هِيَ الْأَذَى سَوَاءٌ كَانُوا مُحْصَنِينَ بِزَوْجَاتٍ أَمْ غَيْرَ مُحْصَنِينَ، وَهُمُ الْأَعْزَبُونَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ عُقُوبَتَيْنِ: عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ بِهِنَّ وَهِيَ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةٌ لَهُنَّ كَعُقُوبَةِ الرِّجَالِ وَهِيَ الْأَذَى، فَيَكُونُ الْحَبْسُ لَهُنَّ مَعَ عُقُوبَةِ الْأَذَى. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يُسْتَفَادُ اسْتِوَاءُ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فِي كِلْتَا الْعُقُوبَتَيْنِ، فَأَمَّا الرِّجَالُ فَبِدَلَالَةِ تَثْنِيَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُرَادِ بِهَا صِنْفَانِ اثْنَانِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَبِدَلَالَةِ عُمُومِ صِيغَةِ نِسائِكُمْ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِيانِها عَائِدٌ إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَة وَهِي الزِّنَا. وَلَا الْتِفَاتَ لِكَلَامِ مَنْ تَوَهَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالْإِيذَاءُ: الْإِيلَامُ غَيْرُ الشَّدِيدِ بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ، وَالْإِيلَامُ بِالْقَوْلِ مِنْ شَتْمٍ وَتَوْبِيخٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْجَلْدِ، وَالْآيَةُ أَجْمَلَتْهُ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَقد اخْتلف أئمّة الْإِسْلَامِ فِي كَيْفيَّة انتزاع هذَيْن الْعُقُوبَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ يَعُمُّ النِّسَاءَ خَاصَّةً فَشَمَلَ كُلَّ امْرَأَةٍ فِي سَائِرِ الْأَحْوَال بكرا كَانَت أَمْ ثيّبا، وَقَوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةٌ أُرِيدَ بِهَا نَوْعَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَهُمُ الْمُحْصَنُ وَالْبِكْرُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ يَخْتَصُّ بِالزَّوَانِي كُلِّهِنَّ، وَحُكْمَ الْأَذَى يَخْتَصُّ بِالزُّنَاةِ كُلِّهِمْ، فَاسْتُفِيدَ التَّعْمِيمُ فِي الْحَالَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ اسْتِفَادَتَهُ فِي الْأُولَى مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنِ انْحِصَارِ النَّوْعَيْنِ، وَقَدْ كَانَ يُغْنِي أَنْ يُقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ، وَالَّذِينَ يَأْتُونَ، إِلَّا أَنَّهُ سُلِكَ هَذَا الْأُسْلُوبُ لِيَحْصُلَ الْعُمُومُ بِطَرِيقَيْنِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى شُمُولِ النَّوْعَيْنِ. وَجُعِلَ لَفْظُ (اللَّاتِي) لِلْعُمُومِ لِيُسْتَفَادَ الْعُمُومُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَطْ.

وَجُعِلَ لَفْظُ (واللَّذَانِ) لِلنَّوْعَيْنِ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ وَهُوَ الَّذِي صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النَّوْعِ، إِذِ النَّوْعُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُذَكَّرِ مِثْلِ الشَّخْصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْعِبَارَةِ فَكَانَتْ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ هَاتِهِ الْآيَةُ غَايَةً فِي الْإِعْجَازِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ مَعْنَى مَا قَابَلَ الرِّجَالَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجْدُرُ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَالْأَذَى أُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ سَبَقَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّسَاءِ وَغَيْرُ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَعْدُ، فَقِيلَ: هُوَ الْكَلَامُ الْغَلِيظُ وَالشَّتْمُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَضَرْبُ النِّعَالِ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْآيَةَ شُرِعَتْ عُقُوبَةً لِلزِّنَا قَبْلَ عُقُوبَةِ الْجَلْدِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنّ هَذَا حكم مَنْسُوخٌ بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ وَلَيْسَ تَحْدِيدُ هَذَا الْحُكْمِ بِغَايَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِصَارِفٍ مَعْنَى النَّسْخِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ الْغَايَةَ جُعِلَتْ مُبْهَمَةً، فَالْمُسْلِمُونَ يَتَرَقَّبُونَ وُرُودَ حُكْمٍ آخَرَ، بَعْدَ هَذَا، لَا غِنًى لَهُمْ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ النَّسْخِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيهَا عُقُوبَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنْ تُنْسَخَ بِأَثْقَلَ مِنْهَا، فَشُرِعَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِلزُّنَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَشُرِعَ الْجَلْدُ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَالْجَلْدُ أَشَدُّ مِنَ الْحَبْسِ وَمِنَ الْأَذَى، وَقَدْ سُوِّيَ فِي الْجَلْدِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، إِذِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا وَجْهَ لِبَقَائِهَا، إِذْ كِلَاهُمَا قَدْ خَرَقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَبَعًا لِشَهْوَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ طَاعَةً لِغَيْرِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْجَلْدَ الْمُعَيَّنَ شُرِعَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: 2] فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ كَذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي: مُحْصَنِينَ أَوْ أَبْكَارًا، فَقَدْ نَسَخَهُ الرَّجْمُ فِي خُصُوصِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِنْ كَانَ الْجَلْدُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إِلَّا فِي الْبِكْرَيْنِ فَقَدْ قُيِّدَ أَوْ خُصِّصَ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، إِذْ جُعِلَ حُكْمُهُمَا الرَّجْمَ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الرَّجْمُ. وَالْمُحَصَنُ هُوَ مَنْ تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ وَوَقَعَ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِنَاءً صَحِيحًا. وَحُكْمُ الرَّجْمِ ثَبَتَ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَرِيعَةِ

التَّوْرَاةِ لِلْمَرْأَةِ إِذَا زَنَتْ وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَرِجَالُ الصَّحِيحِ كُلُّهُمْ، حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ» فَقَالُوا «نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ» فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «ارْفَعْ يَدَكَ» فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَقَالُوا: «صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ» فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا وَقَدْ ذكر حكم الزِّنَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (22) فَقَالَ «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، وَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ فَتَاةً عَذْرَاءَ غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا فَوُجِدَا، يُعْطِي الرَّجُلُ الَّذِي اضْطَجَعَ مَعَهَا لِأَبِي الْفَتَاةِ خَمْسِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَتَكُونُ هِيَ لَهُ زَوْجَةً وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كُلَّ أَيَّامِهِ» . وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ فِي الْإِسْلَامِ بِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . وَمُقْتَضَاهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَوَهُّمًا مِنَ الرَّاوِي عَنْ عُبَادَةَ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْعُلَمَاءُ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَلَمْ يَصِحَّ. ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أوّلها قضيّة مَا عز بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: بِهِ جُنُونٌ؟ قَالُوا: لَا، وأبكر هُوَ أَمْ ثَيِّبٌ؟ قَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ . الثَّانِي: قَضِيَّةُ الْغَامِدِيَّةِ، أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْترفت بِالزِّنَا وَهِيَ حُبْلَى فَأَمَرَهَا أَنْ تَذْهَبَ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ حَتَّى تُرْضِعَهُ، فَلَمَّا أَتَمَّتْ رَضَاعَهُ جَاءَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ- وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ- وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا- وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ (هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ وَيُقَالُ ابْنُ مَرْثَدٍ الْأَسْلَمِيُّ) عَلَى زَوْجَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا . قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ. هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُرْسَلٌ مِنْهَا اثْنَانِ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَهِيَ مُسْنَدَةٌ فِي غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَا وَبِالْعَمَلِ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِينَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ الْقُرْآنَ. يُرِيدُ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ لَدَى الصَّحَابَةِ فَلِتَوَاتُرِهِ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وَإِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تبلغ مبلغ متواتر، فَالْحَقُّ أَنَّ دَلِيلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَنَتَعَرَّضُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِالرَّجْمِ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ قَائِلُونَ بِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ هُوَ حَدِيث قد: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَفِيهِ (وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فَتَضَمَّنَ الْجَلْدَ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْرَدَ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَرَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، فَالْحَدِيثُ بَيَّنَ الْغَايَةَ، وَأَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ خَصَّصَهَا مِنْ قَبْلِ نُزُولِهَا. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ النُّورِ نَزَلَتْ تَقْرِيرًا لِبَعْضِ الْحُكْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، لَا يُجْدِي لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُبْهَمَةَ لَمَّا كَانَ بَيَانُهَا إِبْطَالًا لِحُكْمِ الْمُغَيَّى فَاعْتِبَارُهَا اعْتِبَارُ النَّسْخِ، وَهَلِ النَّسْخُ كُلُّهُ إِلَّا إِيذَانٌ بِوُصُولِ غَايَةِ الْحُكْمِ الْمُرَادَةِ لِلَّهِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ،

فَذِكْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى إِبْهَامِهَا لَا يَكْسُو النُّزُولَ غَيْرَ شِعَارِ النَّسْخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ شُرِعَ الْأَذَى ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ مُتَأَخِّرًا. وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا بِأَنْ نَجْعَلَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَعَلَى تَعْوِيضِهِ بِالْحَدِّ فِي زمَان النبوءة فيؤول إِلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لِلنَّصِّ تَتَضَمَّنُ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخٌ لِلنَّصِّ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ شُرِعَ بَعْدَ الْجَلْدِ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهِ تَضَمَّنَتِ التَّغْرِيبَ مَعَ الْجَلْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَغْرِيبٌ بَعْدَ الرَّجْمِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ: أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ يُغَرَّبُ مِنْهُ، وَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فأقرّه فِي الزِّنَا خَاصَّةً. قُلْتُ: وَكَانَ فِي الْعَرَبِ الْخَلْعُ وَهُوَ أَنْ يُخْلَعَ الرَّجُلُ مِنْ قَبِيلَتِهِ، وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ، فَإِنْ جَرَّ جَرِيرَةً لَا يُطَالَبُ بِهَا قَوْمُهُ، وَإِنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ لَا يَطْلُبُ قَوْمُهُ دِيَةً وَلَا نَحْوَهَا، وَقَدْ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بِهِ الذِّيبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَرَّبُ لِأَنَّ تَغْرِيبَهَا ضَيْعَةٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ نَقْلُ ضُرٍّ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَعَوَّضَهُ بِالسَّجْنِ وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالضَّرْبِ وَلَا يُظَنُّ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ وَرَجَمَهَا بَعْدَ الْجَلْدِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ . وَقُرِنَ بِالْفَاءِ خَبَرُ الْمَوْصُولَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَشْهِدُوا وَقَوْلِهِ فَآذُوهُما لِأَنَّ الْمَوْصُولَ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صِلَةَ الْمَوْصُولِ سَبَبٌ فِي الْحُكْمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ خَبَرُهُ، فَصَارَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ مِثْلَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَيَظْهَرُ لِي أنّ ذَلِك عِنْد مَا يَكُونُ الْخَبَرُ جُمْلَةً، وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَلَزِمَ

[سورة النساء (4) : الآيات 17 إلى 18]

اقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ. هَكَذَا وَجَدْنَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ إِنَّمَا يَقع فِي الصَّلَاة الَّتِي تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْطِي رَائِحَةَ التَّسَبُّبِ فِي الْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دُخُولَ الْفَاءِ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْفَاءِ نَائِبَةً عَنْ (أَمَّا) . وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ إِتْيَانَ النِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى جَعْلِ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ هُوَ الْخَبَرَ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ صُورِيٌّ وَإِلَّا فَإِنَّ الْخَبَرَ هُوَ فَأَمْسِكُوهُنَّ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ جَوَابًا لِشَرْطٍ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى فَإِنْ شَهِدُوا فَفَاءُ فَاسْتَشْهِدُوا هِيَ الْفَاءُ الْمُشْبِهَةُ لِفَاءِ الْجَوَابِ، وَفَاءُ فَإِنْ شَهِدُوا تَفْرِيعِيَّةٌ، وَفَاءُ فَأَمْسِكُوهُنَّ جَزَائِيَّةٌ، وَلَوْلَا قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِإِعْدَادِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ لَقِيلَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِنْ شَهِدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم. [17، 18] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 17 إِلَى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) اسْتِطْرَادٌ جَرَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النِّسَاء: 16] وَالتَّوْبَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [90] : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. وإِنَّمَا لِلْحَصْرِ. وعَلَى هُنَا حَرْفٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالتَّحَقُّقِ كَقَوْلِكَ: عَلَيَّ لَكَ كَذَا فَهِيَ تُفِيدُ تَحَقُّقَ التَّعَهُّدِ. وَالْمَعْنَى: التَّوْبَةُ تَحِقُّ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي تَأْكِيدِ

الْوَعْدِ بِقَبُولِهَا حَتَّى جُعِلَتْ كَالْحَقِّ عَلَى اللَّهِ، وَلَا شَيْءَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ إِلَّا وُجُوبُ وَعْدِهِ بِفَضْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ أَشْيَاءَ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ سَمْعًا وَلَيْسَ وُجُوبًا. وَقَدْ تَسَلَّطَ الْحَصْرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ، وَذُكِرَ لَهُ قَيْدَانِ وَهُمَا بِجَهالَةٍ ومِنْ قَرِيبٍ. وَالْجَهَالَةُ تُطْلَقُ عَلَى سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ رَوِيَّةٍ، وَهِيَ مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ الْجَهَالَةُ عَلَى الظُّلْمِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ» . وَالْمُرَادُ هُنَا ظُلْمُ النَّفْسِ، وَذُكِرَ هَذَا الْقَيْدُ هُنَا لِمُجَرَّدِ تَشْوِيهِ عَمَلِ السُّوءِ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، إِذْ لَا يَكُونُ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا كَذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَهْلِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا فَعَلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى جَهَالَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعَانِي لَفْظِ الْجَهْلِ، وَلَوْ عَمِلَ أَحَدٌ مَعْصِيَةً وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يتعلّم ذَلِك ويجتنّبه. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَرِيبٍ، مِنْ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ وقَرِيبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ مِنْ وَقْتِ عَمَلِ السُّوءِ. وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ بِأَنَّ الْقَرِيبَ هُوَ مَا قَبْلَ الِاحْتِضَارِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ بَعْدَهُ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ مَعْنَى (قَرِيبٍ) . وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي إِعْمَالِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ «بِجَهَالَةٍ- مِنْ قَرِيبٍ» حَتَّى قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 48] ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ قيد (بِجَهَالَة) كوصف كَاشِفٌ لِعَمَلِ السُّوءِ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ الْإِيمَانِ. فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قَيْدَانِ ذُكِرَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ جَارِيًا عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ وَلَيْسَ مَفْهُومَاهُمَا بِشَرْطَيْنِ لِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إِلَى وَهُمْ كُفَّارٌ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَخْ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ فِيهَا لِتَفَرُّعِ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الْعَدْلِ. فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْحُونَ بِهِ إِلَى أَنَّ التَّائِبَ قَدْ أَصْلَحَ حَالَهُ، وَرَغِبَ فِي اللِّحَاقِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاءً لَهُ فِي الضَّلَالِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ تَعَالَى عَلَى أُصُولِهِمْ، وَهَذَا إِنْ أَرَادُوهُ كَانَ سَفْسَطَةً لِأَنَّ النَّظَرَ هُنَا فِي الْعَفْوِ عَنْ عِقَابٍ اسْتَحَقَّهُ التَّائِبُ مِنْ قَبْلِ تَوْبَتِهِ لَا فِي مَا سَيَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وأمّا عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، هِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرَ، غَيْرَ أَنَّ كَثْرَتَهَا أَفَادَتِ الْقَطْعَ (كَإِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعَ مَعَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِنْ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَاجْتِمَاعُهَا هُوَ الَّذِي فَادَ الْقَطْعَ، وَفِي تَشْبِيهِ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ نَظَرٌ) ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ، وَابْن عَطِيَّة ووالده أَبُو بَكْرِ ابْن عَطِيَّةَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، والمازري والتفتازانيّ، وَشَرَفِ الدِّينِ الْفِهْرِيِّ وَابْنِ الْفُرْسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الظَّوَاهِرِ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ نَظَرًا. غَيْرَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ أصُول الدَّين فَلَمَّا ذَا نَطْلُبُ فِي إِثْبَاتِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا الْقَبُولَ ذَكَرُوهُ عَلَى إِجْمَالِهِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافًا فِي حَالَةٍ، فَالْقَبُولُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ معنى رَضِي اللَّهِ عَنِ التَّائِبِ، وَإِثْبَاتِهِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا قَالُوا بِأَنَّ قَبُولَهَا قَطْعِيٌّ عَقْلًا. وَفِي كَونه قطعيّا، وَكَونه عقلا، نَظَرٌ وَاضِحٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّوْبَةَ

لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى صَلَاحِهِ. وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ وَيُرَادُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا أَحْسَبُهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَونه سميعا لَا عَقْلِيًّا، إِذِ الْعَقْلُ لَا يَقْتَضِي الصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الْفَارِطَةِ عِنْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ إِتْيَانِ أَمْثَالِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ عَلَى مَعْنَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا فِي ذَاتِهَا عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ كُلُّ مُذْنِبٍ، أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهَا إِبْطَالُ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَ مُصِرًّا عَلَى إِتْيَانِهَا، فَإِنَّ إِبْطَالَ الْإِصْرَارِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذُنُوبِ الْقَلْبِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْهُ، فَالتَّائِبُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُعْتَبَرُ مُمْتَثِّلًا لِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَالْقَبُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَعْنَى الْإِجْزَاءِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى عَمَلًا مَأْمُورًا بِهِ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّة كَانَ عمله مَقْبُولًا بِمَعْنَى ارْتِفَاعِ آثَارِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى الظَّنِّ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ إِذْ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ «إِنَّكَ إِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى الْقَبُولِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّ كُلَّ تَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ هِيَ مَقْبُولَةٌ إِذِ الْقَلْبُ خُلِقَ سَلِيمًا فِي الْأَصْلِ، إِذْ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنَّمَا تَفُوتُهُ السَّلَامَةُ بِكَدِرَةٍ ترهقه من غيرَة الذُّنُوبِ، وَأَنَّ نُورَ النَّدَمِ يَمْحُو عَنِ الْقَلْبِ تِلْكَ الظُّلْمَةَ كَمَا يَمْحُو الْمَاءُ والصابون عَن الثَّوَاب الْوَسَخَ. فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامُ لَا يَزُولُ، أَوْ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ وَالْوَسَخُ لَا يَزُولُ، نَعَمْ قَدْ يَقُولُ التَّائِبُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ وَلَا يُقْلِعُ، فَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَهُوَ لَمْ يَغْسِلْهُ فَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ» . وَهَذَا الْكَلَامُ تَقْرِيبٌ إِقْنَاعِيٌّ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّا إِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ طَرْحِ عُقُوبَةٍ ثَابِتَةٍ هَلْ حَدَثَانُ التَّوْبَةِ يَمْحُوهَا. وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْبَالِغَةِ غَايَةَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَدْلُولِ الْمُسْنَدِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُسْتَحِقِّينَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ إِلَخْ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَهِيَ الَّتِي

تَكُونُ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْعَزْمِ تَرَتُّبُ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَصَلَاح الْحل فِي هَذِهِ الدَّارِ بِالِاسْتِقَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ ذَهَبَتْ فَائِدَةُ التَّوْبَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف الْكُفَّارِ عَلَى الْعُصَاةِ فِي شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكَافِرِ تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرِهِ، وَالْإِيمَانَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذا مَاتَ كَافِرًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفْرِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ إِلَّا حُصُولُ الْمَوْتِ، وَتَأَوَّلُوا مَعْنَى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَدَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا مَاتَ كَافِرًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا آمَنَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ قُبِلَ إِيمَانُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التَّوْبَة: 113] وَيُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ مُخَالَفَةِ تَوْبَتِهِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَنُطْقٌ لِسَانِيٌّ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْكَافِرِ التَّائِبِ وَهُوَ حَيٌّ، فَدَخَلَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقَوَّى بِهِ جَانِبُهُمْ وَفَشَتْ بِإِيمَانِهِ سُمْعَةُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ. وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِمَّا هُمَا عَلَيْهِ، إِذَا حَضَرَهُمَا الْمَوْتُ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: 9] أَيْ لَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَالدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ نَظْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّ (لَا) عَاطِفَةٌ عَلَى مَعْمُولٍ لِخَبَرِ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ

[سورة النساء (4) : آية 19]

فَيَتُوبُونَ، وَلَا تُعْقَلُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ (يَمُوتُونَ) بِمَعْنَى يُشْرِفُونَ كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: 240] ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُس: 90، 91] الْمُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْ إِيمَانَهُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَال بأنّ ذَلِك شَأْنَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: 98] فَالْغَرَقُ عَذَابٌ عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ، فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِذَا صَحَّتْ تَوْبَةُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَتْ عَنِ الْكُفْرِ قَطَعْنَا بِقَبُولِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ سِوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقْطَعُ بِقَبُولِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْطَعْ وَيَظُنَّهُ ظَنًّا اهـ. [19] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 19] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ الَّتِي كَانَ سِيَاقُ السُّورَةِ لِبَيَانِهَا وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَزَلْ آيُهَا مُبَيِّنَةً لِأَحْكَامِهَا تَأْسِيسًا وَاسْتِطْرَادًا، وَبَدْءًا وَعَوْدًا، وَهَذَا حُكْمٌ تَابِعٌ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ زَوْجِ الْمَيِّتِ مَوْرُوثَةً عَنْهُ وَافْتُتِحَ بُقُولِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْوِيهِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ. وَخُوطِبَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَعُمَّ الْخِطَابُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، فَيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَظِّهِ مِنْهُ، فَمُرِيدُ الِاخْتِصَاصِ بِامْرَأَةِ الْمَيِّتِ يَعْلَمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، والوليّ كَذَلِكَ، وَوُلَاةُ الْأُمُورِ كَذَلِكَ. وَصِيغَةُ لَا يَحِلُّ صِيغَةُ نَهْيٍ صَرِيحٍ لِأَنَّ الْحِلَّ هُوَ الْإِبَاحَةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلِسَانِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفْيُهُ يُرَادِفُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ. وَالْإِرْثُ حَقِيقَتُهُ مَصِيرُ الْكَسْبِ إِلَى شَخْصٍ عَقِبَ شَخْصٍ آخَرَ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَصِيرِ الْأَمْوَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ مَجَازًا عَلَى تَمَحُّضِ الْمِلْكِ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْمُشَارَكِ فِيهِ، أَوْ فِي

حَالَةِ ادِّعَاءِ الْمُشَارَكِ فِيهِ، وَمِنْهُ «يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا» ، وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَتَاعِ الْمَوْرُوثِ، فَتَقُولُ: وَرِثْتُ مَالَ فُلَانٍ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى ذَاتِ الشَّخْصِ الْمَوْرُوثِ، يُقَالُ: وَرِثَ فُلَانٌ أَبَاهُ، قَالَ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: 6] وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَا لَيْسَ بِمَال. فتعدية فِعْلِ أَنْ تَرِثُوا إِلَى النِّساءَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَوَّلِ: بِتَنْزِيلِ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ، لِإِفَادَةِ تَبْشِيعِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهلهَا فَنزلت هَذِه الْآيَةُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالزُّهْرِيِّ كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِزَوْجِ أَبِيهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبْنَاءٌ فَوَلِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا سَبَقَ فَأَلْقَى عَلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ ثَوْبَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ سَبَقَتْهُ فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَلَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ: الْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، وَالْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ أُمَيَّةَ فَخَلَفَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ: مُسَافِرًا، وَأَبَا مُعَيْطٍ، فَكَانَ الْأَعْيَاصُ أَعْمَامًا لِمُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَإخْوَتَهُمَا مِنَ الْأُمِّ» . وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ رَامَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ لَازِمَةً فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ كَرْهاً حَالًا مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ كَارِهَاتٍ غَيْرَ رَاضِيَاتٍ، حَتَّى يَرْضَيْنَ بِأَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِمَنْ يَرْضَيْنَهُ، مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْإِكْرَاهُ بعوائدهم الَّتِي تمالؤوا عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوْ رَامَتِ الْمَرْأَةُ الْمَحِيدَ عَنْهَا، لَأَصْبَحَتْ سُبَّةً لَهَا، وَلَمَا وَجَدَتْ مَنْ يَنْصُرُهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْأَزْوَاجُ، أَيْ أَزْوَاجُ الْأَمْوَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ (تَرِثُوا) مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَوْرُوثِ فَيُفِيدَ

النَّهْيَ عَنْ أَحْوَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْهَا أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَعْضُلُونَ النِّسَاءَ ذَوَاتِ الْمَالِ مِنَ التَّزَوُّجِ خَشْيَةَ أَنَّهُنَّ إِذَا تَزَوَّجْنَ يَلِدْنَ فَيَرِثُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَوْلَادُهُنَّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْعَاصِبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، وَهُنَّ يَرْغَبْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَأْبَوْنَ أَنْ يُطَلِّقُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَنْ يَمُتْنَ عِنْدَهُمْ فَيَرِثُوهُنَّ، فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ لَهُنَّ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى حَالَةِ الْكَرَاهِيَةِ، إِذْ لَا تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ مُخْتَارَةً، وَعَلَى هَذَا فَالنِّسَاءُ مُرَادٌ بِهِ جَمْعُ امْرَأَةٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَرْهًا- بِفَتْحِ الْكَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْكَافِ- وَهُمَا لُغَتَانِ. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا لِمُنَاسَبَةِ التَّمَاثُلِ فِي الْإِكْرَاهِ وَفِي أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ سُوءُ مُعَامَلَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي أَنَّ الْعَضْلَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَالٍ مِنْهُنَّ. وَالْعَضْلُ: مَنْعُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ إِيَّاهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فِي سُورَة الْبَقَرَة [232] . فَإِن كَانَ الْمنْهِي عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ فِعْلِ (تَرِثُوا) ، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْمَرْأَةِ كَرْهًا عَلَيْهَا، فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ إمّا عطف خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، إِنْ أُرِيدَ خُصُوصُ مَنْعِ الْأَزْوَاجِ نِسَاءَهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، رَغْبَةً فِي بَقَاءِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَ مِنْهَا مَالَهَا، أَوْ عَطْفُ مُبَايِنٍ إِنْ أُرِيدَ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهَا مِنَ الطَّلَاقِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْإِمْسَاكِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّهَا كَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّزَوُّجِ. وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ الْمَعْنى الْمجَازِي لترثوا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مِيرَاثًا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ أَزْوَاجِ أَقَارِبِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ عَطْفُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَامَلَةِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعْضُلَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لِتَبْقَى عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا،

وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ رَاجِعًا إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْأَزْوَاجُ خَاصَّةً، وَهَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ أَنْ يُطْلَقَ ضَمِيرٌ صَالِحٌ لِلْجَمْعِ وَيُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ الْجَمْعِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] أَيْ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ أَخَاهُ، إِذْ قَدْ يُعْرَفُ أَنَّ أَحْدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] أَيْ يُسَلِّمُ الدَّاخِلُ عَلَى الْجَالِسِ. فَالْمَعْنَى: لِيَذْهَبَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَاهُنَّ بَعْضُكُمْ، كَأَنْ يُرِيدَ الْوَلِيُّ أَنْ يَذْهَبَ فِي مِيرَاثِهِ بِبَعْضِ مَالِ مَوْلَاتِهِ الَّذِي وَرِثَتْهُ مِنْ أُمِّهَا أَوْ قَرِيبِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا، فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ تَوْزِيعٌ. وَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ. وَالذَّهَابُ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مَجَازٌ فِي الْأَخْذِ، كَقَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] ، أَيْ أَزَالُهُ. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. لَيْسَ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بَعْضًا مِمَّا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا مِنَ الْعَضْلِ وَلَا مِنَ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ الْمَهْرِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ مَا آتَوْهُنَّ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَفْرَادِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ، أَيْ إِلَّا حَالَ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ فَيَجُوزُ إِذْهَابُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ لَكِنْ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ يُحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، فَقِيلَ: هَذَا كَانَ حُكْمَ الزَّوْجَةِ الَّتِي تَأْتِي بِفَاحِشَةٍ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْحَدِّ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَالْفَاحِشَةُ هُنَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعلمَاء هِيَ الزِّنَا، أَيْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَحَقَّقَ زِنَى زَوْجِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا، فَإِذَا طَلَبَتِ الطَّلَاقَ فَلَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي بَعْثَرَةِ حَالِ بَيْتِ الزَّوْجِ، وَأَحْوَجَتْهُ إِلَى تَجْدِيدِ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَأَمَانَةِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَلِلْقُضَاةِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلِ الْمُفَادَاةَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ لِئَلَّا تَصِيرَ مُدَّةُ الْعِصْمَةِ عَرِيَّةً عَنْ عِوَضٍ مُقَابِلٍ، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ. وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ لَكِنْ قَالَ عَطَاءٌ: هَذَا الْحُكْمُ نسخ بحدّ الزِّنَا وَبِاللَّعَّانِ، فَحُرِّمَ الْإِضْرَارُ وَالِافْتِدَاءُ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: الْفَاحِشَةُ هُنَا الْبُغْضُ وَالنُّشُوزُ، فَإِذَا نَشَزَتْ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ بِإِجَازَةِ أَخْذِ الْخُلْعِ عَنِ النَّاشِزِ يُنَاسِبُ هَذَا إِلَّا أَنِّي لَا أحفظ لمَالِك نَصًّا فِي الْفَاحِشَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُبِيِّنَةٍ- بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَيَّنَ اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ» . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّي أَيْ بَيَّنَهَا وَأَظْهَرَهَا بِحَيْثُ أَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ بِهَا. عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً أَعْقَبَ النَّهْيَ عَنْ إِكْرَاهِ النِّسَاءِ وَالْإِضْرَارِ بِهِنَّ بِالْأَمْرِ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ جَامِعٌ لِنَفْيِ الْإِضْرَارِ وَالْإِكْرَاهِ، وَزَائِدٌ بِمَعَانِي إِحْسَانِ الصُّحْبَةِ. وَالْمُعَاشَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِشْرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَى اللَّفْظَةَ مِنْ أَعْشَارِ الْجَزُورِ لِأَنَّهَا مُقَاسَمَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، أَيْ فَأَصْلُ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ عَدَدُ الْعَشَرَةِ. وَأَنَا أَرَاهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الْعَشِيرَةِ أَيِ الْأَهْلِ، فَعَاشَرَهُ جَعَلَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: آخَاهُ إِذَا جَعَلَهُ أَخًا. أَمَّا الْعَشِيرَةُ فَلَا يُعْرَفُ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْعَشَرَةِ أَيِ اسْمِ الْعَدَدِ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ وَسُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ مُنْكَرًا لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَأْنَسُ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهَا نَكِرَةٌ، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْمَجْهُولَ يَكُونُ مَكْرُوهًا ثُمَّ أَطْلَقُوا اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَأَطْلَقُوا ضِدَّهُ عَلَى الْمَحْبُوبِ لِأَنَّهُ تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ. وَالْمَعْرُوفُ هُنَا مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ وَوَصَفَهُ الْعُرْفُ.

وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ عَلَى لَازِمِ الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَعاشِرُوهُنَّ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ. وَجُمْلَةُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا نَائِبَةٌ مَنَابَ جَوَابِ الشَّرْط، وَهِي عَلَيْهِ لَهُ فَعُلِمَ الْجَوَابُ مِنْهَا. وَتَقْدِيرُهُ: فَتَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً يُفِيدُ إِمْكَانَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَكْرُوهَةُ سَبَبَ خَيْرَاتٍ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فِي الْفِرَاق. وفَعَسى هُنَا لِلْمُقَارَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ أَوِ التَّرَجِّي. أَنْ تَكْرَهُوا سَادٌّ مَسَدَّ مَعْمُولَيْهَا، وَيَجْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَكْرَهُوا، وَمَنَاطُ الْمُقَارَبَةِ وَالرَّجَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذِه حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذْ قَدْ تَكْرَهُ النُّفُوسُ مَا فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ فَبَعْضُهُ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ عِنْدَ غَوْصِ الرَّأْيِ. وَبَعْضُهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، حِينَ مَرْجِعِهِ مِنْ صِفِّينَ «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَا. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: الْإِرْشَادُ إِلَى إِعْمَاقِ النَّظَرِ وَتَغَلْغُلِ الرَّأْيِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْبَوَارِقِ الظَّاهِرَةِ. وَلَا بِمَيْلِ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَا فِي الْأَفْعَالِ مِنْ مُلَائِمٍ، حَتَّى يَسْبِرَهُ بِمِسْبَارِ الرَّأْيِ، فَيَتَحَقَّقَ سَلَامَةَ حُسْنِ الظَّاهِرِ مِنْ سُوءِ خَفَايَا الْبَاطِنِ. وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْكَرَاهِيَةِ لِشَيْءٍ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، دُونَ مُقَابِلِه، كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [216] وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَقَامُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ بِطَرَفَيْهَا إِذِ الْمُخَاطَبُونَ فِيهَا كَرِهُوا الْقِتَالَ، وَأَحَبُّوا السِّلْمَ، فَكَانَ حَالُهُمْ مُقْتَضِيًا بَيَانَ أَنَّ الْقِتَالَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْخَيْرَ لِمَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْنٍ دَائِمٍ، وَخَضْدِ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ السّلم قد تكون شَرًّا لِمَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنِ

[سورة النساء (4) : الآيات 20 إلى 21]

اسْتِخْفَافِ الْأَعْدَاءِ بِهِمْ، وَطَمَعِهِمْ فِيهِمْ، وَذَهَابِ عِزِّهِمُ الْمُفْضِي إِلَى اسْتِعْبَادِهِمْ، أَمَّا الْمَقَامُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ لِبَيَانِ حُكْمِ مَنْ حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ مَا كَرِهَهُ فِيهَا، وَرَامَ فِرَاقَهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ مَيْلٌ إِلَى غَيْرِهَا، فَكَانَ حَالُهُ مُقْتَضِيًا بَيَانَ مَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ شُرُورًا لِكَوْنِهِ فَتْحًا لِبَابِ التَّعَلُّلِ لَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَ مِنَ الطَّرَفِ الَّذِي يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاهُمْ. وَأُسْنِدَ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي الْمَكْرُوهِ هُنَا لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ جَعْلٌ عَارِضٌ لِمَكْرُوهٍ خَاصٍّ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [216] قَالَ: وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّ تِلْكَ بَيَانٌ لِمَا يُقَارِنُ بَعْضَ الْحَقَائِقِ مِنَ الْخَفَاءِ فِي ذَاتِ الْحَقِيقَةِ، لِيَكُونَ رَجَاءُ الْخَيْرِ مِنَ الْقِتَالِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَيْرَ حَاصِلٍ بِجَعْلٍ عَارِضٍ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ على الزَّوْجَة الموذية أَوِ الْمَكْرُوهَةِ إِذَا كَانَ لِأَجْلِ امْتِثَالِ أَمْرِ الله بِحسن معاشرتها، يَكُونُ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي ذَلِكَ جَزَاءً مِنَ اللَّهِ على الِامْتِثَال. [20، 21] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 20 إِلَى 21] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) لَا جَرَمَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَعْقُبُهَا إِرَادَةُ اسْتِبْدَالِ الْمَكْرُوهِ بِضِدِّهِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ الشَّرْطَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ اسْتِطْرَادًا وَاسْتِيفَاءً لِلْأَحْكَامِ. فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِبْدَالِ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ السَّابِقَةِ وَتَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى. والاستبدال: التَّبْدِيلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ لِلْفِرَاقِ إِلَّا إِرَادَةَ اسْتِبْدَالِ زوج بِأُخْرَى فيلجيء الَّتِي يُرِيدُ فِرَاقَهَا، حَتَّى تخالعه، ليجد مَا لَا يُعْطِيهِ مَهْرًا لِلَّتِي رَغِبَ فِيهَا، نَهَى عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَوْهُ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ

وَالْقِنْطَارُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُعْطَى صَدَاقا أَي مَا لَا كَثِيرًا، كَثْرَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الْقِنْطَارِ مُبَاحٌ شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمَثِّلُ بِمَا لَا يَرْضَى شَرْعَهُ مِثْلَ الْحَرَامِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَنَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدُقَاتِ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ» قَالَ: «بَلْ كِتَابُ اللَّهِ! بِمَ ذَلِكَ؟» قَالَتْ: إِنَّكَ نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: 20] فَقَالَ عُمَرُ «كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلْيَفْعَلْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ» . وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ تَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ رَآهُ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَقَدْ كَانَ بَدَا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِي الْمُغَالَاةِ عِلَّةً تَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَكُونَ رَأَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُحَجِّرَ بَعْضَ الْمُبَاحِ لِلْمَصْلَحَةِ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ: إِحْداهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى النِّسَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ طَلَاقُهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْخُذُونَهُ إِنْكَارِيٌّ. وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ، مَصْدَرُ بَهَتَهُ كَمَنَعَهَ إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَقَدَّمَ الْبُهْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [258] . وَانْتُصِبَ بُهْتاناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي (تَأْخُذُونَهُ) بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُبَاهِتِينَ. وَإِنَّمَا جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا كَرِهُوا الْمَرْأَةَ وَأَرَادُوا طَلَاقَهَا، رَمَوْهَا بِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاخْتَلَقُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، لِكَيْ تَخْشَى

[سورة النساء (4) : آية 22]

سُوءَ السُّمْعَةِ فتبذل للزَّوْج مَا لَا فِدَاءً ليطلّقها، حكى ذَاك فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، فَصَارَ أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مَظِنَّةٌ بِأَنَّهَا أَتَتْ مَا لَا يُرْضِي الزَّوْجَ، فَقَدْ يَصُدُّ ذَلِكَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّزَوُّجِ عَنْ خِطْبَتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِلْأَزْوَاجِ بِأَخْذِ الْمَالِ إِذَا أَتَتْ أَزْوَاجُهُمْ بِفَاحِشَةٍ، صَارَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي مَحَلِّ الْإِذْنِ بِأَخْذِهِ، هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي جعل هَذَا الْأَخْذِ بُهْتَانًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ إِثْمًا مُبِينًا فَقَدْ جُعِلَ هُنَا حَالًا بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الِانْتِسَابِ إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى يُصْبِحَ الْإِنْكَارُ بِاعْتِبَارِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَهَا إِثْمًا مُبِينًا قَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، أَوْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ [229] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَوْ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ لَا تَحِلَّ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَام تعجيبي بَعْدَ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَطْمَعُوا فِي أَخْذِ عِوَضٍ عَنِ الْفِرَاقِ بَعْدَ مُعَاشَرَةِ امْتِزَاجٍ وَعَهْدٍ مَتِينٍ. وَالْإِفْضَاءُ الْوُصُولُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَضَاءِ، لِأَنَّ فِي الْوُصُولِ قَطْعَ الْفَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَوَاصِلِينَ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى نِيَّةِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَدَوَامِ الْأُلْفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ مَوَدَّةٍ وَمُوَالَاةٍ، فَهِيَ فِي الْمَعْنَى كَالْمِيثَاقِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَالْغَلِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ غَلُظَ- بِضَمِّ اللَّامِ- إِذَا صَلُبَ، وَالْغِلْظَةُ فِي الْحَقِيقَةِ صَلَابَةُ الذَّوَاتِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ إِلَى صُعُوبَةِ الْمَعَانِي وَشِدَّتِهَا فِي أَنْوَاعِهَا، قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة: 123] . وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيم هُوَ كَون أَخْذُ الْمَالِ عِنْدَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ الزَّوْجَةِ بِأُخْرَى، فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ إِذْ لَا إبِْطَال لمدلول هَذِه الْآيَة. [22] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 22] وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاء: 19] ، وَالْمُنَاسَبَةُ

أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ إِرْثِهِمُ النِّسَاءَ كَرْهًا، أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْمَيِّتِ أَوْلَى بِزَوْجَةِ أَبِيهِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ نَهْيًا خَاصًّا مُغَلَّظًا، وَتُخُلِّصَ مِنْهُ إِلَى إِحْصَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمَا نَكَحَ بِمَعْنَى الَّذِي نَكَحَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ وَقْعُ مَا عِوَضَ (مَنْ) لأنّ (من) تَكْثِير فِي الْمَوْصُولِ الْمَعْلُومِ، عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ سَوَّى بَيْنَ (مَا- وَمن) فَرُجِّحَتْ (مَا) لِخِفَّتِهَا، وَالْبَيَانُ أَيْضًا يُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ لِيَدُلَّ بِلَفْظِ نَكَحَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْأَبِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَافٍ فِي حُرْمَةِ تَزَوُّجِ ابْنِهِ إِيَّاهَا. وَذِكْرُ مِنَ النِّساءِ بَيَانٌ لِكَوْنِ (مَا) مَوْصُولَةً. وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ النَّهْيِ مَدْلُولُهُ إِيجَادُ الْحَدَثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ شَرْعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى الْمُعَاشَرَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ شَرْعًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى دُونَ الْوَطْءِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [230] ، فَحَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ أَبُوهُ عَلَيْهَا عَقْدَ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ بِعَقْدٍ فَقَدْ حَمَلَ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَطْلَقَ فِيهِ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَا يُحِلُّهَا لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ أَيْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْكِحَ وَقَدْ بَيَّنْتُ رَدَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. وَأما الْوَطْءُ الْحَرَامُ مِنْ زِنًى فَكَوْنُهُ مِنْ مَعَانِيَ النِّكَاحِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ دَعْوَى وَاهِيَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ هَلْ تَحْرُمُ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ. فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ الزِّنَى لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَهَذَا

الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: الزِّنَى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: مَاتَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ (يُفَارِقُهَا) فَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُ عَلَى الْوُجُوبِ. وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَرَتْ فِيهَا مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَشَارَ إِلَيْهَا الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْفَخْرُ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَّا نِكَاحًا قَدْ سَلَفَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَارَ مُحَرَّمًا. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُؤَوَّلًا إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ كَيْفَ يُسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ قَدْ حَصَلَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْإِثْمِ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيمَا قَدْ سَلَفَ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ النَّظَرُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُقَرَّرُ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَزَوَّجَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرٍ يُثْبِتُ قَضِيَّةً مُعَيَّنَةً فَرَّقَ فِيهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلٍ وَزَوْجِ أَبِيهِ مِمَّا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا عَلَى تَعْيِينِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَعَلَّ النَّاسَ قَدْ بَادَرُوا إِلَى فِرَاقِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ أَزْوَاجَ آبَائِهِمْ: مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، خَلَفَ عَلَى زَوْجِ أَبِيهِ أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْظُورُ بْنُ رَيَّانَ بْنِ سَيَّارٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلْكِيَّةَ بِنْتَ خَارِجَةَ، وَمِنْهُمْ حِصْنُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ، تَزَوَّجَ بَعْدَ أَبِي قَيْسٍ زَوْجَهُ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسَلْمَ وَقُرِّرَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجِ أَبِيهِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ لَازِمِ النَّهْيِ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ أَيْ لَا عُقُوبَةَ عَلَى مَا قَدْ سَلَفَ. وَعِنْدِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَلَا يَحْتَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَمَتَى يَظُنُّ أَحَدٌ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ أَعْمَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الدِّينِ وَنُزُولِ النَّهْيِ.

[سورة النساء (4) : آية 23]

وَقِيلَ: هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ مِنْهُ فَانْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ نِسَاءِ الْآبَاءِ الْبَائِدَةِ، كَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يُرَخِّصُ لَهُمْ بَعْضَهُ، فَيَجِدُ السَّامِعُ مَا رُخِّصَ لَهُ مُتَعَذَّرًا فَيَتَأَكَّدُ النَّهْيُ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَقَوْلِهِمْ (حَتَّى يَؤُوبَ الْقَارِظَانِ) وَ (حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ) وَهَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ فِي آيَاتِ التَّشْرِيعِ. وَالظَّاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قُصِدَ مِنْهُ بَيَانُ صِحَّةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَذَّرَ تَدَارُكُهُ الْآنَ، لِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. ثُبُوتُ أَنْسَابٍ، وَحُقُوقُ مُهُورٍ وَمَوَارِيثُ، وَأَيْضًا بَيَانُ تَصْحِيحِ أَنْسَابِ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتُدِبُوا لِلْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ، وَقَدْ تَأَوَّلَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِوُجُوهٍ تَرْجِعُ إِلَى التَّجَوُّزِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ فِي مَعْنَى: مَا نَكَحَ، حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ لَمْ يُقَرِّرْهُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أَيْ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَرَّرُ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ بِالذَّاتِ. وَالْمَقْتُ اسْمٌ سَمَّتْ بِهِ الْعَرَبُ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ فَقَالُوا نِكَاحُ الْمَقْتِ أَيِ الْبُغْضِ، وَسَمَّوْا فَاعِلَ ذَلِكَ الضَّيْزَنَ، وَسُمَّوْا الِابْنَ مِنْ ذَلِكَ النِّكَاح مقيتا. [23] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ وَغُيِّرَ

أُسْلُوبُ النَّهْيِ فِيهِ لِأَنَّ (لَا تَفْعَلْ) نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ فَيُؤْذِنُ بِالتَّلَبُّسُ بِالْمَنْهِيِّ، أَوْ إِمْكَانِ التَّلَبُّسِ بِهِ، بِخِلَافِ حُرِّمَتْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُ الْإِسْلَامُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» فَمِنْ أَجْلِ هَذَا أَيْضًا نَجِدُ حُكْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عُبِّرَ فِيهِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فَقِيلَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ يُحْمَلُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُقْصَدُ مِنْ تِلْكَ الذَّاتِ غَالِبًا فَنَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَخْ مَعْنَاهُ حُرِّمَ أَكْلُهَا، وَنَحْوُ: حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ، أَيْ شُرْبَهَا، وَفِي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ مَعْنَاهُ تَزَوُّجُهُنَّ. وَالْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّةٍ أَوْ أُمَّهَةٍ، وَالْعَرَبُ أَمَاتُوا أُمَّهَةً وَأُمَّةً وَأَبْقَوْا جَمْعَهُ، كَمَا أَبْقَوْا أُمَّ وَأَمَاتُوا جَمْعَهُ، فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمُ الْأُمَّاتُ، وَوَرَدَ أُمَّةٌ نَادِرًا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ كَيْسَانَ: تَقَبَّلْتَهَا عَنْ أُمَّةٍ لَكَ طَالَمَا ... تُنُوزِعَ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْهَا خِمَارُهَا وَوَرَدَ أُمَّهَةٌ نَادِرًا فِي بَيْتٍ يُعْزَى إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ: عِنْدَ تَنَادِيهِمْ بِهَالٍ وَهَبِي ... أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وَإِلْيَاسُ (¬1) أَبِي وَجَاءَ فِي الْجَمْعِ أُمَّهَاتٌ بِكَثْرَةٍ، وَجَاءَ أُمَّاتٌ قَلِيلًا فِي قَوْلِ جَرِيرٍ: لَقَدْ وَلَدَ الْأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ ... مُقَلَّدَةٌ مِنَ الْأُمَّاتِ عَارًا وَقِيلَ: إِنْ أُمَّاتَ خَاصٌّ بِمَا لَا يَعْقِلُ، قَالَ الرَّاعِي: كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ ... أُمَّاتُهُنَّ وَطَرَقُهُنَّ فَحِيلَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَصْلَ أُمِّ أُمَّا أَوْ أُمَّهَا فَوَقَعَ فِيهِ الْحَذْفُ ثُمَّ أَرْجَعُوهَا فِي الْجَمْعِ. ¬

(¬1) أَصله وإلياس بِهَمْزَة قطع ووصلت لإِقَامَة الْوَزْن وَهُوَ إلْيَاس بن مُضِيّ، وَوَقع هَذَا المصراع فِي طبعة تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ وَفِي نُسْخَة مخطوطة و «الدّووس» وَهُوَ خطأ.

وَمِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ أَسْمَاءَ أَعْضَاءِ الْعَائِلَةِ لَمْ تَجْرِ عَلَى قِيَاسٍ مِثْلَ أَبٍ، إِذْ كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَأَخٍ، وَابْنٍ، وَابْنَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ أَنَّهَا مِنَ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْبَشَرُ قَبْلَ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ، ثُمَّ تَطَوَّرَتِ اللُّغَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ هِيَ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا الدُّنْيَا وَمَا فَوْقَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ النَّسَبِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ مَنْ ذَكَرَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، تَأْكِيدًا لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظًا لَهُ، إِذْ قَدِ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي النَّاسِ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ قَالُوا مَا كَانَتِ الْأُمُّ حَلَالًا لِابْنِهَا قَطُّ مِنْ عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتِ الْأُخْتُ التَّوْأَمَةُ حَرَامًا وَغَيْرُ التَّوْأَمَةِ حَلَالًا، ثُمَّ حَرَّمَ اللَّهُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَنَاتُ الْأَخِ، وَيُوجَدُ تَحْرِيمُهُنَّ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَقِيَ بَنَاتُ الْأُخْتِ حَلَالًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا فِيمَا رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَمِثْلُهُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ زِيَادَةِ تَوْجِيهِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِي هَذَيْنِ خَاصَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَوْطِئَةٌ لِتَأْوِيلِ الِاسْتِثْنَاء فِي قَول إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِنَّ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَلَا أَحْسَبُهُنَّ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ نَوَّهَتْ بِبَيَانِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، فَغَرَسَتْ لَهَا فِي النُّفُوسِ وَقَارًا يُنَزَّهُ عَنْ شَوَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللَّهْوِ وَالرَّفَثِ، إِذِ الزَّوَاجُ، وَإِنْ كَانَ غَرَضًا صَالِحًا بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ، وَهُوَ خَاطِرُ اللَّهْوِ وَالتَّلَذُّذِ. فَوَقَارُ الْوِلَادَةِ، أَصْلًا وَفَرْعًا، مَانِعٌ مِنْ مُحَاوَلَةِ اللَّهْوِ بِالْوَالِدَةِ أَوِ الْمَوْلُودَةِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمه، ثمَّ تَلا حق ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَكَيْفَ يَسْرِي الْوَقَارُ إِلَى فَرْعِ الْأَخَوَاتِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ

سَرَى وَقَارُ الْآبَاءِ إِلَى أَخَوَاتِ الْآبَاءِ، وَهُنَّ الْعَمَّاتُ، وَوَقَارُ الْأُمَّهَاتِ إِلَى أَخَوَاتِهِنَّ وَهُنَّ الْخَالَاتُ، فَمَرْجِعُ تَحْرِيمِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى قَاعِدَةِ الْمُرُوءَةِ التَّابِعَةِ لِكُلِّيَّةِ حِفْظِ الْعِرْضِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسِبِ الضَّرُورِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَظَاهِرِ الرُّقِيِّ الْبَشَرِيِّ. وَ (الْ) فِي قَوْلِهِ: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ بَنَاتُ أَخِيكُمْ وَبَنَاتُ أُخْتِكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سَمَّى الْمَرَاضِعَ أُمَّهَاتٍ جَرْيًا عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا هُنَّ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً. وَلَكِنَّهُنَّ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ بِلِبَانِهِنَّ تَغَذَّتِ الْأَطْفَالُ، وَلِمَا فِي فِطْرَةِ الْأَطْفَالِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِمُرْضِعَاتِهِمْ مَحَبَّةَ أُمَّهَاتِهِمُ الْوَالِدَاتِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْعَرَبُ ثُمَّ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ الأمّهات إِذْ لَوْلَا قَصْدُ إِرَادَةِ الْمُرْضِعَاتِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الْوَصْفِ جَدْوَى. وَقَدْ أُجْمِلَتْ هُنَا صِفَةُ الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتُهُ وَعَدَدُهُ إِيكَالًا لِلنَّاسِ إِلَى مُتَعَارَفِهِمْ. وَمِلَاكُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ الْغِذَاءُ الَّذِي لَا غِذَاءَ غَيْرَهُ لِلطِّفْلِ يَعِيشُ بِهِ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي دَوَامِ حَيَاةِ الطِّفْلِ مَا يُمَاثِلُ أَثَرَ الْأُمِّ فِي أَصْلِ حَيَاةِ طِفْلِهَا. فَلَا يُعْتَبَرُ الرَّضَاعُ سَبَبًا فِي حُرْمَةِ الْمُرْضِعِ عَلَى رَضِيعِهَا إِلَّا مَا اسْتَوْفَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي مُدَّةِ عَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الطِّفْلِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» . وَقد حُدِّدَتْ مُدَّةُ الْحَاجَّةِ إِلَى الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [233] . وَلَا اعْتِدَادَ بِالرَّضَاعِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ تَجَاوُزِ الطِّفْلِ حَوْلَيْنِ مِنْ عُمْرِهِ، بِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُدَّةُ حَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: حَوْلَانِ وَأَيَّامٌ يَسِيرَةٌ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: حَوْلَانِ وَشَهْرَانِ. وَرَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: وَالشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَلَا

اعْتِدَادَ بِرَضَاعٍ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] إِذْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْأَبْنَاءُ عَلَى أُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ الْحِجَابَ أَرْضَعَتْهُ، تَأَوَّلَتْ ذَلِكَ مِنْ إِذْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ زَوْجِ أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَهُوَ رَأْيٌ لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، بِإِعْمَالِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى بِهِ. وأمّا مِقْدَارُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَهُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّضَاعِ وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَوْ مَصَّةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ أَمْرِ التَّحْرِيمِ أَنْ لَا تَقَعَ الْحُرْمَةُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَرَدُّوا قَوْلَهَا (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ) بِنِسْبَةِ الرَّاوِي إِلَى قِلَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُسْتَرَابَةٌ إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فُطِمَ الرَّضِيعُ قبل الْحَوْلَيْنِ فظاما اسْتَغْنَى بَعْدَهُ عَنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْأُخْتِ عَلَى الَّتِي رَضَعَتْ مِنْ ثَدْيِ مُرْضِعَةِ مَنْ أُضِيفَتْ أُخْتٌ إِلَيْهِ جَرَى عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِطْلَاقِ الْأُمِّ عَلَى الْمُرْضِعِ. وَالرَّضَاعَةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ رَضَعَ، وَيَجُوزُ- كَسْرُ الرَّاءِ- وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ. وَمَحَلُّ مِنَ الرَّضاعَةِ حَالٌ مِنْ أَخَواتُكُمْ وَ (مِنَ) فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ أُخُوَّةُ الرَّضَاعَةِ إِلَّا بِرَضَاعَةِ الْبِنْتِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ. وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الصِّهْرِ، وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْهَا، كَيْفَ وَقَدْ أَبَاحُوا أَزْوَاجَ الْآبَاءِ وَهُنَّ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الصِّهْرِ، فَكَيْفَ

يُظَنُّ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبَ وَقَدْ أُشِيعَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَتُهُ إِذْ هِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَتْهُ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي لَمَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ» ، وَكَذَلِكَ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ إِذْ هُنَّ أَبْعَدُ مِنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، فَأَرَى أَنَّ هَذَا مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (¬1) لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ حِكْمَتُهُ تَسْهِيلُ الْخُلْطَةِ، وَقَطْعُ الْغَيْرَةِ، بَيْنَ قَرِيبِ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا تُفْضِي إِلَى حَزَازَاتٍ وَعَدَاوَاتٍ، قَالَ الْفَخْرُ: «لَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمَرْأَةِ أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ، وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ وَابْنَتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ. وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ، وَلَوْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِ هَؤُلَاءِ دُونَ حُكْمِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَقَدْ تَمْتَدُّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَتَشْتَدُّ الرَّغْبَةُ فَتَحْصُلُ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، وَالْإِيذَاءُ مِنَ الْأَقَارِبِ أَشَدُّ إِيلَامًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّطْلِيقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ، وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ» قُلْتُ: وَعَلَيْهِ فَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ مِنْ قِسْمِ الْحَاجِيِّ مِنَ الْمُنَاسِبِ. وَالرَّبَائِبُ جَمْعُ ربيبة، وَهِي فعلية بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنْ رَبَّهُ إِذَا كَفَلَهُ وَدَبَّرَ شُؤُونَهُ، فَزَوْجُ الْأُمِّ رَابٌّ وَابْنَتُهَا مَرْبُوبَةٌ لَهُ، لِذَلِكَ قِيلَ لَهَا رَبِيبَةٌ. وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَا يَحْوِيهِ مُجْتَمَعُ الرِّجْلَيْنِ لِلْجَالِسِ الْمُتَرَبِّعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ الْحَضَانَةُ وَالْكَفَالَةُ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَفَالَةِ الطِّفْلِ تَكُونُ بِوَضْعِهِ فِي الْحِجْرِ، كَمَا سُمِّيَتْ حَضَانَةً، لِأَنَّ أَوَّلَهَا وَضْعُ الطِّفْلِ فِي الْحِضْنِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي كَفَالَتِهِ، ¬

(¬1) تقدم فِي صفحة 78 (من هَذِه الصفحات) .

لِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ إِرَادَةُ التَّقْيِيدِ كَمَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ حَضَانَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ. وَنُسِبَ الْأَخْذُ بِهَذَا الظَّاهِرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّحَاوِيُّ صِحَّةَ سَنَدِ النَّقْلِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ نَقْلٌ بَاطِلٌ. وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى بِصِحَّةِ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ بِذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَوْنِهَا رَبِيبَةً وَمَا حَدَثَ مِنَ الْوَقَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَاجِرِهَا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَجَعَلُوا هَذَا الْوَصْفَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَجَعَلُوا الرَّبِيبَةَ حَرَامًا عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِي حِجْرِهِ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كَلَامُ الْفَخْرِ الْمُتَقَدِّمُ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَنَّهُنَّ فِي حُجُورِكُمْ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِالْمَظِنَّةِ فَلَا يَقْتَضِي اطِّرَادَ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ الْحُكْمِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ذُكِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَهُوَ قَيْدٌ فِي تَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْبِنَاءُ بِأُمِّهَا، وَلَا يُحَرِّمُهَا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا، وَهَذَا الْقَيْدُ جَرَى هُنَا وَلَمْ يَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ بَلْ أُطْلِقَ الْحُكْمُ هُنَاكَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ هُنَاكَ: أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مَعْنَاهُ أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِكُمْ، فَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ يُصَيِّرُهَا امْرَأَتَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الدُّخُولُ وَلَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَعْدَهُ، وَلَا جَعَلُوا الصِّفَةَ رَاجِعَةً لِلْمُتَعَاطِفَاتِ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَعَيِّنٍ تَعَلُّقُهُ بِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ الْمُتَعَلِّقُ بِقَوْلِهِ: وَرَبائِبُكُمُ وَلَا يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِابْنَتِهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مَحْمَلًا. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْجُمْهُورُ أَنْ

يُوَجِّهُوا مَذْهَبَهُمْ بِعِلَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَلَا أَنْ يَسْتَظْهِرُوا عَلَيْهِ بِأَثَرٍ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا تُسَاوِي عِلَّةَ تَحْرِيمِ رَبِيبَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّبَائِبَ، فَلَوْ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِ بَنَاتِهِنَّ لَذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ مَعَ الرَّبَائِبِ. وَهُنَالِكَ رِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهُ التَّزَوُّجُ بِابْنَتِهَا، وَإِذَا مَاتَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ عُدُولٌ عَنِ الْعَقْدِ، وَالْمَوْتَ أَمْرٌ قَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا الدُّخُولَ بِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَوْلُهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الْحَلَائِلُ جَمْعُ الْحَلِيلَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ إِذْ أَبَاحَهَا أَهْلُهَا لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِي قَوْلِهِمْ حَكِيمٍ، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَمَا نَكَحَ أَبْنَاؤُكُمْ- أَوْ- وَنِسَاءُ أَبْنَائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ سُمِّيَ الزَّوْج أَيْضا بالحليل وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَاضِحُ الْعِلَّةِ، كَتَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْأَبْنَاءِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُتَبَنَّى ابْنًا، وَتَجْعَلُ لَهُ مَا لِلِابْنِ، حَتَّى أَبْطَلَ الْإِسْلَام ذَلِك وَقَوله تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: 5] فَمَا دُعِيَ أَحَدٌ لِمُتَبَنِّيهِ بَعْدُ، إِلَّا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُدَّتْ خُصُوصِيَّةً. وَأَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالتَّشْرِيعِ الْفِعْلِيِّ بِالْإِذْنِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ تَبَنَّاهُ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. وَابْنُ الِابْنِ وَابْنُ الْبِنْتِ، وَإِنْ سَفَلَا، أَبْنَاءٌ مِنَ الْأَصْلَابِ لِأَنَّ لِلْجِدِّ عَلَيْهِمْ وِلَادَةً لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هَذَا تَحْرِيمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحِكْمَتُهُ دَفْعُ الْغَيْرَةِ عَمَّنْ يُرِيدُ الشَّرْعُ بَقَاءَ تَمَامِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ

الْمُرَادَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا فِيهِ غَيْرَةٌ، وَهُوَ النِّكَاحُ أَصَالَةً، وَيُلْحَقُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِذِ الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: 24] يُخَصُّ بِغَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي فَقَالَ: «أَحَلَّتْهُمَا» آيَةٌ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسَرِّي حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ «فَإِنْ تَسَرَّى بِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ التَّسَرِّي بِالْأُخْرَى وَقَفَ حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُولَى بِمَا تَحْرُمُ بِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ عِتْقٍ وَلَا يُحَدُّ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا» . وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مُجَرَّدِ الْمِلْكِ فَلَا حَظْرَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ هُوَ كَنَظِيرِهِ السَّابِقِ، وَالْبَيَانُ فِيهِ كَالْبَيَانِ هُنَاكَ، بَيْدَ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ هُنَا: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ جَوَازُ مَا سَلَفَ وَأَنَّهُ إِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَإِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْإِسْلَامِ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءِ عُقُودِ الْكُفَّارِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْزُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ تَقْرِيرَ مَا عَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْمَغْفِرَةُ لِلتَّجَاوُزِ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ لِبَيَانِ سَبَبِ ذَلِكَ التَّجَاوُزِ

[سورة النساء (4) : آية 24]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. عَطْفٌ عَلَى وَأَنْ تَجْمَعُوا [النِّسَاء: 23] وَالتَّقْدِيرُ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَخْ ... فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَارِضٍ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالْمُحْصَنَاتُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- مِنْ أَحْصَنَهَا الرَّجُلُ إِذَا حَفِظَهَا وَاسْتَقَلَّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مُحْصِنَةٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- أَحْصَنَتْ نَفْسَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِالْفَتْحِ. وَيُقَالُ أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصِنٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ مُحْصَنٌ: وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ: مُحْصَنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ- بِفَتْح الصَّاد-، وقريء قَوْلُهُ: ومحصنات- بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ- وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاء: 25]- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ-. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مَا دُمْنَ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ اشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عِصْمَةِ امْرَأَةٍ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِنَوْعٍ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى الضِّمَادَ، وَلِنَوْعٍ آخَرَ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ فِي الْمَرْأَةِ وَهُمْ دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا رَغْبَةً فِي

نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كَانَ يَقَعُ بِتَرَاضٍ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَالْمَقْصِدُ لَا يَنْحَصِرُ فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَقَدْ يَكُونُ لِبَذْلِ مَالٍ أَوْ صُحْبَةٍ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ عَقْدٍ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الزَّوْجِ، أَيْ تَحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ. وَأَفَادَتِ الْآيَةُ تَعْمِيمَ حُرْمَتِهِنَّ وَلَوْ كَانَ أَزْوَاجُهُنَّ مُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ إِلَّا اللَّائِي سَبَيْتُمُوهُنَّ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَدِ حِينَ تُمْسِكُ السَّيْفَ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ السَّبْيَ هَادِمًا لِلنِّكَاحِ تَقْرِيرًا لِمُعْتَادِ الْأُمَمِ فِي الْحُرُوبِ، وَتَخْوِيفًا أَنْ لَا يُنَاصِبُوا الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُمْ لَوْ رُفِعَ عَنْهُمُ السَّبْيُ لَتَكَالَبُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا شَيْءَ يَحْذَرُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْحَرْبِ أَشَدُّ مِنْ سَبْيِ نِسْوَتِهِ، ثُمَّ مِنْ أَسْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي ... وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبْيَ الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجِهَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ، وَيُحِلُّهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي قِسْمَتِهِ عِنْدَ قِسْمَةِ الْمَغَانِمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي تُسْبَى مَعَ زَوْجِهَا: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ سَبْيَهَا يَهْدِمُ نِكَاحَهَا، وَهَذَا إِغْضَاءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا إِبْقَاءُ حُكْمِ الِاسْتِرْقَاقِ بِالْأَسْرِ. وَأَوْمَأَتْ إِلَيْهَا الصِّلَةُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: إِلَّا مَا تَرَكَتْ أَزْوَاجَهُنَّ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مِلْكٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مِلْكِ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ يُسَوِّغُ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ إِبْطَالَ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، كَالَّتِي تُبَاعُ أَوْ تُوهَبُ أَوْ تُورَثُ، فَانْتِقَالُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ شُذُوذٌ فَإِنَّ مَالِكَهَا الثَّانِيَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصْحِيحُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِبْقَاءُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْ مَا كُنَّ مَمْلُوكَاتٍ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ مَا تَجَدَّدَ مِلْكُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ. فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ» . وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إِذَا زَوَّجَهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ قُرْبَانُهَا، مَعَ كَوْنِهَا ذَاتَ زَوْجٍ. وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهَلْ يَطَؤُهَا، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ لَهُ: لَوِ اعْتَرَفْتَ لَجَعَلْتُكَ نَكَالًا. وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ، فَ عَلَيْكُمْ نَائِبٌ مَنَابَ (الْزَمُوا) ، وَهُوَ مُصَيَّرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِمْ: إِلَيْكَ، وَدُونَكَ، وَعَلَيْكَ. وكِتابَ اللَّهِ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ يُجْعَلُ مَنْصُوبًا بِ (عَلَيْكُمْ) مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، تَخْرِيجًا عَلَى تَأْوِيلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَول الراجز: يَا أيّها الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَ ... إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتابَ مَصْدَرًا نَائِبًا مَنَابَ فِعْلِهِ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ كِتَابًا، وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] وَمَا بَعْدَهُ، وَبِذَلِكَ تَلْتَئِمُ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ فِي الْخَبَرِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَفِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَأُسْنِدَ التَّحْلِيلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ طَرِيقَةَ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَشَقَّةٌ فَلَيْسَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ مِنَّةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَأُحِلَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ.

وَالْوَرَاءُ هُنَا بِمَعْنَى غَيْرَ وَدُونَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْوَرَاءَ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي هِيَ جِهَةُ ظَهْرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ السَّائِرِ يَتْرُكُ مَا وَرَاءَهُ وَيَتَجَاوَزُهُ. وَالْمَعْنَى: أَحَلَّ لَكُمْ مَا عَدَا أُولَئِكُمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا أُنْزِلَ قَبْلَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا) ، وَنَحْوَ (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) . وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ (مَا) بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْصُولِ مَفْعُولًا لِ (أُحِلَّ) ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ النِّسَاءَ الْمُبَاحَاتِ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِعْطَاءِ الْمُهُورِ، فَالْعَقْدُ هُوَ مَدْلُولُ (تَبْتَغُوا) ، وَبَذْلُ الْمَهْرِ هُوَ مَدْلُولُ (بِأَمْوالِكُمْ) ، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ: تَقْدِيرُهُ أَنْ تَبْتَغُوهُ، وَالِاشْتِمَالُ هُنَا كَالِاشْتِمَالِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ ... يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَنْ تَبْتَغُوا مَعْمُولًا لِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَحَلَّهُنَّ لِتَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ عَيْنُ مَا قُرِّرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. ومُحْصِنِينَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (تَبْتَغُوا) أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الزِّنَى، وَالْمُرَادُ مُتَزَوِّجِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ. غَيْرَ مُسافِحِينَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي، لِأَنَّ الزِّنَى يُسَمَّى السِّفَاحَ، مُشْتَقًّا مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ أَنْ يُهْرَاقَ الْمَاءُ دُونَ حَبْسٍ، يُقَالُ: سَفَحَ الْمَاءُ. وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يَبْذُلُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مَا رَامَهُ مِنْهُ دُونَ قيد وَلَا رضى وَلِيٍّ، فَكَأَنَّهُمُ اشْتَقُّوهُ مِنْ مَعْنَى الْبَذْلِ بِلَا تَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ لِأَنَّ الْمِعْطَاءَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّفَّاحُ. وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْفَاحِشَةَ يَقُولُ لَهَا: سَافِحِينِي، فَرَجَعَ مَعْنَى السفاح إِلَى التباذل وَإِطْلَاقِ الْعِنَانِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بِلَا عَقْدٍ، فَكَأَنَّهُ سَفَحَ سَفْحًا، أَيْ صَبًّا لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ، وَغَيْرُ هَذَا فِي اشْتِقَاقِهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَى.

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. تَفْرِيعٌ عَلَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَهُوَ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِبَيَانِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء: 4] سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ رُكْنًا لِلنِّكَاحِ، أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُجَرَّدَ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) اسْمَ شَرْطٍ صَادِقًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ. وَالِاسْتِمْتَاعُ: الِانْتِفَاعُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ النِّكَاحَ اسْتِمْتَاعًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: 26] . وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى (مَا) . وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِمْتَاعٌ بِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ. أَوْ يَكُونُ (مَا) صَادِقَةً عَلَى النِّسَاءِ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، أَيْ فَأَيُّ امْرَأَةٍ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَآتُوهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَيَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا لِمُعَامَلَتِهَا مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَجِيءَ حِينَئِذٍ بِ (مَا) وَلَمْ يُعَبَّرْ بِ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النِّسَاءِ لَا الْقَصْدُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى أَنَّ (مَا) تَجِيءُ لِلْعَاقِلِ كَثِيرًا وَلَا عَكْسَ: وفَرِيضَةً حَالٌ مِنْ أُجُورَهُنَّ أَيْ مَفْرُوضَةً، أَيْ مُقَدَّرَةً بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الْخُصُومَاتِ فِي أَعْظَمِ مُعَامَلَةٍ يُقْصَدُ مِنْهَا الْوِثَاقُ وَحُسْنُ السُّمْعَةِ. وَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنِ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَجَوَازُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَوِّضُونَ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ مُعْتَادَ أَمْثَالِهِمْ، وَيَكُونُ (فَرِيضَةً) بِمَعْنَى تَقْدِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ فِيمَا زِدْتُمْ لَهُنَّ أَوْ أَسْقَطْنَ لَكُمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبُ جَمْعٌ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ. وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ: هُوَ الَّذِي تَعَاقَدَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَلَةً بِزَمَانٍ أَوْ بِحَالَةٍ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ ارْتَفَعَتِ الْعِصْمَةُ، وَهُوَ نِكَاحٌ قَدْ أُبِيحَ فِي الْإِسْلَامِ لَا مَحَالَةَ، وَوَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ، أَوْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالُوا: ثُمَّ أُبِيحَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: نُهِيَ عَنْهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهُوَ أَصَحُّ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهَا مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا كَبِيرًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَخِيرِ مِنْ شَأْنِهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَسَخَتْهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّ فِيهَا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النِّسَاء: 12] فَجَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَا مِيرَاثَ فِيهَا. وَقِيلَ: نَسَخَهَا مَا مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ثَالِثَ يَوْمٍ مِنَ الْفَتْحِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَانْفِرَادُ سَبْرَةَ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَغْمَزٌ فِي رِوَايَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِهِ. قِيلَ: مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَفًى (¬1) . وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ آيَّةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ» يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ نَهَى عَنْهَا فِي زَمَنٍ مِنْ خِلَافَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَمِلُوا بِهَا فِي مُعْظَمِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي بِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ بِفَتْوَاكَ فَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ: ¬

(¬1) بفاء بعد الشين، أَي إلّا قَلِيل، وَأَصله من قَوْلهم: شفيت الشَّمْس إِذا غربت وَفِي بعض الْكتب شقي.

قَدْ قُلْتُ لِلرَّكْبِ إِذْ طَالَ الثَّوَاءُ بِنَا ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الْأَطْرَافِ نَاعِمَةٍ ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ أَمْسَكَ عَنِ الْفَتْوَى وَقَالَ: إِنَّمَا أَحْلَلْتُ مِثْلَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، يُرِيدُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثَبَاتِ عَلِيٍّ عَلَى إِبَاحَتِهَا، وَفِي رُجُوعِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِبَاحَتِهَا. أَمَّا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَثَبَتَ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى «الصَّحِيحِ» . وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ، وَفَسْخُهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَقِيلَ: بِطَلَاقٍ، وَلَا حَدَّ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَحْوَالِ الضَّرُورَاتِ، وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهَا لِلْمَقْصِدِ مِنَ النِّكَاحِ مَا فِيهَا مِنَ التَّأْجِيلِ. وَلِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَذِنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، وَنَهَى عَنْهَا مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ مُكَرَّرٍ وَلَكِنَّهُ إِنَاطَةُ إِبَاحَتِهَا بِحَالِ الِاضْطِرَارِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرُّوَاةِ تَحْقِيقُ عُذْرِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّهُ نَسْخٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَأْجِيلِ مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، مِثْلُ الْغُرْبَةِ فِي سَفَرٍ أَوْ غَزْوٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَإِشْهَادٍ وَوَلِيٍّ حَيْثُ يُشْتَرَطُ، وَأَنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ، وَأَنَّهَا لَا مِيرَاثَ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَادَ لَاحِقُونَ بِأَبِيهِمُ الْمُسْتَمْتِعِ. وَشَذَّ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِأَبِيهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ سِيَاقُهَا سَامِحًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا صَالِحَةٌ لِانْدِرَاجِ الْمُتْعَةِ فِي عُمُوم فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ فَيُرْجَعُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِلَى مَا سَمِعت آنِفا.

[سورة النساء (4) : آية 25]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاء: 24] تَخْصِيصًا لِعُمُومِهِ بِغَيْرِ الْإِمَاءِ، وَتَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهِ بِاسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ. وَالطَّوْلُ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- الْقُدْرَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَالَ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى قَدَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوْلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: تَطَاوَلَ لِكَذَا، أَيْ تَمَطَّى لِيَأْخُذَهُ، ثُمَّ قَالُوا: تَطَاوَلَ، بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْمَقْدِرَةَ «وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَطَاوِلِ» فَجَعَلُوا لِطَالَ الْحَقِيقِيِّ مَصْدَرًا- بِضَمِّ الطَّاءِ- وَجَعَلُوا لِطَالَ الْمَجَازِيِّ مَصْدَرًا- بِفَتْحِ الطَّاءِ- وَهُوَ مِمَّا فَرَّقَتْ فِيهِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ المشتركين. وَالْمُحْصَناتُ [النِّسَاء: 24] قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْ (أُحْصِنَّ) كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اللَّاتِي أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ، أَوْ أَحْصَنَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ، فَالْمُرَادُ الْعَفِيفَاتُ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَفِيفَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: 30] أَيْ بِحَسَبِ خُلُقِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِحْصَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّوْلَ هُنَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى بَذْلِ مَهْرٍ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ احْتَاجَ لِتَزَوُّجِهَا: أُولَى، أَوْ ثَانِيَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ رَابِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:

أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: 24] فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: 24] وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْأَصَحَّ فِي تَفْسِيرِ الطَّوْلِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَوْلٌ فَلَا يُبَاحُ لَهُ تَزَوُّجُ الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ طَالِبُ شَهْوَةٍ إِذْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ تعفّه عَن الزِّنَا. وَوَقَعَ لِمَالِكٍ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ وَالطَّبَرِيُّ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لَا يُنَاسِبُ يُسْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى امْرَأَةٍ ثَانِيَةٍ قَدْ لَا يَكُونُ لِشَهْوَةٍ بَلْ لِحَاجَةٍ لَا تَسُدُّهَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إِلَى طَلَبِ التَّزَوُّجِ، وَوُجُودِ الْمَقْدِرَةِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، الطَّوْلُ: الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ عَلَى نِكَاحِ الْحَرَائِرِ. وَوَقَعَ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الَّذِي يَجِدُ مَهْرَ حُرَّةٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهَذَا لَيْسَ لِكَوْنِ النَّفَقَةِ مِنَ الطَّوْلِ وَلَكِنْ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَهْرِ طَوْلٌ، وَالنَّفَقَةَ لَا مَحِيصَ عَنْهَا فِي كِلَيْهِمَا، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَمَةِ عَلَى أَهْلِهَا إِنْ لَمْ يَضُمُّهَا الزَّوْجُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي حَالٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَنْكِحَ مَعْمُولُ (طَوْلًا) بِحَذْفِ (اللَّامِ) أَوْ (عَلَى) إِذْ لَا يَتَعَدَّى هَذَا الْمَصْدَرُ بِنَفْسِهِ. وَمَعْنَى أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أَيْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ أَبْكَارًا أَوْ ثَيِّبَاتٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ الرِّجَالُ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ، أَيِ اللَّائِي يَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ بِذَلِكَ النِّكَاحِ إِنْ كُنَّ أَبْكَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: 36] أَي عنبا آئلا إِلَى خَمْرٍ أَوْ بِعَلَاقَةِ مَا كَانَ، إِنْ كُنَّ ثَيِّبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] وَهَذَا بَيِّنٌ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْحَرَائِرِ، فَإِنَّهُ إِطْلَاقٌ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى الْمَجَازِ، وَقَدْ تَسَاهَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقَوْلِ بِذَلِكَ. وَقَدْ وُصِفَ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا بِالْمُؤْمِنَاتِ، جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ، وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ خَرَجَ لِلْغَالِبِ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ طَوْلٌ، إِذْ لَمْ تَكُنْ إِبَاحَةُ نِكَاحِهِنَّ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، وَكَانَ

نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْكِتَابِيَّاتِ أَيْضا بقاعدة قِيَاس الْمُسَاوَاةِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ يُعَرِّضُ الْأَوْلَادَ لِلرِّقِّ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَتَعْطِيلُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: الْمُؤْمِناتِ مَعَ الْمُحْصَناتِ حَصَلَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَلِذَلِكَ أَلْغَوُا الْوَصْفَ هُنَا، وَأَعْمَلُوهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَشَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَاعْتَبَرُوا رُخْصَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَرِثْ عِنْدَ التَّشْرِيعِ بِذِكْرِ غَيْرِ الْغَالِبِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ، فَصَارَ الْمُؤْمِنَاتُ هُنَا كَاللَّقَبِ فِي نَحْوِ (لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ) . وَالْفَتَيَاتُ جَمْعُ فَتَاةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الشَّابَّةُ كَالْفَتَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَمَةُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْفَتَاةُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْجَارِيَةُ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْغُلَامُ، وَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الصَّغِيرِ فِي الْخِدْمَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ. وَوَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَقِبَ الْفَتَيَاتِ مَقْصُودٌ لِلتَّقْيِيدِ عِنْدَ كَافَّةِ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَفْهُومٌ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَعْطِيلِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ يُبَاعِدُ الْمَرْأَةَ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُسْلِمِ، فَيَقِلُّ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ إِذْ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ مَعَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الدِّينِ الْمُخَالِفِ فَيَمْتَدُّ الْبَوْنُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَوْقِعُ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ مَعَ قَوْلِهِ: الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَوْنَهَا مُؤْمِنَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا لِعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ- وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدِيمٌ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى إِعْمَالَ الْمَفْهُومِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ وَقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ لِلتَّقْرِيبِ وَإِزَالَةِ مَا بَقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنِ احْتِقَارِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْ نِكَاحِهِمْ وَإِنْكِاحَهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنْ كنّا نرَاهُ للتقيد فَهُوَ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْرِيبِ، إِذِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَعْتَمِدُ الدِّينَ أَوَّلًا.

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ اعْتِرَاضٌ جَمَعَ مَعَانِيَ شَتَّى، أَنَّهُ أَمْرٌ، وَقَيْدٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَخْ وَقَدْ تَحُولُ الشَّهْوَةُ وَالْعَجَلَةُ دُونَ تَحْقِيقِ شُرُوطِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحَالَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ رَبُّهُمْ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرْضَوْنَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ وَجَعْلِهَا حَلِيلَةً، وَلَكِنْ يَقْضُونَ مِنْهُنَّ شَهَوَاتِهِمْ بِالْبِغَاءِ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، جَزَاءً عَلَى إِيمَانِهِنَّ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ وَحْدَةَ الْإِيمَانِ قَرَّبَتِ الْأَحْرَارَ مِنَ الْعَبِيدِ، فَلَمَّا شَرَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ ذَيَّلَهُ بُقُولِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، أَيْ بِقُوَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ، هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَاتٍ كَانَ إِيمَانُ الْإِمَاءِ مُقْنِعًا لِلْأَحْرَارِ بِتَرْكِ الِاسْتِنْكَافِ عَنْ تَزَوُّجِهِنَّ، وَلِأَنَّهُ رُبَّ أَمَةٍ يَكُونُ إِيمَانُهَا خَيْرًا مِنْ إِيمَانِ رَجُلٍ حُرٍّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ تَذْيِيلٌ ثَانٍ أَكَّدَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِيَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِمَاءَ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ الدِّينِيَّةِ قَرَّبَهُنَّ إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ كُلَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ. وَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَشَرَطَ الْإِذْنَ لِئَلَّا يَكُونَ سِرًّا وَزِنًى، وَلِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ دُونَ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَهْلِ الْإِمَاءِ. وَالْأَهْلُ هُنَا بِمَعْنَى السَّادَةِ الْمَالِكِينَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عَلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ فِي كَلَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ تَلَطُّفًا بِالْعَبِيدِ، كَمَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: سَيِّدِي، بَلْ يَقُولُ: مَوْلَايَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «أَنَّ أَهْلَهَا أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ» . وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وَلَايَةِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا نَكَحَتِ الْأَمَةُ بِدُونِ إِذَنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَلَوْ أَجَازَهُ سَيِّدُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ: فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ: هُوَ كَالْأَمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ جَازَ، وَيُحْتَجُّ بِهَا لِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الْوَلَايَةِ فِي الْمَرْأَةِ، احْتِجَاجًا ضَعِيفًا، وَاحْتَجَّ بِهَا

الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، إِذْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ إِذْنًا وَلَمْ يُسَمِّهِ عَقْدًا، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِ (انْكِحُوهُنَّ) . وَالْقَوْلُ فِي الْأُجُورِ وَالْمَعْرُوفِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُنَّ وَإِضَافَةَ الْأُجُورِ إِلَيْهِنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الرُّهُونِ، مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: إِنَّ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُجَهِّزَهَا بِمَهْرِهَا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْهَا: إِنَّ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: إِذَا لَمْ تُبَوَّأْ أَوْ إِذَا جَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى تُبَوَّأُ إِذَا جَعَلَ سُكْنَاهَا مَعَ زَوْجِهَا فِي بَيْتِ سَيِّدِهَا. وَقَوله: مُحْصَناتٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْإِمَاءِ، وَالْإِحْصَانُ التَّزَوُّجُ الصَّحِيحُ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لِيَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ صِفَةٌ لِلْحَالِ، وَكَذَلِكَ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ قُصِدَ مِنْهَا تَفْظِيعُ مَا كَانَتْ تَرْتَكِبُهُ الْإِمَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِإِذْنِ مَوَالِيهِنَّ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَرِيبًا عَصْرُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ. والمسافحات الزَّوَانِي مَعَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. ومتّخذات الْأَخْدَانِ هُنَّ مُتَّخِذَاتُ أَخِلَّاءٍ تَتَّخِذُ الْوَاحِدَةُ خَلِيلًا تَخْتَصُّ بِهِ لَا تَأْلَفُ غَيْرَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَتُّرِ وَجَهْلِ النَّسَبِ وَخَلْعِ بُرْقُعِ الْمُرُوءَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ سدّ المداخل الزِّنَى كُلِّهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ-. وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، أَيْ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ فِي إِقَامَة حدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْجَلْدُ الْمُعَيَّنُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ التَّنْصِيفُ بِالْعَدَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ حَدِّ الْجَلْدِ لِلزَّانِيَةِ وَالزَّانِي بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ. فَتَكُونَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْأَمَةِ، وَيَكُونَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ

مِمَّا أُلْحِقَ بِهَذِهِ السُّورَةِ إِكْمَالًا لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِمَاءِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي نَظَائِرَ عَدِيدَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدَّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحَيَّرَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُونَ لِاقْتِضَائِهَا أَنْ لَا تُحَدَّ الْأَمَةُ فِي الزِّنَى إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، فَتَأَوَّلَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ بِأَنَّ الْإِحْصَانَ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمَةَ تحدّ فِي الزِّنَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَمْ عَزْبَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَيِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ. وَلَا أَظُنُّ أَنَّ دَلِيلَ الْأَيِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ حَمْلُ الْإِحْصَانِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَامِ، بَلْ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْأَمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالسُّنَّةِ. وَنِعْمَ هَذَا الْكَلَامُ. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فِي حَمْلِ الْإِحْصَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بُعْدٌ لِأَنَّ ذِكْرَ إِيمَانِهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَدْقِيقٌ، وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ الْجَلْدُ، وَلَمْ تَذْكُرِ الرَّجْمَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجْمُ مَشْرُوعًا قَبْلَ نُزُولِهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ قَدْ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ رَجْمِ الْأَمَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَصْدَ التَّنْصِيفِ فِي حَدِّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا يُبْلَغُ بِهَا حَدُّ الْحُرَّةِ، فَالرَّجْمُ يَنْتَفِي لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ، وَهُوَ مَا ذُهِلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْأَمَةِ فَقَالَ: «الْأَمَةُ أَلْقَتْ فَرْوَةَ رَأْسِهَا مِنْ وَرَاءِ الدَّارِ» أَيْ أَلْقَتْ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا قِنَاعَهَا، أَيْ أَنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُرْسِلُهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ، فَتَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْفُجُورِ، قَالُوا: فَكَانَ يَرَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا فَجَرَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا. وَقَوْلُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلَكِنَّنَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ لِلْمُتَبَصِّرِ بِتَصْرِيفِ الشَّرِيعَةِ عِبْرَةً فِي تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْخِيَانَةِ وَضَعْفِ الْمَعْذِرَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: أُحْصِنَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُحْصَنَاتٍ- الْمَفْتُوحِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَهُوَ مَعْنَى مُحْصِنَاتٍ- بِكَسْرِ الصَّادِ-.

[سورة النساء (4) : آية 26]

وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الصَّالِحِ لَأَنْ يَتَقَيَّدَ بِخَشْيَةِ الْعَنَتِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ. وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَة: 220] وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَشَقَّةُ الْعُزْبَةِ الَّتِي تَكُونُ ذَرِيعَة إِلَى الزِّنَا، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعضهم: أُرِيد الْعَنَت الزِّنَا. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِذَا اسْتَطَعْتُمُ الصَّبْرَ مَعَ الْمَشَقَّةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لِئَلَّا يُوقِعَ أَبْنَاءَهُ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْمَكْرُوهَةِ لِلشَّارِعِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَلِئَلَّا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي مَذَلَّةِ تَصَرُّفِ النَّاسِ فِي زَوْجِهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنْ خِفْتُمُ الْعَنَتَ وَلَمْ تَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجْتُمُ الْإِمَاءَ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لِأَجْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ. غَفُورٌ فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا بِمَعْنَى التجاوز عمّا مَا يَقْتَضِي مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهُ، فَلَيْسَ هُنَا ذَنْبٌ حتّى يغْفر. [26] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 26] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) تَذْيِيلٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِنْزَالُ نُفُوسِهِمْ إِلَى امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ جَمَّةٌ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ تُفْضِي إِلَى خَلْعِ عَوَائِدَ أَلِفُوهَا، وَصَرْفِهُمْ عَنْ شَهَوَاتٍ اسْتَبَاحُوهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ [النِّسَاء: 27] ، أَيِ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ بَيَانًا وَهُدًى. حَتَّى لَا تَكُونَ شَرِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ شَرَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ تَفُوقَهَا فِي انْتِظَامِ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ كَيْ لَا يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أَهْدَى مِمَّا قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بَيَانٌ لِقَصْدِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَزَايَا الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَالْإِرَادَةُ: الْقَصْدُ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَالِامْتِنَانُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تَوْضِيحِ الْأَحْكَامِ قَدْ حَصَلَتْ إِرَادَتُهُ فِيمَا مضى، وإنّا عُبِّرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْبَيَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ دَائِمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تَكُونُ بَيَانًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي بَعْدَهَا بَيَانًا مُتَعَاقِبًا. وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةٍ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَفْعُولُ (يُرِيدُ) ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لَكُمْ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ ذِكْرَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَاللَّامُ هُنَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدْ شَاعَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ اللَّامُ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَبَعْدَ مَادَّةِ الْأَمر معاقبة لِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ. تَقُولُ، أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ وَأُرِيدُ لِتَفْعَلَ، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: 32] وَقَالَ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: 8] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [غَافِر: 66] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: 15] فَإِذا جاؤوا بِاللَّامِ أَشْبَهَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ فَقَدَّرُوا (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ المؤكّدة كَمَا قد روها بَعْدَ لَامِ كَيْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عِلَّةٌ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيُقَدَّرُ: يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لِيُبَيِّنَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْعِلَّةِ نَفْسَ الْمُعَلَّلِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: اللَّامُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْفِعْلِ السَّابِقِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ دُونَ سَابِكٍ عَلَى حَدِّ «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ إِرَادَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ انْحَصَرَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوْ بِالتَّأَخُّرِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَى كَيْ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيِّ. أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ

[سورة النساء (4) : آية 27]

وَعَنِ النَّحَّاسِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ سَمَّى هَذِهِ اللَّامَ لَامَ (أَنْ) . وَمَعْنَى وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْهِدَايَةُ إِلَى أُصُولِ مَا صَلَحَ بِهِ حَالُ الْأُمَمِ الَّتِي سَبَقَتْنَا، مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرَائِعِ، وَمَقَاصِدِهَا. قَالَ الْفَخْرُ: «فَإِنَّ الشَّرَائِعَ وَالتَّكَالِيفَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي نَفْسِهَا، إِلَّا أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ» . قُلْتُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَتَقَبَّلَ تَوْبَتَكُمْ، إِذْ آمَنْتُمْ وَنَبَذْتُمْ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَنِكَاحِ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ، وَنِكَاحِ الرَّبَائِبِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَمَعْنَى: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يَقْبَلُ تَوْبَتَكُمُ الْكَامِلَةَ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَنْقُضُوا ذَلِكَ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ. وَلَيْسَ مَعْنَى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُوَفِّقُكُمْ لِلتَّوْبَةِ، فَيُشْكَلُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، إِذْ لَيْسَ التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. فَالْآيَةُ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِقَبُولِهَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيضَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ» هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلِلْفَخْرِ وَغَيْرِهِ هُنَا تَكَلُّفَاتٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مُنَاسِبٌ لِلْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْوَعْدِ بِقَبُولِهَا، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي إِرْشَادِ الْأُمَّةِ وَتَقْرِيبِهَا إِلَى الرشد. [27] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 27] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) كَرَّرَ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً فَلَيْسَ بِتَأْكِيدٍ لَفْظِيٍّ، وَهَذَا كَمَا يُعَادُ اللَّفْظُ فِي الْجَزَاءِ وَالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ فِي الْحَمَاسَةِ.

فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] وَالْمَقْصِدُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِرَادَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دَخَائِلِ أَعْدَائِهِمْ، لِيَعْلَمُوا الْفَرْقَ بَيْنَ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ. وَمُرَادِ أَعْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ. وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْإِضَافِيِّ. أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ يُحَرِّضَكُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ فَيُرِيدُونَ انْصِرَافَكُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمَيْلَكُمْ عَنْهُ إِلَى الْمَعَاصِي. وَإِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ عَلَى رَغْبَةِ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ لِمُشَاكَلَةِ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاء: 26] . وَالْمَقْصُودُ: وَيُحِبُّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا. وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ رَغْبَةً لَا تَخْلُو عَنْ سَعْيِهِمْ لِحُصُولِ ذَلِكَ، أَشْبَهَتْ رَغْبَتُهُمْ إِرَادَةَ الْمُرِيدِ لِلْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى- بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ- يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النِّسَاء: 44] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمِيلُوا لِظُهُورِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الَّذِينَ تَغْلِبُهُمْ شَهَوَاتُهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ: مِنَ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي عَوَاقِبِ الذُّنُوبِ وَمَفَاسِدِهَا وَعُقُوبَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُرْضُونَ شَهَوَاتِهِمُ الدَّاعِيَةَ إِلَيْهَا. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ هُنَا تَشْنِيعٌ لِحَالِهِمْ، فَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْخَبَرِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ: أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَالْيَهُودُ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَنِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالْمِيلُ الْعَظِيمُ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالطَّعْنُ فِيهَا. فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَبِّبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الزِّنَى وَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمُ الْبَغَايَا. وَكَانَ الْمَجُوسُ يَطْعَنُونَ فِي تَحْرِيمِ ابْنَةِ الْأَخِ وَابْنَةِ الْأُخْت وَيَقُولُونَ: لماذَا أَحَلَّ دِينُكُمُ ابْنَةَ الْعَمَّةِ وَابْنَةَ الْخَالَةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: لَا تَحْرُمُ الْأُخْتُ الَّتِي لِلْأَبِ وَلَا تَحْرُمُ الْعَمَّةُ وَلَا الْخَالَةُ وَلَا الْعَمُّ وَلَا الْخَالُ. وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِالشَّهَوَاتِ لِأَنَّ مَجِيءَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَيَّنَ انْتِهَاءَ إِبَاحَةِ مَا أُبِيحَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُخْرَى، بَلْهَ مَا كَانَ حَرَامًا فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَتَسَاهَلَ فِيهِ أهل الشّرك.

[سورة النساء (4) : آية 28]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 28] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) أَعْقَبَ الِاعْتِذَارَ الَّذِي تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النِّسَاء: 26] بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ مُرَاعِيًا رِفْقَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِرَادَتِهِ بِهَا الْيُسْرَ دُونَ الْعُسْرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ بَيَّنَ حِفْظَ الْمَصَالِحِ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ، فِي أَيْسَرِ كَيْفِيَّةٍ وَأَرْفَقِهَا، فَرُبَّمَا أَلْغَتِ الشَّرِيعَةُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ إِذَا كَانَ فِي الْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهَا مَشَقَّةٌ أَوْ تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ، كَمَا أَلْغَتْ مَفَاسِدَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ نَظَرًا لِلْمَشَقَّةِ عَلَى غَيْرِ ذِي الطَّوْلِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ كَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] وَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: 157] ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ إِلَى بَثِّ الدِّينِ فَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرا» وَقَالَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ لَا مُنَفِّرِينَ) . وَقَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا شَكَا بَعْضُ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ مِنْ تَطْوِيلِهِ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ» . فَكَانَ التَّيْسِيرُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتِ الرُّخَصُ بِنَوْعَيْهَا. وَقَوْلُهُ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً تَذْيِيلٌ وَتَوْجِيهٌ لِلتَّخْفِيفِ، وَإِظْهَارٌ لِمَزِيَّةِ هَذَا الدِّينِ وَأَنَّهُ أَلْيَقُ الْأَدْيَانِ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِذَلِكَ فَمَا مَضَى مِنَ الْأَدْيَانِ كَانَ مُرَاعًى فِيهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [66] . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّعْفَ هُنَا بِأَنَّهُ الضَّعْفُ مِنْ جِهَةِ النِّسَاء. قَالَ طَاوُوس «لَيْسَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي شَيْءٍ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ» وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَصْرَ مَعْنَى الْآيَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوعِيَ فِي الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي النِّكَاحِ

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 30]

[29، 30] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 29 الى 30] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. اسْتِئْنَافٌ مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَامَةُ الِاسْتِئْنَافِ افْتِتَاحُهُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَوَامِرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْحَقِّ فِي الْمَالِ حَقَّهُ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] وَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: 24] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النِّسَاء: 4] الْآيَةَ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَشْرِيعٍ عَامٍّ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَكْلَ مَجَازٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا تَامًّا، لَا يَعُودُ مَعَهُ إِلَى الْغَيْرِ، فَأَكْلُ الْأَمْوَالِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا بِنِيَّةِ عَدَمِ إِرْجَاعِهَا لِأَرْبَابِهَا، وَغَالِبُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ اسْتِيلَاءَ ظُلْمٍ، وَهُوَ مَجَازٌ صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: 4] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: 6] ، وَلِذَلِكَ غَلَبَ تَقْيِيدُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَيْدِ بِالْباطِلِ وَنَحْوِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِ (تَأْكُلُوا) ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمْوَالٌ: رَاجِعَانِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُنْهَى عَنْ أَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا يُسَمَّى انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْلًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ. وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا كَانَ عَن إِذن ربّه، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَوْنُ التِّجَارَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَمَوْقِعُ الْمُنْقَطِعِ هُنَا بَيِّنٌ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ شُمُولُ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَدْرَكِ وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِدْرَاكُ حَصْرًا، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَيْدُ الْبَاطِلِ فِي حَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُلْغًى، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ وَيَكُونَ مُتَّصِلًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ حَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وأياما كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَخْصِيصُ التِّجَارَةِ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ

شَبَهًا بِالْبَاطِلِ، إِذِ التَّبَرُّعَاتُ كُلُّهَا أَكْلُ أَمْوَالٍ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَالْمُعَاوَضَاتُ غَيْرُ التِّجَارَاتِ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ كِلَا الْمُتَعَاوِضَيْنِ عِوَضًا عَمَّا بَذَلَهُ لِلْآخَرِ مُسَاوِيًا لِقِيمَتِهِ فِي نَظَرِهِ يُطَيِّبُ نَفْسَهُ. وَأَمَّا التِّجَارَةُ فَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمُتَصَدِّي للتجر مَا لَا زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ مَا بَذَلَهُ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تُشْبِهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَحِكْمَةُ إِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَالِ الزَّائِدِ فِيهَا أَنَّ عَلَيْهَا مَدَارَ رَوَاجِ السّلع الحاجية والتحسينية، وَلَوْلَا تَصَدِّي التُّجَّارِ وَجَلْبُهُمُ السِّلَعَ لَمَا وَجَدَ صَاحِبُ الْحَاجَةِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: فِي احْتِكَارِ الطَّعَامِ «وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ وَيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً- بِرَفْعِ تِجَارَةٌ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِكَانَ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ تَقَعُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِنَصْبِ تِجَارَةً- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَتَقْدِيرُ اسْمِهَا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً، أَيْ أَمْوَالُ تِجَارَةٍ. وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ صِفَةٌ لِ (تِجَارَةً) ، وَ (عَنْ) فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ صَادِرَةٌ عَنِ التَّرَاضِي وَهُوَ الرِّضَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ عُرْفٍ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِقَوْلِ مَالِكٍ مِنْ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَنَاطَ الِانْعِقَادِ هُوَ التَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي يَحْصُلُ عِنْدَ التَّبَايُعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبٍ نَفْسٍ» . وَفِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» . وَتَقْدِيمُ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ أَخْطَرُ، إِمَّا لِأَنَّ مُنَاسَبَةَ مَا قَبْلَهُ أَفْضَتْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أَكْلُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِهِ مِنْهُمْ بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ الضَّعْفِ حَيْثُ لَا يَدْفَعُ صَاحِبُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَالْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ وَالزَّوْجَةِ. فَآكِلُ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّبِعَاتِ

بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ، فَإِنَّ تَبِعَاتِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْعِزَّةِ فِي قَوْمِهِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَلَا أَمْنَعَ مِنْ كُلَيْبِ وَائِلٍ، لِأَنَّ الْقَبَائِلَ مَا كَانَتْ تُهْدِرُ دِمَاءَ قَتْلَاهَا. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) . قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ، فَالضَّمِيرَانِ فِيهِ عَلَى التَّوْزِيعِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَتْلُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ لِلْإِنْسَانِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ كَمَا أَبَاحَ لَهُ صَرْفَ مَالِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا خُصُوصَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فَلَا. وَأَمَّا مَا فِي «مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَيَمَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِ ضَمِيرِ (تَقْتُلُوا) دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيِ الْمَذْكُورَ: مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَتْلِ: وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ: 19] لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ وَعِيدٌ، وَوَرَدَ وَعِيدٌ قَبْلَهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ لِيَخْرُجَ أَكْلُ الْمَالِ بِوَجْهِ الْحَقِّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ كَذَلِكَ، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» . وَالْعُدْوَانُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مَصْدَرٌ بِوَزْنِ كُفْرَانٍ، وَيُقَالُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ التَّسَلُّطُ بِشِدَّةٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ غَالِبًا، وَيَكُونُ بِحَقٍّ، قَالَ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: 193] وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَظُلْماً عَلَى عُدْواناً مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَ (سَوْفَ) حَرْفٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَيُمَحِّضُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسِّينِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: (سَوْفَ) تَدُلُّ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ بَعِيدٍ وَسَمَّاهُ: التَّسْوِيفَ، وَلَيْسَ فِي

[سورة النساء (4) : آية 31]

الِاسْتِعْمَالِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: 10] . وَ (نُصَلِيهِ) نَجْعَلُهُ صَالِيًا أَوْ مُحْتَرِقًا، وَقَدْ مَضَى فِعْلُ صَلِيَ أَيْضًا، وَوَجْهُ نَصْبِ (نَارًا) هُنَالِكَ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى كُلِّيَّتَيْنِ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ: وَهُمَا حِفْظُ الْأَمْوَالِ، وَحِفْظُ الْأَنْفُسِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسب الضَّرُورِيّ. [31] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) اعْتِرَاضٌ نَاسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذِكْرِ ذَنْبَيْنِ كَبِيرَيْنِ: وَهُمَا قَتْلُ النَّفْسِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، وَفِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ فِي إِلْقَاءِ التَّشْرِيعِ عَقِبَ الْمَوَاعِظِ وَعَكْسِهِ. وَقَدْ دَلَّتْ إِضَافَةُ كَبائِرَ إِلَى مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ قِسْمَانِ: كَبَائِرُ، وَدُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الصَّغَائِرَ، وَصْفًا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ هُنَا سَيِّئَاتٌ. وَوَعَدَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ السَّيِّئَاتِ لِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَالَ فِي آيَةِ النَّجْمِ [32] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَسَمَّى الْكَبَائِرَ فَوَاحِشَ وَسَمَّى مُقَابِلَهَا اللَّمَمَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ عِنْدَ اللَّهِ قِسْمَانِ: مَعَاصٍ كَبِيرَةٌ فَاحِشَةٌ، وَمَعَاصٍ دُونَ ذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يُلِمَّ الْمُؤْمِنُ بِهَا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ الْكَبَائِرِ. فَعَنْ عَلِيٍّ: هِيَ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَاسْتَدَلَّ لِجَمِيعِهَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَدِلَّةِ جَازِمِ النَّهْيِ عَنْهَا. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ... » فَذَكَرَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ السِّحْرَ عِوَضَ التَّعَرُّبِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هِيَ تِسْعٌ بِزِيَادَةِ الْإِلْحَادِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى هُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَعِيدُ نَارٍ أَوْ عَذَابٌ أَوْ لَعْنَةٌ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ. وَأحسن ضبط الْكَبِيرَة قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ

وَبِضَعْفِ دِيَانَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: الذُّنُوبُ كُلُّهَا سَوَاءٌ إِنْ كَانَتْ عَنْ عَمْدٍ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا سَوَاءٌ مُطْلَقًا، وَنَفَى الصَّغَائِرَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ شَاهِدَةٌ بِتَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مُتَفَاوِتٌ أَيْضًا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِثْبَاتُ نَوْعِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ: مِنْهَا الْمُخَاطَبَةُ بِتَجَنُّبِ الْكَبِيرَةِ تَجَنُّبًا شَدِيدًا، وَمِنْهَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْهَا عِنْد اقترابها، وَمِنْهَا أَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، وَمِنْهَا سَلْبُ الْعَدَالَةِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهَا نَقْضُ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، وَمِنْهَا جَوَازُ هِجْرَانِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا، وَمِنْهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا. وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مِنْهَا تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَاعْتِبَارُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. فَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْكَبَائِرَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى كُلِّ ذَنَبٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ إِخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْفَخْرُ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذُهُولُ هَذَا الْقَائِلِ، وَذُهُولُ الْفَخْرِ عَنْ رَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا تَرْجِعُ إِلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْلِيفٌ فَإِخْفَاؤُهَا يُقْصَدُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي تَوَخِّي مَظَانِّهَا لِيُكْثِرَ النَّاسُ مَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَكِنَّ إِخْفَاءَ الْأَمْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ، فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ. وَالْمَدْخَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- اسْمُ مَكَانِ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا. وَالْمَعْنَى: نُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا، أَوْ نُدْخِلُكُمْ دُخُولًا كَرِيمًا. وَالْكَرِيمُ هُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ. فَالْمُرَادُ إِمَّا الْجَنَّةُ وَإِمَّا الدُّخُولُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الجنّة. والمدخل- بصمّ الْمِيمِ- كَذَلِكَ مَكَانٌ أَوْ مَصْدَرُ أَدْخَلَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: «مَدْخَلًا» - بِفَتْح الْمِيم- وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ- بضمّ الْمِيم-.

[سورة النساء (4) : آية 32]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 32] وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] . وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: أَنَّ التَّمَنِّيَ يُحَبِّبُ لِلْمُتَمَنِّي الشَّيْءَ الَّذِي تَمَنَّاهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ أَتْبَعَهُ نَفْسَهُ فَرَامَ تَحْصِيلَهُ وَافْتَتَنَ بِهِ، فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ الِافْتِتَانُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِتَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، وَإِلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْوَاجِبِ مِنْ إِعْطَاءِ الْحَقِّ صَاحِبَهُ وَعَنْ مَنَاهِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْجُمَلُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَصْبَحَ هَذَا التَّمَنِّي فِي زَمَانِنَا هَذَا فِتْنَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَرَتْ لَهُمْ مِنْ أَخْلَاقِ الْغُلَاةِ فِي طَلَبِ الْمُسَاوَاةِ مِمَّا جَرَّ أُمَمًا كَثِيرَةً إِلَى نِحْلَةِ الشِّيُوعِيَّةِ فَصَارُوا يَتَخَبَّطُونَ لِطَلَبِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُعَانُونَ إِرْهَاقًا لَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ على طائل. فالنهي عَنِ التَّمَنِّي وَتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا، فَكَانَ كَالتَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِسَدِّ ذَرَائِعِهَا وَذَرَائِعِ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي دَرْءِ الشُّرُورِ. وَقَدْ كَانَ التَّمَنِّي مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْحَسَدِ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جُرْمٍ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ نَشَأَ عَنِ الْحَسَدِ. وَلَقَدْ كثر مَا انْتَبَهت أَمْوَالٌ، وَقُتِلَتْ نُفُوسٌ للرغبة فِي بسطة رِزْقٍ، أَوْ فِتْنَةِ نِسَاءٍ، أَوْ نَوَالِ مُلْكٍ، وَالتَّارِيخُ طَافِحٌ بِحَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ هُوَ تَمَنِّي أَمْوَالِ الْمُثْرِينَ، وَتَمَنِّي أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِينَ، وَتَمَنِّي الِاسْتِئْثَارِ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَتَمَنِّي حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيُنَاسِبَ مَا سَبَقَ مِنْ إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَإِنْصَافِ النِّسَاءِ فِي مُهُورِهِنَّ، وَتَرْكِ مُضَارَّتِهِنَّ إِلْجَاءً إِلَى إِسْقَاطِهَا، وَمِنْ إِعْطَاءِ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ كَمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.

وَقَدْ أَبْدَى الْقَفَّالُ مُنَاسَبَةً لِلْعَطْفِ تَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرْتُهُ. وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا يَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرِوَايَاتُهُ كُلُّهَا حِسَانٌ لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ. قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مُرْسَلًا يَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَمَنَّوْا إِلَخْ. مِنْ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَكَانَ فِي عُمُومِهَا مَا يَرُدُّ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ: بَعْضُهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَمَنِّي النِّسَاءِ الْجِهَادَ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ امْرَأَةٍ «إِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَشَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِرَجُلٍ أَفَنَحْنُ فِي الْعَمَلِ كَذَلِكَ» وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ رِجَالًا قَالُوا: إِنَّ ثَوَابَ أَعْمَالِنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ ثَوَابِ النِّسَاءِ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ أَجْرَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقُلْنَ لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا الْقِتَالُ لَقَاتَلْنَا. وَكُلُّ ذَلِكَ جُزْئِيَّاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وَالتَّمَنِّي هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَا يَعْسُرُ حُصُولُهُ لِلطَّالِبِ. وَذَلِكَ لَهُ أَحْوَالٌ مِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ فِي يَدِ الْغَيْرِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ شَرْعٍ أَوْ عَادَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الْحُصُولِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله ثمَّ أحيى ثُمَّ أقتل ثمَّ أحيى ثُمَّ أُقْتَلُ» . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْتَنَا نَرَى إِخْوَانَنَا» يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِمَانِعٍ عَادِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، كَتَمَنِّي أُمِّ سَلَمَةَ أَنْ يَغْزُوَ النِّسَاءُ كَمَا يَغْزُو الرِّجَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةَ الرَّجُلِ فِي الْمِيرَاثِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى تَمَنِّيًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِمَا سَاقَهُ اللَّهُ وَالضَّجَرِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى نِعْمَةً تُمَاثِلُ نِعْمَةً فِي يَدِ الْغَيْرِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِهَا لِلْمُتَمَنِّي بِدُونِ أَنْ تُسْلَبَ مِنَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ كَتَمَنِّي عِلْمٍ مِثْلِ عِلْمِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ مَالٍ مِثْلِ مَالِ قَارُونَ.

وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى ذَلِكَ لَكِنَّ مِثْلَهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِسَلْبِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهِ كَتَمَنِّي مُلْكِ بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ زَوْجَةِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةٍ عَنِ الْغَيْرِ بِدُونِ قَصْدِ مَصِيرِهَا إِلَى الْمُتَمَنِّي. وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ: إِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَشْغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِنَوَالِهِ ضَرُورَة أنّه سمّاه تَمَنِّيًا، لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ: «يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» ، وَيكون قَوْله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ الْمُمْكِنِ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ وَدُعَاءَهُ يَكُونُ فِي مَرْجُوِّ الْحُصُولِ، وَإِلَّا كَانَ سُوءَ أَدَبٍ. وَإِمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ، فَيَكُونُ جَرِيمَةً ظَاهِرَةً، أَوْ قَلْبِيَّةً كَالْحَسَدِ، بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] . فَالتَّمَنِّي الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُمَا، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ» ، وَذَكَرَ حَدِيثَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ» . وَأَمَّا التَّمَنِّي الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَالشَّكُّ فِي حِكْمَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَمَّا التَّمَنِّي الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَسَدِ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا» ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيه، إلّا إِذْ كَانَ تَمَنِّيهِ فِي الْحَالَةِ الْخَامِسَةِ تَمَنِّي حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَعْجِلُ مَوْتَهُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ، يُخَاطِبُ الْمُهَاجِرِينَ: «فَكُلُّكُمْ وَرِمَ أَنْفُهُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَمْرُ دُونَهُ» . وَالسَّادِسُ أَشَدُّ وَهُوَ شَرُّ الْحَسَدَيْنِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ضُرٍّ يَلْحَقُ الدِّينَ أَوِ الْأُمَّةَ أَوْ عَلَى إِضْرَارِ الْمُتَمَنِّي.

ثُمَّ مَحَلُّ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ: هُوَ التَّمَنِّي، وَهُوَ طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِتَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى سُلُوكِ مَسَالِكِ الْعَدَاءِ، فَأَمَّا طَلَبُ مَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ ضُرٍّ بِالْغَيْرِ فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَحْصِيلِهِ فَيُحَصِّلُ فَائِدَةً دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، أَمَّا طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِتَحْصِيلِهِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْفَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ. وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ التَّمَنِّي أَنَّهَا تُفْسِدُ مَا بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فينشأ عَنْهَا التحاسد، وَهُوَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، إِذْ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْحَسَدِ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ فَيُفْضِي إِلَى أَذَى الْمَحْسُود، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: 5] . وَكَانَ سَبَبُ أَوَّلِ جَرِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا الْحَسَدَ: إِذْ حسد أحد ابْني آدَمَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّي الْأَحْوَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَنْشَأُ فِي النُّفُوسِ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ خَاطِرًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ يَرْبُو فِي النَّفْسِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَصِيرَ مَلَكَةً، فَتَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى اجْتِرَامِ الْجَرَائِمِ لِيَشْفِيَ غِلَّتَهُ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ لِيَزْجُرُوا نُفُوسَهُمْ عِنْدَ حُدُوثِ هَاتِهِ التَّمَنِّيَاتِ بِزَاجِرِ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَدَعُوهَا تَرْبُو فِي النُّفُوسِ. وَمَا نَشَأَتِ الثَّوْرَاتُ والدعايات إِلَى ابتراز الْأَمْوَالِ بِعَنَاوِينَ مُخْتَلِفَةٍ إِلَّا مِنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ اللَّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ إِلَّا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَلِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْنَافُهُمْ. وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الْآيَةَ: إِنْ أُرِيدَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ هُنَا قَصْدُ تَعْمِيمِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالنَّجْدُ وَالْغَوْرُ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي قَطْعًا لِعُذْرِ الْمُتَمَنِّينَ، وَتَأْنِيسًا بِالنَّهْيِ، وَلِذَلِكَ فَصَّلَتْ وَإِنْ أُرِيدَ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كُلًّا مِنَ النَّوْعَيْنِ بِخُصُوصِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الرِّجَالَ يَخْتَصُّونَ بِمَا اكْتَسَبُوهُ، وَالنِّسَاءَ يَخْتَصِصْنَ بِمَا اكْتَسَبْنَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَنِّي الَّذِي يُفْضِي إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَكْلُ أَمْوَالِ مَوَالِيهِمْ وَوَلَايَاهُمْ إِذْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا اكْتَسَبَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّتْ هِيَ عَلَيْهَا، تَقْدِيرُهَا: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَتَأْكُلُوا أَمْوَالَ مَوَالِيكُمْ.

وَالنَّصِيبَ: الْحَظُّ وَالْمِقْدَارُ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَالِاكْتِسَابُ: السَّعْيُ لِلْكَسْبِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحُصُولِ الشَّيْءِ وَلَوْ بِدُونِ سَعْيٍ وَعِلَاجٍ. وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَحَقَّ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كُلٌّ حَظَّهُ مِنَ الْأجر وَالثَّوَاب المنجرّ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّي فَرِيقٍ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ فَرِيقٍ آخَرَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ وَسَائِلَ الثَّوَابِ كَثِيرَةٌ فَلَا يَسُوءُكُمُ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَحَقَّ كُلُّ شَخْصٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً، حَظَّهُ مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا المنجرّ لَهُ مِمَّا سَعَى إِلَيْهِ بِجُهْدِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ مَا سَعَى إِلَيْهِ، فَتَمَنِّي أَحَدٍ شَيْئًا لَمْ يَسْعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِهِ، هُوَ تَمَنٍّ غَيْرُ عَادِلٍ، فَحَقَّ النَّهْيُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ أُولَئِكَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، أَيْ مِمَّا شُرِعَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَحْسُدْ أَحَدٌ أَحَدًا عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَحَقِّيَّةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بعض. وَقَوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إِلَخْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي، فَالْمَعْنَى: لِلرِّجَالِ مَزَايَاهُمْ وَحُقُوقُهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ مَزَايَاهُنَّ وَحُقُوقُهُنَّ، فَمَنْ تَمَنَّى مَا لَمْ يُعَدَّ لِصِنْفِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، لَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لِصِنْفِهِ مِنَ الْمَزَايَا، وَيَجْعَلَ ثَوَابَهُ مُسَاوِيًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِصِنْفِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَالْمَعْنَى: لَا تَتَمَنَّوْا مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْإِنْعَامَ عَلَى الْكُلِّ، فَلَا أَثَرَ لِلتَّمَنِّي إِلَّا تَعَبُ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: وَسْئَلُوا- بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِفَتْحِ السِّينِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا تَخْفِيفًا-. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِهَذَا التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ النَّفْسِ لَا يُرَاقِبُ فِيهِ إلّا ربّه.

[سورة النساء (4) : آية 33]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جَامِعًا لِمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطَّمَعِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْمَالِ، قُصِدَ مِنْهَا اسْتِكْمَالُ تَبْيِينِ مَنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَالِ. وَشَأْنُ (كُلٍّ) إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ التَّنْوِينُ عَنِ الْمَحْذُوفِ، فَإِنْ جَرَى فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ قُدِّرَ الْمَحْذُوفُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [148] ، وَكَذَلِكَ هُنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- قَبْلَهُ- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ- وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: 7] فَيُقَدَّرُ: وَلِكُلِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَوْ لِكُلِّ تَارِكٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ شَيْءٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ. وَالْجَعْلُ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلْنا هُوَ الْجَعْلُ التَّشْرِيعِيُّ أَيْ شَرَعْنَا لِكُلِّ مَوَالِي لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاء: 33] . وَالْمَوَالِي جَمْعُ مَوْلًى وَهُوَ مَحَلُّ الْوَلْيِ، أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ مَحَلٌّ مَجَازِيٌّ وَقُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَالْوَلَاءُ اسْمُ الْمَصْدَرِ لِلْوَلْيِ الْمَجَازِيِّ. وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ تَقَادِيرُ جَدِيرَةٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَجَامِعَةٌ لِمَعَانٍ مِنَ التَّشْرِيعِ: الْأَوَّلُ: وَلِكُلِّ تَارِكٍ، أَيْ تَارِكٍ مَالًا جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ أَهْلَ وَلَاءٍ لَهُ، أَيْ قُرْبٍ، أَيْ وَرَثَةٍ. وَيَتَعَلَّقُ مِمَّا تَرَكَ بِمَا فِي مَوَالِيَ مِنْ مَعْنَى يَلُونَهُ، أَيْ يَرِثُونَهُ، وَمن لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ يَرِثُونَ مِمَّا ترك. وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ هُوَ الْمَالُ، وَالصِّلَةُ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَوَالِي الْمِيرَاثَ، وَكَوْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (كُلٍّ) هُوَ الْهَالِكُ أَوِ التَّارِكُ. وَلِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ (جَعَلْنَا) ، قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ.

وَقَوْلُهُ: الْوالِدانِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ بِهِ المُرَاد فِي (مَوَالِيَ) ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُبَيِّنَ بِهِ كُلَّ الْمُقَدَّرَ لَهُ مُضَافٌ. تَقْدِيرُهُ: لكلّ تَارِك. وتبيين كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّارِكَ: وَالِدٌ أَوْ قَرِيبٌ، وَالْمَوَالِيَ: وَالِدُونَ أَوْ قَرَابَةٌ. وَفِي ذِكْرِ الْوالِدانِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْنَاءِ لِتَلَازُمِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ فَالْهَالِكُ وَلَدٌ وَإِلَّا فَالْهَالِكُ وَالِدٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ أَيْ: وَالِدَاهُمُ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوَالِي، وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النِّسَاء: 32] ، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَرِثُونَهُ، وَهُوَ الْجَعْلُ الَّذِي فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ. وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ قَوْمًا يَلُونَهُ بِالْإِرْثِ، أَيْ يَرِثُونَهُ، أَيْ يَكُونُ تُرَاثًا لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ اسْمًا نَكِرَةً عَامًّا يُبَيِّنُ نَوْعَهُ الْمَقَامُ، وَيَكُونُ مِمَّا تَرَكَ بَيَانًا لِمَا فِي تَنْوِينِ (كلّ) من الْإِبْهَام، وَيَكُونُ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلا (لترك) . وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] أَيْ فِي الْأَمْوَالِ، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَؤُولُ إِلَيْهِمُ الْمَالُ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا لَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ فِي حَيَاةِ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَا جَعَلْنَاهُ لِلْمَوَالِي بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِ. التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ عَاصِبِينَ مِنَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْوَالِدَانِ، مِثْلَ الْأَعْمَامِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأَخْوَالِ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَبَوَيْنِ، وَمِمَّا تَرَكَهُمُ الْأَقْرَبُونَ مِثْلُ أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ تَعَدَّدُوا، وَأَبْنَاءُ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَقْرَبِينَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْعَصَبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى ذَوِيِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا انْعَدَمَ الْوَرَثَةُ الَّذِينَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» ، وَقَوْلُهُ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَوْلُهُ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَوله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 75] ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَيْهِ فَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ بِمَعْنَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا

التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 187] فَتَكُونَ تَكْمِلَةً لِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. التَّقْدِيرُ الرَّابِعُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِنَا: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ شَرَعْنَا أَحْكَامَ الْوَلَاءِ لِمَنْ هُمْ مُوَالٍ لَكُمْ، فَحُكْمُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَرَكَهُ لَكُمْ أَهَالِيكُمْ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَيْ أَهْلُ الْوَلَاءِ الْقَدِيمِ فِي الْقَبِيلَةِ الْمُنْجَرِّ مِنْ حِلْفٍ قَدِيمٍ، أَوْ بِحُكْمِ الْوَلَاءِ الَّذِي عَاقَدَتْهُ الْأَيْمَانُ، أَيِ الْأَحْلَافُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ الْجَدِيدُ الشَّامِلُ لِلتَّبَنِّي الْمُحْدَثِ، وَلِلْحِلْفِ الْمُحْدَثِ، مِثْلَ الْمُؤَاخَاةِ الَّتِي فَرَضَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَإِنَّ الْوَلَاءَ مِنْهُ وَلَاءٌ قَدِيمٌ فِي الْقَبَائِلِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ. أَعْطَيْتَ لِي دِيَةَ الْقَتِيلِ وَلَيْسَ لِي ... عَقْلٌ وَلَا حِلْفٌ هُنَاكَ قَدِيمُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يكون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ معطوفة عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 187] فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَقَادِيرُ أُخْرَى لَا تُلَائِمُ بَعْضَ أَجْزَاءِ النَّظْمِ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا. وَقَوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقِيلَ هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمُ الْمَوَالِي؟ فَقِيلَ: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إِلَخْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خَبَرٌ عَنْ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ. وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَرُجِّحَ هَذَا بِأَنَّ الْمَشْهُور أنّ الْوَقْت عَلَى قَوْلِهِ: وَالْأَقْرَبُونَ وَلَيْسَ عَلَى قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ. وَالْمُعَاقَدَةُ: حُصُولُ الْعَقْدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَيِ الَّذِينَ تَعَاقَدْتُمْ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَاءِ الْعَمِّ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ: إِمَّا بِمَعْنَى الْيَدِ، أُسْنِدَ الْعَقْدُ إِلَى الْأَيْدِي مَجَازًا لِأَنَّهَا تُقَارِنُ الْمُتَعَاقِدِينَ لِأَنَّهُمْ يَضَعُونَ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ فِي أَيْدِي الْآخَرِينَ، عَلَامَةً عَلَى انْبِرَامِ الْعَقْدِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْدُ صَفْقَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ يُصَفَّقُ فِيهِ الْيَدُ عَلَى الْيَدِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: 3] وَإِمَّا بِمَعْنَى الْقَسَمِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَصْحَبُهُ قَسَمٌ،

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّي حِلْفًا، وَصَاحِبُهُ حَلِيفًا. وَإِسْنَادُ الْعَقْدِ إِلَى الْأَيْمَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَسَمَ هُوَ سَبَبُ انْعِقَادِ الْحِلْفِ. وَالْمُرَادُ ب الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ: قِيلَ مَوَالِي الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ الْعَرَبُ يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَ الرَّجُلُ الْآخَرَ فَيَقُولُ لَهُ «دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ- أَيْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا لِلدَّمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ يَمْضِي عَلَى الْآخَرِ- وَثَأْرِي ثَأْرُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ وَسِلْمِي سِلْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ» . وَقَدْ جَمَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْمَوَالِي الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ فِي قَوْلِهِ: مَوَالِيكُمْ مَوْلَى الْوِلَادَةِ مِنْكُمُ ... وَمَوْلَى الْيَمِينِ حَابِسٌ قَدْ تُقُسِّمَا قِيلَ: كَانُوا جَعَلُوا لِلْمَوْلَى السُّدُسَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَأَقَرَّتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَة الْأَنْفَال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 75] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلُوا لِلْمَوْلَى السُّدُسَ وَصِيَّةً لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مَوَارِيثُ مُعَيَّنَةٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ الَّذِينَ آخَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ الْمُتَبَنَّى يَرِثُ الْمُتَبَنِّي (بِالْكَسْرِ) مِثْلُ تَبَنِّي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ الْكَلْبِيَّ، وَتَبَنِّي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمِقْدَادَ الْكِنْدِيَّ، الْمَشْهُورَ بِالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَتَبَنِّي الْخَطَّابِ بن نفَيْل عَامِرًا بْنِ رَبِيعَةَ، وَتَبَنِّي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بن ربيعَة سالما بْنِ مَعْقِلٍ الْإِصْطَخْرِيَّ، الْمَشْهُورَ بِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْمَوَارِيثِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بأنّ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ فِي «الْبُخَارِيِّ» هِيَ نَاسِخَةٌ لِتَوْرِيثِ الْمُتَآخِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ حَصَرَ الْمِيرَاثَ فِي الْقَرَابَةِ، فَتَعَيَّنَ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أَيْ نَصِيبَ الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، أَوْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ.

[سورة النساء (4) : آية 34]

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: نَزَلَتْ فِي التَّبَنِّي أَمْرًا بِالْوَصِيَّةِ لِلْمُتَبَنَّى. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا فِي شَأْنِ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنْ تُجْعَلَ الْوَصِيَّةُ لِأَقَارِبِهِ لُزُومًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَاقَدَتْ- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: عَقَدَتْ- بِدُونِ أَلِفٍ وَمَعَ تَخْفِيفِ الْقَافِ-. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَلَى جَعْلِ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَوْ هِيَ زَائِدَةٌ فِي الْخَبَرِ إِنْ جعل وَالَّذِينَ عَقَدَتْ مُبْتَدَأً عَلَى تَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَالْأَمْرُ فِي الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ظَاهر. [34] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ تَشْرِيعٍ فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ وَحُقُوقِ النِّسَاءِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَائِلِيِّ. وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ مَا قَبْلُهُ لِمُنَاسَبَةِ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى نِظَامِ الْعَائِلَةِ، لَا سِيَّمَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، فَقَوْلُهُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أَصْلٌ تَشْرِيعِيٌّ كُلِّيٌّ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ، فَهُوَ كَالْمُقَدَّمَةِ. وَقَوْلُهُ: فَالصَّالِحاتُ تَفْرِيعٌ عَنْهُ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] فِيمَا تَقَدَّمَ. وَالْحُكْمُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ عَامٌّ جِيءَ بِهِ لِتَعْلِيلِ شَرْعٍ خَاصٍّ.

فَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الرِّجالُ والنِّساءِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِ النَّاسِ «الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأَة» ، يؤول إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَقْرَاةَ لِلْحَقَائِقِ أَحْكَامُ أَغْلَبِيَّةٍ، فَإِذَا بُنِيَ عَلَيْهَا اسْتِغْرَاقٌ فَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ. وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ كَشَأْنِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْقَوَّامُ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، يُقَالُ: قَوَّامٌ وقيّام وقيّوم وقيّم، وكلّها مشتقّة من الْقيام الْمجَازِي الَّذِي هُوَ مجَاز مُرْسل أَو اسْتِعَارَة تمثيلية، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدِيرَ أَمْرَهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْقِيَامُ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ. أَوْ شُبِّهَ الْمُهْتَمُّ بِالْقَائِمِ لِلْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَةِ الرَّجُلِ، أَيِ الصِّنْفُ الْمَعْرُوفُ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهُوَ صِنْفُ الذُّكُورِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ صِنْفُ الْإِنَاثِ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرِّجَالَ جَمْعَ الرَّجُلِ بِمَعْنَى رَجُلِ الْمَرْأَةِ، أَيْ زَوْجِهَا لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَلَا الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ الْجَمْعَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى الْأَزْوَاجِ الْإِنَاثِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، بَلِ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِأَصْلِ الْوَضْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: 32] ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَهُ وَوَلَايَاهُ. فَمَوْقِعُ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ مَوْقِعُ الْمُقَدَّمَةِ لِلْحُكْمِ بِتَقْدِيمِ دَلِيلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالدَّلِيلِ، إِذْ قد يَقع فِيهِ سُوءُ تَأْوِيلٍ، أَوْ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَوْلُ النِّسَاءِ «لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمِيرَاثِ وَشَرِكْنَاهُمْ فِي الْغَزْوِ» . وَقِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ قِيَامُ الْحِفْظِ وَالدِّفَاعِ، وَقِيَامُ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْتَاجِ الْمَالِيِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أَيْ: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِإِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَصْدَرِيَّةً، أَوْ بِالَّذِي فَضَلَّ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَبِالَّذِي أَنْفَقُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِيهِمَا

مَوْصُولَةً، فَالْعَائِدَانِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ مَحْذُوفَانِ: أَمَّا الْمَجْرُورُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مِثْلَ الَّذِي جُرَّ بِهِ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ، وَأَمَّا الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ مِنْ صِلَةِ وَبِما أَنْفَقُوا فَلِأَنَّ الْعَائِدَ الْمَنْصُوبَ يَكْثُرُ حَذْفُهُ مِنَ الصِّلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ هُوَ فَرِيقُ الرِّجَالِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ لِلرِّجَالِ. فَالتَّفْضِيلُ هُوَ الْمَزَايَا الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الذَّبِّ عَنْهَا وَحِرَاسَتِهَا لِبَقَاءِ ذَاتِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: يَقُتْنَ جِيَادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُمْ ... بُعُولَتَنَا إِذَا لَمْ تَمْنَعُونَا فَهَذَا التَّفْضِيلُ ظَهَرَتْ آثَارُهُ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، فَصَارَ حَقًّا مُكْتَسَبًا لِلرِّجَالِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مُسْتَمِرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَقْوَى وَتَضْعُفُ. وَقَوْلُهُ: وَبِما أَنْفَقُوا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي للإيماء إِلَى أنّ ذَلِك أَمْرٍ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ الْقِدَمِ، فَالرِّجَالُ هُمُ الْعَائِلُونَ لِنِسَاءِ الْعَائِلَةِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَبَنَاتٍ. وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ، فَقَدْ كَانَ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ بِالصَّيْدِ وَبِالْغَارَةِ وَبِالْغَنَائِمِ وَالْحَرْثِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الرِّجَالِ، وَزَادَ اكْتِسَابُ الرِّجَالِ فِي عُصُورِ الْحَضَارَةِ بِالْغَرْسِ وَالتِّجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ خِطَابِيَّةٌ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُصْطَلَحِ غَالِبِ الْبَشَرِ، لَا سِيَّمَا الْعَرَبُ. وَيَنْدُرُ أَنْ تَتَوَلَّى النِّسَاءُ مَسَاعِيَ مِنَ الِاكْتِسَابِ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الرَّجُلِ مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ نَفْسَهَا وَتَنْمِيَةِ الْمَرْأَةِ مَالًا وَرِثَتْهُ مِنْ قَرَابَتِهَا. وَمِنْ بَدِيعِ الْإِعْجَازِ صَوْغُ قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فِي قَالَبٍ صَالح للمصدرية وللموصولية، فَالْمَصْدَرِيَّةُ مشعرة بأنّ الْقِيَامَة سَبَبُهَا تَفْضِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْفَاقٌ، وَالْمَوْصُولِيَّةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ سَبَبَهَا مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ فَضْلِ الرِّجَالِ وَمِنْ إِنْفَاقِهِمْ لِيَصْلُحَ الْخِطَابُ لِلْفَرِيقَيْنِ: عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوِ الْحَارِثِيِّ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ

وَلِأَنَّ فِي الْإِتْيَان ب (بِمَا) مَعَ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ احْتِمَالِ الْمَصْدَرِيَّةِ جَزَالَةٌ لَا تُوجَدُ فِي قَوْلِنَا: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ وَبِالْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ يُرَجِّحُونَ الْأَفْعَالَ عَلَى الْأَسْمَاءِ فِي طُرُقِ التَّعْبِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّهَا قَوْلُ النِّسَاءِ، وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: «أَتَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] إِلَى هَذِه الْآيَة، فَتكون هَذِهِ الْآيَةِ إِكْمَالًا لِمَا يَرْتَبِطُ بِذَلِكَ التَّمَنِّي. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ: نَشَزَتْ مِنْهُ زَوْجُهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فَلَطَمَهَا فَشَكَاهُ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَلْطِمَهُ كَمَا لَطَمَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي فَوْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَدْتُ شَيْئًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ ، وَنَقَضَ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا السَّبَبِ الثَّانِي حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالصَّالِحاتُ لِلْفَصِيحَةِ، أَيْ إِذَا كَانَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَمِنَ الْمُهِمِّ تَفْصِيلُ أَحْوَالِ الْأَزْوَاجِ مِنْهُنَّ وَمُعَاشَرَتِهِنَّ أَزْوَاجَهُنَّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَوَصَفَ اللَّهُ الصَّالِحَاتِ مِنْهُنَّ وَصْفًا يُفِيدُ رِضَاهُ تَعَالَى، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّشْرِيعِ، أَيْ لِيَكُنَّ صَالِحَاتٍ. وَالْقَانِتَاتُ: الْمُطِيعَاتُ لِلَّهِ. وَالْقُنُوتُ: عِبَادَةُ اللَّهِ، وَقَدَّمَهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَلَازُمِ خَوْفِهِنَّ اللَّهَ وَحِفْظِ حَقِّ أَزْوَاجِهِنَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ، أَيْ حَافِظَاتُ أَزْوَاجِهِنَّ عِنْدَ غَيْبَتِهِمْ. وَعَلَّقَ الْغَيْبَ بِالْحِفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ وَقْتُهُ. وَالْغَيْبُ مَصْدَرُ غَابَ ضِدَّ حَضَرَ. وَالْمَقْصُودُ غِيبَةُ أَزْوَاجِهِنَّ، وَاللَّامُ لِلتَّعْدِيَةِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ فِعْلٍ، فَالْغَيْبُ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ جُعِلَ مَفْعُولًا لِلْحِفْظِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ظَرْفٌ لِلْحِفْظِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مَظِنَّةُ تَخَلُّفِ الْحِفْظِ فِي مُدَّتِهِ: مِنْ كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَحْرُسَهُ الزَّوْجُ الْحَاضِرُ مِنْ أَحْوَالِ امْرَأَتِهِ فِي عِرْضِهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَضَرَ يَكُونُ مِنْ حُضُورِهِ وَازِعَانِ: يَزَعُهَا بِنَفْسِهِ وَيَزَعُهَا أَيْضًا اشْتِغَالُهَا بِزَوْجِهَا أَمَّا حَالُ الْغَيْبَةِ فَهُوَ حَالُ نِسْيَانٍ وَاسْتِخْفَافٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا لَا يُرْضِي زَوْجَهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ أَوْ سَفِيهَةَ الرَّأْيِ، فَحَصَلَ بِإِنَابَةِ الظَّرْفِ عَنِ الْمَفْعُولِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ بَشَّارٌ إِذْ قَالَ: وَيَصُونُ غَيْبَكُمْ وَإِنْ نَزَحَا

وَالْبَاءُ فِي بِما حَفِظَ اللَّهُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حِفْظًا مُلَابِسًا لِمَا حَفِظَ اللَّهُ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِحِفْظِ اللَّهِ، وَحَفِظُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ بِالْحِفْظِ، فَالْمُرَادُ الْحِفْظُ التَّكْلِيفِيُّ، وَمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ أَنَّهُنَّ يَحْفَظْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حِفْظًا مُطَابِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرُ اللَّهِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ حَقِّ اللَّهِ، فَشَمِلَ مَا يَكْرَهُهُ الزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ: أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ. لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ الشُّهُودَ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فِي غَيْبَتِهِ وَتُشْهِدَهُمْ بِمَا تُرِيدُ وَكَمَا أَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيءُ أَنْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ هَذِهِ بَعْضُ الْأَحْوَالِ الْمُضَادَّةِ لِلصَّلَاحِ وَهُوَ النُّشُوزُ، أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِلزَّوْجِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِسُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ لَهَا رَغْبَةً فِي التَّزَوُّجِ بِآخَرَ، وَقَدْ يَكُونُ لِقَسْوَةٍ فِي خُلُقِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَالنُّشُوزُ فِي اللُّغَةِ التَّرَفُّعُ وَالنُّهُوضُ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّبَاعُدِ، وَمِنْهُ نَشَزُ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا. قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: النُّشُوزُ عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِ وَإِظْهَارُ كَرَاهِيَتِهِ، أَيْ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةٍ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً مِنْهَا، أَيْ بَعْدَ أَنْ عَاشَرَتْهُ، كَقَوْلِهِ: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا» . وَجَعَلُوا الْإِذْنَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مُرَتَّبًا عَلَى هَذَا الْعِصْيَانِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنَ الْإِذْنِ لِلزَّوْجِ فِي ضَرْبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ وَالْأَخْبَارَ مَحْمَلُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا أَنَّهَا قَدْ رُوعِيَ فِيهَا عُرْفُ بَعْضِ الطَّبَقَاتِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْبَدْوِ مِنْهُمْ لَا يَعُدُّونَ ضَرْبَ الْمَرْأَةِ اعْتِدَاءً، وَلَا تَعُدُّهُ النِّسَاءُ أَيْضًا اعْتِدَاءً، قَالَ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ النَّمِرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِجِرَانِ الْعَوْدِ. عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ ... وَلَلْكَيْسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ خُذَا حَذَرًا يَا خُلَّتَيَّ فِإِنَّنِي ... رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يَصْلُحُ

والتحيت: قَشَرْتُ، أَيْ قَدَدْتُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ أَخَذَ جِلْدًا مِنْ بَاطِنِ عُنُقِ بَعِيرٍ وَعَمِلَهُ سَوْطًا لِيَضْرِبَ بِهِ امْرَأَتَيْهِ، يُهَدِّدُهُمَا بِأَنَّ السَّوْطَ قَدْ جَفَّ وَصَلُحَ لِأَنْ يُضْرَبَ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: (كُنَّا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ قَوْمًا نَغْلِبُ نِسَاءَنَا فَإِذَا الْأَنْصَارُ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَأَخَذَ نِسَاؤُنَا يَتَأَدَّبْنَ بِأَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ) . فَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْأَزْوَاجِ دُونَ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مُجَرَّدَ الْعِصْيَانِ وَالْكَرَاهِيَةِ دُونَ الْفَاحِشَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ لِقَوْمٍ لَا يَعُدُّونَ صُدُورَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِضْرَارًا وَلَا عَارًا وَلَا بِدْعًا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فِي الْعَائِلَةِ، وَلَا تَشْعُرُ نِسَاؤُهُمْ بِمِقْدَارِ غَضَبِهِمْ إِلَّا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّرْتِيبُ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ ذِكْرِهَا مَعَ ظُهُورِ أَنَّهُ لَا يُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَالتَّرْتِيبُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُتَبَادِرُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعِظُهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ، وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَ هَنَا مُرَادٌ بِهَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ أَقْسَامِ النِّسَاءِ فِي النُّشُوزِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا احْتِمَالُ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِيهِ يَجْرِي عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَائِرِ تَخافُونَ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ الطَّاعَةُ بَعْدَ النُّشُوزِ، أَيْ إِنْ رَجَعْنَ عَنِ النُّشُوزِ إِلَى الطَّاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَعْنَى: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا فَلَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِإِجْرَاءِ تِلْكَ الزَّوَاجِرِ عَلَيْهِنَّ، وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِكُلِّ مِنْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الزَّوْجَاتِ فِي حَالَةِ النُّشُوزِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَالسَّبِيلُ حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ، وَأُطْلِقَ هُنَا مَجَازًا عَلَى التَّوَسُّلِ وَالتَّسَبُّبِ وَالتَّذَرُّعِ إِلَى أَخْذِ الْحَقِّ، وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [91] ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ الْآتِيَ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. وعَلَيْهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِ (سَبِيلًا) لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحُكْمِ وَالسُّلْطَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: 91] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيٌّ عَلَيْكُمْ، حَاكِمٌ فِيكُمْ، فَهُوَ يَعْدِلُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ كَبِيرٌ، أَيْ قَوِيٌّ قَادِرٌ، فَبِوَصْفِ الْعُلُوِّ يَتَعَيَّنُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبِوَصْفِ الْقُدْرَةِ يُحْذَرُ بَطْشُهُ عِنْدَ عِصْيَانِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَمَعْنَى تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ تَخَافُونَ عَوَاقِبَهُ السَّيِّئَةَ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ النُّشُوزُ مَعَ مَخَائِلِ قَصْدِ الْعِصْيَانِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقُ الْمُغَاضَبَةِ أَوْ عَدَمُ الِامْتِثَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ الْمُغَاضَبَةَ وَالتَّعَاصِيَ يَعْرِضَانِ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَيَزُولَانِ، وَبِذَلِكَ يَبْقَى مَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ تَوَقُّعِ حُصُولِ مَا يَضُرُّ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مَرَاتِبَ بِمِقْدَارِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا النُّشُوزِ وَالْتِبَاسِهِ بِالْعُدْوَانِ وَسُوءِ النِّيَّةِ. وَالْمُخَاطَبُ بِضَمِيرِ تَخافُونَ إِمَّا الْأَزْوَاجُ، فَتَكُونُ تَعْدِيَةُ (خَافَ) إِلَيْهِ عَلَى أَصْلِ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ، نَحْوَ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ [آل عمرَان: 175] وَيَكُونُ إِسْنَادُ فَعِظُوهُنَّ- وَاهْجُرُوهُنَّ- وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ مَجْمُوعَ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْعَمَلِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْأَزْوَاجِ فَيَتَوَلَّى كُلُّ فَرِيقٍ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [229] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إِلَخ. فخاطب (لَكُمْ) لِلْأَزْوَاجِ، وَخِطَابُ فَإِنْ خِفْتُمْ [الْبَقَرَة: 229] لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ [11- 13] : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ جَعَلَ (وَبَشِّرِ) عَطْفًا عَلَى (تُؤْمِنُونَ) أَيْ فَهُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الرَّسُولِ خُصَّ بِهِ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ أَخَذَ عَطَاءٌ إِذْ قَالَ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ وَفَهْمِهِ الشَّرِيعَةَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هُنَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَقَوْل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ» . وَأَنَا أَرَى لِعَطَاءٍ نَظَرًا أَوْسَعَ مِمَّا رَآهُ لَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: وَأَنْكَرُوا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ بِالضَّرْبِ. وَأَقُولُ: أَوْ تَأَوَّلُوهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالضَّرْبِ لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالٍ دَقِيقَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَأَذِنَ لِلزَّوْجِ بِضَرْبِ امْرَأَتِهِ ضَرْبَ إِصْلَاحٍ لِقَصْدِ إِقَامَةِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَجَاوَزَ مَا تَقْتَضِيهِ حَالَةُ نُشُوزِهَا كَانَ مُعْتَدِيًا. وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْمَعْنَى وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أَيْ تَخَافُونَ سُوءَ مَغَبَّةِ نُشُوزِهِنَّ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ النُّشُوزَ رُفِعَ إِلَيْهِمْ بِشِكَايَةِ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّ إِسْنَادَ فَعِظُوهُنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ فَعَلَى مَعْنَى إِذْنِ الْأَزْوَاجِ بِهِجْرَانِهِنَّ، وَإِسْنَادُ وَاضْرِبُوهُنَّ كَمَا عَلِمْتَ.

[سورة النساء (4) : آية 35]

وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يَجْرِي عَلَى التَّوْزِيعِ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ بِمُجَرَّدِ تَوَقُّعِ النُّشُوزِ قَبْلَ حُصُولِهِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ الْأَزْوَاجَ كَانَ إِذْنًا لَهُمْ بِمُعَامَلَةِ أَزْوَاجِهِمُ النَّوَاشِزِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَكَانَ الْأَزْوَاجُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى تَوَخِّي مَوَاقِعِ هَذِهِ الْخِصَالِ بِحَسَبِ قُوَّةِ النُّشُوزِ وَقَدْرِهِ فِي الْفَسَادِ، فَأَمَّا الْوَعْظُ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَأَمَّا الْهَجْرُ فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى حَدِّ الْإِضْرَارِ بِمَا تَجِدُهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْكَمَدِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ أَقْصَاهُ بِشَهْرٍ. وَأَمَّا الضَّرْبُ فَهُوَ خَطِيرٌ وَتَحْدِيدُهُ عَسِيرٌ، وَلَكِنَّهُ أُذِنَ فِيهِ فِي حَالَةِ ظُهُورِ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَدَتْ حِينَئِذٍ، وَلَكِنْ يَجِبُ تَعْيِينُ حَدٍّ فِي ذَلِكَ، يُبَيَّنُ فِي الْفِقْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَوَلَّوْهُ، وَهُمْ حِينَئِذٍ يَشْفُونَ غَضَبَهُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَجَاوُزِ الْحَدِّ، إِذْ قَلَّ مَنْ يُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ لَا تَسْمَحُ بِأَنْ يَقْضِيَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ. بَيْدَ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَبِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ الضَّرْبُ بَيْنَهُمْ إِهَانَةً وَإِضْرَارًا. فَنَقُولُ: يَجُوزُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَوَاضِعَهَا، وَلَا الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِهَا أَنْ يَضْرِبُوا عَلَى أَيْدِيهِمُ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيُعْلِنُوا لَهُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عُوقِبَ، كَيْلَا يَتَفَاقَمَ أَمْرُ الْإِضْرَارِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ ضعف الْوَازِع. [35] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: 34] وَهَذَا حُكْمُ أَحْوَالٍ أُخْرَى تَعْرِضُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهِيَ أَحْوَالُ الشِّقَاقِ مِنْ مُخَاصَمَةٍ وَمُغَاضَبَةٍ وَعِصْيَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ، أَيْ دُونَ نُشُوزٍ مِنَ الْمَرْأَةِ.

وَالْمُخَاطَبُ هُنَا وُلَاةُ الْأُمُورِ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالشِّقَاقُ مَصْدَرٌ كَالْمُشَاقَّةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- أَيِ النَّاحِيَةِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَصِيرُ فِي نَاحِيَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، كَمَا قَالُوا فِي اشْتِقَاقِ الْعَدُوِّ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدْوَةِ الْوَادِي. وَعِنْدِي أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّقِّ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ الصَّدْعُ وَالتَّفَرُّعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: شَقَّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَالْخِلَافُ شِقَاقٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [137] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ وَأَضَافَ الشِّقَاقَ إِلَى (بَيْنِ) . إِمَّا لِإِخْرَاجِ لَفْظِ (بَيْنِ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مَعْنَى الْبُعْدِ الَّذِي يَتَبَاعَدُهُ الشَّيْئَانِ، أَيْ شِقَاقُ تَبَاعُدٍ، أَيْ تَجَافٍ، وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّعِ، كَقَوْلِهِ «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةَ أَهْلَ الدَّارِ وَمَنْ يَقُولُ بِوُقُوعِ الْإِضَافَةِ عَلَى تَقْدِيرٍ (فِي) يَجْعَلُ هَذَا شَاهِدًا لَهُ كَقَوْلِهِ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: 78] ، وَالْعَرَبُ يَتَوَسَّعُونَ فِي هَذَا الظَّرْفِ كَثِيرًا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 94] فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ. وَضَمِيرُ بَيْنِهِما عَائِدٌ إِلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: 4] . وَالْحَكَمُ- بِفَتْحَتَيْنِ- الْحَاكِمُ الَّذِي يُرْضَى لِلْحُكُومَةِ بِغَيْرِ وَلَايَةٍ سَابِقَةٍ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَكَّمُوهُ فَحَكَمَ، وَهُوَ اسْمٌ قَدِيمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، كَانُوا لَا يُنَصِّبُونَ الْقُضَاةَ، وَلَا يَتَحَاكَمُونَ إِلَّا إِلَى السَّيْفِ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَرْضَوْنَ بِأَحَدِ عُقَلَائِهِمْ يَجْعَلُونَهُ حَكَمًا فِي بَعْضِ حَوَادِثِهِمْ، وَقَدْ تَحَاكَمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ لَدَى هَرِمِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ، وَهِيَ الْمُحَاكَمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ الرَّائِيَةِ الْقَائِلِ فِيهَا: عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ ... النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ وَتَحَاكَمَ أَبْنَاءُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِهِ- ومِنْ أَهْلِها عَائِدَانِ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ: وَهُمَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَاشْتُرِطَ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَكُونَا أَعْلَمَ بِدَخْلِيَّةِ أَمْرِهِمَا وَأَبْصَرَ فِي شَأْنِ مَا يُرْجَى مِنْ حَالِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُخَوِّلُهُمَا الْحُكْمَ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ ملك: إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيُبْعَثُ مِنَ الْأَجَانِبِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: «فَإِذَا بَعَثَ الْحَاكِمُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَاضٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا» . قُلْتُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ بُعِثَا مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَ وُجُودِ الْأَقَارِبِ صَحَّ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ نِزَاعِ الزَّوْجَيْنِ النِّزَاعَ الْمُسْتَمِرَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّقَاقِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ الْبَاعِثَ هُوَ الْحَاكِمُ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ، لَا الزَّوْجَانِ، لأنّ فعل فَابْعَثُوا مُؤْذِنٌ بِتَوْجِيهِهِمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ، فَلَوْ كَانَا مُعَيَّنَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَمَا كَانَ لِفِعْلِ الْبَعْثِ مَعْنًى. وَصَرِيحُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَبْعُوثَيْنِ حَكَمَانِ لَا وَكِيلَانِ، وَبِذَلِك قَالَ أئمّة الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَمَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ بَقَاءٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ يَمْضِي، وَلَا مَقَالَ لِلزَّوْجَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْكِيمِ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجَانِ رَجُلَيْنِ عَلَى النَّظَرِ فِي شُؤُونِهِمَا، وَلَا مِنْ أَنْ يُحَكِّمَا حَكَمَيْنِ عَلَى نَحْوِ تَحْكِيمِ الْقَاضِي. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ فَقَالَ: لَا يَحْكُمُ إِلَّا الْقَاضِي دُونَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِهِمَا وَشُرُوطِهِ تَفْصِيلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَتَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَعْيِينُ وَسَائِلِ الزَّجْرِ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا، كَقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ مُدَّةً حَتَّى يَصْلُحَ حَالُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقُ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرَانِ وَكِيلَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَيُرِيدُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ. وَهَذَا صَرْفٌ لِلَفْظِ الْحَكَمَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَهُوَ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَالْبَاعِثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِيَدِ الزَّوْجِ، فَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ كَانَ ذَلِكَ

مُخَالَفَةً لِدَلِيلِ الْأَصْلِ فَاقْتَضَى تَأْوِيلَ مَعْنَى الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا يَطَّرِدُ كَوْنُهُ بِيَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُطَلِّقُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمَسُوقُ لَهُمَا الْكَلَامُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَقْصِدَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحَكَمَيْنِ، فَوَاجِبُ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْظُرَا فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ نَظَرًا مُنْبَعِثًا عَنْ نِيَّةِ الْإِصْلَاحِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ الْإِصْلَاحُ فَذَلِكَ وَإِلَّا صَارَا إِلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ وَعَدَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا إِذَا نَوَيَا الْإِصْلَاحَ، وَمَعْنَى التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إِرْشَادُهُمَا إِلَى مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَالْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ أَطْمَنُ لَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَصَرَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَنَدًا لِتَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ رَسُولَانِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا زَادَ عَلَى أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ نِيَّةَ الْإِصْلَاحِ تَكُونُ سَبَبًا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا، وَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ مُتَطَوِّحًا عَنْ مُفَادِ التَّرْكِيبِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ يَبْعَثُهُمَا الزَّوْجَانِ وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا، أَيْ إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ مِنْ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِصْلَاحَ أَمْرِهِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى تَيْسِيرِ عَوْدِ مُعَاشَرَتِهِمَا إِلَى أَحْسَنِ حَالِهَا. وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى قَصْرِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ التَّفْرِيقِ: لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الزَّوْجَيْنِ الْإِصْلَاحَ تُحَقِّقُهُ، وَإِرَادَتَهُمَا الشِّقَاقَ وَالشَّغَبَ تَزِيدُهُمَا، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعْيِينِ خُطَّةِ الْحَكَمَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَسْأَلَةُ التَّحْكِيمِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْه.

[سورة النساء (4) : آية 36]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) عَطْفُ تَشْرِيعٍ يَخْتَصُّ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ ذَوِي الْقُرْبَى وَالضُّعَفَاءِ، وَقَدَّمَ لَهُ الْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ مَا يَتَوَخَّاهُ الْمُسْلِمُ، تَجْدِيدًا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدَّمَ لِذَلِكَ فِي طَالِعِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النِّسَاء: 1] . وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا أُرِيدَ جَمْعُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَرَّرَ نَفْيُ الشِّرْكِ بَيْنَهُمْ وَأُرِيدَ مِنْهُمْ دَوَامُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَالِاسْتِزَادَةُ مِنْهَا، وَنُهُوا عَنِ الشِّرْكِ تَحْذِيرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قُوَّةِ صِيغَةِ حَصْرٍ إِذْ مُفَادُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ فَاشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ فِي مِثْلِ هَذَا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ جَاءَ عَلَيْهَا قَوْلُ السَّمَوْأَلِ، أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَإِنَّمَا يُصَار إِلَيْهَا عِنْد مَا يَكُونُ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ هُوَ طَرَفَ الْإِثْبَاتِ، ثُمَّ يَقْصِدُ بَعْدَ ذَلِكَ نَفِيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمُثْبَتِ لَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا جِيءَ بِالْقَصْرِ كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ هُوَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَذْكُورِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقْتَضَى الْمَقَامِ هُنَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا خُوطِبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِنَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ خُوطِبُوا بِطَرِيقَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْبَقَرَة: 83] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ إِيقَاظُهُمْ إِلَى إِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: «اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» وَلِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي مُدَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى رَبَّهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ فَإِنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ هُوَ التَّمَدُّحُ بِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ فِي الْحَرْبِ، فَتَزْهَقُ نُفُوسُهُمْ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَعْقَبَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا. وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ (تُشْرِكُوا) أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَرِيكًا شَيْئًا مِمَّا يُعْبَدُ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: 2] وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ ضَعِيفًا كَقَوْلِهِ: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [الْمَائِدَة: 42] . وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَان: 14] ، وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: 13، 14] ، وَلِذَا قَدَّمَ مَعْمُولَ (إِحْسَانًا) عَلَيْهِ تَقْدِيمًا لِلِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ هُنَا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَوَقَعَ الْمَصْدَرُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبِرِّ. وَشَاعَتْ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْإِحْسَانَ إِنَّمَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِحْسَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَةِ الذَّاتِ وَتَوْقِيرِهَا وَإِكْرَامِهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْبِرِّ وَلِذَلِكَ جَاءَ «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ إِيصَالُ النَّفْعِ الْمَالِيِّ عُدِّيَ بِإِلَى، تَقُولُ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا وَصَلَهُ بِمَال وَنَحْوه. وَذُو الْقُرْبَى صَاحِبُ الْقَرَابَةِ، وَالْقُرْبَى فُعْلَى، اسْمٌ لِلْقُرْبِ مَصْدَرُ قَرُبَ كَالرُّجْعَى، وَالْمُرَادُ بِهَا قَرَابَةُ النَّسَبِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: ذُو الْقُرْبَى، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ الْوِدِّ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، إِذْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ حَرَّفُوا حُقُوقَ الْقَرَابَةِ فَجَعَلُوهَا سَبَبَ تَنَافُسٍ وَتَحَاسُدٍ وَتَقَاتُلٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ أَرْطَاةُ بن سهية: وَنَحْو بَنُو عَمٍّ عَلَى ذَاكَ بَيْنَنَا ... زَرَابِيٌّ فِيهَا بِغْضَةٌ وَتَنَافُسُ وَحَسْبُكَ مَا كَانَ بَيْنَ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ فِي حَرْبِ الْبَسُوسِ، وَهُمَا أَقَارِبُ وَأَصْهَارٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَهَا عَرَبًا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَلِذَلِكَ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَةِ. وَكَانُوا يُحْسِنُونَ بِالْجَارِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ لَمْ يَكْتَرِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ الْعَاطِفِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ بِالْبَاءِ فِي حِكَايَةِ وَصِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَذِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: 83] لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَكَّدَ

أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مِنْ سَفَالَةِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَسْتَخِفَّ أَحَدٌ بِالْقَرِيبِ لِأَنَّهُ قَرِيبُهُ، وَآمِنٌ مِنْ غَوَائِلِهِ، وَيَصْرِفَ بِرَّهُ وَوُدَّهُ إِلَى الْأَبَاعِدِ لِيَسْتَكْفِيَ شَرَّهُمْ، أَوْ لِيُذْكَرَ فِي الْقَبَائِلِ بِالذِّكْرِ الْحَسَنِ، فَإِنَّ النَّفْسَ الَّتِي يطوّعها الشرّ، وتدينها الشِّدَّةُ، لَنَفْسٌ لَئِيمَةٌ، وَكَمَا وَرَدَ «شَرُّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ» فَكَذَلِكَ نَقُولُ: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ عَظَّمَ أَحَدًا لِشَرِّهِ» . وَقَوْلُهُ: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ هَذَانِ صِنْفَانِ ضَعِيفَانِ عَدِيمَا النَّصِيرِ، فَلِذَلِكَ أُوصِيَ بِهِمَا. وَالْجَارُ هُوَ النَّزِيلُ بِقُرْبِ مَنْزِلِكِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّزِيلِ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا، فَالْمُرَادُ بِ الْجارِ ذِي الْقُرْبى الْجَارُ النَّسِيبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَبِ الْجارِ الْجُنُبِ الْجَارُ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَلَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَهُوَ جُنُبٌ، أَيْ بَعِيدٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَانِبِ، وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فُعُلٍ، كَقَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ أُجُدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقْ مَوْصُوفَهُ، قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ: لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَدًا ... ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجَاوِرٌ جُنُبُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي شِعْرِهِ الَّذِي اسْتَشْفَعَ بِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ الْحَارِثِ ابْن جَبَلَةَ الْغَسَّانِيِّ، لِيُطْلِقَ لَهُ أَخَاهُ شَاسَا، حِينَ وَقَعَ فِي أَسْرِ الْحَارِثِ: فَلَا تَحْرِمْنِي نائلا عَن جَنَابَة ... فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسَطَ الْقِبَابِ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْجَارَ ذَا الْقُرْبَى بِقَرِيبِ الدَّارِ، وَالْجُنُبُ بِعِيدُهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْقُرْبَى لَا تُعْرَفُ فِي الْقُرْبِ الْمَكَانِيِّ، وَالْعَرَبُ مَعْرُوفُونَ بِحِفْظِ الْجِوَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَأُكِدَّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحَامِدِ الْعَرَبِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِتَكْمِيلِهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ. وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ الْوِصَايَةَ بِالْجَارِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُورِّثُهُ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ لَا

يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ» . قِيلَ: «وَمن يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي» قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْهُ جِيرَانَكَ» . وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ: فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ: وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ. وَقَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هُوَ الْمُصَاحِبُ الْمُلَازِمُ لِلْمَكَانِ، فَمِنْهُ الضَّيْفُ، وَمِنْهُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مُلِمٌّ بِكَ لِطَلَبِ أَنْ تَنْفَعَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّوْجَةَ. وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُجْتَازُ بِقَوْمٍ غَيْرِ نَاوٍ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ فَهُوَ الْجَارُ الْجُنُبُ. وَكَلِمَةُ (ابْنٍ) فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِانْتِسَابِ وَالِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِمْ: أَبُو اللَّيْلِ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: أَبُوهَا وَكِيَّالُهَا. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ، فَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي لَازَمَ الطَّرِيقَ سَائِرًا، أَيْ مُسَافِرًا، فَإِذَا دَخَلَ الْقَبِيلَةَ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَائِهَا، فَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ ابْنُ الطَّرِيقِ، رَمَى بِهِ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ وَلَدُهُ. وَالْوِصَايَةُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ، قَلِيلُ النَّصِيرِ، إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى أَحْوَالِ قَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِهِ، وَبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ. وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ الْعَبِيدَ فِي ضَعْفِ الرِّقِّ وَالْحَاجَةِ وَانْقِطَاعِ سُبُلِ الْخَلَاصِ مِنْ سَادَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالْوِصَايَةِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ سَمَّاهُمْ بِذَمِّ مَوَانِعِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَى الْبَشَرِ. وَالِاخْتِيَالُ: التَّكَبُّرُ، افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُيَلَاءِ، يُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ خَوْلًا وَخَالًا. وَالْفَخُورُ: الشَّدِيدُ الْفَخْرِ بِمَا فَعَلَ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَنْشَأٌ لِلْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، فَهُمَا يُنَافِيَانِ الْإِحْسَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ. وَمَعْنَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ رِضَاهُ وَتَقْرِيبِهِ عَمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِمَا عُرِفُوا بِهِ من الغلطة وَالْجَفَاءِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا الْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.

[سورة النساء (4) : الآيات 37 إلى 39]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 37 إِلَى 39] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، جِيءَ بِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ جَرَى ذِكْرُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَمُنَاسَبَةُ إِرْدَافِ التَّحْرِيضِ على الْإِحْسَان بالتحذير مِنْ ضِدِّهِ وَمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ مِنْ كُلِّ إِحْسَانٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَقُوبِلَ الْخُلُقُ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر. فَيكون قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً، وَحُذِفَ خَبَرُهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَقُصِدَ الْعُدُولُ عَنِ الْعَطْفِ: لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، وَلِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْعُمُومِ، وَفَائِدَةِ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أَعَتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَأَعْتَدْنَا ذَلِكَ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالِهِمْ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ مَعْطُوفَةً أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مَحْذُوفَةَ الْخَبَرِ أَيْضًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالهم رثاء النَّاسِ قَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ. وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ إِلَى الْعَطْفِ مِثْلُ نُكْتَةِ مَا قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النِّسَاء: 36] فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَجُمْلَةُ وَأَعْتَدْنا مُعْتَرِضَةٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ. وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ بَخِلَ مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَيُقَالُ الْبَخَلُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ- وَهُوَ مَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْبَاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ-.

وَالْبُخْلُ: ضِدُّ الْجُودِ وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [180] . وَمَعْنَى ويَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَشَدُّ الْبُخْلِ، قَالَ أَبُو تمّام: وإنّ امْر أضنّت يَدَاهُ عَلَى امْرِئٍ ... بِنَيْلِ يَدٍ مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ. وَمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَالُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمرَان: 180] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْخَلُونَ وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كِتْمَانُ التَّوْرَاةِ بِمَا فِيهَا مِنْ صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَبْخَلُونَ: الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمُ: الْيَهُودَ وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَقَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . وَقَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً، عَقِبَهُ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً مُعْتَرِضَةٌ. وَأَصْلُ وأَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا، أُبْدِلَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً، لِثِقَلِ الدَّالَيْنِ عِنْدَ فَكِّ الْإِدْغَامِ بِاتِّصَالِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، وَهَكَذَا مَادَّةُ أَعَدَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أَدْغَمُوهَا لَمْ يُبْدِلُوا الدَّالَ بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْإِدْغَامَ أَخَفُّ، وَإِذَا أَظْهَرُوا أَبْدَلُوا الدَّالَ تَاءً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: عَتَادٌ لِعُدَّةِ السِّلَاحِ، وَأَعْتُدٌ جَمْعُ عَتَادٍ. وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِالْمُهِينِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ. وَعَطَفَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: لِأَنَّهُمْ أَنْفَقُوا إِنْفَاقًا لَا تَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةُ الْإِنْفَاقِ غَالِبًا، لِأَنَّ مَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءً لَا يَتَوَخَّى بِهِ مَوَاقِعَ الْحَاجَةِ، فَقَدْ يُعْطِي الْغَنِيَّ وَيَمْنَعُ الْفَقِيرَ، وَأُرِيدَ بِهِمْ هُنَا الْمُنْفِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُشْركين، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدِ انْقَطَعَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً مُعْتَرِضَةٌ.

وَقَوْلُهُ: فَساءَ قَرِيناً جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (سَاءَ) إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الشَّيْطَان (فَساءَ) بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالضَّمِيرُ فَاعِلُهَا، وقَرِيناً تَمْيِيزٌ لِلضَّمِيرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 177] ، أَيْ: فَسَاءَ قَرِينًا لَهُ، لِيَحْصُلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَيَجُوزُ أَن تبقى (فَساءَ) عَلَى أَصْلِهَا ضِدَّ حَسُنَ، وَتَرْفَعَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى (مَنْ) وَيَكُونَ (قَرِينًا) تَمْيِيزَ نِسْبَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: «سَاءَ سمعا فسَاء جابة» أَيْ فَسَاءَ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ سُوءُ حَالِ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا بِإِثْبَاتِ سُوءِ قَرِينِهِ إِذِ الْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَقَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَماذا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ هُنَا إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ. وَ (ذَا) إِشَارَةٌ إِلَى (مَا) ، وَالْأَصْل لَا يَجِيءَ بَعْدَ (ذَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ نَحْوَ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: 255] . وَكَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَقَالَ النُّحَاةُ: نَابَتْ ذَا مَنَابَ الْمَوْصُولِ، فَعَدُّوهَا فِي الْمَوْصُوَلَاتِ وَمَا هِيَ مِنْهَا فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وعَلى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِكَوْنٍ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. ولَوْ آمَنُوا شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ دَلِيلُ الْجَوَابِ اهْتِمَامًا بِالِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ تَوَلَّدَ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فِي لَوِ الشَّرْطِيَّةِ، فَأَثْبَتَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي مَعَانِي لَوْ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى لَوْ فِي التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ يَنْشَأُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ آمَنُوا مَاذَا الَّذِي كَانَ يُتْعِبُهُمْ وَيُثْقِلُهُمْ، أَيْ لَكَانَ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ وَنَافِعًا لَهُمْ، وَهَذَا من الْجِدَال بِإِرَاءَةِ الْحَالَةِ الْمَتْرُوكَةِ أَنْفَعَ وَمَحْمُودَةً. ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي أَخَفِّ الْحَالَيْنِ وَأَسَدِّهِمَا أَمْرٌ نُكْرٌ، ظَهَرَ أَنَّ الْمُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ مَلُومٌ، إِذْ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِأَرْشَدِ الْخَلَّتَيْنِ، فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ اسْتِعْمَالًا

[سورة النساء (4) : آية 40]

كِنَائِيًّا بِوَاسِطَتَيْنِ. وَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ رِئَاءً، لِقَوْلِهِ: لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَجُمْلَةُ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْجَزَاءِ عَلَى سوء أَعْمَالهم. [40] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 40] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ حَالَهُمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ تَفْرِيطَهُمْ مَعَ سُهُولَةِ أَخْذِهِمْ بِالْحَيْطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ لَوْ شَاءُوا، بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ الْقَلِيلِ، بَلْهَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وَلَمَّا كَانَ الْمَنْفِيُّ الظُّلْمَ، عَلَى أَنَّ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) تَقْدِيرٌ لِأَقَلِّ ظُلْمٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْمُسِيءَ بِأَكْثَرِ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَتِهِ. وَانْتَصَبَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ لَا يَظْلِمُ ظُلْمًا مُقَدَّرًا بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَالْمِثْقَالُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الثِّقَلُ، فَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِقْدَارُ. وَالذَّرَّةُ تُطْلَقُ عَلَى بَيْضَةِ النَّمْلَةِ، وَعَلَى مَا يَتَطَايَرُ مِنَ التُّرَابِ عِنْدَ النَّفْخِ، وَهَذَا أَحْقَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فُعُلِمَ انْتِفَاءُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْأَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ حَسَنَةً- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ (تَكُ) مُضَارِعُ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ إِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِنَصْبِ - حَسَنَةً عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ عَلَى اعْتِبَارِ كَانَ نَاقِصَةً، وَاسْمُ كَانَ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَجِيءَ بِفِعْلِ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لفظ ذَرَّةٍ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مِثْقَالُ، لِأَنَّ لَفْظَ مِثْقَالَ مُبْهَمٌ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا لَفْظُ ذَرَّةٍ فَكَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ.

[سورة النساء (4) : الآيات 41 إلى 42]

وَالْمُضَاعَفَةُ إِضَافَةُ الضّعف- بِكَسْر الصَّاد- أَيِ الْمَثَلِ، يُقَالُ: ضَاعَفَ وَضَعَّفَ وَأَضْعَفَ، وَهِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيق عِنْد أئمّة اللُّغَةِ، مِثْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَاعَفَ يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفٍ وَاحِدٍ وضعّف يَقْتَضِي ضِعْفَيْنِ. وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: 30] . وَأَمَّا دَلَالَةُ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ عَلَى مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَرَائِنِ لِحِكْمَةِ الصِّيغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعِفْها، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: يُضاعِفْها- بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ-. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ مَا يُزَادُ عَلَى الضِّعْفِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ: مِنْ لَدُنْهُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَسَمَّاهُ أَجْرًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثَوَاب الْهِجْرَة. [41، 42] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 41 إِلَى 42] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تَدُلُّ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: 37] وَقَوْلِهِ: فَساءَ قَرِيناً [النِّسَاء: 38] وَعَنِ التَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: وَماذا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: 39] وَعَنِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: 40] الْآيَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا أَيْقَنْتَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ حَالُ كُلِّ أُولَئِكَ إِذَا جَاءَ الشُّهَدَاءُ وَظَهَرَ مُوجَبُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وعَلى الْعَمَل السيّء، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ ضَمِيرُ (بِكَ) إِضْمَارًا فِي مَقَامِ الْإِظْهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النِّسَاء: 40] ، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالٌ عَنْ حَالِ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فَالنَّاسُ بَيْنَ مُسْتَبْشِرٍ وَمُتَحَسِّرٍ، وَعَلَى هَذَا فَضَمِيرُ بِكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَيَقْتَضِيَ أَنْ يُقَالَ: وَجِئْنَا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِزِّ الْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.

وَالْحَالَةُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ تُؤْذِنُ بِحَالَةٍ مَهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَتُنَادِي عَلَى حَيْرَتِهِمْ وَمُحَاوَلَتِهِمُ التَّمَلُّصَ مِنَ الْعِقَابِ بِسُلُوكِ طَرِيقِ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا أُنْذِرُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجِيءُ شَهِيدٍ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَيُقَدَّرُ بِنَحْوِ: كَيْفَ أُولَئِكَ، أَوْ كَيْفَ الْمَشْهَدُ، وَلَا يُقَدَّرُ بِكَيْفَ حَالِهِمْ خَاصَّةً، إِذْ هِيَ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَا مِنْهَا إِلَّا يَزِيدُهُ حَالُ ضِدِّهِ وُضُوحًا، فَالنَّاجِي يَزْدَادُ سُرُورًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْمُوبَقُ يَزْدَادُ تَحَسُّرًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْكُلُّ يَقْوَى يَقِينُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِينَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ مُتَعَلِّقَهُ بِعَلَى أَوِ اللَّامِ: لِيَعُمَّ الْأَمْرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مِنَ التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [25] . وَ (إِذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ جِئْنا أَيْ زَمَانِ إِتْيَانِنَا بِشَهِيدٍ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا مِثْلَ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِأَنْ يُتَعَرَّفَ اسْمُ الزَّمَانِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِ (كَيْفَ) لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، كَمَا انْتَصَبَ بِمَعْنَى التَّلَهُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ: وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ قَلْبِي مِنْ غَدٍ ... إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَقَوْلِهِ: بِشَهِيدٍ يَتَعَلَّقَانِ بِ (جِئْنَا) . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: 25] . وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُضُورِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ سَمَاعِهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَأَصْلُ الْإِشَارَةِ يَكُونُ إِلَى مُشَاهَدٍ فِي الْوُجُودِ أَوْ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَتَهُ، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ إِشَارَةِ (هؤُلاءِ) مُرَادًا بِهَا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مَعْنًى أُلْهِمْنَا إِلَيْهِ، استقريناه فَكَانَ مُطَابِقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: 37] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْحَاضِرِينَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ تَوْبِيخِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ صَارُوا كَالْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ

الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ أَضْعَفِ الِاحْتِمَالَاتِ أَنْ يَكُونَ هؤُلاءِ إِشَارَةً إِلَى الشُّهَدَاءِ، الدَّالِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَإِنْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» حَدِيثٌ يُنَاسِبُهُ فِي شَهَادَةِ نُوحٍ عَلَى قَوْمِهِ وَأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُ فَيَشْهَدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِدْقِهِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَذُكِرَ مُتَعَلِّقُ (شَهِيداً) الثَّانِي مَجْرُورًا بِعَلَى لِتَهْدِيدِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، قُلْتُ: أَقْرَأُهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حتّى إِذا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. وَكَمَا قُلْتُ: إِنَّهُ أَوْجَزَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فِي لَفْظِ كَيْفَ فَكَذَلِكَ أَقُولُ هُنَا: لَا فِعْلَ أَجْمَعُ دَلَالَةً عَلَى مَجْمُوعِ الشُّعُورِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى شُعُورٍ مُجْتَمِعٍ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ: وَهِيَ الْمَسَرَّةُ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَتَصْدِيقِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ فِي التَّبْلِيغِ، وَرُؤْيَةِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي أُنْجِزَتْ لَهُمْ بِوَاسِطَتِهِ، وَالْأَسَفِ عَلَى مَا لَحِقَ بَقِيَّةَ أُمَّتِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَمُشَاهَدَةِ نَدَمِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْبُكَاءُ تُرْجُمَانُ رَحْمَةٍ وَمَسَرَّةٍ وَأَسَفٍ وَبَهْجَةٍ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْحَالَةِ الْمُبْهَمَةِ الْمَدْلُولَةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَيَتَطَلَّبُ بَيَانَهَا، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةً لِبَعْضِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ يَرَوْنَ بِوَارِقَ الشَّرِّ: مِنْ شَهَادَةِ شُهَدَاءِ الْأُمَمِ عَلَى مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَيُوقِنُونَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ مَأْخُوذُونَ إِلَى الْعَذَابِ، فَيَنَالُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ مَا يَوَدُّونَ مِنْهُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَجُمْلَةُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَوَدُّ أَيْ يودّون ودّا يبيّنه قَوْلُهُ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلِكَوْنِ مَضْمُونِهَا أَفَادَ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمَوْدُودِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ مَفْعُولِ (يَوَدُّ) ، فَصَارَ فِعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَصَارَتْ لَوْ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَقَوْلُهُ: تُسَوَّى قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- فَهُوَ مُضَارِعُ تَسَوَّى الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ سَوَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ سَوَاءً لِشَيْءٍ آخَرَ أَيْ مُمَاثِلًا، لِأَنَّ السَّوَاءَ الْمِثْلُ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ السَّابِقَةِ لَكِنْ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُسَوَّى- بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، أَيْ تُمَاثَلُ. وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ التَّسْوِيَةِ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي الذَّاتِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا مِثْلَ الْأَرْضِ لِظُهُورِ أَنْ لَا يُقْصَدَ أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ نَاسًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] . وَهَذَا تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ، قُصِدَ مِنْ إِطْنَابِهِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ عَنْ صَيْرُورَتِهِمْ تُرَابًا بِالْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: الْمَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ، وَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ: إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ أَيْ أَنَّهُ سَمْحٌ ذُو مُرُوءَةٍ كَرِيمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، فَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا وَبَقُوا مُسْتَوِينَ مَعَ الْأَرْضِ فِي بَطْنِهَا، وَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنْ يُدْفَنُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْبَعْثِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنَى التَّسْوِيَةُ فِي الْبُرُوزِ وَالظُّهُورِ، أَيْ أَنْ تَرْتَفِعَ الْأَرْضُ فَتُسَوَّى فِي الِارْتِفَاعِ بِأَجْسَادِهِمْ، فَلَا يَظْهَرُوا، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَذُلِّهِمْ، فَيَنْقَبِضُونَ وَيَتَضَاءَلُونَ حَتَّى يَوَدُّوا أَنْ يَصِيرُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا وَصَفَ أَحَدُ الْأَعْرَابِ يَهْجُو قوما من طيّء أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ: إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ ... تَشَابَهَتِ الْمَنَاكِبُ وَالرُّؤُوسُ وَهَذَا أَحْسَنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَأَنْسَبُ بِالْكِنَايَةِ. وَجُمْلَةُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى جُمْلَةِ يَوَدُّ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فِي حَالِ عَدَمِ كِتْمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا اسْتِشْهَادَ الرُّسُلِ، وَرَأَوْا جَزَاءَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَمِِِ

[سورة النساء (4) : آية 43]

السَّالِفَةِ، وَرَأَوْا عَاقِبَةَ كَذِبِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ حَتَّى احْتِيجَ إِلَى إِشْهَادِ رُسُلِهِمْ، عَلِمُوا أَنَّ النَّوْبَةَ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهِمْ، وَخَامَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا اللَّهَ أَمْرَهُمْ إِذَا سَأَلَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ تُسَاعِدْهُمْ نُفُوسُهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالصِّدْقِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ عَوَاقِبِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ، مِنْ شِدَّةِ هَلَعِهِمْ، فَوَقَعُوا بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ، فَتَمَنَّوْا أَنْ يَخْفَوْا وَلَا يَظْهَرُوا حَتَّى لَا يُسْأَلُوا فَلَا يَضْطَرُّوا إِلَى الِاعْتِرَافِ الْمُوبِقِ وَلَا إِلَى الْكِتْمَانِ الْمُهْلِكِ. [43] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 43] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ. هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِالصَّلَاةِ، دَعَا إِلَى نُزُولِهَا عَقِبَ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُ آنَ الْأَوَانُ لِتَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْخَمْرِ حِينَئِذٍ، وَإِلَى قَرْنِهِ بِحُكْمٍ مُقَرَّرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَوَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ وَقْتِ نُزُولِهَا وَجَاءَتْ كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ. تَضَمَّنَتْ حُكْمًا أَوَّلَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَاتِهِ أَيْضًا بِحَسَبِ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ذَلِك أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حَلَالًا لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَشْرَبُهَا. وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: 219] فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِإِثْمِهَا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِثْمِ الْحَرَجُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْمَفْسَدَةُ، وَتِلْكَ الْآيَةُ كَانَتْ إِيذَانًا لَهُمْ بِأَنَّ الْخَمْرَ يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا لِأَنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِثْمِ مُتَّصِفٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَبْقَى إِبَاحَتَهَا رَحْمَةً لَهُمْ فِي مُعْتَادِهِمْ، مَعَ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ إِلَى قَبُولِ تَحْرِيمِهَا، فَحَدَثَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا خَمْرًا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَالْقُرْبُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّلَبُّسُ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ (قَرُبَ) حَقِيقَةٌ فِي الدُّنُوِّ مِنَ الْمَكَانِ أَوِ الذَّاتِ يُقَالُ: قَرُبَ مِنْهُ- بِضَمِّ الرَّاءِ- وَقَرِبَهُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَكْسُورَ الرَّاءِ لِلْقُرْبِ الْمَجَازِيِّ خَاصَّةً، وَلَا يَصِحُّ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ لَا تُصَلُّوا وَنَحْوِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِالِابْتِعَادِ عَنْ أَفْضَلِ عَمَلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ مُؤْذِنَةً بِتَغَيُّرِ شَأْنِ الْخَمْرِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا وَأَعْلَقُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يَرْمُقُونَ شَيْئًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الصَّلَاةَ هُنَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَج: 40] ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ قَالُوا: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَشْهُورِ الْآثَارِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ وَإِيمَاءٌ إِلَى عِلَّتِهِ، وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ (تَقُولُونَ) عَنْ تَفْعَلُونَ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ مِنَ السُّكْرِ قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، إِذِ الْعَمَلُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الِاخْتِلَالُ بِاخْتِلَالِ الْعَقْلِ قَبْلَ اخْتِلَالِ الْقَوْلِ. وَفِي الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ السُّكْرَ الْخَفِيفَ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْغَايَةِ أَنَّهَا حَالَةُ انْتِهَاءِ السُّكْرِ فَتَبْقَى بَعْدَهَا النَّشْوَةُ. وَسُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانٍ، وَالسَّكْرَانُ مَنْ أَخَذَ عَقْلُهُ فِي الِانْغِلَاقِ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ، وَهُوَ الْغَلْقُ، وَمِنْهُ سَكْرُ الْحَوْضِ وَسَكْرُ الْبَابِ وسُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحجر: 15] . وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اجْتَنَبَ الْمُسْلِمُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِبُعْدِ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَلِيَانِهِمَا، ثُمَّ أُكْمِلَ مَعَ تَحْرِيمِ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ تَحْرِيمُ قُرْبَانِهَا بِدُونِ طَهَارَةٍ.

وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْتُمْ سُكارى لأنّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ، وَهَذَا النَّصْبُ بَعْدَ الْعَطْفِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. وَالْجُنُبُ فُعُلٌ، قِيلَ: مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: وَصْفٌ مِثْلُ أُجُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْجارِ الْجُنُبِ [النِّسَاء: 36] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَاعِدُ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا قَارَفَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ. وَوَصْفُ جُنُبٍ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ إِذْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ، مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ سُكارى. وَإِطْلَاقُ الْجَنَابَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ مِنَ الْجَنَابَةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ، أَوْ مِمَّا أَخَذُوهُ عَنِ الْيَهُودِ، فَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فِي «الْإِصْحَاحِ» 15 مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِي «السِّيرَةِ» - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، لَمَّا رَجَعَ مَهْزُومًا مِنْ بَدْرٍ، حَلَفَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَالْمَعْنَى لَا تُصَلُّوا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً التَّمْهِيدُ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى شَرْعِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ حُكْمَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مُقَرَّرٌ مِنْ قَبْلُ، فَذِكْرُهُ هُنَا إِدْمَاجٌ. وَالتَّيَمُّمُ شُرِعَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَيَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا إِلَّا التَّيَمُّمُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ هِيَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [6] ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ جَزَمَ

الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، قَالَ: لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ تُسَمَّى آيَةَ الْوُضُوءِ. وَكَذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ أَوْرَدَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ «هَذِهِ مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْتُ لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ لَا نَعْلَمُ أَيَّ الْآيَتَيْنِ عَنَتْ عَائِشَةُ» . وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ بَعْدَهَا، وَالْخَطْبُ سَهْلٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ (جُنُباً) ، وَهُوَ حَالٌ نَكِرَةٌ، فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمُسَافِرُ حِينَ سَيْرِهِ فِي سَفَرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَبْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالِاجْتِيَازُ، يُقَالُ: عَبَرَ النَّهْرَ وَعَبَرَ الطَّرِيقَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِمَارِّينَ فِي طَرِيقٍ، وَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ طَرِيقُ الْمَسْجِدِ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِالْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا الْآيَةَ رُخْصَةً فِي مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ الْمُرُورَ لَا الْمُكْثَ، قَالَهُ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ. وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَقَتَادَةَ، قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَبْوَابُ دُورٍ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ سَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ الْمُرُورُ كَذَلِكَ رُخْصَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلِعَلِّيٍ، وَقِيلَ: أبقيت خوخة بنت عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَصِحَّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ- عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِالْمَارِّينَ فِي الْمَسْجِدِ- ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْجُنُبِ بِاسْتِثْنَاءِ عَابِرِي السَّبِيلِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقٌ، وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا الْمَحْمَلِ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي مَعْنَى تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَفِي مَعْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ فَلَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ أَوْ عَلى سَفَرٍ وَلِأَنَّ فِي عُمُومِ الْحَصْرِ تَخْصِيصًا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ الِاغْتِسَالِ مِنْ جِهَةِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ اسْتِبْقَاءَ الْمَاءِ. وَلِنَدُورِ عُرُوضِ الْمَرَضِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَحْمَلِ الْجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَ

مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ جُنُبًا، وَيَرَى التَّيَمُّمَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْحَدَثِ، وَلَكِنَّهُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ عِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُهُ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ غَيْرَ جُنُبٍ، وَيَرَى التَّيَمُّمَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِنَاقِضٍ وَيَزُولَ سَبَبُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ الْجُنُبُ وَصَلَّى وَصَارَ مِنْهُ حَدَثٌ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ يَتَوَضَّأُ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بَدَلٌ عَنِ الْغُسْلِ مُطْلَقًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي الْمُتَيَمِّمُ بِهِ إِلَّا فَرْضًا وَاحِدًا، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الْغُسْلِ وَانْتَقَضَ وَضُوءُهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ. وَعَنْ مَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ، حَتَّى يَنْتَقِضَ تَيَمُّمُهُ بِنَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرَ فَوَائِتَ يُصَلِّيهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِهِمَا إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ غَيْرَ جَازِمَةٍ فِي بَقَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ بِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْجَنَابَةِ بِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الْغُسْلِ إِذَا انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ يَتَوَضَّأُ. وَفِي مَفْهُومِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفَاهِيمِ مِنَ الْجُمْهُورِ، عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ تَفْصِيلٌ. فَعَابِرُ السَّبِيلِ مُطْلَقٌ قَيَّدَهُ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ وَلا جُنُباً فِي غَيْرِ عَابِرِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا عَدَا مَا خُصِّصَ، فَخَصَّصَهُ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقَعُ بِدُونِ طَهَارَة يبْق قَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مُجْمَلًا لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي قُرْبَانِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لِلْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَلَا إِجْمَالَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ اسْتِئْنَافًا لِأَحْكَامِ التَّيَمُّمِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ قَصْرُهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ قَلِيلٍ، كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ- أُمَوِيٌّ-:

لَا أَشْتَهِي يَا قَوْمِ إِلَّا كَارِهًا ... بَابَ الْأَمِيرِ وَلَا دِفَاعَ الْحَاجِبِ وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا غَايَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانُوا جُنُبًا، فَهُوَ تَشْرِيعٌ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَإِيجَابٌ لَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، فَلَمَّا نُهُوا عَنِ اقْتِرَابِهَا بِدُونِ الْغُسْلِ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَرْضُ الْغُسْلِ. وَالْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ النَّظَافَةُ، وَنِيطَ ذَلِكَ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ كَمَالِ الْجَسَدِ، كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ فِي حَالِ كَمَالِ الْبَاطِنِ بِالْمُنَاجَاةِ وَالْخُضُوعِ. وَمِنْ أَبْدَعِ الْحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا لَمْ تنط وجوب التنظّف بِحَالِ الْوَسَخِ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْحَالِ مِنَ الْوَسَخِ الَّذِي يَسْتَدْعِي الِاغْتِسَال والتنظف مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ مَدَارِكُ الْبَشَرِ فِي عَوَائِدِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَنِيطَ وُجُوبُ الْغُسْلِ بِحَالَةٍ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي مُدَّةِ مُتَعَارَفِ أَعْمَارِ الْبَشَرِ، وَهِيَ حَالَةُ دَفْعِ فَوَاضِلِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَحَيْثُ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْحَالَةِ وَبَيْنَ شِدَّةِ الْقُوَّةِ تَنَاسُبٌ تَامٌّ، إِذْ بِمِقْدَارِ الْقُوَّةِ تَنْدَفِعُ فَضَلَاتُهَا، وَكَانَ أَيْضًا بَيْنَ شِدَّةِ الْقُوَّةِ وَبَيْنَ ظُهُورِ الْفَضَلَاتِ عَلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْوَسَخِ تَنَاسُبٌ تَامٌّ، كَانَ نَوْطُ الِاغْتِسَالِ بِالْجَنَابَةِ إِنَاطَةً بِوَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ فَجُعِلَ هُوَ الْعِلَّةَ أَوِ السَّبَبَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلْمُنَاسَبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّشْرِيعِ، وَهِيَ إِزَالَةُ الْأَوْسَاخِ عِنْدَ بُلُوغِهَا مِقْدَارًا يُنَاسِبُ أَنْ يُزَالَ مَعَ جَعْلِ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ، فَصَارَتِ الطَّهَارَةُ عِبَادَةً كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ، عَلَى أَنَّ فِي الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يَعْتَرِيهِ فُتُورٌ بِاسْتِفْرَاغِ الْقُوَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ زَبَدِ الدَّمِ، حَسْبَمَا تَفَطَّنَ لِذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ فَقُضِيَتْ بِهَذَا الِانْضِبَاطِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ. وَدَلَّ إِسْنَادُ الِاغْتِسَالِ إِلَى الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ هُوَ إِحَاطَةُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّلْكِ أَيْ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ: فَشَرَطَهُ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى الْغُسْلِ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» ، وَلِأَنَّ الْوضُوء لَا يجزىء بِدُونِ ذَلِك بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ الْغُسْلُ. وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: يجزىء فِي الْغُسْلِ إِحَاطَةُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ بِالصَّبِّ أَوِ الِانْغِمَاسِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غُسْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ تَذْكُرَا أَنَّهُ لَمْ يَتَدَلَّكْ،

وَلَكِنَّهُمَا سَكَتَتَا عَنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمَا لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ، وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهَا عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، وَمَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إِلَخْ ذِكْرُ حَالَةِ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الِاغْتِسَالِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ التَّيَمُّمِ بِحَذَافِرِهِ. وَفِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَسَقٍ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إِنْ كَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ جَدِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلا من الْغُسْلِ، بِذِكْرِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ إِيعَابًا لِنَوْعَيِ التَّيَمُّمِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِهِ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَذْكُورِ. فَالْمَرِيضُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِي اخْتَلَّ نِظَامُ صِحَّتِهِ بِحَيْثُ صَارَ الِاغْتِسَالُ يَضُرُّهُ أَوْ يزِيد علّته. أَوْ جاءَ ... مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْبَشَرِيَّةِ، شَاعَ فِي كَلَامِهِمُ التَّكَنِّي بِذَلِكَ لِبَشَاعَةِ الصَّرِيحِ. وَالْغَائِطُ: الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ، يُقَالُ: غَاطَ فِي الْأَرْضِ- إِذَا غَابَ- يَغُوطُ، فَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَذْهَبُونَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْنَاهُمْ، فَيُكِنُّونَ عَنْهُ: يَقُولُونَ ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ أَوْ تَغَوَّطَ، فَكَانَتْ كِنَايَةً لَطِيفَةً ثُمَّ اسْتَعْمَلَهَا النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَسَمَجَتْ، فَصَارَ الْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَدَثِ وَيُعَلِّقُونَهُ بِأَفْعَالٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرىء (لامَسْتُمُ) - بِصِيغَة المفاعلة-، وقرىء (لَمَسْتُمْ) - بِصِيغَةِ الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمَنْ حَاوَلَ التَّفْصِيلَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ تَحْصِيلٌ. وَأَصْلُ اللَّمْسِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَلَى الِافْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الْجِنّ: 8] وَعَلَى النُّزُولِ، قَالَ النَّابِغَةُ: لِيَلْتَمِسَنْ بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ

وَعَلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ الْمَسِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «فُلَانَةٌ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ» ، وَنَظِيرُهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَة: 237] . وَالْمُلَامَسَةُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا ظَاهِرَهَا، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ بِمُبَاشَرَةِ الْيَدِ أَوْ بَعْضِ الْجَسَدِ جَسَدَ الْمَرْأَةِ، فَيَكُونُ ذَكَرَ سَبَبًا ثَانِيًا مِنْ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ الَّتِي تُوجِبُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ، فَجَعَلَ لَمْسَ الرَّجُلِ بِيَدِهِ جَسَدَ امْرَأَتِهِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، إِذْ لَا يَكُونُ لَمْسُ الْجَسَدِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ خُرُوجًا مُعْتَادًا. فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. وَتَعْدِيدُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لِجَمْعِ مَا يَغْلِبُ مِنْ مُوجِبَاتِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بِقَوْلِهِ آنِفًا وَلا جُنُباً لِأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْإِذْنِ بِالتَّيَمُّمِ الرُّخْصَةِ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ وَجْهٌ لِذِكْرِهِ وَجِيهٌ. وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَلَا يَكُونُ لِذِكْرِ سَبَبِ ثَانٍ مِنْ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ كَبِيرُ أَهَمِّيَّةٍ. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْجُمْهُورُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْوُضُوءُ مَنْ لَمْسِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا الْتَذَّ اللَّامِسُ أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَحَمَلَ الْمُلَامَسَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْهَا الْكِنَائِيِّ وَالصَّرِيحِ، لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ الِالْتِذَاذِ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ، وَأَرَى مَالِكًا اعْتَمَدَ فِي هَذَا عَلَى الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ أَيِمَّةِ السَّلَفِ، وَلَا أُرَاهُ جَعْلَهُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لامَسْتُمُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَمَسْتُمْ- بِدُونِ أَلِفٍ-. وَقَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَيْدٌ فِي الْمُسَافِرِ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْغَائِط، وَمن لَا مس النِّسَاءَ، أمّا الْمَرِيضُ فَلَا يَتَقَيَّدُ تَيَمُّمُهُ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ يَتَيَمَّمُ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ مَعْنَى الْمَرَضِ، فَمَفْهُومُ الْقَيْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُعَطَّلٌ بِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَرِيضِ الزَّمِنِ، إِذْ لَا يُعْدَمُ الزَّمِنُ مُنَاوِلًا يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ إِلَّا نَادِرًا. وَقَوْلُهُ فَتَيَمَّمُوا جَوَابُ الشَّرْطِ- وَالتَّيَمُّمُ الْقَصْدُ- وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ خَشْفًا مِنْ بَقْرِ الْوَحْشِ نَائِمًا فِي الشَّمْسِ لَا يَكَادُ يُفِيقُ:

كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ ... دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ (¬1) وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ الَّذِي لَمْ تُلَوِّثْهُ نَجَاسَةٌ وَلَا قَذَرٌ، فَيَشْمَلُ الصَّعِيدُ التُّرَابَ وَالرَّمْلَ وَالْحِجَارَةَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّعِيدِ لِيَصْرِفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَوَسِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا التُّرَابَ أَوِ الرَّمْلَ مِمَّا تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ غُلُوًّا فِي تَحْقِيقِ طَهَارَتِهِ. وَقَدْ شُرِعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ أَوْ قُرِّرَ شَرْعُهُ السَّابِقُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَانَ شَرْعُ التَّيَمُّمِ سَنَةَ سِتٍّ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَسَبَبُ شَرْعِهِ مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبي بكر، فو الله مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. وَالتَّيَمُّمُ مِنْ خَصَائِصِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ مِنْهَا- وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ جَعَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الطَّهَارَةِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانًا فِي حِكْمَةِ جَعْلِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ هَمِّي زَمَنًا طَوِيلًا وَقْتَ الطَّلَبِ ثُمَّ انْفَتَحَ لِي حِكْمَةُ ذَلِكَ. ¬

(¬1) أَرَادَ كَأَنَّهُ سَكرَان طرحته الْخمر على الأَرْض فَقَوله: دبابة اسْم فَاعل من دب وَهُوَ صفة لمَحْذُوف، أَي خمر دبابة، أَي تدب فِي الدِّمَاغ، وَعبر عَن الدفاع بعظام الرَّأْس، والخرطوم: الْخمر القوية .

وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ تَقْرِيرُ لُزُومِ الطَّهَارَةِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْرِيرُ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَتَرْفِيعُ شَأْنِهَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَلَمْ تُتْرَكْ لَهُمْ حَالَةٌ يَعُدُّونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ مُصَلِّينَ بِدُونِ طَهَارَةٍ تَعْظِيمًا لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُمْ عَمَلًا يُشْبِهُ الْإِيمَاءَ إِلَى الطَّهَارَةِ لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُتَطَهِّرِينَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْيَدَيْنِ صَعِيدَ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَنْبَعُ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ التُّرَابَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَطْهِيرِ الْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا، يُنَظِّفُونَ بِهِ مَا عَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْذَارِ فِي ثِيَابِهِمْ وأبدانهم وَمَا عونهم، وَمَا الِاسْتِجْمَارُ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَجْدِيدِ طَلَبِ الْمَاءِ لِفَاقِدِهِ وَتَذْكِيرِهِ بِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ مَانِعِهِ، وَإِذَ قَدْ كَانَ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً رَمْزِيَّةً اقْتَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ فِيهِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَقْصِدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ صَلَّوْا بِدُونِ وُضُوءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ. هَذَا مُنْتَهَى مَا عَرَضَ لِي مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةٍ مُقْنِعَةٍ فِي النَّظَرِ، وَكُنْتُ أَعُدُّ التَّيَمُّمَ هُوَ النَّوْعَ الْوَحِيدَ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ بِنَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّعَبُّدُ بِبَعْضِ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْمَقَادِيرِ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَاتٍ أُخْرَى فَكَثِيرٌ، مِثْلَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وَأَنْ يَنْقُلَ الْمُتَيَمِّمُ مِنْهُ إِلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، رَاعَى فِيهِ مَعْنَى التَّنْظِيفِ كَمَا فِي الِاسْتِجْمَارِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لم ينْقل عِنْد أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ إِلَى خَاطِرِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ» . وَلِأَجْلِ هَذَا أَيْضًا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقَعُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا إِلَّا عَنِ الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْجُنُبَ لَا يُصَلِّي حَتَّى يَغْتَسِلَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ أَمْ فِي السَّفَرِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ قَالَ أَبُو مُوسَى لَا بن مَسْعُودٍ: أَرَأَيْتَ إِذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارِ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَلَمْ تَرَ عمر لم يقنع مِنْهُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى. فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى

أَحَدِهِمُ الْمَاءَ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، تَأَوَّلَا آيَةَ النِّسَاءِ فَجَعَلَا قَوْلَهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ رُخْصَةً لِمُرُورِ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَا أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ مُرَادًا بِهِ اللَّمْسُ النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَخَالَفَ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ فِي هَذَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَتَيَمَّمُ فَاقِدُ الْمَاءِ وَمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوِ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَلَوْ نزلة أَو نَزْلَةً أَوْ حُمَّى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ إِلَّا فَاقِدُ الْمَاءِ أَوْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ دُونَ الْمَرَضِ أَوْ زِيَادَتِهِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُحَقَّقِ الْحُصُولِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ. وَقَدْ تَيَمَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، «فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: 29] فَضَحِكَ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ جَعَلَ التَّيَمُّمَ قَاصِرًا عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَأَسْقَطَ مَسْحَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بَلْهَ أَعْضَاءِ الْغُسْلِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْهِيرا حسبّا، وَلَا تَجْدِيدَ النَّشَاطِ، وَلَكِنْ مُجَرَّدَ اسْتِحْضَارِ اسْتِكْمَالِ الْحَالَةِ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ هَذَا تَيَمُّمٌ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ الْبَدَلَ عَنِ الْغسْل لَا يجزىء مِنْهُ إِلَّا مَسْحُ سَائِرِ الْجَسَدِ بِالصَّعِيدِ، فَعَلَّمَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْجَنَابَةِ مِثْلُ التَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ (أَيْ تَمَرَّغْتُ) وصلّيت فَأتيت النَّبِي فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقَالَ «يَكْفِيكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْبَاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» وَقَوْلِ النَّابِغَةِ- يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ-: لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعَ عَاثِرَا أَرَادَ إِنْ وَارَتْكَ الْأَرْضُ مُوَارَاةَ الدَّفْنِ. وَالْمَعْنَى: فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْبَاءُ مَعَ الْمَمْسُوحِ فِي الْوُضُوءِ وَمَعَ التَّيَمُّمِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَسْحِ لِئَلَّا تَزِيدَ رُخْصَةٌ عَلَى رُخْصَةٍ.

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 45]

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ الرُّخْصَةِ إِذْ عَفَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْغُسْلَ أَوِ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَرَضِ، وَلَا تَرَقُّبَ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، حَتَّى تَكْثُرَ عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ فَيَعْسُرَ عَلَيْهِم الْقَضَاء. [44، 45] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 44 إِلَى 45] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ رَاجِعٌ إِلَى مَهْيَعِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النِّسَاء: 36] فَإِنَّهُ بَعْدَ نِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَجَّهَ الْإِنْذَارَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَقَعَتْ آيَاتُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَآيَاتُ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ لَهَا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْهُدَى الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْيَهُودِ نَظِيرُهُ، فَهُمْ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ مِثْلِهِ وَفَرَّطُوا فِي هُدًى عَظِيمٍ، وَأَرَادُوا إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ عَدَاءً مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ- إِلَى- الْكِتابِ جُمْلَةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا التَّعْجِيبُ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا تَقْرِيرِيٌّ عَنْ نَفْيِ فِعْلٍ لَا يَوَدُّ الْمُخَاطَبُ انْتِفَاءَهُ عَنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُحَرِّضًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ فَعَلَ، وَهُوَ مُفِيدٌ مَعَ ذَلِكَ لِلتَّعْجِيبِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [23] . وَجُمْلَةُ يَشْتَرُونَ حَالِيَّةٌ فَهِيَ قَيْدٌ لِجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ، وَحَالَةُ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ فَقَدْ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ الْمَرْئِيِّ، لِأَنَّ شُهْرَةَ الشَّيْءِ وَتَحَقُّقَهُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ. وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ولِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: 7] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي اخْتِيَارِهِ هُنَا إِلْقَاءُ احْتِمَالِ قِلَّتِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَإِلَّا لَقِيلَ: أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ

هَذَا فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: 141] ، أَيْ نَصِيبٌ مِنَ الْفَتْحِ أَوْ مِنَ النَّصْرِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُخْتَلَطِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى. وَالِاشْتِرَاءُ مَجَازٌ فِي الِاخْتِيَارِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ آخِذُ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ من الْمُتَبَايعين، وَالْبَائِعُ هُوَ بَاذِلُ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى ثَمَنِهِ، هَكَذَا اعْتَبَرَ أَهْلُ الْعُرْفِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ اللُّغَةُ وَإِلَّا فَإِنَّ كِلَا الْمُتَبَايِعَيْنِ مُشْتَرٍ وَشَارٍ، فَلَا جَرَمَ أَنْ أُطْلِقَ الِاشْتِرَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اقْتَحَمُوا الضَّلَالَةَ عَنْ عَمْدٍ لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ بِكِتَابِهِمْ وَقِلَّةِ جَدْوَى عِلْمِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ يُرِيدُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الضَّلَالَةَ لِئَلَّا يَفْضُلُوهُمْ بِالِاهْتِدَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 109] . فَالْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِرَادَةَ عَلَى الْغَالِبِ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسَانِيُّ عَلَى الْعَمَلِ، أَيْ يَسْعَوْنَ لِأَنْ تَضِلُّوا، وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ وَالسَّعْيِ فِي صَرْفِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً [النِّسَاء: 27] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ فَإِنَّ إِرَادَتَهُمُ الضَّلَالَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ عَدَاوَةٍ وَحَسَدٍ. وَجُمْلَةُ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاء: 45] تَذْيِيلٌ لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ضَلَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُلْقِيَ الرَّوْعَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ كَانَ الْيَهُود المحاورون لِلْمُسْلِمِينَ ذَوِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ، وَبِيَدِهِمُ الْأَمْوَالُ، وَهُمْ مَبْثُوثُونَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا: مِنْ قَيْنُقَاعَ

وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ، فَعَدَاوَتُهُمْ، وَسُوءُ نَوَايَاهُمْ، لَيْسَا بِالْأَمْرِ الَّذِي يُسْتَهَانُ بِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، أَيْ إِذَا كَانُوا مُضْمِرِينَ لَكُمُ السُّوءَ فَاللَّهُ وَلِيُّكُمْ يَهْدِيكُمْ وَيَتَوَلَّى أُمُورَكُمْ شَأْنُ الْوَلِيِّ مَعَ مَوْلَاهُ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: بِأَعْدائِكُمْ، أَيْ فَاللَّهُ يَنْصُرُكُمْ. وَفِعْلُ (كَفى) فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً مُسْتَعْمَلٌ فِي تَقْوِيَةِ اتِّصَافِ فَاعِلِهِ بِوَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّمْيِيزُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، أَيْ أَنَّ فَاعِلَ (كَفى) أَجْدَرُ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَلِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا غَلَبَ فِي الْكَلَامِ إِدْخَالُ بَاءٍ عَلَى فَاعِلِ فِعْلِ كَفَى، وَهِيَ بَاءٌ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْكِفَايَةِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ إِبْهَامٌ يُشَوِّقُ السَّامِعَ إِلَى مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِهِ، فَيَأْتُونَ بِاسْمٍ يُمَيِّزُ نَوْعَ تِلْكَ النِّسْبَةِ لِيَتَمَكَّنَ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَقَدْ يَجِيءُ فَاعِلُ (كَفى) غَيْرَ مَجْرُورٍ بِالْبَاءِ، كَقَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحِسْحَاسِ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ الْبَاءَ هُنَا غَيْرَ زَائِدَةٍ وَقَالَ: ضُمِّنَ فِعْلُ كَفَى مَعْنَى اكْتَفِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَشَذَّتْ زِيَادَةُ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرُنَا ... حُبُّ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا وَجَزَمَ الْوَاحِدِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُتَنَبِّي: كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا أَنَّنِي رَجُلٌ ... لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي بِأَنَّهُ شُذُوذٌ. وَلَا تُزَادُ الْبَاءُ فِي فَاعِلِ كَفى بِمَعْنَى أَجْزَأَ، وَلَا الَّتِي بِمَعْنَى وَقَى، فَرْقًا بَيْنَ اسْتِعْمَالِ كَفَى الْمَجَازِيِّ وَاسْتِعْمَالِهَا الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الِاكْتِفَاءِ بِذَاتِ الشَّيْءِ نَحْوَ: كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ من المَال

[سورة النساء (4) : آية 46]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 46] مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا. ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهِيَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِفَتُهُ وَهِيَ جُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ وَالتَّقْدِيرُ: قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ. وَحَذْفُ الْمُبْتَدَإِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اجْتِزَاءً بِالصِّفَةِ عَنِ الْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَوْصُوفًا بِجُمْلَةٍ أَوْ ظَرْفٍ، وَكَانَ بَعْضَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ مِنَ، وَذَلِكَ الِاسْمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبْتَدَإِ. وَمِنْ كَلِمَاتِ الْعَرَبِ الْمَأْثُورَةِ قَوْلُهُمْ: «مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ» أَيْ مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَذْرِي دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْهَمْلِ أَيْ وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْعَطْفِ وَآخَرُ. وَقَوْلُ تَمِيم بن مقيل: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ وَقَدْ دَلَّ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ يُحَرِّفُونَ أَنَّ هَذَا صَنِيعُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاحِدًا وَيُؤْتَى بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِخْفَاءٍ حَتَّى يَكُونَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ» إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا صِفَةً لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَتَكُونَ مِنَ بَيَانِيَّةً أَيْ هُمُ الَّذِينَ هَادُوا، فَتَكُونَ جُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هادُوا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ أُثْبِتَتْ لَهُمْ أَوْصَافُ التَّحْرِيفِ وَالضَّلَالَةِ وَمَحَبَّةِ ضَلَالِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالتَّحْرِيفُ: الْمَيْلُ بِالشَّيْءِ إِلَى الْحَرْفِ وَهُوَ جَانِبُ الشَّيْءِ وَحَافَّتُهُ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [13] ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَيْلِ عَنْ سَوَاءِ الْمَعْنَى وَصَرِيحِهِ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: تَنَكَّبَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَعَنِ الطَّرِيقِ، إِذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ وَصَارَ إِلَى سُوءِ الْفَهْمِ أَوِ التَّضْلِيلِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا تَحْرِيفُ مُرَادِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي تَحْرِيفِ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون التحريف مشقّا مِنَ الْحَرْفِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ وَالْكِتَابَةُ، فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ تَغْيِيرُ كَلِمَاتِ التَّوْرَاةِ وَتَبْدِيلُهَا بِكَلِمَاتٍ أُخْرَى لِتُوَافِقَ أَهْوَاءَ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ فِي تَأْيِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدِ الْأَعْمَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدِ ارْتَكَبَهُ الْيَهُودُ فِي كِتَابِهِمْ. وَمَا يُنْقَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّحْرِيفَ فَسَادُ التَّأْوِيلِ وَلَا يَعْمِدُ قَوْمٌ عَلَى تَغْيِيرِ كِتَابِهِمْ، نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ مَواضِعِهِ مَجَازًا، وَلَا مُجَاوَزَةَ وَلَا مَوَاضِعَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ حَقِيقَةً إِذِ التَّحْرِيفُ حِينَئِذٍ نَقْلٌ وَإِزَالَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ عَطْفٌ عَلَى يُحَرِّفُونَ ذُكِرَ سُوءُ أَفْعَالِهِمْ وَسُوء أَقْوَالهم، وَهِي أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يُوَاجِهُونَ بهَا الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-: يَقُولُونَ سَمِعْنَا دَعْوَتَكَ وَعَصَيْنَاكَ، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ لِيَزُولَ طَمَعُ الرَّسُولِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرَوْا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَذًى لِلرَّسُولِ فَأَعْقَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ لَهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ إِظْهَارٌ لِلتَّأَدُّبِ مَعَهُ. وَمَعْنَى اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُرَاجَعَتِهِ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ: اسْمَعْ مِنَّا، وَيُعَقِّبُونَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِأَنْ تَسْمَعَ، فِي مَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ: (افْعَلْ غَيْرَ مَأْمُورٍ) . وَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، فَلَعَلَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَعَهُ بِمَعْنَى سَبَّهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالتَّلَطُّفِ. إِطْلَاقًا مُتَعَارَفًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوهَا لِلرَّسُولِ أَرَادُوا بِهَا مَعْنًى آخَرَ انْتَحَلُوهُ لَهَا مِنْ شَيْءٍ يَسْمَحُ بِهِ تَرْكِيبُهَا الْوَضْعِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَسْمَعَ صَوْتًا من متكلّم. لِأَن يَصِيرَ أَصَمَّ، أَوْ

أَنْ لَا يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ:- اسْمَعْ وَانْظُرْنا فَأَزَالَ لَهُمْ كَلِمَةَ (غَيْرَ مُسْمَعٍ) . وَقَصْدُهُمْ مِنْ إِيرَادِ كَلَامٍ ذِي وَجْهَيْنِ أَنْ يُرْضُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيُرْضُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُوءِ نِيَّتِهِمْ مَعَ الرَّسُول- عَلَيْهِ السَّلَام- وَيُرْضُوا قَوْمَهُمْ، فَلَا يَجِدُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةً. وَقَوْلُهُمْ: وَراعِنا أَتَوْا بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ طَلَبُ الْمُرَاعَاةِ، أَيِ الرِّفْقِ، وَالْمُرَاعَاةُ مُفَاعَلَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّعْيِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ الشَّائِعَةِ الَّتِي سَاوَتِ الْأَصْلَ، ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّعْيَ مِنْ لَوَازِمِهِ الرِّفْقُ بِالْمَرْعِيِّ، وَطَلَبُ الْخِصْبِ لَهُ، وَدَفْعُ الْعَادِيَةِ عَنْهُ. وَهُمْ يُرِيدُونَ بِ راعِنا كَلِمَةً فِي الْعِبْرَانِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الرُّعُونَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا كَلِمَةُ رَاعُونَا وَأَنَّ مَعْنَاهَا الرُّعُونَةُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا، يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ اغْتِرَارًا فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [104] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا. وَاللَّيُّ أَصْلُهُ الِانْعِطَافُ وَالِانْثِنَاءُ، وَمِنْهُ «وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ» ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ فِي كِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ: اللَّيُّ، وَالْأَلْسِنَةُ، أَيْ أَنَّهُمْ يُثْنُونَ أَلْسِنَتَهُمْ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُشْبِهًا لُغَتَيْنِ بِأَنْ يُشْبِعُوا حَرَكَاتٍ، أَوْ يَقْصُرُوا مُشْبَعَاتٍ، أَوْ يُفَخِّمُوا مُرَقَّقًا، أَوْ يُرَقِّقُوا مُفَخَّمًا، لِيُعْطِيَ اللَّفْظُ فِي السَّمْعِ صُورَةً تُشْبِهُ صُورَةَ كَلِمَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ قَدْ تَخْرُجُ كَلِمَةٌ مِنْ زِنَةٍ إِلَى زِنَةٍ، وَمِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ بِمِثْلِ هَذَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ (اللي) مجازه، وب (الْأَلْسِنَة) مَجَازُهُ: فَاللَّيُّ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ الْكَلِمَةِ، وَالْأَلْسِنَةُ مَجَازٌ عَلَى الْكَلَامِ، أَيْ يَأْتُونَ فِي كَلَامِهِمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَمَحِّضٍ لِمَعْنَى الْخَيْرِ. وَانْتَصَبَ «لَيًّا» عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَقُولُونَ، لِأَنَّ اللَّيَّ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْقَوْلِ. وَانْتَصَبَ طَعْناً فِي الدِّينِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الْمَفَاعِيلِ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ، وَلَا ضَيْرَ فِيهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُمَا مَعًا مَفْعُولَيْنِ مُطْلَقَيْنِ أَوْ مَفْعُولَيْنِ لِأَجْلِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُهُمْ (طَعْناً فِي الدِّينِ) ، لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا فِي كَلَامِهِمْ قَصْدًا خَبِيثًا فَكَانُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ، وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولًا لَعَلِمَ مَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا، فَلِذَلِكَ فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ لَوْ قَالُوا مَا هُوَ قَبُولٌ لِلْإِسْلَامِ لَكَانَ خيرا. وَقَوله: سَمِعْنا وَأَطَعْنا يُشْبِهُ أَنَّهُ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بِقَوْلِ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ وَامْتَثَلَهُ «سَمْعٌ وَطَاعَةٌ» ، أَيْ شَأْنِي سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مِمَّا الْتُزِمَ فِيهِ حَذْفُ الْمُبْتَدَإِ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ النُّورِ [51] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وَقَوْلُهُ: وَأَقْوَمَ تَفْضِيلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ، كَقَوْلِهِمْ: قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا، وَقَامَتْ حُجَّةُ فُلَانٍ. وَإِنَّمَا كَانَ أَقْوَمَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى لَا احْتِمَالَ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ. وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، أَيْ وَلَكِنْ أَثَرُ اللَّعْنَةِ حَاقَ بِهِمْ فَحُرِمُوا مَا هُوَ خَيْرٌ فَلَا تَرْشَحُ نُفُوسُهُمْ إِلَّا بِآثَارِ مَا هُوَ كَمِينٌ فِيهَا من فعل سيّىء وَقَوْلٍ بَذَاءٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَ أَنْفُسِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَأُطْلِقَ الْقِلَّةُ عَلَى الْعَدَمِ. وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ قَالَ الْجَاحِظُ فِي «كِتَابِ الْبَيَانِ» عِنْدَ قَوْلِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يَصِفُ أَرْضَ نَصِيبِينَ «كَثِيرَةُ الْعَقَارِبِ قَلِيلَةُ الْأَقَارِبِ» ، يَضَعُونَ (قَلِيلًا) فِي مَوْضِعِ (لَيْسَ) ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ قَلِيلُ الْحَيَاءِ. لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ هُنَاكَ حَيَاءً وَإِنْ قَلَّ» . قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَلَّ رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» «وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذْكِيرِ. وَالْقِلَّةُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ» . وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الْقِلَّةَ عِوَضًا عَنِ النَّفْيِ لِضَرْبٍ مِنَ الِاحْتِرَازِ وَالِاقْتِصَادِ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَخْشَى أَنْ يُتَلَقَّى عُمُومُ نَفْيِهِ بِالْإِنْكَارِ فَيَتَنَازَلُ عَنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ قَلِيلٍ وَهُوَ يُرِيد النَّفْي.

[سورة النساء (4) : آية 47]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 47] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ عَجَائِبِ ضَلَالِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، مَا فِيهِ وَازِعٌ لَهُمْ لَوْ كَانَ بِهِمْ وَزْعٌ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يُفْلِتَ فُرْصَةً تَعِنُّ مِنْ فُرَصِ الْمَوْعِظَةِ وَالْهُدَى إِلَّا انْتَهَزَهَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ النَّاصِحِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْ يَتَوَسَّمُوا أَحْوَالَ تَأَثُّرِ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ وَمَظَانِّ ارْعِوَائِهَا عَنِ الْبَاطِلِ، وَتَبَصُّرِهَا فِي الْحَقِّ، فَيُنْجِدُوهَا حِينَئِذٍ بِقَوَارِعِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ (11) إِذْ قَالَ: «فَلَمَّا أَلْحَدُوا الْمَيْتَ، وَفَاتَ قَوْلُ لَيْتَ، أَشْرَفَ شَيْخٌ مِنْ رِبَاوَةْ، مُتَأَبِّطًا لِهِرَاوَةْ، فَقَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ» إِلَخْ، لِذَلِكَ جِيءَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ الْآيَةَ- عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ-. وَهَذَا مُوجِبُ اخْتِلَافِ الصِّلَةِ هُنَا عَنِ الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [آل عمرَان: 23] لِأَنَّ ذَلِكَ جَاءَ فِي مَقَامِ التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ فَنَاسَبَتْهُ صِلَةٌ مُؤْذِنَةٌ بِتَهْوِينِ شَأْنِ عِلْمِهِمْ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا هُنَا جَاءَ فِي مَقَامِ التَّرْغِيبِ فَنَاسَبَتْهُ صِلَةٌ تُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ شُرِّفُوا بِإِيتَاءِ التَّوْرَاةِ لِتُثِيرَ هِمَمَهُمْ لِلِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الرَّاسِخِينَ فِي جَرَيَانِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ جَرَيَانِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ كِتَابُهُمْ، فَالَّذِي لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ مِنْهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْهُ. وَجِيءَ بِالصِّلَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: بِما نَزَّلْنا وَقَوْلِهِ: «بِمَا مَعَكُمْ» دُونَ الِاسْمَيْنِ الْعَلَمَيْنِ، وَهُمَا: الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ: لِمَا فِي قَوْلِهِ: بِما نَزَّلْنا مِنَ التَّذْكِيرِ بِعِظَمِ شَأْنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِإِنْزَالِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ فِي أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ مُسْتَصْحَبٌ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ حَقَّ عِلْمِهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَة: 5] .

وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً تَهْدِيدٌ أَوْ وَعِيدٌ، وَمَعْنَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ أَيْ آمِنُوا فِي زمن يبتدىء مِنْ قَبْلِ الطَّمْسِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ زَمَنِ الطَّمْسِ عَلَى الْوُجُوهِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْحَمْلَ عَلَى حَقِيقَةِ الطَّمْسِ بِأَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا يُفْسِدُ بِهِ مُحَيَّاهُمْ فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّمْسُ مَجَازًا عَلَى إِزَالَةِ مَا بِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ مِنِ اسْتِقَامَةِ الْمَدَارِكِ فَإِنَّ الْوُجُوهَ مَجَامِعُ الْحَوَاسِّ. وَالتَّهْدِيدُ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُهَدَّدِ بِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ» . وَأَصْلُ الطَّمْسِ إِزَالَةُ الْآثَارِ الْمَاثِلَةِ. قَالَ كَعْبٌ: عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَقَدْ يُطْلَقُ الطَّمْسُ مَجَازًا عَلَى إِبْطَالِ خَصَائِصِ الشَّيْءِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْهُ. وَمِنْهُ طَمْسُ الْقُلُوبِ أَيْ إِبْطَالُ آثَارِ التَّمَيُّزِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها عَطْفٌ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ لَا لِلتَّسَبُّبِ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْأَمْرَانِ: الطَّمْسُ وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ، أَيْ تَنْكِيسُ الرُّؤُوسِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ هُنَا مَجَازًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَهُوَ وَعِيدٌ بِزَوَالِ وَجَاهَةِ الْيَهُودِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَرَمْيِهِمْ بِالْمَذَلَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا هُنَاكَ أَعِزَّةً ذَوِي مَالٍ وَعُدَّةٍ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمُ السَّمَوْأَلُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَمِنْهُمْ أَبُو رَافِعٍ تَاجِرُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، سَيِّدُ جِهَتِهِ فِي عَصْرِ الْهِجْرَةِ. وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِمَعْنَى الْقَهْقَرَى، أَيْ إِصَارَتُهُمْ إِلَى بِئْسَ الْمَصِيرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَة وَهُوَ ردّ هم مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، أَيْ إِجْلَاؤُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ إِلَى الشَّامِ. وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّسَبُّبِ مَعًا، وَالْكَلَامُ وَعِيدٌ، وَالْوَعِيدُ حَاصِلٌ، فَقَدْ رَمَاهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، ثُمَّ أَجْلَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَذَرِعَاتَ.

[سورة النساء (4) : آية 48]

وَقَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أُرِيدَ بِاللَّعْنِ هُنَا الْخِزْيُ، فَهُوَ غَيْرُ الطَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ مُرَادًا بِهِ الْمَسْخُ فَاللَّعْنُ مُرَادٌ بِهِ الذُّلُّ، وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ مُرَادًا بِهِ الذُّلُّ فَاللَّعْنُ مُرَادٌ بِهِ الْمَسْخُ. وأَصْحابَ السَّبْتِ هُمُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة الْبَقَرَة. [48] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 48] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَهْدِيدِ الْيَهُودِ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَرْغِيبِ الْيَهُودِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ، وَلَوْ كَانَ عَذَابُ الطَّمْسِ نَازِلًا عَلَيْهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالْغُفْرَانِ التَّجَاوُزُ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ لَهُمْ بِعِظَمِ كُفْرِهِمْ وذنوبهم، أَي يرفع الْعَذَابَ عَنْهُمْ. وَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ تَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يَحِلُّ بِهِمْ فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يُونُسَ: 98] الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ آمِنُوا بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ، لِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا دُونُ الْإِشْرَاكِ بِهِ، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] ، أَيْ لِيُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 34] ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عذابل الْجُوعِ وَالسَّيْفِ. وَقَوْلُهُ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: 10، 11] ، أَيْ دُخَانُ عَامِ الْمَجَاعَةِ فِي قُرَيْشٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 15، 16] أَيْ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْغُفْرَانِ التَّسَامُحَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قَبِلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الدُّخُولَ تَحْتَ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَرْضَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ دُونَ الْجِزْيَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ-

فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التَّوْبَة: 5] . وَقَالَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: 29] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ قَوَارِعِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَوَاعِظِهِمْ، فَيَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ دَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ، وَهُوَ إِمَّا تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ لِتَشْنِيعِ جُرْمِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا لِتَشْنِيعِ حَالِ الَّذِينَ فَضَّلُوا الشِّرْكَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِظْهَارًا لِمِقْدَارِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاء: 51] ، أَيْ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ بِحَالِ مَنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى التَّجَاوُزِ الدُّنْيَوِيِّ، وَعَلَى مَعْنَى التَّجَاوُزِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ تَعْلِيمِ حِكَمٍ فِي مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ الْعُصَاةِ: ابْتُدِئَ بِمُحْكَمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَذُيِّلَ بِمُتَشَابِهٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَالْمَغْفِرَةُ مُرَادٌ مِنْهَا التَّجَاوُزُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «فَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ» وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أُمُورًا مُشْكَلَةً: الأول: أنّ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ الْكُفْرَ الَّذِي لَيْسَ بِشِرْكٍ كَكُفْرِ الْيَهُودِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَغْفِرُ لِمُرْتَكِبِ الذُّنُوبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ لَا يَغْفِرُ لِلْكَافِرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَلِلْمُذْنِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، لِأَنَّهُ وَكَّلَ الْغُفْرَانَ إِلَى الْمَشِيئَةِ، وَهِيَ تُلَاقِي الْوُقُوعَ وَالِانْتِفَاءَ. وَكُلُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَدْ جَاءَتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَظَافِرَةُ عَلَى خِلَافِهَا، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مُخَالَفَةِ ظَاهِرِهَا، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ بِبَيَانِ مَا تَعَارَضَ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنْ يُقَالَ: النَّاسُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: كَافِرٌ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَهَذَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعٍ، وَمُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ مَحْتُومٌ عَلَيْهِ حسب الْوَعْد فِي اللَّهِ بِإِجْمَاعٍ وَتَائِبٌ مَاتَ عَلَى تَوْبَتِهِ فَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ فُقَهَاء الأمّة لَا حق بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِ، وَمُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ

الْخِلَافِ: فَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ بِإِيمَانِهِ وَلَا تَضُرُّهُ سَيِّئَاتُهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْكُفَّارِ وَآيَاتِ الْوَعْدِ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ لَا مَحَالَةَ وَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ وَلَا إِيمَانَ لَهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعْدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ وَالْمُؤْمِنِ التَّائِبِ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ عَامَّةً فِي الْعُصَاةِ كُفَّارًا أَوْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: آيَاتُ الْوَعْدِ ظَاهِرَةُ الْعُمُومِ وَلَا يَصِحُّ نُفُوذُ كُلِّهَا لِوَجْهِهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْل: 15، 16] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنّ: 23] ، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ آيَاتِ الْوَعْدِ لَفْظُهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ: فِي الْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَفْوُ عَنْهُ دُونَ تَعْذِيبٍ مِنَ الْعُصَاةِ، وَأَنَّ آيَاتِ الْوَعِيدِ لَفْظُهَا عُمُومٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ عِلْمُهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنَ الْعُصَاةِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ جَلَتِ الشَّكَّ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ مُبْطِلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلَهُ: لِمَنْ يَشاءُ رادّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ غُفْرَانَ مَا دُونُ الشِّرْكِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ» . وَلَعَلَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الشِّرْكِ بِهِ بِمَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ كُلَّهُ، أَوْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ أَشْرَكُوا فَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى أَشْرَكُوا فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. فَالْإِشْرَاكُ لَهُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْكَفْرُ دُونَهُ لَهُ مَعْنَاهُ. وَالْمُعْتَزِلَةُ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» : بِأَنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ يَشاءُ مَعْمُولٌ يَتَنَازَعُهُ لَا يَغْفِرُ الْمَنْفِيُّ وَيَغْفِرُ الْمُثْبِتُ. وَتَحْقِيقُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيَصِيرُ مَعْنَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ إِذْ لَوْ شَاءَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ لَغَفَرَ لَهُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ الْمُمْكِنَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْءٌ، وَهِيَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يَغْفِرُ علمنَا أنّ (لِمَنْ يَشاءُ) مَعْنَاهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفُكَ فَاعِلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ تَعَسُّفٌ بَيِّنٌ. وَأَحْسَبُ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَوَارِجِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَتَأَوَّلُوا بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ مَفْعُولَ لِمَنْ يَشاءُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، أَيْ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ

الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ الْإِيمَانَ، أَيْ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ تَعَسُّفَاتٌ تُكْرِهُ الْقُرْآنَ عَلَى خِدْمَةِ مَذَاهِبِهِمْ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، إِنْ كَانَتْ مُرَادًا بِهَا الْإِعْلَامُ بِأَحْوَالِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فَهِيَ آيَةٌ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ شَأْنِ الْإِشْرَاكِ، وَأُجْمِلَ مَا عَدَاهُ إِجْمَالًا عَجِيبًا، بِأَنْ أُدْخِلَتْ صُوَرُهُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ الْمُقْتَضِي مَغْفِرَةً لِفَرِيقٍ مُبْهَمٍ وَمُؤَاخَذَةً لِفَرِيقٍ مُبْهَمٍ. وَالْحِوَالَةُ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى الْمُسْتَقْرَاةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ نَسَخَ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَلَا يَهُولُنَا أَنَّهَا خَبَرٌ لِأَنَّهَا خَبَرٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مُعْظَمِ الْقُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَهَا، وَبِذَلِكَ يَسْتَغْنِي جَمِيعُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّعَسُّفِ فِي تَأْوِيلِهَا كُلٌّ بِمَا يُسَاعِدُ نِحْلَتَهُ، وَتُصْبِحُ صَالِحَةً لِمَحَامِلِ الْجَمِيعِ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَأْوِيلِهَا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ حمل الْإِشْرَاك على مَعْنَاهُ الْمُتَعَارف فِي الْقُرْآن والشريعة الْمُخَالف لِمَعْنى التَّوْحِيد، خلاف تَأْوِيل الشَّافِعِي الْإِشْرَاكِ بِمَا يَشْمَلُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَعَلَّهُ نَظَرَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بِأَنَّهُمَا مُشْرِكَتَانِ.. وَقَالَ: أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِنْ أَن يدعى الله ابْنٌ. وَأَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ مَفْهُومِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَكَوْنُ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، لَا يَقْتَضِي جَعْلَهُمْ مُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَدَّعُوَا مَعَ ذَلِكَ لِهَذَيْنِ إِلَهِيَّةً تُشَارِكُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَفْهُومُ مُطْلَقِ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّهُ مَاذَا يُغْنِي هَذَا التَّأْوِيلُ إِذَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ لَا يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مِثْلَ مُعْظَمِ الْيَهُودِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، أَيِ الْإِيمَانَ، يُوجِبُ مَغْفِرَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرَ إِشْرَاكٍ أَمْ كُفْرًا بِالْإِسْلَامِ، لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا لَا يُغْفَرُ بِلَا شَكٍّ. إِمَّا بِوَعِيدِ اللَّهِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ وَأَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ يُغْفَرُ ذَنْبُهُ قَطْعًا، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُذْنِبِ إِذَا مَاتَ عَلَى ذَنْبِهِ وَلَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يُغَطِّي عَلَى ذُنُوبِهِ، فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: يُعَاقَبُ وَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ بِنَصِّ الشَّرِيعَةِ، لَا بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ، فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعَرَّفَنَا مَشِيئَتَهُ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

[سورة النساء (4) : الآيات 49 إلى 50]

وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ: هُوَ فِي النَّارِ خَالِدًا بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَقَالَ الْمُرْجِئَةُ: لَا يُعَاقَبُ بِحَالٍ، وَكُلُّ هَاتِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلٌ فِي إِجْمَالِ لِمَنْ يَشاءُ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً زِيَادَةٌ فِي تَشْنِيعِ حَالِ الشِّرْكِ. وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِلْكَاذِبِ فِيهِ. لِأَنَّهُ مشتقّ من الْقرى، وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ. وَهَذَا مِثْلُ مَا أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الِاخْتِلَاقِ مِنَ الْخَلْقِ. وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْإِثْمُ الْعَظِيمُ: الْفَاحِشَة الشَّدِيدَة. [49، 50] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 49 إِلَى 50] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ الْيَهُودِ إِذْ يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] وَقَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [الْبَقَرَة: 111] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ إِدْلَالِهِمُ الْكَاذِبِ. وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِهِمْ بِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ، وَهُوَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ. وَفِي تَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِ (بَلْ) تَصْرِيحٌ بِإِبْطَالِ تَزْكِيَتِهِمْ. وَأَنَّ الَّذِينَ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي تَزْكِيَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ تَزْكِيَتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ (بَلْ) فَقِيلَ واللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ لَكَانَ لَهُمْ مَطْمَعٌ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ زَكَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْهُمْ مَا هُمْ بِهِ أَحْرِيَاءُ، وَأَنَّ تَزْكِيَةَ اللَّهِ غَيْرَهُمْ لَا تُعَدُّ ظُلْمًا لَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا. وَالْفَتِيلُ: شِبْهُ خَيْطٍ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ. وَقَدْ شَاعَ اسْتِعَارَتُهُ لِلْقِلَّةِ إِذْ هُوَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا لَهُ مَرْأًى وَاضِحٌ.

[سورة النساء (4) : الآيات 51 إلى 52]

وَانْتَصَبَ فَتِيلًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: ظُلْمًا كَالْفَتِيلِ، أَيْ بِقَدْرِهِ، فَحُذِفَتْ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: 40] . وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ جَعَلَ افْتِرَاءَهُمُ الْكَذِبَ، لِشَدَّةِ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَرْئِيٌّ يَنْظُرُهُ النَّاسُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا يُسْمَعُ وَيُعْقَلُ، وَكَلِمَةُ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً نِهَايَةٌ فِي بُلُوغِهِ غَايَةَ الْإِثْمِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ تَرْكِيبُ (كَفَى بِهِ كَذَا) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي (كَفَى) عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [الْفَتْح: 28] . [51، 52] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 51 إِلَى 52] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أُعِيدَ التَّعْجِيبُ مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النِّسَاء: 44] فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَصْوِيبَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ تَبَاعُدٌ مِنْهُمْ عَنْ أُصُولِ شَرْعِهِمْ بِمَرَاحِلَ شَاسِعَةٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ قَوَاعِدِ التَّوْرَاةِ وَأُولَى كَلِمَاتِهَا الْعَشْرِ هِيَ (لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ) . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ تَرْكِيبِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ آنِفًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [23] . وَالْجِبْتُ: كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ الْحَبَشِيَّةِ، أَيِ الشَّيْطَانُ وَالسِّحْرُ لِأَنَّ مَادَّةَ: ج- ب- ت مُهْمَلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ دَخِيلَةً. وَقِيلَ: أَصْلُهَا جِبْسٌ: وَهُوَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَأُبْدِلَتِ السِّينُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قَوْلِ عِلْبَاءَ بْنِ أَرْقَمَ: يَا لَعَنَ اللَّهُ بَنِي السَّعْلَاتِ، وَعَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ، لَيْسُوا أَعِفَّاءَ وَلَا أَكْيَاتِ، أَيْ شِرَارُ النَّاسِ وَلَا بِأَكْيَاسٍ. وَكَمَا قَالُوا: الْجَتُّ بِمَعْنَى الْجَسِّ.

وَالطَّاغُوتُ: الْأَصْنَامُ كَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ هُنَا وَنُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ فَيُقَالُ: لِلصَّنَمِ طَاغُوتٌ وَلِلْأَصْنَامِ طَاغُوتٌ، فَهُوَ نَظِيرُ طِفْلٍ وَفُلْكٍ. وَلَعَلَّ الْتِزَامَ اقْتِرَانِهِ بِلَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ إِطْلَاقَهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نَظِيرَ الْكِتَابِ وَالْكُتُبِ. ثُمَّ لَمَّا شَاعَ ذَلِكَ طَرَّدُوهُ حَتَّى فِي حَالَةِ تَجَرُّدِهِ عَنِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاء: 60] فَأَفْرَدَهُ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: 17] ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ [الْبَقَرَة: 257] إِلَخْ. وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مَنْ طَغَى يَطْغُو إِذَا تَعَاظَمَ وَتَرَفَّعَ، وَأَصْلُهُ مَصَدْرٌ بِوَزْنِ فَعَلُوتٍ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ: رَهَبُوتٍ، وَمَلَكُوتٍ، وَرَحَمُوتٍ، وَجَبَرُوتٍ، فَأَصْلُهُ طَغْوُوتٌ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبُ مَكَانِيٌّ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا فَصَارَ طَوَغُوتٌ بِوَزْنِ فَلَعُوتٍ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ تَأَتِّي إِبْدَالِ الْوَاوِ أَلِفًا بِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَهُمْ قَدْ يَقْلِبُونَ حُرُوفَ الْكَلِمَةِ لِيَتَأَتَّى الْإِبْدَالُ كَمَا قَلَبُوا أَرْءَامَ جَمْعَ رِيمٍ إِلَى آرَامَ لِيَتَأَتَّى إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ السَّاكِنَةِ أَلِفًا بَعْدَ الْأُولَى الْمَفْتُوحَةِ، وَقَدْ يُنْزِلُونَ هَذَا الِاسْمَ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ فَيَجْمَعُونَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ عَلَى طَوَاغِيتَ وَوَزْنُهُ فَعَالِيلُ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ» . وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الطَّاغُوتُ عَلَى عَظِيمِ أَهْلِ الشِّرْكِ كَالْكَاهِنِ، لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ لِأَجْلِ أَصْنَامِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: 60] . وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَفِيهِمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ طَمِعُوا أَنْ يَسْعَوْا فِي اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ لِيُحَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ كَعْبٌ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ، وَنَزَلَ بَقِيَّتُهُمْ فِي دُورِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ (أَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَدْنَى إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْكُمْ إِلَيْنَا فَلَا نَأْمَنُ مَكْرَكُمْ) فَقَالُوا لَهُمْ (إِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ أَرْضَى عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا) فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ (فَاسْجُدُوا لِآلِهَتِنَا حَتَّى نَطْمَئِنَّ إِلَيْكُمْ) فَفَعَلُوا، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِمَا بَيَّتَهُ الْيَهُودُ وَأَهْلُ مَكَّةَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ يَقُولُونَ لِأَجْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَيْسَ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَأُرِيدَ بِهِمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَذَلِكَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ صِفَةِ الْكُفْرِ

أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هؤُلاءِ أَهْدى إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلْقَوْلِ بِمَعْنَاهُ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: «أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ» ، أَوْ قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِبَعْضٍ فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ هؤُلاءِ أَهْدى، أَيْ حِينَ تَنَاجَوْا وَزَوَّرُوا مَا سَيَقُولُونَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِالْمَعْنَى نِدَاءً عَلَى غَلَطِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: «هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ» وَإِذْ كَانَ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا مَحَلُّ التَّعْجِيبِ. وَعَقَّبَ التَّعْجِيبَ بُقُولِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا فِي نِهَايَةِ الرَّشَاقَةِ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْ وَصْفِ حَالِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ صَارَ كَالْمُشَاهَدِ، فَنَاسَبَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ أَنْ يُشَارَ إِلَى هَذَا الْفَرِيقِ الْمُدَّعَى أَنَّهُ مَرْئِيٌّ، فَيُقَالُ: (أُولَئِكَ) . وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَالصِّلَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَيْسَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَا اتِّصَافَ مَنِ اشْتُهِرَ بِهَا فَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ إِنْ سَمِعْتُمْ بِقَوْمٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَهُمْ هُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْيَهُودَ مَلْعُونُونَ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّلَةِ هُوَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. وَالْمَوْصُولُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْإِخْبَارِ الضِّمْنِيِّ عَنْهُمْ: بِأَنَّهُمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَالَّذِي يَلْعَنُهُ لَا نَصِيرَ لَهُ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاء: 45] .

[سورة النساء (4) : الآيات 53 إلى 55]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 53 إِلَى 55] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) (أَمْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَهِيَ تُؤْذِنُ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ بَعْدَهَا، أَيْ: بَلْ أَلَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَلَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيُّ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّفْيِ. وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ نَصِيبٌ وَكَذَلِكَ (فَإِذاً) هِيَ جَزَاءٌ لِجُمْلَةِ لَهُمْ نَصِيبٌ، وَاعْتُبِرَ الِاسْتِفْهَامُ دَاخِلًا عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ وَجَزَائِهَا مَعًا لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِي إِعْطَاؤُهُمُ النَّاسَ نَقِيرًا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمُلْكِ لَهُمْ لَا عَلَى انْتِفَائِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَهَكُّمٌ عَلَيْهِمْ فِي انتظارهم هُوَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُلْكُ إِسْرَائِيلَ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي لَا يُؤَاتِي مَنْ يَرْجُونَ الْمُلْكَ. كَمَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ: إِذَا مَلِكٌ لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَهْ ... فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَهْ وَشُحُّهُمْ وَبُخْلُهُمْ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ. وَالنَّقِيرُ: شَكْلَةٌ فِي النَّوَاةِ كَالدَّائِرَةِ، يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ. وَلذَلِك عَقَّبَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) هَذِهِ إِنْكَارٌ عَلَى حَسَدِهِمْ، وَلَيْسَ مُفِيدًا لِنَفْيِ الْحَسَدِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفضل النبوءة، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالْفضل الْهدى بِالْإِيمَان. وَقَوْلُهُ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، توجيها لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، أَيْ فَلَا بِدْعَ فِيمَا حَسَدُوهُ إِذْ قَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْمُلْكَ. وَآل إِبْرَاهِيمَ: أَبْنَاؤُهُ وَعَقِبُهُ وَنَسْلُهُ، وَهُوَ دَاخل فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُعْطُوهُ لِأَجْلِ كَرَامَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ. وَتَعْرِيفُ (الْكِتَابِ) : تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيَصْدُقُ

[سورة النساء (4) : الآيات 56 إلى 57]

بِالْمُتَعَدِّدِ، فَيَشْمَلُ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ، وَصُحُفَ مُوسَى، وَمَا أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِك. وَالْحكمَة: النبوءة، وَالْمُلْكُ: هُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُعْطِيَهُ ذُرِّيَّتَهُ وَمَا آتى الله دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَمُلُوكَ إِسْرَائِيلَ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَحْسُدُونَ. وَضَمِيرُ بِهِ يَعُودُ إِلَى النَّاسِ الْمُرَادِ مِنْهُ محمّد- عَلَيْهِ السَّلَام-: أَيْ فَمِنَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ عَلَى هَذَا التَّفْسِير ناشيء عَلَى قَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فَمِنْهُمْ إِلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَضَمِيرُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ فَقَدْ آتَيْنَاهُمْ مَا ذُكِرَ. وَمِنْ آلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ مِثْلَ أَبِيهِ آزَرَ، وَامْرَأَةِ ابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ، أَيْ فَلَيْسَ تَكْذِيبُ الْيَهُودِ مُحَمَّدًا بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا [الْإِسْرَاء: 77] ، لِيَكُونَ قَدْ حَصَلَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ فِي إِبْطَالِ مُسْتَنَدِ تَكْذِيبِهِمْ بِإِثْبَاتِ أنّ إتْيَان النبوءة لَيْسَ بِبِدْعٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَيْسَ إِرْسَالُهُ بِأَعْجَبَ مِنْ إِرْسَالِ مُوسَى. وَفِي تَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى لَا يَعُدُّوا تَكْذِيبَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلمة فِي نبوءته، إِذْ لَا يعرف رَسُولا أَجْمَعَ أَهْلُ دَعْوَتِهِ عَلَى تَصْدِيقِهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَمَنْ بَعْدَهُ. وَقَوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِلَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيب تقدّم آنِفا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا مِنْ هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: 45] . [56، 57] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 56 إِلَى 57] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا، فَلَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْإِصْلَاءُ: مَصْدَرُ أَصْلَاهُ، وَيُقَالُ: صَلَاهُ صَلْيًا، وَمَعْنَاهُ شَيُّ اللَّحْمِ عَلَى النَّارِ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (صَلَى) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاء: 10] وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: 30] ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى (سَوْفَ) فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ. ونُصْلِيهِمْ- بِضَمِّ النُّونِ- مِنَ الْإِصْلَاءِ. ونَضِجَتْ بلغت نِهَايَة الشّيء، يُقَالُ: نَضِجَ الشِّوَاءُ إِذَا بلغ حدّ الشّيء، وَيُقَالُ: نَضِجَ الطَّبِيخُ إِذَا بَلَغَ حَدَّ الطَّبْخِ. وَالْمَعْنَى: كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا حَيَاةٌ وَإِحْسَاسٌ. بَدَّلْنَاهُمْ، أَيْ عَوَّضْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا، وَالتَّبْدِيلُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى [الْبَقَرَة: 61] . فَقَوْلُهُ: غَيْرَها تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ التَّبْدِيلِ. وَانْتَصَبَ نَارًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى. وَقَوْلُهُ: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: بَدَّلْناهُمْ لِأَنَّ الْجِلْدَ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِحْسَاسَ الْعَذَابِ إِلَى النَّفْسِ بِحَسَبِ عَادَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يُبَدَّلِ الْجِلْدُ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ لَمَا وَصَلَ عَذَابُ النَّارِ إِلَى النَّفْسِ. وَتَبْدِيلُ الْجِلْدِ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِ صَاحِبِهِ لَا يُنَافِي الْعَدْلَ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَسِيلَةُ إِبْلَاغِ الْعَذَابِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بالتعذيب، ولأنّه ناشىء عَنِ الْجِلْدِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ فِي الْحَشْرِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهَا لَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ أُنَاسًا غَيْرَ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لِأَنَّهَا لَمَّا أُودِعَتِ النُّفُوسُ الَّتِي اكْتَسَبَتِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَقَدْ صَارَتْ هِيَ هِيَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ إِعَادَتُهَا عَنْ إِنْبَاتٍ مِنْ أَعْجَابِ الْأَذْنَابِ، حَسْبَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ، لِأَنَّ النَّاشِئَ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ مِنْهُ كَالنَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، فَالْعِزَّةُ يَتَأَتَّى بِهَا تَمَامُ الْقُدْرَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُجْتَرِئِ عَلَى اللَّهِ، وَالْحِكْمَةُ يَتَأَتَّى بِهَا تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ فِي إِصْلَائِهِمُ النَّارَ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ذُكِرَ هُنَا لِلْمُقَابَلَةِ وَزِيَادَةِ الْغَيْظِ لِلْكَافِرِينَ. وَاقْتَصَرَ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ عَلَى لَذَّةِ الْجَنَّاتِ وَالْأَزْوَاجِ الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّهُمَا أَحَبُّ اللَّذَّاتِ الْمُتَعَارَفَةِ لِلسَّامِعِينَ، فَالزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ آنَسُ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ، وَالْجَنَّاتُ مَحَلُّ النَّعيم وَحسن المنظر. وَقَوْلُهُ: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هُوَ مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ، لِأَنَّ الظِّلَّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ جَمَالُ الجنّات ولذّة التنعّم بِرُؤْيَةِ النُّورِ مَعَ انْتِفَاءِ حَرِّهِ. وَوُصِفَ بِالظَّلِيلِ وَصْفًا مُشْتَقًّا مِنِ اسْمِ الْمَوْصُوفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ، فَقَدْ يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ بِوَزْنِ فَعِيلٍ: كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُمْ: دَاءٌ دَوِيٌّ، وَيَأْتُونَ بِهِ بِوَزْنِ

[سورة النساء (4) : آية 58]

أَفْعَلِ: كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ وَيَوْمٌ أَيْوَمُ، وَيَأْتُونَ بِوَزْنِ فَاعِلٍ: كَقَوْلِهِمْ: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وَنصب ناصب. [58] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ مِنْهُ الْإِفَاضَةُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْعَدْلِ وَالْحُكْمِ، وَنِظَامِ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّشْرِيعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ تَطَلُّبُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ إِلَى أَحْكَامٍ أُخْرَى فِي أَغْرَاضٍ أُخْرَى. وَهُنَا مُنَاسَبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَا اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَيِّهِمْ أَلْسِنَتَهُمْ بِكَلِمَاتٍ فِيهَا تَوْجِيهٌ مِنَ السَّبِّ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَحَسَدِهِمْ بِإِنْكَارِ فَضْلِ اللَّهِ إِذْ آتَاهُ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خِيَانَةِ أَمَانَةِ الدِّينِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحَقِّ، وَالنِّعْمَةِ، وَهِيَ أَمَانَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَى أَهْلِهَا وَيَتَخَلَّصَ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ صَرِيحَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ، مِثْلَ صَرَاحَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» . (وَإِنَّ) فِيهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِظُهُورِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ حَتَّى يُؤَكَّدَ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ لَا عَنْ وُجُودِهِ، فَهُوَ وَالْإِنْشَاءُ سَوَاءٌ. وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِتَلَقِّي هَذَا الْخِطَابَ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوق. وَالْأَدَاء حَقِيقَة فِي تَسْلِيمِ ذَاتٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، يُقَالُ: أَدَّى إِلَيْهِ كَذَا، أَيْ دَفَعَهُ وَسَلَّمَهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ آلِ

عِمْرَانَ [75] . وَأَصْلُ أَدَّى أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَ أَدَى- بِالتَّخْفِيفِ- بِمَعْنَى أَوْصَلَ، لَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا أَدَى الْمُخَفَّفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالْمُضَاعَفِ. وَيُطْلَقُ الْأَدَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاعْتِرَافِ وَالْوَفَاءِ بِشَيْءٍ. وَعَلَى هَذَا فَيُطْلَقُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ عَلَى حَقِّهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ قِيَاسَ الْأَدْوَنِ. وَالْأَمَانَةُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ صَاحِبُهُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [283] . وَتُطْلَقُ الْأَمَانَةُ مَجَازًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِبْلَاغُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ وَمُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْعُهُودِ وَالْجِوَارِ وَالنَّصِيحَةِ وَنَحْوِهَا، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ. وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَالْأَمَانَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ لِلْأَمِينِ حَقٌّ عِنْدَ الْمُؤْتَمَنِ جَحَدَهُ إِيَّاهُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَمَانَةِ عِوَضَ حَقِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَانَةٌ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ بِمِقْدَارِ مَا عَلَيْهِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمَكْحُولٍ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ وُلَاةُ الْأُمُورِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. وَأَهْلُ الْأَمَانَةِ هُمْ مُسْتَحِقُّوهَا، يُقَالُ: أَهْلُ الدَّارِ، أَيْ أَصْحَابُهَا. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِذْ سَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ابْن أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتِ السِّدَانَةُ فِيهِمْ، فَسَأَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ سِدَانَةَ الْكَعْبَةِ يَضُمُّهَا مَعَ السِّقَايَةِ وَكَانَتِ السِّقَايَةُ بِيَدِهِ، وَهِيَ فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَابْنَ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَدَفَعَ لَهُمَا مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَمَا كُنْتُ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْتَزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ» ، وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَخْذَ انْتِزَاعٍ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمِفْتَاحِ بِيَدِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ مُسْتَصْحَبٌ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْإِسْلَامُ حَوْزَهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ تَقَرَّرَ حَقُّ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَبَقِيَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْهَا لِابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، وَكَانَتِ السِّدَانَةُ مِنْ مَنَاصِبِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (¬1) فَأَبْطَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهَا فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ أَوْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَا عَدَا السِّقَايَةَ وَالسِّدَانَةَ. فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ عُثْمَانَ سَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَة للنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دُونَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ. وَالْأَدَاءُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا ذَاتٌ يُمْكِنُ إيصالها بِالْفِعْلِ لمستحقّها، فَتَكُونُ الْآيَةُ آمِرَةً بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِيصَالِ وَالْوَفَاءَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَفْعُ الْأَمَانَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا مَجَازَ فِي لَفْظِ (تُؤَدُّوا) . وَقَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ عَطَفَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ الظَّرْفُ، وَهُوَ جَائِزٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: 201] وَكَذَلِكَ فِي عَطْفِ الْأَفْعَالِ عَلَى الصَّحِيحِ: مِثْلُ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: 129، 130] . وَالْحُكْمُ مَصْدَرُ حَكَمَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، أَيِ اعْتَنَى بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ مِنْهُمَا مِنَ الْمُبْطِلِ، أَوْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَكْمِ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهُوَ ¬

(¬1) مناصب قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، وَتسَمى مآثر قُرَيْش، هِيَ: السِّقَايَة وَهِي سقِِي الحجيج من مَاء زَمْزَم وَكَانَت لبني هَاشم، والسدانة بِكَسْر السِّين وَهِي حجابة الْكَعْبَة وَهِي لبني عبد البدار، والسفارة لبني عدي، والرفادة بِكَسْر الرَّاء وَهِي أَمْوَال تجمعها قُرَيْش لإعانة الْحجَّاج المعوزين وَهِي لبني نَوْفَل، والديات والحمالات وَهِي لبني تيم، والراية تسمى الْعقَاب وَهِي لبني أُميَّة، والمشورة لبني أَسد بن عبد الْعزي، والأعنة والقبة وَهِي شؤون الْحَرْب كَانُوا يضْربُونَ قبَّة ويجتمعون إِلَيْهَا عِنْد تجهيز الجيوش وَهِي لبني مَخْزُوم، والحكومة وأموال الْآلهَة لبني سهم، والإيسار والإزلام لبني جمح.

الرَّدْعُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَةُ اللِّجَامِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ، وَيُقَالُ: أَحْكِمْ فُلَانًا، أَيْ أَمْسِكْهُ. وَالْعَدْلُ: ضِدُّ الْجَوْرِ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ، يُقَالُ: عَدَلَ كَذَا بِكَذَا، أَيْ سَوَّاهُ بِهِ وَوَازَنَهُ عَدْلًا ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَدَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، إِطْلَاقًا نَاشِئًا عَمَّا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَنَّ الْجَوْرَ يَصْدُرُ مِنَ الطُّغَاةِ الَّذِينَ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَهُمْ إِنْ شَاءُوا عَدَلُوا وَأَنْصَفُوا، وَإِنْ شَاءُوا جَارُوا وَظَلَمُوا، قَالَ لَبِيدٌ: وَمُقَسِّمٌ يُعْطِي الْعَشِيرَةَ حَقَّهَا ... وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِهَا هَضَّامُهَا (¬1) فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْعَدْلِ- الَّذِي هُوَ التَّسْوِيَةُ- عَلَى تَسْوِيَةٍ نَافِعَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الصَّلَاحُ وَالْأَمْنُ، وَذَلِكَ فَكُّ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ الْمُعْتَدِي، لِأَنَّهُ تَظْهَرُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَهُوَ كِنَايَةٌ غَالِبَةٌ. وَمَظْهَرُ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا: إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْلَاغِ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اعْتِدَاءٌ وَلَا نِزَاعٌ. وَالْعَدْلُ: مُسَاوَاةٌ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ أُمَّةٍ: فِي تَعْيِينِ الْأَشْيَاءِ لِمُسْتَحِقِّهَا، وَفِي تَمْكِينِ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْ حَقِّهِ، بِدُونِ تَأْخِيرٍ، فَهُوَ مُسَاوَاةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَشْيَاءِ وَفِي وَسَائِلِ تَمْكِينِهَا بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي تَعْيِينِ الْحُقُوقِ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَدْلُ فِي التَّنْفِيذِ، وَلَيْسَ الْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٍ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ. فَالْعَدْلُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، هُمَا: الْإِفْرَاطُ فِي تَخْوِيلِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ، أَيْ بِإِعْطَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَالتَّفْرِيطُ فِي ذَلِكَ، أَيْ بِالْإِجْحَافِ لَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ يُسَمَّى جَوْرًا، وَكَذَلِكَ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي تَنْفِيذِ الْإِعْطَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِهِ، كَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِيَدِ السَّفِيهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ كَإِبْقَاءِ الْمَالِ بِيَدِ الْوَصِيِّ بَعْدَ الرُّشْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ - إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 5، 6] فَالْعَدْلُ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصُدُّ الْمُعْتَدِيَ عَنِ اعْتِدَائِهِ، ¬

(¬1) المغذمر ذُو الغذمرة وَهِي ظُهُور الْغَضَب فِي القَوْل، والهضام صَاحب الهضم وَهُوَ الْكسر وَالظُّلم. [.....]

كَذَلِكَ يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 279] . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْعَدْلُ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَجُولُ فِي تَحْدِيدِهِ أَفْهَامٌ مُخْطِئَةٌ تَعَيَّنَ أَنْ تُسَنَّ الشَّرَائِعُ لِضَبْطِهِ عَلَى حَسَبِ مَدَارِكِ الْمُشَرِّعِينَ وَمُصْطَلَحَاتِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهَا مُعْظَمَهَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ تَحْرِيفٍ لِحَقِيقَةِ الْعَدْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْقَوَانِينِ أُسِّسَتْ بِدَافِعَةِ الْغَضَبِ وَالْأَنَانِيَّةِ، فَتَضَمَّنَتْ أَخْطَاءً فَاحِشَةً مِثْلَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يُمْلِيهَا الثُّوَّارُ بِدَافِعِ الْغَضَبِ عَلَى مَنْ كَانُوا مُتَوَلِّينَ الْأُمُورَ قَبْلَهُمْ، وَبَعْضُ الْقَوَانِينِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْ تَخَيُّلَاتٍ وَأَوْهَامٍ، كَقَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأُمَمِ الْعَرِيقَةِ فِي الْوَثَنِيَّةِ. وَنَجِدُ الْقَوَانِينَ الَّتِي سَنَّهَا الْحُكَمَاءُ أَمْكَنَ فِي تَحْقِيقِ مَنَافِعِ الْعَدْلِ مِثْلَ قَوَانِينِ أَثِينَةَ وَإِسْبَرْطَةَ، وَأَعْلَى الْقَوَانِينِ هِيَ الشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ لِمُنَاسَبَتِهَا لِحَالِ مَنْ شُرِّعَتْ لِأَجْلِهِمْ، وَأَعْظَمُهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ أَهْوَاءِ الْأُمَمِ وَالْعَوَائِدِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَعْبَأُ بِالْأَنَانِيَّةِ وَالْهَوَى، وَلَا بِعَوَائِدِ الْفَسَادِ، وَلِأَنَّهَا لَا تُبْنَى عَلَى مَصَالِحِ قَبِيلَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ بَلَدٍ خَاصٍّ، بَلْ تُبْتَنَى عَلَى مَصَالِحِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَتَقْوِيمِهِ وَهَدْيِهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يَزَلِ الصَّالِحُونَ مِنَ الْقَادَةِ يُدَوِّنُونَ بَيَانَ الْحُقُوقِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَخَاصَّةً الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: 25] أَيِ الْعَدْلِ. فَمِنْهَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ الْبَشَرِيَّةِ وَمِنْهَا مَا اسْتَنْبَطَهُ عُلَمَاءُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ مُدْرَجٌ فِيهَا وَمُلْحَقٌ بِهَا. وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ بِحَالَةِ التَّصَدِّي لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأُطْلِقَ الْأَمْرُ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا عَنِ التَّقْيِيدِ: لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَقَعَ بِيَدِهِ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى اعْتِبَارِ تَعْمِيمِ الْمُرَادِ بِالْأَمَانَاتِ الشَّامِلِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إِبْلَاغُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ الْعَدْلِ فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ وُلَاةُ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَهْلًا لِتَوَلِّي ذَلِكَ. فَتِلْكَ نُكْتَةُ قَوْلِهِ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ الْفَخْرُ: قَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ هُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحُكْمِ بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، فَالْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فِي أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حَاكِمًا وَلَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ وَأَنَّهُ يُنَصِّبُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ صَارَت تِلْكَ الدَّلَائِل كالبيان لِهَذِهِ الْآيَةِ.

[سورة النساء (4) : آية 59]

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وَأَغْنَتْ (إِنَّ) فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ عَنْ ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ إِذَا جَاءَتْ (إنّ) للاهتمام بالْخبر دون التَّأْكِيد. و (نعمّا) أَصْلُهُ (نِعْمَ مَا) رُكِّبَتْ (نِعْمَ) مَعَ (مَا) بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ الْمِيمِ الْأَوْلَى وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأُدْغِمَ الْمِيمَانِ وَحُرِّكَتِ الْعَيْنُ السَّاكِنَةُ بِالْكَسْرِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَ (مَا) جَوَّزَ النُّحَاةُ أَن تكون اسْم مَوْصُول، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أَوْ نَكِرَةً تَامَّةً وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ (مَا) تَجْرِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَعْنَى (مَا) ، وَقيل: إنّ (مَا) زَائِدَةٌ كَافَّةٌ (نِعْمَ) عَنِ الْعَمَلِ. وَالْوَعْظُ: التَّذْكِيرُ وَالنُّصْحُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ زَجْرٌ وَتَخْوِيفٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ عَلِيمًا بِمَا تَفْعَلُونَ وَمَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بِشَارَة ونذارة. [59] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 59] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِخِطَابِهِمْ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الْحُكَّامِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَهُمْ هِيَ مَظْهَرُ نُفُوذِ الْعَدْلِ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ حُكَّامُهُمْ، فَطَاعَةُ الرَّسُولِ تَشْتَمِلُ عَلَى احترام الْعدْل المشرّع لَهُمْ وَعَلَى تَنْفِيذِهِ، وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ تَنْفِيذٌ لِلْعَدْلِ، وَأَشَارَ بِهَذَا التَّعْقِيبِ إِلَى أَنَّ الطَّاعَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هِيَ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ: «حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ وَيُوَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا» . أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ بِمَعْنَى طَاعَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مُنَزِّلُ الشَّرِيعَةِ وَرَسُولَهُ مُبَلِّغُهَا وَالْحَاكِمُ بِهَا فِي حَضْرَتِهِ.

وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْصِيلِ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَكُونَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِقَرَائِنِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ الْمَأْمُورَ بِهَا تَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ دُونَ مَا يَأْمُرُ بِهِ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ كُلِّهِ خَيْرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَبَا سَعِيدِ بْنَ الْمُعَلَّى، وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي» فَقَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي» فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الْأَنْفَال: 24] وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِهِ رُبَّمَا سَأَلُوهُ: أَهُوَ أَمْرُ تَشْرِيعٍ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالنَّظَرُ، كَمَا قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْتَازَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ... » الْحَدِيثَ. وَلَمَّا كَلَّمَ بَرِيرَةَ فِي أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا مُغِيثًا بَعْدَ أَنْ عَتَقَتْ، قَالَتْ لَهُ: أَتَأْمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ تَشْفَعُ، قَالَ: بَلْ أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا أَبْقَى مَعَهُ . وَلِهَذَا لَمْ يُعَدْ فِعْلُ (فَرُدُّوهُ) فِي قَوْلِهِ: (وَالرَّسُولِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحَاكُمِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّحَاكُمُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ تَكْرِيرًا لِفِعْلِ الطَّاعَةِ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعْطَفْ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 20] وَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: 46] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النُّور: 52] ، إِذْ طَاعَةُ الرَّسُولِ مُسَاوِيَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ فَلَا يُتَلَقَّى أَمْرُ اللَّهِ إِلَّا مِنْهُ، وَهُوَ منقّذ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ، فَطَاعَتُهُ طَاعَةُ تَلَقٍّ وَطَاعَةُ امْتِثَالٍ، لِأَنَّهُ مبلّغ ومنقّذ، بِخِلَافِ أُولِي الْأَمر فإنّهم منقّذون لِمَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَطَاعَتُهُمْ طَاعَةُ امْتِثَالٍ خَاصَّةً. وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّشْرِيعِ، يَسْأَلُونَهُ أَهَذَا أَمْرٌ أَمْ رَأْيٌ وَإِشَارَةٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلَّذِينَ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ» . وَقَوْلُهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ يَعْنِي ذَوِيهِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَالْمُتَوَلُّونَ لَهُ. وَالْأَمْرُ هُوَ الشَّأْنُ، أَيْ مَا يُهْتَمُّ بِهِ من الْأَحْوَال والشؤون، فَأُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْقَوْمِ هُمُ الَّذِينَ

يُسْنِدُ النَّاسُ إِلَيْهِم تَدْبِير شؤونهم وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: ذَوُوُ الْأَمْرِ وَأُولُو الْأَمْرِ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهُمْ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَأُمَنَاؤُهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ تَثْبُتُ لَهُمْ بِطُرُقٍ شَرْعِيَّةٍ إِذْ أُمُورُ الْإِسْلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَرِيقُ ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُمْ إِمَّا الْوَلَايَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مِنْ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانٌ، وَإِمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ مَحَلَّ اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِمْ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْعَدَالَةُ. فَأَهْلُ الْعِلْمِ الْعُدُولُ: مِنْ أُولِي الْأَمْرِ بِذَاتِهِمْ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى وِلَايَةٍ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِأَرْبَابِهَا الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ بِهَا، لِمَا جُرِّبَ مِنْ عِلْمِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ. قَالَ مَالِكٌ: «أُولُو الْأَمْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ» يَعْنِي أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالِاجْتِهَادِ، فَأُولُو الْأَمْرِ هُنَا هُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولِ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى وَالِي الْحِسْبَةِ، وَمِنْ قُوَّادِ الْجُيُوشِ وَمِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قِوَامُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَهُوَ تَنَاصُحُ الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ وَانْبِثَاثُ الثِّقَةِ بَيْنَهُمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَوَادِثُ لَا تَخْلُو مِنْ حُدُوثِ الْخِلَافِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْخِلَافِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 104] . وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ إِنْهَاءُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَحَضْرَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: 83] فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالِاحْتِذَاءُ بِسُنَّتِهِ. روى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ متّكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» . وَفِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ ابْن سَارِيَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَيَحْسَبُ أحدكُم وَهُوَ متّكىء عَلَى أَرِيكَتِهِ وَقَدْ

يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ» ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ . وَعَرْضُ الْحَوَادِثِ عَلَى مِقْيَاسِ تَصَرُّفَاتِهِ والصريح من سنّته. وَالتَّنَازُعُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، أَيِ الْأَخْذِ، قَالَ الْأَعْشَى: نَازَعْتُهُمْ قُضْبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا ... وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ فَأَطْلَقَ التَّنَازُعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الشَّدِيدَ يُشْبِهُ التَّجَاذُبَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: 46] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى [طه: 62] . وَضَمِيرُ تَنازَعْتُمْ رَاجِعٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يُمْكِنُ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولَ، إِذْ لَا يُنَازِعُهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُمُومِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، كَتَنَازُعِ الْوُزَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ أَوْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الرَّعِيَّةِ مَعَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بعض فِي شؤون عِلْمِ الدِّينِ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ نَجِدُ الْمُرَادَ ابْتِدَاءً هُوَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ فَسَّرُوهُ بِبَعْضِ صُوَرٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلَيْسَ مَقْصِدُهُمْ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرُوا بِهِ، وَأَحْسَنُ عِبَارَاتِهِمْ فِي هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: «يَعْنِي فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَوْ أَنْتُمْ وَأُولُو أَمْرِكُمْ فِيهِ» . وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَإِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ رَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ» . وَلَفْظُ (شَيْءٍ) نَكِرَةٌ مُتَوَغِّلَةٌ فِي الْإِبْهَامِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي اخْتِلَافِ الْآرَاءِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ أَوْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ عَمَلٍ مَا، كَتَنَازُعِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي إِجْرَاءِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ. وَلَقَدْ حَسَّنَ مَوْقِعَ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) هُنَا تَعْمِيمُ الْحَوَادِثِ وَأَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، فَكَانَ مِنَ الْمَوَاقِعِ الرَّشِيقَةِ فِي تَقْسِيمِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَوَاقِعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى الْحَاكِمِ وَفِي تَحْكِيمِ ذِي الرَّأْيِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ. وَحَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ الشَّيْءِ إِلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ الْعَارِيَةِ وَالْمَغْصُوبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى التَّخَلِّي عَنِ الِانْتِصَافِ بِتَفْوِيضِ الْحُكْمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَعَنْ عَدَمِ تَصْوِيبِ الرَّأْيِ بِتَفْوِيضِ تَصْوِيبِهِ إِلَى الْغَيْرِ، إِطْلَاقًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ. وَعُمُومُ لَفْظِ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَعُمُومُ أَحْوَالِ التَّنَازُعِ، تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْخُصُومَاتُ وَالدَّعَاوَى فِي الْحُقُوقِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ من الْآيَة بادىء بَدْءٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فَإِنَّ هَذَا كَالْمُقَدِّمَةِ لِذَلِكَ فَأَشْبَهَ سَبَبَ نُزُولٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ الْعَامِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّنَازُعِ فِي طُرُقِ تَنْفِيذِ الْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجُيُوشِ وَبَيْنَ بَعْضِ قُوَّادِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نِزَاعٍ حَدَثَ بَيْنَ أَمِيرِ سَرِيَّةِ الْأَنْصَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعقد فِي شؤون مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَرُومُونَ حَمْلَ النَّاسَ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ. فَكُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مَأْمُورٌ أَصْحَابُهُ بِرَدِّ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَرَدُّ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُرْجَى مَعَهُ زَوَالُ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ بِبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْجَلِيِّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ. فَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي تَفْسِيرِ التَّنَازُعِ بِتَنَازُعِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْفَرْدِ الْأَخْفَى مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ. وَذِكْرُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ انْجِلَاءِ الْحَقِّ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الرَّدَّ إِلَى الرَّسُولِ يَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ، إِذِ الرَّسُولُ هُوَ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ.

ثُمَّ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَحُضُورِهِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَأَمَّا الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَبِالتَّحَاكُمِ إِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ أَقَامَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ أَمَرَهُمْ بِالتَّعْيِينِ، وَإِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرِيعَةِ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُوهِ الشَّرِيعَةِ وَتَصَارِيفِهَا، فَإِنَّ تَعْيِينَ صِفَاتِ الْحُكَّامِ وَشُرُوطِهِمْ وَطُرُقِ تَوْلِيَتِهِمْ، فِيمَا وَرَدَ عَنِ الرَّسُولِ مِنْ أَدِلَّةِ صِفَاتِ الْحُكَّامِ، يَقُومُ مَقَامَ تَعْيِينِ أَشْخَاصِهِمْ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَسُنَّتِهِ ثُمَّ الصَّدَرِ عَلَى مَا يتبيّن للمتأمّل مِنْ حَالٍ يَظُنُّهَا هِيَ مُرَادُ الرَّسُولِ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ النِّزَاعِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهَا الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَحْرِيضٌ وَتَحْذِيرٌ مَعًا، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ووازعان يزعان عَن مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِلتَّلَاشِي، وَعَنِ الْأَخْذِ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تُرْضِي اللَّهَ وَتَضُرُّ الْأُمَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ دَأْبُ الْمُسْلِمِ الصَّادِقِ الْإِقْدَامَ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّأَمُّلَ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ وَالصَّدْرَ بَعْدَ عَرْضِ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ مَعَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَتُلَازِمُونَ وَاجِبَاتِ الْمُؤْمِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَرُدُّوهُ. وَ (خَيْرٌ) اسْمٌ لِمَا فِيهِ نَفْعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ الْخَيْرِ وَقُوَّةُ الْحُسْنِ. وَالتَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أَوَّلَ الشَّيْءَ إِذَا أَرْجَعَهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ يَؤُولُ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى أَحْسَنُ رَدًّا وَصَرْفًا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيءُ فِي سَرِيَّةٍ. وَأَخْرَجَ فِي «كِتَابِ الْمَغَازِي» عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيءُ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيءُ أَنْ تُطِيعُونِي» قَالُوا: «بَلَى» قَالَ: «فَأَجْمِعُوا حَطَبًا» فَجَمَعُوا، قَالَ: «أَوْقِدُوا نَارًا» ، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ «ادْخُلُوهَا» ، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: «فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيءِ مِنَ

[سورة النساء (4) : الآيات 60 إلى 61]

النَّارِ» ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَزَلَتْ حِينَ تَعْيِينِهِ أَمِيرًا عَلَى السَّرِيَّةِ وَأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي فِيهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَرَدُّدَ أَهْلِ السَّرِيَّةِ فِي الدُّخُولِ فِي النَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مَا بَلَغَ خَبَرُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا هُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِلَخْ، وَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ مَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ يُبْطِلُ الْأَمر بِالطَّاعَةِ. [60، 61] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 60 إِلَى 61] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النِّسَاء: 59] . وَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ قَوْمٌ مَعْرُوفُونَ وَهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِقَوْلِهِ: رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافًا مُتَقَارِبًا: فَعَنْ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ يَهُودِيًّا اخْتَصَمَ مَعَ مُنَافِقٍ اسْمُهُ بِشْرٌ فَدَعَا الْيَهُودِيُّ الْمُنَافِقَ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ وَلَا يَجُورُ فِي الْحُكْمِ، وَدَعَا الْمُنَافِقُ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ كَاهِنٍ مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودِيَّ دَعَا الْمُنَافِقَ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ دَعَا إِلَى كَعْبِ ابْن الْأَشْرَفِ، فَأَبَى الْيَهُودِيُّ وَانْصَرَفَا مَعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمَّا خَرَجَا، قَالَ الْمُنَافِقُ: لَا أَرْضَى، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ، وَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ الْخَبَرَ وَصَدَّقَهُ الْمُنَافِقُ، قَالَ عُمَرُ: رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا، فَدَخَلَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى بَرَدَ، وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي عَلَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَلَقَّبَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْفَارُوقَ» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالْخَزْرَجِ حِلْفٌ، وَبَيْنَ النَّضِيرِ وَالْأَوْسِ حِلْفٌ، فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ النَّضِيرُ أَكْثَرَ وَأَشْرَفَ، فَكَانُوا إِذَا قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضِيرِيًّا قُتِلَ بِهِ وَأَخَذَ أَهْلُ الْقَتِيلِ دِيَةَ صَاحِبِهِمْ بَعْدَ قَتْلِ قَاتِلِهِ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَإِذَا قَتَلَ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَأَعْطَى دِيَتَهُ فَقَطْ: سِتِّينَ وَسْقًا. فَلَمَّا أَسْلَمَ نَفَرٌ مِنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ قَتَلَ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا وَاخْتَصَمُوا، فَقَالَتِ النَّضِيرُ: نُعْطِيكُمْ سِتِّينَ وَسْقًا كَمَا كُنَّا اصْطَلَحْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَتْ قُرَيْظَةُ: هَذَا شَيْءٌ فَعَلْتُمُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّكُمْ كَثُرْتُمْ وَقَلَلْنَا فَقَهَرْتُمُونَا، وَنَحْنُ الْيَوْمَ إِخْوَةٌ وَدِينُنَا وَدِينُكُمْ وَاحِدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ- وَكَانَ مُنَافِقًا: انْطَلِقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ- وَكَانَ أَبُو بُرْدَةَ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ إِلَيْهِ فِيهِ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا بَلْ نَنْطَلِقُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. (وَأَبُو بُرْدَةَ- بِدَالٍ بَعْدَ الرَّاءِ- عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ وَفِي الْإِصَابَةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَوَقَعَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ بِزَايٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ اشْتَبَهَ بِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ نَضْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَرْزَةَ كَاهِنًا قَطُّ) . وَنُسِبَ أَبُو بُرْدَةَ الْكَاهِنِ بِالْأَسْلَمِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ كَانَ فِي جُهَيْنَةَ. وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَتِ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا وَاحِدٌ فِي جُهَيْنَةَ وَوَاحِدٌ فِي أَسْلَمَ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ كَهَّانٌ» . وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ تَنَافَرُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ بِشْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ،

وَالْآخَرُ من الْيَهُود تدارءا فِي حَقٍّ، فَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ. وَدَعَاهُ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ لِلْكَاهِنِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْتَشِي، فَيَقْضِي لَهُ، فَنَزَلَتْ فِيهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ مِثْلُ مَا قَالَ قَتَادَةُ، وَلَكِنَّهُ وَصَفَ الْأَنْصَارِيَّ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُصُومَةَ بَيْنَ مُنَافِقٍ وَيَهُودِيٍّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ «لِنَنْطَلِقْ إِلَى مُحَمَّدٍ» وَقَالَ الْمُنَافِقُ «بَلْ نَأْتِي كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ» وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ الطَّاغُوتَ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ مُرَادٌ بِهَا وَاحِدٌ. وَجِيءَ بِاسْمِ مَوْصُولِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ، كَقَوْلِهِمْ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا، لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِ. وَالزَّعْمُ: خَبَرٌ كَاذِبٌ، أَوْ مَشُوبٌ بِخَطَأٍ، أَوْ بِحَيْثُ يَتَّهِمُهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَعْشَى لَمَّا قَالَ يمدح قيسا بْنَ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيَّ: وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ ... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ غَضِبَ قَيْسٌ وَقَالَ: «وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّعْمُ» ، وَقَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7] ، وَيَقُولُ الْمُحَدِّثُ عَنْ حَدِيثٍ غَرِيبٍ فَزَعَمَ فُلَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، أَيْ لِإِلْقَاءِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ زَعَمَ الْخَلِيلُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الزَّعْمُ مَطِيَّةُ الْكَذِبِ. وَيُسْتَعْمَلُ الزَّعْمُ فِي الْخَبَرِ الْمُحَقَّقِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ: زَعَمَ الْعَوَاذِلُ أَنَّنِي فِي غَمْرَةٍ ... صَدَقُوا وَلَكِنْ غَمْرَتِي لَا تَنْجَلِي فَقَوْلُهُ صَدَقُوا هُوَ الْقَرِينَةُ، وَمُضَارِعُهُ مُثَلَّثُ الْعَيْنِ، وَالْأَفْصَحُ فِيهِ الْفَتْحُ. وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِطْلَاقُ الزَّعْمِ عَلَى إِيمَانِهِمْ ظَاهِرٌ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ دَخَلَ الْمَعْطُوفُ فِي حَيِّزِ الزَّعْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا، فَلِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُهُمْ ذَلِكَ زَعْمًا، لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذَا، إِذْ لَوِِْ

كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِهَا حَقًّا، لَمْ يَكُونُوا لِيَتَحَاكَمُوا إِلَى الْكُهَّانِ، وَشَرِيعَةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تُحَذِّرُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ يُرِيدُونَ أَيْ يُحِبُّونَ مَحَبَّةً تَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْبُوبِ. وَالطَّاغُوتُ هُنَا هُمُ الْأَصْنَامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَلَكِنْ فَسَّرُوهُ بِالْكَاهِنِ، أَوْ بِعَظِيمِ الْيَهُودِ، كَمَا رَأَيْتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِتَشْبِيهِ عَظِيمِ الْكُفْرِ بِالصَّنَمِ الْمَعْبُودِ لِغُلُوِّ قَوْمِهِ فِي تَقْدِيسِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَاهِنَ يُتَرْجِمُ عَنْ أَقْوَالِ الصَّنَمِ فِي زَعْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الطَّاغُوتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: 51] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً أَيْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ لَهُمْ، لِأَنَّهُ أَلْقَى فِي نُفُوسِهِمُ الدُّعَاءَ إِلَى تَحْكِيمِ الْكُهَّانِ وَالِانْصِرَافَ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَعْنَى: يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ فَعْلَتِهِمْ هَذِهِ لَوْلَا أَنْ أَيْقَظَهُمُ اللَّهُ وَتَابُوا مِمَّا صَنَعُوا. وَالضَّلَالُ الْبَعِيدُ هُوَ الْكُفْرُ، وَوَصْفُهُ بِالْبَعِيدِ مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الضَّلَالِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ جِنْسٍ ذِي مَسَافَةٍ كَانَ هَذَا الْفَرْدُ مِنْهُ بَالِغًا غَايَةَ الْمَسَافَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِيَ الْأَمَلَا وَقَوْلُهُ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا الْآيَةَ أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمُ احْضُرُوا أَوِ ايتُوا. فَإِنَّ (تَعَالَ) كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ، فَمَفَادُهَا مَفَادُ حَرْفِ النِّدَاءِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَنْبِيهَ فِيهَا. وَقد اخْتلف أئمّة الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّهُ فِعْلٌ أَوِ اسْمُ فِعْلٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ فِعْلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّةِ الْعُلُوِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «الصِّحَاحِ» «وَالتَّعَالِي الِارْتفَاع» ، تَقُولُ مِنْهُ، إِذَا أَمَرْتَ: «تَعَالَ يَا رَجُلُ» ، وَمِثْلُهُ فِي «الْقَامُوسِ» ، وَلِأَنَّهُ تَتَّصِلُ بِهِ ضَمَائِرُ الرَّفْعِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ فِعْلِ الْأَمْرِ، فَذَلِكَ الْبِنَاءُ هُوَ الَّذِي حَدَا فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِبَعِيدٍ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الْعَرَبِ غَيْرُ فَتْحِ اللَّامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ كَسْرُ اللَّامِ فِي قَوْلِ أَبِي فِرَاسٍ: أَيَا جَارَتَا مَا أَنْصَفَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا ... تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي

بِكَسْرِ لَامِ الْقَافِيَةِ الْمَكْسُورَةِ، مَعْدُودًا لَحْنًا. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ- أَيْ فِي زَمَانِ الزَّمَخْشَرِيِّ- يَقُولُونَ تَعَالِي لِلْمَرْأَةِ. فَذَلِكَ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي دَخَلَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِسَبَبِ انْتِشَارِ الدُّخَلَاءِ بَيْنَهُمْ. وَوَجْهُ اشْتِقَاقِ تَعَالَ مِنْ مَادَّةِ الْعُلُوِّ أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا الْمُنَادِيَ فِي عُلُوٍّ وَالْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي سُفْلٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ بُيُوتَهُمْ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ لِأَنَّهَا أَحْصَنُ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَصْلُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى طَلَبِ حُضُورٍ لِنَفْعٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِير فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [104] : «تَعَالَ نِدَاءٌ بِبِرٍّ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ حَيْثُ الْبِرُّ وَحَيْثُ ضِدُّهُ» . وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ: «وَهِيَ لَفْظَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُلُوِّ لَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ وَجَلْبِهِ صِيغَتْ مِنَ الْعُلُوِّ تَحْسِينًا لِلْأَدَبِ كَمَا تَقُولُ: ارْتَفِعْ إِلَى الْحَقِّ وَنَحْوِهِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَالَ لَمَّا كَانَتْ فِعْلًا جَامِدًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُصَاغَ مِنْهُ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَلَا تَقُولُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى حَضَرْتُ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ فَتَقُولُ: لَا تَتَعَالْ. قَالَ فِي «الصِّحَاحِ» «وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ تَعَالَيْتُ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ» . وَفِي «الصِّحَاحِ» عَقِبَهُ «وَتَقُولُ: قَدْ تَعَالَيْتُ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَتَعَالَى» يَعْنِي أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خُصُوصِ جَوَابِ الطَّلَبِ لِمَنْ قَالَ لَكَ تَعَالَ، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا صَاحِبُ «اللِّسَانِ» وَأَغْفَلَ الْعِبَارَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا صَاحِبُ «تَاجِ الْعَرُوسِ» فَرُبَّمَا أَخْطَأَ إِذْ قَالَ: «قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ: تَعَالَيْتُ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَتَعَالَى» وَلَعَلَّ النُّسْخَةَ قَدْ وَقَعَ فِيهَا نَقْصٌ أَوْ خَطَأٌ مِنَ النَّاسِخِ لِظَنِّهِ فِي الْعِبَارَةِ تَكْرِيرًا، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا لِئَلَّا تَقَعَ فِي أَخْطَاءٍ وَحَيْرَةٍ. وَ (تَعَالَوْا) مُسْتَعْمَلٌ هُنَا مَجَازًا، إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ حُضُورٌ وَإِتْيَانٌ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي تَحْكِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَحْكِيمِ الرَّسُولِ فِي حُضُورِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ لَا يَحْكُمُ اللَّهُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَلَامِهِ، وَأَمَّا تَحْكِيمُ الرَّسُولِ فَأُرِيدَ بِهِ تَحْكِيمُ ذَاتِهِ لِأَنَّ الْقَوْمَ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ (صُدُودًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِتَنْوِينِ صُدُوداً لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَنْوِين تَعْظِيم.

[سورة النساء (4) : الآيات 62 إلى 63]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 62 إِلَى 63] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: 61] الْآيَةَ، لِأَنَّ الصُّدُودَ عَنْ ذَلِكَ يُوجِبُ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمُ اللَّهُ بِمُصِيبَةٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، مِثْلَ انْكِشَافِ حَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيُعْرَفُوا بِالْكُفْرِ فَيُصْبِحُوا مُهَدَّدِينَ، أَوْ مُصِيبَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَأَنْ يَقْتُلُوهُمْ لِنِفَاقِهِمْ فَيَجِيئُوا يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِالتَّحَاكُمِ إِلَى أَهْلِ الطَّاغُوتِ إِلَّا قَصْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا وَعِيد لَهُم لِأَنَّ إِذا لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَالْفِعْلَانِ بَعْدَهَا: وهما أَصابَتْهُمْ وجاؤُكَ مُسْتَقْبَلَانِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقتلُوا تقتيلا» . وفَكَيْفَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ: أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوا فَيَجِيئُونَكَ مُعْتَذِرِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ، كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ. وَتَرْكِيبُ «كَيْفَ بِكَ» يُقَالُ إِذَا أُرِيدَتْ بِشَارَةٌ أَوْ وَعِيدٌ تَعْجِيبًا أَوْ تَهْوِيلًا. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ: «كَيفَ بك إِذْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى» بِشَارَةً بِأَنَّ سِوَارَيْ كِسْرَى سَيَقَعَانِ بِيَدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِسِوَارَيْ كِسْرَى فِي غَنَائِمِ فتح فَارس ألبسهما عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ تَحْقِيقًا لِمُعْجِزَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: 25] وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ جَاءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ لِلسَّامِعِينَ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، لِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ مَا جَعَلَهُمْ كَالْمُشَاهَدِينَ، وَأَرَادَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمُ الْكُفْرَ الَّذِي أَبْطَنُوهُ وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ. وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الشَّيْءِ بِقَصْدِ التَّبَاعُدِ عَنْهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، فَلَعَلَّ أَصْلَ الْهَمْزَةِ فِي فِعْلِ أَعْرَضَ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ، أَيْ دَخَلَ فِي عُرْضِ الْمَكَانِ، أَوِ الْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ صَارَ ذَا عُرْضٍ، أَيْ جَانِبٍ، أَيْ أَظْهَرَ جَانِبَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ وَجْهَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا فِي التَّرْكِ وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُحَادَثَةِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِعْرَاضَ غَالِبًا، يُقَالُ: أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَام: 68] وَلِذَلِكَ كَثُرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَشْعَارِ الْمُتَيَّمِينَ رَدِيفًا لِلصُّدُودِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْمَعَانِي إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَقَدْ شَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعَفْوِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَشْبِيهِ حَالَةِ مَنْ يَعْفُو بِحَالَةِ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الشَّيْءِ فَيُوَلِّيهِ عُرْضَ وَجْهِهِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ صَفَحَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُشْتَقًّا مِنْ صَفْحَةِ الْوَجْهِ، أَيْ جَانِبِهِ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَالْوَعْظُ: الْأَمْرُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ بِطَرِيقَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ وَتَرْقِيقٌ يَحْمِلَانِ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْمَوْعِظَةُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النِّسَاء: 58] . فَهَذَا الْإِعْرَاضُ إِعْرَاضُ صَفْحٍ أَوْ إِعْرَاضُ عَدَمِ الْحُزْنِ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِصُدُودِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً، وَذَلِكَ إِبْلَاغٌ لَهُمْ فِي الْمَعْذِرَةِ، وَرَجَاءٌ لِصَلَاحِ حَالِهِمْ،. شَأْنَ النَّاصِحِ السَّاعِي بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى الْإِرْشَادِ وَالْهُدَى. وَالْبَلِيغُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى بَالِغٌ بُلُوغًا شَدِيدًا بِقُوَّةٍ، أَيْ: بَالِغًا إِلَى نُفُوسِهِمْ مُتَغَلْغِلًا فِيهَا. وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ بَلِيغًا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ بِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ قُلْ لَهُمْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، فَظَرْفِيَّةُ (فِي) ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِظَرْفٍ لِلْقَوْلِ

[سورة النساء (4) : آية 64]

[64] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ الْخَبَرِ عَنْ قَضِيَّةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى الْغَرَضِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْإِنْحَاءُ عَلَيْهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِنِفَاقِهِمْ: بِبَيَانِ أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ إِذْ مَا جَاءَ الرَّسُولُ إِلَّا لِيُطَاعَ فَكَيْفَ يُعْرَضُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (يُطَاعَ) أَيْ مُتَلَبِّسًا فِي ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِهِ وَوِصَايَتِهِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الشَّرَائِعِ بِدُونِ امْتِثَالِهَا. فَمِنَ الرُّسُلِ مَنْ أُطِيعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُصِيَ تَارَةً أَوْ دَائِمًا، وَقَدْ عُصِيَ مُوسَى فِي مَوَاقِعَ، وَعُصِيَ عِيسَى فِي مُعْظَمِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يُعْصَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْمُحِقِّينَ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ، مِثْلِ مَا وَقَعَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ إِذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَصَيْتُمْ [آل عمرَان: 152] ، وَإِنَّمَا هُوَ عِصْيَانٌ بِتَأَوُّلٍ، وَلَكِنَّهُ اعْتُبِرَ عِصْيَانًا لِكَوْنِهِ فِي الْوَاقِعِ مُخَالَفَةً لِأَمْرِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الرِّسَالَةِ تَأْيِيدَ الرَّسُولِ بِالسُّلْطَانِ، وَكَوْنَ السُّلْطَانِ فِي شَخْصِهِ لِكَيْلَا يَكُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تَمَّ هَذَا الْمَظْهَرُ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ نَبِيءُ الْمَلَاحِمِ، وَقَدِ ابْتَدَأَتْ بَوَارِقُ ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ تُسْتَكْمَلْ، وَكَمُلَتْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الْحَدِيد: 25] وَلَا أَحْسَبُهُ أَرَادَ بِرُسُلِهِ إِلَّا رَسُوله مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ فِيهِمْ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) . عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النِّسَاء: 62] تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى تَحَاكُمِهِمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِصْيَانًا عَلَى عِصْيَانٍ، فَإِنَّهُمْ مَا كَفَاهُمْ أَنْ أَعْرَضُوا عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ حَتَّى زَادُوا فَصَدُّوا عَمَّنْ قَالَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ. فَلَوِ

[سورة النساء (4) : آية 65]

اسْتَفَاقُوا حِينَئِذٍ مِنْ غُلَوَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ إِرَادَتَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الْكُفَّارِ وَالْكَهَنَةِ جَرِيمَةٌ يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا. وَفِي ذِكْرِ (لَوْ) وَجَعْلِ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً جَوَابًا لَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ حُرِمُوا الْغُفْرَانَ. وَكَانَ فِعْلُ هَذَا الْمُنَافِقِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ. لِأَنَّهُ أَقْحَمَهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، فَجَرَّ لَهَا عِقَابَ الْآخِرَةِ وَعَرَّضَهَا لِمَصَائِبِ الِانْتِقَامِ فِي العاجلة. [65] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 65] فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النِّسَاء: 60] وَمَا بَعْدَهُ إِذْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَكَانَ الزَّعْمُ إِشَارَةً إِلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ أُرْدِفَ بِمَا هُوَ أَصْرَحُ وَهُوَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ تُنَافِي كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ وَبِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وأصل الْكَلَام: فو ربّك لَا يُؤْمِنُونَ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جَوَابُ الْقَسَمِ مَنْفِيًّا لِلتَّعْجِيلِ بِإِفَادَةِ أَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ قَسَمٌ عَلَى النَّفْيِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا، فَتَقْدِيمُ النَّفْيِ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ: فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا ... وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا وَيَكْثُرُ أَنْ يَأْتُوا مَعَ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ بِحَرْفِ نَفْيٍ مِثْلِهِ فِي الْجَوَابِ لِيَحْصُلَ مَعَ الِاهْتِمَامِ التَّأْكِيدُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْأَكْثَرُ، وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَقْدِيمَ (لَا) عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ إِبْطَالًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَوَقَعَ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: لَا وَالَّذِي هُوَ عَالِمٌ أَنَّ النَّوَى ... صَبْرٌ وَأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَرِيمُ وَلَيْسَتْ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي تَرِدُ مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ مَزِيدَةً وَالْكَلَامُ مَعَهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ لَا أُقْسِمُ [الْقِيَامَة: 1] وَفِي غَيْرِ الْقسم نَحْو لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الْحَدِيد: 29] ، لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَ الْكَلَامُ مَعَهَا

عَلَى النَّفْيِ، وَهَذِهِ الْكَلَامُ مَعَهَا نَفْيٌ، فَهِيَ تَأْكِيدٌ لَهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ خِلَافًا لِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوَاقِعُ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ مُتَّحِدَةً فِي الْمَوَاقِعِ الْمُتَقَارِبَةِ. وَقَدْ نُفِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي حَالٍ يَظُنُّهُمُ النَّاسُ مُؤْمِنِينَ، وَلَا يَشْعُرُ النَّاسُ بِكُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ الْخَبَرُ لِلتَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ وَبِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، لِأَنَّهُ كَشْفٌ لِبَاطِنِ حَالِهِمْ. وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ: الْغَايَةُ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِثُمَّ، مَعًا، فَإِنْ هُمْ حَكَّمُوا غَيْرَ الرَّسُولِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، أَيْ إِذَا كَانَ انْصِرَافُهُمْ عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ لِلْخَشْيَةِ مِنْ جَوْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ فَافْتَضَحَ كُفْرَهُمْ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ الْأُمَّةَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ وَلَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِنْ حُكْمِهِ، أَيْ حَرَجًا يَصْرِفُهُمْ عَنْ تَحْكِيمِهِ، أَوْ يُسْخِطُهُمْ مَنْ حُكْمِهِ بَعْدَ تَحْكِيمِهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنْصَرِفُونَ عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ وَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِنْ قَضَائِهِ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْأَحْرَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَرَجَ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْ كَرَاهِيَةِ مَا يُلْزَمُ بِهِ إِذَا لَمْ يُخَامِرْهُ شَكٌّ فِي عَدْلِ الرَّسُولِ وَفِي إِصَابَتِهِ وَجْهَ الْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ كَيْفَ يَكُونُ الْإِعْرَاضُ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ كُفْرًا، سَوَاءً كَانَ مِنْ مُنَافِقٍ أَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ، إِذْ قَالَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ «وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا الله مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ- ثُمَّ قَالَ- إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، لِأَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ لَا يَحْتَمِلُ الْحَيْفَ إِذْ لَا يُشَرِّعُ اللَّهُ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا يُخَالِفُ الرَّسُولُ فِي حُكْمِهِ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ حُكْمِ غَيْرِ الرَّسُولِ فَلَيْسَ بِكُفْرٍ إِذَا جَوَّزَ الْمُعْرِضُ عَلَى الْحَاكِمِ عَدَمَ إِصَابَتِهِ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَدَمَ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ كَرِهَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ حُكْمَ أَبِي بَكْرٍ وَحُكْمَ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ مَا تَرَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ فَدَكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ. وَقد قَالَ عَيْنِيَّة بْنُ حِصْنٍ لِعُمَرَ: «إِنَّكَ لَا تَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا تَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ» فَلَمْ يُعَدُّ طَعْنُهُ فِي حُكْمِ عُمَرَ كُفْرًا

مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ التقاضي لَدَى قَاضِي يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ قَدْ يَكُونُ لِلطَّعْنِ فِي الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ الثَّابِتِ كَوْنِهَا حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كُفْرٌ لِدُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا [النُّور: 50] وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى إِذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ مُلَائِمًا لِهَوَى الْمَحْكُومِ لَهُ، وَهَذَا فُسُوقٌ وَضَلَالٌ، كَشَأْنِ كُلِّ مُخَالَفَةٍ يُخَالِفُ بِهَا الْمُكَلَّفُ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ لِاتِّبَاعِ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلطَّعْنِ فِي الْحَاكِمِ وَظَنِّ الْجَوْرِ بِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ، وَهَذَا فِيهِ مَرَاتِبُ بِحَسَبِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِصَافِ من الْحَاكِم وتقوميه، وَسَيَجِيءُ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [44] . وَمَعْنَى شَجَرَ تَدَاخَلَ وَاخْتَلَفَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْإِنْصَافُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّجَرِ لِأَنَّهُ يَلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَتَلْتَفُّ أَغْصَانُهُ. وَقَالُوا: شَجَرَ أَمْرُهُمْ، أَيْ كَانَ بَيْنَهُمُ الشَّرُّ. وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ الشَّدِيدُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: 125] . وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ عَلَى مَا قَبْلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَضِيَّةُ الْخُصُومَةِ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْمُنَافِقِ، وَتَحَاكُمِ الْمُنَافِقِ فِيهَا لِلْكَاهِنِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ الزُّبَيْرِ: أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي خُصُومَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدِ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ (أَيْ مَسِيلِ مِيَاهٍ جَمْعُ شَرْجٍ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَهُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ يَأْتِي مِنْ حَرَّةِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْحَوَائِطِ الَّتِي بِهَا) إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَأَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْجَدْرَ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ (وَالْجَدْرُ هُوَ مَا يُدَارُ بِالنَّخْلِ مِنَ التُّرَابِ كَالْجِدَارِ) فَكَانَ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ صُلْحًا، وَكَانَ قَضَاؤُهُ الثَّانِي أَخْذًا بِالْحَقِّ، وَكَأَنَّ هَذَا الْأنْصَارِيّ ظمّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الصُّلْحَ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ تَوْفِيرٌ لِحَقِّ الزُّبَيْرِ جَبْرًا لِخَاطِرِهِ، وَلَمْ يَرَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ مُتَفَاوِتِينَ فِي الْعِلْمِ بِحَقَائِقِ صِفَاتِ الرَّسُولِ مَدْفُوعِينَ فِي سَبْرِ النُّفُوسِ بِمَا اعْتَادُوهُ مِنَ الْأَمْيَالِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْعِصْمَةِ. وَلَيْسَ هَذَا الْأَنْصَارِيُّ بِمُنَافِقٍ وَلَا شَاكٍّ

[سورة النساء (4) : الآيات 66 إلى 68]

فِي الرَّسُولِ، فَإِنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِالْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ وَصْفٌ لِخِيرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا وَصَفُوهُ بِالْمُنَافِقِ، وَلَكِنَّهُ جَهِلَ وَغَفَلَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُ. وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي التَّكْفِيرِ بِلَازِمِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفِيهَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِابْنِ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فِي كِتَابِ «الْجَنَائِزِ» وَكِتَابِ «الْمُرْتَدِّينَ» . خُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا عَلَى مَا يَلْزَمُ قَوْلَهُ مِنْ لَازِمِ الْكُفْرِ فَإِنِ الْتَزَمَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ عُدَّ كَافِرًا، لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَغْفُلُ عَنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَيُؤْخَذُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مِنْ أُسْلُوبِ الْآيَةِ لِقَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- تَسْلِيماً فَنَبَّهَ الْأَنْصَارِيُّ بِأَنَّهُ قَدِ الْتَبَسَ بِحَالَةٍ تُنَافِي الْإِيمَانَ فِي خَفَاءٍ إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَاقِبَتِهَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَالْأَنْصَارِيُّ، قِيلَ: هُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَحَبَّذَا إِخْفَاؤُهُ، وَقِيلَ: هُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ سَهْوٌ مِنْ مُؤَلِّفِهِ، وَقِيلَ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ إِيمَانُهُمْ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْحَادِثَتَيْنِ وَقَعَتَا فِي زَمَنٍ مُتَقَارِبٍ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ حَادِثَةِ بِشْرٍ الْمُنَافِقِ فَظَنَّهَا الزُّبَيْرُ نَزَلَتْ فِي حَادِثَتِهِ مَعَ الْأنْصَارِيّ. [66- 68] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 66 إِلَى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ لِيُعْطَفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ لَيْسَ أَوْلَى بِالِامْتِثَالِ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ أَنَّا كَلَّفْنَاهُمْ بِالرِّضَا بِمَا هُوَ دُونَ قَطْعِ الْحُقُوقِ لَمَا رَضُوا، بَلِ الْمَفْرُوضُ هُنَا أَشُدُّ عَلَى النُّفُوسِ مِمَّا عَصَوْا فِيهِ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَجْهُ اتِّصَالِهَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا أَسْخَفَ هَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ ثُمَّ لَا

يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَنَحْنُ قَدْ أَمَرَنَا نَبِيئُنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا وَبَلَغَتِ الْقَتْلَى مِنَّا سَبْعِينَ أَلْفًا فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: لَوْ كُتِبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ عَنِ السِّيَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قِيلَ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ بَلْ قِيلَ: لَفَعَلَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْفَخْرُ: هِيَ تَوْبِيخٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَيْ لَوْ شَدَّدْنَا عَلَيْهِمُ التَّكْلِيفَ لَمَا كَانَ مِنَ الْعَجَبِ ظُهُورُ عِنَادِهِمْ، وَلَكِنَّا رَحِمْنَاهُمْ بِتَكْلِيفِهِمُ الْيُسْرَ فَلْيَتْرُكُوا الْعِنَادَ. وَهِيَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْتِثَالِ الرَّسُولِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلَّا الْيُسْرَ، كُلُّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ. وَعِنْدِي أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ هُنَا مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ تَهْيِئَةً لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النِّسَاء: 71] وَأَنَّ الْمُرَادَ بِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ الْهِجْرَةُ، أَيْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ هِجْرَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا قَلِيلٌ- بِالرَّفْعِ- عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي مَا فَعَلُوهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ. وَمَعْنَى مَا يُوعَظُونَ بِهِ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاء: 63] ، أَيْ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَمْرَ تَحْذِيرٍ وَتَرْقِيقٍ، أَيْ مَضْمُونُ مَا يُوعَظُونَ لِأَنَّ الْوَعْظَ هُوَ الْكَلَامُ وَالْأَمْرُ، وَالْمَفْعُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، أَيْ لَوْ فَعَلُوا كُلَّ مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ. وَكَوْنُهُ خَيْرًا أَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَشَدَّ تَثْبِيتاً يَحْتَمِلُ أَنَّهُ التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ فَسَّرُوهُ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ أَشَدُّ تَثْبِيتًا لَهُمْ، أَيْ لِبَقَائِهِمْ بَيْنَ أَعْدَائِهِمْ وَلِعِزَّتِهِمْ وَحَيَاتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ اسْتِبْقَاءً لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الْمُهَاجَرَةَ حُبًّا لِأَوْطَانِهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْجِهَادَ وَالتَّغَرُّبَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَشَدُّ تَثْبِيتًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَذُودُ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ: تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ ... لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا

وَمِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ خَيْرُ الدُّنْيَا، وَبِالتَّثْبِيتِ التَّثْبِيتُ فِيهَا، قَوْلُهُ عَاطِفًا عَلَيْهِ وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَجُمْلَةُ وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَوَابِ (لَوْ) ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكَانَ خَيْرًا وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَلَآتَيْنَاهُمْ إِلَخْ، وَوُجُودُ اللَّامِ الَّتِي تَقَعُ فِي جَوَابِ (لَوْ) مُؤْذِنٌ بِذَلِكَ. وَأَمَّا وَاوُ الْعَطْفِ فَلِوَصْلِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا (إِذَنْ) فَهِيَ حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، أَيْ فِي مَعْنَى جَوَابٍ لِكَلَامٍ سَبَقَهَا وَلَا تَخْتَصُّ بِالسُّؤَالِ، فَأُدْخِلَتْ فِي جَوَابِ (لَوْ) بِعَطْفِهَا عَلَى الْجَوَابِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْجَزَاءِ، فَقَدْ أُجِيبَتْ (لَوْ) فِي الْآيَةِ بِجَوَابَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، وَلَا يَحْسُنُ اجْتِمَاعُ جَوَابَيْنِ إِلَّا بِوُجُودِ حَرْفِ عَطْفٍ. وَقَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْعَنْبَرِيِّ فِي الْحَمَاسَةِ: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شِيبَانَا إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لَوْثَةٍ لَانَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذَنْ لَقَامَ) جَوَابَ: (لَوْ كُنْتَ مِنْ مَازِنٍ) فِي الْبَيْتِ السَّابِقِ كَأَنَّهُ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ: قِيلَ وَمَاذَا يَكُونُ لَهُمْ بَعْدَ التَّثْبِيتِ، فَقِيلَ: وَإِذَنْ لآتيناهم. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: «عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ» ، أَيْ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُنَافِي تَقْدِيرَ سُؤَالٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا الْتِزَامَ كَوْنِ (إِذَنْ) حَرْفًا لِجَوَابِ سَائِلٍ، وَالْوَجْهُ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ مَا يُتَلَقَّى بِهِ كَلَامٌ آخَرُ سَوَاءً كَانَ سُؤَالًا أَوْ شَرْطًا أَوْ غَيْرَهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ لَفَتَحْنَا لَهُمْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، لِأَنَّ تَصَدِّيَهُمْ لِامْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ هُوَ مَبْدَأُ تَخْلِيَةِ النُّفُوسِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِأَوْهَامِهَا وَعَوَائِدِهَا الْحَاجِبَةِ لَهَا عَنْ دَرَكِ الْحَقَائِق، فَإِذا ابتدأوا يَرْفُضُونَ هَذِهِ الْمَوَاقِعَ فَقَدِ اسْتَعَدُّوا لِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ فَفَاضَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَارِفُ تَتْرَى بِدَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَبِتَيْسِيرِ اللَّهِ صَعْبَهَا بِأَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّاعَةَ مِفْتَاحُ الْمَعَارِفِ بَعْدَ تعَاطِي أَسبَابهَا.

[سورة النساء (4) : الآيات 69 إلى 70]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 69 إِلَى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: 67] وَإِنَّمَا عُطِفَتْ بِاعْتِبَارِ إِلْحَاقِهَا بِجُمْلَةِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ [النِّسَاء: 66] . وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى جَدَارَتِهِمْ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الْمَنْزِلَةِ فِي الْجَنَّةِ وَإِن وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَجَاتُ مُتَفَاوِتَةً. وَمَعْنَى مَنْ يُطِعِ مَنْ يَتَّصِفُ بِتَمَامِ مَعْنَى الطَّاعَةِ، أَيْ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَدَلَّتْ (مَعَ) عَلَى أَنَّ مَكَانَةَ مَدْخُولِهَا أَرْسَخُ وَأَعْرَفُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» . وَالصِّدِّيقُونَ هُمُ الَّذِينَ صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ ابْتِدَاءً، مِثْلَ الْحَوَارِيِّينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَهُمْ مَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَالصَّالِحُونَ الَّذِينَ لَزِمَتْهُمُ الِاسْتِقَامَةُ. وَ (حَسُنَ) فِعْلٌ مُرَادٌ بِهِ الْمَدْحُ مُلْحَقٌ بِنِعْمَ وَمُضَمَّنٌ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ حُسْنِهِمْ، وَذَلِكَ شَأْنُ فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مِنَ الثُّلَاثِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ بِحَسَبِ مَادَّتِهِ مَعَ التَّعَجُّبِ. وَأَصْلُ الْفِعْلِ حَسَنَ- بِفَتْحَتَيْنِ- فَحُوِّلَ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- لِقَصْدِ الْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ. وأُولئِكَ فَاعِلُ حَسُنَ. ورَفِيقاً تَمْيِيزٌ، أَيْ مَا أَحْسَنَهُمْ حَسُنُوا مِنْ جِنْسِ الرُّفَقَاءِ. وَالرَّفِيقُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَفِي حَدِيثِ الْوَفَاةِ «الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» . وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ أَنْوَاعٌ، وَأَصْنَافٌ، وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي قُوَّةِ هَذَا الْفَضْلِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ الرَّجُلُ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُمُ النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُمْ وَالْجَزَاءُ بِيَدِهِ فَهُوَ يُوَفِّيهِمُ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ مَا عَلِمَ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي هَذِه السُّورَة.

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 73]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 71 إِلَى 73] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) اسْتِئْنَافٌ وَانْتِقَالٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ بِمُنَاسَبَةٍ لَطِيفَةٍ، فَإِنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ إِلَى ذِكْرِ أَشَدِّ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ ذِكْرِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَالُ أَدْعَى إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الشَّهَادَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْخِلَالِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهَا الْمُمْكِنَةِ النَّوَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ لَا مَحَالَةَ إِلَى تَهْيِئَةِ غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ لِأَنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ غَزْوَةُ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَلَيْسَتْ نَازِلَةً فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَازُونَ لَا مَغْزُوُّونَ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ إِلَى قَوَاعِدِ الِاسْتِعْدَادِ لِغَزْوِ الْعَدُوِّ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْعَدُوِّ الْكَاشِحِ، وَمِنَ الْعَدُوِّ الْكَائِدِ، وَلَعَلَّهَا إِعْدَادٌ لِغَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ كَانَتْ مُدَّةَ اشْتِدَادِ التَّأَلُّبِ مِنَ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِنُصْرَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالذَّبِّ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ [النِّسَاء: 75] إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 141] فَإِنَّ اسْمَ الْفَتْحِ أُرِيدَ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: 27] . وَابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ. وَهِيَ أَكْبَرُ قَوَاعِدِ الْقِتَالِ لِاتِّقَاءِ خُدَعِ الْأَعْدَاءِ. وَالْحَذَرُ: هُوَ تَوَقِّي الْمَكْرُوهِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ مِنْ هُدْنَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ وَأَنْصَارَهُ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ مُنَافِقُونَ هُمْ أَعْدَاءٌ فِي صُورَةِ أَوْلِيَاءَ، وَهُمُ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ- إِلَى- فَوْزاً عَظِيماً. وَلَفْظُ خُذُوا اسْتِعَارَةٌ لِمَعْنَى شِدَّةِ الْحَذَرِ وَمُلَازَمَتِهِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَخْذِ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ بَعِيدًا عَنْكَ. وَلَمَّا كَانَ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ يُشْبِهَانِ الْبُعْدَ وَالْإِلْقَاءَ كَانَ التَّذَكُّرُ وَالتَّيَقُّظُ يُشْبِهَانِ أَخْذَ الشَّيْءِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ، كَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَاف: 199] ، وَقَوْلِهِمْ: أَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا وَمِيثَاقًا. وَلَيْسَ الْحَذَرُ مَجَازًا فِي السِّلَاحِ كَمَا تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النِّسَاء: 102] . فَعَطَفَ السِّلَاحَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً تَفْرِيعٌ عَنْ أَخْذِ الْحَذَرِ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا حِذْرَهُمْ تَخَيَّرُوا أَسَالِيبَ الْقِتَالِ بِحَسَبِ حَالِ الْعَدُوِّ. وانْفِرُوا بِمَعْنَى اخْرُجُوا لِلْحَرْبِ، وَمَصْدَرُهُ النَّفْرُ، بِخِلَافِ نَفَرَ ينفر- بضمّ الْعين- فِي الْمُضَارِعِ فَمَصْدَرُهُ النُّفُورُ. وَ (ثُبَاتٍ) بِضَمِّ الثَّاءِ جَمْعُ ثُبَةٍ- بِضَمِّ الثَّاءِ أَيْضًا- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَأَصْلُهَا ثُبَيَةٌ أَوْ ثُبَوَةٌ بِالْيَاءِ أَو بِالْوَاو، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بِالْوَاوِ، لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي بَقِيَ مِنْ أُصُولِهَا حَرْفَانِ وَفِي آخرهَا هَاء للتأنيث أَصْلُهَا الْوَاوُ نَحْوَ عِزَةٌ وَعِضَةٌ فَوَزْنُهَا فِعَةٌ، وَأَمَّا ثُبَةُ الْحَوْضِ، وَهِيَ وَسَطُهُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَهِيَ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ إِذَا رَجَعَ، وَأَصْلُهَا ثُوَبَةٌ فَخُفِّفَتْ فَصَارَتْ بِوَزْنِ فُلَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا تُصَغَّرُ عَلَى ثُوَيْبَةٍ، وَأَنَّ الثُّبَةَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ تُصَغَّرُ عَلَى ثُبَيَّةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: «رُبَّمَا تَوَهَّمَ الضَّعِيفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا» وَمَعَ هَذَا فَقَدَ جَعَلَهُمَا صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَسَنٌ، إِذْ قَدْ تَكُونُ ثُبَةُ الْحَوْضِ مَأْخُوذَةً مِنَ الِاجْتِمَاعِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ التَّصْغِيرِ بِسَمَاعٍ صَحِيحٍ. وَانْتَصَبَ ثُباتٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ: مُتَفَرِّقِينَ، وَمَعْنَى جَمِيعاً جَيْشًا وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أَيْ مِنْ جَمَاعَتِكُمْ وَعِدَادِكُمْ، وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي خَلْوَتِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنْ أَبْطَأَ عَنِ الْجِهَادِ لَا يَقُولُ: «قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا» ، فَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمِثْلِ هَذَا صَرَاحَةً فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إِلَى قَوْلِهِ:

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 138- 141] . وَعَلَى كَوْنِ المُرَاد ب لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَمَلَ الْآيَةَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ ضَعَفَةُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَثَاقَلُونَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى أَنْ يَتَّضِحَ أَمْرُ النَّصْرِ. قَالَ الْفَخْرُ «وَهَذَا اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ» وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى ومِنْكُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِأَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى بِالِاسْتِغْرَابِ. وَبَطَّأَ- بِالتَّضْعِيفِ- قَاصِرٌ، بِمَعْنَى تَثَاقَلَ فِي نَفْسِهِ عَنْ أَمْرٍ، وَهُوَ الْإِبْطَاءُ عَنِ الْخُرُوجِ إِبْطَاءٌ بِدَاعِي النِّفَاقِ أَوِ الْجُبْنِ. وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْرِيضَ بِهِ، مَعَ كَوْنِ الْخَبَرِ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ لَا تُوصَفُ بِالْمَجَازِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ تَفْرِيعٌ عَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، إِذْ هَذَا الْإِبْطَاءُ تَارَةً يَجُرُّ لَهُ الِابْتِهَاجَ بِالسَّلَامَةِ، وَتَارَةً يَجُرُّ لَهُ الْحَسْرَة والندامة. و (الْمُصِيبَة) اسْمٌ لِمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَرٍّ، وَالْمُرَادُ هُنَا مُصِيبَةُ الْحَرْبِ أَعْنِي الْهَزِيمَةَ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ. وَمَعْنَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِنْعَامُ بِالسَّلَامَةِ: فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَوَصْفُ ذَلِكَ بِالنِّعْمَةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَتْلَ عِنْدَهُمْ مُصِيبَةٌ مَحْضَةٌ إِذْ لَا يَرْجُونَ مِنْهُ ثَوَابًا وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَدْ عَدَّ نِعْمَةَ الْبَقَاءِ أَوْلَى مِنْ نِعْمَةِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ لِشِدَّةِ الْجُبْنِ، وَهَذَا مِنْ تَغْلِيبِ الدَّاعِي الْجِبِلِّيِّ عَلَى الدَّاعِي الشَّرْعِيِّ. وَالشَّهِيدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِمَّا بِمَعْنَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهِدِ لِلْقِتَالِ، وَإِمَّا تَهَكُّمٌ مِنْهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: 7] وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الشَّهِيدُ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ الْقَتِيلُ فِي الْجِهَادِ. وَأُكِّدَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ، بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَبِلَامِ جَوَابِ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ، تَنْبِيهًا عَلَى غَرِيبِ حَالَتِهِ حَتَّى يُنَزَّلَ سَامِعُهَا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْفَضْلِ الْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ. وَهَذَا الْمُبَطِّئُ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ الْجَيْشِ لِيَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا، وَهُوَ الْفَوْزُ

بِالْغَنِيمَةِ وَالْفَوْزُ بِأَجْرِ الْجِهَادِ، حَيْثُ وَقَعَتِ السَّلَامَةُ وَالْفَوْزُ بِرِضَا الرَّسُولِ، وَلذَلِك أتبع فَأَفُوزَ بِالْمَصْدَرِ وَالْوَصْفِ بِعَظِيمٍ. وَوَجْهٌ غَرِيبٌ حَالُهُ أَنَّهُ أَصْبَحَ مُتَلَهِّفًا عَلَى مَا فَاتَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَوَدُّ أَنْ تَجْرِيَ الْمَقَادِيرُ عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ، فَإِذَا قَعَدَ عَنِ الْخُرُوجِ لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ. وَالْمَوَدَّةُ الصُّحْبَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْمَوَدَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الصُّورِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً إِنْ أُرِيدَ ضَعَفَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي حِينِ هَذَا الْقَوْلِ بِحَالِ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ مَوَدَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ صُورِيَّةٌ، فَاقْتَضَى التَّشْبِيهُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَوَجْهُ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنَّهُ لَمَّا تَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ وَتَحَسَّرَ عَلَى فَوَاتِ فَوْزِهِ لَوْ حَضَرَ مَعَهُمْ، كَانَ حَالُهُ فِي تَفْرِيطِهِ رُفْقَتَهُمْ يُشْبِهُ حَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اتِّصَالٌ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَشْهَدُ مَا أَزْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، فَهَذَا التَّشْبِيهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ زِيَادَةِ تَنْدِيمِهِ وَتَحْسِيرِهِ، أَيْ أَنَّهُ الَّذِي أَضَاعَ عَلَى نَفْسِهِ سَبَبَ الِانْتِفَاعِ بِمَا حَصَلَ لِرُفْقَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ مِنَ الْخِلْطَةِ مَعَ الْغَانِمِينَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي خُرُوجِهِ مَعَهُمْ، وَانْتِفَاعِهِ بِثَوَابِ النَّصْرِ وَفَخْرِهِ وَنِعْمَةِ الْغَنِيمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمْ يَكُنْ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَهُوَ طَرِيقَةٌ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ لِمَا لَفْظُهُ مُؤَنَّثٌ غَيْرُ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، مِثْلَ لَفْظِ مَوَدَّةٌ هُنَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فَصْلٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ- عَلَامَةِ الْمُضَارِعِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ اعْتِبَارًا بِتَأْنِيثِ لفظ مودّة.

[سورة النساء (4) : الآيات 74 إلى 76]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 74 إِلَى 76] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) الْفَاءُ: إِمَّا لِلتَّفْرِيعِ، تَفْرِيعُ الْأَمْرِ عَلَى الْآخَرِ، أَيْ فُرِّعَ فَلْيُقاتِلْ عَلَى خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا [النِّسَاء: 71] ، أَوْ هِيَ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَفْصَحَتْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [72] لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ اقْتَضَى الْأَمْرَ بِأَخْذِ الحذر، وَهُوَ مهيّء لِطَلَبِ الْقِتَالِ وَالْأَمْرِ بِالنَّفِيرِ وَالْإِعْلَامِ بِمَنْ حَالُهُمْ حَالُ الْمُتَرَدِّدِ الْمُتَقَاعِسِ، أَيْ فَإِذَا عَلِمْتُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ لَا كُلُّ أَحَدٍ. ويَشْرُونَ مَعْنَاهُ يَبِيعُونَ، لِأَنَّ شَرَى مُقَابِلُ اشْتَرَى، مِثْلَ بَاعَ وَابْتَاعَ وَأَكْرَى وَاكْتَرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] . فَالَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هُمُ الَّذِينَ يَبْذُلُونَهَا وَيَرْغَبُونَ فِي حَظِّ الْآخِرَةِ. وَإِسْنَادُ الْقِتَال الْمَأْمُور بِعْ إِلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَهِيَ: يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضْلِ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَذْلُهُمْ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا لِطَلَبِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَفَضِيحَةِ أَمْرِ الْمُبَطِّئِينَ حَتَّى يَرْتَدِعُوا عَنِ التَّخَلُّفِ، وَحَتَّى يَكْشِفَ الْمُنَافِقُونَ عَنْ دَخِيلَتِهِمْ، فَكَانَ

مَعْنَى الْكَلَامِ: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَإِنَّهُمْ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ مُخْتَصٌّ بِفَرِيقٍ دُونَ آخَرَ، لِأَنَّ بَذْلَ الْحَيَاةِ فِي الْحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ شَيْءٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ حَتَّى يُعَلَّقَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَمَائِرُ بَيْنَ الْعِبَادِ وَرَبِّهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْرِ إِلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَتَحْقِيرُ الْمُبَطِّئِينَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرُجِي» . فَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِوَجْهٍ لَا يَعْتَرِيهِ إِشْكَالٌ. وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَغْلِبْ أَصْنَافُ الْغَلَبَةِ عَلَى الْعَدُوِّ بِقَتْلِهِمْ أَوْ أَسْرِهِمْ أَوْ غُنْمِ أَمْوَالِهِمْ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَالْغَلَبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ وَلَمْ يَزِدْ أَوْ يُؤْسَرْ إِبَايَةً مِنْ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ حَالَةً ذَمِيمَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ حَالَةُ الْأَسْرِ فَسَكَتَ عَنْهَا لِئَلَّا يَذْكُرَهَا فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْضًا إِذَا بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْحَرْب فعلب إِذِ الْحَرْبُ لَا تَخْلُو مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ أَنْ يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ الِاسْتِبْسَالُ، فَإِنَّ مِنْ مَنَافِعِ الْإِسْلَامِ اسْتِبْقَاءَ رِجَالِهِ لِدِفَاعِ الْعَدُوِّ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ طَرِيقُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ إِلَى طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ. وَمَعْنَى مَا لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْقِتَالِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَيُّ شَيْءٍ حَقٌّ لَكُمْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ، فَجُمْلَةُ لَا تُقاتِلُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا شَيْءَ لَكُمْ فِي حَالِ لَا تُقَاتِلُونَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي هُوَ لَكُمْ هُوَ أَنْ تُقَاتِلُوا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ، أَيْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَصُدُّكُمْ شَيْءٌ عَنِ الْقِتَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وَمَعْنَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَجْلِ دِينِهِ وَلِمَرْضَاتِهِ، فَحَرْفُ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ، وَلِأَجْلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَيْ لِنَفْعِهِمْ وَدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ. وَ (الْمُسْتَضْعَفُونَ) الَّذِينَ يَعُدُّهُمُ النَّاس ضعفاء، و (فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، وَأَرَادَ بِهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْهِجْرَةِ بِمُقْتَضَى الصُّلْحِ الَّذِي

انْعَقَدَ بَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ سَفِيرِ قُرَيْشٍ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ كَانَ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي انْعَقَدَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ: أَنَّ مَنْ جَاءَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ لَا يُرَدُّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَارًّا مِنْ مَكَّةَ مُؤْمِنًا يُرَدُّ إِلَى مَكَّةَ. وَمِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ. وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ أَوْ وَلَايَى الْأَوْلِيَاءِ الْمُشْرِكِينَ اللَّائِي يَمْنَعُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ مِنَ الْهِجْرَةِ: مِثْلَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ الْعَبَّاسِ، فَقَدْ كُنَّ يُؤْذَيْنَ وَيُحَقَّرْنَ. وَأَمَّا الْوِلْدَانُ فَهُمُ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْلَمُونَ مِنْ مُشَاهَدَةِ تَعْذِيبِ آبَائِهِمْ وَذَوِيهِمْ وَإِيذَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ وَحَاضِنَاتِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَالْقِتَالُ فِي سَبِيلِ هَؤُلَاءِ ظَاهِرٌ، لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْقَاذِ الْوِلْدَانِ مِنْ أَنْ يَشِبُّوا عَلَى أَحْوَالِ الْكُفْرِ أَوْ جَهْلِ الْإِيمَانِ. والقرية هِيَ مَكَّةُ. وَسَأَلُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا لِمَا كَدَّرَ قُدْسَهَا مِنْ ظُلْمِ أَهْلِهَا، أَيْ ظُلْمِ الشِّرْكِ وَظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَرَاهِيَةُ الْمُقَامِ بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا صَارَتْ يَوْمَئِذٍ دَارَ شِرْكٍ وَمُنَاوَاةٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَحَلَّهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَهَا، وَقَدْ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَفْتَخِرُ بِاقْتِحَامِ خَيْلِ قَوْمِهِ فِي زُمْرَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: شَهِدْنَ مَعَ النَّبِيءِ مُسَوَّمَاتٍ ... حُنَيْنًا وَهِيَ دَامِيَةُ الْحَوَامِي وَوَقْعَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَحَكَّتْ ... سَنَابِكَهَا عَلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقَدْ سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ وَلِيًّا وَنَصِيرًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ بِنَبِيئِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دَعْوَتَهُمْ وَهَيَّأَ لَهُمُ النَّصْرَ بِيَدِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، أَيْ فَجَنَّدَ اللَّهُ لَهُمْ عَاقِبَةَ النَّصْرِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.

[سورة النساء (4) : الآيات 77 إلى 79]

وَ (الطَّاغُوتُ) : الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [5] ، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النِّسَاء: 60] . وَالْمُرَادُ بِكَيْدِ الشَّيْطَانِ تَدْبِيرُهُ. وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَنْصَارِهِ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالتَّدْبِيرِ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِمُؤَكِّدَيْنِ (إِنَّ) (وَكَانَ) الزَّائِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقَرُّرِ وَوصف الضَّعْفِ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ. [77- 79] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 77 الى 79] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ أَوَّلُ حَالِهِ وَآخِرُهُ، فَاسْتَطْرَدَ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ يَوَدُّونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي إِبَّانِهِ جَبُنُوا. وَقَدْ عُلِمَ مَعْنَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، لِأَنَّ كَفَّ الْيَدِ مُرَادٌ، مِنْهُ تَرْكُ الْقِتَالَ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: 24] . وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 75] وَالْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 74] الْآيَةَ اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الْعِبْرَةِ بِحَالِ هَذَا

الْفَرِيقِ وَتَقَلُّبِهَا، فَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ هُمْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبَبُ الْقَوْلِ لَهُمْ هُوَ سُؤَالُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ إِنَّمَا هُوَ حَالُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ الْقَادِرِينَ. وَقَدْ دَلَّتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ لَمْ يَكُنْ تُتَرَقَّبُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْحَالَةُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظْهَرُونَ مِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَقُوا بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذًى شَدِيدًا، فَقَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً» وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أمرت بِالْعَفو كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفُرِضَ الْجِهَادُ جَبُنَ فَرِيقٌ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقِتَالِ، فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ عبد الرحمان بْنَ عَوْفٍ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَقُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَأَصْحَابَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ حَيْثُ رَغِبُوا تَأْخِيرَ الْعَمَلِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ لِخَوْفِهِمْ مِنْ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ، فَالتَّشْبِيهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ لَا يُلَائِمُ حَالَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: «الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» قَوْمٌ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ وَسَأَلُوا أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فَلَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ يَخْشَوْنَ النَّاسَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْفَرِيقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ فَقِيلَ: هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي مَكَّةَ فِي أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْكَلْبِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَلَعَلَّ الَّذِي حَوَّلَ عَزْمَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالْأَذَى، فَزَالَ عَنْهُمُ الِاضْطِرَارُ لِلدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ فِي مَكَّةَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَرَّرُوا الرَّغْبَةَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْدِئَتَهُمْ زَمَانًا، وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ تَظَاهَرُوا بِالرَّغْبَةِ فِي ذَلِكَ تَمْوِيهًا لِلنِّفَاقِ، فَلَمَّا كُتِبَ الْقِتَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَبُنَ الْمُنَافِقُونَ،

وَهَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ. وَتَأْوِيلُ وَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَهَذَا عَلَى غُمُوضِهِ هُوَ الَّذِي يَنْسَجِمُ مَعَ أُسْلُوبِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِلتَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَالْمُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ لَيْسُوا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، بَلْ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عُلِّقَ التَّعْجِيبُ بِجَمِيعِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ حَالُهُمْ كَمَا وُصِفَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ قَوْلِهِ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [200] . وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِحِكْمَةِ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى. (وَالْأَجَلُ الْقَرِيبُ) مُدَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ رَيْثَمَا يَتِمُّ اسْتِعْدَادُهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المُنَافِقُونَ: 10] . وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ (الْأَجَلِ) الْعُمْرُ،. بِمَعْنَى لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالَنَا دُونَ قِتَالٍ، فَيَصِيرُ تَمَنِّيًا لِانْتِفَاءِ فَرْضِ الْقِتَالِ، وَهَذَا بعيد لعدم ملائمته لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ فِي الْقِتَالِ غَيْرَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ، وَلِعَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِوَصْفِهِ بِقَرِيبٍ، لِأَنَّ أَجَلَ الْمَرْءِ لَا يُعْرَفُ أَقَرِيبٌ هُوَ أَمْ بَعِيدٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَقْلِيلُ الْحَيَاةِ كُلِّهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ أَوَّلُ قِتَالٍ أُمِرُوا بِهِ، وَالْآيَةُ ذَكَّرَتْهُمْ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا حِينَ التَّهَيُّؤِ لِلْأَمْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُرِيدَ بِالْفَرِيقِ بَعْضٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُقَاتِلُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ جَبُنُوا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَيكون الْقِتَال الَّذين خَافُوهُ هُوَ غَزْوُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَشُوا بَأْسَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَبْدُو هُوَ الْمُتَعَيِّنُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ فَرِيقَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَنًا لِيُوقِعُوا الْوَهْنَ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ

وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مِثَالًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، تَحْذِيرًا لَهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَرْوِيَّةِ بَصَرِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى بَعْضِهَا بَصَرِيَّةٌ تَنْزِيلِيَّةٌ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي اشْتِهَارِ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ خَشْيَةً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ أَشَدَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [200] . وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُمْ لِسَانِيًّا وَهُوَ بَيِّنٌ، أَمْ كَانَ نَفْسِيًّا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ عَلَى مَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُهُمْ، أَيْ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يُفِيدُ وَالتَّعَلُّقَ بِالتَّأْخِيرِ لِاسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ لَا يُوَازِي حَظَّ الْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ مَا أَرَادُوا مِنَ الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مَوْقِعُ زِيَادَةِ التَّوْبِيخِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَارِكُمُ الْمَكْتُوبَةِ، فَلَا وَجْهَ لِلْخَوْفِ وَطَلَبِ تَأْخِيرِ فَرْضِ الْقِتَالِ وَعَلَى تَفْسِيرِ الْأَجَلِ فِي: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ بِأَجَلِ الْعُمْرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُسْتَبْعَدُ، يَكُونُ مَعْنَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا تَغْلِيطَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقَتْلَ يُعَجِّلُ الْأَجَلَ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَقِيدَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ قَبْلَ رُسُوخِ تَفَاصِيلِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ عَقِيدَةَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ هُنَا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابِ جِهَادِهِمْ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ مَوْقِعَ التَّشْجِيعِ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ أَقَلِّ زَمَنٍ مِنْ آجَالِهِمْ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُجْعَلَ تُظْلَمُونَ بِمَعْنَى تُنْقَصُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: 33] ، أَيْ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ مِنْ أُكُلِهَا، وَيَكُونُ فَتِيلًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ سَاعَةً، فَلَا مُوجِبَ لِلْجُبْنِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُظْلَمُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ. وَالْفَتِيلُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاء: 49] . وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَغْلِيطٌ لَهُمْ فِي طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا إِلَخْ مَسُوقَةٌ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ الْجُبْنَ هُوَ الَّذِي جملهم عَلَى طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَمَدٍ قَرِيبٍ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مَوَاقِعَ الْقِتَالِ تُدْنِي الْمَوْتَ مِنَ النَّاسِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَدْ تَمَّ، وَأَنَّ جُمْلَةَ أَيْنَما تَكُونُوا تَوَجُّهٌ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَوَجُّهٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ، فَتَكُونُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ. وَ (أَيْنَمَا) شَرْطٌ يَسْتَغْرِقُ الْأَمْكِنَةَ (وَلَوْ) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ وَصْلِيَّةٌ- وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:- فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ. وَالْبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْقَوِيُّ وَالْحِصْنُ: وَالْمُشَيَّدَةُ: الْمَبْنِيَّةُ بِالشِّيدِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعَةِ الْعَالِيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَالُوا الْبِنَاءَ بَنَوْهُ بِالْجِصِّ، فَالْوَصْفُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْبُرُوجُ عَلَى مَنَازِلِ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفرْقَان: 61] وَقَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] . وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبُرُوجُ هُنَا بُرُوجُ الْكَوَاكِبِ، أَيْ وَلَوْ بَلَغْتُمُ السَّمَاءَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَصْفُ مُشَيَّدَةٍ مَجَازًا فِي الِارْتفَاع، وَهُوَ بَصِير مجَازًا فِي الِارْتِفَاعِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.

وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) . يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِمَّا رُوِيَ فِي تَعْيِينِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ مِنْ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ عَائِدًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنَ الْمَقَامِ، وَلِسَبْقِ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النِّسَاء: 72] وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ إِلَى وَصْفِ الَّذِينَ لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا يُبَلِّغُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ السُّدِّيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى شَفَا الشَّكِّ فَإِذَا حَلَّ بِهِمْ سُوءٌ أَوْ بُؤْسٌ تَطَيَّرُوا بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْحَالَةُ السُّوأَى مِنْ شُؤْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ كَانَ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَمَتْ أَنْعَامُهُ وَرَفُهَتْ حَالُهُ حَمِدَ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ مَوَتَانٌ فِي أَنْعَامِهِ تَطَيَّرَ بِالْإِسْلَامِ فَارْتَدَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَقَالَ مِنَ النَّبِيءِ بَيْعَتَهُ وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِهِ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» . وَالْقَوْلُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ هُوَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ. أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَقُولُونَهُ بَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،

يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِكَافِ الْخِطَابِ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِحَاصِلِ مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَقَامِ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيِّ لَهُ، وَهُوَ وَجْهٌ مَطْرُوقٌ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ الْغَائِبِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِذَا حَكَى كَلَامَهُ لِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] . وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَوَرَدَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ مَعْرُوفُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدِيمًا قِيلَ لِأَسْلَافِهِمْ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] . وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ هُنَا مَا تَعَارَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ قِبَلِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَعْنِي الْكَائِنَةِ الْمُلَائِمَةِ والكائنة المنافرة، كَقَوْلِهِم: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] وَقَوْلُهُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [الْبَقَرَة: 201] ، وَتَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِصَابَةِ بِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُثَابَ عَلَيْهِ وَالْفِعْلَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ، فَلَا مَحْمَلَ لَهُمَا هُنَا إِذْ لَا يَكُونَانِ إِصَابَتَيْنِ، وَلَا تُعْرَفُ إِصَابَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا اعْتِبَارَانِ شَرْعِيَّانِ. وَقيل: كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: «لَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ قَلَّتِ الثِّمَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ» . فَجَعَلُوا كَوْنَ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُدُوثِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَتِ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يُلَائِمُهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَلِمَةُ (عِنْدَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ إِذِ الْعِنْدِيَّةُ هُنَا عِنْدِيَّةُ التَّأْثِيرِ التَّامِّ بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْبِيرِ، فَإِذَا كَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُسَاوِيهِ وَهُوَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْعَرَبِ: يَقُولُونَهُ إِذَا أَرَادُوا الِارْتِدَادَ وَهُمْ أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ، فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ شَافَهَ الرَّسُولَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ الَّذِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ وَأَتْحَفَهُمْ بِهَا لِمَا هُوَ مُعْتَادُهُ مِنَ الْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مِنْ شُؤْمِ قُدُومِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا بِالْكَرَامَةِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَخَوَّلَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ فَتَلْحَقُ الْإِسَاءَةُ الْيَهُودَ مِنْ جَرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَدِّ وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال: 25] الْآيَةَ.

وَقَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَكَوْنِ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ، إِذْ لَا يَدْفَعُهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ مُبَاشَرَةً. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ عِنْدِهِ، فَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا أَرَادَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ عَقْلٍ غَيْرِ مُنْضَبِطِ التَّفْكِيرِ، لأنّهم جعلُوا بعض الْحَوَادِثَ مِنَ اللَّهِ وَبَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلذَلِك قَالَ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أَيْ يَكَادُونَ أَنْ لَا يَفْقَهُوا حَدِيثًا، أَيْ أَنْ لَا يَفْقَهُوا كَلَامَ مَنْ يُكَلِّمُهُمْ، وَهَذَا مَدْلُولُ فِعْلِ (كَادَ) إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] . وَالْإِصَابَةُ: حُصُولُ حَالٍ أَوْ ذَاتٍ، فِي ذَاتٍ يُقَالُ: أَصَابَهُ مَرَضٌ، وَأَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ، وَأَصَابَهُ سهم، وَهِي، مشقّة مِنَ اسْمِ الصَّوْبِ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنَ الْإِصَابَةِ مشعرا بِحُصُول مفاجىء أَوْ قَاهِرٍ. وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَا يُجِيبُ بِهِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ عَلَّمَهُ حَقِيقَةَ التَّفْصِيلِ فِي إِصَابَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ جِهَةِ تَمَحُّضِ النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوِ اخْتِلَاطِهَا بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْعَبْدِ، فَقَالَ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وَوُجِّهَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لِإِبْطَالِ مَا نَسَبَهُ الضَّالُّونَ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَوَادِثِ كُلِّهَا مُؤَثِّرًا. وَسَبَبًا مُقَارنًا، وأدلّة تنبىء عَنْهَا وَعَنْ عَوَاقِبِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا تَخْلُو عَنْهَا الْحَوَادِثُ كُلُّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ غَيْرَ اخْتِيَارِيَّةٍ، أَمِ اخْتِيَارِيَّةً كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَاللَّهُ قَدَّرَ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ بِعِلْمِهِ وَقَدَرِهِ وَخَلَقَ مُؤَثِّرَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا، فَهَذَا الْجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَقَامَ بِالْأَلْطَافِ الْمَوْجُودَاتِ، فَأَوْجَدَهَا وَيَسَّرَ لَهَا أَسْبَابَ الْبَقَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْعُقُولِ وَالْإِلْهَامَاتِ، وَحَفَّهَا كُلَّهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهَا بِأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ، لَوْلَاهَا لَمَا بَقِيَتِ الْأَنْوَاعُ، وَسَاقَ إِلَيْهَا أُصُولَ الْمُلَاءَمَةِ، وَدَفَعَ عَنْهَا أَسْبَابَ الْآلَامِ فِي الْغَالِبِ، فَاللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ. فَهَذَا الْجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

وَاللَّهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ لِلنَّاسِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالْعَادِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَّمَ طَرَائِقَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَطَرَائِقَ الْحَيْدَةِ عَنْهَا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَوَانِعِ التَّأْثِيرِ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُمَانِعَهَا، وَبَعَثَ الرُّسُلَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ فَعَلَّمَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحْوَالَ الْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَعَوَاقِبَ ذَلِكَ الظَّاهِرَةَ وَالْخَفِيَّةَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَكْمَلَ الْمِنَّةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَدَى بِذَلِكَ وَحَذَّرَ إِذْ خَلَقَ الْعُقُولَ وَوَسَائِلَ الْمَعَارِفِ، وَنَمَّاهَا بِالتَّفْكِيرَاتِ والْإِلْهَامَاتِ، وَخَلَقَ الْبَوَاعِثَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَهَذَا الْجُزْءُ أَيْضًا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمُقَارِنَةُ لِلْحَوَادِثِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَالْجَانِيَةِ لِجَنَاهَا حِينَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَسَائِلِ مُصَادَفَةِ الْمَنَافِعِ، وَالْجَهْلِ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَوَانِعَ الْوُقُوعِ فِيهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَذَلِكَ بِمِقْدَارِ مَا يُحَصِّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَسَائِلِ الرَّشَادِ، وَبِاخْتِيَارِهِ الصَّالِحَ لاجتناء الْخَيْر، ومقدارا ضِدِّ ذَلِكَ: مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، أَوْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَمِنَ الِارْتِمَاءِ فِي الْمَهَالِكِ بِدُونِ تَبَصُّرٍ، وَذَلِكَ جُزْءٌ صَغِيرٌ فِي جَانِبِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَهَذَا الْجُزْءُ جَعَلَ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ حَظًّا فِيهِ، مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحَسَنَةُ أَحَدًا فَإِنَّ مَجِيئَهَا إِيَّاهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ مِمَّا لَا صَنْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أَوْ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ حَتَّى عَلِمَ طَرِيقَ اجْتِنَاءِ الْحَسَنَةِ، أَيِ الشَّيْءِ الْمُلَائِمِ وَخَلَقَ لَهُ اسْتِعْدَادَهُ لِاخْتِيَارِ الصَّالِحِ فِيمَا لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّافِعَةِ حَسْبَمَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَتِ الْمِنَّةُ فِيهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، إِذْ لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِرْشَادُهُ وَهَدْيُهُ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي حَيْرَةٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ كُلَّهَا مِنْهُ. أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَأْتِي بِتَأْثِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ إِصَابَةَ مُعْظَمِهَا الْإِنْسَانَ يَأْتِي مِنْ جَهْلِهِ، أَوْ تَفْرِيطِهِ، أَوْ سُوءِ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ، أَوْ تَغْلِيبِ هَوَاهُ عَلَى رُشْدِهِ، وَهُنَالِكَ سَيِّئَاتُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِهِ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنْ خَسْفٍ وَأَوْبِئَةٍ، وَذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِأَكْثَرِ السَّيِّئَاتِ، عَلَى أَنَّ بَعْضًا مِنْهُ كَانَ جَزَاءً عَلَى سُوءِ فِعْلٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ فِي إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ الْإِنْسَانَ لِتَسَبُّبِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَصَحَّ أَنْ يُسْنِدَ تَسَبُّبَهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ مِنْهَا هُوَ الْأَقَلُّ. وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» ، فَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ مَا دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ» .

وَشَمَلَتِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَالْمَطَرِ وَالصَّوَاعِقِ، وَالثَّمَرَةِ وَالْجَرَادِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالصِّحَّةِ، وَهُبُوبِ الصَّبَا، وَالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ. وَأَضْدَادِهَا كَالْمَرَضِ، وَالسَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْخَسَارَةِ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالطَّاعَاتِ النَّافِعَةِ لِلطَّائِعِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ بِهِ وَبِالنَّاسِ، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: 50] وَهُوَ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةً فِيهِ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ دَقِيقَةَ الْفَهْمِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَلْبِ، أَيْ يَكَادُونَ لَا يَفْقَهُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمَذَمَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ التَّرْكِيبِ، أَيْ لَا يُقَارِبُونَ فَهْمَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْفُطَنَاءُ، فَيَكُونُ أَشَدَّ فِي الْمَذَمَّةِ. وَالْفِقْهُ فَهْمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: «هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ» . وَعَرَّفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ «إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ» . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِتَنَاسُقِ الضمائر، ثمَّ يعلم أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ شَاعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا شَاعَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّرَّ لِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَبِيبُ بْنُ حَيْدَرَةَ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِ «حَزِّ الْغَلَاصِمِ» : إِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَهْلٌ لِابْتِنَائِهِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَلَيْسَتَا كَذَلِكَ. وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا إِلَّا قَوْلًا بِمُوجَبِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ مَعْنَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ- كَمَا بَيَّنْتُهُ

آنِفًا- يَجْعَلُ الْآيَةَ صَالِحَةً لِلِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِأَنَّ أُصُولَ الدِّينِ لَا يُسْتَدَلُّ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ كَالْعُمُومِ. وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ بِكَلِمَةٍ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ نِسْبَةِ الْحَسَنَةِ إِلَى اللَّهِ وَنِسْبَةِ السَّيِّئَةِ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْ قَالُوا مَا يُفِيدُ جَزْمَهُمْ بِذَلِكَ الِانْتِسَابِ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ قَالَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ، وَإِعْرَابًا عَنِ التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فَلَمْ يُؤْتَ فِيهِ بِكَلِمَةِ (عِنْدَ) ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مَجِيءِ الْحَسَنَةِ مِنَ اللَّهِ وَمَجِيءِ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، ابْتِدَاءُ الْمُتَسَبِّبِ لِسَبَبِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ ابْتِدَاءَ الْمُؤَثِّرِ فِي الْأَثَرِ. وَقَوْلُهُ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: السَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، أَيْ أَنَّكَ بُعِثْتَ مُبَلِّغًا شَرِيعَةً وَهَادِيًا، وَلَسْتَ مُؤَثِّرًا فِي الْحَوَادِثِ وَلَا تَدُلُّ مُقَارَنَةُ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى عَدَمِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ. فَمَعْنَى أَرْسَلْناكَ بَعَثْنَاكَ كَقَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ [الْحجر: 22] وَنَحْوِهِ. ولِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلْناكَ. وَقَوْلُهُ رَسُولًا حَالٌ مِنْ أَرْسَلْناكَ، وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ هُنَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ: وَهُوَ النَّبِيءُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لفظ لقيي دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ حَالًا مُقَيِّدَةً لِ «أَرْسَلْنَاكَ» ، لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَيْ بَعَثْنَاكَ مُبَلِّغًا لَا مُؤَثِّرًا فِي الْحَوَادِثِ، وَلَا أَمَارَةً عَلَى وُقُوعِ الْحَوَادِثِ السَّيِّئَةِ. وَبِهَذَا يَزُولُ إِشْكَالُ مَجِيءِ هَذِهِ الْحَالِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ إِلَّا التَّأْكِيدَ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى جَعْلِ الْمَجْرُورِ مُتَعَلِّقًا بِ رَسُولًا، وَأَنَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ دَلَالَةً عَلَى الْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْرِيفِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ هَذَا الْحصْر.

[سورة النساء (4) : الآيات 80 إلى 81]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 80 إِلَى 81] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) هَذَا كَالتَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [النِّسَاء: 79] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ رَدِّ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مَصْدَرُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 79] إِلَخْ، الْمُؤْذِنُ بِأَنَّ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فَرْقًا فِي التَّأْثِيرِ وَأَنَّ الرِّسَالَةَ مَعْنًى آخَرَ فَاحْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ عَنْ تَوَهُّمِ السَّامِعِينَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أُمُورِ التَّشْرِيعِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ فِي تَبْلِيغِهِ إِنَّمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، فَأَمْرُهُ أَمْرُ اللَّهِ، وَنَهْيُهُ نَهْيُ اللَّهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ رَسُولًا وَاسْتِلْزَامِهَا أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَأَنَّ ذَلِكَ تَبْلِيغٌ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فِي غَفْلَةٍ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ اخْتِلَافَ مَقَامَاتِ الرَّسُولِ، وَمَنْ تَوَلَّى أَوْ أَعْرَضَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْمُكَابَرَةِ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، أَيْ حارسا لَهُم ومسؤولا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنْ صَرَفَهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ، فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَتَوَلَّى عِقَابَهُمْ. وَالتَّوَلِّي حَقِيقَتُهُ الِانْصِرَافُ وَالْإِدْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: 205] وَفِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [142] . وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الدَّعْوَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لِضَعْفِ نُفُوسِهِمْ لَا يُعْرِضُونَ جَهْرًا بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّاعَةَ، فَإِذَا أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ نَهَاهُمْ يَقُولُونَ لَهُ طاعَةٌ أَيْ: أَمْرُنَا طَاعَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يَدُلُّونَ بِهَا عَلَى الِامْتِثَالِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ: سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ،

أَيْ أَمْرُنَا أَوْ شَأْنُنَا طَاعَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: 18] . وَلَيْسَ هُوَ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يُعْدَلُ عَنْ نَصْبِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ مِثْلَ «قَالَ سَلَامٌ» ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِحْدَاثَ الطَّاعَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّنَا سَنُطِيعُ وَلَا يَكُونُ مِنَّا عِصْيَانٌ. وَمَعْنَى بَرَزُوا خَرَجُوا، وَأَصْلُ مَعْنَى الْبُرُوزِ الظُّهُورُ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وبَيَّتَ هُنَا بِمَعْنَى قَدَّرَ أَمْرًا فِي السِّرِّ وَأَضْمَرَهُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيَاتِ هُوَ فِعْلُ شَيْءٍ فِي اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعِيرُ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الْإِسْرَارِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ أَكْتَمُ لِلسِّرِّ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، أَيْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا ... أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ. وَقَالَ تَعَالَى: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: 49] أَيْ: لَنَقْتُلَنَّهُمْ لَيْلًا. وَقَالَ: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ [النِّسَاء: 108] . وَتَاءُ الْمُضَارَعَةِ فِي غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ الْغَائِبِ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ خِطَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ أَنْتَ، فَيُجِيبُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: طَاعَةٌ. وَمَعْنَى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ التَّهْدِيدُ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَنْ يُفْلِتَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ، فَلَا يَغُرَّنَّهُمْ تَأَخُّرُ الْعَذَابِ مُدَّةً. وَقَدْ دَلَّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَكْتُبُ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُضَاعُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَمْرٌ بِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُخْشَى خِلَافُهُمْ، وَأَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ مُتَوَكَّلًا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى طَاعَةِ هَؤُلَاءِ وَلَا يُحْزِنُهُ خِلَافُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَيَّتَ طائِفَةٌ- بِإِظْهَارِ تَاءِ (بَيَّتَ) مِنْ طَاءِ (طَائِفَةٍ) -. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ- تَخْفِيفًا لقرب مخرجيهما.

[سورة النساء (4) : آية 82]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْكَفَرَةِ الصُّرَحَاءِ وَبِتَوَلِّيهِمُ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ فِي شَأْنِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النِّسَاء: 80] ، وبقولهم طاعَةٌ [النِّسَاء: 81] ، ثُمَّ تَدْبِيرُ الْعِصْيَانِ فِيمَا وُعِدُوا بِالطَّاعَةِ فِي شَأْنِهِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ اسْتِبْطَانِ الْكُفْرِ، أَوِ الشَّكِّ، أَوِ اخْتِيَارِ مَا هُوَ فِي نَظَرِهِمْ أَوْلَى مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، وَكَانَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ الدِّينِ، مُنْبِئًا بِقِلَّةِ تَفَهُّمِهِمُ الْقُرْآنَ، وَضَعْفِ اسْتِفَادَتِهِمْ، كَانَ الْمَقَامُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ قِلَّةِ تَفَهُّمِهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ فِي اسْتِمْرَارِ جَهْلِهِمْ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ التَّدْبِيرِ لَدَيْهِمْ. تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ، كَمَا تَحَدَّاهُمْ بِأَلْفَاظِهِ، لِبَلَاغَتِهِ إِذْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ شَكُّوا فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يُظْهِرُونَ الطَّاعَةَ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ، وَيُشَكِّكُونَ وَيَشُكُّونَ إِذَا بَدَا لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّعَارُضِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَدْبِيرِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ [آل عمرَان: 7] الْآيَةَ. وَالتَّدَبُّرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّبُرِ، أَيِ الظَّهْرِ، اشْتَقُّوا مِنَ الدُّبُرِ فِعْلًا، فَقَالُوا: تَدَبَّرَ إِذَا نَظَرَ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ فِي غَائِبِهِ أَوْ فِي عَاقِبَتِهِ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ. وَالتَّدَبُّرُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُتَأَمِّلِ فِيهِ بِنَفْسِهِ، يُقَالُ: تَدَبَّرَ الْأَمْرَ. فَمَعْنَى يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يَتَأَمَّلُونَ دَلَالَتَهُ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَأَمَّلُوا دَلَالَةَ تَفَاصِيلِ آيَاتِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمِينَ، أَيْ تَدَبُّرُ تَفَاصِيلِهِ وَثَانِيهُمَا أَنْ يَتَأَمَّلُوا دَلَالَةَ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ صَادِقٌ. وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَجِّحُ حَمْلَ التَّدَبُّرِ هُنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيْ لَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا هَدْيَ الْقُرْآنِ لَحَصَلَ

لَهُمْ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَلَمَا بَقُوا عَلَى فِتْنَتِهِمُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ إِضْمَارِهِمُ الْكُفْرَ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَالِحٌ بِحَالِهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فَيَكُونُوا أُمِرُوا بِالتَّدَبُّرِ فِي تَفَاصِيلِهِ، وَأُعْلِمُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ انْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّدَبُّرِ عَامًّا، وَهَذَا جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ التَّدَبُّرِ ذُكِرَ هُنَا انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمُنَاسَبَةِ لَغَمْرِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْإِنْكَارِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، تَعَرَّضَ لَهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ مَعْنَيَيِ التَّدَبُّرِ هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ «الْقُرْآنِ» ، وَيَكُونُ قَيْدًا لِلتَّدَبُّرِ، أَيْ أَلَا يَتَدَبَّرُونَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ مِنْهُ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيِ التَّدَبُّرِ. وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِلْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ عَدَمُ ذِكْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْآيَةِ الْمُمَاثِلَةِ لِهَذِهِ مِنْ سُورَةِ الْقِتَالِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّد: 20- 24] وَهَذِهِ دَقَائِقُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَهْمَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالِاخْتِلَافُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اخْتِلَافُ بَعْضِهِ مَعَ بَعْضٍ، أَيِ اضْطِرَابُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اخْتِلَافُهُ مَعَ أَحْوَالِهِمْ: أَيْ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَبَيْنَ الْوَاقِعِ فَلْيَكْتَفُوا بِذَلِكَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ يَصِفُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمُطَّلِعِ عَلَى الْغُيُوبِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَجِيزٌ وَعَجِيبٌ قُصِدَ مِنْهُ قَطْعُ مَعْذِرَتِهِمْ فِي اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ. وَوُصِفَ الِاخْتِلَافُ بِالْكَثِيرِ فِي الطَّرَفِ الْمُمْتَنِعِ وُقُوعُهُ بِمَدْلُولِ (لَوْ) . لِيَعْلَمَ الْمُتَدَبِّرُ أَنَّ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَصْلِهِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَيْدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ لِجَوَابِ (لَوْ) ، فَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ الطَّرَفُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: كَثِيراً بَلْ يُقَدَّرُ هَكَذَا: لَكِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ أصلا.

[سورة النساء (4) : آية 83]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ طاعَةٌ [النِّسَاء: 81] فَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّمَائِرِ قَبْلَهُ، الْعَائِدَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُهُ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وسنعلم تَأْوِيلَهُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ هَذَا رَاجَعٌ إِلَى فَرِيقٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: مِمَّنْ قَلَّتْ تَجْرِبَتُهُ وَضَعُفَ جَلَدُهُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ مَعَادُ الضَّمِيرِ مَحْذُوفًا مِنَ الْكَلَامِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ حَالِ النُّزُولِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] . وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّوْمِ لِمَنْ يَقْبَلُ مِثْلَ تِلْكَ الْإِذَاعَةِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْرَارِ. وَمَعْنَى جاءَهُمْ أَمْرٌ أَيْ أُخْبِرُوا بِهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي فَالْمَجِيءُ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ، مِثْلُ نَظَائِرِهِ. وَهِيَ: بَلَغَ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَأَتَاهُ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَتَأْنِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا الْخَبَرُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَذاعُوا بِهِ. وَمَعْنَى أَذاعُوا أَفْشَوْا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْخَبَرِ بِنَفْسِهِ، وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ: أَذَاعَهُ وَأَذَاعَ بِهِ، فَالْبَاءُ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ كَمَا فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَالْمَعْنَى إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيِ الظَّفَرِ الَّذِي يُوجِبُ أَمْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْخَوْفَ وَهُوَ مَا يُوجِبُ خَوْفَ الْمُسْلِمِينَ، أَيِ اشْتِدَادَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ،

بَادَرُوا بِإِذَاعَتِهِ، أَوْ إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، تَحَدَّثُوا بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فِي الْحَالَيْنِ، وَأَرْجَفُوهَا بَيْنَ النَّاسِ لِقَصْدِ التَّثْبِيطِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ، إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ أَمْنٍ حَتَّى يُؤْخَذَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ غَارُّونَ، وَقَصْدِ التَّجْبِينِ إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ الْخَوْفِ، وَاخْتِلَافِ الْمَعَاذِيرِ لِلتَّهْيِئَةِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ إِذَا اسْتُنْفِرُوا إِلَيْهِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَائِدِ هَؤُلَاءِ، وَنَبَّهَ هَؤُلَاءِ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ، وَقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي كَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ إِلَخْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السُّوءَ لَاسْتَثْبَتُوا الْخَبَرَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْآيَةُ عِتَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا التَّسَرُّعِ بِالْإِذَاعَةِ، وَأَمْرُهُمْ بِإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ إِلَى الرَّسُولِ وَقَادَةِ الصَّحَابَةِ لِيَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ وَيُعَلِّمُوهُمْ مَحَامِلَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْتَلِقُونَ الْأَخْبَارَ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاقِعِ، لِيَظُنَّ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْنَ حِينَ الْخَوْفِ فَلَا يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، أَوِ الْخَوْفَ حِينَ الْأَمْنِ فَتَضْطَرِبُ أُمُورُهُمْ وَتَخْتَلُّ أَحْوَالُ اجْتِمَاعِهِمْ، فَكَانَ دَهْمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَاجَ عِنْدَهُمْ فَأَذَاعُوا بِهِ، فَتَمَّ لِلْمُنَافِقِينَ الدَّسْتُ، وَتَمَشَّتِ الْمَكِيدَةُ، فَلَامَهُمُ اللَّهُ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يُنْهُوا الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَجِلَّةِ أَصْحَابِهِ قَبْلَ إِشَاعَتِهِ لِيَعْلَمُوا كُنْهَ الْخَبَرِ وَحَالَهُ مِنَ الصِّدْقِ أَوِ الْكَذِبِ، وَيَأْخُذُوا لِكُلِّ حَالَةٍ حَيْطَتَهَا، فَيَسْلَمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي قَصَدُوهُ. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَهُمْ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: لَعَلِمَهُ هُوَ دَلِيلُ جَوَابِ (لَوْ) وَعِلَّتُهُ، فَجُعِلَ عِوَضَهُ وَحُذِفَ الْمَعْلُول، إِذْ الْمَقْصُود لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ فَلَبَيَّنُوهُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا الْخَبَرَ فَلَخَابُوا إِذْ يُوقِنُونَ بِأَنَّ حِيلَتَهُمْ لَمْ تَتَمَشَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ صَادِقًا عَلَى الْمُخْتَلِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ مِنْهُمْ الثَّانِي عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالرَّدُّ حَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ يَدٍ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي إِبْلَاغِ الْخَبَرِ إِلَى أَوْلَى النَّاسِ بِعِلْمِهِ. وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ كُبَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الرَّأْيِ

مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمُ الْمُنَافِقِينَ فَوَصْفُ أُولِي الْأَمْرِ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ، أَيْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ بَعْضَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَالتَّبْعِيضُ ظَاهِرٌ. وَالِاسْتِنْبَاطُ حَقِيقَتُهُ طَلَبُ النَّبَطِ- بِالتَّحْرِيكِ- وَهُوَ أَوَّلُ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَعْرِفَةِ عَوَاقِبِهِ، وَأَصْلُهُ مَكْنِيَّةٌ: شَبَّهَ الْخَبَرَ الْحَادِثَ بِحَفِيرٍ يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَذِكْرُ الِاسْتِنْبَاطِ تَخْيِيلٌ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، فَصَارَ الِاسْتِنْبَاطُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالتَّبْيِينِ، وَتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْأَمْرِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ: يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ هُوَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِ (يَسْتَنْبِطُونَ) بِمَعْنَى يَخْتَلِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ يَسْتَنْبِطُونَهُ تَبَعِيَّةً، بِأَنْ شَبَّهَ الْخَبَرَ الْمُخْتَلَقَ بِالْمَاءِ الْمَحْفُورِ عَنْهُ، وَأَطْلَقَ يَسْتَنْبِطُونَ بِمَعْنَى يَخْتَلِقُونَ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ الْمُسْتَخْرَجُ. وَالْعَرَبُ يُكْثِرُونَ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ أَحْوَالِ الْمِيَاهِ كَقَوْلِهِمْ: يُصْدِرُ وَيُورِدُ، وَقَوْلِهِمْ ضَرَبَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ، وَقَوْلِهِمْ: يَنْزِعُ إِلَى كَذَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الذاريات: 59] ، وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ: فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَسَاجَلَ الْقَوْمُ، أَصْلُهُ مِنَ السَّجْلِ، وَهُوَ الدَّلْوُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: إِذَا مَا اصْطَبَحْتُ أَرْبَعًا خَطَّ مِئْزَرِي ... وَأَتْبَعْتُ دَلْوِي فِي السَّمَاحِ رِشَاءَهَا فَذَكَرَ الدَّلْوَ وَالرِّشَاءَ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: خَطَاطِيفُ حَجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ وَقَالَ: وَلَوْلَا أَبُو الشَّقْرَاءِ مَا زَالَ مَاتِحٌ ... يُعَالِجُ خَطَّافًا بِإِحْدَى الْجَرَائِرِِِ

[سورة النساء (4) : آية 84]

وَقَالُوا أَيْضًا: «انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ» ، وَالْفُرْصَةُ نَوْبَةُ الشُّرْبِ، وَقَالُوا: صدر ألوم عَنْ رَأْيِ فُلَانٍ وَوَرَدُوا عَلَى رَأْيِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ وَصْفٌ لِلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، وَهُمْ خَاصَّةُ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يَرُدُّونَهُ إِلَى جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فَيَفْهَمُهُ الْفَاهِمُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِذَا فَهِمَهُ جَمِيعُهُمْ فَأَجْدَرُ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ امْتِنَانٌ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمَكَائِدِ وَمِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ وَأَنْصَارِهِ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُؤَذّن بهَا لَاتَّبَعْتُمُ، أَيْ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا يَشْمَلُ الْبَعْثَةَ فَمَا بَعْدَهَا، فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَنْسَاقُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِالْوَازِعِ الْعَقْلِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ النَّصَائِحُ وَالْإِرْشَادُ فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِثْنَاءً من ضمير لَاتَّبَعْتُمُ أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الِاتِّبَاعِ اتِّبَاعُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَكَائِدِ الَّتِي لَا تَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ من الْمُؤمنِينَ. [84] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَمِنْ وَصْفِ الْمُثَبِّطِينَ عَنْهُ، وَالْمُتَذَمِّرِينَ مِنْهُ، وَالَّذِينَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَ الِاهْتِمَامَ بِأَمْرِ الْقِتَالِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ، فَتَهَيَّأَ الْكَلَامُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ فَصِيحَةً بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، أَيْ: إِذَا كَانَ كَمَا عَلِمْتَ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى مَا مَضَى مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة النساء (4) : آية 85]

الْقِتَالَ، وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ تَبْلِيغَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَتَحْرِيضَهُمْ عَلَيْهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 84] وَهَذَا الْأُسْلُوبُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْحَثِّ وَالتَّحْرِيضِ لِغَيْرِ الْمُخَاطَبِ، لِأَنَّهُ إِيجَابُ الْقِتَالِ عَلَى الرَّسُولِ، وَقَدْ عُلِمَ إِيجَابُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [النِّسَاء: 74] فَهُوَ أَمْرٌ لِلْقُدْوَةِ بِمَا يَجِبُ اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ فِيهِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ عِلَّةَ الْأَمْرِ وَهِيَ رَجَاءُ كَفِّ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ، فَ (عَسَى) هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْوَعْدِ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا كُفَّارُ مَكَّةَ، فَالْآيَاتُ تَهْيِئَةٌ لِفَتْحِ مَكَّةَ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تَذْيِيلٌ لِتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ أَوِ الْوَعْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا إِذَا شَاءَ إِظْهَارَ ذَلِكَ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْمَشِيئَةِ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ الَّتِي مِنْهَا الِاسْتِعْدَادُ وَتَرَقُّبُ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا. وَالتَّنْكِيلُ عِقَابٌ يَرْتَدِعُ بِهِ رَائِيهِ فَضْلًا عَنِ الَّذِي عُوقِبَ بِهِ. [85] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 84] وَهُوَ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنَّ جِهَادَ الْمُجَاهِدِينَ بِدَعْوَتِهِ يَنَالُهُ مِنْهُ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَجْرِ، فَإِنَّ تَحْرِيضَهُ إِيَّاهُمْ وَسَاطَةٌ بِهِمْ فِي خَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الْحُكْمِ الْعَامِّ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرَصِ الْإِرْشَادِ. وَيُعْلَمُ مِنْ عُمُومِهَا أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَنَّ سَعْيَ الْمُثَبِّطِينَ لِلنَّاسِ مِنْ قَبِيلِ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِيذَانًا لِلْفَرِيقَيْنِ بِحَالَتِهِمَا. وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالتَّرْهِيبُ مِنْ ضِدِّهِ. وَالشَّفَاعَةُ: الْوَسَاطَةُ فِي إِيصَالِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ شَرٍّ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الْمُنْتَفِعِ أَمْ لَا، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] ، وَفِي الْحَدِيثِ «اشْفَعُوا

فَلْتُؤْجَرُوا» . وَوَصْفُهَا بِالْحَسَنَةِ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْوَسَاطَةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الشَّفَاعَةِ عَلَى السَّعْيِ فِي جَلْبِ شَرٍّ فَهُوَ مُشَاكَلَةٌ، وَقَرِينَتُهَا وَصْفُهَا بِسَيِّئَةٍ، إِذْ لَا يُقَالُ (شَفَعَ) لِلَّذِي سَعَى بِجَلْبِ سُوءٍ. وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [202] . وَالْكِفْلُ- بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ- الْحَظُّ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي وَجْهُ اشْتِقَاقِهِ بِوُضُوحٍ. وَيُسْتَعْمَلُ الْكِفْلُ بِمَعْنَى الْمِثْلُ، فَيُؤْخَذُ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ أَنَّ الْكِفْلَ هُوَ الْحَظُّ الْمُمَاثِلُ لِحَظٍّ آخَرَ، وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : لَا يُقَالُ هَذَا كِفْلُ فُلَانٍ حَتَّى يكون قد هيّىء لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَعْزُ هَذَا، وَنَسَبَهُ الْفَخْرُ إِلَى ابْنِ الْمُظَفَّرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَيْنِ فِيمَا عَلِمْتُ، وَلَعَلَّهُ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيد: 28] . وَهَلْ يُحْتَجُّ بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ- وَابْنُ الْمُظَفَّرِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْمُظَفَّرِ الْحَاتِمِيُّ الْأَدِيبُ مُعَاصِرُ الْمُتَنَبِّي-. وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ أَنَّ الْكِفْلَ هُوَ الْحَظُّ مِنَ الشَّرِّ وَالشِّدَّةِ، وَأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْكِفْلِ وَهُوَ الشَّيْءُ الرَّدِيءُ، فَالْجَزَاءُ فِي جَانِبِ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ بِأَنَّهُ نَصِيبٌ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ مَنْ شَفَعَ عِنْدَهُ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً الْآيَةَ، لِإِفَادَةِ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَى كُلِّ عَمَلٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ حُسْنٍ أَوْ سُوءٍ. وَالْمُقِيتُ الْحَافِظُ، وَالرَّقِيبُ، وَالشَّاهِدُ، وَالْمُقْتَدِرُ. وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَافِظُ. وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَقَاتَ إِذَا أَعْطَى الْقُوتَ، فَوَزْنُهُ مُفْعِلٌ وَعَيْنُهُ وَاوٌ. وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي مَعَانِي الْحِفْظِ وَالشَّهَادَةِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ مَنْ يُقِيتُ أَحَدًا فَقَدْ حَفِظَهُ مِنَ الْخَصَاصَةِ أَوْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاطِّلَاعِ، أَوْ مُضَمَّنٌ مَعْنَاهُ، كَمَا يَنْبِيءُ عَنْهُ تَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) . وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقِيتُ، وَفَسَّرَهُ الْغَزَالِيُّ بِمُوَصِّلِ الْأَقْوَاتِ. فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى الرَّازِقِ، إِلَّا أَنَّهُ أَخَصُّ، وَبِمَعْنَى الْمُسْتَوْلِي عَلَى الشَّيْءِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى الْقُدْرَة وَالْعلم.

[سورة النساء (4) : آية 86]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 86] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً [النِّسَاء: 85] بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ التَّرْغِيبُ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي قَبُولِ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَرَدِّ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ الشَّفِيعِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُسْتَشْفَعِ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ اسْتِئْنَاسًا لَهُ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، فَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الْعَطْفِ هِيَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَقْتَضِي حُضُورَ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ لِلشَّفِيعِ تُؤْذِنُ بِمِقْدَارِ اسْتِعْدَادِهِ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ بَوَادِرِ اللِّقَاءِ هُوَ السَّلَامُ وَرَدُّهُ، فَعَلَّمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَدَبَ الْقَبُولِ وَاللِّقَاءِ فِي الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا- وَقَدْ كَانَ لِلشَّفَاعَاتِ عِنْدَهُمْ شَأْنٌ عَظِيمٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ قَالُوا: هَذَا جَدِيرٌ إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ... الْحَدِيثَ- حَتَّى إِذَا قَبِلَ الْمُسْتَشْفَعُ إِلَيْهِ الشَّفَاعَةَ كَانَ قَدْ طَيَّبَ خَاطِرَ الشَّفِيعِ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ كَانَ فِي حُسْنِ التَّحِيَّةِ مَرْضَاةٌ لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَهَذَا دَأْبُ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرَصِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ. وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَنْجَلِي عَنْكَ الْحَيْرَةُ الَّتِي عَرَضَتْ فِي تَوْجِيهِ انْتِظَامِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ سَابِقَتِهَا، وَتَسْتَغْنِي عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى الْمُنَاسَبَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي صَارُوا إِلَيْهَا. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها عَلَى الْأَمْرِ بِرَدِّ السَّلَامِ، وَوُجُوبِ الرَّدِّ لأنّ أصل صغية الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي مَحْمَلِ صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وُجُوبَ الْكِفَايَةِ فَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً يَصِيرُ رَدُّ الْجَمِيعِ غَوْغَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرَّدُّ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِعَيْنِهِ. وَلَعَلَّ دَلِيلَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ.

وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُمْ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ [27] . وَأَفَادَ قَوْلُهُ: بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَيُعْلَمُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: بِأَحْسَنَ مِنْها أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ. وَحَيَّى أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ دَعَا لَهُ بِالْحَيَاةِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ قَبِيلِ النَّحْتِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَّاكَ اللَّهُ، أَيْ وَهَبَ لَكَ طُولَ الْحَيَاةِ. فَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: حَيَّاكَ اللَّهُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) أَيْ هُوَ مُسْتَحِقُّهَا لَا مُلُوكُ النَّاسِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ أَيْ يُحَيَّوْنَ مَعَ تَقْدِيمِ الرَّيْحَانِ فِي يَوْمِ عِيدِ الشَّعَانِينِ- وَكَانَتِ التَّحِيَّةُ خَاصَّةً بِالْمُلُوكِ بِدُعَاءِ (حَيَّاكَ اللَّهُ) غَالِبًا، فَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا التَّحِيَّةَ عَلَى الْمُلْكِ فِي قَوْلِ زُهَيْر بن جنّات الْكَلْبِيِّ: وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَّةَ يُرِيدُ أَنَّهُ بَلَغَ غَايَةَ الْمَجْدِ سِوَى الْمُلْكِ. وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ: تَحِيَّةُ كِسْرَى فِي الثَّنَاءِ وَتُبَّعِ ... لِرَبْعِكِ لَا أَرْضَى تَحِيَّةَ أَرْبُعِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ: عَلَّمَ اللَّهُ بِهَا أَنْ يَرُدُّوا عَلَى الْمُسَلِّمِ بِأَحْسَنَ مِنْ سَلَامِهِ أَوْ بِمَا يُمَاثِلُهُ، لِيَبْطُلَ مَا كَانَ بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَفَاوُتِ السَّادَةِ وَالدَّهْمَاءِ. وَتَكُونُ التَّحِيَّةُ أَحْسَنَ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] : إِنَّ تَحِيَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ أَحْسَنَ إِذْ عَبَّرَ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَقْوَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُوَ رَفْعُ الْمَصْدَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَتَنَاسِي الْحُدُوثِ الْمُؤْذِنِ بِهِ نَصْبُ الْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ فِي لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَدِيعِ التَّرْجَمَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَفِي رَدِّهَا وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ فِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْوَاوَ فِي رَدِّ السَّلَامِ تُفِيدُ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ بَلَغَ غَايَةَ التَّحِيَّةِ أَنْ يَقُولَ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِذَا قَالَ الرَّادُّ: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ» إِلَخْ، كَانَ قَدْ رَدَّهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا بِزِيَادَةِ الْوَاوِ، وَهَذَا وَهْمٌ. وَمَعْنَى (رُدُّوهَا) رُدُّوا مِثْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، لِظُهُورِ تَعَذُّرِ رَدِّ ذَاتِ التَّحِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها [النِّسَاء: 176] فَعَادَ ضَمِيرُ «وَهُوَ» وَهَاءُ «يَرِثُهَا» إِلَى اللَّفْظَيْنِ لَا إِلَى الذَّاتَيْنِ، وَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، فَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ اسْمَ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ الْمَجْرُورِ بِعَلَى فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ إِلَّا فِي الرِّثَاءِ، فِي مِثْلِ قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطّيب: عَلَيْك السَّلَام اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ ... وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا وَفِي قَوْلِ الشَّمَّاخِ: عَلَيْكَ سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ ... يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ يَرْثِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَوْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. روى أَبُو دَاوُود أَنَّ جَابِرَ بْنَ سُلَيْمٍ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، قُلِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ» . وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ بِهَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ النَّافِعَةِ. وَالْحَسِيبُ: الْعَلِيمُ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ: مِنْ حَسِبَ- بِكَسْرِ السِّينِ- الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ، فَحُوِّلَ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ عَيْنِهِ- لَمَّا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَبِذَلِكَ نَقَصَتْ تَعْدِيَتُهُ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمُحْصِي فعدي إِلَيْهِ بعلى. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ. قِيلَ: الْحَسِيبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، كَالْأَكِيلِ وَالشَّرِيبِ. فَعَلَى كَلَامِهِمْ يَكُونُ التَّذْيِيلُ وَعْدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ رَدِّ السَّلَامِ، أَو بالجزاء السّيّء عَلَى تَرْكِ الرَّدِّ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أُكِّدَ وَصْفُ اللَّهِ بِحَسِيبٍ بِمُؤَكِّدَيْنِ: حَرْفُ (إِنَّ) وَفِعْلُ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مقرّر أزلي.

[سورة النساء (4) : آية 87]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 87] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، جَمَعَ تَمْجِيدَ اللَّهِ، وَتَهْدِيدًا، وتحذيرا من مُخَالف أَمْرِهِ، وَتَقْرِيرًا لِلْإِيمَانِ بِيَوْمِ الْبَعْثِ، وَرَدًّا لِإِشْرَاكِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. فَاسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ. وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ لِتَمْجِيدِ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَاقِعٍ جَمِيعُهُ مَوْقِعَ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ: بِلَامِ الْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَبِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، لِتَقْوِيَةِ تَحْقِيقِ هَذَا الْخَبَرِ. إِبْطَالًا لِإِنْكَارِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ. وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ جِنْسُ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ أَيْ فِي مَجِيئِهِ، وَالْمَقْصُودُ لَا رَيْبَ حَقِيقِيًّا فِيهِ، أَوْ أَنَّ ارْتِيَابَ الْمُرْتَابِينَ لِوَهَنِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجِنْسِ الْمَعْدُومِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ هُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَ «حَدِيثًا» تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ فعل التَّفْضِيل. [88] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) تَفْرِيعٌ عَنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، لِأَنَّ مَا وُصِفَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ لَا يَتْرُكُ شَكًّا عِنْدَ الْمُؤمنِينَ فِي حَيْثُ طَوِيَّتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، أَوْ هُوَ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النِّسَاء: 87] . وَإِذْ قَدْ حَدَّثَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ سَابِقِ الْآيِ، فَلَا يَحِقُّ التَّرَدُّدُ فِي سُوءِ نَوَايَاهُمْ وَكُفْرِهِمْ، فَمَوْقِعُ الْفَاءِ هَنَا نَظِيرُ مَوْقِعِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ وَاللَّوْمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُنافِقِينَ لِلْعَهْدِ، وفِئَتَيْنِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ فَهِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهِ، الَّذِي هُوَ التَّوْبِيخُ، فَعُلِمَ أَنَّ مَحَلَّ التَّوْبِيخِ هُوَ الِانْقِسَامُ: فِي الْمُنافِقِينَ مُتَعَلِّقٌ بِفِئَتَيْنِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى «مُنْقَسِمِينَ» ، وَمَعْنَاهُ: فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ الْمُنَافِقِينَ. وَالْفِئَةُ: الطَّائِفَةُ. وَزْنُهَا فِلَةٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض فِي شؤونهم. وَأَصْلُهَا فَيْءٌ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ وَسَطِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا الْهَاءَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الِانْقِسَامَ إِلَى فِئَتَيْنِ مَا هُوَ إِلَّا انْقِسَامٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَتَيْنِ، وَالْمَقَامُ لِلْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، أَيْ فَمَا لَكُمْ بَيْنَ مُكَفِّرٍ لَهُمْ وَمُبَرِّرٍ، وَفِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي المنخزلين يَوْمَ أُحُدٍ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعِهِ، اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِمْ تِلْكَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: رَجَعَ نَاسٌ من أَصْحَاب النَّبِي مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ يَقُولُ: اقْتُلْهُمْ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: لَا، فَنَزَلَتْ «فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ» ، وَقَالَ: «إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ» أَيْ وَلَمْ يَقْتُلْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرْيًا عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ. فَتَكُونُ الْآيَةُ لِبَيَانِ أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي أَمْرِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ، وَهَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ، لِيَأْتُوا بِبِضَاعَةٍ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُؤْمِنِينَ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي شَأْنِهِمْ: أَهُمْ مُشْرِكُونَ أَمْ مُسْلِمُونَ. وَيُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونُوا فِي أَمْنٍ مِنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ بِحَرْبٍ فِي خُرُوجِهِمْ فِي تِجَارَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ فِي تِجَارَةٍ، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: نَرْكَبُ إِلَيْهِمْ فَنُقَاتِلُهُمْ، وَقَالَ فَرِيقٌ: كَيْفَ نَقْتُلُهُمْ وَقَدْ نَطَقُوا بِالْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُغَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ.

وَعَنِ الضَّحَّاكِ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ [النِّسَاء: 97] الْآيَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ كُلَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَكَانُوا مَثَلًا لِعُمُومِهَا وَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ بِالنِّفَاقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فَاتَ وَقْتُ قِتَالِهِمْ، لِقَصْدِ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ. وَعَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فَمَوْقِعُ الْمَلَامِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لِضَعْفِ دَلِيلِ الْمُخْطِئِينَ لِأَنَّ دَلَائِلَ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ كَانَتْ تَرْجُحُ عَلَى دَلِيلِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، مَعَ التَّجَرُّدِ عَنْ إِظْهَارِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى دَلِيلٍ ضَعِيفٍ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْعَالِمُ لَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْمَلَامِ- فِي الدُّنْيَا- عَلَى أَنْ أَخْطَأَ فِيمَا لَا يخطىء أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِثْلِهِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حَالِيَّةٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمُ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ فَاللَّهُ قَدْ رَدَّهُمْ إِلَى حَالِهِمُ السُّوأَى، لِأَنَّ مَعْنَى أَرْكَسَ رَدَّ إِلَى الرِّكْسِ، وَالرِّكْسُ قَرِيبٌ مِنَ الرِّجْسِ. وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الرَّوْثِ «إِنَّ هَذَا رِكْسٌ» وَقِيلَ: مَعْنَى أَرْكَسَ نَكَّسَ، أَيْ رَدَّ رَدًّا شَنِيعًا، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِلْأَوَّلِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ جَزَاءً لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ وَقِلَّةِ إِخْلَاصِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تَتَوَالَدُ مِنْ جِنْسِهَا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَأْتِي بِزِيَادَةِ الصَّالِحَات، وَالْعَمَل السيّء يَأْتِي بِمُنْتَهَى الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا فِي بُلُوغِ الْغَايَاتِ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَوْلُهُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ اللَّوْمِ وَالتَّعْجِيبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ، لِأَنَّ السَّامِعِينَ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ وَجْهِ اللوم، ويتساءلون عمّا ذَا يَتَّخِذُونَ نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ الْمَشُوبُ بِاللَّوْمِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ هِيَ مَحَلُّ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَتَقْدِيرُهَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ

[سورة النساء (4) : آية 89]

أَضَلَّهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَسَاءَ حَالَهُمْ، وَسُوءُ الْحَالِ أَمْرٌ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ، فَيَكُونُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ فَصْلُ الِاسْتِئْنَافِ. وَإِنْ جَعَلْتَ مَعْنَى وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، كَانَتْ جملَة أَتُرِيدُونَ اسْتِئْنَاف ابْتِدَائِيًّا، وَوَجْهُ الْفَصْلِ أَنَّهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ، بَعْدَ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ الَّتِي هِيَ خَبَرِيَّةٌ، فَالْفَصْلُ لِكَمَالِ الِانْقِطَاعِ لاخْتِلَاف الغرضين. [89] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 89] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) الْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ «وَدُّوا» عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88] . فَضَحَ اللَّهُ هَذَا الْفَرِيقَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مُضْمِرُونَ الْكُفْرَ، وَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ رَدَّ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُهَاجَرَةِ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يُنَاسِبُ مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْمُهَاجَرَةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاللَّهُ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ وِلَايَتِهِمْ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ تَقَعُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ، الَّتِي انْخَزَلَ عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ مَضَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَا أَبْلَغَ التَّعْبِيرَ فِي جَانِبِ مُحَاوَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِرَادَةِ فِي قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النِّسَاء: 88] ، وَفِي جَانِبِ مُحَاوَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْوُدِّ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ يَنْشَأُ عَنْهَا الْفِعْلُ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَقْرِبُونَ حُصُولَ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَرِيبٌ مِنْ فِطْرَةِ النَّاسِ، وَالْمُنَافِقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْتَدُّونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ مِنْهُمْ مَحَبَّتَهُمْ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَبُهُمْ تَكْفِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا تَمَنِّيًا، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْوُدِّ الْمُجَرَّدِ.

[سورة النساء (4) : آية 90]

وَجُمْلَةُ فَتَكُونُونَ سَواءً تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُون قَوْله: كَما كَفَرُوا قُصِدَ مِنْهَا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حِبَالَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَقَامَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ عَلَامَةً عَلَى كُفْرِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى لَا يَعُودَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ فِي شَأْنِهِمْ، وَهِيَ عَلَامَةٌ بَيِّنَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ النِّفَاقِ شَيْءٌ مَسْتُورٌ إِلَّا نِفَاقَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَالْمُهَاجَرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِقَصْدِ مُفَارَقَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى دِينِهِ الَّذِي أَرَادَهُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْمُهَاجَرَةِ. وَهَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ قَبْلَ مُؤَاخَذَتِهِمْ، إِذِ الْمَعْنَى: فَأَبْلِغُوهُمْ هَذَا الْحُكْمَ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَقَبَّلُوهُ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ الْكُفْرَ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُتَقَدَّمَ لَهُ، وَيُعَرَّفَ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَيُعْذَرَ إِلَيْهِ، فَإِنِ الْتَزَمَهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، ثُمَّ يُسْتَتَابُ. وَهُوَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ سَحْنُونٌ. وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي الَّذِي يَضَعُ عِنْدَهُ مَوْلَاهُ سِرَّهُ وَمَشُورَتَهُ. وَالنَّصِيرُ الَّذِي يُدَافِعُ عَنْ وليّه ويعينه. [90] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 90] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) الْاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَلم هَاجرُوا. أَوْ إِلَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ إِلَى مَكَّةَ بعد أَن يهاجروا، وَهَؤُلَاءِ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ مِمَّنْ عَاهَدُوكُمْ، فَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِالْقَتْلِ، لِئَلَّا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمُ الْمُنْعَقِدَةَ مَعَ قَوْمِهِمْ.

وَمَعْنَى (يَصِلُونَ) يَنْتَسِبُونَ، مِثْلُ مَعْنَى اتَّصَلَ فِي قَوْلِ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ: أَلا بلغا خلّني رَاشِدًا ... وَصِنْوِي قَدِيمًا إِذَا مَا اتَّصَلَ أَيِ انْتَسَبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْتَحَقَ، أَيْ إِلَّا الَّذِينَ يَلْتَحِقُونَ بِقَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَيَدْخُلُونَ فِي عَهْدِهِمْ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ هُمْ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ أَصَالَةً وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي هُمْ كَالْمُعَاهَدِينَ لِأَنَّ مُعَاهَدَ الْمُعَاهَدِ كَالْمُعَاهَدِ. وَالْمُرَادُ بِ (الَّذِينَ يَصِلُونَ) قَوْمٌ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، بَلْ كُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِقَوْمٍ لَهُمْ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: هَؤُلَاءِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبَائِلُ الَّتِي كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا نَزَلَتْ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الْآيَةَ خَافَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، فَذَهَبُوا بِبَضَائِعِهِمْ إِلَى هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرِ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ قَدْ حَالَفَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى: أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَجَأَ إِلَى هِلَالٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لَهُ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ خُزَاعَةُ، وَقِيلَ: بَنُو بَكْرِ بْنِ زَيْدِ مَنَاءَةٍ كَانُوا فِي صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا آمَنُوا يَوْمَئِذٍ وَقِيلَ: هُمْ بَنُو مُدْلِجٍ إِذْ كَانَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ قَدْ عَقَدَ عَهْدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهِ بَنِي مُدْلِجٍ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، عَلَى أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ قُرَيْشٌ فَهُمْ لَا يُسْلِمُونَ، لِئَلَّا تَخْشُنَ قُلُوبُ قُرَيْشٍ عَلَيْهِمْ. وَالْأَوْلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقَبَائِلِ مَشْمُولٌ لِلْآيَةِ. وَمعنى أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ إِلَخْ: أَوْ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ وَلَكِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ لَا يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ ذَلِكَ. وَكَانَ هَذَا رُخْصَةً لَهُمْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، إِذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ هَادَنُوا قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ تَأَلُّفًا لَهُمْ، وَلِمَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِهِمْ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ صَارَ الْجِهَادُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ فَلَا تَشْمَلُهُمُ الرُّخْصَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «حَصِرَتْ» - بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُقْتَرِنِ بِتَاءِ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ «حَصِرَةً» - بِصِيغَةِ الصِّفَةِ وَبَهَاءِ تَأْنِيثِ الْوَصْفِ فِي آخِرِهِ مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً-.

[سورة النساء (4) : آية 91]

وَ (حَصِرَتْ) بِمَعْنَى ضَاقَتْ وَحَرِجَتْ. وَ (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) مَجْرُورٌ بِحَذْفِ عَنْ، أَيْ ضَاقَتْ عَنْ قِتَالِكُمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ لَا يَرْضَوْنَ قِتَالَ إِخْوَانِهِمْ، وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ نَسَبٍ وَاحِدٍ، فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَنْ صِدْقٍ مِنْهُمْ. وَأُرِيدَ بِهَؤُلَاءِ بَنُو مُدْلِجٍ: عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَذَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِذْ صَدَقُوا، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَائِدَةَ هَذَا التَّسْخِيرِ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ مِنْ قَوْمٍ قَدْ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ فَصَارُوا سِلْمًا يَوَدُّونَهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ قِتَالَ قَوْمِهِمْ فَقَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ إِنِ اعْتَزَلُوهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أَيْ إِذْنا بعد أذن أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ غَيْرِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ. وَالسَّبِيلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِوَسِيلَةِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي خَبَرِهِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فِي سُورَة بَرَاءَة [91] . [91] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ آخَرُ لَا سَعْيَ لَهُمْ إِلَّا فِي خُوَيْصَّتِهِمْ، وَلَا يَعْبَأُونَ بِغَيْرِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَأْمَنُوا غَزْوَهُمْ، وَيُظْهِرُونَ الْوُدَّ لِقَوْمِهِمْ لِيَأْمَنُوا غَائِلَتَهُمْ، وَمَا هُمْ بِمُخْلِصِينَ الْوُدَّ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِإِرَادَةِ أَنْ يَأْمَنُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا حُظُوظُ أَنْفُسِهِمْ، يَلْتَحِقُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي قَضَاءِ لُبَانَاتٍ

[سورة النساء (4) : آية 92]

لَهُمْ فَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ فَيَرْتَدُّونَ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها [النِّسَاء: 91] . وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ مَعْنَى (أُرْكِسُوا) قَرِيبًا. وَهَؤُلَاءِ هُمْ غَطَفَانُ وَبَنُو أَسَدٍ مِمَّنْ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُصَ إِسْلَامُهُمْ، وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، كَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ فَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَكَّةَ فَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَأَمْرُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ وَمُعَامَلَةِ الْفَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النِّسَاء: 90] أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ تَرْكُهُمْ إِذَا تَرَكُوا الْمُؤْمِنِينَ وَسَالَمُوهُمْ، وَقِتَالُهُمْ إِذَا نَاصَبُوهُمُ الْعَدَاءَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الشَّرْطَ الْمَفْرُوضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُمْ يَعْتَزِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَمَ، وَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ، وَجَعَلَ الشَّرْطَ الْمَفْرُوضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَزِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَمَ، وَلَا يَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، نَظَرًا إِلَى الْحَالَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ. وَهُوَ افْتِنَانٌ بَدِيعٌ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ اخْتِلَافٌ فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ صَرَّحَ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَبِوَصْفِ مَا فِي ضَمِيرِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْوِجْدَانُ فِي قَوْلِهِ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ بِمَعْنَى الْعُثُورِ وَالِاطِّلَاعِ، أَيْ سَتَطَّلِعُونَ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، وَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ وَجَدَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَقَوْلُهُ: يُرِيدُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ تَصَارِيفِ اسْتِعْمَالِ الْوِجْدَانِ فِي كَلَامِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [82] . وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ. (وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ) هُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَلَا يُخْشَى أَنْ يُنْسَبَ الْمُسْلِمُونَ فِي قِتَالِهِمْ إِلَى اعْتِدَاءٍ وتفريق الجامعة. [92] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً

(92) انْتِقَالُ الْغَرَضِ يُعِيدُ نَشَاطَ السَّامِعِ بِتَفَنُّنِ الْأَغْرَاضِ، فَانْتَقَلَ مِنْ تَحْدِيدِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعَدُوِّ إِلَى أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ: مِنْ وُجُوبِ كَفِّ عُدْوَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي قِتَالِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِينَ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى حُكْمِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَدَثَ حَادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ خَطَأً بِالْمَدِينَةِ نَاشِئٌ عَنْ حَزَازَاتٍ أَيَّامَ الْقِتَالِ فِي الشِّرْكِ أَخْطَأَ فِيهِ الْقَاتِلُ إِذْ ظَنَّ الْمَقْتُولَ كَافِرًا. وَحَادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ عَمْدًا مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَالْحَادِثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: 94] وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، فَتَزْدَادُ الْمُنَاسَبَةُ وُضُوحًا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَصِيرُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا وَرَدَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْقَتْلِ. هَوَّلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَجَعَلَهُ فِي حَيِّزِ مَا لَا يَكُونُ، فَقَالَ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، وَهِيَ صِيغَةُ الْجُحُودِ، أَيْ مَا وُجِدَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْخَطَأِ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ قَتْلًا مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا قَتْلَ الْخَطَأِ، فَكَانَ الْكَلَامُ حَصْرًا وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مُرَادٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ كَأَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ تُنَافِي الِاجْتِمَاعَ مَعَ الْقَتْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُنَافَاةَ الضِّدَّيْنِ لِقَصْدِ الْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قَتَلَ مُؤْمِنًا فَقَدْ سُلِبَ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَمَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ، عَلَى نَحْوِ «وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً عَمَّا بَعْدَهَا، غَيْرَ مُرَادٍ بِهَا التَّشْرِيعُ، بَلْ هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلتَّشْرِيعِ، لِقَصْدِ تَفْظِيعِ حَالِ قَتْلِ المؤمنِ المؤمنَ قَتْلًا غَيْرَ خَطَأٍ، وَتَكُونُ خَبَرِيَّةً لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيًّا مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ

يَنْتَفِي قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مُؤْمِنًا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ عَدَمِ الْقَصْدِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَبْدُو فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ خَبَرًا مُرَادًا بِهِ النَّهْيُ، اسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، وَتَجْعَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا خَطَأً تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ: عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَحْصُلُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْخَطَأِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا النَّهْيُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْخَطَأَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، يَعْنِي إِنْ كَانَ نَوْعٌ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْمُؤْمِنِ، فَهُوَ قَتْلُ الْخَطَأِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يَأْتِي فِعْلَهُ قَاصِدًا امْتِثَالًا وَلَا عِصْيَانًا، فَرَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى مَعْنَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْقَصْدُ بِحَالٍ أَبَدًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَبْدَأَ التَّشْرِيعِ، وَمَا بَعْدَهَا كَالتَّفْصِيلِ لَهَا وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يُشْكِلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا خَطَأً. وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى أَنَّ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً مُرَادٌ بِهِ النَّهْيُ، أَيْ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ فَالْتَجَأُوا إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى (لَكِنْ) فِرَارًا مِنَ اقْتِضَاءِ مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ إِبَاحَةَ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا خَطَأً، وَقَدْ فَهِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنَا. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً مُرَادٌ بِهِ ادِّعَاءُ الْحَصْرِ أَوِ النَّهْيِ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَاسْتَغْنَى عَنِ الْقَيْدِ لِانْحِصَارِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِمُقْتَضَاهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِهِ. رَوَى الطَّبَرَيُّ، وَالْوَاحِدِيُّ، فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة: أنّ عيّاشا بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فِي طَلَبِهِ، فَأَتَوْهُ بِالْمَدِينَةِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ أَقْسَمَتْ أَنْ لَا يُظِلَّهَا بَيْتٌ حَتَّى تَرَاكَ، فَارْجِعْ مَعَنَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيْكَ ثُمَّ ارْجِعْ، وَأَعْطَوْهُ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَن لَا يهجوه، وَلَا يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَلَمَّا جَاوَزُوا الْمَدِينَةَ أَوْثَقُوهُ، وَدَخَلُوا بِهِ مَكَّةَ، وَقَالُوا لَهُ «لَا نَحُلُّكَ مِنْ وَثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِالَّذِي آمَنْتَ بِهِ» . وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ يَجْلِدُهُ وَيُعَذِّبُهُ، فَقَالَ عَيَّاشٌ لِلْحَارِثِ «وَاللَّهِ لَا أَلْقَاكَ خَالِيًا إِلَّا قَتَلْتُكَ» فَبَقِيَ بِمَكَّةَ

حَتَّى خَرَجَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ بِقُبَاءٍ، وَكَانَ الْحَارِثُ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيَّاشٌ بِإِسْلَامِهِ، فَضَرَبَهُ عَيَّاشٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمَّا أُعْلِمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ رَجَعَ عَيَّاشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ فَنَزَلَتْ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَمَانِ، وَالِدِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، حِينَ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ حِينَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَدَلَ إِلَى شِعْبٍ فَوَجَدَ رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ الرَّجُلُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِغَنَمِهِ إِلَى السَّرِيَّةِ، ثُمَّ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فَأَتَى إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْفَاءُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ، وَ (تَحْرِير) مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمَعْنَى: فَحُكْمُهُ أَوْ فَشَأْنُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَقَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: 18] . وَالتَّحْرِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، أَيْ جَعْلُ الرَّقَبَةِ حُرَّةً. وَالرَّقَبَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى الذَّاتِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، كَمَا يَقُولُونَ، الْجِزْيَة على الرؤوس عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ. وَمِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِرْصُهَا عَلَى تَعْمِيمِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ بِكَيْفِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ رَسُولَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْعُبُودِيَّةُ مُتَفَشِّيَةً فِي الْبَشَرِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا ثَرَوَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ أَسْبَابُهَا مُتَكَاثِرَةً: وَهِيَ الْأَسْرُ فِي الْحُرُوبِ، والتصيير فِي الدِّيوَان، وَالتَّخَطُّفُ فِي الْغَارَاتِ، وَبَيْعُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُمْ، وَالرَّهَائِنُ فِي الْخَوْفِ، وَالتَّدَايُنُ. فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ أَسْبَابِهَا عَدَا الْأَسْرِ، وَأَبْقَى الْأَسْرَ لِمَصْلَحَةِ تَشْجِيعِ الْأَبْطَالِ، وَتَخْوِيفِ أَهْلِ الدَّعَارَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ مَا كَانَ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ عَوَاقِبِ الْحُرُوبِ مِثْلَ الْأَسْرِ، قَالَ النَّابِغَةُ: حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مقادتي ... وَلَا نسوتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا

ثُمَّ دَاوَى تِلْكَ الْجِرَاحَ الْبَشَرِيَّةَ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ الْحُرِّيَّةِ فِي مُنَاسَبَاتٍ دِينِيَّةٍ جَمَّةٍ: مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَمِنْهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْوَاجِبَةِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا. وَقَدْ جُعِلَتْ كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّحْرِيرُ بَدَلًا مِنْ تَعْطِيلِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَاتِ الْقَتِيلِ، فَإِنَّ الْقَتِيلَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَيُرْجَى مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يَقُومُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ دِينِهِ، فَلَمْ يَخْلُ الْقَاتِلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوَّتَ بِقَتْلِهِ هَذَا الْوَصْفَ، وَقَدْ نَبَّهَتِ الشَّرِيعَةُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مَوْتٌ فَمَنْ تَسَبَّبَ فِي مَوْتِ نَفْسٍ حَيَّةٍ كَانَ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ كَالْمَيِّتَةِ وَهِيَ الْمُسْتَعْبَدَةُ. وَسَنَزِيدُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [20] ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْقَذَهُمْ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْفَرَاعِنَةِ فَصَارُوا كَالْمُلُوكِ لَا يَحْكُمُهُمْ غَيْرُهُمْ. وَثَانِيهُمَا الدِّيَةُ. وَالدِّيَةُ مَالٌ يُدْفَعُ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ خَطَأً، جَبْرًا لِمُصِيبَةِ أَهْلِهِ فِيهِ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ نَقْدَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا، كَمَا سَيَأْتِي. وَالدِّيَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَاهَا وَمَقَادِيرِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُفَصِّلْهَا الْقُرْآنُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ جَعَلُوا الدِّيَةَ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ دَمِ الْقَتِيلِ فِي الْعَمْدِ وَفِي الْخَطَأِ، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَكَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِأَخْذِهَا. قَالَ الْحَمَاسِيُّ: فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً ... لَسُقْنَا لَهُمْ سَيْبًا مِنَ الْمَالِ مُفْعَمَا وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ ... رِضَى الْعَارِ فَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا وَإِذَا رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ بِدِيَةٍ بِشَفَاعَةِ عُظَمَاءِ الْقَبِيلَةِ قَدَّرُوهَا بِمَا يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ. قَالَ زُهَيْرٌ: تُعَفَّى الْكُلُومُ بِالْمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ ... يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ وَأَمَّا فِي الْخَطَأِ فَكَانُوا لَا يَأْبَوْنَ أَخْذَ الدِّيَةِ، قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَهَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، إِذْ فَدَى وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ نَذَرَ ذَبْحَهُ لِلْكَعْبَةِ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَرَتْ فِي قُرَيْشٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَبِعَهُمُ الْعَرَبُ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ أَبُو سَيَّارَةَ عُمَيْلَةُ الْعَدَوَانِيُّ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْمَلِكِ أَلْفًا مِنَ

الْإِبِلِ، وَدِيَةُ السَّادَةِ مِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، وَدِيَةُ الْحَلِيفِ نِصْفُ دِيَةِ الصَّمِيمِ. وَأَوَّلُ مَنْ وُدِيَ بِالْإِبِلِ هُوَ زَيْدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ. إِذْ قَتَلَهُ أَخُوهُ مُعَاوِيَةُ جَدُّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَقْدِيرِ الدِّيَة من مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مُخَمَّسَةٌ أَخْمَاسًا: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ. وَدِيَةُ الْعَمْدِ، إِذَا رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ بِالدِّيَةِ، مُرَبَّعَةٌ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ. وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ عَلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ تَغْلِيظًا بِالصِّنْفِ لَا بِالْعَدَدِ، إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ خَطَأً: ثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، أَيْ نُوقًا فِي بُطُونِهَا أَجِنَّتُهَا. وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْقَتِيلِ غَيْرَ أَهْلِ إِبِلٍ نُقِلَتِ الدِّيَةُ إِلَى قِيمَةِ الْإِبِلِ تَقْرِيبًا فَجُعِلَتْ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ أَلْفَيْ شَاةٍ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ، أَيْ أَهْلِ النَّسِيجِ مِثْلَ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِائَةُ حُلَّةٍ. وَالْحُلَّةُ ثَوْبَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَمِعْيَارُ تَقْدِيرِ الدِّيَاتِ، بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَقْطَارِ، الرُّجُوعُ إِلَى قِيمَةِ مِقْدَارِهَا مِنَ الْإِبِلِ الْمُعَيَّنِ فِي السُّنَّةِ. وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ الْقَتِيلَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَدِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ الْكِتَابِيِّ. وَتُدْفَعُ الدِّيَةُ مُنَجَّمَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ، وَابْتِدَاءُ تِلْكَ النُّجُومِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ أَوِ التَّرَاوُضِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ. وَالدِّيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَصْدَرُ وَدَى، أَيْ أَعْطَى، مِثْلَ رَمَى، وَمَصْدَرُهُ وَدْيٌ مِثْلُ وَعْدٍ، حُذِفَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَخْفِيفًا، لِأَنَّ الْوَاوَ ثَقِيلَةٌ، كَمَا حُذِفَتْ فِي عِدَّةٍ، وَعُوِّضَ عَنْهَا الْهَاءُ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ مِثْلَ شِيَةٍ مِنَ الْوَشْيِ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَرْضِيَةٌ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ. وَذُكِرَ الْأَهْلُ مُجْمَلًا فَعُلِمَ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْقَتِيلِ، فَإِنَّ الْأَهْلَ هُوَ الْقَرِيبُ، وَالْأَحَقُّ بِهَا الْأَقْرَبُ. وَهِيَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ يَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْقَتِيلِ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ

إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَطَأً إِذَا كَانَ وَارِثًا لِلْقَتِيلِ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَعْوِيضِ الْمُتْلَفَاتِ، جُعِلَتْ عِوَضًا لِحَيَاةِ الَّذِي تَسَبَّبَ الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: تَكَايُلُ الدِّمَاءِ، وَقَالُوا: هُمَا بَوَاءٌ، أَيْ كُفْآنِ فِي الدَّمِ وَزَادُوا فِي دِيَةِ سَادَتِهِمْ. وَجُعِلَ عَفْوُ أَهْلِ الْقَتِيلِ عَنْ أَخْذِ الدِّيَةِ صَدَقَةً مِنْهُمْ تَرْغِيبًا فِي الْعَفْوِ. وَقَدْ أَجْمَلَ الْقُرْآنُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الدِّيَةِ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأَنَّهُمُ الْعَاقِلَةُ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَالْعَاقِلَةُ: الْقَرَابَةُ مِنَ الْقَبِيلَةِ. تَجِبُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ بِحَسَبِ التَّقَدُّمِ فِي التَّعْصِيبِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ أَيْ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا وَكَانَ أَهْلُهُ كُفَّارًا، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةٌ، يُقْتَصَرُ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ دُونَ دَفْعِ دِيَةٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الدِّيَةَ: إِذَا اعْتَبَرْنَاهَا جَبْرًا لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ، فَلَمَّا كَانُوا أَعْدَاءً لَمْ تَكُنْ حِكْمَةٌ فِي جَبْرِ خَوَاطِرِهِمْ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِ قَتِيلِهِمْ، مِثْلَ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، يَكُونُ مَنْعُهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلِأَنَّا لَا نُعْطِيهِمْ مَالَنَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْنَا. وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ الْمُؤْمِنُ بَاقِيًا فِي دَارِ قَوْمِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ أَوْلِيَاؤُهُ كُفَّارًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَسْقُطُ عَنِ الْقَاتِلِ دِيَتُهُ، وَتُدْفَعُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: تَسْقُطُ الدِّيَةُ لِأَنَّ سَبَبَ سُقُوطِهَا أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا كُفَّارٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِأَهْلِ الْقَتِيلِ لَا بِمَكَانِ إِقَامَتِهِ، إِذْ لَا أَثَرَ لِمَكَانِ الْإِقَامَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِيهَا. وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ بِلَفْظِ عَدُوٍّ وَهُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّ فَعُولًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَكْثُرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَوْصُوفِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً [النِّسَاء: 101] لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام: 112] ، وَامْرَأَةٌ عَدُوٌّ وَشَذَّ قَوْلُهُمْ عَدُوَّةٌ. وَفِي كَلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ بِحَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ لَمَّا رَأَيْنَهُ «يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ» . وَيُجْمَعُ بِكَثْرَةٍ عَلَى أَعْدَاءٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: 19] . وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَيْ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ الْمُؤْمِنَ. فَجَعَلَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، أَيْ عَهْدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، دِيَةَ قَتِيلِهِمُ الْمُؤْمِنِ اعْتِدَادًا بِالْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا- وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الدِّيَةَ جَبْرٌ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ، وَلَيْسَتْ مَالًا مَوْرُوثًا عَنِ الْقَاتِلِ، إِذْ لَا يَرْثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمَقْتُولِ الْمُؤْمِنِ وَارِثٌ مُؤْمِنٌ فِي قَوْمٍ مُعَاهَدِينَ، أَوْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُعَاهَدًا لَا مُؤْمِنًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «كَانَ» عَائِدٌ عَلَى الْقَتِيلِ بِدُونِ وَصْفِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَةِ فِيمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً. وَلَا يَهُولَنَّكُمُ التَّصْرِيحُ بِالْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ ذَلِكَ احْتِرَاسٌ وَدَفْعٌ لِلتَّوَهُّمِ عِنْدَ الْخَبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ أَيْضًا عَدُوٌّ لَنَا فِي الدِّينِ. وَشَرْطُ كَوْنِ الْقَتِيلِ مُؤْمِنًا فِي هَذَا لحكم مَدْلُولٌ بِحَمْلِ مُطْلَقِهِ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَيَكُونُ مَوْضُوعُ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْقَتِيلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً لِتَصْدِيرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى إِبْقَاءِ الْمُطْلَقِ هُنَا عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَحَمَلُوا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ، يُقْتَلُ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا كَانَ حُكْمًا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صُلْحٌ إِلَى أَجَلٍ، حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ، وَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ نُسِخَ. وَقَوْلُهُ: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ وُصِفَ الشَّهْرَانِ بِأَنَّهُمَا مُتَتَابِعَانِ وَالْمَقْصُودُ تَتَابُعُ أَيَّامِهِمَا. لِأَنَّ تَتَابُعَ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ تَوَالِيَ الشَّهْرَيْنِ. وَقَوْلُهُ: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ» مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ: شَرَعَ اللَّهُ الصِّيَامَ تَوْبَةً مِنْهُ. وَالتَّوْبَةُ هُنَا مَصْدَرُ تَابَ بِمَعْنَى قَبِلَ التَّوْبَةَ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنْ) ، لِأَنَّ تَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى نَدِمَ وَعَلَى مَعْنَى قَبِلَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النِّسَاء: 17] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنِ الْقَاتِلِ فَشَرَعَ الصِّيَامَ لِيَتُوبَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْطَأَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي عَظِيمٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَوْبَةً مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ رَاجِعًا إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَالدِّيَةِ وَبَدَلِهِمَا، وَهُوَ الصِّيَامُ، أَيْ شَرَعَ اللَّهُ

[سورة النساء (4) : آية 93]

الْجَمِيعَ تَوْبَةً مِنْهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَعْ لَهُ ذَلِكَ لَعَاقَبَهُ عَلَى أَسْبَابِ الْخَطَأِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى تَفْرِيطِ الْحَذَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ. أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ «صِيَامٍ» ، أَيْ سَبَبُ تَوْبَةٍ، فَهُوَ حَالٌ مجازية عقلية. [93] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ لِأَحْكَامِ الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِتَهْوِيلِ أَمْرِهِ، فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ قَتْلِ الْخَطَأِ بِعُنْوَانِ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاء: 92] . وَالْمُتَعَمِّدُ: الْقَاصِدُ لِلْقَتْلِ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَمَدَ إِلَى كَذَا بِمَعْنَى قَصَدَ وَذَهَبَ. وَالْأَفْعَالُ كُلُّهَا لَا تَخَرُجُ عَنْ حَالَتَيْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ، وَيُعْرَفُ التَّعَمُّدُ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ بِأَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ قَاصِدٌ إِزْهَاقَ رُوحِهِ بِخُصُوصِهِ بِمَا تُزْهَقُ بِهِ الْأَرْوَاحُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الْقَتْلُ نَوْعَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَعَلَ نَوْعًا ثَالِثًا سَمَّاهُ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَاسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، إِنْ صَحَّتْ فَتَأْوِيلُهَا مُتَعَيِّنٌ وَتُحْمَلُ عَلَى خُصُوصِ مَا وَرَدَتْ فِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاحِدِيُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة أنّ مقيسا بْنَ صُبَابَةَ (¬1) وأخاه هِشَام جَاءَا مُسْلِمَيْنِ مُهَاجِرَيْنِ فَوُجِدَ هِشَامٌ قَتِيلًا فِي بَنِي النَّجَّارِ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ أَخِيهِ مِقْيَسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، دِيَةَ أَخِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ فِهْرٍ فَلَمَّا أَخَذَ مِقْيَسٌ الْإِبِلَ عَدَا عَلَى الْفِهْرِيِّ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ، وَانْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ كَافِرًا، وَأَنْشَدَ فِي شَأْنِ أَخِيهِ: ¬

(¬1) مقيس بميم مسكورة وقاف وتحتية بِوَزْن مِنْبَر. وصبابة بصاد مُهْملَة وبائين موحدتين. قيل هُوَ اسْم أمه.

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ (¬1) حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ وَقَدْ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقُتِلَ بِسُوقِ مَكَّةَ. وَقَوْلُهُ: خالِداً فِيها مَحْمَلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ فِي النَّارِ لِأَجْلِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَيْسَ كُفْرًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خُلُودَ فِي النَّارِ إِلَّا لِلْكُفْرِ، عَلَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْخُلُودِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي طُولِ الْمُكْثِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ. قَالَ النَّابِغَةُ فِي مَرَضِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: وَنَحْنُ لَدَيْهِ نَسْأَلُ اللَّهَ خُلْدَهُ ... يَرُدُّ مَلْكًا وَلِلْأَرْضِ عَامِرَا وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْخُلُودَ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ، عَلَى وَتِيرَةِ إِيجَابِ الْخُلُودِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ. وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَرِدُ عَلَى جَرِيمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا، كَمَا تَرِدُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، إِلَّا أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ شَذَّ شُذُوذًا بَيِّنًا فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ مُتَعَمِّدًا لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرِفَ بِهِ، أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الْآيَةَ: هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُسْتَنَدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَقَدْ نَسَخَتِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الَّتِي تَقْتَضِي عُمُومَ التَّوْبَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 116] ، فَقَاتِلُ النَّفْسِ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ يَغْفِرَ لَهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: 68، 69] . ¬

(¬1) فارع اسْم حصن فِي الْمَدِينَة لبني النجار.

وَالْحَقُّ أَنَّ مَحَلَّ التَّأْوِيلِ لَيْسَ هُوَ تَقَدُّمُ النُّزُولِ أَوْ تَأَخُّرُهُ، وَلَكِنَّهُ فِي حَمْلِ مُطْلَقِ الْآيَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَيَّدَتْ جَمِيعَ أَدِلَّةِ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِحَالَةِ عَدَمِ التَّوْبَةِ. فَأَمَّا حُكْمُ الْخُلُودِ فَحَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ عَلَى مَجَازِهِ، وَهُوَ طُولُ الْمُدَّةِ فِي الْعِقَابِ، مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا حِينَ الْخَوْضِ فِي شَأْنِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ، وَكَيْفَ يُحْرَمُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ دُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَحَمَلَ جَمَاعَةٌ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى قَصْدِ التَّهْوِيلِ والزجر، لئلّا يجترىء النَّاسُ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا، وَيَرْجُونَ التَّوْبَةَ، وَيُعَضِّدُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «أَلِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا تَوْبَةٌ» فَقَالَ: «لَا إِلَّا النَّارَ» ، فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ «أَهَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا فَقَدْ كُنْتَ تَقُولُ إِنَّ تَوْبَتَهُ مَقْبُولَةٌ» فَقَالَ: «إِنِّي لَأَحْسَبُ السَّائِلَ رَجُلًا مُغْضَبًا يُرِيدُ أَنْ يقتل مُؤمنا» ، قل: فَبَعَثُوا فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَتَلَ نَفْسًا يَقُولُ لَهُ: «تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ» وَإِذَا سَأَلَهُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَتَوَسَّمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُحَاوِلُ قَتْلَ نَفْسٍ، قَالَ لَهُ: لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ. وَأَقُولُ: هَذَا مَقَامٌ قَدِ اضْطَرَبَتْ فِيهِ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِلَاكُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا فِي وَعِيدِ قَاتِلِ النَّفْسِ قَدْ تَجَاوَزَ فِيهِ الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ مِنَ الْإِغْلَاظِ، فَرَأَى بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِحَمْلِ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، دُونَ تَأْوِيلٍ، لِشِدَّةِ تَأْكِيدِهِ تَأْكِيدًا يَمْنَعُ مَنْ حَمْلِ الْخُلُودِ عَلَى الْمَجَازِ، فَيُثْبِتُ لِلْقَاتِلِ الْخُلُودَ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ آيِ الْوَعِيدِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَخُوضُونَ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْآيَةِ مُحْكَمَةً أَوْ مَنْسُوخَةً، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا مَلْجَأً آخَرَ يَأْوُونَ إِلَيْهِ فِي حَمْلِهَا عَلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْوَعِيدِ: مِنْ مَحَامِلِ التَّأْوِيلِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ، فَآوَوْا إِلَى دَعْوَى نَسْخِ نَصِّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [68، 69] : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا مَنْ تابَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَجْمُوعُ الذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا كَانَ فَاعِلُ مَجْمُوعِهَا تَنْفَعُهُ التَّوْبَةُ فَفَاعِلُ بَعْضِهَا وَهُوَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَجْدَرُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ فَاعِلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَالْقَتْلُ عَمْدًا مِمَّا عُدَّ مَعَهَا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ

[سورة النساء (4) : آية 94]

كَلَامٌ مِثْلُ هَذَا، ثُمَّ أَنْ يُطَالَ وَتَتَنَاقَلَهُ النَّاسُ وَتَمُرَّ عَلَيْهِ الْقُرُونُ، فِي حِينِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ وَعِيدٌ لِقَاتِلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ آيَاتِ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 48] ، بِنَاءً عَلَى أنّ عُمُوم لِمَنْ يَشاءُ نَسَخَ خُصُوصَ الْقَتْلِ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ، وَهُوَ كَافِرٌ- فَالْخُلُودُ لِأَجْلِ الْكُفْرِ، وَهُوَ جَوَابٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَطٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ إِذْ هُوَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ «مَنْ» شَرْطِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ صِيغَ الْعُمُومِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ سَبَبَ الْعَامِّ يُخَصِّصُهُ بِسَبَبِهِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. وَهَذِه كلّها ملاجىء لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ آيَاتِ التَّوْبَةِ نَاهِضَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مُتَظَاهِرَةٌ ظَوَاهِرُهَا، حَتَّى بَلَغَتْ حَدَّ النَّصِّ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا آيَاتُ وَعِيدِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا حَتَّى الْكُفْرِ. عَلَى أَنَّ تَأْكِيدَ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ فِي كَوْنِهِ وَعِيدًا لَا فِي تَعْيِينِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ وَهُوَ الْخُلُودُ. إِذِ الْمُؤَكِّدَاتُ هُنَا مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَبَرَ أَحَدُهَا مُؤَكِّدًا لِمَدْلُولِ الْآخَرِ بَلْ إِنَّمَا أَكَّدَتِ الْغَرَضَ. وَهُوَ الْوَعِيدُ، لَا أَنْوَاعُهُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لَهَاتِهِ الْحَيْرَةِ. وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ اللَّجَأُ إِلَيْهِ، والتعويل عَلَيْهِ. [94] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 94] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، اسْتِقْصَاءً لِلتَّحْذِيرِ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِذِكْرِ أَحْوَالٍ قَدْ يُتَسَاهَلُ فِيهَا وَتَعْرِضُ فِيهَا شُبَهٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ دِيَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ غُنَيْمَتَهُ

وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْقَاتِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْمَقْتُولَ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْقَاتِلَ مُحَلَّمٌ مِنْ جَثَّامَةَ، وَالْمَقْتُولَ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو قَتَادَةَ، وَقِيلَ أَبُو الدَّرْدَاء، وَأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَّخَ الْقَاتِلَ، وَقَالَ لَهُ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ» . وَمُخَاطَبَتُهُمْ بِ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُلَوِّحُ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْقَاتِلِ الْحِرْصَ عَلَى تَحَقُّقِ أَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ لِلْمَقْتُولِ، فَإِنَّ هَذَا التَّحَقُّقَ غَيْرُ مُرَادٍ لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نَاطَتْ صِفَةُ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» أَوْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» . وَالضَّرْبُ: السَّيْرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [156] . وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ضَرَبْتُمْ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ «ضَرَبْتُمْ» لِأَنَّ الضَّرْبَ أَيِ السَّيْرَ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ إِذْ سَبِيلُ اللَّهِ لَقَبٌ لِلْغَزْوِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى الْآيَةَ. وَالتَّبَيُّنُ: شِدَّةُ طَلَبِ الْبَيَانِ، أَيِ التَّأَمُّلُ الْقَوِيُّ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنُوا» لِمَا فِي (إِذَا) مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ غَالِبًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَبَيَّنُوا- بِفَوْقِيَّةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ ثُمَّ نُونٍ- مِنَ التَّبَيُّنِ وَهُوَ تَفَعُّلٌ، أَيْ تَثَبَّتُوا وَاطْلُبُوا بَيَانَ الْأُمُورِ فَلَا تَعْجَلُوا فَتَتَّبِعُوا الْخَوَاطِرَ الْخَاطِفَةَ الْخَاطِئَةَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: فَتَثَبَّتُوا- بِفَاءٍ فَوْقِيَّةٍ فَمُثَلَّثَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ- بِمَعْنَى اطْلُبُوا الثَّابِتَ، أَيِ الَّذِي لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ مَا بَدَا لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ «السَّلَمَ» - بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ اللَّامِ- وَهُوَ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى أَلْقَى السَّلَمَ أَظْهَرَهُ بَيْنَكُمْ كَأَنَّهُ رَمَاهُ بَيْنَهُمْ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ «السَّلَامَ» - بِالْأَلِفِ- وَهُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَعْنَى السَّلَمِ ضِدَّ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ قَوْلُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَيْ مَنْ خَاطَبَكُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ.

وَجُمْلَةُ لَسْتَ مُؤْمِناً مَقُولُ لَا تَقُولُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُؤْمِناً- بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَنْفُوا عَنْهُ الْإِيمَانَ وَهُوَ يُظْهِرُهُ لَكُمْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ لَا تَقُولُوا لَهُ لَسْتَ مُحَصِّلًا تَأْمِينَنَا إِيَّاكَ، أَي إنّك مقتولا أَوْ مَأْسُورٌ. وعَرَضَ الْحَياةِ: متاح الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَنِيمَةُ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِ عَرَضَ الْحَياةِ تَحْقِيرًا لَهَا بِأَنَّهَا نَفْعٌ عَارِضٌ زَائِلٌ. وَجُمْلَةُ تَبْتَغُونَ حَالِيَّةٌ، أَيْ نَاقَشْتُمُوهُ فِي إِيمَانِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ إِحْرَازَ مَالِهِ، فَكَانَ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ آئِلًا إِلَى ابْتِغَاءِ غَنِيمَةِ مَاله، فأوخذوا بالمئال. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ زِيَادَةُ التَّوْبِيخِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ: لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَقَتْلَهُ غَيْرَ آخِذٍ مِنْهُ مَالًا لَكَانَ حُكْمُهُ أَوْلَى مِمَّنْ قَصَدَ أَخْذَ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَيْدُ يَنْظُرُ إِلَى سَبَبِ النُّزُولِ، وَالْحُكْمُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أَيْ لَمْ يَحْصُرِ اللَّهُ مَغَانِمَكُمْ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ. وَزَادَ فِي التَّوْبِيخِ قَوْلُهُ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ كُنْتُمْ كُفَّارًا فَدَخَلْتُمُ الْإِسْلَامَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا أَبَى أَنْ يُصَدِّقَكُمْ فِي إِسْلَامِكُمْ أَكَانَ يُرْضِيكُمْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ تَرْبِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ مُؤَاخَذَتِهِ غَيْرَهُ أَحْوَالًا كَانَ هُوَ عَلَيْهَا تُسَاوِي أَحْوَالَ مَنْ يُؤَاخِذُهُ، كَمُؤَاخَذَةِ الْمُعَلِّمِ التِّلْمِيذَ بِسُوءٍ إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي إِعْمَالِ جُهْدِهِ. وَكَذَلِكَ هِيَ عَظِيمَة لِمَنْ يَمْتَحِنُونَ طَلَبَةَ الْعِلْمِ فَيَعْتَادُونَ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ وَتَطَلُّبَ عَثَرَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَكِبَارُ الْمُوَظَّفِينَ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ لِنَظَرِهِمْ مِنْ صِغَارِ الْمُوَظَّفِينَ، وَكَذَلِكَ الْآبَاءُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ إِذَا بَلَغَتْ بِهِمُ الْحَمَاقَةُ أَنْ يَنْتَهِرُوهُمْ عَلَى اللَّعِبِ الْمُعْتَادِ أَوْ عَلَى الضَّجَرِ مِنَ الْآلَامِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي حِفْظِ الْجَامِعَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ بَثُّ الثِّقَةِ وَالْأَمَانِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَطَرْحُ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِدْخَالُ الشَّكِّ لِأَنَّهُ إِذَا فُتِحَ هَذَا الْبَابُ عَسُرَ سَدُّهُ، وَكَمَا يَتَّهِمُ الْمُتَّهَمُ غَيْرَهُ فَلِلْغَيْرِ أَنْ يَتَّهِمَ مَنِ اتَّهَمَهُ، وَبِذَلِكَ تَرْتَفِعُ الثِّقَةُ، وَيَسْهُلُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الْمُرُوقُ، إِذْ قَدْ أَصْبَحَتِ التُّهْمَةُ تُظِلُّ الصَّادِقَ وَالْمُنَافِقَ، وَانْظُر مُعَاملَة النَّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُنَافِقِينَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ. عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ سَرِيعُ السَّرَيَانِ فِي الْقُلُوبِ فَيَكْتَفِي أَهْلُهُ بِدُخُولِ الدَّاخِلِينَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَشَةٍ، إِذْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَأْلَفُوهُ،

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 96]

وَتُخَالِطَ بِشَاشَتُهُ قُلُوبَهُمْ، فَهُمْ يَقْتَحِمُونَهُ عَلَى شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ فَيَصِيرُ إِيمَانًا رَاسِخًا، وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ثِقَةُ السَّابِقِينَ فِيهِ بِاللَّاحِقِينَ بِهِمْ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَعَادَ اللَّهُ الْأَمْرَ فَقَالَ: فَتَبَيَّنُوا تَأْكِيدًا لِ (تَبَيَّنُوا) الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَهُوَ يَجْمَعُ وعيدا ووعدا. [95، 96] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 95 إِلَى 96] لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) وَلَمَّا لَامَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ التَّعَمُّقِ فِي الْغَايَةِ مِنَ الْجِهَادِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ فَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ كَيْلَا يَكُونَ ذَلِكَ اللَّوْمُ مُوهِمًا انْحِطَاطَ فَضِيلَتِهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ دَفْعًا لِلْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَنْ أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ. يَقُولُ الْعَرَبُ «لَا يَسْتَوِي وَلَيْسَ سَوَاءً» بِمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْمَذْكُورِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ. وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْيِينِ الْمُفَضَّلِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ. قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ غَيْرُهُ: فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً [آل عمرَان: 113] ، وَقَدْ يُتْبِعُونَهُ بِمَا يُصَرِّحُ بِوَجْهِ نَفْيِ السَّوَائِيَّةِ: إِمَّا لِخَفَائِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيد: 10] ، وَقَدْ يَكُونُ التَّصْرِيحُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ:

لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الْحَشْر: 20] . وَإِذْ قَدْ كَانَ وَجْهُ التَّفَاضُلِ مَعْلُومًا فِي أَكْثَرِ مَوَاقِعِ أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ، صَارَ فِي الْغَالِبِ أَمْثَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكِنَايَةِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالْمَفْضُولِ فِي تَفْرِيطِهِ وَزُهْدِهِ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْقَاعِدَ عَنِ الْجِهَادِ لَا يُسَاوِي الْمُجَاهِدَ فِي فَضِيلَةِ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَلَا فِي ثَوَابِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ التَّعْرِيضُ بِالْقَاعِدِينَ وَتَشْنِيعُ حَالِهِمْ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ كَيْلَا يَحْسَبَ أَصْحَابُ الضَّرَرِ أَنَّهُمْ مَقْصُودُونَ بِالتَّحْرِيضِ فَيَخْرُجُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُكَلِّفُوهُمْ مَؤُونَةَ نَقْلِهِمْ وَحِفْظِهِمْ بِلَا جَدْوَى، أَوْ يَظُنُّوا أَنَّهُمْ مَقْصُودُونَ بِالتَّعْرِيضِ فَتَنْكَسِرُ لِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ، زِيَادَةً عَلَى انْكِسَارِهَا بِعَجْزِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِثْنَائِهِمْ إِنْصَافًا لَهُمْ وَعُذْرًا بِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ لَمَا قَعَدُوا، فَذَلِكَ الظَّنُّ بِالْمُؤْمِنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ صَرِيحَ الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَوْقِعٌ. فَاحْفَظُوا هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُودٌ، وَلَهُ مَوْقِعٌ من البلاغة لايضاع، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرُ الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ تَجَاوُزُ التَّعْرِيضِ أَصْحَاب الضَّرَر مَعْلُومَات فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فَالِاسْتِثْنَاءُ عُدُولٌ عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَرِينَةِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، وَخَلْفَ النَّبِيءِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ. فَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَهِمَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فَظَنَّ أَنَّ التَّعْرِيضَ يَشْمَلُهُ وَأَمْثَالَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الظَّنِّ عَدَلَ عَنْ حِرَاسَةِ الْمَقَامِ إِلَى صَرَاحَةِ الْكَلَامِ، وَهُمَا حَالَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي عُرْفِ الْبُلَغَاءِ، هُمَا حَالُ مُرَاعَاةِ خِطَابِ الذَّكِيِّ وَخِطَابِ الْغَبِيِّ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُفِيتَةً مُقْتَضَى حَالٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَلَكِنَّهَا مُعَوِّضَتُهُ بِنَظِيرِهِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: غَيْرُ- بِنَصْبِ الرَّاءِ- عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقاعِدُونَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى النَّعْتِ لِ الْقاعِدُونَ.

وَجَازَ فِي «غَيْرَ» الرَّفْعُ عَلَى النَّعْتِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ (الْقَاعِدُونَ) تَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ فَيَجُوزُ فِيهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى. وَالضَّرَرُ: الْمَرَضُ وَالْعَاهَةُ مِنْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ أَوْ زَمَانَةٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِمَصَادِرِ الْأَدْوَاءِ وَنَحْوِهَا، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَمَى، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْأَعْمَى: ضَرِيرٌ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْأَعْرَجِ وَالزَّمِنِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُصُوصُ الْعَمَى وَأَنَّ غَيْرَهُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرَر مَصْدَرُ ضَرِرَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- مِثْلَ مَرِضَ، وَهَذِهِ الزِّنَةُ تَجِيءُ فِي الْعَاهَاتِ وَنَحْوِهَا، مِثْلَ عَمِيَ وَعَرِجَ وَحَصِرَ، وَمَصْدَرُهَا مَفْتُوحُ الْعَيْنِ مِثْلَ الْعَرَجِ، وَلِأَجْلِ خِفَّتِهِ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- امْتَنَعَ إِدْغَامُ الْمِثْلَيْنِ فِيهِ، فَقِيلَ: ضَرَرٌ بِالْفَكِّ، وَبِخِلَافِ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ ضَرَّهُ فَهُوَ وَاجِبُ الْإِدْغَامِ إِذْ لَا مُوجِبَ لِلْفَكِّ. وَلَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقَ الضَّرَرِ عَلَى غَيْرِ الْعَاهَاتِ الضَّارَّةِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَهُوَ نَادِرٌ أَوْ جَرَى عَلَى الْإِتْبَاعِ وَالْمُزَاوَجَةِ لِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظِ ضِرَارَ وَهُوَ مُفَكَّكٌ. وَزَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ ضَرَرَ اسْمُ مَصْدَرِ الضُّرِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا شَاهِدَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْجِهَادَ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ: بَذْلَ النَّفْسِ وَبَذْلَ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ الْجِهَادَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَو لم يتَّفق شَيْئًا، بَلْ وَلَوْ كَانَ كَلًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْمَالَ لِإِعَانَةِ الْغُزَاةِ، وَلَمْ يُجَاهِدْ بِنَفْسِهِ، لَا يُسَمَّى مُجَاهِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ وَكَانَ يَتَمَنَّى زَوَالَ عُذْرِهِ وَاللَّحَاقَ بِالْمُجَاهِدِينَ، لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ فَضْلَ الْجِهَادِ بِالْفِعْلِ لَا يُسَاوِيهِ فَضْلُ الْآخَرِينَ. وَجُمْلَةُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَقِيقَةُ الدَّرَجَةِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ جُزْءٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ بِهِ، بِحَيْثُ تَتَخَطَّى الْقَدَمُ إِلَيْهِ بِارْتِقَاءٍ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ بِصُعُودٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَرَجَةِ الْعُلَيَّةِ وَدَرَجَةِ السُّلَّمِ. وَالدَّرَجَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: 228] وَالْعُلُوُّ الْمُرَادُ هُنَا عُلُوُّ الْفَضْلِ وَوَفْرَةِ الْأَجْرِ.

وَجِيءَ بِ (دَرَجَةً) بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَلَيْسَ إِفْرَادُهَا لِلْوَحْدَةِ، لِأَنَّ دَرَجَةً هُنَا جِنْسٌ مَعْنَوِيٌّ لَا أَفْرَادَ لَهُ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَهَا تَأْكِيدًا لَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: دَرَجاتٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ أَقْوَى مِنَ الْمُفْرَدِ. وَتَنْوِينُ دَرَجَةً لِلتَّعْظِيمِ. وَهُوَ يُسَاوِي مَفَادَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي دَرَجاتٍ مِنْهُ. وَانْتَصَبَ دَرَجَةً بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ فِي فِعْلِ فَضَّلَ إِذِ الدَّرَجَةُ هُنَا زِيَادَةٌ فِي مَعْنَى الْفَضْلِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ فَضْلًا هُوَ دَرَجَةٌ، أَيْ دَرَجَةً فَضْلًا. وَجُمْلَةُ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى مُعْتَرِضَةٌ. وَتَنْوِينُ «كُلًّا» تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ. وَعُطِفَ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً عَلَى جُمْلَةِ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ زِيَادَةِ أَجْراً عَظِيماً فَبِذَلِكَ غَايَرَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا مُغَايَرَةً سَوَّغَتِ الْعَطْفَ، مَعَ مَا فِي إِعَادَةِ مُعْظَمِ أَلْفَاظِهَا مِنْ تَوْكِيدٍ لَهَا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْمُجاهِدِينَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ الْقَيْدِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِهِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ. وَانْتَصَبَ أَجْراً عَظِيماً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ. وَانْتَصَبَ دَرَجَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ أَجْراً عَظِيماً، أَوْ عَلَى الْحَالِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ دَرَجَاتٍ بِأَنَّهَا مِنْهُ أَيْ مِنَ اللَّهِ. وَجُمِعَ دَرَجاتٍ لِإِفَادَةِ تَعْظِيمِ الدَّرَجَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْكَثْرَةِ تُسْتَعَارُ صِيغَتُهُ لِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلْقَمَةَ لَمَّا أَنْشَدَ الْحَارِثَ بْنَ جَبَلَةَ مَلِكَ غَسَّانَ قَوْلَهُ يَسْتَشْفِعُ لِأَخِيهِ شَأْسِ بْنِ عَبْدَةَ: وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ قَالَ لَهُ الْملك «وأذنبة» .

[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 99]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 97 إِلَى 99] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) فَلَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعُذْرٍ وَبِدُونِهِ، فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ، كَانَ حَالُ الْقَاعِدِينَ عَنْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ مِنَ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، أَوِ اتَّبَعُوهُ ثُمَّ صَدَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْهُ وَفَتَنُوهُمْ حَتَّى أَرْجَعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِعُذْرٍ وَبِدُونِهِ، بِحَيْثُ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُجِيبَةً عَمَّا يَجِيشُ بِنُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنَ التَّسَاؤُلِ عَنْ مَصِيرِ أُولَئِكَ، فَكَانَ مَوْقِعُهَا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّ حَالَهُمْ يُوجِبُ شَكًّا فِي أَنْ يَكُونُوا مُلْحَقِينَ بِالْكُفَّارِ، كَيْفَ وَهُمْ قَدْ ظَهَرَ مَيْلُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِيهِ بِالْفِعْلِ ثُمَّ صُدَّ عَنْهُ أَوْ فُتِنَ لِأَجْلِهِ. وَالْمَوْصُولُ هُنَا فِي قُوَّةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ شَخْصًا أَوْ طَائِفَةً بَلْ جِنْسَ مَنْ مَاتَ ظَالِمًا نَفْسَهُ، وَلِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، أَيْ لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَمَعْنَى تَوَفَّاهُمُ تُمِيتُهُمْ وَتَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ يَمُوتُونَ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَعَدَلَ عَنْ يَمُوتُونَ أَوْ يُتَوَفَّوْنَ إِلَى تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِبَيَانِ شَنَاعَةِ فِتْنَتِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَ «الْمَلَائِكَةُ» جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، فَاسْتَوَى فِي إِفَادَةِ مَعْنَى الْجِنْسِ جَمْعُهُ، كَمَا هُنَا، وَمُفْرَدُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: 11] فَيَجُوزُ

أَنْ يَكُونَ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَ النَّاسِ وَاحِدًا، بِقُوَّةٍ مِنْهُ تَصِلُ إِلَى كُلِّ هَالِكٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ هَالِكٍ مَلَكٌ يَقْبِضُ رُوحَهُ، وَهَذَا أَوْضَحُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلَى قَوْلِهِ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ. وتَوَفَّاهُمُ فِعْلُ مُضِيٍّ يُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَتَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْرَنْ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثِ فَاعِلِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ صِيَغِ جُمُوعِ التَّكْسِيرِ تَأْنِيثٌ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَيَجُوزُ لَحَاقَ تَاءِ التَّأْنِيثِ لِفِعْلِهَا، تَقُولُ: غزت الْعَرَب، وغزى الْعَرَبُ. وَظُلْمُ النَّفْسِ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ فِعْلًا يَؤُولُ إِلَى مَضَرَّتِهِ، فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَفْعَلُوهُ لِوَخَامَةِ عُقْبَاهُ. وَالظُّلْمُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِقُّ فِعْلُهُ وَلَا تَرْضَى بِهِ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ وَالشَّرَائِعُ، وَاشْتُهِرَ إِطْلَاقُ ظُلْمِ النَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا حِينَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ أَقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ بِمَكَّةَ فَفَتَنُوهُمْ فَارْتَدُّوا، وَخَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَكَثَّرُوا سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ كَافِرِينَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ أُكْرِهُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالُوا: وَكَانَ مِنْهُمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَهَؤُلَاءِ قُتِلُوا. وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلٌ وَنَوْفَلٌ ابْنَا أَبِي طَالِبِ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ أُسِرُوا وَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ وَأَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالظُّلْمِ عَدَمُ الْهِجْرَةِ إِذْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَتَقَاعَسُوا عَنِ الْهِجْرَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ يُعْتَبَرُ كَافِرًا حَتَّى يُهَاجِرَ، يَعْنِي وَلَوْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَتَرَكَ حَالَ الشِّرْكِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً وَلَا يَكْفُرُ تَارِكُهَا. فَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَالظُّلْمُ مُرَادٌ بِهِ أَيْضًا الْكُفْرُ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ مِنَ الْكُفْرِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْإِيمَانِ إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ صَاحِبُهُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِعِيدٌ فَقَدْ

قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الْأَنْفَال: 72] الْآيَةَ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْرَهُمْ فِي الدِّينِ إِنِ اسْتَنْصَرُوهُمْ، وَهَذِهِ حَالَةٌ تُخَالِفُ حَالَةَ الْكُفَّارِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ: فَالظُّلْمُ الْمَعْصِيَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْوَعِيدُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعُدُّوا الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِمَا عَرَفُوا مِنْهُمْ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ خَبَرُ (إِنَّ) . وَالْمَعْنَى: قَالُوا لَهُمْ قَوْلَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ بِالْوَعِيدِ وَتَمْهِيدٍ لِدَحْضِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالُوا لَهُمْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ مَوْضِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ تَوَفَّاهُمُ، فَإِنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمُ الْمَحْكِيَّ هُنَا يَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ. وَأَمَّا جُمْلَةُ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فَهِيَ مَفْصُولَةٌ عَنِ الْعَاطِفِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً. وَيَكُونُ خَبَرُ (إِنَّ) قَوْلَهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً عَلَى أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ لِكَوْنِ اسْمِ إِنَّ مَوْصُولًا فَإِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ أَسْمَاءِ الشُّرُوطِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ هُنَا أَوْلَى لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا بِالْمُقَاوَلَةِ، بِحَيْثُ صَارَ الْخَبَرُ كَالنَّتِيجَةِ لِتِلْكَ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فِيمَ كُنْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَ (مَا) اسْتِفْهَامٌ عَنْ حَالَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ (فِي) . وَقَدْ علم الْمَسْئُول أنّ الْحَالة الْمَسْئُولُونَ أَنَّ الْحَالَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا حَالَةُ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَدَمِ الْهِجْرَةِ. فَقَالُوا مُعْتَذِرِينَ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ.

وَالْمُسْتَضْعَفُ: الْمَعْدُودُ ضَعِيفًا فَلَا يَعْبَأُ بِمَا يُصْنَعُ بِهِ فَلَيْسَ هُوَ فِي عِزَّةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، فَلِذَلِكَ يَضْطَرُّ إِلَى كِتْمَانِ إِسْلَامِهِ. وَالْأَرْضُ هِيَ مَكَّةُ. أَرَادُوا: كُنَّا مُكْرَهِينَ عَلَى الْكُفْرِ مَا أَقَمْنَا فِي مَكَّةَ، وَهَذَا جَوَابٌ صَادِقٌ إِذْ لَا مَطْمَعَ فِي الْكَذِبِ فِي عَالَمِ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ عُذْرًا يُبِيحُ الْبَقَاءَ عَلَى الشِّرْكِ، أَوْ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْهِجْرَةِ، عَلَى اخْتِلَافِ التَّفْسِيرَيْنِ، فَلِذَلِكَ رَدَّ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، أَيْ تَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تُسْتَضْعَفُونَ فِيهَا، فَبِذَلِكَ تُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، أَوْ فَقَدِ اتَّسَعَتِ الْأَرْضُ فَلَا تَعْدَمُونَ أَرْضًا تَسْتَطِيعُونَ الْإِقَامَةَ فِيهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى كُلِّ بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْفِتْنَةِ يُعَدُّ هِجْرَةً، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ: مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 100] أَنَّ الْمَقْصُودَ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً، وَأَمَّا هِجْرَةُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ وَفَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا بَعْدُ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ بِإِذْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا رَدٌّ مُفْحِمٌ لَهُمْ. وَالْمُهَاجَرَةُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ وَتَرْكُ الْقَوْمِ، مُفَاعَلَةٌ مِنْ هَجَرَ إِذَا تَرَكَ، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْوَطَنِ اسْمُ الْمُهَاجَرَةِ لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكُونُ عَنْ كَرَاهِيَةٍ بَيْنَ الرَّاحِلِ وَالْمُقِيمِينَ، فَكُلُّ فَرِيقٍ يَطْلُبُ تَرْكَ الْآخَرِ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ بِدُونِ هَذَا الْقَيْدِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [النِّسَاء: 97] تَفْرِيعٌ عَلَى مَا حَكَى مِنْ تَوْبِيخِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَتَهْدِيدِهِمْ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ فِتْنَةِ الشِّرْكِ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْوَعِيدِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ حَقًّا، أَيِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ لِقِلَّةِ جُهْدٍ، أَوْ لِإِكْرَاهِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ وَإِيثَاقِهِمْ عَلَى الْبَقَاءِ: مِثْلَ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمُتَقَدِّمِ خَبَرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاء: 92] ، وَمِثْلَ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَدْعُو

فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: «اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَالتَّبْيِينُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَالْمَقْصِدُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الرِّجَالِ مُسْتَضْعَفِينَ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ ثُمَّ أُلْحِقَ بِذِكْرِهِمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ فِي الْعَائِلَةِ يَكُونُ عُذْرًا لِوَلِيِّهِمْ إِذَا كَانَ لَا يَجِدُ حِيلَةً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النِّسَاء: 75] ، وَإِعَادَةُ ذِكْرِهِمْ هُنَا مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي التَّهْيِئَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ. وَجُمْلَةُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا حَالٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مُوَضِّحَةٌ لِلِاسْتِضْعَافِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْتِضْعَافِ الَّذِي يَقُولُهُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فِي الْخُرُوجِ إِمَّا لِمَنْعِ أَهْلِ مَكَّةَ إِيَّاهُمْ، أَوْ لِفَقْرِهِمْ: وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أَيْ مَعْرِفَةً لِلطَّرِيقِ كَالْأَعْمَى. وَجُمْلَةُ فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ الْفَاءُ فِيهَا لِلْفَصِيحَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ. وَفِعْلُ عَسَى فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَرْجُو أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَإِذْ كَانَ اللَّهُ هُوَ فَاعِلُ الْعَفْوِ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ بِالتَّعْيِينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ عَسَى هُنَا مَعْنًى مَجَازِيًّا بِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْ ذَنْبِهِمْ عَفْوٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ، فَمُثِّلَ حَالُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ لَا يُقْطَعُ بِحُصُولِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقُ تَحَقُّقِ عُذْرِهِمْ، لِئَلَّا يَتَسَاهَلُوا فِي شُرُوطِهِ اعْتِمَادًا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ، فَإِنَّ عُذْرَ اللَّهِ لَهُمْ بِاسْتِضْعَافِهِمْ رُخْصَةٌ وَتَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى إِظْهَارِ الشِّرْكِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الْعَزِيمَةُ أَنْ يُكَلَّفُوا بِإِعْلَانِ الْإِيمَانِ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ جَلَبَ لَهُمُ التَّعْذِيبَ وَالْهَلَاكَ، كَمَا فَعَلَتْ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ مَحْمَلُ مَوَارِدِ عَسَى وَ (لَعَلَّ) إِذَا أُسْنِدَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: «عَسَى مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ» وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ عَسَى وَلَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ لِلْيَقِينِ، وَمُرَادُهُمْ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً [الْكَهْف: 24] . وَمِثْلُ هَذَا مَا قَالُوهُ فِي وُقُوعِ حَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ انْقَضَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً لِمُفَارَقَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ حَائِلٍ يَحُولُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إِسْلَامٍ سَاوَتْ غَيْرَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَبْقَوْنَ فِي أَوْطَانِهِمْ إِلَّا الْمُهَاجِرِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدُّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» قَالَهُ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ. غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ يَفْتَحُ لِلْمُجْتَهِدِينَ نَظَرًا فِي أَحْكَامِ وُجُوبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُفْتَنُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ فِي دِينِهِ، وَهَذِهِ أَحْكَام يجمعها ستّة أَحْوَالٍ: الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِبَلَدٍ يُفْتَنُ فِيهِ فِي إِيمَانِهِ فَيُرْغَمُ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ، وَقَدْ هَاجَرَ مُسْلِمُونَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ حِينَ أَكْرَهَهُمُ النَّصَارَى عَلَى التَّنَصُّرِ، فَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي كُلِّ وَادٍ تَارِكِينَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ نَاجِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَلَكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 902 وَمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ كَانَ الْجَلَاءُ الْأَخِيرُ سَنَةَ 1016. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ غَيْرَ مَفْتُونٍ فِي إِيمَانِهِ وَلَكِنْ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْإِصَابَةِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ بِأَسْرٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ مُصَادَرَةِ مَالٍ، فَهَذَا قَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضُّرِّ وَهُوَ حَرَامٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا مُسَمَّى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِ الْحَرْبِ الْمُفَسَّرَةِ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بِبَلَدٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَفْتِنُوا النَّاسَ فِي إِيمَانِهِمْ وَلَا فِي عِبَادَاتِهِمْ وَلَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بِإِقَامَتِهِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَرَضَ لَهُ حَادِثٌ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ هُمْ

غَيْرُ مُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يُقِيمُ الْيَوْمَ بِبِلَادِ أُورُوبَّا النَّصْرَانِيَّةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُقَامَ فِي مثل ذَلِك مكسوره كَرَاهَةً شَدِيدَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْعُتْبِيَّةِ، كَذَلِكَ تَأَوَّلَ قَوْلَ مَالِكٍ فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ فِي طَالِعَةِ كِتَابِ التِّجَارَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ تَبْصِرَتِهِ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ مُحْرِزٍ وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَتَأَوَّلَهُ سَحْنُونٌ وَابْنُ حَبِيبٍ عَلَى الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ وَالْمَازِرِيُّ، وَزَادَ سَحْنُونٌ فَقَالَ: إِنَّ مُقَامَهُ جَرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْكَلَامُ فِي السَّفَرِ فِي سُفُنِ النَّصَارَى إِلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْبَرْزَلِيُّ عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: إِنْ كَانَ أَمِيرُ تُونِسَ قَوِيًّا عَلَى النَّصَارَى جَازَ السَّفَرُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ يُهِينُونَ الْمُسْلِمِينَ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَغَلَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى بَلَدِ أَهْلِهِ مُسْلِمُونَ وَلَا يَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي عِبَادَتِهِمْ وَلَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ حُكْمُ الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، وَتَجْرِي الْأَحْكَامُ بَيْنَهُمْ عَلَى مُقْتَضَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا وَقَعَ فِي صِقِلِّيَّةَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا رُجَيْرٍ النَّرَمَنْدِيُّ. وَكَمَا وَقَعَ فِي بِلَادِ غَرْنَاطَةَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا طَاغِيَةُ الْجَلَالِقَةِ عَلَى شُرُوطٍ مِنْهَا احْتِرَامُ دِينِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَهَا أَقَامُوا بِهَا مُدَّةً وَأَقَامَ مِنْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَكَانُوا يَلُونَ الْقَضَاءَ وَالْفَتْوَى وَالْعَدَالَةَ وَالْأَمَانَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَاجَرَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعِبِ الْمُهَاجِرُ عَلَى الْقَاطِنِ، وَلَا الْقَاطِنُ عَلَى الْمُهَاجِرِ. الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ نُفُوذٌ وَسُلْطَانٌ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، مَعَ بَقَاءِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَاسْتِمْرَارِ تَصَرُّفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَوِلَايَةِ حُكَّامِهِمْ مِنْهُمْ، وَاحْتِرَامِ أَدْيَانِهِمْ وَسَائِرِ شَعَائِرِهِمْ، وَلَكِنَّ تَصَرُّفَ الْأُمَرَاءِ تَحْتَ نَظَرِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمُوَافَقَتِهِمْ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْحِمَايَةِ وَالِاحْتِلَالِ وَالْوِصَايَةِ وَالِانْتِدَابِ، كَمَا وَقَعَ فِي مِصْرَ مُدَّةَ احْتِلَالِ جَيْشِ الْفَرَنْسِيسِ بِهَا، ثُمَّ مُدَّةَ احْتِلَالِ الْأَنْقَلِيزِ، وَكَمَا وَقَعَ بِتُونِسَ وَالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى من حماية فرانسا، وَكَمَا وَقَعَ فِي سُورْيَا وَالْعِرَاقِ أَيَّامَ الِانْتِدَابِ وَهَذِهِ لَا شُبْهَةَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْهَا. الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: الْبَلَدُ الَّذِي تَكْثُرُ فِيهِ الْمَنَاكِرُ وَالْبِدَعُ، وَتَجْرِي فِيهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ عَلَى خِلَافِ صَرِيحِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ يَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ فِيهَا عَلَى

[سورة النساء (4) : آية 100]

ارْتِكَابِهِ خِلَافَ الشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا إِلَّا بِالْقَوْلِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَصْلًا وَهَذِهِ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ فِي الْقَيْرَوَانِ أَيَّامَ بَنِي عُبَيْدٍ فَلَمْ يُحْفَظْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِهَا الصَّالِحِينَ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْهِجْرَةِ. وَحَسْبُكَ بِإِقَامَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ. وَحَدَثَ فِي مِصْرَ مُدَّةَ الْفَاطِمِيِّينَ أَيْضًا فَلَمْ يُغَادِرْهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهَا الصَّالِحِينَ. وَدُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السِّتَّةِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ هِيَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْإِقَامَةِ، وَأَنَّهَا مَرَاتِبُ، وَإِنَّ لِبَقَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ إِذَا لَمْ يُفْتَنُوا فِي دِينِهِمْ مَصْلَحَةً كُبْرَى للجامعة الإسلامية. [100] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) جُمْلَةُ وَمَنْ يُهاجِرْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النِّسَاء: 97] ، وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ. وَالْمُهَاجَرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هِيَ الْمُهَاجَرَةُ لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ. وَالسَّبِيلُ اسْتِعَارَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وزادها قبولا هُنَا أَنَّ الْمُهَاجَرَةَ نَوْعٌ مِنَ السَّيْرِ، فَكَانَ لِذِكْرِ السَّبِيلِ مَعَهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّوْرِيَةِ. وَالْمُرَاغَمُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ رَاغَمَ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَفِعْلُ رَاغَمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّغَامِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَهُوَ التُّرَابُ. أَوْ هُوَ مِنْ رَاغَمَ غَيْرَهُ إِذَا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ أَبْقَاهُ عَلَى الرَّغَامِ، أَيِ التُّرَابِ، أَيْ يَجِدُ مَكَانًا يُرْغِمُ فِيهِ مَنْ أَرْغَمَهُ، أَيْ يَغْلِبُ فِيهِ قَوْمَهُ بِاسْتِقْلَالِهِ عَنْهُمْ كَمَا أَرْغَمُوهُ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى الْكُفْرِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُّهْلِيُّ: لَا تَأْمَنَنَّ قَوْمًا ظَلَمْتَهُمْ ... وَبَدَأْتَهُمْ بِالشَّتْمِ وَالرَّغَمِ إِنْ يَأْبِرُوا نَخْلًا لِغَيْرِهِمْ ... وَالشَّيْءُ تَحْقِرُهُ وَقَدْ يَنْمِي أَيْ أَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لِلْعَدُوِّ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَوَصْفُ الْمُرَاغَمِ بِالْكَثِيرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ الْأَمْكِنَةِ. وَالسَّعَةُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ اتِّسَاعِ الْأَمْكِنَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى رَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، فَهِيَ سَعَةٌ مَجَازِيَّةٌ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَاغَمُ هُوَ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ فَعَطْفُ السَّعَةِ عَلَيْهِ عَطْفَِِ

تَفْسِيرٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَكَانُ الْإِغَاضَةِ فَعَطْفُ السَّعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِدُهُ مُلَائِمًا مِنْ جِهَةِ إِرْضَاءِ النَّفْسِ، وَمِنْ جِهَةِ رَاحَةِ الْإِقَامَةِ. ثُمَّ نَوَّهَ اللَّهُ بِشَأْنِ الْهِجْرَةِ بِأَنْ جَعَلَ ثَوَابَهَا حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى الْبَلَدِ الْمُهَاجَرِ إِلَيْهِ. بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ. وَمَعْنَى الْمُهَاجَرَةِ إِلَى اللَّهِ الْمُهَاجَرَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ. وَعُطِفَ الرَّسُولُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُصُوصِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلِالْتِحَاقِ بِالرَّسُولِ وَتَعْزِيزِ جَانِبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَلِمَ مِنْ إِرْهَاقِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى نُصْرَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ أَهْلُ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ إِلَى اللَّحَاقِ بِالرَّسُولِ حِينَ بَلَغَهُمْ مُهَاجَرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، أَيْ فِي الطَّرِيقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ مُهَاجِرًا، أَيْ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْهِجْرَةِ الْمُرَادَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقِيلَ: الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَعِنْدَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالُوا الْمُرَادُ بِمَنْ يَخْرُجْ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَقِيَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: 97- 100] كَتَبَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَرِيضًا، فَقَالَ: إِنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، فَدَعَا أَبْنَاءَهُ وَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَدِينَةِ. فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ التَّنْعِيمَ تُوُفِّيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ، وَتَعُمُّ أَمْثَالَهُ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا يُخَصِّصُهَا سَبَبُ النُّزُولِ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ كِنَانَةَ، وَقِيلَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَقِيلَ مِنْ جُنْدَعٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: جُنْدُبُ بْنُ حَمْزَةَ الْجُنْدَعِيُّ، حُنْدُجُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ الْخُزَاعِيُّ. ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ اللَّيْثِيُّ، ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الضَّمْرِيُّ، ضَمرَة بن جُنْدُب الضمرِي، ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ نُعَيْمٍ. ضَمْرَةُ مِنْ خُزَاعَةَ (كَذَا) . ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ. الْعِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ زِنْبَاعٍ، حَبِيبُ بْنُ ضَمْرَةَ، أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ.

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 102]

وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنِيَّ بِمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ خَالِدُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ. وَسِيَاقُ الشَّرْطِ يَأْبَى هَذَا التَّفْسِير. [101، 102] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 101 إِلَى 102] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) انْتِقَالٌ إِلَى تَشْرِيعٍ آخَرَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ السَّفَرِ لِلْخُرُوجِ مِنْ سُلْطَةِ الْكُفْرِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْنِينِ أَغْرَاضِهِ، وَالْتِمَاسِ مُنَاسَبَاتِهَا. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: السَّفَرُ. (وَإِذَا) مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ كَجَوَابِ الشَّرْطِ. (وَإِذَا) مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ الْجَوَابِ. وَقَصْرُ الصَّلَاةِ: النَّقْصُ مِنْهَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَجْزَاءَ الصَّلَاةِ هِيَ الرَّكَعَاتُ بِسَجَدَاتِهَا وَقِرَاءَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقَصْرَ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ نَقْصُ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِعْلُ

النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَيَّرَ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ ذَاتَ رَكْعَتَيْنِ. وَأَجْمَلَتِ الْآيَةُ فَلَمْ تُعَيِّنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَعْتَرِيهَا الْقَصْرُ، فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ. وَلَمْ تَقْصُرِ الصُّبْحَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ رَكْعَةً وَاحِدَةً فَتَكُونُ غَيْرَ صَلَاةٍ، وَلَمْ تَقْصُرِ الْمَغْرِبَ لِئَلَّا تَصِيرَ شَفْعًا فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَلِئَلَّا تَصِيرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً كَمَا قُلْنَا فِي الصُّبْحِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَيَظْهَرُ مِنْ أُسْلُوبِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ شُرِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ الصَّحِيحِ قَوْلَ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ. وَمَحْمَلُ الْآيَةِ عَلَى مُقْتَضَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فَتَقَرَّرَتْ كَذَلِكَ فَلَمَّا صَارَتِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ أَرْبَعًا نُسِخَ مَا كَانَ مِنْ عَدَدِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ مُقَامًا عَلَى حَالَةِ الْحَضَرِ وَهِيَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ، بَطَلَ إِيقَاعُ الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَاتِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا غَزَوْا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَذِنَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا تِلْكَ الصَّلَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ وَقَالَ: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ وَإِنَّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ «أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» حَيْثُ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنِ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوهَا تَامَّةً فِي السَّفَرِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ الْإِذْنِ بِالْقَصْرِ بِحَالِ الْخَوْفِ مِنْ تَمَكُّنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ وَإِبْطَالِهِمْ عَلَيْهِمْ صَلَاتَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَصْرِ لِتَقَعَ الصَّلَاةُ عَنِ اطْمِئْنَانٍ، فَالْآيَةُ هَذِهِ خَاصَّةٌ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الَّذِي لَهُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا رَأْيُ مَالِكٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ» ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ» ، يَعْنِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَرَّ السَّائِلَ وَأَشْعَرَهُ بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَرَى عَائِشَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْخَوْفِ، فَكَانَا يُكْمِلَانِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ. وَهَذَا

التَّأْوِيلُ هُوَ الْبَيِّنُ فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ الْخَوْفِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ عِنْدَ الْخَوْفِ ثَابِتَيْنِ بِالسُّنَّةِ، وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ خِفْتُمْ وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَحْمَلَ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عُمَرَ عَلَى فَهْمِهِ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَصْرِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ، فَكَانَ الْقَصْرُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ رُخْصَةً لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُهُ: لَهُ صَدَقَةٌ إِلَخْ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ تَخْفِيفٌ، وَهُوَ دُونَ الرُّخْصَةِ فَلَا تَرُدُّوا رُخْصَتَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَمَحَّلُوا بِهِ فِي تَأْوِيلِ الْقَيْدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَقْتَصِرُ الْآيَةُ عَلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَيَسْتَغْنِي الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَائِلُونَ بِتَأْكِيدِ سُنَّةِ الْقَصْرِ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ، عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ بِمَا لَا يُلَائِمُ إِطْلَاقَ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِعَادَةً لِتَشْرِيعِ رُخْصَةِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ لِقَصْدِ التَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الْآيَاتِ. أَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ، وَاتَّبَعَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَائِشَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، حَتَّى بَالَغَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ بَقِيَتْ عَلَى فَرْضِهَا، فَلَوْ صَلَّاهَا رُبَاعِيَّةً لَكَانَتْ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ. وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ إِلَّا الْقَصْرُ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. وَإِنَّمَا أَتَمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الصَّلَاةَ فِي الْحَجِّ خَشْيَةَ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْأَعْرَابُ أَنَّ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا رَكْعَتَانِ. غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ لِمُنَافَاتِهِ لِصِيَغِ الْوُجُوبِ. وَلَقَدْ أَجَادَ مَحَامِلَ الْأَدِلَّةِ. وَأُخْبِرَ عَنِ الْكَافِرِينَ وَهُوَ جَمْعٌ بِقَوْلِهِ: عَدُوًّا وَهُوَ مُفْرَدٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ [النِّسَاء: 92] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هَذِهِ صِفَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَأَكْثَرُ الْآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: نَخْلَةُ بَيْنَ عُسْفَانَ وَضَجْنَانَ مِنْ نَجْدٍ، حِينَ لَقُوا جُمُوعَ غَطَفَانَ: مُحَارِبٌ وَأَنْمَارُ وَثَعْلَبَةُ. وَكَانَتْ بَيْنَ سَنَةِ سِتٍّ وَسَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ بِهَا هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوْا حِرْصَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الصَّلَاةُ فُرْصَةٌ لَنَا لَوْ أَغَرْنَا عَلَيْهِمْ لَأَصَبْنَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، فَأَنْبَأَ الله بذلك نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَدَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَاقْتَضَى بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تَقَعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِإِقَامَتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَعَلَّلُوا الْخُصُوصِيَّةَ بِأَنَّهَا لِحِرْصِ النَّاسِ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَيِمَّةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَأْتَمَّ كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ: لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ شَرْعِ الْجَمَاعَةِ هُوَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْطِنِ الْوَاحِدِ، فَيُؤْخَذُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. عَلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَرَى دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِإِمَامَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. وَمَحْمَلُ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ جَارٍ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُلَازَمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزَوَاتِهِمْ وَسَرَايَاهُمْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «لَوْلَا أَنَّ قَوْمًا لَا يَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ سَارَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنْ كَوْنِ غَيْرِهِ فِيهِمْ وَلَكِنَّ التَّنْوِيهَ بِكَوْنِ النَّبِيءِ فِيهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ قَائِمِينَ مَقَامَهُ فِي الْغَزَوَاتِ فَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ يُرَخِّصُهُ لَهُمْ مَعَ أُمَرَائِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: 103] . وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: «فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» عُلِمَ أَنَّ ثَمَّةَ طَائِفَةً أُخْرَى، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ لِلطَّائِفَةِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَإِذا سَجَدُوا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَ النَّبِيءِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ مَعِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ:

فَإِذا سَجَدُوا. وَضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَلْيَكُونُوا لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْجَوَابَ وَهُوَ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ مُتَعَيِّنٌ لِفِعْلِ الطَّائِفَةِ الْمُوَاجِهَةِ الْعَدُوِّ. وَقَوْلُهُ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى هَذِهِ هِيَ الْمُقَابِلَةُ لِقَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ. وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ مَا تَصْنَعُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ. وَلَكِنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. فَجَعَلَهُمْ تَابِعِينَ لِصَلَاتِهِ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ صَلَاتَهُ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً لَقَالَ تَعَالَى فَلْتُصَلِّ بِهِمْ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتِمًّا لِلصَّلَاةِ غَيْرَ مُقَصِّرٍ، أَوْ يَكُونُ صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ صَلَاةً: نَافِلَةً لَهُ، فَرِيضَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَسَنُ ذَلِكَ. وَيَرَى جَوَازَ ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الِائْتِمَامَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَقْسِيمِ الصَّلَاةِ: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِينَ. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَصَفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ قَامَ، وَأَتَمُّوا رَكْعَةً لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَوَقَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَوُا الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُمْ وَسَلَّمُوا وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَوْفَقُ بِلَفْظِ الْآيَةِ، وَالرِّوَايَاتُ غَيْرُ هَذِهِ كَثِيرَةٌ. وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ ذَاتُ الْكَثْرَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ تَزِيدُ عَلَى الْأَلِفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الْأَنْعَام: 156] . وَأَصْلُهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ طَائِفَةِ الشَّيْءِ وَهِيَ الْجُزْءُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ اسْتُعْمِلَ الْأَخْذُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: لِأَنَّ أَخْذَ الْحَذَرِ مَجَازٌ، إِذْ حَقِيقَةُ الْأَخْذِ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ مُجَازٌ فِي التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ. وَأَخْذُ الْأَسْلِحَةِ حَقِيقَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْحَشْر: 9] ،

فَإِنَّ تَبَوُّأَ الْإِيمَانِ الدُّخُولُ فِيهِ وَالِاتِّصَافُ بِهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ. وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ، لِأَنَّ أَخْذَ السِّلَاحِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، وُدُّهُمْ هَذَا مَعْرُوفٌ إِذْ هُوَ شَأْنُ كُلِّ مُحَارِبٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ وَدُّوا وُدًّا مُسْتَقْرَبًا عِنْدَهُمْ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ اشْتِغَالَ الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِ دِينِهِمْ يُبَاعِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ جَهْلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَطَمِعُوا أَنْ تُلْهِيَهُمُ الصَّلَاةُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِأَعْدَائِهِمْ، فَنَبَّهَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَلِكَ كَيْلَا يَكُونُوا عِنْدَ ظَنِّ الْمُشْرِكِينَ، وَلِيُعَوِّدَهُمْ بِالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَلِيُرِيَهُمْ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا صِنْوَانٌ. وَالْأَسْلِحَةُ جَمْعُ سِلَاحٍ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِآلَةِ الْحَرْبِ كُلِّهَا مِنَ الْحَدِيدِ، وَهِيَ السَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالنِّبْلُ وَالْحَرْبَةُ وَلَيْسَ الدِّرْعُ وَلَا الْخُوذَةُ وَلَا التُّرْسُ بِسِلَاحٍ. وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَالتَّذْكِيرُ أَفْصَحُ، وَلِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى أَسْلِحَةٍ وَهُوَ مِنْ زِنَاتِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ. وَالْأَمْتِعَةُ جَمْعُ مَتَاعٍ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ عُرُوضٍ وَأَثَاثٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لَهُ عَوْنٌ فِي الْحَرْبِ كَالسُّرُوجِ وَلَأْمَةِ الْحَرْبِ كَالدُّرُوعِ وَالْخُوذَاتِ. فَيَمِيلُونَ مُفَرَّعٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَوْ تَغْفُلُونَ إِلَخْ، وَهُوَ مَحَلُّ الْوُدِّ، أَيْ وَدُّوا غَفْلَتَكُمْ لِيَمِيلُوا عَلَيْكُمْ. وَالْمَيْلُ: الْعُدُولُ عَنِ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ شَيْءٍ كَانَ مَعَهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا هُنَا، أَيْ فَيَعْدِلُونَ عَنْ مُعَسْكَرِهِمْ إِلَى جَيْشِكُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَيْلِ هُنَا الْكَرَّ وَالشَّدَّ، عُدِّيَ بِ (عَلَى) ، أَيْ فَيَشُدُّونَ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ غَفْلَتِكُمْ. وَانْتَصَبَ (مَيْلَةً) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ الْعَدَدِ، أَيْ شِدَّةً مُفْرَدَةً. وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْمَرَّةِ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الشَّدِيدَ الْقَوِيَّ يَأْتِي بِالْغَرَضِ مِنْهُ سَرِيعًا دُونَ مُعَاوَدَةِ عِلَاجٍ، فَلَا يَتَكَرَّرُ الْفِعْلُ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ، وَأَكَّدَ مَعْنَى الْمَرَّةِ الْمُسْتَفَادَ مِنْ صِيغَةِ فَعْلَةٍ بِقَوْلِهِ: واحِدَةً تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ مَعْنَى الْكِنَايَةِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَصْدَرَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: فَيَمِيلُونَ.

[سورة النساء (4) : آية 103]

وَقَوْلُهُ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ إِلَخْ رُخْصَةٌ لَهُمْ فِي وَضْعِ الْأَسْلِحَةِ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ صَارَ مَا هُوَ أَكْمَلُ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ رُخْصَةً هُنَا، لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا وَمَا يَحْصُلُ عَنْهَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَ الرُّخْصَةَ مَعَ أَخْذِ الْحَذَرِ. وَسَبَبُ الرُّخْصَةِ أَنَّ فِي الْمَطَرِ شَاغِلًا لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَمُوجِبٌ لِلرُّخْصَةِ لِخُصُوصِ الْمَرِيضِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً تَذْيِيلٌ لِتَشْجِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَالْحَذَرِ، خِيفَ أَنْ تَثُورَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ مِنْ شِدَّةِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا، وَهُوَ عَذَابُ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: 14] ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ إِلَّا لِتَحْقِيقِ أَسْبَابِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ. وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَطْلُبُوا الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، أَيْ إِنْ أَخَذْتُمْ حِذْرَكُمْ أَمِنْتُمْ من عدوّكم. [103] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) الْقَضَاءُ: إِتْمَامُ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَة: 200] . وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الذِّكْرِ هُنَا النَّوَافِلُ، أَوْ ذِكْرُ اللِّسَانِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، (فَقَدْ كَانُوا فِي الْأَمْنِ يَجْلِسُونَ إِلَى أَنْ يَفْرَغُوا مِنَ التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ) ، فَرَخَّصَ لَهُمْ حِينَ الْخَوْفِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْمُرَادُ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالْكَوْنُ عَلَى الْجُنُوبِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ الْحَرْبِ لَا لِأَجْلِ الِاسْتِرَاحَةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاء: 101] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَالِاطْمِئْنَانُ مُرَادٌ

[سورة النساء (4) : آية 104]

بِهِ الْقُفُولُ مِنَ الْغَزْوِ، لِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ سُكُونًا مِنْ قَلَاقِلِ السَّفَرِ وَاضْطِرَابِ الْبَدَنِ، فَإِطْلَاقُ الِاطْمِئْنَانِ عَلَيْهِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاطْمِئْنَانَ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْخَوْفِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الِاطْمِئْنَانِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] . وَمَعْنَى: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ صَلُّوهَا تَامَّةً وَلَا تَقْصُرُوهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، فَيَكُونُ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النِّسَاء: 101] ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ حُكْمُ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ، دُونَ قَصْرِ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ. فَالْإِقَامَةُ هُنَا الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ قَائِمًا أَيْ تَامًّا، عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ [الرَّحْمَن: 9] وَقَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَيِمَّةِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُؤَدِّي الْمُجَاهِدُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَزُولَ الْخَوْفُ، لِأَنَّهُ رَأَى مُبَاشَرَةَ الْقِتَالِ فِعْلًا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ [النِّسَاء: 101- 103] يُرَجِّحُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْحِرْصِ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَالْمَوْقُوتُ: الْمَحْدُودُ بِأَوْقَاتٍ، وَالْمُنَجَّمُ عَلَيْهَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمَفْرُوضِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ. وَالْأَوَّلُ أظهر هُنَا. [104] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: 102] زِيَادَةً فِي تَشْجِيعِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَفِي تَهْوِينِ الْأَعْدَاءِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَتَمَّ عُدَّةً، وَمَا كَانَ شَرْعُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَأَحْوَالِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، إِلَّا تَحْقِيقًا لِنَفْيِ الْوَهْنِ فِي الْجِهَادِ.

[سورة النساء (4) : الآيات 105 إلى 109]

وَالِابْتِغَاءُ مَصْدَرُ ابْتَغَى بِمَعْنَى بَغَى الْمُتَعَدِّي، أَيِ الطَّلَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [83] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُبَادَأَةُ بِالْغَزْوِ، وَأَنْ لَا يَتَقَاعَسُوا، حَتَّى يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْغَزْوِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: طَلَبْنَا بَنِي فُلَانٍ، أَيْ غَزَوْنَاهُمْ. وَالْمُبَادِئُ بِالْغَزْوِ لَهُ رُعْبٌ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ. وَزَادَهُمْ تَشْجِيعًا عَلَى طَلَبِ الْعَدُوِّ بِأَنَّ تَأَلُّمَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَحَارِبَيْنِ وَاحِدٌ، إِذْ كُلٌّ يَخْشَى بَأْسَ الْآخَرِ، وَبِأَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَزِيَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُوهُ الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ رَجَاءُ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلُوا، وَرَجَاءُ ظُهُورِ دِينِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ إِذَا انْتَصَرُوا، وَرَجَاءُ الثَّوَابِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرْجُونَ. وَحُذِفَ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِمِنْ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَرْجُونَ لِدَلَالَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي جُرَّ بِهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ، وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَا صدق مَا لَا يَرْجُونَ هُوَ النَّصْرُ، فَيَكُونُ وَعْدًا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ، وَبِشَارَةً بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْجُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا، وَأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ بِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَهَذَا مِمَّا يَفُتُّ فِي سَاعِدِهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ اعْتِرَاضًا أَوْ حَالًا مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] . [105- 109] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 105 إِلَى 109] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَرْجِعُ إِلَى مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمُنَاصِرِيهِمْ، وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِقِتَالِ الْمُنَاوِينَ لِلْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا [النِّسَاء: 71] الْآيَةَ، وَتَخَلَّلَ فِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي تَرَبُّصِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ وَمُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ فِي عَلَائِقِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَطْرَدَ لِذِكْرِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، وَانْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ الْهِجْرَةِ، وَعَقَّبَ بِذِكْرِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، عَادَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَادِثَةٍ رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ حَاصِلُهَا: أَنَّ إِخْوَةً ثَلَاثَةً يُقَالُ لَهُمْ: بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ، أَبْنَاءُ أُبَيْرِقٍ، وَقِيلَ: أَبْنَاءُ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ بَشِيرٌ أَحَدُهُمْ يُكَنَّى أَبَا طُعْمَةَ، وَهُمْ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ بَشِيرٌ شَرَّهُمْ، وَكَانَ مُنَافِقًا يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ بِشِعْرٍ يُشِيعُهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ فِي فَاقَةٍ، وَكَانُوا جِيرَةً لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَتْ عِيرٌ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ بِدَرْمَكٍ- وَهُوَ دَقِيقُ الْحُوَّارَى أَيِ السَّمِيذُ- فَابْتَاعَ مِنْهَا رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنْ دَرْمَكٍ لِطَعَامِهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْكُلُونَ دَقِيقَ الشَّعِيرِ، فَإِذَا جَاءَ الدَّرْمَكُ ابْتَاعَ مِنْهُ سَيِّدُ الْمَنْزِلِ شَيْئًا لِطَعَامِهِ فَجَعَلَ الدَّرْمَكَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِيهَا سِلَاحٌ، فَعَدَى بَنُو أُبَيْرِقٍ عَلَيْهِ فَنَقَبُوا مَشْرَبَتَهُ وَسَرَقُوا الدَّقِيقَ وَالسِّلَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رِفَاعَةُ وَوَجَدَ مَشْرَبَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ أَخْبَرَ ابْنَ أَخِيهِ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بِذَلِكَ، فَجعل يتحسّس، فأنبىء بِأَنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ نَارًا، وَلَعَلَّهُ عَلَى بَعْضِ طَعَامِ رِفَاعَةَ، فَلَمَّا افْتَضَحَ بَنُو أُبَيْرِقٍ طَرَحُوا الْمَسْرُوقَ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقِيلَ: فِي دَارِ يَهُودِيٍّ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ، وَقِيلَ: لَبِيَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَجَاءَ بَعْضُ بَنِي ظَفَرٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَكَوْا إِلَيْهِ أَنَّ رِفَاعَةَ وَابْنَ أَخِيهِ اتَّهَمَا بِالسَّرِقَةِ أَهْلَ بَيْتِ إِيمَانٍ وَصَلَاحٍ، قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لِي «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ» . وَأَشَاعُوا فِي النَّاسِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ أَوْ دَارِ الْيَهُودِيِّ. فَمَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ، مُعْجِزَةً لَهُ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ أَحَدٌ فِي أَنْ يُرَوِّجَ عَلَى الرَّسُولِ بَاطِلًا . هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَوْقِ هَذَا الْخَبَرِ. وَوَقَعَ فِي «كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ»

لِلْوَاحِدِيِّ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الطَّبَرَيِّ سَوْقُ الْقِصَّةِ بِبَعْضِ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذَكَرْتُهُ: وَأَنَّ بَنِي ظَفَرٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ أَصْحَابِهِمْ كَيْ لَا يَفْتَضِحُوا وَيَبْرَأَ الْيَهُودِيُّ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ هَمَّ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَامَ الْيَهُودِيَّ وَبَرَّأَ الْمُتَّهَمَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَاهِيَةٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ خَطَأٌ بَيِّنٌ مِنْ أَهْلِ الْقَصَصِ دُونَ عِلْمٍ وَلَا تَبَصُّرٍ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِلتَّلْوِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّ مَبْدَأَ التَّلْوِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَقَوْلُهُ: بِما أَراكَ اللَّهُ الْبَاءُ لِلْآلَةِ جَعَلَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ آلَةٍ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مُصَادَفَةِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَنَفْيِ الْجَوْرِ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ عِلْمُ اللَّهِ الْخَطَأَ. وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ: أَراكَ اللَّهُ عِرْفَانِيَّةٌ، وَحَقِيقَتُهَا الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِوَجْهِ الْيَقِينِ لِمُشَابَهَتِهِ الشَّيْءَ الْمُشَاهَدَ. وَالرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ تَنْصِبُ مَفْعُولًا وَاحِدًا فَإِذْ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ نَصَبَتْ مَفْعُولَيْنِ كَمَا هُنَا، وَقَدْ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الْمَوْصُولِ، فَأَغْنَى عَنْهُ الْمَوْصُولُ، وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا أَرَاكَهُ اللَّهُ. فَكُلُّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا فِي كِتَابِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِالْحُكْمِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْلِمُهُ الْحَقَّ فِي جَانِبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا عَلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُلْفَى مَدْلُولًا لِجَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ صَلُحَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بِالطُّرُقِ وَالْقَضَايَا الدَّالَّةِ عَلَى وَصْفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْعَدْلُ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، بِأَنْ تَنْدَرِجَ جُزْئِيَّاتُ أَحْوَالِهِمْ عِنْدَ التَّقَاضِي تَحْتَ الْأَوْصَافِ الْكُلِّيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْكِتَابِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] ، فَقَدْ أَبْطَلَ حُكْمَ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِمَنْ لَيْسَ وَلَدَهُ: هَذَا وَلَدِي، لَا يَجْعَلُ لِلْمَنْسُوبِ حَقًّا فِي مِيرَاثِهِ. وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يخطىء فِي إِدْرَاجِ الْجُزْئِيَّاتِ تَحْتَ كُلِّيَّاتِهَا، وَقَدْ يَعْرِضُ الْخَطَأُ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَادِفُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ وُجُوهِهِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ

أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» . وَغير الرَّسُول يخطىء فِي الِانْدِرَاجِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ بَذْلُ الْجُهْدِ وَاسْتِقْصَاءُ الدَّلِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ ذَلِك إلّا لنبيّه وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنَّا فَرَأْيُهُ يَكُونُ ظَنًّا وَلَا يَكُونُ عِلْمًا» ، وَمَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُرُوضِ الْخَطَأِ فِي الْفَهْمِ لِغَيْرِ الرَّسُولِ دُونَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْخائِنِينَ خَصِيماً لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامُ التَّقْوِيَةِ. وَمَفْعُولُ خَصِيماً مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ لِلْخائِنِينَ أَيْ لَا تَكُنْ تُخَاصِمُ مَنْ يُخَاصِمُ الْخَائِنِينَ، أَيْ لَا تُخَاصِمْ عَنْهُمْ. فَالْخَصِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُنْتَصِرُ الْمُدَافِعُ كَقَوْلِهِ: «كُنْتُ أَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ، لِأَنَّ الْخِصَامَ عَنِ الْخَائِنِينَ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَحْذِيرُ الَّذِينَ دَفَعَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ إِلَى الِانْتِصَارِ لِأَبْنَاءِ أُبَيْرِقٍ. وَالْأَمْرُ بِاسْتِغْفَارِ اللَّهِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ غَيْرُهُ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ مِمَّا اقْتَرَفُوهُ، أَوْ أَرَادَ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْخَائِنِينَ لِيُلْهِمَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِبَرَكَةِ اسْتِغْفَارِكَ لَهُمْ فَذَلِكَ أَجْدَرُ مِنْ دِفَاعِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهُمْ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النِّسَاء: 64] وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ لِنَفْسِهِ، كَمَا أَخْطَأَ فِيهِ مَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَرَ بِبَالِهِ مَا أَوْجَبَ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ هَمُّهُ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَرَقُوا، خَشْيَةَ أَنْ يَفْتَضِحُوا، وَهَذَا مِنْ أَفْهَامِ الضُّعَفَاءِ وَسُوءِ وَضْعِهِمُ الْأَخْبَارَ لِتَأْيِيدِ سَقِيمِ أَفْهَامِهِمْ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ لِلرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الْأُمَّةِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَرَقَّبُ صُدُورُهُ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.

وَ (يَخْتانُونَ) بِمَعْنَى يَخُونُونَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ دَالٌّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ. وَمَعْنَى خِيَانَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا يَضُرُّ بِهِمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخُونُ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 187] . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَنْفُسَهُمْ هُنَا بِمَعْنَى بَنِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ بَنِي قَوْمِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: 85] ، وَقَوْلِهِ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] ، أَيِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ نَاسًا مِنْ أَهْلِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ تَمِيمِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْلًى وَلَا لَصِيقٍ. وَالْمُجَادَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخِصَامِ وَالْحُجَّةِ فِيهِ، وَهِيَ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ لِإِقْنَاعِ الْغَيْرِ بِرَأْيِكَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ قَوَاعِدِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاحْتِجَاجِ فِي الْفِقْهِ عِلْمَ الْجَدَلِ، (وَكَانَ يَخْتَلِطُ بِعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ وَعِلْمِ الْمَنْطِقِ) . وَلَمْ يُسْمَعْ لِلْجَدَلِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَصْلِيٌّ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْهُ جَادَلَ لِأَنَّ الْخِصَامَ يَسْتَدْعِي خَصْمَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: جَدَلَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى غَلَبَهُ فِي الْمُجَادَلَةِ، فَلَيْسَ فِعْلًا أَصْلِيًّا فِي الِاشْتِقَاقِ. وَمَصْدَرُ الْمُجَادَلَةِ، الْجِدَالُ، قَالَ تَعَالَى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: 197] . وَأَمَّا الْجَدَلُ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الصَّرْعُ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجَدَالَةَ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- يُقَالُ: جَدَلَهُ فَهُوَ مَجْدُولٌ. وَجُمْلَةُ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بَيَانٌ لِ يَخْتانُونَ . وَجُمْلَةُ: وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ حَالٌ، وَذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ مِنْ حَالِهِمْ وَكَوْنِهِمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَالِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْحَيَاءِ، إِذْ لَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْفِيَ مِنَ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ مَعَهُمْ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ وإِذْ يُبَيِّتُونَ ظَرْفٌ، وَالتَّبْيِيتُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْبَيَاتِ، أَيِ اللَّيْلِ، مِثْلُ التَّصْبِيحِ، يُقَالُ: بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَصَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ وَفِي الْقُرْآنِ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: 49] أَيْ لنأتينّهم لَيْلًا فنقلتهم. وَالْمُبَيَّتُ هُنَا هُوَ مَا لَا يُرْضِي مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ دَبَّرُوهُ وَزَوَّرُوهُ لَيْلًا لِقَصْدِ الْإِخْفَاءِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، أَوْ تُشُوِّرَ فِيهِ بِلَيْلٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَدْبِيرُ مَكِيدَتِهِمْ لِرَمْيِ الْبُرَآءِ بِتُهْمَةِ السَّرِقَةِ.

[سورة النساء (4) : الآيات 110 إلى 113]

وَقَوْلُهُ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ اسْتِئْنَافٌ أَثَارَهُ قَوْلُهُ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَالْمُخَاطَبُ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَوْ مَجْرَى التَّعْرِيضِ بِبَعْضِ بَنِي ظَفَرٍ الَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ. وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [119] هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ. وَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَ (مَنِ) اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْوَكِيلُ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [173] . [110- 113] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 110 إِلَى 113] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) اعْتِرَاضٌ بِتَذْيِيلٍ بَيْنَ جُمْلَةِ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النِّسَاء: 109- 113] . وَعَمَلُ السُّوءِ هُوَ الْعِصْيَانُ وَمُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ. وَظُلْمُ النَّفْسِ شَاعَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَأَحْسَنُ

مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ أُرِيدَ بِهِ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِهِمْ، وَأَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ هُوَ الْمَعَاصِي الرَّاجِعَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمَرْءِ فِي أَحْوَالِهِ الْخَاصَّةِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ. وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ وَطَلَبُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّهِ عَمَّا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَمَعْنَى يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، فَاسْتُعِيرَ فِعْلُ يَجِدِ لِلتَّحَقُّقِ لِأَنَّ فِعْلَ وَجَدَ حَقِيقَتُهُ الظَّفَرُ بِالشَّيْءِ وَمُشَاهَدَتُهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. وَمَعْنَى غَفُوراً رَحِيماً شَدِيدَ الْغُفْرَانِ وَشَدِيدَ الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُمُومِ وَالتَّعْجِيلِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى يَجِدِ اللَّهَ غَافِرًا لَهُ رَاحِمًا لَهُ، لِأَنَّهُ عَامُّ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحَدٌ اسْتَغْفَرَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شُمُولُ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ زَمَنًا، فَكَانَتْ صِيغَةُ غَفُوراً رَحِيماً مَعَ يَجِدِ دَالَّةً عَلَى الْقَبُولِ مِنْ كُلِّ تَائِبٍ بِفَضْلِ اللَّهِ. وَذِكْرُ الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَالْمُرَادُ بِالْخَطِيئَةِ الْمَعْصِيَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ الْكَبِيرَةُ. وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ قَذْفُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى نِسْبَةِ خَبَرٍ أَوْ وَصْفٍ لِصَاحِبِهِ بِالْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي نِسْبَةِ غَيْرِ الْوَاقِعِ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ» وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّور: 4] وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْقَذْفُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. وَمَعْنَى يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ وَيَحْتَالُ لِتَرْوِيجِ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ يَنْزِعُ ذَلِكَ الْإِثْمَ عَنْ نَفْسِهِ وَيَرْمِي بِهِ الْبَرِيءَ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الْفَاحِشُ. وَجُعِلَ الرَّمْيُ بِالْخَطِيئَةِ وَبِالْإِثْمِ مَرْتَبَةً وَاحِدَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ إِثْمًا مُبِينًا: لِأَنَّ رَمْيَ الْبَرِيءِ بِالْجَرِيمَةِ فِي ذَاتِهِ كَبِيرَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ. وَدَلَّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْبُهْتَانِ بِقَوْلِهِ: احْتَمَلَ تَمْثِيلًا لِحَالِ فَاعِلِهِ بِحَالِ عَنَاءِ الْحَامِلِ ثِقْلًا. وَالْمُبِينُ الَّذِي يَدُلُّ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَنَّهُ إِثْمٌ، أَيْ إِثْمًا ظَاهِرًا لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهِ إِثْمًا. وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ عُطِفَ عَلَى وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النِّسَاء: 105] .

وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا نِعْمَةُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ تَفْصِيلًا لِوُجُوهِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ وَعِصْمَتِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ فِيهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَمَّ طَائِفَةٍ مِنَ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أنفسهم بِأَن يضلّون الرَّسُولَ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْ أَصْلِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُضِلُّوهُ بِالْفِعْلِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِأَمَانَتِهِ يَزَعُهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ تَرْوِيجِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ إِذْ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِينٌ فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا حِكَايَةُ الصِّدْقِ عِنْدَهُ، وَأَنَّ بَنِي ظَفَرٍ لَمَّا اشْتَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ صَنِيعِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَعَمِّهِ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ أَصْحَابَهُمْ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ أَنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ لَمَّا شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِمَا صَنَعَهُ قَتَادَةُ كَانُوا مُوجِسِينَ خِيفَةً أَنْ يَطَّلِعَ اللَّهُ رَسُوله عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ، فَكَانَ مَا حَاوَلُوهُ مِنْ تَضْلِيلِ الرَّسُولِ طَمَعًا لَا هَمًّا، لِأَنَّ الْهَمَّ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَالثِّقَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ انْتِفَاءُ هَمِّهِمْ تَضْلِيلَهُ فَضْلًا وَرَحْمَةً، لِدَلَالَتِهِ عَلَى وَقَارِهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَذَلِكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِانْتِفَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ انْتِفَاءُ أَثَرِهِ، أَيْ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَضَلَلْتَ بِهَمِّهِمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ عَنِ الضَّلَالِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً. وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ بُعْدٌ مِنْ جَانِبِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَعْنَى. وَمَعْنَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ هَمُّوا بِذَلِكَ لَكَانَ الضلال لَا حَقًا بِهِمْ دُونَكَ، أَيْ يَكُونُونَ قَدْ حَاوَلُوا تَرْوِيجَ الْبَاطِلِ وَاسْتِغْفَالَ الرَّسُولِ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَجِدُونَكَ مُصْغِيًا لِضَلَالِهِمْ، وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وشَيْءٍ أَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِقَوْلِهِ يَضُرُّونَكَ أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَجُرَّ لِأَجْلِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَجُمْلَةُ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ عَطْفٌ عَلَى وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ . وَمَوْقِعُهَا لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ، فَهُوَ مِثْلُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَالْكتاب: وَالْقُرْآن. وَالْحكمَة: النُّبُوءَةَ. وَتَعْلِيمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هُوَ مَا زَادَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ والإنباء بالمغيّبات.

[سورة النساء (4) : آية 114]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 114] لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) لَمْ تَخْلُ الْحَوَادِثُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيُ السَّابِقَةُ، وَلَا الْأَحْوَالُ الَّتِي حَذَّرَتْ مِنْهَا، مِنْ تَنَاجٍ وَتَحَاوُرٍ، سِرًّا وَجَهْرًا، لِتَدْبِيرِ الْخِيَانَاتِ وَإِخْفَائِهَا وَتَبْيِيتِهَا، لِذَلِكَ كَانَ الْمَقَامُ حَقِيقًا بِتَعْقِيبِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِذِكْرِ النَّجْوَى وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَتَرْبِيَةً وَتَشْرِيعًا، إِذِ النَّجْوَى مِنْ أَشْهَرِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلنَّاسِ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ كَانَ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ التَّنَاجِي فَاشِيًا لِمَقَاصِدَ مُخْتَلِفَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الرَّائِينَ لِتِلْكَ الْمُنَاجَاةِ شَكًّا، أَيْ خَوْفًا، إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي حَالِ مُنَاوَاةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ النَّهْيُ عَنِ النَّجْوَى فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [المجادلة: 8] الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسْرَاء: 47] وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: 14] ، فَلِذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ النَّجْوَى هُنَا أَيْضًا، فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِفَادَةِ حُكْمِ النَّجْوَى، وَالْمُنَاسَبَةُ قَدْ تَبَيَّنَتْ. وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ، هِيَ الْمُسَارَّةُ فِي الْحَدِيثِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّجْوِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسْتَتِرُ الَّذِي الْمُفْضِي إِلَيْهِ يَنْجُو مِنْ طَالِبِهِ، وَيُطْلَقُ النَّجْوَى عَلَى الْمُنَاجِينَ، وَفِي الْقُرْآنِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى، وَهُوَ- وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ- وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ. وَالضَّمِيرُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ نَجْوى ضَمِيرُ جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَما يُعْلِنُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [5] ، وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الَّتِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ [النِّسَاء: 108] إِلَى هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَانِعٌ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَا يَخْتَصُّ بِقَضِيَّتِهِمْ، فَلَا عُمُومَ لَهَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَرْبِيَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ دَعَتْ إِلَيْهَا الْمُنَاسَبَةُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُحَادَثَاتِ

وَالْمُحَاوَرَاتِ أَنْ تَكُونَ جَهْرَةً، لِأَنَّ الصَّرَاحَةَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِرَأْيِهِ، وَعَلَى شَجَاعَتِهِ فِي إِظْهَارِ مَا يُرِيدُ إِظْهَارَهُ مِنْ تَفْكِيرِهِ، فَلَا يَصِيرُ إِلَى الْمُنَاجَاةِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ شَاذَّةٍ يُنَاسِبُهَا إِخْفَاءُ الْحَدِيثِ. فَمَنْ يُنَاجِي فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ رُمِيَ بِأَنَّ شَأْنَهُ ذَمِيمٌ، وَحَدِيثَهُ فِيمَا يَسْتَحْيِي مِنْ إِظْهَارِهِ، كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: السِّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَلَا ... يَغْشَاكَ دُونَ الْخَيْرِ مِنْ سِتْرِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ النَّجْوَى غَيْرَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ التَّنَاجِيَ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [المجادلة: 8] وَقَالَ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: 10] . وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثٍ أَنَّ النَّجْوَى تَبْعَثُ الرِّيبَةَ فِي مَقَاصِدِ الْمُتَنَاجِينَ، فَعَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَغْلِبُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الرِّيَبِ وَالشُّبُهَاتِ، بِحَيْثُ لَا تَصِيرُ دَأْبًا إِلَّا لِأُولَئِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَفَى اللَّهُ الْخَيْرَ عَنْ أَكْثَرِ النَّجْوَى. وَمَعْنَى لَا خَيْرَ أَنَّهُ شَرٌّ، بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِثْبَاتُ نَقِيضِهِ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْوَاسِطَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: 32] ، وَلِأَنَّ مَقَامَ التَّشْرِيعِ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ نَفَى الْخَيْرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ أَوْ مُتَنَاجِيهِمْ، فَعُلِمَ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّ قَلِيلًا مِنْ نَجْوَاهُمْ فِيهِ خَيْرٌ، إِذْ لَا يَخْلُو حَدِيثُ النَّاسِ مِنْ تَنَاجٍ فِيمَا فِيهِ نَفْعٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: إِلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ، أَوْ بِدُونِ تَقْدِيرٍ إِنْ كَانَتِ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَثِيرٍ، فَحَصَلَ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ قِسْمَانِ مِنَ النَّجْوَى يَثْبُتُ لَهُمَا الْخَيْرُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمَا قَلِيلٌ مِنْ نَجْوَاهُمْ. أَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَخْرَجَتْهُ الصِّفَةُ، فَهُوَ مُجْمَلٌ يَصْدُقُ فِي الْخَارِجِ عَلَى كُلِّ نَجْوَى تَصْدُرُ مِنْهُمْ فِيهَا نَفْعٌ، وَلَيْسَ فِيهَا ضَرَرٌ، كَالتَّنَاجِي فِي تَشَاوُرٍ فِيمَنْ يَصْلُحُ لِمُخَالَطَةٍ، أَوْ نِكَاحٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

[سورة النساء (4) : آية 115]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّدَقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ لَدَخَلَتْ فِي الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمُ الثَّابِتِ لَهُ الْخَيْرُ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فَأَخْرَجَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ مِنْ نَجْوَاهُمُ ابْتِدَاءً بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، ثُمَّ أُرِيدُ الِاهْتِمَامُ بِبَعْضِ هَذَا الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ كَثِيرِ نَجْوَاهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ نَجْوَاهُمْ، وَهُوَ الْكَثِيرُ، مَوْصُوفًا بِأَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَأَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمَامُ وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ تَنَاجَى فِيهَا مَنْ غَالِبُ أَمْرِهِ قَصْدُ الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَخْ وَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا كَانَ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا خَيْرًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، إِلَّا أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَنْ فِعْلِهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُؤْتِيهِ) - بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله: مَرْضاتِ اللَّهِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ. [115] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 115] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) عَطْفٌ عَلَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النِّسَاء: 114] بِمُنَاسَبَةِ تَضَادِّ الْحَالَيْنِ. وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُخَالَفَةُ الْمَقْصُودَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ كَأَنَّهُ يَخْتَارُ شِقًّا يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شِقِّ الْآخَرِ. فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا آمَنَ بِالرَّسُولِ فَتَكُونُ الْآيَةُ وَعِيدًا لِلْمُرْتَدِّ. وَمُنَاسَبَتُهَا هُنَا أَنَّ بَشِيرَ بْنَ أُبَيْرِقٍ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،

لَمَّا افْتَضَحَ أَمْرُهُ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَكِنَّهُ شَاقَّهُ عِنَادًا وَنِوَاءً لِلْإِسْلَامِ. وَسَبِيلُ كُلِّ قَوْمٍ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي وَصْفِهِمُ الْخَاصِّ، فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْعَادَاتِ، الَّتِي يُلَازِمُهَا أَحَدٌ وَلَا يَبْتَغِي التَّحَوُّلَ عَنْهَا، كَمَا يُلَازِمُ قَاصِدُ الْمَكَانِ طَرِيقًا يُبَلِّغُهُ إِلَى قَصْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: 108] وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 32] ، فَمَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ سَبِيلَ غَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْكُفْرِ مِثْلَ اتِّبَاعِ سَبِيل يهود خَبِير فِي غِرَاسَةِ النَّخِيلِ، أَوْ بِنَاءِ الْحُصُونِ، لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَأَنَّ فَائِدَةَ عَطْفِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ الْحَيْطَةُ لِحِفْظِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَ الرَّسُولِ، فَقَدِ ارْتَدَّ بَعْضُ الْعَرَبِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ فِي ذَلِكَ: أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ كَانَ بَيْنَنَا ... فَيَا لِعِبَادِ اللَّهِ مَا لِأَبِي بَكْرِ فَكَانُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُشَاقُّوا الرَّسُولَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، أَيْ نَتْرُكُهُ وَشَأْنَهُ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» . وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِكَوْنِ إِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ حُجَّةً، وَأَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْفَخْرُ: «رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا» . وَقَدْ قَرَّرَ

[سورة النساء (4) : آية 116]

غَيْرُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِطُرُقٍ أُخْرَى، وَكُلُّهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ ضَعْفٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَهُوَ اسْتِلْزَامُ الدَّلِيلِ لِلْمُدَّعِي، قَدْ أُورِدَتْ عَلَيْهَا نُقُوضٌ أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ: الْغَزَالِيِّ، وَالْإِمَامِ فِي «الْمَعَالِمِ» ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، عَلَى تَوْهِينِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حجّيّة الْإِجْمَاع. [116] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 116] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، جُعِلَ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ شِرْكِهِمْ. وَتَعْقِيبُ الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِهَذِهِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْكُفْرِ مِنْ شِرْكٍ وَغَيْرِهِ، فَعَقَّبَهُ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَكَّدَهُ بِأَنَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رَفْعِ احْتِمَالِ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمَجَازِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ قَالَ فِيهَا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النِّسَاء: 48] وَقَالَ فِي هَذِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وَإِنَّمَا قَالَ فِي السَّابِقَةِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [النِّسَاء: 47] فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ مِنْ قَبِيلِ الِافْتِرَاءِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الِافْتِرَاءِ وَتَفْظِيعًا لِجِنْسِهِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ مِنَ الضَّلَالِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الضَّلَالِ. وَأُكِّدَ الْخَبَرُ هُنَا بِحَرْفِ (قَدْ) اهْتِمَامًا بِهِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْكَلَامِ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ. وَالْبَعِيدُ أُرِيدَ بِهِ الْقَوِيُّ فِي نَوْعِهِ الَّذِي لَا يُرْجَى لِصَاحِبِهِ اهْتِدَاءٌ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ الْبَعِيدُ لِأَنَّ الْبَعِيدَ يُقْصِي الْكَائِنَ فِيهِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى حَيْثُ صدر.

[سورة النساء (4) : الآيات 117 إلى 121]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 117 إِلَى 121] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ يَدْعُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: 116] ، وَأَيُّ ضَلَالٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ أَحَدٌ بِاللَّهِ غَيْرَهُ ثُمَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ إِنَاثٌ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْأُنْثَى أَضْعَفُ الصِّنْفَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَادِرًا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ حَالَ الْمَرْأَةِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ حَرَمُوهَا مِنْ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ وَاسْتَضْعَفُوهَا. فَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّهُ أَعْجَبُ أَحْوَالِ إِشْرَاكِهِمْ، وَلِأَنَّ أَكْبَرَ آلِهَتِهِمْ يَعْتَقِدُونَهَا أُنْثَى وَهِيَ: اللَّاتُ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةُ، فَهَذَا كَقَوْلِكَ لَا عَالِمَ إِلَّا زِيدٌ. وَكَانَتِ الْعُزَّى لِقُرَيْشٍ، وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُعْظَمَ الْمُعَانِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مِنْ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عداء لِلْإِسْلَامِ: ومنافقوا الْمَدِينَةِ وَمُشْرِكُوهَا أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً فِي الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أَنَّ دَعْوَتَهُمُ الْأَصْنَامَ دَعْوَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا جُعِلُوا يَدْعُونَ الشَّيْطَانَ لِأَنَّهُ الَّذِي سَوَّلَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. وَالْمَرِيدُ: الْعَاصِي وَالْخَارِجُ عَنِ الْمَلِكِ، وَفِي الْمَثَلِ «تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الْأَبْلَقُ» اسْمَا حِصْنَيْنِ لِلسَّمَوْأَلِ، فَالْمَرِيدُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَرُدَ- بِضَمِّ الرَّاءِ- إِذَا عَتَا فِي الْعِصْيَانِ. وَجُمْلَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ صِفَةٌ لِشَيْطَانٍ، أَيْ أَبْعَدَهُ وَتَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِالدُّعَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ. وَعَطْفُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِ يَزِيدُ احْتِمَالَ

الدُّعَاءِ بُعْدًا. وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ كَسِيَاقِ أُخْتِهَا فِي قَوْلِهِ: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 13- 16] الْآيَةَ فَكُلُّهَا أَخْبَارٌ. وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تَنَافُرِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، وَنَشْأَةِ الْعَدَاوَةِ عَنْ ذَلِكَ التَّنَافُرِ، وَمَا كَوَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الذَّوْدِ عَنْ مَصَالِحِ الْبَشَرِ أَنْ تَنَالَهَا الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةُ نَوَالَ إِهْلَاكٍ بِحِرْمَانِ الشَّيَاطِينِ مِنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ مُدَاخَلَتِهِمْ فِي مَوَاقِعِ الصَّلَاحِ، إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَنْتَهِزُ تِلْكَ الْقُوَى مِنْ فَرْضِ مَيْلِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ وَانْجِذَابِهَا، فَتِلْكَ خُلَسٌ تَعْمَلُ الشَّيَاطِينُ فِيهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 41، 32] . وَتِلْكَ أَلْطَافٌ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا فِي نِظَامِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ، فَغَلَبَ بِسَبَبِهَا الصَّلَاحُ عَلَى جَمَاعَةِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَبَقِيَ مَعَهَا مِنَ الشُّرُورِ حَظٌّ يَسِيرٌ يَنْزِعُ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَنَازِعَهُ وَكَّلَ اللَّهُ أَمْرَ الذِّيَادِ عَنْهُ إِلَى إِرَادَةِ الْبَشَرِ، بَعْدَ تَزْوِيدِهِمْ بِالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ وَالْحِكْمَةِ. فَمَعْنَى الْحِكَايَةِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الشَّيْطَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَيْقَنَ بِمُقْتَضَاهُ أَنَّ فِيهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى فِتْنَةِ الْبَشَرِ وَتَسْخِيرِهِمْ، وَكَانَتْ فِي نِظَامِ الْبَشَرِ فُرَصٌ تَدْخُلُ فِي خِلَالِهَا آثَارُ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، فَذَلِكَ هُوَ النَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ، أَيِ الْمَجْعُولُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: مِنْ عِبادِكَ إِنْكَارًا مِنَ الشَّيْطَانِ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهَا جَلَافَةُ الْخِطَابِ النَّاشِئَةُ عَنْ خَبَاثَةِ التَّفْكِيرِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِي جِبِلَّتِهِ، حَتَّى لَا يَسْتَحْضِرَ الْفِكْرَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَدْلُولَةِ إِلَّا مَا لَهُ فِيهِ هَوًى، وَلَا يَتَفَطَّنُ إِلَى مَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنَ الْغِلْظَةِ، وَلَا إِلَى مَا يَفُوتُهُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْمَعَانِي الْجَمِيلَةِ، فَكُلُّ حَظٍّ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْبَشَرِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَعْنَوِيَّةِ: كَالْعَقَائِدِ وَالتَّفْكِيرَاتِ الشِّرِّيرَةِ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَحْسُوسَةِ: كَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِعْلَانِ بِخِدْمَةِ الشَّيْطَانِ: كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّقْرِيبِ لَهَا، وَإِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ لِضَلَالِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ. وَمَعْنَى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ إِضْلَالُهُمْ عَنِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لَأَعِدَنَّهُمْ مَوَاعِيدَ كَاذِبَةً، أُلْقِيهَا فِي نُفُوسِهِمْ، تَجْعَلُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ، أَيْ يُقَدِّرُونَ غَيْرَ الْوَاقِعِ وَاقِعًا، إِغْرَاقًا،

فِي الْخَيَالِ، لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى تَهْوِينِ انْتِشَارِ الضَّلَالَاتِ بَيْنَهُمْ. يُقَالُ: مَنَّاهُ، إِذَا وَعَدَهُ الْمَوَاعِيدَ الْبَاطِلَةَ، وَأَطْمَعَهُ فِي وُقُوعِ مَا يُحِبُّهُ مِمَّا لَا يَقَعُ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ وَمِنْهُ سُمِّيَ بِالتَّمَنِّي طَلَبُ مَا لَا طَمَعَ فِيهِ أَوْ مَا فِيهِ عُسْرٌ. وَمَعْنَى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أَيْ آمُرَنَّهُمْ بِأَنْ يُبَتِّكُوا آذَانَ الْأَنْعَامِ فَلَيُبَتِّكُنَّهَا، أَيْ يَأْمُرُهُمْ فَيَجِدُهُمْ مُمْتَثِلِينَ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ أَمَرَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ. وَالتَّبْتِيكُ: الْقَطْعُ. قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: وَيَجْعَلُ عَيْنَيْهِ رَبِيئَةَ قَلْبِهِ ... إِلَى سَلَّةٍ مِنْ حَدِّ أَخْلَقَ بَاتِكِ وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا شَيْئًا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ مِمَّا يَخُصُّ أَحْوَالَ الْعَرَبِ، إِذْ كَانُوا يَقْطَعُونَ آذَانَ الْأَنْعَامِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، عَلَامَةً عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّرَةٌ لِلْأَصْنَامِ، فَكَانُوا يَشُقُّونَ آذَانَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ، فَكَانَ هَذَا الشَّقُّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، إِذْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ غَرَضًا شَيْطَانِيًّا. وَقَوْلُهُ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعْرِيضٌ بِمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ لِدَوَاعٍ سَخِيفَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَرْجِعُ إِلَى شَرَائِعِ الْأَصْنَامِ مِثْلَ فَقْءُ عَيْنِ الْحَامِي، وَهُوَ الْبَعِيرُ الَّذِي حَمَى ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوبِ لِكَثْرَةِ مَا أَنْسَلَ، وَيُسَيَّبُ لِلطَّوَاغِيتِ. وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ إِلَى أَغْرَاضٍ ذَمِيمَةٍ كَالْوَشْمِ إِذْ أَرَادُوا بِهِ التَّزَيُّنَ، وَهُوَ تَشْوِيهٌ، وَكَذَلِكَ وَسْمُ الْوُجُوهِ بِالنَّارِ. وَيُدْخُلُ فِي مَعْنَى تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَضْعُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي غَيْرِ مَا خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ الْخُرَافِيَّةِ. كَجَعْلِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً. وَجَعْلِ الْكُسُوفَاتِ وَالْخُسُوفَاتِ دَلَائِلَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَسْوِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْفِطْرَةُ خَلْقُ اللَّهِ فَالْعُدُولُ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ. وَلَيْسَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَلَا مَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْحُسْنِ فَإِنَّ الْخِتَانَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لِفَوَائِدَ صِحِّيَّةٍ، وَكَذَلِكَ حَلْقُ الشَّعْرِ لِفَائِدَةِ

دَفْعِ بَعْضِ الْأَضْرَارِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ لِفَائِدَةِ تَيْسِيرِ الْعَمَلِ بِالْأَيْدِي، وَكَذَلِكَ ثَقْبُ الْآذَانِ لِلنِّسَاءِ لِوَضْعِ الْأَقْرَاطِ وَالتَّزَيُّنِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ لَعْنِ الْوَاصِلَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ فَمِمَّا أَشْكَلَ تَأْوِيلُهُ. وَأَحْسَبُ تَأْوِيلَهُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ سِمَاتٍ كَانَتْ تُعَدُّ مِنْ سِمَاتِ الْعَوَاهِرِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، أَوْ مِنْ سِمَاتِ الْمُشْرِكَاتِ، وَإِلَّا فَلَوْ فَرَضْنَا هَذِهِ مَنْهِيًّا عَنْهَا لَمَا بَلَغَ النَّهْيُ إِلَى حَدِّ لَعْنِ فَاعِلَاتِ ذَلِكَ. وَمِلَاكُ الْأَمْرِ أَنَّ تَغْيِيرَ خَلْقِ اللَّهِ إنّما يكون إِنَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، بِأَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةً لِنِحْلَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، كَمَا هُوَ سِيَاقُ الْآيَةِ وَاتِّصَالُ الْحَدِيثِ بِهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى: «النَّظَرُ الْفَسِيحُ عَلَى مُشْكِلِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ» . وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً تَذْيِيلٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ: مِنْ تَبْتِيكِ آذَانِ الْأَنْعَامِ، وَتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، إِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِشْعَارِهِمْ بِشِعَارِهِ، وَالتَّدَيُّنِ بِدَعْوَتِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَنْفَعُهُ أَنْ يُبَتِّكَ أَحَدٌ أُذُنَ نَاقَتِهِ، أَوْ أَنْ يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ خِلْقَتِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّأَثُّرِ بِدَعْوَتِهِ. وَقَوْلُهُ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ أَنْجَزَ عَزْمَهَ فَوَعَدَ وَمَنَّى وَهُوَ لَا يَزَالُ يَعِدُ وَيُمَنِّي، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ فَيُبَتِّكُونَ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَيُغَيِّرُونَ خَلْقَ اللَّهِ لِظُهُورِ وُقُوعِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِينَ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِهِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ. وَالْمَحِيصُ: الْمَرَاغُ وَالْمَلْجَأُ، مِنْ حَاصَ إِذَا نَفَرَ وَرَاغَ، وَفِي حَدِيث هر قل «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ» . وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ الْحَارِثِيُّ: وَلَمْ نَدْرِ إِنْ حِصْنَا مِنَ الْمَوْتِ حَيْصَةً ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ وَالْمَدَى مُتَطَاوِلُ رُوِيَ: حِصْنَا وَحَيْصَةً- بِالْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ- وَيُقَالُ: جَاضَ أَيْضًا- بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ-، وَبِهِمَا رُوِيَ بَيْتُ جَعْفَر أَيْضا.

[سورة النساء (4) : آية 122]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 122] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [النِّسَاء: 121] جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْإِنْذَارِ بِالْبِشَارَةِ، وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ. وَقَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي إِلَخْ، وَهِيَ بِمَعْنَاهُ، فَلِذَلِكَ يُسَمِّي النُّحَاةُ مِثْلَهُ مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ، أَيْ مُؤَكِّدًا لِمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ، إِذْ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْوَعْدِ، أَيْ هَذَا الْوَعْدُ أُحَقِّقُهُ حَقًّا، أَيْ لَا يَتَخَلَّفُ. وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ خَالِيًا عَنْ مَعْنَى الْإِحْقَاقِ كَانَ هَذَا الْمَصْدَرُ مِمَّا يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِغَيْرِهِ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ تَذْيِيلٌ لِلْوَعْدِ وَتَحْقِيقٌ لَهُ: أَيْ هَذَا مِنْ وَعْدِ اللَّهِ، وَوُعُودُ اللَّهِ وُعُودُ صِدْقٍ، إِذْ لَا أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ التَّذْيِيلَ مِنْ أَصْنَافِ الِاعْتِرَاضِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَانْتَصَبَ قِيلًا عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةٍ مِنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالْقِيلُ: الْقَوْلُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِوَزْنِ فِعْلٍ يَجِيءُ فِي الشرّ وَالْخَيْر. [123، 124] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 123 إِلَى 124] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً

(124) الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّشْوِيهِ بِمَسَاوِيهَا، وَأَنَّ فِي (لَيْسَ) ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَزَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُجْزَ بِهِ، أَيْ لَيْسَ الْجَزَاءُ تَابِعًا لِأَمَانِيِّ النَّاسِ وَمُشْتَهَاهُمْ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقْدِيرًا بِحَسَبَ الْأَعْمَالِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ تَذْيِيلٍ مُشْعِرٍ بِالنِّهَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: 122] . وَمِمَّا يُرَجِّحُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ إِبْهَامًا فِي الضَّمِيرِ، ثُمَّ بَيَانا لَهُ بالحملة بَعْدَهُ، وَهِيَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ عَنْ مَوْقِعِهَا الَّذِي يُتَرَقَّبُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَتَهْيِئَةً لِإِبْهَامِ الضَّمِيرِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا خَصَائِصُ مِنْ طُرُقِ الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ. وَجُمْلَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنْ بَيَانِ هَذَا النَّفْيِ الْمُجْمَلِ. وَلِهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مَوْقِعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَخُصُوصِيَّةٌ تَفُوتُ بِغَيْرِ هَذَا النَّظْمِ الَّذِي فَسَّرْنَاهُ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ عَائِدًا عَلَى وَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَيْسَ وَعْدُ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ تَكْمِلَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ حَالًا مِنْ وَعْدَ اللَّهِ [النِّسَاء: 122] ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مَحْضًا. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي صَالِحٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى مَسْرُوقٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: أَنَّهُ وَقَعَ تَحَاجٌّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كُلُّ فَرِيقٍ يَقُولُ لِلْآخَرَيْنِ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَيَحْتَجُّ لِذَلِكَ وَيَقُولُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَات مُبين أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ هُدَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكُلَّ مَنْ ضَلَّ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُجَازًى بِسُوءِ عَمِلِهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينِ عِيسَى، فَبَطَلَ قَوْلُ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَكَمًا فَصْلًا بَيْنَ الْفِرَقِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا فِي تَوَفُّرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَتَوَفُّرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ اللَّهُ أَمَانِيَّ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ:

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. ثُمَّ إِنِ اللَّهَ لَوَّحَ إِلَى فَلْجِ حُجَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِنْ كَانَ إِيمَانٌ اخْتَلَّ مِنْهُ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ الْحَقُّ، فَهُوَ كَالْعَدَمِ، فَعَقَّبَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النِّسَاء: 125] . وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَوْزَ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ، لَا لِأَنَّ أَمَانِيَّهُمْ كَذَلِكَ، بَلْ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ مُتَوَفِّرَةٌ فِي دِينِهِمْ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَّا. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَا نُبْعَثُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَمانِيِّكُمْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ لَيْسَ الْجَزَاءُ حَاصِلًا حُصُولًا عَلَى حَسَبِ أَمَانِيِّكُمْ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْبَاءُ الَّتِي تُزَادُ فِي خَبَرِ لَيْسَ لِأَنَّ أَمَانِيَّ الْمُخَاطَبِينَ وَاقِعَةٌ لَا مَنْفِيَّةٌ. وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلتَّمَنِّي، أَيْ تَقْدِيرِ غَيْرِ الْوَاقِعِ وَاقِعًا. وَالْأُمْنِيَّةُ بِوَزْنِ أُفْعُولَةٍ كَالْأُعْجُوبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [78] . وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمَانِيِّ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى مَا حَكَمَ اللَّهُ وَوَعَدَ، وَأَنَّ مَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَمَا وَافَقَهُ هُوَ الْحَقُّ، وَالْمَقْصِدُ الْمُهِمُّ هُوَ قَوْلُهُ: وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ عَلَى نَحْوِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا فِي غُرُورٍ، يَقُولُونَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تِلْكَ أَمَانِيَّ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [الْبَقَرَة: 111] . أمّا الْمُسلمُونَ فماحشون مِنَ اعْتِقَادِ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ، أَيْ لَيْسَ بِأَمَانِيِّ الْمُشْرِكِينَ، إِذْ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُفَعَاءَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ يُغْنُونَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ لِلْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، لِرَدِّ عَقِيدَةِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدًا يُغْنِي عَنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْوَلِيُّ هُوَ الْمَوْلَى، أَيِ الْمُشَارِكُ فِي نَسَبِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُدَافِعُ عَنْ قَرِيبِهِ، وَالنَّصِيرُ الَّذِي إِذَا اسْتَنْجَدْتَهُ نَصَرَكَ، أَوِ الْحَلِيفُ، وَكَانَ النَّصْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ.

[سورة النساء (4) : الآيات 125 إلى 126]

وَوَجْهُ قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَحْرِمُ الْمَرْأَةَ حُظُوظًا كَثِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ» . وَ (مِنْ) لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَدْخُلُونَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْخَاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ- عَلَى الْبناء للنائب. [125، 126] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 125 إِلَى 126] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) الْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاء: 124] الَّذِي مَا صدقه الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ، فَلَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْقَبَهُ بِتَفْضِيلِ دِينِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَانْتَصَبَ دِيناً عَلَى التَّمْيِيزِ. وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَامِ الطَّاعَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْكِنَايَاتِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَفِيهِ مَا كَانَ بِهِ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَفِي الْقُرْآنِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] . وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَقَوْلِهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: 15] ، وَيَقُولُونَ: أَخَذَ بِسَاقِهِ، أَيْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِإِمْسَاكِ الرُّعَاةِ الْأَنْعَامَ. وَفِي الْحَدِيثِ «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» وَيَقُولُونَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الْقِيَادَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ الزِّمَامَ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: يَقُولُ أَنْفِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ وَيَقُولُونَ: يَدِي رَهْنٌ لِفُلَانٍ. وَأَرَادَ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ بَيَان لهَذَا عَنَّا، قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَقَوله: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: 132] .

وَجُمْلَةُ «وَهُوَ مُحْسِنٌ» حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا اتِّصَافُهُ بِالْإِحْسَانِ حِينَ إِسْلَامِهِ وَجْهَهُ لِلَّهِ، أَيْ خَلَعَ الشِّرْكَ قَاصِدًا الْإِحْسَانَ، أَيْ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ لِمَا رَأَى فِيهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وَمَعْنَى وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَنَّهُ اتَّبَعَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ عَلَى أُسُسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ بِهَا يَكْمُلُ مَعْنَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّهَا هِيَ: الْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَالْإِسْلَامُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ مُخْلِصٌ رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَنَى بِهِ التَّوْحِيدَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ حَنِيفاً مَعْنَاهُ مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ أَوْ مُتَعَبِّدًا. وَإِذَا جَعَلْتَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ عَامِلٌ الصَّالِحَاتِ كَانَ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا عَطَفَ ثَنَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَدْحِ مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ زِيَادَةَ تَنْوِيهٍ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَالْخَلِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ صَاحِبِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخِلَالِ، وَهُوَ النَّوَاحِي الْمُتَخَلِّلَةُ لِلْمَكَانِ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النُّور: 43] فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الْكَهْف: 33] . هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اشْتِقَاقِ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ: خِلٌّ وَخُلٌّ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- وَمُؤَنَّثُهُ: خُلَّةٌ- بِضَمِّ الْخَاءِ-، وَلَا يُقَالُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ-، قَالَ كَعْبٌ: أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ وَجَمْعُهَا خَلَائِلُ. وَتُطْلَقُ الْخُلَّةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ- عَلَى الصُّحْبَةِ الْخَالِصَةِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 254] ، وَجَمْعُهَا خِلَالٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إِبْرَاهِيم: 31] . وَمَعْنَى اتِّخَاذِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا شدّة رضى اللَّهِ عَنْهُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْخُلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ فَأُرِيدَ لوازمها وَهِي الرضى، وَاسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَذِكْرُهُ بِخَيْرٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِلَخْ تَذْيِيلٌ جُعِلَ كَالِاحْتِرَاسِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيلِ لَازِمُ مَعْنَى الْخُلَّةِ، وَلَيْسَتْ هِيَ كَخُلَّةِ النَّاسِ مُقْتَضِيَةً الْمُسَاوَاةَ أَوِ التَّفْضِيلَ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْكِنَايَةُ عَنْ عُبُودِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي جُمْلَةِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَالْمُحِيط: الْعَلِيم.

[سورة النساء (4) : آية 127]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) عُطِفَ تَشْرِيعٌ عَلَى إِيمَانٍ وَحِكْمَةٍ وَعِظَةٍ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ حَدَثَ حِينَ نُزُولِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. فَذَكَرَ حُكْمَهُ عَقِبَهَا مَعْطُوفًا. وَهَذَا الِاسْتِفْتَاءُ حَصَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] إِلَخْ. وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قَالَتْ: يَا بن أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالَهَا وَجَمَالَهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. وَأَنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ: فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ من أجل رغبتهم عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، وَكَانَ الْوَلِيُّ يَرْغَبُ عَنْ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهَ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَالْمُرَادُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] . وَأَخَصُّ الْأَحْكَامِ بِالنِّسَاءِ: أَحْكَام وَلَا يتهنّ، وَأَحْكَام مُعَاشَرَتِهِنَّ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا مِيرَاثَ النِّسَاءِ إِذْ لَا خُطُورَ لَهُ بِالْبَالِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَعْدٌ بِاسْتِيفَاءِ الْإِجَابَةِ عَنِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ تَبْشِيرِ السَّائِلِ الْمُتَحَيِّرِ بِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ طِلْبَتَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 78] . وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذِهِ الْفُتْيَا. وَقَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عُطِفَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ وَيُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى مَا يُتْلَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ مَا يُتْلَى دَالٌّ عَلَى إِفْتَاءِ اللَّهِ فَهُوَ سَبَبٌ فِيهِ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْمرَاد بذلك بِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمَا سَيُتْلَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ بِهِ وَتَكْرِيرَهُ إِفْتَاءٌ بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَا أَتْبَعَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِفْتَاءٌ أَيْضًا. وَقَدْ أَلَمَّتِ الْآيَةُ بِخُلَاصَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء: 2- 6] . وَكَذَلِكَ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى فِقَرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ: بِقَوْلِهِ هُنَا: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ فَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: 3، 4] . وَلِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ تَرْغَبُونَ- هُنَا- مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْإِيجَازِ وَإِكْثَارِ الْمَعْنَى، أَيْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِ بَعْضِهِنَّ، وَفِي نِكَاحِ بَعْضٍ آخَرَ، فَإِنَّ فِعْلَ رَغِبَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُحَبُّ وَبِحَرْفِ (فِي) لِلشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ، وَذَلِكَ قَدْ شَمَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا [النِّسَاء: 3] إِلَخْ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ هُنَا وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ- إِلَى- كَبِيراً [النِّسَاء: 2] وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْله: مَعْرُوفاً [النِّسَاء: 5] . وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَابْتَلُوا الْيَتامى - إِلَى- حَسِيباً [النِّسَاء: 6] . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ هُوَ مِنْ إِفْتَاءِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِفْتَاءِ كَانَ مُغَايِرًا لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، فَلِذَلِكَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ عَطْفَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ. وَالْإِفْتَاءُ الْأُنُفُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً- إِلَى- واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: 128- 130] . وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي يَتامَى النِّساءِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ فِي شَأْنِهِنَّ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِهِنَّ، وَمَعْنَى كُتِبَ لَهُنَّ فُرِضَ لَهُنَّ إِمَّا مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَرِثْنَهُمْ، أَوْ مِنَ

[سورة النساء (4) : الآيات 128 إلى 130]

الْمُهُورِ الَّتِي تَدْفَعُونَهَا لَهُنَّ، فَلَا تُوَفُّوهُنَّ مُهُورَ أَمْثَالِهِنَّ، وَالْكُلُّ يُعَدُّ مَكْتُوبًا لَهُنَّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجِيءُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَفِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. مَقْصُودَيْنِ عَلَى حَدِّ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ عَطْفٌ عَلَى يَتامَى النِّساءِ، وَهُوَ تَكْمِيلٌ وَإِدْمَاجٌ، لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ كَانَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ الْمُسْتَضْعَفُونَ وَالْمُسْتَضْعَفَاتُ، وَلَكِنَّ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ تَغْلِيبٌ، وَكَذَلِكَ الْوِلْدَانُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ مَنْ فِي حِجْرِهِمْ مِنَ الصِّغَارِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا عَطْفٌ عَلَى يَتامَى النِّساءِ، أَيْ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْقِيَامِ لِلْيَتَامَى بِالْعَدْلِ. وَمَعْنَى الْقِيَامِ لَهُم التَّدْبِير لشؤونهم، وَذَلِكَ يَشْمَلُ يتامى النِّسَاء. [128- 130] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 128 إِلَى 130] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) عَطْفٌ لِبَقِيَّةِ إِفْتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَالِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: 34] الْآيَةَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَذَلِكَ حُكْمُ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا، وَمَا هَنَا حُكْمُ الِانْفِصَالِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ ذُكِرَ فِيهِ نُشُوزُ الْمَرْأَةِ،

وَهُنَا ذُكِرَ نُشُوزُ الْبَعْلِ. وَالْبَعْلُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] . وَصِيغَةُ فَلا جُناحَ مِنْ صِيَغِ الْإِبَاحَةِ ظَاهِرًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِذْنِ لِلزَّوْجَيْنِ فِي صُلْحٍ يَقَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تُذْكَرُ إِلَّا حَيْثُ يُظَنُّ الْمَنْعُ، فَالْمَقْصُودُ الْإِذْنُ فِي صُلْحٍ يَكُونُ بِخُلْعٍ: أَيْ عِوَضٍ مَالِيٍّ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ، أَوْ تَنَازُلٍ عَنْ بَعْضِ حُقُوقِهَا، فَيَكُونُ مَفَادُ هَذِهِ الْآيَةِ أَعَمَّ مِنْ مَفَادِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَة: 229] ، فَسَمَّاهُ هُنَاكَ افْتِدَاءً، وَسَمَّاهُ هُنَا صُلْحًا. وَقَدْ شَاعَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُ الصُّلْحِ عَلَى التَّرَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ هُنَا. وَاصْطَلَحَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: عَلَى إِطْلَاقِ الِافْتِدَاءِ عَلَى اخْتِلَاعِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالٍ تُعْطِيهِ، وَإِطْلَاقِ الْخُلْعِ عَلَى الِاخْتِلَاعِ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ بَقِيَّةَ الصَّدَاقِ، أَوِ النَّفَقَةَ لَهَا، أَوْ لِأَوْلَادِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكون صِيغَة فَلا جُناحَ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الصُّلْحِ، أَيْ إِصْلَاحِ أَمْرِهِمَا بِالصُّلْحِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، فَنَفْيُ الْجُنَاحِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْلِيحِيَّةِ شَبَّهَ حَالَ مَنْ تَرَكَ الصُّلْحَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ بِحَالِ مَنْ تَرَكَ الصُّلْحَ عَنْ عَمْدٍ لِظَنِّهِ أَنَّ فِي الصُّلْحِ جُنَاحًا. فَالْمُرَادُ الصُّلْحُ بِمَعْنَى إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْأَشْهَرُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ الْإِصْلَاحُ. وَالْمَقْصُودُ الْأَمْرُ بِأَسْبَابِ الصُّلْحِ، وَهِيَ: الْإِغْضَاءُ عَنِ الْهَفَوَاتِ، وَمُقَابَلَةُ الْغِلْظَةِ بِاللِّينِ، وَهَذَا أَنْسَبُ وَأَلْيَقُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَلِلنُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ: تَقْوَى وَتَضْعُفُ، وَتَخْتَلِفُ عَوَاقِبُهَا، بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَنْفُسِ، وَيَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً. وَلِلصُّلْحِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الْمُخَالَعَةُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى حَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً قَالَتْ: الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَوْدَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ:

أَنَّ ابْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ كَانَتْ عِنْدَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَكَرِهَ مِنْهَا أَمْرًا، أَيْ كِبَرًا فَأَرَادَ طَلَاقَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا بَدَا لَكَ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَصَّالَحَا- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ- وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: «أَنْ يُصْلِحَا» - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ اللَّامِ- أَيْ يُصْلِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَأْنَهُمَا بِمَا يَبْدُو مِنْ وُجُوهِ الْمُصَالَحَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّ مَاهِيَّةَ الصُّلْحِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصُّلْحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ آنِفًا، وَهُوَ الْخُلْعُ، خَيْرٌ مِنَ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا، وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ فَائِدَةَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْفَرُ، وَلِأَنَّ فِيهِ التَّفَادِيَ عَنْ إِشْكَالِ تَفْضِيلِ الصُّلْحِ عَلَى النِّزَاعِ فِي الْخَيْرِيَّةِ مَعَ أَنَّ النِّزَاعَ لَا خَيْرَ فِيهِ أَصْلًا. وَمَنْ جَعَلَ الصُّلْحَ الثَّانِيَ عَيْنَ الْأَوَّلِ غَرَّتْهُ الْقَاعِدَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَهِيَ: أَنَّ لَفْظَ النَّكِرَةِ إِذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَهُوَ عَيْنُ الْأُولَى. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ السَّادِسِ، فَقَالَ: يَقُولُونَ: «النَّكِرَةُ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَإِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، أَوْ أُعِيدَتِ الْمَعْرِفَةُ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً كَانَتِ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى» ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ تَرُدُّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْأَرْبَعَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً [الرّوم: 54] وَقَوله: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: 128] زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: 88] وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ فَوْقَ نَفْسِهِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاء: 153] ، وَأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يَرُدُّ ذَلِكَ أَيْضًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ لَا لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، كَمَا هُنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [193] . وَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [37] . وَقَوْلُهُ خَيْرٌ لَيْسَ هُوَ تَفْضِيلًا وَلَكِنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَزْنُهُ فَعْلٌ، كَقَوْلِهِمْ: سَمْحٌ وَسَهْلٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى خُيُورٍ. أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُقَابِلُ الشَّرِّ، فَتَكُونُ إِخْبَارًا بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا

الْمُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ فَأَصْلُ وَزْنِهِ أَفْعَلُ، فَخُفِّفَ بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ قَلْبِ حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ. جَمْعُهُ أَخْيَارٌ، أَيْ وَالصُّلْحُ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ. وَالْحَمْلُ عَلَى كَوْنِهِ تَفْضِيلًا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ النُّشُوزُ وَالْإِعْرَاضُ.، وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَعْنًى. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى شِدَّةِ التَّرْغِيبِ فِي هَذَا الصُّلْحِ بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ فِي قَوْلِهِ: صُلْحاً، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ سَجِيَّةٍ. وَمَعْنَى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ مُلَازَمَةُ الشُّحِّ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ لَدَيْهَا. وَلِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ بُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي بِنَاءِ كُلِّ فِعْلٍ غَيْرِ مَعْلُومِ الْفَاعِلِ لِلْمَجْهُولِ، كَقَوْلِهِمْ: شُغِفَ بِفُلَانَةٍ، وَاضْطُرَّ إِلَى كَذَا. فَ «الشُّحَّ» مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ «أُحْضِرَتْ» لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى. وَأَصْلُ الشُّحِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُخْلُ بِالْمَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: 9] وَيُطْلَقُ عَلَى حِرْصِ النَّفْسِ عَلَى الْحُقُوقِ وَقِلَّةِ التَّسَامُحِ فِيهَا، وَمِنْهُ الْمُشَاحَّةُ، وَعَكْسُهُ السَّمَاحَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صُلْحَ الْمَالِ، وَهُوَ الْفِدْيَةُ. فَالشُّحُّ هُوَ شُحُّ الْمَالِ، وَتَعْقِيبُ قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بِقَوْلِهِ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي مَوْعِظَةٍ أَوْ نَحْوِهَا: وَمَا إِخَالُكَ تَفْعَلُ، لِقَصْدِ التَّحْرِيضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّحِّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ: مِنَ الْمُشَاحَّةِ، وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ، وَصُعُوبَةِ الشَّكَائِمِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الصُّلْحِ صُلْحَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْقِيبِهِ بِهِ تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَذِهِ الْمُشَاحَّةِ الْحَائِلَةِ دُونَ الْمُصَالَحَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْبُخْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [180] . وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ ذَمُّ الشُّحِّ بِالْمَالِ، وَذَمُّ مَنْ لَا سَمَاحَةَ فِيهِ، فَكَانَ هَذَا التَّعْقِيبُ تَنْفِيرًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالصُّلْحِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لِمَا فِيهِ مِنَ

التَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى. ثُمَّ عَذَرَ النَّاسَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ فَقَالَ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أَيْ تَمَامَ الْعَدْلِ. وَجَاءَ بِ (لَنْ) لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّ أَمْرَ النِّسَاءِ يُغَالِبُ النَّفْسَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حُسْنَ الْمَرْأَةِ وَخُلُقَهَا مُؤَثِّرًا أَشَدَّ التَّأْثِيرِ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ لَبِيبَةٍ خَفِيفَةِ الرُّوحِ، وَأُخْرَى ثَقِيلَةٌ حَمْقَاءُ، فَتَفَاوُتُهُنَّ فِي ذَلِكَ وَخُلُوُّ بَعْضِهِنَّ مِنْهُ يُؤَثِّرُ لَا مَحَالَةَ تَفَاوُتًا فِي مَحَبَّةِ الزَّوْجِ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ، وَلَوْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِظْهَارِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَأَقَامَ اللَّهُ مِيزَانَ الْعَدْلِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ لَا يُفَرِّطُ أَحَدُكُمْ بِإِظْهَارِ الْمَيْلِ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَشَدَّ الْمَيْلِ حَتَّى يَسُوءَ الْأُخْرَى بِحَيْثُ تَصِيرُ الْأُخْرَى كَالْمُعَلَّقَةِ. فَظَهَرَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَمِيلُوا مُقَدَّرٌ بِإِحْدَاهُنَّ، وأنّ ضمير فَتَذَرُوها الْمَنْصُوبَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ بِالْقَرِينَةِ، وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَالْمُعَلَّقَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَهْجُرُهَا زَوْجُهَا هَجْرًا طَوِيلًا، فَلَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ وَلَا هِيَ زَوْجَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ» ، وَقَالَتِ ابْنَةُ الْحُمَارِسِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَوْ تَطْلِيقُ ... أَوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقُ (¬1) وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ قَهْرِيٌّ، وَأَنَّ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَرْأَةِ أَسْبَابًا تُوجِبُهُ قَدْ لَا تَتَوَفَّرُ فِي بَعْضِ النِّسَاءِ، فَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالِاسْتِحْسَانِ، وَلَكِنَّ مِنَ الْحُبِّ حَظًّا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ أَنْ يُرَوِّضَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لِامْرَأَتِهِ، وَتَحَمُّلِ مَا لَا يُلَائِمُهُ مِنْ خُلُقِهَا أَوْ أَخْلَاقِهَا مَا اسْتَطَاعَ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ لَهَا، حَتَّى يُحَصِّلَ مِنَ الإِلْفِ بِهَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهَا اخْتِيَارًا بِطُولِ التَّكَرُّرِ وَالتَّعَوُّدِ. مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ. فَذَلِكَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهَا الْمُوصَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَوْ عَنْ إِحْدَاهُنَّ. ¬

(¬1) هَذَا الرجز مَنْسُوب لامْرَأَة يُقَال لَهَا ابْنة الحمارس (بِضَم الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم) البكرية وَفِي رِوَايَة: إِن هِيَ إِلَّا حظوة، وَهِي رِوَايَة إصْلَاح الْمنطق، والحظة (بِكَسْر الْحَاء) والحظوة (بِضَم الْحَاء وَكسرهَا) المكانة وَالْقَبُول عِنْد الزَّوْج. والصلف ضدها. وَالتَّعْلِيق الهجران المستمر. وَالضَّمِير فِي قَوْلهَا: إِن هِيَ، يعود إِلَى الْمَرْأَة. وَمعنى الْبَيْت أَنَّهَا إِذا تزوجت لَا تَدْرِي أتكون ذَات حظوة عِنْد الزَّوْج أَو يطلقهَا أَو يكرهها أَو يعلقها.

[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 133]

ثُمَّ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا إِنْ لَمْ تَنْجَحِ الْمُصَالَحَةُ بَيْنَهُمَا فَأَذِنَ لَهُمَا فِي الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِرَاقَ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لَهُمَا لِأَنَّ الْفِرَاقَ خَيْرٌ مِنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ. وَمَعْنَى إِغْنَاءِ اللَّهِ كُلًّا: إِغْنَاؤُهُ عَنِ الْآخَرِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِغْنَاءَ اللَّهِ كُلًّا إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْفِرَاقِ الْمَسْبُوقِ بِالسَّعْيِ فِي الصُّلْحِ. وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً تَذْيِيلٌ وَتَنْهِيَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حكم النِّسَاء. [131- 133] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 131 إِلَى 133] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) جُمْلَةُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُتَضَمِّنَةِ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا [النِّسَاء: 128] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا [النِّسَاء: 129] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَذْيِيلَاتٍ لِتِلْكَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَخْ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي سَبَقَتْهَا: وَهِيَ جُمْلَةُ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاء: 130] أَنَّ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ سَعَتِهِ. وَهَذَا تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلتَّقْوَى.

وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاء: 116] . وَجُعِلَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَصِيَّةً: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَوْلٌ فِيهِ أَمْرٌ بِشَيْءٍ نَافِعٍ جَامِعٍ لِخَيْرٍ كَثِيرٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ فِي الْوَصِيَّةِ إِيجَازَ الْقَوْلِ لِأَنَّهَا يُقْصَدُ مِنْهَا وَعْيُ السَّامِعِ، وَاسْتِحْضَارُهُ كَلِمَةَ الْوَصِيَّةِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ. وَالتَّقْوَى تَجْمَعُ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنَاهِي، وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَا تَكَرَّرَ لَفْظٌ فِي الْقُرْآنِ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُ التَّقْوَى، يَعْنُونَ غَيْرَ الْأَعْلَامِ، كَاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» . فَذِكْرُ التَّقْوَى فِي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ إِلَخْ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ وَصَّيْنَا، فَأَنْ فِيهِ تَفْسِيرِيَّةٌ. وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْصَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ بِالتَّقْوَى مَقْصُودٌ مِنْهُ إِلْهَابُ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّهَمُّمِ بِتَقْوَى اللَّهِ لِئَلَّا تَفْضُلَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ لِلِائْتِسَاءِ أَثَرًا بَالِغًا فِي النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: 183] ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ. وَالتَّقْوَى الْمَأْمُورُ بِهَا هَنَا مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى أَسَاسِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بِجُمْلَةِ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَبَيَّنَ بِهَا عَدَمَ حَاجَتِهِ تَعَالَى إِلَى تَقْوَى النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا لِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] . فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّضَرُّرِ بِعِصْيَانِ مَنْ يَعْصُونَهُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ، إِذِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ الْقَصْدُ بِتَذْيِيلِهَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً أَيْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِكُمْ، مَحْمُودًا لِذَاتِهِ، سَوَاءٌ حَمِدَهُ الْحَامِدُونَ وَأَطَاعُوهُ، أَمْ كَفَرُوا وَعَصَوْهُ. وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ جُمْلَةَ وَإِنْ تَكْفُرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْوَصِيَّةِ، أَيْ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ وَصَّيْنَا، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ حَمِيداً.

وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا، أَتَى بهَا تميهدا لِقَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَهِيَ مُرَادٌ بِهَا مَعْنَاهَا الْكِنَائِيُّ الَّذِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَكِيلًا. فَقَدْ تَكَرَّرَتْ جُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هُنَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَتَالِيَاتٍ مُتَّحِدَةً لَفْظًا وَمَعْنًى أَصْلِيًّا، وَمُخْتَلِفَةَ الْأَغْرَاضِ الْكِنَائِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، وَسَبَقَتْهَا جُمْلَةٌ نَظِيرَتُهُنَّ: وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النِّسَاء: 126] . فَحَصَلَ تَكْرَارُهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كَلَامٍ مُتَنَاسِقٍ. فَأَمَّا الْأُولَى السَّابِقَةُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 116] ، وَلِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: 116] ، وَالتَّذْيِيلِ لَهُمَا، وَالِاحْتِرَاسِ لِجُمْلَةِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاء: 125] ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَوَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِيهَا فَهِيَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَقْوَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ وَلَا يَزَالُ غَنِيًّا حَمِيدًا. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ الَّتِي تَلِيهَا فَعَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ وَكَيْلٌ عَلَيْكُمْ وَوَكِيلٌ عَنْ رَسُولِهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا. وَجُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفْرِيعِ عَنْ قَوْلِهِ: غَنِيًّا حَمِيداً. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِهَذَا النِّدَاءِ. وَمَعْنَى يَأْتِ بِآخَرِينَ يُوجِدُ نَاسًا آخَرِينَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ فِي تَلَقِّي الدِّينِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ بقوله: بِآخَرِينَ أَنَّ الْمَعْنَى بِنَاسٍ آخَرِينَ غَيْرِ كَافِرِينَ، عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ فِي الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ آخَرَ أَوْ أُخْرَى، بَعْدَ ذِكْرِ مُقَابِلٍ لِلْمَوْصُوفِ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِكَلِمَةِ آخَرَ بَعْضًا مِنْ جِنْسِ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا جَعَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ جِنْسًا فِي كَلَامِهِ، بِالتَّصْرِيحِ أَوِ التَّقْدِيرِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ إِلَى لُزُومِ ذَلِكَ، وَاحْتَفَلَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَرِيرِيُّ فِي «دُرَّةِ الْغَوَّاصِ» . وَحَاصِلُهَا: أَنَّ الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ، وَالْحَرِيرِيَّ، وَالرَّضِيَّ، وَابْنَ يَسْعُونَ، وَالصِّقِلِّيَّ، وَأَبَا حَيَّانَ، ذَهَبُوا إِلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ جِنْسِ الْمَوْصُوفِ بِكَلِمَةِ آخَرَ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا مَعَ جِنْسِ مَا عُطِفَ هُوَ

عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَقُولَ: رَكِبْتُ فَرَسًا وَحِمَارًا آخَرَ، وَمَثَّلُوا لِمَا اسْتَكْمَلَ الشَّرْطَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 184] ثُمَّ قَالَ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: 185] وَبِقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: 19، 20] فَوَصَفَ مَنَاةَ بِالْأُخْرَى لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فِي أَنَّهَا صَنَمٌ، قَالُوا: وَمِثْلُ كَلِمَةِ آخَرَ فِي هَذَا كَلِمَاتُ: سَائِرٍ، وَبَقِيَّةٍ، وَبَعْضٍ، فَلَا تَقُولُ: أَكْرَمْتُ رَجُلًا وَتَرَكْتُ سَائِرَ النِّسَاءِ. وَلَقَدْ غَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ فَاشْتَرَطُوا الِاتِّحَادَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ بِآخَرَ وَبَيْنَ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ حَتَّى فِي الْإِفْرَادِ وَضِدِّهِ. قَالَهُ ابْنُ يَسْعُونَ وَالصِّقِلِّيُّ، وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «التَّذْكِرَةِ» مُحْتَجًّا بِقَوْلِ رَبِيعَةَ بْنِ مُكَدَّمٍ: وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بِآخَرَ ثَالِثٍ ... وَأَبَى الْفِرَارَ لِيَ الْغَدَاةَ تَكَرُّمِي وَبِقَوْلِ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ: وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلًا ... فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ وَقَالَ قَوْمٌ بِلُزُومِ الِاتِّحَادِ فِي التَّذْكِيرِ وَضِدِّهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي، وَخَالَفَهُمُ الْمُبَرِّدُ، وَاحْتَجَّ الْمُبَرِّدُ بِقَوْلِ عَنْتَرَةَ: وَالْخَيْلُ تَقْتَحِمُ الْغُبَارَ عَوَابِسًا ... مِنْ بَيْنِ شَيْظَمَةٍ وَآخَرَ شَيْظَمِ وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَوْصُوفِ بِآخَرَ مَعَ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ آخَرِينَ غَيْرِ الْإِنْسِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِكَلِمَةِ آخَرَ مَوْصُوفٌ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ ذِكْرُ مُقَابِلٍ لَهُ أَصْلًا، فَلَا تَقُولُ: جَاءَنِي آخَرُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَبْلُ، لِأَنَّ مَعْنَى آخَرَ مَعْنًى مُغَايِرٌ فِي الذَّاتِ مُجَانِسٌ فِي الْوَصْفِ. وَأَمَّا قَوْلُ كُثَيِّرٍ: صَلَّى على عزّة الرحمان وَابْنَتِهَا ... لُبْنَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ ابْنَتَهَا جَارَةً، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ: صَلَّى عَلَى حَبَائِبِي: عَزَّةَ وَابْنَتِهَا وَجَارَاتِهَا حَبَائِبِي الْأُخَرِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِشَاهِدٍ.

[سورة النساء (4) : آية 134]

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَقَدْ يَجُوزُ مَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ. نَحْوِ: رَأَيْتُ فَرَسًا وَحِمَارًا آخَرَ بِتَأْوِيلِ أَنَّهُ دَابَّةٌ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: إِذَا قُلْتُ هَذَا صَاحِبِي وَرَضِيتُهُ ... وَقَرَّتْ بِهِ الْعَيْنَانِ بُدِّلْتُ آخَرَا قُلْتُ: وَقَدْ يُجْعَلَ بَيْتُ كُثَيِّرٍ مِنْ هَذَا، وَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْقَرِينَةِ. وَقَدْ عُدَّ فِي هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْعَرَبِ: «تَرِبَتْ يَمِينُ الْآخَرِ» ، وَفِي الْحَدِيثِ: قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْآخَرَ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ» كِنَايَةً عَنْ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ. أَيْ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا تَنْزِيهًا لِنَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثَ عَنْهَا بِمَا ذَكَرَهُ. وَفِي حَدِيثِ الْأَسْلَمِيِّ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ «إِنَّ الْآخَرَ قَدْ زَنَى» وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَضْبُطُونَهُ- بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْخَاءِ-،. وَصَوَّبَهُ الْمُحَقِّقُونَ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُخْلِفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَوْمًا آخَرِينَ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَشَأْ إِهْلَاكَ جَمِيعِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ من يعبده . [134] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 134] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) لَمَّا كَانَ شَأْنُ التَّقْوَى عَظِيمًا عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّهَا يَصْرِفُهَا عَنْهَا اسْتِعْجَالُ النَّاسِ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا عَلَى خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، نَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا بِيَدِ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَإِنِ اتَّقَوْهُ نَالُوا الْخَيْرَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَصُدَّهُمُ الْإِيمَانُ عَنْ طَلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيَا، إِذِ الْكُلُّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا يُلْهِيهِمْ طَلَبُ خَيْرِ الدُّنْيَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، إِذِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ

[سورة النساء (4) : آية 135]

: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ بِمَا كَسَبُوا» أَوْ هِيَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَطْلُبُوا خَيْرَ الدُّنْيَا مِنْ طُرُقِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ فِي الْحَلَالِ سَعَةً لَهُمْ وَمَنْدُوحَةً، وَلْيَتَطَلَّبُوهُ مِنَ الْحَلَالِ يُسَهِّلْ لَهُمُ اللَّهُ حُصُولَهُ، إِذِ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحْرِمَ مَنْ يَتَطَلَّبُهُ مِنْ وَجْهٍ لَا يُرْضِيهِ أَوْ لَا يُبَارِكَ لَهُ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْخَيْرُ وَمَا يَرْجِعُ بِهِ طَالِبُ النَّفْعِ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ، مُشْتَقٌّ مِنْ ثَابَ بِمَعْنَى رَجَعَ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا فَجَوَابُ الشَّرْطِ بِ «مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا» مَحْذُوفٌ، تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَلَا يُعْرِضُ عَنْ دِينِ اللَّهِ، أَوْ فَلَا يَصُدُّ عَنْ سُؤَالِهِ، أَوْ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى سُؤَالِهِ، أَوْ فَلَا يُحَصِّلُهُ مِنْ وُجُوهٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى: كَمَا فَعَلَ بَنُو أُبَيْرِقٍ وَأَضْرَابُهُمْ، وَلْيَتَطَلَّبْهُ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْخَيْرَيْنِ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْقُطَامِيِّ: فَمَنْ تَكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيُّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا التَّقْدِيرُ: فَلَا يَغْتَرِرْ أَوْ لَا يَبْتَهِجْ بِالْحَضَارَةِ، فَإِنَّ حَالَنَا دَلِيلٌ عَلَى شرف البداوة. [135] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 135] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) انْتِقَالٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مُعَامَلَاتِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ الَّذِي يَعُمُّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، وَمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الشَّهَادَةِ الصَّادِقَةِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي الْحُكْمِ وَأَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ هُوَ قِوَامُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالِانْحِرَافُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ يَجُرُّ إِلَى فَسَادٍ مُتَسَلْسِلٍ. وَصِيغَةُ قَوَّامِينَ دَالَّةٌ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُرَادِ لَازِمُهَا، وَهُوَ عَدَمُ الْإِخْلَالِ بِهَذَا الْقِيَامِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [18] . وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْعَدْلِ إِلَى كَلِمَةِ الْقِسْطِ لِأَنَّ الْقِسْطَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ أُدْخِلَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِدَلَالَتِهَا فِي اللُّغَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْهَا عَلَى الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْعَدْلِ فَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: شُهَداءَ لِلَّهِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ عَلَائِقِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ. ولِلَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ شُهَداءَ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ شُهَداءَ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ تَعَلُّقَ الْمَشْهُودِ لَهُ بِمُتَعَلَّقِهِ وَهُوَ وَصْفُ شُهَداءَ لِإِشْعَارِ الْوَصْفِ بِتَعْيِينِهِ، أَيِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِحَقٍّ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ أَصْلَيِ التَّحَاكُمِ، وَهُمَا الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ حَالِيَّةٌ، وَ (لَوْ) فِيهَا وَصْلِيَّةٌ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي تَحْقِيقِ مَوْقِعِ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَيَتَعَلَّقُ عَلى أَنْفُسِكُمْ بِكُلٍّ مِنْ قَوَّامِينَ وشُهَداءَ لِيَشْمَلَ الْقَضَاءَ وَالشَّهَادَةَ. وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ وَأَصْلُهَا أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الذَّاتِ، وَيُطْلِقُهَا الْعَرَبُ أَيْضًا عَلَى صَمِيمِ الْقَبِيلَةِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْفُسِكُمْ هُنَا بِالْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ بِهِ غَالِبًا، أَيْ: قُومُوا بِالْعَدْلِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاشْهَدُوا لِلَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَيْ قَضَاءً غَالِبًا لِأَنْفُسِكُمْ وَشَهَادَةً غَالِبَةً لِأَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّ حَرْفَ (عَلَى) مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ شَدِيدٌ فِيهِ كُلْفَةٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، أَيْ وَلَوْ كَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي مِنْكُمْ وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ مِنْكُمْ بِمَا فِيهِ ضُرٌّ وَكَرَاهَةٌ لِلْقَاضِي وَالشَّاهِدِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا يُبَالِغُ عَلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْأَذَى، لِأَنَّ أَشَقَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَرْءِ مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذًى وَضُرٍّ فِي ذَاتِهِ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّ أَقْضِيَةَ الْقَاضِي وَشَهَادَةَ الشَّاهِدِ فِيمَا يُلْحِقُ ضُرًّا وَمَشَقَّةً بِوَالِدَيْهِ وَقَرَابَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ قَضَائِهِ وَشَهَادَتِهِ فِيمَا يَؤُولُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَو على قيبلتكم أَوْ وَالِدَيْكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ. وَمَوْقِعُ الْمُبَالَغَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَنْتَصِرُوا بِمَوَالِيهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ وَيَدْفَعُوا عَنْهُمْ

مَا يَكْرَهُونَهُ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ إِبَاءِ الضَّيْمِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِمْ، وَيَعُدُّونَ التَّقْصِيرَ فِي ذَلِكَ مَسَبَّةً وَعَارًا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ. قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْسِيُّ: رَأَيْتُ مَوَالِيَّ الْأُلَى يَخْذُلُونَنِي ... عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ وَيَعُدُّونَ الِاهْتِمَامَ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى يَقُولُونَ فِي الدُّعَاء: (فَذَاك أَبِي وَأُمِّي) ، فَكَانَتِ الْآيَةُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ وَتَبْعَثُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمَظْلُومِ. فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا جَعْلَ الْأَنْفُسِ بِمَعْنَى ذَوَاتِ الشَّاهِدِينَ فَاجْعَلْ عَطْفَ «الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» بَعْدَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ لِئَلَّا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَهُوَ أَمِيرُ نَفْسِهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَالِدَيْهِ أَوْ أَقَارِبِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَسَبَّةِ وَالْمَعَرَّةِ أَوِ التَّأَثُّمِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنًى مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمرَان: 18] . وَقَوْلُهُ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِمَجْمُوعِ جُمْلَةِ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ: أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمُقْسَطُ فِي حَقِّهِ، أَوِ الْمَشْهُودُ لَهُ، غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فَلَا يَكُنْ غِنَاهُ وَلَا فَقْرُهُ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّأَثُّرِ بِأَحْوَالٍ يَلْتَبِسُ فِيهَا الْبَاطِلُ بِالْحَقِّ لِمَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ عَوَارِضَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ رَعْيَهَا ضَرْبٌ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ، وَحِرَاسَةِ الْعَدَالَةِ، فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا التَّأَثُّرَ لِلَحْمِيَّةِ أُعْقِبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِإِبْطَالِ التَّأَثُّرِ بِالْمَظَاهِرِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ النُّفُوسَ إِلَى مُرَاعَاتِهَا فَيَتَمَحَّضُ نَظَرُهَا إِلَيْهَا. وَتُغْضِي بِسَبَبِهَا عَنْ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَذْهَلُ عَنْهُ، فَمِنَ النُّفُوسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْغِنَى يَرْبَأُ بِصَاحِبِهِ عَنْ أَخْذِ حَقِّ غَيْرِهِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: هَذَا فِي غُنْيَةٍ عَنْ أَكْلِ حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمِيلُ إِلَى الْفَقِيرِ رِقَّةً لَهُ، فَيَحْسَبُهُ مَظْلُومًا، أَوْ يَحْسَبُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِمَالِ الْغَنِيِّ لَا يَضُرُّ الْغَنِيَّ شَيْئًا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ التَّأْثِيرَاتِ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. وَهَذَا التَّرْدِيدُ صَالِحٌ لِكُلٍّ مِنْ أَصْحَابِ هَذَيْنِ التَّوَهُّمَيْنِ، فَالَّذِي يُعَظِّمُ الْغَنِيَّ يَدْحَضُ لِأَجْلِهِ حَقَّ الْفَقِيرِ، وَالَّذِي يَرِقُّ لِلْفَقِيرِ يَدْحَضُ لِأَجْلِهِ حَقَّ الْغَنِيِّ، وَكِلَا ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الَّذِي يُرَاعِي حَالَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَيُقَدِّرُ إِصْلَاحَ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما لَيْسَ هُوَ الْجَوَابُ، وَلَكِنَّهُ دَلِيلُهُ وَعِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يُهِمُّكُمْ أَمْرُهُمَا عِنْدَ التَّقَاضِي، فَاللَّهُ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِي شَأْنِهِمَا، وَإِنَّمَا عَلَيْكُمُ النَّظَرُ فِي الْحَقِّ. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فَجَعَلَ الْمَيْلَ نَحْوَ الْمَوَالِي وَالْأَقَارِبِ مِنَ الْهَوَى، وَالنَّظَرَ إِلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى مِنَ الْهَوَى. وَالْغَنِيُّ: ضِدُّ الْفَقِيرِ، فَالْغِنَى هُوَ عَدَمٌ إِلَى الِاحْتِيَاجِ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّفَاوُتِ، فَيُعْرَفُ بِالْمُتَعَلِّقِ كَقَوْلِهِ: «كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ» ، وَيُعْرَفُ بِالْعُرْفِ يُقَالُ: فُلَانٌ غَنِيٌّ، بِمَعْنَى لَهُ ثَرْوَةٌ يَسْتَطِيعُ بِهَا تَحْصِيلَ حَاجَاتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَوِجْدَانُ أُجُورِ الْأُجَرَاءِ غِنًى، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُحْتَاجًا إِلَى الْأُجَرَاءِ، لِأَنَّ وِجْدَانَ الْأُجُورِ يَجْعَلُهُ كَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْفَقِيرُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ افْتَقَرَ إِلَى كَذَا، بِالتَّخْصِيصِ، فَإِذَا قِيلَ: هُوَ فَقِيرٌ، فَمَعْنَاهُ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ كَثِيرُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى فَضْلِ النَّاسِ، أَوْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى الْحَاجَةِ لِقِلَّةِ ثَرْوَتِهِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ فَقْرًا نِسْبِيًّا، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّد: 38] . وَاسْمُ يَكُنْ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى التَّخَاصُمِ وَالتَّقَاضِي. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ هَذَا الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسَانِ، وَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَتَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما لِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «غَنِيًّا وَفَقِيرًا» بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ ذِي غِنًى، وَلَا إِلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ ذِي فَقْرٍ، بَلْ فَرْدٍ شَائِعٍ فِي هَذَا الْجِنْسِ وَفِي ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَعْدِلُوا مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ لَامَ التَّعْلِيلِ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ (عَنْ) ، أَيْ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى عَنِ الْعَدْلِ، أَيْ مُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَقَدْ عَرَفْتُ قَاضِيًا لَا مَطْعَنَ فِي ثِقَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ أَنَّ مَظِنَّةَ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ لَيْسُوا إِلَّا ظَلَمَةً: مِنْ أَغْنِيَاءَ أَوْ رِجَالٍ. فَكَانَ يَعْتَبِرُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مَحْقُوقَيْنِ فَلَا يَسْتَوْفِي التَّأَمُّلَ مِنْ حُجَجِهِمَا.

وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى وَحَذَّرَ، عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَلْوُوا- بِلَامٍ سَاكِنَةٍ وَوَاوَيْنِ بَعْدَهَا، أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ- فَهُوَ مُضَارِعُ لَوَى، وَاللَّيُّ: الْفَتْلُ وَالثَّنْيُ. وَتَفَرَّعَتْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ، مِنْهَا: عُدُولٌ عَنْ جَانِبٍ وَإِقْبَالٌ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَإِذَا عُدِّيَ بِعَنْ فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَجْرُورِ بِعَنْ، وَإِذَا عُدِّيَ بِإِلَى فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنْ جَانِبٍ كَانَ فِيهِ، وَإِقْبَالٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمرَان: 153] أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: لَوَى عَنِ الْأَمْرِ تَثَاقَلَ، وَلَوَى أَمْرَهُ عَنِّي أَخْفَاهُ، وَمِنْهَا: لَيُّ اللِّسَانِ، أَيْ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ فِي النُّطْقِ بِهِ أَوْ فِي مَعَانِيهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [78] ، وَقَوْلِهِ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [46] . فَمَوْقِعُ فِعْلِ تَلْوُوا هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِهِ الْمَحْذُوفِ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَنْ) أَوْ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَلَى) فَيَشْمَلُ مَعَانِيَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوِ التَّثَاقُلِ فِي تَمْكِينِ الْمُحِقِّ مِنْ حَقِّهِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِطَالِبِهَا، أَوِ الْمِيلِ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُمَاطَلَةُ فِي الْحُكْمِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّيِّ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخلف: وَإِنْ تَلْوُوا- بِلَامٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ- فَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعُ وَلِيَ الْأَمْرَ، أَيْ بَاشَرَهُ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَلُوا الْقَضَاءَ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تَعْدِلُوا وَلَا يَتَّجِهُ رُجُوعُهُ إِلَى الشَّهَادَةِ، إِذْ لَيْسَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِوِلَايَةٍ. وَالْوَجْهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَخْفِيفُ تَلْوُوا نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا فَالْتَقَى وَاوَانِ سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً كِنَايَةٌ عَنْ وَعِيدٍ، لِأَنَّ الْخَبِيرَ بِفَاعِلِ السُّوءِ، وَهُوَ قَدِيرٌ، لَا يُعْوِزُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ ب «إنّ» و «كَانَ» .

[سورة النساء (4) : آية 136]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 136] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) تَذْيِيلٌ عُقِّبَ بِهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ: بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَيَدُومُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيَحْذَرُوا مَسَارِبَ مَا يُخِلُّ بِذَلِكَ. وَوَصْفُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، وَإِرْدَافُهُ بِأَمْرِهِمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى آخِرِهِ يُرْشِدُ السَّامِعَ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَلَامِ تَأْوِيلًا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِمْ آمَنُوا وَكَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِإِيمَانٍ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ خَمْسَةُ مَسَالِكَ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُ إِيمَانٌ مُخْتَلٌّ مِنْهُ بَعْضُ مَا يَحِقُّ الْإِيمَانُ بِهِ، فَيَكُونُ فِيهَا خِطَابٌ لِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَسَدٌ وَأُسَيْدٌ ابْنَا كَعْبٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَلَامُ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلَمَةُ ابْنُ أَخِيهِ، وَيَامِينُ بْنُ يَامِينَ، سَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِكِتَابِهِ، كَمَا آمَنُوا بِمُوسَى وَبِالتَّوْرَاةِ، وَأَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْوَاحِدِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ فِي الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنَّهُ إِيمَانٌ كَامِلٌ لَا تَشُوبُهُ كَرَاهِيَةُ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ، تَحْذِيرًا مِنْ ذَلِكَ. فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ كَاللَّقَبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَا عُطِفَ عَلَى اسْمِهِ هُنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأَمْرِهِمْ بِذَلِكَ: إِمَّا زِيَادَةُ تَقْرِيرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَكْرِيرُ اسْتِحْضَارِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى لَا يَذْهَلُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ اهْتِمَامًا بِجَمِيعِهِ وَإِمَّا النَّهْيُ عَنْ إِنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى وَإِنْكَارِ نُبُوءَتِهِ، لِئَلَّا يَدْفَعَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الشَّنَآنِ إِلَى مُقَابَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُصَرِّحُ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا أُرِيدَ بِهِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ

ثُمَّ يُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنْكِرُونَ الْقُرْآنَ، حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ لِذَلِكَ، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ إِيمَانًا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِرُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ، فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يَسُودُوا غَيْرَهُمْ لِسَلَامَةِ إِيمَانِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ فَضَائِلِ أَهْلِ الْفَضَائِلِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ» ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَأْيِيدًا أَنَّهُ قَالَ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَطَفَهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَنْ يَكْفُرُ بِهَا فَقَدْ ضَلَّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ الْيَهُودُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ الدَّوَامُ عَلَيْهِ تَثْبِيتًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الِارْتِدَادِ، فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَلِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النِّسَاء: 137] الْآيَةَ. الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ أَخْلِصُوا إِيمَانَكُمْ حَقًّا. الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ بِأَنَّهُ طَلَبٌ لِثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْجُبَّائِيُّ. وَهُوَ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ جَعَلُوا الْآيَةَ شَاهِدًا لِاسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الْجِنْسُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ يَعْنِي: وَالْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ «وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ. وَعَاصِمٌ. وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: «نَزَّلَ- وَأنزل» - كِلَيْهِمَا بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ-. وَجَاءَ فِي صِلَةِ وَصْفِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ، وَفِي صِلَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ بِصِيغَةِ الْإِفْعَالِ تَفَنُّنًا، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ حِينَئِذٍ بِصَدَدِ النُّزُولِ نُجُومًا، وَالتَّوْرَاةَ يَوْمَئِذٍ قَدِ انْقَضَى نُزُولُهَا. وَمَنْ قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مُنَجَّمًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ فَقَدْ أَخْطَأَ إِذْ لَا يُعْرَفُ كِتَابٌ نَزَلَ دفْعَة وَاحِدَة.

[سورة النساء (4) : آية 137]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 137] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) اسْتِئْنَافٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ [النِّسَاء: 136] الْآيَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ كَمَا عَلِمْتَ، فَمَا ظَنُّكَ بِكُفْرٍ مُضَاعَفٍ يُعَاوِدُهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ، وَزَالَتْ عَنْهُ عَوَائِقُ الِاعْتِرَافِ بِالصِّدْقِ، فَكُفْرُهُ بِئْسَ الْكُفْرُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ إِذْ عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ تَكُونُ مِنَ الذَّمِّ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ سَلَفِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ حُكْمٌ لَا ذَمٌّ، لِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَفَرُوا إِذْ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَلَكِنَّهُمْ تَابُوا فَمَا اسْتَحَقُّوا عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ وَعَدَمَ الْهِدَايَةِ، كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 54] ، وَلِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَا عَبَدُوا الْعِجْلَ حَتَّى يُعَدَّ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ الْأَوَّلُ، عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَفَرُوا غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَارِيخِهِمْ فَكَفَرُوا بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ، وَكَفَرُوا فِي زَمَنِ بُخْتُنَصَّرَ. وَالظَّاهِرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أَنَّهُمْ كَفَرُوا كَفْرَةً أُخْرَى، بَلِ الْمُرَادُ الْإِجْمَالُ، أَيْ ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الْوَاقِفُ: وَأَوْلَادُهُمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْجِيلِ الثَّالِثِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِينَ عُرِفَ مِنْ دَأْبِهِمُ الْخِفَّةُ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَإِلَى خَلْعِ رِبْقَةِ الدِّيَانَةِ، هُمْ قَوْمٌ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ صُنْعُهُمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَنِ اسْتِخْفَافٍ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ كَفَرُوا، وَلَا قَصْدَ حِينَئِذٍ إِلَى عَدَدِ الْإِيمَانَاتِ وَالْكَفَرَاتِ. وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَعْنِي أَقْوَامًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَتَّجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُؤْمِنُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ كَفَرُوا وَتَكَرَّرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88] .

وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَاسْمُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ ... كَفَرُوا مُرَادٌ مِنْهُ فَرِيقٌ مَعْهُودٌ، فَالْآيَةُ وَعِيدٌ لَهُمْ وَنِذَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهُدَى فَلَمْ يَكُنْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ مِنْ أَحْوَالِ الْكُفْرِ مَا لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ بَعْدَهُ. فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَفَرَ الْمَرْءُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوبِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شِبْهُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ [190] وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَخْبَرَ بِنَفْيِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِذَنْ لَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ، فَهَلْ هُمْ مَخْصُوصُونَ مِنْ آيَاتِ عُمُومِ الدَّعْوَةِ. قُلْتُ: الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَأَبِي جَهْلٍ، وَلَمْ يُخْبِرْ نَبِيئَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ مَعَ عُمُومِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَسْأَلَةِ (التَّكْلِيف بالمحال الْعَارِض) فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارِفَةً عَنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إِيمَانِهِ وَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ ضَابِطٌ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّهُمْ دُعُوا بِأَعْيَانِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَبْلَغُ مِنْ: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ، لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ كَانَ لَمْ يُجْعَلْ لِيَصْدُرَ مِنْهُ خَبَرُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُجْعَلُ لِشَيْءٍ يَكُونُ نَابِيًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ ضِدُّ طَبْعِهِ، وَلَقَدْ أَبْدَعَ النُّحَاةُ فِي تَسْمِيَةِ اللَّامِ الَّتِي بَعْدَ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ (لَام الْجُحُود) .

[سورة النساء (4) : الآيات 138 إلى 141]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 138 إِلَى 141] بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) اسْتِئْنَاف ابتدائي ناشىء عَنْ وَصْفِ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُظْهِرِينَ الْكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ ثَمَّةَ طَائِفَةٌ تُبْطِنُ الْكُفْرَ وَهُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ، وَلَمَّا كَانَ التَّظَاهُرُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ تَعْقِيبُهُ بِالْكُفْرِ ضَرْبًا مِنَ التَّهَكُّمِ بِالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، جِيءَ فِي جَزَاءِ عَمَلِهِمْ بِوَعِيدٍ مُنَاسِبٍ لِتَهَكُّمِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ إِذْ قَالَ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ الْخَبَرُ بِمَا يَفْرَحُ الْمُخْبَرُ بِهِ، وَلَيْسَ الْعَذَابُ كَذَلِكَ، وَلِلْعَرَبِ فِي التَّهَكُّمِ أَسَالِيبُ كَقَوْلِ شَقِيقِ ابْن سُلَيْكٍ الْأَسَدِيِّ: أَتَانِي مِنْ أَبِي أنس وَعِيد ... فسلىّ لِغَيْظَةِ الضَّحَّاكِ جِسْمِي وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَإِنَّكَ سَوْفَ تَحْلُمُ أَوْ تَنَاهَى ... إِذَا مَا شِبْتَ أَوْ شَابَ الْغُرَابُ وَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ: نُبِّئْتُ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ ... فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ وَتِلْكَ مِنْهُ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ ... أَنْ يَفْعَلَ الشَّيْءَ إِذَا قَالَهُ

وَمَجِيءُ صِفَتِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، أَيْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيِ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ لِأَجْلِ مُضَادَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ مُشْرِكُو مَكَّةَ، أَوْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ مُشْرِكُونَ صُرَحَاءُ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَيْسَ إِلَّا مُنَافِقُونَ وَيَهُودُ. وَجُمْلَةُ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَقَوْلُهُ: أَيَبْتَغُونَ هُوَ مَنْشَأُ الِاسْتِئْنَافِ، وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ تَكُنْ مُوَالَاتُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ، بَلِ اتَّخَذُوهُمْ لِيَعْتَزُّوا بِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ شَعَرُوا بِالضَّعْفِ فَطَلَبُوا الِاعْتِزَازَ، وَفِي ذَلِكَ نِهَايَةُ التَّجْهِيلِ وَالذَّمِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّ التَّفْرِيعُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أَيْ لَا عِزَّةَ إِلَّا بِهِ، لِأَنَّ الِاعْتِزَازَ بِغَيْرِهِ بَاطِلٌ. كَمَا قِيلَ: مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللَّهِ هَانَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْيَهُودَ فَالِاسْتِفْهَامُ تَهَكُّمٌ بِالْفَرِيقَيْنِ كَقَوْلِ الْمَثَلِ: كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ التَّحْذِيرَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ تَذْكِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا كَانُوا أُعْلِمُوا بِهِ مِمَّا يُؤَكِّدُ التَّحْذِيرَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (يَتَّخِذُونَ) ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ خِطَابًا لِأَصْحَابِ الصِّلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ [النِّسَاء: 139] عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، كَأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّلَةُ صَارُوا مُعَيَّنِينَ مَعْرُوفِينَ، فَالْتُفِتَ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الصِّلَةِ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ. وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُنَافِقِينَ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَالَّذِي نُزِّلَ فِي الْكِتَابِ هُوَ آيَاتٌ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْقُرْآنِ: فِي شَأْنِ كُفْرِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاسْتِهْزَائِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ [68] الْأَنْعَامِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْكَافِرِينَ يَسْرِي إِلَى الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنِ الَّذِي أَحَالَ اللَّهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا

تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مِمَّا حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِهِ تَقَرُّرُ هَذَا الْمَعْنَى. وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّ (نُزِّلَ) تَضَمَّنَ مَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ حُرُوفِ الْقَوْلِ، إِذْ لَمْ يَقْصِدْ حِكَايَةَ لَفْظِ (مَا نُزِّلَ) بَلْ حَاصِلَ مَعْنَاهُ. وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمَهَا ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَإِسْنَادُ الْفِعْلَيْنِ: يُكْفَرُ ويُسْتَهْزَأُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِتَتَأَتَّى، بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، صَلَاحِيَةُ إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرْكَنُونَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالْآيَاتِ وَيَسْتَهْزِئُونَ، فَتَنْثَلِجُ لِذَلِكَ نُفُوسُ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَظَاهَرُوا بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَشْفِي غَلِيلَهُمْ أَنْ يَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَدْ جُعِلَ زَمَانُ كُفْرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ هُوَ زَمَنُ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ آيَاتِ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ زَمَنُ نُزُولِ آيَاتِ اللَّهِ أَوْ قِرَاءَةِ آيَاتِ اللَّهِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، لِيُشِيرَ إِلَى عَجِيبِ تضادّ الْحَالين، فلفي حَالَةِ اتِّصَافِ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْهَزْلِ بِآيَاتِهِ يَتَّصِفُ الْمُؤْمِنُونَ بِتَلَقِّي آيَاتِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا وَقَصْدِ الْوَعْيِ لَهَا وَالْعَمَلِ بِهَا. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْرِيعِ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ حَتَّى يَنْتَقِلُوا إِلَى غَيْرِهَا، لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ الشَّيْطَانُ بِذَلِكَ إِلَى اسْتِضْعَافِ حِرْصِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ لِلْأَخْلَاقِ عَدْوَى، وَفِي الْمَثَلِ «تُعْدِي الصِّحَاحَ مَبَارِكُ الْجُرْبِ» . وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِمُغَادَرَةِ مَجَالِسِهِمْ إِذَا خَاضُوا فِي الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْقُعُودِ إِلَيْهِمْ حِكْمَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ وُجُوبُ إِظْهَارِ الْغَضَبِ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة: 1] . وَ (حَتَّى) حَرْفٌ يَعْطِفُ غَايَةَ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهم غَايَته أم يَكُفُّوا عَنِ الْخَوْضِ فِي الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. وَهَذَا الْحُكْمُ تَدْرِيجٌ فِي تَحْرِيمِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِينَ، جُعِلَ مَبْدَأُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَحْضُرُوا مَجَالِسَ كُفْرِهِمْ لِيَظْهَرَ التَّمَايُزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَّصِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ، وَرُخِّصَ

لَهُمُ الْقُعُودُ مَعَهُمْ إِذْ خَاضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِ الْكُفْرِ. ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التَّوْبَة: 23، 24] . وَجُعِلَ جَوَابُ الْقُعُودِ مَعَهُمُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِآيَاتِ اللَّهِ إِذْ قَالَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فَإِنَّ (إِذَنْ) حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ مَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ. وَالْمُجَازَاةُ هُنَا لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ إِذَنْ إِنَّكُمْ مِثْلُهُمْ. وَوُقُوعُ إِذَنْ جَزَاءً لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْعَنْبَرِيِّ: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ شَيْبَانَا إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لَوْثَةٍ لَانَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» : «وَفَائِدَةُ (إِذَنْ) هُوَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَخْرَجَ جَوَابِ قَائِلٍ لَهُ: وَلَوِ اسْتَبَاحُوا مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ بَنُو مَازِنٍ؟ فَقَالَ: إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ» . قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] . التَّقْدِيرُ: فَلَوْ كُنْتَ تَتْلُو وَتَخُطُّ إِذَنْ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْجَزَاءَ فِي قَوْله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا عَنِ النَّهْيِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ: لَا تَتْرُكَنِّي فِيهِمْ شَطِيرَا ... إِنِّي إِذَنْ أَهْلِكَ أَوْ أَطِيرَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَجْلِسُونَ هَذِهِ الْمَجَالِسَ فَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى تَغْيِيرِ هَذَا وَلَا يَقُومُونَ عَنْهُمْ تَقِيَّةً لَهُمْ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَهُمْ خَارِجَةٌ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُؤْمِنُ مُنَافِقًا بِجُلُوسِهِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَأُرِيدَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ لَا فِي مِقْدَارِهَا، أَيْ أَنَّكُمْ تَصِيرُونَ مِثْلَهُمْ فِي التَّلَبُّسِ بِالْمَعَاصِي.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَوَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَعِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِعَدَمِ جَدْوَى إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَحْدَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ. وَالتَّرَبُّصُ حَقِيقَةً فِي الْمُكْثِ بِالْمَكَانِ، وَقَدْ مَرَّ قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] . وَهُوَ مَجَازٌ فِي الِانْتِظَارِ وَتَرَقُّبِ الْحَوَادِثِ. وَتَفْصِيلُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ الْآيَاتِ. وَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَتْحًا لِأَنَّهُ انْتِصَارٌ دَائِمٌ، وَنُسِبَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُقَدِّرُهُ وَمُرِيدُهُ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ وَمُعْجِزَاتٍ بَيِّنَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا حَظَّ لِلْيَهُودِ فِي الْحَرْبِ، وَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ نَصِيبًا تَحْقِيرًا لَهُ، وَالْمُرَادُ نَصِيبٌ مِنَ الْفَوْزِ فِي الْقِتَالِ. وَالِاسْتِحْوَاذُ: الْغَلَبَةُ وَالْإِحَاطَةُ، أَبْقَوُا الْوَاوَ عَلَى أَصْلِهَا وَلَمْ يَقْلِبُوهَا أَلِفًا بَعْدَ الْفَتْحَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَفْعَالِ الَّتِي صُحِّحَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِثْلَ: اسْتَجْوَبَ، وَقَدْ يَقُولُونَ: اسْتَحَاذَ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ وَاسْتَصَابَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَمَعْنَى أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نتولّ شؤونكم وَنُحِيطْ بِكُمْ إِحَاطَةَ الْعِنَايَةِ وَالنُّصْرَةِ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مِنْ أَنْ يَنَالَكُمْ بِأْسُهُمْ، فَالْمَنْعُ هُنَا إِمَّا مَنْعٌ مَكْذُوبٌ يُخَيِّلُونَهُ الْكُفَّارَ وَاقِعًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَإِمَّا مَنْعٌ تَقْدِيرِيٌّ وَهُوَ كَفُّ النُّصْرَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّجَسُّسُ عَلَيْهِمْ بِإِبْلَاغِ أَخْبَارِهِمْ لِلْكَافِرِينَ، وَإِلْقَاءُ الْأَرَاجِيفِ وَالْفِتَنِ بَيْنَ جُيُوشِ الْمُؤْمِنِينَ، وكلّ ذَلِك ممّ يُضْعِفُ بَأْسَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ وَقَعَ، وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ يَقُولُهُ مَنْ يَنْدَسُّ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَزَوَاتِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ جُيُوشُ الْمُشْرِكِينَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ، وَالْكَلَامُ إِنْذَارٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَكِفَايَةٌ لِمُهِمِّ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنْ فُوِّضَ أَمْرُ جَزَاءِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى مَكَائِدِهِمْ وَخُزَعْبِلَاتِهِمْ إِلَيْهِ تَعَالَى.

[سورة النساء (4) : الآيات 142 إلى 143]

وَقَوْلُهُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا تَثْبِيتٌ للْمُؤْمِنين، لأنّ مثيل هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ دَخَائِلِ الْأَعْدَاءِ وَتَأَلُّبِهِمْ: مِنْ عَدُوٍّ مُجَاهِرٍ بِكُفْرِهِ. وَعَدُوٍّ مُصَانِعٍ مُظْهِرٍ لِلْأُخُوَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْبَالِغَةِ أَقْصَى الْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، يُثِيرُ مَخَاوِفَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ يُخَيِّلُ لَهُمْ مَهَاوِيَ الْخَيْبَةِ فِي مُسْتَقْبَلِهِمْ. فَكَانَ مِنْ شَأْنِ التَّلَطُّفِ بِهِمْ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ التَّحْذِيرَ بِالشَّدِّ عَلَى الْعَضُدِ، وَالْوَعْدِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ، وَإِنْ تَأَلَّبَتْ عِصَابَاتُهُمْ. وَاخْتَلَفَتْ مَنَاحِي كُفْرِهِمْ، سَبِيلًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالْغَلَبَةِ، بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِعَلَى، وَلِأَنَّ سَبِيلَ الْعَدُوِّ إِلَى عَدُوِّهِ هُوَ السَّعْيُ إِلَى مَضَرَّتِهِ، وَلَوْ قَالَ لَكَ الْحَبِيبُ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ، لَتَحَسَّرْتَ وَلَوْ قَالَ لَكَ الْعَدُوُّ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ لَتَهَلَّلْتَ بِشْرًا، فَإِذَا عُدِّيَ بِعَلَى صَارَ نَصًّا فِي سَبِيلِ الشَّرِّ وَالْأَذَى، فَالْآيَةُ وَعْدٌ مَحْضُ دُنْيَوِيٍّ، وَلَيْسَتْ مِنَ التَّشْرِيعِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي شَيْءٍ لِنُبُوِّ الْمَقَامِ عَنْ هَذَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ وَعْدًا لَمْ يَجُزْ تَخَلُّفُهُ. وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ يَنْتَصِرُونَ على الْمُؤمنِينَ انتصرا بَيِّنًا، وَرُبَّمَا تَمَلَّكُوا بِلَادَهُمْ وَطَالَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْوَعْدِ. قُلْتُ: إِنْ أُرِيدَ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ الطَّائِفَتَانِ الْمَعْهُودَتَانِ بِقَرِينَةِ الْقِصَّةِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَاقِبَةَ النَّصْرِ أَيَّامَئِذٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ ثُقِفُوا وَأُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا وَدَخَلَتْ بَقِيَّتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَصْبَحُوا أَنْصَارًا لِلدِّينِ وَإِنْ أُرِيدَ الْعُمُومُ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِالْإِيمَانِ بِسَائِرِ أَحْوَالِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَلَوِ اسْتَقَامَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ لَمَا نَالَ الْكَافِرُونَ مِنْهُمْ مَنَالًا، وَلَدَفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ خيبة وخبالا. [142، 143] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 142 إِلَى 143] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً

(143) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، فِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَسَاوِيهِمْ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ حَالَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ وَتَحْقِيقِ مَا عَقَبَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ خادِعُهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى مُخَادَعَةِ الْمُنَافِقِينَ اللَّهَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [9] عِنْدَ قَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَزَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ خادِعُهُمْ أَيْ فَقَابَلَهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ، فَكَمَا كَانَ فِعْلُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خِدَاعًا لِلَّهِ تَعَالَى، كَانَ إِمْهَالُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى اطْمَأَنُّوا وَحَسِبُوا أَنَّ حِيلَتَهُمْ وَكَيْدَهُمْ رَاجَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ نَاصِرَهُمْ، وَإِنْذَارُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَيْدِهِمْ حَتَّى لَا تَنْطَلِيَ عَلَيْهِمْ حِيَلُهُمْ، وَتَقْدِيرُ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِأَخَرَةٍ، شَبِيهًا بِفعل المخادع جُزْءا وِفَاقًا. فَإِطْلَاقُ الْخِدَاعِ عَلَى اسْتِدْرَاجِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَحَسَّنَتْهَا الْمُشَاكَلَةُ لِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ اسْتِعَارَةَ لَفْظٍ لِغَيْرِ مَعْنَاهُ مَعَ مَزِيدِ مُنَاسَبَةٍ مَعَ لَفْظٍ آخَرَ مِثْلِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعَارِ. فَالْمُشَاكَلَةُ ترجع إِلَى التلميح، أَيْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ عَلَاقَةٌ بَيْنَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى الْمُرَادِ إِلَّا مُحَاكَاةَ اللَّفْظِ، سُمِّيَتْ مُشَاكَلَةٌ كَقَوْلِ أَبِي الرَّقَعْمَقِ. قَالُوا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ: أَطْبِخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا وَ «كُسَالَى» جَمْعُ كَسْلَانَ عَلَى وَزْنِ فُعَالَى، وَالْكَسْلَانُ الْمُتَّصِفُ بِالْكَسَلِ، وَهُوَ الْفُتُورُ فِي الْأَفْعَالِ لِسَآمَةٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ. وَالْكَسَلُ فِي الصَّلَاةِ مُؤْذِنٌ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ الْمُصَلِّي بِهَا وَزُهْدِهِ فِي فِعْلِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِيَمِ الْمُنَافِقِينَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَجَاوُزِ حَدِّ النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ خَشْيَةَ السَّآمَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تملّوا» . وَنهى على الصَّلَاةِ وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ حَاجَتَهُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِقْبَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلَاةِ بِشَرَهٍ وَعَزْمٍ، لِأَنَّ

النَّفْسَ إِذَا تَطَرَّقَتْهَا السَّآمَةُ مِنَ الشَّيْءِ دَبَّتْ إِلَيْهَا كَرَاهِيَتُهُ دَبِيبًا حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنْهَا الْكَرَاهِيَةُ، وَلَا خَطَرَ عَلَى النَّفْسِ مِثْلُ أَنْ تَكْرَهَ الْخَيْرَ. وَ «كُسَالَى» حَالٌ لَازِمَةٌ مِنْ ضَمِيرِ (قامُوا) ، لِأَنَّ قَامُوا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ وَحْدَهُ جَوَابًا لِ «إِذَا» الَّتِي شَرْطُهَا «قَامُوا» ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُجَرَّدًا لَكَانَ الْجَوَابُ عَيْنَ الشَّرْطِ، فَلَزِمَ ذِكْرُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] وَقَوْلِ الْأَحْوَصِ الْأَنْصَارِيِّ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الأقران وَجُمْلَة يُراؤُنَ النَّاسَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ صِفَةٌ لِ (كُسَالَى) ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ جَوَابِ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا قَصْدُهُمْ بِهَذَا الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَهَلَّا تَرَكُوا هَذَا الْقِيَامَ مِنْ أَصْلِهِ، فَوَقَعَ الْبَيَانُ بِأَنَّهُمْ يُرَاءُونَ بصلاتهم النَّاس. ويُراؤُنَ فِعْلٌ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُرُونَ النَّاسَ صَلَاتَهُمْ وَيُرِيهِمُ النَّاسُ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِرَاءَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْطُوف على يُراؤُنَ إِن كَانَ يُراؤُنَ حَالًا أَوْ صِفَةً، وَإِن كَانَ يُراؤُنَ اسْتِئْنَاف فَجُمْلَةُ وَلا يَذْكُرُونَ حَالٌ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا قَلِيلًا. فَالِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مِنْ أَزْمِنَةِ الذِّكْرِ، أَيْ إِلَّا وَقْتًا قَلِيلًا، وَهُوَ وَقْتُ حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ مَعَهُمْ حِينَئِذٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا مِنْ مَصْدَرِ يَذْكُرُونَ ، أَيْ إِلَّا ذِكْرًا قَلِيلًا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرَاءُونَ بِهَا، وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ تَرْكِهِ مِثْلَ: التَّأْمِينِ، وَقَوْلِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَالتَّكْبِيرِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَقُولُونَهُ مِنْ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، وَقِرَاءَةِ رَكَعَاتِ السِّرِّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَلا يَذْكُرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا قامُوا ، فَهِيَ خَبَرٌ عَنْ خِصَالِهِمْ، أَيْ هُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا حَالًا قَلِيلًا أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْهُ عَبْدٌ يَحْتَاجُ لِرَبِّهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْآيَةُ أَفَادَتْ عُبُودِيَّتَهُمْ وَكُفْرَهُمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَسُولِهِ وَقُرْآنِهِ. ثُمَّ جَاءَ بِحَالٍ تُعَبِّرُ عَنْ جَامِعِ نِفَاقِهِمْ وَهِيَ قَوْلُهُ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ وَهُوَ حَالٌ من ضمير يُراؤُنَ.

وَالْمُذَبْذَبُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الذَّبْذَبَةِ. يُقَالُ: ذَبْذَبَهُ فَتَذَبْذَبَ. وَالذَّبْذَبَةُ: شِدَّةُ الِاضْطِرَابِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ خَجَلٍ، قِيلَ: إِنَّ الذَّبْذَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَكْرِيرِ ذَبَّ إِذَا طَرَدَ، لِأَنَّ الْمَطْرُودَ يُعَجِّلُ وَيَضْطَرِبُ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَفَادَتْ كَثْرَةَ الْمَصْدَرِ بِالتَّكْرِيرِ، مَثْلَ زَلْزَلَ وَلَمْلَمَ بِالْمَكَانِ وَصَلْصَلَ وَكَبْكَبَ، وَفِيهِ لُغَةٌ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي فِي عَامِّيَّتِنَا الْيَوْمَ، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مُدَبْدَبٌ، أَيْ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ وَلَا تَوْفِيقٍ. فَقِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّبَّةِ- بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- أَيِ الطَّرِيقَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْلُكُ مَرَّةً هَذَا الطَّرِيقَ وَمَرَّةً هَذَا الطَّرِيقَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى مَا اسْتُفِيدَ من قَوْله: يُراؤُنَ النَّاسَ لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْ فِعْلِهِ إِرْضَاءَ النَّاسِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ مُذَبْذَبًا، إِذْ يَجِدُ فِي النَّاسِ أَصْنَافًا مُتَبَايِنَةَ الْمَقَاصِدِ وَالشَّهَوَاتِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْإِشَارَةِ رَاجِعَةً إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَكِنْ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ، أَيْ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَجُمْلَةُ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ صِفَةٌ لِ مُذَبْذَبِينَ لِقَصْدِ الْكَشْفِ عَنْ مَعْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوْ هِيَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. وهؤُلاءِ أَحَدُهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْآخَرُ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَافِرِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، إِذْ لَيْسَ فِي الْمَقَامِ إِلَّا فَرِيقَانِ فَأَيُّهَا جَعَلْتَهُ مُشَارًا إِلَيْهِ بِأَحَدِ اسْمَيِ الْإِشَارَةِ صَحَّ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى «فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ» . وَالتَّقْدِيرُ لَا هُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا هُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ. وَ (إِلَى) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ، أَيْ لَا ذَاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْفَرِيقِ وَلَا إِلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالذَّهَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ (إِلَى) ذَهَابٌ مَجَازِيٌّ وَهُوَ الِانْتِمَاءُ وَالِانْتِسَابُ، أَيْ هُمْ أَضَاعُوا النِّسْبَتَيْنِ فَلَا هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا هُمْ كَافِرُونَ ثَابِتُونَ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى (لَا) النَّافِيَةِ مُكَرَّرَةً فِي غَرَضَيْنِ: تَارَةً يَقْصِدُونَ بِهِ إِضَاعَةَ الْأَمْرَيْنِ، كَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَة: 31] لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [الْبَقَرَة: 71] . وَتَارَةً يَقْصِدُونَ بِهِ إِثْبَاتَ حَالَةٍ وَسَطٍ بَيْنَ حَالَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35]- لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ [الْمَائِدَة: 68] ، وَقَوْلِ زُهَيْرٍ: فَلَا هُوَ أَخْفَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ

[سورة النساء (4) : آية 144]

وَعَلَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَمَعْنَى الْآيَةِ خَفِيٌّ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ إِثْبَاتَ حَالَةٍ وَسَطٍ لِلْمُنَافِقِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، لِأَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَ مَعْنَاهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْأَوَّلِ، أَيْ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِنَ الْكَافِرِينَ. وَهُمْ فِي التَّحْقِيقِ.، إِلَى الْكَافِرِينَ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 139] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 141] . فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الْإِيمَانَ وَالِانْتِمَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَضَاعُوا الْكُفْرَ بِمُفَارَقَةِ نُصْرَةِ أَهْلِهِ، أَيْ كَانُوا بِحَالَةِ اضْطِرَابٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّذَبْذُبِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْقِيرُهُمْ وَتَنْفِيرُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ صُحْبَتِهِمْ لِيَنْبِذَهُمُ الْفَرِيقَانِ. وَقَوْلُهُ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا الْخِطَابُ لِغَيْرِ معّين، وَالْمعْنَى: لم تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إِلَى الْهُدَى بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ. [144] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 144] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) أَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ دَخَائِلَهُمْ وَاسْتِصْنَاعَهُمْ لِلْمُنَافِقِينَ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ لَوْلَا عَدَاوَةُ الْكَافِرِينَ لِهَذَا الدِّينِ لَمَا كَانَ النِّفَاقُ، وَمَا كَانَتْ تَصَارِيفُ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، لِأَنَّهَا تَوْجِيهُ خِطَابٍ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ. وَهَذِهِ آيَةٌ جَامِعَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ. فَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ، وَمن الْوُقُوع فِي النِّفَاق، لإن الْمُنَافِقين تظاهروا بِالْإِيمَان ووالوا الْكَافِرِينَ تَحْذِيرٌ مِنَ الِاسْتِشْعَارِ بِشِعَارِ النِّفَاقِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْكَافِرِينَ، وَتَشْهِيرٌ بِنِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا: كُنَّا نَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ.

[سورة النساء (4) : الآيات 145 إلى 146]

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَافِرِينَ هُنَا مُشْرِكُو مَكَّةَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي الْأَكْثَرِ مُوَالِينَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِمَّا يَبْعَثُ النَّاسَ عَلَى مَعْرِفَةِ جَزَاءِ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَصْدِ التَّشْهِيرِ بِالْمُنَافِقِينَ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَنَّكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ جَعَلْتُمْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ حُجَّةً وَاضِحَةً عَلَى فَسَادِ إِيمَانِكُمْ، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَهَذَا السُّلْطَانُ هُوَ حُجَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْكُفْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ أُرِيدَ حُجَّةُ افْتِضَاحِهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمُوَالَاةِ الْكَافرين، كَقَوْلِه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاء: 165] . وَمِنْ هُنَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُجَّةِ قَطْعَ حُجَّةِ مَنْ يَرْتَكِبُ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ والإعذار إِلَيْهِ. [145، 146] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 145 إِلَى 146] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) عَقَّبَ التَّعْرِيضَ بِالْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ كَمَا تَقَدَّمَ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا. فَإِنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ إِلَى ذِكْرِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء معدودن مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ لِانْتِقَالَاتِ جُمَلِ الْكَلَامِ مَعَانِيَ لَا يُفِيدُهَا الْكَلَامُ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْخَوَاطِرِ فِي الْفِكْرِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، ثَانِيًا إِذْ هِيَ عَوْدٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ. وَالدَّرَكُ: اسْمُ جَمْعِ دَرَكَةٍ، ضِدُّ الدَّرَجِ اسْمُ جَمْعِ دَرَجَةٍ. وَالدَّرَكَةُ الْمَنْزِلَةُ فِي الْهُبُوطِ. فَالشَّيْءُ الَّذِي يُقْصَدُ أَسْفَلُهُ تَكُونُ مُنَازِلُ التَّدَلِّي إِلَيْهِ دَرَكَاتٍ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُقْصَدُ أَعْلَاهُ تَكُونُ مَنَازِلُ الرُّقِيِّ إِلَيْهِ دَرَجَاتٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمَانِ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْوَاحِدَةِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ، أَيْ فِي أَذَلِّ مَنَازِلِ الْعَذَابِ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَسْوَأُ الْكُفْرِ لِمَا حَفَّ بِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الدَّرْكِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جَمْعِ دَرَكَةٍ ضِدِّ الدَّرَجَةِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ. وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُمَا لُغَتَانِ وَفَتْحُ الرَّاءِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ أَشْهَرُ. وَالْخِطَابُ فِي وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُ الْخِطَابِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَقَطْعٌ لِرَجَائِهِمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ أَلِفُوا الشَّفَاعَاتِ وَالنَّجَدَاتِ فِي الْمَضَائِقِ. فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَذْيِيلُ الْوَعِيدِ بِقَطْعِ الطَّمَعِ فِي النَّصِيرِ وَالْفِدَاءِ وَنَحْوِهِمَا. وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَصْلَحَ حَالَهُ، وَاعْتَصَمَ بِاللَّهِ دُونَ الِاعْتِزَازِ بِالْكَافِرِينَ، وَأَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ، فَلَمْ يَشُبْهُ بِتَرَدُّدٍ وَلَا تَرَبَّصَ بِانْتِظَارِ مَنْ يَنْتَصِرُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ صَارَتْ حَالُهُ إِلَى هَذَا الْخَيْرِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي لَفْظِ (مَعَ) إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَصِمْ نَفْسَهُ بِالنِّفَاقِ لِأَنَّ (مَعَ) تَدَخُلُ عَلَى الْمَتْبُوع وَهُوَ الأفصل. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ زَادَهُ هُنَا تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً. وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ هُنَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَجْرِ أَجْرُ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّصْرُ وَحُسْنُ الْعَاقِبَةِ وَأَجْرُ الْآخِرَةِ، إِذِ الْكُلُّ مُسْتَقْبَلٌ، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الثَّوَابَ لِأَنَّهُ حَصَلَ من قبل.

[سورة النساء (4) : آية 147]

[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 147] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) تَذْيِيلٌ لِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةِ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِاسْتِثْنَاءِ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ وَيُؤْمِنُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: 146] . وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ ارْتِفَاقًا بِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أُرِيدَ بِهِ الْجَوَابُ بِالنَّفْيِ فَهُوَ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَفْعَلُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا. وَمَعْنَى يَفْعَلُ يَصْنَعُ وَيَنْتَفِعُ، بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَإِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ غَفَرَ لَهُمُ الْعَذَابَ، فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ لِكَرَاهَةٍ فِي ذَاتِهِمْ أَوْ تَشَفٍّ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ جَزَاءُ السُّوءِ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَيُجَازِي عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَعَلَى الْإِسَاءَةِ بِالْإِسَاءَةِ، فَإِذَا أَقْلَعَ الْمُسِيءُ عَنِ الْإِسَاءَةِ أَبْطَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ بِالسُّوءِ، إِذْ لَا يَنْتَفِعُ بِعَذَابٍ وَلَا بِثَوَابٍ، وَلَكِنَّهَا الْمُسَبِّبَاتُ تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ. وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ ثَبَتُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ وَشُكْرِهِمْ،. وَتَجَنَّبُوا مُوَالَاةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَاللَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ، إِذْ لَا مُوجِبَ لِعَذَابِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَطِّلُ الْجَزَاءَ الْحَسَنَ عَنِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَشْكُرُونَ نِعَمَهُ الْجَمَّةَ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ شُكْرِ العَبْد ربّه.

[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 149]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 148 إِلَى 149] لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَوَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ وَشَهَّرَ بِفَضَائِحِهِمْ تَشْهِيرًا طَوِيلًا، كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِحَيْثُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ نُفُورًا مِنَ النِّفَاقِ وَأَحْوَالِهِ، وَبُغْضًا لِلْمَلْمُوزِينَ بِهِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَغِيظَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَوَسَّمُونَ فِيهِ النِّفَاقَ، فَيُجَاهِرُوهُمْ بِقَوْلِ السُّوءِ، وَرَخَّصَ لِمَنْ ظُلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْهَرَ لِظَالِمِهِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ عَنْ نَفْسِهِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ رِجَالًا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ» . الْحَدِيثَ. فَظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ بِمَالِكٍ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، لِمُلَازَمَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلصَّدِّ عَنِ الْمُجَازَفَةِ بِظَنِّ النِّفَاقِ بِمَنْ لَيْسَ مُنَافِقًا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ فَقَدْ ذُكِرَتْ نَجْوَاهُمْ وَذُكِرَ رِيَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذُكِرَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ إِظْهَارِهِمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ نِفَاقًا فَأَرَادَ اللَّهُ تَبَيُّنَ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ. وَجُمْلَةُ لَا يُحِبُّ مَفْصُولَةٌ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِهَذَا الْغَرَضِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ: الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهِيَةَ

تَسْتَحِيلُ حَقِيقَتِهِمَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا انْفِعَالَانِ لِلنَّفْسِ نَحْوَ اسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ، وَاسْتِنْكَارِ الْقَبِيحِ، فَالْمُرَادُ لَازِمُهُمَا الْمُنَاسِبُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَهُمَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ. وَصِيغَةُ لَا يُحِبُّ، بِحَسَبِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، صِيغَةُ نَفْيِ الْإِذْنِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ. وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ لَا يُحِبُّ يُفِيدُ مَعْنَى يَكْرَهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى النَّهْيِ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» . فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ. وَالْمُرَادُ بِالْجَهْرِ مَا يَبْلُغُ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ إِذْ لَيْسَ السِّرُّ بِالْقَوْلِ فِي نَفْسِ النَّاطِقِ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ ضُرٌّ. وَتَقْيِيدُهُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ الْأَذَى فَيُعْلَمُ أَنَّ السُّوءَ مِنَ الْفِعْلِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا. وَاسْتَثْنَى مَنْ ظُلِمَ فَرَخَّصَ لَهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، الْمُفِيدُ لِلْعُمُومِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ جَهْرَ أَحَدٍ بِالسُّوءِ، أَوْ يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ، وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ قُضِيَ فِي الْكَلَامِ حَقُّ الْإِيجَازِ. وَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ الْجَهْر بالْقَوْل السيّء لِيَشْفِيَ غَضَبَهُ، حَتَّى لَا يَثُوبَ إِلَى السَّيْفِ أَوْ إِلَى الْبَطْش بِالْيَدِ، فَفِي هَذَا الْإِذْنِ تَوْسِعَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَمْسِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ لِحَاقِ الظُّلْمِ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا هُوَ الِاحْتِرَاسُ فِي حُكْمِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ لِلْمَظْلُومِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ التَّظَلُّمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَالِمِهِ، أَوْ شِكَايَةَ ظُلْمِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: ظَلَمْتَنِي، أَوْ أَنْتَ ظَالِمٌ وَأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ ظَالِمٌ. وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ جَهْرًا لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ إِعْلَانٌ بِظُلْمِهِ وَإِحَالَتِهِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْقَذْفِ، فَإِنَّ دَلَائِلَ النَّهْيِ عَنِ الْقَذْفِ وَصِيَانَةَ النَّفْسِ مِنْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِحَدِّ الْقَذْف أَو تعزيز الْغِيبَةِ، قَائِمَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفِيدٌ إِبَاحَةَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ جَانِبِ

الْمَظْلُومِ فِي جَانِبِ ظَالِمِهِ وَمِنْهُ مَا فِي الْحَدِيثِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» أَيْ فَلِلْمَمْطُولِ أَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ مُمَاطِلٌ وَظَالِمٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» . وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً عَطْفٌ عَلَى لَا يُحِبُّ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ كُلِّهَا، عَلِيمٌ بِالْمَقَاصِدِ وَالْأُمُورِ كُلِّهَا، فَذَكَرَ «عَلِيمًا» بَعْدَ «سَمِيعًا» لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْعِلْمِ، تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَعْضِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ. وَبَعْدَ أَنْ نَهَى وَرَخَّصَ، نَدَبَ الْمُرَخَّصَ لَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ وَقَوْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً، فَإِبْدَاءُ الْخَيْرِ إِظْهَارُهُ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ أَوْ تُخْفُوهُ لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ أَنْ لَا يَظُنُّوا أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى إِبْدَاءِ الْخَيْرِ خَاصَّةً، كَقَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 271] . وَالْعَفْوُ عَنِ السُّوءِ بِالصَّفْحِ وَتَرْكِ الْمُجَازَاةِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لَهُ، وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: يَعْفُ عَنْكُمْ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُ الْخَيْرَ جَهْرًا وَخُفْيَةً وَعَفَوْتُمْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْأَخْذِ بِحَقِّكُمْ، لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا يُعْتَبَرُ مَقْدُورًا لِلْمَأْذُونِ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ وَعْدٌ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ فِي بَعْضِ مَا يَقْتَرِفُونَهُ جَزَاءً عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَعَنِ الْعَفْوِ عَمَّنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا فَذَكَرَ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ تَكْمِلَةً لِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ اسْتِكْمَالًا لِمُوجِبَاتِ الْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا. هَذَا مَا أَرَاهُ فِي مَعْنَى الْجَوَابِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جُمْلَةُ الْجَزَاءِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْعَفْوِ بِبَيَانِ أنّ فِيهِ تخلّفا بِالْكَمَالِ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَايَةُ الْكَمَالَاتِ. وَالتَّقْدِير: إِن تبدو خَيْرًا إِلَخْ تَكُونُوا مُتَخَلِّقِينَ بِصِفَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا قَوْلَهُ: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ وَلَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ:

[سورة النساء (4) : الآيات 150 إلى 152]

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إِلَّا إِذَا خَصَّصَ ذَلِكَ بِإِبْدَاءِ الْخَيْرِ لِمَنْ ظَلَمَهُمْ، وَإِخْفَائِهِ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ من قَطعك» . [150- 152] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 150 إِلَى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) عَادَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ إِلَى أَحْوَالِ مَنْ أَظْهَرُوا النِّوَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى صِفَاتِ الْآخَرِينَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَهُودُ خَاصَّةً لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَهُودًا وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجه الْخَيْر، وَمِنْ شَنَاعَةِ صَنِيعِهِمْ لِيُنَاسِبَ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَجَمَعَ الرُّسُلَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَفَرُوا بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ الرُّسُلَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْكُفَّارِ، أَوْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الِاثْنَيْنِ، أَوْ أَرَادَ بِالْإِضَافَةِ مَعْنَى الْجِنْسِ فَاسْتَوَى فِيهِ صِيغَةُ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذَمُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُمْ بِدُونِ تعْيين فريق، وَطَرِيق الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا أَن يعبّروا بِصِيغَة الْجُمُوعِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَرَّضُ بِهِ وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النِّسَاء: 54] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: 37]

يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: 44] وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ مُسْتَمِرٌّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا فِي الْمَاضِي ثُمَّ رَجَعُوا لَمَا كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالذَّمِّ. وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ: أَنَّهُمْ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ صِفَاتِهِ مِنَ التَّجْسِيمِ وَاتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْحُلُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ آمَنُوا بِالِاسْمِ لَا بِالْمُسَمَّى، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ كَفَرُوا بِالْمُسَمَّى، كَمَا إِذَا كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ فُلَانًا فَقُلْتَ لَهُ: صِفْهُ لِي، فَوَصَفَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ، تَقُولُ لَهُ: «أَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ» عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْحَوَادِثِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِإِلَهِيَّتِهِ الْحَقَّةِ، إِذْ مِنْهُمْ مَنْ جَسَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَلَّثَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَتِ الْإِرَادَةُ عَلَى الْمُحَاوَلَةِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبُ الْمَنَالِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يُحَاوِلُونَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ وَلَوْ بَلَغُوا إِلَيْهِ لَقَالَ: وَفَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَمَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ صِدْقَ بَعْضِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ، وَيَعْتَرِفُونَ بِصِدْقِ بَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ إِذْ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ فَأَبْعَدُوهُمْ مِنْهُ، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ الْأَمْرَ الْمُتَخَيَّلَ فِي نُفُوسِهِمْ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرِيدُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَحْبَابِ، فَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ، وَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ الْمُشَبَّهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُتَّصِلِينَ ذَمِيمَةٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: 285] ،

وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: 84] إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ، وَالْآيَةُ هَذِهِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ، وَمَآلُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ: لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الرُّسُلِ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ. وَإِضَافَةُ الْجَمْعِ إِلَى الضَّمِيرِ هُنَا لِلْعَهْدِ لَا لِلْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ. وَجُمْلَةُ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَاقِعَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِأَنَّهَا شَأْنٌ خاصّ من شؤونهم، إِذْ مَدْلُولُهَا قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَمَدْلُولُ يُرِيدُونَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ كُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ فُصِلَتْ لَكَانَ صَحِيحًا. وَمَعْنَى يَقُولُونَ نُؤْمِنُ الْخَ أَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَنَكْفُرُ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَعِيسَى وَنَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ ظَاهِرًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ رُسُلِهِ. وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالسَّبِيلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَبِيلَ النَّجَاةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ تَوَهُّمًا أَنَّ تِلْكَ حِيلَةٌ تُحَقِّقُ لَهُمُ السَّلَامَةَ عَلَى تَقْدِيرِ سَلَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَبِيلَ التَّنَصُّلِ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ، أَوْ سَبِيلًا بَيْنَ دِينَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُنَاسِبَانِ انْتِقَالَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ إِلَى النِّفَاقِ، فَكَأَنَّهُمَا تَهْيِئَةٌ لِلنِّفَاقِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ مُشَرِّكًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ الأول صلَة للَّذين، كَانَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ صِلَاتٍ لِذَلِكَ الْمَوْصُولِ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْصُولُ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّلَاتِ كُلِّهَا.

وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَاتِ فِيهَا بِمَعْنَى (أَوْ) وَجَعَلَ الْمَوْصُولَ شَامِلًا لِفِرَقٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَعَدَّدَتْ أَحْوَالُ كُفْرِهِمْ عَلَى تَوْزِيعِ الصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، فَجَعَلَ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ قَوْمًا أَثْبَتُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا النُّبُوءَاتِ كُلَّهَا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَسَكَتَ عَنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ أُولَئِكَ فَرِيقًا آخَرَ: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الْمُتَرَدِّدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتُوا عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى كُفْرٍ، بَلْ كَانُوا بَيْنَ الْحَالَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ [النِّسَاء: 143] . وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فَرِيقًا جَمَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ الْكُفْرُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرُ بِهَا نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ نَادِرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: 72] . وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَوْقِعُ الْإِشَارَةِ هُنَا لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ لِاسْتِحْضَارِهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءٌ بِمَا سَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَاقِبِ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ تَأْكِيدَ قَصْرِ صِفَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مَجَازِيٌّ بِتَنْزِيلِ كُفْرِ غَيْرِهِمْ فِي جَانِبِ كُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: 4] . وَمِثْلُ هَذَا الْقَصْرِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَقْصُورَةِ.

وَوَجْهُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ: أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحْوَالٍ عَدِيدَةٍ مِنَ الْكُفْرِ، وَعَلَى سَفَالَةٍ فِي الْخُلُقِ، أَوْ سَفَاهَةٍ فِي الرَّأْيِ بِمَجْمُوعِ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ من تِلْكَ الصَّلَاة، فَإِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا إِذَا انْفَرَدَتْ هِيَ كُفْرٌ، فَكَيْفَ بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ. وحَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ حُقَّهُمْ حَقًّا أَيُّهَا السَّامِعُ بِالِغِينَ النِّهَايَةَ فِي الْكُفْرِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ: (جِدًّا) . وَالتَّوْكِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَلَى مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، وَلَيْسَ هُوَ لِرَفْعِ الْمَجَازِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى النِّهَايَةِ لِأَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالتَّوْكِيدِ أَنْ يَصِيرَ الْقَصْرُ حَقِيقِيًّا لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَقَوْلُ بَعْضِ النُّحَاةِ، فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ: إِنَّهُ يُفِيدُ رَفْعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى الْغَالِبِ فِي مُفَادِ التَّأْكِيدِ. وأَعْتَدْنا مَعْنَاهُ هَيَّأْنَا وَقَدَّرْنَا، وَالتَّاءُ فِي أَعْتَدْنا بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: التَّاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى حِدَةٍ هُوَ غَيْرُ بِنَاءِ عَدَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَتُدَ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ عَدَّ أُدْغِمَتْ مِنْهُ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَقَدْ وَرَدَ الْبِنَاءَانِ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ وَفِي الْقُرْآنِ. وَجِيءَ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى آخِرِهَا لِمُقَابَلَةِ الْمُسِيئِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، وَالنِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَخَاصَّةً مَنْ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. فَهُمْ مَقْصُودُونَ ابْتِدَاءً لِمَا أَشْعَرَ بِهِ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ وَلِمَا اقْتَضَاهُ تَذْيِيلُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ غَفُورًا لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ، رَحِيمًا بِهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ وَبِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْقَوْلِ فِي مُقَابِلِهِ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [136] .

[سورة النساء (4) : الآيات 153 إلى 154]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُؤْتِيهِمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. [153، 154] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 153 إِلَى 154] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) لَمَّا ذَكَرَ مَعَاذِيرَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي إِنْكَارِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى وِفْقِ مَطَالِبِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمَجِيءُ الْمُضَارِعِ هُنَا: إِمَّا لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ فِي هَذَا السُّؤَالِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يَرَاهُمْ كَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] . وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ وَتَجَدُّدِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى بِأَنْ يَكُونُوا أَلَحُّوا فِي هَذَا السُّؤَالِ لِقَصْدِ الْإِعْنَاتِ، كَقَوْلِ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ: بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ أَيْ يُكَرِّرُ التَّوَسُّمَ. وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى. وَالسَّائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ، سَأَلُوا مُعْجِزَةً مِثْلَ مُعْجِزَةِ مُوسَى بِأَنْ يُنَزَّلَ

عَلَيْهِ مِثْلُ مَا أُنْزِلَتِ الْأَلْوَاحُ فِيهَا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ عَلَى مُوسَى، وَلَمْ يُرِيدُوا جَمِيعَ التَّوْرَاةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ كِتَابَ التَّوْرَاةِ لَمْ يُنَزَّلْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ. وَالْكِتَابُ هُنَا إِمَّا اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ كَمَا نَزَلَتْ أَلْوَاحُ مُوسَى، وَإِمَّا اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مُلْتَئِمَةٍ مِنْ أَوْرَاقٍ مَكْتُوبَةٍ، فَيَكُونُونَ قَدْ سَأَلُوا مُعْجِزَةً تُغَايِرُ مُعْجِزَةَ مُوسَى. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى فَاءُ الْفَصِيحَةِ دالّة على مقدّرة دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّعْجِيبُ، أَيْ فَلَا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ لِأَسْلَافِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ إِذْ سَأَلُوهُ مُعْجِزَةً أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَالَتِهِمْ بِحَالَةِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَخْلَاقِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ عَلَى أَحْوَالِ الْعَشَائِرِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَثِيرٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَةٌ عَلَى جَرَاءَتِهِمْ، وَإِظْهَارُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تَجِيءُ بِإِجَابَةِ مُقْتَرَحَاتِ الْأُمَمِ فِي طَلَبِ الْمُعْجِزَاتِ بَلْ تَأْتِي الْمُعْجِزَاتُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَحَدِّي الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْ أَجَابَ اللَّهُ الْمُقْتَرِحِينَ إِلَى مَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لَجَعَلَ رُسُلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَعْوِذِينَ وَأَصْحَابِ الْخَنْقَطَرَاتِ وَالسِّيمِيَاءِ، إِذْ يَتَلَقَّوْنَ مُقْتَرَحَاتِ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يَحُطُّ مِنْ مِقْدَارِ الرِّسَالَةِ. وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلْمَسِيحِ: نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً فَقَالَ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ» . وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 112، 115] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: 59] .

وَهُمْ لَمَّا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً مَا أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِاللَّهِ، وَلَا التَّنَعُّمَ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا عَجَبًا يَنْظُرُونَهُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، وَلَمْ يَقُولُوا: لَيْتَنَا نَرَى رَبَّنَا. وجَهْرَةً ضِدُّ خُفْيَةٍ، أَيْ عَلَنًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (أَرِنَا) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَرْفُوعِ فِي (أَرِنَا) : أَيْ حَالَ كَوْنِكَ مُجَاهِرًا لَنَا فِي رُؤْيَتِهِ غَيْرَ مُخْفٍ رُؤْيَتَهُ. وَاسْتَطْرَدَ هُنَا مَا لَحِقَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ سُؤَالِهِمْ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَقَالَ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [55] بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ إِرْهَابًا لَهُمْ وَزَجْرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِظُلْمِهِمْ. وَالظُّلْمُ هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى إِلَى أَنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً، وَلَيْسَ الظُّلْمُ لِمُجَرَّدِ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ مُوسَى قَدْ سَأَلَ مِثْلَ سُؤَالِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى: حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [143] . وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْدَعْهُمْ ذَلِكَ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ اتِّخَاذِهِمُ الْعَجَلَ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الْمُفِيدِ فِي عَطْفِهِ الْجُمَلَ مَعْنَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ. فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّا حُكِيَ قَبْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَآتَى مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ حُجَّةً وَاضِحَةً عَلَيْهِمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ، فَصَارَ يَزْجُرُهُمْ وَيُؤَنِّبُهُمْ. وَمِنْ سُلْطَانِهِ الْمُبِينِ أَنْ أَحْرَقَ لَهُمُ الْعِجْلَ الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا. ثُمَّ ذَكَرَ آيَاتٍ أُخْرَى أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَهِيَ: رَفْعُ الطُّورِ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ أَهْلِ أَرِيحَا، وَدُخُولِهِمْ بَابَهَا سُجَّدًا. وَالْبَابُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَابُ مَدِينَةِ أَرِيحَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَابُ الْمَمَرِّ بَيْنَ الْجِبَالِ وَنَحْوِهَا، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَجُلانِ مِنَ

الَّذِينَ يَخافُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [23] وَتَحْرِيمُ صَيْدِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ فِي السَّبْتِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا جَمِيعًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ، وَوَصْفُهُ بِالْغَلِيظِ. أَيِ الْقَوِيِّ، وَالْغِلَظُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَاسْتُعِيرَ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى وَكَنَّى بِهِ عَنْ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْغِلَظَ يَسْتَلْزِمُ الْقُوَّةَ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْمِيثَاقِ الصَّادِقِ بِالْعُهُودِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَكْثَرُهَا فِي آيِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِظْهَارُ تَأَصُّلِهِمْ فِي اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ، مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْهُمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: 155] . وَقَوْلُهُ: لَا تَعْدُوا قَرَأَهُ نَافِعٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، وَهِيَ لِوَرْشٍ عَنْهُ وَلِقَالُونَ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ عَنْهُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمَضْمُومَةِ- أَصْلُهُ: لَا تَعْتَدُوا، وَالِاعْتِدَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدْوِ، يُقَالُ: اعْتَدَى عَلَى فُلَانٍ، أَيْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتِ التَّاءُ قَرِيبَةً مِنْ مَخْرَجِ الدَّالِ وَوَقَعَتْ مُتَحَرِّكَةً وَقَبْلَهَا سَاكِنٌ، تَهَيَّأَ إِدْغَامُهَا، فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ إِدْغَامًا لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ جَازَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِظْهَارُهَا فَقَالُوا: تَعْتَدُوا وَتَعَدُّوا، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَ الدَّالِ، فَكَانَتْ غَيْرَ مَجْذُوبَةٍ إِلَى مَخْرَجِهِ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعْدَ الدَّالِ لَوَجَبَ إِدْغَامُهَا فِي نَحْوِ أَدَّانَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُونُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: «لَا تَعْدُوا» - بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ مِنَ الْعَدْوِ، وَهُوَ الْعُدْوَانُ، كَقَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [163] وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ قَالُونَ:- بِاخْتِلَاسِ الْفَتْحَةِ-، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ:- بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ-، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا، رَوَاهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، فِي «الْحُجَّةِ» : وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ يُنْكِرُونَ الْجَمْعَ بَين الساكنين إِذْ كَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا مُدْغَمًا وَلَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حَرْفَ لِينٍ، نَحْوَ دَابَّةٍ، يَقُولُونَ: الْمَدُّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، قَالَ: وَإِذَا جَازَ نَحْوُ دُوَيْبَّةٍ مَعَ نُقْصَانِ الْمَدِّ الَّذِي

[سورة النساء (4) : آية 155]

فِيهِ لَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي نَحْوِ: تَعْدُوا. لِأَنَّ مَا بَيْنَ حَرْفِ اللِّينِ وَغَيْرِهِ يَسِيرٌ، أَيْ مَعَ عَدَمِ تَعَذُّرِ النُّطْق بِهِ. [155] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 155] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: 154] وَالْبَاءُ لِلسَّبِيبَةِ جَارَّةٌ لِ نَقْضِهِمْ، وَ (وَمَا) مَزِيدَةٌ بَعْدَ الْبَاءِ لِتَوْكِيدِ التَّسَبُّبِ. وَحَرْفُ (مَا) الْمَزِيدُ بَعْدَ الْبَاءِ لَا يَكُفُّ الْبَاءَ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ وَكَذَلِكَ إِذَا زِيدَ (مَا) بَعْدَ (مِنْ) وَبَعْدَ (عَنْ) . وَأَمَّا إِذَا زِيدَ بَعْدَ كَافِ الْجَرِّ وَبَعْدَ رُبَّ فَإِنَّهُ يَكُفُّ الْحَرْفَ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ. ومتعلّق قَوْله فَبِما نَقْضِهِمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا، لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي مَذَاهِبِ الْهَوْلِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاء: 160] ، وَمَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرَدَاتٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا [النِّسَاء: 160] كَالْفَذْلَكَةِ الْجَامِعَةِ لِجَرَائِمِهِمُ الْمَعْدُودَةِ مِنْ قَبْلُ. وَلَا يَصْلُحُ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ بِ طَبَعَ لِأَنَّهُ وَقَعَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْطُوفَاتِ الطَّالِبَةِ لِلتَّعَلُّقِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «طَبَعَ» دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي موَاضعهَا. وتقدّم الْمُتَعَلِّقُ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ: وَهُوَ أَنْ لَيْسَ التَّحْرِيمُ إِلَّا لِأَجْلِ مَا صَنَعُوهُ، فَالْمَعْنَى: مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ إِلَّا بِسَبَبِ نَقْضِهِمْ، وَأَكَّدَ معنى الْحصْر والسّبب بِمَا الزَّائِدَةِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ حَصْرًا وَتَأْكِيدًا. وَقَوْلُهُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعَاطِيفِ. وَالطَّبْعُ: إِحْكَامُ الْغَلْقِ بِجَعْلِ طِينٍ وَنَحْوِهِ عَلَى سَدِّ الْمَغْلُوقِ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ مُسْتَخْرِجُ

[سورة النساء (4) : الآيات 156 إلى 158]

مَا فِيهِ إِلَّا بَعْدَ إِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَطْبُوعِ بِهِ، وَقَدْ يَسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ الْغَلْقِ بِسِمَةٍ تَتْرُكُ رَسْمًا فِي ذَلِكَ الْمَجْعُولِ، وَتُسَمَّى الْآلَةُ الْوَاسِمَةُ طَابَعًا- بِفَتْحِ الْبَاءِ- فَهُوَ يُرَادِفُ الْخَتْمَ. وَمَعْنَى بِكُفْرِهِمْ بِسَبَبِهِ، فَالْكُفْرُ الْمُتَزَايِدُ يَزِيدُ تَعَاصِيَ الْقُلُوبِ عَنْ تَلَقِّي الْإِرْشَادِ، وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: بِكُفْرِهِمْ كُفْرُهُمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْ عُمُومِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا، وَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ إِذِ الْإِيمَانُ لَا يَقْبَلُ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ، فَالْقَلِيلُ مِنَ الْإِيمَانِ عَدَمٌ، فَهُوَ كُفْرٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 88] . وَيجوز أَن يكون قِلَّةُ الْإِيمَانِ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ أَصْحَابِهِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. [156- 158] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 156 الى 158] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. عُطِفَ وَبِكُفْرِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: 155] وَلَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ [النِّسَاء: 155] وَأُعِيدَ مَعَ ذَلِكَ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي يُغْنِي عَنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ قَصْدًا لِلتَّأْكِيدِ، وَاعْتُبِرَ الْعَطْفُ لِأَجْلِ بُعْدِ مَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ لِأَمْرِ الْكُفْرِ، فَالْمُتَكَلِّمُ يَذْكُرُهُ وَيُعِيدُهُ: يَتَثَبَّتُ وَيُرِي أَنَّهُ لَا رِيبَةَ فِي إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّكْرِيرِ قَوْلُ لَبِيدٍ: فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَاِ

فَأَعَادَ التَّشْبِيهَ بِقَوْلِهِ: (كَدُخَانِ نَارٍ) لِيُحَقِّقَ مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» «تَكَرَّرَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُوسَى ثُمَّ بِعِيسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فَعُطِفَ بَعْضُ كُفْرِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» ، أَيْ فَالْكَفْرُ الثَّانِي اعْتُبِرَ مُخَالِفًا لِلَّذِي قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُوَيْفٍ الْقَوَافِيِّ: اللؤم أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ ... وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا إِذْ عَطَفَ قَوْلَهُ: (وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الثَّانِي قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمَا وَلَدَا) . وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرُ بَهَتَهُ إِذَا أَتَاهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يَتَرَقَّبُهُ وَلَا يَجِدُ لَهُ جَوَابًا، وَالَّذِي يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ بَهُوتٌ، وَجَمْعُهُ: بُهُتٌ وَبُهْتٌ. وَقَدْ زَيَّنَ الْيَهُودُ مَا شَاءُوا فِي الْإِفْكِ عَلَى مَرْيَمَ- عَلَيْهَا السَّلَامُ-. أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَمَحَلُّ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ: هُوَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَعُدُّوا هَذَا الْإِثْمَ فِي مَفَاخِرِ أَسْلَافِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْإِخْلَافِ بِالْعَهْدِ الْمُبِينِ فِي سَبِيلِ نَصْرِ الدِّينِ. وَالْمَسِيحُ كَانَ لَقَبًا لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسِيحِ فِي اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ بِمَعْنَى الْمَلِكِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [45] ، وَهُوَ لَقَبٌ قَصَدُوا مِنْهُ التَّهَكُّمَ، فَصَارَ لَقَبًا لَهُ بَيْنَهُمْ. وَقَلَبَ اللَّهُ قَصْدَهُمْ تَحْقِيرَهُ فَجَعَلَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ مُذَمَّمٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا، وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا. فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ (¬1) ¬

(¬1) عَن أبي هُرَيْرَة فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي بَاب مَا جَاءَ فِي أَسمَاء النَّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كتاب المناقب.

وَقَوْلُهُ: رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْحِكَايَةِ: فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّنَاء عَلَيْهِ وَالْإِيمَان إِلَى أَنَّ الَّذِينَ يَتَبَجَّحُونَ بِقَتْلِهِ أَحْرِيَاءُ بِمَا رَتَّبَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ نَصْبُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَحْكِيِّ: فوصفهم إيّاه مَقْصُود مِنْهُ التَّهَكُّمَ، كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] وَقَوْلِ أَهْلِ مَدْيَنَ لِشُعَيْبٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] فَيَكُونُ نَصْبُ «رَسُولِ اللَّهِ» عَلَى النَّعْتِ لِلْمَسِيحِ. وَقَوْلُهُ وَما قَتَلُوهُ الْخَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ خَبَرًا عَنْ نَفْيِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَاقْتَضَى الْحَالُ تَأْكِيدَهُ بِمُؤَكِّدَاتٍ قَوِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْقَوْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَى أَسْبَابِ لَعْنِهِمْ وَمُؤَاخَذَتِهِمْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ مُفِيدَةً ثُبُوتَ كَذِبِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمَلِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهُمْ، وَيَكُونُ تَجْرِيدُهُ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ: إِمَّا لِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارِ هَذَا الْخَبَرِ غَنِيًّا عَنِ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ تَرْكُ التَّأْكِيدِ تَخْرِيجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُتَلَقَّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الْعَالِمِ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ فَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُؤَكَّدَ. وَعَطَفَ وَما صَلَبُوهُ لِأَنَّ الصَّلْبَ قَدْ يَكُونُ دُونَ الْقَتْلِ، فَقَدْ كَانُوا رُبَّمَا صَلَبُوا الْجَانِيَ تَعْذِيبًا لَهُ ثُمَّ عَفَوْا عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَة: 33] . وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ: أَنَّ الصَّلْبَ هُوَ أَنْ يُوثَقَ الْمَعْدُودُ لِلْقَتْلِ عَلَى خَشَبَةٍ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّحَرُّكَ ثُمَّ يُطْعَنُ بِالرُّمْحِ أَوْ يُرْمَى بِسَهْمٍ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى صُلِبَ ثُمَّ طُعِنَ بِرُمْحٍ فِي قَلْبِهِ. وَجُمْلَةُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ اسْتِدْرَاكٌ، وَالْمُسْتَدْرَكُ هُوَ مَا أَفَادَهُ وَما قَتَلُوهُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ مَحْضٌ، فَبَيَّنَ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ أَصْلَ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَهِيَ شُبْهَةٌ أَوْهَمَتِ الْيَهُودَ

أَنَّهُمْ قَتَلُوا الْمَسِيحَ، وَهِيَ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا مِنْ وُقُوعِ قَتْلٍ وَصَلْبٍ عَلَى ذَاتٍ يَعْتَقِدُونَهَا ذَاتَ الْمَسِيحِ، وَبِهَذَا وَرَدَتِ الْآثَارُ فِي تَأْوِيلِ كَيْفِيَّةِ مَعْنَى الشَّبَهِ. وَقَوْلُهُ: شُبِّهَ لَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ زَعَمُوا قَتْلَهُمُ الْمَسِيحَ فِي زَمَانِهِمْ قَدْ شُبِّهَ لَهُمْ مُشَبَّهٌ بِالْمَسِيحِ فَقَتَلُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ الْمَسِيحَ مِنْ إِهَانَةِ الْقَتْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: شُبِّهَ فِعْلًا مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، مُشْتَقًّا مِنَ الشَّبَهِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الصُّورَةِ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ نَائِبَ فَاعل (شبّه) للدلالة فِعْلِ (شُبِّهَ) عَلَيْهِ فَالتَّقْدِيرُ: شُبِّهَ مُشَبَّهٌ فَيَكُونُ «لَهُمْ» نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ. وَضَمِيرُ (لَهُمْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَهُمْ يَهُودُ زَمَانِهِ، أَيْ وَقَعَتْ لَهُمُ الْمُشَابَهَةُ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عِنْدَ كَمَا تَقُولُ: حَصَلَ لِي ظَنٌّ بِكَذَا. وَالِاسْتِدْرَاكُ بَيِّنٌ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ شُبِّهَ لِلْيَهُودِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ خَبَرُ صَلْبِ الْمَسِيحِ، أَيِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: خُيِّلَ إِلَيْكَ، وَاخْتَلَطَ عَلَى فُلَانٍ. وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَبِيهٌ بِعِيسَى وَلَكِنَّ الْكَذِبَ فِي خَبَرِهِ شَبِيهٌ بِالصِّدْقِ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَامُ الْأَجَل: أَي لَيْسَ الْخَبَرُ كَذِبُهُ بِالصِّدْقِ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِتَضْلِيلِهِمْ، أَيْ أَنَّ كُبَرَاءَهُمُ اخْتَلَقُوهُ لَهُمْ لِيُبَرِّدُوا غَلِيلَهُمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَى عِيسَى إِذْ جَاءَ بِإِبْطَالِ ضَلَالَاتِهِمْ. أَوْ تَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى- عَلَى- لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: 7] . وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْ حَرْفٍ- عَلَى- تَضْمِينِ فِعْلِ شُبِّهَ مَعْنَى صُنِعَ، أَيْ صَنَعَ الْأَحْبَارُ هَذَا الْخَبَرَ لِأَجْلِ إِدْخَالِ الشُّبْهَةِ عَلَى عَامَّتِهِمْ. وَفِي الْأَخْبَارِ أَنَّ (يَهُوذَا الِاسْخِرْيُوطِيَّ) أَحَدُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ، وَكَانَ قَدْ ضَلَّ وَنَافَقَ، هُوَ الَّذِي وَشَى بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى، وَأَنَّهُ الَّذِي صُلِبَ، وَهَذَا أَصْلُهُ فِي إِنْجِيلِ بِرَنَابِي أَحَدُ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ، وَهَذَا يُلَائِمُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ. وَيُقَالُ: إِنَّ (بِيلَاطِسَ) ، وَالِيَ فِلَسْطِينَ، سُئِلَ فِي رُومَةَ عَنْ قَضِيَّةِ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَتَأَيَّدَ بِذَلِكَ اضْطِرَابُ

النَّاسِ فِي وُقُوعِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَلَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَقَ الْيَهُودُ خَبَرَهُ، وَهَذَا يُلَائِمُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي. وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَا صُلِبَ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَنَجَّاهُ مِنْ طَالِبِيهِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي رَفْعِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [55] . وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ خِلَافٍ فِي شَأْنِ قَتْلِ الْمَسِيحِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ: فَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ: قَتَلَتْهُ الْيَهُودُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَمْ يَقْتُلْهُ الْيَهُودُ، وَلَكِنْ قَتَلُوا يَهُوذَا الِاسْخِرْيُوطِيَّ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مَسْطُورٌ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابِي- الَّذِي تَعْتَبِرُهُ الْكَنِيسِيَّةُ الْيَوْمَ كِتَابًا مُحَرَّفًا- فَالْمَعْنَى أَنَّ مُعْظَمَ النَّصَارَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِهِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِصَلْبِهِ، بَلْ يُخَالِجُ أَنْفُسَهُمُ الشَّكُّ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِالْيَقِينِ، وَمَا هُوَ بِالْيَقِينِ، فَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ قَاطِعٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ. فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا: مَعْنَى الشَّكِّ، وَقَدْ أُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِصَاحِبِ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ. وَالْيَقِينُ: الْعِلْمُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ، فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالْمَصْدَرُ الْيَقَنُ بِالتَّحْرِيكِ، يُقَالُ: يَقِنَ كَفَرِحَ يَيْقَنُ يَقَنًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُقَالُ: أَيْقَنَ يُوقِنُ إِيقَانًا، وَهُوَ الشَّائِعُ.

وَقَوْلُهُ يَقِيناً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُصِبَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةٍ قَبْلَهُ: لِأَنَّ مَضْمُونَ: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَعْدَ قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ إِلَى قَوْلِهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ يَقِينًا مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْمَضْمُونِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي قَتَلُوهُ، أَيْ مَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ قَتْلَهُ، وَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ مَعًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، أَيْ: هُمْ فِي زَعْمِهِمْ قَتْلَهُ لَيْسُوا بِمُوقِنِينَ بِذَلِكَ لِلِاضْطِرَابِ الَّذِي حَصَلَ فِي شَخْصِهِ حِينَ إِمْسَاكِ مَنْ أَمْسَكُوهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْقَتْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: قَتَلَ الْخَمْرَ إِذَا مَزَجَهَا حَتَّى أَزَالَ قُوَّتَهَا، وَقَوْلِهِمْ: قَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، وَمِنْ شِعْرِ «الْحَمَاسَةِ» فِي بَابِ الْهِجَاءِ: يَرُوعُكَ مِنْ سَعِدِ ابْن عَمْرٍو جُسُومُهَا ... وَتَزْهَدُ فِيهَا حِينَ تَقْتُلُهَا خُبْرَا وَقَول الشَّاعِر: كَذَلِك تُخْبِرُ عَنْهَا الْعَالِمَاتُ بِهَا ... وَقَدْ قَتَلْتُ بِعِلْمِي ذَلِكُمْ يَقَنًا وَقَوْلِ الْآخَرِ: قَتَلَتْنِيَ الْأَيَّامُ حِينَ قَتَلْتُهَا ... خُبْرًا فَأُبْصِرُ قَاتِلًا مَقْتُولًا وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، فَيَكُونُ يَقِيناً عَلَى هَذَا تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ (قَتَلُوهُ) . وَلِذَلِكَ كُلِّهِ أَعْقَبَ بِالْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَيْ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ. وَالرَّفْعُ: إِبْعَادُهُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاوَاتِ، وَ (إِلَى) إِفَادَةُ الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ، أَيْ رَفَعَهُ اللَّهُ رَفْعَ قُرْبٍ وَزُلْفَى.

[سورة النساء (4) : آية 159]

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الرَّفْعِ، وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَقِيَ حَيًّا أَوْ أَمَاتَهُ اللَّهُ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [55] . وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ظَاهِرُ الْمَوْقِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَّ فَقَدْ حَقَّ لِعِزِّهِ أَنْ يُعِزَّ أَوْلِيَاءَهُ، وَلَمَّا كَانَ حَكِيمًا فَقَدْ أَتْقَنَ صُنْعَ هَذَا الرَّفْعِ فَجَعَلَهُ فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ، وَتَبْصِرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعُقُوبَةً ليهوذا الخائن. [159] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما قَتَلُوهُ [النِّسَاء: 157] . وَهَذَا الْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ أَمْرًا لَهُمْ، لِأَنَّ وُقُوعَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ يُنَادِي عَلَى الْخَبَرِيَّةِ. وإِنْ نَافِيَةٌ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَدٌ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ لعيسى: أيّ ليومننّ بِعِيسَى، وَالضَّمِيرُ فِي مَوْتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْكِتَابِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُطْلَقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ قَبْلُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ مَعَ شِدَّةِ كُفْرِهِمْ بِعِيسَى لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ يَنْكَشِفُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ قَبْلَ انْزِهَاقِ رُوحِهِ، وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ بِهَا عَلَى عِيسَى، إِذْ جَعَلَ أَعْدَاءَهُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا بِهِ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِمُشَاهَدَةِ أُمَّةٍ تَتْبَعُهُ. وَقِيلَ: كَذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ يَنْكَشِفُ لَهُ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ. وَعِنْدِي أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النِّسَاء: 158] ، وَيَعُمُّ قَوْلُهُ أَهْلِ الْكِتابِ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، حَيْثُ اسْتَوَوْا مَعَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِ وُقُوعِ الصَّلْبِ.

[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 162]

وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقْذِفُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ الصَّلْبِ، فَلَا يَزَالُ الشَّكُّ يُخَالِجُ قُلُوبَهُمْ وَيَقْوَى حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلْبِ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ تَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَذَّبَ أَخْبَارَهُمْ فَنَفَى الصَّلْبَ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَوْتِهِ عَائِدٌ إِلَى عِيسَى، أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَفَرَّعَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا تَفَارِيعَ: مِنْهَا أَنَّ مَوْتَهُ لَا يَقَعُ إِلَّا آخِرَ الدُّنْيَا لِيَتِمَّ إِيمَانُ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ إِيمَانَهُمْ مُسْتَقْبَلًا وَجَعَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مُسْتَقْبَلًا وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا لِيُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ: لِأَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ- عَلَى حَسَبِ هَذَا التَّأْوِيلِ- هُمُ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا جَمِيعُهُمْ. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ لَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِمْ فَأَعْرَضُوا، وَبِأَنَّ النَّصَارَى بَدَّلُوا، وَمَعْنَى الْآيَةِ مُفَصَّلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الْآيَاتِ فِي سُورَة الْعُقُود [109] . [160- 162] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 160 إِلَى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً

(162) إِنْ كَانَ مُتَعَلَّقَ قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: 155] مَحْذُوفًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَانَ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مُفَرَّعًا عَلَى مَجْمُوعِ جَرَائِمِهِمُ السَّالِفَةِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِظُلْمِهِمْ ظُلْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا عُدِّدَ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: 155] مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ الْخَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنْ جُمْلَةِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: 155] بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ مِنْهُ لِطُولِ الْفَصْلِ. وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِهِ أَنْ يَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ إِذْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: 155] لِيَقْوَى ارْتِبَاطُ الْكَلَامِ. وَأُتِيَ فِي جُمْلَةِ الْبَدَلِ بِلَفْظٍ جَامِعٍ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ: لِأَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ، وَالْكُفْرَ، وَقَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلَهُمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَقَوْلَهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا، وَقَوْلَهُمْ قَتَلْنَا عِيسَى: كُلُّ ذَلِكَ ظُلْمٌ. فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَبِذَلِكَ كُلِّهِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، لَكِنْ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الظُّلْمِ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ تَفَنُّنًا، وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: 155] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا آخَرَ أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ. وَتَنْكِيرُ (ظُلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَالْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ «فَبِظُلْمِهِمْ» ، حَتَّى تَأْتِيَ الضَّمَائِرُ مُتَتَابِعَةً مِنْ قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ إِلَى آخِرِهِ، إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ هادُوا لِأَجْلِ بُعْدِ الضَّمِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا: وَهِيَ فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: 155] . وَلِأَنَّ فِي الْمَوْصُولِ وَصْلَتِهِ مَا يَقْتَضِي التَّنَزُّهَ عَنِ الظُّلْمِ لَوْ كَانُوا كَمَا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 156] فَصُدُورُ الظُّلْمِ عَنِ الَّذِينَ هَادُوا مَحَلُّ اسْتِغْرَابٍ. وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ: أَنَّ تَحْرِيمَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ عِقَابًا لَهُمْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِد مَا يتقضي تَحْرِيمَ تَنَاوُلِهَا، وَإِلَّا لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الطَّيِّبَاتِ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما- إِلَى قَوْلِهِ- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [146] ، فَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى ظُلْمِهِمْ.

نَقَلَ الْفَخْرُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ قَالَ: «نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ، وَالتَّعْرِيضَ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزَاءً عَلَى الْجُرْمِ. قَالَ الْفَخْرُ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ» . وَهَذَا الْجَوَابُ مُصَادَرَةٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُقَوِّي الْإِشْكَالَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ حَقُّهَا أَنْ تُخَصَّ بِالْمُجْرِمِينَ ثُمَّ تُنْسَخَ. فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَحْرِيمِ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ أَنَّ مَا سَرَى فِي طِبَاعِهِمْ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ مِنَ الْقَسَاوَةِ صَارَ ذَلِكَ طَبْعًا فِي أَمْزِجَتِهِمْ فَاقْتَضَى أَنْ يُلَطِّفَ اللَّهُ طِبَاعَهُمْ بِتَحْرِيمِ مَأْكُولَاتٍ مِنْ طَبْعِهَا تَغْلِيظُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّحْرِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِقَابًا لِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَبَغَوْا ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ لِيَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِينَ سُوءُ ذِكْرٍ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25] ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا» . ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَعْرِضُ لِهَذَا التَّحْرِيمِ تَارَةً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى نِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ، لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي التَّرْكِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِنْ كَانَ مَصْدَرَ صَدَّ الْقَاصِرُ الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- فَالْمَعْنَى بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرَ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ التَّقْوَى، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا، مِنْ زَمَنِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ. أَمَّا بَعْدَ مُوسَى فَقَدْ صَدُّوا النَّاسَ كَثِيرًا، وَعَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَحَاوَلُوهُمْ عَلَى كَتْمِ الْمَوَاعِظِ، وَكَذَّبُوا عِيسَى، وَعَارَضُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّلُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، جَهْرًا أَوْ نِفَاقًا، الْبَقَاءَ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي

قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: 51] الْآيَاتِ. وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ كَثِيراً حَالًا مِنْهُ. وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذُوهُ مَنْ قَوْمِهِمْ خَاصَّةً وَيَسُوغُ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 23 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بربا رَبًّا قضّة أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا. لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا» . وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ 22 «إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا» وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَعَمُّ مِنَ الرِّبَا فَيَشْمَلُ الرَّشْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ عِنْدَهُمْ، وَأَخْذَهُمُ الْفِدَاءَ عَلَى الْأَسْرَى مِنْ قَوْمِهِمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إِلَخ ناشيء عَلَى مَا يُوهِمُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ ابْتِدَاءً من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: 153] مِنْ تَوَغُّلِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّى لَا يُرْجَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ لَيْسُوا كَمَا تُوُهِّمَ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ. وَالرَّاسِخُ حَقِيقَتُهُ الثَّابِتُ الْقَدَمِ فِي الْمَشْيِ، لَا يَتَزَلْزَلُ وَاسْتُعِيرَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ مِثْلُ الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تَغُرُّهُ الشَّبَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] . وَالرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ بَعِيدٌ عَنِ التَّكَلُّفِ وَعَنِ التَّعَنُّتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ حَاجِبٌ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ دَلَائِلَ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَسْأَلُونَهُمْ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ. وَعَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الرَّاسِخُونَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ لِلْعَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ يُؤْمِنُونَ، أَيْ جَمِيعُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَكَفَاهُمْ بِهِ آيَةً، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَلَا يُعَادُونَ رُسُلَ اللَّهِ تَعَصُّبًا وَحَمِيَّةً.

وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، مِثْلَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ. وَعَطْفُ الْمُقِيمِينَ بِالنَّصْبِ ثَبَتَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَقَرَأَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الأقطار دون نَكِير فَعَلِمْنَا أَنَّهُ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي عَطْفِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتٍ مَحَامِدَ، عَلَى أَمْثَالِهَا، فَيَجُوزُ فِي بَعْضِ الْمُعْطُوفَاتِ النَّصْبُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْمَدْحِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي النُّعُوتِ الْمُتَتَابِعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِدُونِ عَطْفٍ أَمْ بِعَطْفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ- إِلَى قَوْله- وَالصَّابِرِينَ [الْبَقَرَة: 177] . قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» «بَابُ مَا يَنْتَصِبُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فَابْتَدَأْتَهُ» . وَذَكَرَ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «فَلَوْ كَانَ كُلُّهُ رَفْعًا كَانَ جَيِّدًا» ، وَمِثْلُهُ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْبَقَرَة: 177] ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْخِرْنَقِ: لَا يبعدن قومِي الَّذِي هُمُو ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ النَّازِلُونَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الْعَرَبِ: بِرَفْعِ (النَّازِلُونَ) وَنَصْبِ (الطَّيِّبِينَ) ، لِتَكُونَ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجْرِي عَلَى قَصْدِ التَّفَنُّنِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْمُتَتَابِعَاتِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْطُوفَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْله: والصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [69] . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانٍ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ نَصْبَ الْمُقِيمِينَ خَطَأٌ، مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ وَقَدْ عَدَّتْ مِنَ الْخَطَأِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ [الْبَقَرَة: 177] وَقَوْلِهِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] . وَقَوله: الصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [69] . وَقَرَأَتْهَا عَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَالْمُقِيمُونَ- بِالرَّفْعِ-. وَلَا تُرَدُّ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ.

[سورة النساء (4) : الآيات 163 إلى 165]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ نَصْبَ الْمُقِيمِينَ وَنَحْوَهُ هُوَ مَظْهَرُ تَأْوِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ لِكُتَّابِ الْمَصَاحِفِ حِينَ أَتَمُّوهَا وَقَرَأَهَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ وَأَرَى لَحْنًا قَلِيلًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» . وَهَذِهِ أَوْهَامٌ وَأَخْبَارٌ لَمْ تَصِحَّ عَنِ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ. وَمِنَ الْبَعِيدِ جدّا أَن يخطىء كَاتِبُ الْمُصْحَفِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا فَيُفْرِدَهَا بِالْخَطَأِ دُونَ سَابِقَتِهَا أَوْ تَابِعَتِهَا، وَأَبْعَدَ مِنْهُ أَنْ يَجِيءَ الْخَطَأُ فِي طَائِفَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَهِيَ الَّتِي إِعْرَابُهَا بِالْحُرُوفِ النَّائِبَةِ عَنْ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ مِنَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ عَلَى حَدِّهِ. وَلَا أَحْسَبُ مَا رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ صَحِيحًا. وَقَدْ عَلِمْتُ وَجْهَ عَرَبِيَّتِهِ فِي الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَأَمَّا وَجْهُ عَرَبِيَّةِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَام فِي سُورَةِ طه [63] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ عُثْمَانَ هُوَ مَا وَقَعَ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ مِنْ نَحْوِ الْأَلِفَاتِ الْمَحْذُوفَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «وَهُمْ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَالْوَعْدُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاسِخِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَسُولِهِمْ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْرَيْنِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ بِالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنُؤْتِيهِمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. [163- 165] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 163 إِلَى 165] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً

(165) اسْتَأْنَفَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الرَّدَّ عَلَى سُؤَالِ الْيَهُودِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، بَعْدَ أَنْ حُمِقُوا فِي ذَلِكَ بِتَحْمِيقِ أَسْلَافِهِمْ: بِقَوْلِهِ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاء: 153] ، وَاسْتُطْرِدَتْ بَيْنَهُمَا جُمَلٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَسْلَافِهِمْ، وَمَا نَالَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ الْآنَ عَلَى بَيَانِ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بِدَعًا، فَإِنَّهُ شَأْنُ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ، فَلَمْ يُقْدَحْ فِي رِسَالَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَالتَّأْكِيدُ (بِإِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ أَوْ لِتَنْزِيلِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ كَيْفِيَّةَ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ غَيْرِ مُوسَى، إِذْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِمْ حَتَّى أَنْكَرُوا رِسَالَةَ رَسُولٍ لَمْ يُنْزَلْ إِلَيْهِ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَالْوَحْيُ إِفَادَةُ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ الْكَلَامِ، مِثْلَ الْإِشَارَةِ قَالَ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: 11] . وَقَالَ دَاوُود بْنُ جَرِيرٍ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيُ اللَّوَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تَشْبِيهٌ بِجِنْسِ الْوَحْيِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، فَإِنَّ الْوَحْيَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْوَحْيِ وَرَدَ بَيَانُهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سُؤَالِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ- بِخِلَافِ الْوَحْيِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ بَعْضٌ مِنَ الْأَنْوَاعِ، عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْهُ الْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ كِتَابٌ. وَعَدَّ اللَّهُ هُنَا جَمْعًا مِنَ النَّبِيئِينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ يُوحَى إِلَيْهِمْ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي مَعْنَى الرَّسُولِ وَالنَّبِيءِ. فَفِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَائِنَا لَا نَجِدُ تَفْرِقَةً، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيءٍ فَهُوَ رَسُولٌ لِأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِمَا لَا يَخْلُو مِنْ تَبْلِيغِهِ وَلَوْ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ. وَقَدْ يَكُونُ حَالُ الرَّسُول مُبْتَدأ بنبؤة ثُمَّ يَعْقُبُهَا إرْسَاله، فَتلك النُّبُوَّة تمهيد الرسَالَة كَمَا كَانَ أَمْرُ مَبْدَأِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ خَدِيجَةَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] . وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ، وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ مَعَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ، وَالنَّبِيءُ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُبَلِّغُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالدُّعَاءِ لِلْخَيْرِ، يَعْنِي بِدُونِ إِنْذَارٍ وَتَبْشِيرٍ. وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: الْأَنْبِيَاءُ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَعَدُّ الرُّسُلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَسُولًا . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ آدَمَ وَأَنَّ الْجَزَاءَ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، فَقَدْ قَرَّبَ ابْنَا آدَمَ قُرْبَانًا، وَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَة: 27] ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: 28، 29] . وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عَلَى يَدِ الْمُعْتَدِي وَيَنْتَصِفُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، فَإِنَّمَا كَانَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَانَتْ رِسَالَةً عَائِلِيَّةً. وَنُوحٌ هُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَمَكُ بْنُ مُتُوشَالِحَ بْنِ أَخْنُوخَ. وَيُسَمِّيهِ الْمِصْرِيُّونَ هُرْمُسَ، وَيُسَمِّيهِ الْعَرَبُ إِدْرِيسُ بْنُ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَنْوَشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ، حَسَبَ- قَوْلِ التَّوْرَاةِ-. وَفِي زَمَنِهِ وَقَعَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ. وَعَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَاتَ نُوحٌ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَتِسْعمِائَة سنة وَأَرْبع وَسَبْعِينَ سَنَةً عَلَى حَسَبِ حِسَابِ الْيَهُودِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ كِتَابِهِمْ. وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْخَلِيلُ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارِحَ- وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ آزَرَ- بْنَ نَاحُورَ بْنِ ساروغ بن أرغو بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالِحَ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وُلِدَ سَنَةَ 2893 قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فِي بَلَدِ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَمَاتَ فِي بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَهِيَ سُورِيَا، فِي حَبْرُونَ حَيْثُ مَدْفَنُهُ الْآنَ الْمَعْرُوفُ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ سَنَةَ 2718 قَبْلَ الْهِجْرَةِ.

وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْجَارِيَةِ الْمِصْرِيَّةِ هَاجَرَ. تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ 2686 قَبْلَ الْهِجْرَةِ تَقْرِيبًا. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ رَسُولًا إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ حَلَّ بَيْنَهُمْ مِنْ جُرْهُمَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَى أَبْنَائِهِ وَأَهْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مَرْيَم: 54] . وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سَارَةَ ابْنَةَ عَمِّهِ، تُوُفِّيَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ 2613، وَكَانَ إِسْحَاقُ نَبِيًّا مُؤَيِّدًا لِشَرْعِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيم وَلم يجىء بِشَرْعٍ. وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، الْمُلَقَّبُ بِإِسْرَائِيلَ. تُوُفِّيَ سَنَةَ 2586 قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَكَانَ يَعْقُوبُ نَبِيًّا مُؤَيِّدًا لِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَة: 132] وَلم يجىء بِشَرْعٍ جَدِيدٍ. وَالْأَسْبَاطُ هُمْ أَسْبَاطُ إِسْحَاقَ، أَيْ أَحْفَادُهُ، وَهُمْ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ ابْنًا: رُوبِينُ، وَشَمْعُونُ، وَجَادُ، وَيَهُوذَا، وَيَسَاكِرُ، وَزَبُولُونُ، وَيُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَمُنَسَّى، وَدَانٍ، وَأَشْيَرُ، وَثَفْتَالِي. فَأَمَّا يُوسُفُ فَكَانَ رَسُولًا لِقَوْمِهِ بِمِصْرَ. قَالَ تَعَالَى خطابا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُؤْمِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غَافِر: 34] . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْبَاطِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَائِمًا بِدَعْوَةِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي بَنِيهِ وَقَوْمِهِ. وَالْوَحْيُ إِلَى هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتٌ. وَعِيسَى هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وُلِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ 622. وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَهَا سَنَةَ 589. وَهُوَ رَسُولٌ بِشَرْعٍ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَدَامَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ. وَأَيوب هُوَ نبيء. قِيلَ: أَنَّهُ عَرَبِيُّ الْأَصْلِ مِنْ أَرْضِ عُوصٍ، فِي بِلَادِ أَدَوْمَ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ، وَقِيلَ: هُوَ أَيُّوبُ بْنُ نَاحُورَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوَضٌ، وَقِيلَ: هُوَ يُوبَابُ ابْنُ حَفِيدِ عِيسُو. وَقِيلَ: كَانَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ بِمِائَةِ سَنَةٍ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَقَبْلَ مُوسَى فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، أَيْ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْكِتَابَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَصْلُهُ مُؤَلَّفٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَقَلَهُ إِلَى الْعِبْرَانِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ، فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ فِي التَّارِيخِ أَنَّ أَيُّوبَ مِنْ قَبِيلَةٍ عَرَبِيَّةٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ. وَكَانَ أَيُّوبُ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكَانَ لَهُ صَاحِبٌ اسْمُهُ الْيَفَازُ الْيَمَانِيُّ هُوَ الَّذِي شَدَّ أَزْرَهُ فِي الصَّبْرِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنَّمَا مُنِعَ اسْمُهُ مِنَ الصَّرْفِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَرَبِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ اعْتَبَرَتِ الْقَبَائِلَ الْبَعِيدَةَ عَنْهَا عَجَمًا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُمْ عَرَبِيًّا، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ إِذْ سَكَنُوا الْحِجْرَ. وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ مَتَّى مِنْ سِبْطِ زَبُولُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى عَاصِمَةِ الْآشُورِيِّينَ، بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَهَارُونُ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ تُوُفِّيَ سَنَةَ 1972 قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ رَسُولٌ مَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ. كَانَ نَبِيًّا حَاكِمًا بِالتَّوْرَاةِ وَمَلِكًا عَظِيمًا. تُوُفِّيَ سَنَةَ 1597 قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَمِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ «الْجَامِعَةِ» وَكِتَابُ «الْأَمْثَالِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوَاعِظِ» ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يُقَلْ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهَا إِلَيْهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ مُوحَى بِمَعَانِيهَا دُونَ لَفْظِهَا. وَدَاوُدُ أَبُو سُلَيْمَانَ هُوَ دَاوُدُ بْنُ يَسِي، تُوُفِّيَ سَنَةَ 1626 قَبْلَ الْهِجْرَةِ، بَعَثَهُ اللَّهُ لِنَصْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالُ، كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَرَنَّمُونَ بِفُصُولِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالزَّبُورِ. وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ مِثْلُ قَبُولٍ. وَيُقَالُ فِيهِ: زُبُورٌ- بِضَمِّ الزَّايِ- أَيْ مَصْدَرًا مِثْلَ الشُّكُورِ، وَمَعْنَاهُ الْكِتَابَةُ وَيُسَمَّى الْمَكْتُوبُ زَبُورًا فَيُجْمَعُ عَلَى الزُّبُرِ، قَالَ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [آل عمرَان: 184] . وَقَدْ صَارَ

عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى كِتَابِ دَاوُدَ النَّبِيءِ، وَهُوَ أَحَدُ أَسْفَارِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَ الْيَهُودِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً عَلَى أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَلَمْ يُعْطَفِ اسْمُ دَاوُدَ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّبُورَ مُوحًى بِأَنْ يَكُونَ كِتَابًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَبُوراً- بِفَتْحِ الزَّايِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الزَّايِ-. وَقَوْلُهُ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يَعْنِي فِي آيِ الْقُرْآنِ مِثْلَ: هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبَ، وَزَكَرِيَّاءَ، وَيَحْيَى، وَإِلْيَاسَ، وَالْيَسَعَ، وَلُوطٍ، وَتُبَّعٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ لَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ فِي السُّنَّةِ: مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيءِ أَصْحَابِ الرَّسِّ، وَمِثْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ عِنْدَ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْحِكْمَةِ. قَالَ السَّهْرَوَرْدِيُّ فِي «حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ» : «مِنْهُمْ أَهْلُ السِّفَارَةِ» . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَتْهُ السُّنَّةُ: مِثْلُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ اشْتُهِرُوا عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُحَاجَّتُهُمْ. وَإِنَّمَا تَرَكَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ كَثِيرٍ مِنَ الرُّسُلِ لِلِاكْتِفَاءِ بِمَنْ قَصَّهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ هُمْ أَعْظَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ قَصَصًا ذَاتَ عِبَرٍ. وَقَوْلُهُ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً غُيِّرَ الْأُسْلُوبُ فَعُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ إِلَى ذِكْرِ فِعْلٍ آخَرَ، لِأَنَّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَحْيِ مَزِيدَ أَهَمِّيَّةٍ، وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَزِيَّةِ لَيْسَ إِنْزَالَ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِبْرَةٌ إِلَّا بِإِنْزَالِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ حَسَبَ اقْتِرَاحِهِمْ، فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا مَا عَدَا الْكَلِمَاتِ الْعَشْرِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْأَلْوَاحِ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عِنْدَنَا، وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِبْلَاغِ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ تَوَاتُرًا ثَبَتَ

عِنْدَ جَمِيعِ الْمِلِّيِّينَ، فَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ لَا تَدُلُّ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ لَهُ إِبْلَاغُ مُرَادِهِ النَّاسَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِدَ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ يَتْرُكُهَا وَشَأْنَهَا، فَلَا يَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ بِحَمْلِهَا عَلَى ارْتِكَابِ حَسَنِ الْأَفْعَالِ وَتَجَنُّبِ قَبَائِحِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَلَقَ الْعَجْمَاوَاتِ فَمَا أَمَرَهَا وَلَا نَهَى، فَلَوْ تَرَكَ النَّاسَ فَوْضَى كالحيوان لما ستحال ذَلِكَ. وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ حَمْلَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى شَيْءٍ يُرِيدُهُ فَطَرَهَا عَلَى ذَلِكَ فَانْسَاقَتْ إِلَيْهِ بِجِبِلَّاتِهَا، كَمَا فَطَرَ النَّحْلَ عَلَى إِنْتَاجِ الْعَسَلِ، وَالشَّجَرِ عَلَى الْإِثْمَارِ. وَلَوْ شَاءَ لَحَمَلَ النَّاسَ أَيْضًا عَلَى جِبِلَّةٍ لَا يَعْدُونَهَا، غَيْرَ أَنَّنَا إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَالِمٌ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ، وَالْعِلْمُ يَقْتَضِي انْكِشَافَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ إِذْ يَعْلَمُ حَسَنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا، يُرِيدُ حُصُولَ الْمَنَافِعِ وَانْتِفَاءَ الْمَضَارِّ، وَيَرْضَى بِالْأُولَى، وَيَكْرَهُ الثَّانِيَةَ، وَإِذِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ أَنْ جَعَلَ الْبَشَرَ قَابِلًا لِلتَّعَلُّمِ وَالصَّلَاحِ، وَجَعَلَ عُقُولَ الْبَشَرِ صَالِحَةً لِبُلُوغِ غَايَاتِ الْخَيْرِ، وَغَايَاتِ الشَّرِّ، وَالتَّفَنُّنِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَبْلُغُ فِيمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَى غَايَةٍ فُطِرَ عَلَيْهَا لَا يَعْدُوهَا، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ طُغْيَانُ الشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ بِعَمَلِ فَرِيقِ الْأَشْرَارِ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يَرْضَاهُ، وَتَرْكِ الشَّرِّ الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَحَمْلُهُمْ عَلَى هَذَا قَدْ يَحْصُلُ بِخَلْقِ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَجَبْلِهِمْ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، فَيَكُونُونَ دُعَاةً لِلْبَشَرِ، لَكِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ اقْتَضَى أَنْ يَخْلُقَ الصَّالِحِينَ الْقَابِلِينَ لِلْخَيْرِ، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى بُلُوغِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ بِإِرْشَادِهِ وَهَدْيِهِ، فَخَلَقَ النُّفُوسَ الْقَابِلَةَ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَأَمَدَّهَا بِالْإِرْشَادِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِهِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُ بِالْوَحْيِ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: 124] فَأَثْبَتَ رِسَالَةً وَتَهْيِئَةَ الْمُرْسَلِ لِقَبُولِهَا وَمِنْ هُنَا ثَبَتَتْ صِفَةُ الْكَلَامِ. فَعَلِمْنَا بِأَخْبَارِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنَ الْبَشَرِ الصَّلَاحَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بَلَغَ إِلَى الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ، كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بَعْضَ أَعْمَالِ الْبَشَرِ وَلَا يَرْضَى بَعْضَهَا وَأَنَّ ذَلِكَ يسمّى كلَاما نفسيا، وَهُوَ أَزَلِيٌّ. ثُمَّ إِنَّ حَقِيقَةَ صِفَةِ الْكَلَامِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، أَوْ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الصِّفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْإِرْشَادِ فَأَرْشَدَهُمْ، أَوْ أَرَادَ هُدَى النَّاسِ فَأَرْشَدَهُمْ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي مِنْهَا الرِّضَا وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْبَشَرِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ، فَثَبَتَتْ صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هِيَ صِفَةُ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. أَمَّا تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ عِبَادِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ فَهُوَ إِيجَادُ مَا يَعْرِفُ مِنْهُ الْمَلَكُ أَوِ الرَّسُولُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى أَوْ يُخْبِرُ. فَالتَّكْلِيمُ تَعَلُّقٌ لِصِفَةِ الْكَلَامِ بِالْمُخَاطَبِ عَلَى جَعْلِ الْكَلَامِ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِإِيصَالِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، أَوْ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِإِبْلَاغِ الْمُرَادِ إِلَى الْمُخَاطَبِ. فَالْأَشَاعِرَةُ قَالُوا: تَكْلِيمُ اللَّهِ عَبْدَهُ هُوَ أَنْ يَخْلُقَ لِلْعَبْدِ إِدْرَاكًا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ يَتَحَصَّلُ بِهِ الْعِلْمَ بِكَلَامِ اللَّهِ دُونَ حُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ. وَقَدْ وَرَدَ تَمْثِيلُهُ بِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ مِثْلَ الرَّعْدِ عَلِمَ مِنْهُ مَدْلُولَ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ. قُلْتُ: وَقَدْ مَثَّلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ «الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ لِلرَّسُولِ أَوِ الْمَلَكِ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا بَلْ هُوَ عِلْمٌ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ سَمْعِهِ يَتَّصِلُ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ مِنْ تَعَلُّقَاتِ صِفَةِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالْمُكَلِّمِ فِيمَا لَا يَزَالُ، فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ حَادِثٌ لَا مَحَالَةَ كَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَخْلُقُ اللَّهُ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا بِلُغَةِ الرَّسُولِ فَيَسْمَعُهَا الرَّسُولُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِعِلْمٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ، يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، فَهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِمِثْلِ مَا نُفَسِّرُ بِهِ نَحْنُ نُزُولَ الْقُرْآنِ فَإِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْإِسْنَادِ، عَلَى قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ فِي الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ تَتَّصِفُ بِهَا الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ. وَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ غَيْرُ الْوَحْيِ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ، وَغَيْرُ التَّبْلِيغِ الَّذِي يَكُونُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] .

أَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الْوَارِدُ لِلرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ وبالتّوراة وَالْإِنْجِيل وَبِالزَّبُورِ: فَتِلْكَ أَلْفَاظٌ وَحُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يُعْلِمُهَا اللَّهُ لِلْمَلَكِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا نَعْلَمُهَا، يَعْلَمُ بِهَا الْمَلَكُ أَنَّ اللَّهَ يَدُلُّ، بِالْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُلْقَاةِ لِلْمَلَكِ، عَلَى مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَيُلْقِيهَا الْمَلَكُ عَلَى الرَّسُولِ كَمَا هِيَ قَالَ تَعَالَى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ [الشورى: 51] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 193- 195] . وَهَذَا لَا يَمْتَرِي فِي حُدُوثِهِ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ فِي الدِّينِ. وَلَكِنْ أَمْسَكَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِحُدُوثِهِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا، فِي مَجَالِسِ الْمُنَاظَرَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا الْعَامَّةُ، أَوْ ظُلْمَةُ الْمُكَابَرَةِ، وَالتَّحَفُّزُ إِلَى النَّبْزِ وَالْأَذَى: دَفْعًا لِلْإِيهَامِ، وَإِبْقَاءً عَلَى النِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَنَصُّلًا من غوغاء الطَّعَام، فَرَحِمَ اللَّهُ نُفُوسًا فَتَنَتْ، وَأَجْسَادًا أَوْجَعَتْ، وَأَفْوَاهًا سَكَتَتْ، وَالْخَيْرَ أَرَادُوا، سَوَاءً اقْتَصَدُوا أَمْ زَادُوا. وَاللَّهُ حَسِيبُ الَّذِينَ أَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَجَمَعُوا، وَأَغْرُوا بِهِمْ وَبِئْسَ مَا صَنَعُوا. وَقَوْلُهُ تَكْلِيماً مَصْدَرٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَالتَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَرْجِعُ إِلَى تَأْكِيدِ النِّسْبَةِ وَتَحْقِيقِهَا مِثْلَ (قَدْ) وَ (إِنَّ) ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَتِ الْعَرَبُ بِالْمَصْدَرِ أَفْعَالًا لَمْ تُسْتَعْمَلْ إِلَّا مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُطَهِّرُهُمُ الطَّهَارَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، أَيِ الْكَمَالَ النَّفْسِيَّ، فَلَمْ يُفِدِ التَّأْكِيدُ رَفْعَ الْمَجَازِ. وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ تَذُمُّ زَوْجَهَا رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ: بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدُهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ وَلَيْسَ الْعَجِيجُ إِلَّا مَجَازًا، فَالْمَصْدَرُ يُؤَكِّدُ، أَيْ يُحَقِّقُ حُصُول الْفِعْل الموكّد عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى قَبْلَ التَّأْكِيدِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: تَكْلِيماً هُنَا: أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ بِكَلَامٍ، أَوْ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ صُدُورِ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ جَانِبِ اللَّهِ فَغَرَضٌ آخَرُ هُوَ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ بَيْنَ الْفِرَقِ، وَلِذَلِكَ

فَاحْتِجَاجُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ الْمَازِرِيُّ قَالَ فِي «شَرْحِ التَّلْقِينِ» : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى مُبَاشَرَةً بَلْ بِوَاسِطَةِ خَلْقِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونِسِيَّ، شَيْخَ ابْنِ عَرَفَةَ، رَدَّهُ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدِّثِ عَنْهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا يَؤُولُ إِلَى تَأْيِيدِ رَدِّ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. وَقَوْلُهُ: رُسُلًا حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ رُسُلًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهِيَ حَالٌ مُوَطِّئَةٌ لِصِفَتِهَا، أَعْنِي مُبَشِّرِينَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَال. وَقَوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَسُوقٌ لِبَيَانِ صِحَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ هُبُوطِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] . فموقع قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ بِحِكْمَةٍ مِنَ الحكم فِي بعثته الرُّسُلَ. وَالْحُجَّةُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي وَحَقِّيَّةِ الْمُعْتَذِرِ، فَهِيَ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ أَوِ التَّقْصِيرِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْعُذْرُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُوجِبُ التَّنَصُّلَ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعِقَابِ. فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِقَطْعِ عُذْرِ الْبَشَرِ إِذَا سُئِلُوا عَنْ جَرَائِمِ أَعْمَالِهِمْ، وَاسْتَحَقُّوا غَضَبَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لِلنَّاسِ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ حُجَّةً إِلَى اللَّهِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْقَصَص: 47] . وَأَشْعَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ مَا هُوَ بِحَيْثُ يُغْضِبُ اللَّهَ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَدُلُّ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ عَلَى قُبْحِهَا لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالْأَضْرَارِ الْبَيِّنَةِ. وَوَجْهُ الْإِشْعَارِ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تُقَابِلُ مُحَاوَلَةَ عَمَلٍ مَا، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِ الْحُجَّةِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ حِينَ بَعَثَ الرُّسُلَ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّتَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَطْعَ الْحُجَّةِ عِلَّةً غَائِيَّةً لِلتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ: إِذِ التَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُبَيِّنَانِ عَوَاقِبَ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَلِّلْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا يُسْخِطُهُ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ مُلْجِئَةٌ جَمِيعَ الْفِرَقِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذُّنُوبُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الِاعْتِقَادِ، وَالرَّاجِعَةُ إِلَى الْعَمَلِ، وَفِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ. فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ عِنْدَنَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْسِلْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْعَذَابِ مُجَرَّدَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْخَالِقِيَّةُ إِذْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَكَانَتْ عَدْلًا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ. فَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ تُتَرْجَمُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ طَرِيقَةُ الْأَشْعَرِيِّ، فَعَمَّمُوا وَقَالُوا: لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى تَرْكٍ أَوْ فِعْلٍ إِلَّا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ حَتَّى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا: مِثْلِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] وَبِالْإِجْمَاعِ. وَفِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ نَظَرٌ آخَرُ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ، وَهِيَ ظَوَاهِرُ، عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ نَظَرٌ ثَالِثٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكَاثَرَتْ كَثْرَةً أَبْلَغَتْهَا إِلَى مَرْتَبَةِ الْقَطْعِ، وَهَذَا أَيْضًا مَجَالٌ لِلنَّظَرِ، وَهُمْ مُلْجَئُونَ إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِمُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ فِي الْآيَةِ كُلٌّ إِفْرَادِيٌّ، صَادِقٌ بِالرَّسُولِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّعْوَةِ. فَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى جُمْلَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ تَقَرَّرَ مِنْ دَعَوَاتِهِمْ عِنْدَ الْبَشَرِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِلَى فُرُوعِ الشَّرَائِعِ، فَهِيَ تَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَخْتَصُّونَ بِأُمَمٍ مَعْرُوفَةٍ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أثبتوا الْحسن والقبح الذَّاتِيَّيْنِ فِي حَالَةِ عَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ فَقَالُوا: إِنَّ الْعَقْلَ يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَحُرْمَةُ كَثِيرٍ، لَا سِيَّمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ دَافِعَةٌ لِلضُّرِّ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ الضُّرُّ الْأُخْرَوِيُّ، مِنْ لِحَاقِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَخَوْفِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفِرَقِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْمُحَارِبَاتِ، وَهُوَ ضُرٌّ دُنْيَوِيٌّ، وَكُلُّ مَا يَدْفَعُ الضُّرَّ الْمَظْنُونَ أَوِ الْمَشْكُوكَ وَاجِبٌ عَقْلًا،

كَمَنْ أَرَادَ سُلُوكَ طَرِيقٍ فَأُخْبِرَ بِأَنَّ فِيهِ سَبُعًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَوَقَّفَ وَيَبْحَثَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَسْلُكُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي مُعْجِزَةِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثُبُوتِ الشَّرَائِعِ. فَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي النَّظَرُ فِيهَا مُوَصِّلٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالرُّسُلُ فِي أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، أَيْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. قُلْتُ: الرُّسُلُ مُنَبِّهُونَ عَنِ الْغَفْلَةِ وَبَاعِثُونَ عَلَى النَّظَرِ مَعَ تَبْلِيغِ مَا حَمَلُوهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ فَكَانَ إِرْسَالُهُمْ إِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَتَتْمِيمًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ» . يَعْنِي أَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لَا عَدْلٌ، وَلَوْ لَمْ يَبْعَثْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْقَبَائِحِ عَدْلًا، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ إِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي أَصْلِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي زِيَادَةِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: رَبَّنَا لِمَ لَمْ تُرْشِدْنَا إِلَى مَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِنَا فِي مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ وَقَصَرْتَنَا عَلَى مُجَرَّدِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، حِينَ اهْتَدَيْنَا لِأَصْلِ التَّوْحِيدِ بِعُقُولِنَا. وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ فِيمَا عَدَا الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ إِفْحَامِ الرُّسُلِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ رَآهُ مَبْنَى أُصُولِ الدِّينِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي «التَّوْضِيحِ» «أَيْ يَكُونُ الْفِعْلُ صِفَةً يُحْمَدُ فَاعِلُ الْفِعْلِ وَيُثَابُ لِأَجْلِهَا أَوْ يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ لِأَجْلِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيءِ إِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْعِ يُلْزِمُ الدَّوْرَ» وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهَا تُعَرِّفُ بِالشَّرْعِ أَيْضًا. وَقَدْ ضَايَقَ الْمُعْتَزِلَةُ الْأَشَاعِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالُوا: لَوْ لَمْ تَجِبِ الْمَعْرِفَةُ إِلَّا بِالشَّرْعِ لَلَزِمَ إِفْحَامُ الرُّسُلِ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْبَعْثَةِ فَائِدَةٌ. وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ لِأَحَدٍ: انْظُرْ فِي مُعْجِزَتِي حَتَّى يَظْهَرَ صِدْقِي لَدَيْكَ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ، لِأَنَّ تَرْكَ غَيْرَ الْوَاجِبِ جَائِزٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيَّ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدِي الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ مَا دُمْتُ لَمْ أَنْظُرْ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ. وَظَاهَرَهُمُ الْمَاتِرِيدِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.

وَلَمْ أَرَ لِلْأَشَاعِرَةِ جَوَابًا مُقْنِعًا، سِوَى أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» أَجَابَ: بِأَنَّ هَذَا مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّأَمُّلِ فِي الْمُعْجِزَةِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ لَا مَحَالَةَ، فَلِمَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَتَأَمَّلُ فِي الْمُعْجِزَةِ مَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ عَقْلًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيَّ عَقْلًا مَا لَمْ أَنْظُرْ، لِأَنَّهُ وُجُوبٌ نَظَرِيٌّ، وَالنَّظَرِيُّ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْتِيبِ مُقَدِّمَاتٍ، فَأَنَا لَا أُرَتِّبُهَا. وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ جَمِيعُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ مِثْلُ الْبَيْضَاوِيّ والعضد والتفتازانيّ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «الشَّامِلِ» : إِنَّهُ اعْتِرَافٌ بِلُزُومِ الْإِفْحَامِ فَلَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ بَلْ يُعَمِّمُهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَلَمْ يَحْصُلْ دَفْعُ الْإِشْكَالِ وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ رَدٌّ مُتَمَكِّنٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنْ يُسْقِطَ اسْتِدْلَالَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ بِتَمَحُّضِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ مَطْلُوبُنَا. وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: بِالْمَنْعِ، وَهُوَ أَنْ نَمْنَعَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ سَمَاعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ مُتَوَقِّفًا عَلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ يَلْزَمُ إِفْحَامَ الرَّسُولِ، بَلْ نَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَبَتَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي تَعَاقَبَ وُرُودُهَا بَيْنَ الْبَشَرِ، بِحَيْثُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالْمَدَنِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ بِأَنَّ دُعَاةً أَتَوْا إِلَى النَّاسِ فِي عُصُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَدَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ: كُلٌّ يَقُولُ إِنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَاسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ أَنَّ هُنَالِكَ إِيمَانًا وَكُفْرًا، وَنَجَاةً وَارْتِبَاقًا، اسْتِقْرَارًا لَا يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ سَبِيلًا إِلَى دَفْعِهِ، فَإِذَا دَعَا الرَّسُولُ النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ حَضَرَتْ فِي نَفْسِ الْمَدْعُوِّ السَّامِعِ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمَاضِيَةُ وَالْمُحَاوَرَاتُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ وُجُوبًا اضْطِرَارِيًّا اسْتِمَاعُهُ وَالنَّظَرُ فِي الْأَمْرِ الْمُقَرَّرِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَلِذَلِكَ آخَذَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ بِالْإِشْرَاكِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلِذَلِكَ فَلَوْ قَدَّرْنَا أَحَدًا لَمْ يُخَالِطْ جَمَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ شُعُورٌ بِأَنَّ النَّاسَ آمَنُوا وَكَفَرُوا وَأَثْبَتُوا وَعَطَّلُوا، لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِصْغَاءُ إِلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ ذَلِكَ

الِانْسِيَاقَ الضَّرُورِيَّ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْوُجُوبُ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، وَلَا عَقْلِيٍّ نَظَرِيٍّ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهَا فَلَا عَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَعَمُّدِ مُخَالَفَتِهَا. وَثَانِي الْجَوَابَيْنِ: بِالتَّسْلِيمِ، غَيْرَ أَنَّ مَا وَقَرَ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنِ اسْتِطْلَاعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَخْبَارِ الْجَدِيدَةِ، وَالْإِصْغَاءِ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ، أَمْرٌ يَحْمِلُ كُلَّ مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ إِلَى الدِّينِ عَلَى أَنْ يَسْتَمِعَ لِكَلَامِهِ، وَيَتَلَقَّى دَعْوَتَهُ وَتَحَدِّيَهُ وَمُعْجِزَتَهُ، فَلَا يَشْعُرُ إِلَّا وَقَدْ سَلَكَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى نَفْسِ الْمَدْعُوِّ، فَحَرَّكَتْ فِيهِ دَاعِيَةَ النَّظَرِ، فَهُوَ يَنْجَذِبُ إِلَى تَلَقِّي الدَّعْوَةِ، رُوَيْدًا رُوَيْدًا، حَتَّى يَجِدَ نَفْسَهُ قَدْ وَعَاهَا وَعَلِمَهَا عِلْمًا لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَا أَنْظُرُ الْمُعْجِزَةَ، أَوْ لَا أُصْغِي إِلَى الدَّعْوَةِ. فَإِنْ هُوَ أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَارَ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَكَانَ مُؤَاخَذًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَحَدًا مَرَّ بِرَسُولٍ يَدْعُو فَشَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ تَعَرُّفِ أَمْرِهِ وَالْإِصْغَاءِ لِكَلَامِهِ وَالنَّظَرِ فِي أَعْمَالِهِ، لَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا، وَأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ وَأَمْثَالَهُ إِذَا أَفْحَمَ الرَّسُولَ لَا تَتَعَطَّلُ الرِّسَالَةُ، وَلَكِنَّهُ خَسِرَ هَدْيَهُ، وَسَفَّهَ نَفْسَهُ. وَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا أَنَّ مَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ الرَّسُولِ فَجَعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَأَعْرَضَ هَارِبًا حِينَئِذٍ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وُجُوبُ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ هَذَا مَا صَنَعَ صُنْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ لِتَوَجُّهِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَ فَعَصَى، وَكَفَى بِهَذَا شُعُورًا مِنْهُ بِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ- أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ- لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: 7] . وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ الرُّسُلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَهُمْ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا حَتَّى تَسِيرَ مِسْرَى الْأَمْثَالِ. وَمُنَاسَبَةُ التَّذْيِيلِ بِالْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: عَزِيزاً حَكِيماً: أَمَّا بِوَصْفِ الْحَكِيمِ فَظَاهِرَةٌ،

[سورة النساء (4) : آية 166]

لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا دَلِيلُ حِكْمَتِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ فَلِأَنَّ الْعَزِيزَ يُنَاسِبُ عِزَّتَهُ أَنْ يَكُونَ غَالِبًا مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ فَهُوَ غَالِبٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْبُودِيَّةِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَغَالِبٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْقُولِيَّةِ إِذْ شَاءَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ عَبِيدَهُ إِلَّا بَعْدَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ. وَتَأْخِيرُ وَصْفِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ إِجْرَاءَ عِزَّتِهِ عَلَى هَذَا التَّمَامِ هُوَ أَيْضًا مِنْ ضُرُوبِ الْحِكْمَة الباهرة. [166] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 166] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَعْنًى أَثَارَهُ الْكَلَامُ: لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: 153] مَسُوقٌ مَسَاقَ بَيَانِ تَعَنُّتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَشْهَدُوا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ مِنَ الشَّهَادَةِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. فَإِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَشْهَدْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكِنَّ اللَّهَ شَهِدَ وَشَهَادَةُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ شَهَادَتِهِمْ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] ، أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ إِخْبَارٌ لِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ، وَتَكْذِيبِ مُخْبِرٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْخَبَرِ الْمُحَقِّقِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُهُ الشَّكُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [18] . فَالشَّهَادَةُ فِي قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ أُطْلِقَتْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَضَمَّنَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبَ مُعَانَدِيهِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ هُوَ غَيْرُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: 18] فَإِنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَعُطِفَ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَهَادَةِ اللَّهِ: لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِتَعَدُّدِ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ

[سورة النساء (4) : آية 167]

حَقِيقَةٌ. وَإِظْهَارُ فِعْلِ يَشْهَدُونَ مَعَ وُجُودِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِلتَّأْكِيدِ. وَحَرْفُ (لَكِنْ) بِسُكُونِ النُّونِ مُخَفَّفُ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ (إِنَّ) وَإِذَا خُفِّفَتْ بَطُلَ عَمَلُهَا. وَقَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَقَوْلُهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقَعَ تَحْوِيلٌ فِي تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: يَشْهَدُ بِإِنْزَالِ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لَمْ يُفَدِ الْمَشْهُودُ بِهِ إِلَّا ضِمْنًا مَعَ الْمَشْهُودِ فِيهِ إِذْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِيُوصِلَ بِصِلَةٍ فِيهَا إِيمَاءٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّهَادَةِ الَّذِي هُوَ حَقُّ مَدْخُولِ الْبَاءِ بَعْدَ مَادَّةِ شَهِدَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مُكَمِّلَةَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ التَّحْوِيلِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «مَوْقِعُ قَوْلِهِ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلشَّهَادَةِ وَأَنَّ شَهَادَتَهُ بِصِحَّتِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ» . فَلَعَلَّهُ يَجْعَلُ جُمْلَةَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مُسْتَقِلَّةً بِالْفَائِدَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بِصِحَّةِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ، وَمَا ذَكَرْتُهُ أَعْرَقُ فِي الْبَلَاغَةِ. وَمَعْنَى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ، أَيْ بَالِغًا الْغَايَةَ فِي بَابِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، شَأْنُ مَا يَكُونُ بِعِلْمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَكَمَا أَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَعْجَزَ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُهُ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا كَقَوْلِهِ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا أَوْ يُضَمَّنُ (كَفَى) مَعْنَى اقْتَنِعُوا، فَتَكُونُ الْبَاء للتعدية. [167] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 167] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً

(167) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا أَهْلَ الْكِتَابِ، أَيِ الْيَهُودَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ الرَّادِّ عَلَى الْيَهُودِ مِنَ التَّحَاوُرِ الْمُتَقَدِّمِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَدِّ الْقَاصِرِ الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ-، أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أَيِ الْإِسْلَامِ، أَوْ هُوَ مِنْ صَدَّ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، أَيْ صَدُّوا النَّاسَ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ. فَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِتْنَةِ، وَيُقَوُّونَ أَوْهَامَ الْمُشْرِكِينَ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكِينَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمُنَاسَبَةِ الْخَوْضِ فِي مُنَاوَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَشْهُورٌ. وَالضَّلَالُ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ضَيَاعٌ عَنِ الْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، فَإِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الْكُفْرِ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِعَارَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ لِلْإِيمَانِ. وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مَعَ أَنَّ الْبُعْدَ مِنْ صِفَاتِ الْمَسَافَاتِ هُوَ اسْتِعَارَةُ الْبُعْدِ لِشِدَّةِ الضَّلَالِ وَكَمَالِهِ فِي نَوْعِهِ، بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ مِقْدَارُهُ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ: أَنْ يُشَبِّهُوا بُلُوغَ الْكَمَالِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالنِّهَايَاتِ كَقَوْلِهِمْ: بَعِيدُ الْغَوْرِ، وَبَعِيدُ الْقَعْرِ، وَلَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا غَايَةَ لَهُ، وَرَجُلٌ بَعِيدُ الْهِمَّةِ، وَبَعِيدُ الْمَرْمَى، وَلَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا، وَبَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَقَوْلِهِمْ: هَذَا إِغْرَاقٌ فِي كَذَا. وَمِنْ بَدِيعِ مُنَاسَبَتِهِ هُنَا أَنَّ الضَّلَالَ الْحَقِيقِيَّ يَكُونُ فِي الْفَيَافِي وَالْمَوَامِي، فَإِذَا اشْتَدَّ التِّيهُ وَالضَّلَالُ بَعُدَ صَاحِبُهُ عَنِ الْمَعْمُورِ، فَكَانَ فِي وَصْفِهِ بِالْبَعِيدِ تَعَاهُدٌ لِلْحَقِيقَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ نقلا عرفيا.

[سورة النساء (4) : الآيات 168 إلى 169]

[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 168 إِلَى 169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: 167] ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَعْرِفَةَ جَزَاءِ هَذَا الضلال قبيّنته هَذِهِ الْجُمْلَةُ. وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ دُونَ أَنْ يُذْكَرَ ضَمِيرُهُمْ لِتُبْنَى عَلَيْهِ صِلَةُ وَظَلَمُوا، وَلِأَنَّ فِي تَكْرِيرِ الصِّلَةِ تَنْدِيدًا عَلَيْهِمْ. وَيَجِيءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ظُلْمُ النَّفْسِ، وَظُلْمُ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ، كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَال الْقُرْآن كَقَوْلِه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ فِي الْأَنْوَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ، كَظُلْمِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَظُلْمِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَعْذِيبِهِمْ فِي اللَّهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ، وَمُصَادَرَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالنِّفَاقِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْخِدَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ارْتِكَابُ الْمَفَاسِدِ وَالْجَرَائِمِ مِمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ صِيغَةُ جُحُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] ، فَهِيَ تَقْتَضِي تَحْقِيقَ النَّفْيِ، وَقَدْ نُفِيَ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ تَحْذِيرًا مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ نِيطَ بِالْوَصْفِ وَلَمْ يُنَطْ بِأَشْخَاصٍ مَعْرُوفِينَ، فَإِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا. وَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا: إِنْ كَانَ طَرِيقا يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ وَاضِحٌ: أَيْ لَا يهْدِيهم طَرِيقا بوصلهم إِلَى مَكَانٍ إِلَّا طَرِيقًا يُوَصِّلُ إِلَى جَهَنَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الطَّرِيقِ الْآيَاتُ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . فَنَفْيُ هَدْيِهِمْ إِلَيْهِ

[سورة النساء (4) : آية 170]

إِنْذَارٌ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُخَيِّمَا عَلَى الْقَلْبِ بِغِشَاوَةٍ تَمْنَعُهُ مِنْ وُصُولِ الْهُدَى إِلَيْهِ، لِيُحَذِّرَ الْمُتَلَبِّسَ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِيهِمَا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يُصْبِحَ وَلَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُمَا. وَنَفْيُ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي نَفْيِ تَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْهُدَى بِحَسَبِ قَانُونِ حُصُولِ الْأَسْبَابِ وَحُصُولِ آثَارِهَا بَعْدَهَا. وَعَلَى أَيِّ الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَوْبَةُ الْكَافِرِ الظَّالِمِ بِالْإِيمَانِ مَقْبُولَةٌ، وَكَثِيرًا مَا آمَنَ الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ وَحَسُنَ إِيمَانُهُمْ، وَآيَاتُ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْوَاقِعِ، مِمَّا يَهْدِي إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبًا، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النِّسَاء: 137] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ الَّذِي نَفَى هَدْيَهُمْ إِلَيْهِ الطَّرِيقَ الْحَقِيقِيَّ، وَمُنْقَطِعٌ إِنْ أُرِيدَ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ الْهُدَى. وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْإِنْذَارِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ رَائِحَةُ إِطْمَاعٍ، ثُمَّ إِذَا سُمِعَ الْمُسْتَثْنَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْذَارِ. وَفِيهِ تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الطَّرِيقِ الْمَعْمُولِ لِيَهْدِيَهُمْ، وَلَيْسَ الْإِقْحَامُ بِهِمْ فِي طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِهَدْيٍ لِأَنَّ الْهَدْيَ هُوَ إِرْشَادُ الضَّالِّ إِلَى الْمَكَانِ الْمَحْبُوبِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ ذلِكَ أَيِ الْإِقْحَامُ بِهِمْ فِي طَرِيقِ النَّارِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَإِذْ هُمْ عَبِيدُهُ يَصْرِفُهُمْ إِلَى حَيْثُ يَشَاء. [170] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 170] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْحِوَارِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ خِطَابِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِمَا هُوَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا:

لِيَكُونَ تَذْيِيلًا وَتَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ، إِذْ قَدْ تَهَيَّأَ مِنَ الْقَوَارِعِ السَّالِفَةِ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَاتَّسَعَتِ الْمَحَجَّةُ، فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْخَطِيبِ إِذَا تَهَيَّأَتِ الْأَسْمَاعُ، وَلَانَتِ الطِّبَاعُ. وَيُسَمَّى هَذَا بِالْمَقْصِدِ مِنَ الْخِطَابِ، وَمَا يَتَقَدَّمُهُ بِالْمُقَدِّمَةِ. عَلَى أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ يَعْنِي خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْغَالِبِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّسُولُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. (والحقّ) هُوَ الشَّرِيعَةُ وَالْقُرْآنُ، ومِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَكُمُ، أَوْ صِفَةٌ لِلْحَقِّ، وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ فِيهِمَا، وَتَعْدِيَةُ جَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّ الَّذِي يَجِيءُ مُهْتَمًّا بِنَاسٍ يَكُونُ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَأَيْضًا فِي طَرِيقِ الْإِضَافَةِ مِنْ قَوْلِهِ رَبِّكُمْ تَرْغِيبٌ ثَانٍ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي هُوَ آتٍ مِنْ رَبِّهِمْ، فَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ مُفَرَّعًا عَلَى هَاتِهِ الْجُمَلِ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. وَانْتَصَبَ خَيْراً عَلَى تَعَلُّقِهِ بِمَحْذُوفٍ لَازِمِ الْحَذْفِ فِي كَلَامِهِمْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَجَرَى مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَذَلِكَ فِيمَا دَلَّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْكَلَامِ نَحْوَ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النِّسَاء: 171] ، وَوَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ، أَيْ تَأَخَّرْ، وَحَسْبُكَ خَيْرًا لَكَ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ... أَوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا. أَسْهَلَا فَنَصْبُهُ مِمَّا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنِ الْعَرَبِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَحْذُوفِ: فَجَعَلَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِعْلًا أَمْرًا مَدْلُولًا عَلَيْهِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: ايْتِ أَوِ اقْصِدْ، قَالَا: لِأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ لَهُ: انْتَهِ، أَوِ افْعَلْ، أَوْ حَسْبُكَ، فَأَنْتَ تَحْمِلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَفْضَلَ لَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: هُوَ فِي مِثْلِهِ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ لَا يَتَأَتَّى فِيمَا كَانَ مُنْتَصِبًا بَعْدَ نَهْيٍ، وَلَا فِيمَا كَانَ مُنْتَصِبًا بَعْدَ غَيْرِ مُتَصَرِّفٍ، نَحْوَ: وَرَاءَكَ وَحَسْبُكَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: نُصِبَ بِكَانَ مَحْذُوفَةٍ مَعَ خَبَرِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: يَكُنْ خَيْرًا. وَعِنْدِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى

[سورة النساء (4) : آية 171]

الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْفِعْلُ، وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ حَرْفِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَآمَنُوا حَالَ كَوْنِ الْإِيمَانِ خَيْرًا، وَحَسْبُكَ حَالُ كَوْنِ الِاكْتِفَاءِ خَيْرًا، وَلَا تَفْعَلْ كَذَا حَالَ كَوْنِ الِانْتِهَاءِ خَيْرًا. وَعَوْدُ الْحَالِ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ فِي مَثَلِهِ كَعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَرَى هَذَا مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَشَأْنُ الْأَمْثَالِ قُوَّةُ الْإِيجَازِ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَكْفُرُوا أُرِيدَ بِهِ أَنْ تَبْقَوْا عَلَى كُفْرِكُمْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَصَرَّحَ بِمَا حُذِفَ هُنَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [7] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، أَيْ إِنَّ كُفْرَكُمْ لَا يُفْلِتُكُمْ مِنْ عِقَابِهِ، لِأَنَّكُمْ عَبِيدُهُ، لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ. [171] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 171] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِخِطَابٍ مُوَجَّهٍ إِلَى النَّصَارَى خَاصَّةً. وَخُوطِبُوا بِعُنْوَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ خَالَفُوا كِتَابَهُمْ. وَقَرِينَةُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى قَوْله: نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [النِّسَاء: 172] فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ إِجْمَالِ قَوْلِهِ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَابْتُدِئَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ لِأَنَّ النَّصَارَى غَلَوْا فِي تَعْظِيمِ عِيسَى- فَادَّعَوْا لَهُ بُنُوَّةَ اللَّهِ، وَجَعَلُوهُ ثَالِثَ الْآلِهَةِ. وَالْغُلُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَأْلُوفِ، مُشْتَقٌّ مِنْ غَلْوَةِ السَّهْمِ، وَهِيَ مُنْتَهَى انْدِفَاعِهِ،

وَاسْتُعِيرَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَعْقُولِ، أَوِ الْمَشْرُوعِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ، وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالْأَفْعَالِ. وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ أَنْ يُظْهِرَ الْمُتَدَيِّنُ مَا يَفُوتُ الْحَدَّ الَّذِي حَدَّدَ لَهُ الدِّينُ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ الصَّادِقِينَ. وَغُلُوُّ أَهْلِ الْكِتَابِ تَجَاوُزُهُمُ الْحَدَّ الَّذِي طَلَبَهُ دِينُهُمْ مِنْهُمْ: فَالْيَهُودُ طُولِبُوا بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِمْ، فَتَجَاوَزُوهُ إِلَى بِغْضَةِ الرُّسُلِ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَالنَّصَارَى طُولِبُوا بِاتِّبَاعِ الْمَسِيحِ فَتَجَاوَزُوا فِيهِ الْحَدَّ إِلَى دَعْوَى إِلَهِيَّتِهِ أَوْ كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ، مَعَ الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِافْتِرَاءِ الشَّنِيعِ. وَفِعْلُ الْقَوْلِ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) دَلَّ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْقَائِلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِ (عَلَى) نِسْبَةٌ كَاذِبَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [آل عمرَان: 78] . وَمَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ هُنَا: أَنْ يَقُولُوا شَيْئًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ دِينِهِمْ، فَإِنَّ الدِّينَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْحَدِّ الَّذِي كَانَ الْغُلُوُّ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ وَمُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ. وَلِكَوْنِهَا تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فُصِلَتْ عَنْهَا. وَقَدْ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ قَصْرَ الْمَسِيحِ عَلَى صِفَاتٍ ثَلَاثٍ: صِفَةُ الرِّسَالَةِ، وَصِفَةُ كَوْنِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ أُلْقِيَتْ إِلَى مَرْيَمَ، وَصِفَةُ كَوْنِهِ رُوحًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ إِبْطَالُ مَا أَحْدَثَهُ غُلُوُّهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ غُلُوًّا أَخْرَجَهَا عَنْ كُنْهِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثَابِتَةٌ لِعِيسَى، وَهُمْ مُثْبِتُونَ لَهَا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ وَصْفُ عِيسَى بِهَا، لَكِنَّهُمْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ الْمَحْدُودَ لَهَا فَجعلُوا الرسَالَة النبوّة، وَجَعَلُوا الْكَلِمَةَ اتِّحَادَ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِعِيسَى فِي بَطْنِ مَرْيَمَ فَجَعَلُوا

عِيسَى ابْنًا لِلَّهِ وَمَرْيَمَ صَاحِبَةً لِلَّهِ- سُبْحَانَهُ-، وَجَعَلُوا مَعْنَى الرُّوحِ عَلَى مَا بِهِ تَكَوَّنَتْ حَقِيقَةُ الْمَسِيحِ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ مِنْ نَفْسِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ عِيسَى مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ الرِّسَالَةِ وَالْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ، لَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَا يُزَادُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ كَوْنِ الْمَسِيحِ ابْنًا لِلَّهِ وَاتِّحَادِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ وَكَوْنِ مَرْيَمَ صَاحِبَةً. وَوَصْفُ الْمَسِيحِ بِأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَصْفٌ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ فَفِي صَدْرِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَة، والكلامة كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ- ثُمَّ قَالَ- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا» . وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْآنُ وَأَثْبَتَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْإِنْجِيلِيَّةِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَثَرُ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَالْكَلِمَةُ هِيَ التَّكْوِينُ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِ (كُنْ) . فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّكْوِينِ مَجَازٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِكَلِمَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ. وَوَصْفُ عِيسَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِتَكْوِينِهِ التَّأْثِيرُ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي تَكْوِينِ الْأَجِنَّةِ، فَكَانَ حُدُوثُهُ بِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، فَيَكُونُ فِي كَلِمَتُهُ فِي الْآيَةِ مَجَازَانِ: مَجَازُ حَذْفٍ، وَمَجَازُ اسْتِعَارَةٍ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً. وَمَعْنَى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أَوْصَلَهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوعِيَ فِي الضَّمِيرِ تَأْنِيثُ لَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا عِيسَى، أَوْ أَرَادَ كَلِمَةَ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَوَصْفُ عِيسَى بِأَنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَصْفٌ وَقَعَ فِي الْأَنَاجِيلِ. وَقَدْ أَقَرَّهُ اللَّهُ هُنَا، فَهُوَ مِمَّا نَزَلَ حَقًّا. وَمَعْنَى كَوْنِ عِيسَى رُوحًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ رُوحَهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي هِيَ عَنَاصِرُ الْحَيَاةِ، لَكِنَّهَا نُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى مَرْيَمَ بِدُونِ تَكَوُّنٍ فِي نُطْفَةٍ فَبِهَذَا امْتَازَ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَرْوَاحِ. وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ عِيسَى لَمَّا غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِهِ الْمَلَكِيَّةُ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ، كَأَنَّ حُظُوظَ الْحَيَوَانِيَّةِ مُجَرَّدَةٌ عَنْهُ. وَقِيلَ: الرُّوحُ النَّفْخَةُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّفْسَ رُوحًا وَالنَّفْخَ رُوحًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَذْكُرُ لِرَفِيقِهِ أَنْ يُوقِدَ نَارًا بِحَطَبٍ:

فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ فَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ وَاقْتُتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرًا (أَيْ بِنَفْخِكَ) . وَتَلْقِيبُ عِيسَى بِالرُّوحِ طَفَحَتْ بِهِ عِبَارَاتُ الْأَنَاجِيلِ. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى التَّقَادِيرِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا حِكْمَةُ وُقُوعِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُنَا عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ شُبْهَةٍ ضَلَّتْ بِهَا النَّصَارَى، وَهَلَّا وُصِفَ الْمَسِيحُ فِي جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِمِثْلِ مَا وُصِفَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الْكَهْف: 110] فَكَانَ أَصْرَحُ فِي بَيَانِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَنْفَى لِلضَّلَالِ. قُلْتُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَقَعَا فِي كَلَامِ الْإِنْجِيلِ، أَوْ فِي كَلَامِ الْحَوَارِيِّينَ وَصْفًا لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَكَانَا مَفْهُومَيْنِ فِي لُغَةِ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ أَسَالِيبُ اللُّغَاتِ وَسَاءَ الْفَهْمُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ تَسَرَّبَ الضَّلَالُ إِلَى النَّصَارَى فِي سُوءِ وَضْعِهِمَا فَأُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ الْخَطَأِ فِي التَّأْوِيلِ، أَيْ أَنَّ قُصَارَى مَا وَقَعَ لَدَيْكُمْ مِنْ كَلَامِ الْأَنَاجِيلِ هُوَ وَصْفُ الْمَسِيحِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَبِرَوْحِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يُؤَدِّي إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَهٌ. وَتَصْدِيرُ جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ يُنَادِي عَلَى وَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ إِذْ لَا يُرْسِلُ الْإِلَهُ إِلَهًا مِثْلَهُ، فَفِيهِ كِفَايَةٌ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ وَمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ. أَيْ إِذَا وَضَحَ كُلُّ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ

مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، يَتَفَرَّعُ أَنْ آمُرَكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَأُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، أَيِ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ فَقَدْ أَفْسَدُوا الْإِيمَانَ، وَلِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَمْهِيدًا لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي. وَأُرِيدَ بِالرُّسُلِ جَمِيعُهُمْ، أَيْ لَا تَكْفُرُوا بِوَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ أَنْ يُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أَيْ لَا تَنْطِقُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ شِعَارًا لِلنَّصَارَى فِي دِينِهِمْ كَكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ عَوَائِدِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّثْلِيثِ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ النُّطْقِ بِالْمُشْتَهِرِ مِنْ مَدْلُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَنِ الِاعْتِقَادِ. لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ الصِّدْقُ فَلَا يَنْطِقُ أَحَدٌ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، فَالنَّهْيُ هُنَا كِنَايَةٌ بِإِرَادَةِ الْمَعْنَى وَلَازِمِهِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا خُصُوصُ النَّصَارَى. وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَانَ حَذْفُهُ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ تَقْدِيرُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مِنَ التَّثْلِيثِ، فَإِنَّ النَّصَارَى اضْطَرَبُوا فِي حَقِيقَةِ تَثْلِيثِ الْإِلَهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَيُقَدَّرُ الْمُبْتَدَأُ الْمَحْذُوفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَرْدُودُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّثْلِيثِ مِمَّا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ ثَلاثَةٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِلَهِ، وَهِيَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ. فَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَة: 73] . وَفِي آيَةِ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 116] ، أَيْ إِلَهَيْنِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثَةٌ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَهٌ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَوِ اتَّحَدَتِ الثَّلَاثَة فَصَارَ إِلَه وَاحِد. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : (ثَلَاثَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَإِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَتَقْدِيرُهُ اللَّهُ ثَلَاثَةٌ وَإِلَّا فَتَقْدِيرُهُ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ اهـ. وَالتَّثْلِيثُ أَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ النَّصَارَى كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَنَشَأَ

مِنِ اعْتِقَادِ قُدَمَاءِ الْإِلَهِيِّينَ مِنْ نَصَارَى الْيُونَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (ثَالُوثٌ) ، أَيْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْجَوْهَرُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ، وَاحِدُهَا أُقْنُومٌ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونُ الْقَافِ-. قَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : هُوَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، وَفَسَّرَهُ الْقَامُوسُ بِالْأَصْلِ، وفسّره التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» بِالصِّفَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُعَرَّبُ كَلِمَةِ (قَنُومَ بِقَافٍ مُعَقَّدٍ عَجَمِيٍّ) وَهُوَ الِاسْمُ، أَيِ (الْكَلِمَةُ) . وَعَبَّرُوا عَنْ مَجْمُوعِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ بِعِبَارَةٍ (آبَا- ابْنَا- رُوحَا قُدُسَا) وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَتَفَرَّعُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ: فَالْأُقْنُومُ الْأَوَّلُ أُقْنُومُ الذَّاتِ أَوِ- الْوُجُودِ الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَبُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ. وَالْأُقْنُومُ الثَّانِي أُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِابْنُ، وَهُوَ دُونُ الْأُقْنُومِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ كَانَ تَدْبِيرُ جَمِيعِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ. وَالْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أُقْنُومُ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ صِفَةُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ دُونُ أُقْنُومِ الْعِلْمِ وَمِنْهَا كَانَ إِيجَادُ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَقَدْ أَهْمَلُوا ذِكْرَ صِفَاتٍ تَقْتَضِيهَا الْإِلَهِيَّةُ، مِثْلَ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ، وَتَرَكُوا صِفَةَ الْكَلَامِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا يَقَعُ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَسَمُّوا أُقْنُومَ الذَّاتِ بِالْأَبِ، وَأُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالِابْنِ، وَأُقْنُومَ الْحَيَاةِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الِابْنِ عَلَى الْمَسِيحِ رَسُولِهِ، وَأَطْلَقَ الرُّوحَ الْقُدُسَ عَلَى مَا بِهِ كُوِّنَ الْمَسِيحُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ هُوَ مُفِيضُ الْأُقْنُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَرَامُوا أَنْ يَدُلُّوا عَلَى عَدَمِ تَأَخُّرِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَنْ بَعْضٍ فَعَبَّرُوا بِالْأَبِ وَالِابْنِ، (كَمَا عَبَّرَ الْفَلَاسِفَةُ الْيُونَانُ بِالتَّوَلُّدِ) . وَسَمُّوا أُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِنْجِيلِ إِطْلَاقَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَأَرَادُوا أَنَّ الْمَسِيحَ مَظْهَرُ عِلْمِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَيُبَلِّغُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِذْ كَانَ الْعِلْمُ يَوْمَ تَدْوِينِ الْأَنَاجِيلِ مُكَلَّلًا بِالْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِلْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّومِيَّةِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَانِي أَخَذُوا بِالظَّوَاهِرِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَرْبَابَ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَارَبُوا عَقِيدَةَ الشِّرْكِ.

ثُمَّ جَرَّهُمُ الْغُلُوُّ فِي تَقْدِيسِ الْمَسِيحِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ صَارَ نَاسُوتُهُ لَاهُوتًا، بِاتِّحَادِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْمَسِيحُ جَوْهَرَانِ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَشَأَتْ فِيهِمْ عَقِيدَةُ الْحُلُولِ، أَيْ حُلُولِ اللَّهِ فِي الْمَسِيحِ بِعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، ثُمَّ اعْتَقَدُوا اتِّحَادَ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ. هَذَا أَصْلُ التَّثْلِيثِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتْ مَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ أَشَارَ إِلَى جَمِيعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ- وَقَوْلُهُ- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: 72] وَقَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 116] وَكَانُوا يَقُولُونَ: فِي عِيسَى لَاهُوتِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَنَاسُوتِيَّةٌ- أَيْ إِنْسَانِيَّةٌ- مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ. وَظَهَرَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ رَاهِبٌ اسْمه (آريوس) قَالُوا بِالتَّوْحِيدِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَكَانَ فِي زَمَنِ (قسطنطينوس سُلْطَان الرّون بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) . فَلَمَّا تَدَيَّنَ قُسْطَنْطِينُوسُ الْمَذْكُورُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ سَنَةَ 327 تَبِعَ مَقَالَةَ (آرِيُوسَ) ، ثُمَّ رَأَى مُخَالَفَةَ مُعْظَمِ الرُّهْبَانِ لَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ، فَجَمَعَ مَجْمَعًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ، وَكَانَ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ نَحْوُ أَلْفَيْ عَالٍمٍ مِنَ النَّصَارَى فَوَجَدَهُمْ مُخْتَلِفِينَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَوَجَدَ أَكْثَرَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَالِمًا فَأَخَذَ قَوْلَهُمْ وَجَعَلَهُ أَصْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَنَصَرَهُ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُلَقَّبُ (الْمَلْكَانِيَّةُ) نِسْبَةً لِلْمَلِكِ. وَاتَّفَقَ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ عِيسَى، وَتَقَمَّصَتْ فِي نَاسُوتِهِ، أَيْ إِنْسَانِيَّتِهِ، وَمَازَجَتْهُ امْتِزَاجَ الْخَمْرِ بِالْمَاءِ، فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ ذَاتًا فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَصَارَتْ تِلْكَ الذَّاتُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْإِلَهُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ الْأَبُ ذُو الْوُجُودِ، وَالثَّانِي الِابْنُ ذُو الْكَلِمَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، وَالثَّالِثُ رُوحُ الْقُدُسِ.

ثُمَّ حَدَثَتْ فِيهِمْ فِرْقَةُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَفِرْقَةُ النَّسْطُورِيَّةِ (¬1) فِي مَجَامِعٍ أُخْرَى انْعَقَدَتْ بَيْنَ الرُّهْبَانِ. فَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَيُسَمَّوْنَ الْآنَ (أَرْثُودُكْسَ) ، ظَهَرُوا فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ السَّادِسِ الْمَسِيحِيِّ، وَهُمْ أَسْبَقُ مِنَ النَّسْطُورِيَّةِ قَالُوا: انْقَلَبَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ الْإِلَهُ هُوَ الْمَسِيحُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَسِيحِ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَهِ وَالْأَبْرَصِ فَأَشْبَهَ صُنْعُهُ صُنْعَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَعَاقِبَةً، وَسَنَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [72] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم: 37] . وَالنَّسْطُورِيَّةُ قَالَتْ: اتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ بِطَرِيقِ الْإِشْرَاقِ كَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةٍ من بلّور، فالمسح إِنْسَانٌ، وَهُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَهٌ، أَوْ هُوَ لَهُ ذَاتِيَّتَانِ ذَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ وَأُخْرَى إِلَهِيَّةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الرَّئِيسِ الدِّينِيِّ لِهَذِهِ النِّحْلَةِ لَقَبُ (جَاثِلِيقَ) . وَكَانَتِ النِّحْلَةُ النَّسْطُورِيَّةُ غَالِبَةً عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ. وَكَانَ رُهْبَانُ الْيَعَاقِبَةِ وَرُهْبَانُ النَّسْطُورِيِّينَ يَتَسَابَقُونَ لِبَثِّ كُلِّ فَرِيقٍ نِحْلَتَهُ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ حُمَاةً لِلنَّسْطُورِيَّةِ. وَقَيَاصِرَةُ الرُّومِ حُمَاةً لِلْيَعْقُوبِيَّةِ. وَقَدْ شَاعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بِنِحْلَتَيْهَا فِي بَكْرٍ، وَتَغْلِبَ، وَرَبِيعَةَ، وَلَخْمٍ، وَجُذَامَ، وَتَنُوخَ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، وَالْيَمَنِ، وَالْبَحْرِينِ. وَقَدْ بَسَطْتُ هَذَا لِيُعْلَمَ حُسْنُ الْإِيجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وَإِتْيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا. فَلِلَّهِ هَذَا الْإِعْجَازُ الْعِلْمِيُّ. ¬

(¬1) اليعقوبية منسوبة إِلَى رَاهِب اسْمه يَعْقُوب البرذعاني، كَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. والنسطورية نِسْبَة إِلَى نسطور الْحَكِيم، رَاهِب ظهر فِي زمن الْخَلِيفَة الْمَأْمُون وَشرح الأناجيل، كَذَا قَالَ الشهرستاني فِي كتاب «الْملَل والنحل» ، وَالظَّاهِر أنّه من اشْتِبَاه الْأَسْمَاء فِي أَخْبَار هَذِه النحلة. وَالَّذِي يَقُوله مؤرخو الْكَنِيسَة أنّ نحلة النسطورية مَوْجُودَة من أَوَائِل الْقرن الْخَامِس من التَّارِيخ المسيحي وأنّ مؤسسها هُوَ البطريق نسطوريوس، بطرِيق الْقُسْطَنْطِينِيَّة السوري، الْمَوْلُود فِي حُدُود سنة 380 مسيحية والمتوفّى فِي برقة فِي حُدُود سنة 440. وَهَاتَانِ النحلتان تعتبران عِنْد الملكانية مبتدعين.

وَالْقَوْلُ فِي نَصْبِ (خَيْرًا) مِنْ قَوْلِهِ: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [النِّسَاء: 170] . وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، لِأَنَّ (إِنَّمَا) يَلِيهَا الْمَقْصُورُ، وَهُوَ هُنَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَيْسَ اللَّهُ بِثَلَاثَةٍ. وَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ إِظْهَارٌ لِغَلَطِهِمْ فِي أَفْهَامِهِمْ، وَفِي إِطْلَاقَاتِهِمْ لَفْظَ الْأَبِ وَالِابْنِ كَيْفَمَا كَانَ مَحْمَلُهُمَا لِأَنَّهُمَا إِمَّا ضَلَالَةٌ وَإِمَّا إِيهَامُهَا، فَكَلِمَةُ (سُبْحَانَهُ) تُفِيدُ قُوَّةَ التَّنْزِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى غَلَطِ مُثْبِتِيهِ، فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي الْكَوْنَ أَبًا وَاتِّخَاذَ ابْنٍ، لِاسْتِحَالَةِ الْفَنَاءِ، وَالِاحْتِيَاجِ، وَالِانْفِصَالِ، وَالْمُمَاثَلَةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْبُنُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ هَذِهِ الْمُسْتَحِيلَاتِ لِأَنَّ النَّسْلَ قَانُونٌ كَوْنِيٌّ لِلْمَوْجُودَاتِ لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ النَّوْعِ، وَالنَّاسُ يَتَطَلَّبُونَهَا لِذَلِكَ، وَلِلْإِعَانَةِ عَلَى لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، وَفِيهَا انْفِصَالُ الْمَوْلُودِ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهَا أنّ الابْن مماثلة لِأَبِيهِ فَأَبُوهُ مُمَاثِلٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ. وَ (سُبْحَانَ) اسْمُ مَصْدَرِ سَبَّحَ، وَلَيْسَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ سَالِمٌ. وَجَزَمَ ابْنُ جِنِّي بِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، فَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالزِّيَادَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (سُبْحَانَ) حرف الْجَرِّ، وَهُوَ حَرْفُ (عَنْ) مَحْذُوفًا. وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَلَدٌ لَهُ هُوَ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَالْمَلَائِكَةِ أَوِ الْمَسِيحِ، فَالْكُلُّ عَبِيدُهُ وَلَيْسَ الِابْنُ بِعَبْدٍ.

[سورة النساء (4) : الآيات 172 إلى 173]

وَقَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تَذْيِيلٌ، وَالْوَكِيلُ الْحَافِظُ، وَالْمُرَادُ هُنَا حَافِظُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ (كَفَى) لِلْعُمُومِ، أَيْ كَفَى كُلَّ أَحَدٍ، أَيْ فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَتَوَكَّلُوا عَلَى مَنْ تَزْعُمُونَهُ ابْنًا لَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فِي هَذِه السُّورَة. [172، 173] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 172 إِلَى 173] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ تَحْقِيقِ جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النِّسَاء: 171] أَوْ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: 171] . وَالِاسْتِنْكَافُ: التَّكَبُّرُ وَالِامْتِنَاعُ بِأَنَفَةٍ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ، وَنَفْيُ اسْتِنْكَافِ الْمَسِيحِ: إِمَّا إِخْبَارٌ عَنِ اعْتِرَافِ عِيسَى بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَإِمَّا احْتِجَاجٌ عَلَى النَّصَارَى بِمَا يُوجَدُ فِي أَنَاجِيلِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَم: 30] إِلَخْ. وَفِي نُصُوصِ الْإِنْجِيلِ كَثِيرٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ، كَمَا فِي مُجَادَلَتِهِ مَعَ إِبْلِيسَ، فَقَدْ قَالَ لَهُ الْمَسِيحُ «لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» . وَعُدِلَ عَنْ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْله: بْداً لِلَّهِ فَأُظْهِرَ الْحَرْفُ الَّذِي تُقَدَّرُ الْإِضَافَةُ عَلَيْهِ: لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُنَا أَظْهَرُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، أَيْ عَبْدًا مِنْ جُمْلَةِ الْعَبِيدِ، وَلَوْ قَالَ: عَبْدَ اللَّهِ لَأَوْهَمَتِ الْإِضَافَةُ أَنَّهُ الْعَبْدُ الْخِصِّيصُ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَمٌ لَهُ.

وَأَمَّا مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَم: 30] فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ خِطَابِ مَنِ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ. وَعَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِمَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ لِرَدِّ ذَلِكَ، إِدْمَاجٌ لِقَصْدِ اسْتِقْصَاءِ كُلِّ مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ بُنُوَّةُ اللَّهِ، لِيَشْمَلَهُ الْخَبَرُ بِنَفْيِ اسْتِنْكَافِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: 171] ، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ نِسَاءِ الْجِنِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النِّسَاء: 171] ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الْمَلَائِكَةُ، فَذُكِرُوا هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَإِنْ جعلت قَوْله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: 171] كَانَ عَطْفُ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ مُحْتَمِلًا لِلتَّتْمِيمِ كَقَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: 3] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، وَلَا عَلَى الْعَكْسِ وَمُحْتَمِلًا لِلتَّرَقِّي إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِعَكْسِ الْحُكْمِ فِي أَوْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: 120] وَجَعَلَ، الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي لَا يَقْتَضِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لِوَاسِعٍ، فَإِنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِوُجُوهٍ، كَمَا عَلِمْتَ، فَلَا يَنْهَضُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مُطْلَقًا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْصِيلِ فِي التَّفْضِيلِ، وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمَاتِرِيدِيَّةِ، وَلَمْ يُضْبَطْ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا طَائِلَ وَرَاءَ الْخَوْضِ فِيهَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَوْضِ فِي تُفَاضُلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْخَوْضِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِ عَالَمٍ آخَرَ لَا صِلَةَ لَنَا بِهِ.

وَ (الْمُقَرَّبُونَ) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا كَاشِفًا، وَأَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا، فَيُرَادُ بِهِمُ الْمُلَقَّبُونَ (بِالْكَرُوبِيِّينَ) وَهُمْ سَادَةُ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ. وَوَصْفُهُمْ بِالْكَرُوبِيِّينَ وَصْفٌ قَدِيمٌ وَقَعَ فِي بَيْتِ نَسَبٍ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنْ كَرَبَ مُرَادِفِ قَرُبَ، وَزِيدَ فِيهِ صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهِيَ زِنَةُ فَعُولٍ وَيَاءُ النَّسَبِ. وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ: لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ الْقُرْآنُ وَجَاءَ بِمُرَادِفِهِ الفصيح فَقَالَ: ْمُقَرَّبُونَ ، وَعَلَيْهِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عَدَمُ الِاسْتِنْكَافِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِدَلَالَةِ الْأَحْرَى. وَقَوْلُهُ: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ الْآيَةَ تَخَلُّصٌ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله: سَيَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ فَسَيَحْشُرُ النَّاسَ إِلَيْهِ جَمِيعًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْخَ. وَضَمِيرُ وَلا يَجِدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا، أَيْ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا حِينَ يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا وَيكون مِيعاً بِمَعْنَى مَجْمُوعِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ، مَنْصُوبًا، فَإِنَّ لَفْظَ جَمِيعٍ لَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ جَمَّةٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُجْتَمَعِ، وَفِي كَلَامِ عُمَرَ لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ» أَيْ مُتَّفِقٌ مَجْمُوعٌ، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا. وَذِكْرُ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّفْصِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ. وَالتَّوْفِيَةُ أَصْلُهَا إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ زَائِدًا عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ يَخْفَى لِقِلَّةِ الْمَوَازِينِ عِنْدَهُمْ، وَلِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الْكَيْلِ، جَعَلُوا تَحَقُّقَ الْمُسَاوَاةِ بِمِقْدَارٍ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُسَاوِي، أُطْلِقَتِ التَّوْفِيَةُ عَلَى إِعْطَاءِ المعادل وتقابل بالخسان وَبِالْغَبْنِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ

[سورة النساء (4) : الآيات 174 إلى 175]

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ [الشُّعَرَاء: 181] وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَذِهِ التَّوْفِيَةُ وَالزِّيَادَةُ يَرْجِعَانِ إِلَى تَقْدِيرٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً تأييس لَهُمْ إِذْ قَدْ عُرِفَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ أُمَمِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، الِاعْتِمَادُ عِنْدَ الضِّيقِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالنُّصَرَاءِ لِيَكُفُّوا عَنْهُمُ الْمَصَائِبَ بِالْقِتَالِ أَوِ الْفِدَاءِ، قَالَ النَّابِغَةُ: يَأْمُلْنَ رِحْلَةَ نَصْرٍ وَابْنِ سَيَّارٍ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ نَفْيُ الْوَلِيِّ، وَالنَّصِيرِ، وَالْفِدَاءِ- فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [آل عمرَان: 91] . [174، 175] [سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 174 إِلَى 175] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِلْأَخْذِ بِالْهُدَى وَنَبْذُ الضَّلَالِ، بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ دَلَائِلِ الْحَقِّ وَكَبْحِ الْبَاطِلِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ وَإِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ، وَقَدْ يُخَصَّصُ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْفَاصِلَةِ، وَهُوَ غَالِبُ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا سَمَّى حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ أَجَلَّ أَنْوَاعِ الدَّلِيلِ، بُرْهَانًا. وَالْمُرَادُ هُنَا دَلَائِلُ النُّبُوءَةِ. وَأَمَّا النُّورُ الْمُبِينُ فَهُوَ الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا وَالْقَوْلُ فِي جاءَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاء: 170] وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ. وَ (أَمَّا) فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفْصِيلِ: تَفْصِيلًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مِنِ اخْتِلَافِ الْفِرَقِ وَالنَّزَعَاتِ: بَيْنَ قَابِلٍِِ

[سورة النساء (4) : آية 176]

لِلْبُرْهَانِ وَالنُّورِ، وَمُكَابِرٍ جَاحِدٍ، وَيَكُونُ مُعَادِلُ هَذَا الشَّقِّ مَحْذُوفًا لِلتَّهْوِيلِ، أَيْ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا تَسَلْ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَمَّا) لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ شَرْطٌ لِعُمُومِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ (أَمَّا) فِي الشَّرْطِ بِمَعْنَى (مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ) وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُفِيدُ التَّفْصِيلَ وَلَا تَطْلُبُ مُعَادِلًا. وَالِاعْتِصَامُ: اللَّوْذُ، وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ اسْتِعَارَةٌ لِلَّوْذِ بِدِينِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [103] . وَالْإِدْخَالُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَى. وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً: تَعَلُّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِ (يَهْدِي) فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ، وصِراطاً مَفْعُولُ (يَهْدِي) ، وَالْمَعْنَى يَهْدِيهِمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا لِيَصِلُوا إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ مُتَمَنَّاهُمْ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ وعدهم عِنْده. [176] [سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ اللَّاتِي قَبْلَهَا، فَوُقُوعُهَا عَقِبَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَجْلِ نُزُولِهَا عَقِبَ نُزُولِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ مُنَاسَبَتِهَا لِآيَةِ الْكَلَالَةِ السَّابِقَةِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانًا لِحَقِيقَةِ الْكَلَالَةِ أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ أَلْحَقَ بِالْكَلَالَةِ الْمَالِكَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. فَحُكْمُ الْكَلَالَةِ قَدْ بُيِّنَ بَعْضُهُ فِي آيَةٍ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ سَأَلُوا

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صُورَةٍ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الْكَلَالَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ هُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ فِي بَنِي سَلَمَةَ فَوَجَدَانِي مُغْمًى عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ وَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي فَإِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَجَهِّزٌ لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قَضِيَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَفْتُونَكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ جَمْعٌ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ السَّائِلِينَ، عَلَى نَحْوِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ قَدْ تَكَرَّرَ وَكَانَ آخِرُ السَّائِلَيْنِ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَتَأَخَّرَ الْجَوَابُ لِمَنْ سَأَلَ قَبْلَهُ، وَعُجِّلَ الْبَيَانُ لَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ نَفْسَهُ مَيِّتًا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَأَرَادَ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ، فَيَكُونُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي مَادَّةِ السُّؤَالِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَة، نَحْو: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [الْبَقَرَة: 189] ، وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: 219] . لِأَنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ يَتَكَرَّرُ، فَشَاعَ إِيرَادُهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ صِيَغِ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ، وَمِنْهُ غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْمُضَارِعِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ: كَقَوْلِ عَائِشَةَ «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» (تَعْنِي ابْنَ عُمَرَ) . وَقَوْلِهِمْ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ» . وَمِنْهُ غَلَبَةُ الْمَاضِي مَعَ لَا النافية فِي الدُّعَاءِ إِذَا لَمْ تُكَرَّرْ لَا نَحْوُ «فَلَا رَجَعَ» . عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ قَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا السُّؤَالُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مُرَاجِعَتِي إِيَّاهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ فِي نَحْرِي، وَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» ، وَقَوْلُهُ: فِي الْكَلالَةِ يَتَنَازَعُهُ فِي التَّعَلُّقِ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (يَسْتَفْتُونَكَ) وَفِعْلِ (يُفْتِيكُمْ) .

وَقَدْ سَمَّى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِآيَةِ الصَّيْفِ، وَعُرِفَتْ بِذَلِكَ، كَمَا عُرِفَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِآيَةِ الشِّتَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ فِي مُدَّةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الشِّتَاءِ إِلَى الصَّيْفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي طَرِيقِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَقَعَتْ فِي وَقْتِ الْحَرِّ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي نَحْوِ شَهْرِ أُغُسْطُسَ أَوِ اشْتَنْبِرَ وَهُوَ وَقْتٌ طَيِّبُ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَكَانَتْ فِي رَجَبٍ وَنَزَلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التَّوْبَة: 81] . ثُمَّ كَانَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، سَنَةِ تِسْعٍ، وَذَلِكَ يُوَافِقُ دِجَنْبِرَ. وَكَانَ حَجُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ فَيُوَافِقُ نَحْوَ شَهْرِ دِجَنْبِرَ أَيْضًا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «ثَلَاثٌ لَوْ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْجَدُّ. وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابُ الرِّبَا» . وَفِي رِوَايَةٍ وَالْخِلَافَةُ. وَخَطَبَ أَيْضًا فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي مَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هُوَ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ. وَقَالَ فِي مَجْمَعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَأَقْضِيَنَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تَتَحَدَّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهَا. وَأَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا فِي ذَلِكَ فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمَحَاهُ. وَلَيْسَ تَحَيُّرُ عُمَرَ فِي أَمْرِ الْكَلَالَةِ بِتَحَيُّرٍ فِي فَهْمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَلَكِنَّهُ فِي انْدِرَاجِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقُرْآنُ تَحْتَ مَا ذَكَرَهُ بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَلَالَةَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ: آيَتَيْ هَذِهِ السُّورَةِ الْمَذْكُورِ فِيهَا لَفْظُ الْكَلَالَةِ، وَآيَةٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النِّسَاء: 11] . وَآيَةِ آخِرِ الْأَنْفَالِ [75] وَهِي قَوْله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ رَأَى تَوَارُثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ لَيْسَ فِيهَا وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَهِيَ كَلَالَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ الَّتِي

لَيْسَ فِيهَا وَلَدٌ وَفِيهَا وَالِدٌ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَالَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: هِيَ كَلَالَةٌ. وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُجِيبَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْفَرِيضَةِ، فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلْقَصْرِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتُونَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَنْطِقُ إِلَّا عَن وَحي، فَهِيَ لَمَّا اسْتَفْتَوْهُ فَإِنَّمَا طَلَبُوا حُكْمَ اللَّهِ، فَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْأُخْتِ هُنَا الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوِ الَّتِي لِلْأَبِ فِي عَدَمِ الشَّقِيقَةِ بِقَرِينَةٍ مُخَالِفَةٍ نَصِيبُهَا لِنَصِيبِ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ الْمَقْصُودَةِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ يَرِثُها لِأَنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأُخْتِهِ لِلْأُمِّ وَلَدٌ إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا السُّدُسُ. وَقَوْلُهُ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ تَقْدِيرُهُ: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ، فَامْرُؤٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِ (هَلَكَ) فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ (هَلَكَ) بِوَصْفٍ لِ (امْرُؤٌ) فَلِذَلِكَ كَانَ الِامْرُؤُ الْمَفْرُوضُ هُنَا جِنْسًا عَامًّا. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَرِثُها يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى لَفْظِ (امْرُؤٌ) الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، الْمُفِيدِ لِلْعُمُومِ: ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَفْظُ (امْرُؤٌ) وَلَفْظُ (أَخٍ) أَوْ (أُخْتٍ) ، وَكُلُّهَا نَكِرَاتٌ وَاقِعَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ عَامَّةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا أَجْنَاسُ مَدْلُولَاتِهَا، وَلَيْسَ مَقْصُودًا بِهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ قَدْ هَلَكَ، وَلَا أُخْتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدْ وَرِثَتْ، فَلَمَّا قَالَ وَهُوَ يَرِثُها كَانَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعًا إِلَى (امْرُؤٌ) لَا إِلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَدْ هَلَكَ، إِذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: امْرُؤٌ هَلَكَ يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يَرِثُها إِذْ كَيْفَ يَصِيرُ الْهَالِكُ وَارِثًا. وَأَيْضًا كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي «يَرِثُهَا» عَائِدًا إِلَى مَفْهُومِ لَفْظِ أُخْتٍ لَا إِلَى أُخْتٍ مُعَيَّنَةٍ، إِذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَرِثُها أَنَّ الْأُخْتَ إِنْ تُوُفِّيَتْ وَلَا وَلَدَ لَهَا يَرِثُهَا أَخُوهَا، وَالْأَخُ هُوَ الْوَارِثُ فِي هَذِهِ

الصُّورَةِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَيَرِثُ الْأُخْتَ امْرُؤٌ إِنْ هَلَكَتْ أُخْتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. وَعُلِمَ مَعْنَى الْإِخْوَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أُخْتٌ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَمَعَ غَايَةِ إِيجَازِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، فَلَا يُشْكِلُ بِأَنَّ الْأُخْتَ كَانَتْ وَارِثَةً لِأَخِيهَا فَكَيْفَ عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِأَنْ يَرِثَهَا أَخُوهَا الْمَوْرُوثُ، وَتَصِيرُ هِيَ مَوْرُوثَةً، لِأَنَّ هَذَا لَا يَفْرِضُهُ عَالِمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ الهلك وَصفا لامرىء بِأَنْ قِيلَ: الْمَرْءُ الْهَالِكُ يَرِثُهُ وَارِثُهُ وَهُوَ يَرِثُ وَارِثَهُ إِنْ مَاتَ وَارِثُهُ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ رَشِيقٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا امْتِنَانٌ، وأَنْ تَضِلُّوا تَعْلِيلٌ لِ (يُبَيِّنُ) حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ (أَنْ) شَائِعٌ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ الضَّلَالِ لَا لِوُقُوعِهِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يُنَافِي التَّضْلِيلَ، فَحُذِفَتْ لَا النَّافِيَةُ، وَحَذْفُهَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاقِعَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذَا اتَّضَحَ الْمَعْنَى، كَمَا وَرَدَ مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ فِي نَحْوِ: فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا أَيْ أَنْ لَا تُبَاعَ، وَقَوْلِهِ: آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ وَهَذَا كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا ... فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَيْ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا بِالْبُخْلِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكُوفِيِّينَ، وَتَأَوَّلَ الْبَصْرِيُّونَ الْآيَةَ وَالْبَيْتَ وَنَظَائِرَهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَبِذَلِكَ قَدَّرَهَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَضِلُّوا مَفْعُولًا بِهِ لِ (يُبَيِّنُ) وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِيمَا بَيَّنَهُ مِنَ الْفَرَائِضِ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ مَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ضَلَالًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ قِسْمَةَِِ

الْمَالِ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَةِ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ بَيِّنَةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا حِرْمَانٌ لِمَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِالْمُؤَاسَاةِ وَالْمَبَرَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ مَعَ (أَنْ) يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِ أَنْ تَضِلُّوا ضَلَالًا قَدْ مَضَى، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [156] . وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ مَنْ بُيِّنَتْ لَهُ الْكَلَالَةُ فَلَمْ تُبَيَّنْ لِي» . رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِخَتْمِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إِبْرَاهِيم: 52] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِ صَاحِبِ مُوسَى ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 82] . فَتُؤْذِنُ بِخِتَامِ السُّورَةِ. وَتُؤْذِنُ بِخِتَامِ التَّنْزِيلِ إِنْ صَحَّ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ كَمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَلَا أَرَى اصْطِلَاحَ عُلَمَاءِ بَلَدِنَا عَلَى أَنْ يَخْتِمُوا تَقْرِيرَ دُرُوسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ» إِلَّا تَيَمُّنًا بِمُحَاكَاةِ خَتْمِ التَّنْزِيلِ.

5- سورة المائدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 5- سُورَةُ الْمَائِدَةِ هَذِهِ السُّورَةُ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَكُتُبِ السُّنَّةِ، بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ: لِأَنَّ فِيهَا قِصَّةُ الْمَائِدَة الَّتِي سَأَلَهَا الْحَوَارِيُّونَ مِنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدِ اخْتُصَّتْ بِذِكْرِهَا. وَفِي «مُسْنَدِ» أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ. فَهَذَا أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا. وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْعُقُودِ: إِذْ وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَوَّلِهَا. وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمُنْقِذَةَ. فَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ» : رُوِيَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي ملكوت السَّمَوَات الْمُنْقِذَةَ» . قَالَ: أَيْ أَنَّهَا تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَفِي كِتَابِ كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ لِأَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ (¬1) «يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْأَخْيَارِ، أَيْ لَا يَفِي بِالْعَهْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ الْمَائِدَة سُورَة الْأَخْبَار. قَالَ جَرِيرٌ: إِنَّ الْبَعِيثَ وَعَبْدَ آلِ مُتَاعِسٍ ... لَا يَقْرَآنِ بِسُورَةِ الْأَخْيَارِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُدَّةٍ لِأَنَّ سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ رُجُوعِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ جَاءَتْهُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ إِرْجَاعَهُنَّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِشُرُوطِ الصُّلْحِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ إِرْجَاعِهِنَّ بَعْدَ امْتِحَانِهِنَّ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ - إِلَى- عَذابٌ أَلِيمٌ [الْمَائِدَة: 94] نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَِِ ¬

(¬1) صفحة (121) من «الْمُنْتَخب من كنايات الأدباء» طبع السَّعَادَة بِمصْر سنة 1326.

الْبَاعِثُ لِلَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ سُورَةَ الْعُقُودِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَلَيْسَ وُجُودُ تِلْكَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ نُزُولِ السُّورَةِ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ إِذْ قَدْ تَلْحَقُ الْآيَةُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهَا. وَفِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَلَكِنْ صَحَّ أَنَّ آيَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَائِشَةَ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ النِّسَاءِ، وَمَا نَزَلَ بَعْدَهَا إِلَّا سُورَةُ بَرَاءَةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَرَاءَةٌ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَفِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ كُلَّهَا. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِي مَسِيرِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَفِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمِنًى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ مَرْجِعَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْحَدِيثُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْمَائِدَة: 2] أُنْزِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ اثْنَيْنِ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ- إِلَى-

غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: 3] نَزَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَيَقْتَضِي قَوْلُهُمَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَة: 15، 16] ثُمَّ نَزَلَتْ بَقِيَّةُ السُّورَةِ فِي عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْعَرَبِ وَأَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَبْقَ فِي عِنَادِ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّ فُتُوحَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَلَغَتْ تُخُومَ مُلْكِهِمْ فِي حُدُودِ الشَّامِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا. وَقَدِ امْتَازَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاتِّسَاعِ نِطَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ النَّصَارَى، وَاخْتِصَارِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْيَهُودِ، عَمَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ أَخَذَ فِي تَرَاجُعٍ وَوَهْنٍ، وَأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مَعَ النَّصَارَى أَصْبَحَ أَشَدَّ مِنْهُ مِنْ ذِي قَبْلُ. وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَحْرِيمُ السُّكْرِ عِنْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُهُ بَتَاتًا، فَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَنْزِلَ سُورَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُزُولُ أُخْرَى بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْزِلَ سُورَتَانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ، أَيْضًا، مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ: لِأَنَّ بَرَاءَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ لَا تَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا مَرَّةً، وَذَلِكَ

يُؤْذِنُ بِأَنَّ النِّفَاقَ حِينَ نُزُولِهَا قَدِ انْقَطَعَ، أَوْ خُضِّدَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. فَلَا جَرَمَ أَنَّ بَعْضَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَحَسْبُكَ دَلِيلًا اشْتِمَالُهَا عَلَى آيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا فِي خَبَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [3] قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ. وَفِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ» . وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْحَادِيَةَ وَالتِسْعِينَ فِي عَدَدِ السُّوَرِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ. عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا: مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ فِي عَدَدِ الْجُمْهُورِ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فِي عَدِّ الْبَصْرِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَجُعِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمُصْحَفِ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَعَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدَ آيَاتٍ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ اشْتِمَالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَغْرَاضٍ تُشْبِهُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ عَوْنًا عَلَى تَبْيِينِ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى فِي تِلْكَ الْأَغْرَاضِ. وَقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى تشريعات كَثِيرَة تنبيء بِأَنَّهَا أُنْزِلَتْ لِاسْتِكْمَالِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْوِصَايَةِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، أَيْ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ حِينَ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْتِزَامِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، فَقَدْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ. وَأَخَذَ

الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، كَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. وَوَقَعَ فِي أَوَّلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [الْمَائِدَة: 1] . فَكَانَتْ طَالِعَتُهَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ سَبْعٌ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ. وَما أَكَلَ السَّبُعُ ... وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [الْمَائِدَة: 3] ، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ [الْمَائِدَة: 4] ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَة: 5] ، وَتَمَامُ الطُّهُورِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 6] ، (أَيْ إِتْمَامُ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [الْمَائِدَة: 38] . وَلَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ- إِلَى قَوْلِهِ- عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [الْمَائِدَة: 95] ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [الْمَائِدَة: 103] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْمَائِدَة: 106] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 58] لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْأَذَانِ لِلصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. اه. وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى تَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْمَأْكُولَاتِ، وَعَلَى حِفْظِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالنَّهْيِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ مِثْلِ الْأَزْلَامِ، وَفِيهَا شَرَائِعُ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَمْرُ بِالصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَحْكَامُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَأَحْكَامُ الْحِرَابَةِ، وتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْأَيْمَانُ وَكَفَّارَتُهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُصُولُ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْخَشْيَةُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، وَإِبْطَالُ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَذِكْرُ مَسَاوٍ مِنْ أَعْمَالِ الْيَهُودِ، وَإِنْصَافُ النَّصَارَى فِيمَا لَهُمْ مَنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُمْ أَرْجَى لِلْإِسْلَامِ وَذِكْرُ قَضِيَّةِ التِّيهِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمْرُ بِتَخَلُّقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُنَاقِضُ أَخْلَاقَ الضَّالِّينَ فِي تَحْرِيمِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِالْكَعْبَةِ وَفَضَائِلِهَا وَبَرَكَاتِهَا عَلَى النَّاسِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ أَوْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِبَرِ، وَالتَّذْكِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْرِيضُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ نَبْذِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ. وَاسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ.

[سورة المائدة (5) : آية 1]

وَخُتِمَتْ بِالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشَهَادَةِ الرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَشَهَادَةِ عِيسَى عَلَى النَّصَارَى، وَتَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى. [1] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. تَصْدِيرُ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ مُؤْذِنٌ بِأَنْ سَتَرِدُ بَعْدَهُ أَحْكَامٌ وَعُقُودٌ كَانَتْ عُقِدَتْ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، ذَكَّرَهُمْ بِهَا لِأَنَّ عَلَيْهِمُ الْإِيفَاءَ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَمَا تُفْتَتَحُ الظَّهَائِرُ السُّلْطَانِيَّةُ بِعِبَارَةِ: هَذَا ظُهَيْرٌ كَرِيمٌ يُتَقَبَّلُ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ. وَذَلِكَ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعُقُودِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَشَمَلَ الْعُقُودَ الَّتِي عَاقَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا رَبَّهُمْ وَهُوَ الِامْتِثَالُ لِشَرِيعَتِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: 7] ، وَمِثْلِ مَا كَانَ يُبَايِعُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا، وَيَقُولُ لَهُمْ: فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَشَمَلَ الْعُقُودَ الَّتِي عَاقَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 2] . وَيَشْمَلُ الْعُقُودَ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ. وَالْإِيفَاءُ هُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ غَيْرِ مَنْقُوصٍ، وَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ تَرْكِ النَّقْصِ لَا يَحْصُلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، صَارَ الْإِيفَاءُ مُرَادًا مِنْهُ عُرْفًا الْعَدْلُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [173] . وَالْعُقُودُ جَمْعُ عَقْدٍ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ-، وَهُوَ الِالْتِزَامُ الْوَاقِعُ بَيْنَ جَانِبَيْنِ فِي فِعْلٍ مَا. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْعَقْدَ هُوَ ربط الْحَبل بالعروة وَنَحْوِهَا، وَشَدُّ الْحَبَلِ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا عَقْدٌ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الِالْتِزَامِ، فَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:

قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا فَذَكَرَ مَعَ الْعَقْدِ الْعِنَاجَ وَهُوَ حَبْلٌ يَشُدُّ الْقِرْبَةَ، وَذَكَرَ الْكَرَبَ وَهُوَ حَبْلٌ آخَرُ لِلْقِرْبَةِ: فَرَجَعَ بِالْعَقْدِ الْمَجَازِيِّ إِلَى لَوَازِمِهِ فَتَخَيَّلَ مَعَهُ عِنَاجًا وَكَرَبًا، وَأَرَادَ بِجَمِيعِهَا تَخْيِيلَ الِاسْتِعَارَةِ. فَالْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُعْقَدُ، وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى الْتِزَامٍ مِنْ جَانِبَيْنِ لِشَيْءٍ وَمُقَابِلِهِ، وَالْمَوْضِعُ الْمَشْدُودُ مِنَ الْحَبْلِ يُسَمَّى عُقْدَةً. وَأُطْلِقَ الْعَقْدُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ الْمَعْقُودِ إِطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، فَالْعُهُودُ عُقُودٌ، وَالتَّحَالُفُ مِنَ الْعُقُودِ، وَالتَّبَايُعُ وَالْمُؤَاجَرَةُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعُقُودِ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا. وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي شرعها الله لنا لِأَنَّهَا كَالْعُقُودِ، إِذْ قَدِ الْتَزَمَهَا الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ ضِمْنًا، وَفِيهَا عَهْدُ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ. وَيَقَعُ الْعَقْدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى «إِنْشَاءِ تَسْلِيمٍ أَوْ تَحَمُّلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ» فَقَدْ يَكُونُ إِنْشَاءُ تَسْلِيمٍ كَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ نَاضٍّ وَقَدْ يَكُونُ إِنْشَاءُ تَحَمُّلٍ كَالْإِجَارَةِ بِأَجْرٍ نَاضٍّ، وَكَالسِّلْمِ وَالْقِرَاضِ وَقَدْ يَكُونُ إِنْشَاءُ تَحَمُّلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ كَالنِّكَاحِ، إِذِ الْمَهْرُ لَمْ يُعْتَبَرْ عِوَضًا وَإِنَّمَا الْعِوَضُ هُوَ تَحَمُّلُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ حُقُوقًا لِلْآخَرِ. وَالْعُقُودُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَالْأَمْرُ بِالْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِيفَاءَ الْعَاقِدِ بِعَقْدِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِسَدِّ حَاجَاتِ الْأُمَّةِ فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسِبِ الْحَاجِيِّ، فَيَكُونُ إِتْمَامُهَا حَاجِيًّا لِأَنَّ مُكَمِّلَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ الثَّلَاثَةِ يَلْحَقُ بِمُكَمِّلِهِ: إِنْ ضَرُورِيًّا، أَوْ حَاجِيًّا، أَوْ تَحْسِينًا. وَفِي الْحَدِيثِ «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» . فَالْعُقُودُ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِي انْعِقَادِهَا مُجَرَّدُ الصِّيغَةِ تُلْزِمُ بِإِتْمَامِ الصِّيغَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. وَالْمُرَادُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ

الصِّيغَةِ نَحْوَ الْإِشَارَةِ لِلْأَبْكَمِ، وَنَحْوَ الْمُعَاطَاةِ فِي الْبُيُوعِ. وَالْعُقُودُ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِي انْعِقَادِهَا الشُّرُوعَ فِيهَا بَعْدَ الصِّيغَةِ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، كَالْجُعْلِ وَالْقِرَاضِ. وَتَمْيِيزُ جُزْئِيَّاتِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْآخَرِ مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالْمِائَتَيْنِ: إِنَّ أَصْلَ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ هِيَ اللُّزُومُ، وَإِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ أَوْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ بِالْقَوْلِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ خَفَاءَ الْحَقِّ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فَيُخْشَى تَطَرُّقُ الْغَرَرِ إِلَيْهِ، فَوَسَّعَ فِيهَا عَلَى الْمُتَعَاقِدِينَ فَلَا تَلْزَمُهُمْ إِلَّا بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، لِأَنَّ الشُّرُوعَ فَرْعُ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي عُقُودِ الْمُغَارَسَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالشَّرِكَةِ هَلْ تُلْحَقُ بِمَا مَصْلَحَتُهُ فِي لُزُومِهِ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِمَا مَصْلَحَتُهُ فِي لُزُومِهِ بِالشُّرُوعِ. وَقَدِ احْتَجَّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالتِسْعِينَ وَالْمِائَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعُقُودِ أَنْ تُلْزَمَ بِالْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَدِيثِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ يَعْنِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ مِنَ الْعُقُودِ تَمَامُهَا، وَبِذَلِكَ صَارَ مَا قَرَّرْتُهُ مُقَدَّمًا عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى خَبَرِ الْآحَادِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَنْعَقِدُ عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ اللُّزُومِ، كَبَيْعِ الْخِيَارِ، فَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِمُدَّةٍ يُحْتَاجُ إِلَى مِثْلِهَا عَادَةً فِي اخْتِيَارِ الْمَبِيعِ أَوِ التَّشَاوُرِ فِي شَأْنِهِ. وَمِنَ الْعُقُودِ الْمَأْمُورِ بِالْوَفَاءِ بِهَا عُقُودُ الْمُصَالَحَاتِ وَالْمُهَادَنَاتِ فِي الْحُرُوبِ، وَالتَّعَاقُدُ عَلَى نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَكُلُّ تَعَاقُدٍ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ أَمْرٍ حَرَامٍ، وَقَدْ أَغْنَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَنِ التَّعَاقُدِ فِي مِثْلِ هَذَا إِذْ أَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ الْمُنْعَقِدَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَنَحْوِهِ: كَحِلْفِ الْفُضُولِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوْفُوا

بِعُقُودِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا تُحْدِثُوا عَقْدًا فِي الْإِسْلَامِ» . وَبَقِيَ أَيْضًا مَا تَعَاقَدَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ كَصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَسْأَلُ عَنْ حِلْفِ لُجَيْمٍ وَتَيْمٍ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً» . قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا عُرِفَ بِهِ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ فِي الْوَفَاءِ لِغَيْرِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُنَاوِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [173] . أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي تَوْجِيهِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ بِقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. فَفِي «تَلْخِيصِ الْكَوَاشِيِّ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالْعُقُودِ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اه. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا مَبْدَؤُهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ الْآيَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ تَفْصِيلٌ لَا خُصُوصُ جُمْلَةِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فَإِنَّ إِبَاحَةَ الْأَنْعَامِ لَيْسَتْ عَقْدًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ» . وَبِاعْتِبَارِ إِبْطَالِ مَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بَاطِلًا مِمَّا شَمَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَة: 103] الْآيَاتِ. وَالْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ جُمْلَةَ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ: كَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَقَوْلِهِ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمَائِدَة: 2] الَّتِي هِيَ مِنْ عُقُودِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ بَعْضِ الْمُبَاحِ امْتِنَانًا وَتَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَتَلَقَّوُا التَّكَالِيفَ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ

فَالْمَعْنَى: إِنْ حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ أَشْيَاءَ فَقَدْ أَبَحْنَا لَكُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِنْ أَلْزَمْنَاكُمْ أَشْيَاءَ فَقَدْ جَعَلْنَاكُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ أَشْيَاءَ أَوْفَرَ مِنْهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَا يُرِيدُ مِنْهُمْ إِلَّا صَلَاحَهُمْ وَاسْتِقَامَتَهُمْ. فَجُمْلَةُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهَا تَصْدِيرٌ لِلْكَلَامِ بَعْدَ عُنْوَانِهِ. وَالْبَهِيمَةُ: الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْبَعِ إِنْسِيِّهَا وَوَحْشِيِّهَا، عَدَا السِّبَاعِ، فَتَشْمَلُ بَقْرَ الْوَحْشِ وَالظِّبَاءِ. وَإِضَافَةُ بَهِيمَةٍ إِلَى الْأَنْعَامِ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ، وَهِيَ بَيَانِيَّةٌ كَقَوْلِهِمْ: ذُبَابُ النَّحْلِ وَمَدِينَةُ بَغْدَادَ. فَالْمُرَادُ الْأَنْعَامُ خَاصَّةً، لِأَنَّهَا غَالِبُ طَعَامِ النَّاسِ، وَأَمَّا الْوَحْشُ فَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَهِيَ هُنَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْأَنْعَامِ خُصُوصُ الْإِبِلِ لِغَلَبَةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَنْعَامِ عَلَيْهَا، فَذُكِرَتْ (بَهِيمَةُ) لِشُمُولِ أَصْنَافِ الْأَنْعَامِ الْأَرْبَعَةِ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْمَعِزِ. وَالْإِضَافَةُ الْبَيَانِيَّةُ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) الَّتِي لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَج: 30] . وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ مِنْ عُمُومِ الذَّوَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا يُتْلَى هُوَ مَا سَيُفَصَّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، الْوَاقِعُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ، وَهُوَ حَالٌ مُقَيِّدٌ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ وَأَمْكِنَةٍ، لِأَنَّ الْحُرُمَ جَمْعُ حَرَامٍ مِثْلُ رَدَاحٍ عَلَى رُدُحٍ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [97] . وَالْحَرَامُ وَصْفٌ لِمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَيْ نَوَاهُمَا. وَوَصْفٌ أَيْضًا لِمَنْ كَانَ حَالًّا فِي الْحَرَمِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمُحْرِمِ عَلَى الْحَالِّ بِالْحَرَمِ قَوْلُ الرَّاعِي: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا أَيْ حَالًّا بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ.

وَالْحَرَمُ: هُوَ الْمَكَانُ الْمَحْدُودُ الْمُحِيطُ بِمَكَّةَ مِنْ جِهَاتِهَا عَلَى حُدُودٍ مَعْرُوفَةٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَادُ صَيْدُهُ، وَلَا يُعْضِدُ شَجَرُهُ وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي حَدَّدَهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَنَصَبَ أَنْصَابًا تُعْرَفُ بِهَا حُدُودُهُ، فَاحْتَرَمَهُ الْعَرَبُ، وَكَانَ قُصَيٌّ قَدْ جَدَّدَهَا، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى أَنْ بَدَا لِقُرَيْشٍ أَنْ يَنْزِعُوهَا، وَذَلِكَ فِي مُدَّةِ إِقَامَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ أَعَادُوهَا كَمَا كَانَتْ. وَلَمَّا كَانَ عَامُ فَتْحِ مَكَّةَ بعث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تميما بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَهَا. ثُمَّ أَحْيَاهَا وَأَوْضَحَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة، فَبعث التَّجْدِيد حُدُودِ الْحَرَمِ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَتَبَدَّوْنَ فِي بِوَادِي مَكَّةَ، وَهُمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ، وَأَزْهَرُ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، فَأَقَامُوا أَنْصَابًا جُعِلَتْ عَلَامَاتٍ عَلَى تَخْطِيطِ الْحَرَمِ عَلَى حَسَبِ الْحُدُودِ الَّتِي حدّدها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْتَدِئُ مِنَ الْكَعْبَةِ فَتَذْهَبُ لِلْمَاشِي إِلَى الْمَدِينَةِ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَالتَّنْعِيمُ لَيْسَ من الْحرم، وتمتدّ فِي طَرِيقِ الذَّاهِبِ إِلَى الْعِرَاقِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ فَتَنْتَهِي إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَقْطَعُ، وَتَذْهَبُ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ تِسْعَةَ (بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ) أَمْيَالٍ فَتَنْتَهِي إِلَى الْجُعْرَانَةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ سَبْعَةً (بِتَقْدِيمِ السِّينِ) فَيَنْتَهِي إِلَى أَضَاةِ لِبْنٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جُدَّةَ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فَيَنْتَهِي إِلَى آخِرِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْحَرَمِ. فَهَذَا الْحَرَمُ يَحْرُمُ صَيْدُهُ، كَمَا يَحْرُمُ الصَّيْدُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. فَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُحْرِمُونَ، فَيَكُونُ تَحْرِيمًا لِلصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ: سَوَاءً كَانَ فِي الْحَرَمِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمُ صَيْدِ الْحَرَمِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: مُحْرِمُونَ وَحَالُّونَ فِي الْحَرَمِ، وَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ يَجْمَعُهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْحُرْمَةُ، فَلَا يَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ إِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا، أَوْ يَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا، عَلَى رَأْيِ مَنْ يُصَحِّحُ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.

وَقَدْ تَفَنَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ وَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ، فَجِيءَ بِالْأَوَّلِ بِأَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِالثَّانِي بِالْحَالَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحَالَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا الصَّيْدَ فِي حَالَةِ كَوْنِكُمْ مُحْرِمِينَ، أَوْ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ. وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِحُكْمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ كَوْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي حَالٍ خَاصٍّ، فَذُكِرَ هُنَا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ غَيْرُ ذَاتِيٍّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ مَعَ الْمَمْنُوعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 2] الْآيَةَ. وَالصَّيْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مَصْدَرًا عَلَى أَصْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ: كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ أَشْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ هُنَا لِتَكُونَ مَوَاقِعُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: غَيْرَ مُحِلِّي إِصَابَةً لِصَيْدٍ. وَالصَّيْدُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ: إِمْسَاكُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَأْلَفُ، بِالْيَدِ أَوْ بِوَسِيلَةٍ مُمْسِكَةٍ، أَوْ جَارِحَةٍ: كَالشِّبَاكِ، وَالْحَبَائِلِ، وَالرِّمَاحِ، وَالسِّهَامِ، وَالْكِلَابِ، وَالْبُزَاةِ وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ هُوَ الْمَصِيدُ. وَانْتَصَبَ غَيْرَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (مُحِلِّي) ، وَهَذَا نَسْجٌ بَدِيعٌ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ إِبَاحَةٌ وَتَحْرِيمٌ: فَالْإِبَاحَةُ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِحْرَامِ، وَالتَّحْرِيمُ لَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، أَيْ لَا يَصْرِفُكُمْ عَنِ الْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ شَيْءٌ مِنْ ثِقَلٍ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّكُمْ عَاقَدْتُمْ عَلَى عَدَمِ الْعِصْيَانِ، وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مَا تُرِيدُونَ أَنْتُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِصَالِحِكُمْ مِنْكُمْ.

[سورة المائدة (5) : آية 2]

وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ النَّقَّاشَ حَكَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ: «أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ، قَالَ: نَعَمْ أَعْمَلُ لَكُمْ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ أَيَّامًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ» - جَمْعُ جِلْدٍ أَيْ أَسْفَارٍ-. [2] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 2] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا. وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ إِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الشَّعَائِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَأْتِيهَا الْمُشْرِكُونَ كَمَا يَأْتِيهَا الْمُسْلِمُونَ. وَمَعْنَى لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لَا تُحِلُّوا الْمُحَرَّمِ مِنْهَا بَيْنَ النَّاسِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا، فَالتَّقْدِيرُ: لَا تُحِلُّوا مُحَرَّمَ شَعَائِرِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِي إِحْلَالِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعَمَلِ النَّسِيءِ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التَّوْبَة: 37] وَإِلَّا فَمِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ مَا هُوَ حَلَالٌ كَالْحَلْقِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْلُومَةٌ. وَالشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 158] . وَقَدْ كَانَتِ الشَّعَائِرُ كُلُّهَا مَعْرُوفَةً لَدَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ عَدِّهَا هُنَا. وَهِيَ أَمْكِنَةٌ، وَأَزْمِنَةٌ، وَذَوَاتٌ فَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، مِنَ الْأَمْكِنَةِ. وَقَدْ مَضَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنَ الشَّعَائِرِ الزَّمَانِيَّةِ، وَالْهَدْيُ وَالْقَلَائِدُ مِنَ الشَّعَائِرِ الذَّوَاتِ. فَعَطْفُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ عَطْفُ الْجُزْئِيِّ عَلَى كُلِّيِّهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: 36] . فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ كَالنَّكِرَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ رَجَبٌ خَاصَّةً لِيَشْتَدَّ أَمْرُ تَحْرِيمِهِ إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ غَيْرُ مُجْمِعَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا خُصَّ بِالنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ يُعْرَفُ بِرَجَبِ مُضَرَ فَلَمْ تَكُنْ رَبِيعَةُ وَلَا إِيَادٌ وَلَا أَنْمَارٌ يُحَرِّمُونَهُ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: شَهْرُ بَنِي أُمَيَّةَ أَيْضًا، لِأَنَّ قُرَيْشًا حَرَّمُوهُ قَبْلَ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَتَبِعَتْهُمْ مُضَرُ كُلُّهَا لِقَوْلِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ: وَشَهْرِ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْهَدَايَا ... إِذَا حبست مضرّجها الدقاء وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ فَلَا يَعُمُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْهَدْيُ: هُوَ مَا يُهْدَى إِلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ لِيُنْحَرَ فِي الْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى، أَوْ بِالْمَرْوَةِ، مِنَ الْأَنْعَامِ. وَالْقَلَائِدُ: جَمْعُ قِلَادَةٍ وَهِيَ ظَفَائِرُ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ، يُرْبَطُ فِيهَا نَعْلَانِ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ لِحَاءِ الشَّجَرِ، أَيْ قِشْرِهِ، وَتُوضَعُ فِي أَعْنَاقِ الْهَدَايَا مُشَبَّهَةً بِقَلَائِدِ النِّسَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يُعْرَفَ الْهَدْيُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِغَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ إِذَا تَأَخَّرَ فِي مَكَّةَ حَتَّى خَرَجَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ، وَضَعَ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِسُوءٍ. وَوَجْهُ عَطْفِ الْقَلَائِدِ عَلَى الْهَدْيِ الْمُبَالَغَةُ فِي احْتِرَامِهِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى قِلَادَتِهِ بَلَهِ ذَاتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًاِِ

كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْقَلَائِدَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِذْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْقَلَائِدِ نِعَالًا لِفُقَرَائِهِمْ، كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِجِلَالِ الْبَدَنِ، وَهِيَ شُقَقٌ مِنْ ثِيَابٍ تُوضَعُ عَلَى كِفْلِ الْبَدَنَةِ فَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا قُمُصًا لَهُمْ وَأُزُرًا، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِحْلَالِهَا كَالنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ الْهَدْيِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْطِيلَ مَصَالِحِ سُكَّانِ الْحَرَمِ الَّذِينَ اسْتَجَابَ اللَّهُ فِيهِمْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيم: 37] قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: 97] . وَقَوْلُهُ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ عَطْفٌ عَلَى شَعائِرَ اللَّهِ: أَيْ وَلَا تَحِلُّوا قَاصِدِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهُمُ الْحُجَّاجُ، فَالْمُرَادُ قَاصِدُوهُ لِحَجَّةٍ، لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يُقْصَدُ إِلَّا لِلْحَجِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا آمِّينَ مَكَّةَ، لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ قَدْ يَقْصِدُهَا لِتُجْرٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حُرْمَةِ الْبَيْتِ حُرْمَةَ قَاصِدِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ آمِّينَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ آمِّينَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُحَرَّمٌ أَذَاهُمْ فِي حَالَةِ قَصْدِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ رُوِيَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: وَهُوَ أَنَّ خَيْلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَقَائِدُهُمْ شُرَيْحُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْمُلَقَّبُ بِالْحُطَمِ (بِوَزْنِ زُفَرَ) ، وَالْمُكَنَّى أَيْضًا بِابْنِ هِنْدٍ. نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ هِنْدِ بِنْتِ حَسَّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ، وَكَانَ الْحُطَمُ هَذَا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ نُزَلَاءِ الْيَمَامَةِ، فَتَرَكَ خَيْلَهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَدَخَلَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِلَامَ تَدْعُو» فَقَالَ رَسُولُ الله: «إِلَى شهاد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» . فَقَالَ: «حَسَنٌ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَسَأَنْظُرُ وَلَعَلِّي أَنْ أُسْلِمَ وَأَرَى فِي أَمْرِكَ غِلْظَةً وَلِي مِنْ وَرَائِي مَنْ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُمْ» وَخَرَجَ فَمَرَّ بِسَرْحِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَ إِبِلًا كَثِيرَةً وَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا أُعْلِمُوا بِهِ فَلَمْ يَلْحَقُوهُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجَزًا، وَقِيلَ: الرَّجَزُ لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ رُشَيْدُ بْنُ رُمَيْضٍ الْعَنَزِيُّ وَهُوَ: هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ

لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ الْقَدَمْ ثُمَّ أَقْبَلَ الْحُطَمُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ عَامُ الْقَضِيَّةِ فَسَمِعُوا تَلْبِيَةَ حُجَّاجِ الْيَمَامَةِ فَقَالُوا: هَذَا الْحُطَمُ وَأَصْحَابُهُ وَمَعَهُمْ هَدْيٌ هُوَ مِمَّا نَهَبَهُ مِنْ إِبِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نهيهم، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. فَهِيَ حُكْمٌ عَامٌّ نَزَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، وَكَانَ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِبُدْنِ الْحُطَمِ مَشْمُولًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَصْفِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 97] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَجُمْلَةُ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ صِفَةٌ لِ آمِّينَ مِنْ قَصْدِهِمُ ابْتِغَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا لِأَجْلِ الْحَجِّ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِ حُرْمَةِ آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْحَجِيجِ بِسُوءٍ لِأَنَّ الْحَجَّ ابْتِغَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْصِدُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، قَالَ النَّابِغَةُ: حَيَّاكَ رَبِّي فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا مُشَمِّرِينَ عَلَى خُوصٍ مُزَمَّمَةٍ ... نَرْجُو الْإِلَهَ وَنَرْجُو الْبِرَّ وَالطُّعَمَا وَيَتَنَزَّهُونَ عَنْ فُحْشِ الْكَلَامِ، قَالَ الْعَجَّاجُ: وَرَبِّ أَسْرَابٍ حَجِيجٍ كُظَّمٍ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَيُظْهِرُونَ الزُّهْدَ وَالْخُشُوعَ، قَالَ النَّابِغَةُ: بِمُصْطَحِبَاتٍ مِنْ لصاف وثبرة ... بزرن إِلَالًا سَيْرُهُنَّ التَّدَافُعُ عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ ... فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ

وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْحَجِيجِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ: أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي قَصَدُوا فِيهَا الْحَجَّ وَتَلَبَّسُوا عِنْدَهَا بِالْإِحْرَامِ، حَالَةُ خَيْرٍ وَقُرْبٍ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَتَذَكُّرِ نِعَمِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعَانُوا عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا لِأَنَّ الْخَيْرَ يَتَسَرَّبُ إِلَى النَّفْسِ رُوَيْدًا، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ يَتَسَرَّبُ إِلَيْهَا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سَيَجِيءُ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى. وَالْفَضْلُ: خَيْرُ الدُّنْيَا، وَهُوَ صَلَاحُ الْعَمَلِ. وَالرِّضْوَانُ: رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْفَضْلِ الرِّبْحَ فِي التِّجَارَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ إِبْلَاغِ السِّلَعِ إِلَى مَكَّةَ. وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا. تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْإِبَاحَةِ. فَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ النَّهْيِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ نَهْيًا مُسْتَمِرًّا، ثُمَّ الْأَمْرُ بِهِ كَذَلِكَ، وَمَا هُنَا: إِنَّمَا هُوَ نهي موقّت وَأَمْرٌ فِي بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَجْرِي هُنَا مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي مَدْلُولِ صِيغَةِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ حَظْرٍ: أَهْوَ الْإِبَاحَةُ أَوِ النَّدْبُ أَوِ الْوُجُوبُ. فَالصَّيْدُ مُبَاحٌ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ حُرِّمَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا انْتَهَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ رَجَعَ إِلَى إِبَاحَته. وفَاصْطادُوا صِيغَةُ افْتِعَالٍ، اسْتُعْمِلَتْ فِي الْكَلَامِ لِغَيْرِ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ صِيغَةِ الِافْتِعَالِ فِي الْأَصْلِ، فَاصْطَادَ فِي كَلَامِهِمْ مُبَالِغَةً فِي صَادَ. وَنَظِيرُهُ: اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا. وَقد نزّل فَاصْطادُوا مَنْزِلَةَ فِعْلٍ لَازِمٍ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ.

وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَضْمُونِهِ، أَيْ لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَوْ مَعَ عَدُوِّكُمْ إِذا لم يبدأوكم بِحَرْبٍ. وَمَعْنَى يَجْرِمَنَّكُمْ يُكْسِبَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَهُ يَجْرِمُهُ، مِثْلُ ضَرَبَ. وَأَصْلُهُ كَسَبَ، مِنْ جَرَمَ النَّخْلَةَ إِذَا جَذَّ عَرَاجِينَهَا، فَلَمَّا كَانَ الْجَرْمُ لِأَجْلِ الْكَسْبِ شَاعَ إِطْلَاقُ جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ، قَالُوا: جَرَمَ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ كَذَا، أَيْ كَسَبَ. وَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ تَعْتَدُوا، وَالتَّقْدِيرُ: يُكْسِبُكُمُ الشَّنَآنُ الِاعْتِدَاءَ. وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى فِي قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا [الْمَائِدَة: 8] فَلِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَحْمِلَنَّكُمْ. وَالشَّنَآنُ- بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ النُّونِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ إِمَّا أَصَالَةً وَإِمَّا تَخْفِيفًا- هُوَ الْبُغْضُ. وَقِيلَ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ، لِعَطْفِهِ عَلَى الْبَغْضَاءِ فِي قَوْلِ الْأَحْوَصِ: أَنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّقَلُّبِ، لِأَنَّ الشَّنَآنَ فِيهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ، فَهُوَ مِثْلُ الْغَلَيَانِ وَالنَّزَوَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَنَآنُ- بِفَتْحِ النُّونِ-. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ النُّونِ-. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَاكِنَ النُّونِ وَصْفٌ مِثْلُ غَضْبَانَ، أَيْ عَدُوٌّ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ عَدُوُّ قَوْمٍ، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَإِضَافَةُ شَنَآنَ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ بُغْضُكُمْ قَوْمًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ صَدُّوكُمْ، لِأَنَّ الْمُبْغَضَ فِي الْغَالِبِ هُوَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ صَدُّوكُمْ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنْ) -. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ:- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهَا (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ الشَّرْطِ. وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ اسْمٌ جُعِلَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُحِيطِ بِالْكَعْبَةِ الْمَحْصُورِ ذِي الْأَبْوَابِ، وَهُوَ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَمْ يَكُنْ يُدْعَى بِذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانَ السُّجُودِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ سُجُودٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [144] ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاء: 1] . وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ: تَرْجِيحًا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّشْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، يَعْنِي: أَنَّ وَاجِبَكُمْ أَنْ تَتَعَاوَنُوا بَيْنَكُمْ عَلَى فِعْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا وَاجِبُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُعِينُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، لِأَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَيْهَا يُكْسِبُ مَحَبَّةَ تَحْصِيلِهَا، فَيَصِيرُ تَحْصِيلُهَا رَغْبَةً لَهُمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعِينُوا عَلَيْهَا كُلَّ سَاعٍ إِلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عَدُوًّا، وَالْحَجُّ بِرٌّ فَأَعِينُوا عَلَيْهِ وَعَلَى التَّقْوَى، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا يُعَاوَنُونَ عَلَى مَا هُوَ بِرٌّ: لِأَنَّ الْبِرَّ يَهْدِي لِلتَّقْوَى، فَلَعَلَّ تَكَرُّرَ فِعْلِهِ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعَدُوِّ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهِ نُبِّهُوا عَلَى أَنَّ التَّعَاوُنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَدًّا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا فَالضَّمِيرُ وَالْمُفَاعَلَةُ فِي تَعاوَنُوا لِلْمُسْلِمِينَ،

[سورة المائدة (5) : آية 3]

أَيْ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَفَائِدَةُ التَّعَاوُنِ تَيْسِيرُ الْعَمَلِ، وَتَوْفِيرُ الْمَصَالِحِ، وَإِظْهَارُ الِاتِّحَادِ وَالتَّنَاصُرِ، حَتَّى يُصْبِحَ ذَلِكَ خُلُقًا لِلْأُمَّةِ. وَهَذَا قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَة: 28] . وَقَوْلُهُ: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، فَالِاهْتِمَامُ بِحُكْمِ الضِّدِّ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَصُدَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَنْ ظُلْمِ قَوْمٍ لَكُمْ نَحْوَهُمْ شَنَآنٌ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ تَذْيِيلٌ. وَقَوْلُهُ: شَدِيدُ الْعِقابِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ. [3] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. اسْتِئْنَاف بيانيّ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَة: 1] ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا لَيْسَ بِحَلَالٍ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا. وَهِيَ أَحْوَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْعَامِ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ أَكْلِهَا. وَأُدْمِجَ فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْحَيَوَانِ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ الْخِنْزِيرُ، لِاسْتِيعَابِ مُحَرَّمَاتِ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا الِاسْتِيعَابُ دَلِيلٌ لِإِبَاحَةِ مَا سِوَى ذَلِكَ، إِلَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى تَحْرِيمِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَحْرِيمٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالَةٍ

لَا إِلَى الصِّنْفِ. وَأَلْحَقَ مَالِكٌ بِهَا الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ قِيَاسًا، وَهُوَ مِنْ قِيَاسِ الْأَدْوَنِ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ ذَكَرَهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْل: 8] . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِير فِي الأدلّة الْفِقْهِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ أَكْلُ الْخَيْلِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: ذَبَحْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَكَلْنَاهُ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ . وَأَمَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ. فَقِيلَ: لِأَنَّ الْحُمُرَ كَانَتْ حُمُولَتُهُمْ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ. وَقِيلَ: نَهَى عَنْهَا أَبَدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِإِبَاحَتِهَا. فَلَيْسَ لِتَحْرِيمِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَجْهٌ بَيِّنٌ مِنَ الْفِقْهِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ. وَالْمَيْتَةُ الْحَيَوَانُ الَّذِي زَالَتْ مِنْهُ الْحَيَاةُ، وَالْمَوْتُ حَالَةٌ مَعْرُوفَةٌ تَنْشَأُ عَنْ وُقُوفِ حَرَكَةِ الدَّمِ بِاخْتِلَالِ عَمَلِ أَحَدِ الْأَعْضَاءِ الرئيسية أَو كلّها. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِهَا أَنَّ الْمَوْتَ يَنْشَأُ عَنْ عِلَلٍ يَكُونُ مُعْظَمُهَا مُضِرًّا بِسَبَبِ الْعَدْوَى، وَتَمْيِيزُ مَا يُعْدِي عَنْ غَيْرِهِ عَسِيرٌ، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْمَيِّتَ لَا يُدْرَى غَالِبًا مِقْدَارُ مَا مَضَى عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ، فَرُبَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ تَسْتَحِيلُ مَعَهَا مَنَافِعُ لَحْمِهِ وَدَمِهِ مَضَارَّ، فَنِيطَ الْحُكْمُ بِغَالِبِ الْأَحْوَالِ وَأَضْبَطِهَا. وَالدَّمُ هُنَا هُوَ الدَّمُ الْمُهْرَاقُ، أَيِ الْمَسْفُوحُ، وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ سَيَلَانُهُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ [145] ، حَمْلًا لِمُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ عُرُوقِ جَسَدِ الْحَيَوَانِ بِسَبَبِ قَطْعِ الْعِرْقِ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الْجِلْدِ، وَهُوَ سَائِلٌ لَزِجٌ أَحْمَرُ اللَّوْنِ مُتَفَاوِتُ الْحُمْرَةِ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِ الْعُرُوقِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ الْقَذَارَةُ: لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ رَائِحَةً كَرِيهَةً عِنْدَ لِقَائِهِ الْهَوَاءَ، وَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ مَا فِي جَسَدِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُضِرَّةِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِمَعْرِفَتِهَا، أَوْ لِمَا يُحْدِثُهُ تَعَوُّدُ شُرْبِ الدَّمِ مِنَ الضَّرَاوَةِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْخُلُقِ الْإِنْسَانِيِّ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُ الدَّمَ، فَكَانُوا فِي الْمَجَاعَاتِ يَفْصِدُونَ مِنْ إِبِلِهِمْ وَيَخْلِطُونَ الدَّمَ بِالْوَبَرِ وَيَأْكُلُونَهُ، ويسمّونه الْعِلْهِزَ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْهَاء.- وَكَانُوا يملأون الْمَصِيرَ بِالدَّمِ وَيَشْوُونَهَا وَيَأْكُلُونَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [173] . وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْخِنْزِيرُ كَمَا قَالَ: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إِلَى آخِرِ الْمَعْطُوفَاتِ. وَلَمْ يَذْكُرْ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ فِي جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا بِإِضَافَةِ لَفْظِ لَحْمٍ إِلَى الْخِنْزِيرِ. وَلَمْ يَأْتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ بِوَجْهٍ يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [173] . وَيَبْدُو لِي أَنَّ إِضَافَةَ لَفْظِ لَحْمٍ إِلَى الْخِنْزِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَكَلُ لَحْمِهِ لِأَنَّ اللَّحْمَ إِذَا ذُكِرَ لَهُ حُكْمٌ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَكْلُهُ. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا عَدَا أَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ أَحْوَالِ اسْتِعْمَالِ أَجْزَائِهِ هُوَ فِيهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ فِي طَهَارَةِ شَعْرِهِ، إِذَا انْتُزِعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بِالْجَزِّ، وَطَهَارَةِ عِرْقِهِ وَطَهَارَةِ جِلْدِهِ بِالدَّبْغِ، إِذَا اعْتَبَرْنَا الدَّبْغَ مُطَهِّرًا جِلْدَ الْمَيْتَةِ، اعْتِبَارًا بِأَنَّ الدَّبْغَ كَالذَّكَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدَّبْغِ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ أَخْذًا بِعُمُوم قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ أَنَّ لَحْمَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى جَرَاثِيمَ مُضِرَّةٍ لَا تَقْتُلُهَا حَرَارَةُ النَّارِ عِنْدَ الطَّبْخِ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى دَمِ آكِلِهِ عَاشَتْ فِي الدَّمِ فَأَحْدَثَتْ أَضْرَارًا عَظِيمَةً، مِنْهَا مَرَضُ الدِّيدَانِ الَّتِي فِي الْمَعِدَةِ. وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ هُوَ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ اسْمٌ غَيْرُ اللَّهِ.

وَالْإِهْلَالُ: الْجَهْرُ بِالصَّوْتِ وَمِنْهُ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ التَّلْبِيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْحَجِّ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صَارِخًا. قِيلَ: ذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْهِلَالِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا رَأَوْا هِلَالَ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ ابْتِدَاءَ الشَّهْرِ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْهِلَالِ قَدِ اشْتُقَّ مِنْ جَهْرِ النَّاسِ بِالصَّوْتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ. وَكَانُوا إِذَا ذَبَحُوا الْقَرَابِينَ لِلْأَصْنَامِ نَادَوْا عَلَيْهَا بِاسْمِ الصَّنَمِ، فَقَالُوا: بِاسْمِ اللَّاتِ، بِاسْمِ الْعُزَّى. وَالْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي عَرَضَ لَهَا مَا يَخْنُقُهَا. وَالْخَنْقُ: سَدُّ مَجَارِي النَّفَسِ بِالضَّغْطِ عَلَى الْحَلْقِ، أَوْ بِسَدِّهِ، وَقَدْ كَانُوا يَرْبِطُونَ الدَّابَّةَ عِنْدَ خَشَبَةٍ فَرُبَّمَا تَخَبَّطَتْ فَانْخَنَقَتْ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَخْنُقُونَهَا عِنْدَ إِرَادَةِ قَتْلِهَا. وَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: الْمُنْخَنِقَةُ، وَلَمْ يَقُلِ الْمَخْنُوقَةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَالْمَوْقُوذَةُ، فَهَذَا مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ وَغَيْرَهَا فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمُنْخَنِقَةِ أَنَّ الْمَوْتَ بِانْحِبَاسِ النَّفَسِ يُفْسِدُ الدَّمَ بِاحْتِبَاسِ الْحَوَامِضِ الْفَحْمِيَّةِ الْكَائِنَةِ فِيهِ فَتَصِيرُ أَجْزَاءُ اللَّحْمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الدَّمِ مُضِرَّةً لِآكِلِهِ. وَالْمَوْقُوذَةُ: الْمَضْرُوبَةُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا ضَرْبًا تَمُوتُ بِهِ دُونَ إِهْرَاقِ الدَّمِ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ وَقَذَ إِذَا ضَرَبَ ضَرْبًا مُثْخِنًا. وَتَأْنِيثُ هَذَا الْوَصْفِ لِتَأْوِيلِهِ بِأَنَّهُ وَصْفُ بَهِيمَةٍ. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا تُمَاثِلُ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الْمُنْخَنِقَةِ. وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هِيَ الَّتِي سَقَطَتْ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَقَطَتْ فِي بِئْرٍ تَرَدِّيًا تَمُوتُ بِهِ، وَالْحِكْمَةُ وَاحِدَةٌ. وَالنَّطِيحَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَالنَّطْحُ ضَرْبُ الْحَيَوَانِ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِقَرْنَيْهِ حَيَوَانًا آخَرَ. وَالْمُرَادُ الَّتِي نَطَحَتْهَا بَهِيمَةٌ أُخْرَى فَمَاتَتْ.

وَتَأْنِيثُ النَّطِيحَةِ مِثْلُ تَأْنِيثِ الْمُنْخَنِقَةِ، وَظَهَرَتْ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَهِيَ مِنْ بَابِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى مَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ. وَما أَكَلَ السَّبُعُ: أَيُّ بَهِيمَةٍ أَكَلَهَا السَّبُعُ، وَالسَّبُعُ كُلُّ حَيَوَانٍ يَفْتَرِسُ الْحَيَوَانَ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالضَّبْعِ وَالذِّئْبِ وَالثَّعْلَبِ، فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ كُلُّ مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ أَكِيلَةَ السَّبُعِ تَمُوتُ بِغَيْرِ سَفْحِ الدَّمِ غَالِبًا بَلْ بِالضَّرْبِ عَلَى الْمَقَاتِلِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاقِعَ بَعْدَ أَشْيَاءَ يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ بَعْضُهَا، يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَخِيرَةِ إِلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، وَالْمَذْكُورَاتُ قَبْلَ بَعْضِهَا مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا وَبَعْضُهَا مُحَرَّمَاتٌ لِصِفَاتِهَا. وَحَيْثُ كَانَ الْمُسْتَثْنَى حَالًا لَا ذَاتًا، لِأَنَّ الذَّكَاةَ حَالَةٌ، تَعَيَّنَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا عَدَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، إِذْ لَا مَعْنًى لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِ إِذَا لَمْ يُذَكَّ وَتَحْلِيلُهُ إِذَا ذُكِّيَ، لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ عِنْدَ قَصْدِ أَكْلِهِ. ثُمَّ إِنَّ الذَّكَاةَ حَالَةٌ تُقْصَدُ لِقَتْلِ الْحَيَوَانِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ، فَعُلِمَ عَدَمُ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَكَذَلِكَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الذَّكَاةُ بِمَا فِيهِ حَيَاةٌ فَلَا مَعْنًى لِتَعَلُّقِهَا بِالدَّمِ، وَكَذَا مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يُهِلُّونَ بِهِ عِنْدَ الذَّكَاةِ، فَلَا مَعْنًى لِتَعَلُّقِ الذَّكَاةِ بِتَحْلِيلِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاسْتِثْنَاءِ: الْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْوَالٌ تُفْضِي بِهَا إِلَى الْهَلَاكِ، فَإِذَا هَلَكَتْ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ مَيْتَةٌ، وَإِذَا تَدَارَكُوهَا بِالذَّكَاةِ قَبْلَ الْفَوَاتِ أُبِيحَ أَكْلُهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا إِذَا أُلْحِقَتِ الذَّكَاةُ بِهَا فِي حَالَةٍ هِيَ فِيهَا حَيَّةٌ. وَهَذَا الْبَيَانُ يُنَبِّهُ إِلَى وَجْهِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً

أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145] . فَذَكَرَ أَرْبَعَةً لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا شَيْئًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُنَا، لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ فِي حَالِ اتِّصَالِ الْمَوْتِ بِالسَّبَبِ لَا مُطْلَقًا. فَعَضُّوا عَلَى هَذَا بِالنَّوَاجِذِ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ضَبْطِ الْحَالَةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا الذَّكَاةُ فِي هَاتِهِ الْخَمْسِ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ: فَالْجُمْهُورُ ذَهَبُوا إِلَى تَحْدِيدِهَا بِأَنْ يَبْقَى فِي الْحَيَوَانِ رَمَقٌ وَعَلَامَةُ حَيَاةٍ، قَبْلَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، مِنْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ فَمٍ تَحْرِيكًا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ عُرْفًا، وَلَيْسَ هُوَ تَحْرِيكُ انْطِلَاقِ الْمَوْتِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَرِوَايَةُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغًا أُنْفِذَتْ مَعَهُ مَقَاتِلُهَا، بِحَيْثُ لَا تُرْجَى حَيَاتُهَا لَوْ تُرِكَتْ بِلَا ذَكَاةٍ، لَا تَصِحُّ ذَكَاتُهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْفُذْ مَقَاتِلُهَا عَمِلَتْ فِيهَا الذَّكَاةُ. وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالُوا: إِنَّمَا يُنْظَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَحَيَّةٌ هِيَ أَمْ مَيْتَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى حَالَةِ هَلْ يَعِيشُ مِثْلُهَا لَوْ تُرِكَتْ دُونَ ذَبْحٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. وَنَفْسُ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَخَّصَ فِي حَالَةٍ هِيَ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ فِي إِعْمَالِ الذَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تُنْفَذِ الْمَقَاتِلُ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يُبَاحُ الْأَكْلُ، إِذْ هُوَ حِينَئِذٍ حَيَوَانٌ مَرْضُوضٌ أَوْ مَجْرُوحٌ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِإِبَاحَةِ أَكْلِهِ بِذَكَاةٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، أَيْ لَكِنْ كُلُوا مَا ذَكَّيْتُمْ دُونَ الْمَذْكُورَاتِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَكَلَ السَّبُعُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُ الِاسْتِثْنَاءَ لِلْأَخِيرَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى غَلَبَةِ هَذَا الصِّنْفِ بَيْنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ كَانَتِ السِّبَاعُ وَالذِّئَابُ تَنْتَابُهُمْ كَثِيرًا، وَيَكْثُرُ أَنْ يُلْحِقُوهَا فَتُتْرَكُ أَكَيْلَتُهَا فَيُدْرِكُوهَا بِالذَّكَاةِ. وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هُوَ مَا كَانُوا يَذْبَحُونَهُ مِنَ الْقَرَابِينِ وَالنُّشُرَاتِ فَوْقَ الْأَنْصَابِ. وَالنُّصُبُ- بِضَمَّتَيْنِ- الْحَجَرُ الْمَنْصُوبُ، فَهُوَ مُفْرَدٌ مُرَادٌ بِهِ

الْجِنْسُ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ وَوَاحِدُهُ نِصَابٌ، وَيُقَالُ: نَصْبٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] . وَهُوَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَا يُرَادِفُ الصَّنَمَ، وَقَدْ يَخُصُّ الصَّنَمَ بِمَا كَانَتْ لَهُ صُورَةٌ، وَالنُّصُبُ بِمَا كَانَ صَخْرَةً غَيْرَ مُصَوَّرَةٍ، مِثْلَ ذِي الْخَلَصَةِ وَمِثْلَ سَعْدٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ النُّصُبَ هُوَ حِجَارَةٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهَا أَنَّهَا تِمْثَالٌ لِلْآلِهَةِ، بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَنْ تُذْبَحَ عَلَيْهَا الْقَرَابِينُ وَالنَّسَائِكُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا لِلْآلِهَةِ وَلِلْجِنِّ، فَإِنَّ الْأَصْنَامَ كَانَتْ مَعْدُودَةً وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَكَانَتْ فِي مَوَاضِعَ مُعَيَّنَةٍ تُقْصَدُ لِلتَّقَرُّبِ. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَلَمْ تَكُنْ مَعْدُودَةً وَلَا كَانَتْ لَهَا أَسْمَاءٌ وَإِنَّمَا كَانُوا- يَتَّخِذُهَا كُلُّ حَيٍّ- يَتَقَرَّبُونَ عِنْدَهَا، فَقَدْ رَوَى أَئِمَّةُ أَخْبَارِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْكَعْبَةَ، وَهُمْ وَلَدُ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ فِرَاقُ الْكَعْبَةِ فَقَالُوا: الْكَعْبَةُ حَجَرٌ، فَنَحْنُ نَنْصِبُ فِي أَحْيَائِنَا حِجَارَةً تَكُونُ لَنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ، فَنَصَبُوا هَذِهِ الْأَنْصَابَ، وَرُبَّمَا طَافُوا حَوْلَهَا، وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَهَا الدُّوَّارَ- بِضَمِّ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ وَبِتَشْدِيدِ الْوَاوِ- وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا الدِّمَاءَ الْمُتَقَرَّبَ بِهَا فِي دِينِهِمْ. وَكَانُوا يَطْلُبُونَ لِذَلِكَ أَحْسَنَ الْحِجَارَةِ. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا خَيْرًا مِنْهُ أَلْقَيْنَا الْأَوَّلَ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا (أَيْ فِي بِلَادِ الرَّمْلِ) جَمَعْنَا جَثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ لِيَصِيرَ نَظِيرَ الْحَجَرِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ. فَالنُّصُبُ: حِجَارَةٌ أُعِدَّتْ لِلذَّبْحِ وَلِلطَّوَافِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِ الْقَبَائِلِ: مِثْلُ حَجَرِ الْغَبْغَبِ الَّذِي كَانَ حَوْلَ الْعُزَّى. وَكَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَى الْأَنْصَابِ وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَشْوُونَهُ، فَيَأْكُلُونَ بَعْضَهُ وَيَتْرُكُونَ بَعْضًا لِلسَّدَنَةِ، قَالَ الْأَعْشَى، يَذْكُرُ وَصَايَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي صَنَعَهَا فِي مَدْحِهِ: وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَنْسُكَنَّهُ

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفَيْل للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ سُفْرَةً لِيَأْكُلَ مَعَهُ فِي عُكَاظٍ: إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ. وَفِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، وَكَانُوا إِذَا ذَبَحُوا عَلَيْهَا رَشُّوهَا بِالدَّمِ ورشّوا الْكَعْبَة بدمائهم. وَقَدْ كَانَ فِي الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ تَخْصِيصُ صُخُورٍ لِذَبْحِ الْقَرَابِينِ عَلَيْهَا، تَمْيِيزًا بَيْنَ مَا ذُبِحَ تَدَيُّنًا وَبَيْنَ مَا ذُبِحَ لِلْأَكْلِ، فَمِنْ ذَلِكَ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَتَحْتَهَا جُبٌّ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِبِئْرِ الْأَرْوَاحِ، لِأَنَّهَا تَسْقُطُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَالدَّمُ يُسَمَّى رُوحًا. وَمِنْ ذَلِكَ فِيمَا قِيلَ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ فِي جُدُرِ الْكَعْبَةِ. وَمِنْهَا حَجَرُ الْمَقَامِ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. فَلَمَّا اخْتَلَطَتِ الْعَقَائِدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَعَلُوا هَذِهِ الْمَذَابِحَ لِذَبْحِ الْقَرَابِينِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا لِلْآلِهَةِ وَلِلْجِنِّ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النُّصُبُ: أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بِحَرْفِ (عَلَى) ، وَلَمْ يَقِلْ وَمَا ذُبِحَ لِلنُّصُبِ لِأَنَّ الذَّبِيحَةَ تُقْصَدُ لِلْأَصْنَامِ وَالْجِنِّ، وَتُذْبَحُ عَلَى الْأَنْصَابِ، فَصَارَتِ الْأَنْصَابُ مِنْ شَعَائِرِ الشِّرْكِ. وَوَجْهُ عَطْفِ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ هَجَرَ الْمُسْلِمُونَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثِيرِينَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَوَّلُ مَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُدَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَخْتَصُّ الذَّبْحُ عَلَى النُّصُبِ عِنْدَهُمْ بِذَبَائِحِ الْأَصْنَامِ خَاصَّةً، بَلْ يَكُونُ فِي ذَبَائِحِ الْجِنِّ وَنَحْوِهَا مِنَ النُّشُرَاتِ وَذَبَائِحِ دَفْعِ الْأَمْرَاضِ وَدَفْعِ التَّابِعَةِ عَنْ وِلْدَانِهِمْ، فَقَالُوا: كَانُوا يَسْتَدْفِعُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ وَمَسَّ الْجِنِّ، وَبِخَاصَّةٍ الصِّبْيَانَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ لَمَّا أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَدَعَا امْرَأَتَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ

قَالَتْ لَهُ: أَتَخْشَى عَلَى الصِّبْيَةِ مِنْ ذِي الشَّرَى (صَنَمُ دَوْسٍ) . فَقَالَ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ، فَأَسْلَمَتْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَبْحِ بَعْضِ الذَّبَائِحِ عَلَى الْأَنْصَابِ الَّتِي فِي قَبَائِلِهِمْ عَلَى نِيَّةِ التَّدَاوِي وَالِانْتِشَارِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَنْبِيهَهُمْ وَتَأْكِيدَ تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَإِشَاعَتَهُ. وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي آخِرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْمَائِدَة: 90] الْآيَاتِ. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ. الشَّأْن فِي المعطف التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ هَذَا الْمَعْطُوفَ مِنْ نَوْعِ الْمُتَعَاطِفَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهِيَ الْمُحَرَّمُ أَكْلُهَا. فَالْمُرَادُ هُنَا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ الَّذِي يَسْتَقْسِمُونَ عَلَيْهِ بِالْأَزْلَامِ، وَهُوَ لَحْمُ جَزُورِ الْمَيْسِرِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِالْمُقَامَرَةِ، فَتَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ فِي تَسْتَقْسِمُوا مَزِيدَتَيْنِ كَمَا هُمَا فِي قَوْلِهِمُ: اسْتَجَابَ وَاسْتَرَابَ. وَالْمَعْنَى: وَأَنْ تَقْسِمُوا اللَّحْمَ بِالْأَزْلَامِ. وَمِنَ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ ضَرْبٌ آخَرُ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَطَلَّبُونَ بِهِ مَعْرِفَةَ عَاقِبَةِ فِعْلٍ يُرِيدُونَ فِعْلَهُ: هَلْ هِيَ النَّجَاحُ وَالنَّفْعُ أَوْ هِيَ خَيْبَةٌ وَضُرٌّ؟. وَإِذْ قَدْ كَانَ لَفْظُ الِاسْتِقْسَامِ يَشْمَلُهُ فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ النَّهْيِ أَيْضًا، عَلَى قَاعِدَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، فَتَكُونُ إِرَادَتُهُ إِدْمَاجًا وَتَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، أَيْ طَلَبِ الْقِسْمِ. وَطَلَبُ الْقِسْمِ- بِالْكَسْرِ- أَيِ الْحَظُّ مِنْ خَيْرٍ أَوْ ضِدِّهِ، أَيْ طَلَبُ مَعْرِفَتِهِ. كَانَ الْعَرَبُ، كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ، مُولَعِينَ بِمَعْرِفَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا سَيَقَعُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَوْ عَلَى مَا خَفِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَكْتُومَةِ، وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ وَالْجِنَّ يَعْلَمُونَ تِلْكَ الْمُغَيَّبَاتِ فَسَوَّلَتْ سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ لَهُمْ طَرِيقَةً يُمَوِّهُونَ عَلَيْهِمْ بِهَا فَجَعَلُوا أَزْلَامًا. وَالْأَزْلَامُ جَمْعُ زَلَمٍ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَيُقَالُ لَهُ: قِدْحٌ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ- وَهُوَ عُودُ سَهْمٍ لَا حَدِيدَةَ فِيهِ.

وَكَيْفِيَّةُ اسْتِقْسَامِ الْمَيْسِرِ: الْمُقَامَرَةُ عَلَى أَجْزَاءِ جَزُورٍ يَنْحَرُونَهُ وَيَتَقَامَرُونَ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَتِلْكَ عَشَرَةُ سِهَامٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [219] . وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا اسْتَقْسَمْتُمْ عَلَيْهِ بِالْأَزْلَامِ، فَغُيِّرَ الْأُسْلُوبُ وَعُدِلَ إِلَى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، لِيَكُونَ أَشْمَلَ لِلنَّهْيِ عَنْ طَرِيقَتَيِ الِاسْتِقْسَامِ كِلْتَيْهِمَا، وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ بَدِيعٌ. وَأَشْهَرُ صُوَرِ الِاسْتِقْسَامِ ثَلَاثَة قداح: أَحدهَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «أَمَرَنِي رَبِّي» ، وَرُبَّمَا كَتَبُوا عَلَيْهِ «افْعَلْ» وَيُسَمُّونَهُ الْآمِرَ. وَالْآخَرُ: مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «نَهَانِي رَبِّي» ، أَوْ «لَا تَفْعَلْ» وَيُسَمُّونَهُ النَّاهِيَ. وَالثَّالِثُ: غُفْلٌ- بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أُخْتِ الْقَافِ- أَيْ مَتْرُوكٌ بِدُونِ كِتَابَةٍ. فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَكُونُ نَافِعًا أَمْ ضَارًّا، ذَهَبَ إِلَى سَادِنِ صَنَمِهِمْ فَأَجَالَ الْأَزْلَامَ، فَإِذَا خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ كِتَابَةٌ، فَعَلُوا مَا رُسِمَ لَهُمْ، وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوا الْإِجَالَةَ. وَلَمَّا أَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَقُومَ لِأَخْذِ ثَأْرِ أَبِيهِ حُجْرٍ، اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ، صَنَمِ خَثْعَمَ، فَخَرَجَ لَهُ النَّاهِي فَكَسَرَ الْقِدَاحَ وَقَالَ: لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا ... مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا وَقَدْ وَرَدَ، فِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ فَقَالَ: «كَذَبُوا وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَ بِهَا قَطُّ» وَهُمْ قَدِ اخْتَلَقُوا تِلْكَ الصُّورَةَ، أَوْ تَوَهَّمُوهَا لِذَلِكَ، تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَتَضْلِيلًا لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ. وَكَانَتْ لَهُمْ أَزْلَامٌ أُخْرَى عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِهِمْ، وَمِنْ حُكَّامِهِمْ، وَكَانَ مِنْهَا عِنْدَ (هُبَلٍ) فِي الْكَعْبَةِ سَبْعَةٌ قَدْ كَتَبُوا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مِنْ أَهَمِّ مَاِِ

يَعْرِضُ لَهُم فِي شؤونهم، كَتَبُوا عَلَى أَحَدِهَا الْعَقْلُ فِي الدِّيَةِ، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ مَنْ يَحْمِلُ الدِّيَةَ مِنْهُمْ وَأَزْلَامٌ لِإِثْبَاتِ النِّسَبِ، مَكْتُوبٌ عَلَى وَاحِدٍ «مِنْكُمْ» ، وَعَلَى وَاحِدٍ «مِنْ غَيْرِكُمْ» ، وَفِي آخَرَ «مُلْصَقٌ» . وَكَانَتْ لَهُمْ أَزْلَامٌ لِإِعْطَاءِ الْحَقِّ فِي الْمِيَاهِ إِذَا تَنَازَعُوا فِيهَا. وَبِهَذِهِ اسْتَقْسَمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ اسْتَشَارَ الْآلِهَةَ فِي فِدَاءِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ النَّذْرِ الَّذِي نَذَرَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهُ: ارْضِ الْآلِهَةَ فَزَادَ عَشَرَةً حَتَّى بَلَغَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا. وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ يَتَّخِذُ أَزْلَامًا لِنَفْسِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ «أَنَّ سُرَاقَةَ ابْن مَالِكٍ لَمَّا لحق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْتِيَ بِخَبَرِهِ إِلَى أَهْلِ مَكَّة استقسم بالأزلام فَخَرَجَ لَهُ مَا يَكْرَهُ» . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكُمْ فِسْقٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا. وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى مُتَمَيِّزٍ مُعَيَّنٍ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الدِّينِ، وَعَنِ الْخَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَجَعَلَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ فِسْقًا لِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُقَامَرَةٌ، وَفِيهِ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ، لِتَطَلُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا، إِذْ لَيْسَ الِاسْتِقْسَامُ سَبَبًا عَادِيًّا مَضْبُوطًا، وَلَا سَبَبًا شَرْعِيًّا، فَتَمَحَّضَ لِأَنْ يَكُونَ افْتِرَاءً، مَعَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ تَوَهُّمِ النَّاسِ إِيَّاهُ كَاشِفًا عَنْ مُرَادِ اللَّهِ بِهِمْ، مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ لِمَعْرِفَةِ الْمُسَبَّبَاتِ أَسْبَابًا عَقْلِيَّةً: هِيَ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الْعَقْلِ، أَوْ مِنْ أَدِلَّتِهِ، كَالتَّجْرِبَةِ، وَجَعَلَ أَسْبَابًا لَا تُعْرَفُ سَبَبِيَّتُهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ: كَجَعْلِ الزَّوَالِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ فِسْقًا، وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا بِجُرْحَةِ مَنْ يَنْتَحِلُ ادِّعَاءَ مَعْرِفَةِ الْغُيُوبِ.

وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ الْمُسَبَّبَاتُ مِنْ أَسْبَابِهَا كَتَعَرُّفِ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّحَابِ، وَتَرَقُّبِ خُرُوجِ الْفَرْخِ مِنَ الْبَيْضَةِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنُ غُدَيْقَةٍ» أَيْ سَحَابَةٍ مِنْ جِهَةِ بَحْرِهِمْ، وَمَعْنَى «عَيْنُ» أَنَّهَا كَثِيرَةُ الْمَطَرِ. وَأَمَّا أَزْلَامُ الْمَيْسِرِ، فَهِيَ فِسْقٌ، لِأَنَّهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. جُمْلَةٌ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبَيْنَ آيَةِ الرُّخْصَةِ الْآتِيَةِ: وَهِيَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْآيَةِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ يَقْضِي بِاتِّصَالِهَا بِمَا تَقَدَّمَهَا. وَلَا يَصْلُحُ لِلِاتِّصَالِ بِهَا إِلَّا قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الْآيَةَ. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ: هِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ أُمُورًا كَانَ فِعْلُهَا مِنْ جُمْلَةِ دِينِ الشِّرْكِ، وَهِيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَتَحْرِيمُ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَكَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ بِمُفَارَقَةِ مُعْتَادِهِمْ، وَالتَّقْلِيلِ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، أَعْقَبَ هَذِهِ الشِّدَّةَ بِإِينَاسِهِمْ بِتَذْكِيرِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إِكْمَالٌ لِدِينِهِمْ، وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ أَحْوَالِ ضَلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ كَمَا أُيِّدُوا بِدِينٍ عَظِيمٍ سَمْحٍ فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوا مَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِصْلَاحِهِمْ: فَالْبَعْضُ مَصْلَحَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَنَافِعِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْبَعْضُ مَصْلَحَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّرَفُّعِ عَنْ حَضِيضِ الْكُفْرِ: وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَذْكَرَهُمْ بِفَوْزِهِمْ عَلَى مَنْ يُنَاوِيهِمْ، وَبِمَحَاسِنِ دِينِهِمْ وَإِكْمَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ إِكْمَالِ الْإِصْلَاحِ إِجْرَاءَ الشِّدَّةِ عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ. وَذُكِّرُوا بِالنِّعْمَةِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الشِّدَّةِ بِاللِّينِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ، زَمَانًا، إِذَا سَمِعُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ رَجَوْا أَنْ تَثْقُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، وَيَرْجِعُوا

إِلَى الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَنِكَايَةً بِالْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي سَتَأْتِي عَقِبَهَا. وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَجَمْعٍ، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. فَ الْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَهُوَ يَوْمُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ أَبْهَجَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ، وَظَهَرَ فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الدِّينِ، بَيْنَ ظَهَرَانِيِّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشِّرْكِ، مَا أَيْأَسَهُمْ مِنْ تَقَهْقُرِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قُلُوبَ جَمِيعِ الْعَرَبِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَكَّةَ وَمَوْسِمِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ: الَّتِي كَانَتْ فِيهَا حَيَاتُهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالتِّجَارِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ والأدبية، وقوام شؤونهم، وَتَعَارُفُهِمْ، وَفَصْلُ نِزَاعِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ انْفِرَادُ الْمُسْلِمِينَ بِتِلْكَ الْمَوَاطِنِ قَاطِعًا لِبَقِيَّةِ آمَالِهِمْ: مِنْ بَقَاءِ دِينِ الشِّرْكِ، وَمِنْ مُحَاوَلَةِ الْفَتِّ فِي عَضُدِ الْإِسْلَامِ. فَذَلِكَ الْيَوْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ: يَوْمُ تَمَامِ الْيَأْسِ وَانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُعَاوِدُهُمُ الرَّجَاءُ تَارَةً. فَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «اعْلُ هُبَلُ- وَقَالَ- لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» . وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ أَوْ أَخُوهُ، يَوْمَ هَوَازِنَ، حِينَ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ وَظَنَّهَا هَزِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ: «أَلَا بَطُلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ» . وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِيمَا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ» . والْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ، جَدِيرٌ بِالِامْتِنَانِ بِزَمَانِهِ،

وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ (الْيَوْمَ) بِمَعْنَى الْآنَ، أَيْ زَمَانَ الْحَالِ، الصَّادِقِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، رَسَخَ الْيَأْسُ، فِي خِلَالِهَا، فِي قُلُوبِ أَهْلِ الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ خَامَرَ نُفُوسَهُمُ التَّرَدُّدُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ يُطْلِقُونَ (الْيَوْمَ) عَلَى زَمَنِ الْحَالِ، (والأمس) عَلَى الْمَاضِي، وَ (الْغَدَ) عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي يُرِيدُ بِالْيَوْمِ زَمَانَ الْحَالِ، وَبِالْأَمْسِ مَا مَضَى، وَبِالْغَدِ مَا يُسْتَقْبَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ: رَأَيْتُكَ أَمْسِ خَيْرَ بَنِي مَعَدٍّ ... وَأَنْتَ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكَ أَمْسِ وَأَنْتَ غَدًا تُزِيدُ الْخَيْرَ خَيْرًا ... كَذَاكَ تُزِيدُ سَادَةُ عَبْدِ شَمْسِ وَفِعْلُ يَئِسَ يَتَعَدَّى بِ (مِنْ) إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مَرْجُوًّا مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ دُخُولَ (مِنَ) الَّتِي هِيَ لِتَعْدِيَةِ يَئِسَ عَلَى قَوْلِهِ دِينِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ يَئِسُوا مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، يَعْنِي الْإِسْلَامَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي حُصُولِهِ: هُوَ فُتُورُ انْتِشَارِ الدِّينِ وَارْتِدَادِ مُتَّبِعِيهِ عَنْهُ. وَتَفْرِيعُ النَّهْيِ عَنْ خَشْيَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوْهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ يَأْسِهِمْ مِنْ أَذَى الدِّينِ: لِأَنَّ يَأْسَ الْعَدُوِّ مِنْ نَوَالِ عَدُوِّهِ يُزِيلُ بَأْسَهُ، وَيُذْهِبُ حَمَاسَهُ، وَيُقْعِدُهُ عَنْ طَلَبِ عَدُوِّهِ. وَفِي الحَدِيث: «ونصرت بالرّغب» . فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ يَأْسِهِمْ طَمَّنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَأْسِ عَدُوِّهِمْ، فَقَالَ: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أَوْ لِأَنَّ الْيَأْسَ لَمَّا كَانَ حَاصِلًا مِنْ آثَارِ انْتِصَارَاتِ الْمُسْلِمِينَ، يَوْمًا فَيَوْمًا، وَذَلِكَ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ لَهُمْ، ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ، وَإِنَّ فَرِيقًا لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ بَأْسُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا لَأَحْرِيَاءُ بِأَنْ لَا يُخْشَى بَأْسُهُمْ، وَأَنْ يُخْشَى مَنْ خَذَلَهُمْ وَمَكَّنَ أَوْلِيَاءَهُ مِنْهُمْ.

وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ مُفَادَ صِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَوْ قِيلَ: فَإِيَّايَ فَاخْشَوْنِ لَجَرَى عَلَى الْأَكْثَرِ فِي مَقَامِ الْحَصْرِ، وَلَكِنْ عَدَلَ إِلَى جُمْلَتَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ: لِأَنَّ مُفَادَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقْصُودٌ، فَلَا يَحْسُنُ طَيُّ إِحْدَاهُمَا. وَهَذَا مِنَ الدَّوَاعِي الصَّارِفَةِ عَنْ صِيغَةِ الْحَصْرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِصِيغَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ الْآتِي فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [الْمَائِدَة: 44] . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. إِنْ كَانَتْ آيَةُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَزَلَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ آيَةِ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ بِنَحْوِ الْعَامَيْنِ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ، كَانَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، ابْتِدَائِيَّةً، وَكَانَ وُقُوعُهَا فِي الْقُرْآنِ، عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا، بتوقيف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِهَا مَعَ نَظِيرِهَا فِي إِكْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ، اعْتِقَادًا وَتَشْرِيعًا، وَكَانَ الْيَوْمُ الْمَعْهُودُ فِي هَذِهِ غَيْرَ الْيَوْمِ الْمَعْهُودِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَتَا نَزَلَتَا مَعًا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَآخَرِينَ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَذَلِكَ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مُوَافَقَةِ التِّلَاوَةِ لِلنُّزُولِ، كَانَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْدَادًا لِمِنَّةٍ أُخْرَى، وَكَانَ فَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا جَارِيًا عَلَى سِنَنِ الْجُمَلِ الَّتِي تُسَاقُ لِلتَّعْدَادِ فِي مِنَّةٍ أَوْ تَوْبِيخٍ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ: أُعِيدَ لِفَظُ الْيَوْمَ لِيَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ أَكْمَلْتُ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالظَّرْفِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: يَئِسَ فَلَمْ يَقُلْ: وَأَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.

وَالدِّينُ: مَا كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَقَائِدِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالشَّرَائِعِ، وَالنُّظُمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [19] . فَإِكْمَالُ الدِّينِ هُوَ إِكْمَالُ الْبَيَانِ الْمُرَادِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَنْجِيمُهُ، فَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الِاعْتِقَادِ، الَّتِي لَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ جَهْلُهَا، وَبَعْدَ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ- الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ- بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَعْدَ بَيَانِ شَرَائِعِ الْمُعَامَلَاتِ وَأُصُولِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ، كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ تَمَّ الْبَيَانُ الْمُرَادُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْل: 89] وَقَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] بِحَيْثُ صَارَ مَجْمُوعُ التَّشْرِيعِ الْحَاصِلِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَافِيًا فِي هَدْيِ الْأُمَّةِ فِي عِبَادَتِهَا، وَمُعَامَلَتِهَا، وَسِيَاسَتِهَا، فِي سَائِرِ عُصُورِهَا، بِحَسَبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهَا، فَقَدْ كَانَ الدِّينُ وَافِيًا فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا يَحْتَاجُهُ الْمُسْلِمُونَ. وَلَكِنِ ابْتَدَأَتْ أَحْوَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بَسِيطَةً ثُمَّ اتَّسَعَتْ جَامِعَتُهُمْ، فَكَانَ الدِّينُ يَكْفِيهِمْ لِبَيَانِ الْحَاجَاتِ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمِقْدَارِ اتِّسَاعِهَا، إِذْ كَانَ تَعْلِيمُ الدِّينِ بِطَرِيقِ التَّدْرِيجِ لِيَتَمَكَّنَ رُسُوخُهُ، حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ جَامِعَةُ الْمُسلمين كلّ شؤون الْجَوَامِعِ الْكُبْرَى، وَصَارُوا أُمَّةً كَأَكْمَلِ مَا تَكُونُ أُمَّةً، فَكَمُلَ مِنْ بَيَانِ الدَّيْنِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ بِحَاجَاتِهِمْ كُلِّهَا، فَذَلِكَ مَعْنَى إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الدِّينَ كَانَ نَاقِصًا، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ فِي الْأُمَمِيَّةِ غَيْرُ مُسْتَوْفَاةٍ، فَلَمَّا تَوَفَّرَتْ كَمُلَ الدِّينُ لَهُمْ فَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْآيَةِ. وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَعَلَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعُ شَيْءٍ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ تَشْرِيعُهُ مِنْ قَبْلُ بِالْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ. فَمَا نَجِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ، بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِمَّا فِيهِ تَشْرِيعٌ أَنَفَ مِثْلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، نَجْزِمُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيءِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَلَا فَرْضٌ. فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَضَاعُوا كُلَّ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُرْآنُ لَاسْتَطَاعُوا

الْوُصُولَ بِهِ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ. قَالَ الشَّاطِبِيُّ: «الْقُرْآنُ، مَعَ اخْتِصَارِهِ، جَامِعٌ وَلَا يَكُونُ جَامِعًا إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَمَّتْ بِتَمَامِ نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ: أَنَّ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْجِهَادَ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، لَمْ تُبَيَّنْ جَمِيعُ أَحْكَامِهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْهَا السنّة، وَكَذَلِكَ الماديّات مِنَ الْعُقُودِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى رُجُوعِ الشَّرِيعَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَجَدْنَاهَا قَدْ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْكَمَالِ، وَهِيَ: الضَّرُورِيَّاتُ، وَالْحَاجِيَّاتُ، وَالتَّحْسِينَاتُ وَمُكَمِّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَالْخَارِجُ عَنِ الْكِتَابِ مِنَ الْأَدِلَّةِ: وَهُوَ السُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْقُرْآنِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ والواشمات وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ والواصلات والمستوصلات والمنتمصات لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» فَبَلَغَ كَلَامُهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: «لَعَنْتَ كَذَا وَكَذَا» فَذَكَرَتْهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ» ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ، فَمَا وَجَدْتُهُ» ، فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ» : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الْحَشْر: 7] » اه. فَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ جَامِعُ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ الْحُجَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ قَدْ بَلَغَ لِجَمِيعِهِمْ وَلَا يَسَعُهُمْ جَهْلُ مَا فِيهِ، فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ غَيْرُ الْقُرْآنِ لَكَفَاهُمْ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ، لِأَنَّ كُلِّيَّاتِهِ وَأَوَامِرَهُ الْمُفَصَّلَةَ ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ، وَمُجْمَلَاتِهِ تَبْعَثُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَعَرُّفِ بَيَانِهَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَعْمَالِ الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ، الْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي شَأْنِ كِتَابَةِ النَّبِيءِ لَهُمْ كِتَابًا فِي مَرَضِهِ قَالَ عُمَرُ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا قَصَرَ نَفْسَهُ عَلَى عِلْمِ الْقُرْآنِ فَوَجَدَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الْبَقَرَة: 43] وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الْأَنْعَام: 141] وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] وأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: 196] ، لَتَطَلَّبَ بَيَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَرَّرَ مِنْ عَمَلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ،

وَأَيْضًا فَفِي الْقُرْآنِ تَعْلِيمُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاء: 83] . فَلَا شَكَّ أَنَّ أَمر الْإِسْلَام بدىء ضَعِيفًا ثُمَّ أَخَذَ يَظْهَرُ ظُهُورَ سَنَا الْفَجْرِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دِينٌ، يُبَيِّنُ لِأَتْبَاعِهِ الْخَيْرَ وَالْحَرَامَ وَالْحَلَالَ، فَمَا هَاجَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمُعْظَمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَ الدِّينُ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرِ شَرِيعَةٍ مُسْتَوْفَاةٍ فِيهَا بَيَانُ عِبَادَةِ الْأُمَّةِ، وَآدَابِهَا، وَقَوَانِينَ تَعَامُلِهَا، ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَجَاءَتِ الْوُفُودُ مُسْلِمِينَ، وَغَلَبَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِلَادِ الْعَرَبِ، تَمَكَّنَ الدِّينُ وَخَدَمَتْهُ الْقُوَّةُ، فَأَصْبَحَ مَرْهُوبًا بَأْسُهُ، وَمَنَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ بَعْدَ عَامٍ، فَحَجَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ عَشَرَةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ أَجْلَى مَظَاهِرِ كَمَالِ الدِّينِ: بِمَعْنَى سُلْطَانِ الدِّينِ وَتَمْكِينِهِ وَحِفْظِهِ، وَذَلِكَ تَبَيَّنَ وَاضِحًا يَوْمَ الْحَجِّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ. لَمْ يَكُنِ الدِّينُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ غَيْرَ كَافٍ لِأَتْبَاعِهِ: لِأَنَّ الدِّينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، مِنْ وَقْتِ الْبَعْثَةِ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آخِذًا بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْإِسْلَامِ، فَإِكْمَالُ الدِّينِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ إِكْمَالٌ لَهُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ، وَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَامِلٌ فِيمَا يُرَادُ مِنْ أَتْبَاعِهِ الْحَاضِرِينَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، فَإِكْمَالُ الدِّينِ إِكْمَالُ بَقِيَّةِ مَا كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، إِذِ الْإِسْلَامُ قَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِمَا يَشْمَلُ الْحَجَّ، إِذْ قَدْ مَكَّنَهُمْ يَوْمَئِذٍ

مِنْ أَدَاءِ حَجِّهِمْ دُونَ مُعَارِضٍ، وَقَدْ كَمُلَ أَيْضًا سُلْطَانُ الدِّينِ بِدُخُولِ الرَّسُولِ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَخْرَجُوهُ مِنْهُ، وَمَكَّنَهُ مِنْ قَلْبِ بِلَادِ الْعَرَبِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ دِينُ الْإِسْلَامِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِتَشْرِيفِهِمْ بِذَلِكَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْقُرْآنَ: لِأَنَّ آيَاتٍ كَثِيرَةً نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَآيَةُ الْكَلَالَةِ، الَّتِي فِي آخِرِ النِّسَاءِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَسُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: 1] كَذَلِكَ، وَقَدْ عَاشَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَحْوًا مِنْ تِسْعِينَ يَوْمًا، يُوحَى إِلَيْهِ. وَمَعْنَى (الْيَوْمَ) فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَظِيرُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي إِتْمَامُ النِّعْمَةِ: هُوَ خُلُوصُهَا مِمَّا يُخَالِطُهَا: مِنَ الْحَرَجِ، وَالتَّعَبِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمُ، فَيَكُونُ تَمَامُ النِّعْمَةِ حَاصِلًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِتْمَامُ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُوَ زَوَالُ مَا كَانُوا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْخَوْفِ فَمَكَّنَهُمْ من الْحَج آمين، مُؤْمِنِينَ، خَالِصِينَ، وَطَوَّعَ إِلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ فِي نِعْمَةٍ فَأَتَمَّهَا عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ زَمَانُ ظُهُورِ هَذَا الْإِتْمَامِ: إِذِ الْآيَةُ نَازِلَةٌ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ ضَعِيفًا، فَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَشَدِّ أَعْدَائِهِمْ، وَأَحْرَصِهِمْ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ، لَكِنْ يُنَاكِدُهُ قَوْلُهُ: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلَاتٍ بَعِيدَةٍ. وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي: أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ مِنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ إِكْمَالِ الدِّينِ،

وَهِيَ نِعْمَةُ النَّصْرِ، وَالْأُخُوَّةِ، وَمَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا إِكْمَالُ الدِّينِ، فَهُوَ عَطْفٌ عَامٌّ عَلَى خَاصٍّ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ الدِّينَ، وَإِتْمَامُهَا هُوَ إِكْمَالُ الدِّينِ، فَيَكُونُ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا، وَيَكُونُ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُغَايَرَةِ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ، لِيُفِيدَ أَنَّ الدِّينَ نِعْمَةٌ وَأَنَّ إِكْمَالَهُ إِتْمَامٌ لِلنِّعْمَةِ فَهَذَا الْعَطْفُ كَالَّذِي فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ فِي «مَعَانِي الْقُرْآنِ» : إِلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَا ... مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وَقَوْلُهُ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً الرِّضَى بِالشَّيْءِ الرُّكُونُ إِلَيْهِ وَعَدَمُ النَّفْرَةِ مِنْهُ، وَيُقَابِلُهُ السُّخْطُ: فَقَدْ يَرْضَى أَحَدٌ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فَيَقُولُ: رَضِيتُ بِكَذَا، وَقَدْ يَرْضَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى اخْتِيَارِهِ لَهُ، وَاعْتِقَادِهِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ، فَيُعَدَّى بِاللَّامِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ رِضَاهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، كَمَا تَقُولُ: اعْتَذَرْتُ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا» ، وَكَذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهُ: لَكُمْ وَعُدِّيَ رَضِيتُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِدُونِ الْبَاءِ. وَظَاهِرُ تَنَاسُقِ الْمَعْطُوفَاتِ: أَنَّ جُمْلَةَ رَضِيتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، وَأَنَّ تَعَلُّقَ الظَّرْفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ سَارَ إِلَى الْمَعْطُوفَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الْيَوْمَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ رِضَى الْإِسْلَامِ دِينًا لِلْمُسْلِمِينَ ثَابِتًا فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقَبْلَهُ، تَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ فِي تَعْلِيقِ ذَلِكَ الظَّرْفِ بِ رَضِيتُ فَتَأَوَّلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ الْمَعْنَى: آذَنْتُكُمْ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ: يَعْنِي أَيْ هَذَا التَّأْوِيلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ إِعْلَانُ ذَلِكَ، وَالْإِيذَانُ بِهِ، لَا حُصُولَ رِضَى اللَّهِ بِهِ دِينًا لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الرِّضَى بِهِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ سَابِقَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ «رَضِيتُ» مَجَازٌ فِي مَعْنَى «أَذَنْتُ» لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ ذَلِكَ: لِأَنَّهُ يَزُولُ مِنْهُ مَعْنَى اخْتِيَارِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعَدِّي إِلَى قَوْلِهِ: الْإِسْلامَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى مَعْنَى الْإِيذَانِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَيَكُونُ مِنَ الْكِنَايَةِ فِي التَّرْكِيبِ. وَلَوْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَ

هَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ، فَكَمَا اسْتُعْمِلَ الْخَبَرُ كَثِيرًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُخْبِرِ عَالِمًا بِهِ، اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِعْلَامِ وَإِعْلَانِهِ. وَقَدْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ أَبَدِيٌّ: لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُخْتَارَ الْمُدَّخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا أَنْفَسَ مَا أُظْهِرَ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَالْأَنْفَسُ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ غَايَةٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ نَسْخَ الْأَحْكَامِ قَدِ انْتَهَى. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وُجُودُ الْفَاءِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، مَعَ عَدَمِ مُنَاسِبَةِ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَمَا وَلِيَتْهُ، يُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِبَعْضِ الْآيِ الَّتِي سَبَقَتْ، وَقَدْ جَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ مُرْتَبِطَةً بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ فِي كَلَامِهِمْ إِلَى انْتِظَامِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدِ انْفَرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِبَيَانِ ذَلِكَ فَجَعَلَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ اعْتِرَاضًا. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْنِي بِاتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا: اتِّصَالَ الْكَلَامِ النَّاشِئِ عَنْ كَلَامٍ قَبْلَهُ، فَتَكُونُ الْفَاءُ عِنْدَهُ لِلْفَصِيحَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ تَحْرِيمَ كَثِيرٍ مِمَّا كَانُوا يَقْتَاتُونَهُ، وَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ الْعَرَبِ قَلِيلَةَ الْأَقْوَاتِ، مُعَرَّضَةً لِلْمَخْمَصَةِ: عِنْدَ انْحِبَاسِ الْأَمْطَارِ، أَوْ فِي شِدَّةِ كَلَبِ الشِّتَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ صُنُوفِ الْأَطْعِمَةِ مَا يَعْتَاضُونَ بِبَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ، كَمَا طَفَحَتْ بِهِ أَقْوَالُ شُعَرَائِهِمْ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ كَثِيرٍ مِنْ مُعْتَادِ طَعَامِهِمْ مُؤْذِنًا بِتَوَقُّعٍ مِنْهُمْ أَنْ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى امْتِدَادِ يَدِ الْهَلَاكِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ

يُفْصِحَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ الْمُعْرِبِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ بِتَقْدِيرِ: فَإِنْ خَشِيتُمُ الْهَلَاكَ فِي مَخْمَصَةٍ فَمَنُ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ الْخَ. وَلَا تَصْلُحُ الْفَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْعَطْفِ: إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ جُمَلِ التَّحْرِيمِ مَا يَصْلُحُ لِعَطْفِ «مَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ» عَلَيْهِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، اتِّصَالَ الْمَعْطُوفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ: تَفْرِيعِ مِنَّةٍ جُزْئِيَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ كُلِّيَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ بِالْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مَرَّةً بِوَصْفِهِ فِي قَوْلِهِ دِينِكُمْ، وَمَرَّةً بِالْعُمُومِ الشَّامِلِ لَهُ فِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِي، وَمَرَّةً بِاسْمِهِ فِي قَوْلِهِ: الْإِسْلامَ فَقَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ الْإِسْلَامَ أَفْضَلُ صِفَاتِهِ السَّمَاحَةُ وَالرِّفْقُ، مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا عَلَّمَهُمْ يُوجَسُونَ خِيفَةَ الْحَاجَةِ فِي الْأَزَمَاتِ بَعْدَ تَحْرِيمِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْمِنَّةِ ثُمَّ أَزَالَ عَقِبَ ذَلِكَ مَا أَوْجَسُوهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ الْخَ فَنَاسَبَ أَنْ تُعْطَفَ هَاتِهِ التَّوْسِعَةُ، وَتُفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وَتُعَقَّبَ الْمِنَّةُ الْعَامَّةُ بِالْمِنَّةِ الْخَاصَّةِ. وَالِاضْطِرَارُ: الْوُقُوعُ فِي الضَّرُورَةِ، وَفِعْلُهُ غَلَبَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [126] . وَالْمَخْمَصَةُ: الْمَجَاعَةُ، اشْتُقَّتْ مِنَ الْخَمْصِ وَهُوَ ضُمُورُ الْبَطْنِ، لِأَنَّ الْجُوعَ يُضْمِرُ الْبُطُونَ، وَفِي الْحَدِيثِ «تَغْدُو خماصا فتروح بِطَانًا» . وَالتَّجَانُفُ: التَّمَايُلُ، وَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [الْبَقَرَة: 182] الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اضْطُرَّ غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى الْحَرَامِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، أَوْ مِنْ مُخَالَفَةِ الدِّينِ. وَهَذِهِ حَالٌ قُصِدَ بِهَا ضَبْطُ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا كَانَ رَائِمًا بِذَلِكَ تَنَاوَلَهَا مَعَ ضَعْفِ الِاحْتِيَاجِ، وَلَا يَحْجِمُ عَنْ تَنَاوُلِهَا إِذَا خَشِيَ أَنْ

[سورة المائدة (5) : آية 4]

يَتَنَاوَلَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ بِالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [الْبَقَرَة: 173] ، أَيْ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ عَلَى النَّاسِ وَلَا عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ. وَوَقَعَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» مُغْنِيًا عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ كَالْعِلَّةِ لَهُ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِمِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَلَهُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ نَظِيرَتِهَا فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْبَقَرَة: 173] . [4] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 4] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. إِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ سَأَلُوا عَمَّا أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ، وَأُرِيدَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمُ الْآنَ، فَالْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ السُّؤَالِ، أَيْ تَكَرُّرِهِ أَوْ تَوَقُّعِ تَكَرُّرِهِ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ فصل جملَة يَسْئَلُونَكَ أَنَّهَا اسْتِئْنَاف بيانيّ ناشىء عَنْ جُمْلَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] وَقَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [الْمَائِدَة: 3] أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلِانْتِقَالِ مِنْ بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى بَيَانِ الْحَلَالِ بِالذَّاتِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَوَقُّعُ السُّؤَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ سَأَلُوكَ، فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ لِتَوَقُّعِ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسُ عَنْ ضَبْطِ الْحَلَالِ، لِأَنَّهُ مِمَّا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا عُدِّدَ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِمَّا تَقَدَّمَ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [189] : أنّ صِيغَة يَسْئَلُونَكَ فِي الْقُرْآنِ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْجَوَابُ قَدْ حَصَلَ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوَّلًا ثُمَّ بِبَيَانِ الْحَلَالِ، أَوْ بِبَيَانِ الْحَلَالِ فَقَطْ، إِذَا كَانَ

بَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ سَابِقًا عَلَى السُّؤَالِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَدْ قُصِدَ الِاهْتِمَامُ بِبَيَانِ الْحَلَالِ بِوَجْهٍ جَامِعٍ، فَعَنَوْنَ الِاهْتِمَامَ بِهِ بِإِيرَادِهِ بِصِيغَةِ السُّؤَالِ الْمُنَاسِبِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ. والطَّيِّباتُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيِ الْأَطْعِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَهِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالطَّيِّبِ، أَيِ الَّتِي طَابَتْ. وَأَصْلُ مَعْنَى الطَّيِّبِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَالزَّكَاءِ وَالْوَقْعِ الْحَسَنِ فِي النَّفْسِ عَاجِلًا وَآجِلًا، فَالشَّيْءُ الْمُسْتَلَذُّ إِذَا كَانَ وَخِمًا لَا يُسَمَّى طَيِّبًا: لِأَنَّهُ يُعْقِبُ أَلَمًا أَوْ ضُرًّا، وَلِذَلِكَ كَانَ طَيِّبُ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْسَنِ نَوْعِهِ وَأَنْفَعِهِ. وَقَدْ أُطْلِقَ الطَّيِّبُ عَلَى الْمُبَاحِ شَرْعًا لِأَنَّ إِبَاحَةَ الشَّرْعِ الشَّيْءَ عَلَامَةٌ عَلَى حُسْنِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ، قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: 168] . وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ لِيَصِحَّ إِسْنَادُ فِعْلِ أُحِلَّ إِلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الطَّيِّبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [168] ، وَيَجِيءُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [58] . والطَّيِّباتُ وَصْفٌ لِلْأَطْعِمَةِ قُرِنَ بِهِ حُكْمُ التَّحْلِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّيِّبَ عِلَّةُ التَّحْلِيلِ، وَأَفَادَ أَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْخَبَائِثُ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ، فِي ذكر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: 157] . وَقد اخْتلفت أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي ضَبْطِ وَصْفِ الطَّيِّبَاتِ فَعَنْ مَالِكٍ: الطَّيِّبَاتُ الْحَلَالُ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْحِلَّ هُوَ الْمُؤْذِنُ بِتَحَقُّقِ وَصْفِ الطَّيِّبِ فِي الطَّعَامِ الْمُبَاحِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الطَّيِّبَ قَدْ يَخْفَى، فَأَخَذَ مَالِكٌ بِعَلَامَتِهِ وَهِيَ الْحِلُّ كَيْلَا يَكُونَ قَوْلُهُ: الطَّيِّباتُ حَوَالَةً عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ بَيْنَ النَّاسِ مِثْلَ الِاسْتِلْذَاذِ، فَيَتَعَيَّنُ، إِذَنْ، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهُ ضَبْطَ الْحَلَالِ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ الِامْتِنَانُ

وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فَهُوَ طَيِّبٌ، إِبْطَالًا لِمَا اعْتَقَدُوهُ فِي زَمَنِ الشِّرْكِ: مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَا مُوجِبَ لِتَحْرِيمِهِ، وَتَحْلِيلِ مَا هُوَ خَبِيثٌ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَكَرُّرُ ذِكْرِ الطَّيِّبَاتِ مَعَ ذِكْرِ الْحَلَالِ فِي الْقُرْآنِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَة: 5] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [157] : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: الطَّيِّبَاتُ: الْحَلَالُ الْمُسْتَلَذُّ، فَكُلُّ مُسْتَقْذَرٍ كَالْوَزَغِ فَهُوَ مِنَ الْخَبَائِثِ حَرَامٌ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: الْعِبْرَةُ فِي الِاسْتِلْذَاذِ وَالِاسْتِطَابَةِ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَسْتَطْيِبُونَ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَتَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] فَهَذَا يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِحُرْمَةِ الْخَبَائِثِ، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا كَبِيرًا فِي مَعْرِفَةِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ. مِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِمُبَاحٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُسْتَلَذٌّ مُسْتَطَابٌ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. وَفِي «شَرْحِ الْهِدَايَةِ» فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ لِمُحَمَّدٍ الْكَاكِيِّ «أَنَّ مَا اسْتَطَابَهُ الْعَرَبُ حَلَالٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ [الْأَعْرَاف: 157] ، وَمَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: 157] . وَالَّذِينَ تُعْتَبَرُ اسْتِطَابَتُهُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَخُوطِبُوا بِهِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَهْلُ الْبَوَادِي لِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مَا يَجِدُونَ لِلضَّرُورَةِ وَالْمَجَاعَةِ. وَمَا يُوجَدُ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ رُدَّ إِلَى أَقْرَبِ مَا يُشْبِهُهُ فِي الْحِجَازِ اه. وَفِيهِ مِنَ التَّحَكُّمِ فِي تَحْكِيمِ عَوَائِدِ بَعْضِ الْأُمَّةِ دُونَ بَعْضٍ مَا لَا يُنَاسِبُ التَّشْرِيعَ الْعَامَّ، وَقَدِ اسْتَقْذَرَ أَهْلُ الْحِجَازِ لَحْمَ الضَّبِّ بِشَهَادَة قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: «لَيْسَ هُوَ مِنْ أَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَى خَالِدٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَاطَ إِبَاحَةَ الْأَطْعِمَةِ بِوَصْفِ الطَّيِّبِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى ذَاتِ الطَّعَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ضَارٍّ وَلَا مُسْتَقْذَرٍ وَلَا مُنَافٍ لِلدِّينِ، وَأَمَارَةُ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنْ لَا يُحَرِّمَهُ

الدِّينُ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُعْتَدِلِينَ مِنَ الْبَشَرِ، مِنْ كُلِّ مَا يَعُدُّهُ الْبَشَرُ طَعَامًا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْعَوَائِدِ وَالْمَأْلُوفَاتِ، وَعَنِ الطَّبَائِعِ الْمُنْحَرِفَاتِ، وَنَحْنُ نَجِدُ أَصْنَافَ الْبَشَرِ يَتَنَاوَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمَأْكُولَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، وَيَتْرُكُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ الْبَعْضَ. فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَأْكُلُ الضَّبَّ وَالْيَرْبُوعَ وَالْقَنَافِذَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْكُلُهَا. وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ يَأْكُلُ الضَّفَادِعَ وَالسَّلَاحِفَ وَالزَّوَاحِفَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَذَّرُ ذَلِكَ. وَأَهْلُ مَدِينَةِ تُونِسَ يَأْبَوْنَ أَكْلَ لَحْمِ أُنْثَى الضَّأْنِ وَلَحْمِ الْمَعْزِ، وَأَهْلُ جَزِيرَةِ شَرِيكٍ يَسْتَجِيدُونَ لَحْمَ الْمَعْزِ، وَفِي أَهْلِ الصَّحَارِي تُسْتَجَادُ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا، وَفِي أَهْلِ الْحَضَرِ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ دَوَابُّ الْبَحْرِ وَسَلَاحِفُهُ وَحَيَّاتُهُ. وَالشَّرِيعَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَقْضِي فِيهَا طَبْعُ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ. وَالْمُحَرَّمَاتُ فِيهَا مِنَ الطُّعُومِ مَا يَضُرُّ تَنَاوُلُهُ بِالْبَدَنِ أَوِ الْعَقْلِ كَالسُّمُومِ وَالْخُمُورِ وَالْمُخَدِّرَاتِ كَالْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ الْمُخَدِّرَةِ، وَمَا هُوَ نَجَسُ الذَّاتِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَمَا هُوَ مُسْتَقْذَرٌ كالنخامة وذرق الطيوب وَأَرْوَاثِ النَّعَامِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا تَجِدُ فِيهِ ضَابِطًا لِلتَّحْرِيمِ إِلَّا الْمُحَرَّمَاتِ بِأَعْيَانِهَا وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ فِي قِسْمِ الْحَلَالِ لِمَنْ شَاءَ تَنَاوَلَهُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهَا حَلَالٌ دُونَ بَعْضٍ بِدُونِ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ هُوَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْقَائِلُ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ الظَّبْيَ وَحَرَّمَ الْأَرْنَبَ، وَمَا الَّذِي سَوَّغَ السَّمَكَةَ وَحَرَّمَ حَيَّةَ الْبَحْرِ، وَمَا الَّذِي سَوَّغَ الْجَمَلَ وَحَرَّمَ الْفَرَسَ، وَمَا الَّذِي سَوَّغَ الضَّبَّ وَالْقُنْفُذَ وَحَرَّمَ السُّلَحْفَاةَ، وَمَا الَّذِي أَحَلَّ الْجَرَادَ وَحَرَّمَ الْحَلَزُونَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصٌّ صَحِيحٌ، أَوْ نَظَرٌ رَجِيحٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ رِيحٌ. وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا تَنْوِيرُ الْبَصَائِرِ إِذَا اعْتَرَى التَّرَدُّدُ لِأَهْلِ النَّظَرِ فِي إِنَاطَةِ حَظْرٍ أَوْ إِبَاحَةٍ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَوْ فِي مَوَاقِعِ الْمُتَشَابِهَاتِ. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الطَّيِّباتُ عَطْفَ الْمُفْرَدِ، عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. فَمَا مَوْصُولَةٌ وَفَاءُ فَكُلُوا لِلتَّفْرِيعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَتَكُونُ (مَا) شَرْطِيَّةً وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ. وَخُصَّ بِالْبَيَانِ مِنْ بَيْنِ الطَّيِّبَاتِ لِأَنَّ طَيِّبَهُ قَدْ يَخْفَى مِنْ جِهَةِ خَفَاءِ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِي جرح الصَّيْد، لاسيما صَيْدُ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ مَحَلُّ التَّنْبِيهِ هُنَا الْخَاصُّ بِصَيْدِ الْجَوَارِحِ. وَسَيُذْكَرُ صَيْدُ الرِّمَاحِ وَالْقَنْصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [الْمَائِدَة: 94] وَالْمَعْنَى: وَمَا أَمْسَكَ عَلَيْكُمْ مَا عَلَّمْتُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْكِلَابِ وَالطُّيُورِ الْمُعَلَّمَةِ. وَالْجَوَارِحُ: جَمْعُ الْجَارِحِ، أَوِ الْجَارِحَةِ، جَرَى عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ فَاعِلَةٍ، لِأَنَّ الدَّوَابَّ مُرَاعَى فِيهَا تَأْنِيثُ جَمْعِهَا، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ لِلسِّبَاعِ: الْكَوَاسِبُ، قَالَ لَبِيدٌ: غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنُّ طِعَامُهَا وَلِذَلِكَ تُجْمَعُ جَمْعَ التَّأْنِيثِ، كَمَا سَيَأْتِي فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. ومُكَلِّبِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَلَّمْتُمْ مُبَيِّنَةٌ لِنَوْعِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ تَعْلِيمُ الْمُكَلِّبِ، وَالْمُكَلِّبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُعَلِّمُ الْكِلَابِ، يُقَالُ: مُكَلِّبٌ، وَيُقَالُ: كَلَّابٌ. فَ مُكَلِّبِينَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ اشْتُقَّ مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي صَيْدِ الْجَوَارِحِ، وَلِذَلِكَ فَوُقُوعُهُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ عَلَّمْتُمْ لَيْسَ مُخَصَّصًا لِلْعُمُومِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَما عَلَّمْتُمْ فَهَذَا الْعُمُومُ يَشْمَلُ غَيْرَ الْكِلَابِ

مِنْ فُهُودٍ وَبُزَاةٍ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، حَكَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا قَتَلَهُ الْجَارِحُ عَلَى صَيْدِ الْكِلَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ قَالَ: فَأَمَّا مَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْبُزَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. فَأَمَّا الْكِلَابُ فَلَا خِلَافَ فِي إِبَاحَةِ عُمُومِ صَيْدِ الْمُعَلَّمَاتِ مِنْهَا، إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ بِكَرَاهَةِ صَيْدِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، أَيْ عَامُّ السَّوَادِ، مُحْتَجِّينَ بقول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّ النَّبِيءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَمَّاهُ كَلْبًا، وَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ شَيْطَانًا أَنَّهُ مَظَنَّةٌ لِلْعَقْرِ وَسُوءِ الطَّبْعِ. عَلَى أَنَّ مَوْرِدَ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي. عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُتَأَوَّلٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ (أَيْ فِي أَكْلِ صَيْدِهِ) إِذَا كَانَ بَهِيمًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ بِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَوْلُهُ: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ، قُصِدَ بِهَا الِامْتِنَانُ وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوَاهِبُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ، إِذْ جَعَلَهُ مُعَلَّمًا بِالْجِبِلَّةِ مِنْ يَوْمِ قَالَ: يَآ آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [الْبَقَرَة: 33] ، وَالْمَوَاهِبُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي بَعْضِ الْحَيَوَانِ، إِذْ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلتَّعَلُّمِ. فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ مُفَادِ هَذِهِ الْحَالِ هُوَ مُفَادُ عَامِلِهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الِامْتِنَانِ فَهِيَ مُؤَسَّسَةٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» «وَفِي تَكْرِيرِ الْحَالِ فَائِدَةٌ أَنَّ عَلَى كُلِّ آخِذٍ عِلْمًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ إِلَّا مِنْ أَقْتَلِ أَهْلِهِ عِلْمًا وَأَنْحَرِهِمْ دِرَايَةً وَأَغْوَصِهِمْ عَلَى لَطَائِفِهِ وَحَقَائِقِهِ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَضْرِبَ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، فَكَمْ مِنْ آخِذٍ عَنْ غَيْرِ مُتْقِنٍ قَدْ ضَيَّعَ أَيَّامَهُ وَعَضَّ عِنْدَ لِقَاءِ النَّحَارِيرِ أَنَامِلَهُ» . اه. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» فَاء الفصيحة فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ إِنْ جَعَلْتَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ وَما عَلَّمْتُمْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ جَعَلَتْهَا شُرْطِيَّةً فَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ.

وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا تَبْعِيضٌ شَائِعُ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُتَنَاوِلَاتِ، كَقَوْلِهِ: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ» . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ جَمِيعِ مَا يَصِيدُهُ الصَّائِدُ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ احْتِرَاسٌ عَنْ أَكْلِ الرِّيشِ، وَالْعَظْمِ، وَالْجِلْدِ، وَالْقُرُونِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَتَوَهَّمُهُ السَّامِعُ حَتَّى يَحْتَرِسَ مِنْهُ. وَحَرْفُ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، كَمَا تَقُولُ: سُجِنَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ، وَضُرِبَ الصَّبِيُّ عَلَى الْكَذِبِ، وَقَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ شَيْبَانَ: وَنُطَاعِنُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا ... وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرِ أَيْ نُطَاعِنُ عَلَى حَقَائِقِنَا: أَيْ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَاب: 37] ، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ . وَمَعْنَى الْآيَةِ إِبَاحَةُ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْجَوَارِحُ: مِنْ كِلَابٍ، وَفُهُودٍ، وَسِبَاعِ طَيْرٍ: كَالْبُزَاةِ، وَالصُّقُورِ، إِذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً وَأُمْسِكَتْ بَعْدَ إِرْسَالِ الصَّائِدِ. وَهَذَا مِقْدَارٌ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَحَقُّقِ هَذِهِ الْقُيُودِ. فَأَمَّا شَرْطُ التَّعْلِيمِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُشْلِيَ، فَانْشَلَى، فَاشْتَدَّ وَرَاءَ الصَّيْدِ، وَإِذَا دُعِيَ فَأَقْبَلَ، وَإِذَا زُجِرَ فَانْزَجَرَ، وَإِذَا جَاءَ بِالصَّيْدِ إِلَى رَبِّهِ، أَنَّ هَذَا مُعَلَّمٌ. وَهَذَا عَلَى مَرَاتِبِ التَّعَلُّمِ. وَيُكْتَفَى فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ بِمَا دُونَ ذَلِكَ: فَيُكْتَفَى فِيهَا بِأَنْ تُؤْمَرَ فَتُطِيعَ. وَصِفَاتُ التَّعْلِيمِ رَاجِعَةٌ إِلَى عُرْفِ أَهْلِ الصَّيْدِ، وَأَنَّهُ صَارَ لَهُ مَعْرِفَةً، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى ضَبْطِ ذَلِكَ بِمَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ.

وَأَمَّا شَرْطُ الْإِمْسَاكِ لِأَجْلِ الصَّائِدِ: فَهُوَ يُعْرَفُ بِإِمْسَاكِهَا الصَّيْدِ بَعْدَ إِشْلَاءِ الصَّائِدِ إِيَّاهَا، وَهُوَ الْإِرْسَالُ مِنْ يَدِهِ إِذَا كَانَ مَشْدُودًا، أَوْ أَمْرِهِ إيّاها بِلَفْظ اعْتدت أَنْ تَفْهَمَ مِنْهُ الْأَمْرَ كَقَوْلِهِ: «هَذَا لَكِ» لِأَنَّ الْإِرْسَالَ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الذَّكَاةِ. ثُمَّ الْجَارِحُ مَا دَامَ فِي اسْتِرْسَالِهِ مُعْتَبَرٌ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ بِالصَّيْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْلِ الْجَارِحِ مِنَ الصَّيْدِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ إِلَى رَبِّهِ هَلْ يُبْطِلُ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ عَلَى رَبِّهِ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ لَمْ تُؤْكَلِ الْبَقِيَّةُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، لَا عَلَى رَبِّهِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: «وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ لَمْ يَضُرَّ أَكْلُهُ، وَيُؤْكَلْ مَا بَقِيَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابُهُ: لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، فِي «كتاب أبي دَاوُود» : أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» . وَرَامَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَحْتَجَّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ حَيْثُ جَاءَ بِمن الْمُفِيدَةِ لِلتَّبْعِيضِ، الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُ يُؤْكَلُ إِذَا بَقِيَ بَعْضُهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاهٍ فَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ (مِنْ) تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ التَّبْعِيضُ، وَالْكَلْبُ أَوِ الْجَارِحُ، إِذَا أَشْلَاهُ الْقَنَّاصُ فَانْشَلَى، وَجَاءَ بِالصَّيْدِ إِلَى رَبِّهِ. فَهُوَ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ، فَقَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ نِسْيَانٍ. وَنَحَا بَعْضُهُمْ فِي هَذَا إِلَى تَحْقِيقِ أَنَّ أَكْلَ الْجَارِحِ مِنَ الصَّيْدِ هَلْ يَقْدَحُ فِي تَعْلِيمِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي تَعْلِيمِهِ، إِذَا كَانَتْ أَفْعَالُهُ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ أَفْعَالِ الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْفَلْتَةِ أَوْ مِنَ التَّهَوُّرِ. وَمَالَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّرْخِيصِ فِي ذَلِكَ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ خَاصَّةً، لِأَنَّهَا لَا تَفْقَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ مَا يَفْقَهُ الْكَلْبُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَمَّادٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَدْ نَشَأَ عَنْ شَرْطِ تَحَقُّقِ إِمْسَاكِهِ عَلَى صَاحِبِهِ مَسْأَلَةُ لَوْ أَمْسَكَ الْكَلْبُ أَوِ الْجَارِحُ صَيْدًا لَمْ يَرَهُ صَاحِبُهُ وَتَرَكَهُ وَرَجَعَ دُونَهُ، ثُمَّ وَجَدَ الصَّائِدُ

بَعْدَ ذَلِكَ صَيْدًا فِي الْجِهَةِ الَّتِي كَانَ يَجُوسُهَا الْجَارِحُ أَوْ عَرَفَ أَثَرَ كَلْبِهِ فِيهِ فَعَنْ مَالِكٍ: لَا يُؤْكَلُ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: يُؤْكَلُ. وَأَمَّا إِذَا وَجَدَ الصَّائِدُ سَهْمَهُ فِي مَقَاتِلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ لَا مَحَالَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ احْتِرَازٌ عَنْ أَنْ يَجِدَ أَحَدٌ صَيْدًا لَمْ يَصِدْهُ هُوَ، وَلَا رَأَى الْجَارِحَ حِينَ أَمْسَكَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَوْتُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَصَدَّ لِلصَّيْدِ أَنْ يَأْكُلَ صَيْدًا رَأَى كَلْبَ غَيْرِهِ حِينَ صَادَهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الصَّائِدَ قَرِيبًا، أَوِ ابْتَاعَهُ مِنْ صَائِدِهِ، أَوِ اسْتَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْرٌ بِذِكْرِ الله على تَعَالَى الصَّيْدِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِجُرْحِ الْجَارِحِ، وَأَمَّا إِذَا أَمْسَكَهُ حَيًّا فَقَدْ تَعَيَّنَ ذَبْحُهُ فَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَلَقَدْ أَبْدَعَ إِيجَازُ كَلِمَةِ «عَلَيْهِ» لِيَشْمَلَ الْحَالَتَيْنِ. وَحُكْمُ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ وَتَعَمُّدِ تَرْكِهَا مَعْلُومٌ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ، وَالدِّينُ يُسْرٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فِي أَنَّ الصَّيْدَ رُخْصَةٌ، أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الذَّكَاةِ. فَالْجُمْهُورُ أَلْحَقُوهُ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا أَكْلَ صَيْدِ الْكِتَابِيِّ دُونَ الْمَجُوسِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْكِتَابِيِّ وَلَا الْمَجُوسِيّ وَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [الْمَائِدَة: 94] . وَهُوَ دَلِيل ضَعِيف: لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي غَيْرِ بَيَانِ الصَّيْدِ، وَلَكِنْ فِي حُرْمَةِ الْحَرَمِ. وَخَالَفَهُ أَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ، مِنْ أَصْحَابِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ أَكْلِ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ إِلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي ثَوْرٍ إِذْ أَلْحَقَهُمْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الْفَرْعِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ تَذْيِيلٌ عَامٌّ خُتِمَتْ بِهِ آيَةُ الصَّيْدِ، وَهُوَ عَامُّ الْمُنَاسَبَةِ

[سورة المائدة (5) : آية 5]

[5] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. يَجِيءُ فِي التَّقْيِيدِ (بِالْيَوْمِ) هُنَا مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [الْمَائِدَة: 3] وَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] ، عَدَا وَجْهِ تَقْيِيدِ حُصُولِ الْفِعْلِ حَقِيقَةً بِذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَا يَجِيءُ هُنَا، لِأَنَّ إِحْلَالَ الطَّيِّبَاتِ أَمْرٌ سَابِقٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا مُحَرَّمًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الْإِعْلَامِ بِهِ بِصِفَةٍ كُلِّيَّةٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَة: 3] فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: الْيَوْمَ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ عَقِبَ قَوْلِهِ الْيَوْمَ يَئِسَ [الْمَائِدَة: 3] والْيَوْمَ أَكْمَلْتُ [الْمَائِدَة: 3] أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَّةٌ كُبْرَى لِأَنَّ إِلْقَاءَ الْأَحْكَامِ بِصِفَةٍ كُلِّيَّةٍ نِعْمَةٌ فِي التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. وَالْكَلَامُ عَلَى الطَّيِّبَاتِ تَقَدَّمَ آنِفًا، فَأُعِيدَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ عَلَى جُمْلَةِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ لِأَجْلِ مَا فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ مِنَ الْمِنَّةِ لِكَثْرَةِ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَوْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَعَامَهُمْ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَالطَّعَامُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يَطْعَمُهُ الْمَرْءُ وَيَأْكُلُهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا يُعَالِجُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِطَبْخٍ أَوْ ذَبْحٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الطَّعَامُ الَّذِي لَا مُحَاوَلَةَ فِيهِ كَالْبُرِّ وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهِمَا لَا يُغَيِّرُهُ تَمَلُّكُ أَحَدٍ لَهُ، وَالطَّعَامُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ مُحَاوَلَةُ صَنْعَتِهِ لَا تَعَلُّقَ لِلدِّينِ بِهَا كَخَبْزِ الدَّقِيقِ وَعَصْرِ الزَّيْتِ. فَهَذَا إِنْ تُجُنِّبَ مِنَ الذِّمِّيِّ فَعَلَى جِهَةِ التَّقَذُّرِ. وَالتَّذْكِيَةُ هِيَ الْمُحْتَاجَةُ إِلَى الدِّينِ وَالنِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ ذَبَائِحُهُمْ رَخَّصَ اللَّهُ فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَخْرَجَهَا عَنِ الْقِيَاسِ. وَأَرَادَ بِالْقِيَاسِ قِيَاسَ أَحْوَالِ

ذَبَائِحِهِمْ عَلَى أَحْوَالِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لِأَحْوَالِنَا، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَرَادَ اللَّهُ هُنَا بِالطَّعَامِ الذَّبَائِحَ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الطَّعَامِ مُبَاحٌ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إِنَّ غَيْرَ الذَّبَائِحِ لَيْسَ مُرَادًا، أَيْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعُ تَرَدُّدٍ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ. وَالْأَوْلَى حَمَلُ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا فَتَشْمَلُ كُلَّ طَعَامٍ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا إِذْ تَدْخُلُهُ صَنْعَتُهُمْ، وَهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ مَا نَتَوَقَّى، وَتَدْخُلُهُ ذَكَاتُهُمْ وَهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا مَا نَشْتَرِطُهُ. وَدَخَلَ فِي طَعَامِهِمْ صَيْدُهُمْ عَلَى الْأَرْجَحِ. والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: هُمْ أَتْبَاعُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، سَوَاءً كَانُوا مِمَّنْ دَعَاهُمْ مُوسَى وَعِيسَى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- إِلَى اتِّبَاعِ الدِّينِ، أَمْ كَانُوا ممّن اتّبعوا الدينيين اخْتِيَارًا فَإِنَّ مُوسَى وَعِيسَى ودعوا بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً، وَقَدْ تَهَوَّدَ مِنَ الْعَرَبِ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَتَنَصَّرَ مِنَ الْعَرَبِ تَغْلِبُ، وَبَهْرَاءُ، وَكَلْبٌ، وَلَخْمٌ، وَنَجْرَانُ، وَبَعْضُ رَبِيعَةَ وَغَسَّانُ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ الْجُمْهُور عدا عليّا بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُ نَصَارَى تَغْلِبَ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِشَيْءٍ سِوَى شُرْبِ الْخَمْرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَا خَيْرَ فِي ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ تَغْلِبَ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، أَيْ كَالْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَشَذَّ مَنْ جَعَلَهُمْ أَهْلَ كِتَابٍ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ خِلَافٍ. وَحِكْمَةُ الرُّخْصَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينٍ إِلَهِيٍّ يُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ، وَيَتَّقِي النَّجَاسَةَ، وَلَهُم فِي شؤونهم أَحْكَامٌ مَضْبُوطَةٌ مُتَّبَعَةٌ

لَا تُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَتُهَا، وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ لِلْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلَهُمْ كِتَابٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالْإِلَهِيِّ، فَمنهمْ أَتبَاع (زرادشت) ، لَهُمْ كِتَابُ (الزَّنْدَفَسْتَا) وَهَؤُلَاءِ هُمْ مَحَلُّ الْخِلَافِ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ (الْمَانَوِيَّةُ) فَهُمْ إِبَاحِيَّةٌ فَلَا يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، أَوْ هُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: مَا لَيْسَ فِيهِ ذَكَاةٌ مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ يَعْنِي إِذَا كَانُوا يَتَّقُونَ النَّجَاسَةَ. وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» : أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ. فَقَالَ لَهُ: «أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا» . وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقَالَ لَهُ: «إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا» . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «فَغَسْلُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ فَرْضٌ، وَغَسْلُ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ نَدْبٌ» . يُرِيدُ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ عَلِمَ حَالَهُمْ، وَإِنَّمَا يَسْرِي الشَّكُّ إِلَى آنِيَتِهِمْ مِنْ طَعَامِهِمْ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَلَمْ يُبَحْ لَنَا طَعَامُ الْمَجُوسِ، فَذَلِكَ مَنْزَعُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ آنِيَةِ الْفَرِيقَيْنِ. ثُمَّ الطَّعَامُ الشَّامِلُ لِلذَّكَاةِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ طَعَامًا لَهُمْ إِذَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ فِي دِينِهِمْ، وَيَأْكُلُهُ أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَأَوَّلُوا فِي دِينِهِمْ تَأْوِيلَاتٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَأَرَى أَنَّ دَلِيلَهُ: أَنَّ الْآيَةَ عَمَّمَتْ طَعَامَهُمْ فَكَانَ عُمُومُهَا دَلِيلًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا حَكَى اللَّهُ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ عُمُومُ طَعَامِهِمْ فِي شَرْعِنَا مُبَاحًا نَاسِخًا لِلْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَصِيرُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ «بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ... » إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي شَرْعِنَا. وَقِيلَ: لَا يُؤْكَلُ مَا عَلِمْنَا تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ بِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْمُعْتَمَدُ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ شُحُومِ بَقَرِ وَغَنَمِ الْيَهُودِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا تَعْمَلَ ذَكَاةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا إِبَاحَةُ طَعَامِهِمْ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِعَيْنِهِ: كَالْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ، وَلَا مَا حَرَّمَهُ عَلَيْنَا بِوَصْفِهِ، الَّذِي لَيْسَ بِذَكَاةٍ: كَالْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ، إِذَا كَانُوا هُمْ يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ ذَكَاتُهُمْ فِيهِ مُخَالِفَةً لِذَكَاتِنَا مُخَالَفَةَ تَقْصِيرٍ لَا مُخَالَفَةَ زِيَادَةٍ فَذَلِكَ مَحَلُّ نَظَرٍ كَالْمَضْرُوبَةِ بِمُحَدَّدٍ عَلَى رَأْسِهَا فَتَمُوتُ، وَالْمَفْتُولَةِ الْعُنُقِ فَتَتَمَزَّقُ الْعُرُوقُ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعلمَاء: لَا يُؤْكَل. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تُؤْكَلُ. وَقَالَ فِي «الْأَحْكَامِ» : فَإِنْ قِيلَ فَمَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ، وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَإِنْ أَكَلُوهَا فَلَا نَأْكُلُهَا نَحْنُ، كَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ وَمِنْ طَعَامِهِمْ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا- يُرِيدُ إِبَاحَتَهُ عِنْدَ النَّصَارَى- ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ سُئِلْتُ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا هَلْ تُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ طَعَامًا مِنْهُ، فَقُلْتُ: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ ذَكَاةً عِنْدَنَا وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا فِي دِينِنَا» . وَأَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاظِرِينَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامَيِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الْحُلْقُومِ، وَالْأَوْدَاجِ وَلَوْ بِالْخَنْقِ، وَبَيْنَ نَحْوِ الْخَنْقِ لِحَبْسِ النَّفَسِ، وَرَضِّ الرَّأْسِ وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ شُذُوذٌ. وَقَوْلُهُ: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بِذِكْرِ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَنَا بِهَذَا إِلَى التَّيْسِيرِ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، فَأَبَاحَ لَنَا طَعَامَهُمْ، وَأَبَاحَ لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ طَعَامَنَا، فَعُلِمَ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ أَنَّ عِلَّةَ الرُّخْصَةِ فِي تَنَاوُلِنَا طَعَامَهُمْ هُوَ الْحَاجَةُ إِلَى مُخَالَطَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُخَالَطَةِ مَعَهُمْ لِتَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ وَالْمُصَاهَرَةِ مَعَهُمْ.

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. عُطِفَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عَلَى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ. وَلَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لِذِكْرِ حِلِّ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فِي أَثْنَاءِ إِبَاحَةِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِبَاحَةِ تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ. وَعِنْدِي: أَنَّهُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُنَّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُحْصَنَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ حُكْمُ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَتْ لِإِبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّاتِ. فَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَطْفٌ عَلَى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ. وَالْمُحصنَات: النسْوَة الّلاء أَحْصَنَهُنَّ مَا أَحْصَنَهُنَّ، أَيْ مَنَعَهُنَّ عَنِ الْخَنَا أَوْ عَنِ الرَّيْبِ، فَأُطْلِقَ الْإِحْصَانُ: عَلَى الْمَعْصُومَاتِ بِعِصْمَةِ الْأَزْوَاجِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [24] عَطْفًا عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وَعَلَى الْمُسْلِمَاتِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَزَعَهُنَّ عَنِ الْخَنَا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَيَصُدُّهُنَّ عَنِ الْخَنَا الْإِسْلَامُ وَأُطْلِقَ عَلَى الْحَرَائِرِ، لِأَنَّ الْحَرَائِرَ يَتَرَفَّعْنَ عَنِ الْخَنَا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَا يَصْلُحُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي هُنَا الْأَوَّلُ، إِذْ لَا يَحِلُّ تَزَوُّجُ ذَاتِ الزَّوْجِ، وَلَا الثَّانِي لِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُؤْمِناتِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُنَّ بَعْضُ الْمُؤْمِنَاتِ فَتَعَيَّنَ مَعْنَى الْحُرِّيَّةِ، فَفَسَّرَهَا مَالِكٌ بِالْحَرَائِرِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ نِكَاحَ الْحُرِّ

الْأَمَةَ إِلَّا إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ وَلَمْ يَجِدْ لِلْحَرَائِرِ طَوْلًا، وَجَوَّزَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلْأَحْرَارِ بِالْقَرِينَةِ وَبِقَرِينَةِ آيَةِ النِّسَاءِ [25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بَيِّنٌ مُلْتَئِمٌ. وَأَصْلُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُجَاهِدٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَسَّرَ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْعَفَائِفِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ، فَمَنَعُوا تَزَوُّجَ غَيْرِ الْعَفِيفَةِ مِنَ النِّسَاءِ لِرِقَّةِ دِينِهَا وَسُوءِ خُلُقِهَا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيِ الْحَرَائِرُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ. وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ مَنَعُوا هُنَا مَا مَنَعُوا هُنَاكَ. وَشَمَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ: الذِّمِّيِّينَ، وَالْمُعَاهِدِينَ، وَأَهْلَ الْحَرْبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ نِكَاحَ النِّسَاءِ الْحَرْبِيَّاتِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِغَيْرِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَمَنَعَ نِكَاحَ الْحَرْبِيَّاتِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلَهُ. وَالْأُجُورُ: الْمُهُورُ، وَسُمِّيَتْ هُنَا (أُجُورًا) مَجَازًا فِي مَعْنَى الْأَعْوَاضِ عَنِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنْ آثَارِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَالْمَهْرُ شِعَارٌ مُتَقَادِمٌ فِي الْبَشَرِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُخَادَنَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمُهُورُ أُجُورًا حَقِيقَةً لَوَجَبَ تَحْدِيدُ مُدَّةِ الِانْتِفَاعِ وَمِقْدَارِهِ وَذَلِكَ مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [النِّسَاء: 25] تقدّم فِي هَذِه السُّورَة. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ تَزَوُّجِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَقْتَضِي تَزْكِيَةً لِحَالِهِمْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ

[سورة المائدة (5) : آية 6]

نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ قُلْنَ «لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ دِينَنَا لَمْ يُبِحْ لَكُمْ نِكَاحَنَا» . وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ الْإِيمَانُ الْمَعْهُودُ وَهُوَ إِيمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي بِسَبَبِهِ لُقِّبُوا بِالْمُؤْمِنِينَ، فَالْكُفْرُ هُنَا الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ، أَيْ: يُنْكِرُ الْإِيمَانَ، أَيْ يُنْكِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ، إِذِ الْإِيمَانُ صَارَ لَقَبًا لِمَجْمُوعِ مَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ. وَالْحَبْطُ- بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ- وَالْحُبُوطُ: فَسَادُ شَيْءٍ كَانَ صَالِحًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ- مَرَضٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ مِنْ جَرَّاءِ أَكْلِ الْخُضَرِ فِي أَوَّلِ الرَّبِيعِ فَتَنْتَفِخُ أَمْعَاؤُهَا وَرُبَّمَا مَاتَتْ. وَفِعْلُ (حَبِطَ) يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْحَابِطَ كَانَ صَالِحًا فَانْقَلَبَ إِلَى فَسَادٍ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْفَسَادِ هُنَا الضَّيَاعُ وَالْبُطْلَانُ، وَهُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ، فَدَلَّ فِعْلُ (حَبِطَ) عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ صَالِحَةٌ، وَحَذْفُ الْوَصْفِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِضَيَاعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِفَسَادِ الذَّوَاتِ النَّافِعَةِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ عَدَمُ انْتِفَاعِ مُكْتَسِبِهَا مِنْهَا. وَالْمُرَادُ ضَيَاعُ ثَوَابِهَا وَمَا يَتَرَقَّبُهُ الْعَامِلُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا وَالْفَوْزِ بِهَا. وَالْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنَ الِارْتِدَادِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِيهِ كَذَلِكَ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ قُرُبَاتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، وَيَعْلَمَ الْمُشْركُونَ ذَلِك. [6] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

(6) إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا تَحَصْحَصَ لَدَيْنَا وَتَمَحَّصَ: مِنْ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ مِنْ آخِرِ السُّوَرِ نُزُولًا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، جَزَمْنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ هُنَا تَذْكِيرًا بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ نِعَمِ التَّشْرِيعِ: وَهِيَ مِنَّةُ شَرْعِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ مَشَقَّةِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ، فَجَزَمْنَا بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا فِي عِدَادِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْآثَارَ صَحَّتْ بِأَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ شُرِعَا مَعَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَبِأَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [43]- الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا شَرْعُ التَّيَمُّمِ أَهِيَ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، أَمْ آيَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ حَدِيثَ «الْمُوَطَّأِ» مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَن عبد الرحمان بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْآيَةِ وَلَكِنْ سَمَّاهَا آيَةَ التَّيَمُّمِ، وَأَنَّ الْقُرْطُبِيَّ اخْتَارَ أَنَّهَا آيَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا الْمَعْرُوفَةُ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ، وَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» ، وَذَكَرْنَا أَنَّ صَرِيحَ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الْآيَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَن عبد الرحمان بْنِ الْقَاسِمِ، وَلَا يُسَاعِدُ مُخْتَارُنَا فِي تَارِيخِ نُزُولِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ سَهْوًا مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ غير عبد الرحمان بْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِيهِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، وَهِيَ آيَةُ النِّسَاءِ [43] ، فَذَكَرَ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ. فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ بِأَنْ تَكُونَ آيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ أُعِيدَ نُزُولُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، أَوْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَالْأَرْجَحُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَهْمًا مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ لِأَنَّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُشَابَهَةً.

فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُرِيدَ مِنْهَا تَأْكِيدُ شَرْعِ الْوُضُوءِ وَشَرْعِ التَّيَمُّمِ خَلَفًا عَنِ الْوُضُوءِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْ نُزُولُ قُرْآنٍ فِيهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا بِالسُّنَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً إِلَّا بِوُضُوءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» «لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا غَيْرَ مَتْلُوٍّ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ الْوُضُوءَ كَانَ بِمَكَّةَ سُنَّةً، مَعْنَاهُ كَانَ بِالسُّنَّةِ. فَأَمَّا حُكْمُهُ فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا فَرْضًا» وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَهَمَزَ بِعَقِبِهِ فَانْبَعَثَ مَاءٌ وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ فَصَلَّى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ اه. وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» ثُمَّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ فَجَاءَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ فَتَوَضَّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ اه. وَقَوْلُهُمْ: الْوُضُوءُ سُنَّةٌ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَقُولُوا: آيَةُ الْوُضُوءِ لِمَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ قَبْلَ الْآيَةِ. فَالْوُضُوءُ مَشْرُوعٌ مَعَ الصَّلَاةِ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ إِلَّا شَرْعَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا شَرْعَ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ قَرَّرَتْ حُكْمَ الْوُضُوءِ لِيَكُونَ ثُبُوتُهُ بِالْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مِنْ قَبْلُ، كَمَا شُرِعَ الْوُضُوءُ بَلْ هُوَ أَسْبَقُ مِنَ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْرُوفَةً حَتَّى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَلِذَلِكَ أُجْمِلَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ هُنَا وَهُنَالِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا فَاطَّهَّرُوا، وَقَوله هُنَالك تَغْتَسِلُوا [النِّسَاء: 43] ، فَتَمَحَّضَتِ الْآيَةُ لِشَرْعِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الْوُضُوءِ.

وَمَعْنَى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِذَا عَزَمْتُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْقِيَامَ يُطْلَقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وَقَالَ أَلَا لَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدٍ وَعَلَى الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، قَالَ النَّابِغَةُ: قَامُوا فَقَالُوا حِمَانَا غَيْرُ مَقْرُوبٍ أَيْ عَزَمُوا رَأْيَهُمْ فَقَالُوا. وَالْقِيَامُ هُنَا كَذَلِكَ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِ (إِلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عَمَدْتُمْ إِلَى أَنْ تُصَلُّوا. وَرَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْقِيَامَ بِمَعْنَى الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ. فَهَذِهِ وُجُوهُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الْآيَة، وكلّها تؤول إِلَى أَنَّ إِيجَابَ الطِّهَارَةِ لِأَجْلِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِغَسْلِ مَا أُمِرَ بِغَسْلِهِ شُرِطَ بِ إِذا قُمْتُمْ فَاقْتَضَى طَلَبَ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ. وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ. وَقَدْ وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الظَّاهِرِ قَلِيلٌ مِنَ السَّلَفِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعِكْرِمَةَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَنَسَبَهُ الطبرسي إِلَى دَاوُود الظَّاهِرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْمُحَلَّى» وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِ الطَّبَرَسِيِّ. وَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ: كَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ بِفِعْلِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَصَلَّى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا حُكْمٌ خاصّ بالنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا قَوْلٌ عَجِيبٌ إِنْ أَرَادَ بِهِ صَاحِبُهُ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ، كَيْفَ وَهِيَ مُصَدَّرَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى «إِذَا قُمْتُمْ مُحْدِثِينَ» وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى آيَةِ النِّسَاءِ [43] الْمُصَدَّرَةِ بِقَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - إِلَى قَوْلِهِ- وَلا جُنُباً الْآيَةَ. وَحَمَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْوضُوء لكلّ صَلَاة على أنّه كَانَ فرضا على النّبيء صلى

الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصًّا بِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ نَسَخَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ وَحَمَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَابْنُ عُمَرَ مِنَ الْوُضُوءِ لِفَضْلِ إِعَادَةِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْقَوْلُ بِغَيْرِهِ. وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْقِيَامَ بِمَعْنَى الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ أَرَادُوا تَمْهِيدَ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ قَدْ نِيطَ بِوُجُودِ مُوجِبِ الْوُضُوءِ. وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ فِي التَّأْوِيلِ مَعَ اسْتِغْنَاءِ الْآيَةِ عَنْهَا لِأَنَّ تَأْوِيلَهَا فِيهَا بَيِّنٌ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِشَرْطٍ، هُوَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجُمْلَةِ ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى - إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُوجِبَةً لِلتَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ يَسْتَمِرُّ إِلَى حُدُوثِ حَادِثٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، إِمَّا مَانِعٍ مِنْ أَصْلِ الْوُضُوءِ وَهُوَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ، وَإِمَّا رَافِعٍ لِحُكْمِ الْوُضُوءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْأَحْدَاثُ الْمَذْكُورُ بَعْضُهَا بِقَوْلِهِ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، فَإِنْ وُجِدَ الْمَاءُ فَالْوُضُوءُ وَإِلَّا فَالتَّيَمُّمُ، فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى وَمَفْهُومُ النَّفْيِ وَهُوَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً تَأْوِيلٌ بَيِّنٌ فِي صَرْفِ هَذَا الظَّاهِرِ عَنْ مَعْنَاهُ بَلْ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُجْمَلِ، وَتَفْسِيرٌ وَاضِحٌ لِحَمْلِ مَا فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ عَلَى أَنَّهُ لِقَصْدِ الْفَضِيلَةِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ هُوَ الْوَاجِبُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ. وَحَدَّدَتِ الْآيَةُ الْأَيْدِي بِبُلُوغِ الْمَرَافِقِ لِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى مَا بَلَغَ الْكُوعَ وَمَا إِلَى الْمِرْفَقِ وَمَا إِلَى الْإِبِطِ فَرَفَعَتِ الْآيَةُ الْإِجْمَالَ فِي الْوُضُوءِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ وَسَكَتَتْ فِي التَّيَمُّمِ فَعَلِمْنَا أَنَّ السُّكُوتَ مَقْصُودٌ وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الرُّخْصَةِ اكْتَفَى بِصُورَةِ الْفِعْلِ وَظَاهِرِ الْعُضْوِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ فِي التَّيَمُّمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ بِالْمُقَابَلَةِ، وَهُوَ طَرِيقٌ بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ أَهْمَلَهُ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ وَعُلَمَاءُ الْأُصُولِ فَاحْتَفِظْ بِهِ وَأَلْحِقْهِ بِمَسَائِلِهِمَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي أَنَّ الْمَرَافِقَ مَغْسُولَةٌ أَوْ مَتْرُوكَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَغْسُولَةٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغَايَةِ فِي الْحَدِّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمَحْدُودِ. وَفِي «الْمَدَارِكِ» أَنَّ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ سُئِلَ عَنْ دُخُولِ الْحَدِّ فِي الْمَحْدُودِ فَتَوَقَّفَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ لِلسَّائِلِ بَعْدَ أَيَّامٍ: قَرَأْتُ «كِتَابَ سِيبَوَيْهِ» فَرَأَيْتُ أَنَّ الْحَدَّ دَاخِلٌ فِي الْمَحْدُودِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: قَوْلَانِ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْغُسْلِ، وَأَوْلَاهُمَا دُخُولُهُمَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِدْخَالُهُمَا فِيهِ أَحْوَطُ لِزَوَالِ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، وَتُؤُوِّلُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِطَالَةَ الْغُرَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ. وَقَوْلُهُ: وَأَرْجُلَكُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفَاً عَلَى وَأَيْدِيَكُمْ وَتَكُونُ جملَة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ مُعْتَرَضَةً بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَكَأَنَّ فَائِدَةَ الِاعْتِرَاضِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَرْتِيبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ، فَالْأَرْجُلُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَغْسُولَةً إِذْ حِكْمَةُ الْوُضُوءِ وَهِيَ النَّقَاءُ وَالْوَضَاءَةُ وَالتَّنَظُّفُ وَالتَّأَهُّبُ لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي أَنْ يُبَالَغَ فِي غَسْلِ مَا هُوَ أَشَدُّ تَعَرُّضًا لِلْوَسَخِ فَإِنَّ الْأَرْجُلَ تُلَاقِي غُبَارَ الطُّرُقَاتِ وَتُفْرِزُ الْفَضَلَاتِ بِكَثْرَةِ حَرَكَةِ الْمَشْيِ، وَلِذَلِكَ كَانَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِمُبَالَغَةِ الْغَسْلِ فِيهَا، وَقَدْ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ للَّذِي لَمْ يُحْسِنْ غَسْلَ رِجْلَيْهِ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِخَفْضِ- وَأَرْجُلَكُمْ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْوِيلَاتٌ: مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا فَجَعَلَ حُكْمَ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ دُونَ الْغَسْلِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا بِالْأَهْوَازِ فَذَكَرَ الْوُضُوءَ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ مِنْ خُبْثِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ فَاغْسِلُوا بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا وعَرَاقِيبَهُمَا» فَسَمِعَ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ. وَرُوِيَتْ عَنْ أَنَسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: قَالَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ وَالسُّنَّةُ

بِالْغَسْلِ، وَهَذَا أَحْسَنُ تَأْوِيلٍ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ مَسْحُ الرِّجْلَيْنِ مَنْسُوخًا بِالسُّنَّةِ، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى قوما يتوضّؤون وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ عَصْرِ التَّابِعِينَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ، قَالُوا: لَيْسَ فِي الرِّجْلَيْنِ إِلَّا الْمَسْحُ، وَإِلَّا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: رَأَى التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي الْإِخْبَارِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَوْنَ التَّخْيِيرَ فِي الْعَمَلِ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمُرَجَّحُ. وَاسْتَأْنَسَ الشَّعْبِيُّ لِمَذْهَبِهِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يُمْسَحُ فِيهِ مَا كَانَ يُغْسَلُ فِي الْوُضُوءِ وَيُلْغَى فِيهِ مَا كَانَ يُمْسَحُ فِي الْوُضُوءِ. وَمن الَّذين قرأوا- بِالْخَفْضِ- مَنْ تَأَوَّلَ الْمَسْحَ فِي الرِّجْلَيْنِ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْغَسْلَ الْخَفِيفَ مَسْحًا وَهَذَا الْإِطْلَاقُ إِنْ صَحَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ فَرَّقَ فِي التَّعْبِيرِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَضَى الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَجُمْلَةُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ تَعْلِيلٌ لِرُخْصَةِ التَّيَمُّمِ، وَنَفْيُ الْإِرَادَةِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْجَعْلِ لِأَنَّ الْمُرِيدَ الَّذِي لَا غَالِبَ لَهُ لَا يَحُولُ دُونَ إِرَادَتِهِ عَائِقٌ. وَاللَّامُ فِي لِيَجْعَلَ دَاخِلَةٌ عَلَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةً وَهِيَ لَامٌ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا بَعْدَ أَفْعَالِ الْإِرَادَةِ وَأَفْعَالِ مَادَّةِ الْأَمْرِ، وَهِيَ لَامٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَتُسَمَّى لَامُ أَنْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ فِي الْمَوْقِعِ مِنْ مَوْقِعِ لَامِ الْجُحُودِ. وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَالْحَرَجَةُ: الْبُقْعَةُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْمُتَضَايِقِ، وَالْجَمْعُ حَرَجٌ. وَالْحَرَجُ الْمَنْفِيُّ هُنَا هُوَ الْحَرَجُ الْحِسِّيُّ لَوْ كُلِّفُوا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ مَعَ الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ، وَالْحَرَجُ النَّفْسِيُّ لَوْ مُنِعُوا مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِضُرٍّ أَوْ سَفَرٍ أَوْ فَقْدِ مَاءٍ فَإِنَّهُمْ يَرْتَاحُونَ إِلَى الصَّلَاةِ وَيُحِبُّونَهَا.

[سورة المائدة (5) : آية 7]

وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ وَالْوُضُوءِ التَّطْهِيرَ وَهُوَ تَطْهِيرٌ حِسِّيٌّ لِأَنَّهُ تَنْظِيفٌ، وَتَطْهِيرٌ نَفْسِيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا جَعَلَهُ عِبَادَةً فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِدَّةِ أَسْرَارٍ: مِنْهَا مَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ وَنُعَبِّرُ عَنْهَا بالحكمة وَمِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَكَوْنِ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَإِذَا ذُكِرَتْ حِكَمٌ لِلْعِبَادَاتِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحِكَمَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ وَظَنٌّ لَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْمَاءُ عَوَّضَ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَرَجَ لَكَلَّفَهُمْ طَلَبَ الْمَاءِ وَلَوْ بِالثَّمَنِ أَوْ تَرْكَ الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الْمَاءُ ثُمَّ يَقْضُونَ الْجَمِيعَ. فَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ حِسِّيٌّ وَفِيهِ التَّطْهِيرُ النَّفْسِيُّ الَّذِي فِي الْوُضُوءِ لَمَّا جُعِلَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَوْلُهُ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ يُكْمِلَ النِّعَمَ الْمَوْجُودَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ وَيُكْمِلُ نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ بِزِيَادَةِ أَحْكَامِهِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيرِ مَعَ التَّيْسِيرِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَالْإِتْمَامُ إِمَّا بِزِيَادَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ النِّعَمِ لَمْ تَكُنْ، وَإِمَّا بِتَكْثِيرِ فُرُوعِ النَّوْعِ مِنَ النِّعَمِ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ رَجَاءَ شُكْرِكُمْ إِيَّاهُ. جَعَلَ الشُّكْرَ عِلَّةً لِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِأَنِ اسْتُعِيرَتْ صِيغَةُ الرَّجَاءِ إِلَى الْأَمْرِ لِقَصْدِ الْحَثِّ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهِ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ المستقرب الْحُصُول. [7] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 7] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ الْوَاقِعَةَ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ. وَالْكَلَامُ مُرْتَبِطٌ بِمَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ تَعْرِيضًا بِالْحَثِّ عَلَى الْوَفَاءِ. ذَكَّرَهُمْ بِنِعَمٍ مَضَتْ تَذْكِيرًا يُقْصَدُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى الشُّكْرِ وَعَلَى الْوَفَاءِ

بِالْعُهُودِ، وَالْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ جِنْسُهَا لَا نِعْمَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنِ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَذَهَابِ أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَصَلَاحِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ، وَوَاثَقَ: عَاهَدَ. وَأُطْلِقَ فِعْلُ وَاثَقَ عَلَى مَعْنَى الْمِيثَاقِ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى وَعْدِ اللَّهِ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ. فَفِي صِيغَةِ واثَقَكُمْ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ عُرِفَ هُنَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَوْلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَالْمُسْلِمُونَ عَاهَدُوا اللَّهَ فِي زمن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ عُهُودٍ: أَوَّلُهَا عَهْدُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمِنْهَا عهد الْمُسلمين عِنْد مَا يُلَاقُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ الْبَيْعَةُ أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ وَلَا يَأْتُوا بِبُهْتَانٍ يَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَلَا يَعْصُونَهُ فِي مَعْرُوفٍ، وَهُوَ عَيْنُ الْعَهْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ عِنْدَ ذِكْرِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُبَايِعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا الْتَقَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ الْمَوْسِمِ فِي الْعَقَبَةِ وَمَعَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَبَايَعُوا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا يَمْنَعُونَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، وَعَلَى أَنَّهُمْ يَأْوُونَهُ إِذَا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ بَيْعَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ، بَايَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ. وَالثَّانِيَةُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ، بَايَعَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْخَزْرَجِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ بِالْعَقَبَةِ لِيُبَلِّغُوا الْإِسْلَامَ إِلَى قَوْمِهِمْ. وَمِنَ الْمَوَاثِيقِ مِيثَاقُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنِ الْهِجْرَةِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ وَاثَقُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَمَعْنَى سَمِعْنا وَأَطَعْنا الِاعْتِرَافُ بِالتَّبْلِيغِ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مَا طُلِبَ مِنْهُمُ الْعَهْدُ عَلَيْهِ. فَالسَّمْعُ أُرِيدَ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا وَاثَقُوا عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعْنا مَجَازًا فِي الِامْتِثَالِ، وَأَطَعْنا تَأْكِيدًا لَهُ. وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ سَمِعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ حَالَةَ مَنْ لَدْغَتْهُ حَيَّةٌ فَأَخَذُوا يَرْقُونَهُ:

[سورة المائدة (5) : آية 8]

تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمْعِهَا أَيْ مِنْ سُوءِ طَاعَتِهَا لِلرُّقْيَةِ، أَيْ عَدَمِ نَجَاحِ الرُّقْيَةِ فِي سُمِّهَا. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ النِّعْمَةَ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُشْكَرَ مُسْدِيهَا. وَشُكْرُ اللَّهِ تَقْوَاهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَذْيِيلٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ إِضْمَارِ الْمَعَاصِي وَمِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ إِلَّا مَا يَبْدُو مِنْهُمْ. وَحَرْفُ (إِنَّ) أَفَادَ أَنَّ الْجُمْلَةَ عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْبَلَاغَةِ فِي قَوْلِ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التبكير [8] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 8] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) لَمَّا ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعْمَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِطَلَبِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ النِّعَمِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ تَرَقُّبِ السَّامِعِينَ بَعْدَ تَعْدَادِ النِّعَمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَلَكِنَّ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ [135] تَقُولُ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَمَا هُنَا بِالْعَكْسِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَرَدَتْ عَقِبَ آيَاتِ الْقَضَاءِ فِي الْحُقُوقِ الْمُبْتَدَأَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: 105] ، ثُمَّ تَعَرَّضَتْ لِقَضِيَّةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النِّسَاء: 105] ، ثُمَّ أُرْدِفَتْ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَكَانَ الْأَهَمُّ

فِيهَا أَمْرَ الْعَدْلِ فَالشَّهَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهَا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النِّسَاء: 135] فَالْقِسْطُ فِيهَا هُوَ الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ، إِذْ قَالَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النِّسَاء: 135] . وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فَهِيَ وَارِدَةٌ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِمِيثَاقِ اللَّهِ، فَكَانَ الْمقَام الأوّل للحصّ عَلَى الْقِيَامِ لِلَّهِ، أَيِ الْوَفَاءِ لَهُ بِعُهُودِهِمْ لَهُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ قَوْلُهُ: قَوَّامِينَ بِاللَّامِ. وَإِذْ كَانَ الْعَهْدُ شَهَادَةً أَتْبَعَ قَوْلَهُ: قَوَّامِينَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ، أَيْ شُهَدَاءَ بِالْعَدْلِ شَهَادَةً لَا حَيْفَ فِيهَا، وَأَوْلَى شَهَادَةٍ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ: وُجُوبُ الْقِيَامِ بِالْعَدْلِ، وَالشَّهَادَةِ بِهِ، وَوُجُوبُ الْقِيَامِ لِلَّهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قَرِيبًا، وَلَكِنَّهُ هُنَا صَرَّحَ بِحَرْفِ (عَلَى) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْعَدْلِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النِّسَاء: 58] . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَقْرَبُ عَائِدٌ إِلَى الْعَدْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَعْدِلُوا، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ يُكْتَفَى فِيهِ بِكُلِّ مَا يُفْهَمُ حَتَّى قَدْ يَعُودُ عَلَى مَا لَا ذِكْرَ لَهُ، نَحْوُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] . عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فِي مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ تَدَخُلَ عَلَيْهِ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ تُحْذَفَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةُ وَيَبْقَى النَّصْبُ بِهَا، كَقَوْلِ طَرَفَةَ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي بِنَصْبِ (أَحْضُرَ) فِي رِوَايَةٍ، وَدَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ (وَأَنْ أَشْهَدَ) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 9 إلى 10]

الثَّالِثَةُ: أَنْ تُحْذَفَ (أَنْ) وَيُرْفَعَ الْفِعْلُ عَمَلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، كَمَا رُوِيَ بَيْتُ طَرَفَةَ (أَحْضُرُ) بِرَفْعِ أَحْضُرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَثَلِ (تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ) ، وَفِي الْحَدِيثِ «تَحْمِلُ لِأَخِيكَ الرِّكَابَ صَدَقَةٌ» . الرَّابِعَةُ: عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ الْمَصْدَرُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا النُّحَاةُ فِي التَّمْثِيلِ حَتَّى يُخَيَّلَ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ مِثَالٌ فَذٌّ فِي بَابِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: 4] . وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الْكَهْف: 5] ، فَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قالُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْحَج: 30] ، فَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ لِلتَّعْظِيمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يُعَظِّمْ، وَقَوْلُ بَشَّارٍ: وَاللَّهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ ... مَا إِنْ غَدَرْتُ وَلَا نَوَيْتُهُ أَيِ الْغَدْرَ. وَمَعْنَى أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ لِلتَّقْوَى الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مِلَاكُ كَبْحِ النَّفْسِ عَنِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ ملاك التّقوى. [9، 10] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 9 إِلَى 10] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) عُقِّبَ أَمْرُهُمْ بِالتَّقْوَى بِذِكْرِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ تَرْغِيبًا فِي الِامْتِثَالِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ حَالُ أَضْدَادِ الْمُتَّقِينَ تَرْهِيبًا. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَمَفْعُولُ وَعَدَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ. وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، فَاسْتُغْنِيَ بِالْبَيَانِ عَنِ الْمَفْعُولِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا النَّظْمِ لِمَا فِي إِثْبَاتِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالتَّقَرُّرِ.

[سورة المائدة (5) : آية 11]

وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِالْجَحِيمِ وَكَانُوا خَالِدِينَ فِيهِ جُعِلُوا كَالْمُنْفَرِدِينَ بِهِ، أَوْ هُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ إِذَا كَانَتْ إِضَافَةُ أَصْحابُ مُؤْذِنَةً بِمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ كَمَا قَالُوهُ فِي مُرَادِفِهَا، وَهُوَ ذُو كَذَا، كَمَا نَبَّهُوا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [آل عمرَان: 4] فَيَكُونُ وَجْهُ هَذَا الِاخْتِصَاصِ أَنَّهُمُ الْبَاقُونَ فِي الْجَحِيم أبدا. [11] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: 7] أُعِيدَ تَذْكِيرُهُمْ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِذْ كَانَتْ فِيهَا سَلَامَتُهُمْ، تِلْكَ هِيَ نِعْمَةُ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّصْرِ دُونَ تَجَشُّمِ مَشَاقِّ الْحَرْبِ وَمَتَالِفِهَا. وَافْتِتَاحُ الِاسْتِئْنَافِ بِالنِّدَاءِ لِيَحْصُلَ إِقْبَالُ السَّامِعِينَ عَلَى سَمَاعِهِ. وَلَفْظُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَمَا مَعَهُ مِنْ ضَمَائِرِ الْجَمْعِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْحَادِثَةَ تَتَعَلَّقُ بِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ. وَقَدْ أَجْمَلَ النِّعْمَةَ ثُمَّ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ فِي تَعْيِينِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالَّذِي يَبْدُو لِي أَنَّ الْمُرَادَ قَوْمٌ يَعْرِفُهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى وَقْعَةٍ مَشْهُورَةٍ أَوْ قَرِيبَةٍ مِنْ تَارِيخِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَمْ أَرَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ. وَالَّذِي أَحْسَبُ أَنَّهَا تَذْكِيرٌ بِيَوْمِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الْأَحْزَاب: 9] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ عَزْمِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْغَدْرِ

بِالْمُسْلِمِينَ حِينَ نُزُولِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَامَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: 24] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى عَزْمِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَأَنْصَارِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ وَبَنِي أَسَدٍ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ حِصَارِ خَيْبَرَ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا آيَةُ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: 20] . وَعَنْ قَتَادَةَ: سَبَبُ الْآيَةِ مَا هَمَّتْ بِهِ بَنُو مُحَارِبٍ وَبَنُو ثَعْلَبَةَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَأَشْعَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَكَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ مِنْ غَيْرِ هَذَا مِمَّا هَمَّ بِهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ قتل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ عَلَى دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ فَتَآمَرُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَكَذَا مَا يُذْكَرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِلٌ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ إِحْدَى غَزَوَاتِهِ، فَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ خِطَابَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَا يُنَاسِبُ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ لِأَنَّ الَّذِي أَهَمَّ بِالْقَتْلِ وَاحِدٌ لَا قَوْمٌ. وَبَسْطُ الْيَدِ مَجَازٌ فِي الْبَطْشِ قَالَ تَعَالَى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: 2] وَيُطْلَقُ عَلَى السُّلْطَةِ مَجَازًا أَيْضًا، كَقَوْلِهِمْ: يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى الْجُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَة: 64] . وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي مُحَاوَلَةِ الْإِمْسَاكِ بِشَيْءٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ ابْنِ آدَمَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [الْمَائِدَة: 28] . وَأَمَّا كَفُّ الْيَدِ فَهُوَ مَجَازٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ السُّوءِ خَاصَّةً وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: 20] .

[سورة المائدة (5) : آية 12]

وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَقِبَ ذَلِكَ لأنّها أظهر للشكر، فَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِالْوَاوِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا، وَأَنَّهَا شُكْرٌ لِلَّهِ بِدَلَالَةِ وُقُوعِ الْأَمْرِ عَقِبَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةٍ عُظْمَى. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْرٌ لَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَذَلِكَ التَّوَكُّلُ يَعْتَمِدُ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ فَنَاسَبَ التَّقْوَى. وَكَانَ مِنْ مَظَاهِرِهِ تِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي ذكّروا بهَا. [12] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) نَاسَبَ ذِكْرُ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِبَ ذِكْرِ مِيثَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: 7] تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيثَاقُنَا كَمِيثَاقِهِمْ. وَمَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ وَمَجِيءِ الْإِرْشَادِ فِي قَالَبِ الْقِصَصِ، وَالتَّنَقُّلِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَدْ وَبِاللَّامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَمَا يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَلَيْسَ ثَمَّ مُتَرَدَّدٌ وَلَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهُ. وَذِكْرُ مَوَاثِيقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْبَعْثُ أَصْلُهُ التَّوْجِيهُ وَالْإِرْسَالُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْإِقَامَةِ وَالْإِنْهَاضِ

كَقَوْلِهِ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] ، وَقَوْلِهِ: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: 56] . ثُمَّ شَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى بُنِيَ عَلَيْهِ مَجَازٌ آخَرُ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِقَامَةِ الْمَجَازِيَّةِ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164] ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِثَارَةِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْشَاءِ الْخَوَاطِرِ فِي النَّفْسِ. قَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى أَيْ أَنَّ الْحُزْنَ يُثِيرُ حُزْنًا آخَرَ. وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالْمَعْنَى الثَّالِثَ. وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَبَعَثْنا الْتِفَاتٌ. وَالنَّقِيبُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ: إِمَّا مِنْ نَقَبَ إِذَا حَفَرَ مَجَازًا، أَوْ مِنْ نَقَّبَ إِذَا بَعَثَ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: 36] ، وَعَلَى الْأَخِيرِ يَكُونُ صَوْغُ فَعِيلٍ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ وَارِدٌ كَمَا صِيغَ سَمِيعٌ مِنْ أَسْمَعَ فِي قَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيِ الْمُسْمِعُ. وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ لِلْأُمُورِ. فَالنَّقِيبُ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ الْقَوْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ بَاحِثًا عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيُطْلَقُ عَلَى الرَّئِيسِ وَعَلَى قَائِدِ الْجَيْشِ وَعَلَى الرَّائِدِ، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَنَّ نُقَبَاءَ الْأَنْصَارِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَالْمُرَادُ بِنُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رُؤَسَاءَ جُيُوشٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رُوَّادًا وَجَوَاسِيسَ، وَكِلَاهُمَا وَاقِعٌ فِي حَوَادِثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ مَعَهُ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَقَدْ أَقَامَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا عَلَى جَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ الْمُجَنَّدِينَ، فَجَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا، وَجَعَلَ لِسِبْطِ يُوسُفَ نَقِيبَيْنِ،

وَلَمْ يَجْعَلْ لِسِبْطِ لَاوِي نَقِيبًا، لِأَنَّ اللَّاوِيِّينَ كَانُوا غَيْرَ مَعْدُودِينَ فِي الْجَيْشِ إِذْ هُمْ حَفَظَةُ الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ سِفْرِ الْعَدَدِ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى: أَحْصُوا كُلَّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ بِعَشَائِرِهِمْ بِعَدَدِ الْأَسْمَاءِ مِنَ ابْنِ عِشْرِينَ فَصَاعِدًا كُلٌّ خَارِجٌ لِلْحَرْبِ فِي إِسْرَائِيلَ حَسَبَ أَجْنَادِهِمْ، تَحْسِبُهُمْ أَنْتَ وَهَارُونُ، وَيَكُونُ مَعَكُمَا رَجُلٌ لِكُلِّ سِبْطٍ رُؤُوسِ أُلُوفِ إِسْرَائِيلَ «وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: أَمَّا سِبْطُ لَاوِي فَلَا تَعُدَّهُ بَلْ وَكُلُّ اللَّاوِيِّينَ عَلَى مَسْكَنِ الشَّهَادَةِ وَعَلَى جَمِيعِ أَمْتِعَتِهِ» . وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ فِيهِ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، فَقَدْ بَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِاخْتِبَارِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي حَوْلَهُمْ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَهُمْ غَيْرُ الِاثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا الَّذِينَ جَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ عَلَى قَبَائِلِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ أَفْرَايِمَ، وَكَالِبُ بْنُ يَفَنَةَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، وَهُمَا الْوَارِدُ ذِكْرهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [الْمَائِدَة: 23] ، كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا النُّقَبَاءُ الَّذِينَ أُقِيمُوا لِجُنْدِ إِسْرَائِيلَ. وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي مَعَكُمْ مَعِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، تَمْثِيلٌ لِلْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ وَالنَّصْرِ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: 12] ، وَقَالَ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] وَقَالَ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الْحَدِيد: 4] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ وَعْدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ الْآيَةَ. واستئناف مَحْضٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أَلْفَاظِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنَّمَا جَمَعَهُمَا الْعَامِلُ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَوْلِ، فَكِلْتَاهُمَا مَقُولٌ، وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي مَعَكُمْ، ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ إِلَى آخِرِهِ. وَلَامُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَلَامُ لَأُكَفِّرَنَّ لَامُ

[سورة المائدة (5) : آية 13]

جَوَابِ الْقَسَمِ، وَلَعَلَّ هَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ الْمِيثَاقُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ: إِنِّي مَعَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ مَا كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: مِنْ إِعْطَائِهِمْ عُشْرَ مَحْصُولَاتِ ثِمَارِهِمْ وَزَرْعِهِمْ، مِمَّا جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَالْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْفَصْلِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [43] . وَالتَّعْزِيرُ: النَّصْرُ. يُقَالُ: عَزَرَهُ مُخَفَّفًا، وَعَزَّرَهُ مُشَدَّدًا، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي عَزَرَهُ عَزْرًا إِذَا نَصَرَهُ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، لِأَنَّ النَّاصِرَ يَمْنَعُ الْمُعْتَدِيَ عَلَى مَنْصُورِهِ. وَمَعْنَى وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْوَاجِبَةِ. وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ: مَغْفِرَةُ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنِ التَّعَاصِي لِلرَّسُولِ فَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالتَّوْبَةَ مُكَفِّرَتَيْنِ عَنِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ فَقَدْ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ لَا عذر لسَائِر فِيهِ حِينَ يُضِلُّهُ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ السَّوِيَّ لَا يُحْوِجُ السَّائِرَ فِيهِ إِلَى الرَّوَغَانِ فِي ثَنَيَاتٍ قَدْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ وَتُفْضِي بِهِ إِلَى التِّيهِ فِي الضلال. [13] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ

تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ [النِّسَاء: 155] ، وَقَوْلِهِ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [160] . وَاللَّعْنُ هُوَ الْإِبْعَادُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ هَدْيِهِ إِذِ اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ لِأَجْلِ نَقْضِ الْمِيثَاقِ. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قَسَاوَةُ الْقَلْبِ مَجَازٌ، إِذْ أَصْلُهَا الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ، فَاسْتُعِيرَتْ لِعَدَمِ تَأَثُّرِ الْقُلُوبِ بِالْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 74] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قاسِيَةً- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكسَائِيّ، وَخلف: قاسِيَةً فَيَكُونُ بِوَزْنِ فَعَيْلَةٍ مِنْ قَسَا يَقْسُو. وَجُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَعَنَّاهُمْ. وَالتَّحْرِيفُ: الْمَيْلُ بِالشَّيْءِ إِلَى الْحَرْفِ، وَالْحَرْفُ هُوَ الْجَانِبُ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِعَارَةُ مَعَانِي السَّيْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى مَعَانِي الْعَمَلِ وَالْهُدَى وَضِدِّهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: السُّلُوكُ، وَالسِّيرَةُ وَالسَّعْيُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وصراطا سَوِيًّا، وَسَوَاءُ السَّبِيلِ، وَجَادَّةُ الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقَةُ الْوَاضِحَةُ، وَسَوَاءُ الطَّرِيقِ وَفِي عَكْسِ ذَلِك قَالُوا: المراوغة، وَالِانْحِرَافُ، وَقَالُوا: بُنَيَّاتُ الطَّرِيقِ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، وَيُشَعِّبُ الْأُمُورَ. وَكَذَلِكَ مَا هُنَا، أَيْ يَعْدِلُونَ بِالْكَلِمِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَيَسِيرُونَ بِهَا فِي غَيْرِ مَسَالِكِهَا، وَهُوَ تَبْدِيلُ مَعَانِي كُتُبِهِمُ السَّمَاوِيَّةِ. وَهَذَا التَّحْرِيفُ يَكُونُ غَالِبًا بِسُوءِ التَّأْوِيلِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَيَكُونُ بِكِتْمَانِ أَحْكَامٍ كَثِيرَة مجاراة لأهواة الْعَامَّةِ، قِيلَ: وَيَكُونُ بِتَبْدِيلِ أَلْفَاظِ كُتُبِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيفَ فَسَادُ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [46] . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ.

وَجُمْلَةُ وَنَسُوا حَظًّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُحَرِّفُونَ. وَالنِّسْيَانُ مُرَادٌ بِهِ الْإِهْمَالُ الْمُفْضِي إِلَى النِّسْيَانِ غَالِبًا. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَتَجَدَّدُ، فَإِذَا حَصَلَ مَضَى، حَتَّى يُذَكِّرَهُ مُذَكِّرٌ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرَادًا بِهِ الْإِهْمَالُ فَإِنَّ فِي صَوْغِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِيَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْكِنَايَةِ لِتَهَاوُنِهِمْ بِالذِّكْرَى. وَالْحَظُّ النَّصِيبُ، وَتَنْكِيرُهُ هُنَا لِلتَّعْظِيمِ أَوِ التَّكْثِيرِ بِقَرِينَةِ الذَّمِّ. وَمَا ذُكِّرُوا بِهِ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى قِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالدِّينِ وَرَقَةِ اتِّبَاعِهِمْ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ مِنْ ذَلِكَ: وَهِيَ التَّعَمُّدُ إِلَى نَقْضٍ مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَالْغُرُورُ بِسُوءِ التَّأْوِيلِ، وَالنِّسْيَانُ النَّاشِئُ عَنْ قِلَّةِ تَعَهُّدِ الدِّينِ وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ وَنَتَّعِظَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا. وَقَدْ حَاطَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- هَذَا الدِّينَ مِنْ كُلِّ مَسَارِبِ التَّحْرِيفِ، فَمَيَّزُوا الْأَحْكَامَ الْمَنْصُوصَةَ وَالْمَقِيسَةَ وَوَضَعُوا أَلْقَابًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ دِينُ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ انْتِقَالٌ مِنْ ذِكْرِ نَقْضِهِمْ لِعَهْدِ اللَّهِ إِلَى خَيْسِهِمْ بِعَهْدِهِمْ مَعَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِعْلُ لَا تَزالُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارٍ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: يَدُومُ اطِّلَاعُكَ. فَالِاطِّلَاعُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ، وَالِاطِّلَاعُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَطَّلَعِ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يَزَالُونَ يَخُونُونَ فَتَطَّلِعُ عَلَى خِيَانَتِهِمْ. وَالِاطِّلَاعُ افْتِعَالٌ مَنْ طَلَعَ. وَالطُّلُوعُ: الصُّعُودُ. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ لَيْسَ فِعْلُهُ مُتَعَدِّيًا حَتَّى يُصَاغَ لَهُ مُطَاوِعٌ، فَاطَّلَعَ بِمَنْزِلَةِ تَطَلَّعَ، أَيْ تَكَلَّفَ الطُّلُوعَ لِقَصْدِ الْإِشْرَافِ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَزَالُ تَكْشِفُ وَتُشَاهِدُ خَائِنَةً مِنْهُمْ.

[سورة المائدة (5) : آية 14]

وَالْخَائِنَةُ: الْخِيَانَةُ فَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلَةِ، كَالْعَاقِبَةِ، وَالطَّاغِيَةِ. وَمِنْهُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: 19] . وَأَصْلُ الْخِيَانَةِ: عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَلَعَلَّ أَصْلَهَا إِظْهَارُ خِلَافِ الْبَاطِنِ. وَقِيلَ: خائِنَةٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ فِرْقَةٌ خَائِنَةٌ. وَاسْتَثْنَى قَلِيلًا مِنْهُمْ جُبِلُوا عَلَى الْوَفَاءِ، وَقَدْ نَقَضَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ عَهْدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ فَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ [الْأَحْزَاب: 26] . وَأَمْرُهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ حُمِلَ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى سُوءِ معاملتهم للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ ذِكْرِ الْمُنَاوَاةِ الْقَوْمِيَّةِ أَوِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلُهُ فِي بَرَاءَةٍ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: 29] لِأَنَّ تِلْكَ أَحْكَامُ التَّصَرُّفَاتِ الْعَامَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِآيَة بَرَاءَة. [14] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) ذُكِرَ بَعْدَ مِيثَاقِ الْيَهُودِ مِيثَاقُ النَّصَارَى. وَجَاءَتِ الْجُمْلَة على سبه اشْتِغَالِ الْعَامِلِ عَنِ الْمَعْمُولِ بِضَمِيرِهِ حَيْثُ قُدِّمَ مُتَعَلِّقٌ أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ وَفِيهِ اسْمٌ ظَاهِرٌ، وَجِيءَ بِضَمِيرِهِ مَعَ الْعَامِلِ لِلنُّكْتَةِ الدَّاعِيَةِ لِلِاشْتِغَالِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمُتَعَلِّقِ وَتَثْبِيتِهِ فِي الذِّهْنِ إِذْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَبِضَمِيرِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَأَخَذْنَا، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا نَصَارَى، مِيثَاقَهُمْ، وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ لِقَصْدِ الْحَصْرِ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ مِيثاقَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ مِنَ النَّصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَ الْيَهُودِ، أَيْ مِثْلَهُ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ حُذِفَتِ الْأَدَاةُ

فَانْتَصَبَ الْمُشَبَّهُ بِهِ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِيثَاقَ الْيَهُودِ لَمْ يُفَصَّلْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ حَتَّى يُشَبَّهَ بِهِ مِيثَاقُ النَّصَارَى. وَعُبِّرَ عَنِ النَّصَارَى بِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى هُنَا وَفِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: 82] تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اسْمَ دِينِهِمْ مُشِيرٌ إِلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُهُ أَنْصَارًا لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ، كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصَّفّ: 14] . وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنْ يَنْصُرُوا الْقَائِمَ بِالدِّينِ بَعْدَ عِيسَى مِنْ أَتْبَاعِهِ، مِثْلَ بُولُسَ وَبُطْرُسَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ دُعَاةِ الْهُدَى وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَنْصُرُوا النَّبِيءَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ عِيسَى قَبْلَ مُنْتَهَى الْعَالَمِ وَيُخَلِّصَ النَّاسَ مِنَ الضَّلَالِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ. فَجَمِيعُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ قَدْ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمَهُ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَبِخَاصَّةٍ النَّصَارَى، فَهَذَا اللَّقَبُ، وَهُوَ النَّصَارَى، حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ قَائِمَةٌ بِهِمْ مُتَلَبِّسَةٌ بِجَمَاعَتِهِمْ كُلِّهَا. وَيُفِيدُ لَفْظُ قالُوا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ الْكِنَائِيِّ أَنَّ هَذَا القَوْل غير مُوَفًّى بِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى بِهِ. هَذَا إِذَا كَانَ النَّصَارَى جَمْعًا لِنَاصِرِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ عَلَى مَعْنَى النِّسْبَةِ إِلَى النَّصْرِ مُبَالَغَةً، كَقَوْلِهِمْ: شَعْرَانِيٌّ، وَلِحْيَانِيٌّ، أَيِ النَّاصِرُ الشَّدِيدُ النَّصْرِ فَإِنْ كَانَ النَّصَارَى اسْمَ جَمْعِ نَاصِرِيٍّ، بِمَعْنَى الْمَنْسُوبِ إِلَى النَّاصِرِيِّ، وَالنَّاصِرِيُّ عِيسَى، لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ. فَالنَّاصِرِيُّ صِفَةٌ عُرِفَ بِهَا الْمَسِيحُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كُتُبِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ بَلَدِ النَّاصِرَةِ فِي فِلَسْطِينَ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى النِّسْبَةِ إِلَيْهِ النِّسْبَةَ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَشَرْعِهِ فَكُلُّ مَنْ حَادَ عَنْ شَرْعِهِ لَمْ يَكُنْ حَقِيقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ: قالُوا إِنَّا نَصارى. وَقِيلَ: إِنَّ النَّصَارَى جَمْعُ نَصْرَانِيٍّ، مَنْسُوبٌ إِلَى النَّصْرِ: كَمَا قَالُوا: شَعْرَانِيٌّ، وَلِحْيَانِيٌّ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارَ اللَّهِ. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قالُوا: إِنَّا نَصارى أَنَّهُمْ زَعَمُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ وَلَمْ يُؤَيِّدُوهُ بِفِعْلِهِمْ.

وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّصَارَى مِيثَاقًا عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَبَعْضُهُ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْأَنَاجِيلِ. وَقَوْلُهُ: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ حَقِيقَةُ الْإِغْرَاءِ حَثُّ أَحَدٍ عَلَى فِعْلٍ وَتَحْسِينُهُ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَوَانَى فِي تَحْصِيلِهِ فَاسْتُعِيرَ الْإِغْرَاءُ لِتَكْوِينِ مُلَازَمَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ، أَيْ لُزُومِهِمَا لَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، شُبِّهَ تَكْوِينُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمَا فِيهِمْ بِإِغْرَاءِ أَحَدٍ أحدا بِعَمَل يعْمل تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَلَمَّا دَلَّ الظَّرْفُ، وَهُوَ بَيْنَهُمُ، عَلَى أَنَّهُمَا أُغْرِيَتَا بِهِمُ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ متعلّق فَأَغْرَيْنا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأَغْرَيْنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بِهِمْ كَائِنَتَيْنِ بَيْنَهُمْ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَلَى تَعْدِيَةِ «أَغْرَيْنَا» بِحَرْفِ الْجَرِّ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِالظَّرْفِ قَرِينَةً أَوْ تَجْرِيدًا لِبَيَانِ أَنَّ المُرَاد ب فَأَغْرَيْنا أَلْقَيْنَا. وَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» من تَفْسِير فَأَغْرَيْنا بِمَعْنَى أَلْصَقْنَا تَطَوُّحٌ عَنِ الْمَقْصُودِ إِلَى رَائِحَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنِ الْغِرَاءِ، وَهُوَ الدُّهْنُ الَّذِي يُلْصَقُ الْخَشَبُ بِهِ، وَقَدْ تُنُوسِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْعَدَاوَةُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِإِضَافَةِ بَيْنَ إِلَيْهِ يَعُودُ إِلَى النَّصَارَى لِتَنْتَسِقَ الضَّمَائِرُ. وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْكَرَاهِيَةِ الشَّدِيدَةِ، فَهُمَا ضِدَّانِ لِلْمَحَبَّةِ. وَظَاهِرُ عَطْفِ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعَطْفِ بِهَذَا التَّرْتِيب ببعد أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، فَلَيْسَ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ لمجرّد التّأكيد، كَقَوْلِه عَدِيٍّ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا

وَقَدْ تَرَكَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ بَيَانَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَتَابَعَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَجِدُ مَنْ تَصَدَّى لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا سِوَى الشَّيْخِ ابْنِ عَرَفَةَ التُّونِسِيِّ، فَقَالَ فِي «تَفْسِيرِهِ» «الْعَدَاوَةُ أَعَمُّ مِنَ الْبَغْضَاءِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ سَبَبٌ فِي الْبَغْضَاءِ فَقَدْ يَتَعَادَى الْأَخُ مَعَ أَخِيهِ وَلَا يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَنْشَأَ عَنْهُ الْمُبَاغَضَةُ، وَقَدْ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ» اه. وَوَقَعَ لِأَبِي الْبَقَاءِ الْكَفَوِيِّ فِي كِتَابِ «الْكُلِّيَّاتِ» أَنَّهُ قَالَ: «الْعَدَاوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَغْضَاءِ لِأَنَّ كُلَّ عَدُوٍّ مُبْغِضٌ، وَقَدْ يُبْغِضُ مَنْ لَيْسَ بِعَدُوٍّ» . وَهُوَ يُخَالِفُ كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ. وَفِي تَعْلِيلِيهِمَا مُصَادَرَةٌ وَاضِحَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ أَعَمَّ مِنَ الْبَغْضَاءِ زَادَتْ فَائِدَةُ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ أَخَصَّ مِنَ الْبَغْضَاءِ لَمْ يَكُنِ الْعَطْفُ إِلَّا لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ من معنى المؤكّد، فَيَتَقَرَّرُ الْمَعْنَى وَلَوْ بِوَجْهٍ أَعَمَّ أَوْ أَخَصَّ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ. وَعِنْدِي: أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالَّذِي أَرَى أَنَّ بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ التَّضَادَّ وَالتَّبَايُنَ فَالْعَدَاوَةُ كَرَاهِيَةٌ تَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِهَا: مُعَامَلَةٌ بِجَفَاءٍ، أَوْ قَطِيعَةٌ، أَوْ إِضْرَارٌ، لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَدْوِ وَهُوَ التَّجَاوُزُ وَالتَّبَاعُدُ، فَإِنَّ مُشْتَقَّاتِ مَادَّةِ (ع د و) كُلَّهَا تَحُومُ حَوْلَ التَّفَرُّقِ وَعَدَمِ الْوِئَامِ. وَأَمَّا الْبَغْضَاءُ فَهِيَ شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَلَيْسَ فِي مَادَّةِ (ب غ ض) إِلَّا مَعْنَى جِنْسِ الْكَرَاهِيَةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اشْتِقَاقِ لَفْظِهَا مِنْ مَادَّتِهَا. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّ مَقْلُوبَ بَغِضَ يَكُونُ غَضِبَ لَا غَيْرُ، فَالْبَغْضَاءُ شِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ غَيْرُ مَصْحُوبَةٍ بِعَدْوٍ، فَهِيَ مُضْمَرَةٌ فِي النَّفْسِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُ مَعْنَيَيِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يكون إلقاؤهما بَينهمَا عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ، أَيْ أَغْرَيْنَا الْعَدَاوَةَ بَيْنَ بَعْضٍ مِنْهُمْ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ بَعْضٍ آخَرَ. فَوَقَعَ فِي هَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ اجْتِمَاعِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ.

وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، فِي شَرْحِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ عِنْدَ قَوْلِ كَعْبٍ: لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: إِنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ فِي النَّوْمِ يَقُولُ: الْعَدَاوَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عُدْوَةِ الْوَادِي، أَيْ جَانِبِهِ، لِأَنَّ الْمُتَعَادِيَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُفَارِقًا لِلْآخَرِ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على عدوة اه. فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَإِلْقَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ كَانَ عِقَابًا فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ جَزَاءً عَلَى نَكْثِهِمُ الْعَهْدَ. وَأَسْبَابُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ: فَتَكُونُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِحَلِ الدِّينِ بَيْنَ يَعَاقِبَةٍ، ومَلْكَانِيَّةٍ، ونُسْطُورِيَّةٍ، وهَرَاتِقَةٍ (بُرُوتِسْتَانْتَ) وَتَكُونُ مِنَ التَّحَاسُدِ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَتَاعِ الدُّنْيَا، كَمَا كَانَ بَيْنَ مُلُوكِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤَسَاءَ دِيَانَتِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أُغْرِيَتْ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةُ وَهُمْ لَمْ يَزَالُوا إِلْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَدَاوَةَ ثَابِتَةٌ بَيْنَهُمْ فِي الدِّينِ بِانْقِسَامِهِمْ فِرَقًا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [171] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ الِانْقِسَامُ يَجُرُّ إِلَيْهِمُ الْعَدَاوَةَ وَخَذَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. ثُمَّ إِنَّ دُوَلَهُمْ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً وَمُتَحَارِبَةً، وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَأَلَّبُوا فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ تَخَاذَلُوا وَتَحَارَبُوا، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ إِلَى الْآنَ. وَكَمْ ضَاعَتْ مَسَاعِي السَّاعِينَ فِي جَمْعِهِمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَأْلِيفِ اتِّحَادٍ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ لُطْفًا بِالْمُسْلِمِينَ فِي مُخْتَلِفِ عُصُورِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ، عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أُمَّةٍ أُخْرَى لَا يُنَافِي تَمَكُّنَ الْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ مَا ذُكِّرُوا بِهِ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 15 إلى 16]

وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا إِشْكَالَ فِي تَجَسُّمِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمِلَّتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ تَهْدِيدٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْبَاءِ إِنْبَاءُ الْمُؤَاخَذَةِ بِصَنِيعِهِمْ، كَقَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 135] . وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْآخِرَةِ فَالْإِنْبَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْصُلَ فِي الدُّنْيَا، فَالْإِنْبَاءُ مَجَازٌ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُمْ حَوَادِثَ يَعْرِفُونَ بِهَا سوء صنيعتهم. [15، 16] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 15 إِلَى 16] يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ فَرِيقَيْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنْبَائِهِمْ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُ عُلَمَائِهِمْ وَمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ بِالْمَوْعِظَةِ إِذْ قَدْ تَهَيَّأَ مِنْ ظُهُورِ صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُسَهِّلُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ وَصْفُ الرَّسُولِ بِأَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. وَمَعْنَى يَعْفُوَ يُعْرِضُ وَلَا يُظْهِرُ، وَهُوَ أَصْلُ مَادَّةِ الْعَفْوِ. يُقَالُ: عَفَا الرَّسْمُ، بِمَعْنَى لَمْ يَظْهَرْ، وَعَفَّاهُ: أَزَالَ ظُهُورَهُ. ثُمَّ قَالُوا: عَفَا عَنِ الذَّنْبِ، بِمَعْنَى أَعْرَضَ، ثُمَّ قَالُوا: عَفَا عَنِ الْمُذْنِبِ، بِمَعْنَى سَتَرَ عَنْهُ ذَنْبَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هُنَا مَعْنَى الصَّفْحِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَيْ وَيَصْفَحُ عَنْ ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ، أَيْ يُبَيِّنُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَيَعْفُو عَنْ جَهْلِكُمْ.

[سورة المائدة (5) : آية 17]

وَجُمْلَةُ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ اشْتَمَلَ عَلَى مَجِيءِ الْهُدَى وَالْقُرْآنِ، فَوِزَانُهَا وِزَانَ (عِلْمُهُ) مِنْ قَوْلِهِمْ: نَفَعَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا، وَأُعِيدَ حَرْفُ (قَدْ) الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُبَدَلِ مِنْهَا زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ أَضْعَفُ مِنْ تَعَلُّقِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ أَوْ إِلَى الْكِتَابِ الْمُبِينِ. وَسُبُلُ السَّلَامِ: طُرُقُ السَّلَامَةِ الَّتِي لَا خَوْفَ عَلَى السَّائِرِ فِيهَا. وَلِلْعَرَبِ طُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْأَمْنِ وَطُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَخَافَةِ، مِثْلَ وَادِي السِّبَاعِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الرِّيَاحَيُّ: وَمَرَرْتُ عَلَى وَادِي السِّبَاعِ وَلَا أَرَى ... كَوَادِي السِّبَاعِ حِينَ يُظْلِمُ وَادِيًا أَقَلَّ بِهِ رَكْبٌ أَتَوْهُ تَئِيَّةً ... وَأَخْوَفَ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ سَارِيًا فَسَبِيلُ السَّلَامِ اسْتِعَارَةٌ لِطُرُقِ الْحَقِّ. وَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ اسْتِعَارَةٌ لِلضَّلَالِ وَالْهُدَى. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مستعار للْإيمَان. [17] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) هَذَا مِنْ ضُرُوبِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمِيثَاقِ اللَّهِ تَعَالَى. كَانَ أَعْظَمَ ضَلَالِ النَّصَارَى ادِّعَاؤُهُمْ إِلَهِيَّةَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَإِبْطَالُ زَعْمِهِمْ ذَلِكَ هُوَ أَهَمُّ أَحْوَالِ إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَهَدْيِهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَاسْتَأْنَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ اسْتِئْنَافَ الْبَيَانِ. وَتَعَيَّنَ ذِكْرُ الْمَوْصُولِ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ مَا فِي هَذِهِِِ

الْمَقَالَةِ مِنَ الْكُفْرِ لَا بَيَانَ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنَ الضلال، لأنّ ظلالهم حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ كُفْرًا. وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ بِمَا تُؤَدِّيهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهُوَ تَرْكِيبٌ دَقِيقُ الْمَعْنَى لَمْ يُعْطِهِ الْمُفَسِّرُونَ حَقَّهُ مِنْ بَيَانِ انْتِزَاعِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ، مِنْ تَرْكِيبِهِ، مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّحَادِ مُسَمَّى هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ بِالْعَلَمِيَّةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْإِخْبَارِ بِأَحْدَاثٍ لِذَوَاتٍ، الْمُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ اشْتِقَاقٍ بَلْ هُوَ حَمْلُ مُوَاطَأَةٍ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْمَنْطِقِ: حَمْلَ (هُوَ هُوَ) ، وَذَلِكَ حِينَ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَيُرَادُ بَيَانُ أَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، كَقَوْلِكَ حِينَ تَقُولُ: قَالَ زِيَادٌ، فَيَقُولُ سَامِعُكَ: مَنْ هُوَ زِيَادٌ، فَتَقُولُ: زِيَادٌ هُوَ النَّابِغَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: مَيْمُونٌ هُوَ الْأَعْشَى، وَابْنُ أَبِي السِّمْطِ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَالْمُرَعَّثُ هُوَ بَشَّارٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَمُجَرَّدُ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الِاتِّحَادِ، وَإِقْحَامُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّفُ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ الِاتِّحَادِ، فَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِفَادَةُ قَصْرِ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِيهِ بِمُفِيدٍ شَيْئًا سِوَى التَّأْكِيدِ. وَكَذَلِكَ وُجُودُ حَرْفِ (إِنَّ) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ رُوَيْشِدِ بْنِ كَثِيرٍ الطَّائِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ فَلَا يَأْتِي فِي هَذَا مَا لِعُلَمَاءِ الْمَعَانِي مِنَ الْخِلَافِ فِي أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ هَلْ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الْعَكْسَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، لِأَنَّ مَقَامَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّيَيْنِ يُسَوِّي الِاحْتِمَالَيْنِ وَيَصْرِفُ عَنْ إِرَادَةِ الْقَصْرِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى إِشَارَةً خَفِيَّةً قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» عَقِبَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «مَعْنَاهُ بَتُّ الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّهِ هُوَ الْمَسِيحُ لَا غَيْرُ» . وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» مَا عَدَا قَوْلِهِ (لَا غَيْرُ) ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ (لَا غَيْرُ) يُشِيرُ إِلَى اسْتِفَادَةِ مَعْنَى الْقَصْرِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَعْنَى الِانْحِصَارِ لَازِمٌ بِمَعْنَى الِاتِّحَادِ وَلَيْسَ نَاشِئًا عَنْ صِيغَةِ قَصْرٍ.

وَيُفِيدُ قَوْلُهُمْ هَذَا أَنَّهُمْ جَعَلُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ مُتَّحِدَةً بِحَقِيقَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَنْزِلَةِ اتِّحَادِ الِاسْمَيْنِ لِلْمُسَمَّى الْوَاحِدِ، وَمُرَادُهُمُ امْتِزَاجُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي ذَاتِ عِيسَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةُ مُعَنْوَنَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ جَعَلَ الْقَائِلُونَ اسْمَ الْجَلَالَةِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ، وَاسْمَ عِيسَى الْمُسْنَدَ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِذَاتِ الْمَسِيحِ. وَحِكَايَةُ الْقَوْلِ عَنْهُمْ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذَا قَالُوهُ صَرَاحَةً عَنِ اعْتِقَادٍ، إِذْ سَرَى لَهُمُ الْقَوْلُ بِاتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِنَاسُوتِ عِيسَى إِلَى حَدِّ أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اتَّحَدَ بِعِيسَى وَامْتَزَجَ وُجُودُ اللَّهِ بِوُجُودِ عِيسَى. وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي اعْتِقَادِ الْحُلُولِ. وَلِلنَّصَارَى فِي تَصْوِيرِ هَذَا الْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ أَصْلٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، هُوَ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ (جَمْعُ أُقْنُومٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ- وَهُوَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ مَعْنَاهَا: الْأَصْلُ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُقْنُومُ الذَّاتِ، وَأُقْنُومُ الْعِلْمِ وَأُقْنُومُ الْحَيَاةِ، وَانْقَسَمُوا فِي بَيَانِ اتِّحَادِ هَذِهِ الْأَقَانِيمِ بِذَاتِ عِيسَى إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: مَذْهَبُ الملكانيّة وهم الجاثليقية (الْكَاثُولِيكُ) ، وَمَذْهَبُ النُّسْطُورِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الْيَعْقُوبِيَّةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» . وَتَقَدَّمَ مُفَصَّلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [171] . وَهَذَا قَوْلُ الْيَعَاقِبَةِ مِنَ النَّصَارَى، وَهُمْ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْبَرْذَعَانِيِّ، وَكَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَقَدْ حَدَثَتْ مَقَالَتُهُ هَذِهِ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَلْكَانِيَّةِ، وَيُقَالُ لِلْيَعَاقِبَةِ: أَصْحَابُ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَعَلَيْهَا دَرَجَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ كُلُّهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَلِقُرْبِ أَصْحَابِهَا الْحَبَشَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِبَيَانِ رَدِّهَا هُنَا وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ مُعْتَقَدِ النَّصَارَى فِي اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ وَفِي اجْتِمَاعِ الْأَقَانِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [171] . وَبَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الْآيَةَ،

فَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ، فَهِيَ لِلتَّعْقِيبِ الذِّكْرِيِّ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قِيلَ: إِنَّ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ، وَلَا أَنَّهَا جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، إِلَخْ. وَمَعْنَى يَمْلِكُ شَيْئًا هُنَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَالْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ، وَهَذَا اللَّازِمُ مُتَعَدِّدٌ وَهُوَ الْمِلْكُ، فَاسْتِطَاعَةُ التَّحْوِيلِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [11] . وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ «أَفَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» لِأَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ يَتَصَرَّفُ فِي مَمْلُوكِهِ كَيْفَ شَاءَ. فَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ شَيْئاً لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ هُنَا بِمَعْنَى النَّفْيِ كَانَ نَفْيُ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ مُقْتَضِيًا نَفْيَ الْكَثِيرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَالْمَعْنَى: فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ فِعْلِهِ وَتَصَرُّفِهِ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 67] . وَسَيَأْتِي لِمَعْنَى «يَمْلِكُ» اسْتِعْمَالٌ آخَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: 76] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي هَذِه السُّورَة [الْمَائِدَة: 41] . وَحَرْفُ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ أَرادَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّ إِهْلَاكَ أُمِّ الْمَسِيحِ قَدْ وَقَعَ بِلَا خِلَافٍ، وَلِأَنَّ إِهْلَاكَ الْمَسِيحِ، أَيْ مَوْتُهُ وَاقِعٌ عِنْدِ الْمُجَادِلِينَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَيَنْبَغِي إِرْخَاءُ الْعِنَانِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي قَوْلٍ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ وَرَفَعَهُ دُونَ أَنْ يُمَكِّنَ الْيَهُودَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ [النِّسَاء: 157] ، وَقَوْلِهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمرَان: 55] . وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي

[سورة المائدة (5) : آية 18]

تَعْلِيقِ هَذَا الشَّرْطِ إِشْعَارٌ بِالِاسْتِقْبَالِ. والمضارع المقترن بِأَن وَهُوَ أَنْ يُهْلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُجَرَّدِ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِ مَنْ فِي الْأَرْضِ حِينَئِذٍ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَدْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالضَّرُورَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَصُدَّ اللَّهَ إِذْ أَرَادَ إِهْلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ. وَلَكَ أَنْ تَلْتَزِمَ كَوْنَ الشَّرْطِ لِلِاسْتِقْبَالِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بِمَعْنَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ مَفَاعِيلِ يُهْلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ فَإِنَّ بَعْضَهَا وَقَعَ هَلَكُهُ وَهُوَ أُمُّ الْمَسِيحِ، وَبَعْضَهَا لَمْ يَقَعْ وَسَيَقَعُ وَهُوَ إِهْلَاكُ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، أَيْ إِهْلَاكُ جَمِيعِ النَّوْعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرُ وَاقِعٍ وَلَكِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُقُوعِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ غَرَائِبِ اسْتِعْمَالِ الشُّرُوطِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الشَّرْطِ فِي مَعْنًى حَقِيقِيٍّ وَمَعْنًى مَجَازِيٍّ تَغْلِيبًا لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَلَمْ يُعْطِهِ الْمُفَسِّرُونَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ. وَقَدْ هَلَكَتْ مَرْيَمُ أُمُّ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فِي زَمَنٍ غَيْرِ مَضْبُوطٍ بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيحِ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فِيهِ تَعْظِيمُ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَدٌّ آخَرُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَلَكَ مَا فِيهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ الْمَسِيحُ، فَاللَّهُ هُوَ الْإِلَهُ حَقًّا، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَسِيحَ خَلْقًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، فَكَانَ مُوجِبَ ضَلَالِ مَنْ نَسَبَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [18] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) مَقَالٌ آخَرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ يَدُلُّ عَلَى غَبَاوَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ إِذْ

يَقُولُونَ مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ هُوَ مُنَاقِضٌ لِمَقَالَاتِهِمُ الْأُخْرَى. عُطِفَ عَلَى الْمَقَالِ الْمُخْتَصِّ بِالنَّصَارَى، وَهُوَ جُمْلَةُ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ [الْمَائِدَة: 17] . وَقَدْ وَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ التَّعْبِيرُ بِأَبْنَاءِ اللَّهِ فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ أَوَّلُ الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ قَوْلُ مُوسَى «أَنْتُمْ أَوْلَادٌ لِلرَّبِّ أَبِيكُمْ» . وَأَمَّا الْأَنَاجِيلُ فَهِيَ مَمْلُوءَةٌ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَبِي الْمَسِيحِ، وَبِأَبِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَبْنَاءَ اللَّهِ فِي مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ «وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» وَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ يُدْعَوْنَ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ «وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «لِأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» . وَكُلُّهَا جَائِيَةٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ فَتَوَهَّمَهَا دَهْمَاؤُهُمْ حَقِيقَةً فَاعْتَقَدُوا ظَاهِرَهَا. وَعُطِفَ وَأَحِبَّاؤُهُ عَلَى أَبْناءُ اللَّهِ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءٌ مَحْبُوبُونَ إِذْ قَدْ يَكُونُ الِابْنُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ. وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلَهُمْ بِنَقْضَيْنِ: أَوَّلُهُمَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ يَنَالُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللَّهِ وَأَحِبَّاءَهُ لَمَا عَذَّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَشَأْنُ الْمُحِبِّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ حَبِيبَهُ وَشَأْنُ الْأَبِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَبْنَاءَهُ. رُوِيَ أَنَّ الشِّبْلِيَّ سَأَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُجَاهِدٍ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْمُحِبَّ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ ابْنُ مُجَاهِدٍ، فَقَالَ لَهُ الشِّبْلِيُّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مِنْ تَقْدِيرِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ بِهِ، إِذْ يَصِيرُ الرَّدُّ مُصَادَرَةً، بَلِ الْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِحُصُولِ عَذَابٍ يَعْتَقِدُونَ حُصُولَهُ فِي عَقَائِدِ دِينِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَمْ عَذَابَ الدُّنْيَا. فَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُتُبُهُمْ طَافِحَةٌ بِذِكْرِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] . وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ أَرَ فِي الْأَنَاجِيلِ ذِكْرًا لِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِأَنَّ بَنِي

[سورة المائدة (5) : آية 19]

آدَمَ كُلَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأُخْرَوِيَّ بِخَطِيئَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، فَجَاءَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُخَلِّصًا وَشَافِعًا وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلصَّلْبِ لِيُكَفِّرَ عَنِ الْبَشَرِ خَطِيئَتَهُمُ الْمَوْرُوثَةَ، وَهَذَا يُلْزِمُهُمُ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى الْجَمِيعِ لَوْلَا كَفَّارَةُ عِيسَى فَحَصَلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ بِهِ بَلْهَ اعْتِقَادِنَا. ثُمَّ أُخِذَتِ النَّتِيجَةُ مِنَ الْبُرْهَانِ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَيْ يَنَالُكُمْ مَا يَنَالُ سَائِرَ الْبَشَرِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ، لِأَنَّهُ نَالَهُ مَا يَنَالُ الْبَشَرَ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْفِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَالَهُ الصَّلْبُ وَالْقَتْلُ. وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ كَالِاحْتِرَاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَتَّبَ عَلَى نَوَالِ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ بَشَرٌ دَفَعَ تَوَهُّمَ النَّصَارَى أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ بِوِرَاثَةِ تَبِعَةِ خَطِيئَةِ آدَمَ فَقَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ مِنَ الْبَشَرِ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. [19] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 19] يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) كَرَّرَ اللَّهُ مَوْعِظَتَهُمْ وَدَعْوَتَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ فَسَادَ عَقَائِدِهِمْ وَغُرُورَ أَنْفُسِهِمْ بَيَانًا لَا يَدَعُ لِلْمُنْصِفِ مُتَمَسَّكًا بِتِلْكَ الضَّلَالَاتِ، كَمَا وَعَظَهُمْ وَدَعَاهُمْ آنِفًا بِمِثْلِ هَذَا عَقِبَ بَيَانِ نَقْضِهِمُ الْمَوَاثِيقَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ تَكْرِيرٌ لِمَوْقِعِ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [الْمَائِدَة: 15] الْآيَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِوَصْفِ مَجِيئِهِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ لِيُذَكِّرَهُمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ مُصَرِّحَةٌ بِمَجِيءِ رَسُولٍ عَقِبَ رُسُلِهِمْ، وَلِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَجِيئَهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ إِذْ كَانُوا يَجِيئُونَ عَلَى فِتَرٍ بَيْنَهُمْ. وَذُكِرَ الرَّسُولُ هُنَالِكَ بِوَصْفِ تَبْيِينِهِ مَا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّ

مَا ذُكِرَ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ هُنَا قَدْ دَلَّ عَلَى مُسَاوَاةِ الرُّسُلِ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَمُسَاوَاةِ الْأُمَمِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ هُنَالِكَ إِنَّمَا كَانَ إِنْبَاءً بِأَسْرَارِ كُتُبِهِمْ وَمَا يُخْفُونَ عِلْمَهُ عَنِ النَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَسَاوِيهِمْ وَسُوءِ سُمْعَتِهِمْ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُبَيِّنُ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الشَّرِيعَةِ. فَالْكَلَامُ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ تَأْكِيدٍ لِجُمْلَةِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ [الْمَائِدَة: 15] ، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ. وَقَوْلُهُ: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُبَيِّنُ لَكُمْ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ جاءَكُمْ. وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ يُبَيِّنُ لِأَنَّ الْبَيَانَ انْقَطَعَ فِي مُدَّةِ الْفَتْرَةِ. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى (بَعْدَ) لِأَنَّ الْمُسْتَعْلِيَ يَسْتَقِرُّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مَا يَسْتَعْلِي هُوَ فَوْقَهُ، فَشُبِّهَ اسْتِقْرَارُهُ بَعْدَهُ بِاسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهِ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ. وَالْفَتْرَةُ: انْقِطَاعُ عَمَلٍ مَا. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْله: مِنَ الرُّسُلِ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ابْتِدَاؤُهَا مُدَّةُ وُجُودِ الرُّسُلِ، أَيْ أَيَّامُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِأَمْرِ الرَّسُولِ بِتَبْلِيغِ الدِّينِ، فَكَمَا سُمِّيَ الرَّسُولُ رَسُولًا سُمِّيَ تَبْلِيغُهُ مَجِيئًا تَشْبِيهًا بِمَجِيءِ الْمُرْسَلِ مِنْ أَحَدٍ إِلَى آخَرَ. وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ رُسُلُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَعَاقِبِينَ مِنْ عَهْدِ مُوسَى إِلَى الْمَسِيحِ، أَوْ أُرِيدَ الْمَسِيحُ خَاصَّةً. وَالْفَتْرَةُ بَيْنَ الْبَعْثَةِ وَبَيْنَ رَفْعِ الْمَسِيحِ، كَانَتْ نَحْوَ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلٌ مِثْلُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ وَحَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ. وأَنْ تَقُولُوا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ لِبَيَانِ بَعْضِ الْحِكَمِ مِنْ بَعْثَةِ

الرَّسُولِ، وَهِيَ قَطْعُ مَعْذِرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ مُؤَاخَذَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَقْرِيعُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا غَيَّرُوا مِنْ شَرَائِعِهِمْ، لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَادُوا تعاقب الرُّسُل إرشادهم وَتَجْدِيدِ الدِّيَانَةِ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَعْتَذِرُوا بِأَنَّهُمْ لَمَّا مَضَتْ عَلَيْهِمْ فَتْرَةٌ بِدُونِ إِرْسَالِ رَسُولٍ لَمْ يَتَّجِهْ عَلَيْهِمْ مَلَامٌ فِيمَا أَهْمَلُوا مِنْ شَرْعِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَوْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ لَاهْتَدَوْا. فَالْمَعْنَى أَنْ تَقُولُوا: مَا جَاءَنَا رَسُولٌ فِي الْفَتْرَةِ بَعْدَ مُوسَى أَوْ بَعْدَ عِيسَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقُولُوا: مَا جَاءَنَا رَسُولٌ إِلَيْنَا أَصْلًا، فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى وَعِيسَى. فَكَانَ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ تَعْلِيلًا لِمَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَمُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ مَا جاءَنا. وَوَجَبَ تَقْدِيرُ لَامِ التَّعْلِيلِ قَبْلَ (أَنْ) وَهُوَ تَقْدِيرٌ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى. وَمِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ كَثِيرٌ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ (أَنْ) حَذْفًا مُطَّرِدًا، وَالْمَقَامُ يُعَيِّنُ الْحَرْفَ الْمَحْذُوفَ فَالْمَحْذُوفُ هُنَا حَرْفُ اللَّامِ. وَيَشْكُلُ مَعْنَى الْآيَةِ بِأَنَّ عِلَّةَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ هِيَ انْتِفَاءُ أَنْ يَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ لَا إِثْبَاتُهُ كَمَا هُوَ وَاضح، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَقُلْ: أَنْ لَا تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بشير وَلَا نذر، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي شِعْرِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا. فَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي تَقْدِيرِ مَا بِهِ يَتَقَوَّمُ الْمَعْنَى فِي الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى تَقْدِيرِ اسْمٍ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ لِفِعْلِ جاءَكُمْ، وَقَدَّرُوهُ: (كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقُولُوا) ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمُتَابِعُوهُ مِنْ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ نَفْيٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ (أَنْ) ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَقُولُوا، وَدَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ الْبَغَوِيِّ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْمَقَامِ. وَزَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّهُ تَعَسُّفٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ مِنْ مَعَانِي (أَنْ) أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (لِئَلَّا) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 20 إلى 22]

وَعِنْدِي: أَنَّ الَّذِي أَلْجَأَ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ لِهَذَا التَّأْوِيلِ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّ (أَنْ) تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ فَتَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ: مَا جَاءَنَا بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ مُقَدَّرٌ حُصُولُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ إِفَادَةَ (أَنْ) تَخْلِيصَ الْمُضَارِعِ لِلْمُسْتَقْبَلِ إِفَادَةٌ أَكْثَرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِمُطَّرِدَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ ذَهَبَ إِلَيْهِ، بَلْ قَدْ تُفِيدُ (أَنْ) مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 183] ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَإِمَّا تَرَيْنِي لَا أُغَمِّضُ سَاعَةً ... مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَنْ أَكُبَّ وَأَنْعَسَا فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَنْعَسُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَنَّ صَرْفَهَا عَنْ إِفَادَةِ الِاسْتِقْبَالِ يَعْتَمِدُ عَلَى الْقَرَائِنِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى هُنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ قَالُوا هَذَا الْعُذْرَ لِمَنْ يَلُومُهُمْ مِثْلِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْحَنِيفِيَّةَ، كَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَوْ قَالَهُ الْيَهُودُ لِنَصَارَى الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ الْفَاءُ فِيهِ لِلْفَصِيحَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ حُسْنُ مَوْقِعِهَا بِمَا قَرَّرَتْ بِهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ لَإِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُكُمْ إِذْ قَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خراسانا [20- 22] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 20 إِلَى 22] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ

(22) عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِ وَإِذْ قالَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ فِي الْبَقَرَةِ [30] . وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا أَنَّ الْقِصَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَثٍّ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ تَمْهِيدًا لِطَلَبِ امْتِثَالِهِمْ. وَقَدَّمَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْرَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَرْبِ الْكَنْعَانِيِّينَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِنِعْمَةِ الله عَلَيْهِم ليهيّىء نُفُوسَهُمْ إِلَى قَبُولِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ وَلِيُوثِقَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنْ قَاتَلُوا أَعْدَاءَهُمْ، فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَّ لَهُمْ ثَلَاثَ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ: أُولَاهَا: أَنَّ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ، وَمَعْنَى جَعْلِ الْأَنْبِيَاء فيهم فَيجوز أَنْ يَكُونَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِمْ فِيمَا مَضَى مِثْلُ يُوسُفَ وَالْأَسْبَاطِ وَمُوسَى وَهَارُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَعَلَ فِي الْمُخَاطَبِينَ أَنْبِيَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ هَارُونَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ أَنْبِياءَ جَمْعًا أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ فَاسْتَوَى انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ يَوْمَئِذٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: 44] يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَرَادَ مَنْ ظَهَرَ فِي زَمَنِ مُوسَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. فَقَدْ كَانَتْ مَرْيَمُ أُخْتُ مُوسَى نَبِيئَةً، كَمَا هُوَ صَرِيحُ التَّوْرَاةِ (إِصْحَاحٌ 15 مِنَ الْخُرُوجِ) . وَكَذَلِكَ أَلْدَادُ وميداد كَانَا نبيئين فِي زَمَنِ مُوسَى، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ (إِصْحَاحٌ 11 سِفْرُ الْعَدَدِ) . وَمُوقِعُ النِّعْمَةِ فِي إِقَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَيْنَهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَمَانَ الْهُدَى لَهُمْ وَالْجَرْيَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ ذِكْرٍ لَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ وَفِي تَارِيخِ الْأَجْيَالِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَالْمُلُوكِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ لِلْقِبْطِ، وَجَعَلَهُمْ سَادَةً عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي مَرُّوا بهَا، من الآموريين، وَالْعَنَاقِيِّينَ، وَالْحَشْبُونِيِّينَ، وَالرَّفَائِيِّينَ، وَالْعَمَالِقَةِ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ، أَوِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ جَعَلَكُمْ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] قَصْدًا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ بِشَارةً لَهُمْ بِمَا سَيَكُونُ لَهُمْ.

وَالنِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ آتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمين، وَمَا صدق (مَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ أَشْيَاءَ إِذْ آتَاهُمُ رِزْقَهُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَتَوَلَّى تَرْبِيَةَ نُفُوسِهِمْ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ. وَقَوْلُهُ: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ هُوَ الْغَرَضُ مِنِ الْخِطَابِ، فَهُوَ كَالْمَقْصِدِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ مَقَالَتَهُ وَهُوَ النِّدَاءُ بِ يَا قَوْمِ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ أَذْهَانِهِمْ. وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ أَمْرٌ بِالسَّعْيِ فِي أَسبَابه، أَي تهيّأوا لِلدُّخُولِ. وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ بِمَعْنَى الْمُطَهَّرَةِ الْمُبَارَكَةِ، أَيِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، أَوْ لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ بِدَفْنِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي أَوَّلِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا وَهِيَ حَبْرُونُ. وَهِيَ هُنَا أَرْضُ كَنْعَانَ مِنْ بَرِّيَّةِ (صِينَ) إِلَى مَدْخَلِ (حَمَاةَ وَإِلَى حَبْرُونَ) . وَهَذِهِ الْأَرْضُ هِيَ أَرْضُ فِلَسْطِينَ، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الْبَحْرِ الْأَبْيَضِ الْمُتَوَسِّطِ وَبَيْنَ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ وَالْبَحْرِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَهِي إِلَى (حَمَاةَ) شَمَالًا وَإِلَى (غَزَّةَ وَحَبْرُونَ) جَنُوبًا. وَفِي وَصْفِهَا بِ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِقْدَامِ لِدُخُولِهَا. وَمَعْنَى كَتَبَ اللَّهُ قَضَى وَقَدَّرَ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ كِتَابَةٌ وَلَكِنَّهُ تَعْبِيرٌ مَجَازِيٌّ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا أَكَّدَهُ الْمُلْتَزِمُ بِهِ كَتَبَهُ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ فَأُطْلِقَتِ الْكِتَابَةُ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لِإِبْطَالِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُورِثَهَا ذُرِّيَّتَهُ. وَوَعْدُ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ تَحْذِيرٌ مِمَّا يُوجِبُ الِانْهِزَامَ، لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْجَيْشِ عَلَى الْأَعْقَابِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الِانْخِذَالِ. وَالِارْتِدَادُ افْتِعَالٌ مِنَ الرَّدِّ، يُقَالُ: رَدَّهُ، فَارْتَدَّ، وَالرَّدُّ: إِرْجَاعُ السَّائِرِ عَنِ الْإِمْضَاءِ فِي سَيْرِهِ وَإِعَادَتُهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي

سَارَ مِنْهُ. وَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ الظَّهْرُ. وَالِارْتِدَادُ: الرُّجُوعُ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ عَلَى الْأَدْبَارِ إِلَى جِهَةِ الْأَدْبَارِ، أَيِ الْوَرَاءِ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَكَانَ الَّذِي يَمْشِي عَلَيْهِ الْمَاشِي وَهُوَ قَدْ كَانَ مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهِ، كَمَا يَقُولُونَ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَرَكِبُوا ظُهُورَهُمْ، وَارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَعَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَعُدِّيَ بِ عَلى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، أَيِ اسْتِعْلَاءِ طَرِيقِ السَّيْرِ، نُزِّلَتِ الْأَدْبَارُ الَّتِي يَكُونُ السَّيْرُ فِي جِهَتِهَا مَنْزِلَةَ الطَّرِيقِ الَّذِي يُسَارُ عَلَيْهِ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَأَصْلُهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَنْزِلِ قَالَ تَعَالَى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمرَان: 174] . وَالْمُرَادُ بِهِ هَنَا مُطْلَقُ الْمَصِيرِ. وَضَمَائِرُ فِيها ومِنْها تَعُودُ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَأَرَادُوا بِالْقَوْمِ الْجَبَّارِينَ فِي الْأَرْضِ سُكَّانَهَا الْكَنْعَانِيِّينَ، وَالْعَمَالِقَةَ، وَالْحِثِّيِّينَ، وَالْيَبُوسِيِّينَ، وَالْأَمُورِيِّينَ. وَالْجَبَّارُ: الْقَوِيُّ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِلْزَامُ لِأَنَّ الْقَوِيَّ يَجْبُرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ. وَكَانَتْ جَوَاسِيسُ مُوسَى الِاثْنَا عَشَرَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِارْتِيَادِ الْأَرْضِ قَدْ أَخْبَرُوا الْقَوْمَ بِجَوْدَةِ الْأَرْضِ وَبِقُوَّةِ سُكَّانِهَا. وَهَذَا كِنَايَة عَن مخالفتهم مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَقْطُنُونَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَامْتَنَعُوا مِنِ اقْتِحَامِ الْقَرْيَةِ خَوْفًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَكَّدُوا الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ تَوْكِيدًا قَوِيًّا بِمَدْلُولِ (إِنَّ) وَ (لَنْ) فِي إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها تَحْقِيقًا لِخَوْفِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْوَعْدِ بِدُخُولِهَا إِذَا خَلَتْ مِنَ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ فِيهَا. وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ: «أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُرْسِلَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا جَوَاسِيسَ يَتَجَسَّسُونَ أَرْضَ كَنْعَانَ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا فَعَيَّنَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ أَفْرَايِمَ، وَمِنْهُمْ كَالِبُ بْنُ يَفْنَةَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، وَلَمْ يُسَمُّوا بَقِيَّةَ الْجَوَاسِيسِ. فَجَاسُوا خِلَالَ الْأَرْضِ مِنْ بَرِّيَّةِ صِينَ إِلَى حَمَاةَ فَوَجَدُوا الْأَرْضَ ذَات ثِمَارٍ وَأَعْنَابٍ وَلَبَنٍ وَعَسَلٍ وَوَجَدُوا سُكَّانَهَا مُعْتَزِّينَ،

[سورة المائدة (5) : الآيات 23 إلى 26]

طُوَالَ الْقَامَاتِ، وَمُدُنُهُمْ حَصِينَةٌ. فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ وَهِلُوا وَبَكَوْا وَتَذَمَّرُوا عَلَى مُوسَى وَقَالُوا: لَوْ مُتْنَا فِي أَرْضِ مِصْرَ كَانَ خَيْرًا لَنَا مِنْ أَنْ تُغْنَمَ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا، فَقَالَ يُوشَعُ وَكَالِبٌ لِلشَّعْبِ: إِنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا يُدْخِلْنَا إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَكِنْ لَا تَعْصَوُا الرَّبَّ وَلَا تَخَافُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَاللَّهُ مَعَنَا. فَأَبَى الْقَوْمُ مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ لِمُوسَى: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَنْ سِنُّهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَصَاعِدًا هَذِهِ الْأَرْضَ إِلَّا يُوشَعَ وَكَالِبًا وَكُلُّكُمْ سَتُدْفَنُونَ فِي هَذَا الْقَفْرِ، وَيَكُونُ أَبْنَاؤُكُمْ رُعَاةً فِيهِ أَرْبَعِينَ سنة. [23- 26] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 23 إِلَى 26] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) فُصِّلَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ الْأَرْبَعُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ سَالِفًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالرَّجُلَانِ هُمَا يُوشَعُ وَكَالِبٌ. وَوُصِفَ الرَّجُلَانِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ فِي قَوْلِهِ: يَخافُونَ الْخَوْفَ مِنَ الْعَدُوِّ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. جَعَلَ تَعْرِيفَهُمْ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلتَّعْرِيضِ بِهِمْ بِمَذَمَّةِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ الشَّجَاعَةِ، فَيَكُونُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اتِّصَالِيَّةً وَهِيَ الَّتِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، أَيْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الَّذِينَ يَخَافُونَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْخَوْفِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ

حَرَّضُوا قَوْمَهُمْ عَلَى غَزْوِ الْعَدُوِّ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمَا بِالشَّجَاعَةِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ «أَنْعَمَ» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ كَانَ قَوْلهمَا لقومها «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ» نَاشِئًا عَنْ خَوْفِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الَّذِينَ عَصَوْهُمَا لَا يَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ مَنْشَأِ خَوْفِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى، أَيِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّجَاعَةَ فِي نَصْرِ الدِّينِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى صَاحِبِهَا. وَمَعْنَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمَا بِسَلْبِ الْخَوْفِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَبِمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ. والْبابَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَدْخَلُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، أَيِ الْمَسَالِكُ الَّتِي يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ، وَهُوَ الثَّغْرُ وَالْمَضِيقُ الَّذِي يُسْلَكُ مِنْهُ إِلَى مَنْزِلِ الْقَبِيلَةِ يَكُونُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَعْرَيْنِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ الْمَأْمُورِينَ بِدُخُولِهَا مَدِينَةٌ بَلْ أَرْضٌ لِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَأَرَادَا: فَإِذَا اجْتَزْتُمُ الثَّغْرَ وَوَطِئْتُمْ أَرْضَ الْأَعْدَاءِ غَلَبْتُمُوهُمْ فِي قِتَالِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ. وَقَدْ يُسَمَّى الثَّغْرُ الْبَحْرِيُّ بَابًا أَيْضًا، مِثْلَ بَابِ الْمَنْدَبِ، وَسَمَّوْا مَوْضِعًا بِجِهَةِ بُخَارَى الْبَابَ. وَحَمَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْبَابَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ بَابُ الْبَلَدِ الَّذِي فِي سُورِهِ، فَقَالُوا: أَرَادَا بَابَ قَرْيَتِهِمْ، أَيْ لِأَنَّ فَتْحَ مَدِينَةِ الْأَرْضِ يُعَدُّ مِلْكًا لِجَمِيعِ تِلْكَ الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ هِيَ (أَرِيحَا) أَوْ (قَادِشُ) حَاضِرَةُ الْعَمَالِقَةِ يَوْمَئِذٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْبَابُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ دَفَّةٌ عَظِيمَةٌ مُتَّخَذَةٌ مِنْ أَلْوَاحٍ تُوَصَّلُ بِجُزْأَيْ جِدَارٍ أَوْ سُورٍ بِكَيْفِيَّةٍ تَسْمَحُ لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللَّوْحُ سَادًّا لِتِلْكَ الْفُرْجَةِ مَتَى أُرِيدَ سَدُّهَا وَبِأَنْ تُفْتَحَ عِنْدَ إِرَادَةِ فَتْحِهَا فَيُسَمَّى السَّدُّ بِهِ غَلْقًا وَإِزَالَةُ السَّدِّ فَتْحًا. وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَا الْقَوْمَ بِاتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ أَمَرَاهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى وَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَا بِقَوْلِهِمَا: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي صِدْقِ الرَّسُولِ مُبْطِلٌ لِلْإِيمَانِ.

وَإِنَّمَا خَاطَبُوا مُوسَى عَقِبَ مَوْعِظَةِ الرَّجُلَيْنِ لَهُمْ، رُجُوعًا إِلَى إِبَايَتِهِمُ الْأُولَى الَّتِي شَافَهُوا بِهَا مُوسَى إِذْ قَالُوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، أَوْ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِكَلَامِ الرَّجُلَيْنِ وَأَكَّدُوا الِامْتِنَاعَ الثَّانِيَ مِنَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ أَشَدَّ تَوْكِيدٍ دَلَّ عَلَى شِدَّتِهِ فِي العربيّة بِثَلَاث مؤكدات: (إنّ) ، و (لن) ، وَكَلِمَةُ (أَبَدًا) . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنْ كَانَ خِطَابًا لِمُوسَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ مُعْجِزَةً كَمَا تَعَوَّدُوا مِنَ النَّصْرِ فَطَلَبُوا أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ الْجَبَّارِينَ بِدَعْوَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِخْفَافَ بِمُوسَى، وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي رِسَالَتِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا الِاسْتِخْفَافَ لَكَفَرُوا وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُوسَى الْوَاقِعِ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ إِلَّا وَصْفُهُمْ بِالْفَاسِقِينَ. وَالْفِسْقُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّ عِصْيَانَ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ كَبِيرَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ النَّبِيءَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ» فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ الْحَدِيثَ. فَلَا تَظُنَّنَّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ مَقْرُوءَةً بَيْنَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْمِقْدَادُ بِخَبَرٍ كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحَدِّثُهُمْ بِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ. «قَالَ» أَيْ مُوسَى، مُنَاجِيًا رَبَّهُ أَوْ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ لِيُوقِفَهُمْ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى نَفْسِي وَأَخِي، وَإِنَّمَا لَمْ يعدّ الرجلَيْن الَّذين قَالَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَسْتَهْوِيَهُمَا قَوْمُهُمَا. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ تُوَفِّيَ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِأَخِيهِ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ لِأَنَّهُ كَانَ

مُلَازِمَهُ فِي شؤونه، وَسَمَّاهُ اللَّهُ فَتَاهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الْكَهْف: 60] الْآيَةَ. وَعَطَفَهُ هُنَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحَرِّضًا لِلْقَوْمِ عَلَى دُخُولِ الْقَرْيَةِ. وَمَعْنَى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أَنْ لَا تُؤَاخِذَنَا بِجُرْمِهِمْ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا فَيُهْلِكَ الْجَمِيعَ فَطَلَبَ النَّجَاةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْبَرِيءَ بِذَنْبِ الْمُجْرِمِ، وَلِأَنَّ بَرَاءَةَ مُوسَى وَأَخِيهِ مِنَ الرِّضَا بِمَا فَعَلَهُ قَوْمُهُمْ أَمْرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَإِيقَافُ الضَّالِّينَ على غلطهم. وَقَوله اللَّهِ تَعَالَى لَهُ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُوسَى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، وَهُوَ جَوَابٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ مُوسَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ مُوسَى بِالْعِقَابِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَهُ، فَسَكَّنَ هَاجِسَ خَوْفِهِ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَحَصَلَ الْعِقَابُ لَهُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ انْتِصَارًا لِمُوسَى. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْعِقَابُ قَدْ نَالَ مُوسَى مِنْهُ مَا نَالَ قَوْمَهُ، فَإِنَّهُ بَقِيَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ. قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ هَيِّنًا عَلَى مُوسَى لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَعَهُمْ لِإِرْشَادِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَهُوَ خِصِّيصَةُ رِسَالَتِهِ، فَالتَّعَبُ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهُ رَفْعَ دَرَجَةٍ، أَمَّا هُمْ فَكَانُوا فِي مَشَقَّةٍ. يَتِيهُونَ يَضِلُّونَ، وَمَصْدَرُهُ التَّيْهُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَالتِّيهُ- بِكَسْرِ التَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ-. وَسُمِّيَتِ الْمَفَازَةُ تَيْهَاءَ وَسُمِّيَتْ تِيهًا. وَقَدْ بَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُقِيمِينَ فِي جِهَاتٍ ضَيِّقَةٍ وَيَسِيرُونَ الْهُوَيْنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مُنْتَظِمٍ حَتَّى بَلَغُوا جَبَلَ (نِيبُو) عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ نَهْرِ (الْأُرْدُنِّ) ، فَهُنَالِكَ تُوُفِّيَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُنَالِكَ دُفِنَ. وَلَا يُعْرَفُ مَوْضِعُ قَبْرِهِ كَمَا فِي نَصِّ كِتَابِ الْيَهُودِ. وَمَا دَخَلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ حَتَّى عَبَرُوا الْأُرْدُنَّ بِقِيَادَةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ خَلِيفَةِ مُوسَى. وَقَدِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ وَكَالِبَ بْنَ يَفْنَةَ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا: لَنْ نَدْخُلَهَا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الرُّوَّادِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ مُوسَى لِاخْتِبَارِ الْأَرْضِ فَوَافَقُوا قَوْمَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهَا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 30]

وَقَوْلُهُ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهَذَا الْعِقَابِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مُوسَى يُحْزِنُهُ ذَلِكَ، فَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْهِلُونَ الْحُزْنَ لِأَجْلِهِمْ لِفِسْقِهِمْ. وَالْأَسَى: الْحُزْنُ، يُقَالُ أَسِيَ كَفَرِحَ إِذا حزن. [27- 30] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 27 إِلَى 30] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) عَطَفَ نَبَأً عَلَى نَبَإٍ لِيَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلتَّحْذِيرِ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَالْحِرَابَةِ وَالسَّرِقَةِ، وَيُتْبَعُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَأَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَلِيَحْسُنَ التَّخَلُّصُ مِمَّا اسْتُطْرِدَ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ الَّتِي هِيَ مَوَاقِعُ عِبْرَةٍ وَتُنْظَمُ كُلُّهَا فِي جَرَائِرِ الْغُرُورِ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِصَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا مُنَاسَبَةُ تَمَاثُلٍ وَمُنَاسَبَةُ تَضَادٍّ. فَأَمَّا التَّمَاثُلُ فَإِنَّ فِي كِلْتَيْهِمَا عَدَمَ الرِّضَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَصَوْا أَمْرَ رَسُولِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ عَصَى حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ قَبُولِ قُرْبَانِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَفِي كِلْتَيْهِمَا جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ فَبَنُو إِسْرَائِيل قَالُوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ [الْمَائِدَة: 24] ، وَابْنُ آدَمَ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ الَّذِي تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّضَادُّ فَإِنَّ فِي إِحْدَاهُمَا إِقْدَامًا مَذْمُومًا مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَإِحْجَامًا مَذْمُومًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّ فِي إِحْدَاهُمَا اتِّفَاقَ أَخَوَيْنِ هُمَا مُوسَى وَأَخُوهُ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْأُخْرَى اخْتِلَافُ أَخَوَيْنِ بِالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ. وَمَعْنَى ابْنَيْ آدَمَ هُنَا وَلَدَاهُ. وَأَمَّا ابْنُ آدَمَ مُفْرَدًا فَقَدْ يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ

نَحْوَ: «يَا بن آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ» ، أَوْ مَجْمُوعًا نَحْوَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ [الْأَعْرَاف: 31] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقًا بِ اتْلُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ، وَالصِّدْقُ هُوَ الثَّابِتُ، وَالْكَذِبُ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ، كَمَا قَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْف: 13] . وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ ضِدَّ الْبَاطِلِ وَهُوَ الْجِدُّ غَيْرُ الْهَزْلِ، أَيِ اتْلُ هَذَا النَّبَأَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ لَا لِمُجَرَّدِ التَّفَكُّهِ وَاللَّهْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِالْحَقِّ مُشِيرًا إِلَى مَا خفّ بِالْقِصَّةِ مِنْ زِيَادَاتٍ زَادَهَا أَهْلُ الْقَصَصِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَسْبَابِ قَتْلِ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ أَخَاهُ. وإِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ لِ نَبَأَ، أَيْ خَبَرِهِمَا الْحَاصِلِ وَقْتَ تَقْرِيبِهِمَا قُرْبَانًا، فَيَنْتَصِبُ (إِذْ) عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ. وَفِعْلُ قَرَّبا هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُرْبَانِ الَّذِي صَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، يُسَمَّى بِهِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ صَلَاةٍ، فاشتقّ من الْقُرْآن قَرَّبَ، كَمَا اشْتُقَّ مِنَ النُّسُكِ نَسَكَ، وَمِنَ الْأُضْحِيَّةِ ضَحَّى، وَمِنَ الْعَقِيقَةِ عَقَّ. وَلَيْسَ قَرَّبا هُنَا بِمَعْنَى أَدْنَيَا إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ هُنَا. وَفِي التَّوْرَاةِ هُمَا (قَايِينُ) - وَالْعَرَبُ يُسَمُّونَهُ قَابِيلَ- وَأَخُوهُ (هَابِيلُ) . وَكَانَ قَابِيلُ فَلَّاحًا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، فَقَرَّبَ قَابِيلُ مِنْ ثِمَارِ حَرْثِهِ قُرْبَانًا وَقَرَّبَ هَابِيلُ مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ قُرْبَانًا. وَلَا نَدْرِي هَلْ كَانَ الْقُرْبَانُ عِنْدَهُمْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ كَانَ يُتْرَكُ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَتَقَبَّلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ قَابِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبُولَ قُرْبَانِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حَصَلَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه لِآدَمَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَبَّلِ اللَّهُ قُرْبَانَ قَابِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا صَالِحًا بَلْ كَانَتْ لَهُ خَطَايَا. وَقِيلَ: كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ يُقَرِّبُ قُرْبَانًا. وَأُفْرِدَ الْقُرْبَانُ فِي الْآيَةِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا قَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

قُرْبَانًا وَلَيْسَ هُوَ قُرْبَانًا مُشْتَرَكًا. وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَقَبَّلَ مِنْهُ وَالَّذِي لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ إِذْ لَا جَدْوَى لِذَلِكَ فِي مَوْقِعِ الْعِبْرَةِ. وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ حَسَدُهُ عَلَى مَزِيَّةِ الْقَبُولِ. وَالْحَسَدُ أَوَّلُ جَرِيمَةٍ ظَهَرَتْ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ مَوْعِظَةٌ وَتَعْرِيضٌ وَتَنَصُّلٌ مِمَّا يُوجِبُ قَتْلَهُ. يَقُولُ: الْقَبُولُ فِعْلُ اللَّهِ لَا فِعْلُ غَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَقَبَّلُ مِنَ الْمُتَّقِي لَا مِنْ غَيْرِهِ. يُعَرِّضُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَقِيٍّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَقَبَّلِ اللَّهُ مِنْهُ. وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُضْمِرُ قَتْلَ النَّفْسِ. وَلِذَا فَلَا ذَنْبَ، لِمَنْ تَقَبَّلَ اللَّهُ قُرْبَانَهُ، يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ. وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُ ابْنِ آدَمَ حَصْرَ الْقَبُولِ فِي أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُتَّقِينَ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفَ شَرْعًا الْمَحْكِيَّ بِلَفْظِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مُرَادُ ابْنِ آدَمَ كَانَ مُفَادُ الْحَصْرِ أَنَّ عَمَلَ غَيْرِ الْمُتَّقِي لَا يُقْبَلُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ شَرِيعَتَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ فِي الْإِسْلَامِ بِقَبُولِ الْحَسَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصُونَ فِي الْعَمَلِ، فَيَكُونُ عَدَمُ الْقَبُولِ أَمَارَةً عَلَى عَدَمِ الْإِخْلَاصِ، وَفِيهِ إِخْرَاجُ لَفْظِ التَّقْوَى عَنِ الْمُتَعَارَفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّقَبُّلِ تَقَبُّلًا خَاصًّا، وَهُوَ التَّقَبُّلُ التَّامُّ الدَّالُّ عَلَيْهِ احْتِرَاقُ الْقُرْبَانِ، فَيَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] ، أَيْ هُدًى كَامِلًا لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 35] ، أَيِ الْآخِرَةُ الْكَامِلَةُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ تَقَبُّلَ الْقَرَابِينِ خَاصَّةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْمُتَّقِينَ بِالْقُرْبَانِ، أَيِ الْمُرِيدِينَ بِهِ تَقْوَى اللَّهِ، وَأَنَّ أَخَاهُ أَرَادَ بِقُرْبَانِهِ بِأَنَّهُ الْمُبَاهَاةُ. وَمَعْنَى هَذَا الْحَصْرِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَقَبَّلُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَكَانَ ذَلِكَ شَرْعَ زَمَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي إِلَخْ مَوْعِظَةٌ لِأَخِيهِ لِيُذَكِّرَهُ خَطَرَ هَذَا الْجُرْمِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ يَسْتَطِيعُ دِفَاعَهُ وَلَكِنَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْ هَابِيلَ فِي اسْتِعْظَامِ جُرْمِ قَتْلِ النَّفْسِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ دِفَاعًا. وَقَدْ عَلِمَ الْأَخَوَانِ مَا هُوَ الْقَتْلُ بِمَا يَعْرِفَانِهِ مِنْ ذَبْحِ

الْحَيَوَانِ وَالصَّيْدِ، فَكَانَ الْقَتْلُ مَعْرُوفًا لَهُمَا، وَلِهَذَا عَزَمَ عَلَيْهِ قَابِيلُ، فَرَأَى هَابِيلُ لِلنُّفُوسِ حُرْمَةً وَلَوْ كَانَتْ ظَالِمَةً، وَرَأَى فِي الِاسْتِسْلَامِ لِطَالِبِ قَتْلِهِ إِبْقَاءً عَلَى حِفْظِ النُّفُوسِ لِإِكْمَالِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا تَلَقَّيَا مِنْ أَبِيهِمَا الْوِصَايَةَ بِحِفْظِ النُّفُوسِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وَلَوْ كَانَ فِي وَقْتِ الدِّفَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّفَاعَ بِمَا يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ كَانَ مُحَرَّمًا وَأَنَّ هَذَا شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ تُبِيحُ لِلْمُعْتَدَى عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ بِقَتْلِ الْمُعْتَدِي، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الدِّفَاعُ. وَأَمَّا حَدِيثُ «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَذَلِكَ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْمُلْكِ وَقَصْدِ التَّغَالُبِ الَّذِي يَنْكَفُّ فِيهِ الْمُعْتَدِي بِتَسْلِيمِ الْآخَرِ لَهُ فَأَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَحَ الْفَرِيقَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ لِلْآخَرِ وَحَمْلِ التَّبِعَةِ عَلَيْهِ تَجَنُّبًا لِلْفِتْنَةِ، وَهُوَ الْمَوْقِفُ الَّذِي وَقَفَهُ عُثْمَانُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجَاءَ الصَّلَاحِ. وَمَعْنَى أُرِيدُ: أُرِيدُ مِنْ إِمْسَاكِي عَنِ الدِّفَاعِ. وَأُطْلِقَتِ الْإِرَادَةُ عَلَى الْعَزْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ [الْقَصَص: 27] ، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَافْتُتِحَتْ بِ (إِنَّ) الْمُشْعِرَةِ بِالتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ. وتَبُوءَ تَرْجِعُ، وَهُوَ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ تَكْتَسِبُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِكَ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ يَسْعَى لِنَفْسِهِ فَبَاءَ بِإِثْمَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِإِثْمِي مَا لَهُ مِنَ الْآثَامِ الْفَارِطَةِ فِي عُمْرِهِ، أَيْ أَرْجُو أَنْ يُغْفَرَ لِي وَتُحْمَلَ ذُنُوبِي عَلَيْكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَيُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا عَنْ عِلْمٍ مِنْ وَحْيٍ فَقَدْ كَانَ مِثْلَ مَا شُرِعَ فِي

الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَقَدْ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ وَإِلْهَامِهِ وَنَطَقَ عَنْ مِثْلِ نُبُوءَةٍ. وَمَصْدَرُ أَنْ تَبُوءَ هُوَ مَفْعُولُ أُرِيدُ، أَيْ أُرِيدُ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنْ أَنْ أَقْتُلَكَ إِنْ أَقْدَمْتَ عَلَى قَتْلِي أُرِيدُ أَنْ يَقَعَ إثمي عَلَيْك، فإثم مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ إِثْمٍ. وَقَدْ أَرَادَ بِهَذَا مَوْعِظَةَ أَخِيهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِثْمِكَ تَذْكِيرًا لَهُ بِفَظَاعَةِ عَاقِبَةِ فِعْلَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النَّحْل: 25] . فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَإِثْمِكَ إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ مَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُرِيدُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ تَذْكِيرًا لِأَخِيهِ بِمَا عَسَى أَنْ يَكُفَّهُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ. وَمَعْنَى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أَيْ مِمَّنْ يَطُولُ عَذَابُهُ فِي النَّارِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ مُلَازِمُوهَا. وَقَوْلُهُ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ وَالتَّعْقِيبِ، وَدَلَّ (طَوَّعَ) عَلَى حُدُوثِ تَرَدُّدٍ فِي نَفْسِ قَابِيلَ وَمُغَالَبَةٍ بَيْنَ دَافِعِ الْحَسَدِ وَدَافِعِ الْخَشْيَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُفَرَّعَ عَنْهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَتَرَدَّدَ مَلِيًّا، أَوْ فَتَرَصَّدَ فُرَصًا فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ. فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَقِيَ زَمَانًا يَتَرَبَّصُ بِأَخِيهِ، (وَطَوَّعَ) مَعْنَاهُ جَعَلَهُ طَائِعًا، أَيْ مَكَّنَهُ مِنَ الْمُطَوَّعِ. وَالطَّوْعُ وَالطَّوَاعِيَةُ: ضِدُّ الْإِكْرَاهِ، وَالتَّطْوِيعُ: مُحَاوَلَةُ الطَّوْعِ. شَبَّهَ قَتْلَ أَخِيهِ بِشَيْءٍ مُتَعَاصٍ عَنْ قَابِيلَ وَلَا يُطِيعُهُ بِسَبَبِ مُعَارَضَةِ التَّعَقُّلِ وَالْخَشْيَةِ. وَشُبِّهَتْ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ بِشَخْصٍ يُعِينُهُ وَيُذَلِّلُ لَهُ الْقَتْلَ الْمُتَعَاصِيَ، فَكَانَ (طَوَّعَتْ) اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً، وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّ نَفْسَ قَابِيلَ سَوَّلَتْ لَهُ قَتْلَ أَخِيهِ بَعْدَ مُمَانَعَةٍ. وَقَدْ سُلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْإِيجَازِ أَنْ يُحْذَفَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ وَيُقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ فَقَتَلَهُ لَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ لِقَصْدِ تَفْظِيعِ حَالَةِ الْقَاتِلِ فِي تَصْوِيرِ خَوَاطِرِهِ الشِّرِّيرَةِ وَقَسَاوَةِ قَلْبِهِ، إِذْ حَدَّثَهُ بِقَتْلِ مَنْ كَانَ شَأْنُهُ الرَّحْمَةَ بِهِ وَالرِّفْقَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِطْنَابًا.

[سورة المائدة (5) : آية 31]

وَمَعْنَى فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ صَارَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ هُنَا خَسَارَةَ الْآخِرَةِ، أَيْ صَارَ بِذَلِكَ الْقَتْلِ مِمَّنْ خَسِرَ الْآخِرَةَ، وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ (أَصْبَحَ) عَلَى ظَاهِرِهَا، أَيْ غَدَا خَاسِرًا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ مَا يَبْدُو عَلَى الْجَانِي مِنَ الِاضْطِرَابِ وَسُوءِ الْحَالَةِ وَخَيْبَةِ الرَّجَاءِ، فَتُفِيدُ أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ فِي الصّباح. [31] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 31] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) الْبَعْثُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِلْهَامِ بِالطَّيَرَانِ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَيْ فَأَلْهَمَ اللَّهُ غُرَابًا يَنْزِلُ بِحَيْثُ يَرَاهُ قَابِيلُ. وَكَأَنَّ اخْتِيَارَ الْغُرَابِ لِهَذَا الْعَمَلِ إِمَّا لِأَنَّ الدَّفْنَ حِيلَةٌ فِي الْغِرْبَانِ مِنْ قَبْلُ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُ لِذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ مَا يَعْتَرِي النَّاظِرَ إِلَى سَوَادِ لَوْنِهِ مِنَ الِانْقِبَاضِ بِمَا لِلْأَسِيفِ الْخَاسِرِ مِنِ انْقِبَاضِ النَّفْسِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَشَاؤُمِ الْعَرَبِ بِالْغُرَابِ، فَقَالُوا: غُرَابُ الْبَيْنِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي «يُرِيهِ» إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَالتَّعْلِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ اللَّامِ وَإِسْنَادِ الْإِرَادَةِ حَقِيقَتَانِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الْغُرَابِ فَاللَّامُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَإِسْنَادُ الْإِرَادَةِ إِلَى الْغُرَابِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ فَكَأَنَّهُ مُرِيءٌ. وكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهَامِ مُرَادًا مِنْهَا الْكَيْفِيَّةُ، أَوْ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: لِيُرِيَهُ جَوَابَ كَيْفَ يُوَارِي. وَالسَّوْأَةُ: مَا تَسُوءُ رُؤْيَتُهُ، وَهِيَ هُنَا تَغَيُّرُ رَائِحَةِ الْقَتِيلِ وَتَقَطُّعُ جِسْمِهِ. وَكلمَة يَا وَيْلَتى مِنْ صِيَغِ الِاسْتِغَاثَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّعَجُّبِ، وَأَصْلُهُ يَا لَوَيْلَتِي، فَعُوِّضَتِ الْأَلِفُ عَنْ لَامِ الِاسْتِغَاثَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: يَا عَجَبَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَلِفُ عِوَضًا عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَيَكُونَ النِّدَاءُ مَجَازًا بِتَنْزِيلِ الْوَيْلَةِ مَنْزِلَةَ مَا يُنَادَى، كَقَوْلِه: يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] .

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَعَجَزْتُ إِنْكَارِيٌّ. وَهَذَا الْمَشْهَدُ الْعَظِيمُ هُوَ مَشْهَدُ أَوَّلِ حَضَارَةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ طَلَبِ سَتْرِ الْمَشَاهِدِ الْمَكْرُوهَةِ. وَهُوَ أَيْضًا مَشْهَدُ أَوَّلِ عِلْمٍ اكْتَسَبَهُ الْبَشَرُ بِالتَّقْلِيدِ وَبِالتَّجْرِبَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَشْهَدُ أَوَّلِ مَظَاهِرِ تَلَقِّي الْبَشَرِ مَعَارِفَهُ مِنْ عَوَالِمَ أَضْعَفَ مِنْهُ كَمَا تَشَبَّهَ النَّاسُ بِالْحَيَوَانِ فِي الزِّينَةِ، فَلَبِسُوا الْجُلُودَ الْحَسَنَةَ الْمُلَوَّنَةَ وَتَكَلَّلُوا بِالرِّيشِ الْمُلَوَّنِ وَبِالزُّهُورِ وَالْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ، فَكَمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عِبْرَةٍ لِلتَّارِيخِ وَالدِّينِ وَالْخُلُقِ. فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْمَائِدَة: 30] . وَمَعْنَى مِنَ النَّادِمِينَ أَصْبَحَ نَادِمًا أَشَدَّ نَدَامَةٍ، لِأَنَّ مِنَ النَّادِمِينَ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ النَّدَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، مِنْ أَنْ يُقَالَ «نَادِمًا» . كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 34] وَقَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] . وَالنَّدَمُ أَسَفُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلٍ صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِمَا فِيهِ عَلَيْهِ مِنْ مَضَرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 6] ، أَيْ نَدِمَ عَلَى مَا اقْتَرَفَ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ إِذْ رَأَى الْغُرَابَ يَحْتَفِلُ بِإِكْرَامِ أَخِيهِ الْمَيِّتِ وَرَأى نَفسه يجترىء عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ إِلَى تَقْلِيدِ الْغُرَابِ فِي دَفْنِ أَخِيهِ إِلَّا مَبْدَأُ النَّدَامَةِ وَحَبُّ الْكَرَامَةِ لِأَخِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا النَّدَمَ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا قَصْدِ تَوْبَةٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ. فَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِمَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [93] .

[سورة المائدة (5) : آية 32]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ تَعْلِيلًا لِ كَتَبْنا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْجُمْلَةِ، وَيَكُونُ مُنْتَهَى الَّتِي قَبْلَهَا قَوْلَهُ: مِنَ النَّادِمِينَ [الْمَائِدَة: 31] . وَلَيْسَ قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ معلّقا بِ «النَّادِمِينَ» تَعْلِيلًا لَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمُفَادِ الْفَاءِ فِي قَوْله فَأَصْبَحَ [الْمَائِدَة: 31] . ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْأَجْلُ الْجَرَّاءُ وَالتَّسَبُّبُ (¬1) أَصْلُهُ مَصْدَرُ أَجَلَ يَأْجُلُ وَيَأْجِلُ كَنَصَرَ وَضَرَبَ بِمَعْنَى جَنَى وَاكْتَسَبَ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِاكْتِسَابِ الْجَرِيمَةِ، فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِجَنَى وَجَرَمَ، وَمِنْهُ الْجِنَايَةُ وَالْجَرِيمَةُ، غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ تَوَسَّعُوا فَأَطْلَقُوا الْأَجَلَ عَلَى الْمُكْتَسَبِ مُطْلَقًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ. وَالِابْتِدَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ لَهُ (مِنْ) هُنَا مَجَازِيٌّ، شَبَّهَ سَبَبَ الشَّيْءِ بِابْتِدَاءِ صُدُورِهِ، وَهُوَ مَثَارُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي (مِنْ) التَّعْلِيلَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ دُخُولِهَا عَلَى كَلِمَةِ «أَجْلِ» أَحْدَثَ فِيهَا معنى التّعليل، وَكثر حَذْفِ كَلِمَةِ أَجْلِ بَعْدَهَا مُحْدِثٌ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا من كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ حَفَى حَتَّى أُلَاقِيَ مُحَمَّدَا وَاسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مِنْ مُفَادِ الْجُمْلَةِ. وَكَانَ التَّعْلِيلُ بِكَلِمَةِ مِنْ أَجْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِمُجَرَّدِ اللَّامِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ هِيَ السَّبَبَ فِي تَهْوِيلِ أَمْرِ الْقَتْلِ وَإِظْهَارِ مَثَالِبِهِ. وَفِي ذِكْرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ خُصُوصُ ذلِكَ قَصْدُ اسْتِيعَابِ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ. ¬

(¬1) الجرّاء- بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الرَّاء- وَهُوَ بالمدّ، وبالقصر: التسبّب، مشتقّ من جرّ إِذا سبّب وَعلل.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ- بِسُكُونِ نُونِ (مِنْ) وَإِظْهَارِ هَمْزَةِ (أَجْلِ) -. وَقِرَاءَةُ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ- بِفَتْحِ النُّونِ وَحَذْفِ هَمْزَةِ اجْلِ- عَلَى طَرِيقَتِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ- بِكَسْرِ نُونِ (مِنْ) وَحَذْفِ هَمْزَةِ أَجْلِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى النُّونِ فَصَارَتْ غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهَا. وَمَعْنَى كَتَبْنا شَرَعْنَا كَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] . وَمَفْعُولُ كَتَبْنا مَضْمُونُ جُمْلَةِ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً. وَ (أَنَّ) مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ تُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَضَمِيرُ «أَنَّهُ» ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ شَأْنًا مُهِمًّا هُوَ مُمَاثَلَةُ قَتْلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِقَتْلِ الْقَاتِلِ النَّاسَ أَجْمَعِينَ. وَوَجْهُ تَحْصِيلِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ يَتَّضِحُ بِبَيَانِ مَوْقِعِ حَرْفِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدِ النُّونِ، فَهَذَا الْحَرْفُ لَا يَقَعُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا مَعْمُولًا لِعَامِلٍ قَبْلَهُ يَقْتَضِيهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَ (أَنَّ) بِمَنْزِلَةِ الْمُفْرَدِ الْمَعْمُولِ لِلْعَامِلِ، فَلَزِمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَ (أَنَّ) مُؤَوَّلَةٌ بِمَصْدَرٍ يُسْبَكُ، أَيْ يُؤْخَذُ مِنْ خَبَرِ (أَنَّ) . وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كَوْنِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ أُخْتًا لِحَرْفِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَأَنَّهَا تُفِيدُ التَّأْكِيدَ مِثْلَ أُخْتِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى كَوْنِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ الْحَرْفِيَّةِ الْخَمْسَةِ الَّتِي يُسْبَكُ مَدْخُولُهَا بِمَصْدَرٍ. وَبِهَذَا تَزِيدُ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ عَلَى (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ. وَخَبَرُ (أَنَّ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ جُمْلَةُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ إِلَخْ. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ. وَمَفْعُولُ كَتَبْنا مَأْخُوذٌ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: كَتَبْنَا مُشَابَهَةَ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ إِلَخْ بِقَتْلِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فِي عَظِيمِ الْجُرْمِ.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَرَى كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ. وَوَقَعَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ الْفَرَّاءِ مَا حَاصِلُهُ: إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ وَكَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ وَلَمْ تَكُنْ حِكَايَةً لَهُ نَصَبْتَهَا (أَيْ فَتَحْتَ هَمْزَتَهَا) ، مِثْلَ قَوْلِكَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاكَ شَرِيفٌ، تَفْتَحُ (أَنَّ) لِأَنَّهَا فَسَّرَتْ «كَلَامًا» ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ، (أَيْ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ قُلْتُ) فَمُفَسِّرُهُ مَنْصُوبٌ أَيْضًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَهُ إِعْرَابُ الْمُبَيَّنِ. فَالْفَرَّاءُ يُثْبِتُ لِحَرْفِ (أَنَّ) مَعْنَى التَّفْسِيرِ عِلَاوَةً عَلَى مَا يُثْبِتُهُ لَهُ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، فَصَارَ حَرْفُ (أَنَّ) بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ بِاطِّرَادٍ وَدَالًّا مَعَهُ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ تَارَةً وَعَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ تَارَةً أُخْرَى بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمَقَامِ. وَلَعَلَّ الْفَرَّاءَ يَنْحُو إِلَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ هُمَا حَرْفُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ، وَحَرْفُ (أَنْ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ النُّونِ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً مَصْدَرِيَّةً وَتَارَةً تَفْسِيرِيَّةً فَفَتْحُ هَمْزَتِهِ لِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِهِ مِنْ (أَنْ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ النُّونِ مَصْدَرِيَّةً أَوْ تَفْسِيرِيَّةً، وَتَشْدِيدُ نُونِهِ لِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِهِ مِنْ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ، وَأَصْلُهُ وَ (أَنْ إِنْ) فَلَمَّا رُكِّبَا تَدَاخَلَتْ حُرُوفُهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ أَصْلَ (لَنْ) (لَا أَنْ) . وَهَذَا بَيَانُ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ جُرْمٌ فَظِيعٌ، كَفَظَاعَةِ قَتْلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْمَقْصُودُ التَّوْطِئَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَانٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ شَرْعٌ سَالِفٌ وَمُرَادٌ لِلَّهِ قَدِيمٌ، لِأَنَّ لِمَعْرِفَةِ تَارِيخِ الشَّرَائِعِ تَبْصِرَةً لِلْمُتَفَقِّهِينَ وَتَطْمِينًا لِنُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ وَإِزَالَةً لِمَا عَسَى أَنْ يَعْتَرِضَ مِنَ الشُّبَهِ فِي أَحْكَامٍ خَفِيَتْ مَصَالِحُهَا، كَمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لِلْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ أَنَّهُ مُدَاوَاةٌ بِمِثْلِ الدَّاءِ الْمُتَدَاوَى مِنْهُ حَتَّى دَعَا ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ بَعْضَ الْأُمَمِ إِلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الْقِصَاصِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُعَاقِبُونَ الْمُذْنِبَ بِذَنْبٍ آخَرَ، وَهِيَ غَفْلَةٌ دَقَّ مَسْلَكُهَا عَنِ انْحِصَارِ الِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ فِي تَحَقُّقِ الْمُجَازَاةِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ

النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الْبَقَاءِ وَعَلَى حُبِّ إِرْضَاءِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَإِذَا عَلِمَ عِنْدَ الْغَضَبِ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ ارْتَدَعَ، وَإِذَا طَمِعَ فِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ دُونَ الْقَتْلِ أَقْدَمَ عَلَى إِرْضَاءِ قُوَّتِهِ الْغَضَبِيَّةِ، ثُمَّ عَلَّلَ نَفْسَهُ بِأَنَّ مَا دُونُ الْقِصَاصِ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَالتَّفَادِي مِنْهُ. وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَشَاعَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، قَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيُّ: شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمْلِ بْنِ بَدْرٍ ... وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ [الْبَقَرَة: 179] . وَمَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً حَثُّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى تَعَقُّبِ قَاتِلِ النَّفْسِ وَأَخْذِهِ أَيْنَمَا ثُقِفَ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ إِيوَائِهِ أَوِ السَّتْرِ عَلَيْهِ، كُلٌّ مُخَاطَبٌ عَلَى حَسَبِ مَقْدِرَتِهِ وَبِقَدْرِ بَسْطَةِ يَدِهِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إِلَى عَامَّةِ النَّاسِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ تَهْوِيلُ الْقَتْلِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِلْعَفْوِ مِنْ خُصُوصِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّاسِ. عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعْنًى نَفْسَانِيًّا جَلِيلًا، وَهُوَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَقْدُمُ بِالْقَاتِلِ عَلَى الْقَتْلِ يَرْجِعُ إِلَى تَرْجِيحِ إِرْضَاءِ الدَّاعِي النَّفْسَانِيِّ النَّاشِئِ عَنِ الْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ عَلَى دَوَاعِي احْتِرَامِ الْحَقِّ وَزَجْرِ النَّفْسِ وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْفِعْلِ مِنْ نُظُمِ الْعَالَمِ، فَالَّذِي كَانَ مِنْ حِيلَتِهِ تَرْجِيحُ ذَلِكَ الدَّاعِي الطَّفِيفِ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الشَّرِيفَةِ فَذَلِكَ ذُو نَفْسٍ يُوشِكُ أَنْ تَدْعُوَهُ دَوْمًا إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ، فَكُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ قَتَلَ، وَلَوْ دَعَتْهُ أَنْ يَقْتُلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَفَعَلَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَقْصِدَ مِنَ التَّشْبِيهِ تَوْجِيهَ حُكْمِ الْقِصَاصِ وَحَقِّيَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ لِحَقِّ الْمَقْتُولِ بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ لَمَا رَضِيَ إِلَّا بِجَزَاءِ قَاتِلِهِ بِمِثْلِ جُرْمِهِ فَلَا يَتَعَجَّبُ أَحَدٌ مِنْ حُكْمِ الْقِصَاصِ قَائِلًا: كَيْفَ نُصْلِحُ الْعَالَمَ بِمِثْلِ مَا فَسَدَ بِهِ، وَكَيْفَ نُدَاوِي الدَّاءَ بِدَاءٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ عِنْدَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ كَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ لَا يَقْبَلُهَا النَّظَرُ. وَمَعْنَى وَمَنْ أَحْياها مَنِ اسْتَنْقَذَهَا مِنَ الْمَوْتِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 34]

لَيْسَ مِنْ مَقْدُورِ النَّاسِ، أَيْ وَمَنِ اهْتَمَّ بِاسْتِنْقَاذِهَا وَالذَّبِّ عَنْهَا فكأنّما أحيى النَّاسَ جَمِيعًا بِذَلِكَ التَّوْجِيهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا، أَوْ مَنْ غَلَّبَ وَازِعَ الشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى دَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ فَانْكَفَّ عَنِ الْقَتْلِ عِنْدَ الْغَضَبِ. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ. تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ شَرْعِ الْقِصَاصِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ مَا شُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ وَلم يَزَالُوا يَقْتُلُونَ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلِكَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «مُسْرِفُونَ» لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَالْمُرَادُ مُسْرِفُونَ فِي الْمَفَاسِدِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْفُسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ ذِكْرُ فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 60] مَعَ ذِكْرِ الْإِفْسَادِ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ شَأْنٌ عَجِيبٌ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ أَعْجَبُ. وَذُكِرَ فِي الْأَرْضِ لِتَصْوِيرِ هَذَا الْإِسْرَافِ عِنْدَ السَّامِعِ وَتَفْظِيعِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَاف: 56] . وَتَقْدِيمُ فِي الْأَرْضِ لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ يُفِيدُ زِيَادَةَ تَفْظِيعِ الْإِسْرَافِ فِيهَا مَعَ أَهَمِّيَّةِ شَأْنِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُسُلُنا- بِضَمِّ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ- بِإِسْكَان السّين-. [33، 34] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 33 إِلَى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

تَخَلُّصٌ إِلَى تَشْرِيعِ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ، وَهُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنَاةِ بِجِنَايَةِ الْقَتْلِ. وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا الَّتِي بَعْدَهَا بِأَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ حكم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ، وَبِهِ يُشْعِرُ صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ إِذْ تَرْجَمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَأَخْرَجَ عَقِبَهُ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْعُرَنِيِّينَ. وَنَصُّ الْحَدِيثِ مِنْ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ: «قَدِمَ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ (¬1) فَأَسْلَمُوا ثُمَّ أَتَوْا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا قَدِ اسْتَوْخَمْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا فَاخْرُجُوا فِيهَا فَاشْرَبُوا أَلْبَانَهَا وَأَبْوَالَهَا. فَخَرَجُوا فِيهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا وَاسْتَصَحُّوا، فَمَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ وَاطَّرَدُوا الذَّوْدَ وَارْتَدُّوا . فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي آثَارِهِمْ، بَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي خَيْلٍ فَأَدْرَكُوهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا عَلَى بِلَادِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ بِمَسَامِيرَ أُحْمِيَتْ، ثُمَّ حَبَسَهُمْ حَتَّى مَاتُوا. وَقِيلَ: أَمَرَ بِهِمْ فَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ جَمَاعَةٌ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْمَائِدَةِ. نَقَلَ ذَلِكَ مَوْلَى ابْنِ الطَّلَّاعِ فِي كِتَابِ «الْأَقْضِيَةِ الْمَأْثُورَةِ» بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نُزُولُهَا نَسْخًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَقَامَهُ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَمْ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَهَدَ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْعَمَلِ ¬

(¬1) هم سَبْعَة: ثَلَاثَة من عكل. وَأَرْبَعَة من عريّنه. وعكل- بِضَم الْعين وَسُكُون الْكَاف- قَبيلَة من تيم الرّباب بن عبد منَاف بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر. وعرينة- بِضَم الْعين وَفتح الرَّاء- قَبيلَة من قضاعة.

بِهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ بِهِ شَرْعٌ. وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَيُّلِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ جَمَعُوا فِي فِعْلِهِمْ جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَمَاذَا يُسْتَبْقَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا النَّفْسَ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَوَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَّاكِ. والصّحيح الأوّل. وأيّاما كَانَ فَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَالْحَصْرُ بِ إِنَّما فِي قَوْلِهِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ إِلَخْ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرٌ قُلِبَ لِإِبْطَالٍ- أَيْ لِنَسْخِ- الْعِقَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعُرَنِيِّينَ، وَعَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْحَصْرُ أَنْ لَا جَزَاءَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْحَصْرُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَنْ يَسْتَعْظِمُ هَذَا الْجَزَاءَ وَيَمِيلُ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ نَازِلَةٍ عَلَى سَبَبٍ أَصْلًا. وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ. وَالتَّأْكِيدُ يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ فِي أَمَارَات وجوب الفل الْمَعْدُودِ بَعْضُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحُكْمَ جَازِمًا. وَمَعْنَى يُحارِبُونَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُقَاتِلِينَ بِالسِّلَاحِ عُدْوَانًا لِقَصْدِ الْمَغْنَمِ كشأن الْمُحَارب المبادي، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْبِ الْقِتَالُ. وَمَعْنَى مُحَارَبَةِ اللَّهِ مُحَارَبَةُ شَرْعِهِ وَقَصْدُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَارِبُهُ أَحَدٌ فَذِكْرُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ لِتَشْنِيعِ أَمْرِهَا بِأَنَّهَا مُحَارَبَةٌ لِمَنْ يَغْضَبُ اللَّهُ لِمُحَارَبَتِهِ، وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِمُحَارَبَةِ الرَّسُولِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُكْمِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَإِنَّ الْعُرَنِيِّينَ اعْتَدَوْا عَلَى نَعَمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَّخَذَةِ لِتَجْهِيزِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ فَمَا عَاقَبَ بِهِ

الرَّسُولُ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ عِقَابًا عَلَى مُحَارَبَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ مِنْ صَرِيحِ الْبُغْضِ لِلْإِسْلَامِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ شَرَعَ حُكْمًا لِلْمُحَارَبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَّى عُقُوبَتَهَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَصِيرَ تَأْوِيلُ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُحَارَبَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُعِلَ لَهَا جَزَاءٌ عَيْنُ جَزَاءِ الرِّدَّةِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَهَا جَزَاءٌ آخَرُ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجَزَاءَ لِأَجْلِ الْمُحَارَبَةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ جَزَاءً لِمَنْ يَأْتِي هَذِهِ الْجَرِيمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ جَزَاءً لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ حَارَبُوا الرَّسُولَ لِأَجْلِ عِنَادِ الدِّينِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى عُدِّيَ يُحارِبُونَ إِلَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ لِيَظْهَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَرْبَ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا حَرْبَ صَفٍّ. وَعُطِفَ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً لِبَيَانِ الْقَصْدِ مِنْ حَرْبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُوله، فَصَارَ الْجُزْء عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، فَمَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ سَبَبٌ مُرَكَّبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جُزْءُ سَبَبٍ لَا يَقْتَضِي هَذِهِ الْعُقُوبَةَ بِخُصُوصِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْحِرَابَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَى النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ وَلَا دَخَلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ أَيْ بَيْنَ الْمُحَارِبِ- بِالْكَسْرِ- وَبَيْنَ الْمُحَارَبِ- بِالْفَتْحِ-، سَوَاءٌ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ الْمُحَارِبُ فِي الْمِصْرِ مُحَارِبًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَالَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ عُمُومُ مَعْنَى لَفْظِ الْحِرَابَةِ، وَالَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ مُخَالِفُوهُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعُرْفِ لِنُدْرَةِ الْحِرَابَةِ فِي الْمِصْرِ. وَقَدْ كَانَتْ نَزَلَتْ بِتُونُسَ قَضِيَّةُ لِصٍّ اسْمُهُ «وَنَّاسٌ» أَخَافَ أَهْلَ تُونُسَ بِحِيَلِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَكَانَ يَحْمِلُ السِّلَاحَ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ فِي مُدَّةِ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ بَايْ وَقُتِلَ شَنْقًا بِبَابِ سُوَيْقَةَ. وَمَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنَّهُمْ يَكْتَسِبُونَ الْفَسَادَ وَيَجْتَنُونَهُ وَيَجْتَرِحُونَهُ، لِأَنَّ السَّعْيَ قَدِ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَاللَّمِّ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء: 19] . وَيَقُولُونَ: سَعَى فُلَانٌ لِأَهْلِهِ، أَيِ اكْتَسَبَ لَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] .

وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَشْيِ، فَجَعَلَ فَساداً حَالًا أَوْ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ، وَلَقَدْ نَظَرَ إِلَى أَنَّ غَالِبَ عَمَلِ الْمُحَارِبِ هُوَ السَّعْيُ وَالتَّنَقُّلُ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ سَعَى بِمَعْنَى أَفْسَدَ، فَجَعَلَ فَساداً مَفْعُولًا مُطْلَقًا. وَلَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُ سَعَى بِمَعْنَى أَفْسَدَ. وَالْفَسَادُ: إِتْلَافُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، فَالْمُحَارِبُ يقتل الرجل لأحد مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ويُقَتَّلُوا مُبَالَغَةٌ فِي يُقْتَلُوا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلٍ قُصِدَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ هُنَا إِيقَاعُهُ بِدُونِ لِينٍ وَلَا رِفْقٍ تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ يُصَلَّبُوا. وَالصَّلْبُ: وَضْعُ الْجَانِي الَّذِي يُرَادُ قَتْلُهُ مَشْدُودًا عَلَى خَشَبَةٍ ثُمَّ قَتْلُهُ عَلَيْهَا طَعْنًا بِالرُّمْحِ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ. وَقِيلَ: الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، فَهِيَ قَيْدٌ لِلْقَطْعِ، أَيْ أنّ الْقطع يبتدىء فِي حَالِ التَّخَالُفِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ هُوَ الْعُضْوُ الْمُخَالِفُ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَقْطُوعٍ آخَرَ وَإِلَّا لَمْ تُتَصَوَّرِ الْمُخَالَفَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُضْوٌ مَقْطُوعٌ سَابِقٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ التَّخَالُفُ فَيَكُونُ الْقَطْعُ لِلْعُضْوِ الْأَوَّلِ آنِفًا ثُمَّ تَجْرِي الْمُخَالَفَةُ فِيمَا بَعْدُ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنَ الْمُحَارِبِ إِلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ أَوْ رِجْلٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يُقْطَعُ يَدَاهُ أَوْ رِجْلَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَعْنًى لِكَوْنِ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ. فَهَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ تَيْسِيرٌ وَرَحْمَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لحركة بَقِيَّة الْجهد بَعْدَ الْبُرْءِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَكَّأَ بِالْيَدِ الْبَاقِيَةِ عَلَى عُودٍ بِجِهَةِ الرِّجْلِ الْمَقْطُوعَةِ.

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَجْلِ أَخْذِ الْمَالِ، وَرِجْلُهُ لِلْإِخَافَةِ لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْعُضْوُ الَّذِي بِهِ الْأَخْذُ، وَالرِّجْلَ هِيَ الْعُضْوُ الَّذِي بِهِ الْإِخَافَةُ، أَيِ الْمَشْيُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ. وَالنَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ: الْإِبْعَادُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ وَطَنُهُ لِأَنَّ النَّفْيَ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْوُجُودِ. وَالْمُرَادُ الْإِبْعَادُ، لِأَنَّهُ إِبْعَادٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ. يُقَالُ: نَفَوْا فُلَانًا، أَيْ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ الْخَلِيعُ، وَقَالَ النّابغة: ليهنىء لَكُمْ أَنْ قَدْ نَفَيْتُمْ بُيُوتَنَا أَيْ أَقْصَيْتُمُونَا عَنْ دِيَارِكُمْ. وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنًى لِلنَّفْيِ غَيْرَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّفْيُ هُوَ السَّجْنُ. وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ التَّفَادِي مِنْ دَفْعِ أَضْرَارِ الْمُحَارِبِ عَنْ قَوْمٍ كَانَ فِيهِمْ بِتَسْلِيطِ ضُرِّهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ. وَهُوَ نَظَرٌ يَحْمِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّفْيَ يَحْصُلُ بِهِ دَفْعُ الضُّرِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أُخْرِجَ أحد من وظنه ذُلَّ وَخُضِّدَتْ شَوْكَتُهُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَذَلِكَ حَالٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْعَرَبِ فَإِنَّ لِلْمَرْءِ فِي بَلَدِهِ وَقَوْمِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ مَا لَيْسَ لَهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ. عَلَى أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُنْفَوْنَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ مُنْحَازٍ إِلَى جِهَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ فِيهِ كَالْمَحْصُورِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ النَّفْيُ قَدِيمًا إِلَى (دَهْلَكَ) وَإِلَى (بَاضِعَ) (¬1) وَهُمَا جَزِيرَتَانِ فِي بَحْرِ الْيَمَنِ. ¬

(¬1) دهلك- بِفَتْح الدّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح اللَّام- جَزِيرَة بَين الْيمن والحبشة. وباضع- بموحّدة فِي أوّله وبكسر الضّاد الْمُعْجَمَة- جَزِيرَة فِي بَحر الْيمن.

وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ أَصْلَ (أَوْ) الدَّلَالَةُ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فِي الْوُقُوعِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ التَّخْيِيرَ، نَحْوَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الْبَقَرَة: 196] . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ، فَإِنِ اجْتَرَحَ فِي مُدَّةِ حَرَابَتِهِ جَرِيمَةً ثَابِتَةً تُوجِبُ الْأَخْذَ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ قُتِلَ دُونَ تَخْيِيرٍ، وَهُوَ مُدْرَكٌ وَاضِحٌ. ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعُقُوبَةِ بِمَا يُقَارِبُ جُرْمَ الْمُحَارِبِ وَكَثْرَةَ مَقَامِهِ فِي فَسَادِهِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (أَوْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَرَاتِبُ لِلْعُقُوبَاتِ بِحَسْبِ مَا اجْتَرَحَهُ الْمُحَارِبُ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا عُزِّرَ، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ نُفِيَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ فَقَطْ قُطِعَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيَقْرُبُ خِلَافُهُمْ مِنَ التَّقَارُبِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ هِيَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ وَلَيْسَتْ لِأَجْلِ حُقُوقِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلِذَلِكَ فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْمُحَارِبِ عُقُوبَةُ الْحِرَابَةِ. وَقَوْلُهُ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا، أَيِ الْجَزَاءُ خِزْيٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمرَان: 194] . وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ عِقَابَيْنِ: عِقَابًا فِي الدُّنْيَا وَعِقَابًا فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ فِي الْآيَةِ خُصُوصَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْعُرَنِيِّينَ، كَمَا قِيلَ بِهِ، فَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَيْنِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْمُحَارِبَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْآيَةُ مُعَارِضَةً لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ قَوْلِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: 12] إِلَخْ فَقَالَ: «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ

فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . فَقَوْلُهُ: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ يُسْقِطُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْآيَةِ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُحَارِبِينَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ بَقِيَّةِ الذُّنُوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، أَيْ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا إِنْ أُخِذُوا بِهِ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنْ لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمَيْنِ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّوْبَةِ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ دَلَّتْ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ عَنِ الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتَمَّ الْكَلَام بهَا، خَ ز لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ تَصْرِيحٍ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَنِ الْمُسْتَثْنَى فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. فَلَيْسَ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَنْهُ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ الْمَذْكُورَةِ. فَلَوْ قِيلَ: فَإِنْ تَابُوا، لَمْ تَدُلَّ إِلَّا عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ فِي إِسْقَاطِ عِقَابِ الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ أَوْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ الْحِصَارُ أَوْ يُطَارَدَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَتَى قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ طَائِعًا نَادِمًا سَقَطَ عَنْهُ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى انْتِقَالِ حَالِهِ مِنْ فَسَادٍ إِلَى صَلَاحٍ فَلَمْ تَبْقَ حِكْمَةٌ فِي عِقَابِهِ. وَلَمَّا لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَى غُرْمِ مَا أَتْلَفَهُ بِحِرَابَتِهِ عُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ مَا كَانَ قَدِ اعْتَلَقَ بِهِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْكِيرٌ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وَدَفْعٌ لِعَجَبِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ سُقُوطِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ. فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ مَعَ عِظَمِ الْجُرْمِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ عَظُمَ عِنْدَكُمْ سُقُوطُ الْعُقُوبَةِ عَمَّنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقَدَرَ عَلَيْهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فَاعْلَمُوا عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ

[سورة المائدة (5) : آية 35]

نَظَرًا لِاسْتِعْظَامِهِمْ هَذَا الْعَفْوَ. وَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّ شَأْنَ فِعْلِ (اعْلَمْ) أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [24] وَقَوْلِهِ فِيهَا: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الْأَنْفَال: 41] . [35] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 35] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ آيَاتِ وَعِيدِ الْمُحَارِبِينَ وَأَحْكَامِ جَزَائِهِمْ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: 36] الْآيَةَ. خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّرْغِيبِ بَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَخَلُّلِ الْأَغْرَاضِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مِنَ الْخَطَابَةِ لِاصْطِيَادِ النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ: «فَلَمَّا دَفَنُوا الْمَيْتَ، وَفَاتَ قَوْلُ لَيْتَ، أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ رِبَاوَةَ، مُتَأَبِّطًا لِهِرَاوَةَ،. فَقَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، إِلَخْ. فَعُقِّبَ حُكْمُ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوَى وَطَلَبِ مَا يُوَصِّلُهُمْ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ. وَقَابَلَ قِتَالًا مَذْمُومًا بِقِتَالٍ يُحْمَدُ فَاعِلُهُ عَاجِلًا وَآجِلًا» . وَالْوَسِيلَةُ: كَالْوَصِيلَةِ. وَفِعْلُ وَسَلَ قَرِيبٌ مِنْ فِعْلِ وَصَلَ، فَالْوَسِيلَةُ: الْقُرْبَةُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُتَوَسَّلٌ بِهَا أَيِ اتْبَعُوا التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، أَيْ بِالطَّاعَةِ. وإِلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ الْوَسِيلَةَ أَيِ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَالْوَسِيلَةُ أُرِيدَ بِهَا مَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْبُلُوغَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ بُلُوغَ مَسَافَةٍ وَلَكِنَّهُ بُلُوغ زلفى ورضى. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَسِيلَةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ كُلُّ مَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يُنِيلُكُمْ رِضَاهُ وَقَبُولَ أَعْمَالِكُمْ لَدَيْهِ. فَالْوَسِيلَةُ مَا يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنَ اللَّهِ بِالْعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» الْحَدِيثَ. وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ مُتَعَلِّقٌ بِ ابْتَغُوا. وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِ الْوَسِيلَةَ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلْحَصْرِ، أَيْ لَا تَتَوَسَّلُوا إِلَّا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مَا يَقْتَضِي هَذَا الْحصْر.

[سورة المائدة (5) : الآيات 36 إلى 37]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 36 إِلَى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْمَائِدَة: 33] اتِّصَالَ الْبَيَانِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ تَهْوِيلًا لِلْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْمَائِدَة: 33] فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَةُ فِي جَزَائِهِمْ كَانُوا قَدْ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمَّا ذُكِرَ جَزَاؤُهُمْ عُقِّبَ بِذِكْرِ جَزَاءٍ يَشْمَلُهُمْ وَيَشْمَلُ أَمْثَالَهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ لَا يُنَاكِدُ كَون الْآيَة للسابقة مُرَادًا بِهَا مَا يَشْتَمِلُ أَهْلَ الْحِرَابَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مُقَدَّرٌ بِفِعْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ (أَنَّ) ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَوْ ثَبَتَ مَا فِي الْأَرْضِ مِلْكًا لَهُمْ فَإِنَّ (لَوْ) لِاخْتِصَاصِهَا بِالْفِعْلِ صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذِكْرِهِ بَعْدَهَا إِذَا وَرَدَتْ (أَنَّ) بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِهِ مَفْعُولًا مَعَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَفْتَدُوا بِهِ لِتَعْلِيلِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ لَوْ ثَبَتَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ الِافْتِدَاءِ بِهِ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَكْنِزُوهُ أَوْ يَهَبُوهُ. وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ شَيْئَانِ هُمَا: مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ: إِمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الضَّمِيرِ رَاجِعًا إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ فَقَطْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مَعْطُوفًا مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ لِيَفْتَدُوا بِهِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. وَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ. وَنُكْتَةُ التَّقْدِيمِ تَعْجِيلُ الْيَأْسِ مِنَ الِافْتِدَاءِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ بِمُضَاعَفَةِ مَا فِي الْأَرْضِ. وَإِمَّا، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي، أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مِثْلَهُ مَعَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِثْلَ شَمِلَ

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 إلى 39]

مَا فِي الْأَرْضِ وَزِيَادَةً فَلَمْ تَبْقَ جَدْوَى لِفَرْضِ الِافْتِدَاءِ بِمَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ قَدِ انْدَرَجَ فِي مِثْلِه الَّذِي مَعَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْرَى الضَّمِيرُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ مُفْرَدًا مَعَ كَوْنِهِ عَائِدًا إِلَى مُتَعَدِّدٍ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ وَهَذَا شَائِعٌ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَة: 68] أَيْ بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: 68] إِشَارَةُ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الْفرْقَان: 68] ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ صَالِحَةٌ لِلشَّيْءِ وَلِلْأَشْيَاءِ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الضَّمِيرِ، لِأَنَّ صِيَغَ الضَّمَائِرِ كَثِيرَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِمَا تَعُودُ إِلَيْهِ فَخُرُوجُهَا عَنْ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَهُوَ قَلِيلٌ وَلَكِنَّهُ فَصِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الْأَنْعَام: 46] أَيْ بِالْمَذْكُورِ. وَقَدْ جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» مَحْمُولًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ رُؤْبَةُ لَمَّا. أَنْشَدَ قَوْلَهُ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قُلْتُ: لِرُؤْبَةَ إِنْ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ فَقُلْ: كَأَنَّهَا، وَإِنْ أَرَدْتَ السَّوَادَ فَقُلْ: كَأَنَّهُمَا، فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ وَيْلَكَ. وَمِنْهُ فِي الضَّمِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النِّسَاء: 4] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] . وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ دَائِمٌ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها. [38، 39] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 38 إِلَى 39] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ [الْمَائِدَة: 33] . وَالسَّارِقُ مُبْتَدَأٌ

وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَالَّذِي سَرَقَ والّتي سرقت. والمصول إِذَا أُرِيدَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ- أَيْ يُجْعَلُ (الْ) فِيهَا اسْمَ مَوْصُولٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاء: 15] ، قَوْله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: 16] . قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْقَصَصِ أَوِ الْحُكْمِ أَوِ الْفَرَائِضِ نَحْوَ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما إِذِ التَّقْدِيرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: وَحُكْمُ اللَّاتِي يَأْتِينَ، أَوْ وَجَزَاءُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ. وَلَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْكَافِيَةِ» وَاخْتَصَرَهَا بِقَوْلِهِ: «وَالْفَاءُ لِلشَّرْطِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ وَجُمْلَتَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، يَعْنِي: وَأَمَّا عِنْدَ الْمُبَرِّدِ فَهِيَ جُمْلَةُ شَرْطٍ وَجَوَابُهُ فَكَأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ النَّصْبُ» . أَشَارَ إِلَى قِرَاءَةِ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ- بِالنّصب-، وَهِي قرائة شَاذَّةٌ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَلَا يُخَرَّجُ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا. وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُخْتَارُ النَّصْبُ. وَقَوْلُهُ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ضَمِيرُ الْخِطَابِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، كَقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّور: 2] . وَلَيْسَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [النِّسَاء: 35] . وَجُمِعَ الْأَيْدِي بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ نَوْعِ السَّارِقِ. وَثُنِّيَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ الصِّنْفَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَالْجَمْعُ هُنَا مُرَادٌ مِنْهُ التَّثْنِيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] . وَوَجْهُ ذِكْرِ السَّارِقَةِ مَعَ السَّارِقِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ صِيغَةُ التَّذْكِيرِ فِي السَّارِقِ قَيْدًا بِحَيْثُ لَا يُجْرَى حَدُّ السَّرِقَةِ إِلَّا عَلَى الرِّجَالِ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا يُقِيمُونَ لِلْمَرْأَةِ وَزْنًا فَلَا يُجْرُونَ عَلَيْهَا الْحُدُودَ، وَهُوَ الدَّاعِي إِلَى ذِكْرِ الْأُنْثَى فِي قَوْلِهِ

تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: [178] الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. وَقَدْ سَرَقَتِ الْمَخْزُومِيَّةُ فِي زَمَنِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا وَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَلَمَّا شَفَعَ لَهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَخَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . وَفِي تَحْقِيقِ مَعْنَى السَّرِقَةِ وَنِصَابِ الْمِقْدَارِ الْمَسْرُوقِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَكَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ مَجَالٌ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ مِنْ عُلَمَاء السّلف وأيّمة الْمَذَاهِبِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمُفَسِّرِ. وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ تَحْدِيدُ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ وَتَفَاصِيلِهَا ولكنّه يؤصّل تأوصيلها وَيُحِيلُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى مُتَعَارَفِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا وَتَمْيِيزِهَا عَمَّا يُشَابِهُهَا. فَالسَّارِقُ: الْمُتَّصِفُ بِالسَّرِقَةِ. وَالسَّرِقَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ مُمَيَّزَةٌ عَنِ الْغَارَةِ وَالْغَصْبِ وَالِاغْتِصَابِ وَالْخِلْسَةِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهَا تَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ مِمَّا يَشِحُّ بِهِ مُعْظَمُ النَّاسِ. فَالسَّرِقَةُ: أَخْذُ أحد شَيْئا مَا يَمْلِكُهُ خُفْيَةً عَنْ مَالِكِهِ مُخْرِجًا إِيَّاهُ مِنْ مَوْضِعٍ هُوَ حِرْزُ مِثْلِهِ لَمْ يُؤْذَنْ آخِذُهُ بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ. وَالْمَسْرُوقُ: مَا لَهُ مَنْفَعَةٌ لَا يَتَسَامَحُ النَّاسُ فِي إِضَاعَتِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ تَحْدِيدَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى قِيمَةِ أَقَلِّ شَيْءٍ حكم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِ مَنْ سَرَقَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ حَكَمَ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقِ حَجَفَةٍ- بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَجِيمٍ مفتوحتين- (ترس بن جِلْدٍ) تُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ،

وَتُسَاوِي دِينَارًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَتُسَاوِي نِصْفَ دِينَارٍ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ فِي عُقُوبَةِ السَّارِقِ سِوَى قَطْعِ الْيَدِ. وَقَدْ كَانَ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ حُكْمًا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَضَى بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الْآيَةِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ خَبَرٌ صَحِيحٌ إِلَّا بِقَطْعِ الْيَدِ. وَأَوَّلُ رَجُلٍ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي الْإِسْلَامِ الْخِيَارُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَوَّلُ امْرَأَةٍ قُطِعَتْ يَدُهَا الْمَخْزُومِيَّةُ مُرَّةُ بِنْتُ سُفْيَانَ. فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُبْدَأُ بِهِ فِي عُقُوبَةِ السَّارِقِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْيَدُ الْيُمْنَى، وَقَالَ فَرِيقٌ: الْيَدُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيَةً، فَقَالَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْمُخَالِفَةُ لِيَدِهِ الْمَقْطُوعَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا يُقْطَعُ وَلَكِنْ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ. وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أَقْطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ وَيَسْتَنْجِي أَوْ رِجْلَهُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعْتَمِدُ فَإِنْ سَرَقَ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْأُخْرَى وَرِجْلُهُ الْأُخْرَى، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَبْلُغْنَا فِي السُّنَّةِ إِلَّا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَأَيُّ شُبْهَةٍ أَعْظَمُ مِنِ اخْتِلَافِ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْمُعْتَبَرِينَ. وَالْجَزَاءُ: الْمُكَافَأَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً- إِلَى قَوْلِهِ- جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً فِي سُورَةِ النَّبَأِ [31- 36] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فِي سُورَةِ الشُّورَى [40] . وَالنَّكَالُ: الْعِقَابُ الشَّدِيدُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّ الْمُعَاقَبَ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ الَّذِي عُوقِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّكُولِ عَنِ الشَّيْءِ، أَيِ النُّكُوصِ عَنْهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ.

فَالنَّكَالُ ضَرْبٌ مِنْ جَزَاءِ السُّوءِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [66] . وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَانْتَصَبَ نَكالًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ جَزاءً بَدَلَ اشْتِمَالٍ. فَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَطْعِ الْجَزَاءُ عَلَى السَّرِقَةِ جَزَاءً يُقْصَدُ مِنْهُ الرَّدْعُ وَعَدَمُ الْعَوْدِ، أَيْ جَزَاءً لَيْسَ بِانْتِقَامٍ وَلَكِنَّهُ اسْتِصْلَاحٌ. وَضَلَّ مَنْ حَسِبَ الْقَطْعَ تَعْوِيضًا عَنِ الْمَسْرُوقِ، فَقَالَ مِنْ بَيْتَيْنِ يُنْسَبَانِ إِلَى المعرّي (وليسا فِي «السَّقْطِ» وَلَا فِي «اللُّزُومِيَّاتِ» ) : يَدٌ بِخمْس مئين عسجدا وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَنُسِبَ جَوَابُهُ لِعَلَمِ الدِّينِ السَّخَاوِيِّ: عِزُّ الْأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أَيْ مَنْ تَابَ مِنَ السَّارِقِينَ مِنْ بَعْدِ السَّرِقَةِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [37] . وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ عُقُوبَةِ السَّرِقَةِ عَنِ السَّارِقِ إِنْ تَابَ قَبْلَ عِقَابِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ (تَابَ- وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَنَّهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ تَرْغِيبٌ لِهَؤُلَاءِ الْعُصَاةِ فِي التَّوْبَةِ وَبِشَارةٌ لَهُمْ. وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الْعُقُوبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ، فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: تَوْبَةُ السَّارِقِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ وَلَوْ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَائِبَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ الْمُحَارِبَ مُسْتَبِدٌّ بِنَفْسِهِ مُعْتَصِمٌ بِقُوَّتِهِ لَا يَنَالُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِالْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَأُسْقِطَ إِجْزَاؤُهُ بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي فَهُمَا فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، اه.

[سورة المائدة (5) : آية 40]

وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ جَاءَ السَّارِقُ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ حَمْلًا عَلَى حُكْمِ الْمُحَارِبِ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُتَّحِدِ السَّبَبِ مُخْتَلِفِ الْحُكْمِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ آيَةَ الْحِرَابَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُقَيَّدِ بَلْ هِيَ حُكْمٌ مُسْتَفَادٌ اسْتِقْلَالًا وَأَنَّ الْحِرَابَةَ وَالسَّرِقَةَ لَيْسَا سَبَبًا وَاحِدًا فَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُتَّحِدِ السَّبَبِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي قابله مقيّد. [40] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 40] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، جَوَابٌ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنِ انْقِلَابِ حَالِ السَّارِقِ مِنَ الْعِقَابِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَعَ عِظَمِ جُرْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، فَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَوَاضِعِ الْعِقَابِ وَمَوَاضِعِ الْعَفْوِ. [41، 42] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 41 الى 42] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَهْوِينِ تَأَلُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ عَلَى الْكَذِبِ وَالِاضْطِرَابِ فِي مُعَاملَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُوءِ طَوَايَاهُمْ مَعَهُ، بِشَرْحِ صدر

النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا عَسَى أَنْ يُحْزِنَهُ مِنْ طَيْشِ الْيَهُودِ وَاسْتِخْفَافِهِمْ وَنِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ. وَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِأَشْرَفِ الصِّفَاتِ وَهِيَ صِفَةُ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ حَدَثَ أَثْنَاءَ مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَعُقِّبَتِ الْآيَاتُ النَّازِلَةُ قَبْلَهَا بِهَا. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود، وَالْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» ، وَالطَّبَرِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مَا مُحَصِّلُهُ: أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الزَّانِي (حِينَ زَنَى فِيهِمْ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ أَهْلِ فَدَكَ) ، بَيْنَ أَنْ يُرْجَمَ وَبَيْنَ أَنْ يُجْلَدَ وَيُحَمَّمَ (¬1) اخْتِلَافًا أَلْجَأَهُمْ إِلَى أَنْ أَرْسَلُوا إِلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ فِي شَأْنِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ بِالتَّحْمِيمِ قَبِلْنَا حُكْمَهُ وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَقْبَلُوهُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِأَحْبَارِهِمْ بِالْمَدِينَةِ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ» ، قَالُوا: يُحَمَّمُ وَيُجْلَدُ وَيُطَافُ بِهِ، وأنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَّبَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ هُوَ الرَّجْمُ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ، فَأَنْكَرُوا، فَأَمَرَ بِالتَّوْرَاةِ أَنْ تُنْشَرَ (أَيْ تُفْتَحَ طَيَّاتُهَا وَكَانُوا يَلُفُّونَهَا عَلَى عود بشكل اصطواني) وَجعل بَعضهم يَقْرَأها وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ (أَيْ يَقْرَؤُهَا لِلَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَأَكُونَنَّ أوّل من أحيى حُكْمَ التَّوْرَاةِ» . فَحَكَمَ بِأَنْ يُرْجَمَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ . وَفِي رِوَايَات أبي دَاوُود أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ نَزَلَ فِي شَأْنِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ. وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ الْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. وَلَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ يُبْطِنُونَ الْيَهُودِيَّةَ كَانُوا مُشَارِكِينَ لِلْيَهُودِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، أَوْ ¬

(¬1) معنى يحمّم: يلطّخ وَجهه بالسّواد تمثيلا بِهِ.

كَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي التَّوْرَاةِ حُكْمُ رَجْمِ الزَّانِي فَيَتَّخِذُوا ذَلِكَ عُذْرًا لِإِظْهَارِ مَا أَبَطَنُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِعِلَّةِ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْتِجَاءَ الْيَهُودِ إِلَى تحكيم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِأَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِرِسَالَتِهِ وَلَا لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ حُكْمَهُ تَرْجِيحًا فِي اخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُ وَلِيَّ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا. وَلَهُمْ فِي قَوَاعِدِ أَعْمَالِهِمْ وَتَقَادِيرِ أَحْبَارِهِمْ أَنْ يُطِيعُوا وُلَاةَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ. فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ دِينِهِمْ جَعَلُوا الْحُكْمَ لِغَيْرِ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ حُكْمَ وَلِيِّ الْأَمْرِ مُطَاعٌ عِنْدَهُمْ. فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ حُكْمًا جَمَعَ بَيْنَ إِلْزَامِهِمْ بِمُوجِبِ تَحْكِيمِهِمْ وَبَيْنَ إِظْهَارِ خَطَئِهِمْ فِي الْعُدُولِ عَنْ حُكْمِ كِتَابِهِمْ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْطَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ رَأْيِ مَنْ يُثْبِتُ مِنْهُمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولٌ لِلْأُمِّيِّينَ خَاصَّةً. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْيَهُودُ الْعِيسَوِيَّةُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مُؤَيِّدًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ كَالْإِخْبَارِ عَنِ التَّوْرَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا زَنَى بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَى بِالْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَقُلْنَا فُتْيَا نَبِيءٍ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاعْتِضَادِ بِمُوَافَقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ تَرْجِيحُ أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ بِمُوَافَقَتِهِ لِشَرْعٍ آخَرَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَدَلُوا عَنْ حُكْمِ شَرِيعَتِهِمْ تَوَقُّفًا عِنْدَ التَّعَارُضِ فَمَالُوا إِلَى التَّحْكِيمِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي شَرْعِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا استفتوا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ مَعَ أَصْحَابِهِ حتّى جَاءَ الْمدَارِس- وَهُوَ بَيْتُ تَعْلِيمِ الْيَهُودِ- وَحَاجَّهُمْ فِي حُكْمِ الرَّجْمِ، وَأَجَابَهُ حَبْرَانِ مِنْهُمْ يُدْعَيَانِ بِابْنَيْ صُورِيَّا بِالِاعْتِرَافِ بِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّجْمِ، فِي التَّوْرَاةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا حكّموا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا لِاخْتِبَارِهِ فِيمَا يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ حُكْمُ الرَّجْمِ عِنْدَهُمْ مَكْتُومًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا خَاصَّةُ أَحْبَارِهِمْ،

وَمَنْسِيًّا لَا يُذْكَرُ بَيْنَ عُلَمَائِهِمْ، فَلَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ بُهِتُوا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مُرَادِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمْ وُجُودَ حُكْمِ الرَّجْمِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ وأنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ الْمدَارِس فَأَمَرَ بِالتَّوْرَاةِ فَنُشِرَتْ فَجَعَلَ قَارِئُهُمْ يَقْرَأُ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وأنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَقُرِئَتْ آيَةُ الرَّجْمِ وَاعْتَرَفَ ابْنَا صُورِيَّا بِهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذِهِ الْحَادِثَةُ مُؤْذِنَةٌ بِاخْتِلَالِ نِظَامِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْيَهُودِ يَوْمَئِذٍ وَضَعْفِ ثِقَتِهِمْ بِعُلُومِهِمْ. وَمَعْنَى لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ إِحْزَانٌ مُسْنَدٌ إِلَى الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. وَالْإِحْزَانُ فِعْلُ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلِ الْغَيْرِ إِنَّمَا هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَسْبَابِهِ، أَيْ لَا تَجْعَلْهُمْ يُحْزِنُونَكَ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِمَا يَفْعَلُونَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُدْخِلَ الْحُزْنَ عَلَى نَفْسِكَ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ حَتَّى أَعْرِفَهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَا أُلْفِيَنَّكَ هَاهُنَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هُنَا. وَإِسْنَادُ الْإِحْزَانِ إِلَى الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ سَبَبٌ فِي الْإِحْزَانِ، وَأَمَّا مُثِيرُ الْحُزْنِ فِي نَفْسِ الْمَحْزُونِ فَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْعُرْفِ وَلِذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُ اللَّهِ هُوَ مُوجِدَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ غَالِبُ الْإِسْنَادِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاظِرِينَ فِي تَعْيِينِ حَقِيقَةٍ عَقْلِيَّةٍ لِبَعْضِ مَوَارِدِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَقَدْ أَجَادَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إِذْ قَالَ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْفِعْلِ فَاعِلٌ فِي التَّقْدِيرِ إِذَا أَنْتَ نَقَلْتَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ صَارَ حَقِيقَةً فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِي قَوْلِكَ: أَقْدَمَنِي بَلَدَكَ حَقٌّ لِي عَلَى فُلَانٍ، فَاعِلًا سِوَى الحقّ» ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلُهُ: وَصَيَّرَنِي هَوَاكِ وَبِي ... لِحَيْنِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ ويزيدك وَجْهُهُ حُسْنًا.

أَنْ تَزْعُمَ أَنَّ لَهُ فَاعِلًا قَدْ نُقِلَ عَنْهُ الْفِعْلُ فَجُعِلَ لِلْهَوَى وَلِلْوَجْهِ» اه. وَلَقَدْ وَهِمَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ (¬1) فِي تَبْيِينِ كَلَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فَطَفِقَ يَجْلِبُ الشَّوَاهِدَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا قَدْ أُسْنِدَتْ لِفَاعِلٍ مُجَازِيٍّ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهَا الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الشَّيْخَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْفَاعِلِ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ حَقِيقَةً فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: «إِذَا أَنْتَ نَقَلْتَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ» أَيْ أَسْنَدْتَهُ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ إِظْهَارُ آثَارِهِ عِنْدَ أَدْنَى مُنَاسَبَةٍ وَفِي كُلِّ فُرْصَةٍ، فَشَبَّهَ إِظْهَارَهُ الْمُتَكَرِّرَ بِإِسْرَاعِ الْمَاشِي إِلَى الشَّيْءِ، كَمَا يُقَالُ: أَسْرَعَ إِلَيْهِ الشَّيْبُ، وَقَوْلُهُ: إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ. وعدّي بفي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاعَ مَجَازٌ بِمَعْنَى التَّوَغُّلِ، فَيَكُونُ (فِي) قَرِينَةَ الْمَجَازِ، كَقَوْلِهِمْ: أَسْرَعَ الْفَسَادُ فِي الشَّيْءِ، وَأَسْرَعَ الشَّيْبُ فِي رَأْسِ فُلَانٍ. فَجَعَلَ الْكُفْرَ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَجَعَلَ تَخَبُّطَهُمْ فِيهِ وَشِدَّةَ مُلَابَسَتِهِمْ إِيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ جَوَلَانِ الشَّيْءِ فِي الظَّرْفِ جَوَلَانًا بِنَشَاطٍ وَسُرْعَةٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ [الْمَائِدَة: 62] ، وَقَوْلُهُ: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: 56] ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: 61] . فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَسَيَجِيءُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: يُسارِعُونَ فِيهِمْ [الْمَائِدَة: 52] . وَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. وَالَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا. وَقَوْلُهُ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُمْ سَمَّاعُونَ ¬

(¬1) فِي كِتَابه «نِهَايَة الإيجاز» .

لِلْكَذِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُقَدَّرَ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ: الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، بِقَرِينَةِ الْحَدِيثِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ حَذْفٌ اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرُوا مُتَحَدِّثًا عَنْهُ أَوْ بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ شَيْءٍ أَمْرٌ عَجِيبٌ يَأْتُونَ بِأَخْبَارٍ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفٍ الْمُبْتَدَأُ مِنْهَا، كَقَوْلِهِمْ لِلَّذِي يُصِيبُ بِدُونِ قَصْدٍ «رَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ» ، وَقَوْلِ أَبِي الرُّقَيْشِ: سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ يُلْطَمُ وَجْهُهُ ... وَلَيْسَ إِلَى دَاعِي النَّدَى بِسَرِيعِ وَقَوْلِ بَعْضِ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ (¬1) : فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ عَقِبَ قَوْلِهِ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ وَالسَّمَّاعُ: الْكَثِيرُ السَّمْعِ، أَيِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يُقَالُ لَهُ. وَالسَّمْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ أَنَّهُمْ يُصْغُونَ إِلَى الْكَلَامِ الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَذِبًا، أَيْ أَنَّهُمْ يَحْفَلُونَ بِذَلِكَ وَيَتَطَلَّبُونَهُ فَيَكْثُرُ سَمَاعُهُمْ إِيَّاهُ. وَفِي هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَفَشِّي الْكَذِبِ فِي جَمَاعَتِهِمْ بَيْنَ سَامِعٍ وَمُخْتَلِقٍ، لِأَنَّ كَثْرَةَ السَّمْعِ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْقَوْلِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَذِبِ كَذِبُ أَحْبَارِهِمُ الزَّاعِمِينَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَى فِي التَّوْرَاةِ التَّحْمِيمُ. وَجُمْلَةُ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ كَتْمِ غَرَضِهِمْ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنْ حَكَمَ بِمَا يَهْوَوْنَ اتَّبَعُوهُ وَإِنْ حَكَمَ بِمَا يُخَالِفُ ¬

(¬1) قيل: هُوَ عبد الله بن الزبير- بِفَتْح الزَّاي وَكسر الموحّدة- الْأَسدي- وَقيل: إِبْرَاهِيم الصولي، وَقيل: محمّد بن سعيد الْكَاتِب.

هَوَاهُمْ عَصَوْهُ، أَيْ هُمْ أَتْبَاعٌ لِقَوْمٍ مُتَسَتِّرِينَ هُمُ الْقَوْمُ الْآخَرُونَ، وَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ وَأَهْلُ فَدَكَ الَّذِينَ بَعَثُوا بِالْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ لِلتَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ. وَجُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ صفة ثَانِيَة لِقَوْمٍ آخَرِينَ أَوْ حَالٌ، وَلَك أَنْ تَجْعَلَهَا حَالًا مِنَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [46] ، وَأَنَّ التَّحْرِيفَ الْمَيْلُ إِلَى حَرْفٍ، أَيْ جَانِبٍ، أَيْ نَقْلُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى طَرَفٍ آخَرَ. وَقَالَ هُنَا مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ [46] عَنْ مَواضِعِهِ، لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي وَصْفِ الْيَهُودِ كُلِّهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. فَهُوَ تَغْيِيرُ كَلَامِ التَّوْرَاةِ بِكَلَامٍ آخَرَ عَنْ جَهْلٍ أَوْ قَصْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي تَأْوِيلِ مَعَانِي التَّوْرَاةِ أَوْ فِي أَلْفَاظِهَا. فَكَانَ إِبْعَادًا لِلْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، أَيْ إِزَالَةً لِلْكَلَامِ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ عُوِّضَ بِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يُعَوَّضْ. وَأَمَّا هَاتِهِ الْآيَةُ فَفِي ذِكْرِ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَبْطَلُوا الْعَمَلَ بِكَلَامٍ ثَابِتٍ فِي التَّوْرَاةِ إِذْ أَلْغَوْا حُكْمَ الرَّجْمِ الثَّابِتَ فِيهَا دُونَ تَعْوِيضِهِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، فَهَذَا أَشَدُّ جُرْأَةً مِنَ التَّحْرِيفِ الْآخَرِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَبْلَغَ فِي تَحْرِيفِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ لَفْظَ (بَعْدَ) يَقْتَضِي أَنَّ مَوَاضِعَ الْكَلِمِ مُسْتَقِرَّةٌ وَأَنَّهُ أُبْطِلَ الْعَمَلُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا قَائِمَةً فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ. وَالْإِشَارَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا إِلَى الْكَلِمِ الْمُحَرَّفِ. وَالْإِيتَاءُ هُنَا: الْإِفَادَةُ كَقَوْلِهِ: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: 251] . وَالْأَخْذُ: الْقَبُولُ، أَيْ إِنْ أُجِبْتُمْ بِمِثْلِ مَا تَهْوَوْنَ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ لَمْ تُجَابُوهُ فَاحْذَرُوا قَبُولَهُ. وَإِنَّمَا قَالُوا: فَاحْذَرُوا، لِأَنَّهُ يَفْتَحُ عَلَيْهِمُ الطَّعْنَ فِي أَحْكَامِهِمُ الَّتِي مَضَوْا عَلَيْهَا وَفِي حُكَّامِهِمُ الْحَاكِمِينَ بِهَا. وَإِرَادَةُ اللَّهِ فِتْنَةَ الْمَفْتُونِ قَضَاؤُهَا لَهُ فِي الْأَزَلِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ عَدَمُ

إِجْدَاءِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فِيهِ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أَيْ لَا تَبْلُغُ إِلَى هَدْيِهِ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً. وَهَذَا التَّرْكِيبُ يدلّ على كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِ أَمْرٍ مَا. وَمَدْلُولُ مُفْرَدَاتِهِ أَنَّكَ لَا تَمْلِكُ، أَيْ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَقَلِّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ لَا تَسْتَطِيعُ نَيْلَ شَيْءٍ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ لِإِزَالَةِ ضَلَالَةِ هَذَا الْمَفْتُونِ، لِأَنَّ مَادَّةَ الْمِلْكِ تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرَ فَتْقَهَا أَيْ شَدَدْتُ بِالطَّعْنَةِ كَفِّي، أَيْ مَلَكْتُهَا بِكَفِّي، وَقَالَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُيَيْنَةَ بن حصن «أَو أملك لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» . وَفِي حَدِيثِ دَعْوَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيرَتَهُ «فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى النَّفْيِ كَانَ انْتِفَاءُ مِلْكِ شَيْءٍ قَلِيلٍ مُقْتَضِيًا انْتِفَاءَ مِلْكِ الشَّيْءِ الْكَثِيرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّطْهِيرِ التَّهْيِئَةُ لِقَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى أَوْ أَرَادَ بِالتَّطْهِيرِ نَفْسَ قَبُولِ الْإِيمَانِ. وَالْخِزْيُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] ، وَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [192] . وَأَعَادَ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ لِلتَّأْكِيدِ وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. وَمَعْنَى أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أَخَّاذُونَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَكْلَ اسْتِعَارَةٌ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ.

وَالسُّحْتُ- بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ- الشَّيْءُ الْمَسْحُوتُ، أَيِ الْمُسْتَأْصَلُ. يُقَالُ: سَحَتَهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ وَأَتْلَفَهُ. سُمِّيَ بِهِ الْحَرَامُ لِأَنَّهُ لَا يُبَارَكُ فِيهِ لِصَاحِبِهِ، فَهُوَ مَسْحُوتٌ وَمَمْحُوقٌ، أَيْ مُقَدَّرٌ لَهُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَة: 276] ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدِعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ أَوْ مُجَنَّفُ وَالسُّحْتُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَالِ الْحَرَامِ، كَالرِّبَا وَالرَّشْوَةِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْمَغْصُوبِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ «سُحْتٌ» - بِسُكُونِ الْحَاءِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِضَمِّ الْحَاءِ- إِتْبَاعًا لِضَمِّ السّين. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى حِوَارٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي إِيفَادِ نَفَرٍ مِنْهُمْ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّحْكِيمِ فِي شَأْنِ مِنْ شُئُونِهِمْ مَالَتْ أَهْوَاؤُهُمْ إِلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِ بِالتَّأْوِيلِ أَوِ الْكِتْمَانِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرُونَ أَوْ طَالَبُوهُمْ بِالِاسْتِظْهَارِ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ فَطَمِعُوا أَنْ يَجِدُوا فِي تحكيم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْتَضِدُونَ بِهِ. وَظَاهِرُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ رَسُولَهُ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِ حَدِّ الزِّنَا، وَبِعَزْمِهِمْ عَلَى تَحْكِيمِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْمُسْتَفْتُونَ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ المُرَاد: فَإِن جاؤوك مَرَّةً أُخْرَى فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ. وَوَجْهُ التَّخْيِيرِ تَعَارُضُ السَّبَبَيْنِ فَسَبَبُ إِقَامَةِ الْعَدْلِ يَقْتَضِي الْحُكْمَ

بَيْنَهُمْ، وَسَبَبُ مُعَامَلَتِهِمْ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ مِنَ الِاخْتِبَارِ أَوْ مُحَاوَلَةِ مُصَادَفَةِ الْحُكْمِ لِهَوَاهُمْ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ لِئَلَّا يُعَرَّضَ الْحُكْمُ النَّبَوِيُّ لِلِاسْتِخْفَافِ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْيِيرِ فِي لَفْظِ الْآيَةِ بِالشِّقِّ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أَيْ بِالْحَقِّ، وَهُوَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالْحَدِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً فَذَلِكَ تطمين للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَقُولَ فِي نَفْسِهِ: كَيْفَ أُعْرِضُ عَنْهُمْ، فَيَتَّخِذُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْنَا. يَقُولُونَ: رَكَنَّا إِلَيْكُمْ وَرَضِينَا بِحُكْمِكُمْ فَأَعْرَضْتُمْ عَنَّا فَلَا نَسْمَعُ دَعْوَتَكُمْ مِنْ بَعْدُ. وَهَذَا مِمَّا يَهْتَمُّ بِهِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى تَنْفِيرِ رُؤَسَائِهِمْ دَهْمَاءَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَطَمَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا تَنْشَأُ عَنْهُ مَضَرَّةٌ. وَلَعَلَّ فِي هَذَا التَّطْمِينِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ لَا طَمَعَ فِي إِيمَانِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضُّرِّ ضُرَّ الْعَدَاوَةِ أَوِ الْأَذَى لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَهْتَمُّ بِهِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَخْشَاهُ مِنْهُمْ، خِلَافًا لِمَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا. وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّحْقِيرِ كَمَا هُوَ فِي أَمْثَالِهِ، مِثْلَ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ فِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَصْدَرٍ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، فَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ كَلِمَةِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [155] . وَالْآيَةُ تَقْتَضِي تَخْيِيرَ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا حَكَّمُوهُمْ لِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ لِغَيْرِ الرَّسُولِ مِنَ الْحُكَّامِ مُسَاوٍ إِبَاحَتَهُ لِلرَّسُولِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ حُكْمِ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَنَازَعَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حُكَّامُ مِلَّتِهِمْ، فَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ مَا حَدَثَ مِنْ قَبِيلِ الظُّلْمِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَكُلِّ مَا يَنْتَشِرُ مِنْهُ فَسَادٌ فَلَا

خِلَافَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ (وَعَلَى هَذَا فَالتَّخْيِيرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ) . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالنِّزَاعِ فِي الطَّلَاقِ وَالْمُعَامَلَاتِ. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: حُكْمُ هَذَا التَّخْيِيرِ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَقَالُوا: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ (الَّتِي رَوَاهَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَالْبُخَارِيُّ وَمن بَعْدِهِ) وَذَلِكَ أَنَّ يَهُودِيًّا زَنَى بِامْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ، فَقَالَ جَمِيعُهُمْ: لِنَسْأَلْ مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ. فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: كَانَ الْيَهُودُ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ أَهْلَ مُوَادَعَةٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، فَالتَّخْيِيرُ بَاقٍ مَعَ أَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، لِأَنَّ الْيَهُودِيَّيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ وَهُمَا يَوْمَئِذٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فِي مُوَادَعَةٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا التَّخْيِيرُ عَامٌّ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: الْإِعْرَاضُ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَا يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: التَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدُ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 49] ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، الْخُرَاسَانِيُّ، وَيُبْعِدُهُ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا نَسْخًا لِأَوَّلِهَا. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ. وَالْعَدْلُ: الْحُكْمُ الْمُوَافِقُ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ نَهَى رَسُولَهُ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ. وَهَذَا الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ. وَعَلَى هَذَا فَالْقِصَّةُ الَّتِي حَكَّمُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا الرَّسُولُ عَلَى الزَّانِيَيْنِ وَلَكِنَّهُ قَصَرَ حُكْمَهُ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لِلْيَهُودِ حَقِيقَةَ شَرْعِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَاتَّضَحَ بُطْلَانُ مَا كَانُوا يَحْكُمُونَ بِهِ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ شَرْعَهُمْ وَلَا شَرْعَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ كَتَمُوا. وَيَكُونُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» وَالْبُخَارِيِّ: أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ

رُجِمَا، إِنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ أَحْبَارِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ حَكَمَ فِيهِ بِالرَّجْمِ قَبْلَ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوْ بَعْدَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِشَرْعِهِمْ حِينَ حَكَّمُوهُ. وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَائِلُ هَذَا يَقُولُ: هَذَا نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 49] ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَلَا دَاعِيَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ مَا يَشْمَلُ الْبَيَانَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 48] . وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنَ الْفِقْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ تَحْكِيمٍ: أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ دَاخِلُونَ تَحْتَ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ عُهُودَ الذِّمَّةِ قَضَتْ بِإِبْقَائِهِمْ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مللهم فِي الشؤون الْجَارِيَةِ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ بِمَا حَدَّدَتْ لَهُمْ شَرَائِعُهُمْ. وَلِذَلِكَ فَالْأُمُورُ الَّتِي يَأْتُونَهَا تَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا هُوَ خَاصٌّ بِذَاتِ الذِّمِّيِّ مِنْ عِبَادَتِهِ كَصَلَاتِهِ وَذَبْحِهِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَهَذَا لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أنّ أئمّة الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَعَرَّضُونَ لَهُمْ بِتَعْطِيلِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَسَادٌ عَامٌّ كَقَتْلِ النَّفْسِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الْإِسْلَامِ، كَأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَنْكِحَةِ وَالطَّلَاقِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِلُّونَهَا وَيُحَرِّمُهَا الْإِسْلَامُ. وَهَذِهِ أَيْضًا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا، قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الذِّمِّيِّينَ، فَإِنْ زَنَى مُسْلِمٌ بِكِتَابِيَّةٍ يُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَلَا تُحَدُّ الْكِتَابِيَّةُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَلَا يُرْسِلُ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَلَا يُحْضِرُ الْخَصْمَ مَجْلِسَهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَجَاوَزُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَالسَّرِقَةِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْرَاضِ. وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ يَجْرِي عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّا لَمْ نُعَاهِدْهُمْ عَلَى الْفَسَادِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] ، وَلِذَلِكَ نَمْنَعُهُمْ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنَ التَّظَاهُرِ بِالْمُحَرَّمَاتِ.

[سورة المائدة (5) : آية 43]

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي فِيهَا اعْتِدَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ: كَالْجِنَايَاتِ، وَالدُّيُونِ، وَتَخَاصُمِ الزَّوْجَيْنِ. فَهَذَا الْقِسْمُ إِذَا تَرَاضَوْا فِيهِ بَيْنَهُمْ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ، فَإِنِ اسْتَعْدَى أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ بِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي الْحَاكِمُ الْمُسْلِمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ وُجُوبًا، لِأَنَّ فِي الِاعْتِدَاءِ ضَرْبًا مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَتَرَاضَى الخصمان مَعًا. [43] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 43] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) وَهَذِه الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جملَة فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْمَائِدَة: 42] . وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ، وَمَحَلُّ الْعَجَبِ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَيْ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ كِتَابَهُمْ وَيُحَكِّمُونَكَ وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِكَ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ بَعْدَ حُكْمِكَ إِذَا لَمْ يُرْضِهِمْ. فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ يُحَكِّمُونَكَ، أَيْ جمعُوا عدم الرضى بِشَرْعِهِمْ وَبِحُكْمِكَ. وَهَذِهِ غَايَةُ التَّعَنُّتِ الْمُسْتَوْجِبَةُ لِلْعَجَبِ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النُّور: 48، 49] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ هُمْ لَا يُحَكِّمُونَكَ حَقًّا. وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ أَصْلُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنْ كَوْنِ فَاعِلِهِ جَادًّا، أَيْ لَا يَكُونُ تَحْكِيمُهُمْ صَادِقًا بَلْ هُوَ تَحْكِيمٌ صُورِيٌّ يَبْتَغُونَ بِهِ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، لِأَنَّ لَدَيْهِمُ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ مَا حَكَّمُوكَ فِيهِ، وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَقَدْ نَبَذُوهَا لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا أَهْوَاءَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَدَّرُوا نَبْذَ حُكُومَتِكَ إِنْ لَمْ تُوَافِقْ هَوَاهُمْ، فَمَا هُمْ بِمُحَكِّمِينَ حَقِيقَةً. فَيَكُونُ فِعْلُ يُحَكِّمُونَكَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّظَاهُرِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ دُونَ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا [التَّوْبَة: 64] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِلَى مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ التَّحْكِيمُ، وَكَوْنُ التَّوْرَاةِ عِنْدَهُمْ،

[سورة المائدة (5) : آية 44]

أَيْ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ فِي حَالِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَهِيَ مُوَافَقَةُ حُكُومَتِكَ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ. وَجُمْلَةُ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يُحَكِّمُونَكَ. وَنَفِيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مَعَ حَذْفِ مُتَعَلِّقِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلَا بِالْإِسْلَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَحْكِيمُهُمْ صَادِقًا. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى التَّوْرَاةِ، فَتَأْنِيثُهُ مُرَاعَاةٌ لِاسْمِ التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهَا كِتَابًا وَلَكِنْ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعْلَاةٍ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ مِثْلَ مَوْمَاةٍ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ كِتَابِهِمْ تَوْرَاةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فِي سُورَةِ آل عمرَان [3] . [44] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) لَمَّا وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللَّهِ اسْتَأْنَفَ ثَنَاءً عَلَيْهَا وَعَلَى الْحَاكِمِينَ بِهَا. وَوَصَفَهَا بِالنُّزُولِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتُعِيرَ النُّزُولُ لِبُلُوغِ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ بُلُوغُ شَيْءٍ مِنْ لَدُنْ عَظِيمٍ، وَالْعَظِيمُ يُتَخَيَّلُ عَالِيًا، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالنُّورُ اسْتِعَارَةٌ لِلْبَيَانِ وَالْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الْهُدَى، فَأَحْكَامُهَا هَادِيَةٌ وَوَاضِحَةٌ، وَالظَّرْفِيَّةُ. حَقِيقِيَّةٌ، وَالْهُدَى وَالنُّورُ دَلَائِلُهُمَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ النُّورَ هُنَا مُسْتَعَارًا لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 132] ،

فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُدَى عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالنُّورُ أَعَمُّ، وَالْعَطْفُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمُغَايَرَةِ بِالْعُمُومِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ فَيَجُوزُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَسْلَمُوا الَّذِينَ كَانَ شَرْعُهُمُ الْخَاصُّ بِهِمْ كَشَرْعِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِأَحْكَامٍ غَيْرِ أَحْكَامِ عُمُومِ أُمَّتِهِمْ بَلْ هِيَ مُمَاثِلَةٌ لِلْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الْحَقُّ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَمَعَ ذَلِكَ مَا شَرِبَهَا الْأَنْبِيَاءُ قَطُّ، بَلْ حَرَّمَتْهَا التَّوْرَاةُ عَلَى كَاهِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَا ظَنُّكَ بِالنَّبِيءِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي دُعَائِهِ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يُوسُف: 101] . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ إِذْ كَانَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بالنبيئين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ هادُوا لِلْأَجَلِ وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يَحْكُمُ إِذِ الْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَالَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ، وَهُوَ اسْمٌ يُرَادِفُ مَعْنَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، إِلَّا أَنَّ أَصْلَهُ يَخْتَصُّ بِبَنِي يَهُوذَا مِنْهُمْ، فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] . وَالرَّبَّانِيُّونَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الرَّبِّ، أَيْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّبَّانِيُّ نَسَبًا لِلرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَمَا قَالُوا: شَعْرَانِيٌّ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ، وَلِحْيَانِيٌّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ. وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ الْمُرَبِّي، وَهُوَ الّذي يبتدىء

النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. وَوَقَعَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] . وَالْأَحْبَارُ جَمْعُ حَبْرٍ، وَهُوَ الْعَالِمُ فِي الْمِلَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَهُوَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا-، لَكِنِ اقْتَصَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى الْفَتْحِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ. وَعُطِفَ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ على النَّبِيُّونَ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ عِلْمِهِمْ وَعَلَيْهِمْ تَلَقَّوُا الدِّينَ. وَالِاسْتِحْفَاظُ: الِاسْتِئْمَانُ، وَاسْتِحْفَاظُ الْكِتَابِ أَمَانَةُ فَهْمِهِ حَقَّ الْفَهْمِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ. اسْتُعِيرَ الِاسْتِحْفَاظُ الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْحِفْظِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ بِإِجَادَةِ الْفَهْمِ وَالتَّبْلِيغِ لِلْأُمَّةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حُكْمًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ مُتَّصِلًا بِهِ غَيْرَ مُبَدَّلٍ وَلَا مُغَيَّرٍ وَلَا مُؤَوَّلٍ تَأْوِيلًا لِأَجْلِ الْهَوَى. وَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِحْفَاظِ بِالْكِتَابِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ أَلْفَاظِهِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالْكِتْمَانِ. وَمِنْ لَطَائِفِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادَ مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ يَوْمًا فَسُئِلَ: لِمَ جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فَوَكَلَ الْحِفْظَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . فَتَعَهَّدَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْمُحَامِلِيِّ، فَقَالَ: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. ومِنْ مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا. وكِتابِ اللَّهِ هُوَ التَّوْرَاةُ، فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، لِيَتَأَتَّى التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ الْمُفِيدَةِ لِتَشْرِيفِ التَّوْرَاةِ وَتَمْجِيدِهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ وَكانُوا لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ، أَيْ وَكَانَ الْمَذْكُورُونَ شُهَدَاءَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ شُهَدَاءَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ التَّبْدِيلِ، فَحَرْفُ (عَلَى) هُنَا دَالٌّ عَلَى مَعْنَى التَّمَكُّنِ وَلَيْسَ هُوَ (عَلَى) الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ شَهِدَ، إِلَى الْمَحْقُوقِ كَمَا يَتَعَدَّى

ذَلِكَ الْفِعْلُ بِاللَّامِ إِلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، أَيِ الْمُحِقِّ، بَلْ هُوَ هُنَا مِثْلُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ (حَفِظَ وَرَقَبَ) وَنَحْوُهُمَا، أَيْ وَكَانُوا حَفَظَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُرَّاسًا لَهُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ وَيَحْمِلُونَ أَتْبَاعَهُ عَلَى حَقِّ فَهْمِهِ وَحَقِّ الْعَمَلِ بِهِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِجُمْلَةِ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ الْمُتَفَرِّعَةِ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ، إِذِ الْحَفِيظُ عَلَى الشَّيْءِ الْأَمِينُ حَقُّ الْأَمَانَةِ لَا يَخْشَى أَحَدًا فِي الْقِيَامِ بِوَجْهِ أَمَانَتِهِ وَلَكِنَّهُ يَخْشَى الَّذِي اسْتَأْمَنَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ لِيَهُودِ زَمَانَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَمَّا حُكِيَ عَنْ فِعْلِ سَلَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِخَلَفِهِمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَرِضَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ فَهِيَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ: فَلَا تَخْشَوُا النّاس. والتّفريع ناشىء عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ، لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِحْفَاظِ يَظْهَرُ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالنَّاسِ رَضُوا أَمْ سَخِطُوا، وَفِي قَصْرِ الِاعْتِدَادِ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] . وَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى خَشْيَةِ النَّاسِ هُنَا أَنْ تُخَالَفَ أَحْكَامُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ اللَّهِ لِإِرْضَاءِ أَهْوِيَةِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا عُقِّبَتْ بِهِ تِلْكَ الْعِظَاتُ الْجَلِيلَةُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْمَقْصُودُ الْيَهُودُ وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ صُنْعِهِمْ. وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْفَرِيقَ الْخَاصَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا، وَهُمُ الَّذِينَ أَخْفَوْا بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِثْلَ حُكْمِ الرَّجْمِ فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِمَا جَحَدُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمُ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْكُفْرِ مِنْ قَبْلُ فَإِذَا لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَذَلِكَ مِنْ آثَارِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسَ وَتَكُونَ الصِّلَةُ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ فَتَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَكْفُرُ. وَقَدِ اقْتَضَى هَذَا قَضِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: كَوْنُ الَّذِي يَتْرُكُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى مُوسَى كَافِرًا، أَوْ تَارِكُ الْحُكْمِ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى الرُّسُلِ كَافِرًا وَالثَّانِيَةُ: قَصْرُ وَصْفِ الْكُفْرِ عَلَى تَارِكِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْأُولَى: فَالَّذِينَ يُكَفِّرُونَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ هَذَا. لِأَنَّ الْجَوْرَ فِي الْحُكْمِ كَبِيرَةٌ وَالْكَبِيرَةُ كُفْرٌ عِنْدَهُمْ. وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِكُفْرِ نِعْمَةٍ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَهِيَ عِنْدَهُمْ قَضِيَّةٌ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَقَعُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَبَيَانُ إِجْمَالِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ الْقَاضِيَةِ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ، وَمَسَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ إِجْمَالَهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِمَنْ لَمْ يَحْكُمْ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَرَوَاهُ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَهِيَ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَمَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَرْكًا مِثْلَ هَذَا التَّرْكِ، هُوَ تَرْكُ الْحُكْمِ الْمَشُوبُ بِالطَّعْنِ فِي صَلَاحِيَّتِهِ. وَقَدْ عُرِفَ الْيَهُودُ بِكَثْرَةِ مُخَالَفَةِ حُكَّامِهِمْ لِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَغْيِيرِهِمْ إِيَّاهَا بِاعْتِقَادِ عَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِأَحْوَالِهِمْ كَمَا فَعَلُوا فِي حَدِّ الزِّنَى فَيَكُونُ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي كَانَتْ هَذِهِ ذَيْلًا لَهَا فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ لِتَعْرِيفِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَلَيْسَ مُعَلِّلًا لِلْخَبَرِ. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ لِمُشَابَهَتِهِ بِالشَّرْطِ فِي لُزُومِ خَبَرِهِ لَهُ، أَيْ أَنَّ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الَّذِينَ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ الْكَافِرِينَ فَهُمْ هُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَسَاءُوا الصُّنْعَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ مِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِهِ جَحْدًا لَهُ، أَوِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، أَوْ طَعْنًا فِي حَقِّيَّتِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِهِ حُكْمَ اللَّهِ بِتَوَاتُرٍ أَوْ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ

عَبَّاسٍ، وَمُجاهد، وَالْحسن، فَمن شَرْطِيَّةٌ وَتَرْكُ الْحُكْمِ مُجْمَلٌ بَيَانُهُ فِي أَدِلَّةٍ أُخَرَ. وَتَحْتَ هَذَا حَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْتِزَامُ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ كَفِعْلِ الْمُسْلِمِ الَّذِي تُقَامُ فِي أَرْضِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ مَحَاكِمَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الِالْتِزَامَ أَشَدُّ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ. وَأَعْظَمُ مِنْهُ إِلْزَامُ النَّاسِ بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَهُوَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَبَعْضُهَا قَدْ يَلْزَمُهُ لَازِمُ الرِّدَّةِ إِنْ دَلَّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ أَوْ تَخْطِئَةٍ لِحُكْمِ اللَّهِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ فَقِيلَ عُبِّرَ بِالْكُفْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا قَالَتْ زَوْجَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ «أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ» أَيِ الزِّنَى، أَيْ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ وَلَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عبّاس. وَقَالَ طَاوُوس «هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَلَيْسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْإِيمَانِ» . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْهَوَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكُفْرٍ وَلَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَاطِعًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا تَرَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ وَحَكَمُوا بِمُقْتَضَى تَأْوِيلِهَا وَهَذَا كَثِيرٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي شَأْنِ الْحَاكِمين. وأمّا رضى الْمُتَحَاكِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ فَقَدْ مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاء: 65] الْآيَةَ وَبَيَّنَّا وُجُوهَهُ، وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فِي سُورَةِ النُّورِ [48- 50] . وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْرِ هُنَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِهَذَا الْإِثْمِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ مَجَازًا بِالْكُفْرِ، أَوْ فِي بُلُوغِهِمْ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْكُفْرُ الَّذِي انْضَمَّ إِلَيْهِ الْجَوْرُ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّلَةِ هُنَا أَوْ بِفِعْلِ الشَّرْطِ إِذْ وَقَعَا مَنْفِيَّيْنِ هُوَ الِاتِّصَافُ بِنَقِيضِهِمَا، أَيْ وَمَنْ حَكَمَ

[سورة المائدة (5) : آية 45]

بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا حَكَمَ بِغَيْرِهِ، بِأَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ دَعَا إِلَى الصُّلْحِ، لَا تَخْتَلِفُ الْأُمَّةُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَلَا آثِمٍ، وَإِلَّا لَلَزِمَ كُفْرُ كُلِّ حَاكِمٍ فِي حَالِ عَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ لِلْحُكْمِ، وَكُفْرُ كُلِّ مَنْ لَيْسَ بِحَاكِمٍ. فَالْمَعْنَى: وَمَنْ حَكَمَ فَلَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزل الله. [45] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) عُطِفَتْ جُمْلَةُ كَتَبْنا عَلَى جُمْلَةِ أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ [الْمَائِدَة: 44] . وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا أَحْكَامَ الْقِصَاصِ كَمَا غَيَّرُوا أَحْكَامَ حَدِّ الزِّنَى، فَفَاضَلُوا بَيْنَ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى، كَمَا سَيَأْتِي، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، كَمَا ذَيَّلَ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ حَدِّ الزِّنَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَة: 44] . وَالْكَتْبُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّشْرِيعِ وَالْفَرْضِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ (عَلَى) ، أَيْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا، أَيْ فِي التَّوْرَاةِ مَضْمُونَ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَسْطُورٌ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا، كَمَا اقْتَضَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ كَتَبْنا بِحَرْفِ (فِي) فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهُ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ وَالْكِتَابَةُ تَزِيدُ الْكَلَامَ تَوَثُّقًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ

وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (أَنْ) . وَالْمَصْدَرُ فِي مِثْلِ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ مَعْنَى حَرْفِ الْبَاءِ الَّذِي هُوَ التَّعْوِيضُ، أَيْ كَتَبْنَا تَعْوِيضَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، أَيِ النَّفْسُ الْمَقْتُولَةُ بِالنَّفْسِ الْقَاتِلَةِ، أَيْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ مُسَاوَاةَ الْقِصَاصِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) هُنَا، لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ هَذِهِ الْجُمَلِ وَلَكِنِ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْهَا وَهُوَ الْعِوَضِيَّةُ وَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ (أَنَّ) . وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِالرَّفْعِ-. وَذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ (أَنَّ) خَبَرَهَا فَيُعْتَبَرُ الْعَطْفُ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ. وَالنَّفْسُ: الذَّاتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [44] . وَالْأُذن- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَبِضَمِّ الذَّالِ أَيْضًا-. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْأُولَى نَفْسُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي وَالْعَيْنَ إِلَخْ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالنَّفْسِ وَنَظَائِرِهِ الْأَرْبَعَةِ بَاءُ الْعِوَضِ، وَمَدْخُولَاتُ الْبَاءِ كُلُّهَا أَخْبَارُ (أَنَّ) ، وَمُتَعَلِّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَحْذُوفٌ، هُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَيُقَدَّرُ: أَنَّ النَّفْسَ الْمَقْتُولَةَ تُعَوَّضُ بِنَفْسِ الْقَاتِلِ وَالْعَيْنَ الْمُتْلَفَةَ تُعَوَّضُ بِعَيْنِ الْمُتْلِفِ، أَيْ بِإِتْلَافِهَا وَهَكَذَا النَّفْسُ مُتْلَفَةٌ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفُ مَجْدُوعٌ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنُ مَصْلُومَةٌ بِالْأُذُنِ. وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ دَاخِلَةٌ عَلَى عُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَمَجْرُورَاتُ الْبَاءِ الْخَمْسَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْجَانِي. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْإِصْبَعِ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَكُونُ غَالِبًا عِنْدَ الْمُضَارَبَةِ بِقَصْدِ قَطْعِ الرَّقَبَةِ، فَقَدْ يَنْبُو السَّيْفُ عَنْ قَطْعِ الرَّأْسِ فَيُصِيبُ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ سِنٍّ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمُصَاوَلَةِ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُقَابِلُ الصَّائِلَ، قَالَ الْحُرَيْشُ بْنُ هِلَالٍ: نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلِّطَامِ

وَقَوْلُهُ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أَخْبَرَ بِالْقِصَاصِ عَنِ الْجُرُوحِ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتُ قِصَاصٍ. وقصاص مَصْدَرُ قَاصَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ، لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يُقَاصُّ الْجَانِيَ، وَالْجَانِيَ يُقَاصُّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ، أَيْ يَقْطَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا التَّبِعَةَ عَنِ الْآخَرِ بِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِصاصٌ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَالنَّصْبُ بِمَعْنَى الْمَنْصُوبِ، أَيْ مَقْصُوصٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَالْقِصَاصُ: الْمُمَاثَلَةُ، أَيْ عُقُوبَةُ الْجَانِي بِجِرَاحٍ أَنْ يُجْرَحَ مِثْلَ الْجُرْحِ الَّذِي جَنَى بِهِ عَمْدًا. وَالْمَعْنَى إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، أَيْ أُمِنَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ، كَمَا إِذَا جَرَحَهُ مَأْمُومَةً عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي حِينَ يَضْرِبُ رَأْسَ الْجَانِي مَاذَا يَكُونُ مَدَى الضَّرْبَةِ فَلَعَلَّهَا تَقْضِي بِمَوْتِهِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الدِّيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ فِي جِنَايَاتِ الْعَمْدِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ الْآيَةُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِنَايَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ وَالْجُرُوحَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ (أَنَّ) . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّهُ إِجْمَالٌ لحكم الْجراح بعد مَا فَصَّلَ حُكْمَ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ. وَفَائِدَةُ الْإِعْلَامِ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقِصَاصِ هُنَا زِيَادَةُ تَسْجِيلِ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ فِي الْمَدِينَةِ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي حُرُوبِ بُعَاثٍ فَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ حَرْبًا، ثُمَّ تَحَاجَزُوا وَانْهَزَمَتْ قُرَيْظَةُ، فَشَرَطَتِ النَّضِيرُ عَلَى قُرَيْظَةَ أَنَّ دِيَةَ النَّضِيرِيِّ عَلَى الضِّعْفِ مِنْ دِيَةِ الْقُرَظِيِّ وَعَلَى أَنَّ الْقُرَظِيَّ يُقْتَلُ بِالنَّضِيرِيِّ وَلَا يُقْتَلُ النَّضِيرِيُّ بِالْقُرَظِيِّ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ تَحْرِيفَهُمْ لِكِتَابِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَة: 84، 85] . وَيَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَأْيِيدُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِذْ جَاءَتْ بِمُسَاوَاةِ الْقِصَاصِ وَأَبْطَلَتِ التَّكَايُلَ فِي الدِّمَاءِ

الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَعِنْدَ الْيَهُودِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْيِيدَ الشَّرِيعَةِ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى يَزِيدُهَا قَبُولًا فِي النُّفُوسِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُرَادٌ قَدِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ مُلَازِمَةٌ لَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْوَامِ وَالْأَزْمَانِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَزَلْ فِي نُفُوسِهِمْ حَرَجٌ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّرِيفِ الضَّعِيفَ فِي الْقِصَاصِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَةُ أُخْتُ عَمْرو بن معد يكرب تَثْأَرُ بِأَخِيهَا عَبْدِ الله بن معد يكرب: فَيقْتل جبرا بامرىء لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ (¬1) تُرِيدُ: رَضِينَا بِأَنْ يُقْتَلَ الرَّجُلُ الَّذِي اسْمُهُ (جَبْرٌ) بِالْمَرْءِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ كُفُؤًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ تَكَايُلَ الدِّمَاءِ. وَالتَّكَايُلُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ النَّفْسِ بِعِدَّةِ أَنْفُسٍ، وَقَدْ قَدَّرَ شُيُوخُ بَنِي أَسَدٍ دَمَ حُجْرٍ وَالِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِدِيَاتِ عَشَرَةٍ مِنْ سَادَةِ بَنِي أَسَدٍ فَأَبَى امْرُؤُ الْقَيْسِ قَبُولَ هَذَا التَّقْدِيرِ وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ حُجْرًا لَمْ يَكُنْ لِيَبُوءَ بِهِ شَيْءٌ» - وَقَالَ مُهَلْهَلٌ حِينَ قَتَلَ بُجَيْرًا: «بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ» وَالْبَوَاءُ: الْكِفَاءُ. وَقَدْ عَدَّتِ الْآيَةُ فِي الْقِصَاصِ أَشْيَاءَ تَكْثُرُ إِصَابَتُهَا فِي الْخُصُومَاتِ لِأَنَّ الرَّأْسَ قَدْ حَوَاهَا وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ الرَّأْسَ ابْتِدَاءً. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُرَاد ب فَمَنْ تَصَدَّقَ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْهُمْ، وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَاءُ الْعِوَضِ فِي قَوْلِهِ بِالنَّفْسِ إِلَخْ، أَيْ مَنْ تَصَدَّقَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُ، أَيْ تَنَازَلَ عَنِ الْعِوَضِ. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ تَصَدَّقَ. وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصَدُّقِ الْعَفْوُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا كَانَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ بِيَدِ مُسْتَحِقِّ الْأَخْذِ بِالْقِصَاصِ جُعِلَ إِسْقَاطُهُِِ ¬

(¬1) الْبَيْت لامْرَأَة من طي وَهُوَ من شعر «الحماسة» ، يُقَال: إنّه لكبشة أُخْت عَمْرو بن معد يكرب بنت بهدل الطَّائِي. وجبر هَذَا اسْم قَاتل أَبِيهَا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 46 إلى 47]

كَالْعَطِيَّةِ لِيُشِيرَ إِلَى فَرْطِ ثَوَابِهِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَى كَفَّارَةٌ لَهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُ ذُنُوبًا عَظِيمَةً، لِأَجْلِ مَا فِي هَذَا الْعَفْوِ مِنْ جَلْبِ الْقُلُوبِ وَإِزَالَةِ الْإِحَنِ وَاسْتِبْقَاءِ نُفُوسِ وَأَعْضَاءِ الْأُمَّةِ. وَعَادَ فَحَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِخْفَافَ بِالْحُكْمِ وَإِبْطَالَ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ شُرِعَ لِحَكَمٍ عَظِيمَةٍ: مِنْهَا الزَّجْرُ، وَمِنْهَا جَبْرُ خَاطِرِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَمِنْهَا التَّفَادِي مِنْ تَرَصُّدِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْمُعْتَدِينَ أَوْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ. فَإِبْطَالُ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ يُعَطِّلُ هَذِهِ الْمَصَالِحَ، وَهُوَ ظُلْمٌ، لِأَنَّهُ غَمْصٌ لِحَقِّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ أَوْ وَلَيِّهِ. وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنِ الْجَانِي فَيُحَقِّقُ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ وَيَزِيدُ مَصْلَحَةَ التَّحَابُبِ لِأَنَّهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ تَغْشَى غَبَاوَةُ حُكَّامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَفْهَامِهِمْ فَيَجْعَلُوا إِبْطَالَ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ، فَهَذَا وَجْهُ إِعَادَةِ التَّحْذِيرِ عَقِبَ اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ. وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَبِهِ يَتَعَيَّنُ رُجُوعُ هَذَا التَّحْذِيرِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ سَابِقِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ فَيَكُونُ هَذَا مُؤَكِّدًا لِلَّذِي فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَوْرُ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ وَصْفِ الظُّلْمِ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كافرون ظَالِمُونَ. [46، 47] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 46 إِلَى 47] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] انْتِقَالًا إِلَى أَحْوَالِ النَّصَارَى لِقَوْلِهِ: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، وَلِبَيَانِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْرَاضِ الْيَهُودِ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ رَاجِعَيْنِ إِلَى تَحْرِيفِهِمْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَرَّفُوهُ وَتَرَدَّدُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّفُوهُ فَشَكُّوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَالْتَجَئُوا إِلَى تَحْكِيمِ الرَّسُولِ وَثَانِيهِمَا: مَا حَرَّفُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا مِنْهُ وَهُوَ إِبْطَالُ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ. وَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالتَّقْفِيَةُ مَصْدَرُ قَفَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ يَقْفُوهُ، أَيْ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ قَفَا- بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ- وَمَعْنَى قَفَاهُ سَارَ نَحْوَ قَفَاهُ، وَالْقَفَا الظَّهْرُ، أَيْ سَارَ وَرَاءَهُ. فالتقفية الإتباع متشقّة مِنَ الْقَفَا، وَنَظِيره: توجّه مشتقّا مِنَ الْوَجْهِ، وَتَعَقَّبَ مِنَ الْعقب. وَفعل قفّى الْمُشَدَّدُ مُضَاعَفُ قَفَا الْمُخَفَّفِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّضْعِيفِ أَنْ يُفِيدَ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولٍ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ، فَإِذَا جُعِلَ تَضْعِيفُ قَفَّيْنا هُنَا مُعَدِّيًا لِلْفِعْلِ اقْتَضَى مَفْعُولَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ التَّضْعِيفِ، وَثَانِيهِمَا: الَّذِي عُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ بَابِ كَسَا فَيَكُونُ حَقُّ التَّرْكِيبِ: وَقَفَّيْنَاهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَيَكُونُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي بِعِيسَى لِلتَّأْكِيدِ، مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] ، وَإِذَا جُعِلَ التَّضْعِيفُ لِغَيْرِ التَّعْدِيَةِ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَكْرِيرِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، مِثْلَ جَوَّلْتُ وَطَوَّفْتُ كَانَ حَقُّ التَّرْكِيبِ: وَقَفَّيْنَاهُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي جَرَى كَلَامُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ بَاءَ بِعِيسَى لِلتَّعْدِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مَفْعُولُ قَفَّيْنا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِهِ وَسَلَّمَهُ أَصْحَابُ حَوَاشِيهِ. وَقَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَدْلُولِ فِعْلِ قَفَّيْنا وَإِفَادَةُ سُرْعَةِ التَّقْفِيَةِ.

وَضَمِيرُ آثارِهِمْ لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ. وَقَدْ أُرْسِلَ عِيسَى على عقب زَكَرِيَّاء كَافِلِ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَوَالِدِ يَحْيَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى عَلى آثارِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ. وَالْمُصَدِّقُ: الْمُخْبِرُ بِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمُؤَيِّدُ الْمُقَرِّرُ لِلتَّوْرَاةِ. وَجَعَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهَا تَقَدَّمَتْهُ، وَالْمُتَقَدِّمُ يُقَالُ: هُوَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ تَقَدَّمَ. ومِنَ التَّوْراةِ بَيَانٌ لِما. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ حَالٌ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُدَى وَالنُّورِ. ومُصَدِّقاً حَالٌ أَيْضًا مِنَ الْإِنْجِيلِ فَلَا تَكْرِيرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِاخْتِلَافِ صَاحِبِ الْحَالِ وَلِاخْتِلَافِ كَيْفِيَّةِ التَّصْدِيقِ فَتَصْدِيقُ عِيسَى التَّوْرَاةَ أَمْرُهُ بِإِحْيَاءِ أَحْكَامِهَا، وَهُوَ تَصْدِيقٌ حَقِيقِيٌّ وَتَصْدِيقُ الْإِنْجِيلِ التَّوْرَاةَ اشْتِمَالُهُ عَلَى مَا وَافَقَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَجَازِيٌّ. وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَا يُنَافِي أَنَّهُ نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمرَان: 50] ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ لَا عُمُومَ لَهُ. وَالْمَوْعِظَةُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُلَيِّنُ الْقَلْبَ وَيَزْجُرُ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَجُمْلَةُ وَلْيَحْكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آتَيْناهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلْيَحْكُمْ- بِسُكُونِ اللَّامِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ- عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْأَمْرِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ سَابِقٌ عَلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَعُلِمَ أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلًا مُقَدَّرًا هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَقُلْنَا: لِيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، فَيَتِمُّ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَرَائِنُ تَقْدِيرِ الْقَوْلِ مُتَظَافِرَةٌ مِنْ أُمُورٍ عِدَّةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ- بِكَسْرِ لَامِ- لْيَحْكُمْ وَنَصْبِ الْمِيمِ- عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ لِلتَّعْلِيلِ، فَجُمْلَةُ لْيَحْكُمْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ هُدىً إِلَخْ، الَّذِي هُوَ حَالٌ، عُطِفَتِ الْعِلَّةُ عَلَى الْحَالِ عَطْفًا ذِكْرِيًّا لَا يُشَرِّكُ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ

[سورة المائدة (5) : آية 48]

بِلَامِ التَّعْلِيلِ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ اسْتِقَامَةِ تَشْرِيكِ الْحُكْمِ بِالْعَطْفِ فَيَكُونُ عَطْفُهُ كَعَطْفِ الْجُمَلِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعْنَى. وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَدَّرَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِعْلًا مَحْذُوفًا بَعْدَ الْوَاوِ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى وَلَيْسَ تَقْدِيرَ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ الْكَافِرُونَ، إِذِ الْفِسْقُ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ، فَتَكُونُ عَلَى نَحْوِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا كَافِرِينَ بِهِ أَمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ وَلَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُ فَيَكُونُ ذَمًّا لِلنَّصَارَى فِي التَّهَاوُنِ بِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ أَضْعَفَ مِنْ ذمّ الْيَهُود. [48] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) جَالَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَوْلَةً فِي ذِكْرِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَآبَتْ مِنْهَا إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ فَكَانَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْآن جَاءَ نسخا لِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ مُؤَاخَذَةَ الْيَهُودِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُؤَاخَذَةٌ لَهُمْ بِعَمَلِهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، وَلِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْمَعُونَ من محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ إتماما لِتَرْتِيبِ نُزُولِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.

وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَوْقِعَ التَّخَلُّصِ الْمَقْصُودِ، فَجَاءَتِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُنْتَظِمَةً مُتَنَاسِقَةً عَلَى أَبْدَعِ وَجْهٍ. وَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ الْقُرْآنُ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ. وَالْكِتَابُ الثَّانِي جِنْسٌ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ. وَالْمُصَدِّقُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْمُهَيْمِنُ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَاءَهُ أَصْلِيَّةٌ وَأَنَّ فِعْلَهُ بِوَزْنِ فَيْعَلَ كَسَيْطَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعْ هَمَنَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا نَظِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ إِلَّا هَيْنَمَ إِذَا دَعَا أَوْ قَرَأَ، وَبَيْقَرَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، وَسَيْطَرَ إِذَا قَهَرَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي وَزْنِ مُفَيْعِلٍ إِلَّا اسْمُ فَاعِلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَزَادُوا مُبَيْطِرٌ اسْمُ طَبِيبِ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُسْمَعْ بَيْطَرَ وَلَكِنْ بَطَرَ، وَمُجَيْمِرٌ اسْمُ جَبَلٍ، ذَكَرَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ الْمُجَيْمِرِ غَدْوَةً ... مِنَ السَّيْلِ وَالْغُثَاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ وَفُسِّرَ الْمُهَيْمِنُ بِالْعَالِي وَالرَّقِيبِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُهَيْمِنُ. وَقِيلَ: الْمُهَيْمِنُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَمِنَ، وَأَصْلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى اسْتَحْفَظَهُ بِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الرَّقَابَةُ، فَأَصْلُهُ مُؤَأْمِنٌ، فَكَأَنَّهُمْ رَامُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ وَبِمَعْنَى آمَنُهُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ صَارَ حَقِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ يَاءً وَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى هَاءً، كَمَا قَالُوا فِي أَرَاقَ هَرَاقَ، فَقَالُوا: هَيْمَنَ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى حَالَتَيِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِبَعْضِ مَا فِي الشَّرَائِعِ مُقَرِّرٌ لَهُ مِنْ كُلِّ حُكْمٍ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ كُلِّيَّةً لَمْ تَخْتَلِفْ مَصْلَحَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَزْمَانِ، وَهُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ مُصَدِّقٌ، أَيْ مُحَقِّقٌ وَمُقَرِّرٌ، وَهُوَ أَيْضًا مُبْطِلٌ لِبَعْضِ مَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَنَاسِخٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كُلِّ مَا كَانَتْ مَصَالِحُهُ جُزْئِيَّةً مُؤَقَّتَةً مُرَاعًى فِيهَا أَحْوَالُ أَقْوَامٍ خَاصَّةٍ.

وَقَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيْكَ، أَوِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ بِحُكْمٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا أَثْبَتَ اللَّهُ شَرْعَهُ لِمَنْ قَبْلَنَا. فَحُكْمُ النَّبِيءِ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ بِالرَّجْمِ حُكْمٌ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُؤَيَّدًا بِالْقُرْآنِ إِذَا كَانَ حِينَئِذٍ قَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا» . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَيِّدْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فِي مِثْلِهِمَا الرَّجْمُ، فَحَكَمَ بِهِ، وَأَطْلَعَ الْيَهُودَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ هَذَا الْحُكْمَ. وَقَدِ اتَّصَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [الْمَائِدَة: 42] فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْحُكْمِ الْمُفَادِ مِنْ قَوْله: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْمَائِدَة: 42] ، وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ سَمَّاهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِاسْمِ النَّسْخِ قَبْلَ أَنْ تَنْضَبِطَ حُدُودُ الْأَسْمَاءِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، أَيْ أَهْوَاءِ الْيَهُودِ حِينَ حَكَّمُوهُ طَامِعِينَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ، مَقْصُودٌ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِغَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ شَرِيعَةً سَابِقَةً، لِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُهَيْمِنًا أَبْطَلَ مَا خَالَفَهُ، وَنُزُولَهُ مُصَدِّقًا أَيَّدَ مَا وَافَقَهُ وَزَكَّى مَا لَمْ يُخَالِفْهُ. وَالرَّسُولُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ: إِمَّا إِعْلَانُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَهُ النَّاسُ وَيَيْأَسَ الطَّامِعُونَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِمَا يَشْتَهُونَ، فخطاب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الْمَائِدَة: 49] مُرَادٌ بِهِ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّاسِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وَإِمَّا تَبْيِينُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَجْهَ تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بِأَنْ لَا تَكُونَ أَهْوَاءُ الْخُصُومِ طُرُقًا لِلتَّرْجِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي هُدَى النَّاسِ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي فَصْلِ هَذَا التَّحْكِيمِ، لِأَنَّهُمْ وَعَدُوا أَنَّهُ إِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ. فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ لِمَ لَا يُحْمَلُونَ عَلَيْهِ مَعَ ظُهُورِ فَائِدَةِ ذَلِكَ وَهُوَ دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ أُمُورَ الشَّرِيعَةِ لَا تَهَاوُنَ بِهَا، وَأَنَّ مَصْلَحَةَ احْتِرَامِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ

دُخُولِ فَرِيقٍ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا لِمُرِيدِيهِ، قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] . وَقَوْلُهُ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً كَالتَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، أَيْ إِذَا كَانَتْ أَهْوَاؤُهُمْ فِي مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِمْ أَوْ عَوَائِدِهِمْ فَدَعْهُمْ وَمَا اعْتَادُوهُ وَتَمَسَّكُوا بِشَرْعِكُمْ. وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ. يُقَالُ: شَرِيعَةُ الْفُرَاتِ. وَسُمِّيَتِ الدِّيَانَةُ شَرِيعَةً عَلَى التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ فِيهَا شِفَاءَ النُّفُوسِ وَطَهَارَتَهَا. وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ بِالْمَاءِ وَأَحْوَالِهِ كَثِيرًا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [83] . وَالْمِنْهَاجُ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، وَهُوَ هُنَا تَخْيِيلٌ أُرِيدَ بِهِ طَرِيقُ الْقَوْمِ إِلَى الْمَاءِ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ: وَأَتْبَعْتُ دَلْوِي فِي السَّمَاحِ رِشَاءَهَا فَذِكْرُ الرِّشَاءِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ. وَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ رَدِيفٌ فِي الْمُشَبَّهِ بِأَنْ تُشَبَّهَ الْعَوَائِدُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، أَوْ دَلَائِلُ التَّفْرِيعِ عَنِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ طُرُقُ فَهْمِهَا بِالْمِنْهَاجِ الموصّل إِلَى السَّمَاء. فَمِنْهَاجُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُخَالِفُ الِاتِّصَالَ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَمِنْهَاجِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهَاجُ غَيْرِهِمْ مُنْحَرِفٌ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا كَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ جَعَلَتْ عَوَائِدَ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَتِهِمْ، فَذَلِكَ كَالْمِنْهَاجِ الْمُوَصِّلِ إِلَى غَيْرِ الْمَوْرُودِ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِبْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ تَنْبِيهُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا وَبِالتَّأَمُّلِ يَظْهَرُ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. الْجَعْلُ: التَّقْدِيرُ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ رَتَّبَ نَوَامِيسَ وَجِبِلَّاتٍ،

وَسَبَّبَ اهْتِدَاءَ فَرِيقٍ وَضَلَالَ فَرِيقٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّوْفِيقِ أَوِ الْخِذْلَانِ، وَالْمَيْلِ أَوِ الِانْصِرَافِ، وَالْعَزْمِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ. وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لَنَا بِمَا يَظْهَرُ فِي الْحَادِثَاتِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِينَ دِينُهُمْ وَمُعْتَقَدُهُمْ وَاحِدٌ، هَذَا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ. وَأَصْلُ الْأُمَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَوْمُ الْكَثِيرُونَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى نَسَبٍ وَاحِدٍ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، أَيْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَكُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، كَمَا خَلَقَ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلزِّيَادَةِ وَلَا لِلتَّطَوُّرِ مِنْ أَنْفُسِهَا. وَمَعْنَى لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ هُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ الِاسْتِعْدَادِ وَنَحْوِهِ. وَالْبَلَاءُ: الْخِبْرَةُ. وَالْمُرَادُ هُنَا لِيَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، وَالْمُرَادُ لَازِمُ الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ، كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا لَمْ يُرِدْ لِأَعْلَمَ فَقَطْ وَلَكِنْ أَرَادَ لِيَظْهَرَ لِي وَلِلنَّاسِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ وَكَلَ اخْتِيَارَ طُرُقِ الْخَيْرِ وَأَضْدَادِهَا إِلَى عُقُولِ النَّاسِ وَكَسْبِهِمْ حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى لِيَتَسَابَقَ النَّاسُ إِلَى إِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ فَتَظْهَرُ آثَارُ الْعِلْمِ وَيَزْدَادُ أَهْلُ الْعِلْمِ عِلْمًا وَتُقَامُ الْأَدِلَّةُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يُظْهِرُ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلْخَيْرِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ، وَذَلِكَ مِنَ الِاخْتِبَارِ. وَلِذَلِكَ قَالَ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا آتَاكُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ. فَيَظْهَرُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَبْلُغَ بَعْضُهَا دَرَجَاتٍ عَالِيَةً، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي آتَاكُمُوهَا فَيَظْهَرُ مِقْدَارُ عَمَلِكُمْ بِهَا فَيَحْصُلُ الْجَزَاءُ بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ. وَفَرَّعَ عَلَى لِيَبْلُوَكُمْ قَوْلَهُ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الِاسْتِبَاقِ يَكُونُ ظُهُورُ أَثَرِ التَّوْفِيقِ أَوْضَحَ وَأَجْلَى. وَالِاسْتِبَاقُ: التَّسَابُقُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُنَافَسَةِ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْخَيْرِ لَا يَمْنَعُ

[سورة المائدة (5) : آية 49]

غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَشَابَهَ التَّسَابُقَ. وَلِتَضْمِينِ فِعْلِ اسْتَبِقُوا بِمَعْنَى خُذُوا، أَوِ ابْتَدِرُوا، عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْخَيْراتِ بِنَفْسِهِ وَحَقُّهُ أَن يعدّى بإلى، كَقَوْلِهِ سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْحَدِيد: 21] . وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي قبُول الدّين. [49] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأَنِ احْكُمْ مَعْطُوفًا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، بِأَنْ يُجْعَلَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الْمَائِدَة: 48] ، فَيَكُونُ رُجُوعًا إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ لِتَأْكِيدِهِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ كَمَا بُنِيَ عَلَى نَظِيرِهِ قَوْلُهُ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَة: 48] وَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةُ تُفِيدُ تَقْوِيَةَ ارْتِبَاطِ التَّفْسِيرِ بِالْمُفَسَّرِ، لِأَنَّهَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا، لِصِحَّةِ أَنْ تَقُولَ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ افْعَلْ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنِ افْعَلْ كَذَا. فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ إِلَى رَسُولِهِ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْفَاءِ فَقَالَ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [الْمَائِدَة: 48] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا فِيهِ هُوَ مِنْ آثَارِ تَنْزِيلِهِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يَأْمُرُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِيهِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَتَأَكَّدَ الْغَرَضُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ مَعَ تَفَنُّنِ الْأُسْلُوبِ وَبَدَاعَتِهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِهِ. وَمِمَّا حَسَّنَ عَطْفَ التَّفْسِيرِ هُنَا طُولُ الْكَلَامِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمُفَسِّرِ وَبَيْنَ تَفْسِيرِهِ. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. فَقَالَ: عُطِفَ أَنِ احْكُمْ عَلَى الْكِتابَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ

الْكِتابَ [الْمَائِدَة: 48] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أَنِ احْكُمْ. فَجَعَلَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً دَاخِلَةً عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ، أَيْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْأَمْرَ بِالْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [نوح: 1] ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [105] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أَنَّ هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ إِذْ سَوَّغَ أَنْ تُوصَلَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْلُهَا بِمَا يَكُونُ مَعَهُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَعَلَّلَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: «لِأَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ» . وَالْحَمْلُ عَلَى التَّفْسِيرِيَّةِ أَوْلَى وَأَعْرَبُ، وَتَكُونُ (أَنْ) مُقْحَمَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُفَسِّرَةً لِفِعْلِ أَنْزَلَ مِنْ قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَإِنَّ أَنْزَلَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ فَكَانَ لِحَرْفِ التَّفْسِيرِ مَوْقِعٌ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ هُوَ كَقَوْلِهِ قَبْلَهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَة: 44] . وَقَوْلُهُ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ افْتِضَاحُ مَكْرِهِمْ وَتَأْيِيسُهُمْ مِمَّا أَمَّلُوهُ، لِأَنَّ حذر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَمْرِ لِعِصْمَتِهِ مِنْ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ دَحْضَ مَا يَتَرَاءَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ بِعَوَائِدِهِمْ إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِهِمْ وَعَدُوا النَّبِيءَ بِأَنَّهُ إِنْ حَكَمَ لَهُمْ بِذَلِكَ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعَتْهُمُ الْيَهُودُ اقْتِدَاءً بِهِمْ، فَأَرَاهُ اللَّهُ أَنَّ مَصْلَحَةَ حُرْمَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَلَوْ بَيْنَ غَيْرِ أَتْبَاعِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ إِيمَانِ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ، لِأَجْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ شَأْنَ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يُقَاوِلَ النَّاسَ عَلَى اتِّبَاعِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَوَهُّمِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا، أَيْ فَإِنْ حَكَمْتَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمْ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَتَوَلَّوْا فَاعْلَمْ، أَيْ فَتِلْكَ أَمَارَةٌ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهِمُ الشَّقَاءَ وَالْعَذَابَ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْكَ فِي تَوَلِّيهِمْ حَرَجٌ. وَأَرَادَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ

[سورة المائدة (5) : آية 50]

بَعْضًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَيْ أَنَّ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ كَافِيَةٌ فِي إِصَابَتِهِمْ وَأَنَّ تَوَلِّيَهُمْ عَنْ حُكْمِكَ أَمَارَةُ خِذْلَانِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَقَدْ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لِيَهُونَ عِنْدَهُ بَقَاؤُهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ إِذْ هُوَ شَنْشَنَةُ أَكْثَرِ النّاس، أَي وهولاء مِنْهُمْ فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ كَونهم فاسقين. [50] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 50] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) فَرَّعَتِ الْفَاءُ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ [الْمَائِدَة: 49] إِلَخِ اسْتِفْهَامًا عَنْ مُرَادِهِمْ مِنْ ذَلِكَ التَّوَلِّي، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ مَا تَقَرَّرَ بَيْنَ الْيَهُودِ مِنْ تَكَايُلِ الدِّمَاءِ الَّذِي سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ يَثْرِبَ، وَهُمْ أَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ، فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَرْضَوْا بِالتَّسَاوِي مَعَ قُرَيْظَةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا وَضَعُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الْعُدُولُ عَنِ الرَّجْمِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ التَّوْرَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْغُونَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ-، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِ مَنْ مَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 47] . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً وَاوُ الْحَالِ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْهُ حُكْمًا. وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ بِهَذَا. وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللَّامُ فِيهِ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِ حُكْماً إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَدْخُولِهَا الْمَحْكُومَ لَهُمْ، وَلَا هِيَ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لَيْسَ مَفْعُولًا لِ حُكْماً فِي الْمَعْنَى. فَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْبَيَانِ وَلَامَ التَّبْيِينِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَمْ إِنْشَاءً، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ،

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 53]

وَجَدْعًا لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «تَبًّا وَسُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي» ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 36] حاشَ لِلَّهِ [يُوسُف: 51] . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْكَلَام. وَمِنْه قَول تَعَالَى عَنْ زُلَيْخَا وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: 23] لِأَنَّ تَهَيُّؤَهَا لَهُ غَرِيبٌ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ يُوسُفَ فَلَا يَدْرِي مَا أَرَادَتْ فَقَالَتْ لَهُ هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: 23] ، إِذَا كَانَ (هيْتَ) اسْمَ فِعْلِ مُضِيٍّ بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا فَيُخْشَى خَفَاؤُهُ فَيُؤْتَى بِاللَّامِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ نَحْوَ حاشَ لِلَّهِ [يُوسُف: 51] ، وَهِيَ حِينَئِذٍ جَدِيرَةٌ بِاسْمِ لَامِ التَّبْيِينِ، كَالدَّاخِلَةِ إِلَى الْمُوَاجَهِ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِمْ: سَقَيًا لَكَ وَرَعْيًا، وَنَحْوِهِمَا، وَفِي قَوْله: هَيْتَ [يُوسُف: 23] اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى تَعَالَ. وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَامَ تَقْوِيَةٍ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ يَصِحُّ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا مَعَ ذِكْرِ مَدْخُولِهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُذْكَرُ مَدْخُولُ اللَّامِ إلّا مَعهَا. [51- 53] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 51 إِلَى 53] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) تَهَيَّأَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَبُولِ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أهل الْكتاب بعد مَا سَمِعُوا مِنِ اضْطِرَابِ الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ وَمُحَاوَلَتِهِمْ تَضْلِيلَ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْلِيبَ الْأُمُور للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى الْآيَةَ، لِأَنَّ الْوَلَايَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْوِفَاقِ وَالْوِئَامِ وَالصِّلَةِ

وَلَيْسَ أُولَئِكَ بِأَهْلٍ لِوَلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْأَخْلَاقِ الدِّينِيَّةِ، وَلِإِضْمَارِهِمُ الْكَيْدَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَجُرِّدَ النَّهْيُ هُنَا عَنِ التَّعْلِيلِ وَالتَّوْجِيهِ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَسَبَبُ النَّهْيِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ النَّهْيُ لَمْ يُقْتَصَرْ عَلَيْهِمْ لِكَيْلَا يَحْسَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ مَأْذُونُونَ فِي مُوَالَاةِ النَّصَارَى، فَلِدَفْعِ ذَلِكَ عُطِفَ النَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ هُنَا، لِأَنَّ السَّبَبَ الدَّاعِيَ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ وَاحِدٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الدِّينِ وَالنُّفْرَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالنَّصَارَى وَإِنْ لَمْ تَجِيءْ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَذَاةٌ مِثْلَ الْيَهُودِ فَيُوشِكُ أَنْ تَجِيءَ مِنْهُمْ إِذَا وُجِدَ دَاعِيهَا. وَفِي هَذَا مَا يُنَبِّهُ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ هُنَا عَنْ مُوَالَاةِ النَّصَارَى وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا سَيَأْتِي وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: 82] . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ قُرْبَهَا، وَقَدْ أَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ مُجَاوِرِينَ تُخُومَ بِلَادِ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ عَزَمَ أَنْ يُوَالِيَ يَهُودِيًّا، وَأَنَّ آخَرَ عَزَمَ أَن يوالي تصرانيا كَمَا سَيَأْتِي، فَيَكُونُ ذِكْرُ النَّصَارَى غَيْرَ إِدْمَاجٍ. وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِوَلَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، أَيْ بِوَلَايَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بَعْضَ أَهْلِ فَرِيقِهِ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَتَقَارَبُ أَفْرَادُهُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ فَيَسْهُلُ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ أَوْلِيَاءُ النَّصَارَى. وَتَنْوِينُ بَعْضٍ تَنْوِينُ عِوَضٍ، أَيْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِهِمْ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ مُوَالَاتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَنْ نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ فَرِيقٍ مِنْهُمَا. وَالْوَلَايَةُ هُنَا وَلَايَةُ الْمَوَدَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ بِتَوْرِيثِ الْيَهُودِيِّ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَالْعَكْسِ أَخْذًا بقول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِتَوْرِيثِ بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ بَعْضٍ وَرَأَيَا الْكُفْرَ مِلَّةً وَاحِدَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُود. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ تَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ

مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ يَصِيرُ وَاحِدًا مِنْهُمْ. جَعَلَ وَلَايَتَهُمْ مُوجِبَةَ كَوْنِ الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ وَلَايَتَهُمْ دُخُولٌ فِي مِلَّتِهِمْ، لِأَنَّ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ هُنَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالْكَوْنِ فِي دِينِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُ إِذَا اعْتَقَدَ عَقِيدَةَ الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ وَلَمْ يُنَافِقْ كَانَ مُسْلِمًا لَا مَحَالَةَ كَانَتِ الْآيَةُ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهَا الْمُفَسِّرُونَ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: إِمَّا بِحَمْلِ الْوَلَايَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ عَلَى الْوَلَايَةِ الْكَامِلَةِ الّتي هِيَ الرّضى بِدِينِهِمْ وَالطَّعْنُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ بِمُعْتَقَدِهِ وَدِينِهِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَإِمَّا بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ فَهُوَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ تَوَلَّاهُمْ بِأَفْعَالِهِ مِنَ الْعَضْدِ وَنَحْوِهِ دُونَ مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا إِخْلَالٍ بِالْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْمَقْتِ وَالْمَذَمَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهِمْ اه. وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَاللَّهُ لَمْ يَرْضَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ بِأَنْ يَتَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْبِسُهُمْ بِالْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُ الْمُسلمين يَوْمئِذٍ ي حَيْرَةٍ إِذْ كَانَ حَوْلَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ فَكَانَ مِنَ الْمُتَعَيَّنِ لِحِفْظِ الْجَامِعَةِ التَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ مَا تَتَطَرَّقُ مِنْهُ الرِّيبَةُ إِلَيْهِمْ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا دُونُ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَمُمَالَأَتِهِمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَلَايَةِ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ مِنَ الرِّبْقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَلَكِنَّهُ ضَلَالٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ مَرَاتِبُ فِي الْقُوَّةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمُوَالَاةِ وَبِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي حَدَثَتْ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ غَرْنَاطَةَ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا فُقَهَاءُ غَرْنَاطَةَ: مُحَمَّدٌ الْمَوَّاقُ، وَمُحَمّد بن الأرزق، وعليّ بن دَاوُود، وَمُحَمَّدُ الْجَعْدَالَةُ، وَمُحَمَّدٌ الْفَخَّارُ، وَعَلِيٌّ الْقَلْصَادِيُّ، وَأَبُو حَامِدِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَرْحُونَةَ، وَمُحَمَّدٌ الْمُشَذَّالِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ الزَّلِيجِيُّ، وَمُحَمَّدٌ الْحَذَّامُ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَلِيلِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فَتْحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَحْمَدُ الْبَقَنِيُّ، عَنْ عِصَابَةٍ

مِنْ قُوَّادِ الأندلس، وفرسانهم لجأوا إِلَى صَاحِبِ قَشْتَالَةَ (بِلَادِ النَّصَارَى) بَعْدَ كَائِنَةِ (اللِّسَانَةِ) - كَذَا- وَاسْتَنْصَرُوا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ جِوَارِهِ وَسَكَنُوا أَرْضَ النَّصَارَى فَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُسَاعَدَتُهُمْ وَلِأَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ حصن أَن يأووهم. فَأَجَابُوا بِأَنَّ رُكُونَهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ وَاسْتِنْصَارَهُمْ بِهِمْ قَدْ دَخَلُوا بِهِ فِي وَعِيدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فَمَنْ أَعَانَهُمْ فَهُوَ مُعِينٌ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، هَذَا مَا دَامُوا مُصِرِّينَ عَلَى فِعْلِهِمْ فَإِنْ تَابُوا وَرَجَعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْخِلَافِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبُولُهُمْ (¬1) . فَاسْتِدْلَالُهُمْ فِي جَوَابِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَقْتِ وَالْمَذَمَّةِ، وَهَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ مُوَالَاةِ الْكُفْرِ. وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْمُوَالَاةِ الْمُخَالَطَةُ وَالْمُلَابَسَةُ فِي التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا. وَدُونَ ذَلِكَ مَا لَيْسَ بِمُوَالَاةٍ أَصْلًا، وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ. وَقَدْ عَامل النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ مُسَاقَاةً عَلَى نَخْلِ خَيْبَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَيْئًا مِنْ تَفْصِيلِ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [28] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَعُمُومُ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ شَمِلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ التَّذْيِيلِيَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ. وَقَوْلُهُ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ تَفْرِيعٌ لِحَالَةٍ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ أُرِيدَ وصفهَا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي حَضْرَتِهِ. وَالْمَرَضُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى النِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [10] . أُطْلِقَ عَلَيْهِ مَرَضٌ لِأَنَّهُ كُفْرٌ مُفْسِدٌ لِلْإِيمَانِ. ¬

(¬1) انْظُر «جَامع المعيار» . [.....]

وَالْمُسَارَعَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] . وَفِي الْمَجْرُورِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، لِأَنَّ الْمُسَارَعَةَ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ، فَالْمَعْنَى: يُسَارِعُونَ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ أَوْ فِي نُصْرَتِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْوَاقِعُ فِي يَقُولُونَ نَخْشى قَوْلُ لِسَانٍ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولَ قَالَ ذَلِكَ، حَسَبَمَا رُوِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْحُوفِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ أَوْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قِتَالِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ. وَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعٍ أَحْلَافًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ وَلِعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَلَمَّا رَأَى عُبَادَةُ مَنْزَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ حِلْفِ يَهُودَ وَوَلَائِهِمْ وَلَا أُوَالِي إِلَّا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ حَاضِرًا فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَبْرَأُ مِنْ حِلْفِهِمْ فَإِنِّي لَا بُدَّ لِي مِنْهُمْ إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، قَوْلًا نَفْسِيًّا، أَيْ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ. فَالدَّائِرَةُ الْمَخْشِيَّةُ هِيَ خَشْيَةُ انْتِقَاضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْمَرَضِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ انْهِزَامُ يَوْمِ أُحُدٍ فَزِعَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَأْخُذُ مِنَ الْيَهُودِ حِلْفًا لِيُعَاضِدُونَا إِنْ أَلَمَّتْ بِنَا قَاصِمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَالَ رَجُلٌ: إِنِّي ذَاهِب إِلَى الْيَهُود فُلَانٍ فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَهَوَّدُ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى فُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ بِالشَّامِ فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَنَصَّرُ مَعَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَيَكُونُ الْمَرَضُ هُنَا ضَعْفَ الْإِيمَانِ وَقِلَّةَ الثِّقَةِ بِنَصْرِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقَدَّمَ نُزُولُهَا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِمَّا أُعِيدَ نُزُولُهَا، وَإِمَّا أُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، وَيُؤَيِّدُ مَحْمَلَنَا فِيهَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ.

وَالدَّائِرَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ دَارَ إِذَا عَكَسَ سَيْرَهُ، فَالدَّائِرَةُ تَغَيُّرُ الْحَالِ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى تَغَيُّرِ الْحَالِ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ، وَدَوَائِرُ الدَّهْرِ: نُوَبُهُ وَدُوَلُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: 98] أَيْ تَبَدُّلَ حَالِكُمْ مِنْ نَصْرٍ إِلَى هَزِيمَةٍ. وَقَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الْفَتْح: 6] إِنَّ إِضَافَةَ (دَائِرَةُ) إِلَى (السَّوْءِ) إِضَافَةُ بَيَانٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ لَمْ تُضَفِ الدَّائِرَةُ إِلَى السَّوْءِ عُرِفَ مِنْهَا مَعْنَاهُ. وَأَصْلُ تَأْنِيثِهَا لِلْمَرَّةِ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى التغيّر مُلَازمَة لصبغة التَّأْنِيثِ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ يَقُولُ بِدُونِ وَاوٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ. أَيْ إِذَا جَاءَ الْفَتْحُ أَوْ أَمْرٌ مِنْ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَوَهَنِ الْيَهُودِ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَيَقُولُ بِالْوَاوِ- وَبِرَفْعِ يَقُولُ عَطْفًا عَلَى فَعَسَى اللَّهُ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِالْوَاوِ- أَيْضًا وَبِنَصْبِ يَقُولُ عَطْفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَهؤُلاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ نِفَاقِهِمْ. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى طَائِفَةٍ مُقَدَّرَةِ الْحُصُولِ يَوْمَ حُصُولِ الْفَتْحِ، وَهِيَ طَائِفَةُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ هؤُلاءِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّعَجُّبِ، وَمَحَلُّ الْعَجَبِ هُوَ قَسَمُهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ هَذَا التَّعَجُّبُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ إِتْيَانِ الْفَتْحِ مَا يَفْتَضِحُ بِهِ أَمْرُهُمْ فَيَعْجَبُونَ مِنْ حَلِفِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَجَهْدُ الْأَيْمَانِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- أَقْوَاهَا وَأَغْلَظُهَا، وَحَقِيقَةُ الْجَهْدِ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ وَمُنْتَهَى الطَّاقَةِ، وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَشَدِّ الْفِعْلِ وَنِهَايَةِ قُوَّتِهِ لِمَا بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْآيَةِ فِي مَعْنَى أوكد الْأَيْمَان وأغظلها، أَيْ أَقْسَمُوا أَقْوَى قَسَمٍ، وَذَلِكَ بِالتَّوْكِيدِ وَالتَّكْرِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُغَلَّظُ بِهِ الْيَمِينُ عُرْفًا. وَلَمْ أَرَ إِطْلَاقَ الْجَهْدِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَانْتَصَبَ جَهْدَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ

[سورة المائدة (5) : آية 54]

بِإِضَافَتِهِ إِلَى «الْأَيْمَانِ» صَارَ مِنْ نَوْعِ الْيَمِينِ فَكَانَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِلنَّوْعِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ النُّورِ جَعَلَهُ مَصْدَرًا بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ وَجَعَلَ التَّقْدِيرَ: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ يُجْهِدُونَ أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ وَجُعِلَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ عِوَضًا عَنْهُ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ اسْتِئْنَافٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ آمَنُوا فَتَكُونُ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ، أَمْ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَكُونُهُ. وحبطت مَعْنَاهُ تَلِفَتْ وَفَسَدَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [217] . [54] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 54] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) تَقَضَّى تَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فِي الدِّينِ، وَتَجْنِيبِهِمْ أَسْبَابَ الضَّعْفِ فِيهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى تَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حِرْصٌ عَلَى صَلَاحِهِمْ فِي مُلَازَمَةِ الدِّينِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنَالُهُ نَفْعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَوِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ فَرِيقٌ أَوْ نَفَرٌ لَمْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَكُونُ لِهَذَا الدِّينِ أَتْبَاعٌ وَأَنْصَارٌ وَإِنْ صَدَّ عَنْهُ مَنْ صَدَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] ، وَقَوْلِهِ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] . فَجُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 55] ، دَعَتْ لِاعْتِرَاضِهَا مُنَاسَبَةُ الْإِنْذَارِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [الْمَائِدَة: 51] . فَتَعْقِيبُهَا بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْيَهُودِ

وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ذَرِيعَةٌ لِلِارْتِدَادِ، لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ فَرِيقٍ عَلَى مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَنْسَلَّ عَنِ الْإِيمَانِ فَرِيقٌ. وَأَنْبَأَ الْمُتَرَدِّدِينَ ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ إِنْ عَزَمُوا عَلَى الِارْتِدَادِ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مَنْ يَرْتَدِدْ- بِدَالَيْنِ- عَلَى فَكِّ الْإِدْغَامِ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مُصْحَفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِدَالٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِالْإِدْغَامِ-، وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ.- وَبِفَتْحٍ عَلَى الدَّالِ- فَتْحَةَ تَخَلُّصٍ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِخِفَّةِ الْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ وَمُصْحَفِ الْكُوفَةِ وَمُصْحَفِ الْبَصْرَةِ. وَالِارْتِدَادُ مُطَاوِعُ الرَّدِّ، وَالرَّدُّ هُوَ الْإِرْجَاعُ إِلَى مَكَانٍ أَوْ حَالَةٍ، قَالَ تَعَالَى: رُدُّوها عَلَيَّ [ص: 33] . وَقَدْ يُطْلَقُ الرَّدُّ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [النَّحْل: 70] . وَقَدْ لُوحِظَ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الِارْتِدَادِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْمُ الِارْتِدَادِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْ لِلْمُرْتَدِّ عَنْهُ اتِّخَاذُ دِينٍ قَبْلَهُ. وَجُمْلَةُ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ إِلَخْ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَدْ حُذِفَ مِنْهَا الْعَائِدُ عَلَى الشَّرْطِ الِاسْمِيِّ، وَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ لَا يَعْدَمُ أَتْبَاعًا بَرَرَةً مُخْلِصِينَ. وَمَعْنَى هَذَا الْوَعْدِ إِظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَتَطْمِينُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْحَقِّ بِأَنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُهُمْ بِالْمُرْتَدِّينَ خَيْرًا مِنْهُمْ. فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِذِكْرِ مَا يَتَضَمَّنُهُ حَتَّى كَانَ لِلشَّرْطِ جَوَابَانِ. وَفِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ حَيَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى مَا سَيَكُونُ مِنِ ارْتِدَادِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ أَصْحَابِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ بِالْيَمَنِ، وَأَصْحَابِ طَلْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْحَنَفِيِّ بِالْيَمَامَةِ. ثُمَّ إِلَى مَا كَانَ بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ ارْتِدَادِ قَبَائِلَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ فَزَارَةَ وغَطَفَانَ وَبَنِي تَمِيمٍ وَكِنْدَةَ وَنَحْوِهِمْ.

قِيلَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَهْلُ ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ مَكَّةَ وَمَسْجِدِ (جُؤَاثَى) فِي الْبَحْرَيْنِ (أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَوْمَئِذٍ) . وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ الْإِسْلَامَ فَأَخْلَفَهُ أَجْيَالًا مُتَأَصِّلَةً فِيهِ قَائِمَةً بِنُصْرَتِهِ. وَقَوْلُهُ: يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، الْإِتْيَانُ هُنَا الْإِيجَادُ، أَيْ يُوجِدُ أَقْوَامًا لِاتِّبَاعِ هَذَا الدِّينِ بِقُلُوبٍ تُحِبُّهُ وَتَجْلِبُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْخَيْرَ وَتَذُودُ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ يَكُونُونَ مِنْ نَفْسِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا إِذَا رَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ خَالِصَةً قُلُوبُهُمْ مِمَّا كَانَ يُخَامِرُهَا مِنَ الْإِعْرَاضِ مِثْلَ مُعْظَمِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَسَادَتِهِمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ مَجْمُوعَهُمْ غَيْرُ مَجْمُوعِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا، فَصَحَّ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ شَمِلَهُ لَفْظُ بِقَوْمٍ، وَتَحَقَّقَ فِيهِمُ الْوَصْفُ وَهُوَ مَحَبَّةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ رَبَّهُمْ وَدِينَهُ، فَإِنَّ الْمَحَبَّتَيْنِ تَتْبَعَانِ تَغَيُّرَ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ لَا تَغَيُّرَ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ عَمْرو بن معد يكرب الَّذِي كَانَ مِنْ أَكْبَرِ عُصَاةِ الرِّدَّةِ أَصْبَحَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ فِي يَوْمِ الْقَادِسِيَّةِ، وَهَكَذَا. وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ بِقَوْمٍ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلُ عَرَبِ الشَّامِ مِنَ الْغَسَاسِنَةِ، وَعَرَبِ الْعِرَاقِ وَنَبَطِهِمْ، وَأَهْلِ فَارِسَ، وَالْقِبْطِ، وَالْبَرْبَرِ، وَفِرِنْجَةِ إِسْبَانِيَّةَ، وَصِقِلِّيَةَ، وَسِرْدَانِيَّةَ، وَتُخُومِ فِرَانْسَا، وَمِثْلُ التُّرْكِ وَالْمَغُولِ، وَالتَّتَارِ، وَالْهِنْدِ، وَالصِّينِ، وَالْإِغْرِيقِ، وَالرُّومِ، مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَوْسِيعِ مَمْلَكَتِهِ بِالْفُتُوحِ وَتَأْيِيدِهِ بِالْعُلُومِ وَنَشْرِ حَضَارَتِهِ بَيْنَ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ، فَكُلُّ أُمَّةٍ أَوْ فَرِيقٍ أَوْ قَوْمٍ تَحَقَّقَ فِيهِمْ وَصْفُ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فَهُمْ مِنَ الْقَوْمِ الْمُنَوَّهِ بِهِمْ أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ وَثَبَتُوا فَأُولَئِكَ أَعْظَمُ شَأْنًا وَأَقْوَى إِيمَانًا فَأَتَاهُمُ الْمُؤَيِّدُونَ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا. وَمَحَبَّةُ اللَّهِ عَبْدَهُ رِضَاهُ عَنْهُ وَتَيْسِيرُ الْخَيْرِ لَهُ، وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ انْفِعَالُ النَّفْسِ نَحْوَ تَعْظِيمِهِ وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ وَالدِّفَاعُ عَنْ دِينِهِ. فَهِيَ صِفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ كَثْرَةِ تَصَوُّرِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ، فَمَنْشَؤُهَا السَّمْعُ

وَالتَّصَوُّرُ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَمَحَبَّةِ اسْتِحْسَانِ الذَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نحبّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ مَا نَسْمَعُ مِنْ فَضَائِلِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى خَيْرِنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةُ بِمِقْدَارِ كَثْرَةِ مُمَارَسَةِ أَقْوَالِهِ وَذِكْرِ شَمَائِلِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ وَهَدْيِهِ، وَكَذَلِكَ نُحِبُّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ لِكَثْرَةِ مَا نَسْمَعُ مِنْ حُبِّهِمُ الرَّسُولَ وَمِنْ بَذْلِهِمْ غَايَةَ النُّصْحِ فِي خَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ نُحِبُّ حَاتِمًا لِمَا نَسْمَعُ مِنْ كَرَمِهِ. وَقَدْ قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعُزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. وَالْأَذِلَّةُ وَالْأَعِزَّةُ وَصْفَانِ مُتَقَابِلَانِ وُصِفَ بِهِمَا الْقَوْمُ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِمَا، فَالْأَذِلَّةُ جَمْعُ الذَّلِيلِ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالذُّلِّ. وَالذُّلُّ- بِضَمِّ الذَّالِ وَبِكَسْرِهَا- الْهَوَانُ وَالطَّاعَةُ، فَهُوَ ضِدُّ الْعِزِّ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمرَان: 123] . وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: الذُّلُّ- بِضَمِّ الذَّالِ- ضِدُّ الْعِزِّ- وَبِكَسْرِ الذَّالِ- ضِدُّ الصُّعُوبَةِ، وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ التَّفْرِقَةِ سَنَدٌ فِي اللُّغَةِ. وَالذَّلِيلُ جَمْعُهُ الْأَذِلَّةُ، وَالصِّفَةُ الذُّلُّ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الْإِسْرَاء: 24] . وَيُطْلَقُ الذُّلُّ عَلَى لِينِ الْجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَمِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ هُنَا الذُّلُّ بِمَعْنَى لِينِ الْجَانِبِ وَتَوْطِئَةِ الْكَنَفِ، وَهُوَ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ وَالسَّعْيُ لِلنَّفْعِ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ بِهِ قَوْلُهُ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلِتَضْمِينِ أَذِلَّةٍ مَعْنَى مُشْفِقِينَ حانين عدّي بعلى دُونَ اللَّامِ، أَوْ لِمُشَاكَلَةِ (عَلَى) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْكافِرِينَ. وَالْأَعِزَّةُ جَمْعُ الْعَزِيزِ فَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْعِزِّ، وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ» ، وَلِأَجْلِ مَا فِي طِبَاعِ الْعَرَبِ مِنَ الْقُوَّةِ صَارَ الْعِزُّ فِي كَلَامِهِمْ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ، فَفِي الْمَثَلِ (مَنْ عَزَّ بَزَّ) . وَقَدْ أَصْبَحَ الْوَصْفَانِ مُتَقَابِلَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوِ الْحَارِثِيُّ: وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ وَإِثْبَاتُ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ لِلْقَوْمِ صِنَاعَةٌ عَرَبِيَّةٌ بَدِيعِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ الطِّبَاقَ، وَبُلَغَاءُ الْعَرَبِ يُغَرِّبُونَ بِهَا، وَهِيَ عَزِيزَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي

الْقُرْآنِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ صِفَاتِهِمْ تُسَيِّرُهَا آرَاؤُهُمُ الْحَصِيفَةُ فَلَيْسُوا مُنْدَفِعِينَ إِلَى فِعْلٍ مَا إِلَّا عَنْ بَصِيرَةٍ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ تَنْبَعِثُ أَخْلَاقُهُ عَنْ سَجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ يَكُونَ لَيِّنًا فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخُلُقِ الْأَقْوَمِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يُلَائِمُ ذَلِكَ الْحَالَ، قَالَ: حَلِيمٌ إِذَا مَا الْحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ ... مَعَ الْحِلْمِ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ مَهِيبُ وَقَالَ تَعَالَى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29] . وَقَوْلُهُ: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الْإِيمَانِ. وَالْجِهَادُ: إِظْهَارُ الْجُهْدِ، أَيِ الطَّاقَةِ فِي دِفَاعِ الْعَدُوِّ، وَنِهَايَةُ الْجُهْدِ التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ عَلَى صِيغَةِ مَصْدَرِ فَاعَلَ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ جُهْدَهُ لِمَنْ يُظْهِرُ لَهُ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ صِفَةٌ رَابِعَةٌ، وَهِيَ عَدَمُ الْخَوْفِ مِنَ الْمَلَامَةِ، أَيْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، كَمَا هُوَ السِّيَاقُ. وَاللَّوْمَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ اللَّوْمِ. وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ، كَاللَّوْمِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَعَمَّتْ زَالَ مِنْهَا معنى الْوَاحِدَة كَمَا يَزُولُ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْجَمْعِ الْمُعَمَّمِ بِدُخُولِ الْ الْجِنْسِيَّةِ لِأَنَّ (لَا) فِي عُمُومِ النَّفْيِ مِثْلُ (الْ) فِي عُمُومِ الْإِثْبَاتِ، أَيْ لَا يَخَافُونَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ اللَّوْمِ مِنْ جَمِيعِ اللَّائِمِينَ إِذِ اللَّوْمُ مِنْهُ: شَدِيدٌ، كَالتَّقْرِيعِ، وَخَفِيفٌ وَاللَّائِمُونَ: مِنْهُمُ اللَّائِمُ الْمُخِيفُ، وَالْحَبِيبُ فَنَفَى عَنْهُمْ خَوْفَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ اللَّوْمِ. فَفِي الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ عُمُومَاتٍ: عُمُومُ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَعُمُومُ الْمَفْعُولِ، وَعُمُومُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْوَصْفُ عَلَامَةٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ حَتَّى خَالَطَ قُلُوبَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَصْرِفُهُمْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَاللَّوْمِ لِأَنَّ الِانْصِيَاعَ لِلْمَلَامِ آيَةُ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَالْعَزِيمَةِ. وَلَمْ يَزَلِ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَلَامِ اللَّائِمِينَ عَلَامَةً عَلَى الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ. وَقَدْ عَدَّ فُقَهَاؤُنَا فِي وَصْفِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي عِبَارَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاحْتِمَالُ التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ كِلَيْهِمَا شَرْعًا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 55 إلى 56]

وَجُمْلَةُ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ تَذْيِيلٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَجْمُوعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَذْكُورَةِ. وواسِعٌ وَصْفٌ بِالسَّعَةِ، أَيْ عَدَمِ نِهَايَةِ التَّعَلُّقِ بِصِفَاتِهِ ذَاتِ التَّعَلُّقِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فِي سُورَةِ آل عمرَان [73] . [55، 56] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 55 إِلَى 56] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) جُمْلَةُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَى آخِرِهَا مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْمَائِدَة: 51] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ [الْمَائِدَة: 52، 53] . وَقَعَتْ جُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [الْمَائِدَة: 54] بَيْنَ الْآيَاتِ مُعْتَرِضَةً، ثُمَّ اتَّصَلَ الْكَلَامُ بِجُمْلَةِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، لِأَنَّ وَلَايَتَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَهُمْ فَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَلَيَّهُ لَا تَكُونُ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَوْلِيَاءَهُ. وَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنْ وَلَايَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِطَرِيقَةِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ بِالْأَمْرِ بِضِدِّهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْوَلَايَةِ وَدَوَامِهَا، فَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ قَصْرًا حَقِيقِيًّا. وَمَعْنَى كَوْنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 71] . وَإِجْرَاءُ صِفَتَيْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ راكِعُونَ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 57 إلى 58]

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ راكِعُونَ مَعْطُوف على الصّفة. وَظَاهِرُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا عَيْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، إِذِ الْمُرَادُ بِ راكِعُونَ مُصَلُّونَ لَا آتُونَ بِالْجُزْءِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّى بِالرُّكُوعِ. فَوُجِّهَ هَذَا الْعَطْفُ: إِمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ النَّوَافِلِ، أَيِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الْمَفْرُوضَةَ وَيَتَقَرَّبُونَ بِالنَّوَافِلِ وَإِمَّا الْمُرَادُ بِهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، أَيِ الَّذِينَ يُدِيمُونَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ. وَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ مُبَادَرَةً بِالتَّنْوِيهِ بِالزَّكَاةِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْقُرْآنِ. وَهُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذْ قَالَ: «لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ» . ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْجُمْلَةُ حَالًا. وَيُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُشُوعُ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ وَهُمْ راكِعُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى، إِذْ تُؤْتَى الزَّكَاةُ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَرَكَّبُوا هَذَا الْمَعْنَى عَلَى خَبَرٍ تَعَدَّدَتْ رِوَايَاتُهُ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَيْسَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِضَعْفِ أَسَانِيدِهَا وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ، أَيِ الرِّوَايَةِ، نَظَرٌ، قَالَ: رَوَى الْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: جَاءَ ابْنُ سَلَامٍ (أَيْ عَبْدُ اللَّهِ) وَنَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ آمَنُوا (أَيْ مِنَ الْيَهُودِ) فشكوا للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ وَمُنَابَذَةَ الْيَهُودِ لَهُمْ فَنَزَلَتْ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَصُرَ بِسَائِلٍ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا، فَقَالَ: نَعَمْ خَاتَمُ فِضَّةٍ أَعْطَانِيهِ ذَلِكَ الْقَائِمُ يُصَلِّي، وَأَشَارَ إِلَى عَلِيٍّ، فكبّر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَتَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِذِكْرِ عِلَّةِ الْجَوَابِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُمُ الْغَالِبُونَ لِأَنَّهُمْ حزب الله. [57، 58] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 57 إِلَى 58] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ

(58) اسْتِئْنَافٌ هُوَ تَأْكِيدٌ لِبَعْضِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: 51] تَحْذِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَظْهَرَ تَمَيُّزُ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنَّصَارَى فِيهَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَدِينَة نَصَارَى فيهزأوا بِالدِّينِ. وَقَدْ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْيَهُودِ إِلَى الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ وَهِيَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً إِلَخْ لِمَا فِي الصِّلَة من الْإِيمَان إِلَى تَعْلِيلِ مُوجِبِ النَّهْيِ. وَالدِّينُ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَرْءُ مِنْ عَقَائِدَ وَأَعْمَالٍ نَاشِئَةٍ عَنِ الْعَقِيدَةِ، فَهُوَ عُنْوَانُ عقل المتديّن وروائد آمَالِهِ وَبَاعِثُ أَعْمَالِهِ، فَالَّذِي يَتَّخِذُ دِينَ امْرِئٍ هُزُؤًا فَقَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمُتَدَيِّنَ هُزُؤًا وَرَمَقَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، إِذْ عَدَّ أَعْظَمَ شَيْءٍ عِنْدَهُ سُخْرِيَةً، فَمَا دُونُ ذَلِكَ أَوْلَى. وَالَّذِي يَرْمُقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ جَدِيرًا بِالْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْمُوَالَاةِ التَّمَاثُلُ فِي التَّفْكِيرِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَالِاسْتِخْفَافَ احْتِقَارٌ، وَالْمَوَدَّةُ تستدعي تَعْظِيم الْوَدُود. وَأُرِيدَ بِالْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ: وَالْكُفَّارَ الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ نِفَاقًا مِثْلَ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّهُمَا اغْتِرَارًا بِظَاهِرِ حَالِهِمَا. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ ضَحِكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ سُجُودِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا: صِيَاحٌ مِثْلُ صِيَاحِ الْعِيرِ، وَتَضَاحَكُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 59 إلى 60]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْكُفَّارَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ وَالْكُفَّارَ- بِالْخَفْضِ- عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيِ احْذَرُوهُ بِامْتِثَالِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ. وَذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ اسْتِنْهَاضٌ لِلْهِمَّةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِلْهَابٌ لِنُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُظْهِرُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ الِامْتِثَالُ. وَلَيْسَ لِلشَّرْطِ مَفْهُومٌ هُنَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنْشَاءٌ وَلِأَنَّ خَبَرَ كَانَ لَقَبٌ لَا مَفْهُومَ لَهُ إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمَوْصُوفُ بِالتَّصْدِيقِ، ذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ التَّقْوَى لَا يَنْفِي الْإِيمَانَ عِنْدَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ فَهِمُوا مَقْصِدَ الْإِسْلَامِ فِي جَامِعَتِهِ حَقَّ الْفَهْمِ. وَإِذَا أُرِيدَ بِالْمُوَالَاةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْمُوَالَاةُ التَّامَّةُ بِمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى، أَيِ الْحَذَرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا نُهُوا عَنْهُ مُعَلَّقٌ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِوَجْهٍ ظَاهِرٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَةَ مُفَسَّرَةٌ أَوْ مُؤَوَّلَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ فِي سَالِفَتِهَا وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [الْمَائِدَة: 51] . وَالنِّدَاءُ إِلَى الصَّلَاةِ هُوَ الْأَذَانُ، وَمَا عُبِّرَ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِالنِّدَاءِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ، فَهِيَ مُؤَيِّدَةٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ وَلَيْسَتْ مُشَرِّعَةً لَهُ، لِأَنَّهُ شُرِعَ بِالسُّنَّةِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ تَحْقِيرٌ لَهُمْ إِذْ لَيْسَ فِي النِّدَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِهْزَاءَ فَجَعْلُهُ مُوجِبًا لِلِاسْتِهْزَاءِ سخافة لعقولهم. [59، 60] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 59 إِلَى 60] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ

(60) هَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَهَا وَبَيْنَ قَوْله: وَإِذا جاؤُكُمْ [الْمَائِدَة: 61] . وَلَا يَتَّضِحُ مَعْنَى الْآيَةِ أَتَمَّ وُضُوحٍ وَيَظْهَرُ الدَّاعِي إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِغَلِيظِ الْقَوْلِ مَعَ أَنَّهُ الْقَائِلُ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاء: 148] وَالْقَائِلُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46] إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ قَدْ ظَلَمُوا بِطَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. فَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَازِرٌ، وَزَيْدٌ، وَخَالِدٌ، وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارٍ، وَأَشْيَعُ، إِلَى النَّبِيءِ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِعِيسَى وَلَا نَعْلَمُ دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ وَمَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. فَخَصَّ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَهْلَ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَنْهَضُ عَلَيْهِمْ حُجَّتُهَا، وَأُرِيدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُوصُ الْيَهُود كَمَا ينبىء بِهِ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ لَهُمْ بِأَنَّ مَا يَنْقِمُونَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دِينِهِمْ إِذَا تَأَمَّلُوا لَا يَجِدُونَ إِلَّا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ على محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَتَعَجُّبِيٌّ. فَالْإِنْكَارُ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالتَّعَجُّبُ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَفْعُولَاتِ تَنْقِمُونَ كُلَّهَا مَحَامِدُ لَا يَحِقُّ نَقْمُهَا، أَيْ لَا تَجِدُونَ شَيْئًا تَنْقِمُونَهُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ حَقِيقًا بِأَنْ يُنْقَمَ. فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُمْ رَضُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَنْقِمُونَهُ عَلَى مَنْ مَاثَلَهُمْ فِيهِ،

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ رَضِيَهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ لَا يُهِمُّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَدَعَا الرَّسُولُ إِلَيْهِ أَهْلَ الْكِتَابِ فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، فَمَا وَجْهُ النَّقْمِ مِنْهُ. وَعُدِّيَ فِعْلُ تَنْقِمُونَ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحِرَفِ (مِنْ) ، وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَقَدْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) . وَأَمَّا عَطْفُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ فَقَرَأَهُ جَمِيعُ الْقُرَّاءِ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) - عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ. وَقَدْ تَحَيَّرَ فِي تَأْوِيلِهَا الْمُفَسِّرُونَ لِاقْتِضَاءِ ظَاهِرِهَا فِسْقَ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَهْلُهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اعْتِرَافِهِمْ بِهِ فَذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُنْقَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَا عَمَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْقَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ نَقْمُهُ عَلَيْهِمْ بِمَحَلٍّ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ الَّذِي هُوَ سِيَاقُ الْكَلَامِ. فَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ مَوْقِعِ هَذَا الْمَعْطُوفِ مَذَاهِبَ شَتَّى فَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مُتَعَلِّقِ آمَنَّا أَيْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَبِفِسْقِ أَكْثَرِكُمْ، أَيْ تَنْقِمُونَ مِنَّا مَجْمُوعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَهَذَا يُفِيتُ مَعْنَى الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْمُؤْمِنِينَ كَوْنَ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ فَاسِقُونَ يَجْعَلُ الْمُخَاطَبِينَ مَعْذُورِينَ فِي نَقْمِهِ فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ نَقْمُهُ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ السِّيَاقَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَلَا يَلْتَئِمُ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ حِينَئِذٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضَّبِّ وَالنُّونِ، فَهَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى، أَيْ مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا وَفِسْقَ أَكْثَرِكُمْ، أَيْ تَنْقِمُونَ تَخَالُفَ حَالَيْنَا، فَهُوَ نَقْمُ حَسَدٍ، وَلِذَلِكَ حَسُنَ مَوْقِعُ الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ. وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَقَدَّمَهُ وَهُوَ يَحْسُنُ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَلِمَةُ مِنَّا لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ لَا يُنْقَمُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ مُصَادَفَةِ الزَّمَانِ. وَقِيلَ: حُذِفَ مَجْرُورٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْإِيمَانَ لِأَنَّكُمْ جَائِرُونَ وَأَكْثَرُكُمْ فَاسِقُونَ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ عَلَى أُسْلُوبٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، إِذْ لَمْ يُعْرَفْ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَذُكِرَ وَجْهَانِ آخَرَانِ غَيْرُ مَرْضِيَّيْنِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهَكُّمًا، أَيْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أَنَّنَا آمَنَّا كَإِيمَانِكُمْ وَصَدَّقْنَا رُسُلَكُمْ وَكُتُبَكُمْ، وَذَلِكَ نَقْمُهُ عَجِيبٌ وَأَنَّنَا آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَذَلِكَ لَا يُهِمُّكُمْ. وَتَنْقِمُونَ مِنَّا أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، أَيْ وَنَحْنُ صَالِحُونَ، أَيْ هَذَا نَقْمُ حَسَدٍ، أَيْ وَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ. فَظَهَرَتْ قَرِينَةُ التَّهَكُّمِ فَصَارَ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارٌ فَتَعَجُّبٌ فَتَهَكُّمٌ، تَوَلَّدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَكُلُّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي مُجَازَاتِهِ أَوْ فِي مَعَانٍ كِنَائِيَّةٍ، وَبِهَذَا يَكْمُلُ الْوَجْهُ الَّذِي قَدَّمَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ اطَّرَدَ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالْعَجَبِ مِنْ أَفَنِ رَأْيِهِمْ مَعَ تَذْكِيرِهِمْ بِمَسَاوِيهِمْ فَقَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ إِلَخْ. وشرّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ أَشَرُّ، وَهُوَ لِلزِّيَادَةِ فِي الصِّفَةِ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالزِّيَادَةُ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي أَصْلِ الْوَصْفِ فَتَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا جَرَى هَذَا تَهَكُّمًا بِالْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: لَا دِينَ شَرٌّ مِنْ دِينِكُمْ، وَهُوَ مِمَّا عُبِّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ تَنْقِمُونَ. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْغِلْظَةِ بِالْغِلْظَةِ كَمَا يُقَالُ: «قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ» . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ ذلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَنْقُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ. وَالتَّقْدِيرِ: وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْمَنْقُومِ أَنْ يَكُونَ شَرًّا بُنِيَ عَلَيْهِ التَّهَكُّمُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ، أَيْ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ شَرًّا. وَالْمَثُوبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ، أَيْ رَجَعَ، فَهِيَ بِوَزْنِ مُفَعْوِلَةٍ، سُمِّيَ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي يَثُوبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا نَالَهُ جَزَاءً عَنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ أَوْ سَعْيٍ سَعَاهُ، وَأَصْلُهَا مَثُوبٌ بِهَا، اعْتَبَرُوا فِيهَا التَّأْنِيثَ عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْعَطِيَّةِ أَوِ الْجَائِزَةِ ثُمَّ حُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَصْلُهَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ وُجُودِيٍّ يُعْطَاهُ الْعَامِلُ وَيَحْمِلُهُ

مَعَهُ، فَلَا تُطْلَقُ عَلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَثُوبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يَبْنُونَ كَلَامَهُمْ عَلَى طِبَاعِهِمْ وَهُمْ أَهْلُ كَرَمٍ لِنَزِيلِهِمْ، فَلَا يُرِيدُونَ بِالْمَثُوبَةِ إِلَّا عَطِيَّةً نَافِعَةً. وَيَصِحُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ وَعَلَى الشَّيْءِ الْحَقِيرِ مِنْ كُلِّ مَا يَثُوبُ بِهِ الْمُعْطَى. فَجَعْلُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَمْيِيزًا لِاسْمِ الزِّيَادَةِ فِي الشَّرِّ تهكّم لأنّ اللّغة وَالْغَضَبَ وَالْمَسْخَ لَيْسَتْ مَثُوبَاتٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا وَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب: وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَقَوْلُهُ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَثُوبَةً. وَفِيهِ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَتَقْدِيرُهُ: مَثُوبَةُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: أَنْتُمْ أَوِ الْيَهُودُ، إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْنِيِّ مِنَ الصِّلَةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَسْلَافًا مِنْهُمْ وَقَعَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ وَالْغَضَبُ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَدَلَائِلُهُ ثَابِتَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَالْمَوْصُولُ كِنَايَةٌ عَنْهُمْ. وَأَمَّا جَعْلُهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حَقِيقَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ فَهُوَ إِذْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَهْلَ تَوْحِيدٍ فَمِنْ ذَلِكَ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ. وَالطَّاغُوتُ: الْأَصْنَامُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [51] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ فِي عَبَدَ وَبِفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الطَّاغُوتَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ عَبَدَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَيْ وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ كَلِمَةِ الطَّاغُوتِ- عَلَى أَنَّ «عَبُدَ» جَمْعُ عَبْدٍ، وَهُوَ جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ قَلِيلٌ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 61 إلى 63]

وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا تَعْيِيرُ الْيَهُودِ الْمُجَادِلِينَ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَسَاوِي أَسْلَافِهِمْ إِبْكَاتًا لَهُمْ عَنِ التَّطَاوُلِ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ شَنْشَنَتَهُمْ أَزْمَانَ قيام الرُّسُل والنبيئين بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَهُمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَجْدَرُ بِكَوْنِهِمْ شَرًّا، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ ذَمِّ الْقَبِيلِ كُلِّهِ. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُوجِبَاتِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ وَالْمَسْخِ قَدِ ارْتَكَبَتْهَا الْأَخْلَافُ، عَلَى أَنَّهُمْ شَتَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُ دِينُهُمْ فَيَحِقُّ شَتْمُهُمْ بِمَا نعتقده فيهم. [61- 63] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 61 إِلَى 63] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (63) عطف وَإِذا جاؤُكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً [الْمَائِدَة: 58] الْآيَةَ، وَخُصَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ اتّخذوا الدّين هزوءا وَلَعِبًا، فَاسْتُكْمِلَ بِذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُمُ الْمُعْلِنِينَ مِنْهُمْ وَالْمُنَافِقِينَ. وَلَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى صِفَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ [الْمَائِدَة: 60] لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى، وَبِذَلِكَ يُسْتَغْنَى عَنْ تَكَلُّفِ وَجْهٍ لِهَذَا الْعَطْفِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يُخَالِطْ قُلُوبَهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَيْ هُمْ دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَذَلِكَ، لِشِدَّةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ اسْتِغْرَاقُ الزَّمَنَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، إِذِ الْحَالَةُ إِذَا تَبَدَّلَتِ اسْتَمَرَّ تَبَدُّلُهَا، فَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلُ الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ بِهِ.

[سورة المائدة (5) : آية 64]

وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرى بَصَرِيَّةٌ، أَيْ أَنَّ حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى يُسارِعُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [النِّسَاء: 41] . وَالْإِثْمُ: الْمَفَاسِدُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، أُرِيدَ بِهِ هُنَا الْكَذِبُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ. وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِنِ اسْتَطَاعُوهُ. وَالسُّحْتُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [الْمَائِدَة: 42] . ولَوْلا تَحْضِيضٌ أُرِيدَ مِنْهُ التَّوْبِيخُ. والرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [الْمَائِدَة: 44] الْآيَةَ. وَاقْتُصِرَ فِي تَوْبِيخِ الرَّبَّانِيِّينَ عَلَى تَرْكِ نَهْيِهِمْ عَنْ قَوْلِ الْإِثْمِ وَأَكْلِ السُّحْتِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْعُدْوَانُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ يَزْجُرُهُمْ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَلْتَجِئُونَ فِي زَجْرِهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي النُّصْرَةِ عَلَى غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، ضَعْفٌ. وَجُمْلَةُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ، ذَمٌّ لِصَنِيعِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ فِي سُكُوتِهِمْ عَنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، ويَصْنَعُونَ بِمَعْنَى يَعْلَمُونَ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هُنَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا لِلتَّفَنُّنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ يَصْنَعُونَ أَدَلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْعَمَلِ مِنْ يَعْمَلُونَ. وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ. [64] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. عَطْفٌ عَلَى جملَة وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا [الْمَائِدَة: 61] ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ انْتَقَلَ إِلَى سُوءِ مُعْتَقَدِهِمْ وَخُبْثِ طَوِيَّتِهِمْ لِيُظْهِرَ فَرْطَ التَّنَافِي بَيْنَ مُعْتَقَدِهِمْ وَمُعْتَقَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ الْيَهُودِ الصُّرَحَاءِ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اسْمِ (الْيَهُودِ) .

وَمَعْنَى يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْوَصْفُ بِالْبُخْلِ فِي الْعَطَاءِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَجْعَلُونَ الْعَطَاءَ مُعَبَّرًا عَنْهُ بِالْيَدِ، وَيَجْعَلُونَ بَسْطَ الْيَدِ اسْتِعَارَةً لِلْبَذْلِ وَالْكَرَمِ، وَيَجْعَلُونَ ضِدَّ الْبَسْطِ اسْتِعَارَةً لِلْبُخْلِ فَيَقُولُونَ: أَمْسَكَ يَدَهُ وَقَبَضَ يَدَهُ، وَلَمْ نَسْمَعْ مِنْهُمْ: غَلَّ يَدَهُ، إِلَّا فِي الْقُرْآنِ كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [29] ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ قَوِيَّةٌ لِأَنَّ مَغْلُولَ الْيَدِ لَا يَسْتَطِيعُ بَسْطَهَا فِي أَقَلِّ الْأَزْمَانِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ اسْتِعَارَةً لِأَشَدِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ. وَالْيَهُودُ أَهْلُ إِيمَانٍ وَدِينٍ فَلَا يَجُوزُ فِي دِينِهِمْ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الذَّمِّ. فَقَوْلُهُمْ هَذَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِالْمُسْلِمِينَ إِلْزَامًا لِهَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ لَهُمْ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ زَمَنِ الْهِجْرَةِ فِي شِدَّةٍ، وَفَرَضَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتِ، وَرُبَّمَا اسْتَعَانَ بِالْيَهُودِ فِي الدِّيَاتِ. وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: 245] فَقَالُوا: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ وَبَخِيلٌ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الْبَقَرَة: 181] . وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ فِي حَالَةِ غَضَبٍ وَيَأْسٍ فَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ نَزَلَتْ بِهِمْ شَدَّةٌ وَأَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَإِمَّا تَلَقَّفُوهَا مِنْهُ عَلَى عَادَةِ جَهْلِ الْعَامَّةِ، وَإِمَّا نُسِبَ قَوْلُ حَبْرِهِمْ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُقَلِّدُونَهُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ. وَقَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، إِذِ الْأَوَّلُ اسْتِخْفَافٌ بِالْإِسْلَامِ وَبِدِينِهِمْ أَيْضًا، إِذْ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى نِيَّةِ إِلْزَامِ الْخَصْمِ، وَالثَّانِي ظَاهِرٌ مَا فِيهِ مِنَ الْعَجْرَفَةِ وَالتَّأَفُّفِ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ، فَقَابَلَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ ذَمٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ. وَجُمْلَةُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. وَهِيَ إِنْشَاءُ سَبٍّ لَهُمْ.

وَأُخِذَ لَهُمْ مِنَ الْغُلِّ الْمَجَازِيِّ مُقَابِلُهُ الْغُلُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي انْتِزَاعِ الدُّعَاءِ مِنْ لَفْظِ سَبَبِهِ أَوْ نَحْوِهِ، كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَسْلَمَ سَلَّمَهَا اللَّهُ، وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا» . وَجُمْلَةُ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا بِأَنَّ اللَّهَ لَعَنَهُمْ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، نَظِيرَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [117، 118] . وَقَوْلُهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ نَقْضٌ لِكَلَامِهِمْ وَإِثْبَاتُ سَعَةِ فَضْلِهِ تَعَالَى. وَبَسْطُ الْيَدَيْنِ تَمْثِيلٌ لِلْعَطَاءِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الْإِنْعَامِ بِأَشْيَاءَ تُعْطَى بِالْيَدَيْنِ. وَذِكْرُ الْيَدِ هُنَا بِطَرِيقَةِ التَّثْنِيَةِ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْجُودِ، وَإِلَّا فَالْيَدُ فِي حَالِ الِاسْتِعَارَةِ لِلْجُودِ أَوْ لِلْبُخْلِ لَا يُقْصَدُ مِنْهَا مُفْرَدٌ وَلَا عَدَدٌ، فَالتَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: 4] ، وَقَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ (أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَمْ يَعْزُهُ هُوَ وَلَا شَارِحُوهُ) : جَادَ الْحِمَى بَسِطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُهُ وَوِهَادُهُ وَجُمْلَةُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ بَيَانٌ لِاسْتِعَارَةِ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. وكَيْفَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْحَالَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَشاءُ زِيَادَةُ إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ تَقْتِيرَهُ الرِّزْقَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ لِمَصْلَحَةٍ، مِثْلَ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] . وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِجُمْلَةِ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ،

وَهَذَا بَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ، أَيْ أَعْمَاهُمُ الْحَسَدُ فَزَادَهُمْ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَفِي هَذَا إِعْدَادٌ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ بِأَنَّ فَرْطَ حَنَقِهِمْ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَهُمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ الْفَظِيعِ. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلُعِنُوا بِما قالُوا عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى بُغْضِهِمُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَلْقَى الْبَغْضَاءَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ، فَهُوَ جَزَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَهُوَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُهِمَّهُ أَمْرُ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ، فَإِنَّ الْبَغْضَاءَ سَجِيَّتُهُمْ حَتَّى بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ وَأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ دَائِمٌ لَهُمْ شَأْنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي عَمِيَ أَصْحَابُهَا عَنْ مُدَاوَاتِهَا بِالتَّخَلُّقِ الْحَسَنِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. تَرْكِيبُ أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَ بِهِ حَالُ التَّهَيُّؤِ لِلْحَرْبِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا وَالْحَزَامَةِ فِي أَمْرِهَا، بِحَالِ مَنْ يُوقِدُ النَّارَ لحَاجَة بهَا فتنطفىء، فَإِنَّهُ شَاعَتِ اسْتِعَارَاتُ مَعَانِي التَّسْعِيرِ وَالْحَمْيِ وَالنَّارِ وَنَحْوِهَا لِلْحَرْبِ، وَمِنْهُ حَمِيَ الْوَطِيسُ، وَفُلَانٌ مِسْعَرُ حَرْبٍ، وَمِحَشُّ حَرْبٍ، فَقَوْلُهُ: أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ كَذَلِكَ، وَلَا نَارَ فِي الْحَقِيقَةِ، إِذْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ لَهُمْ نَارًا تَخْتَصُّ بِالْحَرْبِ تُعَدُّ فِي نِيرَانِ الْعَرَبِ الَّتِي يُوقِدُونَهَا لِأَغْرَاضٍ. وَقَدْ وَهِمَ مَنْ ظَنَّهَا حَقِيقَةً، وَنَبَّهَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى وَهْمِهِ. وَشَبَّهَ حَالَ انْحِلَالِ عَزْمِهِمْ أَوِ انْهِزَامِهِمْ وَسُرْعَةِ ارْتِدَادِهِمْ عَنْهَا، وَإِحْجَامِهِمْ عَنْ مُصَابَحَةِ أَعْدَائِهِمْ، بِحَالِ مَنِ انْطَفَأَتْ نَارُهُ الَّتِي أَوْقَدَهَا.

[سورة المائدة (5) : آية 65]

وَمِنْ بَدَاعَةِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ جَمْعُهُ وَتَفْرِيقُهُ، بِأَنْ يُجْعَلَ تَمْثِيلًا وَاحِدًا لِحَالَةِ مَجْمُوعَةٍ أَوْ تَمْثِيلَيْنِ لِحَالَتَيْنِ، وَقَبُولُ التَّمْثِيلِ لِلتَّفْرِيقِ أَتَمُّ بَلَاغَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَلْتَئِمُ لَهُمْ أَمْرُ حَرْبٍ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ نِكَايَةَ عَدُوٍّ، وَلَوْ حَارَبُوا أَوْ حُورِبُوا انْهَزَمُوا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمرَان: 112] . وَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّ مَعَدًّا كُلَّهَا لمّا حَاربُوا مذبح يَوْمَ (خَزَازَى) ، وَسِيَادَتُهُمْ لِتَغْلِبَ وَقَائِدُهُمْ كُلَيْبٌ، أَمَرَ كُلَيْبٌ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا عَلَى جَبَلِ خَزَازَى لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْجَيْشُ لِكَثْرَتِهِ، وَجَعَلُوا الْعَلَامَةَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا دَهَمَتْهُمْ جُيُوشُ مَذْحِجَ أَوْقَدُوا نَارَيْنِ عَلَى (خَزَازَى) ، فَلَمَّا دَهَمَتْهُمْ مَذْحِجُ أَوْقَدُوا النَّارَ فَتَجَمَّعَتْ مَعَدٌّ كُلُّهَا إِلَى سَاحَةِ الْقِتَالِ وَانْهَزَمَتْ مَذْحِجُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ بِقَوْلِهِ: وَنَحْنُ غَدَاةَ أُوقِدَ فِي خَزَازَى ... رَفَدْنَا فَوْقَ رَفْدِ الرَّافِدِينَا فَتِلْكَ شِعَارٌ خَاصٌّ تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ فَلَا يُعَدُّ عَادَةً فِي جَمِيعِ الْحُرُوبِ. وَحَيْثُ لَا تُعْرَفُ نَارٌ لِلْحَرْبِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَيْسَ الْكَلَامُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا كِنَايَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [الْمَائِدَة: 33] . [65] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 65] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) عَقَّبَ نَهْيَهُمْ وَذَمَّهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ لِلْخَيْرِ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ إِذْ جَاءَ بِحَرْفِ الِامْتِنَاعِ فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: آمَنُوا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «اثْنَانِِِ

[سورة المائدة (5) : آية 66]

يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي (أَي عِنْد مَا بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّديَّةُ) فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ- وَقَوْلِهِ- وَلَأَدْخَلْناهُمْ لَامُ تَأْكِيدٍ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فِي جَوَابِ (لَوْ) إِذَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا مُثْبَتًا لِتَأْكِيدِ تَحْقِيقِ التَّلَازُمِ بَيْنَ شَرْطِ (لَوْ) وَجَوَابِهَا، وَيَكْثُرُ أَنْ يُجَرَّدَ جَوَابُ- لَوْ- عَنِ اللَّامِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [70] . [66] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 66] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. إِقَامَةُ الشَّيْءِ جَعْلُهُ قَائِمًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتُعِيرَتِ الْإِقَامَةُ لِعَدَمِ الْإِضَاعَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُضَاعَ يَكُونُ مُلْقًى، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: شَيْءٌ لَقًى، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي حَالِ قِيَامِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْأَشْيَاءِ، فَلِذَا قَالُوا: قَامَتِ السُّوقُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِقَامَةَ تَشْرِيعِهِمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَوْ أَطَاعُوا أَوَامِرَ اللَّهِ وَعَمِلُوا بِهَا سَلِمُوا مِنْ غَضَبِهِ فَلَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ، فَالْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يُقِيمُوا أَحْكَامَهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَرَفَضُوهُ، وَذَلِكَ أَشَدُّ فِي عَدَمِ إِقَامَتِهِ، وَبِالْقُرْآنِ. وَقد أَو مأت الْآيَةُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ضِيقِ مَعَاشِ الْيَهُودِ هُوَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِإِضَاعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَبِالْقُرْآنِ، أَيْ فَتَحَتَّمَتْ عَلَيْهِمُ النِّقْمَةُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْ أَقَامُوا هَذِهِ الْكُتُبَ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، أَيْ بِالِاعْتِرَافِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ إِشَارَةً إِلَى ضِيقِ مَعَاشِهِمْ بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الْمَائِدَة: 64] كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمَعْنَى لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ تَعْمِيمُ جِهَاتِ الرِّزْقِ، أَيْ لَرُزِقُوا مِنْ كُلِّ سَبِيلٍ، فَأَكَلُوا بِمَعْنَى رُزِقُوا، كَقَوْلِهِ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا [الْفجْر: 19] . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَأْكُولِ مِنْ فَوْقُ ثِمَارُ الشَّجَرِ، وَمِنْ تَحْتُ الْحُبُوبُ وَالْمَقَاثِي، فَيَكُونُ الْأَكْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ لَاسْتَمَرَّ الْخِصْبُ فِيهِمْ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [96] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ إِلَخْ مِثْلُ اللَّامِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ. إِنْصَافٌ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ تِلْكَ الْمَذَامُّ على أَكْثَرهم. والمقصد يُطْلَقُ عَلَى الْمُطِيعِ، أَيْ غَيْرُ مُسْرِفٍ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ، وَاقِفٌ عِنْدَ حُدُودِ كِتَابِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقْتَصِدُ فِي سَرْفِ نَفْسِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ بِالْإِسْرَافِ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، وَلِذَلِكَ يُقَابَلُ بِالِاقْتِصَادِ، أَيِ الْحَذَرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَاخْتِيرَ الْمُقْتَصِدُ لِأَنَّ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانُوا غَيْرَ بَالِغِينَ غَايَةَ الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] . فَالْمُرَادُ هُنَا تَقْسِيمُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَام قِسْمَانِ سيّء الْعَمَلِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَسَابِقٌ فِي الْخَيْرَاتِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُقْتَصِدِ غَيْرُ الْمُفْرِطِينَ فِي بُغْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا آمَنُوا مَعَهُمْ وَلَا آذَوْهُمْ، وَضِدُّهُمْ هُمُ الْمُسِيئُونَ

[سورة المائدة (5) : آية 67]

بِأَعْمَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. فَالْأَوَّلُونَ بُغْضُهُمْ قَلْبِيٌّ، وَالْآخَرُونَ بُغْضُهُمْ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَل السيّء. وَيُطْلَقُ الْمُقْتَصِدُ عَلَى الْمُعْتَدِلِ فِي الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَصْدِ، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ وَعَدَمُ الْإِفْرَاطِ. وَالْمَعْنَى مُقْتَصِدَةٌ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالتَّنَكُّرِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَة: 68] . وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ساءَ فِعْلًا بِمَعْنَى كَانَ سَيِّئًا، وَمَا يَعْمَلُونَ فَاعِلُهُ، كَمَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِمَعْنَى بِئْسَ، فَقَدَّرَ قَوْلًا مَحْذُوفًا لِيَصِحَّ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ، بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِ عَدَمِ صِحَّةِ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَهُوَ مَحَلُّ جِدَالٍ، وَيَكُونُ مَا يَعْمَلُونَ مَخْصُوصًا بِالذَّمِّ، وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى حَمْلَهُ عَلَى مَعْنَى إِنْشَاءِ الذَّمِّ أَبْلَغَ فِي ذَمِّهِمْ، أَيْ يَقُولُ فِيهِمْ ذَلِكَ كل قَائِل. [67] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 67] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) إِنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، فَإِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ السُّورِ نُزُولًا إِنْ لَمْ تَكُنْ آخِرَهَا نُزُولًا، وَقَدْ بَلَّغَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيعَةَ وَجَمِيعَ مَا أنزل إِلَيْهِ إِلَى يَوْمَ نُزُولِهَا، فَلَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْبَعْثَةِ لَقُلْنَا هِيَ تَثْبِيتٌ لِلرَّسُولِ وَتَخْفِيفٌ لِأَعْبَاءِ الْوَحْيِ عَنْهُ، كَمَا أُنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجرات: 94، 95] وَقَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا- إِلَى قَوْلِهِ- وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 5- 10] الْآيَاتِ، فَأَمَّا وَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْ آخِرِ السُّوَرِ نُزُولًا وَقَدْ أَدَّى رَسُولُ اللَّهِ الرِّسَالَةَ وَأَكْمَلَ الدِّينَ فَلَيْسَ فِي الْحَالِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمَرَ بِتَبْلِيغٍ، فَنَحْنُ إِذَنْ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبٍ خَاصٍّ اقْتَضَى إِعَادَةَ تَثْبِيتِ الرَّسُولِ عَلَى تَبْلِيغِ شَيْءٍ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ الَّذِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. فَأَمَّا هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي فَلَا يَنْبَغِي اعْتِبَارُهُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ بَقِيَتْ سِنِينَ غَيْرَ مُلْحَقَةٍ بِسُورَةٍ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ مَقْرُوءَةً بِمُفْرَدِهَا، وَبِذَلِكَ تَنْدَحِضُ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ الَّتِي تَذْكُرُ حَوَادِثَ كُلَّهَا حَصَلَتْ فِي أَزْمَانٍ قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفَخْرُ عَشَرَةَ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ خَبَرَيْنِ آخَرَيْنِ، فَصَارَتِ اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا. وَقَالَ الْفَخْرُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَشَرَةَ الْأَقْوَالِ: إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ فَإِنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ آمَنَهُ مَكْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا كَانَ كَلَامًا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَامْتَنَعَ إِلْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبَيْنِ فَتَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا اه. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ، بَلِ اقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَلَعَلَّ الَّذِي حَدَّثَتْ بِهِ عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ فَلَمَّا حَكَاهُ الرَّاوِي حَكَّاهُ بِاللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَتَعَيَّنَ التَّعْوِيلُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَضِيَّةً مِمَّا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَهِيَ عَلَى وَتِيرَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] وَقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْمَائِدَة: 49] فَكَمَا كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ فِي وَصْفِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ تُلِيَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوَصْفِ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْفَرِيقَانِ مُتَظَاهِرَانِ على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرِيقٌ مُجَاهِرٌ، وَفَرِيقٌ مُتَسَتِّرٌ، فَعَادَ الْخَطَّابُ لِلرَّسُولِ ثَانِيَةً

بِتَثْبِيتِ قَلْبِهِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ بِأَنْ يَدُومَ عَلَى تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ وَيَجْهَدَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكْتَرِثَ بِالطَّاعِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْكُفَّارِ، إِذْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي آخِرِ مدّة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ دَائِمٌ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَهُمُ الَّذِينَ هَوَّنَ أَمْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] فَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْمَأْمُورُ بِتَبْلِيغِهِ بَعْضُ خَاصٍّ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ خلق النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأُمُورِ وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ (كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ سَلَّمَ الْيَهُودُ عَلَيْهِ فَقَالُوا: السَّامُّ عَلَيْكُمْ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَهُمْ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ وَاللَّعْنَةُ) ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 59، 60] الْآيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُجَاهَرَةً لَهُمْ بِسُوءٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ هَذَا لَا رِفْقَ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِهِ مِنَ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةً لِمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَتَدْخُلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاء: 148] . وَلِذَلِكَ أُعِيدَ افْتِتَاحُ الْخِطَابِ لَهُ بِوَصْفِ الرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِمُنْتَهَى شَرَفِهِ، إِذْ كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، وَالْمُذَكِّرُ لَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ سِوَى مَنْ أَرْسَلَهُ. وَلِهَذَا الْوَصْفِ فِي هَذَا الْخِطَابِ الثَّانِي مَوْقِعٌ زَائِدٌ عَلَى مَوْقِعِهِ فِي الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْكَلَامِ الْآتِي بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [الْمَائِدَة: 99] . فَكَمَا ثُبِّتَ جَنَانُهُ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِمَكَائِدِ أَعْدَائِهِ، حُذِّرَ بِالْخِطَابِ الثَّانِي مِنْ مُلَايَنَتِهِمْ فِي إِبْلَاغِهِمْ قَوَارِعَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ خَشْيَتِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ إِذَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِهِمْ، إِذْ لَعَلَّهُ يَزِيدُهُمْ عِنَادًا وَكُفْرًا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْمَائِدَة: 68] .

ثُمَّ عُقِّبَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَثْبِيتِ جَنَانِهِ بِأَنْ لَا يَهْتَمَّ بِكَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَأَنَّ كَيْدَهُمْ مَصْرُوفٌ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. فَحَصَلَ بِآخِرِ هَذَا الْخِطَابِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي الْخِطَابِ الْأَوَّلِ الَّتِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] فَإِنَّهُمْ هُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ وَالَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. فَالتَّبْلِيغُ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَبْلِيغُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي تَقْرِيعِ أَهْلِ الْكتاب. وَمَا صدق مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ الْآيُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى هَذِهِ الْآيَة. وَمَا صدق مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالتَّبْلِيغُ جَعْلُ الشَّيْءِ بَالِغًا. وَالْبُلُوغُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولُهُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي حِكَايَةِ الرِّسَالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِهَا إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلَغَ الْخَبَرُ وَبَلَغَتِ الْحَاجَةُ. وَالْأَمْرُ بِالتَّبْلِيغِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الشَّرِيعَةِ مَقْصُودًا بِهِ عَمَلُ الْأُمَّةِ بِهَا (سَوَاءً كَانَ النَّازِلُ مُتَعَلِّقًا بِعَمَلٍ أَمْ كَانَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَالَّذِي يَنْزِلُ بِبَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ فَضَائِلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ فِي الْقَصَصِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ لِفَوَائِدَ يَتَعَيَّنُ الْعِلْمُ بِهَا لِحُصُولِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهَا، عَلَى أَنَّ لِلْقُرْآنِ خُصُوصِيَّةً أُخْرَى وَهِيَ مَا لَهُ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَأَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ، فَالْحَاجَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ مِنْهُ ثَابِتَةٌ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَحْوِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا بِهِ مِنْ مَوَاعِظَ وَعِبَرٍ) ، كَانَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِبْلَاغَ مَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ يُرَادُ عِلْمُهُ بِهِ وَهُوَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا حَذَفَ مُتَعَلِّقَ بَلِّغْ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ جَمِيعَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا يُدْرَى وَقْتُ ظُهُورِ حَاجَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ إِلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ يَحْتَاجُهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ.

وَالتَّبْلِيغُ يَحْصُلُ بِمَا يَكْفُلُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ قَبْلَهُ، لِذَلِكَ كَانَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَيَأْمُرُ بِحِفْظِهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَبِكِتَابَتِهَا، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِقِرَاءَتِهِ وَبِالِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَرْسَلَ مُصْعَبًا بْنَ عُمَيْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ لِيُعَلِّمَ الْأَنْصَارَ الْقُرْآنَ. وَكَانَ أَيْضًا يَأْمُرُ السَّامِعَ مَقَالَتَهُ بِإِبْلَاغِهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، مِمَّا يَكْفُلُ بِبُلُوغِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا لِلْأَجْيَالِ مِنَ الْأُمَّةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ يُعْطُونَ النَّاسَ الْعَطَاءَ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَأَكْمَلَ تِلْكَ الْمَزِيَّةَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِانْتِسَاخِ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ وَإِرْسَالِهَا إِلَى أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ عَيَّنَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ الِانْقِطَاعَ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ. وَالَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَتَبُّعِ سِيرَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ بِإِبْلَاغِ الْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ لَيْلًا أَخْبَرَ بِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] . وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ «فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ أُمِّ سَلمَة، فَقَالَ: يأمّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَتْ: أَفَلَا أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ، قَالَ: «إِذًا يَحْطِمَكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ. حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِيمَاءٌ عَظِيمٌ إِلَى تشريف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرْتَبَةِ الْوَسَاطَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ، إِذْ جَعَلَ الْإِنْزَالَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْكُمْ أَوْ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَقَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] .

وَفِي تَعْلِيقِ الْإِنْزَالِ بِأَنَّهُ مِنَ الرَّبِّ تَشْرِيفٌ لِلْمُنَزَّلِ. وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الرَّبِّ هُنَا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ رَبُّهُ مِنْ مَعْنَى كَرَامَتِهِ، وَمِنْ مَعْنَى أَدَاءِ مَا أَرَادَ إِبْلَاغَهُ، كَمَا يَنْبَغِي مِنَ التَّعْجِيلِ وَالْإِشَاعَةِ وَالْحَثِّ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ. وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كُلِّهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَبْقَى شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَمْ يُبَلِّغْهُ. لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ لَمْ يُبَلِّغْهُ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقَعْ تَبْلِيغُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمْنَا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِهَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ قَطْعَ تَخَرُّصِ مَنْ قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدِ اسْتَبْقَى شَيْئًا لَمْ يُبَلِّغْهُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ خَصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِإِبْلَاغِ شَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ لَمْ يُبَلِّغْهُ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَهِيَ أَقْطَعُ آيَةٍ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي جَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَنَسَخَهُ عُثْمَانُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اخْتَصَّ بِكَثِيرٍ من الْقُرْآن عليّا بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ أَوْرَثَهُ أَبْنَاءَهُ وَأَنَّهُ يَبْلُغُ وِقْرَ بَعِيرٍ، وَأَنَّهُ الْيَوْمَ مُخْتَزَنٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي يُلَقِّبُهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ بِالْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ وَبِالْوَصِيِّ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَوْهَامِ أَلَمَّتْ بِأَنْفُسِ بَعْضِ الْمُتَشَيِّعِينَ إِلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ، فَدَعَا ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا جُحَيْفَةَ سَأَلَ عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ، فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَحَدِيثُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ الّذي سَنذكرُهُ ينبىء بِأَنَّ هَذَا الْهَاجِسَ قَدْ ظَهَرَ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِي زَمَانِهَا. وَقَدْ يَخُصُّ الرَّسُولُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَيَانِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ دَعَتْ إِلَى تَخْصِيصِهِ، كَمَا كَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِبَيَانِ الْعَقْلِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ قَاضِيًا بِالْيَمَنِ، وَكَمَا كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ

كِتَابَ نِصَابِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ بَعَثَهُ لِذَلِكَ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالتَّبْلِيغِ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا أُنْزِلَ وَلَيْسَ عَيْنَ مَا أُنْزِلَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مِنْهُ تَخْصِيصَهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ قَدْ يُخْبِرُ بِهِ مَنْ تَدْعُو الْحَاجة إِلَى علمه بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتَهُ بِأَن يعيها ويؤيّديها كَمَا سَمِعَهَا، وَأَمَرَ أَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّبْلِيغِ فَأَمَّا أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ خَاصًّا بِأَحَدٍ وَأَنْ يَكْتُمَهُ الْمُودَعُ عِنْدَهُ عَنِ النَّاسِ فَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدًا بِعِلْمٍ لَيْسَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى أُمُورِ التَّشْرِيعِ، مِنْ سِرٍّ يُلْقِيهِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، كَمَا أَسَرَّ إِلَى فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِأَنَّهُ يَمُوتُ يَوْمَئِذٍ وَبِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لَحَاقًا بِهِ. وَأَسَرَّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ. وَأَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ خَبَرَ فِتْنَةِ الْخَارِجِينَ عَلَى عُثْمَانَ، كَمَا حَدَّثَ حُذَيْفَةُ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وِعَائَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ مِنِّي هَذَا الْبُلْعُومُ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي هَمَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابَتِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْرِيعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَاللَّهُ يَقُولُ لَهُ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ لِمَسْرُوقٍ: «ثَلَاثٌ مَنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ جَاءَ الشَّرْطُ بِإِنِ الَّتِي شَأْنُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّبْلِيغِ غَيْرُ مظنون بمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا فُرِضَ هَذَا الشَّرْطُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، لِيَسْتَفِيقَ الَّذِينَ يَرْجُونَ أَنْ يَسْكُتَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ

قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِفَضَائِحِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلِيُبَكِّتَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيَفْتَرُونَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ قُرْآنًا كَثِيرًا لَمْ يُبَلِّغْهُ رَسُولُ اللَّهِ الْأُمَّةَ. وَمَعْنَى لَمْ تَفْعَلْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، وَهُوَ تَبْلِيغُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَهَذَا حَذْفٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، فَيَقُولُونَ: فَإِنْ فَعَلْتَ، أَوْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [يُونُس: 106] أَيْ إِنْ دَعَوْتَ مَا لَا يَنْفَعُكَ، يَحْذِفُونَ مَفْعُولَ فَعَلْتَ وَلَمْ تَفْعَلْ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [24] . وَهَذَا مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَمْ يتعرّض لَهُ أئمّة الِاسْتِعْمَالِ. وَمَعْنَى تَرَتُّبِ هَذَا الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَتَرَكْتَ بَعْضَهُ كُنْتَ لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ كَتْمَ الْبَعْضِ مِثْلُ كِتْمَانِ الْجَمِيعِ فِي الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ التَّبْلِيغِ، وَلِأَنَّ الْمَكْتُومَ لَا يُدْرَى أَنْ يَكُونَ فِي كِتْمَانِهِ ذَهَابُ بَعْضِ فَوَائِدِ مَا وَقَعَ تَبْلِيغُهُ، وَقَدْ ظَهَرَ التَّغَايُرُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ بِمَا يَدْفَعُ الِاحْتِيَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ بِنَاءِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ، إِذْ تَقْدِيرُ الشَّرْطِ: إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ، وَالْجَزَاءُ، لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسَالَةَ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ بِنَاءِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِمَّا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ. ثُمَّ يُعْلَمُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ تِلْكَ مَنْزِلَةٌ لَا تَلِيقُ بِالرُّسُلِ، فَيُنْتِجُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِمَّا أُرْسِلَ بِهِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ افْتِتَاحِ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ، وَفَائِدَةِ اخْتِتَامِهِ بِقَوْلِهِ: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ رِسالاتِهِ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ رِسالَتَهُ بِالْإِفْرَادِ. وَالْمَقْصُودُ الْجِنْسُ فَهُوَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَاءٌ مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ. وَلَا صِحَّةَ لِقَوْلِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِيَ اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنَ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، وَأَنَّ نَحْوَ: لَا رِجَالَ فِي الدَّارِ، صَادِقٌ بِمَا إِذَا كَانَ فِيهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافٍ نَحْوَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمْعِ أَصْرَحُ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ الْمُضَافِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ

الْمُضَافِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ وَالْعَهْدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ أَنَصُّ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ بَيَّنَتِ الْمُرَادَ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ افْتُتِحَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ وَالسَّامِعِينَ يَتَرَقَّبُونَ عَقِبَ الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِ كُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، أَنْ يُلَاقِيَ عَنَتًا وَتَكَالُبًا عَلَيْهِ مِنْ أَعْدَائِهِ فَافْتَتَحَ تَطْمِينَهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مَا عَلَيْكَ. فَأَمَّا مَا عَلَيْنَا فَاللَّهُ يَعْصِمُكَ، فَمَوْقِعُ تَقْدِيمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا مُغْنٍ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَمَّا. عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَاهِرِ قَدْ ذَكَرَ فِي أَبْوَابِ التَّقْدِيمِ مِنْ «دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ» أَنَّ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ وَيَكْثُرُ الْوَعْدُ وَالضَّمَانُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَشُكَّ مَنْ يُوعَدُ فِي تَمَامِ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَحْوَجِ النَّاسِ إِلَى التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنَا أَكْفِيكَ، أَنَا أَقُومُ بِهَذَا الْأَمر انْتهى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يُوسُف: 72] . فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. وَالْعِصْمَةُ هُنَا الْحِفْظُ وَالْوِقَايَةُ مِنْ كَيْدِ أَعْدَائِهِ. والنَّاسِ فِي الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ بِمَعْنَى الْوِقَايَةِ تُؤْذِنُ بِخَوْفٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَخَافُ عَلَيْهِ أَعْدَاءَهُ لَا أَحِبَّاءَهُ، وَلَيْسَ فِي الْمُؤْمِنِينَ عَدُوٌّ لِرَسُولِهِ. فَالْمُرَادُ الْعِصْمَةُ مِنِ اغْتِيَالِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي كَانَ يهمّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ النَّبِيءُ لِلنَّاسِ، إِذْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، لَمَّا عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلَ فِي أَوَّلِ بَعْثَتِهِ، يَقُولُ لَهُمْ «أَنْ تَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ- أَوْ- حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي» . فَأَمَّا مَا دُونُ ذَلِكَ مِنْ أَذًى وَإِضْرَارٍ فَذَلِكَ مِمَّا نَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ مِمَّنْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ: فَقَدْ رَمَاهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْهُ وَقَدْ شُجَّ وَجْهُهُ. وَهَذِهِ الْعِصْمَةُ الَّتِي وُعِدَ بِهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 137] . وَفِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ

[سورة المائدة (5) : آية 68]

مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُحْرَسُ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ حَرَسَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةٍ وَقَالَ لَهُمْ: «الْحَقُوا بِمَلَاحِقِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَنِي» ، وَأَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ سَنَةَ سِتٍّ لِلْأَعْرَابِيِّ غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ الَّذِي وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ نَائِمًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ وَوَجَدَ سَيْفَهُ مُعَلَّقًا فَاخْتَرَطَهُ وَقَالَ لِلرَّسُولِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي، فَقَالَ: اللَّهُ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِ الْأَعْرَابِيِّ. وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالَّذِينَ جَعَلُوا بَعْضَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ خَلَطُوا. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَثْبِيتٌ لِلْوَعْدِ وَإِدَامَةٌ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ مَعَ تَغَيُّرِ صُنُوفِ الْأَعْدَاءِ. ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بالنّاس كفّارهم، وليؤمي إِلَى أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ هِدَايَتِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا تَسْدِيدُ أَعْمَالِهِمْ وَإِتْمَامُ مُرَادِهِمْ، فَهُوَ وَعْدٌ لِرَسُولِهِ بِأَنَّ أَعْدَاءَهُ لَا يَزَالُونَ مَخْذُولِينَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لِكَيْدِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لُطْفًا مِنْهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْهِدَايَةَ فِي الدِّينِ لِأَنَّ السِّيَاقَ غَيْرُ صَالح لَهُ. [68] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 68] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) هَذَا الَّذِي أُمِرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَى تَبْلِيغِهِ بِقَوْلِهِ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحَبُّ تَأَلُّفَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَرُبَّمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَابِهَهُمْ بِمِثْلِ هَذَا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَقُولُ الْحَقَّ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ بَيَانًا لِجُمْلَةِ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ

مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: 67] ، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: 67] . وَالْمَقْصُودُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فَأَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَبِالْإِيمَانِ بِالْإِنْجِيلِ إِلَى زَمَنِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَبِإِقَامَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْمُهَيْمِنِ عَلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ بِشَارَاتِ الْإِنْجِيلِ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ عِيسَى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. وَمَعْنَى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ نَفْيُ أَنْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّدَيُّنِ وَالتَّقْوَى لِأَنَّ خَوْضَ الرَّسُولِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْهُدَى وَالتَّقْوَى، فَوَقَعَ هُنَا حَذْفُ صِفَةِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ عَلَى نَحْوِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، أَوْ غَيْرِ مَعِيبَةٍ. وَالشَّيْءُ اسْمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَهُوَ اسْمٌ مُتَوَغِّلٌ فِي التَّنْكِيرِ صَادِقٌ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَيُبَيِّنُهُ السِّيَاقُ أَوِ الْقَرَائِنُ. فَالْمُرَادُ هُنَا شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْكِتَابِ، وَلَمَّا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتُفِيدَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَقَلُّ حَظٍّ مِنَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى مَا دَامُوا لَمْ يَبْلُغُوا الْغَايَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَهِيَ أَنْ يُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِثْلُ هَذَا النَّفْيِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاعْتِدَادِ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ، قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ أَيْ لَمْ أُعْطَ شَيْئًا كَافِيًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلَمْ أُمْنَعْ. وَيَقُولُونَ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، مَعَ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا مَحَالَةَ وَمُشَارٌ إِلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» . وَقَدْ شَاكَلَ هَذَا النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى الِاعْتِدَادِ النَّفْيَ الْمُتَقَدِّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، أَيْ فَمَا بَلَّغْتَ تَبْلِيغًا مُعْتَدًّا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِقَامَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عِنْدَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِالِاعْتِرَافِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التبشير بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَوْمَأَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى تَوَغُّلِ الْيَهُودِ فِي مُجَانَبَةِ الْهُدَى لِأَنَّهُمْ قَدْ عَطَّلُوا إِقَامَةَ التَّوْرَاةِ مُنْذُ عُصُورٍ قَبْلَ عِيسَى، وَعَطَّلُوا إِقَامَةَ الْإِنْجِيلِ إِذْ أَنْكَرُوهُ، وَأَنْكَرُوا مَنْ جَاءَ بِهِ، ثُمَّ أَنْكَرُوا نبوءة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِيمُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: 66] إِلَخْ. وَقَدْ فَنَّدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَزَاعِمَ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مَا تَمَسَّكُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِغَيْرِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ جَاءُوا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَلَسْتَ تُقِرُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ حَقٌّ، قَالَ: «بَلَى» ، قَالُوا: فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُؤْمِنُ بِمَا عَدَاهَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَلَيْسَ لَهُ سَنَدٌ قَوِيٌّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النّصارى للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ تَمَسُّكِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ مِثْلَ قَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ، كَمَا فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَكَمَا فِي مُجَادَلَةِ بَعْضِ وَفْدِ نَجْرَانَ. وَقَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِبَاعِثِ الْحَسَدِ عَلَى مَجِيءِ هَذَا الدِّينِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِدِينِهِمْ، وَإِمَّا بِمَا فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَارِعِهِمْ وَتَفْنِيدِ مَزَاعِمِهِمْ. وَلَمْ يَزَلِ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ إِذَا ذَكَرُوا الْإِسْلَامَ حَتَّى فِي الْمَبَاحِثِ التَّارِيخِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يَحْتَدُّونَ عَلَى مَدَنِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَقْلِبُونَ الْحَقَائِقَ وَيَتَمَيَّزُونَ غَيْظًا وَمُكَابَرَةً حَتَّى تَرَى الْعَالِمَ الْمَشْهُودَ لَهُ مِنْهُمْ يَتَصَاغَرُ وَيَتَسَفَّلُ إِلَى دركات التبال وَالتَّجَاهُلِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنِ اتَّخَذَ الْإِنْصَافَ شِعَارًا، وَتَبَاعَدَ عَنْ أَنْ يُرْمَى بِسُوءِ الْفَهْمِ تَجَنُّبًا وَحِذَارًا.

[سورة المائدة (5) : آية 69]

وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَا يَعْتَرِضُهُمْ مِنَ الشَّجَا فِي حُلُوقِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ طُغْياناً لِأَنَّ الطُّغْيَانَ هُوَ الْغُلُوُّ فِي الظُّلْمِ وَاقْتِحَامُ الْمُكَابَرَةِ مَعَ عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِلَوْمِ اللَّائِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ. وَسَلَّى الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَالْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ لِتَتِمَّ التَّسْلِيَةُ، لِأَنَّ رَحْمَةَ الرَّسُولِ بِالْخَلْقِ تُحْزِنُهُ مِمَّا بَلَغَ مِنْهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ، فَنَبَّهَتْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا بَلَغُوا إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ الْحَسَدِ لِلرَّسُولِ فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يَحْزَنَ لَهُمْ. وَالْأَسَى الْحُزْنُ وَالْأَسَفُ، وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ. وَذُكِرَ لَفْظُ الْقَوْمِ وَأُتْبِعَ بِوَصْفِ الْكافِرِينَ لِيَدُلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَافِرِينَ هُمُ الَّذِينَ صَارَ الْكُفْرُ لَهُمْ سَجِيَّةً وَصِفَةً تَتَقَوَّمُ بِهَا قَوْمِيَّتُهُمْ. وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَوْمَ وَقَالَ: (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْكَافِرِينَ) لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ لَهُمْ فَلَا يُشْعِرُ بِالتَّوْصِيفِ، فَكَانَ صَادِقًا بِمَنْ كَانَ الْكُفْرُ غَيْرَ رَاسِخٍ فِيهِ بَلْ هُوَ فِي حَيْرَةٍ وَتَرَدُّدٍ، فَذَلِكَ مرجّو إيمَانه. [69] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ دَقِيقٌ، وَمَعْنَاهَا أَدَقُّ، وَإِعْرَابُهَا تَابِعٌ لِدِقَّةِ الْأَمْرَيْنِ. فَمَوْقِعُهَا أَدَقُّ مِنْ مَوْقِعِ نَظِيرَتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِي نَظِيرَتِهَا بِمُغْنٍ عَنْ بَيَانِ مَا يَخْتَصُّ بِمَوْقِعِ هَذِهِ. وَمَعْنَاهَا يَزِيدُ دِقَّةً عَلَى مَعْنَى نَظِيرَتِهَا تَبَعًا لِدِقَّةِ مَوْقِعِ هَذِهِ. وَإِعْرَابُهَا يَتَعَقَّدُ إِشْكَالُهُ بِوُقُوع قَوْله: وَالصَّابِئُونَ بِحَالَةِ رَفْعٍ بِالْوَاوِ فِي حِينِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ.

فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَخُصَّهَا مِنَ الْبَيَانِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَنَا مِثْلُهُ فِي نَظِيرَتِهَا وَلِنَبْدَأَ بِمَوْقِعِهَا فَإِنَّهُ مَعْقَدُ مَعْنَاهَا: فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: 68] فَيَسْأَلُ سَائِلٌ عَنْ حَالِ مَنِ انْقَرَضُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ: هَلْ هُمْ عَلَى شَيْءٍ أَوْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهَلْ نَفَعَهُمُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ أَيَّامَئِذٍ فَوَقَعَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ جَوَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ المقدّر. وَالْمرَاد بالّذين آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّه وبمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيِ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنِ الْإِخْبَارِ الَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابُونَ وَالنَّصَارَى، وَأَمَّا التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فَلِاهْتِمَامٍ بِهِمْ سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْمَائِدَة: 65] إِلَخْ، فَبَعْدَ أَنْ أُتْبِعَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِمَا أُتْبِعَتْ بِهِ مِنَ الْجُمَلِ عَادَ الْكَلَامُ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدًا لِلْوَعْدِ، وَوَصْلًا لِرَبْطِ الْكَلَامِ، وَلِيُلْحَقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الصَّابِئُونَ، وَلِيَظْهَرَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. فَالتَّصْدِيرُ بِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي طَالِعَةِ الْمَعْدُودِينَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمِثَالُ الصَّالِحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الْغُرُورِ وَعَنْ تَسَرُّبِ مَسَارِبِ الشِّرْكِ إِلَى عَقَائِدِهِمْ (كَمَا بَشَّرَ بذلك النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ» ) فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمُ الْأَوْحَدُونَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَوَّلِينَ فِي هَذَا الْفَضْلِ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ إِنْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِعِرِوِّ الْمَقَامِ عَنْ إِرَادَةِ رَدِّ إِنْكَارٍ أَوْ تَرَدُّدٍ فِي الْحُكْمِ أَوْ تَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ.

وَقَدْ تَحَيَّرَ النَّاظِرُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَلِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَذَهَبَ النَّاظِرُونَ فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ: فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا مَنْ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِمَنْ آمَنَ مَنْ دَامَ عَلَى إِيمَانِهِ وَلَمْ يَرْتَدَّ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ عِنْدِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أَصْحَابُ الْوَصْفِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِيمَانِ وَاشْتَهَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَعْدٌ بِجَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ وَالْمُتَظَاهِرَ بِالْإِيمَانِ نِفَاقًا. فَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرُ (إِنَّ) مَحْذُوفًا. وَحَذْفُ خَبَرِ (إِنَّ) وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ غَيْرُ قَلِيلٍ، كَمَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» . وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ من قَوْله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «1» إِلَخْ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هادُوا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَيُجْعَلُ الَّذِينَ هادُوا مُبْتَدَأً، وَلِذَلِكَ حَقَّ رَفْعُ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَالصَّابِئُونَ. وَهَذَا أَوْلَى من جعل وَالصَّابِئُونَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ وَتَقْدِيرِ خَبَرٍ لَهُ، أَيْ وَالصَّابُونَ كَذَلِكَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي الْحُكْمِ وَتَشْتِيتِهَا مَعَ إِمْكَان التفصّي عَنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَتَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَالرَّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفًا، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُم، وَجُمْلَة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «2» خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَاقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] الْآيَةَ، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِيهِ يُعَيِّنُ كَوْنَهُ خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ خَبَرُ- إِنَّ- عَلَى عَكْسِ قَوْلِ ضَابِي بْنِ الْحَارِثِ: وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّيَ وَقَبَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: «لَغَرِيبُ» عَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَقْدِيرُ خَبَرٍ عَنْ قَبَّارٍ، فَلَا يُنَظَّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: وَالصَّابِئُونَ.

_ (1، 2) فِي المطبوعة [التونسية] فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْمُوَافقَة لـ[الْبَقَرَة: 62] والمثبت هُوَ الْمَقْصُود وَالله أعلم.

وَمَعْنَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ آمَنَ وَدَامَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا أَدْيَانَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ خَلَطُوا أُمُورَ الشِّرْكِ بِأَدْيَانِهِمْ وَعَبَدُوا الْآلِهَةَ كَمَا تَقُولُ التَّوْرَاةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ عُزَيْرًا ابْنًا لِلَّهِ، وَإِنَّ النَّصَارَى أَلَّهُوا عِيسَى وَعَبَدُوهُ، وَالصَّابِئَةُ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى دِينٍ لَهُ كِتَابٌ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ دِينِهِمْ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] . ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ أَحْدَثُوا فِي عَقِيدَتِهِمْ مِنَ الْغُرُورِ فِي نَجَاتِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] وَقَوْلِهِمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] ، وَقَوْلِ النَّصَارَى: إِنَّ عِيسَى قَدْ كَفَّرَ خَطَايَا الْبَشَرِ بِمَا تَحَمَّلَهُ مِنْ عَذَابِ الطَّعْنِ وَالْإِهَانَةِ وَالصَّلْبِ وَالْقَتْلِ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا الْجَزَاءَ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قُدِّرَ الْبَعْثُ لِتَحْقِيقِهَا. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جعلُوا قَوْله وَالصَّابِئُونَ مُبْتَدَأً وَجَعَلُوهُ مُقَدَّمًا مِنْ وَتَأْخِير وَقَدَّرُوا لَهُ خَبَرًا مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ خَبَرِ (إِنَّ) عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَصْلَ النَّظْمِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى لَهُمْ أَجْرُهُمْ إِلَخْ، وَالصَّابُونَ كَذَلِكَ، جَعَلُوهُ كَقَوْلِ ضَابِي بْنِ الْحَارِث: فإنّي وقبّار بِهَا لَغَرِيبُ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَدَّرُوا تَقَادِيرَ أُخْرَى أَنْهَاهَا الْأَلُوسِيُّ إِلَى خَمْسَةٍ. وَالَّذِي سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ وَأَجْرَى عَلَى أُسْلُوبِ النَّظْمِ وَأَلْيَقُ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَبَعْدُ فَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُوقَنَ بِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَذَلِكَ نَزَلَ، وَكَذَلِكَ نَطَقَ بِهِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ تَلَقَّاهُ الْمُسلمُونَ مِنْهُ وقرؤوه، وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفَ، وَهُمْ عَرَبٌ خُلَّصٌ، فَكَانَ لَنَا أَصْلًا نَتَعَرَّفُ مِنْهُ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي الْعَطْفِ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالًا غَيْرَ شَائِعٍ لَكِنَّهُ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْإِيجَازِ بِمَكَانٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا أُتِي بِكَلَام موكّد بِحَرْفِ (إِنَّ) وَأُتِيَ بِاسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا وَأُرِيدَ أَنْ يَعْطِفُوا عَلَى اسْمِهَا مَعْطُوفًا هُوَ

غَرِيبٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ جِيءَ بِالْمَعْطُوفِ الْغَرِيبِ مَرْفُوعًا لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا عَطْفَ الْجُمَلِ لَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، فَيُقَدِّرَ السَّامِعُ خَبَرًا يُقَدِّرُهُ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: 3] ، أَيْ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَرَاءَتَهُ مِنْهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مِنْ ذِي نَسَبِهِمْ وَصِهْرِهِمْ أَمْرٌ كَالْغَرِيبِ لِيَظْهَرَ مِنْهُ أَنَّ آصِرَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَوَاصِرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْمَعْطُوفُ هُنَا لَمَّا كَانَ الصَّابُونُ أَبْعَدَ عَنِ الْهُدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ تَحِقُّ لَهُمُ النَّجَاةُ إِنْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلُوا صَالِحًا، كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهِمْ مَرْفُوعًا تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. لَكِنْ كَانَ الْجَرْيُ عَلَى الْغَالِبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُؤْتَى بِهَذَا الْمَعْطُوفِ مَرْفُوعًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ (إِنَّ) خَبَرَهَا، إِنَّمَا كَانَ الْغَالِبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُؤْتَى بِالِاسْمِ الْمَقْصُودِ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ مُؤَخَّرًا، فَأَمَّا تَقْدِيمُهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فقد يتَرَاءَى للنّاصر أَنَّهُ يُنَافِي الْمَقْصِدَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خُولِفَ حُكْمُ إِعْرَابِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَيْضًا اسْتِعْمَالٌ عَزِيزٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مُقْتَضَيَيْ حَالين، وهما للدّلالة عَلَى غَرَابَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَالتَّنْبِيهُ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَإِنَّ الصَّابِئِينَ يَكَادُونَ يَيْأَسُونَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ يَيْأَسُ مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ الْحُكْمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ. فَنَبَّهَ الْكُلَّ عَلَى أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ عَظِيمٌ لَا يَضِيقُ عَنْ شُمُولِهِمْ، فَهَذَا مُوجِبُ التَّقْدِيمِ مَعَ الرَّفْعِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّمْ مَا حَصَلَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْفَعْ لَصَارَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ (إِنَّ) فَلَمْ يَكُنْ عَطْفُهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصَّابِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ مُقَدَّمًا عَلَى النَّصَارَى وَمَنْصُوبًا، فَحَصَلَ هُنَاكَ مُقْتَضَى حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ بِتَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِشُمُولِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَمَامَ عَدْلِ اللَّهِ يُسَاوُونَ غَيْرَهُمْ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: وَعَمِلَ صالِحاً، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ رَبْطِ السَّلَامَةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، بِهِ، فَهُوَ قَيْدٌ فِي الْمَذْكُورِينَ كُلِّهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَوَّلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ يَأْتِي

[سورة المائدة (5) : آية 70]

امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ- إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 12- 17] . [70] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 70] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) اسْتِئْنَافٌ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَجَرَاءَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ. وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْيَأْسِ مِنْ هَدْيِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّ مَا قَابَلُوا بِهِ دَعْوَتَهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنْهُمْ بَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى الْيَهُودِ غَيْرَ مَرَّةٍ. أُولَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [83] . وَالرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ هُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمَا مِثْلُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَأَشْعِيَا وأرميا وحزقيال وداوود وَعِيسَى. فَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ: مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ وَكِتَابٍ، مثل مُوسَى وداوود وَعِيسَى، وَمَنْ جَاءَ مُعَزِّزًا لِلشَّرْعِ مُبَيِّنًا لَهُ، مِثْلُ يُوشَعَ وَأَشْعِيَا وَأَرْمِيَا. وَإِطْلَاقُ الرَّسُولِ عَلَى النَّبِيءِ الّذي لم يجىء بِشَرِيعَةٍ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا فَرِيقًا مِنَ الرُّسُلِ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الرُّسُلِ بِالْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ مَا قَتَلُوا إِلَّا أَنْبِيَاءَ لَا رُسُلًا. وَقَوْلُهُ: كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا إِلَخْ انْتَصَبَ كُلَّما عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ أَزْمِنَةِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الرُّسُلِ تَبَعًا لِاسْتِغْرَاقِ أَزْمِنَةِ مَجِيئِهِمْ، إِذِ اسْتِغْرَاقُ أَزْمِنَةِ وُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَمَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى الزَّمَانِ. وَانْتَصَبَ (كُلَّ) عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الزَّمَانِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ الزَّمَانِ الْمُبْهَمِ، وَهُوَ

(مَا) الظَّرْفِيَّةُ الْمَصْدَرِيَّةُ. وَالتَّقْدِيرُ: فِي كُلِّ أَوْقَاتِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ كَذَّبُوا وَيَقْتُلُونَ. وَانْتَصَبَ كُلَّما بِالْفِعْلَيْنِ وَهُوَ كَذَّبُوا ويَقْتُلُونَ عَلَى التَّنَازُعِ. وَتَقْدِيمُ كُلَّما عَلَى الْعَامِلِ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّفُ، لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِتَقْدِيمِهِ الِاهْتِمَامَ بِهِ، لِيَظْهَرَ أَنَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ لَهُ جُمْلَتُهُ، فَإِنَّ اسْتِمْرَارَ صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ وَالْقَتْلَ صَارَا سَجِيَّتَيْنِ لَهُمْ لَا تَتَخَلَّفَانِ، إِذْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى حَالِ رَسُولٍ دُونَ آخَرَ وَلَا إِلَى زَمَانٍ دُونَ آخَرَ، وَذَلِكَ أَظْهَرُ فِي فَظَاعَةِ حَالِهِمْ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَبِهَذَا التَّقْدِيمِ يُشْرَبُ ظَرْفُ كُلَّما مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَيَصِيرُ الْعَامِلُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ لَهُ، كَمَا تَصِيرُ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَفْعَالِهَا وَأَجْوِبَتِهَا فِي نَحْوِ أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النِّسَاء: 78] . إِلَّا أَنَّ كُلَّما لَمْ يُسْمَعِ الْجَزْمُ بَعْدَهَا وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدَّ فِي أَسْمَاءِ الشَّرْطِ لِأَنَّ (كُلَّ) بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ إِطْلَاقَ الشَّرْطِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ بَعْضِ النُّحَاةِ تَسَامُحٌ. وَقَدْ أَطْلَقَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهَا سَبَبًا لَفْظِيًّا يُوجِبُ تَقْدِيمَهَا بِخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: [87] ، وَفِي قَوْلِهِ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [100] فِي تِلْكَ السُّورَةِ، فَإِنَّ التَّقْدِيمَ فِيهِمَا تَبَعٌ لِوُقُوعِهِمَا مُتَّصِلَتَيْنِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَكَتَ عَلَيْهِمَا فِي «الْكَشَّافِ» لِظُهُورِ أَمْرِهِمَا فِي تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ. فَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَرِيقاً كَذَّبُوا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْهِمْ لِاقْتِرَانِهَا بِضَمِيرٍ مُوَافِقٍ لِصَاحِبِ الْحَالِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَبَرِ تَفْظِيعُ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ لِهُدَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ هَذِهِ حَالُهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ. وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ مُتَعَلِّقِهَا اسْتِئْنَافًا، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا بَلْ بِمَدْلُولِ هَذَا الْحَالِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ التَّقْسِيمَ فِي قَوْلِهِ: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لَيْسَ لِرَسُولٍ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بَلْ لِ رُسُلًا، لِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُ: كُلَّما جاءَهُمْ

رَسُولٌ مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كَذَّبُوا مِنْهُمْ فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَبِهَذَا نَسْتَغْنِي عَنْ تَكَلُّفَاتٍ وَتَقْدِيرٍ فِي نَظْمِ الْآيَةِ الْآتِي عَلَى أَبْرَعِ وُجُوهِ الْإِيجَازِ وَأَوْضَحِ الْمَعَانِي. وَقَوْلُهُ: بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أَيْ بِمَا لَا تُحِبُّهُ. يُقَالُ: هَوِيَ يَهْوَى بِمَعْنَى أَحَبَّ وَمَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى مُلَابَسَةِ شَيْءٍ. إِنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلَ الْقَصْدُ مِنْهَا كَبْحُ الْأَنْفُسِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَوَاهَا الْمُوقِعِ لَهَا فِي الْفَسَادِ عَاجِلًا وَالْخُسْرَانِ آجِلًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتُرِكَ النَّاسُ وَمَا يَهْوَوْنَ، فَالشَّرَائِعُ مُشْتَمِلَةٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَنْعِ النُّفُوسِ مِنْ هَوَاهَا. وَلَمَّا وُصِفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ ويقتلونهم إِذا جاؤوهم بِمَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ جَاءَهُمْ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا: وَهُمَا التَّكْذِيبُ وَالْقَتْلُ. وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ، فَلَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَائِدَةٌ إِلَّا الْإِشَارَةَ إِلَى زِيَادَةِ تَفْظِيعِ حَالِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ أَوْ يَقْتُلُونَهُمْ فِي غَيْرِ حَالَةٍ يَلْتَمِسُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيهَا عُذْرًا مِنْ تَكْلِيفٍ بِمَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ، أَوْ مِنْ حُدُوثِ حَادِثِ ثَائِرَةٍ، أَوْ مِنْ أَجْلِ التَّمَسُّكِ بِدِينٍ يَأْبَوْنَ مُفَارَقَتَهُ، كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ فِي مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ هَوَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فَقَبِلُوهُ فَتَتَعَطَّلُ بِتَمَرُّدِهِمْ فَائِدَةُ التَّشْرِيعِ وَفَائِدَةُ طَاعَةِ الْأُمَّةِ لِهُدَاتِهَا. وَهَذَا تَعْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْأُمَمِ أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً فِي طَرِيقِ إِرْشَادِ عُلَمَائِهَا وَهُدَاتِهَا، وَأَنَّهَا إِذَا رَامَتْ حَمْلَ عُلَمَائِهَا وَهُدَاتِهَا عَلَى مُسَايَرَةِ أَهْوَائِهَا، بِحَيْثُ يُعْصَوْنَ إِذَا دَعَوْا إِلَى مَا يُخَالِفُ هَوَى الْأَقْوَامِ فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانُ كَمَا حَقَّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَلْبًا لِلْحَقَائِقِ وَمُحَاوَلَةَ انْقِلَابِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْقَائِدِ مَقُودًا، وَأَنَّ قَادَةَ الْأُمَمِ وَعُلَمَاءَهَا وَنُصَحَاءَهَا إِذَا سَايَرُوا الْأُمَمَ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ كَانُوا غَاشِّينَ لَهُمْ، وَزَالَتْ فَائِدَةُ عِلْمِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ وَاخْتَلَطَ الْمَرْعِيُّ بِالْهَمَلِ وَالْحَابِلُ بِالنَّابِلِ، وَقَدْ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَغَشَّهَا لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . فَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْذِرَةِ لِأَنَّهُمْ قَابَلُوا الرَّسُولَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ

[سورة المائدة (5) : آية 71]

بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ، وَقَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: 87] ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ آمَنُوا بِرُسُلِهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ انْتَقَضُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّقْتِيلِ إِذَا حَمَلُوهُمْ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ مِمَّا لَا يَهْوُونَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: فَرِيقاً كَذَّبُوا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّفْصِيلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّفْصِيلِ لِأَحْوَالِ رُسُلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاعْتِبَار مَا لَا قوه مِنْ قَوْمِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ مَفْعُولِ يَقْتُلُونَ رِعَايَةً عَلَى فَاصِلَةِ الْآيِ، فَقَدَّمَ مَفْعُولَ كَذَّبُوا لِيَكُونَ الْمَفْعُولَانِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: يَقْتُلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ إِبْلَاغًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَنَاعَةِ فَاعِلِيهَا. وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ يَخْلُفُ بَعْضُ أَجْيَالِهَا بَعْضًا، وَأَنَّهَا رَسَخَتْ فِيهَا أَخْلَاقٌ مُتَمَاثِلَةٌ وَعَوَائِدُ مُتَّبَعَةٌ بِحَيْثُ يَكُونُ الْخَلَفُ مِنْهُمْ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَتِ الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي عُصُورٍ مُتَفَاوِتَةٍ إِلَى ضَمَائِرِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِينَ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ فَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا على التَّكْذِيب. [71] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 71] وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) عُطِفَ عَلَى قَوْله: كَذَّبُوا [الْمَائِدَة: 70] ويَقْتُلُونَ [الْمَائِدَة: 70] لِبَيَانِ فَسَادِ اعْتِقَادِهِمُ النَّاشِئِ عَنْهُ فَاسِدُ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنَ الْفَظَائِعِ عَنْ تَعَمُّدٍ بِغُرُورٍ، لَا عَنْ فَلْتَةٍ أَوْ ثَائِرَةِ نَفْسٍ حَتَّى يُنِيبُوا وَيَتُوبُوا. وَالضَّمَائِرُ الْبَارِزَةُ عَائِدَةٌ مِثْلُ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ كَذَّبُوا ويَقْتُلُونَ. وَظَنُّوا أَنَّ فِعْلَهُمْ لَا تَلْحَقُهُمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ.

وَالْفِتْنَةُ مَرْجُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَاضْطِرَابُ نِظَامِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ أَضْرَارٍ وَمَصَائِبَ مُتَوَالِيَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَهِيَ قَدْ تَكُونُ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ جَزَاءً عَنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ أَوْ تَمْحِيصًا لِصَادِقِ إِيمَانِهِمْ لِتَعْلُوَ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] الْآيَةَ. وَسَمَّى الْقُرْآنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فِتْنَةً، وسمّى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ فِتْنَةً، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مَزَالَّ الشَّيْطَانِ فِتْنَةً لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 27] . فَكَانَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ مُلَازِمًا لَهَا. وَالْمَعْنَى: وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُصِيبُهُمْ بِفِتْنَةٍ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا عَامَلُوا بِهِ أَنْبِيَاءَهُمْ، فَهُنَالِكَ مَجْرُورٌ مُقَدَّرٌ دَالٌّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ ظَنُّوا أَنْ لَا تَنْزِلَ بِهِمْ مَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا فَأَمِنُوا عِقَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنِ اسْتَخَفُّوا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. فَمِنْ بَدِيعِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ أَوْمَأَ إِلَى سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ نَبَذُوا الْفِكْرَةَ فِيهِ ظِهْرِيًّا وَأَنَّهُمْ لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ فِي ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ، وَإِلَى سُوءِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْسَبُوا ذَلِكَ لَارْتَدَعُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَصَ عَلَى سَلَامَةِ الدُّنْيَا مِنْهُمْ عَلَى السَّلَامَةِ فِي الْآخِرَةِ لِانْحِطَاطِ إِيمَانِهِمْ وَضَعْفِ يَقِينِهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا الْخُذْلَانُ أَنْ يَفْسُدَ اعْتِقَادُهُمْ وَيَخْتَلِطَ إِيمَانُهُمْ وَيَصِيرَ هَمُّهُمْ مَقْصُورًا عَلَى تَدْبِيرِ عَاجِلَتِهِمْ، فَإِذَا ظَنُّوا اسْتِقَامَةَ الْعَاجِلَةِ أَغْمَضُوا أَعْيُنَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ، فَتَطَلَّبُوا السَّلَامَةَ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا، فَأَضَاعُوا الْفَوْزَ الْأَبَدِيَّ وَتَعَلَّقُوا بالفوز العاجل فأساؤوا الْعَمَلَ فَأَصَابَهُمُ الْعَذَابَانِ الْعَاجِلُ بِالْفِتْنَةِ وَالْآجِلُ. وَاسْتُعِيرَ عَمُوا وَصَمُّوا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ دَلَائِلِ الرَّشَادِ مِنْ رُسُلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ

لِأَنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ يُوقِعَانِ فِي الضَّلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ وَانْعِدَامِ اسْتِفَادَةِ مَا يَنْفَعُ. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ جَمْعٌ فِي الِاسْتِعَارَةِ بَيْنَ أَصْنَافِ حِرْمَانِ الِانْتِفَاعِ بِأَفْضَلِ نَافِعٍ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ غَلَبَ الْهَوَى عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّ الِانْسِيَاقَ إِلَيْهِ فِي الْجِبِلَّةِ، فَتَجَنُّبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَازِعِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَازِعُ جَاءَ سُوءُ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَعَمُوا وَصَمُّوا مُرَادًا مِنْهُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَسَاءُوا الْأَعْمَالَ وَأَفْسَدُوا، فَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ قَوْلَهَ ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَأَكَّدَ هَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي تَذْيِيلِ الْآيَةِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. وَقَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّشْدِ وَمَا أَعْقَبَهُ مِنْ سُوءِ الْعَمَلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ أَصَابَتْهُمُ الْفِتْنَةُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا تَابَ عَلَيْهِمْ رَفَعَ عَنْهُمُ الْفِتْنَةَ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا، أَيْ عَادُوا إِلَى ضَلَالِهِمُ الْقَدِيمِ وَعَمَلِهِمُ الذَّمِيمِ، لِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى حُسْبَانِ أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَأَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ وَقَفَ الْكَلَامُ عِنْدَ هَذَا الْعَمَى وَالصَّمَمِ الثَّانِي وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ إِعْرَاضًا شَدِيدًا مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَهَا. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى حَادِثَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ حَوَادِثِ عُصُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا حَادِثُ الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ إِذْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكَ (أَشُورَ) فَدَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّاتٍ سَنَةَ 606 وَسَنَةَ 598 وَسَنَةَ 588 قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَأَتَى فِي ثَالِثَتِهَا عَلَى مَدِينَةِ أُورْشَلِيمَ فَأَحْرَقَهَا وَأَحْرَقَ الْمَسْجِدَ وَحَمَلَ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَابِلَ أُسَارَى، وَأَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانَ مَظْهَرُهَا حِينَ غَلَبَ (كُورَشُ) مَلِكُ (فَارِسَ) عَلَى الْآشُورِيِّينَ وَاسْتَوْلَى عَلَى بَابِلَ سَنَةَ 530 قَبْلَ الْمَسِيحِ فَأُذِنَ لِلْيَهُودِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَيُعَمِّرُوهَا فَرَجَعُوا وَبَنَوْا مَسْجِدَهُمْ.

وَحَادِثُ الْخَرَابِ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِ (تِيطَسَ) الْقَائِدِ الرُّومَانِيِّ (وَهُوَ ابْن الإنبراطور الرُّومَانِيِّ (وَسَبَسْيَانُوسَ) فَإِنَّهُ حَاصَرَ (أُورْشَلِيمَ) حَتَّى اضْطَرَّ الْيَهُودُ إِلَى أَكْلِ الْجُلُودِ وَأَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْجُوعِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ رَجُلٍ، وَسَبَى سَبْعَةً وَتِسْعِينَ أَلْفًا، عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَةٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ 69 لِلْمَسِيحِ. ثمّ قفّاه الإنبراطور (أَدْرِيَانُ) الرُّومَانِيُّ مِنْ سَنَةِ 117 إِلَى سَنَةِ 138 لِلْمَسِيحِ فَهَدَمَ الْمَدِينَةَ وَجَعَلَهَا أَرْضًا وَخَلَطَ تُرَابَهَا بِالْمِلْحِ. فَكَانَ ذَلِكَ انْقِرَاضَ دَوْلَةِ الْيَهُودِ وَمَدِينَتِهِمْ وَتَفَرُّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هذَيْن الْحَدِيثين بِقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ (¬1) وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (¬2) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الْإِسْرَاء: 4- 8] وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ. وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ اسْتَقْصَاهَا الْفَخْرُ. وَقد دلّت م عَلَى تَرَاخِي الْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ بِهَا عَنِ الْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا وَأَنَّ هُنَالِكَ عَمَيَيْنِ وَصَمَمَيْنِ فِي زمنين سَابق وَلَا حق، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتِ الضَّمَائِرُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ عَيْنَ الضَّمَائِرِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا، وَالَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ تَكَرُّرِ الْأَفْعَالِ فِي الْعُصُورِ وَادِّعَاءُ أَنَّ الْفَاعِلَ وَاحِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ الْمُثْبَتَةِ لِلْأُمَمِ وَالْمُسَجَّلِ بِهَا عَلَيْهِمْ تَوَارُثُ السَّجَايَا فِيهِمْ مِنْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ عَمُوا ¬

(¬1) أَي على البابليين بانتصار الْفرس عَلَيْهِم وكنتم موالين للْفرس. (¬2) الضّمائر رَاجِعَة إِلَى عباد من قَوْله عِباداً لَنا، وَأَصْحَاب الضَّمِير هم غير الْعباد الأوّلين.

وَصَمُّوا ثَانِيَةً غَيْرُ الَّذِينَ عَمُوا وَصَمُّوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَكَانُوا قَدْ أَوْرَثُوا أَخْلَاقَهُمْ أَبْنَاءَهُمُ اعْتُبِرُوا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِمْ: بَنُو فلَان لَهُم ترات مَعَ بَنِي فُلَانٍ. وَقَوْلُهُ: كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا، قُصِدَ مِنْهُ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ دَهْمَاؤُهُمْ صَدْعًا بِالْحَقِّ وَثَنَاءً عَلَى الْفَضْلِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَرْجِعُ الضَّمِيرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا هُوَ عَيْنَ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَعَمُوا وَصَمُّوا كَانَ الْإِبْدَالُ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الْمُفِيدُ تَخْصِيصًا مِنْ عُمُومِهِمَا، مُفِيدًا تَخْصِيصًا مِنْ عُمُوم الضميرين الّذين قَبْلَهُمَا بِحُكْمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الضَّمَائِرِ، إِذْ قَدِ اعْتُبِرَتْ ضَمَائِرُ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ مَرْجِعَ تِلْكَ الضَّمَائِرِ هُوَ قَوْلُهُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْمَائِدَة: 70] . وَمن الضّروري أنّه لَا تخلوا أُمَّةٌ ضَالَّةٌ فِي كُلِّ جِيلٍ مِنْ وُجُودِ صَالِحِينَ فِيهَا، فَقَدْ كَانَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَمْثَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَكَانَ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ يُوشَعُ وَكَالِبُ اللَّذَيْنِ قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [الْمَائِدَة: 23] . وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ. وَالْبَصِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْمُبْصِرِ، كَالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِكُلِّ مَا يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُبْصِرَهَا النَّاسُ سَوَاءً مَا أَبْصَرَهُ النَّاسُ مِنْهَا أَمْ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَازِمُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ بَعْدَ أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَر أَلَّا تَكُونَ- بِفَتْحِ نُونِ تَكُونَ عَلَى اعْتِبَارِ (أَنْ) حرف مصدر ناصب لِلْفِعْلِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ النُّونِ- عَلَى اعْتِبَارِ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنْ (أَنَّ) أُخْتِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَأَنَّ إِذَا خُفِّفَتْ يَبْطُلُ عَمَلُهَا الْمُعْتَادُ وَتَصِيرُ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَةٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ عَامِلَةٌ، وَأَنَّ اسْمَهَا مُلْتَزِمُ الْحَذْفِ، وَأَنَّ خَبَرَهَا مُلْتَزِمٌ كَوْنُهُ جُمْلَةً.

[سورة المائدة (5) : آية 72]

وَهَذَا تَوَهُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ اسْمَهَا الْمَحْذُوفَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَهَذَا أَيْضًا تَوَهُّمٌ عَلَى تَوَهُّمٍ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا لِأَنَّهُ مُجْتَلَبٌ لِلتَّأْكِيدِ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ ظُهُورِهِ فِي أَيِّ اسْتِعْمَالٍ يُفَنِّدُ دَعْوَى تَقْدِيره. [72] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى، يُنَاسِبُ الِانْتِهَاءَ مِنْ إِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ آنِفًا فِي نَظِيرِ قَوْلِهِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: 17] وَمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ طَوَائِفِ النَّصَارَى. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَقالَ الْمَسِيحُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ نِدَاءِ الْمَسِيحِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، أَيْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ، فَهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ فِي حَالِ أَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَالَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ قَدْ كَذَّبَهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّي وَرَبَّكُمْ، يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرْبُوبًا، وَذَلِكَ مُفَادُ قَوْلِهِ: رَبِّي، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ آخَرُ، وَذَلِكَ مُفَادُ قَوْله وَرَبَّكُمْ، وَذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حِكَايَةً لِكَلَامٍ صَدَرَ مِنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَتَكُونُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَوُقُوعُ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ. وَفِي حِكَايَتِهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَدْ أَوْقَعَهُمْ فِي الشِّرْكِ وَإِنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمُ اجْتَنَبُوهُ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا حَذَّرَ مِنْهُ

[سورة المائدة (5) : الآيات 73 إلى 74]

الْمَسِيحُ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ. أَرَادُوا الِاتِّحَادَ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ هُوَ. وَهَذَا قَوْلُ الْيَعَاقِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَذَلِكَ شِرْكٌ لَا مَحَالَةَ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ، لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَمَزَجُوهُ بِهِ فَوَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَإِنْ رَامُوا تَجَنُّبَ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، فَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ بِشَهَادَةِ كَلَامِ مَنْ نَسَبُوا إِلَيْهِ الْإِلَهِيَّةِ إِبْطَالًا تَامًّا. وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِإِثْبَاتِ كُفْرِهِمْ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى بُطْلَانِ مُعْتَقَدِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا التَّوْحِيدَ. وَالضَّمِيرُ الْمُقْتَرِنُ بِإِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ. وَمَعْنَى حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ مَنَعَهَا مِنْهُ، أَيْ مِنَ الْكَوْنِ فِيهَا. وَالْمَأْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الشَّيْءُ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَذْيِيلًا لِكَلَامِ الْمَسِيحِ عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ تَذْيِيلًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، أَيْ مَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يَنْصُرُونَهُمْ لِيُنْقِذُوهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَمَأْوَاهُ النَّارُ لَا مَحَالَةَ وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَصِيرٍ، فَبِالْأَحْرَى أَنْ لَا يَتَخَلَّصَ بِدُونِ نصير. [73، 74] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 73 إِلَى 74] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ إِلَى إِبْطَالِ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِ طَوَائِفِ

النَّصَارَى، وَهِيَ مَقَالَةُ (الملكانيّة المسمّين بالجعاثليقيّة) ، وَعَلَيْهَا مُعْظَمُ طَوَائِفِ النَّصَارَى فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [171] ، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِيهَا وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يَجْمَعُ الرَّدَّ عَلَى طَوَائِفِ النَّصَارَى كُلِّهِمْ. وَالْمُرَادُ بِ قالُوا اعْتَقَدُوا فَقَالُوا، لِأَنَّ شَأْنَ الْقَوْلِ أَنْ يكون صادرا على اعْتِقَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أَنَّ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ أَنَّهُ اللَّهُ هُوَ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلِاسْمِ هُوَ أَحَدُ تِلْكَ الثّلاثة الْأَشْيَاءِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ قَدْ عَبَّرُوا عَنْهَا بِالْأَقَانِيمِ وَهِيَ: أُقْنُومُ الْوُجُودِ، وَهُوَ الذَّاتُ الْمُسَمَّى اللَّهُ، وَسَمَّوْهُ أَيْضًا الْأَبَ وَأُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَسَمَّوْهُ أَيْضًا الِابْنَ، وَهُوَ الَّذِي اتَّحَدَ بِعِيسَى وَصَارَ بِذَلِكَ عِيسَى إِلَهًا وَأُقْنُومُ الْحَيَاةِ وَسَمَّوْهُ الرُّوحَ الْقُدُسَ. وَصَارَ جُمْهُورُهُمْ، وَمِنْهُمُ الرَّكُوسِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ بِمَرْيَمَ حِينَ حَمْلِهَا بِالْكَلِمَةِ تَأَلَّهَتْ مَرْيَمُ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ أُمُّ الْكَلِمَةِ أَمْ هِيَ أُمُّ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَصُوغُ مِنِ اسْمِ الْعَدَدِ مِنَ اثْنَيْنِ إِلَى عَشَرَةِ، صِيغَةَ فَاعِلٍ مُضَافًا إِلَى اسْمِ الْعَدَدِ الْمُشْتَقِّ هُوَ مِنْهُ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ نَحْوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ [التَّوْبَة: 40] ، فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْمُشْتَقَّ لَهُ وَزْنُ فَاعِلٍ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ الْعَدَدَ أَضَافُوا وَزْنَ فَاعِلٍ إِلَى اسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ أَرْقَى مِنْهُ فَقَالُوا: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، أَيْ جَاعِلُ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَةً. وَقَوْلُهُ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ لِبَيَانِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ قالُوا، أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ، فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ لِكُفْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ نَفْيٌ عَنِ الْإِلَهِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاحِدٍ فَإِنَّ (مِنْ) لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ فَصَارَ النَّفْيُ بِ مَا الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا مُسَاوِيًا لِلنَّفْيِ بِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ نَصًّا.

وَعَدَلَ هُنَا عَنِ النَّفْيِ بِلَا التَّبْرِئَةِ فَلَمْ يَقُلْ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) إِلَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ اهْتِمَامًا بِإِبْرَازِ حَرْفِ (مِنْ) الدَّالِّ بَعْدَ النَّفْيِ عَلَى تَحْقِيقِ النَّفْيِ، فَإِنَّ النَّفْيَ بِحَرْفِ (لَا) مَا أَفَادَ نَفْيَ الْجِنْسِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ (مِنْ) ، فَلَمَّا قُصِدَتْ زِيَادَةُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ هُنَا جِيءَ بِحَرْفِ (مَا) النَّافِيَةِ وَأَظْهَرَ بَعْدَهُ حَرْفَ (مِنْ) . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يُفِيدُ حَصْرَ وَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ فِي وَاحِدٍ فَانْتَفَى التَّثْلِيثُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ. وَأَمَّا تَعْيِينُ هَذَا الْوَاحِدِ مَنْ هُوَ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا تَعْيِينُهُ هُنَا لِأَنَّ الْقَصْدَ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَإِذَا بَطَلَ التَّثْلِيثُ، وَثَبَتَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ غَيْرِهِ مَعَهُ تَمَحَّضَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [62] وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هُنَا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُبْطِلِينَ (إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) فَاسْتُغْنِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ عَنْ تَعْيِينِهِ. وَلِهَذَا صَرَّحَ بِتَعْيِينِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [62] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إِذِ الْمَقَامُ اقْتَضَى تَعْيِينَ انْحِصَارِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى دُونَ عِيسَى وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ ذِكْرٌ لِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أَيْ لَقَدْ كَفَرُوا كُفْرًا إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ أَيْ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَهُوَ إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَقَدْ جَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلِانْتِهَاءِ إِذِ الِانْتِهَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَمِرٍّ كَمَا نَاسَبَ قَوْلُهُ قالُوا قَوْلَهُ لَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ حَصَلَ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنَ الزَّمَنِ الْمَاضِي. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوِ انْتَهَوْا عَنِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَأَضْمَرُوا اعْتِقَادَهُ لَمَا نَفَعَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الِاعْتِقَادِ مَعَ مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ. وَأَكَّدَ الْوَعِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ، لِأَنَّ صَلْبَ عِيسَى كَانَ كَفَّارَةً عَنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.

[سورة المائدة (5) : آية 75]

وَالْمَسُّ مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَسِّ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْجِسْمِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِصَابَةِ بِجَامِعِ الِاتِّصَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَنْعَام: 49] ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشِدَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الشِّدَّةِ أَوِ الضَّعْفِ إِلَى الْقَرِينَةِ، مِثْلَ أَلِيمٌ هُنَا، وَمِثْلَ قَوْلِهِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَنْعَام: 49] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الْكِلَابِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: مَسِسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا وَكُلُّنَا ... إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعٍ أَيْ تَتَبَّعْنَا أُصُولَ آبَائِنَا. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنُ الْمُرَادِ بِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الصِّلَةِ الْمُقَرَّرَةِ لِمَعْنَى كُفْرِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِلَخْ، لِقَصْدِ تَكْرِيرِ تَسْجِيلِ كُفْرِهِمْ وَلِيَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُومِئًا إِلَى سَبَبِ الْحُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله مِنْهُمْ بَيَانا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِكُفَّارٍ آخَرِينَ. وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ أَعْقَبَ الْوَعِيدَ بِالتَّرْغِيبِ فِي الْهِدَايَةِ فَقَالَ: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ. فَالتَّوْبَةُ هِيَ الْإِقْلَاعُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ. وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ مَغْفِرَةِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فِي الْمَاضِي وَالنَّدَمُ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ. وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ بِثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ مَا سَلَفَ مِنْهُ، لِأَنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ يَدُلَّانِ عَلَى شِدَّةِ الْغُفْرَانِ وَشِدَّةِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوهُ رَفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِرَحْمَتِهِ وَصَفَحَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُم بغفرانه. [75] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 75] مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

(75) اسْتِئْنَافٌ لِتِبْيَانِ وَصْفِ الْمَسِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوَصْفِ أُمِّهِ زِيَادَةً فِي إِبْطَالِ مُعْتَقَدِ النَّصَارَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَإِلَهِيَّةِ أُمِّهِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَة: 73] أَرَادُوا بِهِ إِلَهِيَّةَ الْمَسِيحِ. وَذَلِكَ مُعْتَقَدُ جَمِيعِ النَّصَارَى. وَفَرَّعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النّصارى يلقّبون (بالرّكوسيّة) (وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ صَابِئَةٍ) عَلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى إِلَهِيَّةَ أُمِّهِ وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَقَدُهُمْ لَمَا وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِوَصْفِ مَرْيَمَ وَلَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى بَشَرِيَّتِهَا بِأَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ. فَقَوْلُهُ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيِ الْمَسِيحُ مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ لِرَدِّ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أَنَّهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ أُرِيدَ بِهَا أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلرُّسُلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا فِي هَذَا الْوَصْفِ وَلَا هُوَ مُخْتَصٌّ فِيهِ بِخُصُوصِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ فِي وَصْفِ الرِّسَالَةِ، فَلَا شُبْهَةَ لِلَّذِينَ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ، إِذْ لم يجىء بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَمَا جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ إِلَّا مُعْجِزَاتٌ كَمَا جَرَتْ عَلَى أَيْدِي رُسُلٍ قَبْلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا فَقَدْ تَسَاوَتْ فِي أَنَّهَا خَوَارِقُ عَادَاتٍ وَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَعْجَبَ مِنْ بَعْضٍ، فَمَا كَانَ إِحْيَاؤُهُ الْمَوْتَى بِحَقِيقٍ أَنْ يُوهِمَ إِلَهِيَّتَهُ. وَفِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى غَبَاوَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى إِلَهِيَّتِهِ بِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَوْتَى مِنَ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ مُوسَى أَحْيَا الْعَصَا وَهِيَ جَمَادٌ فَصَارَتْ حَيَّةً. وَجُمْلَةُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ. وَالْقَصْدُ مِنْ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا صِدِّيقَةٌ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَصْفٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ

وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، إِذْ جَعَلُوا مَرْيَمَ الْأُقْنُومَ الثَّالِثَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ «أَيْ وَمَا أُمُّهُ إِلَّا صِدِّيقَةٌ» مَعَ أَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى صِيغَةِ حَصْرٍ. وَقَدْ وجّهه الْعَلامَة التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «الْحَصْرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَقَامِ وَالْعَطْفِ» (أَيْ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ) . وَفِي قَول التفتازانيّ: وَالْعَطْفِ، نَظَرٌ. وَالصِّدِّيقَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلَ شِرِّيبٍ وَمِسِّيكٍ، مُبَالَغَةٌ فِي الشُّرْبِ وَالْمَسْكِ، وَلَقَبِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِالْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى مَا يَسْتَرْجِعُ بِهِ مُلْكَ أَبِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ مُشْتَقَّةً مِنَ الْمُجَرَّدِ الثُّلَاثِيِّ. فَالْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهَا بِالصِّدْقِ، أَيْ صِدْقِ وَعَدِ رَبِّهَا، وَهُوَ مِيثَاقُ الْإِيمَانِ وَصِدْقُ وَعْدِ النَّاسِ. كَمَا وُصِفَ إِسْمَاعِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم: 54] . وَقَدْ لُقِّبَ يُوسُفُ بِالصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ صَدَّقَ وَعْدَ رَبِّهِ فِي الْكَفِّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِهَا. وَقِيلَ: أُرِيدَ هُنَا وَصْفَهَا بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّصْدِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها [التَّحْرِيم: 12] ، كَمَا لُقِّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: 33] ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَزِيدِ. وَقَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَفْهُومِ الْقَصْرِ الَّذِي هُوَ نَفْيُ إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبِلَهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى بَشَرِيَّتِهِمَا بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَهِيَ أَكْلُ الطَّعَامِ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ بَيْنِ صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَلِأَنَّهَا أَثْبَتَتْهَا الْأَنَاجِيلُ فَقَدْ أَثْبَتَتْ أَنَّ مَرْيَمَ أَكَلَتْ ثَمَرَ النَّخْلَةِ حِينَ مَخَاضِهَا، وَأَنَّ عِيسَى أَكَلَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ يَوْمَ الْفِصْحِ خُبْزًا وَشَرِبَ خَمْرًا، وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا إِصْحَاحُ 22 «وَقَالَ لَهُمُ اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ لِأَنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ، وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا فِي الْمَدِينَةِ جَاعَ» .

وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ ادَّعَوْا الْإِلَهِيَّةَ لِعِيسَى. وَالْخِطَابُ مُرَادٌ بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْحُجَجَ السَّابِقَةَ. وَاسْتَعْمَلَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِتَشْبِيهِ الْعَالِمِ بِالرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالْمُرَادُ هُوَ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ. وكَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ انْظُرْ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ، وَهِيَ مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ لِ انْظُرْ، وَالْمَعْنَى انْظُرْ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ. وَأُرِيدَ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبُ كِنَايَةً، أَيِ انْظُرْ ذَلِكَ تَجِدْ جَوَابَكَ أَنَّهُ بَيَانٌ عَظِيمُ الْجَلَاءِ يَتَعَجَّبُ النَّاظِرُ مِنْ وُضُوحِهِ. وَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ، اسْتُعِيرَتْ لِلْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لِشُبْهَةٍ بِالْمَكَانِ الْمَطْلُوب على طَرِيق الْمُكَنِّيَةِ، وَإِثْبَاتُ الْآيَاتِ لَهُ تَخْيِيلٌ، شُبِّهَتْ بِآيَاتِ الطَّرِيقِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّأَمُّلَ فِي بَيَانِ الْآيَاتِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ مِنَ الْعَجَبِ مِنْ وُضُوحِ الْبَيَانِ إِلَى أَعْجَبَ مِنْهُ وَهُوَ انْصِرَافُهُمْ عَنِ الْحَقِّ مَعَ وُضُوحِهِ. ويُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ، يُقَالُ: أَفَكَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، صَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ. وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى كَيْفَ. وَهُوَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَيْفَ (كَمَا) فِي «الْكَشَّافِ» ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ إِعَادَةِ كَيْفَ تَفَنُّنًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ، وَالْمَعْنَى التَّعْجِيبُ مِنْ أَيْنَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمُ الصَّرْفُ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ بَعْدَ ذَلِك الْبَيَان المبالغ غَايَةَ الْوُضُوحِ حَتَّى كَانَ بِمَحَلِّ التَّعْجِيبِ مِنْ وُضُوحِهِ. وَقَدْ عَلَّقَ بِ أَنَّى فِعْلَ انْظُرْ الثَّانِي عَنِ الْعَمَلِ وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ يُؤْفَكُونَ اخْتِصَارًا، لِظُهُورِ أَنَّهُمْ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَتْهُ لَهُم الْآيَات.

[سورة المائدة (5) : آية 76]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 76] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَانَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ مُسْتَأْنِفَةً، أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا عَنَوْا بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَتَعْبُدُونَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيطِ مَجَازًا. وَمَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ. فَمِنْ لِلتَّوْكِيدِ، وَ (دُونَ) اسْمٌ لِلْمُغَايِرِ، فَهُوَ مُرَادِفٌ لِسِوَى، أَيْ أَتَعْبُدُونَ مَعْبُودًا هُوَ غَيْرُ اللَّهِ، أَيْ أَتُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَتَعْبُدُونَ مَعْبُودًا وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ. وَانْظُرْ مَا فَسَّرْنَا بِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] ، فَالْمُخَاطَبُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَهُمْ مَا عَبَدُوا الْمَسِيحَ إِلَّا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِيهِ فَقَدْ عَبَدُوا اللَّهَ فِيهِ، فَشَمَلَ هَذَا الْخِطَابُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْعَرَبِ كُلِّهِمْ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ دُونَ (مَنْ) لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَشْيَاءُ لَا تَعْقِلُ، وَقَدْ غَلَبَ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ. وَلَوْ أُرِيدَ بِ مَا لَا يَمْلِكُ عِيسَى وَأُمُّهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ وَجُعِلَ الْخِطَابُ خَاصًّا بِالنَّصَارَى كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِ مَا صَحِيحًا لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَال (من) ، وَكثير فِي الْكَلَامِ بِحَيْثُ يَكْثُرُ عَلَى التَّأْوِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ التَّعْبِيرُ بِمَنْ أَظْهَرَ. وَمَعْنَى لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْمِلْكِ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِدُونِ مُعَارِضٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَشْيَاءِ بِدُونِ عَجْزٍ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرَ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا

فَإِنَّ كَفَّهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ كَفِّهِ تَمَامَ التَّمَكُّنِ فَدَفَعَ بِهِ الرُّمْحَ دَفْعَةً عَظِيمَةً لَمْ تَخُنْهُ فِيهَا كَفُّهُ. وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ نَشَأَ إِطْلَاقُ الْمِلْكِ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ الْقَوِيَّةِ الثَّابِتَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً [الْفرْقَان: 3] قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً [يُونُس: 49] إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً [العنكبوت: 17] . فَقَدْ تَعَلَّقَ فِعْلُ الْمِلْكِ فِيهَا بِمَعَانٍ لَا بِأَشْيَاءَ وَذَوَاتٍ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى جَعْلِ الْمِلْكَ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ الْقَوِيَّةِ أَلَا تَرَى إِلَى عَطْفِ نَفْيٍ عَلَى نَفْيِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهِ التَّرَقِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [73] . وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا اسْتِعْمَالٌ آخَرُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: 17] . وَقَدَّمَ الضَّرَّ عَلَى النَّفْعِ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَشَدُّ تَطَلُّعًا إِلَى دَفْعِهِ مِنْ تَطَلُّعِهَا إِلَى جَلْبِ النَّفْعِ، فَكَانَ أَعْظَمُ مَا يَدْفَعُهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَنْ يَسْتَدْفِعُوا بِهَا الْأَضْرَارَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَبِتَجَنُّبِهَا إِلْحَاقَ الْإِضْرَارِ بِعَابِدِيهَا. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وُقُوعُ الْأَضْرَارِ بِهِمْ وَتَخَلُّفُ النَّفْعِ عَنْهُمْ. فَجُمْلَةُ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قُصِرَ بِوَاسِطَةِ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ وَضَمِيرِ الْفَصْلِ، سَبَبُ النَّجْدَةِ وَالْإِغَاثَةِ فِي حَالَيِ السُّؤَالِ وَظُهُورِ الْحَالَةِ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ ادِّعَاءٍ بِمَعْنَى الْكَمَالِ، أَيْ وَلَا يَسْمَعُ كُلَّ دُعَاءٍ وَيَعْلَمُ كُلَّ احْتِيَاجٍ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا عِيسَى وَلَا غَيْرُهُ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَاوُ الْحَالِ. وَفِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَحْقِيقٌ لِإِبْطَالِ عِبَادَتِهِمْ عِيسَى وَمَرْيَمَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: طَرِيقُ الْقَصْرِ وَطَرِيقُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَطَرِيقُ جُمْلَةِ الْحَالِ بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مِنْ مَفْهُوم مخالفه.

[سورة المائدة (5) : آية 77]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 77] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) الْخِطَابُ لِعُمُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالْغُلُوُّ مَصْدَرُ غَلَا فِي الْأَمْرِ: إِذَا جَاوَزَ حَدَّهُ الْمَعْرُوفَ. فَالْغُلُوُّ الزِّيَادَةُ فِي عَمَلٍ عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْعَقْلِ أَوِ الْعَادَةِ أَوِ الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ الْحَقِّ مَنْصُور عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِفِعْلِ تَغْلُوا أَيْ غُلُوًّا غَيْرَ الْحَقِّ، وَغَيْرُ الْحَقِّ هُوَ الْبَاطِلُ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ بَاطِلًا إِلَى غَيْرَ الْحَقِّ لِمَا فِي وَصْفِ غَيْرِ الْحَقِّ مِنْ تَشْنِيعِ الْمَوْصُوفِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ الْمَعْرُوفِ فَهُوَ مَذْمُومٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مَحْمُودٌ فَغَيْرُهُ مَذْمُومٌ. وَأُرِيدَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ احْتِرَازًا عَنِ الْغُلُوِّ الَّذِي لَا ضَيْرَ فِيهِ، مِثْلَ الْمُبَالَغَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [171] . فَمِنْ غُلُوِّ الْيَهُودِ تَجَاوزُهُمُ الْحَدَّ فِي التَّمَسُّكِ بِشَرْعِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ رِسَالَةِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَمِنْ غُلُوِّ النَّصَارَى دَعْوَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى وتكذيبهم مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنَ الْغُلُوِّ الَّذِي لَيْسَ بَاطِلًا مَا هُوَ مِثْلُ الزِّيَادَةِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى ثَلَاثِ غَسَلَاتٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ، وَهُوَ عَطْفُ عَامٍّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى خَاصٍّ مِنْ وَجْهٍ فَفِيهِ فَائِدَةُ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَهَذَا نَهْيٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْحَاضِرِينَ عَنْ مُتَابَعَةِ تَعَالِيمِ الْغُلَاةِ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمُ الَّذِينَ أَسَاءُوا فَهْمَ الشَّرِيعَةِ عَنْ هَوًى مِنْهُمْ مُخَالِفٍ لِلدَّلِيلِ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَغَالِيهِمْ أَهْوَاءً، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا أَهْوَاءٌ فَضَلُّوا وَدَعَوْا إِلَى ضَلَالَتِهِمْ

[سورة المائدة (5) : الآيات 78 إلى 79]

فَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِثْلَ (قِيَافَا) حَبْرِ الْيَهُودِ الَّذِي كَفَّرَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحَكَمَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ، وَمِثْلَ الْمَجْمَعِ الْمَلْكَانِيِّ الَّذِي سَجَّلَ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ. وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَبَعْدُ وَغَيْرُ وَحَسْبُ وَدُونَ، وَأَسْمَاءُ الْجِهَاتِ، وَكَثُرَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَبْنِيَّةً عَلَى الضَّمِّ حِينَئِذٍ، وَيَنْدُرَ أَنْ تَكُونَ مُعَرَّبَةً إِلَّا إِذَا نُكِّرَتْ. وَقَدْ وَجَّهَ النَّحْوِيُّونَ حَالَةَ إِعْرَابِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِذَا لَمْ تُنَكَّرُ بِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ حَالَةِ بِنَائِهَا الْغَالِبَةِ وَحَالَةِ إِعْرَابِهَا النَّادِرَةِ، وَهُوَ كَشْفٌ لِسِرٍّ لَطِيفٍ مِنْ أَسْرَارِ اللُّغَةِ. وَقَوْلُهُ: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فَهَذَا ضَلَالٌ آخَرُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ الَّذِي ضَلُّوا عَنْهُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَالسَّوَاءُ الْمُسْتَقِيمُ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْحَقِّ الْوَاضِحِ، أَيْ قَدْ ضَلُّوا فِي دِينِهِمْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ وَضَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَقِبَ مُجَادَلَةِ النَّصَارَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُلُوِّ التَّثْلِيثُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ هُمُ الْيَهُودُ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْوَائِهِمُ النَّهْيُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ بِحَيْثُ إِذَا تَأَمَّلَ الْمُخَاطَبُونَ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ قَدِ اتَّبَعُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَاصِدِينَ مُتَابَعَتِهِمْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَنْفِيرًا لِلنَّصَارَى مِنْ سُلُوكِهِمْ فِي دِينِهِمُ الْمُمَاثِلِ لِسُلُوكِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ النَّصَارَى يَبْغَضُونَ الْيَهُودَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ على ضلال. [78، 79] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ

(79) جُمْلَةُ لُعِنَ مُسْتَأْنِفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا فِيهَا تَخَلُّصٌ بَدِيعٌ لِتَخْصِيصِ الْيَهُودِ بِالْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ دُونَ النَّصَارَى. وَهِيَ خَبَرِيَّةٌ مُنَاسِبَةٌ لِجُمْلَةِ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: 77] ، تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ فِيهَا اسْتِدْلَالًا عَلَى الْيَهُودِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَبِمَا فِي كُتُبِ النَّصَارَى. وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ الضَّلَالَ مُسْتَمِرٌّ فِيهِمْ فَإِنَّ مَا بَين دَاوُود وَعِيسَى أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ. وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى لِسانِ داوُدَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَمَكُّنِ الْمُلَابَسَةِ، فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنَى بَاءِ الْمُلَابَسَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، قُصِدَ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُلَابَسَةِ، أَيْ لعنُوا بِلِسَان دَاوُود، أَيْ بِكَلَامِهِ الْمُلَابِسِ لِلِسَانِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ وَفِي سِفْرِ المزامير أنّ دَاوُود لَعَنَ الَّذِينَ يُبَدِّلُونَ الدِّينَ، وَجَاءَ فِي الْمَزْمُورِ الثَّالِثِ وَالْخَمْسِينَ «اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ لِيَنْظُرَ هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبٍ اللَّهَ كُلُّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا مَعًا فَسَدُوا- ثُمَّ قَالَ- أَخْزَيْتُهُمْ لِأَنَّ الله قد وفضهم لَيْتَ مِنْ صُهْيُونَ خَلَاصَ إِسْرَائِيلَ» وَفِي الْمَزْمُورِ 109 «قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَتَكَلَّمُوا مَعِيَ بِلِسَانٍ كَذِبٍ أَحَاطُوا بِي وَقَاتَلُونِي بِلَا سَبَبٍ- ثُمَّ قَالَ- يَنْظُرُونَ إليّ وينغضون رؤوسهم- ثُمَّ قَالَ- أَمَّا هُمْ فَيُلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارَكُ، قَامُوا وَخُزُوا أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ» ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَدْ ثَارُوا على دَاوُود مَعَ ابْنِهِ ابْشُلُومَ. وَكَذَلِكَ لَعْنُهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى مُتَكَرَّرٌ فِي الأناجيل. و «ذَلِك» إِشَارَةٌ إِلَى اللَّعْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ لُعِنَ أَوْ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْ مُوجِبِ هَذَا اللَّعْنِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، أَيْ لَمْ يَكُنْ بِلَا سَبَبٍ. وَقَدْ أَفَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَعَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَمَعَ وُقُوعِهِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَفَادَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ مُفَادَ الْقَصْرِ، أَيْ لَيْسَ لَعْنُهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ صِيغَةُ قَصْرٍ، فَالْحَصْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ مِنْ غَرَرِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَصْرِ أَنْ لَا يَضِلَّ النَّاسُ فِي تَعْلِيلِ سَبَبِ اللَّعْنِ فَرُبَّمَا أَسْنَدُوهُ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الضُّلَّالِ فِي الْعِنَايَةِ بِالسَّفَاسِفِ

وَالتَّفْرِيطِ فِي الْمُهِمَّاتِ، لِأَنَّ التَّفَطُّنَ لِأَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ التَّوْفِيقِ. وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْبُلْهِ مِنَ النَّاسِ تُصِيبُهُمُ الْأَمْرَاضُ الْمُعْضِلَةُ فَيَحْسَبُونَهَا مِنْ مَسِّ الْجِنِّ أَوْ مِنْ عَيْنٍ أَصَابَتْهُمْ وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ فَلَا يُعَالِجُونَهَا بِدَوَائِهَا. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ بِما عَصَوْا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مُعْتَدِينَ، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْمَصْدَرَيْنِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلَيْنِ مَعَ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ لِيُفِيدَ الْفِعْلَانِ مَعْنَى تَجَدُّدِ الْعِصْيَانِ وَاسْتِمْرَارِ الِاعْتِدَاءِ مِنْهُمْ، وَلِتُفِيدَ صِيغَةُ الْمُضِيِّ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ قَدِيمٌ فِيهِمْ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ أَنَّهُ مُتَكَرِّرُ الْحُدُوثِ. فَالْعِصْيَانُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالِاعْتِدَاءُ هُوَ إِضْرَارُ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي جَانِبِ الْعِصْيَانِ بِالْمَاضِي لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فَلَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ، وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الِاعْتِدَاءِ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ، فَإِنَّهُمُ اعْتَدَوْا على محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُنَافَقَةِ وَمُحَاوَلَةِ الْفَتْكِ وَالْكَيْدِ. وَجُمْلَةُ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِما عَصَوْا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ تَكُونُ أُمَّةٌ كُلُّهَا مُتَمَالِئَةً عَلَى الْعِصْيَانِ وَالِاعْتِدَاءِ، فَقَالَ: كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمَنَاكِرِ أَنْ يبتدئها الْوَاحِد أنّ النَّفَرُ الْقَلِيلُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ تَزَايَدُوا فِيهَا فَفَشَتْ وَاتَّبَعَ فِيهَا الدَّهْمَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى تَعُمَّ وَيُنْسَى كَوْنُهَا مَنَاكِرَ فَلَا يَهْتَدِي النَّاسُ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنْهَا وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَتُصِيبَهُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى التّرمذي وَأَبُو دَاوُود مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلْقَى الرَّجُلَ إِذَا رَآهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَخَلِيطَهُ وَشَرِيكَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ على لِسَان دَاوُود وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ثُمَّ قَرَأَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْله: فاسِقُونَ [الْمَائِدَة: 78- 81] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ لَيَلْعَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» .

[سورة المائدة (5) : الآيات 80 إلى 81]

وَأَطْلَقَ التَّنَاهِيَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ عَلَى نَهْيِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ نَاهِيَ فَاعِلِ الْمُنْكَرِ مِنْهُمْ هُوَ بِصَدَدِ أَنْ ينهاه المنهيّ عِنْد مَا يَرْتَكِبُ هُوَ مُنْكَرًا فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّنَاهِي. فَالْمُفَاعَلَةُ مُقَدَّرَةٌ وَلَيْسَتْ حَقِيقِيَّةً، وَالْقَرِينَةُ عُمُومُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَعَلُوهُ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَيَسْكُتُ عَلَيْهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ وَرُبَّمَا فَعَلَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مُنْكَرًا آخَرَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ الْبَعْضُ الَّذِي كَانَ فَعَلَ مُنْكَرًا قَبْلَهُ وَهَكَذَا، فَهُمْ يُصَانِعُونَ أنفسهم. وَالْمرَاد ب مَا كانُوا يَفْعَلُونَ تَرْكُهُمُ التَّنَاهِي. وَأَطْلَقَ عَلَى تَرْكِ التَّنَاهِي لَفْظَ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ مَعَ أَنَّهُ تَرْكٌ، لِأَنَّ السُّكُوتَ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَخْلُو مِنْ إِظْهَارِ الرِّضَا بِهِ وَالْمُشَارَكَةِ فِيهِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِلْقَائِلِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي النَّهْيِ فِعْلٌ، وَهُوَ الِانْتِهَاءُ، أَيِ الْكَفُّ، وَالْكَفُّ فِعْلٌ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ التَّرْكَ هُنَا فِعْلًا. وَقَدْ أَكَّدَ فِعْلَ الذَّمِّ بِإِدْخَالِ لَامِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ لِلْإِقْصَاءِ فِي ذمّة. [80، 81] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 80 إِلَى 81] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ذُكِرَ بِهِ حَالُ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا فِي زمن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ مُعْظَمُ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْرَبُ إِلَّا لِكَوْنِهِ صَادِرًا مِمَّنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَهَذَا انْتِقَالٌ لِشَنَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ تَرى بَصَرِيَّةٌ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ. وَالْمُرَادُ ب كَثِيراً مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَرى، وَذَلِكَ

أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ نِفَاقًا، نَظَرًا لِإِسْلَامِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَاسْتَنْكَرَ الْيَهُودُ أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَتَظَاهَرُوا بِالْإِسْلَامِ لِيَكُونُوا عَيْنًا لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَمَعْنَى يَتَوَلَّوْنَ يَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاء. وَالْمرَاد بالّذين كَفَرُوا مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الشِّرْكِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ رَئِيسُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ كَانَ مُوَالِيًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَ يُغْرِيهِمْ بِغَزْوِ الْمَدِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاء: 51] . وَقَوْلُهُ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (أَنْ) فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ [الْإِسْرَاء: 74] ، وَالْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ. وَالتَّقْدِيرُ: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ بِهِمْ أَنْفُسُهُمْ سُخْطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَسُخْطُ اللَّهِ مَذْمُومٌ. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَخْصُوصُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ غَضَبًا خَاصًّا لِمُوَالَاتِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ فِي الْكَلَامِ فَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِسُخْطِ اللَّهِ هُوَ اللَّعْنَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْمَائِدَة: 78] . وَكَوْنُ ذَلِكَ مِمَّا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ مَعْلُومٌ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ إِلَخْ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِهِمُ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمَعْنَى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَادِقًا مَا اتَّخَذُوا الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءً. وَالْمُرَادُ بالنّبيء محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيءَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْقُرْآنُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: 28] . وَقَدْ جَعَلَ مُوَالَاتَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَامَةً عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَاءُ الرَّسُولِ فَمُوَالَاتُهُمْ لَهُمْ عَلَامَةٌ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ الْقِيَاسِ، أَيْ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فاسِقُونَ. فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ وفاسِقُونَ كَافِرُونَ، فَلَا عَجَبَ فِي مُوَالَاتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ لِاتِّحَادِهِمْ فِي مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ. فَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ أُعِيدَتِ النَّكِرَةُ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ الْأُولَى إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ إِعَادَتُهَا مَعْرِفَةً. أَلا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: 5، 6] . وَلَيْسَ ضَمِيرٌ مِنْهُمْ عَائِدًا إِلَى كَثِيراً إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْكَثِيرِ فَاسِقُونَ بَلِ المُرَاد كلّهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 84]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 82 إِلَى 84] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ مَا لَاقَى بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ شَنَّعَ مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ عَدَاوَتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ إِذْ قَالَ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَة: 64] ، فَكَرَّرَهَا مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمَائِدَة: 80] وَقَالَ: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 61] فَعُلِمَ تَلَوُّنُهُمْ فِي مُضَارَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَآذَاهُمْ. وَذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصَارَى مَا شَنَّعَ بِهِ عَقِيدَتَهُمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ مَا فِيهِ عَدَاوَتَهُمُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلِيَاءً فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: 51] الْآيَةَ. فَجَاءَ قَوْلُهُ: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً الْآيَةَ فَذْلَكَةٌ لِحَاصِلِ مَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُ الْفَرِيقَيْنِ نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَاللَّامُ فِي لَتَجِدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ يُقْصَدُ مِنْهَا التَّأْكِيدُ، وَزَادَتْهُ نُونُ التَّوْكِيدِ تَأْكِيدًا.

وَالْوِجْدَانُ هَنَا وِجْدَانٌ قَلْبِيٌّ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [96] . وَانْتَصَبَ عَداوَةً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ أَشَدَّ إِلَى النَّاسِ، وَمِثْلُهُ انْتِصَابُ مَوَدَّةً. وَذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْيَهُودِ لِمُنَاسَبَةِ اجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَلَّفَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ بُغْضُ الْإِسْلَامِ فَالْيَهُودُ لِلْحَسَدِ عَلَى مَجِيءِ النُّبُوءَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمُشْرِكُونَ لِلْحَسَدِ عَلَى أَنْ سَبَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَنَبْذِ الْبَاطِلِ. وَقَوْلُهُ: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً أَيْ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ. وَهَذَانِ طَرَفَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِرَقٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي بُغْضِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمُعَطِّلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّصَارَى هُنَا الْبَاقُونَ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ لَا مَحَالَةَ، لِقَوْلِهِ: أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا. فَأَمَّا مَنْ آمَنَ مِنَ النَّصَارَى فَقَدْ صَارَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ [الْمَائِدَة: 14] ، الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أَنْ يَكُونُوا أنصار الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصَّفّ: 14] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِهِ. فَالْمَقْصُودُ هُنَا تَذْكِيرُهُمْ بِمَضْمُونِ هَذَا اللَّقَبِ لِيَزْدَادُوا مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَّبِعُوا دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى النَّصَارَى. وَالْقِسِّيسُونَ جَمْعُ سَلَامَةٍ لِقِسِّيسٍ بِوَزْنِ سِجِينٍ. وَيُقَالُ قَسَّ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- وَهُوَ عَالِمُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ بِلُغَةِ الرُّومِ. وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْوِفَاقُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَالرُّهْبَانُ هُنَا جَمْعُ رَاهِبٍ، مِثْلُ رُكْبَانٍ جَمْعِ رَاكِبٍ، وَفُرْسَانٍ جَمْعِ فَارِسٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَقِيسٍ فِي وَصْفٍ عَلَى فَاعِلٍ. وَالرَّاهِبُ مِنَ النَّصَارَى الْمُنْقَطِعُ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرُّهْبَانُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، فَمَنْ جَعَلَهُ وَاحِدًا جَمَعَهُ عَلَى رَهَابِينَ وَرَهَابِنَةٍ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَلَمْ يَحْكِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ أَنَّ رُهْبَانَ يَكُونُ مُفْرَدًا. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْوَاحِدِ فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ بِالْجَبَلِ ... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيَزِلُّ وَإِنَّمَا كَانَ وُجُودُ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ بَيْنَهُمْ سَبَبًا فِي اقْتِرَابِ مَوَدَّتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ مِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَتَوَاضُعِهِمْ وَتَسَامُحِهِمْ. وَكَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ يُعَمِّرُونَ الْأَدْيِرَةَ وَالصَّوَامِعَ وَالْبِيَعَ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ عَرَبِ الشَّامِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الرُّومِ، فَقَدْ عَرَفَهُمُ الْعَرَبُ بِالزُّهْدِ وَمُسَالَمَةِ النَّاسِ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ شُعَرَائِهِمْ. قَالَ النَّابِغَةُ: لَوْ أَنَّهَا بَرَزَتْ لِأَشْمَطَ رَاهِبٍ ... عَبَدَ الْإِلَهَ صَرُورَةٍ مُتَعَبِّدِ لَرَنَا لِطَلْعَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا ... وَلَخَالَهُ رُشْدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ فَوُجُودُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ وَكَوْنُهُمْ رُؤَسَاءَ دِينِهِمْ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي صَلَاحِ أَخْلَاقِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ. وَالِاسْتِكْبَارُ: السِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى

التَّكَبُّرِ وَالتَّعَاظُمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَكَرَاهِيَةِ الْحَقِّ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنَّهُمْ مُتَوَاضِعُونَ مُنْصِفُونَ. وَضَمِيرُ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ بِأَنَّ مِنْهُمْ، أَيْ وَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى لَا يَسْتَكْبِرُونَ، فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ التَّوَاضُعَ لِجَمِيعِ أَهْلِ مِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَقَدْ كَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ مُتَحَلِّينَ بِمَكَارِمَ مِنَ الْأَخْلَاقِ. قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ آلَ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيِّ وَكَانُوا مُتَنَصِّرِينَ: مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ وَلَا يَحْسَبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ وَصْفٌ لِلنَّصَارَى كُلِّهِمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ نَصَارَى فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ الْمَوْصُولُ عَلَى الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ عَلَى ضَعْفِهِمْ فِيهَا ضَمَّ إِلَى مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ دِينِيَّةٍ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ زُهَيْرٌ وَلَبِيدٌ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلَ وَأَضْرَابُهُمْ. وَضَمِيرُ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَائِدٌ إِلَى قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَهَذَا تُشْعِرُ بِهِ إِعَادَةُ قَوْلِهِ وَأَنَّهُمْ، لِيَكُونَ إِيمَاءً إِلَى تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ فِي مَعَادِ الضَّمِيرِ، وَتَكُونَ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَثابَهُمُ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 83- 85] تَابِعَةً لِضَمِيرِ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَقَرِينَةُ صَرْفِ الضَّمَائِرِ الْمُتَشَابِهَةِ إِلَى مُعَادَيْنِ هِيَ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ وَارِدٌ فِي الضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: 9] . فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي عَمَرُوها الْأَوَّلِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي عَمَرُوها الثَّانِي. وَكَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا يُرِيدُ بِضَمِيرِ (أَحْرَزُوا) جَمَاعَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِضَمِيرِ (جَمَّعُوا) جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ. وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْمَعْنِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ كَانُوا فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَأَتَوْا الْمَدِينَةَ مَعَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ رَاهِبًا مِنَ الْحَبَشَةِ مُصَاحِبِينَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنْ هِجْرَتِهِمْ بِالْحَبَشَةِ وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ وَأَسْلَمُوا. وَهُمْ: بَحِيرَا الرَّاهِبُ، وَإِدْرِيسُ، وَأَشْرَفُ، وَأَبْرَهَةُ، وَثُمَامَةُ، وَقُثَمُ، وَدُرَيْدٌ، وَأَيْمَنُ، أَيْ مِمَّنْ يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ عِنْدَ سَمَاعِهِ. وَهَذَا الْوَفْدُ وَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ الَّذِينَ عَادُوا مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، سَنَةَ سَبْعٍ فَكَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْكِيرًا بِفَضْلِهِمْ. وَهِيَ مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ النَّصَارَى أَسْلَمُوا فِي زمن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَعَلَّ اللَّهَ أَعْلَمَ رَسُولَهُ بِفَرِيقٍ مِنَ النَّصَارَى آمنُوا بمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ لِقَائِهِ وَلَا مِنْ إِظْهَارِ إِيمَانِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ تَمَسَّكُوا بِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا اشْتِرَاطَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، لِأَنَّ بُلُوغَ الدَّعْوَةِ مُتَفَاوِتُ الْمَرَاتِبِ. وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ أَوْ بِالْيَمَنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّجَاشِيِّ (أَصْحَمَةَ) مِنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ أَخْبَرَ عَنْهُ بذلك النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي فِيهَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ تَكُونُ قَرِيبَةً مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالرَّسُولُ هُوَ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ غَالِبٌ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَرى أَعْيُنَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنْ كَانَ قَدْ رَأَى مِنْهُمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، أَوْ هُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَرَى. فَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يُخَاطَبُ. وَقَوْلُهُ: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مَعْنَاهُ يَفِيضُ مِنْهَا الدَّمْعُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَيْضِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الْمَائِعِ الْمُتَجَاوِزِ حَاوِيَهُ فَيَسِيلُ خَارِجًا عَنْهُ. يُقَالُ: فَاضَ الْمَاءُ، إِذَا تَجَاوَزَ ظَرْفَهُ. وَفَاضَ الدَّمْعُ إِذَا تَجَاوَزَ مَا يَغْرَوْرَقُ بِالْعَيْنِ. وَقَدْ يُسْنَدُ الْفَيْضُ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، فَيُقَالُ: فَاضَ الْوَادِي، أَيْ فَاضَ مَاؤُهُ، كَمَا يُقَالُ: جَرَى الْوَادِي، أَيْ جَرَى مَاؤُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . وَقَدْ يُقْرِنُونَ هَذَا الْإِسْنَادَ بِتَمْيِيزٍ يَكُونُ قَرِينَةً لِلْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ فَيَقُولُونَ: فَاضَتْ عَيْنُهُ دَمْعًا، بِتَحْوِيلِ الْإِسْنَادِ الْمُسَمَّى تَمْيِيزَ النِّسْبَةِ، أَيْ قَرِينَةَ النِّسْبَةِ الْمَجَازِيَّةِ. فَأَمَّا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِجْرَاؤُهُ عَلَى قَوْلِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ عَلَى الدَّمْعِ هِيَ الْبَيَانِيَّةُ الَّتِي يُجَرُّ بِهَا اسْمُ التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُمْتَنِعٌ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوجَةً عَلَى مِنْوَالِ الْقَلْبِ لِلْمُبَالَغَةِ، قُلِبَ قَوْلُ النَّاسِ الْمُتَعَارَفُ: فَاضَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنِ فُلَانٍ، فَقِيلَ: أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، فَحَرْفُ (مِنْ) حَرْفُ ابْتِدَاءٍ. وَإِذَا أُجْرِيَ عَلَى قَوْلِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ كَانَتْ (مِنْ) بَيَانِيَّةً جَارَّةً لِاسْمِ التَّمْيِيزِ. وَتَعْرِيفُ الدَّمْعِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، مِثْلَ: طِبْتَ النَّفْسَ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَرَفُوا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ سَبَبُ فَيْضِهَا مَا عَرَفُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْمَوْعُود بِهِ. فَمن قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَة: 92] ، أَيْ فَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنِ انْفِعَالِ الْبَهْجَةِ بِأَنْ حَضَرُوا مَشْهَدَ تَصْدِيقِ عِيسَى فِيمَا بَشَّرَ بِهِ، وَأَنْ حَضَرُوا الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ فَفَازُوا بِالْفَضِيلَتَيْنِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ

مِنَ الْحَقِّ بَيَانِيَّةٌ. أَيْ مِمَّا عَرَفُوا، وَهُوَ الْحَقُّ الْخَاصُّ. أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ مِمَّا عَرَفُوهُ وَهُوَ النَّبِيءُ الْمَوْعُودُ بِهِ الَّذِي خَبَرُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى وَالنَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِهِ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالٌ، أَيْ تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ فِي حَالِ قَوْلِهِمْ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي خويّصتهم. وَالْمرَاد بالشاهدين الَّذِينَ شَهِدُوا بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَصَدَّقُوهُمْ. وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا فِي أَزْمَانِ ابْتِدَاءِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَلَا تَحْصُلُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. وَتِلْكَ الْفَضِيلَةُ أَنَّهَا الْمُبَادَرَةُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عِنْدَ بَعْثَتِهِمْ حِينَ يكذبهم النَّاس بادىء الْأَمْرِ. كَمَا قَالَ وَرَقَةُ: يَا لَيْتَنِي أَكُونُ جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. أَيْ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ. أَوْ أَرَادُوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ، فَيَكُونُوا شَهَادَةً عَلَى مَجِيئِهِ وَشَهَادَةً بِصِدْقِ عِيسَى. فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى عَدَدِ 24 مِنْ قَوْلِ عِيسَى «وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَفُوزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ شَهَادَةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ» . وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا عَدَدِ 15 مِنْ قَوْلِ عِيسَى «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزَّى رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ» . وَإِنَّ لِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الشَّاهِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعًا لَا تُغْنِي فِيهِ غَيْرُهُمَا لِأَنَّهُمَا تُشِيرَانِ إِلَى مَا فِي بِشَارَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَوْلُهُ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ، هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي أنفسهم عِنْد مَا يُخَامِرُهُمُ التَّرَدُّدُ فِي أَمْرِ النُّزُوعِ عَنْ دِينِهِمُ الْقَدِيمِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ التَّرَدُّدُ يَعْرِضُ لِلْمُعْتَقِدِ عِنْدَ الهمّ بِالرُّجُوعِ فِي اعْتِقَادِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِمَنْ يُعَارِضُهُمْ مَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ وَيُشَكِّكُهُمْ فِيمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِمَنْ يُعَيِّرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ

[سورة المائدة (5) : آية 85]

أَوْ غَيْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَلَّبُوا فِي دِينِهِمْ. فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ عَيَّرُوا النَّفَرَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، إِذَا صَحَّ خَبَرُ إِسْلَامِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ «مَا لَنَا لَا نَفْعَلُ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [75] . وَجُمْلَةُ وَنَطْمَعُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ مَا لَنا لَا نُؤْمِنُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ كَيْفَ نَتْرُكُ الْإِيمَانَ بِالْحَقِّ وَقَدْ كُنَّا مِنْ قَبْلُ طَامِعِينَ أَنْ يَجْعَلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ مِثْلَ الْحَوَارِيِّينَ، فَكَيْفَ نُفْلِتُ مَا عَنَّ لَنَا مِنْ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْجَلِيلَةِ. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ نُؤْمِنُ لِئَلَّا تَكُونَ مَعْمُولَةً لِلنَّفْيِ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا لَنَا لَا نَطْمَعُ، لِأَنَّ الطَّمَعَ فِي الْخَيْرِ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ وَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ صَاحِبُهُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ لِنَفْسِهِ بِ (مَا لَنَا لَا نَفْعل) . [85] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 85] فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا ... [الْمَائِدَة: 83] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمَعْنَى (أَثَابَهُمْ) أَعْطَاهُمُ الثَّوَابَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [103] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِما قالُوا لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالْمرَاد بالْقَوْل قَول الصَّادِقُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ لِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَمَا قَالُوهُ هُوَ مَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ... [الْمَائِدَة: 83] الْآيَةَ. وَأَثَابَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ بَابِ أَعْطَى، فَ جَنَّاتٍ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْطَى لَهُمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ إِلَى الثَّوَابِ الْمَأْخُوذ من فَأَثابَهُمُ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا بِهَا مِنَ الْأَنْهَارِ وَخُلُودِهِمْ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ.

[سورة المائدة (5) : آية 86]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 86] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) هَذَا تَتْمِيمٌ وَاحْتِرَاسٌ، أَيْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّصَارَى وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ هُمْ بِضِدِّ الَّذِينَ أَثَابَهُمُ اللَّهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. وَأَصْحَابُ الْجَحِيمِ مُلَازِمُوهُ. وَالْجَحِيمُ جَهَنَّمُ. وَأَصْلُ الْجَحِيمِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ تُجْعَلُ فِي حُفْرَةٍ لِيَدُومَ لَهِيبُهَا. يُقَالُ: نَارٌ جَحْمَةٌ، أَيْ شَدِيدَةُ اللَّهَبِ. قَالَ بَعْضُ الطَّائِيِّينَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: نَحْنُ حَبَسْنَا بَنِي جَدِيلَةَ فِي ... نَارٍ مِنَ الْحَرْبِ جحمة الضرم [78، 88] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 87 إِلَى 88] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ، وَتَكْمِلَةٌ عَلَى صُورَةِ التَّفْرِيعِ جَاءَتْ لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي الزُّهْدِ وَأَحْدَثُوا رَهْبَانِيَّةً مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّزَوُّجِ وَعَنْ أَكْلِ اللُّحُومِ وَكَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ كَالتَّدَهُّنِ وَتَرْفِيهِ الْحَالَةِ وَحُسْنِ اللِّبَاسِ، نَبَّهَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ بِمَا لَهُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ لَا يَقْتَضِي اطِّرَادَ الثَّنَاءِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِمُ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَصَادَفَ أَنْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طَمَحَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى التَّقَلُّلِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِلَذَائِذِ الْعَيْشِ اقْتِدَاءً بِصَاحِبِهِمْ سيّد الزاهدين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ أَنَّ نَفَرًا تَنَافَسُوا فِي الزُّهْدِ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ

لَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ النَّهَار، وَقَالَ آخر: أَمَّا أَنَا فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ كَذَا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: لَكِنِّي أَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَآتِي النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَمَعْنَى هَذَا فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيِّ، وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَرْفُضُوا أَشْغَالَ الدُّنْيَا، وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَرَهَّبُوا. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ» . فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ .. وَهَذَا الْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ كَانَ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَارٌ بِالْمَدِينَةِ وَأَسْكَنَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي قِيلَ: إِنَّهَا زَوْجَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَتُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ نَاسًا قَالُوا إِنِ النَّصَارَى قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَنَحْنُ نُحَرِّمُ عَلَى أَنْفُسِنَا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ فَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَكَلَ اللَّحْمِ، وَبَعْضُهُمُ النَّوْمَ، وَبَعْضُهُمُ النِّسَاءَ وَأَنَّهُمْ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ بِأَيْمَانٍ حَلَفُوهَا عَلَى تَرْكِ مَا الْتَزَمُوا تَرْكَهُ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى وُقُوعِ انْصِرَافِ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزّهْد وارادة فِي الصَّحِيحِ، مِثْلَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي. قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ.

وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ» . وَحَدِيثِ سَلْمَانَ مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ سَلْمَانَ زَارَ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ طَعَامًا فَقَالَ لِسَلْمَانَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، وَقَالَ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأتى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَرْقُدُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَالنَّهْيُ إنّما هُوَ عَن تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى النَّفْسِ. أَمَّا تَرْكُ تَنَاوُلِ بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ وَلِقَصْدِ التَّرْبِيَةِ لِلنَّفْسِ عَلَى التَّصَبُّرِ عَلَى الْحِرْمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِجْدَانِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ. وَكَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لِلتَّطَلُّعِ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ شُغْلٍ بِعَمَلٍ نَافِعٍ وَهُوَ أَعْلَى الزُّهْدِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ سُنَّةَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاصَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهِيَ حَالَةٌ تُنَاسِبُ مَرْتَبَتَهُ وَلَا تَتَنَاسَبُ مَعَ بَعْضِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، فَالتَّطَلُّعُ إِلَيْهَا تَعْسِيرٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَنَاوَلُ الطَّيِّبَاتِ دُونَ تَشَوُّفٍ وَلَا تَطَلُّعٍ. وَفِي تَنَاوُلِهَا شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ حِينَ حَلَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَائِطِهِ وَأَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ وَمَعَهُ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ (¬1) وَأَصْحَابُهُ فَجَلَسُوا عَلَى مَائِدَةٍ فِيهَا أَلْوَانٌ مِنَ الطَّعَامِ دَجَاجٌ مُسَمَّنٌ وَفَالَوْذٌ فَاعْتَزَلَ فَرْقَدٌ نَاحِيَةً. فَسَأَلَهُ الْحَسَنُ: أَصَائِمٌ أَنْتَ، قَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْأَلْوَانَ لِأَنِّي ¬

(¬1) فرقد بن يَعْقُوب الأرميني من أَصْحَاب الْحسن توفّي سنة 131 نزيل السبخة، مَوضِع بِالْبَصْرَةِ.

لَا أُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْحَسَنُ: أَفَتَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ فِي الْفَالَوْذِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ أَنْ يَلْفِظَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ خَاصَّةً بَلْ أَنْ يَتْرُكَهُ تَشْدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءً لَفَظَ بِالتَّحْرِيمِ أَمْ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا النَّهْيِ اعْتُبِرَ هَذَا التَّحْرِيمُ لَغْوًا فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَجْعَلُ الْإِسْلَامُ لِلتَّحْرِيمِ سَبِيلًا إِلَيْهَا وَهِيَ كُلُّ حَالٍ عَدَا تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ أَوْ عَمَّمَ فَقَالَ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَلَالِ إِلَّا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ كَالْبَتَاتِ مَا لَمْ يَنْوِ إِخْرَاجَ الزَّوْجَةِ قَبْلَ النُّطْقِ بِصِيغَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ يُخْرِجُهَا بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النُّطْقِ بِصِيغَةِ التَّحْرِيمِ، عَلَى حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ عَقْدَ الْعِصْمَةِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّحْرِيمُ شَرْعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ الْتِزَامُ التَّحْرِيمِ لَازِمًا فِيهَا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ لَوْ حَرَّمَ الزَّوْجَةَ وَحْدَهَا حَرُمَتْ، فَكَذَلِكَ إِذَا شَمِلَهَا لَفْظٌ عَامٌّ. وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ حَرُمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَإِنْ كَفَّرَ حَلَّ لَهُ إِلَّا الزَّوْجَةَ. وَذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَأَبُو سَلَمَةَ إِلَى عَدَمِ لُزُومِ التَّحْرِيمِ فِي الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ تَنْبِيهٌ لِفُقَهَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاحْتِرَازِ فِي الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ كَانَ دَلِيلُهُ غَيْرَ بَالِغٍ قُوَّةَ دَلِيلِ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: 32] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ [الْأَنْعَام: 140] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَام: 143، 144] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا

وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [النَّصْر: 2] . وَكَانَ قِصَرُ الزَّمَانِ وَاتِّسَاعُ الْمَكَانِ حَائِلَيْنِ دُونَ رُسُوخِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الِانْتِهَاءِ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَاشِيَةٍ فِيهِمْ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ أَيَّامُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَا تَقَدَّمَهَا وَمَا تَأَخَّرَ عَنْهَا. وَجُمْلَةُ وَلا تَعْتَدُوا مُعْتَرِضَةٌ، لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا شَرْعَ اللَّهِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَبِمَا فِي هَذَا النَّهْيِ مِنَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا. وَالِاعْتِدَاءُ افْتِعَالُ الْعَدُوِّ، أَيِ الظُّلْمُ. وَذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ تَجَاوُزِ حَدِّ الْإِذْنِ الْمَشْرُوعِ، كَمَا قَالَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَة: 229] . فَلَمَّا نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَرْدَفَهُ بِالنَّهْيِ عَنِ اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَهُوَ أَشَدُّ الِاعْتِدَاءِ، أَوْ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ دُونَ حَقِّ النَّاسِ، كَتَنَاوُلِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْمَيْتَةِ. وَيَعُمُّ الِاعْتِدَاءُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ جَمِيعَ جِنْسِهِ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَأَعْظَمُهُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الضُّعَفَاءِ كَالْوَأْدِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَعَضْلِ الْأَيَامَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ كُلِّ اعْتِدَاءٍ. وَقَوْلُهُ: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ بِالْحَلَالِ فَلَا تَعْتَدُوهُ إِلَى الْحَرَامِ فَتَكْفُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا تَتْرُكُوهُ بِالتَّحْرِيمِ فَتُعْرِضُوا عَنِ النِّعْمَةِ. وَاقْتُصِرَ عَلَى الْأَكْلِ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا حَرَّمَهُ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ الْمَآكِلُ. وَكَأَنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِهِمْ بِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِالْمُهِمَّاتِ خَيْرٌ مِنَ التَّهَمُّمِ بِالْأَكْلِ، كَمَا قَالَ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [الْمَائِدَة: 93] الْآيَةَ. وَبِذَلِكَ أَبْطَلَ

[سورة المائدة (5) : آية 89]

مَا فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ مِنْ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِأَحْكَامِ الْمَأْكُولَاتِ. وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ جَاءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، أَيْ لِأَنَّ شَأْنَ الْإِيمَانِ أَنْ يَقْتَضِيَ التَّقْوَى، فَلَمَّا آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَاهْتَدَيْتُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَكَمِّلُوهُ بِالتَّقْوَى. رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ لَقِيَ الْفَرَزْدَقَ فِي جَنَازَةٍ، وَكَانَا عِنْدَ الْقَبْرِ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا. يَعْنِي الْقَبْرَ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله كَذَا كَذَا سَنَةً. فَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْعَمُودُ، فَأَيْنَ الْأَطْنَاب. [89] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 89] لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: 87] لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَقَعُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ بِأَيْمَانٍ مَعْزُومَةٍ، أَوْ بِأَيْمَانٍ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْكَلَامِ، كَأَنْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ كَذَا، أَوْ تَجْرِي بِسَبَبِ غَضَبٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَلَا حَاجَةَ لِإِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ لِذِكْرِ هَذَا بَعْدَ مَا قَبْلَهُ. رَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: 87] ونهاهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا الَّتِي حَلَفْنَاهَا عَلَيْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ الْآيَةَ.

فَشَرَعَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَتَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: 87] ، وَلَا فِي جَعْلِ مِثْلِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الَّذِينَ نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. فَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ حَادِثَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ أُلْحِقَتْ بِحُكْمِ لَغْوِ الْيَمِينِ فِي الرُّخْصَةِ لَهُمْ فِي التَّحَلُّلِ مِنْ أَيْمَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ، أَيْ مَا قَصَدْتُمْ بِهِ الْحَلِفَ. وَهُوَ يُبَيِّنُ مُجْمَلَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [225] بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَقَّدْتُمُ- بِتَشْدِيدِ الْقَافِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ- بِتَخْفِيفِ الْقَافِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ عَاقَدْتُمُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْعَيْنِ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. فَأَمَّا عَقَّدْتُمُ بِالتَّشْدِيدِ فَيُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي فِعْلِ عَقَدَ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَاقَدْتُمُ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ فِيهِ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ، مِثْلُ عَافَاهُ اللَّهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَلِأَنَّ مَادَّةَ الْعَقْدِ كَافِيَةٌ فِي إِفَادَةِ التَّثْبِيتِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ التَّوَثُّقِ بِالْيَمِينِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ التَّوَثُّقِ بِثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: عَقَدَ الْمُخَفَّفُ، وَعَقَّدَ الْمُشَدَّدُ، وَعَاقَدَ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ. وَالْكَفَّارَةُ مُبَالَغَةٌ فِي كَفَرَ بِمَعْنَى سَتَرَ وَأَزَالَ. وَأَصْلُ الْكَفْرِ- بِفَتْحِ الْكَافِ- السَّتْرُ. وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا دَلَالَتَانِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ هُمَا التَّضْعِيفُ وَالتَّاءُ الزَّائِدَةُ، كَتَاءِ نَسَّابَةٍ وَعَلَّامَةٍ. وَالْعَرَبُ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا غَالِبًا. وَقَوْلُهُ: إِذا حَلَفْتُمْ أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَأَرَدْتُمُ التَّحَلُّلَ مِمَّا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ

فَدَلَالَةُ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى صُدُورِ الْحَلِفِ بَلْ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْحَلِفِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ إِثْمٍ، وَذَلِكَ هُوَ إِثْمُ الْحِنْثِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى وُقُوعِ الْحِنْثِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ إِضَافَةِ كَفَّارَةُ إِلَى أَيْمانِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْحَلِفَ هُوَ سَبَبُ السَّبَبِ فَإِذَا عَزَمَ الْحَالِفُ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِيَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ حَلَفَ جَازَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِوَضِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ يَعْنِي غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ هُوَ مُوجِبُ الْكَفَّارَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةُ اقْتِضَاءٍ لَا مَحَالَةَ فَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِلَفْظِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ. وَأَصْلُ هَذَا الْحُكْمِ قَوْلُ مَالِكٍ بِجَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحِنْثِ. وَلَمْ يَسْتَدِلْ بِالْآيَةِ. فَاسْتَدَلَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ تَأْيِيدًا لِلسُّنَّةِ. وَالتَّكْفِيرُ بَعْدَ الْحِنْثِ أَوْلَى. وَعَقَّبَ التَّرْخِيصَ الَّذِي رَخَّصَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِأَيْمَانِ اللَّغْوِ فَقَالَ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ. فَأَمَرَ بِتَوَخِّي الْبِرِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ وَلَا ضُرٌّ بِالْغَيْرِ، لِأَنَّ فِي الْبِرِّ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ جَرَى مُعْتَادُهُمْ بِأَنْ يُقْسِمُوا إِذَا أَرَادُوا تَحْقِيقَ الْخَبَرِ، أَوْ إِلْجَاءَ أَنْفُسِهِمْ إِلَى عَمَلٍ يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَنْدَمُوا عَنْ عَزْمِهِمْ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ السَّخِيفَةِ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْإِقْلَالِ مِنَ الْحَلِفِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ الْحَالِفُ نَفْسَهُ لِلْحِنْثِ. وَالْكَفَّارَةُ مَا هِيَ إِلَّا خُرُوجٌ مِنَ الْإِثْمِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِأَيُّوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] . فَنَزَّهَهُ عَنِ الْحِنْثِ بِفَتْوًى خَصَّهُ بِهَا. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ تَذْيِيلٌ. وَمَعْنَى كَذلِكَ كَهَذَا الْبَيَانِ يُبَيِّنُ اللَّهُ، فَتِلْكَ عَادَةُ شَرْعِهِ أَنْ يَكُونَ بَيِّنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 إلى 91]

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [21] . [90، 91] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 90 إِلَى 91] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَقْفِيَةً عَلَى الْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَهُ لِيُنْظَمَ مَضْمُونُهُ فِي السِّلْكِ الَّذِي انْتَظَمَ فِيهِ مَضْمُونُ الْخِطَابِ السَّابِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَعْتَدُوا [الْمَائِدَة: 87] الْمُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ، كَمَا نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، نَهَى عَنِ اسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى مَفَاسِدَ، فَإِنَّ الْخَمْرَ كَانَ طَيِّبًا عِنْدَ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْل: 67] . وَالْمَيْسِرُ كَانَ وَسِيلَةً لِإِطْعَامِ اللَّحْمِ مَنْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالِاحْتِرَاسِ عَمَّا قَدْ يُسَاءُ تَأْوِيلُهُ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْأَنْعَام: 87] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَقَعَ مُدَرَّجًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: الْأُولَى حِينَ نزلت آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَة: 219] ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَهْيًا غَيْرَ جَازِمٍ، فَتَرَكَ شُرْبَ الْخَمْرِ نَاسٌ كَانُوا أَشَدَّ تَقْوًى. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ [43] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، فَتَجَنَّبَ الْمُسْلِمُونَ شُرْبَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُظَنُّ بَقَاءُ السُّكْرِ مِنْهَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا.

ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْعُقُودِ وَوُضِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهَا هُنَا. وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُلَاحَاةٍ جَرَتْ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنُسْقِكَ خَمْرًا- وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ- فَأَتَيْتُهُمْ فِي حُشٍّ، وَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ، فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْيَ جَمَلٍ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيَّ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: 43] ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: 219] نَسَخَتْهُمَا فِي الْمَائِدَةِ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ الشَّارِعِ مُتَقَدِّمًا لِلْأُمَّةِ فِي إِيضَاحِ أَسْبَابِهِ رِفْقًا بِهِمْ وَاسْتِئْنَاسًا لِأَنْفُسِهِمْ، فَابْتَدَأَهُمْ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَمْ يُسَفِّهْهُمْ فِيمَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَنْبَأَهُمْ بِعُذْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَة: 219] ، ثُمَّ بِآيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهَا بِالتَّحْرِيمِ بِآيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَحَصَرَ أَمْرَهُمَا فِي أَنَّهُمَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَرَجَا لَهُمُ الْفَلَاحَ فِي اجْتِنَابِهِمَا بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَثَارَ مَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ بُغْضِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ. ثُمَّ قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فَجَاءَ بِالِاسْتِفْهَامِ لِتَمْثِيلِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ مَنْ بَيَّنَ لَهُ الْمُتَكَلِّمُ حَقِيقَةَ شَيْءٍ ثُمَّ اخْتَبَرَ مِقْدَارَ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْبَيَانِ فِي نَفْسِهِ. وَصِيغَةُ: هَلْ أَنْتَ فَاعِلٌ كَذَا. تُسْتَعْمَلُ لِلْحَثِّ عَلَى فِعْلٍ فِي مَقَامِ الِاسْتِبْطَاءِ،

نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [39] ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا ... أَوْ عَبْدِ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ (دِينَارٌ اسْمُ رَجُلٍ، وَكَذَا عَبْدُ رَبٍّ. وَقَوْلُهُ: أَخَا عَوْنٍ أَوْ عَوْفٍ نِدَاءٌ، أَيْ يَا أَخَا عَوْنٍ) . فَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُتَقَرِّرٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ وَفَدُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُمْ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَنْتَبِذُوا فِي الْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَالدُّبَّاءِ، لِأَنَّهَا يُسْرِعُ الِاخْتِمَارُ إِلَى نَبِيذِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْصَابِ هُنَا عِبَادَةُ الْأَنْصَابِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَزْلَامِ الِاسْتِقْسَامُ بِهَا، لِأَنَّ عَطْفَهَا عَلَى الْمَيْسِرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَزْلَامٌ غَيْرُ الْمَيْسِرِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : ذِكْرُ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ مَعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ التَّحْرِيمِ لِلْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَنْصَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الْمَائِدَة: 3] ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَزْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [3] . وَأَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَتَحْرِيمَ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْوَارِدُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالْمُقَرَّرُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ هُنَا تَعَاطِيهَا، كُلٌّ بِمَا يُتَعَاطَى بِهِ مِنْ شُرْبٍ وَلَعِبٍ وَذَبْحٍ وَاسْتِقْسَامٍ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالرِّجْسِ لَا تَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا عَدَا صِفَةَ الرِّجْسِ مِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [219] فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، فَأَثْبَتَ لَهُمَا الْإِثْمَ، وَهُوَ صِفَةٌ

تُسَاوِي الرِّجْسَ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الْإِثْمَ يَقْتَضِي التَّبَاعُدَ عَنِ التَّلَبُّسِ بِهِمَا مِثْلُ الرِّجْسِ. وَأَثْبَتَ لَهُمَا الْمَنْفَعَةَ، وَهِيَ صِفَةٌ تُسَاوِي نَقِيضَ الرِّجْسِ، فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَسْتَلْزِمُ حِرْصَ النَّاسِ عَلَى تَعَاطِيهِمَا، فَصَحَّ أَنَّ لِلْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ صِفَتَيْنِ. وَقَدْ قَصَرَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا يُسَاوِي إِحْدَى تَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ أَعْنِي الرِّجْسَ، فَمَا هُوَ إِلَّا قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ يُشِيرُ إِلَى مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [219] مِنْ قَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، فَإِنَّهُ لَمَّا نَبَّهَنَا إِلَى تَرْجِيحِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِثْمِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ نَبَّهَنَا إِلَى دَحْضِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ قُبَالَةَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِثْمِ حَتَّى كَأَنَّهُمَا تَمَحَّضَا لِلِاتِّصَافِ بِ فِيهِما إِثْمٌ [الْبَقَرَة: 219] ، فَصَحَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِمَا مَا يُفِيدُ انْحِصَارَهُمَا فِي أَنَّهُمَا فِيهِمَا إِثْمٌ، أَيِ انْحِصَارُهُمَا فِي صِفَةِ الْكَوْنِ فِي هَذِهِ الظَّرْفِيَّةِ كَالِانْحِصَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] ، أَيْ حِسَابُهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهِ عَلَى رَبِّي، أَيِ انْحَصَرَ حِسَابُهُمْ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَرْفِ. وَذَلِكَ هُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةِ الرِّجْسِ. وَالرِّجْسُ الْخُبْثُ الْمُسْتَقْذَرُ وَالْمَكْرُوهُ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَذَمَّاتِ الْبَاطِنَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الْأَحْزَاب: 33] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْخَبِيثُ فِي النُّفُوسِ وَاعْتِبَارِ الشَّرِيعَةِ. وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ فَالْإِخْبَارُ بِهِ كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ، فَأَفَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الِاتِّصَافِ بِهِ حَتَّى كَأَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ عَيْنُ الرجس. وَلذَلِك أَيْضا أُفْرِدَ (رِجْسٌ) مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ مُتَعَدِّدٍ لِأَنَّهُ كَالْخَبَرِ بِالْمَصْدَرِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَنَّ تَعَاطِيَهَا بِمَا تُتَعَاطَى لِأَجْلِهِ مِنْ تَسْوِيلِهِ لِلنَّاسِ تَعَاطِيَهَا، فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَمِلَهَا وَتَعَاطَاهَا، وَفِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ لِمُتَعَاطِيهَا بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، فَهُوَ شَيْطَانٌ، وَذَلِكَ مِمَّا تَأْبَاهُ النُّفُوسُ.

وَالْفَاءُ فِي فَاجْتَنِبُوهُ لِلتَّفْرِيعِ وَقَدْ ظَهَرَ حُسْنُ مَوْقِعِ هَذَا التَّفْرِيعِ بَعْدَ التَّقَدُّمِ بِمَا يُوجِبُ النُّفْرَةَ مِنْهَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوهُ عَائِدٌ إِلَى الرِّجْسِ الْجَامِعِ لِلْأَرْبَعَةِ. ولَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ رَجَاءٌ لَهُمْ أَنْ يُفْلِحُوا عِنْدَ اجْتِنَابِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: 21] . وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا اخترته فِي مَحل (لَعَلَّ) وَهُوَ الْمُطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهَا، وَأَمَّا الْمَحَامِلُ الَّتِي تَأَوَّلُوا بِهَا (لَعَلَّ) فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَبَعْضُهَا لَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتَأَمَّلْهُ. وَاجْتِنَابُ الْمَذْكُورَاتِ هُوَ اجْتِنَابُ التَّلَبُّسِ بِهَا فِيمَا تَقْصِدُ لَهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا فَاجْتِنَابُ الْخَمْرِ اجْتِنَابُ شُرْبِهَا وَالْمَيْسِرِ اجْتِنَابُ التَّقَامُرِ بِهِ، وَالْأَنْصَابِ اجْتِنَابُ الذَّبْحِ عَلَيْهَا وَالْأَزْلَامِ اجْتِنَابُ الِاسْتِقْسَامِ بِهَا وَاسْتِشَارَتِهَا. وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الِاجْتِنَابِ اجْتِنَابُ مَسِّهَا أَوْ إِرَاءَتِهَا لِلنَّاسِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اعْتِبَارٍ بِبَعْضِ أَحْوَالِهَا فِي الِاسْتِقْطَارِ وَنَحْوِهُ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ صُوَرِهَا، أَوْ حِفْظِهَا كَآثَارٍ مِنَ التَّارِيخِ أَوْ تَرْكِ الْخَمْرِ فِي طَوْرِ اخْتِمَارِهَا لِمَنْ عَصَرَ الْعِنَبَ لِاتِّخَاذِهِ خَلًّا، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِهِ. فَأَمَّا اجْتِنَابُ مُمَاسَّةِ الْخَمْرِ وَاعْتِبَارُهَا نَجِسَةً لِمَنْ تَلَطَّخَ بِهَا بَعْضُ جَسَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ فَهُوَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَمْرِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ الْمَعْنَوِيِّ وَالذَّاتِيِّ، فَاعْتَبَرُوا الْخَمْرَ نَجِسَ الْعَيْنِ يَجِبُ غَسْلُهَا كَمَا يَجِبُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ، حَمْلًا لِلَفْظِ الرِّجْسِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَحْتَمِلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَلَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي قِدَاحِ الْمَيْسِرِ وَلَا فِي حِجَارَةِ الْأَنْصَابِ وَلَا فِي الْأَزْلَامِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ الْخَمْرِ لَا وَجْهَ لَهَا مِنَ النَّظَرِ. وَلَيْسَ فِي الْأَثَرِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ. وَلَعَلَّ كَوْنَ الْخَمْرِ مَائِعَةً هُوَ الَّذِي قَرَّبَ شَبَهَهَا بِالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، فَلَمَّا وُصِفَتْ بِأَنَّهَا رِجْسٌ حُمِلَ فِي خُصُوصِهَا عَلَى مَعْنَيَيْهِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ

الصَّحَابَةِ غَسَلُوا جِرَارَ الْخَمْرِ لَمَّا نُودِيَ بِتَحْرِيم شربهَا لذَلِك مِنَ الْمُبَالغَة فِي التبرّي مِنْهَا وَإِزَالَةِ أَثَرِهَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَسَّرَ جِرَارَهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ كَسْرِ الْإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ. عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ. وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أبي عبد الرحمان، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنَ الْقَيْرَوَانِيِّينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَيْرَوَانِيِّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ (¬1) عَلَى طَهَارَتِهَا بِأَنَّهَا سُفِكَتْ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَتْ نَجَسًا لَنُهُوا عَنْهُ، إِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِرَاقَةِ النَّجَاسَةِ فِي الطُّرُقِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ عَنِ ابْنِ لُبَابَةَ أَنَّهُ أَقَامَ قَوْلًا بِطَهَارَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَأَقُولُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَأَنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ نَجَاسَةِ عَيْنِهَا، إِنَّمَا الْقَصْدُ أَنَّهَا رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَبَيَّنَهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَعْتَمِدُ الْخَبَاثَةَ وَالْقَذَارَةَ وَلَيْسَتِ الْخَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَنَزَّهَ السَّلَفُ عَنْ مُقَارَبَتِهَا لِتَقْرِيرِ كَرَاهِيَّتِهَا فِي النُّفُوسِ. وَجُمْلَةُ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بَيَانٌ لِكَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَمَعْنَى يُرِيدُ يُحِبُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [44] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [64] . وَقَوْلُهُ: فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَيْ فِي تَعَاطِيهِمَا، عَلَى مُتَعَارَفِ إِضَافَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى الذَّوَاتِ، أَيْ بِمَا يَحْدُثُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ إِثَارَةِ الْخُصُومَاتِ وَالْإِقْدَامِ ¬

(¬1) أَخذ عَن سَحْنُون ولد سنة 319 وَتُوفِّي سنة 330.

عَلَى الْجَرَائِمِ، وَمَا يَقَعُ فِي الْمَيْسِرِ مِنَ التَّحَاسُدِ عَلَى الْقَامِرِ، وَالْغَيْظِ وَالْحَسْرَةِ لِلْخَاسِرِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِك من التشاتم وَالسِّبَابِ وَالضَّرْبِ. عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ حُدُوثِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ أُمَّةٍ بَيْنَ أَفْرَادِهَا الْبَغْضَاءُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» . وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ للسبيبة أَوِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ فِي مَجَالِسِ تَعَاطِيهِمَا. وَأَمَّا الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَلِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ، وَمَا فِي الْمَيْسِرِ مِنَ اسْتِفْرَاغِ الْوَقْتِ فِي الْمُعَاوَدَةِ لِتَطَلُّبِ الرِّبْحِ. وَهَذِهِ أَرْبَعُ عِلَلٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ اجْتِمَاعُهَا مُقْتَضِيًا تَغْلِيظَ التَّحْرِيمِ. وَيُلْحَقُ بِالْخَمْرِ كُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى صِفَتِهَا مِنْ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَيُلْحَقُ بِالْمَيْسِرِ كُلُّ مَا شَارَكَهُ فِي إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْقِمَارِ كُلِّهَا أَمَّا مَا كَانَ مِنَ اللَّهْوِ بِدُونِ قِمَارٍ كَالشَّطْرَنْجِ دُونَ قِمَارٍ، فَذَلِكَ دُونَ الْمَيْسِرِ، لِأَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ يَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوقِعُ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ غَالِبًا، فَتَدْخُلُ أَحْكَامُهُ تَحْتَ أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَالذِّكْرُ الْمَقْصُودُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ من الذّكر اللِّسَان فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ وَكَلَامَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الَّذِي فِيهِ نَفْعُهُمْ وَإِرْشَادُهُمْ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ أَحْكَامِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا انْغَمَسُوا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَفِي التَّقَامُرِ غَابُوا عَنْ مَجَالِسِ الرَّسُولِ وَسَمَاعِ خُطَبِهِ، وَعَنْ مُلَاقَاةِ أَصْحَابِهِ الْمُلَازِمِينَ لَهُ فَلَمْ يَسْمَعُوا الذِّكْرَ وَلَا يَتَلَقَّوْهُ مِنْ أَفْوَاهِ سَامِعِيهِ فَيَجْهَلُوا شَيْئًا كَثِيرًا فِيهِ مَا يَجِبُ عَلَى المكلّف مَعْرفَته. فالسيء الَّذِي يَصُدُّ عَنْ هَذَا هُوَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَرَّمَ تَعَاطِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ تَذَكُّرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَإِنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. فَالشَّيْءُ الَّذِي يَصُدُّ عَنْ تَذَكُّرِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ هُوَ ذَرِيعَةٌ لِلْوُقُوعِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَفِي اقْتِحَامِ

النَّهْيِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ بِوَاجِبٍ عَدَا مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَذَلِكَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَعَنِ الصَّلاةِ. وَقَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ الْآيَةَ، فَإِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ مَفَاسِدِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ كَافٍ فِي انْتِهَاءِ النَّاسِ عَنْهُمَا فَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ لِإِعَادَةِ نَهْيِهِمْ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِاسْتِفْهَامِهِمْ عَنْ مَبْلَغِ أَثَرِ هَذَا الْبَيَانِ فِي نُفُوسِهِمْ تَرْفِيعًا بِهِمْ إِلَى مَقَامِ الْفَطِنِ الْخَبِيرِ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ كُلِّهِ نَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِيهَا لَكَانَ قَدْ أَنْزَلَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَبِيِّ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنْ بَدِيعِ لُطْفِ الْخِطَابِ مَا بَلَغَ بِهِ حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَلِذَلِكَ اختير الِاسْتِفْهَام بهل الَّتِي أَصْلُ مَعْنَاهَا (قَدْ) . وَكَثُرَ وُقُوعُهَا فِي حَيِّزِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام، فاستغنوا بهل عَنْ ذِكْرِ الْهَمْزَةِ، فَهِيَ لِاسْتِفْهَامٍ مُضَمَّنٍ تَحْقِيقَ الْإِسْنَادِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، دُونَ الْهَمْزَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: أَتَنْتَهُونَ، بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الْفرْقَان: 20] . وَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَ هَلْ اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ حُصُولِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَأُرِيدَ مَعَهَا مَعْنَاهُ الْكِنَائِيُّ، وَهُوَ التَّحْذِيرُ مِنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ الْآيَةَ قَالَ: «انْتَهَيْنَا! انْتَهَيْنَا!» . وَمِنَ الْمَعْلُومِ لِلسَّامِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ مُجَرَّدًا عَنِ الْكِنَايَةِ. فَمَا حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ مِنْ قَوْلِهِ «إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقُلْنَا: لَا» إِنْ صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ. وَلِي فِي صِحَّتِهِ شَكٌّ، فَهُوَ خَطَأٌ فِي الْفَهْمِ أَوِ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ شَذَّ نَفَرٌ مِنَ السَّلَفِ نُقِلَتْ عَنْهُمْ أَخْبَارٌ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، لَا يُدْرَى مَبْلَغُهَا مِنَ الصِّحَّةِ. وَمَحْمَلُهَا، إِنْ صَحَّتْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهَ تَعَالَى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ. وَلَمْ يَطُلْ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ.

قِيلَ: إِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، ولّاه عمر عَنى الْبَحْرَيْنِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْجَارُودُ بِأَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَأَنْكَرَ الْجَارُودُ، وَتَمَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ. فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَالَ قُدَامَةُ: لَوْ شَرِبْتُهَا كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي. قَالَ عُمَرُ: لَمْ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْمَائِدَة: 93] ،- فَقَالَ عُمَرُ-: أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ إِنَّكَ إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكَ» . وَيُرْوَى أَنَّ وَحْشِيًّا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ شَرِبُوا الْخَمْرَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَتَأَوَّلُوا التَّحْرِيمَ فَتَلَوْا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [الْمَائِدَة: 93] ، وَأَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ عَلِيًّا فِي شَأْنِهِمْ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا. وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ أَيْضًا. وَفِي كُتُبِ الْأَخْبَارِ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ نَزَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ فِي مَحَلَّةِ بَنِي زُبَيْدٍ بِالْكُوفَةِ فَقَدَّمَ لَهُ عَمْرُو خَمْرًا، فَقَالَ عُيَيْنَة: أَو لَيْسَ قَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ. قَالَ عَمْرُو: أَنْتَ أَكْبَرُ سِنًّا أَمْ أَنَا، قَالَ عُيَيْنَةُ: أَنْتَ. قَالَ: أَنْتَ أَقْدَمُ إِسْلَامًا أَمْ أَنَا، قَالَ: أَنْتَ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ قَرَأْتُ مَا بَين الدفتين، فو الله مَا وَجَدْتُ لَهَا تَحْرِيمًا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فَقُلْنَا: لَا» . فَبَاتَ عِنْدَهُ وَشَرِبَا وَتَنَادَمَا، فَلَمَّا أَرَادَ عُيَيْنَةُ الِانْصِرَافَ قَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: جُزِيتَ أَبَا ثَوْرٍ جَزَاءَ كَرَامَةٍ ... فَنِعْمَ الْفَتَى الْمُزْدَارُ وَالْمُتَضَيِّفُ قَرَيْتَ فَأَكْرَمْتَ الْقِرَى وَأَفَدْتَنَا ... تَحِيَّةَ عِلْمٍ (¬1) لَمْ تَكُنْ قَبْلُ تُعْرَفُ وَقُلْتَ: حَلَالٌ أَنْ نُدِيرَ مُدَامَةً ... كَلَوْنِ انْعِقَاقِ الْبَرْقِ وَاللَّيْلُ مُسْدِفُ وَقَدَّمْتَ فِيهَا حُجَّةً عَرَبِيَّةً ... تَرُدُّ إِلَى الْإِنْصَافِ مَنْ لَيْسَ يُنْصِفُ ¬

(¬1) كلمة (تَحِيَّة) ثبتَتْ فِي طبعة بولاق من «الأغاني» وَفِي نُسْخَة مخطوطة مِنْهُ ولعلها تَحْرِيف.

[سورة المائدة (5) : آية 92]

وَأَنْتَ لَنَا وَاللَّهِ ذِي الْعَرْشِ قُدْوَةٌ ... إِذَا صَدَّنَا عَنْ شُرْبِهَا الْمُتَكَلِّفُ نَقُولُ: أَبُو ثَوْرٍ أَحَلَّ شَرَابَهَا ... وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ أَسَدُّ وَأَعْرَفُ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْتَهُونَ لِظُهُورِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عَنْهُمَا، أَيْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، لِأَنَّ تَفْرِيعَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ يُعَيِّنُ أَنَّهُمَا الْمَقْصُودُ مِنَ الِانْتِهَاءِ. وَاقْتِصَارُ الْآيَةِ عَلَى تَبْيِينِ مَفَاسِدِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَعَاطِي الْمَيْسِرِ دُونَ تَبْيِينِ مَا فِي عِبَادَةِ الْأَنْصَابِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ مِنَ الْفَسَادِ، لِأَنَّ إِقْلَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمَا قَدْ تَقَرَّرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حِينِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَآثِرِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النُّفُوسِ مَا يُدَافِعُ الْوَازِعَ الشَّرْعِيَّ عَنْهُمَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَإِنَّ مَا فِيهِمَا مِنَ اللَّذَّاتِ الَّتِي تُزْجِي بِالنُّفُوسِ إِلَى تَعَاطِيهِمَا قد يدافع الوزاع الشَّرْعِيَّ، فَلِذَلِكَ أُكِّدَ النَّهْيُ عَنْهُمَا أَشَدَّ مِمَّا أُكِّدَ النَّهْيُ عَنِ الأنصاب والأزلام. [92] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 92] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَأَطِيعُوا عَلَى جُمْلَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: 91] ، وَهِيَ كَالتَّذْيِيلِ، لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَعُمُّ تَرْكَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ وَتَعُمُّ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ. وَكُرِّرَ وَأَطِيعُوا اهْتِمَامًا بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ. وَعُطِفَ وَاحْذَرُوا عَلَى أَطِيعُوا أَيْ وَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ احْذَرُوا لِيُنَزَّلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّلَبُّسُ بِالْحَذَرِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، أَيِ الْحَذَرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يَأْبَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ وَاحْذَرُوهُمَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ اللَّازِمَ يَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى أَفْعَالِ السَّجَايَا، وَلِذَلِكَ يَجِيءُ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ عَلَى زِنَةِ فَعِلٍ كَفَرِحٍ وَنَهِمٍ.

[سورة المائدة (5) : آية 93]

وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ تَفْرِيعٌ عَنْ أَطِيعُوا- واحْذَرُوا. وَالتَّوَلِّي هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْعِصْيَانِ، شَبَّهَ الْعِصْيَانَ بِالْإِعْرَاضِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْعَاصِي، بِجَامِعِ الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُفَارَقَةِ، وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِدْبَارُ. فَفِي حَدِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ «وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقَرَنَّكَ اللَّهُ» أَيْ أَعْرَضْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ فَاعْلَمُوا أَنْ لَا يَضُرَّ تَوَلِّيكُمُ الرَّسُولَ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبَلَاغَ فَحَسْبُ، أَيْ وَإِنَّمَا يَضُرُّكُمْ تَوَلِّيكُمْ، وَلَوْلَا لَازِمُ هَذَا الْجَوَابِ لَمْ يَنْتَظِمِ الرَّبْطُ بَيْنَ التَّوَلِّي وَبَيْنَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أُمِرَ إِلَّا بِالتَّبْلِيغِ. وَذِكْرُ فِعْلِ فَاعْلَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وَكَلِمَةُ أَنَّما بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ تُقَيِّدُ الْحَصْرَ، مِثْلَ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، فَكَمَا أَفَادَتِ الْمَكْسُورَةُ الْحَصْرَ بِالِاتِّفَاقِ فَالْمَفْتُوحَتُهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَنِ الْمَكْسُورَةِ إِذْ هِيَ أُخْتُهَا. وَلَا يَنْبَغِي بَقَاءُ خِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي إِفَادَتِهَا الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَمْرَهُ مَحْصُورٌ فِي التَّبْلِيغِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْيِ الْمُبَلَّغِ إِلَيْهِمْ. وَفِي إِضَافَةِ الرَّسُولِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَعْظِيمٌ لِجَانِبِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَإِقَامَةٌ لِمَعْذِرَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوْ شَاءَ مُرْسِلُهُ لَهَدَى الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ يَهْتَدُوا فَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرٍ مِنَ الرَّسُولِ. وَوَصْفُ الْبَلَاغِ بِ الْمُبِينُ اسْتِقْصَاءٌ فِي مَعْذِرَةِ الرَّسُولِ وَفِي الْإِعْذَارِ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الِامْتِثَالِ بَعْدَ وُضُوحِ الْبَلَاغِ وَكِفَايَتِهِ وَكَوْنِهِ مُؤَيَّدًا بالحجّة الساطعة. [93] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

(93) هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِمَا عَرَضَ مِنْ إِجْمَالٍ فِي فَهْمِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِذْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَلَبَّسَ بِإِثْمٍ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْخَمْرَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. فَقَدْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْبَرَاءِ بن عَازِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ- أَوْ قَالَ- وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الْآيَةَ. وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ، وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ يَلُوحُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ حَالَ الَّذِينَ تُوُفُّوا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَيْسَ حَقِيقًا بِأَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِعَمَلٍ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلِ فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا عَلَى ارْتِكَابِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّحْرِيمِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا شَدِيدِي الْحَذَرِ مِمَّا يُنْقِصُ الثَّوَابَ حَرِيصِينَ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ فَلَمَّا نَزَلَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنَّهُمَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ خَشَوْا أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ حَظٌّ فِي الَّذِينَ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ بِالْمَيْسِرِ وَتُوُفُّوا قَبْلَ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ مَاتُوا وَالْخَمْرُ فِي بُطُونِهِمْ مُخَالِطَةٌ أَجْسَادَهُمْ، فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهِمْ لِشِدَّةِ إِشْفَاقِهِمْ عَلَى إِخْوَانِهِمْ. كَمَا سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النِّسَاء: 95] فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ وَأَنَا أَعْمَى لَا أُبْصِرُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: 143] . وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ لَمَّا غُيِّرَتِ الْقِبْلَةُ مِنَ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ قَالَ نَاسٌ: فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى

وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] ، أَيْ صَلَاتَكُمْ فَكَانَ الْقَصْدُ مِنَ السُّؤَالِ التَّثَبُّتَ فِي التَّفَقُّهِ وَأَنْ لَا يَتَجَاوَزُوا التَّلَقِّي مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ نَفْيُ الْإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ. وطَعِمُوا صِلَةٌ. وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ. وَلَيْسَتْ (مَا) مَصْدَرِيَّةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَفْوُ عَنْ شَيْءٍ طَعِمُوهُ مَعْلُومٍ مِنَ السُّؤَالِ، فَتَعْلِيقُ ظَرْفِيَّةِ مَا طَعِمُوا بِالْجُنَاحِ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: فِي طَعْمِ مَا طَعِمُوهُ. وَأَصْلُ مَعْنَى طَعِمُوا أَنَّهُ بِمَعْنَى أَكَلُوا، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الْأَحْزَاب: 259] . وَحَقِيقَةُ الطَّعْمِ الْأَكْلُ وَالشَّيْءُ الْمَأْكُولُ طَعَامٌ. وَلَيْسَ الشَّرَابُ مِنَ الطَّعَامِ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَة: 259] . وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اسْتثِْنَاء المأكولات مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145] . وَيُقَالُ: طَعِمَ بِمَعْنَى أَذَاقَ وَمَصْدَرُهُ الطُّعْمُ- بِضَمِّ الطَّاءِ- اعْتَبَرُوهُ مُشْتَقًّا مِنَ الطَّعْمِ الَّذِي هُوَ حَاسَّةُ الذَّوْقِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَة: 249] ، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَذُقْهُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ [الْبَقَرَة: 249] . وَيُقَالُ: وَجَدْتُ فِي الْمَاءِ طَعْمَ التُّرَابِ. وَيُقَالُ تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ، أَيْ أَسِنَ. فَمِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ إِيرَادُ فِعْلِ طَعِمُوا هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ التَّبِعَةِ عَمَّنْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا لَحْمَ الْمَيْسِرِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِمَا. وَاسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَيْ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ أُسْلُوبِ التَّغْلِيبِ. وَإِذْ قَدْ عَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ طَعِمُوا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِذا ظَرْفًا لِلْمَاضِي، وَذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِلنُّحَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالْحَقُّ أَنَّ (إِذَا) تَقَعُ ظَرْفًا لِلْمَاضِي. وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَدَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَام فِي «معني اللَّبِيبِ» . وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ

إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: 92] ، وَقَوْلُهُ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: 11] ، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَالْمَعْنَى لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا آمنُوا واتّقوا، ويؤوّل مَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا فِيمَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَئِذٍ وَمَا تَنَاوَلُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ إِلَّا قَبْلَ تَحْرِيمِهِمَا. هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الْجَارِي عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَارِيًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مَنْ سَبَّبَ نُزُولَهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يُلَاحِظُوا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا لَا يُقْصِرُهَا عَلَى قَضِيَّةِ السَّبَبِ بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ لَفْظِهَا عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِي أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُخَصَّصُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَقَالُوا: رَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَيِّ شَيْءٍ طَعِمُوهُ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِ الْمَطَاعِمِ وَحَلَالِهَا، إِذَا مَا اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ حِرْمَانُ النَّفْسِ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ بَلِ الْبِرُّ هُوَ التَّقْوَى، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الْبَقَرَة: 189] . وَفُسِّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» مُبْتَدِئًا بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ اللُّحُومَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ التَّرَهُّبِ. وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ هَذَا سَبَبُ نُزُولِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ طَعِمُوا مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَتَكُونُ كَلِمَةُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِعْلُ

طَعِمُوا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي بِقَرِينَةِ كَلِمَةِ (إِذَا) ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: 25] . وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الَّذِينَ حَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَنْحَصِرْ تَحْرِيمُهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالشَّرَابِ بَلْ يَشْمَلُ اللِّبَاسَ وَالنِّسَاءَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى مُرَاعَاةِ الْغَالِبِ فِي التَّحْرِيمِ. وَقَالَ الْفَخْرُ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْخمر محرّمة عِنْد مَا تَكُونُ مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، بَلْ حَصَلَ مَعَهُ الطَّاعَةُ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَقَالَ مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا، كَمَا ذَكَرَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] وَلَا شَكَّ أَنَّ (إِذَا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي. قَالَ الْفَخْرُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ (إِذَا) لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَلَّ لِلْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ. وَالتَّقْوَى امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَلِذَلِكَ فَعَطْفُ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عَلَى اتَّقَوْا من عطل الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ، وَلِأَنَّ اجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ أَسْبَقُ تَبَادُرًا إِلَى الْأَفْهَامِ فِي لَفْظِ التَّقْوَى لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّوَقِّي وَالْكَفِّ. وَأَمَّا عَطْفُ وَآمَنُوا عَلَى اتَّقَوْا فَهُوَ اعْتِرَاضٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ- إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ كَالشَّرْطِ مُجَرَّدُ التَّنْوِيهِ بِالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ

الْجُنَاحِ عَنْهُمْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَتَّقُوا وَيُؤْمِنُوا وَيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ أَثَرًا عَلَى فِعْلِهِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ، وَكَانَ الْإِيمَانُ عَقْدًا عَقْلِيًّا لَا يَقْبَلُ التَّجَدُّدَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَآمَنُوا مَعْنَى وَدَامُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يُنْقِضُوهُ بِالْكُفْرِ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِجُمْلَةِ إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقُرِنَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرَاخِي الرتبي ليَكُون إيماءا إِلَى الِازْدِيَادِ فِي التَّقْوَى وَآثَارِ الْإِيمَانِ، كَالتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبإ: 4، 5] وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَرِّرْ قَوْلَهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِأَنَّ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ مَشْمُولٌ لِلتَّقْوَى. وَأَمَّا جُمْلَةُ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فَتُفِيدُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِجُمْلَةِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَتُفِيدُ الِارْتِقَاءَ فِي التَّقْوَى بِدَلَالَةِ حَرْفِ ثُمَّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ. مَعَ زِيَادَةِ صِفَةِ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ فسّر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْسَانَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ لَا مَحَالَةَ فَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ وَآمَنُوا هُنَا. وَيَشْمَلُ فِعْلُ وَأَحْسَنُوا الْإِحْسَانَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى التَّقْوَى، لِأَنَّ مِنْهُ إِحْسَانًا غَيْرَ وَاجِبٍ وَهُوَ مِمَّا يَجْلِبُ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ التَّكْرِيرِ الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرَائِقَ مُخْتَلِفَةً لَا دَلَائِلَ عَلَيْهَا فِي نَظْمِ الْآيَةِ، وَمَرْجِعُهَا جَعْلُ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّقَوْا عَلَى مَعْنَى تَغَايُرِ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ أَوْ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا مَا اتَّقَوْا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ إِلَى وُجُوهٍ نَشَأَتْ عَنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى التَّقْيِيدِ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ بِحُصُولِ الْمَشْرُوطِ. وَفِي جَلْبِهَا طُولٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضًا مِنَ السَّلَفِ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ فِي

[سورة المائدة (5) : آية 94]

شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِيمَا عدّ، وَلم يكن الْخَمْرُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا إِلَى إِضْرَارِ النَّاسِ. وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يقبلاه مِنْهُ. [94] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 94] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) لَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا تَبْيِينًا لِقَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] ، وَتَخَلُّصًا لِحُكْمِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] جَرَّتْ إِلَى هَذَا التَّخَلُّصِ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا فَخَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى حَالَةٍ قَدْ يَسْبِقُ فِيهَا حِرْصُهُمْ، حَذَرَهُمْ وَشَهْوَتُهُمْ تَقْوَاهُمْ. وَهِيَ حَالَةُ ابْتِلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، يَظْهَرُ بِهَا فِي الْوُجُودِ اخْتِلَافُ تَمَسُّكِهِمْ بِوَصَايَا اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ حَالَةٌ لَمْ تَقَعْ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِلَّا وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ إِصَابَةِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ مُقَرَّرًا بِمِثْلِ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ غَشِيَهُمْ صَيْدٌ كَثِيرٌ فِي طَرِيقِهِمْ، فَصَارَ يَتَرَامَى عَلَى رِحَالِهِمْ وَخِيَامِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُحِلُّ وَمِنْهُمُ الْمُحْرِمُ، وَكَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَخْذِهِ بِالْأَيْدِي، وَصَيْدِ بَعْضِهِ بِالرِّمَاحِ. وَلَمْ يَكُونُوا رَأَوْا الصَّيْدَ كَذَلِكَ قَطٌّ، فَاخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى إِمْسَاكِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِيَدِهِ وَطَعَنَ بِرُمْحِهِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اه. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُلْحِقَتْ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلْحَاقًا، لِتَكُونَ تَذْكِرَةً لَهُمْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِيَحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَكَانُوا

فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَحْوَجَ إِلَى التَّحْذِيرِ وَالْبَيَانِ، لِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَثْرَةِ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَذَلِكَ يُبَيِّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِإِشْعَارِ قَوْلِهِ تَنالُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُكْنَتِهِمْ وَبِسُهُولَةِ الْأَخْذِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُحِلُّونَ، قَالَهُ مَالِكٌ، الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُحْرِمُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ اه. وَقَالَ فِي «الْقَبَسِ» : تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَهَذِهِ عُضْلَةٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الِابْتِلَاءُ فِي حَالَتَيِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ اه. وَمَرْجِعُ هَذَا الِاخْتِلَافِ النَّظَرُ فِي شُمُولِ الْآيَةِ لِحُكْمِ مَا يَصْطَادُهُ الْحَلَالُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَعَدَمِ شُمُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ يَحْتَاجُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : «إِنَّ قَوْلَهُ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ وَمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ. وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ» . يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِصَابَةُ بِبَلْوَى، أَيْ مُصِيبَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ بَلْ يُرَادُ لَيُكَلِّفَنَّكُمُ اللَّهُ بِبَعْضِ أَحْوَالِ الصَّيْدِ. وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] شَامِلٌ لِحَالَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحُلُولِ فِي الْحَرَمِ. وَقَوْلُهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ هُوَ ابْتِلَاءُ تَكْلِيفٍ وَنَهْيٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعَلُّقُهُ بِأَمْرٍ مِمَّا يَفْعَلُ، فَهُوَ لَيْسَ كَالِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ وَلَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّحْذِيرُ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي حِينِ تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ إِمْسَاكِ الصَّيْدِ وَأَكْلِهِ، وَبَيْنَ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، إِذْ كَانُوا مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيمَا يَفْعَلُونَ، أَيْ

أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ حُرْمَةِ إِصَابَةِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. فَالِابْتِلَاءُ مُسْتَقْبَلٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ. وَوُجُودُ نُونِ التَّوْكِيدِ يُعَيِّنُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَالْمُسْتَقْبَلُ هُوَ الِابْتِلَاءُ. وَأَمَّا الصَّيْدُ وَنَوَالُ الْأَيْدِي وَالرِّمَاحِ فَهُوَ حَاضِرٌ. وَالصَّيْدُ: الْمَصِيدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الصَّيْدِ وَقَعَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ بِشَيْءٍ. وَيُغْنِي عَنِ الْكَلَامِ فِيهِ وَفِي لفظ (شَيْء) مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [155] . وتنكير بِشَيْءٍ هُنَا لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّحْقِيرِ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ إِلَى أَنْوَاعِ الصَّيْدِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ. فَقَدْ كَانُوا يُمْسِكُونَ الْفِرَاخَ بِأَيْدِيهِمْ وَمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْإِمْسَاكِ بِالْأَيْدِي مِنْ شِبَاكٍ وَحِبَالَاتٍ وَجَوَارِحٍ، لِأَنَّ جَمِيع ذَلِك يؤول إِلَى الْإِمْسَاكِ بِالْيَدِ. وَكَانُوا يَعْدُونَ وَرَاءَ الْكِبَارِ بِالْخَيْلِ وَالرِّمَاحِ كَمَا يَفْعَلُونَ بِالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ: رَأَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ وَأَخَذَ رُمْحَهُ وَشَدَّ وَرَاءَ الْحِمَارِ فَأَدْرَكَهُ فَعَقَرَهُ بِرُمْحِهِ وَأَتَى بِهِ.. إِلَخْ. وَرُبَّمَا كَانُوا يَصِيدُونَ بِرَمْيِ النِّبَالِ عَنْ قِسِيِّهِمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «عَنْ زَيْدٍ الْبَهْزِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ مَكَّةَ فَإِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِيهِ سَهْمٌ» الْحَدِيثَ. فَقَدْ كَانَ بعض الصائدين يختبىء فِي قُتْرَةٍ وَيَمْسِكُ قَوْسَهَ فَإِذَا مَرَّ بِهِ الصَّيْدُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ. وَقَدْ يُقَالُ: حَذَفَ مَا هُوَ بِغَيْرِ الْأَيْدِي وَبِغَيْرِ الرِّمَاحِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِالطَّرَفَيْنِ عَنِ الْأَوْسَاطِ. وَجُمْلَةُ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ صِفَةٌ لِلصَّيْدِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا اسْتِقْصَاءُ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ بِجَرْحٍ أَوْ قَتْلٍ دُونَ الْقَبْضِ بِالْيَدِ أَوِ الْتِقَاطِ الْبَيْضِ أَوْ نَحْوِهِ.

وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ عِلَّةٌ لقَوْله لَيَبْلُوَنَّكُمُ [الْمَائِدَة: 94] لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ اخْتِبَارٌ، فَعِلَّتُهُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْهُ مَنْ يَخَافُهُ. وَجَعْلُ عِلْمِ اللَّهِ عِلَّةً لِلِابْتِلَاءِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ مِنْ كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَخَافُهُ، فَأُطْلِقَ عِلْمُ اللَّهِ عَلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ ظُهُورُ ذَلِكَ وَتَمَيُّزُهُ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يُلَازِمُهُ التَّحَقُّقُ فِي الْخَارِجِ إِذْ لَا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِعِلْمِ اللَّهِ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ، بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ تَعَلُّقٍ تَنْجِيزِيِّ لِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي انْفَصَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» . وَقِيلَ: أُطْلِقَ الْعِلْمُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ فِي الْخَارِجِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ قُصِدَ مِنْهُ التَّقْرِيبُ لِعُمُومِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَهُ غَيْبًا مِنَ امْتِثَالِ مَنِ امْتَثَلَ وَاعْتِدَاءِ مَنِ اعْتَدَى فَإِنَّهُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَخْلُقُ الْمَعْدُومَ فَيَعْلَمُهُ مُشَاهَدَةً، يَتَغَيَّرُ الْمَعْلُومُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْعِلْمُ» . وَالْبَاءُ إِمَّا لِلْمُلَابَسَةِ أَوْ لِلظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَخافُهُ. وَالْغَيْبُ ضِدُّ الْحُضُورِ وَضِدُّ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ هُنَالِكَ، فَتَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ هُنَا بِقَوْلِهِ يَخافُهُ الْأَظْهَرُ أنّه تعلّق لمجرّة الْكَشْفِ دُونَ إِرَادَةِ تَقْيِيدٍ أَوِ احْتِرَازٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْبَقَرَة: 61] . أَيْ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ اللَّهِ، أَيْ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَهُ. وَجَمِيعُ مَخَافَةِ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا هِيَ مُخَالفَة بِالْغَيْبِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الْملك: 12] . وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ وَتَنَوُّرِ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ خَافُوهُ وَلَمْ يَرَوْا عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَنَعِيمَهُ وَثَوَابَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِذَلِكَ عَنْ صِدْقِ اسْتِدْلَالٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «إِنَّهُمْ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي

فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي» . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى بِالْغَيْبِ عَنِ النَّاسِ، أَيْ فِي الْخَلْوَةِ. فَمَنْ خَافَ اللَّهَ انْتَهَى عَن الصَّيْد فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَجْرُورَ لِلتَّقْيِيدِ، أَيْ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَّقَى إِنْكَارُهُمْ عَلَيْهِ أَوْ صَدُّهُمْ إِيَّاهُ وَأَخْذُهُمْ عَلَى يَدِهِ أَوِ التَّسْمِيعُ بِهِ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَيْدٍ غَشِيَهُمْ فِي سَفَرِهِمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَخِيَامِهِمْ، أَيْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ أَخْذِهِ بِدُونِ رَقِيبٍ، أَوْ يَكُونُ الصَّيْدُ الْمُحَذَّرُ مِنْ صَيْدِهِ مُمَاثِلًا لِذَلِكَ الصَّيْدِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ تَصْرِيحٌ بِالتَّحْذِيرِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمُ، إِذْ قَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَحْذِيرًا مِنْ عَمِلٍ قَدْ تَسْبِقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى التَّحْذِيرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ، أَي بعد مَا قَدَّمْنَاهُ إِلَيْكُمْ وَأَعْذَرْنَا لَكُمْ فِيهِ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ بَعْدَهُ فَاءُ التَّفْرِيعِ. وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِدَاءِ الِاعْتِدَاءُ بِالصَّيْدِ، وَسَمَّاهُ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِقْدَامٌ عَلَى مُحَرَّمٍ وَانْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ أَوِ الْحَرَمِ. وَقَوْلُهُ: فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ، أَيْ عِقَابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ بِمَا اجْتَرَأَ عَلَى الْحَرَمِ أَوْ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَبِمَا خَالَفَ إِنْذَارَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ إِذَا اعْتَدَى وَلَمْ يَتَدَارَكِ اعْتِدَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَالتَّوْبَةُ مَعْلُومَةٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَالْكَفَّارَةُ هِيَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَكْفِيرٌ عَنْ هَذَا الِاعْتِدَاءِ كَمَا سَيَأْتِي. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَذَابُ الْأَلِيمُ أَنَّهُ يُوسَعُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ جَلْدًا وَيُسْلَبُ ثِيَابُهُ وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . فَالْعَذَابُ هُوَ الْأَذَى الدُّنْيَوِيُّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ الْمُوَالِيَةُ لَهَا نَسْخًا لَهَا. وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْعِقَابِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أُبْطِلَ بِمَا فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ بِهِ مَعْنَى الْآيَةِ مَعَ مَعْنَى الَّتِي تَلِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مِنْ قَبِيلِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَيَبْقَى إِثْمُ الِاعْتِدَاءِ فَهُوَ مُوجِبُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ لَا يُسْقِطُهُ إِلَّا التَّوْبَةُ، وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْقَى الضَّرْبُ تَأْدِيبًا، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَلَبَهُ كَانَ يَأْخُذُهُ فُقَرَاءُ مَكَّةَ مِثْلَ جِلَالِ الْبدن ونعالها.

[سورة المائدة (5) : آية 95]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 95] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ آيَةِ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ [الْمَائِدَة: 94] أَوْ لِنَسْخِ حُكْمِهَا أَنْ كَانَتْ تَضَمَّنَتْ حُكْمًا لَمْ يَبْقَ بِهِ عَمَلٌ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فِي طَالِعِ هَذِه السُّورَة [الْمَائِدَة: 1] . وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي حَالَيْنِ: حَالُ كَوْنِ الصَّائِدِ مُحْرِمًا، وَحَالُ كَوْنِ الصَّيْدِ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَوْ كَانَ الصَّائِدُ حَلَالًا وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ الْكَعْبَةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَّخِذَ لَهَا حَرَمًا كَمَا كَانَ الْمُلُوكُ يَتَّخِذُونَ الْحِمَى، فَكَانَتْ بَيْتُ اللَّهِ وَحِمَاهُ، وَهُوَ حَرَمُ الْبَيْتِ مُحْتَرَمًا بِأَقْصَى مَا يُعَدُّ حُرْمَةً وَتَعْظِيمًا فَلِذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ حَرَمًا لِلْبَيْتِ وَاسِعًا وَجَعَلَ اللَّهُ الْبَيْتَ أَمْنًا لِلنَّاسِ وَوَسَّعَ ذَلِكَ الْأَمْنَ حَتَّى شَمَلَ الْحَيَوَانَ الْعَائِشَ فِي حَرَمِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَى النَّاسُ لِلْبَيْتِ إِلَّا أَمْنًا لِلْعَائِذِ بِهِ وَبِحَرَمِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ: وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا ... رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغِيلِ فَالسَّنَدِ فَالتَّحْرِيمُ لِصَيْدِ حَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلَمْ يُحَرِّمْ صَيْدَ الْبَحْرِ إِذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ مِسَاحَةِ الْحَرَمِ بَحْرٌ وَلَا نَهْرٌ. ثُمَّ حَرَّمَ الصَّيْدَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِأَنَّ الصَّيْدَ إِثَارَةٌ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْآمِنَةِ. وَقَدْ كَانَ الْإِحْرَامُ يَمْنَعُ الْمُحْرِمِينَ الْقِتَالَ وَمُنِعُوا التَّقَاتُلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّهَا زَمَنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَأُلْحِقَ مِثْلُ الْحَيَوَانِ فِي الْحُرْمَةِ بِقَتْلِ الْإِنْسَانِ، أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَنْوِي الْإِحْرَامَ إِلَّا عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ، فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَصِيدُ إِلَّا حَيَوَانَ الْحَرَمِ.

وَالصَّيْدُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ وَيُقْتَلَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ لِأَكْلِهِ أَوِ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِهِ. وَيُلْحَقُ بِالصَّيْدِ الْوُحُوشُ كُلُّهَا. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَالْوُحُوشُ تُسَمَّى صَيْدًا وَإِنْ لَمْ تُصَدْ بَعْدُ، كَمَا يُقَالُ: بِئْسَ الرَّمِيَّةُ الْأَرْنَبُ، وَإِنْ لَمْ تُرْمَ بَعْدُ. وَخُصَّ مِنْ عُمُومِهِ مَا هُوَ مُضِرٌّ، وَهِيَ السِّبَاعُ الْمُؤْذِيَةُ وَذَوَاتُ السُّمُومِ وَالْفَأْرُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ. وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ السُّنَّةُ. وَقَصْدُ الْقَتْلِ تَبَعٌ لِتَذَكُّرِ الصَّائِدِ أَنَّهُ فِي حَالِ إِحْرَامٍ، وَهَذَا مَوْرِدُ الْآيَةِ، فَلَوْ نَسِيَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَمَّدٍ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ فَأَصَابَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ. وَلَا وَجْهَ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ تَأَوَّلَ التَّعَمُّدَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَمُّدُ الْقَتْلِ مَعَ نِسْيَانِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ، بِمَعْنَى مُحْرِمٍ، مِثْلُ جَمْعِ قَذَالٍ عَلَى قُذُلٍ، وَالْمُحْرِمُ أَصْلُهُ الْمُتَلَبِّسُ بِالْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَيُطْلَقُ الْمُحْرِمُ عَلَى الْكَائِنِ فِي الْحَرَمِ. قَالَ الرَّاعِي: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا أَيْ كَائِنًا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ. فَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا الْحُصُولُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ الْحُلُولُ فِي مَكَانِ الْحَرَمِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ. وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفُ فِي حُرْمَةِ صَيْدِهِ لَا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى صَائِدِهِ. فَأَمَّا حَرَمُ مَكَّةَ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي صَيْدِهِ الْجَزَاءُ. وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ الطَّائِفُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَحَرَمُ مَكَّةَ مَعْلُومٌ بِحُدُودٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْحَرَمُ الَّذِي حَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَوُضِعَتْ بِحُدُودِهِ عَلَامَاتٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ مَا بَيْنِ عَيْرٍ أَوْ عَائِرٍ (جَبَلٌ) إِلَى ثَوْرٍ» . قِيلَ: هُوَ جَبَلٌ وَلَا يُعْرَفُ ثَوْرٌ إِلَّا فِي مَكَّةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ فِي كِتَابِ «الْبُخَارِيِّ» ذَكَرُوا عَيْرًا، وَأَمَّا ثَوْرٌ فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ فَقَالَ: مِنْ عَيْرِ إِلَى كَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانَهُ بَيَاضًا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ذِكْرَ ثَوْرٍ هُنَا خَطَأً. وَقِيلَ: إِنَّ الصَّوَابَ إِلَى أُحُدٍ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ. وَقِيلَ: ثَوْرٌ جَبَلٌ صَغِيرٌ وَرَاءَ جَبَلِ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ إِلَخْ، (مَنْ) اسْمُ شَرْطٍ مُبْتَدَأٌ، وقَتَلَهُ فِعْلُ الشَّرْطِ، ومِنْكُمْ

صِفَةٌ لِاسْمِ الشَّرْطِ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَفَائِدَةُ إِيرَادِ قَوْلِهِ مِنْكُمْ أَعْرَضَ عَنْ بَيَانِهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ إِيرَادِ هَذَا الْوَصْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى إِبْطَالِ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَصَابَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ مِنْهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَسْلُبُونَهُ ثِيَابَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَتَعْلِيقُ حُكْمِ الْجَزَاءِ عَلَى وُقُوعِ الْقَتْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ، فَأَمَّا لَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَلَيْسَ فِيهِ جَزَاءٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ سَوَاءٌ أَكَلَ الْقَاتِلُ الصَّيْدَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْهُ لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ هُوَ الْقَتْلُ. وَقَوله مُتَعَمِّداً قيد أَخْرَجَ الْمُخْطِئَ، أَيْ فِي صَيْدِهِ. وَلَمْ تُبَيِّنْ لَهُ الْآيَةُ حُكْمًا لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَكُونُ أَشَدَّ مِنَ الْمُتَعَمِّدِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَزَاءٌ آخَرُ أَخَفُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. قَالَ الزُّهْرِيِّ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ وَجَرَتِ السُّنَّةُ فِي النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ أَنَّهُمَا يُكَفِّرَانِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالسُّنَّةِ الْعَمَلَ مِنْ عَهْدِ النُّبُوءَةِ وَالْخُلَفَاءِ وَمَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَقَدْ غَلَّبَ مَالِكٌ فِيهِ مَعْنَى الْغُرْمِ، أَيْ قَاسَهُ عَلَى الْغُرْمِ. وَالْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي الْغُرْمِ سَوَاءٌ فَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَهُمَا. وَمَضَى بِذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ من الْمَالِكِيَّة، وداوود الظَّاهِرِيُّ، وَابْن جُبَير وطاووس، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ فَهُوَ مَوْرِدُ الْآيَةِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ ذَاكر لإحرامه فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ وَقَدْ بَطُلَ حَجُّهُ، وَصَيْدُهُ جِيفَةٌ لَا يُؤْكَلُ.

وَالْجَزَاءُ الْعِوَضُ عَنْ عَمَلٍ، فَسَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ جَزَاءً، لِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ وَعُقُوبَةٌ إِلَّا أَنَّهُ شُرِعَ عَلَى صِفَةِ الْكَفَّارَاتِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ. وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْغُرْمَ إِذْ لَيْسَ الصَّيْدُ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَغْرَمَ قَاتِلُهُ لِيَجْبُرَ مَا أَفَاتَهُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا الصَّيْدُ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَاحَهُ فِي الْحِلِّ وَلَمْ يُبِحْهُ لِلنَّاسِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَمَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُتَعَدِّي جَزَاءً. وَجَعَلَهُ جَزَاءً يَنْتَفِعُ بِهِ ضِعَافُ عَبِيدِهِ. وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مَقْصِدَ التَّشْرِيعِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْعُقُوبَةُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ جَزَاءً وَلَمْ يُسَمَّ بِكَفَّارَةٍ لِأَنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِمِثْلِ الْعَمَلِ فَسُمِّيَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ مَأْخُوذٌ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُوَافَقَةُ قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِثْلُ مَا قَتَلَ الصَّائِدُ، وَذَلِكَ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ إِمَّا مِنَ الدَّوَابِّ وَإِمَّا مِنَ الطَّيْرِ، وَأَكْثَرُ صَيْدِ الْعَرَبِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَهِيَ الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ وَالْأَرْوَى وَالظِّبَاءُ وَمِنْ ذَوَاتِ الْجَنَاحِ النَّعَامُ وَالْأَوِزُّ، وَأَمَّا الطَّيْرُ الَّذِي يَطِيرُ فِي الْجَوِّ فَنَادِرٌ صَيْدُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُصَادُ إِلَّا بِالْمِعْرَاضِ، وَقَلَّمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ سِوَى الْحَمَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، فَمُمَاثَلَةُ الدَّوَابِّ لِلْأَنْعَامِ هَيِّنَةٌ. وَأَمَّا مُمَاثَلَةُ الطَّيْرِ لِلْأَنْعَامِ فَهِيَ مُقَارَبَةٌ وَلَيْسَتْ مُمَاثَلَةً فَالنَّعَامَةُ تُقَارِبُ الْبَقَرَةَ أَوِ الْبَدَنَةَ، وَالْأَوِزُّ يُقَارِبُ السَّخْلَةَ، وَهَكَذَا. وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ كَالْعُصْفُورِ فِيهِ الْقِيمَةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: الْمِثْلُ الْقِيمَةُ فِي جَمِيعِ مَا يُصَابُ مِنَ الصَّيْدِ. وَالْقِيمَةُ عِنْدَ مَالِكٍ طَعَامٌ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: دَارهم. فَإِذَا كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى الْقِيمَةِ فَالْقِيمَةُ عِنْدَ مَالِكٍ طَعَامٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا، وَلِكَسْرِ الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى طَعَامًا، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْجَزَاءَ هَلْ يَكُونُ أقلّ ممّا يجزىء فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا. فَقَالَ مَالك: لَا يجزىء أَقَلُّ مِنْ ثَنِيِّ الْغَنَمِ أَوِ الْمَعِزِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ. فَمَا لَا يجزىء أَنْ يَكُونَ هَدْيًا مِنَ الْأَنْعَامِ لَا يَكُونُ جَزَاءً، فَمَنْ أَصَابَ مِنَ

الصَّيْدِ مَا هُوَ صَغِيرٌ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ أَقَلَّ مَا يُجْزِي مِنَ الْهَدْيِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ قِيمَةَ مَا صَادَهُ طَعَامًا وَلَا يُعْطِي مِنْ صِغَارِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ. وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ: إِذَا كَانَ الصَّيْدُ صَغِيرًا كَانَ جَزَاؤُهُ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ صِغَارِ الْأَنْعَامِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. قَالَ الْحَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ «بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ» : وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيِّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ اه. وَأَقُولُ: لَمْ يَصِحَّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَمَّا مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ فَلَعَلَّ مَالِكًا رَآهُ اجْتِهَادًا مِنْ عُمَرَ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ لِظُهُورِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ، وَرَأَى فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْإِطْعَامِ سَعَةً، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّيْدُ لَا مُمَاثِلَ لَهُ مِنْ صِغَارِ الْأَنْعَامِ كَالْجَرَادَةِ وَالْخُنْفُسَاءِ لَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ عِنْدَ كَوْنِ الصَّيْدِ أَصْغُرَ مِمَّا يماثله ممّا يجزىء فِي الْهَدَايَا. فَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا. وَلَمْ أَدْرِ مَنْ يَعْنِيهِ مِنْ عُلَمَائِنَا فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ لِلْمَالِكِيَّةِ مُخَالِفًا لِمَالِكٍ فِي هَذَا. وَالْقَوْلُ فِي الطَّيْرِ كَالْقَوْلِ فِي الصَّغِيرِ وَفِي الدَّوَابِّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَظِيمِ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْفِيلِ وَالزَّرَافَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِطْعَامِ. وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ هَذَا جَزَاءً وَجَعَلَهُ مُمَاثِلًا لِلْمَصِيدِ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ قَتْلُ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ لِكُلِّ دَابَّةٍ قَتلهَا، خلافًا لداوود الظَّاهِرِيِّ، فَإِنَّ الشَّيْئَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَا يُمَاثِلُهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تُقْتَلُ أَشْيَاءُ مُخْتَلِفَةُ النَّوْعِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ نَوْعٍ مُمَاثِلًا لِجَمِيعِ مَا قَتَلَهُ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ بِإِضَافَة فَجَزاءٌ إِلَى مِثْلُ فَيكون فَجَزاءٌ مَصْدَرًا بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ، وَيَكُونُ مِثْلُ مَا قَتَلَ فَاعِلَ الْمَصْدَرِ أُضِيفَ إِلَيْهِ مَصْدَرُهُ. ومِنَ النَّعَمِ بَيَانُ الْمِثْلِ لَا لِ مَا قَتَلَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمِثْلُ مَا قَتَلَ من النعم يجزىء جَزَاءَ

مَا قَتله، أَي يكافىء وَيُعَوِّضُ مَا قَتَلَهُ. وَإِسْنَادُ الْجَزَاءِ إِلَى الْمِثْلِ إِسْنَادٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةً، أَيْ فَجَزَاءٌ هُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: 37] . وَهَذَا نَظْمٌ بَدِيعٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النِّسَاء: 92] ، أَيْ فَلْيُحَرِّرْ رَقَبَةً. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ فَلْيُجْزَ مِثْلَ مَا قَتَلَ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّعَمُ هُوَ الْمُعَوَّضَ لَا الْعِوَضَ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ فِعْلُ (جَزَى) بِالْبَاءِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمُعَوَّضِ بِنَفْسِهِ. تَقُولُ: جَزَيْتُ مَا أَتْلَفْتُهُ بِكَذَا دِرْهَمًا، وَلَا تَقُولُ: جَزَيْتُ كَذَا دِرْهَمًا بِمَا أَتْلَفْتُهُ، فَلِذَلِكَ اضْطَرَّ الَّذِينَ قَدَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى جَعْلِ لَفْظِ (مِثْلِ) مُقْحَمًا. وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِمْ: «مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ» ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وَسَكَتَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ وَقَرَّرَ الْقُطْبُ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» عَلَى لُزُومِ جَعْلِ لَفْظِ مِثْلُ مُقْحَمًا وَأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، يَعْنِي نَظِيرَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وَكَذَلِكَ ألزمهُ إِيَّاه التفتازانيّ، وَاعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي كَلَامِهِ بِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بِصَدَدِ بَيَانِ الْجَزَاءِ لَا بِصَدَدِ بَيَانِ أَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ مَا قَتَلَ. وَهُوَ اعْتِذَارٌ ضَعِيفٌ. فَالْوَجْهُ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ أَصْلِهِ. وَقَدِ اجْتَرَأَ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: أَنْ لَا وَجْهَ لِقِرَاءَةِ الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ وَهْمٌ مِنْهُ وغفلة من وُجُوهِ تَصَارِيفِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ فَجَزاءٌ مِثْلُ بِتَنْوِينِ (جَزَاءٌ) . وَرَفْعُ (مِثْلُ) عَلَى تَقْدِيرِ: فَالْجَزَاءُ هُوَ مِثْلُ، عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ فَالْمَجْزِيُّ بِهِ الْمَقْتُولَ مِثْلُ مَا قَتَلَهُ الصَّائِدُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوضِع الصّفة لجواء أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ، أَيْ بِتَعْيِينِهِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ كُلُّ أَحَدٍ مَعْرِفَةَ صِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ فَوَكَّلَ اللَّهُ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى الْحُكْمَيْنِ. وَعَلَى الصَّائِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ صِفَةُ الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ فَيَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَيْهِمَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجِيبَاهُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْهُمَا وَهُمَا يُعَيِّنَانِ الْمِثْلَ وَيُخَيِّرَانِهِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمِثْلَ أَوِ الطَّعَامَ أَوِ الصِّيَامَ، وَيُقَدِّرَانِ لَهُ مَا هُوَ قَدْرُ الطَّعَامِ إِنِ اخْتَارَهُ.

وَقَدْ حَكَمَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ عُمَرُ مَعَ عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ، وَحَكَمَ مَعَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَكَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مَعَ عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ، وَحَكَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مَعَ ابْنِ صَفْوَانَ. وَوَصَفَ ذَوا عَدْلٍ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُتَابَعَةِ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَمَلٍ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَلَعَلَّهُمْ يَدَّعُونَ مَعْرِفَةً خَاصَّةً بِالْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ حَالٌ مِنْ مِثْلُ مَا قَتَلَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) . وَالْهَدْيُ مَا يُذْبَحُ أَوْ يُنْحَرُ فِي مَنْحَرِ مَكَّةَ. وَالْمَنْحَرُ: مِنًى وَالْمَرْوَةُ. وَلَمَّا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَدْياً فَلَهُ سَائِرُ أَحْكَامِ الْهَدْيِ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَعْنَى بالِغَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ يُذْبَحُ أَوْ يُنْحَرُ فِي حَرَمِ الْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُنْحَرُ أَوْ يُذْبَحُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ عطف على فَجَزاءٌ وَسَمَّى الْإِطْعَامَ كَفَّارَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَزَاءٍ، إِذِ الْجَزَاءُ هُوَ الْعِوَضُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ. وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَلَا يُمَاثِلُ الصَّيْدَ وَإِنَّمَا هُوَ كَفَّارَةٌ تُكَفَّرُ بِهِ الْجَرِيمَةُ. وَقَدْ أَجْمَلَ الْكَفَّارَةَ فَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الطَّعَامِ وَلَا عَدَدَ الْمَسَاكِينِ. فَأَمَّا مِقْدَارُ الطَّعَامِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْحُكْمَيْنِ، وَقَدْ شَاعَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الْمُدَّ مِنَ الطَّعَامِ هُوَ طَعَامُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مَالِكٌ بِمُدٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَقْدِيرُ الْإِطْعَامِ أَنْ يُقَوَّمَ الْجَزَاءُ مِنَ النَّعَمِ بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ ثُمَّ تُقَوَّمَ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا. وَأَمَّا عَدَدُ الْمَسَاكِينَ فَهُوَ مُلَازِمٌ لِعَدَدِ الْأَمْدَادِ. قَالَ مَالِكٌ: أحسن مَا سمحت إِلَيَّ فِيهِ أَنَّهُ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ الَّذِي أَصَابَ وَيُنْظَرُ كَمْ ثَمَنُ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَدَّرَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ مُعَادِلًا مِنَ الطَّعَامِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَعْدِيلُ الظَّبْيِ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَالْأَيِّلِ بِإِطْعَامِ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، وَحِمَارِ الْوَحْشِ بِثَلَاثِينَ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ. وأَوْ فِي قَوْلِهِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ وَقَوْلُهُ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ تَقْتَضِي تَخْيِيرُ قَاتِلِ الصَّيْدِ فِي أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ أَمْرٍ وَقْعَ بِ «أَوْ» فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ. وَالْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ قِيلَ: الْخِيَارُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا لِلْحَكَمَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالتَّخْيِيرِ، وَقِيلَ: الْخِيَارُ لِلْحَكَمَيْنِ. وَقَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ،

وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُنْتَقَلُ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى كَفَّارَةِ الطَّعَامِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَزَاءِ، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِطْعَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَنُسِبَ لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ كَفَّارَةٌ- بِالرَّفْعِ بِدُونِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى طَعَامٍ- كَمَا قَرَأَ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ. وَالْوَجْهُ فِيهِ إِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ كَوَجْهِ الرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ فَنَجْعَلُ كَفَّارَةٌ اسْمَ مَصْدَرٍ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ وَأُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ يُكَفِّرُهُ طَعَامُ مَسَاكِينَ وَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ مِنَ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ، أَيْ كَفَّارَةٌ مِنْ طَعَامٍ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبُ خَزٍّ، فَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بِمَعْنَى الْمُكَفَّرِ بِهِ لِتَصِحَّ إِضَافَةُ الْبَيَانِ، فَالْكَفَّارَةُ بَيَّنَهَا الطَّعَامُ، أَيْ لَا كَفَّارَةَ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَقَعُ بِأَنْوَاعٍ. وَجَزَمَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَنْوِينِ كَفَّارَةٌ وَرَفْعِ طَعامُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ كَفَّارَةٌ. وَقَوْلُهُ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عُطِفَ عَلَى كَفَّارَةٌ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّعَامِ. وَالْعَدْلُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْعَدْلِ الْمُسَاوَاةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ كَمَا هُنَا. وَأَمَّا الْعِدْلُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- فَفِي الْمَحْسُوسَاتِ كَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ، وَقِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى طَعامُ مَساكِينَ. وَانْتَصَبَ صِياماً عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّ فِي لَفْظِ الْعَدْلِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ. وَأَجْمَلَتِ الْآيَةُ الصِّيَامَ كَمَا أَجْمَلَتِ الطَّعَامَ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَقْصَى مَا يُصَامُ فَقَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا يُنْقِصُ عَنْ أَعْدَادِ الْأَمْدَادِ أَيَّامًا وَلَوْ تَجَاوَزَ شَهْرَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَزِيدُ عَلَى شَهْرَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَى عَشَرَةٍ. وَقَوْلُهُ لِيَذُوقَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ جُعِلَ ذَلِكَ جَزَاءً عَنْ قَتْلِهِ الصَّيْدَ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ. وَالذَّوْقُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ بِالْكَدَرِ. شَبَّهَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسَ بِذَوْقِ الطَّعْمِ الْكَرِيهِ كَأَنَّهُمْ

رَاعَوْا فِيهِ سُرْعَةَ اتِّصَالِ أَلَمِهِ بِالْإِدْرَاكِ، وَلِذَلِكَ لَمْ نَجْعَلْهُ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ إِذْ لَا دَاعِيَ لِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ، فَإِنَّ الْكَدَرَ أَظْهَرُ مِنْ مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مُعْتَنَى بِهِ فِي كَلَامِهِمْ، لِذَلِكَ اشْتُهِرَ إِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى إِدْرَاكِ الْآلَامِ وَاللَّذَّاتِ. فَفِي الْقُرْآنِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخان: 49] ، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدُّخان: 56] . وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَاطِبًا جُثَّةَ حَمْزَةَ «ذُقْ عُقَقَ» . وَشُهْرَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ قَارَبَتِ الْحَقِيقَةَ، فَحَسُنَ أَنْ تُبْنَى عَلَيْهَا اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النَّحْل: 112] . وَالْوَبَالُ السُّوءُ وَمَا يُكْرَهُ إِذَا اشْتَدَّ، وَالْوَبِيلُ الْقَوِيُّ فِي السُّوءِ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل: 16] . وَطَعَامٌ وَبِيلٌ: سَيِّءُ الْهَضْمِ، وَكَلَأٌ وبيل ومستوبل، تستولبه الْإِبِلُ، أَيْ تَسْتَوْخِمُهُ. قَالَ زُهَيْرٌ: إِلَى كَلَأٍ مُسْتَوْبِلٍ مُتَوَخِّمٍ وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْفِعْلُ، أَيْ أَمْرُ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا. وَالْمَعْنَى لِيَجِدْ سُوءَ عَاقِبَةِ فِعْلِهِ بِمَا كَلَّفَهُ مِنْ خَسَارَةٍ أَوْ مِنْ تَعَبٍ. وَأَعْقَبَ اللَّهُ التَّهْدِيدَ بِمَا عَوَّدَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ فَقَالَ: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، أَيْ عَفَا عَمَّا قَتَلْتُمْ مِنَ الصَّيْدِ قَبْلَ هَذَا الْبَيَانِ وَمَنْ عَادَ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَالِانْتِقَامُ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْوَبَالِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْخَسَارَةُ أَوِ التَّعَبُ، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ كُلَّمَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ أَوِ الْكَفَّارَةُ أَوِ الصَّوْمُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنْ عَادَ حُقَّ عَلَيْهِ انْتِقَامُ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ جَزَاءٌ. وَهَذَا شُذُوذٌ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ شَأْنَ جَوَابِ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ فِعْلًا أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِ الْفَاءُ الرَّابِطَةُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الرَّبْطِ بِمُجَرَّدِ الِاتِّصَالِ الْفِعْلِيِّ، فَدُخُولُ

[سورة المائدة (5) : آية 96]

الْفَاءِ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ بِهِ إِلَى كَوْنِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ اسْمِيَّةً تَقْدِيرًا فَيَرْمِزُونَ بِالْفَاءِ إِلَى مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جُعِلَ الْفِعْلُ خَبَرًا عَنْهُ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ التَّقَوِّي، فَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ مَا يَنَالُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يَنَالُ غَيْرَهُ، أَوْ لِقَصْدِ التَّقَوِّي، أَيْ تَأْكِيدِ حُصُولِ هَذَا الِانْتِقَامِ. وَنَظِيرُهُ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً [الْجِنّ: 13] فَقَدْ أَغْنَتِ الْفَاءُ عَنِ إِظْهَارِ الْمُبْتَدَأِ فَحَصَلَ التَّقَوِّي مَعَ إِيجَازٍ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مَعَ تَوْجِيهِهِ، وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْفَاءِ وَعَدَمَهُ فِي مِثْلِ هَذَا سَوَاءٌ، وَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ تَذْيِيلٌ. وَالْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَاصِرٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو انْتِقَامٍ، أَيْ لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ تَقْتَضِي الِانْتِقَامَ مِنَ الْمُفْسِدِ لِتَكُونَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ على وفقها. [96] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] فَإِنَّهُ اقْتَضَى تَحْرِيمَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَعْلَ جَزَاءِ فِعْلِهِ هَدْيَ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ قَتْلًا، وَلَيْسَ لِمَا يُصَادُ مِنْهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُشَكُّ لَعَلَّ اللَّهَ أَرَادَ الْقَتْلَ بِمَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي الْمَوْتِ، وَأَرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ الْمُقَارِبَ فِي الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ حُكْمَ صَيْدِ الْبَحْرِ وَأَبْقَاهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَيْسَ مِنْ حَيَوَانِ الْحَرَمِ، إِذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ بَحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] أَنَّ أَصْلَ الْحِكْمَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ هِيَ حِفْظُ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ وَحَرَمِهَا.

وَمَعْنَى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ إِبْقَاءُ حِلِّيَّتِهِ لِأَنَّهُ حَلَالٌ مِنْ قَبْلِ الْإِحْرَامِ. وَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وَالصَّيْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصِيدِ لِيَجْرِيَ اللَّفْظُ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ فِي مَوَاقِعِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ قَتْلُهُ، أَيْ إِمْسَاكُهُ مِنَ الْبَحْرِ. وَالْبَحْرُ يَشْمَلُ الْأَنْهَارَ وَالْأَوْدِيَةَ لِأَنَّ جَمِيعَهَا يُسَمَّى بَحْرًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ الْآيَةَ. وَلَيْسَ الْعَذْبُ إِلَّا الْأَنْهَارَ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ. وَصَيْدُ الْبَحْرِ: كُلُّ دَوَابِّ الْمَاءِ الَّتِي تصاد فِيهِ، فَيَكُونُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ سَبَبَ مَوْتِهَا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا. فَأَمَّا مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْمَاءِ فَلَيْسَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ كَالضُّفْدَعِ وَالسُّلَحْفَاةِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. أَمَّا الْخِلَافُ فِيمَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَا يُؤْكَلُ، فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذكره، لأنّ الْآيَة لَيْسَتْ بِمُثْبِتَةٍ لِتَحْلِيلِ أَكْلِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَلَكِنَّهَا مُنَبِّهَةً عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. وَقَوْلُهُ: وَطَعامُهُ عُطِفَ عَلَى صَيْدُ الْبَحْرِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْبَحْرِ، أَيْ وَطَعَامُ الْبَحْرِ، وَعَطْفُهُ اقْتَضَى مُغَايَرَتَهُ لِلصَّيْدِ. وَالْمَعْنَى: وَالْتِقَاطُ طَعَامِهِ أَوْ وَإِمْسَاكُ طَعَامِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ «طَعَامِهِ» . وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-: أَنَّ طَعَامَ الْبَحْرِ هُوَ مَا طَفَا عَلَيْهِ مِنْ مَيْتَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُ مَوْتِهِ إِمْسَاكَ الصَّائِدِ لَهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ طَعَامِ الْبَحْرِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يُلَائِمُ سِيَاقَ الْآيَةِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا أَكْلَ مَا يُخْرِجُهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا، وَيَرُدُّ قَوْلَهُمْ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْحُوتِ الْمُسَمَّى الْعَنْبَرَ، حِينَ وَجَدُوهُ مَيِّتًا، وَهُمْ فِي غَزْوَةٍ، وَأَكَلُوا مِنْهُ، وَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَكَلَ مِنْهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَانْتَصَبَ مَتاعاً عَلَى الْحَالِ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ. وَالتَّمَتُّعُ: انْتِفَاعٌ بِمَا يَلَذُّ وَيَسُرُّ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ مُتَنَاوِلِينَ الصَّيْدَ، أَيْ مَتَاعًا لِلصَّائِدِينَ وَلِلسَّيَّارَةِ. وَالسَّيَّارَةُ: الْجَمَاعَةُ السَّائِرَةُ فِي الْأَرْضِ لِلسَّفَرِ وَالتِّجَارَةِ، مُؤَنَّثُ سَيَّارٍ، وَالتَّأْنِيثُ

بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ [يُوسُف: 19] . وَالْمَعْنَى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ تَتَمَتَّعُونَ بِأَكْلِهِ وَيَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُسَافِرُونَ، أَيْ تَبِيعُونَهُ لِمَنْ يَتَّجِرُونَ وَيَجْلِبُونَهُ إِلَى الْأَمْصَارِ. وَقَوْلُهُ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِتَحْرِيمِ الصَّيْدِ، تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] ، وَلِبَيَانِ أَنَّ مُدَّةَ التَّحْرِيمِ مُدَّةُ كَوْنِهِمْ حُرُمًا، أَيْ مُحْرِمِينَ أَوْ مَارِّينَ بِحَرَمِ مَكَّةَ. وَهَذَا إِيمَاءٌ لِتَقْلِيلِ مُدَّةِ التَّحْرِيمِ اسْتِئْنَاسًا بِتَخْفِيفٍ، وَإِيمَاءٌ إِلَى نِعْمَةِ اقْتِصَارِ تَحْرِيمِهِ عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَحَرَّمَهُ أَبَدًا. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا بن أُخْتِي إِنَّمَا هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ (أَيْ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ) فَإِنْ تَخَلَّجَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ. تَعْنِي أَكْلَ لَحْمِ الصَّيْدِ. وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَفِي إِجْرَاءِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُولِ وَتِلْكَ الصِّلَةُ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ لِيَعُدَّ النَّاسُ مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الطَّاعَةِ لِذَلِكَ اللِّقَاءِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَكَانٍ. وَالصَّيْدُ مُرَادٌ بِهِ الْمَصِيدُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالتَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِقَتْلِهِ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] فَلَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً تَحْرِيمَ أَكْلِ صَيْدِ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا اشْتَرَاهُ مِنْ بَائِعٍ أَوْ نَاوَلَهُ رَجُلٌ حَلَالٌ إِيَّاهُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِمُبَاشَرَةِ الْمُحْرِمِ قَتَلَهُ فِي حَالِ الْإِصَابَةِ. وَقَدْ أَكَلَ رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ، كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَأَمَرَ رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِسْمَةِ الْحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ زَيْدٌ الْبُهْزِيُّ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ. وَأَمَّا مَا صِيدَ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ فَقَدْ ثَبَتَ أنّ النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ عَلَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ حِمَارًا وَحْشِيًّا أَهْدَاهُ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي مَحل هَذَا الِامْتِنَاعِ. فَقِيلَ: يَحْرُمُ أَنْ يَأْكُلَهُ مَنْ صِيدَ لِأَجْلِهِ لَا غَيْرَ. وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَول النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» أَنَّهُ عَائِدٌ

[سورة المائدة (5) : آية 97]

إِلَى النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، لِقَوْلِهِ «لَمْ نَرُدَّهُ» ، وَإِنَّمَا رَدَّهُ هُوَ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُ مَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ. وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ وَقِيلَ: لَا يَأْكُلُ الْمُحْرِمُ صَيْدًا صِيدَ فِي مُدَّةِ إِحْرَامِهِ وَيَأْكُلُ مَا صِيدَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الَّذِي صِيدَ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ كَمَا عَلِمْتَ. وَالْأَصْلُ فِي الِامْتِنَاعِ الْحُرْمَةُ لِأَنَّهُ، لَوْ أَرَادَ التَّنَزُّهَ لَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُهُ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الضبّ. [97] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ جَوَابٌ عَمَّا يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ، بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْكَعْبَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ أَرْضُ الْحَرَمِ لِأَجْلِ تَعْظِيمِهَا، وَتَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى سُكَّانِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْنِ فِي عَلَائِقِهَا وَشَعَائِرِهَا. وَالْجَعْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [1] ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنى التصيير فتعدّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَالِحٌ هُنَا. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْكَعْبَةَ، أَيْ أَمَرَ خَلِيلَهُ بِإِيجَادِهَا لِتَكُونَ قِيَامًا لِلنَّاسِ. فَقَوْلُهُ: قِياماً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ أَوْجَدَهَا مُقَدِّرًا أَنْ تَكُونَ قِيَامًا. وَإِذَا حُمِلَ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ بَيْتَ عِبَادَةٍ فَصَيَّرَهَا اللَّهُ قِيَامًا لِلنَّاسِ لُطْفًا بِأَهْلِهَا وَنَسْلِهِمْ، فَيَكُونُ قِياماً مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ جَعَلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْبَيْتَ الْحَرامَ يَصِحُّ جَعْلُهُ مَفْعُولًا. وَالْكَعْبَةُ عَلَمٌ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى

لِيَكُونَ آيَةً لِلتَّوْحِيدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] . قَالُوا: إِنَّهُ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَعْبِ، وَهُوَ النُّتُوءُ وَالْبُرُوزُ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلَّ بَارِزٍ كَعْبَةً، تَشْبِيهًا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، إِذْ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ عِنْدَهُمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلِهِ أَهْلَ خِيَامٍ، فَصَارَ الْبَيْتُ مَثَلًا يُمَثَّلُ بِهِ كُلُّ بَارِزٍ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْكَعْبَةِ عَلَى (الْقَلِيسِ) الَّذِي بَنَاهُ الْحَبَشَةُ فِي صَنْعَاءَ، وَسَمَّاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ، وَعَلَى قُبَّةِ نَجْرَانَ الَّتِي أَقَامَهَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِعِبَادَتِهِمُ الَّتِي عَنَاهَا الْأَعْشَى فِي قَوْلِهِ: فَكَعْبَةُ نَجْرَانَ حَتْمٌ عَلَيْكَ ... حَتَّى تُنَاخِي بِأَبْوَابِهَا فَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَاكَاةِ وَالتَّشْبِيهِ، كَمَا سَمَّى بَنو حنيفَة مسليمة رحمان. وَقَوْلُهُ: الْبَيْتَ الْحَرامَ بَيَانٌ لِلْكَعْبَةِ. قُصِدَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ التَّنْوِيهُ وَالتَّعْظِيمُ، إِذْ شَأْنُ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ مُوَضِّحًا لِلْمُبَيَّنِ بِأَنْ يَكُونَ أَشْهَرَ مِنَ الْمُبَيِّنِ. وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْكَعْبَةِ مُسَاوِيًا لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَقَدْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْكَعْبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 2] فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الْبَيَانِ لِلتَّعْظِيمِ، فَإِنَّ الْبَيَانَ يَجِيءُ لِمَا يَجِيءُ لَهُ النَّعْتُ مِنْ تَوْضِيحٍ وَمَدْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى التَّعْظِيمِ هُوَ مَا فِيهِ مِنْ لَمْحِ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالْحَرَامِ قَبْلَ التَّغْلِيبِ. وَذَكَرَ الْبَيْتَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ صَارَا عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ. وَالْحَرَامُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَرُمَ إِذَا مُنِعَ، وَمَصْدَرُهُ الْحَرَامُ، كَالصَّلَاحِ مِنْ صَلُحَ، فَوَصْفُ شَيْءٍ بِحَرَامٍ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ مَمْنُوعًا. وَمَعْنَى وَصْفِ الْبَيْتِ بِالْحَرَامِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ فَهُوَ مُحْتَرَمٌ عَظِيمُ الْمَهَابَةِ. وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ تَحْجِيرَ وُقُوعِ الْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ رَجُلٌ حَرَامٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [1] ، وَأَنَّهُ يُقَالُ: شَهْرٌ حَرَامٌ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 2] فِيهَا أَيْضًا، فَيُحْمَلُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ بِحَسَبِ الْمَوْصُوفِ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يُتَجَنَّبُ جَانِبُهُ، فَيَكُونُ تَجَنُّبُهُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ مَهَابَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُِِ

وَصْفَ مَدْحٍ، وَيَكُونُ تَجَنُّبُهُ لِلتَّنَزُّهِ عَنْهُ فَيَكُونُ وَصْفَ ذَمٍّ، كَمَا تَقُولُ: الْخَمْرُ حَرَامٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قِياماً- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْيَاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ قِيَمًا- بِدُونِ ألف بعد الْيَاء-. وَالْقِيَامُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَامَ إِذَا اسْتَقَلَّ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيُسْتَعَارُ لِلنَّشَاطِ، وَيُسْتَعَارُ مِنْ ذَلِكَ لِلتَّدْبِيرِ وَالْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ شَأْنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا مُهِمًّا أَنْ يَنْهَضَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قِيلَ لِلنَّاظِرِ فِي أُمُورِ شَيْءٍ وَتَدْبِيرِهِ: هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ أَوْ قَائِمٌ عَلَيْهِ، فَالْقِيَامُ هُنَا بِمَعْنَى الصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ قِيَمًا فَهُوَ مَصْدَرُ (قَامَ) عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ- بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ- مِثْلُ شِبَعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَإِنَّمَا أُعِلَّتْ وَاوُهُ فَصَارَتْ يَاءً لِشِدَّةِ مُنَاسَبَةِ الْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ. وَهَذَا الْقَلْبُ نَادِرٌ فِي الْمَصَادِرِ الَّتِي عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ مِنَ الْوَاوِيِّ الْعَيْنِ. وَإِثْبَاتُهُ لِلْكَعْبَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا فِي أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ سَابِقَةٍ كَانَ بِهَا صَلَاحُ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَقَامَتْ بِهَا مَصَالِحُهُمْ، جُعِلَتِ الْكَعْبَةُ هِيَ الْقَائِمَةُ لَهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْقِيَامِ لَهُمْ. وَالنَّاسُ هُنَا نَاسٌ مَعْهُودُونَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْكَعْبَةِ وَشَعَائِرِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ. وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ مَنَافِعِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فَذَلِكَ تَبَعٌ لِوُجُودِ السُّكَّانِ لَا لِكَوْنِ الْبَيْتِ حَرَامًا، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ التَّسَبُّبُ الْبَعِيدُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا حُرْمَةُ الْكَعْبَةِ وَحُرْمَةُ الْأَشْهُرِ فِي الْحَجِّ لَسَادَ الْخَوْفُ فِي تِلْكَ الرُّبُوعِ فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْأُمَمُ التِّجَارَةَ هُنَالِكَ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِيَامًا لِلنَّاسِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يُنْزِلَ فِي مَكَّةَ زَوْجَهُ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَأَرَادَ أَنْ تَكُونَ نَشْأَةُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ (وَهُمْ ذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ) فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِيَنْشَأُوا أُمَّةً أَصِيلَةَ الْآرَاءِ عَزِيزَةَ النُّفُوسِ ثَابِتَةَ الْقُلُوبِ، لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنْ

تَكُونَ تِلْكَ الْأُمَّةُ هِيَ أَوَّلُ مَنْ يَتَلَقَّى الدِّينَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْأَدْيَانِ وَأَرْسَخَهَا، وَأَنْ يكون مِنْهُ انبثات الْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ. فَأَقَامَ لَهُمْ بَلَدًا بَعِيدًا عَنِ التَّعَلُّقِ بِزَخَارِفِ الْحَيَاةِ فَنَشَأُوا عَلَى إِبَاءِ الضَّيْمِ، وَتَلَقَّوْا سِيرَةً صَالِحَةً نَشَأُوا بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَأَقَامَ لَهُمْ فِيهِ الْكَعْبَةَ مَعْلَمًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَضَعَ فِي نُفُوسِهِمْ وَنُفُوسِ جِيرَتِهِمْ تَعْظِيمَهُ حرمته. وَدَعَا مُجَاوِرِيهِمْ إِلَى حَجِّهِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَسَخَّرَ النَّاسَ لِإِجَابَةِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، فَصَارَ وُجُودُ الْكَعْبَةِ عَائِدًا عَلَى سُكَّانِ بَلَدِهَا بِفَوَائِدَ التَّأَنُّسِ بِالْوَافِدِينَ، وَالِانْتِفَاعِ بِمَا يَجْلِبُونَهُ مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَبِمَا يَجْلِبُ التُّجَّارُ فِي أَوْقَاتِ وُفُودِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَأَصْبَحَ سَاكِنُوهُ لَا يَلْحَقُهُمْ جُوعٌ وَلَا عَرَاءٌ. وَجَعَلَ فِي نُفُوسِ أَهْلِهِ الْقَنَاعَةَ فَكَانَ رزقهم كفانا. وَذَلِكَ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إِبْرَاهِيم: 37] . فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قِيَامًا لَهُمْ يَقُومُ بِهِ أَوَدُ مَعَاشِهِمْ. وَهَذَا قِيَامٌ خَاصٌّ بِأَهْلِهِ. ثُمَّ انْتَشَرَتْ ذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ وَلَحِقَتْ بِهِمْ قَبَائِلٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْقَحْطَانِيِّينَ وَأُهِلَتْ بِلَادُ الْعَرَبِ. وَكَانَ جَمِيعُ أَهْلِهَا يَدِينُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ مِنَ انْتِشَارِهِمْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُحْدِثَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّغَالُبِ وَالتَّقَاتُلِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّفَانِي، فَإِذَا هُمْ قَدْ وَجَدُوا حُرْمَةَ أَشْهُرِ الْحَجِّ الثَّلَاثَةِ وَحُرْمَةَ شَهْرِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ رَجَبٌ الَّذِي سَنَّتْهُ مُضَرُ (وَهُمْ مُعْظَمُ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ) وَتَبِعَهُمْ مُعْظَمُ الْعَرَبِ. وَجَدُوا تِلْكَ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ مُلْجِئَةً إِيَّاهُمْ إِلَى الْمُسَالَمَةِ فِيهَا فَأَصْبَحَ السِّلْمُ سَائِدًا بَيْنَهُمْ مُدَّةَ ثُلُثِ الْعَامِ، يصلحون فِيهَا شؤونهم، وَيَسْتَبْقُونَ نُفُوسَهُمْ، وَتَسْعَى فِيهَا سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمْ، فِيمَا نَجَمَ مِنْ تِرَاتٍ وَإِحَنٍ. فَهَذَا مِنْ قِيَامِ الْكَعْبَةِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مِنْ آثَارِ الْكَعْبَةِ إِذْ هِيَ زَمَنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْكَعْبَةِ. وَقَدْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ لِلْكَعْبَةِ مَكَانًا مُتَّسِعًا شَاسِعًا يُحِيطُ بِهَا مِنْ جَوَانِبِهَا أَمْيَالًا كَثِيرَةً، وَهُوَ الْحَرَمُ، فَكَانَ الدَّاخِلُ فِيهِ آمِنًا. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] . فَكَانَ ذَلِكَ أَمْنًا مُسْتَمِرًّا لِسُكَّانِ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا، وَأَمْنًا يَلُوذُ إِلَيْهِ مَنْ عَرَاهُ خَوْفٌ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهَا بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ عَائِذًا، وَلِتَحْقِيقِ أَمْنِهِ أَمَّنَ اللَّهُ

وُحُوشَهُ وَدَوَابَّهُ تَقْوِيَةً لِحُرْمَتِهِ فِي النُّفُوسِ، فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قِيَامًا لِكُلِّ عَرَبِيٍّ إِذَا طَرَقَهُ ضَيْمٌ. وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا يَسِيرُونَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ آمِنِينَ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ بِسُوءٍ، فَكَانُوا يَتَّجِرُونَ وَيَدْخُلُونَ بِلَادَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَيَأْتُونَهُمْ بِمَا يَحْتَاجُونَهُ وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يَحْتَاجُونَهُ لِيَبْلُغُوهُ إِلَى مَنْ يَحْتَاجُونَهُ، وَلَوْلَاهُمْ لَمَا أَمْكَنَ لِتَاجِرٍ مِنْ قَبِيلَةٍ أَنْ يَسِيرَ فِي الْبِلَادِ، فَلَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَالْمَنَافِعُ. وَلِذَلِكَ كَانَ قُرَيْشٌ يُوصَفُونَ بَيْنَ الْعَرَبِ بِالتُّجَّارِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلُوا رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ [قُرَيْش: 1، 2] . وَبِذَلِكَ كُلِّهِ بَقِيَتْ أُمَّةُ الْعَرَبِ مَحْفُوظَةَ الْجِبِلَّةِ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا مَجْبُولِينَ عَلَيْهَا، فَتَهَيَّأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَلَقِّي دَعْوَة مُحَمَّد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمْلِهَا إِلَى الْأُمَمِ، كَمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَمَّ بِذَلِكَ مُرَادُهُ. وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْدُوَ هَذَا فَقُلْ: إِنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَهُمُ الْعَرَبُ، إِذْ كَانَتْ سَبَبَ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَاسْتَبْقَتْ لَهُمْ بَقِيَّةً مِنْ تِلْكَ الْحَنِيفِيَّةِ فِي مُدَّةِ جَاهِلِيَّتِهِمْ كُلِّهَا لَمْ يَعْدَمُوا عَوَائِدَ نَفْعِهَا. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَانَ الْحَجُّ إِلَيْهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَبِهِ تُكَفَّرُ الذُّنُوبُ، فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ مِنْ هَذَا قِيَامًا لِلنَّاسِ فِي أُمُورِ أُخْرَاهُمْ بِمِقْدَارِ مَا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ مِمَّا جُعِلَتِ الْكَعْبَةُ لَهُ قِيَامًا. وَعَطْفُ الشَّهْرَ الْحَرامَ عَلَى الْكَعْبَةَ شِبْهُ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْكَعْبَةِ أُرِيدَ بِهَا مَا يَشْمَلُ عَلَائِقَهَا وَتَوَابِعَهَا، فَإِنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مَا اكْتَسَبَتِ الْحُرْمَةَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْكَعْبَةِ كَمَا عَلِمْتَ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّهْرَ لِلْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 2] . وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ هُنَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَشْهُرِ. وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْهَدْيَ والْقَلائِدَ. وَكَوْنُ الْهَدْيِ قِيَامًا لِلنَّاسِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِبَيْعِهِ لِلْحَاجِّ أَصْحَابُ الْمَوَاشِي مِنَ الْعَرَبِ، وَيَنْتَفِعُ بِلُحُومِهِ مِنَ الْحَاجِّ فُقَرَاءُ الْعَرَبِ، فَهُوَ قِيَامٌ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ الْقَلَائِدُ فَإِنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا فَيَتَّخِذُونَ مِنْ ظَفَائِرِهَا مَادَّةً عَظِيمَةً لِلْغَزْلِ وَالنَّسْجِ، فَتِلْكَ قِيَامٌ لِفُقَرَائِهِمْ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِنْ أَقَلِّ آثَارِ الْحَجِّ، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ عَلَائِقِ الْكَعْبَةِ فِيهَا قِيَامٌ لِلنَّاسِ، حَتَّى أَدْنَى الْعَلَائِقِ، وَهُوَ

الْقَلَائِدُ، فَكَيْفَ بِمَا عَدَاهَا مِنْ جِلَالِ الْبُدْنِ وَنِعَالِهَا وَكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَلِأَنَّ الْقَلَائِدَ أَيْضًا لَا يَخْلُو عَنْهَا هَدْيٌ مِنَ الْهَدَايَا بِخِلَافِ الْجِلَالِ وَالنِّعَالِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ «وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا» إِلَخْ ... وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ، مُرْتَبِطٌ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ بِوَاسِطَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ لِتَعْلَمُوا. وَتَوَسُّطُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْجَعْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ، فَتَوَسُّطُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا شَبِيهٌ بِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْكَلَامُ شَبِيهًا بِالْمُسْتَأْنَفِ وَمَا هُوَ بمستأنف، لأنّ مَا صدق اسْمِ الْإِشَارَةِ هُوَ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَمُفَادُ لَامِ التَّعْلِيلِ الرَّبْطُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ جَدِيدٌ غَيْرُ التَّعْلِيلِ، وَالتَّعْلِيلُ اتِّصَالٌ وَلَيْسَ بِاسْتِئْنَافٍ، لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ انْفِصَالٌ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ لَامُ التَّعْلِيلِ إِلَّا قَوْلُهُ جَعَلَ. وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ إِلَّا لِلْجَعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ جَعَلَ. وَالْمَعْنَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إِلَخْ..، أَيْ أَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ لِأَجْلِهَا أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ يَعْلَمُ. فَجَعْلُ الْكَعْبَةِ قِيَامًا مَقْصُودٌ مِنْهُ صَلَاح النَّاس بادىء ذِي بَدْءٍ لِأَنَّهُ الْمَجْعُولَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَقْصُودٌ مِنْهُ عِلْمُ النَّاسِ بِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ. وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ حِكَمٌ أُخْرَى لِأَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ فِي مَدْخُولِهَا لِإِمْكَانِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ لِلْفِعْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ هَذِهِ عِلَلٌ جَعْلِيَّةٌ لَا إِيجَادِيَّةٌ، وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ دُونَ غَيْرِهَا لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا، لِأَنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَحْصُلُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا فَوَائِدُ جَمَّةٌ لِلْعَارِفِينَ بِهَا فِي الِامْتِثَالِ وَالْخَشْيَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِعَجْزِ مَنْ سِوَاهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَحُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ غَايَةٌ مِنَ الْغَايَاتِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِأَجْلِهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّعْلِيلَ مُتَعَلِّقًا بِجَعْلِ الْكَعْبَةِ وَمَا تَبِعَهَا قِيَامًا لِلنَّاسِ. وَقَدْ كَانَ قِيَامُهَا لِلنَّاسِ حَاصِلًا بَعْدَ وَقْتِ جَعْلِهَا بِمُدَّةٍ، وَقَدْ حَصَلَ بَعْضُهُ يَتْلُو بَعْضًا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَرَاخِيَةٍ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَا يُحْتَاجُ لِلِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلَائِقَ قَدْ عَلِمَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 98 إلى 99]

وَوَجْهُ دَلَالَةِ جَعْلِ الْكَعْبَةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا، وَمَكَّةُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلَةُ السُّكَّانِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِحَجِّ الْكَعْبَةِ وَبِحُرْمَةِ حَرَمِهَا وَحُرْمَةِ الْقَاصِدِينَ إِلَيْهَا، وَوَقَّتَ للنَّاس أشهرا الْقَصْد فِيهَا، وَهَدَايًا يَسُوقُونَهَا إِلَيْهَا فَإِذَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ وَحَوَائِلُ دُونَ مَضَارٍّ كَثِيرَةٍ بِالْعَرَبِ لَوْلَا إِيجَادُ الْكَعْبَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا. فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ سَبَبَ بَقَائِهِمْ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ. فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِبِنَائِهَا قَدْ عَلِمَ أَنْ سَتَكُونُ هُنَالِكَ أُمَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَأَنْ سَتَحْمَدُ تِلْكَ الْأُمَّةُ عَاقِبَةَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَمَا مَعَهُ مِنْ آثَارِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِمَا عَلِمَهُ مِنْ بعثة مُحَمَّد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ، وَجَعْلِهِمْ حَمَلَةَ شَرِيعَتِهِ إِلَى الْأُمَمِ، وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ عِظَمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَبِنَاءِ حَضَارَةِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ هُوَ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَرْضِ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ بِالتَّرَفُّعِ عَنِ النَّقْصِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فِي السَّمَاوَات، لأنّ السَّمَوَات إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِلْأَرْضِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِيهَا، وَلَا هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، كَمَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الْخَاصُّ، فَثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعَالَى فِي أَرْفَعِ الْمَكَانِ وَأَشْرَفِ الْعَوَالِمَ، فَيَكُونُ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ أَحْرَى مِنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِهَا أَعَنَى، فَيَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلِأَنَّ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي تَقَرَّرَ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ جَلِيلَةً وَدَقِيقَةً فَالْعِلْمُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا لَا مَحَالَةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَخْلُ مِنْ جَهْلِ بَعْضِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجَهْلُ مُعَطِّلًا لِعِلْمِهِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ تَدْبِيرُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمَجْهُولِ فَهُوَ مَا دَبَّرَ جَعْلَ الْكَعْبَةِ قِيَامًا وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عُمُومِ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ وَلَوْلَا عُمُومُهُ مَا تَمَّ تَدْبِيرُ ذَلِك المقدّر. [98، 99] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 98 إِلَى 99] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ

(99) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَتَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ حَظْرِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ وَإِبَاحَةِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا جُعِلَ لِلْكَعْبَةِ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ لِيَطْمَئِنُّوا لِمَا فِي تَشْرِيعِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ تَضْيِيقٍ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاحِهِمْ، فَذَيَّلَ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ مِنْهُمْ بِالْمِرْصَادِ يُجَازِي كُلَّ صَانِعٍ بِمَا صَنَعَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وَقَدِ اسْتَوْفَى قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَقْسَامَ مُعَامَلَتِهِ تَعَالَى فَهُوَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ أَحْكَامَهُ وَغَفُورٌ لِمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِلَفْظِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وَجُمْلَةُ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ مُعْتَرِضَةٌ ذَيَّلَ بِهَا التَّعْرِيضَ بِالْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ. وَمَضْمُونُهَا إِعْذَارُ النَّاسِ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ بَلَّغَ إِلَيْهِمْ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ، وَالْمِنَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ. وَالْقَصْرُ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ لِأَنَّ عَلَى الرَّسُولِ أُمُورًا أُخَرَ غَيْرَ الْبَلَاغِ مِثْلَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ، وَالتَّكَالِيفِ الَّتِي كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهَا مِثْلَ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ: مَا عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيْ دُونَ إِلْجَائِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ فَلَا يُنَافِي أَنَّ عَلَى الرَّسُولِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (عَلَى) دُونَ (اللَّامِ) وَنَحْوِهَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمَرْدُودَ شَيْءٌ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَازِمٌ لِلرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وَهِيَ تَتْمِيمٌ لِلتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ تَذْكِيرًا بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ هُنَا لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَلَيْسَ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ لِنُبُوِّ الْمَقَامِ عَنْ ذَلِكَ.

[سورة المائدة (5) : آية 100]

وَذِكْرُ مَا تُبْدُونَ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْمِيمُ وَالشُّمُولُ مَعَ مَا تَكْتُمُونَ وَإِلَّا فَالْغَرَضُ هُوَ تَعْلِيمُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَهُ أَمَّا مَا يُبْدُونَهُ، فَلَا يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعلمهُ. [100] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 100] قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) لَمَّا آذَنَ قَوْلُهُ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: 98] وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [الْمَائِدَة: 99] بِأَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ: مُطِيعُونَ وَعُصَاةٌ، فَرِيقٌ عَانَدُوا الرَّسُولَ وَلَمْ يَمْتَثِلُوا، وَهُمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ عَاضَدَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلْقَبَائِلِ أَنَّهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَأَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يَكُونُ عَلَى خَطَأٍ، فَأَزَالَ اللَّهُ الْأَوْهَامَ الَّتِي خَامَرَتْ نُفُوسَهُمْ فَكَانَتْ فِتْنَةً أَوْ حُجَّةً ضَالَّةً يُمَوِّهُ بِهَا بَعْضٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُهْتَدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَالْآيَةُ تُؤْذِنُ بِأَنْ قَدْ وُجِدَتْ كَثْرَةٌ مِنْ أَشْيَاءَ فَاسِدَةٍ خِيفَ أَنْ تَسْتَهْوِيَ مَنْ كَانُوا بِقِلَّةٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَثْرَةُ كَثْرَةَ عَدَدٍ فِي النَّاسِ إِذْ مَعْلُومٌ فِي مُتَعَارَفِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الِاعْتِزَازُ بِالْكَثْرَةِ وَالْإِعْجَابِ بِهَا. قَالَ الْأَعْشَى: وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ وَقَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ: تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا وَقَدْ تَعَجَّبَ الْعَنْبَرِيُّ إِذْ لَامَ قَوْمَهُ فَقَالَ: لَكِنَّ قَوْمِيَ وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ... لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا قَالَ السُّدِّيُّ: كَثْرَةُ الْخَبِيثِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالطَّيِّبُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَهَذَا الْمَعْنَى

يُنَاسِبُ لَوْ يَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمَشَارِفِ الشَّامِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَطَلَّعُوا يَوْمَئِذٍ إِلَى تِلْكَ الْأَصْقَاعِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ مِنْهَا الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ مِنَ الْمَالِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ. وَمَعْنَى لَا يَسْتَوِي نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ، وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ وَالْمُشَابَهَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَالْمَقَامُ هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ الْفَاضِلَ مِنَ الْمَفْضُولِ، فَإِنَّ جَعْلَ أَحَدِهِمَا خَبِيثًا وَالْآخَرِ طَيِّبًا يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُ الطَّيِّبِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [113] . وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخَبِيثَ لَا يُسَاوِي الطَّيِّبَ وَأَنَّ الْبَوْنَ بَيْنَهُمَا بَعِيدٌ، عَلِمَ السَّامِعُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِنْزَالُ فَهْمِهِ إِلَى تَمْيِيزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ فِي كُلِّ مَا يَلْتَبِسُ فِيهِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا فَتْحٌ لِبَصَائِرِ الْغَافِلِينَ كَيْلَا يَقَعُوا فِي مَهْوَاةِ الِالْتِبَاسِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ثَمَّةَ خَبِيثًا قَدِ الْتَفَّ فِي لِبَاسِ الْحَسَنِ فَتُمُوِّهَ عَلَى النَّاظِرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ. فَكَانَ الْخَبِيثُ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ شَيْئًا تَلَبَّسَ بِالْكَثْرَةِ فَرَاقَ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ لِكَثْرَتِهِ، فَفَتَحَ أَعْيُنَهُمْ لِلتَّأَمُّلِ فِيهِ لِيَعْلَمُوا خُبْثَهُ وَلَا تُعْجِبُهُمْ كَثْرَتُهُ. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ قُلْ لَهُمْ هَذَا كُلَّهُ، فَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: أَعْجَبَكَ لِلْخِطَابِ، وَالْمُخَاطَبُ بِهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ بَلْ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ، مِثْلَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَام: 27] ، أَيْ وَلَوْ أَعْجَبَ مُعْجَبًا كَثْرَةُ الْخَبِيثِ. وَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَ الْإِعْجَابِ بِالْكَثْرَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ بِمُقْتَضٍ أَنَّ كُلَّ خَبِيثٍ يَكُونُ كَثِيرًا وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الطَّيِّبِ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّ طَيِّبَ التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالثِّمَارِ أَكْثَرُ مِنْ خَبِيثِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ لَا تُعْجِبَكُمْ مِنَ الْخَبِيثِ كَثْرَتُهُ إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَتَصْرِفُكُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ مِنْ خُبْثِهِ وَتَحْدُوكُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ لِكَثْرَتِهِ، أَيْ وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى الْأَشْيَاءِ بِصِفَاتِهَا وَمَعَانِيهَا لَا بِأَشْكَالِهَا وَمَبَانِيهَا، أَوْ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِوَفْرَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ الضَّالَّةِ.

وَالْإِعْجَابُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [55] . وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ» قَالَ: «وَكُنْتُ بَحَثْتُ مَعَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَقُلْتُ لَهُ: هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِأَمْرٍ وَشَهِدَ عَشَرَةُ عُدُولٍ بِضِدِّهِ، فَالْمَشْهُورُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْعَدْلَيْنِ، وَهُمَا مُتَكَامِلَانِ. وَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلٌ آخَرُ بِالتَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ لَهَا اعْتِبَارٌ بِحَيْثُ إِنَّهَا مَا أُسْقِطَتْ هُنَا إِلَّا لِلْخُبْثِ، وَلَمْ يُوَافِقْنِي عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِوَجْهٍ. ثُمَّ وَجَدْتُ ابْنَ الْمُنِيرِ ذَكَرَهُ بِعَيْنِهِ» اه. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ وَاوُ الْحَالِ، ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا إِعْمَالَ النَّظَرِ فِي تَمْيِيزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالْبَحْثَ عَنِ الْحَقَائِقِ، وَعَدَمَ الِاغْتِرَارِ بِالْمَظَاهِرِ الْخَلَّابَةِ الْكَاذِبَةِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ فِي تَمْيِيزِ الْأَفْعَالِ حَتَّى يُعْرَفَ مَا هُوَ تَقْوَى دُونَ غَيْرِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اسْتِدْلَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، لِأَنَّ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاسْتِطَاعَةِ الِاجْتِهَادَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ إِلَيْهِ الثَّابِتِ لَهُ اكْتِسَابُ أَدَاتِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: يَا أُولِي الْأَلْبابِ فَخَاطَبَ النَّاس بِصفة ليؤمىء إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْعُقُولِ فِيهِمْ يُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ لِاتِّبَاعِ الطَّيِّبِ وَنَبْذِ الْخَبِيثِ. وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَظْهَرُ فِيهِ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ النَّظَرُ فِي دَلَائِلَ صِدْقِ دَعْوَى الرَّسُولِ وَأَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَطَلُّبِ الْآيَاتِ وَالْخَوَارِقَ كَحَالِ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] الْآيَةَ، وَأَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ حَالِ الرَّسُولِ وَحَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَإِنْ كَانَ عَدَدُهُمْ كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تَقْرِيبٌ لِحُصُولِ الْفَلَاحِ بِهِمْ إِذَا اتَّقَوْا هَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي مِنْهَا تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ وَعَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِكَثْرَةِ الْخَبِيثِ وَقِلَّةِ الطَّيِّبِ فِي هَذَا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 إلى 102]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 101 إِلَى 102] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلنَّهْيِ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَى مَسَائِلَ سَأَلَهَا بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيست فِي شؤون الدِّينِ ولكنّها فِي شؤون ذَاتِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ، فَنُهُوا أَنْ يَشْغَلُوا الرَّسُولَ بِمِثَالِهَا بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لَهُمْ بَيَانَ مُهِمَّةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [الْمَائِدَة: 99] الصَّالِحُ لِأَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِمَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلِمَضْمُونِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَة: 100] فَالْآيَتَانِ كِلْتَاهُمَا مُرْتَبِطَتَانِ بِآيَةِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [الْمَائِدَة: 99] ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمُرْتَبِطَةٍ بِالْأُخْرَى. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي بَيَانِ نَوْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: سَأَلَ النَّاسُ رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ» ، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذا لَا حى يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ (أَيْ فَدَعَاهُ لِأَبِيهِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ) ، وَالسَّائِلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى: فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِي، قَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْخَبَرِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا آخَرَ قَامَ فَقَالَ: أَيْنَ أَبِي. وَفِي رِوَايَةٍ: أَيْنَ أَنَا؟ فَقَالَ: فِي النَّارِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ، أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي، وَيَقُولُ الْمُسَافِرُ: مَاذَا أَلْقَى فِي سَفَرِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا

عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. قَالَ الأئمّة: وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَمَحْمَلُهُ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ افْتِتَاحَ الْآيَةِ بِخِطَابِ الَّذِينَ آمَنُوا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَحْوِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا [الْبَقَرَة: 104] ، أَوْ أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ، عَلَى أَنَّ لَهْجَةَ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ خَالِيَةٌ عَنِ الْإِيمَاءِ إِلَى قَصْدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا تَقُولُوا راعِنا [الْبَقَرَة: 104] فَقَدْ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 104] . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا نَزَلَتْ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: 97] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ عَامٍ، فَسَكَتَ، فَأَعَادُوا. فَقَالَ: لَا، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ قَرِيبًا مِنْهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ عِنْدَ وُقُوعِ هَذَا السُّؤَالِ وَإِنَّمَا كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ حُدُوثِهِ فَظَنَّهَا الرَّاوُونَ نَزَلَتْ حِينَئِذٍ. وَتَأْوِيلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ الْأُمَّةَ تَكُونُ فِي سَعَةٍ إِذَا لَمْ يُشْرَعْ لَهَا حُكْمٌ، فَيَكُونُ النَّاسُ فِي سَعَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ بِهِمْ بعد الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا سَأَلُوا وَأُجِيبُوا مِنْ قبل الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِمَا أُجِيبُوا بِهِ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ وَالْأَعْصَارُ فَيَكُونُونَ فِي حَرَجٍ إِنْ رَامُوا تَغْيِيرَهُ فَيَكُونُ مَعْنَى إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهَا تَسُوءُ بَعْضَهَمْ أَوْ تَسُوءُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِذَا شَقَّتْ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ. وَقَوْلُهُ: أَشْياءَ تَكْثِيرُ شَيْءٍ، وَالشَّيْءُ هُوَ الْمَوْجُودُ، فَيَصْدُقُ بِالذَّاتِ وَبِحَالِ الذَّاتِ، وَقَدْ سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالِ بَعْضِ الْمَجْهُولَاتِ أَوِ الضَّوَالِّ أَوْ عَنْ أَحْكَامِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ. وَ (أَشْيَاءَ) كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى جَمْعِ (شَيْءٍ) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صِيغَةُ جَمْعٍ لِأَنَّ زِنَةَ شَيْءٍ (فَعْلٌ) ، وَ (فَعْلٌ) إِذَا كَانَ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ قِيَاسُ جَمْعِهِ (أَفْعَالٌ) مِثْلَ بَيْتٍ وَشَيْخٍ. فَالْجَارِي عَلَى مُتَعَارَفِ

التَّصْرِيفِ أَنْ يَكُونَ (أَشْيَاءُ) جَمْعًا وَأَنَّ هَمْزَتَهُ الْأُولَى هَمْزَةٌ مَزِيدَةٌ لِلْجَمْعِ. إِلَّا أَنَّ (أَشْيَاءَ) وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ هُنَا مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، فَتَرَدَّدَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَأَمْثَلُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ: إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَلَامِ أَشْبَهَ (فَعْلَاءَ) ، فَمَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ لِهَذَا الشَّبَهِ، كَمَا مَنَعُوا سَرَاوِيلَ مِنَ الصَّرْفِ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ شَابَهَ صِيغَةَ الْجَمْعِ مِثْلَ مَصَابِيحَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: (أَشْيَاءُ) اسْمُ جَمْعِ (شَيْءٍ) وَلَيْسَ جَمْعًا، فَهُوَ مِثْلُ طَرْفَاءَ وَحَلْفَاءَ فَأَصْلُهُ شَيْئَاءُ، فَالْمَدَّةُ فِي آخِرِهِ مَدَّةُ تَأْنِيثٍ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَادَّعَى أَنَّهُمْ صَيَّرُوهُ أَشْيَاءَ بِقَلْبٍ مَكَانِيٍّ. وَحَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: شَيْئَاءُ بِوَزْنِ (فَعْلَاءَ) فَصَارَ بِوَزْنِ (لَفْعَاءَ) . وَقَوْلُهُ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صِفَةُ أَشْياءَ، أَيْ إِنْ تَظْهَرْ لَكُمْ وَقَدْ أُخْفِيَتْ عَنْكُمْ يَكُنْ فِي إِظْهَارِهَا مَا يَسُوءُكُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا مِنْهَا مَا إِذَا ظَهَرَ سَاءَ مَنْ سَأَلَ عَنْهُ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ قَبْلَ إِظْهَارِهَا غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ مَجْمُوعِهَا مُعَرَّضًا لِلْجَوَابِ بِمَا بَعْضُهُ يَسُوءُ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْبَعْضُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لِلسَّائِلِينَ كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا سُؤَالًا عَنْ مَا إِذَا ظَهَرَ يَسُوءُهُمْ، فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ أَسْئِلَةً مِنْهَا: مَا سَرُّهُمْ جَوَابُهُ، وَهُوَ سُؤَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ عَنْ أَبِيهِ فَأُجِيبَ بِالَّذِي يُصَدِّقُ نَسَبَهُ، وَمِنْهَا مَا سَاءَهُمْ جَوَابُهُ، وَهُوَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ أَيْنَ أَبِي، أَوْ أَيْنَ أَنَا فَقِيلَ لَهُ: فِي النَّارِ، فَهَذَا يَسُوءُهُ لَا مَحَالَةَ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ رُوعِيَ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمَجْمُوعِ لِكَرَاهِيَةِ بَعْضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اسْتِئْنَاسُهُمْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ نَحْوِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِحَالِ مَا يَسُوءُهُمْ جَوَابُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ عَفَا اللَّهُ عَنْها. لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلصِّفَةِ هُنَا لِتَعَذُّرِ تَمْيِيزِ مَا يَسُوءُ عَمَّا لَا يَسُوءُ. وَجُمْلَة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جملَة لَا تَسْئَلُوا، وَهِيَ تُفِيدُ إِبَاحَةَ السُّؤَالِ عَنْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ لقَوْله: وَإِنْ تَسْئَلُوا فَجَعَلَهُمْ مُخَيَّرِينَ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَمْثَالِهَا، وَأَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ هُوَ الْأَوْلَى لَهُمْ، فَالِانْتِقَالُ إِلَى الْإِذْنِ رُخْصَةٌ وَتَوْسِعَةٌ، وَجَاءَ بِ إِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي (إِنْ) أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ نَادِرُ الْوُقُوعِ أَوْ مَرْغُوبٌ عَنْ وُقُوعِهِ.

وَقَوْلُهُ: حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ ظَرْفٌ يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ الشَّرْط وَهُوَ تَسْئَلُوا، وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ الْجَوَابِ وَهُوَ تُبْدَ لَكُمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ حِينَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لَمْ يُجْعَلْ وَقْتًا لِإِلْقَاءِ الْأَسْئِلَةِ بَلْ جُعِلَ وَقْتًا لِلْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ الْجَوَابَ عَمَّا يَسْأَلُونَ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: 50] فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ. فَمَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَنْتَظِرِ الْجَوَابَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ سَأَلَ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ حَصَلَ جَوَابُهُ عَقِبَ سُؤَالِهِ. وَوَقْتُ نُزُولِ الْقُرْآنِ يَعْرِفُهُ مَنْ يَحْضُرُ مِنْهُمْ مجْلِس النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ لَهُ حَالَةً خَاصَّةً تعتري الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِفُهَا النَّاسُ، كَمَا وَرَدَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي حُكْمِ الْعُمْرَةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُولَ الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى لَهُمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ فليسألني عَنهُ فو الله لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» الْحَدِيثَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ ذَلِكَ الْحِينُ فِي حَالِ نُزُولِ وَحْيٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ الْآيَةَ. فَتِلْكَ لَا مَحَالَةَ سَاعَةَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاتِّصَالِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِعَالَمِ الْوَحْيِ. وَقَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْها يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ قَوْله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ نَهَاكُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَعَفَا عَنْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ. وَهَذَا أظهر لعوذ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ عَفْوِهِ عَمَّا سَلَفَ مِنْ إِكْثَارِ الْمَسَائِلِ وإحفاء الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَا يَجِبُ مِنْ تَوْقِيرِهِ.

وَقَوْلُهُ: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابُ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ ثُمَّ الْإِذْنُ فِيهِ فِي حِينِ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ، أَنْ يَقُولَ سَائِلٌ: إِنْ كَانَ السُّؤَالُ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ بَعْضَ الْأَسْئِلَةِ يَسُوءُ جَوَابُهُ قَوْمًا، فَهَلِ الْأَوْلَى تَرْكُ السُّؤَالِ أَوْ إِلْقَاؤُهُ. فَأُجِيبَ بِتَفْصِيلِ أَمْرِهَا بِأَنَّ أَمْثَالَهَا قَدْ كَانَتْ سَبَبًا فِي كُفْرِ قَوْمٍ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ سَأَلَها جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ دَلَّ عَلَيْهِ فعل تَسْئَلُوا، أَيْ سَأَلَ الْمَسْأَلَةَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَجَرَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ سَأَلَ أَمْثَالَهَا. وَالْمُمَاثَلَةُ فِي ضَآلَةِ الْجَدْوَى. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ سَأَلَها عَائِدًا إِلَى أَشْياءَ، أَيْ إِلَى لَفْظِهِ دُونَ مَدْلُولِهِ. فَالتَّقْدِيرُ: قَدْ سَأَلَ أَشْيَاءَ قَوْمٌ مَنْ قَبْلِكُمْ، وَعُدِّيَ فِعْلُ سَأَلَ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ بَلْ هِيَ أَحَقُّ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ، فَإِنَّ أَصْلَ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى لَفْظٍ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهِ وَقَدْ يَعُودُ إِلَى لَفْظٍ دُونَ مَدْلُولِهِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: لَكَ دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا الدِّرْهَمُ الَّذِي أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ. وَالِاسْتِخْدَامُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَوْدُ الضَّمِيرَ عَلَى اللَّفْظِ مَعَ مَدْلُولٍ آخَرَ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ فِيهِ تَرَاخِيَ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا تُفِيدُ تَرَاخِي مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ فِي تَصَوُّرِ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ تَصَوُّرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ لَمْ يَكُنْ يُتَرَقَّبُ حُصُولُ مَضْمُونِهَا حَتَّى فَاجَأَ الْمُتَكَلِّمُ. وَقَدْ مَرَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِها يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِ أَصْبَحُوا، أَيْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ سَبَبًا فِي كُفْرِهِمْ، أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا حَصَلَ مِنْ جَوَابِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «لِلتَّعْدِيَةِ» فَتَتَعَلَّقُ بِ كافِرِينَ، أَيْ كَفَرُوا بِهَا، أَيْ بِجَوَابِهَا بِأَنْ لَمْ يُصَدِّقُوا رُسُلَهُمْ فِيمَا أَجَابُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ مُفِيدٌ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ مَا كَفَرُوا إِلَّا بِسَبَبِهَا، أَيْ كَانُوا فِي مَنَعَةٍ مِنَ الْكُفْرِ لَوْلَا تِلْكَ الْمَسَائِلُ، فَقَدْ كَانُوا كَالْبَاحِثِ عَلَى حَتْفِهِ بِظِلْفِهِ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ ادِّعَائِيٌّ، أَوْ هُوَ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْهَا.

[سورة المائدة (5) : آية 103]

وَفِعْلُ أَصْبَحُوا مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى صَارُوا، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مُشْعِرٌ بِمَصِيرٍ عَاجِلٍ لَا تَرَيُّثَ فِيهِ لِأَنَّ الصَّبَاحَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الِانْتِشَارِ لِلْأَعْمَالِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ بَعْضُ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، سَأَلُوا مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَلَمَّا أُعْطُوا مَا سَأَلُوا لَمْ يُؤْمِنُوا، مِثْلُ ثَمُودَ، سَأَلُوا صَالِحًا آيَةً، فَلَمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الصَّخْرِ عَقَرُوهَا، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مُتَابعَة الْهوى فكلّ مَا يَأْتِيهِمْ مِمَّا لَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ كَذَّبُوا بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النُّور: 48، 49] ، وَكَمَا وَقَعَ لِلْيَهُودِ فِي خَبَرِ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَقَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [97] . فَإِنَّ الْيَهُودَ أَبْغَضُوا جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ دَانْيَالَ بِاقْتِرَابِ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، وَتَعْطِيلِ بَيْتِ الْقُدْسِ، حَسْبَمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِ دَانْيَالَ. وَقَدْ سَأَلَ الْيَهُودُ زَكَرِيَّاءَ وَابْنَهُ يَحْيَى عَنْ عِيسَى، وَكَانَا مُقَدَّسَيْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا شَهِدَا لِعِيسَى بِالنُّبُوءَةِ أَبْغَضَهُمَا الْيَهُودُ وَأَغْرَوْا بِهِمَا زَوْجَةَ هِيرُودَسَ فَحَمَلَتْهُ عَلَى قَتْلِهِمَا كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى وَالْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ مِنْ مُرْقُسَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا ذَمُّ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي غَمِّ النَّفْسِ وَحَشْرَجَةِ الصَّدْرِ وَسَمَاعِ مَا يُكْرَهُ مِمَّنْ يُحِبُّهُ. وَلَوْلَا أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَازِعٌ لَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي أَمْثَالِ مَا وَقَعَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ قَبْلِهِمْ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ ذَرِيعَةً لِلْكُفْرِ. فَهَذَا اسْتِقْصَاءُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَجِيبَةِ الْمَعَانِي الْبَلِيغَةِ الْعِبَرِ الْجَدِيرَةِ بِاسْتِجْلَائِهَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي منّ باستضوائها. [103] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 103] مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

(103) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَاءَ فَارِقًا بَيْنَ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَقَائِضِ الْحَنِيفِيَّةِ وَبَيْنَ مَا نَوَّهَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لَهُمْ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّ أُمُورًا مَا جَعَلَهَا اللَّهُ وَلَكِنْ جَعَلَهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَكُونُ كَالْبَيَانِ لِآيَةِ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَة: 100] ، فَإِنَّ الْبَحِيرَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُنَا تُشْبِهُ الْهَدْيَ فِي أَنَّهَا تُحَرَّرُ مَنَافِعُهَا وَذَوَاتُهَا حَيَّةً لِأَصْنَامِهِمْ كَمَا تُهْدَى الْهَدَايَا لِلْكَعْبَةِ مُذَكَّاةً، فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُمْ ذَلِكَ وَيَخْلِطُونَ ذَلِكَ بِالْهَدَايَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. فَالتَّصَدِّي لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَبَيْنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، كَالتَّصَدِّي لِبَيَانِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَبَيْنَ السَّعْيِ لِلصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 158] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَمِمَّا يَزِيدُكَ ثِقَةً بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ اللَّهَ افْتَتَحَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِتَكُونَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ [الْمَائِدَة: 97] . وَلَوْلَا مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْآيِ الْكَثِيرَةِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِلَّا أَنَّ الْفَصْلَ هُنَا كَانَ أَوْقَعَ لِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُ الْكَلَامِ فَيُفِيدُ مَزِيدَ اهْتِمَامٍ بِمَا تَضَمَّنَهُ. وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، لِأَنَّ أَصْلَ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ إِلَى التَّقْدِيرِ وَالْكَتْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: فَرَضَ عَلَيْهِ جَعَالَةً، وَهُوَ هُنَا كَذَلِك فيؤول إِلَى مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 97] . فَالْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيُ تَشْرِيعِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْحَقَائِقِ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْوَاقِعِ. فَنَفَيُ جَعْلِهَا مُتَعَيَّنٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ الْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ فَعَلَ شَيْئًا: مَا أَمَرْتُكَ بِهَذَا. فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبَاحَتَهُ وَالتَّخْيِيرَ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ

كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: 150] فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَى مَنْ حَرَّمُوهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَجْتَنِبُوهُ. وَأُدْخِلَتْ (مِنْ) الزَّائِدَةُ بَعْدَ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ نَفْيُ الْجِنْسِ لَا نَفْيَ أَفْرَادٍ مُعَيَّنَةٍ، فَقَدْ سَاوَى أَنْ يُقَالَ: لَا بَحِيرَةَ وَلَا سَائِبَةَ مَعَ قَضَاءِ حَقِّ الْمَقَامِ مِنْ بَيَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَالْبَحِيرَةُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مَبْحُورَةٍ، وَالْبَحْرُ الشَّقُّ. يُقَالُ: بَحَرَ شَقَّ. وَفِي حَدِيثِ حَفْرِ زَمْزَمَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَحَرَهَا بَحْرًا، أَيْ شَقَّهَا وَوَسَّعَهَا. فَالْبَحِيرَةُ هِيَ النَّاقَةُ، كَانُوا يَشُقُّونَ أُذُنَهَا بِنِصْفَيْنِ طُولًا عَلَامَةً عَلَى تَخْلِيَتِهَا، أَيْ أَنَّهَا لَا تُرْكَبُ وَلَا تُنْحَرُ وَلَا تُمْنَعُ عَنْ مَاءٍ وَلَا عَنْ مَرْعًى وَلَا يَجْزُرُونَهَا وَيَكُونُ لَبَنُهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، أَيْ أَصْنَامِهِمْ، وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْرَبُهُ إِذَا كَانَتْ ضِيَافَةً لِزِيَارَةِ الصَّنَمِ أَوْ إِضَافَةَ سَادِنِهِ، فَكُلُّ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ تَكُونُ بَحَائِرُهُمْ لِصَنَمِهِمْ. وَقَدْ كَانَتْ لِلْقَبَائِلِ أَصْنَامٌ تَدِينُ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِصَنَمٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَهَا بَحِيرَةً إِذَا نُتِجَتْ (¬1) عَشَرَةَ أَبْطُنٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: إِذَا نُتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَكَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا. وَإِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا حَلَّ أَكْلُ لَحْمِهَا لِلرِّجَالِ وَحُرِّمَ عَلَى النِّسَاءِ. وَالسَّائِبَةُ: الْبَعِيرُ أَوِ النَّاقَةُ يُجْعَلُ نَذْرًا عَنْ شِفَاءٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ قُدُومٍ مِنْ سَفَرٍ، فَيَقُولُ: أَجْعَلُهُ لِلَّهِ سَائِبَةً. فَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَتَاءِ نَسَّابَةٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: عَبْدٌ سَائِبَةٌ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِانْطِلَاقِ وَالْإِهْمَالِ، وَقِيلَ: فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُسَيَّبٌ. وَحُكْمُ السَّائِبَةِ كَالْبَحِيرَةِ فِي تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَكَانُوا يَدْفَعُونَهَا ¬

(¬1) نتجت مَبْنِيّ للْمَفْعُول وَهُوَ يتَعَدَّى إِلَى مفعولين فأولهما جعل نَائِب فَاعل وَثَانِيهمَا هُوَ الْمَنْصُوب.

إِلَى السَّدَنَةِ لِيُطْعِمُوا مِنْ أَلْبَانِهَا أَبْنَاءَ السَّبِيلِ. وَكَانَتْ عَلَامَتُهَا أَنْ تُقْطَعَ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدَةِ فَقَارِ الظَّهْرِ، فَيُقَالُ لَهَا: صَرِيمٌ وَجَمْعُهُ صُرُمٌ، وَإِذَا وَلَدَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ كُلَّهُنَّ إِنَاثٌ مُتَتَابِعَةٌ سَيَّبُوهَا أَيْضًا فَهِيَ سَائِبَةٌ، وَمَا تَلِدُهُ السَّائِبَةُ يَكُونُ بَحِيرَةً فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهَا سَائِبَةً. وَالْوَصِيلَةُ مِنَ الْغَنَمِ هِيَ الشَّاةُ تَلِدُ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى، فَتُسَمَّى الْأُمُّ وَصِيلَةً لِأَنَّهَا وَصَلَتْ أُنْثَى بِأُنْثَى، كَذَا فَسَّرَهَا مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الْوَصِيلَةُ هِيَ الْمُتَقَرَّبَ بِهَا، وَيَكُونُ تَسْلِيطُ نَفْيِ الْجَعْلِ عَلَيْهَا ظَاهِرًا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْوَصِيلَةُ أَنْ تَلِدَ الشَّاةُ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ أَوْ سَبْعَةً (عَلَى اخْتِلَافِ مُصْطَلَحِ الْقَبَائِلِ) فَالْأَخِيرُ إِذَا كَانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ لِبُيُوتِ الطَّوَاغِيتِ وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، أَيْ لِلطَّوَاغِيتِ، وَإِنْ أَتْأَمَتِ اسْتَحْيَوْهُمَا جَمِيعًا وَقَالُوا: وَصَلَتِ الْأُنْثَى أَخَاهَا فَمَنَعَتْهُ مِنَ الذَّبْحِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالْوَصِيلَةُ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ نَسْلِ الْغَنَمِ، وَهِيَ الَّتِي أَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِبَقِيَّةِ أَحْوَالِ الشَّاةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَصِيلَةَ اسْمٌ لِلشَّاةِ الَّتِي وَصَلَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ إِنَاثًا، جَمْعًا بَيْنَ تَفْسِيرِ مَالِكٍ وَتَفْسِيرِ غَيْرِهِ، فَالشَّاةُ تُسَيَّبُ لِلطَّوَاغِيتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهَا أَوِ ابْنَتِهَا هُوَ مِنْ فُرُوعِ اسْتِحْقَاقِ تَسْيِيبِهَا لِتَكُونَ الْآيَةُ شَامِلَةً لِأَحْوَالِهَا كُلِّهَا. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ الشَّاةُ تُتْئِمُ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ عَشَرَةَ إِنَاثٍ فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ النِّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ شَيْءٌ مِنْهَا فَيَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ الْوَصِيلَةَ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا بَكَّرَتِ النَّاقَةُ فِي أَوَّلِ إِنْتَاجِ الْإِبِلِ بِأُنْثَى ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى فِي آخِرِ الْعَامِ فَكَانُوا يَجْعَلُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ. وَهَذَا قَالَهُ سَعِيدٌ مِنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَقَعَ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ إِيهَامٌ اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» . وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالْوَصِيلَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ. وَالْحَامِي هُوَ فَحْلُ الْإِبِلِ إِذَا نُتِجَتْ مِنْ صُلْبِهِ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ فَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُرْكَبَ أَوْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَرْعًى وَلَا مَاءٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ حَمَى ظَهْرَهُ، أَيْ كَانَ

سَبَبًا فِي حِمَايَتِهِ، فَهُوَ حَامٍ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، كَانُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ وَيُسَيِّبُونَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّائِبَةِ لَا يُؤْكَلُ حَتَّى يَمُوتَ وَيُنْتَفَعَ بِوَبَرِهِ لِلْأَصْنَامِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ مَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّهَا مِنْ شَرْعِ اللَّهِ لِتَقَادُمِ الْعَمَلِ بِهَا مُنْذُ قُرُونٍ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ فِي نِسْبَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى شَعَائِرِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا يُخْبِرُونَ بِمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْوَاقِعِ. وَالْكَذِبُ هُوَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْوَاقِعِ. وَالْكُفَّارُ فَرِيقَانِ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ: فَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الضَّلَالَاتِ لِمَقَاصِدَ مُخْتَلِفَةٍ وَنَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَشْهَرُ هَؤُلَاءِ وَأَكْذَبُهُمْ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ- بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ- الْخُزَاعِيُّ، فَفِي الصَّحِيحِ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ- بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ- أَيْ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ . وَمِنْهُمْ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ (¬1) . وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْتُهُ مَعَ عَمْرٍو فِي النَّارِ. رَوَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ أَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ . وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ وَأَشْهَرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَحِيرَةَ. وَأَمَّا الْعَامَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ، وَهُمُ الَّذين أريدوا بقول: وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. فَلَمَّا وُصِفَ الْأَكْثَرُ بِعَدَمِ الْفَهْمِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْأَقَلَّ هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوا هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَزَيَّنُوهَا لِلنَّاسِ. وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ¬

(¬1) هُوَ جُنَادَة بن أُميَّة بن عَوْف من بني مَالك بن كنَانَة وهم نسأة الشُّهُور. وجنادة هَذَا أدْركهُ الْإِسْلَام وَهُوَ الْقَائِم بالنسيء.

[سورة المائدة (5) : آية 104]

وَفِي تَسْمِيَةِ مَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ افْتِرَاءً وَكَذِبًا وَنَفْيِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْدَاثَ لَا تَمُتُّ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا تَنْتَسِبُ إِلَى الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، وَذَلِكَ إِشْرَاكٌ وَكُفْرٌ عَظِيمٌ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا يُجْعَلُ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلُ السَّائِبَةِ هُوَ عَمَلٌ ضَرُّهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، لِأَنَّ فِي تسييب الْحَيَوَان إِضْرَار بِهِ إِذْ رُبَّمَا لَا يَجِدُ مَرْعًى وَلَا مَأْوًى، وَرُبَّمَا عَدَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ، وَفِيهِ تَعْطِيلُ مَنْفَعَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَمَا يَحْصُلُ مِنْ دَرِّ بَعْضِهَا لِلضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنَّمَا هُوَ مَنْفَعَةٌ ضَئِيلَةٌ فِي جَانِبِ الْمَفَاسِدِ الحافّة بِهِ. [104] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 104] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) الْوَاوُ لِلْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمَائِدَة: 103] ، أَيْ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ إِلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ كَذِبًا، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ حَقًّا أَوِ التَّدَبُّرِ فِيهِ أَعْرَضُوا وَتَمَسَّكُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ. فَحَالُهُمْ عَجِيبَةٌ فِي أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ ادِّعَاءَ آبَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا اخْتَلَقُوا لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ، مِثْلِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَمَا ضاهاهما، ويعرضون على دَعْوَةِ الرَّسُولِ الصَّادِقِ بِلَا حُجَّةٍ لَهُمْ فِي الْأُولَى، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي حُجَّةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ فِيهَا بَعْدَ عِلْمِهَا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعالَوْا مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَفِي إِصْغَاءِ السَّمْعِ، وَنَظَرِ الْفِكْرِ، وَحُضُورِ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَدَمِ الصَّدِّ عَنْهُ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ (تَعَالَ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَعَطَفَ وَإِلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ يُرْشِدُهُمْ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَأُعِيدَ حَرْفُ (إِلَى) لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيِ الْإِقْبَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقَيْ تَعالَوْا فَإِعَادَةُ الْحَرْفِ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ مَعْنَيَيْ تَعالَوْا الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ.

[سورة المائدة (5) : آية 105]

وَقَوْلُهُ قالُوا حَسْبُنا أَيْ كَافِينَا، إِذَا جُعِلَتْ (حَسْبُ) اسْمًا صَرِيحًا وَمَا وَجَدْنا هُوَ الْخَبَرَ، أَوْ كَفَانَا إِذَا جُعِلَتْ (حَسْبُ) اسْمَ فِعْلٍ وَمَا وَجَدْنا هُوَ الْفَاعِلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [173] . وَ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ: مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا مَجَازٌ فِي تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَقَوْلُهُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَخْ، تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [170] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الْآيَةَ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي تَنَازُعٍ بَيْنَ أَهْلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَهْلِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنِ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَتَحْمِيلُ الْآيَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِكْرَاهٌ لِلْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنى. [105] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 105] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) تَذْيِيلٌ جَرَى عَلَى مُنَاسَبَةٍ فِي الِانْتِقَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مُكَابَرَةَ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْ دَعْوَةِ الْخَيْرِ عَقَّبَهُ بِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ حُدُودَ انْتِهَاءِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ إِذَا ظَهَرَتِ الْمُكَابَرَةُ، وَعَذَرَ الْمُسْلِمِينَ بِكِفَايَةِ قِيَامِهِمْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، فَأَعْلَمَهُمْ هُنَا أَنْ لَيْسَ تَحْصِيلُ أَثَرِ الدُّعَاءِ على الْخَيْر بمسؤولين عَنْهُ، بَلْ عَلَى الدَّاعِي بَذْلُ جَهْدِهِ وَمَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُصْغِ الْمَدْعُوُّ إِلَى الدَّعْوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقَصَص: 56] . وعَلَيْكُمْ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَتَكُونُ جُمْلَةً مِنْ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ وَمُبْتَدَأٍ مُؤَخَّرٍ، وَتَكُونُ (عَلَى) دَالَّةً عَلَى اسْتِعْلَاءٍ

مَجَازِيٍّ، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا فِعْلَ كَذَا مُعْتَلِيًا عَلَى الْمُخَاطَبِ وَمُتَمَكِّنًا مِنْهُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْوُجُوبِ فَلَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ قَالُوا: عَلَيْكَ كَذَا، فَرَكَّبُوا الْجُمْلَةَ مِنْ مَجْرُورٍ خَبَرٍ وَاسْمِ ذَاتٍ مُبْتَدَأٍ بِتَقْدِيرِ: عَلَيْكَ فِعْلَ كَذَا، لِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ لَا تُوصَفُ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْمُخَاطَبِ، أَيِ التَّمَكُّنِ، فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرٍ. وَذَلِكَ كَتَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، وَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: 1] ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَلَيْكُمُ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَلَيَّ أَلِيَّةٌ، وَعَلَيَّ نَذْرٌ. ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ فَعَامَلُوا (عَلَى) مُعَامَلَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ فَجَعَلُوهَا بِمَعْنَى أَمْرِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُلَازَمَةِ وَنَصَبُوا الِاسْمَ بَعْدَهَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ فَسَمَّاهَا النُّحَاةُ اسْمَ فِعْلٍ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ كَالِاسْمِ لِمَعْنَى أَمْرٍ مَخْصُوصٍ، فَكَأَنَّكَ عَمَدْتَ إِلَى فِعْلِ (الْزَمْ) فَسَمَّيْتَهُ (عَلَى) وَأَبْرَزْتَ مَا مَعَهُ مِنْ ضَمِيرٍ فَأَلْصَقْتَهُ بِ (عَلَى) فِي صُورَةِ الضَّمِيرِ الَّذِي اعْتِيدَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهَا، وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَرِّ فَيُقَالُ: عَلَيْكَ وَعَلَيْكُمَا وَعَلَيْكُمْ. وَلِذَلِكَ لَا يُسْنَدُ إِلَى ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَا يُؤْمَرُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بَلْ يُؤْمَرُ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْأَمْرِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ هُوَ- بِنَصْبِ أَنْفُسَكُمْ- أَيِ الْزَمُوا أَنْفُسَكُمْ، أَيِ احْرِصُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَالْمَقَامُ يُبَيِّنُ الْمَحْرُوصَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الِاهْتِدَاءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْغَيْرِ وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ. فَجُمْلَةُ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّ أَمْرَهُمْ بِمُلَازَمَةِ أَنْفُسِهِمْ مَقْصُودٌ مِنْهُ دَفْعُ مَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْأَسَفِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الضَّالِّينَ لِلِاهْتِدَاءِ، وَخَشْيَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرٍ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَيِ اشْتَغِلُوا بِإِكْمَالِ اهْتِدَائِكُمْ، فَفِعْلُ يَضُرُّكُمْ مَرْفُوعٌ. وَقَوْلُهُ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ظَرْفٌ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ يَتَعَلَّقُ بِ يَضُرُّكُمْ. وَقَدْ شَمِلَ الِاهْتِدَاءُ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَوْ قَصَّرُوا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ وَسَكَتُوا عَنِ الْمُنْكَرِ لَضَرَّهُمْ مَنْ ضَلَّ لِأَنَّ إِثْمَ ضَلَالِهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِمْ.

فَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي تَرْكِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِأَدِلَّةٍ طَفَحَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ. فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي شَرْطِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وَلِمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ فَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ بِ مَنْ ضَلَّ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ مِنْ خَفَاءِ تَفَارِيعِ أَنْوَاعِ الِاهْتِدَاءِ عَرَضَ لِبَعْضِ النَّاسِ قَدِيمًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَشَكُّوا فِي أَنْ يَكُونَ مُفَادُهَا التَّرْخِيصَ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ الظَّنُّ فِي عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهَا أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقَالَ لِي: سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ» . وَحَدَثَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ: أَخْرَجَ أَصْحَابُ «السُّنَنِ» أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِسُقُوطِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ . وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قُرِئَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ (أَيِ النَّصِيحَةُ) وَلَكِنْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (يُرِيدُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ قِتَالٌ لِتُقْبَلَ نَصِيحَتُهُمْ) . وَعَنْهُ أَيْضًا: إِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا (أَيْ هَذِهِ الْآيَةَ) لَيْسَتْ لِي وَلَا لِأَصْحَابِي لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَلَا لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودُ وَأَنْتُمُ الْغَيْبُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَة لأقوام يجيؤون مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 إلى 108]

فَمَا صَدَقُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَقُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» فَإِنَّ مَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّغْيِيرِ دُونَ ضُرٍّ يَلْحَقُهُ أَوْ يَلْحَقُ عُمُومَ النَّاسِ كَالْفِتْنَةِ. فَالْآيَةُ تُفِيدُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ذَلِكَ إِذَا تَحَقَّقَ عَدَمُ الْجَدْوَى بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ إِذا ظَهرت المكابرة وَعَدَمُ الِانْتِصَاحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَكَذَلِكَ إِذَا خِيفَ حُصُولُ الضُّرِّ لِلدَّاعِي بِدُونِ جَدْوَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً عُذْرٌ لِلْمُهْتَدِي وَنِذَارَةٌ لِلضَّالِّ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ لِلِاهْتِمَامِ بِمُتَعَلِّقِ هَذَا الرُّجُوعِ وَإِلْقَاءِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَأَكَّدَ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنْ لَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى التَّغْلِيبِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْبَاءِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الْكِنَايَةُ عَنْ إِظْهَارِ أَثَرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ لِلْمُهْتَدِي الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ، وَالْعَذَابِ لِلضَّالِّ الْمُعْرِضِ عَنِ الدَّعْوَةِ. وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَا مَحَالَةَ، بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِ إِلَى، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمِيمِيَّةِ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- عَلَى الْقَلِيل، لأنّ الْمَشْهُود فِي الْمِيمِيِّ مِنْ يَفْعِلُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- أَنْ يَكُونَ مَفْتُوح الْعين. [106- 108] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 106 إِلَى 108] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ

(108) اسْتُؤْنِفَتْ هَذِهِ الْآيُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِشَرْعِ أَحْكَامِ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، تَحْقِيقًا لِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَاسْتِقْصَاءً لِمَا قَدْ يحْتَاج إِلَى علمه الْمُسْلِمُونَ وَمَوْقِعُهَا هُنَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَدْ كَانَت الْوَصِيَّة مَشْرُوعِيَّة بِآيَةِ الْبَقَرَةِ [180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ابْتِدَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَفِي مِقْدَارِ مَا نُسِخَ مِنْ حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ وَمَا أُحْكِمَ فِي مَوْضِعِهِ هُنَالِكَ. وَحَرَصَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَأَمَرَ بِهَا، فَكَانَتْ مَعْرُوفَةً مُتَدَاوَلَةً مُنْذُ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ الْمَرْءُ يُوصِي لِمَنْ يُوصِي لَهُ بِحَضْرَةِ وَرَثَتِهِ وَقَرَابَتِهِ فَلَا يَقَعُ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ حُرْمَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِنْفَاذِهَا حِفْظًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْقِيقِ حَقِّهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى الْقُرْآنُ عَنْ شَرْعِ التَّوَثُّقِ لَهَا بِالْإِشْهَادِ، خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ بِهِ مِنْ بَيَانِ التَّوَثُّقِ فِي التَّبَايُعِ بِآيَةِ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [الْبَقَرَة: 282] وَالتَّوَثُّقُ فِي الدَّيْنِ بِآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الْبَقَرَة: 282] إِلَخْ فَأَكْمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانَ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ اهْتِمَامًا بِهَا وَلِجَدَارَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّوْثِيقِ لَهَا لِضَعْفِ الذِّيَادِ عَنْهَا لِأَنَّ الْبُيُوعَ وَالدُّيُونَ فِيهَا جَانِبَانِ عَالِمَانِ بِصُورَةِ مَا انْعَقَدَ فِيهَا وَيَذُبَّانِ عَنْ مَصَالِحِهِمَا فَيَتَّضِحُ الْحَقُّ مِنْ خِلَالِ سَعْيِهِمَا فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ فِيهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا جَانِبًا وَاحِدًا وَهُوَ جَانِبُ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصِي يَكُونُ قَدْ مَاتَ وَجَانِبُ الْمُوصَى لَهُ ضَعِيفٌ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا عَقَدَ الْمُوصِي وَلَا بِمَا تَرَكَ، فَكَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْفِظُونَ وَصَايَاهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَى أَحَدٍ يَثِقُونَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَوْ كُبَرَاءِ قَبِيلَتِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ احْتِضَارَ الْمُوصِي أَوْ مَنْ كَانَ أَوْدَعَ

عِنْدَ الْمُوصِي خَبَرَ عَزْمِهِ. فَقَدْ أَوْصَى نِزَارُ بْنُ مَعَدٍّ وَصِيَّةً مُوجَزَةً وَأَحَالَ أَبْنَاءَهُ عَلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ تَفْصِيلَ مُرَادِهُ مِنْهَا. وَقَدْ حَدَثَتْ فِي آخِرِ حَيَاةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَادِثَةٌ كَانَتْ سَبَبًا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ حُدُوثَهَا كَانَ مُقَارِنًا لِنُزُولِ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ. ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ قَضِيَّةٌ: هِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ اللَّخْمِيُّ وَالْآخَرُ عَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ، كَانَا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ تَاجِرَيْنِ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ (دَارَيْنِ) وَكَانَا يَتَّجِرَانِ بَيْنَ الشَّامِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَخَرَجَ مَعَهُمَا مِنَ الْمَدِينَةِ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى بَنِي سَهْمٍ- وَكَانَ مُسْلِمًا- بِتِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَمَرِضَ بُدَيْلٌ (قِيلَ فِي الشَّامِ وَقِيلَ فِي الطَّرِيقِ بَرًّا أَوْ بَحْرًا) وَكَانَ مَعَهُ فِي أَمْتِعَتِهِ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصٌ بِالذَّهَبِ قَاصِدًا بِهِ مَلِكَ الشَّامِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَخَذَ صَحِيفَةً فَكَتَبَ فِيهَا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَتَاعِ وَالْمَالِ وَدَسَّهَا فِي مَطَاوِي أَمْتِعَتِهِ وَدَفَعَ مَا مَعَهُ إِلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ وَأَوْصَاهُمَا بِأَنْ يُبَلِّغَاهُ مَوَالِيهِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ. وَكَانَ بُدَيْلٌ مَوْلًى لِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، فَوَلَاؤُهُ بعد مَوته لِابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ: إِنَّ وَلَاءَ بُدَيْلٍ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبِ بْنِ وَدَاعَةَ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْمُطَّلِبَ حَلَفَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي عَلَى أَنَّ الْجَامَ لِبُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ. فَلَمَّا رَجَعَا بَاعَا الْجَامَ بِمَكَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَعَا مَا لِبُدَيْلٍ إِلَى مَوَالِيهِ. فَلَمَّا نَشَرُوهُ وَجَدُوا الصَّحِيفَةَ، فَقَالُوا لِتَمِيمٍ وَعَدِيٍّ: أَيْنَ الْجَامُ فَأَنْكَرَا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا جَامًا. ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بَعْدَ مُدَّةٍ يُبَاعُ بِمَكَّةَ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ عَلَى الَّذِي عِنْدَهُ الْجَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ تَمِيمًا لَمَّا أَسْلَمَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ تَأَثَّمَ مِمَّا صَنَعَ فَأَخْبَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِي بِخَبَرِ الْجَامِ وَدَفَعَ لَهُ الْخَمْسَمِائَةِ الدِّرْهَمِ الصَّائِرَةِ إِلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَطَالَبَ عَمْرُو عَدِيًّا بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ. وَهَذَا أَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ. وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ شُرُوطَ الصِّحَّةِ فَقَدِ اشْتُهِرَ وَتُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» .

وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أنّ الْفَرِيقَيْنِ تفاضوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَحَلَفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ عَلَى أَنَّ تَمِيمًا وَعَدِيًّا أَخْفَيَا الْجَامَ وَأَنَّ بُدَيْلًا صَاحِبُهُ وَمَا بَاعَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ. وَدَفَعَ لَهُمَا عَدِيٌّ خَمْسَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَصْرَانِيٌّ. وَعَدِيٌّ هَذَا قِيلَ: أَسْلَمَ، وَعَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: مَاتَ نَصْرَانِيًّا، وَرَجَّحَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَيُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا قَبْلَ التَّرَافُعِ بَيْنَ الْخَصْمِ فِي قَضِيَّةِ الْجَامِ، وَأَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا بَعْدَ قَضَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لِتَكُونَ تَشْرِيعًا لِمَا يَحْدُثُ مِنْ أَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ. وبَيْنِكُمْ أَصْلُ (بَيْنَ) اسْمُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُبَيِّنُهُ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِإِضَافَةِ شَهادَةُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ. وَأَصْلُهُ (شَهَادَةٌ) بِالتَّنْوِينِ وَالرَّفْعِ «بَيْنَكُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. فَخَرَجَ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مُطْلَقِ الِاسْمِيَّةِ كَمَا خَرَجَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 94] فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ بِرَفْعِ بَيْنِكُمْ. وَارْتَفَعَ شَهادَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ اثْنانِ. وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظَرْفُ زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٌ. وَلَيْسَ فِي (إِذَا) مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ شَهادَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ لِيُشْهِدْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اثْنَانِ، يَعْنِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ بِذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: 282] . وحِينَ الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بَدَلًا مُطَابِقًا، فَإِنَّ حِينَ حُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ الْحِينُ الَّذِي يُوصِي فِيهِ النَّاسُ غَالِبًا. جِيءَ بِهَذَا الظَّرْفِ الثَّانِي لِيُتَخَلَّصَ بِهَذَا الْبَدَلِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ إِذَا رَأَوْا عَلَامَةَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَرِيضِ يَقُولُونَ: أَوْصِ، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَخْبَرَ الطَّبِيبُ أَنَّ جُرْحَهُ فِي أَمْعَائِهِ. وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ حُضُورُ عَلَامَاتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ يَتَخَيَّلُ فِيهَا الْمَرْءُ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ لِيُصَيِّرَهُ مَيِّتًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْغَرْغَرَةِ لِأَنَّ مَا طُلِبَ مِنَ الْمُوصِي

أَنْ يَعْمَلَهُ يَسْتَدْعِي وَقْتًا طَوِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [180] . وَقَوْلُهُ: اثْنانِ خَبَرٌ عَنْ شَهادَةُ، أَيْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأَخَذَ إِعْرَابَهُ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَالْمَقْصُود الإيجاز. فَمَا صدق اثْنانِ شَاهِدَانِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، وَقَوْلِهِ: ذَوا عَدْلٍ. وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ هُمَا وَصِيَّانِ مِنَ الْمَيِّتِ عَلَى صِفَةِ وَصِيَّتِهِ وَإِبْلَاغِهَا، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْمُوصِي وَصِيًّا غَيْرَهُمَا فَيَكُونَا شَاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْعَدْلُ وَالْعَدَالَةُ مُتَّحِدَانِ، أَيْ صَاحِبَا اتِّصَافٍ بِالْعَدَالَةِ. وَمَعْنَى مِنْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا خَاطَبَ مُخَاطَبَهُ بِوَصْفٍ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْوَصْفِ، كَمَا قَالَ الْأَنْصَارُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَالْكَلَامُ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ مِنْكُمْ فِي مَوَاقِعِهَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْكُمْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مُقَابِلِهِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِكُمْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ. فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِمَّنْ قَالُوا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ إِلَى إِعْمَالِ هَذَا وَأَجَازُوا شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً، وَخَصُّوا ذَلِكَ بِالذِّمِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاق: 2] ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الصُّورَةِ الْكَامِلَةِ فِي شَهَادَةِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.

وَقَوْلُهُ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الْآيَاتِ.. تَفْصِيلٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي تَعْرِضُ فِي السَّفَرِ. وَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَالتَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ: حَالِ الْحَاضِرِ وَحَالِ الْمُسَافِرِ، وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ بِهِ قَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَشَهَادَةُ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِكُمْ، فَالْمَصِيرُ إِلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: السَّيْرُ فِيهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ السَّفَرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [156] . وَمَعْنَى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ حَلَّتْ بِكُمْ، وَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُشَارَفَةِ وَالْمُقَارَبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النِّسَاء: 9] ، أَيْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ فَأَصابَتْكُمْ عَلَى ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. أُعِيدَ هُنَا لِرَبْطِ الْكَلَامِ بَعْدَ مَا فُصِلَ بَيْنَهُ مِنَ الظُّرُوفِ وَالشُّرُوطِ. وَضَمِيرُ الْجمع فِي فَأَصابَتْكُمْ كَضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. وَالْمُصِيبَةُ: الْحَادِثَةُ الَّتِي تَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنْ شَرٍّ وَضُرٍّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [72] . وَجُمْلَةُ تَحْبِسُونَهُما حَالٌ مِنْ آخَرانِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ

بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ فَإِنَّهُ حَالٌ مِنَ اثْنانِ وَمِنْ آخَرانِ لِأَنَّهُمَا مُتَعَاطِفَانِ بِ (أَوْ) . فَهُمَا أَحَدُ قِسْمَيْنِ، وَيَكُونُ التَّحْلِيفُ عِنْدَ الِاسْتِرَابَةِ. وَالتَّحْلِيفُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بَعِيدٌ إِذْ لَا مُوجِبَ لِلِاسْتِرَابَةِ فِي عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي تَحْبِسُونَهُما كضميري ضَرَبْتُمْ- وفَأَصابَتْكُمْ. وَكُلُّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْجَمْعِ الْبَدَلِيِّ دُونَ الشُّمُولِيِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ صَالِحُونَ لِأَنْ يَعْتَرِيهِمْ هَذَا الْحُكْمُ وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِبَعْضِهِمْ. فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ كُلُّهَا. وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، دَفْعًا لِأَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ خَاصٌّ بِشَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ لِأَنَّ قَضِيَّةَ سَبَبِ النُّزُولِ كَانَتْ فِي شَخْصَيْنِ أَوِ الْخِطَابُ وَالْجَمْعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ. وَالْحَبْسُ: الْإِمْسَاكُ، أَيِ الْمَنْعُ مِنَ الِانْصِرَافِ. فَمِنْهُ مَا هُوَ بِإِكْرَاهٍ كَحَبْسِ الْجَانِي فِي بَيْتٍ أَوْ إِثْقَافِهِ فِي قَيْدٍ. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ- إِلَى أَنْ قَالَ- وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ، أَيْ أَمْسَكْنَاهُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، أَيْ تُمْسِكُونَهُمَا وَلَا تَتْرُكُونَهُمَا يُغَادِرَانِكُمْ حَتَّى يَتَحَمَّلَا الْوَصِيَّةَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ السِّجْنَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [الْبَقَرَة: 282] . وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ تَوْقِيتٌ لِإِحْضَارِهِمَا وَإِمْسَاكِهِمَا لِأَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَالْإِتْيَانِ بِ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ لِتَقْرِيبِ الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ قُرْبِ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ صَلَاةٌ مِنْ صَلَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْلَفَ تَمِيمًا الدَّارِيَّ وَعَدِيَّ بْنَ بَدَّاءٍ فِي قَضِيَّةِ الْجَامِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَسَعِيدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الظُّهْرُ، وَهُوَ عَنِ الْحَسَنِ. وَتَحْتَمِلُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ دِينِهِمَا عَلَى تَأْوِيلِ مِنْ غَيْرِكُمْ بِمَعْنَى

مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ تُحْضِرُونَهُمَا عَقِبَ أَدَائِهِمَا صَلَاتَهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ إِقْبَالِهِمَا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْوُقُوفِ لِعِبَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عُطِفَ عَلَى تَحْبِسُونَهُما فَعُلِمَ أَنَّ حَبْسَهُمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَنْ يُقْسِمَا بِاللَّه. وَضمير فَيُقْسِمانِ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ آخَرانِ. فَالْحَلِفُ يُحَلِّفُهُ شَاهِدَا الْوَصِيَّةِ اللَّذَانِ هُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِشَهَادَتِهِمَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِعَدَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ. وَقَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَاسْتُغْنِيَ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْ لِقِيلَ: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِيهِمَا تَحْبِسُونَهُمَا إِلَى آخِرِهِ. فَيَقْتَضِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ فِي صِدْقِهِمَا لَمَا لَزِمَ إِحْضَارُهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ وَقَسَمُهُمَا، فَصَارَ ذَلِكَ مَوْكُولًا لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ. وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الشَّاهِدَانِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَقُولَانِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَهَادَتِنَا فَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ الشَّهَادَةَ، أَيْ يَقُولَانِ ذَلِكَ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ مَظَنَّةُ الصِّدْقِ مَعَ احْتِمَالِ وُجُودِ مَا يُنَافِيهَا مِمَّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَأُكِّدَتْ مَظَنَّةُ الصِّدْقِ بِالْحَلِفِ فَيَكُونُ شَرْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ لِيَسْتَوِيَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَوْجِيهُ الْيَمِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ حَرَجًا على الشَّاهِدين الَّذين تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمَا الْيَمِينُ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ تَعْرِيضٌ بِالشَّكِّ فِي صِدْقِهِمَا، فَكَانَ فَرْضُ الْيَمِينِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ دَافِعًا لِلتَّحَرُّجِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ، لِأَنَّ فِي كَوْنِ الْيَمِينِ شَرْطًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْذِرَةً فِي الْمُطَالَبَةِ بِهَا، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَائِنَا فِي يَمِينِ الْقَضَاءِ الَّتِي تَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ مِنْ أَنَّهَا لَازِمَةٌ قَبْلَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا وَلَوْ أَسْقَطَهَا الْوَارِثُ الرَّشِيدُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ عَرَّجَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْمُفَسِّرِينَ

إِلَّا قَوْلَ الْكَوَاشِيِّ فِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» : «وَبَعْضُهُمْ يقف على فَيُقْسِمانِ ويبتدىء بِاللَّهِ قَسَمًا وَلَا أُحِبُّهُ» ، وَإِلَّا مَا حَكَاهُ الصَّفَاقُسِيُّ فِي «مُعْرَبِهِ» عَنِ الْجُرْجَانِيِّ «أَنَّ هُنَا قَوْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ وَيَقُولَانِ» . وَلَمْ يَظْهَرْ لِلصَّفَاقُسِيِّ مَا الَّذِي دَعَا الْجُرْجَانِيَّ لِتَقْدِيرِ هَذَا الْقَوْلِ. وَلَا أَرَاهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَعْلُ قَوْلِهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ مِنْ كَلَامِ الشَّاهِدَيْنِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ، فَإِنَّ الْقَسَمَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً إِلَخْ، ذَلِكَ هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً لَا نَعْتَاضُ بِالْأَمْرِ الَّذِي أَقْسَمْنَا عَلَيْهِ ثَمَنًا، أَيْ عِوَضًا، فَضَمِيرُ بِهِ، عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الْمَفْهُوم من فَيُقْسِمانِ. وَقَدْ أَفَادَ تَنْكِيرُ ثَمَناً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُمُومَ كُلِّ ثَمَنٍ. وَالْمُرَادُ بِالثَّمَنِ الْعِوَضُ، أَيْ لَا نُبَدِّلُ مَا أَقْسَمْنَا عَلَيْهِ بِعِوَضٍ كَائِنًا مَا كَانَ الْعِوَضُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بِهِ عَائِدًا إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا اسْتَشْهَدَا عَلَيْهِ مِنْ صِيغَةِ الْوَصِيِّ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ ثَمَناً الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ، أَيْ وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ ذَا قُرْبَى، أَيْ ذَا قُرْبَى مِنَّا، وَ «لَوْ» شَرْطٌ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فَإِذَا كَانَ ذَا الْقُرْبَى لَا يَرْضِيَانِهِ عِوَضًا عَنْ تَبْدِيلِ شَهَادَتِهِمَا فَأَوْلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَدْفَعُ الْمَرْءَ إِلَى الْحَيْفِ فِي عُرْفِ الْقَبَائِلِ هُوَ الْحَمِيَّةُ وَالنُّصْرَةُ لِلْقَرِيبِ، فَذَلِكَ تَصْغُرُ دُونَهُ الرُّشَى وَمَنَافِعُ الذَّاتِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ ثَمَناً. وَمَعْنَى كَوْنِ الثَّمَنِ، أَيِ الْعِوَضِ، ذَا قُرْبَى أَنَّهُ إِرْضَاءُ ذِي الْقُرْبَى وَنَفْعُهُ فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَهُوَ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْعِوَضِ ذَاتَ ذِي الْقُرْبَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِهِ يُعَيِّنُهُ الْمَقَامُ. وَنَظِيرُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] . وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ دَلَالَةِ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ بِ (لَوْ) وَتَسْمِيَتُهَا

وَصْلِيَّةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَقَوْلُهُ وَلا نَكْتُمُ عُطِفَ عَلَى لَا نَشْتَرِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِحْلَافِهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ كَمَا تَلَقَّيَاهَا فَلَا يُغَيِّرَا شَيْئًا مِنْهَا وَلَا يَكْتُمَاهَا أَصْلًا. وَإِضَافَةُ الشَّهَادَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ تَعْظِيمٌ لخطرها عِنْد الشَّهَادَة وَغَيْرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِأَدَائِهَا كَمَا هِيَ وَحَضَّ عَلَيْهَا أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ حِفْظًا لَهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، فَالتَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ تَعَالَى تَذْكِيرٌ لِلشَّاهِدِ بِهِ حِينَ الْقَسَمِ. وَفِي قَوْلِهِ وَلا نَكْتُمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا مَعْنَاهَا الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ خَاصٍّ يَعْرِضُ فِي مِثْلِهِ التَّرَافُعُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْيَمِينَ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَلَا نُطِيلُ بِرَدِّهِ فَقَدْ رَدَّهُ اللَّفْظُ. وَجُمْلَةُ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِدَلِيلِ وُجُودِ إِذا، فَإِنَّهُ حَرْفُ جَوَابٍ: اسْتَشْعَرَ الشَّاهِدَانِ سُؤَالًا مِنَ الَّذِي حَلَفَا لَهُ بِقَوْلِهِمَا: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَعَلَّكُمَا لَا تَبِرَّانِ بِمَا أَقْسَمْتُمَا عَلَيْهِ، فأجابا: إنّا إِذن لَمِنَ الْآثِمِينَ، أَيْ إِنَّا نَعْلَمُ تَبِعَةَ عَدَمِ الْبِرِّ بِمَا أَقْسَمْنَا عَلَيْهِ أَنْ نَكُونَ مِنَ الْآثِمِينَ، أَيْ وَلَا نَرْضَى بِذَلِكَ. وَالْآثِمُ: مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِثْمَ هُوَ الْحِنْثُ بِوُقُوعِ الْجُمْلَةِ استئنافا مَعَ «إِذن» الدَّالَّةِ عَلَى جَوَابِ كَلَامٍ يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ الْآيَةَ، أَيْ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَتَمَا أَوْ بَدَّلَا وَحَنَثَا فِي يَمِينِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما فَرْعٌ عَنْ بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمَا، فَحَذَفَ مَا يُعَبِّرُ عَنْ بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمَا إِيجَازًا كَقَوْلِهِ: اضْرِبْ (¬1) بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الْبَقَرَة: 60] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (أَن اضْرِب بعصاك ... ) الْمُوَافقَة لِلْآيَةِ: 160 من الْأَعْرَاف، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للشرح وَالله أعلم.

وَمَعْنَى عُثِرَ اطَّلَعَ وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَأَصْلُ فِعْلِ عَثَرَ أَنَّهُ مُصَادَفَةُ رِجْلِ الْمَاشِي جِسْمًا نَاتِئًا فِي الْأَرْضِ لَمْ يَتَرَقَّبْهُ وَلَمْ يَحْذَرْ مِنْهُ فَيَخْتَلُّ بِهِ انْدِفَاعُ مَشْيِهِ، فَقَدْ يَسْقُطُ وَقَدْ يَتَزَلْزَلُ. وَمَصْدَرُهُ الْعِثَارُ وَالْعُثُورُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الظَّفَرِ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا الظَّفَرُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، فَخَصُّوا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ بِأَحَدِ الْمَصْدَرَيْنِ وَهُوَ الْعِثَارُ، وَخَصُّوا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ بِالْمَصْدَرِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْعُثُورُ. وَمَعْنَى اسْتَحَقَّا إِثْماً ثَبَتَ أَنَّهُمَا ارْتَكَبَا مَا يَأْثَمَانِ بِهِ، فَقَدْ حُقَّ عَلَيْهِمَا الْإِثْمُ، أَيْ وَقَعَ عَلَيْهِمَا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ هُوَ الَّذِي تَبَرَّءَا مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ. فَالْإِثْمُ هُوَ أَحَدُ هَذَيْنِ بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُمَا اسْتَبْدَلَا بِمَا اسْتُؤْمِنَا عَلَيْهِ عِوَضًا لِأَنْفُسِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، أَوْ بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُمَا كَتَمَا الشَّهَادَةَ، أَيْ بَعْضَهَا. وَحَاصِلُ الْإِثْمِ أَنْ يَتَّضِحَ مَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِمَا بِمُوجِبِ الثُّبُوتِ. وَقَوْلُهُ فَآخَرانِ أَيْ رَجُلَانِ آخَرَانِ، لِأَنَّ وَصْفَ آخَرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُغَايِرِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ مَعَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، وَالْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ هُنَا اثْنانِ. فَالْمَعْنَى فَاثْنَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فِي إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ. وَمَعْنَى يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، أَيْ يُعَوِّضَانِ تِلْكَ الشَّهَادَةَ. فَإِنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَحَلُّ الْقِيَامِ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ مَحَلُّ عَمَلٍ مَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِيَامٌ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مَحَلٍّ يَقُومُ فِيهِ الْعَامِلُ، وَذَلِكَ فِي الْعَمَلِ الْمُهِمِّ. قَالَ تَعَالَى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي [يُونُس: 71] . فَمَقَامُ الشَّاهِدَيْنِ هُوَ إِثْبَاتُ الْوَصِيَّةِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ شَخْصَانِ آخَرَانِ يَكُونَانِ مِنَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ. وَالِاسْتِحْقَاقُ كَوْنُ الشَّيْءِ حَقِيقًا بِشَيْءٍ آخَرَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: اسْتَحَقَّا إِثْماً، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ. وَإِذَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ عَنْ نِزَاعٍ يُعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى المحقوق بعلى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ لَهُ وَإِنْ كُرِهَ، كَأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى

وَجَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: 105] . وَيُقَالُ: اسْتَحَقَّ زَيْدٌ عَلَى عَمْرٍو كَذَا، أَيْ وَجَبَ لِزَيْدٍ حَقٌّ عَلَى عَمْرٍو، فَأَخَذَهُ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ هُوَ مُسْتَحِقٌّ مَا، وَهُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ الْبَاطِلَةِ، فَنَالَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُوصِي مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ الْمُوصِي وَغَلَبَ وَارِثَ الْمُوصِي بِذَلِكَ. فَالَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْمُوصِي الَّذِينَ لَهُمْ مَالُهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِرْثِ فَحُرِمُوا بَعْضَهُ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِمُ قَائِمٌ مَقَامَ نَائِبِ فَاعِلِ اسْتَحَقَّ. وَقَوْلُهُ: الْأَوْلَيانِ تَثْنِيَةُ أَوْلَى، وَهُوَ الْأَجْدَرُ وَالْأَحَقُّ، أَيِ الْأَجْدَرَانِ بِقبُول قَوْلهمَا. فَمَا صدقه هُوَ مَا صدق الْآخَرَانِ وَمَرْجِعُهُ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ، أَنْ يُجْعَلَ خَبرا عَن فَآخَرانِ، فإنّ فَآخَرانِ لَمَّا وُصِفَ بِجُمْلَةِ يَقُومانِ مَقامَهُما صَحَّ الِابْتِدَاءُ بِهِ، أَيْ فَشَخْصَانِ آخَرَانِ هُمَا الْأَوْلَيَانِ بِقَبُولِ قَوْلِهِمَا دُونَ الشَّاهِدَيْنِ الْمُتَّهَمَيْنِ. وَإِنَّمَا عُرِّفَ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ لِلْمُخَاطَبِ ذِهْنًا لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ قَوْلَهُ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً تَرَقَّبَ أَنْ يَعْرِفَ مَنْ هُوَ الْأَوْلَى بِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَقِيلَ لَهُ: آخَرَانِ هُمَا الْأَوْلَيَانِ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَيانِ مُبْتَدأ وفَآخَرانِ يَقُومانِ خَبَرَهُ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِتَعْجِيلِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ الْحُكْمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَإِنَّ ذَلِكَ الْعُثُورَ عَلَى كَذِبِ الشَّاهِدَيْنِ يُسْقِطُ شَهَادَتَهُمَا وَيَمِينَهُمَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَضَاءُ فِي ذَلِكَ، فَعَجَّلَ الْجَوَابَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلا من فَآخَرانِ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومانِ أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا الْأَوْلَيَانِ. وَنُكْتَةُ التَّعْرِيف هِيَ هِيَ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، الْأَوَّلِينَ- بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً وَبِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ- جَمْعَ أَوَّلٍ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْمُقَدَّمِ وَالْمُبْتَدَأِ بِهِ. فَالَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْمُوصِي حَيْثُ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ

مِنْ مَالِ التَّرِكَةِ الَّذِي كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ، أَيِ الْوَرَثَةِ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ، وَهُوَ مجرور نعت (للَّذين اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ) . وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ اسْتَحَقَّ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- فَيَكُونُ الْأَوْلَيانِ هُوَ فَاعِلُ اسْتَحَقَّ، وَقَوْلُهُ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ يَقُومانِ مَقامَهُما. وَمَعْنَى لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أَنَّهُمَا أَوْلَى بِأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمَا مِنَ اللَّذَيْنِ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا. وَمَعْنَى أَحَقُّ أَنَّهَا الْحَقُّ، فَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَةُ الْمُفَاضَلَةِ. وَقَوْلُهُ وَمَا اعْتَدَيْنا تَوْكِيدٌ لِلْأَحَقِّيَّةِ، لِأَنَّ الْأَحَقِّيَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى نَفْعِهِمَا بِإِثْبَاتِ مَا كَتَمَهُ الشَّاهِدَانِ الْأَجْنَبِيَّانِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ لَكَانَتْ بَاطِلًا وَاعْتِدَاءً مِنْهُمَا عَلَى مَالِ مُبَلِّغِي الْوَصِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا اعْتَدَيْنَا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي اتِّهَامِهِمَا بِإِخْفَاءِ بَعْضِ التَّرِكَةِ. وَقَوْلُهُ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ لَوِ اعْتَدَيْنَا لَكُنَّا ظَالِمِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِشْعَارُ بِأَنَّهُمَا مُتَذَكِّرَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ، وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ وَازِعٍ. وَقَدْ تَضَمَّنَ الْقَسَمُ عَلَى صِدْقِ خَبَرِهِمَا يَمِينًا عَلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِمَا فَهِيَ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ مَعَ الشَّاهِدِ الْعُرْفِيِّ، وَهُوَ شَاهِدُ التُّهْمَةِ الَّتِي عُثِرَ عَلَيْهَا فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ يُبَلِّغَانِ الْوَصِيَّةَ. وَالْكَلَام فِي «إِذن» هُنَا مِثْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنِ اخْتَلَّتْ شَهَادَةُ شَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ انْتُقِلَ إِلَى يَمِينِ الْمُوصَى لَهُ سَوَاءً كَانَ الْمُوصَى لَهُ وَاحِدًا أَمْ مُتَعَدِّدًا. وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْآيَةُ بِصِيغَةِ الِاثْنَيْنِ مُرَاعَاةً لِلْقَضِيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ قَضِيَّةُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَإِنَّ وَرَثَةَ صَاحِبِ التَّرِكَةِ كَانَا اثْنَيْنِ هُمَا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، وَكِلَاهُمَا مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمَا مَوْلَيَا بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ الْجَامِ. فَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُ أَنَّهُمَا مَوْلَيَا

بُدَيْلِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَوْلَاهُ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمُطَّلِبِ ابْن أَبِي وَدَاعَةَ أَنَّ لَهُ وَلَاءً مِنْ بُدَيْلٍ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَحْلِفَ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْيَمِينِ. فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَاحِدًا حَلَفَ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْحَقِّ جَمَاعَةً حَلَفُوا جَمِيعًا وَاسْتَحَقُّوا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَاحِدًا يَحْلِفُ مَعَهُ مَنْ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَلَا إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَيَسْتَحِقُّونَ كُلُّهُمْ. فَالِاقْتِصَارُ عَلَى اثْنَيْنِ فِي أَيْمَانِ الْأَوْلَيَيْنِ نَاظِرٌ إِلَى قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا خَاصَّةً بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ. وَيَجْرِي مَا يُخَالِفُ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرِيعَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالتُّهَمِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ حكم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصِيَّةِ بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ. وَذَلِكَ ظَاهِرُ بَعْضِ رِوَايَاتِ الْخَبَرِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ تَشْرِيعًا لِأَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْأَوْلَيَيْنِ اثْنَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ. وَبَقِيَتْ صُورَةٌ لَمْ تَشْمَلْهَا الْآيَةُ مِثْلُ أَنْ لَا يَجِدَ الْمُحْتَضِرُ إِلَّا وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَجِدَ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُسْلِمٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْكَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْ يَمِينِ مَنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ أَوْ يَمِينِ الْمُنْكِرِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «ذَلِكَ أَدْنَى» إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْحُكْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وأَدْنى بِمَعْنَى أَقْرَبُ، وَالْقُرْبُ هُنَا مَجَازٌ فِي قُرْبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الظَّنُّ، أَيْ أَقْوَى إِلَى الظَّنِّ بِالصِّدْقِ. وَضَمِيرُ يَأْتُوا عَائِدٌ إِلَى «الشُّهَدَاءِ» وَهُمْ: الْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَالْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، أَيْ أَنْ يَأْتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَجَمَعَ الضَّمِيرَ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ التَّوْثِيقِ وَالضَّبْطِ، وَمِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعُثُورِ عَلَى

الرِّيبَةِ أَرْجَى إِلَى الظَّنِّ بِحُصُولِ الصِّدْقِ لِكَثْرَةِ مَا ضَبَطَ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّا يَنْفِي الْغَفْلَةَ وَالتَّسَاهُلَ، بَلْهَ الزُّورَ وَالْجَوْرَ مَعَ تَوَقِّي سُوءِ السُّمْعَةِ. وَمَعْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ: أَنْ يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ. جُعِلَ أَدَاؤُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلى وَجْهِها، أَيْ عَلَى سُنَّتِهَا وَمَا هُوَ مُقَوِّمُ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، فَاسْمُ الْوَجْهِ فِي مِثْلِ هَذَا مُسْتَعَارٌ لِأَحْسَنِ مَا فِي الشَّيْءِ وَأَكْمَلِهِ تَشْبِيهًا بِوَجْهِ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْءُ وَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَمَّا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَشَاعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِهِمْ، قَالُوا: جَاءَ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَعَلُوا الشَّيْءَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ أُتِيَ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ وَجْهِهِ، أَيْ مِنْ كَمَالِ أَحْوَالِهِ. فَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ، مِثْلُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَال من بِالشَّهادَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. وَسُنَّةُ الشَّهَادَةِ وَكَمَالُهَا هُوَ صِدْقُهَا وَالتَّثَبُّتُ فِيهَا وَالتَّنَبُّهُ لِمَا يَغْفُلُ عَنْهُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَدْ يَسْتَخِفُّ بِهَا فِي الْحَالِ وَتَكُونُ لِلْغَفْلَةِ عَنْهَا عَوَاقِبُ تُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، أَيْ ذَلِكَ يُعَلِّمُهُمْ وَجْهَ التَّثَبُّتِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَتَوَخِّي الصِّدْقِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ لُزُومِ صِفَةِ الْيَقَظَةِ لِلشَّاهِدِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ فِي الشَّهَادَةِ بِالطَّعْنِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَا يَحْمِلُ شُهُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّثَبُّتِ فِي مُطَابَقَةِ شَهَادَتِهِمْ، لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْإِعْذَارَ يَكْشِفَانِ عَنِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَأْتُوا بِاعْتِبَارِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَجْرُورَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُمْلَةَ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَفَادَتِ الْإِتْيَانَ بِهَا صَادِقَةً لَا نُقْصَانَ فِيهَا بِبَاعِثٍ مِنْ أَنْفُسِ الشُّهُودِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرْنَاهُ بِمَعْنَى أَنْ يَعْلَمُوا كَيْفَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ. فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا إِيجَادَ وَازِعٍ لِلشُّهُودِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَازِعًا هُوَ تَوَقُّعُ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ.

وَمَعْنَى أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أَنْ تَرْجِعَ أَيْمَانٌ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بعد أَيْمَان الشهيدين. فَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي الِانْتِقَالِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: قَلَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَيُعَيَّرُوا بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَهُوَ تَقْسِيم يُفِيد تَفْصِيل مَا أجمله الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى إِلَخْ ... وَجَمَعَ الْأَيْمَانَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ حُكْمِ الْآيَةِ لِسَائِرِ قَضَايَا الْوَصَايَا الَّتِي مِنْ جِنْسِهَا، عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَعْدِلُ عَنِ التَّثْنِيَةِ كَثِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما. [التَّحْرِيم: 4] وَذَيَّلَ هَذَا الْحُكْمَ الْجَلِيلَ بِمَوْعِظَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ وَاسْمَعُوا أَمْرٌ بِالسَّمْعِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الطَّاعَةِ مَجَازًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [7] . وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ هُدًى وَفِي الْإِعْرَاضِ فِسْقًا. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَهَانُ بِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الرَّيْنِ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ الْهُدَى مِنْ بَعْدُ فَلَا تَكُونُوهُمْ وَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ تَوَخَّيْتُ فِيهِ أَوْضَحَ الْمَعَانِي وَأَوْفَقَهَا بِالشَّرِيعَةِ، وَأَطَلْتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ مَا غَمُضَ مِنَ الْمَعَانِي تَحْتَ إِيجَازِهَا الْبَلِيغِ. وَقَدْ نَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ الْفَخْرُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عُمَرَ: هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ. وَلِقَصْدِ اسْتِيفَاءِ مَعَانِي الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةً تَجَنَّبْتُ التَّعَرُّضَ لِمَا تُفِيدُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاخْتِلَافِ

عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فِي أَثْنَاءِ تَفْسِيرِهَا. وَأَخَّرْتُ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ حِينَ انْتَهَيْتُ مِنْ تَفْسِيرِ مَعَانِيهَا. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَثَانِيهِمَا فَصْلُ الْقَضَاءِ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ مَعَ أَوْلِيَاءِ بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ. فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ. وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ وَجْهِ الْقَضَاءِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ مِمَّا يُتَّهَمُ فِيهِ الشُّهُودُ. وَقَوْلُهُ: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِهَا، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَمْرِ لِأَنَّ النَّاسَ مُعْتَادُونَ بِاسْتِحْفَاظِ وَصَايَاهُمْ عِنْدَ مَحَلِّ ثِقَتِهِمْ. وَأَهَمُّ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: اسْتِشْهَادُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى رَأْيِ مَنْ جَعَلَهُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَثَانِيهَا: تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ. وَثَالِثُهَا: تَغْلِيظُ الْيَمِينِ بِالزَّمَانِ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْغَيْرِيَّةَ غَيْرِيَّةٌ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقَضَايَا الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاق: 2]- وَقَوْلِهِ- مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [الْبَقَرَة: 282] وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ جعلهَا خاصّة بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُوصِي مُسْلِمُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَضَى بِذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فِي وَصِيَّةٍ مِثْلَ هَذِهِ، أَيَّامَ قَضَائِهِ بِالْكُوفَةِ، وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ

سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا مَنْسُوخَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، تَبَعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِقِيَاسِ بَقِيَّةِ الْعُقُودِ الْمَشْهُودِ فِيهَا فِي السَّفَرِ عَلَى شَهَادَةِ الْوَصِيَّةِ، فَقَالَ بِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ مَاضِيَةٌ، وَزَادَ فَجَعَلَهَا بِدُونِ يَمِينٍ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ خَاصٌّ بِالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمُونَ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّ وَجْهَ اخْتِصَاصِ الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الْحُكْمِ أَنَّهَا تَعْرِضُ فِي حَالَةٍ لَا يَسْتَعِدُّ لَهَا الْمَرْءُ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ مَعْذُورًا فِي إِشْهَادِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ فَيُمْكِنُ الِاسْتِعْدَادُ لَهَا مِنْ قَبْلُ وَالتَّوَثُّقُ لَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ رُخْصَةً. وَالْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا لَمْ تُقْبَلْ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، عِنْدَ مَنْ رَأَى إِعْمَالَهَا فِي الضَّرُورَةِ، أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَزْكِيَةٌ وَتَعْدِيلٌ لِلشَّاهِدِ وَتَرْفِيعٌ لِمِقْدَارِهِ إِذْ جُعِلَ خَبَرُهُ مَقْطَعًا لِلْحُقُوقِ. فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنَ السَّلَفِ يَقُولُ لِلشُّهُودِ: اتَّقُوا اللَّهَ فِينَا فَأَنْتُمُ الْقُضَاةُ وَنَحْنُ الْمُنَفِّذُونَ. وَلَمَّا كَانَ رَسُولنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا النَّاسَ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا أَهلا لِأَن تُزَكِّيَهُمْ أُمَّتُهُ وَتَسِمُهُمْ بِالصِّدْقِ وَهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَنَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ دِينُهُ دِينَنَا لَا نَكُونُ عَالِمِينَ بِحُدُودِ مَا يَزَعُهُ عَنِ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ، وَلَا لِمَجَالِ التَّضْيِيقِ وَالتَّوَسُّعِ فِي أَعْمَالِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُعْتَقَدَاتِهِ، إِذْ لَعَلَّ فِي دِينِهِ مَا يُبِيحُ لَهُ الْكَذِبَ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَقٍّ لِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي الدِّينِ، فَإِنَّنَا عَهِدْنَا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَخَّوْنَ الِاحْتِيَاطَ فِي حُقُوقِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ (أَي الْمُسلمين) سَبِيلٌ» فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَظَنَّةً لِلْعَدَالَةِ وَلَا كَانَ مِقْدَارُهَا فِيهِ مَضْبُوطًا. وَهَذَا حَالُ الْغَالِبِ مِنْهُمْ، وَفِيهِمْ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمرَان: 75] وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ. وَأَمَّا حُكْمُ تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ عَلَى صِدْقِهِ فِي شَهَادَتِهِ: فَلَمْ يَرِدْ فِي الْمَأْثُورِ إِلَّا فِي هَذَا

[سورة المائدة (5) : الآيات 109 إلى 110]

الْمَوْضِعِ فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِنَسْخِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ فَتَحْلِيفُ شَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ الْكَافِرَيْنِ مَنْسُوخٌ تَبَعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوهُ مُحْكَمًا فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْيَمِينَ بِشَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ بِعِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاسَ عَلَيْهِ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا تَطَرَّقَتْ إِلَيْهِمَا الرِّيبَةُ وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ. وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ إِذْ قَدْ شَرَطَ اللَّهُ فِيهِمَا الْعَدَالَةَ وَهِيَ تُنَافِي الرِّيبَةَ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا إِذَا تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ أَوْ ضَعُفَتْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَوَقَعَ الِاضْطِرَارُ إِلَى اسْتِشْهَادِ غَيْرِ الْعُدُولِ كَمَا هِيَ حَالَةُ مُعْظَمِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِتَحْلِيفِ الشَّاهِدِ الْمَسْتُورِ الْحَالِ وَجْهٌ فِي الْقَضَاءِ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا حُكْمُ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ: فَقَدْ أُخِذَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْيَمِينَ تَقَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ فِي نَظَرِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَجِيءُ فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَاللَّفْظِ. وَفِي جَمِيعِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَبِاللَّفْظِ فَتَفْصِيلُهُ فِي كتب الْخلاف. [109، 110] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 109 إِلَى 110] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ

(110) جُمْلَةُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ- وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: 85] . وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ نَشَأَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَعَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى أَحْوَالِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبَدَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَبْدِيلًا بَلَغَ بِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ وَمُضَاهَاةِ الْمُشْرِكِينَ، لِلتَّذْكِيرِ بِهَوْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَكُونُ فِيهِ شَهَادَةُ الرُّسُلِ عَلَى الْأُمَمِ وَبَرَاءَتُهُمْ مِمَّا أَحْدَثَهُ أُمَمُهُمْ بُعْدَهُمْ فِي الدِّينِ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَهَادَةِ عِيسَى عَلَى النَّصَارَى بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَأْلِيهِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ فِي الْغَرَضِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: 82] . فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَإِبْعَادًا وَتَقْرِيبًا، وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ نَاسَبَتْ مَا ابْتَدَعَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: 87] وَتَفَنُّنُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذَا الْمَبْلَغِ، فَهَذَا عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ تَمَامِ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى فِي مَشْهَدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَقَدْ جَاءَ هَذَا مُنَاسِبًا لِلتَّذْكِيرِ الْعَامِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: 108] . وَلِمُنَاسَبَةِ هَذَا الْمَقَامِ الْتَزَمَ وَصْفَ عِيسَى بِابْنِ مَرْيَمَ كُلَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ تَعْرِيضًا بِإِبْطَالِ دَعْوَى أَنَّهُ ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى وَصَايَا الْمَخْلُوقِينَ نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَى شَهَادَةِ الرُّسُلِ عَلَى وَصَايَا الْخَالِقِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْأَدْيَانَ وَصَايَا اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ. قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] . وَقَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شُهَدَاءً فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] . فَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ ظَرْفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، أَوْ يُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ لِلظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا تَقَدَّمَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فِي إِعْطَائِهِ جَوَابًا. وَقَدْ حُذِفَ هَذَا الْعَامِلُ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنَ التَّهْوِيلِ، تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَكُونُ هَوْلٌ عَظِيمٌ لَا يَبْلُغُهُ طُولُ التَّعْبِيرِ فَيَنْبَغِي طَيُّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ

قالُوا لَا عِلْمَ لَنا ... إِلَخْ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَأَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ: يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ إِلَخْ. فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، فَيَفْتَتِحُ بِهَذَا الظَّرْفِ الْمَهُولِ وَلِيُورِدَ الِاسْتِشْهَادَ فِي صُورَةِ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالرُّسُلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ مَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 116] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: 108] لِأَنَّهُ لَا جَدْوَى فِي نَفْيِ الْهِدَايَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّ جَزَالَةَ الْكَلَامِ تُنَاسِبُ اسْتِئْنَافَهُ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ غَيْرُ وَاسِعِ الْمَعْنَى. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْمَائِدَة: 108] عَلَى أَنَّ يَوْمَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْمَائِدَة: 108] لِأَنَّ جَمْعَ الرُّسُل ممّا يَشْمَل عَلَيْهِ شَأْنُ اللَّهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِشْهَادِ. يَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ تَوْبِيخُ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي حَيَاتِهِمْ أَوْ بَدَّلُوا وَارْتَدُّوا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ. وَظَاهِرُ حَقِيقَةِ الْإِجَابَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا أَجَابَكُمُ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أُرْسِلْتُمْ إِلَيْهِمْ، أَيْ مَاذَا تَلَقَّوْا بِهِ دَعَوَاتِكُمْ، حَمْلًا عَلَى مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [النَّمْل: 56] . وَيُحْمَلُ قَوْلُ الرُّسُلِ: لَا عِلْمَ لَنا عَلَى مَعْنَى لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يُضْمِرُونَ حِينَ أَجَابُوا فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. أَوْ هُوَ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَجَابَتْ بِهِ الْأُمَمُ يُعلمهُ رسلهم فلابدّ مِنْ تَأْوِيلِ نَفْيِ الرُّسُلِ الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَتَفْوِيضِهِمْ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَجْمَعَ الرُّسُلُ فِي الْجَوَابِ عَلَى تَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ عِلْمَكَ سُبْحَانَكَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَشَهَادَتَكَ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَهَادَةٍ، فَكَانَ جَوَابَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنًا أُمُورًا: أَحَدُهَا: الشَّهَادَةُ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ أُمَمِهِمْ بِأَنَّ مَا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ. الثَّانِي: تَسْفِيهُ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي إِنْكَارِهِمُ الَّذِي لَا يُجْدِيهِمْ. الثَّالِث: تَذْكِيرُ أُمَمِهِمْ بِمَا عَامَلُوا بِهِ رُسُلَهُمْ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، تَعْمِيمًا لِلتَّذْكِيرِ بِكُلِّ مَا صَدَرَ مِنْ أُمَمِهِمْ مِنْ تَكْذِيبٍ وَأَذًى وَعِنَادٍ. وَيُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَا أَزِيدُكَ عِلْمًا بِذَلِكَ، أَوْ أَنْتَ تَعْرِفُ مَا جَرَى.

وَإِيرَادُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدِهِ. وَعَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ تَأْوِيلُ قَوْلِ الرُّسُلِ لَا عِلْمَ لَنا بِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مَا كَانَ من آخر أَمر الْأُمَمِ بَعْدَ مَوْتِ رُسُلِهِمْ مِنْ دَوَامٍ عَلَى إِقَامَةِ الشَّرَائِعِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِيهَا وَتَبْدِيلِهَا فَيَكُونُ قَوْلُ الرُّسُلِ لَا عِلْمَ لَنا مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيَكُونُ مَحْمَلُ مَاذَا عَلَى قَوْلِهِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ هُوَ مَا أجِيبُوا بِهِ مِنْ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ وَمِنْ دَوَامِ الْمُصَدِّقِينَ عَلَى تصديقهم أَو نقض ذَلِكَ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا جَاءَ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ الْآيَةَ- فَإِنَّ الْمُحَاوَرَةَ مَعَ عِيسَى بَعْضٌ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الرُّسُلِ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وَعَبَّرَ فِي جَوَابِ الرُّسُلِ بِ قالُوا الْمُفِيدُ لِلْمُضِيِّ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَمْ يَقَعْ، لِلدَّلَالَةِ على تَحْقِيق أنّه سَيَقَعَ حَتَّى صَارَ الْمُسْتَقْبَلُ مِنْ قُوَّةِ التَّحَقُّقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاضِي فِي التَّحَقُّقِ. عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي تُحْكَى بِهِ الْمُحَاوَرَاتُ لَا يُلْتَزَمُ فِيهِ مُرَاعَاةُ صِيغَتِهِ لِزَمَانِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ زَمَانَ الْوُقُوعِ يَكُونُ قَدْ تَعَيَّنَ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْغُيُوبِ- بِضَمِّ الْغَيْنِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- وَهِيَ لُغَةٌ لِدَفْعِ ثِقَلِ الِانْتِقَالِ مِنَ الضَّمَّةِ إِلَى الْبَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بُيُوتٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [15] . وَفَصَلَ قالُوا جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ظَرْفٌ، هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، فَإِنَّ يَوْمَ الْجَمْعِ مُشْتَمِلٌ عَلَى زَمَنِ هَذَا الْخِطَابِ لِعِيسَى، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ مَا يُقَالُ لِعِيسَى يَوْمَئِذٍ هُوَ تَقْرِيعُ الْيَهُودِ. وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ضَلُّوا فِي شَأْنِ عِيسَى بَيْنَ طَرَفَيْ إِفْرَاطِ بُغْضٍ وَإِفْرَاطِ حُبٍّ. فَقَوْلُهُ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 115] اسْتِئْنَاسٌ

لِعِيسَى لِئَلَّا يُفْزِعَهُ السُّؤَالُ الْوَارِدُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ إِلَخ ... [الْمَائِدَة: 116] وَهَذَا تَقْرِيعٌ لِلْيَهُودِ، وَمَا بَعْدَهَا تَقْرِيعٌ لِلنَّصَارَى. وَالْمُرَادُ مِنَ اذْكُرْ نِعْمَتِي الذُّكْرُ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ اسْتِحْضَارُ الْأَمْرِ فِي الذِّهْنِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ اذْكُرْ لِلِامْتِنَانِ، إِذْ لَيْسَ عِيسَى بِنَاسٍ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ. وَمِنْ لَازِمِهِ خِزْيُ الْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ سَاحِرٌ مُفْسِدٌ إِذْ لَيْسَ السِّحْرُ وَالْفَسَادُ بِنِعْمَةٍ يَعُدُّهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ. وَوَجْهُ ذِكْرِ وَالِدَتِهِ هُنَا الزِّيَادَةُ مِنْ تَبْكِيتِ الْيَهُودِ وَكَمَدِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَنَقَّصُوهَا بِأَقْذَعَ مِمَّا تَنَقَّصُوهُ. وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مُتَعَلِّقٌ بِ نِعْمَتِي لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيِ النِّعْمَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ وَقْتُ التَّأْيِيدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَرُوحُ الْقُدُسِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالتَّأْيِيدُ وَرُوحُ الْقُدُسِ تَقَدَّمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَجُمْلَةُ تُكَلِّمُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِ أَيَّدْتُكَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَلْقَى الْكَلَامَ مِنَ الْمَلِكِ عَلَى لِسَانِ عِيسَى وَهُوَ فِي الْمَهْدِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْيِيدٌ لَهُ لِإِثْبَاتِ نَزَاهَةِ تَكَوُّنِهِ، وَفِي ذَلِكَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى وَالِدَتِهِ إِذْ ثَبَتَتْ بَرَاءَتُهَا مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَهْدِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُكَلِّمُ. وكَهْلًا مَعْطُوفٌ عَلَى فِي الْمَهْدِ لِأَنَّهُ حَالٌ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً [يُونُس: 12] . وَالْمَهْدُ وَالْكَهْلُ تَقَدَّمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَكْلِيمُهُ كَهْلًا أُرِيدَ بِهِ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ فَهُوَ مِنَ التَّأْيِيدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ، لِأَنَّهُ الَّذِي يُلْقِي إِلَى عِيسَى مَا يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ هُنَالِكَ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَا فَتَنْفُخُ فِيها وَقَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [49] فَأَنْفُخُ فِيهِ. فَعَنْ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَادَ إِلَى الطَّيْرِ، وَالضَّمِيرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

عَادَ إِلَى الْهَيْئَةِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ هُنَا عَائِدًا إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ ضَرُورَةً. أَيْ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ يَقْتَضِي صُوَرًا أَوْ أَجْسَامًا أَوْ أَشْكَالًا، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ الْمُذَكَّرُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [49] يَعُودُ عَلَى الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَخْلُقُ. وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَائِدًا إِلَى الْكَافِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا صِفَةً لِلَّفْظِ هَيْئَةِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ لَفْظُ هَيْئَةِ الْمَدْخُولِ لِلْكَافِ وكلّ ذَلِك نَاظر إِلَى أَنَّ الْهَيْئَةَ لَا تَصْلُحُ لِأَنْ تكون متعلّق فَتَنْفُخُ، إِذِ الْهَيْئَةُ مَعْنًى لَا يُنْفَخُ فِيهَا وَلَا تَكُونُ طَائِرًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ فَتَكُونُ طَائِرًا بِالْإِفْرَادِ كَمَا قَرَأَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَوْجِيهُهَا هُنَا أَنَّ الضَّمِيرَ جَرَى عَلَى التَّأْنِيثِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَإِذْ تَخْلُقُ، أَيْ تُقَدِّرُ هَيْئَةً كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَتَكُونُ الْهَيْئَةُ طَائِرًا، أَيْ كُلُّ هَيْئَةٍ تُقَدِّرُهَا تَكُونُ وَاحِدًا مِنَ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ «طَيْرًا» - بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ- بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ هَيْئَاتٍ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. وَقَالَ هُنَا وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى وَلَمْ يَقُلْ: وَتُحْيِ الْمَوْتى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [49] ، أَيْ تُخْرِجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً، فَأُطْلِقَ الْإِخْرَاجُ وَأُرِيدَ بِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ وُضِعَ فِي الْقَبْرِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَيِّتًا فَكَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْقَبْر ملزوما الانعكاس السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ وُضِعَ فِي الْقَبْرِ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْإِحْيَاءَ خُرُوجًا فِي قَوْلِهِ: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] وَقَالَ: إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (¬1) [الْمُؤْمِنُونَ: 35] . وَقَوْلُهُ: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ عُطِفَ عَلَى إِذْ أَيَّدْتُكَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَهِيَ نِعْمَةُ الْعِصْمَةِ مِنَ الْإِهَانَةِ فَقَدْ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِنِينَ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مَعَ حِقْدِهِمْ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِ، فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ ضُرِّهِ حَتَّى أَدَّى الرِّسَالَةَ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَفَاقُوا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَرَفَعَهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، وَمَاتَتْ نُفُوسُهُمْ بِغَيْظِهَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمُدَّةِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ كُلَّهَا مُدَّةُ ظُهُورِ مُعْجِزَاتِهِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (أئذا متْنا وكنّا تُرَابا وعظاما إنّا لمخرجون) وَهُوَ خطأ.

[سورة المائدة (5) : آية 111]

بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ تَخَلُّصٌ مِنْ تَنْهِيَةِ تَقْرِيعِ مُكَذِّبِيهِ إِلَى كَرَامَةِ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ. وَاقْتُصِرَ مِنْ دَعَاوِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِادِّعَاءَ قَصَدُوا بِهِ التَّوَسُّلَ إِلَى قَتْلِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ السَّاحِرِ فِي شَرِيعَةِ الْيَهُودِ الْقَتْلُ إِذِ السِّحْرُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ، إِذْ كَانَ مِنْ صِنَاعَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَدْ قَرَنَتِ التَّوْرَاةُ السِّحْرَ وَعِرَافَةِ الْجَانِّ بِالشِّرْكِ، كَمَا جَاءَ فِي سفر اللاويّين فِي الْإِصْحَاحِ الْعِشْرِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ، وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَجْمُوعِ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ إِلَّا سَاحِرٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عِيسَى الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِعِيسَى كِلْتَا الْمَقَالَتَيْنِ عَلَى التَّفْرِيقِ أَوْ عَلَى اخْتِلَافِ جَمَاعَاتِ الْقَائِلِينَ وأوقات القَوْل. [111] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 111] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْمَائِدَة: 110] ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقُولُهُ اللَّهُ لِعِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ. فَإِنَّ إِيمَانَ الْحَوَارِيِّينَ نِعْمَةٌ عَلَى عِيسَى إِذْ لَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَمَا وَجَدَ مَنْ يَتَّبِعُ دِينَهُ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْمُتَجَدِّدُ بِتَجَدُّدِ اهْتِدَاءِ الْأَجْيَالِ بِدِينِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ نَسْخُهُ بِالْإِسْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ إِلْهَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ عِيسَى لِلْمُبَادَرَةِ بِتَصْدِيقِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ الَّذِي بِهِ دَعَاهُمْ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى عِيسَى لِيَدْعُوَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى دِينِهِ. وَخَصَّ الْحَوَارِيُّونَ بِهِ هُنَا تَنْوِيهًا بِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ الْوَحْيَ بِالدَّعْوَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِأَجْلِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ [الصَّفّ: 14]

[سورة المائدة (5) : الآيات 112 إلى 113]

فَكَانَ الْحَوَارِيُّونَ سَابِقِينَ إِلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي صِدْقِ عِيسَى. وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفَصْلُ جُمْلَةِ قالُوا آمَنَّا لِأَنَّهَا جَوَابُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهُوَ «أَوْحَيْنَا» ، عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ حَصَلَ حِينَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ تَصْدِيقَ عِيسَى فَكَأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ فَأَجَابُوهُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِمْ: وَاشْهَدْ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِكَلَامٍ نَفْسِيٍّ مِنْ لُغَتِهِمْ، فَحَكَى اللَّهُ مَعْنَاهُ بِمَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُهُ: وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ. وَسَمَّى إِيمَانَهُمْ إِسْلَامًا لِأَنَّهُ كَانَ تَصْدِيقًا رَاسِخًا قَدِ ارْتَفَعُوا بِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ إِيمَانِ عَامَّةِ مَنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ غَيْرُهُمْ، فَكَانُوا مُمَاثِلِينَ لِإِيمَانِ عِيسَى، وَهُوَ إِيمَان الْأَنْبِيَاء والصدّيقين، وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [67] ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [132] فَارْجِع إِلَيْهِ. [112، 113] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 112 إِلَى 113] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) جُمْلَةُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُكَلِّمُ اللَّهُ بِهِ عِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَيَكُونُ إِذْ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ قالُوا آمَنَّا [الْمَائِدَة: 111] فَيَكُونُ مِمَّا يُذَكِّرُ اللَّهُ بِهِ عِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَحُكِيَ عَلَى حَسَبِ حُصُولِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنَّ سُؤَالَهُمُ الْمَائِدَةَ حَصَلَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ إِيمَانِهِمْ بَلْ فِي وَقْتٍ آخَرَ قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [الْمَائِدَة: 111] فَإِنَّ قَوْلَهُمْ آمَنَّا قَدْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ بِمُنَاسَبَاتٍ، كَمَا يَكُونُ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ تَكْذِيبَ الْيَهُودِ عِيسَى، أَوْ عِنْدَ مَا يُشَاهِدُونَ آيَاتٍ عَلَى يَدِ عِيسَى، أَوْ يَقُولُونَهُ لِإِعَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْإِيمَان شَأْن الصدّيقين الَّذِينَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُصْقِلُونَ إِيمَانَهُمْ

فَيَقُولُونَ فِي كُلِّ مُعَاوَدَةٍ. آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ. وَأَمَّا مَا قَرَّرَ بِهِ «الْكَشَّافُ» وَمُتَابِعُوهُ فَلَا يَحْسُنُ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ابْتِدَائِيَّةً بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ، عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا فِي سُورَةِ النَّمْلِ [7] ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَخَلُّصًا إِلَى ذِكْرِ قِصَّةِ الْمَائِدَةِ لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ مَا دَارَ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي. [الْمَائِدَة: 111] وَابْتَدَأُوا خِطَابَهُمْ عِيسَى بِنِدَائِهِ بِاسْمِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا سَيَقُولُونَهُ أَمْرٌ فِيهِ اقْتِرَاحٌ وَكُلْفَةٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ مَنْ يُخَاطِبُ مَنْ يَتَجَشَّمُ مِنْهُ كُلْفَةً أَنْ يُطِيلَ خِطَابَهُ طَلَبًا لِإِقْبَالِ سَمْعِهِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ أَوْعَى لِلْمَقْصُودِ. وَجَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ عَلَى طَرِيقَةٍ عَرَبِيَّةٍ فِي الْعَرْضِ وَالدُّعَاءِ، يَقُولُونَ لِلْمُسْتَطِيعِ لِأَمْرٍ: هَلْ تَسْتَطِيعُ كَذَا، عَلَى مَعْنَى تَطَلُّبِ الْعُذْرِ لَهُ إِنْ لَمْ يُجِبْكَ إِلَى مَطْلُوبِكَ وَأَنَّ السَّائِلَ لَا يُحِبُّ أَنْ يُكَلِّفَ الْمَسْئُولَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ فَلَمْ يَبْقَ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى صَرِيحِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَشُكُّ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَسْئُولِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى مِنْهُ، وَفِي شَيْءٍ يَعْلَمُ أَنه مستطاع للمسؤول، فَقَرِينَةُ الْكِنَايَةِ تَحَقُّقُ الْمَسْئُولِ أَنَّ السَّائِلَ يَعْلَمُ اسْتِطَاعَتَهُ. وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَوَضَّأُ» . فَإِنَّ السَّائِلَ يَعْلَمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ قَوْلُ الْحَوَارِيِّينَ الْمَحْكِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لَفْظًا مِنْ لُغَتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى التَّلَطُّفِ وَالتَّأَدُّبِ فِي السُّؤَالِ، كَمَا هُوَ مُنَاسِبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْخَالِصِ. وَلَيْسَ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوا آيَةً لِزِيَادَةِ اطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِأَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ إِلَى الدَّلِيلِ الْمَحْسُوسِ. فَإِنَّ النُّفُوسَ بِالْمَحْسُوسِ آنَسُ، كَمَا لَمْ يَكُنْ سُؤَالُ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَة: 260] شَكًّا فِي الْحَالِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى تَفْسِيرُ الْمُحَقِّقِينَ مِثْلَ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَالْوَاحِدِيِّ، وَالْبَغَوِيِّ خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَطِيعُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَرَفْعِ رَبُّكَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ- بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ وَنَصْبِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- مِنْ قَوْلِهِ رَبُّكَ عَلَى أَنَّ رَبُّكَ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَلْ تَسْأَلُ لَنَا رَبَّكَ، فَعَبَّرَ بِالِاسْتِطَاعَةِ عَنْ طَلَبِ الطَّاعَةِ، أَيْ إِجَابَةِ السُّؤَالِ. وَقِيلَ: هِيَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ هَلْ تَسْتَطِيعُ سُؤَالَ رَبِّكَ، فَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَ الْمُضَافِ فِي إِعْرَابِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَعْلَمَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، وَلَكِنْ قَالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَقْرَأْنَا النَّبِيءُ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ. وَاسْمُ مائِدَةً هُوَ الْخِوَانُ الْمَوْضُوعُ عَلَيْهِ طَعَامٌ، فَهُوَ اسْمٌ لِمَعْنًى مُرَكَّبٍ يَدُلُّ عَلَى طَعَامٍ وَمَا يُوضَعُ عَلَيْهِ. وَالْخِوَانُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- تَخْتٌ مِنْ خَشَبٍ لَهُ قَوَائِمُ مَجْعُولٌ لِيُوضَعَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِلْأَكْلِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُعَرَّبٌ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ. وَفِي حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: فَعَلَامَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ، وَقِيلَ: الْمَائِدَةُ اسْمُ الطَّعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وِعَاءٍ وَلَا عَلَى خِوَانٍ. وَجَزَمَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَعَلَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْمَحَلِّ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لِلْعَرَبِ مَوَائِدُ إِنَّمَا كَانَتْ لَهُمُ السُّفْرَةُ. وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الضَّبِّ: لَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الطَّعَامُ الْمَوْضُوعُ عَلَى سُفْرَةٍ. وَاسْمُ السُّفْرَةِ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى وِعَاءٍ مِنْ أَدِيمٍ مُسْتَدِيرٍ لَهُ مَعَالِيقُ ليرْفَع بهَا إِذْ أُرِيدَ السَّفَرُ بِهِ. وَسُمِّيَتْ سُفْرَةً لِأَنَّهَا يَتَّخِذُهَا الْمُسَافِرُ. وَإِنَّمَا سَأَلَ الْحَوَارِيُّونَ كَوْنَ الْمَائِدَةِ مُنَزَّلَةً مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُمْ رَغِبُوا أَنْ تَكُونَ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ فَلَا تَكُونُ مِمَّا صُنِعَ فِي الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ عَالَمٍ عُلْوِيٍّ. وَقَوْلُ عِيسَى حِينَ أَجَابَهُمُ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَمْرٌ بِمُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَعَدَمِ تَزَلْزُلِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِ أَنْ الْمُفِيدَةِ لِلشَّكِّ فِي الْإِيمَانِ لِيَعْلَمَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ لَهُمْ عَنْ شَكٍّ فِي صِدْقِ رَسُولِهِمْ، فَسَأَلُوا مُعْجِزَةً يَعْلَمُونَ بِهَا صِدْقَهُ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ،

[سورة المائدة (5) : الآيات 114 إلى 115]

أَيْ أَلَمْ تَكُنْ غَنِيًّا عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ الْمَحْسُوسِ. فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى فِي كَلَامِ عِيسَى مَا يَشْمَلُ الْإِيمَانَ وَفُرُوعَهُ. وَقِيلَ: نَهَاهُمْ عَنْ طَلَبِ الْمُعْجِزَاتِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَصَلَ إِيمَانُكُمْ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ. فَأَجَابُوهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا ذَلِكَ لِضَعْفٍ فِي إِيمَانِهِمْ إِنَّمَا أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِأَكْلِ طَعَامٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِكْرَامًا لَهُمْ، وَلِذَلِكَ زَادُوا مِنْها وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنْ نَأْكُلَ إِذْ لَيْسَ غَرَضُهُمْ مِنَ الْأَكْلِ دَفْعَ الْجُوعِ بَلِ الْغَرَضُ التَّشَرُّفُ بِأَكْلٍ مِنْ شَيْءٍ نَازِلٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا مِثْلُ أَكْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ ضَيْفُهُ فِي بَيْتِهِ حِينَ انْتَظَرُوهُ بِالْعَشَاءِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ جُزْءٌ مِنَ اللَّيْل، وَحضر أبوبكر وَغَضِبَ مِنْ تَرْكِهِمُ الطَّعَامَ، فَلَمَّا أَخَذُوا يَطْعَمُونَ جُعِلَ الطَّعَامُ يَرْبُو فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِزَوْجِهِ: مَا هَذَا يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ. وَحَمَلَ مِنَ الْغَدِ بَعْضَ ذَلِكَ الطَّعَامِ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أَيْ بِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْحِسِّيَّ أَظْهَرُ فِي النَّفْسِ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا، أَيْ نَعْلَمُ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَا عِلْمَ اسْتِدْلَالٍ فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمَانِ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ، أَيْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَى رُؤْيَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَنُبَلِّغُهَا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا. فَهَذِهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ لِسُؤَالِ إِنْزَالِ الْمَائِدَةِ، كُلُّهَا دَرَجَاتٍ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي يَرْغَبُ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [114، 115] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 114 إِلَى 115] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الْمَائِدَة: 112]

مِنَ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْقِيهِ اللَّهُ عَلَى عِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهِيَ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً إِلَخْ ... مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَة: 111] وَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 116] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ [الْمَائِدَة: 112] الْآيَةَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ اذْكُرْ كَانَتْ جُمْلَةُ: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا الْآيَةَ مُجَاوَبَةً لِقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [الْمَائِدَة: 112] الْآيَةَ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً اشْتَمَلَ عَلَى نِدَاءَيْنِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: رَبَّنا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النِّدَاءِ. كَرَّرَ النِّدَاءَ مُبَالَغَةً فِي الضَّرَاعَةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: رَبَّنا بَدَلًا وَلَا بَيَانًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ نِدَاءَ اللَّهُمَّ لَا يُتْبَعُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ مِنْ أَجْلِ مَا لَحِقَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ حَتَّى صَارَ كَأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ أَجَازَ إِتْبَاعَهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ اعْتِبَارَهُ نِدَاءً ثَانِيًا أَبْلَغُ هُنَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاعَ نِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى رَبَّنا مَعَ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْخَوَاتِمِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجَمَعَ عِيسَى بَيْنَ النِّدَاءِ بِاسْمِ الذَّاتِ الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَلِلْحَوَارِيِّينَ اسْتِعْطَافًا لِلَّهِ لِيُجِيبَ دُعَاءَهُمْ. وَمَعْنَى تَكُونُ لَنا عِيداً أَيْ يَكُونُ تَذَكُّرُ نُزُولِهَا بِأَنْ يَجْعَلُوا الْيَوْمَ الْمُوَافِقَ يَوْمَ نُزُولِهَا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ عِيدًا، فَإِسْنَادُ الْكَوْنِ عِيدًا لِلْمَائِدَةِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، وَإِنَّمَا الْعِيدُ الْيَوْمُ الْمُوَافِقُ لِيَوْمِ نُزُولِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا، أَيْ لِأَوَّلِ أُمَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَآخِرِهَا، وَهُمُ الَّذِينَ خُتِمَتْ بِهِمُ النَّصْرَانِيَّةُ عِنْدَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالْعِيدُ اسْمٌ لِيَوْمٍ يَعُودُ كُلَّ سَنَةٍ، ذِكْرَى لِنِعْمَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ لِلشُّكْرِ أَوْ لِلِاعْتِبَارِ. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَأَشْهَرُ مَا كَانَتِ الْأَعْيَادُ فِي الْعَرَبِ عِنْدَ النَّصَارَى مِنْهُمْ، قَالَ الْعَجَّاجُ: كَمَا يَعُودُ الْعِيدَ نَصْرَانِيٌّ مثل يَوْمِ السَّبَاسِبِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةَ: يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ وَهُوَ عِيدُ الشَّعَانِينَ عِنْدَ النَّصَارَى. وَقَدْ سمّى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ عِيدًا فِي قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ لَمَّا نَهَى الْجَوَارِيَ اللَّاءِ كُنَّ يُغَنِّينَ عِنْدَ عَائِشَةَ «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» وَسَمَّى يَوْمَ النَّحْرِ عِيدًا فِي قَوْلِهِ: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ» . وَالْعِيدُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، وَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ فِعْلٍ، فَجُعِلَتْ وَاوُهُ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ لَازِمَةٍ. وَجَمَعُوهُ عَلَى أَعْيَادٍ بِالْيَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْجَمْعِ أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، فَقِيَاسُ، جَمْعِهِ أَعْوَادٌ لَكِنَّهُمْ جَمَعُوهُ عَلَى أَعْيَادٍ، وَصَغَّرُوهُ عَلَى عُيَيْدٍ، تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمْعِ عُودٍ وَتَصْغِيرِهِ. وَقَوْلُهُ: لِأَوَّلِنا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لَنا بَدَلُ بَعْضِ مِنْ كُلٍّ، وَعَطْفُ وَآخِرِنا عَلَيْهِ يُصِيِّرُ الْجَمِيعَ فِي قُوَّةِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وَقَدْ أَظْهَرَ لَامَ الْجَرِّ فِي الْبَدَلِ، وَشَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ الْعَامِلُ الَّذِي عَمِلَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِأَنَّ كَوْنَ الْبَدَلِ تَابِعًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي الْإِعْرَابِ مُنَافٍ لِذِكْرِ الْعَامِلِ الَّذِي عَمِلَ فِي الْمَتْبُوعِ، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تِكْرَارِ الْعَامِلِ، أَيِ الْعَامِلُ مَنْوِيٌّ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» أَنَّ عَامِلَ الْبَدَلِ قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَنْوِيٌّ فِي الْغَالِبِ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَوَامِلِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: 33] ، وَبِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [75] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا.. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بَدَلٌ مِنْ لَنا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ. وَجَوَّزَ الْبَدَلَ أَيْضًا فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامَانِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامَيْنِ فِي قَوْلِكَ: وَهَبْتُ لَهُ ثَوْبًا لِقَمِيصِهِ. يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةً بِ تَكُونُ وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِ عِيداً.

وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَا بَلَغْتُ إِلَيْهِ مِنْ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ فَتَحَصَّلَ عِنْدِي أَنَّ الْعَامِلَ الْأَصِيلَ مِنْ فِعْلٍ وَشَبَهِهِ لَا يَتَكَرَّرُ مَعَ الْبَدَلِ، وَأَمَّا الْعَامِلُ التَّكْمِيلِيُّ لِعَامِلِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ حَرْفُ الْجَرِّ خَاصَّةً فَهُوَ الَّذِي وَرَدَ تَكْرِيرُهُ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [75] ، وَآيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ [الْأَنْعَام: 99] . ذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ مُكَمِّلٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ هُوَ بِهِ لِأَنَّهُ يُعَدِّي الْفِعْلَ الْقَاصِرَ إِلَى مَفْعُولِهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِمَعْنَى مَصْدَرِهِ، فَحَرْفُ الْجَرِّ لَيْسَ بِعَامِلٍ قَوِيٍّ وَلَكِنَّهُ مُكَمِّلٌ لِلْعَامِلِ الْمُتَعَلِّقِ هُوَ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَتَطَلَّبَ الدَّاعِيَ إِلَى إِظْهَارِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْبَدَلِ فِي مَوَاقِعِ ظُهُورِهِ. وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ يَعِيشَ فِي «شَرْحِ الْمُفَصَّلِ» ذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ قَالَ: «لِأَنَّ الْحَرْفَ قَدْ يَتَكَرَّرُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ» . وَهَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ لَنَا لِأَنَّ التَّأْكِيدَ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَيْهِ. فَمَا أَظْهَرَ فِيهِ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَ مُقْتَضَى إِظْهَارِهِ إِمَّا قَصْدُ تَصْوِيرِ الْحَالَةِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، وَإِمَّا دَفْعُ اللَّبْسِ، وَذَلِكَ فِي خُصُوصِ آيَةِ الْأَعْرَافِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ «مَنْ آمَنَ» مِنَ الْمَقُولِ وَأَنَّ «مَنْ» اسْتِفْهَامٌ فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْقَوْمِ، وَمَعْنَى التَّأْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِإِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَامِلٍ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ وَقَدِ الْتَزَمَ ظُهُورَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْبَدَلِ مِنِ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوَ: أَيْنَ تَنْزِلُ أَفِي الدَّارِ أَمْ فِي الْحَائِطِ، وَمَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ. وَهَذَا الْعِيدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَكَلَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ عَلَى مَائِدَةِ لَيْلَةِ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ صُلِبَ مِنْ صَبَاحِهَا. فَلَعَلَّ مَعْنَى كَوْنِهَا عِيدًا أَنَّهَا صُيِّرَتْ يَوْمَ الْفِصْحِ عِيدًا فِي الْمَسِيحِيَّةِ كَمَا كَانَ عِيدًا فِي الْيَهُودِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْ صَارَ عِيدًا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ وَاحِدًا لِأَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ وَفَّقُوا لِأَعْيَادِ الْيَهُودِ مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى لَائِقَةً بِالْمَسِيحِيَّةِ إِعْفَاءً عَلَى آثَارِ الْيَهُودِيَّةِ.

وَجُمْلَةُ قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها جَوَابُ دُعَاءِ عِيسَى، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. وأكّد الْخَبَر بإن تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ. وَالْمَعْنَى إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمُ الْآنَ، فَهُوَ اسْتِجَابَةٌ وَلَيْسَ بِوَعْدٍ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ تَفْرِيعٌ عَنْ إِجَابَةِ رَغْبَتِهِمْ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ إِعْلَامًا بِأَهَمِّيَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَجُعِلَ جَزَاءُ إِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى الْكُفْرِ فَإِنْ عَادُوا عُذِّبُوا عَذَابًا أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ سَائِرِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ تَعَاضَدَ لَدَيْهِمْ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ لَا أُعَذِّبُهُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ الْعَذَابَ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَقَدْ وَقَفَتْ قِصَّةُ سُؤَالِ الْمَائِدَةِ عِنْدَ هَذَا الْمِقْدَارِ وَطُوِيَ خَبَرُ مَاذَا حَدَثَ بَعْدَ نُزُولِهَا لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ بِحَالِ إِيمَانِ الْحَوَارِيِّينَ وَتَعَلُّقِهِمْ بِمَا يَزِيدُهُمْ يَقِينًا، وَبِقُرْبِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ وَتَحْصِيلِ مَرْتَبَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَعَلَى ضَرَاعَةِ الْمَسِيحِ الدَّالَّةِ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَعَلَى كَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ إِذْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ، وَعَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَا حَوَتْهُ الْمَائِدَةُ وَمَا دَارَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ. وَقَدْ أَكْثَرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ بِأَخْبَارٍ وَاهِيَةِ الْأَسَانِيدِ سِوَى مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى عمّار بن يسَار قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا» الْحَدِيثَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ وَلَا نَعْلَمُ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَصْلًا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْمَائِدَةَ هَلْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ لَمْ تَنْزِلْ. فَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ الْآيَةَ خَافُوا فَاسْتَعَفُّوا مِنْ طَلَبِ نُزُولِهَا فَلَمْ تَنْزِلْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَتْ. وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وَعْدٌ لَا يُخْلَفُ، وَلَيْسَ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهُ مُعَقَّبٌ بِتَحْذِيرٍ مِنَ

[سورة المائدة (5) : الآيات 116 إلى 118]

الْكُفْرِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ أَثَرُهُ عِنْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَلَيْسُوا مِمَّنْ يَخْشَى الْعَوْدَ إِلَى الْكُفْرِ سَوَاءً نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ أَمْ لَمْ تَنْزِلْ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَا يَعْرِفُونَ خَبَرَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَمْ مِنْ خَبَرٍ أَهْمَلُوهُ فِي الأناجيل. [116- 118] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 116 إِلَى 118] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) وَإِذْ قالَ اللَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [الْمَائِدَة: 110] فَهُوَ مَا يَقُولُهُ اللَّهُ يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ وَلَيْسَ مِمَّا قَالَهُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ عِبَادَةَ عِيسَى حَدَثَتْ بَعْدَ رَفْعِهِ، وَلِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قَوْلٌ يَقُولُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مَبْدَأُ تَقْرِيعِ النَّصَارَى بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ تَقْرِيعِ الْيَهُودِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [الْمَائِدَة: 110] إِلَى هُنَا. وَتَقْرِيعُ النَّصَارَى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَة: 109] الْآيَةَ، فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا كَالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ مَاذَا أُجِبْتُمْ [الْمَائِدَة: 109] وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أُرِيدَ إِعْلَانُ كَذِبِ مَنْ كَفَرَ مِنَ النَّصَارَى.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْخَبَرِ دُونَ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ. فَقَوْلُ قَائِلِينَ: اتَّخِذُوا عِيسَى وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ، وَاقِعٌ. وَإِنَّمَا أُلْقِيَ الِاسْتِفْهَامُ لِعِيسَى أَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْإِرْهَابِ وَالْوَعِيدِ بتوجّه عُقُوبَة ذَلِك إِلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ إِنْ تَنَصَّلَ مِنْهُ عِيسَى فَيَعْلَمُ أَحْبَارُهُمُ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ قَائِلُ ذَلِكَ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ قَالَهُ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ عِيسَى وَتَعَالِيمَهُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَائِلُ لَقَالَ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي، وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ دِينِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ اتَّخِذُونِي، وَحَرْفُ مِنْ صِلَةٌ وَتَوْكِيدٌ. وَكَلِمَةُ دُونِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُجَاوِزِ، وَيَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا مَجَازِيًّا مُرَادًا بِهِ الْمُغَايَرَةُ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى (سِوَى) . وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: 76] . وَالْمَعْنَى اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ سِوَى اللَّهِ. وَقَدْ شَاعَ هَذَا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] ، وَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ (¬1) وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَلَمْ يُنْكِرُوا إِلَهِيَّةَ اللَّهِ. وَذَكَرَ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ إِلْزَامًا لَهُمْ بِشَنَاعَةِ إِثْبَاتِ إِلَهِيَّةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ النَّصَارَى لَمَّا ادَّعَوْا حُلُولَ اللَّهِ فِي ذَاتِ عِيسَى تَوَزَّعَتِ الْإِلَهِيَّةُ وَبَطُلَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [17] . وَجَوَابُ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ مَضْمُونِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (مَا لَا يَنْفَعهُمْ وَلَا يضرهم) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للمصحف.

تِلْكَ الْمَقَالَةِ. وَكَانَتِ الْمُبَادَرَةُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى أَهَمَّ مِنْ تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ، عَلَى أَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِلتَّبَرِّي لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ أَحَدًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُبْحانَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . وَبَرَّأَ نَفْسَهُ فَقَالَ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابُ السُّؤَالِ. وَجُمْلَةُ سُبْحانَكَ تَمْهِيدٌ. وَقَوْلُهُ: مَا يَكُونُ لِي مُبَالَغَةٌ فِي التَّبْرِئَةِ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ مَا يُوجَدُ لَدَيَّ قَوْلُ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: مَا يَكُونُ لِي لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ مَا يُوجَدُ حَقٌّ أَنْ أَقُولَ. وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ لَمْ أَقُلْهُ لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يُوجَدَ اسْتِحْقَاقُهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِحَقٍّ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ لَيْسَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَيْسَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ لِي بِحَقٍّ متعلّقة بِلَفْظ بِحَقٍّ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْو متعلّق بِحَقٍّ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ ظَرْفٌ مستقرّ صفة لحق حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ الَّذِينَ قَالُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ، وَلِلْمُبَادَرَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَنَصُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ. وَقَدْ أَفَادَ الْكَلَامُ تَأْكِيدَ كَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا لَهُ بِطَرِيقِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يُبَاحَ لَهُ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَحِقُّ لَهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ كَذَلِكَ. فَهَذَا تَأْكِيدٌ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالتَّفَنُّنِ. ثُمَّ ارْتقى فِي التبرّي فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ وَحُجَّةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَكَانَتْ كَالْبَيَانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قُلْتُهُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَنَصْبُ الْقَوْلِ لِلْمُفْرَدِ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَقُولَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، فَلِذَلِكَ أَحَالَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ: لَمْ أكن من جناتعا عَلِمَ اللَّهُ وَأَنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ

وَلِذَلِكَ قَالَ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، فَجُمْلَةُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الشَّرْطِ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالنَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ وَعَلَى مَا بِهِ الْإِنْسَانُ، إِنْسَانٌ وَهِيَ الرُّوحُ الْإِنْسَانِيُّ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: تَعْلَمُ مَا أَعْتَقِدُهُ، أَيْ تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُهُ لِأَنَّ النَّفْسَ مَقَرُّ الْعُلُومِ فِي الْمُتَعَارَفِ. وَقَوْلُهُ: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ اعْتِرَاضٌ نَشَأَ عَنْ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ وَفِي كُلِّ حَالٍ. وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْزِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أثر فِي التبرّي، وَالتَّنَصُّلِ، فَلِذَلِكَ تَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَإِضَافَةُ النَّفْسِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ هَنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، أَيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا تَعْلَمُهُ، أَيْ ممّا انْفَرَدت بِعَمَلِهِ. وَقَدْ حَسَّنَهُ هُنَا الْمُشَاكَلَةُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» . وَفِي جَوَازِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ مُشَاكَلَةٍ خِلَافٌ فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ وَعَبْدُ الْحَكِيمِ فِي شُرُوح «الْمِفْتَاح» و «التخليص» . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ نَحْوَ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمرَان: 28] مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مِثْلَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [54] ، وَيَشْهَدُ لَهُ تَكَرُّرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ (إِنَّ) الْمُفِيدَةِ التَّعْلِيلِ. وَقَدْ جُمِعَ فِيهِ أَرْبَعُ مُؤَكِّدَاتٍ وَطَرِيقَةُ حَصْرٍ، فَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْحَصْرَ، وَإِنَّ وَصِيغَةُ الْحَصْرِ، وَجَمْعُ الْغُيُوبِ، وَأَدَاةُ الِاسْتِغْرَابِ. وَبَعْدَ أَنْ تَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِمَا اخْتَلَقُوهُ انْتَقَلَ فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ حَسْبَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ، فَقَوْلُهُ: مَا قُلْتُ لَهُمْ ارْتِقَاءٌ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ إِلَخْ ... صَرَّحَ هُنَا بِمَا قَالَهُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ مَقَالِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا تَجَاوَزْتُ

فِيمَا قُلْتُ حَدَّ التَّبْلِيغِ لِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، فَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ هُوَ مَقُولُ مَا قُلْتُ لَهُمْ وَهُوَ مُفْرَدٌ دَالٌّ عَلَى جُمَلٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّ وُقُوعُهُ مَنْصُوبًا بِفِعْلِ الْقَوْلِ. وأَنِ مُفَسِّرَةُ أَمَرْتَنِي لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ وَجُمْلَةُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِ أَمَرْتَنِي. وَاخْتِيرَ أَمَرْتَنِي عَلَى (قُلْتُ لِي) مُبَالَغَةً فِي الْأَدَبِ. وَلَمَّا كَانَ أَمَرْتَنِي مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ كَانَتْ جُمْلَةُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ هِيَ الْمَأْمُورُ بِأَنْ يُبَلِّغَهُ لَهُمْ فَاللَّهُ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَبِّي وَرَبَّكُمْ مِنْ مَقُولِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَلَكِنْ لَمَّا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِفِعْلِ أَمَرْتَنِي بِهِ صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِحَرْفِ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ فَالَّذِي قَالَهُ عِيسَى هُوَ عَيْنُ اللَّفْظِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَهُ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَكَلَّفَ بِهِ فِي «الْكَشَّافُ» عَلَى أَنَّ صَاحِبَ «الِانْتِصَافِ» جَوَّزَ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ جَرَى عَلَى حِكَايَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْمَعْنَى، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. فَلَمَّا حَكَاهُ عِيسَى قَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمُ اه. وَهَذَا التَّوْجِيهُ هُوَ الشَّائِعُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى جَعَلُوا الْآيَةَ مِثَالًا لِحِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى. وَأَقُولُ: هُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [6] إِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّكَ قُلْتَ لِغَائِبٍ أَوْ قِيلَ لَهُ أَوْ أَمَرْتَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: فَلَكَ فِي فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ تَحْكِي الْأَلْفَاظَ الْمَقُولَةَ بِعَيْنِهَا، فَتَجِيءُ بِلَفْظِ الْمُخَاطَبَةِ، وَلَكَ أَنْ تَأْتِيَ بِالْمَعْنَى فِي الْأَلْفَاظِ بِذِكْرِ غَائِبٍ دُونَ مُخَاطَبَةٍ اه. وَعِنْدِي أَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْ تَبِعَتِهِمْ فَقَالَ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ كُنْتُ مُشَاهِدًا لَهُمْ وَرَقِيبًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ. وَمَا دُمْتُ (مَا) فِيهِ ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، وَ (دَامَ) تَامَّةٌ لَا تَطْلُبُ مَنْصُوبًا، وفِيهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ دُمْتُ، أَيْ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ خَبَرًا لِ (دَامَ) عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّ (دَامَ) الَّتِي تَطْلُبُ خَبَرًا هِيَ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا الِاسْتِمْرَارُ عَلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ هُوَ مَضْمُونُ خَبَرِهَا، أَمَّا هِيَ هُنَا فَهِيَ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ، أَيْ مَا بَقِيتُ فِيهِمْ، أَيْ مَا بَقِيتُ فِي الدُّنْيَا.

[سورة المائدة (5) : آية 119]

وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَنْهُ قَوْلَهَ: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، أَيْ فَلَمَّا قَضَيْتَ بِوَفَاتِي، لِأَنَّ مُبَاشِرَ الْوَفَاةِ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَالْوَفَاةُ الْمَوْتُ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ أَمَاتَهُ، أَيْ قَضَى بِهِ وَتَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَبَضَ رُوحَهُ وَأَمَاتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [55] . وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قَدْ صَارَتِ الْوَفَاةُ حَائِلًا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ ضَلَالَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، فجَاء بتضير الْفَصْلِ الدَّالِّ عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ لَا أَنَا إِذْ لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَ الدُّنْيَا اتِّصَالٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَعْلَمُ أَمْرَهُمْ وَتُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ مَتَى شِئْتَ. وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِم مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدَاهُمْ بِكُلِّ وُجُوهِ الِاهْتِدَاءِ. وَأَقْصَى وُجُوهِ الِاهْتِدَاءِ إِبْلَاغُهُمْ مَا سَيَكُونُ فِي شَأْنِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ إِذْ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِئَلَّا يَكُونَ فِي حكم جَوَاب فَلَمَّا. وَقَوْلُهُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَوَّضَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُجَازِيهِمْ بِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِمْسَاكٍ عَنْ إِبْدَاءِ رَغْبَةٍ لِشِدَّةِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَغَايَةُ مَا عَرَّضَ بِهِ عِيسَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذِكْرُ الْعَزِيزِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَغْفِرُ عَنْ مَقْدِرَةٍ، وَذِكْرُ الْحَكِيمِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّفْوِيضِ، أَيِ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ الْعَالِمُ بِمَا يَلِيق بهم. [119] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 119] قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ عِيسَى، فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحِوَارِ.

وَالْإِشَارَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ حَاضِرٌ حِينَ تَجْرِي هَذِهِ الْمُقَاوَلَةُ. وَجُمْلَةُ: يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ مُضَافٌ إِلَيْهَا يَوْمُ، أَيْ هَذَا يَوْمُ نَفْعِ الصِّدْقِ. وَقَدْ قَرَأَ غَيْرُ نَافِعٍ مِنَ الْعَشَرَةِ يَوْمُ- مَضْمُومًا ضَمَّةَ رَفْعٍ- لِأَنَّهُ خَبَرُ هَذَا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ - مَفْتُوحًا- عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَإِضَافَةُ اسْمِ الزَّمَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ تُسَوِّغُ بِنَاءَهُ عَلَى الْفَتْحِ، فَإِنْ كَانَتْ مَاضَوِيَّةً فَالْبِنَاءُ أَكْثَرُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا وَإِنْ كَانَتْ مُضَارِعِيَّةً فَالْبِنَاءُ وَالْإِعْرَابُ جَائِزَانِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ. وَإِضَافَةُ الظَّرْفِ إِلَى الْجُمْلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ مَضْمُونَهَا يَحْصُلُ فِيهِ، فَنَفْعُ الصِّدْقِ أَصْحَابَهُ حَاصِلٌ يَوْمَئِذٍ. وَعُمُومُ الصَّادِقِينَ يَشْمَلُ الصِّدْقَ الصَّادِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالصَّادِرَ فِي الدُّنْيَا، فَنَفْعُ كِلَيْهِمَا يَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ فَأَمَّا نَفْعُ الصَّادِرِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ حُصُولُ ثَوَابِهِ، وَأَمَّا نَفْعُ الصَّادِرِ فِي الْآخِرَةِ كَصِدْقِ الْمَسِيحِ فِيمَا قَالَهُ فَهُوَ بِرِضَى اللَّهِ عَنِ الصَّادِقِ أَوْ تَجَنُّبِ غَضَبِهِ عَلَى الَّذِي يُكَذِّبُهُ فَلَا حَيْرَةَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ بِ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ كَانَ الصِّدْقُ شِعَارَهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ. وَمِنْ أَوَّلِ مَرَاتِبِ الصِّدْقِ صِدْقُ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ لَا يَعْتَقِدُوا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِمَّا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [119] . وَمَعْنَى نَفْعِ الصِّدْقِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْحَقِّ فَالصَّادِقُ يَنْتَفِعُ فِيهِ بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ الصِّدْقَ حَسَنٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْحَقِّ إِلَّا الْأَثَرُ الْحَسَنُ، بِخِلَافِ الْحَالِ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا عَالَمِ حُصُولِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدْ يَجُرُّ ضُرًّا لِصَاحِبِهِ بِتَحْرِيفِ النَّاسِ لِلْحَقَائِقِ، أَوْ بِمُؤَاخَذَتِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ لَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ الْحَاصِلِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدِ ابْتُلِيَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الصِّدْقِ ثُمَّ رَأَى حُسْنَ مَغَبَّتِهِ فِي الدُّنْيَا.

[سورة المائدة (5) : آية 120]

وَمَعْنَى نَفْعِ الصِّدْقِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ حَسَنٍ ارْتَكَبَهُ الْمُخْبِرُ فَالصِّدْقُ حَسَنٌ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ حَسَنٌ فَيَكُونُ نَفْعًا مَحْضًا وَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ، كَمَا فِي قَوْلِ عِيسَى: سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍ [الْمَائِدَة: 116] إِلَى آخِرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ قَبِيحٍ فَإِنَّ الصِّدْقَ لَا يَزِيدُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ قُبْحًا لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ قَبِيحًا سَوَاءٌ أُخْبِرَ عَنْهُ أَمْ لَمْ يُخْبَرْ، وَكَانَ لِقُبْحِهِ مُسْتَحِقًّا أَثَرًا قَبِيحًا مِثْلَهُ. وَيَنْفَعُ الصِّدْقُ صَاحِبَهُ مُرْتَكِبَ ذَلِكَ الْقَبِيحِ فَيَنَالُهُ جَزَاءُ الصِّدْقِ فَيَخِفُّ عَنْهُ بَعْضُ الْعِقَابِ بِمَا ازْدَادَ مِنْ وَسَائِلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: لَهُمْ جَنَّاتٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: يَنْفَعُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ نَفْعِ الصِّدْقِ. وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة ل جَنَّاتٌ وخالِدِينَ حَالٌ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. وَمَعْنَى: رَضُوا عَنْهُ الْمَسَرَّةُ الْكَامِلَةُ بِمَا جَازَاهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَرِضْوَانِهِ. وَأَصْلُ الرِّضَا أَنَّهُ ضِدَّ الْغَضَبِ، فَهُوَ الْمَحَبَّةُ وَأَثَرُهَا مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ. فَرِضَى اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِكْرَامِهِ وَإِحْسَانِهِ مِثْلَ مَحَبَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ. وَرِضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ هُوَ مَحَبَّتُهُ وَحُصُولُ مَا أَمِلُوهُ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ مُتَطَلَّعٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ لِتَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الجنّات والرضوان. [120] [سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 120] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) تَذْيِيلٌ مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَمَعَتْ عُبُودِيَّةَ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَتْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى، وَتَضَمَّنَتْ أَنَّ جَمِيعَهَا فِي تَصَرُّفِهِ تَعَالَى فناسبت مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَزَاءِ الصَّادِقِينَ. وَفِيهَا مَعْنَى التَّفْوِيضِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا يَنْزِلُ، فَآذَنَتْ بِانْتِهَاءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ آخِرُ مَا نَزَلَ، وَبِاقْتِرَابِ وَفَاةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ مَعْنَى التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ (مَا) فِي قَوْلِهِ وَما فِيهِنَّ دُونَ (مَنْ) لِأَنَّ (مَا) هِيَ الْأَصْلُ فِي الْمَوْصُولِ الْمُبْهَمِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِ عَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى حَرْفَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ مَدٍّ. وَما فِيهِنَّ عَطْفٌ عَلَى مُلْكُ أَيْ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [284] لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَيُفِيدُ قَصْرَهَا عَلَى كَوْنِهَا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ مُلْكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ الْمُلْكَ يُضَافُ إِلَى الْأَقْطَارِ وَالْآفَاقِ وَالْأَمَاكِنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51] وَيُضَافُ إِلَى صَاحِبِ الْمُلْكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: 102] . وَيُقَالُ: فِي مُدَّةِ مُلْكِ الْآشُورِيِّينَ أَوِ الرُّومَانِ.

6- سورة الأنعام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 6- سُورَةُ الْأَنْعَامِ لَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا هَذَا الِاسْمُ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ. وَوَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، تَسْمِيَتُهَا فِي كَلَامِهِمْ سُورَةَ الْأَنْعَامِ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ. وَسُمِّيَتْ سُورَةَ الْأَنْعَامِ لِمَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْأَنْعَامِ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً- إِلَى قَوْلِهِ- إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: 136- 144] . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْعَوْفِيُّ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْأَنْعَام: 52] الْآيَةَ نَزَلَ فِي مُدَّةِ حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، أَيْ قَبْلَ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبِعْثَةِ، فَإِذَا صَحَّ كَانَ ضَابِطًا لِسَنَةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سِتَّ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، ثَلَاثًا مِنْ قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَام: 91] إِلَى مُنْتَهَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَثَلَاثًا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَنْعَام: 151، 152] . وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ آيَةَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الْأَنْعَام: 111] مَدَنِيَّةٌ. وَقِيلَ نَزَلَتْ آيَةُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الْأَنْعَام: 93] الْآيَةَ بِالْمَدِينَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا الْآتِي. وَقِيلَ: نَزَلَتْ آيَةُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الْأَنْعَام: 20] الْآيَةَ، وَآيَةُ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت: 47] الْآيَةَ، كِلْتَاهُمَا بِالْمَدِينَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الْمَائِدَة: 145] الْآيَةَ أَنَّهَا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ

نَزَلَتْ يَوْمَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] الْآيَةَ، أَيْ سَنَةَ عَشْرٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ مَكِّيَّةِ السُّورَةِ أُلْحِقَتْ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [91] . إِنَّ النَّقَّاشَ حَكَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: لَا يَصِحُّ نَقْلٌ فِي شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْأَنْعَامِ فِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّةِ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً وَهُوَ فِي مَسِيرٍ وَأَنَا آخِذَةٌ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ إِنْ كَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا لَتَكْسِرُ عِظَامَ النَّاقَةِ. وَلَمْ يُعَيِّنُوا هَذَا الْمَسِيرَ وَلَا زَمَنَهُ غَيْرَ أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ لَا يُعْرَفُ لَهَا مَجِيءٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ وَلَا هِيَ مَعْدُودَةٌ فِيمَنْ بَايَعَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهَا لَقِيَتْهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْدُودَةُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ. فَحَالُ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ بَيِّنٍ. وَلَعَلَّهُ الْتَبَسَ فِيهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ السَّفْرِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ. قَالُوا: وَلَمْ تَنْزِلْ مِنَ السُّورِ الطُّوَالِ سُورَةٌ جُمْلَةً وَاحِدَةً غَيْرُهَا. وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، فَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِنْزَالِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً قَطْعُ تَعَلُّلِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] . تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ تَنْجِيمَ نُزُولِهِ يُنَاكِدُ كَوْنَهُ كِتَابًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْأَنْعَامِ. وَهِيَ فِي مِقْدَارِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا كَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ حِكْمَةَ تَنْجِيمِ النُّزُولِ أَوْلَى بِالْمُرَاعَاةِ. وَأَيْضًا لِيَحْصُلَ الْإِعْجَازُ بِمُخْتَلِفِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ مِنْ قِصَرٍ وَطُولٍ وَتَوَسُّطٍ، فَإِنَّ طُولَ الْكَلَامِ قَدْ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ خَارِجَةَ يَفْخَرُ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفَضَائِلِ: «وَخُطْبَةٌ مِنْ لَدُنْ تَطْلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ إِلَخْ» ... وَقَالَ أَبُو دُؤَادِ بْنُ جَرِيرٍ الْإِيَادِيُّ يَمْدَحُ خُطَبَاءَ إِيَادٍ:

أغراض هذه السورة

يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيُ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ لَا يُنَاكِدُ مَا يُذْكَرُ لِبَعْضِ آيَاتِهَا مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهَا، لِأَنَّ أَسْبَابَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ إِنْ كَانَ لِحَوَادِثَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ تَتَجَمَّعُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُ تِلْكَ الْآيَاتِ مُسَبَّبًا عَلَى تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْآيَاتُ مَدَنِيَّةً أُلْحِقَتْ بِسُورَةِ الْأَنْعَامِ لِمُنَاسَبَاتٍ. عَلَى أَنَّ أَسْبَابَ النُّزُولِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِنُزُولِ آيَاتِ أَحْكَامِهَا فَقَدْ يَقَعُ السَّبَبُ وَيَتَأَخَّرُ تَشْرِيعُ حُكْمِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْخَامِسَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي عَدِّ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحِجْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَعَدَدُ آيَاتِهَا مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسِتُّونَ فِي الْعَدَدِ الْمَدَنِيِّ وَالْمَكِّيِّ، وَمِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ فِي الْعَدَدِ الْكُوفِيِّ، وَمِائَةٌ وَأَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فِي الشَّامِيِّ وَالْبَصْرِيِّ. أَغْرَاَضُ هَذِهِ الْسُورَة ابْتَدَأَتْ بِإِشْعَارِ النَّاسِ بِأَنَّ حَقَّ الْحَمْدِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ مُبْدِعُ الْعَوَالِمِ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضًا فَعُلِمَ أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِبْطَالِ تَأْثِيرِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْجِنِّ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ الْعَالَمِ جَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ، وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَنِظَامِ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ بِحِكْمَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، وَلَا تَمْلِكُ آلِهَتُهُمْ تَصَرُّفًا وَلَا عِلْمًا. وَتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقِ الْإِسْفِرَائِينِيُّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كُلُّ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ. وَمَوْعِظَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالْمُكَذِّبِينَ بِالدِّينِ الْحَقِّ، وَتَهْدِيدِهِمْ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْقُرُونِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْكَافِرِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ مَا يَضُرُّونَ بِالْإِنْكَارِ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَوَعِيدِهِمْ بِمَا سَيَلْقَوْنَ عِنْدَ نَزْعِ أَرْوَاحِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ الْبَعْثِ.

وَتَسْفِيهِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ إِظْهَارِ الْخَوَارِقِ تَهَكُّمًا. وَإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَقَّنَهُمْ عَلَى عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ قَصْدًا مِنْهُمْ لِإِفْحَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَالْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ تَكْذِيبَهُمْ بِالْبَعْثِ، وَتَحْقِيقِ أَنَّهُ وَاقِعٌ، وَأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بَعْدَهُ الْعَذَابَ، وَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا، وَسَيَنْدَمُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ عِنْدَ النَّوَائِبِ. وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِإِعْرَاضِ قَوْمِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ. وَبَيَانِ حِكْمَةِ إِرْسَالِ اللَّهِ الرُّسُلَ، وَأَنَّهَا الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ وَلَيْسَتْ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ إِخْبَارَ النَّاسِ بِمَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ. وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ بِالتَّقْوَى وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينِ اللَّهِ. وَإِبْطَالِ مَا شَرَعَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ شَرَائِعِ الضَّلَالِ. وَبَيَانِ أَنَّ التَّقْوَى الْحَقَّ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بَلْ هِيَ حِرْمَانُ النَّفْسِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَمَالِ وَالتَّزْكِيَةِ. وَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلنَّبِيءِ مَعَ قَوْمِهِ بِمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَثَلِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَأَخَّرَ. وَالْمِنَّةِ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ كَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، وَبِأَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ خَاتِمَةَ الْأُمَمِ الصَّالِحَةِ. وَبَيَانِ فَضِيلَةِ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا مَنَحَ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ. وَتَخَلَّلَتْ ذَلِكَ قَوَارِعُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَتَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَامْتِنَانٌ بِنِعَمٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ، وَذِكْرُ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 1]

قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: قَالَ الْأُصُولِيُّونَ (أَيْ عُلَمَاءُ أُصُولِ الدِّينِ) : السَّبَبُ فِي إِنْزَالِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوءَةِ وَالْمَعَادِ وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُعَطِّلِينَ وَالْمُلْحِدِينَ فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَبِحَسَبِ الْحَوَادِثِ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَهِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِأَحْوَالِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَشَدُّهَا مُقَارَعَةَ جِدَالٍ لَهُمْ وَاحْتِجَاجٍ عَلَى سَفَاهَةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: 136] ، وَفِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وَوَرَدَتْ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفَضْلِ آيَاتٍ مِنْهَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ. [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ اللَّهِ تَعَالَى الْحَمْدَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَدَلَّتْ عَلَى انْحِصَارِ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْجِنْسِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هُنَا خَبَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى إِذْ لَيْسَ هُنَا مَا يَصْرِفُ إِلَى قَصْدِ إِنْشَاءِ الْحَمْدِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَمَنْ جَوَّزَ فِي هَذِهِ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ مَعْنًى لَمْ يَجِدِ التَّأَمُّلَ.

فَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمِدُوا الْأَصْنَامَ عَلَى مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ إِسْدَائِهَا إِلَيْهِمْ نِعَمًا وَنَصْرًا وَتَفْرِيجَ كُرُبَاتٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ انْتَصَرَ هُوَ وَفَرِيقُهُ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَأَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ الْمُنْعِمِينَ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاسِطَةٌ صُورِيَّةٌ لِجَرَيَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى يَدَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ هُوَ، وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ الصُّورِيَّ بَلْهَ الْحَقِيقِيَّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَام- «لم نعْبد مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا» . وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جُمْلَةُ الْحَمْدِ عَلَى عَظِيمِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُمْلَةِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. وَالْمَوْصُولُ، فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، أَفَادَ مَعَ صِلَتِهِ التَّذْكِيرَ بِعَظِيمِ صِفَةِ الْخَلْقِ الَّذِي عَمَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ. وَذَلِكَ أَوْجَزُ لَفْظٍ فِي اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ فِي التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا إِيذَانٌ بِتَعْلِيلِ الْجُمْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ، إِذْ لَيْسَتِ الْجُمْلَةُ إِنْشَائِيَّةً كَمَا عَلِمْتَ. وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ لَا تُعَلَّلُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ حِكَايَةُ مَا فِي الْوَاقِعِ فَلَا حَاجَةَ لِتَعْلِيلِهِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَوْصَافِ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. وَجَمَعَ: السَّماواتِ لِأَنَّهَا عَوَالِمُ كَثِيرَةٌ، إِذْ كُلُّ كَوْكَبٍ مِنْهَا عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِالسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِيمَا نَرَى. وَأَفْرَدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ، وَلذَلِك لم يَجِيء لَفْظُ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ جَمْعًا. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ فَيُقَارِبُ مُرَادِفَةَ مَعْنَى (خَلَقَ) . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ (خَلَقَ) فَإِنَّ فِي الْخَلْقِ مُلَاحَظَةَ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مُلَاحَظَةَ مَعْنَى الِانْتِسَابِ، يَعْنِي كَوْنَ الْمَجْعُولِ مَخْلُوقًا لِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ مُنْتَسِبًا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُعْرَفُ الْمُنْتَسِبُ إِلَيْهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ. فَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ لَمَّا كَانَا عَرَضَيْنِ كَانَ خَلْقُهُمَا تَكْوِينًا لِتَكَيُّفِ مَوْجُودَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهِمَا. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عَقِبَ ذِكْرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَبِاخْتِيَارِ لَفْظِ الْخَلْقِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظِ الْجَعْلِ لِلظُّلُمَاتِ

وَالنُّورِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الْأَعْرَاف: 189] فَإِنَّ الزَّوْجَ وَهُوَ الْأُنْثَى مُرَاعًى فِي إِيجَادِهِ أَنْ يَكُونَ تَكْمِلَةً لِخَلْقِ الذِّكْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَاف: 189] وَالْخَلْقُ أَعَمُّ فِي الْإِطْلَاقِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: 1] لِأَنَّ كُلَّ تَكْوِينٍ لَا يَخْلُو مِنْ تَقْدِيرٍ وَنِظَامٍ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عَرَضَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَهُمَا: الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فَقَالَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي إِدْرَاكِهِمَا وَالشُّعُورِ بِهِمَا. وَبِذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ حَصَلَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسَيِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضٍ. فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ فِعْلِ (خَلَقَ) وَفِعْلِ (جَعَلَ) هُنَا مَعْدُودٌ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ. وَإِنَّ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْأُدَبَاءِ بِرَشَاقَةِ الْكَلِمَةِ فَفِعْلُ (خَلَقَ) أَلْيَقُ بِإِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَفِعْلُ (جَعَلَ) أَلْيَقُ بِإِيجَادِ أَعْرَاضِ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا وَنِظَامِهَا. وَالِاقْتِصَارُ فِي ذِكْرِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ عَقَائِدِ كُفَّارِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ مُشْرِكِينَ وَصَابِئَةٍ وَمَجُوسٍ وَنَصَارَى، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَثْبَتُوا آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ فَالْمُشْرِكُونَ أَثْبَتُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَالصَّابِئَةُ أَثْبَتُوا آلِهَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالنَّصَارَى أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى أَوْ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَهُمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْمَجُوسُ وَهُمُ الْمَانَوِيَّةُ أَلَّهُوا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، فَالنُّورُ إِلَهُ الْخَيْرِ وَالظُّلْمَةُ إِلَهُ الشَّرِّ عِنْدَهُمْ. فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَي بِمَا فيهم، وَخَالِقُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ. ثُمَّ إِنَّ فِي إِيثَارِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْرَاضِ إِيمَاءً وَتَعْرِيضًا بِحَالَيِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مِنْ كُفْرِ فَرِيقٍ وَإِيمَانِ فَرِيقٍ، فَإِنَّ الْكُفْرَ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ لِأَنَّهُ انْغِمَاسٌ فِي جَهَالَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَالْإِيمَانُ يُشْبِهُ النُّورَ لِأَنَّهُ اسْتِبَانَةُ الْهُدَى وَالْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 257] . وَقَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ مُرَاعَاةً لِلتَّرَتُّبِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ سَابِقَةٌ النُّورَ، فَإِنَّ النُّورَ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الذَّوَاتِ الْمُضِيئَةِ، وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ عَامَّةً. وَإِنَّمَا جَمَعَ الظُّلُماتِ وَأَفْرَدَ النُّورَ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّ لَفْظَ (الظُّلُمَاتِ) بِالْجَمْعِ أَخَفُّ، وَلَفْظَ (النُّورِ) بِالْإِفْرَادِ أَخَفُّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ (الظُّلُمَاتِ) فِي الْقُرْآنِ إِلَّا جَمْعًا

وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ (النُّورِ) إِلَّا مُفْرَدًا. وَهُمَا مَعًا دَالَّانِ عَلَى الْجِنْسِ، وَالتَّعْرِيفُ الْجِنْسِيُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ فَلَمْ يَبْقَ لِلِاخْتِلَافِ سَبَبٌ لِاتِّبَاعِ الِاسْتِعْمَالِ، خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. عُطِفَتْ جُمْلَةُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عَلَى جُمْلَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ. فَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى مِنْ نَوْعِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَهَمُّ فِي بَابِهِ. وَذَلِكَ شَأْنُ (ثُمَّ) إِذَا وَرَدَتْ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى أُخْرَى، فَإِنَّ عُدُولَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ أَمْرٌ غَرِيبٌ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ. وَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عَدَا الْمَانَوِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمُدَبِّرُ لِلْكَوْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] . وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ بِقَرِينَةِ مَوْقِعِ ثُمَّ وَدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ، فَالتَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمَانَوِيَّةُ فَالتَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْخَالِقِ وَعَبَدُوا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِي ذَلِكَ مَنْ جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالصَّابِئَةِ وَمَنْ خَصَّ غَيْرَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَالْمَانَوِيَّةِ. وَهَذَا الْمُرَادُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ وَإِنْ كَانَ غَالِبَ عُرْفِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يُسَوُّونَ. وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ. تَقُولُ: عَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ، إِذَا سَوَّيْتَهُ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [الْمَائِدَة: 95] ، فَقَوْلُهُ بِرَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْدِلُونَ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَعْدِلُونَ، أَيْ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ فَرِيقٍ مَاذَا عَدَلَ بِاللَّهِ. وَالْمُرَادُ يَعْدِلُونَهُ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ كَمَا كَانَ

[سورة الأنعام (6) : آية 2]

مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَكَمَا قَالَتِ الصَّابِئَةُ فِي الْأَرْوَاحِ، وَالنَّصَارَى فِي الِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدس. وَمعنى العجيب عَامٌّ فِي أَحْوَالِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِيهِمْ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُمْ وَيَخْلُقُ مَعْبُودَاتِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ بَلْ وَيَخْتَلِقُونَ إِلَهِيَّةَ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ كفرهم وضلالهم. [2] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) اسْتِئْنَافٌ لِغَرَضٍ آخَرَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَإِنَّهُ ذَكَّرَهُمُ ابْتِدَاءً بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ فِي تَسْوِيَتِهِمْ مَا لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَلَا الْأَرْضَ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِخَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ جَمَعُوا بَيْنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُهُمُ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فَكَيْفَ يَمْتَرُونَ فِي الْخَلْقِ الثَّانِي. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ (هُوَ) فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعًا، فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ الْقَصْرَ فِي رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ وَفِي مُتَعَلِّقِهَا، أَيْ هُوَ خَالِقُكُمْ لَا غَيْرُهُ، مَنْ طِينٍ لَا مَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى فَيَنْسَحِبُ حُكْمُ الْقَصْرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَقْصُورِ. وَالْحَالُ الَّذِي اقْتَضَى الْقَصْرَ هُوَ حَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوهُ وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ أَنْكَرَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ بَلِ الْإِعَادَةُ فِي مُتَعَارَفِ الصَّانِعِينَ أَيْسَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] وَقَالَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] . وَالْقَصْرُ أَفَادَ نَفْيَ جَمِيعِ هَذِهِ التَّكْوِينَاتِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: 40] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ.

وَذَكَرَ مَادَّةَ مَا مِنْهُ الْخَلْقُ بِقَوْلِهِ: مِنْ طِينٍ لِإِظْهَارِ فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُعَادَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ صَارَ تُرَابًا. وَتَكَرَّرَتْ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى تُرَابٍ يُقَرِّبُ إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ، إِذْ صَارُوا إِلَى مَادَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ هُنَا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَقَالَ فِي آيَاتِ الِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ تَكْوِينِهِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: 2] ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَدْحُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْجَدَلِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ، وَالْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ. وَمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَصْلَ النَّاسِ وَهُوَ الْبَشَرُ الْأَوَّلُ مِنْ طِينٍ، فَكَانَ كُلُّ الْبَشَرِ رَاجِعًا إِلَى الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ، فَلِذَلِكَ قَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: 2] أَيِ الْإِنْسَانَ الْمُتَنَاسِلَ مِنْ أَصْلِ الْبَشَرِ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَضى عَلَى فِعْلِ خَلَقَ فَهُوَ عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى فِعْلٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. وَالْمُهْلَةُ هُنَا بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ قَضَى لَهُ أَجَلَهُ، أَيِ اسْتَوْفَاهُ لَهُ، فَ قَضى هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى (قَدَّرَ) لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ مُقَارِنٌ لِلْخَلْقِ أَوْ سَابِقٌ لَهُ وَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَضى هُنَا بِمَعْنَى (أَوْفَى) أَجَلَ كُلِّ مَخْلُوقٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: 14] ، أَيْ أَمَتْنَاهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَنْهِيَةِ أَجَلِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ طِينٍ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَى أَجَلٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ تَنْهِيَةِ الْأَجَلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَعْثُ، أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ تَقْدِيرِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ خَفِيٌّ وَالَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ هُوَ انْتِهَاءُ أَجَلِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّ انْتِهَاءَ أَجَلِ الْحَيَاةِ مُقَدِّمَةٌ لِلْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ. وَجُمْلَةُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ قَضى أَجَلًا. وَجُمْلَةِ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ إِعْلَامُ الْخَلْقِ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ آجَالَ النَّاسِ رَدًّا عَلَى

قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ مَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] . وَقَدْ خُولِفَتْ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ الظَّرْفِ عَلَى كُلِّ مُبْتَدَأٍ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ [ص: 23] ، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ الْكَلَامُ السَّائِرُ، فَلَمْ يُقَدِّمِ الظَّرْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِإِظْهَارِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَيْثُ خُولِفَ الِاسْتِعْمَالُ الْغَالِبُ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَصَارَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ تَنْكِيرُهُ مُفِيدًا لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، أَيْ وَأَجَلٌ عَظِيمٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. وَمَعْنَى: مُسَمًّى مُعَيَّنٌ، لِأَنَّ أَصْلَ السِّمَةِ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَعَيَّنُ بِهَا الْمُعَلَّمُ. وَالتَّعْيِينُ هُنَا تَعْيِينُ الْحَدِّ وَالْوَقْتِ. وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَهُ عِنْدِيَّةُ الْعِلْمِ، أَيْ مَعْلُومٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى أَجَلُ بَعْثِ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ، فَإِنَّ إِعَادَةَ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَكِرَةٍ يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى، فَصَارَ: الْمَعْنَى ثُمَّ قَضَى لَكُمْ أَجَلَيْنِ: أَجَلًا تَعْرِفُونَ مُدَّتَهُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَأَجَلًا مُعَيَّنَ الْمُدَّةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ. فَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُهُ النَّاسُ عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، فَيَقُولُونَ: عَاشَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَائِهِ فَمَا هُوَ إِلَّا عِلْمٌ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْمُقَايَسَةِ. وَالْأَجَلُ الْمَعْلُومُ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَجَلٌ مُمْتَدٌّ. وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الثَّانِي مَا بَيْنَ مَوْتِ كُلِّ أَحَدٍ وَبَيْنَ يَوْمِ الْبَعْثِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يُونُس: 45] ، وَقَالَ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: 55] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَغَالِبِ وُقُوعِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِانْتِقَالٍ مِنْ خَبَرٍ إِلَى أَعْجَبَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] ، أَيْ فَالتَّعْجِيبُ حَقِيقٌ مِمَّنْ يَمْتَرُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَبِالْمَوْتِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ ضَمِيرًا بَارِزًا لِلتَّوْبِيخِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 3]

وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ بِوَزْنِ الِافْتِعَالِ، مُشْتَقٌّ مِنِ الْمِرْيَةِ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- اسْمٌ لِلشَّكِّ، وَلَمْ يَرِدْ فِعْلُهُ إِلَّا بِزِيَادَةِ التَّاءِ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمْتَرُونَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ تَمْتَرُونَ فِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْخَلْقِ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُمَارِي فِيهِ قَوْلُهُ: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ إِذْ لَوْلَا قَصْدُ التَّذْكِيرِ بِدَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ وَذِكْرِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ وَالْأَجْلِ الثَّانِي مُرَجِّحٌ للتخصيص بِالذكر. [3] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 3] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَام: 2] أَيْ، خَلَقَكُمْ وَلَمْ يُهْمِلْ مُرَاقَبَتَكُمْ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَحْوَالَكُمْ كُلَّهَا. فَالضَّمِيرُ مُبْتَدَأٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ إِذْ لَا يَقَعُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. وَإِذْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي خَلَقَ وَقَضَى هُوَ اللَّهُ إِذْ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مُعَادِ الضَّمَائِرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ اللَّهُ مَعْنًى يُفِيدُهُ الْمَقَامُ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ [الْأَنْعَام: 1] فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَحَمِدُوا آلِهَتَهُمْ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَكْوَانِ وَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَمُعِيدُهُ، ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ إِذْ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَرَّرَ آنِفًا، وَإِذْ هُوَ عَالِمُ السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَغَيْرُهُ لَا إِحْسَاسَ لَهُ فَضْلًا عَنِ الْعَقْلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا. وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ صَارَ قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ لَا غَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، أَوْ بِمَا

[سورة الأنعام (6) : آية 4]

فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 1] مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ جَوَّادًا ثُمَّ يَقُولُ: هُوَ حَاتِمٌ فِي الْعَرَبِ، وَهَذَا لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي صِفَاتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَهُوَ اللَّهُ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لأنّها تتنزّل منا منزلَة التوكي لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ مِمَّا يَقْتَضِي عِلْمَهُ بِأَحْوَالِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ لِأَنَّ سِرَّ النَّاسِ وَجَهْرَهُمْ وَكَسْبَهُمْ حَاصِلٌ فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً دُونَ السَّمَاوَاتِ، فَمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً خَفِيًّا. وَذَكَرَ السِّرَّ لِأَنَّ عِلْمَ السِّرِّ دَلِيلُ عُمُومِ الْعِلْمِ، وَذَكَرَ الْجَهْرَ لِاسْتِيعَابِ نَوْعَيِ الْأَقْوَالِ. وَالْمُرَادُ بِ تَكْسِبُونَ جَمِيعُ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ السَّامِعِينَ فَدَخَلَ فِيهِ الْكَافِرُونَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَإِيقَاظٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤمنِينَ. [4] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 4] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِبُطْلَانِ كُفْرِهِمْ فِي أَمْرِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ عُطِفَ لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ وَلِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دَعْوَتُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمِنْ أَجْلِهِ نَشَأَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَكَذَّبُوهُ وَسَأَلُوهُ الْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ. وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ مُرَادٌ مِنْهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ هُمْ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمِ الْتِفَاتٌ أَوْجَبَهُ تَشْهِيرُهُمْ بِهَذَا الْحَالِ الذَّمِيمِ، تَنْصِيصًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِعْرَاضًا عَنْ خِطَابِهِمْ،

وَتَمْحِيضًا لِلْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ يُحَسِّنُهُ أَنْ يكون لَهُ مُقْتَض زَائِدٌ عَلَى نَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ الْمُرَادُ مِنْهُ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ. وَتَكُونُ الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةً وَمَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا ابْتِدَائِيًّا. وَاسْتَعْمَلَ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِتْيَانُ مَاضِيًا أَيْضًا بِقَرِينَةِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا. وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهَا بُلُوغُهَا إِلَيْهِمْ وَتَحَدِّيهِمْ بِهَا، فَشَبَّهَ الْبُلُوغَ بِمَجِيءِ الْجَائِي، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَحَذَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَانِبِ الْمَأْتِيِّ مِنْهُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِقَصْدِ عُمُومِ الْآيَاتِ الَّتِي أَتَتْ وَتَأْتِي. ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ كُلُّ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي لإعجازها لم كَانَتْ دَلَائِلَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] . وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوقِ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَا يَأْتِيهِ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى مَنْ يَأْتِيهِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي مُرْسَلٌ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ وَيَنْظُرَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَعَلَّهُ يُعْرِضُ عَمَّا إِنْ تَأَمَّلَهُ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ. وَجُمْلَةُ: كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَاخْتِيرَ الْإِتْيَانُ فِي خَبَرِ كَانَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ مُتَحَقِّقٌ مِنْ دَلَالَةِ فِعْلِ الْكَوْنِ، وَمُتَجَدِّدٌ مِنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُشْتَقَّاتِ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ إِلَّا الْإِعْرَاضُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 5]

وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الْإِعْرَاضُ عَنِ اعْتِقَادِ عَدَمِ جَدْوَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْرِضَ مُكَذِّبٌ لِلْمُخْبِرِ الْمُعْرِضِ عَنْ سَمَاعِهِ. وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ صَرْفُ الْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِبَاءِ الْمَعْرِفَةِ، فَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَاتِ الْمُبْصَرَاتِ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَيَشْمَلُ تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ، وَيَشْمَلُ الْمُكَابَرَةَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِإِعْجَازِهِ وَكَوْنِهِ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَيُكَابِرُونَهُ، كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [5] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 5] فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ أَفْصَحَتْ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ، أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْإِعْرَاضُ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَلَامَةٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ آنِفًا، فَمَا بَعْدَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ هُوَ الْجَزَاءُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ سُوءَ عَوَاقِبِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الْآتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا آيَاتِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تَأْكِيدًا لِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ على الدَّين كلّ وإنذار لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ سَيَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ مِمَّنْ عَرَفُوا مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ. وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى جَعْلِ الْفَاءِ تَفْرِيعًا مَحْضًا وَجَعْلِ مَا بَعْدَهَا عِلَّةً لِجَزَاءٍ مَحْذُوفٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِعِلَّتِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ «الْكَشَّافِ» ، وَهِيَ مَضْمُونُ فَقَدْ كَذَّبُوا بِأَنْ يُقَدَّرَ: فَلَا تَعْجَبْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ أَوْهَمَهُ أَنَّ تَكْذِيبَهُمُ الْمُرَادَ هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا مَا عَدَا آيَةَ الْقُرْآنِ. وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ بِلَا مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ فَقَدْ كَذَّبُوا هُوَ الْجَزَاءُ وَأَنَّ لَهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ يَقْتَضِي

[سورة الأنعام (6) : آية 6]

أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مَا عَدَا الْقُرْآنَ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْظَمَهَا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ فَاءُ التَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِصَابَتُهُمْ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ اللَّهُ. وَحَرْفُ التَّسْوِيفِ هُنَا لِتَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاسْتَعْمَلَ الْإِتْيَانَ هُنَا فِي الْإِصَابَةِ وَالْحُصُولِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْأَنْبَاءُ جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ أَهَمِّيَّةٌ. وَأَطْلَقَ النَّبَأَ هُنَا عَلَى تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، أَيْ تَحَقُّقَ نَبَئِهِ، لِأَنَّ النَّبَأَ نَفْسَهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلُ. وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هُوَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَتِلْكَ أَنْبَاءٌ أَنْبَأَهُمْ بهَا فكذبّوه واستهزؤا بِهِ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَنْبَاءَ سَيُصِيبُهُمْ مَضْمُونُهَا. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عَلِمُوا أَنَّهَا أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. [6] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. جَاءَ بَيَانُهَا بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ الَّذِينَ أَهْلَكَتْهُمْ حَوَادِثُ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ حَالُهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ.

وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً، أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا كَثْرَةَ الْقُرُونِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَيَجُوزُ أَن تكون بصربة بِتَقْدِيرِ: أَلَمْ يَرَوْا آثَارَ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا كَدِيَارِ عَادٍ وَحِجْرِ ثَمُودَ، وَقَدْ رَآهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي رِحْلَاتِهِمْ، وَحَدَّثُوا عَنْهَا النَّاسَ حَتَّى تَوَاتَرَتْ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ وَتَحَقَّقَتْهَا نُفُوسُهُمْ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَفِعْلُ يَرَوْا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ أَوِ الْمَفْعُولِ، بِاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ كَمْ. وَ (كَمِ) اسْمٌ لِلسُّؤَالِ عَنْ عَدَدٍ مُبْهَمٍ فَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ تَفْسِيرٍ، وَهُوَ تَمْيِيزُهُ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] وَتَكُونُ خَبَرِيَّةً فَتَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ كَبِيرٍ مُبْهَمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ مُفَسِّرٍ هُوَ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ. فَأَمَّا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فَمُفَسِّرُهَا مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَمُفَسِّرُهَا مَجْرُورٌ لَا غَيْرَ، وَلَمَّا كَانَ (كَمِ) اسْمًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَانَ لَهُ مَوْقِعُ الْأَسْمَاءِ بِحَسَبِ الْعَوَامِلِ رَفْعٌ وَنَصْبٌ وَجَرٌّ، فَهِيَ هُنَا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ أَوْ مَفْعُولَيْنِ لِـ يَرَوْا. وَ (مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَرْنٍ فَزَائِدَةٌ جَارَّةٌ لِمُمَيِّزِ كَمْ الْخَبَرِيَّةِ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُمَيِّزِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ جَرَّهُ بِ (مِنْ) ، كَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْقَرْنُ أَصْلُهُ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي دَامَتْ طَوِيلًا. قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى. وَفَسَّرَ الْقَرْنَ بِالْأُمَّةِ الْبَائِدَةِ. وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الْجِيلِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَيُطْلَقُ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَنِ قَدْرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: مَكَّنَّاهُمْ صِفَةٌ لِ قَرْنٍ وَرُوعِيَ فِي الضَّمِيرِ مَعْنَى الْقَرْنِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى جَمْعٍ. وَمَعْنَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ثَبَّتْنَاهُمْ وَمَلَّكْنَاهُمْ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ. فَمَعْنَى مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَضَعَ لَهُ مَكَانًا. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: أَرْضٌ لَهُ. وَيُكَنَّى بِالتَّمْكِينِ عَنِ الْإِقْدَارِ وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَكَانِ يَتَصَرَّفُ فِي مَكَانِهِ وَبَيْتِهِ

ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّثْبِيتِ وَالتَّقْوِيَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْأَمْرِ. وَيُقَالُ: هُوَ مَكِينٌ بِمَعْنَى مُمَكَّنٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فَهُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا بِمَرْتَبَةٍ ثَانِيَةٍ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ. وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ تَقْوِيَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ الأَرْض والاستظهار بأساباب الدُّنْيَا، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَنَعَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَفِي سِعَةٍ فِي الرِّزْقِ وَفِي حُسْنِ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ الْآيَةَ. فَمَعْنَى مَكَّنَهُ: جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا وَمَعْنَى مَكَّنَ لَهُ: جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا لِأَجْلِهِ، أَيْ رَعْيًا لَهُ، مِثْلَ حَمِدَهُ وَحَمِدَ لَهُ، فَلَمْ تزِدْه اللَّام ومجروورها إِلَّا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فَعَلَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَفْعِ الْمَفْعُولِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ أَزَالَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَصَيَّرَ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَانَتِ اللَّامُ زَائِدَةً كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَا مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلَيْنِ هُنَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لِتَعَيُّنِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ مُسْتَوِيًا، لِيَظْهَرَ وَجْهُ فَوْتِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي التَّمْكِينِ عَلَى تَمْكِينِ الْمُخَاطَبِينَ، إِذِ التَّفَاوُتُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ كَوْنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَقْوَى تَمَكُّنًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُقْتَرِنُ بِلَامِ الْأَجَلِ فِي جَانِبِهِمْ لَا فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَقَدْ عُكِسَ هُنَا. وَبِهَذَا الْبَيَانِ نَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ الرَّاغِبِ بِاسْتِوَاءِ فِعْلِ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ بِأَنَّ: مَكَّنَ لَهُ بِمَعْنَى جَعَلَ لَهُ مَكَانًا، وَمَكَّنَهُ بِمَعْنَى أَثْبَتَهُ. وَكَلَامُ الرَّاغِبِ أَمْكَنُ عَرَبِيَّةً. وَقَدْ أَهْمَلَتِ التَّنْبِيهَ عَلَى هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ كُتُبُ اللُّغَةِ. وَاسْتِعْمَالُ التَّمْكِينِ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ وَالتَّقْوِيَةِ كِنَايَة أَو مجَاز مُرْسل لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّقْوِيَةَ. وَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ كَالصَّرِيحِ أَوْ كَالْحَقِيقَةِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، فَتَنْتَصِبُ (مَا) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِ. وَالْمَقْصُودُ مَكَّنَّاهُمْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، أَيْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَمْكِينِكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ الْتِفَاتٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمُ الْمُمَكَّنُونَ فِي الْأَرْضِ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ تَمْكِينٌ. وَالِالْتِفَاتُ هُنَا عَكْسُ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنَ

الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ آثَارَ حَضَارَةٍ وَسَطْوَةٍ. وَحَسْبُكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ لِلْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ بِأَنَّهَا عَادِيَّةٌ أَوْ ثَمُودِيَّةٌ أَوْ سَبَئِيَّةٌ قَالَ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أَيْ عَمَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَرْضَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا أَهْلُ الْعَصْرِ. وَالسَّمَاءُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ، أَيْ عَقِبَ مَطَرٍ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: أَرْسَلْنَا بِخِلَافِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً. وَالْمِدْرَارُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلَ مِنْحَارٍ لِكَثِيرِ النَّحْرِ لِلْأَضْيَافِ، وَمِذْكَارٍ لِمَنْ يُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ، مِنْ دَرَّتِ النَّاقَةُ وَدَرَّ الضَّرْعُ إِذَا سَمَحَ ضَرْعُهَا بِاللَّبَنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ اللَّبَنُ الدَّرَّ. وَوَصْفُ الْمَطَرِ بِالْمِدْرَارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا الْمِدْرَارُ سَحَابَةٌ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَالْمُرَادُ إِرْسَالُ الْمَطَرِ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ لَا يُخَلِّفُهُمْ فِي مَوَاسِمِ نُزُولِهِ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ بِكَثْرَةِ انْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنْ سِعَةِ رِيِّ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ حَالَةُ مُعْظَمِ بِلَادِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْخِصْبِ وَالسِّعَةِ، كَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصَانِعِهِمْ وَسُدُودِهِمْ وَنَسَلَانُ الْأُمَمِ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ بِحَوَادِثَ سَمَاوِيَّةٍ كَالْجَدْبِ الَّذِي حَلَّ سِنِينَ بِبِلَادِ عَادٍ، أَوْ أَرْضِيَّةٍ، فَصَارَ مُعْظَمُهَا قَاحِلًا فَهَلَكَتْ أُمَمُهَا وَتَفَرَّقُوا أَيَادِيَ سَبَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْأَنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْناهُمْ لِلتَّعْقِيبِ عَطْفٌ عَلَى مَكَّنَّاهُمْ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَمَّا تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَأَهْلَكْناهُمْ قَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَعْقِيبَ التَّمْكِينِ وَمَا مَعَهُ بِالْإِهْلَاكِ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَذْنَبُوا. فَالتَّقْدِيرُ: فَأَذْنَبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أَوْ فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَفِيهِ إِيجَازُ حَذْفٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ الْآيَةَ، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ لِلتَّفْصِيلِ تَفْصِيلًا لِ أَهْلَكْنا الْأَوَّلِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

[سورة الأنعام (6) : آية 7]

[] . وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ، وَهُوَ عِقَابٌ لِلْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ فَنَاءَ الْأُمَمِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا تَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهَا مِنْ سُوءِ فِعْلِهَا، بِخِلَافِ فَنَاءِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّهُ نِهَايَةٌ مُحَتَّمَةٌ وَلَوِ اسْتَقَامَ الْمَرْءُ طُولَ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْحَيَوَانِ مُقْتَضٍ لِلِانْتِهَاءِ بِالْفَنَاءِ عِنْدَ عَجْزِ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ عَنْ إِمْدَادِ الْبَدَنِ بِمَوَادِّ الْحَيَاةِ فَلَا يَكُونُ عِقَابًا إِلَّا فِيمَا يَحُفُّ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْخِزْيِ لِلْهَالِكِ. وَالذُّنُوبُ هُنَا هِيَ الْكُفْرُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْظِيرُ بِحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ هُنَا: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ: الْإِنْشَاءُ الْإِيجَادُ الْمُبْتَكَرُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. وَالْمُرَادُ بِهِ إِنْشَاؤُهُمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَ الْقَرْنُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَالْإِسْعَافِ بِالْخِصْبِ، فَخَلَّفُوا الْقَرْنَ الْمُنْقَرِضِينَ سَوَاءٌ كَانَ إِنْشَاؤُهُمْ فِي دِيَارِ الْقَوْمِ الَّذِينَ هَلَكُوا، كَمَا أَنْشَأَ قُرَيْشًا فِي دِيَارِ جُرْهُمٍ، أَمْ فِي دِيَارٍ أُخْرَى كَمَا أَنْشَأَ اللَّهُ ثَمُودًا بَعْدَ عَادٍ فِي مَنَازِلَ أُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الله مهلكهم ومنشىء مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ. فَفِيهِ نِذَارَةٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَسَائِرِ بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْشَاءِ الْوِلَادَةُ وَالْخَلْقُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الْبَشَرِ لَا يَنْتَهِي، وَلَيْسَ فِيهِ عِظَةٌ وَلَا تهديد للجبايرة الْمُشْرِكِينَ. وَأَفْرَدَ قَرْناً مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ النَّاصِبَ لَهُ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْ بَعْدِ جَمْعِ الْقُرُونِ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِ كُلِّ قَرْنٍ مِنَ الْمُهْلِكِينَ قرنا آخَرين. [7] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 7] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَخْ، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلًا تَعَلَّقَتْ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ

فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ ذَكَرَ هُنَا فَرْضَ آيَةٍ تَكُونُ أَوْضَحَ الْآيَاتِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ عَلَى صُورَةِ الْكُتُبِ الْمُتَعَارَفَةِ، فَرَأَوْهُ بِأَبْصَارِهِمْ وَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَمَا آمَنُوا وَلَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ سِحْرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كَذَّبُوا فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أَيْ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَوْنَهُ آيَةً على صدق الرول، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَنَزَلَ فِي صُورَةِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وَقَالُوا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ فَكَانَ قَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ مُشْتَمِلًا بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فَصَحَّ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَيْضًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالْكِتَابُ الشَّيْءُ الْمَكْتُوبُ سَوَاءً كَانَ سِفْرًا أَمْ رِسَالَةً، وَعَلَى الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِكِتَابٍ سِفْرٌ أَيْ مِثْلَ التَّوْرَاةِ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ كُلَّ يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ، فَانْتِقَالُ الْخِطَابِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَدِيثِ عَنْ ذَوِي ضَمَائِرَ أُخْرَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُنَاسَبَةٍ فِي الِانْتِقَالِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كِتَابًا فِيهِ تَصْدِيقُهُ بَلْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فِي قِرْطاسٍ صفة لكتاب، وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مِنْ ظَرْفِيَّةِ اسْمِ الشَّيْءِ فِي اسْمِ جُزْئِهِ. وَالْقِرْطَاسُ- بِكَسْرِ الْقَافِ- عَلَى الْفَصِيحِ، وَنُقِلَ- ضَمُّ الْقَافِ- وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَهُوَ اسْمٌ لِلصَّحِيفَةِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا وَيَكُونُ مِنْ رِقٍّ وَمِنْ بَرْدِيٍّ وَمِنْ كَاغِدٍ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا كَانَ من كاغذ بَلْ يُسَمَّى قِرْطَاسًا مَا كَانَ مِنْ رِقٍّ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ قِرْطَاسٌ إِلَّا لِمَا كَانَ مَكْتُوبًا وَإِلَّا سُمِّيَ طِرْسًا، وَلَمْ يَصِحَّ. وَسَمَّى الْعَرَبُ الْأَدِيمَ الَّذِي يُجْعَلُ غَرَضًا لِمُتَعَلِّمِ الرَّمْيِ قِرْطَاسًا فَقَالُوا: سَدَّدَ الْقِرْطَاسَ، أَيْ سَدَّدَ رَمْيَهُ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: الْقِرْطَاسُ تَكَلَّمُوا بِهِ قَدِيمًا وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الرَّاغِبُ وَلَا لِسَانُ الْعَرَبِ وَلَا الْقَامُوسُ، وَأَثْبَتَهُ الْخَفَاجِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ. وَقَالَ: هُوَ الْفَرَسُ الْأَبْيَضُ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: أَصْلُهُ كُرَّاسَةٌ. وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنْ أَيِّ لُغَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَرَّبًا فَلَعَلَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْمُ الْوَرَقَةِ فِي لُغَةِ بَعْضِهِمُ الْيَوْمَ (كَارْتَا) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 8 إلى 9]

وَقَوْلُهُ: فَلَمَسُوهُ عَطْفٌ عَلَى نَزَّلْنا. وَاللَّمْسُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ لِمَعْرِفَةِ وُجُودِهِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ وَصْفِ ظَاهِرِهِ مِنْ لِينٍ أَوْ خُشُونَةٍ، وَمِنْ بُرُودَةٍ أَوْ حَرَارَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّمْسِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي التَّأَمُّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَلِلْإِفْصَاحِ عَنْ مُنْتَهَى مَا اعْتِيدَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَوَقَاحَتِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلِلتَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لِأَنَّ الْمَظَاهِرَ السِّحْرِيَّةَ تَخَيُّلَاتٌ لَا تُلْمَسُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَقَالُوا، كَمَا قَالَ: فَلَمَسُوهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَسْجِيلِ أَنَّ دَافِعَهُمْ إِلَى هَذَا التَّعَنُّتِ هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ بِالتَّعْلِيلِ. وَمَعْنَى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَنَّهُمْ يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ قَوْمَهُمْ لِسَتْرِ مُكَابَرَتِهِمْ وَلِدَفْعِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْلُوبِ الْمَحْجُوجِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ. وَالْمُبِينُ: الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، مُشْتَقٌّ مِنْ (أَبَانَ) مُرَادِفُ (بَانَ) . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [] . [8، 9] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 8 إِلَى 9] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَمَا قَبْلَهُ بَيَانٌ لِعَدَمِ جَدْوَى مُحَاوَلَةِ مَا يُقْلِعُ عِنَادَهُمْ، فَذَلِكَ فَرْضٌ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ عَلَيْهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ تَصْدِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا حِكَايَةٌ لِاقْتِرَاحٍ مِنْهُمْ آيَةً يُصَدِّقُونَهُ بِهَا. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاقِعٌ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ هَذَا زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَعَبْدَةَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ وَأُبَيَّ

ابْن خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَمَنْ مَعَهُمْ، أَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ. فَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أَيْ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نُشَاهِدُهُ وَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُهُ الْمُعَانِدُ. أَمَّا نُزُولُ الْمَلَكِ الَّذِي لَا يَرَوْنَهُ فَهُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ، وَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [] . وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَائِلُونَ بِقَوْلِهِ: وَمُوَافِقُونَ عَلَيْهِ. ولَوْلا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَالتَّحْضِيضُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ وَكَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ خَبَرٍ أَوْ قِصَّةٍ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِلَّا يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» . يُرِيد من مائر الْغَيْبَةِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى الدَّجَّالَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ. وَمِثْلُ الضَّمِيرِ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ اسْمٌ يُشَارُ إِلَيْهِ. كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ عِنْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَاسْتَعْلِمْ لَنَا عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ» . وَفِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ «فَيُقَالُ لَهُ (أَيْ لِلْمَقْبُورِ) : مَا عَلَّمَكَ بِهَذَا الرَّجُلِ» يَعْنِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ قَوْلُهُمْ لِلَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيءِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ ملكا. وَقد افهوه بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَإِنَّ (لَوْمَا) أُخْتُ (لَوْلَا) فِي إِفَادَةِ التَّحْضِيضِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ مَعْنَاهُ: لَوْ أَنْزَلَنَا مَلَكًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا يُكَلِّمُهُمْ لَقُضِيَ الْأَمْرُ، أَيْ أَمْرُهُمْ فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، أَيْ لَقُضِيَ أَمْرُ عَذَابِهِمُ الَّذِي يَتَهَدَّدُهُمْ بِهِ.

وَمَعْنَى: لَقُضِيَ تُمِّمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ غَيْرُ الَّذِينَ سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِلْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ مِثْلَ الْحَفَظَةِ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَالْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَحْيِ إِلَّا مَلَائِكَةٌ تَنْزِلُ لِتَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالنَّصْرِ عَلَى مَنْ يُكَذِّبُهُمْ، مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي نَزَلَتْ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ. وَلَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ إِلَّا لِإِنْزَالِ الْعَذَابِ بِهِمْ، كَمَا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْمِ لُوطٍ. فَمُشْرِكُو مَكَّةَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيءَ أَنْ يُرِيَهُمْ مَلَكًا مَعَهُ ظَنُّوا مُقْتَرَحَهُمْ تَعْجِيزًا، فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا أَمْرًا لَوْ أُجِيبُوا إِلَيْهِ لَكَانَ سَبَبًا فِي مُنَاجَزَةِ هَلَاكِهِمُ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ إِلَيْهِ فِيهِ رَحْمَةً مِنْهُ. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الصَّلَابَةِ وَالْغَضَبِ لِلْحَقِّ بِدُونِ هَوَادَةٍ، وَجَعَلَ الْفِطْرَةَ الْمَلَكِيَّةَ سَرِيعَةً لِتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ عَلَى وَفْقِ الْعَمَلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، فَلِذَلِكَ حَجَزَهُمُ اللَّهُ عَنِ الِاتِّصَالِ بِغَيْرِ الْعِبَادِ المكرّمين الَّذين شابهن نُفُوسُهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ النُّفُوسَ الْمَلَكِيَّةَ، وَلِذَلِكَ حَجَبَهُمُ اللَّهُ عَنِ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وَكَمَا قَالَ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مَلَائِكَةً فِي الْوَسَطِ الْبَشَرِيِّ لَمَا أَمْهَلُوا أَهْلَ الضلال وَالْفساد وَلنَا جزوهم جَزَاءَ الْعَذَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِقَوْمِ لُوطٍ لَمَّا لَقُوا لُوطًا قَالُوا: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَمَّا جَادَلَهُمْ إِبْرَاهِيمُ فِي قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَ أَنْ بَشَّرُوهُ وَاسْتَأْنَسَ بِهِمْ قَالُوا يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَة فَلَيْسَ للْمَلَائكَة تُصْرَفُ فِي غَيْرِ مَا وُجِّهُوا إِلَيْهِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا اقْتَرَحُوهُ لَوْ وَقع لَكَانَ سيء الْمَغَبَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ رَحْمَةً بِهِمْ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُظْهِرَ آيَاتِهِ عَنِ اقْتِرَاحِ الضَّالِّينَ، إِذْ لَيْسَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَدِ التَّصَدِّي لِرَغَبَاتِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يَتَصَدَّى الصَّانِعُ أَوِ التَّاجِرُ، وَلَوْ أُجِيبَتْ رَغَبَاتُ بَعْضِ الْمُقْتَرِحِينَ لَرَامَ كُلُّ مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ آيَةٌ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِ فَيَصِيرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضَيِّعًا مُدَّةَ الْإِرْشَادِ وَتَلْتَفُّ عَلَيْهِ النَّاسُ الْتِفَافَهُمْ عَلَى الْمُشَعْوِذِينَ، وَذَلِكَ يُنَافِي حُرْمَةَ

النُّبُوءَةِ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ تَأْتِي عَنْ مَحْضِ اخْتِيَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَسْأَلَةٍ. وَإِنَّمَا أَجَابَ اللَّهُ اقْتِرَاحَ الْحَوَارِيِّينَ إِنْزَالَ الْمَائِدَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، وَمَا أَرَادُوا إِلَّا خَيْرًا. وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ إِجَابَتَهُمْ لِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَسْتَتْبِعُ نَفْعًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُوَفَّقِينَ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من فسّر لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِمَعْنَى هَلَاكِهِمْ مِنْ هَوْلِ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ. وَلَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ مَلَكِيَّتِهِ عِنْدَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ صُورَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَرَوْهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا حَتَّى يُصَاحِبَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ فَهُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ، فِيهِ ارْتِقَاءٌ فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَرَحَهُمْ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ مَلَكٌ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا كَمَا قَالُوهُ وَحُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ صَارَ مَجِيءُ رَسُولٍ بَشَرِيٍّ إِلَيْهِمْ غَيْرَ مُجْدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمَلَكِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ، عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذَا اللَّازِمِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَجَاءَ هَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي صَالِحًا لَرَدَّ الِاقْتِرَاحَيْنِ، وَلَكِنَّهُ رُوعِيَ فِي تَرْكِيبِ أَلْفَاظِهِ مَا يُنَاسب الْمَعْنى الثَّانِي لِكَلَامِهِمْ فَجِيءَ بِفعل جعلنَا المقتي تَصْيِيرَ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ تَعْوِيضَهُ بِهِ. فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ وَلَوِ اكْتَفَيْنَا عَنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ وَجَعَلْنَا الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا لَتَعَيَّنَ أَنْ نُصَوِّرَ ذَلِكَ الْمَلَكَ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ تَشَكُّلِهِ بِشَكْلٍ لِتَمَكُّنِ إِحَاطَةِ أَبْصَارِهِمْ بِهِ وَتَحَيُّزِهِ فَإِذَا تَشَكَّلَ فَإِنَّمَا يَتَشَكَّلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُطِيقُوا رُؤْيَتَهُ وَخِطَابَهُ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الأنعام (6) : آية 10]

فَجُمْلَةُ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ مِنْ تَمَامِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ جَدْوَى إِرْسَالِ الْمَلَكِ. وَاللَّبْسُ: خَلْطٌ يَعْرِضُ فِي الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] . وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْمُرَادَ لَبْسٌ فِيهِ غَلَبَةٌ لِعُقُولِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَلَلَبَسْنَا عَلَى عُقُولِهِمْ، فَشَكُّوا فِي كَوْنِهِ مَلَكًا فَكَذَّبُوهُ، إِذْ كَانَ دَأْبُ عُقُولِهِمْ تَطَلُّبَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ اسْتِدْلَالًا بِهَا عَلَى الصِّدْقِ، وَتَرْكَ إِعْمَالِ النَّظَرِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُ الصَّادِقِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَلْبِسُونَ مَصْدَرِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ لَبْسَهُمُ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ حِينَ قَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ مِثْلَ لَبْسِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي عَرَضَ لَهُمْ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّ كِلَا اللَّبْسَيْنِ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ. فَالتَّقْدِيرُ: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ الْمَلَكِ فَيَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِهِ كَمَا لَبَسْنَا عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَمْلِ اقْتِرَاحِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ مِنْ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِدْلَالَ، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا عَنْ كَلَامِهِمْ إِرْخَاءً لِلْعِنَانِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِكَلَامِهِمْ إِلَّا التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَة. [10] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 10] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ لِبَيَانِ تَفَنُّنِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ تَصَلُّبًا فِي شِرْكِهِمْ وَإِصْرَارًا عَلَيْهِ، فَلَا يَتْرُكُونَ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ التَّنْفِيرِ مِنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا تَوَسَّلُوا بِهَا. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ

أَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَاصِدِينَ التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ مَعًا، لِأَنَّهُمْ مَا قَالُوهُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يكون، فابتدئ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. ثُمَّ ثَنَّى بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَحِيقُ بِهِمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ اسْتَهْزَأَتْ بِرَسُولٍ لَهُ. فَقَوْلُهُ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَطْوِيَّةٍ إيجازا، تقديرها: واستهزأوا بِكَ وَلَقَدِ اسْتَهْزَأَ أُمَمٌ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ من قَبْلِكَ، لأنّ قَوْله مِنْ قَبْلِكَ يُؤْذِنُ بأنّه قد استهزىء بِهِ هُوَ أَيْضًا وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي وَصْفِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ. وَحَذَفَ فَاعِلَ الِاسْتِهْزَاءِ فَبَنَى الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ تُرَتُّبُ أَثَرِ الِاسْتِهْزَاءِ لَا تَعْيِينُ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، وَقد لِلتَّحْقِيقِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُهُ بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا إِلَخْ، لِأَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ حَالُ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالرُّسُلِ، إِذْ لَوْلَا تَرَدُّدُهُمْ فِي ذَلِكَ لَأَخَذُوا الْحَيْطَةَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي جَاءَهُمْ فَنَظَرُوا فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ وَمَا أَعْرَضُوا، لِيَسْتَبْرِئُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَذَابٍ مُتَوَقَّعٍ، أَوْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ. وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ لَهُ أَفَانِينُ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. وَمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسُّخْرِيَةِ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَذَكَرَ اسْتُهْزِئَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَلَمَّا أُعِيد عبّر ب سَخِرُوا، وَلَمَّا أُعِيدَ ثَالِثَ مَرَّةٍ رَجَعَ إِلَى فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ (يَسْخَرُونَ) . وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ. وسَخِرُوا بِمَعْنى هزأوا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِ مِنْ، قِيلَ: لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِهَا. وَقِيلَ: يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَعْدِيَةِ هَزَأَ وَاسْتَهْزَأَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (مِنْ) وَالْبَاءِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ فِي (هَزَأَ) أَنْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَفِي سَخِرَ أَن يتعدّى بِمن. وَأَصْلُ مَادَّةِ سَخِرَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْفَاعِلَ اتَّخَذَ الْمَفْعُولَ مُسَخَّرًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ بِدُونِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ قُرْبِ مَادَّةِ سَخِرَ الْمُخَفَّفِ مِنْ مَادَّةِ التَّسْخِيرِ، أَيِ التَّطْوِيعِ فَكَأَنَّهُ حَوَّلَهُ عَنْ حَقِّ الْحُرْمَةِ الذَّاتِيَّةِ فَاتَّخَذَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ سُخْرِيَةً.

[سورة الأنعام (6) : آية 11]

وَفِعْلُ فَحاقَ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بِمَعْنَى أَحَاطَ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى عَادَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُهُ حَقَّ، أَيْ بِمَعْنَى وَجَبَ، فَأَبْدَلَ أَحَدَ حَرْفَيِ التَّضْعِيفِ حَرْفَ عِلَّةٍ تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا تَظَنَّى فِي تَظَنَّنَ، أَيْ وَكَمَا قَالُوا: تَقَضَّى الْبَازِي، بِمَعْنَى تَقَضَّضَ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ. وَاخْتِيرَ فِعْلُ الْإِحَاطَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَعَدَمِ إِفْلَاتِهِ أَحَدًا مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: بِالَّذِينَ سَخِرُوا وَلَمْ يَقُلْ بِالسَّاخِرِينَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَحاقَ. ومِنْهُمْ يَتَعَلَّقُ بِ سَخِرُوا، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى الرُّسُلِ، لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ كَوْنِ الْعِقَابِ لِأَجْلِهِمْ تَرْفِيعًا لِشَأْنِهِمْ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مَوْصُولَةٌ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَوُجُودُ الْبَاءِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِ مَا غَيْرَ مَوْصُولَةٍ. وَهُوَ مَا أَطَالَ التَّرَدُّدَ فِيهِ الْكَاتِبُونَ. وَالْمُرَادُ بِ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مَا أَنْذَرَهُمُ الرُّسُلُ بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِالرُّسُلِ وَخَاصَّةً بِمَا يُنْذِرُونَهُمْ بِهِ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءُوا بِهِ. فَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ جَعَلَ مَا أُنْذِرُوا بِهِ كَالشَّخْصِ الْمَهْزُوءِ بِهِ إِذَا جَعَلْنَا الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَوِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ بِسَبَبِ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إِذَا جُعِلَتِ الْبَاء للسَّبَبِيَّة. [11] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 11] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) هَذِهِ الْجُمْلَةُ وِزَانَهَا وِزَانُ الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا تُخْبِرُ بأنّ الَّذين استهزأوا بِالرُّسُلِ قَدْ حَاقَ بِهِمْ عَوَاقِبُ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَهَذِهِ تَحْدُوهُمْ إِلَى مُشَاهَدَةِ دِيَارِ أُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَلَيْسَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِخِطَابِ

[سورة الأنعام (6) : آية 12]

النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِيًا لِكَوْنِهَا بَيَانًا لِأَنَّهُ خُوطِبَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْبَيَانَ. فَالْمَقْصُودُ مَا بَعْدَ الْقَوْلِ. وَافْتِتَاحُهَا بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ مَوْرِدَ الْمُحَاوِرَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 1] . وَهَذِهِ سِلْسِلَةُ رُدُودٍ وَأَجْوِبَةٍ عَلَى مَقَالَتِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ آنِفًا لِتَضَمُّنِهَا التَّصْمِيمَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرِّسَالَةِ، فَكَانَتْ مُنْحَلَّةً إِلَى شُبَهٍ كَثِيرَةٍ أُرِيدَ رَدُّهَا وَتَفْنِيدُهَا فَكَانَتْ هَاتِهِ الرُّدُودُ كُلُّهَا مُفْتَتَحَةً بِكَلِمَةِ قُلْ عَشْرَ مَرَّاتٍ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنَ السَّيْرِ، فَهُوَ مِمَّا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالسَّيْرِ، وَلِأَنَّ هَذَا النَّظَرَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَأَمُّلٍ وَتَرَسُّمٍ فَهُوَ أَهَمُّ مِنَ السَّيْرِ. وَالنَّظَرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَصَرِيًّا وَأَنْ يَكُونَ قَلْبِيًّا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ عَلَّقَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ نَصْبِ مَفْعُولِهِ أَوْ مَفْعُولَيْهِ. وكَيْفَ خَبَرٌ لِ كانَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا وُجُوبًا. وَالْعَاقِبَةُ آخِرُ الشَّيْءِ وَمَآلُهُ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ مُسَبَّبَاتِهِ. وَيُقَالُ: عَاقِبَةٌ وَعُقْبَى، وَهِيَ اسْمٌ كَالْعَافِيَةِ وَالْخَاتِمَةِ. وإنّما وصفوا ب الْمُكَذِّبِينَ دُونَ الْمُسْتَهْزِئِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ كَانَا خُلُقَيْنِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَذَيْنِ الْخُلُقَيْنِ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ، إِذْ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَام: 10] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وَهَذَا رَدٌّ جَامِعٌ لِدَحْضِ ضَلَالَاتِهِمُ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ ضَلَالَاتِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السالفة المكذّبين. [12] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 12] قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

(12) جُمْلَةُ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَكْرِيرٌ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ تَضَمَّنَ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا، والتقرير من مقتضيان التَّكْرِيرِ، لِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَصْدِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَهُ مَقْصُودًا بِهِ الِاهْتِمَامُ بِمَا بَعْدَ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [40] . وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّقْرِيرِ. وَالتَّقْرِيرُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ تَبْكِيتُ الْمُشْرِكِينَ وَإِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْإِقْرَار بِمَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمُ الشِّرْكَ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ مَعَ مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ. وَلِكَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ الْإِلْجَاءُ إِلَى الْإِقْرَارِ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا يُرِيدُهُ السَّائِلُ مِنْ إِقْرَارِ الْمَسْئُولِ مُحَقَّقًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْجَحْدِ فِيهِ أَوِ الْمُغَالَطَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَظِرِ السَّائِلُ جَوَابَهُمْ وَبَادَرَهُمُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ تَبْكِيتًا لَهُمْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ إِبْلَاغِ الْحُجَّةِ مُقَدَّرَةً فِيهِ مُحَاوَرَةٌ وَلَيْسَ هُوَ مُحَاوَرَةً حَقِيقِيَّةً. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الصَّادِرِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُقَدَّرُ إِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْجَوَابِ سَوَاءً أَنْصَفُوا فَأَقَرُّوا حَقِّيَّةَ الْجَوَابِ أَمْ أَنْكَرُوا وَكَابَرُوا فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ دَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي الْقُرْآنِ، فَتَارَةً لَا يُذْكَرُ جَوَابٌ مِنْهُمْ كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرَّعْد: 16] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى - إِلَى قَوْلِهِ- قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 91] ، وَتَارَةً يَذْكُرُ مَا سَيُجِيبُونَ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْبِيخٍ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 84- 89] . وَابْتُدِئَ بِإِبْطَالِ أَعْظَمِ ضَلَالِهِمْ. وَهُوَ ضَلَالُ الْإِشْرَاكِ. وَأُدْمِجَ مَعَهُ ضَلَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ الْمُبْتَدَأَ بِهِ السُّورَةُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِنْذَارِ النَّاشِئِ عَنْ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ دَلِيلُ الْوَحْدَانِيَّةِ السَّالِفُ دَالًّا عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَحْوَالِهَا بِالصَّرَاحَةِ، وَعَلَى عُبُودِيَّةِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَشْمَلُهَا بِالِالْتِزَامِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الْعُبُودِيَّةَ بِالصَّرَاحَةِ فَقَالَ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ.

وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي السَّماواتِ. إِلَخْ. وَيُقَدَّرُ الْمُبْتَدَأُ مُؤَخَّرًا عَنِ الْخَبَرِ عَلَى وِزَانِ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِفَادَةُ الْحَصْرِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لِلْمِلْكِ دَلَّتْ عَلَى عُبُودِيَّةِ النَّاسِ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْعَبْدَ صَائِرٌ إِلَى مَالِكِهِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِدَلِيلِ الْبَعْثِ السَّابِقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ بِحَقِّ الْخَلْقِ. وَلَا سَبَبَ لِلْعُبُودِيَّةِ أَحَقُّ وَأَعْظَمُ مِنَ الْخَالِقِيَّةِ، وَيَسْتَتْبِعُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْإِنْذَارُ بِغَضَبِهِ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيْسَ أَهْلًا لِلْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِذْ مُلْكُ ذَلِكَ لِخَالِقِ ذَلِكَ. وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لِأَنَّ مَالِكَ الْأَشْيَاءِ لَا يُهْمِلُ مُحَاسَبَتَهَا. وَجُمْلَةُ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَقُولِ الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَفِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا بَعْدَهُ لَمَّا كَانَ مُشْعِرًا بِإِنْذَارٍ بِوَعِيدٍ قَدَّمَ لَهُ التَّذْكِيرَ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعَبِيدِهِ عَسَاهُمْ يَتُوبُونَ وَيُقْلِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْأَنْعَام: 54] ، وَالشِّرْكُ بِاللَّه أعظم سوء وَأَشَدُّ تَلَبُّسًا بِجَهَالَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ أَخْذِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ بِمَنْ هُمْ مِلْكُهُ. فَالْكَافِرُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مَا تَقُولُونَ صِدْقًا لَعَجَّلَ لَنَا الْعَذَاب، وَالْمُؤمن يستبطىء تَأْخِيرَ عِقَابِهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جَوَابًا لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِأَنَّهُ تَفَضُّلٌ بِالرَّحْمَةِ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ كَامِلَةٌ: وَهَذِهِ رَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمِنْهَا رَحْمَةٌ مُوَقَّتَةٌ وَهِيَ رَحْمَةُ الْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لِلْعُصَاةِ وَالضَّالِّينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ مِنَ التَّمْهِيدِ لِمَا فِي جُمْلَةِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ. ذُكِرَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعْرِيضًا بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ.

الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى أُمَّةَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ رُسُلَهَا مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] ، وَإِذْ أَرَادَ تَكْثِيرَ تَابِعِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْضِ عَلَى مُكَذِّبِيهِ قَضَاءً عَاجِلًا بَلْ أَمْهَلَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ لِيَخْرُجَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، كَمَا رَجَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] . وَقَدْ حَصَلَ مَا رَجَاهُ رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ يَلْبَثْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَأَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ دِينَهُ وَرَسُولَهُ وَنَشَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فِي آفَاقِ الْأَرْضِ. وَإِذْ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الدِّينُ خَاتِمَةَ الْأَدْيَانِ كَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ إِمْهَالُ الْمُعَانِدِينَ لَهُ وَالْجَاحِدِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَوِ اسْتَأْصَلَهُمْ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الدِّينِ لَأَتَى عَلَى مَنْ حَوَتْهُ مَكَّةُ مِنْ مُشْرِكٍ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ، قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ لَارْتَفَعَ بِذَلِكَ هَذَا الدِّينُ فَلَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنْ جَعْلِهِ خَاتِمَةَ الْأَدْيَانِ. وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فَقَالَ: أَعُوذُ بِسُبُحَاتِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ. وَمَعْنَى كَتَبَ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ، بِأَنْ جَعَلَ رَحْمَتَهُ الْمَوْصُوفَ بِهَا بِالذَّاتِ مُتَعَلِّقَةً تَعَلُّقًا عَامًّا مُطَّرِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزْمَانِ وَالْجِهَاتِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُطَّرِدًا شُبِّهَتْ إِرَادَتُهُ بِالْإِلْزَامِ، فَاسْتُعِيرَ لَهَا فِعْلُ (كَتَبَ) الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَقَامُ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ إِلَّا اخْتِيَارًا وَإِلَّا فَإِنَّ غَيْرَهُ يَلْزَمُهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَخَلَّفُ كَالْأَمْرِ الْوَاجِبِ الْمَكْتُوبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَأْكِيدَ وَعْدٍ أَوْ عَهْدٍ كَتَبُوهُ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا قُدِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُِ

فَالرَّحْمَةُ هُنَا مَصْدَرٌ، أَيْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَرْحَمَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصِّفَةَ، أَيْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الِاتِّصَافَ بِالرَّحْمَةِ، أَيْ بِكَوْنِهِ رَحِيمًا، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ لَهُ، وَالْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ، إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا كَتَبَ مُسْتَعْمَلًا فِي تَمَجُّزٍ آخَرَ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ بِالْأَمْرِ الْمُحَتَّمِ الْمَفْرُوضِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الِامْتِنَانِ، وَفِي الْمَقْصُودِ مِنْ شُمُولِ الرَّحْمَةِ لِلْعَبِيدِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ حَقِّ شُكْرِهِ وَالْمُشْرِكِينَ لَهُ فِي مُلْكِهِ غَيْرَهُ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . وَجُمْلَةُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْمُسَبَّبِ مِنَ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُبْطِلَتْ أَهْلِيَّةُ أَصْنَامِهِمْ لِلْإِلَهِيَّةِ وَمُحِّضَتْ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بَطَلَتْ إِحَالَتُهُمُ الْبَعْثَ بِشُبْهَةِ تَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ أَوِ انْعِدَامِهَا. وَلَامُ الْقَسَمِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ أَفَادَا تَحْقِيقَ الْوَعِيدِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ اسْتِقْصَاءُ مُتَفَرَّقِ جَمِيعِ النَّاس أفرادا وأجزاءا مُتَفَرِّقَةً. وَتَعْدِيَتُهُ بِ إِلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى السُّوقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [87] . وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمَحْجُوجِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَكُونُ نِذَارَةً لَهُمْ وَتَهْدِيدًا وَجَوَابًا عَنْ أَقَلِّ مَا يُحْتَمَلُ مِنْ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَجُمْلَةُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَأَنَّ الْفَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِلتَّفْرِيعِ وَالسَّبَبِيَّةِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: فَأَنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ لِأَنَّكُمْ خَسِرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِإِفَادَةِ الصِّلَةِ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.

[سورة الأنعام (6) : آية 13]

وَجَعَلَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَنَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَدْعَى لِإِسْمَاعِهِمْ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يُسْتَغْنَى عَنْ سُؤَالِ «الْكَشَّافِ» عَنْ صِحَّةِ تَرَتُّبِ عَدَمِ الْإِيمَانِ عَلَى خُسْرَانِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَقَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاء: 15] . وأشرب الْمَوْصُول مَعْنَى الشَّرْطِ لِيُفِيدَ شُمُولُهُ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ، وَيُفِيدُ تَعْلِيقَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْخَبَرِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَيُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرُّ الِارْتِبَاطِ وَالتَّعْلِيلِ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا مَعْنَى الصِّلَةِ. فَقَدْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ. وَمَعْنَى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَضَاعُوهَا كَمَا يُضِيعُ التَّاجِرُ رَأْسَ مَالِهِ، فَالْخُسْرَانُ مُسْتَعَارٌ لِإِضَاعَةِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ نَفْعٍ. فَمَعْنَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ عَدِمُوا فَائِدَةَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالتَّفْكِيرُ، فَإِنَّهُ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ لِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَدْ أَضَاعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْفَعَ سَبَبٍ لِلْفَوْزِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَعَدَمُ الْإِيمَانِ مُسَبَّبٌ عَنْ حِرْمَانِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِأَفْضَلِ نَافِع. ويتسبّب عَن عَدَمِ الْإِيمَانِ خُسْرَانٌ آخَرُ، وَهُوَ خُسْرَانُ الْفَوْزِ فِي الدُّنْيَا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ يُقَالُ لَهُ خُسْرَانٌ وَلَا يُقَالُ لَهُ خُسْرَانُ الْأَنْفُسِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْخَسْرَانَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [هود: 21، 22] . [13] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 13] وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لِلَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 12] الَّذِي هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ، أَيْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ، وَلَهُ مَا سَكَنَ.

وَالسُّكُونُ اسْتِقْرَارُ الْجِسْمِ فِي مَكَانٍ، أَيْ حَيِّزٍ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ مُدَّةً، فَهُوَ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الِاخْتِفَاءِ، لِأَنَّ الْمُخْتَفِيَ يَسْكُنُ وَلَا يَنْتَشِرُ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْخَفَاءِ مَعَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ. وَوَجْهُ كَوْنِهِ كِنَايَةً أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلتَّذْكِيرِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَمُحَاسِبُكُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى - إِلَى أَنْ قَالَ- وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ [الرَّعْد: 8- 10] . فَالَّذِي سكن بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارَ بَعْضُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عَطَفَ عَلَيْهِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا سَكَنَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يُغْفِلُ عَنْ شُمُولِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ أَشْيَاءَ بِحُكْمِ أَنْ يُرِيدُوا الْأَشْيَاءَ الْمَعْرُوفَةَ الْمُتَدَاوَلَةَ. فَهَذَا مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِتَقْرِيرِ عُمُومِ الْمُلْكِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ مُلْكَهُ شَمِلَ الظَّاهِرَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ، فَفِي هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِيُوَجِّهُوا النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْخَفِيَّةِ وَمَا فِي إِخْفَائِهَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ وَتَصَرُّفَاتِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، لِأَنَّ فِعْلَ السُّكُونِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الزَّمَانِ تَعْدِيَةَ الظَّرْفِ اللَّغْوِ كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَكَانِ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى حَلَّ وَاسْتَقَرَّ وَهُوَ مَا لَا يُنَاسِبُ حَمْلَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَالْكَلَامُ تَمْهِيدٌ لِسَعَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَالِكِ أَنْ يَعْلَمَ مَمْلُوكَاتِهِ. وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السَّاكِنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَزْدَادُ خَفَاءً، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 59] . وَعَطَفَ النَّهَارَ عَلَيْهِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ الشُّمُولِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا كَانَ مَظِنَّةَ الِاخْتِفَاءِ فِيهِ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ الْعَالِمَ يَقْصِدُ الِاطِّلَاعَ عَلَى السَّاكِنَاتِ فِيهِ بِأَهَمِّيَّةٍ وَلَا يَقْصِدُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى السَّاكِنَاتِ فِي النَّهَارِ، فَذَكَرَ النَّهَارَ لِتَحْقِيقِ تَمَامِ الْإِحَاطَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ، وَهُوَ حَصْرُ السَّاكِنَاتِ فِي كَوْنِهَا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، أَيْ فِي كَوْنِ مِلْكِهَا التَّامِّ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 12] . وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كَالنَّتِيجَةِ لِلْمُقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُ السَّاكِنَاتِ التَّمْهِيدُ لِإِثْبَاتِ عُمُومِ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ مِلْكَ الْمُتَحَرِّكَاتِ الْمُتَصَرِّفَاتِ

[سورة الأنعام (6) : آية 14]

أَقْوَى مِنْ مِلْكِ السَّاكِنَاتِ الَّتِي لَا تُبْدِي حَرَاكًا، فَظَهَرَ حُسْنُ وَقْعِ قَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَقِبَ هَذَا. والسميع: الْعَالِمُ الْعَظِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ أَوْ بِالْمَحْسُوسَاتِ. والعليم: الشَّديد الْعلم بِكُلِّ مَعْلُومٍ. [14] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 14] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ. اسْتِئْنَاف آخر ناشىء عَن جملَة: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 12] . وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، لِأَنَّهُ غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ بِالْقَوْلِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ بِالْقَوْلِ، السَّابِقِ عُبُودِيَّةُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ وَأَنَّ مَصِيرَ كُلِّ ذَلِكَ إِلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيرِ وُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَتِيجَةٌ لَازَمَةٌ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِجَمِيعِ مَا احْتَوَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ إِذْ أَمَرَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- بالتبري مِنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَى الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَاتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ بِمَحْضَرِ الْمُجَادِلِ الْمُكَابِرِ (لَا أَجْحَدُ الْحَقَّ) لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ بَعْثَتِهِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، كَمَا اسْتَخْلَصْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُمِرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ، أَيْ هُوَ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] ، وَهُوَ لَعَمْرِي مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ وَإِنْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَتَضَمَّنُهُ كَيْفَ وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِئْنَافِ مِنْ نُكْتَةٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِ أَتَّخِذُ عَلَى الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ لِيَكُونَ مُوَالِيًا لِلِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ لَا مُطْلَقُ اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ. وَشَأْنُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ

بِجَمِيعِ اسْتِعْمَالَاتِهِ أَنْ يَلِيَهَا جُزْءُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كَالْمُنْكَرِ هُنَا، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعِنَايَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الْعِنَايَةِ، وَلَيْسَ مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ فِي مِثْلِ هَذَا لِظُهُورِ أَنَّ دَاعِيَ التَّقْدِيمِ هُوَ تَعْيِينُ الْمُرَادِ بِالِاسْتِفْهَامِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ غَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ جَعَلَ التَّقْدِيمَ هُنَا مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ انْحِصَارِ إِنْكَارِ اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ فِي غَيْرِ اللَّهِ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا يَشْهَدُ الِاسْتِعْمَالُ وَالذَّوْقُ بِخِلَافِهِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» بَرِيءٌ مِنْهُ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ هُنَا لَيْسَ إِلَّا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْمُقَدَّمِ- لِيَلِيَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ فَيُعْلَمُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَدَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا مِثْلَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: 64] أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الْأَنْعَام: 40] هُوَ كَلِمَةُ غَيْرَ الْمُضَافَةُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا عَدَا اللَّهَ، فَكَانَ اللَّهُ مَلْحُوظًا مِنْ لَفْظِ الْمَفْعُولِ فَكَانَ إِنْكَارُ اتِّخَاذِ اللَّهِ وَلِيًّا لِأَنَّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا مُسْتَلْزِمًا عَدَمَ إِنْكَارِ اتِّخَاذِ اللَّهِ وَلِيًّا، لِأَنَّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَبْقَى مَعَهُ إِلَّا اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلِيًّا فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ مُسْتَلْزِمًا مَعْنَى الْقَصْرِ وَآئِلًا إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَالٍّ عَلَى الْقَصْرِ مُطَابَقَةً، وَلَا مُفِيدًا لِمَا يُفِيدُهُ الْقصر الإضافي مقن قَلْبِ اعْتِقَادٍ أَوْ إِفْرَادٍ أَوْ تَعْيِينٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ خِلَافَ كَلِمَةِ (غَيْرَ) لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقَصْرِ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: أَزَيْدًا أَتَتَّخِذُ صَدِيقًا، لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا إِلَّا إِنْكَارَ اتِّخَاذِ زَيْدٍ صَدِيقًا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى اتِّخَاذِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّكَ تَرَاهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلصَّدَاقَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: أَتَتَّخِذُ زَيْدًا صَدِيقًا، إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ تَوَجُّهَ الْإِنْكَارِ لِلْمُتَّخِذِ لَا لِلِاتِّخَاذِ اهْتِمَامًا بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ فَأَجِدَّ فِيهِ نَظَرَكَ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ سَأَلُوا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذَ أَصْنَامَهُمْ أَوْلِيَاءَ كَانَ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ نُكْتَةُ اهْتِمَامٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ كَوْنُهُ جَوَابًا لِكَلَامٍ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] وَقَوْلِهِ: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ- إِلَى قَوْلِهِ- قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً [الْأَعْرَاف: 12] . وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا الْآتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى أَبْغِي لِكَوْنِهِ جَوَابًا عَنْ نِدَائِهِمْ لَهُ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ. قَالَ الطَّيْبِيُّ: لِأَنَّ كُلَّ تَقْدِيمٍ إِمَّا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِجَوَابِ إِنْكَارٍ.

وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ الْمُدَبِّرُ، فَفِيهِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. يُقَالُ: تَوَلَّى فَلَانًا، أَيِ اتَّخَذَهُ نَاصِرًا. وَسُمِّيَ الْحَلِيفُ وَلِيًّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحِلْفِ النُّصْرَةُ. وَلَمَّا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عَابِدُهُ سُمِّيَ وَلِيًّا لِذَلِكَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَلِيُّ. وَالْفَاطِرُ: الْمُبْدِعُ وَالْخَالِقُ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَطْرِ وَهُوَ الشَّقُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَرَفْتُ مَعْنَى الْفَاطِرِ حَتَّى اخْتصم إليّ أعرابيات فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا. وَإِجْرَاءُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ جَدَارَةِ غَيْرِهِ لِأَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا، فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] . وَلَيْسَ يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 12] لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي أَسْبَابِ بَقَائِهِمْ إِلَى أَجَلٍ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يُعْطِي النَّاسَ مَا يَأْكُلُونَهُ مِمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ: مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ وَكَلَأٍ وَصَيْدٍ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْآلِهَةَ الْأُخْرَى شُرَكَاءَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ كَثُرَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الْوَاقِعَة: 63، 64] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يُطْعَمُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ- فَتَكْمِيلٌ دَالٌّ عَلَى الْغِنَى الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] . وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِذْ لَيْسَ فِي آلِهَةِ الْعَرَبِ مَا كَانُوا يُطْعِمُونَهُ الطَّعَامَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ التَّعْرِيضُ بِهِمْ فِيمَا يُقَدِّمُونَهُ إِلَى أَصْنَامِهِمْ مِنَ الْقَرَابِينِ وَمَا يُهْرِقُونَ عَلَيْهَا مِنَ الدِّمَاءِ، إِذْ لَا يَخْلُو فِعْلُهُمْ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَنْعَمُ بِذَلِكَ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. اسْتِئْنَافٌ مُكَرَّرٌ لِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمَثَارُ الِاسْتِئْنَافَيْنِ وَاحِدٌ وَلَكِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ يَحُومُ حَوْلَ الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَهَذَا

اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَةِ الْوَحْيِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ صَرْفِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] ، فَهَذَا إِبْطَالٌ لِطَعْنِهِمْ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، وَشِعَارُهُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الْمُبْطِلَةُ لِلْإِشْرَاكِ. وَبُنِيَ فِعْلُ أُمِرْتُ لِلْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فَاعِلَ هَذَا الْأَمْرِ مَعْلُومٌ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ إِسْنَادِ الْوَحْيِ إِلَى اللَّهِ. وَمَعْنَى أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ الْإِسْلَامُ الْخَاصُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا آمَنَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، بِمَا فِيهِ مِنْ وُضُوحِ الْبَيَانِ وَالسَّمَاحَةِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [132] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِمَّنْ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كِنَايَةً عَنِ الْأَقْوَى وَالْأَمْكَنِ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ هُوَ الْأَحْرَصُ عَلَيْهِ وَالْأَعْلَقُ بِهِ، فَالْأَوَّلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْحِرْصَ وَالْقُوَّةَ فِي الْعَمَلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى قَوْلَهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: 143] . فَإِنَّ كَوْنَهُ أَوَّلَهُمْ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنِّي الْآنَ بَعْدَ الصَّعْقَةِ أَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ تَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى دِينِهِمْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا إِذَا رَأَوْا مِنْهُ رَحْمَةً بِهِمْ وَلِينًا فِي الْقَوْلِ طَمِعُوا فِي رُجُوعِهِ إِلَى دِينِهِمْ وَقَالُوا إِنَّهُ دِينُ آبَائِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ لِيَيْأَسُوا. وَالْكَلَامُ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 15 إلى 16]

يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، فَذِكْرُ النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ بَعْدَ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَهَذَا التَّأْكِيدُ لِتُقْطَعَ جُرْثُومَةُ الشِّرْكِ مِنْ هَذَا الدِّينِ. ومَنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، فَمَعْنَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ هُوَ أَمْرٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ فَتَكُونُ مَنْ اتِّصَالِيَّةً وَيَكُونُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَعْنَى اللقبي، أَي الَّذِي اشْتَهَرُوا بِهَذَا الِاسْمِ، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكَ شَيْءٌ فِيهِ صِلَةٌ بِالْمُشْرِكِينَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَالتَّأْيِيسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَدُّ وَأَقْوَى. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِدْلَالٌ لِلْمَأْثُورِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ بَلْ تَتَوَقَّفُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ عَلَى بَعْثَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ اللَّهِ وَلِيًّا لِأَنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ رَحِمَهُ [الْأَنْعَام: 15، 16] . [15، 16] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 15 إِلَى 16] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) هَذَا اسْتِئْنَافٌ مُكَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ تَدَرُّجٌ فِي الْغَرَضِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا مِنْ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ مُتَوَعَّدٌ صَاحِبُهُ بِالْعَذَابِ وَمَوْعُودٌ تَارِكُهُ بِالرَّحْمَةِ. فَقَوْلُهُ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الْأَنْعَام: 14] الْآيَةَ رَفْضٌ لِلشِّرْكِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الْأَنْعَام: 14] الْآيَةَ، رَفْضٌ لِلشِّرْكِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: قُلْ إِنِّي أَخافُ الْآيَةَ تَجَنُّبٌ لِلشِّرْكِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَطَمَعًا فِي الرَّحْمَةِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَنَّ الْآمِرَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَالنَّاهِيَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْعُدُولِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّي إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عِصْيَانَهُ أَمْرٌ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ رَبُّهُ فَكَيْفَ يَعْصِيهِ. وَأُضِيفُ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمٍ عَظِيمٍ تَهْوِيلًا لَهُ لِأَنَّ فِي مُعْتَادِ الْعَرَبِ أَنْ يُطْلَقَ الْيَوْمُ عَلَى يَوْمِ نَصْرِ فَرِيقٍ وَانْهِزَامِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُحَارِبِينَ، فَيَكُونَ الْيَوْمُ نَكَالًا عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ، إِذْ يَكْثُرُ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَيُسَامُ الْمَغْلُوبُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَذِكْرُ يَوْمٍ يُثِيرُ مِنَ الْخَيَالِ مَخَاوِفَ مَأْلُوفَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعَرَاء: 189] وَلَمْ يَقُلْ عَذَابَ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابًا عَظِيمًا. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [9] ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَسُنَ جَعْلُ إِضَافَةِ الْعَذَابِ إِلَى الْيَوْمِ الْعَظِيمِ كِنَايَةً عَنْ عِظَمِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ عَظَمَةَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ تَسْتَلْزِمُ عِظَمَ مَا يَقَعُ فِيهِ عُرْفًا. وَقَوْلُهُ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ جُمْلَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الصِّفَةِ لِ عَذابَ. ويُصْرَفْ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِي قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْعَذَابِ أَوْ لِضَمِيرِ مَنْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ «عَنْ» عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَيْ يُصْرَفِ الْعَذَابُ عَنْهُ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ، أَيْ مِنْ يُصْرَفْ هُوَ عَنِ الْعَذَابِ، وَعَلَى عَكْسِ هَذَا الْعَوْدِ يَكُونُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: يُصْرَفْ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ يُصْرَفْ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ رَبِّي عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. أَمَّا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي رَحِمَهُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّي، وَالْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ. وَمَعْنَى وَصْفِ الْعَذَابِ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَجَنُّبِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَهُوَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الرَّحْمَةَ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهَا.

[سورة الأنعام (6) : آية 17]

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ مُقَابِلِ قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو إِنْ أَطَعْتُهُ أَنْ يَرْحَمَنِي رَبِّي، لِأَنَّ مَنْ صُرِفَ عَنْهُ الْعَذَابُ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحْمَةُ. فَجَاءَ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى بِطَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ. وَهُوَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ لِيُعْلَمَ الْمَدْلُولُ. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْكِنَايَةِ وَأُسْلُوبٌ بَدِيعٌ بِحَيْثُ يَدْخُلُ الْمَحْكُومُ لَهُ فِي الْحُكْمِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الَّذِينَ ثَبَتَ لَهُمُ الْحُكْمُ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَالْإِشَارَةُ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الصَّرْفِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ. وَإِنَّمَا كَانَ الصَّرْفُ عَنِ الْعَذَابِ فَوْزًا لِأَنَّهُ إِذَا صُرِفَ عَنِ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمرَان: 185] . والْمُبِينُ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَبَانَ بِمَعْنى بَان. [17] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 17] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِفعل قُلْ [الْأَنْعَام: 15] فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَوَّفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَرَّضُوا لَهُ بِعَزْمِهِمْ عَلَى إِصَابَتِهِ بِشَرٍّ وَأَذًى فَخَاطَبَهُ اللَّهُ بِمَا يُثَبِّتُ نَفْسَهُ وَمَا يُؤَيِّسُ أَعْدَاءَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَزِلُّوهُ. وَهَذَا كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الْأَنْعَام: 81] ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِثْبَاتُ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ الْمُطْلَقَ فِي أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ بِالْجُمَلِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ مُحْدِثُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي أُسْلُوبِ تَثْبِيتٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ الْخَشْيَةِ مِنْ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ وَتَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ، وَوَعْدِهِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ لَهُ مِنْ أَثَرِ رِضَى رَبِّهِ وَحْدَهُ عَنْهُ، وَتَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِضْرَارَهُ وَلَا يَجْلِبُونَ نَفْعَهُ. وَيَحْصُلُ مِنْهُ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا ذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّهَا تَجْلِبُ الْخَيْرَ وَتَدْفَعُ

الشَّرَّ، فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَامِ الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا، وَأَوْجَبَتْ عِبَادَةَ الْمُسْتَحِقِّ الْإِلَهِيَّةَ بِحَقٍّ، أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: 76] وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشُّعَرَاء: 73] . وَقَدْ هَيَّأَتِ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ مَوْقِعًا لَهَاتِهِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خَالِقَ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مُقَدِّرٌ أَحْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ فِي دَائِرَةِ قُدْرَتِهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ بَعْدَ كَوْنِ مَعْرُوضَاتِ تِلْكَ الْعَوَارِضِ مَخْلُوقَةً لَهُ. فَالْمَعْرُوضَاتُ الْعَارِضَةُ لِلْمَوْجُودَاتِ حَاصِلَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُقَدِّرُ أَسْبَابِهَا، وَاضِعُ نِظَامِ حُصُولِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَخَالِقُ وَسَائِلِ الدَّوَاعِي النَّفْسَانِيَّةِ إِلَيْهَا أَوِ الصَّوَارِفِ عَنْهَا. وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ. وَقَدْ يَكُونُ مُبَاشَرَةً وَقَدْ يَكُونُ بِآلَةٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي إِيصَالِ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فَيُسْتَعَارُ إِلَى مَعْنَى الْإِيصَالِ فَيَكْثُرُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ مَا هُوَ مستعار للآقلة. وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْآلَةِ وَهُوَ الْبَاءُ كَمَا هُنَا، فَتَكُونُ فِيهِ اسْتِعَارَتَانِ تَبَعِيَّتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْفِعْلِ وَالْأُخْرَى فِي مَعْنَى الْحَرْفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الْأَعْرَاف: 73] . فَالْمَعْنَى: وَإِنْ يُصِبْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ، أَوْ وَإِنْ يَنَلْكَ مِنَ اللَّهِ ضُرٌّ. وَالضُّرُّ- بِضَمِّ الضَّادِ- هُوَ الْحَالُ الَّذِي يُؤْلِمُ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ مِنَ الشَّرِّ، وَهُوَ الْمُنَافِرُ لِلْإِنْسَانِ. وَيُقَابِلُهُ النَّفْعُ، وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ. وَالْمعْنَى إِن قدّر اللَّهُ لَك الضرّ فهلّا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَشْفَهُ عَنْكَ إِلَّا هُوَ إِنْ شَاءَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مُقَدَّرَاتِهِ مَرْبُوطَةٌ وَمَحُوطَةٌ بِنَوَامِيسَ وَنُظُمٍ لَا تَصِلُ إِلَى تَحْوِيلِهَا إِلَّا قُدْرَةُ خَالِقِهَا. وَقَابَلَ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ مُقَابَلَةً بِالْأَعَمِّ، لِأَنَّ الْخَيْرَ يَشْمَلُ النَّفْعَ وَهُوَ الْمُلَائِمُ وَيَشْمَلُ السَّلَامَةَ مِنَ الْمُنَافِرِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الضُّرِّ مَا هُوَ أَعَمُّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَمْسَسْكَ بِضُرٍّ وَشَرٍّ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِنَفْعٍ وَخَيْرٍ، فَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَابَ الضُّرُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنَابَ الشَّرِّ وَالشَّرُّ أَعَمُّ وَهُوَ مُقَابِلُ الْخَيْرِ. وَهُوَ مِنَ الْفَصَاحَةِ عُدُولٌ عَنْ قَانُونِ التَّكَلُّفِ وَالصَّنْعَةِ، فَإِنَّ مِنْ بَابِ التَّكَلُّفِ

[سورة الأنعام (6) : آية 18]

أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ وَنَظَرَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: 118، 119] . اهـ. وَقَوْلُهُ: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جُعِلَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ وَالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَلَا مَانِعَ لَهُ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ فِي الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. وَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْعُمُومَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الْأَنْعَام: 18] . [18] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 18] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الْأَنْعَام: 17] الْآيَةَ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَيْهِمَا يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَامِ الْعِبَادَةَ. فَالْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ تَصَرُّفٌ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْطَلَتْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ قَاهِرًا عَلَى أَحَدٍ أَوْ خَبِيرًا أَوْ عَالِمًا بِإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ الْإِلَهَ تَجِبُ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ، وَهُمَا جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَمَا تَجِبُ لَهُ صِفَاتُ الْأَفْعَالِ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَهِيَ تَعَلُّقَاتٌ لِلْقُدْرَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الصِّفَاتِ عِنْدَ غَيْرِ الْأَشْعَرِيِّ نَظَرًا لِلْعُرْفِ، وَأَدْخَلَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهَا تَعَلُّقَاتٌ لَهَا، وَهُوَ التَّحْقِيقُ. وَلِذَلِكَ تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا ذكرت كَمَا تَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَجَاءَتْ بِهِ فِي قَالَبِ تَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْعَتْ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَصْلُ جَمِيعِ الْفِعْلِ وَالصُّنْعِ. وَالْقَاهِرُ الْغَالِبُ الْمُكْرِهُ الَّذِي لَا يَنْفَلِتُ مِنْ قُدْرَتِهِ مِنْ عُدِّيَ إِلَيْهِ فِعْلُ الْقَهْرِ. وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيف الجزأين الْقَصْرَ، أَيْ لَا قَاهِرَ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ قَهْرَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْقَهْرُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَقْهُورُ مِنْهُ مَلَاذًا، لِأَنَّهُ قَهْرٌ بِأَسْبَابٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ خَلْقَ مَا يُدَافِعُهَا. وَمِمَّا يُشَاهَدُ مِنْهَا دَوْمًا النَّوْمُ وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ. سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 19]

وَ (فَوْقَ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ الْقاهِرُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِحَالَةِ الْقَاهِرِ بِأَنَّهُ كَالَّذِي يَأْخُذُ الْمَغْلُوبَ مِنْ أَعْلَاهُ فَلَا يَجِدُ مُعَالَجَةً وَلَا حَرَاكًا. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الْأَعْرَاف: 127] . وَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ جِهَةٌ هِيَ فِي عُلُوٍّ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، فَلَا تُعَدُّ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ. والعباد: هُمُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلدَّوَابِّ عِبَادُ اللَّهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَمْعُ عَبْدٍ لَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ خَصَّهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَخَصَّ الْعَبِيدَ بِجَمْعِ عَبْدٍ بِمَعْنَى الْمَمْلُوكِ. وَمَعْنَى الْقَهْرِ فَوْقَ الْعِبَادِ أَنَّهُ خَالِقُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدَرِهِمْ بِحَيْثُ يُوجِدُ مَا لَا يُرِيدُونَ وُجُودَهُ كَالْمَوْتِ، وَيَمْنَعُ مَا يُرِيدُونَ تَحْصِيلَهُ كَالْوَلَدِ لِلْعَقِيمِ وَالْجَهْلِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أُمُورًا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا وَأُمُورًا لَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا وَأُمُورًا يَفْعَلُهَا تَارَةً وَلَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا تَارَةً، كَالْمَشْيِ لِمَنْ خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْقُدَرِ وَالِاسْتِطَاعَاتِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُهَا، وَلِأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، ثُمَّ يَقِيسُ الْعَقْلُ عَوَالِمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْعَنَاصِرَ وَالْقُوَى وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بعض فَلَا يَسْتَطِيع الْمُدَافَعَةَ إِلَّا مَا خَوَّلَهَا اللَّهُ. والحكيم: الْمُحْكِمُ الْمُتْقِنُ لِلْمَصْنُوعَاتِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [209] وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَالْخَبِيرُ: مُبَالَغَةٌ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ (خَبَرَ) الْمُتَعَدِّي، بِمَعْنَى (عَلِمَ) ، يُقَالُ: خَبَرَ الْأَمْرَ، إِذَا عَلِمَهُ وَجَرَّبَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَبَرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عُلِمَ أَمْكَنَ الْإِخْبَارُ بِهِ. [19] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.

انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ، إِلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَعْلِ اللَّهِ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيهِ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابتدائي، ومناسبة الِانْتِقَال ظَاهِرَةٌ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى أَحَدًا مُصَدِّقَكَ بِمَا تَقُولُ، وَقَدْ سَأَلْنَا عَنْكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُكَ وَلَا صِفَتُكَ فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدِ ابْتُدِئَتِ الْمُحَاوَرَةُ بِأُسْلُوبِ إِلْقَاءِ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 12] وَمِثْلُ هَذَا الْأُسْلُوبِ لِإِعْدَادِ السَّامِعِينَ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ. وَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ بَيَانُ أَحَدِ الْمُشْتَرَكَاتِ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ شَيْءٍ الْمُفَسَّرُ بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ. وشَيْءٍ اسْمٌ عَامٌّ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ ذَاتِ الْعُمُومِ الْكَثِيرِ، قِيلَ: هُوَ الْمَوْجُودُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يُعْلَمُ وَيَصِحُّ وُجُودُهُ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُعْلَمُ. وَيَجْرِي عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ صِفَةَ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْنًى يُتَعَقَّلُ وَيُتَحَاوَرَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 2، 3] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَوَاقِعِ حُسْنِ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَمَوَاقِعِ ضَعْفِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [155] . وأَكْبَرُ هُنَا بِمَعْنَى أَقْوَى وَأَعْدَلُ فِي جِنْسِ الشَّهَادَاتِ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ مَا مَدْلُولُهُ عِظَمُ الذَّاتِ عَلَى عِظَمِ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] وَقَوْلِهِ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] . وَقُوَّةُ الشَّهَادَةِ بِقُوَّةِ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَتَصْدِيقِ مَضْمُونِهَا. وَقَوْلُهُ: شَهادَةً تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْأَكْبَرِيَّةِ إِلَى الشَّيْء فَصَارَ مَا صدق الشَّيْءِ بِهَذَا التَّمْيِيزِ هُوَ الشَّهَادَةُ. فَالْمَعْنَى: أَيَّةُ شَهَادَةٍ هِيَ أَصْدَقُ الشَّهَادَاتِ، فَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِ أَيُّ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الشَّهَادَاتِ يُطْلَبُ عِلْمُ أَنَّهُ أَصْدَقُ أَفْرَادِ جِنْسِهِ.

وَالشَّهَادَةُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [106] . وَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لِلْمُخَاطَبِينَ الْمُكَذَّبِينَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَارَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [النُّور: 8] أَيْ أَنْ تُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى كَذِبِ الزَّوْجِ، أَيْ أَنْ تَحْلِفَ على ذَلِك بِسم اللَّهِ، فَإِنَّ لَفْظَ (أُشْهِدُ اللَّهَ) مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَعْنَى الْإِشْهَادِ يَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَعْنَى الْإِشْهَادِ كَمَا هُنَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَسَمِ مُرَادٌ مِنْهُ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، أَيْ أُشْهِدُهُ عَلَيْكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ هُودٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] . وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَتُهُ الْمُصَدَّرَةُ بِ قُلْ. وَهَذَا جَوَابٌ أُمِرَ بِهِ الْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَسْأَلَ ثُمَّ يُبَادِرُ هُوَ بِالْجَوَابِ لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّؤَالِ التَّقْرِيرَ وَكَوْنِ الْجَوَابِ مِمَّا لَا يَسَعُ الْمُقَرِّرَ إِنْكَارُهُ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 12] . وَوَقَعَ قَوْلُهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابًا عَلَى لِسَانِهِمْ لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى السُّؤَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَالتَّقْدِيرُ: قُلْ شَهَادَةُ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، فَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَحَذَفَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُرَتَّبِ إِيجَازًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى جَزَالَةِ أُسْلُوبِ الْإِلْجَاءِ وَالْجَدَلِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ الَّذِي شَهَادَتُهُ أَعْظَمُ شَهَادَةً أَنَّنِي أَبْلَغْتُكُمْ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ تُشْرِكُوا بِهِ وَأَنْذَرْتُكُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ إِطْلَاقِ اسْمِ (شَيْءٍ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: أَيُّ شَيْءٍ فَاقْتَضَى إِطْلَاقَ اسْمِ (شَيْءٍ) خَبَرًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ صَرِيحًا. وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَطْلَقَهُ الْمُؤْمِنُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ فِي إِطْلَاقِهِ تَجَاوُزٌ لِلْأَدَبِ وَلَا إِثْمٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافًا لِجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَصْحَابِهِ. وَمَعْنَى: شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ فَيَرْجِعُوا عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُكَابَرَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكِلَهُمْ إِلَى حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: إِنْذَارُهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي

الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَوَجْهُ ذِكْرِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ لَهُ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ. فَمَعْنَى الْبَيْنِ أَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الشَّاهِدِ فِي الْخُصُومَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْأَهَمُّ فِيمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ. وَيَنْطَوِي فِي ذَلِكَ جَمِيعُ مَا أَبْلَغَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَقَامَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ. فَعَطْفُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَحُذِفَ فَاعِلُ الْوَحْيِ وَبُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِشَارَةُ بِ هذَا الْقُرْآنُ إِلَى مَا هُوَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ. وَعَطْفُ الْبَيَانِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَيَّنَ الْمَقْصُودَ بِالْإِشَارَةِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى جَعْلِ عِلَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِلنِّذَارَةِ دُونَ ذِكْرِ الْبِشَارَةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي حَالِ مُكَابَرَتِهِمُ الَّتِي هِيَ مَقَامُ الْكَلَامِ لَا يُنَاسِبُهُمْ إِلَّا الْإِنْذَارُ، فَغَايَةُ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِهِمْ هِيَ الْإِنْذَارُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ مُصَرِّحًا بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. وَلَمْ يَقُلْ: لِأُنْذِرَ بِهِ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَى ضَمِيرِهِمْ يُنْذِرُ وَيُبَشِّرُ. عَلَى أَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تُؤْذِنُ بِانْحِصَارِ الْعِلَّةِ فِي مَدْخُولِهَا إِذْ قَدْ تَكُونُ لِلْفِعْلِ الْمُعَدَّى بِهَا عِلَلٌ كَثِيرَةٌ. وَمَنْ بَلَغَ عَطْفٌ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ وَلِأُنْذِرَ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَسَمِعَهُ وَلَوْ لَمْ أُشَافِهْهُ بِالدَّعْوَةِ، فَحَذَفَ ضَمِيرَ النَّصْبِ الرَّابِطَ لِلصِّلَةِ لِأَنَّ حَذْفَهُ كَثِيرٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَعُمُومُ مَنْ وَصِلَتِهَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ فِي جَمِيع العصور. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ.

فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ جُمْلَةِ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً. خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْيَ الشَّرِيكِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَهُمْ أَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا بَلَّغَ، وَعَلَيْهِمْ فِيمَا أَعْرَضُوا وَكَابَرُوا اسْتَأْنَفَ اسْتِفْهَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ فَقَالَ: أَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ عَلَى مَا أَصْرَرْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا شَهِدْتُ أَنَا عَلَى مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَالْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُنَا أَمْرٌ يُنْكِرُونَهُ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْإِنْكَارِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُوَكَّدِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيُفِيدَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ هَذِهِ مِمَّا لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ السَّامِعُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهَا لِاسْتِبْعَادِ صُدُورِهَا مِنْ عُقَلَاءَ، فَيَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ عَنْهُمْ بِهَا إِلَى تَأْكِيدِ خَبَرِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَيَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَهُنَالِكَ يَحْتَاجُ مُخَاطِبُهُمْ بِالْإِنْكَارِ إِلَى إِدْخَالِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُحْكَى بِهَا خَبَرُهُمْ، فَيُفِيدُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْكَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا صَرِيحٌ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَالْآخَرُ كَنَائِيٌّ بِلَازِمِ تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ لِغَرَابَةِ هَذَا الزَّعْمِ بِحَيْثُ يَشُكُّ السَّامِعُ فِي صُدُورِهِ مِنْهُمْ. وَمعنى لَتَشْهَدُونَ لتدّعونا دَعْوَى تُحَقِّقُونَهَا تَحْقِيقًا يُشْبِهُ الشَّهَادَةَ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوع، فإطلاق لَتَشْهَدُونَ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِالتَّأْنِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَعْقِلُ فَإِنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَكُونُ وَصْفُهُ كَوَصْفِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. وَقَوْلُهُ: قُلْ لَا أَشْهَدُ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْله: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ، وَوَقَعَتِ الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ بتبرّي الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْنَا مِنْ شَهَادَتِكُمْ وَخُذُوا شَهَادَتِي فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الْأَنْعَام: 15] .

[سورة الأنعام (6) : آية 20]

وَجُمْلَةُ: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لَا أَشْهَدُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ، لِأَنَّ مَعْنَى لَا أَشْهَدُ بِأَنَّ مَعَهُ آلِهَةً هُوَ مَعْنَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِتَأْكِيدِ التَّبْلِيغِ. وَكَلِمَةُ إِنَّما أَفَادَتِ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ: ثُمَّ بَالَغَ فِي إِثْبَات ذَلِك بالتبري مِنْ ضِدِّهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. وَفِيهِ قَطْعٌ لِلْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَارَكَةِ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُشْرِكُونَ يَجُوزُ كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مَوْصُولَةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَيْ مِنْ أَصْنَامِكُمُ الَّتِي تُشْرِكُونَ بِهَا، وَفِيهِ حَذْفُ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ الْمَحْذُوفَ مَعَ الْعَائِدِ مُتَعَيِّنٌ تَقْدِيرُهُ بِلَا لَبْسٍ، وَذَلِكَ هُوَ ضَابِطُ جَوَازِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا [الْفرْقَان: 60] أَيْ بِتَعْظِيمِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أَيْ بِالْجَهْرِ بِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ «التَّسْهِيلِ» أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ، وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْ مُؤَلِّفِهِ اغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ شرّاح كتبه. [20] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ انْتَقَلَ بِهَا أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنْ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِخْبَارٍ عَامٍّ كَسَائِرِ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ. أَظْهَرَ اللَّهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي فِي قَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 19] ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ هُنَالِكَ وَقَعَ هَذَا الِانْتِقَالُ لِلِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنِ صِدْقَ مَنْ جَاءَ بِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ الْعَامَّةُ الدَّائِمَةُ. وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ الْوَاحِدِيَّ ذَكَرَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَأَلْنَا عَنْكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُكَ وَلَا صِفَتُكُ إِلَى آخِرِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعَرُّضُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا إِبْطَالًا لِمَا قَالُوهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُ النَّبِيءِ وَلَا صِفَتُهُ، أَيْ فَهُمْ

وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ فِي جَحْدِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلِ الْآيَةَ مُشِيرَةً إِلَى مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ تَعَيَّنَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُنْصِفُونَ مِنْهُمْ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُقَدِّرُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَثِقُونَ بِعِلْمِهِمْ وَرُبَّمَا اتَّبَعَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ مِثْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الدِّينِ مَوْثُوقًا بِهَا عِنْدَهُمْ إِذَا أَدَّوْهَا وَلَمْ يَكْتُمُوهَا. وَفِيهِ تَسْجِيلٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِوُجُوبِ أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَى النَّاسِ. فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ [الْأَنْعَام: 19] . وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَعْرِفُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ رِسَالَةُ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: 43] . وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ تَشْبِيهُ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَعْرِفَةِ. فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّحَقُّقُ وَالْجَزْمُ بِأَنَّهُ هُوَ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْمَعْرِفَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا هِيَ مَعْرِفَةَ أَبْنَائِهِمْ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَضِلُّ عَنْ مَعْرِفَةِ شَخْصِ ابْنِهِ وَذَاتِهِ إِذَا لَقِيَهُ وَأَنَّهُ هُوَ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَةِ الْأَبْنَاءِ آبَاءَهُمْ عُرْفًا. وَقِيلَ: إِنَّ ضَمِيرَ يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ إِلَى التَّوْحِيدِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الْأَنْعَام: 19] وَهَذَا بِعِيدٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا وَلَا تَأْوِيلًا. وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ عَلَى أَنَّ فِي عَوْدِهِ إِلَى الْقُرْآنِ غُنْيَةً عَنْ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ إِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ تَصَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ وَإِصْرَارِهِمْ، فَهُمُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا أُرِيدُوا بِنَظِيرِهِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ بَعْدَ قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [النِّسَاء: 87] . فَهَذَا مِنَ التَّكْرِيرِ لِلتَّسْجِيلِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ، وَأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى وَلَوْ شَهِدَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ

[سورة الأنعام (6) : آية 21]

أَهْلُ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: 10] . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَيِ الَّذِينَ كَتَمُوا الشَّهَادَةَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ خَسِرُوا بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. [21] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 21] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الْأَنْعَام: 20] . فَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [114] . وَالْمُرَادُ بِافْتِرَائِهِمْ عَقِيدَةُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَكَاذِيبَ، وَبِتَكْذِيبِهِمُ الْآيَاتِ تَكْذِيبُهُمُ الْقُرْآنَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. وَقَدْ جَعَلَ الْآتِيَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ أَظْلَمَ النَّاسِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مُفْلِحِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فَكَيْفَ بِمَنْ بَلَغَ ظُلْمُهُ النِّهَايَةَ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعِلَّةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَعْلُولِ. وَمُوقِعُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي كَلَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ. وَمَوْقِعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا أَفَادَ الِاهْتِمَامَ بِهَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامَ تَحْقِيقٍ لِتَقَعَ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ تَفْسِيرًا لَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مَوْقِعَ الرُّسُوخِ. وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الْمُتَعَمَّدُ. وَقَوْلُهُ: كَذِباً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لَهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الِافْتِرَاءِ. وَالتَّأْكِيدُ يَحْصُلُ بِالْأَعَمِّ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] ، وَقَدْ نَفَى فَلَاحَهُمْ فَعَمَّ كُلَّ فَلَاحٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْفَلَاحَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي نَظَرِ الدِّينِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، وَهُوَ سَبَبُ فلاح الْآخِرَة. [22- 24] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 22 إِلَى 24] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْأَنْعَام: 21] ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 21] ، فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ وَمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ آثَارِ الظُّلْمِ وَآثَارِ عَدَمِ الْفَلَاحِ، وَلِأَنَّ مَضْمُونَ الْآيَةِ جَامِعٌ لِلتَّهْدِيدِ عَلَى الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ وَلِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَلِإِبْطَالِ الشِّرْكِ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَعَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْطُوفَاتُ وَهِيَ: نَقُولُ، أَوْ قَالُوا، أَوْ كَذَّبُوا، أَوْ ضَلَّ، وَكُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ مُتَعَلِّقًا بِهَا الظَّرْفُ بَلْ هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْوِيلُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِرَابِ النَّاشِئَيْنِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ، وتصوير تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَهُولَةِ. وَقُدِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْجَوَابُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْحِكَايَةِ. وَتَقْدِيرُهُ: كَانَ مَا كَانَ، وَأَنَّ حَذْفَهُ مَقْصُودٌ بِهِ الْإِبْهَامُ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّخْوِيفِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا مَا اعْتَادَهُ أَئِمَّةُ الْبَلَاغَةِ فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفَاتِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ بِالتَّفْصِيلِ أَشَدَّ مِنْهُ بِالْإِبْهَامِ إِذَا كَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ حَاصِلًا بِهِ تَخْوِيفٌ. وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَلَا نُكْتَةَ فِيهِ. وَهُنَالِكَ تَقْدِيرَاتٌ أُخْرَى لِبَعْضِهِمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي نَحْشُرُهُمْ يَعُودُ إِلَى مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْأَنْعَام: 21] أَوْ إِلَى الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 21] إِذِ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، فَيُؤْذِنُ بِمُشْرِكِينَ وَمُشْرَكٍ بِهِمْ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ جِيءَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً لِيَدُلَّ عَلَى قَصْدِ الشُّمُولِ، فَإِنَّ

شُمُولَ الضَّمِيرِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ السَّامِعُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِاسْمِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ جَمِيعاً قُصِدَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ. عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يُونُس: 28] وَقَوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْفرْقَان: 17] وَانْتَصَبَ جَمِيعاً هُنَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَشْرِ أَصْنَامِهِمْ مَعَهُمْ أَنْ تَظْهَرَ مَذَلَّةُ الْأَصْنَامِ وَعَدَمُ جَدْوَاهَا كَمَا يَحْشُرُ الْغَالِبُ أَسْرَى قَبِيلَةٍ وَمَعَهُمْ مَنْ كَانُوا يَنْتَصِرُونَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا غَائِبِينَ لَظَنُّوا أنّهم لَو حصروا لَشَفَعُوا، أَوْ أَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَلَالَةِ وَالنَّعِيمِ، فَإِنَّ الْأَسْرَى كَانُوا قَدْ يأملون حُضُور شفائعهم أَوْ مَنْ يُفَادِيهِمْ. قَالَ النَّابِغَةُ: يَأْمُلْنَ رِحْلَةَ نَصْرٍ وَابْنِ سَيَّارِ وَعَطَفَ نَقُولُ بِ ثُمَّ لِأَنَّ الْقَوْلَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ حَشْرِهِمْ بِمُهْلَةٍ لِأَنَّ حِصَّةَ انْتِظَارِ الْمُجْرِمِ مَا سَيَحُلُّ بِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي إِهْمَالِ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ. وَتُفِيدُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الرُّتْبِيَّ. وَصَرَّحَ بِ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا لِأَنَّهُمْ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الضَّمِيرُ، أَيْ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ. وَأَصْلُ السُّؤَالِ بِ أَيْنَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يَحُلُّ فِيهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، نَحْوَ: أَيْنَ بَيْتُكَ، وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. وَقَدْ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا مَكَانَ لَهُ، فَيُرَادُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ سَبَبِ عَدَمِهِ، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فَقَصَدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْنَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ. وَقد يسْأَل بأين عَنْ عَمَلِ أَحَدٍ كَانَ مَرْجُوًّا مِنْهُ، فَإِذَا حَضَرَ وَقْتُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ يسْأَل عَنهُ بأين، كَأَنَّ السَّائِلَ يَبْحَثُ عَنْ مَكَانِهِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الْمَجْهُولِ مَكَانَهُ فالسؤال بأين هُنَا عَنِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ وَهُمْ حَاضِرُونَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الصافات: 22] .

وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ عَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهَا تَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا لَا غَنَاءَ لَهَا قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ، أَيْ أَيْنَ عَمَلُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ غُيِّبَ عَنْهُمْ. وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الشِّرْكَةَ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَلَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ إِلَّا فِي اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ شُرَكاؤُكُمُ. وَهَذَا كَقَوْلِ أَحَدِ أَبْطَالِ الْعَرَبِ لعَمْرو بن معد يكرب لَمَّا حَدَّثَ عَمْرٌو فِي جَمْعٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَكَانَ هُوَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَقَالَ لَهُ: «مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكَ يَسْمَعُ» ، أَيِ الْمَزْعُومُ أَنَّهُ قَتِيلُكَ. وَوُصِفُوا بِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ تَزْعُمُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ أَمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فَحُذِفَ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ عَائِدِ الصِّلَةِ الْمَنْصُوبِ. وَالزَّعْمُ: ظَنٌّ يَمِيلُ إِلَى الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ أَوْ لِغَرَابَتِهِ يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ، فَيُقَالُ: زَعَمَ، بِمَعْنَى أَنَّ عُهْدَةَ الْخَبَرِ عَلَيْهِ لَا عَلَى النَّاقِلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [60] . وَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَعْنَى الزَّعْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [7] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ نَقُولُ وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ. وَالْفِتْنَةُ أَصْلُهَا الِاخْتِبَارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنَ الذَّهَبَ إِذَا اخْتَبَرَ خُلُوصَهُ مِنَ الْغَلَثِ. وَتُطْلَقُ عَلَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ مِنْ حُصُولِ خَوْفٍ لَا يُصْبَرُ عَلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ ثَبَاتِ مَنْ يَنَالُهُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعَيْشِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْبُغْضِ وَالْحُبِّ وَقَدْ يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّفْكِيرِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وفِتْنَتُهُمْ هُنَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ الْقَوْلُ إِمَّا أَنْ

يَكُونَ مِنْ نَوْعِ مَا اسْتُثْنِيَ هُوَ مِنْهُ الْمَحْذُوفِ فِي تَفْرِيغِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا فِتْنَةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْلٌ هُوَ فِتْنَةٌ لَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمُسْتَثْنَى دَالًّا عَلَى فِتْنَتِهِمْ، أَيْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ حِينَ قَالُوهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ مُتَضَمِّنٌ أَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ حِينَئِذٍ. وَعَلَى ذَلِكَ تَحْتَمِلُ الْفِتْنَةُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ وَالْحَيْرَةِ فِي الْأَمْرِ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَافْتَتَنُوا فِي مَاذَا يُجِيبُونَ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَعَدَلَ عَنِ الْمُقَدَّرِ إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ جَوَابَهُمْ ذَلِكَ هُوَ فِتْنَتُهُمْ لِأَنَّهُ أَثَرُهَا وَمَظْهَرُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْفِتْنَةِ جَوَابُهُمُ الْكَاذِبُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ صَاحِبِهِ، أَيْ تَجْرِيبِ حَالَةِ نَفْسِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ السُّؤَالُ لِأَنَّ السُّؤَالَ اخْتِبَارٌ عَمَّا عِنْدَ الْمَسْئُولِ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الصِّدْقِ وَضِدِّهِ، وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ فِتْنَتِهِمْ، أَيْ سُؤَالُهُمْ عَنْ حَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمْ تَكُنْ- بِتَاءِ تَأْنِيثِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْمُضَارَعَةِ لِلْغَائِبَةِ- بِاعْتِبَارِ أَنْ قالُوا هُوَ اسْمُ (كَانَ) . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِتْنَتُهُمْ- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (كَانَ) ، فَتَكُونُ (كَانَ) نَاقِصَةً وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قالُوا وَإِنَّمَا أُخِّرَ عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ (كَانَ) وأَنْ قالُوا خَبَرُ (كَانَ) ، فَتُجْعَلُ (كَانَ) تَامَّةً. وَالْمَعْنَى لَمْ تُوجَدْ فِتْنَةٌ لَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، أَيْ لَمْ تَقَعْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ نَفَوْا أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا. وَوَجْهُ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِعَلَامَةٍ مُضَارِعَةٍ لِلْمُؤَنَّثِ عَلَى قِرَاءَةِ نَصْبِ فِتْنَتُهُمْ هُوَ أَنَّ

فَاعِلَهُ مُؤَنَّثٌ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ (أَنْ) وَصِلَتِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْفِتْنَةِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَذَلِكَ نَظِيرُ التَّأْنِيثِ فِي اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: 160] ، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَمَّا كَانَتْ فِي مَعْنَى الْحَسَنَاتِ أُنِّثَ اسْمُ عَدَدِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّنا- بِالْجَرِّ- عَلَى الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِالنَّصْبِ- عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِهِ. وَذِكْرُهُمُ الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنَصُّلِ مِنَ الشِّرْكِ، أَيْ لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُهُ. وَقَدْ كَذَبُوا وَحَلَفُوا عَلَى الْكَذِبِ جَرْيًا عَلَى سَنَنِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْشَرُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَيْرَةَ وَالدَّهْشَ الَّذِي أَصَابَهُمْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُمَوِّهُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِ الْكَذِبِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِيقَةِ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الْحَقَائِقَ تَظْهَرُ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَظْهَرُ لَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا عَنْ أُمُورِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، فَذَكَرَ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاء: 42] وَقَوْلَهُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا. وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جَعَلَ حَالَهُمُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ بِمَنْزِلَة الْمشَاهد، لصدور عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ سَامِعَهُ أَوْ أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ حَاضِرٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَيْفَ لِمُجَرَّدِ الْحَالِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَالَةِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى أَصْحَابِهَا حِينَ تَكَيُّفِهِمْ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ نَظَائِرُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [50] . وَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّظَرَ هُنَا نَظَرًا

[سورة الأنعام (6) : آية 25]

قَلْبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِيءُ كَمَا يَجِيءُ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ فَيَكُونُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، أَيْ تَأَمَّلْ جَوَابَ قَوْلِ الْقَائِلِ: «كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» تَجِدُهُ جَوَابًا وَاضِحًا بَيِّنًا. وَلِأَجْلِ هَذَا التَّحَقُّقِ مِنْ خَبَرِ حَشْرِهِمْ عَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمُ الَّذِي يَحْصُلُ يَوْمَ الْحَشْرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ. وَفِعْلُ (كَذَبَ) يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) إِلَى مَنْ يُخْبِرُ عَنْهُ الْكَاذِبُ كَذِبًا مِثْلَ تَعْدِيَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُعْتَمِدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ الْكَاذِبُ خَبَرًا كَذِبًا فَبِنَفْسِهِ، يُقَالُ: كَذَبَكَ، إِذَا أَخْبَرَكَ بِكَذِبٍ. وَضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَة: 10] ، أَيْ غُيِّبْنَا فِيهَا بِالدَّفْنِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ ويَفْتَرُونَ صِلَتُهَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَخْتَلِقُونَهُ وَمَا صَدَّقَ ذَلِكَ هُوَ شُرَكَاؤُهُمْ. وَالْمُرَادُ: غَيْبَةُ شَفَاعَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُولُ مِنْهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَزَّلَ حُضُورَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَيْبَةِ، كَمَا يُقَالُ: أُخِذْتَ وَغَابَ نَصِيرُكَ، وَهُوَ حَاضر. [25] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 25] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) عَطَفَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً عَلَى الْجُمَلِ الِابْتِدَائِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 20] . وَالضَّمِير الْمَجْرُور بِمن التَّبْعِيضِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْحَدِيثُ مَعَهُمْ وَعَنْهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] ، أَيْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَقَدِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى أَحْوَالِ خَاصَّةِ عقلائهم الَّذين يربأون بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يُقَابِلُوا دَعْوَةَ

الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا يُقَابِلُهُ بِهِ سُفَهَاؤُهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءَ يَتَظَاهَرُونَ بِالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالْإِنْصَافِ وَيُخَيِّلُونَ لِلدَّهْمَاءِ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مُجَادَلَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ ثُمَّ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمَّى مِنْ هَؤُلَاءِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةَ وَأُبَيًّا ابْنَيْ خَلَفٍ، اجْتَمَعُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا لِلنَّضْرِ: مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: وَالَّذِي جَعَلَهَا بَيْتَهُ (يَعْنِي الْكَعْبَةَ) مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَرَى تَحَرُّكَ شَفَتَيْهِ فَمَا يَقُولُ إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مِثْلَ مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. يَعْنِي أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مُكَابَرَةً مِنْهُ لِلْحَقِّ وَحَسَدًا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَكَانَ النَّضْرُ كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَن الْقُرُون الأولى. وَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا عَنْ أَقَاصِيصِ الْعَجَمِ، مِثْلَ قِصَّةِ (رُسْتُمَ) وَ (إِسْفِنْدِيَارَ) فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ أَسْفَارٍ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ، وَكَانَ النَّضْرُ شَدِيدَ الْبَغْضَاءِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي أَهْدَرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دَمَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَأَرَاهُ حَقًّا. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: كَلَّا. فَوَصَفَ اللَّهُ حَالَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِكَلِمَتِهِ هَذِهِ، فَأَسْلَمَ هُوَ دُونَهُمْ لَيْلَةَ فَتْحِ مَكَّةَ وَثَبَتَتْ لَهُ فَضِيلَةُ الصُّحْبَةِ وَصِهْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِزَوْجِهِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. والأكنة جَمْعُ كِنَانٍ- بِكَسْرِ الْكَافِ- وَ (أَفْعِلَةٌ) يَتَعَيَّنُ فِي (فِعَالٍ) الْمَكْسُورِ الْفَاءِ إِذَا كَانَ عَيْنُهُ وَلَامُهُ مِثْلَيْنِ. وَالْكِنَانُ: الْغِطَاءُ، لِأَنَّهُ يَكُنُّ الشَّيْءَ، أَيْ يَسْتُرُهُ. وَهِيَ هُنَا تَخْيِيلٌ لِأَنَّهُ شُبِّهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي عَدَمِ خُلُوصِ الْحَقِّ إِلَيْهَا بِأَشْيَاءَ مَحْجُوبَةٍ عَنْ شَيْءٍ. وَأُثْبِتَتْ لَهَا الْأَكِنَّةُ تَخْيِيلًا، وَلَيْسَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْكِنَانَ. وَأُسْنِدَ جَعْلُ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ وَالتَّعَقُّلِ الْمُنْحَرِفُ، فَهُمْ لَهُمْ عُقُولٌ وَإِدْرَاكٌ لِأَنَّهُمْ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ أَهْوَاءَهُمْ تَخَيَّرَ لَهُمُ الْمَنْعَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ

لَا يُؤْمِنُونَ إِذْ كَانُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، عَلَى أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ عَامٌّ لَا تَعْيِينَ فِيهِ لِأُنَاسٍ وَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ لِأُنَاسٍ. فَالْجَعْلُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَلَيْسَ لِلتَّحْوِيلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَدْ مَاتَ الْمُسَمَّوْنَ كُلُّهُمْ عَلَى الشِّرْكِ عَدَا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّهُ شَهِدَ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَا سَمِعَهُ حَقٌّ، فَدَلَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَى سَلَامَةِ قَلْبِهِ مِنَ الْكِنَانِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْ يَفْقَهُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِ أَكِنَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ، أَيْ أَكِنَّةً تَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ. وَالْوَقْرُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- الصَّمَمُ الشَّدِيدُ وَفِعْلُهُ كَوَعَدَ وَوَجَدَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا، يُقَالُ: وَقَرَتْ أُذُنُهُ، وَمُتَعَدِّيًا يُقَالُ: وَقَرَ اللَّهُ أُذُنَهُ فَوَقَرَتْ. وَالْوَقْرُ مَصْدَرٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ لِ (وَقَرَتْ) أُذُنُهُ، لِأَنَّ قِيَاسَ مَصْدَرِهِ تَحْرِيكُ الْقَافِ، وَهُوَ قِيَاسِيٌّ لِ (وَقَرَ) الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمَسْمُوعَاتِ. جَعَلَ عَدَمَ الْفَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الصَّمَمِ وَلَمْ يُذْكَرْ لِلْوَقْرِ مُتَعَلِّقٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَمْنُوعِ بِوَقْرِ آذَانِهِمْ لِظُهُورِ أَنَّهُ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ، لِأَنَّ الْوَقْرَ مُؤْذِنٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ السَّمْعُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَسْمُوعُ. وَقَوْلُهُ: عَلى قُلُوبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فِي آذانِهِمْ يَتَعَلَّقَانِ بِ جَعَلْنا. وَقُدِّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَفْعُولِ جَعَلْنا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ تَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ حُجَّةً لِلَّذِينَ قَالُوا مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ بِالصِّرْفَةِ، أَيْ أَعْجَزَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَنْ صَرَفَهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْمُعَارَضَةِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ الصِّرْفَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَكِنَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. قُلْتُ: لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ تِلْكَ الْمَقَالَةِ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَكِنَّةَ تَخْيِيلٌ وَأَنَّ الْوَقْرَ اسْتِعَارَةٌ وَأَنَّ قَوْلَ النَّضْرِ (مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ) ، بُهْتَانٌ وَمُكَابَرَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها. وَكَلِمَةُ كُلَّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ كَانَ التَّعَذُّرُ عَقْلًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ [النِّسَاء: 129] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهَا

لِأَنَّهَا أَفْرَادٌ مُقَدَّرَةٌ تَظْهَرُ عِنْدَ تَكْوِينِهَا إِذْ هِيَ مَنْ جِنْسٍ عَامٍّ أَمْ كَانَ الْتَعَذُّرُ عَادَةً كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اجْتِمَاعَ جَمِيعِ بَقَرِ الْوَحْشِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَيَتَعَذَّرُ أَنْ يَرَى الْقَوْمُ كُلَّ أَفْرَادِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آيَةً، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ مَعْنَى الْكَثْرَةِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [145] . وحَتَّى حَرْفٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْغَايَةِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَأَصْلُ حَتَّى أَنْ يَكُونَ حَرْفَ جَرٍّ مِثْلَ (إِلَى) فَيَقَعَ بَعْدَهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ مَدْلُولُهُ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَ (حَتَّى) . وَقَدْ يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقَعُ بَعْدَ (حَتَّى) جُمْلَةٌ فَتَكُونُ (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ تُؤْذِنُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مَضْمُونُهُ غَايَةٌ لِكَلَامٍ قَبْلَ (حَتَّى) . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْكَافِيَةِ» : إِنَّهَا تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُمْ يَمْتَدُّ إِلَى وَقت تجيئهم وَلَا أَنَّ جَعْلَ الْأَكِنَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالْوَقْرِ فِي آذَانِهِمْ يَمْتَدُّ إِلَى وَقْتِ مَجِيئِهِمْ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْ يَتَسَبَّبَ عَلَى اسْتِمَاعِهِمْ بِدُونِ فَهْمٍ. وَجَعَلَ الْوَقْرَ عَلَى آذَانِهِمْ وَالْأَكِنَّةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوكَ جَادَلُوكَ. وَسُمِّيَتْ حَتَّى ابْتِدَائِيَّةً لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَيَأْتِي قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [31] ، وَزِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِمَعْنَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا إِلَخْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [37] . وإِذا شَرْطِيَّة ظرفية. وجاؤُكَ شَرْطُهَا، وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهَا. وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ من ضمير جاؤُكَ أَيْ جَاءُوكَ مُجَادِلِينَ، أَيْ مُقَدِّرِينَ الْمُجَادَلَةَ مَعَكَ يُظْهِرُونَ لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْفَاءٌ لِهَذِهِ الْمُجَادَلَةِ. وَجُمْلَةُ يَقُولُ جَوَابُ إِذا، وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا

[سورة الأنعام (6) : آية 26]

لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ مَا جَاءُوا طَالِبِينَ الْحَقَّ كَمَا يَدَّعُونَ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَخَرَجُوا بِهِ فَيَقُولُونَ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَهُمْ قَدْ عَدَلُوا عَنِ الْجَدَلِ إِلَى الْمُبَاهَتَةِ وَالْمُكَابَرَةِ. وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمَاضِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأُسْطُورَةَ لَفْظٌ مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ: أَصْلُهُ إِسْطُورْيَا- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- وَهُوَ الْقِصَّةُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اخْتِلَافُ الْعَرَبِ فِيهِ، فَقَالُوا: أُسْطُورَةٌ وَأُسْطِيرَةٌ وَأُسْطُورٌ وَأُسْطِيرٌ، كُلُّهَا- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَإِسْطَارَةٌ وَإِسْطَارٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-. وَالِاخْتِلَافُ فِي حَرَكَاتِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَمَارَاتِ التَّعْرِيبِ. وَمِنْ أَقْوَالِهِمْ: «أَعْجَمِيٌّ فَالْعَبْ بِهِ مَا شِئْتَ» . وَأَحْسَنُ الْأَلْفَاظِ لَهَا أُسْطُورَةٌ لِأَنَّهَا تُصَادِفُ صِيغَةً تُفِيدُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْقِصَّةَ الْمَسْطُورَةَ. وَتُفِيدُ الشُّهْرَةَ فِي مَدْلُولِ مَادَّتِهَا مِثْلَ الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُحْدُوثَةِ وَالْأُكْرُومَةِ. وَقِيلَ: الْأَسَاطِيرُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلَ أَبَابِيلَ وَعَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ. وَكَانَ الْعَرَبُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا يَتَسَامَرُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا مِنْ صِدْقٍ وَكَذِبٍ. وَقَدْ كَانُوا لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ التَّوَارِيخِ وَالْقِصَصِ وَالْخُرَافَاتِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَرْمِيٌّ بِالْكَذِبِ وَالْمُبَالَغَةِ. فَقَوْلُهُمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا نِسْبَةَ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي الأساطير. ويشتمل أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْمُوعَ قِصَصٍ وَأَسَاطِيرَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ أَوْ لِتَجَاهُلِهِمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ تِلْكَ الْقِصَصِ وَيَأْخُذُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَسَامَرُ النَّاسُ بِهَا لِتَقْصِيرِ الْوَقْتِ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِك النَّضر لَا الْحَارِثِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُمَثِّلُ الْقُرْآنَ بِأَخْبَارِ (رُسْتُمَ) و (إسفنديار) . [26] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 26] وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَالضَّمِيرَانِ الْمَجْرُورَانِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] . وَمَعْنَى النَّهْيُ عَنْهُ النَّهْيُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ. فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ. وَالْمُرَادُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعَيِّنُهَا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 إلى 28]

الْمَقَامُ. وَكَذَلِكَ النَّأْيُ عَنْهُ مَعْنَاهُ النَّأْيُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، أَيْ هُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ وَيَتَبَاعَدُونَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ: لَقَدْ نَهَيْتُ بَنِي ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ ... وَعَنْ تَرَبُّعِهِمْ فِي كُلِّ أَصْفَارِ يَعْنِي نَهَيْتُهُمْ عَنِ الرَّعْيِ فِي ذِي أُقُرٍ، وَهُوَ حِمَى الْمَلِكِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يَنْهَوْنَ- ويَنْأَوْنَ الْجِنَاسُ الْقَرِيبُ مِنَ التَّمَامِ. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ يُفِيدُ قَلْبَ اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِالنَّهْيِ وَالنَّأْيِ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَتَّبِعُوهُ وَلَا يَتَّبِعَهُ النَّاسُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِدَوَامِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ وَبِتَضْلِيلِ النَّاسِ، فَيَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ النَّاسِ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّ مَا أَرَادُوا بِهِ نِكَايَتَهُ إِنَّمَا يَضُرُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَأَصْلُ الْهَلَاكِ الْمَوْتُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَضَرَّةِ الشَّدِيدَةِ لِأَنَّ الشَّائِعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ الضُّرِّ. فَالْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ هُنَا مَا يَلْقَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَذَلَّةِ عِنْدَ نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ. وَهُوَ قَاصِرٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ إِلَّا بِحَرْفِ جَرٍّ، وَمَا وَرَدَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ فِي الضَّرُورَةِ. وَعَقَّبَ قَوْلَهُ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ الْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ قَادَةً لِلنَّاسِ، وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ لِلْعَطْفِ لَا لِلْحَالِ لِيُفِيدَ ذَلِكَ كَوْنَ مَا بَعْدَهَا مَقْصُودًا بِهِ الْإِخْبَارُ الْمُسْتَقِلُّ لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُمْ أعظم عقلائهم. [27، 28] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 27 إِلَى 28] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ

(28) الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ تَسْلِيَةً لَهُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الْأَنْعَام: 26] فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْأَنْعَام: 26] ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَشْتَرِكُ مَعَ الرَّسُولِ فِي هَذَا الْخِطَابِ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخَبَرَ. ولَوْ شَرْطِيَّةٌ، أَيْ لَوْ تَرَى الْآنَ، وإِذْ ظَرْفِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ وُقِفُوا، أَيْ لَوْ تَرَاهُمْ، ووُقِفُوا مَاضٍ لَفْظًا وَالْمَعْنَى بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، أَيْ إِذْ يُوقَفُونَ. وَجِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي خَبَرِهِ. وَمَعْنَى: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أُبْلِغُوا إِلَيْهَا بَعْدَ سَيْرٍ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِ عَلَى. وَالِاسْتِعْلَاءُ الْمُسْتَفَادُ بِ عَلَى مَجَازِيٌّ مَعْنَاهُ قُوَّةُ الِاتِّصَالِ بِالْمَكَانِ، فَلَا تَدُلُّ (عَلَى) عَلَى أَنَّ وُقُوفَهُمْ عَلَى النَّارِ كَانَ مِنْ أَعْلَى النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: 30] ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَقَفْتُ رَاحِلَتِي عَلَى زَيْدٍ، أَيْ بَلَغْتُ إِلَيْهِ فَحَبَسْتُ نَاقَتِي عَنِ السَّيْرِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ فَحَذَفُوا مَفْعُولَ (وَقَفْتُ) لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَيُقَالُ: وَقَفَهُ فَوَقَفَ، وَلَا يُقَالُ: أَوْقَفَهُ بِالْهَمْزَةِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ فَقالُوا بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ، لِأَنَّ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْهَوْلِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ جَزَاءُ تَكْذِيبِهِمْ بِإِلْهَامٍ أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ بِإِخْبَارِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَعَجِلُوا فَتَمَنَّوْا أَنْ يَرْجِعُوا. وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَقْتَضِي بُعْدَ الْمُنَادَى، فَاسْتُعْمِلَ فِي التَّحَسُّرِ لِأَنَّ الْمُتَمَنَّى صَارَ بَعِيدًا عَنْهُمْ، أَيْ غَيْرَ مُفِيدٍ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] . وَمَعْنَى نُرَدُّ نَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَطْفًا عَلَى نُرَدُّ، فَيَكُونُ

مِنْ جُمْلَةِ مَا تَمَنَّوْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبْ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْجَزَاءَ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجَزَاءِ مَعَ الْوَاوِ غَيْرُ مَشْهُورٍ، بِخِلَافِهِ مَعَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي السَّبَبِيَّةِ. وَالرَّدُّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا تَمَنَّوْهُ لِمَا يَقَعُ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ التَّكْذِيبِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الذِّكْرِ تَرْكَ التَّكْذِيبِ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ الْمُتَمَنَّى عَلَى اعْتِبَارِ الْوَاوِ لِلْمَعِيَّةِ وَاقِعَةً مَوْقِعَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَلا نُكَذِّبَ- ونَكُونَ- بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ-، عَلَى أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلا نُكَذِّبَ- بِالرَّفْعِ- كَالْجُمْهُورِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ انْتِفَاءَ التَّكْذِيبِ حَاصِلٌ فِي حِينِ كَلَامِهِمْ، فَلَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ حَتَّى يَكُونَ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) الْمُفِيدَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَرَأَ وَنَكُونَ- بِالنَّصْبِ- عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، أَيْ نَكُونَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ. وَقَوْلُهُ: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى بَلْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَطْمَعٌ فِي الْخَلَاصِ. وَبَدَا الشَّيْءُ ظَهَرَ. وَيُقَالُ: بَدَا لَهُ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ عِيَانًا. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي زَوَالِ الشَّكِّ فِي الشَّيْءِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مضى ... وَلَا سَابق شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا وَلَمَّا قُوبِلَ بَدا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يُخْفُونَ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَدَاءَ هُوَ ظُهُورُ أَمْرٍ فِي أَنْفُسِهِمْ كَانُوا يُخْفُونَهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ خَطَرَ لَهُمْ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْخَاطِرُ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ، أَيِ الَّذِي كَانَ يَبْدُو لَهُمْ، أَيْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ وُقُوعُهُ فَلَا يُعْلِنُونَ بِهِ فَبَدَا لَهُمُ الْآنَ فَأَعْلَنُوا بِهِ وَصَرَّحُوا مُعْتَرِفِينَ بِهِ. فَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ، وَتَقْدِيره: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانَ يَبْدُو لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَظْهَرُوهُ الْآنَ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْطُرُ لَهُمُ الْإِيمَانُ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ دَلَائِلِهِ أَوْ مِنْ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَصُدُّهُمْ عَنْهُ الْعِنَادُ وَالْحِرْصُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ السِّيَادَةِ وَالْأَنَفَةِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِ الرَّسُولِ وَبِسَبْقِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ قَبْلَهُمْ، وَفِيهِمْ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَعَبِيدُهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [52] ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:

[سورة الأنعام (6) : آية 29]

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [2] . وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُغْنِي عَنِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَحَيَّرَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ وَهِيَ لَا تُلَائِمُ نَظْمَ الْآيَةِ، فَبَعْضُهَا يُسَاعِدُهُ صَدْرُهَا وَبَعْضُهَا يُسَاعِدُهُ عَجُزُهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُسَاعِدُهُ جَمِيعُهَا. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ارْتِقَاءٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فِي الْمُنَاظَرَةِ، أَيْ لَوْ أُجِيبَتْ أُمْنِيَّتُهُمْ وَرُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ النَّبِيءُ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نُفُوسَهُمُ الَّتِي كَذَّبَتْ فِيمَا مَضَى تَكْذِيبَ مُكَابَرَةٍ بَعْدَ إِتْيَانِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، هِيَ النُّفُوسُ الَّتِي أُرْجِعَتْ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْبَعْثِ فَالْعَقْلُ الْعَقْلُ وَالتَّفْكِيرُ التَّفْكِيرُ، وَإِنَّمَا تَمَنَّوْا مَا تَمَنَّوْا مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَتَوَهَّمُوا التَّخَلُّصَ مِنْهُ بِهَذَا التَّمَنِّي فَلَوْ تَحَقَّقَ تَمَنِّيهِمْ وَرُدُّوا وَاسْتَرَاحُوا مِنْ ذَلِكَ الْهَوْلِ لَغَلَبَتْ أَهْوَاؤُهُمْ رُشْدَهُمْ فَنَسُوا مَا حَلَّ بِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى مَا أَلِفُوا مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمُكَابَرَةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوَاطِرَ النَّاشِئَةَ عَنْ عَوَامِلِ الْحِسِّ دُونَ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ لَا قَرَارَ لَهَا فِي النَّفْسِ وَلَا تَسِيرُ عَلَى مُقْتَضَاهَا إِلَّا رَيْثَمَا يَدُومُ ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ فَإِذَا زَالَ زَالَ أَثَرُهُ، فَالِانْفِعَالُ بِهِ يُشْبِهُ انْفِعَالَ الْعَجْمَاوَاتِ مِنَ الزَّجْرِ وَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِمَا. وَيَزُولُ بِزَوَالِهِ حَتَّى يُعَاوِدَهُ مِثْلُهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ. جِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ سَجِيَّةٌ لَهُمْ قَدْ تَطَبَّعُوا عَلَيْهَا مِنَ الدُّنْيَا فَلَا عَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الرُّجُوعَ لِيُؤْمِنُوا فَلَوْ رَجَعُوا لَعَادُوا لَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَذِبَ سَجِيَّتُهُمْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ تَمَنِّيهِمْ وَعْدًا، فَلِذَلِكَ صَحَّ إِدْخَالُهُ فِي حُكْمِ كَذِبِهِمْ دُخُولَ الْخَاصِّ فِي الْعَامِّ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يُؤْذِنُ بِشُمُولِ مَا ذُيِّلَ بِهِ وَزِيَادَةٌ. فَلَيْسَ وَصْفُهُمْ بِالْكَذِبِ بِعَائِدٍ إِلَى التَّمَنِّي بَلْ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّكْذِيبِ بآيَات الله. [29] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 29] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: 28] فَيَكُونَ جَوَابَ لَوْ، أَيْ

[سورة الأنعام (6) : آية 30]

لَوْ رُدُّوا لَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَيْضًا، وَلَكَذَّبُوا بِالْبَعْثِ كَمَا كَانُوا مُدَّةَ الْحَيَاةِ الْأُولَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] ، وَيَكُونَ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ اعْتِرَاضًا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْذِيبِ لِلْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ إِنْ هِيَ (إِنْ) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، وَالضَّمِيرُ بَعْدَهَا مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. قَصَدَ مِنْ إِبْهَامِهِ الْإِيجَازَ اعْتِمَادًا عَلَى مُفَسِّرِهِ، وَالضَّمِيرُ لَمَّا كَانَ مُفَسَّرًا بِنَكِرَةٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ، وَلَيْسَ هُوَ ضَمِيرَ قِصَّةٍ وَشَأْنٍ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى إِنِ الْحَيَاةُ لَنَا إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، أَيِ انْحَصَرَ جِنْسُ حَيَاتِنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا فَلَا حَيَاةَ لَنَا غَيْرُهَا فَبَطَلَتْ حَيَاةُ بَعْدِ الْمَوْتِ، فَالِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَ إِلَّا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ. وَجُمْلَةُ: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ نَفْيٌ لِلْبَعْثِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَأْكِيدَ نَفْيِ الْحَيَاةِ غَيْرِ حَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْبَعْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ حَيَاةٍ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ وَلَمْ تفصل فَتكون موكّدة لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ قَصْدَهُمْ إِبْطَالُ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ يَحْيَوْنَ حَيَاةً ثَانِيَةً، وَقَوْلِهِ تَارَةً إِنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَصَدُوا إِبْطَالَ كلّ باستقلاله. [30] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 30] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) لَمَّا ذَكَرَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ أَعْقَبَهُ بِوَصْفِ حَالِهِمْ حِينَ يُحْشَرُونَ إِلَى الله، وَهن حَالُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ. وَالْقَوْلُ فِي الْخِطَابِ وَفِي مَعْنَى وُقِفُوا وَفِي جَوَابِ لَوْ تَقَدَّمَ فِي نَظَرِيَّتِهَا آنِفًا. وَتَعْلِيقُ عَلى رَبِّهِمْ بِ وُقِفُوا تَمْثِيلٌ لِحُضُورِهِمُ الْمَحْشَرَ عِنْدَ الْبَعْثِ. شُبِّهَتْ حَالُهُمْ فِي الْحُضُورِ لِلْحِسَابِ بِحَالِ عَبْدٍ جَنَى فَقُبِضَ عَلَيْهِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ. وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مَزِيَّةُ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ رَبِّهِمْ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ: قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا

[سورة الأنعام (6) : آية 31]

قَدْ آذَنَ بِمَشْهَدٍ عَظِيمٍ مَهُولٍ فَكَانَ مِنْ حَقِّ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: مَاذَا لَقُوا مِنْ رَبِّهِمْ، فَيُجَابُ: قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ الْآيَةَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي عَايَنُوهُ وَشَاهَدُوهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ دَخَلَ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ الْمُقَرَّرِ بِهِ لِاخْتِبَارِ مِقْدَارِ إِقْرَارِ الْمَسْئُولِ، فَلِذَلِكَ يَسْأَلُ عَنْ نَفْيِ مَا هُوَ وَاقِعٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَطْمَعٌ فِي الْإِنْكَارِ تَذَرَّعَ إِلَيْهِ بِالنَّفْيِ الْوَاقِعِ فِي سُؤَالِ الْمُقَرَّرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَهُ بَاطِلًا. وَلِذَلِكَ أَجَابُوا بِالْحَرْفِ الْمَوْضُوعِ لِإِبْطَالِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ بَلى فَهُوَ يُبْطِلُ النَّفْيَ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِوُقُوعِ الْمُنَى، أَيْ بَلَى هُوَ حَقٌّ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقًا لِاعْتِرَافِهِمْ لِلْمُعْتَرِفِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ نُقِرُّ وَلَا نَشُكُّ فِيهِ فَلِذَلِكَ نُقْسِمُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ لَازِمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ. وَفَصَلَ قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَلَامِهِمْ، أَوَ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِذْ كَانَ هَذَا الْحَقَّ فَذُوقُوا الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِكُمْ، أَيْ بِالْبَعْثِ. وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، أَيْ بِهَذَا. وَذَوْقُ الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ لِإِحْسَاسِهِ، لِأَنَّ الذَّوْقَ أَقْوَى الْحَوَاسِّ الْمُبَاشِرَةِ لِلْجِسْمِ، فَشَبَّهَ بِهِ إحساس الْجلد. [31] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 31] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31) اسْتِئْنَافٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ حِينَ يَقَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ عَلَى مَا اسْتَدَامُوهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى اسْتَدَامَتِهِ اعْتِقَادُهُمْ نَفْيَ الْبَعْثِ فَذَاقُوا الْعَذَابَ لِذَلِكَ، فَتِلْكَ حَالَةٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: قَدْ خَسِرُوا وَخَابُوا. وَالْخُسْرَانُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَالْخَسَارَةُ هُنَا حِرْمَانُ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ لَا الدُّنْيَا. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَام: 27] وَمَا بَعْدَهُ، بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ خَسِرُوا، لَكِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا فِي الصِّلَةِ مِنْ تَفْصِيلٍ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً إِلَخْ. وَلِقَاءُ اللَّهِ هُوَ ظُهُورُ آثَارِ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ وَلَا إِمْهَالٍ وَلَا وِقَايَةٍ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَانَ الْعَالَمُ الْأُخْرَوِيُّ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبَعْثِ عَالَمَ ظُهُورِ الْحَقَائِقِ بِآثَارِهَا دُونَ مَوَانِعَ، وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ الْأَعْلَى الَّذِي جَعَلَهُ عَالَمَ كَمَالِ الْحَقَائِقِ، جَعَلَ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ مُمَاثِلًا لِلِقَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ بَعْدَ الْغَيْبَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ عَنْهُ زَمَانًا طَوِيلًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَعْثُ مُلَاقَاةَ اللَّهِ، وَلِقَاءَ اللَّهِ وَمَصِيرًا إِلَى اللَّهِ، وَمَجِيئًا إِلَيْهِ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا هُمْ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ لَوْ شَاءَ لَقَبَضَهُمْ إِلَيْهِ وَلَعَجَّلَ إِلَيْهِمْ جَزَاءَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يُونُس: 11] . وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَمْهَلَهُمْ وَاسْتَدْرَجَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ وَوَعَدَ وَتَوَعَّدَ كَانَ حَالُ النَّاسِ فِيهِ كَحَالِ الْعَبِيدِ يَأْتِيهِمُ الْأَمْرُ مِنْ مَوْلَاهُمُ الْغَائِبِ عَنْهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَثِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْصِي، وَهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حِينَئِذٍ جَزَاءً عَنْ طَاعَةٍ وَلَا عِقَابًا عَنْ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ، فَإِذَا طُوِيَ هَذَا الْعَالَمُ وَجَاءَتِ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ صَارَ النَّاسُ فِي نِظَامٍ آخَرَ، وَهُوَ نِظَامُ ظُهُورِ الْآثَارِ دُونَ رَيْثٍ، قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: 49] ، فَكَانُوا كَعَبِيدٍ لَقُوا رَبَّهُمْ بَعْدَ أَنْ غَابُوا وَأُمْهِلُوا. فَاللِّقَاءُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَتْ حَالَةَ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَصِيرِ إِلَى تَنْفِيذِ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ بِحَالَةِ الْعَبِيدِ عِنْدَ حُضُورِ سَيِّدِهِمْ بَعْدَ غَيْبَةٍ لِيَجْزِيَهُمْ على مَا فعلوا فِي مُدَّةِ الْمَغِيبِ. وَشَاعَ هَذَا التَّمْثِيلُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ، وَفِي الْقُرْآنِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غَافِر: 15] . وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ الْغَايَةَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، أَيْ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ

مَجِيءَ السَّاعَةِ غَايَةً لِلْخُسْرَانِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ خُسْرَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْسَرْ شَيْئًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [25] . وَسَيَجِيءُ لِمَعْنَى (حَتَّى) زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [37] . وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَالْبَغْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الْبَغْتِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بَغَتَهُ الْأَمْرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ وَلَا إِعْلَامٍ وَلَا ظُهُورِ شَبَحٍ أَوْ نَحْوِهِ. فَفِي الْبَغْتِ مَعْنَى الْمَجِيءِ عَنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ. وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ حَالًا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا تَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: قالُوا جَوَابُ (إِذَا) . وَيَا حَسْرَتَنا نِدَاءٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعَجُّبُ وَالتَّنَدُّمُ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ نِدَاءٌ لِلْحَسْرَةِ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ شَخْصٍ يَسْمَعُ وَيُنَادَى لِيَحْضُرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا حَسْرَةً احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ كَذَا، وَيَا أَسَفِي أَوْ يَا أَسَفَا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَضَافُوا الْحَسْرَةَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَكُونَ تَحَسُّرُهُمْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمُ الْمُتَحَسِّرُونَ وَالْمُتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَا حَسْرَةً، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ تَحَسَّرَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ يَتَحَسَّرُ لِحَالِ غَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ تَجِيءُ مَعَهُ (عَلَى) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْ أَجْلِهِ دَاخِلَةً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ التَّحَسُّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فَأَمَّا مَعَ (يَا حَسْرَتِي، أَوْ يَا حَسْرَتَا) فَإِنَّمَا تَجِيءُ (عَلَى) دَاخِلَةً عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي التَّحَسُّرِ كَمَا هُنَا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يَا وَيْلِي وَيَا وَيْلَتِي، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا [الْكَهْف: 49] ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّ الْوَيْلَ لِغَيْرِهِ قَالَ: وَيْلَكَ، قَالَ تَعَالَى: وَيْلَكَ آمِنْ [الْأَحْقَاف: 17] وَيَقُولُونَ: وَيْلٌ لَكَ.

وَالْحَسْرَةُ: النَّدَمُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ التَّلَهُّفُ، وَهِيَ فَعْلَةٌ مِنْ حَسِرَ يَحْسَرُ حَسَرًا، مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَيُقَالُ: تَحَسَّرَ تَحَسُّرًا. وَالْعَرَبُ يُعَامِلُونَ اسْمَ الْمَرَّةِ مُعَامَلَةَ مُطْلَقِ الْمَصْدَرِ غَيْرَ مُلَاحَظِينَ فِيهِ مَعْنَى الْمَرَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُلَاحِظُونَ الْمَصْدَرَ فِي ضِمْنِ فَرْدٍ، كَمَدْلُولِ لَامِ الْحَقِيقَةِ، وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي مَقَامِ النِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ اسْمٌ لِلْحَاصِلِ بِالْفِعْلِ بِخِلَافِ اسْمِ الْمَرَّةِ فَهُوَ اسْمٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَصْدَرِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمَاهِيَّةِ. وفَرَّطْنا أَضَعْنَا. يُقَالُ: فَرَّطَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَهَاوَنَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَحْفَظْهُ، أَوْ فِي اكْتِسَابِهِ حَتَّى فَاتَهُ وَأَفْلَتَ مِنْهُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 38] . وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (فِي) فَيُقَالُ فَرَّطَ فِي مَالِهِ، إِذَا أَضَاعَهُ. وَمَا مَوْصُولَة مَا صدقهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَمَفْعُولُ فَرَّطْنا مَحْذُوفٌ يَعُودُ إِلَى مَا. تَقْدِيرُهُ: مَا فَرَّطْنَاهُ وَهُمْ عَامٌّ مِثْلَ مُعَادِهِ، أَيْ نَدِمْنَا عَلَى إِضَاعَةِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْفَعَنَا فَفَرَطْنَاهُ، وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةِ. وَ «فِي» تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مَا فَوَّتْنَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِأَجْلِ نَفْعِ هَذِهِ السَّاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي لِلتَّعْدِيَةِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى الضَّمِيرِ، أَيْ فِي خَيْرَاتِهَا. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي السَّاعَةِ، يَعْنُونَ مَا شَاهَدُوهُ مِنْ نَجَاةِ وَنَعِيمِ أَهْلِ الْفَلَّاحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فِيها عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَكُونَ «فِي» لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ قالُوا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ فَهُمْ بَيْنَ تَلَهُّفٍ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْإِيمَانِ وَبَيْنَ مُقَاسَاةِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَوْزَارِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنْ خَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَحَسْبُ بَلْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُتْعَبِينَ مُثْقَلِينَ بِالْعَذَابِ. وَالْأَوْزَارُ جَمْعُ وِزْرٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-، وَهُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَفِعْلُهُ وَزَرَ يَزِرُ إِذَا حَمَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَام: 164] . وَأُطْلِقَ الْوِزْرُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْجِنَايَةِ لِثِقَلِ عَاقِبَتِهَا عَلَى جَانِيهَا. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ عَنَتِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ ذُنُوبِهِمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 32]

بِحَالِ مَنْ يَحْمِلُ حِمْلًا ثَقِيلًا. وَذَكَرَ عَلى ظُهُورِهِمْ هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَمْثِيلِ الْحَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] . فَذَكَرَ الْأَيْدِي لِأَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ بِالْيَدِ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَخْيِيلَ الِاسْتِعَارَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى التَّخْيِيلُ فِي التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ مَا يُذْكَرُ فِيهَا صَالِحٌ لِاعْتِبَارِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْهَيْئَةِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الظَّهْرِ مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْحَامِلِ. وَمِنْ لَطَائِفِ التَّوْجِيهِ وَضْعُ لَفْظِ الْأَوْزَارِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ الذُّنُوبِ، وَهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ مِنْ جَرَّاءِ ذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَهَا لِأَنَّهُمْ يُعَانُونَ شِدَّةَ آلَامِهَا. وَجُمْلَةُ: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ. وَ (أَلَا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ لِلْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ. وساءَ مَا يَزِرُونَ إِنْشَاءُ ذَمٍّ. ويَزِرُونَ بِمَعْنَى يَحْمِلُونَ، أَيْ سَاءَ مَا يُمَثَّلُ مِنْ حَالِهِمْ بِالْحَمْلِ. وَمَا يَزِرُونَ فَاعِلُ ساءَ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيره: حملهمْ. [32] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 32] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ السَّاعَةِ وَمَا يَلْحَقُ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا مِنَ الْحَسْرَةِ عَلَى مَا فَرَّطُوا نَاسَبَ أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام: 29] . فَتَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ تَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَلَوْ نَظَرْتُمْ حَقَّ النَّظَرِ لَوَجَدْتُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ بَاقٍ، فَلَعَلِمْتُمْ أَنَّ وَرَاءَهَا حَيَاةً أُخْرَى فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يَنَالُهُ الْمُتَّقُونَ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ، فَتَكُونَ الْآيَة إِعَادَة لدعوتهم إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَيَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ الْتِفَاتًا مِنَ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ بِالْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِهِمْ بِالدَّعْوَةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بِالتَّذْيِيلِ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: 31] عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الْأُمُورِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ الِانْهِمَاكِ فِي زَخَارِفِ الدُّنْيَا، فَذَيَّلَ ذَلِكَ بِخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيفًا بِقِيمَةِ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْبِشَارَةِ عَلَى حِكَايَةِ النِّذَارَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ التَّضَادُّ. وَأَيْضًا فِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِهِمْ إِذْ غَرَّتْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَسُوِّلَ لَهُمُ الِاسْتِخْفَافُ بِدَعْوَةِ اللَّهِ إِلَى الْحَقِّ. فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ خِطَابًا مُسْتَأْنَفًا لِلْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ تَغُرَّهُمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا فَتُلْهِيَهِمْ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ عَلَى جِنْسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيَاةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ الْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا كُلُّ أَحَدٍ الْمَعْرُوفَةُ بِالدُّنْيَا، أَيِ الْأُولَى وَالْقَرِيبَةُ مِنَ النَّاسِ، وَأُطْلِقَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَلَى أَحْوَالِهَا، أَوْ عَلَى مُدَّتِهَا. وَاللَّعِبُ: عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ فِي خِفَّةٍ وَسُرْعَةٍ وَطَيْشٍ لَيْسَتْ لَهُ غَايَةٌ مُفِيدَةٌ بَلْ غَايَتُهُ إِرَاحَةُ الْبَالِ وَتَقْصِيرُ الْوَقْتِ وَاسْتِجْلَابُ الْعُقُولِ فِي حَالَةِ ضَعْفِهَا كَعَقْلِ الصَّغِيرِ وَعَقْلِ الْمُتْعَبِ، وَأَكْثَرُهُ أَعْمَالُ الصِّبْيَانِ. قَالُوا وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّعَابِ، وَهُوَ رِيقُ الصَّبِيِّ السَّائِلُ. وَضِدَّ اللَّعِبِ الْجِدُّ. وَاللَّهْوُ: مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا تَرْتَاحُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَا يَتْعَبُ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ عَقْلُهُ. فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ اسْتِمْتَاعٌ وَلَذَّةٌ وَمُلَائِمَةٌ لِلشَّهْوَةِ. وَبَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ. فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ مُلَاءَمَةٌ وَيُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنَ الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ كَالطَّرَبِ وَاللَّهْوِ بِالنِّسَاءِ. وَيَنْفَرِدُ اللَّعِبُ فِي لَعِبِ الصِّبْيَانِ. وَيَنْفَرِدُ اللَّهْوُ فِي نَحْوِ الْمَيْسِرِ وَالصَّيْدِ. وَقَدْ أَفَادَتْ صِيغَةُ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ قَصْرَ الْحَيَاةِ عَلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الَّتِي يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهَا، لِأَنَّ الْحَيَاةَ مُدَّةٌ وَزَمَنٌ لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِغَيْرِ أَوْصَافِ الْأَزْمَانِ مِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ،

وَتَحْدِيدٍ أَوْ ضِدِّهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الْمَظْرُوفَةُ فِيهَا. وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، لِأَنَّهُمَا مُصْدَرَانِ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ وَهَذَا الْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَاصِلَةَ فِي الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، وَمِنْهَا غَيْرُهُمَا، قَالَ تَعَالَى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الْحَدِيد: 20] . فَالْحَيَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْمُلَائِمُ كَالْأَكْلِ وَاللَّذَّاتِ، وَمِنْهَا الْمُؤْلِمُ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَحْزَانِ، فَأَمَّا الْمُؤْلِمَاتُ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا هُنَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهِ الرَّاغِبُونَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْحَيَاةِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهَا النَّاسُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْمُلَائِمَاتُ. وَأَمَّا الْمُلَائِمَاتُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، كالطعام وَالشرَاب والتدفّي فِي الشِّتَاءِ وَالتَّبَرُّدِ فِي الصَّيْفِ وَجَمْعِ الْمَالِ عِنْدَ الْمُولِعِ بِهِ وَقَرْيِ الضَّيْفِ وَنِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَبَذْلِ الْخَيْرِ لِلْمُحْتَاجِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ لَمَّا كَانَ مُعْظَمُهَا يَسْتَدْعِي صَرْفَ هِمَّةٍ وَعَمَلٍ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّعَبِ وَهُوَ مُنَافِرٌ. فَكَانَ مُعْظَمُ مَا يُحِبُّ النَّاسُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهِ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَمِنَ اللَّعِبِ الْمُزَاحُ وَمُغَازَلَةُ النِّسَاءِ، وَمِنَ اللَّهْوِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْمَغَانِي وَالْأَسْمَارُ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ وَالصَّيْدُ. فَأَمَّا أَعْمَالُهُمْ فِي الْقُرُبَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالنَّذْرِ وَالطَّوَافِ بِالْأَصْنَامِ وَالْعَتِيرَةِ وَنَحْوِهَا فَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ لَا اعْتِدَادَ بِهَا بِدُونِ الْإِيمَانِ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِاللَّعِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: 35] ، وَقَالَ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الْأَعْرَاف: 51] . فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقَصْرُ الِادِّعَائِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُتَّقِينَ فِي

الدُّنْيَا هِيَ ضِدُّ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، لِأَنَّهُمْ جُعِلَتْ لَهُمْ دَارٌ أُخْرَى هِيَ خَيْرٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْفَوْزَ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلٍ فِي الدُّنْيَا فَأَنْتَجَ أَنَّ عَمَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَأَنَّ حَيَاةَ غَيْرِهِمْ هِيَ الْمَقْصُورَةُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ. وَالدَّارُ مَحَلُّ إِقَامَةِ النَّاسِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا بُيُوتُ النَّاسِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ خِيَامٍ أَوْ قِبَابٍ. وَالْآخِرَةُ مُؤَنَّثُ وَصْفِ الْآخِرِ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهُوَ ضِدُّ الْأَوَّلِ، أَيْ مَقَرُّ النَّاسِ الْأَخِيرِ الَّذِي لَا تَحَوُّلَ بَعْدَهُ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ وَلَلدَّارُ- بِلَامَيْنِ- لَامِ الِابْتِدَاءِ وَلَام التَّعْرِيف، وقرأوا الْآخِرَةُ- بِالرَّفْعِ-. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ- بِلَامِ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ وَبِإِضَافَةِ دَارُ مُنَكَّرَةً إِلَى الْآخِرَةِ- فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أَوْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ تَكُونُ الْآخِرَةُ وَصْفًا لَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: دَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ عَلَى الدُّنْيَا بِاعْتِبَارِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ نَعِيمٍ عَاجِلٍ زَائِلٍ يَلْحَقُ مُعْظَمَهُ مُؤَاخَذَةٌ وَعَذَابٌ. وَقَوْلُهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْآخِرَةِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِخَيْرٍ مِمَّا كَانُوا فِي الدُّنْيَا. وَالْمرَاد ب الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ التَّابِعُونَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] ، فَإِنَّ الْآخِرَةَ لِهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا مَنْ تَلْحَقُهُمْ مُؤَاخَذَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا كَانَ مَصِيرُهُمْ بَعْدُ إِلَى الْجَنَّةِ كَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ عَطْفٌ بِالْفَاءِ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَى آخِرِهَا لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَدَمِ عَقْلِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ فِي التَّحْذِيرِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ صَحَّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرَانِ بِاعْتِبَارِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّ الْمَدْلُولَاتِ الْكِنَائِيَّةَ تَتَعَدَّدُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِهَا الِاشْتِرَاكُ، لِأَنَّ دَلَالَتَهَا الْتِزَامِيَّةٌ، عَلَى أَنَّنَا نَلْتَزِمُ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 33]

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، أَفَلا تَعْقِلُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ-، فَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَائِدٌ لِمَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ قَبْلَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تأييس للْمُشْرِكين. [33] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 33] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَتْ بِهِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرُهُ بِالصَّبْرِ، وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ، وَتَأْيِيسُهُ مِنْ إِيمَانِ الْمُتَغَالِينَ فِي الْكُفْرِ، وَوَعْدُهُ بِإِيمَانِ فِرَقٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى - إِلَى قَوْلِهِ- يَسْمَعُونَ. وَقَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِهَذَا الْغَرَضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَإِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَرَاغِ مِنْ وَعِيدِهِمْ وَفَضِيحَةِ مُكَابَرَتِهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: 4] إِلَى هُنَا. وَقد تَحْقِيقٌ لِلْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَهُوَ فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. فَحَرْفُ قَدْ مُخْتَصٌّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ وَحَرْفِ تَنْفِيسٍ، وَمَعْنَى التَّحْقِيقِ مُلَازِمٌ لَهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَدْخُولُهَا مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا، وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَى قَدْ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْلَيْنِ. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ قَدْ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُضَارِعِ أَفَادَ تَقْلِيلَ حُصُولِ الْفِعْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ وَلَيْسَتْ بِدَلَالَةٍ أَصْلِيَّةٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدِي. وَلِذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِ قَدْ عَلَى فِعْلِ الْمُضِيِّ وَدُخُولِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي إِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْحُصُولِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [64] . فَالتَّحْقِيقُ يُعْتَبَرُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي إِنْ

كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ قَدْ فِعْلَ مُضِيٍّ، وَفِي زَمَنِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ (قَدْ) فِعْلًا مُضَارِعًا مَعَ مَا يُضَمُّ إِلَى التَّحْقِيقِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَقَامِ، مِثْلَ تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ فِي نَحْوِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ تَنْشَأُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِتَحْقِيقِ فِعْلٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشُكَّ السَّامِعُ فِي أَنَّهُ يَقَعُ، وَمِثْلَ إِفَادَةِ التَّكْثِيرِ مَعَ الْمُضَارِعِ تَبَعًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُضَارِعُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ، كَالْبَيْتِ الَّذِي نَسَبَهُ سِيبَوَيْهِ لِلْهُذَلِيِّ، وَحَقَّقَ ابْنُ بَرِّيٍّ أَنَّهُ لِعَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ، وَهُوَ: قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ وَبَيْتُ زُهَيْرٍ: أَخَا ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ وَإِفَادَةُ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، كَقَوْلِ كَعْبٍ: لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ لَظَلَّ يُرْعَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنَ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَنْوِيلُ أَرَادَ تَحْقِيقَ حُضُورِهِ لَدَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِنَ الْوَجَلِ الْمَشُوبِ بِالرَّجَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ بَرِيءٌ مِمَّا حَمَّلُوهُ، وَمَا نَشَأَ اضْطِرَابُ كَلَامِ النُّحَاةِ فِيهِ إِلَّا مِنْ فَهْمِ ابْنِ مَالِكٍ لِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ رَدًّا وَجِيهًا. فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلِمْنَا بِأَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ يُحْزِنُكَ مُحَقَّقًا فَتَصْبِرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِي كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [144] ، فَكَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ وَأَحَلْتُ عَلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي. وَفِعْلُ نَعْلَمُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ بِوُجُودِ اللَّامِ.

وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي يَقُولُونَ أَقْوَالَهُمُ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [الْأَنْعَام: 34] ، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ التَّكْذِيبِ وَنَحْوِهِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَنْزِيهًا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ الشَّنِيعِ فِي جَانِبِهِ تَلَطُّفًا مَعَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيَحْزُنُكَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- يُقَالُ: أَحْزَنْتَ الرَّجُلَ- بِهَمْزَةِ تَعْدِيَةٍ لِفِعْلِ حَزَنَ، وَيُقَالُ: حَزَنْتُهُ أَيْضًا. وَعَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ حَزَنْتُهُ، مَعْنَاهُ جَعَلْتُ فِيهِ حُزْنًا كَمَا يُقَالُ: دَهَنْتُهُ. وَأَمَّا التَّعْدِيَةُ فَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْهَمْزَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَزَنْتُ الرَّجُلَ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَأَحْزَنْتُهُ، أَقْيَسُ. والَّذِي يَقُولُونَ هُوَ قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، كَاذِبٌ، شَاعِرٌ. فَعَدَلَ عَنْ تَفْصِيلِ قَوْلِهِمْ إِلَى إِجْمَالِهِ إِيجَازًا أَوْ تَحَاشِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي جَانِبِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَفعل لَيَحْزُنُكَ فعل الْقَسَمِ، والَّذِي يَقُولُونَ فَاعِلُهُ، وَاللَّامُ فِي لَيَحْزُنُكَ لَامُ الِابْتِدَاء، وَجُمْلَة لَيَحْزُنُكَ خَبَرُ إِنَّ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُعَلَّلُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قَدْ نَعْلَمُ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْفَصِيحَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ يُحْزِنُكَ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّكْذِيبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، فَاللَّهُ قَدْ سَلَّى رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُكَذِّبُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ جُحُودٍ وَمُكَابَرَةٍ. وَكَفَى بِذَلِكَ تَسْلِيَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَدْ نَعْلَمُ، أَيْ فَعِلْمُنَا بِذَلِكَ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّا نُثَبِّتُ فُؤَادَكَ وَنَشْرَحُ صَدْرَكَ بِإِعْلَامِكَ أَنَّهُمْ لَا يكذبُونَك، وَإِن نُذَكِّرَكَ بِسُنَّةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَنُذَكِّرَكَ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ هِيَ نَصْرُكَ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَا يُكَذِّبُونَكَ،- بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ-. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ-. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ إِنَّ أَكْذَبَ وَكَذَّبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْذَبَهُ، وَجَدَهُ كَاذِبًا،

كَمَا يُقَالُ: أَحْمَدَهُ، وَجَدَهُ مَحْمُودًا. وَأَمَّا كَذَّبَ- بِالتَّشْدِيدِ- فَهُوَ لِنِسْبَةِ الْمَفْعُولِ إِلَى الْكَذِبِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ أَكْذَبَهُ هُوَ بِمَعْنَى كَذَّبَ مَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَنْسِبِ الْمَفْعُولَ إِلَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ كَذَّبَهُ هُوَ نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ مَعْنَى كَذَّبْتُهُ، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَمَعْنَى أَكْذَبْتُهُ، أَرَيْتُهُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ كَذِبٌ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اسْتِدْرَاكٌ لِدَفْعِ أَنْ يَتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا وَآمَنُوا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَقِيَّةِ لَا يُكَذِّبُونَكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ أَصْلُ التَّكْذِيبِ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَيَظْهَرُ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْسُبُ الْآتِيَ بِالْآيَاتِ إِلَى الْكَذِبِ وَمَا هُمْ بِمُكَذِّبِينَ فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْجَحْدُ وَالْجُحُودُ، الْإِنْكَارُ لِلْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، أَيِ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مَا يُنْكَرُ، فَهُوَ نَفْيُ مَا يَعْلَمُ النَّافِي ثُبُوتَهُ، فَهُوَ إِنْكَارُ مُكَابَرَةٍ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ ذَمًّا لَهُمْ وَإِعْلَامًا بِأَنَّ شَأْنَ الظَّالِمِ الْجَحْدُ بِالْحُجَّةِ، وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الظُّلْمَ سَجِيَّتُهُمْ. وَعَدَّى يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّحْل: 14] لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْجَحْدِ بِالْمَجْحُودِ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء: 59] ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعُ عَاثِرَا ثُمَّ إِنَّ الْجَحْدَ بِآيَاتِ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ الْجَحْدُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ. وَجَحْدُهَا إِنْكَارُ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ تَكْذِيبُ الْآتِي بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَآلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَكَيْفَ يُجْمَعُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ كَاذِبٌ لِأَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بَيْنَهُمْ بِالْأَمِينِ. وَقَدْ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَمَّا تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي شَأْنِ الرَّسُولِ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا أَرْضَاكُمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 34]

فِيكُمْ وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّيْبَ فِي صُدْغَيْهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ وقلتم مَجْنُون وو الله مَا هُوَ بِأُولَئِكُمْ» . وَلِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا لَا يَمْتَرِي أَحَدٌ فِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ دَلَائِلَ صِدْقِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ وَلَكِنَّكُمْ ظَالِمُونَ. وَالظَّالِمُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ بِدُونِ شُبْهَةٍ. فَهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ هُوَ الْجُحُودُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِهِمْ. وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: 14] فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَا يُكَذِّبُونَ الْآيَاتِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ وَيَجْحَدُونَ بِصِدْقِكَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ التَّابِعِيِّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَا أَحْسَبُ هَذَا هُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ الِاسْتِهْزَاءَ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : ذَلِكَ أَنَّهُ التَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُهُ: لَا نُكَذِّبُكَ، اسْتِهْزَاءٌ بإطماع التَّصْدِيق. [34] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 34] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: 33] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الْفَاءِ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ، أَوْ إِنْ أَحْزَنَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَالْحَالُ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَسْلِيَةٌ وَتَهْوِينٌ وَتَكْرِيمٌ بِأَنَّ إِسَاءَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هِيَ دُونَ مَا أَسَاءَ الْأَقْوَامُ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَأَمَّا قَوْمُهُ فَكَذَّبُوا بِالْقَوْلِ فَقَطْ. وَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا تَأَسٍّ لِلرَّسُولِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.

وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ ذُهِلَ طَوِيلًا عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْزَنَهُ قَوْلُ قَوْمِهِ فِيهِ كَانَ كَمَنْ بَعُدَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ. ومِنْ قَبْلِكَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِ رُسُلٌ جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى التَّأَسِّي بِأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ. وَفِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا إِيمَاءٌ لِرَجَاحَةِ عُقُولِ الْعَرَبِ عَلَى عُقُولِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَتْ رُسُلَهَا بِاعْتِقَادِ وَنُطْقِ أَلْسِنَتِهَا، وَالْعَرَبُ كَذَّبُوا بِاللِّسَانِ وَأَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِعُقُولِهِمُ الَّتِي لَا يَرُوجُ عِنْدَهَا الزَّيْفُ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأُوذُوا عَطْفًا عَلَى كُذِّبُوا وَتَكُونَ جُمْلَةُ فَصَبَرُوا مُعْتَرِضَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ وَأُوذِيَتْ رُسُلٌ فَصَبَرُوا. فَلَا يُعْتَبَرُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ عَلى مَا كُذِّبُوا بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِ نَصْرُنا، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى كُذِّبَتْ رُسُلٌ، أَيْ كُذِّبَتْ وَأُوذُوا. وَيُفْهَمُ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ أَذًى فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَلى مَا كُذِّبُوا. وَقَرَنَ فِعْلَ كُذِّبَتْ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ يُرَجَّحُ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْجَمَاعَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِعْلَا فَصَبَرُوا وكُذِّبُوا مُقْتَرِنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ فَاعِلَيْهِمَا ضَمِيرَانِ مُسْتَتِرَانِ فَرَجَّحَ اعْتِبَارَ التَّذْكِيرِ. وَعَطَفَ وَأُوذُوا عَلَى كُذِّبَتْ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَالْأَذَى أَعَمُّ مِنَ التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ الْأَذَى هُوَ مَا يَسُوءُ وَلَوْ إِسَاءَةً مَا، قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] وَيُطلق على الشَّديد مِنْهُ. فَالْأَذَى اسْمٌ اشْتُقَّ مِنْهُ أَذًى إِذَا جُعِلَ لَهُ أَذًى وَأَلْحَقَهُ بِهِ. فَالْهَمْزَةُ بِهِ لِلْجَعْلِ أَوْ لِلتَّصْيِيرِ. وَمَصَادِرُ هَذَا الْفِعْلِ أَذًى وَأَذَاةٌ وَأَذِيَّةٌ. وَكُلُّهَا أَسْمَاءُ مَصَادِرَ وَلَيْسَتْ مُصَادَرَ. وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ الْإِيذَاءُ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : لَا يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَلَعَلَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقِيَاسِيَّ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ

عَلَى سَمَاعِ نَوْعِهِ مِنْ مَادَّتِهِ. وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» فَقَدْ ظَلَمَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِيذَاءُ لَفْظٌ غَيْرُ فَصِيحٍ لِغَرَابَتِهِ. وَلَقَدْ يُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» اسْتِعْمَالُهُ هُنَا وَهُوَ مَا هُوَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ أَفَادَتْ غَايَةَ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْأَذَى وَالصَّبْرُ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ النَّصْرَ كَانَ بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُؤْذِينَ، فَكَانَ غَايَةً لِلتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، وَكَانَ غَايَةً لِلصَّبْرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، وَبَقِيَ صَبْرُ الرُّسُلِ عَلَى أَشْيَاءَ مِمَّا أُمِرَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: أَتاهُمْ نَصْرُنا مَجَازٌ فِي وُقُوعِ النَّصْرِ بَعْدَ انْتِظَارِهِ، فَشَبَّهَ وُقُوعَهُ بِالْمَجِيءِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَمَا يَجِيءُ الْمُنَادَى الْمُنْتَظَرُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [4] . وَجُمْلَةُ وَلا مُبَدِّلَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَتاهُمْ نَصْرُنا. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ وَحْيُهُ لِلرُّسُلِ الدَّالُّ عَلَى وَعْدِهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. فَالْمُرَادُ كَلِمَاتٌ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ بَعْضَ كَلِمَاتِ اللَّهِ فِي التَّشْرِيعِ قَدْ تُبَدَّلُ بِالنَّسْخِ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ الْمَنْفِيَّ مَجَازٌ فِي النَّقْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [181] . وَسَيَأْتِي تَحْقِيقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [115] . وَهَذَا تَطْمِينٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَا كَتَبَهُ فِي أَزَلِهِ وَقَدَّرَهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ يَقَعُ كَمَا وَقَعَ إِهْلَاكُ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَنَفْيُ الْمُبَدِّلِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ التَّبْدِيلِ، أَيْ لَا تَبْدِيلَ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مُبَدِّلٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يُبَدِّلَ مُرَادَ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ لَا يُبَدِّلَ كَلِمَاتِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ،

[سورة الأنعام (6) : آية 35]

وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَفَاصِيلِ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَبِكَيْفَ كَانَ نَصْرُ اللَّهِ رُسُلَهُ. وَذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ فِي جاءَكَ كَالْقَوْلِ فِي أَتاهُمْ نَصْرُنا، فَهُوَ مَجَازٌ فِي بُلُوغِ ذَلِكَ وَإِعْلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبَإِ إِمَّا اسْمٌ بِمَعْنَى (بَعْضٍ) فَتَكُونُ فَاعِلًا مُضَافَة إِلَى النبأ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: 78] . وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ. وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأ: 1، 2] ، وَقَالَ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [67] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. [35] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الْأَنْعَام: 33] ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْزِنُهُ مَا يَقُولُونَهُ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ حُزْنًا عَلَى جَهْلِ قَوْمِهِ بِقَدْرِ النَّصِيحَةِ وَإِنْكَارِهِمْ فَضِيلَةَ صَاحِبِهَا، وَحُزْنًا مِنْ جَرَّاءِ الْأَسَفِ عَلَيْهِمْ مِنْ دَوَامِ ضَلَالِهِمْ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: 33] وَسَلَّاهُ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الْآيَةَ. وكَبُرَ كَكَرُمَ، كِبَرًا كَعِنَبٍ: عَظُمَتْ جُثَّتُهُ. وَمَعْنَى كَبُرَ هُنَا شَقَّ عَلَيْكَ. وَأَصْلُهُ عِظَمُ الْجُثَّةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ عِظَمَ الْجُثَّةِ يَسْتَلْزِمُ الثِّقَلَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي مَعْنَى (شَقَّ) لِأَنَّ الثقيل يشق جمله. فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِلُزُومَيْنِ. وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إِنْ) الَّذِي يَكْثُرُ وُرُودُهُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُظَنُّ

حُصُولُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَيْسَ بِمَظِنَّةِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ. وَزِيدَتْ (كَانَ) بَعْدَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى لِيَبْقَى فِعْلُ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ فَلَا تُخَلِّصُهُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَفْعَالِ الشُّرُوطِ بَعْدَ (إِنْ) ، فَإِنْ (كَانَ) لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُضِيّ لَا تقلبه أَدَاةُ الشَّرْطِ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ. وَالْإِعْرَاضُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ هُوَ الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الْأَنْعَام: 4] . وَهُوَ حَالَةٌ أُخْرَى غَيْرُ حَالَةِ التَّكْذِيبِ، وَكِلْتَاهُمَا مِنْ أَسْبَابِ اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ جَوَابُ إِنْ كانَ كَبُرَ، وَهُوَ شَرْطٌ ثَانٍ وَقَعَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ. وَالِاسْتِطَاعَةُ: الْقُدْرَةُ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي طَاعَ، أَيِ انْقَادَ. وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [83] ، أَيْ أَنْ تَطْلُبَ نَفَقًا أَوْ سُلَّمًا لِتَبْلُغَ إِلَى خَبَايَا الْأَرْضِ وَعَجَائِبِهَا وَإِلَى خَبَايَا السَّمَاءِ. وَمَعْنَى الطَّلَبِ هُنَا: الْبَحْثُ. وَانْتَصَبَ نَفَقاً وسُلَّماً عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ لِ تَبْتَغِيَ. وَالنَّفَقُ: سِرْبٌ فِي الْأَرْضِ عَمِيقٌ. وَالسُّلَّمُ- بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ- آلَةٌ لِلِارْتِقَاءِ تُتَّخَذُ مِنْ حَبْلَيْنِ غَلِيظَيْنِ مُتَوَازِيَيْنِ تَصِلُ بَيْنَهُمَا أَعْوَادٌ أَوْ حِبَالٌ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ فِي عَرْضِ الْفَضَاءِ الَّذِي بَيْنَ الْحَبْلَيْنِ مِنْ مِسَاحَةِ مَا بَيْنَ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَعْوَادِ بِمِقْدَارِ مَا يَرْفَعُ الْمُرْتَقِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ إِلَى الْعُودِ الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْأَعْوَادُ دَرَجَاتٌ. وَيُجْعَلُ طُولُ الْحَبْلَيْنِ بِمِقْدَارِ الِارْتِفَاعِ الَّذِي يُرَادُ الِارْتِقَاءُ إِلَيْهِ. وَيُسَمَّى السُّلَّمُ مِرْقَاةً وَمِدْرَجَةً. وَقَدْ سَمَّوُا الْغَرْزَ الَّذِي يَرْتَقِي بِهِ الرَّاكِبُ عَلَى رَحْلِ نَاقَتِهِ سُلَّمًا. وَكَانُوا يَرْتَقُونَ

بِالسُّلَّمِ إِلَى النَّخِيلِ لِلْجِذَاذِ. وَرُبَّمَا كَانَتِ السَّلَالِيمُ فِي الدُّورِ تُتَّخَذُ مِنَ الْعُودِ فَتُسَمَّى الْمِرْقَاةَ. فَأَمَّا الدُّرُجُ الْمَبْنِيَّةُ فِي الْعَلَالِيِّ فَإِنَّهَا تُسَمَّى سُلَّمًا وَتُسَمَّى الدَّرَجَةُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَقْتَلِ أَبِي رَافِعٍ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ «حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى أَتَيْتُ السُّلَّمِ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ» . وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ صِفَةُ نَفَقاً أَيْ مُتَغَلْغِلًا، أَيْ عَمِيقًا. فَذَكَرَ هَذَا الْمَجْرُورَ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْعُمْقِ مَعَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ وَتَصْوِيرِ حَالَةِ الِاسْتِطَاعَةِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّفَقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي السَّماءِ فَوَصَفَ بِهِ سُلَّماً، أَيْ كَائِنًا فِي السَّمَاءِ، أَيْ وَاصِلًا إِلَى السَّمَاءِ. وَالْمَعْنَى تَبْلُغُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. كَقَوْلِ الْأَعْشَى: وَرُقِّيتُ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمٍ وَالْمَعْنَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَطْلُبَ آيَةً مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لِلْكَائِنَاتِ. وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الِابْتِغَاءِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا الرَّسُولَ- عَلَيْهِ وَالصَّلَاة وَالسَّلَامُ- آيَاتٍ مَنْ جِنْسِ مَا فِي الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِمْ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] ، وَمِنْ جِنْسِ مَا فِي السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: 93] . وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ أَيْ بِآيَةٍ يُسَلِّمُونَ بِهَا، فَهُنَالِكَ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِعْراضُهُمْ، أَيْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي جِئْتَهُمْ بِهَا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الشَّرْطِ، وَهُوَ اسْتَطَعْتَ. وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي التَّأْيِيسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَإِقْنَاعِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا. وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ جَوَابِ الشَّرْطِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ فَأْتِهِمْ بِآيَةٍ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلرَّاغِبِ فِي إِرْضَاءِ مُلِحٍّ. إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْلِبَ مَا فِي بَيْتِكَ، أَيْ فَهُوَ لَا يَرْضَى بِمَا تَقْصُرُ عَنْهُ الِاسْتِطَاعَةُ بَلْهَ مَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ. وَهُوَ

اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّوْمِ وَلَا مِنَ التَّوْبِيخِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى شَرْطٌ امْتِنَاعِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ فَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لَقَصْدِ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ إِذَا كَانَ تَعَلُّقُهُ بِمَفْعُولِهِ غَيْرَ غَرِيبٍ وَكَانَ شَرْطًا لِإِحْدَى أَدَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا هُنَا، وَكَقَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النِّسَاء: 133] . وَمَعْنَى: لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى لَهَدَاهُمْ أَجْمَعِينَ. فَوَقَعَ تَفَنُّنٌ فِي أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ فَصَارَ تَرْكِيبًا خَاصِّيًّا عدل بِهِ على التَّرْكِيبِ الْمَشْهُورِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: 149] لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَمْيِيزِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَنْ بَقِيَ فِيهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَوْ شَاءَ لِجَمَعَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا هَدَى إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ بِعُقُولٍ قَابِلَةٍ لِلْحَقِّ لِخَلَقَهُمْ بِهَا فَلَقَبِلُوا الْهُدَى، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى مَا وَصَفَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَام: 25] الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً [هود: 118] ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ مَشِيئَةٌ كُلِّيَّةٌ تَكْوِينِيَّةٌ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ [148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا الْآيَةَ. فَهَذَا مِنَ الْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ لَا مِنَ الْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ. وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ، سَقَطَ فِي مِهْوَاتِهِ مَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ صَوْنٌ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ تَذْيِيلٌ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالْمُرَادُ بِ الْجاهِلِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدَّ الْعِلْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِنُوحٍ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ، وَهُوَ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَهْلِ ضِدَّ الْحِلْمِ، أَيْ لَا تَضِقْ صَدْرًا بِإِعْرَاضِهِمْ. وَهُوَ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ. وَإِرَادَةُ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَنْتَظِمُ مَعَ مُفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ وَجُمْلَةِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى. وَمَعَ كَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فَالْمَعْنَى: فَلَا يَكْبُرْ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 36]

وَلَا تَضِقْ بِهِ صَدْرًا، وَأَيْضًا فَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لِجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى. وَهَذَا إِنْبَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ يَخْتَصُّ بِحَالَةٍ خَاصَّةٍ فَلَا يُطْرَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ التَّشْرِيعِ. وإنّما عدل على الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَهْلِ يَتَضَمَّنُهُ فَيَتَقَرَّرُ فِي الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ تَحْرِيضًا عَلَى اسْتِحْضَارِ الْعِلْمِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ للمتعلّم: لَا تنسى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ تَلَبَّسَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ لَا تستبين. [36] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 36] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) تَعْلِيلٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْأَنْعَام: 35] مِنَ تَأْيِيسٍ مِنْ وُلُوجِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ دُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَمَهُمْ فَائِدَةَ السَّمْعِ وَفَهْمِ الْمَسْمُوعِ. وَمَفْهُومُ الْحَصْرِ مُؤْذِنٌ بِإِعْمَالِ منطوقه الَّذِي يؤمىء إِلَى إِرْجَاءٍ بَعْدَ تَأْيِيسٍ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ قُلُوبًا يَفْقَهُونَ بِهَا وَآذَانًا يَسْمَعُونَ بِهَا فَأُولَئِكَ يَسْتَجِيبُونَ. وَقَوْلُهُ: يَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى يُجِيبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [195] . وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ يَسْتَجِيبُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى يَسْمَعُونَ، أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِرْشَادِ لِأَنَّ الضَّالِّينَ كَمَنْ لَا يَسْمَعُ. فَالْمَقْصُودُ سَمْعٌ خَاصٌّ وَهُوَ سَمْعُ الِاعْتِبَارِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَأَمَّا الْمُعْرِضُونَ

عَنْكَ فَهُمْ مِثْلَ الْمَوْتَى فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: 80] . فَحَذَفَ مِنَ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ قَدْ يَكُونُ فُقْدَانُ سَمْعِهِ مِنْ عِلَّةٍ كَالصَّمَمِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالَ عبد الرحمان بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ: لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي فَتَضَمَّنَ عَطْفُ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَالْأَمْوَاتِ لَا تُرْجَى مِنْهُمُ اسْتِجَابَةٌ. وَتَخَلَّصَ إِلَى وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، أَيْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ رُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا، وَحِينَئِذٍ يُلَاقُونَ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ. وَالْمَوْتى اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِعُقُولِهِمْ وَمَوَاهِبِهِمْ فِي أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. ويَبْعَثُهُمُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْبَعْثَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ الْحَيُّ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ، أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ لَا يَذْكُرُ الْبَعْثَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَبْعُوثِ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ اسْتِعَارَةً أَيْضًا لِلْهِدَايَةِ بَعْدَ الضَّلَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْمَوْتِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي التَّرْشِيحِ- فِي فَنِّ الْبَيَانِ- مِنْ كَوْنِهِ تَارَةً يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِلَّا تَقْوِيَةَ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَارَةً يُسْتَعَارُ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِلَى شِبْهِهِ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمرَان: 103] . فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْكَلَامِ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ سَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ فِي عِلْمِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زِيَادَةً فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لِيَلْقَوْا جَزَاءَهُ حِينَ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَتَمَّ التَّمْثِيلُ هُنَالِكَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ اسْتِطْرَادًا تَخَلَّصَ بِهِ إِلَى قرع أسماعهم بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَكُونُ الْبَعْثُ فِي قَوْلِهِ: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي التَّخَلُّصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الأنعام (6) : آية 37]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 37] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ [الْأَنْعَام: 35] الْآيَاتِ، وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [4] مِنْ ذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَفَنَّنُوا بِهِ مِنَ الْمَعَاذِيرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها [الْأَنْعَام: 25] أَيْ وَقَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ، أَيْ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ، وَقَدِ اقْتَرَحُوا آيَاتٍ مُخْتَلِفَةً فِي مُجَادَلَاتٍ عَدِيدَةٍ. وَلِذَلِكَ أَجْمَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهَا عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. فَجُمْلَةُ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَقَعَ عَطْفُهَا مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الْأَنْعَام: 36] وَجُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] إِلَخْ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ النُّزُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمَسْئُولَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] وَقَوْلِهِمْ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] وَشَبَّهَ ذَلِكَ. وَجَرَّدَ نُزِّلَ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ الْمُؤَنَّثَ الَّذِي تَأْنِيثُهُ لَفْظِيٌّ بَحْتٌ يَجُوزُ تَجْرِيدُ فِعْلِهِ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فَإِذَا وَقَعَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ فَاصِلٌ اجْتَمَعَ مُسَوِّغَانِ لِتَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، فَإِنَّ الْفَصْلَ بِوَحْدِهِ مُسَوِّغٌ لِتَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ الْعَلَامَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ تَجْرِيدَ الْفِعْلِ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ حِينَئِذٍ حَسَنٌ. ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَالتَّحْضِيضُ هُنَا لِقَطْعِ الْخَصْمِ وَتَعْجِيزِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اشْتِقَاقِ آيَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَفُصِلَ فِعْلُ قُلْ فَلَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ فَجَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ آيَةً عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ، وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ إِلَّا إِذَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ. فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ انْتِفَاءُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى إِجَابَةَ مُقْتَرَحِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَوْ شَاءَ لَزَادَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ. فَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الْجَوَابِ إِثْبَاتٌ لِلرَّدِّ بِالدَّلِيلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ،- أَيْ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَفَعَلَهُ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ إِلَى مقترحهم يدلّ عَلَى عَدَمِ صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَذَلِكَ مِنْ ظُلْمَةِ عُقُولِهِمْ، فَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ هَذَا الرَّدُّ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: 8] فَإِنَّ ذَلِكَ نُبِّهُوا فِيهِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَتِهِمْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِبْقَاؤُهُمْ، وَهَذَا نُبِّهُوا فِيهِ عَلَى سُوءِ نَظَرِهِمْ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ الْآيَاتِ دَلَائِلَ مُنَاسِبَةً لِلْغَرَضِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُ الْمَنْطِقِيُّونَ: إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةَ تَدُلُّ عَقْلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ النَّتِيجَةَ هِيَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَاقِعِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهُ فِي الِاعْتِبَارِ فَلِذَلِكَ نَجِدُ الْقُرْآنَ يَذْكُرُ الْحُجَجَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، كَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَإِخْرَاجِ

الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِي سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَيُسَمِّي تِلْكَ الْحجَج آيَات كَقَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الْأَنْعَام: 98] ، وَكَمَا سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [2] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها. وَذَكَرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرَّعْد: 5] . وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِالْخَلْقِ، كَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَام: 101- 105] إِلَخْ، وَكَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِأَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حُجَّةً عَلَى صِدْقِهِ فِي إِخْبَارِهِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَتَفَاصِيلِ الْمَوَاعِظِ وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَشَرْعِ الْأَحْكَامِ مَعَ كَوْنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَعْلُومَ الْأُمِّيَّةِ بَيْنَهُمْ قَدْ قَضَى شَبَابَهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، جَعَلَهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَمَّاهُ آيَاتٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْحَج: 72] فَلَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ مَا يُنَاسِبُهَا. أَمَّا الْجَهَلَةُ وَالضَّالُّونَ فَهُمْ يَرُومُونَ آيَاتٍ مِنْ عَجَائِبِ التَّصَارِيفِ الْخَارِقَةِ لِنِظَامِ الْعَالَمِ، يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ اقتراحهم بِأَن يحييهم إِلَيْهَا إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ صَدَقَ الرَّسُولُ فِيمَا بَلَّغَ عَنْهُ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَاطَرَةِ لِيَزْعُمُوا أَنَّ عَدَمُ إِجَابَتِهِمْ لِمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُصَدِّقِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِالنُّزُولِ مَعَهُمْ إِلَى هَذَا الْمَجَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ مَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [7] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ فَهُمْ جَعَلُوا إِيمَانَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ تَنْزِيلَ آيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. فَقَدْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] وَقَالُوا:

وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] . فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرَّعْد: 7] ، أَيْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِنْذَارِ فِي كِتَابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ حَاصِلٌ بِكَوْنِهِ إِنْذَارًا مُفَصَّلًا بَلِيغًا دَالًّا عَلَى أَنَّ الْمُنْذِرَ بِهِ مَا اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يُبَيِّنُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 48- 51] ، أَيْ فَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهِ يَنْزِلُ فِي قِرْطَاسٍ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ. وَقَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 93] . نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ يُقِيمُ آيَاتٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ تِلْقَاءِ اخْتِيَارِهِ بِدُونِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمُعْجِزَةِ مِثْلَ مَا سَمَّى بَعْضَ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: 12] ، فَذَلِكَ أَمْرٌ أُنُفٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَقْتَرِحْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَقَدْ أَعْطَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي غَيْرِ مَقَامِ اقْتِرَاحٍ مِنَ الْمُعْرِضِينَ، مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ بِسَهْمٍ رَشَقَهُ فِي الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي وَعَدَتْ بِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [8] . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَةِ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ يَعْقُبُهَا الِاسْتِئْصَالُ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهُمْ لِعِنَادِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ. إِلَّا أَنَّ مَا فَسَّرْتُهَا بِهِ أَوْلَى لِئَلَّا يَكُونَ مَعْنَاهَا إِعَادَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي سَبَقَتْهَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّوَقُّفُ فِي وَجْهِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِمُقْتَضَى السُّؤَالِ حَسْبَمَا توقّف فِيهِ التفتازانيّ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» . وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُكَابِرُ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ عِنْدَهُ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا عَلَى نَحْوِ مَا اقْتَرَحُوهُ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ آيَةٌ بِالتَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ

[سورة الأنعام (6) : آية 38]

الْأُولَى. وَهَذَا يُبْطِلُ الْقَاعِدَةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بَيْنَ الْمُعَرَّبِينَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ فِي الْكَلَامِ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ السَّادِسِ وَنَقَضَهَا. وَمِمَّا مَثَّلَ بِهِ لِإِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ الْأُولَى لَا غَيْرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الرّوم: 54] . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ فِي سُورَة النِّسَاء [128] . [38] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 38] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ غَامِضٌ بَدْءًا. وَنِهَايَتُهَا أَشَدُّ غُمُوضًا، وَمَوْقِعُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ خَفِيُّ الْمُنَاسِبَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أَنَّ لَهَا خَصَائِصَ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا كَمَا لِأُمَمِ الْبَشَرِ خَصَائِصُهَا، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ نَوْعٍ مَا بِهِ قِوَامُهُ وَأَلْهَمَهُ اتِّبَاعَ نِظَامِهِ وَأَنَّ لَهَا حَيَاةً مُؤَجَّلَةً لَا مَحَالَةَ. فَمَعْنَى أَمْثالُكُمْ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَفِي اخْتِصَاصِهَا بِنِظَامِهَا. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْمَوْتِ. وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا، أَيْ فَالْحَشْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازٍ قَرِيبٍ إِلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النَّمْل: 17] . فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 37] ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الْأَنْعَام: 37] عَلَى أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ [الْأَنْعَام: 37] عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لَهُمْ. أَيْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ أَنْوَاعَ الْأَحْيَاءِ كُلَّهَا وَجَعَلَهَا كَالْأُمَمِ ذَاتَ خَصَائِصَ جَامِعَةٍ لِأَفْرَادِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَكَانَ خَلْقُهَا

آيَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ حَسَبَ مُقْتَرَحِكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْحِكْمَةَ فِي عَدَمِ إِجَابَتِكُمْ لِمَا سَأَلْتُمْ. وَيَكُونُ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ [الْأَنْعَام: 39] الْآيَةَ وَاضِحَ الْمُنَاسِبَةِ، أَيْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِي عَوَالِمِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فَإِنْ نَظرنَا إِلَيْهِ مُسْتقِلّا بِنَصِّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَى مَا نِيطَ بِهِ مِنْ آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَأَوَّلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ أَنَّ ضَمِيرَيْ رَبِّهِمْ ويُحْشَرُونَ عَائِدَانِ إِلَى دَابَّةٍ وطائِرٍ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى جَمَاعَاتِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ لِوُقُوعِهِمَا فِي حَيِّزِ حَرْفِ (مِنْ) الْمُفِيدَةِ لِلْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَتَسَاءَلُ النَّاظِرُ عَنْ ذَلِكَ وَهُمَا ضَمِيرَانِ مَوْضُوعَانِ لِلْعُقَلَاءِ. وَقَدْ تَأَوَّلُوا لِوُقُوعِ الضَّمِيرَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى التَّغْلِيبِ إِذْ جَاءَ بَعْدَهُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمَا عَائِدَانِ إِلَى أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، أَيْ أَنَّ الْأُمَمَ كُلَّهَا مَحْشُورَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي آخِرُهَا ضَمِيرٌ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَيَكُونَ مَوْقِعُ جُمْلَةِ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ وَالِاسْتِطْرَادِ مُجَابَهَةً لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. فَإِذَا وَقَعَ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنَ الْآثَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ كَانَ الْأَمْرُ مُشْكِلًا. فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ (الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: الْجَمَّاءِ) مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل وَأَبُو دَاوُود الطَّيَالِسِيُّ فِي «مُسْنَدَيْهِمَا» عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ أَوْ عَنْزَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحَتَا، قُلْتُ: لَا، قَالَ: لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَهَذَا مُقْتَضٍ إِثْبَاتَ حَشْرِ الدَّوَابِّ لِيَوْمِ الْحِسَابِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ خَفِيَّ الْحِكْمَةِ إِذْ مِنَ الْمُحَقَّقِ انْتِفَاءُ تَكْلِيفِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ تَبَعًا لِانْتِفَاءِ الْعَقْلِ عَنْهَا. وَكَانَ مَوْقِعُهَا جَلِيَّ الْمُنَاسِبَةِ بِمَا قَالَهُ

الْفَخْرُ نَقْلًا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ أَنَّ الْكُفَّارَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُحْشَرُونَ بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ الدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ أُمَمٌ أَمْثَالُهُمْ فِي أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي النَّاسِ حَاصِلٌ فِي الْبَهَائِمِ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُحْشَرُونَ لِأَنَّ غَالِبَ إِطْلَاقِ الْحَشْرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْحَشْرِ لِلْحِسَابِ، فَيُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَيَجْعَلُونَ إِخْبَارَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تُهْمَتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُمْ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زَادَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ جَهْلَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا أَنْكَرُوهُ، وَهُوَ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ الْحَشْرَ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالْبَشَرِ بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ حَيَاةٌ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَيْ فَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ تُبْعَثُ مِثْلَ الْبَشَرِ وَتَحْضُرُ أَفْرَادُهَا كُلُّهَا يَوْمَ الْحَشْرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنْ يُقْتَصَّ لَهَا، فَقَدْ تَكُونُ حِكْمَةُ حَشْرِهَا تَابِعَةً لِإِلْقَاءِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا وَإِعَادَةِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ظَاهِرَهُمَا فَإِنَّ هَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَقِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِصْلَاحِ مَا فَرَطَ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ مِنْ رَوَاجِ الْبَاطِلِ وَحُكْمِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِتَمْكِينِ الْمَظْلُومِ مِنَ الدَّوَابِّ مِنْ رَدِّ فِعْلِ ظَالِمِهِ كَيْلا يستقرّ بِالْبَاطِلِ. فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا شَبِيهٌ بِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ لِانْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ ثُمَّ تَصِيرُ الدَّوَابُّ يَوْمَئِذٍ تُرَابًا، كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] . قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي الْمُعَلِّمِ: وَاضْطَرَبَ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْثِ الْبَهَائِمِ. وَأَقْوَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِبَعْثِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ تَمْثِيلٌ لِلْعَدْلِ. وَنَسَبَهُ الْمَازِرِيُّ إِلَى بَعْضِ شُيُوخِهِ قَالَ: هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ إِعْلَامًا لِلْخَلْقِ بِأَنْ لَا يَبْقَى حَقٌّ عِنْدَ أَحَدٍ. وَالدَّابَّةُ مُشْتَقَّةٌ مَنْ دَبَّ إِذَا مَشَى عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ صِفَةٌ قُصِدَ مِنْهَا إِفَادَةُ التَّعْمِيمِ وَالشُّمُولِ بِذِكْرِ اسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي جَمِيعَ الدَّوَابِّ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ طائِرٍ بِقَوْلِهِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ

قَصَدَ بِهِ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ آيِلٌ إِلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ مُفَادَ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أَنَّهُ طَائِرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا طَائِرٌ وَلَا طَائِرٌ. وَالتَّوْكِيدُ هُنَا يُؤَكِّدُ مَعْنَى الشُّمُولِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ (مِنَ) الزَّائِدَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَقْرِيرُ مَعْنَى الشُّمُولِ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْيِ اسْمَيِ الْجِنْسَيْنِ. وَنُكْتَةُ التَّوْكِيدِ أَنَّ الْخَبَرَ لِغَرَابَتِهِ عِنْدَهُمْ وَكَوْنِهِ مَظِنَّةَ إِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُؤَكَّدَ. وَوَقَعَ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ إِتْبَاعِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ اللَّفْظَيْنِ الْجِنْسُ لَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَهُوَ غَيْرُ مَا فِي «الْكَشَّافِ» ، وَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَوُجُودُ (مِنْ) فِي النَّفْيِ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ دُونَ الْوَحْدَةِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَصْفُ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وَارِدًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي طائِرٍ كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَإِنْ كَانَ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ مِنْ جُمْلَةِ نُكَتِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ تَأْكِيدِ الْعُمُومِ أَوْلَى، بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُهُ بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُهُ بِأُذُنَيَّ. وَقَول صَخْر: شَرّ وَاتَّخَذَتْ مِنْ شَعَرٍ صِدَارَهَا إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّدَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ شَعَرٍ. وأُمَمٌ جَمْعُ أُمَّةٍ. وَالْأُمَّةُ أَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَمَاثِلَةُ فِي صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ عَادَةٍ أَوْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ. قِيلَ: سُمِّيَتْ أُمَّةً لِأَنَّ أَفْرَادَهَا تَؤُمُّ أُمَمًا وَاحِدًا وَهُوَ مَا يَجْمَعُ مُقَوِّمَاتِهَا. وَأَحْسَبُ أَنَّ لَفْظَ أُمَّةٍ خَاصٌّ بِالْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أُمَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَلَا أُمَّةُ السِّبَاعِ. فَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأُمَمِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَجَازٌ، أَيْ مِثْلُ الْأُمَمِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا تَجْتَمِعُ أَفْرَادُهُ فِي صِفَاتٍ مُتَّحِدَةٍ بَيْنَهَا أُمَمًا وَاحِدَةً، وَهُوَ مَا يَجْمَعُهَا وَأَحْسَبُ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْبَشَرِ. ودَابَّةٍ وطائِرٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُرَادُ بِهِمَا جَمِيعُ أَفْرَادِ النَّوْعَيْنِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الِاسْتِغْرَاقِ، فَالْإِخْبَارُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ أُمَمٌ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِجَمَاعَاتِهَا، أَيْ إِلَّا جَمَاعَاتُهَا أُمَمٌ، أَوْ إِلَّا أَفْرَادُ أُمَمٍ.

وَتَشْمَلُ الْأَرْضُ الْبَحْرَ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الدَّابَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَرِيَّةِ سَيْفِ الْبَحْرِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ. وَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ: أَمْثالُكُمْ التَّشَابُهُ فِي فُصُولِ الْحَقَائِقِ وَالْخَاصَّاتِ الَّتِي تُمَيِّزُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ النُّظُمُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ. فَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ تُمَاثِلُ الْأَنَاسِيَّ فِي أَنَّهَا خُلِقَتْ عَلَى طَبِيعَةٍ تَشْتَرِكُ فِيهَا أَفْرَادُ أَنْوَاعِهَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مُعْطَاةٌ حَيَاةً مُقَدَّرَةً مَعَ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهَا وَوِلَادَتِهَا وَشَبَابِهَا وَهِرَمِهَا، وَلَهَا نُظُمٌ لَا تَسْتَطِيعُ تَبْدِيلَهَا. وَلَيْسَتِ الْمُمَاثَلَةُ بِرَاجِعَةٍ إِلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْإِنْسَانَ فِي التَّفْكِيرِ وَالْحَضَارَةِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنَ الْفِكْرِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْإِنْسَانُ. وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْإِنْسَانِ نِظَامُ دَوْلَةٍ وَلَا شَرَائِعُ وَلَا رُسُلٌ تُرْسَلُ إِلَيْهِنَّ لِانْعِدَامِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُوصَفَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاء: 44] فَذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي الْعَجْمَاوَاتِ حِينَ نَرَاهَا بَهِجَةً عِنْدَ حُصُولِ مَا يُلَائِمُهَا فَنَرَاهَا مَرِحَةً فَرِحَةً. وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَا سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهَا مِنَ النِّعْمَةِ وَهِيَ لَا تَفْقَهُ أَصْلَهَا وَلَكِنَّهَا تُحِسُّ بِأَثَرِهَا فَتَبْتَهِجُ، وَلِأَنَّ فِي كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا خَصَائِصَ لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ مِنْ جِنْسِهِ وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا صَرْفُ الْأَفْهَامِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِنِظَامِ الْخَلْقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ نَوْعٍ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَمْثالُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ. فَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالْقَلَمِ الْمُرَادِ بِهِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى، وَفْقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَام: 12] . وَقِيلَ الْكِتَابُ الْقُرْآن. وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بِالْغَرَضِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَقَدْ أَوْرَدَ كَيْفَ يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ بَسَطَ فَخْرُ الدِّينِ بَيَانَ ذَلِكَ لِاخْتِيَارِ هَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» . وَالتَّفْرِيطُ: التَّرْكُ وَالْإِهْمَالُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانَهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: 31] . وَالشَّيْءُ هُوَ الْمَوْجُودُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَحْوَالُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَشَمِلَ أَحْوَالَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُقَدَّرَةٌ عِنْدِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِهِ تَعَالَى.

[سورة الأنعام (6) : آية 39]

وَقَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ آنِفًا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ وَصِفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ كُلِّهَا. وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إِلْقَاءً لِلْحَذَرِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ مِنْ تَعْذِيبِهَا وَإِذَا كَانَ يُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَالِاقْتِصَاصُ مِنَ الْإِنْسَانِ لَهَا أَوْلَى بِالْعَدْلِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ شَكَرَ لِلَّذِي سَقَى الْكَلْبَ الْعَطْشَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ امْرَأَةً النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فَمَاتَتْ جوعا. [39] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 39] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَسْتَمِعُوا لَهَا، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُونَ بِمَنْزِلَةِ صُمٍّ وَبُكْمٍ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يَهْتَدُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةً، أَيْ عَاطِفَةً كَلَامًا مُبْتَدَأً لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِق ولكنّه ناشيء عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَرِّفَ النَّاسَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَدُلَّهُمْ عَلَى آيَاتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ عَنِ الِاهْتِدَاءِ لِذَلِكَ، وَعَنِ التَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ فِيهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُنَاسِبَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 38] الْآيَةَ قَدْ تَعَرَّضْنَا إِلَيْهَا آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي ضَلَالِ عَقَائِدِهِمْ وَالِابْتِعَادِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِحَالِ قَوْمٍ صُمٍّ وَبُكْمٍ فِي ظَلَامٍ. فَالصَّمَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَلَقِّي هُدَى مَنْ يَهْدِيهِمْ،

وَالْبَكَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاسْتِرْشَادِ مِمَّنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَالظَّلَامُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّبَصُّرِ فِي الطَّرِيقِ أَوِ الْمَنْفَذِ الْمُخْرِجِ لَهُمْ مِنْ مَأْزِقِهِمْ. وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ عُمْيٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاء: 97] لِيَكُونَ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا مَا يَصْلُحُ لِشَبَهِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالَّذِي أَصَارَهُمْ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضَّلَالِ يُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الدَّاخِلِ فِيهِ وَبَيْنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَهَذَا التَّمْثِيلُ جَاءَ عَلَى أَتَمِّ شُرُوطِ التَّمْثِيلِ. وَهُوَ قَبُولُهُ لِتَفْكِيكِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَتَيْنِ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ مُفْرَدَةٍ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ: كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهادى كَوَاكِبُهْ وَجَمْعُ الظُّلُمَاتِ جَارٍ عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الظُّلْمَةِ مُفْرَدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَظُلْمَةِ الْجَهْلِ، وَظُلْمَةِ الْعِنَادِ. وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ خَبَرٌ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ خَبَرٌ ثَالِثٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَا يَجُوزُ فِي النُّعُوتِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ الْعَطْفِ وَتَرْكِهِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمُ الْعَجِيبَةَ تُثِيرُ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا بَالُهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ فَلَا يَهْتَدُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ هُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ إِضْلَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ بِالْحَذْفِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ، وَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الْأَنْعَام: 35] . وَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ الضَّلَالَ بِأَنْ يَخْلُقَ الضَّالَّ بِعَقْلٍ قَابِلٍ لِلضَّلَالِ مُصِرٍّ عَلَى ضَلَالِهِ عَنِيدٍ عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي مَبَادِئِ الضَّلَالِ كَمَا يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَوَعَظَهُ وَاعِظٌ أَوْ خَطَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ خَاطِرٌ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ مَنَعَهُ إِصْرَارُهُ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ فَلَا يَزَالُ يَهْوِي بِهِ فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى غَايَةِ التَّخَلُّقِ بِالضَّلَالِ فَلَا يَنْكَفُّ عَنْهُ. وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 إلى 41]

إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين: 4، 5] ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» . وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ وَهُوَ تَصَرُّفُ الْقَدَرِ. وَلَهُ اتِّصَالٌ بِنَامُوسِ التَّسَلْسُلِ فِي تَطَوُّرِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي تَصَرُّفَاتٍ بِعُقُولِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَهِيَ سِلْسِلَةٌ بَعِيدَةُ الْمَدَى اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ هَذَا الْإِضْلَالُ بِالْأَمْرِ بِالضَّلَالِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا بِتَلْقِينِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَمَ مَنْ أَرَادَ إِضْلَالَهُ مِنِ انْتِشَالِهِ وَاللُّطْفِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِأَهْلِهِ. وَمَفْعُولُ يَشَأِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا. وَالصِّرَاطُ هُوَ الطَّرِيقُ الْبَيِّنُ. وَمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ أَنَّهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، لِأَنَّ السَّيْرَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْسَرُ عَلَى السَّائِرِ وَأَقْرَبُ وُصُولًا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ، وَهُوَ اسْتِعْلَاءُ السَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ. فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِعَقْلٍ يَرْعَوِي مِنْ غَيِّهِ وَيُصْغِي إِلَى النَّصِيحَةِ فَلَا يَقَعُ فِي الْفَسَادِ فَاتَّبَعَ الدِّينَ الْحَقَّ، بِحَالِ السَّائِرِ فِي طَرِيقٍ وَاضِحَةٍ لَا يتحيّر وَلَا يخطىء الْقَصْدَ، وَمُسْتَقِيمَةٌ لَا تُطَوِّحُ بِهِ فِي طُولِ السَّيْرِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ أَيْضًا صَالِحٌ لِتَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . فَالدِّينُ يُشْبِهُ الصِّرَاطَ الْمُوَصِّلَ بِغَيْرِ عَنَاءٍ، وَالْهَدْيُ إِلَيْهِ شَبِيهُ الْجَعْلِ على الصِّرَاط. [40، 41] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 40 إِلَى 41] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ

(41) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَتَضَمَّنُ تَهْدِيدًا بِالْوَعِيدِ طَرْدًا لِلْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ، وَتَخَلَّلَهُ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى خَلْعِ الشِّرْكِ إِذْ لَيْسَ لِشُرَكَائِهِمْ نَفْعٌ بِأَيْدِيهِمْ، فَذُكِّرُوا بِأَحْوَالٍ قَدْ تعرض لَهُم يلجأون فِيهَا إِلَى اللَّهِ. وَأُلْقِي عَلَيْهِم سَأَلَ أَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهَلْ يَسْتَمِرُّونَ مِنَ الْآنَ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ أَوْ تَأْتِيَهُمُ الْقِيَامَة حِين يلجأون إِلَى الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَلَاتَ حِينَ إِيمَانٍ. وَافْتَتَحَ هَذَا التَّهْدِيدَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ مُعْظَمَ مَا فِي الْقُرْآنِ مَأْمُورٌ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَدْ تَتَابَعَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَاتِ بَعْدَ هَذِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: 67] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً. وَوَرَدَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكُمْ تَرْكِيبٌ شَهِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، يُفْتَتَحُ بِمِثْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ. وَ (رَأَى) فِيهِ بِمَعْنَى الظَّنِّ. يُسْنَدُ إِلَى تَاءِ خِطَابٍ تُلَازِمُ حَالَةً وَاحِدَةً مُلَازِمَةً حَرَكَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْفُتْحَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَدَدِ الْمُخَاطَبِ وَصِنْفِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ غَيْرَهُ، مُذَكَّرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيُجْعَلُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ غَالِبًا ضَمِيرَ خِطَابٍ عَائِدًا إِلَى فَاعِلِ الرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَمُسْتَغْنًى بِهِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْلَمُ نَفْسَهُ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، فَالْمُخَاطَبُ فَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ بَابِ الظَّنِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا وَمَفْعُولُهَا وَاحِدًا (وَأُلْحِقَ بِأَفْعَالِ الْعِلْمِ فِعْلَانِ: فَقَدَ، وَعَدِمَ فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ فَقَدْتُنِي) ، وَتَقَعُ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي، وَقَدْ يَجِيءُ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مَا يُعَلِّقُ فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَحْلِيلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَبَعْضُ النُّحَاةِ يَجْعَلُ تِلْكَ الْجُمْلَةَ سَادَّةً مسدّ المفعولين تفصّيا مِنْ جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ مَفَاعِيلَ إِذْ يَجْعَلُونَهَا مُجَرَّدَ عَلَامَاتِ خِطَابٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ حِفَاظًا عَلَى مُتَعَارَفِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْأَصْلِيِّ الْمُتَعَارَفِ مَعَ أَنَّ لِغَرَائِبَ الِاسْتِعْمَالِ أَحْوَالًا خَاصَّةً لَا يَنْبَغِي غَضُّ النَّظَرِ عَنْهَا إِلَّا إِذَا قُصِدَ بَيَانُ أَصْلِ الْكَلَامِ أَوْ عَدَمُ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ هُوَ أَشَدُّ

غَرَابَةً وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ عَلَامَتَيْ خِطَابٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي الصُّورَةِ وَمَرْجِعُهُمَا مُتَّحِدٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي هَذَا التَّرْكِيبِ هُوَ جُمْلَةُ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ. وَإِنَّمَا تُرِكَتِ التَّاءُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَتْ ذَاتُ الْفَاعِلِ ذَاتَ الْمَفْعُولِ إِعْرَابًا وَرَامُوا أَنْ يَجْعَلُوا هَذَا التَّرْكِيبَ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَوْنِهِ قَلِيلَ الْأَلْفَاظِ وَافِرَ الْمَعْنَى تَجَنَّبُوا مَا يُحْدِثُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ ضَمِيرَيْ خِطَابٍ مَرْفُوعٍ وَمَنْصُوبٍ مِنَ الثِّقَلِ فِي نَحْو أرأيتما كَمَا، وأ رأيتكم وَأَرَيْتُنَّكُنَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الغريبة فاستغنوا بالاختلاف حَالَةِ الضَّمِيرِ الثَّانِي عَنِ اخْتِلَافِ حَالَةِ الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ اخْتِصَارًا وَتَخْفِيفًا، وَبِذَلِكَ تَأَتَّى أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّرْكِيبُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ تَسْهِيلًا لِشُيُوعِ اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالًا خَاصًّا لَا يُغَيَّرُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ لَا تُكْسَرُ تِلْكَ التَّاءُ فِي خِطَابِ الْمُؤَنَّثِ وَلَا تُضَمُّ فِي خِطَابِ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ: أَخْرَجَتِ الْعَرَبُ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ مَعْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَأَلْزَمَتْهُ الْخِطَابَ، وَأَخْرَجَتْهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إِلَى مَعْنَى (أَمَّا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَجَعَلَتِ الْفَاءَ بَعْدَهُ فِي بَعْضِ اسْتِعْمَالَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الْكَهْف: 63] فَمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ إِلَّا وَقَدْ أَخْرَجَتْ (أَرَأَيْتَ) لِمَعْنَى (أَمَّا) وَأَخْرَجَتْهُ أَيْضًا إِلَى مَعْنَى (أَخْبَرَنِي) فَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنَ اسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ يَخْرُجُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَبَعْدَهُ الشَّرْطُ وَظَرْفُ الزَّمَانِ. اهـ. فِي «الْكَشَّافِ» : مُتَعَلِّقُ الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مَنْ تَدْعُونَ، ثُمَّ بَكَّتْهُمْ بِقَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ، أَيْ أَتَخُصُّونَ آلِهَتَكُمْ بِالدَّعْوَةِ أَمْ تَدْعُونَ اللَّهَ دُونَهَا بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ اهـ. وَجُمْلَةُ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ هِيَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتَكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بِهَذَا التَّرْكِيبِ الْخَاصِّ الْجَارِي مَجْرَى الْمَثَلِ، فَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ جَرَيَانُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى أَصْلِ بَابِهِ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ

إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولَيْهِ. فَمَنْ قَالَ لَكَ: رَأَيْتُنِي عَالِمًا بِفُلَانٍ. فَأَرَدْتَ التَّحَقُّقَ فِيهِ تَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ عَالِمًا بِفُلَانٍ. وَتَقُولُ لِلْمُثَنَّى: أَرَأَيْتُمَاكُمَا عَالِمَيْنِ بِفُلَانٍ، وَلِلْجَمْعِ أَرَأَيْتُمُوكُمْ وَلِلْمُؤَنَّثَةِ أَرَأَيْتِكِ- بِكَسْرِ التَّاءِ-. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ فِي الْمَشْهُورِ- بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا- وَعَنْهُ رِوَايَةٌ بِجَعْلِهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ- الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، فَيَقُولُ: أَرَيْتَ وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ-. وَجُمْلَةُ: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ إِلَخ مُعْتَرضَة بني مَفْعُولَيْ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوَابُهَا لِدَلَالَةِ جُمْلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَيْهِ. وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ: حُلُولُهُ وَحُصُولُهُ، فَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْيَانِ الْمَجِيءُ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِيهِ مَفْعُولُ الْإِتْيَانِ، فَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى حُصُولِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِتْيَانِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ. وَوَجْهُ إِعَادَةِ فِعْلِ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مَعَ كَوْنِ حَرْفِ الْعَطْفِ مُغْنِيًا عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوِ السَّاعَةُ، هُوَ مَا يُوَجَّهُ بِهِ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ إِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُظْهَرِ بِحَيْثُ يُعَادُ لَفْظُهُ الصَّرِيحُ لِأَنَّهُ أَقْوَى اسْتِقْرَارًا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَالِاهْتِمَامُ هُنَا دَعَا إِلَيْهِ التَّهْوِيلُ وَإِدْخَالُ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ بِأَنْ يُصَرَّحَ بِإِسْنَادِ هَذَا الْإِتْيَانِ لِاسْمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الدَّالِّ عَلَى أَمْرٍ مَهُولٍ لِيَدُلَّ تَعَلُّقُ هَذَا الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ عَلَى تَهْوِيلِهِ وَإِرَاعَتِهِ. وَقَدِ اسْتَشْعَرَ الِاحْتِيَاجَ إِلَى تَوْجِيهِ إِعَادَةِ الْفِعْلِ هُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ تَفْسِيرِهِ، وَلَكِنَّهُ وَجَّهَهُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَامِلَانِ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ يُعَادُ الْعَامِلُ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارًا بِالتَّفَاوُتِ، فَإِنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ إِتْيَانِ السَّاعَةِ (أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعَذَابِ اللَّهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ) أَوْ كَانَ الْعَامِلَانِ مُتَبَاعِدَيْنِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ وَبِعَذَابِ اللَّهِ الْمَحْقُ وَالرَّزَايَا فِي الدُّنْيَا فَيَعْقُبُهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ تَامَّةٍ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالسَّاعَةِ الْمُدَّةِ فَالْمَحْقُ الدُّنْيَوِيُّ كَثِيرٌ، مِنْهُ مُتَقَدِّمٌ وَمِنْهُ مُتَأَخِّرٌ إِلَى الْمَوْتِ، فَالتَّقَدُّمُ ظَاهِرٌ اهـ. وَفِي تَوْجِيهِهِ نَظَرٌ إِذْ لَا يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ.

وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِهِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَقْدَرِ الْقَادِرِينَ. وَالْمُرَادُ عَذَابٌ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا يَضَّرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ لِرَفْعِهِ عَنْهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ بِطَلَبِ رَفْعِ عَذَابِ الْجَزَاءِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَإِنْذَارٌ. وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا، أَيْ إِنْ أَدْرَكَتْكُمُ السَّاعَةُ. وَتَقْدِيمُ أَغَيْرَ اللَّهِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ تَدْعُونَ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا جُمْلَةَ قَصْرٍ، أَيْ أَتُعْرِضُونَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ فَتَدْعُونَ غَيْرَهُ دُونَهُ كَمَا هُوَ دَأْبُكُمُ الْآنَ، فَالْقَصْرُ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ لَا لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْغَيْرِ. وَقَدْ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى التَّعَجُّبِ، أَيْ تَسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَالْكَلَامُ زِيَادَةٌ فِي الْإِنْذَار. وجمل: ة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكُمْ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ. فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ. ذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى النَّظَرِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا أَرَادُ اللَّهُ عَذَابَهُمْ لَا تَسْتَطِيعُ آلِهَتُهُمْ دَفْعَهُ عَنْهُمْ، فَهُمْ إِنْ تَوَخَّوُا الصِّدْقَ فِي الْخَبَرِ عَنْ هَذَا الْمُسْتَقْبِلِ أَعَادُوا التَّأَمُّلَ فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ شَيْئًا لَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ إِنَّمَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَإِذَا صدقُوا وَقَالُوا: أندعو اللَّهَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآنَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُغْنِي فِي بَعْضِ الشَّدَائِدِ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ آخَرَ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ عَقِبَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مُوقِعَ النَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ. فَحَرْفُ (بَلْ) لِإِبْطَالِ دَعْوَةِ غَيْرِ اللَّهِ. أَيْ فَأَنَا أُجِيبُ عَنْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَوَجْهُ تَوَلِّي الْجَوَابِ عَنْهُمْ مِنَ السَّائِلِ نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَمَّا كَانَ لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ إِلَّا إِقْرَارُهُ صَحَّ أَنْ يَتَوَلَّى السَّائِلُ الْجَوَابَ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [12] . وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى تَدْعُونَ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَعُونَ اللَّهَ وَيَدْعُونَ أَصْنَامَهُمْ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَزْعُمُوا ذَلِكَ فِي حَالِ

مَا إِذَا أَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْهُمُ السَّاعَةُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا ادَّعَوْهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْتَصْحِبُ هَذَا الزَّعْمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: فَيَكْشِفُ عَطْفٌ عَلَى تَدْعُونَ، وَهَذَا إِطْمَاعٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلِأَجْلِ التَّعْجِيلِ بِهِ قَدَّمَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَكَانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ. فَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ. وَمَفْعُولُ: تَدْعُونَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ مَا تَدْعُونَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ (إِلَى) عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ أَيْ يَكْشِفُ الَّذِي تَدْعُونَهُ إِلَى كَشْفِهِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ إِطْمَاعٌ لَا وَعْدٌ. وَعُدِّيَ فِعْلُ تَدْعُونَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ نِدَاءٌ فَكَأَنَّ الْمَدْعُوَّ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ إِلَى مَكَانِ الْيَأْسِ. وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ إِشَارَةً إِلَى مُقَابِلِهِ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكْشِفْ، وَذَلِكَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا إِتْيَانُ السَّاعَةِ فَلَا يُكْشَفُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِإِتْيَانِهَا مَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنَ الْقَوَارِعِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ خَسْفٍ وَشِبْهِهِ فَيَجُوزُ كَشْفُهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ. وَمِمَّا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ - إِلَى قَوْله- إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 10- 16] فُسِّرَتِ الْبَطْشَةُ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَجُمْلَةُ: فَيَكْشِفُ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ عَطْفٌ عَلَى إِيَّاهُ تَدْعُونَ، أَيْ فَإِنَّكُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَصْنَامُ. وَقَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَذْهَلُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ لِمَا تَرَوْنَ مِنْ هَوْلِ الْعَذَابِ وَمَا يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ فَتَنْشَغِلُ أَذْهَانُهُمْ بِالَّذِي أَرْسَلَ الْعَذَابَ وَيَنْسَوْنَ الْأَصْنَامَ الَّتِي اعْتَادُوا أَنْ يَسْتَشْفِعُوا بِهَا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 إلى 45]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي التَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ، أَيْ وَتُعْرِضُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ، إِذْ لَعَلَّهُمْ يُلْهمُون أَن يَسْتَدِلُّونَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَكْشِفُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ شَيْئًا، وَإِطْلَاقُ النِّسْيَانِ عَلَى التَّرْكِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية: 34] ، أَيْ نُهْمِلُكُمْ كَمَا أَنْكَرْتُمْ لِقَاءَ اللَّهِ هَذَا الْيَوْمَ. وَمِنْ قَبِيلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] . وَفِي قَوْلِهِ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا تَبَعًا لِإِجْرَاءِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ آئِلٌ إِلَى الِاخْتِلَاف اللَّفْظِيّ. [42- 45] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 42 إِلَى 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) لَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِتَوَقُّعِ الْعَذَابِ أَعْقَبَهُ بِالِاسْتِشْهَادِ عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ بِأُمَمٍ مِنْ قَبْلُ، لِيَعْلَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالشِّرْكِ. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْذَارِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ [الْأَنْعَام: 40] ، وَالْوَاوُ لِعَطْفِ الْجُمَلِ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافِيَّةً إِذْ كَانَتِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافًا. وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِلَامِ الْقَسَمِ

وَ (قَدْ) لِتَوْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ. نَزَلَ السَّامِعُونَ الْمُعَرَّضُ بِإِنْذَارِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِعْرَاضِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُمْ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلْنا بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ مُعَامَلَةِ أُمَمِهِمْ إِيَّاهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلَكَ بِهِ قَوْمُكَ، فَيَدُلُّ الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَكَذَّبُوهُمْ. وَلَمَّا كَانَ أَخْذُهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ مُقَارِنًا لِزَمَنِ وُجُودِ رُسُلِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ كَانَ الْمَوْقِعُ لِفَاءِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَرْأَى رُسُلِهِمْ وَقَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَيَّدَ رُسُلَهُ وَنَصَرَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ لِأَنَّ أَخْذَ الْأُمَمِ بِالْعِقَابِ فِيهِ حِكْمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: زَجْرُهُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَالثَّانِيَةُ: إِكْرَامُ الرُّسُلِ بِالتَّأْيِيدِ بِمَرْأًى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِيهِ تَكْرِمَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيذَانِهِ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ عَلَى مكذّبيه. وَمعنى فَأَخَذْناهُمْ أَصَبْنَاهُمْ إِصَابَةَ تَمَكُّنٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَخْذِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [206] . وَقَدْ ذُكِرَ مُتَعَلِّقُ الْأَخْذِ هُنَا لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِشَيْءٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ الْآتِي بُعَيْدَ هَذَا. وَالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ تَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَقَدْ فُسِّرَ الْبَأْسَاءُ بِالْجُوعِ وَالضَّرَّاءُ بِالْمَرَضِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنَ الْعَذَابِ كَانَ أَصْنَافًا كَثِيرَةً. وَلَعَلَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ اعْتَبَرَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا بِدَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي. جُعِلَ عِلَّةً لِابْتِدَاءِ أَخْذِهِمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ. وَمَعْنَى يَتَضَرَّعُونَ يَتَذَلَّلُونَ لِأَنَّ الضَّرَاعَةَ التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ لَهُمْ عَذَابًا هَيِّنًا قَبْلَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، كَمَا قَالَ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ

الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: 21] وَهَذَا مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ الْمُمَازِجَةِ لِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَفِيهِ إِنْذَارٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّهُمْ سَيُصِيبُهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ، وَهُوَ اسْتِئْصَالُ السَّيْفِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ إِظْهَارًا لِكَوْنِ نَصْرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَيْهِمْ كَانَ بِيَدِهِ وَيَدِ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ. وَذَلِكَ أَوْقَعُ عَلَى الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ رُوعِيَ حَالُ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَهُمْ حَاضِرُونَ. فَنَزَّلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ مَنْزِلَتَهُمْ، فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، فَإِنَّ (لَوْلَا) هُنَا حَرْفُ تَوْبِيخٍ لِدُخُولِهَا عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضَوِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَتْ (لَوْلَا) حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ. وَالتَّوْبِيخُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحَاضِرِينَ دُونَ الْمُنْقَرِضِينَ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. فَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى مُسَاوَاةِ الْحَالَيْنِ وَتَوْبِيخٌ لِلْحَاضِرِينَ بِالْمُهِمِّ مِنَ الْعِبْرَةِ لِبَقَاءِ زَمَنِ التَّدَارُكِ قَطْعًا لِمَعْذَرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ (لَوْلَا) هُنَا لِلتَّمَنِّي عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَيَكُونَ التَّمَنِّي كِنَايَةً عَنِ الْإِخْبَارِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ الْأَمْرَ الْمُتَمَنَّى فَيَكُونَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ، فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْفَرَحِ فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ» الْحَدِيثَ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ الْمُضَافِ مَعَ جُمْلَتِهِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ جُمْلَتِهِ، وَأَنَّهُ زَمَنٌ يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْإِسْرَاعِ بِالتَّضَرُّعِ مِمَّا حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْبَأْسِ. وَالْبَأْسُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشِّدَّةُ عَلَى الْعَدُوِّ وَغَلَبَتُهُ. وَمَجِيءُ الْبَأْسِ: مَجِيءُ أَثَرِهِ، فَإِنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَلَبِهِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِلْحُدُوثِ وَالْحُصُولِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُدُوثِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ بِتَنَقُّلِ الْخُطُوَاتِ. وَلَمَّا دَلَّ التَّوْبِيخُ أَوِ التَّمَنِّي عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الشَّيْءِ عَطَفَ عَلَيْهِ بِ (لَكِنْ) عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ التَّضَرُّعَ يَنْشَأُ عَنْ لِينِ الْقَلْبِ فَكَانَ نَفْيُهُ الْمُفَادُ بِحَرْفِ التَّوْبِيخِ نَاشِئًا عَنْ ضِدِّ اللِّينِ وَهُوَ الْقَسَاوَةُ، فَعَطَفَ بِ لكِنْ.

وَالْمَعْنَى: وَلَكِنِ اعْتَرَاهُمْ مَا فِي خِلْقَتِهِمْ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنِ الْبَاطِلِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَتَأَثَّرُ فَشُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْقَاسِي. وَالْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ. وَقَدْ وَجَدَ الشَّيْطَانُ مِنْ طِبَاعِهِمْ عَوْنًا عَلَى نَفْثِ مُرَادِهِ فِيهِمْ فَحَسُنَ لَهُمْ تِلْكَ الْقَسَاوَةُ وَأَغْرَاهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى آثَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الضَّلَالَ يَنْشَأُ عَنِ اسْتِعْدَادِ اللَّهِ فِي خِلْقَةِ النَّفْسِ. وَالتَّزْيِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] . وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ. وَالنِّسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 41] . وَظَاهِرُ تَفَرُّعِ التَّرْكِ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ مَاصِدْقُهَا الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، أَيْ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنِ الْفِطْنَةِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ. وَمَعْنَى ذُكِّرُوا بِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَّرَهُمْ عِقَابَهُ الْعَظِيمَ بِمَا قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَ (لَمَّا) حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ وُجُودِ جَوَابِهِ بِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مِثْلَ بَقِيَّةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ جَوَاب فَلَمَّا وَالْفَتْحُ ضِدَّ الْغَلْقِ، فَالْغَلْقُ: سَدُّ الْفُرْجَةِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاجْتِيَازُ مِنْهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا بِبَابٍ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الْحَائِطِ فَلَا تُسَمَّى غَلْقًا. وَالْفَتْحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ الْحَاجِزِ غَيْرَ حَاجِزٍ وَقَابِلًا لِلْحَجْزِ، كَالْبَابِ حِينَ يُفْتَحُ. وَلِكَوْنِ مَعْنَى الْفَتْحِ وَالْغَلْقِ نِسْبِيَّيْنِ بَعْضُهُمَا مِنَ الْآخَرِ قِيلَ لِلْآلَةِ الَّتِي يُمْسَكُ بِهَا الْحَاجِزُ وَيُفْتَحُ بِهَا مِفْتَاحًا وَمِغْلَاقًا، وَإِنَّمَا يُعْقَلُ الْفَتْحُ بَعْدَ تَعَقُّلِ الْغَلْقِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَضِيًا أَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُرَادَ هَاهُنَا كَانَتْ مُغْلَقَةً وَقْتَ أَنْ أُخِذُوا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا أَبْوَابُ الْخَيْرِ لِأَنَّهَا الَّتِي لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.

فَالْفَتْحُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِإِزَالَةِ مَا يُؤْلِمُ وَيَغُمُّ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 96] . وَمِنْهُ تَسْمِيَة النَّصْر فتحنا لِأَنَّهُ إِزَالَةُ غَمِّ الْقَهْرِ. وَقَدْ جَعَلَ الْإِعْرَاضَ عَمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَقْتًا لِفَتْحِ أَبْوَابِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الِاتِّعَاظِ بِنُذُرِ الْعَذَابِ رَفَعْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الْأَعْرَاف: 94، 95] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَتَحْنا- بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَشْدِيدِهَا- لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفَتْحِ بِكَثْرَتِهِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَفْظُ (كُلِّ) هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ يَبْتَغُونَهُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ شَيْءٍ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْخَيْرِ خَاصَّةً بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا وَبِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْأَعْرَاف: 79] ، فَهُنَالِكَ وَصْفٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ كُلَّ شَيْءٍ صَالِحٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] أَيْ صَالِحَةٍ. وحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْفَرَحِ هُنَا هُوَ الِازْدِهَاءُ وَالْبَطَرُ بِالنِّعْمَةِ وَنِسْيَانُ الْمُنْعِمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: 76] . قَالَ الرَّاغِبُ: وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي الْفَرَحِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُس: 58] . وَ (إِذَا) ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي. وَمُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا هُوَ الْإِمْهَالُ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ فَتُطَهَّرُ

نُفُوسُهُمْ، فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالضَّرِّ وَالْخَيْرِ لِيَسْتَقْصِيَ لَهُمْ سَبَبَيِ التَّذَكُّرِ وَالْخَوْفِ، لِأَنَّ مِنَ النُّفُوسِ نُفُوسًا تَقُودُهَا الشِّدَّةُ وَنُفُوسًا يَقُودُهَا اللِّينُ. وَمَعْنَى الْأَخْذِ هُنَا الْإِهْلَاكُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَخْذٌ لَا هَوَادَةَ فِيهِ. وَالْبَغْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الْبَغْتِ وَهُوَ الْفَجْأَةُ، أَيْ حُصُولُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ عِنْدَ مَنْ حَصَلَ لَهُ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْخَفَاءَ. فَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بِالْجَهْرَةِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَهُنَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، أَيْ مُبَاغِتِينَ لَهُمْ، أَوْ مُؤَوَّلًا بَاسِمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ مَبْغُوتِينَ، وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] . وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (إِذَا) فُجَائِيَّةٌ. وَهِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَحَرْفٌ عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. وَالْمُبْلِسُونَ الْيَائِسُونَ مِنَ الْخَيْرِ الْمُتَحَيِّرُونَ، وَهُوَ مِنَ الْإِبْلَاسِ، وَهُوَ الْوُجُومُ وَالسُّكُوتُ عِنْدَ طَلَبِ الْعَفْوِ يَأْسًا مِنَ الِاسْتِجَابَةِ. وَجُمْلَةُ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَخَذْناهُمْ، أَيْ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ الِاسْتِئْصَالِ. فَلَمْ يُبْقِ فِيهِمْ أَحَدًا. وَالدَّابِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ دَبَرَهُ مِنْ بَابِ كَتَبَ، إِذَا مَشَى مِنْ وَرَائِهِ. وَالْمَصْدَرُ الدُّبُورُ- بِضَمِّ الدَّالِّ-، وَدَابِرُ النَّاسِ آخِرُهُمْ، وَذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّبُرِ، وَهُوَ الْوَرَاءُ، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ [الْحجر: 65] . وَقَطْعُ الدَّابِرِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَهَابِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْصِلَ يَبْدَأُ بِمَا يَلِيهِ وَيَذْهَبُ يَسْتَأْصِلُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ آخِرَهُ وَهُوَ دَابِرُهُ، وَهَذَا مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحجر: 66] . وَالْمرَاد بالذين ظَلَمُوا الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي أَنْ يَعْتَرِفُوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الشِّرْكَ يَسْتَتْبِعُ مَظَالِمَ عِدَّةً لِأَنَّ أَصْحَابَ الشِّرْكِ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَرْعٍ يَزَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ.

وَجُمْلَةُ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ بِمَا اتَّصَلَ بِهَا. عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا تَذْيِيلِيًّا فَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَأَيًّا مَا كَانَ مَوْقِعُهَا فَفِي الْمُرَادِ مِنْهَا اعْتِبَارَاتٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ تَلْقِينًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِ رُسُلَهُ وَأَوْلِيَاءَهُمْ وَإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ نِعْمَةٌ بِإِزَالَةِ فَسَادٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ فِي تَذْكِيرِ اللَّهِ النَّاسَ بِهِ إِيمَاءً إِلَى تَرَقُّبِ الْأُسْوَةِ بِمَا حَصَلَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ أَنْ يَتَرَقَّبُوا نَصْرَ اللَّهِ كَمَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَصْدَرًا بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، عُدِلَ عَنْ نَصْبِهِ وَتَنْكِيرِهِ إِلَى رَفْعِهِ وَتَعْرِيفِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] . ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْحَمْدِ أَنْ يَكُونَ عَلَى نِعْمَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَقْتَضِي حَمْدَهُ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءُ حَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ قِبَلِ جَلَالِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ وَتَدْرِيجِهِمْ فِي دَرَجَاتِ الْإِمْهَالِ إِلَى أَنْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءُ اللَّهِ تَعَالَى ثَنَاءً عَلَى نَفْسِهِ، تَعْرِيضًا بِالِامْتِنَانِ عَلَى الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَاللَّامُ فِي الْحَمْدُ لِلْجِنْسِ، أَيْ وَجِنْسُ الْحَمْدِ كُلُّهُ الَّذِي مِنْهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعْمَةِ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ عِنْدَ هَلَاكِ الظَّلَمَةِ، لِأَنَّ هَلَاكَهُمْ صَلَاحٌ لِلنَّاسِ، وَالصَّلَاحُ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ. وَهَذَا الْحَمْدُ شُكْرٌ لِأَنَّهُ مُقَابِلُ نِعْمَةٍ. وَإِنَّمَا كَانَ هَلَاكُهُمْ صَلَاحًا لِأَنَّ الظُّلْمَ تَغْيِيرٌ لِلْحُقُوقِ وَإِبْطَالٌ لِلْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ، فَإِذَا تَغَيَّرَ الْحَقُّ وَالصَّلَاحُ جَاءَ الدَّمَارُ وَالْفَوْضَى وَافْتُتِنَ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمْ فَإِذَا هَلَكَ الظَّالِمُونَ عَادَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مِيزَانُ قِوَامِ الْعَالَمِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 46]

أَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. [46] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 46] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ إِلَى الْجِدَالِ مَعَهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ الْكَلَامُ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً [الْأَنْعَام: 19] وَمَا تَفَنَّنَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ وَذِكْرِ الْقَوَارِعِ وَالْوَعِيدِ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَاتِ. وَتَكْرِيرُ الْأَمر بالْقَوْل للْوَجْه الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَةَ. وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَةَ. وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي أَرَأَيْتُمْ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِثْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَةَ. وَالْأَخْذُ: انْتِزَاعُ الشَّيْءِ وَتَنَاوُلُهُ مِنْ مَقَرِّهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي السَّلْبِ وَالْإِعْدَامِ، لِأَنَّ السَّلْبَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَخْذِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ تَمْثِيلًا لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعْطِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِذَا أَزَالَهَا كَانَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ كَحَالَةِ أَخْذِ مَا كَانَ

أَعْطَاهُ، فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِعْدَامِ الْخَالِقِ بَعْضَ مَوَاهِبِ مَخْلُوقِهِ بِهَيْئَةِ انْتِزَاعِ الْآخِذِ شَيْئًا مِنْ مقرّه. فالهيئة المشبّه هُنَا عَقْلِيَّةٌ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ وَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهَا مَحْسُوسَةٌ. وَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ الْعُقُولُ الَّتِي بِهَا إِدْرَاكُ الْمَعْقُولَاتِ. وَالسَّمْعُ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ فَكَانَ فِي قُوَّةِ الْجَمْعِ، فَعَمَّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَمْعِهِ. وَالْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْعَيْنُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقِيلَ: يُطْلَقُ الْبَصَرُ عَلَى حَاسَّةِ الْإِبْصَارِ وَلِذَلِكَ جُمِعَ لِيَعُمَّ بِالْإِضَافَةِ جَمِيعَ أَبْصَارِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَعَلَّ إِفْرَادَ السَّمْعِ وَجَمْعَ الْأَبْصَارِ جَرَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ تَمَامُ الْفَصَاحَةِ مِنْ خِفَّةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مُفْرَدًا وَالْآخَرُ مَجْمُوعًا عِنْدَ اقْتِرَانِهِمَا، فَإِنَّ فِي انْتِظَامِ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فِي تَنَقُّلِ اللِّسَانِ سِرًّا عَجِيبًا مِنْ فَصَاحَةِ كَلَامِ الْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالنَّظْمِ. وَكَذَلِكَ نَرَى مَوَاقِعَهَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 26] . وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْقَلْبَ سَبَبُ إِمْدَادِ الْعَقْلِ بِقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ إِلهٌ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ، أَيْ أَعَلِمْتُمْ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَمْ أَنْتُمْ فِي شَكٍّ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْجَاءُ السَّامِعِينَ إِلَى النَّظَرِ فِي جَوَابِهِ فَيُوقِنُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيهِمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْعُقُولِ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَخْلُقُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الْقُرْآنُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] . ومَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وإِلهٌ خَبَرُ مَنْ، وغَيْرُ اللَّهِ صِفَةُ إِلهٌ، ويَأْتِيكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ أَيْضًا، وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ إِلَهٌ، أَيْ لَيْسَ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِي بِذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَمَعْنَى يَأْتِيكُمْ بِهِ يُرْجِعُهُ، فَإِنَّ أَصْلَ أَتَى بِهِ، جَاءَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الْمَسْلُوبُ إِذَا اسْتَنْقَذَهُ مُنْقِذٌ يَأْتِي بِهِ إِلَى مَقَرِّهِ أَطْلَقَ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ عَلَى إِرْجَاعِهِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً.

وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ، عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهَا. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ قَلِيلٌ فِي الضَّمِيرِ، وَلَكِنَّهُ فَصِيحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [36] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [4] ، وَإِيثَارُهُ هُنَا عَلَى أَنْ يُقَالَ: يَأْتِيكُمْ بِهَا، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى خُصُوصِ الْقُلُوبِ. وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، اخْتِيرَ فِيهِ التَّهْدِيدُ بِانْتِزَاعِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَسَلْبِ الْإِدْرَاكِ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ هَذِهِ الْمَوَاهِبِ بَلْ عَدِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها [الْأَنْعَام: 25] . فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ إِجْدَاءِ هَذِهِ الْمَوَاهِبِ عَلَيْهِمْ مَعَ صَلَاحِيَتِهَا لِلِانْتِفَاعِ، وَنَاسَبَ هُنَا أَنْ يُهَدَّدُوا بِزَوَالِهَا بِالْكُلِّيَّةِ إِنْ دَامُوا عَلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا أَمَرَ بِهِ خَالِقُهَا. وَقَوْلُهُ انْظُرْ تَنْزِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الْآيَاتِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا حَتَّى إِنَّ النَّاظِرَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَاهَا، فَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ إِعْرَاضِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا غَمَرَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَبْطَلَ شُبَهَهُمْ عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ قُوَّةِ الْأَدِلَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِعْرَاضِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [50] . وَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْبَابِهِمْ فَمَا كَانَ غَيْرُهُ جَدِيرًا بِأَن يعْبدُونَ. وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا بِأَنْ تَأْتِيَ مَرَّةً بِحُجَجٍ مِنْ مُشَاهَدَاتٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأُخْرَى بِحُجَجٍ مِنْ دَلَائِلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمَرَّةً بِحُجَجٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا اللَّهُ، فَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَهِيَ مُتَّحِدَةٌ فِي الْغَايَةِ مُخْتَلِفَةُ

[سورة الأنعام (6) : آية 47]

الْأَسَالِيبِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الِاقْتِرَابِ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَفْهَامِ عَامِّهَا وَخَاصِّهَا، وَهِيَ أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ فِي تَرْكِيبِ دَلَائِلِهَا مِنْ جِهَتَيِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ جِهَتَيِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَمِنَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ، بِحَيْثُ تَسْتَوْعِبُ الْإِحَاطَةَ بِالْأَفْهَامِ عَلَى اخْتِلَافِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَام: 1] . وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، فَهِيَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ قُوَّةِ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْإِعْرَاضِ وَالْمُكَابَرَةِ مَعَ ذَلِكَ أَجْدَرُ بِالتَّعْجِيبِ بِهِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِي جُمْلَةِ هُمْ يَصْدِفُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِعْرَاضِ مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ. ويَصْدِفُونَ يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا شَدِيدًا. يُقَالُ: صَدَفَ صَدْفًا وَصُدُوفًا، إِذَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ وَأَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولِهِ بِ (عَنْ) . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الْقَامُوسِ» . وَقَلَّ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: 157] قَدَّرَ: وَصَدَفَ النَّاسَ عَنْهَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الْأَسَاسِ وَلَا عَلَّقَ عَلَى تَقْدِيرِهِ شَارِحُوهُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْآيَاتِ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَصْدِفُونَ لِظُهُورِهِ، أَيْ صَدَفَ عَن الْآيَات. [47] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 47] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) اسْتِئْنَافٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّوَعُّدِ وَإِعْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لَا يَرْجِعُ بِالسُّوءِ إِلَّا عَلَيْهِمْ وَلَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الْأَنْعَام: 26] .

وَالْقَوْلُ فِي قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً الْآيَةَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَيْهِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَجِيءَ فِي هَذَا وَفِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِكَافِ الْخِطَابِ مَعَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ دُونَ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: 46] الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا وَنَظِيرَهُ أَبْلَغُ فِي التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُكْنَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ أَمْكَنُ وُقُوعًا مِنْ سَلْبِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ لِنُدْرَةِ حُصُولِ ذَلِكَ، فَكَانَ التَّوْبِيخُ عَلَى إِهْمَالِ الْحَذَرِ مِنْ إِتْيَانِ عَذَابِ اللَّهِ، أَقْوَى مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى الِاطْمِئْنَانِ مِنْ أَخْذِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَاجْتَلَبَ كَافَ الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّنْبِيهُ دُونَ أَعْيَانِ الْمُخَاطَبِينَ. وَالْبَغْتَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَالْجَهْرَةُ: الْجَهْرُ، ضِدَّ الْخُفْيَةِ، وَضِدَّ السِّرِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [55] . وَقَدْ أَوْقَعَ الْجَهْرَةَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْبَغْتَةِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تُقَابَلَ الْبَغْتَةُ بِالنَّظْرَةِ أَوْ أَنْ تُقَابَلَ الْجَهْرَةُ بِالْخُفْيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْبَغْتَةَ لَمَّا كَانَتْ وُقُوعَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ كَانَ حُصُولُهَا خَفِيًّا فَحَسُنَ مُقَابَلَتُهُ بِالْجَهْرَةِ، فَالْعَذَابُ الَّذِي يَجِيءُ بَغْتَةً هُوَ الَّذِي لَا تَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ وَلَا إِعْلَامٌ بِهِ. وَالَّذِي يَجِيءُ جَهْرَةً هُوَ الَّذِي تَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ مِثْلَ الْكَسْفِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: 24] أَوْ يَسْبِقُهُ إِعْلَامٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] . فَإِطْلَاقُ الْجَهْرَةِ عَلَى سَبْقِ مَا يَشْعُرُ بِحُصُولِ الشَّيْءِ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَغْتَةِ الْحَاصِلُ لَيْلًا وَمِنَ الْجَهْرَةِ الْحَاصِلُ نَهَارًا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يُهْلَكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ فَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَالْمَعْنَى لَا يُهْلَكُ بِذَلِكَ الْعَذَابِ إِلَّا الْكَافِرُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْمُخَاطَبُونَ أَنْفُسُهُمْ فَأُظْهِرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَتَأَتَّى وَصْفُهُمْ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، أَيْ مُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَظَالِمُونَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 إلى 49]

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُهُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَحُلَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ تَكْرِمَةً لَهُمْ كَمَا أَكْرَمَ لُوطًا وَأَهْلَهُ، وَكَمَا أَكْرَمَ نُوحًا وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 34] . [48، 49] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 48 إِلَى 49] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: 46] . وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ صُدُوفَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّلُونَ لَهُ بِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ آيَاتٍ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِآيَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] إِلَى آخِرِ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ لِلتَّبْلِيغِ وَالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لَا لِلتَّلَهِّي بِهِمْ بِاقْتِرَاحِ الْآيَاتِ. وَعَبَّرَ بِ نُرْسِلُ دُونَ أَرْسَلْنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِرْسَالِ مُقَارِنًا لِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا وَمَا نُرْسِلُ، فَقَوْلُهُ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ حَالَانِ مُقَدَّرَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَمُحَقَّقَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَّا فِي حَالَةِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةٍ كَمَا اقْتَرَحُوا فَلَيْسَ بِرَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَمْ نُرْسِلِ الرَّسُولَ لِلْإِعْجَابِ بِإِظْهَارِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَكَنَّى بِالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ عَنِ التَّبْلِيغِ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْكِنَايَةِ إِيجَازٌ إِذِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ اللَّازِمِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلْزُومِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ آمَنَ لِلتَّفْرِيعِ، أَيْ فَمَنْ آمَنَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ فَلَا خَوْفٌ إِلَخْ.

[سورة الأنعام (6) : آية 50]

وَ (مَنْ) الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ كَمَا يُرَجِّحُهُ عَطْفُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً لَا سِيَّمَا وَهِيَ فِي مَعْنَى التَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. فَإِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً فَاقْتِرَانُ فَلا خَوْفٌ بِالْفَاءِ بَيِّنٌ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً فَالْفَاءُ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَاملَة الشَّرْط، والاستعمالات مُتَقَارِبَانِ. وَمَعْنَى أَصْلَحَ فَعَلَ الصَّلَاحَ، وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، لِأَنَّ اللَّهَ مَا أَرَادَ بِشَرْعِهِ إِلَّا إِصْلَاحَ النَّاسِ كَمَا حَكَى عَنْ شُعَيْبٍ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] . وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ مُبَاشَرَةُ الْجِسْمِ بِالْيَدِ وَهُوَ مُرَادِفُ اللَّمْسِ وَالْجَسِّ، وَيُسْتَعَارُ لِإِصَابَةِ جِسْمٍ جِسْمًا آخَرَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [73] . وَيُسْتَعَارُ أَيْضًا لِلتَّكَيُّفِ بِالْأَحْوَالِ كَمَا يُقَالُ: بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَاف: 201] . وَجَمَعَ الضَّمَائِرَ الْعَائِدَةَ إِلَى (مِنْ) مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، وَأَمَّا إِفْرَادُ فِعْلِ آمَنَ وأَصْلَحَ فَلِرَعْيِ لَفْظِهَا. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ. وَالْفِسْقُ حَقِيقَتُهُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الْخَيْرِ. وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ وَتَجَاوُزِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَجِيءَ بِخَبَرِ (كَانَ) جملَة مضارعية لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِسْقَهُمْ كَانَ مُتَجَدِّدًا مُتَكَرِّرًا، عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِ (كَانَ) أَيْضًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ لِأَنَّ (كَانَ) إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا انْقِضَاءُ خَبَرِهَا فِيمَا مَضَى دَلَّتْ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَبَرِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: 96] . [50] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 50] قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ.

لَمَّا تَقَضَّتِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَدَحْضِ تَعَالِيلِ إِنْكَارِهِمْ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنُبُوءَتِهِ إِلَّا إِذَا جَاءَ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ هَوَاهُمْ، وَأُبْطِلَتْ شُبْهَتُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الْأَنْعَام: 48] وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَمِلَهُ لَفْظُ الْمُرْسَلِينَ، نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ وَاقْتِرَانِهَا بِالْآيَاتِ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يَتَحَدَّى الْأُمَّةَ لِأَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ مُرَادِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَتِ الْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَتَحَدَّى الرَّسُولَ، فَآيَةُ صِدْقِ الرَّسُولِ تَجِيءُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ، فَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكٌ أَوْ أَنَّهُ بُعِثَ لِإِنْقَاذِ النَّاسِ مِنْ أَرْزَاءِ الدُّنْيَا وَلِإِدْنَاءِ خَيْرَاتِهَا إِلَيْهِمْ لَكَانَ مِنْ عُذْرِهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ آيَاتٍ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَأَمَّا وَالرَّسُولُ مَبْعُوثٌ لِلْهُدَى فَآيَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْهُدَى وَأَنْ تَكُونَ مُعْجِزَتُهُ هُوَ مَا قَارَنَ دَعْوَتَهُ مِمَّا يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي زَمَنِهِمْ. فَقَوْلُهُ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِإِبْلَاغِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] . وَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ مِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: 67] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى نَفْيِ ادِّعَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ نَاظِرٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ [الْأَنْعَام: 7] وَقَوْلِهِ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 35] الْآيَةَ. وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِنَفْيِ الْقَوْلِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى الرِّسَالَةِ فَلَا وَجْهَ لِاقْتِرَاحِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمَنْفِيِّ قَوْلُهَا عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجِيءَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ تَقْوِيَةَ فعل القَوْل عِنْد مَا لَا تَكُونُ حَاجَةٌ

لِذِكْرِ الْمُوَاجَهِ بِالْقَوْلِ كَمَا هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْقَوْلِ هُمُ الْمُكَذِّبُونَ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: 31] مُجَرَّدًا عَنْ لَامِ التَّبْلِيغِ. فَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ ذِكْرَ الْمُوَاجَهِ بِالْقَوْلِ فَاللَّامُ حِينَئِذٍ تُسَمَّى لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ فَالَّذِي اقْتَضَى اجْتِلَابَ هَذِهِ اللَّامِ هُنَا هُوَ هَذَا الْقَوْلُ بِحَيْثُ لَوْ قَالَهُ قَائِلٌ لَكَانَ جَدِيرًا بِلَامِ التَّبْلِيغِ. وَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهِيَ الْبَيْتُ أَوِ الصُّنْدُوقُ الَّذِي يَحْتَوِي مَا تَتُوقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَمَا يَنْفَعُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ. وَالْمَعْنَى أَنِّي لَيْسَ لِي تَصَرُّفٌ مَعَ اللَّهِ وَلَا أَدَّعِي أَنِّي خَازِنُ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ وَأَرْزَاقِهِ. وخَزائِنُ اللَّهِ مُسْتَعَارَةٌ لِتَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ وَإِعْطَاءِ الْخَيْرَاتِ النَّافِعَةِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا. شُبِّهَتْ تِلْكَ التَّعَلُّقَاتُ الصُّلُوحِيَّةُ وَالتَّنْجِيزِيَّةُ فِي حَجْبِهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ وَتَنَاوُلِهِمْ مَعَ نَفْعِهَا إِيَّاهُمْ، بِخَزَائِنِ أَهْلِ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ الَّتِي تجمع الْأَمْوَال والأحبية وَالْخِلَعَ وَالطَّعَامَ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [المُنَافِقُونَ: 7] ، أَيْ مَا هُوَ مُودَعٌ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الْحجر: 21] . وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ وَهُوَ قَوْلُهُ عِنْدِي لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُخْبَرِينَ بِهِ لَوْ كَانَ يَقُولُهُ. وَقَوْلُهُ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عَطْفٌ عَلَى عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْقَوْلِ الْمَنْفِيِّ. وَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى طَرِيقَةِ عَطْفِ الْمَنْفِيَّاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنْ يُعَادَ مَعَهَا حَرْفُ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُتَعَاطِفَاتِ جَمِيعَهَا مَقْصُودَةٌ بِالنَّفْيِ بِآحَادِهَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. وَالْمَعْنَى لَا أَقُولُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ، أَيْ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا مُلَازِمًا لِصِفَةِ الرِّسَالَةِ. فَأَمَّا إِخْبَارُهُ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ فَذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ اللَّهِ إِطْلَاعَهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ خَاصٍّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: 26، 27] وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ. وَعَطْفُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ عَلَى لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ

بِإِظْهَارِ فِعْلِ الْقَوْلِ فِيهِ، خِلَافًا لِقَوْلِهِ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَعَلَّهُ لِدَفْعِ ثِقَلِ الْتِقَاءِ حَرْفَيْنِ: (لَا) وَحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي اقْتَضَاهُ مَقَامُ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّ ادِّعَاءَ مِثْلِهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُؤَكَّدَ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ أَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] ، فَنَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا جَوَابٌ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكٌ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعَه ملك نذيرا. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَكُونَ مُقَارِنًا لِمَلَكٍ آخَرَ مُقَارَنَةَ تَلَازُمٍ كَشَأْنِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَشَرِ فَلذَلِك قَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] . فَالْمَعْنَى نَفْيُ مَاهِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ عَنْهُ لِأَنَّ لِجِنْسِ الْمَلَكِ خَصَائِصَ أُخْرَى مُغَايِرَةً لِخَصَائِصِ الْبَشَرِ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُكَلِّفُهُ عَنَتًا: إِنِّي لَسْتُ مِنْ حَدِيدٍ. وَمِنْ تَلْفِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يَسْتَدِلَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَأْيِيدِ قَوْلِ أَصْحَابِهِ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعَ بُعْدِ ذَلِكَ عَنْ مَهْيَعِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَابَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَذَلِكَ دَأْبُهُ كَثِيرًا مَا يُرْغِمُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى مسايرة مذْهبه فتنزو عَصَبِيَّتُهُ وَتَنْزَوِي عَبْقَرِيَّتُهُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي مَظِنَّتِهَا. وَجُمْلَةُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: فَمَاذَا تَدَّعِي بِالرِّسَالَةِ وَمَا هُوَ حَاصِلُهَا لِأَنَّ الْجَهَلَةَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَعْنَى النُّبُوءَةِ هُوَ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الْمُتَبَرَّأُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ إِلَخْ، فَيُجَابُ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ، أَيْ لَيْسَتِ الرِّسَالَةُ إِلَّا التَّبْلِيغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ. فَمَعْنَى أَتَّبِعُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الشَّيْءِ وَمُلَازَمَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْمَشْيُ خَلْفَ الْمُتَّبَعِ- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ-، أَيْ لَا أَحِيدُ عَنْ تَبْلِيغِ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَى إِجَابَةِ الْمُقْتَرَحَاتِ مِنْ إِظْهَارِ الْخَوَارِقِ أَوْ لِإِضَافَةِ الْأَرْزَاقِ أَوْ إِخْبَارٍ بِالْغَيْبِ، فَالتَّلَقِّي وَالتَّبْلِيغُ هُوَ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ كُنْهُ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ هُنَا إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ الِاشْتِغَالِ بِإِظْهَارِ مَا تَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَةِ. وَالْغَرَضُ مِنَ الْقَصْرِ قَلْبُ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ رَسُولًا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِالْعَجَائِبِ

الْمَسْئُولَةِ. وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي ضَلَّ عَنْ إِدْرَاكِهَا الْمُعَانِدُونَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الْأَنْعَام: 48] . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا كَانَ لَا مَحَالَةَ نَاظِرًا إِلَى قَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَطَالِبِهِمْ بِاتِّبَاعِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ، أَيْ لَا أَتَّبِعُ فِي التَّبْلِيغِ إِلَيْكُمْ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي قَصْرَ تَصَرُّفِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَحْتَجَّ بِهَا مَنْ يَنْفِي مِنْ عُلَمَائِنَا جَوَازَ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِأَنَّ تِلْكَ مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَهَا أَدِلَّةٌ لِلْجَانِبَيْنِ، وَلَا مِسَاسَ لَهَا بِهَذَا الْقَصْرِ. وَمَنْ تَوَهَّمَهُ فَقَدْ أَسَاءَ التَّأْوِيلَ. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ. هَذَا خِتَامٌ لِلْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ وَتَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، أَيْ قُلْ لَهُمْ هَذَا التَّذْيِيلَ عَقِبَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ. وَشُبِّهَتْ حَالَةُ مَنْ لَا يَفْقَهُ الْأَدِلَّةَ وَلَا يُفَكِّكُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ بِحَالَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَيْنَ يَقْصِدُ وَلَا أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَهُ. وَشُبِّهَتْ حَالَةُ مَنْ يُمَيِّزُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بِحَالَةِ الْقَوِيِّ الْبَصَرِ حَيْثُ لَا تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْأَشْبَاحُ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَدِلَّتِهِمْ وَعُقْمِ أَقْيِسَتِهِمْ، وَلِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَوَضَعُوا الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، أَوْ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا وَالْحَالِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُمُ الَّتِي نَفَرُوا مِنْهَا لِيَعْلَمُوا أَيُّ الْحَالَيْنِ أَوْلَى بِالتَّخَلُّقِ. وَقَوْلُهُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِالْفَاءِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الْأَعْمَى والبصير بديهي لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فَلَا جَرَمَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ إِنْكَارُ عَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي أَنَّهُمْ بِأَيِّهِمَا أَشْبَهُ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] .

[سورة الأنعام (6) : آية 51]

وَالتَّفَكُّرُ: جَوَلَانُ الْعَقْلِ فِي طَرِيقِ اسْتِفَادَةِ علم صَحِيح. [51] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 51] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [الْأَنْعَام: 50] لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ لِذِكْرِ مَنْ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ الْبَصِيرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: 50] وَهُوَ الْقُرْآنُ وَمَا يُوحَى بِهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ الْإِعْجَازُ. والَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُمَثَّلُونَ بِحَالِ الْبَصِيرِ. وَعُرِّفُوا بِالْمَوْصُولِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ الْمَدْحِ، وَمِنَ التَّعْلِيلِ بِتَوْجِيهِ إِنْذَارِهِ إِلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِنْذَارٌ نَافِعٌ، خِلَافًا لِحَالِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ، فَلَا يَخَافُونَهُ فَضْلًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى شُفَعَاءَ. وأَنْ يُحْشَرُوا مَفْعُولُ يَخافُونَ، أَيْ يَخَافُونَ الْحَشْرَ إِلَى رَبِّهِمْ فَهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ خِيفَةَ أَنْ يَلْقَوُا اللَّهَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهُمْ. وَخَوْفُ الْحَشْرِ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِوُقُوعِهِ. فَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْركين لَا ينجع فِيهِمُ الْإِنْذَارُ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحَشْرِ فَكَيْفَ يَخَافُونَهُ.. وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 6] . وَجُمْلَةُ: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَنْ يُحْشَرُوا، أَيْ يُحْشَرُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذِهِ الْحَالُ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْخَوْفِ. فَمَضْمُونُ الْحَالِ مُعْتَقَدٌ لَهُمْ، أَيْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ لَا تُرَدُّ شَفَاعَتُهُمْ، فَهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ مِنْ دُونِهِ حَالٌ مِنْ وَلِيٌّ وشَفِيعٌ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ فِعْلُ يَخافُونَ،

[سورة الأنعام (6) : آية 52]

أَيْ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌ دُونَ اللَّهِ وَلَا شَفِيعٌ دُونَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ وَأَوْلِيَاءَ غَيْرَ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] . وَلِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا تَكَلُّفَاتٌ فِي مَعْنَى يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا وَفِي جَعْلِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُحْشَرُوا حَالًا لَازِمَةً، وَلَعَلَّهُ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِ فِي إِنْكَارِ الشَّفَاعَةِ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رَجَاءٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِإِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يُرْجَى تَقْوَاهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ. [52] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 52] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: 51] لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى أَنْذَرَهُمْ وَلَازَمَهُمْ وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مُتَكَبِّرُو الْمُشْرِكِينَ. فَقَدْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ هُنَا صِلَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنْسَبُ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا أَنَّ تِلْكَ أَنْسَبُ بِالْحُكْمِ الَّذِي اقْتَرَنَتْ مَعَهُ مِنْهَا بِهَذَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَ الْإِضْمَارِ، فَيُقَالُ: وَلَا تَطْرُدْهُمْ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ فَأَوْلَى النَّاسِ بِمُلَازَمَتِهِ الَّذِينَ هِجِّيرَاهُمْ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ فَكَيْفَ يَطْرُدُهُمْ فَإِنَّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: 68] . رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيءِ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيءِ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ، لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ آهـ. وَسَمَّى الْوَاحِدِيُّ بَقِيَّةَ السِّتَّةِ: وَهُمْ صُهَيْبٌ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَالْمِقْدَادُ

بْنُ الْأَسْوَدِ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ. وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ» إِجْمَالٌ بَيَّنَهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ (جَمْعُ جُبَّةٍ) جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالُوا: فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا فَإِذَا قُمْنَا فَأَقْعِدْهُمْ مَعَكَ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: نعم، طعما فِي إِيمَانِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَوَقَعَ فِي «سُنَنِ» ابْنِ مَاجَهْ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَقْرَعُ بن حَابِس وعبينة بْنُ حِصْنٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَعُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ إِنَّمَا وَفَدَا مَعَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ الْوُفُودِ. اهـ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمَا فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي نَظِيرِ اقْتِرَاحِهِمَا. وَفِي سَنَدِهِ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ أَوْ نَضْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْقَوِيِّ، وَفِيهِ السُّدِّيُّ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَلَا يُعْرَفُ سَنَدُهُ. وَسَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ: خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو فُكَيْهَةَ، يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ، وَصُهَيْبٌ وَأَشْبَاهُهُمْ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: 53] . وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ. فَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ، فِي أَشْرَافِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ عَنْهُ مَوَالِينَا وَعَبِيدَنَا وَعُتَقَاءَنَا كَانَ أعظم من صُدُورِنَا وَأَطْمَعَ لَهُ عِنْدَنَا وَأَرْجَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِنَا لَهُ. فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ وَإِلَامَ يَصِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ الله هَذِه الْآيَة. فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ يَعْتَذِرُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِقَوْمِهِمْ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَحْرِصُونَ حِرْصَهُ وَلَا يُوحِشُهُمْ أَنْ يُقَامُوا مِنَ الْمَجْلِسِ إِذَا حَضَرَهُ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَسَمَّاهُ طَرْدًا تَأْكِيدًا لِمَعْنَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ: وَهِيَ كَانَتْ أَرْجَحَ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِ أُولَئِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى

سَرَائِرِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَ اسْتِغْنَاءَ دِينِهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الِاعْتِزَازِ بِأُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْقُسَاةِ، وَلِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْحِرْصَ عَلَى قُرْبِهِمْ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنَ الْحِرْصِ عَلَى قُرْبِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ الدِّينَ يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ يَرْغَبُ فِي النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] . وَمَعْنَى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ بِهِ دُونَ الْأَصْنَامِ إِعْلَانًا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ الْقَائِلِ بِمَا يَقُولُهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ نِفَاقٌ وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ. وَالْغَدَاةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِمَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ الْيَوْمَ كُلَّهُ. فَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ قُصِدَ بِهِمَا اسْتِيعَابُ الزَّمَانِ وَالْأَيَّامِ كَمَا يُقْصَدُ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اسْتِيعَابُ الْأَمْكِنَةِ. وَكَمَا يُقَالُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ. وَبِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ عُمُومُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَالْمَعْنَى وَلَا تَطْرُدِ الْمُصَلِّينَ، أَيِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَداةِ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الدَّالِّ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَبِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الدَّالِّ- وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْغَدَاةِ. وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَ مُخْلِصِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، أَيْ لَا يُرِيدُونَ حَظًّا دُنْيَوِيًّا. وَالْوَجْهُ حَقِيقَةُ الْجُزْءِ مِنَ الرَّأْسِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ. وَيُطْلَقُ الْوَجْهُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا مَجَازًا مُرْسَلًا. وَالْوَجْهُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلذَّاتِ عَلَى اعْتِبَارِ مُضَافٍ، أَيْ يُرِيدُونَ رِضَى اللَّهِ، أَي لَا يُرِيدُونَ إِرْضَاءَ غَيْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَان: 9] ، وَقَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [115] . فَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَدَعَوُا اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا طَعَنُوا فِي إِيمَانِ الضُّعَفَاءِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى النِّفَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ صَحِيحٌ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ، وَشَهَادَةٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُجَرَّدُونَ عَنِ الْغَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ طَرْدِهِمْ، أَوْ إِبْطَالٌ لِعِلَّةِ الْهَمِّ بِطَرْدِهِمْ، أَوْ لِعِلَّةِ طَلَبِ طَرْدِهِمْ. فَإِنَّ إِبْطَالَ عِلَّةِ فِعْلِ الْمنْهِي عَنهُ يؤول إِلَى كَوْنِهِ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ، وَلِذَا فُصِّلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ. وَالْحِسَابُ: عَدُّ أَفْرَادِ الشَّيْءِ ذِي الْأَفْرَادِ وَيُطْلَقُ عَلَى إِعْمَالِ النَّظَرِ فِي تَمْيِيزِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْ بَعْضٍ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ تَتَبُّعِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْهُ جَاءَ مَعْنَى الْحِسْبَةِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-، وَهِيَ النَّظَرُ فِي تَمْيِيزِ أَحْوَالِ أَهْلِ السُّوقِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ وَضِدِّهَا. وَيُقَالُ: حَاسَبَ فُلَانًا عَلَى أَعْمَالِهِ إِذَا اسْتَقْرَاهَا وَتَتَبَّعَهَا. قَالَ النَّابِغَةُ: يُحَاسِبُ نَفْسَهُ بِكَمِ اشْتَرَاهَا فَالْحِسَابُ هُنَا مَصْدَرُ حَاسَبَ. وَالْمُرَادُ بِهِ تَتَبُّعُ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالنَّظَرُ فِيمَا تُقَابَلُ بِهِ مِنْ جَزَاءٍ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حِسابِهِمْ وَقَوْلِهِ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَائِدِينَ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وَهُوَ مُعَادٌ مَذْكُورٌ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ مَعَ قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ فِي مَجْلِسِكَ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَلَا يُطْرَدُونَ عَنْهُ وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَحْسِبَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لَهُمْ بِزَعْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ حُضُورَ أُولَئِكَ فِي مَجْلِسِكَ يَصُدُّ كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ تُجَاهَ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَجْلِسِ رَسُولِهِمْ وَسَمَاعِ هَدْيِهِ. وَقِيلَ مَعْنَى: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَعَنُوا فِي إِخْلَاصِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا اجْتَمَعُوا عِنْدَكَ وَقَبِلُوا دِينَكَ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَأْكُولًا وَمَلْبُوسًا عِنْدَكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا يَلْزَمُكَ إِلَّا اعْتِبَارُ ظَاهِرِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بَاطِنٌ يُخَالِفُهُ فَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، أَيْ إِحْصَاءُ أَحْوَالِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهُمْ عَلَيْهَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِ نُوحٍ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشُّعَرَاء: 113] . فَمَعْنَى حِسَابِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَمْحِيصُ

نِيَّاتِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا تَبْكِيتُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اسْتِضْعَافَ يَقِينِ الْمُؤْمِنِينَ. وحِسابِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرَانِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا طَرْدَ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ ضَمِيرُ فَتَطْرُدَهُمْ عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَخْتَلِفُ مَعَادُ الضَّمِيرَيْنِ اعْتِمَادًا على مَا يعيّنه سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: 9] ، وَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا أَيْ أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَالْمَعْنَى: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ أَوْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ شَيْءٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَيَّ فَلَا تَظْلِمِ الْمُؤْمِنِينَ بِحِرْمَانِهِمْ حَقًّا لِأَجْلِ تَحْصِيلِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا [النِّسَاء: 135] . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ كَوْنُ إِضَافَةِ حِسابِهِمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ مُحَاسَبَتُكَ إِيَّاهُمْ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَقْرَهُمْ وَضَعْفَهُمْ. وعَلَيْكَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَ (عَلَى) فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ لِأَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هَمَّ أَوْ كَانَ بِحَيْثُ يَهُمُّ بِإِجَابَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ لَمَّا سَأَلُوهُ، فَيَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ مَدْحُوضَةٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الشُّمُولِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي بِتَقْدِيرِهِ بُنِيَ اسْمُ (لَا) عَلَى الْفَتْحِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِرَادَةِ نَفْيِ الْجِنْسِ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدَيْنِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَقْدِيمٌ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَتَيْنِ هُنَا مُسَوِّغًا، وَهُوَ وُقُوعُهُمَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ هُنَا اخْتِيَارِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَرَضٍ. وَالْغَرَضُ يَحْتَمِلُ مُجَرَّدَ الِاهْتِمَامِ وَيَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ. وَحَيْثُ تَأَتَّى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا فَاعْتِبَارُهُ أَلْيَقُ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» . وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ قَصْرُ نَفْيِ حِسَابِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُفِيدَ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَلِكَ هُوَ مُفَادُ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ بِالتَّقْدِيمِ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ مُفَادٌ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ لِقِلَّةِ وُقُوعِ الْقَصْرِ بِوَاسِطَةِ التَّقْدِيمِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَمِثَالُهُ الْمَشْهُورُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْغَوْلِ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِفِي خُمُورِ الْجَنَّةِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْكَلَامِ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ. وَهِيَ (مِنَ) الْبَيَانِيَّةُ، وَ (مِنَ) الزَّائِدَةُ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ، وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَالتَّأْكِيدُ بِالتَّتْمِيمُ بِنَفْيِ الْمُقَابِلِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَكُلُّ ذَلِكَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى مُنْتَهَى التَّبْرِئَةِ مِنْ مُحَاوَلَةِ إِجَابَتِهِمْ لِاقْتِرَاحِهِمْ. وَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ التَّعْرِيضَ بِرُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ سَأَلُوا إِبْعَادَ الْفُقَرَاءِ عَنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِينَ مَا يَحْضُرُونَ وَأَوْهَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَائِلُ لَهُمْ دُونَ حُضُورِ مَجْلِسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْإِيمَانِ بِهِ وَالْكَوْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَخَاطَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الرَّسُولُ هُوَ الْمَسْئُول أَن يقْضِي أَصْحَابَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ لِيَعْلَمَ السَّائِلُونَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مَا لَا يَقَعُ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَذِبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَلَاشْتَغَلُوا بِإِصْلَاحِ خُوَيْصِّتِهِمْ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَنْعَام: 55] . وَإِذْ كَانَ الْقَصْرُ يَنْحَلُّ عَلَى نِسْبَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ فَالنِّسْبَةُ الْمُقَدَّرَةُ مَعَ الْقَصْرِ وَهِيَ نِسْبَةُ الْإِثْبَاتِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَضَمِيرِ الْغَائِبِينَ، أَيْ عَدَمُ حِسَابِهِمْ مَقْصُورٌ عَلَيْكَ، فَحِسَابُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ ذُكِرَ

لِاسْتِكْمَالِ التَّعْلِيلِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الْعِلَّةِ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ مَدْلُولِ الْجُمْلَتَيْنِ هُوَ الْعِلَّةُ، أَيْ حِسَابُهُمْ لَيْسَ عَلَيْكَ كَمَا أَنَّ حِسَابَكَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ بَلْ عَلَى نَفْسِكَ، إِذْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. فَكَمَا أَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَّا إِلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَهُمْ كَذَلِكَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ التَّفْرِيطُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسْدِيدِ رَغْبَةٍ مِنْكَ فِي شَيْءٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ أَوْ لِتَحْصِيلِ رَغْبَةِ غَيْرِهِمْ فِي إِيمَانِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا كَتَقْدِيمِهِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِطَرْدِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّصْحَ لَهُ لِيَكْتَسِبَ إِقْبَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ وَالْإِطْمَاعَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ فَيَكْثُرُ مُتَّبِعُوهُ. ثُمَّ بِهَذَا يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ الْمَعْنَى: بَلْ حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَحِسَابُكَ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِسِيَاقِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ قَوْلُهُ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ مُسْتَدْرَكًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ نَظِيرِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ نُوحٍ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [113] لِأَنَّ ذَلِكَ حُكِيَ بِهِ مَا صَدَرَ مِنْ نُوحٍ وَمَا هُنَا حُكِيَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، فَتَنَبَّهْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْآيَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (عَلَى) فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا سِيَّمَا وَاعْتِبَارُ مَعْنَى الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ غَيْرُ وَاضِحٍ، لِأَنَّنَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- شِبْهُ اعْتِقَادِ لُزُومِ تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِمْ فَقُلِبَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَصْرِ، لَا نَجِدُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِذْ لَا اعْتِقَادَ لَهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَقَدَّمَ الْبَيَانَ عَلَى الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَهَمَّ فِي الْمَقَامَيْنِ هُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالْمُخَاطَبِ الْمُعَرِّضِ فِيهِ بِالَّذِينَ سَأَلُوهُ الطَّرْدَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِاسْتِكْمَالِ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: فَتَطْرُدَهُمْ مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ الطَّرْدِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ،

[سورة الأنعام (6) : آية 53]

لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّهْيِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِوُقُوعِ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. فَحَصَلَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ فَتَطْرُدَهُمْ غَرَضَانِ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فَتَطْرُدَهُمْ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ لَا تَطْرُدْهُمْ إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَعْدَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عُطِفَ عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، أَيْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِطَرْدِهِمْ، أَيْ فَكَوْنُهُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُنْتَفٍ تَبَعًا لِانْتِفَاءٍ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ. وَإِنَّمَا جَعَلَ طَرْدَهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى تَكْلِيفُهُ بِأَنْ يُحَاسِبَهُمْ صَارَ طَرْدُهُمْ لِأَجْلٍ إِرْضَاءِ غَيْرِهِمْ ظُلْمًا لَهُمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ سَأَلُوا طَرْدَهُمْ لِإِرْضَاءِ كِبْرِيَائِهِمْ بأنّهم ظَالِمُونَ مفطرون عَلَى الظُّلْمِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ جِيءَ بِهِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِتَجْدِيدِ رَبْطِ الْكَلَامِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ بِالظَّرْفِ وَالْحَالِ وَالتَّعْلِيلِ فَكَانَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ كَالْمُقَدَّمَةِ لِقَوْلِهِ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ مَقْصُود بِالذَّاتِ لِلْجَوَابِيَّةِ فَالتَّقْدِيرُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمين بطردهم. [53] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 53] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا هِيَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ لَمَّا شَعَرَ بِقِصَّةٍ أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: 52] الْآيَةَ يَأْخُذُهُ الْعَجَبُ مِنْ كِبْرِيَاءِ عُظَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَيْفَ يَرْضَوْنَ الْبَقَاءَ فِي ضَلَالَةٍ تَكَبُّرًا عَنْ غِشْيَانِ مَجْلِسٍ فِيهِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الْعَجِيبَ فِتْنَةٌ لَهُمْ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِسُوءِ خُلُقِهِمْ. وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تَعْجِيلًا لِلْبَيَانِ، وَقُرِنَتْ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَهِيَ الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ، وَتُسَمَّى الِاسْتِئْنَافِيَّةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ دَاعِيَهُمْ

إِلَى طَلَبِ طَرْدِهِمْ هُوَ احْتِقَارٌ فِي حَسَدٍ وَالْحَسَدُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْحَاسِدُ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى بِالنِّعْمَةِ الْمَحْسُودِ عَلَيْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ الدَّاعِي فِتْنَةً عَظِيمَةً فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَمَعَتْ كِبْرًا وَعُجْبًا وَغُرُورًا بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ إِلَى احْتِقَارٍ لِلْأَفَاضِلِ وَحَسَدٍ لَهُمْ، وَظُلْمٍ لِأَصْحَابِ الْحَقِّ، وَإِذْ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعُجْبِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْفُتُونِ الْمَأْخُوذِ مِنْ «فَتَنَّا» كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، أَيْ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فُتُونًا يُرَغِّبُ السَّامِعَ فِي تَشْبِيهِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِتَقْرِيبِ كُنْهِهِ فَإِذَا رَامَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لَهُ بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَبِيهًا فِي غَرَائِبِهِ وَفَظَاعَتِهِ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا أَعْجَبَ مِنْهُ، عَلَى حدّ قَوْلهم: والسفاعة كَاسْمِهَا. وَلَيْسَ ثَمَّةَ إِشَارَةٍ إِلَى شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ مُغَايِرٍ لِلْمُشَبَّهِ. وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْمَنْصُوبِ الْمُشْرِكُونَ فَهُمُ الْمَفْتُونُونَ، وَبِالْبَعْضِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ فَتَنَّا عُظَمَاءَ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ وَشِرْكِ مُقَلِّدِيهِمْ بِحَالِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: 53] فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَذْيِيلِهِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَالْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ كَلَامًا قَالُوهُ فِي مَلَئِهِمْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إِلَّا وَقَدِ اعْتَقَدُوا مَضْمُونَهُ، فَالْقَائِلُونَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقُولُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَمَدْخُولُهَا هُوَ أَثَرُ الْعِلَّةِ دَالٌّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَيِّهَا

عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَنَّاهُمْ لِيَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ شُفُوفًا وَاسْتِحْقَاقًا لِلتَّقَدُّمِ فِي الْفَضَائِلِ اغْتِرَارًا بِحَالِ التَّرَفُّهِ فَيَعْجَبُوا كَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ بِالْهُدَى وَالْفَضْلِ عَلَى نَاسٍ يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُم، وَكَيف يعدّونهم دُونَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الْكَاذِبِ. وَنَظِيرُهُ فِي طَيِّ الْعِلَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَثَرِهَا قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأَعْلَمَهُمَا. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَر: 25] . وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ أَوِ التَّعْجِيبِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [36] . وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ. وَقَوْلُهُمْ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَمُجَارَاةِ الْخَصْمِ، أَيْ حَيْثُ اعْتَقَدَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَحَرَمَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ، أَيْ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى فُقَرَاءٍ وَعَبِيدٍ وَيَتْرُكُ سَادَةَ أَهْلِ الْوَادِي. وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالطُّغَاةِ. وَقَدْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلُ هَذَا. رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ أَخَابُوا وَخَسِرُوا (أَيْ أَخَابَ بَنُو تَمِيمٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ) فَقَالَ: نعم قَالَ: فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لِخَيْرٌ مِنْهُمْ. وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ، وَضَمِيرُ لِيَقُولُوا عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْبَعْضَ الْمَفْتُونِينَ، وَيَكُونُ الْبَعْضُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ صَادِقًا

عَلَى أَهْلِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَكُونُ إِشَارَةُ هؤُلاءِ رَاجِعَةً إِلَى عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَنِّ إِعْطَاءَ الْمَالِ وَحُسْنَ حَالِ الْعَيْشِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَيُّرِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا مَا عُرِفُوا بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ الْفُتُونُ الْوَاقِعُ لِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فُتُونُ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِيَاءِ حِينَ تَرَفَّعُوا عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَبِيدُ مِنْ تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِهِ اسْتِكْبَارًا عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ، كَذَلِكَ كَانَ فُتُونُ بَعْضٍ آخَرَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُشَاهِدُونَ طِيبَ عَيْشِ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِشْرَاكِهِمْ بِرَبِّهِمْ فَيَعْجَبُونَ كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ بِالرِّزْقِ الْوَاسِعِ عَلَى مَنْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَلَمْ يَمُنَّ بِذَلِكَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ أَوْلَى بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ. وَقَدْ أَعْرَضَ الْقُرْآنُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِفَسَادِ هَذَا الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ سَمَّاهُ فِتْنَةً، فَعُلِمَ أَنَّهُ خَاطِرٌ غَيْرُ حَقٍّ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ مُشِيرٌ إِلَى إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. ذَلِكَ بِأَنَّهَا شُبْهَةٌ خَلَطَتْ أَمْرَ شَيْئَيْنِ مُتَفَارِقَيْنِ فِي الْأَسْبَابِ، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ فِي الْآخِرَةِ، الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ الْمَجْعُولِ عَنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالتِّجَارَةِ وَالْغَزْوِ وَالْإِرْثِ وَالْهِبَاتِ. فَالرِّزْقُ الدُّنْيَوِيُّ لَا تَسَبُّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ مُسَبِّبَاتِ الْأَحْوَالِ الْمَادِّيَّةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَزَاءَ شُكْرِهِمْ، وَأَعْلَمُ بِأَسْبَابِ رِزْقِ الْمَرْزُوقِينَ الْمَحْظُوظِينَ. فَالتَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مِنْ ضَعْفِ الْفِكْرِ الْعَارِضِ لِلْخَوَاطِرِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنَّاشِئِ عَنْ سُوءِ النَّظَرِ وَتَرْكِ التَّأَمُّلِ فِي الْحَقَائِقِ وَفِي الْعِلَلِ وَمَعْلُولَاتِهَا. وَكَثِيرًا مَا عَرَضَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ شُبَهٌ وَأَغْلَاطٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرَفَتْهُمْ عَنْ تَطَلُّبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَظَانِّهَا وَقَعَدَتْ بِهِمْ عَنْ رَفْوِ أَخَلَّالِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ غَرَّتْهُمْ بِالتَّفْرِيطِ فِيمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّخْلِيطِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَبَيْنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا عَرَضَ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مِنْ حَيْرَةِ الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ: كَمْ عَالِمٍ عَالِمٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا

[سورة الأنعام (6) : آية 54]

وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اهْتَدَوْا وَاسْتَفَاقُوا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَأَهَّلُوا لِامْتِلَاكِ الْعَالِمِ وَلَاقَوْا. ومَنَّ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِنا ابتدائية. و (بَين) ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّوَسُّطِ، أَيْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُخْتَارًا لَهُمْ مِنْ وَسَطِنَا، أَيْ مَنَّ عَلَيْهِم وَتَركنَا، فيؤول إِلَى مَعْنَى مِنْ دُونِنَا. وَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ كُلِّهَا، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ فُصِّلَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تقريري. وعديّ بِأَعْلَمَ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ صَارَ قَاصِرًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَلِذَلِكَ مَنَّ عَلَى الَّذِينَ أَشَارُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمِنَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ. وَمَعْنَى عِلْمُهُ تَعَالَى بِالشَّاكِرِينَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ جَاءُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ بِقَرِيحَةٍ طَالِبِينَ النَّجَاةَ مِنَ الْكُفْرِ رَاغِبِينَ فِي حُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَهُوَ يَلْطُفُ بِهِمْ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِمْ وَيُزَيِّنُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا تَمَكُّنًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا وَصَلَاحًا، فَهُوَ أَعْلَمُ بِقُلُوبِهِمْ وَصِدْقِهِمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ رَثَاثَةَ حَالِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ تُطَابِقُ حَالَةَ قُلُوبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ فَيَأْخُذُونَ النَّاسَ بِبَزَّاتِهِمْ دُونَ نِيَّاتِهِمْ. فَهَذَا التَّذْيِيلُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الْأَنْعَام: 36] . وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أَنَّهُ أَيْضًا أَعْلَمُ بِأَضْدَادِهِمْ. ضِدُّ الشُّكْرِ هُوَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إِبْرَاهِيم: 7] فَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ يَأْتُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُسْتَهْزِئِينَ مُتَكَبِّرِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا تَحْقِيرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ وَلُبَّهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ فِي حَقِيقَةِ الدِّينِ. فَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيض بالمشركين. [54] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 54] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: 52] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي إِكْرَامِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. فَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا.

وَمَعْنَى يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا أَنَّهُمْ يُوقِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَاتٍ جَمَّةً. فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ وَبِخَاصَّةٍ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ، قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] . وَقَوْلُهُ: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ حَيِّهِمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَلِمَةُ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ، وَقِيلَ: أَبْلِغْهُمُ السَّلَامَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَكْرِمَةً لَهُمْ لِمُضَادَّةِ طَلَبِ الْمُشْرِكِينَ طَرْدَهُمْ. وَقَدْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ كَرَامَتَيْنِ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّلَامِ حِينَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ وَهِيَ مَزِيَّةٌ لَهُمْ، لِأَنَّ شَأْنَ السَّلَامِ أَنَّ يَبْتَدِئَهُ الدَّاخِلُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ مَعَهُمْ كُلَّمَا أُدْخِلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْمَرَّةِ الَّتِي يُبَلِّغُهُمْ فِيهَا هَذِهِ الْبِشَارَةَ، فَنَزَلَ هُوَ مَنْزِلَةَ الْقَادِمِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ زَفَّ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْبُشْرَى. وَالْكَرَامَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ بِشَارَتُهُمْ بِرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ بِأَنْ غَفَرَ لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَ مِنْ سُوءٍ إِذَا تَابُوا مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحُوا. وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا، فَكَانَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ تَكْرِمَةً لَهُمْ لِيَكُونُوا مَيْمُونِيَ النَّقِيبَةِ عَلَى بَقِيَّةِ إِخْوَانِهِمْ وَالَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَالسَّلَامُ: الْأَمَانُ، كَلِمَةٌ قَالَتْهَا الْعَرَبُ عِنْدَ لِقَاءِ الْمَرْءِ بِغَيْرِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مُسَالِمٌ لَا مُحَارِبٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ دِمَاءٌ وَتِرَاتٌ وَكَانُوا يَثْأَرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَوْ بِغَيْرِ الْمُعْتَدِي مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا لَقِيَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبِيلَتِهِ إِحَنٌ وَحَفَائِظُ فَيُؤَمِّنُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثُمَّ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّكْرِمَةِ. وَمَصْدَرُ سَلَّمَ التَّسْلِيمُ. وَالسَّلَامُ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ يَأْتِي فِي الِاسْتِعْمَالِ مُنَكَّرًا مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا وَمُعَرَّفًا بِاللَّامِ مَرْفُوعًا لَا غَيْرَ. فَأَمَّا تَنْكِيرُهُ مَعَ الرَّفْعِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَهُوَ عَلَى اعْتِبَارِهِ اسْمًا بِمَعْنَى الْأَمَانِ، وَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّوْعِيَّةُ لَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمِ الْخَبَرُ لِاهْتِمَامِ الْقَادِمِ بِإِدْخَالِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي نَفْسِ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ طَارِقُ خَيْرٍ لَا طَارِقُ شَرٍّ. فَهُوَ مِنَ التَّقْدِيمِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّفَاؤُلِ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ مَعَ الرَّفْعِ فَلِدُخُولِ لَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ عَلَيْهِ.

وَكَلِمَةُ (عَلَى) فِي الْحَالَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ بِالْأَمَانِ، أَيِ الْأَمَانُ مُسْتَقَرٌّ مِنْكُمْ مُتَلَبِّسٌ بِكُمْ، أَيْ لَا تَخَفْ. وَأَمَّا إِنْ نَصَبُوا مَعَ التَّنْكِيرِ فَعَلَى اعْتِبَارِهِ كَمَصْدَرِ سَلَّمَ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَتَى بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْتُ سَلَامًا، فَلِذَلِكَ لَا يُؤْتَى مَعَهُ بِ (عَلَى) . ثُمَّ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَهُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا يَأْتُونَ مَعَهُ بِ (عَلَى) لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَنْهُ اعْتِبَارَ الْبَدَلِيَّةِ عَنِ الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، عَلَى حَدِّ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: 18] . وَالرَّفْعُ أَقْوَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَدَّ تَحِيَّةً أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69] . وَقَدْ وَرَدَ فِي رَدِّ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ كَلِمَةِ السَّلَامِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَة: 26] وَوَرَدَ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ فَيَنْبَغِي جَعْلُ الرَّدِّ أَحْسَنَ دَلَالَةً. فَأَمَّا التَّعْرِيفُ وَالتَّنْكِيرُ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ عِيسَى وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ [مَرْيَم: 15] وَجَاءَ أَنَّهُ قَالَ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مَرْيَم: 33] . وَجُمْلَةُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَهِيَ أَوَّلُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَقُولِ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَمُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا ثَانِيًا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [12] . فَقَوْلُهُ هُنَا كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ إِلَخ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الرَّحْمَةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ الْعَامَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى غُفْرَانِ ذَنْبِ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُتَوَقَّعٍ عَنْ مَبْلَغِ الرَّحْمَةِ

[سورة الأنعام (6) : آية 55]

(وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ مِنَ الْمَوْصُولَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِجَهالَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلْتَبِسًا بِجَهَالَةٍ. وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَمِلَ. وَالْجَهَالَةُ تُطْلَقُ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مَا. وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْحِلْمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [17] . وَالْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ مَنْ عَمِلَ سُوءًا عَنْ حَمَاقَةٍ مِنْ نَفْسِهِ وَسَفَاهَةٍ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَأْتِي السَّيِّئَاتِ إِلَّا عَنْ غَلَبَةِ هَوَاهُ رُشْدَهُ وَنُهَاهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا حَمْلُ الْجَهَالَةِ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ بِالذَّنْبِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، فَلَا قُوَّةَ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ عَلَيْهِ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ ثُمَّ تَفَطَّنَ إِلَى أَنَّهُ عَمِلَ سُوءًا. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ إِلَى سُوءاً أَيْ بَعْدَ السُّوءِ، أَيْ بَعْدَ عَمَلِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَائِدًا إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَضْمُونِ فِي (عَمَلِ) مِثْلِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَمَعْنَى أَصْلَحَ صَيَّرَ نَفْسَهُ صَالِحَةً، أَوْ أَصْلَحَ عَمَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَسَاءَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [39] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [160] . وَجُمْلَةُ: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ، أَيْ هُوَ شَدِيدُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لِهَذَا التَّائِبِ الْمُصْلِحِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ- فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى أنّ الْجُمْلَة موكّدة بإن فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِمَنْ تَابَ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ فَأَنَّهُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهَا (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ أُخْتُ (إِنَّ) ، فَيَكُونُ مَا بعْدهَا مؤوّلا بِمَصْدَرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: فَغُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذَا جُزْءُ جُمْلَةٍ يَلْزَمُهُ تَقْدِيرُ خَبَرٍ، أَيْ لَهُ، أَيْ ثَابِتٌ لِمَنْ عَمِلَ سُوءًا ثمَّ تَابَ. [55] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 55] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ

(55) الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْأَنْعَام: 53] . وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي مَضَى مُبْتَدَئًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: 51] . وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالتَّوْضِيحُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ، وَهُوَ تُفَرُّقُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِطَةُ إِذَا فُصِّلَتْ يَتَبَيَّنُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ أُطْلِقَ التَّفْصِيلُ عَلَى التَّبْيِينِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا تَسْمِيَةُ الْإِيضَاحِ تَبْيِينًا وَإِبَانَةً، فَإِنَّ أَصْلَ الْإِبَانَةِ الْقَطْعُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّفْصِيلِ الْإِيضَاحُ، أَيِ الْإِتْيَانُ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَة الدّلَالَة عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا. وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَنُبَيِّنُهَا تَفْصِيلًا مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي لَا فَوْقَهُ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمُ الْمُرَادِ مِنْهَا بَيِّنًا. وَقَوْلُهُ: وَلِتَسْتَبِينَ عَطْفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْبَالِغُ غَايَةَ الْبَيَانِ، فَيُعْلَمُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ اتِّضَاحُ الْعِلْمِ لِلرَّسُولِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِشَيْءٍ يُنَاسِبُهُ وَهُوَ تَبَيُّنُ الرَّسُولِ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ، فَصَحَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ اسْتِبَانَتُهُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ. فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: وَكَذَلِكَ التَّفْصِيلُ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِتَعْلَمَ بِتَفْصِيلِهَا كُنْهَهَا، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ الْحَذْفِ. وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ اسْتِعْمَالُ (كَذَلِكَ) نَفْعَلُ بَعْدَ ذِكْرِ أَفْعَالٍ عَظِيمَةٍ صَالِحًا الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْإِشَارَةِ لِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَمْرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَلَّلَ بِمِثْلِهِ صَحَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: 75] بِخِلَافِ مَا لَا يَصْلُحُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ ذِكْرُ عِلَّةٍ بَعْدَهُ ذُكِرَتْ بِدُونِ عَطْفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَة: 143] . وسَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ طَرِيقَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 56]

وَالْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ وَلِإِجْرَاءِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَلَيْهِمْ. وَخَصَّ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا لِإِيضَاحِ خَفِيِّ أَحْوَالِهِمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ- عَلَى أَنَّهَا تَاءُ خِطَابٍ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَائِبِ-، ثُمَّ إِنَّ نَافِعًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَ سَبِيلَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- عَلَى أنّه مفعول لِتَسْتَبِينَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِرَفْعِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ «يَسْتَبِينَ» أَوْ «تَسْتَبِينَ» . فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لَيْسَا لِلطَّلَبِ بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْص، على عَاصِمٍ- بِرَفْعٍ- سَبِيلُ عَلَى أَنَّ تَاءَ الْمُضَارَعَةِ تَاءُ الْمُؤَنَّثَةِ. لِأَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ عَرَبِ الْحِجَازِ، وَعَلَى أَنَّهُ مِنِ اسْتَبَانَ الْقَاصِرُ بِمَعْنَى بَانَ فَ سَبِيلُ فَاعل لِتَسْتَبِينَ، أَيْ لِتَتَّضِحَ سَبِيلُهُمْ لَك وَلِلْمُؤْمنِينَ. [56] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 56] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى إبِْطَال الشّرك بالتبري مِنْ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الْأَنْعَام: 14] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: 46] الْآيَةَ. جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ عِبَادَتِهَا وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءٍ عَبَدَتِهَا.

وَبُنِيَ نُهِيتُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، أَيْ نَهَانِي اللَّهُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَن) فَحذف الْحَرْف حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنْ) . وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ اسْمُ الْمَوْصُولِ الْمَوْضُوعُ لِلْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فَأَتَى لَهُمْ بِمَا يَحْكِي اعْتِقَادَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْجِنَّ وَبَعْضَ الْبَشَرِ فَغُلِّبَ الْعُقَلَاءُ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ. وَمَعْنَى تَدْعُونَ تَعْبُدُونَ وَتَلْجَئُونَ إِلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ، أَيْ تَدْعُونَهُمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، فَعَامِلُهُ تَدْعُونَ. وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَدُعَائِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ دُونَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا أَشْرَكُوهُمْ بِالْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِاضْطِرَابِ عَقِيدَتِهِمْ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا مَعَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ الْأَصْنَامِ وَجَاعِلُهَا شُفَعَاءَ لَكِنَّ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَوَجَّهُوا بِهَا إِلَى الْأَصْنَامِ قَدِ اعْتَدَوْا بِهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ فِي أَنْ يَصْرِفُوهَا إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ اسْتِئْنَافٌ آخَرُ ابْتِدَائِيٌّ، وَقَدْ عُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ لِيَكُونَ غَرَضًا مُسْتَقِلًّا. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ زِيَادَةً فِي الِاهْتِمَامِ بِالِاسْتِئْنَافِ وَاسْتِقْلَالِهِ لِيَكُونَ هَذَا النَّفْيُ شَامِلًا لِلِاتِّبَاعِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ كَطَلَبِ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَجْلِسِهِ. وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [120] . وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ دُونَ لَا أَتْبَعُكُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي دِينِهِمْ تَابِعُونَ لِلْهَوَى نَابِذُونَ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ. وَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ مَتِينٍ. وَجُمْلَةُ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنِ اتّبعت أهواءكم إِذن قَدْ ضَلَلْتُ. وَكَذَلِكَ موقع (إِذن) حِينَ تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ مَشْرُوطٍ بِ (إِنَّ) أَوْ (لَوْ) مُصَرَّحٍ بِهِ تَارَةً، كَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:

لَئِنْ عَادَ لِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بِمِثْلِهَا ... وَأَمْكَنَنِي مِنْهَا إِذَنْ لَا أُقِيلُهَا وَمُقَدَّرٍ أُخْرَى كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] . وَتَقْدِيم جَوَاب (إِذن) على (إِذن) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ. وَلِذَلِكَ الِاهْتِمَامُ أُكِّدَ بِ قَدْ مَعَ كَوْنِهِ مَفْرُوضًا وَلَيْسَ بِوَاقِعٍ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ وُقُوعَهُ مُحَقَّقٌ لَوْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي دلّت عَلَيْهِ (إِذن) . وَقَوْلُهُ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ عُطِفَ عَلَى قَدْ ضَلَلْتُ، عُطِفَ عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ جَزَاءٌ آخَرُ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ حَالِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ مِنْ كَوْنِهِ فِي عِدَادِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى الْكَوْنِ فِي حَالَةِ الضَّلَالِ، وَأَفَادَ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ قَدْ ضَلَلْتُ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ ضِدَّ الضَّلَالِ فَتَقَرَّرَتْ حَقِيقَةُ الضَّلَالِ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ. وَتَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قَدِ اهْتَدَيْتُ إِلَيْهَا وَنَبَّهْتُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [140] . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] . وَقَدْ أُتِيَ بِالْخَبَرِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فَقِيلَ: مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا أَنَا مُهْتَدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْجُمْلَةِ الَّتِي خَبَرُهَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمُهْتَدِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَإِخْبَارُ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يُفِيدُ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفِئَةِ الَّتِي تُعْرَفُ عِنْدَ النَّاسِ بِفِئَةِ الْمُهْتَدِينَ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ مُهْتَدٍ إِفَادَةً بِطَرِيقَةٍ تُشْبِهُ طَرِيقَةَ الِاسْتِدْلَالِ. فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ الَّتِي هِيَ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِإِثْبَاتِ مَلْزُومِهِ. وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ [الشُّعَرَاء: 168] : قَوْلُكَ فُلَانٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ عَالِمٌ، لِأَنَّكَ تَشْهَدُ لَهُ بِكَوْنِهِ مَعْدُودًا فِي زُمْرَتِهِمْ وَمَعْرُوفَةً مُسَاهَمَتُهُ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ. وَقَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [136] . فَإِن قلت لوقيل: أَوَعَظْتَ أَوْ لَمْ تَعِظْ، كَانَ أَخْصَرَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قُلْتُ:

[سورة الأنعام (6) : آية 57]

لَيْسَ الْمَعْنَى بِوَاحِدٍ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْوَعْظُ أَمْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مِنْ أَهْلِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي قِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِوَعْظِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تَعِظْ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ إِنَّ أَصْلَ هَذَا لِابْنِ جِنِّي. وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ هَذَا الْخَبَرِ مُفِيدًا نَفْيَ هَذِهِ النِّسْبَةَ الْكِنَائِيَّةَ فَكَانَتْ أَبْلَغِيَّتُهُ فِي النَّفْيِ كَأَبْلَغِيَّتِهِ فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ الْمُفَادَ الْكِنَائِيَّ هُوَ هُوَ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَمَا أَنَا مِنَ الْهُدَى فِي شَيْءٍ» . وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ بَعْضُ النَّاظِرِينَ نَقَلَهُ عَنْهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُكَ: هُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، مُفِيدًا فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ حُظُوظًا عَظِيمَةً فِي الْهُدَى فَهُوَ فِي النَّفْيِ يُوجِبُ أَنْ تُنْفَى عَنْهُ الْحُظُوظُ الْكَثِيرَةُ، وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِأَنْ يَبْقَى لَهُ حظّ قَلِيل. وَهَذَا سَفْسَطَةٌ خَفِيَتْ عَنْ قَائِلِهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِفَادَةُ النَّفْيِ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْمُثْبَتِ بِوَاسِطَةِ الْقُيُودِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأَمَّا وَهِيَ بِطَرِيقِ التَّكْنِيَةِ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلَّفْظِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ. وَلذَا قَالَ التفتازانيّ: «هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ لَا نَفْيِ التَّأْكِيدِ» فَهُوَ يُفِيدُ أَنَّهُ قَدِ انْسَلَخَ عَنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ الَّتِي كَانَ مَعْدُودًا مِنْهَا وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ الْهُدَى لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْمَرْءِ فِئَتَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْهَا أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنِ اتِّصَافِهِ بِمَا يُخَالِفُ صِفَاتِهِمْ قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] ، وَأَحَلْنَا بَسْطَهُ عَلَى هَذَا الْموضع. [57] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 57] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِدَلِيلِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْمُؤَيِّدِ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ إِلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ بِدَلِيلٍ مِنَ اللَّهِ مُؤَيِّدٍ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ أَيْضًا، لِيَيْأَسُوا مِنْ مُحَاوَلَةِ إِرْجَاعِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَشْكِيكِهِ فِي وَحْيِهِ بِقَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، شَاعِرٌ، أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلِيَيْأَسُوا

أَيْضًا مِنْ إِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَيْهِ فِي صِدْقِ إِيمَانِ أَصْحَابِهِ، وَإِلْقَاءِ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِمَا حَاوَلُوا مِنْ طَرْدِهِ أَصْحَابَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ حِينَ حُضُورِ خُصُومِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ لَا يَتَزَعْزَعُ. وَعُطِفَ عَلَى ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ الْوَعِيدِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صِدْقًا لَعُجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابُ، فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] وَيَقُولُونَ: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] ، فَقَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 58] ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِتَكْرِيرِ الِاهْتِمَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] . وَالْبَيِّنَةُ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مُؤَنَّثُ بَيِّنٍ، أَيِ الْوَاضِحَةُ، فَهِيَ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ فِي الْكَلَامِ، أَيْ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَوْ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ. ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ فَصَارَ اسْمًا لِلْحُجَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْحَقِّ الَّتِي لَا يَعْتَرِيهَا شَكٌّ، وَلِلدَّلَالَةِ الْوَاضِحَةِ، وَلِلْمُعْجِزَةِ أَيْضًا، فَهِيَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ الْبَيِّنَةِ، أَيِ الْيَقِينِ. وَهُوَ أَنْسَبُ بِ عَلى الدَّالَّةِ عَلَى التَّمَكُّنِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ عَلَى بَصِيرَةٍ، أَيْ أَنِّي مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْيَقِينِ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنَ، وَتَكُونَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمُلَازَمَةِ مَجَازًا مُرْسَلًا لِأَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْمُلَازَمَةَ، أَيْ أَنِّي لَا أُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. ومِنْ رَبِّي صِفَةٌ لِ بَيِّنَةٍ يُفِيدُ تعظيمها وكمالها. و (من) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ بَيِّنَةٍ جَائِيَةٍ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي أَوْحَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِ وَجَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنَ) اتِّصَالِيَّةً، أَيْ عَلَى يَقِينٍ مُتَّصِلٍ بِرَبِّي، أَيْ بِمَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدَهُ، أَيْ فَلَا أَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ فَلَا تَطْمَعُوا فِي صَرْفِي عَنْ ذَلِكَ، أَيْ أَنِّي آمَنْتُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ دَلَائِلُ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَأَنَا مُوقِنٌ بِمَا آمَنْتُ بِهِ لَا يَتَطَرَّقُنِي شَكٌّ. وَهَذَا حِينَئِذٍ

مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ أَمْرِ آلِهَتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ. وَجُمْلَةُ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ بَيِّنَةٍ. وَهِيَ تُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْهُمْ أَنْ كَذَّبُوا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أَيْ أَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتُ فَشَتَّانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ يَعُودُ إِلَى الْبَيِّنَةِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهَا بِالْبَيَانِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا صَدَّقَهَا الْيَقِينُ أَوِ الْقُرْآنُ عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ وَكَذَّبْتُمْ بِالْيَقِينِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا، وَيَعُودُ إِلَى رَبِّي عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنِ) اتِّصَالِيَّةً، أَيْ كُنْتُ أَنَا عَلَى يَقِينٍ فِي شَأْنِ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَعَ أَنَّ دَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ. وَيَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِشُهْرَةِ التَّدَاوُلِ بَيْنَهُمْ فِي شَأْنِهِ فَإِذَا أُطْلِقَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ انْصَرَفَ إِلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ. وَالْبَاءُ الَّتِي عُدِّيَ بِهَا فِعْلُ كَذَّبْتُمْ هِيَ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . فَلِذَلِكَ يَدُلُّ فِعْلُ التَّكْذِيبِ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيِ التَّكْذِيبِ الْقَوِيِّ. وَلَعَلَّ الِاسْتِعْمَالَ أَنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ فِعْلَ التَّكْذِيبِ بِالْبَاءِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَكْذِيبُ حُجَّةٍ أَوْ بُرْهَانٍ مِمَّا يُحْسَبُ سَبَبَ تَصْدِيقٍ، فَلَا يُقَالُ: كَذَّبْتُ بِفُلَانٍ، بَلْ يُقَالُ: كَذَّبْتُ فُلَانًا قَالَ تَعَالَى: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الْفرْقَان: 37] وَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: 23] . وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ بِهِمْ فِي شَأْنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَوْلُهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عِنَادًا عِنْدَ سَمَاعِ تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَتَنَقُّصِ عَقَائِدِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكَ حَقًّا فَأَيْنَ الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدْتَنَا. فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] وَقَالُوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 92] فَأُمِرَ بِأَنْ يُجِيبَ أَنْ يَقُولَ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.

وَالِاسْتِعْجَالُ طَلَبُ التَّعْجِيلِ بِشَيْءٍ، فَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَعْجِيلُ شَيْءٍ. فَإِذَا أُرِيدَ ذِكْرُ الْأَمْرِ الْمُعَجَّلِ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ. وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعَدِّيَةِ. وَالْمَفْعُولُ هُنَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا عِنْدِي. وَالتَّقْدِيرُ: تَسْتَعْجِلُونَنِي بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] فَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ. وَمَعْنَى مَا عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدِرَتِي، كَمَا يُقَالُ: مَا بِيَدِي كَذَا. فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالْعِلْمِ وَالْمَقْدِرَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي لَسْتُ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ، أَيْ لَسْتُ إِلَهًا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ مُرْسَلٌ أَقِفُ عِنْدَ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ. وَحَقِيقَةُ (عِنْدَ) أَنَّهَا ظَرْفُ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ. وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي اسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ لِشَيْءٍ وَمِلْكِهِ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: 59] . وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الِاحْتِفَاظِ بِالشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85] وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ [إِبْرَاهِيم: 46] وَلَا يَحْسُنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ (¬1) . وَالْمُرَادُ بِ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ. عُبِّرَ بِطَرِيقِ الموصولية لما تنبىء بِهِ الصِّلَةُ ¬

(¬1) أردْت بِهَذَا أنّ اسْتِعْمَال (عِنْد) مجَازًا فِي غير مَا ذكرنَا مَشْكُوك فِي صحّة اسْتِعْمَاله فِي كَلَام الْعَرَب، فَقَوْل أبي فراس: بلَى أَنا مشتاق وَعِنْدِي لوعة ... لَيْسَ بجار على الِاسْتِعْمَال وأمّا قَول المعرّي: أعندي وَقد مارست كلّ خفيّة ... يصدّق واش أَو يخيّب آمل فَهُوَ أقرب للاستعمال بِأَن يكون (عِنْد) حَقِيقَة فِي الْمَكَان، أَي الْمَكَان الْقَرِيب منّي يُرِيد مَجْلِسه، أَي لَا يَقع تَصْدِيق ذَلِك فِي مقَامي. وَأما قَول الشَّاعِر: عِنْدِي اصطبار وأمّا أنّني جزع ... يَوْم النَّوَى فلبعد كَاد يبريني فَلَا يعرف قَائِله، وَيظْهر أنّه مولّد وَهُوَ من شَوَاهِد الْمسَائِل النحوية.

مِنْ كَوْنِهِ مُؤَخَّرًا مُدَّخَرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَهُ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ حَالَانِ لِلْأَمْرِ الْوَاقِعِ فَكَانَ قَوْلُهُ: تَسْتَعْجِلُونَ فِي نَفْسِهِ وَعِيدًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ وَقْتَهُ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ فِيهِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ الظَّرْفِ أَفَادَ قَصْرَ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ تَوَعُّدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِعِقَابٍ فِي مَقْدِرَتِهِ. فَجَعَلُوا تَأَخُّرَهُ إِخْلَافًا لِتَوَعُّدِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ بِيَدِ اللَّهِ، كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. فَقَوْلُهُ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ، وَتَأْكِيدٌ لَهُ. وَعَلَى وَجْهِ كَوْنِ ضَمِيرِ بِهِ لِلْقُرْآنِ، فَالْمَعْنى كذّبتهم بِالْقُرْآنِ وَهُوَ بَيِّنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَسَأَلْتُمْ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ تَعْجِيزًا لِي وَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِي. وَجُمْلَةُ يَقُصُّ الْحَقَّ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ فِي التَّأْخِيرِ أَوِ التَّعْجِيلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَقُصُّ- بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ- فَهُوَ مِنَ الِاقْتِصَاصِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، أَيْ يُجْرِي قَدَرَهُ عَلَى أَثَرِ الْحَقِّ، أَيْ عَلَى وَفْقِهِ أَوْ هُوَ مِنَ الْقَصَصِ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ أَيْ يَحْكِي بِالْحَقِّ، أَيْ أَنَّ وَعْدَهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ لَا يُخْبِرُ إِلَّا بِالْحَقِّ. والْحَقَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِ- بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ (قَضَى) ، وَهُوَ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ. فَاعْتُذِرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَاءَ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ تَبَعًا لِحَذْفِهَا فِي اللَّفْظِ فِي حَالِ الْوَصْلِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مَحَلِّ وَقْفٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أُجْرِيَ فِيهِ الرَّسْمُ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْلِ عَلَى النَّادِرِ كَمَا كُتِبَ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] . قَالَ مَكِّيٌّ قِرَاءَةُ الصَّادِ (أَيِ الْمُهْمَلَةِ) أَحَبُّ إِلَيَّ لِاتِّفَاقِ الْحَرَمِيَّيْنِ (أَيْ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ) عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْقَضَاءِ لَلَزِمَتِ الْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ فِيهِ، يَعْنِي أَنْ يُقَالَ: يَقُصُّ بِالْحَقِّ. وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ نَادِرٌ. وَأَجَابَ الزُّجَاجُ بِأَنَّ الْحَقَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيِ الْقَضَاءُ الْحَقُّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُضْطَرَّ الْوَاقِفُ إِلَى إِظْهَارِ الْيَاءِ فَيُخَالِفُ الرَّسْمَ الْمُصْحَفِيَّ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيْ يَقُصُّ وَيُخْبِرُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يَفْصِلُ الْقَضَاءَ.

[سورة الأنعام (6) : آية 58]

وَالْفَصْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ. قَالَ عُمَرُ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى «فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ» . وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] . فَمَعْنَى خَيْرُ الْفاصِلِينَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ الْحَقَّ وَالْقَضَاء الْعدْل. [58] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 58] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: 57] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَلَوْ كَانَ بِيَدِكَ إِنْزَالُ الْعَذَابِ بِهِمْ مَاذَا تَصْنَعُ، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي إِلَخ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَهُ فِي قُوَّةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا بُنِيَ كُلُّهُ عَلَى تَلْقِينِ الرَّسُولِ مَا يَقُولُهُ لَهُمْ فَالسَّائِلُ يَتَطَلَّبُ مِنَ الْمُلَقِّنِ مَاذَا سَيُلَقَّنُ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ. وَمَعْنَى عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ لَوْ كَانَ فِي عِلْمِي حِكْمَتُهُ وَفِي قُدْرَتِي فِعْلُهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى لَسْتُ إِلَهًا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ. وَقَوْلُهُ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابُ لَوْ. فَمَعْنَى لَقُضِيَ تَمَّ وَانْتَهَى. وَالْأَمْرُ مُرَادٌ بِهِ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ. فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ للْعهد، وَبني لَقُضِيَ الْأَمْرُ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ قَاضِيَهُ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. وَتَرْكِيبُ (قُضِيَ الْأَمْرُ) شَاعَ فَجَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِيَصْلُحَ التَّمَثُّلُ بِهِ فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [يُوسُف: 41] وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: 21] وَقَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ [مَرْيَم: 39] وَلِذَلِكَ إِذَا جَاءَ فِي غَيْرِ طَرِيقَةِ الْمَثَلِ يُصَرَّحُ بِفَاعِلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الْحجر: 66] . وَذَلِكَ الْقَضَاءُ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ فَيُؤْمِنُوا، أَوْ أَنْ يَغْضَبَ فَيُهْلِكَهُمْ، أَوْ أَنْ يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يُجِيبُهُمْ إِلَيْهِ فَيَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا.

[سورة الأنعام (6) : آية 59]

وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِحِكْمَةِ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ وَبِوَقْتِ نُزُولِهِ، لِأَنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي عِنْدَهُ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالظَّالِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي شِرْكِهِمْ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَظَالِمُونَ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَظَالِمُونَ فِي معاملتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [59] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 59] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الْأَنْعَام: 58] عَلَى طَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا التَّخَلُّصِ هِيَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِحَالَةِ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهَا غَائِبَةٌ عَنْ عَيَانِ النَّاسِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ مِنْ تَعْجِيلِ الْوَعِيدِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ ثُمَّ سَعَةِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَاسْتِئْثَارٍ وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ مَكَانٍ. وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا الْمُغْلَقُ، وَتُسَمَّى الْمِفْتَاحُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِفْتَحَ أَفْصَحُ مِنْ مِفْتَاحٍ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الْقَصَص: 76] . وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَلَى عِلْمِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَل الْأَعْيَان لمغيّبة كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَالْأَعْرَاضَ الْخَفِيَّةَ، وَمَوَاقِيتَ الْأَشْيَاءِ. ومَفاتِحُ الْغَيْبِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ تَنْبَنِي عَلَى مَكْنِيَّةٍ بِأَنْ شُبِّهَتِ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ النَّاسِ بِالْمَتَاعِ النَّفِيسِ الَّذِي يُدَّخَرُ بِالْمَخَازِنِ وَالْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ عَلَيْهَا بِأَقْفَالٍ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا إِلَّا الَّذِي بِيَدِهِ مَفَاتِحُهَا. وَأُثْبِتَتْ لَهَا الْمَفَاتِحُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيلِيَّةِ. وَالْقَرِينَةُ

هِيَ إِضَافَةُ الْمَفَاتِحِ إِلَى الْغَيْبِ، فَقَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: عِنْدَهُ عَلِمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ. وَمَفَاتِحُ الْغَيْبِ جَمْعٌ مُضَافٌ يَعُمُّ كُلَّ الْمُغَيَّبَاتِ، لِأَنَّ عِلْمَهَا كُلَّهَا خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي لَهَا أَمَارَاتٌ مِثْلُ أَمَارَاتِ الْأَنْوَاءِ وَعَلَامَاتِ الْأَمْرَاضِ عِنْدَ الطَّبِيبِ فَتِلْكَ لَيْسَتْ مِنَ الْغَيْبِ بَلْ مِنْ أُمُورِ الشَّهَادَةِ الْغَامِضَةِ. وَغُمُوضُهَا مُتَفَاوِتٌ وَالنَّاسُ فِي التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا مُتَفَاوِتُونَ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهَا مِنْ قَبِيلِ الظَّنِّ لَا مِنْ قَبِيلِ الْيَقِينِ فَلَا تُسَمَّى عِلْمًا، وَقِيلَ: الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- وَهُوَ الْبَيْتُ أَوِ الْمَخْزَنُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنَّ يُغْلَقَ عَلَى مَا فِيهِ ثُمَّ يُفْتَحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَا فِيهِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ، فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً وَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْغَيْبِ شُبِّهَ فِي إِحَاطَتِهِ وَحَجْبِهِ المغيّبات بِبَيْت الخزم تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَجُمْلَةُ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنًى عِنْدَهُ، فَهِيَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمُفِيدَةٌ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى أَيْضًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ فَأُعِيدَ مَا فِيهِ طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ كَوْنُهُ لِلْقَصْرِ. وَضَمِيرُ يَعْلَمُها عَائِدٌ إِلَى مَفاتِحُ الْغَيْبِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. تَقْدِيرُهُ: لَا يَعْلَمُ مَكَانَهَا إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ الْمَفَاتِحِ، وَهُوَ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ لِلْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَنَفْيُ عِلْمِ غَيْرِهِ لَهَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا تُغْلَقُ عَلَيْهِ الْمَفَاتِحُ مِنْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ. وَمَعْنَى: لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أَيْ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا بِهِ، فَأَمَّا مَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: 26] فَذَلِكَ عِلْمٌ يَحْصُلُ لِمَنْ أَطْلَعَهُ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ فَكَانَ رَاجِعًا إِلَى عِلْمِهِ هُوَ. وَالْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِكَيْفِيَّةِ الْيَقِينِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنّ رَسُول يَا لله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

وَجُمْلَةُ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ، لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمٍ لِلَّهِ وَنَفْيِ عِلْمٍ عَنْ غَيْرِهِ، فَعُطِفَتْ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى إِثْبَات علم لله تَعَالَى، دُونَ نَفْيِ عِلْمِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عِلْمُ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي قَدْ يَتَوَصَّلُ النَّاسُ إِلَى عِلْمِ بَعْضِهَا، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لِإِفَادَةِ تَعْمِيمِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ فِي الظُّهُورِ بَعْدَ إِفَادَةِ عِلْمِهِ بِمَا لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ. وَظُهُورُ مَا فِي الْبَرِّ لِلنَّاسِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَقْوَى مِنْ ظُهُورِ مَا فِي الْبَحْرِ. وَذَكَرَ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ الْكُرَةُ، لِأَنَّ الْبَرَّ هُوَ سَطْحُ الْأَرْضِ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ الْحَيَوَانُ غَيْرَ سَابِحٍ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَغْمُرُ جُزْءًا مِنَ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ مِلْحًا أَمْ عَذْبًا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّهْرَ بَحْرًا كَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ. وَالْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِيَ كُلَّهَا. وَجُمْلَةُ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ. فَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْخَفَايَا مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَضْعَفَ الْجُزْئِيَّاتِ مُؤْذِنٌ بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ أَوْلَى بِهِ. وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَعَلِمَ أَنْ سَيَقُولَ بِقَوْلِهِمْ مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الدِّينِ مِنْ أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتْرُكْ لِلتَّأْوِيلِ فِي حَقِيقَةِ عِلْمِهِ مَجَالًا، إِذْ قَالَ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ كَمَا سَنُبَيِّنُ الِاخْتِيَارَ فِي وَجْهِ إِعْرَابِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَرَقَةِ وَرَقَةٌ مِنَ الشَّجَرِ. وَحَرْفُ (مِنْ) زَائِدٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ نَصًّا. وَجُمْلَةُ يَعْلَمُها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَرَقَةٍ الْوَاقِعَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ الْمُسْتَغْنِيَةِ بِالْعُمُومِ عَنِ الصِّفَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُفْرَغٌ مِنْ أَحْوَالٍ، وَهَذِهِ الْحَالُ حَالٌ لَازِمَةٌ بَعْدَ النَّفْيِ حَصَلَ بِهَا مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ الْفَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي حَالَةٍ إِلَّا حَالَةً يَعْلَمُهَا. وَالْأَظْهَرُ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ أَنْ يَكُونَ وَرَقَةٍ فِي مَحَلِّ الْمُبْتَدَأِ مَجْرُورٌ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ، وَجُمْلَةُ تَسْقُطُ صِفَةٌ لِ وَرَقَةٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا فَتُعْرَبُ حَالًا،

وَجُمْلَةُ إِلَّا يَعْلَمُها خَبَرٌ مُفْرَغٌ لَهُ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلا حَبَّةٍ عُطِفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وفِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ صِفَةٌ لِ حَبَّةٍ، أَيْ وَلَا حَبَّةٍ مِنْ بُذُورِ النَّبْتِ مَظْرُوفَةٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ إِلَى أَبْعَدِ عُمْقٍ يُمْكِنُ، فَلَا يَكُونُ حَبَّةٍ مَعْمُولًا لِفِعْلِ تَسْقُطُ لِأَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي تَسْقُطُ لَا تَبْلُغُ بِسُقُوطِهَا إِلَى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ. وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ مَعْطُوفَانِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَجْرُورِ بِ مِنْ. وَالْخَبَرُ عَن هَذِه المبتدءات الثَّلَاثَةِ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ لِوُرُودِهِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرُ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ وَرَقَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ الْعِلْمُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ آثَارِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى كُنْهِهَا. وَقِيلَ: جَرُّ حَبَّةٍ عَطْفٌ عَلَى وَرَقَةٍ مَعَ إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وفِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَصْفٌ لِ حَبَّةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى حَبَّةٍ ووَرَقَةٍ، فَيَقْتَضِي أَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِفِعْلِ تَسْقُطُ، أَيْ مَا يَسْقُطُ رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ، وَمُقَيَّدَةٌ بِالْحَالِ فِي وَقَوله: إِلَّا يَعْلَمُها. وَقَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِلَّا يَعْلَمُها لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ الْكِتَابُ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا عَنِ الضَّبْطِ وَعَدَمِ التَّبْدِيلِ. وَحَسَّنَ هَذَا التَّأْكِيدَ تَجْدِيدُ الْمَعْنَى لِبُعْدِ الْأَوَّلِ بِالْمَعْطُوفَاتِ وَصِفَاتِهَا، وَأُعِيدَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى تَفَنُّنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَجْهِ جَمْعِ ظُلُماتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [1] . ومُبِينٍ إِمَّا مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُبَيِّنٌ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يُرِيدُهُ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ مَنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ بَيِّنٌ، أَيْ فُصِّلَ بِمَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ. وَقَدْ عُلِمَ مَنْ هَاتِهِ الْآيَاتِ عُمُومُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ دُونَ تَصْرِيحٍ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَمَا أَعْلَنَهُ إِلَّا الْقُرْآنُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 29] . وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ خَاصَّةً وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، زَعْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ الْعِلْمَ الْأَعْلَى عَنِ التَّجَزِّي فَهُمْ أَثْبَتُوا صِفَةَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرُوا تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِجُزْئِيَّاتِ الْمَوْجُودَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْهُمْ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ وَنُصَيْرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي «الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ (¬1) » : وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّ اللَّائِقَ بِأُصُولِهِمْ أَنْ يُقَالَ: الْأُمُورُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُتَشَكِّلَةً وَلَا مُتَغَيِّرَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَشَكِّلَةً غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَغَيِّرَةً غَيْرَ مُتَشَكِّلَةٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَشَكِّلَةً وَمُتَغَيِّرَةً مَعًا. فَأَمَّا مَا لَا تَكُونُ مُتَشَكِّلَةً وَلَا مُتَغَيِّرَةً فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا. وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَبِالْعُقُولِ. وَأَمَّا الْمُتَشَكِّلَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ وَهِيَ الْأَجْرَامُ الْعُلْوِيَّةُ فَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَهُ تَعَالَى بِأَشْخَاصِهَا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْجُسْمَانِيَّاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِآلَاتٍّ جُسْمَانِيَّةٍ. وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرَةُ غَيْرُ الْمُتَشَكِّلَةِ فَذَلِكَ مِثْلُ الصُّوَرِ وَالْأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ وَالنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَهَا يُحْوِجُ إِلَى آلَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ بَلْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُتَغَيِّرَةً يَلْزَمُ مِنْ تَغَيُّرِهَا الْعِلْمُ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ مُتَشَكِّلًا وَمُتَغَيِّرًا فَهُوَ الْأَجْسَامُ الْكَائِنَةُ الْفَاسِدَةُ (¬2) . وَهِيَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُدْرَكَةً لَهُ تَعَالَى لِلْوَجْهَيْنِ (أَيِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْقِسْمَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ) اهـ. وَقَدْ عُدَّ إِنْكَارُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ لَهُمْ خَالَفَتِ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَهِيَ: إِنْكَارُ عِلْمِ اللَّهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْكَارُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ، وَالْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْغَزَّالِيُّ فِي «تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ» فَمَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي ¬

(¬1) كَذَا نسب إِلَيْهِ عبد الْحَكِيم السلكوتي فِي «الرسَالَة الْمَعْرُوفَة بالخاقانية» . رِسَالَة مخطوطة فِي مكتبتنا. [.....] (¬2) يَعْنِي الَّتِي يعتريها الْكَوْن وَالْفساد.

[سورة الأنعام (6) : آية 60]

ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ كُفْرًا، لَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْكُفْرِ بِاللَّازِمِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَائِلُهُ مُرْتَدًّا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَأْبَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا حكم بردّته. [60] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 60] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) عَطَفَ جُمْلَةَ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ عَلَى جُمْلَةِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الْأَنْعَام: 59] انْتِقَالًا مِنْ بَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ إِلَى بَيَانِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ تَعْلِيمًا لِأَوْلِيَائِهِ وَنَعْيًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَعْدَائِهِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِذِكْرِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ عَقِبَ ذِكْرِ دَلَائِلِهَا فِي الْآفَاقِ فَجُمِعَ ذَلِكَ هُنَا عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ مُؤْذِنٍ بِتَعْلِيمِ صِفَاتِهِ فِي ضِمْنِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّتِهِ. وَفِي هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ صِيغَةُ قَصْرٍ لِتَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ دُونَ الْأَصْنَامِ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ السَّابِقُ مِنْ قَوْلِهِ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 58] وَاللَّاحِقُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 64] وَيَقْتَضِيهِ طَرِيقُ الْقَصْرِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَالُ غَيْرَ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّاسَ فِيهِ سَوَاءٌ. وَالتَّوَفِّي حَقِيقَتُهُ الْإِمَاتَةُ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ مُسْتَوْفًى. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى النَّوْمِ مُجَازٌ لِشَبَهِ النَّوْمِ بِالْمَوْتِ فِي انْقِضَاء الْإِدْرَاكِ وَالْعَمَلِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42] . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَتَوَفَّاكُمْ يُنِيمُكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ، أَيْ فِي النَّهَارِ، فَأَرَادَ بِالْوَفَاةِ هُنَا النَّوْمَ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَا اسْتُعِيرَ الْبَعْثُ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ لِيَتِمَّ التَّقْرِيبُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ. وَمَعْنَى جَرَحْتُمْ كَسَبْتُمْ، وَأَصْلُ الْجَرْحِ تَمْزِيقُ جِلْدِ الْحَيِّ بِشَيْءٍ مُحَدَّدٍ مِثْلَ السِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَالظُّفُرِ وَالنَّابِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [45] . وَأُطْلِقَ عَلَى كِلَابِ الصَّيْدِ وَبُزَاتِهِ وَنَحْوِهَا اسْمُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ الصَّيْدَ لِيُمْسِكَهُ الصَّائِدُ. قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [4] . كَمَا سَمَّوْهَا كَوَاسِبَ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: غُضْفًا كَوَاسِبَ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا فَصَارَ لَفْظُ الْجَوَارِحِ مُرَادِفًا لِلْكَوَاسِبِ وَشَاعَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَسْبِ اسْمُ الْجَرْحِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الجاثية: 21] . وَجُمْلَةُ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الْإِمْهَالِ، أَيْ وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَمَا بَعَثَكُمْ فِي النَّهَارِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّكُمْ تَكْتَسِبُونَ فِي النَّهَارِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَيَكْتَسِبُ بَعْضُكُمْ بَعْضَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ كَالْمُؤْمِنِينَ. وَوَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ تَعَالَى مَا يَكْسِبُ النَّاسُ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ وَقْتُ أَكْثَرِ الْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَفِي الْإِخْبَارِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَقَعُ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنِ اكْتِسَابِ مَا لَا يَرْضَى اللَّهُ بِاكْتِسَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فَتَكُونُ (ثُمَّ) لِلْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ فَتَعْطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَكْتَسِبُونَ مِنَ الْمَنَاهِي ثُمَّ يَرُدُّكُمْ وَيُمْهِلُكُمْ. وَهَذَا بِفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ أَنْسَبُ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ لِلنَّهَارِ. وَالْبَعْثُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ لِأَنَّ الْبَعْثَ شَاعَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 إلى 62]

فِي إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَخَاصَّةً فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآن قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 82] وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ كَوْنُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى اسْتِعَارَةِ التَّوَفِّي لِلنَّوْمِ تَقْرِيبًا لِكَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ الَّتِي حَارَتْ فِيهَا عُقُولُهُمْ، فَكُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ مُرَشِّحٌ لِلْأُخْرَى. وَاللَّامُ فِي لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى لَامُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا نِظَامَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَجْزِئَةً لِعُمُرِ الْحَيِّ، وَهُوَ أَجَلُهُ الَّذِي أُجِّلَتْ إِلَيْهِ حَيَاتُهُ يَوْمَ خَلْقِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «يُؤْمَرُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ» . فَالْأَجْلُ مَعْدُودٌ بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَهِيَ زَمَانُ النُّوَّمِ وَالْيَقَظَةِ. وَالْعِلَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ لَا يُلْزَمُ اتِّحَادُهَا فَقَدْ يَكُونُ لِفِعْلِ اللَّهِ حِكَمٌ عَدِيدَةٌ. فَلَا إِشْكَالَ فِي جَعْلِ اللَّامِ لِلتَّعْلِيلِ. وَقَضَاءُ الْأَجَلِ انْتِهَاؤُهُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُسَمًّى أَنَّهُ مُعَيَّنٌ مُحَدَّدٌ. وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرُّجُوعَ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تَصِيرُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ وَيُبْطِلُ مَا كَانَ لَهَا مِنَ التَّصَرُّفِ بِإِرَادَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الْحَشْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ يُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْمُهْلَةُ فِي (ثُمَّ) ظَاهِرَةٌ، أَوْ بَعْدَ الْحَشْرِ، فَالْمُهْلَةُ لِأَنَّ بَيْنَ الْحَشْرِ وَبَيْنَ ابْتِدَاءِ الْحِسَابِ زَمَنًا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. [61، 62] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 61 الى 62] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [الْأَنْعَام: 60] ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ آنِفًا. وَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا أَنَّ النَّوْمَ وَالْمَوْتَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ فَغَلَبَا شِدَّةَ الْإِنْسَانِ كَيْفَمَا بَلَغَتْ فَبَيَّنَ عَقِبَ ذِكْرِهِمَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ دُونَ الْأَصْنَامِ. فَالنَّوْمُ قَهْرٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرِيدُ أَنْ لَا يَنَامَ فَيَغْلِبُهُ النَّوْمُ، وَالْمَوْتُ قَهْرٌ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَمِنَ الْكَلِمِ الْحَقِّ: سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ. وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ.

وَيُرْسِلُ عَطْفٌ عَلَى الْقاهِرُ، فَيُعْتَبَرُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَيَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ أَيْضًا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً دُونَ غَيْرِهِ. وَالْقَصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ، فَلَا يَسْتَدْعِي رَدَّ اعْتِقَادٍ مُخَالِفٍ. وَالْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْحَقِّ لِيَحْذَرَ السَّامِعُونَ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَمَعْنَى (عَلَى) فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ إِرْسَالُ قَهْرٍ وَإِلْزَامٍ، كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الإنفطار: 9، 10] . وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يُرْسِلُ فَعُلِمَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِحِفْظِ الْحَفَظَةِ الْإِحْصَاءُ وَالضَّبْطُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَفِظْتُ عَلَيْهِ فِعْلَهُ كَذَا. وَهُوَ ضِدُّ نَسِيَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [ق: 4] . وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حِفْظِ الرِّعَايَةِ وَالتَّعَهُّدِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ [النِّسَاء: 34] . فَالْحَفَظَةُ مَلَائِكَةٌ وَظِيفَتُهُمْ إِحْصَاءُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ غَايَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَفَظَةِ مِنْ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ، أَيْ فَيَنْتَهِي الْإِحْصَاءُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَجْلُ الْحَيَاةِ تَوَفَّاهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُرْسَلُونَ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ. فَقَوْلُهُ: رُسُلُنا فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمُضَافَ مُشْتَقٌّ فَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَلَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ تَعْرِيفًا، وَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ مِنَ الرُّسُلِ الَّتِي تَتَوَفَّى رُسُلٌ غَيْرُ الْحَفَظَةِ الْمُرْسَلِينَ عَلَى الْعِبَادِ، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي مَجِيءِ نَكِرَةٍ عَقِبَ نَكِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أَنَّ عَدَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَوَلَّى تَوَفِّيَ الْوَاحِدَ مِنَ النَّاسِ.

وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: 11] ، وَسُمِّيَ فِي الْآثَارِ عِزْرَائِيلُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتَ أَعْوَانًا. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرٌ. وَعُلِّقَ فِعْلُ التَّوَفِّي بِضَمِيرِ أَحَدَكُمُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَحَدِكُمُ الْمُنَاسِبِ لِلتَّوَفِّي، وَهُوَ الْحَيَاةُ، أَيْ تَوَفَّتْ حَيَّاتُهُ وَخَتْمَتْهَا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ رُوحِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَوَفَّتْهُ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْفَاءِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ تَوَفَّاهُ رُسُلُنَا وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ مَرْسُومَةٌ- بِنُتْأَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ- فَتَصْلُحُ لِأَنَّ تَكُونُ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مُثَنَّاةً تَحْتِيَّةً عَلَى لُغَةِ الْإِمَالَةِ. وَهِيَ الَّتِي يُرْسَمُ بِهَا الْأَلِفَاتُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْيَاءَاتِ. وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ حَالٌ. وَالتَّفْرِيطُ: التَّقْصِيرُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِضَاعَةُ فِي الذَّوَاتِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا قَدْ تَمَّ أَجْلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَ تَوَفِّيَهُ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوا عَائِدٌ إِلَى أَحَدٍ بِاعْتِبَارِ تَنْكِيرِهِ الصَّادِقِ بِكُلِّ أَحَدٍ، أَيْ ثُمَّ يُرَدُّ الْمُتَوَفَّوْنَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرَادُ رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ رُدُّوا إِلَى حُكْمِهِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْتِفَاتٌ. وَالْمَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ وَعَلَى الْعَبْدِ. والْحَقِّ- بِالْجَرِّ- صِفَةٌ لِ مَوْلاهُمُ، لِمَا فِي مَوْلاهُمُ مِنْ مَعْنَى مَالِكِهِمْ، أَيْ مَالِكِهِمُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَشُوبُ مُلْكَهُ بَاطِلٌ يُوهِنُ مُلْكَهُ. وَأَصْلُ الْحَقِّ أَنَّهُ الْأَمْرُ الثَّابِتُ فَإِنَّ كُلَّ مُلْكٍ غَيْرَ مُلْكِ الْخَالِقِيَّةِ فَهُوَ مَشُوبٌ باستقلال مَمْلُوكه عِنْد اسْتِقْلَالا تَفَاوتا، وَذَلِكَ يُوهِنُ الْمُلْكَ وَيُضْعِفُ حَقِّيَّتَهُ. وَجُمْلَةُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ تَذْيِيلٌ وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ الْمُؤْذِنَةِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ. وَالْعَرَبُ يَجْعَلُونَ التَّذْيِيلَاتِ مُشْتَمِلَةً عَلَى اهْتِمَامٍ أَوْ عُمُومٍ أَوْ كَلَامٍ جَامِعٍ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 إلى 64]

وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي قَوْلِهِ لَهُ الْحُكْمُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ جِنْسَ الْحُكْمِ فَقَصْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِمَّا حَقِيقِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لِأَصْنَامِكُمْ حُكْمٌ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ الْحِسَابَ، أَيِ الْحُكْمُ الْمَعْهُودُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَرُبَّمَا تَرَجَّحَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ أَيْ أَلَا لَهُ الْحِسَابُ، وَهُوَ أَسْرَعُ مَنْ يُحَاسِبُ فَلَا يَتَأَخَّرُ جَزَاؤُهُ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ وَعْدًا وَوَعِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا أُتِيَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ صَالِحٌ وَفَرِيقٌ كَافِرٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ طَمَاعِيَةٍ وَمُخَالَفَةٍ فَالصَّالِحُونَ لَا يُحِبُّونَ الْمُهْلَةَ وَالْكَافِرُونَ بِعَكْسِ حَالِهِمْ، فَعُجِّلَتِ الْمَسَرَّةُ لِلصَّالِحِينَ وَالْمُسَاءَةُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْلُهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ. [63، 64] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 63 إِلَى 64] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَهْدِيدًا وَافْتُتِحَ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ الْمُشْرِكُونَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِلْجَاءِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُنَازَعُونَ فِيهِ بِحَسْبِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ. وَالظُّلُمَاتُ قِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ إِضْرَارِ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَظُلُمَاتُ الْبَرِّ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ الَّتِي يَلْتَبِسُ فِيهَا الطَّرِيقُ لِلسَّائِرِ وَالَّتِي يُخْشَى فِيهَا الْعَدُوُّ

لِلسَّائِرِ وَلِلْقَاطِنِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ مِنَ الْآفَاتِ. وَظُلُمَاتُ الْبَحْرِ يُخْشَى فِيهَا الْغَرَقُ وَالضَّلَالَ وَالْعَدُوُّ. وَقِيلَ: أُطْلِقَتِ الظُّلُمَاتُ مَجَازًا عَلَى الْمَخَاوِفِ الْحَاصِلَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ شَدَائِدُ. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ (رَأَى الْكَوَاكِبَ مُظْهِرًا) ، أَيْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ يَوْمه إضلاما فِي عَيْنَيْهِ لِمَا لَاقَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَيْلٌ يُرَى فِيهِ الْكَوَاكِبُ. وَالْجَمْعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ رُوعِيَ فِيهِ تَعَدُّدُ أَنْوَاعِ مَا يَعْرِضُ مِنَ الظُّلُمَاتِ، عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْجَمْعَ فِي لَفْظِ الظُّلُمَاتِ جَرَى عَلَى قَانُونِ الْفَصَاحَةِ. وَجُمْلَةُ: تَدْعُونَهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُنَجِّيكُمْ. وقرىء مَنْ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- لِنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَخَلَفٍ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِالتَّخْفِيفِ-. وَالتَّضَرُّعُ: التَّذَلُّلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [42] . وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْخُفْيَةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا- ضِدُّ الْجَهْرِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ- الْخَاءِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهُوَ لُغَةٌ مِثْلُ أُسْوَةٍ وَإِسْوَةٍ. وَعَطَفَ خُفْيَةً عَلَى تَضَرُّعاً إِمَّا عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ كَمَا تُعْطَفُ الْأَوْصَافُ فَيَكُونُ مَصْدَرًا مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَطْفَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الدُّعَاءِ، أَيْ تَدْعُونَهُ فِي الظُّلُمَاتِ مُخْفِينَ أَصْوَاتَكُمْ خَشْيَةَ انْتِبَاهِ الْعَدُوِّ مِنَ النَّاسِ أَوِ الْوُحُوشِ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا فِي مَحَلٍّ نَصْبٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْكَلَامِ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقِسْمِ، وَاللَّام فِي لَنَكُونَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقِسْمِ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ إِمَّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِكَايَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ بِحَيْثُ يَدْعُو كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رِفَاقِهِ. وَإِمَّا أُرِيدَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ مِثْلَ: رَكِبَ الْقَوْمُ خَيْلَهُمْ، وَإِنَّمَا رَكِبَ كُلُّ وَاحِدٍ فَرَسًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْجَيْتَنَا- بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْجِيمِ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَنْجانا- بِأَلْفٍ بَعْدَ الْجِيمِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى الظُّلْمَةِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الشِّدَّةُ، أَوْ إِلَى حَالَةٍ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَفْظٍ مُؤَنَّثٍ مِثْلَ الشِّدَّةِ أَوِ الْوَرْطَةِ أَوِ الرِّبْقَةِ. وَالشَّاكِرُ هُوَ الَّذِي يُرَاعِي نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ فَيُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُ كُلَّمَا وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَرَوْنَ الشُّكْرَ حَقًّا عَظِيمًا وَيُعَيِّرُونَ مَنْ يَكْفُرُ النِّعْمَةَ. وَقَوْلُهُمْ: مِنَ الشَّاكِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لِنَكُونَنَّ شَاكِرِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 56] . وَجُمْلَةُ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها تَلْقِينٌ لِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ أَنْ يُجِيبَ عَنِ الْمَسْئُولِينَ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قُلِ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ. وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ لَا غَيْرُهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَلَوْلَا هَذَا لَاقْتَصَرَ عَلَى قُلِ اللَّهُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها لِلظُّلُمَاتِ أَوْ لِلْحَادِثَةِ. وَزَادَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِالْمَعْنَيَيْنِ لِمُجَرَّدِ الْمِثَالِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ يُنَجِّيكُمْ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَنْجَاهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ. وَهَذَا مِنَ التَّفَنُّنِ لِتَجَنُّبِ الْإِعَادَةِ. وَنَظِيرُهُ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ [الطارق: 17] .

[سورة الأنعام (6) : آية 65]

وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- مِثْلَ الْأُولَى. وثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَلْجَأُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْمُهْلَةَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِخَبَرِ إِسْنَادِ الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ، أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِاعْتِرَافِكُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، مِنْ بَابِ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 85] ، وَمِنْ بَابِ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا، وَلَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ شِرْكِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ التَّجَدُّدَ وَالدَّوَامَ عَلَيْهِ أَعْجَبُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْجَاكُمْ فَوَعَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ فَإِذَا أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. وَبَيْنَ الشَّاكِرِينَ وتُشْرِكُونَ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ. [65] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَقَّبَ بِهِ ذِكْرَ النِّعْمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، تَخْوِيفًا لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مِثْلَ إِعَادَتِهِ فِي نَظَائِرِهِ لِلِاهْتِمَامِ الْمُبَيَّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] . وَالْمَعْنَى قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ، فَالْمُخَاطَبُ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ الْإِعْلَامَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ التَّهْدِيدُ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْقَادِرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخَافَ بَأْسُهُ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، أَوْ كِنَايَةً تَرْكِيبِيَّةً. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، لِقَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: 20] .

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَفَادَ الْقَصْرَ، فَأَفَادَ اخْتِصَاصَهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَعْثِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْشَوُا الْأَصْنَامَ، وَلَوْ أَرَادُوا الْخَيْرَ لِأَنْفُسِهِمْ لَخَافُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَرْضَاتِهِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ إِضَافِيٌّ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقادِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ. وَالْعَذَابُ الَّذِي مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الصَّوَاعِقِ وَالرِّيحِ، وَالَّذِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ مِثْلُ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَالطُّوفَانِ. ويَلْبِسَكُمْ مُضَارِعُ لَبَسَهُ- بِالتَّحْرِيكِ- أَيْ خَلَطَهُ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَلْبِسَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ وَمَرْجِهِ، أَيِ اضْطِرَابُ شُؤُونِهِمْ، فَإِنَّ اسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ تُشْبِهُ انْتِظَامَ السِّلْكِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ النَّاسِ نِظَامًا. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَالْفَوْضَى تُشْبِهُ اخْتِلَاطَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَرْجًا وَلَبْسًا. وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْأَمْنِ وَدُخُولِ الْفَسَادِ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمَرْجِ، وَهُوَ الْخَلْطُ فَيُقَالُ: هُمْ فِي هَرْجٍ وَمَرْجٍ، فَسُكُونُ الرَّاءِ فِي الثَّانِي لِلْمُزَاوَجَةِ. وَانْتَصَبَ شِيَعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَلْبِسَكُمْ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي غَرَضٍ أَوْ عَقِيدَةٍ أَوْ هَوًى فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 159] . وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ [الصافات: 83] أَيْ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ. وَتَشَتُّتُ الشِّيَعِ وَتَعَدُّدُ الْآرَاءِ أَشَدُّ فِي اللَّبْسِ وَالْخَلْطِ، لِأَنَّ اللَّبْسَ الْوَاقِعَ كَذَلِكَ لَبْسٌ لَا يُرْجَى بَعْدَهُ انْتِظَامٌ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لِأَنَّ مِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ اللَّبْسِ التَّقَاتُلَ. فَالْبَأْسُ هُوَ الْقَتْلُ وَالشَّرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: 81] . وَالْإِذَاقَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَلَمِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَخِيرُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَاقُوا بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَزَوَاتٍ كَثِيرَةٍ.

فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ. قَالَ: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ» . اهـ. وَاسْتِعَاذَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَعُمَّ الْعَذَابُ إِذَا نَزَلَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَنْ هُوَ بِجِوَارِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25] وَفِي الْحَدِيثِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هَذِهِ أَهْوَنُ، أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ أَذًى عَظِيمٌ لَكِنَّهُ أَهْوَنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِئْصَالُ وَانْقِطَاعُ كَلِمَةِ الدِّينِ، فَهُوَ عَذَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَشَهَادَةٌ وَتَأْيِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» . وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَسَّرَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ أَنْ يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَن يُقَال: لماذَا لَمْ يَسْتَعِذِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ. وَلَيْسَتِ اسْتِعَاذَتُهُ بِدَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُرَادٌ بِهَا خِطَابُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا أَنَّهَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّ مُفَادَهَا غَيْرُ الصَّرِيحِ صَالِحٌ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ صَالِحَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى التَّهْدِيدِيَّ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمُسْلِمِينَ هُنَا. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي أَصْلِ الْإِخْبَارِ وَفِي لَازِمِهِ فَيَكُونُ صَرِيحًا وَكِنَايَةً وَلَا يُنَاسِبُ الْمَجَازَ الْمُرَكَّبَ الْمُتَقَدِّمَ بَيَانُهُ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ. اسْتِئْنَافٌ وَرَدَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ تَنْزِيلٌ لِلْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْهُ، وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 إلى 67]

وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ تَنْوِيعُهَا بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى. فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى التَّصْرِيفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [46] . ولَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ فَائِدَةِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ رَجَاءَ حُصُولِ فَهْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ لِعِنَادِهِمْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى إِحَاطَةِ الْبَيَانِ بِأَفْهَامِهِمْ لَعَلَّهَا تَتَذَكَّرُ وَتَرْعَوِي. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى (لَعَلَّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [21] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْفِقْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فِي سُورَة النِّسَاء [78] . [66، 67] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 66 إِلَى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) عَطْفٌ عَلَى انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ [الْأَنْعَام: 65] ، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فَلَمْ يَفْقَهُوا وَكَذَّبُوا. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً [الْأَنْعَام: 65] ، وَتَكْذِيبُهُمْ بِهِ مَعْنَاهُ تَكْذِيبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ لِأَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِ قَوْمُكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] ، وَقَالَ طَرْفَةُ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ (كَذَّبَ) بِالْبَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [57] . وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْحَقُّ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا إِلَخ. وَقَدْ تَحَقَّقَ بَعْضُ ذَلِكَ بِعَذَابٍ مِنْ فَوْقِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ الْقَحْطِ، وَبِإِذَاقَتِهِمْ بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بِهِ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَكَذَّبَ بِهِ رُجُوعًا بِالْكَلَامِ إِلَى قَوْلِهِ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الْأَنْعَام: 57] ، أَيْ كَذَبْتُمْ بِالْقُرْآنِ، عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّي [الْأَنْعَام: 57] ابْتِدَائِيَّةً كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ كَذَّبْتُمْ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَسَأَلْتُمْ نُزُولَ الْعَذَابِ تَصْدِيقًا لِرِسَالَتِي وَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِي. ثُمَّ اعْتَرَضَ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ. أُولَاهَا: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: 59] ، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَقَوْلُهُ: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ إِرْغَامٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَتِهِ قَدْ أَغَاظُوهُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُغِيظُهُ ذَلِكَ وَأَنَّ عَلَيْهِ الدعْوَة فَإِذا كَانُوا يَغِيظُونَ فَلَا يَغِيظُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَالْوَكِيلُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُدَافِعِ النَّاصِرِ، وَهُوَ الْحَفِيظُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [173] . وَتَعْدِيَتُهُ بِ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالسُّلْطَةِ، أَيْ لَسْتُ بِقَيِّمٍ عَلَيْكُمْ يَمْنَعُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] . وَجُمْلَةُ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ الْحَقُّ يُثِيرُ سُؤَالَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: فَمَتَى يَنْزِلُ الْعَذَابُ. فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ لِكُلِّ خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ لِكُلِّ مُخْبَرٍ بِهِ، أَيْ مَا أُخْبَرُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ [الْأَنْعَام: 65] الْآيَةَ. وَالْمُسْتَقَرُّ وَقْتُ الِاسْتِقْرَارِ، فَهُوَ اسْمُ زَمَانِهِ، وَلِذَلِكَ صِيغَ بِوَزْنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، كَمَا هُوَ قِيَاسُ صَوْغِ اسْمِ الزَّمَانِ الْمُشْتَقِّ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ. وَالِاسْتِقْرَارُ بِمَعْنَى الْحُصُولِ، أَيْ لِكُلِّ مَوْعُودٍ بِهِ وَقْتٌ يَحْصُلُ فِيهِ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ وَتَفْوِيضُ زَمَانِهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ الْمُسْتَقَرُّ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي الِانْتِهَاءِ وَالْغَايَةِ مَجَازًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة الأنعام (6) : آية 68]

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] ، وَهُوَ شَامِلٌ لِوَعِيدِ الْآخِرَةِ وَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَلِكُلٍّ مُسْتَقَرٌّ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَعَطْفُ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَلَى جُمْلَةِ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أَيْ تَعْلَمُونَهُ، أَيْ هُوَ الْآنَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَتَعْلَمُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ حُلُولِهِ بِكُمْ. وَهَذَا أَظْهَرُ فِي وَعِيدِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا. [68] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: 66] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالضَّمِيرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ، فَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، يَدُلُّ على أنّ الَّذِي يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ فَرِيقٌ خَاصٌّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْعَذَابِ. فَعُمُومُ الْقَوْمِ أَنْكَرُوا وَكَذَّبُوا دُونَ خَوْضٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَأُولَئِكَ قِسْمٌ، وَالَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ قِسْمٌ كَانَ أَبْذَى وَأَقْذَعَ، وَأَشَدَّ كُفْرًا وَأَشْنَعَ، وَهُمُ الْمُتَصَدُّونَ لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَهَؤُلَاءِ أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ وَتَرْكِ مُجَالِسِهِمْ حَتَّى يَرْعَوُوا عَنْ ذَلِكَ. وَلَوْ أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْمُكَذِّبِينَ لَتَعَطَّلَتِ الدَّعْوَةُ وَالتَّبْلِيغُ. وَمَعْنَى إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ. وَجَاءَ تَعْرِيفُ هَؤُلَاءِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ الْخَائِضِينَ أَوْ قَوْمًا خَائِضِينَ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ غَرِيبٌ، إِذْ شَأْنُ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُمَارِسَ النَّاسَ لِعَرْضِ دَعْوَةِ الدِّينِ، فَأَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ وَاسْتِئْنَاسٍ. وَذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي أَفَادَهُ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ، أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا.

وَهَذِهِ الْآيَةُ أَحْسَنُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ، لِمَجِيءِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى إِفَادَةِ تَعْلِيلِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ إِنْشَاءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ حُدِّدَ بِغَايَةِ حُصُولِ ضِدِّ الصِّلَةِ. وَهِيَ أَيْضًا أَعْدَلُ شَاهِدٍ لِصِحَّةِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ (أَو أَن توميء بِذَلِكَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ) بِأَنَّ وَجْهَ بِنَاءِ الْخَبَرِ هُوَ عِلَّتُهُ وَسَبَبُهُ، وَإِن أَبى التفتازانيّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ. وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ مَشْيًا بِالرِّجْلَيْنِ دُونَ سِبَاحَةٍ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ عَنَتٌ، كَمَا اسْتُعِيرَ التَّعَسُّفُ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الرَّمْلِ لِذَلِكَ. وَاسْتُعِيرَ الْخَوْضُ أَيْضًا لِلْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ تُكَلُّفُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لَهُ قَائِلُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: 65] ، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَة: 69] ، ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: 91] . فَمَعْنَى يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِالْبَاطِلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً وَحُكْمُ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَحُكْمِهِ، كَمَا قَالَ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [140] فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَالْإِعْرَاضُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] . وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ تَرْكُ الْجُلُوسِ إِلَى مَجَالِسِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ الْحَقِيقِيُّ غَالِبًا، فَإِنْ هُمْ غَشَوْا مَجْلِسَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَأُوا قَامَ فَحُذِّرُوا وَقَالُوا لَا تستهزءوا فَيَقُومَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِعْرَاضِ زَجْرُهُمْ وَقَطْعُ الْجِدَالِ مَعَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ. وحَتَّى غَايَةٌ لِلْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضُ فِيهِ تَوْقِيفُ دَعْوَتِهِمْ زَمَانًا أَوْجَبَهُ رَعْيُ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى هِيَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَضُرُّ تَوْقِيفُ الدَّعْوَةِ زَمَانًا، فَإِذَا زَالَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَادَتْ مُحَاوَلَةُ هديهم إِلَى أصلهم لِأَنَّهَا تَمَحَّضَتْ لِلْمَصْلَحَةِ.

وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ انْتِقَالِهِمْ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ بِالْخَوْضِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ إِلَّا فِيمَا لَا جَدْوَى لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشِّرْكِ وَأُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ. وغَيْرِهِ صِفَةٌ لِ حَدِيثٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْخَوْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَدِيثًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وَصْفُ حَدِيثٍ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عَطْفُ حَالَةِ النِّسْيَانِ زِيَادَةٌ فِي تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَأَسْنَدَ الْإِنْسَاءَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ آثَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حظّا الْعلم الشَّيْطَانِ. كَمَا وَرَدَ أَنَّ التَّثَاؤُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ، فَالنِّسْيَانُ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ تَبْلِيغِ مَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : إِنَّ كِبَارَ الرَّافِضَةِ هُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّسْيَانِ اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعُزِيَ إِلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ فِيمَا حَكَاهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحٍ لِلْقَصِيدَةِ النُّونِيَّةِ» لِشَيْخِهِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَنَسِيَ آيَاتٍ مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ تَذَكَّرَهَا لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» فَذَلِكَ نِسْيَانُ اسْتِحْضَارِهَا بَعْدَ أَنْ بُلِّغَهَا. وَلَيْسَ نَظَرُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَظَرُنَا فِي إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا لَهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يَجُوزُ طُرُوُّهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَعْرَاضِ مَوْكُولَةً لِلْمَلَائِكَةِ، وَيَكُونُ النِّسْيَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ كَمَا تَكَرَّرَ إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا. وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِ التَّثَاؤُبِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْجَنْبِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: 41] ، وَحِينَئِذٍ فَالْوَجْهُ أَنَّ الْأَعْرَاضَ الْبَشَرِيَّةَ الْجَائِزَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِتَبْلِيغٍ وَلَا تُوقِعُ فِي الْمَعْصِيَةِ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا مِنْ أَثَرِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنْ لَا سُلْطَةَ لِعَمَلٍ شَيْطَانِيٍّ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْجَائِزَةِ عَلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْرَاضِ مَا لَا أَثَرَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ. وَقَدْ يَدُلُّ لِهَذَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ شَقِّ الصَّدْرِ: أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ الْعَلَقَةَ قَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، يَعْنِيَ مَرْكَزُ تَصَرُّفَاتِهِ، فَيَكُونُ الشَّيْطَانُ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى شَيْءٍ يَقَعُ فِي نَفْسِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَدْبِيرِ شَيْءٍ يَشْغَلُ النَّبِيءَ حَتَّى يَنْسَى مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» حِينَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَكَّلَ بِلَالًا بِأَنْ يَكْلَأَ لَهُمُ الْفَجْرَ، فَنَامَ بِلَالٌ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ النَّبِيءَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ» . فَأَمَّا نَوْمُ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ عَدَا بِلَالًا فَكَانَ نَوْمًا مُعْتَادًا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَخَرَجَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ. فَإِنَّ التَّلَاحِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ رَفْعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِنَفْسِهِ فَوَسْوَسَ بِالتَّلَاحِي. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وَأَمَّا مَا دُونَهَا مِثْلَ الْإِنْسَاءِ وَالنَّزْغِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْصَمَ مِنْهُ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ الْوَسْوَسَةَ آثَارُهَا وُجُودِيَّةٌ وَالْإِنْسَاءَ وَالنَّزْغَ آثَارُهُمَا عَدَمِيَّةٌ، وَهِيَ الذُّهُولُ وَالشَّغْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَالْمَعْنَى إِنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَإِنْ تَذَكَّرْتَ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ، فَهَذَا النِّسْيَانُ يَنْتَقِلُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمِنْ أُسْلُوبٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ، فَلَيْسَ إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِيقَاعًا فِي مَعْصِيَةٍ إِذْ لَا مَفْسَدَةَ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضٌ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ فِي الضَّلَالِ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِالنِّسْيَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَتَذَكَّرَ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ. فَالذِّكْرَى اسْمٌ لِلتَّذَكُّرِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، فَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ إِذَا أَغْفَلْتَ بَعْدَ هَذَا فَقَعَدْتَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا تَذَكَّرْتَ فَلَا تَقْعُدْ، وَهُوَ ضِدُّ فَأَعْرِضْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنْسِيَنَّكَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- مِنَ التَّنْسِيَةِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي أَنْسَاهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ

[سورة الأنعام (6) : آية 69]

هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّهَا مِمَّا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ إِذَا عَذَرْنَا أَصْحَابَنَا فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ لِاسْتِحَالَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِجَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ فَائِدَةِ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ خَوْضَهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ ظُلْمٌ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَوْضُ إِنْكَارٍ لِلْحَقِّ ومكابرة للمشاهدة. [69] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 69] وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) لَمَّا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَجَالِسِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ بِالطَّعْنِ فِي الْآيَاتِ قَدْ لَا يَحُولُ دُونَ بُلُوغِ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ إِلَى أَسْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَتْبَعَ اللَّهُ النَّهْيَ السَّابِقَ بِالْعَفْوِ عَمَّا تَتَلَقَّفُهُ أَسْمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ عَفْوًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ عُذْرًا لِمَا يَطْرُقُ أَسْمَاعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قُعُودِهِمْ مَعَ الطَّاعِنِينَ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوَّلُ الْمُتَّقِينَ، فَالْمَوْصُولُ كَتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ قَوْلُهُ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: 68] حُكْمُهُ شَامِلًا لِبَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِحُكْمِ التَّبَعِ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَتْ آيَةُ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: 68] خَاصَّةً بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ رُخْصَةً لِغَيْرِ النَّبِيءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُضُورِ فِي تِلْكَ الْمَجَالِسِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يُغْضِبُهُمْ قِيَامُ النَّبِيءِ مِنْ مَجَالِسِهِمْ. وَنُسِبَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، فَيَكُونُ عُمُومُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ مَخْصُوصًا بِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَرَوَى الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: 68] قَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَيْفَ نَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ

وَهُمْ يَخُوضُونَ أَبَدًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يَعْنِي إِذَا قُمْتُمْ عَنْهُمْ فَمَا عَلَيْكُمْ تَبِعَةُ مَا يَقُولُونَ فِي حَالِ مُجَانَبَتِكُمْ إِيَّاهُمْ إِذْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَرَى ذَلِكَ وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ آنِفًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 68] . ثُمَّ الْحِسَابُ هُنَا مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ. فَهَذَا الْمَصْدَرُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 52] ، أَيْ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنْ يُحَاسِبُوا الْخَائِضِينَ، أَيْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخَوْضِ إِذْ لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ زَجْرَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية: 26] أَيْ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ تَبِعَةُ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ مَا عَلَيْهِمْ نَصِيبٌ مِنْ إِثْمِ ذَلِكَ الْخَوْضِ إِذَا سَمِعُوهُ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ ذِكْرى عَطَفَتِ الْوَاوُ الِاسْتِدْرَاكَ عَلَى النَّفْيِ، أَيْ مَا عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ حِسَابِهِمْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَى. وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَّرَ- بِالتَّشْدِيدِ- بِمَعْنَى وَعَظَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 8] ، أَيْ عَلَيْهِمْ إِنْ سَمِعُوهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ أَنْ يَعِظُوهُمْ وَيُخَوِّفُوهُمْ غَضَبَ اللَّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرى مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يَذْكُرُونَهُمْ ذِكْرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى. وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ حِسابِهِمْ أَيْ لَعَلَّ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ يَتَّقُونَ، أَيْ يَتْرُكُونَ الْخَوْضَ. وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْوَى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ بِتَحْصِيلِ وَاجِبِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى تَقْوَاهُمْ.

[سورة الأنعام (6) : آية 70]

وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَذِهِ ذِكْرَى، أَيْ قَوْلُهُ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْأَنْعَام: 68] تَذْكِرَةً لَكَ وَلَيْسَتْ مُؤَاخَذَةً بِالنِّسْيَانِ، إِذْ لَيْسَ عَلَى الْمُتَّقِينَ تَبِعَةُ سَمَاعِ اسْتِهْزَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَلَكِنَّا ذَكَّرْنَاهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ سَمَاعَهُمْ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِه الْآيَة لَيْسَ بِمَنْسُوخَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْقُعُودَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: 68] كَمَا تقدّم آنِفا. [70] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 70] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: 68] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 69] . وَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ حُكْمِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ. وَأُتِيَ بِمَوْصُولٍ وَصِلَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ ذَلِكَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وذَرِ فِعْلُ أَمْرٍ. قِيلَ: لَمْ يَرِدْ لَهُ مَاضٍ وَلَا مَصْدَرٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا اسْمُ مَفْعُولٍ. فتصاريفه هَذِه مماتة فِي الِاسْتِعْمَالِ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِأَمْثَالِهَا مِنْ مَادَّةِ تَرَكَ تَجَنُّبًا لِلثِّقَلِ وَاسْتَعْمَلُوا مُضَارِعَهُ وَالْأَمْرَ مِنْهُ. وَجَعَلَهُ عُلَمَاءُ التَّصْرِيفِ مِثَالًا وَاوِيًّا لِأَنَّهُمْ

وَجَدُوهُ مَحْذُوفَ أَحَدِ الْأُصُولِ، وَوَجَدُوهُ جَارِيًا عَلَى نَحْوِ يَعِدُ وَيَرِثُ فَجَزَمُوا بِأَنَّ الْمَحْذُوفَ مِنْهُ الْفَاءُ وَأَنَّهَا وَاوٌ. وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي نَحْوِ ذَرْ وَدَعْ مَعَ أَنَّهَا مَفْتُوحَةُ الْعَيْنِ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ حَذْفُ تَخْفِيفٍ لَا حَذْفُ دَفْعِ ثِقَلٍ، بِخِلَافِ حَذْفِ يَعِدُ وَيَرِثُ. وَمَعْنَى: (ذَرِ) اتْرُكْ، أَيْ لَا تُخَالِطْ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِاسْتِهْزَائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] ، وَقَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلِ طَرَفَةَ: فَذَرْنِي وَخُلْقِي إِنَّنِي لَكَ شَاكِرٌ ... وَلَوْ حَلَّ بَيْتِي نَائِيًا عِنْدَ ضَرْغَدِ أَيْ لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِضَلَالِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ فَالتَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ شَامِلٌ لَهُمْ، أَوْ لَا تَعْبَأْ بِهِمْ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَصُدَّكَ سُوءُ اسْتِجَابَتِهِمْ عَنْ إِعَادَةِ تَذْكِيرِهِمْ. وَالدِّينُ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِلَّةَ، أَيْ مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَيَنْتَحِلُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ أَيِ اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، أَيْ جَعَلُوا الدِّينَ مَجْمُوعَ أُمُورٍ هِيَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، أَيِ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ عِنْدَ الْأَصْنَامِ فِي مَوَاسِمِهَا، وَالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: 35] . وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ اتَّخَذُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا لِمَكَانِ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ مَا هُوَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ دِينًا لَهُمْ بَلْ عَمَدُوا إِلَى أَنْ يَنْتَحِلُوا دِينًا فَجَمَعُوا لَهُ أَشْيَاءَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَسَمَّوْهَا دِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدَّيْنِ الْعَادَةَ، كَقَوْلِ الْمُثَقَّبِ الْعَبْدِيِّ: تَقُولُ وَقَدْ درأت لَهَا وظيني ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي أَيِ الَّذِينَ دَأْبُهُمُ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي مُعَامَلَتِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [32] . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا فَرِيقٌ عُرِفُوا بِحَالِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَاخْتُصَّتْ بِهِمْ، فَهُمْ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ بَلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكِينَ كُلَّهُمْ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الدِّينِ بِالْمِلَّةِ وَالنِّحْلَةِ فَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فَبَيْنَهُمُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ. وَهَذَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ ذَرِ بِمَعْنَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِدِينِهِمْ لِقَصْدِ عَدَمِ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَوْ لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، أَيْ وَذَكِّرْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ فَرِيقًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سُفَهَاءَ اتَّخَذُوا دَأْبَهُمُ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الدِّينِ بِمَعْنَى الْعَادَةِ فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ. وَغَرَّتْهُمُ أَيْ خَدَعَتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَظَنُّوا أَنَّهَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَأَنَّ نَعِيمَهَا دَائِمٌ لَهُمْ بَطَرًا مِنْهُمْ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغُرُورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196] . وَذِكْرُ الْحَيَاةِ هُنَا لَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ وَهُوَ أَنَّ هَمَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الْحَيَاةُ فِيهَا لَا مَا يتكسب فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا سَعَادَةُ الْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَأَوْهَمَتْهُمْ أَنْ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام: 29] . وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي وَذَكِّرْ بِهِ عَائِد إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ هُوَ التَّذْكِيرُ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَبِالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ فَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْمَقَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] . وَحَذَفَ مَفْعُولَ ذَكِّرْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أَيْ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ ذَكِّرْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ،

أَيْ ذَكِّرْهُمْ بِهِ إِبْسَالَ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ فَهُوَ بِالتَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ هُمَا «هُمْ» وأَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ. وَخُصَّ هَذَا الْمَصْدَرُ مِنْ بَيْنِ الْأَحْدَاثِ الْمُذَكَّرِ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ تُبْسَلَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْجَرِّ تَعْلِيلًا لِلتَّذْكِيرِ، فَهُوَ كَالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا تُبْسَلَ نَفْسٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [176] . وَجُوِّزَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمْ أَكُنْ مِنْهُ عَلَى ثَلَجٍ. وَوَقَعَ لَفْظُ (نَفْسٌ) وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَقُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الإنفطار: 5]- أَيْ كُلُّ نَفْسٍ- عَلِمَتْ نَفْسَ مَا أَحْضَرَتْ، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ. وَالْإِبْسَالُ: الْإِسْلَامُ إِلَى الْعَذَابِ، وَقِيلَ: السَّجْنُ وَالِارْتِهَانُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا صَالِحَانِ هُنَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَسْلِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْحَرَامُ. قَالَ ضَمْرَةُ النَّهْشَلِيُّ: بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى ... بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلَامَتِي وَعِتَابِي وَأَمَّا الْإِبْسَالُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْكِلَابِيِّ: وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقِ وَمَعْنَى: بِما كَسَبَتْ بِمَا جَنَتْ. فَهُوَ كَسْبُ الشَّرِّ بِقَرِينَةِ تُبْسَلَ. وَجُمْلَةُ: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَفْسٌ لِعُمُومِ نَفْسٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ نَظَرًا لِكَوْنِ لَفْظِهِ مُفْرَدًا. وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ. وَالشَّفِيعُ: الطَّالِبُ لِلْعَفْوِ عَنِ الْجَانِي لِمَكَانَةٍ لَهُ عِنْدَ مَنْ بِيَدِهِ الْعِقَابُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَلِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [14] ، وَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَجُمْلَةُ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ.

وتَعْدِلْ مُضَارِعُ عَدَلَ إِذَا فَدَى شَيْئًا بِشَيْءٍ وَقَدَّرَهُ بِهِ. فَالْفِدَاءُ يُسَمَّى الْعَدْلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِ أَنْ الْمُفِيدَةِ عَدَمَ تَحَقُّقِ حُصُولِ الشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَفْرُوضٌ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ. وَالْعَدْلُ فِي قَوْلِهِ: كُلَّ عَدْلٍ مَصْدَرُ عَدَلَ الْمُتَقَدِّمِ. وَهُوَ مَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ فَيَكُونُ كُلَّ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، أَيْ وَإِنْ تُعْطَ كُلَّ عَطَاءٍ لِلْفِدَاءِ لَا يُقْبَلُ عَطَاؤُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِ تَعْدِلْ لِأَنَّ فِعْلَ (عَدَلَ) يَتَعَدَّى لِلْعِوَضِ بِالْبَاءِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِلْمُعَوَّضِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. فَلِذَلِكَ مَنَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ كُلَّ عَدْلٍ مَفْعُولًا بِهِ، وَهُوَ تَدْقِيقٌ. وكُلَّ هُنَا مُجَازٌ فِي الْكَثْرَةِ إِذْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ، أَيْ لِلْفِدَاءِ حَصْرٌ حَتَّى يُحَاطَ بِهِ كُلِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ (كُلَّ) بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [145] . وَقَوْلُهُ: لَا يُؤْخَذْ مِنْها أَيْ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا مَا تَعْدِلُ بِهِ. فَقَوْلُهُ: مِنْها هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِ يُؤْخَذْ. وَلَيْسَ فِي يُؤْخَذْ ضَمِيرُ الْعَدْلِ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْعَدْلَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، فَلَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَخْذُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، فَقَدْ نَزَلَ فِعْلُ الْأَخْذِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا أَخْذٌ. وَالْمَعْنَى لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ جَمِيعَ مَا تَعَارَفَ النَّاسُ التَّخَلُّصَ بِهِ مِنَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبِ، وَهُوَ النَّاصِرُ وَالشَّفِيعُ وَالْفِدْيَةُ. فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: فَمَا حَالُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا مِنْ حَالِ النُّفُوسِ الَّتِي تُبْسَلُ بِمَا كَسَبَتْ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْصُولِ بِمَا لَهُ مِنَ الصِّلَةِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْجُزْأَيْنِ أَفَادَ الْقَصْرَ، أَيْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُبْسَلُونَ لَا غَيْرُهُمْ. وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِأَنَّ إِبْسَالَهُمْ هُوَ أَشَدُّ إِبْسَالٍ يَقَعُ فِيهِ النَّاسُ فَجَعَلَ مَا عَدَاهُ كَالْمَعْدُومِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 71]

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ النَّكِرَةِ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ الْعَادِمُونَ وَلِيًّا وَشَفِيعًا وَقَبُولَ فِدْيَتِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الْإِبْسَالُ الْحَقُّ لَا مَا تَعْرِفُونَهُ فِي جَرَائِرِكُمْ وَحُرُوبِكُمْ مِنَ الْإِبْسَالِ، كَإِبْسَالِ أَبْنَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي شِعْرِهِ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: 9] . وَجُمْلَةُ لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْإِبْسَالِ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَعْنَى الْإِبْسَالِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ الْحَمَّةُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَوْجَاعِ الْأَعْضَاءِ وَالدُّمَّلِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْعَالِمِ مَثَلُ الْحَمَّةِ يَأْتِيهَا الْبُعَدَاءُ وَيَتْرُكُهَا الْقُرَبَاءُ» . وَخُصَّ الشَّرَابُ مِنَ الْحَمِيمِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ بُعْدٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَعْطَشُونَ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مَاءً يَزِيدُهُمْ حَرَارَةً عَلَى حَرَارَةِ الْعَطَشِ. وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَزِيدَ فِعْلُ (كَانَ) لِيَدُلَّ عَلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِعْلَ مَادَّةِ الْكَوْنِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَوْصُوفٍ بِغَيْرِهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْأَوْصَافِ سِوَى أَنَّهُ أَفَادَ الْوُجُودَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ. [71] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 71] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنِ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ ارْتِدَادَ بَعْضِ قَرَابَتِهِمْ أَوْ مَنْ لَهُمْ بِهِ صِلَةٌ. كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَمَا لَقِيَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَدْ رُوِيَ أنّ عبد الرحمان بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ دَعَا أَبَاهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ

مُشِيرَةً إِلَى ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُونَ صَرْفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يُرْضُونَهُ بِمَا أَحَبَّ كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ أَبِي طَالِبٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَأْيِيسٌ، وَجِيءَ- بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ- لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ متعلّق ب نَدْعُوا. وَالْمُرَادُ بِمَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ الْأَصْنَامُ، فَإِنَّهَا حِجَارَةٌ مَشَاهَدٌ عَدَمُ نَفْعِهَا وَعَجْزُهَا عَنِ الضُّرِّ، وَلَوْ كَانَتْ تَسْتَطِيعُ الضُّرَّ لَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ خَلَعُوا عِبَادَتَهَا وَسَفَّهُوا أَتْبَاعَهَا وَأَعْلَنُوا حَقَارَتَهَا، فَلَمَّا جَعَلُوا عَدَمَ النَّفْعِ وَلَا الضُّرِّ عِلَّةً لِنَفْيِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَقَدْ كَنَّوْا بِذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِهِمُ النَّافِعَ الضَّارَّ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَوْلُهُ: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عطف على نَدْعُوا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ. وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رُدُّوها عَلَيَّ [ص: 33] . وَالْأَعْقَابُ جَمْعُ عَقِبٍ وَهِيَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ. وَعَقِبُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَآخِرُهُ وَيُقَالُ: رَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ وَعَلَى عَقِبَيْهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ بِمَعْنَى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ جَاعِلًا إِيَّاهُ وَرَاءَهُ فَرَجَعَ. وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ، أَيْ رَجَعَ عَلَى طَرِيقِ جِهَةِ عَقِبِهِ، كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ وَرَاءَهُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ تَمْثِيلًا شَائِعًا فِي التَّلَبُّسِ بِحَالَةٍ ذَمِيمَةٍ كَانَ فَارَقَهَا صَاحِبُهَا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا وَتَلَبَّسَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَارِجَ إِلَى سَفَرٍ أَوْ حَاجَةٍ فَإِنَّمَا يَمْشِي إِلَى غَرَضٍ يُرِيدُهُ فَهُوَ يَمْشِي الْقُدُمِيَّةَ فَإِذَا رَجَعَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى غَرَضِهِ فَقَدْ أَضَاعَ مَشْيَهُ فَيُمَثَّلُ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» . فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ هُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُرْتَدِّ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ بِحَالِ مَنْ خَرَجَ فِي مُهِمٍّ فَرَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَمْ يَقْضِ مَا خَرَجَ لَهُ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي تَمْثِيلِ سُوءِ الْحَالَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَنَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَقَدْ أُضِيفَ (بَعْدَ) إِلَى إِذْ هَدانَا وَكِلَاهُمَا اسْمُ زَمَانٍ، فَإِنَّ (بَعْدَ) يَدُلُّ عَلَى

الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ [النُّور: 58] و (إِذا) يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ مُعَرَّفٍ بِشَيْءٍ، فَ (إِذَا) اسْمُ زَمَنٍ مُتَصَرِّفٍ مُرَادٌ بِهِ الزَّمَانُ وَلَيْسَ مَفْعُولًا فِيهِ. وَالْمَعْنَى بَعْدَ الزَّمَنِ الَّذِي هَدَانَا اللَّهُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [8] . كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا. ارْتَقَى فِي تَمْثِيلِ حَالِهِمْ لَوْ فُرِضَ رُجُوعُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَمْثِيلٍ آخَرَ أَدَقَّ، بِقَوْلِهِ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بِهَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ فِي أَحْوَالِ الْمَمْسُوسِينَ. فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا، أَيْ حَالَ كَوْنِنَا مُشْبِهِينَ لِلَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَهَذِهِ الْحَالُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا فِي نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا مِنْ مَعْنَى التَّمْثِيلِ بِالْمُرْتَدِّ عَلَى أَعْقَابِهِ. وَالِاسْتِهْوَاءُ اسْتِفْعَالٌ، أَيْ طَلَبُ هَوَى الْمَرْءِ وَمَحَبَّتِهِ، أَيِ اسْتِجْلَابُ هَوَى الْمَرْءِ إِلَى شَيْءٍ يُحَاوِلُهُ الْمُسْتَجْلِبُ. وَقَرَّبَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِمَعْنَى هَمْزَةِ التَّعَدِّيَةِ. فَقَالَ: اسْتَهْوَاهُ بِمَعْنَى أَهْوَاهُ مِثْلُ اسْتَزَلَّ بِمَعْنَى أَزَلَّ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ هَوَى فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُوَ فِي «الْأَسَاسِ» مَعَ كَوْنِهِ ذَكَرَ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ. وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ، إِذَا اخْتَطَفَتِ الْجِنُّ عَقْلَهُ فَسَيَّرَتْهُ كَمَا تُرِيدُ. وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَحَرَتْهُ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْغِيلَانَ هِيَ سَحَرَةُ الْجِنِّ، وَتُسَمَّى السَّعَالَى أَيْضًا، وَاحِدَتُهَا سِعْلَاةٌ، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: اسْتَهَامَتْهُ الْجِنُّ إِذَا طَلَبَتْ هُيَامَهُ بِطَاعَتِهَا. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِ اسْتَهْوَتْهُ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى ذَهَبَتْ بِهِ وَضَلَّ فِي الْأَرْضِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي تَتَوَهَّمُهَا الْعَرَبُ اسْتِهْوَاءَ الْجِنِّ يُصَاحِبُهَا التَّوَحُّشُ وَذَهَابُ الْمَجْنُونِ عَلَى وَجْهِهِ فِي الْأَرْضِ رَاكِبًا رَأْسَهُ لَا يَنْتَصِحُ لِأَحَدٍ، كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنْ

مَجَانِينِهِمْ وَمَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ اخْتَطَفَتْهُمْ. وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ عَمْرُو بْنُ عُدَيٍّ الْإِيَادِيُّ اللَّخْمِيُّ ابْنُ أُخْتِ جُذَيْمَةَ بْنِ مَالِكٍ مَلِكِ الْحَيْرَةِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقًا بِ حَيْرانَ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضٍ لِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ. وحَيْرانَ حَال من كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ، وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى السَّبِيلِ. يُقَالُ: حَارَ يَحَارُ إِذْ تَاهَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَعْلَمِ الطَّرِيقَ. وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ مَخْرَجُهُ، وَانْتَصَبَ حَيْرانَ عَلَى الْحَال من كَالَّذِي. وَجُمْلَةُ: لَهُ أَصْحابٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ مَعَهُ حِينَ أَصَابَهُ اسْتِهْوَاءُ الْجِنِّ. فَجُمْلَةُ يَدْعُونَهُ صِفَةٌ لِ أَصْحابٌ. وَالدُّعَاءُ: الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ عَمَلٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَالْهُدَى: ضِدُّ الضَّلَالِ. أَيْ يَدْعُونَهُ إِلَى مَا فِيهِ هُدَاهُ. وَإِيثَارُ لَفْظِ الْهُدَى هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ. فَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَجْرِيدٌ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] . وَلِذَلِكَ كَانَ لِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَقْعٌ بَدِيعٌ. وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْهُدَى مُسْتَعَارًا لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَجُمْلَةُ: ائْتِنا بَيَانٌ لِ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. فَصَحَّ أَنْ يُبَيَّنَ بِمَا يَقُولُونَهُ إِذَا دَعَوْهُ، وَلِكَوْنِهَا بَيَانًا فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانِ الدُّعَاءِ إِلَى الْهُدَى لِتَمْكِينِ التَّمْثِيلِ مِنْ ذِهْنِ السَّامِعِ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يُخَاطَبُ بِصَرِيحِ الْمَقْصِدِ فَلَا يُدْعَى إِلَى الْهُدَى بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ ضَالٌّ لِأَنَّ مِنْ خُلُقِ الْمَجَانِينِ الْعِنَادَ وَالْمُكَابَرَةَ، فَلِذَلِكَ يَدْعُونَهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ رَغْبَتُهُمْ فِي صُحْبَتِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ إيّاه، فَيَقُولُونَ: ايتنا، حَتَّى إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْهُ أَوْثَقُوهُ وَعَادُوا بِهِ إِلَى بَيْتِهِ. وَقَدْ شُبِّهَتْ بِهَذَا التَّمْثِيلِ الْعَجِيبِ حَالَةُ مَنْ فُرِضَ ارْتِدَادُهُ إِلَى ضَلَالَةِ الشِّرْكِ بَعْدَ هُدَى الْإِسْلَامِ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ وَتَرْكِهِ أَصْحَابَهُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُ عَنْهُ، بِحَالِ الَّذِي فَسَدَ عَقْلُهُ بِاسْتِهْوَاءٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، فَتَاهَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاقِلًا عَارِفًا بِمَسَالِكِهَا، وَتَرَكَ رُفْقَتَهُ الْعُقَلَاءَ يَدْعُونَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ الْبَدِيعُ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 72 إلى 73]

صَالِحٌ لِلتَّفْكِيكِ بِأَنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا، بِأَنْ يُشَبَّهَ الِارْتِدَادُ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِذَهَابِ عَقْلِ الْمَجْنُونِ، وَيُشَبَّهَ الْكُفْرُ بِالْهُيَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الِارْتِدَادِ بِالشَّيَاطِينِ وَتُشَبَّهُ دَعْوَةُ اللَّهِ النَّاسَ لِلْإِيمَانِ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِوَحْيِهِ بِالْأَصْحَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْهُدَى. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِير يكون كَالَّذِي صَادِقًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَأْبَى، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. [72، 73] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 72 الى 73] وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) جُمْلَةُ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَكْرِيرٍ لِمَا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ حِين يدعونَ الْمُسلمين إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْبُدْ آلِهَتَنَا زَمَنًا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ زَمَنًا. وَكَانُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُدًى فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِصِيغَةِ الْقَصْرِ. وَهِيَ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فَجِيءَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ، فَاجْتَمَعَ فِي الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ مُؤَكِّدَاتٍ، لِأَنَّ الْقَصْرَ بِمَنْزِلَةِ مُؤَكِّدَيْنِ إِذْ لَيْسَ الْقَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ تَأْكِيدٌ، وَ (إِنَّ) تَأْكِيدٌ، فَكَانَتْ مُقْتَضَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى الْوَارِدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الدِّينُ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ هُنَا الْإِسْلَامُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ. وَقَدْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ

هُدَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [120] ، أَيِ الْقُرْآنُ هُوَ الْهُدَى لَا كُتُبُهُمْ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَصْرِ جِنْسِ الْهُدَى عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِأَنَّ السِّيَاقَ لِرَدِّ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمُ الرُّجُوعَ إِلَى دِينِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ هُدًى، فَالْقَصْرُ لِلْقَلْبِ إِذْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، فَلَا يَكُونُ قَصْرُ الْهُدَى عَلَى هُدَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْهُدَى الْكَامِلِ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَجُمْلَةُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ عَطْفٌ عَلَى الْمَقُولِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 56] ، وَقَوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ. وَاللَّامُ فِي لِنُسْلِمَ أَصْلُهَا لِلتَّعْلِيلِ وَتُنُوسِيَ مِنْهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَصَارَتْ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُرُودُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْأَمْرِ وَمَادَّةِ الْإِرَادَةِ. وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ لَامَ أَنْ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ- قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ. فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِذَا حَذَفُوهَا فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ مَعَ (أَنْ) . وَأَمَّا أَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ، فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا وَقَعَ الْأَمْرُ. يَعْنِي وَأَغْنَتِ الْعِلَّةُ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّلِ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ف (أَن) مضرَّة بَعْدَهَا، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ. وَالْمَعْنَى: وَأُمِرْنَا بِالْإِسْلَامِ، أَيْ أُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّ الْعالَمِينَ متعلّقة ب لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ مَعْنَى تَخَلُّصٍ لَهُ، قَالَ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [131] . وَفِي ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَأَحَقِّيَّتِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنْ جَعَلْتَ (أَنْ) فِيهِ مَصْدَرِيَّةً عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُسَوِّغُ دُخُولَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ فَتُفِيدُ الْأَمْرَ وَالْمَصْدَرِيَّةَ مَعًا لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَمْ يُؤْتَ بِهَا عَبَثًا، فَقَوْلُ الْمُعْرِبِينَ: إِنَّهُ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْأَمْرِيَّةِ، مُرَادُهُمْ بِهِ أَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ مَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ إِلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَهُوَ إِمَّا عُطِفَ عَلَى لِنُسْلِمَ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ قَبْلَ (أَنْ) وَهُوَ الْبَاءُ. وَتَقْدِيرُ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَإِمَّا عُطِفَ عَلَى مَعْنَى لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مَوْقِعِ بِأَنْ نُسْلِمَ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الزَّجَّاجِ. فَالتَّقْدِيرُ: أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنْ أَقِيمُوا أَيْ وَأُمِرْنَا بِأَنْ أَقِيمُوا، وَالْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَوْقِعِهِ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المُنَافِقُونَ: 10] إِذِ الْمَعْنَى إِنْ تُؤَخِّرْنِي أَصَّدَّقْ وَأَكُنْ. وَإِنْ جَعَلْتَ (أَنْ) فِيهِ تَفْسِيرِيَّةً فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. فَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أُمِرْنا لِنُسْلِمَ بِأُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا لِنُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ، أَيْ لِنُقِيمَ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ. وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَاوُ الْعَطْفِ مِنْ تَقْدِيرِ الْعَامِلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَأُمِرْنا، فَإِنَّ أُمِرْنا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَنَاسَبَ مَوْقِعُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . واتَّقُوهُ عَطْفٌ عَلَى أَقِيمُوا وَيَجْرِي فِيهِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ أَقِيمُوا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي أُمِرُوا بِمُقْتَضَاهُ بِأَنْ قَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَسْلِمُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى بِأَنْ قَالَ اللَّهُ: اتَّقَوْنِ، فَحُكِيَ بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ النَّبِيءِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، كَمَا فِي حِكَايَةِ قَوْلِ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] .

وَجَمَعَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ جَمِيعَ أُمُورِ الدِّينِ، وَتَخْصِيصُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّقُوهُ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ، أَيْ وَقُلْ لَهُمْ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى قُلْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمَقُولِ. وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحَشْرِ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَتَذْكِيرٌ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ تَحْرِيضًا عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّقْوَى. وَاشْتَمَلَتْ جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَلَى عِدَّةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ: صِيغَةُ الْحَصْرِ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تُحْشَرُونَ الْمُفِيدُ لِلتَّقَوِّي لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْحَشْرِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحُصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ إِذْ هُمْ لَمْ يُنْكِرُوا كَوْنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا وُقُوعَ الْحَشْرِ، فَسَلَكَ فِي إِثْبَاتِهِ طَرِيقَ الْكِنَايَةِ بِقَصْرِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَلْزِمِ وُقُوعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، تَعْرِيضًا بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ رَدِّ اعْتِقَادٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَصْرِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْخَلَائِقَ عَبِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] . وَالْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ خَلَقَ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالْحَقُّ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ (حَقَّ) إِذَا ثَبَتَ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْأَمْرِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا يُنَكَّرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ فُلَانٌ عَدْلٌ. وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ. فَالْبَاطِلُ اسْمٌ لِضِدِّ مَا يُسَمَّى بِهِ الْحَقُّ فَيُطْلَقُ الْحَقُّ إِطْلَاقًا شَائِعًا عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَإِعْطَاءُ الْمُسْتَحِقِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُرَادِفُ الْعَدْلِ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ فَيُرَادِفُ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ الصَّالِحِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِتْقَانِ وَالصَّوَابِ، وَيُرَادِفُ الْحِكْمَةَ وَالْحَقِيقَةَ، وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ فَيُرَادِفُ الْعَبَثَ

وَاللَّعِبَ. وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 39] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: 38] وَكَقَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آل عمرَان: 191] . فَاللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَأَوْدَعَ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَخَصَائِصَ تَصْدُرُ بِسَبَبِهَا الْآثَارُ الْمَخْلُوقَةُ هِيَ لَهَا وَرَتَّبَهَا عَلَى نُظُمٍ عَجِيبَةٍ تَحْفَظُ أَنْوَاعَهَا وَتُبْرِزُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَأَعْظَمُهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَخَلْقُ الْعَقْلِ فِيهِ وَالْعِلْمِ، وَفِي هَذَا تَمْهِيدٌ لِإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ إِذْ لَوْ أُهْمِلَتْ أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ لَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانًا مِنَ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مُلَابِسَةً لَهُ، فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ. وَجُمْلَةُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لِأَفْعَالِهِ تَعَالَى فَبَيَّنَتْ مُلَابَسَةَ الْحَقِّ لِأَمْرِهِ تَعَالَى الدَّالِّ عَلَيْهِ يَقُولُ. وَالْمُرَادُ بِ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ يَوْمُ الْبَعْثِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ. وَقَدْ أَشْكَلَ نَظْمُ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَذَهَبَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ طَرَائِقَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالْمُبْتَدَأُ هُوَ قَوْلُهُ وَيَكُونُ الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَقَوْلُهُ الْحَقُّ يَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ. وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ وُقُوعَ هَذَا التَّكْوِينِ بَعْدَ الْعَدَمِ. وَوَصْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ عَيْنُ الْمَقُولِ لِفِعْلِ يَقُولُ كُنْ، وَحَذْفُ الْمَقُولِ لَهُ كُنْ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يَقُولُ لِغَيْرِ الْمَوْجُودِ الْكَائِنِ: كُنْ. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ اعْتِرَاضٌ، أَيْ يَقُولُ لِمَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ (كُنْ) فَيُوجَدُ الْمَقُولُ لَهُ كُنْ عَقِبَ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ الَّذِي بَدَأَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ، فَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ تَكْوِينِهِ الْأَوَّلِ وَلَا مِنْ تَكْوِينِهِ الثَّانِي عَنِ الْحَقِّ. وَيَتَضَمَّنُ

أَنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي الْمُقَابِلُ لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِكَلِمَةِ يَوْمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَكْوِينٌ خَاصٌّ مُقَدَّرٌ لَهُ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ. وَفِي قَوْلِهِ: قَوْلُهُ الْحَقُّ صِيغَةُ قَصْرٍ لِلْمُبَالِغَةِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ لِأَنَّ أَقْوَالَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَقِّ فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِلْخَطَأِ وَمَا كَانَ فِيهَا غَيْرَ مُعَرَّضٍ لِلْخَطَأِ فَهُوَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ أَوْ مِنْ نِعْمَتِهِ بِالْعَقْلِ وَالْإِصَابَةِ، فَذَلِكَ اعْتِدَادٌ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ: «قَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ» . وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ، وَهُوَ يَوْمُ يَقُولُ كُنْ، مِنْ أَمْرِ تَكْوِينٍ، أَوْ أَمْرِ ثَوَابٍ، أَوْ عِقَابٍ، أَوْ خَبَرٍ بِمَا اكْتَسَبَهُ النَّاسُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَأَضْدَادِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ حَقٌّ. وَخَصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَقْوَالِ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِمَا اقْتَضَاهُ التَّقْدِيمُ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ كَمَا عَلِمْتَ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِقَامَةِ الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَالِكُ أُخْرَى غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى السُّبُلِ الْوَاضِحَةِ. وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَانْتِظَامُهَا كَانْتِظَامِ جُمْلَةِ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ إِلَّا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ قَصْرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيِ الْمُلْكُ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ لِرَدِّ مَا عَسَى أَنْ يَطْمَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُشَارَكَةِ أَصْنَامِهِمْ يَوْمَئِذٍ فِي التَّصَرُّفِ وَالْقَضَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ تَهْوِيلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ بِحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ الَّذِي يَعُمُّ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ، فَيَحْيَوْنَ بِهِ وَيَحْضُرُونَ لِلْحَشْرِ كَمَا يَحْضُرُ الْجَيْشُ بِنَفْخِ الْأَبْوَاقِ وَدَقِّ الطُّبُولِ. وَالصُّورُ: الْبُوقُ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِنَفْخِ الصُّورِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ هَذَا النَّفْخِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى» . وَيَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ هُوَ يَوْمُ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنَّهُ عُبِّرَ عَنْهُ هُنَا بِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحَالِ الْعَجِيبِ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا جُعِلَ

ظَرْفًا لِلْقَوْلِ عُرِّفَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وَلَمَّا جُعِلَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْمُلْكِ نَاسَبَ أَنْ يُعَرِّفَ الْيَوْمَ بِمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُلْكِ وَالْجُنْدِ. وَقَدِ انْتَصَبَ يَوْمَ يُنْفَخُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ لِلِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُجْعَلُ وَلَهُ الْمُلْكُ عَطْفًا عَلَى قَوْلُهُ الْحَقُّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصُّورُ هُنَا جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ يُنْفَخُ فِي صُوَرِ الْمَوْجُودَاتِ. وَلَمَّا انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شُؤُونٍ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى أُتْبِعَ بِصِفَاتٍ تُشِيرُ إِلَى الْمُحَاسَبَةِ عَلَى كُلِّ جَلِيلٍ وَدَقِيقٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ بِقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. وَجَاءَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي مَقَامِ تَقَدُّمِ صِفَاتِهِ. فَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ تَبَعٌ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ بِخَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهَا يُجْعَلُ فِيهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَيُلْتَزَمُ حَذْفُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [97] ، فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا عالِمُ الْغَيْبِ فَحَذَفَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَحْذِفِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. وَالْغَيْبُ: مَا هُوَ غَائِبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [59] . وَالشَّهَادَةُ: ضِدُّ الْغَيْبِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ ويتوصّلون إِلَى علمهَا يُقَالُ: شَهِدَ، بِمَعْنَى حَضَرَ، وَضِدُّهُ غَابَ، وَلَا تَخْرُجُ الْمَوْجُودَاتُ عَنِ الِاتِّصَافِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْعَالِمُ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ عَالِمٌ كُلَّ غَيْبٍ وَكُلَّ شَهَادَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ. وَصِفَةُ الْحَكِيمُ تَجْمَعُ إِتْقَانَ الصُّنْعِ فَتَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَصْنُوعَاتِ. وَصِفَةُ الْخَبِيرُ تَجْمَعُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُومَاتِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا. فَكَانَتِ الصِّفَتَانِ

[سورة الأنعام (6) : آية 74]

كَالْفَذْلَكَةِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِقَوْلِهِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. [74] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 74] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ الَّتِي أُولَاهَا وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: 66] الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحُجَجِ وَالْمُجَادِلَةِ فِي شَأْنِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ، فَعُقِّبَتْ تِلْكَ الْحُجَجُ بِشَاهِدٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ بِذِكْرِ مُجَادَلَةِ أَوَّلِ رَسُولٍ أَعْلَنَ التَّوْحِيدَ وَنَاظَرَ فِي إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ السَّاطِعَةِ، وَلِأَنَّهَا أَعْدَلُ حُجَّةٍ فِي تَارِيخِ الدِّينِ إِذْ كَانَتْ مُجَادَلَةَ رَسُولٍ لِأَبِيهِ وَلِقَوْمِهِ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ حُجَّةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّ أَبَاهُمْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا وَلَا مُقِرًّا لِلشِّرْكِ فِي قَوْمِهِ، وَأَعْظَمُ حجّة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ. وَالْكَلَامُ فِي افْتِتَاحِ الْقِصَّةِ بِ إِذْ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وآزَرَ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عُرِفَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ آزَرُ فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُعْتَنِينَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَنَسَبِهِ وَأَبْنَائِهِ. وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا ذُكِرَ اسْمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا لِقَصْدٍ سَنَذْكُرُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاسْمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (تَارَحُ) - بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فَأَلِفٍ فَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ-. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّسَّابِينَ فِي أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ تَارَحُ. وَتَبِعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْجُوَيْنِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي «تَفْسِيرِ النُّكَتِ» . وَفِي كَلَامِهِمَا نَظَرٌ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْفِيَّ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ آزَرَ اسْمٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ بَيْنَ قَوْمِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ فِي لُغَةٍ أُخْرَى غَيْرَ لُغَةِ قَوْمِهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ (آزَرَ) وَصْفٌ.

قَالَ الْفَخْرُ: قِيلَ مَعْنَاهُ الْهَرِمُ بِلُغَةِ خُوَارَزْمَ، وَهِيَ الْفَارِسِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الضَّحَّاكِ: (آزَرُ) الشَّيْخُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ بِلُغَةِ الْفُرْسِ (آزَرُ) . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: اسْمُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ تَارَحُ وَآزَرُ لَقَبٌ لَهُ مِثْلَ يَعْقُوبَ الْمُلَقَّبِ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (آزَرُ) اسْمُ الصَّنَمِ الَّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ فَلُقِّبَ بِهِ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ الصَّنَمُ الَّذِي كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ سَادِنُ بَيْتِهِ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَالْفَرَّاءِ: (آزَرُ) كَلِمَةُ سَبٍّ فِي لُغَتِهِمْ بِمَعْنَى الْمُعْوَجِّ، أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ. وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ لَفْظٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ لَيْسَ بِعَلَمٍ وَلَا بِمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الْمُعَرَّبَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا غَيْرَ عَلَمٍ نَقَلَهُ الْعَرَبُ إِلَى لُغَتِهِمْ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : أَنَّ مِنَ الْوُجُوهِ أَنْ يَكُونَ (آزَرُ) عَمَّ إِبْرَاهِيمَ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ لِأَنَّ الْعَمَّ قَدْ يُقَالُ لَهُ: أَبٌ. وَنُسِبَ هَذَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ أَبِيهِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَمُّهُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ كُلِّهَا. قَالَ الْفَخْرُ: وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: لَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ آبَاءِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْدَادِهِ كَافِرًا. وَأَنْكَرُوا أَنَّ (آزَرَ) أَبٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا كَانَ عَمَّهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ. قُلْتُ: هُوَ كَمَا قَالَ الْفَخْرُ مِنْ عَدَمِ الْتِزَامِ هَذَا وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي «رِسَالَةٍ» لِي فِي طَهَارَةِ نَسَبِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي خُلُوصَ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ خُلُوصًا جِبِلِّيًّا لِأَنَّ الْخُلُوصَ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ هُوَ الْخُلُوصُ مِمَّا يُتَعَيَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ: أَنَّ (تَارَحَ) لُقِّبَ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ بِلَقَبِ (آزَرَ) بَاسِمِ الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، فَفِي «مُعْجَمِ يَاقُوتَ» - آزَرُ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِالرَّاءِ- نَاحِيَةٌ بَيْنَ سُوقِ الْأَهْوَازِ وَرَامَهُرْمُزَ. وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ بَلَدَ تَارَحَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ هُوَ (أُورُ الْكِلْدَانِيِّينَ) . وَفِي «مُعْجَمِ يَاقُوتٍ» (أُورُ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- مِنْ أَصْقَاعِ رَامَهُرْمُزَ مِنْ خُوزِسْتَانَ» . وَلَعَلَّهُ هُوَ أُورُ الْكَلْدَانِيِّينَ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ أُضِيفَ إِلَى سُكَّانِهِ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ (تَارَحَ) خرج هُوَ وَابْنه إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَلَدِهِ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ قَاصِدِينَ أَرْضَ كَنْعَانَ وَأَنَّهُمَا مَرَّا فِي طَرِيقِهِمَا بِبَلَدِ (حَارَانَ) وَأَقَامَا هُنَاكَ وَمَاتَ تَارِحُ فِي

حَارَانَ. فَلَعَلَّ أَهْلَ حَارَانَ دَعَوْهُ آزَرَ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ صِقْعِ آزَرَ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَام- نبّىء فِي حَارَانَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرٌ لِلْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِيهِ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ. وَلِذَا فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ آزَرَ فِي الْآيَةِ مُنَادًى وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ آزَرَ مَضْمُومًا. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهُ أَإِزْرُ- بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ-، وَرُوِيَ: عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ- وَبِهَذَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِهِ حِكَايَةً لِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ خِطَابَ غِلْظَةٍ، فَذَلِكَ مُقْتَضَى ذِكْرِ اسْمِهِ الْعَلَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آزَرَ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِضَمِّهَا-. وَاقْتَصَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى جَعْلِهِ فِي قِرَاءَةِ- فَتْحِ الرَّاءِ- بَيَانا من لِأَبِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ مَوْقِفُ غِلْظَةٍ، فَيَتَعَيَّنُ أنّه كَانَ عِنْد مَا أَظْهَرَ أَبُوهُ تَصَلُّبًا فِي الشِّرْكِ. وَهُوَ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ أَبُوهُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مَرْيَم: 46] وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْقِفِ الَّذِي خَاطَبَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [42] . وتَتَّخِذُ مُضَارِعُ اتَّخَذَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى التَّكَلُّفِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ الْفِعْلِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَاءً لِقَصْدِ الْإِدْغَامِ تَخْفِيفًا وَلَيَّنُوا الْهَمْزَةَ ثُمَّ اعْتَبَرُوا التَّاءَ كَالْأَصْلِيَّةِ فَرُبَّمَا قَالُوا: تَخِذَ بِمَعْنَى اتّخذ، وَقد قرىء بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الْكَهْف: 77] ولَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً فَأَصْلُ فِعْلِ اتَّخَذَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَكَانَ أَصْلُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي حَالًا، وَقَدْ وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] بِأَنَّ نُبَيِّنَ اسْتِعْمَالَ (اتَّخَذَ) وَتَعَدِّيَتَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَعْنَى تَتَّخِذُ هُنَا تَصْطَفِي وَتَخْتَارُ فَالْمُرَادُ أَتَعْبُدُ أَصْنَامًا.

وَفِي فِعْلِ تَتَّخِذُ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ مُصْطَنَعٌ مُفْتَعَلٌ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْإِلَهِيَّةِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِسَخَافَةِ عَقْلِهِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَهَهُ شَيْئًا هُوَ صَنَعَهُ. وَالْأَصْنَامُ جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ الصُّورَةُ الَّتِي تُمَثِّلُ شَكْلَ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اعْتِبَارَ كَوْنِهِ مَعْبُودًا دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ اسْمِ صَنَمٍ كَمَا تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ كَلِمَاتُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَفِي «شِفَاءِ الْغَلِيلِ» : أَنَّ صَنَمَ مُعَرَّبٌ عَنْ (شَمَنَ) ، وَهُوَ الْوَثَنُ، أَيْ مَعَ قَلْبٍ فِي بَعْضِ حُرُوفِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللُّغَةَ الْمُعَرَّبَ مِنْهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ يَكُونُ قَوْلُهُ أَصْناماً مَفْعُولَ تَتَّخِذُ عَلَى أَنَّ تَتَّخِذَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِهِ وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ الْمَفْعُولُ، أَيْ أَصْناماً، وَيَكُونُ قَوْلُهُ آلِهَةً حَالًا مِنْ أَصْناماً مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى صَاحِبِ الْحَالِ، أَوْ بَدَلًا مِنْ أَصْناماً. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ تَنْكِيرَ أَصْناماً لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِ تَتَّخِذُ لَكَانَ مُعَرَّفًا لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمُبْتَدَأُ. وَعَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الصَّنَمَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ سَوَاءٌ عُبِدَتْ أَمْ لَمْ تُعْبَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ آلِهَةً مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ تَتَّخِذُ عَلَى أَنَّ تَتَّخِذُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى تَجْعَلُ وَتَصِيرُ، أَيْ أَتَجْعَلُ صُوَرًا آلِهَةً لَكَ كَقَوْلِهِ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] . وَقَدْ تَضَمَّنَ مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَعْلُهُ الصُّوَرَ آلِهَةً مَعَ أَنَّهَا ظَاهِرَةُ الِانْحِطَاطِ عَنْ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَثَانِيهُمَا تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ مَفْعُولَا تَتَّخِذُ جَمْعَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَتَتَّخِذُ الصَّنَمَ إِلَهًا. وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبَيِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ فِي جُمْلَةِ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً. وَأَكَّدَ الْإِخْبَارَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ مِنْ كَوْنِ ضَلَالِهِمْ بَيِّنًا، وَذَلِكَ مِمَّا يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي اعْتِقَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ يَحْسَبُ نَفْسَهُ عَلَى هُدًى وَلَا يَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ إِنْكَارَ ابْنِهِ عَلَيْهِ لَا يبلغ بِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَرَاهُ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. فَقَدَ يَتَأَوَّلُهُ بِأَنَّهُ رَامَ مِنْهُ مَا هُوَ أَوْلَى.

وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً قُصِدَ مِنْهَا فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ ضَلَالَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لِوُضُوحِهِ فِي أَحْوَالِ تَقَرُّبَاتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ فَهِيَ حَالَةٌ مُشَاهَدٌ مَا فِيهَا مِنَ الضَّلَالِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً، وَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَفَائِدَةُ عَطْفِ وَقَوْمَكَ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ أَبَاهُ فِي ضَلَالٍ يَقْتَضِي أَنْ يَرَى مُمَاثِلِيهِ فِي ضَلَالٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ صَرَاحَةٍ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلِيُنَبِّئَهُ مِنْ أَوَّلِ وهلة على أَنَّ مُوَافَقَةَ جَمْعٍ عَظِيمٍ إِيَّاهُ عَلَى ضلاله لَا تعصّد دِينَهُ وَلَا تُشَكِّكُ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ. ومُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ. وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِ مُبِينٍ نِدَاءٌ عَلَى قُوَّةِ فَسَادِ عُقُولِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِضَلَالِهِمْ مَعَ أَنَّهُ كَالْمُشَاهَدِ الْمَرْئِيِّ. وَمُبَاشَرَتُهُ إِيَّاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْغَلِيظِ كَانَتْ فِي بَعْضِ مُجَادَلَاتِهِ لِأَبِيهِ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ لَهُ بِالدَّعْوَةِ بِالرِّفْقِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا - إِلَى قَوْلِهِ- سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: 42- 47] . فَلَمَّا رَأَى تَصْمِيمَهُ عَلَى الْكُفْرِ سَلَكَ مَعَهُ الْغِلْظَةَ اسْتِقْصَاءً لِأَسَالِيبِ الْمَوْعِظَةِ لَعَلَّ بَعْضَهَا أَنْ يَكُونَ أَنْجَعَ فِي نَفْسِ أَبِيهِ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّ لِلنُّفُوسِ مَسَالِكَ وَلِمَجَالِ أَنْظَارِهَا مَيَادِينُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: 125] ، وَقَالَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] . فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَوَاقِفِهِ مَعَ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا تنَافِي الْبُرُورَ بِهِ لِأَنَّ الْمُجَاهَرَةَ بِالْحَقِّ دُونَ سَبٍّ وَلَا اعتداء لَا يُنَافِي الْبُرُورَ. وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُخَطِّئُونَ أَسَاتِذَتَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِدُونِ تَنْقِيصٍ. وَقَدْ قَالَ أَرِسْطَالِيسُ فِي اعْتِرَاضٍ عَلَى أَفْلَاطُونَ: أَفْلَاطُونُ صَدِيقٌ وَالْحَقُّ صَدِيقٌ لَكِنَّ الْحَقَّ أَصْدَقُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 75]

عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الشَّرَائِعِ. وَقَدْ قَالَ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُف: 95] . [75] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 75] وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: 74] . فَالْمَعْنَى وَإِذْ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض إراءة لَا إراءة أَوْضَحَ مِنْهَا فِي جِنْسِهَا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْإِرَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ نُرِي إِبْراهِيمَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِرَاءِ الْعَجِيبِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ. وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى حُجَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلِانْكِشَافِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَالْإِرَاءَةُ بِمَعْنَى الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ، فَتَشْمَلُ الْمُبْصَرَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ الْمُسْتَدَلَّ بِجَمِيعِهَا عَلَى الْحَقِّ وَهِيَ إِرَاءَةُ إِلْهَامٍ وَتَوْفِيقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 185] ، فَإِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ابْتُدِئَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِالْإِلْهَامِ إِلَى الْحَقِّ كَمَا ابْتُدِئَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَةِ الصَّادِقَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرَاءَةِ الْعِلْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ فِي الْمَاضِي فَحَكَاهَا الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الْعَجِيبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] . وَالْمَلَكُوتُ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّحَمُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْوَاوَ وَالتَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- لِأَنَّ مَصْدَرَ مَلَكَ الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَلَمَّا كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ كَانَ مَعْنَاهُ الْمِلْكَ الْقَوِيَّ الشَّدِيدَ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ.

وَفِي «اللِّسَانِ» : مُلْكُ اللَّهِ وَمَلَكُوتُهُ سُلْطَانُهُ وَلِفُلَانٍ مَلَكُوتُ الْعِرَاقِ، أَيْ سُلْطَانُهُ وَمِلْكُهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْمُلْكِ- بِضَمِّ الْمِيمِ- وَفِي طَبْعَةِ «اللِّسَانِ» فِي بُولَاقَ رُقِّمَتْ عَلَى مِيمِ مُلْكِهِ ضَمَّةٌ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلَكُوتَ كَلِمَةٌ نَبَطِيَّةٌ. فَيَظْهَرُ أَنَّ صِيغَةَ (فَعَلَوْتٍ) فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا أَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الدَّخِيلَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهَا فِي النَّبَطِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَنَقَلَهَا الْعَرَبُ إِلَى لُغَتِهِمْ لِمَا فِيهَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْقُوَّةِ. وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَلَكُوتَ يُطْلَقُ مَصْدَرًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمُلْكِ، وَأَنَّ الْمُلْكَ (بِالضَّمِّ) لَمَّا كَانَ مِلْكًا (بِالْكَسْرِ) عَظِيمًا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْمَلَكُوتُ. فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مُجَازٌ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَمْلُوكُ، كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، إِمَّا مِنَ الْمِلْكِ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- أَوْ مِنَ الْمُلْكِ- بِضَمِّهَا-. وَإِضَافَةُ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) . وَالْمَعْنَى مَا يَشْمَلُهُ الْمُلْكُ أَوِ الْمِلْكُ، وَالْمُرَادُ مُلْكُ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى نَكْشِفُ لِإِبْرَاهِيمَ دَلَائِلَ مَخْلُوقَاتِنَا أَوْ عَظَمَةَ سُلْطَانِنَا كَشْفًا يُطْلِعُهُ عَلَى حَقَائِقِهَا وَمَعْرِفَةِ أَنْ لَا خَالِقَ وَلَا مُتَصَرِّفَ فِيمَا كَشَفْنَا لَهُ سِوَانَا. وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ لِأَنَّ وَكَذلِكَ أَفَادَ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ تَعْلِيمًا فَائِقًا. فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ عِلَّةٌ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِرَاءَ تَبْصِيرٍ وَفَهْمٍ لِيَعْلَمَ عِلْمًا عَلَى وَفْقٍ لِذَلِكَ التَّفْهِيمِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْكَامِلُ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ (¬1) الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [56] . وَالْمُوقِنُ هُوَ الْعَالِمُ عِلْمًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ، وَهُوَ الْإِيقَانُ. وَالْمُرَادُ الْإِيقَانُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَلِيَكُونَ مُوقِنًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي هَذِه السُّورَة [56] . [76- 79] ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (نصرف) ، وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للمصحف.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 إلى 79]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 76 إِلَى 79] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) فَلَمَّا جَنَّ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 75] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَباً فَإِنَّ الْكَوْكَبَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَقَوْلِهِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 75] . فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي اهْتَدَى بِهَا إِلَى طَرِيق عَجِيب فِيهِ إبكات لِقَوْمِهِ ملجىء إِيَّاهُمْ لِلِاعْتِرَافِ بِفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ، هِيَ فَرْعٌ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الَّتِي عَمَّتْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفَاءِ مِنَ التَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، وَلِذَلِكَ نَعُدُّ جَعْلَ الزَّمَخْشَرِيَّ فَلَمَّا جَنَّ عَطْفًا عَلَى قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الْأَنْعَام: 74] ، وَجَعْلَهُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، غَيْرَ رَشِيقٍ. وَقَوْلُهُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَيْ أَظْلَمَ اللَّيْلُ إِظْلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مَحُوطًا بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ السَّمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتٍ. وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَنَّهُ كَانَ سَائِرًا مَعَ فَرِيقٍ مِنْ قَوْمِهِ يُشَاهِدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُصَوِّرُونَ لَهَا أَصْنَامًا. وَتِلْكَ دِيَانَةُ الْكِلْدَانِيِّينَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.

يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، أَيْ أَخْفَاهُ، وَجَنَانُ اللَّيْلِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ-، وَجَنَّهُ: سَتْرُهُ الْأَشْيَاءَ الْمَرْئِيَّةَ بِظَلَامِهِ الشَّدِيدِ. يُقَالُ: جِنَّهُ اللَّيْلُ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَيُقَالُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَهَذَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي السَّتْرِ بِالظُّلْمَةِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا غِطَاءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ جَنَّ اللَّيْلُ قَاصِرًا بِمَعْنَى أَظْلَمَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَباً أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ رُؤْيَةُ الْكَوَاكِبِ عَرَضًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلتَّأَمُّلِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْأُفُقَ فِي اللَّيْلِ مَمْلُوءٌ كواكب، وأنّ الْكَوَاكِب كَانَ حِينَ رَآهُ وَاضِحًا فِي السَّمَاءِ مُشْرِقًا بِنُورِهِ، وَذَلِكَ أَنْوَرُ مَا يَكُونُ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى كَوْكَبًا مِنْ بَيْنِهَا شَدِيدَ الضَّوْءِ. فَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ الْكَوْكَبَ هُوَ الزُّهَرَةُ. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ الْمُشْتَرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ الْكَوَاكِبَ فَرَأَى كَوْكَبًا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ مِثْلُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] ، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَجُمْلَةُ رَأى كَوْكَباً جَوَاب فَلَمَّا. وَالْكَوْكَبُ: النَّجْمُ. وَجُمْلَةُ: قالَ هَذَا رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ رَأى كَوْكَباً وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ: فَمَاذَا كَانَ عِنْد مَا رَآهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ هَذَا رَبِّي جوبا لِذَلِكَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا لِقَصْدِ تَمْيِيزِ الْكَوْكَبِ مِنْ بَيْنِ الْكَوَاكِب وَلَكِن إجراؤه عَلَى نَظِيرَيْهِ فِي قَوْلِهِ حِينَ رَأَى الْقَمَرَ وَحِينَ رَأَى الشَّمْسَ هَذَا رَبِّي- هَذَا رَبِّي يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مِنْهُ هُوَ الْكِنَايَةُ بِالْإِشَارَةِ عَنْ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَمْرًا مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: 56] ، وَقَوْلِهِ: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يُوسُف: 32] وَلَمْ يُقَلْ فَهُوَ الَّذِي لُمْتُنَّنِي. وَلَعَلَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يُوسُف: 65] إِذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى «بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا» . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ» (يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ عَلِيًّا وَشَأْنُهُ هُوَ الْجَارِي فِي خَوَاطِرِ النَّاسِ أَيَّامَ صِفِّينَ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: 89] يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَفِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ: «فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ

بِهَذَا الرَّجُلِ» (يَعْنِي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وَهَذَا مِنَ الْأَغْرَاضِ الدَّاعِيَةِ لِلتَّعْرِيفِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّتِي أَهْمَلَهَا عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ فَيَصِحُّ هُنَا أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ. وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَذَا رَبٌّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَ قَوْمِهِ فَابْتَدَأَ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يَرَى تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لِيَصِلَ بهم إِلَى التوحد وَاسْتَبْقَى وَاحِدًا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ فَفَرَضَ اسْتِحْقَاقَهُ الْإِلَهِيَّةَ كَيْلَا يَنْفِرُوا مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى اسْتِدْلَالِهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ قالَ إِنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَتُهُ الْكَلَامُ، وَإِنَّمَا يُسَاقُ الْكَلَامُ إِلَى مُخَاطَبٍ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْقَوْلِ هِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ لَفْظِهَا وَمِنْ تَرْتِيبِ نَظْمِهَا إِذْ رَتَّبَ قَوْلَهُ فَلَمَّا جَنَّ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 75] وَقَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: 75] وَرَتَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: 74] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا رَبِّي وَإِنَّمَا يَقُولُهُ لِمُخَاطَبٍ، وَلِقَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، وَلِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِبْطَالِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِمَّا يُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ بُطْلَانُ إِلَهِيَّةِ أَجْرَامٍ أُخْرَى لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُدَّعَى قَوْمِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَادَلَةِ لِقَوْمِهِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَهُمْ لِيَصِلُوا إِلَى تَلَقِّي الْحُجَّةِ وَلَا يَنْفِرُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا مِنْ قَوْمِهِ وَأَرَادَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي أَيْ خَالِقِي وَمُدَبِّرِي فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ عِبَادَتِي. قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ جَرْيًا عَلَى مُعْتَقَدِ قَوْمِهِ لِيَصِلَ بِهِمْ إِلَى نَقْضِ اعْتِقَادِهِمْ فَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ لِيَهَشُّوا إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِبْطَالِ إِظْهَارًا لِلْإِنْصَافِ وَطَلَبِ الْحَقِّ. وَلَا يَرِيبُكَ فِي هَذَا أَنَّ صُدُورَ مَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ عَلَى لِسَانِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ ذَلِكَ طَرِيقٌ إِلَى إِرْشَادِ قَوْمِهِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَاجْتَهَدَ فَرَآهُ أَرْجَى لِلْقَبُولِ عِنْدَهُمْ سَاغَ لَهُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِقَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَا يَزِيدُ قَوْلُهُ هَذَا قَوْمَهُ كُفْرًا، كَالَّذِي يُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ

كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ لِحِفْظِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْقَاذِهَا مِنَ الْهَلَاكِ كَانَ جَوَازُهُ لِإِنْقَاذِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْلَى. وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ. وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَأَنَّهُمْ عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الدِّينُ شَائِعًا فِي بُلْدَانِ الْكِلْدَانِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا أَرَادُوا بِهَا أَنَّهَا صُوَرٌ لِلْكَوَاكِبِ وَتَمَاثِيلُ لَهَا عَلَى حَسَبِ تَخَيُّلَاتِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ مِثْلَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْيُونَانُ الْقُدَمَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ وَعَبَدُوا صُوَرًا أُخْرَى عَلَى أَنَّهَا دُونَ الْكَوَاكِبِ كَمَا كَانَ الْيُونَانُ يُقَسِّمُونَ الْمَعْبُودَاتِ إِلَى آلِهَةٍ وَأَنْصَافِ آلِهَةٍ. عَلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ أنّ للكواكب رُوحَانِيَّاتٌ تَخْدِمُهَا. وَأَفَلَ النَّجْمُ أُفُولًا: غَابَ، وَالْأُفُولُ خَاصٌّ بِغِيَابِ النَّيِّرَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ وَأَفَلَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ الْمَغِيبُ الَّذِي يَكُونُ بِغُرُوبِ الْكَوْكَبِ وَرَاءَ الْأُفُقِ بِسَبَبِ الدَّوْرَةِ الْيَوْمِيَّةِ لِلْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ: أَفَلَتِ الشَّمْسُ أَوْ أَفَلَ النَّجْمُ إِذَا احْتَجَبَ بِسَحَابٍ. وَقَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْحُبُّ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، أَيْ لَا أَرْضَى بِالْآفِلِ إِلَهًا، أَوْ لَا أُرِيدُ الْآفِلَ إِلَهًا. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَحَبَّةِ هُوَ إِرَادَتُهُ إِلَهًا لَهُ بِقَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي. وَإِطْلَاقُ الْمُحِبَّةِ عَلَى الْإِرَادَةِ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: 108] . وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِحَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَا أُحِبُّ عِبَادَةَ الْآفِلِينَ. وَجَاءَ بِ الْآفِلِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الذُّكُورِ الْعُقَلَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ قَوْمِهِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ فِي الْأَكْوَانِ، وَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ مَعْبُودًا إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ. وَوجه الِاسْتِدْلَال بالأقوال عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ الْأُفُولَ مَغِيبٌ وَابْتِعَادٌ عَنِ النَّاسِ، وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْمُرَاقَبَةِ لِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْمُ كَانَ فِي حَالَةِ أُفُولِهِ مَحْجُوبًا عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ بَنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ عِنْدَ الْقَوْمِ مِنْ كَوْنِ أُفُولِ النَّجْمِ مَغِيبًا عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، يَعْنِي أَنَّ مَا يَغِيبُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّخَذَ إِلَهًا

لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ عِبَادِهِ فِيمَا يَحْتَاجُونَهُ حِينَ مَغِيبِهِ. وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى التَّغَيُّرِ لِأَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّغَيُّرِ وَانْتِفَاءِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْأُفُولَ لَيْسَ بِتَغَيُّرٍ فِي ذَاتِ الْكَوْكَبِ بَلْ هُوَ عَرَضٌ لِلْأَبْصَارِ الْمُشَاهِدَةِ لَهُ، أَمَّا الْكَوْكَبُ فَهُوَ بَاقٍ فِي فَلَكِهِ وَنِظَامِهِ يَغِيبُ وَيَعُودُ إِلَى الظُّهُورِ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُقْنِعًا لَهُمْ. وَلِأَجْلِ هَذَا احْتَجَّ بِحَالَةِ الْأُفُولِ دُونَ حَالَةِ الْبُزُوغِ فَإِنَّ الْبُزُوغَ وَإِنْ كَانَ طَرَأَ بَعْدَ أُفُولٍ لَكِنَّ الْأُفُولَ السَّابِقَ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَهُمْ فَكَانَ الْأُفُولُ أَخْصَرَ فِي الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْبَازِغَ كَانَ مِنْ قَبْلُ آفِلًا. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً إِلَخ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَطَلَعَ الْقَمَرُ فَلَمَّا رَآهُ بَازِغًا، فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ لِلْإِيجَازِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَمَرَ طَلَعَ بَعْدَ أُفُولِ الْكَوْكَبِ، وَلَعَلَّهُ اخْتَارَ لِمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ الْوَقْتَ الَّذِي يُغْرِبُ فِيهِ الْكَوْكَبُ ويطلع الْقَمَر بِقُرْبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ لِيَعْقُبَهُمَا طُلُوعُ الشَّمْسِ. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْقَمَرَ لِأَنَّهُ حَذَفَ مُعَادَ الضَّمِيرِ. وَالْبَازِغُ: الشَّارِقُ فِي ابْتِدَاءِ شُرُوقِهِ، وَالْبُزُوغُ ابْتِدَاءُ الشُّرُوقِ. وَقَوْلُهُ هَذَا رَبِّي أَفَادَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ أَنَّهُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنَ الْكَوْكَبِ فَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْإِلَهِيَّةِ بِسَبَبِ النُّورِ فَالَّذِي هُوَ أَشَدُّ نُورًا أَوْلَى بِهَا مِنَ الْأَضْعَفِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ خَاصَّةً وَهُوَ كَوْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قَصَدَ بِهِ تَنْبِيهَ قَوْمِهِ لِلنَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ كِلَيْهِمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ عَرَّضَ فِي كَلَامِهِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا يَهْدِيهِ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِعِدَّةِ أَرْبَابٍ. وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِ قَوْمِهِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرَ الْكَوَاكِبِ. ثُمَّ عَرَّضَ بِقَوْمِهِ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ وَهَيَّأَهُمْ قَبْلَ الْمُصَارَحَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ يُدْخِلُ عَلَى

نُفُوسِهِمُ الشَّكَّ فِي مُعْتَقَدِهِمْ أَنْ يَكُونَ ضَلَالًا، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّعْرِيضِ لَمْ يَقُلْ: لَأَكُونَنَّ ضَالًّا، وَقَالَ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ فِي النَّاسِ قَوْمًا ضَالِّينَ، يَعْنِي قَوْمَهُ. وَإِنَّمَا تَرَيَّثَ إِلَى أُفُولِ الْقَمَرِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ على انْتِفَاء إلهيته وَلَمْ يَنْفِهَا عَنْهُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ بَازِغًا مَعَ أَنَّ أُفُولَهُ مُحَقَّقٌ بِحَسْبِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَسَاسِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ أَقْوَى. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً أَيْ فِي الصَّبَاحِ بَعْدَ أَنْ أَفَلَ الْقَمَرُ، وَذَلِكَ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي الَّتِي يَغْرُبُ فِيهَا الْقَمَرُ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ كُلَّهُ وَقَعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ لِلشَّمْسِ هَذَا رَبِّي بَاسِمِ إِشَارَةِ الْمُذَكَّرِ مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَهَا رَبًّا، فَرُوعِيَ فِي الْإِشَارَةِ مَعْنَى الْخَبَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْجِرْمُ الَّذِي تَدْعُونَهُ الشَّمْسَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ رَبِّي. وَجُمْلَةُ هَذَا رَبِّي جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ هَذَا رَبِّي الْمُقْتَضِيَةِ نَقْضَ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَحَصْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الشَّمْسِ وَنَفْيَهَا عَنِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، أَيْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْأَكْبَرَ الْأَكْثَرَ إِضَاءَةً أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِقْنَاعٌ لَهُمْ بِأَنْ لَا يُحَاوِلُوا مُوَافَقَتَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى اسْتِحْقَاقُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَعْظَمِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي عَبَدُوهَا فَقَدِ انْتَفَى عَمَّا دُونَهَا بِالْأَحْرَى. وَالْبَرِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل من برىء- بِكَسْرِ الرَّاءِ لَا غَيْرَ- يَبْرَأُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ لَا غَيْرَ- بِمَعْنَى تَفَصَّى وَتَنَزَّهَ وَنَفَى الْمُخَالَطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْرُورِ بِ (مِنْ) . وَمِنْهُ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 3] ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الْأَحْزَاب: 69] ، وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يُوسُف: 53] . فَمَعْنَى قَوْلِهِ بَرِيءٌ هُنَا أَنَّهُ لَا صِلَةَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ مَا يُشْرِكُونَ. وَالصِّلَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الْعِبَادَةُ إِنْ كَانَ مَا يُشْرِكُونَ مُرَادًا بِهِ الْأَصْنَامُ، أَوْ هِيَ التَّلَبُّسُ وَالِاتِّبَاعُ إِنْ كَانَ مَا يُشْرِكُونَ بِمَعْنَى الشِّرْكِ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مَا) فِي قَوْله مِمَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ الْعَائِدَ مَحْذُوفٌ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، أَيْ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: 80] لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي فِعْلِ الْبَرَاءَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذَّوَاتِ، وَلِئَلَّا يَتَكَرَّرَ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّةً، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ، أَيْ لَا أَتَقَلَّدُهُ. وَتَسْمِيَتُهُ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ إِشْرَاكًا لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ كَمَا كَانَ إِشْرَاكُ الْعَرَبِ وَهُوَ ظَاهِرُ آيِ الْقُرْآنِ حَيْثُ وَرَدَ فِيهَا الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِضَرْبِ الْمَثَلِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ، وَلِقَوْلِهِ الْآتِي الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: 82] . وَجُمْلَةُ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْإِشْرَاكِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَوْجِيهِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ. وَالْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجْهِيَ. ووَجَّهْتُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِهَةِ وَالْوِجْهَةِ، أَيْ صَرَفْتُهُ إِلَى جِهَةٍ، أَيْ جَعَلْتُ كَذَا جِهَةً لَهُ يَقْصِدُهَا. يُقَالُ: وَجَّهَهُ فَتَوَجَّهَ إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ لِلْمَكَانِ الْمَقْصُودِ وِجْهَةٌ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-، وَكَأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى زِنَةِ الْهَيْئَةِ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى مَكَانٍ يَقْصِدُهُ مِنْ نَحْوِ وَجْهِهِ، وَفَعَلُوهُ عَلَى زِنَةِ الْفِعْلَةِ- بِكَسْرِ الْفَاءِ- لِأَنَّ قَاصِدَ الْمَكَانِ بِوَجْهِهِ تَحْصُلُ هَيْئَةٌ فِي وَجْهِهِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْعَزْمِ وَتَحْدِيقِ النَّظَرِ. فَمَعْنَى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ صَرَفْتُهُ وَأَدَرْتُهُ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ: شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِ عَنِ الْأَصْنَامِ وَقَصْدِهِ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ بِمَنِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ شَيْئًا وَقَصَدَهُ وَانْصَرَفَ عَنْ غَيْرِهِ. وَأُتِيَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ليومىء إِلَى عِلَّةِ تَوَجُّهِهِ إِلَى عِبَادَتِهِ، لِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مِنْ مَوْجُودَاتِ السَّمَاءِ، وَالْأَصْنَامَ مِنْ مَوْجُودَاتِ الْأَرْضِ فَهِيَ مَفْطُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَفِعْلُ (وَجَّهَ) يَتَعَدَّى إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِإِلَى، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ أَنَّهُ انْصَرَفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَحْسُنُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَقْصُودُ مُرَاعًى إِرْضَاؤُهُ

وَطَاعَتُهُ كَمَا تَقُولُ: تَوَجَّهْتُ لِلْحَبِيبِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ تَعَدِّيهِ هُنَا بِاللَّامِ، لِأَنَّ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ إِرْضَاءً وَطَاعَةً. وَفَطَرَ: خَلَقَ، وَأَصْلُ الْفَطْرِ الشَّقُّ. يُقَالُ فُطِرَ فُطُورًا إِذَا شُقَّ قَالَ تَعَالَى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْملك: 3] أَيِ اخْتِلَالٍ، شَبَّهَ الْخَلْقَ بِصِنَاعَةِ الْجِلْدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الصَّانِعَ يَشُقُّ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَصْنَعَهُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: الْفَتْقُ وَالْفَلْقُ، فَأُطْلِقَ الْفَطْرُ عَلَى إِيجَادِ الشَّيْءِ وَإِبْدَاعِهِ عَلَى هَيْئَةٍ تُؤَهِّلُ لِلْفِعْلِ. وحَنِيفاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي وَجَّهْتُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [135] . وَجُمْلَةُ: وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ، نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُشْرِكِينَ وَفِي عِدَادِهِمْ. فَلَمَّا تَبَرَّأَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ تَبَرَأَ مِنَ الْقَوْمِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا أَيْضًا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ [4] إِذْ قَالَ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَفَادَتْ جُمْلَةُ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَإِنَّمَا عُطِفَتْ لِأَنَّهَا قصد مِنْهَا التبرّي مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا قَدْ جَرَيْنَا فِيهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رَأَى النَّيِّرَاتِ هَذَا رَبِّي هُوَ مُنَاظَرَةٌ لِقَوْمِهِ وَاسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ كَانَ مُوقِنًا بِنَفْيِ إِلَهِيَّتِهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ النُّبُوءَةِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِبُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ وَبِالْحُجَجِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى قَوْمِهِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَهُ ذَلِكَ كَانَ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فِي ضَلَالٍ لِأَنَّهُ طَلَبُ هِدَايَةٍ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ أَيْ لِأَجْلِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُهُ لِتَنْبِيهِ قَوْمِهِ إِلَى أَنَّ لَهُمْ رَبًّا بِيَدِهِ الْهِدَايَةُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْرِيضِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَيْضًا مُرَادًا بِهِ الدَّوَامُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرَادَ الْهِدَايَةَ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ حَتَّى لَا يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 80]

فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ اسْتِدْلَالًا فِي نَفْسِهِ قَبْلَ الْجَزْمِ بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 75] مَعْنَاهُ نُرِيهِ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ نُوحِيَ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَأى كَوْكَباً بِمَعْنَى نَظَرَ فِي السَّمَاءِ فَرَأَى هَذَا الْكَوْكَبَ وَلَمْ يَكُنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ هَذَا رَبِّي قَوْلًا فِي نَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ الْمُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي كَلْبِ صَيْدٍ: قَالَتْ لَهُ النَّفْسُ إِنِّي لَا أَرَى طَمَعًا ... وَأَنَّ مَوْلَاكَ لَمْ يَسْلَمْ وَلَمْ يَصِدِ وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ فِي ثَوْرٍ وَحْشِيٍّ: ثُمَّ انْثَنَى وَقَالَ فِي التَّفْكِيرِ ... إِنَّ الْحَيَاةَ الْيَوْمَ فِي الْكُرُورِ وَقَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي وَقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، وَقَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقَائِقِهِ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ. وَقَوْلُهُ: قالَ يَا قَوْمِ هُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابِهِ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ لَهُ فَأَعْلَنَ بِمُخَالَفَتِهِ قومه حِينَئِذٍ. [80] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 80] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) لَمَّا أَعْلَنَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْتَقَدَهُ لِقَوْمِهِ أَخَذُوا فِي مُحَاجَّتِهِ، فَجُمْلَةُ وَحاجَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: 79] . وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً بِالْإِخْبَارِ بِمَضْمُونِهَا مَعَ أَنَّ تَفَرُّعَ مَضْمُونِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مَعْلُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.

وَالْمُحَاجَّةُ مُفَاعَلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُؤَيِّدُ لِلدَّعْوَى. وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْمُفَاعَلَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بِمَعْنَى اسْتَدَلَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِعْلُ حَجَّ إِذَا غَلَبَ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ احْتِجَاجًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُحَاوِلَ الْغَلَبِ فِي الْحُجَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ خَصْمِهِ مَا يَرُدُّ احْتِجَاجَهُ فَتَحْصُلُ الْمُحَاوَلَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ أُطْلِقَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ مُحَاجَّةٌ، أَوِ الْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا هُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حُصُولَ مُحَاجَّةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ تَفْسِيرِهِ: أَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَجْعُولَ فِيهَا فَاعِلًا هُوَ الْبَادِئُ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ حَيْثُ قَالَ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَة: 258] . فَبَدَأَ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ وَأَجَابَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَدَأَ بِالْمُقَاوَلَةِ وَنُمْرُوذَ بَدَأَ الْمُحَاجَّةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ هَذَا الْقَيْدَ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ سَلَكُوا مَعَهُ طَرِيقَ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَجَعَلَ سَمَاعَهُ كَلَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ مِنْهُ فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ كَلِمَةَ الْمُحَاجَّةِ. وَأَبْهَمَ احْتِجَاجَهُمْ هُنَا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِثَبَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَقِّ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ حاجَّهُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ حُجَجُهُمْ فِي مَوَاضِع فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [52- 56] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [72، 73] قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ الْآيَاتِ، وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [85- 98] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَكُلُّهَا مُحَاجَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُحَاجَّةِ مَا لَيْسَ

بِحُجَّةٍ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَرَوْنَهُ حُجَجًا بِأَنْ خَوَّفُوهُ غَضَبَ آلِهَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ. وَجُمْلَةُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ جَوَابُ مُحَاجَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاجَّةُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُفَاعَلَةِ فَقَوْلُهُ أَتُحاجُّونِّي غَلْقٌ لِبَابِ الْمُجَادَلَةِ وَخَتْمٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاجَّةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي الِاحْتِجَاجِ فَقَوْلُهُ: أَتُحاجُّونِّي جَوَابٌ لِمُحَاجَّتِهِمْ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَأْيِيسٌ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى معتقدهم. وفِي للظرفية الْمَجَازِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تُحاجُّونِّي وَدُخُولُهَا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْمَقَامُ وَهُوَ صِفَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] أَيْ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ. وَجُمْلَة وَقَدْ هَدانِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَا جَدْوَى لِمُحَاجَّتِكُمْ إِيَّايَ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ، وَشَأْنُ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اتِّصَافُ صَاحِبِهَا بِهَا مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَزَّلَهُمْ فِي خِطَابِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ كِنَايَةً عَلَى ظُهُورِ دَلَائِلِ الْهِدَايَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ أَتُحَاجُّونِي- بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ- وَأَصْلُهُ أَتُحَاجُّونَنِي- بِنُونَيْنِ- فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِلتَّخْفِيفِ، وَالْمَحْذُوفَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى مُخْتَارِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: لِأَنَّ الْأُولَى نُونُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ مُوَطِّئَةٌ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ حَذْفُهَا تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا: لَيْتِي فِي لَيْتَنِي. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَحْذُوفَةَ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّ الثَّانِيَةَ جُلِبَتْ لِتَحْمِلَ الْكَسْرَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِلْيَاءِ وَنُونُ الرَّفْعِ لَا تَكُونُ مَكْسُورَةً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَذْفُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ.

وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنٌ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي زَعْمِهِ، أَوْ أَخْطَأَ مَنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- لِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ تُمَدُّ الْوَاوُ لِتَكُونَ الْمَدَّةُ فَاصِلَةً بَيْنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّ الْمَدَّةَ خِفَّةٌ وَهَذَا الِالْتِقَاءُ هُوَ الَّذِي يَدْعُونَهُ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ عَلَى حِدَةٍ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ لِلتَّخْفِيفِ وَصْلًا وَوَقْفًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ قَالُونَ، وَفِي الْوَقْفِ فَقَطْ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الْعَشَرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: 186] . وَقَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى أَتُحاجُّونِّي فَتَكُونُ إِخْبَارًا، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ هَدانِ فَتَكُونُ تَأْكِيدًا لِلْإِنْكَارِ. وَتَأْكِيدُ الْإِنْكَارِ بِهَا أَظْهَرُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ لِأَنَّ عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ قَدْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُهُ عَلَيْهِ. فَقَوْمُهُ إِمَّا عَالِمُونَ بِهِ أَوْ مُنْزَلُونَ مَنْزِلَةَ الْعَالِمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ هَدانِ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ حَاجُّوهُ فِي التَّوْحِيدِ وَخَوَّفُوهُ بَطْشَ آلِهَتِهِمْ وَمَسَّهُمْ إِيَّاهُ بِسُوءٍ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ إِنْكَارِ مُحَاجَّتِهِمْ إِيَّاهُ وَبَيْنَ نَفْيِ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلَا بَيْنَ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُ وَبَيْنَ نَفْيِ خَوْفِهِ آلِهَتَهُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ مَكْرَ آلِهَتِهِمْ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] . وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مَوْصُولَةٌ مَا صَدَّقَهَا آلِهَتُهُمُ الَّتِي جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُشْرِكُونَ، وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةُ فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيِ الْأَصْنَامُ الَّتِي بِسَبَبِهَا أَشْرَكْتُمْ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ يَخَافُ إِضْرَارَ آلِهَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ السَّامِعُونَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَيْئًا

اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، أَيْ لَكِنْ أَخَافُ مَشِيئَةَ رَبِّي شَيْئًا مِمَّا أَخَافُهُ، فَذَلِكَ أَخَافُهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ لِقَوْمِهِ إِذْ كَانَ لَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ فِي حِينِ أَنَّهُ يَخْشَى رَبَّهُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْخَشْيَةِ إِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يَعْتَرِفُونَ بِرَبٍّ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مُفْرَغًا عَنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَوْقَاتٍ، أَيْ لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أَبَدًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ بِأَنْ يُسَلِّطَ رَبِّي بَعْضَهَا عَلَيَّ فَذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّي بِوَاسِطَتِهَا لَا مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَيَّ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحْوَالًا عَامَّةً، أَيْ إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْهَا. وَجُمْلَةُ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ: كَيْفَ يَشَاءُ رَبُّكَ شَيْئًا تَخَافُهُ وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ قَائِمٌ بِمَرْضَاتِهِ وَمُؤَيِّدٌ لِدِينِهِ فَمَا هَذَا إِلَّا شَكٌّ فِي أَمْرِكَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ إِنَّمَا لَمْ آمَنْ إِرَادَةَ اللَّهِ بِي ضُرًّا وَإِنْ كَنْتُ عَبْدَهُ وَنَاصِرَ دِينِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحِكْمَةِ إِلْحَاقِ الضُّرِّ. أَوِ النَّفْعِ بِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَهَذَا مَقَامُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَاف: 99] . وَجُمْلَةُ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ. وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فَاءِ الْعَطْفِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِعَدَمِ تَذَكُّرِهِمْ مَعَ وُضُوحِ دَلَائِلِ التَّذَكُّرِ. وَالْمُرَادُ التَّذَكُّرُ فِي صِفَاتِ آلِهَتِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي صِفَاتِ الْإِلَهِ الْحَقِّ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا مصنوعاته.

[سورة الأنعام (6) : آية 81]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 81] وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَكَيْفَ أَخافُ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: 80] لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَقَلُّ عَجَبًا مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَلِذَلِكَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِرَبِّهِمُ الْمُعْتَرِفِ بِهِ دُونَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِذَلِكَ. وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَخَافَ بَأْسَ الْآلِهَةِ فَأَنْكَرَ هُوَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَلَبَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا اللَّهَ حِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ بِدُونِ دَلِيلٍ نَصَبَهُ لَهُمْ فَجَمَعَتْ (كَيْفَ) الْإِنْكَارَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. قَالُوا وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ فَيَدْخُلُ كِلْتَاهُمَا فِي حُكْمِ الْإِنْكَارِ، فَخَوْفُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ مُنْكَرٌ، وَعَدَمُ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ مُنْكَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ فَيَكُونَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ دَعْوَتُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى الْخَوْفِ مِنْ آلِهَتِهِمْ فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْخَوْفِ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ سُلْطَانًا وَأَشَدُّ بَطْشًا، فَتُفِيدُ (كَيْفَ) مَعَ الْإِنْكَارِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 44] . وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ تَخْوِيفَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَلَى هَذَا إِنْكَارُ تَحْمِيقٍ وَمُقَابَلَةِ حَالٍ بِحَالٍ، لَا بَيَانُ مَا هُوَ مُنْكَرٌ وَمَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَبْلَغُ. وَمَا أَشْرَكْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَشْرَكْتُمْ بِهِ. حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام:] عَلَيْهِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ (بِهِ) ، لِ مَا أَشْرَكْتُمْ.

[سورة الأنعام (6) : آية 82]

وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ حُذِفَتْ (مِنْ) الْمُتَعَلِّقَةُ بِ تَخافُونَ لِاطِّرَادِ حَذْفِ الْجَارِّ مَعَ (أَنْ) ، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا الْإِشْرَاكَ بِهِ. وَمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مَوْصُولٌ مَعَ صِلَتِهِ مَفْعُولُ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ. وَمَعْنَى لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِعِبَادَتِهَا خَبَرًا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ التَّنْزِيلَ تَشْبِيهًا لِعِظَمِ قَدْرِهِ بِالرِّفْعَةِ، وَلِبُلُوغِهِ إِلَى مَنْ هُمْ دُونَ الْمُخْبَرِ، بِنُزُولِ الشَّيْءِ الْعَالِي إِلَى أَسْفَلِ مِنْهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ لِأَنَّهَا تَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْمُخَاصِمِ، أَيْ لَمْ يَأْتِكُمْ خَبَرٌ مِنْهُ تَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبُ فَرْعٌ عَلَيْهِمَا اسْتِفْهَامًا مُلْجِئًا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ آلِهَتِهِمْ. والاستفهام ب فَأَيُّ لِلتَّقْرِيرِ بِأَنَّ فَرِيقَهُ هُوَ وَحْدَهُ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ. وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَمَيِّزَةُ عَنْ غَيْرِهَا بِشَيْءٍ يَجْمَعُهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، مُشْتَقٌّ مِنْ فَرَّقَ إِذَا مَيَّزَ. وَالْفِرْقَةُ أَقَلُّ مِنَ الْفَرِيقِ، وَأَرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ هُنَا قَوْمَهُ وَنَفْسَهُ، فَأَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْفَرِيقَ تَغْلِيبًا، أَوْ أَرَادَ نَفْسَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ إِنْ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ سَاعَتَئِذٍ، قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ، أَوْ أَرَادَ مَنْ سَيُوجَدُ مِنْ أَتْبَاعِ مِلَّتِهِ، كَمَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: 82] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْنُ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجَوَابُ شَرْطِهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ، تَقْدِيرُهُ: فَأَجِيبُونِي، وَفِيهِ اسْتِحْثَاثٌ على الْجَواب. [82] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 82] الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ فَيَكُونُ

جَوَابًا مِنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [الْأَنْعَام: 81] . تَوَلَّى جَوَابَ اسْتِفْهَامِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ جَوَابَهُمْ لِكَوْنِ الْجَوَابِ مِمَّا لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا يَسْأَلُ الْعَالِمُ وَيُجِيبُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، أَيْ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ قُلْتَ قُلْتُ» . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدِ انْتَهَى قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 81] بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِابْتِدَاءِ حُكْمٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَصْدِيقًا لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِكَلَامٍ صَدَرَ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [الْأَنْعَام: 81] . وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ قَوْمِهِ لَمَا اسْتَمَرَّ بِهِمُ الضَّلَالُ وَالْمُكَابَرَةُ إِلَى حَدِّ أَنْ أَلْقَوْا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ آمَنُوا لِظُهُورِهِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ. وَحَقِيقَةُ يَلْبِسُوا يَخْلِطُوا، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعَمَلِ بِشَيْئَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. شُبِّهَ بِخَلْطِ الْأَجْسَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: 42] . وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ حَقٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِشْرَاكُ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِ الْإِلَهِيَّةِ وَفِي الْعِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الِاعْتِدَاءِ، إِذْ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الْمُطْلَقِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا وَقَوْلًا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ. فَفِي الْحَدِيثِ «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» . وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالشِّرْكِ. فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «لَمَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» [لُقْمَان: 13] اهـ. وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَ جَمَعَ بَيْنَ

الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالِاعْتِرَافِ لِغَيْرِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِرَافُ لِغَيْرِهِ ظُلْمًا كَانَ إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ مَخْلُوطًا بِظُلْمٍ وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِغَيْرِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُلَائِمُ لِاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْخَلْطِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَإِشْرَاكَ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كِلَاهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ الرُّبُوبِيَّةِ فَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ، وَذَلِكَ أَظْهَرُ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْأَجْسَامِ الْمُتَمَاثِلَةِ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَاطُهَا أَشَدَّ فَإِنَّ التَّشَابُهَ أَقْوَى أَحْوَالِ التَّشْبِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ. وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الظُّلْمَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَعَاصِيَ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: 36] تَأْوِيلًا لِلْآيَةِ عَلَى أُصُولِ الِاعْتِزَالِ لِأَنَّ الْعَاصِيَ غَيْرُ آمِنٍ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ فَهُوَ مُسَاوٍ لِلْكَافِرِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مَحْكِيًّا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ مِنْهُ بِالْمَعْصِيَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ حِينَئِذٍ دَاعِيًا إِلَّا لِلتَّوْحِيدِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَعْدُ شَرِيعَةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْكِيٍّ مِنْ كَلَامِهِ فَلَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرُهُ فِيهِ بِالْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْيِيدُ قَوْلِهِ وَتَبْيِينُهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ لِلتَّأْوِيلِ عَلَى أُصُولِهِمْ نَظَرًا لِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِالْمُسْنَدِ مِنْ أَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَقَوْلُهُ لَهُمُ الْأَمْنُ أَشَارَتِ اللَّامُ إِلَى أَنَّ الْأَمْنَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَثَابِتٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: آمِنُونَ. وَالْمُرَادُ الْأَمْنُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَنَحْوِهِ وَمَا عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْجَاحِدَةُ، وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا مِنْهُمْ حِينَئِذٍ إِلَّا التَّوْحِيدُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْنُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْأَمْنُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً فَالثَّانِيَةُ عَيْنُ الْأُولَى إِذْ لَا يُحْتَمَلُ هُنَا غَيْرُ ذَلِكَ.

[سورة الأنعام (6) : آية 83]

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمُ الْأَمْنُ عَطْفُ جُزْءِ جُمْلَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ، فَيَكُونُ مُهْتَدُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَالضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيِ الِاهْتِدَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا بِمُهْتَدِينَ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 55] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: 104] . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ لَمَّا نَبَذُوا الشِّرْكَ فَقَدِ اهْتَدَوْا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ جُمْلَةً، بِأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ مُبْتَدَأً ومُهْتَدُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ، فَيَكُونُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ومهتدون فَصِيَغُ الْمَعْطُوفِ فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ فَالضَّمِيرُ لَا يُفِيدُ اخْتِصَاصًا إِذْ لَمْ يُؤْتَ بِهِ لِلْفَصْلِ، وَهَذَا النَّظْمُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: 1] وَقَوْلِهِ: تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْحَدِيد: 2] عَلَى اعْتِبَارِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَطْفًا عَلَى لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا حَالٌ، وَهَذَا مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ كَمَا عُرِفَ فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ مِنْ بَدَائِعِ نَظْمِ الْكَلَام الْعَرَبِيّ. [83] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 83] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: 80] . وتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَأُتِيَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حُجَّةٌ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِحُجَّةٍ فَلَمَّا لم يكن ثمّة مُشَارٌ إِلَيْهِ مَحْسُوسٌ تَعَيَّنَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَة: 253] .

وَإِضَافَةُ الْحُجَّةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا وَصِحَّتِهَا. وآتَيْناها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ مِنَ الْخَبَرِ. وَحَقِيقَةُ الْإِيتَاءِ الْإِعْطَاءُ، فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ، وَيَكُونُ بِمُنَاوَلَةِ الْيَدِ إِلَى الْيَدِ. قَالَ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: 177] ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْمُعْطَاةُ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا شَائِعًا فِي تَعْلِيمِ الْعُلُومِ وَإِفَادَةِ الْآدَابِ الصَّالِحَةِ وَتَخْوِيلِهَا وَتَعْيِينِهَا لِأَحَدٍ دُونَ مُنَاوَلَةِ يَدٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمُورُ الْمَمْنُوحَةُ ذَوَاتًا أَمْ مَعَانِيَ. يُقَالُ: آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَيُقَالُ: آتَاهُ الْخَلِيفَةُ إِمَارَةً وآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [الْبَقَرَة: 258] ، وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ [ص: 20] . فَإِيتَاءُ الْحُجَّةِ إِلْهَامُهُ إِيَّاهَا وَإِلْقَاءُ مَا يُعَبِّرُ عَنْهَا فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِذْ نَصَرَهُ عَلَى مُنَاظِرِيهِ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْغَالِبِ بِالْمُسْتَعْلِي الْمُتَمَكِّنِ مِنَ الْمَغْلُوبِ، وَهِي متعلّقة ب حُجَّتُنا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ. يُقَالُ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكَ وَشَاهِدٌ عَلَيْكَ، أَيْ تِلْكَ حُجَّتُنَا عَلَى قَوْمِهِ أَقْحَمْنَاهُمْ بِهَا بِوَاسِطَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ آتَيْناها لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الْإِيتَاءُ مِنْ مَعْنَى النَّصْرِ. وَجُمْلَةُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي آتَيْناها أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيتَاءِ تَفْضِيلٌ لِلْمُؤْتَى وَتَكْرِمَةً لَهُ. وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ تَمْثِيلٌ لِتَفْضِيلِ الشَّأْنِ، شُبِّهَتْ حَالَةُ الْمُفَضَّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِحَالِ الْمُرْتَقِي فِي سُلَّمٍ إِذَا ارْتَفَعَ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ، وَفِي جَمِيعِهَا رَفْعٌ، وَكُلُّ أَجْزَاءِ هَذَا التَّمْثِيلِ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ، فَالتَّفْضِيلُ يُشْبِهُ الرَّفْعَ، وَالْفَضَائِلُ الْمُتَفَاوِتَةُ تُشْبِهُ الدَّرَجَاتِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ عِزَّةُ حُصُولِ ذَلِكَ لِغَالِبِ النَّاسِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، بِإِضَافَةِ دَرَجاتٍ إِلَى مَنْ. فَإِضَافَةُ الدَّرَجَاتِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ مُلَابَسَةِ الْمُرْتَقِي فِي الدَّرَجَةِ لَهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُرْتَقِيًا عَلَيْهَا،

[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 إلى 87]

وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي دَرَجاتٍ بِاعْتِبَارِ صَلَاحِيَةِ مَنْ نَشاءُ لِأَفْرَادٍ كَثِيرِينَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّفْعَةِ، وَدَلَّ فِعْلُ الْمَشِيئَةِ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ مُوجِبَاتِ التَّفْضِيلِ، أَوِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُفَضَّلَ الْوَاحِدَ يَتَفَاوَتُ حَالُهُ فِي تَزَايُدِ مُوجِبَاتِ فَضْلِهِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِتَنْوِينِ دَرَجاتٍ-، فَيَكُونُ تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ الرَّفْعِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الرَّفْعِ مَجَازًا فِي التَّفْضِيلِ. وَالدَّرَجَاتِ مَجَازًا فِي الْفَضَائِلِ الْمُتَفَاوِتَةِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ مَنْ نَشاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْرِيمَ لَا يَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا لِكُلِّ النَّاسِ لَمْ يَحْصُلِ الرَّفْعُ وَلَا التَّفْضِيلُ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يُثِيرُ سؤالا، يَقُول: لماذَا يُرْفَعُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، فَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ وَمِقْدَارَ اسْتِحْقَاقِهِ وَيَخْلُقُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ. فَحَكِيمٌ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، أَيْ مُتْقِنٍ لِلْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ. وَقُدِّمَ حَكِيمٌ عَلَى عَلِيمٌ لِأَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ مُظْهِرٌ لِلْحِكْمَةِ ثُمَّ عُقِّبَ بِ عَلِيمٌ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِحْكَامَ جَارٍ عَلَى وفْق الْعلم. [84- 87] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 84 إِلَى 87] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

(87) جُمْلَةُ وَوَهَبْنا عَطْفٌ عَلَى جملَة آتَيْناها [الْأَنْعَام: 83] لِأَنَّ مَضْمُونَهَا تَكْرِمَةٌ وَتَفْضِيلٌ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً هُوَ مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِلْجُمَلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا إِبْطَالُ الشِّرْكِ وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَى فَسَادِهِ وَعَلَى أَنَّ الصَّالِحِينَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ. وَالْوَهْبُ وَالْهِبَةُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ بِلَا عِوَضٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّفَضُّلِ وَالتَّيْسِيرِ. وَمَعْنَى هِبَةِ يَعْقُوبَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ وُلِدَ لِابْنِهِ إِسْحَاقَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَبِرَ وَتَزَوَّجَ فِي حَيَاتِهِ فَكَانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لِإِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ مَضَتْ تَرْجَمَةُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 124] . وَتَرْجَمَةُ إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَة: 132] وَقَوْلِهِ: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَة: 133] كُلُّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: كُلًّا هَدَيْنا اعْتِرَاضٌ، أَيْ كُلُّ هَؤُلَاءِ هَدَيْنَاهُمْ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِظُهُورِهِ وَعَوَّضَ عَنْهُ التّنوين فِي «كلّ» تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَدْيِهِمَا التَّنْوِيهُ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَأَنَّهُمَا نَبِيئَانِ نَالَا هُدَى اللَّهِ كَهَدْيِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِيهِ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ، وَدَمْغٌ، لِقُرَيْشٍ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَتَسْفِيهٌ لَهُمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ كَانُوا عَلَى ضِدِّ مُعْتَقَدِهِمْ كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 88] . وَجُمْلَةُ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ، أَيْ وَهَدَيْنَا نُوحًا مِنْ قَبْلِهِمْ. وَهَذَا اسْتِطْرَادٌ بِذِكْرِ بَعْضِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهُدَى، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْهُدَى هُوَ الْأَصْلُ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْهُدَى التَّوْحِيدُ كَمَا عَلِمْتَ.

وَانْتَصَبَ نُوحاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ عَلَى هَدَيْنا لِلِاهْتِمَامِ، ومِنْ قَبْلُ حَالٌ مِنْ نُوحاً. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي أُصُولِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي (قَبْلُ) وَأَخَوَاتِ غَيْرٍ مِنْ حَذْفِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَيُنْوَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [33] . وَقَوْلُهُ: مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَال من دَاوُود، وداوُدَ مَفْعُولُ (هَدَيْنَا) مَحْذُوفًا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ التَّنْوِيهُ بِهَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ بِشَرَفِ أَصْلِهِمْ وَبِأَصْلِ فَضْلِهِمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِإِبْرَاهِيمَ أَوْ بِنُوحٍ بِفَضَائِلِ ذُرِّيَّتِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى نُوحٍ لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ نُوحًا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِأَنَّ لُوطًا مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَسْبَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُوطٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِهِ. كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ اسْمِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَسْمَاءِ مَنْ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ لَا عَلَى الْعَطْفِ. وَدَاوُدُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [251] . وَنُكْمِلُهَا هُنَا بِأَنَّهُ دَاوُدُ بْنُ يِسِّي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وُلِدَ بِقَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ سَنَةَ 1085 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَتُوُفِّيَ فِي أُورَشْلِيمَ سَنَةَ 1015. وَكَانَ فِي شَبَابِهِ رَاعِيًا لِغَنَمِ أَبِيهِ. وَله معرفَة النغم وَالْعَزْفِ وَالرَّمْيِ بِالْمِقْلَاعِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى (شَمْوِيلَ) نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُبَارِكَ دَاوُدَ بْنَ يِسِّي، وَيَمْسَحَهُ بِالزَّيْتِ الْمُقَدَّسِ لِيَكُونَ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى حَسَبِ تَقَالِيدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْبَاءً بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ (شَاوُلَ) الَّذِي غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَسَحَهُ (شَمْوِيلُ) فِي قَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ

خَطَرَ لِشَاوُلَ، وَكَانَ مَرِيضًا، أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَضْرِبُ لَهُ بِالْعودِ عِنْد مَا يَعْتَادُهُ الْمَرَضُ، فَصَادَفَ أَنِ اخْتَارُوا لَهُ دَاوُدَ فَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ مَجْلِسِهِ لِيَسْمَعَ أَنْغَامَهُ. وَلَمَّا حَارَبَ جُنْدُ (شَاوُلَ) الْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَانَ النَّصْرُ لِلْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِسَبَبِ دَاوُدَ إِذْ رَمَى الْبَطَلَ الْفِلَسْطِينِيَّ (جَالُوتَ) بِمِقْلَاعِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَصَرَعَهُ وَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَلِذَلِكَ صَاهَرَهُ (شَاوُلُ) بِابْنَتِهِ (مِيكَالَ) ، ثُمَّ إِنَّ (شَاوُلَ) تَغَيَّرَ عَلَى دَاوُدَ، فَخَرَجَ دَاوُدُ إِلَى بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَجَمَعَ جَمَاعَةً تَحْتَ قِيَادَتِهِ، وَلَمَّا قُتِلَ (شَاوُلُ) سَنَةَ 1055 بَايَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ الْإِسْرَائِيلِيِّ فِي فِلَسْطِينَ دَاوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَ مَقَرَّ مُلْكِهِ (حَبْرُونَ) ، وَبَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ قُتِلَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي خَلَفَ شَاوُلَ فَبَايَعَتِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ كُلُّهُمْ دَاوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَرَجَعَ إِلَى أُورَشْلِيمَ، وَآتَاهُ اللَّهُ النُّبُوءَةَ وَأَمَرَهُ بِكِتَابَةِ الزَّبُورِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْيَهُودِ بِالْمَزَامِيرِ. وَسُلَيْمَانُ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَأَيُّوبُ نَبِيءٌ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ نُبُوءَتَهُ. وَلَهُ قِصَّةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ أَيُّوبَ، مِنْ جُمْلَةِ كُتُبِ الْيَهُودِ. وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ أَيُّوبَ مِنْ ذُرِّيَّةِ (نَاحُورَ) أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ أَنَّهُ ابْنُ حَفِيدِ عِيسُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي كِتَابِهِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ سَاكِنًا بِأَرْضِ عُوصَ (وَهِيَ أَرْضُ حُورَانَ بِالشَّامِ، وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي عُوصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُمْ أُصُولُ عَادٍ) وَكَانَتْ مُجَاوِرَةً لِحُدُودِ بِلَادِ الْكِلْدَانِ، وَقَدْ ورد ذكر الكلدان فِي كِتَابِ أَيُّوبَ وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَنْ صِنْفٍ عَرَبِيٍّ وَأَنَّهُ مَنْ عُوصَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِنِسْبَتِهِ فِي كِتَابِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِأَرْضِ عُوصَ (الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ) . وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَهُ الْمَسْطُورَ فِي كِتَابِهِ كَانَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَقَلَهُ إِلَى الْعِبْرَانِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ كَانَ شِعْرًا تَرْجَمَهُ مُوسَى فِي كِتَابِهِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شِعْرٍ عُرِفَ

بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَوَّلُ شِعْرٍ عَرَفَهُ التَّارِيخُ، ذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَكَلَامَ أَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ عَزَّوْهُ عَلَى مَصَائِبِهِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةٍ شِعْرِيَّةٍ لَا مَحَالَةَ. وَيُوسُفُ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ وَيَأْتِي تَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. ومُوسَى وَهَارُون وزكرياء تَقَدَّمَتْ تَرَاجِمُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَتَرْجَمَةُ عِيسَى تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَيَحْيَى تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَكَذَلِكَ الْوَهْبُ الَّذِي وَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ وَالْهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنَا ذُرِّيَّتَهُ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مِثْلَهُ، أَوْ وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنَا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مِثْلَ نُوحٍ، فَعُلِمَ أَنَّ نُوحًا أَوْ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، فَأَمَّا إِحْسَانُ نُوحٍ فَيَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَأَمَّا إِحْسَانُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ مِنْ دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ وَبَذْلِهِ كُلَّ الْوُسْعِ لِإِقْلَاعِهِمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْهَدْيِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: هَدَيْنا الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، أَيْ وَكَذَلِكَ الْهَدْيِ الْعَظِيمِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، أَيْ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُوا فَكَانَ جَزَاءُ إِحْسَانِهِمْ أَنْ جَعَلْنَاهُمْ أَنْبِيَاءَ. وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بَاسِمِ إِيلِيَا، وَيُسَمَّى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ بَاسِمِ إِلْيَاسَ أَوْ (مَارِ إِلْيَاسَ) وَهُوَ إِلْيَاسُ التَّشَبِيُّ (¬1) . وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ فنحَاص بن إلعازر، ابْن هَارُونَ أَخِي مُوسَى فَيَكُونُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي. كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (آخَابَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ فِي ¬

(¬1) نِسْبَة إِلَى تشبي مَدِينَة الأَرْض الَّتِي أَعْطَيْت لسبط نفتالي كَمَا فِي سفر الْعدَد.

حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَهُوَ إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ سُكَّانِ (جِلْعَادَ) - بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ- صِقْعٌ جَبَلِيٌّ فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ وَمِنْهُ بَعْلَبَكُّ. وَكَانَ إِلْيَاسُ مِنْ سِبْطِ رُوبِينَ أَوْ مِنْ سِبْطِ جَادَ. وَهَذَانِ السِّبْطَانِ هُمَا سُكَّانُ صِقْعِ جِلْعَادَ، وَيُقَالُ لِإِلْيَاسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ التَّشَبِيُّ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (آخَابَ) وَعَبَدُوا (بَعْلَ) صَنَمَ الْكَنْعَانِيِّينَ. وَقَدْ وَعَظَهُمْ إِلْيَاسُ وَلَهُ أَخْبَارٌ مَعَهُمْ. أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الْيَسَعَ خَلِيفَةً لَهُ فِي النُّبُوءَةِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ إِلْيَاسَ فِي عَاصِفَةٍ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرَ لَهُ أَثَرٌ بَعْدُ، وَخَلَفَهُ الْيَسَعُ فِي النُّبُوءَةِ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (تَهُورَامَ) بْنِ (آخَابَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ اعْتِرَاضٌ. وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَذْكُورِينَ إِسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْيَسَعُ اسْمُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِلْيَشَعُ- بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ وَلَامٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ وَعَيْنٌ- وَتَعْرِيبُهُ فِي العربيّة اليسع- بهزة وَصْلٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ- فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور. وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ «اللَّيْسَعُ» - بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ- بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ، فَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. وَهُوَ ابْنُ (شَافَاطَ) مِنْ أَهْلِ (آبُلِ مَحُولَةَ) . كَانَ فَلَّاحًا فَاصْطَفَاهُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ إِلْيَاسَ فِي مُدَّةِ (آخَابَ) وَصَحِبَ إِلْيَاسَ. وَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ لَازَمَ سِيرَةَ إِلْيَاسَ وَظَهَرَتْ لَهُ مُعْجِزَاتٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (أَرِيحَا) وَغَيْرِهَا. وَتُوُفِّيَ فِي مُدَّةِ الْمَلِكِ (يُوءَاشَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ 840 قَبْلَ الْمَسِيحِ وَدُفِنَ بِالسَّامِرَةِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْيَسَعَ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْهَمْزَةَ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ لِلتَّخْفِيفِ

فَأَشْبَهَ الِاسْمَ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ الَّتِي لِلَمْحِ الْأَصْلِ مِثْلَ الْعَبَّاسِ، وَمَا هِيَ مِنْهَا. وَأَمَّا يُونُسُ فَهُوَ ابْنُ مَتَّى، وَاسْمُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (يُونَانُ بْنُ أَمِتَّاي) ، وَهُوَ مِنْ سِبْطِ (زَبُولُونَ) . وَيَجُوزُ فِي نُونِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ. وُلِدَ فِي بَلْدَةِ (غَاثِ ايفَرَ) مِنْ فِلَسْطِينَ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ (نِينَوَى) مِنْ بِلَادِ آشُورَ. وَكَانَ أَهْلُهَا يَوْمَئِذٍ خَلِيطًا مِنَ الْآشُورِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ، وَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَأَبَوْا تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ فَتَأَخَّرَ الْعَذَابُ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا وَذَهَبَ إِلَى (يَافَا) فَركب سفينة للفنيقيّين لِتَذْهَبَ بِهِ إِلَى تَرْشِيشَ (مَدِينَةٍ غَرْبِيِّ فِلَسْطِينَ إِلَى غَرْبِيِّ صُورَ وَهِيَ عَلَى الْبَحْرِ وَلَعَلَّهَا مِنْ مَرَاسِي الْوَجْهِ الْبَحْرِيِّ مِنْ مِصْرَ أَوْ مِنْ مَرَاسِي بُرْقَةَ لِأَنَّهُ وُصِفَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يُجْلَبُ إِلَيْهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْقُرُودُ وَالطَّوَاوِيسُ مِنْ تَرْشِيشَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِتَرْشِيشَ تِجَارَةٌ مَعَ الْحَبَشَةِ أَوِ السُّودَانِ، وَمِنْهَا تُصَدَّرُ هَذِهِ الْمَحْصُولَاتُ. وَقِيلَ هِيَ طَرْطُوشَةُ مِنْ مِرَاسِي الْأَنْدَلُسِ. وَقِيلَ (قَرْطَاجَنَّةُ) مَرْسَى إِفْرِيقِيَّةَ قُرْبَ تُونُسَ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوَارِيخِنَا أَنَّ تُونُسَ كَانَ اسْمُهَا قَبْلَ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ تَرْشِيشَ. وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّ تِجَارَتَهَا مَعَ السُّودَانِ قَدْ تَكُونُ أَقْرَبَ) فَهَالَ الْبَحْرُ عَلَى السَّفِينَةِ وَثَقُلَتْ وَخِيفَ غَرَقُهَا، فَاقْتَرَعُوا فَكَانَ يُونُسُ مِمَّنْ خَابَ فِي الْقُرْعَةِ فَرُمِيَ فِي الْبَحْرِ وَالْتَقَمَهُ حُوتٌ عَظِيمٌ فَنَادَى فِي جَوْفِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 87] ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَقَذَفَهُ الْحُوتُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ ثَانِيًا إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَآمَنُوا وَكَانُوا يَزِيدُونَ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ. وَكَانَتْ مُدَّتُهُ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمِيلَادِ. وَلَمْ نَقِفْ عَلَى ضَبْطِ وَفَاتِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّ قَبْرَهُ بِقَرْيَةِ جَلْجُونَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَبَلَدِ الْخَلِيلِ، وَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ فِي رِحْلَتِهِ. وَسَتَأْتِي أَخْبَارُ يُونُسَ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَسُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُورَةِ الصَّافَّاتِ.

وَأَمَّا لُوطٌ فَهُوَ ابْنُ هَارَانَ بْنِ تَارَحَ، فَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وُلِدَ فِي (أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ) . وَمَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ تَارَحَ، فَاتَّخَذَ تَارَحُ لُوطًا فِي كَفَالَتِهِ. وَلَمَّا مَاتَ تَارَحُ كَانَ لُوطٌ مَعَ إِبْرَاهِيمَ سَاكِنَيْنِ فِي أَرْضِ حَارَانَ (حُورَانَ) بَعْدَ أَنْ خَرَجَ تَارَحُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ قَاصِدَيْنِ أَرْضَ كَنْعَانَ. وَهَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ مَعَ لُوطٍ إِلَى مِصْرَ لِقَحْطٍ أَصَابَ بِلَادَ كَنْعَانَ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى بِلَادِ كَنْعَانَ، وَافْتَرَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ بِسَبَبِ خِصَامٍ وَقَعَ بَيْنَ رُعَاتِهِمَا، فَارْتَحَلَ لُوطٌ إِلَى (سَدُومَ) ، وَهِيَ مِنْ شَرْقِ الْأُرْدُنِّ إِلَى أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حِينَ قَدَّرَ اللَّهُ خَسْفَهَا عِقَابًا لِأَهْلِهَا فَخَرَجَ إِلَى (صَوْغَرَ) مَعَ ابْنَتِهِ وَنَسْلِهِ هُنَاكَ، وَهُمُ (الْمُؤَابِيُّونَ) وَ (بَنُو عَمُونَ) . وَقَوْلُهُ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مِنْ إِسْحَاقَ إِلَى هُنَا. وَ (كُلٌّ) يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ. وَحُكْمُ الِاسْتِغْرَاقِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لَا لِلْمَجْمُوعِ. وَالْمُرَادُ تَفْضِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ عَدَا مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَاللَّامُ فِي الْعالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، فَقَدْ كَانَ لُوطٌ فِي عَصْرِ إِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَكَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا مَنْ كَانُوا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَلَا يُعْرَفُ فَضْلُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ وَكُلٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُفَضَّلُونَ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَيَّ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ كَلَامٌ فِي غَرَضٍ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَوَّلِ اهـ. وَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ مُقْتَضَى حُكْمِ الِاسْتِغْرَاقِ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. وَتَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ. وَهِيَ ثُبُوتُ نُبُوءَةِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُ أَسْمَائِهِمْ فِيهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي الْإِيمَانِ وَحَقِّ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَكَانَ يَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لَهَا لِأَنَّهَا تَتَفَرَّعُ إِلَى مَسَائِلَ تَهُمُّ طَالِبَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعْرِفَتُهَا،

وَأَحَقُّ مَظِنَّةً بِذِكْرِهَا هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا هُوَ بِمَعْنَى بَعْضِهَا. فَأَمَّا ثُبُوتُ نُبُوءَةِ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِيهَا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ أَنْ عَدَّ أَسْمَاءَهُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ. فَثُبُوتُ النُّبُوءَةِ لَهُمْ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ لأنّ اسْم إِشَارَة أُولئِكَ قَرِيبٌ مِنَ النَّصِّ فِي عَوْدِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسَمَّيْنَ قَبْلَهُ مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ وَيُكَمِّلُهُ مِنَ النَّصِّ بِنُبُوءَةِ بَعْضِهِمْ فِي آيَاتٍ تُمَاثِلُ هَذِهِ الْآيَةَ، مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ [163] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ الْآيَاتِ، وَمِثْلِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [41] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ الْآيَاتِ. وَلِلنُّبُوءَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَوْصُوفِهَا وَبِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ يَتَّصِفُ بِهَا. مِنْهَا مَعْنَى النَّبِيءِ وَالرَّسُولِ، وَمَعْنَى الْمُعْجِزَةِ الَّتِي هِيَ دَلِيلُ تَحَقُّقِ النُّبُوءَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ لِمَنْ أَتَى بِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَرْعٍ وَآدَابٍ، وَمَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا. إِنَّمَا الَّذِي يَهُمُّنَا مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ هُوَ مَا أَوْمَأَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِهَا فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: 89] . فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِمَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَةِ مَنْ جَرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِيهَا. وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا وَنَبَّأَ أَنْبِيَاءَ لِإِرْشَادِ النَّاسِ وَاجِبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَيْ إِيمَانًا بِإِرْسَالِ أَفْرَادٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، أَوْ بِنُبُوءَةِ أَفْرَادٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ دُونَ تَعْيِينِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِاسْمِهِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» «الْبَاعِثُ (صِفَةُ لِلَّهِ تَعَالَى) الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ» . فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ تَعْيِينِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ» الْمَقَاصِدِ» أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَيْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ) مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ بِوُجُوبِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ تَعَالَى.

وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِنَبِيءٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ: «ثُمَّ خَتَمَ- أَيِ اللَّهُ- الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوءَةَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ» ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» إِلَخْ. فَلَمْ يُعَيِّنْ رُسُلًا مَخْصُوصِينَ. وَقَالَ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ بِنُبُوءَةِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا. وَلَعَلَّ كثيرا لَا يقرأونها وَكَثِيرًا ممّن يقرأونها لَا يَفْهَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا حَقَّ الْفَهْمِ فَلَا يُطَالَبُونَ بِتَطَلُّبِ فَهْمِهَا وَاعْتِقَادِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي فَصْلٍ (سَابِعٍ) مِنْ فُصُولِ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنَ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ «الشِّفَاءِ» «وَهَذَا كُلُّهُ (أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِلْزَامِ الْكُفْرِ أَوِ الْجُرْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ لِمَنْ جَاءَ فِي حَقِّهِمْ بِمَا يُنَافِي مَا يَجِبُ لَهُمْ) فِيمَنْ تُكُلِّمَ فِيهِمْ (أَيِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ) بِمَا قُلْنَاهُ عَلَى جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيئِينَ (أَيْ عَلَى مَجْمُوعِهِمْ لَا عَلَى جَمِيعِهِمْ- قَالَهُ الْخَفَاجِيُّ- يُرِيدُ بِالْجَمِيعِ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ) مِمَّنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنْهُمْ ممّن نصّ الله عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَقَّقْنَا عِلْمَهُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ وَالْخَبَرِ الْمُشْتَهِرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (الْوَاوُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ بِمَعْنَى أَوْ) . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَثْبُتِ الْإِخْبَارُ بِتَعْيِينِهِ وَلَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَالْخَضِرِ، وَلُقْمَانَ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَمَرْيَمَ، وَآسِيَةَ (امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ) وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ نَبِيءُ أَهْلِ الرَّسِّ، فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ» اهـ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي أَبْيَاتٍ ثَلَاثَةٍ نَظَمَهَا الْبَعْضُ

، (ذَكَرَهَا الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْبَيْجُورِيُّ فِي مَبْحَثِ الْإِيمَانِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى «جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ» : حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ ... بِأَنْبِيَاءٍ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا فِي «تِلْكَ حُجَّتُنَا» (¬1) مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ ... مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وُهُمُ إِدْرِيسُ. هُودٌ. شُعَيْبٌ، صَالِحٌ وَكَذَا ... ذُو الْكِفْلِ، آدَمُ، بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، لِأَنَّ كَوْنَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتْمًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الِاصْطِلَاحِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَتْمِ الْأَمْرَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِهْمَالُهُ كَانَ مُتَأَكِّدًا لِقَوْلِهِ: عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ. فَلَوْ عَوَّضَهُ بِكُلِّ ذِي التَّعْلِيمِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْحَتْمِ أَنَّهُ يَتَحَتَّمُ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ عَدَمُ إِنْكَارِ كَوْنِ هَؤُلَاءِ أَنْبِيَاءَ بِالتَّعْيِينِ، وَلَكِنْ شَاءَ بَيْنَ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ وَبَيْنَ مَنْعِ إِنْكَارِهِ بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ. فَأَمَّا رِسَالَةُ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ نُبُوءَةِ ذِي الْكِفْلِ فَفِيهَا نَظَرٌ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ مِنَ الصَّابِرِينَ وَالصَّالِحِينَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَنُسِبَ إِلَى الْجُمْهُورِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَبِيءٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا آدَمُ فَإِنَّهُ نَبِيءٌ مُنْذُ كَوْنِهِ فِي الْجَنَّةِ فَقَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَالَ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: 122] فَهُوَ قَدْ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مُشَرَّفًاِِِِ ¬

(¬1) أَرَادَ الْآيَة وَتِلْكَ حُجَّتُنا وَهِي بواو الْعَطف فَلَو قَالَ: وَتلك حجتنا عدّت ثَمَانِيَة مِنْهُم وَعشرا إِلَخ.

بِصِفَةِ النُّبُوءَةِ. وَقِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آدَمَ بَلَّغَ لِأَبْنَائِهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: 27- 29] . فَالَّذِي نَعْتَمِدُهُ أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُ نُبُوءَةَ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَادِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ مَرْيَمَ، وَكَانَ الْمُنْكَرُ مُحَقَّقًا عِلْمُهُ بِالْآيَةِ الَّتِي وُصِفَ فِيهَا بِأَنَّهُ نَبِيءٌ وَوَقَفَ عَلَى دَلِيلِ صِحَّةِ مَا أَنْكَرَهُ وَرُوجِعَ فَصَمَّمَ عَلَى إِنْكَارِهِ، إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَذِرَ بِجَهْلٍ أَوْ تَأْوِيلٍ مَقْبُولٍ. وَاعْلَمْ أَنِّي تَطَلَّبْتُ كَشْفَ الْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى تَسْمِيَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، (عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مُعَادِ ضَمِيرِ ذُرِّيَّتِهِ) . فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي وَتَطَلَّبْتُ وَجْهَ تَرْتِيبِ أَسْمَائِهِمْ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَمُوَالَاةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِبَعْضٍ فِي الْعَطْفِ فَلَمْ يَبْدُ لِي، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَون هَؤُلَاءِ معروفون لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ مَعْرِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي تَرْتِيبِهِمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ أَنَّ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَوْهِبَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُمَا أَبٌ وَابْنُهُ، فَنَشَأَ الِانْتِقَالُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ بِمُنَاسَبَةٍ لِلِانْتِقَالِ، وَأَنَّ تَوْزِيعَ أَسْمَائِهِمْ عَلَى فَوَاصِلَ ثَلَاثٍ لَا يَخْلُو عَنْ مُنَاسَبَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ فِي الْفَاصِلَةِ الشَّامِلَةِ لِأَسْمَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنَّ خِفَّةَ أَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي تَعْرِيبِهَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ حُرُوفًا وَوَزْنًا لَهَا أَثَرٌ فِي إِيثَارِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوُ (شَمْعُونَ وَشَمْوِيلَ وَحِزْقيَالَ وَنَحْمِيَا) ، وَأَنَّ الْمَعْدُودِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَوَزَّعُوا الْفَضَائِلَ إِذْ مِنْهُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ وَأَهْلُ الْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ الْعَزِيزَةِ مِنَ الصَّبْرِ وَجِهَادِ النَّفْسِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُصَابَرَةِ

لِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَاتِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَعْرَاف: 89] وَمِنْ بَيْنِهِمْ أَصْلَا الْأُمَّتَيْنِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّةِ. فَلَمَّا ذَكَرَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَرْدَفَ ذِكْرَهُمَا بِذِكْرِ نَبِيئَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَهُمَا أَبٌ وَابْنُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاء هما دَاوُود وَسُلَيْمَانُ مُبْتَدَءًا بِهِمَا عَلَى بَقِيَّةِ ذَرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا نَالَا مَجْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ مَجْدَ الْآخِرَةِ بِالنُّبُوءَةِ وَمَجْدَ الدُّنْيَا بِالْمُلْكِ. ثُمَّ أَرْدَفَ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ تَمَاثَلَا فِي أَنَّ الضُّرَّ أَصَابَ كِلَيْهِمَا وَأَنَّ انْفِرَاجَ الْكَرْبِ عَنْهُمَا بِصَبْرِهِمَا. وَهُمَا أَيُّوبُ وَيُوسُفُ. ثُمَّ بِذِكْرِ رَسُولَيْنِ أَخَوَيْنِ هُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، وَقَدْ أَصَابَ مُوسَى مِثْلُ مَا أَصَابَ يُوسُفَ مِنَ الْكَيْدِ لَهُ لِقَتْلِهِ وَمِنْ نَجَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَالَتِهِ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ، فَهَؤُلَاءِ السِّتَّةُ شَمِلَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الْأُولَى الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. ثُمَّ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ أَبٍ وَابْنه وهما زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى. فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُمَا رَسُولَانِ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمَا، وَهُمَا عِيسَى وَإِلْيَاسُ، وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي أَنَّهُمَا رُفِعَا إِلَى السَّمَاءِ. فَأَمَّا عِيسَى فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ وَعَلَيْهِ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيئًا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [56، 57] . وَابْتُدِئَ بِعِيسَى عَطْفًا عَلَى يَحْيَى لِأَنَّهُمَا قَرِيبَانِ ابْنَا خَالَةٍ، وَلِأَنَّ عِيسَى رَسُولٌ وَإِلْيَاسَ نَبِيءٌ غَيْرُ رَسُولٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَعَطَفَ الْيَسَعَ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ إِلْيَاسَ وَتِلْمِيذُهُ، وَأَدْمَجَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْيَاسَ إِسْمَاعِيلَ تَنْهِيَةً بِذِكْرِ النَّبِيءِ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهِي نَسَبُ الْعَرَبُ مِنْ ذرّيّة إِبْرَاهِيم. وختوا بِيُونُسَ وَلُوطٍ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ صَغِيرَةٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آبائِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: كُلًّا. فَالتَّقْدِيرُ: وَهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَيْ وَهَدَيْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ [النِّسَاء: 46] . وَقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ آبَائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ مَهْدِيِّينَ كَثِيرِينَ، فَتَكُونُ (مِنْ) تبعيضية متعلّقة بهدينا. وَالذُّرِّيَّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وَهِيَ مَنْ تَنَاسَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ مِنْ أَبْنَاءٍ أَدْنَيْنَ وَأَبْنَائِهِمْ فَيَشْمَلُ أَوْلَادَ الْبَنِينَ وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ إِرَادَةُ أَنَّ الْهُدَى تَعَلَّقَ بِذُرِّيَّةِ كُلِّ مِنْ لَهُ ذَرِّيَّةٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ فِي هَدْيِ بَعْضِ الذُّرِّيَّةِ كَرَامَةً لِلْجِدِّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُرَادٌ وُقُوعُ الْهَدْيِ فِي ذُرِّيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ذُرِّيَّاتُهُمْ رَاجِعِينَ إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهُدَى الْمُقَدَّرِ الْهُدَى الْمُمَاثِلَ لِلْهُدَى الْمُصَرَّحِ بِهِ، وَهُوَ هُدَى النُّبُوءَةِ، فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ مِثْلَ آدَمَ وَإِدْرِيسَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فَإِنَّهُمْ آبَاء نوح. والذّرّات يَشْمَلُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ وَدَانْيَالَ. فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَالْأَنْبِيَاءَ مِنْ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ، وَهُودًا، وَصَالِحًا، مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَشُعَيْبًا، مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْإِخْوَانُ يَشْمَلُ بَقِيَّةَ الْأَسْبَاطِ إِخْوَةَ يُوسُفَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النُّبُوءَةِ شَمِلَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْآبَاءِ مِثْلَ هَابِيلَ ابْن آدَمَ. وَشَمِلَ الذُّرِّيَّاتِ جَمِيعَ صَالِحِي الْأُمَمِ مِثْلَ أَهْلِ الْكَهْفِ، قَالَ تَعَالَى: وَزِدْناهُمْ هُدىً [الْكَهْف: 13] ، وَمِثْلَ طَالُوتَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلَ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ. رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَيَشْمَلُ. الْإِخْوَانُ هَارَانَ بْنَ تَارَحَ أَخَا إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ أَبُو لُوطٍ، وَعيسو أَخَا، يَعْقُوبَ وَغَيْرَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

[سورة الأنعام (6) : آية 88]

وَالِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ وَالِاخْتِيَارُ، قَالُوا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْيِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ، وَجَبْيُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ الَّذِي سُمِّيَتْ مِنْهُ الْجَابِيَةُ، فَالِافْتِعَالُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ، وَوَجْهُ الِاشْتِقَاقِ أَنَّ الْجَمْعَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِي تَحْصِيلِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُمْ فَجَعَلَهُمْ مَوْضِعَ هَدْيِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَنُبُوءَتَهُ وَهَدْيَهُ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَهَدَيْناهُمْ عَلَى اجْتَبَيْناهُمْ عَطْفًا يُؤَكِّدُ إِثْبَاتَ هُدَاهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْهَدْيِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ إِلَى مَا بِهِ نَوَالُ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ الْكَمَالِ لِنَوَالِهِ، فَضَرَبَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مَثَلًا لِذَلِكَ تَشْبِيهًا لِهَيْئَةِ الْعَامِلِ لِيَنَالَ مَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْكَمَالِ بِهَيْئَةِ السَّاعِي عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَا سَار إِلَيْهِ بِدُونِ تَرَدُّدٍ وَلَا تَحَيُّرٍ وَلَا ضَلَالٍ، وَذَكَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بَعْضُهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَحْذُوفَةِ لِلْإِيجَازِ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا مُعْتَقَدَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: 88] . [88] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 88] ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (88) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ هَدْيِهِمْ وَضَلَالِ غَيْرِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْهُدَى الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْعَالِ الْهِدَايَةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَخُصُوصًا الْمَذْكُورُ آخِرًا بِقَوْلِهِ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: 87] . وَقَدْ زَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْهَدْيِ إِذْ جُعِلَ كَالشَّيْءِ

[سورة الأنعام (6) : آية 89]

الْمُشَاهَدِ فَزِيدَ بَاسِمِ الْإِشَارَةِ كَمَالُ تَمْيِيزٍ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْهُدَى بِأَنَّهُ هُدَى اللَّهِ لِتَشْرِيفِ أَمْرِهِ وَبَيَانِ عِصْمَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِمَّا يَزْعُمُونَهُ هُدًى وَيَتَلَقَّوْنَهُ عَنْ كُبَرَائِهِمْ، أَمْثَالِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي وَضَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَمِثْلِ الْكُهَّانِ وَأَضْرَابِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَذْلَكَةِ لِأَحْوَالِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا كَأَبْيَاتِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: وَلِلَّهِ صُعْلُوكٌ يُسَاوِرُ هَمَّهُ ... وَيَمْضِي عَلَى الْأَحْدَاثِ وَالدَّهْرِ مُقْدِمَا إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ أَبْيَاتٍ سَبْعَةٍ فِي مَحَامِدِ ذَلِكَ الصُّعْلُوكِ: فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفًا مُذَمَّمَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ هُدَى اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِ مَنْ يَشاءُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ وَاجْتَبَاهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ وَبِاسْتِعْدَادِهِمْ لِهَدْيهِ وَنَبْذِهِمُ الْمُكَابَرَةَ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَيْهِ وَتَدَرُّجِهِمْ فِيهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا مَرْتَبَةَ إِفَاضَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ أَوِ التَّوْفِيقَ وَالْإِلْهَامَ الصَّادِقَ. فَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ مِنَ الْإِبْهَامِ مَا يَبْعَثُ النُّفُوسَ عَلَى تَطَلُّبِ هُدَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نبوءة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَفْظِيعًا لِأَمْرِ الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يُغْتَفَرُ لِأَحَدٍ وَلَوْ بَلَغَ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ مَبْلَغًا عَظِيمًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ الْمُنَوَّهِ بِهِمْ. وَالْوَاو للْحَال. و «حَبط» مَعْنَاهُ تَلِفَ، أَيْ بَطَلَ ثَوَابُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [217] . [89] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 89] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ

(89) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَهِيَ فَذْلَكَةٌ ثَانِيَةٌ، لِأَنَّ الْفَذْلَكَةَ الْأُولَى رَاجِعَةٌ إِلَى مَا فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنَ الْهُدَى وَهَذِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَهْدِيِّينَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِتَمْيِيزِهِمْ وَإِخْطَارِ سِيرَتِهِمْ فِي الْأَذْهَانِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمْ هُمُ الْمُعَيَّنُونَ بِأَسْمَائِهِمْ وَالْمَذْكُورُونَ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ [الْأَنْعَام: 87] . والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْجِنْسُ: أَيِ الْكُتُبُ. وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ يَكُونُ بِإِنْزَالِ مَا يُكْتَبُ، كَمَا أَنْزَلَ عَلَى الرُّسُلِ وَبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ كِتَابًا، لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يُكْتَبَ سَوَاءٌ كُتِبَ أَمْ لَمْ يُكْتَبْ. وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ لَهُ صُحُفٌ بِقَوْلِهِ: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 19] وَكَانَ لِعِيسَى كَلَامُهُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْإِنْجِيل. ولداوود الْكَلَامُ الصَّادِرُ مِنْهُ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ نَبِيئًا وَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا، وَلِسُلَيْمَانَ الْأَمْثَالُ، وَالْجَامِعَةُ، وَالنَّشِيدُ الْمَنْسُوبُ فِي ثَلَاثَتِهَا أَحْكَامٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَيُقَالُ: إِنَّ إِدْرِيسَ كَتَبَ الْحِكْمَةَ فِي صُحُفٍ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ (أَخْنُوخَ) ويدعوه القبط (توت) وَيَدْعُوهُ الْحُكَمَاءُ (هُرْمُسَ) . وَيَكُونُ إِيتَاءُ الْكِتَابِ بِإِيتَاءِ النّبيء فهم ونبيين الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، كَمَا أُوتِيَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى أَمْثَالَ يَحْيَى فَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُ يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: 12] . وَالْحُكْمُ هُوَ الْحِكْمَةُ، أَيِ الْعِلْمُ بِطُرُقِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ يَحْيَى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى حَاكِمًا أَيْ قَاضِيًا، وَقَدْ يُفَسَّرُ الْحُكْمُ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْن دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاء: 79] . وَإِيتَاءُ هَذِهِ الثَّلَاثِ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ جَمِيعَهَا وَهُمُ الرُّسُلُ مِنْهُمْ وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ حَكَمُوا بَيْنَ النّاس مثل دَاوُود وَسُلَيْمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ بَعْضَهَا وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ وَالصَّالِحُونَ مِنْهُمْ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ شُمُولِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِآبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ عُقِّبَتْ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ وَفُرِّعَتْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الْأَنْعَام: 74] هُوَ تَشْوِيهُ أَمْرِ الشِّرْكِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى فَسَادِهِ بِنَبْذِ أَهْلِ الْفضل وَالْخَيْر إيّاه، فَكَانَ لِلْفَاءِ الْعَاطِفَةِ عَقِبَ ذَلِكَ مَوْقِعٌ بَدِيعٌ مِنْ أَحْكَامِ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَضَمِيرُ بِها عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ: الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ «فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ» (يَعْنِي النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وَفِي «الْبُخَارِيِّ» قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ (يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) . وَقَدْ تَقَصَّيْتُ مَوَاقِعَ آيِ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ يُعَبِّرُ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَثِيرًا بِكَلِمَةٍ (هَؤُلَاءِ) ، كَقَوْلِهِ بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ [الزخرف: 29] وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَكُفْرُ الْمُشْرِكِينَ بِنُبُوءَةِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ تَابِعٌ لكفرهم بمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدُ أَنَّهُمْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] . وَمَعْنَى: وَكَّلْنا بِها وَفَّقْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَمُرَاعَاتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا. فَالتَّوْكِيلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْكِيلِ إِسْنَادُ صَاحِبِ الشَّيْءِ تَدْبِيرِ شَيْئِهِ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَهُ وَيَكْفِيهِ كُلْفَةَ حِفْظِهِ وَرِعَايَةِ مَا بِهِ بَقَاؤُهُ وَصَلَاحُهُ وَنَمَاؤُهُ. يُقَالُ: وَكَّلْتُهُ عَلَى الشَّيْءِ وَوَكَّلْتُهُ بِالشَّيْءِ فَيَتَعَدَّى بِعَلَى وَبِالْبَاءِ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّوْفِيقِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنُّبُوءَةِ وَالْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنَّظَرِ فِي مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَرِعَايَتِهِ تَشْبِيهًا لِتِلْكَ الرِّعَايَةِ بِرِعَايَةِ الْوَكِيلِ، وَتَشْبِيهًا لِلتَّوْفِيقِ إِلَيْهَا بِإِسْنَادِ النَّظَرِ إِلَى الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ الشَّيْءِ الْمُوَكَّلِ بِيَدِ الْوَكِيلِ مَعَ حِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ، فَكَانَتِ اسْتِعَارَةُ وَكَّلْنا لِهَذَا الْمَعْنَى إِيجَازًا

[سورة الأنعام (6) : آية 90]

بَدِيعًا يُقَابِلُ مَا يَتَضَمَّنُهُ مَعْنَى الْكُفْرِ بِهَا مِنْ إِنْكَارِهَا الَّذِي فِيهِ إِضَاعَةُ حُدُودِهَا. وَالْقَوْمُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا برسالة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ. وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ فَسَّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْقَوْمَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَادَّعَى أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَامِلَ إِلَيْهِ. وَوَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنِ اسْمِ (لَيْسَ) وَخَبَرِهَا لِأَنَّ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ نَفْيٍ إِذْ هِيَ فَعْلٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ فَجُمْلَتُهَا تَدُلُّ عَلَى دَوَامِ نَفْيِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ، وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِ (لَيْسَ) لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَصَارَ دَوَامَ نَفْيٍ مُؤَكَّدًا. وَالْمَعْنَى إِنْ يَكْفُرِ الْمُشْرِكُونَ بِنُبُوءَتِكَ وَنُبُوءَةِ مَنْ قَبْلِكَ فَلَا يَضُرُّكَ كُفْرُهُمْ لِأَنَّا قَدْ وَفَّقْنَا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ لِلْإِيمَانِ بِكَ وَبِهِمْ، فَهَذَا تَسْلِيَة للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمُعَادٍ الضَّمِيرِ: الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ. [90] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 90] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قُصِدَ مِنِ اسْتِئْنَافِهَا اسْتِقْلَالُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا، وَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ التَّكْرِيرِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا: جُمْلَةِ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: 87] وَجُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَنْعَام: 89] . وَحَقُّ التَّكْرِيرِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.

وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَنْعَام: 89] فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَمر نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْكِيدِ تَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَلِمَا يَقْتَضِيهِ التَّكْرِيرُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ قَصْرَ جِنْسِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ تَفْصِيلًا وإجمالا، لأنّ المهديين مِنَ الْبَشَرِ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا أُولَئِكَ الْمُسَمَّيْنَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، فَإِنَّ مِنْ آبَائِهِمْ آدَمَ وَهُوَ الْأَبُ الْجَامِعُ لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، فَأُرِيدَ بِالْهُدَى هُدَى الْبَشَرِ، أَيِ الصَّرْفُ عَنِ الضَّلَالَةِ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَلَا نَظَرَ لِصَلَاحِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ صَلَاحٌ جِبِلِّيٌّ. وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الظَّاهِرِ لِقَرْنِ هَذَا الْخَبَرِ بِالْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ. وَقَوْلُهُ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تَفْرِيعٌ عَلَى كَمَالِ ذَلِكَ الْهُدَى، وَتَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ حظّ محمدّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هُدَى اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قدّم قبله مسهب ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَدْيِهِمْ إِشَارَةً إِلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنّها منزلَة جَدِيدَة بِالتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّهُ جَمَعَ هُدَى الْأَوَّلِينَ، وَأُكْمِلَتْ لَهُ الْفَضَائِلُ، وَجَمَعَ لَهُ مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا الْعَظِيمَةِ. وَفِي إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ وَتَرْكِ عَدِّهِ مَعَ الْأَوَّلِينَ رَمْزٌ بَدِيعٌ إِلَى فَذَاذَتِهِ وَتَفَرُّدِ مِقْدَارِهِ، وَرَعْيٌ بَدِيعٌ لِحَالِ مَجِيءِ رِسَالَتِهِ بَعْدَ مُرُورِ تِلْكَ الْعُصُورِ الْمُتَبَاعِدَةِ أَوِ الْمُتَجَاوِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَجْرُور وَهُوَ فَبِهُداهُمُ عَلَى عَامِلِهِ، لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْهُدَى لِأَنَّهُ هُوَ مَنْزِلَتُكَ الْجَامِعَةُ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا، فَلَا يَلِيقُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ بِهُدًى هُوَ دُونَ هُدَاهُمْ. وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يسْبق للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتِدَاءٌ بِأَحَدٍ مِمَّنْ تَحَنَّفُوا فِي الجاهليّة أَو تنصّروا أَوْ تَهَوَّدُوا. فَقَدْ لَقِيَ النَّبِيءُ صَلَّى الله

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فِي بَلْدَحَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ مِنْ سُفْرَتِهِ، فَقَالَ زَيْدٌ «إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ» تَوَهُّمًا مِنْهُ أنّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدِينُ بِدِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلْهَمَ الله محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّكُوتَ عَنْ إِجَابَتِهِ إِلْهَامًا لِحِفْظِ السِّرِّ الْمُدَّخَرِ فَلَمْ يَقِلْ لَهُ إِنِّي لَا أَذْبَحُ عَلَى نُصُبٍ. وَلَقِيَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ غَيْرَ مَرَّةٍ بِمَكَّةَ. وَلَقِيَ بُحَيْرَا الرَّاهِبَ. وَلَمْ يَقْتَدِ بِأَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ وَبَقِيَ عَلَى الْفِطْرَةِ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ. وَالِاقْتِدَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقُدْوَةِ- بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا- وَقِيَاسُهُ عَلَى الْإِسْوَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَسْرَ فِيهِ أَشْهَرُ. وَقَالَ فِي «الْمِصْبَاحِ» : الضَّمُّ أَكْثَرُ. وَوَقَعَ فِي «الْمَقَامَاتِ» لِلْحَرِيرِيِّ «وَقُدْوَةُ الشَّحَّاذِينَ» فَضُبِطَ بِالضَّمِّ. وَذَكَرَهُ الْوَاسِطِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ الْمَقَامَاتِ» فِي الْقَافِ الْمَضْمُومَةِ، وَرَوَى فِيهِ فَتْحَ الْقَافِ أَيْضًا، وَهُوَ نَادِرٌ. وَالْقُدْوَةُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ غَيْرُهُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي اللُّغَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعُ إِلَّا اقْتَدَى. وَكَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْقُدْوَةَ اسْمًا جَامِدًا وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الِافْتِعَالَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَلُّفِ كَمَا اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ الْخَرِيفِ اخْتُرِفَ، وَمِنَ الْأُسْوَةِ ائْتَسَى، وَكَمَا اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ النَّمِرِ تَنَمَّرَ، وَمِنَ الْحَجَرِ تَحَجَّرَ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْقُدْوَةُ اسْمَ مَصْدَرٍ لِاقْتَدَى. يُقَالُ: لِي فِي فُلَانٍ قُدْوَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] . وَفِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بأنّ محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ إِلَّا عَلَى سُنَّةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَأَنَّهُ مَا كَانَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ. وَأمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ زَوَى إِلَيْهِ كلّ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي اخْتَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِهَا سَوَاءٌ مَا اتَّفَقَ مِنْهُ وَاتَّحَدَ، أَوِ اخْتَلَفَ وَافْتَرَقَ، فَإِنَّمَا يُقْتَدَى بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ وَسِيَرِهِمْ، وَهُوَ الْخُلُقُ الْمَوْصُوفُ بِالْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم: 4] .

وَيَشْمَلُ هُدَاهُمْ مَا كَانَ مِنْهُ رَاجِعًا إِلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ رَاجِعًا إِلَى زَكَاءِ النَّفْسِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ تَفَارِيعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَحْكَامًا جُزْئِيَّةً مِنْ كُلِّ مَا أَبْلَغَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِالْوَحْيِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاتِّبَاعِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بَيَّنَ لَهُ نَسْخَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ هَلْ تُعْتَبَرُ أَحْكَامُهَا مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَبْلَغَهَا اللَّهُ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي شَرِيعَتِهِ مَا يَنْسَخُهَا. وَأَرَى أَنَّ أَصْلَ الِاسْتِدْلَالِ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِكَايَةَ حُكْمٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ فِي مَقَامِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ وَالِامْتِنَانِ وَلَمْ يُقَارِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشْدِيدِ عَلَى أَصْحَابِهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِمِثْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُهُ وَلَا مِنْ أُصُولِهِ مَا يَأْبَاهُ، مِثْلُ أَصْلِ التَّيْسِيرِ وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسَ عَلَى حُكْمٍ إِسْلَامِيٍّ مَا يُنَاقِضُ حُكْمًا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا. وَلَا حُجَّةً فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مَنْ قَبْلَهُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: 123] وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أُصُولُ الدِّيَانَةِ وَأُسُسُ التَّشْرِيعِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَاسْتِدْلَالُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» «أَرَادَ بِالْهُدَى التَّوْحِيدَ وَدَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْوَحدَانِيَّةِ وَالصِّفَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهُدَى شَرَائِعَهُمْ لَكَانَ أَمْرًا بِشَرَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَنَاسِخَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكَ بَين جَمِيعهم» اهـ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْمُخَالِفِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا اسْتِئْنَاسٌ لِمَنْ رَأَى حُجِّيَّةَ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا آنِفًا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ (ص) عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ

عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ (أَيْ مِنْ أَيِّ دَلِيلٍ أَخَذْتَ أَنْ تَسْجُدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهَا حِكَايَةٌ عَن سُجُود دَاوُود وَلَيْسَ فِيهَا صِيغَة أَمر بِالسُّجُود) فَقَالَ: «أَو مَا تَقْرَأُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَكَانَ دَاوُود مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيئُكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فسجدها دَاوُود فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ» . وَالْمَذَاهِبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَرَافِيُّ وَنَسَبُوهُ إِلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا تَكُونُ أَحْكَامًا لَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَهَا إِلَيْنَا. وَالْحُجَّةُ عَلَى ذَلِك مَا ثَبت فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَمْرِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرُّبَيْعِ بِنْتِ النَّضْرِ حِينَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ عَمْدًا أَنْ تُكْسَرَ ثَنِيَّتُهَا فَرَاجَعَتْهُ أُمُّهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الرُّبَيْعِ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِلَّا مَا حَكَاهُ عَنْ شَرْعِ التَّوْرَاةِ بِقَوْلِهِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [الْمَائِدَة: 45] . وَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وَإِنَّمَا قَالَهُ اللَّهُ حِكَايَةً عَنْ خِطَابِهِ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَبِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْهُدَى مَصْدَرٌ مُضَافٌ فَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَلَا يُسَلَّمُ كَوْنُ السِّيَاقِ مُخَصِّصًا لَهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ. وَنَقَلَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ هَذَا. وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ «الْإِعْرَابِ فِي الْحَيْرَةِ وَالِالْتِبَاسِ الْوَاقِعَيْنِ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ» (¬1) . وَفِي «تَوْضِيحِ» صَدْرِ الشَّرِيعَةِ حِكَايَتَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ¬

(¬1) مخطوط فِي مكتبتنا.

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَة: 48] . وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِلْكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي «تَوْضِيحِ» صَدْرِ الشَّرِيعَةِ نِسْبَةُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. الثَّالِثُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: 123] . وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ. الرَّابِعُ: لَا يَلْزَمُ إِلَّا اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ عِيسَى لِأَنَّهَا آخِرُ الشَّرَائِعِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: اقْتَدِهْ سَاكِنَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ، فَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ الَّتِي تُجْلَبُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ إِذَا حُذِفَتْ لَامُهُ لِلْجَازِمِ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ أَوَاخِرَ الْكَلِمِ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ. وَقَدْ أَثْبَتَهَا جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ، وَذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الفصيح. وَالْأَحْسَن للقارىء أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا جَرْيًا عَلَى الْأَفْصَحِ، فَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوهَا سَاكِنَةً مَا عَدَا رِوَايَةَ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فَقَدْ حَرَّكَهَا بِالْكَسْرِ، وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِأَنَّهَا تَجْعَلُ الْهَاءَ ضَمِيرَ مَصْدَرِ «اقْتَدِ» ، أَيِ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءَ، وَلَيْسَتْ هَاءَ السَّكْتِ، فَهِيَ كَالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 115] أَيْ لَا أُعَذِّبُ ذَلِكَ الْعَذَابَ أَحَدًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ عَلَى الْقِيَاسِ الْغَالِبِ. قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ. اسْتِئْنَافٌ عُقِّبَ بِهِ ذَلِكَ الْبَيَانُ الْعَظِيمُ الْجَامِعُ لِأَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى نُبُوءَةِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَيَانُ طَرِيقَةِ الْجَدَلِ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا كَمَا جَاءَتْ مِلَلُ تِلْكَ الرُّسُلِ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ اللَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِهِ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِأَنَّهُ يَذْكُرُهُمْ. كَمَا ذَكَّرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهُمْ، وَأَنَّهُ

مَا جَاءَ إِلَّا بِالنُّصْحِ لَهُمْ كَمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ. وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِفِعْلِ قُلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدَّمَ ذَلِكَ بقوله: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ لَسْتُ طَالِبَ نَفْعٍ لِنَفْسِي عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا لَصَانَعَهُمْ وَوَافَقَهُمْ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ هُودٍ [51] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَة من هُودٍ يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ. مَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَاجَهَ قَوْمَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ شَأْنَهُمُ النَّصِيحَةُ وَالنَّصِيحَةُ لَا يُمَحِّصُهَا وَلَا يُمَحِّضُهَا إِلَّا حَسْمُ الْمَطَامِعِ وَمَا دَامَ يُتَوَهَّمُ شَيْءٌ مِنْهَا لَمْ تَنْفَعْ وَلَمْ تَنْجَعْ اهـ. قُلْتُ: وَحَكَى اللَّهُ عَنْ نُوحٍ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ [29] وَيا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ أَيْضًا فِي سُورَةِ الشُّورَى [23] قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْله: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً رَدَّ اعْتِقَادِ مُعْتَقَدٍ أَوْ نَفْيَ تُهْمَةٍ قِيلَتْ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الِاعْتِبَارُ وَلَفْتُ النَّظَرِ إِلَى مَحْضِ نصح الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ وَأَنَّهَا لِنَفْعِ النَّاسِ لَا يَجُرُّ مِنْهَا نَفْعًا إِلَى نَفْسِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْرُوفٍ فِي الْأَذْهَانِ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمَقْصُودِ مِنَ الضَّمِيرِ مُغْنِيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَادِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي خَبَرِ إِيلَاء النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ» . إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى التَّبْلِيغِ أَوِ الدُّعَاءِ أَجْرًا وَمَا دُعَائِي وَتَبْلِيغِي إِلَّا ذِكْرَى بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ الذِّكْرِ- بِالْكَسْرِ-، وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 91]

وَجَعَلَ الدَّعْوَةَ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ، لأنّ دَعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَقَدْ أَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّ انْتِفَاءَ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ لِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرَى لَهُمْ وَنُصْحٌ لِنَفْعِهِمْ فَلَيْسَ مُحْتَاجًا لِجَزَاءٍ مِنْهُمْ، ثَانِيهمَا: أَنَّهُ ذِكْرَى لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ وَلَيْسَ خاصّا بهم. [91] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 91] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وُجُودُ وَاوِ الْعَطف فِي صدر هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ مُتَنَاسِقَةً مَعَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهَا وَارِدَتَانِ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ هُوَ إِبْطَالُ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: 89] ، وَأَنَّهَا لَيْسَتِ ابْتِدَائِيَّةً فِي غَرَضٍ آخَرَ. فَوَاوُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ قَدَرُوا عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: 89] كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اسْتَشْعَرُوا نُهُوضَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِمَّا نَزَلَ عَلَى الرُّسُلِ، وَدَحَضَ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: 7] تَوَغَّلُوا فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْجُحُودِ فَقَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَتَجَاهَلُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ رِسَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكِتَابِهِ. فَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرَائِعِ وَالْكُتُبِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قَدْ جَاءُوا إِفْكًا وَزُورًا وَأَنْكَرُوا مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي أَجْيَالِ الْبَشَرِ بِالتَّوَاتُرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِثْلُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] . وَمِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مَنْ جَعَلَ هَذَا حِكَايَةً لِقَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مُعَيَّنٌ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْضُ الْيَهُودِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ الْقُرَظِيُّ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَمِينًا وَأَنَّهُ جَاءَ يُخَاصم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ . وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَهُ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ. وَمَحْمَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَهُ جَهْلًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ فَهُوَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ قَالَهُ لَجَاجًا وَعِنَادًا. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ هِيَ الَّتِي أَلْجَأَتْ رُوَاتَهَا إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَقْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: 89] الْآيَةَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ كَالْمُعْتَرِضَةِ فِي خِلَالِ إِبْطَالِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ. وَحَقِيقَةُ قَدَرُوا عَيَّنُوا الْقَدْرَ وَضَبَطُوهُ أَيْ، عَلِمُوهُ عِلْمًا عَنْ تَحَقُّقٍ. وَالْقَدْرُ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- مِقْيَاسُ الشَّيْءِ وَضَابِطُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عِلْمِ الْأَمْرِ بِكُنْهِهِ وَفِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ. يُقَالُ: قَدَرَ الْقَوْمُ أَمْرَهُمْ يَقْدُرُونَهُ- بِضَمِّ الدَّالِّ- فِي الْمُضَارِعِ، أَيْ ضَبَطُوهُ وَدَبَّرُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ» . وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، أَيْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا عَلِمُوا شَأْنَهُ وَتَصَرُّفَاتِهِ حَقَّ الْعِلْمِ بِهَا، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ قَدْرِهِ، وَالْإِضَافَةُ هُنَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْأَصْلُ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ. وإِذْ قالُوا ظَرْفٌ، أَيْ مَا قَدَرُوهُ حِينَ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا شَأْنًا عَظِيما من شؤون اللَّهِ، وَهُوَ شَأْنُ هَدْيِهِ النَّاسَ وَإِبْلَاغِهِمْ مُرَادَهُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ،

قَدْ جَهِلُوا مَا يُفْضِي إِلَى الْجَهْلِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْكَلَامِ، وَجَهِلُوا رَحْمَتَهُ لِلنَّاسِ وَلُطْفَهُ بِهِمْ. وَمَقَالُهُمْ هَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِنَفِيِ الْجِنْسِ، وَيَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ بِاقْتِرَانِهِ بِ مِنْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ أَيْضًا، وَيَعُمُّ إِنْزَالَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَحْيَ عَلَى الْبَشَرِ بِنَفْيِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِ شَيْءٍ هُنَا شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُفْحِمَهُمْ بِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٍ وَإِلْجَاءٍ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فَذَكَّرَهُمْ بِأَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَحَدَهُ لِتَوَاتُرِهِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَهُوَ رِسَالَةُ مُوسَى وَمَجِيئُهُ بِالتَّوْرَاةِ وَهِيَ تُدْرَسُ بَيْنَ الْيَهُودِ فِي الْبَلَدِ الْمُجَاوِرِ مَكَّةَ، وَالْيَهُودُ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى مَكَّةَ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى يَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا وَفِيهَا الْيَهُودُ وَأَحْبَارُهُمْ، وَبِهَذَا لَمْ يُذَكِّرْهُمُ اللَّهُ بِرِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ صُحُفًا فَكَانَ قَدْ يَتَطَرَّقُهُ اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ رِسَالَتِهِ وَنُبُوءَتِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَسَعُ إِنْكَارَهُ كَمَا اقْتَضَاهُ الْجَوَابُ آخِرَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ كِتَابًا فَانْتَقَضَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ قَاعِدَةِ نَقْضِ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ بِمُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ. وَافْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْإِفْحَامِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَأْمُور النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَالنُّورُ: اسْتِعَارَةٌ لِلْوُضُوحِ وَالْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ يُشَبَّهُ بِالنُّورِ، كَمَا يُشَبَّهُ الْبَاطِلُ بِالظُّلْمَةِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ التَّنُوخِيُّ: وَكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاهَا ... سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاعُ وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ هُدىً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ. وَلَوْ أَطْلَقَ النُّورَ عَلَى سَبَبِ الْهُدَى لَصَحَّ لَوْلَا

هَذَا الْعَطْفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْقُرْآنِ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52] . وَقَدِ انْتَصَبَ نُوراً عَلَى الْحَالِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْيَهُودُ، أَيْ لِيَهْدِيَهُمْ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً سَبَبِيَّةً لِلْكِتَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. قَرَأَ تَجْعَلُونَهُ- وتُبْدُونَها- وتُخْفُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- مَنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ، وَأَبَا عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، مِنَ الْعَشَرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ إِذِ الظَّاهِرُ أَنْ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى وَلَا بَاشَرُوا إِبْدَاءَ بَعْضِهِ وَإِخْفَاءَ بَعْضِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْيَهُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ (أَيِ الْخُرُوجِ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْرِهِ) تَعْرِيضًا بِالْيَهُودِ وَإِسْمَاعًا لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ مِنْ بَابِ إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ، أَوْ هُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ. وَحَقُّهُ أَنْ يُقَالَ يَجْعَلُونَهُ- بِيَاءِ الْمُضَارِعِ لِلْغَائِبِ- كَمَا قَرَأَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْقُرَّاءِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَ كِتَابَ مُوسَى قَرَاطِيسَ يُبْدُونَ بَعْضَهَا وَيُخْفُونَ بَعْضَهَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا الْيَهُودَ عَنْ نبوءة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأوا لَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالسَّبْتِ، أَيْ دِينِ الْيَهُودِ، وَكَتَمُوا ذكر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، فَأَسْنَدَ الْإِخْفَاءَ وَالْإِبْدَاءَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَجَازًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ ذَلِكَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامُ الْمَدِينَةَ وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَعَلِمَ الْيَهُودُ وَبَالَ عَاقِبَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَوُا الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَزِيدُهُمْ تَصْمِيمًا عَلَى الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا

يُرَجِّحُ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مُدَّةِ إِقَامَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ظَنَّنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ كَانَتْ مَبْدَأَ مُدَاخَلَةِ الْيَهُودِ لِقُرَيْشٍ فِي مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمَكَّةَ حِينَ بَلَغَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ يَجْعَلُونَهُ، وَيُبْدُونَهَا، وَيُخْفُونَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- فَتَكُونُ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةً إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْد المتكلّم، وهم يَهُودُ الزَّمَانِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِذَلِكَ. وَالْقَرَاطِيسُ جَمْعُ قِرْطَاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [7] . وَهُوَ الصَّحِيفَةُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ مِنْ رَقٍّ أَوْ كَاغِدٍ أَوْ خِرْقَةٍ. أَيْ تَجْعَلُونَ الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى أَوْرَاقًا مُتَفَرِّقَةً قَصْدًا لِإِظْهَارِ بَعْضِهَا وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ آخَرَ. وَقَوْلُهُ: تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً صِفَةٌ لِقَرَاطِيسَ، أَيْ تُبْدُونَ بَعْضَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا، فَفُهِمَ أَنَّ الْمَعْنَى تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ لِغَرَضِ إِبْدَاءِ بَعْضٍ وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الذَّمِّ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كُتُبَهُ لِلْهُدَى، وَالْهُدَى بِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِظْهَارِهَا وَإِعْلَانِهَا، فَمَنْ فَرَّقَهَا لِيُظْهِرَ بَعْضًا وَيُخْفِيَ بَعْضًا فَقَدْ خَالَفَ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا. فَأَمَّا لَوْ جَعَلُوهُ قَرَاطِيسَ لِغَيْرِ هَذَا الْمَقْصِدِ لَمَا كَانَ فِعْلُهُمْ مَذْمُومًا، كَمَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ فِي أَجْزَاءٍ مُنْفَصِلَةٍ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ الْأَلْوَاحِ فِي الْكَتَاتِيبِ لِمَصْلَحَةٍ. وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ سُئِلَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنِ الْقُرْآنِ يُكْتَبُ أَسْدَاسًا وَأَسْبَاعًا فِي الْمَصَاحِفِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً وَعَابَهَا وَقَالَ لَا يُفَرَّقُ الْقُرْآنُ وَقَدْ جَمَعَهُ اللَّهُ وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَهُ وَلَا أرى ذَلِك اهـ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : الْقُرْآنُ أُنْزِلُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى كَمُلَ وَاجْتَمَعَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى كَوْنِهِ مَجْمُوعًا، فَهَذَا وَجْهُ كَرَاهِيَةِ مَالك لتفريقه اهـ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْمُصْحَفِ الْوَاحِدِ فَيَقَعُ بَعْضُهَا فِي يَدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: وَقَدْ جَمَعَهُ اللَّهُ، أَنَّ اللَّهَ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِهِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ مُنَجَّمًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ جَمْعَهُ فَلَا يُفَرَّقُ أَجْزَاءً. وَقَدْ أَجَازَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ تَجْزِئَةَ الْقُرْآنِ لِلتَّعَلُّمِ وَمَسَّ جُزْئِهِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَمِنْهُ كِتَابَتُهُ فِي الْأَلْوَاحِ. وَقَوْلُهُ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قُوَّةُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ أَخْبِرُونِي، فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَوُقُوعُ الِاسْتِفْهَامِ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ تَعْيِينِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ يُقَوِّي مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذْ تَضَمَّنَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلًا وَفَاعِلًا مُسْتَفْهَمًا عَنْهُمَا، أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، احْتَجَجْتُمْ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْصَفْتُمْ لَوَجَدْتُمْ وَأَمَارَةُ نُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فِيهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ مَعَهَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْخِطَابُ أَشَدُّ انْطِبَاقًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ التَّشْرِيعِ وَنِظَامِهِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ عِلْمًا رَاسِخًا، وَعلِمَ ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ وَمِنْ مُخَالِطِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَصفهم الله بِمثل هَذَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَعُلِّمْتُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: أَنْزَلَ الْكِتابَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا.

وَوَجْهُ بِنَاءِ فِعْلِ عُلِّمْتُمْ لِلْمَجْهُولِ ظُهُورُ الْفَاعِلِ، وَلِأَنَّهُ سَيَقُولُ قُلِ اللَّهُ. فَإِذَا تَأَوَّلْنَا الْآيَةَ بِمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ تَقْرِيرِيٌّ، إِمَّا لِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ مَنْ جَحَدَ تَنْزِيلَ كِتَابٍ عَلَى بَشَرٍ، عَلَى طَرِيقَةِ إِفْحَامِ الْمُنَاظِرِ بِإِبْدَاءِ مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسَادِ، مِثْلُ فَسَادِ اطِّرَادِ التَّعْرِيفِ أَوِ انْعِكَاسِهِ، وَإِمَّا لِإِبْطَالِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقَةِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَالشَّيْءِ الْمُحَالِ فَقِيلَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى كِتَابًا لِمَ لَا يُنَزِّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: 54] الْآيَةَ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ قِرَاءَةُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَارِيَةً عَلَى الظَّاهِر، وقراءته بالتّحتيّة مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ جُعِلُوا كَالْغَائِبِينَ عَنْ مَقَامِ الْخِطَابِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمُ الْيَهُودُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَجْعَلُونَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُخْفُونَ بَعْضَهَا فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمُعْتَرِضِ بِهِ. وَيَجِيءُ عَلَى قِرَاءَةِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا أَيْضًا. وَحُسْنُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ حَسَنٍ عَادَ إِلَى مَقَامِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ مَقَامَ الْخِطَابِ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلرَّدِّ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُرَاعَاةً لِمُقْتَضَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَوَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي «قَدَرُوا- وَقَالُوا» عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ إِشَارَةُ هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَالْوَاوُ وَاوُ الْجَمَاعَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ

التَّعْرِيضِ بِشَخْصٍ مِنْ بَابِ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» ، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ. وَقَدْ تَوَلَّى السَّائِلُ الْجَوَابَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَابِرَ، عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [12] . وَالْمَعْنَى قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى. وَإِذَا كَانَ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنْزَلَ كَانَ الْجَوَابُ شَامِلًا لَهُ، أَيِ اللَّهُ عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمَجْهُولِ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى الْمَعْلُومِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ أَوِ الْحَارِثِ النَّهْشَلِيِّ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ: لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ كَأَنَّهُ سُئِلَ مَنْ يُبْكِيهِ فَقَالَ: ضَارِعٌ. وَعَطَفَ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ بِثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا تَنْجَعُ فِيهِمُ الْحُجَجُ وَالْأَدِلَّةُ فَتَرْكُهُمْ وَخَوْضَهُمْ بَعْدَ التَّبْلِيغِ هُوَ الْأَوْلَى وَلَكِنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ لِتَبْكِيتِهِمْ وَقَطْعِ مَعَاذِيرِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فِي خَوْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ذَرْهُمْ. وَجُمْلَةُ يَلْعَبُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي «ذَرْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ [الْأَنْعَام: 70] . وَالْخَوْضُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: 68] . وَاللَّعِبُ تَقَدَّمَ فِي وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً فِي هَذِه السّورة [70] .

[سورة الأنعام (6) : آية 92]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 92] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَهذا كِتابٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 91] ، أَيْ وَقُلْ لَهُمُ اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُحَاوَلَةَ فِي شَأْنِهِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ نَفِيَ نُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنْ تَبْكِيتِهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، يَجْعَلُ الْقُرْآنَ كَالْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، فَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ تَقْوِيَةً لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْكِتَابِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِنَاء فعل أَنْزَلْناهُ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ كِتابٌ الَّذِي هُوَ عَيْنُهُ فِي الْمَعْنَى، لِإِفَادَةِ التَّقْوِيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا أَنْزَلْنَاهُ. وَجَعَلَ كِتابٌ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَنْزَلْنَا مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَنَصَبَ فِعْلَ أَنْزَلْنَا لِضَمِيرِهِ، لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ إِنْزَالِهِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ. وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ. ومُبارَكٌ خَبَرٌ ثَانٍ. وَالْمُبَارَكُ اسْمٌ مَفْعُولٌ مِنْ بَارَكَهُ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَبَارَكَ لَهُ، إِذَا جَعَلَ لَهُ الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَنَمَاؤُهُ يُقَالُ: بَارَكَهُ. قَالَ تَعَالَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النَّمْل: 8] ، وَيُقَالُ: بَارَكَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها [فصلت: 10] . وَلَعَلَّ قَوْلَهُمْ (بَارَكَ فِيهِ) إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا كَانَتِ الْبَرَكَةُ حَاصِلَةً لِلْغَيْرِ فِي زَمَنِهِ أَوْ مَكَانِهِ، وَأَمَّا (بَارَكَهُ) فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا كَانَتِ الْبَرَكَةُ صِفَةً لَهُ، وَ (بَارَكَ

عَلَيْهِ) جَعَلَ الْبَرَكَةَ مُتَمَكِّنَةً مِنْهُ، (وَبَارَكَ لَهُ) جَعَلَ أَشْيَاءَ مُبَارَكَةً لِأَجْلِهِ، أَيْ بَارَكَ فِيمَا لَهُ. وَالْقُرْآنُ مُبَارَكٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، فَالْبَرَكَةُ كَائِنَةٌ بِهِ، فَكَأَنَّ الْبَرَكَةَ جُعِلَتْ فِي أَلْفَاظِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْدَعَ فِيهِ بَرَكَةً لِقَارِئِهِ الْمُشْتَغِلِ بِهِ بَرَكَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا فِي الْعَمَلِ بِهِ كَمَالُ النَّفْسِ وَطَهَارَتُهَا بِالْمَعَارِفِ النَّظَرِيَّةِ ثُمَّ الْعَمَلِيَّةِ. فَكَانَتِ الْبَرَكَةُ مُلَازِمَةً لِقِرَاءَتِهِ وَفَهْمِهِ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ «قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ (أَيْ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ) الْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ. وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ لِي بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ (يَعْنِي التَّفْسِيرَ) . ومُصَدِّقُ خَبَرٌ عَنْ كِتابٌ بِدُونِ عَطْفٍ. وَالْمُصَدِّقُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [97] ، وَقَوْلِهِ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] . والَّذِي مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَى جَمْعٍ. وَإِذْ قَدْ كَانَ جَمْعُ الَّذِي وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَاقِلُ وَشِبْهُهُ، نَحْوُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَاف: 194] لِتَنْزِيلِ الْأَصْنَامِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ عُرْفًا. فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ إِلَّا الَّذِي الْمُفْرَدُ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] . وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَخَصُّهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، لِأَنَّهَا آخَرُ مَا تَدَاوَلَهُ النَّاسُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مُصَدِّقُ الْكُتُبِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْوَعْدَ

بِمَجِيءِ الرَّسُولِ الْمُقَفَّى عَلَى نُبُوءَةِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْكُتُبِ، فَمَجِيءُ الْقُرْآنِ قَدْ أَظْهَرَ صِدْقَ مَا وَعَدَتْ بِهِ تِلْكَ الْكُتُبُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقُ أَنْبِيَائِهَا وَصَدَّقَهَا وَذَكَرَ نُورَهَا وَهُدَاهَا، وَجَاءَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِيهَا لَا يُخَالِفُهَا. وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخَالِفَةِ لِلْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَذَلِكَ قَدْ يُبَيَّنُ فِيهِ أَنَّهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّيْسِيرَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمَعْنَى: بَيْنَ يَدَيْهِ مَا سَبَقَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [97] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] . وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى فَوُجُودُ وَاوِ الْعَطْفِ فِي أَوَّلِهَا مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِ لِتُنْذِرَ بِفِعْلِ أَنْزَلْناهُ، وَمِنْ جَعْلِ الْمَجْرُورِ خَبَرًا عَنْ كِتابٌ خِلَافًا لِلتَّفْتَزَانِيِّ، إِذِ الْخَبَرُ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا لَا يَقْتَرِنُ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَا نَظِيرَ لِذَاكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَوُجُودُ لَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ الْوَاوِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِهَا خَبَرًا آخَرَ لِ كِتابٌ، فَلَا مَحِيصَ عِنْدَ تَوْجِيهِ انْتِظَامِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَوْ تَأْوِيلِ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على مقدّر ينبىء عَنْهُ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: لِيُؤْمِنَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِهِ وَلِتُنْذِرَ الْمُشْرِكِينَ. وَمِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ يَطَّرِدُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَدَّرَ. وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [52] . وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ وَلِتُنْذِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِفَةُ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَاتِ وَتَصْدِيقِ مَا تقدّمه والإنذار اهـ. وَهَذَا وَإِنِ اسْتَتَبَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ لَا يَحْسُنُ فِي آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ لَفْظَ «بَلَاغٌ» اسْمُ لَيْسَ

فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالتَّعْلِيلِ، وَ «لِلنَّاسِ» مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلتَّبْلِيغِ لَا لِلتَّعْلِيلِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بَعْدَهُ نَحْوُ لِيَنْتَبِهُوا أَوْ لِئَلَّا يُؤْخَذُوا عَلَى غَفْلَةٍ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. وَالْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ تَوَقُّعُ ضُرٍّ، وَضِدُّهُ الْبِشَارَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] . وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَخْوِيفُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] . وَأُمُّ الْقُرَى: مَكَّةُ، وَأُمُّ الشَّيْءِ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُلْتَفُّ حَوْلَهُ، وَحَقِيقَةُ الْأُمِّ الْأُنْثَى الَّتِي تَلِدُ الطِّفْلَ فَيَرْجِعُ الْوَلَدُ إِلَيْهَا وَيُلَازِمُهَا، وَشَاعَتِ اسْتِعَارَةُ الْأُمِّ لِلْأَصْلِ وَالْمَرْجِعِ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الرَّايَةُ أُمًّا، وَسُمِّيَ أَعْلَى الرَّأْسِ أُمَّ الرَّأْسِ، وَالْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَقْدَمُ الْقُرَى وَأَشْهَرُهَا وَمَا تَقَرَّتِ الْقُرَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ إِلَّا بَعْدَهَا، فَسَمَّاهَا الْعَرَبُ أُمَّ الْقُرَى، وَكَانَ عَرَبُ الْحِجَازِ قَبْلَهَا سُكَّانَ خِيَامٍ. وَإِنْذَارُ أُمِّ الْقُرَى بِإِنْذَارِ أَهْلِهَا، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَمَنْ حَوْلَها، أَيِ الْقَبَائِلَ الْقَاطِنَةَ حَوْلَ مَكَّةَ مِثْلَ خُزَاعَةَ، وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهَوَازِنَ، وَثَقِيفَ، وَكِنَانَةَ. وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ جَرَى الْكَلَامُ وَالْجِدَالُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: 66] ، إِذِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيلِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْإِنْذَارِ بِالْقُرْآنِ فِيهِمْ حَتَّى نَتَكَلَّفَ الِادِّعَاءَ أَنَّ مَنْ حَوْلَها مُرَادٌ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى بِالْخِطَابِ، وقرأه أبوبكر وَحْدَهُ عَنْ عَاصِمٍ وَلِيُنْذِرَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ احْتِرَاسٌ مِنْ شُمُول الْإِنْذَار للْمُؤْمِنين الَّذِينَ هُمْ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ وَحَوْلَهَا الْمَعْرُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ

[سورة الأنعام (6) : آية 93]

أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ كَاللَّقَبِ لَهُمْ، وَهُوَ مُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ أَنْكَرُوا الْآخِرَةَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْصُولِ إِيذَانٌ بِالتَّعْلِيلِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ. وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْبِشَارَةُ. وَزَادَهُمْ ثَنَاءً بِقَوْلِهِ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ إِيذَانًا بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِهِ، إِذْ كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَجَّ كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَة: 2، 3] وَلَمْ يَكُنِ الْحَجُّ مَشْرُوعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. [93] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 93] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. لَمَّا تَقَضَّى إِبْطَالُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْزَالِ وَالْوَحْيِ، النَّاشِئِ عَنْ مَقَالِهِمُ الْبَاطِلِ، إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] ، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا لِأَجْلِهِ جَحَدُوا إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى بَشَرٍ، وَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّرَائِعِ الضَّالَّةِ فِي أَحْوَالِهِمُ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهُمْ يَنْفُونَ الرِّسَالَةَ تَارَةً فِي حِينِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ فَكَيْفَ بَلَغَهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] . فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا طَرِيقَ وُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ طَرِيقُ الرِّسَالَةِ فَجَاءُوا بِأَعْجَبَ مَقَالَةٍ.

وَذَكَرَ مَنِ اسْتَخَفُّوا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أُوحِيَ إِلَيَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تَسْفِيهَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ مِنْهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاضْطِرَابِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعَ ذَلِكَ تَنْزِيه النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ حِينَ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] لِأَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَادِّعَاءِ الْوَحْيِ بَاطِلًا لَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ نَاحِيَةِ قَوْلِ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ «وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذْرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَمَسَاقُهُ هُنَا مَسَاقُ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ إِنْزَالَ الْكِتَابِ، وَهُوَ تَكْذِيبٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: 92] لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِخِصَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ عَقِبَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: 57] الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [114] . وافتراء: الِاخْتِلَاقُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَمَنْ مَوْصُولَةٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ كُلُّ مَنِ افْتَرَى أَوْ قَالَ، وَلَيْسَ

الْمُرَادُ فَرْدًا مُعَيَّنًا، فَالَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا بِهَوَاهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ كَذِبًا. وأَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، أَيْ كُلُّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ كَذِبًا، وَلَمْ يَزَلِ الرُّسُلُ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوءَةَ كَذِبًا كَمَا قَدَّمْتُهُ. رُوِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا مُسَيْلمَة متنبّىء أَهْلِ الْيَمَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُسَيْلِمَةُ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَ هِجْرَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوءَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَفَدَ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ طَامِعًا فِي أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَجَعَ خَائِبًا ادَّعَى النُّبُوءَةَ فِي قَوْمِهِ. وَفِي «تَفْسِيرِ» ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْأسود الْعَنسِي المتنبّئ بِصَنْعَاءَ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ الْأَسْوَدَ تَنْظِيرًا مَعَ مُسَيْلِمَةَ فَإِنَّ الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ مَا ادَّعَى النُّبُوءَةَ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعُمُومُ وَلَا يَضُرُّهُ انْحِصَارُ ذَلِكَ فِي فَرْدٍ أَوْ فَرْدَيْنِ فِي وَقْتٍ مَا وَانْطِبَاقُ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْي للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَالَ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، اسْتِهْزَاءً، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ ارْتَدَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ وَالْمَهْدَوِيِّ أَنَّهَا: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ يَقُولُ: أَنَا أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. وَحَفِظُوا لَهُ أَقْوَالًا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَدْ رَوَوْا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ وَإِنِّي سَأُنْزِلُ مِثْلَهُ وَكَانَ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَالْوَجْهُ

أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْعُمُومَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَوْلُهُمْ: مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ سُخْرِيَةً كَمَا قَالُوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى، أَيْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَعَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النِّسَاء: 157] . وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِأَنَّ هَذِهِ وَعِيدٌ بِعِقَابٍ لِأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ وَالْقَائِلِينَ «أُوحِيَ إِلَيْنَا» وَالْقَائِلِينَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَ الظَّالِمُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يَشْمَلُ أُولَئِكَ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْخِطَابُ فِي تَرى للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كلّ من تتأتّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مُخَاطَبٌ. ثُمَّ الرُّؤْيَةُ الْمَفْرُوضَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ إِذَا كَانَ الْحَالُ الْمَحْكِيُّ

مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ الْمَحْكِيَّةُ مِنْ أَحْوَالِ النَّزْعِ وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَمَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ الْمُضَافُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى الظَّالِمِينَ إِذْ هُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، أَيْ وَقْتَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ (إِذِ) اسْمًا مُجَرَّدًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَيَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: 86] فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَلَوْ تَرَى زَمَنَ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً لِأَنَّ الزَّمَنَ لَا يُرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تَهْوِيلُ هَذَا الْحَالِ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ جَوَابَ (لَوْ) كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا. وَالْغَمْرَةُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ- مَا يَغْمُرُ، أَيْ يَغُمُّ مِنَ الْمَاءِ فَلَا يَتْرُكُ لِلْمَغْمُورِ مَخْلَصًا. وَشَاعَتِ اسْتِعَارَتُهَا لِلشِّدَّةِ تَشْبِيهًا بِالشِّدَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلْغَرِيقِ حِينَ يَغْمُرُهُ الْوَادِي أَوِ السَّيْلُ حَتَّى صَارَت الغمرة حَقِيقَة عُرْفِيَّةً فِي الشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ. وَجَمْعُ الْغَمَرَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعَدُّدِ الْغَمَرَاتِ بِعَدَدِ الظَّالِمِينَ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي تَهْوِيلِ مَا يُصِيبُهُمْ بِأَنَّهُ أَصْنَافٌ مِنَ الشَّدَائِدِ هِيَ لِتَعَدُّدِ أَشْكَالِهَا وَأَحْوَالِهَا لَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بَاسِمٍ مُفْرَدٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِعَذَابٍ يَلْقَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا فِي وَقْتِ النَّزْعِ. وَلَمَّا كَانَ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٌ جُعِلَتْ غَمْرَةُ الْمَوْتِ غَمَرَاتٍ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ مُلَابَسَةِ الْغَمَرَاتِ لَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا ظَرْفٌ يَحْوِيهِمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ. فَالْمَوْتُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَغَمَرَاتُهُ هِيَ آلَامُ النَّزْعِ.

وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حِكَايَةَ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْغَمَرَاتِ مَجَازًا مُفْرَدًا وَيَكُونُ الْمَوْتُ حَقِيقَةً. وَمَعْنَى بَسْطِ الْيَدِ تَمْثِيلًا لِلشِّدَّةِ فِي انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا بَسْطَ وَلَا أَيْدِيَ. وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الْأَرْوَاحِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَرْوَاحَكُمْ مِنْ أَجْسَادِكُمْ، أَيْ هَاتُوا أَرْوَاحَكُمْ، وَالْأَمْرُ لِلْإِهَانَةِ وَالْإِرْهَاقِ إِغْلَاظًا فِي قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً وَلَا يُعَامِلُونَهُمْ بِلِينٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْزَعُونَ فَلَا يَلْفِظُونَ أَرْوَاحَهُمْ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَعِيدٌ بِالْآلَامِ عِنْد النّزع جزاءا فِي الدُّنْيَا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ فَتَوَعَّدُوا بِمَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ حَالُ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ بِأَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةً تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ وَتُذِيقُهُمْ عَذَابًا فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ الْوَعيد يَقع فِي نُفُوسِهِمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ شَدَائِدَ النَّزْعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الْأَنْفَال: 50] الْآيَة، وَقَول أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ عَلَى هَذَا صَادِرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِمَا يُلَاقِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الْأَنْعَام: 94] فَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي مُنَازَعَةِ الشَّدَائِدِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ بِحَالٍ مِنْهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِ النَّزْعِ فَالْمَوْتُ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ تَقْرِيبُ الْحَالَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْوَالَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِي الْمُتَعَارَفِ مَا هُوَ أَقْصَى مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ دَلَالَةً عَلَى هَوْلِ الْأَلَمِ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: وَجَدْتُ أَلَمَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ: «فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ» ، وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ: وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ ... فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ وَجُمْلَةُ: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ حَالٌ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ مَادُّونَ أَيْدِيَهُمْ

إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْفَعُوهُمْ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ لِيَقْبِضُوا أَرْوَاحَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ بَسْطُ الْأَيْدِي حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَشَكَّلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ فِي أَشْكَالٍ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَسْطُ الْأَيْدِي كِنَايَةً عَنِ الْمَسِّ وَالْإِيلَامِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [الْمَائِدَة: 28] . وَجُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الذَّوَاتِ. وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي الْإِنْقَاذِ وَالْإِنْجَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْحَالَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ. وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ الْإِخْرَاجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِنْ كَانَ هَذَا الْحَالُ وَاقِعًا فِي حِينِ دُخُولِهِمُ النَّارَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، فَإِنْ حَمَلَ الْغَمَرَاتِ عَلَى النَّزْعِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْيَوْمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَقْتِ، أَيْ وَقْتَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. وَجُمْلَةُ: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ إِلَخْ اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ، فُصِلَتْ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالِاهْتِمَامِ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وتُجْزَوْنَ تُعْطَوْنَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ هُوَ عِوَضُ الْعَمَلِ وَمَا يُقَابِلُ بِهِ مِنْ أَجْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ. قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] ، وَفِي الْمَثَلِ: الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا صَنَعَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. يُقَالُ: جَزَاهُ يَجْزِيهِ فَهُوَ جَازٍ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى جَزَاءً، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُكَافَأِ عَنْهُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [27] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها متؤوّلا عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ البيانيّة. أَي جَزَاء هُوَ سَيِّئَةٌ، وَأَنَّ مَجْرُورَ الْبَاءِ هُوَ السَّيِّئَةُ الْمُجْزَى عَنْهَا، كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] . وَيُقَالُ: جَازَى بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الرّاغب: وَلم يَجِيء فِي الْقُرْآنِ: جَازَى.

وَالْهُونُ: الْهَوَانُ، وَهُوَ الذُّلُّ. وَفَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ بِالْهَوَانِ الشَّدِيدِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ. وَكَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْهُونَ مُرَادِفُ الْهَوَانِ، وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَوْمَ تَجْزُونَ عَذَابَ الْهَوَانِ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْهُونِ لِإِفَادَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْإِضَافَةُ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالْمِلْكِ، أَيِ الْعَذَابَ الْمُتَمَكِّنَ فِي الْهُونِ الْمُلَازِمِ لَهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ بَاءُ الْعِوَضِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُجْزَوْنَ إِلَى الْمَجْزِيِّ عَنْهُ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِسَبَبِ قَوْلِكُمْ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ صَادِرًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَالْأَصْلُ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَيَّ. وَضَمَّنَ تَقُولُونَ مَعْنَى تَكْذِبُونَ، فَعَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ: عَلَى اللَّهِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: 44] الْآيَةَ، وَبِذَلِكَ يَصِحُّ تَنْزِيلُ فِعْلِ تَقُولُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ، وَيَصِحُّ جَعْلُ غَيْرِ الْحَقِّ مَفْعُولًا لِ تَقُولُونَ، وَغَيْرِ الْحَقِّ هُوَ الْبَاطِلُ، وَلَا تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا كَذِبًا. وَشَمِلَ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً- إِلَى قَوْلِهِ- مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَغَيْرَهَا. وغَيْرَ الْحَقِّ حَالٌ مِنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ لِ تَقُولُونَ. وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ عَطْفٌ عَلَى كُنْتُمْ تَقُولُونَ، أَيْ وَبِاسْتِكْبَارِكُمْ عَنْ آيَاتِهِ. وَالِاسْتِكْبَارُ: الْإِعْرَاضُ فِي قِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْآيَاتِ، أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْآيَاتِ التَّأَمُّلُ فِيهَا فَيَكُونُ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ وَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أَعْظَمَ مِنْ صَاحِبِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 94]

وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ لَقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَالْمَعْنَى: لَرَأَيْتَ أَمْرًا مُفْظِعًا. وَحَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَو ترى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [165] . [94] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ فِي جُمْلَةِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَام: 93] قَوْلًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَام: 93] ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَ دَفَعَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْعَذَابِ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى. فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَام: 93] حَقِيقَةً، أَيْ فِي حِينِ النَّزْعِ يَكُونُ فِعْلُ جِئْتُمُونا مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ، مِثْلُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَارَبُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِيهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 93] فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ خِطَابِ الْمُعْتَبِرِينَ بِحَالِ الظَّالِمِينَ إِلَى خِطَابِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ بِمَا سَيَقُولُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ جِئْتُمُونا حَقِيقَةً فِي الْمَاضِي لِأَنَّهُمْ حِينَمَا يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْمَجِيءُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَ (قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَاضِي مُعَبَّرًا بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَتَكُونُ (قَدْ) تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ.

وَإِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى صِدْقِ مَا كَانُوا يُنْذِرُونَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيُنْكِرُونَهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَقَدْ يُقْصَدُ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْمِكْنَةِ وَالْمَصِيرِ إِلَى مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: 39] ، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ: قَدْ يُصْبِحُ اللَّهُ إِمَامَ السَّارِي وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جِئْتُمُونا ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَ ضَمِيرُ الْمَلَائِكَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كَما خَلَقْناكُمْ. وفُرادى حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي جِئْتُمُونا أَيْ مُنْعَزِلِينَ عَنْ كُلِّ مَا كُنْتُمْ تَعْتَزُّونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَأَنْصَارٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (فُرَادَى) جُمَعُ فَرْدَانَ مِثْلُ سُكَارَى لِسَكْرَانَ. وَلَيْسَ فُرَادَى الْمَقْصُورُ مُرَادِفًا لِفُرَادَ الْمَعْدُولِ لِأَنَّ فُرَادَ الْمَعْدُولَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى فَرْدًا فَرْدًا، مِثْلُ ثَلَاثٍ وَرُبَاعٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ الْمَعْدُولَةِ. وَأَمَّا فُرَادَى الْمَقْصُورُ فَهُوَ جَمْعُ فَرْدَانَ بِمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَاءَ مُنْفَرِدًا عَنْ مَالِهِ. وَقَوْلُهُ: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تَشْبِيهٌ لِلْمَجِيءِ أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَقَدْ رَأَوْهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَالْكَافُ لِتَشْبِيهِ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَ (مَا) الْمَجْرُورَةُ بِالْكَافِ مَصْدَرِيَّةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: كَخَلْقِنَا إِيَّاكُمْ، أَيْ جِئْتُمُونَا مُعَادِينَ مَخْلُوقِينَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] .

وَالتَّخْوِيلُ: التَّفَضُّلُ بِالْعَطَاءِ. قِيلَ: أَصْلُهُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْخَدَمُ، أَيْ إِعْطَاءُ الْعَبِيدِ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِعْطَاءِ مُطَلَّقِ مَا يَنْفَعُ، أَيْ تَرَكْتُمْ مَا أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَمَعْنَى تَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ بُعْدُهُمْ عَنْهُ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْبَعِيدِ عَنِ الشَّيْءِ بِمَنْ بَارَحَهُ سَائِرًا، فَهُوَ يَتْرُكُ مَنْ يُبَارِحُهُ وَرَاءَهُ حِينَ مُبَارَحَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَارَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَبَلَغَ إِلَيْهِ وَلِذَلِكَ يُمَثِّلُ الْقَاصِدَ لِلشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُهَيِّئُهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ: قَدْ قَدَّمَهُ. وَتَرَكْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جِئْتُمُونا وَهُوَ يُبَيِّنُ مَعْنَى فُرادى إِلَّا أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِذِكْرِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الِانْفِرَادِ لِأَنَ كِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّنْدِيمِ، إِذْ جَاءُوا إِلَى الْقِيَامَةِ وَكَانُوا يَنْفُونَ ذَلِكَ الْمَجِيءَ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَنْوِي الْخَلْودَ. فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَأَبُو الْبَقَاءِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا مِنَ الْوَاوِ فِي جِئْتُمُونا فَيَصِيرُ تَرْكُ مَا خُوِّلُوهُ هُوَ مَحَلَّ التَّنْكِيلِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جِئْتُمُونا- وتَرَكْتُمْ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ التَّخْطِئَةُ وَالتَّلْهِيفُ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا إِذَا اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ عَلَّلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ: أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ اسْتِسْخَارًا أَوْ جَهْلًا، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ رَدًّا عَلَيْهِ، أَيْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ رَدُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ بَيَانٌ أَيْضًا وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: فُرادى. وَقَوْلُهُ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا شُفَعَاءَ لَهُمْ فَسِيقَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ كَلَامِ مَنْ يَتَرَقَّبُ، أَيْ يَرَى شَيْئًا فَلَمْ يَرَهُ عَلَى

نَحْوِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النَّحْل: 27] ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْوَصْفِ عَنْ شَيْءٍ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَكَانَ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِيهَامُ أَنَّ شُفَعَاءَهُمْ مَوْجُودُونَ سِوَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ دُونَ الْمَاضِي لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ رُؤْيَةِ الشُّفَعَاءِ حَاصِلٌ إِلَى الْآنِ، فَفِيهِ إِيهَامُ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مُحْتَمَلَةُ الْحُصُولِ بَعْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي التَّهَكُّمِ. وَأُضِيفَ الشُّفَعَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ شُفَعَاءُ مَعْهُودُونَ، وَهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . وَقَدْ زِيدَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى بِوَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. وَالزَّعْمُ: الْقَوْلُ الْبَاطِلُ سَوَاءً كَانَ عَن تعمّد للباطل كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [النِّسَاء: 60] أَمْ كَانَ عَنْ سُوءِ اعْتِقَادٍ كَمَا هُنَا، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَام: 22] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فِيكُمْ شُرَكاءُ لِلِاهْتِمَامِ الَّذِي وَجَّهَهُ التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا الْمَزْعُومِ إِذْ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ فَمِنْ أَيْنَ كَانَتْ شَرِكَةُ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، يَعْنِي لَوِ ادَّعَوْا لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا مُغَيَّبًا لَا يُعْرَفُ أَصْلُ تَكْوِينِهِ لَكَانَ الْعَجَبُ أَقَلَّ، لَكِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ لَهُمُ الشَّرِكَةَ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ حَقًّا لِأَجَلِ الْخَالِقِيَّةِ، كَانَ قَدْ لَزِمَهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِ خَلْقِهِ، أَيْ فِي خَلْقِهِمْ، فَلِذَلِكَ عُلِّقَتِ النُّفُوسُ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى الشَّرِكَةِ.

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَجُمْلَةُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ: مَا نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ يَعْتَادُهُمُ الطَّمَعُ فِي لِقَاءِ شُفَعَائِهِمْ فَيَتَشَوَّفُونَ لِأَنْ يَعْلَمُوا سَبِيلَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تَأْيِيسًا لَهُمْ بَعْدَ الْإِطْمَاعِ التَّهَكُّمِيِّ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَشُفَعَائِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِفَتْحِ نُونِ- بَيْنَكُمْ. فَ (بَيْنَ) عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ دَالٌّ عَلَى مَكَانِ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ فِيمَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ- بِضَمِّ نُونِ- بَيْنَكُمْ عَلَى إِخْرَاجِ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَصَارَ اسْمًا مُتَصَرِّفًا وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّقَطُّعُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَحَذْفُ فَاعِلِ تَقَطَّعَ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ التَّقَطُّعِ، فَفَاعِلُهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ مِمَّا يَصْلُحُ لِلتَّقَطُّعِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ. فَيُقَدَّرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ الْحَبْلُ أَوْ نَحْوُهُ. قَالَ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [الْبَقَرَة: 166] . وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّرْكِيبُ كَالْمَثَلِ بِهَذَا الْإِيجَازِ. وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ذِكْرُ التَّقَطُّعِ مُسْتَعَارًا لِلْبُعْدِ وَبُطْلَانِ الِاتِّصَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحَبْلِ لِلِاتِّصَالِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَقَطَّعَ أَسْبَابُ اللُّبَانَةِ وَالْهَوَى ... عَشِيَّةَ جَاوَزْنَا حَمَاةَ وَشَيْزَرَا فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ حَذْفُ الْفَاعِلِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَثَلِ. وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَصْدَرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ تَقَطَّعَ فَاعِلًا، أَيْ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَصْدَرِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، أَيْ وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنكُم. وَقَالَ التفتازانيّ: «الْأَوْلَى أَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى ضَمِيرِ الْأَمْرِ لِتَقَرُّرِهِ فِي النُّفُوسِ، أَيْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ» . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يُقَالُ: إِنَّ بَيْنَكُمْ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ

الَّذِي هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، أَيْ أَمْرُ بَيْنِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الضَّمِيرِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُعَادُهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْهَدُ فِي الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَى تَقْدِيرِهِ وُجُودُ مُعَادِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. فَأَمَّا وَالْكَلَامُ خَلِيٌّ عَنْ مُعَادٍ وَعَنْ لَفْظِ الضَّمِيرِ فَالْمُتَعَيَّنُ أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ حَذْفِ الْفَاعِلِ كَمَا قَرَّرْتُهُ لَكَ ابْتِدَاءً، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ تَوارَتْ بِالْحِجابِ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ ضَمِيرٍ إِذِ التَّاءُ عَلَامَةٌ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مُؤَنَّثٍ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ التَّاءَ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الضَّمِيرِ هِيَ الْفَاعِلُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ جَعَلَ بَيْنَكُمْ فَاعِلًا، أَيْ أُخْرِجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَجُعِلَ اسْمًا لِلْمَكَانِ الَّذِي يجْتَمع فِيهِ مَا صدق الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اسْمُ الْمَكَانِ، أَيِ انْفَصَلَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اتِّصَالِكُمْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ انْفِصَالِ أَصْحَابِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اجْتِمَاعٍ. وَالْمَكَانِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مِثْلُ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] . وَقَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْكُمْ عَطْفٌ عَلَى تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّهَكُّمِ وَالتَّأْيِيسِ. وَمَعْنَى ضَلَّ: ضِدُّ اهْتَدَى، أَيْ جَهِلَ شُفَعَاؤُكُمْ مَكَانَكُمْ لَمَّا تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْكُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ. و (مَا) مَوْصُولَة مَا صدقهَا الشُّفَعَاءُ لِاتِّحَادِ صِلَتِهَا وَصِلَةِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، أَيِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزَعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ، فَحَذَفَ مَفْعُولَا الزَّعْمِ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ لِظُهُورِ عَدَمِ جَدْوَاهَا، وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ ضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ وَتَلِفَ وَذَهَبَ، وَجَعَلُوا (مَا) مَصْدَرِيَّةً، أَيْ ذَهَبَ زَعْمُكُمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أبلغ وأوقع.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 96]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 95 إِلَى 96] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ وَأَفَانِينِ الْمَوَاعِظِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ الْمُشَاهَدَةِ، عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بالإلهيّة المستلزم لِانْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا لَا تَقْدِرُ عَلَى مَثْلِ هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ، فَلَا يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُعْبَدَ وَلَا أَنْ تُشْرَكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ إِذْ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ الْمُعَطِّلِينَ مِنَ الدَّهْرِيِّينَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَى الْمَقْصُودِينَ مِنَ الْخِطَابِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أَيْ فَتَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ. وَفِيهِ عِلْمٌ وَيَقِينٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ وَاسْتِزَادَةٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَشُكْرِهِمْ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَكِنَّ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي دَلَالَةِ الزَّرْعِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِمَاتَةِ الْحَيِّ، لَمَّا كَانَ نَظَرًا دَقِيقًا قَدِ انْصَرَفَ عَنهُ الْمُشْركُونَ فاجترأوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ أَنْكَرَ أَوْ شَكَّ فِي أَنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ (إِنَّ) . وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ هَذَا الْوَصْفِ دَوَامه لِأَنَّهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَصْفُ الْفِعْلِ أَوْ وَصْفُ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقَاتِهَا فِي مُصْطَلَحِ مَنْ لَا يُثْبِتُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الِاكْتِفَاءَ بِدَلَالَةِ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى دَلَالَتِهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي الْبَعْثِ، لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْقَصْرِ.

وَالْفَلْقُ: شَقُّ وَصَدْعُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ عَنْ بَعْضٍ، وَالْمَقْصُودُ الْفَلْقُ الَّذِي تَنْبَثِقُ مِنْهُ وَشَائِجُ النَّبْتِ وَالشَّجَرِ وَأُصُولُهَا، فَهُوَ مَحَلِّ الْعِبْرَةِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالْحَبُّ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا يُثْمِرُهُ النَّبْتُ، وَاحِدُهُ حَبَّةٌ. وَالنَّوَى اسْمُ جَمْعِ نَوَاةِ، وَالنَّوَاةُ قَلْبُ التَّمْرَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الثِّمَارِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي مِنْهَا يُنْبِتُ شَجَرَهَا مِثْلَ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونَ، وَهُوَ الْعَجَمُ بِالتَّحْرِيكِ اسْمُ جَمْعِ عُجْمَةَ. وَجُمْلَةُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي مَحَلِّ خَبَرٍ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ) تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَلْقُ الَّذِي يُخْرِجُ مِنْهُ نَبْتًا أَوْ شَجَرًا نَامِيًا ذَا حَيَاةٍ نَبَاتِيَّةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْحَبَّةُ وَالنَّوَاةُ جِسْمًا صُلْبًا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا نَمَاءَ. فَلِذَلِكَ رَجَّحَ فَصْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا لِدَلَالَتِهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيَوَانِ مِنْ مَاءِ النُّطْفَةِ أَوْ مِنَ الْبَيْضِ، فَهِيَ خَبَرٌ آخَرُ وَلَكِنَّهُ بِعُمُومِهِ يُبَيِّنُ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ، فَلِذَلِكَ يَحْسُنُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ، أَوْ عَدَمُ عَطْفِ أَحَدِ الْأَخْبَارِ. وَعَطَفَ عَلَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَوْلَهُ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِضِدِّ مَضْمُونِ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَصُنْعٍ آخَرَ عَجِيبٍ دَالٍّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنَافٍ تَصَرُّفَ الطَّبِيعَةِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْعَالِمِ الْمُخْتَارِ يَكُونُ عَلَى أَحْوَالٍ مُتَضَادَّةٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْمُتَوَلِّدِ عَنْ سَبَبٍ طَبْعِيٍّ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَكْمِلَةُ بَيَانٍ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ عَنِ النَّبَاتِ وَالنَّوَى عَنِ الشَّجَرِ يَشْمَلُ أَحْوَالًا مُجْمَلَةً، مِنْهَا حَالُ إِثْمَارِ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ: حَبًّا يَيْبَسُ وَهُوَ فِي قَصَبِ نَبَاتِهِ فَلَا تَكُونُ فِيهِ حَيَاةٌ، وَنَوَى فِي بَاطِنِ الثِّمَارِ يَبَسًا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَنَوَى الزَّيْتُونِ وَالتَّمْرِ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الْبَيَانِ بِإِخْرَاجِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ وَاللُّؤْلُؤِ وَحَجَرِ (الْبَازهرِ) مِنْ بَوَاطِنِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، فَظَهَرَ صُدُورُ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَمَامَ الظُّهُورِ.

وَقَدْ رَجَّحَ عَطْفُ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ كَالتَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَيْ يَفْعَلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا كَقَوْلِهِ بَعْدَهُ فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلَ سَكَناً. وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَطْفًا عَلَى فالِقُ الْحَبِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ فالِقُ الْحَبِّ لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ يَنْشَأُ عَنْهُ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لَا الْعَكْسُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ عَلَاقَةَ وَصْفِ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخَبَرِ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَقْوَى مِنْ عَلَاقَتِهِ بِخَبَرِ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى. وَقَدْ جِيءَ بِجُمْلَةِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِعْلِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَتَجَدَّدُ وَيَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ آنٍ، فَهُوَ مُرَادٌ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ اسْمًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مُتَجَدِّدٌ وَثَابِتٌ، أَيْ كَثِيرٌ وَذَاتِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْإِخْرَاجَيْنِ لَيْسَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ قَرِينِهِ فَكَانَ فِي الْأُسْلُوبِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمُ لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ وَلِلتَّعْرِيضِ بِغَبَاوَةِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُشْرِكِينَ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ ذَلِكُمُ الْفَاعِلُ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْفَلْقِ وَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَلْقُ باسمه الْعَظِيم الدالّ عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ، الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا تَعْدِلُوا بِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. وَالْأَفْكُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- مَصْدَرُ أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، إِذَا صَرَفَهُ عَنْ مَكَانٍ أَوْ عَنْ عَمَلٍ، أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ. وَ (أَنَّى) بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ مُوجِبٌ يَصْرِفُكُمْ عَنْ تَوْحِيدِهِ. وَبُنِيَ فِعْلُ تُؤْفَكُونَ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ

صَارِفِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَجْمُوعُ أَشْيَاءَ: وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَتَضْلِيلِ قَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَهَوَى أَنْفُسِهِمْ. وَجُمْلَةُ (ذَلِكُمُ اللَّهُ) مُسْتَأْنَفَةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ اعْتِرَاضًا. وفالِقُ الْإِصْباحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا رَابِعًا عَنِ اسْمِ (إِنَّ) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ اعْتِرَاضًا. وَالْإِصْبَاحُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَصْبَحَ الْأُفُقُ، إِذَا صَارَ ذَا صَبَاحٍ، وَقَدْ سَمَّى بِهِ الصَّبَاحَ، وَهُوَ ضِيَاءُ الْفَجْرِ فَيُقَابِلُ اللَّيْلَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ اسْتِعَارَةٌ لِظُهُورِ الضِّيَاءِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِفَلْقِ الظُّلْمَةِ عَنِ الضِّيَاءِ، كَمَا اسْتُعِيرَ لِذَلِكَ أَيْضًا السَّلْخُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] . فَإِضَافَةُ فالِقُ إِلَى الْإِصْباحِ حَقِيقِيَّةٌ وَهِيَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَهُ شَائِبَةُ الِاسْمِيَّةِ فَيُضَافُ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً، وَلَهُ شَائِبَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَيُضَافُ إِضَافَةً لَفْظِيَّةً. وَهُوَ هُنَا لَمَّا كَانَ دَالًّا عَلَى وَصْفٍ فِي الْمَاضِي ضَعُفَ شَبَهُهُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُشْبِهُ الْمُضَارِعَ فِي الْوَزْنِ وَزَمَنِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَفْعُولِيَّةُ عَلَى التَّوَسُّعِ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، أَيْ فَالِقٌ عَنِ الْإِصْبَاحِ فَانْتَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الصُّبْحَ فَلَقًا- بِفَتْحَتَيْنِ- بِزِنَةِ مَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا قَالُوا مَسْكَنٌ، أَيْ مَسْكُونٌ إِلَيْهِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا لَفْظِيَّةً بِالتَّأْوِيلِ وَلَيْسَتْ إِضَافَتُهُ مِنْ إِضَافَةِ الْوَصْفِ إِلَى مَعْمُولِهِ إِذْ لَيْسَ الْإِصْبَاحُ مَفْعُولَ الْفَلْقِ وَالْمَعْنَى فَالِقٌ عَنِ الْإِصْبَاحِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمَفْلُوقَ هُوَ اللَّيْلُ وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ فَالِقَ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، أَيِ الظُّلْمَةِ الَّتِي يَعْقُبُهَا الصُّبْحُ وَهِيَ ظُلْمَةُ الْغَبَشِ، فَإِنَّ فَلْقَ اللَّيْلِ عَنِ الصُّبْحِ أَبْدَعُ فِي مَظْهَرِ الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ، لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورَ وُجُودٌ. وَالْإِيجَادُ هُوَ مَظْهَرُ الْقُدْرَةِ

وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ ومظهرا لِلْقُدْرَةِ إِلَّا إِذَا تَسَلَّطَ عَلَى مَوْجُودٍ وَهُوَ الْإِعْدَامُ، وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ نِعْمَةٌ أَيْضًا عَلَى النَّاسِ لِيَنْتَفِعُوا بِحَيَاتِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ. وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنَا عَطْفٌ عَلَى فالِقُ الْإِصْباحِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَجَرِّ اللَّيْلَ- لِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفَيْنِ فِي الِاسْمِيَّةِ وَالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ. وَجَعَلَ بِصِيغَة فعل الْمَاضِي وَبِنَصْبِ اللَّيْلَ. وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ اللَّيْلِ بِمَادَّةِ الْجَعْلِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ فَتَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ فِيهَا هُوَ تَعَلُّقُهَا بِإِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ تِلْكَ الظُّلْمَةِ مِنَ الْأَنْوَارِ الْعَارِضَةِ لِلْأُفُقِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَلَقَ الْإِصْبَاحَ بِقُدْرَتِهِ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ وَلَمْ يَجْعَلِ النُّورَ مُسْتَمِرًّا فِي الْأُفُقِ فَجَعَلَهُ عَارِضًا مُجَزَّءًا أَوْقَاتًا لَتَعُودَ الظَّلَمَةُ إِلَى الْأُفُقِ رَحْمَةً مِنْهُ بِالْمَوْجُودَاتِ لِيَسْكُنُوا بَعْدَ النَّصَبِ وَالْعَمَلِ فَيَسْتَجِمُّوا رَاحَتَهَمْ. وَالسَّكَنُ- بِالتَّحْرِيكِ- عَلَى زِنَةِ مُرَادِفِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْفَلْقِ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَفْعُولًا بِالتَّوَسُّعِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، أَيْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالسُّكُونُ فِيهِ مَجَازٌ. وَتُسَمَّى الزَّوْجَةُ سَكَنًا وَالْبَيْتُ سَكَنًا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً [النَّحْل: 80] ، فَمَعْنَى جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا أَنَّهُ جُعِلَ لِتَحْصُلَ فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ. وَعَطَفَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى اللَّيْلَ بِالنَّصْبِ رَعْيًا لِمَحَلِّ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِ جَاعِلُ بِنَاءً عَلَى الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ. وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَحَلِّ شَائِعٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلِ رَفْعِ الْمَعْطُوفِ عَلَى اسْمِ (إِنَّ) ، وَنَصْبِ الْمَعْطُوفِ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ. وَالْحُسْبَانُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَسَبَ- بِفَتْحِ السِّينِ- كَالْغُفْرَانِ، وَالشُّكْرَانِ،

[سورة الأنعام (6) : آية 97]

وَالْكُفْرَانُ، أَيْ جَعَلَهَا حِسَابًا، أَيْ عَلَامَةَ حِسَابٍ لِلنَّاسِ يَحْسُبُونَ بِحَرَكَاتِهَا أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشُّهُورِ، وَالْفُصُولِ، وَالْأَعْوَامِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَى النَّاسِ وَتَذْكِيرٌ بِمَظْهَرِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ لِلشَّمْسِ حُسْبَانٌ كَمَا جُعِلَ لِلْقَمَرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ يَحْسُبُونَ شُهُورَهُمْ وَأَعْوَامَهُمْ بِحِسَابِ سَيْرِ الشَّمْسِ بِحُلُولِهَا فِي الْبُرُوجِ وَبِتَمَامِ دَوْرَتِهَا فِيهَا. وَالْعَرَبُ يَحْسُبُونَ بِسَيْرِ الْقَمَرِ فِي مَنَازِلِهِ. وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ الْكُبْسَ لِتَحْوِيلِ السَّنَةِ إِلَى فُصُولٍ مُتَمَاثِلَةٍ، فَمُوقِعُ الْمِنَّةِ أَعَمُّ مِنَ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ فِي حِسَابِ الْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ بِالْقَمَرِيِّ، وَإِنَّمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ بِجَعْلِ اللَّهِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهَذَا بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مِنْهُ وَلَوِ اطَّلَعُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ النِّظَامِ الْبَدِيعِ لَكَانَتِ الْعِبْرَةُ بِهِ أَعْظَمَ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمَا بِالْمَصْدَرِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَاسِبَيْنِ. وَالْحَاسِبُ هُمُ النَّاسُ بِسَبَبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْجَعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جَاعِلُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَضَعَ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: 2] . وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، الْقَاهِرُ، وَاللَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ حَقًّا لِأَنَّهُ لَا تَتَعَاصَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْكَائِنَاتُ كُلُّهَا. وَالْعَلِيمُ مُبَالَغَةٌ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى النِّظَامِ الْبَدِيعِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ عَالِمٍ عَظِيم الْعلم. [97] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 97] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجَاعِلُ اللَّيْل سكنا [الْأَنْعَام: 96] ، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِعَظِيمِ خِلْقَةِ النُّجُومِ، وَبِالنِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ نِظَامِ سَيْرِهَا إِذْ كَانَتْ هِدَايَةً

لِلنَّاسِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يَهْتَدُونَ بِهَا. وَقَدْ كَانَ ضَبْطُ حَرَكَاتِ النُّجُومِ وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أَقْدَمِ الْعُلُومِ الْبَشَرِيَّةِ ظَهَرَ بَيْنَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ. وَذَلِكَ النِّظَامُ هُوَ الَّذِي أَرْشَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَدْوِينِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلِذَلِكَ صِيغَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَوْنَ خَلْقِ النُّجُومِ مِنَ اللَّهِ وَكَوْنَهَا مِمَّا يُهْتَدَى بِهَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُونَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ. وَالنُّجُومُ جَمْعُ نَجْمٍ، وَهُوَ الْكَوْكَبُ، أَيِ الْجِسْمُ الْكُرَوِيُّ الْمُضِيءُ فِي الْأُفُقِ لَيْلًا الَّذِي يَبْدُو لِلْعَيْنِ صَغِيرًا، فَلَيْسَ الْقَمَرُ بِنَجْمٍ. وجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ ولَكُمُ. مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ، وَالضَّمِيرُ لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، فَلَامُ لَكُمُ لِلْعِلَّةِ. وَقَوْلُهُ: لِتَهْتَدُوا بِها عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِ جَعَلَ فَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ أَيْضًا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأُولَى عَلَى قَصْدِ الِامْتِنَانِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّمِيرِ الدَّالِّ عَلَى الذَّوَاتِ، كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] ، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى حِكْمَةِ الْجَعْلِ وَسَبَبِ الِامْتِنَانِ وَهُوَ ذَلِكَ النَّفْعُ الْعَظِيمُ. وَلَمَّا كَانَ الِاهْتِدَاءُ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ كَانَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: لِتَهْتَدُوا قَرِيبًا مِنْ مَوْقِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [114] . وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ: الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ، فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْقُوَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّائِعَ أَنْ يُقَالَ: ظُلُمَاتٌ، وَلَا يُقَالُ: ظُلْمَةٌ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] . وَإِضَافَةُ ظُلُماتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى مَعْنَى (فِي) لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَاقِعَةٌ فِي

هَذَيْنِ الْمَكَانَيْنِ، أَيْ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي السَّيْرِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَمَنْ يَنْفِي الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى (فِي) يَجْعَلُهَا إِضَافَةً عَلَى مَعْنَى اللَّامِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَمَا فِي «كَوْكَبِ الْخَرْقَاءِ» (¬1) . وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِمَّا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَابَهَةِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ «الْمِفْتَاحِ» فِي مَبْحَثِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِذْ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْملك بالمالك اهـ. فَاسْتَعْمَلَ فِيهِ الْإِضَافَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى مَعْنَى لَامِ الْمِلْكِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَإِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ على رَأْي التفتازانيّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذْ قَالَ فِي «كَوْكَبِ الْخَرْقَاءِ» «حَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ اللَّامِيَّةِ الِاخْتِصَاصُ الْكَامِلُ، فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ تَكُونُ مَجَازًا حكميا» . ولعلّ التفتازانيّ يَرَى الِاخْتِلَافَ فِي الْمَجَازِ بِاخْتِلَافِ قُرْبِ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَبُعْدِهَا مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثَالَيْنِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، يُؤْذِنُ بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ إِسْنَادُ الْحُكْمِ أَوْ مَعْنَاهُ إِلَى مَلَابِسٍ لِمَا هُوَ لَهُ. وَجُمْلَةُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ مُسْتَأْنِفَةٌ لِلتَّسْجِيلِ وَالتَّبْلِيغِ وَقَطْعِ مَعْذِرَةِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقٌ بِ فَصَّلْنَا كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعِذَارَى مَطِيَّتِي أَيْ فَصَّلْنَا لِأَجْلِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [55] . وَجَعَلَ التَّفْصِيلَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تَعْرِيضًا بِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ. ¬

(¬1) فِي قَول الشَّاعِر الَّذِي لم يعرف اسْمه: إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرة ... سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب

[سورة الأنعام (6) : آية 98]

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْمَلُ آيَةَ خَلْقِ النُّجُومِ وَغَيْرَهَا. وَالْعِلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ: فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ: وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَائِلِ الْآيَاتِ. وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 99] . [98] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 98] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) هَذَا تَذْكِيرٌ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَكَيْفَ نَشَأْ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ، فَالَّذِي أَنْشَأَ النَّاسَ وَخَلَقَهُمْ هُوَ الْحَقِيقُ بِعِبَادَتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا أَشْرَكُوا بِهِ، وَالنَّظَرُ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَعْظَمِ الْآيَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . وَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، إِذْ أَشْرَكُوا فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ خَالِقِهِمْ غَيْرَ مَنْ خَلَقَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ. وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ وَالْإِيجَادُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مُرَادٌ بِهِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ. وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ هِيَ آدَمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ أَنْشَأَكُمْ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ الْمُقَارَنِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مُسْتَقَرٌّ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «بِكَسْرِ الْقَافِ» . فَعَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْقَافِ- يَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، ومُسْتَوْدَعٌ كَذَلِكَ، وَرَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ،

تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ أَوْ مِنْكُمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَأَنْتُمْ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحَاصِلِ بِهِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَنْ إِنْشَائِكُمُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ، أَيْ لَكُمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ- كَسْرِ الْقَافِ- يَكُونُ الْمُسْتَقِرُّ اسْمَ فَاعِلٍ. وَالْمُسْتَوْدَعُ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنِ اسْتَوْدَعَهُ بِمَعْنَى أَوْدَعَهُ، أَيْ فَمُسْتَقِرٌّ مِنْكُمْ أَقْرَرْنَاهُ فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ، وَمُسْتَوْدَعٌ مِنْكُمْ وَدَّعْنَاهُ فَهُوَ مُسْتَوْدَعٌ. وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْقَرَارُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. يُقَالُ: اسْتَقَرَّ فِي الْمَكَانِ بِمَعْنَى قَرَّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [67] . وَالِاسْتِيدَاعُ: طَلَبُ التَّرْكِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَدْعِ، وَهُوَ التَّرْكُ عَلَى أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْمُسْتَوْدَعَ. يُقَالُ: اسْتَوْدَعَهُ مَالًا إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، فَالِاسْتِيدَاعُ مُؤْذِنٌ بِوَضْعٍ مُوَقَّتٍ، وَالِاسْتِقْرَارُ مُؤْذِنٌ بِوَضْعٍ دَائِمٍ أَوْ طَوِيلٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْهَمَا مُتَقَابِلَانِ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْمُسْتَقَرُّ الْكَوْنُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْكَوْنُ فِي الْقَبْرِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْكَلَامُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ حَيَاةَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا يَعْقُبُهَا الْوَضْعُ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ اسْتِيدَاعٌ مُوَقَّتٌ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى رَدًّا عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الرَّحِمِ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَفَسَّرَ بِهِ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْفَخْرُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النُّطْفَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَبْقَى فِي صُلْبِ الْأَبِ زَمَانًا طَوِيلًا وَالْجَنِينُ يَبْقَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ زَمَانًا طَوِيلًا. وَعَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى لَا يُثْلَجُ لَهَا الصَّدْرُ أَعْرَضْنَا عَنِ التَّطْوِيلِ بِهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ مَعْنًى دُونَ غَيْرِهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ مُسْتَقِرًّا فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعًا فِي الصُّلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ بَطْنِهَا وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَمِنْهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي

الْقَبْرِ مُسْتَوْدَعٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَكُلُّ مُسْتَقِرٍّ أَوْ مُسْتَوْدَعٍ بِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ اهـ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هُوَ مُسْتَوْدَعٌ فِي ظَهْرِ أَبِيهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الرَّحِمِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقَبْرِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْحَشْرِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. وَهُوَ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الظَّرْفَيْنِ مُسْتَقِرٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَمُسْتَوْدَعٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الّتي بعْدهَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ الِاسْتِيدَاعُ بِالْقُبُورِ بَلْ هُوَ اسْتِيدَاعٌ مِنْ وَقْتِ الْإِنْشَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ لِلتَّقْسِيمِ بَلِ الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ لِلْجَمْعِ، أَيْ أَنْشَأَكُمْ فَشَأْنُكُمُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ فَأَنْتُمْ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِكُمْ فِي الْأَرْضِ وَدَائِعُ فِيهَا وَمَرْجِعُكُمْ إِلَى خَالِقِكُمْ كَمَا تَرْجِعُ الْوَدِيعَةُ إِلَى مُودِعِهَا. وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ بِهَذَيْنِ الْمَصْدَرَيْنِ مَا كَانَ إِلَّا لِإِرَادَةِ تَوْفِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ- كَسْرِ الْقَافِ- هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَمُسْتَوْدَعٌ اسْمُ مَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى هُوَ هُوَ. وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ تَقْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ مَقْصُودٌ بِهِ التَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ. وَعَدَلَ عَنْ (يَعْلَمُونَ) إِلَى يَفْقَهُونَ لِأَنَّ دَلَالَةَ إِنْشَائِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحِكْمَةِ دَلَالَةٌ دَقِيقَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ، فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْهَا فَعَبَّرَ عَنْ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ فِقْهٌ، بِخِلَافِ دَلَالَةِ النُّجُومِ عَلَى حِكْمَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَهِيَ دَلَالَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمُوَافَقَةُ لِلْحَقِيقَةِ،

[سورة الأنعام (6) : آية 99]

وَالْفِقْهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ. فَحَصَلَ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَانْتَفَى الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 99] . [99] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) الْقَوْلُ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَخْ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يَتَكَوَّنُ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا الزَّمْهَرِيرِيَّةِ عِنْدَ تَصَاعُدِ الْبُخَارِ الْأَرْضِيِّ إِلَيْهَا فَيَصِيرُ الْبُخَارُ كَثِيفًا وَهُوَ السَّحَابُ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ مَاءً. فَالسَّمَاءُ اسْمٌ لِأَعْلَى طَبَقَاتِ الْجَوِّ حَيْثُ تَتَكَوَّنُ الْأَمْطَارُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ جَعَلَ اللَّهُ الْمَاءَ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّبَاتِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْمَاءِ. وَالنَّبَاتُ اسْمٌ لِمَا يَنْبُتُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ نَبَتَ، سُمِّيَ بِهِ النَّابِتُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الَّذِي صَارَ حَقِيقَةً شَائِعَةً فَصَارَ النَّبَاتُ اسْمًا مُشْتَرِكًا مَعَ الْمَصْدَرِ.

وَشَيْءٍ مُرَادٌ بِهِ صِنْفٌ مِنَ النَّبَاتِ بِقَرِينَةِ إِضَافَةِ نَباتَ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِالْمَاءِ مَا يَنْبُتُ مِنْ أَصْنَافِ النَّبْتِ. فَإِنَّ النَّبْتَ جِنْسٌ لَهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَمِنْهُ زَرْعُ وَهُوَ مَا لَهُ سَاقٌ لَيِّنَةٌ كَالْقَصَبِ وَمِنْهُ شَجَرٌ وَهُوَ مَا لَهُ سَاقٌ غَلِيظَةٌ كَالنَّخْلِ، وَالْعِنَبِ وَمِنْهُ نَجْمٌ وَأَبٌّ وَهُوَ مَا يَنْبُتُ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهَذَا التَّعْمِيمُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالطَّبَائِعِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ وَالْمَذَاقِ، وَهِيَ كُلُّهَا نَابِتَةٌ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ آيَةٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: 4] وَهُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ لِيَعْتَبِرُوا بِدَقَائِقِ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ مُخْتَلَفِ الْقُوَى الَّتِي سَبَّبَتِ اخْتِلَافَ أَحْوَالِهَا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَاءُ التَّفْرِيعِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، فَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ إِلَى النَّبَاتِ، أَيْ فَكَانَ مِنَ النَّبْتِ خَضِرٌ وَنَخْلٌ وَجَنَّاتٌ وَشَجَرٌ، وَهَذَا تَقْسِيمُ الْجِنْسِ إِلَى أَنْوَاعِهِ. وَالْخَضِرُ: الشَّيْءُ الَّذِي لَوْنُهُ أَخْضَرُ، يُقَالُ: أَخْضَرُ وَخَضِرٌ كَمَا يُقَالُ: أَعْوَرُ وَعُوِرٌ، وَيُطْلَقُ الْخَضِرُ اسْمًا لِلنَّبْتِ الرَّطِبِ الَّذِي لَيْسَ بِشَجَرٍ كَالْقَصِيلِ وَالْقَضْبِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا» الْحَدِيثَ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً، فَإِنَّ الْحَبَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّبْتِ الرَّطْبِ. وَجُمْلَةُ: نُخْرِجُ مِنْهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ خَضِراً لِأَنَّهُ صَارَ اسْمًا، وَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ إِلَى خَضِراً. وَالْحَبُّ: هُوَ ثَمَرُ النَّبَاتِ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالزَّرَارِيعُ كُلُّهَا.

وَالْمُتَرَاكِبُ: الْمُلْتَصِقُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي السُّنْبُلَةِ، مِثْلُ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّفَاعُلُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي رُكُوبِ بَعْضِهِ بَعْضًا. وَجُمْلَةُ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ عَطْفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: مِنَ النَّخْلِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقِنْوانٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. وَالْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ خُرُوجِ الْقِنْوَانِ مِنَ الطَّلْعِ وَمَا فِيهِ مِنْ بَهْجَةٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَغْيِيرِ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ أَسَالِيبِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا إِذْ لَمْ تُعْطَفْ أَجْزَاؤُهَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا يُفِيدُ مَا أَفَادَتْهُ أَخَوَاتُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّخْلِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْجِنْسِيِّ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِالتَّعْرِيفِ فِيهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ الْجِنْسُ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ النَّخْلَ شَجَرُهُمْ وَثَمَرَهُ قُوتُهُمْ وَحَوَائِطَهُ مُنْبَسَطُ نُفُوسِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا مِنَ النَّخْلِ اعْتِدَادًا بِالتَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ كَقَوْلِهِ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلْعِها بَدَلَ بَعْضٍ مِنَ النَّخْلِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وقِنْوانٌ- بِكَسْرِ الْقَافِ- جَمْعُ قِنْوٍ- بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْضًا- عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيْرَ لُغَةِ قَيْسٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُمْ يَضُمُّونَ الْقَافَ. فَقِنْوَانٌ- بِالْكَسْرِ- جَمْعُ تَكْسِيرٍ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ نَادِرَةٌ، غَيْرَ جَمْعِ فُعَلٍ (بِضَمٍّ فَفَتْحٍ) وَفعل (بِضَمٍّ فَسُكُونٍ) وَفعل (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) إِذَا كَانَا وَاوِيَّيِ الْعَيْنِ وفعال. وَالْقِنْوُ: عُرْجُونُ التَّمْرِ، كَالْعُنْقُودِ لِلْعِنَبِ، وَيُسَمَّى الْعِذْقَ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَيُسَمَّى الْكِبَاسَةُ- بِكَسْرِ الْكَافِ-. وَالطَّلْعُ: وِعَاءُ عُرْجُونِ التَّمْرِ الَّذِي يَبْدُو فِي أَوَّلِ خُرُوجِهِ يَكُونُ كَشَكْلِ

الْأُتْرُجَّةِ الْعَظِيمَةِ مُغْلَقًا عَلَى الْعُرْجُونِ، ثُمَّ يَنْفَتِحُ كَصُورَةِ نَعْلَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعُنْقُودُ مُجْتَمِعًا، وَيُسَمَّى حِينَئِذٍ الْإِغْرِيضَ، ثُمَّ يَصِيرُ قِنْوًا. ودانِيَةٌ قَرِيبَةٌ. وَالْمُرَادُ قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: 23] . وَالْقِنْوَانُ الدَّانِيَةُ بَعْضُ قِنْوَانِ النَّخْلِ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ هُنَا إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ فِي خِلَالِ التَّذْكِيرِ بِإِتْقَانِ الصَّنْعَةِ فَإِنَّ الْمِنَّةَ بِالْقِنْوَانِ الدَّانِيَةِ أَتَمُّ، وَالدَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ نَخْلَتُهَا قَصِيرَةً لَمْ تَتَجَاوَزْ طُولَ قَامَةِ الْمُتَنَاوِلِ، وَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْبَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ لِأَنَّ الذِّكْرَى قَدْ حَصَلَتْ بِالدَّانِيَةِ وَزَادَتْ بِالْمِنَّةِ التَّامَّةِ. وجَنَّاتٍ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى خَضِراً. وَمَا نُسِبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ رَفْعِ جَنَّاتٍ لَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَعْنابٍ تَمْيِيزٌ مَجْرُورٌ بِ مِنَ الْبَيَانِيَّةِ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لِلْأَعْنَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَادِيرِ كَمَا يُقَال جريت تَمْرًا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُدِّيَ فِعْلُ الْإِخْرَاجِ إِلَى الْجَنَّاتِ دُونَ الْأَعْنَابِ، فَلَمْ يُقِلْ وَأَعْنَابًا فِي جَنَّاتٍ. وَالْأَعْنَابُ جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ جَمْعُ عِنَبَةٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَمَرُ شَجَرِ الْكَرْمِ. وَيُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ عِنَبٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ شَجَرَةِ عِنَبٍ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَتُنُوسِيَ الْمُضَافُ. قَالَ الرَّاغِبُ: «الْعِنَبُ يُقَالُ لِثَمَرَةِ الْكَرْمِ وللكرم نَفسه» اهـ. وَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْمُفْرَدِ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ، فَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقَ الْعِنَبَةِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَلَكِنْ يُطْلَقُ بِالْجَمْعِ، يُقَالُ: عِنَبٌ، مُرَادٌ بِهِ الْكَرْمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً [عبس: 27، 28] ، وَيُقَالُ: أَعْنَابٌ كَذَلِكَ، كَمَا هُنَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّهُ يُقَالُ: عِنَبَةٌ لِشَجَرَةِ الْكَرْمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «الْعِنَبُ يُقَالُ لِثَمَرَةِ الْكَرْمِ وَلِلْكَرْمِ نَفْسِهِ الْوَاحِدَةُ عِنَبَةٌ» . وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ وَالتَّعْرِيفُ فِيهِمَا

الْجِنْسُ كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ شَجَرُهُمَا. وَهُمَا فِي الْأَصْلِ اسْمَانِ لِلثَّمَرَتَيْنِ ثُمَّ أُطْلِقَا عَلَى شَجَرَتَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَعْنَابِ. وَهَاتَانِ الشَّجَرَتَانِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مِثْلَ النَّخْلِ فِي الْأَهَمِّيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ إِلَّا أَنَّهُمَا لِعِزَّةِ وَجُودِهِمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَلِتُنَافِسِ الْعَرَبِ فِي التَّفَكُّهِ بِثَمَرِهِمَا وَالْإِعْجَابِ بِاقْتِنَائِهِمَا ذُكِرَا فِي مَقَامِ التَّذْكِيرِ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَّتِهِ. وَكَانَتْ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ مَوْجُودَةً بِالشَّامِ وَفِي سَيْنَا، وَشَجَرَةُ الرُّمَّانِ مَوْجُودَةً بِالطَّائِفِ. وَقَوْلُهُ: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حَالٌ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، أَيْ بَعْضُهُ مُشْتَبَهٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ. وَهُمَا حَالَانِ مِنَ «الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» مَعًا، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ وَلَمْ يُجْمَعِ اعْتِبَارًا بِإِفْرَادِ اللَّفْظِ. وَالتَّشَابُهُ وَالِاشْتِبَاهُ مُتَرَادِفَانِ كَالتَّسَاوِي وَالِاسْتِوَاءِ، وَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الشَّبَهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ لِلتَّفَنُّنِ كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنَ التَّشَابُهِ أَسْعَدُ بِالْوَقْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَدِّ الصّوت بِخِلَاف مشتبه. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ. وَالتَّشَابُهُ: التَّمَاثُلُ فِي حَالَةٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ، أَيْ بَعْضُ شَجَرِهِ يُشْبِهُ بَعْضًا وَبَعْضُهُ لَا يُشْبِهُ بَعْضًا، أَوْ بَعْضُ ثَمَرِهِ يُشْبِهُ بَعْضًا وَبَعْضُهُ لَا يُشْبِهُ بَعْضًا، فَالتَّشَابُهُ مِمَّا تَقَارَبَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ شَكْلُهُ مِمَّا يَتَطَلَّبُهُ النَّاسُ مِنْ أَحْوَالِهِ عَلَى اخْتِلَاف أميالهم، وَعدم التَّشَابُهُ مَا اخْتَلَفَ بَعْضُهُ عَنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فِيمَا يَتَطَلَّبُهُ النَّاسُ مِنَ الصِّفَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ شَهَوَاتِهِمْ، فَمِنْ أَعْوَادِ الشَّجَرِ غَلِيظٌ وَدَقِيقٌ، وَمِنْ أَلْوَانِ وَرَقِهِ قَاتِمٌ وَدَاكِنٌ، وَمِنْ أَلْوَانِ ثَمَرِهِ مُخْتَلِفٌ وَمِنْ طَعْمِهِ كَذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: 4] . وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذِهِ الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لَا بِالصُّدْفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْحَالَ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً،

فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُشْتَبِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ حَالًا مِنَ الزَّيْتُونَ لِأَنَّهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَقَدَّرَ لِ الرُّمَّانَ حَالًا أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا الْأُولَى، بِتَقْدِيرِ: وَالرُّمَّانُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَى تَعَدُّدَ صَاحِبِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ وَلَا التَّنَازُعَ فِي الْحَالِ وَنَظَرِهِ بِإِفْرَادِ الْخَبَرِ بَعْدَ مُبْتَدَأٍ وَمَعْطُوفٍ فِي قَوْلِ الْأَزْرَقِ بْنِ طَرَفَةَ الْبَاهِلِيَّ، جَوَابًا لِبَعْضِ بَنِي قُشَيْرٍ وَقَدِ اخْتَصَمَا فِي بِئْرٍ فَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَنْتَ لِصٌّ ابْنُ لِصٍّ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِيَ وَلَا ضَيْرَ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ التَّنْبِيهَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ دَلَائِلِ الِاخْتِيَارِ يُوَجِّهُ الْعُقُولَ إِلَى مَا فِي مُمَاثِلِهِ مِنْ أَمْثَالِهَا. وَجُمْلَةُ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ بَيَانٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مُشْتَبِهاً مِنْ تَخْصِيصٍ أَوْ تَعْمِيمٍ. وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ نَظَرُ الِاسْتِبْصَارِ وَالِاعْتِبَارِ بِأَطْوَارِهِ. وَالثَّمَرُ: الْجَنَى الَّذِي يُخْرِجُهُ الشَّجَرُ. وَهُوَ- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- فِي قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، جَمْعُ ثَمَرَةٍ- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَمَا جُمِعَتْ: خَشَبَةٌ عَلَى خُشُبٍ، وَنَاقَةٌ عَلَى نُوقٍ. وَالْيَنْعُ: الطَّيِّبُ وَالنِّضِجُ. يُقَالُ: يَنَعَ- بِفَتْحِ النُّونِ- يَيْنَعُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- وَيُقَالُ: أَيْنَعَ يُونِعُ يَنْعًا- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ-. وإِذا ظَرْفٌ لِحُدُوثِ الْفِعْلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْوَقْت الّذي يبتدىء فِيهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَ إِلَيْهَا، أَيْ حِينَ ابْتِدَاءِ أَثْمَارِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيَنْعِهِ لَمْ يُقَيَّدْ بِإِذَا أَيْنَعَ لِأَنَّهُ إِذَا يَنَعَ فَقَدْ تَمَّ تَطَوُّرُهُ وَحَانَ قِطَافُهُ فَلَمْ تَبْقَ لِلنَّظَرِ فِيهِ عِبْرَةٌ لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَتْ أَطْوَارُهُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 100]

وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِالنَّظَرِ. وَمُوقِعُ (إِنَّ) فِيهِ مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْمَذْكُورِ كُلِّهِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَنْعِهِ فَتَوْحِيدُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] . ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَصْفٌ لِلْآيَاتِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُعَلَّلُ هُوَ مَا فِي مَدْلُولِ الْآيَاتِ مِنْ مُضَمَّنِ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالنَّفْعِ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ تَصْرِيحًا بِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 97] وَقَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الْأَنْعَام: 98] ، وَإِتْمَامًا لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّ غَيْرَ الْعَالَمِينَ وَغَيْرَ الْفَاقِهِينَ هُمْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُشْركين. [100] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 100] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) عَطَفَ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهُ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي جَعَلُوا عَائِدٌ إِلَى قَوْمُكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: 66] . وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ شِرْكٍ آخَرَ مِنْ شِرْكِ الْعَرَبِ وَهُوَ جَعْلُهُمُ الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِمْ كَمَا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ دِينُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَلِيطًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمِنَ الصَّابِئِيَّةِ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَةِ الشَّيَاطِينِ، وَمَجُوسِيَّةِ الْفُرْسِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لِجَهْلِهِمْ حِينَئِذٍ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ وَالَّتِي يَرْحَلُونَ إِلَيْهَا عَقَائِدَ شَتَّى مُتَقَارِبًا بَعْضُهَا وَمُتَبَاعِدًا بَعْضُ، فَيَأْخُذُونَهُ بِدُونِ

تَأَمُّلٍ وَلَا تَمْحِيصٍ لِفَقْدِ الْعِلْمِ فِيهِمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ هُوَ الذَّائِدُ عَنِ الْعُقُولِ مِنْ أَنْ تُعَشَّشَ فِيهَا الْأَوْهَامُ وَالْمُعْتَقَدَاتُ الْبَاطِلَةُ، فَالْعَرَبُ كَانَ أَصْلُ دِينِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَسَرَتْ إِلَيْهِمْ مَعَهَا عَقَائِدُ مِنِ اعْتِقَادِ سُلْطَةِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكَانَ الْعَرَبُ يُثْبِتُونَ الْجِنَّ وَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ تَصَرُّفَاتٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا يَتَّقُونَ الْجِنَّ وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهَا وَيَتَّخِذُونَ لَهَا الْمَعَاذَاتِ وَالرُّقَى وَيَسْتَجْلِبُونَ رِضَاهَا بِالْقَرَابِينِ وَتَرْكِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ الذَّبَائِحِ. وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكَاهِنَ تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِالْخَبَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الشَّاعِرَ لَهُ شَيْطَانٌ يُوحِي إِلَيْهِ الشّعر، ثمّ إِذْ أَخَذُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَجَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُعْتَقَدِهِمْ فِي أُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعَلَّلُوا لِذَلِكَ بِأَنَّ لِلْجِنِّ صِلَةً بِاللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ أُمَّهَاتِ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] وَقَالَ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الصافات: 149- 152] . وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلْجِنِّ. قَالَ تَعَالَى: وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41] . وَالَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ هُمْ قُرَيْشٌ وَجُهَيْنَةُ وَبَنُو سَلَمَةَ وَخُزَاعَةُ وَبَنُو مُلَيْحٍ. وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ مَجُوسًا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ إِلَهُ الشَّرِّ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُ الْخَيْرِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ جُنْدَ اللَّهِ وَالْجِنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ. وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الشَّرِّ فَصَارَ إِلَهَ الشَّرِّ. وَهُمْ قَدِ انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِنَ الدِّيَانَةِ الْمَزْدَكِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِإِلَهَيْنِ إِلَهٍ لِلْخَيْرِ وَهُوَ (يَزْدَانُ) . وَإِلَهٍ لِلشَّرِّ وَهُوَ (أَهْرُمُنُ) وَهُوَ الشَّيْطَانُ. فَقَوْلُهُ: الْجِنَّ مَفْعُولُ أَوَّلُ جَعَلُوا وشُرَكاءَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، لِأَنَّ الْجِنَّ

الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ لَا مُطْلَقُ الشُّرَكَاءِ، لِأَنَّ جَعْلَ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ. ولِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ شُرَكاءَ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَعْجِيبٍ وَإِنْكَارٍ فَصَارَ لِذَلِكَ أَهَمَّ وَذِكْرُهُ أَسْبَقَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ شُرَكاءَ لِلِاهْتِمَامِ والتعجيب من خطل عُقُولِهِمْ إِذْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْجِنِّ، فَهَذَا التَّقْدِيمُ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَجْلِ مَا اقْتَضَى خِلَافَهُ. وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ فِي الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِاعْتِقَادِهِمُ الشَّرِيكِ لِلَّهِ اهْتِمَامًا فِي مَقَامِهِ وَهُوَ الِاسْتِفْظَاعُ وَالْإِنْكَارُ التَّوْبِيخِيُّ. وَتَبِعَهُ فِي «الْمِفْتَاحِ» إِذْ قَالَ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَعْمُولَاتِ عَلَى بَعْضٍ «لِلْعِنَايَةِ بِتَقْدِيمِهِ لِكَوْنِهِ نُصْبَ عَيْنِكَ كَمَا تَجِدُكَ إِذَا قَالَ لَكَ أَحَدٌ: عَرَفْتَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، يَقِفُ شِعْرُكَ وَتَقُولُ: لِلَّهِ شُرَكَاءُ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ اهـ. فَيَكُونُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْجِنُّ- بِكَسْرِ الْجِيمِ- اسْمٌ لِمَوْجُودَاتٍ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ الَّتِي لَا أَجْسَامَ لَهَا ذَاتُ طَبْعٍ نَارِيٍّ، وَلَهَا آثَارٌ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ تَصَرُّفَاتٍ تُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مَا لَا تُؤَثِّرُهُ الْقُوَى الْعَظِيمَةُ. وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ لَا يُدْرَى أَمَدُ وُجُودِ أَفْرَادِهَا وَلَا كَيْفِيَّةُ بَقَاءِ نَوْعِهَا. وَقَدْ أَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَكَانَ لِلْعَرَبِ أَحَادِيثُ فِي تَخَيُّلِهَا. فَهُمْ يَتَخَيَّلُونَهَا قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا إِذَا مَسَّتِ الْإِنْسَانَ آذَتْهُ وَقَتَلَتْهُ. وَأَنَّهَا تَخْتَطِفُ بَعْضَ النَّاسِ فِي الْفَيَافِي، وَأَنَّ لَهَا زَجَلًا وَأَصْوَاتًا فِي الْفَيَافِي، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الصَّدَى هُوَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 71] ، وَأَنَّهَا قَدْ تَقُولُ الشِّعْرَ، وَأَنَّهَا تَظْهَرُ لِلْكُهَّانِ وَالشُّعَرَاءِ. وَجُمْلَةُ وَخَلَقَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوِ لِلْحَالِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي خَلَقَهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ

جَعَلُوا، أَيْ وَخَلَقَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْحَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَهُوَ خَالِقُهُمْ، مِنْ قَبِيلِ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ مُتَنَاسِقَةً وَالتَّعْجِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جَعْلِهِمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ لَا يَنْظُرُونَ فِي أَنَّ مُقْتَضَى الْخَلْقِ أَنْ يُفْرَدَ بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ لَا وَجْهَ لِدَعْوَاهَا لِمَنْ لَا يَخْلُقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] فَالتَّعْجِيبُ عَلَى هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ وَسُوءِ نَظَرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ وَخَلَقَهُمْ عَائِدًا إِلَى الْجِنِّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهُمْ عَقْلًا، وَمَوْقِعُ الْحَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُشْرِكُوا اللَّهَ فِي الْعِبَادَةِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجِنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ، فَالتَّعْجِيبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضَى عِلْمِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَهُمْ كَمَا فِي عِلْمِهِمْ، أَيْ وَخَلَقَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرَ. وَجُمْلَةُ: وَخَرَقُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجَعَلُوا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخَرَقُوا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ-، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ-. وَالْخَرْقُ: أَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ عَلَى سَبِيلِ الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها [الْكَهْف: 71] . وَهُوَ ضِدُّ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ فَعْلُ الشَّيْءِ بِتَقْدِيرٍ وَرِفْقٍ، وَالْخَرْقُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْخَرْقُ مَجَازًا فِي الْكَذِبِ كَمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ افْتَرَى وَاخْتَلَقَ مِنَ الْفَرْيِ وَالْخَلْقِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَقُوا فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً فِي نَادِي الْقَوْمِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: «قَدْ خَرَقَهَا وَاللَّهِ» . وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْفِعْل لأنّ التّفعل يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ حُصُولِ الْفِعْلِ. فَمَعْنَى خَرَقُوا كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْخَرْقِ، أَيْ نَسَبُوا إِلَيْهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ كَذِبًا،

فَأَمَّا نِسْبَتُهُمُ الْبَنِينَ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ حَكَاهَا عَنْهُمُ الْقُرْآنُ هُنَا. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْيَهُودَ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: 30] ، وَلَا النَّصَارَى فِي قَوْلهم: الْمَسِيحُ (¬1) ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: 30] . كَمَا فَسَّرَ بِهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ السِّيَاقَ وَيُشَوِّشُ عَوْدَ الضَّمَائِرِ وَيَخْرِمُ نَظْمَ الْكَلَامِ. فَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ نَسَبُوا لله الْبَنِينَ وَهُوَ الَّذِينَ تَلَقَّنُوا شَيْئًا مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الشَّيْطَانَ مُتَوَلِّدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَالَمَ تَفَكَّرَ فِي مَمْلَكَتِهِ وَاسْتَعْظَمَهَا فَحَصَلَ لَهُ عُجْبٌ تَوَلَّدَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ، وَرُبَّمَا قَالُوا أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ شَكَّ فِي قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْ شَكِّهِ الشَّيْطَانُ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، فَلَزِمَهُمْ نِسْبَةُ الِابْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْجِنَّ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّ فِي الْمَلَائِكَةِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَلَقَدْ يَنْجَرُّ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادِ مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ أَبْنَاءَ اللَّهِ. فَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الْأَرْضِ وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ أَنَّ أَبْنَاءَ اللَّهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ فَاتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا وَإِذْ دَخَلَ بَنُو اللَّهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا هَؤُلَاءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ» . وَأَمَّا نِسْبَتُهُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي الْعَرَبِ إِذْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَقَالُوا: هُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُتَعَلِّقٌ بِ خَرَقُوا، أَيِ اخْتَلَقُوا اخْتِلَاقًا عَنْ جَهْلٍ وَضَلَالَةٍ، لِأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَقَدْ رَمَوْا بِقَوْلِهِمْ عَنْ عَمًى وَجَهَالَةٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْعِلْمُ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ حُكْمُ الذِّهْنِ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ بُرْهَانٍ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (عِيسَى ابْن الله) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق لرسم الْمُصحف.

وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا تَخْرِيقَهُمْ غَيْرَ الْعِلْمِ فَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْجَهْلِ بَدْءًا وَغَايَةً، فَهُمْ قَدِ اخْتَلَقُوا بِلَا دَاعٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَمْ يَجِدُوا لِمَا اخْتَلَقُوهُ تَرْوِيجًا، وَقَدْ لَزِمَهُمْ بِهِ لَازِمُ الْخَطَلِ وَفَسَادُ الْقَوْلِ وَعَدَمُ الْتِئَامِهِ، فَهَذَا مَوْقِعُ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ فِي الْآيَةِ الَّذِي لَا يُفِيدُ مُفَادُهُ غَيْرَهُ. وَجُمْلَةُ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَنْزِيهًا عَنْ جَمِيعِ مَا حُكيَ عَنْهُم. فسبحان مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا. فَلَمَّا عُوِّضَ عَنْ فِعْلِهِ صَارَ (سُبْحَانَ اللَّهِ) بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْأَصْلِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . وَمَعْنَى: تَعالى ارْتَفَعَ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْعُلُوِّ. وَالتَّفَاعُلُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ. وَالْعُلُوُّ هُنَا مَجَازٌ، أَيْ كَوْنُهُ لَا يَنْقُصُهُ مَا وَصَفُوهُ بِهِ، أَيْ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِمِثْلِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَهُوَ لَا يَلْحَقُهُ النَّقْصُ فَشُبِّهَ التَّحَاشِي عَنِ النَّقَائِصِ بِالِارْتِفَاعِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْتَفِعَ لَا تَلْتَصِقُ بِهِ الْأَوْسَاخُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْأَرْضِ، فَكَمَا شَبَّهَ النَّقْصَ بِالسَّفَالَةِ شَبَّهَ الْكَمَالَ بِالْعُلُوِّ، فَمَعْنَى (تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ) أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: عَمَّا يَصِفُونَ مُتَعَلِّقٌ بِ (عَنْ) لِلْمُجَاوَزَةِ. وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيْ عَنِ الَّذِي يَصِفُونَهُ. وَالْوَصْفُ: الْخَبَرُ عَنْ أَحْوَالِ الشَّيْءِ وَأَوْصَافِهِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ مُبَيِّنٌ مُفَصِّلٌ لِلْأَحْوَالِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُخْبِرَ يَصِفُ الشَّيْءَ وَيَنْعَتُهُ. وَاخْتِيرَ فِي الْآيَةِ فِعْلُ يَصِفُونَ لِأَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ يَرْجِعُ إِلَى تَوْصِيفِهِ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، أَيْ تَبَاعَدَ عَنِ الِاتِّصَافِ بِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ وَصَفُوهُ بِهِ فَذَلِكَ أَمر وَاقع.

[سورة الأنعام (6) : آية 101]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 101] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِخْبَارِ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَقْوِيَةَ التَّنْزِيهِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ [الْأَنْعَام: 100] فَتَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ ذَلِكَ التَّنْزِيهِ بِمَضْمُونِهَا أَيْضًا، وَبِهَذَا الْوَجْهِ رُجِّحَ فَصْلُهَا عَلَى عَطْفِهَا فَإِنَّ مَا يَصِفُونَهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ لَهُ وَلَدًا وَبَنَاتٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّنْزِيهَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الشَّيْءِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ وَإِبْطَالُهُ، فَعُلِّلَ الْإِبْطَالُ بِأَنَّهُ خَالِقُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ فَإِذَا كُنْتُمْ تَدَّعُونَ بُنُوَّةَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ عَظَمَتِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ الْجِنَّ وَلَا الْمَلَائِكَة فَلَمَّا ذَا لَمْ تَدَّعُوا الْبُنُوَّةَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُشَاهَدَةِ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا وَتَرَوْنَ عِظَمَهَا. فَهَذَا الْإِبْطَالُ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ وَالْمُنَاظَرَةِ. وَقَوْلُهُ: بَدِيعُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْجَارِي عَلَى مُتَابعَة الِاسْتِعْمَال عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ الْحَدِيثُ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُعَقَّبُ بِخَبَرٍ عَنْهُ مُفْرَدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [116، 117] . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ الْبُنُوَّةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْدَاعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ خَلْقَ الْمَحَلِّ يَقْتَضِي خَلْقَ الْحَالِّ فِيهِ، فَالْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ الْجِنَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَيَافِي، فَيَلْزَمُهُمْ حُدُوثُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَإِلَّا لَوُجِدَ الْحَالُّ قَبْلَ وُجُودِ الْمَحَلِّ، وَإِذا ثَبت الْحُدُوث ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ابْنَ الْإِلَهِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا فَيَلْزَمُ قِدَمُهُ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ حُدُوثُهُ،

وَلِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] . بِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [116] . وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [1] . وَجُمْلَةُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ التَّنْزِيهِ مِنَ الْإِبْطَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ طَرِيقِ الْإِبْطَالِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَبْطَلَتْ دَعْوَاهُمْ مِنْ جِهَةِ فَسَادِ الشُّبْهَةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ فِي الْمُنَاظَرَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْطَلَتِ الدَّعْوَى مِنْ جِهَةِ إِبْطَالِ الْحَقِيقَةِ فَكَأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ خَطَأِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْجِنَّ أَبْنَاءُ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ دَلِيلًا محذوفا على النبوّة وَهُوَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ شَرِيفَةٌ، فَأَبْطَلَ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُنَافِي الدَّعْوَى وَهُوَ انْتِفَاءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْوِلَادَةِ، فَهَذَا الْإِبْطَالُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْمُنَاظَرَةِ. وأَنَّى بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ وَبِمَعْنَى كَيْفَ. وَالْوَاوُ فِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَاوُ الْحَالِ لِأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْحَالِ. وَالصَّاحِبَةُ: الزَّوْجَةُ لِأَنَّهَا تُصَاحِبُ الزَّوْجَ فِي مُعْظَمِ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ جَعَلَ انْتِفَاءَ الزَّوْجَةِ مُسَلَّمًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوهُ فَلَزِمَهُمُ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ التَّوَلُّدِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُحَاجَّةِ الْعُرْفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمَعْلُومُ فِي حَقِيقَةِ الْوِلَادَةِ. وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهَا وَهُوَ التَّوْصِيفُ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُبْدِعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ كُلُّ مَوْجُودٍ فَيَشْمَلُ ذَوَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَشَمِلَ مَا فِيهِمَا، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحْوِيهِ السَّمَاوَاتُ، وَالْجِنُّ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحْوِيهِ الْأَرْضُ عِنْدَهُمْ، فَهُوَ خَالِقُ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، وَالْخَالِقُ لَا يَكُونُ أَبًا كَمَا عَلِمْتَ. فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِبْطَالُ

[سورة الأنعام (6) : آية 102]

وَالْولد أَيْضًا، وَهَذَا إِبْطَالٌ ثَالِثٌ بِطَرِيقِ الْكُلِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِبْطَالًا جُزْئِيًّا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ لَكَانُوا غَيْرَ مَخْلُوقِينَ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِإِتْمَامِ تَعْلِيمِ الْمُخَاطَبِينَ بَعْضَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ التَّوْصِيفِ لَا بِاعْتِبَارِ الرَّدِّ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ عَدَلَ فِيهَا عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ شَيْءٍ دُونَ أَنْ يَقُولَ «بِهِ» لِأَنَّ التَّذْيِيلَاتِ يُقْصَدُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْأَمْثَالَ فِي كَوْنِهَا كَلَامًا جَامِعًا لمعان كَثِيرَة. [102] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 102] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) وُقُوعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَقِيقٌ بِالْأَخْبَارِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي تَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الْأَنْعَام: 95] قَبْلَ هَذَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ الْمُضَمَّنَةِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ عَنِ اتِّبَاعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِبَيَانٍ أَوْ بَدَلٍ، وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْخَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ وَالْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ الله، أهوَ الَّذِي تَعْلَمُونَهُ. وَقَوْلُهُ: رَبُّكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ حَالٌ مِنْ رَبُّكُمْ أَوْ صِفَةٌ. وَقَوْلُهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ صِفَةٌ لِ رَبُّكُمْ أَوْ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْهُ خَبَرًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ قَدْ تَقَدَّمَ بِنَظَائِرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.

[سورة الأنعام (6) : آية 103]

وَجُمْلَةُ: فَاعْبُدُوهُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَدْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ مُفَرَّعًا عَلَى وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْعِبَادَةِ، وَالِانْفِرَادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ فُهِمَ هَذَا التَّخْصِيصُ مِنَ التَّفْرِيعِ. وَوَجْهُ أَمْرِهِمْ بِعِبَادَتِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَتَوَجَّهُونَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ إِلَّا إِلَى الْأَصْنَامِ فَهُمْ يَزُورُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ إِلَيْهَا الْقَرَابِينَ وَيَنْذِرُونَ لَهَا النُّذُورَ وَيَسْتَعِينُونَ بِهَا وَيَسْتَنْجِدُونَ بِنُصْرَتِهَا، وَمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ خَلَطُوهُ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الْأَصْنَامِ إِذْ جَعَلُوا فَوْقَ الْكَعْبَةِ (هُبَلَ) ، وَجَعَلُوا فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (إِسَافًا وَنَائِلَةَ) . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُم يهلّ (لمناة) فِي مُنْتَهَى الْحَجِّ، فَكَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِهَا صَرِيحًا، وَأُمِرُوا بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ بِالتَّفْرِيعِ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ فَاعْبُدُوهُ مُعْتَرِضَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَاعْبُدُوهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَالْعَكْسِ (وَهُوَ الْحَقُّ) ، عَلَى وَجْهِ تَكْمِيلِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، بِأَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِنْعَامِ وَكُلُّ مَا يَطْلُبُ الْمَرْءُ حِفْظَهُ لَهُ، فَالْوَجْهُ عِبَادَتُهُ وَلَا وَجْهَ لِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ اسْمَ الْوَكِيلِ جَامِعٌ لِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالرِّقَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [173] . [103] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 103] لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لِإِفَادَةِ عَظَمَتِهِ تَعَالَى وَسَعَةِ عِلْمِهِ، فَلِعَظَمَتِهِ جَلَّ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَبْصَارِ الْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِانْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْأَصْنَامِ

الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ مَحْدُودَةٌ مَحْصُورَةٌ مُتَحَيِّزَةٌ، فَكَوْنُهَا مُدْرَكَةً بِالْأَبْصَارِ مِنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثَاتِ لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَكَانَتْ مُحْتَجِبَةً عَنِ الْأَبْصَارِ، وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِبُ الَّتِي عَبَدَهَا بَعْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَقَدْ عَبَدُوهُمَا فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُدْرَكَيْنِ بِالْأَبْصَارِ فِي الْمُتَعَارَفِ لِكُلِّ النَّاسِ وَلَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَبْدُو لَهُمْ تَارَّاتٍ فِي الْفَيَافِي وَغَيْرِهَا. قَالَ شَمِرُ بْنُ الْحَارِثِ الضَّبِّيُّ: أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامَا وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَظْهَرُونَ لِبَعْضِ النَّاسِ، يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ عَنِ الْيَهُودِ. وَالْإِدْرَاكُ حَقِيقَتُهُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى شُعُورِ الْحَاسَّةِ بِالْمَحْسُوسِ أَوِ الْعَقْلِ بِالْمَعْقُولِ يُقَالُ: أَدْرَكَ بَصَرِي وَأَدْرَكَ عَقْلِي تَشْبِيهًا لِآلَةِ الْعِلْمِ بِشَخْصٍ أَوْ فَرَسٍ وَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَيُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ بِبَصَرِهِ وَأَدْرَكَ بِعَقْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ بِدُونِ تَقْيِيدٍ، وَاصْطَلَحَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّعُورِ الْعَقْلِيِّ إِدْرَاكًا، وَجَعَلُوا الْإِدْرَاكَ جِنْسًا فِي تَعْرِيفِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، وَوَصَفُوا صَاحِبَ الْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ بِالدَّرَّاكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ الْإِدْرَاكِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ مُشَاكَلَةً لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ فِيهِ مُسْتَعَارًا لِلتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ مَعْنَاهُ النَّوَالُ. وَالْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا النَّظَرُ الْمُنْتَشِرَةِ فِي إِنْسَانِ الْعَيْنِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْحَدَقَةِ وَبِهِ إِدْرَاكُ الْمُبْصَرَاتِ. وَالْمَعْنَى: لَا تُحِيطُ بِهِ أَبْصَارُ الْمُبْصِرِينَ لِأَنَ الْمُدْرِكَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُبْصِرُ لَا الْجَارِحَةُ، وَإِنَّمَا الْجَارِحَةُ وَسِيلَةٌ لِلْإِدْرَاكِ لِأَنَّهَا تُوَصِّلُ الصُّورَةَ إِلَى الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ فِي الدِّمَاغِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا بَيَانُ مُخَالَفَةِ خُصُوصِيَّةِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَنْ خُصُوصِيَّاتِ آلِهَتِهِمْ فِي هَذَا الْعَالِمِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وَأَصْنَامُهُمْ تُرَى، وَتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ مُنَاسِبَةٌ

لِعَظَمَتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عَدَمَ إِحَاطَةِ الْأَبْصَارِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مِنْ عَظَمَتِهِ فَلَا تُطِيقُهُ الْأَبْصَارُ، فَعُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يُدْرِكَهُ شَيْءٌ مِنْ أَبْصَارِ الْمُبْصِرِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا هُوَ السِّيَاقُ. وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَرَى فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَمَسَّكَ بِهِ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ لِلْأُمُورِ الْآخِرَةِ أَحْوَالًا لَا تَجْرِي عَلَى مُتَعَارِفِنَا، وَأَحْرَى أَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. وَمَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا يَتِمُّ كَمَا صَنَعَ الْفَخْرُ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَالْخِلَافُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ شَائِعٌ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ لِكَثْرَةِ ظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا رُؤْيَةٌ تَخَالُفِ الرُّؤْيَةِ الْمُتَعَارَفَةِ. وَعَنْ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- «لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيَّرِ الْكُفَّارُ بِالْحِجَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] . وَعَنْهُ أَيْضًا «لَمْ يُرَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رَأَوُا الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي» . وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَحَالُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لِاسْتِلْزَامِهَا الِانْحِيَازَ فِي الْجِهَةِ. وَقَدِ اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى التَّنْزِيهِ عَنِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ، كَمَا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ الِانْكِشَافِ الْعِلْمِيِّ التَّامِّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ لِحَقِيقَةِ الْحَقِّ تَعَالَى، وَعَلَى امْتِنَاعِ ارْتِسَامِ صُورَةِ الْمَرْئِيِّ فِي الْعَيْنِ أَوِ اتِّصَالِ الشُّعَاعِ الْخَارِجِ مِنَ الْعَيْنِ بِالْمَرْئِيِّ تَعَالَى لِأَنَّ أَحْوَالَ الْأَبْصَارِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا بِأَدِلَّةِ الْجَوَازِ وَبِأَدِلَّةِ الْوُقُوعِ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مُجْمَلًا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَأَدِلَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَجْوِبَتُنَا عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ وَمَرْجِعُهَا جَمِيعًا إِلَى إِعْمَالِ الظَّاهِرِ أَوْ تَأْوِيلِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا هَلْ حَصَلَتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفِي ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ-

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَتَمَسَّكُوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَأَثْبَتَهَا الْجُمْهُورُ، وَنُقِلَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْعُمُومُ مَخْصُوصًا. وَقَدْ تَعَرَّضُ لَهَا عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَ بِجَوَابٍ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ، فَحَجَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِتْمَامًا لِمُرَادِهِ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فَإِسْنَادُ الْإِدْرَاكِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِهِ تَعَالَى إِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ يُدْرِكُ اسْتُعِيرَ لِمَعْنَى يَنَالُ، أَيْ لَا تَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ كَمَا يُقَالُ: لَحِقَهُ فَأَدْرَكَهُ، فَالْمَعْنَى يَقْدِرُ عَلَى الْإِبْصَارِ، أَيْ عَلَى الْمُبْصِرِينَ، وَإِمَّا لِاسْتِعَارَةِ فِعْلِ يُدْرِكُ لِمَعْنَى يَعْلَمُ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أَيْ لَا تَعْلَمُهُ الْأَبْصَارُ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ هِيَ الْعَدَسَاتُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي هِيَ وَاسِطَةُ إِحْسَاسِ الرُّؤْيَةِ أَوْ هِيَ نَفْسُ الْإِحْسَاسِ وَهُوَ أَخْفَى. وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ الْمُدْرِكِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فَهِيَ صِفَةٌ أُخْرَى. أَوْ هِيَ تَذْيِيلٌ لِلِاحْتِرَاسِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ مَنْ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لَا يَعْلَمُ أَحْوَالَ مَنْ لَا يُدْرِكُونَهُ. وَاللَّطِيفُ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّطْفِ أَوْ مِنَ اللَّطَافَةِ. يُقَالُ: لَطَفَ- بِفَتْحِ الطَّاءِ- بِمَعْنَى رَفَقَ، وَأَكْرَمَ، وَاحْتَفَى. وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِاللَّامِ بِاعْتِبَارِ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى رَفَقَ أَوْ مَعْنَى أَحْسَنَ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الطُّرْفَةُ وَالتُّحْفَةُ الَّتِي يُكْرَمُ بِهَا الْمَرْءُ لَطَفًا (بِالتَّحْرِيكِ) ، وَجَمْعُهَا أَلْطَافٌ. فَالْوَصْفُ مِنْ هَذَا لَاطِفٌ وَلَطِيفٌ فَيَكُونُ اللَّطِيفُ اسْمَ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ مِنْ فَاعِلِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ [يُوسُف: 100] . وَيُقَالُ لَطُفَ- بِضَمِّ الطَّاءِ- أَيْ دَقَّ وَخَفَّ ضِدُّ ثَقُلَ وَكَثُفَ.

وَاللَّطِيفُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ. فَإِنِ اعْتُبِرَتْ وَصْفًا جَارِيًا عَلَى لَطُفَ- بِضَمِّ الطَّاءِ- فَهِيَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةُ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ الْعُقُولِ بِمَاهِيَّتِهِ أَوْ إِحَاطَةِ الْحَوَاسِّ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ اخْتِيَارُهَا لِلتَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مُنْتَهَى الصَّرَاحَةِ وَالرَّشَاقَةِ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَادَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تُقَرِّبُ مَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا وُضِعَتْ لَهُ اللُّغَةُ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَيَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ مِنْ مَدْلُولِ جُمْلَةِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، فَتَتَنَزَّلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ أَوْ مَنْزِلَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَزِيدُ الْوَصْفُ قَبْلَهُ تَمَكُّنًا. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ مِنْ مَعَانِي الْكَلِمَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَخْرُ وَجَوَّزَهُ الرَّاغِبُ وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي التَّفْسِيرُ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اقْتَرَنَ فِيهِ وَصْفُ اللَّطِيفِ بِوَصْفِ الْخَبِيرِ كَالَّذِي هُنَا وَالَّذِي فِي سُورَةِ الْمُلْكِ. وَإِنِ اعْتُبِرَ اللَّطِيفُ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ لَطَفَ- بِفَتْحِ الطَّاءِ- فَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَإِتْقَانِ صُنْعِهِ فِي ذَلِكَ وَكَثْرَةِ فِعْلِهِ ذَلِكَ، فَيَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهُ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُبَيِّنِينَ لِمَعْنَى اسْمِهِ اللَّطِيفِ فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِيهِ وَصْفُهُ تَعَالَى بِهِ مُفْرَدًا مُعَدًّى بِاللَّامِ أَوْ بِالْبَاءِ نَحْوِ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ [يُوسُف: 100] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] . وَبِهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ فَلِلَّهِ دَرُّهُ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ هُنَا كَانَ وَصْفًا مُسْتَقِلًّا عَمَّا قَبْلَهُ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى لِلْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَ «خَبِيرٌ» صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ خَبُرَ- بِضَمِّ الْبَاءِ- فِي الْمَاضِي، خُبْرًا- بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ- بِمَعْنَى عَلِمَ وَعَرَفَ، فَالْخَبِيرُ الْمَوْصُوفُ بِالْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا عِلْمًا مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 104]

وَوُقُوعُ الْخَبِيرِ بَعْدَ اللَّطِيفِ عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ وُقُوعُ صِفَةٍ أُخْرَى هِيَ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، فَيَكْمُلُ التَّذْيِيلُ بِذَلِكَ وَيَكُونُ التَّذْيِيلُ مُشْتَمِلًا عَلَى مُحَسِّنِ النَّشْرِ بَعْدَ اللَّفِّ وَعَلَى الْمَحْمَلِ الثَّانِي مَوْقِعُهُ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ لِمَعْنَى اللَّطِيفِ، أَيْ هُوَ الرَّفِيقُ الْمُحْسِنُ الْخَبِيرُ بِمَوَاقِعِ الرِّفْقِ وَالْإِحْسَان وبمستحقّيه. [104] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 104] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى - إِلَى قَوْلِهِ- وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْأَنْعَام: 95- 103] . فَاسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ بِتَوْجِيهِ خِطَابٍ لِلنَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَقُولٍ لِفِعْلِ أَمْرٍ بِالْقَوْلِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ، حُذِفَ عَلَى الشَّائِعِ مِنْ حَذْفِ الْقَوْلِ لِلْقَرِينَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الْأَنْعَام: 104] . وَمُنَاسِبَةُ وُقُوعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ عَقِبَ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ كَالتَّوْقِيفِ وَالشَّرْحِ وَالْفَذْلَكَةِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فَيُقَدَّرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ. وَبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَالْبَصِيرَةُ: الْعَقْلُ الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ الْمَعَانِي وَالْحَقَائِقُ، كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ إِدْرَاكُ الْعَيْنِ الَّذِي تَتَجَلَّى بِهِ الْأَجْسَامُ، وَأُطْلِقَتِ الْبَصَائِرُ عَلَى مَا هُوَ سَبَبٌ فِيهَا. وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْبَصَائِرِ اسْتِعَارَةٌ لِلْحُصُولِ فِي عُقُولِهِمْ، شُبِّهَ بِمَجِيءِ شَيْءٍ كَانَ غَائِبًا، تَنْوِيهًا بِشَأْنِ مَا حَصَلَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقَّعِ مَجِيئُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] . وَخُلُوُّ فِعْلِ «جَاءَ» عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعُ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ إِلَى جَمْعِ تَكْسِيرٍ مُطْلَقًا أَوْ جَمْعِ مُؤَنَّثٍ يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَخُلُوُّهُ عَنْهَا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِ «جَاءَ» أَوْ صِفَةٌ لِ بَصائِرُ، وَقَدْ جُعِلَ خِطَابُ اللَّهِ بِهَا

بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ مِنْ جَانِبِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَالِابْتِدَاءُ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ بِتَقْدِيرِ: مِنْ إِرَادَةِ رَبِّكُمْ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ التَّعَالِيمِ وَالذِّكْرَيَاتِ الَّتِي بِهَا الْبَصَائِرُ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا مُسْدَاةٌ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ لَا يَقَعُ فِي هَدْيِهِ خَلَلٌ وَلَا خَطَأٌ، مَعَ مَا فِي ذِكْرِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ وَتَقْوِيَةِ دَاعِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، أَيْ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الضَّلَالِ بَعْدَ هَذِهِ الْبَصَائِرِ، وَلَا فَائِدَةَ لِغَيْرِكُمْ فِيهَا «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ» ، أَيْ مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا يَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَمَنْ عَمِيَ أَيْ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا وِزْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ. فَاسْتُعِيرَ الْإِبْصَارُ فِي قَوْلِهِ: أَبْصَرَ لِلْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ بِهَذَا الْهَدْيِ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي نُوِّرَ لَهُ الطَّرِيقُ بِالْبَدْرِ أَوْ غَيْرِهِ، فَأَبْصَرَهُ وَسَارَ فِيهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبْصَرَ تَمْثِيلًا مُوجَزًا ضُمِّنَ فِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْمُرْشِدِ إِلَى الْحَقِّ إِذا عمل بهَا أَرْشَدَ بِهِ، بِهَيْئَةِ الْمُبْصِرِ إِذَا انْتَفَعَ بِبَصَرِهِ. وَاسْتُعِيرَ الْعَمَى فِي قَوْلِهِ: عَمِيَ لِلْمُكَابَرَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الضَّلَالِ بَعْدَ حُصُولِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُقْلِعَهُ لِأَنَّ الْمُكَابِرَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْأَعْمَى لَا يَنْتَفِعُ بِإِنَارَةِ طَرِيقٍ وَلَا بِهَدْيِ هَادٍ خِرِّيتٍ. وَيَجُوزُ اعْتِبَارُ التَّمْثِيلِيَّةِ فِيهِ أَيْضًا كَاعْتِبَارِهَا فِي ضِدِّهِ السَّابِقِ. وَاسْتَعْمَلَ اللَّامَ فِي الْأَوَّلِ اسْتِعَارَةً لِلنَّفْعِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الشَّيْءُ النَّافِعُ الْمُدَّخَرُ لِلنَّوَائِبِ، وَاسْتُعِيرَتْ (عَلَى) فِي الثَّانِي لِلضُّرِّ وَالتَّبِعَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الضَّارَّ ثَقِيلٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُكَلِّفُهُ تَعَبًا وَهُوَ كَالْحِمْلِ الْمَوْضُوعِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت: 46] ، وَقَالَ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها [الْإِسْرَاء: 15] ،

وَقَالَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّي الْإِثْمُ وِزْرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَام: 31] ، وَقَدْ جَاءَ اللَّامُ فِي مَوْضِعِ (عَلَى) فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: 7] . وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ بَين «البصائر» و «أبْصر» ، وَمُلَاحَظَةِ مُنَاسِبَةِ فِي الْإِبْصَارِ وَالْبَصَائِر. وَفِيهَا مُحَسِّنُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَبْصَرَ وعَمِيَ، وَبَيْنَ (اللَّامِ) وَ (عَلَى) . ويتعلّق قَوْله: فَلِنَفْسِهِ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الشَّرْطِ. وَتَقْدِيرُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ. وَاقْتَرَنَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ نَظَرًا لِصَدْرِهِ إِذْ كَانَ اسْمًا مَجْرُورًا وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يَلِيَ أَدَاةَ الشَّرْطِ. وَإِنَّمَا نُسِجَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّسْجِ للإيذان بأنّ فَلِنَفْسِهِ مُقَدَّمٌ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ، وَلَوْلَا قَصْدُ الْإِيذَانِ بِهَذَا التَّقْدِيمِ لَقَالَ: فَمَنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاء: 7] وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ هُنَا لِيُفِيدَ الْقَصْرَ، أَيْ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ لَا لِفَائِدَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يغيظون النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَقُولٌ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، بِخِلَافِ آيَةِ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاء: 7] ، فَإِنَّهَا حَكَتْ كَلَامًا خُوطِبَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ إِحْسَانَهُمْ يَنْفَعُ اللَّهَ أَوْ إِسَاءَتَهُمْ تَضُرُّ اللَّهَ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها نَظِيرُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ عَمِيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْعَمَى لَمَّا كَانَ مَجَازًا كَانَ ضُرًّا يَقَعُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَجُمْلَةُ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ تَكْمِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، أَيْ فَلَا يَنَالُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَلَا يَرْجِعُ لِي نَفْعُكُمْ وَلَا يَعُودُ عَلَيَّ ضُرُّكُمْ وَلَا أَنَا وَكِيلٌ عَلَى نَفْعِكُمْ وَتَجَنُّبِ ضُرِّكُمْ فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ حَتَّى تَمْكُرُونَ بِي بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْهُدَى وَالِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 105]

وَالْحَفِيظُ: الْحَارِسُ وَمَنْ يُجْعَلُ إِلَيْهِ نَظَرُ غَيْرِهِ وَحِفْظُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ يَكُونُ مَجْعُولًا لَهُ الْحِفْظُ مِنْ جَانِبِ الشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ، وَالْحَفِيظُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جَانِبِهِ وَمِنْ جَانِبِ مُوَالِيهِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: 66] . وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُنَا دَقِيقٌ، لِأَنَّ الْحَفِيظَ وَصْفٌ لَا يُفِيدُ غَيْرَهُ مُفَادَهُ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِعْلُ حَفِظَ، فَالْحَفِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ يُقَدَّرُ لَهَا فِعْلٌ مَنْقُولٌ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- لَمْ يُنْطَقْ بِهِ مِثْلُ الرَّحِيمِ. وَلَا يُفِيدُ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ اخْتِصَاصًا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَإِنْ كَانَ الْعَلامَة التّفتازاني مَالَ إِلَيْهِ، وَسَكَتَ عَنْهُ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ وَهُوَ وُقُوفٌ مَعَ الظَّاهِرِ. وَتَقْدِيمُ عَلَيْكُمْ عَلَى بِحَفِيظٍ لِلِاهْتِمَامِ ولرعاية الفاصلة. [105] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 105] وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهَا. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَنْعَام: 104] الَّتِي هِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ «قُلْ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى التَّصْرِيفِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: نُصَرِّفُ الْآياتِ. أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَوَّلُهَا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَالْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [46] . وَقَوْلُهُ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَقَدْ

تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [55] . وَلَكِنْ مَا هُنَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مُخَالَفَةً مَا فَإِنَّ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دَرَسْتَ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِتَصْرِيفِ الْآيَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مُسْتَعَارَةً لِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . الْمَعْنَى. فَكَانَ لَهُمْ عَدُوًّا. وَكَذَلِكَ هُنَا، أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ مِثْلَ هَذَا التَّصْرِيفِ السَّاطِعِ فَيَحْسَبُونَكَ اقْتَبَسْتَهُ بِالدِّرَاسَةِ وَالتَّعْلِيمِ فَيَقُولُوا: دَرَسْتَ. وَالْمَعْنَى: أَنَا نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَنُبَيِّنُهَا تَبْيِينًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْعَالِمِ الَّذِي دَرَسَ الْعِلْمَ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ دَرَسْتَ هَذَا وَتَلَقَّيْتَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْكُتُبِ، لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُوصِلِ إِلَى أَنَّ صُدُورَ مِثْلِ هَذَا التَّبْيِينِ مِنْ رَجُلٍ يَعْلَمُونَهُ أُمِّيًّا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] وَهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَيَقُولُونَهُ وَيَزِيدُونَ بِمِقْدَارِ زِيَادَةِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ، فَشَبَّهَ تَرَتُّبَ قَوْلِهِمْ عَلَى التَّصْرِيفِ بِتَرَتُّبِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَاسْتُعِيرَ لِهَذَا الْمَعْنَى الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِلْعِلَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِثْلَ هَذِهِ اللَّامِ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي اللَّامِ وَلَكِنَّهُ إِفْصَاحٌ عَنْ حَاصِلِ الْمَعْنَى. وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِتَمَهُّلٍ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلْفَهْمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] . وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. يُقَالُ: دَرَسَ الْكِتَابَ، أَيْ تَعَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمرَان: 79] ، وَقَالَ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الْأَعْرَاف: 169] . وَسُمِّيَ بَيْتُ تَعَلُّمِ الْيَهُودِ الْمِدْرَاسَ، وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الَّذِي يُسْكِنُهُ التَّلَامِذَةُ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهِ الْمَدْرَسَةَ. وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ: تَعَلَّمْتَ، طَعْنًا فِي أُمَيَّةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الِعِلْمِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَرَسْتَ- بِدُونِ أَلْفٍ وَبِفَتْحِ التَّاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو «دَارَسْتَ» - عَلَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَبِفَتْحِ التَّاءِ- أَيْ يَقُولُونَ: قَرَأت وقرىء

[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 إلى 107]

عَلَيْكَ، أَيْ دَارَسْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ وذاكرتهم فِي علمهمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ «دَرَسْتَ» - بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَتَاءِ التَّأْنِيثِ- أَيِ الْآيَاتِ، أَيْ تَكَرَّرْتَ. وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ الحقيقيّة. وَضمير لِنُبَيِّنَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآن لأنّه مَا صدق الْآياتِ، وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ. وَالْقَوْمُ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَآمَنُوا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 97] ، وَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا التَّصْرِيفَ حَصَلَ مِنْهُ هُدًى لِلْمُوَفَّقِينَ وَمُكَابَرَةٌ لِلْمَخَاذِيلِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [الْبَقَرَة: 26] . [106، 107] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 106 إِلَى 107] اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) اسْتِئْنَافٌ فِي خِطَابِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ لَا يَكْتَرِثَ بِأَقْوَالِهِمْ، فَابْتِدَاؤُهُ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُقَدِّمَةِ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، لِأَنَّ اتّباع الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَمْرٌ وَاقِعٌ بِجَمِيعِ مَعَانِيهِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ الدَّوَامُ عَلَى اتِّبَاعِهِ. وَالْمَعْنَى: أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ اتِّبَاعًا لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَالْمُرَادُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ. وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَصْلِ اقْتِفَاءُ أَثَرِ الْمَاشِي، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْعَمَلِ بِمِثْلِ عَمَلِ الْغَيْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ [التَّوْبَة: 100] . ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي امْتِثَالِ

الْأَمْرِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمَتْبُوعَ فَهُوَ الِائْتِمَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى ذَاتِ الْمُتَّبِعِ فَيُقَالُ: اتَّبَعْتُ فُلَانًا بِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ. وَإِطْلَاقُ الِاتِّبَاعِ بِمَعْنَى الِائْتِمَارِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُلَازِمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، لِأَنَّ مَنْ يَتِّبِعُ أَحَدًا يُلَازِمُهُ. وَمِنْهُ سُمِّي الرَّئِيُّ مِنَ الْجِنِّ فِي خُرَافَاتِ الْعَرَبِ تَابِعَةً، وَمِنْهُ سُمِّي مَنْ لَازَمَ الصَّحَابِيَّ وَرَوَى عَنْهُ تَابِعِيًّا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ فِي الْآيَةِ مُرَادًا بِهِ دَوَامُ الِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ، فَالِاتِّبَاعُ الْمَأْمُورُ بِهِ اتِّبَاعٌ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِمُلَازَمَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْإِعْلَانِ بِهَا وَدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَأَنْ لَا يَعْتَرِيَهُ فِي ذَلِكَ لِينٌ وَلَا هَوَادَةٌ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَذَاءَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ تَأْثِيرٌ عَلَى نَفْسِهِ يُوهِنُ دَعْوَتَهُمْ وَالْحِرْصَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَاعْتِقَادُ أَنَّ مُحَاوَلَةَ إِيمَانِهِمْ لَا جَدْوَى لَهَا. فَالْمُرَادُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَا أُوحِيَ مِنَ الْقُرْآنِ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ أَمْرًا بِدَعْوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ عَنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ شَدًّا لساعد النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 108] كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: 50] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ وَنَوَاهِيهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِهَذَا السِّيَاقِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ: رَبِّكَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ تأنيس للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَطُّفٌ مَعَهُ.

وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِدْمَاجُ التَّذْكِيرِ بالوحدانيّة لزِيَادَة تقرّرها وَإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَأَذَاهُمْ لَا الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ الدَّعْوَةِ لِأَيِّ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا هُوَ إِعْرَاضٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَذَاهُمْ، أَلَا تَرَى كُلَّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ تَلَتْهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدْعُو الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] : فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا تَلَطُّفٌ مَعَ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةٌ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ الْكَدَرِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَقِلَّةِ إِغْنَاءِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُذُرِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَوِّلَ قُلُوبَهُمْ فَتَقْبَلَ الْإِسْلَامَ بِتَكْوِينٍ آخَرَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْإِرْشَادِ وَالِاهْتِدَاءِ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ وَتَظْهَرَ مَرَاتِبُ النُّفُوسِ فِي مَيَادِينِ التَّلَقِّي، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَخْتَلِفَ النُّفُوسُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ كَيْفِيَّاتِ الْخِلْقَةِ وَالْخَلْقِ وَالنَّشْأَةِ وَالْقَبُولِ، وَعَنْ مَرَاتِبِ اتِّصَالِ الْعِبَادِ بِخَالِقِهِمْ وَرَجَائِهِمْ مِنْهُ. فَالْمُشْرِكُونَ بَلَغُوا إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِأَسْبَابٍ وَوَسَائِلَ مُتَسَلْسِلَةٍ مُتَرَتِّبَةٍ خِلْقِيَّةٍ، وَخُلُقِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، تَهَيَّأَتْ فِي أزمنة وأحوال هيّأتها لَهُمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الْمُرْشِدَ كَانَ إِصْغَاؤُهُمْ إِلَى إِرْشَادِهِ مُتَفَاوِتًا عَلَى تَفَاوُتِ صَلَابَةِ عُقُولِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَعَرَاقَتِهِمْ فِيهِ، وَعَلَى تَفَاوُتِ إِعْدَادِ نُفُوسِهِمْ لِلْخَيْرِ وَجُمُوحِهِمْ عَنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ إِيمَانَ النَّاسِ حَاصِلًا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَا بِتَبْدِيلِ خَلْقِ الْعُقُولِ، وَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهَذَا مَعْنَى انْتِفَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُرَادِ بِهِ تَطْمِينُ قَلْبِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَذْكِيرُهُ بِحَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا عُذْرٌ لَهُمْ

وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْعُصَاةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِذَارَ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا [الْأَنْعَام: 148] الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 20] فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ (¬1) ، لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ كَاشِفَةٌ عَنِ الْوَاقِعِ لَا تَصْلُحُ عُذْرًا لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي عِدَادِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [الْمَائِدَة: 41] . وَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ (لَوْ) عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ إِشْرَاكِهِمْ مَا أَشْرَكُوا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [35] . وَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تَذْكِيرٌ وَتَسْلِيَةٌ لِيُزِيحَ عَنْهُ كَرْبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْكَدَرِ لِإِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ فِي نَفْسِهِ انْكِسَارًا كَأَنَّهُ انْكِسَارُ مَنْ عُهِدَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ فَلَمْ يَتَسَنَّ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْ حُسْنِ الْقِيَامِ، فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْهُ مُكْرِهًا لَهُمْ لِيَأْتِيَ بِهِمْ مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا بَعَثَهُ مُبَلِّغًا لِرِسَالَتِهِ فَمَنْ آمَنَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهَا. وَالْحَفِيظُ: الْقَيِّمُ الرَّقِيبُ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْكَ رَقِيبًا عَلَى تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ فَلَا يُهِمَّنَّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ وَعَدَمُ تَحْصِيلِ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ إِذْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَالْخَبَرُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّذْكِيرِ وَالتَّسْلِيَةِ، لَا مَسَاقَ الْإِفَادَةِ لِأَنَّ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَهُ حَفِيظًا عَلَى تَحْصِيلِ إِسْلَامِهِمْ إِذْ لَا يَجْهَلُ الرَّسُولُ مَا كُلِّفَ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تَهْوِينٌ عَلَى نَفْسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِطَرِيقَةِ التَّذْكِيرِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْغَمُّ الْحَاصِلُ لَهُ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (فصلت) وَهُوَ خطأ.

[سورة الأنعام (6) : آية 108]

فَإِنْ أُرِيدَ مَا أَنْتَ بِوَكِيلٍ مِنَّا عَلَيْهِمْ كَانَ تَتْمِيمًا لقَوْله: وَما جَعَلْناكَ (¬1) عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَإِنْ أُرِيدَ مَا أَنْتَ بِوَكِيلٍ مِنْهُمْ عَلَى تَحْصِيلِ نَفْعِهِمْ كَانَ اسْتِيعَابًا لِنَفْيِ أَسْبَابِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، يَقُولُ: مَا أَنْتَ بِوَكِيلٍ عَلَيْهِمْ وَكَّلُوكَ لِتَحْصِيلِ مَنَافِعِهِمْ كَإِيفَاءِ الْوَكِيلِ بِمَا وَكَّلَهُ عَلَيْهِ مُوَكِّلُهُ، أَيْ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ وَلَا تَقْصِيرَ لِانْتِفَاءِ سَبَبَيِ التَّقْصِيرِ إِذْ لَيْسَ مَقَامُكَ مَقَامَ حَفِيظٍ وَلَا وَكِيلٍ. فَالْخَبَرُ أَيْضًا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِلَازِمِهِ لَا فِي حَقِيقَتِهِ مِنْ إِفَادَةِ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَعَلَى كلا الْمَعْنيين لَا بدّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى نَفْعِهِمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَفِيظِ وَالْوَكِيلِ هُنَا فِي خَبَرَيْنِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الْأَنْعَام: 104] . مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكِيلِ والحفيظ فاذكره. [108] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 108] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 106] يَزِيدُ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَيَانًا، وَيُحَقِّقُ مَا قُلْنَاهُ أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِعْرَاضِ تَرْكُ الدَّعْوَةِ بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِغْضَاءُ عَنْ سِبَابِهِمْ وَبَذِيءِ أَقْوَالِهِمْ مَعَ الدَّوَامِ عَلَى مُتَابَعَةِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى دَعْوَتِهِمْ وَإِبْطَالِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ مَعَ تَجَنُّبِ الْمُسْلِمِينَ سَبَّ مَا يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالسَّبُّ: كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيرِ أَحَدٍ أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى نَقِيصَةٍ أَوْ مَعَرَّةٍ، بِالْبَاطِلِ أَوْ بِالْحَقِّ، وَهُوَ مُرَادِفُ الشَّتْمِ. وَلَيْسَ مِنَ السَّبِّ النِّسْبَةُ إِلَى خَطَأٍ فِي الرَّأْيِ أَوِ الْعَمَلِ، وَلَا النِّسْبَةُ إِلَى ضَلَالٍ فِي الدِّينِ إِنْ كَانَ صَدَرَ مِنْ مُخَالِفٍ فِي الدِّينِ. وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا النَّهْيِ الْمُسْلِمُونَ لَا الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (أَرْسَلْنَاك) .

الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فَحَّاشًا وَلَا سَبَّابًا لِأَنَّ خُلُقَهُ الْعَظِيمَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ تَرْكَهُ مِنْ وَحْيِهِ الَّذِي يُنْزِلُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لِغَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ رُبَّمَا تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فَفَرَطَتْ مِنْهُمْ فُرُطَاتٌ سَبُّوا فِيهَا أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ «كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَوْثَانَ الْكُفَّارِ فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ» . وَهَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْفَقُهُ بِنَظْمِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ ضَعِيفٌ وَلَهُ مُنْكَرَاتٌ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ بِلَفْظِ وَلا تَسُبُّوا وَكَانَ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَجْهَرُوا بِسَبِّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَثَلًا. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 110] . وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَانْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ سَادَتِهِمْ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَاطَبُوهُ بِمَا رَامَوْا، فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يُرِيدُونَ أَنْ تَدَعَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ، وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَلَنَشْتُمَنَّ مَنْ يَأْمُرُكَ. وَلَمْ يَقِلِ السُّدِّيُّ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ الْفَخر: هَاهُنَا إِشْكَالَانِ هُمَا: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ

نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَقُولُونَ: عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ لِتَكُونَ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِقْدَامُ الْكُفَّارِ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَأَقُولُ: يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْأَوَّلَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلنُّزُولِ فَإِنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَقَدَّمُ زَمَانَهُ ثُمَّ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ النَّازِلَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ أَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ أَجَابَ الْفَخْرُ بِمِثْلِ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الْأَنْعَام: 111] الْآيَةَ. وَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الثَّانِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُ وَلذَلِك أَنْكَرُوا الرّحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الْفرْقَان: 60] . فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَمِّ آلِهَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ شَيْطَانًا يَأْمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبِّ الْأَصْنَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ لَمَّا فَتِرَ الْوَحْيُ فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ: مَا أَرَى شَيْطَانَهُ إِلَّا وَدَّعَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ الضُّحَى. وَجَوَابُ الْفَخْرِ عَنْهُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ وَهُمُ الدَّهْرِيُّونَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَأَجْرَى اللَّهُ شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرَى شَتْمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْح: 10] » اهـ. فَإِنَّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدًا لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ نَقَائِصِ آلِهَتِهِمْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [179] . وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَاف: 195] فَلَيْسَ مِنَ الشَّتْمِ وَلَا مِنَ السَّبِّ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ وَلَيْسَ تَصَدِّيًا لِلشَّتْمِ، فَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلِمَاتِ الذَّمِّ وَالتَّعْبِيرِ لِآلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا رُوِيَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ جَاءَ رَسُولًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَهُ: «وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي

بِهَؤُلَاءِ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ» ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حَاضِرًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ «امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ» إِلَى آخَرَ الْخَبَرِ. وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ هُوَ أَنَّ السَّبَّ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ اسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيَنْهَضُ بِهِ الْمُحِقُّ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ الْمُبْطِلُ، فَأَمَّا السَّبُّ فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ لِلْمُحِقِّ وَلِلْمُبْطِلِ فَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا. وَرُبَّمَا اسْتَطَاعَ الْمُبْطِلُ بِوَقَاحَتِهِ وَفُحْشِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْمُحِقُّ، فَيَلُوحُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَى الْمُحِقِّ. عَلَى أَنَّ سَبَّ آلِهَتِهِمْ لَمَّا كَانَ يَحْمِي غَيْظَهُمْ وَيَزِيدُ تَصَلُّبَهُمْ قَدْ عَادَ مُنَافِيًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنَ الدَّعْوَةِ، فَقَدْ قَالَ لِرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ، وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» ، فَصَارَ السَّبُّ عائقا من الْمَقْصُودِ مِنَ الْبِعْثَةِ، فَتَمَحَّضَ هَذَا السَّبُّ لِلْمَفْسَدَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَشُوبًا بِمَصْلَحَةٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ إِذا خيف إفضاؤه إِلَى مَفْسَدَةٍ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ مَصْلَحَةٌ بِالذَّاتِ وَإِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ بِالْعَرْضِ. وَذَلِكَ مَجَالٌ تَتَرَدَّدُ فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَتَحَقُّقًا وَاحْتِمَالًا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ كُلِّهَا. وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حُكْمُهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنَّهُ إِنْ سَبَّ الْمُسْلِمُونَ أَصْنَامَهُ أَوْ أُمُورَ شَرِيعَتِهِ أَنْ يَسُبَّ هُوَ الْإِسْلَامَ أَوِ النَّبِيءَ- عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام- أَو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسُبَّ صُلْبَانَهُمْ وَلَا كَنَائِسَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ اهـ، أَيْ عَلَى زِيَادَةِ الْكُفْرِ. وَلَيْسَ مِنَ السَّبِّ إِبْطَالُ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ فِي مَقَامِ الْمُجَادَلَةِ وَلَكِنَّ السَّبَّ أَنْ نُبَاشِرَهُمْ فِي غَيْرِ مُقَامِ الْمُنَاظَرَةِ بِذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَصْدُرُ

مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سبّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَرَ مِنْهُمْ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَلَا يُعَدُّ سَبًّا وَإِنْ تَجَاوَزُوا ذَلِكَ عُدَّ سَبًّا، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: «مَا بِهِ كُفْرٌ وَغَيْرُ مَا بِهِ كُفْرٍ» . وَقَدِ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِمَسْأَلَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «مَنَعَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إِلَى مَحْظُورٍ وَلِأَجْلٍ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ» . وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [163] عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِه الْآيَة أصل من أصُول إِثْبَات الذّرائع الّتي انْفَرد بهَا مَالِكٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ اهـ. وَفَسَّرَ الْمَازِرِيُّ فِي بَابِ بُيُوعِ الْآجَالِ مِنْ «شَرْحِهِ لِلتَّلْقِينِ» سَدَّ الذَّرِيعَةِ بِأَنَّهُ مَنْعُ مَا يَجُوزُ لِئَلَّا يُتَطَرَّقَ بِهِ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ اهـ. وَالْمُرَادُ: سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ فِي «تَنْقِيحِ الْفُصُولِ» وَفِي «الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ» فَقَالَ: الذَّرِيعَةُ: الْوَسِيلَةُ إِلَى الشَّيْءِ. وَمَعْنَى سَدِّ الذَّرَائِعِ حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ. وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الذَّرَائِعَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مُعْتَبَرٌ إِجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ. وَثَانِيهَا: مُلْغًى إِجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ لِخَشْيَةِ الْخَمْرِ، وَكَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ خَشْيَةَ الزِّنَا. وَثَالِثُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَاعْتَبَرَ مَالِكٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ اهـ. وَعَنَى بِالْمُخَالِفِ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ

شُعْبَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ إِعْطَاءِ الْوَسِيلَةِ حُكْمَ الْمَقْصِدِ خَاصَّةً بِوَسَائِلِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ مَعْنَى سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي حَكَى الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِيهِ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عُنْوَانٌ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَا تَعَرَّضُوا لَهَا بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» فِي عِدَادِ الْأُصُولِ الْمَوْهُومَةِ فِي خَاتِمَةِ الْقُطْبِ الثَّانِي فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ. وعَدْواً- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ «يَسُبُّوا» لِأَنَّ الْعَدْوَ هُنَا صِفَةٌ لِلسَّبِّ، فَصَحَّ أَنْ يَحُلَّ مَحَلَّهُ فِي الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَيَانًا لِنَوْعِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ عَدْواً- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ- وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْعَدْوِ. وَوَصْفُ سَبِّهِمْ بِأَنَّهُ عَدْوٌ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ سَبَّ الْمُسْلِمِينَ أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ السَّبَّ عَدْوًا سَوَاءً كَانَ مُرَادًا بِهِ اللَّهُ أَمْ كَانَ مُرَادًا بِهِ مَنْ يَأْمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِي أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اللَّهُ تَعَالَى فَصَادَفُوا الِاعْتِدَاءَ عَلَى جَلَالِهِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ حَالٌ من ضمير فَيَسُبُّوا، أَيْ عَنْ جَهَالَةٍ، فَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ لَا يَزَعُهُمْ وَازِعٌ عَنْ سَبِّهِ، وَيَسُبُّونَهُ غَيْرَ عَالِمِينِ بِأَنَّهُمْ يَسُبُّونَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَسُبُّونَ مَنْ أَمر محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ فَيُصَادِفُ سَبُّهُمْ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ صِفَةً لِ عَدْواً كَاشِفَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَدْوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعِظَمِ الْجُرْمِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ، أَوْ عَنْ عِلْمٍ بِذَلِكَ لَكِنَّ حَالَةَ إِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ تُشْبِهُ حَالَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوَخَامَةِ عَاقِبَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مَعْنَاهُ كَتَزْيِينِنَا لِهَؤُلَاءِ سُوءَ عَمَلِهِمْ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ- إِلَى قَوْلِهِ- فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَام: 100- 108] . فَإِنَّ اجْتِرَاءَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ وَعَمَاهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي سُوءِ عَوَاقِبِهَا نَشَأَ عَنْ تَزْيِينِهَا فِي نُفُوسِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ أَنَّهَا طَرَائِقُ نَفْعٍ لَهُمْ وَنَجَاةٍ وَفَوْزٍ فِي الدُّنْيَا بِعِنَايَةِ أَصْنَامِهِمْ. فَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَبِمُمَاثِلِ هَذَا التَّزْيِينِ زَيَّنَ اللَّهُ أَعْمَالَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَعَثُوا فِيهِمْ فَكَانُوا يُشَاكِسُونَهُمْ وَيَعْصُونَ نُصْحَهُمْ وَيَجْتَرِئُونَ عَلَى رَبِّهِمُ الَّذِي بَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا شَبَّهَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ تَزْيِينًا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ مَا وَقَعَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّزْيِينِ. وَقَدْ جَرَى اسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] وَنَظَائِرِهِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ غَيْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بَلْ بِأَحْوَالٍ أَعَمُّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوَعُّدِ بِأَنْ سَيَحُلُّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا. وَحَقِيقَةُ تَزْيِينِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ بِعُقُولٍ يَحْسُنُ لَدَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: 108] . وَذَلِكَ هُوَ الْقَانُونُ فِي نَظَائِرِهِ. وَالتَّزْيِينُ تَفْعِيلٌ مِنَ الزَّيْنِ، وَهُوَ الْحُسْنُ أَوْ مِنَ الزِّينَةِ، وَهِيَ مَا يُتَحَسَّنُ بِهِ الشَّيْءُ. فَالتَّزْيِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا زِينَةٍ أَوْ إِظْهَارُهُ زَيْنًا أَوْ نِسْبَتُهُ إِلَى الزَّيْنِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى إِظْهَارِهِ فِي صُورَةِ الزَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالتَّفْعِيلُ فِيهِ لِلنِّسْبَةِ مِثْلُ التَّفْسِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7] بِمَعْنَى جَعَلَهُ زَيْنًا، فَالتَّفْعِيلُ لِلْجَعْلِ لِأَنَّهُ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ. وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ عَقَّبَ الْكَلَامَ بِ ثُمَّ الْمُفِيدَةِ التَّرْتِيبَ الرُّتْبِيَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ

[سورة الأنعام (6) : آية 109]

بِ ثُمَّ أَعْظَمُ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِ ثُمَّ أَشَدُّ وَأَنْكَى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا زائل غير مؤيّد. وَالْمَعْنَى أعظم مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ فَيُحَاسِبُهُمْ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى لَفْظِ رَبِّهِمْ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ الْوَعِيدِ وَتَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ بِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مَالِكِهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ فَكَفَرُوا نِعَمَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ فَكَانُوا كَالْعَبِيدِ الْآبِقِينَ يَطُوفُونَ مَا يَطُوفُونَ ثُمَّ يَقَعُونَ فِي يَدِ مَالِكِهِمْ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِعْلَامُ، وَهُوَ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالْعِقَابُ، لِأَنَّ الْعِقَابَ هُوَ الْعَاقِبَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ إِعْلَامِ الْمُجْرِمِ بِجُرْمِهِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنِ الْمَرْجِعِ مُؤْذِنَةٌ بِسُرْعَةِ الْعِقَابِ إِثْرَ الرّجوع إِلَيْهِ. [109] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 109] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) عطف جُمْلَةُ: وَأَقْسَمُوا عَلَى جُمْلَةِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْأَنْعَام: 106] الْآيَةَ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: 66] مِثْلُ الضَّمَائِرِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ وَمَعْنَى: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ آيَةٌ غَيْرُ الْقُرْآنِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تَعَلُّلَاتِهِمْ لِلتَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَجِ الدَّامِغَةِ لَهُمْ، كَانُوا قَدْ تَعَلَّلُوا بِهِ فِي بَعْضِ تَوَرُّكِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَالْكَلْبِيِّ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِثْلَ آيَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ، أَوْ مِثْلَ آيَةِ صَالِحٍ، أَوْ مِثْلَ آيَةِ عِيسَى- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا

سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاء: 4] أَقْسَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ كَمَا سَأَلُوا أَوْ كَمَا تَوَعَّدُوا لَيُوقِنُنَّ أَجْمَعُونَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَمَا سَأَلُوا، حِرْصًا عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا. فَهَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جَمَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمُحَاجَّاتِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ هُوَ نَحْوُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [53] أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. وَالْأَيْمَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [225] . وَجُمْلَةُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ إِلَخْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ جُعِلَ شَرْطًا فِي الْقَسَمِ فَتَدُلُّ عَلَى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ غَالِبًا، وَقَدْ جَاءَتْ هُنَا مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُلَازِمَةً لِلشَّرْطِ الْوَاقِعِ جَوَابًا لِلْقَسَمِ فَلَمْ تَنْفَكَّ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ فِعْلِ الْقَسَمِ. وَاللَّامُ فِي لَيُؤْمِنُنَّ بِها لَامُ الْقَسَمِ، أَيْ لَامُ جَوَابِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا اقْتَرَحُوهُ على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنُونَ بِهَا خَارِقَ عَادَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ مُقْتَرَحَهُمْ لِيُصَدِّقَ رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فَلِذَلِكَ نُكِّرَتْ آيَةٌ، يَعْنِي: أَيَّةَ آيَةٍ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تَنْحَصِرُ فِيهِ الْآيَاتُ فِي زَعْمِهِمْ. وَمَجِيءُ الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ لِظُهُورِهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الظَّاهِرَ يُشْبِهُ حُضُورَ الْغَائِبِ فَلِذَلِكَ يُسْتَعَارُ لَهُ الْمَجِيءُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ وَاشْتِقَاقِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَمَعْنَى كَوْنِ الْآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَأَسْبَابُ إِيجَادِ الْآيَاتِ مِنْ صِفَاتِهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ شُبِّهَتْ بِالْأُمُورِ الْمُدَّخَرَةِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ إبرازها أبرزها لِلنَّاسِ، فَكَلِمَةُ عِنْدَ هُنَا مَجَازٌ. اسْتُعْمِلَ اسْمُ الْمَكَانِ الشَّدِيدِ الْقُرْبِ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَادِ وَالِاسْتِئْثَارِ مَجَازًا مُرْسَلًا، لِأَنَّ الِاسْتِئْثَارَ مِنْ لَوَازِمِ حَالَةِ الْمَكَانِ الشَّدِيدِ الْقُرْبِ عُرْفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: 59] . وَالْحَصْرُ بِ إِنَّمَا رَدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ظَنَّهُمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ فِي مَقْدُور النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ نَبِيئًا فَجَعَلُوا عَدَمَ إِجَابَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتِرَاحَهُمْ آيَةً أَمَارَةً عَلَى انْتِفَاءِ نُبُوءَتِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ لَا عِنْدَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَرَأَ الْأَكْثَرُ (أَنَّهَا) - بِفَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ» -. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) -. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يُؤْمِنُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَعَلَيْهِ فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَقَبَةُ حَيْرَةٍ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَلْنَأْتِ عَلَى مَا لَاحَ لَنَا فِي مَوْقِعِهَا وَنَظْمِهَا وَتَفْسِيرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ نَعْقُبُهُ بِأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ. فَالَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّ الْجُمْلَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا وَاوَ الْعَطْفِ وَأَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ. فَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهَا وَاوَ الْعَطْفِ فَأَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ، وَهِيَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.

وَالْمُخَاطَبُ بِ يُشْعِرُكُمْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-. وَالْمُخَاطَبُ بِ يُشْعِرُكُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَخَلَفٍ لَا تُؤْمِنُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَما يُشْعِرُكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّشْكِيكِ وَالْإِيقَاظِ، لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ قَسَمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُرَوَّجُ عَلَيْهِمْ تُرَّهَاتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِي الِاسْتِفْهَامِ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْكَارِ وَلَا التَّوْبِيخِ وَلَا التَّغْلِيظِ إِذْ لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلَا فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُؤْثَرُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يَقْتَضِي إِرَادَةَ توبيخهم وَلَا تغليطهم، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ طَمِعُوا فِي حُصُولِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَنْ يُجَابُوا إِلَى إِظْهَارِ آيَةٍ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِمْ، وَكَيف والمسلمون يقرأون قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ وَهِيَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [96، 97] وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ كَذِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي الدِّينِ وَتَلَوُّنَهُمْ فِي اخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَسِيقَ الْخَبَرُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مِنْ شَأْنه أَن يهيّء نَفْسَ السَّامِعِ لِطَلَبِ جَوَابِ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ فَيَتَأَهَّبُ لِوَعْيِ مَا يَرُدُّ بَعْدَهُ. وَالْإِشْعَارُ: الْإِعْلَامُ بِمَعْلُومٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى وَيَدِقَّ. يُقَالُ: شَعَرَ فُلَانٌ بِكَذَا، أَيْ عَلِمَهُ وَتَفَطَّنَ لَهُ، فَالْفِعْلُ يَقْتَضِي مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَ مَفْعُولِهِ وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ. وَهَمْزَةُ (أَنَّ) مَفْتُوحَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالْمَعْنَى أَمُشْعِرٌ يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ.

فَهَذَا بَيَانُ الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ، وَإِنَّمَا الْعُقْدَةُ فِي وُجُودِ حَرْفِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ مَا يُشْعِرُكُمْ بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا يُدْرِيكُمْ، وَمُعْتَادُ الْكَلَامِ فِي نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُجْعَلَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ الدِّرَايَةِ فِيهِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَظُنَّ الْمُخَاطَبُ وُقُوعَهُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُظَنُّ وُقُوعُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَسَمُهُمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ فَلَمَّا جعل متعلّق فعل الشُّعُورِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا غَرِيبًا بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي اسْتِعْمَالِ نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي خَصَائِصِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَفُرُوقِهِ أَنْ لَا يُقَاسَ قَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ عَلَى مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مَا يُدْرِيكَ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ مَا يُدْرِيكَ شَاعَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بِاسْتِعْمَالٍ خَاصٍّ لَا يَكَادُونَ يُخَالِفُونَهُ كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْأَمْثَالِ أَنْ لَا تُغَيَّرَ عَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ (مَا) فِيهِ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ يُدْرِيكَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ. فَلَوْ قِسْنَا اسْتِعْمَالَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ (مَا يُدْرِيكُمْ) لَكَانَ وُجُودُ حَرْفِ النَّفْيِ مُنَافِيًا لِلْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ مُثَارُ تَرَدُّدِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِي مَحْمَلِ لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَأَمَّا حِينَ نَتَطَلَّبُ وَجْهَ الْعُدُولِ فِي الْآيَةِ عَنِ اسْتِعْمَالِ تَرْكِيبِ (مَا يُدْرِيكُمْ) وَإِلَى إِيثَارِ تَرْكِيبِ مَا يُشْعِرُكُمْ فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُدُولَ لِمُرَاعَاةِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَعْدُولِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرْكِيبٌ لَيْسَ مُتَّبَعًا فِيهِ طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَلِذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَسْمَحُ بِهِ الْوَضْعُ وَالنَّظْمُ فِي اسْتِعْمَالِ الأدوات وَالْأَفْعَال ومفاعليها وَمُتَعَلِّقَاتِهَا (¬1) . ¬

(¬1) اعْلَم أَن قَوْلهم مَا يدْريك لَهُ ثَلَاثَة استعمالات. أَحدهَا: أَن يكون مرَادا بِهِ (الرَّد) على الْمُخَاطب فِي ظن يَظُنّهُ فَيُقَال لَهُ مَا يدْريك أَنه كَذَا فَيجْعَل مُتَعَلق فعل الدِّرَايَة هُوَ الظَّن الَّذِي يُرِيد الْمُتَكَلّم رده على الْمُخَاطب وَهَذَا الِاسْتِعْمَال يجْرِي فِيهِ تركيب مَا يدْريك وَمَا أَدْرَاك وَمَا تصرف مِنْهُمَا مجْرى الْمثل فَلَا يُغير عَن اسْتِعْمَاله، وَيكون الِاسْتِفْهَام فِيهِ إنكاريا، وَيلْزم أَن يكون مُتَعَلق الدِّرَايَة على نَحْو ظن الْمُخَاطب من إِثْبَات أَو نفى نَحْو مَا يدْريك أَنه يفعل وَمَا يدْريك أَنه لَا يفعل. ثَانِيهَا: أَن يرد بعد فعل الدِّرَايَة حرف الرَّجَاء نَحْو: مَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى، إِذا كَانَ الْمُخَاطب غافلا عَن ظَنّه وَهُوَ الِاسْتِعْمَال الَّذِي على مثله خرج الْخَلِيل قَوْله تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَاء على ترادف فعل يشعركم وَفعل يدريكم. ثَالِثهَا: نَحْو وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة، مِمَّا وَقع بعده (مَا) الاستفهامية لقصد التهويل.

فَلْنَحْمِلِ اسْمَ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا عَلَى مَعْنَى التَّنْبِيهِ وَالتَّشْكِيكِ فِي الظَّنِّ، وَنَحْمِلْ فِعْلَ يُشْعِرُكُمْ عَلَى أَصْلِ مُقْتَضَى أَمْثَالِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْيُ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ بِإِتْيَانِ آيَةٍ وَإِثْبَاتِهِ سَوَاءً فِي الْفَرْضِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاسْتِفْهَامُ، فَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ جَانِبُ النَّفْيِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي هَذَا الظَّنِّ. هَذَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّرْكِيبَيْنِ. وَلِلْفُرُوقِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي اعْتِبَارَاتٌ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ عِلْمِ الْمَعَانِي غَضُّ النَّظَرِ عَنْهَا، وَكَثِيرًا مَا بَيْنَ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَصْنَافًا مِنْهَا فَلْيُلْحَقْ هَذَا الْفَرْقُ بِأَمْثَالِهِ. وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا قِيَاسَ مَا يُشْعِرُكُمْ عَلَى (مَا يُدْرِيكُمْ) سَوَاءً، كَمَا سَلَكَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَاجْعَلِ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالِ (مَا يُدْرِيكَ) هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ مَا يُشْعِرُكُمْ وَاجْعَلْ تَعْلِيقَ الْمَنْفِيِّ بِالْفِعْلِ جَرْيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِنُكْتَةِ ذَلِكَ الْإِيمَاءِ وَيَسْهُلُ الْخَطْبُ. وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ وَاوَ الْحَالِ فَتَكُونُ «مَا» نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِجُمْلَةِ يُشْعِرُكُمْ. وَمَعْنَاهَا شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا الشَّيْءُ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 96، 97] ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَّبُوهُ مِنْ تَلَوُّنِ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّفَصِّي مِنْ تَرْكِ دِينِ آبَائِهِمْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالِاسْتِقْرَاءَ أَشْعَرَكُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَا تَطْمَعُوا فِي إِيمَانِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَلَا فِي صِدْقِ أَيْمَانِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 12] . وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ جَعْلِ «مَا» نَكِرَةً مَوْصُوفَةً فِي حِينِ إِنَّهُمْ تَطَرَّقُوا إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ.

فَإِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ يُشْعِرُكُمْ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّنَا نَأْتِيكُمْ بِآيَةٍ كَمَا تُرِيدُونَ. وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفَاتٍ تَكَلَّفَهَا الْمُفَسِّرُونَ، فَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ طَمِعُوا فِي إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَتَمَنَّوْا مَجِيئَهَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى جَعْلِ مَا يُشْعِرُكُمْ مُسَاوِيًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لِقَوْلِهِمْ مَا يُدْرِيكَ. وَرَوَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّها مَعْنَاهُ لَعَلَّهَا، أَيْ لَعَلَّ آيَةً إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَالَ: تَأَتَّى (أَنْ) بِمَعْنَى لَعَلَّ، يُرِيدُ أَنَّ فِي لَعَلَّ لُغَةً تَقُولُ: لِأَنَّ، بِإِبْدَالِ الْعَيْنِ هَمْزَةً وَإِبْدَالِ اللَّامِ الْأَخِيرَةِ نُونًا، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَحْذِفُونَ اللَّامَ الْأُولَى تَخْفِيفًا كَمَا يَحْذِفُونَهَا فِي قَوْلِهِمْ: عَلَّكَ أَنْ تَفْعَلَ، فَتَصِيرُ (أَنَّ) أَيْ (لَعَلَّ) . وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْشَدُوا أَبْيَاتًا. وَعَنِ الْفَرَّاءِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، كَمَا ادَّعَوْا زِيَادَتَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] . وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ جَعَلَ أَنَّها تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ أَي لَا تأتيهم بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ كِنَايَةً عَنْ مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّها- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- يَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُشْعِرُكُمْ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِها. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ آيَةٌ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَخَلَفٍ- بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ-. فَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ خَلَفٍ الَّذِي قَرَأَ إِنَّهَا- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-، أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ أَنَّها إِذا جاءَتْ

[سورة الأنعام (6) : آية 110]

إِلَخْ خِطَابًا مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ اللَّذَيْنِ قَرَآ أَنَّها- بِفَتْح الْهمزَة- فَأن يُجْعَلَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَقْفِ على يُشْعِرُكُمْ. [110] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 110] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 109] فَتَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 109] ، أَيْ بِأَنْ نُعَطِّلَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْآيَةِ وَعُقُولَهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَلَا يُبْصِرُونَ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَلَا تَفْقَهُ قُلُوبُهُمْ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فَيَتَعَطَّلُ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْرِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ إِصْلَاحِ إِدْرَاكِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ خُلِقَتْ عُقُولُهُمْ نَابِيَةً عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَا هَيَّأَ لَهَا ذَلِكَ مِنِ انْسِلَالِهَا مِنْ أُصُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ نَشْأَتِهَا بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَتَلَقِّي ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا بَيَّنْتُهُ آنِفًا. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ الْمُخَالِفِ لِلْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ بِأَنَّهُ تَقْلِيبٌ لِعُقُولِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْلُوبَةً عَنِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَلَيْسَ دَاعِيَ الشِّرْكِ فِيهَا تَقْلِيبًا عَنْ حَالَةٍ كَانَتْ صَالِحَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ حِينًا، وَلَكِنَّهُ تَقْلِيبٌ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ مَا الشَّأْنِ أَنْ تَجِيءَ عَلَيْهِ. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ [الْأَنْعَام: 109] فَإِنَّهُمْ عَنَوْا آيَةً غَيْرَ الْقُرْآنِ. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِتَشْبِيهِ حَالَةِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ تَجِيئَهُمْ آيَةٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا. وَالْمَعْنَى وَنُقَلِّبُ أَيْدِيَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآيَةِ الَّتِي تَجِيئُهُمْ مِثْلَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلُ، فَتَقْلِيبُ أَفْئِدَتِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْخِذْلَانُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مُسْتَأْنِفَةً وَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ،

أَوْ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 109] . وَالْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ، أَيْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كِنَايَةً عَنْ تَقْلِيبِ أَجْسَادِهِمْ كُلِّهَا. وَخَصَّ مِنْ أَجْسَادِهِمْ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْعِبْرَةِ بِالْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: 116] ، أَيْ سَحَرُوا النَّاسَ بِمَا تُخَيِّلُهُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] . وَأَقُولُ: هَذَا الْوَجْه يناكده قَوْلُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مَرَّتَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِأَنَّهَا الْحَيَاةُ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا. وَالتَّقْلِيبُ مَصْدَرُ قَلَّبَ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ قَلْبِ الشَّيْءِ عَنْ حَالِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْقَلْبُ يَكُونُ بِمَعْنَى جَعْلِ الْمُقَابِلِ لِلنَّظَرِ مِنَ الشَّيْءِ غَيْرَ مُقَابِلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها [الْكَهْف: 42] ، وَقَوْلِهِمْ: قَلَبَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: 144] وَيَكُونُ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ حَالَةِ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ قَلْبَ ذَاتِ الشَّيْءِ. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 109] ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: لَا يُؤْمِنُونَ مِثْلَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: 66] ، أَيْ أَنَّ الْمُكَابَرَةَ سَجِيَّتُهُمْ فَكَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الْمَاضِي بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يُؤْمِنُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِآيَةٍ أُخْرَى إِذَا جَاءَتْهُمْ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مُعْتَرِضًا بِالْعَطْفِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ التَّشْبِيهَ لِلتَّقْلِيبِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي نُقَلِّبُ، أَيْ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ فِطْرَةِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ كَمَا قَلَّبْنَاهَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذْ جَمَحُوا عَنِ

الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَيَصِيرُ هَذَا التَّشْبِيهُ فِي قُوَّةِ الْبَيَانِ لِلتَّقْلِيبِ الْمَجْعُولِ حَالًا مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ سَبَبَ صُدُورِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَزَالُ قَائِمًا لِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمْ إِصْلَاحَ قُلُوبِهِمْ. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِيهَا، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] . فَالْمَعْنَى: نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَابَرُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلَ مَا تَحَدَّاهُمْ، فَنَجْعَلُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ مُسْتَمِرَّةَ الِانْقِلَابِ عَنْ شَأْنِ الْعُقُولِ وَالْأَبْصَارِ، فَهُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِعْثَةِ رَسُولِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ. وَتَقْدِيمُ الْأَفْئِدَةِ عَلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْأَفْئِدَةَ بِمَعْنَى الْعُقُولِ، وَهِيَ مَحَلُّ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، فَإِذَا لَاحَ لِلْقَلْبِ بَارِقُ الِاسْتِدْلَالِ وَجَّهَ الْحَوَاسَّ إِلَى الْأَشْيَاءِ وَتَأَمَّلَ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْأَفْئِدَةِ عَنِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْأَفْئِدَةَ تَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ، مِثْلُ آيَةِ الْأُمِّيَّةِ وَآيَةِ الْإِعْجَازِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُفَّهُمُ الْآيَاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَفْئِدَتِهِمْ لِأَنَّهَا مُقَلَّبَةٌ عَنِ الْفِطْرَةِ وَسَأَلُوا آيَاتٍ مَرْئِيَّةً مُبْصَرَةً، كَأَنْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَيُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ، أخبر الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مُبْصَرَةٌ لَمَا آمَنُوا لِأَنَّ أَبْصَارَهُمْ مُقَلَّبَةٌ أَيْضًا مِثْلُ تَقْلِيبِ عُقُولِهِمْ. وَذُكِّرَ أَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَرَّةٍ إِضَافَةَ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ أَصْلَ «أَوَّلَ» اسْمُ تَفْضِيلٍ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى النَّكِرَةِ تَعَيَّنَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، كَمَا تَقُولُ: خَدِيجَةُ أَوَّلُ النِّسَاءِ إِيمَانًا وَلَا تَقُولُ أُولَى النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَرَّةِ مَرَّةٌ مِنْ مَرَّتَيْ مَجِيءِ الْآيَاتِ، فَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ، وَالْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَجِيءُ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ، وَهِيَ مَرَّةٌ مَفْرُوضَةٌ.

وَنَذَرُهُمْ عَطْفٌ عَلَى نُقَلِّبُ. فَحُقِّقَ أَنَّ مَعْنَى نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ نَتْرُكُهَا عَلَى انْقِلَابِهَا الَّذِي خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مَمْلُوءَةً طُغْيَانًا وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَكَانَتْ تَصْرِفُ أَبْصَارَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَأَصُّلِهِ فِيهِمْ وَنَشْأَتِهِمْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ حُرِمُوا لِينَ الْأَفْئِدَةِ الَّذِي تَنْشَأُ عَنْهُ الْخَشْيَةُ وَالذِّكْرَى. وَالطُّغْيَانُ وَالْعَمَهُ تَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي طُغْيانِهِمْ مَجَازِيَّةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الطُّغْيَانِ بِهِمْ، أَيْ بِقُلُوبِهِمْ. وَجُمْلَةُ: وَنَذَرُهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى نُقَلِّبُ. وَجُمْلَةُ يَعْمَهُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُهُمْ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أنّ العمه ناشيء عَن الطّغيان.

[سورة الأنعام (6) : آية 111]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ [الْأَنْعَام: 109] بِاعْتِبَارِ كَوْنِ جُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 109] ، فَتَكُونُ ثَلَاثَتُهَا رَدًّا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ [الْأَنْعَام: 109] إِلَخْ، وَبَيَانًا لِجُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 109] . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثَ بْنَ حَنْظَلَةَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَتَوْا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: «أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ لَكَ أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا فَنَسْأَلْهُمْ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ» ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: «لَا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى يُحْشَرَ قُصَيٌّ فَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِكَ أَوِ ائْتِنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا- أَيْ كَفِيلًا-» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: [90- 92] . وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مُسَايَرَةً لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ يُشِيرُ إِلَى مَجْمُوعِ مَا سَأَلُوهُ وَغَيْرِهِ.

وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ، وَمِنْهُ: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النَّمْل: 17] . وَضُمِّنَ مَعْنَى الْبَعْثِ والإرسال فعدّي بعلى كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] . وكُلَّ شَيْءٍ يَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا. لَكِنَّ الْمَقَامَ يُخَصِّصُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سَأَلُوهُ، أَوْ مِنْ جِنْسِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْآيَاتِ، فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي رِيحِ عَادٍ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَاف: 25] وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى. وَقَوْلُهُ: قُبُلًا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ-، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ، أَيْ حَشَرْنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِيَانًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي قِبَلَ بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُعَايَنَةِ وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى بَعِيدَةٍ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَغَيْرِ مُنَاسِبَةٍ لِلْمَعْنَى. وَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا هُوَ أَشَدُّ مِنْ (لَا يُؤْمِنُونَ) تَقْوِيَةً لِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ، مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ مُكَابِرُونَ غَيْرُ طَالِبِينَ لِلْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا الْحَقَّ بِإِنْصَافٍ لَكَفَتْهُمْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ، إِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ وُضُوحُ الْحَقِّ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَالْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ عَنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي أَجْدَرِ الْأَحْوَالِ بِأَنْ يُؤْمِنَ لَهَا مَنْ يُؤْمِنُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ انْتِفَاءُ إِيمَانِهِمْ أَبَدًا. وَلَوْ هَذِهِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةُ، وَسَنَشْرَحُ الْقَوْلَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [23] . وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عُمُومُ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَيْ حَالُ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَغْيِيرَ قُلُوبِهِمْ فَيُؤْمِنُوا طَوْعًا، أَوْ أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ. فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعْرِيضٌ بِوَعْدِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَحُذِفَتِ الْبَاءُ مَعَ «أَنْ» . وَوَقَعَ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ: لِأَنَّ اسْم الْجَلالَة يوميء إِلَى مَقَامِ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مقَام لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: 23] ، ويومىء إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَا سَأَلُوا الْآيَاتِ إِلَّا لِتَوْجِيهِ بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ بِطَلَبِ الْآيَاتِ اسْتِهْزَاءً، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ- فِي نَظَرِهِمْ- مِنْ قَبِيلِ الْمُحَالِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا شَاءَ إِيمَانَهُمْ آمَنُوا، فَالْجَهْلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ. وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَقَدْ حَصَلَ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ عُقَلَاءَ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعًا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ: مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ مَعَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ لَهُمْ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجَهْلِ ضِدَّ الْحِلْمِ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ، وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِإِخْرَاجِ قَلِيلٍ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْحِلْمِ فَإِنَّهُمْ يُرْجَى إِيمَانُهُمْ، لَوْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ. فَضَمِيرُ يَجْهَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا مَحَالَةَ كَبَقِيَّةِ الضَّمَائِرِ الَّتِي قبله.

[سورة الأنعام (6) : آية 112]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 112] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) اعْتِرَاضٌ قُصِدَ مِنْهُ تَسْلِيَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَاوُ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ، وَتَكون للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُحْزِنُهُ مِنْ أَحْوَالِ كُفَّارِ قَوْمِهِ، وَتَصَلُّبِهُمْ فِي نَبْذِ دَعْوَتِهِ، فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ: بِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُهُ، وَأَنَّ عَدَاوَةَ أَمْثَالِهِمْ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِلَاءِ أَنْبِيَائِهِ كُلِّهِمْ، فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ أَعْدَاءٌ، فَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَةُ هَؤُلَاءِ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِدْعًا مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَلَسْتَ نَبِيئًا وَقَدْ جَعَلَنَا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا- إِلَى آخِرِهِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْجَعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ جَعَلْنا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . فَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ جَعَلْنا. وَقَوْلُهُ: عَدُوًّا مَفْعُولُ جَعَلْنا الْأَوَّلُ، وَقَوله: لِكُلِّ نَبِيٍّ الْمَجْرُورُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ جَعَلْنا وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَنْبِيَائِهِ كُلِّهِمْ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةُ وَالتَّسْلِيَةُ وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَنْبِيهًا- مِنْ أَوَّلِ السَّمْعِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: عَدُوًّا كَيْلَا يَخَالَ السَّامِعُ أَنَّ قَوْلَهُ: شَياطِينَ الْإِنْسِ مَفْعُولٌ لِأَنَّهُ يُحَوِّلُ الْكَلَامَ إِلَى قَصْدِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ، أَوْ عَنْ تَعْيِينِ الْعَدُوِّ لِلْأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ، وَذَلِكَ يُنَافِي بَلَاغَةَ الْكَلَامِ.

وَ (شَياطِينَ) بَدَلٌ مِنْ عَدُوًّا وَإِنَّمَا صِيغَ التَّرْكِيبُ هَكَذَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعدَاء للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَعْرَبَ شَياطِينَ مَفْعُولا لجعل ولِكُلِّ نَبِيٍّ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ عَدُوًّا فَقَدْ أَفْسَدَ الْمَعْنَى. وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ على الْوَاحِد والمعتدّد، قَالَ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المُنَافِقُونَ: 4] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [92] . وَالشَّيْطَانُ أَصْلُهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُجَرَّدَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: 102] . وَيُطْلَقُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُضَلِّلِ الَّذِي يَفْعَلُ الْخَبَائِثَ مِنَ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَمِنْهُ «شَيَاطِينُ الْعَرَبِ» لِجَمَاعَةٍ مِنْ خَبَاثِهِمْ، مِنْهُمْ: نَاشِبٌ الْأَعْوَرُ، وَابْنُهُ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ الشَّاعِرُ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ. وَالْإِنْسُ: الْإِنْسَانُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّأَنُّسِ وَالْإِلْفِ، لِأَنَّ الْبَشَرَ يَأْلَفُ بِالْبَشَرِ وَيَأْنَسُ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِنْسًا وَإِنْسَانًا. وَ «شَيَاطِينَ الْإِنْسِ» اسْتِعَارَةٌ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلَ الشَّيَاطِينِ: مِنْ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ. وَإِضَافَةُ شَيَاطِينَ إِلَى الْإِنْسِ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ مَجَازًا، بِنَاءً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، فَهُمْ شَيَاطِينُ، وَهُمْ بَعْضُ الْإِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْإِنْسَ: لَهُمْ أَفْرَادٌ مُتَعَارَفَةٌ، وَأَفْرَادٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الشَّيَاطِينِ، فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ إِلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ حَقِيقَة، وَالْإِضَافَة حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ الْجِنَّ مِنْهُمْ شَيَاطِينٌ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ شَيَاطِينٍ، وَمِنْهُمْ صَالِحُونَ، وَعَدَاوَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ لِلْأَنْبِيَاءِ ظَاهِرَةٌ، وَمَا جَاءَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِلَّا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] .

وَجُمْلَةُ يُوحِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَتَقَيَّدُ بِهَا الْجَعْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ جَعَلْنا فَهَذَا الْوَحْيُ مِنْ تَمَامِ الْمَجْعُولِ. وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، كَالْوَسْوَسَةِ، وَأُرِيدُ بِهِ مَا يَشْمَلُ إِلْقَاءَ الْوَسْوَسَةِ فِي النَّفْسِ مِنْ حَدِيثٍ يُزَوَّرُ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ. وَالْبَعْضُ الْمُوحِي: هُوَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، يُلْقُونَ خَوَاطِرَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّرِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَيَكُونُونَ زُعَمَاءَ لِأَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ. وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ، وَسُمِّيَ الذَّهَبُ زُخْرُفًا لِأَنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِهِ حُلِيًّا، وَإِضَافَةُ الزُّخْرُفِ إِلَى الْقَوْلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الْقَوْلِ الزُّخْرُفِ: أَيِ الْمُزَخْرَفِ، وَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ الَّذِي فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ، إِذْ كَانَ بِمَعْنَى الزَّيْنِ. وَأَفْهَمَ وَصْفُ الْقَوْلِ بِالزُّخْرُفِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحْسِينِ وَالزَّخْرَفَةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْقَوْلُ إِلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَا يُكْسِبُهُ الْقَبُولَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُفْضِي إِلَى ضُرٍّ يَحْتَاجُ قَائِلُهُ إِلَى تَزْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ لِإِخْفَاءِ مَا فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ مَنْ يُسَوِّلُهُ لَهُمْ، فَذَلِكَ التَّزْيِينُ تَرْوِيجٌ يَسْتَهْوُونَ بِهِ النُّفُوسَ، كَمَا تُمَوِّهُ لِلصِّبْيَانِ اللَّعِبَ بِالْأَلْوَانِ وَالتَّذْهِيبِ. وَانْتَصَبَ زُخْرُفَ الْقَوْلِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مِنْ فِعْلِ يُوحِي لِأَنَّ إِضَافَةَ الزُّخْرُفِ إِلَى الْقَوْلِ، الَّذِي هُوَ مِنْ نَوْعِ الْوَحْيِ، تجْعَل زُخْرُفَ نَائِيا عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْوَحْيِ. وَالْغُرُورُ: الْخِدَاعُ وَالْإِطْمَاعُ بِالنَّفْعِ لِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196] . وَانْتَصَبَ غُرُوراً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِفِعْلِ يُوحِي، أَي يرحون زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيَغُرُّوهُمْ.

[سورة الأنعام (6) : آية 113]

وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ كَالْقَوْلِ فِي مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 111] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: 107] وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَحْيِ. الْمَأْخُوذِ مِنْ يُوحِي أَوْ إِلَى الْإِشْرَاكِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: 107] أَوْ إِلَى الْعَدَاوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْله: لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَوْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَرْكِهِمْ وَافْتِرَاءِهِمْ، وَهُوَ تَرْكُ إِعْرَاضٍ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِغُرُورِهِمْ، وَالنَّكَدِ مِنْهُ، لَا إِعْرَاضٌ عَنْ وَعْظِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ. وَما يَفْتَرُونَ مَوْصُولٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ هُوَ أَكَاذِيبُهُمُ الْبَاطِلَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ المعتقدات الْبَاطِلَة. [113] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 113] وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) عُطِفَ قَوْلُهُ: وَلِتَصْغى على غُرُوراً [الْأَنْعَام: 112] لِأَنَّ غُرُوراً فِي مَعْنَى لِيَغُرُّوهُمْ. وَاللَّامُ لَامُ كَيْ وَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيْ وَلَصَغْيِ، أَيْ مَيْلُ قُلُوبِهِمْ إِلَى وَحْيِهِمْ فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ.

وَمَعْنَى تَصْغَى تَمِيلُ، يُقَالُ: صَغَى يَصْغَى صَغْيًا، وَيَصْغُو صَغْوًا- بِالْيَاءِ وَبِالْوَاوِ- وَوَرَدَتِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ- بِالْيَاءِ- لِأَنَّهُ رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ الْيَاءِ. وَحَقِيقَتُهُ الْمَيْلُ الْحِسِّيُّ، يُقَالُ: صَغَى، أَيْ مَالَ، وَأَصْغَى أَمَالَ. وَفِي حَدِيثِ الْهِرَّةِ: أَنَّهُ أَصْغَى إِلَيْهَا الْإِنَاءَ، وَمِنْهُ أَطْلَقَ: أَصْغَى بِمَعْنَى اسْتَمَعَ، لِأَنَّ أَصْلَهُ أَمَالَ سَمْعَهُ أَوْ أُذُنَهُ، ثُمَّ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الِاتِّبَاعِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ. وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَخَصَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ، فَعُرِّفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى بَعْضِ آثَارِ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ. وَهَذَا الْوَصْفُ أَكْبَرُ مَا أَضَرَّ بِهِمْ، إِذْ كَانُوا بِسَبَبِهِ لَا يَتَوَخَّوْنَ فِيمَا يَصْنَعُونَ خَشْيَةَ الْعَاقِبَةِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا يُزَيَّنُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، مُعْرِضِينَ عَمَّا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْكُفْرِ، إِذْ لَا يَتَرَقَّبُونَ جَزَاءً عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلِذَلِكَ تَصْغَى عُقُولُهُمْ إِلَى غُرُورِ الشَّيَاطِينِ. وَلَا تَصْغَى إِلَى دَعْوَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ. وَعُطِفُ وَلِيَرْضَوْهُ عَلَى وَلِتَصْغى، وَإِنْ كَانَ الصَّغْيُ يَقْتَضِي الرِّضَى وَيُسَبِّبُهُ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ وَأَنْ لَا تُكَرَّرَ لَامُ التَّعْلِيلِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِالتَّعْلِيلِ، فَعُطِفَ بِالْوَاوِ وَأُعِيدَتِ اللَّامُ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِقْلَالِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَغْيَ أَفْئِدَتِهِمْ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَكْفِي لِعَمَلِهِمْ بِهِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ رَضَوْهُ. وَعَطْفُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ عَلَى ولِيَرْضَوْهُ كَعَطْفِ ولِيَرْضَوْهُ عَلَى وَلِتَصْغى. وَالِاقْتِرَافُ افْتِعَالُ مِنْ قَرَفَ إِذَا كَسَبَ سَيِّئَةً، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الْأَنْعَام: 120] فَذَكَرَ هُنَالِكَ ل يَكْسِبُونَ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْكَسْبَ يَعُمُّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا

[سورة الأنعام (6) : آية 114]

لِ يَقْتَرِفُونَ مَفْعُولًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا اكْتِسَابَ الشَّرِّ، وَلَمْ يَقُلْ: سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِثْمِ. يُقَالُ: قَرِفَ وَاقْتَرَفَ وَقَارَفَ. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تُؤْذِنُ بِأَمْرٍ ذَمِيمٍ. وَحَكَوْا أَنَّهُ يُقَالُ: قَرِفَ فُلَانٌ لِعِيَالِهِ، أَيْ كَسِبَ، وَلَا أَحْسِبُهُ صَحِيحًا. وَجِيءَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِي ذَلِكَ الِاقْتِرَافِ وثباتهم فِيهِ. [114] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 114] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) اسْتِئْنَافٌ بِخِطَابٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: 285] أَيْ يَقُولُونَ. وَقَوْلُهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَنْعَام: 104] بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ عَنْ تَصَارِيفِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَكْذِيبِهِمْ. وَتَعَنُّتِهِمْ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ الْخَوَارِقِ، إِذْ جَعَلُوهَا حَكَمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِدْقِ دَعْوَتِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِعَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَأمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَتَرْكِهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ مَا كَلَّفَهُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِإِيمَانِهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ سَيَرْجِعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَقَّنَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ خِطَابًا كَالْجَوَابِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَتَوَرُّكَاتِهِمْ، فَيُفَرَّعُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ حَاكِمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي إِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ،

وَأَنَّهُمْ إِنْ طَمِعُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَدْ طَمِعُوا مُنْكَرًا، فَتَقْدِيرُ الْقَوْلِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْجَوَابِ عَنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِهِمْ وَمُقْتَرَحَاتِهِمْ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ بِالْفَاءِ: كَمَا جَاءَ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] ، وَمِنْهُ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [64] : قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ فَكَأَنَّ الْمُشْركين دعوا النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّحَاكُمِ فِي شَأْنِ نُبُوءَتِهِ بِحُكْمِ مَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ، فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَضَعُ دِينَ اللَّهِ لِلتَّحَاكُمِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْإِنْكَارُ أَنْ يُحَكِّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ ظَاهِرٌ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ مُفَصَّلًا بِالْحَقِّ، وَبِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّقْدِيمِ كَوْنِ الْمُقَدَّمِ يَتَضَمَّنُ جَوَابًا لِرَدِّ طَلِبٍ طَلَبَهُ الْمُخَاطَبُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فِي هَذِه السُّورَة [الْأَنْعَام: 164] . وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الإنكاري: أَي إِن ظَنَنْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَنَنْتُمْ مُنْكَرًا. وَتَقْدِيمُ أَفَغَيْرَ اللَّهِ عَلَى أَبْتَغِي لِأَنَّ الْمَفْعُولَ هُوَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ. فَهُوَ الْحَقِيقُ بِمُوَالَاةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [14] . وَالْحَكَمُ: الْحَاكِمُ الْمُتَخَصِّصُ بِالْحُكْمِ الَّذِي لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْحَاكِمِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْحَكَمُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا: الْحَاكِمُ. وَانْتَصَبَ حَكَماً عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: لَا أَطْلُبُ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ حُكْمَهُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ أَعْدَاءٌ مُقْتَرِفُونَ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِابْتِغَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [83] . وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا أَعْدِلُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ. وَقَدْ فَصَّلَ حُكْمَهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْكُمْ لِتَتَدَبَّرُوهُ فَتَعْلَمُوا مِنْهُ صِدْقِي، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ الْمَعْرِفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِتُفِيدَ الْقَصْرَ مَعَ إِفَادَةِ أَصْلِ الْخَبَرِ. فَالْمَعْنَى: وَالْحَالُ أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ وَلَمْ يُنْزِلْهُ غَيْرُهُ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَبِأُمِّيَّةِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَبَعًا لِثُبُوتِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أرسل محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَفِي تَضَاعِيفِ حُجَجِ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارِهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ فَحَصَلَ بِصَوْغِ جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ: أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحُكْمِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالصِّدْقِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْكُمُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، فَكَمَا قَالَ اللَّهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاء: 166] قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاء: 174] وَفِي قَوْلِهِ: إِلَيْكُمُ هُنَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَجَاهُلًا. وَالْمُفَصَّلُ الْمُبَيَّنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّفْصِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [55] . وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا مِثْلَهُ، أَوْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي أَوْ عَلَى

جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ، فَهُوَ عَطْفُ تَلْقِينِ عُطِفَ بِهِ الْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ عَلَى الْكَلَامِ الْمَنْسُوبِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْضِيدًا لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ التَّوْرَاةُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَخَاصَّةً أَهْلُ مَكَّةَ، لِتَرَدُّدِ الْيَهُودِ عَلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ. وَلِتَرَدُّدِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَنَازِلِ الْيَهُودِ بِيَثْرِبَ وَقُرَاهَا وَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْحُكْمِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ خَاصَّةً قَالَ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَلَمْ يَقُلْ: أَهْلَ الْكِتَابِ. وَمَعْنَى عِلْمِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ: أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مُصَدِّقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْرُسْ كِتَابَهُمْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ دَرَسَهُ لَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمْ، وَلَأَعْلَنُوا ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ حِينَ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ. وَهُمْ أَحْرَصُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَدَّعُوهُ. وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِسْلَامَهُمْ لِأَنَّ الْعِنَادَ وَالْحَسَدَ يَصُدَّانِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ: مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ. مِثْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَمُخَيْرِيقٌ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ للْعهد. وَعَنْ عَطَاءٍ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. هُمْ رُؤَسَاءُ أَصْحَاب محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. فَيَكُونُ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ. وَضَمِيرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ. وَهِيَ مُلَابَسَةُ الدَّالِّ لِلْمَدْلُولِ، لِأَنَّ مَعَانِيَهُ، وَأَخْبَارَهُ، وَوَعْدَهُ، وَوَعِيدَهُ، وَكُلَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، حَقٌّ.

[سورة الأنعام (6) : آية 115]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنَزَّلٌ- بِتَخْفِيفِ الزَّايِ- وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ- بِالتَّشْدِيدِ- وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَوْ مُتَّحِدٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [3] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْبَقَرَة: 147] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ الْخَبَرِ: هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ، فَالِامْتِرَاءُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَرِيبًا اجْتِمَاعُ عِلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، أَيْ فَلَا تَكُونَنَّ- أَيُّهَا السَّامِعُ- مِنَ الْمُمْتَرِينَ، أَيِ الشَّاكِّينَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ فَهَذَا أَمْرٌ قَدِ اتَّضَحَ. فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْرِكُونَ الْمُمْتَرُونَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، كَمَا يُقَالُ: (إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، وَالتَّفْرِيعُ فِيهِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ كَانَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الِامْتِرَاءِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ غَيْرُ مُتَعَارِضَةٍ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مَقْصُودًا مِنَ الْآيَةِ. لِتَذْهَبَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ إِلَى مَا تَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَهَذَا- فِيمَا أَرَى- مِنْ مَقَاصِدِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ الْجَامِعِ، وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِص الْقُرْآن. [115] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 115] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

(115) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [الْأَنْعَام: 114] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الْأَنْعَام: 114] فَلَمَّا وُصِفَ الْكِتَابُ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَوُصِفَ بِوُضُوحِ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الْأَنْعَام: 114] ثُمَّ بِشَهَادَةِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الْأَنْعَام: 114] ، أَعْلَمَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ تَامُّ الدَّلَالَةِ، نَاهِضُ الْحُجَّةِ، عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ: مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، صَادِقٌ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ، عَادِلٌ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وجَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّمَامِ مَعْنًى مَجَازِيٌّ: إِمَّا بِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ إِلَى أَحْسَنِ مَا يَبْلُغُهُ مِمَّا يُرَادُ مِنْهُ، فَإِنَّ التَّمَامَ حَقِيقَتُهُ كَوْنُ الشَّيْءِ وَافِرًا أَجْزَاءَهُ، وَالنُّقْصَانُ كَوْنُهُ فَاقِدًا بَعْضَ أَجْزَائِهِ، فَيُسْتَعَارُ لِوَفْرَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُرَادُ مِنْ نَوْعِهِ وَإِمَّا بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ فَقَدْ يُطْلَقُ التَّمَامُ عَلَى حُصُولِ الْمُنْتَظَرِ وَتَحَقُّقِهِ، يُقَالُ: تَمَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فُلَانٌ، وَيُقَالُ: أَتَمَّ وَعْدَهُ، أَيْ حَقَّقَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَة: 124] أَيْ عَمِلَ بِهِنَّ دُونَ تَقْصِيرٍ وَلَا تَرَخُّصٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: 137] أَيْ ظَهَرَ وَعْدُهُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 5] الْآيَةَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصَّفّ: 8] أَيْ مُحَقِّقٌ دِينَهُ وَمُثَبِّتُهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِتْمَامَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِطْفَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازًا أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: كَلِمَاتُ رَبِّكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ- وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: كَلِمَةُ- بِالْإِفْرَادِ- فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ أَوِ الْكَلِمَةِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ،

وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: 114] . فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَقَوْلِهِ. وَالْكَلِمَةُ وَالْكَلَامُ يَتَرَادَفَانِ، وَيَقُولُ الْعَرَبُ: كَلِمَةُ زُهَيْرٍ، يَعَنُونَ قَصِيدَتَهُ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ (الْكَلِمَاتُ) عَلَى الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الْأَعْرَاف: 158] أَيْ كُتُبِهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَلِمَاتِ بِالْجَمْعِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَلِ وَالْآيَاتِ. أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ أَغْرَاضِهِ مِنْ أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَتَبْشِيرٍ، وَإِنْذَارٍ، وَمَوَاعِظَ، وَإِخْبَارٍ، وَاحْتِجَاجٍ، وَإِرْشَادٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى تَمَامِهَا أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ جَاءَ وَافِيًا بِمَا يَتَطَلَّبُهُ الْقَاصِدُ مِنْهُ. وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَاتِ رَبِّكَ- بِالْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ- الْقُرْآنَ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: قَوْلُ اللَّهِ، أَيْ نَفَذَ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أُثِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَاتُ اللَّهِ وَعْدُهُ. وَقِيلَ: كَلِمَاتُ اللَّهِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَوَعْدُهُ، وَوَعِيدُهُ، وَفُسِّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، لَكِنَّ السِّيَاقَ يَشْهَدُ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ بِالْقُرْآنِ أَظْهَرُ. وَانْتَصَبَ صِدْقاً وَعَدْلًا عَلَى الْحَالِ، عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ صَادِقَةً وَعَادِلَةً، فَهُوَ حَالٌ مِنْ كَلِمَاتُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ التَّمَامِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَجَعَلَهُمَا الطَّبَرِيُّ مَنْصُوبَيْنِ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ، أَيْ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمَّ صِدْقُهَا وَعَدْلُهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ التَّمَامِ بِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ أَحْسَنَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا غَيْرُ صَوَابٍ. وَقُلْتُ: لَا وَجْهَ لِعَدَمِ تَصْوِيبِهِ. وَالصِّدْقُ: الْمُطَابَقَةُ لِلْوَاقِعِ فِي الْإِخْبَارِ: وَتَحْقِيقُ الْخَبَرِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالنُّفُوذِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَشْمَلُ الصِّدْقُ كُلَّ مَا فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ مِنْ نَوْعِ الْإِخْبَار عَن شؤون الله وشؤون الْخَلَائِقِ.

وَيُطْلَقُ الصِّدْقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ كَامِلًا فِي خَصَائِصِ نَوْعِهِ. وَالْعَدْلُ: إِعْطَاءُ مَنْ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَدَفْعُ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِ النَّاسِ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [58] . فَيَشْمَلُ الْعَدْلُ كُلَّ مَا فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ: من تَدْبِير شؤون الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِلْكَلِمَاتِ أَوِ الْكَلِمَةِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ أَقْصَى مَا تَبْلُغُهُ الْكُتُبُ: فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ فِي أَخْبَارِهِ، الْعَادِلُ فِي أَحْكَامِهِ، لَا يُعْثَرُ فِي أَخْبَارِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ، وَلَا فِي أَحْكَامِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ فَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ التَّحَدِّي وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: نَفَذَ مَا قَالَهُ اللَّهُ، وَمَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ، وَمَا أَمَرَ وَنَهَى، صَادِقًا ذَلِكَ كُلُّهُ، أَيْ غَيْرُ مُتَخَلِّفٍ، وَعَادِلًا، أَيْ غَيْرُ جَائِرٍ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ سَيَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كلمت رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: 137] أَيْ تَمَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنِ امْتِلَاكِ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الَّتِي بَارَكَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَات رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِر: 6] أَيْ حَقَّتْ كَلِمَاتُ وَعِيدِهِ. وَمَعْنَى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نَفْيُ جِنْسِ مَنْ يُبَدِّلُ كَلِمَاتِ اللَّهِ، أَيْ مَنْ يُبْطِلُ مَا أَرَادَهُ فِي كَلِمَاتِهِ. وَالتَّبْدِيلُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّتِهِ هُوَ التَّبْدِيلُ. وَالتَّبْدِيلُ حَقِيقَتُهُ جَعْلُ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ آخَرَ، فَيَكُونُ فِي الذَّوَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: 48] وَقَالَ النَّابِغَةُ:

عَهِدْتُ بِهَا حَيًّا كِرَامًا فَبُدِّلَتْ ... خَنَاظِيلَ آجَالِ النِّعَاجِ الْجَوَافِلِ وَيَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: 55] . وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي إِبْطَالِ الشَّيْءِ وَنَقْضِهِ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الْفَتْح: 15] أَيْ يُخَالِفُوهُ وَيَنْقُضُوا مَا اقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْح: 15] . وَذَلِكَ أَنَّ النَّقْضَ يَسْتَلْزِمُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ ضِدِّ الشَّيْءِ الْمَنْقُوضِ. فَكَانَ ذَلِكَ اللُّزُومُ هُوَ علاقَة الْمجَاز. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [181] . وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِي قَوْلِهِ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ أَوِ النَّقْضِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى التَّمَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ وَنَفْيُ الْمُبَدِّلِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ التَّبْدِيلِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْقُرْآنَ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَعْنَى انْتِفَاءِ الْمُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ: انْتِفَاءُ الْإِتْيَانِ بِمَا يَنْقُضُهُ وَيُبْطِلُهُ أَوْ يُعَارِضُهُ، بِأَنْ يُظْهِرَ أَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ بِتَمَامٍ. فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ بِمَا يَنْقُضُهُ كَذِبًا وَزُورًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَقْضٍ. وَإِنَّمَا هُوَ مُكَابَرَةٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ، وَانْتِفَاءُ مَا يُبْطِلُ مَعَانِيَهُ وَحَقَائِقَ حِكْمَتِهِ، وَانْتِفَاءُ تَغْيِيرِ مَا شَرَّعَهُ وَحَكَمَ بِهِ. وَهَذَا الِانْتِفَاءُ الْأَخِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُخَالِفَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّبْدِيلُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَكِنَايَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: جَعَلْنَا لِكُلِّ نبيء عدوا [الْأَنْعَام: 112] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، فَالْكَلِمَاتُ مُرَادٌ بِهَا مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ: مِنْ جَعْلِ أَعدَاء لكلّ نَبِي يُزَخْرِفُونَ الْقَوْلَ فِي التَّضْلِيلِ، لِتَصْغَى إِلَيْهِمْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَيَتْبَعُوهُمْ، وَيَقْتَرِفُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَامِ التَّحَقُّقُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نَفْيٌ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ سُنَّةَ اللَّهِ وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ، كَقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43]

[سورة الأنعام (6) : آية 116]

فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 34] . فَفِيهَا تأنيس للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَطْمِينٌ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِحُلُولِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِي إِبَّانِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَذْيِيلٌ لجملة: وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ: وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الْأَقْوَالِ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِمَنْ يَسْعَى لِتَبْدِيلِ كَلِمَاتِهِ، فَالسَّمِيعُ الْعَالِمُ بِأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، الَّتِي مِنْهَا مَا تُوحِي بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَلَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَالْعَالِمُ أَيْضًا بِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُبَدِّلَ كَلِمَاتِ اللَّهِ، عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ: مِنْ تَبْيِيتِ الْكَيْدِ وَالْإِبْطَالِ لَهُ. وَالْعَلِيمُ أَعَمُّ، أَيْ: الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَالْعَلِيمُ بِمَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ، وَمَحَالِّ تَمَامِهَا، وَالْمُنَظِّمُ بِحِكْمَتِهِ لِتَمَامِهَا، وَالْمُوَقِّتُ لِآجَالِ وُقُوعِهَا. فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ هُنَا: وَعِيدٌ لِمَنْ شَمِلَتْهُ آيَاتُ الذَّمِّ السَّابِقَةِ، وَوَعْدٌ لِمَنْ أُمِرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَنِ افْتِرَائِهِمْ، وَبِالتَّحَاكُمِ مَعَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابه بالحقّ. [116] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 116] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) أَعْقَبَ ذِكْرَ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ، وعداوتهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ، وَرِضَاهُمْ بِمَا تُوَسْوِسُ لَهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَاقْتِرَافِهِمِ السَّيِّئَاتِ طَاعَةً

لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَمَا طَمْأَنَ بِهِ قلب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَقِيَ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِنْ آثَارِ عَدَاوَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، بِذِكْرِ مَا يُهَوِّنُ على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعِزَّتِهِمْ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، مَعَ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِمْ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، وَعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى رَأْيِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْرِهِمْ بِأَنْ يَلْزَمُوا مَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ. فَجُمْلَةُ: وَإِنْ تُطِعْ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: 112] وَبِجُمْلَةِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [الْأَنْعَام: 114] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْأَنْعَام: 115] . وَالْخطاب للنّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وَجِيءَ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إِنْ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْطِ النَّادِرِ الْوُقُوعِ، أَوِ الْمُمْتَنَعِ إِذَا كَانَ ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَيَسُوا مِنِ ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا [الْأَنْعَام: 71] الْآيَةَ، جَعَلُوا يُلْقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ فِي أَحْكَامِ دِينِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 121] . وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ مَنْ قَتَلَهَا (يُرِيدُونَ أَكْلَ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا دُونَ ذَبْحٍ) - قَالَ- اللَّهُ قَتَلَهَا- فَتَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ» فَوَقَعَ فِي نَفْسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى أنَاس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ»

فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] الْآيَةَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. فَمِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ حَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَثَبَّتَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: 100] . وَالطَّاعَةُ: اسْمٌ لِلطَّوْعِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ طَاعَ يَطُوعُ، بِمَعْنَى انْقَادَ وَفِعْلُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عَن رضى دُونَ مُمَانَعَةٍ، فَالطَّاعَةُ ضِدُّ الْكُرْهِ. وَيُقَالُ: طَاعَ وَأَطَاعَ، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي قَبُولِ الْقَوْلِ، وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِر: 18] أَيْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ أَرْفَعُ مِنَ الشَّفِيعِ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَمْتَثِلُ إِلَيْهِ. وَالطَّاعَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ قَبُولُ الْقَوْلِ. وأَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَالْأَرْضُ: يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُ عَلَى وَجْهِهَا الْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ، وَهِيَ الدُّنْيَا كُلُّهَا. وَيُطْلَقُ الْأَرْضُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ مَعْهُودٌ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ [الْإِسْرَاء: 104] يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [الْمَائِدَة: 33] أَيِ الْأَرْضِ الَّتِي حَارَبُوا اللَّهَ فِيهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورُ وَهُوَ جَمِيعُ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهَا مَكَّةَ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ الْمَعْهُودَةُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَيَّا مَا كَانَ فَأَكْثَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ: أَمَّا الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ فَلِأَنَّ جَمْهَرَةَ سُكَّانِهَا أَهْلُ عَقَائِدَ ضَالَّةٍ، وَقَوَانِينَ غَيْرِ عَادِلَةٍ. فَأَهْلُ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ: فِي أَمْرِ الْإِلَهِيَّةِ: كَالْمَجُوسِ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَالْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ وَفِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ: كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

وَأَهْلِ الْقَوَانِينِ الْجَائِرَةِ مِنَ الْجَمِيعِ. وَكُلُّهُمْ إِذَا أُطِيعَ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى دِينِهِ وَنِحْلَتِهِ، فَهُوَ مُضِلٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الضَّلَالِ كَثْرَةً وَقِلَّةً، وَاتِّبَاعُ شَرَائِعِهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ ضَلَالٍ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا بَعْضٌ مِنَ الصَّوَابِ. وَالْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ مَنْ هُمْ أَهْلُ هُدًى، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الصَّالِحِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الطَّالِبِينَ لِلْحَقِّ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةِ: أَنَّ الْحَقَّ وَالْهُدَى يَحْتَاجُ إِلَى عُقُولٍ سَلِيمَةٍ، وَنُفُوسٍ فَاضِلَةٍ، وَتَأَمُّلٍ فِي الصَّالِحِ وَالضَّارِّ، وَتَقْدِيمِ الْحَقِّ عَلَى الْهَوَى، وَالرُّشْدِ عَلَى الشَّهْوَةِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَهَذِهِ صِفَاتٌ إِذَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا تَطَرَّقَ الضَّلَالُ إِلَى النَّفْسِ بِمِقْدَارِ مَا انْثَلَمَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَاجْتِمَاعُهَا فِي النُّفُوسِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اعْتِدَالٍ تَامٍّ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، وَذَلِكَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَهِيَ حَالَةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَأَصْحَابِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَقَدْ يُسَمُّونَهَا الذَّوْقَ. أَوْ عَنِ اقْتِدَاءٍ بِمُرْشِدٍ مَعْصُومٍ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَخِيرَةِ أُمَمِهِمْ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ضَالِّينَ وَكَانَ الْمُهْتَدُونَ قِلَّةً، فَمَنِ اتَّبَعَهُمْ أَضَلُّوهُ. وَالْآيَةُ لَمْ تَقْتَضِ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ مُضِلُّونَ، لِأَنَّ مُعْظَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُ مُتَصَدِّينَ لِإِضْلَالِ النَّاسِ، بَلْ هُمْ فِي ضَلَالِهِمْ قَانِعُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، مُقْبِلُونَ عَلَى شَأْنِهِمْ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ، إِنْ قَبِلَ الْمُسْلِمُ قَوْلَهُمْ، لَمْ يَقُولُوا لَهُ إِلَّا مَا هُوَ تَضْلِيلٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُلْقُونَ عَلَيْهِ إِلَّا ضَلَالَهُمْ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ ضَالُّونَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ لَا يَضِلُّ مُتَّبِعُهُ وَكُلُّ إِنَاءٍ يَرْشَحُ بِمَا فِيهِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ [100] سُورَةِ الْعُقُودِ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ

فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ يَتَطَلَّبُ مُصَادَفَةَ الصَّوَابِ بِاجْتِهَادِهِ، بِتَتَبُّعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَزَالُ يَبْحَثُ عَنْ مُعَارِضِ اجْتِهَادِهِ وَإِذَا اسْتَبَانَ لَهُ الْخَطَأُ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَيْسَ فِي طَاعَتِهِ ضَلَالٌ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ طُرُقَ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ فِي التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَهُ، بِحَالِ مَنْ يُضِلُّ مُسْتَهْدِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَيَنْعَتُ لَهُ طَرِيقًا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ التَّشْبِيهِ: بِأَنْ يُشَبِّهَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِضَافَةُ السَّبِيلِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ قَرِينَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ أَدِلَّةُ الْحَقِّ، أَوْ هُوَ الْحَقُّ نَفْسُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سَبَبَ ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ: بِأَنَّهُمْ مَا يَعْتَقِدُونَ وَيَدِينُونَ إِلَّا عَقَائِدَ ضَالَّةً، وَأَدْيَانًا سَخِيفَةً، ظَنُّوهَا حَقًّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْرِغُوا مَقْدِرَةَ عُقُولِهِمْ فِي تَرَسُّمِ أَدِلَّةِ الْحَقِّ فَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ فِي قَبُولِ الْفِكْرِ لِمَا يُقَالُ وَمَا يَخْطُرُ لِلْفِكْرِ: مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَدِلَّةِ وَتَقَلُّدِ ذَلِكَ. فَهَذَا أَتَمُّ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ يُطْلَقُ عَلَى عَمَلِ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ كَأَنَّهُ يَتَّبِعُهُ. وَالظَّنُّ، فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، هُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُخْطِئُ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، الَّذِي يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ حَقًّا وَصَحِيحًا، قَالَ تَعَالَى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُس: 36] وَمِنْه قَول النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَلَيْسَ هُوَ الظَّنُّ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ فُقَهَاؤُنَا فِي الْأُمُورِ التَّشْرِيعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْعِلْمَ الرَّاجِحَ فِي النَّظَرِ، مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، لِتَعَسُّرِ الْيَقِيِنِ فِي الْأَدِلَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ فِيهَا: إِنْ كَانَ الْيَقِينَ الْمُرَادَ لِلْحُكَمَاءِ، فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ أَوِ الْبُرْهَانِ، وَهُمَا لَا يَجْرِيَانِ إِلَّا فِي أُصُولِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ

كَانَ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَوْ نَهَى، فَذَلِكَ نَادِرٌ فِي مُعْظَمِ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، عَدَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ حَصَلَ لِصَاحِبِهِ بِالْحِسِّ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا تَلَقَّاهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، أَوْ حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَهُوَ عَزِيزُ الْحُصُولِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَجُمْلَةُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَبَيَّنَ سَبَبَ ضَلَالِهِمْ: أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشُّبْهَةَ، مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي مَفَاسِدِهَا، فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ ظَنُّ أَسْلَافِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَتَّبِعُونَ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَوُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ تَفْسِيرًا لَهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِجُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَقَدْ تَرَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمَلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَقِيلَ: يَخْرُصُونَ يَكْذِبُونَ فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّ مَا اتَّبَعُوهُ يَقِينٌ، وَقِيلَ: الظَّنُّ ظَنُّهُمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَالْخَرْصُ: تَقْدِيرُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَالْوَجْهُ: أَنَّ مَحْمَلَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ: يَتَّبِعُونَ، وَأَنَّ مَحْمَلَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا تَرَكَ لَهُمْ أَسْلَافُهُمْ وَعَلَى شُبَهَاتِهِمِ الَّتِي يَحْسَبُونَهَا أَدِلَّةً مُفْحِمَةً، كَقَوْلِهِمْ: «كَيْفَ نَأْكُلُ مَا قَتَلْنَاهُ وَقَتَلَهُ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ فِعْلُ: يَخْرُصُونَ مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّأَمُّلِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 117]

وَالْخَرْصُ: الظَّنُّ النَّاشِئُ عَنْ وِجْدَانٍ فِي النَّفْسِ مُسْتَنِدٍ إِلَى تَقْرِيبٍ، وَلَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ يَشْتَرِكُ الْعُقَلَاءُ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ: الْحَزْرَ، وَالتَّخْمِينَ، وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ، أَيْ تَقْدِيرُ مَا فِيهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِحَسَبِ مَا يَجِدُهُ النَّاظِرُ فِيمَا تَعَوَّدَهُ. وَإِطْلَاقُ الْخَرْصِ عَلَى ظُنُونِهِمُ الْبَاطِلَةِ فِي غَايَةِ الرَّشَاقَةِ لِأَنَّهَا ظُنُونٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا غَيْرُ مَا حَسُنَ لِظَانِّيهَا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ فَسَّرَ الْخَرْصَ بِالْكَذِبِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ، نَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى حَاصِلِ مَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] وَلَيْسَ السِّيَاقُ لِوَصْفِ أَكْثَرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، بَلْ لِوَصْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الِاعْتِقَادَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَهْمِيَّةِ، فَالْخَرْصُ مَا كَانَ غَيْرَ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 20] ، وَلَوْ أُرِيدَ وَصْفُهُمْ بِالْكَذِبِ لَكَانَ لَفْظُ (يَكْذِبُونَ) أَصْرَحَ مَنْ لَفْظِ يَخْرُصُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ السِّيَاقَ اقْتَضَى ذَمَّ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَرْصِ، لِأَنَّهُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ لَا يَنْضَبِطُ، وَيُعَارِضُهُ مَا وَرَدَ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصَ التَّمْرُ» . فَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى الرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ لِيَنْتَفِعُوا بِأَكْلِ ثِمَارِهِمْ رَطْبَةً، فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُمْ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ الْخَرْصُ، وَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَرِيَّةِ يَشْتَرِيهَا الْمُعْرِي مِمَّنْ أَعْرَاهُ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ حَدِيثَ عتاب مَنْسُوخا. [117] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 117] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [الْأَنْعَام: 116] لِأَنَّ مَضْمُونَهُ التَّحْذِيرُ مِنْ نَزَغَاتِهِمْ وَتَوَقُّعُ التَّضْلِيلِ مِنْهُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ الِاهْتِدَاءَ، فَلْيَجْتَنِبُوا الضَّالِّينَ، وَلْيَهْتَدُوا بِاللَّهِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي خَبَرٍ لَا يَحْتَاجُ لِرَدِّ الشَّكِّ أَوِ الْإِنْكَارِ: أَنَّ تُفِيدُ تَأْكِيدَ

الْخَبَرِ وَوَصْلَهُ بِالَّذِي قَبْلَهُ، بِحَيْثُ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ، وَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى بَيَانِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ، وَهُدَى الْمُهْتَدِينَ، كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تَذْيِيلًا لِجَمِيعِ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارِ أَنَّ هَدْيَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْهُدَى، وَأَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُضِلُّونَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْهُدَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا اللَّهَ رَبًّا لَهُمْ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ- فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوهُ قُولُوا: «اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» . وأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَحَدٌ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ قَدْ يَعْلَمُ بَعْضَ الْمُهْتَدِينَ وَبَعْضَ الْمُضِلِّينَ، وَيَفُوتُهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَخْفَى عَلَيْهِ دَخِيلَةُ بَعْضِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، لِإِفَادَةِ قَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، فَالْأَعْلَمِيَّةُ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ مَقْصُورَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيره، وَوَجهه هَذَا الْقَصْرِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ عِلْمَهُمْ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ عِلْمٌ قَاصِرٌ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا عَلِمَ بَعْضَ أَحْوَالِ النَّاسِ تَخْفَى عَلَيْهِمْ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّهُمْ يَعْلَمُ قُصُورَ عِلْمِهِ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّ ثَمَّةَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنَ الْعَالِمِ مِنْهُمْ، لَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِآلِهَتِهِمْ، فَنُفِيَ بِالْقَصْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يُشَارِكُ اللَّهَ فِي وَصْفِ الْأَعْلَمِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. ومَنْ مَوْصُولَةٌ، وَإِعْرَابُهَا نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وُجُودُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ

[سورة الأنعام (6) : آية 118]

لَا يَنْصِبُ بِنَفْسِهِ مَفْعُولًا بِهِ لِضَعْفِ شَبَهِهِ بِالْفِعْلِ، بَلْ إِنَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ أَوْ بِاللَّامِ أَوْ بِإِلَى، وَنَصْبُهُ الْمَفْعُولَ نَادِرٌ، وَحَقُّهُ هُنَا أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ، فَحُذِفَتِ الْبَاءُ إِيجَازَ حَذْفٍ، تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ. وَإِنَّمَا حُذِفَ الْحَرْفُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأُظْهِرَ فِي الثَّانِيَةِ، دُونَ الْعَكْسِ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْقَرِينَةِ أَنْ تَتَقَدَّمَ، لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ يَكُونُ الْمُفَضَّلُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، نَحْوُ: هُوَ أَعْلَمُ الْعُلَمَاءِ وَأَكْرَمُ الْأَسْخِيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَنْصُوبَانِ فِيهِمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَيْهِمَا الْإِعْرَابُ، يَلْتَبِسُ الْمَفْعُولُ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الصِّلَةَ فِيهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِهِمْ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اللَّهُ أَعْلَمُ الضَّالِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ أَعْلَمُ عَالِمٍ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ أَعْلَمُ الْجَاهِلِينَ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّ الضَّلَالَ جَهَالَةٌ، فَفَسَادُ الْمَعْنَى يَكُونُ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَهُوَ أَعْلَمُ الْمُهْتَدِينَ، فَقَدْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ الْمُهْتَدِينَ، أَيْ أَقْوَى الْمُهْتَدِينَ عِلْمًا، لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ مِنَ الْعِلْمِ. هَذَا مَا لَاحَ لِي فِي نُكْتَةِ تَجْرِيدِ قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ أَعْلَمُ. [118] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 118] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) هَذَا تَخَلُّصٌ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيَانُ ضَلَالِهِمُ، الْمُذَيَّلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 117] . انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَبْيِينِ شَرَائِعِ هُدًى لِلْمُهْتَدِينَ، وَإِبْطَالِ شَرَائِعَ شَرَّعَهَا الْمُضِلُّونَ، تَبْيِينًا يُزِيلُ التَّشَابُهَ وَالِاخْتِلَاطَ. وَلِذَلِكَ خُلِّلَتِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، بِأَضْدَادِهَا الَّتِي كَانَ شَرَّعَهَا الْمُشْرِكُونَ وَسَلَفُهُمْ. وَمَا تُشْعِرُ بِهِ الْفَاءُ مِنَ التَّفْرِيعِ يَقْضِي بِاتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 116]

تَضَمَّنَ إِبْطَالَ مَا أَلْقَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، إِذْ قَالُوا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَمَا قَتَلَ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ حَلَالٌ أَكْلُهُ، وَأَنَّ مَا قَتَلَ اللَّهُ حَرَامٌ» وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: 116] ، فَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَسَمَّى شَرَائِعَهُمْ خَرْصًا، فَرَّعَ عَلَيْهِ هُنَا الْأَمْرَ بِأَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ عِنْدَ قَتْلِهِ، أَيْ مَا نُحِرَ أَوْ ذُبِحَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْمَيْتَةُ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِآيَةِ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 121] . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا لِلْإِبَاحَةِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَلَكِنْ بَيَانُ مَا هُوَ الْمُبَاحُ، وَتَمْيِيزُهُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُّبِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُول صَادِق على الذَّبِيحَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَذْكُرُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ اسْمَ الْمَقْصُودِ بِتِلْكَ الذَّكَاةِ، يَجْهَرُونَ بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ: أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَيْ أُعْلِنَ. وَالْمَعْنَى كُلُوا الْمُذَكَّى وَلَا تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ. فَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَنِ الْمَذْبُوحِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَتَعْلِيقُ فِعْلِ الْإِبَاحَةِ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَفْهَمَ أَنَّ غَيْرَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا يَأْكُلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا الْغَيْرُ يُسَاوِي مَعْنَاهُ معنى مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَادَتهم أَن لَا يَذْبَحُوا ذَبِيحَةً إِلَّا ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ هَدْيًا فِي الْحَجِّ، أَوْ ذَبِيحَةً لِلْكَعْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ

أَوْ لِلْجِنِّ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ. فَصَارَ قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُفِيدًا النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ وَلَا اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا لِقَصْدِ تَجَنُّبِ ذِكْرِهِ. وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ أَوِ اسْمِ غَيْرِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ. كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَيْهِمْ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَعْيِينِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ دُونَ الْمَيْتَةِ، بِنَاءً عَلَى عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ النَّهْيَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا فِي «الْكَشَّافِ» ، أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ الْآتِي: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَيْتَةَ، وَبِنَاءً عَلَى فَهْمِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَكَاتِهِ دُونَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، أَخْذًا مِنْ مَقَامِ الْإِبَاحَةِ وَالِاقْتِصَارِ فِيهِ عَلَى هَذَا دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ قَصْرٍ، وَلَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا مِنْ دَلَالَةِ صَرِيحِ اللَّفْظِ، وَبَعْضَهَا مِنْ سِيَاقِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْعَقْلِ الَّتِي لَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِلْآيَةِ بِحُكْمِ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَإِنَّ تِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَهَا أَدِلَّتُهَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ التَّشْرِيعِ الْقُرْآنِيِّ التَّعَرُّضُ لِلْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ. وَ «عَلَى» لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِي، تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اتِّصَالِ فِعْلِ الذِّكْرِ بِذَاتِ الذَّبِيحَةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ لَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ تَقْيِيدٌ لِلِاقْتِصَارِ الْمَفْهُومِ: مِنْ فِعْلِ الْإِبَاحَةِ، وَتَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ بِهِ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ، وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ فِيهِ، حَتَّى جُعِلَ مِنْ عَلَامَاتِ كَوْنِ فَاعِلِهِ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ شِعَارُ أَهْلِ الشِّرْكِ ذِكْرَ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى مُعْظَمِ الذَّبَائِحِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 119]

فَأَمَّا تَرْكُ التَّسْمِيَةِ: فَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ تَجَنُّبِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُسَاوٍ لِذِكْرِ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ لِسَهْوٍ فَحُكُمُهُ يُعْرَفُ مِنْ أَدِلَّةٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا [الْبَقَرَة: 286] وَأَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ كَلَام النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [119] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 119] وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] . وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَما لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ: أَيْ لَا يَثْبُتُ لَكُمْ عَدَمُ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ كُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ (مَا) ، أَيْ مَا استقرّ لكم. وأَلَّا تَأْكُلُوا مَجْرُورٌ بِ (فِي) مَحْذُوفَةٌ. مَعَ (أَنَّ) . وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وَلَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ وَجْهِ عَطْفِ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلَا عَنِ الدَّاعِي إِلَى هَذَا الْخِطَابِ، سِوَى مَا نَقَلَهُ الْخَفَاجِيُّ- فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ» - عَمَّنْ لَقَّبَهُ عَلَمَ الْهُدَى وَلَعَلَّهُ عَنَى بِهِ الشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ، تقشّفا وتزهّدا اهـ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ تَزَهُّدًا عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتِطْرَادًا بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ، وَلَا أَحْسَبُ

مَا قَالَهُ هَذَا الْمُلَقَّبُ بِعَلَمِ الْهُدَى صَحِيحًا وَلَا سَنَدَ لَهُ أَصْلًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَفَّ عَنْ أَكْلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الذَّبَائِحِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ: «أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ» يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِإِبْطَالِ قِيَاسِ الْمُشْرِكِينَ الْمُمَوِّهِ بِأَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْلَى بِالْأَكْلِ مِمَّا قَتَلَهُ الذَّابِحُ بِيَدِهِ، فَأَبْدَى اللَّهُ لِلنَّاسِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى، بِأَنَّ الْمُذَكَّى ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْمَيْتَةَ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَهُوَ فَارِقٌ مُؤَثِّرٌ. وَأَعْرِضْ عَنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِإِبْطَالِ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَآلَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: 275] ، إِذْ قَالَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [الْبَقَرَة: 275] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، فَيَنْقَلِبُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا إِلَى مَعْنَى: لَا يُسَوِّلْ لَكُمُ الْمُشْرِكُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، هَذَا مَا قَالُوهُ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ مَوْقِعِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَا يَصُدُّكُمْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ، مِنْ قَبْلُ، مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الْأَنْعَام: 145] الْآيَةَ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيبَاجَةِ تَفْسِيرِهَا، فَذَلِكَ يُنَاكِدُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ فِي التِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا نُزُولُهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي

سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عَائِدِ الْمَوْصُولِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ حَرَّمَ، الْمَحْذُوفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ إِلَّا الَّذِي اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْوَاعٌ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا مَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ مِنْ أَفْرَادِهَا فَيَصِيرُ حَلَالًا. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى جَعْلِ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا اضْطُرِرْتُمْ مَصْدَرِيَّةً. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: وَقَدْ فَصَّلَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَا حَرَّمَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَاتِ فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَالِاضْطِرَارُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. تَحْذِيرٌ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ عَلَى بَعْضِ أَصْنَافِ النَّاسِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُضِلُّهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ: لَيُضِلُّونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- عَلَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أنفسهم، وَقَرَأَ عَاصِمٌ،

وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ:- بِضَمِّ الْيَاءِ- عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُضِلِّلُونَ النَّاسَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الضَّالَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُضِلَّ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ الْمُضِلَّ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا ضَالًّا، إِلَّا إِذَا قَصَدَ التَّغْرِيرَ بِغَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ حَاصِلٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِأَهْوائِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُضِلُّونَ مُنْقَادِينَ لِلْهَوَى، مُلَابِسِينَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ: الْجَزْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ عَنْ دَلِيلٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: 116] . وَمِنْ هَؤُلَاءِ قَادَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقَدِيمِ، مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، أَوَّلُ مَنْ سَنَّ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِثْلُ الَّذِينَ قَالُوا: (مَا قَتَلَ اللَّهُ أَوْلَى بِأَنْ نَأْكُلَهُ مِمَّا قَتَلْنَا بِأَيْدِينَا) . وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ تَذْيِيلٌ، وَفِيهِ إِعْلَام للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوَعُّدِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ، فَالْإِخْبَارُ بِعِلْمِ اللَّهِ بِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَأَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ، لِأَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا بِهِمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ. وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ وَيُقْرَأُ عَلَيْهِمْ حِينَ الدَّعْوَةِ. وَذِكْرُ الْمُعْتَدِينَ، عَقِبَ ذِكْرِ الضَّالِّينَ، قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِانْتِظَامِ الْكَلَامِ مُنَاسَبَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ وَهُمْ مُعْتَدُونَ، وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ مُعْتَدِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ: الظُّلْمُ، لِأَنَّهُمْ تَقَلَّدُوا الضَّلَالَ مِنْ دُونِ حُجَّةٍ وَلَا نَظَرٍ، فَكَانُوا مُعْتَدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمُعْتَدِينَ عَلَى كُلِّ مَنْ دَعَوْهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ.

[سورة الأنعام (6) : آية 120]

وَقَدْ أَشَارَ هَذَا إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، أَوْ دَعَا النَّاسَ إِلَى شَيْءٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، فَهُوَ مُعْتَدٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ كلّ مَا أَفْتَى وَلَيْسَ هُوَ بِكُفْءٍ لِلْإِفْتَاءِ. [120] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 120] وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَرَدْتُمُ الزُّهْدَ وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِتَرْكِ الْإِثْمِ، لَا بِتَرْكِ الْمُبَاحِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 177] الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى فِعْلِ (ذَرَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً. فِي هَذِهِ السُّورَةِ [70] . وَالْإِثْمُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [219] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِثْمِ: تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى تَعْرِيفٌ لِلظَّاهِرِ وَلِلْبَاطِنِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَعْمِيمُ أَفْرَادِ الْإِثْمِ لِانْحِصَارِهَا فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، لِقَصْدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِهَاتِ. وَظَاهِرُ الْإِثْمِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ، وَبَاطِنُهُ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَيَقَعُ فِي السِّرِّ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ هَذَا الْأَمْرَ تَرْكُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِعَمَلِ الْخَيْرِ، فَإِذَا خَلَوُا ارْتَكَبُوا الْآثَامَ، وَفِي بَعْضِهِمْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [الْبَقَرَة: 204، 206]

[سورة الأنعام (6) : آية 121]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْإِثْمِ، وَإِنْذَارٌ وَإِعْذَارٌ لِلْمَأْمُورِينَ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ (إِنَّ) ، وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، أَيْ مَقَامِ تَعْقِيبِ الْأَمْرِ أَوِ الْإِخْبَارِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَتُغْنِي عَنِ الْفَاءِ، وَمِثَالُهَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْإِثْمِ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَهُ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيدِ بِالْإِثْمِ، وَلِيَسْتَقِرَّ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَكْمَلَ اسْتِقْرَارٍ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ. وَحَرْفُ السِّينِ، الْمَوْضُوعُ لِلْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ، مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَلَمَّا جَاءَ فِي الْمُذْنِبِينَ فِعْلُ يَكْسِبُونَ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْإِثْمِ، جَاءَ فِي صِلَةِ جَزَائِهِمْ بِفِعْلِ (يَقْتَرِفُونَ) ، لِأَنَّ الِاقْتِرَافَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ اكْتِسَابُ الْإِثْمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الْأَنْعَام: 113] . [121] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 121] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) جُمْلَةُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] . و

(مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَوْصُولَة، وَمَا صدق الْمَوْصُولِ هُنَا: ذَكِيٌّ، بِقَرِينَةِ السَّابِقِ الّذي مَا صدقه ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَدْ أَفَادَتْ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْهَمَتِ النَّهْيَ عَمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَيْتَةُ، وَتَمَّ الْحُكْمُ فِي شَأْنِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذُكِّيَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أُفِيدَ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَمَعْنَى: لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ : أَنَّهُ تُرِكَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ قَصْدًا وَتَجَنُّبًا لِذِكْرِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِقَصْدِ أَنْ لَا يَكُونَ الذَّبْحُ لِلَّهِ، وَهُوَ يُسَاوِي كَوْنَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ فِي الذَّكَاةِ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ أَوْ يَذْكُرُوا اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] . وَمِمَّا يُرَشِّحُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145] ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْفِسْقِ هُنَا: هُوَ الَّذِي وُصِفَ بِهِ هُنَالِكَ، وَقُيِّدَ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَبِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الشِّرْكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ أَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ عَلَى الْمُذَكَّى، وَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ. وَرُبَّمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي تَحَيُّلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الذَّكَاةِ يَقْتَنِعُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوهُمْ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ، بِحَيْثُ لَا يُسَمُّونَ اللَّهَ وَلَا يُسَمُّونَ لِلْأَصْنَامِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ: تَحْذِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا التَّرْكِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّمْوِيهُ، وَأَنْ يُسَمَّى عَلَى الذَّبَائِحِ غَيْرَ أَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ. فَإِنِ اعْتَدَدْنَا بِالْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ، كَانَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادًا بِهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ حُكْمُهَا قَاصِرًا عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ، وَلَا كَوْنِهَا شَرْطًا أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ بَلْهَ حُكْمَ نِسْيَانِهَا. وَإِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْمَقْصِدَ بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ لِلنُّزُولِ، وَاعْتَدَدْنَا بِالْمَوْصُولِ صَادِقًا عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْعَامِّ

الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَلَا يُخَصُّ بِصُورَةِ السَّبَبِ، وَإِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبْحِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ اسْتِخْفَافًا أَوْ تَجَنُّبًا لَهَا لَمْ تُؤْكَلْ (وَهَذَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الزُّنُوجِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تُونِسَ وَبَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَمْتَلِكُهُمْ، فَيَتَفَادُونَ مِنْ أَضْرَارِهَا بِقَرَابِينَ يَذْبَحُونَهَا لِلْجِنِّ وَلَا يُسَمُّونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَنْفِرُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى خِيفَةً مِنْهُ، (وَهَذَا مُتَفَشٍّ بَيْنَهُمْ فِي تُونِسَ وَمِصْرَ) فَهَذِهِ ذَبِيحَةٌ لَا تُؤْكَلُ. وَمُسْتَنَدُ هَؤُلَاءِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَعَ تَخْصِيصِهَا أَوْ تَقْيِيدِهَا بِغَيْرِ النِّسْيَانِ، إِعْمَالًا لِقَاعِدَةِ رَفْعِ حُكْمِ النِّسْيَانِ عَنِ النَّاسِ. وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ لَا لِقَصْدِ اسْتِخْفَافٍ أَوْ تَجَنُّبٍ وَلَكِنَّهُ تَثَاقَلَ عَنْهَا، فَقَالَ مَالِكٌ، فِي الْمَشْهُورِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُؤَكَلُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ كَالنِّسْيَانِ، وَلَعَلَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِالْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ فِي احْتِمَالِ الْآيَةِ اقْتِصَارًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ مَعُونَةِ السِّيَاقِ. الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَمَالِكٌ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تُؤْكَلُ، وَعِنْدِي أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَكْمِلَةٌ لِلْقُرْبَةِ، وَالذَّكَاةُ بَعْضُهَا قُرْبَةٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ، وَلَا يَبْلُغُ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْإِبَاحَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَيْتَةُ خَاصَّةً، وَبِمَا ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ، عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: ذِكْرُ اللَّهِ إِنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ، وَالذَّبْحِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْعَامِدَ آثِمٌ وَأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ أَشَدُّ إِثْمًا. وَأَمَّا تَعَمُّدُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ غَيْرِ اللَّهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ سَمَّى لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا يُكْرَهُ أَكْلُهَا، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَلَا يُعَدُّ هَذَا خِلَافًا، وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَشْهَبُ،

وَالطَّبَرِيُّ: تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، إِذَا لَمْ يَتْرُكْهَا مُسْتَخِفًّا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَنَافِعٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدَاوُدُ: لَا تُؤَكَلُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، دُونَ تَأَمُّلٍ فِي الْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ. وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ، إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بِالْقَرَائِنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ تَارِكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا آثِمًا، إِلَّا أَنَّ إِثْمَهُ لَا يُبْطِلُ ذَكَاتَهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ عِنْدَ غَيْرِ أَحْمَدَ. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَأْكُلُوا عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَقَدْ أَجَازَ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ بِالْوَاوِ بَعْضُ مَنْ مَنَعَهُ بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ» . وَقَدْ جَعَلَهَا الرَّازِيُّ وَجَمَاعَةٌ: حَالًا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يَعُودُ عَلَى مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ لَفِسْقٌ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ الْفِعْلِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ، بِالْفِسْقِ حَتَّى تَجَاوَزَ الْفِسْقُ صِفَةَ الْفِعْلِ أَنْ صَارَ صِفَةَ الْمَفْعُولِ فَهُوَ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُرَادِ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ: كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا نَظِيرُ جَعْلِهِ فِسْقًا فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145] . وَالتَّأْكِيدُ بِإِنَّ: لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَلا تَأْكُلُوا، أَيْ وَإِنَّ أَكْلَهُ لَفِسْقٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ عَطْفٌ عَلَى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، أَيْ: وَاحْذَرُوا جَدَلَ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ

بِأَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ: الْمُشْرِكُونَ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ، فِيمَا مَرَّ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الْأَنْعَام: 112] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْمُجَادَلَةُ الْمُنَازَعَةُ بِالْقَوْلِ لِلْإِقْنَاعِ بِالرَّأْيِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُجَادَلَةُ فِي إِبْطَالِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَحْبِيبِ الْكُفْرِ وَشَعَائِرِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ نَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ بِأَيْدِينَا وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ حُذِفَ مُتَعَلَّقُ أَطَعْتُمُوهُمْ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيمَا يُجَادِلُونَكُمْ فِيهِ، وَهُوَ الطَّعْنُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالشَّكُّ فِي صِحَّةِ أَحْكَامِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِإِنْ لِتَحْقِيقِ الْتِحَاقِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ إِذَا أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّ تَخْطِئَةَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ تُسَاوِي الشِّرْكَ، فَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى التَّأْكِيدِ، أَوْ أَرَادَ: إِنَّكُمْ لَصَائِرُونَ إِلَى الشِّرْكِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَسْتَدْرِجُكُمْ بِالْمُجَادَلَةِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ، فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مُرَادًا بِهِ الِاسْتِقْبَالُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَأَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ سَبَبٌ، بَلْ وَلَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فَائِدَةٌ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مُضَافًا يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ التَّجْرِيدُ عَنِ الْفَاءِ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ الْمَاضِي فِي جَزَائِهِ ضَعِيفٌ، فَكَمَا جَازَ رَفْعُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مُضَارِعٌ، إِذَا كَانَ شَرْطُهُ مَاضِيًا، كَذَلِكَ جَازَ كَوْنُهُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِالْفَاءِ. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِي النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُ حَذْفَ فَاءِ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، فَقَدْ أَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ مَالِكٍ

[سورة الأنعام (6) : آية 122]

فِي شَرْحِهِ عَلَى «مُشْكِلِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ» . وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً» عَلَى رِوَايَةِ إِنْ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- دُونَ رِوَايَةِ- فتح الْهمزَة-. [122] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122) الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً عَاطِفَةٌ لِجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 122] لِتَضَمُّنِ قَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَنَّ الْمُجَادَلَةَ، الْمَذْكُورَةَ مِنْ قَبْلُ، مُجَادَلَةٌ فِي الدِّينِ: بِتَحْسِينِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَتَقْبِيحِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي مِنْهَا: تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ، وَتَحْرِيمُ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَسَائِسِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُجَادَلَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 121] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَصْفِ حُسْنِ حَالَةِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَارَقُوا الشِّرْكَ، فَجَاءَ بِتَمْثِيلَيْنِ لِلْحَالَتَيْنِ، وَنَفَى مُسَاوَاةَ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى: تَنْبِيهًا عَلَى سُوءِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحُسْنِ حَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِنْكَارِ تَمَاثُلِ الْحَالَتَيْنِ: فَالْحَالَةُ الْأُولَى: حَالَةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِحَالِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا مُودَعًا فِي ظُلُمَاتٍ، فَصَارَ حَيًّا فِي نُورٍ وَاضِحٍ، وَسَارَ فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِلَةِ لِلْمَطْلُوبِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: حَالَةُ الْمُشْرِكِ وَهِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِحَالَةِ مَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ فِي ظُلُمَاتٍ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، اسْتِغْنَاءً بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمَحْذُوفِ: فَقَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً مَعْنَاهُ: أَحَالُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ صِفَةُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا.

وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ حَالُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فِي ظُلُمَاتٍ. وَقَوْلُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ مثل ميّت فَمَا صدق (مَنْ) مَيِّتٌ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِمَيِّتٍ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ جُزْءَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُوَ الْمَيِّتُ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ وَالْمُشَبَّهَ بِهِ سَوَاءٌ فِي الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ حَالَةُ كَوْنِ الْفَرِيقَيْنِ مُشْرَكَيْنِ. وَلَفْظُ (مَثَلِ) بِمَعْنَى حَالَةِ. وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ هُنَا مَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ، وَنَفْيُ الْمُسَاوَاةِ كِنَايَةٌ عَنْ تَفْضِيلِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَفْضِيلًا لَا يَلْتَبِسُ، فَذَلِكَ مَعْنَى نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرَّعْد: 16]- وَقَوْلِهِ- أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: 18] . وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ مَنْفِيٌّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ حَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَتَخَلَّصَ مِنَ الشِّرْكِ بِحَالِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأُحْيِيَ، وَتَمْثِيلُ حَالِ مَنْ هُوَ بَاقٍ فِي الشِّرْكِ بِحَالٍ مَيِّتٍ بَاقٍ فِي قَبْرِهِ. فَتَضَمَّنَتْ جُمْلَةُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً إِلَى آخِرِهَا تَمْثِيلُ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَجُمْلَةُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ إِلَخْ تَمْثِيلُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فَهُمَا حَالَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ، وَحَالَتَانِ مُشَبَّهٌ بِهِمَا، وَحَصَلَ بِذِكْرِ كَافِ التَّشْبِيهِ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ فِي الشِّرْكِ. كَمَا حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ: أَنَّ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ تَشْبِيهَيْنِ مُرَكَّبَيْنِ. وَلَكِنَّ وُجُودَ كَافِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ مَثَلُهُ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهَيْنِ فِي التَّرْكِيبَيْنِ أَثَارَا شُبْهَةً: فِي اعْتِبَارِ هَذَيْنِ التَّشْبِيهَيْنِ أَهْوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، أَمْ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ فَنَحَا

الْقُطْبُ الرَّازِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» الْقَبِيلَ الأول، ونحا التفتازانيّ الْقَبِيلَ الثَّانِي، وَالْأَظْهَرُ مَا نحاه التفتازانيّ: أَنَّهُمَا اسْتِعَارَتَانِ تَمْثِيلِيَّتَانِ، وَأَمَّا كَافُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُشَابَهَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ لَا إِلَى مُشَابَهَةِ الْحَالَيْنِ بِالْحَالَيْنِ، فَمَوْرِدُ كَافِ التَّشْبِيهِ غَيْرُ مَوْرِدِ تَمْثِيلِ الْحَالَيْنِ. وَبَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ بَوْنٌ خَفِيٌّ. وَالْمُرَادُ: بِ الظُّلُماتِ ظلمَة الْقَبْر لمناسبة لِلْمَيِّتِ، وَبِقَرِينَةِ ظَاهِرِ فِي مِنْ حَقِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ وَظَاهِرِ حَقِيقَةِ فِعْلِ الْخُرُوجِ. وَلَقَدْ جَاءَ التَّشْبِيهُ بَدِيعًا: إِذْ جَعَلَ حَالَ الْمُسْلِمِ، بَعْدَ أَنْ صَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِحَالِ مَنْ كَانَ عَدِيمَ الْخَيْرِ، عَدِيمَ الْإِفَادَةِ كَالْمَيِّتِ، فَإِنَّ الشِّرْكَ يَحُولُ دُونَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيَصْرِفُ صَاحِبَهُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُ وَنَجَاتُهُ، وَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ لَوْ أَفَاقَ لَمْ يَعْرِفْ أَيْنَ يَنْصَرِفُ، فَإِذَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَغَيَّرَ حَالَهُ فَصَارَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَعْلَمُ الصَّالِحَ مِنَ الْفَاسِدِ، فَصَارَ كَالْحَيِّ وَصَارَ يَسْعَى إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَيَتَنَكَّبُ عَنْ سَبِيلِ الْفَسَادِ، فَصَارَ فِي نُورٍ يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ تَفْضِيلُ أَهْلِ اسْتِقَامَةِ الْعُقُولِ عَلَى أَضْدَادِهِمْ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: يَمْشِي بِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ. وَالنَّاسُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْهَيْئَة الْمُشبه بِهَا هُمُ الْأَحْيَاءُ الَّذِينَ لَا يَخْلُو عَنْهُمُ الْمُجْتَمَعُ الْإِنْسَانِيُّ. وَالنَّاسُ الْمُقَدَّرُ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُمْ رُفَقَاءُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ جَاءَ الْمُرَكَّبُ التَّمْثِيلِيُّ تَامًّا صَالِحًا لِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ، وَلِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، كَمَا قَدْ عَلِمْتَهُ وَذَلِكَ أَعْلَى التَّمْثِيلِ. وَجُمْلَةُ: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِإِضَافَةِ (مَثَلُ) ، أَيْ ظُلُمَاتٌ لَا يُرْجَى لِلْوَاقِعِ فِيهَا تَنُّورٌ بِنُورٍ مَا دَامَ فِي حَالَةِ الْإِشْرَاكِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 123]

وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ التَّمْثِيلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا، أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ، وَكَيْفَ لَمْ يَشْعُرُوا بِالْبَوْنِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَإِذَا كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي غَفْلَةٍ عَنِ انْحِطَاطِ حَالِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَكَيْفَ لَمَّا دَعَاهُمُ الْإِسْلَامُ إِلَى الْحَقِّ وَنَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ بَقَوْا فِي ضَلَالِهِمْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْهُ وَهُمْ أَهْلُ عُقُولٍ وَفِطْنَةٍ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ لَهُ السَّبَبَ فِي دَوَامِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ، وَهُوَ أَنَّ مَا عَمِلُوهُ كَانَ تُزَيِّنُهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ، هَذَا التَّزْيِينَ الْعَجِيبَ، الَّذِي لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ تَقْرِيبَهُ لَمْ يَجِدْ ضَلَالًا مُزَيَّنًا أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَعْجَبَ فَلَا يُشَبَّهُ ضَلَالُهُمْ إِلَّا بِنَفْسِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: (وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا) . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مُشَارٌ بِهِ إِلَى التَّزْيِينِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ زُيِّنَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ لِلْكَافِرِينَ الْعَجِيبِ كَيْدًا وَدِقَّةً زَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ فَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ التَّزْيِيِنِ لَا مَعْرِفَةُ مَنْ أَوْقَعَهُ. وَالْمُزَيِّنُ شَيَاطِينُهُمْ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: 137] ، وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِنْسِ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلتَّزْيِينِ، وَشَيَاطِينُ الجنّ هم المسوّلون الْمُزَيِّنُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الْأَنْعَام: 121] . [123] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 123] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ

(123) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: 122] فَلَهَا حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، لِبَيَانِ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ اسْتِمْرَارِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَكْرُ أَكَابِرِ قريتهم بالرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَصَرْفُهُمُ الْحِيَلَ لِصَدِّ الدَّهْمَاءَ عَنْ مُتَابَعَةِ دَعْوَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وكَذلِكَ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ بِتَأْوِيلِ كَذلِكَ الْمَذْكُورِ. وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ هَذَا الْجَعْلِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مَضَتْ أَكَابِرَ يَصُدُّونَ عَنِ الْخَيْرِ، فَشَبَّهَ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ مِنْ أَهِلِ مَكَّةَ فِي الشِّرْكِ بِأَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ فِي أَهْلِ الْقُرَى فِي الْأُمَمِ الْأُخْرَى، أَيْ أَنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِبِدْعٍ وَلَا خَاصٍّ بِأَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ، فَإِنَّهُ سُنَّةُ الْمُجْرِمِينَ مَعَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ. فَالْجَعْلُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَوَضْعِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ سُنَنُ خَلْقِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِ الشَّرِّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْقُرَى. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَدَاوَةِ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، لِأَنَّهُمْ لِبَسَاطَةِ طِبَاعِهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْخَيْرَ تَقَبَّلُوهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُرَى، فَإِنَّهُمْ لِتَشَبُّثِهِمْ بِعَوَائِدِهِمْ وَمَا أَلِفُوهُ، يَنْفِرُونَ مِنْ كُلِّ مَا يُغَيِّرُهُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَة: 101] فَجَعَلَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْرَابِ نِفَاقًا مُجَرَّدًا، وَالنِّفَاقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا مَارِدًا. وَقَدْ يَكُونُ الْجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَهُوَ تَصْيِيرُ خَلْقٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ تَصْيِيرُ مَخْلُوقٍ إِلَى صِفَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّ تَصَارُعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَكُونُ بِمِقْدَارِ غَلَبَةِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى أَهْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْخَيْرِ انْقَبَضَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا انْعَكَسَ الْأَمْرُ انْبَسَطَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَكَثَرُوا.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَزَلِ الْحُكَمَاءُ الْأَقْدَمُونَ يَبْذُلُونَ الْجُهْدَ فِي إِيجَادِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي وَصَفَهَا (أَفْلَاطُونَ) فِي «كِتَابِهِ» ، وَالَّتِي كَادَت أَن تتحقّق صِفَاتَهَا فِي مَدِينَةِ (أَثِينَةَ) فِي زَمَنِ جُمْهُورِيَّتِهَا، وَلَكِنَّهَا مَا تَحَقَّقَتْ بِحَقٍّ إِلَّا فِي مَدِينَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ وَزَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِيهَا. وَقَدْ نَبَّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الْإِسْرَاء: 16] عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيد مِيم: دمرنا. وَالْأَظْهَرُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ: أَنَّ جَعَلْنا بِمَعْنَى خَلَقْنَا وَأَوْجَدْنَا، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَام: 1] فَمَفْعُولُهُ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها. وَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ظَرْفٌ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَ أَنَّهُ دُونَهُ فِي التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ جَمِيعِ الْقُرَى هُوَ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْخَبَرِ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّ حَالَهُمْ جَرَى عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهَا. وَفِي قَوْلِهِ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها إِيجَازٌ لِأَنَّهُ أَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ جَعْلَنَا مُجْرِمِينَ وَأَكَابِرَ لَهُمْ وَأَنَّ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ أَكَابِرُ مُجْرِمِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا أَيْ لِيَحْصُلَ الْمَكْرُ، وَفِيهِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ لَيْسَ بِعَظِيمِ الشَّأْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ هُمَا: أَكابِرَ مُجْرِمِيها عَلَى أَنَّ مُجْرِمِيها الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وأَكابِرَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ، وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِيَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِغَرَابَةِ شَأْنِهِ، لِأَنَّ مَصِيرَ الْمُجْرِمِينَ أَكَابِرَ وَسَادَةً أَمْرٌ عَجِيبٌ، إِذْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلسُّؤْدُدِ، كَمَا قَالَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ:

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ ... فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ فِي تَقْدِيمِهِ لِلِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ. وَفِي هَذَا الِاحْتِمَالِ إِيذَانٌ بِغَلَبَةِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمْ، وَتَفَاقُمِ ضُرِّهِ، وَإِشْعَارٌ بِضَرُورَةِ خُرُوجِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَإِيذَانٌ بِاقْتِرَابِ زَوَالِ سِيَادَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَلَّاهَا الْمُجْرِمُونَ لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ صَيَّرَهُمْ مُجْرِمِينَ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ. وَلَعَلَّ كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ مِنَ الْكَلَامِ لِيَفْرِضَ السَّامِعُونَ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْأَنْعَام: 114] . وَاللَّامُ فِي لِيَمْكُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَضْعِ نِظَامِ وُجُودِ الصَّالِحِ وَالْفَاسِدِ، أَنْ يَعْمَلَ الصَّالِحُ لِلصَّلَاحِ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْفَاسِدُ لِلْفَسَادِ، وَالْمَكْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَادِ أَمْثَالِهِمْ حِكَمٌ جَمَّةٌ، مِنْهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ شَرَفُ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ وَيَسْطَعُ نُورُهُ، وَيَظْهَرُ انْدِحَاضُ الْبَاطِلِ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْدَ الصِّرَاعِ الطَّوِيلِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْمُسَمَّاةُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ اسْتِعَارَةُ اللَّامِ لِمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَدَخَلَتْ مَكَّةُ فِي عُمُومِ: كُلِّ قَرْيَةٍ وَهِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْحَاضِرَةُ الَّتِي مُكِرَ فِيهَا، فَالْمَقْصُودُ الْخُصُوصُ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا كَمَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِثْلَهُمْ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ الْخَبَرَ لِقَصْدِ تَذْكِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالْقُرَى مِنْ قَبْلِهَا، مِثْلُ قَرْيَةِ: الْحِجْرِ، وَسَبَأٍ، وَالرَّسِّ، كَقَوْلِهِ: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [الْأَعْرَاف: 101] ،

وَلِقَصْدِ تَسْلِيَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَمَكْرِهِمْ بِهِ وَوَعْدِهِ بِالنَّصْرِ. وَقَوْلُهُ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها أَكَابِرُ جَمْعُ أَكْبَرَ. وَأَكْبَرُ اسْمٌ لِعَظِيمِ الْقَوْمِ وَسَيِّدِهِمْ، يُقَالُ: وَرِثُوا الْمَجْدَ أَكْبَرَ أَكْبَرَ، فَلَيْسَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ فِيهِ مُفِيدَةَ الزِّيَادَةِ فِي الْكِبَرِ لَا فِي السِّنِّ وَلَا فِي الْجِسْمِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ أَوْ وُصِفَ بِهِ الْجَمْعُ وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ لَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْزَمَ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ. وَجُمِعَ عَلَى أَكَابِرَ، يُقَالُ: مُلُوكُ أَكَابِرَ، فَوَزْنُ أَكَابِرَ فِي الْجَمْعِ فَعَالِلُ مِثْلُ أَفَاضِلَ جَمْعُ أَفْضَلَ، وَأَيَامِنَ وَأَشَائِمَ جَمْعُ أَيْمَنَ وَأَشْأَمَ لِلطَّيْرِ السَّوَانِحِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اصْطِلَاحَ النُّحَاةِ فِي مَوَازِينِ الْجُمُوعِ فِي بَابِ التَّكْسِيرِ وَفِي بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى صُورَةِ الْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالزَّائِدَةِ بِخِلَافِ اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الصَّرْفِ فِي بَابِ الْمُجَرَّدِ وَالْمَزِيدِ. فَهَمْزَةٌ أَكْبَرَ تُعْتَبَرُ فِي الْجَمْعِ كَالْأَصْلِيِّ وَهِيَ مَزِيدَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها إِيجَازٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِينَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَكَابِرَ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ أَكَابِرَ يَقْتَضِي وُجُودَ مَنْ دُونَهُمُ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَكْرُ: إِيقَاعُ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ خُفْيَةً وَتَحَيُّلًا، وَهُوَ مِنَ الْخِدَاعِ وَمِنَ الْمَذَامِّ، وَلَا يُغْتَفَرُ إِلَّا فِي الْحَرْبِ، وَيُغْتَفَرُ فِي السِّيَاسَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اتِّقَاءُ الضُّرِّ إِلَّا بِهِ، وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: 54] فَهُوَ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ لِأَنَّ قبله وَمَكَرُوا [آل عمرَان: 54] ، أَيْ مَكَرُوا بِأَهْلِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ هُنَا تَحَيُّلُ زُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّاسِ فِي صَرْفِهِمْ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا جَلَسُوا عَلَى كُلِّ عَقَبَةٍ يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتّباع النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الأنعام (6) : آية 124]

وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلَّقُ: لِيَمْكُرُوا لِظُهُورِهِ، أَيْ لِيَمْكُرُوا بِالنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنَّ صَدَّ النَّاسِ عَنْ مُتَابَعَتِهِ يَضُرُّهُ وَيُحْزِنُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا الْعَمَلَ مِنْهُمْ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فِي آخِرِ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ هُمْ فِي مَكْرِهِمْ ذَلِكَ إِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأُطْلِقَ الْمَكْرُ عَلَى مَآلِهِ وَهُوَ الضُّرُّ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، فَإِنَّ غَايَةَ الْمَكْرِ وَمَآلَهُ إِضْرَارُ الْمَمْكُورِ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِضْرَارُ حَاصِلًا لِلْمَاكِرِينَ دُونَ الْمَمْكُورِ بِهِ أُطْلِقَ الْمَكْرُ عَلَى الْإِضْرَارِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْقصر: لأنّ النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْحَقُهُ أَذًى وَلَا ضُرٌّ مِنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَيَلْحَقُ الضُّرُّ الْمَاكِرِينَ، فِي الدُّنْيَا: بِعَذَابِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ: بِعَذَابِ النَّارِ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَالضُّرُّ انْحَصَرَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ جُمْلَةُ حَالٍ ثَانِيَةٍ، فَهُمْ فِي حَالَةِ مَكْرِهِمْ بِالنَّبِيءِ مُتَّصِفُونَ بِأَنَّهُمْ مَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ مَا يَشْعُرُونَ بِلَحَاقِ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ بِهِمْ، وَالشُّعُورُ: الْعِلْمُ. [124] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 124] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الْأَنْعَام: 123] لِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ أَكَابِرَ مُجْرِمِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها. وَمَكَّةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ عُمُومِ كُلِّ قَرْيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الْأَنْعَام: 123] ، بِاعْتِبَارِ الْخَاصِّ الْمَقْصُودِ مِنْ

الْعُمُومِ، إِذْ لَيْسَ قَوْلُ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ بِمَنْسُوبٍ إِلَى جَمِيعِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى. وَالْمَعْنَى: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَيْ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَعَبَّرَ بِالْمَجِيءِ عَنِ الْإِعْلَامِ بِالْآيَةِ أَوْ تِلَاوَتِهَا تَشْبِيهًا لِلْإِعْلَامِ بِمَجِيءِ الدَّاعِي أَوِ الْمُرْسَلِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْتَنِعِينَ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مُعْجِزَاتٍ عَيْنِيَّةٍ مِثْلَ مُعْجِزَةِ مُوسَى وَمُعْجِزَةِ عِيسَى، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] لِجَهْلِهِمْ بِالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَصْرِيفِ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50، 51] وَقَالَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ» الْحَدِيثَ. وَأُطْلِقَ عَلَى إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لَدَيْهِمْ بِالْإِيتَاءِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِذْ قِيلَ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَمَّا كَانَتْ لِإِقْنَاعِهِمْ بِصِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْبَهَتِ الشَّيْءَ الْمُعْطَى لَهُمْ. وَمَعْنَى: مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ مِثْلَ مَا آتَى اللَّهُ الرُّسُلَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا لِأَقْوَامِهِمْ. فَمُرَادُهُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُمْ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] . رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، قَالَ للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ النُّبُوءَةُ لَكَنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ لِأَنِّي أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مَالًا وَوَلَدًا وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ

قَالَ: زَاحَمَنَا (يَعْنِي بَنِي مَخْزُومٍ) بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فِي الشَّرَفِ، حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيءٌ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيَهُ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى مَا صَدَرَ مِنْ هَذَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ حَتَّى يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِي الرُّسُلَ. أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِرُسُلِ اللَّهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، فَعَدَلُوا عَنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا أُوتِيَ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ وَحْيٌ. وَمَعْنَى نُؤْتى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نُعْطَى مِثْلَ مَا أُعْطِيَ الرُّسُلُ، وَهُوَ الْوَحْيُ. أَوْ أَرَادُوا بِرُسُلِ الله محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْرِيضًا، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ كَذَا، وَالْمُرَادُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 105] وَنَحْوُهُ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُهُمْ عَلَيْهِ: رُسُلُ اللَّهِ تهكّما بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاء: 27] . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. اعْتِرَاضٌ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رَدًّا بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِالْمُعْجِزَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْقَوْمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ فَتَكُونُ حَيْثُ مَجَازًا فِي الْمَكَانِ الِاعْتِبَارِيِّ لِلْمُعْجِزَةِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يُظْهِرُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مَكَانٌ لِظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ. وَالرِّسَالَاتُ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِرِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا اللَّهُ إِلَى النَّاسِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: وَجْهُ

دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ: «صَدَقَ هَذَا الرَّسُولُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِّي» ، بِأَمَارَةٍ أَنِّي أَخْرِقُ الْعَادَةَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، يَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُعْطَى بِسُؤَالِ سَائِلِهَا، مَعَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْل لَهَا، فَمَا صدق حَيْثُ الشَّخْصُ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ. وحَيْثُ هُنَا اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْمَكَانِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَبْعُوثِ بِالرِّسَالَةِ، بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الرِّسَالَةِ بِالْوَدِيعَةِ الْمَوْضُوعَةِ بِمَكَانِ أَمَانَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَإِثْبَاتُ الْمَكَانِ تَخْيِيلٌ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى مُصَرِّحَةٌ بِتَشْبِيهِ الرُّسُلِ بِمَكَانِ إِقَامَةِ الرِّسَالَةِ. وَلَيْسَتْ حَيْثُ هُنَا ظَرْفًا بَلْ هِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ حَيْثُ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ، فَهِيَ هُنَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ، لِأَنَّ أَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا يَنْصِبُ الْمَفْعُولَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: 117] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَة يَجْعَلُ رِسالَتَهُ صِفَةٌ لِ حَيْثُ إِذَا كَانَتْ حَيْثُ مُجَرَّدَةً عَنِ الظَّرْفِيَّةِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَابِطُ جُمْلَةِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: حَيْثُ يَجْعَلُ فِيهِ رِسَالَاتِهِ. وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ مِمَّا يُنَالُ بِالْأَمَانِي وَلَا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَمَنْ لَا يَصْلُحُ، وَلَوْ عَلِمَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَأَرَادَ إِرْسَالَهُ لَأَرْسَلَهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَالطَّاقَةِ عَلَى الِاضْطِلَاعِ بِحَمْلِهِ، فَلَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ إِلَّا نَفْسٌ خُلِقَتْ قَرِيبَةً مِنَ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ، بَعِيدَةً عَنْ رَذَائِلِ الْحَيَوَانِيَّةِ، سَلِيمَةً مِنَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ.

فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يُخْلَقُ خِلْقَةً مُنَاسِبَةً لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ إِرْسَالِهِ، وَاللَّهُ حِينَ خَلَقَهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُ سَيُرْسِلُهُ، وَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ نُفُوسًا صَالِحَةً لِلرِّسَالَةِ وَلَا تَكُونُ حِكْمَةٌ فِي إِرْسَالِ أَرْبَابهَا، فالاستعداد مهيّيء لِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مُوجِبًا لَهُ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الِاسْتِعْدَادَ الذَّاتِيَّ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلرِّسَالَةِ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْفَلَاسِفَةِ لَا يَبْعُدُ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي النَّمَطِ التَّاسِعِ. وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ بَيَانٌ لِعَظِيمِ مِقْدَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْبِيهٌ لِانْحِطَاطِ نُفُوسِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ نَوَالِ مَرْتَبَةِ النُّبُوءَةِ وَانْعِدَامِ اسْتِعْدَادِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرُجِي» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِسالاتِهِ- بِالْجَمْعِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِالْإِفْرَادِ- وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ اسْتَوَى الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ. اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا فِيها [الْأَنْعَام: 123] وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا أَكَابِرُ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَإِنَّ صِفَةَ الْمَكْرِ أُثْبِتَتْ لِأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَذِكْرُهُمْ بِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ، وَإِنَّمَا خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ

لِلْإِتْيَانِ بالموصول حتّى يوميء إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ صَغَارٌ وَعَذَابٌ لِإِجْرَامِهِمْ. وَالصَّغَارُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- الذُّلُّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصِّغَرِ، وَهُوَ الْقَمَاءَةُ وَنُقْصَانُ الشَّيْءِ عَنْ مِقْدَارِ أَمْثَالِهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ ذُلًّا وَعَذَابًا: لِيُنَاسِبَ كِبْرَهُمْ وَعُتُوَّهُمْ وَعِصْيَانَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى. وَالصَّغَارُ وَالْعَذَابُ يَحْصُلَانِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْهَزِيمَةِ وَزَوَالِ السِّيَادَةِ وَعَذَابِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْخَوْفِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التَّوْبَة: 52] وَقَدْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ، فَهَلَكَتْ سَادَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِهَانَتِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَعَذَابِهِمْ فِي جَهَنَّمَ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ صَغَارٌ مُقَدَّرٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ صَغَارٌ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْصُلُ أَثَرُهُ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهُ تَكْوِينٌ لَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَحَبَّهُ ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَأَحَبُّوهُ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ» ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا إِلَى جَعْلِ الْعِنْدِيَّةِ بِمَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْبَاءُ فِي: بِما كانُوا يَمْكُرُونَ سَبَبِيَّةٌ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ، أَيْ فِعْلِهِمُ الْمَكْرَ، أَوْ مَوْصُولَةٌ: أَيْ بِسَبَبِ الَّذِي كَانُوا يَمْكُرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكْرِ الِاسْمُ، فَيُقَدَّرُ عَائِدٌ مَنْصُوبٌ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْذُوف.

[سورة الأنعام (6) : آية 125]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) الْفَاءُ مُرَتِّبَةُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَام: 122] وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَارِيعِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِبْطَالٌ لِتَعَلُّلَاتِهِمْ بِعِلَّةِ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 124] ، وَأَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مَا عَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى حُصُولِهِ، فَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُؤَثِّرِ بِالْحَقِيقَةِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ وَكُفْرُ الْكَافِرِ، وَهُوَ: هِدَايَةُ اللَّهِ الْمُؤْمِنَ، وَإِضْلَالُهُ الْكَافِرَ، فَذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّأْثِيرِ، دُونَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ لَوْ أُوتُوا مَا سَأَلُوا لَمَا آمَنُوا، حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 96، 97]- وَكَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 111] . وَالْهُدَى إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ النَّافِعَةِ: لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ لِلْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمَجَازُهُ رَشَادُ الْعَقْلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مُتَعَلَّقِهِ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّهُ الْهُدَى لِلْإِسْلَامِ، مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] فَهُوَ تَهَكُّمٌ. وَالضَّلَالُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي أَحْوَالٍ مُضِرَّةٍ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَطْلُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُشْعِرًا بِالضُّرِّ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلَّقُهُ، فَهُوَ هُنَا الِاتِّصَافُ بِالْكُفْرِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ خَيْرِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَالضَّلَالِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ الضَّالُّ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ لَطَلَبَهُ.

وَالشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ شَقُّ اللَّحْمِ، وَالشَّرِيحَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ تُشَقُّ حَتَّى تُرَقَّقَ لِيَقَعَ شَيُّهَا. وَاسْتُعْمِلَ الشَّرْحُ فِي كَلَامِهِمْ مَجَازًا فِي الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ، وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا مَجَازًا فِي انْجِلَاءِ الْأَمْرِ، وَيَقِينِ النَّفْسِ بِهِ، وَسُكُونِ الْبَالِ لِلْأَمْرِ، بِحَيْثُ لَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ وَلَا يُغْتَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] . وَالصَّدْرُ مُرَادٌ بِهِ الْبَاطِنُ، مَجَازًا فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ، فَمَعْنَى يَشْرَحْ صَدْرَهُ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ اسْتِعْدَادًا وَقَبُولًا لِتَحْصِيلِ الْإِسْلَامِ، وَيُوَطِّنُهُ لِذَلِكَ حَتَّى يَسْكُنَ إِلَيْهِ وَيَرْضَى بِهِ، فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِالشَّرْحِ، وَالْحَاصِلُ لِلنَّفْسِ يُسَمَّى انْشِرَاحًا، يُقَالُ: لَمْ تَنْشَرِحْ نَفْسِي لِكَذَا، وَانْشَرَحَتْ لِكَذَا. وَإِذَا حَلَّ نُورُ التَّوْفِيقِ فِي الْقَلْبِ كَانَ الْقَلْبُ كَالْمُتَّسِعِ، لِأَنَّ الْأَنْوَارَ تُوَسِّعُ مَنَاظِرَ الْأَشْيَاءِ. رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ- فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُدْخِلُ فِيهِ النُّورَ فَيَنْفَسِحُ- قَالُوا- وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يُعْرَفُ بهَا- قَالَ- الْإِنَابَة إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّنَحِّي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْفَوْتِ» . وَمَعْنَى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ مَنْ يُرِدْ دَوَامَ ضَلَالِهِ بِالْكُفْرِ، أَوْ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ ضَلَالٌ مُسْتَقْبَلٌ، إِمَّا بِمَعْنَى دَوَامِ الضَّلَالِ الْمَاضِي، وَإِمَّا بِمَعْنَى ضَلَالٍ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يُضِلَّهُ بِكُفْرِهِ الْقَدِيمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ مَضَى وَتَقَرَّرَ. وَالضَّيِّقُ- بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ فَيْعِلَ- مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ الشَّيْءِ بِالضِّيقِ، يُقَالُ ضَاقَ ضِيقًا- بِكَسْرِ الضَّادِ- وَضَيْقًا- بِفَتْحِهَا- وَالْأَشْهَرُ كَسْرُ الضَّادِ فِي الْمَصْدَرِ وَالْأَقْيَسُ الْفَتْحُ وَيُقَالُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ بِوَزْنِ فَعْلٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ، وَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ زِنَتُهُمَا، وَكَانَتْ زِنَةُ فَيْعِلٍ فِي الْأَصْلِ تُفِيدُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مَا لَا تُفِيدُهُ زِنَةُ فَعْلٍ، فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ سَوَّى

بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ ضَيْقٍ: بِالتَّخْفِيفِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي إِفَادَةِ الْمُبَالغَة بِالْوَصْفِ. وقرىء بِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِتَخْفِيفِهَا. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الضَّيِّقُ لِضِدِّ مَا اسْتُعِيرَ لَهُ الشَّرْحُ فَأُرِيدَ بِهِ الَّذِي لَا يَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ الْإِيمَانِ وَلَا تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَرِبَ الْبَالِ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [90] . وَالْحَرِجُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَرِجَ الشَّيْءُ حَرَجًا، مِنْ بَابِ فَرِحَ، بِمَعْنَى ضَاقَ ضَيْقًا شَدِيدًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: دَنِفَ، وَقَمِنَ، وَفَرِقَ، وَحَذِرَ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَرَأُوهُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ، فَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ دَنَفٌ- بِفَتْحِ النُّونِ- وَفَرَدٌ- بِفَتْحِ الرَّاءِ-. وَإِتْبَاعُ الضَّيِّقِ بِالْحَرَجِ: لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الضِّيقِ، لِأَنَّ فِي الْحَرَجِ مِنْ مَعْنَى شِدَّةِ الضِّيقِ مَا لَيْسَ فِي ضَيِّقٍ. وَالْمَعْنَى يَجْعَلْ صَدْرَهُ غَيْرَ مُتَّسِعٍ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَزَادَ حَالَةَ الْمُضَلَّلِ عَنِ الْإِسْلَامِ تَبْيِينًا بِالتَّمْثِيلِ، فَقَالَ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: يَصَّعَّدُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ- عَلَى أَنَّهُ يَتَفَعَّلُ مِنَ الصُّعُودِ، أَيْ بِتَكَلُّفِ الصُّعُودِ، فَقُلِبَتْ تَاءُ التَّفَعُّلِ صَادًّا لِأَنَّ التَّاءَ شَبِيهَةٌ بِحُرُوفِ الْإِطْبَاقِ، فَلِذَلِكَ تُقْلَبُ طَاءً بَعْدَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ فِي الِافْتِعَالِ قَلْبًا مُطَّرِدًا ثُمَّ تُدْغَمُ تَارَةً فِي مُمَاثِلِهَا أَوْ مُقَارِبِهَا، وَقَدْ تُقْلَبَ فِيمَا يُشَابِهُ الِافْتِعَالَ إِذَا أُرِيدَ التَّخْفِيفُ بِالْإِدْغَامِ، فَتُدْغَمُ فِي أَحَدِ أَحْرُفِ

الْإِطْبَاقِ، كَمَا هُنَا، فَإِنَّهُ أُرِيدَ تَخْفِيفُ أَحَدِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُتَوَالِيَةِ مِنْ (يَتَصَعَّدُ) ، فَسُكِّنَتِ التَّاءُ ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ إِدْغَامَ الْمُقَارِبِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: يَصَّعَّدُ- بِسُكُونِ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: يَصَّاعَدُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ بَعْدَهَا أَلِفٌ- وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: صَدْرَهُ أَوْ مِنْ صَدْرِهِ، مُثِّلَ حَالُ الْمُشْرِكِ حِينَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ حِينَ يَخْلُو بِنَفْسِهِ، فَيَتَأَمَّلُ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِحَالِ الصَّاعِدِ، فَإِنَّ الصَّاعِدَ يَضِيقُ تَنَفُّسُهُ فِي الصُّعُودِ، وَهَذَا تَمْثِيلُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ، لِأَنَّ الصُّعُودَ فِي السَّمَاءِ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَالسَّمَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَاءُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَوِّ الَّذِي يَعْلُو الْأَرْضَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: «لَا يَكُونُ السَّمَاءُ الْمُظِلَّةَ لِلْأَرْضِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ (¬1) الْقَيْدُودُ الطَّوِيلُ فِي غَيْرِ سَمَاءٍ- أَيْ فِي غَيْرِ ارْتِفَاعٍ صَعَدًا» أَرَادَ أَبُو عَلِيٍّ الِاسْتِظْهَارَ بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ السَّمَاءِ يُقَالُ لِلْفَضَاءِ الذَّاهِبِ فِي ارْتِفَاعٍ (وَلَيْسَتْ عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ) . وَحَرْفُ فِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (إِلَى) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ: إِمَّا بِمَعْنَى كَأَنَّهُ بَلَغَ السَّمَاءَ وَأَخَذَ يَصَّعَّدُ فِي مَنَازِلِهَا، فَتَكُونُ هَيْئَةً تَخْيِيلِيَّةً، وَإِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاءِ بِمَعْنَى الْجَوِّ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. ¬

(¬1) فِي بَاب مَا تقلب فِيهِ الْوَاو يَاء من «كتاب» سِيبَوَيْهٍ، أَي كَمَا أطلق سِيبَوَيْهٍ فِي كَلَامه السّماء على الِارْتفَاع.

وَالرِّجْسُ: الْخُبْثُ وَالْفَسَادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخُبْثِ الْمَعْنَوِيِّ وَالنَّفْسِيِّ. وَالْمُرَادُ هُنَا خُبْثُ النَّفْسِ وَهُوَ رِجْسُ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125] أَيْ مَرَضًا فِي قُلُوبِهِمْ زَائِدًا عَلَى مَرَضِ قُلُوبِهِمُ السَّابِقِ، أَيْ أَرْسَخَتِ الْمَرَضَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [90] إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَالرِّجْسُ يَعُمُّ سَائِرَ الْخَبَاثَاتِ النَّفْسِيَّةِ، الشَّامِلَةِ لِضِيقِ الصَّدْرِ وَحَرَجِهِ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ كَانَ تَذْيِيلًا، فَلَيْسَ خَاصًّا بِضِيقِ الصَّدْرِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَائِبٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ وَالْمَعْنَى: يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ جَعْلًا كَهَذَا الضِّيقِ وَالْحَرَجِ الشَّدِيدِ الَّذِي جَعَلَهُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وعَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تُفِيدُ تَمَكُّنَ الرِّجْسِ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَالْعِلَاوَةُ مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ، مِثْلُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَالْمُرَادُ تَمَكُّنُهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَظُهُورُ آثَارِهِ عَلَيْهِمْ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَجْعَلْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَنْ يَنْصَرِفُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ. والَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ مَوْصُول يومىء إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ تَلَقِّيهِ بِإِنْصَافٍ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مُتَزَائِدَةً بِالْقَسَاوَةِ. وَالْمَوْصُولُ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ، وَيَشْمَلُ غَيْرَهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُعْرِضُ عَنْهُ، مِثْلُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَبِهَذَا الْعُمُومِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا، وَصَارَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مقَام الْإِضْمَار.

[سورة الأنعام (6) : آية 126]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 126] وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: 125] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ هَدْيِ الْقُرْآنِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا يُجْهِدُ مُتَّبِعَهُ، فَهَذَا ضِدٌّ لِحَالِ التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الْأَنْعَام: 125] . وَتَمْثِيلُ الْإِسْلَامِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَتَضَمَّنُ تَمْثِيلَ الْمُسْلِمِ بِالسَّالِكِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، فَيُفِيدُ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: 125] . وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِتَكُونَ بِالْعَطْفِ مَقْصُودَةً بِالْإِخْبَارِ. وَهُوَ اقبال على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ. وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَالْمُنَاسَبَةُ قَوْلُهُ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: 125] . وَالصِّرَاطُ حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الْمُوصِلِ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُضَافِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرُ صِرَاطٍ. وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ تَشْرِيفٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَتَرْضِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي هَذَا السَّنَنِ مِنْ بَقَاءِ بَعْضِ النَّاسِ غَيْرَ مُتَّبَعِينَ دِينَهُ. وَالْمُسْتَقِيمُ حَقِيقَتُهُ السَّالِمُ مِنَ الْعِوَجِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلصَّوَابِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ، أَيْ سَنَنُ اللَّهِ الْمُوَافِقُ لِلْحِكْمَةِ وَالَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يُعَطِّلُهُ شَيْءٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الْحِسِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ كَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] ، فَيَكُونُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُسْتَعَارًا لِمَا يَبْلُغُ إِلَى الْمَقْصُودِ النَّافِعِ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: 153] . ومستقيما حَالٌ مِنْ «صِرَاطٌ» مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَى اللَّهِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 127]

وَجُمْلَةُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ اسْتِئْنَافٌ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَمِنْ رَشَاقَةِ لَفْظِ الْآياتِ هُنَا أَنَّ فِيهِ تَوْرِيَةً بِآيَاتِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا السَّائِرُ. وَاللَّامُ فِي: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لِلْعِلَّةِ، أَيْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِأَجْلِهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَفَادَتْهُمُ الْآيَاتُ وتذكّروا بهَا. [127] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 127] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) الضَّمِيرُ فِي: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عَائِد إِلَى لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الْأَنْعَام: 126] . وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فُصِّلَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ وَيَتَذَكَّرُونَ بِهَا يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَثَرِ تَبْيِينِ الْآيَاتِ لَهُمْ وَتَذَكُّرِهُمْ بِهَا، فَقِيلَ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ. وَإِمَّا صِفَةٌ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الْأَنْعَام: 126] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَذَّكَّرُونَ لَا لِغَيْرِهِمْ. وَالدَّارُ: مَكَانُ الْحُلُولِ وَالْإِقَامَةِ، تُرَادِفُ أَوْ تُقَارِبُ الْمَحَلَّ مِنَ الْحُلُولِ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ تَقْدِيرًا فَيُصَغَّرُ عَلَى دُوَيْرَةٍ. وَالدَّارُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ دَارَ يَدُورُ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِ أَهْلِهَا، وَيُقَالُ لَهَا: دَارَةٌ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الدَّارَةِ أَنَّهَا الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ بَيْنَ جِبَالٍ. وَالسَّلَامُ: الْأَمَانُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْأَمَانُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْتَرِي صَاحِبَهُ شَيْءٌ مِمَّا يَخَافُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ جَوَاهِرُهَا وَأَعْرَاضُهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ

بِـ (دَارِ السَّلَامِ) الْجَنَّةُ سُمِّيَتْ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ السَّلَامَةَ الْحَقَّ فِيهَا، لِأَنَّهَا قَرَارُ أَمْنٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ، فَتَمَحَّضَتْ لِلنَّعِيمِ الْمُلَائِمِ، وَقِيلَ: السَّلَامُ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ دَارُ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهَا كَمَا يُقَالُ لِلْكَعْبَةِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَكَانَةُ الْأَمَانِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ حَالَةُ الْأَمَانِ مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: كَمْ قَدْ أَحَلَّ بِدَارٍ الْفَقْرَ بَعْدَ غِنَى ... عَمْرٌو وَكَمْ رَاشَ عَمْرٌو بَعْدَ إِقْتَارِ وعِنْدَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْقُرْبِ الِاعْتِبَارِيِّ، أُرِيدَ بِهِ تَشْرِيفُ الرُّتْبَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعَارَةً لِلْحِفْظِ لِأَنَّ الشَّيْءَ النَّفِيسَ يُجْعَلُ فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَحْفَظَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَنَّهُ وَعْدٌ كَالشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ الْمُدَّخَرِ، كَمَا يُقَالُ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَلَكَ عِنْدِي كَذَا تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ. وَالْعُدُولُ عَنْ إِضَافَةِ عِنْدَ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى إِضَافَتِهِ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ: لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ عَطِيَّةُ مَنْ هُوَ مَوْلَاهُمْ. فَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِفَضْلِهِ وَبِرِّهِ بِهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ كَعَكْسِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 124] . وَعُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ جُمْلَةُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ تَعْمِيمًا لِوِلَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي جَمِيع شؤونهم، لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمِنَّةِ. وَالْوَلِيُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَبِمَعْنَى الْمُوَالِي. وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ، مِنْ مَفْهُومِ الْفِعْلِ، أَيْ ثَبَتَ لَهُمْ ذَلِكَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحَاصِلَةِ بِالْإِسْلَامِ، أَوِ الْبَاءِ لِلْعِوَضِ: أَيْ لَهُمْ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَمُتَعَلَّقِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مُتَعَلِّقًا بِ وَلِيُّهُمْ أَيْ وَهُوَ نَاصِرُهُمْ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِِْ

[سورة الأنعام (6) : آية 128]

تَوَلَّاهُمْ، أَوِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَيَكُونُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مُرَادًا بِهِ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُّهُمْ أَفَادَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْقَوْمِ الْمُتَذَكِّرِينَ، لِيَعْلَمُوا عِظَمَ هَذِهِ الْمِنَّةِ فَيَشْكُرُوهَا، وَلِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ فَيَغِيظُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ بِالْإِضَافَةِ يُخَالِفُ طَرِيقَةَ تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ، مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ أَضْعَفُ مَرَاتِبِ التَّعْرِيفِ، حَتَّى أَنَّهُ قَدْ يَقْرُبُ مِنَ التَّنْكِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ: مِنْ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الْإِضَافَةِ عَلَى اعْتِبَارِ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ، فَلَا يُقَالُ: غُلَامُ زَيْدٍ، إِلَّا لِغُلَامٍ مَعْهُودٍ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَتَجِيءُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْوَصْفِ، فَتَقُولُ: أَتَانِي غُلَامُ زَيْدٍ بِكِتَابٍ مِنْهُ وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامًا لَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، فَيَصِيرُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ حِينَئِذٍ كَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَيْ يُفِيدُ تَعْرِيفًا يُمَيِّزُ الْجِنْسَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ، فَالتَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ قَصْرٌ وَلَا إِفَادَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ. وَمِمَّا يَزِيدُكَ يَقِينًا بِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] فَإِنَّ عَطْفَ: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ إِفَادَةُ وِلَايَةِ اللَّهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا لَا الْإِعْلَامُ بِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِأَنَّهُ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا هُوَ الله. [128] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 128] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِالْآيَاتِ، وَهُوَ ثَوَابُ دَارِ السَّلَامِ، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ ذِكْرَ جَزَاءِ الَّذِينَ لَا يَتَذَكَّرُونَ، وَهُوَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَجُمْلَةُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: 127] . وَالْمَعْنَى: وَلِلْآخَرِينَ النَّارُ مَثْوَاهُمْ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَدْ صَوَّرَ هَذَا الْخَبَرَ فِي صُورَةِ مَا يَقَعُ فِي حِسَابِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى غَايَةِ ذَلِكَ الْحِسَابِ، وَهُوَ خُلُودُهُمْ فِي النَّارِ. وَانْتَصَبَ: يَوْمَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الْأَنْعَام: 124] الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 125] فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَابِلُ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُونَ مُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ فَرِيقٌ وَاحِدٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُعْتَبَرُ الْمُشْرِكُونَ فَرِيقًا مُبَائِنًا لَهُمْ بَعيدا عَنْهُم، فيتحدّث عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، فَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ وَأُكِّدَ بِ جَمِيعاً لِيَعُمَّ كُلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَسَادَتَهُمْ، وَشَيَاطِينَهُمْ، وَسَائِرَ عُلَقِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الشَّيَاطِينِ وَأَوْلِيَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الْأَنْعَام: 121] إِلَخْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَحْشُرُهُمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَلَمَّا أُسْنِدَ الْحَشْرُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ النِّدَاءَ فِي قَوْلِهِ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ إِضْمَارُ قَوْلٍ صَادِرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ نَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ، لِأَنَّ النِّدَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوْلًا.

وَجُمْلَةُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ إِلَخْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ أَوْ قَائِلِينَ. وَالْمَعْشَرُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَشَأْنُهُمْ وَاحِدٌ، بِحَيْثُ تَجْمَعُهُمْ صِفَةٌ أَوْ عَمَلٌ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَهُوَ يُجْمَعُ عَلَى مَعَاشِرَ أَيْضًا، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُضَافَ الْمَعْشَرُ إِلَى اسْمٍ يُبَيِّنُ الصِّفَةَ الَّتِي اجْتَمَعَ مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَهِيَ هُنَا صِفَةُ كَوْنِهُمْ جِنًّا، وَلِذَلِكَ إِذَا عُطِفَ عَلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ تَثْنِيَةِ مَعْشَرًا وَجَمْعِهِ: فَالتَّثْنِيَةُ نَحْوُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرَّحْمَن: 33] الْآيَةَ، أَيْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَيَا مَعْشَرَ الْإِنْسِ، وَالْجَمْعُ نَحْوُ قَوْلِكَ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْبَرْبَرِ. وَالْجِنُّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [100] . وَالْمُرَادُ بِالْجِنِّ الشَّيَاطِينُ وَأَعْوَانُهُمْ مِنْ بَنِي جِنْسِهِمِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [112] . وَالِاسْتِكْثَارُ: شِدَّةُ الْإِكْثَارِ. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ للْمُبَالَغَة مثل الاستسلام وَالِاسْتِخْدَاعِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَيَتَعَدَّى بِمَنِ الْبَيَانِيَّةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُتَّخَذِ كَثِيرُهُ، يُقَالُ: اسْتَكْثَرَ مِنَ النِّعَمِ أَوْ مِنَ الْمَالِ، أَيْ أَكثر من جَمعهمَا، وَاسْتَكْثَرَ الْأَمِيرُ مِنَ الْجُنْدِ، وَلَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ اسْتَكْثَرَ الَّذِي بِمَعْنَى عَدَّ الشَّيْءَ كثيرا، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] . وَقَوْلُهُ: اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيره: مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ، أَوْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ، فَمَعْنَى اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَكْثَرْتُمْ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ، أَيْ مِنْ جَعْلِهِمْ أَتْبَاعًا لَكُمْ، أَيْ تَجَاوَزْتُمُ الْحَدَّ فِي اسْتِهْوَائِهِمْ وَاسْتِغْوَائِهِمْ، فَطَوَّعَتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا جِدًّا.

وَالْكَلَامُ تَوْبِيخٌ لِلْجِنِّ وَإِنْكَارٌ، أَيْ كَانَ أَكْثَرُ الْإِنْسِ طَوْعًا لَكُمْ، وَالْجِنُّ يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ، وَهُمْ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيُطَوِّعُونَهُمْ: بِالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّخْيِيلِ، وَالْإِرْهَابِ، وَالْمَسِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى تَوَهَّمَ النَّاسُ مَقْدِرَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِمْ بِالْإِرْضَاءِ وَتَرْكِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحهم وَفِي شؤونهم، وحتّى أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ: «أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي، أَوْ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي، يَعْنِي بِهِ كَبِيرَ الْجِنِّ، أَوْ قَالَ: يَا رَبِّ الْوَادِي إِنِّي أَسْتَجِيرُ بِكَ» يَعْنِي سَيِّدَ الْجِنِّ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْفَيَافِيَ وَالْأَوْدِيَةَ الْمُتَّسِعَةَ بَيْنَ الْجِبَالِ مَعْمُورَةٌ بِالْجِنِّ، وَيَتَخَيَّلُونَ أَصْوَاتَ الرِّيَاحِ زَجَلَ الْجِنِّ. قَالَ الْأَعْشَى: وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... لِلْجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلُ وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْإِنْسِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، وَأَطَاعُوهُمْ، وَأَفْرَطُوا فِي مَرْضَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبْذِ مُتَابَعَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله الْآتِي: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَنْعَام: 130] فَإِنَّهُ تَدَرُّجٌ فِي التَّوْبِيخِ وَقَطْعُ الْمَعْذِرَةِ. وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَائِهِمْ أَوْلِيَاءُ الْجِنِّ: أَيِ الْمُوَالُونَ لَهُمْ، وَالْمُنْقَطِعُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِأَحْوَالِهِمْ. وَأَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَافَوُا الْمَحْشَرَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْكُفَّارُ وَالْعُصَاةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَاصِيَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطَاعَ الشَّيَاطِينَ فَلَيْسَ وَلِيًّا لَهَا اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 257] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَنْعَام: 130] وَقَالَ: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. ومِنَ الْإِنْسِ بَيَانٌ لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى حِكَايَةِ جَوَابِ الْإِنْسِ لِأَنَّ النَّاسَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَمَعْنَى: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ انْتَفَعَ وَحَصَّلَ شَهْوَتَهُ وَمُلَائِمَهُ: أَيِ اسْتَمْتَعَ الْجِنُّ بِالْإِنْسِ، وَانْتَفَعَ الْإِنْسُ بِالْجِنِّ، فَكُلُّ بَعْضٍ مُرَادٌ بِهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَجْمُوعِ الْفَرِيقَيْنِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِنْسُ هُمُ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّوْبِيخِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ عَنْ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَدَفْعَ التَّوْبِيخِ عَنْهُمْ، بِأَنَّ الْجِنَّ لَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُسْتَأْثِرِينَ بِالِانْتِفَاعِ بِتَطْوِيعِ الْإِنْسِ، بَلْ نَالَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ انْتِفَاعًا بِصَاحِبِهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَذِرُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُشَاطَرَةَ الْجِنَايَةِ إِقْرَارًا بِالْحَقِّ، وَإِخْلَاصًا لِأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَمَّا عَلِمُوا مِنْ أَنَّ تَوْبِيخَ الْجِنِّ الْمُغْوِينَ يُعَرِّضُ بِتَوْبِيخِ الْمُغْوَيْنِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ-. فَأَقَرُّوا وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَمْ يَكُنْ تَمَرُّدًا عَلَى اللَّهِ، وَلَا اسْتِخْفَافًا بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لِإِرْضَاءِ الشَّهَوَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِمْتَاعِ. وَلِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ ابْتِدَاءً. وَكَوْنِ كَلَامِهِمْ دَخِيلًا فِي الْمُخَاطَبَةِ، لَمْ تُفْصَلْ جُمْلَةُ قَوْلِهِمْ كَمَا تفصل جملَة الْمُحَاوَرَةِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، بَلْ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّهَا قَوْلٌ آخَرُ عَرَضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ بِفِعْلِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ مِنْ أجل قَوْله: يَحْشُرُهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُحَقَّقًا وَبَعْضُهُ دُونَ ذَلِكَ. وَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ هُوَ انْتِفَاعُهُمْ فِي الْعَاجِلِ: بِتَيْسِيرِ شَهَوَاتِهِمْ، وَفَتْحِ أَبْوَابِ اللَّذَّاتِ وَالْأَهْوَاءِ لَهُمْ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ بَطْشَتِهِمْ. وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: هُوَ انْتِفَاعُ الْجِنِّ بِتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى إِضْلَالِ النَّاسِ، وَالْوُقُوفِ فِي وَجْهِ دُعَاةِ الْخَيْرِ، وَقَطْعِ سَبِيلِ الصَّلَاحِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَعَانَ الْآخَرَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا فِي نَفْسِهِ مِمَّا فِيهِ مُلَائِمُ طَبْعِهِ وَارْتِيَاحِهِ لِقَضَاءِ وَطَرِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا اسْتِسْلَامٌ لِلَّهِ، أَيِ: انْقَضَى زَمَنُ الْإِمْهَالِ، وَبَلَغْنَا الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا لِلْوُقُوعِ فِي قَبْضَتِكَ، فسدّت الْآن دُوننَا الْمَسَالِكُ فَلَا نَجِدُ مَفَرًّا. وَفِي الْكَلَامِ تَحَسُّرٌ وَنَدَامَةٌ. عِنْدَ ظُهُورِ عَدَمِ إِغْنَاءِ أَوْلِيَائِهِمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَانْقِضَاءِ زَمَنِ طُغْيَانِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، وَمَحِينِ حِينِ أَنْ يُلْقُوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] . وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّ الْجِنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ أُفْحِمُوا، فَلَمْ يَجِدُوا جَوَابًا، فَتَرَكُوا أَوْلِيَاءَهُمْ يُنَاضِلُونَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ عَدَمِ إِغْنَاءِ الْمَتْبُوعِينَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ يَوْمَئِذٍ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَة: 166] . وَجُمْلَةُ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: النَّارُ مَثْواكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْإِنْسِ فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [سبأ: 41، 42] وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] . وَمَجِيءُ الْقَوْلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِقَرِينَة قَوْله: يَحْشُرُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْغَائِبِ نَظَرٌ لِمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْأَوْلِيَاءِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ إِلَخْ. وَالْمَثْوَى: اسْمُ مَكَانٍ مِنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ إِقَامَةَ سُكْنَى أَوْ إِطَالَةَ مُكْثٍ، وَقَدْ بَيَّنَ الثَّوَاءَ بِالْخُلُودِ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها. وَقَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها هُوَ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ فِي الْحَشْرِ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مَثْوَاكُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَن يكون إخراجا مِمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَائِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ إِمَّا مِنْ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِذِ الْخُلُودُ هُوَ إِقَامَةُ الْأَبَدِ وَالْأَبَدُ يَعُمُّ الْأَزْمَانَ كُلَّهَا، فَ (مَا) ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ فَلِذَلِكَ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِزَالَةَ خُلُودِكُمْ، وَإِمَّا مِنْ عُمُومِ الْخَالِدِينَ الَّذِي فِي ضَمِيرِ خالِدِينَ أَيْ إِلَّا فَرِيقًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَخْلُدُوا فِي النَّارِ. وَبِهَذَا صَارَ مَعْنَى الْآيَةِ مَوْضِعَ إِشْكَالٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْ حَيْثُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ بِدُونِ اسْتِثْنَاءِ فَرِيقٍ وَلَا زَمَانٍ. وَقَدْ أَحْصَيْتُ لَهُمْ عَشَرَةَ تَأْوِيلَاتٍ، بَعْضُهَا لَا يَتِمُّ، وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَائِهِمْ فِي الْحَشْرِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْهَا إِلَّا وَاحِدٌ، إِذَا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ حِكَايَةِ مَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْحَشْرِ وَبَيْنَ مَا خُوطِبَ بِهِ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ التَّهْدِيدَ، إِعْذَارًا لَهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا، فَتَكُونُ (مَا) مَصْدَرِيَّةً غَيْرَ ظَرْفِيَّةٍ: أَيْ إِلَّا مَشِيئَةَ اللَّهِ عَدَمَ خُلُودِهِمْ، أَيْ حَالُ مَشِيئَتِهِ. وَهِيَ حَالُ تَوْفِيقِهِ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا وَتَحْقِيقًا لِلْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْمًا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الْوَقْفَ فِي جَمِيعِ

الْكُفَّارِ، وَإِذَا صَحَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ قبل علمه بِإِجْمَاع أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْصُولَةً، فَإِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْعَاقِلِ بِكَثْرَةٍ. وَإِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ فِي الْحَشْرِ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِخْرَاجُ أَوْقَاتٍ وَلَا حَالَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ، يُقْصَدُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مُخْتَارًا لَا مُكْرِهَ لَهُ عَلَيْهِ، إِظْهَارًا لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَمَحْضِ الْإِرَادَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ شِئْتُ لَأَبْطَلْتُ ذَلِكَ. وَقَدْ يُعَضَّدُ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 106، 108] فَانْظُرْ كَيْفَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فِي عِقَابِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107] وَكَيْفَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فِي نَعِيمِ أَهْلِ السَّعَادَةِ بِقَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] فَأَبْطَلَ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَهَذَا مَعْنَى الْكِنَايَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ الْمَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ خُلُودَ الْمُشْرِكِينَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِزَمَنٍ وَلَا بِحَالٍ. وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تذييل، وَالْخطاب للنّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَقُولِ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنِّ فِي الْحَشْرِ كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَقُولَةِ، لِبَيَانِ أَنَّ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ عَلَى الشِّرْكِ مِنَ الْخُلُودِ رَتَّبَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ إِلَخْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مُعْتَرِضًا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلًا لِلِاعْتِرَاضِ، وَتَأْكِيدًا لِلْمَقْصُودِ

[سورة الأنعام (6) : آية 129]

مِنَ الْمَشِيئَةِ مِنْ جَعْلِ اسْتِحْقَاقِ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ مَنُوطًا بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الشِّرْكِ. وَجَعْلِ النَّجَاةِ من ذَلِك الخلود مَنُوطَةً بِالْإِيمَانِ. وَالْحَكِيمُ: هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مُنَاسَبَاتِهَا، وَالْأَسْبَابَ لِمُسَبِّبَاتِهَا. وَالْعَلِيمُ: الَّذِي يَعْلَمُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ جَمِيعُ خَلْقِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَحِقَّةِ للثّواب وَالْعِقَاب. [129] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 129] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ، أَوْ مِنْ تَمَامِ التَّذْيِيلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، الْوَاوُ لِلْحَالِ: اعْتِرَاضِيَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الْأَنْعَام: 128] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْلِيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ: نُوَلِّي، وَجَاءَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ التَّوْلِيَةِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، فَيَجُوزُ فِي إِشَارَتِهِ مَا جَازَ فِي فِعْلِهِ الرَّافِعِ لِلظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى: وَكَمَا وَلَّيْنَا مَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِمْ نُوَلِّي بَيْنَ الظَّالِمِينَ كُلِّهِمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. وَالتَّوْلِيَةُ يَجِيءُ مِنَ الْوَلَاءِ وَمِنَ الْوِلَايَةِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يُقَالُ فِي فِعْلِهِ الْمُتَعَدِّي: وَلَّى، بِمَعْنَى جَعَلَ وَلِيًّا، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَعْطَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَّيْتُ ضَبَّةَ تَمِيمًا إِذَا حَالَفْتُ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: تَوَلَّتْ ضَبَّةُ تَمِيمًا بِمَعْنَى حَالَفَتْهُمْ، فَإِذَا عُدِّيَ الْفِعْلُ بِالتَّضْعِيفِ قِيلَ: وَلَّيْتُ ضَبَّةَ تَمِيمًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النِّسَاء: 115] أَيْ نُلْزِمُهُ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ مَعْنَى: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَيَكُونُ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام: 128] . وَجَعَلَ الْفَرِيقَيْنِ ظَالِمِينَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَوْمًا يَصِيرُ مِنْهُمْ،

فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ فَرِيقًا أَوْلِيَاءً لِلظَّالِمِينَ فَقَدْ جعلهم ظالمين بالأخرة، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113] وَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: 51] . وَيُقَالُ: وَلَّى، بِمَعْنَى جَعَلَ وَالِيًا، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى أَيْضًا، يُقَالُ: وَلَّى عُمَرُ أَبَا عُبَيْدَةَ الشَّامَ، كَمَا يُقَالُ: أَوْلَاهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: وَلِيَ أَبُو عُبَيْدَةَ الشَّامَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ وُلَاةً عَلَى بَعْضٍ، أَيْ نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ الْجِنَّ وَهُمْ ظَالِمُونَ مُسَلَّطِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ ظَالِمُونَ، فَكُلٌّ يَظْلِمُ بِمِقْدَارِ سُلْطَانه. وَالْمرَاد: بالظالمين فِي الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ. وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ كُلَّ ظَالِمٍ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَى الظَّالِمِ مَنْ يَظْلِمُهُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهَا عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَيَّامَ دَعْوَتِهِ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَان قتل عمرا بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَمْرٌو عَلَيْهِ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ ابْنَ الزَّرْقَاءِ- يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِأَنَّ مَرْوَانَ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْأَزْرَقِ وَبِالزَّرْقَاءِ لِأَنَّهُ أَزْرَقُ الْعَيْنَيْنِ- قَدْ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ (¬1) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ: إِنْ لَمْ يُقْلِعِ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ سُلِّطَ عَلَيْهِ ظَالِمٌ آخَرُ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنْ أَرَادَ الرَّعِيَّةُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَمِيرٍ ظَالِمٍ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ. وَقَدْ قِيلَ: وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ. ¬

(¬1) كلمة ينبّز بهَا عَمْرو بن سعيد لاعوجاج فِي شدقه فلقّبوه الْأَشْدَق، وَقَالُوا: لطمه الشّيطان.

[سورة الأنعام (6) : آية 130]

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الِاعْتِبَارُ وَالْمَوْعِظَة، والتّحذير مَعَ الِاغْتِرَارِ بِوِلَايَةِ الظَّالِمِينَ. وَتَوَخِّي الْأَتْبَاعِ صَلَاحَ الْمَتْبُوعِينَ. وَبَيَانُ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللَّهِ فِي الْعَالمين. [130] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 130] يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاوَلَةِ الَّتِي تَجْرِي يَوْمَ الْحَشْرِ، وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا فِي مَقَامِ تَعْدَادِ جَرَائِمِهِمِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْخُلُودَ، إِبْطَالًا لِمَعْذِرَتِهِمْ، وَإِعْلَانًا بِأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِمَا جُزُوا بِهِ، فَأَعَادَ نِدَاءَهُمْ كَمَا يُنَادَى الْمُنَدَّدُ عَلَيْهِ الْمُوَبَّخُ فَيَزْدَادُ رَوْعًا. والهمزة فِي لَمْ يَأْتِكُمْ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْيِ إِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ إِذَا كَانَ حَالُهُ فِي مُلَابَسَةِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يُجِيبَ بِالنَّفْيِ، يُؤْتَى بِتَقْرِيرِهِ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ الَّذِي الْمُرَادُ إِقْرَارُهُ بِإِثْبَاتِهِ، حَتَّى إِذَا أَقَرَّ بِإِثْبَاتِهِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْطَعَ لِعُذْرِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَانِي: أَلَسْتَ الْفَاعِلَ كَذَا وَكَذَا، وأ لست الْقَائِلَ كَذَا، وَقَدْ يَسْلُكُ ذَلِكَ فِي مَقَامِ اخْتِبَارِ مِقْدَارِ تَمَكُّنِ الْمَسْئُولِ الْمُقَرَّرِ مِنَ الْيَقِينِ فِي الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ، فَيُؤْتَى بِالِاسْتِفْهَامِ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِيهِ ارتبك وتعلثم. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: 172] ، وَلَمَّا كَانَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي التَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، وَنَبْذِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ظِهْرِيًّا، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ، حَالَ مَنْ لَمْ يَطْرُقْ سَمْعَهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، جِيءَ

فِي تَقْرِيرِهِمْ عَلَى بِعْثَةِ الرّسل إِلَيْهِم بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ نَفْيِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدُوا لِإِنْكَارِ مَجِيءِ الرُّسُلِ مَسَاغًا، وَاعْتَرَفُوا بِمَجِيئِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ أَحْرَى لِأَخْذِهِمْ بِالْعِقَابِ. وَالرُّسُلُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، أَيْ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ: مِنِ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَنْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: 13] وَهُمْ رُسُلُ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ عِيسَى. فَوَصْفُ الرّسل بقوله: نْكُمْ لِزِيَادَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، أَيْ رُسُلٌ تَعْرِفُونَهُمْ وَتَسْمَعُونَهُمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةً مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، فَلَيْسَتْ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَة: 2] وَذَلِكَ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنَ الْإِنْسِ، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ إِلَّا فِي أَشْرَفِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَجِنْسُ الْجِنِّ أَحَطُّ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ. وَتَكُونُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً، وَيَكُونُ المُرَاد بضمير: نْكُمْ خُصُوصَ الْإِنْسِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، أَوْ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ. فَأَمَّا مُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْجِنِّ إِلْهَامًا بِوُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ- فَقالُوا- إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: 1] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [30، 31] : قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ذَلِكَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ تَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ لَهُمُ اتِّصَالٌ بِهَذَا الْعَالَمِ وَاطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: 27]

فَضَعُفَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِوُجُودِ رُسُلٍ مِنَ الْجِنِّ إِلَى جِنْسِهِمْ، وَنُسِبَ إِلَى الضَّحَّاكِ، وَلِذَلِكَ فَقَوله: لَمْ يَأْتِكُمْ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ شُمُولِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَلَمْ يَرِدْ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا مِنَ الْجِنِّ إِلَى جِنْسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُسُلُ الْجِنِّ طَوَائِفَ مِنْهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيَفْهَمُونَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيُبَلِّغُونَ ذَلِكَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فَمُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ يَقْتَضِيهَا بُلُوغُ تَوْحِيدِ اللَّهِ إِلَى عِلْمِهِمْ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوَحْدَانِيَّةِ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَا يُحَرِّكُ النَّظَرَ. فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ لِلْجِنِّ عِلْمًا بِمَا تَجِيءُ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى النَّظَرِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَدْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ عَلَى الْإِشْرَاكِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى تَوْجِيهِ الرُّسُلِ دَعْوَتَهُمْ إِلَيْهِمْ. وَمِنْ حُسْنِ عِبَارَاتِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، دُونَ أَنْ يَقُولُوا: عَلَى مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ. وَطُرُقُ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ عَدِيدَةٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي صَحِيحِ الْآثَارِ أَنَّ النّبيء محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ، بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، وَتَعَذُّرِ تَخَالُطِهِمَا، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أنّ محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُمَرَ ابْن عَبْدِ الْبَرِّ، وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ: فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصَ النّبيء محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لِقَدْرِهِ. وَالْخَوْضُ فِي هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَرْبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ خَوْضٌ فِي أَحْوَالِ عَالَمٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُدْرَكَاتِنَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنَا بِأَنَّ الْعَوَالِمَ كُلَّهَا خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ. حَقِيقٌ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُدْرِكَةً صَالِحَةً لِلتَّكْلِيفِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إِعْلَامُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى نَبْذِ الْإِسْلَامِ. بَلْهَ أَتْبَاعُهُمْ وَدَهْمَائُهُمْ. فَذِكْرُ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ فِي قَوْله: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَبْكِيتِ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْسِيرِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ أَوِ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهِمْ،

عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 116] . وَالْقَصُّ كَالْقَصَصِ: الْإِخْبَارُ، وَمِنْهُ الْقِصَّةُ لِلْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى: يُخْبِرُونَكُمُ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَسَمَّى ذَلِكَ قَصًّا لِأَنَّ أَكْثَرَهُ أَخْبَارٌ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ وَعَنِ الْجَزَاءِ بِالنَّعِيمِ أَوِ الْعَذَابِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْأَقْوَالُ الَّتِي فَيَفْهَمُهَا الْجِنُّ بِإِلْهَامٍ، كَمَا تقدّم آنِفا، ويفهمها الْإِنْسُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ مُبَاشَرَةً وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ بِالتَّرْجَمَةِ. والإنذار: الْإِخْبَار بِمَا يُخِيفُ وَيُكْرَهُ، وَهُوَ ضِدُّ الْبِشَارَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمُلْقَى إِلَيْهِ الْخَبَرُ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ: بِالْبَاءِ، وَبِنَفْسِهِ، يُقَالُ: أَنْذَرْتُهُ بِكَذَا وَأَنْذَرْتُهُ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارا تَلَظَّى [اللَّيْل: 14] ، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 13] ، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ [الشورى: 7] وَلَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ يَوْمَ الْحَشْرِ يَتَضَمَّنُ خَيْرًا لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَشَرًّا لِأَهْلِ الشَّرِّ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ تَمَحَضُّوا لِلشَّرِّ، جُعِلَ إِخْبَارُ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ بِلِقَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنْذَارًا لِأَنَّهُ الطَّرَفُ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِمْ مِنْ جُمْلَةِ إِخْبَارِ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَشَرِّهِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: وْمِكُمْ هَذَا لِتَهْوِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ بِمَا يُشَاهَدُ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا تُحِيطُ الْعِبَارَةُ بِوَصْفِهِ، فَيُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطّور: 14] . وَمعنى قَوْلهم: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا الْإِقْرَارُ بِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ إِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ حَرْفِ النَّفْيِ فِي جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِلَّا قَطْعَ الْمَعْذِرَةِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ نَفْيُهُ، فَلِذَلِكَ أجملوا الْجَواب: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ، أَيْ أَقْرَرْنَا بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْنَا.

وَاسْتُعْمِلَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ تَحَقَّقَهُ الْمُخْبِرُ وَبَيَّنَهُ، وَمِنْهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمرَان: 18] . وَشَهِدَ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ عَنْهُ خَبَرَ الْمُتَثَبِّتِ الْمُتَحَقِّقِ، فَلذَلِك قَالُوا: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أَيْ أَقْرَرْنَا بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْنَا. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ إِنْكَارِهِمُ الشِّرْكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] لِاخْتِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي الْآيَتَيْنِ. وفصلت جملَة: الُوا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. وَجُمْلَةُ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا مَعْطُوفَةٌ على جملَة: الُوا شَهِدْنا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْأُولَى خَبَرًا عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِيقَةِ لَهُمْ، وَعِلْمُهُمْ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ عَصَوُا الرُّسُلَ وَمَنْ أَرْسَلَهُمْ. وَأَعْرَضُوا عَنْ لِقَاءِ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ. فَعَلِمُوا وَعَلِمَ السَّامِعُ لِخَبَرِهِمْ أَنَّهُمْ مَا وَقَعُوا فِي هَذِهِ الرِّبْقَةِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْغُرُورُ لَمَا كَانَ عَمَلُهُمْ مِمَّا يَرْضَاهُ الْعَاقِلُ لِنَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ أَحْوَالُهَا الْحَاصِلَةُ لَهُمْ: مِنَ اللَّهْوِ، وَالتَّفَاخُرِ، وَالْكِبْرِ، وَالْعِنَادِ. وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْحَقَائِقِ، وَالِاغْتِرَارِ بِمَا لَا يَنْفَعُ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُمْ كَشْفُ حَالِهِمْ، وَتَحْذِيرُ السَّامِعِينَ مِنْ دَوَامِ التَّوَرُّطِ فِي مِثْلِهِ. فَإِنَّ حَالَهُمْ سَوَاءٌ. وَجُمْلَةُ: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَتَخْطِئَةِ رَأْيِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَسُوءِ نَظَرِهِمْ فِي الْآيَاتِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ. وَقَدْ رُتِّبَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ اغْتِرَارُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الِاغْتِرَارَ كَانَ السَّبَبُ فِي وُقُوعِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى اسْتَسْلَمُوا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَافِرِينَ بِاللَّهِ، فَأَمَّا الْإِنْسُ فَلِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِهِ وَعَبَدُوا الْجِنَّ، وَأَمَّا الْجِنُّ فَلِأَنَّهُمْ أَغْرُوا

[سورة الأنعام (6) : آية 131]

الْإِنْسَ بِعِبَادَتِهِمْ وَوَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ شُرَكَاء الله تَعَالَى، فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ، وَهَذَا مِثْلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْجِيبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الْملك: 10، 11] . فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ عَيْنُ الِاعْتِرَافِ، فَلَا يُفَرَّعُ الشَّيْءُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ مِنَ الْخَبَرِ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ، وَالتَّسْمِيعُ بِهِمْ، حِينَ أُلْجِئُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ. وَشَهَادُتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ كَانَتْ بَعْدَ التَّمْحِيصِ وَالْإِلْجَاءِ، فَلَا تُنَافِي أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْكُفْرَ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْحِسَابِ، إِذْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنِّي أَجِدُ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ اللَّهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاء: 42] ، وَقَالَ: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] ، فَقَدْ كَتَمُوا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِق أَيْديهم» . [131] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 131] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، تَهْدِيدٌ وَمَوْعِظَةٌ، وَعِبْرَةٌ بِتَفْرِيطِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي فَائِدَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَنْبِيهٌ لِجَدْوَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ لِيُعِيدَ الْمُشْرِكُونَ نَظَرًا فِي أَمْرِهِمْ، مَا دَامُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُسْرَى، فَيَتَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، وَإِنْذَارٌ بِاقْتِرَابِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَإِيقَاظٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِ مَحْسُوسٍ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَذْكُورُ

قَبْلُ، أَوْ هُوَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ الَّذِي جَرَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حِكَايَةِ تَقْرِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ عَنْ إِتْيَانِ رُسُلِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ من قَوْله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَنْعَام: 130] فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى ذَلِكَ الْقَوْلَ لِلنَّاسِ السَّامِعِينَ، صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ كَالْحَاضِرِ، فَصَحَّ أَنْ يُشَارَ إِلَى شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِمَّا مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ أَوِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَنْ) . وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا عِنْدَ التَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ شَأْنٌ يَجْدُرُ أَنْ يُعْرَفَ وَالْجُمْلَةُ خَبْرُ أَنْ، وَحُذِفَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنْ: لِأَنَّ حَذْفَ جَارِّ أَنْ كَثِيرٌ شَائِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ، أَوِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ- أَيِ الشَّأْنُ- لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى. وَجُمْلَةُ: لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ هُوَ شَأْنٌ عَظِيم من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ شَأْنُ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَرِضَاهُ لِعِبَادِهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، وَكَرَاهِيَتُهُ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِظْهَارُهُ أَثَرَ رُبُوبِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ، وَعَدَمِ مُبَاغَتَتِهِمْ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّقَدُّمِ إِلَيْهِمْ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّنْبِيهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ إِذْ عُلِمَ مِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ يُهْلِكُ الْقُرَى الْمُسْتَرْسِلَ أَهْلُهَا عَلَى الشِّرْكِ إِذَا أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مُنْذِرِينَ، وَأَنَّهُ أَرَادَ حَمْلَ تَبِعَةِ هَلَاكِهِمْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلَا رَحِمَنَا رَبُّنَا فَأَنْبَأَنَا وَأَعْذَرَ إِلَيْنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ (أَي قبل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَبْلَ الْقُرْآنِ) لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134]

[سورة الأنعام (6) : آية 132]

فَاقْتَصَرَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِرْسَالِ هِيَ عَدَمُ إِهْلَاكِ الْقُرَى عَلَى غَفْلَةٍ، فَدَلَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَحْذُوفِ. وَالْإِهْلَاكُ: إِعْدَامُ ذَاتِ الْمَوْجُودِ وَإِمَاتَةُ الْحَيِّ. قَالَ تَعَالَى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَال: 42] فَإِهْلَاكُ الْقُرَى إِبَادَةُ أَهْلِهَا وَتَخْرِيبُهَا، وَإِحْيَاؤُهَا إِعَادَةُ عُمْرَانِهَا بِالسُّكَّانِ وَالْبِنَاءِ، قَالَ تَعَالَى: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ (أَيِ الْقَرْيَةَ) اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [الْبَقَرَة: 259] . وإهلاك النّاس: إبادتهم، وإحياؤهم إبقاؤهم، فَمَعْنَى إهلاك الْقُرَى هُنَا شَامِلٌ لِإِبَادَةِ سُكَّانِهَا. لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْقُرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّمَجُّزِ فِي إِطْلَاقِ الْقُرَى عَلَى أَهْلِ الْقُرَى (كَمَا فِي: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] لِصِحَّةِ الْحَقِيقَةِ هُنَا، وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الْإِسْرَاء: 16] فَجَعَلَ إِهْلَاكَهَا تَدْمِيرَهَا، وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها [الْفرْقَان: 40] . وَالْبَاءُ فِي: بِظُلْمٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ، أَيْ مُهْلِكُهُمْ بِسَبَبِ شِرْكٍ يَقَعُ فِيهَا فَيُهْلِكُهَا وَيُهْلِكُ أَهْلَهَا الَّذِينَ أَوْقَعُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: بِظُلْمِ أَهْلِهَا، لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ وُجُودَ الظُّلْمِ فِيهَا سَبَبُ هَلَاكِهَا، وَهَلَاكُ أَهْلِهَا بِالْأَحْرَى لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْهَلَاكِ. وَجُمْلَةُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ حَالٌ مِنَ الْقُرى. وَصَرَّحَ هُنَا بِ أَهْلُها تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْقُرَى مِنْ جَرَّاءِ أَفْعَالِ سُكَّانِهَا، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: 52] . [132] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 132] وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

(132) احْتِرَاسٌ عَلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: 131] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْغَالِبِ عَلَى أَهْلِهَا الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ لَا يُحْرَمُونَ جَزَاءَ صَلَاحِهِمْ. وَالتَّنْوِينُ فِي: وَلِكُلٍّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: أَيْ وَلِكُلِّهِمْ، أَيْ كُلِّ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ دَرَجَاتٌ. يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ لَا يُضَاعُ إِيمَانُهُمْ. وَالْكَافِرُونَ يُحْشَرُونَ إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. بَعْدَ أَنْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا. فَاللَّهُ قَدْ يُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ. فَتِلْكَ دَرَجَةٌ نَالُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ دَرَجَةُ إِظْهَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، وَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْكَافِرُونَ يَحِيقُ بِهِمْ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَهْلِكُ الْقَرْيَةُ بِمُؤْمِنِيهَا ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّعِيمِ فَيَظْهَرُ تَفَاوُتُ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25] رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي «الشُّعَبِ» مَرْفُوعًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَنْزَلَ سَطْوَتَهُ بِأَهْلِ نِقْمَتِهِ وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ قُبِضُوا مَعَهُمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ (أَيْ عَقَدَ إِصْبَعَيْنِ بِعَلَامَةِ تِسْعِينَ فِي الْحِسَابِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْعُقَدِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْقَافِ) - قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَالدَّرَجَاتُ هِيَ مَا يُرْتَقَى عَلَيْهِ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، فِي سُلَّمٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَإِنْ قُصِدَ بِهَا النُّزُولُ إِلَى مَحَلٍّ مُنْخَفِضٍ مِنْ جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ فَهِيَ دَرَكَاتٌ،

[سورة الأنعام (6) : آية 133]

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] وَقَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: 145] وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (كُلٍّ) مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ كَانَ إِيمَاءً إِلَى تَغْلِيبِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ لَا بَأْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ مُشْرِكِيهَا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ: فِي الدُّنْيَا بِالْهِجْرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِحَشْرِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ سَيَخْرُجُونَ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي حَقَّ عَلَى أَهْلِهَا الْعَذَابُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْجُوعِ وَالْخَوْفِ ثُمَّ بِالْغَزْوِ بَعْدَ أَنْ أنجى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الدَّرَجَاتِ أَنَّ أَسَافِلَهَا دَرَكَاتٌ فَغُلِّبَ دَرَجَاتٌ لِنُكْتَةِ الْإِشْعَارِ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ نِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَمن فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَمِلُوا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَيْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ خطاب للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَالْمَقْصُودُ مُشْرِكُو مَكَّةَ، فَهُوَ لِلتَّسْلِيَةِ والتّطمين لِئَلَّا يستبطىء وَعْدَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ بَابِ: وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامر- بتاء الْخطاب-، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ وَعْدٌ بِالْجَزَاءِ عَلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، تَرْشِيحًا لِلتَّعْبِيرِ بِالدَّرَجَاتِ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ، لِيَكُونَ سَلًّا لَهُمْ مِنْ وَعِيدِ أَهْلِ الْقُرَى أَصْحَابِ الظُّلْمِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْن مُرَاد الله تَعَالَى فِيمَا أَحْسِبُ. [133] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 133] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عَلَى جُمْلَةِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: 132] إِخْبَارًا عَنْ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ عَمَلِهِ، وَفِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ غِنَاهُ تَعَالَى عَنْ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَالَاتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] ، وَكِنَايَةٌ عَنْ رَحْمَتِهِ إِذْ أَمْهَلَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ، كَمَا قَالَ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [58] . وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ إِظْهَارٌ، فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمَا فِي اسْمِ الرَّبِّ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى الْعِنَايَةِ بِصَلَاحِ الْمَرْبُوبِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَسِيرُ مَسْرَى الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ، وَلِلتَّنْوِيهِ بشأن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْغَنِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْغَنِيُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ بِحَالٍ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ: إِنَّ صِفَةَ الْغَنِيِّ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ مَعْنَاهَا وُجُوبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمُمْكِنِ إِلَى الْمُوجِدِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يُرَجِّحُ طَرَفَ وُجُودِهِ عَلَى طَرَفِ عَدَمِهِ، هُوَ أَشَدُّ الِافْتِقَارِ، وَأَحْسِبُ أَنَّ مَعْنَى الْغَنِيِّ لَا يثبت فِي اللّغة للشّيء إلّا بِاعْتِبَار أنّه مَوْجُود فَلَا يَشْمَل معنى الْغنى صِفَةُ الْوُجُودِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اصْطِلَاحًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ خَاصًّا بِمَعْنَى الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُغْنِي، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْغَنِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [135] . وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ مُقْتَضٍ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ الْغِنَى عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ غِنَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ غِنًى نَاقِصًا نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، أَيْ رَبُّكَ الْغَنِيُّ لَا غَيْرُهُ، وَغِنَاهُ تَعَالَى حَقِيقِيٌّ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْغَنِيِّ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْحُكْمِ الْوَارِدِ عَقِبَهُ، وَهُوَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الدَّعْوَى، تَذْكِيرًا بِتَقْرِيبِ حُصُولِ الْجَزْمِ بِالدَّعْوَى.

وَ (ذُو الرَّحْمَةِ) خَبَرٌ ثَانٍ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِوَصْفِ الرَّحِيمِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ: ذُو الرَّحْمَةِ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ لَا يَنْتَفِعُ الْخَلَائِقُ إِلَّا بِلَوَازِمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهِيَ جُودُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ غِنَاهُ، بِخِلَافِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَهَا يَنْفَعُ الْخَلَائِقَ، فَأُوثِرَتْ بِكَلِمَةِ ذُو لِأَنَّ ذُو كَلِمَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ، وَمَعْنَاهَا صَاحِبُ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقُوَّةِ أَوْ وَفْرَةِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ ذُو إِنْصَافٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِنْصَافِ، وَلَا يُقَالُ ذُو مَالٍ لِمَنْ عِنْدَهُ مَالٌ قَلِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِذِي الرَّحْمَةِ، هُنَا تَمْهِيدٌ لِمَعْنَى الْإِمْهَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، أَيْ فَلَا يقولنّ أحد لماذَا لَمْ يُذْهِبْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ أَمْهَلَهُمْ إِعْذَارًا لَهُمْ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. اسْتِئْنَافٌ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الْإِنْذَارَ بِعَذَابِ الْإِهْلَاكِ، فَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: 28] وَذَلِكَ مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: 134] . فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَن يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِمَنْ يَغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ من الْمُشْركين، وَيجوز أَن يكون إقبالا على خطاب الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا صَرِيحًا. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُعَجِّلْ بِإِفْنَائِكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ من بعدكم مِنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: 38] أَيْ فَمَا إِمْهَالُهُ إِيَّاكُمْ إِلَّا لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

وَجُمْلَة الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الْمُبْتَدَأ. ومفعول: يَشَأْ مَحْذُوفٌ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمَأْلُوفَةِ فِي حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ. وَالْإِذْهَابُ مَجَازٌ فِي الْإِعْدَامِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 18] . وَالِاسْتِخْلَافُ: جَعْلُ الْخَلَفِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْخَلَفُ: الْعِوَضُ عَنْ شَيْءٍ فَائِتٍ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ، أَيْ: مَا يَشَاءُ مِنْ مُؤْمِنِينَ أَوْ كَافِرِينَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الضَّمِيرِ يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ تَشْبِيهٌ فِي إِنْشَاءِ مَوْجُودَاتٍ بَعْدَ مَوْجُودَاتٍ أُخْرَى، لَا فِي كَوْنِ الْمُنْشَئَاتِ مُخْرَجَةً مِنْ بقايا المعدومات، وَيجوز أَن يكون التّشبيه فِي إنْشَاء موجودات من بقايا معدومات كَمَا أَنْشَأَ الْبَشَرَ نَشْأَةً ثَانِيَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِإِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نِيَابَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهَا وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اسْتِخْلَافًا كَمَا أَنْشَأَكُمْ، فَإِنَّ الْإِنْشَاءَ يَصِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِخْلَافِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَعْنَى الذُّرِّيَّةِ وَاشْتِقَاقِهَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَوَصْفُ قَوْمٍ بِ آخَرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، أَيْ قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَن ينشيء أَقْوَامًا من أَقْوَامًا يُخَالِفُونَهُمْ فِي اللُّغَةِ وَالْعَوَائِدِ وَالْمَوَاطِنِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَبَاعُدِ الْعُصُورِ، وَتَسَلْسُلِ الْمُنْشَآتِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لَا يَحْدُثُ إِلَّا فِي أَزْمِنَةٍ بَعِيدَةٍ، فَشَتَّانَ بَيْنِ أَحْوَالِ قَوْمِ نُوحٍ وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَبَيْنَ ذَلِكَ قُرُونٌ مُخْتَلفَة متباعدة.

[سورة الأنعام (6) : آية 134]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 134] إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [الْأَنْعَام: 133] فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى حَالَيْنِ: حَالِ تَرْكِ إِهْلَاكِهِمْ، وَحَالِ إِيقَاعِهِ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَلَّقَتْ بِإِيقَاعِ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِذْهَابِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: جَوَابًا عَنْ أَنْ يَقُولَ سَائِلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مُتَوَرِّكًا بِالْوَعِيدِ: إِذَا كُنَّا قَدْ أُمْهِلْنَا وَأُخِّرَ عَنَّا الِاسْتِئْصَالُ فَقَدْ أَفْلَتْنَا مِنَ الْوَعِيدِ، وَلَعَلَّهُ يَلْقَاهُ أَقْوَامٌ بَعْدَنَا، فَوَرَدَ قَوْلُهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ مَوْرِدَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ النَّاشِئِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ بِتَحْقِيقِ أَنَّ مَا أُوعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَإِن تأخّر. والتّأكيد بِأَن مُنَاسِبٌ لِمَقَامِ الْمُتَرَدِّدِ الطَّالِب، وَزِيَادَة التّأكيد بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُمْ مُتَوَغِّلُونَ فِي إِنْكَارِ تَحَقُّقِ مَا أُوعِدُوا بِهِ مِنْ حُصُولِ الْوَعِيدِ وَاسْتِسْخَارِهِمْ بِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] إفحاما للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارًا لِتَخَلُّفِ وَعِيدِهِ. وَبِنَاءُ تُوعَدُونَ لِلْمَجْهُولِ يُصَحِّحُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُضَارِعَ وَعَدَ يَعِدُ، أَوْ مُضَارِعَ أُوعِدَ، يُوعَدُ وَالْمُتَبَادَرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَمِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ اخْتِيَارُ بِنَائِهِ لِلْمَجْهُولِ، لِيَصْلُحَ لَفْظُهُ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ بُنِيَ لِلْمَعْلُومِ لَتَعَيَّنَ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا نَعِدُكُمْ، أَوْ إِنَّ مَا نُوعِدُكُمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّوْجِيهِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ السَّامِعِينَ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَلْزِمُ وَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ هُوَ وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فَذَلِكَ كَالتَّرْشِيحِ لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ.

والإتيان مُسْتَعَارٌ لِلْحُصُولِ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمَوْعُودِ بِهِ الْمُنْتَظَرِ وُقُوعُهُ بِالشَّخْصِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ إِتْيَانُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَحَقِيقَةُ الْمُعْجِزِ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ طَالِبَ شَيْءٍ عَاجِزًا عَنْ نَوَالِهِ، أَيْ غَيْرُ قَادِرِينَ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْإِفْلَاتِ مِنْ تَنَاوُلِ طَالِبِهِ كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا أَيْ فَلَا تُفْلِتُ مِنِّي بُقْعَةٌ مِنْهَا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْعَدُوُّ الَّذِي يُطَالِبُنِي. فَالْمَعْنَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِيَّ أَيْ: بِمُفْلِتِينَ مِنْ وَعِيدِي، أَوْ بِخَارِجِينَ عَنْ قُدْرَتِي، وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَيْنِ. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِإِفَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ، فِي نِسْبَةِ الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهِيَ نِسْبَةُ نَفْيِهِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ تُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ النَّفْيِ إِذِ النَّفْيُ إِنَّمَا هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلنِّسْبَةِ. وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُقْتَضَيَاتُ أَحْوَالِ التَّرْكِيبِ، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ النَّفْيُ عَنِ الْإِثْبَاتِ إِلَّا فِي اعْتِبَارِ الْقُيُودِ الزَّائِدَةِ عَلَى أَصْلِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ النَّفْيَ يُعْتَبَرُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا خَاصَّةً وَهِيَ قُيُودُ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِلَّا لَبَطُلَتْ خُصُوصِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ مَفْرُوضَةٌ مَعَ الْإِثْبَاتِ، إِذَا صَارَ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا مَنْفِيًّا، مِثْلُ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِ جُؤَيَّةَ بْنِ النَّضْرِ: لَا يَأْلَفُ الدِّرْهَمُ الْمَضْرُوبُ صُرَّتَنَا ... لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهُوَ منطق إِذْ لَا فَرْقَ فِي إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ بَيْنَ هَذَا الْمِصْرَاعِ، وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ: أَلِفَ الدِّرْهَمُ صُرَّتَنَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ أَنَّ نَفْيَ حِلِّهِنَّ لَهُم حكم ثَابت لَا يخْتَلف، والثّاني يُفِيد أنّ نفي حلّهم لهنّ حُكْمٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يُنْسَخُ، فَهُمَا اعْتِبَارَانِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِي سُورَة الْبَقَرَة [276] .

[سورة الأنعام (6) : آية 135]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 135] قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الْأَنْعَام: 134] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْهُ هُوَ وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا مَرَّ، فَأَعْقَبَهُ بِمَا تَمَحَّضَ لِوَعِيدِهِمْ: وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، لِيُمْلِيَ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ إِمْلَاءً يُشْعِرُ، فِي مُتَعَارَف بالتّخاطب، بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِمَّا يَزِيدُ الْمَأْمُورَ اسْتِحْقَاقًا لِلْعُقُوبَةِ، وَاقْتِرَابًا مِنْهَا. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَهُمْ وَيُهَدِّدَهُمْ. وَأمر أَن يبتدىء خِطَابَهُمْ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُقَالُ لَهُمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَسْتَرْعِي إِسْمَاعَ الْمُنَادَيْنِ، وَكَانَ الْمُنَادِي عُنْوَانَ الْقَوْمِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ لِحَالِهِمْ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: 134] لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَالنِّدَاءُ: لِلْقَوْمِ الْمُعَانِدِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّهْدِيدِ، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مُخَالِفٌ لِعَمَلِهِ، لِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا- مَعَ قَوْلِهِ- إِنِّي عامِلٌ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا لِلتَّسْوِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ لِإِظْهَارِ الْيَأْسِ مِنِ امْتِثَالِهِمْ لِلنُّصْحِ بِحَيْثُ يُغَيِّرُ نَاصِحُهُمْ نُصْحَهُمْ إِلَى الْإِطْلَاقِ لَهُمْ فِيمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ اسْتِعَارَةٌ إِذْ يُشَبَّهُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ الْمَأْيُوسُ مِنَ ارْعِوَائِهِ بِالْمَأْمُورِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ يُنْهَى عَنْهُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْهِيَّ صَارَ وَاجِبًا، وَهَذَا تَهَكُّمٌ. وَالْمَكَانَةُ: الْمَكَانُ، جَاءَ عَلَى التَّأْنِيثِ مِثْلُ مَا جَاءَ الْمُقَامَةُ لِلْمُقَامِ، وَالدَّارَةُ اسْمًا لِلدَّارِ، وَالْمَاءَةُ لِلْمَاءِ الَّذِي يُنْزَلُ حَوْلَهُ، يُقَالُ: أَهْلُ الْمَاءِ وَأَهْلُ الْمَاءَةِ. وَالْمَكَانَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي تَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ، تُشَبَّهُ الْحَالَةُ فِي إِحَاطَتِهَا وَتَلَبُّسِ صَاحِبِهَا بِهَا بِالْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي الشَّيْءَ، كَمَا تَقَدَّمَ

إِطْلَاقُ الدَّارِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الْأَنْعَام: 127] ، أَوْ تَكُونُ الْمَكَانَةُ كِنَايَةً عَنِ الْحَالَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْمَرْءِ تَظْهَرُ فِي مَكَانِهِ وَمَقَرِّهِ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ: «يَا فُلَانُ عَلَى مَكَانَتِكَ» أَيْ اُثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ. وَمَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ اعْمَلُوا عَمَلَكُمُ الْمَأْلُوفَ الَّذِي هُوَ دَأْبُكُمْ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ. وعَلى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَكُّنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِاسْتِعَارَةِ الْمَكَانَةِ لِلْحَالَةِ. لِأَنَّ الْعِلَاوَةَ تُنَاسِبُ الْمَكَانَ، فَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، مُسْتَعَارٌ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِمُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ. وَالْمَعْنَى: الْزَمُوا حَالَكُمْ فَلَا مَطْمَعَ لِي فِي اتِّبَاعِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى مَكانَتِكُمْ- بِالْإِفْرَادِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: مَكَانَاتِكُمُ جَمْعُ مَكَانَةٍ. وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: إِنِّي عامِلٌ تَعْلِيلٌ لِمُفَادِ التَّسْوِيَةِ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا أَيْ لَا يَضُرُّنِي تَصْمِيمُكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَكِنِّي مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَمَلِي، أَيْ أَنِّي غَيْرُ تَارِكٍ لِمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ: إِنِّي عامِلٌ لِلتَّعْمِيمِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ. وَرُتِّبَ عَلَى عَمَلِهِمْ وَعَمَلِهِ الْإِنْذَارُ بِالْوَعِيدِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى ذَلِكَ التَّهْدِيدِ. وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْوُقُوعِ لِأَنَّ حَرْفَيِ التَّنْفِيسِ يُؤَكِّدَانِ الْمُسْتَقْبَلَ كَمَا تُؤَكِّدُ (قَدْ) الْمَاضِي، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى (لَنْ) : إِنَّهَا لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ، فَأَخَذَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِفَادَتَهَا تَأْكِيدَ النَّفْيِ.

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي التَّهْدِيدِ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَعْلَمُ وُقُوعَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَتَصْمِيمُهُ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِهِ وَمُخَالِفٌ لِعَمَلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُوقِنٌ بِحُسْنِ عُقْبَاهُ وَسُوءِ عُقْبَاهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمِلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى الضُّرَّ لِنَفْسِهِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا هُوَ فَعَالِمٌ مِنَ الْآنِ، فَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ وُثُوقِهِ بِأَنَّهُ مُحِقٌّ، وَأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ. وَقَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ يُعَلِّقُ فِعْلَ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، فَلَا يُعْطَى مَفْعُولَيْنِ اسْتِغْنَاءً بِمُفَادِ الِاسْتِفْهَامِ إِذِ التَّقْدِيرُ: تَعْلَمُونَ أَحَدَنَا تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. وَمَوْضِعُ: مَنْ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ: تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ خَبَرُهُ. وَالْعَاقِبَةُ، فِي اللُّغَةِ: آخِرُ الْأَمْرِ، وَأَثَرُ عَمَلِ الْعَامِلِ، فَعَاقِبَةُ كُلِّ شَيْءٍ هِيَ مَا ينجلي عَنهُ الشَّيْءِ وَيَظْهَرُ فِي آخِرِهِ مِنْ أَثَرٍ وَنَتِيجَةٍ، وَتَأْنِيثُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَالَةِ فَلَا يُقَالُ: عَاقِبُ الْأَمْرِ، وَلَكِنْ عَاقِبَةُ وَعُقْبَى. وَقَدْ خَصَّصَ الِاسْتِعْمَالُ لَفْظَ الْعَاقِبَةِ بِآخِرَةِ الْأَمْرِ الْحَسَنَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَاقِبَةُ وَالْعُقْبَى يَخْتَصَّانِ بِالثَّوَابِ نَحْوُ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: 128] ، وَبِالْإِضَافَةِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُوبَةِ نَحْوُ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى [الرّوم: 10] وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ مِنْ تَدْقِيقِهِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَالدَّارُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الْأَنْعَام: 127] ، وَتَعْرِيفُ الدَّارِ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الدَّارِ مُطْلَقًا، عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَإِضَافَةُ عاقِبَةُ إِلَى الدَّارِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَيْ حُسْنُ الْأُخَارَةِ الْحَاصِلُ فِي الدَّارِ، وَهِيَ الْفَوْزُ بِالدَّارِ، وَالْفَلَجُ فِي النِّزَاعِ عَلَيْهَا، تَشْبِيهًا بِمَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَنَازَعُونَ عَلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَرَاعِي، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ

اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً، شُبِّهَتْ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْفَائِزِينَ فِي عَمَلِهِمْ، مَعَ حَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، بِحَالَةِ الْغَالِبِ عَلَى امْتِلَاكِ دَارِ عَدُوِّهِ، وَطُوِيَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ، وَهُوَ عاقِبَةُ الدَّارِ، فَإِنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ تَكُونُ مُصَرَّحَةً، وَتَكُونُ مَكْنِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يُقَسِّمُوهَا إِلَيْهِمَا، لَكِنَّهُ تَقْسِيمٌ لَا مَحِيصَ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّارِ مُسْتَعَارَةً لِلْحَالَةِ الَّتِي اسْتَقَرَّ فِيهَا أحد، تَشْبِيها للحالة بِالْمَكَانِ فِي الِاحْتِوَاءِ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ عَاقِبَةُ إِلَى الدَّارِ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيِ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ حَالُهُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً. وَمِنْ مَحَاسِنِهَا هُنَا: أَنَّهَا بَنَتْ عَلَى اسْتِعَارَةِ الْمَكَانَةِ لِلْحَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ فَصَارَ الْمَعْنَى: اعْمَلُوا فِي دَارِكُمْ مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. وَفِي الْكَلَامِ مَعَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَةَ تِلْكَ الدَّارِ، أَيْ بَلَدِ مَكَّةَ، أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: 105] وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَنْ تَكُونُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، بِتَحْتِيَّةٍ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ عَاقِبَةُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَلَمَّا وَقع فَاعِلا ظَاهرا فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقْرَنَ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَبِدُونِهَا. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْوَعِيدِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، سَتَكُونُ عُقْبَى الدَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ ابْتِدَاءً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَنَّهُ أَمر عَظِيم.

[سورة الأنعام (6) : آية 136]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 136] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) عَطْفٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِمَّا حُكِيَتْ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: 100] وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَام: 109] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 124] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ فَهُوَ إِبْطَالٌ لِأَقْوَالِهِمْ، وَرَدٌّ لِمَذَاهِبِهِمْ، وَتَمْثِيلَاتٌ وَنَظَائِرُ، فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ غَرَضُ الْكَلَامِ مَنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] . وَهَذَا ابْتِدَاءُ بَيَانِ تَشْرِيعَاتِهِمِ الْبَاطِلَةِ، وَأَوَّلُهَا مَا جَعَلُوهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لِلْأَصْنَامِ: مِمَّا يُشْبِهُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُوجِبُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِالْتِزَامِ مِثْلَ النُّذُورِ، أَوْ بَتَعْيِينٍ مِنَ الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ لَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي. وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ الصَّرْفُ وَالتَّقْسِيمُ، كَمَا فِي قَوْلِ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَصِمُ فِيهَا الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «فَيَجْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» أَيْ يَضَعُهُ وَيَصْرِفُهُ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْجَعْلِ هُوَ التَّصْيِيرُ، فَكَمَا جَاءَ صَيَّرَ لِمَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ، كَذَلِكَ جَاءَ (جَعَلَ) ، فَمَعْنَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ: صَرَفُوا وَوَضَعُوا لِلَّهِ، أَيْ عَيَّنُوا لَهُ نَصِيبًا، لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ تَصْيِيرًا تَقْدِيرِيًّا وَنَقْلًا. وَكَذَلِكَ قَول النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ» أَيْ أَنْ تَصْرِفَهَا إِلَيْهِمْ، وَجعل هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ التَّعْدِيَةُ هِيَ أَكْثَرُ أَحْوَالِ تَعْدِيَتِهِ، حَتَّى أَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى مفعولين إنّما مَا فِي الْحَقِيقَةِ مَفْعُولٌ وَحَالٌ مِنْهُ.

وَمَعْنَى: ذَرَأَ أَنْشَأَ شَيْئًا وَكَثَّرَهُ. فَأُطْلِقَ عَلَى الْإِنْمَاءِ لِأَنَّ إِنْشَاءَ شَيْءٍ تَكْثِيرٌ وَإِنْمَاءٌ. ومِمَّا ذَرَأَ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلُوا، وَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِأَجْلِ دَلَالَةِ صِلَتِهِ عَلَى تَسْفِيهِ آرَائِهِمْ، إِذْ مَلَّكُوا اللَّهَ بَعْضَ مِلْكِهِ، لِأَنَّ مَا ذَرَأَهُ هُوَ مِلْكُهُ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِهِ بِلَا جَعْلٍ مِنْهُمْ. وَاخْتِيَارُ فِعْلِ: ذَرَأَ هُنَا لِأَنَّهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ، إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ شَرَائِعِهِمِ الْفَاسِدَةِ فِي نَتَائِجِ أَمْوَالِهِمْ. ثُمَّ سَيُبَيِّنُ شَرْعَهُمْ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: 138] الْآيَةَ. ومِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ بَيَانُ مَا الْمَوْصُولَةِ. وَالْحَرْثُ مُرَادٌ بِهِ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ الْحَرْثُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الْجَنَّاتِ وَالْمَزَارِعِ، قَالَ تَعَالَى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: 22] . وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْقِسْمُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [202] ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِغَيْرِهِ نَصِيبًا آخَرَ، وَفُهِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ النَّصِيبَ الْآخَرَ لِآلِهَتِهِمْ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا. وَالْإِشَارَتَانِ إِلَى النَّصِيبِ الْمُعَيَّنِ لِلَّهِ وَالنَّصِيبِ الْمُعَيَّنِ لِلشُّرَكَاءِ، وَاسْمَا الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَلَى الْإِجْمَالِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي الْمَقَامِ فِي تَعْيِينِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ وَمَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ. وَالزَّعْمُ: الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ، أَوِ الْقَرِيبُ مِنَ الْخَطَأِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [60] ، وَهُوَ مُثَلَّثُ الزَّايِ، وَالْمَشْهُور فِيهِ فتح الزَّاي، وَمثله الرّغم بِالرَّاءِ مُثَلَّثُ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الزَّايِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِضَمِّ الزَّايِ- وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُمْ: بِزَعْمِهِمْ ب فَقالُوا وَجُعِلَ قَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ مُوَالِيًا لِبَعْضِ مَقُولِ الْقَوْلِ لِيَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَيُرَتَّبُ التَّعْجِيبُ مِنْ حُكْمِهِمْ بِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، أَيْ مَا اكْتَفَوْا بِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ حَتَّى نَكَلُوا عَنهُ وأشركوا شركاؤهم فِيمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ. وَالْبَاءُ الدَّاخِلَة على بِزَعْمِهِمْ إِمَّا بِمَعْنَى مِنَ أَيْ، قَالُوا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَعْلَنُوا بِهِ قَوْلًا نَاشِئًا عَنِ الزَّعْمِ، أَيِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَإِمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا. وَمَحَلُّ الزَّعْمِ هُوَ مَا اقْتَضَتْهُ الْقِسْمَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْآلِهَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلَّهِ قَوْلٌ حَقٌّ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوهُ عَلَى مَعْنَى تَعْيِينِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبِ دُونَ نَصِيبٍ آخَرَ. كَانَ قَوْلُهُمْ زَعْمًا بَاطِلًا. وَالشُّرَكَاءُ هُنَا جَمْعُ شَرِيكٍ، أَيْ شَرِيكُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ صَارَ كَالْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ أَعْنِي الشَّرِكَةَ ثُمَّ لِأَجْلِ غَلَبَتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَارَ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ، فَلِذَلِكَ أَضَافُوهُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، فَقَالُوا: لِشُرَكَائِنَا، إِضَافَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ، أَيْ لِلشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ (يَعْنِي زَرْعَهُمْ وَشَجَرَهُمْ) وَأَنْعَامَهُمْ نَصِيبًا وَلِلْأَوْثَانِ نَصِيبًا فَمَا كَانَ لِلْأَصْنَامِ أَنْفَقُوهُ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْعَمُوهُ الضِّيفَانَ وَالْمَسَاكِينَ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ. وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ لِلْأَصْنَامِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ (خَوْلَانَ) كَانَ لَهُمْ صَنَمٌ اسْمُهُ (عَمَّ أَنَسٍ) يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ

أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قِسَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ (عَمِّ أَنَسٍ) مِنْ حَقِّ اللَّهِ الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لِلصَّنَمِ وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ مَنْ حَقِّ (عَمِّ أَنَسٍ) رَدُّوهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمُ (الْأَدِيمُ) قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: كَانُوا إِذَا جَمَعُوا الزَّرْعَ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِلَّهِ إِلَى الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ أَقَرُّوهُ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا حَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ إِلَى الَّذِي لِلَّهِ رَدُّوهُ، وَإِذَا هَلَكَ مَا لِأَصْنَامِهِمْ بِقَحْطٍ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيمَا لِلَّهِ، وَإِذَا انْفَجَرَ مِنْ سُقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَسَاحَ إِلَى مَا لِلَّذِي لِلْأَصْنَامِ تَرَكُوهُ وَإِذَا انْفَجَرَ مَنْ سُقْيِ مَا لِلْأَصْنَامِ فَدَخَلَ فِي زَرْعِ الَّذِي لِلَّهِ سَدُّوهُ. وَكَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ اسْتَعَانُوا بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَقَرُّوا مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ لِلشُّرَكَاءِ، وَإِذَا هَلَكَ الّذي جَعَلُوهُ للأصنام وَكثر الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ قَالُوا: لَيْسَ لِآلِهَتِنَا بُدٌّ مِنْ نَفَقَةٍ وَأَخَذُوا الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا أَجْدَبَ الَّذِي لِلَّهِ وَكَثُرَ الَّذِي لِآلِهَتِهِمْ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَزْكَى الَّذِي لَهُ فَلَا يَرُدُّونَ عَلَى مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ شَيْئًا مِمَّا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مُبَالَغَةٌ فِي صَوْنِهِ مِنْ أَنْ يُعْطَى لِمَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَصِلُ فَهُوَ لَا يُتْرَكُ إِذَا وَصَلَ بِالْأَوْلَى. وَعُدِّيَ يَصِلُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَإِلَى اسْمِ شُرَكَائِهِمْ. وَالْمُرَادُ لَا يَصِلُ إِلَى النَّصِيبِ الْمَجْعُولِ لِلَّهِ أَوْ إِلَى لِشُرَكَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا نَصِيبًا لِلَّهِ وَنَصِيبًا لِشُرَكَائِهِمْ فَقَدِ اسْتَشْعَرُوا ذَلِكَ النَّصِيبَ مَحُوزًا لِمَنْ جُعِلَ إِلَيْهِ وَفِي حِرْزِهِ فَكَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى ذَاتِهِ. وَجُمْلَةُ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ اسْتِئْنَافٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ شَرَائِعِهِمْ. وَسَاءَ هُنَا بِمَعْنَى بِئْسَ: وَمَا هِيَ فَاعِلُ ساءَ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا يَحْكُمُونَ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ، وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ: جَعَلُوا

[سورة الأنعام (6) : آية 137]

عَلَيْهِ، أَيْ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ جَعْلُهُمْ، وَسَمَّاهُ حُكْمًا تَهَكُّمًا، لِأَنَّهُمْ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِتَعْيِينِ الْحُقُوقِ، فَفَصَلُوا بِحُكْمِهِمْ حَقَّ اللَّهِ مِنْ حَقِّ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ أَبَاحُوا أَنْ تَأْخُذَ الْأَصْنَامُ حَقَّ اللَّهِ وَلَا يَأْخُذَ اللَّهُ حَقَّ الْأَصْنَامِ، فَكَانَ حُكْمًا بَاطِلًا كَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: 50] . [137] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 137] وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) عطف على جملَة: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: 136] وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلُوا وَزَيَّنَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، فَهَذِهِ حِكَايَةُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ تَشْرِيعَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَصَرُّفِهِمْ فِي ذُرِّيَّاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي نَتَائِجِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَقَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ هَذَا التَّزْيِينَ الْعَجِيبَ فِي الْفَسَادِ الَّذِي حَسَّنَ أَقْبَحَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ قَتْلُهُمْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ، فَشُبِّهَ بِنَفْسِ التَّزْيِينِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يُمَثِّلَهُ بِشَيْءٍ فِي الْفَظَاعَةِ وَالشَّنَاعَةِ لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ شَيْءٌ مَبْلَغَ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي بَابِهِ، فَيَلْجَأْ إِلَى تَشْبِيهِهِ بِنَفْسِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ «وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا» . وَالتَّقْدِيرُ: وَزَيَّنَ شُرَكَاءُ الْمُشْرِكِينَ لِكَثِيرٍ فِيهِمْ تَزْيِينًا مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي زَيَّنُوهُ لَهُمْ، وَهُوَ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَمَعْنَى التَّزْيِينِ التَّحْسِينُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَمَعْنَى تَزْيِينِ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لَهُمْ فَوَائِدَ وَقُرَبًا فِي هَذَا الْقَتْلِ، بِأَنْ يُلْقُوا إِلَيْهِمْ مَضَرَّةَ الِاسْتِجْدَاءِ وَالْعَارِ فِي النِّسَاءِ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُرْجَى مِنْهُنَّ نَفْعٌ لِلْقَبِيلَةِ، وَأَنَّهُنَّ يُجَبِّنَّ الْآبَاءَ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَيُؤْثِرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ على آبائهن، فقتلهنّ أصلح وأنفع من استبقائهن، وَنَحْو هَذَا من الشّبه والتّمويهات، فَيَأْتُونَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَرُوجُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُفْرِطِينَ فِي الْغَيْرَةِ، وَالْجُمُوحِ مِنَ الْغَلَبِ وَالْعَارِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي ... وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا وَإِنَّمَا قَالَ: لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ، وَكَانَ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَهُمَا جَمْهَرَةُ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ كُلُّ الْآبَاءِ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ يَفْعَلُهُ. وَأَسْنَدَ التَّزْيِينَ إِلَى الشُّرَكَاءِ: إِمَّا لِإِرَادَةِ الشَّيَاطِينِ الشُّرَكَاءِ، فَالتَّزْيِينُ تَزْيِينُ الشَّيَاطِينِ بِالْوَسْوَسَةِ، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّزْيِينَ نَشَأَ لَهُمْ عَنْ إِشَاعَةِ كُبَرَائِهِمْ فِيهِمْ، أَوْ بِشَرْعٍ وَضَعَهُ لَهُمْ مَنْ وَضَعَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَفَرَضَ لَهَا حُقُوقًا فِي أَمْوَالِهِمْ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَيَكُونُ إِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى الشُّرَكَاءِ مَجَازًا عَقْلِيًّا لِأَنَّ الْأَصْنَامَ سَبَبُ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَتَيْنِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] . وَالْمَعْنِيُّ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْوَأْدُ، وَهُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ الصَّغِيرَاتِ أَحْيَاءً فَيَمُتْنَ بِغُمَّةِ التُّرَابِ، كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] ، وخشية أَنْ تُفْتَضَحَ الْأُنْثَى بِالْحَاجَةِ إِذَا هَلَكَ أَبُوهَا، أَوْ مَخَافَةَ السِّبَاءِ، وَذَكَرَ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» عَنِ النَّقَّاشِ فِي «تَفْسِيرِهِ» : أَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ مِنَ الْبَنَاتِ مَنْ

كَانَتْ زَرْقَاءَ أَوْ بَرْشَاءَ، أَوْ شَيْمَاءَ، أَوْ رَسْحَاءَ، تَشَاؤُمًا بِهِنَّ- وَهَذَا مِنْ خَوَرِ أَوْهَامِهِمْ- وَأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 8، 9] ، وَقِيلَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْغِيرَةِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِينَ مَا يَتَعَيَّرَ مِنْهُ أَهْلُهُنَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي «الْكَامِلِ» ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ تَمِيمًا مَنَعَتِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْإِتَاوَةَ فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ الرَّيَّانَ بْنَ الْمُنْذِرِ فَاسْتَاقَ النِّعَمَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ، فَوَفَدَتْ إِلَيْهِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَنَابُوا وَسَأَلُوهُ النِّسَاءَ فَقَالَ النُّعْمَانُ: كُلُّ امْرَأَةٍ اخْتَارَتْ أَبَاهَا رُدَّتْ إِلَيْهِ وَإِنِ اخْتَارَتْ صَاحِبَهَا (أَيِ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ بِالسَّبْيِ) تُرِكَتْ عَلَيْهِ فَكُلُّهُنَّ اخْتَارَتْ أَبَاهَا إِلَّا ابْنَةٌ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ اخْتَارَتْ صَاحِبَهَا عَمْرَو بْنَ الْمُشَمْرَجِ، فَنَذَرَ قَيْسٌ أَنْ لَا تُولَدَ لَهُ ابْنَةٌ إِلَّا قَتَلَهَا فَهَذَا شَيْءٌ يَعْتَلُّ بِهِ مَنْ وَأَدُوا، يَقُولُونَ: فَعَلْنَاهُ أَنَفَةً، وَقَدْ أَكْذَبَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ بِقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً [الْأَنْعَام: 140] . وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يُحْيِيَ الْمَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَ مَؤُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَؤُونَتَهَا. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ الْبِنْتَ وَقْتَ وِلَادَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَرَاهَا أمّها، قَالَ الله تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [النَّحْل: 58، 59] . وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُجَاشِعٍ، وَهُوَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ، يَفْدِي الْمَوْءُودَةَ، يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَقَدِ افْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ بِذَلِكَ فِي شِعْرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوءَدِ وَقَدْ أَدْرَكَ جَدُّهُ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ. وَلَا يُعْرَفُ فِي تَارِيخِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ غَيْرَ هَذَا الْوَأْدِ إِلَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الَّذِي

سَنَذْكُرُهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتَكَرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَأْدَ طَريقَة سنّها أئمّة الشِّرْكِ لِقَوْمِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِمْ، فَهِيَ ضَلَالَةٌ ابْتَدَعُوهَا لِقَوْمِهِمْ بِعِلَّةِ التَّخَلُّصِ مِنْ عَوَائِقِ غَزْوِهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَمِنْ مَعَرَّةِ الْفَاقَةِ وَالسِّبَاءِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى إِنْجَازِ أَمْرِ الْمَوْءُودَةِ إِذَا رَأَوْا مِنْ بَعْضِهِمْ تَثَاقُلًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّافُ» إِذْ قَالَ: «وَالْمعْنَى أنّ شركاؤهم مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ مِنْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ بالوأد أَو بالنّحر» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّرَكَاءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُمُ الَّذِينَ يَتَنَاوَلُونَ وَأْدَ بَنَاتِ الْغَيْرِ فَهُمُ الْقَاتِلُونَ. وَفِي قِصَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ نَذَرَ إِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ عَشَرَةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ عَدُوِّهِ، لِيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ بَنُوهُ عَشَرَةً بِهَذَا الْمَبْلَغِ دَعَاهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ فَأَطَاعُوهُ وَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ (هُبَلَ) الصَّنَمِ وَكَانَ (هُبَلُ) فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَأَخَذَهُ لِيَذْبَحَهُ بَين (إساف) و (نائلة) فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: لَا تَذْبَحُهُ حَتَّى تُعْذَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِدَاءٌ فَدَيْنَاهُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِاسْتِفْتَاءِ عَرَّافَةٍ بِخَيْبَرَ فَرَكِبُوا إِلَيْهَا فَسَأَلُوهَا وَقَصُّوا عَلَيْهَا الْخَبَرَ فَقَالَتْ: قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا فَخَرَجَ الْقَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَزِيدُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ وَيَخْرُجُ الْقَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً فَضَرَبَ عَلَيْهَا فَخَرَجَ الْقَدَحُ عَلَى الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا. وَلَعَلَّ سَدَنَةَ الْأَصْنَامِ كَانُوا يَخْلِطُونَ أَمْرَ الْمَوْءُودَةِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى أَصْنَامِ بَعْضِ الْقَبَائِلِ (كَمَا كَانَتْ سُنَّةً مَوْرُوثَةً فِي الْكَنْعَانِيِّينَ مِنْ نَبَطِ الشَّامِ يُقَرِّبُونَ صِبْيَانَهُمْ إِلَى الصَّنَمِ مَلُوكَ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ الْقَتْلِ إِلَى الشُّرَكَاءِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زَيَّنَ- بِفَتْحِ الزَّايِ- وَنَصْبِ: قَتْلَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ زَيَّنَ، وَرَفْعِ شُرَكاؤُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ: زَيَّنَ، وَجَرِّ أَوْلادِهِمْ بِإِضَافَةِ قَتْلَ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ بِبِنَاءِ فِعْلِ زَيَّنَ لِلنَّائِبِ، وَرَفْعِ قَتْلَ عَلَى أَنه نَائِب الْفَاعِل، وَنَصْبِ أَوْلادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قَتْلَ، وَجَرِّ شُرَكائِهِمْ عَلَى إِضَافَةِ قَتْلَ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَكَذَلِكَ رُسِمَتْ كَلِمَةُ شُرَكائِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الَّذِي بِبِلَادِ الشَّامِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ رَسَمُوا تِلْكَ الْكَلِمَةِ رَاعَوْا قِرَاءَةَ شُرَكائِهِمْ بِالْكَسْرِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي سَنَدِ قراءات الْقُرْآن، إِذا كُتِبَ كَلِمَةُ شُرَكائِهِمْ بِصُورَةِ الْيَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَكْسُورَةٌ، وَالْمَعْنَى، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنْ مُزَيِّنًا زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْتُلَ شُرَكَاؤُهُمْ أَوْلَادَهُمْ، فَإِسْنَادُ الْقَتْلِ إِلَى الشُّرَكَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِمَّا لِأَنَّ الشُّرَكَاءَ سَبَبُ الْقَتْلِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الَّذِينَ شَرَّعُوا لَهُمُ الْقَتْلَ هُمُ الْقَائِمُونَ بِدِيَانَةِ الشِّرْكِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَتْلِ الْوَأْدَ، فَالشُّرَكَاءُ سَبَبٌ وَإِنْ كَانَ الْوَأْدُ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَانًا لَهُمْ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ) فَالشُّرَكَاءُ سَبَبُ السَّبَبِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُنَاكِدُ فَصَاحَةَ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْإِعْرَابَ يُبَيِّنُ مَعَاني الْكَلِمَات ومواقعها، وَإِعْرَابُهَا مُخْتَلِفٌ مِنْ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ بِحَيْثُ لَا لَبْسَ فِيهِ، وَكَلِمَاتُهَا ظَاهِرٌ إِعْرَابُهَا عَلَيْهَا، فَلَا يُعَدُّ تَرْتِيبُ كَلِمَاتِهَا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ مِنَ التَّعْقِيدِ الْمُخِلِّ بِالْفَصَاحَةِ، مِثْلُ التَّعْقِيدِ الَّذِي فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ - لِأَنَّهُ ضَمَّ إِلَى خَلَلِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّهُ خَلَلٌ فِي أَرْكَانِ الْجُمْلَةِ وَمَا حَفَّ بِهِ مِنْ تَعَدُّدِ الضَّمَائِرِ الْمُتَشَابِهَةِ- وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مِمَّا يُخَالِفُ مُتَعَارَفَ الِاسْتِعْمَالِ إِلَّا الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَالْخَطْبُ فِيهِ

سَهْلٌ: لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بالمفعول، وَجَاءَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ بِالتَّهْوِيلِ، وَالضَّجِيجِ وَالْعَوِيلِ، كَيْفَ يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ وَزَادَ طُنْبُورُ الْإِنْكَارِ نَغْمَةً. فَقَالَ: وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: شُرَكائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَوْهِينِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، إِذَا خَالَفَتْ مَا دُوِّنَ عَلَيْهِ عِلْمُ النَّحْوِ، لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ اخْتِيَارَاتٌ وَأَقْيِسَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَفِي الْإِعْرَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ لَا تُنَاكِدَ الْفَصَاحَةَ. وَمُدَوَّنَاتُ النَّحْوِ مَا قُصِدَ بِهَا إِلَّا ضَبْطُ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ لِيَجْرِيَ عَلَيْهَا النَّاشِئُونَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَيْسَتْ حَاصِرَةً لِاسْتِعْمَالِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَالْقُرَّاءُ حُجَّةٌ عَلَى النُّحَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَوَاعِدُ النَّحْوِ لَا تَمْنَعُ إِلَّا قِيَاسَ الْمُوَلَّدِينَ عَلَى مَا وَرَدَ نَادِرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَالنُّدْرَةُ لَا تُنَافِي الْفَصَاحَةَ، وَهَلْ يُظَنُّ بِمِثْلِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مُتَابَعَةً لِصُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي الْكِتَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَرُوجُ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَلَّا كَانَ رَسْمُ الْمُصْحَفِ عَلَى ذَلِكَ الشَّكْلِ هَادِيًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَتَفَطَّنَ إِلَى سَبَبِ ذَلِكَ الرَّسْمِ. أَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: «هِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ» يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَصْلَ نَادِرٌ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ ضَعْفَ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ النُّدُورَ لَا يُنَافِي الْفَصَاحَةَ. وَبَعَّدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِلتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُرْدُوهُمْ وَتَبْعِيدُ ابْنِ عَطِيَّةَ لَهَا تَوَهُّمٌ: إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يُزَيِّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَاقِبَةِ مَجَازًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا- بِفَتْحِ الزَّايِ وَنَصْبِ: الْقَتْلِ وَخَفْضِ: أَوْلادِهِمْ وَرَفْعِ: شُرَكاؤُهُمْ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي نَصْبِ نَفْسِهِ حَكَمًا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ.

وَاللَّامُ فِي: لِيُرْدُوهُمْ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَصْنَامَ، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ ذَلِكَ قَصْدًا لِنَفْعِهِمْ، فَانْكَشَفَ عَنْ أَضْرَارٍ جَهِلُوهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْجِنَّ، أَيِ الشَّيَاطِينَ فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ: لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الشَّرِّ مِنْ طَبِيعَةِ الْوَسْوَاسِ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ الشَّرَّ وَيَنْسَاقُ إِلَيْهِ انْسِيَاقَ الْعَقْرَبِ لِلَّسْعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى كَوْنِ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ مُرْدِيًا وَمُلْبِسًا فَإِنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لَا يَقْصِدُونَ إِضْرَارَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى أَشْيَاءَ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَضَارُّ كَانَ تَزْيِينُهُمْ مُعَلَّلًا بِالْإِرْدَاءِ وَالْإِلْبَاسِ وَإِنْ لَمْ يَفْقَهُوهُ بِخِلَافِ مَنْ دَعَا لِسَبَبٍ فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَالضَّمِيرُ لِلشُّرَكَاءِ وَالتَّعْلِيلُ لِلتَّزْيِينِ. وَالْإِرْدَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الرَّدَى، وَالرَّدَى: الْمَوْتُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الضُّرِّ الشَّدِيدِ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً وَذَلِكَ الْمُرَادُ هُنَا. وَلَبَّسَ عَلَيْهِ أَوْقَعَهُ فِي اللَّبْسِ، وَهُوَ الْخَلْطُ وَالِاشْتِبَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [42] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [9] . أَيْ أَنْ يَخْلِطُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فَيُوهِمُوهُمُ الضَّلَالَ رُشْدًا وَأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَمَا لَا يَرْضَاهُ، وَيُخَيِّلُونَ إِلَيْهِمْ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مصلحَة. وَمن أقولهم: «دَفْنُ الْبُنَاهْ مِنَ الْمَكْرُمَاهْ» (الْبُنَاهْ. وَالْمَكْرُمَاهْ. بِالْهَاءِ سَاكِنَةً فِي آخِرِهِمَا. وَأَصْلُهَا تَاءُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فَغُيِّرَتْ لِتَخْفِيفِ الْمَثَلِ) وَهَكَذَا شَأْنُ الشُّبَهِ وَالْأَدِلَّةِ الْمَوْهُومَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ. فَمَعْنَى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ لَهُمْ دِينًا مُخْتَلِطًا مِنْ أَصْنَافِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: وَسِّعِ الْجُبَّةَ، أَيِ اجْعَلْهَا وَاسِعَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لِيُدْخِلُوا عَلَيْهِمُ اللَّبْسَ فِي الدِّينِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيِ الْحَنِيفِيَّةُ، فَيَجْعَلُوا فِيهِ أَشْيَاءَ مِنَ الْبَاطِلِ تَخْتَلِطُ مَعَ الْحَقِّ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: 112] وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي:

[سورة الأنعام (6) : آية 138]

فَعَلُوهُ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَصَمَهُمْ مِنْ تَزْيِينِ شُرَكَائِهِمْ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الشُّرَكَاءِ، أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَصَدَّهُمْ عَنْ إِغْوَاءِ أَتْبَاعِهِمْ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ يَعُودُ إِلَى الْقَتْلِ أَوْ إِلَى التَّزْيِينِ عَلَى التَّوْزِيعِ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي ضَمِيرِ الرّفع. وَالْمرَاد: ب مَا يَفْتَرُونَ مَا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ بِنِسْبَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا اقْتَرَفُوهُ، وَكَانَ افْتِرَاؤُهُمُ اتِّبَاعًا لِافْتِرَاءِ شُرَكَائِهِمْ، فَسَمَّاهُ افْتِرَاءً لِأَنَّهُمْ تَقَلَّدُوهُ عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَكَأَنَّهُمْ شَارَكُوا الَّذِينَ افْتَرَوْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَوْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَادَةِ دِينِ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ أَنَّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ: افْتِراءً عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 138] وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: 150] . [138] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 138] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: 137] وَهَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَحْجِيرِ التَّصَرُّفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَعْيِينِ مَصَارِفِهِ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ هُوَ مِنْ تَلْقِينِ شُرَكَائِهِمْ وَسَدَنَةِ أَصْنَامِهِمْ كَمَا قُلْنَا فِي مَعْنَى زَيَّنَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذِهِ وَهَذِهِ إِلَى حَاضِرٍ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ صُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ: وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ أحدهم هَذِه الْأَصْنَاف مَصْرِفُهَا كَذَا، وَهَذِهِ مَصْرِفُهَا كَذَا، فَالْإِشَارَةُ مِنْ مَحْكِيِّ قَوْلِهِمْ حِينَ يُشَرِّعُونَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ

دِينِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَاسِمُ: هَذَا لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِلْآخَرِ. وَأَجْمَلَ ذَلِكَ هُنَا إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّعْجِيبُ مِنْ فَسَادِ شَرْعِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الْأَنْعَام: 136] وَقَدْ صَنَّفُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُحْجَرٌ عَلَى مَالِكِهِ انْتِفَاعُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يُعَيِّنُهُ الْمَالِكُ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَيِّنُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَزَرْعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ شَيْئًا يَحْجُرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَيُعَيِّنُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُونَ مِنْ سَدَنَةِ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ، وَخَدَمَتِهَا، فَتُنْحَرُ أَو تذبح عِنْد مَا يَرَى مَنْ عُيِّنَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَتَكُونُ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَالْوَافِدِينَ عَلَى بُيُوتِ الْأَصْنَامِ وَإِضَافَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ تُدْفَعُ إِلَى مَنْ عُيِّنَتْ لَهُ، يَصْرِفُهَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ. وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ أَشْيَاءٌ مُعَيَّنَةٌ بِالِاسْمِ، لَهَا حُكْمٌ مُنْضَبِطٌ مِثْلُ الْبَحِيرَةِ: فَإِنَّهَا لَا تُنْحَرُ وَلَا تُؤَكَلُ إِلَّا إِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، فَيَحِلُّ أَكْلُهَا لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا كَانَ لَهَا دَرٌّ لَا يَشْرَبُهُ إِلَّا سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ وَضُيُوفُهُمْ، وَكَذَلِكَ السَّائِبَةُ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَالسَّدَنَةُ، فَإِذَا مَاتَتْ فَأَكْلُهَا كَالْبَحِيرَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَامِي، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. فَمَعْنَى لَا يَطْعَمُها لَا يَأْكُلُ لَحْمَهَا، أَيْ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهَا. وَنُونُ الْجَمَاعَةِ فِي نَشاءُ مُرَادٌ بِهَا الْقَائِلُونَ، أَيْ يَقُولُونَ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، أَيْ مَنْ نُعَيِّنُ أَنْ يَطْعَمَهَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : يَعْنُونَ خَدَمَ الْأَوْثَانِ وَالرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْحَرْثُ أَصْلُهُ شَقُّ الْأَرْضِ بِآلَةٍ حَدِيدِيَّةٍ لِيُزْرَعَ فِيهَا أَوْ يُغْرَسَ، وَيُطْلَقُ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَحْرُوثِ وَعَلَى الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالْمَغْرُوسَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَرْثٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: 22] فَسَمَّاهُ حَرْثًا فِي وَقْتِ جُذَاذِ الثِّمَارِ.

وَالْحجر: اسْمٌ لِلْمُحْجَرِ الْمَمْنُوعِ، مِثْلُ ذَبْحٍ لِلْمَذْبُوحِ، فَمَنْعُ الْأَنْعَامِ مَنْعُ أَكْلِ لُحُومِهَا، وَمَنْعُ الْحَرْثِ مَنْعُ أَكْلِ الْحَبِّ وَالتَّمْرِ وَالثِّمَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ. وَقَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ وَبَيْنَ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها. وَالْبَاءُ فِي: بِزَعْمِهِمْ بِمَعْنَى (عَنْ) ، أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا يَطْعَمُها لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ أَكْلَهَا إِلَّا مَنْ شَاءُوهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ زَعْمِهِمْ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّفْيِ نَفْيَ الْإِبَاحَةِ، أَيْ لَا يَحِلُّ أَنْ يَطْعَمَهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، فَالْمَعْنَى: اعْتَقَدُوهَا حَرَامًا لِغَيْرِ مَنْ عَيَّنُوهُ، حَتَّى أَنْفُسَهُمْ، وَمَا هِيَ بِحَرَامٍ، فَهَذَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ: بِزَعْمِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: بِزَعْمِهِمْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: 136] . وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا، أَيْ حُرِّمَ رُكُوبُهَا، مِنْهَا الْحَامِي: لَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ، وَلَهُ ضَابِطٌ مُتَّبَعٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنْهَا أَنْعَامٌ يُحَرِّمُونَ ظُهُورَهَا، بِالنَّذْرِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِذَا فَعَلَتِ النَّاقَةُ كَذَا مِنْ نَسْلٍ أَوْ مُوَاصَلَةٍ بَيْنَ عِدَّةٍ مِنْ إِنَاثٍ، وَإِذَا فَعَلَ الْفَحْلُ كَذَا وَكَذَا، حَرُمَ ظَهْرُهُ. وَهَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ مَادِحًا الْأَمِينَ: وَإِذَا الْمَطِيُّ بِنَا بلّغن مُحَمَّدًا ... فظهور هن عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ فَقَوْلُهُ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ فَهُوَ كَخَبَرٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ عَطْفُ صِنْفٍ لِوُرُودِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَوْصَافِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَقِبَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ وَهَذِهِ أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا

وَبُنِيَ فِعْلُ: حُرِّمَتْ لِلْمَجْهُولِ: لِظُهُورِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ ظُهُورَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: افْتِراءً عَلَيْهِ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، أَيْ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ نَحْرِهَا أَوْ ذَبْحِهَا، يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا أُهْدِيَ لِلْجِنِّ أَوْ لِلْأَصْنَامِ يُذْكَرُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا قُرِّبَ لَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ لِتَكُونَ خَالِصَةَ الْقُرْبَانِ لِمَا عُيِّنَتْ لَهُ، فَلِأَجْلِ هَذَا الزَّعْمِ قَالَ تَعَالَى: افْتِراءً عَلَيْهِ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ تَحْرِيمُ ذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى مَا يُقَرَّبُ لِغَيْرِهِ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْبَانِ الَّذِي يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لِشُرَكَائِهِ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» . وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو وَائِلٍ (¬1) ، الْأَنْعَامُ الَّتِي لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُمْ سُنَّةً فِي بَعْضِ الْأَنْعَامِ أَنْ لَا يُحَجَّ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ تُرْكَبُ فِي كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا الْحَجَّ، وَأَنَّهَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ حِينَ الْكَوْنِ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ تَلْبِيَةٍ وَتَكْبِيرٍ، فَيَكُونُ: لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا كِنَايَةً عَنْ مَنْعِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَامِي وَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا نَفْعَهَا لِلْأَصْنَامِ لَمْ يُجِيزُوا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي غَيْرِ خِدْمَةِ الْأَصْنَامِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ¬

(¬1) الْأَظْهر أنّه شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي الْكُوفِي من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَيحْتَمل أنّه عبد الله بن بحير- بموحدة مَفْتُوحَة فحاء مُهْملَة مَكْسُورَة- الْمرَادِي الصَّنْعَانِيّ القاصّ، وثّقه ابْن معِين.

[سورة الأنعام (6) : آية 139]

وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَهُوَ عَطْفُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ، بِقَرِينَةِ اسْتِيفَاءِ أَوْصَافِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. وَانْتَصَبَ: افْتِراءً عَلَيْهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ قالُوا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ قَوْلَ افْتِرَاءٍ، لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْقَوْلِ، فَصَحَّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْقَوْلِ، وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِقَائِلِهِ فِيهِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [94] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُهُمِ افْتِرَاءً: لِأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِيهِ لِشَيْءٍ لَيْسَ وَارِدًا لَهُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَلَالِ كُبَرَائِهِمْ. وَجُمْلَةُ: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى الْخَالِقِ أَمْرٌ شَنِيعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّا سَيَلْقَوْنَهُ مِنْ جَزَاءِ افْتِرَائِهِمْ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. وَقَدْ أُبْهِمَ الْجَزَاءُ لِلتَّهْوِيلِ لِتَذْهَبَ النُّفُوسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِثْمِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى (عَنْ) ، أَوْ للبدلية والعوض. [139] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 139] وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: 138] . وَأُعِيدَ فِعْلُ: قالُوا لِاخْتِلَافِ غَرَضِ الْمَقُولِ.

وَالْإِشَارَة إِلَى أَنْعَامٍ مَعْرُوفَةٍ بَيْنَهُمْ بِصِفَاتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ إِلَى الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ. وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ إِجْمَالِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمُوهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْجِيبُ مِنْ فَسَادِ شَرْعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دِينِهِمْ فِي أَجِنَّةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَجَرُوهَا أَوْ حَرَّمُوا ظُهُورَهَا، فَكَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ: إِذَا خَرَجَتْ أَحْيَاءً يَحِلُّ أَكْلُهَا لِلذُّكُورِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا خَرَجَتْ مَيْتَةً حَلَّ أَكْلُهَا لِلذُّكُورِ وَالنِّسَاءِ، فَالْمُرَادُ بِمَا فِي الْبُطُون الأجنة لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَلْبَانِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ: يَشْرَبُهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، فَظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ أَلْبَانُهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَكِنَّ مَحْمَلَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَا فِي الْبُطُونِ يَشْمَلُ الْأَلْبَانَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَجِنَّةِ وَنَاشِئَةٌ عَنْ وِلَادَتِهَا. وَالْخَالِصَةُ: السَّائِغَةُ، أَيِ الْمُبَاحَةُ، أَيْ لَا شَائِبَةَ حَرَجٍ فِيهَا، أَيْ فِي أَكْلِهَا، وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُ: وَمُحَرَّمٌ. وَتَأْنِيثُ خالِصَةٌ لأنّ المُرَاد بِمَا الْمَوْصُولَةِ الْأَجِنَّةُ فَرُوعِيَ مَعْنَى (مَا) وَرُوعِيَ لَفْظُ (مَا) فِي تَذْكِيرِ (مُحَرَّمٍ) . وَالْمُحَرَّمُ: الْمَمْنُوعُ، أَيْ مَمْنُوعٌ أَكْلُهُ، فَإِسْنَادُ الْخُلُوصِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الذَّوَاتِ بِتَأْوِيلِ تَحْرِيمِ مَا تُقْصَدُ لَهُ وَهُوَ الْأَكْلُ أَوْ هُوَ وَالشُّرْبُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلشَّيْءِ الثَّانِي لِغَيْرِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ هُوَ زَوْجٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ حَلِيلُ الْمَرْأَةِ زَوْجًا وَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ حَلِيلَةُ الرَّجُلِ زَوْجًا، وَهُوَ وَصْفٌ يُلَازِمُ حَالَةً وَاحِدَةً فَلَا يُؤَنَّثُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ الْمُتَزَوِّجَاتِ لِأَنَّهُمْ سَمُّوهُنَّ أَزْوَاجًا، وَأَضَافُوهُنَّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُنَّ النِّسَاءُ الْمُتَزَوِّجَاتُ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةُ فُلَانٍ. وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ- وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي- كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِأَكْلِ الزَّوْجَاتِ لِشَيْءٍ ذِي صِفَةٍ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ تُصِيبَ نِسَاءَهُمْ: مِثْلُ الْعُقْمِ، أَوْ سُوءِ المعاشرة مَعَ الْأزْوَاج، وَالنُّشُوزِ، أَوِ الْفِرَاقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَاذِيبِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُ نِتَاجُ أَنْعَامٍ مُقَدَّسَةٍ، فَلَا تَحِلُّ لِلنِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَرْمُوقَةٌ عِنْدَ الْقُدَمَاءِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِالنَّجَاسَةِ وَالْخَبَاثَةِ، لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ دُخُولَ الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ الْعَرَبُ لَا يُؤَاكِلُونَ الْحَائِضَ، وَقَالَتْ كَبْشَة بنت معديكرب تُعَيِّرُ قَوْمَهَا: وَلَا تَشْرَبُوا إِلَّا فُضُولَ نِسَائِكُمْ ... إِذَا ارْتَمَلَتْ أَعْقَابُهُنَّ مِنَ الدَّمِ وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أُطْلِقَ الْأَزْوَاجُ عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا، أَيْ فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَيَشْمَلُ الْمَرْأَةَ الْأَيِّمَ وَلَا يَشْمَلُ الْبَنَاتَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُرِيدَ بِهِ الْبَنَاتُ أَيْ بِمَجَازِ الْأَوَّلِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِأَكْلِ الْبَنَاتِ مِنْهُ أَنْ يُصِيبَهُنَّ عُسْرُ التَّزَوُّجِ، أَوْ مَا يَتَعَيَّرُونَ مِنْهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْأَحْوَالُ الشَّائِعَةُ بَيْنَهُمْ دَالَّةً عَلَى الْمُرَادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أَيْ إِنْ يُولَدْ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ مَيِّتًا جَازَ أَكْلُهُ لِلرِّجَالِ وَالْأَزْوَاجِ، أَوْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَوْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مَيِّتًا يُبْطِلُ مَا فِيهِ مِنَ الشُّؤْمِ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَوْ يُذْهِبُ قَدَاسَتَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنْ يَكُنْ- بِالتَّحْتِيَّةِ وَنَصْبِ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِرَفْعِ مَيْتَةً-، عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَقَدْ أُجْرِيَ ضَمِيرُ: يَكُنْ عَلَى التَّذْكِيرِ: لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُفْرَدِ اعْتِبَارُ التَّذْكِيرِ

لِتَجَرُّدِ لَفْظِهِ عَنْ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ، وَقَدْ يُرَاعَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَيَجْرِي الْإِخْبَارُ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ [مُحَمَّد: 16] . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ- بِالْفَوْقِيَّةِ- عَلَى اتِّبَاعِ تَأْنِيثِ خالِصَةٌ، أَيْ إِنْ تَكُنِ الْأَجِنَّةُ، وَقَرَأَ مَيْتَةً- بِالنَّصْبِ-، وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِالتَّأْنِيثِ وَالنَّصْبِ-. وَجُمْلَةُ: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَمَا قُلْتُ فِي جُمْلَةِ: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَنْعَام: 138] آنِفًا. وَالْوَصْفُ: ذِكْرُ حَالَاتِ الشَّيْءِ الْمَوْصُوف وَمَا يتيمّز بِهِ لِمَنْ يُرِيدُ تَمْيِيزَهُ فِي غَرَضٍ مَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [100] . وَالْوَصْفُ، هُنَا: هُوَ مَا وَصَفُوا بِهِ الْأَجِنَّةَ مِنْ حَلٍّ وَحُرْمَةٍ لِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ، فَذَلِكَ وَصْفٌ فِي بَيَانِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النَّحْل: 116] . وَجَزَاؤُهُمْ عَنْهُ هُوَ جَزَاءُ سُوءٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ سَمَّى مَزَاعِمَهُمُ السَّابِقَةَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. وَجُعِلَ الْجَزَاءُ مُتَعَدِّيًا لِلْوَصْفِ بِنَفْسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: سَيَجْزِيهِمْ جَزَاءَ وَصفهم. ضمّن سَيَجْزِيهِمْ مَعْنَى يُعْطِيهِمْ، أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا لَهُ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ الْجَزَاءِ مُوَافِقًا لِجُرْمِ وَصْفِهِمْ. وَتُؤْذِنُ (إِنْ) بِالرَّبْطِ وَالتَّعْلِيلِ، وَتُغْنِي غَنَاءَ الْفَاءِ، فَالْحَكِيمُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَالْعَلِيمُ يَطَّلِعُ عَلَى أَفْعَالِ الْمَجْزِيِّينَ، فَلَا يُضَيِّعُ مِنْهَا مَا يستحقّ الْجَزَاء.

[سورة الأنعام (6) : آية 140]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) تَذْيِيلٌ جُعِلَ فَذْلَكَةً لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ ضَلَالِهِمْ فِي قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ، وَتَحْجِيرِ بَعْضِ الْحَلَالِ عَلَى بَعْضِ مَنْ أُحِلَّ لَهُ. وَتَحْقِيقُ الْفِعْلِ بِ قَدْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ أَمْرٌ ثَابِتٌ، فَيُفِيدُ التَّحْقِيقُ التَّعْجِيبَ مِنْهُمْ كَيْفَ عَمُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ خُسْرَانِهِمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعَلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ- إِلَى- وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. أَيْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: 136] وَجَعَلَهَا فَوْقَ والثّلاثين وَمِائَةٍ تَقْرِيبًا، وَهِيَ فِي الْعَدِّ السَّادِسَةُ وَالثَلَاثُونَ وَمِائَةٌ. وَوَصَفَ فِعْلَهُمْ بِالْخُسْرَانِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُسْرَانِ نُقْصَانُ مَالِ التَّاجِرِ، وَالتَّاجِرُ قَاصِدُ الرِّبْحِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ، فَإِذَا خَسِرَ فَقَدْ بَاءَ بِعَكْسِ مَا عَمِلَ لِأَجْلِهِ (وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعَارَةُ الْخُسْرَانِ لِعَمَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ فَيَقَعُونَ فِي غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، لِأَنَّهُمْ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فَحَصَّلُوا عَكْسَ مَا تَعِبُوا لِأَجْلِهِ) ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ قَدْ طَلَبُوا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ أَضْرَارٍ فِي الدُّنْيَا مُحْتَمَلٍ لَحَاقُهَا بِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ بَنَاتِهِمْ، فَوَقَعُوا فِي أَضْرَارٍ مُحَقَّقَةٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ النَّسْلَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ يَأْنَسُونَ بِهِ وَيَجِدُونَهُ لِكِفَايَةِ مُهِمَّاتِهِمْ، وَنِعْمَةٌ عَلَى الْقَبِيلَةِ تَكْثُرُ وَتَعْتَزُّ، وَعَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ بِكَثْرَةِ مَنْ يُعَمِّرُهُ وَبِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ مَوَاهِبِ النَّسْلِ وَصَنَائِعِهِ، وَنِعْمَةٌ عَلَى النَّسْلِ نَفْسِهِ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ نَعِيمِ الْحَيَاةِ وَمَلَذَّاتِهَا. وَلِتِلْكَ الْفَوَائِدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ إِيجَادَ نِظَامِ

التَّنَاسُلِ، حِفْظًا لِلنَّوْعِ، وَتَعْمِيرًا لِلْعَالَمِ، وَإِظْهَارًا لِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ مَوَاهِبَ تَنْفَعُهُ وَتَنْفَعُ قَوْمَهُ، عَلَى مَا فِي عَمَلِهِمْ مِنِ اعْتِدَاءٍ عَلَى حَقِّ الْبِنْتِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا وَهُوَ حَقُّ الْحَيَاةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهَا وَهُوَ حَقٌّ فِطْرِيٌّ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ فَهُوَ ظُلْمٌ بَيِّنٌ لِرَجَاءِ صَلَاحٍ لِغَيْرِ الْمَظْلُومِ وَلَا يُضَرُّ بِأَحَدٍ لِيَنْتَفِعَ غَيْرُهُ. فَلَمَّا قَتَلَ بَعْضُ الْعَرَبِ بَنَاتَهُمْ بِالْوَأْدِ كَانُوا قَدْ عَطَّلُوا مَصَالِحَ عَظِيمَةً مُحَقَّقَةً، وَارْتَكَبُوا بِهِ أَضْرَارًا حَاصِلَةً، مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا التَّخَلُّصَ مِنْ أَضْرَارٍ طَفِيفَةٍ غَيْرِ مُحَقَّقَةِ الْوُقُوعِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا فِي فِعْلِهِمْ كَالتَّاجِرِ الَّذِي أَرَادَ الرِّبْحَ فَبَاءَ بِضَيَاعِ أَصْلِ مَالِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ فِعْلَهُمْ: سَفَهًا، لِأَنَّ السَّفَهَ هُوَ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَاضْطِرَابُهُ، وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ سَفَهٌ مَحْضٌ، وأيّ سَفَهٌ أَعْظَمُ مِنْ إِضَاعَةِ مَصَالِحَ جَمَّةٍ وَارْتِكَابِ أَضْرَارٍ عَظِيمَةٍ وَجِنَايَةٍ شَنِيعَةٍ، لِأَجْلِ التَّخَلُّصِ مِنْ أَضْرَارٍ طَفِيفَةٍ قَدْ تَحْصُلُ وَقَدْ لَا تَحْصُلُ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي الْخَبَرِ فَإِنَّ خُسْرَانَهُمْ مُسَبَّبٌ عَنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ. وَقَوْلُهُ: سَفَهاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْقَتْلِ: أَنَّهُ قَتْلُ سَفَهٍ لَا رَأْيَ لِصَاحِبِهِ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْعَدُوِّ وَقَتْلِ الْقَاتِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ قَتَلُوا، وُصِفُوا بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ بَالِغُونَ أَقْصَى السَّفَهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِمَّا مِنْ سَفَهاً فَتَكُونُ حَالًا مُؤَكَّدَةً، إِذِ السَّفَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِمَّا مِنْ فَاعِلِ قَتَلُوا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَعَلُوا الْقَتْلَ كَانُوا جَاهِلِينَ بِسَفَاهَتِهِمْ وَبِشَنَاعَةِ فِعْلِهِمْ وَبِعَاقِبَةِ مَا قَدَّرُوا حُصُولَهُ لَهُمْ مِنَ الضُّرِّ، إِذْ قَدْ يَحْصُلُ خِلَافُ مَا قَدَّرُوهُ وَلَوْ كَانُوا يَزِنُونَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ لَمَا أَقْدَمُوا عَلَى فِعْلَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ

سَفَهٌ. التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِك ظنّا مِنْهُم أنّهم أَصَابُوا فِيمَا فعلوا، وأنّهم علمُوا كَيفَ يرأبون مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَيُنَظِّمُونَ حَيَاتَهُمْ أَحْسَنَ نِظَامٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَغْرُورُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَجَاهِلُونَ بِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْف: 104] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَأْدِ آنِفًا، وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ- بِتَخْفِيفِ التَّاءِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِشِدَّةٍ، وَلَيْسَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مُفِيتَةً هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَسْلِيطَ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى الْأَوْلَادِ يُفِيدُ أَنَّهُ قَتْلٌ فَظِيعٌ. وَقَوْلُهُ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ نَعَى عَلَيْهِمْ خُسْرَانَهُمْ فِي أَنْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فَحُرِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَحَرَمُوا النَّاسَ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ. وَالْمَوْصُولُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ يَصِحُّ فِي الْعَطْفِ عَلَى صِلَتِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ مَعَ الصِّلَةِ مُوَزَّعَةً عَلَى طَوَائِفِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: 21] . وَانْتَصَبَ افْتِراءً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ حَرَّمُوا: لِبَيَانِ نَوْعِ التَّحْرِيمِ بِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ لِلَّهِ كَذِبًا. وَجُمْلَةُ قَدْ ضَلُّوا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِزِيَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى تَحَقُّقِ ضَلَالِهِمْ. وَالضَّلَالُ: خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوصِّلِ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَهُمْ رَامُوا الْبُلُوغَ إِلَى مَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى شُرَكَائِهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ، وَأَبْعَدَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا كَمَنْ رَامَ الْوُصُولَ فَسَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ.

[سورة الأنعام (6) : آية 141]

وَعَطْفُ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عَلَى قَدْ ضَلُّوا لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ضَلُّوا لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَنْفِي ضِدَّ الْجُمْلَة الأولى فتؤول إِلَى تَقْرِيرِ مَعْنَاهَا. وَالْعَرَبُ إِذَا أَكَّدُوا بِمِثْلِ هَذَا قَدْ يَأْتُونَ بِهِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ نَظَرًا لِمَآلِ مُفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا بِاعْتِبَارِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ حَقُّ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: 21] وَقَوْلِهِ: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 9، 10] . وَقَوْلِ الْأَعْشَى: إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا وَقَدْ يَأْتُونَ بِهِ بِالْعَطْفِ وَهُوَ عَطْفٌ صُورِيٌّ لِأَنَّهُ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْجُمْلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَلَا اعْتِدَاد بمآلهما كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] وَقَوْلِهِ: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 56] وَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي: وَالْبَيْنُ جَارَ عَلَى ضُعْفِي وَمَا عَدَلَا وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيُفِيدَ، بِالْعَطْفِ، أَنَّهُمَا خَبَرَانِ عَنْ مَسَاوِيهِمْ. وَ (كَانَ) هُنَا فِي حُكْمِ الزَّائِدَةِ: لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً، وَالْمُرَادُ: وَمَا هُمْ بِمُهْتَدِينَ، فَزِيَادَةُ (كَانَ) هُنَا لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ مِثْلُ مَوْقِعِهَا مَعَ لَامِ الْجُحُودِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ وَيُحَرِّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ بَلِيغٌ. [141] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ.

الْوَاوُ فِي: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 140] تَذْكِيرًا بِمِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِمَا أَنْشَأَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سُوءَ تَصَرُّفِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا مَنَّ بِهِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ تَسْفِيهِ آرَائِهِمْ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، عَطَفَ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ بِذَلِكَ اسْتِنْزَالًا بِهِمْ إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْغَيِّ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَالِبُ مَا ذُكِرَ فِي نَظِيرَتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الْأَنْعَام: 99] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ الصَّانِعُ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 99] ، وَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: 100] الْآيَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ: الِامْتِنَانُ وَإِبْطَالُ مَا يُنَافِي الِامْتِنَانَ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ إِذْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَا غَيْرُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ حَظٌّ فِيهَا، لِإِبْطَالِ مَا جَعَلُوهُ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ من نصيب أنصابهم مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَهُ. وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ وَالْخَلْقُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [الْوَاقِعَة: 35] أَيْ نِسَاءَ الْجَنَّةِ.

وَالْجَنَّاتُ هِيَ الْمَكَانُ مِنَ الْأَرْضِ النَّابِتُ فِيهِ شَجَرٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ يَجِنُّ أَيْ يَسْتُرُ الْكَائِنَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [265] . وَإِنْشَاؤُهَا إِنْبَاتُهَا وَتَيْسِيرُ ذَلِكَ بِإِعْطَائِهَا مَا يُعِينُهَا عَلَى النَّمَاءِ، وَدَفْعِ مَا يُفْسِدُهَا أَوْ يَقْطَعُ نبتها، كَقَوْلِه: أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الْوَاقِعَة: 64] . وَالْمَعْرُوشَاتُ: الْمَرْفُوعَاتُ. يُقَالُ: عَرَشَ الْكَرْمَةَ إِذَا رَفَعَهَا عَلَى أَعْمِدَةٍ لِيَكُونَ نَمَاؤُهَا فِي ارْتِفَاعٍ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْوَدُ لِعِنَبِهَا إِذْ لَمْ يَكُنْ مُلْقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَعَرَشَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَرْشِ وَهُوَ السَّقْفُ، وَيُقَالُ لِلْأَعْمِدَةِ الَّتِي تُرْفَعُ فَوْقَهَا أَغْصَانُ الشَّجَرِ فَتَصِيرُ كَالسَّقْفِ يَسْتَظِلُّ تَحْتَهُ الْجَالِسُ: الْعَرِيشُ. وَمِنْهُ مَا يُذْكَرُ فِي السِّيرَةِ: الْعَرِيشُ الَّذِي جعل للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ عَلَى بُقْعَتِهِ مَسْجِدٌ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ الْيَوْمَ مَوْجُودٌ بِبَدْرٍ. وَوَصْفُ الْجَنَّاتِ بِمَعْرُوشَاتٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْرُوشٌ فِيهَا، وَالْمَعْرُوشُ أَشْجَارُهَا. وَغَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ الْمُبْقَاةِ كُرُومُهَا مُنْبَسِطَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَرْفَعُ بِقَلِيلٍ، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تُزَيِّنُ وَجْهَ الْأَرْضِ فَيَرَى الرَّائِي جَمِيعَهَا أَخْضَرَ. وَقَوْلُهُ: مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ صِفَةٌ: لِ جَنَّاتٍ قُصِدَ مِنْهَا تَحْسِينُ الْمَوْصُوفِ وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أَنْ أَلْهَمَ الْإِنْسَانَ إِلَى جَعْلِهَا عَلَى صِفَتَيْنِ، فَإِنَّ ذِكْرَ مَحَاسِنِ مَا أَنْشَأَهُ اللَّهُ يَزِيدُ فِي الْمِنَّةِ، كَقَوْلِهِ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] . ومُخْتَلِفاً أُكُلُهُ حَالٌ مِنَ الزَّرْعِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ إِلَى اسْمِ الْحَالِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ النَّخْلَ وَالْجَنَّاتِ كَذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِعَجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ، فَيُفِيدُ ذِكْرُ الْحَالِ مَعَ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ تَذَكُّرَ مِثْلِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: 11] أَيْ وَإِلَيْهِ،

وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ النّحويين لأنّها مُسْتَقْبلَة عَنِ الْإِنْشَاءِ، وَعِنْدِي أَنَّ عَامِلَ الْحَالِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْصُلُ مَعْنَاهُ فِي أَزْمِنَةٍ، وَكَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً لِبَعْضِ أَزْمِنَةِ عَامِلِهَا، فَهِيَ جَدِيرَةٌ بَأَنْ تَكُونُ مُقَارِنَةً، كَمَا هُنَا. (وَالْأُكْلُ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ- لِنَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَبِضَمِّهِمَا- قَرَأَهُ الْبَاقُونَ، هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤْكَلُ، أَيْ مُخْتَلِفًا مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ. وَعُطِفَ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عَلَى: جَنَّاتٍ ... وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ. وَالْمُرَادُ شَجَرُ الزَّيْتُونِ وَشَجَرُ الرُّمَّانِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [99] . إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: مُشْتَبِهاً [الْأَنْعَام: 99] وَقَالَ هُنَا: مُتَشابِهاً وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ التَّشَابُهَ حَاصِلٌ مِنْ جَانِبَيْنِ فَلَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ لِلْمُبَالَغَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي قَوْلِهِ: وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فِي الْآيَتَيْنِ. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْحِكَايَةِ عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ وَهَذَا الْحُكْمِ فَهَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ لِتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّمَرُ:- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيم- وبضمّهما- وقرىء بِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي نَظِيرَتِهَا. وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ حَقِّ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ

أَنْ يَفْعَلَهُ، فَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الَّذِينَ حَجَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ الْحَرْثِ. وإِذا مُفِيدَةٌ لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّهَا ظَرْفٌ، أَيْ: حِينَ إِثْمَارِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الظَّرْفِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَقَبْلَ حَصَادِهِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أَيْ: كُلُوا مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ حَقِّهِ. وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَمِنَّةٌ، لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ أَنْ لَا يَأْكُلُوا إِلَّا بَعْدَ إِعْطَاءِ حَقِّهِ كَيْلَا يَسْتَأْثِرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَصْحَابِ الْحَقِّ، إلّا أنّ الله رَخَّصَ لِلنَّاسِ فِي الْأَكْلِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ أَخْضَرَ قَبْلَ يُبْسِهِ لِأَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَهُ كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تُسْرِفُوا كَمَا سَيَأْتِي. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ عَلَى اعْتِبَارِ تَأْوِيلِ الْمُعَادِ بِالْمَذْكُورِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ خِطَابٌ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِقَرِينَةِ تَسْمِيَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَقًّا. وَأُضِيفَ الْحَقُّ إِلَى ضَمِيرِ الْمَذْكُورِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيِ الْحَقُّ الْكَائِنُ فِيهِ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْحَقُّ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ: حَقُّ الْفَقِيرِ، وَالْقُرْبَى، وَالضُّعَفَاءِ، وَالْجِيرَةِ. فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ، إِذَا جَذُّوا ثِمَارَهُمْ، أَعْطُوا مِنْهَا مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْقَرَابَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [الْقَلَم: 23، 24] . فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْحَقَّ وَسَمَّاهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24، 25] ، وَسَمَّاهُ اللَّهُ زَكَاةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّهُ أَجْمَلَ مِقْدَارَهُ وَأَجْمَلَ الْأَنْوَاعَ الَّتِي فِيهَا الْحَقُّ وَوَكَلَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ شَرْعِ نُصُبِهَا وَمَقَادِيرِهَا. ثُمَّ شُرِعَتِ الزَّكَاةُ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ نُصُبَهَا وَمَقَادِيرَهَا.

وَالْحَصَادُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبِفَتْحِهَا- قَطْعُ الثَّمَرِ وَالْحَبِّ مِنْ أُصُولِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفِعَالِ أَوِ الْفَعَالِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ «جَاءُوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى مِثَالِ فِعَالٍ وَذَلِكَ الصِّرَامُ وَالْجِزَازُ وَالْجِدَادُ وَالْقِطَاعُ وَالْحِصَادُ، وَرُبَّمَا دَخَلَتِ اللُّغَةُ فِي بَعْضِ هَذَا (أَيِ اخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَبَائِلِ حَصَادٌ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَقَالَ بَعْضُهُمْ حِصَادٌ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-) فَكَانَ فِيهِ فِعَالٌ وَفَعَالٌ فَإِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ عَلَى فَعَلْتَ قَالُوا حَصَدْتُهُ حَصْدًا وَقَطَعْتُهُ قَطْعًا إِنَّمَا تُرِيدُ الْعَمَلَ لَا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ» . وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ-. وَقَدْ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، لِأَنَّ افْتِرَاضَهَا ضَرُورِيٌّ لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُسَلِمِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَدْ نَبَذَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَمَوَالِيهِمْ، وَجَحَدُوا حُقُوقَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا أَمْوَالَهُمْ، فَكَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَسُدَّ أَهْلُ الْجِدَةِ وَالْقُوَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلَّتَهُمْ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الزَّكَاةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ مِثْلُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَسُورَةِ الْبَيِّنَةِ وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَالزَّكَاةُ قَرِينَةُ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: الزَّكَاةُ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ، يَحْمِلُ عَلَى ضَبْطِ مَقَادِيرِهَا بِآيَةِ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: 103] وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، ثُمَّ تَطَرَّقُوا فَمَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الزَّكَاةَ، لأنّ هَذِه السّورة مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْحُلُولِ بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَخْذُهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا ضُبِطَتِ الزَّكَاةُ. بِبَيَانِ الْأَنْوَاعِ الْمُزَكَّاةِ وَمِقْدَارِ النُّصُبِ وَالْمُخْرَجِ مِنْهُ، بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ وُجُوبِهَا فِي مَكَّةَ، وَقَدْ حَمَلَهَا مَالِكٌ عَلَى الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَضْبُوطَةِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ

وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَمْعٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَثِيرٍ. وَلَعَلَّهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ فُرِضَتِ ابْتِدَاءً بِتَعْيِينِ النُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ، وَحَمَلَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءٌ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ وَجَعَلُوا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَحَمَلَهَا السُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، عَلَى صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ. وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الْحَقَّ فِي الثِّمَارِ وَالْحَبِّ يَوْمَ الْحَصَادِ: لِأَنَّ الْحَصَادَ إِنَّمَا يُرَادُ لِلِادِّخَارِ وَإِنَّمَا يَدَّخِرُ الْمَرْءُ مَا يُرِيدُهُ لِلْقُوتِ، فَالِادِّخَارُ هُوَ مَظِنَّةُ الْغِنَى الْمُوجِبَةِ لِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَصَادُ مَبْدَأُ تِلْكَ الْمَظِنَّةِ، فَالَّذِي لَيْسَتْ لَهُ إِلَّا شَجَرَةٌ أَوْ شَجَرَتَانِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ ثَمَرَهَا مَخْضُورًا قَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَتِ الشَّرِيعَةُ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ إِذَا أَثْمَرَ، وَلَمْ تُوجِبْ عَلَيْهِ إِعْطَاءَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ إِلَّا عِنْدَ الْحَصَادِ. ثُمَّ إِنَّ حَصَادَ الثِّمَارِ، وَهُوَ جُذَاذُهَا، هُوَ قَطْعُهَا لِادِّخَارِهَا، وَأَمَّا حَصَادُ الزَّرْعِ فَهُوَ قَطْعُ السُّنْبُلِ مِنْ جُذُورِ الزَّرْعِ ثُمَّ يُفْرَكُ الْحَبُّ الَّذِي فِي السُّنْبُلِ لِيُدَّخَرَ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ الْفَرْكُ بَقِيَّةً لِلْحَصَادِ. وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا وَجَبَ فِيمَا يُحْصَدُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مِثْلُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ، مِنْ زَيْتِهِ أَوْ مِنْ حَبِّهِ، بِخِلَافِ الرُّمَّانِ وَالْفَوَاكِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ: فَهَذِهِ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ وَمُبَيَّنَةٌ بِآيَاتٍ أُخْرَى وَبِمَا يبيّنه النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يُتَعَلَّقُ بِإِطْلَاقِهَا، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الزَّكَاةِ يَعْنِي: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: 103] وَقَدْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يُسَمُّونَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا. وَقَوْلُهُ: وَلا تُسْرِفُوا عَطْفٌ عَلَى كُلُوا، أَيْ: كُلُوا غَيْرَ مُسْرِفِينَ. وَالْإِسْرَافُ وَالسَّرَفُ: تَجَاوُزُ الْكَافِي مِنْ إِرْضَاءِ النَّفْسِ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَهَى. وَتَقَدَّمَ

عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] . وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ وَإِصْلَاحٍ، أَيْ: لَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَاف: 31] . وَالْإِسْرَافُ إِذَا اعْتَادَهُ الْمَرْءُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرْغُوبَاتِ، فَيَرْتَكِبُ لِذَلِكَ مَذَمَّاتٍ كَثِيرَةً، وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَلَذَّةٍ إِلَى مَلَذَّةٍ فَلَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ. وَقِيلَ عَطْفٌ عَلَى وَآتُوا حَقَّهُ أَيْ وَلَا تُسْرِفُوا فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ إِتْيَانِ حَقِّهِ فَتُنْفِقُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْإِنْفَاقِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا بَذْلُهُ فِي الْخَيْرِ وَنَفْعِ النَّاسِ فَلَيْسَ مِنَ السَّرَفِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ خَطَأِ التَّفْسِيرِ: تَفْسِيرُهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الصَّدَقَةِ، وَبِمَا ذَكَرُوهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ صَرَّمَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ وَفَرَّقَ ثَمَرَهَا كُلَّهُ وَلَمْ يُدْخِلْ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ تَعْمِيمُ حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَاف. وأكّد بإن لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسْرَافَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَلْزَمُ الِانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَنَفْيُ الْمَحَبَّةِ مُخْتَلِفُ الْمَرَاتِبِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ نَفْيَ الْمَحَبَّةِ يَشْتَدُّ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْإِسْرَافِ، وَهَذَا حُكْمٌ مُجْمَلٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَبَيَانُ هَذَا الْإِجْمَالِ هُوَ فِي مَطَاوِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَالْإِجْمَالُ مَقْصُودٌ. وَلِغُمُوضِ تَأْوِيلِ هَذَا النَّهْيِ وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ تَفَرَّقَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِيُعِينُوهُ فِي إِسْرَافٍ حَرَامٍ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُنْجَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 142]

فَوَجْهُ عَدَمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّ الْإِفْرَاطَ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَالْإِكْثَارَ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي تَحْصِيلِهَا، يُفْضِي غَالِبًا إِلَى اسْتِنْزَافِ الْأَمْوَالِ وَالشَّرَهِ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَإِذَا ضَاقَتْ عَلَى الْمُسْرِفِ أَمْوَالُهُ تَطَلَّبَ تَحْصِيلَ الْمَالِ مِنْ وُجُوهٍ فَاسِدَةٍ، لِيُخْمِدَ بِذَلِكَ نَهْمَتَهُ إِلَى اللَّذَّاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَأْبَهُ، فَرُبَّمَا ضَاقَ عَلَيْهِ مَالُهُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ الْإِقْلَاعُ عَنْ مُعْتَادِهِ، فَعَاشَ فِي كَرْبٍ وَضَيْقٍ، وَرُبَّمَا تَطَلَّبَ الْمَالَ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، فَوَقَعَ فِيمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْقِبُ عِيَالَهُ خَصَاصَةً وَضَنْكَ مَعِيشَةٍ. وَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مَلَامٌ وَتَوْبِيخٌ وَخُصُومَاتٌ تُفْضِي إِلَى مَا لَا يُحْمَدُ فِي اخْتِلَالِ نِظَامِ الْعَائِلَةِ. فَأَمَّا كَثْرَةُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ فَإِنَّهَا لَا تُوقِعُ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ الْمُنْفِقَ لَا يَبْلُغُ فِيهَا مَبْلَغَ الْمُنْفِقِ لِمَحَبَّةِ لَذَّاتِهِ، لِأَنَّ دَاعِيَ الْحِكْمَةِ قَابِلٌ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيدِ بِخِلَافِ دَاعِي الشَّهْوَةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يَصِحُّ طَرْدًا وَعَكْسًا: «لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [31] : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الْأَعْرَاف: 31] وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وإضاعة المَال» . [142] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 142] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) عُطِفَ: حَمُولَةً عَلَى: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الْأَنْعَامِ: 141] أَيْ: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حمولة وفرشا، فينسحب عَلَيْهِ الْقصر الّذي فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، أَي هُوَ الّذي أنشأ من الْأَنْعَام حَمُولَةً وَفَرْشًا لَا آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ظَالِمِينَ فِي جَعْلِهِمْ لِلْأَصْنَامِ حَقًّا فِي الْأَنْعَامِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَنْعامِ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ مَعْنًى يَصْلُحُ

لِلْحَمُولَةِ وَلِلْفَرْشِ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ مَعَانِي (مِنْ) . وَالْمَجْرُورُ: إِمَّا مُتَعَلِّقٌ ب أَنْشَأَ [الْأَنْعَام: 141] ، وَإِمَّا حَالٌ مِنْ حَمُولَةً أَصْلُهَا صِفَةٌ فَلَمَّا قُدِّمَتْ تَحَوَّلَتْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ فِي تَرْتِيبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، أَوْ تَقْدِيمِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَهُوَ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا، وَإِبْطَالُ جَعْلِ نَصِيبٍ مِنْهَا لِلْأَصْنَامِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ وَالْفَرْشُ فَذَلِكَ امْتِنَانٌ أُدْمِجَ فِي الْمَقْصُودِ تَوْفِيرًا لِلْأَغْرَاضِ، وَلِأَنَّ لِلِامْتِنَانِ بِذَلِكَ أَثَرًا وَاضِحًا فِي إِبْطَالِ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا الَّذِي هُوَ تَضْيِيقٌ فِي الْمِنَّةِ وَنَبْذٌ لِلنِّعْمَةِ، وَلِيَتِمَّ الْإِيجَازُ إِذْ يُغْنِي عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْشَأَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ وَأَنْشَأَ مِنْهَا حَمُولَةً وَفَرْشًا، كَمَا سَيَأْتِي. وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالشَّاءُ، وَالْمَعْزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْعُقُودِ، وَالْحَمُولَةُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَتَاعُ أَوِ النَّاسُ يُقَالُ: حَمَلَ الْمَتَاعَ وَحَمَلَ فُلَانًا، قَالَ تَعَالَى: إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: 92] وَيَلْزَمُهَا التَّأْنِيثُ، وَالْإِفْرَادُ مِثْلُ (صَرُورَةٍ) لِلَّذِي لَمْ يَحُجَّ يُقَالُ: امْرَأَةٌ صَرُورَةٌ وَرَجُلٌ صَرُورَةٌ. وَالْفَرْشُ: اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقِيلَ: الْفَرْشُ مَا لَا يُطِيقُ الْحَمْلَ مِنَ الْإِبِلِ أَيْ فَهُوَ يُرْكَبُ كَمَا يُفْرَشُ الْفَرْشُ، وَهَذَا قَوْلُ الرَّاغِبِ. وَقِيلَ: الْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ مِنَ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الْأَرْضِ فَهِيَ كَالْفَرْشِ، وَقِيلَ: الْفَرْشُ مَا يُذْبَحُ لِأَنَّهُ يُفْرَشُ عَلَى الْأَرْضِ حِينَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدِهِ، أَيْ فَهُوَ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ لِأَنَّهَا تُذْبَحُ. وَفِي «اللِّسَانِ» عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْفَرْشَ هُوَ صِغَارُ الْإِبِلِ. زَادَ فِي «الْكَشَّافِ» : «أَوِ الْفَرْشُ: مَا يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشَعْرِهِ الْفَرْشَ» يُرِيدُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [النَّحْل: 80] ،

وَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: 5- 7] الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَرِشُونَ جُلُودَ الْغَنَمِ وَالْمَعْزِ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا. وَلَفْظُ فَرْشاً صَالِحٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَمَحَامِلُهُ كُلُّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً مِنَ الْآيَةِ، وَكَأَنَّ لَفْظَ الْفَرْشِ لَا يُوَازِنُهُ غَيْرُهُ فِي جَمْعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ جَانِبِ فَصَاحَتِهِ، فَالْحَمُولَةُ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَالْفَرْشُ يَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِي اسْمِ الْفَرْشِ الصَّالِحَةِ لِكُلِّ نَوْعٍ مَعَ ضَمِيمَتِهِ إِلَى كَلِمَةِ (مِنَ) الصَّالِحَةِ لِلِابْتِدَاءِ. فَالْمَعْنَى: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا تَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَتَرْكَبُونَهُ، وَهُوَ الْإِبِلُ الْكَبِيرَةُ وَالْإِبِلُ الصَّغِيرَةُ، وَمَا تَأْكُلُونَهُ وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَمَا هُوَ فَرْشٌ لَكُمْ وَهُوَ مَا يُجَزُّ مِنْهَا، وَجُلُودُهَا. وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ حَمُولَةً وَفَرْشًا مِنَ الْأَنْعَامِ فقد أنشأ الْأَنْعَام أَيْضا، وَأول مَا يتَبَادَر للنّاس حِين ذكر الْأَنْعَام أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَحَصَلَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. وَجُمْلَةُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ مِثْلُ آيَةِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَام: 141] . وَمُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْعَامِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَفَرْشاً شَيْئًا مُلَائِمًا لِلذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ، عَقَّبَ بِالْإِذْنِ بِأَكْلِ مَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ مِنْهَا. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ إِبْطَالًا لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ عَدَمُ الْأَكْلِ مِنْ بَعْضِهَا، أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِتَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ لِزُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ تِلْكَ السُّنَنِ الْبَاطِلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةَ فَقَطْ. وَعَدَلَ عَنِ الضّمير بِأَن يَقُول: كُلُوا مِنْهَا: إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ،

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 144]

مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَضْلِيلِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَلَى بَعْضِهِمُ، الْأَكْلَ مِنْ بَعْضِهَا، فَعَطَّلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضًا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. وَمَعْنَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ النّهي عَن شؤون الشِّرْكِ فَإِنَّ أَوَّلَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْغَرَضِ هِيَ تَسْوِيلُهُ لَهُمْ تَحْرِيمَ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [168] . وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهِ يُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَة الْبَقَرَة. [143، 144] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 143 إِلَى 144] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

(144) جُمْلَةُ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ حَالٌ مِنْ مِنَ الْأَنْعامِ [الْأَنْعَامِ: 142] . ذُكِرُ تَوْطِئَةً لِتَقْسِيمِ الْأَنْعَامِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافِ الَّذِي هُوَ تَوْطِئَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أَيْ أَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً إِلَى آخِرِهِ حَالَةَ كَوْنِهَا ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ. وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَالزَّوْجُ اسْمٌ لِذَاتٍ مُنْضَمَّةٌ إِلَى غَيْرِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ، فَالزَّوْجُ ثَانٍ لِوَاحِدٍ، وَكُلٌّ مِنْ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ: زَوْجٌ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَضْمُومٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] ، وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ غَالِبًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَنْ بَنِي آدَمَ الْمُتَلَازِمَيْنِ بِعُقْدَةِ نِكَاحٍ، وَتُوُسِّعَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَأُطْلِقَ بِالِاسْتِعَارَةِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَتَقَارَنُ ذَكَرُهُ وَأُنْثَاهُ مِثْلُ حِمَارِ الْوَحْشِ وَأَتَانِهِ، وَذَكَرُ الْحَمَامِ وَأُنْثَاهُ، لِشَبْهِهَا بِالزَّوْجَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلَى الصِّنْفِ مِنْ نَوْعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [3] . وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ صَالِحٌ لِلْإِرَادَةِ هُنَا لِأَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالضَّأْنَ وَالْمَعْزَ أَصْنَافٌ لِلْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِنَ الْأَنْعَامِ ذَكَرَهَا وَأُنْثَاهَا، فَالْأَزْوَاجُ هُنَا أَزْوَاجُ الْأَصْنَافِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ زَوْجًا بِعَيْنِهِ، إِذْ لَا تُعَرَفُ بِأَعْيَانِهَا، فَثَمَانِيَةُ أَزْوَاجٍ هِيَ أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ وَأَرْبَعُ إِنَاثٍ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أَبَدَلَ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قَوْلُهُ: اثْنَيْنِ: بَدَلُ تَفْصِيلٍ، وَالْمُرَادُ: اثْنَيْنِ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْأَزْوَاجِ، أَيْ ذَكَرٌ وَأُنْثَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ التَّوَصُّلُ لِذِكْرِ أَقْسَامِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَوْطِئَةً لِلِاسْتِدْلَالِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ الْآيَةَ. وَسُلِكَ فِي التَّفْصِيلِ طَرِيقُ التَّوْزِيعِ تَمْيِيزًا للأنواع المتقاربة، فإنّ الضَّأْن والمعز متقاربان، وَكِلَاهُمَا يذبح، وَالْإِبِل وَالْبَقر مُتَقَارِبَة، وَالْإِبِلُ

تُنْحَرُ، وَالْبَقَرُ تُذْبَحُ وَتُنْحَرُ أَيْضًا. وَمِنَ الْبَقَرِ صِنْفٌ لَهُ سِنَامٌ فَهُوَ أَشْبَهُ بِالْإِبِلِ وَيُوجَدُ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَدَخَلَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْجَامُوسُ، وَالْبَقَرُ الْعَرَبِيُّ لَا سَنَامَ لَهُ وَثَوْرُهَا يُسَمَّى الْفَرِيشُ. وَلَمَّا كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَعْضَ الْغَنَمِ، وَمِنْهَا مَا يُسَمَّى بِالْوَصِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْضَ الْإِبِل كالبحيرة والوصيلة أَيْضًا، وَلَمْ يُحَرِّمُوا بَعْضَ الْمَعْزِ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْبَقَرِ، ناسب أَن يُؤْتى بِهَذَا التَّقْسِيمِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ تَمْهِيدًا لِتَحَكُّمِهُمْ إِذْ حَرَّمُوا بَعْضَ أَفْرَادٍ مِنْ أَنْوَاعٍ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا بَعْضًا مِنْ أَنْوَاعٍ أُخْرَى، وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ الْمَزْعُومَةِ تَتَأَتَّى فِي كُلِّ نَوْعٍ فَهَذَا إِبْطَالٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَا شَرَّعُوهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ بِالتَّحَكُّمِ. وَالضَّأْنُ- بِالْهَمْزِ- اسْمُ جَمْعٍ لِلْغَنَمِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمُفْرَدُ الضَّأْنِ شَاةٌ وَجَمْعُهَا شَاءٌ. وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ ضَائِنٍ. وَالضَّأْنُ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْعَامِ ذَوَاتِ الظِّلْفِ لَهُ صُوفٌ. وَالْمَعْزُ اسْمُ جمع مفرده مَا عز، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْعَامِ شَبِيهٌ بِالضَّأْنِ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلْفِ لَهُ شَعْرٌ مُسْتَطِيلٌ، وَيُقَالُ: مَعْزٌ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَمَعَزٌ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- وَبِالْأَوَّلِ قَرَأَ نَافِعٌ. وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ. وَقَرَأَ بِالثَّانِي الْبَاقُونَ. وَبَعْدَ أَنْ تَمَّ ذِكْرُ الْمِنَّةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْحُجَّةِ، غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ، فَابْتُدِئَ بِخِطَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يُجَادِلَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظْهِرَ افْتِرَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ابْتَدَعُوا تَحْرِيمَهُ مِنْ أَنْوَاعٍ وَأَصْنَافِ الْأَنْعَامِ عَلَى مَنْ عَيَّنُوهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الْآيَاتِ. فَهَذَا الْكَلَامُ رَدٌّ على الْمُشْركين، لإبطال مَا شَرَّعُوهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا الْآيَةَ.

فَقَوْلُهُ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى آخِرِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، اعْتِرَاضٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَقَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. وَضَمِيرُ: حَرَّمَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 142] ، أَوْ فِي قَوْلِهِ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 140] الْآيَةَ. وَفِي تَكْرِيرِ الِاسْتِفْهَامِ مَرَّتَيْنِ تَعْرِيضٌ بِالتَّخْطِئَةِ، فَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الْآيَةَ. فَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَكْلَهُ، وَنَفْيُ نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي طَرِيقِ اسْتِفَادَةِ هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَهُوَ مِنَ الْمُعْضِلَاتِ. فَقَالَ الْفَخْرُ: «أَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللَّهُ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِأَنْ ذَكَرَ الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ. وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، ثمّ قَالَ: إِن كَانَ حرّم مِنْهَا الذّكر وَجب أَن يكون كلّ ذكورها حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِنَاثِهَا حَرَامًا، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا» . حَاصِلُ الْمَعْنَى نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا زَعَمُوا تَحْرِيمَهُ إِيَّاهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَهُوَ من طَرِيق الْجَدَلِ. قُلْتُ: هَذَا مَا عَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى قَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السَّبْرَ غَيْرُ تَامٍّ إِذْ لَا يَنْحَصِرُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي النَّوْعِيَّةِ بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّ سَبَبَهُ بَعْضُ أَوْصَافِ الْمَمْنُوعِ وَأَحْوَالِهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: 138] وَقَالُوا:

مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الْأَنْعَام: 139] وَحَرَّمُوا الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ، فَلَمَّا قَامَ الْإِسْلَامُ جادلوا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ خَطِيبُهُمْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ الْجُشَمِيَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ مِمَّا كَانَ آبَاؤُنَا يَفْعَلُونَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ قَدْ حَرَّمْتُمْ أَصْنَافًا مِنَ النَّعَمِ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ لِلْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا التَّحْرِيمُ أَمِنْ قِبَلِ الذَّكَرِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْأُنْثَى. فَسَكَتَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَتَحَيَّرَ اهـ (أَيْ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ) وَلَمْ يَعْزُهُ الْبَغَوِيُّ إِلَى قَائِلٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحِجَاجَ كُلَّهُ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَفِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا حَرَّمُوا أَكْلَهُ وَمَا لَمْ يُحَرِّمُوهُ مَعَ تَمَاثُلِ النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نَظْمِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» الْهَمْزَةُ فِي آلذَّكَرَيْنِ لِلْإِنْكَارِ. وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِنْسَيِ الْغَنَمِ شَيْئًا مِنْ نَوْعَيْ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا وَمَا تَحْمِلُ إِنَاثُهَا وَكَذَلِكَ فِي جِنْسَيِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَبَيَّنَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي بَابِ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ (أَيْ بِالِاسْتِفْهَامِ) الْإِنْكَارَ فَانْسُجْهُ عَلَى مِنْوَالِ النَّفْيِ فَقُلْ (فِي إِنْكَارِ نَفْسِ الضَّرْبِ) أَضَرَبْتَ زَيْدًا، وَقُلْ (فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُخَاطَبِ مَضْرُوبٌ) أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا، فَإِنَّكَ إِذَا أَنْكَرْتَ مَنْ يُرَدَّدِ الضَّرْبُ بَيْنَهُمَا (أَيْ بِزَعْمِهِ) تَوَلَّدَ مِنْهُ (أَيْ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ) إِنْكَارُ الضَّرْبِ عَلَى وَجْهٍ بُرْهَانِيٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ. قَالَ شَارِحُهُ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ: لِاسْتِلْزَامِ انْتِفَاءِ مَحَلِّ التَّحْرِيمِ انْتِفَاءَ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ، أَيِ التَّحْرِيمُ، دُونَ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَإِذَا انْتَفَى (أَيْ مَحَلُّهُ) انْتَفَى هُوَ أَيِ التَّحْرِيمُ اهـ.

أَقُولُ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ اللَّهَ لَوْ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الذُّكُورِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَحَرَّمَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَلَوْ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْإِنَاثِ لِحَرَّمَ الْبَعْضَ الْآخَرَ. لِأَنَّ شَأْنَ أَحْكَامِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَّحِدَةِ بِالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَلَوْ حَرَّمَ بَعْضَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ عَلَى النِّسَاءِ لَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِذْ لَمْ يُحَرِّمْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَحْوَالِ. أَنْتَجَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمِ الْبَعْضَ الْمَزْعُومَ تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ مَنُوطَةٌ بِالْحِكْمَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ إِنَّمَا حَرَّمُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ تَحَكُّمًا وَاعْتِبَاطًا، وَكَانَ تَحْرِيمُهُمْ مَا حَرَّمُوهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. وَنَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، الْمُلْجِئَةُ لَهُمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَام النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ الْجُشَمِيِّ الْمَذْكُورُ آنِفًا، وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَقَوْلُهُ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَيْ لَوْ حَرَّمَ اللَّهُ الذَّكَرَيْنِ لَسَوَّى فِي تَحْرِيمِهِمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِنْكَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الْأَنْعَام: 139] . وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: 168] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الِاسْتِفْهَامِ فِي غَيْرِ مَعْنَى طَلَبِ الْفَهْمِ هُوَ إِمَّا مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَمِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) وَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ تَعْدِيدًا لَهُمْ وَيُقَدَّرُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ. فَالْمُفْرَدُ بَعْدَ أَمِ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ أُحَرِّمُ الْأُنْثَيَيْنِ. وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي نَظِيرِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ من مَسْلَك السّير وَالتَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَجُمْلَةُ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ

آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ شَيْئًا مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ ذَيْنِكَ الصِّنْفَيْنِ يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا ذَكَرُوهُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةُ آلذَّكَرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِفْسَارِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ. وَهَذَا تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ تَلَقِّي عِلْمٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّهَكُّمُ تَابِعٌ لِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفَرْعٌ عَنْهَا. وَهُوَ هُنَا تَجْرِيد لِلْمَجَازِ أَوْ لِلْمَعْنَى الْمَلْزُومِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ فِي الْكِنَايَةِ. وَتَثْنِيَةُ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ: بِاعْتِبَارِ ذُكُورِ وَإِنَاثِ النَّوْعَيْنِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ: حَرَّمَ إِلَى آلذَّكَرَيْنِ والْأُنْثَيَيْنِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ: حَرَّمَ أَكْلَ الذَّكَرَيْنِ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى آخِرِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ وَقَوْلِهِ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَالْبَاءُ فِي بِعِلْمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِنْبَاءِ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ نَبِّئُونِي إِنْبَاءً مُلَابِسًا لِلْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ مَا قَابَلَ الْجَهْلَ أَي إنباء عَالم. وَلَمَّا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِنْبَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ حرّموا مَا حرّموه بِجَهَالَةٍ وَسُوءِ عَقْلٍ لَا بِعِلْمٍ، وَشَأْنُ مَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ أَنْ يَكُونَ ذَا عِلْمٍ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ لَاسْتَطَاعُوا بَيَانَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَأَبْدَوْا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ وَنَسَبُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ عَطْفٌ عَلَى:

وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ تَفْصِيلِ عَدَدِ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي سَابِقِهِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْحَامِي وَمَا فِي بُطُونِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ. وأَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. فَتُؤْذِنُ بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهَا حَيْثُمَا وَقَعَتْ. وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ تَقْرِيرِيٌّ أَيْضًا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَالشُّهَدَاءُ: الْحَاضِرُونَ جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُوَ الْحَاضِرُ، أَيْ شُهَدَاءَ حِينَ وَصَّاكُمُ اللَّهُ، فَ إِذْ ظَرْفٌ لِ شُهَداءَ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ: وَصَّاكُمُ. وَالْإِيصَاءُ: الْأَمْرُ بِشَيْءٍ يُفْعَلُ فِي غَيْبَةِ الْآمِرِ فَيُؤَكَّدُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ شَأْن الْغَائِب التّأكيد. وَأُطْلِقَ الْإِيصَاءُ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُشَاهِدُوا اللَّهَ حِينَ فِعْلِهِمْ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مُؤَكَّدًا فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِيصَاءِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنَ التَّفْوِيتِ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ الْإِيصَاءُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بِهذا إِلَى التَّحْرِيمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: حَرَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِنْكَارِ مَجْمُوعِ التَّحْرِيمِ تَضُمُّنًا لِإِبْطَالِ تَحْرِيمٍ مُعَيَّنٍ ادَّعَوْهُ. وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ. فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَخُصَّ بِالْإِنْكَارِ حَالَةُ الْمُشَاهَدَةِ، تَهَكُّمًا بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يكذّبون الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ مَوْضِعَ مَنْ يَحْضُرُ حَضْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِسَمَاعِ أَوَامِرِهِ. أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا إِسْمَاعِيل عَلَيْهِم السَّلَامُ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّعُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنّ يدّعوا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَهُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا،

أَيْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ وَالْإِنْكَارِ أَنْ يَتَوَجَّهَ سُؤَالٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ مَشُوبٌ بِإِنْكَارٍ. عَمَّنِ اتَّصَفَ بِزِيَادَةِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ المخاطبين قد افتروا على الله كذبا، ثَبت أنّهم من الْفَرِيق الّذي هُوَ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ. وَالْمُشْرِكُونَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ وَضَعَ الشِّرْكَ وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ: مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَاضِعُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ طَوَاغِيتِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ جَعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِبُيُوتِ الْأَصْنَامِ وَسَدَنَتِهَا، فَهَؤُلَاءِ مُفْتَرُونَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ أُولَئِكَ بِعَزْمٍ وَتَصَلُّبٍ وَشَارَكُوهُمْ فَهُمُ اتَّبَعُوا أُنَاسًا لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يُبَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَتَوَخَّوْا مَنْ يَتَّبِعُونَ وَمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ وَهُمُ الرُّسُلُ، فَمِنْ ضَلَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ الْحَقُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَّبُوهُ، وَقَدْ صَدَّقُوا الْكَذَبَةَ وَأَيَّدُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مِنَ الظُّلْمِ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الْإِفْتَاءِ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالصَّوَابِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَبِالِاسْتِنَادِ إِلَى الدَّلِيلِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مُصَادَفَتُهُ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَبِالِاسْتِنَادِ إِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَذْهَبُ إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ، لِأَنَّ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الظُّلْمِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ ظُلْمُهُمْ لَا إِقْلَاعَ عَنْهُ، لِأَنَّ الضَلَالَ يَزْدَادُ رُسُوخًا فِي النَّفْسِ بِتَكَرُّرِ أَحْوَالِهِ وَمَظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَمَّدُوا الْإِضْلَالَ أَوِ اتَّبَعُوا مُتَعَمِّدِيهِ عَنْ تَصَلُّبٍ، فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَطَلُّبِ الْهُدَى وَإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي حَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يُغْرِيهِمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 145]

بِالِازْدِيَادِ وَالتَّمَلِّي مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، حَتَّى تَصِيرَ فِيهِمْ مَلِكَةً وَسَجِيَّةً، فَيَتَعَذَّرُ إِقْلَاعُهُمْ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ إِنَّ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا لَهُمْ، إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ، بِأَنَّ اللَّهَ يَحْرِمُهُمُ التَّوْفِيقَ وَيَذَرَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَعَمَهِهِمْ، فَاللَّهُ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا قَادَةً وَلَا مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ هُمُ الَّذِينَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْهُدَى، مِثْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ بِالْقِتَالِ مِثْلُ مُعْظَمِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ هَوَازِنَ وَمَنْ بَعْدِهَا، فَهَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا مُذْعِنِينَ ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَحَصَلَ لَهُمُ الْهُدَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانُوا مِنْ خِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصَرُوا اللَّهَ حَقَّ نَصْرِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الْهُدَى عَنْهُمْ: إِمَّا نَفْيُهُ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَإِمَّا نَفْيُ الْهُدَى الْمَحْضِ الدَّالِّ عَلَى صَفَاءِ النَّفْسِ وَنُورِ الْقَلْبِ، دُونَ الْهُدَى الْحَاصِلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ هُدًى فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] . [145] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 145] قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ، إِذْ يَتَوَجَّهُ سُؤَالُ سَائِلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ، إِذْ أُبْطِلَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْبَاطِلَةُ،

فَلِذَلِكَ خُوطِبَ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ خُوطِبَ بِبَيَانِ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ مِمَّا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ [الْأَنْعَام: 144] الْآيَاتِ. وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ الْمَأْمُورُ بِأَنْ يَقُولَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَجِدُ إِدْمَاجًا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي خِلَالِ بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الرَّدُّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ كِنَايَةِ الْإِيمَاءِ بِأَنْ لَمْ يُنْفَ تَحْرِيمُ مَا ادَّعَوْا تَحْرِيمَهُ صَرِيحًا، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَا أَجِدُهُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ مِنَ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّاسُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ مَا شَاءَ وَيُحَرِّمُ مَا شَاءَ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْإِعْلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَوْ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ حُكْمٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَحْيِ وَلَا فِي فُرُوعِهِ فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ حَقٍّ، فَاسْتُفِيدَ بُطْلَانُ تَحْرِيمِ مَا زَعَمُوهُ بِطَرِيقَةِ الْإِيمَاءِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لِأَنَّ فِيهَا نَفْيَ الشَّيْءِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ. وأَجِدُ بِمَعْنَى: أَظْفَرُ، وَهُوَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَجْدُ وَالْوِجْدَانُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي حُصُولِ الشَّيْءِ وَبُلُوغِهِ، يُقَالُ: وَجَدْتُ فُلَانًا نَاصِرًا، أَيْ حَصَلْتُ عَلَيْهِ، فَشَبَّهَ التَّحْصِيلَ لِلشَّيْءِ بِالظَّفَرِ وَإِلْفَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَالْمُرَادُ، بِ مَا أُوحِيَ مَا أَعْلَمَهُ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ النَّازِلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَالطَّاعِمُ: الْآكِلُ، يُقَالُ: طَعِمَ كَعَلِمَ، إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلشَّارِبِ، وَأَمَّا طَعِمَ بِمَعْنَى ذَاقَ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ذَوْقِ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْيِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْآيَةُ قَاصِرَةً عَلَى بَيَانِ مُحَرَّمِ الْمَأْكُولَاتِ. وَقَوْلُهُ: يَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِ طاعِمٍ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَكْوَانِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا وُقُوعُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. أَيْ لَا أَجِدُ كَائِنًا مُحَرَّمًا إِلَّا كَوْنَهُ مَيْتَةً إِلَخْ أَيْ: إِلَّا الْكَائِنَ مَيْتَةً إِلَخْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَاد من النّفي وَالِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقِيٌّ بِحَسَبِ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ غَيْرَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ بِالْمَدِينَةِ فَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَالْمَسْفُوحُ: الْمَصْبُوبُ السَّائِلُ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ. أَوْ مِنَ الْفَصْدِ فِي بَعْضِ عُرُوقِ الْأَعْضَاءِ فَيَسِيلُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَأْكُلُونَ الدَّمَ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ أَوْدَاجِ الذَّبِيحَةِ أَوْ مِنْ مَنْحَرِ الْمَنْحُورَةِ وَيَجْمَعُونَهُ فِي مَصِيرٍ أَوْ جِلْدٍ وَيُجَفِّفُونَهُ ثُمَّ يَشْوُونَهُ، وَرُبَّمَا فَصَدُوا مِنْ قَوَائِمِ الْإِبِلِ مُفَصَّدًا فَأَخَذُوا مَا يَحْتَاجُونَ مِنَ الدَّمِ بِدُونِ أَنْ يَهْلِكَ الْبَعِيرُ، وَرُبَّمَا خَلَطُوا الدَّمَ بِالْوَبَرِ وَيُسَمُّونَهُ (الْعِلْهِزَ) ، وَذَلِكَ فِي الْمَجَاعَاتِ. وَتَقْيِيدُ الدَّمِ بِالْمَسْفُوحِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ الَّذِي يَنِزُّ مِنْ عُرُوقِ اللَّحْمِ عِنْدَ طَبْخِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، أَيْ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ رِجْسٌ، كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: 68] .

وَالرِّجْسُ: الْخَبِيثُ وَالْقَذَرُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [125] . فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَوَصْفُهُ بِرِجْسٍ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَمِّهِ. وَهُوَ ذَمٌّ زَائِدٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِهِ تَحْذِيرٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ. وَتَأْنِيسٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَحْرِيمِهِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَا يَأْكُلُونَهَا إِلَّا فِي الْخَصَاصَةِ. وَخَبَاثَةُ الْخِنْزِيرِ عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ. وَتَبَيَّنَ أَخِيرًا أَنَّ لَحْمَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَرَّاتٍ حَيَوَانِيَّةٍ مُضِرَّةٍ لِآكِلِهِ أَثْبَتَهَا عِلْمُ الْحَيَوَانِ وَعِلْمُ الطِّبِّ. وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ تَأْكُلُ النَّجَاسَةِ وَتُسَمَّى الْجَلَّالَةَ وَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَكْلِ فِي صَحِيحِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الثَّلَاثَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مَنْ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلِمَا يَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ جِسْمُ الْحَيَوَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ التَّعَفُّنِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ قَدْ يَنْتَقِلُ إِلَى آكِلِهِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَلِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءً مُضِرَّةً. وَلِأَنَّ شُرْبَهُ يُورِثُ ضَرَاوَةً. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْإِيمَانِ، أَوِ عَن الطَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الْحَرَامُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِفِسْقِ صَاحِبِهِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ سَمَى الْقُرْآنُ مَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ وَصْفًا مَشْهُورًا لِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صِفَةً أَوْ بَيَانًا لِ فِسْقاً، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَيْسَ لِأَنَّ لَحْمُهُ مُضِرٌّ بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى انْحِصَارِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ الِانْحِصَارُ بِحَسَبِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ

يُحَرَّمْ بِمَكَّةَ غَيْرِهَا مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ، وَهَذِه السّورة مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ حَرَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَهِيَ: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ بِآيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ [3] . وَحَرَّمَ لَحْمَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ بِأَمْر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ لِذَاتِهِ كَالْخِنْزِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا يَوْمَئِذٍ حَمُولَةَ جَيْشِ خَيْبَرَ، وَفِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لِذَاتِهِ مُسْتَمِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ تَأْوِيلِ حَصْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَحْمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَقَدْ بَسَطَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِي تَفْسِير سُورَةِ الْمَائِدَةِ [3] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ- عِنْدَ مَنْ عَدَا ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَرَفْعِ مَيْتَةً- وَيُشْكَلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى مَيْتَةً مَنْصُوبَاتٌ وَهِيَ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَقَدْ خُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عَطْفًا عَلَى أَنْ وَصِلَتِهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وُجُودَ مَيْتَةٍ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْوُجُودِ بِفِعْلِ يَكُونَ التَّامِّ ارْتَفَعَ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [173] فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ رَبَّكَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ دُونَ الْعَلَمِيَّةِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [192] : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ لَفْظُ الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ بِالْمَرْبُوبِ وَالْوِلَايَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ

[سورة الأنعام (6) : آية 146]

لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، لِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْغَفُورِ تَعَالَى بأنّه ربّ النّبيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُلِمَ أَنَّهُ رَبُّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ رَبُّ الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الْوِلَايَةِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] أَيْ لَا مَوْلَى يُعَامِلُهُمْ بِآثَارِ الْوِلَايَةِ وَشِعَارِهَا، ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ [172] فَإِنَّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ. وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، هُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِذْنِ فِي تَنَاوُلِ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَرَفْعِ حَرَجِ التَّحْرِيمِ عَنْهَا حِينَئِذٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [182] : فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. [146] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) جُمْلَةُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَطْفٌ عَلَى جملَة: قُلْ [الْأَنْعَام: 145] عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى إِنْشَاءٍ، أَيْ بَيِّنْ لَهُمْ مَا حُرِّمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَاذْكُرَ لَهُمْ مَا حَرَّمْنَا عَلَى الَّذِينَ هَادَوْا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمر نبيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنْ يُبَيِّنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَكَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ خَبِيثٌ بَعْضُهُ لَا يَصْلُحُ أَكْلُهُ بِالْأَجْسَادِ الَّذِي قَالَ فِيهِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الْأَنْعَام: 145] ، وَمِنْهُ

مَا لَا يُلَاقِي وَاجِبَ شُكْرِ الْخَالِقِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا خَاصًّا لِحِكْمَةٍ خاصّة بأحوالهم، وموقّتة إِلَى مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْخَاتِمَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْأَخِيرِ: أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ لَيْسَ مِنْ تَشْرِيعِ اللَّهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا مَضَى، فَهُوَ ضَلَالٌ بَحْتٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَالظُّفُرُ: الْعَظْمُ الَّذِي تَحْتَ الْجِلْدِ فِي مُنْتَهَى أَصَابِعِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَخَالِبِ، وَهُوَ يُقَابِلُ الْحَافِرَ وَالظِّلْفَ وَيَكُونُ لِلْإِبِلِ وَالسَّبُعِ وَالْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالْأَرْنَبِ وَالْوَبَرِ وَنَحْوِهَا فَهَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْيَهُودِ بِنَصِّ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: «الْجَمَلُ وَالْأَرْنَبُ وَالْوَبَرُ فَلَا تَأْكُلُوهَا» . وَالشُّحُومُ: جَمْعُ شَحْمٍ، وَهُوَ الْمَادَّةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ اللَّحْمِ فِي جَسَدِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لِلْيَهُودِ أَكْلَ لُحُومِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَحرم عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا كَانَ فِي الظَّهْرِ. والْحَوايا مَعْطُوفٌ عَلَى ظُهُورُهُما. فَالْمَقْصُودُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُبَاحِ لَا عَلَى الْمُحَرَّمِ، أَيْ: أَوْ مَا حَمَلَتِ الْحَوَايَا، وَهِيَ جَمْعُ حَوِيَّةٍ، وَهِيَ الْأَكْيَاسُ الشَّحْمِيَّةُ الَّتِي تَحْوِي الْأَمْعَاءَ. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هُوَ الشَّحْمُ الَّذِي يَكُونُ مُلْتَفًّا عَلَى عَظْمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السَّمْنِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِعُسْرِ تَجْرِيدِهِ عَنْ عَظْمِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّحُومَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلام، فَهِيَ غير الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي أَجْمَلَتْهَا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُنَالِكَ لِأَنَّ الْجَرَائِمَ الَّتِي عُدَّتْ عَلَيْهِمْ هُنَالِكَ كُلَّهَا مِمَّا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يُرَادُ مِنْهُ الْبَغْيُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ زَمَنَ مُوسَى. فِي مُدَّةِ التِّيهِ، مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَة: 61] وَقَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَة: 24] وَعِبَادَتِهِمِ الْعِجْلَ. وَقَدْ عُدَّ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمُنَاسَبَةُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لِلْكَوْنِ جَزَاءً لِبَغْيِهِمْ: أَنَّ بَغْيَهُمْ نَشَأَ عَنْ صَلَابَةِ نُفُوسِهِمْ وَتَغَلُّبِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فِيهِمْ عَلَى الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ تَخْفِيفًا مِنْ صَلَابَتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارُ مِنَّتَهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِبَاحَةِ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ لَهُمْ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ الْقُرْآنُ وَحَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ مِمَّا لَمْ يخْتَلف فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَحْرِيمَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّا شَمِلَهُ نَصُّ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ هُنَا مَا خُصُّوا بِتَحْرِيمِهِ مِمَّا لَمْ يُحَرَّمْ فِي الْإِسْلَامِ، أَيْ مَا كَانَ تَحْرِيمه موقّتا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَلْتَفِتُ الذِّهْنُ إِلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ فَيَتَرَقَّبُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِمَنْزِلَةِ الِافْتِتَاحِ بِ (أَمَّا) . وَجُمْلَةُ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ تَذْيِيلٌ يُبَيِّنُ عِلَّةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ مَقْصُودٌ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: حَرَّمْنا فَهُوَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ: لِ جَزَيْناهُمْ قُدِّمَ

[سورة الأنعام (6) : آية 147]

عَلَى عَامِلِهِ وَمَفْعُولِهِ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالتَّثْبِيتِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ جَزَاءٌ لِبَغْيِهِمْ. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا قَصْدًا لِتَحْقِيقِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَإِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا اقْتِدَاءً بِيَعْقُوبَ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا انْتَبَزُوا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّهُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ الْمُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ فَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ كَانَ حَرَّمَهَا يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ نَذْرًا لِلَّهِ فَاتَّبَعَهُ أَبْنَاؤُهُ اقْتِدَاءً بِهِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ بِحَقٍّ: لِأَنَّ يَعْقُوبَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [93] . وَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ لِنَذْرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ بَدَنِيَّةٍ لَا يَسْرِي إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَحْرِيمَهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَذْكُورٌ تَحْرِيمُهَا فِي التَّوْرَاةِ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَهَا. فَالتَّأْكِيدُ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَنَظِيرُ قَوْلِهِ هُنَا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [93] . عَقِبَ قَوْلِهِ: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ [آل عمرَان: 93- 95] . [147] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 147] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) تَفْرِيعٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الَّذِي أَبْطَلَ تَحْرِيمَ مَا حَرَّمُوهُ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الْأَنْعَام: 143] الْآيَاتِ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَرْعَوُوا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ

[سورة الأنعام (6) : آية 148]

وَكَذَّبُوكَ فِي نَفْيِ تَحْرِيمِ اللَّهِ مَا زَعَمُوا أَنَّهُ حَرَّمَهُ فَذَكِّرْهُمْ بِبَأْسِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عَمَّا زَعَمُوهُ، وَذَكِّرْهُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ لَعَلَّهُمْ يُبَادِرُونَ بِطَلَبِ مَا يُخَوِّلُهُمْ رَحْمَتَهُ مِنِ اتِّبَاعِ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، فَيَعُودُ ضَمِيرُ: كَذَّبُوكَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَام: سابقه وَلَا حَقه، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ تَنْبِيهٌ لَهُمْ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ إِمْهَالٌ دَاخِلٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ رَحْمَةً مُؤَقَّتَةً، لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَعْنَى فِعْلِ: كَذَّبُوكَ الِاسْتِمْرَارَ، أَيْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ هادُوا [الْأَنْعَام: 146] ، تَكْمِلَةً لِلِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَرْضَ تَكْذِيبِهِمْ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [الْأَنْعَام: 146] إِلَخْ، لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُمْ بِحَيْثُ يُكَذِّبُونَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمِ الْإِمْهَالُ بِالرِّضَى، فَقِيلَ لَهُمْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِمْهَالُهُ الْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا غَالِبًا. وَقَوْلُهُ: وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فِيهِ إِيجَازٌ بِحَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَذُو بَأْسٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إِذَا أَرَادَهُ. وَهَذَا وَعِيدٌ وَتَوَقُّعٌ وَهُوَ تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنهم مجرمون. [148] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ

(148) اسْتِئْنَافٌ رَجَعَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنِ اعْتَرَضَ بَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْأَنْعَام: 145] ، فَلَمَّا قَطَعَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي شَأْنِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ، وَقِسْمَةِ مَا قَسَّمُوهُ، اسْتَقْصَى مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَهِيَ حُجَّةُ الْمَحْجُوجِ الْمَغْلُوبِ الَّذِي أَعْيَتْهُ الْمُجَادَلَةُ وَلَمْ تَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ، إِذْ يَتَشَبَّثُ بِالْمَعَاذِيرِ الْوَاهِيَةِ لِتَرْوِيجِ ضَلَالِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ وَقُدِّرَ. فَإِنْ كَانَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [الْأَنْعَام: 147] عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ أَقْوَالِهِمْ، فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [35] : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، كَانَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ اطِّلَاعًا عَلَى مَا تُكِنُّهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ تَزْوِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24] . وَإِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَة النّحل فالإخبار بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيُعِيدُونَ مَعْذِرَتَهُمُ الْمَأْلُوفَةَ. وَحَاصِلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ: أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى لَصَرَفَهُمْ عَنْهُ وَلَمَّا يَسَّرَهُ لَهُمْ، يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ إفحام الرّسول عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام وَإِبْطَالِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْعُقُولِ الْأَفِنَةِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَحِفْظِ قَوَانِينِ الْوُجُود، وَهُوَ التصرّف الَّذِي نُسَمِّيهِ نَحْنُ بِالْمَشِيئَةِ وَبِالْإِرَادَةِ، وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ بِالرِّضَى وَبِالْمَحَبَّةِ، فَالْأَوَّلُ تَصَرُّفُ التَّكْوِينِ وَالثَّانِي تَصَرُّفُ التَّكْلِيفِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ وَضْعِ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمِنَ التَّحْرِيمِ

وَالتَّحْلِيلِ مَا هُوَ إِلَّا بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمُ التَّمَكُّنَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ حِينَ لَمْ يُمْسِكْ عِنَانَ أَفْعَالِهِمْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِمَا فَعَلُوهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ سَلْبِ تَمَكُّنِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يُهِمُّه سُوءَ تَصَرُّفِهِمْ فِيمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ لَكَانَ الْبَاطِلُ وَالْحَقُّ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ عَقْلٌ حَصِيفٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ حِينَ يَتَوَهَّمُونَ ذَلِكَ كَانُوا غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَّا إِلَى جَانِبِ نِحْلَتِهِمْ وَمُعْرِضِينَ عَنْ جَانِبِ مُخَالِفِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَقُولُونَ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا غَافِلُونَ عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ. مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ: لَوْ شَاءَ الله مَا قُلْتُ لَكُمْ أَنَّ فِعْلَكُمْ ضَلَالٌ، فَيَكُونُ اللَّهُ عَلَى حَسَبِ شُبْهَتِهِمْ قَدْ شَاءَ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ إِذْ شَاءَ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ وَشَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَا تُشْرِكُوا. وَسَبَبُ هَذِهِ الضَّلَالَةِ الْعَارِضَةِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْأُمَمِ، الَّتِي تَلُوحُ فِي عُقُولِ بَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاذِيرِهِمْ لِلْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ أَنْ يَقُولُوا: أَمْرُ اللَّهِ أَوْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، هُوَ الْجَهْلُ بِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَضْعِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَتْ أَنْ يَجْعَلَ حِجَابًا بَيْنَ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ الْحِجَابُ هُوَ نَامُوسُ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَارْتِبَاطِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى بِالْكَسْبِ وَالِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ، وَيُسَّمَى بِالْقُدْرَةِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَوْرِدُ التَّكْلِيفِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَمَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ بِحِكْمَةٍ فَجَعَلَ قِوَامَهُ هُوَ تَدْبِيرُ الْأَشْيَاءِ أُمُورَهَا مِنْ ذَوَاتِهَا بِحَسَبِ قُوًى أَوْدَعَهَا فِي الْمَوْجُودَاتِ لِتَسْعَى لِمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَزَادَ الْإِنْسَانَ مَزِيَّةً بِأَنْ وَضَعَ لَهُ عَقْلًا يُمَكِّنُهُ مِنْ تَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ عَلَى حَسَبِ احْتِيَاجِهِ، وَوَضَعَ لَهُ فِي عَقْلِهِ وَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا قَيَّضَ لَهُ دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ تُنَبِّهُهُ إِلَيْهِ إِنْ عَرَتْهُ غَفْلَةٌ، أَوْ حَجَبَتْهُ شَهْوَةٌ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يَرْعَوِ غَيِّهِ، فَقَدْ خَانَ بِسَاطَ عَقْلِهِ بِطَيِّهِ.

وَبِهَذَا ظَهَرَ تَخْلِيطُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ بَيْنَ مَشِيئَةِ الْعِبَادِ وَمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُنَا قَوْلَهُمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا هُوَ مَشِيئَةٌ لَهُمْ مَشِيئَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ قَدْ أَثْبَتَ مَشِيئَتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: 107] فَهِيَ مَشِيئَةُ تَكْوِينِ الْعُقُولِ وَتَكْوِينِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ. فَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ الَّتِي اعْتَلُّوا بِهَا مَشِيئَةٌ خَفِيَّةٌ لَا تَتَوَصَّلُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى كُنْهِهَا عُقُولُ الْبَشَرِ، فَلِذَلِكَ نَعَى اللَّهُ عَلَيْهِمِ اسْتِنَادَهُمْ إِلَيْهَا عَلَى جَهْلِهِمْ بِكُنْهِهَا، فَقَالَ: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَشَبَّهَ بِتَكْذِيبِهِمْ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ مَقْصِدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ تَكْذِيب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [107] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَنْهَضُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْنَا، وَإِنْ حَاوَلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم أنبياءهم مثل مَا كَذَّبَكَ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا تَكْذِيب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ بِحُجَّةٍ أَنَّ اللَّهَ رَضِيَهُ لَهُمْ وَشَاءَهُ مِنْهُمْ مَشِيئَةَ رِضًى، فَكَذَلِكَ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ مُسْتَنِدِينَ إِلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَسَمَّى اللَّهُ اسْتِدْلَالَهُمْ هَذَا تَكْذِيبًا، لِأَنَّهُمْ سَاقُوهُ مَسَاقَ التَّكْذِيبِ وَالْإِفْحَامِ، لَا لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ لَا يَقُولُ بِهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: 107] نُرِيدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا فَكَلَامُهُمْ مِنْ بَابِ كَلَامِ الْحَقِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» أنّه قرىء: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ- بِتَخْفِيفِ ذَالِ كَذَّبَ-

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ قِرَاءَةٌ مَوْضُوعَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ يَعْنِي شَاذَّةً شُذُوذًا شَدِيدًا وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، وَلَعَلَّهَا مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفَخْرِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا غَايَةٌ لِلتَّكْذِيبِ مَقْصُودٌ مِنْهَا دَوَامُهُمْ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ أَوْقَاتِ وُجُودِهِمْ. فَلَمَّا ذَاقُوا بَأْسَ اللَّهِ هَلَكُوا وَاضْمَحَلُّوا، وَلَيْسَتِ الْغَايَةُ هُنَا لِلتَّنْهِيَةِ: وَالرُّجُوعِ عَنِ الْفِعْلِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الرُّجُوعُ بَعْدَ اسْتِئْصَالِهِمْ. وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ، فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] . وَالْبَأْسُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعْظِيمِهِ وَتَهْوِيلِهِ. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَوَابِ عَنْ مَقَالِهِمُ الْوَاقِعِ أَوِ الْمُتَوَقَّعِ بِقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، فَفَصَّلَ جُمْلَةَ: قُلْ لِأَنَّهَا جَارِيَة مجْرى المقاولة وَالْمُجَاوَبَةِ كَمَا تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَجَاءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ الْإِفْحَامُ وَالتَّهَكُّمُ بِمَا عُرِفَ مِنْ تَشَبُّثِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَجُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَحْقِيقِ الْإِسْنَادِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، لِأَنَّ أَصْلَ هَلْ أَنَّهَا حَرْفٌ بِمَعْنَى «قَدْ» لِاخْتِصَاصِهَا بِالْأَفْعَالِ، وَكَثُرَ وُقُوعُهَا بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، فَكَثُرَ حَذْفُ الْهَمْزَةِ مَعَهَا حَتَّى تُنُوسِيَتِ الْهَمْزَةُ فِي مَشْهُورِ الْكَلَامِ وَلَمْ تَظْهَرْ مَعَهَا إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [91] . فَدَلَّ هَلْ عَلَى أَنَّهُ سَائِلٌ عَنْ أَمْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَقَّقًا كَأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي حُصُولِهِ فَيُغْرِيهِمْ بِإِظْهَارِهِ حَتَّى إِذَا عَجَزُوا كَانَ قَطْعًا لِدَعْوَاهُمْ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّهَكُّمُ بِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا- إِلَى- وَلا حَرَّمْنا، فَأَظْهَرَ لَهُمْ من القَوْل مِنَ يُظْهِرُهُ الْمُعْجَبُ بِكَلَامِهِمْ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ بَادِيَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَطْلُبُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَيْفَ وَهُوَ يُصَارِحُهُمْ بِالتَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ صَبَاحَ مَسَاءٍ. وَالْعِلْمُ: مَا قَابَلَ الْجَهْلَ، وَإِخْرَاجُهُ الْإِعْلَامُ بِهِ، شُبِّهَتْ إِفَادَةُ الْمَعْلُومِ لِمَنْ يَجْهَلُهُ بِإِخْرَاجِ الشَّيْءِ الْمَخْبُوءِ، وَذَلِكَ مِثْلُ التَّشْبِيهِ فِي قَول النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعِلْمٌ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ» وَلِذَلِكَ كَانَ لِلْإِتْيَانِ: بِ عِنْدَكُمْ مَوْقِعٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ (عِنْدَ) فِي الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ الْمُخْتَصِّ بِالَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ لَفْظُهَا، فَهِيَ مِمَّا يُنَاسِبُ الْخَفَاءَ، وَلَوْلَا شُيُوعُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ لَقُلْتُ: إِنَّ ذِكْرَ (عِنْدَ) هُنَا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ لِلْإِعْلَامِ. وَجُعِلَ إِخْرَاجُ الْعِلْمِ مُرَتَّبًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ عَلَى الْعِنْدِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَقْصُودٌ بِهِ مَا يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ. وَاللَّامُ فِي: فَتُخْرِجُوهُ لَنا لِلْأَجْلِ وَالِاخْتِصَاصِ، فَتُؤْذِنُ بِحَاجَةِ مَجْرُورِهَا لِمُتَعَلَّقِهَا، أَيْ فَتُخْرِجُوهُ لِأَجْلِنَا: أَيْ لِنَفْعِنَا، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ أَبْدَعْتُمْ فِي هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي أَبْدَيْتُمُوهُ فِي اسْتِفَادَتِكُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمْتُمُوهُ بِدَلَالَةِ مَشِيئَةٍ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَوْ شَاءَ لَمَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَزِيدُونَا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ. وَهَذَا الْجَوَابُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ صُورِيًّا وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ جَازِمًا بِانْتِفَاءِ مَا اسْتَفْهَمَ عَنْهُ أَعْقَبَهُ بِالْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَجُمْلَةُ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ بِإِضْرَابٍ

[سورة الأنعام (6) : آية 149]

عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَبَعْدَ أَنْ تَهَكَّمَ بِهِمْ جَدَّ فِي جَوَابِهِمْ، فَقَالَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: لَا عِلْمَ عِنْدَكُمْ. وَقُصَارَى مَا عِنْدَكُمْ هُوَ الظَّنُّ الْبَاطِلُ وَالْخَرْصُ. وَهَذَا يُشْبِهُ سَنَدَ الْمَنْعِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْجَدَلِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ الظَّنُّ الْكَاذِبُ وَهُوَ إِطْلَاقٌ لَهُ شَائِعٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي هَذِه السّورة [116] . [149] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 149] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الْأَنْعَام: 148] تَكْمِلَةٌ لِلْجَوَابِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْمُعَارَضَةَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْجَدَلِ. وَأُعِيدَ فِعْلُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ فِعْلِ: قُلْ وَقَدْ كُرِّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَعَاقِبَةً بِدُونِ عَطْفٍ، وَالنُّكْتَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ. وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ تُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ هُوَ شَرْطٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُكُمْ لِمُجَرَّدِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ: لِلَّهِ لَا لَكُمْ، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ حُجَّتَهُمْ دَاحِضَةٌ. وَالْحُجَّةُ: الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ أَحَدٍ فِي دَعْوَاهُ وَعَلَى مُصَادَفَةِ الْمُسْتَدِلِّ وَجْهَ الْحَقِّ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [150] . وَالْبَالِغَةُ هِيَ الْوَاصِلَةُ: أَيْ الْوَاصِلَةُ إِلَى مَا قُصِدَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ غَلَبُ الْخَصْمِ، وَإِبْطَالُ حُجَّتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [الْقَمَر: 5] ، فَالْبُلُوغُ اسْتِعَارَةٌ مَشْهُورَةٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ الشَّيْءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِجْرَاءِ اسْتِعَارَةٍ

[سورة الأنعام (6) : آية 150]

مَكْنِيَّةٍ فِي الْحُجَّةِ بِأَنْ تُشَبَّهَ بِسَائِرٍ إِلَى غَايَةٍ، وَقَرِينَتُهَا إِثْبَاتُ الْبُلُوغِ، وَلَا حَاجَةَ أَيْضًا إِلَى جَعْلِ إِسْنَادِ الْبُلُوغِ إِلَى الْحُجَّةِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، أَيْ بَالِغًا صَاحِبُهَا قَصْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ الِاسْتِعَارَةِ فِي مَعْنَى الْبُلُوغِ، فَالتَّفْسِيرُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ أَوْلَى، وَالْمَعْنَى: لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْغَالِبَةُ لَكُمْ، أَيْ وَلَيْسَ اسْتِدْلَالُكُمْ بِحُجَّةٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى ظُهُورِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: تَفَرَّعَ عَلَى بُطْلَانِ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاهُمْ، أَيْ لَوْ شَاءَ هِدَايَتَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يُغَيِّرَ عُقُولَهُمْ فَتَأْتِي عَلَى خِلَافِ مَا هُيِّئَتْ لَهُ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِوَجْهِ عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ أَوْ خَارِقِ عَادَةٍ لِأَجْلِهِمْ، إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ قَضَتْ أَنْ لَا يُعَمِّمَ عِنَايَتَهُ بَلْ يَخْتَصَّ بِهَا بَعْضَ خَاصَّتِهِ، وَأَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي الْهِدَايَةِ بِوَضْعِ الْعُقُولِ وَتَنْبِيهِهَا إِلَى الْحَقِّ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، فَالْمَشِيئَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ الْمَقْصُودَةِ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا [الْأَنْعَام: 148] وَإِلَّا لَكَانَ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَثْبَتَ نَظِيرَهُ عَقِبَ الْإِنْكَارِ فَتَتَنَاقَضَ الْمُحَاجَّةُ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ تُسَاوِي عَدَمَ الْإِشْرَاكِ وَعَدَمَ التَّحْرِيمِ، فَلَا يَصْدُقُ جَعْلُ كليهمَا جَوَابا للو الِامْتِنَاعِيَّةِ، فَالْمَشِيئَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ هِيَ الْمَشِيئَةُ الْخَفِيَّةُ الْمَحْجُوبَةُ، وَهِيَ مَشِيئَةُ التَّكْوِينِ، وَالْمَشِيئَةُ الْمُنْكَرَةُ عَلَيْهِمْ هِيَ مَا أَرَادُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْوَاقِعِ عَلَى الرِّضَى وَالْمَحَبَّةِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي كَلَّلَهَا مِنَ الْإِيجَازِ مَا شَتَّتَ أَفْهَامًا كَثِيرَةً فِي وَجْهِ تَفْسِيرِهَا لَا يَخْفَى بُعْدُهَا عَنْ مُطَالِعِ التَّفَاسِيرِ وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هُنَا. [150] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 150] قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

(150) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلِانْتِقَالِ مِنْ طَرِيقَةِ الْجَدَلِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي إِبْطَالِ زَعْمِهِمْ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِطَرِيقَةِ التَّبْيِينِ، أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا، تَقَصِّيًا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ. وَلِذَلِكَ أُعِيدَ أَمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يُظْهِرُ كِذْبَ دَعْوَاهُمْ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ بِدُونِ عَطْفٍ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ وَلِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ المحاورة كَمَا قدمْنَاهُ آنِفًا. وهَلُمَّ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ لِلْحُضُورِ أَوِ الْإِحْضَارِ، فَهِيَ تَكُونُ قَاصِرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلُمَّ إِلَيْنا [الْأَحْزَاب: 18] وَمُتَعَدِّيَةً كَمَا هُنَا، وَهُوَ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ يَلْزَمُ حَالَةً وَاحِدَةً فَلَا تَلْحَقُهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْمُخَاطَبِ، فَتَقُولُ: هَلُمَّ يَا زَيْدُ، وَهَلُمَّ يَا هِنْدُ، وَهَكَذَا، وَفِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ- أَعْنِي بَنِي تَمِيمٍ- تَلْحَقُهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ، يَقُولُونَ: هَلُمِّي يَا هِنْدُ، وَهَلُمَّا، وَهَلُمُّوا، وَهَلْمُمْنَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْأَفْصَحِ فَقَالَ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ. وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى شَاهِدٍ، وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ إِذْ لَا يَلْقَوْنَ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا نسبوا إِلَيْهِ تَحْرِيمه من شؤون دِينِهِمِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَأُضِيفَ الشُّهَدَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِزِيَادَةِ تَعْجِيزِهِمْ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُحِقِّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُهَدَاءُ يَعْلَمُهُمْ فَيُحْضِرُهُمْ إِذَا دُعِيَ إِلَى إِحْقَاقِ حَقِّهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: ارْكَبْ فَرَسَكَ وَالْحَقْ فُلَانًا، لِأَنَّ كُلَّ ذِي بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ لَا يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَسٌ، فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ لَهُ فَرَسًا خَاصًّا وَلَكِنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَسٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الْأَحْزَاب: 59] وَقَدْ لَا يَكُونُ لِإِحْدَاهِنَّ جِلْبَابٌ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُئِلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِإِحْدَانَا جِلْبَابٌ، قَالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا .

ووصفهم بِالْمَوْصُولِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى إِعْدَادِ أَمْثَالِهِمْ لِلشَّهَادَةِ، فَالطَّالِبُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّهُمْ لَا يَخْلَوْنَ عَنْ شُهَدَاءَ بِحَقِّهِمْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَشْهَدُوا لَهُمْ وَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِتَعْجِيزِهِمُ الْبَيِّنِ إِذَا لَمْ يُحْضِرُوهُمْ، كَمَا هُوَ الْمَوْثُوقُ بِهِ مِنْهُمْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: 144] فَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ شُهَدَاءُ. وَإِشَارَةُ هَذَا تُشِيرُ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْجِدَالِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الْأَنْعَام: 143] الْآيَاتِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: 144] . ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى فَرْضِ أَنْ يُحْضِرُوا شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ، قَوْله: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، أَيْ إِنْ فُرِضَ الْمُسْتَبْعَدُ فَأَحْضَرُوا لَكَ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الَّذِي زَعَمُوهُ، فَكَذِّبْهُمْ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ، فَقَوْلُهُ: فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ الَّذِي يُصَدِّقُ أَحَدًا يُوَافِقُهُ فِي قَوْلِهِ، فَاسْتُعْمِلَ النَّهْيُ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِي لَازِمِهِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّهَادَةِ مَعَهُمْ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ شَاهِدُهُ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، فَقَرِينَةُ الْكِنَايَةِ ظَاهِرَةٌ. وَعُطِفَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَصْدِيقِهِمُ، النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا. وَأَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ قَوْلَهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصِّلَةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَهُمْ مِمَّنْ يُتَجَنَّبُ اتِّبَاعُهُمْ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا الْيَهُودُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ [الْأَنْعَام: 147] وَسَمَّى دِينَهُمْ هَوًى لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إِلَى مُسْتَنَدٍ وَلَكِنَّهُ إِرْضَاءٌ لِلْهَوَى. وَالْهَوَى غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْمُلَائِمِ الْعَاجِلِ الَّذِي عَاقِبَتُهُ ضَرَرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الأنعام (6) : آية 151]

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا وَالْمَقْصُودُ عطف الصّلة عَلَى الصِّلَةِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الصِّلَتَيْنِ مُتَّحِدُونَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَهَذَا كَعَطْفِ الصِّفَاتِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ، أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا ... مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يُعَادَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْهُ، وَلَكِنْ أُجْرِيَ الْكَلَامُ على خلاف مقتصى الظَّاهِرِ لِزِيَادَةِ التَّشْهِيرِ بِهِمْ، كَمَا هُوَ بَعْضُ نُكَتِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَقِيلَ: أُرِيدُ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ: الَّذِينَ كذّبوا الرّسول عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام وَالْقُرْآنَ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، وَبِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ: الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فِي أَوَّلِ هَذِه السُّورَة [1] . [151] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 151] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا ادَّعَوْا تَحْرِيمَهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ، إِلَى دَعْوَتِهِمْ لِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ، الَّتِي عِلْمُهَا حَقٌّ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا اخْتَلَقُوا مِنِ افْتِرَائِهِمْ وَمَوَّهُوا بِجَدَلِهِمْ. وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ ظَاهِرَةٌ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَعْلِيمٍ وَإِرْشَادٍ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِفِعْلِ الْقَوْلِ اسْتِرْعَاءً لِلْأَسْمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَعُقِّبَ بِفِعْلِ: تَعالَوْا اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ السَّفَاسِفِ الَّتِي اهتمّوا بهَا وَهَذَا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: 177] الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 19] الْآيَةَ، لِيَعْلَمُوا الْبَوْنَ بَيْنَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ قَوْمَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، مِنْ جَلَائِلِ الْأَعْمَالِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا أَزْمَانَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ. وَافْتِتَاحُهُ بِطَلَبِ الْحُضُورِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي إِعْرَاضٍ. وَقَدْ تَلَا عَلَيْهِم أحكاما قد كَانُوا جَارِينَ عَلَى خِلَافِهَا مِمَّا أَفْسَدَ حَالَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا وَالْأَمْرِ بِضِدِّهَا. وَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ بِهَا إِصْلَاحُ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا افْتتح بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. الثَّانِي: مَا بِهِ حِفْظُ نِظَامِ تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الْأَنْعَام: 152] . الثَّالِثُ: أَصْلٌ كُلِّيٌّ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْهُدَى وَهُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهُ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: 153] . وَقَدْ ذُيِّلَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالْوِصَايَةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَ (تَعَالَ) فِعْلُ أَمْرٍ، أَصْلُهُ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُرَادُ صُعُودُهُ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَوْقَ مَكَانِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَادَوْا إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ ارْتَقَى الْمُنَادِي عَلَى رَبْوَةٍ لِيُسْمَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ (تَعَالَ) عَلَى طَلَبِ الْمَجِيءِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، فَأَصْلُهُ فِعْلُ أَمْرٍ لَا مَحَالَةَ مِنَ التَّعَالِي وَهُوَ تَكَلُّفُ الِاعْتِلَاءِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى (اقْدَمْ) ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَا يُقَالُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى (قَدِمْتُ) ، وَلَا تَعَالَى إِلَيَّ فُلَانٌ بِمَعْنَى جَاءَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ لَزِمَتْهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِ بِهِ فَيُقَالُ: تَعَالَوْا وَتَعَالَيْنَ. وَبِذَلِكَ رَجَّحَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ وَلَيْسَ بِاسْمِ فِعْلٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمَا لَحِقَتْهُ الْعَلَامَاتُ، وَلَكَانَ مِثْلَ: هَلُمَّ وَهَيْهَاتَ. وأَتْلُ جَوَابُ تَعالَوْا، وَالتِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ، وَالسَّرْدُ وَحِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: 102] . وأَلَّا تُشْرِكُوا تَفْسِيرٌ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقَوْلِ. وَذُكِرَتْ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اللُّحُومِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْفَوَاحِشِ أَوْلَى مِنَ الْعُكُوفِ عَلَى دِرَاسَةِ أَحْكَامِ الْأَطْعِمَةِ، تَعْرِيضًا بِصَرْفِ الْمُشْرِكِينَ هِمَّتَهُمْ إِلَى بَيَانِ الْأَطْعِمَةِ وَتَضْيِيعِهِمْ تَزْكِيَةَ نُفُوسِهِمْ وَكَفِّ الْمَفَاسِدِ عَنِ النَّاسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها [الْأَعْرَاف: 32، 33] الْآيَةَ. وَقَدْ ذُكِرَتِ الْمُحَرَّمَاتُ: بَعْضُهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَبَعْضُهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ أَوِ الْمُؤَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَنُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي صِيغَةِ الطَّلَبِ لَهَاتِهِ الْمَعْدُودَاتِ سَنُبَيِّنُهَا. وَأَن تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ: أَتْلُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ. فَجُمْلَةُ: أَلَّا تُشْرِكُوا فِي مَوْقِعِ عَطْفِ بَيَانٍ.

وَالِابْتِدَاءُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الِاعْتِقَادِ هُوَ مِفْتَاحُ بَابِ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَاجِلِ، وَالْفَلَاحِ فِي الْآجِلِ. وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عَطْفٌ على جملَة: أَلَّا تُشْرِكُوا. وإِحْساناً مَصْدَرٌ نَابَ مَنَابَ فِعْلِهِ، أَيْ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ: وَهُوَ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَقَعَ هُنَا فِي عِدَادِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْإِسَاءَةُ لِلْوَالِدَيْنِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ اعْتِنَاءً بِالْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِرَّهُمَا، وَالْبِرُّ إِحْسَانٌ، وَالْأَمْرُ بِهِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَهْلَ جلافة، فَكَانَ الْأَوْلَاد لَا يُوَقِّرُونَ آبَاءَهُمْ إِذَا أَضْعَفَهُمُ الْكِبَرُ. فَلِذَلِكَ كَثُرَتْ وِصَايَةُ الْقُرْآنِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْوَأْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [137] : وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ. وَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا الِابْتِدَائِيَّةُ فَجُعِلَ الْمَعْلُول كأنّه مبتدىء مِنْ عِلَّتِهِ. وَالْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً لِقَتْلِ الْأَوْلَادِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعَ الْحُصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى، فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [31] : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ إِمَّا لِلْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِهِنَّ وَإِمَّا لِتَوَقُّعٍ ذَلِكَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ، وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ: إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِينَ تَنْدُبُنِي ... فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ... فَيُكْشَفُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [137] . وَجُمْلَةُ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ مُعْتَرِضَةٌ، مُسْتَأْنَفَةٌ، عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِمْ، إِبْطَالًا لِمَعْذِرَتِهِمْ: لِأَنَّ الْفَقْرَ قَدْ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِقَتْلِ الْأَوْلَادِ، وَمَعَ كَوْنِ الْفَقْرِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا لِقَتْلِ النَّفْسِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَوْلَادَ فَقَدْ قَدَّرَ رِزْقَهُمْ، فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يَظُنَّ الْأَبُ أَنَّ عَجْزَهُ عَنْ رِزْقِهِمْ يُخَوِّلُهُ قَتْلَهُمْ، وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكْتَسِبَ لَهُمْ. وَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ بِضَمِيرِ: نَرْزُقُكُمْ تَذْكِيرًا بِالَّذِي أَمَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ كُلِّهِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّهَ أَقْحَمَ كَلَامَهُ بِنَفْسِهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَكَلَّمَ النَّاسَ بِنَفْسِهِ، وَتَأْكِيدًا لتصديق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ اللَّهُ رِزْقَهُمْ مَعَ رِزْقِ آبَائِهِمْ، وَقَدَّمَ رِزْقَ الْآبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ كَمَا رَزَقَ الْآبَاءَ، فَلَمْ يَمُوتُوا جُوعًا، كَذَلِكَ يَرْزُقُ الْأَبْنَاءَ، عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ إِنَّمَا اعْتَرَى الْآبَاءَ فَلِمَ يُقْتَلُ لِأَجْلِهِ الْأَبْنَاءُ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ. هُنَا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ: أَيْ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا أَنْتُمْ تَرْزُقُونَ أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَرْزُقُونَ أَبْنَاءَكُمْ. وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَنَّ قَبَائِلَ كَثِيرَةً كَانَتْ تَئِدُ الْبَنَاتِ. فَلِذَلِكَ حُذِّرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَهُوَ نَهْيٌ عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ، وَقَدْ نَهَى عَن الْقرب مِنْهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَتِهَا: لِأَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الشَّيْءِ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْإِثْمِ قُرْبٌ وَبُعْدٌ كَانَ الْقُرْبُ مُرَادًا بِهِ الْكِنَايَةُ عَنْ مُلَابَسَةِ الْإِثْمِ أَقَلَّ مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقِرَّةِِِ

فِي الْأَمْكِنَةِ إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ مِنْهَا فُهِمُ النَّهْيُ عَنِ الْقُرْبِ مِنْهَا لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ مُلَابَسَتِهَا بِالْأَحْرَى، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيُّ هُنَا تَعَيَّنَتْ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ. وَالْفَوَاحِشُ: الْآثَامُ الْكَبِيرَةُ، وَهِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَفَاسِدَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] . وَمَا ظَهَرَ مِنْها مَا يُظْهِرُونَهُ وَلَا يَسْتَخْفُونَ بِهِ، مِثْلُ الْغَضَبِ وَالْقَذْفِ. وَما بَطَنَ مَا يَسْتَخْفُونَ بِهِ وَأَكْثَرُهُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَكَانَا فَاشِيَيْنِ فِي الْعَرَبِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفَوَاحِشَ بِالزِّنَا، وَجَعَلَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ سُفَهَاؤُهُمْ فِي الْحَوَانِيتِ وَدِيَارِ الْبَغَايَا، وَبِمَا بَطَنَ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ سِرًّا، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الزِّنَا سِرًّا حَلَالًا، وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي الْفَوَاحِشِ تُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: 32] . وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَفْسِيرِ الْفَوَاحِشِ بِالزِّنَى قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [32] فِي آيَاتٍ عدّدت منهيات كَثِيرَة تُشَابِهُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ وَاحِدًا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [120] . وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ عَلَى تَفْسِيرِهَا بِالْأَعَمِّ، تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ: لِأَنَّهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُتَفَشِّيًا بَيْنَ الْعَرَبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّفْسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.

وَوُصِفَتْ بِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَأْكِيدًا لِلتَّحْرِيمِ بِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ قَدِيمٌ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ، وَتَعْلِيقُ التَّحْرِيمِ بِالنَّفْسِ: هُوَ عَلَى وَجْهِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِأَعْيَانِ الذَّوَاتِ أَنَّهُ يُرَادُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُسْتَعْمَلُ تِلْكَ الذَّاتُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: 1] أَيْ، أَكْلُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: حَرَّمَ اللَّهُ جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا أَيْ شَيْئًا مُحْتَرما لَا يعتدى عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها [النَّمْل: 91] . وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» . وَقَوله: إِلَّا بِالْحَقِّ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من عُمُوم أَحْوَال مُلَابَسَةَ الْقَتْلِ، أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا فِي أَيَّةِ حَالَةٍ أَوْ بِأَيِّ سَبَبٍ تَنْتَحِلُونَهُ إِلَّا بِسَبَبِ الْحَقِّ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ. وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي حَقَّ، أَيْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ بَاطِلٍ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْبَرِيئَةِ مِنْ هَوًى أَوْ شَهْوَةٍ خَاصَّةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ الَّذِي اتَّفَقَتِ الْعُقُولُ عَلَى قَبُولِهِ، وَهُوَ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، أَوِ الَّذِي اصْطَلَحَ أَهْلُ نَزْعَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ وُقُوعُهُ وَهُوَ مَا اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ بِأُمَّةٍ أَوْ زَمَنٍ. فَالتَّعْرِيفُ فِي: الْحَقِّ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَاهِيَّةُ الْحَقِّ الْمُتَقَدِّمِ شَرْحُهَا، وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَاهِيَّتُهُ فِي نَظَرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْإِسْلَامُ حَقَّ قَتْلِ النَّفْسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَتْلُ الْمُحَارِبِ وَالْقِصَاصُ، وَهَذَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ، وَقَتْلُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَقَتْلُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ إِنْظَارِهِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَرَدَتْ بِهَا أَحَادِيثُ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ الْقَتْلُ النَّاشِئُ عَنْ إِكْرَاهٍ وَدِفَاعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا وَذَلِكَ قَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْبُغَاةِ وَهُوَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ مَانِعِي

[سورة الأنعام (6) : آية 152]

الزَّكَاةِ وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّ قَتْلَ الْأَسِيرِ فِي الْجِهَادِ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ كَانَ حَقًّا، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْكَلَامَ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ إِلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَ، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَلَوْ أَتَى بِإِشَارَةِ الْجَمْعِ لَكَانَ ذَلِكَ فَصِيحًا، وَمِنْهُ: كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: 36] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوِصَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: 144] آنِفًا. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رَجَاءَ أَنْ يَعْقِلُوا، أَيْ يَصِيرُوا ذَوِي عُقُولٍ لِأَنَّ مُلَابسَة بعض هَذِه المحرّمات ينبىء عَنْ خَسَاسَةِ عَقْلٍ، بِحَيْثُ يُنَزَّلُ مُلَابِسُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْقِلُ، فَلِذَلِكَ رُجِيَ أَنْ يَعْقِلُوا. وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَذْيِيلٌ جُعِلَ نِهَايَةً لِلْآيَةِ، فَأَوْمَأَ إِلَى تنهية نوع من الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْمُحَرَّمَاتُ الرَّاجِعُ تَحْرِيمُهَا إِلَى إِصْلَاحِ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِلْأُمَّةِ، بِإِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ، وَحِفْظِ نِظَامِ الْعَائِلَةِ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْمَفَاسِدِ، وَحِفْظِ النَّوْعِ بِتَرْكِ التَّقَاتُلِ. [152] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 152] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. عَطَفَ جُمْلَةَ: وَلا تَقْرَبُوا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فَسَّرَتْ فعل: أَتْلُ [الْأَنْعَام: 151] عَطْفَ مُحَرَّمَاتٍ تَرْجِعُ إِلَى حفظ قواع التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ لِإِقَامَةِ قَوَاعِدِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَدَنِيَّتِهَا وَتَحْقِيقِ ثِقَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.

وَابْتَدَأَهَا بِحِفْظِ حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الدَّفْعَ عَنْ حَقِّهِ فِي مَالِهِ، وَهُوَ الْيَتِيمُ، فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالْقُرْبَانُ كِنَايَةٌ عَنْ مُلَابَسَةِ مَالِ الْيَتِيمِ. وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ [الْأَنْعَام: 151] . وَلَمَّا اقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَوْ بِالْخَزْنِ وَالْحِفْظِ، وَذَلِكَ يُعَرِّضُ مَالَهُ لِلتَّلَفِ، اسْتُثْنِي مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ إِلَّا بِالْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَاسْمُ الْمَوْصُولِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِلْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ اسْم للمؤنّث، فَيُقَدَّرُ بِالْحَالَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ إِلَّا مُلَابِسِينَ لِلْخَصْلَةِ أَوِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَالَاتِ الْقُرْبِ، وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَهُ بِالْمَرَّةِ مِنْ: تَقْرَبُوا أَيْ إِلَّا بِالْقُرْبَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَدِ الْتُزِمَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَاعْتِبَارُهُ مُؤَنَّثًا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 96] أَيْ بِالْخَصْلَةِ الْحَسَنَةِ ادْفَعِ السَّيِّئَةَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالْمَوْصُولِ مُؤَنَّثًا وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ وَحَذَفُوا صِلَتَهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: «بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي» ، أَيْ بَعْدَ الدَّاهِيَةِ الْحَقِيرَةِ وَالدَّاهِيَةِ الْجَلِيلَةِ كَمَا قَالَ سُلْمِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الضبّي: وَلَقَد رأبت ثَأْيَ الْعَشِيرَةِ بَيْنَهَا ... وَكَفَيْتُ جَانِبَهَا اللَّتَيَّا وَالَّتِي وأَحْسَنُ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَيِ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا ضُرَّ فِيهَا لِلْيَتِيمِ وَلَا لِمَالِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا: وَلا تَقْرَبُوا تَحْذِيرًا مِنْ أَخْذِ مَالِهِ وَلَوْ بِأَقَلِّ أَحْوَالِ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا: وَلا تَأْكُلُوا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [188] : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. وَالْأَشُدُّ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّدِّ وَهُوَ التَّوَثُّقُ،

وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا، مِمَّا الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الْيَتِيمِ، بُلُوغُهُ الْقُوَّةَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ ضَعْفِ الصِّبَا، وَتِلْكَ هِيَ الْبُلُوغُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بُلُوغُهُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَمَا مُنِعَ الصَّبِيُّ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ إِلَّا لِضَعْفٍ فِي عَقْلِهِ بِخِلَافِ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ بُلُوغَ الرَّجُلِ مُنْتَهَى حَدِّ الْقُوَّةِ فِي الرّجال وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً إِلَى الْخَمْسِينَ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الْأَحْقَاف: 15] وَقَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ: أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... ونجّذني مداورة الشّؤون وَالْبُلُوغُ: الْوُصُولُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّدَرُّجِ فِي أَطْوَارِ الْقُوَّةِ الْمُخْرِجَةِ مِنْ وَهْنِ الصِّبَا. وحَتَّى غَايَةٌ لِلْمُسْتَثْنَى: وَهُوَ الْقُرْبَانُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ صَاحِبُهُ أَشُدَّهُ أَيْ فَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 6] الْآيَةَ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ حَقِّ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ بِالْحِفْظِ: أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ مَظِنَّةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ مَظِنَّةُ انْعِدَامِ الْمُدَافِعِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ ضَعِيفٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا وَلَهُ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْمَوَالِي مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ إِذَا اسْتَجَارَهُ أَوِ اسْتَنْجَدَهُ، فَأَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَلِيُّهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلِي الْيَتِيمَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَتَوَسَّعُونَ فِي أَمْوَالِ أَيْتَامِهِمْ، وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهَا، وَيُضَيِّعُونَ الْأَيْتَامَ لِكَيْلَا يَنْشَأُوا نَشْأَةً يَعْرِفُونَ بِهَا حُقُوقَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضُّحَى: 6] لِأَنَّ الْيَتِيمَ مَظِنَّةُ الْإِضَاعَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُوَصِّ اللَّهُ تَعَالَى بِمَالِ غَيْرِ الْيَتِيمِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَدْفِعُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمُنْجِدِيهِ. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.

عَطَفَ الْأَمْرَ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَذَلِكَ فِي التَّبَايُعِ، فَقَدْ كَانُوا يَبِيعُونَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ كَيْلًا، وَكَانُوا يَتَوَازَنُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَكَانُوا يُطَفِّفُونَ حِرْصًا عَلَى الرِّبْحِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطْفِيفِ كَمَا فِي قَوْلِ شُعَيْبٍ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود: 84] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْحَدِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَدْلُ وَافِيًا، وَعَدَمُ النَّقْصِ يُسَاوِي الْوَفَاءَ، وَلَكِنْ فِي اخْتِيَارِ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ اهْتِمَامًا بِهِ لتَكون النّفوس ملتفتة إِلَى جَانِبِ الْوَفَاءِ لَا إِلَى جَانب ترك التّنقيص، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِالسَّخَاءِ الَّذِي يَتَمَادَحُونَ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ سَخَاؤُكُمُ الَّذِي تَتَنَافَسُونَ فِيهِ فَهَلَّا تُظْهِرُونَهُ إِذَا كِلْتُمْ أَوْ وَزَنْتُمْ فَتَزِيدُوا عَلَى الْعَدْلِ بِأَنْ تُوَفِّرُوا لِلْمُكْتَالِ كَرَمًا بَلْهَ أَنْ تَسْرِقُوهُ حَقَّهُ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى اخْتِلَالِ أَخْلَاقِهِمْ وَعَدَمِ تَوَازُنِهَا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْقِسْطِ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [18] ، أَيْ أَوْفُوا مُتَلَبِّسِينَ بِالْعَدْلِ بِأَنْ لَا تَظْلِمُوا الْمُكْتَالَ حَقَّهُ. لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. ظَاهِرُ تَعْقِيبِ جُمْلَةِ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِلَخْ بِجُمْلَةِ: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالَّتِي وَلَيْتَهَا فَتَكُونُ احْتِرَاسًا، أَيْ لَا نُكَلِّفُكُمْ تَمَامَ الْقِسْطِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْحَبَّةِ وَالذَّرَّةِ وَلَكِنَّا نُكَلِّفُكُمْ مَا تَظُنُّونَ أَنَّهُ عَدْلٌ وَوَفَاءٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاحْتِرَاسِ أَنْ لَا يَتْرُكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بَيْنَهُمْ خَشْيَةَ الْغَلَطِ أَوِ الْغَفْلَةِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ مَنَافِعَ جَمَّةٍ. وَقَدْ عَدَلَ فِي هَذَا الِاحْتِرَاسِ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْمَقُولُ ابْتِدَاء فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الْأَنْعَام: 151] لِمَا فِي

هَذَا الِاحْتِرَاسِ مِنَ الِامْتِنَانِ، فَتَوَلَّى اللَّهُ خِطَابَ النَّاسِ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّكَلُّمِ مُبَاشرَة زِيَادَة فِي المنّة، وَتَصْدِيقًا لِلْمُبَلِّغِ، فَالْوِصَايَةُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ مَال المُشْتَرِي فِي مَظِنَّةِ الْإِضَاعَةِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ حَالَةُ غَفلَة المُشْتَرِي، إِذِ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمِكْيَالُ أَوِ الْمِيزَانُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِرَغْبَتِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ قد يتحمّل التّطفيف، فَأُوصِيَ الْبَائِعُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَدُلُّ بِفَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ فِيمَا هُوَ أشدّ من التّطفيف، فإنّ التّطفيف إِنْ هُوَ إِلَّا مُخَالَسَةُ قَدْرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَبِيعِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ حِينَ التَّقْدِيرِ فَأَكْلُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ أَوْلَى بِالْحِفْظِ، وَتَجَنُّبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها تَذْيِيلًا لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ هُوَ فِي طَاقَتِهِمْ وَمُكْنَتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] . وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى. هَذَا جَامِعٌ كُلَّ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالتَّعْدِيلُ، وَالتَّجْرِيحُ، وَالْمُشَاوَرَةُ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُخْبِرَةُ عَنْ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمُعَامَلَاتِ: مِنْ صِفَاتِ الْمَبِيعَاتِ، وَالْمُؤَاجَرَاتِ، وَالْعُيُوبِ وَفِي الْوُعُودِ، وَالْوَصَايَا، وَالْأَيْمَانِ وَكَذَلِكَ الْمَدَائِحُ وَالشَّتَائِمُ كَالْقَذْفِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا يَصْدُرُ عَنِ الْقَوْلِ. وَالْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَوْلِ شَيْءٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحُقُوقِ:

بِإِبْطَالِهَا، أَوْ إِخْفَائِهَا، مِثْلَ كِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَبِيعِ، وَادِّعَاءِ الْعُيُوبِ فِي الْأَشْيَاءِ السَّلِيمَةِ، وَالْكَذِبِ فِي الْأَثْمَانِ، كَأَنْ يَقُولَ التَّاجِرُ: أُعْطِيتُ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا، لِثَمَنٍ لَمْ يُعْطَهُ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ قَامَتْ عَلَيَّ بِكَذَا. وَمِنْهُ الْتِزَامُ الصِّدْقِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَإِبْدَاءِ النَّصِيحَةِ فِي الْمُشَاوَرَةِ، وَقَوْلُ الْحَقِّ فِي الصُّلْحِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ وَالْقَضَاءُ فَأَمْرُ الْعَدْلِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ، وَإِذَا وَعَدَ الْقَائِلُ لَا يُخْلِفُ، وَإِذَا أَوْصَى لَا يَظْلِمُ أَصْحَابَ حُقُوقِ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِذَا مَدَحَ أَحَدًا مَدَحَهُ بِمَا فِيهِ، وَأَمَّا الشَّتْمُ فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَلَوْ كَانَ حَقًّا فَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ هُوَ الْعَدْلُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ. وَفِي التَّعْلِيقِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قُلْتُمْ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ فِي سَعَةٍ مِنَ السُّكُوتِ إِنْ خَشِيَ قَوْلَ الْعَدْلِ. وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ وَالْبَاطِلَ فَلَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ كُلُّهُ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ، عَلَى أَنَّ مِنَ السُّكُوتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَى رِجْلٍ أُخْتَهُ فَذَكَرَ الْأَخُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ أَوْ كَادَ يَضْرِبُهُ ثمّ قَالَ: «مَالك وَلِلْخَبَرِ» . وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ وَاوُ الْحَالِ، وَلَوْ وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْحَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَظُنَّ السَّامِعُ عَدَمَ شُمُولِ الْحُكْمِ إِيَّاهَا لِاخْتِصَاصِهَا مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَشْمَلُهَا الْحُكْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] ، فَإِنَّ حَالَةَ قَرَابَةِ الْمَقُولِ لِأَجْلِهِ الْقَوْلُ قَدْ تَحْمِلُ الْقَائِلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْعَدْلِ، لِنَفْعِ قَرِيبِهِ أَوْ مُصَانَعَتِهِ، فَنُبِّهُوا عَلَى وُجُوبِ الْتِزَامِ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) كائد إِلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ: أَيْ وَلَو كَانَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْقَوْلُ ذَا قُرْبَى.

وَالْقُرْبَى: الْقَرَابَةُ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ ذُو قَرَابَةٍ مِنَ الْقَائِلِ، أَيْ إِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا لِأَجْلِهِ أَوْ عَلَيْهِ فَاعْدِلُوا وَلَا تَقُولُوا غَيْرَ الْحَقِّ، لَا لِدَفْعِ ضُرِّهِ بِأَنْ تُغْمِصُوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَلَا لِنَفْعِهِ بِأَنْ تَخْتَلِقُوا لَهُ حَقًّا عَلَى غَيره أَو تبرءوه مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاء: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النِّسَاء: 135] . وَقَدْ جَاءَ طَلَبُ الْحَقِّ فِي الْقَوْلِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، دُونَ النَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ أَوِ الْبَاطِلِ: لِأَنَّهُ قَيَّدَهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الْمُقْتَضِي لِصُدُورِ الْقَوْلِ: فَالْقَوْلُ إِذَا صَدَرَ لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْفَى بِمَقْصِدِ الشَّارِعِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِظْهَارَ الْحَقِّ بِالْقَوْلِ، فَفِي الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَمْرٌ بِإِظْهَارِهِ وَنَهِيٌّ عَنِ السُّكُوتِ بِدُونِ مُوجِبٍ. الثّاني: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَوْلِ الْبَاطِلِ أَوِ الزُّورِ يَصْدُقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ إِلَّا عِنْدَ الْخَوْفِ أَوِ الْمُلَايَنَةِ، أَوْ فِيمَا لَا يَرْجِعُ إِلَى إِظْهَارِ حَقٍّ، وَتِلْكَ هِيَ الْمَعَارِيضُ الَّتِي ورد فِيهَا حَدِيث: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ» (¬1) . وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا. خَتَمَ هَذِهِ الْمَتْلُوَّاتِ بِالْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا . وَعَهْدُ اللَّهِ الْمَأْمُورُ بِالْإِيفَاءِ بِهِ هُوَ كُلُّ عَهْدٍ فِيهِ مَعْنَى الِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي ¬

(¬1) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَابْن عدي فِي «الْكَامِل» عَن عمرَان بن حُصَيْن. قيل: هُوَ مَرْفُوع وَالأَصَح مَوْقُوف. [.....]

اقْتَضَتْهُ الْإِضَافَةُ، إِذِ الْإِضَافَةُ هُنَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَيَصِحُّ أَن تكون إِضَافَة الْمصدر إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ مَا عَاهَدْتُمُ اللَّهَ أَنْ تَفْعَلُوهُ، وَالْتَزَمْتُمُوهُ وَتَقَلَّدْتُمُوهُ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيِ الْعَهْدُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، وَحَذَّرَ مِنْ خَتْرِهِ، وَهُوَ الْعُهُودُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ أَمْ كَانَ بَيْنَ الْآحَادِ. وَلِأَجْلِ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَعَانِي النَّاشِئَةِ عَنْ صَلَاحِيَةِ الْإِضَافَةِ لِإِفَادَتِهَا عُدِلَ إِلَى طَرِيقِ إِسْنَادِ اسْمِ الْعَهْدِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ طَرِيقِ الْفِعْلِ، بِأَنْ يُقَالَ: وَبِمَا عَاهَدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهِ، أَو نَحن ذَلِكَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَإِذْ كَانَ الْخِطَابُ بقوله: تَعالَوْا [الْأَنْعَام: 151] لِلْمُشْرِكِينَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ شَيْئًا قَدْ تَقَرَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الْعُهُودُ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا بِالْمُوَالَاةِ وَالصُّلْحِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدُوا عَلَيْهِ. وَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَالَفُونَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ الْعَهْدَ حِلْفًا، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا ... قُدِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَنُوجَدُ نَحْنُ أَمْنَعَهُمْ ذِمَارًا ... وَأَوْفَاهُمْ إِذَا عَقَدُوا يَمِينَا فَالْآيَةُ آمِرَةٌ لَهُمْ بِالْوَفَاءِ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَتَمَادَحُونَ بِهِ. وَمِنَ الْعُهُودِ الْمُقَرَّرَةِ بَيْنَهُمْ: حِلْفُ الْفُضُولِ، وَحِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ، وَكِلَاهُمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَنِ الْقَاطِنِينَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِعَهْدِ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَقَدِ اعْتَدَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَظَلَمُوهُمْ مِثْلَ عَمَّارٍ، وَبِلَالٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَنَحْوِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ أَنَّ خَفْرَ عَهْدِ اللَّهِ بِأَمَانِ مَكَّةَ، وَخَفْرَ عُهُودِكُمْ بِذَلِكَ، أَوْلَى بِأَنْ تُحَرِّمُوهُ

[سورة الأنعام (6) : آية 153]

مِنْ مَزَاعِمِكُمُ الْكَاذِبَةِ فِيمَا حَرَّمْتُمْ وَفَصَّلْتُمْ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْعَهْدِ وَصَرْفِ ذهن السّامع عِنْد، لِيَتَقَرَّرَ فِي ذِهْنِهِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِدْحَةً فَعَهْدُ اللَّهِ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ وَأَنْتُمْ قَدِ اخْتَرْتُمُوهُ، فَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ- ثُمَّ قَالَ- وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 217] . ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. تَكْرَارٌ لِقَوْلِهِ الْمُمَاثِلِ لَهُ قَبْلَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا التَّذْيِيلَ خُتِمَ بِهِ صِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ الْأَحْكَامِ. وَجَاءَ مَعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ عُرِفَ بَيْنَ الْعَرَبِ أَنَّهَا مَحَامِدُ، فَالْأَمْرُ بِهَا، وَالتَّحْرِيضُ عَلَيْهَا تَذْكِيرٌ بِمَا عَرَفُوهُ فِي شَأْنِهَا وَلَكِنَّهُمْ تَنَاسَوْهُ بِغَلَبَةِ الْهَوَى وَغِشَاوَةِ الشِّرْكِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: تَذَّكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ فِي الذَّالِ بَعْدَ قَلْبِهَا-، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَخَلَفٍ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ الثّانية تَخْفِيفًا-. [153] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 153] وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

(153) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الْأَنْعَام: 151] لِتَمَاثُلِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي أَغْرَاضِ الْخِطَابِ وَتَرْتِيبِهِ، وَفِي تَخَلُّلِ التَّذْيِيلَاتِ الَّتِي عَقِبَتْ تِلْكَ الْأَغْرَاضَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الْأَنْعَام: 151]- لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَنْعَام: 152]- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِاتِّبَاعِ مَا يَجِيءُ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: أَنَّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ-. وَعَنِ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الْأَنْعَام: 151] ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلِ: أَتْلُ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا. وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ تُحْمَلَ (أَنَّ) ، أَيْ تُعَلَّقَ عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: 1] . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنّ: 18] الْمَعْنَى: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوَا مَعَ الله أحدا اه. فَ أَنَّ مَدْخُولَةٌ لِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوف مِنْ حَذْفِهَا مَعَ (أَنَّ) وَ (أَنْ) . وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَاتَّبِعُوا صِرَاطِي لِأَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، فَوَقَعَ تَحْوِيلٌ فِي النَّظْمِ بِتَقْدِيرِ التَّعْلِيلِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا، فَصَارَ التّعليل مَعْطُوفًا لتقديمه ليُفِيد تَقْدِيمه تفرّع المعلّل وتسبّبه، فَيكون التَّعْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ بِسَبَبِ هَذَا التَّقْدِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا كَانَ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: وَإِنَّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- فَلَا تَحْوِيلَ فِي نظم الْكَلَام، وَيكون قَوْلُهُ: فَاتَّبِعُوهُ تَفْرِيعًا على إِثْبَات الْخَبَر بِأَنَّ صِرَاطَهُ مُسْتَقِيم. وَقَرَأَ ابْن عَامِرٌ، وَيَعْقُوبُ: «وَأَنْ» -

بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْأَحْسَنُ تَخْرِيجُهَا بِكَوْنِ أَنَّ تَفْسِيرِيَّةً معطوفة على: أَلَّا تُشْرِكُوا [الْأَنْعَام: 151] . وَوَجْهُ إِعَادَةِ أَنَّ اخْتِلَافُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَيْ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ صِرَاطِي فَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَثَرِ تَكَرُّرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَسَمَاعِ أَقْوَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِحَيْثُ عرفه النّاس وتبيّنوه، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، فَاسْتُعْمِلَ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعُ لِتَعْيِينِ ذَاتٍ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ التَّشْرِيعَاتِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالشَّيْءِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمرَان: 44] . وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ الْوَاسِعَةُ، وَقَدْ مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] وَالْمُرَادُ الْإِسْلَامُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَام: 161] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيلُ الصَّلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَشُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ السَّائِرِ فِيهِ إِلَى غَرَضِهِ وَمَقْصِدِهِ. وَلَمَّا شُبِّهَ الْإِسْلَامُ بِالصِّرَاطِ وَجُعِلَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ صَارَ كَالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ الْبَيِّنَةِ فَادُّعِي أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْسَرُ سُلُوكًا عَلَى السَّائِرِ وَأَسْرَعُ وُصُولًا بِهِ. وَالْيَاءُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (صِرَاطٌ) تَعُودُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشورى: 52، 53] عَلَى إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ فِي الْمَقُولِ ضَمِيرُ الْقَائِلِ أَوْ ضَمِيرُ الْآمِرِ بِالْقَوْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [117] ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ، الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْكَلَامُ مِنْ

قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الْأَنْعَام: 151] لِغَرَضِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِصْمَةِ هَذَا الصِّرَاطِ مِنَ الزَّلَلِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ صِرَاطَ اللَّهِ يَكْفِي فِي إِفَادَةِ أَنَّهُ مُوصِلٌ إِلَى النَّجَاحِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ تَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ صِرَاطَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ عُودُ الْيَاءِ إِلَى النَّبِيءِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يَسْتَدْعِي بِنَاءَ التَّفْرِيعِ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ وَاضِحُ الِاسْتِقَامَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ كَوْنَهُ طَرِيقَ النَّبِيءِ لَا يَقْتَضِي تَسَبُّبَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ الْمُكَذِّبِينَ. وَقَوْلُهُ: مُسْتَقِيماً حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَحَسَّنَ وُقُوعَهُ حَالًا أَنَّ الْإِشَارَةَ بُنِيَتْ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ مُشَاهَدٌ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ فِي الذِّهْنِ بِمُجْمَلِ كُلِّيَّاتِهِ وَمَا جَرَّبُوهُ مِنْهُ وَعَرَفُوهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ نَحْوَ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] وَلَمْ يَأْتُوا بِهِ خَبَرًا. والسبل: الطَّرْقُ، وَوُقُوعُهَا هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيِ السُّبُلَ الْمُتَفَرِّقَةَ غَيْرَ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا: بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طُرُقٌ تَتَشَعَّبُ مِنَ السَّبِيلِ الْجَادَّةِ ذَاهِبَةً، يَسْلُكُهَا بَعْضُ الْمَارَّةِ فُرَادَى إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْ مَرَاعِيهِمْ فَلَا تَبْلُغُ إِلَى بَلَدٍ وَلَا إِلَى حَيٍّ، وَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ فِيهَا إِلَّا مَنْ عَقَلَهَا وَاعْتَادَهَا، فَلِذَلِكَ سَبَبٌ عَنِ النَّهْيِ قَوْلُهُ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ فَإِنَّهَا طُرُقٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَهِيَ تَجْعَلُ سَالِكَهَا مُتَفَرِّقًا عَنِ السَّبِيلِ الْجَادَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّبِيلَ اسْمٌ لِلطَّرِيقِ الضَّيِّقَةِ غَيْرِ الْمُوصِلَةِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ يُرَادِفُ الصِّرَاطَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: 108] ، بَلْ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ وَالْإِخْبَارَ عَنْهَا بِالتَّفَرُّقِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سُبُلٌ خَاصَّةٌ مَوْصُوفَةٌ بِغَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمْ لِلْمُصَاحَبَةِ: أَيْ فَتَتَفَرُّقُ السُّبُلِ مُصَاحِبَةٌ لَكُمْ، أَيْ تَتَفَرَّقُونَ مَعَ تَفَرُّقِهَا، وَهَذِهِ الْمُصَاحَبَةُ الْمَجَازِيَّةُ تَجْعَلُ الْبَاءَ بِمَنْزِلَةِ

هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ كَمَا قَالَهُ النُّحَاةُ، فِي نَحْوِ: ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، أَنَّهُ بِمَعْنَى أَذْهَبْتُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَتُفَرِّقُكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ لَا تُلَاقُونَ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي: سَبِيلِهِ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، فَإِذَا كَانَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: صِراطِي عَائِدًا لِلَّهِ كَانَ فِي ضَمِيرِ سَبِيلِهِ الْتِفَاتًا عَنْ سَبِيلِي. رَوَى النَّسَائِيُّ فِي «سُنَنِهِ» ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ فِي «مَسْنَدَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ (أَيْ عَنْ يَمِينِ الْخَطِّ الْمَخْطُوطِ أَوَّلًا وَعَنْ شِمَالِهِ) ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا» ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا عِنْد النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ (أَيِ الَّذِي بَيْنَ الْخُطُوطِ الْأُخْرَى) فَقَالَ: هَذِهِ سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » وَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (وَخَطَّ خُطُوطًا) هُوَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ مَا عَلَى الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ. وَهَذَا رَسْمُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ: وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تَذْيِيلُ تَكْرِيرٍ لِمِثْلَيْهِ السَّابِقَيْنِ، فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الصِّرَاطِ، وَالْوِصَايَةُ بِهِ مَعْنَاهَا الْوِصَايَةُ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَجَعَلَ الرَّجَاءَ لِلتَّقْوَى لِأَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ تَحْتَوِي عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَزِيدُ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الصَّالِحَاتِ، فَإِذَا اتَّبَعَهَا السَّالِكُ فَقَدْ

[سورة الأنعام (6) : آية 154]

صَارَ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالتَّقْوَى بِمَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] . [154] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 154] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) ثُمَّ هُنَا عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ تَعالَوْا [الْأَنْعَام: 151] فَلَيْسَتْ عَاطِفَةً لِلْمُفْرَدَاتِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ، بَلْ تَنْسَلِخُ عَنْهُ حِينَ تَعْطِفُ الْجُمَلَ فَتَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَهُوَ مُهْلَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَتِلْكَ دَلَالَةُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ. وَقَدِ اسْتُصْعِبَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مَسْلَكُ (ثُمَّ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِتْيَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَيْسَ بِرُتْبَةٍ أَهَمَّ مِنْ رُتْبَةِ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا فَرَضَهُ مِنَ اتِّبَاعِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ. وَتَعَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمِلِ (ثُمَّ) هُنَا إِلَى آرَاءٍ: لِلْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ يَرُومُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ (ثُمَّ) مَا فَارَقَتِ الْمَعْرُوفَ مِنْ إِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، وَأَنَّ تراخي رُتْبَة إيتَاء مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ عَنْ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ ذِكْرِ إِيتَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا- إِلَى قَوْلِهِ: وَهُدىً وَرَحْمَةً [الْأَنْعَام: 156، 157] ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَفَوْقَ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ جُمِعَ فِيهِ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِهِ) وَمَا فِي الْقُرْآنِ: الَّذِي هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ وَاتَّقَيْتُمْ رَحِمْنَاكُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ لَكُمْ

أَنْ تَقُولُوا لَوْ أُنْزِلَ لَنَا كِتَابٌ لَكُنَّا أَفْضَلَ اهْتِدَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، فَهَذَا غَرَضٌ أَهَمُّ جَمْعًا لِاتِّبَاعِ جَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَأُدْخِلَ فِي إِقْنَاعِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَزِيَّةِ أَخْذِهِمْ بِهَذَا الْكِتَابِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ: مَا ذُكِرَ مِنْ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا كَذَّبُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ آتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ كَمَا اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ حَسْبَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى [91] الْآيَةَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِيَنْتَقِلَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى اتِّبَاعِهِ فَيَكُونَ التَّذْكِيرُ بِكِتَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمْهِيدًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ. والْكِتابُ هُوَ الْمَعْهُودُ، أَيِ التَّوْرَاةُ، وتَماماً حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالتَّمَامُ الْكَمَالُ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ كَمَالًا لِمَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّلَاحِ الَّذِي هُوَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ: مِنْ صَلَاحِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكَانَتِ التَّوْرَاةُ مُكَمِّلَةً لِصَلَاحِهِمْ، وَمُزِيلَةً لِمَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَأَنَّ إِزَالَةَ الْفَسَادِ تَكْمِلَةٌ لِلصَّلَاحِ. وَوَصْفُ التَّوْرَاةِ بِالتَّمَامِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الْمُتَمِّ. وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْفَرِيقُ الْمُحْسِنُ، أَيْ تَمَامًا لِإِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْفِعْلُ مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ الَّذِي اتَّصَفَ بِالْإِحْسَانِ. وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

و (لِكُلِّ شَيْءٍ) مُرَادٌ بِهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ، أَيِ الْمُهِمَّاتُ الْمُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِهَا فِي أَحْوَالِ الدِّينِ. فَتَكُونُ (كُلُّ) مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [145] . أَوْ فِي مَعْنَى الْعَظِيمِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَأَنَّهُ جَمَعَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا. أَوْ يُرَادُ بِالشَّيْءِ: الشَّيْءُ الْمُهِمُّ، فَيَكُونُ مِنْ حَذْفِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 38] . وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ رَجَاء أَن تؤمنوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ إِيتَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِهِ هُمْ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَعَلَّهُمْ إِنْ تَحَرَّوْا فِي أَعْمَالِهِمْ، عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِيمَانَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِلِقَاءِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ: مِنْ أَطْوَارِ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ، وَمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالتَّغَرُّبِ وَالْخَصَاصَةِ وَالِاسْتِعْبَادِ، مَا رَفَعَ مِنْهُمُ الْعِلْمَ، وَأَذْوَى الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ، فَنَسُوا مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْسَدُوا، حَتَّى كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَهُمْ بِبَعْثِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيَرْجِعُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةِ لِقَائِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَلْقَوْهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَكَذَلِكَ كَانَ سَلَفُهُمْ عَلَى هُدًى وَصَلَاحٍ، فَدَخَلَ فِيهِمْ مَنْ أَضَلَّهُمْ وَلَقَّنَهُمُ الشِّرْكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِم محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرُدَّهُمْ إِلَى الْهُدَى وَيُؤْمِنُوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْبَعْث وَالْجَزَاء.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 155 إلى 157]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 155 إِلَى 157] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) جُمْلَةُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْأَنْعَام: 154] . وَالْمعْنَى: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَأَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْأَنْعَام: 154] إِلَخْ ... وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبِنَاءُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَجَعْلُ الْكِتَابِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ: أَنْزَلْناهُ مُبْتَدَأً، كُلُّ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [92] . وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ، وَكَوْنِهِ مُبَارَكًا، ظَاهِرٌ: لِأَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي اتِّبَاعِهِ. وَالِاتِّبَاعُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: 50] ، وَقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا. وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِ كِتابٌ، وَ (مُبَارَكٌ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُمَا الْمَقْصِدُ مِنِ الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كِتَابًا لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا امْتَرَوْا فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا. وَحَسُنَ عَطْفُ: مُبارَكٌ عَلَى: أَنْزَلْناهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ- لِاشْتِقَاقِهِ- هُوَ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ. وَمَعْنَى: اتَّقُوا كُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ الْأَخْذُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَعْدٌ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ أَنْزَلْناهُ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَذْفِهَا مَعَ (أَنْ) . وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَقُولُوا، أَيْ لِقَوْلِكُمْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لِمُلَاحَظَةِ قَوْلِكُمْ وَتَوَقُّعِ وُقُوعِهِ، فَالْقَوْلُ بَاعِثٌ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ. وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَاعِثًا عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً، فَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّامِ عَكْسُ مَعْنَى لَام الْعَاقِبَة، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا حِكْمَةُ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِمْ كِتَابٌ، أَوْ كَرَاهِيَةُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، أَوْ لِتَجَنُّبِ أَنْ يَقُولُوهُ، وَذَلِكَ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ إِيثَارًا لِلْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ مُضَافٌ مِثْلَ: كَرَاهِيَةَ أَوْ تَجَنُّبَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ جَرَى نُحَاةُ الْبَصْرَةِ. وَذَهَبَ نُحَاةُ الْكُوفَةِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ (لَا) النَّافِيَةِ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: أَنْ لَا تَقُولُوا، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: 176]- وَقَوْلِهِ: - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 55، 56]-

وَقَوْلِهِ:- وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْل: 15] أَيْ لِتَجَنُّبِ مَيْدِهَا بِكُمْ، وَقَوْلُ عَمْرو بن كثلوم: فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْقَصَصِ [48] : فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا ثُمَّ قَالُوهُ مِنْ بَعْدُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ أَنْ يُكَرِّرُوهُ وَيُعِيدُوهُ قَوْلًا مُوَافِقًا لِلْحَالِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَانَ متوقّعا صدوره عِنْد مَا يَتَوَّجَهُ الْمَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي انْحِطَاطِهِمْ عَنْ مُجَاوَرِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ حَيْثُ اسْتِكْمَالِ الْفَضَائِلِ وَحُسْنِ السَّيْرِ وَكَمَالِ التَّدَيُّنِ، وَعِنْدَ سُؤَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَنِ اتّباع ضلالهم، وَعند مَا يُشَاهِدُونَ مَا يَنَالُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ الصَّالِحَةِ مِنَ النَّعِيمِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ فَيَتَطَلَّعُونَ إِلَى حَظٍّ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّهُمْ حُرِمُوا الْإِرْشَادَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى حَالَةٍ أَكْمَلَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ يَمْدَحُ آلَ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانُوا نَصَارَى: مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ وَلَا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبٍ وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْكَثِيرَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] ، وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَتَيْنِ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ الْمُنْحَصِرُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ. وَمَعْنَى إِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى

أَنْبِيَائِهِمْ فَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ مُخَاطَبِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَهَذَا تَعَلُّلٌ أَوَّلُ مِنْهُمْ، وَثَمَّةُ اعْتِلَالٌ آخَرُ عَنِ الزَّهَادَةِ فِي التَّخَلُّقِ بِالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ، أَيْ وَأَنَّا كُنَّا غَافِلِينَ عَنِ اتِّبَاعِ رُشْدِهِمْ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَلَّمْ، فَالدِّرَاسَةُ مُرَادٌ بِهَا التَّعْلِيمُ. وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِمُعَاوَدَةٍ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلتَّأَمُّلِ، فَلَيْسَ سَرْدُ الْكِتَابِ بِدِرَاسَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [105] ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] . وَالْغَفْلَةُ: السَّهْوُ الْحَاصِلُ مِنْ عَدَمِ التَّفَطُّنِ، أَيْ لَمْ نَهْتَمَّ بِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهُمْ فَنَقْتَدِي بِهَدْيِهَا، فَكَانَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ مُنَبِّهًا لَهُمْ لِلْهَدْيِ الْكَامِلِ وَمُغْنِيًا عَنْ دِرَاسَةِ كُتُبِهِمْ. وَقَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ تَدَرُّجٌ فِي الِاعْتِلَالِ جَاءَ عَلَى مَا تُكِنَّهُ نُفُوسُ الْعَرَبِ مِنْ شُفُوفِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِدْلَالِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ وَفَصَاحَةِ أَلْسِنَتِهِمْ وَحِدَّةِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ تَلَقِّيهِمْ، وَهُمْ أَخْلِقَاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَفِي الْإِعْرَابِ عَنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ مِنْهُمْ تَلْقِينٌ لَهُمْ، وَإِيقَاظٌ لِإِفْهَامِهِمْ أَنْ يَغْتَبِطُوا بِالْقُرْآنِ، وَيَفْهَمُوا مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ بَيْنَ الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 10] . وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِبَوْنٍ بَعِيدِ الدَّرَجَاتِ. وَلَقَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ بَعْدَ هَذَا التَّنْبِيهِ الْعَجِيبِ لِفَاءِ الْفَصِيحَةِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَتَقْدِيرُهَا: فَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ وَيَهْجِسُ فِي نُفُوسِكُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي الْقُرْآنَ، يَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا تَسْتَشْعِرُونَ مِنَ الِانْحِطَاطِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَالْبَيِّنَةُ مَا بِهِ الْبَيَانُ وَظُهُورُ الْحَقِّ. فَالْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِإِعْجَازِهِ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ، وَهُوَ هَدْيٌ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنِ الْإِرْشَاد إِلَى طرق الْخَيْرِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ لَا حَرَجَ فِيهَا، فَهِيَ مُقِيمَةٌ لِصَلَاحِ الْأُمَّةِ مَعَ التَّيْسِيرِ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ التَّشْرِيعِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَتَفَرَّعَ عَنْ هَذَا الْإِعْذَارِ لَهُمُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَأَعْرَضُوا. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ لِلتَّفْرِيعِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ. وَ (مِنْ) فِي مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ مَوْصُولَةٌ وَمَا صِدْقُهَا الْمُخَاطَبُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ. وَالظُّلْمُ هُنَا يَشْمَلُ ظُلْمَ نُفُوسِهِمْ، إِذْ زَجُّوا بِهَا إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَخُسْرَانِ الدُّنْيَا، وظلم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ، وَمَا هُوَ بِأَهْلِ التَّكْذِيبِ، وَظُلْمَ اللَّهِ إِذْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَأَنْكَرُوا نِعْمَتَهُ، وَظَلَمُوا النَّاسَ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَدْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ وَوَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ تِلْكَ الصِّلَةِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ. وَمَعْنَى صَدَفَ أَعْرَضَ هُوَ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى صَرَفَ غَيْرَهُ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» . وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِ عَنْ يُقَالُ: صَدَفْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، كَمَا يُقَالُ: صَرَفْتُهُ، وَقَدْ شَاعَ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ حَتَّى غَلَبَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمَفْعُولِ بِهِ، يُقَالُ: صَدَفَ عَنْ كَذَا بِمَعْنَى أَعَرَضَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [46] ، وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا مُتَعَدِّيًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِكَوْنِهِمِ أَظْلَمَ النَّاسِ تَكْثِيرًا فِي وُجُوهِ اعْتِدَائِهِمْ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ نَظَرًا

[سورة الأنعام (6) : آية 158]

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ إِذْ يُنَاسِبُهُ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَعَلَى صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْآيَاتِ يَتَضَمَّنُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ صَدْفُهُمْ هُوَ صَرْفُهُمُ النَّاسَ. وسُوءَ الْعَذابِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَسُوءُهُ أَشَدُّهُ وَأَقْوَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النَّحْل: 88] . فَقَوْلُهُ: عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ هُوَ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ، أَيْ شِدَّتُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالذُّلِّ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ جَزَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا تَكْذِيبًا عَنْ دَعْوَةٍ مُجَرَّدَةٍ، بَلْ كَذَّبُوا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الْآيَات البيّنات. و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِصَدْفِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ إِعْرَاضًا مُسْتَمِرًّا لَمْ يدعوا راغبه فَكَانَ هُنَا مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِمْرَارِ مِثْلُ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: 96] . [158] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) اسْتِئْنَافٌ بياني نَشأ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 157] الْآيَةَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ وَيَحْتَمِلُ التَّهَكُّمَ، كَمَا سَيَأْتِي. فَإِنْ كَانَ هَذَا وَعِيدًا وتهديدا فَهُوَ ناشىء عَنْ جُمْلَةِ: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا [الْأَنْعَام: 157] لِإِثَارَتِهِ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: مَتَى يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، وَإِنْ كَانَ تَهَكُّمًا بِهِمْ عَلَى صَدْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ، وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَى آيَاتٍ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي اعْتِقَادهم، فَهُوَ ناشىء عَنْ جُمْلَةِ:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: 157] لِأَنَّهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: مَاذَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَوْقَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ. وهَلْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَهِيَ تَرِدُ لَهُ كَمَا تَرِدُ لَهُ الْهَمْزَةُ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعده الِاسْتِثْنَاء. ويَنْظُرُونَ مُضَارِعُ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، وَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ نَظَرَ بِمَعْنَى رَأَى فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْمَصْدَرِ، وَيُخَالِفهُ فِي التّعدية، فَفعل نظر الْعين متعدّ بإلى، وَفعل الِانْتِظَار متعدّ بِنَفسِهِ، وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا فِي أَنَّ لَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ وَهُوَ النَّظِرَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنِ الْآيَاتِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ وَاقِعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ انْتِظَارُ آيَاتٍ، كَمَا يَقْتَرِحُونَ، فَمَعْنَى الْحَصْرِ: أَنَّهُمْ مَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِهَا إِلَّا الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَسَأَلُوهَا وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يُجَاءُوا بِهَا، وَهِيَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 90- 92]- وَقَوْلِهِ- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ بِجِدٍّ مِنْ عَامَّتِهِمْ، فَالِانْتِظَارُ حَقِيقَةٌ، وَبِسُخْرِيَةٍ مِنْ قَادَتِهِمْ وَمُضَلِّلِيهِمْ، فَالِانْتِظَارُ مَجَازٌ بِالصُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَظْهَرِ الْمُنْتَظِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا [التَّوْبَة: 64] الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِبَعْضِ آيَاتِ رَبِّكَ: مَا يَشْمَلُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 90- 93] . وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ- إِلَى قَوْلِهِ- فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَام: 8- 10] فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِعَقَائِدِهِمْ.

وَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ غَيْرَ وَاقِعٍ بِجِدٍّ وَلَا بِسُخْرِيَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَا يَتَرَقَّبُونَ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِيهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا أَتَاهُمْ، فَلَا انْتِظَارَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَبْطَنُوا الْعِنَادَ، فَإِنْ فُرِضَ لَهُمُ انْتِظَارٌ فَإِنَّمَا هُوَ انْتِظَارُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَوْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَوْ مَا هُوَ بَرْزَخٌ بَينهمَا، فَيكون الاستنثاء تَأْكِيدًا لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ شَيْئًا وَلَكِنْ سَيَجِيئُهُمْ مَا لَا يَنْتَظِرُونَهُ، وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ، إِلَى آخِرِهِ، فَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ. وَالْقَصْرُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يُنْتَظَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْخَبَرِيُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ آيَةً، فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بتكذيب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الْآيَاتِ إِفْحَامًا فِي ظَنِّهِمْ. وَلَا يَنْتَظِرُونَ حِسَابًا لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَالْإِتْيَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، مِثْلَ الَّذِينَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: 12] . وَأَمَّا الْمُسْنَدُ إِلَى الرَّبِّ فَهُوَ مَجَازٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِتْيَانُ عَذَابِهِ الْعَظِيم، فَهُوَ لعظم هَوْلِهِ جَعَلَ إِتْيَانَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْآمِرِ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا لِيُعْرَفَ مِقْدَارُ عَظَمَتِهِ، بِحَسَبِ عَظِيمِ قُدْرَةِ فَاعِلِهِ وَآمِرِهِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ مِنْ بَابِ: بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ، وَهَذَا مَجَازٌ وَارِدٌ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: 2] وَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ بِحِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: 22] ، أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

وَعَلَى الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا. وَجُمْلَةُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الِانْتِظَارَ وَالتَّرَيُّثَ عَنِ الْإِيمَانِ وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُ مُهَدَّدٌ بِمَا يَمْنَعُ مِنَ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَامَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَعْقُبَهُ الْمَوْتُ وَالْحِسَابُ، وَإِمَّا أَنْ يَعْقُبَهُ مَجِيءُ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ آيَةُ عَذَابٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ يَخْتَصُّ بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَصَدْفِهِمْ، وَحِينَ يَنْزِلُ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا تَبْقَى فُسْحَةٌ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْزَلَ عَذَابَهُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَمْ يَنْفَعْ عِنْدَهُ تَوْبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: 98] وَقَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الْحجر: 8]- وَقَالَ- وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: 8] . وَمِنْ جُمْلَةِ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَامَّةً لِلنَّاسِ، وَهِيَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ: وَالَّتِي مِنْهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا حِينَ تُؤْذِنُ بِانْقِرَاضِ نِظَامِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ. رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَالنَّفْعُ الْمَنْفِيُّ هُوَ النَّفْعُ فِي الْآخِرَةِ، بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ نَفْعَ الدُّنْيَا بِكَشْفِ الْعَذَابِ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ النُّفُوسَ الْمُؤْمِنَةَ وَلَا الْكَافِرَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25] وَقَوْلِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» .

وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ: كُلُّ نَفْسٍ، لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَجُمْلَةُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةُ نَفْساً، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ: نَفْساً، أَيِ: النَّفْسَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُهَا إِيمَانُهَا إِذَا آمَنَتْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ يَنْفَعُهَا إِيمَانُهَا فِي الْآخِرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: نَفْساً إِيمانُها لِيَتِمَّ الْإِيجَازُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ، أَيْ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلظَّرْفِيَّةِ مُدَّةُ الْإِيمَانِ، لَا الْإِيمَانُ، أَيْ أَوْ كَسَبَتْ فِي مُدَّةِ إِيمَانِهَا خَيْرًا. وَالْخَيْرُ هُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالطَّاعَاتُ. وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ فَيَسْتَلْزِمُ تَقْسِيمُ النُّفُوسِ الَّتِي خَصَّصَتْهَا الصِّفَتَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: نُفُوسٌ كَافِرَةٌ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، فَلَا يَنْفَعُهَا إِيمَانُهَا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ، وَنُفُوسٌ آمَنَتْ وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا فِي مُدَّةِ إِيمَانِهَا، فَهِيَ نُفُوسٌ مُؤْمِنَةٌ، فَلَا يَنْفَعُهَا مَا تَكْسِبُهُ مِنْ خَيْرٍ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي ذُو مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ مُتَفَاوِتٌ، فَمِنْهُ إِضَاعَةٌ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، وَمِنْهُ إِضَاعَةٌ لِبَعْضِهَا، وَمِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ نُفُوسٌ لَمْ تَكْسِبْ فِي إِيمَانِهَا شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَيِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْإِيمَانِ وَفَرَّطَتْ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ التَّقْسِيمِ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ لَا يَنْفَعُهَا اكْتِسَابُ الْخَيْرِ مِنْ بَعْدِ مَجِيءِ الْآيَاتِ، وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ مَا مَنَّ بِهِ

عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ غُفْرَانِ السَّيِّئَاتِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، فَالْعَزْمُ عَلَى الْخَيْرِ هُوَ التَّوْبَةُ، أَيِ الْعَزْمُ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، فَوَقَعَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الْوَاضِحَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ إِيمَانُهَا أَوْ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ خَيْرًا فِي إِيمَانِهَا مِنْ قَبْلِ كَسْبِهَا، يَعْنِي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ كَسْبِ الْخَيْرِ، مِثْلَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا بَعْضُ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا مُؤْمِنَةً إِيمَانُهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ قَدْ كَسَبَتْ خيرا بِحَيْثُ يضيع الْإِيمَانُ إِذَا لَمْ يَقَعِ اكْتِسَابُ الْخَيْرِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ فَائِدَةً لِلتَّقْسِيمِ، وَلَكَفَى أَنْ يُقَالَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا، ولأنّ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ نَاهِضَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاقِعَ قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَاتِ لَا يُدْحَضُ إِذَا فَرَّطَ صَاحِبُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَسَلَّمْنَاهُ لَمَا اقْتَضَى أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ الَّذِي لم يفعل شَيْئا من الْخَيْرَ عَدَا أَنَّهُ آمَنَ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ، وَذَلِكَ إِيجَادُ قِسْمٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَنْهَضُ حُجَّةً لِلْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَوْجَبُوا خُلُودَ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ غَيْرِ التَّائِبِ فِي النَّارِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا قَبْلَ التَّأَمُّلِ يُوهِمُ أَنَّهَا حُجَّةٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَصَارَ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ مَعَ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَبَثًا لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي كُلْفَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بِدُونِ جَدْوَى عَلَيْهِ مِنْهَا، وَلَكَانَ أَهْوَنُ الْأَحْوَالِ عَلَى مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ أَنْ يَخْلَعَ رِبْقَةَ الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَسَخَافَةُ هَذَا اللَّازِمِ لِأَصْحَابِ هَذَا الْمَذْهَبِ سَخَافَةٌ لَا يَرْضَاهَا مَنْ لَهُ نَظَرٌ ثَاقِبٌ. وَالِاشْتِغَالُ بِتَبْيِينِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ مِنْ ضَبْطِ الْحَدِّ الَّذِي يَنْتَهِي عِنْدَهُ الِانْتِفَاعُ بِتَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَتَحْصِيلِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، أَجْدَى مِنَ الْخَوْضِ فِي لَوَازِمِ مَعَانِيهَا مِن اعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى مِنَ الِاحْتِمَالِ الْمُسْقِطِ لِلِاسْتِدْلَالِ.

فَصِفَةُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ تَحْذِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ التَّرَيُّثِ عَنِ الْإِيمَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَبْغَتَهُمْ يَوْمُ ظُهُورِ الْآيَاتِ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ. وَصِفَةُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً إِدْمَاجٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَقْصُودِ لِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. ثُمَّ إِنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ السَّالِفِينَ، فِي تَصْوِيرِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، تَفَرَّقَتْ تَفَرُّقًا يُؤْذِنُ بِاسْتِصْعَابِ اسْتِخْلَاصِ مَقْصُودِ الْآيَةِ مِنْ أَلْفَاظِهَا، فَلَمْ تُقَارِبِ الْإِفْصَاحَ بِعِبَارَةٍ بَيِّنَةٍ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: عَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ مَعْنَى كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً: كَسَبَتْ فِي تَصْدِيقِهَا، أَيْ مَعَهُ أَوْ فِي مُدَّتِهِ، عَمَلًا صَالِحًا، قَالَا: وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُصَدِّقَةً وَلَمْ تَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ إِتْيَانِ بَعْضِ آيَاتِ اللَّهِ، فَعَمِلَتْ بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الْآيَةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَإِنْ عَمِلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ خَيْرًا ثُمَّ عَمِلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ خَيْرًا قُبِلَ مِنْهَا. الثّاني: أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِهِ سَاعَتَئِذٍ هُوَ مَنْ كَسَبَ فِي إِيمَانِهِ خَيْرًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِبْهَامٌ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُ يَوْمَئِذٍ إِيمَانُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آمَنَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ ضَمَّ إِلَى إِيمَانِهِ فِعْلَ الْخَيْرِ، أَيْ لَا يَنْفَعُ إِيمَانُ مَنْ يُؤْمِنُ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ قَبْلُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أطَاع قبل نفعته طَاعَتُهُ. وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ، مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْيَوْمِ الْمُؤَجَّلِ لَهُ، إِعْرَاضًا عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا يَكُونُ يَوْمَ تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ، لِأَنَّ إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ:

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 92] وَنَحْوِهِ من تهكّماتهم، وإنّما الَّذِي يكون مِمَّا انْتَظَرُوهُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّحْذِيرِ، وَآيَاتُ الْقُرْآن فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِر: 85] . وَآيَاتُ اللَّهِ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَا هَدَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَيِ الْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى. وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي السُّنَّةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ، أَيْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ- إِلَى قَوْلِهِ- خَيْراً. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَابٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَفْتُوحٌ مسيرَة عرضه أَرْبَعِينَ سَنَةً (كَذَا) مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تُعَارِضُ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ [18] : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ: لِأَنَّ مَحْمَلَ تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى تَعْيِينِ وَقْتِ فَوَاتِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِآحَادِ النَّاسِ، وَذَلِكَ مَا فُسِّرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُول الله صلى الله وَعَلِيهِ وسلّم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ . (وَمَعْنَى يُغَرْغِرُ أَنْ تَبْلُغَ رُوحُهُ- أَيْ أَنْفَاسُهُ- رَأْسَ حَلْقِهِ) .

[سورة الأنعام (6) : آية 159]

وَمَحْمَلُ الْآيَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا تَعْيِينُ وَقْتِ فَوَاتِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهِيَ حَالَةُ يَأْسِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الْبَقَاءِ. وَجَاءَ الِاسْتِئْنَافُ بِقَوْلِهِ: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أمرا للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُهَدِّدَهُمْ وَيَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى الِانْتِظَارِ، إِنْ كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى التَّرَيُّثِ وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالِانْتِظَارِ إِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ ادِّعَائِيًّا، بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالدَّوَامِ عَلَى حَالِهِمُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالِانْتِظَارِ أَمْرَ تَهْدِيدٍ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَظِرُونَ نَصْرَ اللَّهِ وَنُزُولَ الْعِقَابِ بِأَعْدَائِهِمْ، أَيْ: دُومُوا عَلَى انْتِظَارِكُمْ فَنَحْنُ مُنْتَظِرُونَ. وَفِي مَفْهُومِ الصِّفَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي آمَنَتْ قَبْلَ مَجِيءِ الْحِسَابِ، وَكَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، ينفعها إِيمَانُهَا وَعَمَلُهَا. فَاشْتَمَلَتِ الْآيَةُ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا عَلَى وَعِيدٍ ووعد مجملين تبيّنهما دَلَائِلُ الْكتاب والسنّة. [159] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) اسْتِئْنَافٌ جَاءَ عَقِبَ الْوَعِيدِ كَالنَّتِيجَةِ وَالْفَذْلَكَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الْأَنْعَام: 158] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَبَايِنَانِ مُتَجَافِيَانِ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ مَعْنَى الصِّلَةِ فِيهِمْ، لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ التَّنْفِيرَ مِنَ الِاتِّصَالِ بِهِمْ، لِأَنَّ شَأْنَ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ عَقِيدَةً وَاحِدَةً وَأَعْمَالًا وَاحِدَةً، وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِهِ يُنَافِي وَحْدَتَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ يَبْذُلُونَ وُسْعَهُمْ لِاسْتِنْبَاطِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَعْلَمُونَ

أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعُلَمَاءَ بِإِصَابَتِهِ وَجَعَلَ لِلْمُصِيبِ أَجْرَيْنِ وَلمن أخطأه مَعَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ أَجْرًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ أَجْرٌ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ فِي طَلَبِهِ فَإِنَّ بَذْلَ الْوُسْعِ فِي ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَبْلُغَ الْمَقْصُودَ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الدِّينِ، فَقَدْ عَبَدَتِ الْقَبَائِلُ أَصْنَامًا مُخْتَلِفَةً، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ صَنَمٍ عِبَادَةً تُخَالِفُ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَهِيَ دِينُ التَّوْحِيدِ لِجَمِيعِهِمْ، فَفَرَّقُوا وَجعلُوا آلِهَة عباداتها مُخْتَلِفَةُ الصُّوَرِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا شِيَعًا فَلِأَنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ كَانَتْ تَنْتَصِرُ لِصَنَمِهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ عَلَى عُبَّادِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ: وَفَرَّتْ ثَقِيفُ إِلَى لَاتِهَا ... بِمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ وَمَعْنَى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أَنَّكَ لَا صِلَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ. فَحَرْفُ (مِنِ) اتِّصَالِيَّةٌ. وَأَصْلُهَا (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةُ. وشَيْءٍ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى مَوْجُودٌ فَنَفْيُهُ يُفِيدُ نَفْيِ جَمِيعِ مَا يُوجَدُ مِنَ الِاتِّصَالِ، وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [28] ، وَقَوْلِهِ: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [68] . وَلَمَّا دَلَّتْ عَلَى التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَعَدَمِ مُخَالَطَتِهِمْ، كَانَ الْكَلَامُ مَثَارَ سُؤَالِ سَائِلٍ يَقُولُ: أَعَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ عَلَى سُوءِ عَمَلِهِمْ، فَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِئْنَافُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لقلب اعْتِقَاد السَّائِل الْمُتَرَدِّدِ، أَيْ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا إِنْذَارٌ شَدِيدٌ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمْ: عَمَلُهُمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْجَزَاء والعقوبة. و (إِلَى) مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِهَاءِ

الْمَجَازِيِّ: شَبَّهَ أَمْرَهُمْ بِالضَّالَّةِ الَّتِي تَرَكَهَا النَّاسُ فَسَارَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَرَاحِهَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، وَاللَّهُ يُمْهِلُهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يَأْذَن لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 10، 16] . وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى هِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ مَعَ إِفَادَةِ الْمُهْلَةِ، أَيْ يَبْقَى أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ مدّة. وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُمْ، فَأَطْلَقَ الْإِنْبَاءَ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعِقَابُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَهُوَ يَتَقَدَّمُهُ الْحِسَابُ، وَفِيهِ إِنْبَاءُ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ وَبِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا، فَإِطْلَاقُ الْإِنْبَاءِ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ مُرَادٌ مَعَهَا لَازِمُهُ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِقَابُ عِقَابَ الدُّنْيَا فَإِطْلَاقُ الْإِنْبَاءِ عَلَيْهِ مجَاز، لأنّه إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ الْوَعِيدِ عَلِمُوا أَنَّهُ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَكَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَهُمْ عِنْدَ وُقُوعِهِ شَبِيهًا بِحُصُولِ الْعلم الْحَاصِل عَن الْإِخْبَارِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْإِنْبَاءَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُنَبِّئُهُمْ بِمَعْنَى يُعَاقِبُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. وَوَصْفُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا: يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ وَصْفٌ شَنِيعٌ، إِذْ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَّا فِي سِيَاقِ الذَّمِّ، فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي دِينِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ- إِلَى قَوْلِهِ- أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] . وَتَفْرِيقُ دِينِ الْإِسْلَامِ هُوَ تَفْرِيقُ أُصُولِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنْ مَنْعِهِمُ الزَّكَاةَ بَعْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ

[سورة الأنعام (6) : آية 160]

أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْآرَاءِ فِي التَّعْلِيلَاتِ وَالتَّبْيِينَاتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مِنَ النَّظَرِ فِي الدِّينِ: مِثْلَ الِاخْتِلَافِ فِي أَدِلَّةِ الصِّفَاتِ، وَفِي تَحْقِيقِ مَعَانِيهَا، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِثْبَاتهَا. وَكَذَلِكَ تَفْرِيق الْفُرُوعِ: كَتَفْرِيقِ فُرُوعِ الْفِقْهِ بِالْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى صِفَةِ الْعَمَلِ وَعَلَى مَا بِهِ صِحَة الْأَعْمَال وَفَسَادُهَا. كَالِاخْتِلَافِ فِي حَقِيقَةِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَفْرِيقٍ لَا يُكَفِّرُ بِهِ بَعْضُ الْفِرَقِ بَعْضًا، وَلَا يُفْضِي إِلَى تَقَاتُلٍ وَفِتَنٍ، فَهُوَ تَفْرِيقُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَطَلُّبٍ لِلْحَقِّ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَكُلُّ تَفْرِيقٍ يُفْضِي بِأَصْحَابِهِ إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُقَاتَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَهُوَ مِمَّا حَذَّرَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ نِزَاعًا عَلَى الْمُلْكِ وَالدُّنْيَا فَلَيْسَ تَفْرِيقًا فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَسْلَمُ مِنْهَا الْجَمَاعَاتُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: فَرَّقُوا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَارَقُوا- بِأَلْفٍ بَعْدِ الْفَاءِ- أَيْ تَرَكُوا دِينَهُمْ، أَيْ تَرَكُوا مَا كَانَ دِينًا لَهُمْ، أَيْ لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ فَنَبَذُوهَا وَجَعَلُوهَا عِدَّةَ نِحَلٍ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْن وَاحِد. [160] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَنْذَرَ أعقب الْإِنْذَار بِبِشَارَة لِمَنْ لَا يَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْإِنْذَارُ، وَإِذَا بَشَّرَ أعقب الْبشَارَة بنذارة لِمَنْ يَتَّصِفُ بِضِدِّ مَا بُشِّرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ هَاهُنَا: فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْذَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّرَيُّثِ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ الْقَاهِرَةِ، بِقَوْلِهِ:

لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: 158] فَحَدَّ لَهُمْ بِذَلِكَ حَدًّا هُوَ مِنْ مَظْهَرِ عَدْلِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبُشْرَى مِنْ مَظَاهِرِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْجَزَاءُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، فَقَوْلُهُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَرَى عَلَى عُرْفِ الْقُرْآن فِي الِانْتِقَال بَيْنَ الْأَغْرَاضِ. فَالْكَلَامُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَضَاهُمَا قَوْلُهُ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: 158] . وَهَذَا بَيَان لبَعض الْإِجْمَال الَّذِي فِي قَوْله: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وجاءَ بِالْحَسَنَةِ مَعْنَاهُ عَمِلَ الْحَسَنَةَ: شبه عمله الْحَسَنَة بِحَالِ الْمُكْتَسِبِ، إِذْ يَخْرُجُ يَطْلُبُ رِزْقًا مِنْ وُجُوهِهِ أَوِ احْتِطَابٍ أَوْ صَيْدٍ فَيَجِيءُ أَهْلُهُ بِشَيْءٍ. وَهَذَا كَمَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ التِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] . فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَيَجُوزُ حَمْلُ الْمَجِيءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَجِيءٌ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ أَن يَجِيء بكتابتها فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ. وَأَمْثَالُ الْحَسَنَةِ ثَوَابُ أَمْثَالِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، أَوْ مَعْنَاهُ تُحْسَبُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مِثْلَ الَّتِي جَاءَ بِهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ» وَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْحِسَابِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ وَهُوَ الْمُمَاثِلُ الْمُسَاوِي، وَجِيءَ لَهُ بِاسْمِ عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ وَهُوَ عَشْرُ اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْأَمْثَالَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَسَنَةُ

أَيْ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا، فَرُوعِيَ فِي اسْمِ الْعَدَدِ مَعْنَى مُمَيِّزِهِ دُونَ لَفْظِهِ وَهُوَ أَمْثَالٌ. وَالْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَضْعَافٍ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ جَزَاءُ غَالِبِ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ زَادَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْحَسَنَاتِ أَنْ ضَاعَفَهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَة: 261] فَذَلِكَ خَاصٌّ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَشْرُ أَمْثالِها بِإِضَافَةِ عَشْرُ إِلَى أَمْثالِها. وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوف، وقرأه يَعْقُوبُ- بِتَنْوِينِ عَشْرُ وَرَفْعِ أَمْثالِها، عَلَى أنّه صفة ل عَشْرُ، أَيْ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مُمَاثِلَةٍ لِلْحَسَنَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا. وَمُمَاثَلَةُ الْجَزَاء للحسنة موكول إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِأَجْلِ مَا فِي صِيغَتِهِ مِنْ تَقْدِيمِ جَانِبِ النَّفْيِ، اهْتِمَامًا بِهِ، لِإِظْهَارِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ، فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ الْحَقِيقِيِّ رَدُّ اعْتِقَادٍ بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُسَاوِيهِ أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَيُجْزَى مِثْلَهَا، لَوْلَا الِاهْتِمَامُ بِجَانِبِ نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ. وَنَظِيرُهُ قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَتْهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا، فَقَالَ لَهَا: «لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ» وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: أَطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» فَأَكَّدَهَا بِوَاحِدَةٍ تَحْقِيقًا لِعَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي جَزَاءِ السَّيِّئَةِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 161]

وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ. إِظْهَار لِلْعَدْلِ، فَلِذَلِكَ سَجَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَا ظُلْمَ فِيهِ لِيُنْصِفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا عَدُّ عَوْدِ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يُنَاسب فَرِيقُ أَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِلَّذِي أُكْرِمَ وَأُفِيضَ عَلَيْهِ الْخَيْرُ إِنَّهُ غير مظلوم. [161] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 161] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا تَخَلَّلَهَا، إِلَى فَذْلَكَةِ مَا أُمِرَ بِهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الشَّأْنِ، غَلْقًا لِبَابِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْمُعْرِضِينَ، وَإِعْلَانًا بِأَنَّهُ قَدْ تَقَلَّدَ لِنَفْسِهِ مَا كَانَ يُجَادِلُهُمْ فِيهِ لِيَتَقَلَّدُوهُ وَأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لَا يُزَلْزِلُهُ عَنِ الْحَقِّ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْوَاعِظَ وَالْمُنَاظِرَ إِذَا أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي غَرَضِهِ، ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ وَمَا قَرَّ عَلَيْهِ قَرَارُهُ، عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ يَطْوِي سِجِلَّ الْمُحَاجَّةِ، وَلِذَلِكَ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ. فَأمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ أَشْيَاءَ يُعْلِنُ بِهَا أُصُولَ دِينِهِ، وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَنْوِيهًا بِالْمَقُولِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: 153] الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] فَزَادَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ هَذَا: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا جَاءَ بِهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدْيٍ

مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ دِينًا قَيِّمًا عَلَى قَوَاعِدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ زَائِد عَلَيْهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ هَدَاهُ إِلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلِاعْتِزَازِ بمربوبية الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ أَرْبَابُهُمْ، وَلَوْ وَحَّدُوا الرَّبَّ الْحَقِيقَ بِالْعِبَادَةِ لَهَدَاهُمْ. وَقَوْلُهُ: هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَتْ هَيْئَةَ الْإِرْشَادِ إِلَى الحقّ المبلّغ إِلَى النّجاة بِهَيْئَةِ مَنْ يَدُلُّ السَّائِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَلِّغَةِ لِلْمَقْصُودِ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْهِدَايَةِ وَبَيْنَ الصِّرَاطِ تَامَّةٌ، لِأَنَّ حَقِيقَة الْهِدَايَة التّعريف بِالطَّرِيقِ، يُقَالُ: هُوَ هَادٍ خِرِّيتٌ، وَحَقِيقَةُ الصِّرَاطِ الطَّرِيقُ الْوَاسِعَةُ. وَقَدْ صَحَّ أَنْ تُسْتَعَارَ الْهِدَايَةُ لِلْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالصِّرَاطُ لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، فَكَانَ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا قَابِلًا لِلتَّفْكِيكِ وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَوُصِفَ الصِّرَاطُ بِالْمُسْتَقِيمِ، أَيِ الَّذِي لَا خَطَأَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: 153] ، وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ هَيْئَةِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ دِينٌ لَا يَتَطَرَّقُ مُتَّبِعَهُ شَكٌّ فِي نَفْعِهِ كَمَا لَا يَتَرَدَّدُ سَالِكُ الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا انْعِطَافَ فِيهَا وَلَا يَتَحَيَّرُ فِي أَمْرِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: دِيناً تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ مُؤْذِنٌ بِالْمُشَبَّهِ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ: صِراطٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. وَالدِّينُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَهُوَ السِّيرَةُ الَّتِي يَتَّبِعُهَا النَّاسُ.

وَالْقَيِّمُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ- كَمَا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: وَصْفُ مُبَالَغَةٍ قَائِمٌ بِمَعْنَى مُعْتَدِلٍ غَيْرِ مُعْوَجٍّ، وَإِطْلَاقُ الْقِيَامِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالِاسْتِقَامَةِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا قَامَ اعْتَدَلَتْ قَامَتُهُ، فَيَلْزَمُ الِاعْتِدَالُ الْقِيَامَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ نَجْعَلَ الْقَيِّمَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقيام بِالْأَمر، وَهُوَ مُرَادِفُ الْقَيُّومِ، فَيُسْتَعَارُ الْقِيَامُ لِلْكِفَايَةِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَالْوَفَاءُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، فَالْإِسْلَامُ قَيِّمٌ بِالْأُمَّةِ وَحَاجَتِهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ قَيِّمٌ عَلَى كَذَا، بِمَعْنَى مُدَبِّرٌ لَهُ وَمُصْلِحٌ، وَمِنْهُ وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَيُّومِ، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُفَادِ مُسْتَقِيمٍ الَّذِي أَخَذَ جُزْءًا مِنَ التَّمْثِيلِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ إِعَادَةً لِبَعْضِ التَّشْبِيهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: قِيَماً- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مُخَفَّفَةً- وَهُوَ مِنْ صِيَغِ مَصَادِرِ قَامَ، فَهُوَ وَصْفٌ لِلدِّينِ بِمَصْدَرِ الْقِيَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذِهِ زِنَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْمَصَادِرِ، وَقَلْبُ وَاوِهِ يَاءً بَعْدَ الْكَسْرَةِ عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ: لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ تَصْحِيحُ لَامِهِ لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ، فَسَوَاءٌ فِي خِفَّتِهَا وُقُوعُهَا عَلَى الْوَاوِ أَوْ عَلَى الْيَاءِ، مِثْلَ عِوَضٍ وَحِوَلٍ، وَهَذَا كَشُذُوذِ جِيَادٍ جَمْعِ جَوَادٍ، وَانْتَصَبَ قِيَماً عَلَى الْوَصْفِ لِ دِيناً. وَقَوْلُهُ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَالٌ مِنْ: دِيناً أَوْ مِنْ: صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَوْ عطف بَيَان على دِيناً. والملّة، الدّين: فَهِيَ مُرَادِفَةُ الدِّينِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا هُنَا لِلتَّفَنُّنِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ [الْبَقَرَة: 132] . ومِلَّةَ فِعْلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَمْلُولِ، مِنْ أَمْلَلْتُ الْكِتَابَ إِذَا لَقَّنْتُ الْكَاتِبَ مَا يَكْتُبُ، وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ لَا تَقْتَرِنَ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ زِنَةَ (فِعْلٍ) بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ تَلْزَمُ التَّذْكِيرَ، كَالذَّبْحِ، إِلَّا أَنَّهُمْ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 إلى 163]

قَرَنُوهَا بَهَاءِ التَّأْنِيثِ لَمَّا صَيَّرُوهَا اسْمًا لِلدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمِلَّةُ كَالدِّينِ، ثُمَّ قَالَ: «وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّينِ أَنَّ الْمِلَّةَ لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى النَّبِيءِ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ نَحْوَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، مِلَّةِ آبَائِي، وَلَا تُوجَدُ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ وَلَا إِلَى آحَاد الْأُمَّةِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ دُونَ آحَادِهَا لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مِلَّةُ اللَّهِ» أَيْ وَيُقَالُ: الصَّلَاةُ دِينُ اللَّهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يُرَاعَى فِي لَفْظِ الملّة أنّها مملول مِنَ اللَّهِ فَهِيَ تُضَافُ لِلَّذِي أُمِلَّتْ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ: التَّوْحِيدُ، وَمُسَايَرَةُ الْفِطْرَةِ، وَالشُّكْرُ، وَالسَّمَاحَةُ، وَإِعْلَانُ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [67] . وَالْحَنِيفُ: الْمُجَانِبُ لِلْبَاطِلِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُهْتَدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [135] . وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَجُمْلَةُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا كَالْجَزَاءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَة الْبَقَرَة. [162، 163] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 162 إِلَى 163] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا، يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّفْرِيعِ عَنِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْنِفَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ غَرَضٌ مُسْتَقِلٌّ مُهِمٌّ فِي ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا عَنْ غَيْرِهِ، وَحَاصِلُ مَا تَضَمَّنَهُ هُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنِ التَّوْحِيدِ،

وَلِذَلِكَ قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ. علّم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ عَقِبَ مَا عُلِّمَهُ بِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُ هَدَاهُ ثُمَّ أَلْهَمَهُ الشُّكْرَ عَلَى الْهِدَايَةِ بِأَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ الْمَقُولِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِتَحْقِيقِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُرَائِي بِصَلَاتِهِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ: «أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . فَتَكُونُ (إِنَّ) عَلَى هَذَا لِرَدِّ الشَّكِّ. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمِلْكِ، أَيْ هِيَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: 161] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ. وَجعل صَلَاتَهُ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ. وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَالنُّسُكُ حَقِيقَتُهُ الْعِبَادَةُ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْعَابِدُ النَّاسِكُ. وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ يُسْتَعْمَلَانِ مَصْدَرَيْنِ مِيمِيَّيْنِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ، مِنْ حَيِيَ وَمَاتَ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: أَعْمَالُ الْمَحْيَا وَأَعْمَالُ الْمَمَاتِ، أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ مَعَ حَيَاتِهِ، وَمَعَ وَقت مماته. وَإِذا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمَعْنَى الزَّمَنِيَّ كَانَ الْمَعْنَى مَا يَعْتَرِيهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.

ثُمَّ إِنَّ أَعْمَالَ الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ وَفِيرَةٌ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَثَبَاتِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ أَوْ مَدَّتَهُ هِيَ الْحَالَةُ أَوِ المدّة الَّتِي تنْقَلب فِيهَا أَحْوَالُ الْجِسْمِ إِلَى صِفَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَتِلْكَ حَالَةُ الِاحْتِضَارِ، وَتِلْكَ الْحَالَةُ قَدْ تُؤَثِّرُ انْقِلَابًا فِي الْفِكْرِ أَوِ اسْتِعْجَالًا بِمَا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْجَلُ بِهِ الْحَيُّ، فَرُبَّمَا صَدَرَتْ عَنْ صَاحِبِهَا أَعْمَالٌ لَمْ يَكُنْ يُصْدِرُهَا فِي مُدَّةِ الصِّحَّةِ، اتِّقَاءً أَوْ حَيَاءً أَوْ جَلْبًا لِنَفْعٍ، فَيُرَى أَنَّهُ قَدْ يَئِسَ مِمَّا كَانَ يُرَاعِيهِ، فَيَفْعَلُ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ، وَأَيْضًا لتِلْك الْحَالة شؤون خَاصَّةٌ تَقَعُ عِنْدَهَا فِي الْعَادَةِ مِثْلَ الْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَحْوَالِ آخِرِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّهَا تُضَافُ إِلَى الْمَوْتِ لِوُقُوعِهَا بِقُرْبِهِ، وَبِهَذَا يَكُونُ ذِكْرُ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا مِنْهُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ حَتَّى زَمَنِ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَمَاتِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ تَوَجُّهَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ نَحْوَ أُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالظُّهُورِ لِخَاصَّةِ أُمَّتِهِ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ لِلرَّسُولِ بَعْدَ مَمَاتِهِ أَحْكَامَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِلَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُ فِي الْحَشْرِ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ وَالسُّجُودِ لِلَّهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَتِلْكَ أَعْمَالٌ خَاصَّة بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لِنَفْعِ عَبِيدِهِ أَوْ لِنَفْعِ أَتْبَاعِ دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمَماتِي هُنَا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَمَاتِهِ لِلَّهِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّتْهُ الْيَهُودِيَّةُ بِخَيْبَرَ فِي لَحْمِ شَاةٍ أَطْعَمُوهُ إِيَّاهُ حَصَلَ بَعْضٌ مِنْهُ فِي أمعائه. فَفِي الْحَدِيثِ (¬1) ¬

(¬1) رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «كتاب الطِّبّ النَّبَوِيّ» بِسَنَد حسن.

«مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تَعْتَادُنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ قَطْعِ أَبْهَرِي» (¬1) . وَبِقَوْلِهِ: وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أَصْلُهُ الْإِلْقَاءُ بِالنَّفْسِ إِلَى الْمُسْلَمِ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [20] ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [131] . وَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ صِفَةٌ تُشِيرُ إِلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ لَا لغيره، لأنّ غَيره لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [1] : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. وَجُمْلَةُ: لَا شَرِيكَ لَهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مُصَرِّحَةٌ بِمَا أَفَادَهُ جَمْعُ التَّوْكِيدِ مَعَ لَامِ الْمِلْكِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَصْرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّفَةِ وَالْحَالِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَا أَخْلَصُوا عَمَلَهُمْ لِلَّذِي خَلَقَهُمْ، وَبِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: وَمَحْيايَ- بِسُكُونِ الْيَاءِ الثّانية- إِجْرَاء للوصل مَجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ نَادِرٌ فِي النَّثْرِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ أَثْبَتَتْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّدْرَةَ لَا تُنَاكِدُ الْفَصَاحَةِ وَلَا يَرِيبُكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: «أَنَّهَا شَاذَّةٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لِأَنَّ سُكُونَ الْأَلِفِ قَبْلَ حَرْفٍ سَاكِنٍ لَيْسَ مِمَّا يَثْقُلُ فِي النُّطْقِ نَحْوَ عَصَايْ، وَرُؤْيَايْ، وَوَجْهُ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ هُنَا إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ تَوَالِيَ يَائَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ¬

(¬1) الْأَبْهَر- بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء وَفتح الْهَاء عرق فِي الْقلب.

فِيهِ ثِقَلٌ، وَالْأَلِفُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْفَتْحَةِ الْأُولَى لَا تُعَدُّ حَاجِزًا فَعَدَلَ عَنْ فَتْحِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ إِلَى إِسْكَانِهَا» . وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَرْشٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ نَافِعًا رَجَعَ عَنِ الْإِسْكَانِ إِلَى الْفَتْحِ. وَجُمْلَةُ: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ صَلاتِي إِلَخْ. فَهَذَا مِمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ، وَحَرْفُ الْعَطْفِ لَيْسَ مِنَ الْمَقُولِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَبِذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي إِلَخْ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلَّهِ بِهَدْيٍ مِنَ اللَّهِ وَأَمْرٍ مِنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: 161] يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا هَدَاهُ أَمَرَهُ بِمَا هُوَ شُكْرٌ عَلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الصَّلَاةَ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا لِنَفْسِهِ وَجَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى أَعْقَبَهَا بِأَنَّهُ هُدًى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 11، 12] . وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ لَازِمُ مَعْنَاهُ، يَعْنِي قَبُولَ الْإِسْلَامِ وَالثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالِاغْتِبَاطَ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَسْرَعَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّبْقِ إِذْ يُطْلَقُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالتَّرَجُّحِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: سَبَقْتَ الرِّجَالَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا ... كَسَبْقِ الْجَوَادِ اصْطَادَ قَبْلَ الطَّوَارِدِ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَعَالِي أَقْدَمَ مَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي أَهْلِ الْمَعَالِي مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا، وَمَنْ نَالَ الْعُلَا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الْمَمْدُوحُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ نَوَالِ الْعُلَا وَأَصْبَحَ الْحَائِزَ لَهُ وَالثَّابِتَ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَهَذَا الْمَعْنَى تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي التَّنَازُلِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَوْ أَقَلَّ تَنَازُلٍ. وَمِنِ اسْتِعْمَالِ (أَوَّلُ)

[سورة الأنعام (6) : آية 164]

فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ لِقِلَّةِ جَدْوَى الْخَبَرِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ دَاعٍ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ أَوَّلُ أَصْحَابِهِ لَا مَحَالَةَ، فَمَاذَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْأَعْدَاءَ وَالْأَتْبَاعَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى إِسْلَامِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَسْتَقِمْ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَ بَنُوهُ مُسْلِمِينَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] وَكَذَلِكَ أَبنَاء يَعْقُوب كَانُوا مُسلمين إِذْ قَالُوا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِإِثْبَاتِ أَلِفِ «أَنَا» إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَيَجْرِي مَدُّهَا عَلَى قَاعِدَةِ المدّ، وحذفها الْبَاقُونَ قبل الْهمزَة، واتّفق الْجَمِيع على حذفهَا قبل غير الْهمزَة تَخْفِيفًا جَرَى عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِهِمْ نَحْوَ: «أَنَا يُوسُفُ» وَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ نَحْوَ أَنَا أَفْعَلُ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَفْصَحَ إِثْبَاتُهَا مَعَ الْهَمْزِ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْمَدِّ. [164] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 164] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ، مُفْتَتَحٌ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَنْقَذَهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُمَحِّضَ عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ لِرَبِّهِ تَعَالَى، شُكْرًا عَلَى الْهِدَايَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ وَاهِبَ النِّعَمِ هُوَ مُسْتَحِقُّ الشُّكْرِ، وَالْعِبَادَةُ جِمَاعُ مَرَاتِبِ الشُّكْرِ، وَفِي هَذَا رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ ضَلَالِهِمْ إِذْ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ تَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِهِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِرُبُوبِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ، وَقَدْ حاولوا مِنْهُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ سَوَاءٌ كَانُوا حَاوَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِقُرْبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَمْ يُحَاوِلُوهُ، فَهُمْ دَائِمُونَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَاشِ أَنَّ الكفّار قَالُوا للنّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَى دِينِنَا وَاعْبُدْ آلِهَتَنَا وَنَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ تِبَاعَةٍ تَتَوَقَّعُهَا فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ» وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ يُبْتَغَى لَهُ رَبًّا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجَوَابِ إِذَا صَحَّ أَنَّ الْمُشْركين دعوا النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ فَيَكُونَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ لِمُوجِبٍ أَوْ لِمُوجِبَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [14] . وَجُمْلَةُ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ الْحَال، وَهُوَ حَال مُعَلَّلٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ بِاعْتِرَافِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ خَالِقَةٌ لِشَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: 73] فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبَّهُ فَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِي أَنْ يَعْبُدَهُ الْخَلَائِقُ، وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَكفر بِنِعْمَة الربوبيّة، وبقطع النّظر عَن كَون الْخلق نعْمَة، لِأَنَّ الْخَلْقَ إِيجَادٌ وَالْوُجُودُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَدَمِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَلْقِ مُوجِبٌ لِلْعِبَادَةِ لِأَجْلِ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَقُلْ: وَهُوَ رَبِّي، لِإِثْبَاتِ أَنَّهُ رَبُّهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِكَوْنِهِ إَثْبَاتَ حُكْمٍ عَامٍّ يَشْمَلُ الْمَقْصُودِ الْخَاصِّ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ أَرْبَابَهُمْ غَيْرُ حَقِيقَة بالربوبيّة لأنّها مربوبة أَيْضًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها من القَوْل بالمأمور بِهِ، مُفِيدٌ مُتَارَكَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَمَقْتًا لَهُمْ بِأَنَّ عِنَادَهُمْ لَا يَضُرُّهُ، فَإِنَّ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ

الشِّرْكِ لَا يَنَالُهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّمَا كَسْبُ كُلِّ نَفْسٍ عَلَيْهَا، وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْفُسِ فَكَسْبُهُمْ عَلَيْهِمْ لَا يَتَجَاوَزُهُمْ إِلَى غَيرهم. فالتّعميم فِي الْحُكْمِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: كُلِّ شَيْءٍ فَائِدَتُهُ مِثْلُ فَائِدَةِ التَّعْمِيمِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. وَدَلَّتْ كَلِمَةُ (عَلَى) عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ الْكَسْبِ الْمَحْذُوفَ تَقْدِيرُهُ: شَرًّا، أَوْ إِثْمًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُخَاطَبِينَ هُوَ اكْتِسَابُ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ كَقَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 52] وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكًا تَقْدِيره: وَلَا تكسب كلّ نفس إلّا لَهَا وَلَا تكتسب إِلَّا عَلَيْهَا فَحذف من الأول لِدَلَالَةِ الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ إِذا جربت عَلَى أَنَّ (كَسَبَ) يَغْلِبُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ، وَأَنَّ (اكْتَسَبَ) يَغْلِبُ فِي تَحْصِيلِ الشَّرِّ، سَوَاءٌ اجْتَمَعَ الْفِعْلَانِ أَمْ لَمْ يَجْتَمِعَا. وَلَا أَحْسَبُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ فَرْقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: 286] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَكْسِبُهُ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تَكْمِلَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فَكَمَا أَنَّ مَا تَكْسِبُهُ نَفْسٌ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهَا، كَذَلِكَ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا أَحْمِلُ أَوْزَارَكُمْ. فَقَوْلُهُ: وازِرَةٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: نَفْسٌ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةً حِمْلَ أُخْرَى. وَالْوِزْرُ: الْحِمْلُ، وَهُوَ مَا يَحْمِلُهُ الْمَرْءُ عَلَى ظَهْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [طه: 87] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [الْأَنْعَام: 31] . وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْإِثْمِ وِزْرًا فَلِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ ثَقِيلًا عَلَى نَفْسِ الْمُؤْمِنِ. فَمَعْنَى لَا تَزِرُ وازِرَةٌ لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ، أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حِينَ تَحْمِلُ حِمْلَ أَيِّ نَفْسٍ أُخْرَى غَيْرَهَا، فَالْمَعْنَى لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا تَحْمِلُهُ عَنْهَا، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ تَزِرُ وِزْرَ نَفْسِهَا، فَيُفِيدُ أَنَّ وِزْرَ كُلِّ أَحَدٍ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ غَيْرُهُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ وِزْرِهِ الَّذِي وَزَرَهُ وَأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ، فَلَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَلَا تُتَّبَعُ نَفْسٌ بِإِثْمِ غَيْرِهَا، فَهِيَ إِنْ حَمَلَتْ لَا تَحْمِلُ حِمْلَ غَيْرِهَا. وَهَذَا إتْمَام لِمَعْنى المتاركة. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيكون تعقيبا للمتاركة بِمَا فِيهِ تَهْدِيدُهُمْ وَوَعِيدُهُمْ، فَكَانَ مَوْقِعُ ثُمَّ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَهَمُّ. فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَالْمَعْنَى: بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنْفُسِهِمِ اخْتِلَافٌ. فَأُدْمِجَ الْوَعِيدُ بِالْوَعِيدِ. وَقَدْ جَعَلُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمَصَاحِفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وِزْرَ أُخْرى فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خطابا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُعَانِدِينَ لَهُ. وَ (ثُمَّ) صَالِحَةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ مُلَائِمٌ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ أَيْضًا. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً.

[سورة الأنعام (6) : آية 165]

وَالتَّنْبِئَةُ: الْإِخْبَارُ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِظْهَارُ آثَارِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاضِحَةً يَوْمَ الْحِسَابِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ يَوْمَئِذٍ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ نَبَّأَهُمْ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ زَمَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ يُنْبِئُكُمْ مُبَاشَرَةً بِدُونِ وَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِنْبَاءً لَا يَسْتَطِيعُ الْكَافِرُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْحَشْرِ: «فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الله حجاب» . [165] [سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَعَلَى وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْيَالِ خَلَائِفَ لِمَا سَبَقَهَا، فَعَمَرُوا الْأَرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَحْشُرَهَا جَمِيعًا بَعْدَ انْقِضَاء عَالم حَيَاتهَا الْأُولَى. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي دَبَّرَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بَيْنَهُمْ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا صَنَعُوا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى لِئَلَّا يَذْهَبَ الْمُعْتَدُونَ وَالظَّالِمُونَ فَائِزِينَ بِمَا جَنَوْا، وَإِذَا كَانَ يُقِيمُ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِينَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَأَشَارَ إِلَى الشَّقِّ الثَّانِي قَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِتَذْيِيلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الْأَنْعَام: 164] وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ.

فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: 164] تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ، بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِسَلْبِهَا، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَهُوَ يَفْتَحُ أَعْيُنَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَانْقِرَاضِهَا وَبَقَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الْأَرْضَ فَأَنْتُمْ خَلَائِفُ لِلْأَرْضِ، فَتكون بِشَارَة للأمّة بِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ الْمَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ: الْأُمَمُ ذَوَاتُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ. وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ: اسْمٌ لِمَا يخلف بِهِ شَيْء، أَيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ، أَيْ عِوَضَهُ، يُقَالُ: خَلِيفَةٌ وَخِلْفَةٌ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَظَهَرَتْ فِيهِ التَّاءُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) على لوجه الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ خَلَائِفَ فِيهَا، أَيْ خَلَفَ بِكُمْ أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ فِي مُخَاطَبَةِ أَقْوَامِهِمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69]- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: 74]- عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 129] . وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذَا أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أَنْشَأَهُمْ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى حِينِ أَعْدَمَ غَيْرَهُمْ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقَاءَ الْأُمَم الَّتِي قبلهَا لَمَا وُجِدَ هَؤُلَاءِ.

وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَيْضًا عِبْرَةً وَعِظَةً، لِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ وَالرِّفْعَةِ، وَلِجَعْلِ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالسَّعْيِ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لِمَنْ قَصَّرَ عَنْهَا وَالرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيُخْبِرَكُمْ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ دَرَجَاتِ النِّعَمِ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أَهْلَ النِّعْمَةِ أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدَّرَجَاتِ. وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِتَفَاوُتِ النِّعَمِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ. وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ فِي أَرْبَابِهَا تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإِعْطَاءِ الْمُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ. وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] . وَالْمُرَادُ بِهِ ظُهُورُ مَوَازِينِ الْعُقُولِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ بمواهب الله فِيهَا وَمَا يَسَّرَهُ لَهَا مِنَ الْمُلَائَمَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَرَاتِبَ النّاس، وَلَكِن سمّى ذَلِكَ بَلْوَى لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ، أَيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْمُقَدَّرَاتِ، فَهَذَا مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَالِامْتِثَالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعُ الْعِقابِ وَصفَة لَغَفُورٌ لِيُنَاسِبَ جَمِيعَ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ.

وَاسْتُعِيرَتِ السُّرْعَةُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ وَلِتَمَامِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْعَاجِزِ أَنْ يَتَرَيَّثَ وَأَنْ يَخْشَى غَائِلَةَ الْمُعَاقَبِ، فَالْمُرَادُ سَرِيعُ الْعِقَابِ فِي يَوْمِ الْعِقَابِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَرِيعَهُ مِنَ الْآنِ حَتَّى يُؤَوَّلَ بِمَعْنَى: كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، إِذْ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا. وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ (سَرِيعِ الْعقَاب) على موكّد وَاحِدٍ، وَتَعْزِيزِ وَصْفِ (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ إِنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ لِأَنَّ (الرَّحِيمَ) يُؤَكِّدُ مَعْنَى (الْغَفُورِ) : لِيُطَمْئِنَ أَهْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِيَسْتَدْعِيَ أَهْلَ الْإِعْرَاضِ وَالصُّدُوفِ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ.

7- سورة الأعراف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 7- سُورَةُ الْأَعْرَافِ هَذَا هُوَ الِاسْمُ الَّذِي عُرِفَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ، من عهد النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيث ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَن عُرْوَة عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: «مَا لِي أَرَاكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ السُّوَرِ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول الله عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام يَقْرَأُ فِيهَا بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ» . قَالَ مَرْوَانُ قُلْتُ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أطول الطولين» ، قَالَ: «الْأَعْرَافُ» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ . وَالْمُرَادُ بِالطُّولَيَيْنِ سُورَةُ الْأَعْرَافِ وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَعْرَافِ أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْآيَاتِ. وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا. أخرج النّسائي، عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أنّها ذكر فِيهَا لَفْظِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَاف: 46] الْآيَةَ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَعْرَافِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ (سُورٍ) فِي قَوْلِهِ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [13] . وَرُبَّمَا تُدْعَى بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا وَهِيَ: «أَلِفْ- لَامْ- مِيمْ- صَادْ» أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ: «أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، صَادْ» . وَهُوَ يَجِيءُ

عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلَا يَكُونُ (المص) اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى السُّورَةِ ذَاتِ المص، وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» فِي بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ. وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ السُّوَرِ ذَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ. وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ من أنّها تدعى طُولَى الطُّولَيَيْنِ فَعَلَى إِرَادَةِ الْوَصْفِ دُونَ التلقيب. وَذكر الفيروز بَادِي فِي كتاب «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ الْمِيقَاتِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ مِيقَاتِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: 143] . وَأَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةَ الْمِيثَاقِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى حَدِيثِ الْمِيثَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (¬1) [الْأَعْرَاف: 172] . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ قِيلَ جَمِيعُهَا مَكِّيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ نَزَلَ بَعْضُهَا بِالْمَدِينَةِ، قَالَ قَتَادَة آيَة: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الْأَعْرَاف: 163] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ من قَوْله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: 172] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ نزلت بِمَكَّةَ ثُمَّ أُلْحِقَ بِهَا الْآيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَأَكْمَلَ مِنْهَا بَقِيَّتَهَا تَانِكَ الْآيَتَانِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يُضْبَطُ بِهِ تَارِيخُ نُزُولِهَا وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ص وَقبل سُورَةِ قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: 1] ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ سُورَةَ قُلْ أُوحِيَ أُنْزِلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حِينَ ¬

(¬1) طبع مطابع شركَة الإعلانات الشّرقيّة بِالْقَاهِرَةِ سنة 1384 هـ، صفحة 203 الْجُزْء الأوّل.

أغراضها

ظُهُورِ دَعْوَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهٌ بِأَصْحَابِهِ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَلَا أَحسب أَن تكون سُورَةَ الْأَعْرَافِ قَدْ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السُّورَ الطِّوَالَ يَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فِي أوّل الْبعْثَة. وَلم أَقف على هَاتين التّسميتين فِي كَلَام غَيره. وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ الَّتِي جُعِلَتْ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ لِطُولِهَا وَهِيَ سُوَرُ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءِ، وَالْمَائِدَةِ، الْأَنْعَام، وَالْأَعْرَافِ، وَبَرَاءَةٍ، وَقُدِّمَ الْمَدَنِيُّ مِنْهَا وَهِيَ سُوَرُ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءِ، وَالْمَائِدَةِ، ثُمَّ ذُكِرَ الْمَكِّيُّ وَهُوَ: الْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ اعْتِبَارًا بِأَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ بَعْدَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَدَنِيِّ مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ص وَقَبْلَ سُورَةِ الْجِنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، قَالُوا جَعَلَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ عَقِبَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَجَعَلَ بَعْدَهَا سُورَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، وَوَقَعَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ الْأَنْعَامُ ثُمَّ الْأَعْرَافُ، وَسُورَةُ النِّسَاءِ هِيَ الَّتِي تَلِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الطُّولِ وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ تَلِي سُورَةَ النِّسَاءِ فِي الطُّولِ. وَعَدُّ آيِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، وَمِائَتَانِ وَخَمْسٌ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» وَقيل مِائَتَان وَسبع. أغراضها افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَالْوَعْدِ بتيسيره على النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبْلُغَهُ وَكَانَ افْتِتَاحُهَا كَلَامًا جَامِعًا وَهُوَ مُنَاسِبٌ

لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَقَاصِدِ فَهُوَ افْتِتَاحٌ وَارِدٌ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَأَكْمَلِهَا شَأْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَتَدُورُ مَقَاصِدُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى مِحْوَرِ مَقَاصِدٍ مِنْهَا: النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَوَصْفُ مَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ: مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. تَذْكِيرُ النَّاسِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَتَمْكِينُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ بِخَلْقِ أَصْلِهِ وَتَفْضِيلِهِ. وَمَا نَشَأَ مِنْ عَدَاوَةِ جِنْسِ الشَّيْطَانِ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ. وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِبَقَايَا مَكْرِ الشَّيْطَانِ مِنْ تَسْوِيلِهِ إِيَّاهُمْ حِرْمَانَ أَنْفُسِهِمُ الطَّيِّبَاتِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يَزُجُّ بِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَوَصْفُ أَهْوَالِ يَوْمَ الْجَزَاءِ لِلْمُجْرِمِينَ وَكَرَامَاتِهِ لِلْمُتَّقِينَ. وَالتَّذْكِيرُ بِالْبَعْثِ وَتَقْرِيبُ دَلِيلِهِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَصْلَحَهَا اللَّهُ لِفَائِدَةِ الْإِنْسَانِ. وَالتَّذْكِيرُ بِبَدِيعِ مَا أَوْجَدَهُ اللَّهُ لِإِصْلَاحِهَا وَإِحْيَائِهَا. وَالتَّذْكِيرُ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ وَقْتِ تَكْوِينِ أَصْلِهِ أَنْ يَقْبَلُوا دَعْوَةَ رُسُلِ اللَّهِ إِلَى التَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ. وَأَفَاضَ فِي أَحْوَالِ الرُّسُلِ مَعَ أقوامهم الْمُشْركين، وَمَا لَاقَوْهُ مِنْ عِنَادِهِمْ وَأَذَاهُمْ، وَأَنْذَرَ بِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِإِمْهَالِ اللَّهِ النَّاسَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ، إعذاراً لَهُمْ أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْإِمْهَالِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 1]

وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَصَرُّفَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَتَخَلَّلَ قِصَّتَهُ بِشَارَةُ اللَّهِ ببعثة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَفَضْلِ دِينِهِ. ثُمَّ تَخَلَّصَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ بَدَّلُوا الْحَنِيفِيَّةَ وَتَقَلَّدُوا الشِّرْكَ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِمَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْآيَاتِ فَوَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَانْسَلَخَ عَنِ الْهُدَى. وَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَوَصَفَ تَكْذِيبَهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَوَصَفَ آلِهَتَهُمْ بِمَا يُنَافِي الإلاهيّة وَأَنَّ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى صِفَاتِ الْكَمَالِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْإِقْبَالِ على عِبَادَته. [1] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) هَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا هَاتِهِ السُّورَةُ، يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا (أَلِفْ- لَامْ- مِيمْ- صَادْ) كَمَا يَنْطِقُ بِالْحُرُوفِ مُلَقِّنُ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْهِجَاءِ فِي الْمَكْتَبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ لَا مُسَمَّيَاتُهَا وَأَشْكَالُهَا، كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ أَحَدٍ بِخَبَرٍ تَذْكُرُ اسْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ دُونَ أَنْ تَعْرِضَ صُورَتَهُ أَوْ ذَاتَهُ، فَتَقُولُ مَثَلًا: لَقِيتُ زَيْدًا، وَلَا تَقُولُ: لَقِيتُ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا لَقِيتُ هَذِهِ الذَّاتَ. فَالنُّطْقُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ هُوَ مُقْتَضَى وُقُوعِهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا، لقصد التّعريض بتعجيز الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَعْجِيزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 2]

وَإِنَّمَا رَسَمُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِصُوَرِ الْحُرُوفِ دُونَ أَسْمَائِهَا، أَيْ بِمُسَمَّيَاتِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا وَلَمْ يَرْسُمُوهَا بِمَا تُقْرَأُ بِهِ أَسْمَاؤُهَا، مُرَاعَاةً لِحَالَةِ التَّهَجِّي (فِيمَا أَحْسَبُ) ، أَنَّهُمْ لَوْ رَسَمُوهَا بِالْحُرُوفِ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ أَسْمَائِهَا خَشُوا أَنْ يَلْتَبِسَ مَجْمُوعُ حُرُوفِ الْأَسْمَاءِ بِكَلِمَاتٍ مِثْلَ (ياسين) ، لَوْ رُسِمَتْ بِأَسْمَاءِ حُرُوفِهَا أَنْ تَلْتَبِسَ بِنِدَاءِ مَنِ اسْمُهُ سِينٌ. فَعَدَلُوا إِلَى رَسْمِ الْحُرُوفِ عِلْمًا بِأَنَّ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدَ صُورَةَ الْحَرْفِ نَطَقَ بِاسْمِ تِلْكَ الصُّورَةِ. عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي التَّهَجِّي طَرْدًا لِلرَّسْمِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. عَلَى أَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ سَنَّهَا كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ فَأُقِرَّتْ. وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي النُّطْقِ بِالْقُرْآنِ عَلَى الرِّوَايَةِ وَالتَّلَقِّي، وَمَا جُعِلَتْ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ إِلَّا تَذْكِرَةً وَعَوْنًا لِلْمُتَلَقِّي. وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيمَا هُنَا زِيَادَة عَلَيْهِ. [2] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 2] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) ذَكَرْنَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ أُعْقِبَتْ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْوَحْي أَو مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ التَّهَجِّي، إِبْلَاغًا فِي التَّحَدِّي لِلْعَرَبِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفًا لِلْعِبْءِ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَهِيَ هُنَا مَعْدُودَةٌ آيَةً وَلَمْ تُعَدَّ فِي بَعْضِ السُّوَرِ. فَقَوْلُهُ: كِتابٌ مُبْتَدَأٌ وَوَقَعَ الِابْتِدَاءُ، بِالنَّكِرَةِ أَمَّا لِأَنَّهَا أُرِيدَ

بِهَا النَّوْعُ لَا الْفَرْدُ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا إِبْهَامٌ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ جَاءَنِي، أَيْ لَا امْرَأَةَ، وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَفَائِدَةُ إِرَادَةِ النَّوْعِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاسْتِبْعَادَهُمْ ذَلِكَ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ نَوْعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَكَمَا نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَكِتَابُ مُوسَى كَذَلِكَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ لِدَفْعِ الِاسْتِبْعَادِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص: 22] فَالتَّنْكِيرُ لِلنَّوْعِيَّةِ. وَأَمَّا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِمْ: «شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ» أَيْ شَرٌّ عَظِيمٌ. وَقَوْلُ عُوَيْفِ الْقَوَافِي: خَبَرٌ أَتَانِي عَنْ عُيَيْنَةَ مُوجِعٌ ... كَادَتْ عَلَيْهِ تَصَدَّعُ الْأَكْبَادُ أَيْ هُوَ كِتَابٌ عَظِيمٌ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ فَصَارَ التَّنْكِيرُ فِي مَعْنَى التَّوْصِيفِ. وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالتَّنْكِيرِ التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ مَا حُفَّ بِهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَالْإِرْشَادِ، وَكَوْنُهُ نَازِلًا عَلَى رَجُلٍ أُمِّيٍّ. وَقَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِ كِتابٌ فَيَكُونَ مُسَوِّغًا ثَانِيًا لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْبَارِ تَذْكِيرُ الْمُنْكِرِينَ والمكابرين، لأنّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِتَغْلِيطِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَابِرِينَ وَالْقَاصِدِينَ إِغَاظَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِعْرَاضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الِامْتِنَانُ وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنَ

التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَكُنْ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِهِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَتُذَكِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَقْصُودُ: تسكين نفس النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِغَاظَةُ الْكَافِرِينَ، وَتَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ لِفَائِدَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ فَلَا يكن فِي صرك حَرَجٌ إِنْ كَذَّبُوا. وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَبِعَدَمِ مُنَافَاةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى إِرَادَةِ جَمِيعِهَا وَذَلِكَ مِنْ مَطَالِعِ السُّوَرِ الْعَجِيبَةِ الْبَيَانِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرُوا مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، وَجَعَلُوا كِتابٌ خَبْرًا عَنْهُ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ، أَيْ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ، أَوِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ السُّورَةُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ كِتابٌ خَبْرًا عَنْ كلمة المص [الْأَعْرَاف: 1] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَتَانَةِ الْمَعْنَى. وَصِيغَ فِعْلُ: أُنْزِلَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ اخْتِصَارًا، لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الَّذِي يُنْزِلُ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِمَا فِي مَادَّةِ الْإِنْزَالِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ لِمَلَائِكَةِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ اعتراضية إِذا الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أُنْزِلَ وَمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتُنْذِرَ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ كَمَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص: 57] وَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى [النِّسَاء: 135] . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنَ الشَّوَاهِدِ: اعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا وَقَوْلِ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ: كَقَائِلَةٍ إِنَّ الْحِمَارَ فَنَحِّهِ ... عَنِ الْقَتِّ أَهْلُ السِّمْسِمِ الْمُتَهَذِّبِ وَلَيْسَتِ الْفَاءُ زَائِدَةً لِلِاعْتِرَاضِ وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَإِنَّمَا

الِاعْتِرَاضُ حَصَلَ بِتَقْدِيمِ جُمْلَتِهَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ مُبَادَرَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِإِفَادَتِهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَأَصْلُ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ هُنَا: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَعَانِي الْفَاءِ فَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ أَنَّ الْفَاءَ لَا تَقَعُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ لَا لِيَكُونَ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ، بَلْ لِيَنْشَرِحَ صَدْرُكَ بِهِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ بِصِيغَةِ نَهْيِ الْحَرَجِ عَنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي صدر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ النَّهْيُ نَهْيَ تَكْوِينٍ، بِمَعْنَى تَكْوِينِ النَّفْيِ، عَكْسَ أَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى تَكْوِينِ الْإِثْبَاتِ. مُثِّلَ تَكْوِينُ نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ صَدْرِهِ بِحَالَةِ نَهْيِ الْعَاقِلِ الْمُدْرِكِ لِلْخِطَابِ، عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» النَّهْيَ مُتَوَجِّهًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ نَهْيَهُ عَنِ الْمُبَالَاةِ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْغَمِّ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَجَعَلَ النَّهْيَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَرَجِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْلِيفِ، بِاقْتِلَاعِهِ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا» أَيْ لَا تَحَضُرْ فَأَرَاكَ، وَقَوْلِهِمْ: «لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا» أَيْ لَا تَفْعَلْهُ فَأَعْرِفْكَ بِهِ، نَهْيًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالتَّفْرِيعُ مُنَاسِبٌ لِمَعَانِي التَّنْكِيرِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ، أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا جَرَّهُ نُزُولُهُ إِلَيْكَ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ وَإِنْكَارِهِمْ نُزُولَهُ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِهِ وَجَلَالَتِهِ، وَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ سَبَبُ شَرْحِ صَدْرِكَ بِمَعَانِيهِ وَبَلَاغَتِهِ. وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ حَرَجٌ يَنْشَأُ وَيَسْرِي مِنْ جَرَّاءِ الْمَذْكُورِ، أَيْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ التَّكْذِيبُ بِهِ من جملَة شؤونه، وَهُوَ سَبَبُ الْحَرَجِ، صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ الْحَرَجُ مُسَبَّبًا عَنِ الْكِتَابِ بِوَاسِطَةٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ حَرَجٍ مِنْ إِنْكَارِهِ أَيْ إِنْكَارِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّهِ. وَالْحَرَجُ حَقِيقَتُهُ الْمَكَانُ الضَّيِّقُ مِنَ الْغَابَاتِ الْكَثِيرَةِ الْأَشْجَارِ، بِحَيْثُ

[سورة الأعراف (7) : آية 3]

يَعْسُرُ السُّلُوكُ فِيهِ، وَيُسْتَعَارُ لِحَالَةِ النَّفْسِ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ وَالْأَسَفِ، لِأَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا لِلْغَاضِبِ وَالْآسِفِ ضِيقًا فِي صَدْرِهِ لَمَّا وَجَدُوهُ يَعْسُرُ مِنْهُ التَّنَفُّسُ مِنَ انْقِبَاضِ أَعْصَابِ مَجَارِي النَّفَسِ، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] . ولِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقٌ بِ أُنْزِلَ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَاقْتِرَانُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ دُونَ الْإِتْيَانِ بِمَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ لِاخْتِلَافِ فَاعِلِ الْعَامِلِ وَفَاعِلِ الْإِنْذَارِ. وَجُعِلَ الْإِنْذَارُ بِهِ مُقَدَّمًا فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ لِإِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْبَاطِلِ وَمَا يُخَلِّفُونَهُ فِي النَّاسِ مِنَ الْعَوَائِدِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُعَانَى إِزَالَتُهَا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ. ذِكْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لِتُنْذِرَ بِهِ، بِاعْتِبَارِ انْسِبَاكِهِ بِمَصْدَرٍ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَطْفَ جُمْلَةٍ، وَيَكُونَ ذِكْرى مَصْدَرًا بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وذكّر ذكرى للْمُؤْمِنين، فَيَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ فَيَكُونَ اعْتِرَاضًا. وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ لِتُنْذِرَ، وَصرح بمتعلّق ذِكْرى لظُهُور تَقْدِير الْمَحْذُوف من ذكر مُقَابِله الْمَذْكُور، والتّقدير: لتنذر بِهِ الْكَافِرِينَ، وَصَرَّحَ بِمُتَعَلِّقِ الذِّكْرَى دون متعلّق لِتُنْذِرَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا بِتَحْقِيرِ الْكَافِرِينَ تُجَاهَ ذكر الْمُؤمنِينَ. [3] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 3] اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لِتُنْذِرَ بِهِ [الْأَعْرَاف: 2] بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهَا بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْأَوْلَى، فَبَعْدَ

أَنْ نَوَّهَ اللَّهُ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ إِنْزَالِهِ لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى، أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ، كُلٌّ يَتَّبِعُ مَا هُوَ بِهِ أَعْلَقُ، وَالْمُشْرِكُونَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الزَّجْرَ عَنِ الشِّرْكِ وَالِاحْتِجَاجَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالتَّكْلِيفَ، فَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَجْدَرُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، فَوَصْفُ (الرَّبِّ) هُنَا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ: لِلتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، لِأَنَّ وَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ لِأَوَامِرِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ أَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً دُونَهُ، وَالْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ النَّهْيُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. وَالِاتِّبَاعُ حَقِيقَتُهُ الْمَشْيُ وَرَاءَ مَاشٍ، فَمَعْنَاهُ يَقْتَضِي ذاتين: تَابعا ومتوبعا، يُقَالُ: اتَّبَعَ وَتَبِعَ، وَيُسْتَعَارُ لِلْعَمَلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92، 93] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حَالَتَيْنِ، وَيُسْتَعَارُ لِلِاقْتِدَاءِ بِسِيرَةٍ أَوْ قَوْلٍ نَحْوَ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: 168] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ تَنْبَنِي عَلَى تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: 50] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 2] . وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ تَصْرِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ لِأَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُجَازِيهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْجَانِبِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَطْعًا لَمَعَاذِيرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّنَا اتَّبَعْنَا مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا نَرَى أَوْلِيَاءَنَا إِلَّا شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ

بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مَوْقِعُ الْفَصْلِ الْجَامِعِ مِنَ الْحَدِّ، وَمَوْقِعُ وَلا تَتَّبِعُوا مَوْقِعُ الْفَصْلِ الْمَانِعِ فِي الْحَدِّ. وَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُوَالِي، أَيِ الْمُلَازِمُ وَالْمُعَاوِنُ، فَيُطْلَقُ عَلَى النَّاصِرِ، وَالْحَلِيفِ، وَالصَّاحِبِ الصَّادِقِ الْمَوَدَّةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَعْبُودِ وَلِلْإِلَهِ: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَقْوَى أَحْوَالِ الْمُوَالَاةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [الشورى: 9] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [14] ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ: لَا تَتَّبِعُوا مَا يَأْتِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ دُونَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ الضَّالَّةِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، أَوْ إِلَى سَدَنَةِ الْآلِهَةِ وَكُهَّانِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: 137] ، وَقَوْلِهِ: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [136] ، وَعَلَى تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ يَجْرِي التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ أَيْ لَا تَمْتَثِلُوا لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ أَمْرِهِمْ أَوْ لِدُعَاةِ الْأَوْلِيَاءِ وَسَدَنَتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارًا لِلطَّلَبِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيْ وَلَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ غَيْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ يَتَّبِعُ زَلَّةَ فُلَانٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ» أَيْ يَتَطَلَّبُهَا. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَ (دُونَ) ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْمُجَاوِزِ الْمُنْفَصِلِ، وَقَدْ جُرَّ بِمِنِ الْجَارَّةِ لِلظُّرُوفِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلتَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ.

وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعل تَتَّبِعُوا، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا أَوْلِيَاءَ مُتَّخِذِينَهَا دُونَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ بِزَعْمِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ: كَالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، وَالْحَلِفِ بِاسْمِهِ، فَهُمْ أَيْضًا اتَّبَعُوا الْأَصْنَامَ بِعِبَادَتِهَا أَوْ نِسْبَةِ الدِّينِ إِلَيْهَا، فَكُلُّ عَمَلٍ تَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَكُلُّ عَمَلٍ عَمِلُوهُ امْتِثَالًا لِأَمْرٍ يُنْسَبُ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَهُمْ عِنْدَ عَمَلِهِ يَكُونُونَ مُتَّبِعِينَ اتِّبَاعًا فِيهِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللَّهِ وَتَرْكٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَبِهَذَا النَّهْيِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الشِّرْكِ وَتَأْوِيلَاتُهُ كَقَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَاسْتِيعَابِ الْمَقْصُودِ. وَأَفَادَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَفَادُ صِيغَةِ قَصْرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ رَبُّكُمْ، أَيْ دُونَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ أَوْلِيَاؤُكُمْ، فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ لِتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُسْتَقِلَّةً صَرِيحَةَ الدَّلَالَةِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا عَلَى نَحْو قَول السّموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَجُمْلَةُ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ لَا تَتَّبِعُوا، وَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ وكاشفة لِصَاحِبِهَا، وَلَيْسَتْ مُقَيِّدَةٌ لِلنَّهْيِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ أَوْلِيَاءُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسُوا إِلَّا قَلِيلِي التَّذَكُّرِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضًا تَذْيِيلِيًّا. وَلَفْظُ (قَلِيلًا) يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَذَكَّرُونَ ثُمَّ يُعْرِضُونَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ فَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قَلِيلًا) مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْعَدَمِ عَلَى وَجْهِ التَّلْمِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 88] (فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوصَفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ) . وَالتَّذَكُّرُ مَصْدَرُ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ حُضُورُ الصُّورَةِ فِي الذِّهْنِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 إلى 5]

وَقَلِيلٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَدَمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِالْمُضَيِّعِ لِلْأَمْرِ النَّافِعِ يُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ قَلِيلُ الْإِتْيَانِ بِالْأَمْرِ النَّافِعِ، تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَفْرِيطٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ التَّقْلِيلِ دُونَ التَّضْيِيعِ لَهُ كُلِّهِ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: قَلِيلًا تَذَكُّرُكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ تَذَكَّرُونَ وَ (مَا) مَزِيدَةً لِتَوْكِيدِ الْقِلَّةِ، أَيْ نَوْعِ قِلَّةٍ ضَعِيفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: 26] . وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [88] . وَالْمَعْنَى: لَوْ تَذَكَّرْتُمْ لَمَا اتَّبَعْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَلَمَا احْتَجْتُمْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى إِضَاعَتِهِمُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَفِي نَقَائِصِ أَوْلِيَائِهِمُ الْمَزْعُومِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تَذَكَّرُونَ- بِفَوْقِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَذَكَّرُونَ بتاءين فوقيتين فقلبت ثَانِيَتُهُمَا ذَالًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأَتَّى تَخْفِيفُهُ بِالْإِدْغَامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: يَتَذَكَّرُونَ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ-، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَوَجَّهَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ السَّامِعِينَ: إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمين. [4، 5] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 4 إِلَى 5] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ

(5) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا [الْأَعْرَاف: 3] وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَالَّذِينَ قَصَدُوا مِنَ الْعُمُومِ. وَقَدْ ثُلِّثَ هُنَا بِتَمْحِيضِ التَّوْجِيهِ إِلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ إِهْلَاكُ الْقُرَى، دُونَ ذِكْرِ الْأُمَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: 5، 6] ، لِأَنَّ الْمُوَاجِهِينَ بِالتَّعْرِيضِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدُ أَهْلِهَا بِمَا أَصَابَ الْقُرَى وَأَهْلَهَا وَلِأَنَّ تَعْلِيق فعل أَهْلَكْناها بِالْقَرْيَةِ دُونَ أَهْلِهَا لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَهُوَ مُغْنٍ عَنْ أَدَوَاتِ الشُّمُولِ، فَالسَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ وَالْمَوْعِظَةَ إِنَّمَا هِيَ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: 82] وَنَظِيرُهُمَا مَعًا قَوْلُهُ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: 6] ، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى. وَأُجْرِيَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّأْنِيثِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ قَرْيَةٍ، لِيَحْصُلَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ لَفْظِ الْمَعَادِ وَلَفْظِ ضَمِيرِهِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلِ الْقُرْبِ، ثُمَّ أُجْرِيَتْ ضَمَائِرُ الْقَرْيَةِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَنِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ إِلَخْ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَلَفْظِ مَعَادِهِ بِجُمْلَةٍ فِيهَا ضَمِيرُ مَعَادِهِ غَيْرَ لَفْظِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ بَأْسُنا بَياتاً لِأَنَّ (بَيَاتًا) مُتَحَمِّلٌ لِضَمِيرِ الْبَأْسِ، أَيْ مُبَيِّتًا لَهُمْ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَرْيَةِ بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا فَقَالَ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ. وَ (كَمْ) اسْمُ حَالٍ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ وَهُوَ هُنَا خَبَرٌ عَنِ الْكَثْرَةِ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ وَالِاسْتِئْصَالُ. وَفِعْلُ أَهْلَكْناها يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ بِحُصُولِ مَدْلُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِ مَعْنَاهُ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ: فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى جُمْلَةِ: أَهْلَكْناها، وَأَصْلُ الْعَاطِفَةِ أَنْ تُفِيدَ تَرْتِيبَ حُصُولِ مَعْطُوفِهَا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ حَاصِلًا مَعَ حُصُولِ الْإِهْلَاكِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذْ هُوَ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ، عُسِرَ عَلَى جمع من المسفّرين مَعْنَى مَوْقِعِ الْفَاءِ هُنَا، حَتَّى قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ الْفَاءَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ مِثْلَ شَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ: جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، وَهُوَ قَلْبٌ خَلِيٌّ عَنِ النُّكْتَةِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ فِعْلَ (أَهْلَكْنَاهَا) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] وَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ أَيْ فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ، وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِ مَعْنَاهُ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النَّحْل: 98] اسْتَعْمَلَ قَرَأْتَ مَكَانَ أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ مُسَبَّبَةً عَنْ إِرَادَتِهَا اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا بِقَرِينَةِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فِي مَوْضِعِ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا بِقَرِينَةٍ فَجاءَها بَأْسُنا وَالْبَأْسُ الْإِهْلَاكُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ يَكُونُ لِإِفَادَةِ عَزْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، عَزْمًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْعَمَلُ، بِحَيْثُ يُسْتَعَارُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، لِلْإِرَادَةِ لِتَشَابُهِهِمَا، وَإِمَّا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ التَّرَيُّثِ، فَدَلَّ الْكَلَامُ كُلُّهُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ فَيَخْلُقُ أَسْبَابَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ فَيَحْصُلُ الْفِعْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَالْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِنَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا التّقارن بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْإِرَادَةِ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ حُصُولِ السَّبَبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُ السَّامِعِينَ الْمُعَانِدِينَ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحُلَّ غَضَبُ

اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيُرِيدُ إِهْلَاكَهُمْ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمُ المهلّة لِئَلَّا يتباطأوا فِي تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ وَالتَّعْجِيلِ بِالتَّوْبَةِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي فَاءِ الْعَطْفِ قَدْ يَكُونُ التَّرْتِيبَ الذِّكْرِيَّ، أَيْ تَرْتِيبَ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَفِي الْآيَةِ أَخْبَرَ عَنْ كَيْفِيَّةِ إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ الْخَبَرِ بِالْإِهْلَاكِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ فِي الْغَالِبِ تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» ، وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً [الْوَاقِعَة: 35، 37] الْآيَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72]- أَوْ قَوْلُهُ- فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَة: 36] لِأَنَّ الْإِزْلَالَ عَنِ الْجَنَّةِ فُصِّلَ بِأَنَّهُ الْإِخْرَاجُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: 54] وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْإِطْنَابِ وَقَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ. وَالْبَأْسُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ على شدّة الْحساب وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ الْبَأْسَاءَ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا. وَاسْتُعِيرَ الْمَجِيءُ لِحُدُوثِ الشَّيْءِ وَحُصُولِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُلُولِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِتَنَقُّلِ خُطُوَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [43] . وَالْبَيَاتُ مَصْدَرُ بَاتَ، وَهُوَ هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَأْسِ، أَيْ جَاءَهُمُ الْبَأْسُ مُبَيِّتًا لَهُمْ، أَيْ جَاءَهُمْ لَيْلًا، وَيُطْلَقُ الْبَيَاتُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْغَارَةِ تَقَعُ لَيْلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَأْسِ الِاسْتِعَارَةَ لشدّة الْحَرْب كَمَا الْمُرَادُ مِنَ الْبَيَاتِ حَالَةً مِنْ حَالِ الْحَرْبِ، هِيَ أَشَدُّ عَلَى الْمَغْزُوِّ، فَكَانَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَياتاً مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ أَيْ فِي وَقْتِ الْبَيَاتِ.

وَجُمْلَةُ هُمْ قائِلُونَ حَالٌ أَيْضًا لِعَطْفِهَا عَلَى بَياتاً بَأَوْ، وَقَدْ كَفَى هَذَا الْحَرْفُ الْعَاطِفُ عَنْ رَبْطِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِوَاوِ الْحَالِ، وَلَوْلَا الْعَطْفُ لَكَانَ تَجَرُّدُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْوَاوِ غَيْرَ حَسَنٍ، كَمَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ مُتَابِعٌ لِعَبْدِ الْقَاهِرِ. وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ، إِذَا كَانَتْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْحَلَّةً إِلَى مُفْرَدَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَصْفُ صَاحِبِ الْحَالِ، فَهَذِهِ تَجَرُّدُهَا عَنِ الْوَاوِ قَبِيحٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ القاهر وحقّقه التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» ، لِأَنَّ فَصِيحَ الْكَلَامِ أَنْ يُجَاءَ بِالْحَالِ مُفْرَدَةً إِذْ لَا دَاعِيَ لِلْجُمْلَةِ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ، إِذْ يُغْنِي أَنْ تَقُولَ: فَارِسًا. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى وَصْفِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَفِيهَا ضَمِيرُ صَاحِبِ الْحَالِ، فَخُلُوُّهَا عَنِ الْوَاوِ حَسَنٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه: 123] فَإِنَّ هَذِهِ حَالَةٌ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه: 123] وَقَوْلِهِمْ، فِي الْمِثَالِ: جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَجَابَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَمَا سَاقَهُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمِفْتَاحِ» وَعِبَارَةِ ابْنِ الْحَاجِبِ فَتَأَمَّلْهُ. وَعُلِّلَ حَذْفُ وَاوِ الْحَالِ بِدَفْعِ اسْتِثْقَالِ تَوَالِي حَرْفَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَ (أَوْ) لِتَقْسِيمِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ: إِلَى مُهْلَكَةٍ فِي اللَّيْلِ، وَمُهْلَكَةٍ فِي النَّهَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ تَهْدِيدُ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يَحُلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ، بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُونَ فِي وَقْتٍ مَا. وَمَعْنَى: قائِلُونَ كَائِنُونَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَهِيَ اسْم للْوَقْت الْمُبْتَدِئ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ الْمُنْتَهِي بِالْعَصْرِ، وَفِعْلُهُ: قَالَ يَقِيلُ فَهُوَ قَائِلٌ، وَالْمَقِيلُ الرَّاحَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُطْلَقُ الْمَقِيلُ عَلَى الْقَائِلَةِ أَيْضًا. وَخُصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ مِنْ بَيْنِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ

يَطْلُبُ فِيهِمَا النَّاسُ الرَّاحَةَ وَالدَّعَةَ، فَوُقُوعُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْعَذَابِ فِيهِمَا يُنَغِّصُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ تَخَيُّلَ نَعِيمِ الْوَقْتَيْنِ. وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مُشْرِكِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ جَزَاءً عَلَى شِرْكِهِمْ، فَكُونُوا يَا مَعْشَرَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ أَنْ نُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّكُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ: فَما كانَ دَعْواهُمْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ تَبَعًا لِلِفَاءٍ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا لِأَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذْكُورِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى مَجِيءِ الْبَأْسِ. وَالدَّعْوَى اسْمٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [يُونُس: 10] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ هُنَا لِرَفْعِ الْعَذَابِ أَيِ الِاسْتِغَاثَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْبَأْسِ وَظُهُورِ أَسْبَابِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ النَّاسِ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَغِيثُوا اللَّهَ وَلَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَلَكِنَّهُمْ وَضَعُوا الِاعْتِرَافَ بِالظُّلْمِ مَوْضِعَ الِاسْتِغَاثَةِ فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ مِنَ الدَّعْوَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَيِ: انْقَطَعَتْ كُلُّ الدَّعَاوَى الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَهَا مِنْ تَحْقِيقِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ دِينَهُمْ حَقٌّ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ دَعْوَى، بَلِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ لَيْسَ بِدَعْوَى. وَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُقَدِّمَةُ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ يَتَقَدَّمُهَا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، فَهُمُ اعْتَرَفُوا عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الِاعْتِرَافِ إِلَى طَلَبِ الْعَفْوِ، فَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَكَانَ اعْتِرَافُهُمْ- آخِرُ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا- مُقَدِّمَةً لِشَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي

الْحَشْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ لِيَحْرِمَهُمْ مُوجِبَاتِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ جَرَيَانَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَانَ نَتِيجَةَ تَفَكُّرِهِمْ فِي ظُلْمِهِمْ فِي مُدَّةِ سَلَامَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْعِنَادَ وَالْكِبْرِيَاءَ يَصُدَّانِهِمْ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ مَنْ تُصِيبُهُ شِدَّةٌ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامٌ، فَمَنِ اعْتَادَ قَوْلَ الْخَيْرِ نَطَقَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَادَ ضِدَّهُ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ التَّسَخُّطِ وَمُنْكَرُ الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ مَا كَثُرَ جَوَلَانُهُ فِي أَفْكَارِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: كُنَّا ظالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِنَادِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ، وَصَمِّ الْآذَانِ عَنِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْظِ، وَذَلِكَ يَجْمَعُهُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الْأَعْرَاف: 3] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ وَإِلْهَامِهِمْ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالظَّالِمِينَ، أَوْ بِوِجْدَانِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِقْرَارًا مَحْضًا أَقَرُّوا بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِنْشَاءِ الْإِقْرَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَكَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ وَمُكَابِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ نَدِمُوا وَأَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ، إِقْرَارًا مَشُوبًا بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ الصَّرِيحِ وَمَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ يَجْتَمِعُ مَعَ الْكِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَجَازًا صَرِيحًا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُونَهُ لِغَيْرِ مُخَاطَبٍ مُعَيِّنٍ، كَشَأْنِ الْكَلَامِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، مِثْلَ الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، بَيْنَهُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ،

وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنْشَاءِ النَّدَامَةِ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الصَّرِيحِ، وَالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ، عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ آنِفًا. وَالتَّوْكِيدُ بِإِنَّ لِتَحْقِيقِ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، جَارِيًا مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِنُزُولِ الْبَأْسِ بِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِهِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَى الشِّرْكِ حِينَئِذٍ الِاسْمَ الْمُشْعِرَ بِمَذَمَّتِهِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ قَبْلُ. وَاسْمُ كَانَ هُوَ: أَنْ قالُوا الْمُفَرِّغُ لَهُ عَمَلُ كَانَ، ودَعْواهُمْ خَبَرُ (كَانَ) مُقَدَّمٌ، لِقَرِينَةِ عَدَمِ اتِّصَالِ كَانَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ: (دَعْوَى) هُوَ اسْمُهَا لَكَانَ اتِّصَالُهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ أَحْسَنَ، وَلِلْجَرْيِ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِيهِ الْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ مَحْصُورًا بَعْدَ كَانَ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 82] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [آل عمرَان: 147] وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مُلْتَزَمٌ، غَرِيبٌ، مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ فِيهِ جُزْءُ الْإِسْنَادِ ذَاتَيْنِ أُرِيدَ حَصْرُ تَحَقُّقِ أَحَدِهِمَا فِي تَحَقُّقِ الْآخَرِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّحَدَا فِي الْمَاصَدَقَ، وَاسْتَوَيَا فِي التَّعْرِيفِ كَانَ الْمَحْصُورُ أَوْلَى بِاعْتِبَارِ التَّقَدُّمِ الرُّتْبِيِّ، وَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَحْصُورَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي آخِرِ الْجُزْأَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى لُزُومِ تَأْخِيرِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْصُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ مَحْصُورًا دُونَ الْآخَرِ فِي مِثْلِ هَذَا، ممّا الجزءان فِيهِ مُتَّحِدَا الْمَاصَدَقَ، إِنَّمَا هُوَ مَنُوطٌ بِاعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ أَحَدَهُمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرَ الْفَرْعُ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ اعْتُبِرَ قَوْلُهُمْ هُوَ الْمُتَرَقَّبُ مِنَ السَّامِعِ لِلْقِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَاعْتُبِرَ الدُّعَاءُ هُوَ الْمُتَرَقَّبُ ثَانِيًا، كَأَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ: مَاذَا قَالُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْبَأْسُ، فَقِيلَ لَهُ: كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دُعَاءَهُمْ، فَأُفِيدَ الْقَوْلُ وَزِيدَ بِأَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الدُّعَاءِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ تَنْفَعُكَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 إلى 7]

فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مثل قَوْله: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: 82] ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لِاطِّرَادِ هَذَا الِاعْتِبَارِ مَعَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ مِنْ (أَنْ) وَالْفِعْلِ عِلَّةً لَفْظِيَّةً: وَهِيَ كَوْنُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ يُشْبِهُ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ لَا يُوصَفُ، فَكَانَ أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الِاسْمُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَعْرَفَ مِنَ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسْندًا إِلَيْهِ. [6، 7] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 6 إِلَى 7] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) الْفَاءُ فِي قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ عَاطِفَةٌ، لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لِأَنَّ وُجُودَ لَامِ الْقَسَمِ عَلَّامَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ أُنُفٌ انْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَمِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ حَالَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ. وَسُؤَالُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ سُؤَالٌ عَنْ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. وَهُوَ سُؤَالُ تَقْرِيعٍ فِي ذَلِكَ الْمَحْشَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: 65] . وَسُؤَالُ الْمُرْسَلِينَ عَنْ تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ سُؤَالُ إِرْهَابٍ لِأُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا شَهَادَةَ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمْ أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ مَسُوقُونَ إِلَى الْعَذَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاء: 41]- وَقَوْلِهِ- يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [الْمَائِدَة: 109] . والَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، هُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِرْسَالِ هِيَ إِجَابَةُ الرُّسُلِ، فَلَا

جَرَمَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنَ السُّؤَالِ هُوَ الْأُمَمِ، لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، قُدِّمَ ذِكْرُهُمْ عَلَى ذِكْرِ الرُّسُلِ، وَلِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِلَةُ (الَّذِي) وَصِلَةُ (الْ) مِنْ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ سُؤَالُ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ وُقُوعِ التَّبْلِيغِ. وَلَمَّا دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ: بِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّعْبِيرُ: بِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ جَوَابِ الْمَسْئُولِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ إِثْبَاتُ التَّبْلِيغِ وَالْبَلَاغِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّرْتِيبِ على قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ، أَيْ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ثُمَّ نُخْبِرُهُمْ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ جَوَابُهُمْ، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ فَعِلْمُنَا غَنِيٌّ عَنْ جَوَابِهِمْ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ لِغَرَضٍ آخَرَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى إِرَادَةِ التَّفْصِيلِ تَنْكِيرُ عِلْمٍ فِي قَوْلِهِ: بِعِلْمٍ أَيْ عِلْمٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ تَنْوِينَ (عِلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَكَمَالُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ، وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا قَوْلُهُ: وَما كُنَّا غائِبِينَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى: لَا يَعْزُبُ عَنْ علمنَا شَيْء يغيب عَنَّا وَنَغِيبُ عَنْهُ. وَالْقَصُّ: الْإِخْبَارُ، يُقَالُ: قَصَّ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَخْبَرَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُصُّ الْحَقَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] . وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا غائِبِينَ مَعْطُوف عَلَى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ. وَالْغَائِبُ ضِدُّ الْحَاضِرِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الْجَهَالَةَ عُرْفًا، أَيِ الْجَهَالَةَ بِأَحْوَالِ الْمَغِيبِ عَنْهُ، فَإِنَّهَا وَلَوْ بَلَغَتْهُ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 إلى 9]

بِالْأَخْبَارِ لَا تَكُونُ تَامَّةً عِنْدَهُ مِثْلَ الْمُشَاهِدِ، أَيْ: وَمَا كُنَّا جَاهِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّنَا مُطَّلِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا النَّفْيُ لِلْغَيْبَةِ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْمَعِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: 4] . وَإِثْبَاتُ سُؤَالِ الْأُمَمِ هُنَا لَا يُنَافِي نَفْيَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [الْقَصَص: 78]- وَقَوْلِهِ- فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَن: 39] لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُنَا هُوَ التَّبْلِيغُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ السُّؤَالُ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ ذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا غائِبِينَ. [8، 9] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 8 إِلَى 9] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) عطف جُمْلَةُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ عَلَى جملَة فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: 7] ، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِلْمِ بِحَسَنَاتِ النَّاسِ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ مَظْهَرَ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَأَثَرَهُ هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَدَرَكَاتِهِمْ تَفَاوُتًا لَا يُظْلَمُ الْعَامِلُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَفُوتُ مَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ بِرَفْعِ دَرَجَةٍ أَوْ مَغْفِرَةِ زَلَّةٍ لِأَجْلِ سَلَامَةِ قَلْبٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جملَة: فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: 7] بِجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَلَنُجَازِيَنَّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً لَا غَبْنَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ. وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَيْهِ:

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: 6] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذٍ نَسْأَلُهُمْ وَنَسْأَلُ رُسُلَهُمْ وَنَقُصُّ ذُنُوبَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَالْوَزْنُ حَقِيقَتُهُ مُعَادَلَةُ جِسْمٍ بِآخَرَ لِمَعْرِفَةِ ثِقَلِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا فِي تَعَادُلِهِمَا أَوْ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ تَسَاوِي الْجِسْمَيْنِ الْمَوْزُونَيْنِ نَادِرَ الْحُصُولِ تَعَيَّنَ جُعِلَتْ أَجْسَامٌ أُخْرَى يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ التَّفَاوُتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ آلَةٍ تُوضَعُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، وَتُسَمَّى الْمِيزَانُ وَلَهَا أَشْكَالٌ مُخْتَلِفَةٌ شَكْلًا وَاتِّسَاعًا. وَالْأَجْسَامُ الَّتِي تُجْعَلُ لِتَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ تُسَمَّى مَوَازِينُ، وَاحِدُهَا مِيزَانُ أَيْضًا وَتُسَمَّى أَوْزَانًا وَاحِدُهَا وَزْنٌ، وَيُطْلَقُ الْوَزْنُ عَلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ حَالٍ فِي فَضْلٍ وَنَحْوِهِ قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: 105] وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : «إِنَّهُ لَيُؤْتَى بِالْعَظِيمِ السَّمِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» . وَيُسْتَعَارُ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِلتَّدْبِيرِ فِي أَحْوَالٍ، كَقَوْلِ الرَّاعِي: وَزَنَتْ أُمَيَّةُ أَمْرَهَا فَدَعَتْ لَهُ ... مَنْ لَمْ يَكُنْ غُمِرًا وَلَا مَجْهُولًا فَالْوَزْنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ تَعْيِينُ مَقَادِيرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ الْأَعْمَالُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَعْيِينًا لَا إِجْحَافَ فِيهِ، كَتَعْيِينِ الْمِيزَانِ عَلَى حَسَبِ مَا عَيَّنَ اللَّهُ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَكَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلَّهِ وَكَوْنِهِ رِيَاءً، وَكَكَوْنِ الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِهِ لِمُجَرَّدِ الطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ، فَالْوَزْنُ اسْتِعَارَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَقَدْ قِيلَ تُوضَعُ الصَّحَائِفُ الَّتِي كَتَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ لِلْأَعْمَالِ فِي شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَنْطِقُ أَوْ يَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ فَيَدُلُّ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَعْمَالِ لِأَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي صِفَةِ هَذَا الْمِيزَانِ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا. وَالْعِبَارَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ قَاصِرَةٌ عَنْ وَصْفِ الْوَاقِعَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْمُتَعَارَفِ، فَلَا تَعْدُو الْعِبَارَاتُ فِيهَا تَقْرِيبَ الْحَقَائِقِ وَتَمْثِيلَهَا بِأَقْصَى

مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَمَا جَاءَ مِنْهَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ يَقْتَضِي آلَةً فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: 105] . وَمَا جَاءَ مِنْهَا عَلَى صِيغَةِ الْأَسْمَاءِ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مِثْلَ مَا هُنَا لِقَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ إِلَخْ وَمِثْلَ قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ» وَمَا تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُقْتَضٍ آلَةً فَحَمْلُهُ عَلَى التَّمْثِيلِ أَوْ عَلَى مَخْلُوقٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْأَنْبِيَاء: 47] . وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ الْمِيزَانِ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّتِي فِيهَا كَلِمَةُ شَهَادَةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَحَدِيثِ قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وُجُودِ مَخْلُوقٍ يُبَيِّنُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ مِنَ الْعَمَلِ يُسَمَّى بِالْمِيزَانِ تُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ حَقِيقَةً، فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَنَفَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَقَالُوا: هُوَ الْقَضَاءُ السَّوِيُّ، وَقَدْ تَبِعَ اخْتِلَافَهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَمْرُ هَيِّنٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ لَيْسَ بِبَيِّنٍ وَالْمَقْصُودُ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ آلَتَهُ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْوَزْنِ بِقَوْلِهِ: الْحَقُّ إِنْ كَانَ الْوَزْنُ مَجَازًا عَنْ تَعْيِينِ مَقَادِيرِ الْجَزَاءِ فَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَيِ الْجَزَاءُ عَادل غير جَائِز، لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَضَاءِ وَالْحِكَمِ، وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ تَمْثِيلًا بِهَيْئَةِ الْمِيزَانِ، فَالْعَدْلُ بِمَعْنَى السَّوِيِّ، أَيْ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْأَعْمَالِ لَا يرجح وَلَا يحجف. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ مُحِقًّا. وَتَفَرَّعَ عَلَى كَوْنِهِ الْحَقَّ قَوْلُهُ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِلْوَزْنِ بِبَيَانِ أَثَرِهِ عَلَى قَدْرِ الْمَوْزُونِ. وَمَحَلُّ التَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ ذَلِكَ

مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَقَوله: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ. وَثِقَلُ الْمِيزَانِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْمَوْزُونِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَالِبَةً وَوَافِرَةً، أَيْ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ الصَّالِحَاتُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا ثَقُلَتْ بِهِ الْمَوَازِينُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنِ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ مُتَعَارَفَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَزِنُونَ الْأَشْيَاءَ الْمَرْغُوبَ فِي شِرَائِهَا الْمُتَنَافَسَ فِي ضَبْطِ مَقَادِيرِهَا وَالَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهَا. وَالثِّقَلُ مَعَ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْوَزْنِ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَخْذًا بِغَايَةِ الْخِفَّةِ عَلَى وِزَانٍ عَكْسِ الثِّقَلِ، وَهِيَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ ثَانٍ لِاسْتِعَارَةِ الْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْخِفَّةُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ انْعِدَامُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِقَوْلِهِ: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. وَالْفَلَاحُ حُصُولُ الْخَيْرِ وَإِدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِلْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ وَقَدْ تقدّم فِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [5] . وَمَا صدق (مِنْ) وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ: مَوازِينُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَاحِدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهُوَ عَامٌّ صَحَّ اعْتِبَارُهُ جَمَاعَةً فِي الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَصَّلُوا الْفَلَاحَ لِأَجْلِ ثِقَلِ مَوَازِينِهِمْ، وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الِاعْتِبَارِيِّ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِقَصْدِ الِانْحِصَارِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ تَحَقُّقُ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ إِنْ عَلِمْتَ جَمَاعَةً تُعْرَفُ بِالْمُفْلِحِينَ فَهُمْ هُمْ. وَالْخُسْرَانُ حَقِيقَتُهُ ضِدُّ الرِّبْحِ، وَهُوَ عَدَمُ تَحْصِيلِ التَّاجِرِ عَلَى مَا يَسْتَفْضِلُهُ مِنْ بَيْعِهِ، وَيُسْتَعَارُ لِفُقْدَانِ نَفْعِ مَا يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، فَمَعْنَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ

فَقَدُوا فَوَائِدَهَا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْجُو مِنْ مَوَاهِبِهِ، وَهِيَ مَجْمُوعُ نَفْسِهِ، أَنْ تَجْلِبَ لَهُ النَّفْعَ وَتَدْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ: بِالرَّأْيِ السَّدِيدِ، وَابْتِكَارِ الْعَمَلِ الْمُفِيدِ، وَنُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ سَوَّلَتْ لَهُمْ أَعْمَالًا كَانَتْ سَبَبَ خِفَّةِ مَوَازِينِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ سَبَبَ فَقْدِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ كَرَأْسِ مَالِ التَّاجِرِ الَّذِي رَجَا مِنْهُ زِيَادَةَ الرِّزْقِ فَأَضَاعَهُ كُلَّهُ فَهُوَ خَاسِرٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ أَوْقَعَتْهُمْ فِي الْعَذَابِ الْمُقِيمِ، وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [20] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا بِآيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا، فَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي تَجَدُّدِ الظُّلْمِ فِيمَا مَضَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ [فاطر: 9] . وَالظُّلْمُ- هُنَا- ضِدُّ الْعَدْلِ: أَيْ يَظْلِمُونَ الْآيَاتِ فَلَا يُنْصِفُونَهَا حَقَّهَا مِنَ الصِّدْقِ. وَضُمِّنَ يَظْلِمُونَ مَعْنَى يُكَذِّبُونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ فَيُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: 14] . وَإِنَّمَا جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ تَكْذِيبُ مَا قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِ فَتَكْذِيبُهُ ظُلْمٌ لِلْأَدِلَّةِ بِدَحْضِهَا وَعَدَمِ إِعْمَالِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ يَظْلِمُونَ، لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَتِ الْآيَةُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَحَالَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ النَّاسُ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُلُّهُمْ عَامِلُونَ بِالصَّالِحَاتِ، مُسْتَكْثِرُونَ مِنْهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَبَقِيَ بَيْنَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ

[سورة الأعراف (7) : آية 10]

عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَذَلِكَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، إِذْ لَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمَقَامِ، وَتَعَرَّضَتْ لَهُ آيَات آخري. [10] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 3] فَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ وَلِيُّ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخَالِقُ مَا بِهِ عَيْشُهُمُ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ وَجُودِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى قِلَّةِ شُكْرِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فَإِنَّ النُّفُوسَ الَّتِي لَا يَزْجُرُهَا التَّهْدِيدُ قَدْ تَنْفَعُهَا الذِّكْرَيَاتُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ قَالَ أَحَدُ الْخَوَارِجِ وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى قِتَالِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَكَانَ قَدْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعَمًا: أَأُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بَأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَقَدِ، الْمُفِيدِ لِلتَّحْقِيقِ، تَنْزِيلٌ لِلَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِطَابِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ مَضْمُونَ الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ وُقُوعَ التَّمْكِينِ مِنْ أَصْلِهِ. وَالتَّمْكِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى التَّصَرُّفِ، عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [6] وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ لَا الصَّرِيحِ، أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ قُدْرَةً، أَيْ أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَى أُمُورِ الْأَرْضِ وَخَوَّلْنَاكُمُ التَّصَرُّفَ فِي مَخْلُوقَاتِهَا، وَذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْبَشَرِ مِنْ قُوَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِِِ

الَّتِي أَهَّلَتْهُ لِسِيَادَةِ هَذَا الْعَالَمِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَى مَصَاعِبِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّمْكِينِ هُنَا الْقُوَّةَ وَالْحُكْمَ كَالْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْف: 84] لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَاصِلًا بِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّمْكِينِ أَيْضًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ جَعْلُ الْمَكَانِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْأَرْضِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمُ الْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: 26] أَيْ جعلنَا مَا أقررناهم عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِمَّا أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَيْهِ، أَيْ فِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ أَمَّا أَصْلُ الْقَرَارِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ صِرَاطٌ بَيْنَهُمَا. وَمَعَايِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَهِيَ مَا يَعِيشُ بِهِ الْحَيُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، وَأَصْلُ الْمَعِيشَةِ اسْمُ مَصْدَرِ عَاشَ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: 124] سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعَيْشُ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الَّذِي غَلَبَ حَتَّى صَارَ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ. وَيَاءُ (مَعَايِشَ) أَصْلٌ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْمَصْدَرِ (عَيْشٍ) فَوَزْنُ مَعِيشَةٍ مَفْعِلَةٌ وَمَعَايِشَ مَفَاعِلُ، فَحَقُّهَا أَنْ يُنْطَقَ بِهَا فِي الْجَمْعِ يَاءً وَأَنْ لَا تُقْلَبَ هَمْزَةً. لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ فِي حَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي فِي الْمُفْرَدِ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ رَدُّوهُ إِلَى أَصْلِهِ وَاوًا أَوْ يَاءً بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ، مِثْلَ: مَفَازَةٍ وَمَفَاوِزَ، فِيمَا أَصْلُهُ وَاوٌ مِنَ الْفَوْزِ وَمَعِيبَةٍ وَمَعَايِبَ فِيمَا أَصْلُهُ الْيَاءُ، فَإِذَا كَانَ حَرْفُ الْمَدِّ فِي الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ قَلَبُوا حَرْفَ الْمَدِّ هَمْزَةً نَحْوَ قِلَادَةٍ وَقَلَائِدَ، وَعَجُوزٍ وَعَجَائِزَ، وَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ لَطَائِفِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَرْفِ الْمَدِّ الْأَصْلِيِّ وَالْمَدِّ الزَّائِدِ وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ، وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ: مَعَائِشَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْهُ لَا يعبأ بهَا، وقرىء فِي الشاذ: بِالْهَمْز، رَوَاهُ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَفِي «الْكَشَّافِ» نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 إلى 13]

وَقَوْلُهُ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 3] وَنَظَائِرِهِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَلَّ شُكْرُهُمْ لله تَعَالَى إِذا اتَّخَذُوا مَعَهُ آلِهَةً. وَوَصْفٌ قَلِيلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمَعْدُومِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ إِنَّ شُكْرَكُمُ اللَّهَ قَلِيلٌ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَقَدْ شَكَرُوهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ شُكْرِهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُقْتَصَدِ اسْتِنْزَالًا لِتَذَكُّرِهِمْ. وَانْتُصِبَ (قَلِيلًا) عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ فِي محلّ الْفَاعِل بقليلا فَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ. وَفِي التَّعْقِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِآيَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: 4] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِهْمَالَ شُكْرِ النِّعْمَةِ يُعَرِّضُ صَاحِبَهَا لِزَوَالِهَا، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَهْلَكْناها. [11- 13] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 11 إِلَى 13] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 10] تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ النَّوْعِ، وَهِيَ نِعْمَةُ عِنَايَةٍ، لِأَنَّ الْوُجُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَدَمِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَدْ

يَعْرِضُ لِلْمَوْجُودِ مِنَ الْأَكْدَارِ وَالْمَتَاعِبِ، وَبِنِعْمَةِ تَفْضِيلِهِ عَلَى النَّوْعِ بِأَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِأَصِلِهِ، وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِامْتِنَانِ تَنْبِيهٌ وَإِيقَاظٌ إِلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْقِدَمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَتَضْلِيلِهِ، وَإِغْرَاءً بِالْإِقْلَاعِ عَمَّا أَوْقَعَ فِيهِ النَّاسَ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ، وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] وَمَا تَلَاهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْلَالِ وُسِّطَ فِي خِلَالِ الْمَوْعِظَةِ. وَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمُ الْغَرَضُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، لِمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَفْرَادٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ، وَهُوَ آدَمُ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَالْخَلْقُ الْإِيجَادُ وَإِبْرَازُ الشَّيْءِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ وَصْفِ اللَّهِ بِهِ. وَالتَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ صُورَةً، وَالصُّورَةُ الشَّكْلُ الَّذِي يُشَكَّلُ بِهِ الْجِسْمُ كَمَا يُشَكَّلُ الطِّينُ بِصُورَةِ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ صَوَّرْناكُمْ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ التَّصْوِيرِ عَنْ رُتْبَةِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ حَالَةُ كَمَالٍ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُتْقَنَةِ حُسْنًا وَشَرَفًا، بِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاعِرِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّدْبِيرِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيرُ مُقَارِنًا لِلْخَلْقِ كَمَا فِي خَلْقِ آدَمَ، أَمْ كَانَ بَعْدَ الْخَلْقِ بِمُدَّةٍ، كَمَا فِي تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ مِنْ عِظَامٍ وَلَحْمٍ وَعَصَبٍ وَعُرُوقٍ وَمَشَاعِرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [الْمُؤْمِنُونَ: 14] .

وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيْ (خَلَقْنَا) وَ (صَوَّرْنَا) إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ يَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 10] الْآيَةَ فَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] وَالْمَقْصُودُ بِالْخُصُوصِ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ كُفْرَانَ هَذِهِ النِّعَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا [الْأَعْرَاف: 28] وَقَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 3] . وَأَمَّا تَعَلُّقُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فَمُرَادٌ مِنْهُ أَصْلُ نَوْعِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ آدَمُ بِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَنُزِّلَ خَلْقُ أَصْلِ نَوْعِهِمْ مَنْزِلَةَ خَلْقِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمُخَاطَبُونَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ لِيَشْكُرُوا مُوجِدَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] أَيْ حَمَلْنَا أُصُولَكُمْ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ وَتَنَاسَلَ مِنْهُمُ النَّاسُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِامْتِنَانُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِإِنْجَاءِ أُصُولِهِمُ الَّذِينَ تَنَاسَلُوا مِنْهُمْ، وَيجوز أَن يؤول فِعْلَا الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِمَعْنَى إِرَادَةِ حُصُولِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 35] أَيْ أَرَدْنَا إِخْرَاجَ مَنْ كَانَ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ قَبْلَ أَمْرِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ بِهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ وَالْمُصَوَّرَ هُوَ آدَمُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَصَوَّرْنَاهُ فَبَرَزَ مَوْجُودًا مُعَيَّنًا مُسَمًّى بِآدَمَ، فَإِنَّ التّسمية طَرِيق لتعيين الْمُسَمَّى، ثُمَّ أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ وَبَدِيعَ صُنْعِنَا فِيهِ فَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَهُ فَوَقَعَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فِي نَسْجِ الْكَلَامِ. وَ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ

عَلَى الْجُمْلَةِ فَهِيَ مُقَيِّدَةٌ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هُنَا أَرْقَى رُتْبَةً مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَبَيَانُ مَا تَقَدَّمَ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، مِنْ ظُهُورِ فَضْلِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمَلَائِكَةَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [34] . وتعريف لِلْمَلائِكَةِ لِلْجِنْسِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَكَانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ آدَمُ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِغْرَاقُ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَطَرِيقُ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا وَسُجُودِهِمْ جَمِيعًا لِآدَمَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ طُرُقَ عِلْمِهِمْ بِمُرَادِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ لَا تُقَاسُ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْعَالَمِ الَّذِي فِيهِ الْمَلَائِكَةُ بَلْ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ حَشَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ آدَمَ خُلِقَ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا الظَّاهِرِ أَخَذَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتِثْنَاءُ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» عُدَّ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِحُكْمِ التّغليب. وَجُمْلَة: عغتاژة، لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ حَالٌ مِنْ (إِبْلِيسَ) ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ عَامِلِهَا وَهُوَ مَا دلّت عَلَيْهِ أَدَاة الِاسْتِثْنَاءُ، لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى:

أُسْتُثْنِيَ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ عَيْنُ مَدْلُولِ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَتِ الْحَالُ تَأْكِيدًا. وَفِي اخْتِيَارِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْيِ سُجُودِهِ بِجَعْلِهِ مِنْ غَيْرِ السَّاجِدِينَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ السُّجُودُ انْتِفَاءً شَدِيدًا لِأَنَّ قَوْلَكَ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يُفِيدُ مِنَ النَّفْيِ أَشَدَّ مِمَّا يُفِيدُهُ قَوْلُكُ لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] . فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ جِبِلَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِصْيَان عِنْد مَا لَا يُوَافِقُ الْأَمْرُ هَوَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ هَوًى وَرَأْيًا، فَكَانَتْ جِبِلَّتُهُ مُخَالِفَةً لِجِبِلَّةِ الْمَلَائِكَةِ. وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ، فَلَمَّا حَدَثَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ ظَهَرَ خُلُقُ الْعِصْيَانِ الْكَامِنُ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ السَّاجِدِينَ، أَيِ انْتَفَى سُجُوده انْتِفَاء لَا رَجَاء فِي حُصُولِهِ بَعْدُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَبَى السُّجُودَ إِبَاءً وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِحِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ابْتِدَاءُ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ إِبْلِيسَ السُّجُودَ لِآدَمَ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَكَانَ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ اسْتِفْسَارٌ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ السُّجُودَ، وَضَمِيرُ: قالَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قُلْنَا، فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا، نُكْتَتُهُ تَحْوِيلُ مَقَامِ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَمْرٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي زُمْرَتِهِمْ فَصَارَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ لِإِبْلِيسَ خَاصَّةً. وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ظَاهِرُهُ حَقِيقِيٌّ، وَمَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِظْهَارُ مَقْصِدِ إِبْلِيسَ لِلْمَلَائِكَةِ. ومَنَعَكَ مَعْنَاهُ صَدَّكَ وَكَفَّكَ عَنِ السُّجُودِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ:

مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَفَّ عَنِ السُّجُودِ لَا عَنْ نَفْيِ السُّجُودِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، فَلِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ (لَا) هُنَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَقِيلَ هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا تُفِيدُ نَفْيًا، لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمَزِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ التَّأْكِيدِ. وَ (لَا) مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُؤَكَّدُ بِهَا الْكَلَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1]- وَقَوْلِهِ- لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 29] أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ عِلْمًا مُحَقَّقًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] أَيْ مَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَنْعًا مُحَقَّقًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي تَوْجِيهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِ السُّجُودِ غَيْرَ وَاقِعٍ فَلَا يَنْبَغِي تَأْكِيدُهُ خَفَاءً لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ (لَا) نَافِيَةٌ، وَوُجُودُهَا يُؤْذِنُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَنَعَكَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو لِضِدِّهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فَدَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَكَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى دَعَاكَ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَ (لَا) هِيَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي فَصْلِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ فِيمَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ الْفِعْلَانِ، فَذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَحُذِفَ الْآخَرُ، وَأُشِيرَ إِلَى الْمَحْذُوفِ بِمُتَعَلِّقَةِ الصَّالِحِ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَانْظُرْ مَا قُلْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فِي سُورَةِ طه [92، 93] . وَقَوْلُهُ: إِذْ أَمَرْتُكَ ظَرْفٌ لِ تَسْجُدَ، وَتَعْلِيقُ ضَمِيرِهِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ شَامِلٌ لَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَخَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ أَصْلًا

لِلْجِنِّ لِيَجْعَلَ مِنْهُ صِنْفًا مُتَمَيِّزًا عَنْ بَقِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِقَبُولِهِ لِلْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: 50] الْآيَةَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْجِنَّ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ، وَإِبْلِيسُ أَصْلُ ذَلِكَ النَّوْعِ، جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ أَمْرُهُمْ شَامِلًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَأَنَّ الْجِنَّ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ، وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ نُورًا مَخْلُوطًا بِالْمَادَّةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ نُورًا مُجَرَّدًا، فَيَكُونُ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَحَطَّ، كَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ أَرْقَى. وَفُصِلَ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَبَيَّنَ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ آدَمَ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ صَرِيحَةٌ، وَقَوْلُهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلِامْتِنَاعِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ. وَجُمْلَةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ. وَحَصَلَ لِإِبْلِيسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ نَارٍ، بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا خَلْقَهُ، أَوْ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ ثَابِتٌ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَن: 14، 15] وَإِبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [50] : فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَاسْتَنَدَ فِي تَفْضِيلِ نَفْسِهِ إِلَى فَضِيلَةِ الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ عَلَى الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ.

وَالنَّارُ هِيَ الْحَرَارَةُ الْبَالِغَةُ لِشِدَّتِهَا الِالْتِهَابَ الْكَائِنَةُ فِي الْأَجْسَامِ الْمَصْهُورَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، كَالنَّارِ الَّتِي فِي الشَّمْسِ، وَإِذَا بلغت الْحَرَارَة الالتهام عَرَضَتِ النَّارِيَّةُ لِلْجِسْمِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ تُرَابٍ مِثْلُ النَّارِ الْبَاقِيَةِ فِي الرَّمَادِ. وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا وَتَسَلُّطِهَا عَلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تُلَاقِيهَا، وَلِأَنَّهَا تُضِيءُ، وَلِأَنَّهَا زَكِيَّةٌ لَا تَلْصَقُ بِهَا الْأَقْذَارُ، وَالتُّرَابُ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا تَتَكَوَّنُ مِنْهُ الْأَجْسَامُ الْحَيَّةُ كُلُّهَا. وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْمَلَكُ فَهُوَ أَخْلَصُ مِنَ الشُّعَاعِ الَّذِي يُبَيِّنُ مِنَ النَّارِ مُجَرَّدًا عَنْ مَا فِي النَّارِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْجُثْمَانِيَّةِ. وَالطِّينُ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطُ بِالْمَاءِ، وَالْمَاءُ عُنْصُرٌ آخَرُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مَعَ النَّارِ وَالتُّرَابِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا أَنَّ شَرَفَ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ مُقَرَّرٌ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أُوخِذَ بِعِصْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ عِصْيَانًا بَاتًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَدْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَ آدَمَ ذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي قَدْ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى مَبْلَغِ الْمَلَائِكَةِ فِي الزَّكَاءِ وَالتَّقْدِيسِ، فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَغَرَّهُ زَكَاءُ عُنْصُرِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ كَافِيًا فِي التَّفْضِيلِ وَحْدَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ كِيَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعُنْصُرِ مُهَيِّئًا إِيَّاهُ لِبُلُوغِ الْكَمَالَاتِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ، وَاعْتِبَارِ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ، بِحَسَبِ مَقْصِدِ الْخَالِقِ عِنْدَ التَّرْكِيبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالَةِ الْمَادَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ إِبْلِيسَ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْفَسَادِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ دُونَ نَظَرٍ، بِحَسَبَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَرَكَّبَ آدَمَ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ العنصريّة فِي الْخَبَر وَالصَّلَاحِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَى ازْدِيَادِ الْكَمَالِ بِمَحْضِ الِاخْتِيَارِ وَالنَّظَرِ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ خَصَائِصُ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْخَالِقِ لِلتَّرْكِيبِ، وَرَكَّبَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عُنْصُرِ النُّورِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ قُوَاهُمُ الْعُنْصُرِيَّةَ فِي الْخَيْرَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالِانْدِفَاعِ

إِلَى ذَلِكَ بِالطَّبْعِ دُونَ اخْتِيَارٍ وَلَا نظر، بِحَسب خصايص عُنْصُرِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ بُلُوغُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَضَائِلِ الْمَلَكِيَّةِ أَعْلَى وَأَعْجَبَ، وَكَانَ مَبْلَغُهُ إِلَى الرَّذَائِلِ الشَّيْطَانِيَّةِ أَحَطَّ وَأَسْهَلَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُوطِبَ بِالتَّكْلِيفِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ لِأَنَّهُ سُجُودُ اعْتِرَافٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَظْهَرِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ، وَانْتَظَرُوا الْبَيَانَ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 32] فَجَاءَهُمُ الْبَيَانُ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] ثُمَّ مُفَصَّلًا بِقِصَّةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: 31]- إِلَى قَوْلِهِ- وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [33] . وَقَدْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِصْيَانِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي اعْتِلَاءٍ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَأَحَلَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجَعْلٍ آلَهِيٍّ بِإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ وَمُلَازَمَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها. وَالتَّعْبِيرُ بِالْهُبُوطِ إِمَّا حَقِيقَةً إِنْ كَانَ الْمَكَانُ عَالِيًا، وَإِمَّا اسْتِعَارَةً لِلْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ، بِتَشْبِيهِ الْبُعْدِ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ: فَاهْبِطْ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى جَوَابِ إِبْلِيسَ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْكَلَامَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْمُحَاوَرَةِ، كَالْعَطْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] . وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْهُبُوطِ مُسَبَّبٌ عَنْ جَوَابِهِ. وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْرُورِ بِمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْمَعْلُومِ بَيْنَ

الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ، وَتَأْنِيثُهُ إِمَّا رَعْيٌ لِمَعْنَاهُ بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوْ لِلَفْظِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَكَانُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا الضَّمِيرِ بِالتَّأْنِيثِ. وَقَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ، وَهُوَ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عُقُوبَةُ إِبْعَادٍ عَنِ الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خُلُقُهُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَهُ، وَذَلِكَ خُلُقُ التَّكَبُّرِ لِأَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ مَا لَهُ وَصْفٌ يُنَافِيهِ وَهَذَا مَبْدَأٌ حَاوَلَهُ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ عَنِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُحْدِثُوا بِدْعَةً فِي بَلَدِنَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ مَحَلَّتِهِمْ مَنْ يُخْشَى مِنْ سِيرَتِهِ فُشُوُّ الْفَسَادِ بَيْنَهُمْ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يُغْتَفَرُ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ (مَا يَكُونُ لَكَ) كَذَا أَشَدُّ مِنَ النَّفْيِ بِ (لَيْسَ لَكَ كَذَا) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ [79] ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ هُنَا نَهْيًا لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْيِيدُ نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُ بِالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ لِوُقُوعِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عُقُوبَةُ الطَّرْدِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ لِذَلِكَ الْقَيْدِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي غَيْرِهَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّكَبُّرَ مَعْصِيَةٌ لَا تَلِيقُ بِأَهْلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ. وَقَوْلُهُ: فَاخْرُجْ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ فَاهْبِطْ بِمُرَادِفِهَا، وَأُعِيدَتِ الْفَاءُ مَعَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ تَسَبُّبِ الْكِبْرِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَكْوِينِ الصِّغَارِ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ صَاغِرًا حَقِيرًا حَيْثُمَا حَلَّ، فَفَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قبلهَا للاستيناف، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْإِخْرَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 إلى 15]

الْمَقَامِ اسْتِعْمَالَ فَاءِ التَّعْلِيلِ، فَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِظْهَارَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّغَارِ وَالْحَقَارَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا فَذَهَبَتْ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا إِلَى التَّكَبُّرِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَارِ لَهُ مِنْ نَحْوِ: إِنَّكَ صَاغِرٌ، أَوْ قَدْ صَغُرْتَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] ، وَقَوْلِهِ آنِفًا: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَالصَّاغِرُ الْمُتَّصِفُ بِالصَّغَارِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْحَقَارَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الصَّغَارُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُ صَارَتْ عَلَى غَيْرِ مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَهُوَ صَغَارُ الْغَوَايَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: فَبِما أَغْوَيْتَنِي [الْأَعْرَاف: 16] . [14، 15] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 14 إِلَى 15] قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) لَمَّا كَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ الصَّغَارَ وَالْحَقَارَةَ بَعْدَ عِزَّةِ الْمَلَكِيَّةِ وَشَرَفِهَا انْقَلَبَتْ مَرَامِي هِمَّتِهِ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالسَّفَاسِفِ (إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ إِبِلٌ فَمَعْزًى) فَسَأَلَ النَّظِرَةَ بِطُولِ الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ الْبَاقِي، فَلَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ ظَنَّ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْعَدَمِ فَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّظِرَةَ إِبْقَاءً لِمَا كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، وَبَدَرَ مِنْ إِبْلِيسَ طَلَبُ النَّظِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيْ إِنَّكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْبَاقِيَةِ. وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ وَالْإِخْبَارُ بِصِيغَةِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَنَّ إِنْظَارَهُ أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِ، أَيْ تَحَقَّقَ كَوْنُكَ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ أُنْظِرُوا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا وَقَدَّرَ بَقَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَكَشَفَ لِإِبْلِيسَ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْظَرِينَ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَجَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ تَحَقَّقَ، وَلَيْسَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 16 إلى 17]

إِجَابَةً لِطِلْبَةِ إِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُجِيبَ لَهُ طَلَبًا، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: أَنْظَرْتُكَ أَوْ أَجَبْتُ لَكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَكْرِمَةٍ بِاسْتِجَابَةِ طَلَبِهِ، وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَهُ أَنَّ مَا سَأَلَهُ أَمْرٌ حَاصِلٌ فَسُؤَالُهُ تَحْصِيل حَاصِل. [16، 17] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 16 إِلَى 17] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: 13]- ثُمَّ قَوْلُهُ- إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الْأَعْرَاف: 15] . فَقَدْ دَلَّ مَضْمُونُ ذَيْنِكَ الْكَلَامَيْنِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَقْدِرَةً عَلَى إِغْوَاءِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: 13] وَإِنَّهُ جَعَلَهُ بَاقِيًا مُتَصَرِّفًا بِقُوَاهُ الشِّرِّيرَةُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَأَحَسَّ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيَكُونُ دَاعِيَةً إِلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، بِجِبِلَّةٍ قَلَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا قَلْبًا وَهُوَ مِنَ الْمَسْخِ النَّفْسَانِيِّ، وَإِنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ هُوَ ضَلَالٌ وَفَسَادٌ، فَصُدُورُ ذَلِكَ مِنْهُ كَصُدُورِ النَّهْشِ مِنَ الْحَيَّةِ، وَكَتَحَرُّكِ الْأَجْفَانِ عِنْدَ مُرُورِ شَيْءٍ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعَيْنِ لَا يُرِيدُ تَحْرِيكَهُمَا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي سَبَبِيَّةٌ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لَأَقْعُدَنَّ، أَيْ أُقْسِمُ لَهُمْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنِّي بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَاللَّامُ فِي لَأَقْعُدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ: قَصْدُ تَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.

وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ اسْتُحِقَّ التَّقْدِيمُ فَإِنَّ الْمَجْرُورَ إِذَا قُدِّمَ قَدْ يُفِيدُ مَعْنًى قَرِيبًا مِنَ الشَّرْطِيَّةِ، كَمَا فِي قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ جَزَمَ تَكُونُوا مَعَ عَدَمِ مُعَامَلَةِ عَامِلِهِ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِعَلَامَةِ الْجَزْمِ فَلَمْ يُرْوَ «يُوَلَّى» إِلَّا بِالْأَلْفِ فِي آخِرِهِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْجَزْمِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ، إِذْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التّقديم منافيا لِتَصْدِيرِ لَامِ الْقَسَمِ فِي جُمْلَتِهَا، عَلَى أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ ذَلِكَ فَقَدْ خُولِفَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْقعُود عَن كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: قُعُودًا لَدَى أَبْيَاتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ ... رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ أَيْ مُلَازِمِينَ أبياتا لغَيرهم يرد الْجُلُوسَ، إِذْ قَدْ يَكُونُونَ يَسْأَلُونَ وَاقِفِينَ، وَمَاشِينَ، وَوَجْهُ الْكِنَايَةِ هُوَ أَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْيَاءَ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ، فَيَقْعُدُ الْمُلَازِمُ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمُسْتَجِيرِ اسْمُ الْقَعِيدِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَعِيدِ عَلَى الْمُلَازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] أَيْ مُلَازِمٍ إِذِ الْمَلَكُ لَا يُوصَفُ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ. وَلَمَّا ضُمِّنَ فِعْلُ: لَأَقْعُدَنَّ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ انْتَصَبَ صِراطَكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى لَأَقْعُدَنَّ تَقْدِيرُهُ: فَامْنَعَنَّ صِرَاطَكَ أَوْ فَأَقْطَعَنَّ عَنْهُمْ صِرَاطَكَ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ كَقَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: 5] . وَإِضَافَةُ الصِّرَاطِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ على تَقْدِير اللّام أَيِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ لَكَ أَيِ الَّذِي جَعَلْتُهُ طَرِيقًا لَكَ، وَالطَّرِيقُ لِلَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْعَازِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ إِلَى مَقْصِدٍ يَنْفَعُهُ وَسَعْيِهِ إِذَا اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقِهِ قَاطِعُ طَرِيقٍ مَنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ.

وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ ضَمِيرُ الْإِنْسِ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الْمُحَاوَرَةِ، الَّتِي اخْتُصِرَتْ هُنَا اخْتِصَارًا دَعَا إِلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كَيْدِ عَدُوِّ الْجِنْسِ، فَتَفْصِيلُ الْمُحَاوَرَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ خَاطَبَ أَهْلَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَعْمُرَ بِهِ وَبِنَسْلِهِ الْأَرْضَ، كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] فَالْأَرْضُ مَخْلُوقَةٌ يَوْمَئِذٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ لِيَعْمُرَهَا بِذَرِّيَّتِهِ وَعَلِمَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ فَحَكَى اللَّهُ مِنْ كَلَامِهِ مَا بِهِ الْحَاجَّةُ هَنَا: وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الْآيَةَ وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ سُورَةِ الْحِجْرِ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ ذَكَرَ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ إِغْوَاءَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحجر: 39، 40] فَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ عِلْمَ إِبْلِيسَ بِأَنَّ آدَمَ يَصِيرُ إِلَى الْأَرْضِ قَدْ حَصَلَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ حِينٍ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي جَنَّةٍ مِنْ جَنَّاتِ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَشَرَ لِلصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَ فِيهِمْ مَعْرِفَةَ الْكَمَالِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى بُلُوغِهِ بِالْإِرْشَادِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ، فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، صراطا مُسْتَقِيمًا، وأضافه إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ دَعَا إِلَيْهِ وَارِد مِنَ النَّاسِ سُلُوكَهُ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا أَلْزَمَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثمَّ لآتيناهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ إِبْلِيسُ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُخْلَقُوا لِأَجْلِهِ وَمَا هُوَ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْبَشَرَ، فَالْعَدَاوَةُ مُتَأَصِّلَةٌ وَجِبِلِّيَّةٌ بَيْنَ طَبْعِ الشَّيْطَانِ وَفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ السَّالِمَةِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ مَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْجَعْلُ الْإِلَهِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: 36] ،

وَبِهِ سَيَتَّضِحُ كَيْفَ انْقَلَبَتِ الْعَدَاوَةُ وِلَايَةً بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَ وَالْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. وَجُمْلَة: ثمَّ لآتيناهم (ثُمَّ) فِيهَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهُوَ التَّدَرُّجُ فِي الْأَخْبَارِ إِلَى خَبَرٍ أَهَمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَوْقَعُ فِي غَرَضِ الْكَلَامِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَفَادَتِ التَّرَصُّدَ لِلْبَشَرِ بِالْإِغْوَاءِ، وَالْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَفَادَتِ التَّهَجُّمَ عَلَيْهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ. وَكَمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِهَيْئَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْإِغْوَاءِ بِالْقُعُودِ عَلَى الطَّرِيقِ، كَذَلِك مُثِّلَتْ هَيْئَةُ التَّوَسُّلِ إِلَى الْإِغْوَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَيْئَةِ الْبَاحِثِ الْحَرِيصِ عَلَى أَخْذِ الْعَدُوِّ إِذْ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى يُصَادِفَ الْجِهَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَخْذِهِ، فَهُوَ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى تَخُورَ قُوَّةُ مُدَافَعَتِهِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ مَسْلَكٌ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ بِحَقِيقَةٍ، وَلَكِنَّهَا مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي مُحَاوَلَةِ النَّاسِ وَمُخَاتَلَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْإِتْيَانَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ فِي المخاتلة وإلّا الْمُهَاجَمَةِ. وَعُلِّقَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وخَلْفِهِمْ بِحَرْفِ (مِنْ) وعلّق أَيْمانِهِمْ وشمالهم بِحَرْفِ عَنْ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي تَعْدِيَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ، وَأَصْلُ (عَنْ) فِي قَوْلِهِمْ: عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ الْمُجَاوَزَةُ: أَيْ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ مُجَاوِزًا لَهُ وَمُجَافِيًا لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (عَنْ) بِمَعْنَى عَلَى، فَكَمَا يَقُولُونَ: جَلَسَ عَلَى يَمِينِهِ يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَصْلُهَا الِابْتِدَاءُ يُقَالُ: أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَيْ مِنَ الْمَكَانِ الْمُوَاجِهِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (مِنْ) بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ الزَّائِدِ يُجَرُّ بِهَا الظَّرْفُ فَلِذَلِكَ جَرَتْ بِهَا الظُّرُوفُ الْمُلَازِمَةُ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ عِنْدَ، لِأَنَّ

وُجُودَ (مِنْ) كَالْعَدَمِ، وَقَدْ قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ النَّحْوِيَّةِ» (مَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لَا يَخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٍ: «فَهِيَ هُنَا زَائِدَةٌ وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهَا ابْتِدَائِيَّةً. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ هُنَا جَانِبٌ مِنْ جِسْمِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْقُطْبِ الْجَنُوبِيِّ إِذَا اسْتَقْبَلَ الْمَرْءُ مَشْرِقَ الشَّمْسِ، تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَشَاعَتْ مَعْرِفَتُهُ وَلَا يَشْعُرُونَ بِتَطْبِيقِ الضَّابِطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَالْيَمِينُ جِهَةٌ يُتَعَرَّفُ بِهَا مَوَاقِعُ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْبَدَنِ يُقَالُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى وَالْيَدُ الْيُمْنَى وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَتُتَعَرَّفُ بِهَا مَوَاقِعُ مِنْ غَيْرِهَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: 28] . وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ لذَلِك قَالَ أئمّة اللُّغَةِ سُمِّيَتْ بِلَادُ الْيَمَنِ يَمَنًا لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ، فَاعْتَبَرُوا الْكَعْبَةَ كَشَخْصٍ مُسْتَقْبِلٍ مَشْرِقَ الشَّمْسِ فَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ مِنْهَا وَهُوَ زَاوِيَةُ الْجِدَارِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُدْرَى أَصْلُ اشْتِقَاقِ كَلِمَةِ (يَمِينٍ) ، وَلَا أَنَّ الْيُمْنَ أَصْلٌ لَهَا أَوْ فَرْعٌ عَنْهَا، وَالْأَيْمَانُ جَمْعٌ قِيَاسِيٌّ. وَالشَّمَائِلُ جَمْعُ شِمَالٍ وَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي تَكُونُ شِمَالًا لِمُسْتَقْبَلِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ قُوَّةِ إِضْلَالِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْلِتُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمِ الْحَدْسِ وَتَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ. وَكُنِيَ بِنَفْيِ الشُّكْرِ عَنِ الْكُفْرِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: 152] وَوَجْهُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ، إِنْ كَانَتْ مَحْكِيَّةً كَمَا صَدَرَتْ مِنْ كَلَامِ إِبْلِيسَ، أَنَّهُ أَرَادَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُصَرِّحْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُفْرِ أَتْبَاعِهِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ

[سورة الأعراف (7) : آية 18]

تَعَالَى فَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ قَدْ أَتَوْا أَمْرًا شَنِيعًا إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعَمَهُ الجمّة عَلَيْهِم. [18] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 18] قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) أَعَادَ اللَّهُ أَمْرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلِ والثّاني: قَالَ: فَاهْبِطْ مِنْها- إِلَى قَوْله- فَاخْرُجْ [الْأَعْرَاف: 13] . وَمَذْءُومٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ ذَأَمَهُ- مَهْمُوزًا- إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ ذَأْمًا وَقَدْ تُسَهَّلُ هَمْزَةُ ذَأَمَ فَتَصِيرُ أَلِفًا فَيُقَالُ ذَامَ وَلَا تُسَهَّلُ فِي بَقِيَّةِ تَصَارِيفِهِ. مَدْحُورٌ مَفْعُولٌ مِنْ دَحَرَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ، أَيِ: اخْرُجْ خُرُوجَ مَذْمُومٍ مَطْرُودٍ، فَالذَّمُّ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالطَّرْدُ لِتَنْزِيهِ عَالَمِ الْقُدُسِ عَنْ مُخَالَطَتِهِ. وَاللَّامُ فِي لَمَنْ تَبِعَكَ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَاللَّامُ فِي لَأَمْلَأَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقسم، وَالْجَوَاب سَاد مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْهُمْ وَمِنْكَ، وَغُلِّبَ فِي الضَّمِيرِ حَالُ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْفَرْدَ الْمَوْجُودَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَلِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَمَّا وَعِيدُ اتِّبَاعِهِ فَبِالتَّبَعِ لَهُ، بِخِلَافِ الضَّمِيرِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ [43] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: 43] لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْإِعْرَاض عَن وعيده بِفِعْلِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ مَرْتَبَةِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِوَعِيدِ الْغَاوِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ

[سورة الأعراف (7) : آية 19]

: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. وَالتَّأْكِيدُ بِ أَجْمَعِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ لِئَلَّا يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لِوَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُجْرِي الْعُمُومَ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْمَجْمُوع دون الْجمع، كَمَا يَقُولُونَ: قَتَلَتْ تَمِيمٌ فُلَانًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ النَّابِغَةُ فِي شَأْنِ بَنِي حُنٍّ (بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ) : وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بالجوّ عنْوَة [19] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 19] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) الْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الْأَعْرَاف: 18] الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، فَالنِّدَاءُ وَالْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ يُقَالُ: أَيْ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ اخْرُجْ مِنْهَا وَقَالَ لِآدَمَ وَيا آدَمُ اسْكُنْ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضَ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا كَانَ لِبَعْضِ كَلَامِهِ اتِّصَالٌ وَتَنَاسُبٌ مَعَ بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ الْآخَرُ، مَعَ اتِّحَادِ مَقَامِ الْكَلَامِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَ مُتَعَدِّدِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيُقْبِلُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْهُمْ بِكَلَامٍ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجُلِ وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كَانَ ابْنُ الرَّجُلِ عَسِيفًا عَلَيْهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْجَارِيَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى زَوْجَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَمِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي قَوْله تَعَالَى: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 28، 29] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْعَزِيزِ عَطَفَ خِطَابَ امْرَأَتِهِ عَلَى خِطَابِهِ لِيُوسُفَ.

فَلَيْسَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ اسْكُنْ بِعَاطِفَةٍ عَلَى أَفْعَالِ الْقَوْلِ الَّتِي قَبْلَهَا حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ، لأنّ ذَلِك يفيت النُّكَتَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَذَلِكَ فِي حَضْرَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ فِيهَا آدَمُ وَالْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ حُضُورًا. وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِآدَمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِحُضُورِ إِبْلِيسَ بَعْدَ طَرْدِهِ زِيَادَةُ إِهَانَةٍ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ النِّعَمِ لِمَرْضِيٍّ عَلَيْهِ فِي حِينِ عِقَابِ مَنِ اسْتَأْهَلَ الْعِقَابَ زِيَادَةُ حَسْرَةٍ على المعاقب، وإظهارا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّ الْإِنْعَامِ وَمُسْتَحِقِّ الْعُقُوبَةِ فَلَا يُفِيدُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي مَا أَفَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مُسْتَقِرًّا بِهَا مِنْ قَبْلُ، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَقْرِيرٍ: أَيِ ابْقَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ خَارِجَ الْجَنَّةِ فَالْأَمْرُ لِلْإِذْنِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَفِي هَذَا الْأَمْرِ، بِمَسْمَعٍ مِنْ إِبْلِيسَ، مَقْمَعَةٌ لِإِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْلِيسُ مُسْتَقِرًّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلُ فَالْقَمْعُ ظَاهِرٌ إِذْ أَطْرَدَهُ اللَّهُ وَأَسْكَنَ الَّذِي تَكَبَّرَ هُوَ عَنِ السُّجُودِ إِلَيْهِ فِي الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ تَكَبُّرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ سَاكِنًا فِي الْجَنَّةِ قَبْلُ فَإِكْرَامُ الَّذِي احْتَقَرَهُ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ قَمْعٌ لَهُ، فَقَدْ دَلَّ مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ مِنْ قَمْعِ إِبْلِيسَ، زَائِدٍ عَلَى مَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْمَوْقِعِ وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَوُجِدَ إِيثَارُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لِمَوْعِظَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ مِمَّنْ يَحْذَرُ الشَّيْطَانَ وَلَا يَتَّبِعُ خُطُوَاتِهِ. وَالنِّدَاءُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى آدَمَ وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَلَأِ. وَالْإِتْيَانُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الْأَمْرِ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّنْكِيلِ بِإِبْلِيسَ لِأَنَّ ذِكْرَ ضَمِيرِهِ فِي مَقَامِ الْعَطْفِ يُذَكِّرُ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ، إِذِ الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الِاحْتِرَازَ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الضَّمِيرِ كَوْنُ إِظْهَارِهِ لِأَجْلِ تَحْسِينِ أَوْ تَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَتِرِ، لِأَنَّ

تَصْحِيحَ أَوْ تَحْسِينَ الْعَطْفِ يَحْصُلُ بِكُلِّ فَاصِلٍ بَيْنَ الْفِعْل الرافع للمستتر وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ، لَا خُصُوصَ الضَّمِيرِ، كَأَنْ يُقَالَ: وَيَا آدَمُ اسْكُنِ الْجَنَّةَ وَزَوْجُكَ، فَمَا اخْتِيرَ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ إِلَّا لِمَا يُفِيدُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ فَاتَنِي الْعِلْمُ بِهَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَضُمَّهَا إِلَيْهَا أَيْضًا. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يُعْلَمُ مِمَّا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. سِوَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] وَكُلا بِالْوَاوِ وَهُنَا بِالْفَاءِ، وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ أَعَمُّ، فَالْآيَةُ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ آدَمَ بِأَنْ يَتَمَتَّعَ بِثِمَارِ الْجَنَّةِ عَقِبَ أَمْرِهِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. وَتِلْكَ مِنَّةٌ عَاجِلَةٌ تُؤْذِنُ بِتَمَامِ الْإِكْرَامِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ، وَكَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَنْغِيصٍ لِإِبْلِيسَ، الَّذِي تَكَبَّرَ وَفَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، كَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا إِعْلَامَ السَّامِعِينَ بِهِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي حُكِيَ فِيهِ الْغَضَبُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدُهُ، وَأَمَّا آيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّمَا أَفَادَتِ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى آدَمَ بِمِنَّةِ سُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِثِمَارِهَا، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ لِتَذْكِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَضْلِ آدَمَ وَبِذَنْبِهِ وَتَوْبَتِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ الْكَيْدُ الَّذِي هُمْ وَاقِعُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَظِيمٍ. عَلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ [35] لَمْ تَخْلُ عَنْ ذِكْرِ مَا فِيهِ تَكْرِمَةٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَغَداً لِأَنَّهُ مَدْحٌ لِلْمُمْتَنِّ بِهِ أَوْ دُعَاءٌ لِآدَمَ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ عِدَّةُ مَكَارِمَ لِآدَمَ، وَقَدْ وُزِّعَتْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ أَغْرَاضِ الْقَصَصِ عَلَى مَوَاقِعِهَا، لِيَحْصُلَ تَجْدِيدُ الْفَائِدَةِ، تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ، وَتَفَنُّنًا فِي أَسَالِيبِ الْحكَايَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنَ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّأَسِّي. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِهَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ شَجَرَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيَ ابْتِلَاءٍ. جَعَلَ اللَّهُ شَجَرَةً مُسْتَثْنَاةً مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ مِنِ الْإِذْنِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا تَهْيِئَةً لِلتَّكْلِيفِ بِمُقَاوَمَةِ الشَّهْوَةِ لِامْتِثَالِ النَّهْيِ. فَلِذَلِكَ جَعَلَ النَّهْيَ عَنْ تَنَاوُلِهَا مَحْفُوفَةً بِالْأَشْجَارِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لِيَلْتَفِتَ إِلَيْهَا ذِهْنُهُمَا بِتَرْكِهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِيَتَكَوَّنَ مُخْتَلَفُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ فِي عَقْلِ النَّوْعِ بِتَأْسِيسِهَا فِي أَصْلِ النَّوْعِ، فَتَنْتَقِلُ بَعْدَهُ إِلَى نَسْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ فِي تَكْوِينِ النَّوْعِ وَمِنْ مَظَاهِرِ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمَرْبُوبِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ جَمِيعُ الْقُوَى بِالتَّدْرِيجِ فَلَا يَشُقُّ وَضْعُهَا دُفْعَةً عَلَى قَابِلِيَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ آدَمَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ خَاطِرُ الْمُخَالَفَةِ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَأَعْقَبَهُ الْأَكْلُ حُدُوثَ خَاطِرِ الشُّعُورِ بِمَا فِيهِ من نقايص أَدْرَكَهَا بِالْفِطْرَةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ زَالَتْ مِنْهُ الْبَسَاطَةُ وَالسَّذَاجَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي طَبْعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَنْ تُثِيرَ فِي النَّفْسِ عِلْمَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهَذَا- عِنْدِي- بِعِيدٌ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ لَنَا هَيْئَةَ تَطَوُّرِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي خِلْقَةِ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ نَظِيرَ صُنْعِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَجَرَةٍ مُشَاهَدَةٌ وَقَدْ رُوِيَتْ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ فِي تَعْيِينِ نَوْعِهَا وَذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَانْتَصَبَ: فَتَكُونا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالْكَوْنُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُتَسَبِّبٌ عَلَى الْقُرْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَا عَلَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ كَجَوَابِ النَّفْيِ، أَنْ يُعْتَبَرَ التَّسَبُّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ أَوِ الْمَنْهِيِّ، بِخِلَافِ الْجَزْمِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجْزَمُ الْمُسَبَّبُ عَلَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ لَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى اعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ، وَالتَّسَبُّبُ يَنْشَأُ عَنِ الْفِعْلِ لَا عَنِ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْجَزْمِ فَإِنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَوَابِ، تَشْبِيهًا بِالشَّرْطِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ تَشْبِيهًا لِلْإِنْشَاءِ بِالِاشْتِرَاطِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 20 إلى 21]

وَالْمُرَادُ بِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الظُّلْمِ: إِمَّا لِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِلْقَائِهَا فِي الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ، وَإِمَّا لِاعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْعِصْيَانَ ظُلْمٌ لِحَقِّ الرَّبِّ الْوَاجِب طَاعَته. [20، 21] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 20 إِلَى 21] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) كَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ بِقُرْبِ نَهْيِ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقُرْبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قُرْبٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ. وَالْوَسْوَسَةُ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ إِلَّا الْمُدَانِي لِلْمُتَكَلِّمِ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صَائِدًا: وَسْوَسَ يَدْعُو جَاهِدًا رَبَّ الْفَلَقْ ... سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعُقُقْ وَسُمِّيَ إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَةً: لِأَنَّهُ أَلْقَى إِلَيْهِمَا تَسْوِيلًا خَفِيًّا مِنْ كَلَامٍ كَلَّمَهُمَا أَوِ انْفِعَالٍ فِي أَنْفُسِهِمَا. كَهَيْئَةِ الْغَاشِّ الْمَاكِرِ إِذْ يُخْفِي كَلَامًا عَنِ الْحَاضِرِينَ كَيْلَا يُفْسِدُوا عَلَيْهِ غِشَّهُ بِفَضْحِ مَضَارِّهِ فَأَلْقَى لَهُمَا كَلَامًا فِي صُورَةِ التَّخَافُتِ لِيُوهِمَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا وَأَنَّهُ يُخَافِتُ الْكَلَامَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى التَّعْبِيرُ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ بِالْقَوْلِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: 120] ثُمَّ دَرَجَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَسْمِيَةِ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ خَوَاطِرَ

فَاسِدَةً، وَسْوَسَةً تَقْرِيبًا لِمَعْنَى ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ لِلْأَفْهَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ [النَّاس: 4] وَهَذَا التّفصيل لِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ كَيْدَهُ انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ عَنْ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ خِطَابٌ شَامِلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ عَنِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ تَفْظِيعَ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ. وَاللَّامُ فِي: لِيُبْدِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى حُدُوثِ خَاطِرِ الشَّرِّ فِي النّفوس وَظُهُور السوآت، فَشَبَّهَ حُصُولَ الْأَثَرِ عَقِبَ الْفِعْلِ بِحُصُولِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] وَإِنَّمَا الْتَقَطُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، وَحُسْنُ ذَلِكَ أَن بدوّ سوآتهما مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالنَّظَرِ، فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ لِغَرَضِ إِيقَاعِهِمَا فِي الْمَعْصِيَةِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُ الَّذِي جُبِلَ عَلَى عَمَلِهِ، ثُمَّ لِغَرَضِ الْإِضْرَارِ بِهِمَا، إِذْ كَانَ يعلم أنّهما يعصيان الله بِالْأَكْلِ من الشّجرة، ولمّا كَانَ عدوّا لَهما كَانَ يَسْعَى إِلَى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضى اللَّهِ عَنْهُمَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى سُوءِ الْحَالِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَكَانَ مَظْهَرُ ذَلِكَ السوء إبداء السوآت، فَجُعِلَ مُفَصِّلُ الْعِلَّةِ الْمُجْمَلَةِ عِنْدَ الْفَاعِلِ هُوَ الْعِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِضْرَارَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي طَبْعِهِ عَدَاوَةُ الْبَشَرِ، كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] . وَالْإِبْدَاءُ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ، فَالْإِبْدَاءُ كشف الشّيء وَإِظْهَارُهُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ جَهْلِهِ يُقَالُ: بَدَا لِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا. وَأسْندَ إبداء السوآت إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمجَاز الْعقلِيّ والسوآت جَمْعُ سَوْأَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ وَيُتَعَيَّرُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَمِنْ

سَبِّ الْعَرَبِ قَوْلُهُمْ: سَوْأَةً لَكَ، وَمِنْ تَلَهُّفِهِمْ: يَا سَوْأَتَا. وَيُكَنَّى بِالسَّوْأَةِ عَنِ الْعَوْرَةِ. وَمَعْنَى وُورِيَ عَنْهُمَا حُجِبَ عَنْهُمَا وَأُخْفِيَ، مُشْتَقًّا مِنَ الْمُوَارَاةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ وَالْإِخْفَاءُ وَتُطْلَقُ الْمُوَارَاةُ مَجَازًا عَلَى صَرْفِ الْمَرْءِ عَنْ عِلْمِ شَيْءٍ بِالْكِتْمَانِ أَو التّلبيس. والسّوآت هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعُ السَّوْأَةِ لِلْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي زُبَيْدٍ: لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ ... يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْأَةِ السَّوْآءِ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْجَمْعِ على حَقِيقَتهَا، والسّوآت حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعَ السَّوْأَةِ، الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 26] وَعَلَى هَذَا فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاثْنَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] . وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ مَعْنَى هَذَا الْإِبْدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما [الْأَعْرَاف: 22] . وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَلَى جُمْلَةِ فَوَسْوَسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ لَهُمَا وَسُوسَةً غَيْرَ قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما إِلَخْ ثُمَّ ثَنَّى وَسْوَسَتَهُ بِأَنْ قَالَ مَا نَهَاكُمَا، وَلَوْ كَانَتْ جُمْلَةُ: مَا نَهاكُما إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَوَسْوَسَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ: وَقالَ مَا نَهاكُما بِدُونِ عَاطِفٍ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبَيَّنِ. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ تَرَدَّدَا فِي الْأَخْذِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُرَاوِدُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُهُ، فِي سُورَةِ طه [120] : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى. فَإِنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ لابتداء وسوسته فابتداء الْوَسْوَسَةَ بِالْإِجْمَالِ فَلَمْ يُعَيِّنْ لِآدَمَ الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اسْتِنْزَالًا لِطَاعَتِهِ، وَاسْتِزْلَالًا لِقَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَأْوِيلِ نَهْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي

سُورَةِ الْأَعْرَافِ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ الْآيَةَ فَأَشَارَ إِلَى الشَّجَرَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لَهُمَا زِيَادَةً فِي إِغْرَائِهِمَا بِالْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَدْ وُزِّعَتِ الْوَسْوَسَةُ وتذييلها على السّورتين عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الِاخْتِصَارِ فِي سَوْقِ الْقَصَصِ اكْتِفَاءً بِالْمَقْصُودِ مِنْ مَغْزَى الْقِصَّةِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْقَصَصُ مَقْصِدًا أَصْلِيًّا لِلتَّنْزِيلِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَى شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ قَدْ تَبَيَّنَ لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَرَادَ إِبْلِيسُ إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِزَالَةَ خَوْفِهِ بِإِسَاءَةِ ظَنِّهِ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّهْيِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ، أَيْ مَا نَهَاكُمَا لِعِلَّةٍ وَغَرَضٍ إِلَّا لِغَرَضِ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ لَامِ التَّعْلِيلِ قَبْلَ (أَنْ) وَحَذْفُ حُرُوفِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى (أَنْ) مُطَّرِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ. وَكَوْنُهُمَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ: أَيْ كَوْنُكُمَا مَلَكَيْنِ هُوَ بَاعِثُ النَّهْيِ، إِلَّا أَنَّهُ بَاعِثٌ بِاعْتِبَارِ نَفْيِ حُصُولِهِ لَا بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ، أَيْ هُوَ عِلَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ سِيبَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بِتَقْدِيرِ: كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَا. وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ حُذِفَتْ (لَا) بَعْدَ (أَنْ) وَحَذْفُهَا مَوْجُودٌ، وَبِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْكُوفِيُّونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ أَوْهَمَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَزَوْجَهُ أَنَّهُمَا مُتَمَكِّنَانِ أَنْ يَصِيرَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا مِنْ تَدْجِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ إِذْ أَلْفَى آدَمَ وَزَوْجَهُ غَيْرَ مُتَبَصِّرَيْنِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا عَالِمَيْنِ الْمِقْدَارَ الْمُمْكِنَ فِي انْقِلَابِ الْأَعْيَانِ وَتَطَوُّرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَكَانَا يُشَاهِدَانِ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَزُلْفَاهُمْ وَسَعَةَ مَقْدِرَتِهِمْ، فَأَطْمَعَهُمَا إِبْلِيسُ أَنْ يَصِيرَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ الْبَلِيغُ أَيْ إِلَّا أَنْ تَكُونَا فِي الْقُرْبِ وَالزُّلْفَى كَالْمَلَكَيْنِ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهُمَا بِمَا يَعْرِفَانِ مِنْ كَمَالِ الْمَلَائِكَةِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 22]

وَقَوْلُهُ: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ عَطْفٌ عَلَى: أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ وَأَصْلُ (أَوِ) الدَّلَالَةُ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَجْوِيزِ حُصُولِ الْمُتَعَاطِفَاتِ كُلِّهَا فَتَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَلِلتَّجْوِيزِ بَعْدَ الْخَبَرِ أَوْ لِلشَّكِّ أَمْ كَانَ مَعَ مَنْعِ الْبَعْضِ عِنْدَ تَجْوِيزِ الْبَعْضِ فَتَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلِلشَّكِّ أَوِ التَّرْدِيدِ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَالتَّرْدِيدُ لَا يُنَافِي الْجَزْمَ بِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُنَا، فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْآكِلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَكُونُ مَلَكًا وَخَالِدًا، كَمَا قَالَ عَنْهُ فِي سُورَةِ طه [120] : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَجُعِلَ نَهْيُ اللَّهِ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ لَا يَعْدُو إِرَادَةَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ حِرْمَانَهُمَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ قَدْ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْخُلُودَ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَشْرَ وَالْبَعْثَ مَكْتُوبٌ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُتَلَقَّى مِنَ الْوَحْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: 36] . وَقاسَمَهُما أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِمَا يُوهِمُ صِدْقَهُ، وَالْمُقَاسَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ أَقْسَمَ إِذَا حَلَفَ، حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ عِنْدَ صَوْغِ الْمُفَاعَلَةِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي الْمُكَارَمَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، وَلَيْسَتْ لِحُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَنَظِيرُهَا: عَافَاهُ اللَّهُ، وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : كَأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ تُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَأَقْسَمَ فَجُعِلَ طَلَبُهُمَا الْقَسَمَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، أَيْ فَتكون المفاعلة مجَازًا، قَالَ أَو أقسم لَهما بالنّصيحة وأقسما لَهُ بقبولها، فَتَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى بَابِهَا، وَتَأْكِيدُ إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالنُّصْحِ لَهُمَا بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ دَلِيلٌ عَلَى مَبْلَغِ شَكِّ آدَمَ وَزَوْجِهِ فِي نُصْحِهِ لَهُمَا، وَمَا رَأَى عَلَيْهِمَا مِنْ مَخَائِلِ التَّرَدُّدِ فِي صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا شَكَّا فِي نُصْحِهِ لِأَنَّهُمَا وَجَدَا مَا يَأْمُرُهُمَا مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمَانِ إِرَادَتَهُ بِهِمَا الْخَيْرَ عِلْمًا حَاصِلًا بِالْفِطْرَةِ. [22] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 22] فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.

تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 20] وَمَا عطف عَلَيْهَا. وَمَعْنَى فَدَلَّاهُما أَقْدَمَهُمَا فَفَعَلَا فِعْلًا يَطْمَعَانِ بِهِ فِي نَفْعٍ فَخَابَا فِيهِ، وَأَصْلُ دَلَّى، تَمْثِيلُ حَالِ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا مِنْ مَظِنَّتِهِ فَلَا يَجِدُهُ بِحَالِ مَنْ يُدَلِّي دَلْوَهُ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْ مَائِهَا فَلَا يَجِدُ فِيهَا مَاءً فَيُقَالُ: دَلَّى فُلَانٌ، يُقَالُ دَلَّى كَمَا يُقَالُ أَدْلَى. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ دَلَّاهُمَا مُلَابِسًا لِلْغُرُورِ أَيْ لِاسْتِيلَاءِ الْغُرُورِ عَلَيْهِ إِذِ الْغُرُورُ هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ نَافِعًا بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ وَلَا نَفْعَ فِيهِ عِنْدَ تَجْرِبَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَالُ دَلَّاهُ بِغُرُورٍ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الطَّمَعِ فِيمَا لَا نَفْعَ فِيهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ أَبِي جُنْدُبٍ الْهُذَلِيِّ (هُوَ ابْنُ مُرَّةَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْرِيفِهِ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا كَانَ قَدْ أَخَذَ قَوْلَهُ كَمَنْ يُدَلَّى بِالْغُرُورِ مِنَ الْقُرْآنِ، وإلّا كَانَ مثلا مُسْتَعْمَلًا مِنْ قَبْلُ) : أَحُصُّ فَلَا أُجِيرُ وَمَنْ أَجِرْهُ ... فَلَيْسَ كَمَنْ يُدَلَّى بِالْغُرُورِ وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَفِعْلُ دَلَّى يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِذَا جُعِلَ غَيْرُهُ مُدَلَّيًا، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَفِيهِ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى لَا جَدْوَى فِي ذِكْرِهَا. وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ عَلَى أَنَّهُمَا فَعَلَا مَا وَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَوْلُهُ: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ تَرْتِيبٌ عَلَى دَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهَا بِإِيرَادِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي جُمْلَةِ شَرْطِ لَمَّا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَكَلَا مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَاقَاهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا. وَالذَّوْقُ إِدْرَاكُ طَعْمِ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ يَحْصُلُ عِنْدَ

ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بُدُوَّ سَوْآتِهِمَا حَصَلَ عِنْدَ أَوَّلِ إِدْرَاكِ طَعْمِ الشَّجَرَةِ، دَلَالَةٌ عَلَى سُرْعَةِ تَرَتُّبِ الْأَمْرِ الْمَحْذُورِ عِنْدَ أَوَّلِ الْمُخَالَفَةِ، فَزَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذِهِ أَوَّلُ وَسْوَسَةٍ صَدَرَتْ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَأَوَّلُ تَضْلِيلٍ مِنْهُ لِلْإِنْسَانِ. وَقَدْ أَفَادَتْ (لَمَّا) تَوْقِيتَ بُدُوِّ سَوْآتِهِمَا بِوَقْتِ ذَوْقِهِمَا الشَّجَرَةَ، لِأَنَّ (لَمَّا) حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ، فَهِيَ لِمُجَرَّدِ تَوْقِيتِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا بِزَمَانِ وُجُودِ شَرْطِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ (فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِمْ لِوُجُودٍ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينَ، يُرِيدُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا، وَإِذْ قَدِ الْتَزَمُوا فِيهَا تَقْدِيمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ لَا على الموقت، شَابَهَتْ أَدَوَاتَ الشَّرْطِ فَقَالُوا حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ كَمَا قَالُوا فِي (لَوْ) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، وَفِي (لَوْلَا) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، وَلَكِنَّ اللَّامَ فِي عِبَارَةِ النُّحَاةِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى لَوْ وَلَوْلَا، هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، بِخِلَافِهَا فِي عِبَارَتِهِمْ فِي (لَمَّا) لِأَنَّ (لَمَّا) لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى سَبَبٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: 67] إِذْ لَيْسَ الْإِنْجَاءُ بِسَبَبٍ لِلْإِعْرَاضِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ تَقَارُنٌ كَثُرَ فِي شَرْطِ (لَمَّا) وَجَوَابِهَا مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ دُونَ اطِّرَادٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما لَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حُصُولِ ظُهُورِ السَّوْآتِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ فِي الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّقَارُنَ هُوَ لِكَوْنِ الْأَمْرَيْنِ مُسَبَّبَيْنِ عَنْ سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَاطِرُ السُّوءِ الَّذِي نَفَثَهُ الشَّيْطَانُ فِيهِمَا، فَسَبَّبَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِلتَّعَالِيمِ الصَّالِحَةِ، وَالشُّعُورَ بِالنَّقِيصَةِ: فَقَدْ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ فِي طَوْرِ سَذَاجَةِ الْعِلْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، شَبِيهَيْنِ بِالْمَلَائِكَةِ لَا يُقْدِمَانِ عَلَى مَفْسَدَةٍ

وَلَا مَضَرَّةٍ، وَلَا يُعْرِضَانِ عَنْ نُصْحِ نَاصِحٍ عَلِمَا صِدْقَهُ، إِلَى خَبَرِ مُخْبِرٍ يَشُكَّانِ فِي صِدْقِهِ، وَيَتَوَقَّعَانِ غُرُورَهُ، وَلَا يَشْعُرَانِ بِالسُّوءِ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا فِي ذَرَائِعِهَا وَمُقَارَنَاتِهَا. لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمَا فِي عَالَمٍ مَلَكِيٍّ. ثُمَّ تَطَوَّرَتْ عَقْلِيَّتُهُمَا إِلَى طَوْرِ التَّصَرُّفِ فِي تَغْيِيرِ الْوِجْدَانِ. فَتَكَوَّنَ فِيهِمَا فِعْلُ مَا نُهِيَا عَنْهُ. وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّرِ الشُّعُورُ بِالسُّوءِ لِلْغَيْرِ، وَبِالسُّوءِ لِلنَّفْسِ، وَالشُّعُورُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى السُّوءِ. وَتُقَارِنُ السُّوءَ وَتُلَازِمُهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ «السَّوْآتُ» بِمَعْنَى مَا يَسُوءُ مِنَ النَّقَائِصِ، أَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَوْرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الْأَعْرَاف: 20] فَبُدُوُّ ذَلِكَ لَهُمَا مُقَارِنٌ ذَوْقَ الشَّجَرَةِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَنَبْذُ النَّصِيحَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْغُرُورِ وَالِاغْتِرَارِ بِقِسْمِهِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا نَشَأَتْ فِيهِمَا فِكْرَةُ السُّوءِ فِي الْعَمَلِ، وَإِرَادَةُ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، قَارَنَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْفِعْلِ نَشْأَةَ الِانْفِعَالِ بِالْأَشْيَاءِ السَّيِّئَةِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا الْأَفْعَالُ السَّيِّئَةُ، أَوْ تَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَيْهَا، كَمَا تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ آلَةِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ، وَمِنْ فِكْرَةِ السَّرِقَةِ مَعْرِفَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُلَازِمُ السُّوءَ وَتُقَارِنُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً فِي ذَاتِهَا، كَمَا تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ اللَّيْلِ مِنْ فِكْرَةِ السَّرِقَةِ أَوِ الْفِرَارِ، فَتَنْشَأُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ كَرَاهِيَتُهُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى إِصْدَارِ الشُّرُورِ، فَالسَّوْآتُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُطْلَقُ مَا يَسُوءُ مِنْهُمَا وَنَقَائِصُهُمَا فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْعَوْرَةُ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّانِي، أَعْنِي الشَّيْءَ الْمُقَارِنَ لِمَا يَسُوءُ، لِأَنَّ الْعَوْرَةَ تُقَارِنُ فِعْلًا سَيِّئًا مِنَ النَّقَائِصِ الْمَحْسُوسَةِ، وَاللَّهُ أَوْجَدَهَا سَبَبَ مَصَالِحٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ آدَمُ وَزَوْجُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا شَعَرَا بِمُقَارَنَةِ شَيْءٍ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ نَشَأَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّطَوُّرُ، الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَطَوُّرًا فِطْرِيًّا فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَالطِّفْلُ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ يَكُونُ بَرِيئًا مِنْ خَوَاطِرِ السُّوءِ فَلَا يَسْتَاءُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَ بِهِ مُؤْلِمٌ خَارِجِيٌّ،

ثُمَّ إِذَا تَرَعْرَعَ أَخَذَتْ خَوَاطِرُ السُّوءِ تَنْتَابُهُ فِي بَاطِنِ نَفْسِهِ فَيَفْرِضُهَا وَيُوَلِّدُهَا، وَيَنْفَعِلُ بِهَا أَوْ يَفْعَلُ بِمَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حِكَايَةٌ لِابْتِدَاءِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِسَتْرِ نَقَائِصِهِ، وَتُحِيلُهُ عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكْرَهُهُ، وَعَلَى تَحْسِينِ حَالِهِ بِحَسْبِ مَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِ خَيَالُهُ، وَهَذَا أَوَّلُ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ فِي عَقْلَيْ أَصْلَيِ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا شَعَرَا بِسَوْآتِهِمَا بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، عَرَفَا بَعْضَ جُزْئِيَّاتِهَا، وَهِيَ الْعَوْرَةُ وَحَدَثَ فِي نُفُوسِهِمَا الشُّعُورُ بِقُبْحِ بُرُوزِهَا، فَشَرَعَا يُخْفِيَانِهَا عَنْ أَنْظَارِهِمَا اسْتِبْشَاعًا وَكَرَاهِيَةً، وَإِذْ قَدْ شَعَرَا بِذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ الْفِطْرِيِّ، حَيْثُ لَا مُلَقِّنَ يُلَقِّنُهُمَا ذَلِكَ، وَلَا تَعْلِيمَ يُعَلِّمُهُمَا، تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قَبِيحٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَأَنَّ سَتْرَهَا مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا مِنْ حُكْمِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّذِي قَارَنَ الْبَشَرَ فِي نَشْأَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ فِطْرِيٌّ مُتَأَصِّلٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ بِتَقْرِيرِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، مُشَايَعَةً لِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِ الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ طَوِيلَةٍ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِهَا عَوْنًا عَلَى تَهْذِيبِ طِبَاعِهِ، وَنَزْعِ الْجَلَافَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ النَّوْعِ، لِأَنَّ الْوَاهِمَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْحَيَوَانِ، ثُمَّ أَخَذَتِ الشَّرَائِعُ، وَوَصَايَا الْحُكَمَاءِ، وَآدَابُ الْمُرَبِّينَ، تُزِيلُ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ مُتَابَعَةَ الْأَوْهَامِ تَدْرِيجًا مَعَ الزَّمَانِ، وَلَا يُبْقُونَ مِنْهَا إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِاسْتِبْقَاءِ الْفَضِيلَةِ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ فَكَانَ نَوْطُ الْأَحْكَامِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأُمُورِ الْوَهْمِيَّةِ مُلْغًى فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، كَمَا فَصَّلْتُهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ» وَكِتَابِ «أُصُولِ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِسْلَامِ» . وَالْخَصْفُ حَقِيقَتُهُ تَقْوِيَةُ الطَّبَقَةِ مِنَ النَّعْلِ بِطَبَقَةٍ أُخْرَى لِتَشْتَدَّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مُرْسَلًا فِي مُطْلَقِ التَّقْوِيَةِ لِلْخِرْقَةِ وَالثَّوْبِ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ خَصِيفٌ أَيْ مَخْصُوفٌ أَيْ غَلِيظُ النَّسْجِ لَا يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ، فَمَعْنَى يَخْصِفَانِ يَضَعَانِ عَلَى عَوْرَاتِهِمَا الْوَرَقَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ كَفِعْلِ الْخَاصِفِ، وَضْعًا مُلْزَقًا مُتَمَكَّنًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ هُنَا إِذْ لَمْ يَقُلْ يَخْصِفَانِ وَرَقَ الْجَنَّةِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 23]

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يَجُوزُ كَوْنُهَا اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ يَخْصِفانِ أَيْ يَخْصِفَانِ بَعْضَ وَرَقِ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ: «يَخْصِفانِ وَالتَّقْدِيرُ: يَخْصِفَانِ خَصْفًا مِنْ ورق الْجنَّة. [23] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 23] قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ (لَمَّا) ، فَهُوَ مِمَّا حَصَلَ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ رُتِّبَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ. فَإِنَّهُمَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا فَطَفِقَا يَخْصِفَانِ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ نِدَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمَا. وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُدُولَ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْتِيبِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77] وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ» وَلَمْ أَعْلَمْ أَنِّي سُبِقْتُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَأَخَّرَ نِدَاءُ الرَّبِّ إِيَّاهُمَا إِلَى أَنْ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَتَحَيَّلَا لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمَا لِيَكُونَ لِلتَّوْبِيخِ وَقْعٌ مَكِينٌ مِنْ نُفُوسِهِمَا، حِينَ يَقَعُ بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُمَا مَفَاسِدُ عِصْيَانِهِمَا، فَيَعْلَمَا أَنَّ الْخَيْرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ فِي عِصْيَانِهِ ضُرًّا. وَالنِّدَاءُ حَقِيقَتُهُ ارْتِفَاعُ الصَّوْتِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدَى- بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَصْرِ- وَهُوَ بُعْدُ الصَّوْتِ، قَالَ مِدْثَارُ بْنُ شَيْبَانَ النَّمِرِيُّ: فَقلت ادعِي وأدعوا إِنَّ أَنْدَى ... لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ

وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ طَلَبُ إِقْبَالِ أَحَدٍ إِلَيْكَ، وَلَهُ حُرُوفٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ: تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ النِّدَاءِ عَلَى هَذَا حَتَّى صَارَ مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَتَفَرَّعَ عَنْهُ طَلَبُ الْإِصْغَاءِ وَإِقْبَالُ الذِّهْنِ مِنَ الْقَرِيبِ مِنْكَ، وَهُوَ إِقْبَالٌ مَجَازِيٌّ. وَناداهُما رَبُّهُما مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ: وَهُوَ طَلَبُ الْإِقْبَالِ، عَلَى أَنَّ الْإِقْبَالَ مَجَازِيٌّ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ كَقَوْلِه تَعَالَى: وزكرياء إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الْأَنْبِيَاء: 89] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكَلَامِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [الْبَقَرَة: 171] وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الْأَعْرَاف: 43] وَقَوْلُ بَشَّارٍ: نَادَيْتُ إِنَّ الْحُبَّ أَشْعَرَنِي ... قَتْلًا وَمَا أَحْدَثْتُ مِنْ ذَنْبِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ، وَمَحْمَلُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ صَوْتُ غَضَبٍ وَتَوْبِيخٍ. وَظَاهِرُ إِسْنَادِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمَا بِكَلَامٍ بِدُونِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ مُرْسَلٍ، مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَهَذَا وَاقِعٌ قَبْلَ الْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مُوسَى هُوَ أَوَّلُ نَبِيءٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءُ آدَمَ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْمَلَائِكَةِ. وَجُمْلَة: ألم أنهاكما فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ (نَادَاهُمَا) ، وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي ألم أنهاكما لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَأُولِيَ حَرْفُ النَّفْيِ زِيَادَةً فِي التَّقْرِيرِ، لِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَاقع فانتفاؤه منتفا، فَإِذَا أُدْخِلَتْ أَدَاةُ التَّقْرِيرِ وَأَقَرَّ الْمُقَرِّرُ بِضِدِّ النَّفْيِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْوَى فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِمُوجَبِهِ، لأنّه قد هييء لَهُ سَبِيلُ الْإِنْكَارِ، لَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ إِنْكَارًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] ، وَلِذَلِكَ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُمَا ظَلَمَا أَنْفَسَهُمَا.

[سورة الأعراف (7) : آية 24]

وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَأَقُلْ لَكُما عَلَى جُمْلَةِ: أَنْهَكُما لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ النَّهْيَ كَانَ مَشْفُوعًا بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ الْمُغْرِي لَهُمَا بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَهُمَا قَدْ أَضَاعَا وَصِيَّتَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ هُنَا تَذْكِيرُ الْأُمَّةِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِأَصْلِ نَوْعِ الْبَشَرِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا عَدَاوَةٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، فَيَحْذَرُوا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَمَعْدُودٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا جُبِلَ على الْخبث والخري كَانَ يَدْعُو إِلَى ذَلِك بطبعه وَكَانَ لَا يَهْنَأُ لَهُ بَالٌ مَا دَامَ عَدُوُّهُ وَمَحْسُودُهُ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ. وَالْمُبِينُ أَصْلُهُ الْمُظْهِرُ، أَيْ لِلْعَدَاوَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَتَتَبَّعُ آثَارَ وَسْوَسَتِهِ وَتَغْرِيرِهِ، وَمَا عَامَلَ بِهِ آدَمَ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ إِلَى حِينِ غُرُورِهِ بِهِ فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبَانَةٌ عَنْ عَدَاوَتِهِ، وَوَجْهُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ أَنَّ طَبْعَهُ يُنَافِي مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالِ الْفِطْرِيِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ، فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي حَالَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَصْفِ الشَّدِيدِ أَنْ يَظْهَرَ لِلْعِيَانِ. وَقَدْ قَالَا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعْتِرَافًا بِالْعِصْيَانِ، وَبِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ ضُرَّ الْمَعْصِيَةِ عَادَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَا ظَالِمَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا إِذْ جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الدُّخُولَ فِي طَوْرِ ظُهُورِ السَّوْآتِ، وَمَشَقَّةِ اتِّخَاذِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِهِمَا، وَبِأَنَّهُمَا جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا غَضَبَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمَا فِي تَوَقُّعِ حُقُوقِ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَزَمَا بِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمَا، إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ على العواقب بالمبادىء، فَإِنَّهُمَا رَأَيَا من الْعِصْيَان بوادىء الضُّرِّ وَالشَّرِّ، فَعَلِمَا أَنَّهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ مُخَالَفَةِ وِصَايَتِهِ، وَقَدْ أَكَّدَا جُمْلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ إِظْهَارًا لِتَحْقِيقِ الْخُسْرَانِ اسْتِرْحَامًا وَاسْتِغْفَارًا مِنَ الله تَعَالَى. [24] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 24] قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)

طَوَى الْقُرْآنُ هُنَا ذِكْرَ التَّوْبَةِ عَلَى آدَمَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ التَّذْكِيرُ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنَ اتِّبَاعِ وَسْوَسَتِهِ، وَإِظْهَارُ مَا يُعْقِبُهُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْفَسَادِ، وَمَقَامُ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى أَسْبَابِ الْخَسَارَةِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ التَّوْبَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بَيَانُ فَضْلِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَإِبْلِيسَ. وَالْأَمْرُ تَكْوِينِيٌّ، وَبِهِ صَارَ آدَمُ وَزَوْجُهُ وَإِبْلِيسُ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَجُمْلَةُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: اهْبِطُوا الْمَرْفُوعِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فَهَذِهِ الْحَالُ أَيْضًا تُفِيدُ مَعْنًى تَكْوِينِيًّا وَهُوَ مُقَارَنَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ لِوُجُودِهِمَا فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا التَّكْوِينُ تَأَكَّدَتْ بِهِ الْعَدَاوَةُ الْجِبِلِّيَّةُ السَّابِقَةُ فَرَسَخَتْ وَزَادَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْبَعْضُ الْمُخَالِفُ فِي الْجِنْسِ، فَأَحَدُ الْبَعْضَيْنِ هُوَ آدَمُ وَزَوْجُهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ هُوَ إِبْلِيسُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ تَكْوِينِيَّةً بَيْنَ أَصْلَيِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَتْ مَوْرُوثَةً فِي نَسْلَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ بَنِي آدَمَ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَلِأَصْلِهِمْ لِيَتَّهِمُوا كُلَّ وَسْوَسَةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ نَشَأَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ عَنْ حَسَدِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ سَرَتْ وَتَشَجَّرَتْ فَصَارَتْ عَدَاوَةً تَامَّةً فِي سَائِرِ نَوَاحِي الْوُجُودِ، فَهِيَ مُنْبَثَّةٌ فِي التَّفْكِيرِ وَالْجَسَدِ، وَمُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ التَّنَافُرِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ نُفُوسُ الشَّيَاطِينِ دَاعِيَةً إِلَى الشَّرِّ بِالْجِبِلَّةِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ مُنْصَرِفٌ بِجِبِلَّتِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَلَكِنَّهُ مُعْرِضٌ لِوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَيَقَعُ فِي شُذُوذٍ عَنْ أَصْلِ فِطْرَتِهِ، وَفِي هَذَا مَا يَكُونُ مِفْتَاحًا لِمَعْنَى كَوْنِ النَّاسِ يُولَدُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْخَيْرَ. أَمَّا كَوْنُ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْعَدَالَةَ أَوِ الْجَرْحِ فَذَلِكَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى خَشْيَةِ الْوُقُوعِ فِي الشُّذُوذِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي الْحَاكِمُ وَلَا الرَّاوِي، لِأَنَّ أَحْوَالَ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الشُّذُوذِ مُبْهَمَةٌ فَوَجَبَ التَّبَصُّرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 25]

وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عَلَى جُمْلَةِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْمُكْثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: 67]- وَقَوْلِهِ- فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [98] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُجُودُ أَيْ وُجُودُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَبِخَصَائِصِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّفْنَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَتَاعٌ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ لَا يُدْفَنُونَ فِي الْأَرْضِ. وَالْمَتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ: نَيْلُ الْمَلَذَّاتِ وَالْمَرْغُوبَاتِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ، وَيُطْلَقُ الْمَتَاعُ عَلَى مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَالْحِينُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً، وَقَدْ نُكِّرَ هُنَا وَلَمْ يُحَدَّدْ لِاخْتِلَافِ مِقْدَارِهِ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَفْرَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ زَمَنُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا إِدْرَاكَ اللَّذَّاتِ، وَفِيهِ يحصل بَقَاء الذّات غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَا مُتَلَاشِيَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَهَذَا الزَّمَنُ الْمُقَارِنُ لِحَالَةِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجَلِ، أَيِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَبْلُغُ إِلَيْهَا الْحَيُّ بِحَيَاتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ وَانْعَدَمَتِ الْحَيَاةُ انْقَطَعَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ، وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا قَدَّرَهُ لِلنَّوْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ امْتِنَانٌ وَلَا تنكيل بهم. [25] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 25] قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِعَاطِفٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ فِعْلِ الْقَوْلِ بِوَاوِ عَطْفٍ، مَعَ كَوْنِ الْقَائِلِ وَاحِدًا، وَالْغَرَضِ مُتَّحِدًا، خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي مِثْلِهِ هُوَ الْعَطْفُ، وَقَدْ أَهْمَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ جُمْهُورُ الْحُذَّاقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ رَأَى ذَلِكَ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكَايَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ حَاوَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ التُّونُسِيُّ فِي «إِمْلَاءَاتِ التَّفْسِيرِ» الْمَرْوِيَّةِ

عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ [140] : قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَاف: 138] إِذْ جَعَلَ وَجْهَ إِعَادَةِ لَفْظِ قَالَ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ مِنَ الْبَوْنِ، فَالْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِبُطْلَانِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِي ذَاتِهِ، وَالثَّانِي إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْخَفَاجِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى ابْنِ عَرَفَةَ فَلَعَلَّهُ مِنْ تَوَارُدِ الْخَوَاطِرِ وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: إِعَادَةُ الْقَوْلِ إِمَّا لِإِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِمَضْمُونِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: 25] وَإِمَّا لِلْإِيذَانِ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ [الْحجر: 57]- إِثْرَ قَوْلِهِ- قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الْحجر: 56] فَإِنَّ الْخَلِيلَ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ عُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مُرْسَلِينَ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مُرْسَلِينَ عِنْدَ تَبَيُّنِ أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَما خَطْبُكُمْ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاء: 62]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الْإِسْرَاء: 61] فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ الثَّانِيَ بَعْدَ الْإِنْظَارِ الْمُتَرَتَّبِ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ الَّذِي لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَالتَّوْجِيهُ الثَّانِي مَرْدُودٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْإِحَاطَةُ وَلَا الِاتِّصَالُ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أُسْلُوبًا فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْبَلِيغُ، وَأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْعَطْفِ بِثُمَّ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [الْأَعْرَاف: 39]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: 38] ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ تَوْجِيهُ إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَأْنَفًا: إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، إِيذَانًا بِتَغَيُّرِ الْخِطَابِ بَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ تَخَالُفٌ مَا، فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَوَّلِ آدَمُ وَزَوْجُهُ والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدَمُ وَزَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُمَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ قَبْلَ حُدُوثِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمَا بِإِشْعَارِهِمَا أَنَّهُمَا أَبَوَا خَلْقٍ كَثِيرٍ:

[سورة الأعراف (7) : آية 26]

كُلُّهُمْ هَذَا حَالُهُمْ، وَهُوَ مِنْ تَغْلِيبِ الْمَوْجُودِ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ وُجُودِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا فَوَجْهُ الْفَصْلِ أَظْهَرُ وَأَجْدَرُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخِطَابِ هُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْها تُخْرَجُونَ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ يَقْتَضِي سَبْقَ الدُّخُولِ فِي بَاطِنِهَا، وَذَلِكَ هُوَ الدَّفْنُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالشَّيَاطِينُ لَا يُدْفَنُونَ. وَقَدْ أَمْهَلَ اللَّهُ إِبْلِيسَ بِالْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهُوَ يُحْشَرُ حِينَئِذٍ أَوْ يَمُوتُ وَيُبْعَثُ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ جُعِلَ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ وَسِيلَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى بَنِي آدَمَ عَقِبَ هَذَا. وَقَدْ دَلَّ جَمْعُ الضَّمِيرِ عَلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ: وَهُوَ أَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ اسْتَقَرَّا فِي الْأَرْضِ، وَتَظْهَرَ لَهُمَا ذُرِّيَّةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ بِأَنَّ الْأَرْضَ قَرَارُهُمْ، وَمِنْهَا مَبْعَثُهُمْ، يَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ الْخِطَابِ وَالَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ بَعْدُ. وَقَدْ يُجْعَلُ سَبَبُ تَغْيِير الأسلوب تخَالف الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْقَوْلَ السَّابِقَ قَوْلُ مُخَاطَبَةٍ، وَالْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُ تَقْدِيرٍ وَقَضَاءٍ أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ تَحْيَوْنَ فِيهَا وَتَمُوتُونَ فِيهَا وَتُخْرَجُونَ مِنْهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَرْضِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا قَرَارُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ، إِذْ كَانَتْ هِيَ مَقَرُّ جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ. وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّقْدِيمُ وَسِيلَةً إِلَى مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ، إِذْ جُعِلَتِ الْأَرْضُ جَامِعَةً لِهَاتِهِ الْأَحْوَالِ، فَالْأَرْضُ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تُدَاوَلَتْ فِيهَا أَحْوَالُ سُكَّانِهَا الْمُتَخَالِفَةُ تَخَالُفًا بَعِيدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ- بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ: بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل. [26] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 26] يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

(26) إِذَا جَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ التَّفَاسِيرِ كَانَ قَوْلُهُ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً الْآيَةَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، عَادَ بِهِ الْخِطَابُ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: 3] الْآيَاتِ، وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السُّورَةِ إِبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَوَابِعِهِ مِنْ أَحْوَالِ دِينِهِمُ الْجَاهِلِيِّ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: 11] اسْتِطْرَادًا بِذكر منّة الله عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ فَخَاطَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُور الْمَقْصُودَة من السُّورَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] وَوُقُوعُهَا فِي أَثْنَاءِ آيَاتِ التَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِطْرَادِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِنَ الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا افْتُتِحَ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: 25] فَيَكُونُ مِمَّا خَاطب الله بِهِ بَنِي آدَمَ فِي ابْتِدَاءِ عَهْدِهِمْ بِعُمْرَانِ الْأَرْضِ عَلَى لِسَان أَبِيهِم آدم، أَوْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَلَوْ بِالْإِلْهَامِ، لِمَا تَنْشَأُ بِهِ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ، فَابْتَدَأَ فَأَعْلَمَهُمْ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْزَلَ لَهُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِهِمْ، وَيَتَجَمَّلُونَ بِهِ بِمُنَاسَبَةِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعَرِّي أَبَوَيْهِمْ حِينَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، ثُمَّ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 27] ثُمَّ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِأَخْذِ اللِّبَاسِ وَهُوَ زِينَةُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] ، ثُمَّ بِأَنْ أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد بِأَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ وَيَنْتَفِعُوا بِهَدْيِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَعْرَاف: 35] الْآيَةَ، وَاسْتَطْرَدَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَوَاعِظَ تَنْفَعُ الَّذِينَ قُصَدُوا مِنْ هَذَا الْقَصَصِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ المكذّبون محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ

كَيْفَمَا تَفَنَّنَتْ أَسَالِيبُهُ وَتَنَاسَقَ نَظْمُهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ أَوْ مِنْ حِكَايَتِهَا هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ومكذّبو محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّلَتْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ مُسْتَطْرِدَاتٌ وَتَعْرِيضَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِمَا وَضَعَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكَاذِيبِ فِي نَقْضِ أَمْرِ الْفِطْرَةِ. وَالْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 27]- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] مُتَّصِلَةٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِقِصَّةِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ، أَوْ مُتَّصِلَةٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: 25] عَلَى طَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْمَقُولِ تَعْدَادًا يُشْبِهُ التَّكْرِيرَ. وَهَذَا الْخِطَابُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ: لِأَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ هُوَ الشُّكْرُ عَلَى يَقِينِهِمْ بِأَنَّهُمْ موافقون فِي شؤونهم لِمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا حَظُّ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، مُعَرَّضُونَ لِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ. وَابْتُدِئَ الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ لِيَقَعَ إِقْبَالُهُمْ عَلَى مَا بَعْدَهُ بِشَرَاشِرِ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ لِاخْتِيَارِ اسْتِحْضَارِهِمْ عِنْدَ الْخِطَابِ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ مَرَّتَيْنِ وَقْعٌ عَجِيبٌ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَمَا لَقِيَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ: وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الذُّرِّيَّةِ أَنْ تَثْأَرَ لِآبَائِهَا، وَتُعَادِيَ عَدُوَّهُمْ، وَتَحْتَرِسَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَرَكِهِ. وَلَمَّا كَانَ إِلْهَامُ اللَّهِ آدَمَ أَنْ يَسْتُرَ نَفْسَهُ بِوَرَقِ الْجَنَّةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَلَّدَهَا بَنُوهُ، خُوطِبَ النَّاسُ بِشُمُولِ هَذِهِ الْمِنَّةِ لَهُمْ بِعُنْوَانٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَّةٌ مَوْرُوثَةٌ، وَهِيَ أَوْقَعُ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَيْسِيرُ اللِّبَاسِ لَهُمْ وَإِلْهَامُهُمْ إِيَّاهُ إِنْزَالًا، لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذَا الْمَظْهَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ، بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ عَلَى آدَمَ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَكَانَ لَهُ فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ،

عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْهَامِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بِتَسْخِيرٍ إِلَهِيٍّ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْجَدْوَى عَلَى النَّاسِ وَالنَّفْعِ لَهُمْ، يُحَسِّنُ اسْتِعَارَةَ فِعْلِ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِ، تَشْرِيفًا لِشَأْنِهِ، وَشَارَكَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الْمُلْهَمَاتِ عَظِيمَ النَّفْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْحَدِيد: 25] أَيْ أَنْزَلْنَا الْإِلْهَامَ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ وَالدِّفَاعِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] أَيْ: خَلَقَهَا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ بِتَدْبِيرِهِ، وَعَلَّمَكُمُ اسْتِخْدَامَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِيهَا، وَلَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَا أُلْهِمَ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِمَّا هُوَ دُونَ هَذِهِ فِي الْجَدْوَى، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ آدَمُ هُوَ أَصْلُ اللِّبَاسِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْبَشَرُ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ اللِّبَاسَ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالْفِطْرَةُ أَوَّلُ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ مِمَّا كَرَّمَ اللَّهُ بِهِ النَّوْعَ مُنْذُ ظُهُورِهِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ جعلُوا من قرباتهم نَزْعَ لِبَاسِهِمْ بِأَنْ يَحُجُّوا عُرَاةً كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الْأَعْرَاف: 32] فَخَالَفُوا الْفِطْرَةَ، وَقَدْ كَانَ الْأُمَمُ يَحْتَفِلُونَ فِي أَعْيَادِ أَدْيَانِهِمْ بِأَحْسَنِ اللِّبَاسِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِ مِصْرَ: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه: 59] . وَاللِّبَاسُ اسْمٌ لِمَا يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ أَيْ يَسْتُرُ بِهِ جُزْءًا مِنْ جَسَدِهِ، فَالْقَمِيصُ لِبَاسٌ، وَالْإِزَارُ لِبَاسٌ، وَالْعِمَامَةُ لِبَاسٌ، وَيُقَالُ لَبِسَ التَّاجَ وَلَبِسَ الْخَاتَمَ قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: 12] وَمَصْدَرُ لَبِسَ اللُّبْسُ- بِضَمِّ اللَّامِ-. وَجُمْلَةُ: يُوارِي سَوْآتِكُمْ صفة (للباسا) وَهُوَ صِنْفُ اللِّبَاسِ اللَّازِمِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ مَدْحِ اللِّبَاسِ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ اللِّبَاسِ لَيْسَ لِمُوَارَاةِ السَّوْآتِ مِثْلَ الْعِمَامَةِ وَالْبُرْدِ وَالْقَبَاءِ وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَهِيَ السَّوْأَةُ، وَأَمَّا سَتْرُ مَا عَدَاهَا مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بَعْضُهُ بِالسُّنَّةِ، وَبَعْضُهُ بِالْقِيَاسِ وَالْخَوْضِ فِي تَفَاصِيلِهَا وَعِلَلِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ.

وَالرِّيشُ لِبَاسُ الزِّينَةِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ زِينَتُهُ، وَيُقَالُ لِلِبَاسِ الزِّينَةِ رِيَاشٌ. وَعَطْفُ (رِيشًا) عَلَى: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ عَطْفُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ، وَالْمَعْنَى يَسَّرْنَا لَكُمْ لِبَاسًا يَسْتُرُكُمْ وَلِبَاسًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِباسُ التَّقْوى قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى لِباساً فَيَكُونُ مِنَ اللِّبَاسِ الْمُنَزَّلِ أَيِ الْمُلْهَمِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لِبَاسُ حَقِيقَةٍ أَيْ شَيْءٌ يُلْبَسُ. وَالتَّقْوَى، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْوِقَايَةِ، فَالْمُرَادُ: لَبُوسُ الْحَرْبِ، مِنَ الدُّرُوعِ وَالْجَوَاشِنِ وَالْمَغَافِرِ. فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: 81] . وَالْإِشَارَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفْرَدِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ بِأَصْنَافِهِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ خَيْرٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ بَنِي آدَمَ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ لِباساً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِرَفْعِ لِباسُ التَّقْوى عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى مِثْلَ مَا يَرِدُ بِهِ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى تَقْوَى اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اللِّبَاسُ إِمَّا بِتَخْيِيلِ التَّقْوَى بِلِبَاسٍ يُلْبَسُ، وَإِمَّا بِتَشْبِيهِ مُلَازَمَةِ تَقْوَى اللَّهِ بِمُلَازَمَةِ اللَّابِسِ لِبَاسَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [الْبَقَرَة: 187] مَعَ مَا يُحَسِّنُ هَذَا الْإِطْلَاقَ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الرَّفْعُ أَلْيَقُ بِهِ. وَيَكُونُ اسْتِطْرَادًا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا خَيْرٌ لِلنَّاسِ مِنْ مَنَافِعِ الزِّينَةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ عَلَى قِرَاءَةِ: وَلِباسُ التَّقْوى بِالنَّصْبِ بِأَنِ اسْتَأْنَفَ. بَعْدَ الِامْتِنَانِ بِأَصْنَافِ اللِّبَاسِ، اسْتِئْنَافَيْنِ يُؤْذِنَانِ بِعَظِيمِ النِّعْمَةِ: الْأَوَّلُ بِأَنَّ اللِّبَاسَ خَيْرٌ لِلنَّاسِ، وَالثَّانِي بِأَنَّ اللِّبَاسَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَلُطْفِهِ، وَتَدُلُّ عَلَى

[سورة الأعراف (7) : آية 27]

وُجُودِهِ، وَفِيهَا آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ سَتَكُونَ أُمَّةٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ فَيَكُونُونَ فِي حَجِّهِمْ عُرَاةً، فَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْوِصَايَةَ بِهِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ، بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، عَيْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى وَلِلِاهْتِمَامِ بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ جُعِلَتِ الثَّانِيَةُ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ. وَعَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِ: وَلِباسُ التَّقْوى تَكُونُ جُمْلَةُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ اسْتِئْنَاف وَاحِدًا وَالْإِشَارَةُ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلُ مِنْ أَصْنَافِ اللِّبَاسِ حَتَّى الْمَجَازِيِّ عَلَى تَفْسِيرِ لِبَاسِ التَّقْوَى بِالْمَجَازِيِّ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ الْتِفَاتٌ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ آيَةً لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ عَظِيمَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَاللُّطْفِ، وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَعْرِيضٌ بِمَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ حَضْرَةِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّ ضَمَائِرَ الْغَيْبَةِ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقُرْآنِ، كَثِيرًا مَا يُقْصَدُ بِهَا مشركو الْعَرَب. [27] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 27] يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) أُعِيدَ خِطَابُ بَنِي آدَمَ، فَهَذَا النِّدَاءُ تَكْمِلَةٌ لِلْآيِ قَبْلَهُ، بُنِيَ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ مُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى إِظْهَارِ كَيْدِهِ لِلنَّاسِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهِمْ، إِذْ كَادَ لِأَصْلِهِمْ. وَالنِّدَاءُ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ: لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، مَعَ زِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِمِنَّةِ اللِّبَاسِ تَوْكِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِحَمَاقَةِ الَّذِينَ يَحُجُّونَ عُرَاةً.

وَقَدْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَفُتُونُ الشَّيْطَانِ حُصُولُ آثَارِ وَسْوَسَتِهِ، أَيْ لَا تُمَكِّنُوا الشَّيْطَانَ مِنْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ مُبَالَغَةِ النَّهْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا: أَيْ لَا تَفْعَلَنَّ فَأَعْرِفُ فِعْلَكَ، لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا: أَيْ لَا تَحْضُرَنَّ هُنَا فَأَرَاكَ، فَالْمَعْنَى لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِي فِتَنِهِ فَيَفْتِنَكُمْ وَمِثْلُ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ فِعْلٍ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِهِ. وَشُبِّهَ الْفُتُونُ الصَّادِرُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلنَّاسِ بِفَتْنِهِ آدَمَ وَزَوْجَهُ إِذْ أَقْدَمَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ نَعِيمٍ كَانَا فِيهِ، تَذْكِيرًا لِلْبَشَرِ بِأَعْظَمِ فِتْنَةٍ فَتَنَ الشَّيْطَانُ بِهَا نَوْعَهُمْ، وَشَمَلَتْ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّوْعِ، إِذْ حُرِمَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَ يَتَحَقَّقُ لَهُ لَوْ بَقِيَ أَبَوَاهُ فِي الْجَنَّةِ وَتَنَاسَلَا فِيهَا، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِأَنَّ عَدَاوَةَ الْبَشَرِ لِلشَّيْطَانِ مَوْرُوثَةٌ، فَيَكُونُ أَبْعَثَ لَهُمْ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِيَفْتِنَنَّكُمُ، وَالتَّقْدِيرُ: فُتُونًا كَإِخْرَاجِهِ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فُتُونٌ عَظِيمٌ يُشَبَّهُ بِهِ فُتُونُ الشَّيْطَانِ حِينَ يُرَادُ تَقْرِيبُ مَعْنَاهُ لِلْبَشَرِ وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْهُ. وَالْأَبَوَانِ تَثْنِيَةُ الْأَبِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ تَغْلِيبٌ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [11] . وَأُطْلِقَ الْأَبُ هُنَا عَنِ الْجَدِّ لِأَنَّهُ أَبٌ أَعْلَى، كَمَا فِي قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . وَجُمْلَةُ: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُقَارِنَةِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي: أَخْرَجَ أَوْ مِنْ: أَبَوَيْكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَفْظِيعُ هَيْئَةِ الْإِخْرَاجِ بِكَوْنِهَا حَاصِلَةً فِي حَالِ انْكِشَافِ سَوْآتِهِمَا لِأَنَّ انْكِشَافَ السَّوْءَةِ

مِنْ أَعْظَمِ الْفَظَائِعِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ. وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا مَضَى بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُمَا عُرْيَانَيْنِ. وَاللِّبَاسُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَهُوَ لِبَاسٌ جَلَّلَهُمَا اللَّهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ يَحْجُبُ سَوْآتِهِمَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ حِجَابٌ مِنْ نُورٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَقِشْرِ الْأَظْفَارِ وَهِيَ رِوَايَاتٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ نَزْعَ اللِّبَاسِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ التَّسَبُّبِ فِي ظُهُورِ السَّوْءَةِ. وَكَرَّرَ التَّنْوِيهَ بِاللِّبَاسِ تَمْكِينًا لِلتَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] . وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ وَالنَّزْعِ وَالْإِرَاءَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَامُحِ فِي الْإِسْنَادِ بِتَنْزِيلِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَ النَّزْعُ حَقِيقَةً أَمْ تَمْثِيلًا، فَإِنَّ أَطْرَافَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ الْعَقْلِيِّ تَكُونُ حَقَائِقَ، وَتَكُونُ مَجَازَاتٍ، وَتَكُونُ مُخْتَلِفَةً، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما لَامُ التَّعْلِيلِ الِادِّعَائِيِّ، تَبَعًا لِلْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَ الْإِخْرَاج والنّزع والإراءة إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ فَاعِلُ الْإِخْرَاجِ وَنَزْعِ لِبَاسِهِمَا وَإِرَاءَتِهِمَا سَوْآتِهِمَا، نَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ غَرَضٌ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَال وَهُوَ أَن يريهما سوآتهما ليتم ادّعاء كَونه فَاعل تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُضِرَّةِ، وَكَوْنُهُ قَاصِدًا مِنْ ذَلِكَ الشَّنَاعَةَ وَالْفَظَاعَةَ، كَشَأْنِ الْفَاعِلِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُم علل غائية مِنْ أَفْعَالِهِمْ إِتْمَامًا لِلْكَيْدِ، وَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ فِي الْوَاقِعِ سَبَبٌ لِرُؤْيَتِهِمَا سَوْآتِهِمَا، فَانْتَظَمَ الْإِسْنَادُ الِادِّعَائِيُّ مَعَ التَّعْلِيلِ الِادِّعَائِيِّ، فَكَانَتْ لَامُ الْعِلَّةِ تَقْوِيَةً لِلْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَتَرْشِيحًا لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ نَجْعَلِ اللَّامَ هُنَا لِلْعَاقِبَةِ كَمَا جَعَلْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الْأَعْرَاف: 20] إِذْ لَمْ تُقَارَنِ اللَّامُ هُنَالِكَ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَهْتَمُّ بِكَشْفِ سَوْأَةِ ابْنِ آدَمَ لِأَنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرَاهُ فِي حَالَةِ سُوءٍ وَفَظَاعَةٍ.

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الِافْتِتَانِ بِفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْحَذِرِ أَنْ يَرْصُدَ الشَّيْءَ الْمَخُوفَ بِنَظَرِهِ لِيَحْتَرِسَ مِنْهُ إِذَا رَأَى بَوَادِرَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ النَّاسَ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَرَى الْبَشَرَ، وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَرَوْنَهَا، إِظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ جَانِبِ كَيْدِهِمْ وَجَانِبِ حَذَرِ النَّاسِ مِنْهُم ضَعِيف، فَإِنَّ جَانِبَ كَيْدِهِمْ قَوِيٌّ مُتَمَكِّنٌ وَجَانِبُ حَذَرِ النَّاسِ مِنْهُمْ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْمَكِيدَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ تَعْلِيمُ حَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ الْأَجْسَامِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْحَوَاسِّ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُجَرَّدَاتِ فِي اصْطِلَاحِ الْحُكَمَاءِ وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاؤُنَا الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ التَّصَدِّي لِتَعْلِيمٍ مِثْلِ هَذَا إِلَّا مَا لَهُ أَثَرٌ فِي التَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَوْعِظَةِ. وَالضَّمِيرُ الَّذِي اتَّصَلَتْ بِهِ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَعُطِفَ: وَقَبِيلُهُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: يَراكُمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ. وَذُكِرَ الْقَبِيلُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْصَارًا يَنْصُرُونَهُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيبُ حَالِ عَدَاوَةِ الشَّيَاطِينِ بِمَا يَعْهَدُهُ الْعَرَبُ مِنْ شِدَّةِ أَخْذِ الْعَدُوِّ عَدُوَّهُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَأْخُوذِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَاهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَذَرِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاهُمْ وَفِي أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ. ومِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ابْتِدَاءُ مَكَانِ مُبْهَمٍ تَنْتَفِي فِيهِ رُؤْيَةُ الْبَشَرِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لَا تَرَوْنَهُمْ فِيهِ، فَيُفِيدُ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ وَقَبِيلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ قَرِيبًا كَانُوا أَوْ بَعِيدًا، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ مَحْجُوبِينَ عَنْ أَبْصَارِ الْبَشَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، فَرُؤْيَةُ ذَوَاتِ الشَّيَاطِينِ مُنْتَفِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُخَوِّلُ اللَّهُ رُؤْيَةَ الشَّيَاطِينِ أَوِ الْجِنِّ مُتَشَكِّلَةً فِي أَشْكَالِ الْجُسْمَانِيَّاتِ،

مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ فِي صَلَاتِي فَهَمَمْتُ أَنْ أُوثِقُهُ فِي سَارِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ» الْحَدِيثَ، أَوْ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا فِي حَدِيثِ الَّذِي جَاءَ يَسْرِقُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَلِكَ شَيْطَانٌ» كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَشَكُّلِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْجِنِّ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بِتَسْخِيرِ اللَّهِ لِتَتَمَكَّنَ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَالْمَرْئِيُّ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّكْلُ الَّذِي مَاهِيَّةُ الشَّيْطَانِ مِنْ وَرَائِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَةِ مَكَانٍ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شَيْطَانًا، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ هُوَ الْخَبَرُ الصَّادِقُ، فَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا عُلِمَ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا قُصِدَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ائْتِمَارِهِمْ بِأَمْرِ الشَّيْطَانِ، تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِهِمْ، وَتَنْفِيرًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ التَّحْذِيرُ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعَلُّقٌ بِجُمْلَةِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْجَعْلُ هُنَا جَعْلُ التَّكْوِينِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْأَعْرَاف: 24] بِمَعْنَى خَلَقْنَا الشَّيَاطِينَ. وأَوْلِياءَ حَالٌ مِنَ الشَّياطِينَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ خَلَقْنَاهُمْ مُقَدَّرَةٌ وِلَايَتُهُمْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَبَلَ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَجْنَاسَهَا عَلَى طَبَائِعَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِتَغْيِيرِهَا: كَالِافْتِرَاسِ فِي الْأَسَدِ، وَاللَّسْعِ فِي الْعَقْرَبِ، وَخَلَقَ لِلْإِنْسَانِ الْعَقْلَ وَالْفِكْرَ فَجَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ مَا يُخْتَارُ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِبِلَّةِ الشَّيَاطِينِ حُبُّ مَا هُوَ فَسَادٌ، وَكَانَ مِنْ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ أَنَّهُ قَدْ يَتَطَلَّبُ الْأَمْرَ الْعَائِدَ بِالْفَسَادِ، إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ عَاجِلُ شَهْوَةٍ أَوْ كَانَ يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ

[سورة الأعراف (7) : آية 28]

الصَّالِحَةَ فِي بَادِئِ النَّظْرَةِ الْحَمْقَاءِ، كَانَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُوَافِقًا لِطَبْعِ الشَّيَاطِينِ، وَمُؤْتَمَرًا بِمَا تُسَوِّلُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَغْلِبُ كَسْبُ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ عَلَى الَّذِينَ تَوَغَّلُوا فِيهِ وَتَدَرَّجُوا إِلَيْهِ، حَتَّى صَارَ الْمَالِكُ لِإِرَادَاتِهِمْ، وَتِلْكَ مَرْتَبَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَلَا جَرَمَ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ وِلَايَةٌ وَوِفَاقٌ لِتَقَارُبِ الدَّوَاعِي، فَبِذَلِكَ انْقَلَبَتِ الْعَدَاوَةُ الَّتِي فِي الْجِبِلَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا قَوْلُهُ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: 22]- وَقَوْلُهُ- بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْأَعْرَاف: 24] فَصَارَتْ وِلَايَةً وَمَحَبَّةً عِنْدَ بُلُوغِ ابْنِ آدَمَ آخِرَ دَرَكَاتِ الْفَسَادِ، وَهُوَ الشِّرْكُ وَمَا فِيهِ، فَصَارَ هَذَا جَعْلًا جَدِيدًا نَاسِخًا لِلْجَعْلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُنَالِكَ، فَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُقَيِّدٌ لِلْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُوَالِيَ الشَّيْطَانَ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمُ الْمُضَادُّونَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، وَسَتَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فِي هَذِه السُّورَة [35] . [28] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 28] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً مَعْطُوفٌ عَلَى لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: 27] فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّلَةِ، وَفِيهِ إِدْمَاجٌ لِكَشْفِ بَاطِلِهِمْ فِي تَعَلُّلَاتِهِمْ وَمَعَاذِيرِهِمُ الْفَاسِدَةِ، أَيْ لِلَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ الْإِيمَانَ وَيَفْعَلُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَعْتَذِرُونَ عَنْ فِعْلِهَا بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا آبَاءَهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا خَاصٌّ بِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:

قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَتَيِ الصِّلَةِ: تَفْظِيعُ حَالِ دِينِهِمْ بِأَنَّهُ ارْتِكَابُ فَوَاحِشَ، وَتَفْظِيعُ حَالِ اسْتِدْلَالِهِمْ لَهَا بِمَا لَا يَنْتَهِضُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ. وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ إِذا الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ إِفَادَةُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَالْفَاحِشَةُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فِعْلَةٌ فَاحِشَةٌ ثُمَّ نَزَلَ الْوَصْفُ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ، فَصَارَتِ الْفَاحِشَةُ اسْمًا لِلْعَمَلِ الذَّمِيمِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفُحْشِ- بِضَمِّ الْفَاءِ- وَهُوَ الْكَثْرَةُ وَالْقُوَّةُ فِي الشَّيْءِ الْمَذْمُومِ وَالْمَكْرُوهِ، وَغَلَبَتِ الْفَاحِشَةُ فِي الْأَفْعَالِ الشَّدِيدَةِ الْقُبْحِ وَهِيَ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْهَا الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، أَوْ يَنْشَأُ عَنْهَا ضُرٌّ وَفَسَادٌ بِحَيْثُ يَأْبَاهَا أَهْلُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَيُنْكِرُهَا أُولُو الْأَحْلَامِ، وَيَسْتَحْيِي فَاعِلُهَا مِنَ النَّاسِ، وَيَتَسَتَّرُ مِنْ فِعْلِهَا مثل الْبغاء والزّنى وَالْوَأْدِ وَالسَّرِقَةِ، ثُمَّ تَنْهَى عَنْهَا الشَّرَائِعُ الْحَقَّةُ، فَالْفِعْلُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، كَأَفْعَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ السُّجُودِ لِلتَّمَاثِيلِ وَالْحِجَارَةِ وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهَا وَهِيَ جَمَادٌ، وَمِثْلَ الْعَرَاءِ فِي الْحَجِّ، وَتَرْكِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلَى الذَّبَائِحِ، وَهِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَتَسْخِيرِهِ، وَالْبِغَاءِ، وَاسْتِحْلَالِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالضُّعَفَاءِ، وَحِرْمَانِ الْأَقَارِبِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَاسْتِشَارَةِ الْأَزْلَامِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرْكِهِ، وَقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، وَتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ وَتَحْلِيلِهِمُ الْخَبَائِثَ مِثْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَاحِشَةِ فِي الْآيَةِ التَّعَرِّي فِي الْحَجِّ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ التَّعَرِّيَ فِي الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِ مَا أُرِيدَ بِالْفَاحِشَةِ لَا قَصْرِهَا عَلَيْهِ فَكَأَن أئمّة الشِّرْكِ قَدْ أَعَدُّوا لِأَتْبَاعِهِمْ مَعَاذِيرَ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَلَقَّنُوهَا إِيَّاهُمْ، وَجِمَاعُهَا أَنْ يَنْسُبُوهَا إِلَى آبَائِهِمُ السَّالِفِينَ الَّذِينَ هُمْ قُدْوَةٌ لِخَلَفِهِمْ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ آبَاءَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي طَيِّ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ مَصَالِحَ لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا الْمُنْكِرُونَ لَعَرَفُوا مَا أَنْكَرُوا، ثُمَّ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ يَعْنُونَ أَنَّ آبَاءَهُمْ مَا رَسَمُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ رَسَمُوهَا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا

لِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتَذَرُوا لِآبَائِهِمْ، فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها لَيْسَ ادِّعَاءُ بُلُوغِ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ آبَاءَهُمُ الَّذِينَ رَسَمُوا تِلْكَ الرُّسُومَ وَسَنُّوهَا فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ آبَاءَهُمْ أَمْرًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بَقَاءَ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّاتِهِمْ، فَهَذَا مَعْنَى اسْتِدْلَالِهِمْ، وَقَدْ أَجْمَلَهُ إِيجَازُ الْقُرْآنِ اعْتِمَادًا عَلَى فِطْنَةِ الْمُخَاطَبِينَ. وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ وَالْقَوْلُ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: عَلَى مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَجْمُوعِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَائِلُ غَيْرَ الْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ غَيْرَ قَائِلٍ، اعْتِدَادًا بِأَنَّهُمْ لَمَّا صَدَّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ كُلُّهُمْ وَاعْتَذَرُوا عَنْهُ كُلُّهُمْ. وَأَفَادَ الشَّرْطُ رَبْطًا بَيْنَ فِعْلِهِمُ الْفَاحِشَةَ وَقَوْلِهِمْ: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا بِاعْتِبَارِ إِيجَازٍ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، إِذِ الْمَفْهُومُ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً فَأُنْكِرَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ نُهُوا عَنْهَا قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْكَارِ وَالنَّهْيِ خُصُوصَ نَهْيِ الْإِسْلَامِ إِيَّاهُمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ أَيِّ نَاهٍ وَإِنْكَارُ أَيِّ مُنْكِرٍ، فَقَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمُ الْفَوَاحِشَ مَنْ لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَيْهَا مِنَ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ دِينَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ أَشْتَاتًا مُخْتَلِفًا، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَنْ خَلَعُوا الشِّرْكَ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ ابْن أَبِي الصَّلْتِ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّاةَ وَأَنْزَلَ لَهَا الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ لَهَا الْعُشْبَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَذْبَحُونَهَا لِغَيْرِهِ» وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَتَحَرَّجُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ ثُمَّ لَا يَسَعُهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُمْ فِيهَا إِكْرَاهًا. وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَنْ لَا تُوَافِقُ أَعْمَالُهُمْ هَوَاهُ: كَمَا وَقع لامرىء الْقَيْسِ، حَيْثُ عَزَمَ عَلَى قِتَالِ بَنِي أَسَدٍ بَعْدَ قَتْلِهِمْ أَبَاهُ حُجْرًا، فَقَصَدَ ذَا الْخَلَصَةِ- صَنَمَ خَثْعَمَ- وَاسْتَقْسَمَ عِنْدَهُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ لَهُ النَّاهِي فَكَسَرَ الْأَزْلَامَ وَقَالَ: لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخَلَصِ الْمُوتُورَا ... مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورًا

ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَنَعَى عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمُ الْفَاسِدَةَ، وَأَسْمَعَهُمْ قَوَارِعَ الْقُرْآنِ فَحِينَئِذٍ تَصَدَّوْا لِلِاعْتِذَارِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ تَشْنِيعُ مَعْذِرَتِهِمْ وَفَسَادُ حُجَّتِهِمْ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِنْكَارِ مَا كَانَ مُمَاثِلًا لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ كُلُّ دَلِيلٍ تَوَكَّأَ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرِ فَسَادُهَا وَفُحْشُهَا، وَكُلُّ دَلِيلٍ اسْتَنَدَ إِلَى مَا لَا قِبَلَ لِلْمُسْتَدِلِّ بِعِلْمِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها دَعْوَى بَاطِلَةٌ إِذْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَمْرُ اللَّهِ بِذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ النُّبُوءَةَ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ تَلَقِّي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فَأَعْرَضَ عَنْ رَدِّ قَوْلِهِمْ: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُرَادُ رَدُّهُ مِنْ جِهَةِ التَّكْذِيبِ فَهُمْ غَيْرُ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ تِلْكَ الْفَوَاحِشَ، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ رَدُّهُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لِلْحُجَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ وَالنَّهْيَ ظَاهِرٌ انْتِقَالُهُمَا إِلَى آبَائِهِمْ، إِذْ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى الْمُمَاثِلِ، فَصَارَ رَدُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ دَلِيلِهِمْ بَدِيهِيًّا وَكَانَ أَهَمَّ مِنْهُ رَدُّ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ مَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ، أَعْنِي قَوْلَهُمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها. فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ نَقْضٌ لِدَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا أَيْ بِتِلْكَ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَتَعْلِيمٌ لَهُمْ، وَإِفَاقَةٌ لَهُمْ مِنْ غُرُورِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِالْكَمَالِ فَلَا يَأْمُرُ بِمَا هُوَ نَقْصٌ لَمْ يَرْضَهُ الْعُقَلَاءُ وَأَنْكَرُوهُ، فَكَوْنُ الْفِعْلِ فَاحِشَةً كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَهُ الْكَمَالُ الْأَعْلَى، وَمَا كَانَ اعْتِذَارُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ، وَلِذَلِكَ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ بِقَوْلِهِ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ إِذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالُوهُ

عَنْ مُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِمِثْلِ تِلْكَ الرَّذَائِلِ. وَضُمِّنَ: تَقُولُونَ معنى تكذيون أَوْ مَعْنَى تَتَقَوَّلُونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِعَلَى، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِعْنَ لَوْ كَانَ قَوْلًا صَحِيحَ النِّسْبَةِ، وَإِذْ كَانَ التَّوْبِيخُ وَارِدًا عَلَى أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ كَانَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِمَا يَتَحَقَّقُ عَدَمُ وُرُودِهِ مِنَ اللَّهِ أَحْرَى. وَبِهَذَا الرَّدِّ تَمَحَّضَ عَمَلُهُمْ تِلْكَ الْفَوَاحِشَ لِلضَّلَالِ وَالْغُرُورِ وَاتِّبَاعِ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ أئمّة الْكُفْرِ، وَقَادَةِ الشِّرْكِ: مِثْلَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، الَّذِي وَضَعَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَمِثْلَ أَبِي كَبْشَةَ، الَّذِي سَنَّ عِبَادَةَ الشِّعْرَى مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَمِثْلَ ظَالِمِ بْنِ أَسْعَدَ، الَّذِي وَضَعَ عِبَادَةَ الْعُزَّى، وَمِثْلَ الْقَلَمَّسِ، الَّذِي سَنَّ النَّسِيءَ إِلَى مَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِنْ مَوْضُوعَاتِ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ وَبُيُوتِ الشِّرْكِ. وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مُسْتَنَدٌ لِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فِي الْأُمُورِ الْفَرْعِيَّةِ أَوِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي نَعَاهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُوَ تَقْلِيدُهُمْ مَنْ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يُقَلَّدُوا، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْتَفِعُونَ عَنْ رُتْبَةِ مُقَلِّدِيهِمْ، إِلَّا بِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ جِيلًا، وَأَنَّهُمْ آبَاؤُهُمْ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَعْتَذِرُوا بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا عَلَيْهِ الصَّالِحِينَ وَهُدَاةَ الْأُمَّةِ، وَلَا بِأَنَّهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي نَعَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَقْلِيد فِي أَعْمَالٍ بَدِيهِيَّةِ الْفَسَادِ، وَالتَّقْلِيدُ فِي الْفَسَادِ يَسْتَوِي، هُوَ وَتَسْنِينُهُ، فِي الذَّمِّ، عَلَى أَنَّ تَسْنِينَ الْفَسَادِ أَشَدُّ مَذَمَّةً مِنَ التَّقْلِيدِ فِيهِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» - وَحَدِيثُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . فَمَا فَرَضَهُ الَّذِينَ يَنْزِعُونَ إِلَى عِلْمِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ نَاظِرٌ إِلَى اعْتِبَارِ الْإِشْرَاكِ دَاخِلًا فِي فعل الْفَوَاحِش.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 إلى 30]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 29 إِلَى 30] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ زَعْمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ إِبْطَالًا عَامًّا بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: 28] اسْتَأْنَفَ اسْتِئْنَافًا اسْتِطْرَادِيًّا بِمَا فِيهِ جُمَّاعُ مُقَوِّمَاتِ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي يَجْمَعُهُ مَعْنَى الْقِسْطِ أَيِ الْعَدْلِ تَعْلِيمًا لَهُمْ بِنَقِيضِ جَهْلِهِمْ، وَتَنْوِيهًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَعْلَمُوا مَا شَأْنُهُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ. وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْغَرَضِ، وَلِمُضَادَّتِهِ لِمُدَّعَاهُمُ الْمَنْفِيِّ فِي جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: 28] فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَمْ يُعْطَفِ الْقَوْلُ عَلَى الْقَوْلِ وَلَا الْمَقُولُ عَلَى الْمَقُولِ: لِأَنَّ فِي إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَفِي تَرْكِ عَطْفِهِ عَلَى نَظِيرِهِ لَفْتًا لِلْأَذْهَانِ إِلَيْهِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ وَهُوَ هُنَا الْعَدْلُ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، أَيِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْفَضِيلَةُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ، فَاللَّهُ أَمَرَ بِالْفَضَائِلِ وَبِمَا تَشْهَدُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ أَنَّهُ صَلَاحٌ مَحْضٌ وَأَنَّهُ حَسَنٌ مُسْتَقِيمٌ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الْفرْقَان: 67] فَالتَّوْحِيدُ عَدْلٌ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالْقِصَاصُ مِنَ الْقَاتِلِ عَدْلٌ بَيْنَ إِطْلَالِ الدِّمَاءِ وَبَيْنَ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ جِنَايَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَةِ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ. وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْإِسْرَافِ، فَالْقِسْطُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ فِي ذَاتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا لِلصَّلَاحِ عَاجِلًا وَآجِلًا، أَيْ سَالِمًا مِنْ عَوَاقِبِ الْفَسَادِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقِسْطَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ التَّوْحِيدَ مِنْ أَعْظَمِ الْقِسْطِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلْفَوَاحِشِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ لَيْسَ

بِقِسْطٍ، وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ فَإِنَّ التَّعَرِّيَ تَفْرِيطٌ، وَالْمُبَالَغَةَ فِي وَضْعِ اللِّبَاسِ إِفْرَاطٌ، وَالْعَدْلُ هُوَ اللِّبَاسُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ أَذَى الْقَرِّ أَوِ الْحَرِّ، وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ فَتَحْرِيمُ بَعْضِهِ غُلُوٌّ، وَالِاسْتِرْسَالُ فِيهِ نَهَامَةٌ، وَالْوَسَطُ هُوَ الِاعْتِدَالُ، فَقَوْلُهُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ كَلَامٌ جَامِعٌ لِإِبْطَالِ كُلِّ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْطِ. ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَمْر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ عَنِ اللَّهِ: أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فَجُمْلَةُ: وَأَقِيمُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أَيْ قُلْ لِأُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ. وَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْهُ إِبْطَالُ بَعْضٍ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ بِطَرِيقِ أَمْرِهِمْ بِضِدِّ مَا زَعَمُوهُ لِيَحْصُلَ أَمْرُهُمْ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ بِالتَّصْرِيحِ. وَإِبْطَالُ شَيْءٍ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ النَّهْيَ عَنْ شَيْءٍ وَفَعَلَ ضِدَّهُ يَأْمُرُ بِضِدِّهِ فَيَحْصُلُ الْغَرَضَانِ مِنْ أَمْرِهِ. وَإِقَامَةُ الْوُجُوهِ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ الْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي مَوَاضِعِ عِبَادَتِهِ، بِحَالِ الْمُتَهَيِّئِ لِمُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مُهِمٍّ حِينَ يُوَجِّهُ وَجْهَهُ إِلَى صَوْبِهِ، لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةَ، فَذَلِكَ التَّوَجُّهُ الْمَحْضُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ إِقَامَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَجْهَ قَائِمًا، أَيْ غَيْرَ مُتَغَاضٍ وَلَا مُتَوَانٍ فِي التَّوَجُّهِ، وَهُوَ فِي إِطْلَاقِ الْقِيَامِ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا يُقَالُ: قَامَتِ السُّوقُ، وَقَامَتِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الرّوم: 30] فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ وَمَكَانُ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَعْظِيمِهِ وَلَا تَعْظِيمِ مَسَاجِدِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِثْلَ التَّعَرِّي، وَإِشْرَاكُ اللَّهِ بِغَيْرِهِ فِي الْعِبَادَةِ مُنَافٍ لَهَا أَيْضًا، وَهَذَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ» فَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَرِّي

مَقْصُودٌ هُنَا لِشُمُولِ اللَّفْظِ إِيَّاهُ، وَلِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ بِتَكْرِيرِ الِامْتِنَانِ وَالْأَمْرِ بِاللِّبَاسِ: ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الْأَعْرَاف: 20] إِلَى هُنَا. وَمَعْنَى: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عِنْدَ كُلِّ مَكَانٍ مُتَّخَذٍ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْمُ الْمَسْجِدِ مَنْقُولٌ فِي الْإِسْلَامِ لِلْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ الْمَحْدُودِ الْمُتَّخَذِ لِلصَّلَاةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [2] ، فَالشَّعَائِرُ الَّتِي يُوقِعُونَ فِيهَا أَعْمَالًا مِنَ الْحَجِّ كُلُّهَا مَسَاجِدُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاجِدُ غَيْرَ شَعَائِرِ الْحَجِّ، فَذِكْرُ الْمَسَاجِدِ فِي الْآيَةِ يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ إِقَامَةُ الْوُجُوهِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ فِي الْحَجِّ بِأَنْ لَا يُشْرِكُوا مَعَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ بِالنِّيَّةِ، كَمَا كَانُوا وَضَعُوا (هُبَلَ) عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِيَكُونَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ لِلَّهِ وَلِهُبَلَ، وَوَضَعُوا (إِسَافًا وَنَائِلَةَ) عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَكُونَ السَّعْيُ لِلَّهِ وَلَهُمَا. وَكَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُهِلُّونَ إِلَى (مَنَاةَ) عِنْدَ (الْمُشَلَّلِ) ، فَالْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا أَمْرٌ بِالْتِزَامِ التَّوْحِيدِ وَكَمَالِ الْحَالِ فِي شَعَائِرِ الْحَجِّ كُلِّهَا، فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ عَطْفِ قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عَقِبَ إِنْكَارِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالْفَحْشَاءِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَإِثْبَاتِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقِسْطِ مِمَّا يُضَادُّهَا. وَهَذَا الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِضِدِّهِ، فَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ حَظُّ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ حَظُّ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالتَّفْرِيطِ فِيهِ. وَالدُّعَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ أَيِ اعْبُدُوهُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: 194] . وَالْإِخْلَاصُ تَمْحِيضُ الشَّيْءِ مِنْ مُخَالَطَةِ غَيْرِهِ. وَالدِّينُ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ دِنْتُ لِفُلَانٍ أَيْ أَطَعْتُهُ.

وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّهُ تَعَالَى: الدَّيَّانُ، أَيِ الْقَهَّارُ الْمُذَلِّلُ الْمُطَوِّعُ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَة: 5] ، وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا إِبْطَالُ الشِّرْكِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي إِبْطَالِهِ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْقِسْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ هُنَالِكَ، ومُخْلِصِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ادْعُوهُ. وَجُمْلَةُ: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ: مُقَدِّرِينَ عَوْدَكُمْ إِلَيْهِ وَأَنَّ عَوْدَكُمْ كَبَدْئِكُمْ، وَهَذَا إنذار بأنّهم مؤاخدون عَلَى عَدَمِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ قَوْلُهُ: تَعُودُونَ أَيْ إِلَيْهِ، وَأُدْمِجَ فِيهِ قَوْلُهُ: كَما بَدَأَكُمْ تَذْكِيرًا بِإِمْكَانِ الْبَعْثِ الَّذِي أَحَالُوهُ فَكَانَ هَذَا إنذارا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَائِدُونَ إِلَيْهِ فَمُجَازُونَ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ فِي عِبَادَتِهِ، وَهُوَ أَيْضًا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَمِ جَدْوَى عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَإِثْبَاتٌ لِلْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ بِدَفْعِ مُوجِبِ اسْتِبْعَادِهِمْ إِيَّاهُ، حِين يَقُولُونَ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْوَاقِعَة: 47]- وَيَقُولُونَ- أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: 10، 11] وَنَحْوَ ذَلِكَ، بِأَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ لَيْسَ بِأَعْجَبِ مِنْ خَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] وَكَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] أَيْ بِنَقِيضِ تَقْدِيرِ اسْتِبْعَادِهِمُ الْخَلْقَ الثَّانِيَ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِخَلْقِهِمُ الثَّانِي، كَمَا انْفَرَدَ بِخَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ، فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِالْجَزَاءِ فَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ شَيْئًا. فَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ لِتَشْبِيهِ عَوْدِ خَلْقِهِمْ بِبَدْئِهِ وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: تَعُودُونَ عَوْدًا جَدِيدًا كَبَدْئِهِ إِيَّاكُمْ، فَقُدِّمَ الْمُتَعَلِّقُ، الدَّالُّ عَلَى التَّشْبِيهِ، عَلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعُودُونَ، لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ بِمَعَانٍ هِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ سِيَاقِهَا وَنَظْمِهَا.

وَ (فَرِيقاً) الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ: إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي تَعُودُونَ، أَيْ تَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ فَرِيقَيْنِ، فَاكْتُفِيَ عَنْ إِجْمَالِ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ تَفْصِيلِهِمَا بِالتَّفْصِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْإِجْمَالِ تَعْجِيلًا بِذِكْرِ التَّفْصِيلِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، وَمَعْنَى فَرِيقاً هَدى: أَنَّ فَرِيقًا هَدَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ أَيِ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ حَالَ كَوْنِكُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِخْلَاصِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ، وَفَرِيقًا دَامَ عَلَى الضَّلَالِ وَلَازَمَ الشِّرْكَ. وَجُمْلَةُ: هَدى فِي مَوضِع الصّفة لفريقا الْأَوَّلِ، وَقَدْ حُذِفَ الرَّابِطُ الْمَنْصُوب: أَي هدَاكُمْ اللَّهُ، وَجُمْلَةُ: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ صِفَةُ فَرِيقاً الثَّانِي. وَهَذَا كُلُّهُ إِنْذَارٌ مِنَ الْوُقُوع فِي الضّلالة، وَتَحْذِيرٌ مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَوَخِّي الِاهْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِسْنَادُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: هَدى فَيَعْلَمُ السَّامِعُونَ أَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ فَرِيقَيْنِ كَانَ الْفَرِيقُ الْمُفْلِحُ هُوَ الْفَرِيقُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] وَأَنَّ الْفَرِيقَ الْخَاسِرَ هُمُ الَّذين حقّت عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ وَاتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا قَالَ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: 19] . وَتَقْدِيمُ فَرِيقاً الْأَوَّلِ والثّاني على عامليها لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّفْصِيلِ. وَمَعْنَى: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ثَبَتَتْ لَهُمُ الضَّلَالَةُ وَلَزِمُوهَا. وَلَمْ يُقْلِعُوا عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ كُلَّهُمْ، فَلَمَّا أُمِرُوا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ افْتَرَقُوا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَفَرِيقًا لَازَمَ الشِّرْكَ وَالضَّلَالَةَ، فَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِمْ حَالٌ جَدِيدٌ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ لَفْظِ: حَقَّ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ أَضَلَّهُ اللَّهُ، لِأَنَّ ضَلَالَهُمْ قَدِيمٌ مُسْتَمِرٌّ اكْتَسَبُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النَّحْل: 36]- ثُمَّ قَالَ- إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النَّحْل: 37] ،

فَلَيْسَ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ بَيْنَ: فَرِيقاً هَدى وَبَيْنَ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ تَحَاشِيًا عَنْ إِسْنَادِ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْنَدَ الْإِضْلَالَ إِلَى اللَّهِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا عُلِمَتْ وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الْأُسْلُوبِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَجُرِّدَ فِعْلُ حَقَّ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ غَيْرُ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ أُظْهِرَتْ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النَّحْل: 36] . وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ مُرَادٌ بِهِ التَّعْلِيلُ لِجُمْلَةِ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النَّحْل: 36] ، وَهَذَا شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي صَدْرِ جُمْلَةٍ عَقِبَ جُمْلَةٍ أُخْرَى أَنْ تَكُونَ لِلرَّبْطِ وَالتَّعْلِيلِ وَتُغْنِي غَنَاءَ الْفَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ، الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، لَمَّا سَمِعُوا الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، لَمْ يَطْلُبُوا النَّجَاةَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي ضَلَالِ الشِّرْكِ الْبَيِّنِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَوْحَوْا شَيَاطِينَهُمْ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِوَسْوَسَتِهِمْ، وَائْتَمَرُوا بِأَمْرِهِمْ، وَاتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَدُومُوا عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَجْلِ اتِّخَاذِهِمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَعَطَفَ جُمْلَةَ: وَيَحْسَبُونَ عَلَى جُمْلَةِ: اتَّخَذُوا فَكَانَ ضَلَالُهُمْ ضَلَالًا مُرَكَّبًا، إِذْ هُمْ قَدْ ضَلُّوا فِي الائتمار بِأَمْر أئمّة الْكفْر وألياء الشَّيَاطِينِ، وَلَمَّا سَمِعُوا دَاعِيَ الْهُدَى لَمْ يَتَفَكَّرُوا، وَأَهْمَلُوا النَّظَرَ، لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ شَكٌّ فِي أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِهِمُ الْحَاجَةُ إِلَى النَّظَرِ فِي صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْحُسْبَانُ الظَّنُّ، وَهُوَ هُنَا ظَنٌّ مُجَرَّدٌ عَنْ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَغْلَبُ مَا يُرَادُ بِالظَّنِّ وَمَا يُرَادِفُهُ فِي الْقُرْآنِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 31]

وَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَاعْتِبَارُهُمَا سَوَاءً فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ حَاصِلٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَبَرَيْنِ، فَوِلَايَةُ الشَّيَاطِينِ ضَلَالَةٌ، وَحُسْبَانُهُمْ ضَلَالَهُمْ هُدًى ضَلَالَةٌ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ خَطَأٍ أَوْ عَنْ عِنَادٍ، إِذْ لَا عُذْرَ لِلضَّالِّ فِي ضَلَالِهِ بِالْخَطَأِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الحقّ وَالْبَاطِل. [31] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 31] يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) إِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ، وَتَعْرِيفُ الْمُنَادَى بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ بِوَصْفِ كَوْنِهِمْ بَنِي آدَمَ مُتَابَعَةٌ لِلْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً [الْأَعْرَاف: 26] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ، مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: 32] مَنْزِلَةَ النَّتِيجَةِ مِنَ الْجَدَلِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْجَدَلِ فَصَارَتْ غَرَضًا بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى وَجُعِلَ الْجَدَلُ حُجَّةً عَلَى الدَّعْوَى، وَذَلِكَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْإِنْشَاءِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَنَتَائِجِهَا. فَالْمَقْصِدُ مِنْ قَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ لُزُومِ التَّعَرِّي فِي الْحَجِّ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ، وَعِنْدَ مَسَاجِدَ مُعَيَّنَةٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ وَتَقُولُ مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ فَكَانَ غَيْرُهُمْ يَطُوفُونَ عُرَاةً إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْحُمْسُ ثِيَابًا فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ، وَعَنْهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَصَلُوا إِلَى مِنًى طَرَحُوا ثِيَابَهُمْ وَأَتَوُا الْمَسْجِدَ عُرَاةً. وَرُوِيَ أَنَّ الْحُمْسَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِنَا وَلَا يَأْكُلَ إِذَا دَخَلَ أَرْضِنَا إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَرَبِ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا وَلَا يجد من يَسْتَأْجِرُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَإِمَّا أَنْ يَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى: اللَّقَى- بِفَتْحِ اللَّامِ- قَالَ شَاعِرُهُمْ: كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرَامُ وَفِي «الْكَشَّاف» ، عَن طَاوُوس: كَانَ أَحَدُهُمْ يَطُوفُ عُرْيَانًا وَيَدَعُ ثِيَابَهُ وَرَاءَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ طَافَ وَهِيَ عَلَيْهِ ضُرِبَ وَانْتُزِعَتْ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَعْبُدُ اللَّهَ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، وَقَدْ أبْطلهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَامَ حَجَّتِهِ سَنَةَ تِسْعٍ، أَنْ يُنَادِيَ فِي الْمَوْسِمِ: «أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» . وَعَنِ السُّدِّيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ التزموا تَحْرِيم اللّم وَالْوَدَكَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، وَلَا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا، وَلَا يَأْكُلُونَ دَسَمًا، وَنَسَبَ فِي «الْكَشَّافِ» ذَلِكَ إِلَى بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يَقُولُونَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا، وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ»

عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ كَانُوا إِذَا حَجُّوا حَرَّمُوا الشَّاةَ وَلَبَنَهَا وَسَمْنَهَا. وَفِيهِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْآيَةَ أَرَادَتْ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ لِلْوُجُوبِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا لِلْإِبَاحَةِ لَبَنِي آدَمَ الْمَاضِينَ وَالْحَاضِرِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَمْرِ أَوْ مِنْ حِكَايَتِهِ إِبْطَالُ التَّحْرِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِأَنَّهُمْ نَقَضُوا بِهِ مَا تَقَرَّرَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ، وَامْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ. فَإِنَّ أَصْلَهُ إِبْطَالُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَة: 2] بَعْدَ قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] وَقَدْ يَعْرِضُ لِمَا أَبْطَلَ بِهِ التَّحْرِيمَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا. فَقَدْ ظَهَرَ من السّياق والسّباق فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ اللِّبَاسُ فِي الْحَجِّ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ إِبْطَالًا لِتَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ إِبْطَالًا لِلتَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَكْلُ اللَّحْمِ وَالدَّسَمِ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْمِيمٌ أَيْ لَا تَخُصُّوا بَعْضَ الْمَسَاجِدِ بِالتَّعَرِّي مِثْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 29] . وَقَدْ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ مِمَّا مَضَى آنِفًا.

[سورة الأعراف (7) : آية 32]

وَالْإِسْرَافُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّيْءِ أَيْ: وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ بِكَثْرَةِ أَكْلِ اللُّحُومِ وَالدَّسَمَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ بِأَضْرَارٍ عَلَى الْبَدَنِ وَتَنْشَأُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ مُعْضِلَةٌ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَعَتْ أُصُولَ حِفْظِ الصِّحَّةِ مِنْ جَانِبِ الْغِذَاءِ فَالنَّهْيُ عَنِ السَّرَفِ نَهْيُ إِرْشَادٍ لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ بِقَرِينَةِ الْإِبَاحَةِ اللَّاحِقَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: 32] ، وَلِأَنَّ مِقْدَارَ الْإِسْرَافِ لَا يَنْضَبِطُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَلَكِنْ يُوكَلُ إِلَى تَدْبِيرِ النَّاسِ مَصَالِحَهُمْ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقِسْطِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الْأَعْرَاف: 29] فَإِنَّ تَرْكَ السَّرَفِ مِنْ مَعْنَى الْعَدْلِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ تَذْيِيلٌ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَة الْأَنْعَام. [32] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 32] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) اسْتِئْنَافٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْخِطَابَاتِ الْمَحْكِيَّةِ وَالْمُوَجَّهَةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ إِبْطَالِ مَزَاعِمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا حَرَّمُوهُ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَهِيَ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِإِبَاحَةِ التَّسَتُّرِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَابْتُدِئَ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِأَنَّ اللِّبَاسَ نعْمَة من لله. وَثني بِالْأَمر بِإِيجَاب التَّسَتُّرِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد، وَثلث بانكاران يُوجَدَ تَحْرِيمُ اللِّبَاسِ

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِـ قُلْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مَسُوقٌ لِلرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ وَالْمُحَاوَرَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ قُصِدَ بِهِ التَّهَكُّمُ إِذْ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ عِلْمٍ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْبَيَانُ وَالْإِفَادَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا [الْأَنْعَام: 148]- وَقَوْلِهِ- نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْعَام: 143] وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ: إِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ، وَتَعْرِيفُهَا بِأَنَّهَا أَخْرَجَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَوَصْفُ الرِّزْقِ بِالطَّيِّبَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّحْرِيمِ، فَالِاسْتِفْهَامُ يَؤُولُ أَيْضًا إِلَى إِنْكَارِ تَحْرِيمِهَا. وَلِوُضُوحِ انْتِفَاءِ تَحْرِيمِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَأَنَّ السُّؤَالَ سُؤَالُ عَالِمٍ لَا سُؤَالُ طَالِبِ عِلْمٍ، أُمِرَ السَّائِلُ بِأَنْ يُجِيبَ بِنَفْسِهِ سُؤَالَ نَفْسِهِ، فَعُقِّبَ مَا هُوَ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] ،- وَقَوْلُهُ- عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَإِ: 1، 2] فَآلَ السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ إِلَى خَبَرَيْنِ. وَضَمِيرُ: هِيَ عَائِدٌ إِلَى الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ وَصْفِ تَحْرِيمِ مَنْ حَرَّمَهَا، أَيِ: الزِّينَةُ وَالطَّيِّبَاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ حَلَالٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فَمَنْ حَرَّمَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَاللَّامُ فِي: لِلَّذِينَ آمَنُوا لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَالْمَعْنَى: مَا هِيَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهَا مُبَاحَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنَّمَا حَرَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَصْنَافٍ مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كُلِّهَا مِثْلَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَمَا فِي بُطُونِهَا، وَحَرَمَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَشْيَاءَ فِي أَوْقَاتٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِمَّا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ وَفِي مِنًى، وَمِنْ أَكْلِ اللُّحُومِ وَالْوَدَكِ وَالسَّمْنِ وَاللَّبَنِ، فَكَانَ الْفَوْزُ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ بِتَحْلِيلِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَحْدَهُ: بِرَفْعِ خَالِصَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ قَوْلِهِ: هِيَ أَيْ: هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَهُمْ خَالِصَةٌ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي الْعَشَرَةِ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ أَيْ هِيَ لَهُمُ الْآنَ حَالَ كَوْنِهَا خَالِصَةً فِي الْآخِرَةِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ تَكُونُ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي خالِصَةً عَائِدٌ إِلَى الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِعَيْنِهَا، أَيْ هِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ قَدِ انْقَرَضَتْ فِي الدُّنْيَا، فَمَعْنَى خَلَاصِهَا صَفَاؤُهَا، وَكَوْنُهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ: هُوَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَظْهَرُ صَفَائِهَا أَيْ خُلُوصِهَا مِنَ التَّبِعَاتِ الْمُنْجَرَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ تَبِعَاتُ تَحْرِيمِهَا، وَتَبِعَاتُ تَنَاوُلِ بَعْضِهَا مَعَ الْكُفْرِ بِالْمُنْعِمِ بِهَا، فَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا تُنَاوَلُوهَا فِي الدُّنْيَا تَنَاوَلُوهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْهَا فَيُعَاقِبُونَ عَلَى مَا تَنَاوَلُوهُ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ بِهَا، فَأَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ تَفْسِيرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِ: خالِصَةً أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ هَذِهِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ بِأَنَّهَا لَا تُعَقِّبُ الْمُتَمَتِّعِينَ بِهَا تَبِعَاتٍ وَلَا أَضْرَارًا، وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي خالِصَةً عَائِدًا إِلَى الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا لَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَهُمْ أَمْثَالُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِصَةً. وَمَعْنَى الْخَلَاصُ التَّمَحُّضُ وَهُوَ هُنَا التَّمَحُّضُ عَنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لَا زِينَةَ لَهُمْ وَلَا طَيِّبَاتٍ مِنَ الرِّزْقِ يَوْمَ الْقِيَامَة، أَي أنّها فِي الدُّنْيَا كَانَتْ لَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ.

وَمَعْنَى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ كَهَذا التّفصيل المتبدئ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً [الْأَعْرَاف: 26] الْآيَاتِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: 3] . وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ رَسُوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ بَيَّنَ فَسَادَ دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَّمَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ عِلْمًا كَامِلًا لَا يَخْتَلِطُ مَعَهُ الصَّالِحُ وَالْفَاسِدُ مِنَ الْأَعْمَالِ، إِذْ قَالَ: خُذُوا زِينَتَكُمْ، وَقَالَ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الْأَعْرَاف: 31] ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الْأَعْرَاف: 31] ، وَإِذْ عَاقَبَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا، فَخَذَلَهُمْ حَتَّى وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَرْعًا حَرَمَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتٍ كَثِيرَةٍ وَشَوَّهَ بِهِمْ بَيْنَ الْمَلَأِ فِي الْحَجِّ بِالْعَرَاءِ فَكَانُوا مَثَلَ سَوْءٍ ثُمَّ عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذْ وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا اسْتَعَدُّوا لِقَبُولِ دَعْوَةِ رَسُولِهِ فَاتَّبَعُوهُ، فَمَتَّعَهُمْ بِجَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مَحْرُومِينَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَشْيَاءَ فِيهَا ضُرٌّ عَلِمَهُ اللَّهُ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لَامُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُفَصِّلُ، أَيْ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا قَوْمٌ يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَصَّلَ الْآيَاتِ يَعْلَمُ أَنَّ تَفْصِيلَهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْآيَاتِ، أَيْ حَالِ كَوْنِهَا دَلَائِلَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ غَيْرَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَا تَكُونُ آيَاتٍ لَهُمْ إِذْ لَا يَفْقَهُونَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] ، أَيْ كَذَلِكَ التَّفْصِيلُ الَّذِي فَصَّلْتُهُ لَكُمْ هُنَا نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَيَتَجَدَّدُ تَفْصِيلُنَا إِيَّاهَا حِرْصًا عَلَى نَفْعِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

[سورة الأعراف (7) : آية 33]

وَالْمُرَادُ بِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَهِمُوا الْآيَاتِ وَشَكَرُوا عَلَيْهَا، وَالتَّعْرِيضُ بِجَهْلِ وَضَلَالِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، رَغْمَ مَا فُصِّلَ لَهُمْ من الْآيَات. [33] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) لَمَّا أَنْبَأَ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الْأَعْرَاف: 32] إِلَى آخِرِهِ، بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ حُرِمُوا مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَنْبَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى- قَبْلَ ذَلِكَ- وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: 28] بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْزُونَ ضَلَالَهُمْ فِي الدِّينِ إِلَى اللَّهِ، فَأَنْتَجَ ذَلِكَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَعْقَبَ مُجَادَلَتَهُمْ بِبَيَانِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ حقّا وهم ملتبسون بِهِ وَعَاكِفُونَ عَلَى فِعْلِهِ. فَالْقَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ مُفَادُهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا لَا مَا حَرَّمْتُمُوهُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، فَأَفَادَ إِبْطَالَ اعْتِقَادِهِمْ، ثُمَّ هُوَ يُفِيدُ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَنَّ مَا عَدَّهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهَا قَدْ تَلَبَّسُوا بِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَّ أَشْيَاءَ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِيهَا، عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ مَا عَيَّنَهُ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْيِينُ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ فَحَصَلَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ مِنْ جَانِبَيْ مَا فِي صِيغَةِ (إِنَّمَا) مِنْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ: إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (مَا- وَإِلَّا) ، فَأَفَادَ تَحْلِيلَ مَا زَعَمُوهُ حَرَامًا وَتَحْرِيمَ مَا اسْتَبَاحُوهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَمَا مَعَهَا.

وَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعْنَى الْفَاحِشَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [22] وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [الْأَعْرَاف: 28] . وَمَا ظَهَرَ مِنْها هُوَ مَا يُظْهِرُهُ النَّاسُ بَيْنَ قُرَنَائِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ مِثْلَ الْبِغَاءِ وَالْمُخَادَنَةِ، وَمَا بَطَنَ هُوَ مَا لَا يُظْهِرُهُ النَّاسُ مِثْلَ الْوَأْدِ وَالسَّرِقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [151] . وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَ هَذِهِ الْفَوَاحِشَ وَهِيَ مَفَاسِدُ قَبِيحَةٌ لَا يَشُكُّ أُولُو الْأَلْبَابِ، لَوْ سُئِلُوا، أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَوَاحِشِ: الزِّنَا، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمَا بَطَنَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ الزُّنَاةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَأَمَّا الْإِثْمُ فَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [219] . وَقَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [120] ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْفَوَاحِشِ قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّحْذِيرِ مِنْ عُمُومِ الذُّنُوبِ، فَهُوَ مَنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ قَبْلَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ، كَذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، إِلَّا أَنَّ الِاهْتِمَامَ الْحَاصِلَ بِالتَّخْصِيصِ مَعَ التَّقْدِيمِ أَقْوَى لِأَنَّ فِيهِ اهْتِمَامًا مِنْ جِهَتَيْنِ. وَأَمَّا الْبَغْيُ فَهُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ بِأَذَاهُمْ، وَالْكِبْرُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْبَغْيِ، فَمَا كَانَ بِوَجْهِ حَقٍّ فَلَا يُسَمَّى بَغْيًا وَلَكِنَّهُ أَذًى، قَالَ الله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: 16] وَقَدْ كَانَ الْبَغْيُ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ الْقَوِيُّ يَأْكُلُ الضَّعِيفَ، وَذُو الْبَأْسِ يُغِيرُ عَلَى أَنْعَامِ النَّاسِ وَيَقْتُلُ أَعْدَاءَهُ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْبَغْيِ أَنْ يَضْرِبُوا مَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ بِثِيَابِهِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحُمْسِ، وَأَنْ يُلْزِمُوهُ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ غَيْرَ طَعَامِ الْحُمْسِ، وَلَا يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِلْبَغْيِ مِثْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْبَغْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ. وَعَطْفُ الْبَغْيَ عَلَى الْإِثْمَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّ الْبَغْيَ كَانَ دَأْبَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ سَوَّارُ بْنُ الْمُضَرَّبِ السَّعْدِيُّ: وَأَنِّي لَا أَزَالُ أَخَا حُرُوبٍ ... إِذَا لَمْ أَجْنِ كُنْتُ مِجَنَّ جَانِ وَالْإِشْرَاكُ مَعْرُوفٌ وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مُنْذُ خَلَقَ الْبَشَرَ. وَمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ، وَ (مَا) مَفْعُولُ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ، وَالسُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ وَالْحُجَّةُ، وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ صِفَةٌ لِ سُلْطاناً، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ بِمَعْنَى مَعَهُ أَيْ لَمْ يُنَزِّلْ حُجَّةً مُصَاحِبَةً لَهُ، وَهِيَ مُصَاحَبَةُ الْحُجَّةِ لِلْمُدَّعِي وَهِيَ مُصَاحَبَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ [آل عمرَان: 75] أَيْ سُلْطَانًا عَلَيْهِ، أَيْ دَلِيلًا. وَضَمِيرُ (بِهِ) عَائِدٌ إِلَى (مَا) وَهُوَ الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ. فَمَعْنَى نَفْيِ تَنْزِيلِ الْحُجَّةِ عَلَى الشُّرَكَاءِ: نَفِيُ الْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الشَّرِكَةِ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ وَالْمُرَادُ وَصْفُهَا، مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أَيْ أَكْلُهَا. وَهَذِهِ الصِّلَةُ مُؤْذِنَةٌ بِتَخْطِئَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَنَفْيِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ يُشْتَبَهُ عَلَى النَّاسِ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأَصْنَامِ الْعِبَادَةَ، فَعَرَّفَ الشُّرَكَاءَ الْمَزْعُومِينَ تَعْرِيفًا لِطَرِيقِ الرَّسْمِ بِأَنَّ خَاصَّتَهُمْ: أَنْ لَا سُلْطَانَ عَلَى شَرِكَتِهِمْ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَكُلُّ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَاضِحَةٌ فِيهِ هَذِهِ الْخَاصَّةُ، فَإِنَّ الْمَوْصُولَ وَصِلَتَهُ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْوَصْفِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَلَا الْمَوْصُولَاتُ مَعْدُودَةٌ فِي صِيَغِ الْمَفَاهِيمِ، فَلَا يَتَّجِهُ مَا أَوْرَدَهُ الْفَخْرُ مِنْ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: هَذَا يُوهِمُ أَنَّ مِنْ بَيْنِ الشِّرْكِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا وَاحْتِيَاجُهُ إِلَى دَفْعِ هَذَا الْإِيهَامِ، وَلَا مَا قَفَّاهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الِانْتِصَافِ» مِنْ تَنْظِيرِ نَفْيِ السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

[سورة الأعراف (7) : آية 34]

وَلَا يَتَّجِهُ مَا نَحَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ إِجْرَاءِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: 28] . وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصُولَ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَوَرَّعُونَ عَنِ الطَّوَافِ فِي الثِّيَابِ، وَعَنْ أَكْلِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ فِي الْحَجِّ. وَهَذَا مِنْ نَاحِيَةِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 217] . [34] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ [الْأَعْرَاف: 31] وَبَيْنَ جُمْلَةِ: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَعْرَاف: 35] لَمَّا نَعَى اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ضَلَالَهُمْ وَتَمَرُّدَهُمْ. بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ، بِالْمُجَادَلَةِ وَالتَّوْبِيخِ وَإِظْهَارِ نَقَائِصِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، وَكَانَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَا يُقْلِعُ عَمَّا هُمْ فِيهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِنْذَارِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِعْذَارًا لَهُمْ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُؤَكِّدُ الْغَرَضَ مِنْ جُمْلَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: 4] وَتَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُشْرِكِينَ، بِأَنْ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى خِطَابِهِمْ أَو أَمر نبيئه بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ خِطَابُ وَعِيدٍ وَإِنْذَارٍ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بالْخبر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ وَعْدًا لَهُ بِالنَّصْرِ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، وَإِعْلَامًا لَهُ بِأَنَّ سُنَّتَهُ سُنَّةُ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِطَرِيقَةِ جَعْلِ سُنَّةِ أُمَّتِهِ كَسُنَّةِ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ. وَذِكْرُ عُمُومِ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ بِتَقْرِيبِ حُصُولِهِ كَمَا حَصَلَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِشْهَادِ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ فِي قِيَاسِ الْحَاضِرِ عَلَى الْمَاضِي فَيَكُونُ الْوَعِيدُ خَبَرًا مَعْضُودًا بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمرَان: 137] أَيْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجْلٌ فَأَنْتُمْ لَكُمْ أَجْلٌ سَيَحِينُ حِينُهُ. وَذِكْرُ الْأَجَلِ هُنَا، دُونَ أَنْ يَقُولَ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَذَابٌ أَوِ اسْتِئْصَالٌ، إِيقَاظًا لِعُقُولِهِمْ مِنْ أَنْ يَغُرَّهُمُ الْإِمْهَالُ فَيَحْسَبُوا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، كَمَا قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] ، وَطَمْأَنَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِمْهَالِ الظَّالِمِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا [يُوسُف: 110]- وَقَوْلِهِ- لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196، 197] . وَمَعْنَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ مُكَذِّبَةٍ إِمْهَالٌ فَحُذِفَ وَصْفُ أُمَّةٍ أَيْ: مُكَذِّبَةٍ. وَجُعِلَ لِذَلِكَ الزَّمَانِ نِهَايَةٌ وَهِيَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْإِمْهَالِ، فَالْأَجَلُ يُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ بِهِ انْتِهَاءُ الْإِمْهَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وُضِعَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ اسْتعْمل فِي الْآخِرَة عَلَى تَأْوِيلِ مُنْتَهَى الْمُدَّةِ أَوْ تَأْخِيرِ الْمُنْتَهَى وَشَاعَ الِاسْتِعْمَالَانِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يُقَالُ قَضَى الْأَجَلَ أَيِ الْمُدَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [الْقَصَص: 28] وَعَلَى الثَّانِي يُقَالُ: «دَنَا

أَجَلُ فُلَانٍ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا [الْأَنْعَام: 128] وَالْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَصِحُّ لِلِاسْتِعْمَالَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ الْمُدَّةَ، وَبِالثَّانِي الْوَقْتَ الْمُحَدَّدَ لِفِعْلٍ مَا. وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا الْجَمَاعَةُ الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِي عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ أَوْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ [الْأَعْرَاف: 33] إِلَخْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ، الْجَمَاعَةَ الَّتِي يَجْمَعُهَا نَسَبٌ أَوْ لُغَةٌ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ انْقِرَاضُهَا عَنْ بَكَرَةِ أَبِيهَا، وَلَمْ يَقَعْ فِي التَّارِيخِ انْقِرَاضُ إِحْدَاهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ أَنِ انْقَرَضَ غَالِبُ رِجَالِهَا بِحَوَادِثَ عَظِيمَةٍ مِثْلَ (طَسْمٍ) وَ (جَدِيسٍ) وَ (عَدْوَانَ) فَتَنْدَمِجُ بَقَايَاهَا فِي أُمَمٍ أُخْرَى مُجَاوِرَةٍ لَهَا فَلَا يُقَالُ لِأُمَّةٍ إِنَّ لَهَا أَجَلًا تَنْقَرِضُ فِيهِ، إِلَّا بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهَا أَنَّهَا مُرْسَلٌ إِلَيْهَا رَسُولٌ فَكَذَّبَتْهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَا صدق هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أرسل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ دَعْوَتَهُ فِيهِمْ وَلَهُمْ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ، وَتَلَاحَقَ الْمُؤْمِنُونَ أَفْوَاجًا، وَكَذَّبَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَتَبِعَهُمْ مَنْ حَوْلَهُمْ، وَأَمْهَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ بِحِكْمَتِهِ وبرحمة نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» فَلَطَفَ اللَّهُ بِهِمْ إِذْ جَعَلَهُمْ مُخْتَلِطِينَ مُؤْمِنَهُمْ وَمُشْرِكَهُمْ، ثُمَّ هَاجَرَ الْمُؤْمِنُونَ فَبَقِيَتْ مَكَّةُ دَارَ شِرْكٍ وَتَمَحَّضَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ، إِلَى أَنْ تَمَّ اسْتِئْصَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ بِقَتْلِ بَقِيَّةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ دَانَ الْعَرَبُ لِلْإِسْلَامِ وَانْقَرَضَ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَلَمْ تَقُمْ لِلشِّرْكِ قَائِمَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ عِنَايَتَهُ بِالْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ إِذْ كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ غَيْرَ مُتَمَحِّضَةٍ لِلشِّرْكِ، بَلْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ مِنْ أَوَّلِ يَوْم الدّعوة، وَمَا زَالُوا يَتَزَايَدُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، بِأَجَلِ الْأُمَّةِ، أَجَلَ أَفْرَادِهَا، وَهُوَ مُدَّةُ حَيَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالسِّيَاقِ، وَلِأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى الْأُمَّةِ يُعَيِّنُ

أَنَّهُ أَجَلُ مَجْمُوعِهَا لَا أَفْرَادِهَا، وَلَوْ أُرِيدَ آجَالُ الْأَفْرَادِ لَقَالَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ لِكُلِّ حَيٍّ أَجَلٌ. وَإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ فِي الْغَالِبِ، وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا، لِأَنَّ مَعَانِيَ الظُّرُوفِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَعَانِي الشَّرْطِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْلِيقِ، وَقَدِ اسْتُغْنِيَ بِفَاءِ تَفْرِيعِ عَامِلِ الظَّرْفِ هُنَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفَاءِ فِي جَوَابِ (إِذَا) لِظُهُورِ مَعْنَى الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيقِ بِمَجْمُوعِ الظَّرْفِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ، وَالْمُفَرَّعُ هُوَ: جاءَ أَجَلُهُمْ وَإِنَّمَا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ التَّقْدِيمِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ. وَالْمَجِيءُ مَجَازٌ فِي الْحُلُولِ الْمُقَدَّرِ لَهُ كَقَوْلِهِمْ جَاءَ الشِّتَاءُ. وَإِفْرَادُ الْأَجَلِ فِي قَوْله: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ مُرَاعًى فِيهِ الْجِنْسُ، الصَّادِقُ بِالْكَثِيرِ، بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَأُظْهِرَ لَفْظُ أَجَلٍ فِي قَوْله: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وَلَمْ يُكْتَفَ بِضَمِيرِهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا غير متوقّفة عَن سَمَاعِ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا بِحَيْثُ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَإِرْسَالُ الْكَلَامِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْبَلَاغَةِ. ويَسْتَأْخِرُونَ: ويَسْتَقْدِمُونَ بِمَعْنَى: يَتَأَخَّرُونَ وَيَتَقَدَّمُونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِمَا لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَجَابَ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَهُ بِتَأْخِيرٍ وَلَا يَتَعَجَّلُونَهُ بِتَقْدِيمٍ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَا يُؤَخَّرُونَ عَنْهُ، فَعَطْفُ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لِبَيَانِ أَنَّ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ وَصَرْفِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَرَضِ التَّهْدِيدِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي الشِّيصِ: وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي ... مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 إلى 36]

وَكُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَمْثِيلِ حَالَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ التَّخَلُّصَ مِنْ وَعِيدٍ أَوْ نَحْوِهِ بِهَيْئَةِ مَنِ احْتُبِسَ بِمَكَانٍ لَا يَسْتَطِيعُ تَجَاوُزَهُ إِلَى الْأَمَامِ وَلَا إِلَى الوراء. [35، 36] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 35 إِلَى 36] يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) يَجِيءُ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: مِنَ التَّأْوِيلِ، مَا تقدّم فِي الْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 26] . وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا بِهِ هُنَالِكَ يَبْدُو فِي هَذِهِ النَّظِيرَةِ الرَّابِعَةِ أَوْضَحَ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رُسُلٌ- وَقَوْلِهِ- يَقُصُّونَ تَقْتَضِي تَوَقُّعَ مَجِيءِ عِدَّةِ رُسُلٍ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بَعْدَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ الْخَاتِمِ لِلرُّسُلِ الْحَاشِرِ الْعَاقِبِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَذَلِكَ يَتَأَكَّدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ الْحَاضِرِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَيُرَجِّحُ أَنْ تكون هَذِه النّداآت الْأَرْبَعَةُ حِكَايَةً لِقَوْلٍ مُوَجَّهٍ إِلَى بَنِي آدَمَ الْأَوَّلِينَ الَّذِي أَوَّلُهُ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الْأَعْرَاف: 25] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَكَأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، هُوَ مُتَمَكِّنٌ لَهُمْ، وَمُتَحَصِّلٌ مِنْهُ لحاضري محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ مُنْذُ أَنْشَأَهُ» يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ النَّاسَ هَذَا الْخِطَابَ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيءٍ، مِنْ آدَمَ إِلَى هَلُمَّ جَرًّا، فَمَا مِنْ نَبِيءٍ أَوْ رَسُولٍ إِلَّا وَبَلَّغَهُ أُمَّتَهُ،

وَأَمَرَهَمْ بِأَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْهُمُ الْغَائِبَ، حَتَّى نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ على محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمَتْ أُمَّتُهُ أَنَّهَا مَشْمُولَةٌ فِي عُمُومِ بَنِي آدَمَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ كَالْمُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي نَظَائِرِهَا الثَّلَاثِ الْمَاضِيَةِ، فَشُدَّ بِهِ يَدَكَ. وَلَا تَعْبَأْ بِمَنْ حَرَدَكَ. فَأَمَّا إِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي زَمَنِ النُّزُولِ، بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَهُنَالِكَ يَتَعَيَّنُ صَرْفُ مَعْنَى الشَّرْطِ إِلَى مَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ غَالِبًا. كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ فَاتَكُمُ اتِّبَاعُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ فِيمَا مَضَى لَا يَفُتْكُمْ فِيمَا بَقِيَ، وَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ يَأْتِيَنَّكُمْ بِمَعْنَى يَدْعُوَنَّكُمْ، وَيَتَعَيَّنُ جَعْلُ جَمْعِ الرُّسُلِ عَلَى إِرَادَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ، تَعْظِيمًا لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: 37] أَيْ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نُوحًا، وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 105] وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ، وَالَّتِي بَعْدَهَا مُتَّصِلَتَا الْمَعْنَى بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: 4] الْآيَةَ اتِّصَالَ التَّفْصِيلِ بِإِجْمَالِهِ. أَكَّدَ بِهِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَفُتُونِهِ، وَأَرَاهُمْ بِهِ مَنَاهِجَ الرُّشْدِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى تَجَنُّبِ كَيْدِهِ، بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] وَأَنْبَأَهُمْ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ تَوَعَّدَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ فِيمَا حكى الله فِي قَوْلِهِ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] الْآيَةَ فَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَأَشْعَرَهُمْ بِقُوَّةِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: 27] عَسَى أَنْ يَتَّخِذُوا الْعُدَّةَ لِلنَّجَاةِ مِنْ مَخَالِبِ فِتْنَتِهِ، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ حِزْبِهِ وَدُعَاتِهِ الَّذِينَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ عَزَّزَ ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ أَعَانَهُمْ عَلَى الِاحْتِرَازِ

مِنَ الشَّيْطَانِ، بِأَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ قَوْمًا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ يُبَلِّغُونَهُمْ عَنِ اللَّهِ مَا فِيهِ مَنْجَاةٌ لَهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ، بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ فَأَوْصَاهُمْ بِتَصْدِيقِهِمْ وَالِامْتِثَالِ لَهُمْ. وإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِن) الشّرطيّة و (مَا) الزَّائِدَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى الشّرطية، واصطلح أئمّة رَسْمِ الْخَطِّ عَلَى كِتَابَتِهَا فِي صُورَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، رَعْيًا لِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْمِيمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعَ التَّأْكِيدِ عُمُومَ الشَّرْطِ مِثْلُ أَخَوَاتِهَا (مَهْمَا) وَ (أَيْنَمَا) ، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ اقْتَرَنَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ بِفِعْلِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي سُورَةَ مَرْيَمَ [26] لِأَنَّ التَّوْكِيدَ الشَّرْطِيَّ يُشْبِهُ الْقَسَمَ، وَهَذَا الِاقْتِرَانُ بِالنُّونِ غَالِبٌ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ تَوْكِيدًا لِلشَّرْطِ تَنَزَّلَتْ مِنْ أَدَاةِ الشَّرْطِ مَنْزِلَةَ جُزْءِ الْكَلِمَةِ. وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ أَيْ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِبَنِي آدَمَ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَرَقَّبُونَ أَنْ تَجِيئَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْجَهَلَةِ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَةَ الرُّسُلِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ، إِذْ قَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [هود: 27] وَمِثْلُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ كَذَّبُوا رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 94، 95] . وَمَعْنَى يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يَتْلُونَهَا وَيَحْكُونَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُتْبِعُونَ الْآيَةَ بِأُخْرَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُظْهِرُونَ وَكُلُّهَا مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ لِلْقَصِّ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَصِّ هِيَ أَنَّ أَصْلَ الْقَصَصِ إِتْبَاعُ الْحَدِيثِ مِنَ اقْتِصَاصِ أَثَرِ الْأَرْجُلِ وَاتِّبَاعِهِ لِتُعْرَفَ جِهَةُ الْمَاشِي، فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ [الزمر: 71] وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِلْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِهَا مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازَيْهِ.

الْآيَةُ أَصْلُهَا الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَآيَاتُ اللَّهِ الدَّلَائِلُ الَّتِي جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَى وُجُودِهِ، أَوْ عَلَى صِفَاتِهِ، أَوْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [39] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [37] ، وَمِنْهُ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى مُرَادِهِ لِلنَّاسِ، لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى نَظْمٍ يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ تَأْلِيفِ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ وَمَعَانٍ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِدْرَاكِ مِثْلِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى صَلَاحٍ لَمْ يَعْهَدْهُ النَّاسُ. فَيَدُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ، مِثْلَ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا قَارَنَتْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ تَحَدَّى بِهَا الرَّسُولُ الْمُرْسَلُ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ أُمَّتَهُ، فَهَذَا مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا آيَاتٍ، وَمَعْنَى إِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ مَا يَشْمَلُ الْمُعْجِزَاتِ غَيْرَ الْقَوْلِيَّةِ، مِثْلَ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِع محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ بِهَا الْعِنَادُ بِإِنْكَارِهَا وَجَحْدِهَا. وَجُمْلَةُ: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاتَّقَى مِنْكُمْ فَرِيقٌ وَكَذَّبَ فَرِيقٌ فَمَنِ اتَّقى إِلَخْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَرْطِيَّةٌ أَيْضًا، وَجَوَابُهَا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ فَمَنِ اتَّبَعَ رُسُلِي فَاتَّقَانِي وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَلَمَّا كَانَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ فَائِدَتُهُ لِإِصْلَاحِ النَّاسِ، لَا لِنَفْعِ الرُّسُلِ، عَدَلَ عَنْ جَعْلِ الْجَوَابِ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ إِلَى جَعْلِهِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحَ. إِيمَاءً إِلَى حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَتَحْرِيضًا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ لِلْأُمَمِ لَا لِلرُّسُلِ، كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] ، أَيْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مِنْ شَيْءٍ

مِنْ ذَلِكَ، فَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ الْمَنْفِيَّانِ هُمَا مَا يُوجِبُهُ الْعِقَابُ، وَقَدْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ مُطْلَقًا بِمِقْدَارِ قُوَّةِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، وَهَذَا مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يُونُس: 62- 64] . وَقَدْ نُفِيَ الْخَوْفُ نَفْيَ الْجِنْسِ بِلَا النَّافِيَةِ لَهُ، وَجِيءَ بِاسْمِهَا مَرْفُوعًا لِأَنَّ الرَّفْعَ يُسَاوِي الْبِنَاءَ عَلَى الْفَتْحِ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُتَوَهَّمُ فِي نَفْيِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْفَرْدِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ فُتِحَ مِثْلُهُ لَصَحَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ وَلَا مَخَافَةُ وَلَا سَئَامَةُ» فَقَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَبِالْفَتْحِ. وَ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُلَازَمَةُ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَنَالُهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ عَنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، بِأَنْ يُقَالَ وَلَا حُزْنٌ، إِلَى الْجُمْلَةِ: لِيَتَأَتَّى بِذَلِكَ بِنَاءُ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى ضَمِيرِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُزْنَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَإِنَّ بِنَاءَ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ يُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، نَحْوَ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا، فَإِنَّهُ نَفْيُ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ كَوْنِ الْقَوْلِ وَاقِعًا مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ بَيْتُ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، (وَهُوَ لِلْمُتَنَبِّي) : وَمَا أَنَا أَسْقَمْتُ جِسْمِي بِهِ ... وَلَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارًا فَيُفِيدُ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْزَنُونَ إِفَادَةً بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، لِيَكُونَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْخَبَرِ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 37 إلى 39]

وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ. وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنْكُمْ وَكَذَّبُوا. وَالِاسْتِكْبَارُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَهُوَ أَنْ يُعِدَّ الْمَرْءُ نَفْسَهُ كَبِيرًا أَيْ عَظِيمًا وَمَا هُوَ بِهِ، فالسّين وَالتَّاء لعد وَالْحُسْبَانِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يُؤْذِنُ بِإِفْرَاطِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ عَدَوْا قَدْرَهُمْ. وَضُمِّنَ الِاسْتِكْبَارُ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ. فَعُلِّقَ بِهِ ضَمِيرُ الْآيَاتِ. وَالْمَعْنَى: وَاسْتَكْبَرُوا فَأَعْرَضُوا عَنْهَا. وَأَفَادَ تَحْقِيقُ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ بِطَرِيقِ قَصْرِ مُلَازَمَةِ النَّارِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ لِأَنَّ لَفْظَ أَصْحَابُ مُؤْذِنٌ بِالْمُلَازَمَةِ. وَبِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. [37- 39] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 37 الى 39] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ. الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهَذِهِ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ لِتُبَيِّنَ أَنَّ صِفَاتِ الضَّلَالِ، الَّتِي أُبْهِمَ أَصْحَابهَا، هِيَ جافة بِالْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ

بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ وَبَعْضَ صِفَاتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: 27] وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ لِبَنِي آدَمَ مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنْ يَتَّبِعُوا مَنْ يَجِيئُهُمْ مِنَ الرُّسُلِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِآيَاتِهِ لِيَتَّقُوا وَيُصْلِحُوا، وَوَعَدَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَهُم بيني الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ بِأَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ النَّارِ، فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ وَبَصَّرَهُمْ بِالْعَوَاقِبِ، فَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالْفَوَاحِشِ، أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُهُ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ظُلْمًا عَظِيمًا حَتَّى يُسْأَلَ عَمَّنْ هُوَ أَظْلَمُ مِنْهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى [الْأَنْعَام: 144] إِلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 36] وَجُمْلَةِ: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ على تركيب: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [114] ، وَأَنَّ الْاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ. وَالِافْتِرَاءُ وَالْكَذِبُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَلِهَذِهِ الْآيَةِ اتِّصَالٌ بِآيَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: 4] مِنْ حَيْثُ مَا فِيهَا مِنَ التَّهْدِيدِ بِوَعِيدِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَتَفْظِيعِ أَهْوَالِهِ. وَ (مَنْ) اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَهْوِيلِ ظُلْمِ هَذَا الْفَرِيقِ، المعبّر عَنهُ بِمن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَ (مَنِ) الثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ الصِّلَةُ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الظُّلْمَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقٍّ، وَأَعْظَمُ الْحُقُوقِ هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِخْفَافِ بِصَاحِبِهِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُكَذِّبَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ قِبَلِهِ، أَوْ بِأَنْ يكذب عَلَيْهِ قيبلّغ عَنْهُ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ عَطَّلَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ إِبْطَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ، وَجِهَةِ إِيهَامِ النَّاسِ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُمْ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ.

وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَ بهَا محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا [الْأَعْرَاف: 28] . وَ (أَوْ) ظَاهِرُهَا التَّقْسِيمُ فَيَكُونُ الْأَظْلَمُ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَهُمْ سَادَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكُبَرَاؤُهُمْ، الَّذِينَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَنَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَأَبِي كَبْشَةَ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمَا، وَأَكْثَرُ هَذَا الْفَرِيقِ قَدِ انْقَرَضُوا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَفَرِيقٌ كَذَّبُوا بِآيَاتٍ وَلَمْ يَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ وَهُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ مُسَاوٍ لَهُ فِي الظُّلْمِ وَلَيْسَ أَظْلَمَ مِنْهُ، فَأَمَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِمَّنْ لَعَلَّهُمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ شَرَعُوا لِلْمُشْرِكِينَ أُمُورًا مِنَ الضَّلَالَاتِ، وكذّبوا محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أَشَدُّ ظُلْمًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا لَا يَخْلُونَ عَنِ الِانْتِسَابِ إِلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَجَامِعِينَ لِلْخَصْلَتَيْنِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ كَوْنِهِمْ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ هُمْ أَظْلَمُ النَّاسِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 93] ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ هُوَ أَظْلَمُ مِنْ كُلِّ مَنِ انْفَرَدَ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ زِيَادَةً فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ شِدَّةِ وَصْفٍ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَيَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ أَظْلَمُ النَّاسِ هُوَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْأَمْرَيْنِ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَيَكُونُ صَادِقًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ جَمَاعَتَهُمْ لَا تَخْلُو عَن ذَلِك. شَيْء بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَذَابُ بِنَاءً عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ.

وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الْآيَةَ، لِأَنَّ التَّهْوِيلَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ يَسْتَرْعِي السَّامِعَ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا سَيُلَاقُونَهُ مِنَ اللَّهِ الَّذِي افْتَرَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ عَطْفَ بَيَانٍ لِجُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 36] أَيْ خَالِدُونَ الْخُلُودَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ. وَتَكْمِلَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ جُمْلَةُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ الْآيَةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَمَادَّةُ النَّيْلِ وَالنَّوَالِ وَرَدَتْ وَاوِيَّةَ الْعَيْنِ وَيَائِيَّةَ الْعَيْنِ مُخْتَلِطَتَيْنِ فِي دَوَاوِينِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مُفْصِحَةٍ عَنْ تَوْزِيعِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا بَيْنَ الْوَاوِيِّ وَالْيَائِيِّ، وَيَظْهَرُ أَنَّ أَكْثَرَ مَعَانِي الْمَادَّتَيْنِ مُتَرَادِفَةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ نَشَأَ مِنَ الْقَلْبِ فِي بَعْضِ التَّصَارِيفِ أَوْ مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، وَتَقُولُ نُلْتُ- بِضَمِّ النُّونِ- مِنْ نَالَ يَنُولُ، وَتَقُولُ نِلْتُ- بِكَسْرِ النُّونِ- مِنْ نَالَ يُنِيلُ، وَأَصْلُ النَّيْلِ إِصَابَةُ الْإِنْسَانِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِيَدِهِ، وَنَوَّلَهُ أَعْطَاهُ فَنَالَ، فَالْأَصْلُ أَنْ تَقُولَ نَالَ فُلَانٌ كَسْبًا، وَقَدْ جَاءَ هُنَا بِعَكْسِ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّصِيبَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ مُنَوَّلًا لَا نَائِلًا، لِأَنَّ النَّصِيبَ لَا يُحَصِّلُ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، بَلْ بِالْعَكْسِ: الَّذِينَ افْتَرَوْا يُحَصِّلُونَهُ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الْحَج: 37]- وَقَوْلِهِ- سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ [الْأَعْرَاف: 152] ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِمَّا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي مَعْنَى مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً مَبْنِيَّةً عَلَى عَكْسِ التَّشْبِيهِ بِأَنْ شَبَّهَ النَّصِيبَ بِشَخْصٍ طَالِبٍ طَلِبَةً فَنَالَهَا، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى هَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنَالُهُمْ شَيْءٌ يَكْرَهُونَهُ، وَهُوَ يَطْلُبُهُمْ وَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، كَمَا يَطْلُبُ الْعَدُوُّ عَدُوَّهُ، فَقَدْ صَارَ النَّصِيبُ مِنَ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يُحَصِّلَ الْفَرِيقَ

الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ وَيُصَادِفَهُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَلْبِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عَكْسِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِ رُؤْبَةَ: وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ وَقَوْلِهِمْ: «عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ» . وَالنَّصِيبُ الْحَظُّ الصَّائِرُ لِأَحَدِ الْمُتَقَاسِمِينَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [202] ، وَقَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [7] . وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مُسْتَعْمَلًا حَقِيقَةً فَهُوَ الْقُرْآنُ، وَنَصِيبُهُمْ مِنْهُ هُوَ نَصِيبُهُمْ مِنْ وَعِيدِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 36] ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَجَازًا فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: 38] أَيِ الْكِتَابُ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ إِحْقَاقِ كَلِمَةِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، فَنَصِيبُهُمْ مِنْهُ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ قَدَّرَهُ لَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا سَبَقَ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ مِنَ الْإِمْهَالِ وَذَلِكَ هُوَ تَأْجِيلُهُمْ إِلَى أَجَلٍ أَرَادَهُ ثُمَّ اسْتِئْصَالُهُمْ بَعْدَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ آنِفًا بِقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الْأَعْرَاف: 34] . وَحَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّصِيبَ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْإِمْهَالِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ وَلَا أَحْسَبُ الْحَادِيَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِيَكُونَ نَوَالُ النَّصِيبِ حَاصِلًا فِي مُدَّةٍ مُمْتَدَّةٍ لِيَكُونَ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لِتَوَفِّيهِمْ غَايَةً لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ النَّصِيبِ، اسْتِبْقَاءً لِمَعْنَى الْغَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي (حَتَّى) . وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ، فَإِنَّ حَتَّى الِابْتِدَائِيَّةَ لَا تُفِيدُ مِنَ الْغَايَةِ مَا تُفِيدُهُ الْعَاطِفَةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْمَعْنَى: إِمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَيُصِيبُهُ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى قَدْرِ عُتُوِّهِ فِي تَكْذِيبِهِ وَإِعْرَاضِهِ، فَنَصِيبُهُ هُوَ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ

عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مِقْدَارِ عَذَابِهِ، وَإِمَّا أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُشْرِكِينَ سَيُصِيبُهُمْ مَا قُدِّرَ لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْآيَاتِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَلَا يَغُرَنَّهُمْ تَأْخِيرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُصِيبُهُمْ لَا مَحَالَةَ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، فَنَصِيبُهُمْ هُوَ صِفَةُ عَذَابِهِمْ مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ الْعَذَابِ الَّتِي عُذِّبَتْ بِهَا الْأُمَمُ. وَجُمْلَةُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فَالْوَقْتُ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ هُوَ مَبْدَأُ وَصْفِ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْكِتَابِ حِينَ يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْإِمْهَالُ الَّذِي لَقُوهُ فِي الدُّنْيَا. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فَتُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، فَالْمَعْنَى: فَ إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا إِلَخ، و (حتّى) الِابْتِدَائِيَّةُ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ فَالْغَايَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا هِيَ غَايَةُ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُخْبِرُ، وَلَيْسَتْ غَايَةَ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحَتَّى، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُلْتَزَمُ إِذَا كَانَتْ حَتَّى عَاطِفَةً، وَلَا تُفِيدُ إِلَّا السَّبَبِيَّةَ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَهِيَ لَا تُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ تَسَبُّبِ مَا قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا، قَالَ الرَّضِيُّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَإِنَّمَا وَجَبَ مَعَ الرَّفْعِ السَّبَبِيَّةُ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ اللَّفْظِيَّ لَمَّا زَالَ بِسَبَبِ الِاسْتِئْنَافِ شُرِطَ السَّبَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِلِاتِّصَالِ الْمَعْنَوِيِّ، جَبْرًا لِمَا فَاتَ مِنَ الِاتِّصَالِ اللَّفْظِيِّ، قَالَ عَمْرُو بْنُ شَأْسٍ: نَذُودُ الْمُلُوكَ عَنْكُمُ وَتَذُودُنَا ... وَلَا صُلْحَ حَتَّى تَضْبَعُونَ وَنَضْبَعَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ فِي سُورَة الْأَنْعَام [31] و (حتّى) الِابْتِدَائِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا أَهَمُّ بِالِاعْتِنَاءِ لِلْإِلْقَاءِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ أَجْدَى فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهَذَا الْكَلَامُ الْوَاقِعُ هُنَا بَعْدَ (حَتَّى) فِيهِ تَهْوِيلُ مَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَهُوَ أَدْخَلُ فِي تَهْدِيدِهِمْ وَتَرْوِيعِهِمْ وَمَوْعِظَتِهِمْ، مِنَ الْوَعِيدِ الْمُتَعَارَفِ، وَقَدْ هَدَّدَ الْقُرْآنُ الْمُشْرِكِينَ

بِشَدَائِدِ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْهَبُونَهُ. وَالرُّسُلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَة: 11]- وَقَالَ- وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الْأَنْفَال: 50] . وَجُمْلَةُ: يَتَوَفَّوْنَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رُسُلُنا وَهِيَ حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِعَامِلِهَا، كَقَوْلِهِ: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: 61، 62] أَيْ رَسُولٌ لِأُبَلِّغَكُمْ وَلِأَنْصَحَ لَكُمْ. وَالتَّوَفِّي نَزْعُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [55] وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَلَا جَدْوَى فِي حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، مِمَّا تَرَدَّدَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، إِلَّا أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَعْنَى الْغَايَةِ لِحَرْفِ (حَتَّى) فَتَوَفِّي الرُّسُلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَقْتَ أَنْ يَتَوَفَّوْهُمْ جَمِيعًا، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّصِيبِ مِنَ الْكِتَابِ الِاسْتِئْصَالَ، أَيْ حِينَ تُبْعَثُ طَوَائِفُ الْمَلَائِكَةِ لِإِهْلَاكِ جَمِيعِ أُمَّةِ الشِّرْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد حَتَّى يَتَوَفَّوْنَ آحَادَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّصِيبِ مِنَ الْكِتَابِ وَعِيدَ الْعَذَابِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْزِيعُ أَيْ قَالَ كُلُّ مَلَكٍ لِمَنْ وُكِّلَ بِتَوَفِّيهِ، عَلَى طَرِيقَةِ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. وَقَدْ حُكِيَ كَلَامُ الرُّسُلِ مَعَهُمْ وَجَوَابُهُمْ إِيَّاهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ وُجُودَ ظَرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّأْيِيسِ. وَ (مَا) الْوَاقِعَةُ بَعْدَ أَيْنَ مَوْصُولَةٌ، يَعْنِي: أَيْنَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَكُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيَرُدُّونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوكُمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَشْهَدُونَ الْعَذَابَ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، فَقَدْ جَاءَ

فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ الْمَيِّتَ يَرَى مَقْعَدَهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ. وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَرْوَاحِ الَّتِي بِهَا الْإِدْرَاكُ وَهُوَ قَبْلَ فِتْنَةِ الْقَبْرِ. وَقَوْلُهُمْ: ضَلُّوا عَنَّا أَيْ أَتْلَفُوا مَوَاقِعَنَا وَأَضَاعُونَا فَلَمْ يَحْضُرُوا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنَ النَّفْعِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ أَذْهَبَهَمْ مَا أَذْهَبَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْهُمْ مَا أَبْعَدَهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا سَبَبَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ حِينَ يَرَوْنَ إِهَانَةَ أَصْنَامِهِمْ وَتَعْذِيبَ كُبَرَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوا فِي جَوَابِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ، وَقَالَ فِي الْأُخْرَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَام: 24] . وَالشَّهَادَةُ هُنَا شَهَادَةٌ ضِمْنِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْفُوا أَنْ يَكُونُوا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْهُمْ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ، لَيْسَ هُوَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَالْأَقْوَالُ قَبْلَهُ مُسْنَدَةٌ إِلَى ضَمَائِرِ الْجَمْعِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ضَمِيرَ (قَالَ) عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ استيناف كَلَامٍ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَوَّلِ قُدُومِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ وَفَاةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَيَكُونُ خِطَابًا صَدَرَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ بِكَلَامٍ سَمِعُوهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ يُوقِنُونَ مِنْهُ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ إِلَى النَّارِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا يَرَوْنَ فِيهِ مَقْعَدَهُمْ مِنَ النَّارِ عُقُوبَةً خَاصَّةً بِهِمْ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْوَعِيدِ فَيَتَأَخَّرُ تَنْجِيزُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ بِهِ مَا يَصْدُرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُكْمٍ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ النَّارِ مَعَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَذَكَرَ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالِ قَبْضِ

أَرْوَاحِهِمْ إِكْمَالًا لِذِكْرِ حَالِ مَصِيرِهِمْ، وَتَخَلُّصًا إِلَى وَصْفِ مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَلِذِكْرِ أَحْوَالِ غَيْرِهِمْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْقَوْلِ، بِصِيغَةِ الْمَاضِي: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ فِي مَوْضِعِ عَطْفِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أَيْ: قَالَ اللَّهُ فِيمَا كَتَبَهُ لَهُمُ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْأَعْرَاف: 34] أَيْ أَمْثَالِكُمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْأُمَمُ جَمْعُ الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ. وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي أُمَمٍ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُكْمٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ دَخَلُوا النَّارَ فِي وَسَطِهِمْ أَمْ دَخَلُوا قَبْلَهُمْ أَوْ بَعْدَهُمْ، وَهِيَ بِمَعْنَى (مَعَ) فِي تَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَنُقِلَ عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ نَظَّرَ (فِي) الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِفِي الَّتِي فِي قَوْلِ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ: إِنْ تَكُنْ عَنْ حُسْنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو ... كَا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا وَمَعْنَى: قَدْ خَلَتْ قَدْ مَضَتْ وَانْقَرَضَتْ قَبْلَكُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [134] ، يَعْنِي: أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا حَاقَ بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إِبْرَاهِيم: 45] وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ فِي عَذَابِ النَّارِ سَوَاءٌ. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

جُمْلَةُ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِوَصْفِ أَحْوَالِهِمْ فِي النَّارِ، وَتَفْظِيعِهَا لِلسَّامِعِ، لِيَتَّعِظَ أمثالهم ويستبشر الْمُؤمنِينَ بِالسَّلَامَةِ مِمَّا أَصَابَهُمْ فَتَكُونُ جُمْلَةُ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا دَاخِلَةً فِي حيّز الاستيناف. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها إِلَخْ. عَلَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا مُرْتَبِطَةً بِجُمْلَةٍ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَيَدْخُلُونَ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: كُلَّما ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كُلَّ وَقْتِ دُخُولِ أُمَّةٍ لَعَنَتْ أُخْتَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: لَعَنَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ أُخْتَهَا فِي كُلِّ أَوْقَاتِ دُخُولِ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ، فَتُفِيدُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ. وأُمَّةٌ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ، فَتُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كُلَّ أُمَّةٍ دَخَلَتْ، وَكَذَلِكَ: أُخْتَها نَكِرَةٌ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ نَكِرَةٍ فَلَا يَتَعَرَّفُ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ أَيْضًا، أَيْ كُلَّ أُمَّةٍ تَدْخُلُ تَلْعَنُ كُلَّ أُخْتٍ لَهَا، وَالْمُرَادُ بِأُخْتِهَا الْمُمَاثِلَةُ لَهَا فِي الدِّينِ الَّذِي أَوْجَبَ لَهَا الدُّخُولَ فِي النَّارِ، كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الْأُمَّةُ أُخْتُ تِلْكَ الْأُمَّةِ إِذَا اشْتَرَكَتَا فِي النَّسَبِ، فَيُقَالُ: بَكْرٌ وَأُخْتُهَا تَغَلِبُ، وَمِنْهُ قَول أبي الطّبيب: وَكَطَسْمٍ وَأُخْتِهَا فِي الْبِعَادِ يُرِيدُ: كَطَسْمٍ وَجَدِيسٍ. وَالْمَقَامُ يُعَيِّنَ جِهَةَ الْأُخُوَّةِ، وَسَبَبُ اللَّعْنِ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ إِنَّمَا تَدْخُلُ النَّارَ بَعْدَ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ، وَالْأَمْرِ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ

أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ هُوَ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ، وَبِذَلِكَ تَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهِيَةُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَكْرَهُ الضَّلَالَ وَالْبَاطِلَ بَعْدَ تَبَيُّنِهِ، وَلِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِك كَانَت مجلية الْعِقَابِ لَهُمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ كَرَاهِيَةً لِدِينِهِمْ، فَإِذَا دَخَلُوا النَّارَ فَرَأَوْا الْأُمَمَ الَّتِي أُدْخِلَتِ النَّارَ قَبْلَهُمْ عَلِمُوا، بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعِلْمِ، أَنَّهُمْ أُدْخِلُوا النَّارَ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَلَعَنُوهُمْ لِكَرَاهِيَةِ دِينِهِمْ وَمَنِ اتَّبَعُوهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأُخْتِهَا أَسْلَافُهَا الَّذِينَ أَضَلُّوهَا. وَأَفَادَتْ كُلَّما لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيتِ: أَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ يَقَعُ عِنْدَ دُخُولِ الْأُمَّةِ النَّارَ، فَيَتَعَيَّنُ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَنَتْ أُخْتَهَا السَّابِقَةَ إِيَّاهَا فِي الدُّخُولِ فِي النَّارِ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ النَّارَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ لَا تَلْعَنُ أُخْتَهَا، وَيُعْلَمُ أَنَّهَا تَلْعَنُ مَنْ يَدْخُلُ بَعْدَهَا الثَّانِيَةَ، وَمَنْ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَوْ تَرُدُّ اللَّعْنَ عَلَى كُلِّ أُخْتٍ لَاعِنَةٍ. وَالْمَعْنَى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَعَنَتْ أُخْتَها. وَ (حَتَّى) فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا ابْتِدَائِيَّةٌ، فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، أَيْ تَسَبُّبِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا فِي مَضْمُونِ مَا بَعْدَهَا، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَرَتِّبَةً فِي الْمَعْنَى عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ إِلَخْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَرَتِّبَةً عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. وادَّارَكُوا أَصْلُهُ تَدَارَكُوا فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِيَتَأَتَّى إِدْغَامُهَا فِي الدَّالِ لِلتَّخْفِيفِ، وَسُكِّنَتْ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِدْغَامِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ، لِثِقَلٍ وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِأَجْلِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ، وَهَذَا قَلْبٌ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحْسَنٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ قَلْبِ التَّاءِ فِي ادَّانَ وَازْدَادَ وَادَّكَرَ: وَمَعْنَاهُ: أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَصِيغَ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَزْنُ التَّفَاعُلِ، وَالْمَعْنَى: تَلَاحَقُوا وَاجْتَمَعُوا فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ادَّارَكُوا لِتَحْقِيقِ اسْتِيعَابِ الِاجْتِمَاعِ، أَيْ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَتْ أُمَمُ الضَّلَالِ كُلُّهَا.

وَالْمُرَادُ: بِ أُخْراهُمْ: الْآخِرَةُ فِي الرُّتْبَةِ، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَالرَّعِيَّةُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ فِي عَصْرٍ لَا تَخْلُو مِنْ قَادَةٍ وَرَعَاعٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأُولَى: الْأُولَى فِي الْمَرْتَبَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهُمُ الْقَادَةُ وَالْمَتْبُوعُونَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَيْضًا، فَالْأُخْرَى وَالْأُولَى هُنَا صِفَتَانِ جَرَتَا عَلَى مَوْصُوفَيْنِ مَحْذُوفَيْنِ، أَيْ أُخْرَى الطَّوَائِفِ لِأُولَاهُمْ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأُخْرَى الْمُتَأَخِّرَةَ فِي الزَّمَانِ، وَبِالْأُولَى أَسْلَافَهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 23] . وَهَذَا لَا يُلَائِمُ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ. وَاللَّامُ فِي: لِأُولاهُمْ لَامُ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَتِ اللَّامَ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْقَوْلِ، لِأَنَّ قَوْلَ الطَّائِفَةِ الْأَخِيرَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِصَرِيحِ قَوْلِهِمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا إِلَخْ، لَا إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى، فَهِيَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: 11] . وَالضِّعْفُ- بِكَسْرِ الضَّادِ- الْمِثْلُ لِمِقْدَارِ الشَّيْءِ، وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنًى نِسْبِيٍّ يَقْتَضِي وُجُودَ مَعْنًى آخَرَ، كَالزَّوْجِ وَالنِّصْفِ، وَيُخْتَصُّ بِالْمِقْدَارِ وَالْعَدَدِ، هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَة والزّجاج وأئمّة اللُّغَةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ فِي مُطْلَقِ التَّكْثِيرِ وَذَلِكَ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِقْدَارِ، مِثْلَ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْفرْقَان: 69]- وَقَوْلِهِ- يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: 30] أَرَادَ الْكَثْرَةَ الْقَوِيَّةَ فَقَوْلُهُمْ هُنَا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أَيْ أَعْطِهِمْ عَذَابًا هُوَ ضِعْفُ عَذَابٍ آخَرَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ، آتَاهُمْ عَذَابًا، وَهُمْ سَأَلُوا زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِيهِ تَبْلُغُ مَا يُعَادِلُ قُوَّتَهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا وُصِفَ بِضِعْفٍ عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ لِعَذَابٍ حَصَلَ قَبْلَهُ إِذْ لَا تَقُولُ: أَكْرَمْتُ فُلَانَ ضِعْفًا، إِلَّا إِذَا كَانَ إِكْرَامُكَ فِي مُقَابَلَةِ إِكْرَامٍ آخَرَ، فَأَنْتَ تَزِيدُهُ، فَهُمْ سَأَلُوا لَهُمْ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الضَّلَالَ سَبَبُ الْعَذَابِ، فَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِينَ شَرَعُوا الضَّلَالَ هُمْ أَوْلَى بِعُقُوبَةٍ أَشَدَّ مِنْ عُقُوبَةِ الَّذِينَ تَقَلَّدُوهُ وَاتَّبَعُوهُمْ، كَمَا

قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31] . وَفِعْلُ: قالَ حِكَايَةٌ لِجَوَابِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِقَادَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ فُصِلَ وَلَمْ يُعْطَفْ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: لِكُلٍّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ، أَوْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ ضِعْفٌ، أَيْ زِيَادَةُ عَذَابٍ مِثْلُ الْعَذَابِ الَّذِي هِيَ مُعَذَّبَةٌ أَوَّلَ الْأَمْرِ، فَأَمَّا مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ لِلْقَادَةِ فَلِأَنَّهُمْ سَنُّوا الضَّلَالَ أَوْ أَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ وَذَبُّوا عَنْهُ بِالتَّمْوِيهِ وَالْمُغَالَطَاتِ فَأَضَلُّوا، وَأَمَّا مُضَاعَفَتُهُ لِلْأَتْبَاعِ فَلِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بِإِضْلَالِ قَادَتِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ بِطَاعَتِهِمُ الْعَمْيَاءِ لِقَادَتِهِمْ، وَشُكْرِهِمْ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يَرْسُمُونَ لَهُمْ، وَإِعْطَائِهِمْ إِيَّاهُمُ الْأَمْوَالَ وَالرُّشَى، يَزِيدُونَهُمْ طُغْيَانًا وَجَرَاءَةً عَلَى الْإِضْلَالِ وَيُغْرُونَهُمْ بِالِازْدِيَادِ مِنْهُ. وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ لِرَفْعِ مَا تُوهِمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَادَةِ وَالْأَتْبَاعِ فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ: أَنَّ التَّغْلِيظَ عَلَى الْأَتْبَاعِ بِلَا مُوجِبٍ، لِأَنَّهُمْ لَوْلَا الْقَادَةُ لَمَا ضَلُّوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْحَقَائِقَ وَلَا تَشْعُرُونَ بِخَفَايَا الْمَعَانِي، فَلِذَلِكَ ظَنَنْتُمْ أَنَّ مُوجِبَ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ دُونَكُمْ هُوَ أَنَّهُمْ عَلَّمُوكُمُ الضَّلَالَ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ لَاطَّلَعْتُمْ عَلَى مَا كَانَ لِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الْأَثَرِ فِي إِغْرَائِهِمْ بِالِازْدِيَادِ مِنَ الْإِضْلَالِ. وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَعْلَمُونَ سَبَبَ تَضْعِيفِ الْعَذَابِ لِكُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، يَعْنِي لَا تَعْلَمُونَ سَبَبَ تَضْعِيفِهِ لَكُمْ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ عَلِمُوا سَبَبَ تَضْعِيفِهِ لِلَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَعْلَمُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ الْأُخْرَى، وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَيَكُونُ

بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ خِطَابًا لِسَامِعِي الْقُرْآنِ، أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لِكُلٍّ ضِعْفًا فَلِذَلِكَ سَأَلُوا التَّغْلِيظَ عَلَى الْقَادَةِ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّغْلِيظَ قَدْ سُلِّطَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ عَلَى جُمْلَةِ: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُحَاوَرَةِ ابْتِدَاءً فَلِذَلِكَ لَمْ تُفْصَلِ الْجُمْلَةُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، مُرَتَّبَةٌ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلٍّ ضِعْفٌ حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ. وَ (مَا) نَافِيَةٌ. وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْفَضْلِ، لِأَنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سَبَبٌ لِلْعِلْمِ بِأَنْ لَا مَزِيَّةَ لِأُخْرَاهُمْ عَلَيْهِمْ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَذَابًا أَقَلَّ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا كَانَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ فَمَا كَانَ لَكُمْ مِنْ فَضْلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْعَذَابِ.وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ أُولَاهُمْ: عطفوا قَوْلهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى قَوْلِهِمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بِفَاءِ الْعَطْفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَتُّبِ. فَالتَّشَفِّي مِنْهُمْ فِيمَا نَالَهُمْ مِنْ عَذَابِ الضِّعْفِ تَرَتَّبَ عَلَى تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ الْفَضْلِ بَيْنَهُمْ فِي تَضْعِيفِ الْعَذَابِ الَّذِي أَفْصَحَ عَنْهُ إِخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا ضِعْفًا. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِمْ: فَذُوقُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالتَّشَفِّي. وَالذَّوْقُ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْإِحْسَاسِ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِمَّا أَوْجَبَ لَكُمْ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ، وَعَبَّرَ بِالْكَسْبِ دُونَ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِأَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّ إِضْلَالَهُمْ لِأَعْقَابِهِمْ كَانَ بِالْكُفْرِ وَبِحُبِّ الْفَخْرِ وَالْإِغْرَابِ بِمَا عَلَّمُوهُمْ وَمَا سَنُّوا لَهُمْ، فَشَمِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَنَّهُ كَسْبٌ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 إلى 41]

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، مُخَاطِبًا بِهِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَذُوقُوا لِلتَّكْوِينِ وَالْإِهَانَةِ. وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ مُحَاوَرَةِ قَادَةِ الْأُمَمِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَا فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَتَحْذِيرٌ لِقَادَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِيقَاعِ بِأَتْبَاعِهِمْ فِيمَا يَزُجُّ بِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ، وَيُحَسِّنُ لَهُمْ هَوَاهُمْ، وَمَوْعِظَةٌ لِعَامَّتِهِمْ مِنَ الِاسْتِرْسَالِ فِي تَأْيِيدِ مَنْ يُشَايِعُ هَوَاهُمْ، وَلَا يُبَلِّغُهُمُ النَّصِيحَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّكُمْ رَاع وكلّكم مسؤول عَن رعيّته» . [40، 41] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 40 إِلَى 41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مَسُوقٌ لِتَحْقِيقِ خُلُودِ الْفَرِيقَيْنِ فِي النَّارِ، الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 36] فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ أَسْبَابَ النَّجَاةِ، فَسَدَّ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَبِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِ إِنَّ لِتَأْيِيسِهِمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخُلُودِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ الْكِنَايَةَ عَنْ طُولِ مُدَّةِ الْبَقَاءِ فِي النَّارِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُرَادًا بِهِ هَذَا الْمَعْنَى.

وَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَحَاوِرَتَيْنِ فِي النَّارِ، وَاخْتِيرَ مِنْ طُرُقِ الْإِظْهَارِ طَرِيقُ التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِ إِيذَانًا بِمَا تومىء إِلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا السَّابِقِ آنِفًا. وَالسَّمَاءُ أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانٍ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا غَيْرُ الْأَرْضِيَّةِ، فَالسَّمَاءُ مَجْمُوعُ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَهِيَ مَرَاتِبُ وَفِيهَا عَوَالِمُ الْقُدْسِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ، وَمَصْدَرُ إِفَاضَةِ الْخَيْرَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجُثْمَانِيَّةِ عَلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمَصْدَرُ الْمَقَادِيرِ الْمُقَدَّرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] ، فَالسَّمَاءُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا عَالَمُ الْقُدْسِ. وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ أَسْبَابُ أُمُورٍ عَظِيمَةٍ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَبْوَابِ لِتَقْرِيبِ حَقَائِقِهَا إِلَى الْأَذْهَانِ فَمِنْهَا قَبُولُ الْأَعْمَالِ، وَمَسَالِكُ وُصُولِ الْأُمُورِ الْخَيْرِيَّةِ الصَّادِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَطُرُقِ قَبُولِهَا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِأَسْبَابِ التَّزْكِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ، وَمَا يَعْلَمُ حَقَائِقَهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا مَحْجُوبَةٌ عَنَّا، فَكَمَا أَنَّ الْعُفَاةَ وَالشُّفَعَاءَ إِذَا وَرَدُوا الْمَكَانَ قَدْ يُقْبَلُونَ وَيُرْضَى عَنْهُمْ فَتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْقُصُورِ وَالْقِبَابِ وَيَدْخُلُونَ مُكَرَّمِينَ، وَقَدْ يُرَدُّونَ وَيُسْخَطُونَ فَتُوصَدُ فِي وُجُوهِهِمُ الْأَبْوَابُ، مَثَّلَ إِقْصَاءَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَعَدَمَ الرِّضَا عَنْهُمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، بِحَالِ مَنْ لَا تُفَتَّحُ لَهُ أَبْوَابُ الْمَنَازِلِ، وَأُضِيفَتِ الْأَبْوَابُ إِلَى السَّمَاءِ لِيَظْهَرَ أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ وَسَائِلِ الْخَيْرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ عَدَمَ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَعَدَمَ قَبُولِ الْأَعْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ، وَحِرْمَانَ أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مُشَاهَدَةَ مَنَاظِرِ الْجَنَّةِ وَمَقَاعِدِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، فَقَوله: لَا نفتح لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ نِعَمِ

اللَّهِ الْجُثْمَانِيَّةِ مَا يَنَالُهُ غَيْرُهُمْ، فَيُغَاثُونَ بِالْمَطَرِ، وَيَأْتِيهِمُ الرِّزْقُ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِحَالِ خُذْلَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَسَائِلِ دُخُولِ الْجَنَّةِ. كَمَا قَالَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: 5- 10] . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: لَا تُفَتَّحُ- بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءُ الثَّانِيَةُ مُشَدَّدَةٌ- وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي فَتْحٍ، فَيُفِيدُ تَحْقِيقَ نَفْيِ الْفَتْحِ لَهُمْ، أَوْ أُشِيرَ بِتِلْكَ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ فَتْحٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي يُفْتَحُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فَتْحٌ قَوِيٌّ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْإِشَارَةُ زِيَادَةً فِي نِكَايَتِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو- بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ مُخَفَّفَةً-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ لَا يَفْتَحُ- بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَعَ تَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مَفْتُوحَةً- عَلَى اعْتِبَارِ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ كَوْنِ الْفَاعِلِ جَمْعًا لِمُذَكَّرٍ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَحْقِيقٌ لِخُلُودِهِمْ فِي النَّارِ. وَبَعْدَ أَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ كُلِّهِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، زِيدَ تَأْكِيدًا بِطَرِيقِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، الْمُشْتَهَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ بِتَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فَقَدْ جَعَلَ لِانْتِفَاءِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ امْتِدَادًا مُسْتَمِرًّا، إِذْ جَعَلَ غَايَتَهُ شَيْئًا مُسْتَحِيلًا، وَهُوَ أَنْ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، أَيْ لَوْ كَانَتْ لِانْتِفَاءِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ غَايَةٌ لَكَانَتْ غَايَتُهُ وُلُوجَ الْجَمَلِ- وَهُوَ الْبَعِيرُ- فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَكُونُ أَبَدًا. وَالْجَمَلُ: الْبَعِيرُ الْمَعْرُوفُ لِلْعَرَبِ، ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْأَجْسَامِ فِي الضَّخَامَةِ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ. وَالْخِيَاطُ هُوَ الْمِخْيَطُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَهُوَ

آلَةُ الْخِيَاطَةِ الْمُسَمَّى بِالْإِبْرَةِ، وَالْفِعَالُ وَرَدَ اسْمًا مُرَادِفًا لِلْمِفْعَلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى آلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِمْ حِزَامٌ وَمِحْزَمٌ، وَإِزَارٌ وَمِئْزَرٌ، وَلِحَافٌ وَمِلْحَفٌ، وَقِنَاعٌ وَمِقْنَعٌ. وَالسَّمُّ: الْخَرْتُ الَّذِي فِي الْإِبْرَةِ يُدْخَلُ فِيهِ خَيْطُ الْخَائِطِ، وَهُوَ ثُقْبٌ ضَيِّقٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْآيَةِ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَتُضَمُّ السِّينُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ. وَهِيَ مَا بَيْنَ نَجْدٍ وَبَيْنَ حُدُودِ أَرْضِ مَكَّةَ. وَالْقُرْآنُ أَحَالَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ حَقِيقَةِ الْجَمَلِ وَحَقِيقَةِ الْخِيَاطِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي خَرْتِ الْإِبْرَةِ مُحَالٌ مُتَعَذَّرٌ مَا دَامَا عَلَى حَالَيْهِمَا الْمُتَعَارَفَيْنِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَفَتُّحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الِانْتِفَاءِ، أَيِ الْحِرْمَانِ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ بِإِجْرَامِهِمُ، الَّذِي هُوَ التَّكْذِيبُ وَالْإِعْرَاضُ، جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ مُكْتَرِثِينَ بِوَسَائِلِ الْخَيْرِ وَالنَّجَاةِ، فَلَمْ يَتَوَخَّوْهَا وَلَا تَطَلَّبُوهَا، فَلِذَلِكَ جَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ اسْتِكْبَارِهِمْ أَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَسَدَّ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ. وَجُمْلَةُ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ تَذْيِيلٌ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِجْرَامَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ، فَهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يُجْزَوْنَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ عِقَابَ الْمُجْرِمِينَ قد شبّه عِقَاب الْمُجْرمين بِعِقَابِ هَؤُلَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، وَأَنَّهُمْ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، حَتَّى شَبَّهَ عِقَابَ عُمُومِ الْمُجْرِمِينَ بِعِقَابِ هَؤُلَاءِ وَكَانُوا مَثَلًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ. وَالْإِجْرَامُ: فِعْلُ الْجُرْمِ- بِضَمِّ الْجِيمِ- وَهُوَ الذَّنْبُ، وَأَصْلُ: أَجْرَمَ صَارَ ذَا جُرْمٍ، كَمَا يُقَالُ: أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ وَأَخْصَبَ. وَالْمِهَادُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- مَا يُمَهَّدُ أَي يفرش، و «غواش» جَمْعُ غَاشِيَةٍ وَهِيَ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ، أَيْ يُغَطِّيهِ كَالِلْحَافِّ، شَبَّهَ مَا هُوَ تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ

[سورة الأعراف (7) : آية 42]

بِالْمِهَادِ، وَمَا هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْهَا بِالْغَوَاشِي، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ الرَّاحَةِ لَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمِهَادِ وَالْغَاشِيَةِ عِنْدَ اضْطِجَاعِهِ لِلرَّاحَةِ، فَإِذَا كَانَ مِهَادُهُمْ وَغَاشِيَتُهُمْ النَّارَ. فَقَدِ انْتَفَتْ رَاحَتُهُمْ، وَهَذَا ذِكْرٌ لِعَذَابِهِمُ السُّوءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَوْلُهُ: غَواشٍ وَصْفٌ لِمُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ جَهَنَّمَ، أَيْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ نِيرَانٌ كَالْغَوَاشِي. وَذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِالْعِقَابِ: هُوَ الظُّلْمُ. وَهُوَ الشِّرْكُ. وَلَمَّا كَانَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ قَدْ شُبِّهَ بِجَزَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا، عُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ. وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، بِحَيْثُ صَارُوا مَثَلًا لِعُمُومِ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ كَانَ الجملتان تذييلين. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَا صَادِقَيْنِ مَعًا عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الْمُشَبَّهِ عِقَابُ أَصْحَابِ الْوَصْفَيْنِ بِعِقَابِهِمْ. فَوَصْفُ الْمُجْرِمِينَ أَعَمُّ مَفْهُومًا مِنْ وَصْفِ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ الْإِجْرَامَ يَشْمَلُ التَّعْطِيلَ وَالْمَجُوسِيَّةَ بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ. وَحَقِيقَةُ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ إِنَّمَا تَتَقَوَّمُ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمَذْكُورِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى معنى الضّمير. [42] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 42] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) أَعْقَبَ الْإِنْذَارَ وَالْوَعِيدَ لِلْمُكَذِّبِينَ، بِالْبِشَارَةِ وَالْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ أَحَدِ الْغَرَضَيْنِ بِالْآخَرِ. وَعُطِفَ عَلَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 40] أَيْ: وَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ، لِأَنَّ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ مُنَاسَبَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ كَمَالِ الِاتِّصَالِ

[سورة الأعراف (7) : آية 43]

وَكَمَالِ الِانْقِطَاعِ، وَهُوَ التَّضَادُّ بَيْنَ وَصْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ وَالْإِيمَانُ بِهَا، وَبَيْنَ حُكْمِ الْمُسْنَدَيْنِ وَهُوَ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْجَامِعِ الْوَهْمِيِّ الْمَذْكُورِ فِي أَحْكَامِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقٌ لِ آمَنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ صَارَ كَاللَّقَبِ لِلْإِيمَانِ الْخَاصِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وأَصْحابُ الْجَنَّةِ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَجُمْلَةُ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِدْمَاجِ الِارْتِفَاقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ أَطْمَنَ قُلُوبَهُمْ بِأَنْ لَا يُطْلَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الطَّاقَةِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْلُغُوا إِلَيْهِ أَيِسُوا مِنَ الْجَنَّةِ، بَلْ إِنَّمَا يُطْلَبُونَ مِنْهَا بِمَا فِي وُسْعِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّهُمْ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا أَيْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لَا أَنَّهُ قِرَاءَةٌ. وَالْوُسْعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] . وَدَلَّ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ عَلَى قَصْرِ مُلَازَمَةِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ، دُونَ غَيْرِهِمْ، فَفِيهِ تَأْيِيسٌ آخَرُ لِلْمُشْرِكِينَ بِحَيْثُ قَوِيَتْ نَصِّيَّةُ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَجُمْلَةُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ. [43] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 43] وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

(43) اتِسَاقُ النَّظْمِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 42] ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَنَزَعْنا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 42] ، وَجُمْلَةُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ، اعْتِرَاضًا بُيِّنَ بِهِ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي الْجَنَّةِ، لِيُقَابِلَ الِاعْتِرَاضَ الَّذِي أُدْمِجَ فِي أَثْنَاءِ وَصْفِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُبِيَّنُ بِهِ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي الْمُعَامَلَةِ بِقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَاف: 38] . وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أَيْ: وَنَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَالنَّزْعُ حَقِيقَتُهُ قَلْعُ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ فِي آلِ عِمْرَانَ [26] ، وَنَزْعُ الْغِلِّ مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: هُوَ إِزَالَةُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغِلِّ عِنْدَ تَلَقِّي مَا يَسُوءُ مِنَ الْغَيْرِ، بِحَيْثُ طَهَّرَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ فِي حَيَاتِهَا الثَّانِيَةِ عَنِ الِانْفِعَالِ بِالْخَوَاطِرِ الشَّرِّيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْغِلُّ، فَزَالَ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ غِلِّ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا، أَيْ أَزَالَ مَا كَانَ حَاصِلًا مِنْ غِلٍّ وَأَزَالَ طِبَاعَ الْغِلِّ الَّتِي فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ وَالْإِحْنَةُ وَالضِّغْنُ، الَّتِي تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ عِنْدَ إِدْرَاك مَا يسوؤها مِنْ عَمَلِ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ الْحَسَدُ مِنَ الْغِلِّ بَلْ هُوَ إِحْسَاسٌ بَاطِنِيٌّ آخَرُ.

وَجُمْلَةُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ هُمْ فِي أَمْكِنَةٍ عَالِيَةٍ تُشْرِفُ عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ. وَجُمْلَةُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 42] . وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنَزَعْنا وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَهُ فِي خَاصَّتِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، عَلَى مَعْنَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِحَمْدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي مَجَامِعِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِمْ: لِهذا إِلَى جَمِيعِ مَا هُوَ حَاضِرٌ مِنَ النَّعِيمِ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْحَمْدِ، وَالْهِدَايَةُ لَهُ هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْأَعْرَاف: 42] ، وَقَالَ تَعَالَى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يُونُس: 9] الْآيَةَ، وَجَعَلَ الْهِدَايَةَ لِنَفْسِ النَّعِيمِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى مَا يُوَصِّلُ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا هِيَ هِدَايَةٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ الْهِدَايَةِ وَتَعْدِيَتِهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [6] . وَالْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إرْسَاله محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَأَيْقَظَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ فَاتَّبَعُوهُ، وَلَمْ يُعَانِدُوا، وَلَمْ يَسْتَكْبِرُوا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ مَعَ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قَبُولِهِمُ الدَّعْوَةَ وَامْتِثَالِهِمُ الْأَمْرَ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْمِنَّةِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّيْسِيرُ هُوَ الَّذِي حُرِمَهُ الْمُكَذِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرُونَ لِأَجْلِ ابْتِدَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ والاستكبار، دون النّظر وَالِاعْتِبَارِ. وَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ هدَانَا فِي هَذِه الْحَالِ حَالِ بُعْدِنَا عَنِ الِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِنُ بِكِبَرِ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَبِتَعْظِيمِ حَمْدِهِمْ وَتَجْزِيلِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءُوا بِجُمْلَةِ الْحَمْدِ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْصَى مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ

وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ عَلَى بُعْدِ حَالِهِمُ السَّالِفَةِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَفَادَهُ نَفْيُ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ، حَسَبَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْغَمِسِينَ فِي ضَلَالَاتٍ قَدِيمَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَمَّا قَادَتُهُمْ فَقَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لَهُمْ حَتَّى اعْتَقَدُوهَا وَسَنُّوهَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا دَهْمَاؤُهُمْ وَأَخْلَافُهُمْ فَقَدْ رَأَوْا قُدْوَتَهُمْ عَلَى تِلْكَ الضَّلَالَاتِ. وَتَأَصَّلَتْ فِيهِمْ، فَمَا كَانَ مِنَ السَّهْلِ اهْتِدَاؤُهُمْ، لَوْلَا أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَسِيَاسَتِهِمْ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَأَنْ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ قَبُولَ الدَّعْوَةِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبُوا تَحْمِيدَهُمْ وَثَنَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ، اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِصُدُورِهَا عَنِ ابْتِهَاجِ نُفُوسِهِمْ وَاغْتِبَاطِهِمْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، فَجَعَلُوا يَتَذَكَّرُونَ أَسْبَابَ هِدَايَتِهِمْ وَيَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَيَغْتَبِطُونَ. تَلَذُّذًا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ وَالْحَدِيثَ عَنْهُ مِمَّا تَلَذُّ بِهِ النُّفُوسُ، مَعَ قَصْدِ الثَّنَاءِ عَلَى الرُّسُلِ. وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِقَدْ، مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِمَجِيءِ الرُّسُلِ: إِمَّا لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمُطَابَقَةِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ النَّعِيمِ لِمَا وَجَدُوهُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ» . وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا الثَّنَاءَ عَلَى الرُّسُلِ والشّهادة بصدقهم جمعا مَعَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَأَتَوْا بِالْخَبَرِ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ- بِدُونِ وَاوٍ قَبْلَ (مَا) - وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهَا كَالتَّعْلِيلِ لِلْحَمْدِ، وَالتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ حَمْدٌ عَظِيمٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَجُمْلَةُ: وَنُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا فَتَكُونُ حَالًا أَيْضًا، لِأَنَّ هَذَا النِّدَاءَ جَوَابٌ لِثَنَائِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ مَا أَثْنَوْا بِهِ، وعَلى رضى اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالنِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ فِعْلُهُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ. وَالنِّدَاءُ إِعْلَانُ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَصْلُ حَقِيقَتِهِ فِي اللُّغَةِ، وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ غَالِبًا عَلَى دُعَاءِ أَحَدٍ لِيُقْبِلَ بِذَاتِهِ أَوْ بِفَهْمِهِ لِسَمَاعِ كَلَامٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِرَفْعِ صَوْتٍ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَم: 3] وَلِهَذَا الْمَعْنَى حُرُوفٌ خَاصَّةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَناداهُما رَبُّهُما فِي هَذِهِ السُّورَةِ [22] . وَ (أَنْ) تَفْسِيرٌ لِ نُودُوا، لِأَنَّ النِّدَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَنَّةِ بِ تِلْكُمُ، الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْبَعِيدِ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَاضِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِمْ، لِقَصْدِ رِفْعَةِ شَأْنِهَا وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ بِهَا. وَالْإِرْثُ حَقِيقَتُهُ مَصِيرُ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: أَوْرَثَ الْمَيِّتُ أَقْرِبَاءَهُ مَالَهُ، بِمَعْنَى جَعَلَهُمْ يَرِثُونَهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِغَيْرِهِ فَقَدْ تَرَكَهُ لَهُمْ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَصِيرِ شَيْء إِلَى حد بِدُونِ عِوَضٍ وَلَا غَصْبٍ تَشْبِيهًا بِإِرْثِ الْمَيِّتِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أُورِثْتُمُوها أُعْطِيتُمُوهَا عَطِيَّةً هَنِيئَةً لَا تَعَبَ فِيهَا وَلَا مُنَازَعَةَ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا الْكَلَامُ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ شَكَرَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَأَعْطَاهُمْ هَذَا النَّعِيمَ الْخَالِدَ لِأَجْلِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا عَمِلُوا مَا عَمِلُوهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا كَانُوا ينوون بعلمهم إِلَّا السَّلَامَةَ مِنْ غَضَبِ رَبِّهِمْ وَتَطَلُّبَ مَرْضَاتِهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَمَا كَانُوا يَمْتُونَ بِأَنْ تُوَصِّلَهُمْ أَعْمَالُهُمْ إِلَى مَا نالوه، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الطَّمَعَ فِي ثَوَابِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ عِقَابِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ أُورِثْتُمُوها وَبَيْنَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ. فَالْإِيرَاثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَطِيَّةٌ بِدُونِ قَصْدِ تَعَاوُضٍ وَلَا تَعَاقُدٍ، وَأَنَّهَا فَضْلٌ مَحْضٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَطَاعَتَهُ إِيَّاهُ لَا يُوجِبُ عَقْلًا وَلَا عَدْلًا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 45]

إِلَّا نَجَاتَهُ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْكُفْرَانِ وَالْعِصْيَانِ، وَإِلَّا حُصُولَ رِضَى رَبِّهِ عَنْهُ، وَلَا يُوجِبُ جَزَاءً وَلَا عَطَاءً، لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، فَهَذَا الْجَزَاءُ وَعَظَمَتُهُ مُجَرَّدُ فَضْلٍ مِنَ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ شُكْرًا لِإِيمَانِهِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبُ هَذَا الشُّكْرِ عِنْدَ الرَّبِّ الشَّاكِرِ هُوَ عَمَلُ عَبْدِهِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَقَدْ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ فَوَعَدَ بِهِ مِنْ قَبْلِ حُصُولِهِ. فَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِوُجُوبِ الثَّوَابِ عَقْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَوْقَعَهُمْ فِيهِ اشْتِبَاهُ حُصُولِ الثَّوَابِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ، مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بَيِّنَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا يُطِيلُ بِهِ أَصْحَابُنَا مَعَهُمْ فِي الْجَوَابِ. وَبَاءُ السَّبَبِيَّةِ اقْتَضَتِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ مَنَازِلَ الْجَنَّةِ أَرَادَ بِهِ شُكْرَ أَعْمَالِهِمْ وَثَوَابِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَعَاوُضٍ وَلَا تَقَابُلٍ فَجَعَلَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْعَامِلُ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فَاسْتَعَارَ لَهَا بَاء السّببيّة. [44، 45] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 44 إِلَى 45] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) جُمْلَةُ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَاف: 43] إِلَخْ، عَطْفَ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ، إِذْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ الْمُنْبِئُ عَنْ بَهْجَتِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، ثُمَّ حُكِيَ مَا يَقُولُونَهُ لِأَهْلِ النَّارِ حِينَمَا يُشَاهِدُونَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الْأَعْرَاف: 43] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ بِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ ذِكْرِ نِدَاءٍ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِلَى ذِكْرِ مُنَادَاةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ

الْجَنَّةِ دُونَ ضَمِيرِهِمْ تَوْطِئَةً لِذِكْرِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ وَنِدَاءِ أَصْحَابِ النَّارِ، لِيُعَبِّرَ عَنْ كُلِّ فَرِيقٍ بِعُنْوَانِهِ وَلِيُكُونَ مِنْهُ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ فِي مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَصْحابَ النَّارِ. وَهَذَا النِّدَاءُ خِطَابٌ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالنِّدَاءِ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِهِ إِلَى أَسْمَاعِ أَصْحَابِ النَّارِ مِنْ مَسَافَةٍ سَحِيقَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّ سِعَةَ الْجَنَّةِ وَسِعَةَ النَّارِ تَقْتَضِيَانِ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُما حِجابٌ [الْأَعْرَاف: 46] ، وَوَسِيلَةُ بُلُوغِ هَذَا الْخِطَابِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى أَصْحَابِ النَّارِ وَسِيلَةٌ عَجِيبَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ لَا حَدَّ لِمُتَعَلَّقَاتِهِمَا. وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا تَفْسِيرِيَّةٌ لِلنِّدَاءِ. وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاغْتِبَاطُ بِحَالِهِمْ، وَتَنْغِيصُ أَعْدَائِهِمْ بِعِلْمِهِمْ بِرَفَاهِيَةِ حَالِهِمْ، وَالتَّوَرُّكُ عَلَى الْأَعْدَاءِ إِذْ كَانُوا يَحْسَبُونَهُمْ قَدْ ضَلُّوا حِينَ فَارَقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا بِالِانْكِفَافِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ كُلُّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِخْبَارِ، وَالْمَعَانِي الْكِنَائِيَّةُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُهَا لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلَّوَازِمِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ جُمِعَ فِيهَا بَيْنَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ وَالْمَعَانِي الْكِنَائِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَعَانِي الْكِنَائِيَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ أَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ النَّارِ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَكِنَّ الْقَصْدَ مَا يَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَعَانِي الصَّرِيحَةُ فَمَدْلُولَةٌ بِالْأَصَالَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي جُمْلَةِ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ فِي تَوْقِيفِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى غَلَطِهِمْ، وَإِثَارَةِ نَدَامَتِهِمْ وَغَمِّهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَالشَّمَاتَةِ بِهِمْ فِي عَوَاقِبِ عِنَادِهِمْ. وَالْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةُ الَّتِي عَلَاقَتُهَا اللُّزُومُ يَجُوزُ تَعَدُّدُهَا مِثْلُ الْكِنَايَةِ، وَقَرِينَةُ الْمَجَازِ هِيَ: ظُهُورُ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ وَجَدُوا وَعْدَهُ حَقًّا. وَالْوُجْدَانُ: إِلْفَاءُ الشَّيْءِ وَلُقِيُّهُ، قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ [الْقَصَص: 15] وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: 39] وَيَغْلِبُ أَنْ

يُذْكَرُ مَعَ الْمَفْعُولِ حَالُهُ، فَقَوْلُهُ: وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا مَعْنَاهُ أَلْفَيْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ حَقًّا لَا تَخَلُّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: وَجَدْنا عَلَى سَبْقِ بَحَثٍ أَوْ تَطَلُّبٍ لِلْمُطَابَقَةِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْوُجْدَانُ فِي الْإِدْرَاكِ وَالظَّنِّ مَجَازًا، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ فِي قَوْلِهِ: مَا وَعَدَنا رَبُّنا- وَمَا وَعَدَ رَبُّكُمْ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، فَقَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَعِيمٍ عَظِيمٍ، وَتَوَعَّدَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، سَمِعَ بَعْضُهُمْ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَسَمِعَ بَعْضُهُمْ إِجْمَالَهَا: مُبَاشَرَةً أَوْ بِالتَّنَاقُلِ عَنْ إِخْوَانِهِمْ، فَكَانَ لِلْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَالْجَوَابُ بنعم تَحْقِيق للمسؤول عَنْهُ بِهَلْ: لِأَنَّ السُّؤَالَ بِهَلْ يَتَضَمَّنُ تَرْجِيحَ السَّائِلِ وُقُوعَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَهُوَ جَوَابُ الْمُقِرِّ الْمُتَحَسِّرِ الْمُعْتَرِفِ، وَقَدْ جَاءَ الْجَوَابُ صَالِحًا لِظَاهِرِ السُّؤَالِ وَخَفِيِّهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجَوَابِ بِهَا تَحْقِيقُ مَا أُرِيدَ بِالسُّؤَالِ مِنَ الْمَعَانِي حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، إِذْ لَيْسَتْ نَعَمْ خَاصَّةً بِتَحْقِيقِ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ (وَعَدَ) الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَازِ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: مَا وَعَدَنا رَبُّنا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ سُؤَالُهُمْ عَمَّا يَخُصُّهُمْ. فَالتَّقْدِيرُ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ الْوَعْدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَدَلَّتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ عَلَى أَنَّ التَّأْذِينَ مُسَبَّبٌ عَلَى الْمُحَاوَرَةِ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ سُؤَالِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ إِظْهَارِ غَلَطِهِمْ وَفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ. وَالتَّأْذِينُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ رَفْعًا يُسْمِعُ الْبَعِيدَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُذُنِ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- جَارِحَةِ السَّمْعِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا التَّأْذِينُ إِخْبَارٌ بِاللَّعْنِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ عَنِ الْخَيْرِ، أَيْ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ مُبْعَدُونَ عَنْ

رَحْمَةِ اللَّهِ، زِيَادَةً فِي التَّأْيِيسِ لَهُمْ، أَوْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِزِيَادَةِ الْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ، بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ أَوْ تَحْقِيقِ الْخُلُودِ، وَوُقُوعُ هَذَا التَّأْذِينِ عَقِبَ الْمُحَاوَرَةِ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّالِمِينَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ تَفْظِيعُ حَالِهِمْ، وَالنِّدَاءُ عَلَى خُبْثِ نُفُوسِهِمْ، وَفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ- بِتَخْفِيفِ نُونِ (أَنَّ) - عَلَى أَنَّهَا تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ (أَذَّنَ) وَرَفْعِ (لَعْنَةُ) عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَبِنَصْبِ (لَعْنَةُ) عَلَى (أَنَّ) الْجُمْلَةَ مَفْعُولُ (أَذَّنَ) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلًا أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالظَّالِمِينَ تَعْرِيفٌ لَهُمْ بِوَصْفٍ جَرَى مَجْرَى اللَّقَبِ تُعْرَفُ بِهِ جَمَاعَتُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: الْمُؤْمِنِينَ، لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ حِينَ وُصِفُوا بِهِ لَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بُطْلَانَ الشِّرْكِ حَقَّ الْعِلْمِ وَشَأْنُ اسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ مَجَازًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَاضِي، وَأَمَّا إِجْرَاءُ الصِّلَةِ عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ فِي قَوْلِهِ: يَصُدُّونَ وَقَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها وَشَأْنُ الْمُضَارِعِ الدَّلَالَةُ عَلَى حَدَثٍ حَاصِلٍ فِي زَمَنِ الْحَالِ، وَهُمْ فِي زَمَنِ التَّأْذِينِ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا بِبَغْيِ عِوَجِ السَّبِيلِ، فَذَلِكَ لِقَصْدِ مَا يُفِيدُهُ الْمُضَارِعُ مِنْ تَكَرُّرِ حُصُولِ الْفِعْلِ تَبَعًا لِمَعْنَى التَّجَدُّدِ، وَالْمَعْنَى وَصْفُهُمْ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِكَايَةِ عَنْ نُوحٍ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] مَعَ أَنَّ زَمَنَ صُنْعِ الْفُلْكِ مَضَى، وَإِنَّمَا قُصِدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةِ التَّجَدُّدِ، وَكَذَلِكَ وَصْفُهُمْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ فَإِنَّ حَقَّهُ الدَّلَالَةُ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْمَاضِي: أَيْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَكُلُّ ذَلِكَ اعْتِمَادٌ عَلَى قَرِينَةِ حَالِ السَّامِعِينَ الْمَانِعَةِ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ سَامِعٍ أَنَّ الْمَقْصُودِينَ صَارُوا غَيْرَ مُتَلَبِّسِينَ بِتِلْكَ الْأَحْدَاثِ فِي وَقْتِ التَّأْذِينِ، بَلْ تَلَبَّسُوا بِنَقَائِضِهَا، فَإِنَّهُمْ

حِينَئِذٍ قَدْ عَلِمُوا الْحَقَّ وَشَاهَدُوهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: نَعَمْ. وَإِنَّمَا عُرِّفُوا بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ تُعْرَفُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِهَا فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ الْأُولَى. فَبِالْمَوْتِ تَنْتَهِي أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ فَيَسْتَقِرُّ اتِّصَافُ نَفْسِهِ بِمَا عَاشَتْ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّعْنَةُ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَلْعَنُونَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَجَهَرُوا بِهَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالشِّعَارِ لِلْكَفَرَةِ يُنَادُونَ بِهَا، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى بِالْمُؤَذِّنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصْرُخُونَ بِالْأَذَانِ» مَعَ أَنَّ فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ مَا لَا يُقْصَدُ مَعْنَاهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ: «حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيِّ عَلَى الْفَلَاحِ» . وَفِي حِكَايَةِ ذَلِكَ هُنَا إِعْلَامٌ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ، وَبِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِمَّا تَعَرُّضُ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْأَذَى وَالصَّرْفِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَسَبِيلُ اللَّهِ مَا بِهِ الْوُصُولُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَيَكُونُ الصَّدُّ مُرَادًا بِهِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ. وَإِمَّا إِعْرَاضُهُمْ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الصَّدُّ مُرَادًا بِهِ الْقَاصِرُ، الَّذِي قِيلَ: إِنَّ مُضَارِعَهُ بِكَسْرِ الصَّادِ، أَوْ إِنَّ حَقَّ مُضَارِعِهِ كَسْرُ الصَّادِ، إِذْ قِيلَ لَمْ يُسْمَعْ مَكْسُورُ الصَّادِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ كَسْرُ الصَّادِ فِي اللَّازِمِ وَضَمُّهَا فِي الْمُتَعَدِّي. وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ. لِأَنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: 108] وَقَالَ: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الْأَعْرَاف: 146] . وَالْعِوَجُ: ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْأَجْسَامِ: وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي. وَأَصْلُهُ أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ. وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ خَصَّصَ الْحَقِيقَةَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالْمَجَازَ بِالْوَجْهِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الِاسْتِعْمَالِ، فَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّبِيلِ- (عِوَجٍ) إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ وَيَرُومُونَ وَيُحَاوِلُونَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 46 إلى 47]

إِظْهَارَ هَذِهِ السَّبِيلِ عَوْجَاءَ، أَيْ يَخْتَلِقُونَ لَهَا نَقَائِصَ يُمَوِّهُونَهَا عَلَى النَّاسِ تَنْفِيرًا عَنِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7، 8] ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [99] . وَوَرَدَ وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْكُفْرِ فِيهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُنَاسِبُهَا التَّكَرُّرُ، فَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَبَغْيِ إِظْهَارِ الْعِوَجِ فِيهَا، لِأَنَّ ذَيْنَكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَابِلَةِ لِلتَّكْرِيرِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [الشورى: 19] . [46، 47] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 46 إِلَى 47] وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) تَقْدِيمُ وَبَيْنَهُما وَهُوَ خَبَرٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَكَانِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهِ. وَبِهَذَا التَّقْدِيمِ صَحَّ تَصْحِيحُ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ. وَضَمِيرُ بَيْنَهُما يَعُودُ إِلَى لَفْظَيِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْوَاقِعَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: 44] وَهُمَا اسْمَا مَكَانٍ، فَيَصْلُحُ اعْتِبَارُ

التَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا. وَجُعِلَ الْحِجَابُ فَصْلًا بَيْنَهُمَا. وَتَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ تُعَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ أُرِيدَ مِنَ الضَّمِيرِ فَرِيقَا أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، لَقَالَ: بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [13] فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الْآيَةَ. وَالْحِجَابُ: سُورٌ ضُرِبَ فَاصِلًا بَيْنَ مَكَانِ الْجَنَّةِ وَمَكَانِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْقُرْآنُ سُورًا فِي قَوْلِهِ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [13] ، وَسُمِّيَ السُّورُ حِجَابًا لِأَنَّهُ يُقْصَدُ مِنْهُ الْحَجْبُ وَالْمَنْعُ كَمَا سُمِّيَ سُورًا بِاعْتِبَارِ الْإِحَاطَةِ. وَالْأَعْرَافُ: جَمْعُ عُرْفٍ- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَدْ تُضَمُّ الرَّاءُ أَيْضًا- وَهُوَ أَعْلَى الشَّيْءِ وَمِنْهُ سُمِّيَ عُرْفُ الْفَرَسِ، الشَّعْرُ الَّذِي فِي أَعْلَى رَقَبَتِهِ، وَسُمِّيَ عُرْفُ الدِّيكِ. الرِّيشُ الَّذِي فِي أَعْلَى رَأْسِهِ. وَ (أَلْ) فِي الْأَعْرافِ لِلْعَهْدِ. وَهِيَ الْأَعْرَافُ الْمَعْهُودَةُ الَّتِي تَكُونُ بَارِزَةً فِي أَعَالِي السُّورِ. لِيَرْقُبَ مِنْهَا النَّظَّارَةُ حَرَكَاتِ الْعَدِّ وَلِيَشْعُرُوا بِهِ إِذَا دَاهَمَهُمْ. وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِلْأَعْرَافِ هُنَا حَتَّى تُعَرَّفَ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا مَا يَعْهَدُهُ النَّاسُ فِي الْأَسْوَارِ. أَوْ يَجْعَلُ (أَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: أَيْ وَعَلَى أَعْرَافِ السُّورِ. وَهُمَا وَجْهَانِ فِي نَظَائِرِ هَذَا التَّعْرِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] وَأَيًّا مَا كَانَ فَنَظْمُ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَعْرَافِ مَكَانًا مَخْصُوصًا يَتَعَرَّفُ مِنْهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ، إِذْ لَا وَجْهَ حِينَئِذٍ لِتَعْرِيفِهِ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ الْحَدِيثِ عَنْهُ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِتَصْحِيحِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، إِذِ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْحَدِيثَ عَنْ رِجَالٍ مَجْهُولِينَ يَكُونُونَ عَلَى أَعْرَافِ هَذَا الْحِجَابِ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَيَشْهَدُونَ هُنَالِكَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالَ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْرِفُونَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ وَعْدَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصُ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ بِمُقْتَضٍ أَنْ لَيْسَ فِي أَهْلِ الْأَعْرَافِ نِسَاءٌ، وَلَا اخْتِصَاصُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الْمُتَحَدَّثِ

عَنْهُمْ بِذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ سِوَاهُمْ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ رِجَالٌ يَقَعُ لَهُمْ هَذَا الْخَبَرُ، فَذُكِرُوا هُنَا لِلِاعْتِبَارِ عَلَى وَجْهِ الْمُصَادَفَةِ، لَا لِقَصْدِ تَقْسِيمِ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَأَمْكِنَتِهِمْ، وَلَعَلَّ تَوَهُّمَ أَنَّ تَخْصِيصَ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ لِقَصْدِ التَّقْسِيمِ قَدْ أَوْقَعَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ فِي حَيْرَةٍ لِتَطَلُّبِ الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ قَدِ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْمَكَانَ لِأَجْلِ حَالَةٍ لَا حَظَّ لِلنِّسَاءِ فِيهَا، فَبَعْضُهُمْ حَمَلَ الرِّجَالَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَتَطَلَّبَ عَمَلًا يَعْمَلُهُ الرِّجَالُ لَا حَظَّ لِلنِّسَاءِ فِيهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ إِلَّا الْجِهَادُ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاهَدُوا وَكَانُوا عَاصِينَ لِآبَائِهِمْ، وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الرِّجَالَ عَلَى الْمَجَازِ بِمَعْنَى الْأَشْخَاصِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الرِّجَالَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِنَاثًا كَمَا أُطْلِقَ عَلَى أَشْخَاصِ الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 6] فَيَظْهَرُ وَجْهٌ لِتَخْصِيصِ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ تَبَعًا لِمَا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ مَوَازِينُ حَسَنَاتِهِمْ مَعَ مَوَازِينِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ تَغْلِيبًا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسَاءٌ، وَيُرْوَى فِيهِ أَخْبَارٌ مُسْنَدَةٌ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ الصَّحِيحِ وَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى رُتْبَةِ الضَّعِيفِ: رَوَى بَعْضُهَا ابْنُ مَاجَهْ، وَبَعْضُهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَبَعْضُهَا الطَّبَرِيُّ، فَإِذَا صَحَّتْ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ حَالَتُهُمْ يَكُونُونَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فِيهَا. وَالَّذِي يَنْبَغِي تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهِ: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْرَافَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَكَانًا يُوقِفُ بِهِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَبْلَ دُخُولِهِ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِقَابِ خَفِيفٌ، فَجَعَلَ الدَّاخِلِينَ إِلَى الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتِينَ فِي السَّبْقِ تَفَاوُتًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَسْبَابَهُ وَمَقَادِيرَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] وَخَصَّ اللَّهُ

بِالْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ مِنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ خَاصَّةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُؤمنِينَ برسلهم، وأيّاما كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ هُمْ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَتَنْوِينُ كُلًّا عَوِضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. أَيْ كُلَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَالسِّيمَا بِالْقَصْرِ السِّمَةُ أَيِ الْعَلَامَةُ، أَيْ بِعَلَّامَةٍ مَيَّزَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَاشْتِقَاقُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [273] . وَنِدَاؤُهُمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ فِي اتِّصَالٍ بَعِيدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ أَمَارَةً لَهُمْ بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ تَرْتَاحُ لَهَا نُفُوسُهُمْ. وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ حَالَهُمْ هَذِهِ لِلنَّاسِ إِيذَانًا بِذَلِكَ وَبَانَ طَمَعُهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ هُوَ طَمَعٌ مُسْتَنِدٌ إِلَى عَلَامَاتِ وُقُوعِ الْمَطْمُوعِ فِيهِ، فَهُوَ مِنْ صِنْفِ الرَّجَاءِ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء 82] . وأَنْ تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. وسَلامٌ عَلَيْكُمْ دُعَاءُ تَحِيَّةٍ وَإِكْرَامٍ. وَجُمْلَةُ: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ يُثِيرُ سُؤَالًا يَبْحَثُ عَنْ كَوْنِهِمْ صَائِرِينَ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَطْمَعُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُوها وَالْجُمْلَتَانِ مَعًا مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ وَجُمْلَةُ وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ. وَجُمْلَةُ: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ. وَالصَّرْفُ: أَمَرُ الْحَالِ بِمُغَادَرَةِ الْمَكَانِ. وَالصَّرْفُ هُنَا مَجَازٌ فِي الِالْتِفَاتِ أَوِ اسْتِعَارَةٌ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْمَجْهُولِ هُنَا جَارٍ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي أَمْثَالِهِ مِنَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 إلى 49]

الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُتَطَلَّبُ لَهَا فَاعِلٌ، وَقَدْ تَكَوَّنَ لِهَذَا الْإِسْنَادِ هُنَا فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ إِلَّا نَظَرًا شَبِيهًا بِفِعْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْفِعْلِ حَامِلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَتْ تَكْرَهُ الْمَنَاظِرَ السَّيِّئَةَ فَإِنَّ حُبَّ الِاطِّلَاعِ يَحْمِلُهَا عَلَى أَنْ تُوَجِّهَ النَّظَرَ إِلَيْهَا آوِنَةً لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لَدَيْهَا. وَالتِّلْقَاءُ: مَكَانُ وُجُودِ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْوُجُودِ مُلَاقٍ للموجود فِيهِ. [48، 49] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 48 إِلَى 49] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: أَصْحابُ الْأَعْرافِ لِلْعَهْدِ بِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَافِ: 46] وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ هُنَا رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الرِّجَالُ يُنَادِيهِمْ جَمِيعُ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَعْرَافِ، وَلَا أَنْ يَعْرِفَهُمْ بِسِيمَاهُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الْأَعْرَافِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ، فَالْمَقْصُودُ بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ هُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَاف: 46] كأنّه قِيلَ: وَنَادَى أُولَئِكَ الرِّجَالُ الَّذِينَ عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالًا. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ هُنَا بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، إِذْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ. وَنَادَوْا رِجَالًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّدَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا يَصْلُحُ لِعَوْدِ الضَّمَائِرِ إِلَيْهِ وَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ دَفْعًا لِلِالْتِبَاسِ.

وَالنِّدَاءُ يُؤْذِنُ بِبُعْدِ الْمُخَاطَبِ فَيَظْهَرُ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ لَمَّا تَطَلَّعُوا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى النَّارِ عَرَفُوا رِجَالًا، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا مُرَّ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ النَّارِ عَرَفُوا رِجَالًا كَانُوا جَبَّارِينَ فِي الدُّنْيَا. وَالسِّيمَا هُنَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُشَخِّصَاتِ الذَّاتِيَّةَ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْأَشْخَاصُ، وَلَيْسَتِ السِّيمَا الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا أَهْلُ النَّارِ كُلُّهُمْ كَمَا هُوَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فِيهِ نِذَارَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِجَبَابِرَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِمْ عَبِيدٌ وَفُقَرَاءُ فَإِذَا سَمِعُوا بِشَارَاتِ الْقُرْآنِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ سَكَتُوا عَمَّنْ كَانَ مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ وَسَادَتِهِمْ. وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الضِّعَافُ وَالْعَبِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ فَرَضُوا صِدْقَ وُجُودِ جَنَّةٍ، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ بِأَهْلٍ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ، وَقَصْدُهُمْ مِنْ هَذَا تَكْذِيب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ مَا يَحْسَبُونَهُ خَطَلًا مِنْ أَقْوَالِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] فَجَعَلُوا تَمَزُّقَ الْأَجْسَادِ وَفَنَاءَهَا دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ الْحَشْرِ، وَسَكَتُوا عَنْ حَشْرِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَمْ تُمَزَّقْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَضَعْفِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّخْلِيطِ بَيْنَ الْعَادِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ. قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: «يُنَادِي أَهْلُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ عَلَى السُّورِ يَا وَلِيدُ بْنَ الْمُغِيرَةِ يَا أَبَا جَهْلَ بْنَ هِشَامٍ يَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ» فَهَؤُلَاءِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. وَمَعْنَى جَمْعُكُمْ يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ النَّاسِ، أَيْ مَا أَغْنَتْ عَنْكُمْ كَثْرَتُكُمُ الَّتِي تَعْتَزُّونَ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْجَمْعِ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. أَيْ مَا جَمَعْتُمُوهُ مِنَ الْمَالِ وَالثَّرْوَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: 28] .

وَ (مَا) الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَمَعْنَى مَا أَغْنى مَا أَجْزَى مَصْدَرُهُ الْغَنَاءُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَبِالْمَدِّ-. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْخَطَأِ. وَ (مَا) الثَّانِيَةُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ وَاسْتِكْبَارُكُمُ الَّذِي مَضَى فِي الدُّنْيَا، وَوَجْهُ صَوْغِهِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ دُونَ الْمَصْدَرِ إِذْ لَمْ يَقُلْ اسْتِكْبَارُكُمْ لِيَتَوَسَّلَ بِالْفِعْلِ إِلَى كَوْنِهِ مُضَارِعًا فَيُفِيدُ أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ كَانَ دَأْبَهُمْ لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ. وَالْإِشَارَةُ بِ أَهؤُلاءِ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الدُّنْيَا وَمُحَقَّرِينَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ- وَقَوْلِهِ- ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَؤُلَاءِ مِثْلُ سَلْمَانَ، وَبِلَالٍ، وَخَبَّابٍ، وَصُهَيْبٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ قَدِ اسْتَقَرُّوا فِي الْجَنَّةِ فَجَلَّاهُمْ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ وَلِلرِّجَالِ الَّذِينَ خَاطَبُوهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحِوَارُ قَدْ وَقَعَ قَبْلَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ. وَقَسَمُهُمْ عَلَيْهِمْ لِإِظْهَارِ تَصَلُّبِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُخَامِرُهُمْ شَكٌّ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْل: 38] . وَقَوْلُهُ: لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ هُوَ الْقسم عَلَيْهِ، وَقَدْ سَلَّطُوا النَّفْيَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى مُرَاعَاةِ نَفْيِ كَلَامٍ يَقُولُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ بِشَارَاتِ الْقُرْآنِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ، وَوَعْدَهُ إِيَّاهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَثَنَاءَهُ عَلَيْهِمْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ كَلَامٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَنَالُهُمْ بِرَحْمَةٍ، أَيْ بِأَنْ جَعَلَ إِيوَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِدَارِ رَحْمَتِهِ، أَيِ الْجَنَّةِ، بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ وَهُوَ حُصُولُ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ [الْأَعْرَاف: 37] آنِفًا، فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيوَاءِ فِعْلَ (يَنَالُ) عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 إلى 51]

وَجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلنَّيْلِ كَمَا يُقَالُ: نَالَ الثَّمَرَةَ بِمِحْجَنٍ. فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ. أَوْ جُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مُلَابَسَةً لِلنَّيْلِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالنَّيْلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَقَدْ عَمَدُوا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ فَنَفَوْهُ فَقَالُوا: لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ. وَهَذَا النّظم الَّذين حُكِيَ بِهِ قَسَمُهُمْ يُؤْذِنُ بِتَهَكُّمِهِمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ نَظْمِهَا. وَجُمْلَةُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قِيلَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقُولُ جُمْلَةً إِنْشَائِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ لَهُمُ اللَّهُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَكَذَّبَ اللَّهُ قَسَمَكُمْ وَخَيَّبَ ظَنَّكُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لِلدُّعَاءِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِهَؤُلَاءِ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِينَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْأَعْرَاف: 46، 47] فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ الْأَمْرِ لِلدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ: ابْقَ فِي نِعْمَةٍ بَقَاء الدّهور ... نَافِذا لحكم فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَإِذْ قَدْ كَانَ الدُّخُولُ حَاصِلًا فَالدُّعَاءُ بِهِ لِإِرَادَةِ الدَّوَامِ كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي عَلَى الْخَارِجِ: اخْرُجْ غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وَرُفِعَ خَوْفٌ مَعَ (لَا) لِأَنَّ أَسْمَاءَ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا أَفْرَادٌ فِي الْخَارِجِ يَسْتَوِي فِي نَفْيِهَا بِلَا الرَّفْعُ وَالْفَتْحُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَعْرَاف: 35] . [50، 51] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 50 الى 51] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.

الْقَوْلُ فِي نَادَى وَفِي أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ كَالْقَوْلِ فِي: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا [الْأَعْرَاف: 44] الْآيَةَ. وَأَصْحَابُ النَّارِ مُرَادٌ بِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِيُوَافِقَ قَوْلَهُ بَعْدُ وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ [الْأَعْرَاف: 52] . فِعْلُ الْفَيْضِ حَقِيقَتُهُ سَيَلَانُ الْمَاءِ وَانْصِبَابُهُ بِقُوَّةٍ وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْكَثْرَةِ، وَمِنْهُ مَا فِي الْحَدِيثِ: «وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» . وَيَجِيءُ مِنْهُ مَجَازٌ فِي السَّخَاءِ وَوَفْرَةِ الْعَطَاءِ، وَمِنْهُ مَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لِطَلْحَةَ: «أَنْتَ الْفَيَّاضُ» . فَالْفَيْضُ فِي الْآيَةِ إِذَا حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ أَصْحَابُ النَّارِ طَالِبِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَنْ يَصُبُّوا عَلَيْهِمْ مَاءً لِيَشْرَبُوا مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى الْمُفْرَدِ. فَيُقَدَّرُ عَامِلٌ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ يُنَاسِبُ مَا عَدَا الْمَاءَ تَقْدِيرُهُ: أَوْ أَعْطُونَا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ) : عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَبَّتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا تَقْدِيرُهُ: عَلَفْتُهَا وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ (مِنْ) بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَوْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ، لِأَنَّ: أَفِيضُوا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ الْفَيْضُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ سِعَةُ الْعَطَاءِ وَالسَّخَاءِ، مِنَ الْمَاءِ وَالرِّزْقِ، إِذْ لَيْسَ مَعْنَى الصَّبِّ بِمُنَاسِبٍ بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِرْسَالُ وَالتَّفَضُّلُ، وَيَكُونُ الْعَطْفُ عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَهُوَ أَصْلُ الْعَطْفِ. وَيَكُونُ سُؤْلُهُمْ مِنَ الطَّعَامِ مُمَاثِلًا لِسُؤْلِهِمْ مِنَ الْمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْحَمْلِ

تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَهْلُ سَخَاءٍ، وَتَكُونُ (مِنْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَيَانِيَّةً لِمَعْنَى الْإِفَاضَةِ، وَيَكُونُ فِعْلُ أَفِيضُوا مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَتَتَعَلَّقُ مِنْ بِفِعْلِ أَفِيضُوا. وَالرِّزْقُ مُرَادٌ بِهِ الطَّعَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ [الْبَقَرَة: 25] الْآيَةَ. وَضَمِيرُ قالُوا لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالِ أَصْحَابِ النَّارِ، وَلِذَلِكَ فَصَلَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. وَالتَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِ: حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْمَنْعُ كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ وَقَوْلِهِ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] . وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَعُرِفُوا بِإِنْكَارِ لِقَاءِ يَوْمِ الْحَشْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- الْحَياةُ الدُّنْيا هُوَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً إِلَخْ صِفَةً لِلْكَافِرِينَ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً مُبْتَدَأً عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى جَعْلِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ دَاخِلَةً عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ لِتَشْبِيهِ اسْمِ الْمَوْصُولِ بِأَسْمَاءِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَاللَّذَانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: 16] وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً- إِلَى قَوْلِهِ- وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ آيَةً وَاحِدَةً فِي تَرْقِيمِ أَعْدَادِ آيِ الْمَصَاحِفِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ. فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. اعْتِرَاضٌ حُكِيَ بِهِ كَلَامٌ يُعْلَنُ بِهِ، مِنْ جَانِبٍ اللَّهِ تَعَالَى، يَسْمَعُهُ الْفَرِيقَانِ. وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ هُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهَذَا الْأَلْيَقُ بِمَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ جَعْلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً إِلَى آخِرِهِ حِكَايَةً لِكَلَامِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً الْآيَةَ، وَهَذَا الْعَطْفُ بِالْفَاءِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى بِعَطْفِ التَّلْقِينِ الْمُمَثَّلِ لَهُ غَالِبًا بِمَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ فَهُوَ عَطْفُ كَلَامِ. مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قَالَ اللَّهُ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ، فَحَذَفَ فِعْلَ الْقَوْلِ، وَهَذَا تَصْدِيقٌ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلُوا قَوْلَهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ الْفَاءُ عِنْدَهُمْ تَفْرِيعًا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ. وَالنِّسْيَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِهْمَالِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا نَاسِينَ لِقَاءَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ كَانُوا يَذْكُرُونَهُ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ حَدِيثَ مَنْ لَا يُصَدِّقُ بِوُقُوعِهِ. وَتَعْلِيقُ الظَّرْفِ بِفِعْلِ: نَنْساهُمْ لِإِظْهَارِ أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ كَانَ فِي أَشَدِّ أَوْقَاتِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا. فَكَانَ لِذِكْرِ الْيَوْمِ أَثَرٌ فِي إِثَارَةِ تَحَسُّرِهِمْ وَنَدَامَتِهِمْ، وَذَلِكَ عَذَابٌ نَفْسَانِيٌّ.

[سورة الأعراف (7) : آية 52]

وَدَلَّ مَعْنَى كَافِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما نَسُوا عَلَى أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَانَ مُمَاثِلًا لِإِهْمَالِهِمُ التَّصْدِيقَ بِاللِّقَاءِ، وَهِيَ مُمَاثَلَةُ جَزَاءِ الْعَمَلِ لِلْعَمَلِ، وَهِيَ مُمَاثَلَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ الْكَافَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّعْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ مَعْنًى يَتَوَلَّدُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْكَافِ فِي التَّشْبِيهِ الِاعْتِبَارِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا التَّشْبِيهُ بِمَجَازٍ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقَةٌ خَفِيَّةٌ لِخَفَاءِ وَجْهِ الشَّبَهِ. وَقَوْلُهُ: كَما نَسُوا ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ نَنْساهُمْ أَيْ نِسْيَانًا كَمَا نَسُوا. وَ (مَا) فِي: كَما نَسُوا وَفِي وَما كانُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ كَنِسْيَانِهِمُ اللِّقَاءَ وَكَجَحْدِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَمَعْنَى جَحْدِ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [33] . [52] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 52] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الْوَاوُ فِي وَلَقَدْ جِئْناهُمْ عَاطِفَةٌ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 50] ، عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَالْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ، فَهُوَ كَلَامٌ أَنِفٌ انْتُقِلَ بِهِ مِنْ غَرَضِ الْخَبَرِ عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى غَرَضِ وَصْفِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، الْمُسْتَوْجِبِينَ بِهَا لِمَا سَيُلَاقُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي عَقَّبَ اللَّهُ بِهِ كَلَامَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الْأَعْرَاف: 51] لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: 53] إِلَخْ، يَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ فِي الدُّنْيَا، فَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ: جِئْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: 40] الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكِتابٍ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ جِئْناهُمْ، مِثْلُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] فَمَعْنَاهُ: أَجَأْنَاهُمْ كِتَابًا، أَي جَعَلْنَاهُ جَاءَ يَا إيَّاهُم، فيؤول إِلَى مَعْنَى أَبْلَغْنَاهُمْ إِيَّاهُ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِمْ. وَتَأْكِيدُ هَذَا الْفِعْلِ بلام الْقسم و (قد) إِمَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ (كِتَابٍ) ، وَهِيَ جُمْلَةُ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَإِمَّا تَأْكِيدٌ لِفِعْلِ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ وَهُوَ بُلُوغُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ خَارِجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، بِتَنْزِيلِ الْمُبَلَّغِ إِلَيْهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ بُلُوغَ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي شَأْنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْكِتَابُ، وَقَدْ يُنَاسِبُ هَذَا الِاعْتِبَارُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ بَعْدُ: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَاف: 53] . وَتَنْكِيرُ (كِتَابٍ) ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، قُصِدَ بِهِ تَعْظِيمُ الْكِتَابِ، أَوْ قُصِدَ بِهِ النَّوْعِيَّةُ، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا كِتَابٌ كَالْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِنْ قَبْلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ [2] . وفَصَّلْناهُ أَيْ بَيَّنَاهُ أَيْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ، وَالتَّفْصِيلُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [55] . وعَلى عِلْمٍ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ فَصَّلْناهُ أَيْ حَالَ كَوْنِنَا على علم، و (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، تَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ مَجْرُورِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] . وَمَعْنَى هَذَا التَّمَكُّنِ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى ذَاتِيٌّ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ. وَتَنْكِيرُ عِلْمٍ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ عَالِمِينَ أَعْظَمَ الْعِلْمِ، وَالْعَظَمَةُ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى كَمَالِ الْجِنْسِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَأَعْظَمُ الْعِلْمِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ

[سورة الأعراف (7) : آية 53]

وَلَا الْخَفَاءَ أَيْ عَالِمِينَ عِلْمًا ذَاتِيًّا لَا يَتَخَلَّفُ عَنَّا وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَاتِهِ، أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَلَا التَّرَدُّدَ. وهُدىً وَرَحْمَةً حَال من بِكِتابٍ. أَوْ مِنْ ضَمِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَصَّلْناهُ. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْمَصْدَرَيْنَ هُدىً وَرَحْمَةً إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ هَدْيِهِ النَّاسَ وَجَلْبِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ تَوَصَّلُوا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالرَّحْمَةِ. وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا قَدْ حُرِمُوا الِاهْتِدَاءَ وَالرَّحْمَةَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. [53] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 53] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53) جُمْلَةُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ: فَمَاذَا يُؤَخِّرُهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ وَهَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ آيَةً عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ كَالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، الَّذِي يَجِيشُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَمَعْنَى يَنْظُرُونَ يَنْتَظِرُونَ مِنَ النَّظْرَةِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَظَرَاتِ، وَالْمُرَادُ الْمُنْتَظَرَاتُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ الْآيَاتُ، أَيْ

مَا يَنْتَظِرُونَ آيَةً أَعْظَمَ إِلَّا تَأْوِيلَ الْكِتَابِ، أَيْ إِلَّا ظُهُورَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَإِطْلَاقُ الِانْتِظَارِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ: شَبَّهُ حَالَ تَمَهُّلِهِمْ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي سَيَحِلُّ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ بِحَالِ الْمُنْتَظِرِينَ، وَهُمْ لَيْسُوا بِمُنْتَظِرِينَ ذَلِكَ إِذْ هُمْ جَاحِدُونَ وُقُوعَهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [مُحَمَّد: 18]- وَقَوْلِهِ- فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس: 102] وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَيْسَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي فِعْلِ يَنْظُرُونَ فَقَطْ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ نِسْيَانِهِمْ وَجُحُودِهِمْ بِالْآيَاتِ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [158] . وَالتَّأْوِيلُ تَوْضِيحُ وَتَفْسِيرُ مَا خَفِيَ، مِنْ مَقْصِدِ كَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ، وَتَحْقِيقُهُ، قَالَ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 78] وَقَالَ: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [يُوسُف: 100] وَقَالَ: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النِّسَاء: 59] وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُ وَمَعْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَضَمِيرُ تَأْوِيلَهُ عَائِدٌ إِلَى (كِتَابٍ) مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ [الْأَعْرَاف: 52] . وَتَأْوِيلُهُ وُضُوحُ مَعْنَى مَا عَدُّوهُ مُحَالًا وَكَذِبًا، مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَرِسَالَةِ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِ وَالْعِقَابِ، فَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ أَيْ تَحْقِيقُهُ وَوُضُوحُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَمَا بَعْدَ الْعَيَانِ بَيَانٌ. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ جُمْلَةُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ إِلَخْ، فَلِذَلِكَ فَصَّلَتْ، لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِلْمُرَادِ مِنْ تَأْوِيلِهِ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي سَيَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بِدَلِيلِ تَعَلُّقِهِ بُقُولِهِ: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا يَقُولُونَهُ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَإِتْيَانُ تَأْوِيلِهِ مَجَازٌ فِي ظُهُورِهِ وَتَبَيُّنِهِ بِعَلَاقَةِ لُزُومِ ذَلِكَ لِلْإِتْيَانِ. وَالتَّأْوِيلُ مُرَادٌ بِهِ مَا بِهِ ظُهُورُ الْأَشْيَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ. فِيمَا أَخْبَرَهُمْ وَمَا تَوَعَّدَهُمْ. والَّذِينَ نَسُوهُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ مُعَادُ ضَمِيرِ يَنْظُرُونَ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: يَقُولُونَ، إِلَّا أَنَّهُ أُظْهِرَ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَسُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَأَنْكَرُوهُ، تَسْجِيلًا مُرَادًا بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى خَطَئِهِمْ وَالنَّعْيُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ بِإِعْرَاضِهِمْ سُوءَ الْعَاقِبَةِ لِأَنْفُسِهِمْ. وَالنِّسْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْرَاضِ وَالصَّدِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الْأَعْرَاف: 51] . وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمُقَدَّرُ الْمُنْبِئُ عَنْهُ بِنَاءُ (قَبْلُ) عَلَى الضَّمِّ: هُوَ التَّأْوِيلُ، أَوِ الْيَوْمُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ تَأْوِيلِهِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَخْبَارِ مُطَابَقَتُهَا لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، أَيْ يَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْحَقَّ وَيُصَرِّحُونَ بِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اعْتِرَافًا بِخَطَئِهِمْ فِي تكذيبهم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الرُّسُلَ هُنَا، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنِ المكذّبين محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ جَرَّأَهُمْ تَكْذِيبُهُ عَلَى إِنْكَارِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] أَوْ لِأَنَّهُمْ مُشَاهِدُونَ يَوْمَئِذٍ مَا هُوَ عِقَابُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ، فَيَصْدُرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ عَنْ تَأَثُّرٍ بِجَمِيعِ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ التَّهْدِيدِ الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَوْلُهُمْ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِقْرَارِ بِخَطَئِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَإِنْشَاءٌ لِلْحَسْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِبْدَاءُ الْحَيْرَةِ فِيمَا ذَا

يَصْنَعُونَ. وَلِذَلِكَ رَتَّبُوا عَلَيْهِ وَفَرَّعُوا بِالْفَاءِ قَوْلَهُمْ: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ إِلَى آخِرِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لَعَلَّ أَحَدَهُمْ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُخَلِّصٍ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُونَهُ فِي ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ مَا يُهَدِّدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوقِنُوا بِانْتِفَاءِ الشُّفَعَاءِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشُّعَرَاء: 100، 101] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّمَنِّي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّفْيِ. عَلَى مَعْنَى التَّحَسُّرِ وَالتَّنَدُّمِ. ومِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ. فَتُفِيدُ تَوْكِيدَ الْعُمُومِ فِي الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، لِيُفِيدَ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ عَمَّنْ تَوَهَّمُوهُمْ شُفَعَاءَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، إِذْ قَدْ يَئِسُوا مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الْأَعْرَاف: 94] بَلْ هُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَيِّ شَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهُمْ. وَلَوْ يَكُونُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي نَاصَبُوهُ الْعَدَاءَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [11] فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. وَانْتَصَبَ فَيَشْفَعُوا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، أَوِ التَّمَنِّي، أَوِ النَّفْيِ. «وَالشُّفَعَاءُ» جَمْعُ شَفِيعٍ وَهُوَ الَّذِي يَسْعَى بِالشَّفَاعَةِ، وَهُمْ يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [254] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [85] . وَعَطَفَ فِعْلَ نُرَدُّ بِ (أَوْ) عَلَى مَدْخُولِ الِاسْتِفْهَامِ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْآخَرِ، فَإِذَا حَصَلَتِ الشَّفَاعَةُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الرَّدِّ، وَإِذَا حَصَلَ الرَّدُّ اسْتُغْنِيَ عَنِ الشَّفَاعَةِ.

وَإِذْ كَانَتْ جُمْلَةُ لَنا مِنْ شُفَعاءَ وَاقِعَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا تَكُونُ وَاقِعَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ رَفْعُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَرَفْعُهُ بِتَجَرُّدِهِ عَنْ عَامِلِ النَّصْبِ وَعَامِلِ الْجَزْمِ، فَوَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ كَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَبَعًا لِلْفَرَّاءِ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَأْوِيلِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، بِرَدِّهَا إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، بِتَقْدِيرِ: هَلْ يَشْفَعُ لَنَا شُفَعَاءُ كَمَا قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ، لِعَدَمِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ انْتَصَبَ: فَنَعْمَلَ فِي جَوَابِ نُرَدُّ كَمَا انْتَصَبَ فَيَشْفَعُوا فِي جَوَابِ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ فِي قَوْلِهِمْ: فَنَعْمَلَ مَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ، وَهُوَ الْأَهَمُّ، مِثْلُ اعْتِقَادِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ عَمَلِيَّةٌ، مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَامْتِثَالٍ. وَالْمُرَادُ بِالْصِلَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ قَوْلِهِمْ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أَيْ فَنَعْمَلُ مَا يُغَايِرُ مَا صَمَّمْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَجُمْلَةُ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَذْيِيلًا وَخُلَاصَةً لِقِصَّتِهِمْ، أَيْ فَكَانَ حَاصِلُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْآنِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. وَالْخَسَارَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، [12] وَقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [9] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا أَقْحَمُوا فِيهِ نُفُوسَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُفْضٍ بِهِمْ إِلَى تَحَقُّقِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ، فَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْآنِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَشْعُرُونَ.

[سورة الأعراف (7) : آية 54]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ فَالضَّلَالُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَدَمِ طَرِيقَةُ التَّهَكُّمِ شَبَّهَ عَدَمَ شُفَعَائِهِمُ الْمَزْعُومِينَ بِضَلَالِ الْإِبِلِ عَنْ أَرْبَابِهَا تَهَكُّمًا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّهَكُّمُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى مُحَاكَاةِ ظَنِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ قَبْلُ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا [الْأَعْرَاف: 37] . وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مَوْصُولَةٌ، مَا صَدَّقَهَا الشُّفَعَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَحُذِفَ عَائِدُ الصِّلَةِ الْمَنْصُوبُ، أَيْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ، أَيْ يُكَذِّبُونَهُ إِذْ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا [يُونُس: 18] ، وَهُمْ جَمَادٌ لَا حَظَّ لَهُم فِي شؤون الْعُقَلَاءِ حَتَّى يَشْفَعُوا، فَهُمْ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُمْ مِنَ الْآنِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالْمُضِيِّ لِأَنَّ الضَّلَالَ الْمُسْتَعَارَ لِلْعَدَمِ مُتَحَقِّقٌ مِنْ ماضي الْأَزْمِنَة. [54] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) جَاءَتْ أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَنَاسِبَةً مُتَمَاسِكَةً، فَإِنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ وَنَبْذِ مَا يَصُدُّ عَنْهُ وَهُوَ اتِّبَاعُ الشِّرْكِ ثُمَّ التَّذْكِيرِ بِالْأُمَمِ الَّتِي أَعْرَضَتْ عَنْ طَاعَةِ رُسُلِ اللَّهِ، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهَا، وَبِخَلْقِ أَصْلِ الْبَشَرِ وَخَلْقِهِمْ، وَخَلَّلَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِأَصْلِ الْبَشَرِ وَلِلْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] . وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّنْدِيدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ تَسْوِيلَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [الْأَعْرَاف: 28] ، ثُمَّ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى الْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَعْرَاف: 35] الْآيَةَ.

وَبِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ ظَلَمُوا بِنَكْثِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ [الْأَعْرَاف: 37] وَتَوَعَّدَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ أَحْوَالَ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَعَقِبُ ذَلِكَ عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ [الْأَعْرَاف: 52] وَأَنْهَاهُ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَعْرَاف: 53] . فَلَا جَرَمَ تَهَيَّأَتِ الْأَسْمَاعُ وَالْقُلُوبُ لِتَلَقِّي الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ، ثُمَّ لِبَيَانِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَمَجْدِهِ فَلِذَلِكَ اسْتُؤْنِفَ بِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ، اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَادَ بِهِ التَّذْكِيرُ إِلَى صَدْرِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الْأَعْرَاف: 3] ، فَكَانَ مَا فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْلُوبِ الْمَنْطِقِيِّ، وَكَانَ مَا بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْهَانِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِلْبُرْهَانِ، وَالنَّتِيجَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْمَطْلُوبِ إِلَّا أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَوْضَحَ وَأَشَدَّ تَفْصِيلًا. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً، وَلِذَلِكَ كَانَ لِلتَّأْكِيدِ بِحَرْفِ (إِنَّ) مَوْقِعُهُ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ انْفِرَادَ اللَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَإِذْ كَانَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ يَزِيدُ الْمُسْلِمِينَ بَصِيرَةً بِعِظَمِ مَجْدِ اللَّهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ، وَيَزِيدُهُمْ ذِكْرَى بِدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ، كَانَ الْخِطَابُ صَالِحًا لِتَنَاوُلِ الْمُسْلِمِينَ، لِصَلَاحِيَةِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ سُدًى، لِأَنَّهُ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلِأَنَّ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ (مَا) هُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَقُ مِثْلُ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَاف: 55] وَقَوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] وَبَعْضُهُ بِالْكَافِرِينَ أَنْسَبُ مِثْلُ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 57] . وَقَدْ جُعِلَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ الرَّبَّ، وَالْخَبَرُ اسْمَ الْجَلَالَةِ: لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّبَّ لَكُمُ الْمَعْلُومُ عِنْدَكُمْ هُوَ الَّذِي اسْمُهُ الدَّالُّ عَلَى ذَاتِهِ: اللَّهُ، لَا غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ

لَهُ هَذَا الِاسْمُ، عَلَى مَا هُوَ الشَّأْنُ، فَهِيَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ فِي نَحْوِ: أَنَا أَخُوكَ، يُقَالُ لِمَنْ يَعْرِفُ الْمُتَكَلِّمُ وَيَعْرِفُ أَنَّ لَهُ أَخًا وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ أَخُوهُ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِفَادَةُ مَا يُسَمَّى فِي الْمَنْطِقِ بِحَمْلِ الْمُوَاطَأَةِ، وَهُوَ حَمْلُ (هُوَ هُوَ) وَلِذَلِكَ يُخَيَّرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي جَعْلِ أحد الجزأين مُسْند إِلَيْهِ، وَجَعْلِ الْآخَرِ مُسْنَدًا، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ يَجْعَلَ أَقْوَاهُمَا مَعْرِفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ. لِيَكُونَ الْحَمْلُ أَجْدَى إِفَادَةً، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ يَصِفُ فَارِسًا فِي غَارَةٍ: يَخُوضُ بَحْرًا نَقْعُهُ مَاؤُهُ ... يَحْمِلُهُ السَّابِحُ فِي لِبْدِهِ إِذْ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ لِلْفَارِسِ عِنْدَ الْغَارَةِ نَقْعًا. وَعَلِمَ أَنَّ الشَّاعِرَ أَثْبَتَ لِلْفَارِسِ بَحْرًا وَأَنَّ لِلْبَحْرِ مَاءً، فَقَدْ صَارَ النَّقْعُ وَالْبَحْرُ مَعْلُومَيْنِ لِلسَّامِعِ، فَأَفَادَهُ أَنَّ نَقْعَ الْفَارِسِ هُوَ مَاءُ الْبَحْرِ الْمَزْعُومُ، لِأَنَّهُ أَجْدَى لِمُنَاسَبَةِ اسْتِعَارَةِ الْبَحْرِ لِلنَّقْعِ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ يُعْوِزُ الْمُعَرِّيَّ أَنْ يَقُولَ: مَاؤُهُ نَقْعُهُ (1) فَمَنِ انْتَقَدَ الْبَيْتَ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْصِفْهُ.

وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَثْبُتُونَ الرُّبُوبِيَّةَ لِلَّهِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَمْتَرُونَ فِي ذَلِكَ، لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي كَوْنِ اللَّهِ رَبًّا لَهُمْ لِكَثْرَةِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَتَوَجُّهَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالصِّلَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَكْفِيهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ بِسُورَةِ الْأَنْعَامِ [1] . وَقَوْلُهُ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَعْلِيمٌ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَيَحْصُلُ مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ زِيَادَةُ شُعُورٍ بِضَلَالِهِمْ فِي تَشْرِيكِ غَيْرِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَحَدٍّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 197] وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الِاسْتِدْلَال على الواحدانية، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُدَرَّجًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ دُفْعَةً، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَوَالِمَ مُتَوَلِّدًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، لِتَكُونَ أَتْقَنَ صُنْعًا مِمَّا لَوْ خُلِقَتْ دُفْعَةً، وَلِيَكُونَ هَذَا الْخَلْقُ مَظْهَرًا لِصِفَتَيْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، فَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِخَلْقِهَا دُفْعَةً، لَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ أَقْتَضَيَا هَذَا التَّدَرُّجَ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ أَقَلَّ زَمَنٍ يَحْصُلُ فِيهِ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَلُّدِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَلَعَلَّ تَكَرُّرَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ الْبَدِيعَةِ، مِنْ كَوْنِهَا مَظْهَرَ سِعَةِ الْعِلْمِ وَسِعَةِ الْقُدْرَةِ.

وَظَاهِرُ الْآيَاتِ أَنَّ الْأَيَّامَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ لِلنَّاسِ، الَّتِي هِيَ جَمْعُ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ مُدَّةٌ تُقَدَّرُ مِنْ مَبْدَإِ ظُهُورِ الشَّمْسِ فِي الْمَشْرِقِ إِلَى ظُهُورِهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ثَانِيَةً، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالتَّقْدِيرُ فِي مَا يُمَاثِلُ تِلْكَ الْمُدَّةِ سِتَّ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَوْمِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَتَحَقَّقْ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِيُمْكِنَ ظُهُورُ نُورِ الشَّمْسِ عَلَى نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَظُهُورُ الظُّلْمَةِ عَلَى ذَلِكَ النِّصْفِ إِلَى ظُهُورِ الشَّمْسِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَيَّامَ هُنَا جَمْعُ الْيَوْمِ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ مُدَّةُ أَلْفِ سَنَةٍ، فَسِتَّةُ أَيَّامٍ عِبَارَةٌ عَنْ سِتَّةِ آلَافٍ مِنَ السِّنِينَ نَظَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: 47] وَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السَّجْدَة: 5] ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَاخْتَارَهُ النَّقَاشُ، وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: فِي سِتَّةِ أَوْقَاتٍ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الْأَنْفَال: 16] أَيْ حِينَ إِذْ يَلْقَاهُمْ زَحْفًا، وَمَقْصُودُ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ خُلِقَتْ عَالَمًا بَعْدَ عَالَمٍ وَلَمْ يَشْتَرِكْ جَمِيعُهَا فِي أَوْقَاتِ تَكْوِينِهَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْأَيَّامُ مُرَادٌ بِهَا مَقَادِيرٌ لَا الْأَيَّامُ الَّتِي وَاحِدُهَا يَوْمٌ الَّذِي هُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا إِذْ لَمْ تَكُنْ شَمْسٌ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَالتَّعَمُّقُ فِي الْبَحْثِ فِي هَذَا خُرُوجٌ عَنْ غَرَضِ الْقُرْآنِ. وَالِاسْتِوَاءُ حَقِيقَتُهُ الِاعْتِدَالُ، وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِاعْتِلَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النَّجْم: 6- 8] . وَالِاسْتِوَاءُ لَهُ مَعَانٍ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، أَشْهَرُهَا الْقَصْدُ وَالِاعْتِلَاءُ، وَقَدِ الْتُزِمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالٍ سَمَاوِيَّةٍ، كَمَا فِي هَذَا الْآيَةِ. وَنَظَائِرُهَا سَبْعُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ: هُنَا.

وَفِي يُونُسَ، وَالرَّعْدِ، وَطه، وَالْفَرْقَانِ، وَأَلْم السَّجْدَةِ، وَالْحَدِيدِ، وَفُصِّلَتْ. فَظَهَرَ لِي أَنَّ لِهَذَا الْفِعْلِ خُصُوصِيَّةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَانَ بِسَبَبِهَا أَجْدَرَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ تَبْلِيغُهُ مُجْمَلًا مِمَّا يَلِيقُ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَيُقَرِّبُ إِلَى الأفهام من مَعْنَى عَظَمَتِهِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَسَّرَهُ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ. فَالِاسْتِوَاءُ يُعَبِّرُ عَنْ شَأْنٍ عَظِيم من شؤون عَظَمَةِ الْخَالِقِ تَعَالَى، اخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ: لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَقْرَبُ مَعَانِي الْمَوَادِّ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُعَبِّرِ عَنهُ من شؤونه تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ تَعْلِيمَ مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَمْ يَكُنْ يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِأَمْثِلَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْمُغَيَّبَةِ بِعِبَارَاتٍ تُقَرِّبُهَا مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة فِي مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَلَقَّوْنَ أَمْثَالَهَا بِلَا بَحْثٍ وَلَا سُؤَالٍ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا الْمَقْصُودَ الْإِجْمَالِيَّ مِنْهَا فَاقْتَنَعُوا بِالْمَعْنَى مُجْمَلًا، وَيُسَمُّونَ أَمْثَالَهَا بِالْمُتَشَابِهَاتِ، ثُمَّ لَمَّا ظَهَرَ عَصْرُ ابْتِدَاءِ الْبَحْثِ كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ يَقُولُونَ: اسْتَوَى اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا نَعْرِفُ لِذَلِكَ كَيْفًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] ، فَكَانُوا يَأْبَوْنَ تَأْوِيلَهَا. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكًا فَقَالَ: الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. كَيْفَ اسْتَوَى يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَسَكَتَ مَالِكٌ مَلِيًّا حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: «الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَإِنِّي لَأَظُنَّكَ ضَالًّا» وَاشْتُهِرَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ: «وَأَظُنُّكَ رَجُلَ سُوءٍ أَخْرِجُوهُ عَنِّي» وَأَنَّهُ قَالَ

: «وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ» . وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا: «فَقَالَ: فَعَلَ اللَّهُ فِعْلًا فِي الْعَرْشِ سَمَّاهُ اسْتِوَاءً» . قَدْ تَأَوَّلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ تَأْوِيلَاتٍ، أَحْسَنُهَا: مَا جَنَحَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ الِاسْتِيلَاءُ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ عَلَى، وَأَنْشَدُوا على وَجه الاستيناس لِذَلِكَ قَوْلَ الْأَخْطَلِ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... بِغَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ وَأَرَاهُ بَعِيدًا، لِأَنَّ الْعَرْشَ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْإِخْبَارِ بِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَخْطَلُ قَدِ انْتَزَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِنَّ مَعَانِيَهُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَعْدِيَتِهِ بِعَلَى أَوْ بِإِلَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: اسْتَوَى عَلَا عَلَى الْعَرْشِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارْتَفَعَ فَسَوَّى خَلْقَهُنَّ. وَأَحْسَبُ أَنَّ اسْتِعَارَتَهُ تَخْتَلِفُ بِقَرِينَةِ الْحَرْفِ الَّذِي يُعَدَّى بِهِ فِعْلُهُ، فَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا فَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ، مُسْتَعْمَلٌ فِي اعْتِلَاءٍ مَجَازِيٍّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّمَكُّنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَهُوَ تَمْثِيلُ شَأْنِ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِتَدْبِيرِ الْعَوَالِمِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُهُ بِهَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْآيَاتِ السَّبْعِ وَاقِعًا عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: خَلَقَهَا ثُمَّ هُوَ يُدَبِّرُ أُمُورَهَا تَدْبِيرَ الْمَلِكِ أُمُورَ مَمْلَكَتِهِ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ. وَمِمَّا يُقَرِّبُ هَذَا الْمَعْنَى قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» . وَلِذَلِكَ أَيْضا عقب هَذَا التَّرْكِيبَ فِي مَوَاقِعِهِ كُلِّهَا بِمَا فِيهِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَقَوْلِهِ هُنَا يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِلَخْ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [3] : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [2] : وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ ألم السَّجْدَةِ [4، 5] : مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَكَمَالُ هَذَاِِ

التَّمْثِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُمَثَّلَةِ مُشَبَّهًا بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ مَوْجُودٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُمَثَّلَةِ مُشَابِهًا لِعَرْشِ الْمَلِكِ فِي الْعَظَمَةِ، وَكَوْنِهِ مَصْدَرَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ الْإِلَهِيِّ يَفِيضُ عَلَى الْعَوَالِمِ قُوَى تَدْبِيرِهَا. وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ الْمُسَمَّى بِالْعَرْشِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. فَأَمَّا إِذَا عُدِّيَ فِعْلُ الِاسْتِوَاءِ بِحَرْفِ اللَّامِ فَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ مَعْنَى الْقَصْدِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: 29] . وَقَدْ نَحَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» نَحْوًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّهُ سَلَكَ بِهِ طَرِيقَةَ الْكِنَايَةِ عَنِ الْمُلْكِ: يَقُولُونَ اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى الْعَرْشِ يُرِيدُونَ مَلَكَ. وَالْعَرْشُ حَقِيقَتُهُ الْكُرْسِيُّ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمَلِكُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النما: 23] وَقَالَ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يُوسُف: 100] ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا مُسْتَعْمَلٌ جُزْءًا مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، وَمِنْ بَدَاعَةٍ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ كَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ مُمَاثِلًا لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَذَلِكَ أَكْمَلُ التَّمْثِيلِ فِي الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ آنِفًا. وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ مَقْصُودًا لِتَقْرِيبِ شَأْن من شؤون عَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ بِحَالِ هَيْئَةٍ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ، نَاسَبَ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَا هُوَ شِعَارُ أَعْظَمِ الْمُدَبِّرِينَ لِلْأُمُورِ الْمُتَعَارَفَةِ أَعْنِي الْمُلُوكَ، وَذَلِكَ شِعَارُ الْعَرْشِ الَّذِي مِنْ حَوْلِهِ تَصْدُرُ تَصَرُّفَاتُ الْمَلِكِ، فَإِنَّ تَدْبِيرَ اللَّهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ يَكُونُ صُدُورُهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ عَمَلَ بَعْضِهِمْ مِثْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ بَعْضَهَا: فَذَكَرَتْ مَلِكَ الْجِبَالِ، وَمَلِكَ الرِّيَاحِ، وَالْمَلِكَ الَّذِي يُبَاشِرُ تَكْوِينَ الْجَنِينِ، وَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَاقِبَتَهُ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ مَوْجُودًا مُنَوَّهًا بِهِ سَمَّاهُ الْعَرْشَ ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَذَكَرَ الْعَرْشَ ذَكَرَهُ بِمَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ قَبْلَ هَذَا الْخَلْقِ. وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ

مِنَ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحِمَانِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْكُرْسِيُّ وَأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كَمَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] . وَقَدْ دَلَّتْ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اسْتِوَاءُهُ عَلَى الْعَرْشِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يُحْدِثْ تَغْيِيرًا فِي تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَعَلَّ الْمَقْصِدَ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ مَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ فَهُوَ كَالْمَقْصِدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] . وَجُمْلَةُ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، ذُكِرَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُومِ تَدْبِيرِهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفِهِ الْمُضَمَّنِ فِي الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الِاسْتِوَاءِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِهِ فِي صُورَةِ الْحَالِ لَا فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، كَمَا ذُكِرَ بِوَجْهِ الْعُمُومِ فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ [3] وَسُورَةِ الرَّعْدِ [2] بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَخَصَّ هَذَا التَّصَرُّفَ بِالذِّكْرِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَقْدِرَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ عِبْرَةِ التَّغَيُّرِ وَدَلِيلِ الْحُدُوثِ، وَلِكَوْنِهِ مُتَكَرِّرًا حُدُوثُهُ فِي مُشَاهَدَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْإِغْشَاءُ وَالتَّغْشِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ غَاشِيًا، وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ حَقِيقَتُهُ التَّغْطِيَةُ وَالْغَمُّ. فَمَعْنَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا غَاشِيًا الْآخَرَ.

وَالْغَشْيُ مُسْتَعَارٌ للإخفاء، لِأَنَّ النَّهَارَ يُزِيلُ أَثَرَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلَ يُزِيلُ أَثَرَ النَّهَارِ، وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ وَرَشَاقَةِ التَّرْكِيبِ: جَعْلُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَفْعُولَيْنِ لِفِعْلِ فَاعِلِ الْإِغْشَاءِ، فَهُمَا مَفْعُولَانِ كِلَاهُمَا صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ فَاعِلَ الْغَشْيِ، وَلِهَذَا اسْتَغْنَى بِقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ عَنْ ذِكْرِ عَكْسِهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالنَّهَارَ اللَّيْلَ، كَمَا فِي آيَةِ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: 5] لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي تَرْتِيبِ الْمَفَاعِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْفَاعِلَ فِي الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ إِذَا أَمِنَ اللَّبْسَ، وَبِالْأَحْرَى إِذَا اسْتَوَى الِاحْتِمَالَانِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ يُغْشِي- بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ- وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي التَّعْدِيَةِ. وَجُمْلَةُ: يَطْلُبُهُ إِن جعلت استينافا أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ (يُغْشِي) فَأَمْرُهَا وَاضِحٌ، وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (يَطْلُبُهُ) أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّيْلِ وَإِلَى النَّهَارِ، وَإِنْ جُعِلَتْ حَالًا تُعِينُ أَنْ تُعْتَبَرَ حَالًا مِنْ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّ كِلَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُعْتَبَرُ طَالِبًا وَمَطْلُوبًا، تَبَعًا لِاعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا مَفْعُولًا أَوَّلَ أَوْ ثَانِيًا. وَشُبِّهَ ظُهُورُ ظَلَامِ اللَّيْلِ فِي الْأُفُقِ مُمْتَدًّا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَاخْتِفَاءُ نُورِ النَّهَارِ فِي الْأُفُقِ سَاقِطًا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ حَتَّى يَعُمَّ الظَّلَامُ الْأُفُقَ بِطَلَبِ اللَّيْلِ النَّهَارَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَكَذَلِكَ يُفْهَمُ تَشْبِيهُ امْتِدَادِ ضَوْءِ الْفَجْرِ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَاخْتِفَاءِ ظَلَامِ اللَّيْلِ فِي الْأُفُقِ سَاقِطًا فِي الْمَغْرِبِ حَتَّى يَعُمَّ الضِّيَاءُ الْأُفُقَ: بِطَلَبِ النَّهَارِ اللَّيْلَ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اعْتِبَارِ التَّنَازُعِ لِلْمَفْعُولَيْنِ فِي جُمْلَةِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مَرْيَم: 27] وَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ.

وَالْحَثِيثُ: الْمُسْرِعُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ حَثَّهُ إِذَا أَعْجَلَهُ وَكَرَّرَ إِعْجَالَهُ لِيُبَادِرَ بِالْعَجَلَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَول سَلامَة من جَنْدَلٍ يَذْكُرُ انْتِهَاءَ شَبَابِهِ وَابْتِدَاءَ عَصْرِ شَيْبِهِ: أَوْدَى الشَّبَابُ الَّذِي مَجْدٌ عَوَاقِبُهُ ... فِيهِ نَلَذُّ وَلَا لَذَّاتِ لِلشِّيبِ وَلَّى حَثِيثًا وَهَذَا الشَّيْبُ يَتْبَعُهُ ... لَوْ كَانَ يُدْرِكُهُ رَكْضُ الْيَعَاقِيبِ فَالْمَعْنَى يَطْلُبُهُ سَرِيعًا مُجِدًّا فِي السُّرْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُعْفَى أَثَرُهُ. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ- بِالنَّصْبِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا السَّمَاوَاتُ. ومُسَخَّراتٍ حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِ الشَّمْسَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَرَفْعِ مُسَخَّراتٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ كَقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الشَّمْسِ. وَالتَّسْخِيرُ حَقِيقَتُهُ تَذْلِيلُ ذِي عَمَلٍ شَاقٍّ أَوْ شَاغِلٍ بِقَهْرٍ وَتَخْوِيفٍ أَوْ بِتَعْلِيمٍ وَسِيَاسَةٍ بِدُونِ عِوَضٍ، فَمِنْهُ تَسْخِيرُ الْعَبِيدِ وَالْأَسْرَى، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ الْأَفْرَاسِ وَالرَّوَاحِلِ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ الْبَقَرِ لِلْحَلْبِ، وَالْغَنَمِ لِلْجَزِّ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي تَصْرِيفِ الشَّيْءِ غَيْرِ ذِي الْإِرَادَةِ فِي عَمَلٍ عَجِيبٍ أَوْ عَظِيمٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْعُبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، بِحِيلَةٍ أَوْ إِلْهَامٍ تَصْرِيفًا يُصَيِّرُهُ من خَصَائِصه وشؤونه، كَتَسْخِيرِ الْفُلْكِ لِلْمَخْرِ فِي الْبَحْرِ بِالرِّيحِ أَوْ بِالْجَذْفِ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ لِلْأَمْطَارِ، وَتَسْخِيرِ النَّهَارِ لِلْعَمَلِ، وَاللَّيْلِ لِلسُّكُونِ، وَتَسْخِيرِ اللَّيْلِ لِلسَّيْرِ فِي الصَّيْفِ، وَالشَّمْسِ لِلدِّفْءِ فِي الشِّتَاءِ، وَالظِّلِّ لِلتَّبَرُّدِ فِي الصَّيْفِ، وَتَسْخِيرِ الشَّجَرِ لِلْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِهِ حَيْثُ خُلِقَ مُجَرَّدًا عَنْ مَوَانِعَ تَمْنَعُ

مِنِ اجْتِنَائِهِ مِثْلَ الشَّوْكِ الشَّدِيدِ، فَالْأَسَدُ غَيْرُ مُسَخَّرٍ بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ بِحَيْثُ يُسَخَّرُ إِذَا شَاءَ الْإِنْسَانُ الِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ أَوْ جِلْدِهِ بِحِيلَةٍ لِصَيْدِهِ بِزُبْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13] بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي قُوَّةِ الْعَلَاقَةِ. فَقَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أُطْلِقَ التَّسْخِيرُ فِيهِ مَجَازًا عَلَى جَعْلِهَا خَاضِعَةً لِلنِّظَامِ الَّذِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بِدُونِ تَغْيِيرٍ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ عِظَمِهَا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ غَيْرُهُ تَعَالَى وَضْعَهَا عَلَى نِظَامٍ مَحْدُودٍ مُنْضَبِطٍ. وَلَفْظُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّصْرِيفِ بِحَسْبِ الْقُدْرَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ. وَمِنْهُ أَمْرُ التَّكْوِينِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] لِأَنَّ (كُنْ) تَقْرِيبٌ لِنَفَاذِ الْقُدْرَةِ الْمُسَمَّى بِالتَّعَلُّقِ التَّسْخِيرِيِّ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيِّ أَيْضًا فَالْأَمْرُ هُنَا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ تَصْرِيفُ نِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا. وَجُمْلَةُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ التَّذْيِيلِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لِإِفَادَةِ تَعْمِيمِ الْخَلْقِ. وَالتَّقْدِيرُ: لِمَا ذُكِرَ آنِفًا وَلِغَيْرِهِ. فَالْخَلْقُ: إِيجَادُ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْأَمْرُ تَسْخِيرُهَا لِلْعَمَلِ الَّذِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَعِيَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ هَذَا الْكَلَامَ الْجَامِعَ. وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لَامُ الْمِلْكِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ هُنَا لِتَخْصِيصِهِ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ قَصْرَ جِنْسِ الْخَلْقِ وَجِنْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْء من هدا الْجِنْسِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ مَعْنَاهُ: لَيْسَ لِآلِهَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْأَمْرِ، وَأَمَّا قَصْرُ الْجِنْسِ فِي الْوَاقِعِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِ الله تَعَالَى فَذَلِك يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْقَرَائِنِ، فَالْخَلْقُ مَقْصُورٌ حَقِيقَةً عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْأَمْرُ

[سورة الأعراف (7) : آية 55]

فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِ اللَّهِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ تَدْبِيرَ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُدَبِّرُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ تَدْبِيرُهُ رَاجِعًا إِلَى تَدْبِيرِ اللَّهِ كَمَا قِيلَ فِي قِصَرِ جِنْسِ الْحَمْدِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] . وَجُمْلَةُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ تَذْيِيلٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ وَجُمْلَةِ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَاف: 55] إِذْ قَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّذْكِيرِ بِفَضْلِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، وَبِنَافِعِ تَصَرُّفَاتِهِ، عَقِبَ مَا أَجْرَى مِنْ إِخْبَارٍ عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ وَإِتْقَانِ صُنْعِهِ. وَفِعْلُ تَبارَكَ فِي صُورَةِ اشْتِقَاقِهِ يُؤْذِنُ بِإِظْهَارِ الْوَصْفِ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُتَّصِفِ بِهِ مِثْلُ: تَثَاقَلَ، أَظْهَرَ الثِّقَلَ فِي الْعَمَلِ، وَتَعَالَلَ، أَيْ أَظْهَرَ الْعِلَّةَ، وَتَعَاظَمَ: أَظْهَرَ الْعَظَمَةَ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى ظُهُورِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهِ ظُهُورًا بَيِّنًا حَتَّى كَأَنَّ صَاحِبَهُ يُظْهِرُهُ، وَمِنْهُ: تَعالَى اللَّهُ [النَّمْل: 63] أَيْ ظَهَرَ عُلُوُّهُ، أَيْ شَرَفُهُ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا، وَمِنْهُ تَبارَكَ أَيْ ظَهَرَتْ بَرَكَتُهُ. وَالْبَرَكَةُ: شِدَّةُ الْخَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] ، وَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [92] . فَبَرَكَةُ اللَّهِ الْمَوْصُوفُ بِهَا هِيَ مَجْدُهُ وَنَزَاهَتُهُ وَقُدْسُهُ، وَذَلِكَ جَامِعٌ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ. وَاتْبَاعُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْوَصْفِ وَهُوَ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي مَعْنَى الْبَيَانِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْبَرَكَةِ وَالْمَجْدِ، لِأَنَّهُ مُفِيضُ خَيْرَاتِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، وَمُدَبِّرُ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ، بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَبَّ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْعالَمِينَ فِي سُورَة الْفَاتِحَة [2] . [55] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 55] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) اسْتِئْنَافٌ جَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ ذِكْرِ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَكْوِينِ أَشْيَاءَ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي تَكْوِينِهَا. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ

جُمْلَةِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَاف: 54] وَجُمْلَةِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الْأَعْرَاف: 57] جَرَى هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي انتهاز فرص تهنّؤ الْقُلُوبِ لِلذِّكْرَى. وَالْخِطَابُ بِ ادْعُوا خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِأَدَبِ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُشْرِكُونَ بِمُتَهَيِّئِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِدْنَاءٌ لَهُمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَمَحَبَّتِهِ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ بعده: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] . وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَ (الدُّعَاءُ) حَقِيقَتُهُ النِّدَاءُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى النِّدَاءِ لِطَلَبٍ مُهِمٍّ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعِبَادَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ والسّجود، مَعَ مقارنتها لِلْأَقْوَالِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُنَا الطَّلَبُ وَالتَّوَجُّهُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَبَدُوا اللَّهَ وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ إِشْعَارُهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ وَإِدْنَاءِ مَقَامِهِمْ مِنْهَا. وَجِيءَ لِتَعْرِيفِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ ضَمِيرِ الْغَائِبِ، مَعَ وُجُودِ مُعَادٍ قَرِيبٍ فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ اللَّهُ [الْأَعْرَاف: 54] وَدُونَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ فِي لَفْظِ الرَّبِّ إِشْعَارًا بِتَقْرِيبِ الْمُؤْمِنِينَ بِصِلَةِ الْمَرْبُوبِيَّةِ، وَلِيَتَوَسَّلَ بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِنَايَةِ الرَّبِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ [آل عمرَان: 150] . وَالتَّضَرُّعُ: إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ، وَيُطْلَقُ التَّضَرُّعُ عَلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْجَهْرَ مِنْ هَيْئَةِ التَّضَرُّعِ، لِأَنَّهُ تَذَلُّلٌ جَهْرِيٌّ، وَقَدْ فُسِّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ [63] : تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً بِالْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ، وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمُقَابَلَتِهِ بِالْخُفْيَةِ، فَيَكُونُ أُسْلُوبُهُ وَفْقًا لِأُسْلُوبِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الْأَعْرَاف: 56] وَتَكُونُ، الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِمَنْزِلَةِ (أَوْ) وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا فِيهِ أَجْوَدُ مِنْ (أَوْ) . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَبْقَى التَّضَرُّعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ مُتَذَلِّلِينَ،

أَوْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِ ادْعُوا، لِأَنَّ التَّذَلُّلَ بَعْضٌ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ فَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: وَخُفْيَةً مَأْمُورا بِهِ مَقْصُودا بِذَاتِهِ، أَيِ ادْعُوهُ مُخْفِينَ دُعَاءَكُمْ، حَتَّى أَوْهَمَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْإِعْلَانَ بِالدُّعَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ مَثُوبٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ: فإنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَنًا غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَلَى الْمِنْبَرِ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا» وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا» وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» الْحَدِيثَ. وَمَا رُوِيَتْ أَدْعِيَتُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ جَهَرَ بِهَا يَسْمَعُهَا مَنْ رَوَاهَا، فَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَضَرُّعاً إِذْنٌ بِالدُّعَاءِ بِالْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ فَإِنَّمَا هُوَ عَنِ الْجَهْرِ الشَّدِيدِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْخُشُوعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخُفْيَةً- بِضَمِّ الْخَاءِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَتَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَمْرُ تَكْرِيمٍ للْمُسلمين يتضمّن رضى اللَّهِ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ سَلَكَ فِي التَّعْلِيلِ طَرِيقَ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِإِبْطَالِ ضِدِّهِ، تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ الْأَمْرَيْنِ وَإِيجَازًا فِي الْكَلَامِ. وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ افْتُتِحَتْ بِ (إِنَّ) الْمُفِيدَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، بِقَرِينَةِ خُلُوِّ الْمُخَاطَبِينَ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَمِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، وَتَقُومَ مَقَامَ الْفَاءِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ. وَإِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى، فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا، إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ مُرَادٌ بِهَا لَازِمُ مَعْنَى الْمَحَبَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ، وَعِنْدِي فِيهِ احْتِمَالٌ، فَقَالُوا: أُرِيدَ لَازِمُ الْمَحَبَّةِ، أَيْ فِي الْمَحْبُوبِ وَالْمُحِبِّ، فَيَلْزَمُهَا اتِّصَافُ الْمَحْبُوبِ بِمَا يُرْضِي الْمُحِبَّ لِتَنْشَأَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا الِاسْتِحْسَانُ، وَيَلْزَمُهَا رِضَى الْمُحِبِّ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَإِيصَالُ النَّفْعِ لَهُ. وَهَذَانِ اللَّازِمَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا. فَإِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ وَصْفًا لِلَّهِ مَجَازٌ بِهَذَا اللَّازِمِ الْمُرَكَّبِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 56]

وَالْمُرَادُ بِ الْمُعْتَدِينَ: الْمُشْركُونَ، لأنّ يُرَادِفُ الظَّالِمِينَ. وَالْمَعْنَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ لِأَنَّهُ يُحِبُّكُمْ وَلَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ بِإِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرَّعْد: 14] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِيهَا. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ التَّضَرُّعَ عَلَى الْخُضُوعِ، فَجَعَلُوا الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ الدُّعَاءِ الْخَفِيِّ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ الْجَهْرَ بِالدُّعَاءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَتَجَاوَزَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ قَوْلَهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْأَمْرِ بِإِخْفَاءِ الدُّعَاءِ، وَجَعَلَ الْجَهْرَ بِالدُّعَاءِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالْجَاهِرِينَ بِهِ مِنَ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ. وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ نَقْلٌ عَنْهُ غَيْرُ مَضْبُوطِ الْعِبَارَةِ، كَيْفَ وَقَدْ دَعَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا ودعا أَصْحَابه. [56] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 56] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْأَعْرَاف: 55] عَطْفًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا أَنْبَأَ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَقْرِيبِهِ إِيَّاهُمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ وَشَرَّفَهُمْ بِذَلِكَ الْعُنْوَانِ الْعَظِيمِ فِي قَوْله: رَبَّكُمْ [الْأَعْرَاف: 55] ، وَعَرَّضَ لَهُمْ بِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ أَعْدَائِهِمُ الْمُعْتَدِينَ، أَعْقَبَهُ بِمَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيمَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ شَهَوَاتُهُمْ مِنْ ثَوَرَانِ الْقُوَّتَيْنِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، فَإِنَّهُمَا تَجْنِيَانِ فَسَادًا فِي الْغَالِبِ، فَذَكَّرَهُمْ بِتَرْكِ الْإِفْسَادِ لِيَكُونَ صَلَاحُهُمْ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُ فَسَادٌ، فَإِنَّهُمْ إِنْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ أَفْسَدُوا مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةً وَأَفْسَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، فَأَشْبَهَ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ، وَكَذَلِكَ دَأْبُ الْقُرْآنِ أَنْ يُعَقِّبَ التَّرْغِيبَ بِالتَّرْهِيبِ، وَبِالْعَكْسِ، لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي الْيَأْسِ أَوِ الْأَمْنِ. وَالِاهْتِمَامُ بِدَرْءِ الْفَسَادِ كَانَ مَقَامًا هُنَا مُقْتَضِيًا التَّعْجِيلَ بِهَذَا النَّهْيِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ.

وَفِي إِيقَاعِ هَذَا النَّهْيِ عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْأَعْرَاف: 55] تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُعْتَدِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَإِرْبَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ مُشَابِهَتِهِمْ، أَيْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ وَأَنْتُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْ رَبِّكُمْ، الْمَأْذُونُ لَكُمْ بِدُعَائِهِ، أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ الْمُبْعَدِينَ مِنْهُ الْمُبْغَضِينَ. وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِصْلَاحُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [11] ، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أُصُولَ الْفَسَادِ وَحَقَائِقَ الْإِصْلَاحِ، وَمَرَّ هُنَالِكَ الْقَوْلُ فِي حَذْفِ مَفْعُولِ تُفْسِدُوا مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مَا هُنَا. والْأَرْضِ هُنَا هِيَ الْجِسْمُ الْكُرَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدُّنْيَا. وَالْإِفْسَادُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ إِفْسَادٌ لِمَجْمُوعِ الْأَرْضِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْإِفْسَادِ مُؤَدِّيًا إِلَى صَلَاحٍ أَعْظَمَ مِمَّا جَرَّهُ الْإِفْسَادُ مِنَ الْمَضَرَّةِ، فَيَتَرَجَّحُ الْإِفْسَادُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُ صَلَاحٍ ضَرُورِيٍّ إِلَّا بِهِ، فَقَدْ قَطَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَطْعِ شَجَرِ الْعَدُوِّ، لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ إِصْلاحِها بَعْدِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهَا عَلَى صَلَاحٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: 10] عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ، وَعَزَّزَ ذَلِكَ النِّظَامَ بِقَوَانِينَ وَضْعَهَا اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ عِبَادِهِ، الَّذِينَ أَيَّدَهُمْ بِالْوَحْيِ وَالْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِكْمَةِ، فَعَلَّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ مَا فِي الْأَرْضِ عَلَى نِظَامٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ بِنَفْعِ النَّافِعِ وَإِزَالَةِ مَا فِي بعض النَّافِعِ مِنَ الضُّرِّ وَتَجَنُّبِ ضُرِّ الضَّارِّ، فَذَلِكَ النِّظَامُ الْأَصْلِيُّ، وَالْقَانُونُ الْمُعَزِّزُ لَهُ، كِلَاهُمَا

إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِيجَادُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَالَثَانِي جَعْلُ الضَّارِّ صَالِحًا بِالتَّهْذِيبِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [11] ، أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِيجَادِ الشَّيْءِ صَالِحًا وَبَيْنَ جَعْلِ الْفَاسِدِ صَالِحًا. فَالْإِصْلَاحُ هُنَا مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِصْلَاحٌ حَاصِلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ لَا إِصْلَاحٌ هُوَ بِصَدَدِ الْحُصُولِ، فَإِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ النِّظَامُ فَأُفْسِدَ الصَّالِحُ، وَاسْتُعْمِلَ الضَّارُّ عَلَى ضُرِّهِ، أَوِ اسْتُبِقِيَ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَتِهِ، كَانَ إِفْسَادًا بَعْدَ إِصْلَاحٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَال: 73] . وَالتَّصْرِيحُ بِالْبَعْدِيَّةِ هُنَا تَسْجِيلٌ لِفَظَاعَةِ الْإِفْسَادِ بِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَا هُوَ حَسَنٌ وَنَافِعٌ، فَلَا مَعْذِرَةَ لِفَاعِلِهِ وَلَا مَسَاغَ لِفِعْلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. عَوْدٌ إِلَى أَمْرِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ أَشْبَهَ الِاحْتِرَاسَ الْمُعْتَرِضَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً قَصْدًا لِتَعْلِيمِ الْبَاعِثِ عَلَى الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا كَيْفِيَّتَهُ، وَهَذَا الْبَاعِثُ تَنْطَوِي تَحْتَهُ أَغْرَاضُ الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعُهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ عَلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقَاتِهِمَا. وَالْخَوْفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 229] . وَالطَّمَعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [75] . وَانْتِصَابُ خَوْفاً وَطَمَعاً هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ لِأَجْلِ خَوْفٍ مِنْهُ وَطَمَعٍ فِيهِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي ادْعُوهُ.

وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ لِلدُّعَاءِ بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ: فَالْخَوْفُ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَالطَّمَعُ فِي رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، وَالدُّعَاءُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ نَحْوَ الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالدُّعَاءُ لِأَجَلِ الطَّمَعِ نَحْوَ الدُّعَاءِ بِالتَّوْفِيقِ وَبِالرَّحْمَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الدُّعَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَى خَوْفٍ وَطَمَعٍ فِي ذَاتِهِ كَمَا فَسَّرَ بِهِ الْفَخْرُ فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ صَحَّ فِي الطَّمَعِ لَا يَصِحُّ فِي الْخَوْفِ إِلَّا بِسَمَاجَةٍ. وَفِي الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ خَوْفًا وَطَمَعًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ حُظُوظِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ مُرَاعَاةَ جَانِبِ الْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَالطَّمَعِ فِي ثَوَابِهِ، وَهَذَا مِمَّا طَفَحَتْ بِهِ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ أَتَى الْفَخْرُ فِي السُّؤَالِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُلَاقٍ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَنَزَعَ بِهِ نَزْعَةَ الْمُتَصَوِّفَةِ الْغُلَاةِ. وَتَعَقُّبُهُ يَطُولُ، فَدُونَكَ فَانْظُرْهُ إِنْ شِئْتَ. وَقَدْ شَمِلَ الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ جَمِيعَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَغْرَاضُ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ رَبِّهِمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، لِيَدْعُوا اللَّهَ بِأَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ حُصُولِ مَا يَطْمَعُونَ، وَأَنْ يُجَنِّبَهُمْ أَسْبَابَ حُصُولِ مَا يَخَافُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَوَجُّهَ هِمَّتِهِمْ إِلَى اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَإِلَى امْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ اقْتَضَى الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ عِبَادَةَ مَنْ هُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَعْصِيَهُ، فَالتَّقْدِيرُ: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا وَأَحْسِنُوا بِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَهَذَا إِيجَازٌ. وَجُمْلَة: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ وَادْعُوهُ، فَلِذَلِكَ قُرِنَتْ بِ إِنَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّوْكِيدِ، وَهُوَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، إِذْ لَيْسَ الْمُخَاطَبُونَ بِمُتَرَدِّدِينَ فِي مَضْمُونِ الْخَبَرِ، وَمِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَرَبْطَ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَمْ تُعْطَفْ لِإِغْنَاءِ (إِنَّ) عَنِ الْعَاطِفِ.

ورَحْمَةِ اللَّهِ: إحسانه وإيتاؤه الْخَبَر. وَالْقُرْبُ حَقِيقَتُهُ دُنُوُّ الْمَكَانِ وَتَجَاوُرُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرَّجَاءِ مَجَازًا يُقَالُ: هَذَا قَرِيبٌ، أَيْ مُمْكِنٌ مَرْجُوٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَالْقَرِيبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْجُوِّ الْحُصُولِ وَلَيْسَ بِقُرْبِ مَكَانٍ. وَدَلَّ قَوْلُهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ، أَيْ وَأَحْسِنُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا دعوا خوفًا وطعما فَقَدْ تَهَيَّأُوا لِنَبْذِ مَا يُوجِبُ الْخَوْفَ، وَاكْتِسَابِ مَا يُوجِبُ الطَّمَعَ، لِئَلَّا يَكُونَ الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ كَاذِبِينَ، لِأَنَّ مَنْ خَافَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْمَخُوفِ، وَمَنْ طَمَعَ لَا يَتْرُكُ طَلَبَ الْمَطْمُوعِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْإِحْسَانِ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ رَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ ضِدِّ الْمُحْسِنِينَ رِفْقًا بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَا يَظُنُّ بِهِمْ أَنْ يُسِيئُوا فَتَبْعُدُ الرَّحْمَةُ عَنْهُمْ. وَعَدَمُ لِحَاقِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِوَصْفِ قَرِيبٌ مَعَ أَنَّ مَوْصُوفَهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَجَّهَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَة، وَأَشَارَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَجُلُّهَا يَحُومُ حَوْلَ تَأْوِيلِ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ بِمَا يُرَادِفُهُ مِنِ اسْمٍ مُذَكَّرٍ، أَوِ الِاعْتِذَارِ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَوْصُوفِ بِهِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ التَّأْنِيثِ كَمَا هُنَا، وَأَحْسَنُهَا- عِنْدِي- قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا إِذَا أُطْلِقَ عَلَى قَرَابَةِ النَّسَبِ أَوْ بُعْدِ النَّسَبِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَلَا بُدَّ، وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى قُرْبِ الْمَسَافَةِ أَوْ بُعْدِهَا جَازَ فِيهِ مُطَابَقَةُ مَوْصُوفِهِ وَجَازَ فِيهِ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83] وَقَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: 63] . وَلَمَّا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي هَذِه الْآيَة عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ قُرْبِ الْمَسَافَةِ جَرَى عَلَى الشَّائِعِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْفُرُوقِ الْعَرَبِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ بِقدر الْإِمْكَان.

[سورة الأعراف (7) : آية 57]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 57] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) جُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَاف: 54] وَقَدْ حَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ آخِرِ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرَضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قُرْبَ رَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ذَكَرَ بَعْضًا مِنْ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْمَطَرُ. فَذِكْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَاف: 54] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَاف: 54] . وَذِكْرُ بَعْضِ الْأَحْوَالِ الْمُقَارَنَةِ لِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ يَحْصُلُ مِنْهُ إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيَاحَ لَا تُرْسَلُ إِلَّا لِلتَّبْشِيرِ بِالْمَطَرِ، وَلَا أَنَّ الْمَطَرَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا عَقِبَ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْلِيمَ حَوَادِثِ الْجَوِّ، وَإِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْمُلَازَمَةِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِغْدَاقِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ وَنِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ كَقَوْلِهِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: 16]- وَقَوْلِهِ- فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: 10] . وَأُطْلِقَ الْإِرْسَالُ عَلَى الِانْتِقَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، فَإِرْسَالُ الرِّيَاحِ هُبُوبُهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي تَهُبُّ فِيهِ وَوُصُولُهَا، وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ أَنَّ الرِّيحَ مُسَخَّرَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ هُبُوبَهَا فِيهِ فَشُبِّهَتْ بِالْعَاقِلِ الْمُرْسَلِ إِلَى جِهَةٍ مَا، وَمِنْ بَدَائِعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الرِّيحَ لَا تُفَارِقُ كُرَةَ الْهَوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . فَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أَشْبَهُ بِالْإِرْسَالِ مِنْهُ بِالْإِيجَادِ.

وَالرِّيَاحُ: جَمْعُ رِيحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّياحَ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: الرِّيحَ- بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، فَهُوَ مُسَاوٍ لِقِرَاءَةِ الْجَمْعِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقِرَاءَتُهُ أَسْعَدُ، لِأَنَّ الرِّيَاحَ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِالرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحجر: 22] وَأَكْثَرُ ذِكْرِ الرِّيحِ الْمُفْرَدَةِ أَنْ تَكُونَ مُقْتَرِنَةً بِالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: 24] وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَتَقْيِيدُهَا بِالنَّشْرِ يُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ أَيِ الْإِيهَامَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ تَعَدُّدُ الْمَهَابِّ أَوْ حُصُولُ الْفَتَرَاتِ فِي الْهُبُوبِ، وَأَنَّ الْإِفْرَادَ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا مَدْفُوعَةٌ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَوِيَّةً لَا فَتْرَةَ بَيْنَ هَبَّاتِهَا. وَقَوْلُهُ: نَشْراً قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: نُشُرًا- بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ- عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَشُورٍ- بِفَتْحِ النُّونِ- كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعل، والنّشور الرّياح الْحَيَّةُ الطيّبة لأنّها تنثر السَّحَابَ، أَيْ تَبُثُّهُ وَتُكَثِّرُهُ فِي الْجَوِّ، كَالشَّيْءِ الْمَنْشُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعُولًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَنْشُورَةً، أَيْ مَبْثُوثَةً فِي الْجِهَاتِ، مُتَفَرِّقَةً فِيهَا، لِأَنَّ النَّشْرَ هُوَ التَّفْرِيقُ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ رِيحَ الْمَطَرِ تَكُونُ لَيِّنَةً، تَجِيءُ مَرَّةً مِنَ الْجَنُوبِ وَمَرَّةً مِنَ الشَّمَالِ، وَتَتَفَرَّقُ فِي الْجِهَاتِ حَتَّى يَنْشَأَ بِهَا السَّحَابُ وَيَتَعَدَّدَ سَحَابَاتٌ مَبْثُوثَةٌ، كَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ فِي السَّحَابِ: مَرَتْهُ الْجَنُوبُ بِأَنْفَاسِهَا ... وَحَلَّتْ عَزَالِيَهُ الشَّمْأَلُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِتَعَدُّدِ مَهَابِّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تُجْمَعْ فِيمَا لَا يحمد فِيهِ تعود الْمَهَابِّ كَقَوْلِهِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُس: 22] مِنْ حَيْثُ جَرْيُ السُّفُنِ إِنَّمَا جِيدُهُ بِرِيحٍ مُتَّصِلَةٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ نَشْراً- بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ- وَهُوَ تَخْفِيفُ نُشُرٍ- الَّذِي هُوَ بِضَمَّتَيْنِ- كَمَا يُقَالُ: رُسْلٌ فِي رُسُلٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ،

وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَانْتَصَبَ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ مُرَادِفٌ لِ (أَرْسَلَ) بِمَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، أَيْ أَرْسَلَهَا إِرْسَالًا أَوْ نَشْرَهَا نَشْرًا، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنَ الرِّيحِ، أَيْ نَاشِرَةً أَيِ السَّحَابُ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (أَرْسَلَ) أَيْ أَرْسَلَهَا نَاشِرًا أَيْ مُحْيِيًا بِهَا الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ، أَيْ مُحْيِيًا بِآثَارِهَا وَهِيَ الْأَمْطَارُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي مَوْضِعِ النُّونِ مَضْمُومَةً وَبِسُكُونِ الشِّينِ- وَبِالتَّنْوِينِ وَهُوَ تَخْفِيفُ (بُشُرًا) بِضَمِّهِمَا عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ بَشِيرٍ مِثْلُ نُذُرٍ وَنَذِيرٍ، أَيْ مُبَشِّرَةً لِلنَّاسِ بِاقْتِرَابِ الْغَيْثِ. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ، وَأَنَّهَا تَأْتِي مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَعَاقَبُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ امْتِلَاءِ الْأَسْحِبَةِ بِالْمَاءِ وَأَنَّهَا تُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَنَّهَا تُبَشِّرُ النَّاسَ بِهُبُوبِهَا، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِم بهَا سرُور. وَأَصْلُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ، أَنَّهُ يَكُونُ أَمَامَهُ بِقُرْبٍ مِنْهُ (وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْخَلْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [الْبَقَرَة: 255] ) فَقَصْدُ قَائِلِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْأَمَامِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا، حَيْثُ إِنَّ الْأَمَامَ الْقَرِيبَ أَوْسَعُ مِنَ الْكَوْنِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ، ثُمَّ لِشُهْرَةِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ وَأَغْلَبِيَّةِ مُوَافَقَتِهَا لِلْمَعْنَى الصَّرِيحِ جُعِلَتْ كَالصَّرِيحِ، وَسَاغَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي التَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] ، وَفِي تَقَدُّمِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُتَقَدَّمِ عَلَيْهِ يَدَانِ. وَهَكَذَا اسْتِعْمَالُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ سَابِقَةً رَحْمَتُهُ. وَالرَّحْمَةُ هَذِهِ أُرِيدَ بِهَا الْمَطَرُ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ بِهِ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْمُرَادِ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ، وَلَيْسَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تُبْعِدُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ. وَالْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ:

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ تَقْرِيعُ الْمُشْرِكِينَ وتفنيد إشراكهم، ويتبعه تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِثَارَةُ اعْتِبَارِهِمْ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ مَعْلُومَةُ الِانْتِسَابِ لِلْمَوْصُولِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ لِلرِّيَاحِ مُصَرِّفًا وَأَنَّ لِلْمَطَرِ مُنَزِّلًا، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَذْهَلُونَ أَوْ يَتَذَاهَلُونَ عَنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ يَجِيئُونَ فِي الْكَلَامِ بِأَفْعَالِ نُزُولِ الْمَطَرِ مَبْنِيَّةً إِلَى الْمَجْهُولِ غَالِبًا، فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الثُّرَيَّا- وَيَقُولُونَ: غِثْنَا مَا شِئْنَا. مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ أَيْ أَغِثْنَا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ هُوَ اللَّهُ، وَذَلِكَ بِإِسْنَادِ هَذَا الْمَوْصُولِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أَيِ الَّذِي عَلِمْتُمْ أَنَّهُ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ وَيُنَزِّلُ الْمَاءَ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: 16] ، فَالْخَبَرُ مُسَوِّقٌ لِتَعْيِينِ صَاحِبِ هَذِهِ الصِّلَةِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنِ اسْتِفْهَامٍ مَقْصُودٌ مِنْهُ طَلَبُ التَّعْيِينِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: أَرَاحِلٌ أَنْتَ أَمْ ثَاوٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ قَصْرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ رَدَّ اعْتِقَادٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا كَمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَرُوعِيَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ حَالُهُمُ ابْتِدَاءً، وَيَحْصُلُ رَعْيُ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا، لِأَنَّ السِّيَاقَ مُنَاسِبٌ لِمُخَاطَبَةِ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تقدّم فِي الْآيَة السَّابِقَةِ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ غَايَةٌ لمضمون قَوْله: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى مُتَقَدِّمَةً رَحْمَتَهُ، أَيْ تَتَقَدَّمُهَا مُدَّةً وَتَنْشُرُ أَسْحِبَتَهَا حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا أَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ، فَإِنْزَالُ الْمَاءِ هُوَ غَايَةُ تَقَدُّمِ الرِّيَاحِ وَسَبْقِهَا الْمَطَرَ، وَكَانَتِ الْغَايَةُ مُجَزَّأَةً أَجْزَاءً فَأَوَّلُهَا مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَقَلَّتْ أَيِ الرِّيَاحُ السَّحَابَ، ثُمَّ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: ثِقالًا، ثُمَّ مَضْمُونُ سُقْناهُ أَيْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ غَيْثَهُ، ثُمَّ أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ الْمَاءُ. وَكُلُّ ذَلِكَ غَايَةٌ لِتَقَدُّمِ الرِّيَاحِ، لِأَنَّ الْمُفَرَّعَ عَنِ الْغَايَةِ هُوَ غَايَةٌ. الثِّقَالَ: الْبَطِيئَةُ التَّنَقُّلِ لِمَا فِيهَا مِنْ رُطُوبَةِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْبُخَارُ، وَهُوَ السَّحَابُ الْمَرْجُوُّ مِنْهُ الْمَطَرُ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَعَانِي أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلُهُ فِي: «حُسْنِ الِاعْتِذَارِ» :

وَمِنَ الْخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي ... أَسْرَعُ السُّحْبِ فِي الْمَسِيرِ الْجَهَامُ وَطُوِيَ بَعْضُ الْمُغَيَّا: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيَاحَ تُحَرِّكُ الْأَبْخِرَةَ الَّتِي عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ، وَتَمُدُّهَا بِرُطُوبَاتٍ تَسُوقُهَا إِلَيْهَا مِنَ الْجِهَاتِ النَّدِّيَّةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهَا كَالْبِحَارِ والأنهار، والبحيرات والأراضين النَّدِّيَّةِ، وَيَجْتَمِعُ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِثَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] فَإِذَا بَلَغَ حَدَّ الْبُخَارِيَّةِ رَفَعَتْهُ الرِّيَاحُ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَوِّ. وَمَعْنَى أَقَلَّتْ، حَمَلَتْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِلَّةِ لِأَنَّ الْحَامِلَ يُعَدُّ مَحْمُولُهُ قَلِيلًا فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ. وَإِقْلَالُ الرِّيحِ السَّحَابَ هُوَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَمُرُّ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ فَيَتَجَمَّعُ بِهَا مَا عَلَى السَّطْحِ مِنَ الْبُخَارِ، وَتَرْفَعُهُ الرِّيَاحُ إِلَى الْعُلُوِّ فِي الْجَوِّ، حَتَّى يَبْلُغَ نُقْطَةً بَارِدَةً فِي أَعْلَى الْجَوِّ، فَهُنَالِكَ يَنْقَبِضُ الْبُخَارُ وَتَتَجَمَّعُ أَجْزَاؤُهُ فَيَصِيرُ سَحَابَاتٍ، وَكُلَّمَا انْضَمَّتْ سَحَابَةٌ إِلَى أُخْرَى حَصَلَتْ مِنْهُمَا سَحَابَةٌ أَثْقَلُ مِنْ إِحْدَاهُمَا حِينَ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنِ الْأُخْرَى، فَيَقِلُّ انْتِشَارُهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ سَحَابًا عَظِيمًا فَيَثْقُلُ، فَيَنْمَاعُ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَقَلَّتْ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] . وَالسَّحَابُ اسْمُ جَمْعٍ لِسَحَابَةٍ فَلِذَلِكَ جَازَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّذْكِيرِ نَظَرًا لِتَجَرُّدِ لَفْظِهِ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، وَجَازَ اعْتِبَارُ التَّأْنِيثِ فِيهِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ وُصِفَ السَّحَابُ فِي ابْتِدَاءِ إِرْسَالِهِ بِأَنَّهَا تُثِيرُ، وَوُصِفَ بَعْدَ الْغَايَةِ بِأَنَّهَا ثِقَالٌ، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ الِاعْتِبَارَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَصَفَ السَّحَابَ بِقَوْلِهِ: ثِقالًا اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: و «رَأَيْت بَقَرًا تُذْبَحُ» ، وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ بِالْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: سُقْناهُ. وَحَقِيقَةُ السَّوْقِ أَنَّهُ تَسْيِيرُ مَا يَمْشِي وَمُسَيِّرُهُ وَرَاءَهُ يُزْجِيهِ وَيُحِثُّهُ، وَهُوَ هُنَا مستعار لتسير السَّحَابِ بِأَسْبَابِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ، وَقَدْ يُجْعَلُ تَمْثِيلًا إِذَا

رُوعِيَ قَوْلُهُ: أَقَلَّتْ سَحاباً أَيْ: سُقْنَاهُ بِتِلْكَ الرِّيحِ إِلَى بَلَدٍ، فَيَكُونُ تَمْثِيلًا لِحَالَةِ دَفْعِ الرِّيحِ السَّحَابَ بِحَالَةِ سَوْقِ السَّائِقِ الدَّابَّةَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبَلَدٍ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، وَفِي هَذِهِ اللَّامِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِذَلِكَ الْبَلَدِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ (سُقْنَاهُ) بِحَرْفِ (إِلَى) . وَالْبَلَدُ: السَّاحَةُ الْوَاسِعَةُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالْمَيِّتُ: مَجَازٌ أُطْلِقَ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي انْعَدَمَ مِنْهُ النَّبَاتُ، وَإِسْنَادُ الْمَوْتِ الْمَجَازِيِّ إِلَى الْبَلَدِ هُوَ أَيْضًا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا هُوَ نَبَاتُهُ وَثَمَرُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْبَلَدِ، فَيَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَاءِ فَيَكُونُ الْبَاءُ لِلْآلَةِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي كُلِّ الثَّمَراتِ اسْتِغْرَاقٌ حَقِيقِيٌّ، لِأَنَّ الْبَلَدَ الْمَيِّتَ لَيْسَ مُعَيَّنًا بَلْ يَشْمَلُ كُلَّ بَلَدٍ مَيِّتٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَطَرُ، فَيَحْصُلُ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْبَلَدِ الْمَيِّتِ جَمِيعُ الثَّمَرَاتِ قَدْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ بِوَاسِطَةِ الْمَاءِ، وَالْبَلَدُ الْوَاحِدُ يُخْرِجُ ثَمَرَاتِهِ الْمُعْتَادَةَ فِيهِ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ خَاصَّةً فَاجْعَلِ اسْتِغْرَاقَ كُلِّ الثَّمَرَاتِ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا، أَيْ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَحَرْفُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى مُعْتَرِضَةٌ اسْتِطْرَادًا لِلْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَقْرِيبِ الْبَعْثِ الَّذِي يَسْتَبْعِدُونَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِ (كَذَلِكَ) إِلَى الْإِخْرَاجِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ فِعْلُ فَأَخْرَجْنا بِاعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ الْبَلَدِ مَيِّتًا، ثُمَّ إِحْيَائِهِ أَيْ إِحْيَاءِ مَا فِيهِ مِنْ أَثَرِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِذَلِكَ الْإِحْيَاءِ كَيْفِيَّةً قَدَّرَهَا اللَّهُ وَأَجْمَلَ ذِكْرَهَا لِقُصُورِ الْإِفْهَامِ عَنْ تَصَوُّرِهَا. وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مستأنفة، والرّجاء ناشىء عَنِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ لِأَنَّ

[سورة الأعراف (7) : آية 58]

الْمُرَادَ التَّذَكُّرُ الشَّامِلُ الَّذِي يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عِبْرَةً وَإِيمَانًا، وَالَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْلِعَ مِنَ الْمُشْرِكِ اعْتِقَادَ الشِّرْكِ وَمِنْ مُنْكِرِ الْبَعْثِ إِنْكَارَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ- عَلَى إِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ فِي الذَّالِ بَعْدَ قَلْبِهَا ذَالًا، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ تَذَكَّرُونَ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. [58] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 58] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى [الْأَعْرَاف: 57] وَبَيْنَ جُمْلَةِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الْأَعْرَاف: 59] تَتَضَمَّنُ تَفْصِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الْأَعْرَاف: 57] إِذْ قَدْ بَيَّنَ فِيهَا اخْتِلَافَ حَالِ الْبَلَدِ الَّذِي يُصِيبُهُ مَاءُ السَّحَابِ، دَعَا إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ لَمَّا مُثِّلَ إِخْرَاجُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ بِإِخْرَاجِ الْمَوْتَى مِنْهَا يَوْمَ الْبَعْثِ تَذْكِيرًا بِذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِبْطَالًا لِإِحَالَةِ الْبَعْثِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، مُثِّلَ هُنَا بِاخْتِلَافِ حَالِ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ اخْتِلَافُ حَالِ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ فِي الِانْتِفَاعِ بِرَحْمَةِ هُدَى اللَّهِ، فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى [الْأَعْرَاف: 57] وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ كَمَا ذُيِّلَ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 57] . وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى وَكَذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِرَحْمَةِ الْهَدْيِ مَنْ خُلِقَتْ فِطْرَتُهُ طَيِّبَةً قَابِلَةً لِلْهُدَى كَالْبَلَدِ الطَّيِّبِ يَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْهُدَى مَنْ خُلِقَتْ فِطْرَتُهُ خَبِيثَةً كَالْأَرْضِ الْخَبِيثَةِ لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ فَلَا تُنْبِتُ نَبَاتًا نَافِعًا، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ التَّمْثِيلُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمَسُوقَ لَهُ الْكَلَامُ

يَجْمَعُ أَمْرَيْنِ: الْعِبْرَةَ بِصُنْعِ اللَّهِ، وَالْمَوْعِظَةَ بِمَا يُمَاثِلُ أَحْوَالَهُ. فَالْمَعْنَى: كَمَا أَنَّ الْبَلَدَ الطَّيِّبَ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ سَرِيعًا بَهِجًا عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَالْبَلَدَ الْخَبِيثَ لَا يَكَادُ يُنْبِتُ فَإِنْ أَنْبَتَ أَخْرَجَ نَبْتًا خَبِيثًا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَالطَّيِّبُ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلٍ وَهِيَ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْوَصْفِ فِي الْمَوْصُوفِ مِثْلُ: قَيِّمٍ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالطَّيِّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّيِّبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [4] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [168] . وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الْأَرْضُ الْمَوْصُوفَةُ بِالطَّيِّبِ، وَطِيبُهَا زَكَاءُ تُرْبَتِهَا وَمُلَاءَمَتُهَا لِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ الصَّالِحِ وللزّرع وَالْغَرْس النّافع وَهِيَ الْأَرْضُ النَّقِيَّةُ. وَالَّذِي خَبُثَ ضِدَّ الطِّيبِ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَباتُهُ وَالْإِذْنُ: الْأَمْرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَمْرُ الْعِنَايَةِ بِهِ كَقَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] لِيَدُلَّ عَلَى تَشْرِيفِ ذَلِكَ النَّبَاتِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ بِالزَّكَاءِ، وَالْمَعْنَى: الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ طَيِّبًا زَكِيًّا مِثْلَهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى طِيبِ نَبَاتِهِ بِأَنَّ خُرُوجَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، فَأُرِيدُ بِهَذَا الْإِذْنِ إِذْنٌ خَاصٌّ هُوَ إِذْنُ عِنَايَةٍ وَتَكْرِيمٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِذْنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّكْوِينِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِذْنٌ مَعْرُوفٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِبَيَانِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. وَالَّذِي خَبُثَ حَمَلَهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْبَلَدِ، أَيِ الْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَفَسَّرُوهُ بِالْأَرْضِ الَّتِي لَا تُنْبِتُ إِلَّا نَبَاتًا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يُسْرِعُ إِنْبَاتُهَا، مِثْلَ السِّبَاخِ، وَحَمَلُوا ضَمِيرَ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ لِلنَّبَاتِ، وَجَعَلُوا تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: وَالَّذِي خَبُثَ لَا (يَخْرُجُ) نَبَاتُهُ إِلَّا نَكِدًا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ نَبَاتُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْبَلَدِ الَّذِي خَبُثَ، الْمُسْتَتِرُ فِي فِعْلِ يَخْرُجُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَادِقًا عَلَى نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: وَالنَّبْتُ الَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ إِذْ لَمْ يُذْكَرْ وَصْفُ الطَّيِّبِ بَعْدَ نَبَاتِ الْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَلَمْ تُذْكَرِ الْأَرْضُ الْخَبِيثَةُ قَبْلَ ذِكْرِ النَّبَاتِ الْخَبِيثِ، لِدَلَالَةِ كِلَا الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ طَيِّبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالنَّبَاتُ الَّذِي خَبُثَ يَخْرُجُ نَكِدًا مِنَ الْبَلَدِ الْخَبِيثِ، وَهَذَا صُنْعٌ دَقِيقٌ لَا يُهْمَلُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ لَا يَخْرُجُ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الرَّاءِ- إِلَّا ابْنَ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَرَأَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ- عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقِيلَ إِنَّ نِسْبَةَ هَذَا لِابْنِ وَرْدَانَ تَوَهَّمٌ. وَالنَّكِدُ وَصْفٌ مِنَ النَّكَدِ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ مَصْدَرُ نَكِدَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ يَجُرُّ عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ شَرًّا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَّا نَكِداً، بِفَتْحِ الْكَافِ. وَفِي تَفْصِيلِ مَعْنَى الْآيَةِ جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ بِهَا اللَّهُ النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ لِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ إِلَى تَفَنُّنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَالدَّالَّةِ أَيْضًا عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالدَّالَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَابِلِيَّةِ النَّاسِ لِلْهُدَى وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الْمُقَرَّبِ فِي جَمِيع ذَلِك، فَلذَلِك تَصْرِيفٌ أَيْ تَنْوِيعٌ وَتَفْنِينٌ لِلْآيَاتِ

[سورة الأعراف (7) : آية 59]

أَيِ الدَّلَائِلِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ: الْمُؤْمِنُونَ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَوْرِدُ التَّمْثِيلِ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مَوْرِدُ التَّمْثِيلِ بِالْبَلَدِ الْخَبِيثِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] . [59] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 59] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) اسْتِئْنَافٌ انْتَقَلَ بِهِ الْغَرَضُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْمِنَّةِ (الْمُبْتَدِئَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 10] ، وَتَنْبِيهِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنَّهُمْ غَارِقُونَ فِي كَيْدِ الشَّيْطَانِ، الَّذِي هُوَ عَدُوُّ نَوْعِهِمْ، مِنْ قَوْلِهِ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ- إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: 16- 33] ، ثُمَّ بِالتَّهْدِيدِ بِوَصْفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثَالِ وَالتَّعْرِيضِ) إِلَى غَرَضِ الِاعْتِبَارِ وَالْمَوْعِظَةِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِقَوْلِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ [4] : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها الْآيَةَ، وَقَدْ أُفِيضَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي مُعْظَمِ السُّورَةِ وَتَتْبَعُ هَذَا الِاعْتِبَارَ أَغْرَاضٌ أُخْرَى: وَهِيَ تَسْلِيَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْلِيمُ أُمَّتِهِ بِتَارِيخِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، لِيَعْلَمَ الْمُكَذِّبُونَ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ لَا غَضَاضَةَ على محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى رِسَالَتِهِ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، وَلَا يَجْعَلُهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، بَلْهَ أَنْ يُؤَيِّدَ زَعْمَهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي رِسَالَتِهِ لَأَيَّدَهُ الله بعقاب مكذّيبه (لَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْحِجَاجِ: «اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» ) . وَلِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ مَا لقِيه محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ شِنْشِنَةُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ تِلْقَاءَ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ

تَنْظِيرُ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا بِحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَثُرَ فِي الْكَلَامِ اقْتِرَانُ جُمْلَةِ جَوَابِ الْقسم: بقد لأنّ الْقسم يهيىء نَفْسَ السَّامِعِ لِتَوَقُّعِ خَبَرٍ مُهِمٍّ فَيُؤْتَى بِقَدْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ، كَمَا أَثْبَتَهُ الْخَلِيلُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَالتَّوَقُّعُ قَدْ يَكُونُ تَوَقُّعًا لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ تَوَقُّعًا لِلْخَبَرِ كَمَا هُنَا. وَتَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِنُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [33] . وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَسْكُنُونَ الْجَزِيرَةَ وَالْعِرَاقَ، حَسَبَ ظَنِّ الْمُؤَرِّخِينَ. وَعَبَّرَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ بِطَرِيقِ الْقَوْمِيَّةِ الْمُضَافَةِ إِلَى نُوحٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْمٌ خَاصٌّ مِنْ أَسْمَاءِ الْأُمَمِ يُعْرَفُونَ بِهِ، فَالتَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ. وَعَطَفَ جُمْلَةَ فَقالَ يَا قَوْمِ عَلَى جُمْلَةِ أَرْسَلْنا بِالْفَاءِ إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ مِنْهُ بِفَوْرِ إِرْسَالِهِ، فَهِيَ مَضْمُونُ مَا أُرْسِلَ بِهِ. وَخَاطَبَ نُوحٌ قَوْمَهُ كُلَّهُمْ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَامَّةً لَهُمْ، وَعَبَّرَ فِي نِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِ لِتَذْكِيرِهِمْ بِآصِرَةِ الْقَرَابَةِ، لِيَتَحَقَّقُوا أَنَّهُ نَاصِحٌ وَمُرِيدٌ خَيْرَهُمْ وَمُشْفِقٌ عَلَيْهِمْ، وَأَضَافَ (الْقَوْمَ) إِلَى ضَمِيرِهِ لِلتَّحْبِيبِ وَالتَّرْقِيقِ لِاسْتِجْلَابِ اهْتِدَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ لَهُمُ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِبْطَالٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالَةُ شِرْكٍ كَحَالَةِ الْعَرَبِ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالَةَ وَثَنِيَّةٍ بِاقْتِصَارِهِمْ على عبَادَة لأصنام دُونَ اللَّهِ تَعَالَى، كَحَالَةِ الصَّابِئَةِ وَقُدَمَاءِ الْيُونَانِ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَالِحَةٌ لِلْحَالَيْنِ، وَالْمَنْقُولُ فِي الْقَصَصِ: أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آلِهَةَ قَوْمِ نُوحٍ أَسْمَاءُ جَمَاعَةٍ مِنْ صَالِحِيهِمْ فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ

قَوْمُهُمْ: لَوِ اتَّخَذْنَا فِي مَجَالِسِهِمْ أَنْصَابًا فَاتَّخَذُوهَا وَسَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. وَظَاهِرُ مَا فِي سُورَةِ نُوحٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ لِقَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [نوح: 3] وَظَاهِرُ مَا فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ لِقَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَانَ أَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُقَيَّدًا بِمَدْلُولِ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ الْأَصْنَامَ، وَإِنْ كَانُوا مُقْتَصِرِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ تَعْلِيلًا لِلْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، أَي هُوَ الْإِلَه لَا أَوْثَانُكُمْ. وَجُمْلَةُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَيَانٌ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا، أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ غَيره لكم بالإله. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلْأَمْرِ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ (لِإِلَهٍ) بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ إِذْ هُوَ مُبْتَدَأٌ وَإِنَّمَا جُرَّ لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ وَلَا يُعْتَدُّ بِجَرِّهِ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِجَرِّ غَيْرِ عَلَى النّعت للّفظ (إلاه) نَظَرًا لِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَيْ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: اتْرُكُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَبُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى خَوْفِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِمْ، دَلَالَةً عَلَى إِمْحَاضِهِ النُّصْحَ لَهُمْ وَحِرْصِهِ عَلَى سَلَامَتِهِمْ، حَتَّى جَعَلَ مَا يَضُرُّ بِهِمْ كَأَنَّهُ يَضُرُّ بِهِ، فَهُوَ يَخَافُهُ كَمَا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَانَ فِي مَبْدَأِ خِطَابِهِمْ بِمَا أُرْسِلُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ عَذَابًا فَإِنِّي أَخَافُهُ

[سورة الأعراف (7) : آية 60]

عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ الرُّسُلِ بِقَوْمِهِمْ. وَفِعْلُ الْخَوْفِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَخُوفِ مِنْهُ، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِحَرْفِ (عَلَى) إِذَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ضُرٍّ يَلْحَقُ غَيْرَ الْخَائِفِ، كَمَا قَالَ الْأَحْوَصُ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُول على مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً ثَانِيَةً بَعْدَ جُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ لِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَالْإِنْذَارِ، وَنُكْتَةُ بِنَاءِ نَظْمِ الْكَلَامِ عَلَى خَوْفِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِمْ هِيَ هِيَ. وَالْعَذَابُ الْمَخُوفُ وَيَوْمُهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ جَوَابَهُمْ بِأَنَّهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ أَحَالُوا الْوَحْدَانِيَّةَ وَأَحَالُوا الْبَعْثَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [17، 18] : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً فَحَالُهُمْ كَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تُمَحِّضُ أَهْلَهَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَى أغراض الدّنيا. [60] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 60] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ حَقَّقُوا وَأَكَّدُوا اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ نُوحًا مُنْغَمِسٌ فِي الضَّلَالَةِ. الْمَلَأُ مَهْمُوزٌ بِغَيْرِ مَدٍّ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ وَرَأْيُهُمْ وَاحِد لأنّهم يمالىء بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ يُعَاوِنُهُ وَيُوَافِقُهُ، وَيُطْلَقُ الْمَلَأُ عَلَى أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَقَادَتِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ رَأْيُهُمْ وَاحِدًا عَنْ تَشَاوُرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَرِينَةِ (مِنْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ أَيْ أَنَّ قَادَةَ الْقَوْمِ هُمُ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِمُجَادَلَةِ نُوحٍ وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْ دِينِهِمْ بِمَسْمَعٍ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَاطَبَ جَمِيعَهُمْ، وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ إِنَّا لَنُوقِنُ أَنَّكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَلَمْ يُوصَفِ الْمَلَأُ هُنَا بِالَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ بِالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا كَمَا وُصِفَ الْمَلَأُ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِالَّذِينَ

[سورة الأعراف (7) : آية 61]

كَفَرُوا اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَكَفَرُوا. وَظَرْفِيَّةُ فِي ضَلالٍ مَجَازِيَّةٌ تَعْبِيرًا عَنْ تَمَكُّنِ وَصْفِ الضَّلَالِ مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. «وَالضَّلَالُ» اسْمُ مَصْدَرِ ضَلَّ إِذَا أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ، «وَالْمُبِينُ» اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُرَادِفِ بَانَ، وَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَالِغُ الْغَايَةَ فِي الْبُعْدِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَلَا عَجَبَ إِذَا جَعَلُوا مَا بَعُدَ عَنْهُ بُعْدًا عَظِيمًا ضَلَالًا بَيِّنًا لِأَنَّهُ خَالَفَهُمْ، وَجَاءَ بِمَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْمُحَالِ، إِذْ نَفَى الْإِلَهِيَّةَ عَنْ آلِهَتِهِمْ، فَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ، وَأَثْبَتَهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ فَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ أُخْرَى، وَتَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرٍ مُحَالٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْبَعْثُ، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ أُخْرَى، فَضَلَالُهُ عِنْدَهُمْ مُبِينٌ، وَقَدْ يَتَفَاوَتُ ظُهُورُهُ، وَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَهَذَا فِي زَعْمِهِمْ تَعَمُّدُ كَذِبٍ وَسَفَاهَةُ عَقْلٍ وَادِّعَاءُ مُحَالٍ كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَاف: 66]- وَقَوْلِهِ هُنَا- أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: 63] الْآيَة. [61- 63] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 61] قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) [62] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 62] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) [63] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 63] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ عَلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالنِّدَاءُ فِي جَوَابِهِ إِيَّاهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَخُصَّ خُطَّابَهُ بِالَّذِينَ جَاوَبُوهُ، بَلْ أَعَادَ الْخِطَابَ إِلَى الْقَوْمِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ جَوَابَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُجَادَلَةً

لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ أَيْضًا يَتَضَمَّنُ دَعْوَةً عَامَّةً، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ فِي نِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِهِ، فَأَعَادَ ذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُوسِهِمْ مِمَّا سَيَعْقُبُ النِّدَاءَ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَعْرَاف: 60] . وَالضَّلَالَةُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الضَّلَالِ، فَتَأْنِيثُهُ لَفْظِيٌّ مَحْضٌ، وَالْعَرَبُ يَسْتَشْعِرُونَ التَّأْنِيثَ غَالِبًا فِي أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي، مِثْلِ الْغَوَايَةِ وَالسَّفَاهَةِ، فَالتَّاءُ لِمُجَرَّدِ تَأْنِيثِ اللَّفْظِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ التَّاءِ مَعْنَى الْوَحْدَةِ لِأَنَّ أَسْمَاءَ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي لَا تُرَاعَى فِيهَا الْمُشَخِّصَاتُ، فَلَيْسَ الضَّلَالُ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْجَمْعِ لِلضَّلَالَةِ، خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، وَكَأَنَّهُ حَاوَلَ إِثْبَاتَ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ [الْأَعْرَاف: 60] ، وَقَوْلِهِ هُوَ: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَتَبِعَهُ فِيهِ الْفَخْرُ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْمَثَلِ السَّائِرِ» ، وَقَدْ تكلّف لتصحيحه التفتازانيّ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّخَالُفَ بَيْنَ كَلِمَتِي ضَلَالٍ وَضَلَالَةٍ اقْتَضَاهُ التَّفَنُّنُ حَيْثُ سَبَقَ لَفْظُ ضَلَالٍ، وَمُوجِبُ سَبْقِهِ إِرَادَةُ وَصْفِهِ ب مُبِينٍ [الْأَعْرَاف: 60] ، فَلَوْ عَبَّرَ هُنَالِكَ بِلَفْظِ ضَلَالَةٍ لَكَانَ وَصْفُهَا بِمُبِينَةٍ غَيْرَ مَأْلُوفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لفظ ضَلالٍ [الْأَعْرَاف: 60] اسْتُحْسِنَ أَنْ يُعَادَ بِلَفْظٍ يُغَايِرُهُ فِي السُّورَةِ دَفْعًا لِثِقَلِ الْإِعَادَةِ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَعْرَاف: 60] بِمُسَاوِيهِ لَا بِأَبْلَغَ مِنْهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِي لِلْمُصَاحَبَةِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ تُنَاقِضُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي ضَلالٍ [الْأَعْرَاف: 60] فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الضَّلَالَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، فَنَفَى هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلضَّلَالِ مُتَلَبَّسٌ بِهِ. وَتَجْرِيدُ لَيْسَ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِ اسْمِهَا مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ جَرَى عَلَى الْجَوَازِ فِي تَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، إِذَا كَانَ مَرْفُوعُهُ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، وَلِمَكَانِ الْفَصْلِ بِالْمَجْرُورِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَلكِنِّي رَسُولٌ لِرَفْعِ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ أَنَّهُ فِي ضَلَالٍ حَيْثُ خَالَفَ دِينَهُمْ، أَيْ هُوَ فِي حَالِ رِسَالَةٍ عَنِ اللَّهِ، مَعَ مَا تَقْتَضِي الرِّسَالَةُ

مِنَ التَّبْلِيغِ وَالنُّصْحِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، وَذَلِكَ مَا حَسِبُوهُ ضَلَالًا، وَشَأْنُ (لَكِنَّ) أَنْ تَكُونَ جُمْلَتُهَا مُفِيدَةً مَعْنَى يُغَايِرُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَهَا، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ وَذَلِكَ هُوَ حَقِيقَةُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ (لَكِنَّ) فَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ مَضْمُونَيِ الْجُمْلَتَيْنِ: إِمَّا فِي الْمُسْنَدِ نَحْوَ وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ [الْأَنْفَال: 43] أَوْ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ نَحْوَ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: 17] فَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: مَا سَافَرْتُ وَلَكِنِّي مُقِيمٌ، وَأَكْثَرُ وُقُوعِهَا بَعْدَ جُمْلَةٍ مَنْفِيَّةٍ، لِأَنَّ النَّفْيَ مَعْنًى وَاسِعٌ، فَيَكْثُرُ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُتَكَلِّمُ بَعْدَهُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، فَيَأْتِي بِالِاسْتِدْرَاكِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ رَفْعُ مَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ ثُبُوتَهُ أَوْ نَفْيَهُ فَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الِاسْتِدْرَاكِ أَوْ إِلَى بَعْضِ أَغْرَاضِ وُقُوعِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِدْرَاك لَا تتقوم إِلَّا بِذَلِكَ. وَاخْتِيَارُ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ فِي تَعْرِيفِ الْمُرْسَلِ: لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ مِنْ تَفْخِيمِ الْمُضَافِ وَمِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ إِذْ عَصَوْهُ. وَجُمْلَةُ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي صِفَةٌ لِرَسُولٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِفَادَةُ التَّجَدُّدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكِ التَّبْلِيغِ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ تَأْيِيسًا لَهُمْ مِنْ مُتَابَعَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَلَوْلَا هَذَا الْمَقْصِدُ لَكَانَ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَاصِلًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنِّي رَسُولٌ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الرِّسَالَاتِ لِأَنَّ كُلَّ تَبْلِيغٍ يَتَضَمَّنُ رِسَالَةً بِمَا بَلَّغَهُ، ثُمَّ إِنِ اعْتُبِرَتْ جُمْلَةُ: أُبَلِّغُكُمْ صِفَةً، يَكُنْ الْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: أُبَلِّغُكُمْ وَقَوْلِهِ: رَبِّي الْتِفَاتًا، بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِن اعْتبرت استينافا، فَلَا الْتِفَاتَ. وَالتَّبْلِيغُ وَالْإِبْلَاغُ: جَعْلُ الشَّيْءِ بَالِغًا، أَيْ وَاصِلًا إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْإِعْلَامِ بِالْأَمْرِ الْمَقْصُودِ عِلْمُهُ، فَكَأَنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُبَلِّغُكُمْ- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ- وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مِنَ الْإِبْلَاغِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: رِسالاتِ رَبِّي هُوَ مَا تُؤْذِنُ بِهِ إِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ لُزُومِ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إِلَّا تَبْلِيغُ مَا أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ، وَإِنْ كَرِهَ قَوْمُهُ. وَالنُّصْحُ وَالنَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» - وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ. وَيَكْثُرُ إِطْلَاقُ النُّصْحِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُخَاطَبِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ. وَضِدُّهُ الْغِشُّ. وَأَصْلُ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، وَيَكْثُرَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِلَامٍ زَائِدَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّاصِحَ أَرَادَ مِنْ نُصْحِهِ ذَاتَ الْمَنْصُوحِ، لَا جَلْبَ خَيْرٍ لِنَفْسِ النَّاصِحِ، فَفِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ خَالِصَةً لِلْمَنْصُوحِ، مَقْصُودًا بِهَا جَانِبُهُ لَا غَيْرَ، فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاصِحُ فَيَقْصِدُ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا، وَرُبَّمَا يَقَعُ تَفَاوُتٌ بَيْنَ النَّفْعَيْنِ فَيَكُونُ تَرْجِيحُ نَفْعِ النَّاصِحِ تَقْصِيرًا أَوْ إِجْحَافًا بِنَفْعِ الْمَنْصُوحِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَجْدِيدِ النُّصْحِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكِهِ مِنْ أَجْلِ كَرَاهِيَتِهِمْ أَوْ بَذَاءَتِهِمْ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ جَمْعًا لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا تَتَضَمَّنُهُ الرِّسَالَةُ وَتَأْيِيدًا لِثَبَاتِهِ عَلَى دَوَامِ التَّبْلِيغِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِكَرَاهِيَتِهِمْ وَأَذَاهُمْ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يعلمونه مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ، فَجَاءَ بِهَذَا الْكَلَامِ الْجَامِعِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْإِجْمَالُ الْبَدِيعُ تَهْدِيدًا لَهُمْ بِحُلُولِ عَذَابٍ بِهِمْ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَنْبِيهًا لِلتَّأَمُّلِ فِيمَا

أَتَاهُمْ بِهِ، وَفَتْحًا لِبَصَائِرِهِمْ أَنْ تَتَطَلَّبَ الْعِلْمَ بِمَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ شَأْنُهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَقَبُولِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ. ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ: صَارَ لِي عِلْمٌ وَارِدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ هِيَ مَا يُسَلِّمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهَا مِنَ الْهُدَى وَالصَّلَاحِ، وَتِلْكَ هِيَ أَحْوَالُهُ، وَهُمْ وَصَفُوا حَالَهُ بِأَنَّهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ نَعْيُ عَلَى كَمَالِ سَفَاهَةِ عُقُولِهِمْ. وَانْتَقَلَ إِلَى كَشْفِ الْخَطَأِ فِي شُبْهَتِهِمْ فَعَطَفَ عَلَى كَلَامِهِ قَوْلَهُ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ مُفْتَتِحًا الْجُمْلَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ أَحَالُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، كَمَا وَقَعَتْ حِكَايَتُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] . وَاخْتِيرَ الِاسْتِفْهَامُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا عَجَبَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مِمَّا يَتَرَدَّدُ فِيهِ ظَنُّ الْعَاقِلِ بِالْعُقَلَاءِ. فَقَوْلُهُ: أَوَعَجِبْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ لِقَضِيَّةِ قَوْلِهِمْ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَعْرَاف: 60] لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدِّمَةِ دَلِيلٍ عَلَى بُطْلَانِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَحَقِيقَةُ الْعَجَبِ أَنَّهُ انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ يَحْصُلُ عِنْدَ إِدْرَاكِ شَيْءٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَجَبُ مَشُوبًا بِإِنْكَارِ الشَّيْءِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ وَاسْتِبْعَادِهِ وَإِحَالَتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 2، 3] وَقَدِ اجْتَمَعَ الْمَعْنَيَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرَّعْد: 5] وَالَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 73] أَنْكَرُوا عَلَيْهَا أَنَّهَا عَدَّتْ وِلَادَتَهَا وَلَدًا، وَهِيَ عَجُوزٌ، مُحَالًا. وَتَنْكِيرُ ذِكْرٌ ورَجُلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ إِذْ لَا خُصُوصِيَّةَ لِذِكْرٍ دُونَ ذِكْرٍ

وَلَا لِرَجُلٍ دُونَ رَجُلٍ، فَإِنَّ النَّاسَ سَوَاءٌ، وَالذِّكْرَ سَوَاءٌ فِي قَبُولِهِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَرَدِّهِ لِمَنْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ، أَي هَذَا الحَدِيث الَّذِي عَظَّمْتُمُوهُ وَضَجَجْتُمْ لَهُ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ. وَوَصْفُ رَجُلٍ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمُ الْبَشَرِيِّ فَضْحٌ لِشُبْهَتِهِمْ، وَمَعَ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ فَضْحِ شُبْهَتِهِمْ فِيهِ أَيْضًا رَدٌّ لَهَا بِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونَ مَا جَعَلُوهُ مُوجِبَ اسْتِبْعَادٍ وَاسْتِحَالَةٍ هُوَ مُوجِبُ الْقَبُولِ وَالْإِيمَانِ، إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الذِّكْرِ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَنْ لَا يُسْرِعُوا إِلَى تَكْذِيبِ الْجَائِي بِهِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ كَوْنَ الْمُذَكِّرِ رَجُلًا مِنْهُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّعَقُّلِ مِنْ كَوْنِ مُذَكِّرِهِمْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ مَلَكٍ أَوْ جِنِّيٍّ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي إِبْطَالِ دَعْوَى الْخَصْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِصِدْقِ دَعْوَى الْمُجَادِلِ، وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ سَنَدِ الْمَنْعِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ. وَمَعْنَى (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ جاءَكُمْ ضُمِّنَ مَعْنَى نَزَلَ: أَيْ نَزَلَ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَهَذَا مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنْ (عَلَى) بِمَعْنَى مَعَ. وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ هُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَكُمْ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي تَشْوِيهِ خَطَئِهِمْ إِذْ جَعَلُوا ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا، وَإِنَّمَا هُوَ هَدْيٌ وَاضِحٌ لِفَائِدَتِكُمْ بِتَحْذِيرِكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَإِرْشَادِكُمْ إِلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَتَقْرِيبِكُمْ مَنْ رَحْمَتِهِ. وَقَدْ رُتِّبَتِ الْجُمَلُ عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِ مَضْمُونِهَا فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ مُقَدَّمٌ لِأَنَّهُ حَمْلٌ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَوِ الْوَثَنِيَّةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بَعْدَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَتُرْجَى مِنْهُ الرَّحْمَةُ. وَالْإِنْذَارُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] . وَالتَّقْوَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الأعراف (7) : آية 64]

وَمَعْنَى (لَعَلَّ) تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [21] . وَالرَّحْمَةُ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي سُورَة الْفَاتِحَة [3] . [64] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 64] فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَقَعَ التَّكْذِيبُ مِنْ جَمِيعِ قَوْمِهِ: مِنْ قَادَتِهِمْ، وَدَهْمَائِهِمْ، عَدَا بَعْضَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ عَقِبَ سَمَاعِ قَوْلِ نُوحٍ، فَعَطَفَ عَلَى كَلَامِهِ بِالْفَاءِ أَيْ صَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ يَقْتَضِي تَكْذِيبَ دَعْوَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُبَلِّغُ وَيَنْصَحُ وَيَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ، فَصَارَ تَكْذِيبًا أَعَمَّ مِنَ التَّكْذِيبِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بالنّسبة للملأ يؤول إِلَى مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعَامَّةِ تَكْذِيبٌ أُنُفٍ، بَعْدَ سَمَاعِ قَوْلِ قَادَتِهِمْ وَانْتِهَاءِ الْمُجَادَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُوحٍ، فَلَيْسَ الْفِعْلُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النِّسَاء: 136] إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ هُنَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْناهُ لِلتَّعْقِيبِ، وَهُوَ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ: لِأَنَّ التَّكْذِيبَ حَصَلَ بَعْدَهُ الْوَحْيُ إِلَى نُوحٍ بِأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، وَلَا يُرْجَى زِيَادَةُ مُؤْمِنٍ آخَرَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَدْخُلَ الْفُلْكَ وَيَحْمِلَ مَعَهُ مَنْ آمَنَ إِلَى آخَرِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقُدِّمَ الْإِخْبَارُ بِالْإِنْجَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْإِغْرَاقِ، مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى مَقَامِ الْعِبْرَةِ تَقْدِيمُ الْإِخْبَارِ بِإِغْرَاقِ الْمُنْكِرِينَ، فَقُدِّمَ الْإِنْجَاءُ لِلِاهْتِمَامِ بِإِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْجِيلًا لِمَسَرَّةِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ عَادَةَ اللَّهِ إِذَا أَهْلَكَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَجِّيَ الرّسول وَالْمُؤمنِينَ، فَلذَلِك التَّقْدِيمُ يُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِالنِّذَارَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِغْرَاقَ وَقَعَ قَبْلَ الْإِنْجَاءِ، إِذْ لَا يَظْهَرُ تَحَقُّقُ إِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْعَذَابِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَالْمُعَقَّبُ بِهِ التَّكْذِيبُ ابْتِدَاءً هُوَ

الْإِغْرَاقُ، وَالْإِنْجَاءُ وَاقِعٌ بَعْدَهُ، وَلِيَتَأَتَّى هَذَا التَّقْدِيمُ عُطِفَ فِعْلُ الْإِنْجَاءِ بِالْوَاوِ الْمُفِيدَةِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، دُونَ الْفَاءِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْفُلْكِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: مَعَهُ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: اسْتَقَرُّوا مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَبِهَذَا التَّعْلِيقِ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ فِي الْفُلْكِ مَعْشَرًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ لَهُ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيقٌ إِيجَازًا بَدِيعًا. وَالْفُلْكُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَسَنَذْكُرُ تَعْيِينَهُمْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَأَغْرَقْنَا سَائِرَهُمْ، أَوْ بَقِيَّتَهُمْ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ أَغْرَقْنَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (إِنَّ) لِأَنَّ حَرْفَ (إِنَّ) هُنَا لَا يُقْصَدُ بِهِ رَدُّ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، إِذْ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَرْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَمِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ لِلِاهْتِمَامِ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَتُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَرَبْطَ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. فَفَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَلَا فَصْلٍ. وعَمِينَ جَمْعُ عَمٍ جَمْعُ سَلَامَةٍ بِوَاوٍ وَنُونٍ. وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ مِثْلُ أَشِرٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَمَى، وَأَصْلُهُ فُقْدَانُ الْبَصَرِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى فُقْدَانِ الرَّأْيِ النَّافِعِ، وَيُقَالُ: عَمَى الْقَلْبِ، وَقَدْ غُلِّبَ فِي الْكَلَامِ تَخْصِيصُ الْمَوْصُوفِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَةِ، وَتُمَكِّنُهَا بِأَنْ تَكُونَ سَجِيَّةً وَإِنَّمَا يَصْدُقُ ذَلِكَ فِي فَقْدِ الرَّأْيِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُخْلَقُ عَلَيْهِ غَالِبًا، بِخِلَافِ فَقْدِ الْبَصَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا عَمِينَ وَلَمْ يَقُلْ عُمْيًا كَمَا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 66]

قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاء: 97] وَمِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمٍ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا كَانُوا عَمِينَ لِأَنَّ قَادَتَهُمْ دَاعُونَ إِلَى الضَّلَالَةِ مُؤَيِّدُونَهَا، وَدَهْمَاؤُهُمْ مُتَقَبِّلُونَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ سَمَّاعُونَ لَهَا. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ فِي إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَطَوُّرَ الْخَلْقِ الْإِنْسَانِيِّ: فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَخَلَقَ لَهُ الْحِسَّ الظَّاهِرَ وَالْحِسَّ الْبَاطِنَ، فَانْتَفَعَ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ قُوَاهُ الْحِسِّيَّةِ فِي إِدْرَاكِ أَوَائِلِ الْعُلُومِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَعْمَلَ بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَا جَلَبَ إِلَيْهِ الضُّرَّ وَالضَّلَالَ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ الْقَوَاعِدِ الْحِسِّيَّةِ فِيمَا غَابَ عَنْ حِسِّهِ وَإِعَانَتِهَا بِالْقُوَى الْوَهْمِيَّةِ وَالْمُخَيَّلَةِ، فَفَكَّرَ فِي خَالِقِهِ وَصِفَاتِهِ فَتَوَّهُمْ لَهُ أَنْدَادًا وَأَعْوَانًا وَعَشِيرَةً وَأَبْنَاءً وَشُرَكَاءً فِي مُلْكِهِ، وَتَفَاقَمَ ذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ مَعَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ حَتَّى عَادَ عَلَيْهِ بِنِسْيَانِ خَالِقِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُلِ الْعِلْمُ بِهِ تَحْتَ حَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ الْمَوْهُومَةِ حَيْثُ اتَّخَذَ لَهَا صُوَرًا مَحْسُوسَةً، فَأَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَ الْبَشَرِ وَتَهْذِيبَ إِدْرَاكِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نُوحًا فَآمَنَ بِهِ قَلِيلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَكَفَرَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ، فَأَرَادَ اللَّهُ انْتِخَابَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ قَبِلَتْ عُقُولُهُمُ الْهُدَى، وَهُمْ نُوحٌ وَمَنْ آمن بِهِ، واستيصال الَّذِينَ تَمَكَّنَتِ الضَّلَالَةُ من عُقُولهمْ لينشىء مِنْ الصَّالِحِينَ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً وَيَكْفِيَ الْإِنْسَانِيَّةَ فَسَادَ الضَّالِّينَ، كَمَا قَالَ نُوحٌ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] ، فَكَانَتْ بِعْثَةُ نُوحٍ وَمَا طَرَأَ عَلَيْهَا تَجْدِيدًا لِصَلَاحِ الْبَشَرِ وانتخابا للأصلح. [65، 66] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 65 إِلَى 66] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ

(66) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِأَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ «أَرْسَلْنَا» لِدَلَالَةِ حَرْفِ (إِلَى) عَلَيْهِ، مَعَ دَلَالَةِ سَبْقِ نَظِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ اللَّفْظِيِّ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ: عَطَفَتِ الْوَاوُ هُوداً على نُوحاً [الْأَعْرَاف: 59] ، فَتكون الْوَاو نائية عَنِ الْعَامِلِ وَهُوَ أَرْسَلْنا [الْأَعْرَاف: 59] ، وَالتَّقْدِيرُ: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُودًا أَخَا عَادٍ إِلَيْهِمْ وَقُدِّمَتْ (إِلَى) فَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ، وَتَقْدِيمُ (إِلَى) اقْتَضَاهُ حُسْنُ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي عَوْدِ الضَّمَائِرِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَصْلِيِّ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ بِالْإِضْمَارِ حَيْثُ أُرِيدَ وَصْفُ هُودٍ بِأَنَّهُ مِنْ إِخْوَةِ عَادٍ وَمن صَمِيمِهِمْ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى إِعَادَةِ لَفْظِ عَادٍ، وَمَعَ تَجَنُّبِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا وَرُتْبَةً، فَقِيلَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وهُوداً بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنْ أَخاهُمْ. وَعَادٌ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ الْبَائِدَةِ، وَكَانُوا عَشْرَ قَبَائِلَ، وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبِيلَةً وَهُمْ أَبْنَاءُ عَادِ بْنِ عُوصٍ، وَعُوصٌ هُوَ ابْنُ إِرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، كَذَا اصْطَلَحَ الْمُؤَرِّخُونَ. وَهُودٌ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَادٍ، فَقَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْخُلُودِ بْنِ عَادٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامٍ جَدِّ عَادٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَادٍ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا قَالُوا هُوَ هُودُ بْنُ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ قَبْرَ هُودٍ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: أَنَّ قَبْرَ هُودٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ. وَعَادٌ أُرِيدَ بِهِ الْقَبِيلَةُ وَسَاغَ صَرْفُهُ لِأَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطُ، وَكَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِالشِّحْرِ- بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- مِنْ أَرض الْيمن وَحضر موت وَعُمَانَ وَالْأَحْقَافِ، وَهِيَ الرِّمَالُ

الَّتِي بَيْنَ حَضْرَمَوْتَ وَعُمَانَ. وَالْأَخُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْقَرِيبِ، عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَا أَخَا الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ هُودٌ مِنْ بَنِي عَادٍ، وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ عَمِّ إِرَمَ، وَيُطْلَقُ الْأَخُ مَجَازًا أَيْضًا عَلَى الْمُصَاحِبِ الْمُلَازِمِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أَخُو الْحَرْبِ، وَمِنْهُ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: 27]- وَقَوْلُهُ- وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَاف: 202] . فَالْمُرَادُ أَنَّ هُودًا كَانَ مِنْ ذَوِي نَسَبِ قَوْمِهِ عَادٍ، وَإِنَّمَا وُصِفَ هُودٌ وَغَيْرُهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُوصَفْ نُوحٌ بِأَنَّهُ أَخٌ لِقَوْمِهِ: لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ نُوحٍ لَمْ يَكُونُوا قَدِ انْقَسَمُوا شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: لِلْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ: أَخُو بَنِي فُلَانٍ، قَصْدًا لَعَزْوِهِ وَنِسْبَتِهِ تَمْيِيزًا لِلنَّاسِ إِذْ قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْأَعْلَامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا أَنَّ نِظَامَ الْقَبَائِلِ مَا حَدَثَ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ. وفصلت جُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْفَاءِ كَمَا عُطِفَ نَظِيرُهَا الْمُتَقَدِّمُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ لِأَنَّ الْحَالَ اقْتَضَى هُنَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قِصَّةَ هُودٍ لَمَّا وَرَدَتْ عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ الْمَذْكُورِ فِيهَا دَعْوَتُهُ قَوْمَهُ صَارَ السَّامِعُ مُتَرَقِّبًا مَعْرِفَةَ مَا خَاطَبَ بِهِ هُودٌ قَوْمَهُ حَيْثُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مَثَارَ سُؤَالٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَمَاذَا دَعَا هُودٌ قَوْمَهُ وَبِمَاذَا أَجَابُوا؟ فَيَقَعُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَخْ مَعَ مَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُفَرَّعَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا لَمْ يَكُنْ التَّفْرِيعُ حَسَنًا فِي صُورَةِ النَّظْمِ. وَالرَّبْطُ بَيْنَ الْجُمَلِ حَاصِلٌ فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ فَاءَ الْعَطْفِ رَابِطٌ لَفْظِيٌّ لِلْمَعْطُوفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ رَابِطٌ جُمْلَةَ الْجَوَابِ بِجُمْلَةِ مَثَارِ السُّؤَالِ رَبْطًا مَعْنَوِيًّا. وَجُمْلَةُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَقَدْ شَابَهَتْ دَعْوَةُ هُودٍ قَوْمَهُ دَعْوَةَ نُوحٍ قَوْمَهُ فِي الْمُهِمِّ مِنْ كَلَامِهَا: لِأَنَّ الرُّسُلَ مُرْسَلُونَ

مِنَ اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ مِنَ الْإِرْسَالِ وَاحِدَةٌ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَتَشَابَهَ دَعَوَاتُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ» وَقَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] . وَجُمْلَةُ: أَفَلا تَتَّقُونَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ إِنْكَارِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى الْحَذَرُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِشْرَاكِهِمْ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاعْتِقَادِ الْإِلَهِيَّةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِهِمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ إِغْلَاظًا فِي الدَّعْوَةِ وَتَهْوِيلًا لِفَظَاعَةِ الشِّرْكِ، إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةُ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِ فِي تَكْرِيرِ الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَوَعَظَهُمْ، كَمَا قَالَ نُوحٌ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] كَمَا اقْتَضَاهُ بَعْضُ تَوْجِيهَاتِ تَجْرِيدِ حِكَايَةِ كَلَامِهِ عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَوَصْفُ الْمَلَأِ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا، دُونَ مَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَصْفٌ كَاشِفٌ وَلَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ تَفَنُّنًا فِي أَسَالِيبِ الْحِكَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ وَصَفَ مَلَأَ قَوْمِ نُوحٍ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ، وَالتَّوْجِيهُ الَّذِي فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا غَفْلَةٌ عَمَّا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ فِي سَفَاهَةٍ. وَالسَّفَاهَةُ سَخَافَةُ الْعَقْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَةِ: 13]- وَقَوله- وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [130] . جَعَلُوا قَوْلَهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ كَلَامًا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُخْتَلِّ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَالِ عِنْدَهُمْ. وَأَطْلَقُوا الظَّنَّ عَلَى الْيَقِينِ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [46] ، وَأَرَادُوا تَكْذِيبَهُ فِي قَوْلِهِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وَفِيمَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 67 إلى 68]

وَقَدْ تَشَابَهَتْ أَقْوَالُ قَوْمِ هُودٍ وَأَقْوَالُ قَوْمِ نُوحٍ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ لِأَنَّ ضَلَالَةَ الْمُكَذِّبِينَ مُتَّحِدَةٌ، وَشُبُهَاتِهِمْ مُتَّحِدَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَة: 118] فَكَأَنَّهُمْ لَقَّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 53] . [67، 68] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 67 إِلَى 68] قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) فُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ لِأَنَّهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا آنِفًا وَفِيمَا مَضَى. وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: 62] وَقَالَ فِي هَذِهِ وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فَنُوحٌ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُقْلِعٍ عَنِ النُّصْحِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَهُودٌ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُصْحَهُ لَهُمْ وَصْفٌ ثَابِتٌ فِيهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا زَعَمُوهُ سَفَاهَةً هُوَ نُصْحٌ. وَأُتْبِعَ ناصِحٌ بِ آمِّينَ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْأَمَانَةِ لِرَدِّ قَوْلِهِمْ لَهُ: لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَاف: 66] لِأَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ حَالَةٌ فِي الْإِنْسَانِ تَبْعَثُهُ عَلَى حِفْظِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ، وَتَمْنَعُهُ مِنْ إِضَاعَتِهِ، أَوْ جَعْلِهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ. وَالْأَمَانَةُ مِنْ أَعَزِّ أَوْصَافِ الْبَشَرِ، وَهِيَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَ لَهُ» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ- ثُمَّ قَالَ- يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ- إِلَى أَنْ قَالَ- فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» فَذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ. وَالْكَذِبُ مِنَ الْخِيَانَةِ،

[سورة الأعراف (7) : آية 69]

وَالصِّدْقُ مِنَ الْأَمَانَةِ، لِأَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ فِي صُورَةٍ تُوهِمُ السَّامِعَ وَاقِعٌ، فَذَلِكَ خِيَانَةٌ لِلسَّامِعِ، وَالصِّدْقُ إِبْلَاغُ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا هُوَ فَهُوَ أَدَاءٌ لِأَمَانَةِ مَا عَلِمَهُ الْمُخْبِرُ، فَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ أَمِينٌ وَصْفٌ يَجْمَعُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَجْعَلُهُ بِمَحَلِّ الثِّقَةِ مِنْ قَوْمِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ كَوْنِهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى عَامِلِهِ لِلْإِيذَانِ بِاهْتِمَامِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ. [69] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 69] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ. هَذَا مُمَاثِلٌ قَوْلَ نُوحٍ لِقَوْمِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا سَبَبُ الْمُمَاثَلَةِ. وَتَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. يَجُوزُ أَنْ يكون قَوْله: لِيُنْذِرَكُمْ عَطْفًا عَلَى قَوْله: اعْبُدُوا [الْأَعْرَاف: 65] وَيَكُونَ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا حُكِيَ بِهِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي قَاطَعُوهُ بِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ [الْأَعْرَاف: 65] ، فَلَمَّا أَتَمَّ جَوَابَهُمْ عَمَّا قَاطَعُوا بِهِ كَلَامَهُ عَادَ إِلَى دَعْوَتِهِ، فَيَكُونُ رُجُوعًا إِلَى الدَّعْوَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: لَا تُنْكِرُوا أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، فَيَكُونُ تَكْمِلَةً لِلِاسْتِدْلَالِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَانْتَقَلَ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي لَا يُنْكِرُونَ أَنَّهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. تَذْكِيرًا مِنْ شَأْنِهِ إِيصَالُهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ

بِالذِّكْرِ (بِضَمِّ الذَّالِ) لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْسَى النِّعَمَ فَتَكْفُرُ الْمُنْعِمَ، فَإِذَا تَذَكَّرَتِ النِّعْمَةَ رَأَتْ حَقًّا عَلَيْهَا أَنْ تَشْكُرَ الْمُنْعِمَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ مِنْ أَهَمِّ مَسَائِلِ التَّكْلِيفِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِحُسْنِهِ عَقْلًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ سَوَاءٌ مِنْهُمْ من اكْتفى بالحس الْعَقْلِيِّ وَمَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ وَاعْتَبَرَ التَّوَقُّفَ عَلَى الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ. وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ (إِذْ) لَا تُلَازِمُ الظَّرْفِيَّةَ بَلْ هِيَ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، وَالْمَعْنَى: اذْكُرُوا الْوَقْتَ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ خِلَافَتُكُمْ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ فِي تَعْمِيرِ الْأَرْضِ وَالْهَيْمَنَةِ عَلَى الْأُمَمِ، فَإِنَّ عَادًا كَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] . فَالْخُلَفَاءُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ، أَيْ يَتَوَلَّى عَمَلَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ الْآخَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، فَالْمُرَادُ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي تَعْمِيرِ الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَالَ: مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ قَوْمِ نُوحٍ، فَعَادٌ أَوَّلُ أُمَّةٍ اضْطَلَعَتْ بِالْحَضَارَةِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَكَانَ بَنُو نُوحٍ قَدْ تَكَاثَرُوا وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ، فِي أَرْمِينِيَّةَ وَالْمَوْصِلِ وَالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا أُمَمًا كَثِيرَةً، أَوْ كَانَت عَاد عظم تِلْكَ الْأُمَمِ وَأَصْحَابَ السِّيَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَلَّفُوا قَوْمَ نُوحٍ فِي دِيَارِهِمْ لِأَنَّ مَنَازِلَ عَادٍ غَيْرُ مُنَازِلِ قَوْمِ نُوحٍ عِنْدَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ تَصْرِيحٌ بِالنِّعْمَةِ، وَتَعْرِيضٌ بِالنِّذَارَةِ وَالْوَعِيدِ بِأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ إِنَّمَا اسْتَأْصَلَهُمْ وَأَبَادَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى شِرْكِهِمْ، فَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي صُنْعِهِمْ يُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ بِهِ عَذَابٌ أَيْضًا. والْخَلْقِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا خَالِصًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَوْلُهُ: بَصْطَةً ثَبَتَ فِي الْمَصَاحِفِ بِصَادٍّ قَبْلَ الطَّاءِ وَهُوَ مُرَادِفُ بَسْطَةٍ

الَّذِي هُوَ- بِسِينٍ- قَبْلَ الطَّاءِ. وَوَقَعَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَأَهْمَلَ الرَّاغِبُ (بَصْطَةً) الَّذِي بِالصَّادِّ. وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِسِينٍ- وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْبَصْطَةُ: الْوَفْرَةُ وَالسَّعَةُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. فَإِنْ كَانَ (الْخَلْقُ) بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَالْبَصْطَةُ الزِّيَادَةُ فِي الْقُوَى الْجِبِلِّيَّةِ أَيْ زَادَهُمْ قُوَّةً فِي عُقُولِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ فَخَلَقَهُمْ عُقَلَاءَ أَصِحَّاءَ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ نِسْبَةُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ إِلَى عَادٍ، وَنِسْبَةُ كَمَالِ قُوَى الْأَجْسَامِ إِلَيْهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ: أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ ... مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْإِثْمِ وَقَالَ وَدَّاكُ بن ثميل المازتي فِي «الْحَمَاسَةِ» : وَأَحْلَامُ عَادٍ لَا يَخَافُ جَلِيسُهُمْ ... وَلَوْ نَطَقَ الْعُوَّارُ غَرْبَ لِسَانِ وَقَالَ قِيسُ بْنُ عُبَادَةَ: وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ ... سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُود وعَلى هَذِه الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْخَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِ بَصْطَةً، وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى النَّاسِ فَالْمَعْنَى: وَزَادَكُمْ بَصْطَةً فِي النَّاسِ بِأَنَّ جَعْلَكُمْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِيمَا تَتَفَاضَلُ بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَيَشْمَلُ رُجْحَانَ الْعُقُولِ وَقُوَّةَ الْأَجْسَامِ وَسَلَامَتَهَا مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَقُوَّةَ الْبَأْسِ، وَقَدْ نُسِبَتِ الدُّرُوعُ إِلَى عَادٍ فَيُقَالُ لَهَا: الْعَادِيَّةُ، وَكَذَلِكَ السُّيُوفُ الْعَادِيَّةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] وَحَكَى عَنْ هُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء: 129- 134] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْخَلْقِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ فَصِيحَةٌ، أَيْ: إِنْ ذَكَرْتُمْ وَقْتَ جَعَلَكُمُ اللَّهُ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ وَوَقْتَ زَادَكُمْ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا نِعَمَهُ الْكَثِيرَةَ تَفْصِيلًا، فَالْكَلَامُ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْجُزْئِيِّ عَلَىِِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 70 إلى 71]

إِثْبَاتِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ، فَإِنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةٍ وَاضِحَةٍ وَهِيَ كَوْنُهُمْ خُلَفَاءَ وَنِعَمٍ مُجْمَلَةٍ وَهِيَ زِيَادَةُ بَصْطَتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بَقِيَّةَ النِّعَمِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُضَافُ. وَالْآلَاءُ جَمْعُ (إِلًى) ، وَالْإِلَى: النِّعْمَةُ، وَهَذَا مِثْلُ جَمْعِ عِنَبٍ عَلَى أَعْنَابٍ، وَنَظِيرُهُ جَمْعُ إِنًى بِالنُّونِ، وَهُوَ الْوَقْتُ، عَلَى آنَاءٍ قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: 53] أَيْ وَقْتَهُ، وَقَالَ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ [طه: 130] . وَرُتِّبَ عَلَى ذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ رَجَاءُ أَنْ يُفْلِحُوا لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ يُؤَدِّي إِلَى تَكْرِيرِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، فَيَحْمِلُ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ عَلَى مُقَابَلَةِ النّعم بالطّاعة. [70، 71] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 70 إِلَى 71] قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) جَاوَبُوا هُودًا بِمَا أَنْبَأَ عَنْ ضَيَاعِ حُجَّتِهِ فِي جَنْبِ ضَلَالَةِ عُقُولِهِمْ وَمُكَابَرَةِ نُفُوسِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَعَادُوا تَكْذِيبَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى دَعْوَتِهِ لِلتَّوْحِيدِ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَقَلُّ جَفْوَةً وَغِلْظَةً مِنْ جَوَابِهِمُ الْأَوَّلِ، إِذْ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَاف: 66] كأنّهم راموا استنزل نَفْسِ هُودٍ وَمُحَاوَلَةَ إِرْجَاعِهِ عَمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِنْكَارِ وَذَكَّرُوهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي أَنْكَرَهُ هُوَ دِينُ آبَاءِ الْجَمِيعِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُ سَفَّهَ آبَاءَهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى التَّعْبِيرَ عَنْ دَيْنِهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَإِلَى أَنَّهُ حَقِيقٌ بِمُتَابَعَةِ دِينِ آبَائِهِ، كَمَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ حِينَ

دَعَاهُ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» عِنْدَ احْتِضَارِهِ فَقَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ: «أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةٍ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . وَاجْتِلَابُ (كَانَ) لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِبَادَتَهُمْ أَمْرٌ قَدِيمٌ مَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مُضَارِعًا فِي قَوْلِهِ: يَعْبُدُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُتَكَرِّرٌ مِنْ آبَائِهِمْ وَمُتَجَدِّدٌ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ. وَمَعْنَى أَجِئْتَنا أَقَصَدْتَ وَاهْتَمَمْتَ بِنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ فَاسْتُعِيرَ فِعْلُ الْمَجِيءِ لِمَعْنَى الِاهْتِمَامِ وَالتَّحَفُّزِ وَالتَّصَلُّبِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ذَهَبَ يَفْعَلُ، وَفِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1، 2] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: 22، 23] وَفِرْعَوْنُ لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَ مُلْكِهِ وَإِنَّمَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَعْرَضَ وَاهْتَمَّ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ ذَهَبَ يَفْعَلُ كَذَا قَالَ النَّبَهَانِيُّ: فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ فَقَصَدُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَجِيءِ زِيَادَةَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَتَسْفِيهَهُ عَلَى اهْتِمَامِهِ بِأَمْرٍ مِثْلِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. ووَحْدَهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ أَوْحَدَهُ: إِذَا اعْتَقَدَهُ وَاحِدًا، فَقِيَاس الْمصدر الإيجاد، وَانْتَصَبَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَالِ: إِمَّا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْ مُوَحَّدًا أَيْ مَحْكُومًا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَقَالَ يُونُسُ: هُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ مُوَحِّدِينَ لَهُ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لِنَعْبُدَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى: وَنَذَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِتَفْرِيعِ طَلَبِ تَحْقِيقِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَتَحَدِّيًا لِهُودٍ، وَإِشْعَارًا لَهُ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنْ لَا صِدْقَ لِلْوَعِيدِ الَّذِي يَتَوَعَّدُهُمْ

فَلَا يَخْشَوْنَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِمْ: فَأْتِنا لِلتَّعْجِيزِ. وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يَجِيءَ مُصَاحِبًا إِيَّاهُ، وَيُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي الْإِحْضَارِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا هُنَا. وَالْمَعْنَى فَعَجِّلْ لَنَا مَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ فَحَقِّقْ لَنَا مَا زَعَمْتَ مِنْ وَعِيدِنَا. وَنَظِيرُهُ الْفِعْلُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْمَجِيءِ مِثْلُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [هود: 53] الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [الْبَقَرَة: 71] . وَأَسْنَدُوا الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ هُوَ شَيْءٌ مِنْ مُخْتَلَقَاتِهِ وَلَيْسَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مِنْهُمُ الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِطَلَبِ الضَّلَالِ فِي زَعْمِهِمْ. وَالْوَعْدُ الَّذِي أَرَادُوهُ وَعْدٌ بِالشَّرِّ، وَهُوَ الْوَعِيدُ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِسُوءٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا ضِمْنِيًّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَفَلا تَتَّقُونَ [الْأَعْرَاف: 65] لِأَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِمِ انْتِفَاءَ الِاتِّقَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ثَمَّةَ مَا يُحَذَّرُ مِنْهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعَيِّنُوا وَعِيدًا فِي كَلَامِهِمْ بَلْ أَبْهَمُوهُ بِقَوْلِهِمْ بِما تَعِدُنا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ تَعْرِيضًا مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْصَلَ قَوْمَ نُوحٍ وَأَخْلَفَهُمْ بِعَادٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَسْتَأْصِلَ عَادًا وَيُخْلِفَهُمْ بِغَيْرِهِمْ. وَعَقَّبُوا كَلَامَهُمْ بِالشَّرْطِ فَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ اسْتِقْصَاءً لِمَقْدِرَتِهِ قَصْدًا مِنْهُمْ لِإِظْهَارِ عَجْزِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْعَذَابِ فَلَا يَسَعُهُ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ: أَتَيْتَ بِهِ وَإِلَّا فَلَسْتَ بِصَادِقٍ. فَأَجَابَهُمْ بِأَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ رِجْسٌ مِنَ اللَّهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ: وَقَعَ مَعْنَاهُ حَقَّ وَثَبَتَ، مِنْ قَوْلِهِمْ لِلْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ: هَذَا وَاقِعٌ، وَقَوْلِهِمْ لِلْأَمْرِ الْمَكْذُوبِ: هَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ، فَالْمَعْنَى حَقَّ وَقُدِّرَ

عَلَيْكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ. فَالرِّجْسُ هُوَ الشَّيْءُ الْخَبِيثُ، أُطْلِقَ هُنَا مَجَازًا عَلَى خُبْثِ الْبَاطِنِ، أَيْ فَسَادِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125]- وَقَوْلِهِ- كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 125] . وَالْمَعْنَى أَصَابَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ بِالْفَسَادِ لِكُفْرِهِمْ فَلَا يَقْبَلُونَ الْخَيْرَ وَلَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الرِّجْسَ هُنَا بِاللَّعْنَةِ، وَالْجُمْهُورُ فَسَّرُوا الرِّجْسَ هُنَا بِالْعَذَابِ، فَيَكُونُ فِعْلُ: وَقَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، إِشْعَارًا بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الرِّجْسَ بِالسَّخَطِ، وَفَسَّرَ الْغَضَبَ بِالْعَذَابِ، عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَثَرُ الْغَضَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ هُودٌ بِذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِوَحْيٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مِنْ حِينِ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، إِذْ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ الْحُجَّةَ فَإِنَّ عَدَمَ رُجُوعِهِمْ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ خُبْثَ قُلُوبِهِمْ مُتَمَكِّنٌ لَا يَزُولُ، وَلَا يُرْجَى مِنْهُمْ إِيمَانٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنُوحٍ: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 136] . وَغَضَبُ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ: الْإِبْعَادُ وَالْعُقُوبَةُ وَالتَّحْقِيرُ، وَهِيَ آثَارُ الْغَضَبِ فِي الْحَوَادِثِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْغَضَبِ: انْفِعَالٌ تَنْشَأُ عَنْهُ كَرَاهِيَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَإِبْعَادُهُ وَإِضْرَارُهُ. وَتَأْخِيرُ الْغَضَبِ عَنِ الرِّجْسِ لِأَنَّ الرِّجْسَ، وَهُوَ خُبْثُ نُفُوسِهِمْ، قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُمْ عَلَى خُبْثٍ بِحَيْثُ كَانَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الضَّلَالِ أَمْرًا جِبِلِّيًّا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ. فَوُقُوعُ الرِّجْسِ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ حَاصِلٌ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ قَوْلِ هود. واقترانه ب قَدْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ: مِثْلُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَتَقْدِيمُ: عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى فَاعِلِ الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعْجِيلِ ذِكْرِ الْمَغْضُوبِ وَالْغَاضِبِ، إِيقَاظًا لِبَصَائِرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يُبَادِرُونَ بِالتَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَجْرُورَيْنِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ فَنَاسَبَ إِيلَاؤُهُمَا إِيَّاهُ، وَلَوْ ذُكِرَا بَعْدَ الْفَاعِلِ

لَتُوُهِّمَ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لَهُ، وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُهُمْ، عَلَى الَّذِي هُوَ وَصْفُ رَبِّهِمْ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِالْفِعْلِ. وَلَمَّا قَدَّمَ إِنْذَارَهُمْ بِغَضَبِ اللَّهِ عَادَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُجَادِلُوا فِي شَأْنِ أَصْنَامِهِمْ. وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُحَاجَّةُ. وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ، أَيْ هِيَ مُجَرَّدُ أَسْمَاءٍ لَيْسَتْ لَهَا الْحَقَائِقُ الَّتِي اعْتَقَدُوهَا وَوَضَعُوا لَهَا الْأَسْمَاءَ لِأَجْلِ اسْتِحْضَارِهَا، فَبِذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْضُوعَةُ مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ، لِانْتِفَاءِ الْحَقَائِقِ الَّتِي وَضَعُوا الْأَسْمَاءَ لِأَجْلِهَا. فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ تُوضَعُ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ التَّسْمِيَةِ، وَهُمْ إِنَّمَا وَضَعُوا لَهَا الْأَسْمَاءَ وَاهْتَمُّوا بِهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْإِلَهِيَّةِ جُزْءًا مِنَ الْمُسَمَّى الْمَوْضُوعِ لَهُ الِاسْمُ، وَهُوَ الدَّاعِي إِلَى التَّسْمِيَةِ، فَمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مُلَاحَظَةٌ لِمَنْ وَضَعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةُ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مُنْتَفِيَةً كَانَتِ الْأَسْمَاءُ لَا مُسَمَّيَاتٍ لَهَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهَا لَهُ ذَوَاتٌ وَأَجْسَامٌ كَالتَّمَاثِيلِ وَالْأَنْصَابِ، وَمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ ذَاتٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَ آلِهَةِ عَادٍ كَانَ مُجَرَّدَ اسْمٍ يَذْكُرُونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَلَا يَجْعَلُونَ لَهُ تِمْثَالًا وَلَا نُصُبًا، مِثْلُ مَا كَانَتِ الْعُزَّى عِنْدَ الْعَرَبِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا بَيْتًا وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهَا نُصُبًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: 23] . وَذَكَرَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ أَنَّ عَادًا اتَّخَذُوا أَصْنَامًا ثَلَاثَةً وَهِيَ (صَمُودٌ) - بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بِوَزْنِ زَبُورٍ. وَصُدَاءُ- بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَضْبُوطًا بِخَطِّ الْهَمَذَانِيِّ مُحْشِي «الْكَشَّافِ» فِي نُسْخَةٍ مِنْ حَاشِيَتِهِ الْمُسَمَّاةِ «تَوْضِيحَ الْمُشْكِلَاتِ» وَمَنْسُوخَةٌ بِخَطِّهِ، وَبِدَالٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ضَبْطِ الدَّالِ بِالتَّشْدِيدِ أَوْ بِالتَّخْفِيفِ:

وَقَدْ رَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنَ «الْكَشَّافِ» مَخْطُوطَةً مَوْضُوعًا عَلَى الدَّالِ عَلَامَةُ شَدٍّ، وَلَسْتُ عَلَى تَمَامِ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ كَمَا هُوَ فِي نسخ «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْبَغَوِيِّ» ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي أَبْيَاتٍ مَوْضُوعَةٍ فِي قِصَّةِ قَوْمِ عَادٍ فِي كُتُبِ الْقِصَصِ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» وَفِي «مُرُوجِ الذَّهَبِ» لِلْمَسْعُودِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ شَرْحِ ابْنِ بَدْرُونٍ عَلَى قَصِيدَةِ ابْنِ عَبْدُونٍ الْأَنْدَلُسِيُّ بِدُونِ هَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ) . وَ (الْهَبَاءُ) - بِالْمَدِّ فِي آخِرِهِ مَضْبُوطًا بِخَطِّ الْهَمَذَانِيِّ فِي نُسْخَةِ حَاشِيَتِهِ عَلَى «الْكَشَّافِ» ، وَفِي نُسْخَةِ «الْكَشَّافِ» الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي «تَفْسِيرَيِ» الْبَغَوِيِّ وَالْخَازِنِ، وَفِي الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ قَلَمِيَّةٍ مِنَ «الْكَشَّافِ» بِأَلْفٍ دُونَ مَدٍّ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ضَبْطِ الْهَاءِ، وَلَمْ أَرَ ذِكْرَ صُدَاءَ وَالْهَبَاءِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ. وَعُطِفَ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ: وَآباؤُكُمْ لِأَنَّ مِنْ آبَائِهِمْ مَنْ وَضَعَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ، فَالْوَاضِعُونَ وَضَعُوا وَسَمَّوْا، وَالْمُقَلِّدُونَ سَمَّوْا وَلَمْ يَضَعُوا، وَاشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا. وسَمَّيْتُمُوها مَعْنَاهُ: ذَكَّرْتُمُوهَا بِأَلْسِنَتِكُمْ، كَمَا يُقَالُ: سَمِّ الله، أَي ذَاكر اسْمَهُ، فَيَكُونُ سَمَّى بِمَعْنَى ذَكَرَ لَفْظَ الِاسْمِ، وَالْأَلْفَاظُ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمَدْلُولَاتِهَا، وَأَصْلُ اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] ، وَقَالَ لَبِيدٌ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا أَيْ لَفْظُهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْمِيَةِ فِي الْآيَةِ وَضْعَ الِاسْمِ لِلْمُسَمَّى، كَمَا يُقَالُ: سَمَّيْتُ وَلَدِي كَذَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ وَكَثِيرًا مِنْ آبَائِهِمْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْآبَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ انْتَحَلُوا الشِّرْكَ وَاتَّخَذُوهُ دِينًا وَعَلَّمُوهُ أَبْنَاءَهُمْ وَقَوْمَهُمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يُذْكَرْ لِفِعْلِ «سَمَّيْتُمْ» مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا مُتَعَلِّقٌ، بَلِ اقْتُصِرَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.

[سورة الأعراف (7) : آية 72]

وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ الَّتِي يُصَدِّقُ بِهَا الْمُخَالِفُ، سُمِّيَتْ سُلْطَانًا لِأَنَّهَا تَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْمَعَارِضِ وَتُقْنِعُهُ، وَنَفَى أَنَ تَكُونَ الْحُجَّةُ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْحُجَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُخْبَرًا بِهَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أُمُورَ الْغَيْبِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَأَعْظَمُ الْمُغَيَّبَاتِ ثُبُوت الإلهيّة لأنّها قَدْ يَقْصِرُ الْعَمَلُ عَنْ إِدْرَاكِهَا فَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتَلَقَّى مِنْ قِبَلِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ. وَالْفَاءُ فِي قَوْله: فَانْتَظِرُوا لِتَفْرِيعِ هَذَا الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ السَّابِقِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْغَضَبِ وَالرِّجْسِ عَلَيْهِمْ، وَمُكَابَرَتَهُمْ وَاحْتِجَاجَهُمْ لِمَا لَا حُجَّةَ لَهُ، يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِانْتِظَارِ الْعَذَابِ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّهْدِيدِ مِثْلُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] . وَالِانْتِظَارُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى التَّرَقُّبِ، كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ أُمِرَ بِالتَّرَقُّبِ فَارْتَقَبَ. ومفعول: فَانْتَظِرُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَيْ فَانْتَظَرُوا عِقَابًا. وَقَوْلُهُ: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ استيناف بَيَانِيٌّ لِأَنَّ تَهْدِيدَهُ إِيَّاهُمْ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا كُنَّا نَنْتَظِرُ الْعَذَابَ فَمَاذَا يَكُونُ حَالُكَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ مَعَهُمْ، وَهَذَا مَقَامُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى تَلْقِينًا لرَسُوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ» فَهُودٌ يَخَافُ أَنْ يَشْمَلَهُ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِقَوْمِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ» قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ وَيَرَاهُ هُودٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُصِيبُهُ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُبْعِدَهُ اللَّهُ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا فِي قِصَّتِهِ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِمُبَارَحَةِ دِيَارِ قَوْمِهِ قَبْلَ نزُول الْعَذَاب: [72] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 72] فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ

(72) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ: أَيْ فعجّل الله استيصال عَادٍ وَنَجَّى هُودًا وَالَّذِينَ مَعَهُ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِهِ، فَالْمُعَقَّبُ بِهِ هُوَ قَطْعُ دَابِرِ عَادٍ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ النَّظْمُ هَكَذَا: فَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا- إِلَخْ- وَنَجَّيْنَا هُودًا إِلَخْ، وَلَكِنْ جَرَى النَّظْمُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعْجِيلِ الْإِخْبَارِ بِنَجَاةِ هُودٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 64] فِي قِصَّةِ نُوحٍ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَعْرِيفِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مَعَهُ. وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمْ من آمن بِهِ مَنْ قَوْمِهِ، فَالْمَعِيَّةُ هِيَ الْمُصَاحِبَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ مَعِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُودًا وَمَنْ مَعَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ الْعَذَابُ بِعَادٍ، وَإِنَّهُ تُوُفِّيَ هُنَالِكَ وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ وَلَا أَحْسَبُ هَذَا ثَابِتًا لِأَنَّ مَكَّةَ إِنَّمَا بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّ بَيْنَ عَادٍ وَإِبْرَاهِيمَ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّهُ حَكَى عَنْ شُعَيْبٍ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَادًا وَثَمُودًا كَانُوا بَعِيدِينَ مِنْ زَمَنِ شُعَيْبٍ وَأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ غَيْرُ بَعِيدِينَ، وَالْبُعْدُ مُرَادٌ بِهِ بُعْدُ الزَّمَانِ، لِأَنَّ أَمْكِنَةَ الْجَمِيعِ مُتَقَارِبَةٌ، وَكَانَ لُوطٌ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا نُعَيِّنَ كَيْفِيَّةَ إِنْجَاءِ هُودٍ وَمَنْ مَعَهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنِ الْعَذَابِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ قبر هود بحضر موت وَهَذَا أَقْرَبُ. وَقَوْلُهُ: بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْبَاءُ فِيهِ للسّببيّة، وتنكير بِرَحْمَةٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَكَذَلِكَ وَصَفُهَا بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَرَحِمْنَاهُ، فَكَانَتِ الرَّحْمَةُ مُصَاحِبَةً لَهُمْ إِذْ كَانُوا بِمَحَلِّ اللُّطْفِ وَالرِّفْقِ حَيْثُمَا حَلُّوا إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، وَمَوْقِعُ (مِنَّا) - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ- مَوْقِعٌ رَشِيقٌ جِدًّا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] .

[سورة الأعراف (7) : آية 73]

وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [45] ، وَقَدْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الدَّبُّورَ فَأَفْنَاهُمْ جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَقْتَضِي إِلَّا انْقِرَاضَ نَسْلِ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَنَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ وَالتَّعْرِيفُ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 64] فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا، فَهُوَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَطْعُ دَابِرِهِمْ. وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى كَذَّبُوا فَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ، وَفَائِدَةُ عَطْفِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ كِلْتَا الصِّلَتَيْنِ مُوجِبٌ لَقَطْعِ دَابِرِهِمْ: وَهُمَا التَّكْذِيبُ وَالْإِشْرَاكُ، تَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَلِمَوْعِظَتِهِمْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْقَصَصُ. وَقَدْ كَانَ مَا حَلَّ بعاد من الاستيصال تَطْهِيرا أوّل لبلاد الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَطْعًا لِدَابِرِ الضَّلَالِ مِنْهَا فِي أَوَّلِ عُصُورِ عُمْرَانِهَا، إِعْدَادًا لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنِ انْبِثَاقِ نُورِ الدَّعْوَةِ المحمّديّة فِيهَا. [73] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 73] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَإِلى ثَمُودَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَاف: 65] ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. وَثَمُودُ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ ثَمُودَ بْنِ جَاثِرَ- بِجِيمٍ وَمُثَلَّثَةٍ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» - ابْن إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ فَيَلْتَقُونَ مَعَ عَادٍ فِي (إِرَمَ)

وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ بِالْحِجْرِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ- بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسَمَّى الْآنَ مَدَائِنُ صَالِحٍ وَسُمِّي فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ تَبُوكٍ: حَجْرَ ثَمُودٍ. وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ عَبِيلٍ- بِلَامٍ فِي آخِرِهِ وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ- ابْنِ آسِفَ بْنِ مَاشِجَ أَوْ شالِخَ بْنِ عَبِيلِ بْنِ جَاثِرَ- وَيُقَالُ كَاثِرَ- ابْنِ ثَمُودَ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ فِي حُرُوفِهَا فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَغَيْرِهَا أَحْسَبُهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَهِيَ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ سِوَى عَبِيلٍ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ فِي سَمِيِّهِ الَّذِي هُوَ جَدُّ قَبِيلَةٍ، كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» . وَثَمُودُ هُنَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَبِيلَةُ لَا جَدُّهَا. وَأَسْمَاءُ الْقَبَائِلِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّرْفِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَصْرُوفًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: 68] عَلَى اعْتِبَارِ الْحَيِّ فَيَنْتَفِي مُوجِبُ مَنْعِ الصَّرْفِ لِأَنَّ الِاسْمَ عَرَبِيٌّ. وَقَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمُودَ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي آيَاتِ سُورَةِ هُودٍ وَغَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي عَبَدَتْهَا عَادٌ لِأَنَّ ثَمُودَ وَعَادًا أَبْنَاءُ نَسَبٍ وَاحِدٍ، فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ عَقَائِدُهُمْ مُتَمَاثِلَةٌ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ ثَمُودَ قَامَتْ بَعْدَ عَادٍ فَنَمَتْ وَعَظُمَتْ وَاتَّسَعَتْ حَضَارَتُهَا، وَكَانُوا مُوَحِّدِينَ، وَلَعَلَّهُمُ اتَّعَظُوا بِمَا حَلَّ بِعَادٍ، ثُمَّ طَالَتْ مُدَّتُهُمْ وَنَعِمْ عَيْشُهُمْ فَعَتَوْا وَنَسُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يَتْبَعْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ مُسْتَضْعَفُونَ، وَعَصَاهُ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، وَذَكَرَ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يُغْلِظُوا لَهُ الْقَوْلَ كَمَا أَغْلَظَتْ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمُ هُودٍ لِرَسُولِهِمْ، فَقَدْ: قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود: 62] . وَتَدُلُّ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَمَا فُسِّرَتْ بِهِ مِنَ الْقَصَصِ عَلَى أَنَّ صَالِحًا أَجَلَّهُمْ مُدَّةً لِلتَّأَمُّلِ وَجَعَلَ النَّاقَةَ لَهُمْ آيَةً، وَأَنَّهُمْ تَارِكُوهَا وَلَمْ يُهَيِّجُوهَا زَمَنًا طَوِيلًا.

فَقَدْ أَشْعَرَتْ مُجَادَلَتُهُمْ صَالِحًا فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَى أَنَّ التَّعَقُّلَ فِي الْمُجَادَلَةِ أَخَذَ يَدُبُّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ غَلْوَاءَهُمْ فِي الْمُكَابَرَةِ أَخَذَتْ تَقْصُرُ، وَأَنَّ قَنَاةَ بِأْسِهِمْ ابْتَدَأَتْ تَلِينُ، لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ جَوَابِ قَوْمٍ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ، وَبَيْنَ جَوَابِ قَوْمِ صَالِحٍ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمْهَلَهُمُ اللَّهُ وَمَادَّهُمْ لِيَنْظُرُوا وَيُفَكِّرُوا فِيمَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ نبئهم وَلِيَزِنُوا أَمْرَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمُ الِانْكِفَافَ عَنْ مَسِّ النَّاقَةِ بِسُوءٍ عَلَامَةً عَلَى امْتِدَادِ الْإِمْهَالِ لِأَنَّ انْكِفَافَهُمْ ذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَمْ تُحْنِقْ عَلَى رَسُولِهِمْ، فَرَجَاؤُهُ إِيمَانَهُمْ مُسْتَمِرٌّ، وَالْإِمْهَالُ لَهُمْ أَقْطَعُ لِعُذْرِهِمْ، وَأَنْهَضُ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِكْرَامًا لِنَبِيِّهِمُ الْحَرِيصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [هود: 36] . وَجُمْلَةُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ إِلَخْ، هِيَ مِنْ مَقُولِ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ بِالدَّعْوَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ طُوِيَ هُنَا جَوَابُ قَوْمِهِ وَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ آيَةً كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الشُّعَرَاءِ، فَفِي سُورَةِ هُودٍ [61، 62] : قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ. وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [153- 155] : قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ الْآيَة. فَجُمْلَةُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: اعْبُدُوا اللَّهَ، أَيِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَكُمْ آيَةً عَلَى تَصْدِيقِي فِيمَا بَلَّغْتُ لَكُمْ، وَعَلَى انْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَوْلُهُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ حَاضِرَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ لِأَنَّهَا نَفْسُ الْآيَةِ.

وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَهِيَ تَرَادُفُ الْآيَةَ، وَقَدْ عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 1] . وهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لِصِدْقِ صَالِحٍ وَلَمَّا كَانَتِ النَّاقَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ كَانَتْ جُمْلَةُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً مُنَزَّلَةً مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ عَطْفِ الْبَيَانِ. وَقَوْلُهُ: آيَةً حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَاقْتِرَانُهُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ يُقَوِّي شَبَهَهُ بِالْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا فِي الْحَالِ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [58] ، وَسَنَذْكُرُ قِصَّةً فِي هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي سُورَةِ هُودٍ [72] . وَأُكِّدَتْ جُمْلَةُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ، وَزَادَتْ عَلَى التَّأْكِيدِ إِفَادَةُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ لَكُمْ مِنَ التَّخْصِيصِ وَتَثْبِيتِ أَنَّهَا آيَةٌ، وَذَلِكَ مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ هِيَ آيَةٌ مُقْنِعَةٌ لَكُمْ وَمَجْعُولَةٌ لِأَجْلِكُمْ. فَقَوْلُهُ: لَكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ آيَةً، وَأَصْلُهُ صِفَةٌ فَلَمَّا قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ صَارَ حَالًا، وَتَقْدِيمُهُ لِلِاهْتِمَامِ بِأَنَّهَا كَافِيَةٌ لَهُمْ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنْ عِنَادٍ. وَإِضَافَةُ نَاقَةٍ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَشْرِيفٌ لَهَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهَا بِسُوءٍ، وَعَظَّمَ حُرْمَتَهَا، كَمَا يُقَالُ: الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، فَلِانْتِفَاءِ مَا الشَّأْنُ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ وُجُودِ أَمْثَالِهَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا قِيلَ: عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلِمَةُ اللَّهِ. وَأَمَّا إِضَافَةُ أَرْضِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ لِلنَّاقَةِ حَقًّا فِي الْأَكْلِ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَتِلْكَ النَّاقَةُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَهَا الْحَقُّ

فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَصْلُحُ لانتفاعها. وَقَوله: هذِهِ مُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أَيْ بِسُوءٍ يَعُوقُهَا عَنِ الرَّعْيِ إِمَّا بِمَوْتٍ أَوْ بِجَرْحٍ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ وَكَذَّبُوا مُعْجِزَتَهُ رَامُوا مَنْعَ النَّاقَةِ مِنَ الرَّعْيِ لِتَمُوتَ جُوعًا عَلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ النَّاشِئِ عَنِ الْجَهَالَةِ. وَالْأَرْضُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا جِنْسُ الْأَرْضِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْإِضَافَةُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سَلَامَةَ تِلْكَ النَّاقَةِ عَلَامَةً عَلَى سَلَامَتِهِمْ من عَذَاب الاستيصال لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا آنِفًا، وَأَنَّ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ فِي شَأْنِهَا شَبِيهٌ بِالْحَرَمِ، وَشَبِيهٌ بِحِمَى الْمُلُوكِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ نُفُوسِ الْقَوْمِ لِمَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهَا أَحَدٌ بِسُوءٍ، عَنْ رِضًى مِنَ الْبَقِيَّةِ، فَقَدْ دَلُّوا عَلَى أَنَّهُمْ خَلَعُوا حُرْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وحَنِقُوا عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَجُزِمَ تَأْكُلْ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ جَوَابُ الْأَمْرِ بِتَقْدِيرِ: إِنْ تَذْرُوهَا تَأْكُلْ، فَالْمَعْنَى عَلَى الرَّفْعِ وَالِاسْتِعْمَالُ عَلَى الْجَزْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 31] أَيْ يُقِيمُونَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَيُشْبِهُ أَنَّ أَصْلَ جَزْمِ أَمْثَالِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ عَلَى التَّوَهُّمِ لِوُجُودِ فِعْلِ الطَّلَبِ قَبْلَ فِعْلٍ صَالِحٍ لِلْجَزْمِ، وَلَعَلَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا [الْحَج: 27] . وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: فَيَأْخُذَكُمْ فِي جَوَابِ النَّهْيِ لِيُعْتَبَرَ الْجَوَابُ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ حَرْفَ النَّهْيِ لَا أَثَرَ لَهُ: أَيْ إِنْ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ يَأْخُذْكُمْ عَذَاب. وَأُنِيطَ النَّهْيُ بِالْمَسِّ بِالسُّوءِ لِأَنَّ الْمَسَّ يَصْدُقُ عَلَى أَقَلِّ اتِّصَالِ شَيْءٍ بِالْجِسْمِ، فَكُلُّ مَا يَنَالُهَا مِمَّا يُرَادُ مِنْهُ السُّوءُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَسُوؤُهُ إِلَّا مَا فِيهِ أَلَمٌ لِذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَفْقَهُ الْمَعَانِيَ النَّفْسَانِيَّةَ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِسُوءٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَمَسُّوهَا أَيْ بِقصد سوء.

[سورة الأعراف (7) : آية 74]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 74] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ [الْأَعْرَاف: 73] وَأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: 73] إِلَخْ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] . وَبَوَّأَكُمْ مَعْنَاهُ أَنْزَلَكُمْ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَوْءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يَرْجِعُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَمَسْكَنِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [121] ، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَهِيَ أَرْضُ الْحِجْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَوَّأَهُمْ فِي أَرْضٍ مُعَيَّنَةٍ فَقَدْ بَوَّأَهُمْ فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِب الأَرْض. و «السّهول» جَمْعُ سَهْلٍ، وَهُوَ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَضِدُّهُ الْجَبَلُ. وَالْقُصُورُ: جَمْعُ قَصْرٍ وَهُوَ الْمَسْكَنُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُشَيِّدُونَ الْقُصُورَ، وَآثَارُهُمْ تَنْطِقُ بِذَلِكَ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُهُولِها لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: تَتَّخِذُونَ فِي سُهُولِهَا قُصُورًا. وَالنَّحْتُ: بَرْيُ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ بِآلَةٍ عَلَى تَقْدِيرٍ مَخْصُوصٍ. وَالْجِبَالُ: جَمْعُ جَبَلٍ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّاتِئَةُ عَلَى غَيْرِهَا مُرْتَفِعَةٌ، وَالْجِبَالُ: ضِدُّ السُّهُولِ. وَالْبُيُوتُ: جَمْعُ بَيْتٍ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُحَدَّدُ الْمُتَّخَذُ لِلسُّكْنَى، سَوَاءٌ كَانَ مَبْنِيًّا مِنْ حَجَرٍ أَمْ كَانَ مِنْ أَثْوَابِ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ. وَفِعْلُ النَّحْتِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 إلى 76]

يَتَعَلَّقُ بِالْجِبَالِ لِأَنَّ النَّحْتَ يَتَعَلَّقُ بِحِجَارَةِ الْجِبَالِ، وَانْتَصَبَ بُيُوتاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْجِبَالِ، أَيْ صَائِرَةً بَعْدَ النَّحْتِ بُيُوتًا، كَمَا يُقَالُ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ قَمِيصًا، وَابْرِ هَذِهِ الْقَصَبَةَ قَلَمًا، لِأَنَّ الْجَبَلَ لَا يَكُونُ حَالُهُ حَالَ الْبُيُوتِ وَقْتَ النَّحْتِ، وَلَكِنْ يَصِيرُ بُيُوتًا بَعْدَ النَّحْتِ. وَمَحَلُّ الِامْتِنَانِ هُوَ أَنْ جَعَلَ مَنَازِلَهُمْ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ صَالِحٌ لِلْبِنَاءِ فِيهِ، وَقِسْمٌ صَالِحٌ لِنَحْتِ الْبُيُوتِ، قِيلَ: كَانُوا يَسْكُنُونَ فِي الصَّيْفِ الْقُصُورَ، وَفِي الشِّتَاءِ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي الْجِبَالِ. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ تَفْرِيعُ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ نِعْمَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ جَمِيعِ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصُونَهَا، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التّذييل. وَفعل: فَاذْكُرُوا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ، الَّذِي هُوَ بِضَمِّ الذَّالِ، وَهُوَ التَّذَكُّرُ بِالْعَقْلِ وَالنَّظَرِ النَّفْسَانِيِّ، وَتَذَكُّرُ الْآلَاءِ يَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْفَسَادِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ نَهْيَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْأَمْرِ بِذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ. وَلا تَعْثَوْا مَعْنَاهُ وَلَا تُفْسِدُوا، يُقَالُ: عَثِيَ كَرَضِيَ، وَهَذَا الْأَفْصَحُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْآيَةِ- بِفَتْحِ الثَّاءِ- حِينَ أُسْنِدَ إِلَى وَاوِ الْجَمَاعَةِ، وَيُقَالُ عَثَا يَعْثُو- مِنْ بَابِ سَمَا- عَثْوًا وَهِيَ لُغَةٌ دُونَ الْأُولَى، وَقَالَ كُرَاعٌ، كَأَنَّهُ مَقْلُوبُ عَاثَ. وَالْعَثْيُ وَالْعَثْوُ كُلُّهُ بِمَعْنَى أَفْسَدَ أَشَدَّ الْإِفْسَادِ. ومفسدين حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى تَعْثَوْا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنَ الْمُؤَكَّدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ معنى المؤكّد. [75، 76] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 75 إِلَى 76] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ

(76) عَدَلَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ مُجَادَلَةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اخْتِبَارِ تَصَلُّبِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَمُحَاوَلَةِ إِلْقَاءِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ خِطَابُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مَقْصُودًا بِهِ إِفْسَادُ دَعْوَةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ خِطَابُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ جُمَلِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ آنِفًا وَفِيمَا مَضَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَلَأِ قَرِيبًا. وَوَصْفُهُمْ بِالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هُنَا لِتَفْظِيعِ كِبْرِهِمْ وَتَعَاظُمِهِمْ عَلَى عَامَّةِ قَوْمِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمْ ضُعَفَاءُ قَوْمِهِ. وَاخْتِيَارُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي وَصْفِهِمْ وَوَصْفِ الْآخَرِينَ بِالَّذِينَ استضعفوا لما تومىء إِلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ صُدُورِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُمْ، أَيْ أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ هُوَ صَارِفُهُمْ عَن طَاعَة نبيئهم، وَأَنَّ احْتِقَارَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِي لَمْ يُسِغْ عِنْدَهُمْ سَبْقَهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَالْهُدَى، كَمَا حَكَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ قَوْلَهُمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] وَكَمَا حَكَى عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الْأَحْقَاف: 11] ، وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفُوا بِالْكُفْرِ كَمَا وُصِفَ بِهِ قَوْمُ هُودٍ. وَالَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا هُمْ عَامَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ أَذَلَّهُمْ عُظَمَاؤُهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ لِأَنَّ زَعَامَةَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى السِّيَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْخَلِيَّةِ عَنْ

خِلَالِ الْفَضِيلَةِ، مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّأْفَةِ وَحُبِّ الْإِصْلَاحِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ الْمَلَأُ بِالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَامَّةِ وَصْفُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي جُرَّ بِمِثْلِهِ الْمُبَدَلُ مِنْهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَعْلَمُونَ لِلتَّشْكِيكِ وَالْإِنْكَارِ، أَيْ: مَا نَظُنُّكُمْ آمَنْتُمْ بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ عِلْمٍ بِصِدْقِهِ، وَلَكِنَّكُمُ اتَّبَعْتُمُوهُ عَنْ عَمًى وَضَلَالٍ غَيْرَ مُوقِنِينَ، كَمَا قَالَ قَوْمُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: 27] وَفِي ذَلِكَ شَوْبٌ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَدْ جِيءَ فِي جَوَاب لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ بِمَزِيدِ الثَّبَاتِ، فَلَمْ يَتْرُكُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مَطْمَعًا فِي تَشْكِيكِهِمْ، بَلْهَ صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِمْ. وَأَكَّدَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِإِزَالَةِ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ شَكِّ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَالْعُدُولُ فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا عَنْ أَنْ يَكُونَ بِنَعَمْ إِلَى أَنْ يَكُونَ بِالْمَوْصُولِ صِلَتُهُ لِأَنَّ الصِّلَةَ تَتَضَمَّنُ إِدْمَاجًا بِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ مِنْ نَحْوِ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا تُفِيدُهُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ الْمُنَاسِبِ لِكَوْنِ نَسْجِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ حِكَايَةِ الْقُرْآنِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ كَلَامَهُمْ بَلَغَ مِنَ الْبَلَاغَةِ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَمُرَاجَعَةُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ تَدُلُّ عَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ فِيهِ، إِذْ صِيغَ كَلَامُهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ. وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِمْ: بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ هُوَ مَا أُرْسِلَ بِهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِرَدِّ مَا جَمَعَهُ كَلَامُ الْمُسْتَضْعَفِينَ حِينَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 77 إلى 78]

قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فَهُوَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ بَلَاغَةِ كَلَامِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ تَقْدِيمَ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: بِما أُرْسِلَ بِهِ وبِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ عَلَى عَامِلَيْهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظْمِ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ مُعَادِلٌ فِي كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَتَقَوَّمَ الْفَاصِلَتَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَحْكِيِّ: بِأَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِمْ مَا دَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِ الْمَوْصُولَيْنِ، فَجَاءَ فِي نَظْمِ الْآيَةِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قالَ الْمَلَأُ بِدُونِ عَطْفٍ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: وَقَالَ- بِحَرْفِ الْعَطْفِ- وَثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَبْعُوثِ إِلَى الشَّامِ خِلَافًا لِطَرِيقَةِ نَظَائِرِهَا، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ وَالتَّقْدِيرُ: فَآمَنَ بِهِ بَعْضُ قَوْمِهِ، وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَخْ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى: قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الْأَعْرَاف: 73] الْآيَةَ، وَمُخَالَفَةُ نَظَائِره تفنّن. [77، 78] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 77 إِلَى 78] فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ لِحِكَايَةِ قَوْلِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الْأَعْرَاف: 76] ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فَعَقَرُوا، وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ كَانُوا قَدْ صَدَعُوا بِالتَّكْذِيبِ، وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَعَزَمُوا عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى النِّكَايَةِ وَالْإِغَاظَةِ لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَرَسَمُوا لِابْتِدَاءِ عَمَلِهِمْ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى النَّاقَةِ

الَّتِي جَعَلَهَا صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ، وَأَقَامَهَا- بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ- عَلَامَةَ مُوَادَعَةٍ مَا دَامُوا غَيْرَ مُتَعَرِّضِينَ لَهَا بِسُوءٍ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ نِيَّتِهِمْ إِهْلَاكُ النَّاقَةِ أَنْ يُزِيلُوا آيَةَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يَزِيدَ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ آيَةِ نُبُوءَتِهِ سَالِمَةً بَيْنَهُمْ تُثِيرُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْهُمُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى صِدْقِهِ وَالِاسْتِئْنَاسَ لِذَلِكَ بِسُكُوتِ كُبَرَائِهِمْ وَتَقْرِيرِهِمْ لَهَا عَلَى مَرْعَاهَا وَشُرْبِهَا، وَلِأَنَّ فِي اعْتِدَائِهِمْ عَلَيْهَا إِيذَانًا مِنْهُم بتحفزهم للإضرار بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِمَنْ آمَنَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِيُرُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السّلام أنّهم مستخفّون بِوَعِيدِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: 73] . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَعَقَرُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [الْأَعْرَاف: 75] ، وَقَدْ أُسْنِدَ الْعُقْرُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ تَمَالُئٍ وَرِضًى مِنْ جَمِيعِ الْكُبَرَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [29] : فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي شَأْنِ بَنِي حُنٍّ: وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَذُكِرَ فِي الْأَثَرِ: أَنَّ الَّذِي تولّى عقر النَّاقَةَ رَجُلٌ مِنْ سَادَتِهِمُ اسْمُهُ (قُدَارُ) - بِضَمِّ الْقَافِ وَدَالٍّ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ وَرَاءٍ فِي آخِرِهِ- ابْنُ سَالِفٍ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ فَقَالَ: انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ (¬1) مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ (¬2) . وَالْعُقْرُ: حَقِيقَتُهُ الْجَرْحُ الْبَلِيغُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا ... عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ أَيْ جَرَحْتَهُ بِاحْتِكَاكِ الْغَبِيطِ فِي ظَهْرِهِ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى جِهَةٍ، وَيُطْلَقُ الْعَقْرُ عَلَى قَطْعِ عُضْوِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ، عَقَرَ حِمَارَ وَحْشٍ، أَيْ ضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ ¬

(¬1) العارم- بِعَين مُهْملَة- الجبّار. (¬2) أَبُو زَمعَة هُوَ الْأسود بن المطّلب الْقرشِي مَاتَ كَافِرًا.

فَقَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، وَكَانُوا يَعْقِرُونَ الْبَعِيرَ الْمُرَادَ نَحْرُهُ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ الْهُرُوبَ عِنْدَ النَّحْرِ، فَلِذَلِكَ أطلق الْعقر عَن النَّحْرِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ. وَالْعُتُوُّ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْكبر، وتعديته ب (من) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ. وَأَمْرُ رَبِّهِمْ هُوَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الْأَعْرَاف: 73] فَعُبِّرَ عَنِ النَّهْيِ بِالْأَمْرِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْأَمْرُ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ تَحَقُّقُ الْكَفِّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَأَرَادُوا: بِما تَعِدُنا الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُجْمَلًا. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُجْمَلِ. فَالْمُرَادُ بِمَا تَتَوَعَّدُنَا بِهِ وَصِيغَتْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ مَادَّةِ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ من مَادَّة الْوَعْد. وَقَدْ فَرَضُوا كَوْنَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ بِحَرْفِ (إِنِ) الدَّالِّ عَلَى الشَّكِّ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ، أَيْ إِنْ كُنْتَ مِنَ الرُّسُلِ عَنِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبُ. وَهَؤُلَاءِ لِجَهْلِهِمْ بِحَقِيقَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، يَحْسَبُونَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ كَتَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ، فَإِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ غَضِبَ اللَّهُ وَانْدَفَعَ إِلَى إِنْزَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمِينَ ثُمَّ يَأْخُذَهُمْ مَتَى شَاءَ. وَجُمْلَةُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ [الْأَعْرَاف: 79] أُرِيدُ بِاعْتِرَاضِهَا التَّعْجِيلُ بِالْخَبَرِ عَنْ نَفَاذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ بِعَقِبِ عُتُوِّهِمْ، فَالتَّعْقِيبُ عُرْفِيٌّ، أَيْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعُقْرِ وَبَيْنَ الرَّجْفَةِ زَمَنٌ طَوِيلٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، كَمَا وَرَدَ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ

: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. وَأَصْلُ الْأَخْذِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ بِالْيَدِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِلْكِ الشَّيْءِ، بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي الْقَهْرِ كَقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [الْأَنْفَال: 52] ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: 10] وَأَخْذُ الرَّجْفَةِ: إِهْلَاكُهَا إِيَّاهُمْ وَإِحَاطَتُهَا بِهِمْ إِحَاطَةَ الْآخِذِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ نَجَّى صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقِيلَ: نَزَلُوا رَمْلَةَ فِلَسْطِينَ، وَقِيلَ: تَبَاعَدُوا عَنْ دِيَارِ قَوْمِهِمْ بِحَيْثُ يَرَوْنَهَا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهَلَكُوا عَادَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فَسَكَنُوا دِيَارَهُمْ، وَقِيلَ: سَكَنُوا مَكَّةَ وَأَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ دُفِنَ بِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ كَمَا قُلْنَاهُ فِي عَادٍ، وَمِنْ أَهْلِ الْأَنْسَابِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ثَقِيفًا مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَنَّ ثَمُودًا انْقَطَعَ دَابِرُهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ. وَالرَّجْفَةُ: اضْطِرَابُ الْأَرْضِ وَارْتِجَاجُهَا، فَتَكُونُ مِنْ حَوَادِثَ سَمَاوِيَّةٍ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ وَالصَّوَاعِقِ، وَتَكُونُ مِنْ أَسْبَابٍ أَرْضِيَّةٍ كَالزَّلَازِلِ، فَالرَّجْفَةُ اسْمٌ لِلْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ، وَقَدْ سَمَّاهَا فِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي أَصَابَ ثَمُودَ هُوَ صَاعِقَةٌ أَوْ صَوَاعِقُ مُتَوَالِيَةٌ رَجَفَتْ أَرْضَهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ صَعِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَن تقارنها زلازل أَرْضِيَّةٌ. وَالدَّارُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَحْتَلُّهُ الْقَوْمُ، وَهُوَ يُفْرَدُ وَيُجْمَعُ بِاعْتِبَارَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. فَأَصْبَحُوا هُنَا بِمَعْنَى صَارُوا. وَالْجَاثِمُ: الْمُكِبُّ عَلَى صَدْرِهِ فِي الْأَرْضِ مَعَ قَبْضِ سَاقَيْهِ كَمَا يَجْثُو الْأَرْنَبُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ سُكُونًا وَانْقِطَاعًا عَنِ اضْطِرَابِ الْأَعْضَاءِ اسْتُعْمِلَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةً عَنْ هُمُودِ الْجُثَّةِ بِالْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَ حَالَةِ وُقُوعِهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ حِينَ صُعِقُوا بِحَالَةِ الْجَاثِمِ تَفْظِيعًا لِهَيْئَةِ مِيتَتَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ

[سورة الأعراف (7) : آية 79]

أَصْبَحُوا جُثَثًا هَامِدَةً مَيِّتَةً عَلَى أَبْشَعِ مَنْظَرٍ لِمَيِّتٍ. [79] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 79] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الْأَعْرَاف: 77] وَالتَّوَلِّي الِانْصِرَافُ عَنْ فِرَاقٍ وَغَضَبٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ فَارَقَ دِيَارَ قَوْمِهِ حِينَ عَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ، فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ لِقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الْأَعْرَاف: 77] لِأَنَّ ظَاهِرَ تَعْقِيبِ التَّوَلِّي عَنْهُمْ وَخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْدَ أَنْ تأخذهم الرّجفة وَأَصْبحُوا جَاثِمِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِقَرِينَةِ الْخِطَابِ أَيْضًا، أَيْ فَأَعْرَضَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَصَابَتِهَا بِالصَّاعِقَةِ، أَوْ فَأَعْرَضَ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَاشْتَغَلَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ إِلَخْ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَسُّرِ أَو فِي التّبري مِنْهُمْ، فَيكون النّداء تحسر فَلَا يَقْتَضِي كَوْنَ أَصْحَابِ الِاسْمِ الْمُنَادَى مِمَّنْ يَعْقِلُ النِّدَاءَ حِينَئِذٍ، مِثْلُ مَا تُنَادِي الْحَسْرَةَ فِي: يَا حَسْرَةً. وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تَفْسِيرُهُ مِثْلُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: 62] وَاللَّامُ فِي (لَقَدْ) لَامُ الْقَسَمِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الْأَعْرَاف: 59] . وَالِاسْتِدْرَاكُ ب (لَكِن) ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي مُعَالَجَةِ كُفْرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيْثُ هُمْ يَسْمَعُونَهُ أَمْ كَانَ قَالَهُ فِي نَفسه، فَلذَلِك التَّبَرُّؤُ يُؤْذِنُ بِدَفْعِ تَوَهُّمِ تَقْصِيرِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ لِانْعِدَامِ ظُهُورِ فَائِدَةِ الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ، فَاسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ، أَيْ تَكْرَهُونَ النَّاصِحِينَ فَلَا تُطِيعُونَهُمْ فِي نُصْحِهِمْ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْكِنَايَةَ عَنْ رَفْضِهِمُ النَّصِيحَةَ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 إلى 81]

وَاسْتِعْمَالُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُحِبُّونَ إِنْ كَانَ فِي حَالِ سَمَاعِهِمْ قَوْلَهُ فَهُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ، أَيْ لَمْ يَزَلْ هَذَا دَأْبُكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ آخِرَ عِلَاجٍ لِإِقْلَاعِهِمْ إِنْ كَانَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ لِلْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَمَاعِهِمْ فَالْمُضَارِعُ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ مِثْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] . [80، 81] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 80 إِلَى 81] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) عُطِفَ وَلُوطاً عَلَى نُوحاً فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الْأَعْرَاف: 59] فَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا، وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ فِي ابْتِدَاءِ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ إِذِ ابْتُدِئَتْ بِذِكْرِ (لُوطًا) كَمَا ابْتُدِئَتْ قِصَّةٌ بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ لُوطٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ نُوحٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ. وَ (إِذْ) - ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَرْسَلْنَا) الْمُقَدَّرُ يَعْنِي أَرْسَلْنَاهُ وَقْتَ قَالَ لِقَوْمِهِ وَجُعِلَ وَقْتُ الْقَوْلِ ظَرْفًا لِلْإِرْسَالِ لِإِفَادَةِ مُبَادَرَتِهِ بِدَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلَى مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَالْمُقَارَنَةُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الظَّرْفِيَّةُ بَيْنَ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَوَقْتِ قَوْلِهِ، مُقَارَنَةٌ عُرْفِيَّةٌ بِمَعْنَى شِدَّةِ الْقُرْبِ بِأَقْصَى مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ مُبَادَرَةِ التَّبْلِيغِ. وَقَوْمُ لُوطٍ كَانُوا خَلِيطًا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَمِمَّنْ نَزَلَ حَوْلَهُمْ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبَائِلِهِمْ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمْ وَاسْتَوْطَنَ دِيَارَهُمْ. وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَكَانَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نَزَلَ بِبِلَادِ (سَدُومَ) وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ.

وَالْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمْ أَهْلُ قَرْيَةِ (سَدُومَ) وَ (عَمُورَةَ) مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ اسْمُ سَدُومَ وعمّورة على سكّانهما. وَهُوَ أَسْلَافُ الْفَنِيقِيِّينَ وكانتا على شاطىء السَّدِيمِ، وَهُوَ بَحْرُ الْمِلْحِ، كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ (¬1) وَهُوَ الْبَحْرُ الْمَيِّتُ الْمَدْعُوُّ (بُحَيْرَةُ لُوطٍ) بِقُرْبِ أُرْشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُرْبَ سَدُومَ وَمَنْ مَعَهُمْ أَحْدَثُوا فَاحِشَةَ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالرِّجَالِ، فَأَمَرَ اللَّهُ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَ بِقَرْيَتِهِمْ سَدُومَ فِي رِحْلَتِهِ مَعَ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْهَاهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْتُونَ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، وَالْإِتْيَانُ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ مَجَازٌ فِي التَّلَبُّسِ وَالْعَمَلِ، أَيْ أَتَعْمَلُونَ الْفَاحِشَةَ، وَكُنِّيَ بِالْإِتْيَانِ عَلَى الْعَمَلِ الْمَخْصُوصِ وَهِيَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَالْفَاحِشَةُ: الْفِعْلُ الدَّنِيءُ الذَّمِيمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [الْأَعْرَاف: 28] : وَالْمُرَادُ هُنَا فَاحِشَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَجُمْلَةُ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إِتْيَانَ الْفَاحِشَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَبَّخَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْدَثُوهَا، وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْبَشَرِ فَقَدْ سَنُّوا سُنَّةً سَيِّئَةً لِلْفَاحِشِينَ فِي ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ صِفَةً لِلْفَاحِشَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ: تَأْتُونَ أَوْ مِنَ: الْفاحِشَةَ. السَّبق حَقِيقَتُهُ: وُصُولُ الْمَاشِي إِلَى مَكَانٍ مَطْلُوبٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ قَبْلَ وُصُولِ غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي التَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ، أَيِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ سَبَقُوا النَّاسَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ إِذْ لَا يَقْصِدُ بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّهُمُ ابْتَدَأُوا مَعَ غَيْرِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. ¬

(¬1) الْإِصْلَاح 14 من سفر التّكوين 20

وَالْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلٍ (سَبَقَ) لِاسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى (ابْتَدَأَ) فَالْبَاءُ تَرْشِيحٌ لِلتَّبَعِيَّةِ. وَ (مِنَ) الدَّاخِلَةُ عَلَى (أَحَدٍ) لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ. وَ (مِنَ) الدَّاخِلَةُ عَلَى الْعالَمِينَ لِلتَّبْعِيضِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ، وَالتَّأْكِيدُ- بِإِنَّ وَاللَّامِ- كِنَايَةٌ عَنِ التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ مُسْتَرْسِلُونَ عَلَيْهِ غَيْرَ سَامِعِينَ لِنَهْيِ النَّاهِي. وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنْ عَمَلِ الْفَاحِشَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّكُمْ- بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ- بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، فَالْبَيَانُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّيْءِ الْمُنْكَرِ بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ فِي أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ، وَبِهِ يُعْرَفُ بَيَانُ الْإِنْكَارِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّوْبِيخِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ حُذِفَتْ لِلتَّخْفِيفِ وَلِدَلَالَةِ مَا قبلهَا عَلَيْهَا. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ: أَإِنَّكُمْ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى صِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ- فَالْبَيَانُ لِلْإِنْكَارِ، وَبِهِ يُعْرَفُ بَيَانُ الْمُنْكَرِ، فَالْقِرَاءَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ. وَالشَّهْوَةُ: الرَّغْبَةُ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَهِيَ مَصْدَرُ شَهِيَ كَرَضِيَ، جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْفَعْلَةِ وَلَيْسَ مُرَادًا بِهِ الْمَرَّةُ. وَانْتَصَبَ شَهْوَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمَفْعُولِ تَفْظِيعُ الْفَاحِشَةِ وَفَاعِلِيهَا بِأَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُكْرَهَ وَيُسْتَفْظَعَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النِّساءِ زِيَادَةٌ فِي التَّفْظِيعِ وَقَطْعٌ لِلْعُذْرِ فِي فِعْلِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلْإِنْكَارِ، فَلَيْسَ إِتْيَانُ الرِّجَالِ مَعَ إِتْيَانِ النِّسَاءِ بِأَقَلَّ مِنَ الْآخَرِ فَظَاعَةً، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ إِتْيَانَ الرِّجَالِ كُلَّهُ وَاقِعٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَقِّهَا إِتْيَانُ النِّسَاءِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ [الشُّعَرَاء: 166] . وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضِ الْإِنْكَارِ إِلَى غَرَضِ الذَّمِّ وَالتَّحْقِيرِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى حَقِيقَةِ حَالِهِمْ.

وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْعَمَلِ مِقْدَارَ أَمْثَالِهِ فِي نَوْعِهِ، أَيِ الْمُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ وَالْجُرْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [141] . وَوَصَفَهُمْ بِالْإِسْرَافِ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْإِسْرَافُ فِي الشَّهَوَاتِ فَلِذَلِكَ اشْتَهَوْا شَهْوَةً غَرِيبَةً لَمَّا سَئِمُوا الشَّهَوَاتِ الْمُعْتَادَةَ. وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ الِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ حَتَّى يُصْبِحَ الْمَرْءُ لَا يَشْفِي شَهْوَتَهُ شَيْءٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشُّعَرَاء: 166] . وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ هَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ فَاحِشَةً وَإِسْرَافًا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا اسْتِعْمَالُ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمَغْرُوزَةِ فِي غَيْرِ مَا غُرِزَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ الشَّهْوَةَ الْحَيَوَانِيَّةَ لِإِرَادَةِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِقَانُونِ التَّنَاسُلِ، حَتَّى يَكُونَ الدّاعي إِلَيْهِ قهري يَنْسَاقُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ، فَقَضَاءُ تِلْكَ الشَّهْوَةِ فِي غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِأَجْلِهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْفِطْرَةِ وَعَلَى النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ يُغَيِّرُ خُصُوصِيَّةَ الرُّجْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ إِذْ يَصِيرُ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِيهَا بِخِلْقَتِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ امْتِهَانًا مَحْضًا لِلْمَفْعُولِ بِهِ إِذْ يُجْعَلُ آلَةً لِقَضَاءِ شَهْوَةِ غَيْرِهِ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَعَ اللَّهُ فِي نِظَامِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ مَعًا، وَلِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى قَطْعِ النَّسْلِ أَوْ تَقْلِيلِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَجْلِبُ أَضْرَارًا لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِ مَحَلَّيْنِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَا لَهُ. وَحَدَثَتْ هَذِهِ الْفَاحِشَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رَجُلٍ يُسَمَّى الْفُجَاءَةَ، كَتَبَ فِيهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَإِذْ لَمْ يُحْفَظْ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَحْرِقَهُ فَأَحْرَقَهُ ، وَكَذَلِكَ قَضَى ابْنُ الزُّبَيْرِ

فِي جَمَاعَةٍ عَمِلُوا الْفَاحِشَةَ فِي زَمَانِهِ، وَهُشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَخَالِدٌ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ، وَلَعَلَّهُ قِيَاسٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ نَارًا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ مَالِكٌ: يُرْجَمُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُول بِهِ، إِذا أَطَاعَ الْفَاعِلُ وَكَانَا بَالِغَيْنِ، رَجْمَ الزَّانِي الْمُحَصَّنِ. سَوَاءٌ أَحْصَنَا أَمْ لَمْ يُحْصِنَا، وَقَاسَ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى عُقُوبَةِ اللَّهِ لِقَوْمِ لُوطٍ إِذْ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً، وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ أُخِذَ فِي زَمَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرْبَعَةٌ عَمِلُوا عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَدْ أُحْصِنُوا. فَأَمَرَ بِهِمْ فَأُخْرِجُوا مِنَ الْحَرَمِ فَرُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتُوا، وَعِنْدَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعَزَّرُ فَاعِلُهُ وَلَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ حَدَّ الزِّنَى، كَذَا عَزَا إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى فِيهِ التَّعْزِيرَ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ فَيُقْتَلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: فِيهِ حَدُّ الزِّنَى، فَإِذَا اعْتَادَ ذَلِكَ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ بِالْإِحْرَاقِ، أَوْ يُهْدَمُ عَلَيْهِ جِدَارٌ، أَوْ يُنَكَّسُ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَيُتْبَعُ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ يُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ. وَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ فِي «الْحَاوِي» أَنَّ الْأَصَحَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ التَّعْزِيرُ بِالْجِلْدِ (أَيْ دُونَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الِاعْتِيَادِ وَغَيْرِهِ) وَسِيَاقُ كَلَامِهِمُ التَّسْوِيَةُ فِي الْعُقُوبَةِ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ حَدَّ الزَّانِي: فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَحَدُّ الْمُحْصَنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ فَحَدُّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ. كَذَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ، فِي كِتَابِ «اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ» : إِنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ يُرْجَمُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ تَرْجِيحًا، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ، فِي «الْوَجِيز» : «للواط يُوجِبُ قَتْلَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عَلَى قَوْلٍ، وَالرَّجْمَ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى قَوْلٍ، وَالتَّعْزِيرَ عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ كَالزِّنَى عَلَى قَوْلٍ» وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ. وَفِي كِتَابِ «اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ» لِابْنِ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيِّ: أَنَّ أَظْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ فِي اللِّوَاطِ الرَّجْمَ بِكُلِّ حَالٍ، أَيْ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ كَالزِّنَى، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ، فِي «الْمُحَلَّى» : إِنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ

[سورة الأعراف (7) : آية 82]

وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ أَنَّ اللُّوطِيَّ يُجْلَدُ دُونَ الْحَدِّ، وَلَمْ يُصَرَّحْ، فِيمَا نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَلَا عَن أحد، وَلَا الشَّافِعِيِّ بِمُسَاوَاةِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا عِنْدَ مَالِكٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْ حِكَايَةِ ابْنِ حَزْمٍ فِي «الْمُحَلَّى» : أَنَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَعْزِيرِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِأَحَدِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ رَأَى أَنَّ الْمَفْعُولَ أَغْلَظُ عُقُوبَةً مِنَ الْفَاعِلِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ، مَقَالٌ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ (لَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَقَدْ عَلِمْتَ اسْتِشَارَةَ أَبِي بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا سَنَدٌ صَحِيحٌ لظهر يَوْمئِذٍ. [82] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 82] وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ لِقَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 80] . وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا إِلَخْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُفْحِمُوا عَنْ تَرْوِيجِ شَنْعَتِهِمْ وَالْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِهَا، وَابْتَدَرُوا بِالتَّآمُرِ عَلَى إِخْرَاجِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ مِنَ الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ وَقَدْ أَرَادُوا الِاسْتِرَاحَةَ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ شَأْنُ مَنْ يَشْعُرُونَ بِفَسَادِ حَالِهِمْ، الْمَمْنُوعِينَ بِشَهَوَاتِهِمْ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، الْمُصَمِّمِينَ عَلَى مُدَاوَمَةِ ذُنُوبِهِمْ، فَإِنَّ صُدُورَهُمْ تَضِيقُ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَسْمَاعُهُمْ تَصَمُّ لِقَبُولِهَا، وَلَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ الْمُنْغَمِسِينَ فِي الْهَوَى تَجَهُّمُ حُلُولِ مَنْ لَا يُشَارِكُهُمْ بَيْنَهُمْ.

وَالْجَوَابُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ كَلَامٌ آخَرُ: تَقْرِيرًا، أَوْ رَدًّا، أَوْ جَزَاءً. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: جَوابَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (كَانَ) مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا الْوَاقِعِ بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَهَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، إِذَا كَانَ أَحَدُ مَعْمُولَيْ كَانَ مَصْدَرًا مُنْسَبِكًا مِنْ (أَنْ) وَالْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى نَصْبِ الْمَعْمُولِ الْأَوَّلِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: أَخْرِجُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَحْذُوفٍ عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلُهُ: وَهُمْ زَوْجُهُ وَابْنَتَاهُ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِخْرَاجِ، وَذَلِكَ شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي مَقَامٍ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا إِنْكَارَ، بَلْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَفَادَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتَدُلُّ عَلَى الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيلِ. وَالتَّطَهُّرُ تَكَلُّفُ الطَّهَارَةِ، وَحَقِيقَتُهَا النَّظَافَةُ، وَتُطْلَقُ الطَّهَارَةُ- مَجَازًا- عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالْحَذَرِ مِنَ الرَّذَائِلِ وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا، وَتِلْكَ صِفَةُ كَمَالٍ، لَكِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا تَمَرَّدُوا على الفسوق كَانَ يَعُدُّونَ الْكَمَالَ مُنَافِرًا لِطِبَاعِهِمْ، فَلَا يُطِيقُونَ مُعَاشَرَةَ أَهْلِ الْكَمَالِ، وَيَذُمُّونَ مَا لَهُمْ مِنَ الْكَمَالَاتِ فَيُسَمُّونَهَا ثِقْلًا، وَلِذَا وَصَفُوا تَنَزُّهَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآلِهِ تَطَهُّرًا، بِصِيغَةِ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا فِي كَلَامِهِمْ مِنَ التَّهَكُّمِ بِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآلِهِ، وَهَذَا مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ لِأَجْلِ مُشَايَعَةِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ، وَأَهْلُ الْمُجُونِ وَالِانْخِلَاعِ، يُسَمُّونَ الْمُتَعَفِّفَ عَنْ سِيرَتِهِمْ بِالتَّائِبِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَصَدُوا بِهِ ذَمَّهُمْ. وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا هَذَا التَّطَهُّرَ مِنْ خُلُقِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ عَاشَرُوهُمْ، وَرَأَوْا سِيرَتَهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْخَبَرِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ التَّطَهُّرَ مُتَكَرِّرٌ مِنْهُمْ، وَمُتَجَدِّدٌ، وَذَلِكَ أَدْعَى لِمُنَافَرَتِهِمْ طِبَاعَهُمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 83 إلى 84]

وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَتَجَهُّمِ إِنْكَارِ لُوطٍ عَلَيْهِ السّلام عَلَيْهِم. [83، 84] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 83 إِلَى 84] فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ تَعْقِيبٌ لِجُمْلَةِ: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 82] أَوْ لِجُمْلَةِ: قالَ لِقَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 80] وَهَذَا التَّعْقِيبُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِزَمن قَلِيل. وفَأَنْجَيْناهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا وَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ، فَقَدَّمَ الْخَبَرَ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخَبَرِ بِإِمْطَارِهِمْ مَطَرَ الْعَذَابِ، لِقَصْدِ إِظْهَارِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ إِنْجَاءِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ لِلسَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ لِحُسْنِ عَوَاقِبِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ مُؤْمِنِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [64] . وَأَهْلُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمْ زَوْجُهُ وَابْنَتَانِ لَهُ بِكْرَانِ، وَكَانَ لَهُ ابْنَتَانِ مُتَزَوِّجَتَانِ- كَمَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ- امْتَنَعَ زَوْجَاهُمَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَلَكَتَا مَعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَجِّهَا، فَهَلَكَتْ مَعَ قَوْمِ لُوطٍ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَمْ تَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ اللَّهُ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ الْخَارِجِينَ مَعَهُ إِلَى الْمُدُنِ حِينَ يُصِيبُهَا الْعَذَابُ فَالْتَفَتَتِ امْرَأَتُهُ فَأَصَابَهَا الْعَذَابُ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ كَافِرَةً. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ تُسِرُّ الْكُفْرَ وَتُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْتِفَاتِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مُوقِنَةٍ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ

تَخْرُجْ مَعَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا امْرَأَتَكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [81] ، اسْتثِْنَاء من بِأَهْلِكَ لَا مَنِ أَحَدٌ. لَعَلَّ امْرَأَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ (سَدُومَ) تَزَوَّجَهَا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَالِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي (سَدُومَ) سِنِينَ طَوِيلَةً بَعْدَ أَنْ هَلَكَتْ أُمُّ بَنَاتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ، وَلَيْسَتْ هِيَ أُمُّ بِنْتَيْهِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ لَمْ تَذْكُرْ امْرَأَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي آخِرِ الْقِصَّةِ. وَمَعْنَى مِنَ الْغابِرِينَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَالْغَابِرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُنْقَضِي، وَيُطْلَقُ عَلَى الْآتِي، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَأَشْهَرُ إِطْلَاقَيْهِ هُوَ الْمُنْقَضِي، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: غَبَرَ بِمَعْنَى هَلَكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: أَيْ كَانَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ، أَيْ هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَهْلِ (سَدُومَ) . وَالْإِمْطَارُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ اسْمٌ لِلْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّحَابِ، يُقَالُ: مَطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ- بِدُونِ هَمْزَةٍ- بِمَعْنَى نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، كَمَا يُقَالُ: غَاثَتْهُمْ وَوَبِلَتْهُمْ، وَيُقَالُ: مَكَانٌ مَمْطُورٌ، أَيْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ، وَلَا يُقَالُ: مُمْطِرٌ، وَيُقَالُ أُمْطِرُوا- بِالْهَمْزَةِ- بِمَعْنَى نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوِّ مَا يُشْبِهُ الْمَطَرَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَطَرٍ، فَلَا يُقَالُ: هُمْ مُمْطِرُونَ، وَلَكِنْ يُقَالُ: هُمْ مُمْطَرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82]- وَقَالَ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: 32] ، كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ- هُنَا- وَقَالَ، فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: قَدْ كَثُرَ الْإِمْطَارُ فِي مَعْنَى الْعَذَابِ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَطَرَ وَأَمْطَرَ أَنَّ مَطَرَ لِلرَّحْمَةِ وَأَمْطَرَ لِلْعَذَابِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [24] : قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا فَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى كِلْتَا التَّفْرِقَتَيْنِ، وَيُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ التَّفْرِقَةُ أَغْلَبِيَّةً. وَكَانَ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ لُوطٍ حَجَرًا وَكِبْرِيتًا مِنْ أَعْلَى الْقُرَى كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَكَانَ الدُّخَانُ يَظْهَرُ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُ دُخَانِ الْأَتُونِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ آبَارَ الْحُمَرِ الَّتِي وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي عُمْقِ السَّدِيمِ، كَانَتْ قَابِلَةً لِلِالْتِهَابِ بِسَبَبِ زَلَازِلَ أَوْ سُقُوطِ صَوَاعِقَ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي

آيَةٍ أُخْرَى، فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَالِيَ تِلْكَ الْقُرَى سَافِلًا، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسْفُ وَهُوَ مِنْ آثَارِ الزَّلَازِلِ. وَمِنَ الْمُسْتَقْرَبِ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ الْمَيِّتُ هُنَالِكَ قَدْ طَغَى عَلَى هَذِهِ الْآبَارِ أَوِ الْبَرَاكِينِ مِنْ آثَارِ الزِّلْزَالِ. وَتَنْكِيرُ: مَطَراً لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْجِيبِ أَيْ: مَطَرًا عَجِيبًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى. وَتَفَرَّعَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ فَالْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ وَالِاعْتِبَارِ. وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بَلْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاعْتِبَارُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ إِيرَادِ التَّذْيِيلِ بِالِاعْتِبَارِ عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِطَابِ كُلُّ مَنْ قُصِدَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخطاب للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ انْتِظَارَ الْعَوَاقِبِ. وَالْمُجْرِمُونَ فَاعِلُوا الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَالسَّيِّئَةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ بِذَلِكَ الْعِقَابِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَأَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْسِلَ لَهُمْ لِنَهْيِهِمْ عَنْهَا، لَا لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، إِذْ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْقُرْآنِ بِخِلَافِ مَا قُصَّ عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، لَكِنَّ تَمَالُئَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاسْتِحْلَالِهِمْ إِيَّاهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَبِذَلِكَ يُؤْذِنُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [10] : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، فَيَكُونُ إِرْسَالُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنْكَارِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ ابْتِدَاءً بِتَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُمُ الْإِيمَانَ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَّغَهُمُ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّ اهْتِمَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا يَخُصُّ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَصَابَهُمْ بِالْعَذَابِ عُقُوبَةً، عَلَى تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، كَمَا قَالَ فِي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 إلى 87]

سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: [34] : إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَأَنَّهُمْ لَوْ أَقْلَعُوا عَنْهَا لَتُرِكَ عَذَابُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ أَوْ إِلَى الْيَوْم الآخر. [85- 87] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 85 إِلَى 87] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) تَفْسِيرُ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ كَتَفْسِيرِ نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ ثَمُودَ، سِوَى أَنَّ تَجْرِيدَ فِعْلِ قالَ يَا قَوْمِ مِنَ الْفَاءِ- هُنَا- يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي فَاتَحَهُمْ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بَلْ هُوَ مِمَّا خَاطَبَهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ مِرَارًا، وَبَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْتِي. وَمَدْيَنُ أُمَّةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ زَوْجِهِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَهِيَ سُرِّيَّةٌ اسْمُهَا

قَطُورَا. وَتَزَوَّجَ مَدْيَنُ ابْنَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوُلِدَ لَهُ أَبْنَاءٌ: هُمْ (عَيْفَةُ) وَ (عَفَرُ) وَ (حَنُوكُ) وَ (ابْيَدَاعُ) وَ (أَلْدَعَةُ) وَقَدْ أَسْكَنَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دِيَارِهِمْ، وَسَطًا بَيْنَ مَسْكَنِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَسْكَنِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ تَفَرَّعَتْ بُطُونُ مَدْيَنَ، وَكَانُوا يُعَدُّونَ نَحْوَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَوَاطِنُهُمْ بَيْنَ الْحِجَازِ وَخَلِيجِ الْعَقَبَةِ بِقُرْبِ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَقَاعِدَةُ بِلَادِهِمْ (وَجُّ) عَلَى الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَتَنْتَهِي أَرْضُهُمْ مِنَ الشَّمَالِ إِلَى حُدُودِ مَعَانٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَإِلَى نَحْوِ تَبُوكَ مِنَ الْحِجَازِ، وَتُسَمَّى بِلَادُهُمُ (الْأَيْكَةَ) . وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَيْكَةَ هِيَ (تَبُوكُ) فَعَلَى هَذَا هِيَ مِنْ بِلَادِ مَدْيَنَ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ قُرًى وَبَوَادِي، وَكَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ (الْأَيْكَةُ) ، وَقَدْ تَعَرَّبُوا بِمُجَاوَرَةِ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ وَكَانُوا فِي مُدَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحْتَ مُلُوكِ مِصْرَ، وَقَدِ اكْتَسَبُوا بِمُجَاوَرَةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمُخَالَطَتِهِمْ لِكَوْنِهِمْ فِي طَرِيقِ مِصْرَ، عَرَبِيَّةً فَأَصْبَحُوا فِي عِدَادِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، مِثْلَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ شَاعِرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْهَمَيْسَعِ هُوَ مِنْ شُعَرَاءِ مَدْيَنَ وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنْ تَمْنَعِي صَوْبَكِ صَوْبَ الْمَدْمَعِ ... يَجْرِي عَلَى الخدّ كضئب الثّغثع مِنْ طَمْحَةٍ صَبِيرُهَا جَحْلَنْجَعِ وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَطَّ الْعَرَبِيَّ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ فِي مَدْيَنَ. وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ رَسُولٌ لِأَهْلِ مَدْيَنَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، اسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ: (يَثْرُونُ) وَيُسَمَّى أَيْضًا (رَعْوَئِيلَ) وَهُوَ ابْنُ (نُوَيْلَى أَوْ نُوَيْبِ) بْنِ (رَعْوِيلَ) بْنِ (عَيْفَا) بْنِ (مَدْيَنَ) . وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مِصْرَ نَزَلَ بِلَادَ مَدْيَنَ وَزَوَّجَهُ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ الْمُسَمَّاةَ (صَفُورَهْ) وَأَقَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ أَجِيرًا. وَقَدْ خَبَطَ فِي نَسَبِ مَدْيَنَ وَنَسَبِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ

الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ، فَمَا وَجَدْتَ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا فَانْبِذْهُ. وَعَدَّ الصَّفَدِيُّ شُعَيْبًا فِي الْعُمْيَانِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَقَدِ ابْتَدَأَ الدَّعْوَةَ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ بِهِ صَلَاحَ الِاعْتِقَادِ وَالْقَلْبِ، وَإِزَالَةَ الزَّيْفِ مِنَ الْعَقْلِ. وَبَيِّنَةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي جَاءَتْ فِي كَلَامِهِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْآيَةِ لِمُعْجِزَةٍ أَظْهَرَهَا لِقَوْمِهِ عَرَفُوهَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ حُجَّةً أَقَامَهَا عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَسُوءِ الْفِعْلِ، وَعَجَزُوا عَنْ مُجَادَلَتِهِ فِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِثْلُ الْمُجَادَلَةِ الَّتِي حُكِيَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُبَيِّنُ صِدْقَ الدَّعْوَى، لَا عَلَى خُصُوصِ خَارِقِ الْعَادَةِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْبَيِّنَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أَيْ يَكُونُ أَنْذَرَهُمْ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاء: 187] فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ مُرَادًا بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ الْقَرِيبُ، تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ آيَةً، أَيْ مُعْجِزَةً لِيُؤْمِنُوا، فَلَمْ يَسْأَلُوهَا وَبَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مِثْلَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها [الْأَعْرَاف: 105، 106] الْآيَةَ، فَيَكُونُ مَعْنَى: قَدْ جاءَتْكُمْ قَدْ أُعِدَّتْ لِأَنْ تَجِيئَكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهَا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَضْمُونِ مَعْنَى بَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ وَكَانَ قَدْ أَمرهم بالتّوحيد بادىء بَدْءٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْقَلْبِ، شَرَعَ يَأْمُرُهُمْ بِالشَّرَائِعِ مِنَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَتِلْكَ دَعْوَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنْ يُكْمِلُوا إِيمَانَهُمْ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ الْفَرْعِيَّةِ، وَإِبْلَاغٌ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَفِي دَعْوَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْفَرْعِيَّةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّتِ الدَّعْوَةُ إِلَى

التَّوْحِيدِ مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْبَشَرَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ قَدْ تَطَوَّرَتْ نُفُوسُهُمْ تَطَوُّرًا هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الشَّرَائِعِ الْفَرْعِيَّةِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَوْسَعَ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ هُودٍ وَصَالِحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِذْ كَانَ فِيهَا تَشْرِيعُ أَحْكَامٍ فَرْعِيَّةٍ وَقَدْ كَانَ عَصْرُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَظَلَّ عَصْرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي جَاءَ بِشَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ مَاسَّةٍ نَوَاحِيَ الْحَيَاةِ كُلِّهَا. وَالْبَخْسُ فَسَّرُوهُ بِالنَّقْصِ، وَزَادَ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» قَيْدًا، فَقَالَ: نَقْصُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ، وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : «الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ أَوِ الْمُخَادَعَةُ عَنِ الْقِيمَةِ أَوِ الِاحْتِيَالُ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ» فَلْنَبْنِ عَلَى أَسَاسِ كَلَامِهِ فَنَقُولُ: الْبَخْسُ هُوَ إِنْقَاصُ شَيْءٍ مِنْ صِفَةٍ أَوْ مِقْدَارٍ هُوَ حَقِيقٌ بِكَمَالٍ فِي نَوْعِهِ. فَفِيهِ مَعْنَى الظُّلْمِ وَالتَّحَيُّلِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي «الْمُخَصَّصِ» الْبَخْسُ فِي بَابِ الذَّهَابِ بِحَقِّ الْإِنْسَان، ولكنّه عِنْد مَا ذَكَرَهُ وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ مُدَوِّنِي اللُّغَةِ، فَالْبَخْسُ حَدَثٌ يَتَّصِفُ بِهِ فَاعِلٌ وَلَيْسَ صِفَةً لِلشَّيْءِ الْمَبْخُوسِ فِي ذَاتِهِ، إِلَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يُوسُف: 20] أَيْ دُونَ قِيمَةِ أَمْثَالِهِ، (أَيْ تَسَاهَلَ بَائِعُوهُ فِي ثَمَنِهِ لِأَنَّهُمْ حَصَّلُوهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا كُلْفَةٍ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْبَخْسُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَمِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْمُشْتَرِيَ: هَذَا النِّحْيُ لَا يَزِنُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ يَزِنُ اثْنَيْ عَشَرَ رِطْلًا، أَوْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى هَذَا النَّخْلِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ قَنَاطِيرَ تَمْرًا فِي حِينِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْلُغُ عِشْرِينَ قِنْطَارًا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ شَرُودٌ وَهُوَ مِنَ الرَّوَاحِلِ، وَيَكُونُ طَرِيقُ الْبَخْسِ قَوْلًا، كَمَا مَثَّلْنَا، وَفِعْلًا كَمَا يَكُونُ مِنْ بَذْلِ ثَمَنٍ رَخِيصٍ فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَاعَ غَالِيًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَخْسِ أَنْ يَنْتَفِعَ الْبَاخِسُ الرَّاغِبُ فِي السِّلْعَةِ الْمَبْخُوسَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَتَبْقَى كَلًّا عَلَى جَالِبِهَا فَيَضْطَرُّ إِلَى بَيْعِهَا بِثَمَنٍ زَهِيدٍ، وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشَّكِّ فِي نَفْسِ جَالِبِ

السِّلْعَةِ بِأَنَّ سِلْعَتَهُ هِيَ دُونَ مَا هُوَ رَائِجٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَدْخُلُهُ الْيَأْسُ مِنْ فَوَائِدِ نِتَاجِهِ فَتَكْسَلُ الْهِمَمُ. وَمَا وَقَعَ فِي «اللِّسَانِ» مِنْ مَعَانِي الْبَخْسِ: أَنَّهُ الْخَسِيسُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ أَوِ التَّوَسُّعِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبَخْسَ هُوَ بِمَعْنَى النَّقْصِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ، لَا النَّقْصُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الشَّيْءِ النَّاقِصِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا. ثُمَّ إِنَّ حَقَّ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً [الْبَقَرَة: 282] فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّحْوِيلِ لِتَحْصِيلِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: «وَلَا تَبْخَسُوا أَشْيَاءَ النَّاسِ» فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَشْياءَهُمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: النَّاسَ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ بُنِيَ فِعْلُ بَخَسَ لِلْمَجْهُولِ لَقُلْتَ بُخِسَ فُلَانٌ شَيْئُهُ- بِرَفْعِ فُلَانٍ وَرَفْعِ شَيْئِهِ-. وَقَدْ جَعَلَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مَفْعُولًا ثَانِيًا، فَعَلَى إِعْرَابِهِ لَوْ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لَبَقِيَ (أَشْيَاءَهُمْ) مَنْصُوبًا. وَعَلَى إِعْرَابِنَا لَوْ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لَصَارَ أَشْيَاؤُهُمْ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ النَّاسِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فَرْقًا قَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ. وَحَاصِلُ مَا أَمَرَ بِهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: هِيَ حِفْظُ حُقُوقِ الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ، وَحِفْظُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَحِفْظُ حُقُوقِ حُرِّيَّةِ الِاسْتِهْدَاءِ. فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَإِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِ الْمُشْتَرِينَ، لِأَنَّ الْكَائِلَ أَوِ الْوَازِنَ هُوَ الْبَائِعُ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُ حُبُّ الِاسْتِفْضَالِ عَلَى تَطْفِيفِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، لِيَكُونَ بَاعَ الشَّيْءَ النَّاقِصَ بِثَمَنِ الشَّيْءِ الْوَافِي، كَمَا يَحْسَبُهُ الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِ الْبَائِعِ لِأَنَّ

الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي يَبْخَسُ شَيْءَ الْبَائِعِ لِيُهَيِّئَهُ لِقَبُولِ الْغَبْنِ فِي ثَمَنِ شَيْئِهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حِيلَةٌ وَخِدَاعٌ لِتَحْصِيلِ رِبْحٍ مِنَ الْمَالِ. وَالْكَيْلُ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُكَالُ بِهِ، وَهُوَ الْمِكْيَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يُوسُف: 65] وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: لِمُقَابَلَتِهِ بِالْمِيزَانِ، وَلِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود: 84] وَمَعْنَى. إِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْكَيْلِ وَآلَةُ الْوَزْنِ بِمِقْدَارِ مَا يُقَدَّرُ بِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّرَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ التَّحَيُّلَيْنِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَذْكُورَيْنِ: لِأَنَّهُمَا كَانَا شَائِعَيْنِ عِنْدَ مَدْيَنَ، وَلِأَنَّ التَّحَيُّلَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ تَنْحَصِرُ فِيهِمَا إِذْ كَانَ التَّعَامُلُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَوَادِي مُنْحَصِرًا فِي الْمُبَادَلَاتِ بِأَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ: عَرْضًا وَطَلَبًا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أَفَادَ مَعْنًى غَيْرَ الَّذِي أَفَادَهُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّهْيُ جَارِيًا مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ، أَوِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِهِ، كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَمَا جَاءَ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ تَعْتَمِدُ الثِّقَةَ الْمُتَبَادَلَةَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِشُيُوعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ نَشِطَ النَّاسُ لِلتَّعَامُلِ فَالْمُنْتِجُ يَزْدَادُ إِنْتَاجًا وَعَرْضًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَالطَّالِبُ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ مُسْتَهْلِكٍ يُقْبِلُ عَلَى الْأَسْوَاقِ آمِنًا لَا يَخْشَى غَبْنًا وَلَا خَدِيعَةً وَلَا خِلَابَةً، فَتَتَوَفَّرُ السِّلَعُ فِي الْأُمَّةِ، وَتَسْتَغْنِي عَنِ اجْتِلَابِ أَقْوَاتِهَا وَحَاجِيَّاتِهَا وَتَحْسِينِيَّاتِهَا، فَيَقُومُ نَمَاءُ الْمَدِينَةِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، وَيَعِيشُ النَّاسُ فِي رَخَاءٍ وَتَحَابُبٍ وَتَآخٍ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَخْتَلُّ حَالُ الْأُمَّةِ بِمِقْدَارِ تَفَشِّي ضِدِّ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها هَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ دَعْوَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَا يُفْضِي إِلَى إِفْسَادِ مَا هُوَ عَلَى

حَالَةِ الصَّلَاحِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ [56] . وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى مَجْمُوعِ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ، وَلِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالْمَذْكُورُ: هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَإِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَتَجَنُّبِ بَخْسِ أَشْيَاءِ النَّاسِ، وَتَجَنُّبِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ، أَيْ نَفْعٌ وَصَلَاحٌ تَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ [الْحَج: 36] . وَإِنَّمَا كَانَ مَا ذُكِرَ خَيْرًا: لِأَنَّهُ يُوجِبُ هَنَاءَ الْعَيْشِ وَاسْتِقْرَارَ الْأَمْنِ وَصَفَاءَ الْوُدِّ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَزَوَالَ الْإِحَنِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْخُصُومَاتِ وَالْمُقَاتَلَاتِ، فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ كَثُرَتِ الْأُمَّةُ وَعَزَّتْ وَهَابَهَا أَعْدَاؤُهَا وَحَسُنَتْ أُحْدُوثَتُهَا وَكَثُرَ مَالُهَا بِسَبَبِ رَغْبَةِ النَّاسِ فِي التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ لِأَمْنِ صَاحِبِ الْمَالِ مِنِ ابْتِزَازِ مَالِهِ. وَفِيهِ خَيْرُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ فَعَلُوهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ رَسُوله أكسبهم رضى اللَّهِ، فَنَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ، وَسَكَنُوا دَارَ الثَّوَابِ، فَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْكَمَالِ لِأَنَّهُ جَامِعُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شَرْطٌ مُقَيِّدٌ لِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ لَقَبٌ لِلْمُتَّصِفِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الشَّرَائِعِ وَحَمْلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ لِقَوْلِهِ، وَنُصْحِهِ، وَأَمَانَتِهِ: حَمْلٌ عَلَى مَا يَأْبَاهُ السِّيَاقُ، بَلِ الْمَعْنَى، أَنَّهُ يَكُونُ خَيْرًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى الدَّعْوَةِ لِلتَّوْحِيدِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي كَلَامِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حُصُولَ الْخَيْرِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوهَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا الْخَيْرُ لِأَنَّ مَفَاسِدَ الشِّرْكِ تُفْسِدُ مَا فِي الْأَفْعَالِ مِنَ الْخَيْرِ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الشِّرْكَ يَدْعُو إِلَى أَضْدَادِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101]

أَوْ يَدْعُو إِلَى مَفَاسِدَ لَا يَظْهَرُ مَعَهَا نَفْعُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْيِيدِ نَفْيُ الْخَيْرِ الْكَامِلِ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلُوهَا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ حَقَّ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ بِغَيْرِ هَذَا عُدُولٌ بِهَا عَنْ مَهْيَعِ الْوُضُوحِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ هَذَا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ دَعْوَتِهِ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ دُونَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَصْلِحُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَمْنَعُوا مَنْ يَرْغَبُ فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ وُفُودَ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. فَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى لِقَاءِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقُعُودُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمَةٍ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالِاسْتِقْرَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [16] . وَ (كُلِّ) لِلْعُمُومِ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ كُلِّ صِرَاطٍ مُبَلِّغٍ إِلَى الْقَرْيَةِ أَوْ إِلَى مَنْزِلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (كُلِّ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى (فِي) كَشَأْنِهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى أَسْمَاءِ الْمَنَازِلِ. كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِسِقْطِ اللِّوَى الْبَيْتَ. وَجُمْلَةُ: تُوعِدُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَقْعُدُوا وَالْإِيعَادُ: الْوَعْدُ بِالشَّرِّ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيعَادِ الصَّدُّ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةٍ وَتَصُدُّونَ عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، أَوْ أُرِيدُ تُوعِدُونَ الْمُصَمِّمِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِيمَانِ، وَتَصُدُّونَ الَّذِينَ لَمْ يُصَمِّمُوا فَهُوَ عَطْفُ عَامٍ عَلَى خَاصٍّ.

وَ (مَنْ آمَنَ) يَتَنَازَعُهُ كُلُّ مِنْ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِهِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَارِعِ، حَيْثُ الْمُرَادُ بِمَنْ آمَنَ قَاصِدُ الْإِيمَانِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ عَزْمِ الْقَاصِدِ عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَصُدُّونَهُ لَكَانَ قَدْ آمَنَ. وسَبِيلِ اللَّهِ الدِّينُ لِأَنَّهُ مثل الطَّرِيق الْموصل إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ مَرْضَاتِهِ. وَمَعْنَى تَبْغُونَها عِوَجاً تَبْغُونَ لِسَبِيلِ اللَّهِ عِوَجًا إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ شُعَيْبٌ بَاطِلٌ، يُقَالُ: بَغَاهُ بِمَعْنَى طَلَبَ لَهُ، فَأَصْلُهُ بَغَى لَهُ فَحَذَفُوا حَرْفَ الْجَرِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ لِتَضْمِينِ بَغَى مَعْنَى أَعْطَى. وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- عَدَمُ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمَعَانِي، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ: عَدَمُ اسْتِقَامَةِ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى: تُحَاوِلُونَ أَنْ تَصِفُوا دَعْوَةَ شُعَيْبٍ الْمُسْتَقِيمَةَ بِأَنَّهَا بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، كَمَنْ يُحَاوِلُ اعْوِجَاجَ عُودٍ مُسْتَقِيمٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذِكْرِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ. وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّهْيَ عَنِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بَعْدَ جُمْلَةِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي نَسَقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَاضِيَةِ ثُمَّ يُعَقِّبْهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْكَلَامَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ فِيهِ صَلَاحُ الْمُخَاطَبِينَ، فَأَعْقَبَهَا بِبَيَانِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَأَعَادَ تَنْبِيهَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صَلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ عَادَ إِلَى النَّهْيِ عَنْ صَدِّ الرَّاغِبِينَ فِيهِ، فَهَذَا مِثْلُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خُلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» أَنَّ الْمُتَنَبِّي لَمَّا أَنْشَدَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ قَوْلَهُ فِيهِ:

وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ تَطْبِيقَ عَجُزَيِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى صَدَرَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجْعَلَ الْعَجز الثَّانِي عَجزا للْأولِ وَالْعَكْسَ وَأَنْتَ فِي هَذَا مِثْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ الْبَيْتَيْنِ، وَوَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ: أَنْ يَكُونَ عَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَعَجُزُ الْبَيْتِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ لِيَكُونَ رُكُوبُ الْخَيْلِ مَعَ الْأَمْرِ لِلْخَيْلِ بِالْكَرِّ، وَيَكُونُ سِبَاءُ الْخَمْرِ مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ، فَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: «إِنْ صَحَّ أَنَّ الَّذِي اسْتَدْرَكَ عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ هَذَا أَعْلَمُ مِنْهُ بِالشِّعْرِ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَأَخْطَأْتُ أَنَا، وَمَوْلَانَا الْأَمِيرُ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَزَّازُ مَعْرِفَةَ الْحَائِكِ، لِأَنَّ الْبَزَّازَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا جُمْلَتَهُ، وَالْحَائِكَ يَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَزَلِيَّةِ إِلَى الثَّوْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ لَذَّةَ النِّسَاءِ بِلَذَّةِ الرُّكُوبِ لِلصَّيْدِ وَقَرَنَ السَّمَاحَةَ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ لِلْأَضْيَافِ بِالشَّجَاعَةِ فِي مُنَازَلَةِ الْأَعْدَاءِ، وَأَنَّا لَمَّا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ فِي أَوَّلِ الْبَيْتِ أَتْبَعْتُهُ بِذِكْرِ الرَّدَى لِتَجَانُسِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الْمُنْهَزِمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبُوسًا وَعَيْنُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاكِيَةً قُلْتُ: «وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ» لِأَجْمَعَ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فِي الْمَعْنَى. وَهُوَ يَعْنِي بِهَذَا أَنَّ وُجُوهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ وَتَتَعَدَّدُ، وَأَنَّ بَعْضًا يَكُونُ أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ. وَذَكَّرَهُمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَقِبَ ذَلِكَ بِتَكْثِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَلِيلًا، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، إِذْ صَارُوا أُمَّةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْشَرًا. وَمَعْنَى تَكْثِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ تَيْسِيرُهُ أَسْبَابَ الْكَثْرَةِ لَهُمْ بِأَنْ قَوَّى فِيهِمْ قُوَّةَ التَّنَاسُلِ، وَحَفِظَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوَتَانِ، وَيَسَّرَ لِنَسْلِهِمُ الْيِفَاعَةَ حَتَّى كَثُرَتْ مَوَالِيدُهُمْ وَقَلَّتْ وَفِيَّاتُهُمْ، فَصَارُوا عَدَدًا كَثِيرًا فِي زَمَنٍ لَا يُعْهَدُ فِي مِثْلِهِ مَصِيرُ أُمَّةٍ إِلَى عَدَدِهِمْ، فَيُعَدُّ مَنْعُهُمُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ سَعْيًا فِي تَقْلِيلِ حِزْبِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُفْرَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ كَثَّرَهُمْ، وَلِيُقَابِلُوا اعْتِبَارَ

هَذِهِ النِّعْمَةِ بِاعْتِبَارِ نِقْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ، إِذِ اسْتَأْصَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا كَثِيرًا فَذَلِكَ مِنْ تَمَايُزِ الْأَشْيَاءِ بِأَضْدَادِهَا. فَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ جَمْعٌ بَيْنَ طَرِيقَيِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَقَلِيلٌ وَصْفٌ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ، مِثْلُ كَثِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نبيء قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] . وَالْمُرَادُ بِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ أَفْسَدُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ وَبِأَعْمَالِ الضَّلَالِ، وأفسدوا الْمُجْتَمع بمخالفة الشَّرَائِعِ، وَأَفْسَدُوا النَّاسَ بِإِمْدَادِهِمْ بِالضَّلَالِ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْهُدَى، وَلِذَلِكَ لم يُؤْت: ل الْمُفْسِدِينَ بِمُتَعَلِّقٍ لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ صِفَةً، وَقُطِعَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ، أَيِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْإِفْسَادِ. وَهَذَا الْخِطَابُ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تَشْمَلُهُمْ وَبِالِاعْتِبَارِ بِمَنْ مَضَوْا فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُمْ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّسْلِيَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ مُفْسِدِي أَهْلِ الشِّرْكِ لِانْطِبَاقِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى حَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَ (إِذْ) فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا اسْمُ زَمَانٍ، غَيْرُ ظَرْفٍ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ بِهِ أَيِ اذْكُرُوا زَمَانَ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَأَعْقَبَهُ بِأَنْ كَثَّرَكُمْ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ. والطائفة الْجَمَاعَةُ ذَاتُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ أَفَادَ تَعْلِيقَ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَعْنِي مَا تَضَمَّنَهُ الْوَعِيدُ لِلْكَافِرِينَ بِهِ وَالْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ، عَلَى تَحَقُّقِ حُصُولِ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ، لَا عَلَى تَرَقُّبِ حُصُولِ مَضْمُونِهِ، لِأَنَّهُ

مَعْلُومُ الْحُصُولِ، فَالْمَاضِي الْوَاقِعُ فِعْلًا لِلشَّرْطِ هُنَا مَاضٍ حَقِيقِيّ وَلَيْسَ مؤولا بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي وُقُوعِ الْمَاضِي فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْحُصُولِ، وَبِقَرِينَةِ النَّفْيِ بِلَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنَّ (لَمْ) صَرِيحَةٌ فِي الْمُضِيِّ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: 116] بِقَرِينَةٍ. (قَدْ) إِذِ الْمَاضِي الْمَدْخُول لقد لَا يُقْلَبُ إِلَى مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ طَائِفَةً آمَنُوا وَطَائِفَةً كَفَرُوا فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا فَاصْبِرُوا حتّى يحكم ويؤول الْمَعْنَى: إِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي تَصْدِيقِي فَسَيَظْهَرُ الْحُكْمُ بِأَنِّي صَادِقٌ. وَلَيْسَتْ (إِنْ) بِمُفِيدَةِ الشَّكِّ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، بَلِ اجْتُلِبَتْ هُنَا لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ مَعْنَى الشَّكِّ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ إِذَا وَقَعَ الْعُدُولُ عَنِ اجْتِلَابِ (إِذَا) حِينَ يَصِحُّ اجْتِلَابُهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِلَابُ (إِذَا) فَلَا تَدُلُّ (إِنْ) عَلَى شَكٍّ وَكَيْفَ تُفِيدُ الشَّكَّ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُضِيِّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: لَئِنْ كُنْتَ قَدْ بُلِّغْتَ عَنِّي وِشَايَةً ... لَمُبْلِغُكَ الْوَاشِي أَغَشُّ وَأَكْذَبُ وَالصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ فِي حَالِ التَّرَقُّبِ، سَوَاءٌ كَانَ تَرَقُّبَ مَحْبُوبٍ أَمْ تَرَقُّبَ مَكْرُوهٍ، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ فِي حَالِ فُقْدَانِ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَصَبْرُ كُلٍّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَلَعَلَّهُ رَجَحَ فِيهِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَقَّبَ هُوَ فِي مَنْفَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وحَتَّى تُفِيدَ غَايَةً لِلصَّبْرِ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ. وَحُكْمُ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ أَثَرِ غَضَبِهِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَرِضَاهُ عَلَى الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ، فَيَظْهَرُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا صَدَرَ عَنْ ثِقَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ اسْتِنَادًا لِوَعْدِ

اللَّهِ إِيَّاهُ بِالنَّصْرِ عَلَى قَوْمِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: فَاصْبِرُوا إِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً صَحَّ إِرَادَةُ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا. وَأَدْخَلَ نَفْسَهُ فِي الْمَحْكُومِ بَيْنَهُمْ بِضَمِيرِ الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفَرِيقِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يُعْتَبَرُ شَامِلًا لَهُ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ تَذْيِيلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الظُّلْمَ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَاكِمِينَ يَقَعُ مِنْهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا. وخَيْرُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَخْيَرُ فَخَفَّفُوهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 إلى 89]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 88 الى 89] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ حُجَّةِ شُعَيْبٍ جَوَابَ الْمُفْحَمِ عَنِ الْحُجَّةِ، الصَّائِرِ إِلَى الشِّدَّةِ، الْمُزْدَهِي بِالْقُوَّةِ، الْمُتَوَقِّعِ أَنْ يَكْثُرَ مُعَانِدُوهُ، فَلِذَلِكَ عَدَلُوا إِلَى إِقْصَاءِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ عَنْ بِلَادِهِمْ خَشْيَةَ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَبَثِّ أَتْبَاعِهِ دَعْوَتَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا. وَتَفْسِيرُ صَدْرِ الْآيَةِ هُوَ كَتَفْسِيرِ نَظِيرِهِ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ. وَإِيثَارُ وَصْفِهِمْ بِالِاسْتِكْبَارِ هُنَا دُونَ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لم يحك عنم هَنَا خِطَابُ الْمُسْتَضْعَفِينَ، حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْتِكْبَارِ إِشَارَة إِلَى أمّهم اسْتَضْعَفُوا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا اقْتَضَتْهُ قِصَّةُ ثَمُودَ، فَاخْتِيرَ وَصْفُ الِاسْتِكْبَارِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ مُخَاطَبَتِهِمْ شُعَيْبًا بِالْإِخْرَاجِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَّارِينَ أَصْحَابِ الْقُوَّةِ. وَكَانَ إِخْرَاجُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِ قَبِيلَتِهِ عُقُوبَةً مُتَّبَعَةً فِي الْعَرَبِ إِذَا أَجْمَعَتِ الْقَبِيلَةُ عَلَى ذَلِكَ وَيُسَمَّى هَذَا الْإِخْرَاجُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِالْخَلْعِ، وَالْمُخْرَجِ يُسَمَّى خَلِيعًا. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعِيلِ وَأَكَّدُوا التَّوَعُّدَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ: لِيُوقِنَ شُعَيْبٌ بِأَنَّهُمْ مُنْجِزُو ذَلِكَ الْوَعِيدِ.

وَخِطَابُهُمْ إِيَّاهُ بِالنِّدَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ خِطَابِ الْغَضَبِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ قَوْلَ آزَرَ خِطَابًا لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ [مَرْيَم: 46] . وَقَوْلُهُ: مَعَكَ مُتَعَلِّقٌ بِ لَنُخْرِجَنَّكَ، وَمُتَعَلِّقُ آمَنُوا مَحْذُوفٌ، أَيْ بِكَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَصِفُونَهُمْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَالْقَرْيَةُ (الْمَدِينَةُ) لِأَنَّهَا يَجْتَمِعُ بِهَا السُّكَّانُ. وَالتَّقَرِّي: الِاجْتِمَاعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] ، وَالْمُرَادُ بِقَرْيَتِهِمْ هُنَا هِيَ (الْأَيْكَةُ) وَهِيَ (تَبُوكُ) وَقَدْ رَدَّدُوا أَمْرَ شُعَيْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ. وَقَدْ جَعَلُوا عَوْدَ شُعَيْبٍ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِلَى مِلَّةِ الْقَوْمِ مُقْسَمًا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ وَلَمْ يَقُولُوا: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ تَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَرْدِيدَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَيِّزِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُمْ مُلِحُّونَ فِي عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ. وَكَانُوا يَظُنُّونَ اخْتِيَارَهُ الْعَوْدَ إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَأَكَّدُوا هَذَا الْعَوْدَ بِالْقَسَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ حُصُولِهِ عِوَضًا عَنْ حُصُولِ الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مُرْضٍ لِلْمُقْسِمِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْكِيدَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَبَوُا الْخُرُوجَ مِنَ الْقَرْيَةِ فَإِنَّهُمْ يُكْرَهُونَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مِلَّةِ الْقَوْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ شُعَيْبٍ فِي جوابهم: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِلتَّوَعُّدِ وَالتَّهْدِيدِ كَانَ ذِكْرُ الْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ أَهَمَّ، فَلِذَلِكَ قَدَّمُوا الْقَسَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعَقَبُوهُ بِالْمَعْطُوفِ بِحَرْفِ (أَوْ) . وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ الْمَرْءُ مِنْ مَكَانٍ أَوْ عَمَلٍ، وَجَعَلُوا مُوَافَقَةَ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ عَلَى الْكُفْرِ عَوْدًا لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى دِينِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَهُمْ يَحْسَبُونَهُ، مُوَافِقًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ. وَشَأْنُ الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي حَالَةِ خُلُوٍّ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ تَدْرِيجًا، وَقَوْمُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بَاطِنَهُمْ فَلَا حَيْرَةَ فِي تَسْمِيَةِ قَوْمِهِ مُوَافَقَتَهُ إِيَّاهُمْ عَوْدًا. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَأَوْرَدَ قَوْلَ شُعَيْبٍ: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 89] وَتَأَوَّلَ الْعَوْدَ بِأَنَّهُ الْمَصِيرُ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ كَثِيرٍ مِنْ

الْمُفَسِّرِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَدَلِيلُ الْعِصْمَةِ مِنْ هَذَا هُوَ كَمَالُهُمْ، وَالدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْكَمَالِ قَبْلَ الْوَحْيِ يُعَدُّ نَقْصًا، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِ شُعَيْبٍ إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الْأَعْرَاف: 89] فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَاهُ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ وَالتَّغْلِيبِ. وَكِلَاهُمَا مُصَحِّحٌ لِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَوْدِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَدْ تَوَلَّى شُعَيْبٌ الْجَوَابَ عَمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَقِينِهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ. وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [130] . وَفَصْلُ جُمْلَةِ: قالَ الْمَلَأُ لِوُقُوعِهَا فِي الْمُحَاوَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَة الْبَقَرَة [30] . أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) . فَصْلُ جُمْلَةِ قالَ.. لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا الْمُؤْذِنِ مَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ بِأَنَّهُمْ يُكْرِهُونَهُمْ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ التَّعَجُّبُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ تَصْمِيمِهِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ أَحَاطَ خَبَرًا بِمَا أَرَادُوا مِنْ تَخْيِيرِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: الْإِخْرَاجُ أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، شَأْنَ الْخَصْمِ اللَّبِيبِ الَّذِي يَأْتِي فِي جَوَابِهِ بِمَا لَا يُغَادِرُ شَيْئًا مِمَّا أَرَادَهُ خَصْمُهُ فِي حِوَارِهِ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْرِيضٌ بِحَمَاقَةِ خُصُومِهِ إِذْ يُحَاوِلُونَ حَمْلَهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ المحقّ أَن يُشْرك لِلْحَقِّ سُلْطَانَهُ عَلَى النُّفُوسِ وَلَا يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا الضَّغْطِ وَالْإِكْرَاهِ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَة: 256] . فَإِنَّ الْتِزَامَ الدِّينِ عَنْ إِكْرَاهٍ لَا يَأْتِي بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنَ التَّدَيُّنِ وَهُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَكْثِيرُ جُنْدِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحُ الْمَطْلُوبُ.

وَالْكَارِهُ مُشْتَقٌّ مِنْ كَرِهَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْكَرْهُ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُوَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ، فَكَارِهُ الشَّيْءِ لَا يُدَانِيهِ إِلَّا مَغْصُوبًا وَيُقَالُ لِلْغَصْبِ إِكْرَاهٌ، أَيْ مُلْجَئِينَ وَمَغْصُوبِينَ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [216] . وَ (لَوْ) وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّ شَرْطَهَا هُوَ أَقْصَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَحْصُلُ مَعَهَا الْفِعْلُ الَّذِي فِي جَوَابِهَا، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا أَحْرَى بِالتَّعَجُّبِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَتُعِيدُونَنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ (لَوْ) هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا وَاوُ الْحَالِ. وَاسْتَأْنَفَ مُرْتَقِيًا فِي الْجَوَابِ، فَبَيَّنَ اسْتِحَالَةَ عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا يَسْتَلْزِمُ كَذِبَهُ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ فَذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَنْ عَمْدٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ أَيْقَنُوا بِأَنَّ شُعَيْبًا مَبْعُوثٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ فِي كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ: افْتَرَيْنا وعُدْنا ونَجَّانَا ونَعُودَ ورَبُّنا وتَوَكَّلْنا. وَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابه ربط التّبيّن وَالِانْكِشَافِ. لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ حُصُولِ الِافْتِرَاءِ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّةِ قَوْمِهِ، فَإِنَّ الِافْتِرَاءَ الْمَفْرُوضَ بِهَذَا الْمَعْنَى سَابِقٌ مُتَحَقِّقٌ وَإِنَّمَا يَكْشِفُهُ رُجُوعُهُمْ إِلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ، أَيْ إِنْ يَقَعْ عَوْدُنَا فِي مِلَّتِكُمْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّنَا افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، فَالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: افْتَرَيْنا مَاضٍ حَقِيقِيٌّ كَمَا يَقْتَضِيهِ دُخُولُ قَدِ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لَا تَقْلِبُهُ (إِنْ) لِلِاسْتِقْبَالِ، أَمَّا الْمَاضِي الْوَاقِعُ شَرْطًا لِ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: إِنْ عُدْنا فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ (إِنْ) تَقْلِبُ الْمَاضِي لِلْمُسْتَقْبَلِ عَكْسَ (لَمْ) . وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مَعْنَاهُ: بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ لِلدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي اتَّبَعْنَاهُ بِالْوَحْيِ فَنَجَّانَا مِنَ الْكُفْرِ، فَذَكَرَ الْإِنْجَاءَ لدلالته على الإهداء وَالْإِعْلَانِ بِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْكُفْرِ نَجَاةٌ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ أَوْ كِنَايَةٌ. وَهَذِهِ الْبَعْدِيَّةُ لَيْسَتْ قَيْدًا لِ افْتَرَيْنا وَلَا هِيَ مُوجب كَون الْعود فِي مِلَّتِهِمْ دَالًّا عَلَى كَذِبِهِ فِي الرِّسَالَةِ، بَلْ هَذِهِ الْبَعْدِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ عُدْنا يُقْصَدُ مِنْهَا تَفْظِيعُ هَذَا الْعَوْدِ وَتَأْيِيسُ

الْكَافِرِينَ مِنْ عَوْدِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، بِخِلَافِ حَالِهِمُ الْأُولَى قَبْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يُوصَفُونَ بِالْكُفْرِ لَا بِالِافْتِرَاءِ إِذْ لَمْ يَظْهَرُ لَهُمْ وَجْهُ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ فَيَلْقِي نَفْسَهُ فِي الضَّلَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْعَذَابِ. وَانْتِصَابُ كَذِباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ تَأْكِيدًا ل افْتَرَيْنا بِنَا هُوَ مَا سوله أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] . وَقَدْ رَتَّبَ عَلَى مُقَدِّمَةِ لُزُومِ الِافْتِرَاءِ نَتِيجَةَ تَأْيِيسِ قَوْمِهِ مِنْ أَنْ يَعُودَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها فَنَفَى الْعَوْدَ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ إِلَخْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] . وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ وَتَفْوِيضُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ يُقَدِّرَ اللَّهُ لَنَا الْعَوْدَ فِي مِلَّتِكُمْ فَإِنَّهُ لَا يسْأَل عمّا يفعل، فَأَمَّا عَوْدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ فَمُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ حُصُولُهُ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ اسْتِحَالَتُهُ، وَالِارْتِدَادُ وَقَعَ فِي طَوَائِفَ مِنْ أُمَمٍ. وَأَمَّا ارْتِدَادُ شُعَيْبٍ بَعْدَ النُّبُوءَةِ فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا لِعِصْمَةِ اللَّهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ سَلَبَ الْعِصْمَةَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُحَالٌ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فَعِصْمَتُهُمْ مِنْهُ بَعْدَ النُّبُوءَةِ بِالْأَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَفِي قَوْلِ شُعَيْبٍ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَقْيِيدُ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ مُسَاوٍ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّأَدُّبُ وَتَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اللَّهِ، وَالْكِنَايَةُ عَنْ سُؤَالِ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمرَان: 8] . وَمِنْ هُنَا يُسْتَدَلُّ لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ الْفَقِيهُ

الْمَالِكِيُّ الْجَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يُخْتَمُ لَهُ بِهِ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْمَاتُرِيدِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلَا يَقُول كلمة تنبىء عَنِ الشَّكِّ فِي إِيمَانِهِ. وَقَدْ تَطَايَرَ شَرَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَابْنِ سَحْنُونٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِهَةٍ، فِي الْقَيْرَوَانِ زَمَانًا طَوِيلًا وَرَمَى كُلُّ فَرِيقٍ الْفَرِيقَ الْآخَرَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ سَحْنُونٍ يَدْعُونَ ابْنَ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابَهُ الشَّكُوكِيَّةَ وَتَلَقَّفَتِ الْعَامَّةُ بِالْقَيْرَوَانِ هَذَا الْخِلَافَ عَلَى غَيْرِ فهم فَرُبمَا اجترءوا عَلَى ابْنِ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابِهِ اجْتِرَاءً وَافْتِرَاءً، كَمَا ذَكَرَهُ مُفَصَّلًا عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وترجمة ابْن النبّان، وَالَّذِي حَقَّقَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَعِيَاضٌ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ: فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَسَرِيرَتُهُ فِي الْإِيمَانِ مِثْلُ عَلَانِيَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ شَكًّا فَهُوَ شَكٌّ فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَا يُرِيدُهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ، كَمَا حَقَّقَهُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِي «مَنْظُومَتِهِ النُّونِيَّةِ» ، وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِهِ» . وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي صِحَّةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِك هَل ينبىء عَنْ شَكِّهِ فِي إِيمَانِهِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُقَابِلُونَ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِالْمَشِيئَةِ بِقَوْلِ الْآخَرِينَ: أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَرَجَعَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى اخْتِلَافِ النَّظَرِ فِي حَالَةِ عَقْدِ الْقَلْبِ مَعَ مَا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ خَاتِمَتِهِ، وَبِذَلِكَ سَهُلَ إِرْجَاعُ الْخِلَافِ إِلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ. وَالْإِتْيَانُ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ: إِظْهَارٌ لِحَضْرَةِ الْإِطْلَاقِ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي جَوَازِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْكُفْرَ والمعاصي خلاف ناشىء عَنِ الْخِلَافِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ اصْطِلَاحٌ فِي

ذَلِكَ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْآخَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ طَفِيفَةٌ وَإِنْ هَوَّلَهَا الْفَرِيقَانِ، وَاصْطِلَاحُنَا أَسْعَدُ بِالشَّرِيعَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ كُلُّهَا مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ وَقُدْرَةِ الْمُكَلِّفِ. وَقَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تَفْوِيضٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنَّا، وَإِعَادَةُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِظْهَارِ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَتَأْكِيدِ التَّعْرِيضِ الْمُتَقَدِّمِ، حَتَّى يَصِيرَ كَالتَّصْرِيحِ. وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلِاهْتِمَامِ. وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ وَسِعَ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُ رَبِّنَا كُلَّ شَيْءٍ. وَالسِّعَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاسِعَ يَكُونُ أَكْثَرَ إِحَاطَةً. وَفِي هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إدماج تَعْلِيم بعض صِفَاتِ اللَّهِ لِأَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْخُطَبَاءِ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَمَنْ تَبِعَهُ قَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ مُبَاشَرَةِ صَلَاحِ الْمَرْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [159] ، وَهَذَا تَفْوِيضٌ يَقْتَضِي طَلَبَ الْخَيْرِ، أَيْ: رَجَوْنَا أَنْ لَا يَسْلُبَنَا الْإِيمَانَ الْحَقِّ وَلَا يُفْسِدُ خَلْقَ عُقُولِنَا وَقُلُوبِنَا فَلَا نُفْتَنُ ونضل، وَرَجَوْنَا أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ مَنْ يُضْمِرُ لَنَا شَرًّا وَذَلِكَ شَرُّ الْكَفَرَةِ الْمُضْمَرُ لَهُمْ، وَهُوَ الْفِتْنَةُ فِي الْأَهْلِ بِالْإِخْرَاجِ، وَفِي الدِّينِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْكُفْرِ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِ تَوَكَّلْنا لإِفَادَة الِاخْتِصَاص تَحْقِيقا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ وَنَبْذِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا مِنَ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي كِفَايَتِهِمْ أَمْرَ أَعْدَائِهِمْ، صَرَّحَ بِمَا يَزِيدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وَفَسَّرُوا الْفَتْحَ هُنَا بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ، وَقَالُوا: هُوَ لُغَةُ أَزْدِ عُمَانَ مِنَ الْيَمَنِ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفَتْحِ بِمَعْنَى النَّصْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يَتَحَاكَمُونَ لِغَيْرِ السَّيْفِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ النَّصْرَ حُكْمُ اللَّهِ لِلْغَالِبِ عَلَى الْمَغْلُوبِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: 87] ، أَيْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 إلى 92]

وَأَنْتَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَخَيْرُ الْحَاكِمِينَ هُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ كَمَالُ هَذَا الْوَصْفِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهُ وَفِي فَائِدَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَا تُرَوَّجُ عَلَيْهِ التُّرَّهَاتُ. وَالْحُكَّامُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، فَتَبَيَّنَ وَجْهُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: 87] وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ: خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آلِ عمرَان: 150] وخَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: 54] وَقد تقدم فِي سُورَة آل عِمْرَانَ [150] : بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. [90- 92] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 90 إِلَى 92] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَقالَ الْمَلَأُ وَلَمْ تُفْصَلْ كَمَا فُصِلَتِ الَّتِي قَبْلَهَا لِانْتِهَاءِ الْمُحَاوَرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ فَصْلَ الْجُمَلِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ أُنُفٌ وَجَّهَ فِيهِ الْمَلَأُ خِطَابَهُمْ إِلَى عَامَّةِ قَوْمِهِمُ الْبَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ شُعَيْبٍ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ تَحِيكَ فِي نُفُوسِهِمْ دَعْوَةُ شُعَيْبٍ وَصِدْقُ مُجَادَلَتِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا حُجَّتَهُ سَاطِعَةً وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْفَلْجَ عَلَيْهِ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَصَمَّمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، أَقْبَلُوا عَلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ مُتَابَعَةِ شُعَيْبٍ وَيُهَدِّدُوهُمْ بِالْخَسَارَةِ. وَذكر الْمَلَأُ إِظْهَار فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِبُعْدِ الْمَعَادِ. وَإِنَّمَا وَصَفَ الْمَلَأَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ دُونَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمَلَأَ الثَّانِيَ هُوَ الْمَلَأُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ ذَمِّ الْمَلَأِ بِوَصْفِ الْكُفْرِ، كَمَا ذُمَّ فِيمَا سَبَقَ بِوَصْفِ الِاسْتِكْبَارِ. وَوَصْفُ الْمَلَأُ هُنَا بِالْكُفْرِ لِمُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ، الدَّالِّ عَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي

كُفْرِهِمْ، كَمَا وُصِفُوا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالِاسْتِكْبَارِ لِمُنَاسَبَةِ حَالِ مُجَادَلَتِهِمْ شُعَيْبًا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَحَصَلَ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ كَافِرُونَ. وَالْمُخَاطَبُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً هُمُ الْحَاضِرُونَ حِينَ الْخِطَابِ لَدَى الْمَلَأِ، فَحُكِيَ كَلَامُ الْمَلَأِ كَمَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَالسِّيَاقُ يُفَسِّرُ الْمَعْنِيِّينَ بِالْخِطَابِ، أَعْنِي عَامَّةَ قَوْمِ شُعَيْبٍ الْبَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ. (وَاللَّامُ) مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ. وإِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَالْخُسْرَانُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [140] . وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِ الضُّرِّ مِنْ حَيْثُ أُرِيدَ النَّفْعُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّحْذِيرُ مِنْ أَضْرَارٍ تَحْصُلُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ جَرَّاءِ غَضَبِ آلِهَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ الْبَعْثَ، فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ، فَالْمُرَادُ الْخُسْرَانُ الْأَعَمُّ، وَلَكِنَّ الْأَهَمَّ عِنْدَهُمْ هُوَ الدُّنْيَوِيُّ. (وَالْفَاءُ) فِي: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ: كَانَ أَخْذُ الرَّجْفَةِ إِيَّاهُمْ عَقِبَ قَوْلِهِمْ لِقَوْمِهِمْ مَا قَالُوا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فِي نَظِيرِهَا مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ. وَالرَّجْفَةُ الَّتِي أَصَابَتْ أَهْلَ مَدْيَنَ هِيَ صَوَاعِقُ خَرَجَتْ مِنْ ظُلَّةٍ، وَهِيَ السَّحَابَةُ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [189] . فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الرَّجْفَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْأَصْوَاتِ الْمُنْشَقَّةِ عَنْ قَالِعٍ وَمَقْلُوعٍ لَا عَنْ قَارِعٍ وَمَقْرُوعٍ وَهُوَ الزِّلْزَالُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُمْ زِلْزَالٌ وَصَوَاعِقُ فَتَكُونُ الرَّجْفَةُ الزِّلْزَالَ وَالصَّيْحَةُ الصَّاعِقَةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. وَجُمْلَةُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّ اضْمِحْلَالَهُمْ وَانْقِطَاعَ دَابِرِهِمْ كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ شُعَيْبًا.

[سورة الأعراف (7) : آية 93]

وَمَعْنَى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا تَشْبِيه حَالَة استيصالهم وَعَفَاءِ آثَارِهِمْ بِحَالِ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ حَيَاةٌ، يُقَالُ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ كَرَضِيَ أَقَامَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَكَانُ الْقَوْمِ مَغْنًى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «الَّذِي اسْتَقْرَيْتُ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ أَنَّ غَنِيَ مَعْنَاهُ: أَقَامَ إِقَامَةً مُقْتَرِنَةً بِتَنَعُّمِ عَيْشٍ وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مَأْخُوذَةً مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ» أَيْ كَأَنْ لم تكن لَهُم إِقَامَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْنَى بِهِ انْمِحَاءُ آثَارِهِمْ كَمَا قَالَ: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يُونُس: 24] ، وَهُوَ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُمْ زِلْزَالٌ مَعَ الصَّوَاعِقِ بِحَيْثُ احْتَرَقَتْ أَجْسَادُهُمْ وَخُسِفَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَانْقَلَبَتْ دِيَارُهُمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ أَوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ. فَهَذَا هُوَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ، وَلَيْسَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ حَالَةَ مَوْتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ مَيِّتٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِأَمْثَالِ مَدْيَنَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة: 8] . وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ إِذَا اعْتُبِرَتْ كانُوا فِعْلًا، وَاعْتُبِرَ الْمُسْنَدُ فِعْلِيًّا فَهُوَ تَقْدِيمٌ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ، وَإِنِ اعْتُبِرَتْ (كَانَ) بِمَنْزِلَةِ الرَّابِطَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالتَّقَوِّي حَاصِلٌ مِنْ مَعْنَى الثُّبُوتِ الَّذِي تُفِيدُهُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ. وَالتَّكْرِيرُ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً لِلتَّعْدِيدِ وَإِيقَاظِ السَّامِعِينَ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، لِيَتَّقُوا عَاقِبَةَ أَمْثَالِهِمْ فِي الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] . وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شُعَيْبًا، وَذَلِكَ لِإِظْهَارِ سَفَهِ قَوْلِ الْمَلَأِ لِلْعَامَّةِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ تَوْقِيفًا لِلْمُعْتَبِرِينَ بِهِمْ عَلَى تَهَافُتِ أَقْوَالِهِمْ وَسَفَاهَةِ رَأْيِهِمْ، وَتَحْذِيرًا لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ذَلِك الضلال. [93] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 93] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَصَحْتُ لَكُمْ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ، وَتَقَدَّمَ

وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ رِسالاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي نَظِيرِهَا مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَنِدَاؤُهُ قَوْمَهُ نِدَاء تحسر وتبرئ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَادَاهُمْ بِأَسْمَاءِ صَنَادِيدِهِمْ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا» وَجَاءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، إِذْ خَطَرَ لَهُ خَاطِرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُؤْسَفَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ تَحْذِيرِهِمْ مَا لَوْ أَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ لَأَقْلَعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ أَسَفَهُ وَنَدَامَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: 6] وَقَوْلِهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] . فَالْفَاءُ فِي فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ إِلَخْ ... فَرَّعَ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْلَغَهُمْ وَنَصَحَ لَهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، فَقَدِ اسْتَحَقُّوا غَضَبَ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَيَرَى اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعِقَابَ فَكَيْفَ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَالْأَسَى: شِدَّةُ الْحُزْنِ، وَفعله كرضي، و «آسى» مُضَارِعٌ مُفْتَتَحٌ بِهَمْزَةِ التَّكَلُّمِ، فَاجْتَمَعَ هَمْزَتَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِمُ الْهَالِكِينَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِي نُفُوسِهِمْ حُزْنٌ عَلَى هَلْكَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ. وَقَوْلُهُ: عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ: لِيَتَأَتَّى وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ زِيَادَةً فِي تَعْزِيَةِ نَفْسِهِ وَتَرْكِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ نَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا مِمَّا حَلَّ بِقَوْمِهِ بِأَنْ فَارِقَ دِيَارَ الْعَذَابِ، قِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ وَاسْتَقَرُّوا بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفُّوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا مَحَلَّةً خَاصَّةً بِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهَا الْعَذَابَ، فَإِنَّ بَقِيَّةَ مَدْيَنَ لَمْ يَزَالُوا بِأَرْضِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَتِ التَّوْرَاةُ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ بِأَرْضِ قَوْمِهِ حِينَمَا مَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى دِيَارِهِمْ فِي خُرُوجِهِمْ من مصر.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 95]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 94 إِلَى 95] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) عَطَفَتِ الْوَاوُ جُمْلَةَ مَا أَرْسَلْنا عَلَى جُمْلَةِ وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الْأَعْرَاف: 85] ، عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ. لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقَصَصِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 59] كُلُّهُ، الْقَصْدُ مِنْهُ الْعِبْرَةُ بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ موعظة لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمْ قَصَصَ خَمْسِ أُمَمٍ جَاءَ الْآنَ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ سَائِرَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، أَوْ قِيَاسِ الِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ، وَهُوَ أَشْهَرُ قِيَاسٍ يُسْلَكُ فِي الْمَقَامَاتِ الْخِطَابِيَّةِ، وَهَذِهِ الْجُمَلُ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى [يُونُس: 75] كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْقَصَصِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَوْقِعِ الْمَوْعِظَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِبَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي اعْتِرَاضِ الْكَلَامِ. وَعُدِيَّ أَرْسَلْنا بِ (فِي) دُونَ (إِلَى) لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ حَقِيقَتُهَا، وَهِيَ لَا يُرْسَلُ إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يُرْسَلُ فِيهَا إِلَى أَهْلِهَا، فَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَى أَهْلِهَا إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الْقَصَص: 59] وَلَا يَجْرِي فِي هَذَا مِنَ الْمَعْنَى مَا يَجْرِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي قَرِيبا: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الْأَعْرَاف: 111] إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ هُنَا. ومِنْ مَزِيدٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَتَخْصِيصِ الْقُرَى بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ فِيهَا دُونَ الْبَوَادِي كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، وَشَهِدَ بِهِ تَارِيخ الْأَدْيَان، ينبىء أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ هُوَ بَثُّ الصَّلَاحِ لِأَصْحَابِ الْحَضَارَةِ الَّتِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي لَا يَخْلُونَ عَنِ الِانْحِيَازِ إِلَى الْقُرَى وَالْإِيوَاءِ فِي حَاجَاتِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ إِلَى الْقُرَى الْقَرِيبَةِ، فَأَمَّا مَجِيءُ نَبِيءٍ غَيْرِ رَسُولٍ لِأَهْلِ

الْبَوَادِي فَقَدْ جَاءَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ نَبِيًّا فِي بَنِي عَبْسٍ، وَأَمَّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ نَبِيءُ أَهْلِ الرَّسِّ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَسُولٌ لِأَنَّ اللَّهَ ذكر أهل الرُّسُل فِي عِدَادِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ظَهَرَ بِقَرْيَةِ الرَّسِّ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا (فَتْحَ) بِالْمُهْمَلَةِ أَوْ (فَتْخَ) بِالْمُعْجَمَةِ أَوْ (فَيْجَ) بِتَحْتِيَّةٍ وَجِيمٍ، أَوْ فَلْجَ (بِلَامٍ وَجِيمٍ) مِنَ الْيَمَامَةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا فِي قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ أَنَّنَا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَضَّرَّعُوا قَبْلَ الْأَخْذِ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا كَذَّبَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فَخَوَّفْنَاهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذِلُّونَ لِلَّهِ وَيَتْرُكُونَ الْعِنَادَ إِلَخْ ... وَالْأَخْذُ: هُنَا مَجَازٌ فِي التَّنَاوُلِ وَالْإِصَابَةِ بِالْمَكْرُوهِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [42] . وَقَوْلُهُ: بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ تَقَدَّمَ مَا يُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [42] . وَيُفَسَّرُ بَعْضُهَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَاسْتَغْنَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ الْمَاضَوِيَّةُ على الْوَاو و (قد) بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ (قَدْ) إِلَّا نَادِرًا، أَيْ: ابْتَدَأْنَاهُمْ بِالتَّخْوِيفِ وَالْمَصَائِبِ لِتَفُلَّ مِنْ حِدَّتِهِمْ وَتَصْرِفَ تَأَمُّلَهُمْ إِلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ الْمَصَائِبِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَتُوبُوا. وَالتَّبْدِيلُ: التَّعْوِيضُ، فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ الْمُفِيدَةِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي الْمَدْخُولُ لِلْبَاءِ هُوَ الْمَتْرُوكَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَأْخُوذَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] ، وَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [2] ، لِذَلِكَ انْتَصَبَ الْحَسَنَةَ هُنَا لِأَنَّهَا الْمَأْخُوذَةُ لَهُمْ بَعْدَ السَّيِّئَةِ فَهِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالسَّيِّئَةُ هِيَ الْمَتْرُوكَةُ، وَعَدَلَ عَنْ جَرِّ السَّيِّئَةِ بِالْبَاءِ إِلَى لَفْظٍ يُؤَدِّي مُؤَدَّى بَاءِ الْبَدَلِيَّةِ وَهُوَ

لَفْظُ (مَكَانَ) الْمُسْتَعْمَلُ ظَرْفًا مجَازًا عَن الْخَلِيفَة، يُقَالُ خُذْ هَذَا مَكَانَ ذَلِكَ، أَيْ: خُذْهُ خَلَفًا عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَحُلُّ فِي مَكَانِ الْمَخْلُوفِ عَنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَبُدِلْتُ قُرْحًا دَامِيًا بَعْدَ نِعْمَةٍ فَجَعَلَ (بَعْدَ) عِوَضًا عَنْ بَاءِ الْبَدَلِيَّةِ. فَقَوْلُهُ: مَكانَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَجَازًا، أَيْ: بَدَّلْنَاهُمْ حَسَنَةً فِي مَكَانِ السَّيِّئَةِ، وَالْحَسَنَةُ اسْمٌ اعْتُبِرَ مُؤَنَّثًا لِتَأْوِيلِهِ بِالْحَالَةِ وَالْحَادِثَةِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ فَهُمَا فِي الْأَصْلِ صِفَتَانِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ كَثُرَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذِكْرِهِ فَصَارَتِ الصِّفَتَانِ كَالِاسْمَيْنِ، وَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنِ الْحَسَنَةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَا يُتَلَمَّحُ مِنْهُ مَعْنَى وَصْفِيَّتِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34] أَيِ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ، فَلَمَّا جَاءَ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ وَالصِّلَةِ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ تُلُمِّحَ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [فصلت: 34] . وَمِثْلُهُمَا فِي هَذَا الْمُصِيبَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [50] : إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أَيْ: بَدَّلْنَاهُمْ حَالَةً حَسَنَةً بحالتهم السيّئة بِحَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ أُعْطُوا حَالَةً حَسَنَةً بَطِيئَةَ النَّفْعِ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْبَرَكَةِ. وحَتَّى غَايَةٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ بَدَّلْنا مِنَ اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا لَا مَحَلَّ لَهَا. وعَفَوْا كَثُرُوا. يُقَالُ: عَفَا النَّبَاتُ، إِذَا كَثُرَ وَنَمَا، وَعَطَفَ وَقالُوا عَلَى عَفَوْا فَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الْغَايَةِ. وَالسَّرَّاءُ: النِّعْمَةُ وَرَخَاءُ الْعَيْشِ، وَهِيَ ضِدُّ الضَّرَّاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّا نَأْخُذُهُمْ بِمَا يُغَيِّرُ حَالَهُمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ وَصِحَّةٍ عَسَى أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَلْبَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ فَلَا يَهْتَدُونَ، ثُمَّ نَرُدُّهُمْ إِلَى حَالَتِهِمُ الْأُولَى إِمْهَالًا لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجًا فَيَزْدَادُونَ ضَلَالًا، فَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ تَعَلَّلُوا لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبُؤْسِ وَالضُّرِّ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ

الزَّمَانِ وَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَ أَسْلَافَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَمْ يَجِئْهُمْ رُسُلٌ. وَهَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَنْبِيهِ عِبَادِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ مِنْهُمُ التَّوَسُّمَ فِي الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْعَقْلِ وَالنَّظَرَ بِالْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التَّوْبَة: 126] لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَهَبَ الْإِنْسَانَ الْعَقْلَ فَقَدْ أَحَبَّ مِنْهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا يَبْلُغُ بِهِ الْكَمَالَ وَيَقِيهِ الضَّلَالَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا القَوْل صادر بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ يَكُونُ دَائِرًا فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضِ فِي مُجَادَلَتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ حِينَمَا يَعِظُونَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ لِيُكْشَفَ عَنْهُمُ الضُّرُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا: يَجِيشُ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَدْفَعُوا بِذَلِكَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِنْ تَوَقُّعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضُّرُّ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْكِيًّا عَنْ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ مَيَادِينِ النُّفُوسِ وَالْأَحْوَالِ. وَحَاصِلُ مَا دَفَعُوا بِهِ دَلَالَةَ الضَّرَّاءِ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ حَلَّ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُهُمْ رَسُولٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الْقِيَاسِ وَفَسَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ بِحَصْرِ الشَّيْءِ ذِي الْأَسْبَابِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَالْغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِ الْأَسْبَابِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْفَارِقِ فِي قِيَاسِ حَالِهِمْ عَلَى حَالِ آبَائِهِم بِأَن آبَائِهِمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ فَإِنَّ الرُّسُلَ تُحَذِّرُهُمُ الْغَضَبَ وَالْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ فَتَحِيقُ بِهِمْ، أَفَلَا يَدُلُّهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ هُوَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ لَيْسَ مُنْحَصِرَ التَّرَتُّبِ عَلَى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ بَلْ يَكُونُ أَيْضًا عَنِ الِانْغِمَاسِ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ، مَعَ وُضُوحِ أَدِلَّةِ الْهُدَى لِلْعُقُولِ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ ضَلَالٌ، وَأَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وَاضِحَةٌ لِلْعُقُولِ، فَإِذَا تَأَيَّدَتِ الدَّلَالَةُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ الْمُنْذِرِينَ قَوِيَتِ الضَّلَالَةُ بِاسْتِمْرَارِهَا، وَانْقِطَاعِ أَعْذَارِهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْخَطَأِ يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِدَاعِي الْهَوَى وَإِلْفِ حَالِ الضَّلَالِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ لِلتَّعْقِيبِ عَنْ قَوْلِهِ: عَفَوْا، وقالُوا، بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمَا غَايَةً لِإِبْدَالِ الْحَسَنَةِ مَكَانَ السَّيِّئَةِ، وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ أَخْذِهِمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 إلى 99]

بَغْتَةً وَلَكِنَّهُ دَلَّ عَلَى إِصْرَارِهِمْ، أَيْ: فَحَصَلَ أَخْذُنَا إِيَّاهُمْ عَقِبَ تَحَسُّنِ حَالِهِمْ وَبَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ. وَالتَّعْقِيبُ عُرْفِيٌّ فَيَصْدُقُ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ طُولًا فِي الْعَادَةِ لِحُصُولِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ. وَالْأَخْذُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [44] . وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الْأَنْعَام: 31] ، وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [44] ، وَتَقَدَّمَ هُنَالِكَ وَجْهُ نَصْبِهَا. وَجُمْلَة: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنى بَغْتَةً. [96- 99] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 96 إِلَى 99] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى عَلَى جُمْلَةِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْأَعْرَاف: 94] أَيْ: مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ نَبِيئًا فَكَذَّبَهُ أَهْلُهَا إِلَّا نَبَّهْنَاهُمْ وَاسْتَدْرَجْنَاهُمْ ثُمَّ عَاقَبْنَاهُمْ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ آمَنُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ وَاتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَمَا أَصَبْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَلَأَحْيَيْنَاهُمْ حَيَاةَ الْبَرَكَةِ، أَيْ: مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَشَرْطُ (لَوِ) الِامْتِنَاعِيَّةِ يَحْصُلُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمَّا جَاءَتْ جُمْلَةُ شَرْطِهَا

مُقْتَرِنَةً بِحَرْفِ (أَنَّ) الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمَصْدَرِيَّةِ، وَكَانَ خَبَرُ (أَنَّ) فِعْلًا مَاضِيًا تَوَفَّرَ مَعْنَى الْمُضِيِّ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ فِيمَا مَضَى لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ. وَالتَّقْوَى: هِيَ تَقْوَى اللَّهِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقُرى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، فَإِضَافَةُ أَهْلُ إِلَيْهِ تُفِيدُ عُمُومَهُ بِقَدْرِ مَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا أَفْهَمَهُ الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْأَعْرَاف: 94] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الَّذِينَ كذبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَتَعْرِيضٌ بِبِشَارَةِ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي صَدْرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يُقَرِّبُ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ، إِنَّ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْرِيضِ بِالنِّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ أَهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا فَأَصَابَهُمْ بِسَبْعِ سِنِينَ مِنَ الْقَحْطِ، وَبَارَكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَغْنَاهُمْ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْحُمَّى إِلَى الْجُحْفَةِ، وَالْجُحْفَةُ يَوْمَئِذٍ بِلَادُ شِرْكٍ. وَالْفَتْحُ: إِزَالَةُ حَجْزِ شَيْءٍ حَاجِزٍ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَكَانٍ، يُقَالُ: فَتَحَ الْبَابَ وَفَتَحَ الْبَيْتَ، وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوَسُّعِ، وَأَصْلُهُ فَتْحٌ لِلْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ وَقَوْلُهُ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [فاطر: 2] ، وَيُقَالُ: فَتَحَ كُوَّةً، أَيْ: جَعَلَهَا فَتْحَةً، وَالْفَتْحُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلتَّمْكِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [44] . وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الْفَتْحِ إِلَى الْبَرَكَاتِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْبَرَكَاتِ بِالْبُيُوتِ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا تَحْتَوِيهِ، فَهُنَا اسْتِعَارَتَانِ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: لَفَتَحْنا- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- وَهُوَ يُفِيدُ الْمُبَالِغَةَ. وَالْبَرَكَاتُ: جَمْعُ بَرَكَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجَمْعِ تَعَدُّدُهَا، بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُبَارَكَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [92] . وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً

فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] . وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [54] ، وَجِمَاعُ مَعْنَاهَا هُوَ الْخَيْرُ الصَّالِحُ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَحْسَنُ أَحْوَالِ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ فِي جَانِبِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَدْرَجِينَ بِلَفْظِ الْحَسَنَةَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَفِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ بالبركات مَجْمُوعَة [الْأَعْرَاف: 95] . وَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَتُهُ، لِأَنَّ مَا يَنَالُهُ النَّاسُ مِنَ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ مُعْظَمُ الْمَنَافِعِ، أَوْ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلَ مَاءِ الْمَطَرِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ وَضَوْءِ الْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْهَوَاءِ وَالرِّيَاحِ الصَّالِحَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كَذَّبُوا اسْتِثْنَاءٌ لِنَقِيضِ شَرْطِ (لَوْ) فَإِنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ فَهُوَ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ. وَجُمْلَةُ: فَأَخَذْناهُمْ مُتَسَبِّبَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلكِنْ كَذَّبُوا وَهُوَ مِثْلُ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ مُسَاوِي نَقِيضِ التَّالِي، لِأَنَّ أَخْذَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فِيهِ عَدَمُ فَتْحِ الْبَرَكَاتِ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْأَخْذِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 95] ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الِاسْتِئْصَالِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ. (وَالْفَاءُ) فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عَاطِفَةٌ أَفَادَتِ التَّرَتُّبَ الذِّكْرِيَّ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِهِمْ مَا هُوَ مَثَارُ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ أَعْقَبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْطُوفًا بِفَاءِ التَّرَتُّبِ. وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ هُوَ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى هَذَا الْغُرُورِ، أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمْ وَأَخْذِهِمُ اسْتِفْهَامُ التَّعْجِيبِ مِنْ غُرُورِهِمْ وَأَمْنِهِمْ غَضَبَ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: يَأْتِيَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ حِكَايَةُ أَمْنِهِمُ الَّذِي مَضَى مِنْ إِتْيَانِ بَأْسِ اللَّهِ فِي مُسْتَقْبَلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَقَوْلُهُ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِسِكُونِ الْوَاوِ- عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ بِحَرْفِ (أَوْ) الَّذِي هُوَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَطْفًا عَلَى التَّعْجِيبِ، أَيْ: هُوَ تَعْجِيبٌ مِنْ أَحَدِ الْحَالَيْنِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ عَطْفُ اسْتِفْهَامٍ ثَانٍ بِالْوَاوِ الْمُفِيدَةِ لِلْجَمْعِ، فَيَكُونُ كِلَا الِاسْتِفْهَامَيْنِ مَدْخُولًا لِفَاءِ التَّعْقِيبِ، عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ تَقْسِيمِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى اسْتِفْهَامَيْنِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّأْيَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وبَياتاً تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَوَجْهُ نَصْبِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [4] . وَالضُّحَى بِالضَّمِّ مَعَ الْقَصْرِ هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِضَوْءِ الشَّمْسِ إِذَا أَشْرَقَ وَارْتَفَعَ، وَفَسَّرَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، وَيُرَادِفُهُ الضَّحْوَةُ وَالضَّحْوُ. وَالضُّحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَشَاعَ التَّوْقِيتُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] . وَتَقْيِيدُ التَّعْجِيبِ مِنْ أَمْنِهِمْ مَجِيءَ الْبَأْسِ، بِوَقْتِيِ الْبَيَاتِ وَالضُّحَى، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَبِحَالَيِ النَّوْمِ وَاللَّعِبِ، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْوَقْتَيْنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يُحْذَرَ حُلُولُ الْعَذَابِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا وَقْتَانِ لِلدَّعَةِ، فَالْبَيَاتُ لِلنَّوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الشُّغْلِ. وَالضُّحَى لِلَّعِبِ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الشُّغْلِ، فَكَانَ شَأْنُ أُولِي النُّهَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ أَنْ لَا يَأْمَنُوا عَذَابَهُ، بِخَاصَّةٍ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَالْحَالَيْنِ. وَفِي هَذَا التَّعْجِيبِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ المكذبين للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ وَقْتِ الْبَيَاتِ، وَوَقْتِ اللَّعِبِ، أَشَدَّ مُنَاسَبَةً بِالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ،. تَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَذَابُ بِأَفْظَعِ أَحْوَالِهِ، إِذْ يَكُونُ حُلُولُهُ بِهِمْ فِي سَاعَةِ دَعَتِهِمْ وَسَاعَةِ لَهْوِهِمْ نِكَايَةً بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قُصِدَ مِنْهُ تَقْرِيرُ التَّعْجِيبِ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَتَقْرِيرُ مَعْنَى التَّعْرِيضِ بِالسَّامِعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ زِيَادَةِ

التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يُمَاثِلُ هَيْئَةَ مَكْرِ الْمَاكِرِ بِالْمَمْكُورِ فَلَا يَحْسَبُوا الْإِمْهَالَ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَلْيَحْذَرُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَفِعْلِ الْمَاكِرِ بِعَدُوِّهِ. وَالْمَكْرُ حَقِيقَتُهً: فِعْلٌ يُقْصَدُ بِهِ ضُرُّ أَحَدٍ فِي هَيْئَةٍ تَخْفَى أَوْ هَيْئَةٍ يَحْسَبُهَا مَنْفَعَةً. وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْإِمْهَالِ وَالْإِنْعَامِ فِي حَالِ الإنعام فِي حَال الْإِمْهَالِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ حَالَ الْأَنْعَامِ مَعَ الْإِمْهَالِ وَتَعْقِيبَهُ بِالِانْتِقَامِ بِحَالِ الْمَكْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَقَوْلُهُ: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ مُتَرَتِّبٌ وَمُتَفَرِّعٌ عَنِ التَّعْجِيبِ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَفْرِيعُ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى الْمَذْكُورِينَ خَاسِرُونَ لِثُبُوتِ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَهُمْ قَوْمٌ خَاسِرُونَ. وَإِنَّمَا صِيغَ هَذَا التَّفْرِيعُ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ وَغَيْرَهُمْ لِيَجْرِيَ مَجْرَى الْمَثَلِ وَيَصِيرَ تَذْيِيلًا لِلْكَلَامِ، وَيَدْخُلَ فِيهِ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْحَاضِرُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُمْ قَوْمٌ خَاسِرُونَ، إِذْ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. وَالْخُسْرَانُ- هُنَا- هُوَ إِضَاعَةُ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالْخُسْرَانِ وَهُوَ إِضَاعَةُ التَّاجِرِ رَأْسَ مَالِهِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِ، لِأَنَّهُمْ بِاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَى السَّلَامَةِ الْحَاضِرَةِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْأَخْذِ الشَّبِيهِ بِفِعْلِ الْمَاكِرِ قَدْ خَسِرُوا الِانْتِفَاعَ بِعُقُولِهِمْ وَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [9] . وَتَقَدَّمَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَكْرِ عَلَى أَخْذِ اللَّهِ مُسْتَحِقِّي الْعِقَابِ بَعْدَ إِمْهَالِهِمْ: أَنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَمْنِ مَكْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَمْنُ الَّذِي مِنْ نَوْعِ أَمْنِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُكَذِّبِينَ، الَّذِي ابْتُدِئَ الْحَدِيثُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الْأَعْرَاف: 94] ثُمَّ قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً الْآيَاتِ، وَهُوَ الْأَمْنُ النَّاشِئُ عَنْ تَكْذِيبِ خبر الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنِ الْغُرُورِ بِأَنَّ دِينَ الشِّرْكِ هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ أَمْنٌ

نَاشِئٌ عَنْ كُفْرٍ، وَالْمَأْمُونُ مِنْهُ هُوَ وَعِيدُ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ وَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَكْرُ اللَّهِ. وَمِنَ الْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَصْنَافٌ أُخْرَى تُغَايِرُ هَذَا الْأَمْنَ، وَتَتَقَارَبُ مِنْهُ، وَتَتَبَاعَدُ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ ضَمَائِرِ النَّاسِ وَمَبَالِغِ نِيَّاتِهِمْ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُسْتَنِدًا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا تَبِعَةَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَمْنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْثَالِ عَذَابِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: 33] ، وَإِلَى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ- فَقَالَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَعُوذُ بِسُبُحَاتِ وَجْهِكِ الْكَرِيمِ- أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ- فَقَالَ: أَعُوذُ بِسُبُحَاتِ وَجْهِكِ الْكَرِيمِ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الْأَنْعَام: 65] الْآيَةَ- فَقَالَ: هَذِهِ أَهْوَنُ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمِثْلُ، أَمْنِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فِي قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَمِثْلُ إِخْبَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ أَنَّهُ لَا يَزَالُ آخِذًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمِثْلُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِإِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يُونُس: 62، 63] فَمِنَ الْعَجِيبِ مَا ذَكَرَهُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. وَالْأَمْنُ مُجْمَلٌ وَمَكْرُ اللَّهِ تَمْثِيلٌ وَالْخُسْرَانُ مُشَكَّكُ الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الِاسْتِرْسَالُ عَلَى الْمَعَاصِي اتِّكَالًا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِمَّا نَسَبَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي «شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ» إِلَى وَلِيِّ الدِّينِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: مَا الْكَبَائِرُ فَقَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ» ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَبْلَغِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الصِّحَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ مَا يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعِيدِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى أَعْمَالٍ لَهُمْ مُرَادٌ مِنْهُ أَيْضًا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُشْبِهُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ بِقَدْرِ اقتراب شبهه.

[سورة الأعراف (7) : آية 100]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 100] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الْأَعْرَاف: 97] لِاشْتِرَاكِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ، فَانْتَقَلَ عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ مَضَوْا إِلَى التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْأُمَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَهِيَ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّذِينَ وَرِثُوا دِيَارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَسَكَنُوهَا: مِثْلُ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَمَنْ سَكَنُوا دِيَارَ ثَمُودَ مِثْلُ بَلِيٍّ، وَكَعْبٍ، وَالضَّجَاغِمِ، وَبَهْرَاءَ، وَمَنْ سَكَنُوا دِيَارَ مَدْيَنَ مِثْلُ جُهَيْنَةَ، وَجَرْمٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَارُوا قَبَائِلَ عَظِيمَةً فَنَالُوا السِّيَادَةَ عَلَى الْقَبَائِلِ: مثل قُرَيْش، وطي، وَتَمِيمٍ، وَهُذَيْلٍ. فَالْمَوْصُولُ بِمَنْزِلَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِالَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ كُلُّ أُمَّةٍ خَلَفَتْ أُمَّةً قَبْلَهَا، فَيَشْمَلُ عَادًا وَثَمُودًا، فَقَدْ قَالَ لِكُلٍّ نَبِيُّهُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الْأَعْرَاف: 74] إِلَخْ وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مَقْصُودُونَ فِي هَذَا ابْتِدَاءً. فَالْمَوْصُولُ بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْجِنْسِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَهْدِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ. مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الْأَعْرَاف: 97] تَعْجِيبًا مِنْ شِدَّةِ ضَلَالَتِهِمْ إِذْ عُدِمُوا الِاهْتِدَاءَ وَالِاتِّعَاظَ بِحَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَنَسُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ إِذَا شَاءَهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ يَرِثُونَ أَيَّ أَرْضٍ كَانَتْ مَنَازِلَ لِقَوْمٍ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ هَذِهِ أَرْضُ طَيِّءٍ، وَفِي حَدِيثِ الْجِنَازَةِ «مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ» أَيْ مِنَ السُّكَّانِ الْقَاطِنِينَ بِأَرْضِهِمْ لَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْفَاتِحِينَ فَالْأَرْضُ بِهَذَا الْمَعْنَى اسْمُ جِنْسٍ صَادِقٌ عَلَى شَائِعٍ مُتَعَدِّدٍ، فَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ جُمِعَتْ عَلَى أَرضين، فَالْمَعْنى: أَو لم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ أَرْضًا مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا. وَالْإِرْثُ: مَصِيرُ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مُمَاثَلَةِ الْحَيِّ مَيِّتًا فِي صِفَاتٍ كَانَتْ لَهُ، من عزّأ وسيادة، كَمَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَة عَن زَكَرِيَّاء فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: 5، 6] أَيْ يَخْلُفُنِي فِي النُّبُوءَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَدْرِ

الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ مُطْلَقُ خِلَافَةِ الْمُنْقَرِضِ. وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِلْإِطْلَاقَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ أَهْلُ مَكَّةَ فَالْإِرْثُ بِمَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْقَبَائِلُ الَّتِي سَكَنَتْ بِلَادَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: 105] وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَيْدُ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى يَرِثُونَ، يُرَادُ مِنْهُ تَذْكِيرُ السَّامِعِينَ بِمَا كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْأَرْضِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ بُحْبُوحَةِ الْعَيْشِ، ثُمَّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ الشَّامِلِ الْعَاجِلِ، تَصْوِيرًا لِلْمَوْعِظَةِ بِأَعْظَمِ صُورَةٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 129] . وَمَعْنَى لَمْ يَهْدِ لَمْ يُرْشِدْ وَيُبَيِّنْ لَهُمْ، فَالْهِدَايَةُ أَصْلُهَا تَبْيِينُ الطَّرِيقِ لِلسَّائِرِ، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي مُطْلَقِ الْإِرْشَادِ: مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَهَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي تَارَةً بِنَفْسِهِ وَأُخْرَى بِالْحَرْفِ: اللَّامِ أَوْ (إِلَى) ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ بِاللَّامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يُبَيِّنُ، وَإِمَّا لِتَقْوِيَةِ تَعَلُّقِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ لَهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: 5] ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ فِي سُورَةِ طه [128] . وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ لَوْ نَشاءُ خَبَرُهَا. وَلَمَّا كَانَتْ (أَنَّ) - الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ- مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي تُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنِّ) الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَمِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ الْمَصْدَرِيَّةِ لِذَلِكَ عُدَّتْ فِي الْمَوْصُولَاتِ الْحَرْفِيَّةِ وَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ لَفْظِ خَبَرِهَا إِنْ كَانَ مُفْرَدًا مُشْتَقًّا، أَوْ مِنَ الْكَوْنِ إِنْ كَانَ خَبَرُهَا جُمْلَةً، فَمَوْقِعُ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ مَوْقِعُ فَاعِلِ يَهْدِ، وَالْمعْنَى: أَو لم يُبَيَّنْ لِلَّذِينَ يَخْلُفُونَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَهْلِهَا كَوْنُ الشَّأْنِ الْمُهِمِّ وَهُوَ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كَمَا أَصَبْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وكذبوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِصَابَةُ: نَوَالُ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِتَمَكُّنٍ فِيهِ. فَالْمَعْنَى: أَنْ نَأْخُذَهُمْ أَخْذًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ. وَالْبَاءُ فِي بِذُنُوبِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ أَصَبْناهُمْ.

وَجُمْلَةُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ مُفْرَدٍ، هُوَ فَاعل يَهْدِ، ف (إِن) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ مِنْ حُرُوفِ التَّأْكِيدِ وَالْمَصْدَرِيَّةِ وَاسْمُهَا فِي حَالَةِ التَّخْفِيفِ، ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ، وَجُمْلَةُ شَرْطِ (لَوْ) وَجَوَابِهِ خَبَرُ (أَنْ) . وَ (لَوْ) حَرْفُ شَرْطٍ يُفِيدُ تَعْلِيقَ امْتِنَاعِ حُصُولِ جَوَابِهِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ حُصُولِ شَرْطِهِ: فِي الْمَاضِي، أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ هُنَا مُضَارِعًا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، إِذْ لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُ زَمَنَيْ فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، وَإِنَّمَا يُخَالَفُ بَيْنَهُمَا فِي الصُّورَةِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ كَرَاهِيَةَ تَكْرِيرِ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ انْتَفَى أَخْذُنَا إِيَّاهُمْ فِي الْمَاضِي بِذُنُوبِ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَجْلِ انْتِفَاءِ مَشِيئَتِنَا ذَلِكَ لِحِكْمَةِ إِمْهَالِهِمْ لَا لِكَوْنِهِمْ أَعَزَّ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ أَوْ أَفْضَلَ حَالًا مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [غَافِر: 21] الْآيَةَ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُصِيبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ غَالِبٌ، وَالْمَعْنَى: أَغَرَّهُمْ تَأَخُّرُ الْعَذَابِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ فَحَسِبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنْهُ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ نُزُولِهِ بِهِمْ مُعَلَّقٌ عَلَى انْتِفَاءِ مَشِيئَتِنَا وُقُوعه لحكمة، فَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ أَخْذَهُمْ، وَالْمَصْدَرُ الَّذِي تُفِيدُهُ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ، إِذَا كَانَ اسْمُهَا ضَمِيرَ شَأْنٍ، يُقَدِّرُ ثُبُوتًا مُتَصَيَّدًا مِمَّا فِي (أَنْ) وَخَبَرِهَا مِنَ النِّسْبَةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَهُوَ فَاعِلُ يَهْدِ فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَة: أَو لم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ثُبُوتُ هَذَا الْخَبَرِ الْمُهِمِّ وَهُوَ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَعَجِبُوا كَيْفَ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِنَا وَأَنَّهُ يحِق عَلَيْهِم عِنْد مَا نَشَاؤُهُ. وَجُمْلَةُ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: أَصَبْناهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِي حُكْمِ جَوَابِ (لَوْ) لِأَنَّ هَذَا يُفْسِدُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ تُجْدِ فِيهِمْ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ بُعِثَ إِلَى زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِ (لَوْ) لَصَارَ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 إلى 102]

مُمْتَنِعًا وَهَذَا فَاسِدٌ، فَتَعَيَّنَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنَطْبَعُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِرُمَّتِهَا فَلَهَا حُكْمُهَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَطَبَعْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذَا الطَّبْعِ وَازْدِيَادِهِ آنًا فَآنًا، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ (الْوَاوَ) لِلِاسْتِئْنَافِ وَالْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةً، أَيْ: وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا طَبَعْنَا عَلَيْهَا فِي الْمَاضِي، وَيُعْرَفُ الطَّبْعُ عَلَيْهَا فِي الْمَاضِي بِأَخْبَارٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَة: 6] الْآيَةَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِتَنْهِيَةِ الْقِصَّةِ، وَلَكِنْ مَوْقِعُ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ «الْمِفْتَاحِ» يَأْبَى اعْتِبَارَ الِاسْتِئْنَافِ مِنْ مَعَانِي الْوَاوِ. وَجُمْلَةُ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَعْطُوفَةٌ بِالْفَاءِ عَلَى نَطْبَعُ مُتَفَرِّعًا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاعِ فَهْمُ مَغْزَى الْمَسْمُوعَاتِ لَا اسْتِكَاكُ الْآذَانِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الطَّبْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فِي سُورَة النِّسَاء [155] . [101، 102] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 101 إِلَى 102] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) لَمَّا تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْقُرَى الَّتِي كَذَّبَ أَهْلُهَا رُسُلَ اللَّهِ بِالتَّعْيِينِ وَبِالتَّعْمِيمِ، صَارَتْ لِلسَّامِعِينَ كَالْحَاضِرَةِ الْمُشَاهَدَةِ الصَّالِحَةِ لِأَنْ يُشَارَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ إِحْضَارِهَا فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ مِنْ قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَعْتَبِرُوا حَالَهُمْ بِحَالِ أَهْلِ الْقُرَى، فَيَرَوْا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فَيَفِيئُوا إِلَى الْحَقِّ. وَجُمْلَةُ: تِلْكَ الْقُرى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ الْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْقَصَصِ مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 59] ثُمَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نبيء [الْأَعْرَاف: 94] الْآيَةَ. والْقُرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ الْقُرَى فِي

الذِّهْنِ بِحَيْثُ صَارَتْ كَالْمُشَاهَدِ لِلسَّامِعِ، فَكَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةَ عِبْرَةٍ بِحَالِهَا، وَذَلِكَ مُفِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِاسْمِهَا لِمَنْ لَا يَجْهَلُ الْخَبَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: 35] أَيْ هَذَا الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ تُكْوَوْنَ بِهِ هُوَ كَنْزُكُمْ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَنْزُهُمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ كَنْزُهُمْ إِظْهَارُ خَطَأِ فِعْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرَى بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَجُمْلَةُ: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها إِمَّا حَالٌ مِنَ الْقُرى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ الِامْتِنَانُ بِذِكْرِ قَصَصِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ عِلْمُهُ، وَالْوَعْدُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: نَقُصُّ مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِأَخْبَارِهَا. وَإِمَّا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَحْمِلِ قَوْلِهِ: الْقُرى. وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ لِأَنَّ لَهَا أَنْبَاءً غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا مِمَّا ذُكِرَ بَعْضُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَطُوِيَ ذِكْرُ بَعْضِهِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي التَّبْلِيغِ. وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] . وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى وَضَمِيرِ أَنْبَائِهَا: أَهْلُهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُسُلُهُمْ. وَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: تِلْكَ الْقُرى لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَصْدِ التَّنْظِيرِ بِحَالِ المكذبين بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَمْعُ «الْبَيِّنَاتِ» يُشِيرُ إِلَى تَكَرُّرِ الْبَيِّنَاتِ مَعَ كُلِّ رَسُولٍ، وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الصِّدْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [73] . (وَالْفَاءُ) فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِتَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ عَنِ الْإِخْبَارِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَان. وَصِيغَة فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ كَانَ مُنَافِيًا لِحَالِهِمْ مِنَ التَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ دَلَالَةِ لَامِ الْجُحُودِ

عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] . وَالْمَعْنَى: فَاسْتَمَرَّ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ وَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ فِي حِينِ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يقلعوا عَنهُ. وبِما كَذَّبُوا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ وَحُذِفُ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ إِذَا جُرَّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ مُتَعَلِّقَيِ الْحَرْفَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ الرَّضِيُّ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة. وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَذَّبُوا، أَيْ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ مِمَّا دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ. وَشَأْنُ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ، فَلَا يكون مَا صدق (مَا) هُنَا الرُّسُلَ، بَلْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ كَذَّبُوا هُنَا مُقَدَّرًا مُتَعَلِّقُهُ لَفْظُ (بِهِ) كَمَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَذَّبَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ [الْأَعْرَاف: 64] وَقَالَ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: 66] وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ هُنَا إِيجَازًا، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ تَكْذِيبِ أَهْلِ الْقُرَى، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الْأَعْرَاف: 94] وَقَدْ سَبَقَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الْأَعْرَاف: 96] وَلِهَذَا لَمْ يُحْذَفْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ كَذَّبُوا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ. وَالْمَعْنَى: مَا أَفَادَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ كَانَ بَدَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ، فَالْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِنَاءُ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ. وَأُسْنِدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ إِلَى ضَمِيرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقُرَى بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، وَسَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ. وَمعنى قولهن: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّبْعِ الْعَجِيبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِكَايَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَطْبَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الطَّبْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَإِظْهَارُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ يَطْبَعُ اللَّهُ دُونَ الْإِضْمَارِ: لِمَا فِي إِسْنَادِ الطَّبْعِ إِلَى الِاسْمِ الْعَلَمِ مِنْ صَرَاحَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ طَبْعٌ رَهِيبٌ لَا يُغَادِرُ لِلْهُدَى مَنْفَذًا إِلَى قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] دُونَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا خَلْقِي، وَلِهَذَا اخْتِيرَ لَهُ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَتْمِ وَتَجَدُّدِهِ. وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ، وَالْقَلْبُ، فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: مِنْ أَسْمَاءِ الْعَقْلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: جَمِيعُ الْكَافِرِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، تَسْلِيَة لمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَلَا لِضَعْفِ آيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ لِلْخَتْمِ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وَمَا رتب عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ تَنْبِيهًا عَلَى رُسُوخِ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ لَمْ يَقْلَعْهُ مِنْهُمْ لَا مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَلَا مَا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ اعْتِقَادِ وُجُودِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَلَا الْوَفَاءُ بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ الرُّسُلَ عِنْدَ الدَّعْوَةِ: إِنَّهُمْ إِنْ أَتَوْهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَالْوِجْدَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ، فَصَارَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَنَفْيُهُ فِي الْأَوَّلِ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، أَيْ وَفَائِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعَلِمَهُ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَعْلَمَهُ وَيَبْحَثَ عَنْهُ عِنْدَ طَلَبِ الْوَفَاءِ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الْأَنْعَام: 145] الْآيَةَ، أَيْ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا مَا ذُكِرَ، فَمَعْنَى وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ مَا لِأَكْثَرِهِمْ عَهْدٌ. وَالْعَهْدُ: الِالْتِزَامُ وَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعُهُ، وَالْمُوَثَّقُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ إِخْلَافِهِ: مِنْ يَمِينٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ خَشْيَةِ مَسَبَّةٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَهِدَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى عَرَفَهُ، لِأَنَّ الْوَعْدَ الْمُؤَكَّدَ يَعْرِفُهُ مُلْتَزِمُهُ وَيَحْرِصُ أَنْ لَا يَنْسَاهُ. وَيُسَمَّى إِيقَاعُ مَا الْتَزَمَهُ الْمُلْتَزِمُ مِنْ عَهْدِهِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَالْعَهْدُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ

بِهِ الْوَعْدُ الَّذِي حَقَّقَهُ الْأُمَمُ لِرُسُلِهِمْ مثل قَوْلهم: فأننا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ أَتَيْتَنَا بِآيَةٍ صَدَّقْنَاكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَعْدٌ وَثَّقَهُ أَسْلَافُ الْأُمَمِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] الْآيَةَ، فَكَانَ لَازِمًا لِأَعْقَابِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا وَعَدَتْ بِهِ أَرْوَاحُ الْبَشَرِ خَالِقَهَا فِي الْأَزَلِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَاف: 172] الْآيَةَ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ اللَّهِ فِطْرَةَ الْبَشَرِيَّةِ مُعْتَقِدَةً وُجُودَ خَالِقِهَا وَوَحْدَانِيَّتَهُ، ثُمَّ حَرَّفَتْهَا النَّزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةُ وَالضَّلَالَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ. وَوُقُوعُ اسْمِ هَذَا الْجِنْسِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ بِجَمِيعِ الْمَعَانِي الصَّادِقِ هُوَ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى انْتِفَاءِ وِجْدَانِهِ. هُوَ انْتِفَاءُ الْوَفَاءِ بِهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْوَعْدِ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحَقُّقُهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ، جَعَلَ انْتِفَاءَ الْوَفَاءِ بِمَنْزِلَةِ انْتِفَاءِ الْوُقُوعِ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ وَفَاءِ عَهْدٍ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ عَدَمُ وِجْدَانِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فِي أَكْثَرَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِخْرَاجِ مُؤْمِنِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِهِمْ، أَكْثَرُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ، لَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مِنْ أَكْثَرِهِمْ كَانَ مِنْهُمْ عَنْ عَمْدٍ وَنَكْثٍ، وَلِكَوْنِ ذَلِكَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عُطِفَتْ وَلَمْ تُجْعَلْ تَأْكِيدًا لِلَّتِي قَبْلَهَا أَوْ بَيَانًا، لِأَنَّ الْفِسْقَ هُوَ عِصْيَانُ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا فِيمَا وَعَدُوا عَنْ قَصْدٍ لِلْكُفْرِ. وَ (إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَبَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْهُ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ هَذَا الْخَبَرِ لِيَعْلَمَهُ السَّامِعُونَ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ وَجَدْنا لَامُ ابْتِدَاءٍ، بِاعْتِبَارِ كَوْنِ ذَلِكَ الْخَبَرِ خَبَرًا مِنْ جُمْلَةٍ هِيَ خَبَرٌ عَنِ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِنْ) ، وَجُلِبَتِ اللَّامُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمرَان: 164] .

[سورة الأعراف (7) : آية 103]

وَأُسْنِدَ حُكْمُ النَّكْثِ إِلَى أَكْثَرِ أهل الْقرى، تَبينا لِكَوْنِ ضَمِيرِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا جَرَى عَلَى التَّغْلِيبِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّصْرِيحِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّهُ حُكْمُ مَذَمَّةٍ وَمَسَبَّةٍ، فَنَاسَبَتْ مُحَاشَاةَ مَنْ لَمْ تَلْتَصِقْ بِهِ تِلْكَ المسبة. [103] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 103] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) انْتِقَالٌ مِنْ أَخْبَارِ الرِّسَالَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى أَخْبَارِ رِسَالَةٍ عَظِيمَةٍ لِأُمَّةٍ بَاقِيَةٍ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَضَّلَهَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَلَمْ تُوَفِّ حَقَّ الشُّكْرِ وَتَلَقَّتْ رَسُولَهَا بَيْنَ طَاعَةٍ وَإِبَاءٍ وَانْقِيَادٍ وَنِفَارٍ، فَلَمْ يعاملها الله بالاستيصال وَلَكِنَّهُ أَرَاهَا جَزَاءَ مُخْتَلِفِ أَعْمَالِهَا، جَزَاءً وِفَاقًا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَخُصَّتْ بِالتَّفْضِيلِ قِصَّةُ إِرْسَالِ مُوسَى لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَنْبَاءِ الْقَيِّمَةِ، وَلِأَنَّ رِسَالَتَهُ جَاءَتْ بِأَعْظَمِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ يَدَيْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأُرْسِلَ رَسُولُهَا هَادِيًا وَشَارِعًا تَمْهِيدًا لِشَرِيعَةٍ تَأْتِي لِأُمَّةِ أَعْظَمَ مِنْهَا تَكُونُ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّ حَالَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ أَشْبَهُ بِحَالِ مِنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ كَثِيرَيْنِ اتَّبَعَ أَحَدُهُمْ مُوسَى وَكَفَرَ بِهِ الْآخَرُ، كَمَا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ السَّلَام- جَمْعٌ عَظِيمٌ وَكَفَرَ بِهِ فَرِيقٌ كَثِيرٌ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَفَرَ وَنَصَرَ مَنْ آمَنَ. وَقَدْ دَلَّتْ ثُمَّ عَلَى الْمُهْلَةِ: لِأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بُعِثَ بَعْدَ شُعَيْبٍ بِزَمَنٍ طَوِيل، فَإِنَّهُ لما تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ مِصْرَ، رَجَا اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ فَوَجَدَ شُعَيْبًا، وَكَانَ اتِّصَالُهُ بِهِ وَمُصَاهَرَتُهُ تَدْرِيجًا لَهُ فِي سُلَّمِ قَبُولِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُهْلَةُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأُمَمِ الْمَحْكِيِّ عَنْهَا قَبْلُ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى قُرُونٌ مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ، وَمِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، فَالْمُهْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا ثُمَّ مُتَفَاوِتَةُ الْمِقْدَارِ، مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ عَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ مِنَ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهَا إِذَا عُطِفَتْ بِهَا الْجُمَلُ. فَحَرْفُ (ثُمَّ) هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ الْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ يَعُودُ إِلَى الْقُرَى، بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا، كَمَا عَادَتْ

عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ الْآيَتَيْنِ [الْأَعْرَاف: 101] . وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُوسَى، أَيْ: مَصْحُوبًا بِآيَاتٍ مِنَّا، وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ، قَالَ تَعَالَى: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: 106، 107] . وفِرْعَوْنَ عَلَمُ جِنْسٍ لِمَلِكِ مِصْرَ فِي الْقَدِيمِ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْيُونَانُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ لُغَةِ الْقِبْطِ. قِيلَ: أَصْلُهُ فِي الْقِبْطِيَّةِ (فَارَاهُ) وَلَعَلَّ الْهَاءَ فِيهِ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْعَيْنِ فَإِنَّ (رَعْ) اسْمُ الشَّمْسِ فَمَعْنَى (فَارَاهُ) نُورُ الشَّمْسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ فَجَعَلُوا مَلِكَ مِصْرَ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ يُصْلِحُ النَّاسَ، نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ عَنْهُمْ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ وَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ مِمَّا أَدْخَلَهُ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا الِاسْمُ نَظِيرُ (كِسْرَى) لِمَلِكِ مُلُوكِ الْفُرْسِ الْقُدَمَاءِ، وَ (قَيْصَرَ) لِمَلِكِ الرّوم، و (نمْرُود) لِمَلِكِ كَنْعَانَ، وَ (النَّجَاشِيّ) لملك الْحَبَش، وَ (تُبَّعٍ) لِمَلِكِ مُلُوكِ الْيَمَنِ، وَ (خَانَ) لِمَلِكِ التُّرْكِ. وَاسْمُ فِرْعَوْنَ الَّذِي أُرْسِلَ مُوسَى إِلَيْهِ: مِنْفِطَاحُ الثَّانِي، أَحَدُ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْعَائِلَاتِ الَّتِي مَلَكَتْ مِصْرَ، عَلَى تَرْتِيبِ الْمُؤَرِّخِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 1491 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ. وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ عِلْيَةِ الْقَوْمِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَهُمْ وُزَرَاءُ فِرْعَوْنَ وَسَادَةُ أَهْلِ مِصْرَ مِنَ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ، وَإِنَّمَا خَصَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ فِي سَرَاحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ مُوسَى بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُحَرِّرَهُمْ مِنَ الرِّقِّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ بِمِصْرَ، وَلَمَّا كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ مِصْرَ مُتَوَقِّفًا عَلَى أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى بِذَلِكَ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَحْصُلُ دَعْوَةُ فِرْعَوْنَ لِلْهُدَى، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيءٍ يُعْلِنُ التَّوْحِيدَ وَيَأْمُرُ بِالْهُدَى، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مِنْ غَيْرِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ حِرْصًا عَلَى الْهُدَى إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقِيمُ فِيهِمْ وَلَا يُكَرِّرُ ذَلِكَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَظَلَمُوا لِلتَّعْقِيبِ أَيْ فَبَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ. وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَظَلَمُوا هُنَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ (ظَلَمُوا) لِقَصْدِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: فَظَلَمُوا كُلَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ، أَيْ مَنَعُوا النَّاسَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِهَا وَآذَوُا الَّذِينَ

آمَنُوا بِمُوسَى لَمَّا رَأَوْا آيَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الْأَعْرَاف: 123، 124] الْآيَةَ. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ كَابَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَكَانَ الظُّلْمُ بِسَبَبِ الْآيَاتِ أَيْ بِسَبَبِ الِاعْتِرَافِ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضمّن فَظَلَمُوا مَعْنَى كَفَرُوا فَعُدِّيَ إِلَى الْآيَاتِ بِالْبَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَظَلَمُوا إِذْ كَفَرُوا بِهَا، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالْآيَاتِ ظلم حَقِيقَة، إِذِ الظُّلْمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ فَمَنْ كَفَرَ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الْمُسَمَّاةِ (آيَاتٍ) فَقَدِ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْإِخْبَارِ، أَيْ: لَا تَتَرَيَّثْ عِنْدَ سَمَاعِ خَبَرِ كُفْرِهِمْ عَنْ أَنْ تُبَادِرَ بِالتَّدَبُّرِ فِيمَا سَنَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ. وَالْمَنْظُورُ هُوَ عَاقِبَتُهُمُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ [الْأَعْرَاف: 136] وَهَذَا النَّظَرُ نَظَرُ الْعَقْلِ وَهُوَ الْفِكْرُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ هُوَ وَمَنْ يَبْلُغُهُ، أَوِ الْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَانْظُرْ أَيُّهَا النَّاظِرُ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي كُلِّ كَلَامٍ مُوَجَّهٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَلَمَّا كَانَ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ حَالَةً عَجِيبَةً، عُبِّرَ عَنْهُ بِ (كَيْفَ) الْمَوْضُوعَةِ لِلسُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (كَيْفَ) يَقْتَضِي تَقْدِيرَ شَيْءٍ، أَيِ: انْظُرْ عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا بِكَيْفَ. وَعُلِّقَ فِعْلُ النَّظَرِ عَنِ الْعَمَلِ لِمَجِيءِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَانْظُرْ، ثُمَّ افْتَتَحَ كَلَامًا بِجُمْلَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وَالتَّقْدِيرُ فِي أَمْثَالِهِ أَنْ يُقَدَّرَ: فَانْظُرْ جَوَابَ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ وَنِهَايَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [11] . وَالْمُرَادُ بالمفسدين: فِرْعَوْن وملأه، فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ أُصِيبُوا بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ لِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ فَسَادُ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 104 إلى 108]

الْقَلْبِ يَنْشَأُ عَنْهُ فَسَادُ الْأَعْمَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِي الْقلب» . [104- 108] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 104 إِلَى 108] وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) عُطِفَ قَوْلُ مُوسَى بِالْوَاوِ، وَلَمْ يُفْصَلْ عَمَّا قَبْلَهُ، مَعَ أَنَّ جُمْلَةَ هَذَا الْقَوْلِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى [الْأَعْرَاف: 103] ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْله: بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 103] حَالًا مِنْ مُوسَى فَقَدْ فُهِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَنْظِيرُ حَالِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَى الْإِخْبَارُ عَنْهَا فِي الْمُكَابَرَةِ عَلَى التَّكْذِيبِ، مَعَ ظُهُورِ آيَاتِ الصِّدْقِ، لِيَتِمَّ بِذَلِكَ تَشَابُهُ حَالِ الْمَاضِينَ مَعَ حَالِ الْحَاضِرِينَ المكذبين بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجُعِلَتْ حِكَايَةُ مُحَاوَرَةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَ فِيهِ قَوْلُهُ الْمُقَارِنُ لِإِظْهَارِ الْآيَةِ بَلْ ذُكِرَتِ الْآيَةُ مِنْ قَبْلُ، بِخِلَافِ مَا حُكِيَ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ حِكَايَةَ أَقْوَالِ الرُّسُلِ كَانَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْقِصَّةَ هُنَا قَدْ حُكِيَ جَمِيعُهَا بِاخْتِصَارٍ بجمل بَعَثْنا [الْأَعْرَاف: 103] ، فَظَلَمُوا [الْأَعْرَاف: 103] ، فَانْظُرْ [الْأَعْرَاف: 103] ، فَصَارَتْ جُمْلَةُ: قالَ تَفْصِيلًا لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، فَلَا تَكُونُ مَفْصُولَةً لِأَنَّ الْفَصْلَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ، لَا بَيْنَ جُمْلَةٍ وَبَيْنَ عِدَّةِ جُمَلٍ أُخْرَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: يَا فِرْعَوْنُ خِطَابُ إِكْرَامٍ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ بِحَسَبِ مُتَعَارَفِ أُمَّتِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِتَرَفُّعٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ وَلِهَارُونَ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ مُوسَى هَذَا هُوَ أَوَّلُ مَا خَاطَبَ بِهِ فِرْعَوْنَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ طه.

وَصَوْغُ حِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ مَظِنَّةُ الْإِنْكَارِ أَوِ التَّرَدُّدِ الْقَوِيِّ فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ. وَاخْتِيَارُ صِفَةِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِي الْإِعْلَامِ بِالْمُرْسِلِ إِبْطَالٌ لِاعْتِقَادِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَبُّ مِصْرَ وَأَهْلِهَا فَإِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] فَلَمَّا وَصَفَ مُوسَى مُرْسِلَهُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَمِلَ فِرْعَوْنَ وَأَهْلَ مَمْلَكَتِهِ فَتَبْطُلُ دَعْوَى فِرْعَوْن أَنه إلاه مِصْرَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِرْعَوْنُ يَدعِي أَنه إلههم مِثْلُ الْفُرْسِ وَالْآشُورِيِّينَ. وَقَوْلُهُ: حَقِيقٌ عَلى قَرَأَهُ نَافِعٌ بِالْيَاءِ فِي آخِرِ (عَلَيَّ) فَهِيَ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ (عَلَى) وَتَعْدِيَةُ حَقِيقٍ بِحَرْفِ (عَلَى) مَعْرُوفَةٌ. قَالَ تَعَالَى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا [الصَّافَّاتِ: 31] ، وَلِأَن حقيق بِمَعْنَى وَاجِبٍ فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ عَلَى وَاضِحَةٌ، وحَقِيقٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ إِنِّي، فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: (عَلَيَّ) عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ الْتِفَاتٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ: حَقِيقٌ صِفَةً لِ رَسُولٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، فَيَقُولُ: حَقِيقٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ إِلَى التَّكَلُّمِ الْتِفَاتًا، وَفَاعِلُ حَقِيقٌ هُوَ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا أَقُولَ أَيْ: حَقِيقٌ عَلَيَّ عَدَمُ قَوْلِي عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ. وَحَقِيقٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ (حَقَّ) بِمَعْنَى وَجَبَ وَثَبَتَ أَيْ: مُتَعَيِّنٌ وَوَاجِبٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ، وَ (عَلَى) الْأُولَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَ (عَلَى) الثَّانِيَةُ بِمَعْنَى عَنْ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (عَلَى) بِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ، وَهِيَ (عَلَى) الْجَارَّةُ. فَفِي تَعَلُّقِ (عَلَى) وَمَجْرُورِهَا الظَّاهِرِ بِ حَقِيقٌ تَأْوِيلٌ بِوُجُوهٍ أَحْسَنُهَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ (عَلَى) هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ وَأَنَّ حَقِيقٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ: أَيْ مَحْقُوقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، أَيْ: مَجْعُولٌ قَوْلُ الْحَقِّ حَقًّا عَلَيَّ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى: لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِقَوْلِهِ أَيْ مَحْقُوقَةٌ بِأَنْ تَسْتَجِيبِي، وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ «وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا بِأَنْ يَنْقَضَّ» .

وَمِنْهَا مَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» «وَالْأَوْجَهُ الْأَدْخَلُ فِي نُكَتِ الْقُرْآنِ أَنْ يُغْرِقَ مُوسَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالصِّدْقِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ فَيَقُولَ: أَنَا حَقِيقٌ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ، أَيْ: أَنَا وَاجِبٌ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ أَنْ أَكُونَ أَنَا قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ» . قَالَ شَارِحُوهُ: فَالْمَعْنَى لَوْ كَانَ قَوْلُ الْحَقِّ شَخْصًا عَاقِلًا لَكُنْتُ أَنَا وَاجِبًا عَلَيْهِ. أَنْ لَا يَصْدُرَ إِلَّا عَنِّي وَأَنْ أَكُونَ قَائِلَهُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ: شُبِّهَ قَوْلُ الْحَقِّ بِالْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ مَوَارِدَهُمْ وَمَصَادِرَهُمْ. وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ، وَهُوَ كَوْنُ مَا يُنَاسِبُهُ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا مَا قِيلَ: ضُمِّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ فَعُدِّيَ بِعَلَى إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ التَّضْمِينِ وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُضَمَّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى مَكِينٍ وَتَكُونَ (عَلَى) اسْتِعَارَةً لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَجُمْلَةُ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَقَامَ الْإِنْكَارِ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ دَعْوَى غَرِيبَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ. وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] . وَالْحُجَّةُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْجِزَةَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِبَيِّنَةٍ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْمَجِيءِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُلَابَسَةِ مُلَابَسَةُ التَّمَكُّنِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُ كَمَا فِي سُورَةِ طَهَ [17] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى. وَيُحْتَمَلُ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الشَّامِلُ لِلنَّوْعَيْنِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُ مُوسَى الْمُتَرْجَمُ عَنْهُ هُنَا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَرْسِلْ لِتَفْرِيعِ طَلَبِ تَسْرِيحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَحَقُّقِ الرِّسَالَةِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِإِظْهَارِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَنَى مُوسَى كَلَامَهُ عَلَى مَا يَثِقُ بِهِ مِنْ صِدْقِ دَعْوَتِهِ مَعَ الِاسْتِعْدَادِ لِلتَّبْيِينِ عَلَى ذَلِكَ الصِّدْقِ بِالْبَرَاهِينِ أَوِ الْمُعْجِزَةِ إِنْ طَلَبَهَا فِرْعَوْنُ لِأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ لَا يَبْتَدِئُوا بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ صَوْنًا لِمَقَامِ الرِّسَالَةِ عَنْ تَعْرِيضِهِ لِلتَّكْذِيبِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [109] . وَالْإِرْسَالُ: الْإِطْلَاقُ وَالتَّخْلِيَةُ، كَقَوْلِهِمْ: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ فِي الْإِذْنِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخُرُوجِ، الْمَطْلُوبِ مِنْ فِرْعَوْنَ.

وَتَقْيِيدُهُ بِ مَعِيَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الرَّسُولِ ليرشدهم وَيُدبر شؤونهم. وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِمُعْجِزَةٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَوَارِدِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادٌ فِيهِ الْمُعْجِزَةُ، وَأَكْثَرَ مَوَارِدِ الْبَيِّنَةِ مُرَادٌ فِيهِ الْحُجَّةُ، فَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ فِي قَوْلِ مُوسَى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى حَقِيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِرْشَادٍ لِقَوْمِهِ، فَكَانَ فِرْعَوْنُ غَيْرَ مُقْتَنِعٍ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ أَوْ قَاصِرًا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ فَانْتَقَلَ إِلَى طَلَبِ خَارِقِ الْعَادَةِ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ جِئْتَنَا مُتَمَكِّنًا مِنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْجِزَتَهُ، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِآيَةٍ لِلْمَعِيَّةِ التَّقْدِيرِيَّةِ، أَيْ: مُتَمَكِّنًا مِنْ آيَةٍ، أَوِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمُلَابَسَةُ مَعْنَاهَا وَاسِعٌ، أَيْ: لَكَ تَمْكِينٌ مِنْ إِظْهَارِ آيَةٍ. وَقَوْلُهُ: فَأْتِ بِها اسْتُعْمِلَ الْإِتْيَانُ فِي الْإِظْهَارِ مَجَازًا مُرْسَلًا، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِها لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِتْيَانِ، وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ ارْتِبَاطُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَزَاءِ هُوَ غَيْرُ الْمَجِيءِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّرْطِ، أَيْ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِظْهَارِ الْآيَةِ فَأَظْهِرْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْمَاءِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، أَيْ: فَرَمَى عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ. وَ (إِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ وَهِيَ حُدُوثُ الْحَادِثِ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ. وَالثُّعْبَانُ: حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ، ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الْمُرَادِفِ لِبَانَ، أَيْ ظَهَرَ، أَيِ: الظَّاهِرُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَخَيُّلَ. وَنَزَعَ: أَزَالَ اتِّصَالَ شَيْءٍ عَنْ شَيْء، وَمِنْه نوع ثَوْبَهُ، وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهُ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ أَدْخَلَهَا فِي جَيْبِهِ كَمَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَسُورَةِ الْقَصَصِ فَلَمَّا أَخْرَجَهَا صَارَتْ بَيْضَاءَ، أَيْ بَيَاضًا مِنَ النُّورِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْبَيَاضِ قَوْلُهُ: لِلنَّاظِرِينَ، أَيْ بَيَاضًا يَرَاهُ النَّاظِرُونَ رُؤْيَةَ تَعَجُّبٍ مِنْ بَيَاضِهَا. فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ: لِلنَّاظِرِينَ تَتْمِيمُ مَعْنَى الْبَيَاضِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاظِرِينَ لَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى بَيَانِ مَعْنَاهَا وَمَوْقِعِهَا سِوَى أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» قَالَ: «يَتَعَلَّقُ لِلنَّاظِرِينَ بِبَيْضَاءَ» دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ نَوْعَ التَّعَلُّقِ وَلَا مَعْنَى

[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 إلى 112]

اللَّامِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ «شُرَّاحُهُ» وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَتَعَلَّقُ أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ تَعَلَّقَ بِبَيْضَاءَ فَلَعَلَّهُ لِمَا فِي بَيْضَاءَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ابْيَضَّتْ لِلنَّاظِرِينَ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِالْمُشْتَقِّ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اللَّامِ هُوَ مَا سَمَّاهُ ابْنُ مَالِكٍ بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ تَعْدِيَةً خَاصَّةً (لَا مُطْلَقَ التَّعْدِيَةِ أَيْ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ الْقَاصِرِ إِلَى مَا لَا يَتَعَدَّى لَهُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ حُرُوفِ الْجَرِّ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْدِيَةً خَاصَّةً لَمْ يُبَيِّنْ حَقِيقَتَهَا. وَقَدْ مَثَّلَ لَهَا فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: 5] وَجَعَلَ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» هَذَا الْمِثَالَ مِثَالًا لِمَعْنَى شِبْهِ الْمِلْكِ، وَاخْتَارَ ابْنُ هِشَامٍ أَنْ يُمَثَّلَ لِلتَّعْدِيَةِ بِنَحْوِ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو. وَلَمْ يُفْصِحُوا عَنْ هَذِهِ التَّعْدِيَةِ الْخَاصَّةِ بِاللَّامِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهَا عَمَلٌ لَفْظِيٌّ مَحْضٌ، أَيْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى جُزْئِيًّا كَمَعَانِي الْحُرُوفِ، فَتَحَصَّلَ أَنَّهُمْ فِي ارْتِبَاكٍ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَحْسُنُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ لِكَوْنِ اللَّامِ لِلتَّعْدِيَةِ وَأَنْ نُفَسِّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ تَقْرِيبُ الْمُتَعَلِّقِ بِكَسْر اللَّام لمتعلّق بِفَتْحِ اللَّامِ تَقْرِيبًا لَا يَجْعَلُهُ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَإِنْ شِئْتَ إِرْجَاعَ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَشْهُورَةِ لِلَّامِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ مَعْنَى شِبْهِ الْمِلْكِ كَمَا اقْتَضَاهُ جَعْلُ ابْنِ مَالِكٍ الْمِثَالَ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مِثَالًا لِشِبْهِ الْمِلْكِ. وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَيَكُونَ مُفَادُ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَنَّهَا بَيْضَاءُ بَيَاضًا مُسْتَقِرًّا فِي أَنْظَارِ النَّاظِرِينَ وَيَكُونُ الظَّرْفُ مُسْتَقِرًّا يُجْعَلُ حَالًا مِنْ ضمير يَده. [109- 112] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 109 إِلَى 112] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) جَرَتْ جُمْلَةُ: قالَ الْمَلَأُ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ لِأَنَّهَا جَرَتْ فِي طَرِيق المحاورة الْجَارِيَةِ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَإِنَّهُ حِوَارٌ وَاحِدٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَلَأِ آنِفًا فِي الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ، فَمَلَأُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ هُمْ سَادَتُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ وَمَشُورَتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ دَعْوَةُ مُوسَى أَوَّلَ الْأَمْرِ قَاصِرَةً عَلَى

فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ الْعَامَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 43] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الْأَعْرَاف: 103] وَإِنَّمَا أُشْهِرَتْ دَعْوَتُهُ فِي الْمَرَّةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ السَّحَرَةِ. وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ الشُّورَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَاسْتِنْبَاطِ الِاعْتِذَارِ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْ قِيَامِ حُجَّةِ مُوسَى فِي وُجُوهِهِمْ فَاعْتَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِأَنَّ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ سَاحِرٌ عَلِيمٌ بِالسِّحْرِ أَظْهَرَ لَهُمْ مَا لَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهِ مِنْ أَعْمَالِ السَّحَرَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَعْرَبَ عَنْ رَأْيِ جَمِيعِ أَهْلِ مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، فَفِرْعَوْنُ كَانَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي هَذَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، وَهَذِهِ الْمَعْذِرَةُ قد انتحلوها وتواطأوا عَلَيْهَا تَبِعُوا فِيهَا مَلِكَهُمْ أَوْ تَبِعَهُمْ فِيهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ وَلِذَلِكَ فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ خِطَابُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ طَوَائِفِ ذَلِكَ الْمَلَأِ لِطَوَائِفَ يُرَدِّدُونَهُ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَوَجْهُ اسْتِفَادَتِهِمْ أَنَّ مُوسَى يُرِيدُ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، إِمَّا أَنَّهُمْ قَاسُوا ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ مُوسَى فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْأَعْرَاف: 105] بِقَاعِدَةِ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى الْمُمَاثِلِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ مَا أَظْهَرَ إِخْرَاجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا ذَرِيعَةً لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَنْ يُؤمن بِهِ ليتخدهم تَبَعًا وَيُقِيمَ بِهِمْ مُلْكًا خَارِجَ مِصْرَ. فَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ مَكِيدَةٌ مِنْ مُوسَى لِثَلْمِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ مُحْتَوِيًا عَلَى رِجَالٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُقَرَّبِينَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي الْمَمْلَكَةِ، فَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ، أَيْ: يُرِيدُ إِخْرَاجَ قَوْمِكُمْ مِنْ أَرْضِكُمُ الَّتِي اسْتَوْطَنْتُمُوهَا أَرْبَعَةَ قُرُونٍ وَصَارَتْ لَكُمْ مَوْطِنًا كَمَا هِيَ لِلْمِصْرِيِّينَ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ تَذْكِيرُهُمْ بِحُبِّ وَطَنِهِمْ، وَتَقْرِيبُهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْسَاؤُهُمْ مَا كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ اضْطِهَادِ الْقِبْطِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، شُعُورًا مِنْهُمْ بِحَرَاجَةِ الْمَوْقِفِ. وَإِمَّا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ إِذَا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ ظُهُورُ حُجَّةِ مُوسَى وَعَجْزُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أَدْخَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً فِي عَامَّةِ الْأُمَّةِ فَآمَنُوا بِمُوسَى وَأَصْبَحَ هُوَ الْمَلِكَ عَلَى مِصْرَ فَأَخْرَجَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَأُ خَاطَبُوا بِذَلِكَ فِرْعَوْنَ. فَجَرَتْ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُطَّرِدٌ. وَالْأَمْرُ حَقِيقَتُهُ طَلَبُ الْفِعْلِ، فَمَعْنَى فَماذا تَأْمُرُونَ مَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ نَفْعَلَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْأَمْرِ فِي الطَّلَبِ الصَّادِرِ مِنَ الْعَلِيِّ إِلَى مَنْ دُونَهُ فَإِذَا الْتُزِمَ هَذَا كَانَ إِطْلَاقُهُ هُنَا عَلَى وَجْهِ التَّلَطُّفِ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الطَّلَبُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْتَاءِ وَالِاشْتِوَارِ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ فِرْعَوْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، كَانَ مُرَادًا مِنَ الْأَمْرِ الطَّلَبُ الَّذِي يَجِبُ امْتِثَالُهُ كَمَا قَالَ مَلَأُ بِلْقِيسَ: فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النَّمْل: 33] . وَالسَّاحِرُ فَاعِلُ السِّحْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَجُمْلَةُ: قالُوا أَرْجِهْ جَوَابُ الْقَوْم المستشارين، فتجر يَدهَا مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِجَرَيَانِهَا فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ: فَأَجَابَ بَعْضُ الْمَلَأِ بِإِبْدَاءِ رَأْيٍ لِفِرْعَوْنَ فِيمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: قالُوا أَرْجِهْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِمْ: فَماذا تَأْمُرُونَ. وَفِعْلُ أَرْجِهْ أَمْرٌ مِنَ الْإِرْجَاءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ. قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَرْجِهْ- بِجِيمٍ ثُمَّ هَاءٍ- وَأَصْلُهُ (أَرْجِئْهُ) بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْجِيمِ فَسُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا، فَصَارَتْ يَاءً سَاكِنَةً، وَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِالْهَمْزِ سَاكِنًا عَلَى الْأَصْلِ- وَلَهُمْ فِي حَرَكَاتِ هَاءِ الْغَيْبَةِ وَإِشْبَاعِهَا وُجُوهٌ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ. وَالْمَعْنَى: أَخِّرْ الْمُجَادَلَةَ مَعَ مُوسَى إِلَى إِحْضَارِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ يُدَافِعُونَ سِحْرَهُ، وَحَكَى الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْأَخِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ طُوِيَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْتِدَاءً. وَعُدِّيَ فعل الْإِرْسَال (بفي) دُونَ (إِلَى) لِأَنَّ الْفِعْلَ هُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُرْسَلُونَ خَاصَّةً. وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. إِذِ الْمَعْنَى: وَأَرْسِلْ حَاشِرِينَ فِي الْمَدَائِنِ يَأْتُوكَ بِالسَّحَرَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِلْبَحْثِ وَالْجَلْبِ. لَا لِلْإِبْلَاغِ

وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [32] ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَالِكَ: «لَمْ يعد الْفِعْل بَقِي مِثْلَ مَا يُعَدَّى بِإِلَى، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ جُعِلَتْ مَوْضِعًا لِلْإِرْسَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: أَرْسَلْتَ فِيهَا مُصْعَبًا ذَا إِقْحَامٍ (¬1) وَقَدْ جَاءَ (بَعَثَ) عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً [الْفرْقَان: 51] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ [الْأَعْرَاف: 94] . وَالْمَدَائِنُ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، وَهِيَ بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ وَلَعَلَّ (مَدَنَ) هُوَ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْمَدِينَةِ لَا الْعَكْسُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِيمَ مَدِينَةٍ أَصْلِيَّةٌ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى مَدَائِنَ بِالْهَمْزَةِ كَمَا قَالُوا (صَحَائِفُ) جَمْعُ صَحِيفَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ مَفْعَلَةً مِنْ دَانَهُ لَقَالُوا فِي الْجَمْعِ مَدَايِنَ بِالْيَاءِ مِثْلَ مَعَايِشَ. وَمُدَايِنُ مِصْرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ كَثِيرَةٌ وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [53] . قِيلَ أَرَادُوا مَدَائِنَ الصَّعِيدِ وَكَانَتْ مَقَرَّ الْعُلَمَاءِ بِالسِّحْرِ. وَالْحَاشِرُونَ الَّذِينَ يَحْشُرُونَ النَّاسَ وَيَجْمَعُونَهُمْ. وَالشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ عُقَلَاءَ أَهْلَ سِيَاسَةٍ، فَعَلِمُوا أَنَّ أَمْرَ دَعْوَةِ مُوسَى لَا يَكَادُ يَخْفَى. وَأَنَّ فِرْعَوْنَ إِنْ سَجَنَهُ أَوْ عَانَدَ، تَحَقَّقَ النَّاسُ أَنَّ حُجَّةَ مُوسَى غَلَبَتْ، فَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلشَّكِّ فِي دِينِ فِرْعَوْنَ، فَرَأَوْا أَنْ يُلَايِنُوا مُوسَى، وَطَمِعُوا أَنْ يُوجَدَ فِي سَحَرَةِ مِصْرَ مَنْ يُدَافِعُ آيَاتِ مُوسَى، فَتَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ. وَجَزْمُ يَأْتُوكَ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ اتِّصَالِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِتْيَانِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُرْسِلْ يَأْتُوكَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي مِثْلِهِ إِنَّهُ مَجْزُومٌ بِلَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةٍ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِنْ أَرْسِلْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. أَيْ: أَرْسِلْهُمْ آمِرًا لَهُمْ فَلْيَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ فِعْلِ الْقَوْلِ نَحْوَِِ: ¬

(¬1) المصعب بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين (الْفَحْل) الصعب من الْإِبِل وَبَقِيَّة الرجز: طبّا فَقِيها بذوات الإيلام

[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 إلى 116]

قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 31] فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ كَمَا هُنَا. وَ (كُلُّ) مُسْتَعْمَلٍ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، أَيْ: بِجَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ السَّحَرَةِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ النَّوْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكُلِّ ساحِرٍ وَقَرَأَ جمزة، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِكُلِّ سَحَّارٍ، عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي مَعْرِفَةِ السِّحْرِ، فَيَكُونُ وَصْفُ عَلِيمٍ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ وَصْفَ عَلِيمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةٍ الْمَعْرِفَةِ بِالسِّحْرِ، وَحُذِفُ مُتَعَلِّقِ عَلِيمٍ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ السَّجَايَا. وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قُوَّةُ عِلْمِ السحر لَهُ. [113- 116] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 113 إِلَى 116] وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَجاءَ السَّحَرَةُ عَلَى جُمْلَةِ: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ [الْأَعْرَاف: 111، 112] وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ إِلَخْ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ فَحَشَرُوا وَجَاءَ السَّحَرَةُ مِنَ الْمَدَائِنِ فَحَضَرُوا عِنْدَ فِرْعَوْنَ. فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: السَّحَرَةُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. أَيِ السَّحَرَةُ الْمَذْكُورُونَ، وَكَانَ حُضُورُ السَّحَرَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي عَيَّنَهُ مُوسَى لِلِقَاءِ السَّحَرَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ طَهَ. وَجُمْلَةُ: قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا صَدَرَ مِنَ السَّحَرَةِ حِينَ مَثُلُوا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ؟. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنَّ لَنا لَأَجْراً ابْتِدَاءً بِحَرْفِ (إِنَّ) دُونَ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ قَبْلَ (إِنَّ) .

وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْن فَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ بِ نَعَمْ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ تَخْفِيفًا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهَا أَيْضًا عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِأَنَّهُمْ وَثِقُوا بِحُصُولِ الْأَجْرِ لَهُمْ، حَتَّى صَيَّرُوهُ فِي حَيِّزِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ جَوَابُ فِرْعَوْنَ بِ نَعَمْ تَقْرِيرًا لِمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنهُ. وتنكير لَأَجْراً تنكير تَعْظِيمٍ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَلِكِ وَعِظَمِ الْعَمَلِ، وَضَمِيرُ نَحْنُ تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ كُنَّا إِشْعَارًا بِجَدَارَتِهِمْ بِالْغَلَبِ، وَثِقَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسِّحْرِ، فَأَكَّدُوا ضَمِيرَهُمْ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَدْلُولِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِضَمِيرِ فَصْلٍ إِذْ لَا يُقْصَدُ إِرَادَةُ الْقَصْرِ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْغَالِبِينَ يُغْنِي عَنِ الْقَصْرِ، إِذْ يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي زَعْمِهِمْ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ نَعَمْ إِجَابَةً عَمَّا استفهموا، أَو تَقْرِير لِمَا تَوَسَّمُوا: عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَنا لَأَجْراً آنِفًا، فَحَرْفُ (نَعَمْ) يُقَرِّرُ مَضْمُونَ الْكَلَامِ الَّذِي يُجَابُ بِهِ، فَهُوَ تَصْدِيقٌ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَإِعْلَامٌ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ، بِحُصُولِ الْجَانِبِ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ هُنَا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ فَيَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الثَّانِي. وَعَطْفُ جُمْلَةِ: إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ حَرْفُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ: نَعَمْ لَكُمْ أَجْرٌ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ: لِأَنَّ التَّلْقِينَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي كَلَامَيْنِ مِنْ مُتَكَلِّمَيْنِ لَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالُوا يَا مُوسى لِوُقُوعِهَا فِي طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ. وإِمَّا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، وَلَا عَمَلَ لَهُ وَلَا هُوَ مَعْمُولٌ، وَمَا بَعْدَهُ يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الَّذِي فِي الْكَلَامِ. وَيَكُونُ (إِمَّا) بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ كَلِمَةٍ مِثْلَ أَلِ الْمُعَرِّفَةِ، كَقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٍ وَمِنَّةٍ ... وَإِمَّا دَمٍ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ وَقَوْلُهُ: أَنْ تُلْقِيَ وَقَوْلُهُ: أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ إِمَّا إِلْقَاؤُكَ مُقَدَّمٌ وَإِمَّا كَوْنُنَا مُلْقِينَ مُقَدَّمٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى

الْخَبَرِ الْمَقَامُ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِإِلْقَاءِ آلَاتِ سِحْرِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى مِثْلُهُمْ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ طه، جَعَلَ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ إِلْقَاؤُكُ أَوْ إِلْقَاؤُنَا، وَلَمَّا كَانَ الْوَاقِعُ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ الْفَائِدَةَ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ، فَلَا يَحْسُنُ الْإِخْبَارُ بِهَا مِثْلَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى غَيْرِ الْإِخْبَارِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّخْيِيرُ أَيْ: إِمَّا أَنْ تَبْتَدِئَ بِإِلْقَاءِ آلَاتِ سِحْرِكَ وَإِمَّا أَن نبتدىء، فاختير أَنْت أحد مرين وَمِنْ هُنَا جَازَ جَعْلُ الْمَصْدَرَيْنِ الْمُنْسَبِكَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ تَخْيِيرٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا قَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَجَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ طه، أَيِ: اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أَوْ كَوْنَنَا الْمُلْقِينَ، أَيْ: فِي الْأَوَّلِيَّةِ، ابْتَدَأَ السَّحَرَةُ مُوسَى بِالتَّخْيِيرِ فِي التَّقَدُّمِ إِظْهَارًا لِثِقَتِهِمْ بِمَقْدِرَتِهِمْ وَأَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ، سَوَاء ابْتَدَأَ السَّحَرَة مُوسَى بِالْأَعْمَالِ أَمْ كَانُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ، وَوَجْهُ دَلَالَةِ التَّخْيِيرِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّقَدُّمَ فِي التَّخْيِيلَاتِ وَالشَّعْوَذَةِ أَنَجَحُ لِلْبَادِئِ لِأَنَّ بَدِيهَتَهَا تَمْضِي فِي النُّفُوسِ وَتَسْتَقِرُّ فِيهَا، فَتَكُونُ النُّفُوسُ أَشَدَّ تَأَثُّرًا بِهَا مِنْ تَأَثُّرِهَا بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا، وَلَعَلَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَرَادُوا أَنْ يَسْبُرُوا مِقْدَارَ ثِقَةِ مُوسَى بِمَعْرِفَتِهِ مِمَّا يَبْدُو مِنْهُ مِنَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ أَوْ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُقَدَّمَ، فَإِنَّ لِاسْتِضْعَافِ النَّفْسِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي اسْتِرْهَابِهَا وَإِبْطَالِ حِيلَتِهَا، وَقَدْ جَاءُوا فِي جَانِبِهِمْ بِكَلَامٍ يَسْتَرْهِبُ مُوسَى وَيُهَوِّلُ شَأْنَهُمْ فِي نَفْسِهِ، إِذِ اعْتَنَوْا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَوَاتِهِمْ بِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الدَّلَالَةِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِتَأْكِيدِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَصْلُحُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ دَلُّوا عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي أَنْ يُلْقُوا سِحْرَهُمْ قَبْلَ مُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِى إِظْهَارَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ، خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي جَوَابِ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلْقُوا اسْتِخْفَافٌ بِأَمْرِهِمْ إِذْ مَكَّنَهُمْ مِنْ مُبَادَاةِ إِظْهَارِ تَخْيِيلَاتِهِمْ وَسِحْرِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَوَّى نَفْسَ مُوسَى بِذَلِكَ الْجَوَابِ لِتَكُونَ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ أَوْقَعَ حُجَّةٍ وَأَقْطَعَ مَعْذِرَةٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ فِي أَمْرِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِيَّاهُمْ بِالتَّقَدُّمِ مَا يَقْتَضِي تَسْوِيغَ مُعَارَضَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالْكُفْرِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فَلَيْسَ فِي مُعَارَضَتِهِمْ إِيَّاهُ تَجْدِيدُ كُفْرٍ، وَلِأَنَّهُمْ جَاءُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فَلَيْسَ الْإِذْنُ لَهُمْ تَسْوِيغًا، وَلَكِنَّهُمْ خَيَّرُوهُ فِي التَّقَدُّمِ أَوْ يَتَقَدَّمُوا فَاخْتَارَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا

لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ تَزِيدُ الْمُعْجِزَةَ ظُهُورًا، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ إِيَّاهُمْ إِبْلَاغًا فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِتَقْرِيرِ الشُّبْهَةِ لِلَّذِي يَثِقُ بِأَنَّهُ سَيَدْفَعُهَا. وَقَوْلُهُ فَلَمَّا أَلْقَوْا عُطِفَ عَلَى مَحْذُوفٍ لِلْإِيجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَوْا. لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا أَلْقَوْا يُؤْذِنُ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَلْقُوا لِظُهُورِهِ، أَيْ: أَلْقَوْا آلَاتِ سِحْرِهِمْ. وَمَعْنَى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ: جَعَلُوهَا مُتَأَثِّرَةً بِالسِّحْرِ بِمَا أَلْقَوْا مِنَ التَّخْيِيلَاتِ وَالشَّعْوَذَةِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ سَحَرُوا إِلَى أَعْيُنَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ آلَةُ إِيصَالِ التَّخْيِيلَاتِ إِلَى الْإِدْرَاكِ، وَهُمْ إِنَّمَا سَحَرُوا الْعُقُولَ، وَلِذَلِكَ لَوْ قِيلَ: سَحَرُوا النَّاسَ لَأَفَادَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَفُوتُ نُكْتَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا هُوَ تَخَيُّلَاتٌ مَرْئِيَّةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ زِيَادَةُ الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا ... وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ أَيْ إِذَا مَا النَّاسُ تَفْرَقُ فَرَقًا يَحْصُلُ مِنْ رُؤْيَة الأخطار المخيفة. وَالِاسْتِرْهَابُ: طَلَبُ الرَّهْبِ أَيِ الْخَوْفِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَزَّزُوا تَخَيُّلَاتِ السِّحْرِ بِأُمُورٍ أُخْرَى تُثِيرُ خوف الناظرين، لتزداد تَمَكُّنُ التَّخَيُّلَاتِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَتِلْكَ الْأُمُورُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ تُوهِمُ أَنْ سَيَقَعَ شَيْءٌ مُخِيفٌ كَأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ وَحَاذِرُوا، وَلَا تَقْتَرِبُوا، وَسَيَقَعُ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَسَيَحْضُرُ كَبِيرُ السَّحَرَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّمْوِيهَاتِ، وَالْخُزَعْبَلَاتِ، وَالصِّيَاحِ، وَالتَّعْجِيبِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي وَاسْتَرْهَبُوهُمْ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: أَرْهَبُوهُمْ رَهَبًا شَدِيدًا، كَمَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ وَاسْتَجَابَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] أَنَّ مَبْنَى السِّحْرِ عَلَى التَّخْيِيلِ وَالتَّخْوِيفِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 إلى 119]

وَوُصِفَ السِّحْرُ بِالْعَظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ إِذْ كَانَ مَجْمُوعًا مِمَّا تَفَرَّقَ بَيْنَ سَحَرَةِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَصَائِصِ الْمَسْتُورَةِ بِالتَّوْهِيمِ الْخَفِيَّةِ أَسْبَابُهَا عَن الْعَامَّة. [117- 119] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 117 إِلَى 119] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) جُمْلَةُ: وَأَوْحَيْنا معطوفة على جمل سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَاف: 116] ، فَهِيَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ لَمَّا، أَيْ: لَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ لَهُمْ عَصَاكَ. وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ الدَّالِّ عَلَى سُرْعَةِ مُفَاجَأَةِ شُرُوعِهَا فِي التَّلَقُّفِ بِمُجَرَّدِ إِلْقَائِهَا، وَقَدْ دَلَّ السِّيَاقُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفَتَيْنِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَأَلْقَاهَا فَدَبَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ وَانْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ، دَلَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى الْأَمْرُ بِالْإِلْقَاءِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّلَقُّفُ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْحَيَوَانِ، وَالْعَصَا إِذَا دَبَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ صَارَتْ ثُعْبَانًا بِدُونِ تَبْدِيلِ شَكْلٍ. وَالتَّلَقُّفُ: مُبَالَغَةٌ فِي اللَّقْفِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَالِازْدِرَادُ. وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا يَأْفِكُونَهُ. وَالْإِفْكُ: الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ وَيُسَمَّى الزُّورُ إِفْكًا، وَالْكَذِبُ الْمَصْنُوعَ إِفْكًا، لِأَنَّ فِيهِ صَرْفًا عَنِ الْحَقِّ وَإِخْفَاءً لِلْوَاقِعِ، فَلَا يُسَمَّى إِفْكًا إِلَّا الْكَذِبُ الْمُصْطَنَعُ الْمُمَوَّهُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السِّحْرُ إِفْكًا لِأَنَّ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ فَشُبِّهَ بِالْخَبَرِ الْكَاذِبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفُ- بِقَافٍ مُشَدَّدَةٍ-، وَأَصْلُهُ تَتَلَقَّفُ، أَيْ تُبَالِغُ وَتَتَكَلَّفُ اللَّقْفَ مَا اسْتَطَاعَتْ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ عَلَى صِيغَةِ الْمُجَرَّدِ. وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفُ ويَأْفِكُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ، مَعَ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ، أَيْ: فَإِذَا هِيَ يَتَجَدَّدُ تَلَقُّفُهَا لِمَا يَتَجَدَّدُ وَيَتَكَرَّرُ مِنْ إِفْكِهِمْ. وَتَسْمِيَةُ سِحْرِهِمْ إِفْكًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا مَعْمُولَ لَهُ وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْيِيلَاتٍ وَتَمْوِيهَاتٍ.

وَقَوْلُهُ فَوَقَعَ الْحَقُّ تَفْرِيعٌ عَلَى تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. وَالْوُقُوعُ حَقِيقَتُهُ سُقُوطُ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ: وَقَعَ الطَّائِرُ، إِذَا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَاسْتُعِيرَ الْوُقُوعُ لِظُهُورِ أَمْرٍ رَفِيعِ الْقَدْرِ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ كَانَ بِتَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ فَشُبِّهَ بِشَيْءٍ نَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوُقُوعُ عَلَى الْحُصُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ يُشْبِهُ النَّازِلَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] أَيْ: حَاصِلٌ وَكَائِنٌ، وَالْمَعْنَى فَظَهَرَ الْحَقُّ وَحَصَلَ. وَلَعَلَّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ (وَقَعَ) ، هُنَا دُونَ (نَزَلَ) مُرَاعَاةً لِفِعْلِ الْإِلْقَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُلْقَى يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَكَانَ وُقُوعُ الْعَصَا عَلَى الْأَرْضِ وَظُهُورُ الْحَقِّ مُقْتَرِنَيْنِ. والْحَقُّ: هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُوَافِقُ لِلْبُرْهَانِ، وَضِدُّهُ الْبَاطِلُ، وَالْحَقُّ هُنَا أُرِيدَ بِهِ صِدْقُ مُوسَى وَصِحَّةُ مُعْجِزَتِهِ وَكَوْنُ مَا فَعَلَتْهُ الْعَصَا هُوَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَثَرِ قُدْرَتِهِ. وبَطَلَ: حَقِيقَتُهُ اضْمَحَلَّ. وَالْمُرَادُ: اضْمِحْلَالُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَانْتِفَاءُ أَثَرٍ مَزْعُومٍ لِشَيْءٍ يُقَالُ: بَطَلَ سَعْيُهُ، أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِفَائِدَةٍ، وَيُقَالُ: بَطَلَ عَمَلُهُ، أَيْ: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخَسِرَ بِلَا أَجْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الْأَنْفَال: 8] أَيْ: يُزِيلُ مَفْعُولَهُ وَمَا قَصَدُوهُ مِنْهُ، فَالْبَاطِلُ هُوَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، أَوْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ ضِدُّ الْحَقِّ بَاطِلًا لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَثَرُ الْمَرْجُوُّ، وَهُوَ الْقَبُولُ لَدَى الْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ. وَشَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ الْبَاطِلُ كَالِاسْمِ الْجَامِدِ، مَدْلُولُهُ هُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَيُطْلَقُ الْبَاطِلُ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ بَطَلَ، فَيُسَاوِي الْمَصْدَرَ فِي اللَّفْظِ، وَيَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، فَصَوْغُ فِعْلِ بَطَلَ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ وَهُوَ الْبَاطِلُ. فَمَعْنَى بَطَلَ حِينَئِذٍ وُصِفَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ مِثْلُ فَهِدٍ وَأَسَدٍ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَانْتَفَتْ حِينَئِذٍ آثَارُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: وَاتَّصَفَ مَا يَعْمَلُونَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِعْلِ مَعْنَى الظُّهُورِ لَا الْحُدُوثِ، لِأَنَّ كَوْنَ مَا يَعْمَلُونَهُ بَاطِلًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُلْقِيَ مُوسَى عَصَاهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ إِلْقَاءِ الْعَصَا ظَهَرَ كَوْنُهُ بَاطِلًا، وَيُبْعِدُ هَذَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى ظُهُورِ حَدَثِهِ لَا فِي مَعْنَى وُجُودِهِ وَحُدُوثِهِ، خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِلَا دَاعٍ.

وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَطَلَ بِمَعْنى: الْعَدَم. وَفَسَّرَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ بِحِبَالِ السَّحَرَةِ وَعِصِيِّهِمْ فَفِي تَفْسِيرِهِ نُبُوٌّ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَعَنِ الْمَقَامِ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَقَعَ الْحَقُّ لِتَسْجِيلِ ذَمِّ عَمَلِهِمْ، وَنِدَاءٌ بِخَيْبَتِهِمْ، تَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا. وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ هُوَ السِّحْرُ، أَيْ: بَطَلَتْ تَخَيُّلَاتُ النَّاسِ أَنَّ عِصِيَّ السَّحَرَةِ وَحِبَالَهُمْ تَسْعَى كَالْحَيَّاتِ، وَلَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالسِّحْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ سِحْرًا عَجِيبًا تَكَلَّفُوا لَهُ وَأَتَوْا بِمُنْتَهَى مَا يَعْرِفُونَهُ. وَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَغُلِبُوا بِالْفَاءِ لِحُصُولِ الْمَغْلُوبِيَّةِ إِثْرَ تَلَقُّفِ الْعَصَا لِإِفْكِهِمْ. وهُنالِكَ اسْمُ إِشَارَةِ الْمَكَانِ أَيْ غُلِبُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَأَفَادَ بَدَاهَةَ مَغْلُوبِيَّتِهِمْ وَظُهُورَهَا لِكُلِّ حَاضِرٍ. وَالِانْقِلَابُ: مُطَاوِعُ قَلَبَ وَالْقَلْبُ تَغْيِيرُ الْحَالِ وَتَبَدُّلُهُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ تَغْيِيرًا مِنَ الْحَالِ الْمُعْتَادَةِ إِلَى حَالٍ غَرِيبَةٍ. وَيُطْلَقُ الِانْقِلَابُ شَائِعًا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْهُ وَلِأَن الرَّاجِعَ قَدْ عَكَسَ حَالَ خُرُوجِهِ. وَانْقَلَبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجِيءُ بِمَعْنَى (صَارَ) وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَيْ: صَارُوا صَاغِرِينَ. وَاخْتِيَارُ لَفْظِ انْقَلَبُوا دُونَ (رَجَعُوا) أَوْ (صَارُوا) لِمُنَاسَبَتِهِ لِلَّفْظِ غُلِبُوا فِي الصِّيغَةِ، وَلِمَا يُشْعِرُ بِهِ أَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى حَالٍ أَدْوَنَ، فَكَانَ لَفْظُ (انْقَلَبُوا) أَدْخَلَ فِي الْفَصَاحَةِ. وَالصَّغَارُ: الْمَذَلَّةُ، وَتِلْكَ الْمَذَلَّةُ هِيَ مَذَلَّةُ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ، وَمَذَلَّةُ خَيْبَةِ رَجَائِهِمْ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالْقُرْبِ عِنْد فِرْعَوْن.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 120 إلى 126]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 120 إِلَى 126] وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) عَطْفٌ عَلَى فَغُلِبُوا وَانْقَلَبُوا [الْأَعْرَاف: 119] ، فَهُوَ فِي حَيِّزِ فَاءِ التَّعْقِيبِ، أَيْ: حَصَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَقِبَ تَلَقُّفِ الْعَصَا مَا يَأْفِكُونَ، أَيْ: بِدُونِ مُهْلَةٍ، وَتَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَسُجُودُ السَّحَرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَصِيرِهِمْ صَاغِرِينَ، وَلَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ وَهُوَ زَمَنُ انْقِدَاحِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسِّحْرِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْأَعْمَالِ السِّحْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا تَلَقُّفَ عَصَا مُوسَى لِحِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ جَزَمُوا بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ السَّاحِرِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى وَأَيْقَنُوا أَنَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى حَقٌّ، فَلِذَلِكَ سَجَدُوا، وَكَانَ هَذَا خَاصًّا بِهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ الْحَاضِرِينَ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالضَّمِيرِ الَّذِي قَبْلَهُ الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لِلسَّحَرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي سُرْعَةِ الْهُوِيِّ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ: لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ سَجَدُوا بِدُونِ تَرَيُّثٍ وَلَا تَرَدُّدٍ. وَبُنِيَ فِعْلُ الْإِلْقَاءِ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ أَنْفُسُهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. وساجِدِينَ حَالٌ، وَالسُّجُودُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ لِإِلْقَاءِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ يُقْصَدُ مِنْهَا الْإِفْرَاطُ فِي التَّعْظِيمِ، وَسُجُودُهُمْ كَانَ لِلَّهِ الَّذِي عَرَفُوهُ حِينَئِذٍ بِظُهُورِ مُعْجِزَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالدَّاعِي إِلَيْهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَجُمْلَةُ: قالُوا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: أُلْقِيَ السَّحَرَةُ لِأَنَّ الْهُوِيَّ لِلسُّجُودِ اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهُمْ قَصَدُوا مِنْ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ الْإِعْلَانَ بِإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِفِرْعَوْنَ، إِذْ كَانَتْ عَادَةُ الْقِبْطِ السُّجُودَ لِفِرْعَوْنَ، وَلِذَلِكَ وَصَفُوا اللَّهَ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْعُنْوَانِ الَّذِي دَعَا بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ اسْمًا عَلَمًا لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ اسْمٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِإِلَاهِيَّةِ فِرْعَوْنَ. وَزَادُوا هَذَا الْقَصْدَ بَيَانًا بالإبدال من بِرَبِّ الْعالَمِينَ قَوْلَهُمْ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ رَبُّ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَتَعَيَّنَ فِي تَعْرِيفِ الْبَدَلِ طَرِيقُ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ، وَأَوْضَحُهُ هُنَا، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ اسْمًا عَلَمًا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ تَعْلِيمُ اللَّهِ اسْمَهُ لِمُوسَى حِينَ كَلَّمَهُ فَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [14] . وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (يَهْوَهُ) إِلَهُ آبَائِكُمْ إِلَخِ الِاصْحَاحِ الثَّالِثِ. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ فِرْعَوْنُ لِوُقُوعِهَا فِي طَرِيقِ المحاورة. وَقَوله: آمَنْتُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ- بِهَمْزَتَيْنِ- فَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَهَا، وَهُمْ: حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَهَّلَ الثَّانِيَةَ مَدَّةً، فَصَارَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ الْأُولَى مَدَّتَانِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ: نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ- فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةً وَمَا ذَلِكَ بِبِدْعٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّهْدِيدِ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، وَالْإِخْبَارُ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ أَيْضًا لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا حَقِيقَةَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ صَرَّحُوا بِذَلِكَ وَعَلِمُوهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى، أَيْ: آمَنْتُمْ بِمَا قَالَهُ، أَوْ إِلَى رَبِّ مُوسَى. وَجُمْلَةُ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ إِلَخْ ... خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ لَازِمُ الْفَائِدَة أَي: قد عَلِمْتُ مُرَادَكُمْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يُخْبَرُ بِشَيْءٍ صَدَرَ مِنْهُ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ الْفِرَاقِ فَإِنَّمَا ... زُمَّتْ رِكَابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظْلِمِ أَيْ: إِنْ كُنْتِ أَخْفَيْتِ عَنِّي عَزْمَكِ عَلَى الْفِرَاقِ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ شَدَدْتُمْ رِحَالَكُمْ بِلَيْلٍ لِتَرْحَلُوا خُفْيَةً.

وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ تَرَقٍّ فِي مُوجِبِ التَّوْبِيخِ، أَيْ لَمْ يَكْفِكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِغَيْرِي حَتَّى فَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَفَصْلُهَا عَمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تِعْدَادٌ لِلتَّوْبِيخِ. وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: 99] . وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي مَكَرْتُمُوهُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ. وفِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ: جُعِلَ مَكْرُهُمْ كَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا يُوضَعُ الْعُنْصُرُ الْمُفْسِدُ، أَيْ: أَرَدْتُمْ إِضْرَارَ أَهْلِهَا، وَلَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً حَقِيقِيَّةً لِأَنَّهَا لَا جَدْوَى لَهَا إِذْ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مَكْرَهُمْ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَفَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُمْ دَبَّرُوهُ فِي الْمَدِينَةِ حِينَ كَانُوا بِهَا قَبْلَ الْحُضُورِ إِلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُحَاوَرَةُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّرْفِيَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها وَالْمُرَادُ- هُنَا- بَعْضُ أَهْلِهَا، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ مُوسَى جَاءَ طَلَبًا لِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ مُوَافِقًا لِظَنِّهِ عَلَى سَبِيلِ التُّهْمَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِدَقَائِقِ عِلْمِ السِّحْرِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، فَظَنَّ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ دَبَّرَهَا مُوسَى مَعَ السَّحَرَةِ، وَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ أَوْ مُعَلِّمَهُمْ أَمْرَهُمْ فَأْتَمَرُوا بِأَمْرِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: 71] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ تَمْوِيهًا وَبُهْتَانًا لِيَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ السَّحَرَةِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ بِغَلَبَةِ مُوسَى إِيَّاهُمْ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَكًّا فِي دَلَالَةِ الْغَلَبَةِ وَاعْتِرَافِ السَّحَرَةِ بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوَاطَأَةٌ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ لِغَايَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي قَوْلِهِ هَذَا، لِمَا كَانَ أَشَارَ بِهِ. الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشُّعَرَاء: 35] وَأَيًّا مَا كَانَ فَعَزْمُهُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ مَصِيرٌ إِلَى الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذهُمْ بالتهمة، بله أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى الْحُجَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْحُجَّةُ صَارَ إِلَى الْجَبَرُوتِ. وَفَرَّعَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ فِي الْوَعِيدِ لِإِدْخَالِ الرُّعْبِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِجُمْلَةِ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ. وَوُقُوعُ الْجَمْعِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ يُكْسِبُهُ الْعُمُومَ فَيَعُمُّ

كُلَّ يَدٍ وَكُلَّ رِجْلٍ مِنْ أَيْدِي وَأَرْجُلِ السَّحَرَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ ابْتِدَائِيَّةٌ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوِ الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [33] . فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ كُلِّ سَاحِرٍ يَدًا وَرِجْلًا مُتَخَالِفَتِيِ الْجِهَةِ غَيْرَ مُتَقَابِلَتَيْهَا، أَيْ: إِنْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَالْعَكْسُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعِ الْقَوَائِمَ الْأَرْبَعَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَقَاءُ الشَّخْصِ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْمَشْيِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عُودٍ تَحْتَ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الرِّجْلِ الْمَقْطُوعَةِ. وَدَلَّتْ ثُمَّ عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الْوَعيد بالثلب، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّلْبَ أَنْ يُقْتَلَ الْمَرْءُ مَشْدُودًا عَلَى خَشَبَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [157] ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَوَعَّدَهُمْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْوَعِيدُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يُعَذَّبُ بِالْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَفَرِيقٌ يُعَذَّبُ بِالصَّلْبِ وَالْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ يَصْلُبُهُمْ بَعْدَ أَنْ يُقَطِّعَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ مِنْ خِلَافٍ حِينَئِذٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلْبِ: الصَّلْبُ دُونَ قَتْلٍ، فَيَكُونُ أَرَادَ صَلْبَهُمْ بَعْدَ الْقَطْعِ لِيَجْعَلَهُمْ نَكَالًا يَنْذَعِرُ بِهِمُ النَّاسُ، كَيْلَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى عِصْيَانِ أَمْرِهِ مِنْ بَعْدُ، فَتَكُونُ (ثُمَّ) دَالَّةً عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، وَلَعَلَّ الْمُهْلَةَ قَصَدَ مِنْهَا مُدَّةَ كَيِّ وَانْدِمَالِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَجْمَعِينَ الْمُفِيدِ أَنَّ الصَّلْبَ يَنَالُهُمْ كُلَّهُمْ. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ وَعِيدٌ لَا يُضِيرُهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْجَمِيعِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْجَوَابُ مُوجَزًا إِيجَازًا بَدِيعًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِمْ، وَيَرْجُونَ الْعِقَابَ لِفِرْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّلْبِ الْقَتْلَ وَكَانَ الْمُرَادُ تَهْدِيدَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَشَوُّقًا إِلَى حُلُولِ ذَلِكَ بِهِمْ مَحَبَّةً لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَكْسَبَهُمْ مَحَبَّةَ لِقَائِهِ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّ عِقَابَ فِرْعَوْنَ لَا غَضَاضَةَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ جِنَايَةٍ تَصِمُهُمْ بَلْ كَانَ عَلَى الْإِيمَانِ بِآيَاتِ لَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ. أَيْ: فَإِنَّكَ لَا

تَعْرِفُ لَنَا سَبَبًا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالنَّقْمُ: بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا، الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَرَاهَةُ صُدُورِهِ وَحِقْدٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَمَلِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَتَعِبَ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَلِذَلِكَ قَرَأَهُ الْجَمِيعُ وَما تَنْقِمُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْقِمُهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ، وَهِيَ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِهِمْ فِرْعَوْنَ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً اجْعَلْ لَنَا طَاقَةً لِتَحَمُّلِ مَا تَوَعَّدَنَا بِهِ فِرْعَوْنُ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ مِمَّا لَا تُطِيقُهُ النُّفُوسُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِنُفُوسِهِمْ صَبْرًا قَوِيًّا، يفوق الْمُتَعَارف، فشه الصَّبْرُ بِمَاءٍ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَشُبِّهَ خَلْقُهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِإِفْرَاغِ الْمَاءِ مِنَ الْإِنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاغَ صَبُّ جَمِيعِ مَا فِي الْإِنَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ إِفْرَاغَ الْإِناءِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا حَوَاهُ، فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَكْنِيَّةٍ وَتَخْيِيلِيَّةٍ وَكِنَايَةٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [250] . وَدَعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي الْحَيَاةِ، وَلَا مُبَالِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ هِمَّتَهُمْ لَا تَرْجُو إِلَّا النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْفَوْزَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدِ انْخَذَلَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَذَهَبَ وَعِيدُهُ بَاطِلًا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُمْ فَنَجَّاهُمْ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا كَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا، وَلَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَلَا فِي سُورَةِ طَهَ، لِلْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ لِأَنَّ غَرَضَ الْقَصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِمَحَلِّ الْعِبْرَةِ وَهُوَ تَأْيِيدُ اللَّهِ مُوسَى وَهِدَايَةُ السَّحَرَةِ وَتَصَلُبُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ بَعْدَ تَعَرُّضِهِمْ لِلْوَعِيدِ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 إلى 128]

وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرْآنِ مَعْرِفَةُ الْحَوَادِثِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [26] إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، فَاخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْبَحْثِ عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ زِيَادَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أُفْحِمَ لَمَّا رَأَى قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِوَعِيدِهِ فَلَمْ يَرُدَّ جَوَابًا. وَذِكْرُهُمُ الْإِسْلَامَ فِي دُعَائِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُمْ حَقِيقَتَهُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلِمَةَ مُسْلِمِينَ تَعْبِيرُ الْقُرْآنِ عَنْ دُعَائِهِمْ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ عَلَى حَالَةِ الصِّدِّيقِينَ، وَهِيَ الَّتِي يَجْمَعُ لَفْظُ الْإِسْلَامِ تَفْصِيلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [132] . [127، 128] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 127 إِلَى 128] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) جُمْلَةُ: قالَ الْمَلَأُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ [الْأَعْرَاف: 123] أَو على حَملَة قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: 109] . وَإِنَّمَا عُطِفَتْ وَلَمْ تُفْصَلْ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ بِمُوسَى وَآيَاتِهِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى ذِكْرِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ، بَلْ هِيَ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَ مَلَأِ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَهُ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ اكْتِرَاثِ الْمُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْن، وَرَأَوا قلَّة اكتراث الْمُؤمنِينَ بوعيد فِرْعَوْنَ، وَرَأَوْا نُهُوضَ حُجَّتِهِمْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِفْحَامَهُ. وَأَنَّهُ لَمْ يُحِرْ جَوَابًا. رَامُوا إِيقَاظَ ذِهْنِهِ، وَإِسْعَارَ حَمِيَّتِهِ، فَجَاءُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُثِيرِ لِغَضَبِ فِرْعَوْنَ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ تَأَثُّرًا بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَمَوْعِظَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِهِ

وَتَوَقَّعُوا عُدُولَهُ عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتَذَرُ مُوسى مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِغْرَاءِ بِإِهْلَاكِ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْإِبْطَاءِ بِإِتْلَافِهِمْ، وَمُوسَى مَفْعُولُ تَذَرُ أَيْ تَتْرُكُهُ مُتَصَرِّفًا وَلَا تَأْخُذُ عَلَى يَدِهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ تَذَرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً فِي الْأَنْعَامِ [70] . وَقَوْمُ مُوسَى هُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأُولَئِكَ هم بنوا إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْقِبْطِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُفْسِدُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ إِذْ جَعَلُوا تَرْكَ مُوسَى وَقَوْمِهِ مُعَلَّلًا بِالْفَسَادِ، وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَلَيْسَتِ الْعَاقِبَةُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي اللَّامِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهَا مَجَازٌ: شُبِّهَ الْحَاصِلُ عَقِبَ الْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ بِالْغَرَضِ الَّذِي يُفْعَلُ الْفِعْلُ لِتَحْصِيلِهِ، وَاسْتُعِيرَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى حَرْفُ اللَّامِ عِوَضًا عَنْ فَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَالْإِفْسَادُ عِنْدَهُمْ هُوَ إِبْطَالُ أُصُولِ دِيَانَتِهِمْ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ وَحَثِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَمُغَادَرَةِ أَرْضِ الِاسْتِعْبَادِ. والْأَرْضِ مَمْلَكَةُ فِرْعَوْنَ وَهِيَ قُطْرُ مِصْرَ. وَقَوْلُهُ: وَيَذَرَكَ عَطْفٌ عَلَى لِيُفْسِدُوا فَهُوَ داخلي التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي بَقَائِهِمْ دُونَ شَكٍّ، وَمَعْنَى تَرْكِهِمْ فِرْعَوْنَ، تَرْكُهُمْ تَأْلِيهَهُ وَتَعْظِيمَهُ، وَمَعْنَى تَرْكِ آلِهَتِهِ نَبْذُهُمْ عِبَادَتَهَا وَنَهْيُهُمُ النَّاسَ عَنْ عِبَادَتِهَا. وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَوَزْنُهُ أَفْعِلَةٌ، وَكَانَ الْقِبْطُ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً مُتَنَوِّعَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ وَصَوَّرُوا لَهَا صُوَرًا عَدِيدَةً مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، أَشْهَرُهَا (فِتَاحُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ وَكَانَ يُعْبَدُ بِمَدِينَةِ (مَنْفِيسَ) ، وَمِنْهَا (رَعْ) وَهُوَ الشَّمْسُ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ آلِهَةٌ بِاعْتِبَارِ أَوْقَاتِ شُعَاعِ الشَّمْس، وَمِنْهَا (ازيريس) وَ (إِزِيسُ) وَ (هُورُوسُ) وَهَذَا عِنْدَهُمْ ثَالُوثٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَابْنٍ، وَمِنْهَا (تُوتْ) وَهُوَ الْقَمَرُ وَكَانَ عِنْدَهُمْ رَبَّ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهَا (أَمُونْ رَعْ) فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أَصْلُ إِضْلَالِ عُقُولِهِمْ. وَكَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ فَرْعِيَّةٌ صُغْرَى عَدِيدَةٌ مِثْلَ الْعِجْلِ (إِيبِيسَ) وَمِثْلَ الْجِعْرَانِ وَهُوَ الْجُعَلُ.

وَكَانَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ فِرْعَوْنُ إِلَى بُنُوَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ مَعْدُودًا ابْنَ الْآلِهَةِ وَقَدْ حَلَّتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى نَحْوِ عَقِيدَةِ الْحُلُولِ، فَفِرْعَوْنُ هُوَ الْمُنَفِّذُ لِلدِّينِ، وَكَانَ يُعَدُّ إِلَهَ مِصْرَ، وَكَانَت طَاعَته طَاعَتُهُ لِلْآلِهَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: 38] . وَتَوَعَّدَ فِرْعَوْنُ مُوسَى وَقَوْمَهُ بِالِاسْتِئْصَالِ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَالْمُرَادُ الرِّجَالُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالنِّسَاءِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ، فَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى (مِنِ) التَّبْعِيضِيَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: سَنُقَتِّلُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ التَّاءِ- وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ مُبَالَغَةَ كَثْرَةٍ وَاسْتِيعَابٍ. وَالِاسْتِحْيَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِحْيَاءِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِخْبَارُهُ مَلَأَهُ بِاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ تَتْمِيمٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِجَابَةِ مُقْتَرَحِ مَلَئِهِ، لِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُبْقِيَ مُوسَى وَقَوْمَهُ فَأَجَابَهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَالْغَرَضُ مِنَ اسْتِبْقَاءِ النِّسَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوهُنَّ سِرَارِيَ وَخَدَمًا. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ اعْتِذَارٌ مِنْ فِرْعَوْنَ لِلْمَلَإِ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ إِبْطَائِهِ بِاسْتِئْصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ، أَيْ: هُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْبِلَادِ وَلَا أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَتِي وَالْقَاهِرُ: الْغَالِبُ بِإِذْلَالٍ. وفَوْقَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ وَكَلِمَةُ فَوْقَهُمْ مُسْتَعَارَةٌ لِاسْتِطَاعَةِ قَهْرِهِمْ لِأَنَّ الِاعْتِلَاءَ عَلَى الشَّيْءِ أَقْوَى أَحْوَالِ التَّمَكُّنِ مِنْ قَهْرِهِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وَاقِعَةٌ جَوَابًا لِقَوْلِ قَوْمِهِ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الْأَعْرَاف: 125] إِلَى آخِرِهَا الَّذِي أَجَابُوا بِهِ عَنْ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ مُوسَى مَعْدُودًا فِي الْمُحَاوَرَةِ، وَلِذَلِكَ نَزَلَ كَلَامُهُ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ قَوْمَهُ مَنْزِلَةَ جَوَابٍ مِنْهُ لِفِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ التَّصْرِيحِ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْوَعِيدِ، وَبِدَفْعِ ذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَالتَّوَكُّلُ هُوَ جِمَاعُ قَوْلِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا وَقَدْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّوَكُّلِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [84] ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ أَنَّهُ طَلَبُ نَصْرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرْغَبُ حُصُولُهُ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الصَّبْرَ عَلَى الضُّرِّ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ زَائِلٌ بِإِذْنِ اللَّهِ.

وَخَاطَبَ مُوسَى قَوْمَهُ بِذَلِكَ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ علم لِأَنَّهُ بِوَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَالصَّبْرِ، أَيِ: افْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الظُّلْمِ لَا يَدُومُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَرَقُّبِ زَوَالِ اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ، قُصِدَ مِنْهَا صَرْفُ الْيَأْسِ عَنْ أَنْفُسِهِمُ النَّاشِئِ عَنْ مُشَاهَدَةِ قُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَسُلْطَانِهِ، بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَوَّلَهُ ذَلِكَ السُّلْطَانَ قَادِرٌ عَلَى نَزْعِهِ مِنْهُ لِأَنَّ مُلْكَ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلَّهِ فَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ لِمَنْ يَشَاءُ مُلْكَ شَيْءٍ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ نَزْعَهُ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ هُنَا الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالتَّذْيِيلِ وَأَقْوَى فِي التَّعْلِيلِ، فَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنْ مِصْرَ وَسَيَمْلِكُونَ أَرْضًا أُخْرَى. وَجُمْلَةُ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تَذْيِيلٌ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، أَيْ: عَاطِفَةً عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيلًا ثَانِيًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ وَالصَّبْرِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أُوثِرَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ عَلَى فَصْلِ الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى التَّذْيِيلِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً. وَالْعَاقِبَةُ حَقِيقَتُهَا نِهَايَةُ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَآخِرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ [الْحَشْر: 17] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [11] ، فَإِذَا عُرِّفَتِ الْعَاقِبَةُ بِاللَّامِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا انْتِهَاءَ أَمْرِ الشَّيْءِ بِأَحْسَنَ مِنْ أَوَّلِهِ وَلَعَلَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا مِنْ قَبِيلِ الْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ آخِرُ أَحْوَالِهِ خَيْرًا مِنْ أَوَّلِهَا لِكَرَاهَةِ مُفَارَقَةِ الْمُلَائِمِ، أَوْ لِلرَّغْبَةِ فِي زَوَالِ الْمُنَافِرِ، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَتِ الْعَاقِبَةُ مُعَرَّفَةً عَلَى انْتِهَاءِ الْحَالِ بِمَا يَسُرُّ وَيُلَائِمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: 132] . وَفِي حَدِيثِ أَبَى سُفْيَانَ قَوْلُ هِرَقْلَ: «وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ» فَلَا تُطْلَقُ الْمُعَرَّفَةُ عَلَى عَاقِبَةِ السُّوءِ. فَالْمُرَادُ بِالْعَاقِبَةِ هُنَا عَاقِبَةُ أُمُورِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

[سورة الأعراف (7) : آية 129]

وَتَشْمَلُ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مَا يُلَاحِظُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْمُتَّقُونَ: الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ. وَجِيءَ فِي جُمْلَتَيْ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بِلَفْظَيْنِ عَامَّيْنِ، وَهُمَا: مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْمُتَّقِينَ، لِتَكُونَ الْجُمْلَتَانِ تَذْيِيلًا لِلْكَلَامِ وَلِيَحْرِصَ السَّامِعُونَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أَنَّ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُورِثَهُمُ الْأَرْضَ هُمُ الْمُتَّقُونَ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ مُتَّقُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَأَنَّ تَمْلِيكَ الْأَرْضِ لِغَيْرِهِمْ إِمَّا عَارِضٌ وَإِمَّا لِاسْتِوَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي عدم التَّقْوَى. [129] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 129] قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) قالُوا حِكَايَةُ جَوَابِ قَوْمِ مُوسَى إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشكاية واستئثارهم مُوسَى لِيَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يُفَرِّجَ كَرْبَهُمْ. وَالْإِيذَاءُ: الْإِصَابَةُ بِالْأَذَى، وَالْأَذَى مَا يُؤْلِمُ وَيُحْزِنُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [111] ، وَقَوْلِهِ: فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] ، وَهُوَ يَكُونُ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا، وَمُرَادُهُمْ هُنَا الْقَوِيُّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ وَتَكْلِيفِهِمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي خِدْمَةِ فِرْعَوْنَ وَمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ بَعْدَ بَعْثَةِ مُوسَى مِنَ الْقَطْعِ وَالصَّلْبِ وَقَتْلِ الْأَبْنَاءِ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّعْرِيضَ بِنَفَادِ صَبْرِهِمْ وَأَنَّ الْأَذَى الَّذِي مَسَّهُمْ بَعْدَ بَعْثَةِ مُوسَى لَمْ يَكُنْ بِدَايَةَ الْأَذَى، بَلْ جَاءَ بَعْدَ طُولِ مُدَّةٍ فِي الْأَذَى، فَلِذَلِكَ جَمَعُوا فِي كَلَامِهِمْ مَا لَحِقَهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ مُوسَى. وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا امْتِعَاضٌ مِنْهُمْ مِمَّا لَحِقَهُمْ بِسَبَبِ مُوسَى وَبِوَاسِطَتِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ قَتْلَ الذُّكُورِ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ مَجِيءِ مُوسَى بِسَبَبِ تَوَقُّعِ وِلَادَةِ مُوسَى، وَكَانَ الْوَعِيدُ بِمِثْلِهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُتَّجِهٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَمَا كَانَ لِلتَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا مَوْقِعٌ، وَالْإِتْيَانُ وَالْمَجِيءُ مُتَرَادِفَانِ، فَذِكْرُ الْمَجِيءِ بَعْدَ الْإِتْيَانِ لَيْسَ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ لِلتَّفَنُّنِ وَكَرَاهِيَةِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ.

وَالْإِتْيَانُ وَالْمَجِيءُ مَدْلُولُهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ بِعْثَةُ مُوسَى بِالرِّسَالَةِ، فَجُعِلَ الْفِعْلُ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ حِينَ عُلِّقَ بِهِ (قَبْلِ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَرِنِ بِ (أَنِ) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَالْمَصْدَرِيَّةِ لِمُنَاسَبَةِ لَفْظِ (قَبْلِ) لِأَنَّ مَا يُضَافُ إِلَى (قَبْلِ) مُسْتَقْبَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَدْلُولِهَا، وَجُعِلَ حِينَ عُلِّقَ بِهِ (بَعْدِ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمُقْتَرِنِ بِحَرْفِ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ لِأَنَّ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ لِيُنَاسِبَ لَفْظَ (بَعْدِ) لِأَنَّ مُضَافَ كَلِمَةِ (بَعْدِ) مَاضٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَدْلُولِهَا. فَأَجَابَهُمْ مُوسَى بِتَقْرِيبِ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَرِثُونَ مُلْكَ الْأَرْضِ وَالَّذِينَ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. وَجَاءَ بِفِعْلِ الرَّجَاءِ دُونَ الْجَزْمِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِقْصَاءً لِلِاتِّكَالِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِيَزْدَادُوا مِنَ التَّقْوَى وَالتَّعَرُّضِ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَصْرِهِ. فَقَوْلُهُ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ [الْأَعْرَاف: 128] وَقَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: 128] . وَالْمُرَادُ بِالْعَدُوِّ، فِرْعَوْنُ وَحِزْبُهُ، فَوَصْفُ عَدُوٍّ يُوصَفُ بِهِ الْجَمْعُ قَالَ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: 4] . وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِخْلَافِ: الِاسْتِخْلَافُ عَنِ اللَّهِ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ. وَالِاسْتِخْلَافُ إِقَامَةُ الْخَلِيفَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ لَهُ، أَيْ جَعَلَهُمْ أَحْرَارًا غَالِبِينَ وَمُؤَسِّسِينَ مُلْكًا فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَمَعْنَى فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوا مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى، وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَةِ لِيَسْتَحِقُّوا وَصْفَ الْمُتَّقِينَ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَهُ. فَالنَّظَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعِلْمِ بِالْمَرْئِيَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ مَعَ النَّاسِ فِي سِيَاسَةِ مَا اسْتُخْلِفُوا فِيهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُشَاهَدُ إِذْ لَا دَخْلَ لِلنِّيَّاتِ وَالضَّمَائِرِ فِي السِّيَاسَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ، إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَدْفَعُ إِلَيْهِ النِّيَّاتُ الصَّالِحَةُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا، فَإِذَا صَدَرَتِ الْأَعْمَالُ صَالِحَةً كَمَا يُرْضِي اللَّهَ، وَمَا أَوْصَى بِهِ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يَضُرُّهَا مَا تُكِنُّهُ نَفْسُ الْعَامِلِ. وَ (كَيْفَ) يَجُوزُ كَوْنُهَا اسْتِفْهَامًا فَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ (يَنْظُرَ) عَنِ الْمَفْعُولِ، فَالتَّقْدِيرُ فَيَنْظُرَ جَوَابَ السُّؤَالِ بِ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مُجَرَّدَةً عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ دَالَّةً عَلَى مُجَرَّدِ الْكَيْفِيَّةِ، فَهِيَ مَفْعُولٌ بِهِ ل فَيَنْظُرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 إلى 131]

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [75] وَقد تقدم. [130، 131] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 130 إِلَى 131] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ الْمَصَائِبِ الَّتِي أَصَابَ اللَّهُ بِهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَجَعَلَهَا آيَات لمُوسَى، ليلجىء فِرْعَوْنَ إِلَى الْإِذْنِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخُرُوجِ، وَقَدْ وَقَعَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ بَعْدَ الْمُعْجِزَةِ الْكُبْرَى الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لِمُوسَى فِي مَجْمَعِ السَّحَرَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَغْضَى عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ إِبْقَاءً عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِالْأَشْغَالِ الْعَظِيمَةِ لِفِرْعَوْنَ. وَيُؤْخَذُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى بَقِيَ فِي قَوْمِهِ مُدَّةً يُعِيدُ مُحَاوَلَةَ فِرْعَوْنَ أَنْ يُطْلِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِرْعَوْنُ يَعِدُ وَيُخْلِفُ، وَلَمْ تَضْبِطِ التَّوْرَاةُ مُدَّةَ مُقَامِ مُوسَى كَذَلِكَ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ الْمُدَّةَ لَمْ تَطُلْ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالسِّنِينَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا طَالَتْ أَعْوَامًا لِأَنَّ السِّنِينَ هُنَا جُمَعُ سَنَةٍ بِمَعْنَى الْجَدْبِ لَا بِمَعْنَى الزَّمَنِ الْمُقَدَّرِ مِنَ الدَّهْرِ. فَالسَّنَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا عُرِّفَتْ بِاللَّامِ يُرَادُ بِهَا سَنَةُ الْجَدْبِ، وَالْقَحْطِ، وَهِيَ حِينَئِذٍ عَلَمُ جِنْسٍ بِالْغَلَبَةِ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَقُّوا مِنْهَا: أَسْنَتَ الْقَوْمُ، إِذَا أَصَابَهُمُ الْجَدْبُ وَالْقَحْطُ، فَالسِّنِينُ فِي الْآيَةِ مُرَادٌ بِهَا الْقُحُوطُ وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَوَاقِعِهَا أَيْ: أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ وَالْبُلْدَانِ، فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْقُحُوطِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ أَرْضٍ. وَالْأَخْذُ: هُنَا مَجَازٌ فِي الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَة: 255] . وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا مَجَازًا فِي الْإِصَابَةِ بِالشَّدَائِدِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَخْذِ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ، وَتَعَدَّدَتْ إِطْلَاقَاتُهُ، فَأُطْلِقَ كِنَايَةً عَنِ الْمُلْكِ. وَأُطْلِقَ اسْتِعَارَةً لِلْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلِلْإِهْلَاكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَانِيهِ مُتَفَرِّقَةً فِي السُّوَرِ الْمَاضِيَةِ. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ أَخَذْنا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.

وَنَقْصٍ الثَّمَرَاتِ قِلَّةُ إِنْتَاجِهَا قِلَّةً غَيْرَ مُعْتَادَةٍ لَهُمْ. فَتَنْوِينُ نَقْصٍ لِلتَّكْثِيرِ وَلِذَلِكَ نُكِّرَ (نَقْصٍ) وَلَمْ يُضَفْ إِلَى (الثَّمَرَاتِ) لِئَلَّا تَفُوتَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَثْرَةِ. فَالسِّنُونَ تَنْتَابُ الْمَزَارِعَ وَالْحُقُولَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ يَنْتَابُ الْجَنَّاتِ. وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ مَرْجُوًّا تَذَكُّرُهُمْ، لِأَنَّ الْمَصَائِبَ وَالْأَضْرَارَ الْمُقَارِنَةَ لِتَذْكِيرِ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِرَبِّهِمْ، وَتَسْرِيحِ عَبِيدِهِ، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُهَا مَرْجُوًّا مِنْهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَعَلَى عَدَمِ تَذَكُّرِهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ الْعَلَامَاتِ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَفِيِّاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [94] ، فَشَأْنُ أَهْلِ الْأَلْبَابِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا، فَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرُوا، فَقَدْ خَيَّبُوا ظَنَّ مَنْ يَظُنُّ بِهِمْ ذَلِكَ مِثْلِ مُوسَى وَهَارُونَ، أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْإِمْلَاءَ لَهُمْ، وَقَطْعَ عُذْرِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (لَعَلَّ) مِنَ الرَّجَاءِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الرَّاجِي وَالْمَرْجُوِّ مِنْهُ دَلَالَةٌ عُرْفِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُقُوعِ (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [21] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ لِلْأُمَّةِ لِلنَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ دَلَائِلِ غَضَبِ اللَّهِ فَإِنَّ سَلْبَ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ إِعْرَاضَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جُمْلَةِ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أَيْ: فَكَانَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ إِلَخْ ... وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا كُفْرًا وَغُرُورًا. وَالْمَجِيءُ: الْحُصُولُ وَالْإِصَابَةُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ بِالْمَجِيءِ لِأَنَّ حُصُولَهَا مَرْغُوبٌ، فَهِيَ بِحَيْثُ تُتَرَقَّبُ كَمَا يُتَرَقَّبُ الْجَائِي، وَعُبِّرَ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ بِالْإِصَابَةِ لِأَنَّهَا تحصل فَجْأَة من غَيْرِ رَغْبَةٍ وَلَا تَرَقُّبٍ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي (إِذَا) الدَّلَالَةُ عَلَى الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْيَقِينِ كَقَوْلِكَ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَعَلْتُ كَذَا، وَلِذَلِكَ غَلَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَعَ (إِذَا) فِعْلًا مَاضِيًا لِكَوْنِ الْمَاضِي أَقْرَبَ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْحُصُولِ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي الْآيَةِ، فَالْحَسَنَاتُ أَيِ: النِّعَمُ كَثِيرَةُ الْحُصُولِ

تَنْتَابُهُمْ مُتَوَالِيَةً مِنْ صِحَّةٍ وَخِصْبٍ وَرَخَاءٍ وَرَفَاهِيَةٍ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ تَدُلَّ (إِنْ) عَلَى التَّرَدُّدِ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ، أَوْ عَلَى الشَّكِّ، وَلِكَوْنِ الشَّيْءِ النَّادِرِ الْحُصُولِ غَيْرَ مَجْزُومٍ بِوُقُوعِهِ، وَمَشْكُوكًا فِيهِ، جِيءَ فِي شَرْطِ إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ بِحَرْفِ (إِنْ) لِنُدْرَةِ وُقُوعِ السَّيِّئَاتِ أَيِ: الْمَكْرُوهَاتِ عَلَيْهِمْ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَسَنَاتِ، أَيِ: النِّعَمِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَانَتْ مُتَكَاثِرَةً لَدَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الشُّكْرِ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ إِصَابَتَهُمْ بِالسَّيِّئَاتِ نَادِرَةٌ وَهُمْ يَعُدُّونَ السَّيِّئَاتِ مِنْ جَرَّاءِ مُوسَى وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، فَهُمْ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ بَيْنَ كَافِرِينَ بِالنِّعْمَةِ وَظَالِمِينَ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَلِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ عُرِّفَتِ الْحَسَنَةُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الْمَعْرُوفَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي بِالْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ: جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَاتُ، لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مَحْبُوبٌ مَأْلُوفٌ كَثِيرُ الْحُصُولِ لَدَيْهِمْ، وَنُكِّرَتْ سَيِّئَةٌ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهَا عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهَا شَيْءٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ حُلُولُهُ بِهِمْ، أَيْ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ آيَةٌ سَيِّئَةٌ، كَذَا فِي «الْكَشَّاف» و «الْمِفْتَاح» . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَالتَّنْكِيرِ مِنْ لَطَائِفِ الِاسْتِعْمَالِ الْبَلَاغِيِّ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مُفَادِ اللَّفْظِ، فَالْمُعَرَّفُ بلام الْجِنْس والمنكرة سَوَاءٌ، فَلَا تَظُنَّ أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ لِحَسَنَةٍ مَعْهُودَةٍ وَوُقُوعُ الْمُعَرَّفِ بلام الْجِنْس والنكرة فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعُمُّ كُلَّ حَسَنَةٍ وَكُلَّ سَيِّئَةٍ. وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهِمَا الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ وَالْحَالَةُ السَّيِّئَةُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَنا هَذِهِ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ أَيْ: هَذِهِ الْحَسَنَةُ حَقٌّ لَنَا، لِأَنَّهُمْ بِغُرُورِهِمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالنِّعَمِ، أَيْ: فَلَا يَرَوْنَ تِلْكَ الْحَسَنَةَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً. ويَطَّيَّرُوا أَصْلُهُ يَتَطَيَّرُوا، وَهُوَ تَفَعُّلٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الطَّيْرِ، كَأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى وَزْنِ التَّفَعُّلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَلُّفِ مَعْرِفَةِ حَظِّ الْمَرْءِ بِدَلَالَةِ حَرَكَاتِ الطَّيْرِ، أَوْ هُوَ مُطَاوَعَةٌ سُمِّيَ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِنَ الِانْفِعَالِ مِنْ إِثْرِ طَيَرَانِ الطَّيْرِ. وَكَانَ الْعَرَبُ إِذَا خَرَجُوا فِي سَفَرٍ لِحَاجَةٍ، نَظَرُوا إِلَى مَا يُلَاقِيهِمْ أَوَّلَ سِيَرِهِمْ مِنْ طَائِرٍ، فَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي مُرُورِهِ عَلَامَاتِ يُمْنٍ وَعَلَامَاتِ شُؤْمٍ، فَالَّذِي فِي طيرانه عَلامَة بِمن فِي اصْطِلَاحِهِمْ يُسَمُّونَهُ السَّانِحَ، وَهُوَ الَّذِي يَنْهَضُ فَيَطِيرُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ لِلسَّائِرِ وَالَّذِي عَلَامَتُهُ الشُّؤْمُ هُوَ الْبَارِحُ وَهُوَ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى الْيَسَارِ، وَإِذَا وَجَدَ السَّائِرُ طَيْرًا جَاثِمًا أَثَارَهُ لِيَنْظُرَ أَيَّ جِهَةٍ يَطِيرُ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْإِثَارَةُ زَجْرًا، فَمِنَ الطَّيْرِ مَيْمُون وَمِنْه مشؤوم

وَالْعَرَبُ يَدْعُونَ لِلْمُسَافِرِ بِقَوْلِهِمْ «عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ» ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ التَّطَيُّرِ فِي مَعْنَى التَّشَاؤُمِ خَاصَّةً، يُقَالُ الطِّيَرَةُ أَيْضًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «لَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ» أَيْ: الشُّؤْمُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَتَشَاءَمُ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ لَفْظُ الطِّيَرَةِ عَلَى التَّشَاؤُمِ لِأَنَّ لِلْأَثَرِ الْحَاصِلِ مِنْ دَلَالَةِ الطَّيَرَانِ عَلَى الشُّؤْمِ دَلَالَةً أَشُدَّ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ تَوَقُّعَ الضُّرِّ أَدْخَلُ فِي النُّفُوسِ مِنْ رَجَاءِ النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَة أَنهم يَتَشَاءَمُونَ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَاسْتُعْمِلَ التَّطَيُّرَ فِي التَّشَاؤُمِ بِدُونِ دَلَالَةٍ مِنَ الطَّيْرِ، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَزْجُرُ الطَّيْرَ فِيمَا عَلِمْنَا مِنْ أَحْوَالِ تَارِيخِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى فِيهِمْ كَانَتْ سَبَبَ مَصَائِبَ حَلَّتْ بِهِمْ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّطَيُّرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ الْعَرَبِيِّ. وَالتَّشَاؤُمُ: هُوَ عد الشَّيْء مشؤوما، أَيْ: يَكُونُ وُجُودُهُ. سَبَبًا فِي وُجُودِ مَا يُحْزِنُ وَيَضُرُّ، فَمَعْنَى يَطَّيَّرُوا بِمُوسى يَحْسَبُونَ حُلُولَ ذَلِكَ بِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ وُجُودِ مُوسَى وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِضَلَالِ دِينِهِمْ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِذَا حَافَظُوا عَلَى اتِّبَاعِهِ كَانُوا فِي سَعَادَةِ عَيْشٍ، فَحَسِبُوا وُجُودَ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ سَبَبًا فِي حُلُولِ الْمَصَائِبِ وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ فَتَشَاءَمُوا بِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْمَصَائِبِ هُوَ كُفْرُهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ، لِأَنَّ حُلُولَ الْمَصَائِبِ بِهِمْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْ أَسْبَابٍ فِيهِمْ لَا فِي غَيْرِهِمْ. وَهَذَا مِنَ الْعَمَايَةِ فِي الضَّلَالَةِ فَيَبْقَوْنَ مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقَيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّطَيُّرُ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نِسْبَةِ الْمُسَبَّبَاتِ لِغَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَذَلِكَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الَّذِينَ وَضَعُوا لَهُمْ دِيَانَةَ الشِّرْكِ وَأَوْهَامَهَا. فِي الْحَدِيثِ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» (¬1) وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهَا: مِنْ بَقَايَا دِينِ الشِّرْكِ، وَيَقَعُ بَعْدَ فِعْلِ التَّطَيُّرِ بَاءٌ، وَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ تَدْخُلُ عَلَى مُوجِبِ التَّطَيُّرِ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: تَطَيَّرَ مِنْ كَذَا. وَعَطْفُ وَمَنْ مَعَهُ، أَيْ: مَنْ آمَنُوا بِهِ، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يَعُدُّونَ مُوجِبَ شُؤْمِ مُوسَى هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يُرْضِي آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَلَوْلَا دِينُهُ لم يكن مشؤوما كَمَا قَالَ ثَمُودُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: 62] . ¬

(¬1) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن.

وَ (أَلا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ. تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَتَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَالطَّائِرُ: اسْمٌ لِلطَّيْرِ الَّذِي يُثَارُ لِيُتَيَمَّنَ بِهِ أَوْ يُتَشَاءَمَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلسَّبَبِ الْحَقِّ لِحُلُولِ الْمَصَائِبِ بِهِمْ بِعَلَاقَةِ الْمُشَاكَلَةِ لِقَوْلِهِ: يَطَّيَّرُوا فَشُبِّهَ السَّبَبُ الْحَقُّ، وَهُوَ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْعَذَابَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ بِالطَّائِرِ. وعِنْدَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّصَرُّفِ مَجَازًا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَصَرَّفَ فِيهِ كَالْمُسْتَقِرِّ فِي مَكَانٍ، أَيْ: سَبَبُ شُؤْمِهِمْ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ» ، فَعُبِّرَ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ «بِطَيْرٍ» مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: «وَلَا طَيْرَ» وَمَنْ فَسَّرَ الطَّائِرَ بِالْحَظِّ فَقَدْ أَبْعَدَ عَنِ السِّيَاقِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما إِضَافِيٌّ أَيْ: سُوءُ حَالِهِمْ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ عِنْدِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ سَبَبَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ بِأَهْلِ الشِّرْكِ الْمُعَانِدِينَ لِلرُّسُلِ، هُوَ شِرْكُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ: يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ الرُّسُلِ، أَوْ بِصِدْقِ الْفِرَاسَةِ وَحُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ لَمَّا هَدَاهُ اللَّهُ «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا» . فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَضْرَابُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ، فَيُسْنِدُونَ صُدُورَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ إِلَى أَشْيَاءَ تُقَارِنُ حُصُولَ ضُرٍّ وَنَفْعٍ، فَيَتَوَهَّمُونَ تِلْكَ الْمُقَارَنَةَ تَسَبُّبًا، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مَعْرِفَةَ حُصُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَالِاسْتِدْرَاكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لكِنَّ عَمَّا يُوهِمُهُ الِاهْتِمَامُ بِالْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ لِقَرْنِهِ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ: مِنْ كَوْنِ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَجْهَلَهُ الْعُقَلَاءُ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ لَا يَعْلَمُونَ. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنَّمَا نُفِيَ الْعِلْمُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ يُشَايِعُونَ مقَالَة الْأَكْثَرين.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 إلى 133]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 132 إِلَى 133] وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) جُمْلَةُ: وَقالُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الْأَعْرَاف: 130] الْآيَةَ، فَهُمْ قَابَلُوا الْمَصَائِبَ الَّتِي أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِهَا لِيَذَّكَّرُوا، بِازْدِيَادِ الْغُرُورِ فَأَيِسُوا مِنَ التَّذَكُّرِ بِهَا، وَعَانَدُوا مُوسَى حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِهَا فَقَالُوا: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالِ سِحْرِكِ الْعَجِيبَةِ فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، أَيْ: فَلَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ فِي السِّحْرِ. ومَهْما اسْمٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ (مَا) الْمَوْصُولَةُ أَوِ النَّكِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعُمُومِ، فَرُكِّبَتْ مَعَهَا (مَا) لِتَصْيِيرِهَا شَرْطِيَّةً كَمَا رُكِّبَتْ (مَا) مَعَ (أَيْ) وَ (مَتَى) وَ (أَيْنَ) فَصَارَتْ أَسْمَاءَ شَرْطٍ، وَجُعِلَتِ الْأَلِفُ الْأُولَى هَاءً اسْتِثْقَالًا لِتَكْرِيرِ الْمُتَجَانِسَيْنِ، وَلِقُرْبِ الْهَاءِ مِنَ الْأَلِفِ فَصَارَتْ مَهْمَا، وَمَعْنَاهَا: شَيْءٌ مَا، وَهِيَ مُبْهَمَةٌ فَيُؤْتَى بَعْدَهَا بِمِنِ التَّبْيِينِيَّةِ، أَيْ: إِنْ تَأْتِنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. ومَهْما فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّمَا شَيْءٍ تَأْتِينَا بِهِ، وَخَبَرُهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَأْتِنا بِهِ الْمَذْكُورُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ تُحْضِرُنَا تَأْتِينَا بِهِ. وَذُكِّرَ ضَمِيرُ بِهِ رَعْيًا لِلَفْظِ مَهْما الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ، وَأُنِّثَ ضَمِيرُ بِها رَعْيًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَ بَيَانِ مَهْما بِاسْمٍ مُؤَنَّثٍ هُوَ آيَةٍ. ومِنْ آيَةٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَهْما. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [39] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [37] . وَسَمَّوْا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى آيَةً بِاعْتِبَارِ الْغَرَضِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ بِهِ مُوسَى حِينَ الْإِتْيَانِ بِهَا، لِأَنَّ مُوسَى يَأْتِيهِمْ بِهَا اسْتِدْلَالًا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ، وَهُمْ لَا يَعُدُّونَهَا آيَةً وَلَكِنَّهُمْ جَارُوا مُوسَى فِي التَّسْمِيَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ لِتَسْحَرَنا بِها، وَفِي ذَلِكَ

اسْتِهْزَاءٌ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّة وَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. وَجُمْلَةُ فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مُفِيدَةٌ الْمُبَالِغَةَ فِي الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى لِأَنَّهُمْ جَاءُوا فِي كَلَامِهِمْ بِمَا حَوَتْهُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ الَّتِي حَكَتْهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الِانْتِفَاءِ وَدَوَامِهِ. وَبِمَا تُفِيدُهُ الْبَاءُ مِنْ تَوْكِيدِ النَّفْيِ، وَمَا يُفِيدُهُ تَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ مُؤْمِنِينَ مِنَ اهْتِمَامِهِمْ بِمُوسَى فِي تَعْلِيقِ الْإِيمَانِ بِهِ الْمَنْفِيِّ بِاسْمِهِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا لِتَفْرِيعِ إِصَابَتِهِمْ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ عَلَى عُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَالْإِرْسَالُ: حَقِيقَتُهُ تَوْجِيهُ رَسُولٍ أَوْ رِسَالَةٍ فَيُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي (بِإِلَى) وَيُضَمَّنُ مَعْنَى الْإِرْسَالِ مِنْ فَوْقَ، فَيُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي (بِعَلَى) ، قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [الْفِيل: 3] ، وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] فَحَرْفُ (عَلَى) دَلَّ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ أَرْسَلْنَا مُفَرَّعَةٌ تَفْرِيعَ الْعقَاب لَا تَفْرِيغ زِيَادَةِ الْآيَاتِ. وَالطُّوفَانُ: السَّيْحُ الْغَالِبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَغْمُرُ جِهَاتٍ كَثِيرَةً وَيَطْغَى عَلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَزَارِعِ، قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّوَافِ لِأَنَّ الْمَاءَ يَطُوفُ بِالْمَنَازِلِ، أَيْ: تَتَكَرَّرُ جَرْيَتُهُ حَوْلَهَا، وَلَمْ يَدْخُلِ الطُّوفَانُ الْأَرْضَ الَّتِي كَانَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهِيَ أَرْضُ (جَاسَانَ) . وَالْجَرَادُ: الْحَشَرَةُ الطَّائِرَةُ مِنْ فَصِيلَةِ الصُّرْصُرِ وَالْخَنَافِسِ لَهُ أَجْنِحَةٌ سِتَّةٌ ذَاتُ أَلْوَانٍ صُفْرٍ وَحُمْرٍ تَنْتَشِرُ عِنْدَ طَيَرَانِهِ، يَكُونُ جُنُودًا كَثِيرَةً يُسَمَّى الْجُنْدُ مِنْهَا رِجْلًا. وَهُوَ مُهْلِكٌ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، يَأْكُلُ الْوَرَقَ وَالسُّنْبُلَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ وَقِشْرَهُ، فَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْقَحْطِ. أَصَابَ أَرْضَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَلَمْ يُصِبْ أَرْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْقُمَّلُ:- بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ- اسْمُ نَوْعٍ مِنَ الْقُرَادِ عَظِيمٍ يُسَمَّى الْحُمْنَانُ- بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ وَنُونَيْنِ- وَاحِدَتُهُ حَمْنَانَةٌ وَهُوَ يَمْتَصُّ دَمَ الْإِنْسَانِ (وَهُوَ غَيْرُ الْقَمْلِ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ- الَّذِي هُوَ مِنَ الْحَشَرَاتِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَفِي جِلْدِ الْجَسَدِ يَتَكَوَّنُ مِنْ تَعَفُّنِ الْجَلْدِ لِوَسَخِهِ وَدُسُومَتِهِ وَمِنْ تَعَفُّنِ جِلْدِ الرَّأْسِ كَثِيرًا) ، أَصَابَ الْقِبْطَ جُنْدٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحُمْنَانِ عَسُرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَعَلَّهُ أَصَابَ مَوَاشِيَهُمْ. وَالضَّفَادِعُ: جَمْعُ ضِفْدَعٍ وَهُوَ حَيَوَانٌ يَمْشِي عَلَى أَرْجُلٍ أَرْبَعٍ وَيَسْحَبُ بَطْنَهُ عَلَى

الْأَرْضِ وَيَسْبَحُ فِي الْمِيَاهِ، وَيَكُونُ فِي الْغُدْرَانِ وَمَنَاقِعِ الْمِيَاهِ، صَوْتُهُ مِثْلُ الْقُرَاقِرِ يُسَمَّى نَقِيقًا، أَصَابَهُمْ جُنْدٌ كَثِيرٌ مِنْهُ يَقَعُ فِي طَعَامِهِمْ يَرْتَمِي إِلَى الْقُدُورِ، وَيَقَعُ فِي الْعُيُونِ وَالْأَسْقِيَةِ وَفِي الْبُيُوتِ فَيُفْسِدُ مَا يَقَعُ فِيهِ وَتَطَؤُهُ أَرْجُلُ النَّاسِ فَتَتَقَذَّرُ بِهِ الْبُيُوتُ، وَقَدْ سَلِمَتْ مِنْهُ بِلَادُ (جَاسَانَ) مَنْزِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالدَّمُ مَعْرُوفٌ، قِيلَ: أَصَابَهُمْ رُعَافٌ مُتَفَشٍّ فِيهِمْ، وَقِيلَ: صَارَتْ مِيَاهُ الْقِبْطِ كَالدَّمِ فِي اللَّوْنِ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ حُدُوثِ دُودٍ أَحْمَرَ فِي الْمَاءِ فَشُبِّهَ الْمَاءُ بِالدَّمِ، وَسَلِمَتْ مِيَاهُ (جَاسَانَ) قَرْيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَسَمَّى اللَّهُ هَاتِهِ آياتٍ لِأَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى صِدْقِ مُوسَى لِاقْتِرَانِهَا بِالتَّحَدِّي، وَلِأَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِتَظَافُرِهَا عَلَيْهِمْ حِينَ صَمَّمُوا الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ. وَانْتَصَبَ آياتٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الطُّوفَانِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، ومُفَصَّلاتٍ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فَصَّلَ الْمُضَاعَفِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْفَصْلِ. وَالْفَصْلُ حَقِيقَتُهُ التَّفْرِقَة بَين الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَيُسْتَعَارُ الْفَصْلُ لِإِزَالَةِ اللَّبْسِ وَالِاخْتِلَاطِ فِي الْمَعَانِي فِ مُفَصَّلاتٍ وَصْفٌ لِ آياتٍ، فَيَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ مَعْنَى الْفَصْلِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ إِزَالَةُ اللَّبْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَنْسَبُ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، أَيْ: هِيَ آيَاتٌ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهَا كَذَلِكَ لِمَنْ نَظَرَ نَظَرَ اعْتِبَارٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهَا مَفْصُولٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الزَّمَانِ، أَيْ لَمْ تَحْدُثْ كُلُّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ حَدَثَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ، وَعَلَى هَذَا فَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي الْمُدَّةِ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالْأُخْرَى، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْعَذَابَ كَانَ أَشَدَّ وَأَطْوَلَ زَمَنًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الزخرف: 48] ، قِيلَ: كَانَ بَيْنَ الْآيَةِ مِنْهَا وَالْأُخْرَى مُدَّةُ شَهْرٍ أَوْ مُدَّةُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ تَدُومُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا مُدَّةَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُجْعَلَ مُفَصَّلاتٍ حَالًا ثَانِيَةً مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ، وَأَنْ لَا يُجْعَلَ صِفَةَ آياتٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّرَتُّبِ، أَيْ: فَتَفَرَّعَ عَلَى إِرْسَالِ الطُّوفَانِ وَمَا بَعْدَهُ اسْتِكْبَارُهُمْ، كَمَا تَفَرَّعَ عَلَى أَخْذِهِمْ بِالسِّنِينَ غُرُورُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شُؤْمِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ طَبْعِ تَفْكِيرِهِمْ فَسَادَ الْوَضْعِ، وَهُوَ انْتِزَاعُ الْمَدْلُولَاتِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 إلى 135]

مِنْ أَضْدَادِ أَدِلَّتِهَا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْغِمَاسِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْخِذْلَانِ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ السَّعَادَةِ وَالتَّوْفِيقِ، فَلَا يَزَالُونَ مُوَرَّطِينَ فِي وَحْلِ الشَّقَاوَةِ. فَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ التَّكَبُّرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ، أَيْ: عَدُّ أَنْفُسِهِمْ كُبَرَاءَ، أَيْ تَعَاظُمُهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِمُوسَى وَإِبْطَالِ دِينِهِمْ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّصْدِيقِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَاتِ. وَجُمْلَةُ: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَكْبَرُوا، فَالْمَعْنَى: فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَأَجْرَمُوا، وَإِنَّمَا صِيَغَ الْخَبَرُ عَنْ إِجْرَامِهِمْ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ فِيهِمْ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ، وَرُسُوخِهِ فِيهِمْ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الِاسْتِكْبَارِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْإِجْرَامِ الرَّاسِخَ فِيهِمْ هُوَ عِلَّةٌ لِلِاسْتِكْبَارِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، فِ (كَانَ) دَالَّةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ وَصْفُ الْإِجْرَامِ. وَالْإِجْرَامُ: فِعْلُ الْجُرْمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِه السُّورَة [40] . [134، 135] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 134 إِلَى 135] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) الرِّجْزُ الْعَذَابُ فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ هُنَا لِلْعَهْدِ أَيِ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ- إِلَى قَوْلِهِ- آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [الْأَعْرَاف: 133] وَالرِّجْزُ مِنْ أَسْمَاءِ الطَّاعُونِ، وَقَدْ تقدم عِنْد قَوْلهم تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [59] ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْزِ الطَّاعُونُ أَيْ أَصَابَهُمْ طَاعُونٌ أَلْجَأَهُمْ إِلَى التَّضَرُّعِ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَطُوِيَ ذِكْرُهُ لِلْإِيجَازِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّجْزَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ إِلَخ ... وَإِنَّمَا لم يُذْكَرُ الرِّجْزُ فِي عِدَادِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ [الْأَعْرَاف: 133] الْآيَةَ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ لَهُ نَبَأً عَجِيبًا فَإِنَّهُ كَانَ مُلْجِئَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِآيَاتِ مُوسَى وَوُجُودِ رَبِّهِ تَعَالَى.

وَهَذَا الطَّاعُونُ هُوَ الْمُوتَانُ الَّذِي حُكِيَ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ إِنِّي أَخْرُجُ نَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ فِي وَسَطِ مِصْرَ فَيَمُوتُ كُلُّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى كُرْسِيِّهِ إِلَى بِكْرِ الْجَارِيَةِ الَّتِي خَلْفَ الرَّحَى وَكُلُّ بِكْرِ بَهِيمَةٍ- ثُمَّ قَالَتْ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِيَ عَشَرَ- فَحَدَثَ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ أَنَّ الرَّبَّ ضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضَ مِصْرَ فَقَامَ فِرْعَوْنُ لَيْلًا هُوَ وَعَبِيدُهُ وَجَمِيعُ الْمِصْرِيِّينَ فَدَعَا مُوسَى وَهَارُونَ لَيْلًا وَقَالَ قُومُوا اخْرُجُوا أَنْتُمْ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا وَاذْهَبُوا اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَاذْهَبُوا وَبَارِكُونِي» إِلَخْ ... قِيلَ مَاتَ سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْقِبْطِ خَاصَّةَ، وَلَمْ يُصِبْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِإِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرِسَالَةِ مُوسَى، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا يُجَوِّزُونَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ وَاخْتِصَاصَ بَعْضِ الْأُمَمِ وَبَعْضِ الْأَقْطَارِ بِآلِهَةٍ لَهُمْ، فَهُمْ قَدْ خَامَرَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَا رَأَوْا مِنْ آيَاتِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى رَبٌّ لَهُ تَصَرُّفٌ وَقُدْرَةٌ. وَأَنَّهُ أَصَابَهُمْ بِالْمَصَائِبِ لِأَنَّهُمْ أَضَرُّوا عَبِيدَهُ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يُكِفَّ عَنْهُمْ رَبَّهُ وَيَكُونَ جَزَاؤُهُ الْإِذْنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ، كَمَا حَكَتِ التَّوْرَاةُ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي عشر عَن فِرْعَوْنَ، «فَقَالَ قُومُوا اخْرُجُوا أَنْتُمْ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا وَاذْهَبُوا اعْبُدُوا رَبَّكُمْ» وَقَدْ كَانَ عَبْدَةُ الْأَرْبَابِ الْكَثِيرِينَ يُجَوِّزُ أَنْ تَغْلِبَ بَعْضُ الْأَرْبَابِ عَلَى بَعْضٍ مِثْلَ مَا يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُلُوكِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَسَاطِيرُ (الْمِيثُولُوجْيَا) الْيُونَانِيَّةُ، وَقِصَّةُ إِلْيَاذَةِ (هُومِيرُوسَ) ، فَبَدَا لِفِرْعَوْنَ أَنَّ وَجْهَ الْفَصْلِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ فِي أَرْضٍ غَيْرِ أَرْضِ مِصْرَ الَّتِي لَهَا أَرْبَابٌ أُخَرُ وَلِذَلِكَ قَالَ رَبَّكَ وَلَمْ يَقِلْ رَبُّنَا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ الدُّعَاءِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، أَيِ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِأَنْ يَكُفَّ عَنَّا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِيَ عَشَرَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ (وَاذْهَبُوا وَبَارِكُونِي أَيْضا) . وَقد انبرم حَالُ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَدْرِ أَهْوَ رَسُولٌ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِ آلِهَةِ الْقِبْطِ فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، أَيْ: بِمَا عَرَّفَكَ وَأَوْدَعَ عِنْدَكَ مِنَ الْأَسْرَارِ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ مُتَحَيِّرٍ فِي الْأَمْرِ مُلْتَبِسَةٍ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ. وَالْبَاءُ فِي بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الدُّعَاءِ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ مُبْهَمَةٌ، أَيِ ادْعُهُ بِمَا

عَلَّمَكَ رَبُّكَ مِنْ وَسَائِلِ إِجَابَةِ دُعَائِكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مُوسَى مَبْعُوثًا مِنْ رَبٍّ لَهُ بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ مُوسَى الدُّعَاءَ بِكَشْفِ الرِّجْزِ عَنْهُمْ مَعَ سَابِقِيَّةِ كُفْرِهِمْ بِهِ يُثِيرُ سُؤَالَ مُوسَى أَنْ يَقُولَ: فَمَا الْجَزَاءُ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَجُمْلَةُ: لَنُؤْمِنَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَوَعْدُهُمْ بِالْإِيمَانِ لِمُوسَى وَعْدٌ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَلَيْسَ وَعْدًا بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ وَزَاعِمُونَ أَنَّهُ سَاحِرٌ يُرِيدُ إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنْ أَرْضِهِمْ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الْإِيمَانِ مُتَعَلِّقًا بِمُوسَى لَا بَاسِمِ اللَّهِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْوَعْدُ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ رَبٌّ خَاصٌّ بِهِ وَبِقَوْمِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ وَقَدْ وَضَّحُوا مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَجُمْلَةُ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى دَعَا اللَّهَ بِرَفْع الطَّاعُون فارتقع وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي التَّوْرَاةِ، وَحُذِفَ هُنَا لِلْإِيجَازِ. وَقَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ مُتَعَلِّقٌ بِ كَشَفْنا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ كَشْفِ الرِّجْزِ إِزَالَةً لَلْمُوتَانِ الَّذِي سَبَّبَهُ الطَّاعُونُ، فَإِزَالَةٌ الْمُوتَانِ مُغَيَّاةٌ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِهَلَاكِهِمْ فَالْغَايَةُ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى فِعْلِ الْكَشْفِ لَا إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ الرِّجْزُ. وَجُمْلَةُ: إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جَوَابُ (لَمَّا) ، وَ (إِذَا) رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ لِوُقُوعِ جَوَابِ الشَّرْطِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، فَلَمَّا كَانَ (إِذَا) حَرْفًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قيل فاجأوا بِالنَّكْثِ، أَيْ: بَادَرُوا بِهِ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ. وَهَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِإِضْمَارِ الْكُفْرِ بِمُوسَى وَإِضْمَارِ النَّكْثِ لِلْيَمِينِ. وَالنَّكْثُ حَقِيقَتُهُ نَقْضُ الْمَفْتُولِ مِنْ حَبْلٍ أَوْ غَزْلٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: 92] وَاسْتُعِيرَ النَّكْثُ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْحَبْلُ لِلْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمرَان: 112] فَفِي قَوْلِهِ: يَنْكُثُونَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.

[سورة الأعراف (7) : آية 136]

وَهَذَا النَّكْثُ هُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخُرُوجِ وَخَرَجُوا مِنْ أَرْضِ (جَاسَانَ) لَيْلًا قَالَ لِفِرْعَوْنَ بَعْضُ خَاصَّتِهِ: مَاذَا فَعَلْنَا حَتَّى أَطْلَقْنَا إِسْرَائِيلَ مِنْ خِدْمَتِنَا فَنَدِمَ فِرْعَوْنُ وَجَهَّزَ جَيْشًا لِلِالْتِحَاقِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَرُدُّوهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ كَمَا هُوَ فِي الإصحاح الرّبع عَشَرَ مِنْ سفر الْخُرُوج. [136] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 136] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) هَذَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَيْهَا تَفْرِيعَ النَّتِيجَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَالْفَذْلَكَةِ عَلَى الْقِصَّةِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ عِنَادَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَتَكْذِيبَهُمْ رِسَالَةَ مُوسَى وَاقْتِرَاحَهُمْ عَلَى مُوسَى أَنْ يَجِيءَ بِآيَةٍ وَمُشَاهَدَتَهُمْ آيَةَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَتَغْيِيرَ لَوْنِ يَدِهِ، وَرَمْيَهُمْ مُوسَى بِالسِّحْرِ، وَسُوءَ الْمَقْصِدِ، وَمُعَارَضَةَ السَّحَرَةِ مُعْجِزَةَ مُوسَى وَتَغَلُّبَ مُوسَى عَلَيْهِمْ، وَكَيْفَ أَخَذَ اللَّهُ آلَ فِرْعَوْنَ بِمَصَائِبَ جَعَلَهَا آيَاتٍ عَلَى صِدْقِ مُوسَى، وَكَيْفَ كَابَرُوا وَعَانَدُوا، حَتَّى أُلْجِئُوا إِلَى أَنْ وَعَدُوا مُوسَى بِالْإِيمَانِ وَتَسْرِيحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ الرِّجْزَ نَكَثُوا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ اسْتِئْصَالُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَتَحْرِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ. وَذَلِكَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَوْقِعُ فِي عَطْفِهِ لِفَاءِ التَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ، وَقَدِ اتَّبَعَ فِي هَذَا الْخِتَامِ الْأُسْلُوبَ الَّتِي اخْتُتِمَتْ بِهِ الْقَصَصُ الَّتِي قَبْلَ هَذَا. وَالِانْتِقَامُ افْتِعَالٌ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ الشَّبِيهَةُ بِالنَّقْمِ. وَهُوَ غَضَبُ الْحَنَقِ عَلَى ذَنْبِ اعْتِدَاءٍ عَلَى الْمُنْتَقِمِ يُنْكِرُ وَيَكْرَهُ فَاعِلَهُ. وَأَصْلُ صِيغَةِ الِافْتِعَالِ أَنْ تَكُونَ لِمُطَاوَعَةِ فِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِحَيْثُ يَكُونُ فَاعِلُ الْمُطَاوَعَةِ هُوَ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنْ قَالُوا نَقَمَهُ فَانْتَقَمَ. أَيْ أَحْفَظَهُ وَأَغْضَبَهُ فَعَاقَبَ، فَهَذِهِ الْمُطَاوَعَةُ أُمِيتَ فِعْلُهَا الْمُجَرَّدُ، وَعَدَّوْهُ إِلَى الْمُعَاقَبِ بِمِنِ الِابْتِدَائِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مَنْشَأُ الْعُقُوبَةِ وَسَبَبُهَا وَأَنَّهُ مُسْتَوْجِبُهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُجَرَّدِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا [الْأَعْرَاف: 126] .

وَكَانَ إِغْرَاقُهُمُ انْتِقَامًا مِنَ اللَّهِ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا انْفِرَاد الله بالإلهية، أَوْ جَحَدُوا إِلَاهِيَّتَهُ أَصْلًا، وَانْتِقَامًا أَيْضًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ ظَلَمُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَذَلُّوهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ بَاطِلًا. وَالْإِغْرَاقُ: الْإِلْقَاءُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَبْحِرِ الَّذِي يَغْمُرُ الْمُلْقَى فَلَا يَتْرُكُ لَهُ تَنَفُّسًا، وَهُوَ بَيَانٌ لِلِانْتِقَامِ وَتَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِهِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَغْرَقْناهُمْ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 54] . وَحَمَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّاف» الْفِعْل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْعَزْمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [54] . وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ وَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ، قِيلَ هُوَ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ. وَهُوَ صَنِيعُ «الْكَشَّافِ» إِذْ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لِلْمُنْتَفِعِينَ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: هُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ وَأَصْلُهُ فِيهَا (يَمَا) وَقَالَ شَيْدَلَةُ: هُوَ مِنَ الْقِبْطِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَلَعَلَّ أَصْلَهُ عَرَبِيٌّ وَأَخَذَتْهُ لُغَاتٌ أُخْرَى سَامِيَّةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بَحْرُ الْقُلْزُمِ، الْمُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ بَحْرَ سُوفَ، وَهُوَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ. وَقَدْ أُطْلِقَ (الْيَمُّ) عَلَى نَهْرِ النِّيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه: 39] وَقَوْلِهِ: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [الْقَصَص: 7] ، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْيَمِّ هُنَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي الْمَعْرُوفُ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ عِنْدَ النُّحَاةِ إِذْ لَيْسَ فِي الْعِبْرَةِ اهْتِمَامٌ بِبَحْرٍ مَخْصُوصٍ وَلَكِنْ بِفَرْدٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَقَدْ أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ حِينَ لَحِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ صَدَّهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [90] . وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: أَغْرَقْنَاهُمْ جَزَاءً عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ. وَالْغَفْلَةُ ذُهُولُ الذِّهْنِ عَنْ تَذَكُّرِ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [156] ، وَأُرِيدَ بِهَا التَّغَافُلُ عَنْ عَمْدٍ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَإِبَايَةُ النَّظَرِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ مُوسَى، فَإِطْلَاقُ الْغَفْلَةِ عَلَى هَذَا مَجَازٌ،

[سورة الأعراف (7) : آية 137]

وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَالَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، فَلِذَلِكَ أُعِيدَ التَّصْرِيحُ بِتَسَبُّبِ الْإِعْرَاضِ فِي غَرَقِهِمْ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنَ التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الْقِصَّةِ إِلَى الْعِبْرَةِ. وَقَدْ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ ثَابِتٌ لَهُمْ، وَرَاسِخٌ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ هُوَ عِلَّةُ التَّكْذِيبِ الْمَصُوغِ خَبَرُهُ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِهِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْآيَاتِ. [137] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها. عُطِفَ عَلَى فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الْأَعْرَاف: 136] . وَالْمَعْنَى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ وَجَازَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَة. وَتقدم ءانفا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى أَوْرَثْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الْأَعْرَاف: 100] وَالْمُرَادُ هُنَا تَمْلِيكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَهْلِهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ تَمْلِكُهَا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْيِينُ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ. وَالْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَمَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 59] ، وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِهِمْ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى تَعْرِيفِهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِنُكْتَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: الْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ مَلَّكَهُمُ الْأَرْضَ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حَاكِمَةً جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا صَبَرُوا عَلَى الِاسْتِعْبَادِ، غَيْرَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبِيدِهِ. الثَّانِيَةُ: التَّعْرِيضُ بِبِشَارَةِ الْمُؤمنِينَ بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ سَتَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةُ السُّلْطَانِ كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، جَزَاءً عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى الْأَذَى فِي اللَّهِ، وَنِذَارَةُ الْمُشْرِكِينَ بِزَوَالِ سُلْطَانِ دِينِهِمْ. وَمَعْنَى يُسْتَضْعَفُونَ: يُسْتَعْبَدُونَ وَيُهَانُونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ مِثْلَ اسْتَنْجَبَ، أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي اسْتَجَابَ.

وَالْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ أَمر نسبي تتعد بِتَعَدُّدِ الْأَمْكِنَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا إِحَاطَةُ الْأَمْكِنَةِ. والْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَهِيَ تَبْتَدِئُ مِنَ السَّوَاحِلِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ لِلْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَتَنْتَهِي إِلَى سَوَاحِلِ بَحْرِ الرُّومِ وَهُوَ الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ وَإِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ وَحُدُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَحُدُودِ بِلَادِ التُّرْكِ. والَّتِي بارَكْنا فِيها صِفَةٌ لِلْأَرْضِ أَوْ لِمَشَارِقِهَا وَمَغَارِبهَا لِأَن مَا صدقيهما مُتَّحِدَانِ، أَيْ قَدَّرْنَا لَهَا الْبَرَكَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [96] . أَيْ أَعَضْنَاهُمْ عَنْ أَرْضِ مِصْرَ الَّتِي أُخْرِجُوا مِنْهَا أَرْضًا هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَرْضِ مصر. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ إِلَخْ ... وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا تَنْوِيهًا بِفَضِيلَةِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَشْمَلُ إِيرَاثَهُمُ الْأَرْضَ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَتَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ إِلَى آخِرِهَا مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ الَّذِي لَا يُعْطَفُ، فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ هُوَ قَوْلُهُ بِما صَبَرُوا. وَكلمَة: هِيَ الْقَوْلُ، وَهُوَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ اللَّفْظَ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 129] أَوْ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ وَعْدُ تَمْلِيكِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَتَمَامُ الْكَلِمَةِ تَحَقُّقُ وَعْدِهَا، شُبِّهَ تَحَقُّقُهَا بِالشَّيْءِ إِذَا اسْتَوْفَى أَجْزَاءَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَلِمَةُ اللَّهِ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ وَهِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ إِطْلَاقَهُمْ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ وَإِرَادَتُهُ تَمْلِيكَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ كَقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النِّسَاء: 171] . وَتَمَامُ الِكَلِمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ظُهُورُ تَعَلُّقِهَا التَّنْجِيزِيِّ فِي

الْخَارِجِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ مُوسَى يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: 21] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [115] . والْحُسْنى: صفة ل كَلِمَتُ وَهِيَ صِفَةُ تَشْرِيفٍ كَمَا يُقَالُ: الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، أَيْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْمُنَزَّهَةُ عَنِ الْخُلْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُسْنَهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَبِّكَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُدْمِجَ فِي ذِكْرِ الْقِصَّةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الَّذِي حَقَّقَ نَصْرَ مُوسَى وَأُمَّتِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ هُوَ رَبُّكَ فَسَيَنْصُرُكَ وَأُمَّتَكَ عَلَى عَدُوِّكُمْ لِأَنَّهُ ذَلِكَ الرَّبُّ الَّذِي نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، وَتِلْكَ سُنَّتُهُ وَصُنْعُهُ، وَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنَ الضَّمَائِرِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ التَّمَامِ (بِعَلَى) لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَضْمِينِ تَمَّتْ مَعْنَى الْإِنْعَامِ، أَوْ مَعْنَى حَقَّتْ. وَبَاءُ بِما صَبَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الْأَذَى فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى فَائِدَةِ الصَّبْرِ وَأَنَّ الصَّابِرَ صَائِرٌ إِلَى النَّصْرِ وَتَحْقِيقِ الْأَمَلِ. وَالتَّدْمِيرُ: التَّخْرِيبُ الشَّدِيدُ وَهُوَ مَصْدَرُ دَمَّرَ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ دَامِرًا لِلتَّعْدِيَةِ مُتَصَرِّفٌ مِنَ الدَّمَارِ- بِفَتْحِ الدَّالِّ- وَهُوَ مَصْدَرٌ قَاصِرٌ، يُقَالُ دَمَرَ الْقَوْمُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- يَدْمُرُونَ- بِضَمِّ الْمِيمِ- دَمَارًا، إِذَا هَلَكُوا جَمِيعًا، فَهُمْ دَامِرُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ التَّدْمِيرِ عَلَى إِهْلَاكِ الْمَصْنُوعِ مَجَازِيٌّ عَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ التَّدْمِيرَ حَقِيقَتُهُ إِهْلَاكُ الْإِنْسَانِ. وَمَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ: مَا شَادَهُ مِنَ الْمَصَانِعِ، وَإِسْنَادُ الصُّنْعِ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِالصُّنْعِ، وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَوْمِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ. ويَعْرِشُونَ يُنْشِئُونَ مِنَ الْجَنَّاتِ ذَات العرايش. والعرايش: مَا يُرْفَعُ مِنْ دَوَالِي الْكُرُومِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى النَّخْلَاتِ الْعَدِيدَةِ تُرَبَّى فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَلَعَلَّ جَنَّاتِ الْقِبْطِ كَانَتْ كَذَلِكَ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الْمَرْسُومَةِ عَلَى هَيَاكِلِهِمْ نَقْشًا وَدَهْنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 إلى 140]

وَفِعْلُهُ عَرَشَ- مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَنَصَرَ- وَبِالْأَوَّلِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ بِالثَّانِي ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَرَّبَ دِيَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْمَذْكُورِينَ، وَدَمَّرَ جَنَّاتِهِمْ بِمَا ظَلَمُوا بِالْإِهْمَالِ، أَوْ بِالزِّلْزَالِ، أَو على أَيْديهم جُيُوشِ أَعْدَائِهِمُ الَّذِينَ مَلَكُوا مِصْرَ بَعْدَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْرِشُونَ بِمَعْنَى يَرْفَعُونَ أَيْ يَشِيدُونَ مِنَ الْبِنَاءِ مِثْلَ مَبَانِي الْأَهْرَامِ وَالْهَيَاكِلِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِفِعْلِ دَمَّرْنا، شُبِّهَ الْبِنَاءُ الْمَرْفُوعُ بِالْعَرْشِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْرِشُونَ اسْتِعَارَةً لِقُوَّةِ الْمُلْكِ وَالدَّوْلَةِ وَيَكُونَ دَمَّرْنَا تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ. وَفِعْلُ كانَ فِي الصِّلَتَيْنِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُ وَهِجِّيرَاهُ، أَيْ مَا عُنِيَ بِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَالْجَنَّاتِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي الْخَبَرَيْنِ عَنْ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التجدد والتكرر. [138- 140] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 138 إِلَى 140] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) لَمَّا تَمَّتِ الْعِبْرَةُ بِقِصَّةِ بَعْثِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَكَيْفَ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَنَصَرَ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ كَشَأْنِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي نَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، اسْتُرْسِلَ الْكَلَامُ إِلَى وَصْفِ تَكْوِينِ أُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا يَحِقُّ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لَهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ طُمَأْنِينَةُ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَحْذِيرُهُمْ مِمَّا يَرْمِي بِهِمْ إِلَى غَضَبِ اللَّهِ فِيمَا يُحَقِّرُونَ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، لِمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ التَّشَابُهِ فِي تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى أُمُورَ عَبِيدِهِ، وَسُنَّتِهِ فِي تَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَإِيقَاظِ نُفُوسِ الْأُمَّةِ إِلَى مُرَاقَبَةِ خَوَاطِرِهِمْ وَمُحَاسَبَةِ نُفُوسِهِمْ فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ وَدَحْضِ الْكُفْرَانِ. وَالْمُجَاوَزَةُ: الْبُعْدُ عَنِ الْمَكَانِ عَقِبَ الْمُرُورِ فِيهِ، يُقَالُ: جَاوَزَ بِمَعْنَى جَازَ، كَمَا يُقَالُ: عَالَى بِمَعْنَى عَلَا، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ فَإِذَا قُلْتَ: جُزْتُ بِهِ، فَأَصْلُ مَعْنَاهُ أَنَّكَ جُزْتَهُ مُصَاحِبًا فِي الْجَوَازِ بِهِ لِلْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتِ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: جُزْتُ بِهِ الطَّرِيقَ إِذَا سَهَّلْتَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَسِرْ مَعَهُ، فَهُوَ

بِمَعْنَى أَجَزْتُهُ، كَمَا قَالُوا: ذَهَبْتَ بِهِ بِمَعْنَى أَذْهَبْتَهُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قَدَّرْنَا لَهُمْ جَوَازَهُ وَيَسَّرْنَاهُ لَهُمْ. وَالْبَحْرُ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ- الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِالْبَحْرِ الْأَحْمَرِ- وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْيَمِّ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، أَيِ الْبَحْرَ الْمَذْكُورَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ تَفَنُّنٌ، وتجنبا لِلْإِعَادَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَطَعُوا الْبَحْرَ وَخَرَجُوا عَلَى شاطئه الشَّرْقِي. وفَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ مَعْنَاهُ أَتَوْا قَوْمًا، وَلما ضمن فَأَتَوْا مَعْنَى مَرُّوا عُدِّيَ بِعَلَى، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْإِقَامَةَ فِي الْقَوْمِ، وَلَكِنَّهُمْ أَلْفَوْهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ. وَالْقَوْمُ هُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ وَيُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْعَرَبِ الْعَمَالِقَةُ وَيُعْرَفُونَ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْمُؤَرِّخِينَ بِالْفِنِيقِيِّينَ. وَالْأَصْنَامُ كَانَتْ صُوَرَ الْبَقَرِ، وَقَدْ كَانَ الْبَقَرُ يُعْبَدُ عِنْدَ الكنعانيين، أَي الفنيقيين بَاسِمِ (بَعْلَ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [51] . وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [187] ، وَتَعْدِيَةُ الْعُكُوفِ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى النُّزُولِ وَتَمَكُّنِهِ كَقَوْلِهِ: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ [طه: 91] . وقريء يَعْكُفُونَ- بِضَمِّ الْكَافِ- لِلْجُمْهُورِ، وَبِكَسْرِهَا لِحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَخَلَفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي مُضَارِعِ عَكَفَ. وَاخْتِيرَ طَرِيقُ التَّنْكِيرِ فِي أَصْنَامٍ وَوَصْفُهُ بِأَنَّهَا لَهُمْ، أَيِ الْقَوْمِ دُونَ طَرِيق الْإِضَافَة ليتوسل بِالتَّنْكِيرِ إِلَى إِرَادَةِ تَحْقِيرِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَسْتَلْزِمُ خَفَاءَ الْمَعْرِفَةِ. وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْأَصْنَامُ بِأَنَّهَا لَهُمْ وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى قَوْلِهِ: أَصْنامٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ التُّونِسِيُّ: «عَادَتُهُمْ يُجِيبُونَ بِأَنَّهُ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ بِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى جَهْلِهِمْ وَغَوَايَتِهِمْ فِي أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا هُوَ مِلْكٌ لَهُمْ فيجعلون مملوكهم إِلَّا ههم» .

وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا، فَلَمْ تُعْطَفْ بِالْفَاءِ: لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتِ افْتِتَاحَ مُحَاوِرٍ، وَكَانَ شَأْنُ الْمُحَاوَرَةِ أَنْ تَكُونَ جُمَلُهَا مَفْصُولَةً شَاعَ فَصْلُهَا، وَلَوْ عُطِفَتْ بِالْفَاءِ لَجَازَ أَيْضًا. وَنِدَاؤُهُمْ مُوسَى وَهُوَ مَعَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُونَهُ، إِظْهَارًا لِرَغْبَتِهِمْ فِيمَا سَيَطْلُبُونَ، وَسموا الصَّنَم إلاها لِجَهْلِهِمْ فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اتِّخَاذَ الصَّنَمِ يُجْدِي صَاحِبَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ إِلَاهُهُ مَعَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدِ انْخَلَعُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِمِصْرَ عَنْ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَحَنِيفِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ الَّتِي وَصَّى بِهَا فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا فِي حَالِ ذُلٍّ وَاسْتِعْبَادٍ ذَهَبَ عِلْمُهُمْ وَتَارِيخُ مَجْدِهِمْ وَانْدَمَجُوا فِي دِيَانَةِ الْغَالِبِينَ لَهُمْ فَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ مَيْزَةٌ تُمَيِّزُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ خَدَمَةٌ وَعَبِيدٌ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أَرَادُوا بِهِ حَضَّ مُوسَى عَلَى إِجَابَةِ سُؤَالِهِمْ، وَابْتِهَاجًا بِمَا رَأَوْا مِنْ حَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ حَلُّوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَكَفَى بِالْأُمَّةِ خِسَّةَ عُقُولٍ أَنْ تَعُدَّ الْقَبِيحَ حَسَنًا، وَأَنْ تَتَّخِذَ الْمَظَاهِرَ الْمُزَيَّنَةَ قُدْوَةً لَهَا، وَأَنْ تَنْخَلِعَ عَنْ كَمَالِهَا فِي اتِّبَاعِ نَقَائِصِ غَيْرِهَا. وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً وَتَوْكِيدًا كَافَّةَ عَمَلِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ، وَلِذَلِكَ صَارَ كَافُ التَّشْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى جُمْلَةٍ لَا عَلَى مُفْرَدٍ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مِنْ خَبَرٍ وَمُبْتَدَأٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّةً غَيْرَ زَمَانِيَّةٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ كَوُجُودِ آلِهَةٍ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْفِعْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمرَان: 118] فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ أَوْ يُكْتَفَى بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ وُقُوع الْخَبَر جازا وَمَجْرُورًا، كَقَوْلِ نَهْشَلِ بْنِ جَرِيرِ التَّمِيمِيِّ: كَمَا سَيْفُ عَمْرٍو لَمْ تَخُنْهُ مَضَارِبُهُ (¬1) وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لِوُقُوعِهَا فِي جَوَابِ الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ: أَجَابَ مُوسَى كَلَامَهُمْ، وَكَانَ جَوَابُهُ بِعُنْفٍ وَغِلْظَةٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِمْ. ¬

(¬1) أَوله: أَخ ماجد لم يخزني يَوْم مشْهد، قَالَه: يرثي أَخَاهُ مَالِكًا قتل يَوْم صفّين وَسيف عَمْرو وَهُوَ سيف عَمْرو بن معديكرب.

وَالْجَهْلُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أَوْ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [17] ، وَالْمُرَادُ جَهْلُهُمْ بِمَفَاسِدِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ وَصْفُ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِالْجَهَالَةِ مُؤَكِّدًا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنْ كَوْنِ الْجَهَالَةِ صِفَةً ثَابِتَةً فِيهِمْ وَرَاسِخَةً مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ لَهُمْ فِي بَادِئِ النَّظَرِ زَاجِرٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ: الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، مُكَنًّى بِهِ عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ فَدَاحَةِ جَهْلِهِمْ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ قَوْمٍ وَجعل مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْإِخْبَارِ وَصْفًا لِقَوْمٍ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْجَهَالَةِ كَالْمُتَحَقِّقِ الْمَعْلُومِ الدَّاخِلِ فِي تَقْوِيمِ قَوْمِيَّتِهِمْ، وَفِي الْحُكْمِ بِالْجَهَالَةِ عَلَى الْقَوْمِ كُلِّهِمْ تَأْكِيدٌ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ جَهَالَتِهِمْ وَعُمُومِهَا فِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَشِذُّ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَرَابَةِ أُكِّدُّ الْحُكْمُ (بِإِنَّ) لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ثُبُوتِهِ السَّامِعُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا وَقَدْ أُكِّدَتْ وَجُعِلَتِ اسْمِيَّةً لِمِثْلِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي أُخْتِهَا، وَقَدْ عُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ مُتَبَّرًا أَمْرُهُمْ وَبَاطِلًا عَمَلُهُمْ، وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ وَهُوَ مُتَبَّرٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ لِيُفِيدَ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَيْ: هُمُ الْمُعَرَّضُونَ لِلتَّبَارِ وَأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمُ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَهُمْ ضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ مُتَبَّرٌ مُسْنَدًا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِخْبَارِ هُوَ مَا هُمْ فِيهِ. وَالْمُتَبِّرُ: الْمُدَمِّرُ، وَالتَّبَارُ- بِفَتْحِ التَّاءِ- الْهَلَاكُ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: 28] . يُقَال نبر الشَّيْءُ- كَضَرَبَ وَتَعِبَ وَقَتَلَ- وَتَبَّرَهُ تَضْعِيفٌ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ أَهْلَكَهُ وَالتَّتْبِيرُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِفَسَادِ الْحَالِ، فَيَبْقَى اسْمُ الْمَفْعُولِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ فِي زَمَنِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّتْبِيرُ مُسْتَعَارًا لِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، شُبِّهَ حَالُهُمُ الْمُزَخْرَفُ ظَاهِرُهُ بِحَالِ الشَّيْءِ الْبَهِيجِ الْآيِلِ إِلَى الدَّمَارِ وَالْكَسْرِ فَيَكُونُ اسْمُ الْمَفْعُولِ مَجَازًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ

صَائِرٌ إِلَى السُّوءِ. وَمَا هُمْ فِيهِ هُوَ حَالُهُمْ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ فِي تَعْرِيفِهَا طَرِيقُ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ الصِّلَةَ تُحِيطُ بِأَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ وَلَا الْمُخَاطَبُونَ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمُلَابَسَةِ، تَشْبِيهًا لِلتَّلَبُّسِ بِاحْتِوَاءِ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ. وَالْبَاطِلُ اسْمٌ لِضِدِّ الْحَقَّ فَالْإِخْبَارُ بِهِ كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ يُفِيدُ مُبَالَغَةً فِي بُطْلَانِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّوْبِيخِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى الْبَاطِلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 118] . وَفِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ باطِلٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ قالَ مُسْتَأْنَفًا فِي حِكَايَةِ تَكْمِلَةِ جَوَابِ مُوسَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (¬1) - إِلَى قَوْلِهِ- قالَ فِيها تَحْيَوْنَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [24، 25] . وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُعَادُ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ إِذَا طَالَ الْمَقُولُ، أَوْ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ التَّوْبِيخِ عَلَى سُؤَالِهِمْ إِلَى غَرَضِ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يَقْتَضِي زَجْرَهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ عِبَادَةِ غَيْرِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَيْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْآلِهَةُ بَاطِلًا لَكَانَ فِي اشْتِغَالِكُمْ بِعِبَادَتِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِلَهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ وَنِدَاءٌ عَلَى الْحَمَاقَةِ وَتَنَزُّهٌ عَنْ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي حَمَاقَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ طَلَبِهِمْ أَنْ يَجْعَل لَهُم إلاها غَيْرَ اللَّهِ، وَقَدْ أُولِيَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْهَمْزَةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ اتِّخَاذُ غير الله إلاها، فَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلِاخْتِصَاصِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ أَيِ: اخْتِصَاصِ الْإِنْكَارِ بِبَغْيِ غير الله إلاها. وَهَمْزَةُ أَبْغِيكُمْ هَمْزَةُ الْمُتَكَلِّمِ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ مُضَارِعُ بَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ، وَمَصْدَرُهُ الْبُغَاءُ- بِضَمِّ الْبَاءِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 38] ، والمثبت هُوَ الْمُنَاسب للسياق.

[سورة الأعراف (7) : آية 141]

وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَمَفْعُولُهُ هُوَ غَيْرَ اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مُوسَى أَنْ يَكُونَ يَبْغِيهِ لِقَوْمِهِ. وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: أَبْغِي لَكُمْ وإِلهاً تَمْيِيزٌ لِ غَيْرَ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَحِينَ كَانَ عَامِلُهَا مَحَلَّ إِنْكَارٍ بِاعْتِبَارِ مَعْمُولِهِ، كَانَتِ الْحَالُ أَيْضًا دَاخِلَةً فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ، وَمُقَرِّرَةً لِجِهَتِهِ. وَظَاهِرُ صَوْغِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْإِنْكَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ فِعْلِيًّا: لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ أَيْ: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ، لَمْ تُفَضِّلْكُمُ الْأَصْنَامُ، فَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ تَحْمِيقًا لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ مَغْمُورُونَ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ وَيَطْلُبُونَ عِبَادَةَ مَا لَا يُنْعِمُ. وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ: أُمَمُ عَصْرِهِمْ، وَتَفْضِيلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ذُرِّيَّةُ رَسُولٍ وَأَنْبِيَاءَ، وَبِأَنَّ مِنْهُمْ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ، وَبِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْخَلَاصِ مِنْ دِينِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ تَخَبَّطُوا فِيهِ، وَبِأَنَّهُ جَعَلَهُمْ أَحْرَارًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَبِيدًا، وَسَاقَهُمْ إِلَى امْتِلَاكِ أَرْضٍ مُبَارَكَةٍ وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ وَآيَاتِهِ، وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا لِيُقِيمَ لَهُمُ الشَّرِيعَةَ. وَهَذِهِ الْفَضَائِلُ لَمْ تَجْتَمِعْ لِأُمَّةٍ غَيْرِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَتَوْا عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ إِنْكَارِ طَلَبِهِمُ اتِّخَاذَ أَصْنَامٍ مِثْلَهُمْ، لِأَنَّ شَأْنَ الْفَاضِلِ أَنْ لَا يُقَلِّدَ الْمَفْضُولَ، لِأَنَّ اقْتِبَاسَ أَحْوَالِ الْغَيْرِ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ أَرْجَحُ رَأْيًا وَأَحْسَنُ حَالًا، فِي تِلْكَ النَّاحِيَة. [141] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 141] وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ: وإِذْ أَنْجاكُمْ وَالْمَعْنَى: أأبتغي لكم إلاها غَيْرَ اللَّهِ فِي حَالِ أَنَّهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ،

[سورة الأعراف (7) : آية 142]

وَفِي زَمَانٍ أَنْجَاكُمْ فِيهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بواسطتي، فابتغاء إلاه غَيْرِهِ كُفْرَانٌ لِنِعْمَتِهِ، فَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَمُوسَى، وَمَعَادُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً [الْأَعْرَاف: 140] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا امْتِنَانًا مِنَ اللَّهِ اعْتَرَضَهُ بَيْنَ الْقِصَّةِ وَعِدَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتِقَالًا مِنَ الْخَبَرِ وَالْعِبْرَةِ إِلَى النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ تَعْظِيمٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْجَيْناكُمْ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: وَإِذْ أَنْجَاكُمْ عَلَى إِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً [الْأَعْرَاف: 140] ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مُصْحَفِ الشَّامِ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى وَبِمَجْمُوعِ الْقِرَاءَتَيْنِ يَحْصُلُ الْمَعْنَيَانِ. وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرُوا. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ خِطَابًا لِلْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ فِي زمن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءَ خِطَابٍ افْتُتِحَ بِكَلِمَةِ (إِذْ) ، وَالتَّعْرِيضُ بِتَذْكِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْأَعْرَاف: 140] وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَكِّيِّ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ مُجَادَلَةٌ مَعَ الْيَهُودِ. وَقَوْلُهُ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُشَابِهَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [142] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 142] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. عَوْدٌ إِلَى بَقِيَّةِ حَوَادِثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِمُ الْبَحْرَ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ [الْأَعْرَاف: 138] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْمُوَاعَدَةِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَوَعَدْنَا. وَحَذَفَ الْمَوْعُودَ بِهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ فِي قَوْلِهِ: ثَلاثِينَ لَيْلَةً إِلَخْ، وثَلاثِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ تَمْيِيزَهُ ظَرْفٌ لِلْمُوَاعَدِ بِهِ وَهُوَ الْحُضُورُ لِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ واعَدْنا لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ لِلِقَاءٍ فَالْعَامِلُ واعَدْنا بِاعْتِبَارِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ حُضُورًا مُدَّةَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مُدَّةَ الْمُنَاجَاةِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً تَيْسِيرًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَاهَا وَزَادَتْ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ

تَعَلُّقًا وَرَغْبَةً فِي مُنَاجَاةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، زَادَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ عَشْرَ لَيَالٍ، فَصَارَتْ مُدَّةُ الْمُنَاجَاةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قِصَّةً فِي سَبَبِ زِيَادَةِ عَشْرِ لَيَالٍ، لَمْ تَصِحَّ، وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: إِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ قُوَّتُهُ الْبَشَرِيَّةُ فَبَاعَدَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ السَّآمَةُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ يُجَنَّبُ عَنْهُ الْمُتَّقُونَ بَلَهَ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِمَّا لِأَنَّ زِيَادَةَ مَغِيبِهِ عَنْ قَوْمِهِ تُفْضِي إِلَى إِضْرَارٍ، كَمَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي الْعَشْرِ اللَّيَالِي الْأَخِيرَةِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَسُمِّيَتْ زِيَادَةُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ إِتْمَامًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ تَكُونَ مُنَاجَاةُ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهَا أَمَرَهُ بِهَا مُفَرَّقَةً، إِمَّا لِحِكْمَةِ الِاسْتِينَاسِ، وَإِمَّا لِتَكُونَ تِلْكَ الْعَشْرُ عِبَادَةً أُخْرَى فَيَتَكَرَّرَ الثَّوَابُ، وَالْمُرَادُ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا فَاقْتُصِرَ عَلَى اللَّيَالِي لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ لِأَجْلِ الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْمُنَاجَاةِ. وَالنَّفْسُ فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ تَجَرُّدًا لِلْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الْمَلَكِيَّةِ، مِنْهَا فِي النَّهَارِ، إِذْ قَدِ اعْتَادَتِ النُّفُوسُ بِحَسَبِ أصل التكوين الاستيناس بِنُورِ الشَّمْسِ وَالنَّشَاطَ بِهِ لِلشُّغْلِ، فَلَا يُفَارِقُهَا فِي النَّهَارِ الِاشْتِغَالُ بِالدُّنْيَا وَلَوْ بِالتَّفَكُّرِ وَبِمُشَاهَدَةِ الْمَوْجُودَاتِ، وَذَلِكَ يَنْحَطُّ فِي اللَّيْلِ وَالظُّلْمَةِ، وَتَنْعَكِسُ تَفَكُّرَاتُ النَّفْسِ إِلَى دَاخِلِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَزَلِ الشَّرِيعَةُ تُحَرِّضُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَلَى الِابْتِهَالِ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَة: 16] الْآيَةَ، وَقَالَ: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ» وَلَمْ يَزَلِ الشُّغْلُ فِي السَّهَرِ مِنْ شِعَارِ الْحُكَمَاءِ وَالْمُرْتَاضِينَ لِأَنَّ السَّهَرَ يُلَطِّفُ سُلْطَانَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ كَمَا يُلَطِّفُهَا الصَّوْمُ قَالَ فِي «هَيَاكِلِ النُّورِ» «النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَإِنَّمَا شَغَلَهَا عَنْ عَالَمِهَا الْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَمُشَاغَلَتُهَا فَإِذَا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالْفَضَائِلِ الرُّوحَانِيَّةِ وَضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أَحْيَانًا إِلَى عَالَمِ الْقُدُسِ وَتَتَّصِلُ بربها وتتلقى مِنْهُ الْمَعَارِفِ» . عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ التَّوْقِيتُ بِاللَّيَالِي، وَيُرِيدُونَ أَنَّهَا بِأَيَّامِهَا، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْعَرَبِيَّةَ تُبْتَدَأُ بِاللَّيَالِي إِذْ هِيَ مَنُوطَةٌ بِظُهُورِ الْأَهِلَّةِ. وَقَوْلُهُ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَذْلَكَةُ الْحِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:

فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: 196] ، فَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ. وَالتَّمَامُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّمَاءِ وَالتَّفَوُّقِ فَكَانَ مِيقَاتًا أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الْأَنْعَام: 154] إِلَى قَوْله: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: 3] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْعَشْرِ كَانَتْ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ تَكُونُ مُدَّةُ الثَلَاثِينَ بِدُونِهَا غَيْرَ بَالِغَةٍ أَقْصَى الْكَمَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمُنَاجَاةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَ الْأَمْرَ لِمُوسَى مَفْرِقًا وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ، لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى إِتْمَامِ الْأَرْبَعِينَ بِاشْتِيَاقٍ وَقُوَّةٍ. وَانْتَصَبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ: بَالِغًا أَرْبَعِينَ. وَالْمِيقَاتُ قِيلَ: مُرَادِفٌ لِلْوَقْتِ، وَقِيلَ هُوَ وَقْتٌ قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [189] . وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَبِّهِ لِلتَّشْرِيفِ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِتَحْمِيقِ بَعْضِ قَوْمِهِ حِينَ تَأَخَّرَ مَغِيبُ مُوسَى عَنْهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى هَلَكَ فِي الْجَبَلِ كَمَا رَوَاهُ ابْن جريج، وَيَشْهَدُ لِبَعْضِهِ كَلَامُ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. أَيْ: قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الصُّعُودِ إِلَى الْجَبَلِ لِلْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهُ صَعِدَ وَحْدَهُ وَمَعَهُ غُلَامُهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَمَعْنَى اخْلُفْنِي كُنْ خَلَفًا عَنِّي وَخَلِيفَةً، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عَمَلَ غَيْرِهِ عِنْدَ فَقْدِهِ فَتَنْتَهِي تِلْكَ الْخِلَافَةُ عِنْدِ حُضُورِ الْمُسْتَخْلِفِ، فَالْخِلَافَةُ وَكَالَةٌ، وَفِعْلُ خَلَفَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلْفِ- بِسُكُونِ اللَّامِ- وَهُوَ ضِدُّ الْأَمَامِ، لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يَقُومُ بِعَمَلِ مَنْ خَلَفَهُ عِنْدَ مَغِيبِهِ، وَالْغَائِبُ يَجْعَلُ مَكَانَهُ وَرَاءَهُ. وَقَدْ جَمَعَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ مِلَاكَ السِّيَاسَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ سِيَاسَةَ الْأُمَّةِ تَدُورُ حَوْلَ مِحْوَرِ الْإِصْلَاحِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، فَجَمِيعُ تَصَرُّفَاتِ الْأُمَّةِ وَأَحْوَالِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ عَائِدَةً

بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِفَاعِلِهَا وَلِغَيْرِهِ، فَإِنْ عَادَتْ بِالصَّلَاحِ عَلَيْهِ وَبِضِدِّهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ تُعْتَبَرْ صَلَاحًا، وَلَا تلبث أَن تؤول فَسَادًا عَلَى مَنْ لَاحَتْ عِنْدَهُ صَلَاحًا، ثُمَّ إِذَا تَرَدَّدَ فِعْلٌ بَيْنَ كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ جِهَةٍ وَشَرًّا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقْوَى حَالَتَيْهِ فَاعْتُبِرَ بِهَا إِنْ تَعَذَّرَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَوْفَرُ صَلَاحًا، وَإِنِ اسْتَوَى جِهَتَاهُ أُلْغِيَ إِنْ أَمْكَنَ إِلْغَاؤُهُ وَإِلَّا تَخَيَّرَ، وَهَذَا أَمْرٌ لِهَارُونَ جَامِعٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْفَسَادِ بِأَبْلَغِ صِيغَةٍ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ نَهْيٍ- وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلٍ تَنْصَرِفُ صِيغَتُهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ إِلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ- وَبَيْنَ تَعْلِيقِ النَّهْيِ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ. وَالْإِتْبَاعُ أَصْلُهُ الْمَشْيُ عَلَى حِلْفِ مَاشٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي عَمَلِ الْمُفْسِدِ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ وَالْمُفْسِدُ مَنْ كَانَ الْفَسَادُ صِفَتَهُ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الْمُفْسِدِينَ كَانَ تَحْذِيرًا مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَرْوَحُ مِنْهُ مَآلٌ إِلَى فَسَادٍ، لِأَنَّ الْمُفْسِدِينَ قَدْ يَعْمَلُونَ عَمَلًا لَا فَسَادَ فِيهِ، فَنُهِيَ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي عَمَلِ مَنْ عُرِفَ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ صُدُورَهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ بِالْفَسَادِ، كَافٍ فِي تَوَقُّعِ إِفْضَائِهِ إِلَى فَسَادٍ. فَفِي هَذَا النَّهْيِ سَدُّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ، وَسَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ عُنِيَ بِهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَكَرَّرَهَا فِي كِتَابِهِ وَاشْتُهِرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي أُصُولِ مَذْهَبِهِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ جَامِعًا لِلنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْفَسَادِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَعْرُوفُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمُفْسِدِ، وَعَمَلُ الْمُفْسِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا اعْتَادَهُ، وَتَجَنُّبُ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمُفْسِدِ وَمُخَالَطَتِهِ. وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُوسَى، أَوْ أَعْلَمَهُ، مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي رَعِيَّةِ هَارُونَ مُفْسِدِينَ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ إِنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الْفَسَادِ أَنْ يُسَايِرَهُمْ عَلَيْهِ لِمَا يَعْلَمُ فِي نَفْسِ هَارُونَ مِنَ اللِّينِ فِي سياسته، وَالِاحْتِيَاط مِنْ حُدُوثِ الْعِصْيَانِ فِي قَوْمِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الْأَعْرَاف: 150] وَقَوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ [طه: 94] .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 143 إلى 144]

فَلَيْسَتْ جُمْلَةُ: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَأَصْلِحْ تَأْكِيدًا لِلشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: 21] لِأَنَّهَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنْهَا لَجُرِّدَتْ مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَاقْتُصِرَ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ فَقِيلَ: وَأَصْلِحْ لَا تُفْسِدْ، نَعَمْ يَحْصُلُ مِنْ مَعَانِيهَا مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جملَة: وَأَصْلِحْ. [143، 144] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 143 إِلَى 144] وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) جُعِلَ مَجِيءُ مُوسَى فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ أَمْرًا حَاصِلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مُوسَى لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ، وَجُعِلَ تَكْلِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَيْضًا حَاصِلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِلْإِخْبَارِ عَنْ حُلُولِهِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْمُلَاقَاةِ تَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ، لِأَنَّ مُلَاقَاةَ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَلَيْسَ يحصل من شؤون الْمُوَاعَدَةِ إِلَّا الْكَلَامُ الصَّادِرُ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، فَلِذَلِكَ كُلِّهِ جُعِلَ مَجِيءُ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ وَتَكْلِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ شَرْطًا لِحِرْفِ (لَمَّا) لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ، وَجُعِلَ الْإِخْبَارُ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ اعْتِبَارٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، فَكَانَ الْكَلَامُ ضَرْبًا مِنَ الْإِيجَازِ بِحَذْفِ الْخَبَرِ عَنْ جُمْلَتَيْنِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا جُعِلَتَا شَرْطًا لَلَمَّا. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ زَائِدَةً فِي جَوَابِ لَمَّا كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ أَنَّ جَوَابَ لَمَّا هُوَ قَوْلُهُ وَانْتَحَى، وَجَوَّزُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ [الصافات: 103، 104] الْآيَةَ، أَنْ يَكُونَ وَنادَيْناهُ هُوَ جَوَابَ (لَمَّا) فَيَصِيرُ

التَّقْدِيرُ: لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا كَلَّمَهُ رَبُّهُ، فَيَكُونُ إِيجَازًا بِحَذْفِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْنَى إِنْشَاءِ التَّكْلِيمِ الطَّمَعُ فِي الرُّؤْيَةِ إِلَّا مِنْ لَازِمِ الْمُوَاعَدَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمِيقاتِنا صِنْفٌ مِنْ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، كَمَا سَمَّاهَا فِي «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلَهَا بِقَوْلِهِمْ: أَتَيْتُهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ، يَعْنِي أَنَّهُ اخْتِصَاصُ مَا، وَجَعَلَهَا ابْنُ هِشَامٍ بِمَعْنَى عِنْدَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى مَجِيئًا خَاصًّا بِالْمِيقَاتِ أَيْ: حَاصِلًا عِنْدَهُ لَا تَأْخِيرَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] وَفِي الْحَدِيثِ سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ فَقَالَ: «الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا» أَيْ عِنْدَ وَقْتِهَا وَمِنْهُ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] . وَيَجُوزُ جَعْلُ اللَّامِ لِلْأَجْلِ وَالْعِلَّةِ، أَيْ جَاءَ لِأَجْلِ مِيقَاتِنَا، وَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَضَمُّنِ الْمِيقَاتِ مَعْنَى الْمُلَاقَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ، أَيْ جَاءَ لِأَجْلِ مُنَاجَاتِنَا. وَالْمَجِيءُ: انْتِقَالُهُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ إِلَى جَبَلِ سِينَا الْمُعَيَّنِ فِيهِ مَكَانُ الْمُنَاجَاةِ. وَالتَّكْلِيمُ حَقِيقَتُهُ النُّطْقُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُفِيدَةِ مَعَانِي بِحَسَبِ وَضْعٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مِنْ أَعْرَاضِ الْحَوَادِثِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ التَّكْلِيمِ إِلَى اللَّهِ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَلْفَاظٍ مِنْ لُغَةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ بِكَيْفِيَّةٍ يُوقِنُ الْمُخَاطَبُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ وَوَفْقِ الْعِلْمِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ حَادِثِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَ مُوسَى حَذْوَهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ كَلَامٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ مُوسَى فِي أَرْضِ مَدْيَنَ فِي جَبَلِ (حُورِيبَ) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَلَامَ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ وَذَلِكَ الْكَلَامُ الْوَاقِعُ فِي طُورِ سِينَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ 19 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَالْكَلَامُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ كَانَ يَسْمَعُهُ مُوسَى حِينَ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ فِي الْمُنَاجَاةِ أَوْ نَحْوِهَا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يُكَلِّمُ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [51] ، وَهُوَ حَادِثٌ لَا مَحَالَةَ وَنِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ صَادِرٌ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُخَالِفَ

بِهِ الْمُعْتَادَ تَشْرِيفًا لَهُ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] ، وَقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسَرَاءِ، وَأَحْسَبُ الْأَحَادِيثَ الْقُدْسِيَّةَ كُلَّهَا أَوْ مُعْظَمَهَا مِمَّا كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا إِرْسَالُ اللَّهِ جِبْرِيلَ بِكَلَامٍ إِلَى أَحَدِ أَنْبِيَائِهِ، فَهِيَ كَيْفِيَّةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الْكَلَامِ فِي نَفْسِ الْمَلِكِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَى النَّبِيءِ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ إِلَى مُوسَى بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِقَوْلِهَا: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى. وَقَوْلُهُ: قالَ رَبِّ أَرِنِي هُوَ جَوَابُ لَمَّا عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ قَدَّرْنَا الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَكَلَّمَهُ زَائِدَةً فِي جَوَابِ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: قالَ وَاقِعًا فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَ. وَسُؤَالُ مُوسَى رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَطَلُّعٌ إِلَى زِيَادَةِ الْمُعْرِفَةِ بِالْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْمُوَاعِدَةُ تَتَضَمَّنُ الْمُلَاقَاةَ. وَكَانَتِ الْمُلَاقَاةُ تَعْتَمِدُ رُؤْيَةَ الذَّاتِ وَسَمَاعَ الْحَدِيثِ، وَحَصَلَ لِمُوسَى أَحَدُ رُكْنَيِ الْمُلَاقَاةِ وَهُوَ التَّكْلِيمُ، أَطْمَعَهُ ذَلِكَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ، وَمِمَّا يُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّكْلِيمَ هُوَ الَّذِي أَطْمَعَ مُوسَى فِي حُصُولِ الرُّؤْيَةِ جَعْلُ جُمْلَةِ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ شَرْطًا لِحَرْفِ (لَمَّا) لِأَنَّ (لَمَّا) تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِي حُصُولِ جَوَابِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما فِي هَذِهِ السُّورَةِ [22] ، هَذَا عَلَى جَعْلِ وَكَلَّمَهُ عَطْفًا عَلَى شَرْطِ لَمَّا، وَلَيْسَ جَوَابَ لَمَّا، وَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ سَأَلَ رُؤْيَةً تَلِيقُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِثْلُ الرُّؤْيَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ مُوسَى يَحْسَبُ أَنَّ مِثْلَهَا مُمْكِنٌ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يمْتَنع على نَبِي عَدَمُ الْعلم بتفاصيل الشؤون الْإِلَهِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهَا اللَّهُ إِيَّاهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَيِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحِقِّينَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِسُؤَالِ مُوسَى رُؤْيَةَ اللَّهِ عَلَى إِمْكَانِهَا بِكَيْفِيَّةٍ تلِيق بِصِفَات الإلاهية لَا نَعْلَمُ كُنْهَهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: «بِلَا كَيْفٍ» . وَكَانَ الْمُعْتَزِلَةُ غَيْرَ مُحِقِّينَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى اسْتِحَالَتِهَا بِكُلِّ صفة. وَقد يؤول الْخِلَافُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى اسْتِحَالَةِ

إِحَاطَةِ الْإِدْرَاكِ بِذَاتِ اللَّهِ وَاسْتِحَالَةِ التَّحَيُّزِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَاطِعُونَ بِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ لَا تُنَافِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا تَبَجَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فَذَلِكَ مِنْ عُدْوَانِ تَعَصُّبِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ عَلَى عَادَتِهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِعُلَمَاءِ طَرِيقَتِنَا التَّنَازُلُ لِمُهَاجَاتِهِ بِمِثْلِ مَا هَاجَاهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فَأَوْجَبَ. وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ مُوسَى رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ سِيَاقُ الْآيَةِ وَلَيْسَ هُوَ السُّؤَالَ الَّذِي سَأَلَهُ بنوا إِسْرَائِيلَ الْمَحْكِيَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [55] بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وَمَا تَمَحَّلَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ السُّؤَالُ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ لَهُ. وَمَفْعُولُ أَرِنِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكَ. وَفُصِلَ قَوْلُهُ: قالَ لَنْ تَرانِي لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ. ولَنْ يسْتَعْمل لتأبيد النَّفْيِ وَلِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْأَبَدِ، فَنَفَتْ (لَنْ) رُؤْيَةَ مُوسَى رَبَّهُ نَفْيًا لَا طَمَعَ بَعْدَهُ لِلسَّائِلِ فِي الْإِلْحَاحِ وَالْمُرَاجَعَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ طِلْبَتَهُ مُتَعَذَّرَةُ الْحُصُولِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا النَّفْيِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لكِنِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِ الِاقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ بِدُونِ تَعْلِيلٍ وَلَا إِقْنَاعٍ، أَوْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لِغَضَبٍ عَلَى السَّائِلِ وَمَنْقَصَةٍ فِيهِ، فَلِذَلِكَ يَعْلَمُ مِنْ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ بَعْضَ مَا يَتَوَهَّمُهُ سَيُرْفَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ هَلْ يَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ، وَهَذَا يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْجَبَلَ سَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِ الْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ، وَأَنَّ قُوَّةَ الْجَبَلِ لَا تَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ الْعَظِيمِ، فَيَعْلَمُ مُوسَى أَنَّهُ أَحْرَى بِتَضَاؤُلِ قُوَاهُ الْفَانِيَةِ لَوْ تَجَلَّى لَهُ شَيْءٌ مِنْ سُبُحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعُلِّقَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَقَامِ نُدْرَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ أَوِ التَّعْرِيضِ بِتَعَذُّرِهِ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ فِي مَكَانِهِ مَعْلُومًا لِلَّهِ انْتِفَاؤُهُ، صَحَّ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ الْمُرَادِ تَعَذُّرُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلِيلِ الِانْتِفَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، خِلَافًا لِمَا اعْتَادَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَرانِي لَيْسَ بِوَعْدٍ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى الْفَرْضِ لِأَنَّ سَبْقَ قَوْلِهِ: لَنْ تَرانِي أَزَالَ طَمَاعِيَّةَ السَّائِلِ الرُّؤْيَةَ، وَلَكِنَّهُ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى الْجَبَلِ أَنْ يَرَى رَأْيَ الْيَقِينِ عَجْزَ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَحْرَى، مِنْ عَدَمِ ثَبَاتِ قُوَّةِ الْجَبَلِ، فَصَارَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْجَبَلَ لَا يَسْتَقِرُّ مَكَانَهُ مِنَ التَّجَلِّي الَّذِي يَحْصُلُ عَلَيْهِ فَلَسْتَ أَنْتَ بِالَّذِي تَرَانِي، لِأَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَمَنْزِلَةُ الشَّرْطِ هُنَا مَنْزِلَةُ الشَّرْطِ الِامْتِنَاعِيِّ الْحَاصِلِ بِحَرْفِ (لَوْ) بِدَلَالَةِ قَرِينَةِ السَّابِقِ. وَالتَّجَلِّي حَقِيقَةُ الظُّهُورِ وَإِزَالَةُ الْحِجَابِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، وَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِزَالَةُ الْحَوَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حِجَابًا بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ قُوَى الْجَبَرُوتِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَصْرِيفِهَا عَلَى مَقَادِيرَ مَضْبُوطَةٍ وَمُتَدَرِّجَةٍ فِي عَوَالِمَ مُتَرَتِّبَةٍ تَرْتِيبًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَتَقْرِيبُهُ لِلْإِفْهَامِ شَبِيهٌ بِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ، وَتِلْكَ الْقُوَى تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهَا آثَارًا لِقُدْرَتِهِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، فَإِذَا أَزَالَ اللَّهُ الْحِجَابَ الْمُعْتَادَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْقُوَى الْمُؤَثِّرَةِ تَأْثِيرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ اتَّصَلَتِ الْقُوَّةُ بِالْجِسْمِ اتِّصَالًا تَظْهَرُ لَهُ آثَارٌ مُنَاسِبَةٌ لِنَوْعِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، فَتِلْكَ الْإِزَالَةُ هِيَ الَّتِي اسْتُعِيرَ لَهَا التَّجَلِّي الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، فَلَمَّا اتَّصَلَتْ قُوَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ بِالْجَبَلِ تُمَاثِلُ اتِّصَالَ الرُّؤْيَةِ انْدَكَّ الْجَبَلُ، وَمِمَّا يُقَرِّبُ هَذَا الْمَعْنَى، مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ فَوَضَعَ إِبْهَامَهُ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِ خِنْصَرِهِ يُقَلِّلُ مِقْدَارَ التَّجَلِّي. وَصَعِقَ مُوسَى مِنَ انْدِكَاكِ الْجَبَلِ فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ التَّجَلِّي إِلَيْهِ لَانْتَثَرَ جِسْمُهُ فُضَاضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَكًّا- بِالتَّنْوِينِ- وَالدَّكُّ مَصْدَرٌ وَهُوَ وَالدَّقُّ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ الْهَدُّ وَتَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ كَقَوْلِهِ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: 90] ، وَقَدْ أُخْبِرَ عَنِ الْجَبَلِ بِأَنَّهُ جُعِلَ دَكًّا لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَدْكُوكٌ أَيْ: مَدْقُوقٌ مَهْدُومٌ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ دَكَّاءَ- بِمَدٍّ بَعْدَ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ- وَالدَّكَّاءُ النَّاقَةُ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْ كَالدَّكَّاءِ أَيْ ذَهَبَتْ قُنَّتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي انْدَكَّ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ وَلَعَلَّ آثَارَ ذَلِكَ الدَّكِّ ظَاهِرَةٌ فِيهِ إِلَى الْآنِ.

وَالْخُرُورُ السُّقُوطُ عَلَى الْأَرْضِ. وَالصَّعْقُ: وَصْفٌ بِمَعْنَى الْمَصْعُوقِ، وَمَعْنَاهُ الْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ مِنْ صَيْحَةٍ وَنَحْوِهَا، مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الصَّاعِقَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ النَّارِيَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ كَهْرَبَاءِ الْبَرْقِ، فَإِذَا أَصَابَتْ جِسْمًا أَحْرَقَتْهُ، وَإِذَا أَصَابَتِ الْحَيَوَانَ مِنْ قَرِيبٍ أَمَاتَتْهُ، أَوْ مِنْ بَعِيدٍ غُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ رَائِحَتِهَا، وَسُمِّيَ خُوَيْلِدُ بْنُ نُفَيْلٍ الصَّعِقَ عَلَمًا عَلَيْهِ بِالْغَلَبَةِ، وَإِنَّمَا رَجَّحْنَا أَنَّ الْوَصْفَ وَالْمَصْدَرَ مُشْتَقَّانِ مِنَ اسْمِ الصَّاعِقَةِ دُونَ أَنْ نَجْعَلَ الصَّاعِقَةَ مُشْتَقًّا مِنَ الصَّعْقِ لِأَنَّ أَيِمَّةَ اللُّغَةِ قَالُوا: إِنَّ الصَّعْقَ الْغَشْيُ مِنْ صَيْحَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَكِنْ تَوَسَّعُوا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى مَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَدَّةٍ أَوْ رَجَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الصَّاعِقَةِ. وَالْإِفَاقَةُ: رُجُوعُ الْإِدْرَاكِ بَعْدَ زَوَالِهِ بِغَشْيٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ سُكْرٍ، أَوْ تَخَبُّطِ جُنُونٍ. وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ جَاءَ عِوَضًا عَنْ فِعْلِهِ أَيْ أُسَبِّحُكَ، وَهُوَ هُنَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ وَتَنْزِيهٍ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، لِمُنَاسَبَةِ سُؤَالِهِ مِنْهُ مَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ سُؤَاله دون استيذانه وَتَحَقُّقِ إِمْكَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [46] . وَقَوْلُهُ: تُبْتُ إِلَيْكَ إِنْشَاءٌ لِتَوْبَةٍ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: 47] وَصِيغَةُ- الْمَاضِي مِنْ قَوْلِهِ: تُبْتُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ مِثْلَ صِيَغِ الْعُقُودِ فِي قَوْلِهِمْ بِعْتُ وَزَوَّجْتُ. مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ الْعَقْدِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أُطْلِقَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمُبَادِرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِطْلَاقُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمُبَادِرِ مَجَازٌ شَائِعٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا وَفِي نَظَائِرِهِ- الْكِنَايَةُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُبَادِرُ إِلَيْهِ حِينَ تَرَدُّدِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [163] . وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ الْإِيمَانُ وَصْفَهُمْ وَلَقَبَهُمْ، أَيِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ فَالْإِيمَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللَّقَبِيِّ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ الْوَصْفُ بِأَفْعَالِ السَّجَايَا فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَدِّرُ لَهُ مُتَعَلِّقًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَهْجِ الْمَعْنَى.

وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ يَا مُوسى لِوُقُوعِ الْقَوْلِ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ، وَالنِّدَاءُ لِلتَّأْنِيسِ وَإِزَالَةِ الرَّوْعِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ إِذْ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْإِنْكَارِ. وَالِاصْطِفَاءُ افْتِعَالُ مُبَالَغَةٍ فِي الْإِصْفَاءِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخُلُوصُ مِمَّا يُكَدِّرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [33] وَضُمِّنَ اصْطَفَيْتُكَ مَعْنَى الْإِيثَارِ وَالتَّفْضِيلِ فَعُدِّيَ بِعَلَى. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: جَمِيعُ النَّاسِ، أَيِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ فِي النَّاسِ عُرْفِيُّ أَيْ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُ رَسُولٌ، وَلِتَفْضِيلِهِ بِمَزِيَّةِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ مُوسَى أَفْضَلُ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ مَضَوْا يَوْمَئِذٍ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ: فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ، لِأَنَّ مُوسَى أُرْسِلَ بِشَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَارُونَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ مُعَاوِنًا لِمُوسَى وَلَمْ يُكَلِّمْهُ اللَّهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِرِسَالَتِي وَبِكَلَامِي وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْضِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ لِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، أَوْ عَلَى جَعْلِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ شُغُلًا لِلنَّاسِ فِي نَوَادِيهِمْ بِدُونِ مُقْتَضٍ مُعْتَبَرٍ لِلْخَوْضِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ وَتَعْرِيفٌ. ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَالْأَوَّلُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالتَّكْلِيمِ. وَالثَّانِي تَفْرِيعٌ عَلَى الامتنان، وَمَا صدق مَا آتَيْتُكَ قِيلَ هُوَ الشَّرِيعَةُ وَالرِّسَالَةُ، فَالْإِيتَاءُ مُجَازٌ أُطْلِقَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَالْأَخْذُ مَجَازٌ فِي التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَا آتَيْتُكَ إِعْطَاءَ الْأَلْوَاحِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ [الْأَعْرَاف: 145] وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ، فَالْإِيتَاءُ حَقِيقَةٌ، وَالْأَخْذَ كَذَلِكَ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ مَعَ قَوْلِهِ: فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَاف: 145] وَيَحْصُلُ بِهِ أَخْذُ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ وَزِيَادَةٌ. وَالْإِخْبَارُ عَنْ كُنْ بِقَوْلِهِ: مِنَ الشَّاكِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ كُنْ شَاكِرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] . وَقَرَأَ نَافِعٌ: وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ: بِرِسَالَتِي، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ بِرِسالاتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِتَعَدُّدِ التَّكَالِيفِ وَالْإِرْشَادِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا.

[سورة الأعراف (7) : آية 145]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 145] وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ قالَ يَا مُوسى، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي [الْأَعْرَاف: 144] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ فِيهَا: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: 144] وَالَّذِي آتَاهُ هُوَ أَلْوَاحُ الشَّرِيعَةِ، أَوْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا آتَيْتُكَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَلْوَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، إِنْ كَانَ مَا آتَيْتُكَ مُرَادًا بِهِ الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُعْطِيَهَا مُوسَى فِي الْمُنَاجَاةِ، فَسَاغَ أَنْ تُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَخُذْ أَلْوَاحًا آتَيْتُكَهَا، ثُمَّ قِيلَ: كتبنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَإِذَا كَانَ مَا آتَيْتُكَ مُرَادًا بِهِ الرِّسَالَةُ وَالْكَلَامُ كَانَ التَّعْرِيفُ فِي الْأَلْوَاحِ تَعْرِيفَ الذِّهْنِي، أَيْ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي أَلْوَاح مُعَيَّنَةٍ مِنْ جِنْسِ الْأَلْوَاحِ. والألواح جَمْعُ لَوْحٍ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مُرَبَّعَةٌ مِنَ الْخَشَبِ، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ عَلَى الْأَلْوَاحِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَلْوَاحٌ مَعْهُودَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سِيقَتْ إِلَيْهِمْ تَفَاصِيلُ الْقِصَّةِ (وَإِنْ كَانَ سَوْقُ مُجْمَلِ الْقِصَّةِ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَصَلَ بِالْمُكَذِّبِينَ بِمُوسَى) . وَتَسْمِيَةُ الْأَلْوَاحِ الَّتِي أَعْطَاهَا اللَّهُ مُوسَى أَلْوَاحًا مَجَازٌ بِالصُّورَةِ لِأَنَّ الْأَلْوَاحَ الَّتِي أُعْطِيَهَا مُوسَى كَانَتْ مِنْ حِجَارَةٍ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، فَتَسْمِيَتُهَا الْأَلْوَاحَ لِأَنَّهَا عَلَى صُورَةِ الْأَلْوَاحِ، وَالَّذِي بِالْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ أَنَّ اللَّوْحَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي ابْتَدَأَتْ بِهَا شَرِيعَةُ مُوسَى، وَكَانَا لَوْحَيْنِ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَإِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَيْهَا هُنَا: إِمَّا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَا مَكْتُوبَيْنِ عَلَى كِلَا وَجْهَيْهِمَا، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْإِصْحَاحُ الثَّانِي وَالثَلَاثُونَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعَةِ أَلْوَاحٍ. وَأُسْنِدَتِ الْكِتَابَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً نَقْشًا فِي الْحَجَرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ إِنْسَانٍ بَلْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ، كَمَا أُسْنِدَ الْكَلَامُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْله: وَبِكَلامِي [الْأَعْرَاف: 144] .

وَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تبعيضية مُتَعَلقَة ب كَتَبْنا وَمَفْعُولُ كَتَبْنا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كَتَبْنَا أَيْ مَكْتُوبًا، وَيَجُوزُ جَعْلُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِكَتَبْنَا، أَيْ كَتَبْنَا لَهُ بَعْضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [16] وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَكُلِّ شَيْءٍ عَامٌّ عُمُومًا عُرْفِيًّا أَيْ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي دِينِهَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 138] علئى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَعَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أُصُولَهُ. وَالَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الْأَلْوَاحِ هُوَ أَصُولُ كُلِّيَّاتٍ هَامَّةٍ لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ بِهَا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مَا فِي الْإِصْحَاحِ (20) مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ وَنَصُّهَا: أَنا الرب إلاهك الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، لَا يكن لَك ءالهة أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ، مِنْ فَوْقَ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتَ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ لِأَنِّي أَنا الرب إلاهك غَيُورٌ افْتَقِدْ ذُنُوبَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ من مبغضيّ واصنع إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ، لَا تَنْطِقْ باسم الرب إلاهك بَاطِلًا لِأَنَّ الرب لَا يبرىء مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا، اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سبت للرب إلاهك لَا تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأُخْتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخَلَ أَبْوَابِكَ لِأَنَّ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَا وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ، وَكُلَّ مَا فِيهَا وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ، أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يعطيك الرب إلاهك، لَا تَقْتُلْ، لَا تَزْنِ لَا تَسْرِقْ، لَا تَشْهَدْ، عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ، لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ، وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لقريبك اهـ، وَاشْتُهِرَتْ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْوَصَايَا الْعَشْرِ، وَبِالْكَلِمَاتِ الْعشْر أَي لجمل الْعَشْرِ. وَقَدْ فُصِلَتْ (فِي) من الْإِصْحَاحِ الْعِشْرِينَ إِلَى نِهَايَةِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى فِي جَبَلِ سِينَا

وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ أَنَّ الْأَلْوَاحَ لَمْ تُكْتَبْ فِيهَا إِلَّا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ، الَّتِي بِالْفِقْرَاتِ السَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ هُنَا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا يَقْتَضِي الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا فِي الْأَصَاحِيحِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ. وَالْمَوْعِظَةُ اسْمُ مَصْدَرِ الْوَعْظِ وَهُوَ نُصْحٌ بِإِرْشَادٍ مَشُوبٍ بِتَحْذِيرٍ مِنْ لَحَاقِ ضُرٍّ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ بِتَحْرِيضٍ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ، مَغْفُولٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [275] ، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] ، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [125] . وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ لِلْمُجْمَلَاتِ وَلَعَلَّ الْمَوْعِظَةَ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ وَالتَّفْصِيلُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْإِصْحَاحَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَانْتَصَبَ مَوْعِظَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ (مِنْ) إِذَا كَانَتِ اسْمًا- إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّفْصِيلِ قَدْ عَقِبَ كِتَابَةَ الْأَلْوَاحِ بِمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْحَادِيِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ وَلِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِثْرَ ذَلِكَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ أَيْ واعظين ومفصلين، فموعظة حَالٌ مُقَارِنَةٌ وَتَفْصِيلًا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَأَمَّا جَعْلُهُمَا بَدَلَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلًا. وَقَوْلُهُ: فَخُذْها يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفَاءَ دَالَّةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَلَمَّا لَمْ يَقَعْ فِيمَا وَلَيْتُهُ مَا يصلح لِأَن يتقرع عَنْهُ الْأَمْرُ بِأَخْذِهَا بِقُوَّةٍ. تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَخُذْها بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: 144] بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِقُوَّةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ الْمُطْلَقُ، وَقَدِ اقْتَضَاهُ الْعَوْدُ، إِلَى مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى إِثْرَ صَعْقَتِهِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْخِطَابِ فَأُعِيدَ مَضْمُونُ مَا سَبَقَ لِيَتَّصِلَ بِبَقِيَّتِهِ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ بِقُوَّةٍ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضٍ، وَلَوْلَا إِعَادَةُ فَخُذْها لَكَانَ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ: مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: 144] وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا اعْتِرَاضًا عَلَى بَابِهِ وَلَمَّا اقْتَضَى الْمَقَامُ هَذَا الْفَصْلَ، وَإِعَادَةَ الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ، اقْتَضَى حُسْنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ

فِي الْإِعَادَةِ زِيَادَةٌ، فَأُخِّرَ مُقَيِّدُ الْأَخْذِ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِقُوَّةٍ، عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَعُلِّقَ بِالْأَمْرِ الثَّانِي الرَّابِطُ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: فَخُذْها بِتَأْكِيدٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظْمُ حِكَايَةِ الْخِطَابِ لِمُوسَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ الْخِطَابِ الْمَحْكِيِّ إِعَادَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ هَذَا الْأَخْذِ، فَيَكُونُ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَيَكُونُ تَأْخِيرُ الْقَيْدِ تَحْسِينًا لِلتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِيَكُونَ مَعَهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَيَكُونَ الِاعْتِرَاضُ قَدْ وَقَعَ بَين التوكيد والموكّد وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظْمُ الْخِطَابِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى حُكِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أُسْلُوبِهِ الصَّادِرِ بِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها عَائِدٌ إِلَى الْأَلْوَاحِ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ. وَالْمَقُولُ لِمُوسَى هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ، وَفِي هَذَا الضَّمِيرِ تَفْسِيرٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: 144] وَفِي هَذَا تَرْجِيحُ كَون مَا صدق مَا آتَيْتُكَ هُوَ الْأَلْوَاحُ، وَمَنْ جعلُوا مَا صدق مَا آتَيْتُكَ الرِّسَالَةَ وَالْكَلَامَ جَعَلُوا الْفَاءَ عَاطِفَةً لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى جُمْلَةِ وَكَتَبْنا وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: وَكَتَبْنَا فَقُلْنَا خُذْهَا بِقُوَّةٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَحْسَنُ وَأَوْفَقُ بِالنَّظْمِ. وَالْأَخْذُ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِقُوَّةٍ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى لَهُ بِهَا أَنْ يَعْمَلَ مَا يَشُقُّ عَمَلُهُ فِي الْمُعْتَادِ فَتَكُونُ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِثْلَ قُوَّةِ الْيَدَيْنِ عَلَى الصُّنْعِ الشَّدِيدِ، وَالرِّجْلَيْنِ عَلَى الْمَشْيِ الطَّوِيلِ، وَالْعَيْنَيْنِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمَرْئِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ. وَتَكُونُ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مِثْلَ قُوَّةِ الدِّمَاغِ عَلَى التَّفْكِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُهُ غَالِبُ النَّاسِ، وَعَلَى حِفْظِ مَا يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهِ غَالِبُ النَّاسِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قُوَّةُ الْعَقْلِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْقُوَى عَلَى الْعَقْلِ وَفِيمَا أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: وَصَاحِبَيْنِ حَازِمًا قُوَاهُمَا نُبِّهَتْ وَالرُّقَادُ قَدْ عَلَاهُمَا ... إِلَى أَمُونَيْنِ فَعَدَّيَاهُمَاِِِِِِِِ

وَسَمَّى الْحُكَمَاءُ الْحَوَاسَّ الْخَمْسَ الْعَقْلِيَّةَ بِالْقُوَى الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الْحَافِظَةُ، وَالْوَاهِمَةُ، وَالْمُفَكِّرَةُ، وَالْمُخَيِّلَةُ، وَالْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ. فَيُقَالُ: فَرَسٌ قَوِيٌّ، وَجَمَلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُقَالُ: عُودٌ قَوِيٌّ، إِذَا كَانَ عسير الانكسار، وأسّس قَوِيٌّ، إِذَا كَانَ لَا يَنْخَسِفُ بِمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنْ جِدَارٍ ثَقِيلٍ، إِطْلَاقًا قَرِيبًا مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَهَاتِهِ الْحَالَةُ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ لِأَنَّهَا فِي بَعْضِ مَوْصُوفَاتِهَا أَشَدُّ مِنْهَا فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتُهَا فِي تَفَاوُتِ مَا يَسْتَطِيعُ مَوْصُوفُهَا أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ عَمَلٍ مِمَّا هِيَ حَالَّةٌ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْقُوَّةِ أَنَّ قُدْرَةَ صَاحِبِهَا عَلَى عَمَلِ مَا يُرِيدُهُ أَشَدُّ مِمَّا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَالْأَعْمَالُ عَلَيْهِ أَيْسَرُ، شَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْوَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا الْمَرْء على تذليل الْمَصَاعِبِ مِثْلَ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ، وَالْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [33] . وَلِكَوْنِهَا يَلْزَمُهَا الِاقْتِدَارُ عَلَى الْفِعْلِ وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِ الْقَوِيِّ أَيِ الْكَامِلِ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [52] . وَالْقُوَّةُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها بِقُوَّةٍ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْعَزْمِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِي الْأَلْوَاحِ، بِمُنْتَهَى الْجِدِّ وَالْحِرْصِ دُونَ تَأْخِيرٍ وَلَا تَسَاهُلٍ وَلَا انْقِطَاعٍ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ وَلَا مَلَلٍ، بِحَالَةِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ عَمَلٌ يُرِيدُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [12] . وَهَذَا الْأَخْذُ هُوَ حَظُّ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ الْمُبَلِّغِينَ لِلشَّرِيعَةِ وَالْمُنَفِّذِينَ لَهَا، فَاللَّهُ الْمُشَرِّعُ، وَالرَّسُولُ الْمُنَفِّذُ، وَأَصْحَابُهُ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ هُمْ أَعْوَانٌ عَلَى التَّنْفِيذِ، وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْأَخْذِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَضْرَتِهِ وَعِنْدَ مَغِيبِهِ، وَهُوَ وَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ كَسَائِرِ الْأُمَّةِ. فَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها تَعْرِيجٌ عَلَى مَا هُوَ حَظُّ عُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِهَا، فَهَذَا الْأَخْذُ مَجَازٌ فِي التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اللُّصُوقِ، يُقَالُ: أَخَذَ بِكَذَا إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ [الْأَعْرَاف: 150] وَقَوْلِهِ: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه: 94] . وَلَمْ يُعَدَّ فِعْلُ الْأَخْذِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ، فَأَنَّ الْأَوَّلَ حَظُّ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالثَّانِي حَظُّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ.

وَجُزِمَ يَأْخُذُوا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَأْمُرْ تَحْقِيقًا لحُصُول امتثالهم عِنْد مَا يَأْمُرُهُمْ. وبِأَحْسَنِها وَصْفٌ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُسْنِ، فَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْأَلْوَاحِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: بِالْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ لَهَا وَهُوَ جَمِيعُ مَا فِيهَا، لِظُهُورِ أَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ لَيْسَ بَيْنَهُ تَفَاضُلٌ بَيْنَ أَحْسَنَ وَدُونَ الْأَحْسَنِ، بَلْ كُلُّهُ مَرْتَبَةٌ وَاحِدَةٌ فِيمَا عُيِّنَ لَهُ، وَلِظُهُورِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأَخْذِ بِبَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مُفَصَّلٌ فِيهَا مَرَاتِبُ الْأَعْمَالِ، فَلَوْ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ كَانَ عِنْدَهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ، كَالْمَنْدُوبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبَاحِ، وَكَالرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَزِيمَةِ، كَانَ التَّرْغِيبُ فِي الْعَمَلِ بِالْأَفْضَلِ مَذْكُورًا فِي الشَّرِيعَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْذِ بِهَا، فَقَرَائِنُ سَلْبِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ قَائِمَةٌ وَاضِحَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالتَّعَزُّبِ إِلَى التَّنْظِيرِ بِتَرَاكِيبَ مَصْنُوعَةٍ أَوْ نَادِرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [55] . وَالْمَعْنَى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِمَا فِيهَا لحسنها. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ. كَلَامٌ مُوَجَّهٌ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا: هُوَ وَعْدٌ لَهُ بِدُخُولِهِمُ الْأَرْضَ الْمَوْعُودَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا فَتَكُونُ مِنْ تَمَامِ جُمْلَةِ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها عَلَى أَنَّهَا تَحْذِيرٌ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي شَيْءٍ مِمَّا كُتِبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ. وَالْمَعْنَى سَأُبَيِّنُ لَكُمْ عِقَابَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ بِهَا. وَالدَّارُ الْمَكَانُ الَّذِي تَسْكُنُهُ الْعَائِلَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [81] وَالْمَكَانُ الَّذِي يَحُلُّهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ حَيٍّ أَوْ قَبِيلَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الْأَعْرَاف: 91] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَتُطْلَقُ الدَّارُ عَلَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ النَّاسُ أَوِ الْمَرْءُ مِنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 24] ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَآلُ الْمَرْءِ وَمَصِيرُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ يَأْوِي إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [135] . وَخُوطِبَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ بِاعْتِبَارِ

جَمَاعَةِ قَوْمِهِ فَالْخِطَابُ شَامِلٌ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. وَالْإِرَاءَةُ مَنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ لِأَنَّهَا عُدِّيَتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَقَطْ. وأوثر فعل سَأُرِيكُمْ دُونَ نَحْوِ: سَأُدْخِلُكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مَنَعَ مُعْظَمَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ قِتَالِ الْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [26] . وَجَاءَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى: «وَأَنْتَ لَا تَدْخُلُ إِلَى هُنَاكَ» وَفِي الْإِصْحَاحِ (34) «وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ (نَبْو) فَأَرَاهُ اللَّهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ» وَقَالَ لَهُ: «هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَقْسَمْتُ لِإِبْرَاهِيمَ قَائِلًا لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا قَدْ أَرَيْتُكَ إِيَّاهَا بِعَيْنَيْكَ وَلَكِنَّكَ لَا تَعْبُرُ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَأُرِيكُمْ خِطَابًا لِقَوْمِ مُوسَى، فَيَكُونُ فِعْلُ أُرِيكُمْ كِنَايَةً عَنِ الْحُلُولِ فِي دَارِ الْفَاسِقِينَ، وَالْحُلُولُ فِي دِيَارِ قَوْمٍ لَا يكون إلّا الْفَتْح وَالْغَلَبَةِ، فَالْإِرَاءَةُ رَمْزٌ إِلَى الْوَعْدِ بِفَتْحِ بِلَادِ الْفَاسِقِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ الْمُشْرِكُونَ، فَالْكَلَامُ وَعْدٌ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ بِأَنْ يَفْتَحُوا دِيَارَ الْأُمَمِ الْحَالَّةِ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ خِطَابًا لِلشَّعْبِ «احْفَظْ مَا أَنَا مُوصِيكَ بِهِ هَا أَنَا طَارِدٌ مِنْ قُدَّامِكَ الْأَمُورِيِّينَ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ، وَالْحَثِّيِّينَ، وَالْفَرْزِيِّينَ، وَالْحَوِّيِّينِ، وَالْيَبُوسِيِّينَ، احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ آتٍ إِلَيْهَا لِئَلَّا يَصِيرُوا فَخًّا فِي وَسَطِكَ بَلْ تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ وَتَكْسِرُونَ أَنْصَابَهُمْ وَتَقْطَعُونَ سُوَارِيَهُمْ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِإِلَهٍ آخَرَ» . وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ دَارَ الْفَاسِقِينَ هِيَ دَارُ الْعَمَالِقَةِ وَالْجَبَابِرَةِ، وَهِيَ الشَّامُ، فَمِنَ الْخَطَأِ تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرُوا دَارَ الْفَاسِقِينَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا بِهَا وَخَرَجُوا مِنْهَا وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا، وَمِنَ الْبَعِيدِ تَفْسِيرُ دَارِ الْفَاسِقِينَ بِجِهَتِهِمْ، وَفِي الْإِصْحَاحِ 34 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ آتٍ إِلَيْهَا فَيَزْنُونَ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ وَيَذْبَحُونَ لِآلِهَتِهِمْ فَتُدْعَى وَتَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِهِمْ وَتَأْخُذُ مِنْ بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكَ فَتَزْنِي بَنَاتُهُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِنَّ وَيَجْعَلْنَ بَنِيكَ يَزْنُونَ وَرَاءَ آلِهَتِهِنَّ» ، وَلَا يَخْفَى حُسْنُ مُنَاسَبَةِ التَّعْبِيرِ عَنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِالْفَاسِقِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 146]

وَقِيلَ الْمُرَادُ بِدَارِ الْفَاسِقِينَ دِيَارُ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِثْلَ دِيَارِ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ لِكُفْرِهِمْ، أَيْ سَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ فَتَرَوْنَ دِيَارَهُمْ فَتَتَّعِظُونَ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ لِفِسْقِهِمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمُرُّوا مَعَ مُوسَى عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ. وَالْعُدُولُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْأُمَمِ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْفَاسِقِينَ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى تَسَبُّبِ الْوَصْفِ فِي الْمَصِيرِ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ وَأَوْجَزُ، وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْفَاسِقِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّالِمِينَ الشَّائِعِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الشِّرْكِ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُمُ السُّوأَى تَسَبَّبَتْ عَلَى الشِّرْكِ وَفَاسِدِ الْأَفْعَال مَعًا. [146] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 146] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِمَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ سَأَصْرِفُ إِلَخ بأسهم، اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَهَابُونَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ وَيَخْشَوْنَ، فَكَأَنَّهُمْ تَسَاءَلُوا كَيْفَ تُرِينَا دَارَهُمْ وَتَعِدُنَا بِهَا، وَهَلْ لَا نَهْلِكُ قَبْلَ الْحُلُولِ بِهَا، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [22] وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ اللَّهَ سَيَصْرِفُ أُولَئِكَ عَنْ آيَاتِهِ. وَالصَّرْفُ الدَّفْعُ أَيْ سَأَصُدُّ عَنْ آيَاتِي، أَيْ عَنْ تَعْطِيلِهَا وَإِبْطَالِهَا. وَالْآيَاتُ الشَّرِيعَةُ، وَوَعَدَ اللَّهُ أَهْلَهَا بِأَنْ يُورِثَهُمْ أَرْضَ الشَّامِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى سَأَتَوَلَّى دَفْعَهُمْ عَنْكُمْ، وَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ «هَا أَنَا طَارِدٌ مِنْ قُدَّامِكَ الْأَمُورِيِّينَ إِلَخْ» ، فَالصَّرْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ بِمُوسَى وَقَومه بِمَا يهيء لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْأَقْوِيَاءِ، كَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَشْتِيتِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيجَادِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَفُتُّ فِي سَاعِدِ عُدَّتِهِمْ أَوْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْنَا أَرْضَ الْعَدُوِّ فَلَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَدْيِنَا، وَيَتَّبِعُونَ دِينَنَا، فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ لِأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى التَّكَبُّرِ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ، فَالصَّرْفُ

هُنَا صَرْفٌ تَكْوِينِيٌّ فِي نُفُوسِ الْأَقْوَامِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُبَالِغُ فِي كُفْرِهِ وَيَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَاتَ قَلْبُهُ. وَفِي قَصِّ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِكُفَّارِ الْعَرَبِ بِأَنَّ اللَّهَ دَافِعُهُمْ عَنْ تَعْطِيلِ آيَاتِهِ، وَبِأَنَّهُ مَانِعٌ كَثِيرًا مِنْهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ [الْأَعْرَاف: 145] تَعْرِيضًا بِأَنَّ حَالَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَحَالِ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ، وَتَصْرِيحًا بِسَبَبِ إِدَامَتِهِمُ الْعِنَادَ وَالْإِعْرَاضَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا، وَتَأْتِي فِي مَعْنَى الصَّرْفِ عَنِ الْآيَاتِ الْوُجُوهُ السَّابِقَةُ وَاقْتِرَانُ فِعْلِ سَأَصْرِفُ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ الْقَرِيبِ تُنَبِّهُهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُ ذَلِكَ الصَّرْفَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ على مفعول سَأَصْرِفُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَهُ عَقِبَ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ هُوَ بِهِ أَحْسَنُ. وَتَعْرِيفُ الْمَصْرُوفِينَ عَنِ الْآيَاتِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ إِلَى عِلَّةِ الصَّرْفِ. وَهِيَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَاتُ الْمَذْكُورَةُ، لِأَنَّ مَنْ صَارَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ حَالَاتٍ لَهُ يَنْصُرُهُ اللَّهُ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ ذَلِكَ حَالَهُ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ، فَصُرِفَ قَلْبُهُ عَنْ إِدْرَاكِ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَزَالَتْ مِنْهُ الْأَهْلِيَّةُ لِذَلِكَ الْفَهْمِ الشَّرِيفِ. وَالْأَوْصَافُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الصِّلَاتُ فِي الْآيَةِ تَنْطَبِقُ عَلَى مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ أَتَمَّ الِانْطِبَاقِ. وَالتَّكَبُّرُ الِاتِّصَافُ بِالْكِبْرِ. وَقَدْ صِيغَ لَهُ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكَلُّفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: 34] وَقَوْلِهِ: اسْتَكْبَرْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُعْجَبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عُظَمَاءَ فَلَا يَأْتَمِرُونَ لِآمِرٍ، وَلَا يَنْتَصِحُونَ لِنَاصِحٍ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ لِتَفْضِيحِ تَكَبُّرِهِمْ، وَالتَّشْهِيرِ بِهِمْ بِأَنَّ كِبْرَهُمْ مَظْرُوفٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَيْسَ هُوَ خَفِيًّا مُقْتَصِرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلْ هُوَ مَبْثُوثٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ

مَبْثُوثٌ أَثَرُهُ، فَهُوَ تَكَبُّرٌ شَائِعٌ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُس: 23] وَقَوْلِهِ: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَة: 27] وَقَوْلِهِ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاء: 37] وَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ: فَهَلَّا أَعْدَوْنِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... وَفِي الْأَرْضِ مَبْثُوثٌ شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةٌ لِتَشْنِيعِ التَّكَبُّرِ بِذِكْرِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ، وَهُوَ مُغَايَرَةُ الْحَقِّ، أَيْ: بَاطِلٌ وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ لِلتَّكَبُّرِ، كَاشِفَةٌ لِوَصْفِهِ، إِذِ التَّكَبُّرُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ فِي جَانِبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ لِلَّهِ بِحَقٍّ لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، وَلَيْسَ تَكَبُّرُ اللَّهِ بِمَقْصُودٍ أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْهُ هُنَا حَتَّى يُجْعَلَ الْقَيْدُ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَاوَلَ جَعْلَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ الْحَقِّ قَيْدًا لِلتَّكَبُّرِ، وَجَعَلَ مِنَ التَّكَبُّرِ مَا هُوَ حَقٌّ، لِأَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى الْمُبْطِلِ، وَمِنْهُ الْمَقَالَةُ الْمَشْهُورَةُ «الْكِبْرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ» وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهَا جَرَتْ عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْغَلَطِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: يَتَكَبَّرُونَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [96، 97] وَكُلُّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [145] . وَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِوَسِيلَةِ الشَّيْءِ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الرُّشْدِ وَإِلَى الْغَيِّ. وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِدْرَاكِ. وَالِاتِّخَاذُ حَقِيقَتُهُ مُطَاوِعُ أَخَّذَهُ بِالتَّشْدِيدِ، إِذَا جَعَلَهُ آخِذًا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَخْذِ الشَّيْءِ وَلَوْ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازَمَةِ، أَيْ لَا يُلَازِمُونَ طَرِيقَ الرُّشْدِ، وَيُلَازِمُونَ طَرِيقَ الْغَيِّ. وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ وَفِعْلُ النَّافِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الشَّيْءُ الصَّالِحُ كُلُّهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالْغَيُّ الْفَسَادُ وَالضَّلَالُ، وَهُوَ ضِدُّ الرُّشْدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ السَّفَهَ ضِدُّ الرُّشْدِ بِمَعْنَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي الْمَالِ، فَالْمَعْنَى: إِنْ يُدْرِكُوا الشَّيْءَ الصَّالِحَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.

لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ يُدْرِكُوا الْفَسَادَ عَمِلُوا بِهِ لِغَلَبَةِ الْهَوَى، فَالْعَمَلُ بِهِ حَمْلٌ لِلنَّفْسِ عَلَى كُلْفَةٍ، وَذَلِكَ تَأْبَاهُ الْأَنْفُسُ الَّتِي نَشَأَتْ عَلَى مُتَابَعَةِ مَرْغُوبِهَا، وَذَلِكَ شَأْنُ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يُرَوِّضُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْهُدَى الْإِلَهِيِّ، وَلَا بِالْحِكْمَةِ وَنَصَائِحِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ الْغَيِّ، فَإِنَّهُ مَا ظَهَرَ فِي الْعَالَمِ إِلَّا مِنْ آثَارِ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَدَعَوَاتِهَا الَّتِي يُزَيِّنُ لَهَا الظَّاهِرُ الْعَاجِلُ، وَتَجَهُّلُ عَوَاقِبِ السُّوءِ الْآجِلَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ فِي الصِّلَاتِ الْأَرْبَعِ بِالْأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ: لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدِ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. وَجُمْلَةُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ تَوْسِيمَهُمْ بِتِلْكَ الصِّلَاتِ يُثِيرُ سُؤَالًا. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ، نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَاسْتُعْمِلُ لَهُ اسْمُ إِشَارَةِ الْمُفْرِدِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: 68] أَيْ مَنْ يَفْعَلِ الْمَذْكُورَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَأُلْحِقَ بِهِ الضَّمِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [61] . وَالْبَاء السَّبَبِيَّة أَيْ: كِبْرُهُمْ. وَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ، وَاتِّبَاعُهُمْ سَبِيلَ الْغَيِّ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ سَبَبُهُ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ بَيَانَ سَبَبِ الْكِبْرِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ صَرْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ السَّبَبِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إِرْجَاعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الصّرْف الْمَأْخُوذَة مِنْ سَأَصْرِفُ لِأَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ يَجْعَلُ التَّكْذِيبَ سَبَبًا ثَانِيًا لِلصَّرْفِ، وَجَعْلُهُ سَبَبًا لِلسَّبَبِ أَرْشَقُ. وَاجْتُلِبَتْ (أَنْ) الدَّالَّةُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَالتَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ هَذَا التَّسَبُّبِ وَتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ عَرَابَةٍ.

[سورة الأعراف (7) : آية 147]

وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مَاضِيًا، لِإِفَادَةِ أَنَّ وَصْفَ التَّكْذِيبِ قَدِيمٌ رَاسِخٌ فِيهِمْ، فَكَانَ رُسُوخُ ذَلِكَ فِيهِمْ سَبَبًا فِي أَنْ خَلَقَ الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يَشْعُرُونَ بِنَقَائِصِهِمْ، وَلَا يُصْلِحُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَلَا يَزَالُونَ مُتَكَبِّرِينَ مُعْرِضِينَ غَاوِينَ. وَمَعْنَى كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُم ابتدأوا بِالتَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ فَدَامُوا عَلَى الْكِبْرِ وَمَا مَعَهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُمْ حَصَلَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها. وَالْغَفْلَةُ انْصِرَافُ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ عَنْ تَذَكُّرِ شَيْءٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا كَانَ عَنْ قَصْدٍ بِإِعْرَاضٍ وَتَشَاغُلٍ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهَا مَا كَانَ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، فَأَمَّا الْغَفْلَةُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ: يُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْغَافِلِ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ قَصْدٍ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ كانُوا عَنْها غافِلِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ غَفْلَتِهِمْ. وَكَوْنِهَا دَأْبًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانُوا قَدِ الْتَزَمُوهَا، فَأَمَّا لَوْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. فَإِنَّهَا قَدْ تَعْتَرِيهِمْ وَقد تفارقهم. [147] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 147] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ [الْأَعْرَاف: 146] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَيجوز أَن يكون مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 146] ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ آثَارُهَا الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِينَ الْجَاحِدِينَ لِلْآيَاتِ، وَكَانَ لَا تَخْلُو جَمَاعَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ فَرِيقٍ قَلِيلٍ يَتَّخِذُ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَنْ حِلْمٍ وَحُبٍّ لِلْمَحْمَدَةِ، وَهُمْ بَعْضُ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعُظَمَاؤُهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ، كَانُوا قَدْ يَحْسَبُ السَّامِعُ أَنْ سَتَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمْ، أُزِيلَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ

وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ، وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ سَبَبُ حَبَطِ أَعْمَالِهِمْ بِتَعْرِيفِهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ، دُونَ الْإِضْمَارِ، مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِمُ الْمُقْتَضِي بِحَسَبِ الظَّاهِرِ الْإِضْمَارَ فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِذَلِكَ. وَإِضَافَةُ وَلِقاءِ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) لِأَنَّهَا إِضَافَةٌ إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ، مِثْلُ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 24] أَيْ لِقَاءِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لِقَاءِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَالْحَبَطُ فَسَادُ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ صَالِحًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [5] . وَجُمْلَةُ: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا، جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إِذْ قَدْ يَقُولُ سَائِلٌ: كَيْفَ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ، فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ جُوزُوا كَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ كَانُوا قَدْ أَحَالُوا الرِّسَالَةَ وَالتَّبْلِيغَ عَنِ اللَّهِ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ جَزَاءً حَسَنًا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ قَدْ عَطَّلُوا طَرِيقَ الْإِخْبَارِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ، فَقَدْ قَطَعُوا الصِّلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ، فَكَانَ حَبَطُ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وِفَاقًا لِاعْتِقَادِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، فَأُطْلِقَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْآيَاتِ وَبِلِقَاءِ الْآخِرَةِ فِعْلُ يَعْمَلُونَ لِأَنَّ آثَارَ الِاعْتِقَادِ تَظْهَرُ فِي أَقْوَالِ الْمُعْتَقِدِ وَأَفْعَالِهِ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ مُشْرَبٌ مَعْنَى النَّفْيِ، وَقَدْ جُعِلَ مِنْ مَعَانِي (هَلْ) النَّفْيُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [90] ، فَانْظُرْهُ هُنَاكَ. وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ مُقَدَّرٌ فِيهِ مُضَافٌ، وَالتَّقْدِيرُ مُكَافِئٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يُجْزَوْنَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَكُونُ نَفْسَ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِعْلَ جَزَى يَتَعَدَّى إِلَى الْعِوَضِ الْمَجْعُولِ جَزَاءً بِنَفْسِهِ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْعَمَلِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ بِالْبَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الْإِنْسَان: 12] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ

[سورة الأعراف (7) : آية 148]

الْأَنْعَامِ [139] سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ. [148] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 148] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَواعَدْنا مُوسى [الْأَعْرَاف: 142] عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ قِصَّةُ الْمُنَاجَاةِ، وَمَا حَصَلَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فِي مُدَّةِ مَغِيبِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ، مِنَ الْإِشْرَاكِ. فَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَغِيبِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: 143] وَمِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الْأَعْرَاف: 142] . وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَعَ «بَعْدِ» الْمُضَافَةِ إِلَى اسْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَ (مِنْ) فِي مِثْلِهِ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَصْلُ مَعَانِي (مِنْ) وَأَمَّا (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ حُلِيِّهِمْ فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ. وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، جَمْعُ حَلْيٍ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ، وَوَزْنُ هَذَا الْجَمْعِ فُعُولٌ كَمَا جُمِعَ ثُدِيُّ، وَيَجْمَعُ أَيْضًا عَلَى حِلِيٍّ، بِكَسْرِ الْحَاءِ مَعَ اللَّامِ، مِثْلَ عِصِيٍّ وَقِسِيٍّ اتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَبِالْأَوَّلِ قَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ، وَبِالثَّانِي حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ حَلْيِهِمْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ، أَيِ اتَّخَذُوا مِنْ مَصُوغِهِمْ وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ مِنْ ذَهَبٍ، نَزَعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَبَنِيهِمْ. وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ثَوْرًا، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ طه أَنَّ صَانِعَ الْعِجْلِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ السَّامِرِيُّ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ صَانِعَهُ هُوَ هَارُونُ، وَهَذَا مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الْوَاقِعِ فِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ مُوسَى، وَلَمْ يَكُنْ هَارُونُ صَائِغًا، وَنُسِبَ الِاتِّخَاذُ إِلَى قَوْمِ مُوسَى كُلِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّهُمُ الْآمِرُونَ بِاتِّخَاذِهِ وَالْحَرِيصُونَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَجَازٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَعْنَى اتَّخَذُوا عِجْلًا صُورَةَ عِجْلٍ، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الصُّورَةِ، وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ.

وَالْجَسَدُ الْجِسْمُ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ، فَهُوَ خَاصٌّ بِجِسْمِ الْحَيَوَانِ إِذَا كَانَ بِلَا رُوحٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَجِسْمِ الْعِجْلِ فِي الصُّورَةِ وَالْمِقْدَارِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيٍّ وَمَا وَقَعَ فِي الْقَصَصِ: أَنَّهُ كَانَ لَحْمًا وَدَمًا وَيَأْكُل وَيَشْرَبُ، فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْقَصَّاصِينَ، وَكَيْفَ وَالْقُرْآنُ يَقُولُ: مِنْ حُلِيِّهِمْ، وَيَقُولُ: لَهُ خُوارٌ، فَلَوْ كَانَ لَحْمًا وَدَمًا لَكَانَ ذِكْرُهُ أَدْخَلَ فِي التَّعْجِيبِ مِنْهُ. وَالْخُوَارُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ صَوْتُ الْبَقَرِ، وَقَدْ جَعَلَ صَانِعُ الْعِجْلِ فِي بَاطِنِهِ تَجْوِيفًا عَلَى تَقْدِيرٍ مِنَ الضِّيقِ مَخْصُوصٍ، وَاتَّخَذَ لَهُ آلَةً نَافِخَةً خَفِيَّةً، فَإِذَا حُرِّكَتْ آلَةُ النَّفْخِ انْضَغَطَ الْهَوَاءُ فِي بَاطِنِهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَضِيقِ، فَكَانَ لَهُ صَوْتٌ كَالْخُوَارِ، وَهَذِهِ صَنْعَةٌ كَصَنْعَةِ الصَّفَّارَةِ وَالْمِزْمَارِ، وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ يَجْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِصُنْعِهِمَا الْمُسَمَّى بَعْلًا. وجَسَداً نَعْتٌ لِ عِجْلًا وَكَذَلِكَ لَهُ خُوارٌ. وَجُمْلَةُ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِبَيَانِ فَسَادِ نَظَرِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَلِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ هُوَ غَيْرُ الْوَاقِعِ مِنْ حَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ حَالَهُمْ يُشْبِهُ حَالَ مَنْ لَا يَرَوْنَ عَدَمَ تَكْلِيمِهِ، فَوَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لَعَلَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ، مُبَالَغَةً، وَهُوَ لِلتَّعْجِيبِ وَلَيْسَ لِلْإِنْكَارِ، إِذْ لَا يُنْكَرُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ لِلنَّفْي إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [243] . وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، لِأَنَّ عَدَمَ تَكْلِيمِ الْعِجْلِ إِيَّاهُمْ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، لِأَنَّ عَدَمَ الْكَلَامِ يُرَى مِنْ حَالِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ، بِانْعِدَامِ آلَةِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ الْفَمُ الصَّالِحُ لِلْكَلَامِ، وَبِتَكَرُّرِ دُعَائِهِمْ إِيَّاهُ وَهُوَ لَا يُجِيبُ. وَقَدْ سَفِهَ رَأْيُ الَّذِينَ اتَّخذُوا الْعجل إلاها، بِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى سَفَهِ رَأْيِهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي اتِّخَاذه إلاها بِأَنَّ خَصَائِصَهُ خَصَائِصُ الْعَجْمَاوَاتِ، فَجِسْمُهُ جِسْمُ عِجْلٍ، وَهُوَ مِنْ نَوْعٍ لَيْسَ أَرْقَى أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَصَوْتُهُ صَوْتُ الْبَقَرِ، وَهُوَ صَوْتٌ

[سورة الأعراف (7) : آية 149]

لَا يُفِيدُ سَامِعَهُ، وَلَا يُبَيِّنُ خِطَابًا، وَلَيْسَ هُوَ بِالَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى أَمْرٍ يَتَّبِعُونَهُ حَتَّى تُغْنِيَ هِدَايَتُهُمْ عَنْ كَلَامِهِ، فَهُوَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُنْحَطَّةِ عَنْهُمْ، وَهَذَا كَقَوْل إِبْرَاهِيم فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: 63] فَمَاذَا رَأَوْا مِنْهُ مِمَّا يَسْتَأْهِلُ الْإِلَهِيَّةَ، فَضْلًا عَلَى أَنْ تَرْتَقِيَ بِهِمْ إِلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَالَّذِينَ عَبَدُوهُ أَشْرَفُ مِنْهُ حَالًا وَأَهْدَى، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّكْلِيمِ وَالْهِدَايَةِ، وَإِلَّا لَلَزِمَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ لِحُكَمَاءِ الْبَشَرِ. وَجُمْلَةُ: اتَّخَذُوهُ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَالْغَرَضِ مِنَ التَّوْكِيدِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ هُوَ التَّكْرِيرُ لِأَجْلِ التَّعْجِيبِ، كَمَا يُقَالُ: نَعَمِ اتَّخَذُوهُ، وَلِتُبْنَى عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَكانُوا ظالِمِينَ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَذَلِكَ لِبُعْدِ جُمْلَةِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى بِمَا وَلِيَهَا مِنَ الْجُمْلَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ- إِلَى قَوْله- فَلْيَكْتُبْ [الْبَقَرَة: 282] أُعِيدَ فَلْيَكْتُبْ لِتُبْنَى عَلَيْهِ جُمْلَةُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 282] ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ التَّوْكِيدَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَجُمْلَةُ: وَكانُوا ظالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [51] ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. [149] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 149] وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ حِكَايَةِ الْحَوَادِثِ أَنْ يَتَأَخَّرَ قَوْلُهُ: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ الْآيَة، عَن قَوْله: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الْأَعْرَاف: 150] لِأَنَّهُمْ مَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مُوسَى وَرَأَوْا فَرْطَ غَضَبِهِ وَسَمِعُوا تَوْبِيخَهُ أَخَاهُ وَإِيَّاهُمْ، وَإِنَّمَا خُولِفَ مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ تَعْجِيلًا بِذِكْرِ مَا كَانَ لِاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ مِنْ عَاقِبَة الندامة وَتبين الضَّلَالَةِ، مَوْعِظَةٌ لِلسَّامِعِينَ لِكَيْلَا يَعْجَلُوا فِي التَّحَوُّلِ عَنْ سُنَّتِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنُوا عَوَاقِبَ مَا هُمْ مُتَحَوِّلُونَ إِلَيْهِ. وسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، كَلِمَةٌ أَجْرَاهَا الْقُرْآنُ مجْرى الْمثل إِذا أُنْظِمَتْ عَلَى إِيجَازٍ بَدِيعٍ وَكِنَايَةٍ وَاسْتِعَارَةٍ، فَإِنَّ الْيَدَ تُسْتَعَارُ لِلْقُوَّةِ وَالنُّصْرَةِ إِذْ بِهَا

يُضْرَبُ بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ، وَلِذَلِكَ حِينَ يَدْعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسُّوءِ يَقُولُونَ: «شُلَّتْ مِنْ يَدَيَّ الْأَنَامِلُ» ، وَهِيَ آلَةُ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] ، وَيُقَالُ: مَا لِي بِذَلِكَ يَدٌ، أَوْ مَا لِي بِذَلِكَ يَدَانِ أَيْ لَا أَسْتَطِيعُهُ، وَالْمَرْءُ إِذَا حَصَلَ لَهُ شَلَلٌ فِي عَضُدٍ وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَحْرِيكَهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: سُقِطَ فِي يَدِهِ سَاقِطٌ، أَيْ نَزَلَ بِهِ نَازِلٌ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ فَاعِلِ السُّقُوطِ الْمَجْهُولِ لَا يَزِيدُ عَلَى كَوْنِهِ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلِهِ، سَاغَ أَنْ يُبْنَى فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ فَمَعْنَى «سُقِطَ فِي يَدِهِ» سَقَطَ فِي يَدِهِ سَاقِطٌ فَأَبْطَلَ حَرَكَةَ يَدِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ حَرَكَةَ يَدِهِ تَعَطَّلَتْ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، إِلَّا بِأَنَّهُ شَيْءٌ دَخَلَ فِي يَدِهِ فَصَيَّرَهَا عَاجِزَةً عَنِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَونه قد فجأه مَا أَوْجَبَ حَيْرَتَهُ فِي أَمْرِهِ، كَمَا يُقَالُ: فَتَّ فِي سَاعِدِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْآيَةِ فِي مَعْنَى النَّدَمِ وَتَبَيُّنِ الْخَطَأِ لَهُمْ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ سُقِطَ فِي يَدِهِ حِينَ الْعَمَلِ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تبين لَهُم خطأهم وَسُوءُ مُعَامَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ وَنَبِيَّهُمْ، فَالنَّدَامَةُ هِيَ مَعْنَى التَّرْكِيبِ كُلِّهِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ سُقِطَ فِي الْيَدِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سِرَاجٍ (¬1) » أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَوْلُ الْعَرَبِ: سُقِطَ فِي يَدِهِ مِمَّا أَعْيَانِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ نَظْمٌ لَمْ يُسْمَعْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ. قُلْتُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِمْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، فَقَوْلُ ابْنِ سِرَاجٍ: قَوْلُ الْعَرَبِ سُقِطَ فِي يَدِهِ، لَعَلَّهُ يُرِيدُ الْعَرَبَ الَّذِينَ بَعْدَ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَيْهِمْ وَهَدَّدَهُمْ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ طه، وَأُوجِزَ هُنَا إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ مَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ ضَلُّوا بَعْدَ تَصْمِيمِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَوْلِهِمْ: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ [طه: 91] ، إِلَّا بِسَبَبِ حَادِثٍ حَدَثَ يَنْكَشِفُ لَهُمْ بِسَبَبِهِ ضَلَالُهُمْ، فَطَيُّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ أَنَّ ضَلَالَهُمْ لَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِهَذَا حِكَايَةُ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ لِلْمُبَادَرَةِ بِبَيَانِ انْكِشَافِ ¬

(¬1) عبد الْملك بن سراج بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سراج مولى بني أُميَّة من أهل قرطبة من بَيت علم ولد سنة 400 وَتُوفِّي 489. أَخذ عَن أَبِيه سراج وَأخذ عَنهُ ابْنه أَبُو الْحُسَيْن سراج بن عبد الْملك.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 إلى 151]

ضَلَالِهِمْ تَنْهِيَةً لِقِصَّةِ ضَلَالِهِمْ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ثُمَّ قِيلَ وَلَمَّا سُقِطَ أَيْدِيهِمْ قَالُوا. وَقَوْلُهُمْ: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ تَوْبَةٌ وَإِنَابَةٌ، وَقَدْ علمُوا أَنهم أخطأوا خَطِيئَةً عَظِيمَةً، وَلِذَلِكَ أَكَّدُوا التَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ بِالْقَسَمِ الَّذِي وَطَّأَتْهُ اللَّامُ. وَقَدَّمُوا الرَّحْمَةَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهَا سَبَبُهَا. وَمَجِيءُ خَبَرِ كَانَ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْخَسَارَةِ مِنْ لَنَكُونَنَّ خَاسِرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 56] . وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورِ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي أَوَّلِ الْفِعْلَيْنِ وَبِرَفْعِ رَبُّنَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْفِعْلَيْنِ وَنَصْبِ رَبَّنَا عَلَى النِّدَاءِ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لِأَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ وَتَدَاوَلُوا ذَلِك بَينهم. [150، 151] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 150 إِلَى 151] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) جُعِلَ رُجُوعُ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ كَالْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: 143] وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: 149] . فَرُجُوعُ مُوسَى مَعْلُومٌ مِنْ تَحَقُّقِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الْمَوْعُودِ بِهَا، وَكَوْنُهُ رَجَعَ فِي حَالَةِ غَضَبٍ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي مَغِيبِهِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ طَهَ [85] قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فِ غَضْبانَ أَسِفاً حَالَانِ مِنْ مُوسَى، فَهُمَا قَيْدَانِ لِ رَجَعَ فَعُلِمَ أَنَّ الْغَضَبَ وَالْأَسَفَ مُقَارِنَانِ لِلرُّجُوعِ. وَالْغَضَبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَالْأَسِفُ بِدُونِ مَدٍّ، صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْآسِفِ بِالْمَدِّ الَّذِي هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لِلَّذِي حَلَّ بِهِ الْأَسَفُ وَهُوَ الْحُزْنُ الشَّدِيدُ، أَيْ رَجَعَ غَضْبَانَ مِنْ عِصْيَانِ قَوْمِهِ حَزِينًا عَلَى فَسَادِ أَحْوَالِهِمْ، وَبِئْسَمَا ضِدُّ نِعِمَّا، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [93] ، وَالْمَعْنَى بِئْسَتْ خِلَافَةٌ خَلَفْتُمُونِيهَا خِلَافَتُكُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ خَلَفَ فِي قَوْلِهِ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الْأَعْرَاف: 142] قَرِيبًا. وَهَذَا خِطَابٌ لِهَارُونَ وَوُجُوهِ الْقَوْمِ، لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ مُوسَى فِي قَوْمِهِمْ فَيَكُونُ خَلَفْتُمُونِي مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْقَوْمِ، فَأَمَّا هَارُونُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُحْسِنِ الْخِلَافَةَ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ كَمَا كَانَ يَسُوسُهَا مُوسَى، وَأَمَّا الْقَوْمُ فَلِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ بَعْدَ غَيْبَةِ مُوسَى، وَمِنْ لَوَازِمِ الْخِلَافَةِ فِعْلُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمَخْلُوفُ عَنْهُ، فَهُمْ لَمَّا تَرَكُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ مُوسَى مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَصَارُوا إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَدِ انْحَرَفُوا عَنْ سِيرَتِهِ فَلَمْ يَخْلُفُوهُ فِي سِيرَتِهِ، وَإِطْلَاقُ الْخِلَافَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ فَيَكُونُ فِعْلُ خَلَفْتُمُونِي مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَزِيَادَةُ مِنْ بَعْدِي عَقِبَ خَلَفْتُمُونِي لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ حَالِ الْخَلَفِ وَحَالِ المخلوف عَنهُ تَصْوِير لِفَظَاعَةٍ مَا خَلَفُوهُ بِهِ أَيْ بَعْدَ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَزَجْرِكُمْ عَنْ تَقْلِيدِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قُلْتُمْ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، فَيَكُونُ قَيْدُ مِنْ بَعْدِي لِلْكَشْفِ وَتَصْوِيرِ الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل: 26] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّقْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فَوْقَ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ لِتَصْوِيرِ حَالَةِ الْخُرُورِ وَتَهْوِيلِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى، بَعْدَ ذِكْرِ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَصِفَاتِهِمْ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الْأَعْرَاف: 169] أَيْ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ. وَ «عَجِلَ» أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا، بِمَعْنَى فَعَلَ الْعَجَلَةَ أَيِ السُّرْعَةَ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ «بِعْنَ» فَيُقَالُ: عَجِلَ عَنْ كَذَا بِمَعْنَى لَمْ يُتِمَّهُ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِيهِ، وَضِدُّهُ تَمَّ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا شَرَعَ فِيهِ فَأَتَمَّهُ، وَيُسْتَعْمَلُ عَجِلَ مُضَمَّنًا مَعْنَى سَبَقَ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ. وَمَعْنَى «عَجِلَ» هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى لَمْ يُتَمَّ، وَتَكُونُ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.

وَالْأَمْرُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَهُوَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ: مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَانْتِظَارِ رُجُوعِهِ، فَلَمْ يُتِّمُوا ذَلِكَ وَاسْتَعْجَلُوا فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى سَبَقَ أَيْ بَادَرْتُمْ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ أَيِ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ كَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [هود: 40] فَالْأَمْرُ هُوَ الْوَعِيدُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَذَّرَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَكَانَ الظَّنُّ بِهِمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، فَلَمَّا فَعَلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ بِحِدْثَانِ عَهْدِ النَّهْيِ، جُعِلُوا سَابِقِينَ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ: شُبِّهُوا فِي مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى أَسْبَابِ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ بِسَبْقِ السَّابِقِ الْمَسْبُوقَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَوْضَحُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ، فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه [86] ، حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. وَقَدْ تَعَرَّضَتِ التَّوْرَاةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى رَأَيْتُ هَذَا الشَّعْبَ فَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ فَالْآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ فَأُفْنِيَهُمْ» . وَإِلْقَاءُ الْأَلْوَاحِ رَمْيُهَا مِنْ يَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْإِلْقَاءِ آنِفًا. وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمُنَاجَاةِ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ فِي يَدِهِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ. ثُمَّ إِنَّ إِلْقَاءَهُ إِيَّاهَا إِنَّمَا كَانَ إِظْهَارًا لِلْغَضَبِ، أَوْ أَثَرًا مِنْ آثَارِ فَوَرَانِ الْغَضَبِ لَمَّا شَاهَدَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَا ذَكَرَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ فَوَائِدِ الْعِبْرَةِ فِي الْقِصَّةِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّ الْإِلْقَاءَ لِأَجْلِ إِشْغَالِ يَدِهِ بِجَرِّ رَأْسِ أَخِيهِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ لَا جُرُورَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعُطِفَ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ بِالْفَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ، وَكَانَ شَدِيدًا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ وَكَزَ الْقِبْطِيَّ فَقَضَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَظَاعَةِ الْفِعْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى الْفَظَاعَةِ، وَتَشْنِيعٌ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ تَأْدِيبًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْدِيبُهُمْ بِإِلْقَاءِ أَلْوَاحٍ كُتِبَ فِيهَا مَا يُصْلِحُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ تَصَرُّفَ النُّبُوءَةِ (وَلِذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنَّ إِعْرَاضَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِتَابَةِ الْكِتَابِ الَّذِي هَمَّ بِكِتَابَتِهِ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ لَمْ يَكُنْ تَأْدِيبًا لِلْقَوْمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ عِنْدَهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَرَأَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ كِتَابَتِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الدِّينُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ) وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ

الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ حِينَ أَلْقَاهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سِوَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ الرَّمْيُ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الْأَلْوَاحَ كَانَتْ مِنْ حَجَرٍ، يَقْتَضِي أَنَّهَا اعْتَرَاهَا انْكِسَارٌ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الِانْكِسَارَ لَا يُذْهِبُ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا تَكَسَّرَتْ ذَهَبَ سِتَّةُ أَسِبَاعِهَا، أَوْ ذَهَبَ تَفْصِيلُهَا وَبَقِيَتْ مَوْعِظَتُهَا، فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْقَصَّاصِينَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الْأَعْرَاف: 154] . وَأَمَّا أَخْذُهُ بِرَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، أَيْ إِمْسَاكُهُ بِشَعْرِ رَأسه، وَذَلِكَ يولمه، فَذَلِكَ تَأْنِيبٌ لِهَارُونَ عَلَى عَدَمِ أَخْذِهِ بِالشِّدَّةِ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ، وَاقْتِصَارِهِ عَلَى تَغْيِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي اجْتِهَادِهِ الَّذِي أَفْصَحَ عَنهُ بقوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94] لِأَنَّ ضَعْفَ مُسْتَنَدِهِ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرًا، وَكَانَ مُوسَى هُوَ الرَّسُولَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا هَارُونُ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ قَوْمِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَارُونُ رَسُولًا مَعَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسَعْ هَارُونَ إِلَّا الِاعْتِذَارُ وَالِاسْتِصْفَاحُ مِنْهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِيهِ صَاحِبُهُ فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِالتَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ وَلَا يُظَنُّ بِأَنَّ مُوسَى عَاقَبَ هَارُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ التَّقْصِيرِ. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ ابْنَ أُمَّ لوقوعها جوابها لِحِوَارٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا مَعَ كَلَامِ تَوْبِيخٍ، وَهُوَ مَا حُكِيَ فِي سُورَةِ طه [92، 93] بِقَوْلِهِ: قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ الْقِصَّةِ، وَاقْتِصَارًا عَلَى مَوْقِعِ الْعِبْرَةِ لِيُخَالِفَ أُسْلُوبُ قَصَصِهِ الَّذِي قُصِدَ مِنْهُ الْمَوْعِظَةُ أَسَالِيبَ الْقَصَّاصِينَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ الْخَبَرَ بِكُلِّ مَا حَدَثَ. وابْنَ أُمَّ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِلتَّرْقِيقِ وَالِاسْتِشْفَاعِ، وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِإِظْهَارِ مَا صَاحَبَ هَارُونَ مِنَ الرُّعْبِ وَالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ كَلَامَهُ هَذَا وَقَعَ بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَهُ فِيهِ حَرْفُ النِّدَاءِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَة طه [94] الَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي

ثُمَّ قَالَ، بَعْدَ ذَلِكَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي فَهُمَا كَلَامَانِ مُتَعَاقِبَانِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَأَنَّ مَا فِي سُورَةِ طَهَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ هَارُونُ، لِأَنَّهُ كَانَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ مُوسَى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: 92، 93] . وَاخْتِيَارُ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ لِتَضَمُّنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَعْنَى التَّذْكِيرِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، لِأَنَّ إِخْوَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ لِاشْتِرَاكِ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِلْفِ مِنْ وَقْتِ الصِّبَا وَالرَّضَاعِ. وَفَتْحُ الْمِيمِ فِي ابْنَ أُمَّ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى أُمٍّ أَوْ عَمٍّ، وَذَلِكَ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَتَعْوِيضِ أَلْفٍ عَنْهَا فِي آخِرِ الْمُنَادَى، ثُمَّ يُحْذَفُ ذَلِكَ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا، وَيَجُوزُ بَقَاءُ كَسْرَةِ الْمِيمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ أَيْضًا، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأُمِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [23] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِتَحْقِيقِهِ لَدَى مُوسَى، لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَتَرَدَّدُ فِيهِ قَبْلَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَالتَّأْكِيدُ يَسْتَدْعِيهِ قَبُولُ الْخَبَرِ لِلتَّرَدُّدِ مِنْ قِبَلِ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ، أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ قَوْمِهِ، وَكَانَتْ حَالُهُمْ دُونَ ذَلِكَ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَضْعَفُونِي لِلْحُسْبَانِ أَيْ حَسِبُونِي ضَعِيفًا لَا نَاصِرَ لي، لأَنهم تمالؤوا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا هَارُونُ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَارَضَهُمْ مُعَارَضَةً شَدِيدَةً ثُمَّ سَلَّمَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَبَيُّنِ عُذْرِهِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَ مِنْ أَخِيهِ الْكَفَّ عَنْ عِقَابِهِ الَّذِي يَشْمَتُ بِهِ الْأَعْدَاءُ لِأَجْلِهِ، وَيَجْعَلُهُ مَعَ عِدَادِ الظَّالِمِينَ فَطَلَبُ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِقَابِ. وَالشَّمَاتَةُ: سُرُورُ النَّفْسِ بِمَا يُصِيبُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَضْرَارِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ. وَفِعْلُهَا قَاصِرٌ كَفَرِحَ، وَمَصْدَرُهَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ يُقَالُ: شَمِتَ بِهِ: أَيْ: كَانَ شَامِتًا بِسَبَبِهِ، وَأَشْمَتَهُ بِهِ جَعَلَهُ شَامِتًا بِهِ، وَأَرَادَ بِالْأَعْدَاءِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 إلى 153]

الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، لِأَنَّ هَارُونَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهُوهُ لِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ كَلِمَةً جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُلْحِقُ بِالْمَرْءِ سُوءًا شَدِيدًا، سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَرْءِ أَعْدَاءٌ أَوْ لْمُ يَكُونُوا، جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الْعُرْفِ. وَمَعْنَى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لَا تَحْسَبْنِي وَاحِدًا مِنْهُم، ف (جعل) بِمَعْنَى ظَنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْد الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] . وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْعُقُوبَةِ مَعَهُمْ، لِأَنَّ مُوسَى قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الَّذِينَ عبدُوا الْعجل، ف (جعل) عَلَى أَصْلِهَا. وَجُمْلَةُ: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ هَارُونَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَابْتَدَأَ مُوسَى دُعَاءَهُ فَطَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لِنَفْسِهِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ فِيمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ تَفْرِيطٍ أَوْ تَسَاهُلٍ فِي رَدْعِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ عَنْ ذَلِكَ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْإِخْوَةِ هُنَاكَ زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِعْطَافِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يُكْرِمَ رَسُولَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لِأَخِيهِ كَقَوْلِ نُوحٍ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] . وَالْإِدْخَالُ فِي الرَّحْمَةِ اسْتِعَارَةٌ لِشُمُولِ الرَّحْمَةِ لَهُمَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمَا، بِحَيْثُ يَكُونَانِ مِنْهَا، كَالْمُسْتَقِرِّ فِي بَيْتٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَحْوِي، فَالْإِدْخَالُ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَحَرْفُ (فِي) اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، أَوْقَعَ حَرْفُهُ الظَّرْفِيَّةَ مَوْقِعَ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ. وَجُمْلَةُ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الْأَشَدُّ رَحْمَةً مِنْ كل رَاحِم. [152، 153] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 152 إِلَى 153] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) يَجُوزُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى قَوْلِهِ: الدُّنْيا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى، فَبَعْدَ أَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَى الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ. وَأَنَّهُ سَيظْهر أثر عضبه عَلَيْهِمْ، وَسَتَنَالُهُمْ ذِلَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِوَحْيٍ تَلَقَّاهُ، وَانْتَهَى كَلَامُ

مُوسَى عِنْدَ قَوْلِهِ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَنَّ جُمْلَةَ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ خِطَابٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ ذَيَّلَ اللَّهُ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ حِكَايَةَ كَلَامِ مُوسَى فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُجَازِي كُلَّ مُفْتَرٍ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُوسَى عَنْ مُفْتَرِيِّ قَوْمِهِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْفَائِدَةِ بِبَيَانِ حَالَةِ أَضْدَادِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَعَنْ أَمْثَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى آخِرِهَا خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، جَوَابًا عَنْ دُعَائِهِ لِأَخِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ قُلْنَا إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى آخِرِهِ، مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الْبَقَرَة: 126] الْآيَة. وسَيَنالُهُمْ يُصِيبُهُمْ. وَالنَّوْلُ وَالنَّيْلُ: الْأَخْذُ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْإِصَابَةِ وَالتَّلَبُّسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [37] ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ اتَّخَذُوا مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا، أَي اتخذوه إلاها. وَتَعْرِيفُهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ فِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِصِفَةٍ عُرِفُوا بِهَا، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِسَبَبِيَّةِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَضَبِ ظُهُورُ أَثَرِهِ مِنَ الْخِذْلَانِ وَمَنْعِ الْعِنَايَةِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ. وَغَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَتُهُ السُّوءَ بِعَبْدِهِ وَعِقَابُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا. وَالذِّلَّةُ: خُضُوعٌ فِي النَّفْسِ وَاسْتِكَانَةٌ مِنْ جَرَّاءِ الْعَجْزِ عَنِ الدَّفْعِ، فَمَعْنَى: نَيْلِ الذِّلَّةِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مَغْلُوبِينَ لِمَنْ يَغْلِبُهُمْ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَسْلِيطِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِسَلْبِ الشُّجَاعَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ. بِحَيْثُ يَكُونُونَ خَائِفِينَ الْعَدُوَّ، وَلَوْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ، أَوْ ذِلَّةُ الِاغْتِرَابِ إِذْ حَرَمَهُمُ اللَّهُ مُلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَانُوا بِلَا وَطَنٍ طُولَ حَيَاتِهِمْ حَتَّى انْقَرَضَ ذَلِكَ الْجِيلُ كُلُّهُ، وَهَذِهِ الذِّلَّةُ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ لَا تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْ عِقَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَا تَقْتَضِي تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ مُسَبَّبَاتٌ تَنْشَأُ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَرْفَعَهَا التَّوْبَةُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ

إِلَهِيَّةٍ خَاصَّةٍ، وَهَذَا يُشْبِهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ خِطَابِ الْوَضْعِ وَخِطَابِ التَّكْلِيفِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسَرَاءِ لَمَّا أُتِيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ لَبَنٍ وَالْآخَرُ مِنْ خَمْرٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمد الله الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ، هَذَا وَقَدْ يَمْحُو اللَّهُ الْعُقُوبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ إِذَا رَضِيَ عَنِ الْجَانِي وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. وَالْقَوْلُ فِي الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لَكَاذِبِهِ فِي اخْتِلَاقِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] . وَالْمُرَادُ بِالِافْتِرَاءِ الِاخْتِلَاقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِوَضْعِ عَقَائِدَ لَا تَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ دَلَالَةِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِيمَا مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ... [الْأَعْرَاف: 138- 140] الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا، فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ عَلَى الِافْتِرَاءِ الْغَضَبَ وَالذِّلَّةَ، وَذَلِكَ إِذَا فَعَلُوا مِثْلَهُ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الْمَوْعِظَةُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَذِلَّاءَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدَاهُمْ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى الِافْتِرَاءِ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِالذِّلَّةِ، فَأَزَالَ مَهَابَتَهُمْ مِنْ قُلُوبِ الْعَرَبِ، وَاسْتَأْصَلَهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَسَلَبَ دِيَارَهُمْ، فَلَمَّا أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمُوا صَارُوا أَعِزَّةً بِالْإِسْلَامِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَذَّابَ يُرْمَى بِالْمَذَلَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا الْآيَةَ اعْتِرَاضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّهْدِيدِ بِالتَّرْغِيبِ، وَالْمَغْفِرَةُ تَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ، وَإِلَى ارْتِفَاعِ غَضَبِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: مَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ، وَهُوَ أَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ. وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ هِيَ الْإِيمَانُ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَذْفُ مُضَافٍ قَبْلَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (بَعْدُ) - وَقَدْ شَاعَ حَذْفُهُ- دَلَّ عَلَيْهِ عَمِلُوا أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ مَعَ (بَعْدُ) وَ (قَبْلُ) الْمُضَافَيْنِ إِلَى مُضَافٍ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الأعراف (7) : آية 154]

وَحَرْفُ (ثُمَّ) هَنَا مُفِيدٌ لِلتَّرَاخِي، وَذَلِكَ إِلْجَاءٌ إِلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ مَمْلُوءٍ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِها تَأْكِيدٌ لِمُفَادِ الْمُهْلَةِ الَّتِي أَفَادَهَا حَرْفُ (ثُمَّ) وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا يُغْفَرْ لَهُمْ وَلَوْ طَالَ أَمَدُ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ. وَعُطِفَ الْإِيمَانُ عَلَى التَّوْبَةِ، مَعَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَشْمَلُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِيمَانَ تَوْبَةٌ مِنَ الْكُفْرِ، إِمَّا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّهُ أَصْلُ الِاعْتِدَادِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 12- 17] . وَلِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْإِشْرَاكَ لِخُطُورَتِهِ لَا تُنْجِي مِنْهُ التَّوْبَةُ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِيمَانِ إِيمَانٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِإِخْلَاصٍ، فَيَشْمَلُ عَمَلَ الْوَاجِبَاتِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَظْهَرِ، أَوْ لِمُوسَى عَلَى جَعْلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مَقُولًا مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى. وَفِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ تَوَسُّلٌ إِلَى تَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي ذِكْرِ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ هُنَا تَمْهِيدٌ لِوَصْفِ الرَّحْمَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِإِنَّ وَلَامِ التَّوْكِيدِ وَصِيغَتَيِ الْمُبَالغَة فِي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهِ تَرْغِيبٌ لِلْعُصَاةِ فِي التَّوْبَةِ، وَطَرْدًا لِلْقُنُوطِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُمْ، فَلَا يَحْسَبُوا تَحْدِيدَ التَّوْبَةِ بِحَدٍّ إِذَا تَجَاوَزَتْهُ الذُّنُوبُ بِالْكَثْرَةِ أَوِ الْعِظَمِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ. وَضَمِيرُ: مِنْ بَعْدِها الثَّانِي مُبَالَغَةٌ فِي الِامْتِنَانِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ بَعْدَ التَّمَلِّي مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ. أَوْ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً وَتَابَ مِنْهَا. [154] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) نَظْمُ هَذَا الْكَلَامِ مِثْلُ نَظْمِ قَوْلِهِ: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: 149] وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ [الْأَعْرَاف: 150] ، أَيْ: ثُمَّ سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْهُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: 150] . وَالسُّكُوتُ مُسْتَعَارٌ لِذَهَابِ الْغَضَبِ عَنْهُ، شُبِّهَ ثَوَرَانُ الْغَضَبِ فِي نَفْسِ مُوسَى الْمُنْشِئُ خَوَاطِرَ الْعُقُوبَةِ لِأَخِيهِ وَلِقَوْمِهِ، وَإِلْقَاءُ الْأَلْوَاحِ حَتَّى انْكَسَرَتْ، بِكَلَامِ شَخْصٍ يُغْرِيهِ بِذَلِكَ، وَحَسَّنَ هَذَا التَّشْبِيهَ أَنَّ الْغَضْبَانَ يَجِيشُ فِي نَفْسِهِ حَدِيثٌ لِلنَّفْسِ يَدْفَعُهُ إِلَى أَفعَال يطفىء بِهَا ثَوَرَانَ غَضَبِهِ، فَإِذَا سَكَنَ غَضَبُهُ وَهَدَأَتْ نَفْسُهُ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِ الْمُغْرِي، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ السُّكُوتُ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَشْبِيهَ الْغَضَبِ بِالنَّاطِقِ الْمُغْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ اسْتِعَارَتَانِ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ تُذْكَرِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا وَرُمِزَ إِلَيْهَا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ رَوَادِفِهَا وَهُوَ السُّكُوتُ، وَفِي هَذَا مَا يُؤَيِّدُ أَنَّ إِلْقَاءَ الألواح كَانَ أثر لِلْغَضَبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَلْواحَ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْأَلْوَاحَ الَّتِي أَلْقَاهَا، وَإِنَّمَا أَخَذَهَا حِفْظًا لَهَا لِلْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّ انْكِسَارَهَا لَا يُضِيعُ مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابَةِ. وَالنُّسْخَةُ بِمَعْنَى الْمَنْسُوخِ، كَالْخُطْبَةِ وَالْقُبْضَةِ، وَالنَّسْخُ هُوَ نَقْلُ مِثْلِ الْمَكْتُوبِ فِي لَوْحٍ أَوْ صَحِيفَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَلْوَاحَ أُخِذَتْ مِنْهَا نُسْخَةٌ، لِأَنَّ النُّسْخَةَ أُضِيفَتْ إِلَى ضَمِيرِ الْأَلْوَاحِ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَخَذَ الْأَلْوَاحَ فَجُعِلَتْ مِنْهَا نُسْخَةٌ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى انْحِتْ لَكَ لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مِثْلَ الْأَوَّلَيْنِ فَأَكْتُبُ أَنَا عَلَى اللَّوْحَيْنِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى اللَّوْحَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا» - ثُمَّ قَالَ- «فَنَحَتَ لَوْحَيْنِ مِنْ حجر كالأولين الإهان» - قَالَ- «وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اكْتُبْ لِنَفْسِكَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ» - إِلَى أَنْ قَالَ- «فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ» . فَوَصْفُ النُّسْخَةِ بِأَنَّ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَةً يَسْتَلْزِمُ الْأَصْلَ الْمُنْتَسَخَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَا فِي النُّسْخَةِ نَظِيرُ مَا فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ النُّسْخَةِ هُنَا إِشَارَةً إِلَى أَن اللوحتين الْأَصْلِيَّيْنِ عُوِّضَا بِنُسْخَةٍ لَهُمَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رُضَاضَ الْأَلْوَاحِ الْأَصْلِيَّةِ وَضَعَهُ فِي تَابُوتِ الْعَهْدِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [248] . وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يَتَنَازَعُ تَعَلُّقَهُ كُلٌّ مِنْ هُدىً ورَحْمَةٌ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لَامُ التَّقْوِيَةِ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 إلى 157]

بِتَأْخِيرِهِ عَنِ الْمَعْمُولِ. [155- 157] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 155 الى 157] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَاخْتارَ مُوسى عَلَى جُمْلَةِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى [الْأَعْرَاف: 148] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ: لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَيْضًا مِنْ مَوَاقِعِ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ بَيْنَ الْعِبَرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ عِبْرَةً بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ، وَدُعَاءُ مُوسَى بِمَا فِيهِ جُمَّاعُ الْخَيْرَاتِ والبشارة بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَاكُ شَرِيعَتِهِ. وَالِاخْتِيَارُ تَمْيِيزُ الْمَرْغُوبِ مِنْ بَيْنِ مَا هُوَ مَخْلُوطٌ مِنْ مَرْغُوبٍ وَضِدِّهِ، وَهُوَ زِنَةُ افْتِعَالٍ مِنَ الْخَيْرِ صِيغَ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى مُطَاوَعَةٍ لِفِعْلِ (خَارَ) . وَقَوْلُهُ: سَبْعِينَ رَجُلًا بَدَلٌ مِنْ قَوْمَهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقِيلَ إِنَّمَا نُصِبَ قَوْمَهُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا وَحَذْفُ الْجَارِ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ الَّذِي هُوَ فِي رُتْبَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي شَائِعٌ فِي ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ: اخْتَارَ، وَاسْتَغْفَرَ وَأَمَرَ، وَمِنْهُ أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: سَبْعِينَ مَفْعُولا أول. وَأَيًّا مَا كَانَ فَبِنَاءُ نَظْمِ الْكَلَامِ عَلَى ذِكْرِ الْقَوْمِ ابْتِدَاءً دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى سَبْعِينَ رَجُلًا اقْتَضَاهُ حَالُ الْإِيجَازِ فِي الْحِكَايَةِ، وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الِاخْتِيَار وَقع عِنْد مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْمَجِيءِ لِلْمُنَاجَاةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَاف: 142] الْآيَةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَصْعَدَ طُورَ سِينَا هُوَ وَهَارُون وَ (نَادَابُ) وَ (أَبِيهُو) وَ (يَشُوعُ) وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَكُونُ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ من الْجَبَل ويتقد مُوسَى حَتَّى يَدْخُلَ فِي السَّحَابِ لِيَسْمَعَ كَلَامَ

اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ ارْتَجَفَ الْجَبَلُ وَمَكَثَ مُوسَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَجَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ وَالَّذِي يعده، بَعْدَ ذِكْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَكَسْرِ الْأَلْوَاحِ، أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى بِأَنْ يَنْحِتَ لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مِثْلَ الْأَوَّلَيْنِ لِيَكْتُبَ عَلَيْهِمَا الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ الْمَكْتُوبَةَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ الْمُنْكَسِرَيْنِ وَأَنْ يَصْعَدَ إِلَى طُورِ سِينَا وَذُكِرَتْ صِفَةُ صُعُودٍ تُقَارِبُ الصِّفَةَ الَّتِي فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى مَنْ أَخْطَأَ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي، وَأَنَّ مُوسَى سَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفَرَ لِقَوْمِهِ قِلَّةَ امْتِثَالِهِمْ وَقَالَ فَإِن عفرت خَطِيئَتَهُمْ وَإِلَّا فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ. وَجَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا صَعِدَ الطُّورَ فِي الْمُنَاجَاةِ الثَّانِيَةِ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَأْكُلُ طَعَامًا وَلَا يَشْرَبُ مَاءً اسْتِغْفَارًا لِخَطِيئَةِ قَوْمِهِ وَطَلَبًا لِلْعَفْوِ عَنْهُمْ. فَتَبَيَّنَ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِمُوسَى مِيقَاتَيْنِ لِلْمُنَاجَاةِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِلْمُنَاجَاةِ الْأُولَى وَلَمْ تَذْكُرِ اخْتِيَارَهُمْ لِلْمُنَاجَاةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَاجَاةُ الثَّانِيَةُ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْأُولَى تَعَيَّنَ أَنَّ مُوسَى اسْتَصْحَبَ مَعَهُ السَبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فِيهَا الرَّجْفَةُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجْفَةَ أَخَذَتْهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ مُوسَى خَرَّ صَعِقًا، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ السَبْعُونَ قَدْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ مُوسَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَبَلِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الرَّجْفَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ تَذْكُرْهَا التَّوْرَاةُ. وَالضَّمِيرُ فِي أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِلسَّبْعِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حِكَايَةُ حَالِ مِيقَاتِ الْمُنَاجَاةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاسْتِغْفَارُ لِقَوْمِهِ، وَأَنَّ الرَّجْفَةَ الْمَحْكِيَّةَ هُنَا رَجْفَةٌ أَخَذَتْهُمْ مِثْلُ الرَّجْفَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الرَّجْفَةَ تَكُونُ مِنْ تَجَلِّي أَثَرٍ عَظِيمٍ مِنْ آثَارِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ قَوْلَ مُوسَى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ يَعْنِى بِهِ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ، وَحُضُورَهُمْ ذَلِكَ. وسكوتهم، وَهِي الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ وَقَدْ خَشِيَ مُوسَى أَنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ مُقَدِّمَةُ عَذَابٍ كَمَا كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى الرِّيحَ أَنْ يَكُونَ مَبْدَأَ عَذَابٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُنَاجَاةِ الْأُولَى وَأَنَّ قَوْلَهُ: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يَعْنِي بِهِ مَا صَدَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّصَلُّبِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ، كَقَوْلِهِمْ لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَة: 61] ، وَسُؤَالِهِمْ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ (فَعَلَ)

فِي قَوْلِهِ: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ التَّوَقِّي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَخَوْفُ بَطْشِهِ، وَمَقَامُ الرُّسُلِ مِنَ الْخَشْيَةِ، وَدُعَاءُ مُوسَى، إِلَخْ. وَقَدْ صِيغَ نَظْمُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ عَلَى نَحْوِ مَا صِيغَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الْأَعْرَاف: 150] كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْأَخْذُ مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ الشَّدِيدَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ تَمَكُّنَ الْآخِذِ مِنَ الْمَأْخُوذِ. وَ (لَوْ) فِي قَوْلِهِ: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّمَنِّي وَهُوَ معنى مجازي ناشىء مِنْ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى (لَوِ) الْأَصْلِيُّ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَثَلِ (لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي) إِذْ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ. لَوْ لَطَمَتْنِي لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، وَقَدْ صُرِّحَ بِالْجَوَابِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ أَيْ لَيْتَكَ أَرَدْتَ إِهْلَاكَهُمْ أَيِ السَبْعِينَ الَّذِينَ مَعَهُ. فَجُمْلَةُ أَهْلَكْتَهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ شِئْتَ مِنْ قِبَلِ خَطِيئَةِ الْقَوْمِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَنْهَا الرُّجُوعُ إِلَى الْمُنَاجَاةِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي (لَوْ) لَا يَكُونُ، فِي قَوْلِهِ أَهْلَكْتَهُمْ حَذْفُ اللَّامِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِجَوَابِ (لَوْ) وَإِنَّمَا قَالَ: أَهْلَكْتَهُمْ وَإِيَّايَ وَلَمْ يَقُلْ: أَهْلَكْتَنَا، لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِهْلَاكَيْنِ لِأَنَّ إِهْلَاكَ السَبْعِينَ لِأَجْلِ سُكُوتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَإِهْلَاكَ مُوسَى، قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَشْهَدَ هَلَاكَ الْقَوْمِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نجينا هُوداً [هود: 58] الْآيَةَ وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ خَشِيَ مُوسَى أَنَّ اللَّهَ يُهْلِكُ جَمِيعَ الْقَوْمِ بِتِلْكَ الرَّجْفَةِ لِأَنَّ سَائِرَ الْقَوْمِ أَجْدَرُ بِالْإِهْلَاكِ مِنَ السَّبْعِينَ، وَقَدْ أَشَارَتِ التَّوْرَاةُ إِلَى هَذَا فِي الْإِصْحَاحِ «فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى اللَّهِ وَقَالَ أَنَّ الشَّعْبَ قَدْ أَخْطَأَ خَطِيئَةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً فَإِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ خَطِيئَتَهُمْ وَإِلَّا فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ. فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى مَنْ أَخْطَأْ إِلَيَّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي» فَالْمَحْوُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ مَحْوُ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ الْحَيَاةَ مَحْوَ غَضَبٍ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا وَقَدْ خَشِيَ مُوسَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّجْفَةُ أَمَارَةَ غَضَبٍ وَمُقَدِّمَةَ إِهْلَاكٍ عُقُوبَةً عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، فَلِذَلِكَ قَالَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فَالسُّفَهَاءُ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَسُمِّيَ شِرْكُهُمْ سَفَهًا لِأَنَّهُ شِرْكٌ مَشُوبٌ بِخِسَّةِ عَقْلٍ إِذْ جَعَلُوا صُورَةً صَنَعُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَهًا لَهُمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ (لَوْ) مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ: مِنَ امْتِنَاعِ جَوَابِهِ لِامْتِنَاعِ شَرْطِهِ، فَيُتَّجَهُ أَنْ يُتَسَاءَلَ عَنْ مُوجِبِ حَذْفِ اللَّامِ مِنْ جَوَابِ (لَوْ) وَلَمْ يَقُلْ: لَأَهْلَكْتَهُمْ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي جَوَابِهَا الْمَاضِي الْمُثْبَتِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِاللَّامِ فَحَذْفُ اللَّامِ هُنَا لِنُكْتَةِ أَنَّ التَّلَازُمَ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا هُنَا قَوِيٌ لِظُهُورِ أَنَّ الْإِهْلَاكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَحْدَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً سُورَةُ الْوَاقِعَةِ [70] وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى اعْتِرَافًا بِمِنَّةِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَتَمْهِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ الْعَفْوِ عَنْهُمُ الْآنَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ أَيِ إِنَّكَ لَمْ تَشَأْ إِهْلَاكَهُمْ حِينَ تَلَبَّسُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ فَلَا تُهْلِكْهُمُ الْآنَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّفَجُّعِ أَيْ: أَخْشَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ وَيَخْشَى أَنْ يَشْمَلَ عَذَابُ اللَّهِ مَنْ كَانَ مَعَ الْقَوْمِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي سَبَبِ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25] وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ- قَالَ- نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» وَقَدْ خَشِيَ مُوسَى سُوءَ الظِّنَّةِ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ وَلِلْبُرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَظُنَّهُمُ الْأُمَمُ الَّتِي يَبْلُغُهَا خَبَرُهُمْ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ. وَإِنَّمَا جُمِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا لِأَنَّ هَذَا الْإِهْلَاكَ هُوَ الْإِهْلَاكُ الْمُتَوَقَّعُ مِنَ اسْتِمْرَارِ الرَّجْفَةِ، وَتَوَقُّعِهِ وَاحِدٌ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الْإِهْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَسَبَبُهُ مُخْتَلِفٌ فَنَاسَبَ تَوْزِيعَ مَفْعُولِهِ. وَجُمْلَةُ: أَتُهْلِكُنا مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ تَقْطِيعِ كَلَامِ الْحَزِينِ الْخَائِفِ السَّائِلِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ وَجُمْلَةُ أَنْتَ وَلِيُّنا. وَضَمِيرُ إِنْ هِيَ رَاجِعٌ إِلَى مَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ لِأَن مَا صدق مَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ هُوَ الْفِتْنَةُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَتِ الْفِتْنَةُ الْحَاصِلَةُ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا فِتْنَةً مِنْكَ، أَيْ مِنْ تَقْدِيرِكَ وَخَلْقِ أَسْبَابِ حُدُوثِهَا، مِثْلَ سَخَافَةِ عُقُولِ الْقَوْمِ، وَإِعْجَابِهِمْ بأصنام الكنعانيين، وعيبة مُوسَى، وَلنْ هَارُونَ، وَخَشْيَتِهِ مِنَ الْقَوْمِ، وَخَشْيَةِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَأَيْقَنَ مُوسَى بِهِ إِيقَانًا إِجْمَالِيًّا. وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الْآيَةَ: مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّمْجِيدِ بِسِعَةِ

الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ اسْتِبْقَائِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاعْتِذَارِ لِقَوْمِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ الَّذِي هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فِتْنَتُكَ فَالْإِضْلَالُ بِهَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهَا. ثُمَّ عَرَّضَ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ بِها مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ تُضِلُّ وَحْدَهُ وَلَا يَتَنَازَعُهُ مَعَهُ فِعْلُ تَهْدِي لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَكُونُ سَبَبَ هِدَايَةٍ بِقَرِينَةِ تَسْمِيَتِهَا فِتْنَةً، فَمَنْ قَدَّرَ فِي التَّفْسِيرِ: وَتَهْدِي بِهَا أَوْ نَحْوَهُ، فَقَدْ غَفَلَ. وَالْبَاءُ: إِمَّا لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ مُلَابِسًا لَهَا، وَإِمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُضِلُّ بِسَبَبِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، فَهِيَ مِنْ جِهَةٍ فِتْنَةٌ، وَمِنْ جِهَةٍ سَبَبُ ضَلَالٍ. وَالْفِتْنَةُ مَا يَقَعُ بِهِ اضْطِرَابُ الْأَحْوالِ، وَمَرَجُهَا، وَتَشَتُّتُ الْبَالِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَقَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [71] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [23] . وَالْقَصْدُ مِنْ جُمْلَةِ: أَنْتَ وَلِيُّنا الِاعْتِرَافُ بِالِانْقِطَاعِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، تَمْهِيدًا لِمَطْلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْوَلِيِّ أَنْ يَرْحَمَ مَوْلَاهُ وَيَنْصُرَهُ. وَالْوَلِيُّ: الَّذِي لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَحَدٍ، وَالْوِلَايَةُ حَلْفٌ أَوْ عِتْقٌ يَقْتَضِي النُّصْرَةَ وَالْإِعَانَةَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ فَكِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُقَالُ لَهُ مَوْلًى، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ أَقْوَى قِيلَ لِلْقَوِيِّ (وَلِيٌّ) وَلِلضَّعِيفِ (مَوْلًى) وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّعَدُّدِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ: أَنْتَ وَلِيُّنا مُقْتَضِيًا عَدَمَ الِانْتِصَارِ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَفِي صَرِيحِهِ صِيغَةُ قَصْرٍ. وَالتَّفْرِيعُ عَنِ الْوِلَايَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لَنا تَفْرِيعُ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْغُفْرَانُ. وَقَدَّمَ الْمَغْفِرَةَ عَلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ سَبَبٌ لِرَحَمَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ تَنْهِيةٌ لِغَضَبِ اللَّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الذَّنْبِ، فَإِذَا انْتَهَى الْغَضَبُ تَسَنَّى أَنْ يَخْلُفَهُ الرِّضَا. وَالرِّضَا يَقْتَضِي الْإِحْسَانَ.

وَ (خَيْرُ الْغافِرِينَ) الَّذِي يَغْفِرُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [150] . وَإِنَّمَا عَطَفَ جُمْلَةَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى طَلِبِ الْمَغْفِرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَعُطِفَ عَلَى الدُّعَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَاغْفِرْ لَنَا جَمِيعَ ذُنُوبِنَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْفِرَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ. واكْتُبْ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْعَطَاءِ الْمُحَقِّقِ حُصُولُهُ، الْمُجَدَّدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ تَحْقِيقَ عَقْدٍ أَوْ عِدَةٍ، أَوْ عَطَاءٍ، وَتَعَلُّقُهُ بِالتَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَكْتُبُ بِهِ فِي صَحِيفَةٍ، فَلَا يَقْبَلُ النُّكْرَانَ، وَلَا النُّقْصَانَ، وَلَا الرُّجُوعَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْكِتَابَةُ عَهْدًا، وَمِنْهُ مَا كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةِ الْقَطِيعَةِ، وَمَا كَتَبُوهُ مِنْ حِلْفِ ذِي الْمَجَازِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرَ والتطاخي وَهل ينْقض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءِ وَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ أَوِ التَّعَاقُدُ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَحْتَجْ لِلْكِتَابَةِ، لِأَنَّ الْحَوْزَ أَوِ التَّمْكِينَ مُغْنٍ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها [الْبَقَرَة: 282] فَالْمَعْنَى: آتِنَا الْحَسَنَةَ تِلْوَ الْحَسَنَةِ فِي أَزْمَانِ حَيَاتِنَا وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَفْظُ اكْتُبْ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ دُعَاءً صَادِقًا بِإِعْطَاءِ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَرِينَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْخَامِسَةِ: يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا (أَيْ كُلَّ ضُرٍّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُقِيتُمْ ضُرًّا مُعَيَّنًا) . وَالْحَسَنَةُ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ: فِي الدُّنْيَا الْمُرْضِيَةُ لِلنَّاسِ، وَلِلَّهِ تَعَالَى، فَتَجْمَعُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَفِي الْآخِرَةِ حَالَةُ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [201] . وَجُمْلَةُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلطَّلَبِ وَالِاسْتِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلِأَنَّ مَوْقِعَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ فِي أَوَّلِهَا مَوْقِعُ الِاهْتِمَامِ، فَيُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، وَيُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وهُدْنا مَعْنَاهُ تُبْنَا، يُقَالُ: هَادَ يَهُودُ إِذَا رَجَعَ وَتَابَ فَهُوَ مَضْمُومُ الْهَاءِ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمَعْنَى تُبْنَا مِمَّا عَسَى أَنْ نَكُونَ أَلْمَمْنَا بِهِ مِنْ ذَنْبٍ وَتَقْصِيرٍ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ الْمُخْتَارِينَ مِنْ قَوْمِهِ، بِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِ سَرَائِرِهِمْ. قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جُمْلَةُ: قالَ إِلَخْ جَوَابٌ لِكَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِوُقُوعِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَلَامُ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ طَلَبًا، وَهُوَ لَا يَسْتَدْعِي جَوَابًا، فَإِنَّ جَوَابَ الطَّالِبِ عِنَايَةٌ بِهِ وَفَضْلٌ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ جَوَابٌ لِقَوْلِ مُوسَى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا وَالْإِهْلَاكُ عَذَابٌ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا يُصِيبُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ سَبَبَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَمُوسَى يَعْلَمُهُ إِجْمَالًا، فَالْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ طَمْأَنَةَ مُوسَى مِنْ أَنْ يَنَالَهُ الْعَذَاب هُوَ والبزآء مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَامِلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى إِنِّي قَادِرٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَذَابِ بِمَنْ عَصَوْا وَتَنْجِيَةِ مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الْعِصْيَانِ، وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةٍ مُجْمَلَةٍ شَأْنَ كَلَامِ مَنْ لَا يسْأَل عَمَّا يعقل. وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مُقَابِلُ قَوْلِ مُوسَى: فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا. وَهُوَ وَعْدُ تَعْرِيضٍ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ الْمَسْئُولَةِ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُخْتَارِينَ، لِأَنَّهَا لَمَّا

وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَهُمْ أَرْجَى النَّاسِ بِهَا، وَأَنَّ الْعَاصِينَ هُمْ أَيْضًا مَغْمُورُونَ بِالرَّحْمَةِ، فَمِنْهَا رَحْمَةُ الْإِمْهَالِ وَالرِّزْقِ، وَلَكِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ عِبَادَهَ ذَاتُ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ. وَقَوْلُهُ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ- إِلَى قَوْلِهِ- كُلَّ شَيْءٍ جَوَابٌ إِجْمَالِيٌّ، هُوَ تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ التَّفْصِيلِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَسَأَكْتُبُها. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَسَأَكْتُبُها تَفْرِيعٌ عَلَى سِعَةِ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مِنْهَا مَا يُكْتَبُ أَيْ يُعْطَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِلَّذِينَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَعْدًا لِمُوسَى وَلِصُلَحَاءَ قَوْمِهِ لتحَقّق تِلْكَ الصِّفَات فِيهِمْ، وَهُوَ وَعْدُ نَاظِرٍ إِلَى قَوْلِ مُوسَى إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوب فِي فَسَأَكْتُبُها عَائِدٌ إِلَى رَحْمَتِي فَهُوَ ضَمِيرُ جِنْسٍ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَيِ اكْتُبُ فَرْدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْتُبُ جَمِيعَ الرَّحْمَةِ لِهَؤُلَاءِ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَجْنَاسِ، لَكِنْ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرَّحْمَةِ نَوْعٌ عَظِيمٌ بِقَرِينَةِ الثَّنَاءِ عَلَى متعلقها بِصِفَات توذن بِاسْتِحْقَاقِهَا، وَبِقَرِينَةِ السُّكُوتِ عَنْ غَيْرِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ لِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ رَحْمَةً خَاصَّةً عَظِيمَةً وَأَنَّ غَيْرَهُ دَاخِلٌ فِي بَعْضِ مَرَاتِبِ عُمُومِ الرَّحْمَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَتقدم معنى فَسَأَكْتُبُها قَرِيبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [89] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي سَأَلَهَا مُوسَى لَهُ وَلِقَوْمِهِ وَعَدَ اللَّهُ بِإِعْطَائِهَا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُؤْتِينَ الزَّكَاةَ، وَلِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالْآيَاتُ تَصْدُقُ: بِدَلَائِلِ صِدْقِ الرُّسُلِ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَ بِهَا لِلنَّاسِ رَشَادَهُمْ وَهَدْيَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا الْقُرْآنُ لِأَنَّ كُلَّ مِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهُ هُوَ آيَةٌ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ فَدَالٌّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الْأُمِّيَّ إِذَا جَاءَهُمْ، أَيْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ، وَلَمَّا جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِسَبَبِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ

عُلِمَ أَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى بَعْضِهَا يُحَصِّلُ بَعْضَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ بِمَا يُنَاسِبُهُ، بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى كَقَوْلِهِ آنِفًا وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا [الْأَعْرَاف: 153] فَتَشْمَلُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ مَنِ اتَّقَى وَآمَنَ وَآتَى الزَّكَاةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ مُتَعَذَّرُ الْحُصُولِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عَازِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ عِنْدَ مَجِيئِهِ أَنْ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ لَمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 81، 82] . وَتَشْمَلُ الرَّحْمَةُ أَيْضًا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالْمَعْنِيُّ بِهَا الْآيَاتُ الَّتِي سَتَجِيءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ آيَاتِ مُوسَى قَدِ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ بِهَا يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا مُوجِبُ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَهُمْ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَ مِنْهُمْ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ إِلَخْ. وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكَائِنِينَ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ وَبَعْدَهَا لِقَوْلِهِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ وَلِقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ شَرِيعَةٍ فِيهَا شِدَّةٌ وَحَرَجٌ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، لِأَنَّ أَلْفَاظَهُ هِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِاسْمِ الْآيَاتِ، لِأَنَّهَا جُعِلَتْ مُعْجِزَاتٍ لِلْفُصَحَاءِ عَنْ مُعَارَضَتِهَا. وَدَالَّةً عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَارَةٌ ببعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُشِيرَةٌ إِلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ حَتَّى الرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْإِصْحَاحِ الثَّامَنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: فَإِنَّ مُوسَى بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِخَطِيئَةِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَذَكَرَ مُنَاجَاتَهُ لِلَّهِ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، كَمَا تَضَمَّنَهُ الْإِصْحَاحُ التَّاسِعُ مِنْ ذَلِكَ السِّفْرِ، وَذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ أَمْرَهُمْ بِالتَّقْوَى بِقَوْلِهِ: «فَالْآنَ يَا إِسْرَائِيلُ مَا يَطْلُبُ مِنْكَ الرَّبُّ إِلَّا أَنْ تَتَّقِيَ رَبَّكَ لِتَسْلُكَ فِي طُرُقِهِ وَتُحِبَّهُ» . ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ وَفِي الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ وَصَايَا تَفْصِيلًا لِلتَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ الزَّكَاةَ فَقَالَ «تَعْشِيرًا تُعَشِّرُ كُلَّ مَحْصُولِ زَرْعِكَ

سَنَةً بِسَنَةٍ عَشِّرْ حِنْطَتَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ وَإِبْكَارَ بَقَرِكَ وَغَنَمِكَ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سِنِينَ تُخْرِجُ كُلَّ عُشْرِ مَحْصُولِكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَتَضَعُهُ فِي أَبْوَابِكَ فَيَأْتِي اللَّاوِي وَالْغَرِيبُ وَالْيَتِيمُ وَالْأَرْمَلَةُ الَّذِينَ عَلَى أَبْوَابِكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْبَعُونَ» إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي الْإِصْحَاحَاتِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ. ثُمَّ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنَ عَشَرَ قَوْلُهُ: «يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ نَبِيًّا وَمن وسط أخواتك مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ فِي حُورِيبَ (أَيْ جَبَلِ الطُّورِ حِينَ الْمُنَاجَاةِ) يَوْمَ الِاجْتِمَاعِ قَالَ لِيَ الرَّبُّ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيءَ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ: «مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ» فَإِنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يَكُونُونَ إِخْوَةً لِأَنْفُسِهِمْ. وَإِخْوَتُهُمْ هُمْ أَبْنَاءُ أَخِي أَبِيهِمْ: إِسْمَاعِيلَ أَخِي إِسْحَاقَ، وَهُمُ الْعَرَبُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ نَبِيئًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ (صَمْوِيلَ) كَمَا يُؤَوِّلُهُ الْيَهُودُ لَقَالَ: مِنْ بَيْنِكُمْ أَوْ مِنْ وَسَطِكُمْ، وَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيءَ رَسُولٌ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ: «مِثْلَكَ» فَإِنَّ مُوسَى كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، فَقَدَ جَمَعَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ. وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ وَصْفَيِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا وَصْفَ الرَّسُولِ، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالنَّبِيءِ، لِيَصْدُقَ على أَنْبيَاء ليصدق عَلَى أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَغَفَلُوا عَنْ مُفَادِ قَوْلِهِ مِثْلَكَ، وَحَذَفُوا وَصْفَ الْأُمِّيِّ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَبَبَ إِسْلَامِ الْحَبْرِ الْعَظِيمِ الْأَنْدَلُسِيِّ السَّمَوْأَلِ بْنِ يَحْيَى الْيَهُودِيِّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ «غَايَةَ الْمَقْصُودِ فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ» . فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ تَخْتَصُّ بِالَّذِينَ آمنُوا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَتَشْمَلُ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِالْإِيمَان بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا عَالِمِينَ بِبَعْثَتِهِ يَقِينًا فَهُمْ آمَنُوا بِهِ، وَتَنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ مَنِ اتَّبَعَ مَا جَاءَ بِهِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ، وَتَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُمْ سَارُوا مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْيَهُودِ فِي اتَبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ.

وَتَقْدِيمُ وَصْفِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ الْوَصْفُ الْأَخَصُّ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ زِيَادَةَ تَسْجِيلٍ لِتَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَيْثُ حَذَفُوا هَذَا الْوَصْفَ لِيَصِيرَ كَلَامُ التَّوْرَاةِ صَادِقًا بِمَنْ أَتَى بَعْدَ مُوسَى مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتهر بِوَصْف النَّبِي الْأُمِّيِّ، فَصَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ كَاللَّقَبِ لَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ عَنْ شُهْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ حَيْثُمَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ، قِيلَ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ أَيْ هُوَ أَشْبَهُ بِأُمِّهِ مِنْهُ بِأَبِيهِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي الْعَرَبِ مَا كُنَّ يَعْرِفْنَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَمَا تَعَلَّمْنَهَا إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَصَارَ تَعَلُّمُ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ شِعَارِ الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا قَالَ عُبَيْدٌ الرَّاعِي، وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ: هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَمَّا الرِّجَالُ فَفِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ. وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ أَيِ الَّذِي حَالُهُ حَالُ مُعْظَمِ الْأُمَّةِ، أَيِ الْأُمَّةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَعْرِفُ مِنْهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ إِلَّا النَّادِرُ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ يَصِفُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْأُمِّيِّينَ، لِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [75] . وَالْأُمِّيَّةُ وَصْفٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ رسله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِتْمَامًا لِلْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ، فَجَعَلَ الْأُمِّيَّةَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُ، لِيُتِمَّ بِهَا وَصْفَهُ الذَّاتِيَّ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، لِيُظْهِرَ أَنَّ كَمَالَهُ النَّفْسَانِيَّ كَمَالٌ لَدُنِّيٌّ إِلَهِيٌّ، لَا وَاسِطَةَ فِيهِ لِلْأَسْبَابِ الْمُتَعَارَفَةِ لِلْكِمَالَاتِ، وَبِذَلِكَ كَانَتِ الْأُمِّيَّةُ وَصْفَ كَمَالِ فِيهِ، مَعَ أَنَّهَا فِي غَيْرِهِ وَصْفُ نُقْصَانٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَسَدَادِ الْعَقْلِ مَا لَا يَحْتِمَلُ الْخَطَأَ فِي كُلِّ نَوَاحِي مَعْرِفَةِ الْكِمَالَاتِ الْحَقِّ، وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عِلْمِهِ، وَبَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، مَا هُوَ أَعْظُمُ مِمَّا حَصَلَ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، صَارَتْ أُمِّيَّتُهُ آيَةً عَلَى كَوْنِ مَا حَصَلَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَيُوضَاتٍ إِلَهِيَّةٍ. وَمَعْنَى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً وِجْدَانُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ، الَّتِي لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَجُعِلَتْ خَاصَّتُهُ بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا ضمير الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّيِّ مَجَازًا بِالِاسْتِخْدَامِ،

وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ نَعْتُهُ وَوَصْفُهُ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: مَكْتُوباً فَإِنَّ الذَّاتَ لَا تُكْتَبُ، وَعُدِلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْوَصْفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَجِدُونَ وَصْفًا لَا يَقْبَلُ الِالْتِبَاسَ، وَهُوَ: كَوْنُهُ أُمِّيًّا، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ، وَشَدَّةَ شَرِيعَتِهِمْ. وَذُكِرَ الْإِنْجِيلُ هُنَا لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ آمَنَ بِهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى بِهَذَا. وَالْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَالْمَكْتُوبُ فِي الْإِنْجِيلِ بِشَارَاتٌ جمة بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ بِعْثَةً عَامَّةً، فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ «وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيَضِلُّونَ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى (أَيْ يَدُومُ شَرْعُهُ إِلَى نِهَايَةِ الْعَالَمِ) فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَكْرِزُ (¬1) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى» (أَيْ مُنْتَهَى الدُّنْيَا) ، وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَأَمَّا الْمُعَزَّى الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (وَمَعْنَى بِاسْمِي أَيْ بِمُمَاثَلَتِي وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا مُشَرِّعًا لَا نبيّا موكدا) . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: «هِيَ بَيَانٌ لِلْمَكْتُوبِ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَجِدُونَهُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ لِلذِّكْرِ وَالِاسْمِ. وَالذِّكْرُ وَالِاسْمُ لَا يَأْمُرَانِ» أَيْ فَتَعَيَّنَ كَوْنُ الضَّمِيرِ مَجَازًا، وَكَوْنُ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ ذَاتُ الرَّسُولِ لَا وَصْفُهُ وَذِكْرُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَعْرِيفُهُمْ بِهَا لِتَدُلَّهُمْ عَلَى تَعْيِينِ الرَّسُولِ الْأُمِّيِّ عِنْدَ مَجِيئِهِ بِشَرِيعَةٍ هَذِهِ صِفَاتُهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ، وَالطَّيِّبَاتِ، وَالْخَبَائِثَ، وَالْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ مُتَعَلِّقَاتٍ لِتَشْرِيعِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ وَعَلَامَاتٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا يَتَبَادَرُ مِنْ مَعَانِي أَلْفَاظِهَا لِلْأَفْهَامِ الْمُسْتَقِيمَةِ. ¬

(¬1) وَقعت كلمة (يكرز) فِي تَرْجَمَة الْإِنْجِيل للآباء اليسوعيين وَأُرِيد بهَا (يتنبّأ) وَلَا أعرف لَهَا أصلا فِي الْعَرَبيَّة.

فَالْمَعْرُوفُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [104] . وَيَجْمَعُهَا مَعْنَى: الْفِطْرَةِ، الَّتِي هِيَ قِوَامُ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم: 30] ، وَهَذِهِ أَوْضَحُ عَلَامَةٍ لِتَعَرُّفِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالطَّيِّبَاتُ: جَمْعُ طَيِّبَةٍ، وَقَدْ رُوعِيَ فِي التَّأْنِيثِ مَعْنَى الْأَكِيلَةِ، أَوْ مَعْنَى الطُّعْمَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَظَائِرِهَا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي الْبَقَرَة [168] وَقَوله: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [4] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَفْعَالَ الْحَسَنَةَ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ عُرِّفَتْ بِوَصْفِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ. وَالْمَأْكُولَاتُ لَا تَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَقْبُولِهَا وَمَرْفُوضِهَا، وَإِنَمَا تَمْتَلِكُ النَّاسَ فِيهَا عَوَائِدُهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَلَا اعْتِدَادَ بِالْعَوَائِدِ فِيهِ، نَاطَ حَالَ الْمَأْكُولَاتِ بِالطَّيِّبِ وَحُرْمَتَهَا بِالْخُبْثِ، فَالطَّيِّبُ مَا لَا ضُرَّ فِيهِ وَلَا وَخَامَةَ وَلَا قَذَارَةَ، وَالْخَبِيثُ مَا أَضَرَّ، أَوْ كَانَ وَخِيمَ الْعَاقِبَةِ، أَوْ كَانَ مُسْتَقْذَرًا لَا يَقْبَلُهُ الْعُقَلَاءُ، كَالنَّجَاسَةِ، وَهَذَا مِلَاكُ الْمُبَاحِ وَالْمُحَرَّمِ مِنَ الْمَآكِلِ، فَلَا تَدْخُلُ الْعَادَاتُ إِلَّا فِي اخْتِيَارِ أَهْلِهَا مَا شَاءُوا مِنَ الْمُبَاحِ، فَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَأْكُلُ الضَّبَّ، وَقَدْ وُضِعَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَقَالَ: «مَا هُوَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» وَلِهَذَا فَالْوَجْهُ: أَنَّ كُلَّ مَا لَا ضُرَّ فِيهِ وَلَا فَسَادَ وَلَا قَذَارَةَ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا اعْتِبَارًا بِمَضَرَّةٍ خَفِيفَةٍ، فَلِذَلِكَ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِيهِ، وَأَيُّ ضُرٍّ فِي أَكْلِ لَحْمِ الْأَسَدِ، وَكَذَلِكَ إِبَاحَةُ أَكْلِ الْخِشَاشِ وَالْحَشَرَاتِ وَالزَّوَاحِفِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، لِاخْتِلَافِ عَوَائِدِ النَّاسِ فِي أَكْلِهَا وَعَدَمِهِ، فَقَدْ كَانَتْ جَرْمٌ لَا يَأْكُلُونَ الدَّجَاجَ، وَفَقْعَسٌ يَأْكُلُونَ الْكَلْبَ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَى قَوْمٍ لِأَجْلِ كَرَاهِيَةِ غَيْرِهِمْ مِمَّا كَرِهَهُ ذَوْقُهُ أَوْ عَادَةُ قَوْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَعَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَقْصُرَ النَّظَرَ عَلَى طَبَائِعِ

الْمَأْكُولَاتِ وَصِفَاتِهَا، وَمَا جُهِلَتْ بَعْضُ صِفَاتِهِ وَحَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ. وَوَضْعُ الْإِصْرِ إِبْطَالُ تَشْرِيعِهِ، أَيْ بِنَسْخِ مَا كَانَ فِيهِ شِدَّةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَحَقِيقَةُ الْوَضْعِ الْحَطُّ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِبْطَالِ التَّكْلِيفِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا عُدِّيَ إِلَيْهِ بِ (عَنْ) دَلَّ عَلَى نَقْلِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مِنْ مَدْخُولِ (عَنْ) وَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِ (عَلَى) كَانَ دَالًّا عَلَى حَطِّ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي مَدْخُولِ (عَلَى) حَطًّا مُتَمَكِّنًا، فَاسْتُعِيرَ يَضَعُ عَنْهُمْ هُنَا إِلَى إِزَالَةِ التَّكْلِيفَاتِ الَّتِي هِيَ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ فَيَشْمَلُ الْوَضْعُ مَعْنَى النَّسْخِ وَغَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَ «الْإِصْرُ» ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَشَّاف» و «الأساس» إِنَّه حَقِيقَة فِي الثِّقَلِ، (بِكَسْرِ الثَّاءِ) الْحِسِّيِّ بِحَيْثُ يَصْعُبُ مَعَهُ التَّحَرُّكُ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ دَوَاوِينِ اللُّغَةِ، وَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ تَحْقِيقَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ وَالْحَرَجُ فِي الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَيَّدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَكُنْ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُزَالِ عَنْهُ مَا يُحْرِجُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ بِحَالِ مَنْ كَانَ مُحَمَّلًا بِثِقَلٍ فَأُزِيلَ عَنْ ظَهْرِهِ ثِقَلُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَام: 31] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ «الْإِصْرُ» اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً وَيَضَعُ تَخْيِيلًا، وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلْإِزَالَةِ. وَقَدْ كَانَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ شَاقَّةٍ مِثْلِ الْعُقُوبَةِ بِالْقَتْلِ عَلَى مَعَاصٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْعَمَلُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَمِثْلُ تَحْرِيمِ مَأْكُولَاتٍ كَثِيرَةٍ طَيِّبَةٍ وَتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ فِي أُمُورٍ هَيِّنَةٍ، كَالْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَأَشَدُّ مَا فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِصْرِ أَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَا اسْتِتَابَةُ الْمُجْرِمِ، وَالْإِصْرُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، (آصَارَهُمْ) بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ فِي الْأَجْنَاسِ سَوَاءٌ. والْأَغْلالَ جَمْعُ غُلٍّ- بِضَمِّ الْغَيْنِ- وَهُوَ إِطَارٌ مِنْ حَدِيدٍ يُجْعَلُ فِي رَقَبَةِ الْأَسِيرِ

وَالْجَانِي وَيُمْسَكُ بِسَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ سِلْسِلَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بِيَدِ الْمُوَكَّلِ بِحِرَاسَةِ الْأَسِيرِ، قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 71] وَيُسْتَعَارُ الْغُلُّ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي يُؤْلِمُ وَلَا يُطَاقُ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ فَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَانَ الْأَغْلالَ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُحَرَّرِ مِنَ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ بِحَالِ مَنْ أُطْلِقَ مِنَ الْأَسْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ وَضْعَ الْأَغْلَالِ اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُعَانِيهِ الْيَهُودُ مِنَ الْمَذَلَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ نَزَلُوا فِي دِيَارِهِمْ بَعْدَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَوَالِ مُلْكِ يَهُوذَا، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ بِتَسْوِيَةِ أَتْبَاعِهِ فِي حُقُوقِهِمْ فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَيْزٌ بَيْنَ أَصِيلٍ وَدَخِيلٍ، وَصَمِيمٍ وَلَصِيقٍ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ اسْتِعَارَةِ الْأَغْلَالِ لِلذِّلَّةِ أَوْضَحُ، لِأَنَّ الْأَغْلَالَ مِنْ شِعَارِ الْإِذْلَالِ فِي الْأَسْرِ وَالْقَوَدِ وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ لَهُمَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْيَهُودِ، الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى، وَلَا يَتَحَقَّقَانِ فِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ آمن بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ كَانَ لَهُمْ شَرْعٌ، وَكَانَ فِيهِ تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْيَهُودِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ اللَّهُ الْإِصْرَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَوَصَفَ الْأَغْلَالَ بِمَا فِيهِ ضَمِيرُهُمْ، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَا تَجِدُ شَرَائِعَهُمْ وَقَوَانِينَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ خَالِيَةً مِنْ إِصْرٍ عَلَيْهِمْ، مِثْلِ تَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِثْلِ تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لَا تَتَلَاقَى مَعَ السَّمَاحَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَا تَجِدُهَا خَالِيَةً مِنْ رَهَقِ الْجَبَابِرَةِ، وَإِذْلَالِ الرُّؤَسَاءِ، وَشِدَّةِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَمَا كَانَ يَحْدُثُ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْغَارَاتِ، وَالتَّكَايُلِ فِي الدِّمَاءِ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ، فَأَرْسَلَ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخَلِّصَ الْبَشَرَ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] وَلِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْوَضْعَ بِمَا يَعُمُّ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ، وَفَسَّرْنَا الْأَغْلَالَ بِمَا يُخَالِفُ الْمُرَادَ مِنَ الْإِصْرِ، وَلَا يُنَاكِدُ هَذَا مَا فِي أَدْيَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّحَلُّلِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا يُخَفِّفُ وَطْأَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْإِصْرِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ، يَعْنِي شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ: فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ هَذَا النَّبِيءُ كَمَاِِ

عَلِمْتُمْ مِنْ شَهَادَةِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بنبوءته، وَمِنَ اتِّصَافِ شَرْعِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي سَمِعْتُمْ، عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ، هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَمِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ أَفْلَحُوا أَيْ دُونَ مَنْ كَفَرَ بِهِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّ مَقَامَ دُعَاءِ مُوسَى يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَكِتَابَةَ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ، وَلَا يُرِيدُ مُوسَى شُمُولَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَتَّبِعُ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَجِيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ جَرَى الْقَصْرُ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْإِيهَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا، دَالًّا عَلَى مَعْنَى كَمَالِ صِفَةِ الْفَلَاحِ لِلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النَّبِيءَ الْأُمِّيَّ، فَفَلَاحُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ كَلَا فَلَاحٍ، إِذَا نُسِبَ إِلَى فَلَاحِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَنَالُهُمُ الرَّحْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي تَسَعُ كُلَّ شَيْء من شؤونهم قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] . وَمَعْنَى عَزَّرُوهُ أَيَّدُوهُ وَقَوَّوْهُ، وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِصِفَاتِهِ، وَصِفَاتِ شَرِيعَتِهِ، وَإِعْلَانِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَكَقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى» ، وَهُوَ أَيْضًا مُغَايِرٌ لِلنَّصْرِ، لِأَنَّ النَّصْرَ هُوَ الْإِعَانَةُ فِي الْحَرْبِ بِالسِّلَاحِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَنَصَرُوهُ. وَاتِّبَاعُ النُّورِ تَمْثِيلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ: شُبِّهَ حَالُ الْمُقْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْآنِ، بِحَالِ السَّارِي فِي اللَّيْلِ إِذَا رَأَى نُورًا يَلُوحُ لَهُ اتَّبَعَهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ مَنْجَاةً مِنَ الْمَخَاوِفِ وَأَضْرَارِ السَّيْرِ، وَأَجْزَاءُ هَذَا التَّمْثِيلِ اسْتِعَارَاتٌ، فَالِاتِّبَاعُ يَصْلُحُ مُسْتَعَارًا لِلِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فِيهِ، وَالنُّورُ يَصْلُحُ مُسْتَعَارًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْحَقَّ وَالرُّشْدَ يُشَبَّهُ بِالنُّورِ، وَأَحْسَنُ التَّمْثِيلِ مَا كَانَ صَالِحًا لِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهَاتِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَجْزَائِهِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِمَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُمْ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] .

[سورة الأعراف (7) : آية 158]

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْوِيهٌ بِعَظِيمِ فَضْلِ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ مَنْ نَصَرَ دينه بعدهمْ. [158] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 158] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَتْ مُسْتَطْرِدَةً لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الرَّسُول الْأُمِّي، تذكير لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِيقَاظًا لِأَفْهَامِهِمْ بِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِصْدَاقُ الصِّفَاتِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ مُوسَى وَالْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، وَضَمِيرُ التَّكَلُّمِ ضَمِيرُ الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُنْكِرِينَ وَمُتَرَدِّدِينَ، اسْتِقْصَاءٌ فِي إِبْلَاغِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ. وَتَأْكِيدُ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِوَصْفِ جَمِيعاً الدَّالِّ نَصًّا عَلَى الْعُمُومِ، لِرَفْعِ احْتِمَالِ تَخْصِيصِ رِسَالَتِهِ بِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنَّ مِنَ الْيَهُودِ فَرِيقًا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيءٌ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيءُ الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِابْنِ صَيَّادٍ- وَهُوَ يَهُودِيٌّ- أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ مَذْهَبُ فَرِيقٍ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ يُدْعَوْنَ بِالْعِيسَوِيَّةِ وَهُمْ أَتَبَاعُ أَبِي عِيسَى الْأَصْفَهَانِيِّ الْيَهُودِيِّ الْقَائِلِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْيَهُودَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى لَا تُنْسَخُ بِغَيْرِهَا، وَفَرِيقٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لَا تُنْسَخُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولٌ لِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَانْتَصَبَ جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، بِ (إِلَى) وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَجْمُوعِينَ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الْإِفْرَادَ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نَعْتٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، دَالٌّ عَلَى الثَّنَاءِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ مِمَّا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قُوَّةِ مُتَفَرِّدًا بِالْإِلَهِيَّةِ، وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، لَا لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ: يُحيِي وَيُمِيتُ حَالٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ: تَذْكِيرُ الْيَهُودِ، وَوَعْظُهُمْ، حَيْثُ جَحَدُوا نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا رَسُولَ بَعْدَ مُوسَى، وَاسْتَعْظَمُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى لَا يُشْبِهُهُ رَسُولٌ، فَذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ وَاهِبُ الْفَضَائِلِ، فَلَا يُسْتَعْظَمُ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا ثُمَّ يُرْسِلَ رَسُولًا آخَرَ، لِأَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِهِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي لَا يُشَابِهُهُ أَحَدٌ فِي إِلُوهِيَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ إِلَهَانِ لِلْخَلْقِ، وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الرِّسَالَةِ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّعَدُّدِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَكَذَلِكَ هُوَ يُمِيتُ شَرِيعَةً وَيُحْيِي شَرِيعَةً أُخْرَى، وَإِحْيَاءُ الشَّرِيعَةِ إِيجَادُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ: لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَقِيقَتُهُ إِيجَادُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْجُودِ، ثُمَّ يُحَصَّلُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَبِإِنْكَارِ الْحَشْرِ. وَقَدِ انْتَظَمَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الطَّلَبُ الْجَازِمُ بِالْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ لِأَنَّهُ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَدَرَ الْأَمْرُ بِخِطَابِ جَمِيعِ الْبَشَرِ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَفِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ، جُمِعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ فِي طَلَبٍ وَاحِدٍ، لِيَكُونَ هَذَا الطَّلَبُ مُتَوَجِّهًا لِلْفِرَقِ كُلِّهِمْ، لِيَجْمَعُوا فِي إِيمَانِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ، مَعَ قَضَاءِ حَقِّ التَّأَدُّبِ مَعَ اللَّهِ بِجَعْلِ الْإِيمَانِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى طَلَبِ الْإِيمَان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، عَلَى نَحْوِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النِّسَاء: 150] ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النِّسَاء: 171]

[سورة الأعراف (7) : آية 159]

فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ زِيَادَةُ النَّهْيِ عَنِ اعْتِقَادِ التَّثْلِيثِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ الْإِيمَانُ بِأَعْظَمِ صِفَاتِهِ وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَضَمِّنُ إِيَّاهَا اسْمُ الذَّاتِ، وَالْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ الْإِيمَانُ بِأَخَصِّ صِفَاتِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ إِنَاطَةِ الْإِيمَانِ بِوَصْفِ الرَّسُولِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَرَسُولِهِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِقَصْدِ إِعْلَانِ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا فِي التَّوْرَاةِ فِي شخص مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَصْفُ النبيء الْأُمِّي بِالَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، وَأَنَّهُ لَا مَعْذِرَةَ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ، فَقَدِ انْدَرَجَ فِي الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِسَائِرِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي تَفْضِيلِ الْمُسْلِمِينَ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: 119] وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْأُمِّيِّ قَرِيبًا. وَكَلِمَاتٌ جَمْعُ كَلِمَةٍ بِمَعْنَى الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] أَيْ قَوْلُهُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] . فكلمات اللَّهِ تَشْمَلُ كُتُبَهُ وَوَحْيَهُ لِلرُّسُلِ، وَأُوثِرَ هُنَا التَّعْبِيرُ بِكَلِمَاتِهِ، دُونَ كُتُبِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِيمَاءُ إِلَى إِيمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، أَيْ أَثَرُ كَلِمَتِهِ، وَهِيَ أَمْرُ التَّكْوِينِ، إِذْ كَانَ تَكَوُّنُ عِيسَى عَنْ غَيْرِ سَبَبِ التَّكَوُّنِ الْمُعْتَادِ بَلْ كَانَ تَكَوُّنُهُ بِقَوْلِ اللَّهِ كُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمرَان: 59] ، فَاقْتَضَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُؤْمِنُ بِعِيسَى، أَيْ بِكَوْنِهِ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ قَطْعٌ لِمَعْذِرَةِ النَّصَارَى فِي التَّرَدُّدِ فِي الْإِيمَان بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتَضَى أَنَّ الرَّسُولَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، وَلَيْسَ ابْنَ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ لِلْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَرَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَرَدٌّ عَلَى النَّصَارَى فِيمَا غَلَوْا فِيهِ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الِاتِّبَاعِ تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَحْوِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. [159] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 159] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا [الْأَعْرَاف: 148]

[سورة الأعراف (7) : آية 160]

الْآيَةَ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى [الْأَعْرَاف: 148] قُصِدَ بِهِ الِاحْتِرَاسُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ عَمِلَهُ قَوْمُ مُوسَى كُلُّهُمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى دَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ، قُدِّمَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى عَلَى مُتَعَلِّقِهِ. وَقَوْمُ مُوسَى هُمْ أَتْبَاعُ دِينِهِ مِنْ قَبْلِ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ بَقِيَ مُتَمَسِّكًا بَدِينِ مُوسَى، بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَلَكِنْ يُقَالُ هُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنَ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْمِ مُوسى تُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُو دِينِهِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِهِ تَرَقُّبُ مَجِيءِ الرَّسُول الْأُمِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأُمَّةٌ: جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مُتَّفِقَةٌ فِي عَمَلٍ يَجْمَعُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. ويَهْدُونَ بِالْحَقِّ أَيْ يَهْدُونَ النَّاسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ بِبَثِّ فَضَائِلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ ويعدلون أَيْ يَحْكُمُونَ حُكْمًا لَا جَوْرَ فِيهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَبِهِ يَعْدِلُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، إِذْ لَا مُقْتَضِي لِإِرَادَةِ الْقَصْرِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ حَيْثُ لَمْ يُقَدَّمِ الْمَجْرُورُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ مُصَادَفَةِ الْحَقِّ عَنْ جَهْلٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْجَاهِلَ إِذَا قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ أَحَدَ الْقَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي النَّارِ، وَلَوْ صَادَفَ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ بِجَهْلِهِ قَدِ اسْتَخَفَّ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَلَا تَنْفَعُهُ مُصَادَفَةُ الْحَقِّ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُصَادَفَةَ لَا عَمَلَ لَهُ فِيهَا. [160] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 160] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً. عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ [الْأَعْرَاف: 159] إِلَخْ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقْطِيعَ وَقَعَ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ. وَالتَّقْطِيعُ شِدَّةٌ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ التَّفْرِيقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّقْسِيمُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَبَرِ الذَّمَّ، وَلَا بِالتَّقْطِيعِ الْعِقَابَ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْطِيعَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ سِيَاسَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ كَمَا فَصَّلَهُ السِّفْرُ الرَّابِعُ، وَهُوَ سِفْرُ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْسِيمِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ تَدْوِينِ

الدِّيوَانِ، وَهُمْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إِلَى أَسْبَاطِ إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقَسَّمِينَ عَشَائِرَ لَمَّا كَانُوا فِي مِصْرَ، وَلَمَّا اجْتَازُوا الْبَحْرَ، فَكَانَ التَّقْسِيمُ بَعْدَ اجْتِيَازِهِمُ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ، وَقَبْلَ انْفِجَارِ الْعُيُونِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ لِقَوْلِهِ فِيهِمَا: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَذِكْرُهُ هُنَا الِاسْتِسْقَاءَ عَقِبَ الِانْقِسَامِ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةً، وَذَلِكَ ضَرُورِيٌّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِاسْتِسْقَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ السَّقْيُ قَبْلَ التَّقْسِيمِ لَحَصَلَ مِنَ التَّزَاحُمِ عَلَى الْمَاءِ مَا يُفْضِي إِلَى الضُّرِّ بِالْقَوْمِ، وَظَاهِرُ التَّوْرَاةِ أَنَّهُمْ لَمَّا مَرُّوا بِحُورِيبَ، وَجَاءَ شُعَيْبٌ لِلِقَاءِ مُوسَى: أَنَّ شُعَيْبًا أَشَارَ عَلَى مُوسَى أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ، وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ، وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ، وَرُؤَسَاءَ عَشَرَاتٍ، حَسَبَ الْإِصْحَاحِ 18 مِنَ الْخُرُوجِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُمَّةَ كَانَتْ مُنْتَسِبَةً قَبَائِلَ مِنْ قَبْلُ، لِيَسْهُلَ وَضْعُ الرُّؤَسَاءِ عَلَى الْأَعْدَادِ، وَوَقَعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ خُرُوجِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ جَمَعَا جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَانْتَسَبُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ، كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَسْبَاطِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [136] . وَجِيءَ بِاسْمِ الْعَدَدِ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لِأَنَّ السِّبْطَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْأُمَّةِ فَحُذِفَ تَمْيِيزُ الْعَدَدِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أُمَماً عَلَيْهِ. وأَسْباطاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي وَقَطَّعْناهُمُ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ تَمْيِيزًا لِأَنَّ تَمْيِيزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَنَحْوِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفْرَدًا. وَقَوْلُهُ: أُمَماً بدل من أَسْبَاط أَوْ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعُدِلَ عَنْ جَعْلِ أَحَدِ الْحَالَيْنِ تَمْيِيزًا فِي الْكَلَامِ إِيجَازًا وَتَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ الْمِنَّةِ بِكَوْنِهِمْ أُمَمًا مِنْ آبَاءٍ إِخْوَةٍ. وَأَنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْ أُولَئِكَ قَدْ صَارَ أُمَّةً، قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَاف: 86] مَعَ مَا يُذْكَرُ بِهِ لَفْظُ أَسْبَاطٍ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ، لِأَنَّ الْأَسْبَاطَ أَسْبَاطُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ. هَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَةِ تَقْسِيمِهِمْ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا وَلَمْ يُعْطَفْ هَذَا الْخَبَرُ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ مِنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 إلى 162]

وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَضَى فِي مُشَابِهَتِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [60] . وفَانْبَجَسَتْ مُطَاوِعُ بَجَسَ إِذَا شَقَّ، وَالتَّعْقِيبُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ تَعْقِيبٌ مَجَازِيٌّ تَشْبِيهًا لِقِصَرِ الْمُهْلَةِ بِالتَّعْقِيبِ وَنَظَايِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي خَبَرِ الشُّرْبِ إِلَى أُمِّ زَرْعٍ قَوْلُهَا: «فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا» إِذِ التَّقْدِيرُ فَأَعْجَبَتْهُ فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْمِ مُوسَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ سِوَى اخْتِلَافٍ بِضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ هُنَا وَضَمِيرَيِ الْخِطَابِ هُنَاكَ لِأَنَّ مَا هُنَالِكَ قُصِدَ بِهِ التَّوْبِيخُ. وَقَدْ أُسْنِدَ فِعْلُ (قِيلَ) فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الْأَعْرَاف: 161] إِلَى الْمَجْهُولِ وَأُسْنِدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَإِذْ قُلْنَا لِظُهُورِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الله تَعَالَى. [161، 162] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 161 إِلَى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا نَظِيرُ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: اسْكُنُوا وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ قِيلَا لَهُمْ، أَيْ قِيلَ لَهُمُ: ادْخُلُوا وَاسْكُنُوهَا فَفُرِّقَ ذَلِكَ عَلَى الْقِصَّتَيْنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَغْيِيرِ أُسْلُوبِ الْقَصَصِ اسْتِجْدَادًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ.

وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَكُلُوا وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] فَكُلُوا فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ لَهُمْ بِمَا يُرَادِفُ فَاءَ التَّعْقِيبِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ التَّعْقِيبَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ الَّذِي تُفِيدُهُ وَاوُ الْعَطْفِ، وَاقْتُصِرَ هُنَا عَلَى حِكَايَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ، وَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ أَوْلَى بِحِكَايَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ، لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ فَنَاسَبَهَا مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمِنَّةِ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِ الْقَرْيَةِ، وَآيَاتُ الْأَعْرَافِ سِيقَتْ لِمُجَرَّدِ الْعِبْرَةِ بِقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ مُيِّزَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً [الْبَقَرَة: 59] وَعُوِّضَ عَنْهُ هُنَا بِضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ سَبَبِ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ أُشِيرَ إِلَى أُولَاهُمَا بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِلَى الثَّانِيَةِ بِحَرْفِ السَّبَبِيَّةِ، وَاقْتُصِرَ هُنَا عَلَى الثَّانِي. وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [59] لَفْظُ فَأَنْزَلْنا وَوَقَعَ هُنَا لَفْظُ فَأَرْسَلْنا وَلَمَّا قُيِّدَ كِلَاهُمَا بِقَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ كَانَ مُفَادُهُمَا وَاحِدًا، فَالِاخْتِلَافُ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ. وَعُبِّرَ هُنَا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وَفِي الْبَقَرَةِ [59] بِما كانُوا يَفْسُقُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى الْحَالُ فِي الْقِصَّتَيْنِ تَأْكِيدَ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ وَأُدِّيَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ [59] بُقُولِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، اسْتُثْقِلَتْ إِعَادَةُ لَفْظِ الظُّلْمِ هُنَالِكَ ثَالِثَةً، فَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَا يُفِيدُ مُفَادَهُ، وَهُوَ الْفِسْقُ، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ، فَهُوَ أَنْسَبُ بِتَذْيِيلِ التَّوْبِيخِ، وَجِيءَ هُنَا بِلَفْظِ يَظْلِمُونَ لِئَلَّا يَفُوتَ تَسْجِيلُ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَكَانَ تَذْيِيلُ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنْسَبَ بِالتَّغْلِيطِ فِي ذَمِّهِمْ، لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ يَقْتَضِيهِ. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَقَعْ لَفْظُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَوَجْهُ زِيَادَتِهَا هُنَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَبْدِيلَ الْقَوْلِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَأُجْمِلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمَّا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ نَاسَبَ إِرْهَابُهُمْ بِمَا يُوهِمُ أَنَّ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ هُمْ جَمِيعُ الْقَوْمِ، لِأَنَّ تَبِعَاتِ بَعْضِ الْقَبِيلَةِ تُحْمَلُ عَلَى جَمَاعَتِهَا. وَقُدِّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً عَلَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ [الْبَقَرَة: 58] وَعُكِسَ هُنَا وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْإِخْبَارِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، فَإِنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَاقِعٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ.

[سورة الأعراف (7) : آية 163]

وَذُكِرَ فِي الْبَقَرَة [58] : فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَلَمْ يُذْكَرْ وَصْفُ رَغَدًا هُنَا، وَإِنَّمَا حُكِيَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِنَّةِ أَدْخَلُ فِي تَقْوِيَةِ التَّوْبِيخِ. وَجُمْلَةُ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مستأنفة استئنافا بَيَانا لِأَنَّ قَوْلَهُ: تُغْفَرُ لَكُمْ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ بِإِعْطَاءِ نِعَمٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: وَهَلِ الْغُفْرَانُ هُوَ قُصَارَى جَزَائِهِمْ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّ بَعْدَهُ زِيَادَةَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِحْسَانِ، أَيْ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَفِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] ذُكِرَتْ جُمْلَةُ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى تَقْدِيرِ: قُلْنَا لَهُمْ ذَلِكَ وَقُلْنَا لَهُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَالْوَاوُ هُنَالِكَ لِحِكَايَةِ الْأَقْوَالِ، فَهِيَ مِنَ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ أَيْ قُلْنَا وَقُلْنَا سَنَزِيدُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ تُغْفَرُ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، وخَطِيئاتِكُمْ- بِصِيغَةِ جَمْعِ السَّلَامَةِ لِلْمُؤَنَّثِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: نَغْفِرْ- بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ- وخَطِيئاتِكُمْ- بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ أَيْضًا- وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو نَغْفِرْ- بِالنُّونِ وخطاياكم- بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، مِثْلَ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: تُغْفَرْ- بِالْفَوْقِيَّةِ- وَخَطِيئَتُكُمْ- بِالْإِفْرَادِ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ وَافَقَهُ: تَفَنُّنٌ فِي حِكَايَة الْقِصَّة. [163] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 163] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْخَبَرِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا: فَابْتُدِئَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِطَلَبِ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْحَاضِرِينَ عَنْهَا، فَنَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لِهَذِهِ الْقَصَصِ الْآتِيَةِ شَأْنًا غَيْرَ شَأْنِ الْقِصَصِ الْمَاضِيَةِ، وَلَا أَحْسَبُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لَيْسَتْ مِمَّا كُتِبَ فِي تَوْرَاةِ الْيَهُودِ وَلَا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا كَانَ مَرْوِيًّا عَنْ أَحْبَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْأَمْرِ بِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا، لِإِشْعَارِ يَهُودِ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهَا، وَهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَوَادِثَ الَّتِي تَكُونُ مَوَاعِظَ لِلْأُمَّةِ فِيمَا

اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمَعَاصِي تُبْقِي لَهَا عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ أَثَرًا قَدْ تُعَيَّرُ الْأُمَّةُ بِهِ، وَلَكِن ذَلِك التعيير لَا يُؤْبَهُ بِهِ فِي جَانِبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّفْعِ لَهَا بِالْمَوْعِظَةِ، فَالْأُمَّةُ فِي خُوَيِّصَّتِهَا لَا يَهْتَمُّ قَادَتُهَا وَنُصَحَاؤُهَا إِلَّا بِإِصْلَاحِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذِكْرِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ غَضَاضَةٌ عِنْدَهَا وَامْتِعَاضٌ، فَإِذَا جَاءَ حُكْمُ التَّارِيخِ الْعَامِّ بَيْنَ الْأُمَمِ تَنَاوَلَتِ الْأُمَمُ أَحْوَالَ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْحُكْمِ لَهَا وَعَلَيْهَا، فَبَقِيَتْ حَوَادِثُ فَلَتَاتِهَا مَغْمَزًا عَلَيْهَا وَمَعَرَّةً تُعَيَّرُ بِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْيَهُودِ لَمَّا أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ وَوَطَنَهُمْ وَجَاوَرُوا- أُمَمًا أُخْرَى فَأَصْبَحُوا يَكْتُمُونَ عَنْ أُولَئِكَ الجيرة مساوي تَارِيخِهِمْ، حَتَّى أَرْسَلَ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا فِيهِ مُعْجِزَةٌ لِأَسْلَافِهِمْ، وَمَا بَقِيَ مَعَرَّةً لِأَخْلَافِهِمْ، وَذَلِكَ تَحَدٍّ لَهُمْ، وَوَخْزٌ عَلَى سُوءِ تَلَقِّيهِمُ الدَّعْوَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ بِالْمَكْرِ وَالْحَسَدِ. فَالسُّؤَالُ هُنَا فِي معنى التقريع لِتَقْرِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَوْبِيخِهِمْ وَعَدِّ سَوَابِقِ عِصْيَانِهِمْ أَيْ لَيْسَ عِصْيَانُهُمْ إِيَّاكَ بِبِدْعٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ شِنْشِنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ، وَلَيْسَ سُؤَالَ الِاسْتِفَادَةِ لِأَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْلِمَ بِذَلِكَ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ التقريري فوزان وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وَزِانُ: أَعَدَوْتُمْ فِي السَّبْتِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى نَوْعَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنْ يَسْأَلَ السَّائِلُ عَمَّا لَا يُعلمهُ ليعلمه، والآخران يَسْأَلَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ حِينَ يَكُونُ السَّائِلُ يَعْلَمُ حُصُولَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَيَعْلَمُ الْمَسْئُولُ أَنَّ السَّائِلَ عَالِمٌ وَأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُ ليقرره. وَجُمْلَة: وَسْئَلْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الْأَعْرَاف: 161] وَاقِعَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَصَصِ الِامْتِنَانِ وَقَصَصِ الِانْتِقَامِ الْآتِيَةِ فِي قَوْله: وَقَطَّعْناهُمْ [الْأَعْرَاف: 168] ، وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِي كِلْتَا الْقِصَّتَيْنِ حَدِيثًا يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَرْيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [65] . وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ قِيلَ: (أَيْلَةُ) وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَوْمَ (الْعَقَبَةَ) وَهِيَ مَدِينَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ قُرْبَ شِبْهِ جَزِيرَةِ طُورِ سِينَا، وَهِيَ مَبْدَأُ أَرْضِ الشَّامِ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ، وَكَانَتْ مِنْ مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوُصِفَتْ بِأَنَّهَا حَاضِرَةُ الْبَحْرِ بِمَعْنَى الِاتِّصَالِ بِالْبَحْرِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْحُضُورَ يَسْتَلْزِمُ الْقُرْبَ، وَكَانَتْ (أَيْلَةُ) مُتَّصِلَةً بِخَلِيجٍ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ الْقُلْزُمُ.

وَقِيلَ هِيَ (طَبَرِيَّةُ) وَكَانَتْ طَبَرِيَّةُ تُدْعَى بُحَيْرَةَ طَبَرِيَّةَ، وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ فِي مُدَّةِ دَاوُدَ. وَأُطْلِقَتِ الْقَرْيَةُ عَلَى أَهْلِهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ أَيْ أَهْلُهَا. وَالْمُرَادُ السُّؤَالُ عَنِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِلَخْ فَقَوْلُهُ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْقَرْيَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَاسْأَلْهُمْ إِذْ يَعْدُو أَهْلُ الْقَرْيَةِ فِي السَّبْتِ وإِذْ فِيهِ اسْمُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي، وَلَيْسَتْ ظَرْفًا. وَالْعُدْوَانُ الظُّلْمُ وَمُخَالَفَةُ الْحَقِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَدْوِ وبسكون الدَّالِ وَهُوَ التَّجَاوُزُ. وَالسَّبْتُ عَلَمٌ لِلْيَوْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [154] . وَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَعْدُونَ إِلَى فِي السَّبْتِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْعُدْوَانَ لِأَجْلِ يَوْمِ السَّبْتِ، نَظَرًا إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ مِنَ التَّكْرِيرِ الْمُقْتَضِي أَنَّ عُدْوَانَهُمْ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ سَبْتٍ، وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ ذِكْرَ وَقْتِ الْعُدْوَانِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضُ الْبَلِيغِ مَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْوَقْتِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْفِعْلِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الِاعْتِدَاءَ كَانَ مَنُوطًا بِحَقٍّ خَاصٍّ بِيَوْمِ السَّبْتِ، وَذَلِكَ هُوَ حَقُّ عَدَمِ الْعَمَلِ فِيهِ، إِذْ لَيْسَ لِيَوْمِ السَّبْتِ حَقٌّ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى سِوَى أَنَّهُ يُحَرَّمُ الْعَمَلُ فِيهِ، وَهَذَا الْعَمَلُ هُوَ الصَّيْدُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْقِصَّةِ. وَهَدَفُ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ الْعُدْوَانَ وَقَعَ فِي شَأْن نقص حُرْمَةِ السَّبْتِ. وَقَوْلُهُ: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظَرْفٌ لِ يَعْدُونَ أَيْ يَعْدُونَ حِينَ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ. وَالْحِيتَانُ جَمْعُ حُوتٍ، وَهُوَ السَّمَكَةُ، وَيُطْلَقُ الْحُوتُ عَلَى الْجَمْعِ فَهُوَ مِمَّا اسْتَوَى فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ مِثْلُ فُلْكٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ الْحُوتُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْجَمْعُ حِيتَانُ. وَقَوْلُهُ: شُرَّعاً هُوَ جَمْعُ شَارِعٍ، صِفَةٌ لِلْحُوتِ الَّذِي هُوَ الْمُفْرَدُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ، يَعْنِي أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ آمِنَةً مِنْ أَنْ تُصَادَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهَا ذَلِكَ لِتَكُونَ آيَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنَّ احْتِرَامَ السَّبْتِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِ هُوَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شُرَّعاً مُتَتَابِعَةً مُصْطَفَّةً، أَيْ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ مَا يَرِدُ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ.

وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مِنْ شَرَعَتِ الْإِبِلُ نَحْوَ الْمَاءِ أَيْ دَخَلَتْ لِتَشْرَبَ، وَهِي إِذا رعها الرُّعَاةُ تَسَابَقَتْ إِلَى الْمَاءِ فَاكْتَظَّتْ وَتَرَاكَمَتْ وَرُبَّمَا دَخَلَتْ فِيهِ، فَمُثِّلَتْ هَيْئَةُ الْحِيتَانِ، فِي كَثْرَتِهَا فِي الْمَاءِ بِالنَّعَمِ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَاءِ وَحَسَّنَ ذَلِكَ وُجُودُ الْمَاءِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ فِيهِ، وَلَا اتَّعَظُوا بِآيَةِ إِلْهَامِ الْحُوتِ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِيهِ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ سَبْتِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ سَبْتٍ مَصْدَرَ سَبَتَ إِذَا قُطِعَ الْعَمَلُ بِقَرِينَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ فَإِنَّهُ مُضَارِعُ سَبَتَ، فَيَتَطَابَقُ الْمُثْبَتُ وَالْمَنْفِيُّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ إِذَا حَفِظُوا حُرْمَةَ السَّبْتِ، فَأَمْسَكُوا عَنِ الصَّيْدِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، جَاءَتِ الْحِيتَانُ يَوْمَئِذٍ شُرَّعًا آمِنَةً، وَإِذَا بَعَثَهُمُ الطمع فِي ورفة الصَّيْدِ فَأَعَدُّوا لَهُ آلَاتِهِ، وَعَزَمُوا عَلَى الصَّيْدِ لَمْ تَأْتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ سَبْتِهِمْ بِمَعْنَى الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلْيَوْمِ الْمَعْرُوفِ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِمِ اخْتِصَاصُهُ بِهِمْ بِمَا أَنَّهُمْ يَهُودُ، تَعْرِيضًا بِهِمْ لِاسْتِحْلَالِهِمْ حُرْمَةَ السَّبْتِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْعَلَمَ قَدْ يُضَافُ بِهَذَا الْقَصْدِ، كَقَوْل أحد الطائيين: عَلَا زَيْدُنَا يَوْمَ النَّقَا رَأْسَ زَيْدِكُمْ ... بِأَبْيَضَ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ يِمَانِ وَقَوْلِ رَبِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَسَدِيِّ: لَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْيَزِيدَيْنِ فِي النَّدَى ... يَزِيدِ سُلَيْمٍ وَالْأَغَرِّ ابْنِ حَاتِمٍ (¬1) وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَالْأَيَّامَ الَّتِي لَا يَحْرُمُ الْعَمَلُ فِيهَا، أَيْ أَيَّامَ الْأُسْبُوعِ، لَا تَأْتِي فِيهَا الْحِيتَانُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَيَّامَ السُّبُوتِ الَّتِي اسْتَحَلُّوهَا فَلَمْ يَكُفُّوا عَنِ الصَّيْدِ فِيهَا يَنْقَطِعُ فِيهَا إِتْيَانُ الْحِيتَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنْ لَا يُثَارَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ السَّبْتِ خُصُوصِيَّةٌ بَلَاغِيَّةٌ، تَرْمِي إِلَى إِرَادَةِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. ¬

(¬1) يزِيد سليم هُوَ ابْن أسيد السّلمي وَالِي مصر لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَيزِيد بن حَاتِم الْأَزْدِيّ من آل الْمُهلب بن أبي صفرَة أَمِير مصر وإفريقية لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 إلى 166]

فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ وَلَيْسَتْ مِنَّةً عَلَيْهِمْ، وَقَرِينَتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ نَمْتَحِنُ طَاعَتَهُمْ بِتَعْرِيضِهِمْ لِدَاعِي الْعِصْيَانِ وَهُوَ وُجُودُ الْمُشْتَهَى الْمَمْنُوعِ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ مَنْ يَقُولُ: مَا فَائِدَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ السَّبْتِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَلْوَى الدَّالِّ عَلَيْهَا نَبْلُوهُمْ أَيْ مِثْلَ هَذَا الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ نَبْلُوهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَأَصْلُ الْبَلْوَى الِاخْتِبَارُ، وَالْبَلْوَى إِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ مَجَازًا عَقْلِيًّا أَيْ لِيَبْلُوَ النَّاسَ تَمَسُّكَهُمْ بِشَرَائِعِ دِينِهِمْ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِفِسْقِهِمْ، أَيْ تَوَغُّلُهُمْ فِي الْعِصْيَان أضراهم عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْهُ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ دَاعِيهِ خَفُّوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَرْقُبُوا أَمْرَ الله تَعَالَى. [164- 166] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 164 إِلَى 166] وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) جُمْلَةُ: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ [الْأَعْرَاف: 163] وَالتَّقْدِيرُ: وَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ، فَإِذْ فِيهِ اسْمُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي وَلَيْسَتْ ظَرْفًا، وَلَهَا حكم إِذْ [الْأَعْرَاف: 163] أُخْتِهَا، الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، فَالتَّقْدِيرُ: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ وَقْتِ قَالَتْ أُمَّةٌ، أَيْ عَنْ زَمَنِ قَوْلِ أُمَّةٍ مِنْهُمْ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِمِنْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير وَسْئَلْهُمْ [الْأَعْرَاف: 163] وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْبِيخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلِّهِمْ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حَصَلَ فِي تِلْكَ الْقرْيَة كَمَا ذكره الْمُفَسِّرُونَ كَانَ غَيْرَ مَنْظُورٍ إِلَى حُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ، بَلْ مَنْظُورًا إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مَظْهَرٌ آخَرُ مِنْ مَظَاهِرِ عِصْيَانِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَقِلَّةِ جَدْوَى الْمَوْعِظَةِ

فِيهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنٌ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا عُطِفَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ أُعِيدَ مَعَهَا لَفْظُ اسْمِ الزَّمَانِ فَقِيلَ: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ وَلَمْ يُقَلْ: وَقَالَتْ أُمَّةٌ. وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُشْتَرِكَةُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ دَائِبَةً عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَةً كَانَتْ قَامَتْ بِذَلِكَ ثُمَّ أَيِسَتْ مِنَ اتِّعَاظِ الْمَوْعُوظِينَ وَأَيْقَنَتْ أَنْ قَدْ حَقَّتْ عَلَى الْمَوْعُوظِينَ الْمُصِمِّينَ آذَانَهُمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَأُمَّةً كَانَتْ سَادِرَةً فِي غُلَوَائِهَا، لَا تَرْعَوِي عَنْ ضَلَالَتِهَا، وَلَا تَرْقُبُ اللَّهَ فِي أَعْمَالِهَا. وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ مَا كَانَ مِنَ الْأُمَّةِ الْقَائِلَةِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُمُ: اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَى الْمَوْعُوظِينَ، وَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَارَسُوا أَمْرَهُمْ، وَسَبَرُوا غَوْرَهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ لَا تُغْنِي مَعَهُمُ الْعِظَاتُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ لَهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ إِذْ جَعَلَ النَّاسَ فَرِيقَيْنِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْقَائِلِينَ مِنَ الْفَرِيقِ النَّاجِي، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِظَالِمِينَ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَعْظِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] وَعِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [145] . وَاللَّامُ فِي لِمَ تَعِظُونَ للتعليم، فَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ مِنْ نَوْعِ الْعِلَلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ جَمِيعِ الْعِلَلِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُوعَظَ لِتَحْصِيلِهَا، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْيَأْسِ مِنْ حُصُولِ اتِّعَاظِهِمْ، وَالْمُخَاطَبُ بِ تَعِظُونَ أُمَّةً أُخْرَى. وَوَصْفُ الْقَوْمِ بِأَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهُمْ: مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الْحَالُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ يُهْلِكُ أَوْ يُعَذِّبُ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ، وَقَدْ أَيْقَنَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا قَدْ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ، وَأَيْقَنَّ الْمَقُولُ لَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى جَازَ أَنْ يَصِفَهُمُ الْقَائِلُونَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الْكَاشِفِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْمَصِيرِ إِلَى أَحَدِ الْوَعِيدَيْنِ. وَاسْمَا الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ مُسْتَعْمَلَانِ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَبِقَرِينَةِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْإِهْلَاكِ وَالْعَذَابِ، فَإِنَّهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنِ

الْحُصُولِ، لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ وَلَكِنْ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ عَنْ أَحَدِهِمَا. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَيْ قَالَ الْمُخَاطَبُونَ بِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً إِلَخْ. وَالْمَعْذِرَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الذَّالِ- مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِفِعْلِ (اعْتَذَرَ) عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمَعْنَى اعْتَذَرَ أَظْهَرَ الْعُذْرَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الذَّالِ- وَالْعُذْرُ السَّبَبُ الَّذِي تَبْطُلُ بِهِ الْمُؤَاخَذَةُ بِذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُجَّةِ الَّتِي يُبْدِيهَا الْمُؤَاخَذُ بِذَنْبٍ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، أَوْ مُتَأَوِّلٌ فِيهِ، وَيُقَالُ: عَذَرَهُ إِذَا قَبِلَ عُذْرَهُ وَتَحَقَّقَ بَرَاءَتَهُ، وَيُعَدَّى فِعْلُ الِاعْتِذَارِ بِإِلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِنْهَاءِ وَالْإِبْلَاغِ. وَارْتَفَعَ مَعْذِرَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ السَّائِلَيْنِ لِمَ تَعِظُونَ وَالتَّقْدِيرُ مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ مِنَّا إِلَى اللَّهِ. وبالرفع قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ أَيْ وَعَظْنَاهُمْ لِأَجْلِ الْمَعْذِرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِلِاسْتِمْرَارِ عَلَى الموعظة أَي رَجَاء لِتَأْثِيرِ الْمَوْعِظَةِ فِيهِمْ بِتَكْرَارِهَا. فَالْمَعْنَى: أَنَّ صُلَحَاءَ الْقَوْمِ كَانُوا فَرِيقَيْنِ. فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيِسَ مِنْ نَجَاحِ الْمَوْعِظَةِ وَتَحَقَّقَ حُلُولَ الْوَعِيدِ بِالْقَوْمِ، لِتَوَغُّلِهِمْ فِي الْمَعَاصِي، وَفَرِيقٌ لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاؤُهُمْ مِنْ حُصُولِ أَثَرِ الْمَوْعِظَةِ بِزِيَادَةِ التَّكْرَارِ، فَأَنْكَرَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ عَلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى كُلْفَةِ الْمَوْعِظَةِ. وَاعْتَذَرَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِقَوْلِهِمْ: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَخَذُوا بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ الْمُوجِبِ لِلظَّنِّ. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي أَخَذُوا بالطرف الْمَرْجُوح جمعيا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّاجِحِ لِقَصْدِ الِاحْتِيَاطِ، لِيَكُونَ لَهُمْ عُذْرًا عِنْدَ اللَّهِ إِنْ سَأَلَهُمْ لماذَا أَقْلَعْتُمْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَلِمَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ مِنْ تَقْوَى الْمَوْعُوظِينَ بِزِيَادَةِ الْمَوْعِظَةِ، فَاسْتِعْمَالُ حَرْفِ الرَّجَاءِ فِي مَوْقِعِهِ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ يُقَالُ عَلَى جِنْسِهِ بِالتَّشْكِيكِ فَمِنْهُ قَوِيٌّ وَمِنْهُ ضَعِيفٌ. وَضَمِيرُ نَسُوا عَائِدٌ إِلَى قَوْماً وَالنِّسْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْرَاضِ الْمُفْضِي إِلَى النِّسْيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

وَ (الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) هُمُ الْفَرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْقَوْمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ إِلَخْ. وَالظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِصْيَانِ، وَهُوَ ظُلْمُ النَّفْسِ، حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَدَمِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ. وبيس قَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مُشْبَعَةً بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَبِتَنْوِينِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ بِئْسَ- بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ذِيبٌ فِي ذِئْبٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِئْسٍ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ وَإِبْقَاءِ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ بَئِيسٍ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بَئِيسٍ- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَتَنْوِينِ السِّينِ- عَلَى أَنَّهُ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنْ فِعْلِ بَؤُسَ- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ- إِذَا أَصَابَهُ الْبُؤْسُ، وَهُوَ الشِّدَّةُ مِنَ الضُّرِّ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ عَذِيرٍ وَنَكِيرٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَن عَاصِم بَئِيسٍ بِوَزْنِ صَيْقَلٍ، عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَوْصُوفِ بِفعل الْبُؤْس مُبَالغَة، وَالْمَعْنَى، عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ: أَنَّهُ عَذَابٌ شَدِيدُ الضُّرِّ. وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ قَرِيبًا. وَقَدْ أُجْمِلَ هَذَا الْعَذَابُ هُنَا، فَقِيلَ هُوَ عَذَابٌ غَيْرُ الْمَسْخِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَهُوَ عَذَابٌ أُصِيبَ بِهِ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، فَيَكُونُ الْمَسْخُ عَذَابًا ثَانِيًا أُصِيبَ بِهِ فَرِيقٌ شَاهَدُوا الْعَذَابَ الَّذِي حَلَّ بِإِخْوَانِهِمْ، وَهُوَ عَذَابٌ أَشَدُّ، وَقَعَ بَعْدَ الْعَذَابِ الْبِيسِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فَابْتَدَأَهُمْ بِعَذَابِ الشِّدَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهُوا وَعَتَوْا، سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَذَابَ الْمَسْخِ. وَقيل: الْعَذَاب البئيس هُوَ الْمَسْخُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ بَيَانا» جمال الْعَذَاب البئيس، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا عَتَوْا بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا صِيغَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ لِتَهْوِيلِ النِّسْيَانِ وَالْعُتُوِّ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ النِّسْيَانَ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ، وَقَعَ مُقَارِنًا لِلْعُتُوِّ. وَمَا ذُكِّرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنْهُ مَا صدقهما شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ

[سورة الأعراف (7) : آية 167]

أَنْ يُقَالَ: فَلَمَّا نَسُوا وَعَتَوا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وَذُكِّرُوا بِهِ قُلْنَا لَهُمْ إِلَخْ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الْإِطْنَابِ لِتَهْوِيلِ أَمْرِ الْعَذَابِ، وَتَكْثِيرِ أَشْكَالِهِ، وَمَقَامُ التَّهْوِيلِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ، وَهَذَا كَإِعَادَةِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتٍ عَرْفَجِ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا وَلَكِنَّ أُسْلُوبَ الْآيَةِ أَبْلَغُ وَأَوْفَرُ فَائِدَةً، وَأَبْعَدُ عَنِ التَّكْرِيرِ اللَّفْظِيِّ، فَمَا فِي بَيْتِ لَبِيدٍ كَلَامٌ بَلِيغٌ، وَمَا فِي الْآيَةِ كَلَام معجز. و (العتو) تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [77] . وَقَوْلُهُ: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [65] ، وَلِأَجْلِ التَّشَابُهِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَذِكْرِ الْعَدْوِ فِي السَّبْتِ فِيهِمَا، وَذِكْرِهِ هُنَا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقَرْيَةِ، جَزَمَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَبِأَنَّ الْأُمَّةَ الْقَائِلَةَ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً هِيَ أُمَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ فَجَزَمُوا بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَشَابُهَ فَرِيقَيْنِ فِي الْعَذَابِ، فَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي جَعْلَ الْقِصَّةِ فِي مَعْنَى قِصَّتَيْنِ مِنْ جِهَة الِاعْتِبَار. [167] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 167] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) عُطِفَ على جملَة: وَسْئَلْهُمْ [الْأَعْرَاف: 163] بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ، وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ بِالضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَيْهِمْ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلْهُمْ [الْأَعْرَاف: 163] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَان ذَلِك كُله مسستوفى عِنْد قَوْله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الْأَعْرَاف: 163] فَالْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا عَلَاقَةَ لَهُمْ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ عَدَوْا فِي السَّبْتِ. وتَأَذَّنَ عَلَى اخْتِلَافِ إِطْلَاقَاتِهِ، وَمِمَّا فِيهِ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِذْنِ وَهُوَِِ

الْعِلْمُ، يُقَالُ: أَذِنَ أَيْ عَلِمَ، وَأَصْلُهُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ مَادَّةَ هَذَا الْفِعْلِ وَتَصَارِيفَهُ جَائِيَةٌ مِنَ الْأُذُنِ، اسْمِ الْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ السَّمْعِ، فَهَذِهِ التَّصَارِيفُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَامِدِ نَحْوَ اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أَيْ صَارَ حَجَرًا، وَاسْتَنْسَرَ الْبُغَاثُ أَيْ صَارَ نَسْرًا، فَتَأَذَّنَ: بِزِنَةٍ تَفَعَّلَ الدَّالَّةِ عَلَى مُطَاوَعَةِ فَعَلَ، وَالْمُطَاوَعَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى قُوَّةِ حُصُولِ الْفِعْلِ، فَقِيلَ: هُوَ هُنَا بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَمَا يُقَالُ: تَوَعَّدَ بِمَعْنَى أَوْعَدَ فَمَعْنَى تَأَذَّنَ رَبُّكَ أَعْلَمَ وَأَخْبَرَ لَيَبْعَثَنَّ، فَيَكُونُ فِعْلُ أَعْلَمَ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِلَامِ الْقَسَمِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَلَقٌ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ إِذْ نِسْبَةُ تَأَذَّنَ إِلَى الْفَاعِلِ غَيْرُ نِسْبَةِ أَعْلَمَ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنَ التَّعَدِّي وَغَيْرِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: تَأَذَّنَ تَأَلَّى قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» مَعْنَاهُ عَزَمَ رَبُّكَ، لِأَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الْأَمْرِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهِ» أَرَادَ أَنَّ إِشْرَابَهُ معنى الْقسم ناشىء عَنْ مَجَازٍ فَأُطْلِقَ التَّأَذُّنُ عَلَى الْعَزْمِ، لِأَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الْأَمْرِ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ يُؤْذِنُهَا بِفِعْلِهِ فَتَعْزِمُ نَفْسُهُ، ثُمَّ أُجْرِيَ مَجْرَى فِعْلِ الْقَسَمِ مِثْلَ عَلِمَ اللَّهُ، وَشَهِدَ اللَّهُ. وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَقَادَهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ دُخُولُ اللَّامِ فِي الْجَوَابِ، وَأَمَّا اللَّفْظَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْ هَذَا» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأَذَّنَ رَبُّكَ قَالَ رَبُّكَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَعْلَنَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [7] . وَمَعْنَى الْبَعْثِ الْإِرْسَالُ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّقْيِيضِ وَالْإِلْهَامِ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا يَوْمًا فيوما، وَلذَلِك اختبر فِعْلُ لَيَبْعَثَنَّ دُونَ نَحْوِ لَيُلْزِمَنَّهُمْ، وَضُمِّنَ مَعْنَى التَّسْلِيطِ فَعُدِّيَ بِعَلَى كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] وَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ [الْأَعْرَاف: 133] . وإِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غَايَةٌ لِمَا فِي الْقَسَمِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَهِيَ غَايَةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا جَعْلُ أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ ظَرْفًا لِلْبَعْثِ، لِإِخْرَاجِ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ. وَهَذَا الِاسْتِغْرَاقُ لِأَزْمِنَةِ الْبَعْثِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي خِلَالِ الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ، وَالْبَعْثُ مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ. ويَسُومُهُمْ يَفْرِضُ عَلَيْهِمْ، وَحَقِيقَةُ السَّوْمِ أَنَّهُ تَقْدِيرُ الْعِوَضِ الَّذِي يُسْتَبْدَلُ

بِهِ الشَّيْءُ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْمُعَامَلَةِ اللَّازِمَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالسَّوْمِ الْمُقَدِّرِ لِلشَّيْءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَظِيرُهُ، فَالْمَعْنَى يُجْعَلُ سُوءُ الْعَذَابِ كَالْقِيمَةِ لَهُمْ فَهُوَ حَظُّهُمْ. وَسُوءُ الْعَذَابِ أَشَدُّهُ، لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ سُوءٌ فَسُوءُهُ الْأَشَدُّ فِيهِ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ كُلَّمَا نَقَضُوا مِيثَاقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْوَعِيدُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَلُمَّ جَرًّا، كَمَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ فَفِيهِ «إِنْ لَمْ تَحْرِصْ لِتَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذَا النَّامُوسِ ... وَيُبَدِّدُكَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَفِي تِلْكَ الْأُمَمِ لَا تَطْمَئِنُّ وَتَرْتَعِبُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا تَأْمَنْ عَلَى حَيَاتِكَ» وَفِي سِفْرِ يُوشَعَ الْإِصْحَاحِ 23 «لِتَحْفَظُوا وَتَعْمَلُوا كُلَّ الْمَكْتُوبِ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَلَكِنْ إِذا رجعتم ولصفتم بِبَقِيَّةِ هَؤُلَاءِ الشُّعُوبِ اعْلَمُوا يَقِينًا أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُمْ لَكُمْ سَوْطًا عَلَى جَنُوبِكُمْ وَشَوْكًا فِي أَعْيُنِكُمْ حَتَّى تَبِيدُوا حِينَمَا تَتَعَدَّوْنَ عَهْدَ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ» . وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْوَصَايَا هِيَ الْعَهْدُ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ أَتْبَاعَ مِلَّةِ الْيَهُودِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا، فَإِذَا أَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ التَّأَذُّنِ وَدَخَلُوا فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ أَيْ لَهُمْ، وَالسُّرْعَةُ تَقْتَضِي التَّحَقُّقَ، أَيْ أَنَّ عِقَابَهُ وَاقِعٌ وَغَيْرُ مُتَأَخِّرٍ. لِأَنَّ التَّأَخُّرَ تقليل فِي التَّحْقِيق إِذِ التَّأَخُّرُ اسْتِمْرَارُ الْعَدَمِ مُدَّةً مَا. وَأَوَّلُ مَنْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ «بُخْتَنَصَّرُ» مَلِكُ (بَابِلَ) . ثُمَّ تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ فَكَانَ أَعْظَمَهَا خَرَابُ (أُرْشَلِيمَ) فِي زمن (إدريانوس) انبراطور (رومة) وَلَمْ تَزَلِ الْمَصَائِبُ تَنْتَابُهُمْ وَيُنَفَّسُ عَلَيْهِمْ فِي فَتَرَاتٍ مَعْرُوفَةٍ فِي التَّارِيخِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ وَعْدٌ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَابُوا وَاتَّبَعُوا

[سورة الأعراف (7) : آية 168]

الْإِسْلَامَ، أَيْ لَغَفُورٌ لِمَنْ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُنَفِّسُ عَلَيْهِمْ فِي فَتَرَاتٍ مِنَ الزَّمَنِ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَقَدْ أَلَمَّ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاء: 4- 8] . [168] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 168] وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى قَصَصِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ إِشَارَةً إِلَى تَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالتَّقْطِيعُ التَّفْرِيقُ، فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِثْلَ وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً [الْأَعْرَاف: 160] ، وَيَكُونُ مَذْمُومًا، فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرِينَةِ لَا عَلَى لَفْظِ التَّقْطِيعِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ الْجِنْسُ أَيْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وأُمَماً جَمْعُ أُمَّةٍ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا تَقْطِيعًا مَذْمُومًا أَيْ تَفْرِيقًا بَعْدَ اجْتِمَاعِ أُمَّتِهِمْ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَسْرِ بني إِسْرَائِيل عِنْد مَا غَزَا مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ (شَلَمْنَاصِرُ) مَلِكُ بَابِلَ. وَنَقَلَهُمْ إِلَى جِبَالِ أَنْشُورَ وَأَرْضِ بَابِلَ سَنَةَ 721 قَبْلَ الْمِيلَادِ. ثُمَّ أَسَرَ (بُخْتَنَصَّرُ) مَمْلَكَةَ يَهُوذَا وَمَلَكَهَا سَنَةَ 578 قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَنَقَلَ الْيَهُودَ مِنْ (أُرْشَلِيمَ) وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالْعُجَّزُ. ثُمَّ عَادُوا إِلَى أُرْشَلِيمَ سَنَةَ 530، وَبَنَوُا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ إِلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ (طَيْطُوسُ) الرُّومَانِيُّ، وَخُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الثَّانِي بَعْدَ الْمِيلَادِ، فَلَمْ تَجْتَمِعْ أُمَّتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَمَزَّقُوا أَيْدِي سَبَأٍ. وَوَصْفُ الْأُمَمِ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ شَمِلَ الْمُذْنِبِينَ وَغَيْرَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلصَّالِحِينَ مَنْزِلَةَ إِكْرَامٍ عِنْدَ الْأُمَمِ الَّتِي حلّوا بَينهمَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ.

وَشَمِلَ قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ فُقْدَانِ الصَّلَاحِ مِنْهُمْ. والصَّالِحُونَ هُمُ الْمُتَمَسِّكُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَالْمُصَدِّقُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَبْعُوثِينَ مِنْ بَعْدِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بِعِيسَى بَعْدَ بِعْثَتِهِ، وَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا بَعْدَ بِعْثَةِ عِيسَى غَيْرَ صَالِحِينَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَزَادُوا بَعْدَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ، بُعْدًا عَنِ الصَّلَاحِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا مِنْهُمْ مثل عبد لله بْنِ سَلَامٍ، وَمُخَيْرِيقٍ. وَانْتَصَبَ دُونَ ذلِكَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْهُمُ أَيْ وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ دُونَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) بِمَعْنَى بَعْضٍ اسْمًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَهِيَ مُبْتَدَأٌ، ودُونَ خَبَرٌ عَنْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى تَفْرِيقِهِمْ فِي الْأَرْضِ فِي مُدَّةِ مُلُوكِ بَابِلَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِبَابِلَ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ مِثْلُ (دَانْيَالَ) وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ دُونُ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ بِمِنْهُمْ مُشْعِرٌ بِوَفْرَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أَيْ أَظْهَرْنَا مُخْتَلِفَ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، أَوْ فِي الْجَزَعِ وَالْكُفْرِ، بِسَبَبِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَهِيَ جَمْعُ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ بِمَعْنَى الَّتِي تَحْسُنُ وَالَّتِي تَسُوءُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ تَفْصِيلًا لِلْبَلْوَى، فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ بَالَتِي تَحْسُنُ لِفَرِيقِ الصَّالِحِينَ وَبَالَّتِي تَسُوءُ فَرِيقَ غَيْرِهِمْ، تَوْزِيعًا لِحَالِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: بَلَوْناهُمْ. وَجُمْلَةُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَتُوبُوا أَيْ حِينَ يَذْكُرُونَ مُدَّةَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، أَوْ حِينَ يَرَوْنَ حُسْنَ حَالِ الصَّالِحِينَ وَسُوءَ حَالِ مَنْ هُمْ دُونَ ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَالرُّجُوعُ هُنَا الرُّجُوعُ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَعَنِ الْعِصْيَانِ، وَهُوَ مَعْنَى التَّوْبَةِ. هَذَا كُلُّهُ جَرْيٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ فِي مَعْنَى قَطَّعْناهُمْ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً، عَوْدًا إِلَى أَخْبَارِ الْمِنَنِ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ كَالْبِنَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الْأَعْرَاف: 160] ،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 إلى 170]

فَيَكُونُ تَقْطِيعًا مَحْمُودًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ الْقُدْسِ الْمَوْعُودَةُ لَهُمْ أَيْ لَكَثَّرْنَاهُمْ فَعَمَرُوهَا جَمِيعَهَا، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْأَرْضِ هُنَا دُونَ آيَةِ وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الْأَعْرَاف: 160] لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمَرُوهَا كُلَّهَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ إِنْصَافًا لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ عُدْوَانِ جَمَاعَاتِهِمْ وَصَمِّ آذَانِهِمْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ، وَقَوْلُهُ: وَبَلَوْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ مَرَّةً بِالرَّحْمَةِ وَمَرَّةً بِالْجَزَاءِ عَلَى أَعمال دهمائهم. [169، 170] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 169 إِلَى 170] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) جُمْلَةُ فَخَلَفَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْله: وَقَطَّعْناهُمْ [الْأَعْرَاف: 168] أَنْ كَانَ الْمُرَادُ تَقْطِيعَهُمْ فِي بِلَادِ أَعْدَائِهِمْ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى عَوْدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي عَهْدِ الْمَلِكِ (كُورَشَ) مَلِكِ الْفُرْسِ فِي حُدُودِ سَنَةِ 530 قَبْلَ الْمِيلَادِ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَتَحَ بِلَادَ آشُورَ أَذِنَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ (بُخْتَنَصَّرُ) أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فَرَجَعُوا، وَبَنَوْا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهِ عَلَى يَدِ (نَحْمِيَا) وَ (عِزْرَا) كَمَا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ نَحْمِيَا وَسِفْرُ عِزْرَا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْيَوْهُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِسِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى الَّذِي كتبه عزرا وقرأوه عَلَى الشَّعْبِ فِي (أُورْشَلِيمَ) فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَا أَوَّلُهُ ذَلِكَ الْفَلُّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنْ أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ. وَالْمُرَادُ بِإِرْثِ الْكِتَابِ إِعَادَةُ مُزَاوَلَتِهِمُ التَّوْرَاةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا إِلَيْهِمْ (عِزْرَا) الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِاسْمِ عُزَيْرٍ، وَيَكُونُ أَخْذُهُمْ عَرَضَ الْأَدْنَى أَخْذَ بَعْضِ الْخَلْفِ لَا جَمِيعِهِ، لِأَنَّ صَدْرَ ذَلِكَ الْخَلْفِ كَانُوا تَائِبِينَ وَفِيهِمْ أَنْبِيَاءُ وَصَالِحُونَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تَقْطِيعِهِمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا تَكْثِيرَهُمْ وَالِامْتِنَانَ عَلَيْهِمْ، كَانَ

قَوْلُهُ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تَفْرِيعًا عَلَى جَمِيعِ الْقَصَصِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ قَصَصُ أَسْلَافِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَنْ نَشَأَ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ بَعْدَ زَوَالِ الْأُمَّةِ وَتَفَرُّقِهَا، مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْخَلْفِ) نَحَا الْمُفَسِّرُونَ. وَالْخَلْفُ- بِسُكُونِ اللَّامِ- مَنْ يَأْتِي بَعْدَ غَيْرِهِ سَابِقِهِ فِي مَكَانٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ نَسْلٍ، يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ أَوِ الْقَرِينَةُ، وَلَا يَغْلِبُ فِيمَنْ يَخْلُفُ فِي أَمْرٍ سَيِّءٍ، قَالَهُ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، خِلَافًا لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِذْ قَالُوا: الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالُ الْخَلْفِ- بِسُكُونِ اللَّامِ- فِيمَنْ يَخْلُفُ فِي الشَّرِّ، وَبِفَتْحِ اللَّامِ فِيمَنْ يَخْلُفُ فِي الْخَيْرِ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: يَجُوزُ التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ فِي الرَّدِيءِ، وَأَمَّا الْحَسَنُ فَبِالتَّحْرِيكِ فَقَطْ. وَهُوَ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ أَيْ خَالِفٌ، وَالْخَلْفُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلْفِ ضِدِّ الْقُدَّامِ لِأَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَ قَوْمٍ فَكَأَنَّهُ جَاءَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا حَدَّ لِآخِرِ الْخَلْفِ، بَلْ يَكُونُ تَحْدِيدُهُ بِالْقَرَائِنِ، فَلَا يَنْحَصِرُ فِي جِيلٍ وَلَا فِي قَرْنٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْخَلْفُ مُمْتَدًّا، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ [مَرْيَم: 59] فَيَشْمَلُ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ إِدْرِيسَ وَهُوَ جَدُّ نُوحٍ. ووَرِثُوا مَجَازٌ فِي الْقِيَامِ مَقَامَ الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها فِي هَذِهِ السُّورَةِ [43] وَقَوْلِهِ فِيهَا: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الْأَعْرَاف: 100] فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَلْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فِي إِرْثِ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَجْرِي عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي تَخْصِيصِ الْخَلْفِ، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفِعْلِ لَا لِاسْمِ الْخَلْفِ. وَجُمْلَةُ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَرِثُوا، وَالْمَقْصُودُ هُوَ ذَمُّ الْخَلْفِ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَرَضَ الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا، وَمُهِّدَ لِذَلِكَ بِأَنَّهُمْ وَرِثُوا الْكِتَابَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ لَا عَنْ جَهْلٍ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مَذَمَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: 23] . وَمَعْنَى الْأَخْذِ هُنَا الْمُلَابَسَةُ وَالِاسْتِعْمَالُ فَهُوَ مَجَازٌ أَيْ: يُلَابِسُونَهُ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْعَرَضُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- الْأَمْرُ الَّذِي يَزُولُ وَلَا يَدُومُ. وَيُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا مَا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَنَافِعِ. وَالْأَدْنَى الْأَقْرَبُ مِنَ الْمَكَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّنْيَا، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرِ هَذَا الْعَرَضِ الَّذِي رَغِبُوا فِيهِ كَالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا وَقَدْ قِيلَ: أَخْذُ عَرَضِ الدُّنْيَا أُرِيدَ بِهِ مُلَابَسَةُ الذُّنُوبِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالطَّبَرِيُّ، فَيَشْمَلُ كُلَّ ذَنْبٍ، وَيَكُونُ الْأَخْذُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَجَازِ وَهُوَ الْمُلَابَسَةُ، فَيَصْدُقُ بِالتَّنَاوُلِ بِالْيَدِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَقِيلَ عَرَضُ الدُّنْيَا هُوَ الرِّشَا وَبِهِ فَسَّرَ السُّدِّيُّ، وَمُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ، فَيَكُونُ الْأَخْذُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ هَذَا التَّفْسِيرُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ كَمَا سَيَأْتِي. وَالْقَوْلُ فِي: وَيَقُولُونَ هُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ، يَقُولُونَ لِمَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَةَ الذُّنُوبِ وَتَنَاوُلَ الشَّهَوَاتِ، لِأَنَّ (مَا) بَعْدَ يَقُولُونَ يُنَاسِبُهُ الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنْهُ، أَيْ قَوْلُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ يُعَلِّلُونَهَا بِهِ حِينَ يَجِيشُ فِيهَا وَازِعُ النَّهْيِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: 8] وَذَلِكَ مِنْ غُرُورِهِمْ فِي الدِّينِ. وَبِنَاءُ فِعْلِ «يُغْفَرُ» عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ اللَّهُ، إِذْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا عَنْهُ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ لَا فِي خُصُوصِ الذَّنْبِ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، أَوِ الَّذِي تَلَبَّسُوا بِهِ حِينَ الْقَوْلِ، وَنَائِبُ الْفَاعِلِ مَحْذُوفٌ لِعِلْمِهِ مِنَ السِّيَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَيُغْفَرُ لَنَا ذَلِكَ، أَوْ ذُنُوبُنَا، لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ ذُنُوبَهُمْ كُلَّهَا مَغْفُورَةٌ وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [80] ، أَيْ يُغْفَرُ لَنَا بِدُونِ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهُوَ التَّوْبَةُ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ جَزْمُهُمْ بِذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الذَّنْبِ دُونَ ذِكْرِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَقَوْلُهُ لَنا لَا يَصْلُحُ لِلنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، إِذْ فِعْلُ

الْمَغْفِرَةِ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْمَجْرُورُ بَعْدَهُ بِاللَّامِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، يُقَالُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] فَلَوْ بُنِيَ شُرِحَ لِلْمَجْهُولِ لَمَا صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ لَكَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ. وَجُمْلَةُ: وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ، يَأْخُذُونَ لِأَنَّ كِلَا الْخَبَرَيْنِ يُوجِبُ الذَّمَّ، وَاجْتِمَاعَهُمَا أَشَدُّ فِي ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَاسْتُعِيرَ إِتْيَانُ الْعَرَضِ لِبَذْلِهِ لَهُمْ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَرَضِ الْمَالَ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ خُطُورُ شَهْوَتِهِ فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَرَضِ جَمِيعَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاذِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِتْيَانِ فِي الذَّوَاتِ أَنْسَبُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي خُطُورِ الْأَعْرَاضِ وَالْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، لِقُرْبِ الْمُشَابَهَةِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعْصُونَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَيِّئَاتِهِمْ مَغْفُورَةٌ، وَلَا يُقْلِعُونَ عَنِ الْمَعَاصِي. وَجُمْلَةُ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: سَيُغْفَرُ لَنا إِبْطَالًا لِمَضْمُونِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: سَيُغْفَرُ لَنا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْإِخْبَارِ عَنِ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِعْلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحُجَّهُمْ بِهَا، فَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ. كَمَا تَشْهَدُ بِهِ قِرَاءَةُ أَفَلا تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّوْبِيخُ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ، لِأَنَّهُ صَرِيحُ كِتَابِهِمْ، فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنَ السِّفْرِ الْخَامِسِ «لَا تَزِيدُوا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ وَلَا تُنْقِصُوا مِنْهُ لِكَيْ تَحْفَظُوا وَصَايَا الرَّبِّ» وَلَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَجِدُونَ فِيهِ التَّوْبَةَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَكَمَا فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي دَعْوَةِ سُلَيْمَانَ حِينَ بَنَى الْهَيْكَلَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ، فَقَوْلُهُمْ: سَيُغْفَرُ لَنا تَقَوُّلٌ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ، وَهُوَ وَصِيَّةُ مُوسَى الَّتِي بَلَّغَهَا إِلَيْهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَإِضَافَةُ الْمِيثَاقِ إِلَى الْكِتَابِ عَلَى مَعْنَى (فِي) أَوْ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ أَيِ الْمِيثَاقُ

الْمَعْرُوفُ بِهِ، وَالْكِتَابُ تَوْرَاةُ مُوسَى، وَأَنْ لَا يَقُولُوا هُوَ مَضْمُونُ مِيثَاقِ الْكِتَابِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ (أَنِ) النَّاصِبَةِ، وَالْمَعْنَى: بِأَنْ لَا يَقُولُوا، أَيْ بِانْتِفَاءِ قَوْلِهِمْ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْ مِيثَاقُ، فَلَا يُقَدَّرُ حَرْفُ جَرٍّ، وَالتَّقْدِيرُ: مِيثَاقُ الْكِتَابِ انْتِفَاءُ قَوْلِهِمْ عَلَى اللَّهِ إِلَخْ. وَفِعْلُ دَرَسُوا عُطِفَ عَلَى يُؤْخَذْ،. لِأَنَّ يُؤْخَذْ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ، لِأَجْلِ دُخُولِ لَمْ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ يُؤْخَذْ وَيَدْرُسُوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْرِيرُهُمْ بِأَنَّهُمْ دَرَسُوا الْكِتَابَ، لَا الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاء ثَجَّاجاً [النبإ: 6- 14] وَالتَّقْدِير: ومخلقكم أَزْوَاجًا وَنَجْعَلُ نَوْمَكُمْ سُبَاتًا، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بِأَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ، لِأَنَّهُمْ دَرَسُوا مَا فِي الْكِتَابِ فَبِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. وَجُمْلَةُ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ يَأْخُذُونَ أَيْ: يَأْخُذُونَ ذَلِكَ وَيَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَيُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ وَيَنْبِذُونَ مِيثَاقَ الْكِتَابِ عَلَى عِلْمٍ فِي حَالِ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِمَّا تَعَجَّلُوهُ، وَفِي جَعْلِ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَيْضًا فَهُمْ قَدْ خَيَّرُوا عَلَيْهِ عَرَضَ الدُّنْيَا قَصْدًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ غَفْلَةٍ صَادَفَتْهُمْ فَحَرَمَتْهُمْ مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ قَدْ حَرُمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ الْمُتَفَرِّعُ عَلَى قَوْلِهِ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَقَدْ نُزِّلُوا فِي تَخَيُّرِهِمْ عَرَضَ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ، فَخُوطِبُوا بِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ الإنكاري، وَقد قريء بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. لِيَكُونَ أوقع فِي توجبه التَّوْبِيخِ إِلَيْهِمْ مُوَاجَهَةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَابْنِ ذَكْوَانَ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، فَيَكُونُ تَوْبِيخُهُمْ تَعْرِيضِيًّا. وَفِي قَوْلِهِ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ خَسِرُوا خَيْرَ الْآخِرَةِ بِأَخْذِهِمْ عَرَضَ الدُّنْيَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ، لِأَنَّ كَوْنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرًا مِمَّا أَخَذُوهُ

[سورة الأعراف (7) : آية 171]

يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخَذُوهُ قَدْ أَفَاتَ عَلَيْهِمْ خَيْرَ الْآخِرَةِ. وَفِي جعل الْآخِرَة خير لِلْمُتَّقِينَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَرَضَ الدُّنْيَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ خُسْرَانِهِمْ خَيْرَ الْآخِرَةِ مَعَ إِثْبَاتِ كَوْنِ خَيْرِ الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ تَسْتَلْزِمُ أَنَّ الَّذِينَ أَضَاعُوا خَيْرَ الْآخِرَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ جَمَعَهَا قَوْلُهُ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَهَذَا مِنْ حَدِّ الْإِعْجَازِ الْعَجِيبِ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ إِلَى آخِرِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا: لِأَنَّ مَضْمُونَهَا مُقَابِلُ حُكْمِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ حُصِّلَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَلْفَ الَّذِينَ أَخَذُوا عَرَضَ الْأَدْنَى قَدْ فَرَّطُوا فِي مِيثَاقِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَعُقِّبَ ذَلِكَ بِبِشَارَةِ مَنْ كَانُوا ضِدَّ أَعْمَالِهِمْ، وَهُمُ الْآخِذُونَ بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ وَالْعَامِلُونَ بِبِشَارَتِهِ بِالرُّسُلِ، وآمنوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأُولَئِكَ يَسْتَكْمِلُونَ أَجْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ. فَكُنِّيَ عَنِ الْإِيمَان بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ شِعَارُ دِينِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى سُمِّيَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ، فَالْمُرَادُ مِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ بِعِيسَى فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوا النَّصْرَانِيَّةَ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهَا مُبَدَّلَةً مُحَرَّفَةً فَبَقُوا فِي انْتِظَارِ الرَّسُولِ الْمُخَلِّصِ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، ثُمَّ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بُعِثَ: مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ: الْمُسْلِمُونَ، ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ فِي الْآخِرَةِ وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ بِكِتَابِهِمْ مَسْلَكَ الْيَهُودِ بِكِتَابِهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ، وَالْمُصْلِحُونَ هُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَطُوِيَ ذِكْرُهُمُ اكْتِفَاءً بِشُمُولِ الْوَصْفِ لَهُمْ وَثَنَاءً عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الإيجاز البديع. [171] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 171] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) عَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْعِبْرَةِ بِقَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ قِصَّةَ رَفْعِ الطُّورِ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمَّهَاتِ قَصَصِهِمْ، وَلَيْسَتْ مِثْلَ قِصَّةِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 إلى 174]

السَّبْتِ، وَلَا مِثْلَ خَبَرِ إِيذَانِهِمْ بِمَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ. فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ كُلُّهَا هَنَا مُرَادٌ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا. وإِذْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ. وَالنَّتْقُ: الْفَصْلُ وَالْقَلْعُ. وَالْجَبَلُ الطُّورُ. وَهَذِهِ آيَةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُمْ تَخْوِيفًا لَهُمْ، لِتَكُونَ مُذَكِّرَةً لَهُمْ، فَيَعْقُبُ ذَلِكَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ بِعَزِيمَةِ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ، فَكَانَ رَفْعُ الطُّورِ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا سَيُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللَّهِ مِنْ أَخْذِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بِعَزِيمَةٍ وَمُدَاوَمَةٍ وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [63] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ. وَالظُّلَّةُ السَّحَابَةُ، وَجُمْلَةُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ كَثِيرٌ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَعُدِّيَ واقِعٌ بِالْبَاءِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَقِرِّينَ فِي الْجَبَلِ فَهُوَ إِذَا ارْتَفَعَ وَقَعَ مُلَابِسًا لَهُمْ فَفَتَّتَهُمْ، فَهُمْ يَرَوْنَ أَعْلَاهُ فَوْقَهُمْ وَهُمْ فِي سَفْحِهِ، وَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ فَوْقَهُمْ وَبَيْنَ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْبَاءَ بِمَعْنَى (عَلَى) . وَجُمْلَةُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَة الْبَقَرَة. [172- 174] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 172 إِلَى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) هَذَا كَلَامٌ مَصْرُوفٌ إِلَى غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَاللَّهُ يَقُولُ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ فَهَذَا انْتِقَالٌ بِالْكَلَامِ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ

الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ ابْتِدَاءً وَنِهَايَةً، فَكَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. جَاءَ هَذَا الِانْتِقَالُ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَصِيَّةِ مُوسَى، وَهُوَ مِيثَاقُ الْكِتَابِ، وَفِي يَوْمِ رَفْعِ الطُّورِ. وَهُوَ عَهْدٌ حَصَلَ بِالْخِطَابِ التَّكْوِينِيِّ أَيْ بِجَعْلِ مَعْنَاهُ فِي جِبِلَّةِ كُلِّ نَسَمَةٍ وَفِطْرَتِهَا، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالْمَقْصُود بِهِ ابتداؤهم الْمُشْرِكُونَ. وَتَبَدُّلُ أُسْلُوبِ الْقِصَّةِ وَاضِحٌ إِذِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى خِطَابٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَإِذْ صُرِّحَ فِيهَا بِمُعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَعُمُومُ الْمَوْعِظَةِ تَابِعٌ لِعُمُومِ الْعِظَةِ. فَهَذَا ابْتِدَاءٌ لِتَقْرِيعِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. وإِذْ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ «اذْكُرْ» مَحْذُوفٍ. وَفِعْلُ أَخَذَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ مُعَدًّى إِلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَخَذَ رَبُّكَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّرِّيَّةِ. مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ بَنِي آدَمَ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ بَنِي آدَمَ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَنِي آدَمَ وَقَوْلِهِ: مِنْ ظُهُورِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ فِيهِمَا. وَالذُّرِّيَّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وَالذُّرِّيَّةُ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَجَمْعُهُ هُنَا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَأَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ الْمُخْرَجِينَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ يَقْتَضِي أَخذ الْعَهْد عى الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ فِي ظَهْرِ آدَمَ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، وَإِلَّا لَكَانَ أَبْنَاءُ آدَمَ الْأَدْنَوْنَ لَيْسُوا مَأْخُوذًا عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ مَعَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَمِمَّا يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّلَالَةَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ غَيْرُ خَالٍ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْ مُتَكَلَّمٍ، غَيْرَ أَنَّ كَثْرَتَهَا يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَوْضَحُهَا مَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» فِي تَرْجَمَةِ

«النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ» بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ حَتَّى اسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي غَرَضِنَا، وَمَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَدْلُولِ الْفَحْوَى الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِمَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَبِهِ صَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: صَرِيحٌ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ لَفْظُهَا، وَثَانِيهِمَا: مَفْهُومٌ وَهُوَ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَجَاءَ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الذُّرِّيَّاتِ الْعَهْدَ بِالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ اقْتِصَارٌ عَلَى بَيَانِ مَا سَأَلَ عَنْهُ السَّائِل فَيكون تَفْسِيرا للأية تَفْسِيرُ تَكْمِيلٍ لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا، أَوْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ اقْتِصَارٌ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ عَلَى بَعْضِ مَا سَمِعَهُ. وَالْأَخْذُ مَجَازٌ فِي الْإِخْرَاجِ وَالِانْتِزَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: 46] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أبدل بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقَدْ أُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] . وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْأَنْفُسِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَاوِي الْإِقْرَارَ أَوِ الْحَمْلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا الْحَمْلُ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَاسْتُعِيرَ لِحَالَةٍ مُغَيَّبَةٍ تَتَضَمَّنُ هَذَا الْإِقْرَارَ يَعْلَمُهَا اللَّهُ لِاسْتِقْرَارِ مَعْنَى هَذَا الِاعْتِرَافِ فِي فِطْرَتِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي أَشْهَدَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الذُّرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ. وَالْقَوْلُ فِي قالُوا بَلى مُسْتَعَارٌ أَيْضًا لِدَلَالَةِ حَالِهِمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ قَرَّرَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ بَنِي آدَمَ كَانَ عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْإِنْكَارُ أَوْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ يُقَرَّرُ عَلَى النَّفْيِ اسْتِدْرَاجًا لَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ عَاقِدًا قَلْبَهُ عَلَى النَّفْيِ ظَنَّ أَنَّ الْمُقَرِّرَ يَطْلُبُهُ مِنْهُ، فَأَقْدَمَ عَلَى الْجَوَابِ بِالنَّفْيِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا قَلْبَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُجِيبُ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ، فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [الْأَحْقَاف: 34] تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] . وَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ، مِنْ تَسَلُّطِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ عَلَى ذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَأَعْرَاضِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ تَكْوِينِهَا، لَا تَبْلُغُ النُّفُوسُ إِلَى تَصَوُّرِهَا بِالْكُنْهِ، لِأَنَّهَا وَرَاءَ الْمُعْتَادِ الْمَأْلُوفِ، فَيُرَادُ تَقْرِيبُهَا بِهَذَا التَّمْثِيلِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ وَقْتِ تَكْوِينِهِ إِدْرَاكَ أَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَجَعَلَ فِي فِطْرَةِ حَرَكَةِ تَفْكِيرِ الْإِنْسَانِ التَّطَلُّعَ إِلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ، وَتَحْصِيلِ إِدْرَاكِهِ إِذَا جَرَّدَ نَفْسَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى فِطْرَتِهِ فَتُفْسِدُهَا. وَجُمْلَةُ: قالُوا بَلى جَوَابٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَفُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ إِمَّا حَقِيقَةً فَذَلِكَ قَوْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَإِمَّا مَجَازًا عَلَى دَلَالَةِ حَالِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا أُطْلِقَ الْقَوْلُ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] أَيْ ظَهَرَتْ فِيهِمَا آثَارُ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ: قَالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ رَاشِدًا ... إِنَّكَ لَا تَرْجِعُ إِلَّا حَامِدًا فَهُوَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وبَلى حَرْفُ جَوَابٍ لِكَلَامٍ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَقْتَضِي إِبْطَالَ النَّفْيِ وَتَقْرِيرَ الْمَنْفِيِّ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ بِهَا بَعْدَ النَّفْيِ أَصْرَحَ مِنَ الْجَوَابِ بِحَرْفِ (نَعَمْ) ، لِأَنَّ نَعَمْ تَحْتَمِلُ تَقْرِيرَ النَّفْيِ وَتَقْرِيرَ الْمَنْفِيِّ، وَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ

: «لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا» أَيْ لَكَانَ جَوَابُهُمْ مُحْتَمِلًا لِلْكُفْرِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِقْرَارٍ كَانَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ تَفَصِّيًا مِنَ الِاعْتِرَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ ذُرِّيَّتَهُمْ، بِالْإِفْرَادِ. وَقَوْلُهُمْ: شَهِدْنا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ بَلى وَالشَّهَادَةُ هُنَا أَيْضًا بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ. وَوَقَعَ أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ الْأَخْذِ وَالْإِشْهَادِ، فَهُوَ على تَقْرِير لَامِ التَّعْلِيلِ الْجَارَةِ، وَحَذْفُهَا مَعَ أَنْ جَارٍ عَلَى الْمُطَّرِدِ الشَّائِعِ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ لَا بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ، فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ جَريا على شُيُوخ حَذْفِهِ مَعَ الْقَوْلِ، أَوْ هُوَ تَعْلِيلٌ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَقَعْ إِشْهَادُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [156] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ تَقُولُوا- بِتَاءِ الْخِطَابِ- وَقَدْ حُوِّلَ الْأُسْلُوبُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، ثُمَّ مِنْ خِطَابِ الرَّسُولِ إِلَى خِطَابِ قَوْمِهِ، تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِصَّةِ أَخْذِ الْعَهْدِ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ هُوَ مِنْ تَحْوِيلِ الْخِطَابِ عَنْ مُخَاطَبٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الِالْتِفَافِ لِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحْدَهُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى ذُرِّيَّاتِ بَنِي آدَمَ. وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهَامِ وَجَوَابِهِ وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تَقْدِيرِهِ بِالْمَذْكُورِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ فِي الْفِطْرَةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ كَانَتْ عُقُولُ الْبَشَرِ مُنْسَاقَةً إِلَيْهِ، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَعْتَذِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا سُئِلَ عَنِ الْإِشْرَاكِ، بِعُذْرِ الْغَفْلَةِ، فَهَذَا إِبْطَالٌ لِلِاعْتِذَارِ بِالْغَفْلَةِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ تَقْدِيرُ حَرْفِ نَفْيٍ أَيْ أَنْ لَا تَقُولُوا إِلَخْ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ بِالْجَهْلِ دُونَ الْغَفْلَةِ بِأَنْ يَقُولُوا إِنَّنَا اتَّبَعْنَا آبَاءَنَا وَمَا ظَنَنَّا الْإِشْرَاكَ إِلَّا حَقًّا، فَلَمَّا كَانَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ الْعِلْمُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بَطَلَ الِاعْتِذَارُ

بِالْجَهْلِ بِهِ، وَكَانَ الْإِشْرَاكُ إِمَّا عَنْ عَمْدٍ وَإِمَّا عَنْ تَقْصِيرٍ، وَكَلَاهُمَا لَا يَنْهَضُ عُذْرًا، وَكُلُّ هَذَا إِنَّمَا يَصْلُحُ لِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَعْنَى: وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ كُنَّا عَلَى دِينِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ لِأَنَّنَا ذُرِّيَّةٌ لَهُمْ، وَشَأْنُ الذُّرِّيَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِالْآبَاءِ وَإِقَامَةُ عَوَائِدِهِمْ فَوَقَعَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ وَأُقِيمَ التَّعْلِيلُ مَقَامَ الْمُعَلَّلِ. ومِنْ بَعْدِهِمْ نَعْتٌ لِذُرِّيَّةٍ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ ذُرِّيَّةٌ مِنَ الْخَلْفِيَّةِ وَالْقِيَامِ فِي مَقَامِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَتُهْلِكُنا إِنْكَارِيٌّ، وَالْإِهْلَاكُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَذَابِ، وَالْمُبْطِلُونَ الْآخِذُونَ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْإِشْرَاكُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطْرَةِ الْعَقْلِ، لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ، وَتَجَرَّدَ مِنَ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ، أَوِ الْمُلْقَاةِ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِيهِمُ الضَّلَالَةُ، بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَى الْمَاوَرْدِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَعَلَيْهِ انْبَتَّتْ مُؤَاخَذَةُ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] وَلَعَلَّهُ أَرْجَعَ مُؤَاخَذَةَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى التَّوَاتُرِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ بِالتَّوْحِيدِ. وَجُمْلَةُ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَتُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أَيْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [55] . وَتَفْصِيلُهَا بَيَانُهَا وَتَجْرِيدُهَا مِنَ الِالْتِبَاسِ. وَجُمْلَةُ: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الِاعْتِرَاضِ، وَهَذَا إِنْشَاءُ تَرَجِّي رُجُوعِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ مَعْنَى الرَّجَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صُدُورِهِ مِنْ جَانِبِ الله تَعَالَى عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ، شُبِّهَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا بِتَرْكِ مَنْ حَلَّ فِي غَيْرِ مَقَرِّهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ بِهِ لِيَرْجِعَ إِلَى مَقَرِّهِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ حَالِ الْإِشْرَاكِ بِمَوْضِعِ الْغُرْبَةِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ فَالتَّلَبُّسُ بِهِ خُرُوجٌ عَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَخُرُوجِ الْمُسَافِرِ عَنْ مَوْطِنِهِ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا تَشْبِيهَ حَالِ التَّوْحِيدِ بِمَحَلِّ الْمَرْءِ وَحَيِّهِ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الرُّجُوعِ عَلَى إِقْلَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26- 28] أَيْ يَرْجِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْعَرَبِ، لِأَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: 29] ، فَإِنِّي اسْتَقْرَيْتُ مِنَ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُشِيرُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى الْعَرَبِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 176]

[175، 176] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 175 الى 176] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. أَعْقَبَ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوْحِيدَ جُعِلَ فِي الْفِطْرَةِ بِذِكْرِ حَالَةِ اهْتِدَاءِ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ ثُمَّ تَعْرِضُ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ لَهُ بِتَحْسِينِ الشِّرْكِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِلَّتِي قَبْلَهَا إِشَارَةُ الْعِبْرَةِ مِنْ حَالِ أَحَدِ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِالتَّوْحِيدِ وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِعِلْمٍ يُعِينُهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فِي الْفِطْرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ حِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى الْمُسْتَمِرَّ. وَشَأْنُ الْقَصَصِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهَا وَعْظُ الْمُشْرِكِينَ بِصَاحِبِ الْقِصَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ إِلَخْ، وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَعْلِيمٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يُونُس: 71] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشُّعَرَاء: 69] نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ [الْقَصَص: 3] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ، فَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَتْ إِلَيْهِمُ الْعِبَرُ وَالْمَوَاعِظُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَصَّتْ عَلَيْهِمْ

قَصَصَ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ، عَلَى أَنَّ تَوْجِيهَ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ إِلَيْهِمْ أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي مَوَاقِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَمُنَاسَبَةُ فِعْلِ التِّلَاوَةِ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْأُمِّيَّةُ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَلِّغَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّعْلِيمِ مَا يُسَاوُونَ بِهِ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي التِّلَاوَةِ، فَالضَّمِير الْمَجْرُور ب (على) عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ ضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْمُشْرِكُونَ كَقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] . وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ. وَظَاهِرُ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُفْرَدِ أَنَّ صَاحِبَ الصِّلَةِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ هَذَا النَّبَأِ مِمَّنْ لِلْعَرَبِ إِلْمَامٌ بِمُجْمَلِ خَبَرِهِ. فَقِيلَ الْمَعْنِيُّ بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي، بِأَسَانِيدَ كَثِيرَةٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ» هُوَ الْأَشْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيَّ كَانَ مِمَّنْ أَرَادَ اتِّبَاعَ دِينٍ غَيْرَ الشِّرْكِ طَالَبًا دِينَ الْحَقِّ، وَنَظَرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَلَمْ يَرَ النَّجَاةَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ، وَتَزَهَّدَ وَتَوَخَّى الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَأُخْبِرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ نَبِيًّا فِي الْعَرَبِ، فَطَمِعَ أَنْ يَكُونَهُ، وَرَفَضَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ، وَذَكَرَ فِي شِعْرِهِ أَخْبَارًا مِنْ قَصَصِ التَّوْرَاةِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ إِلْهَامَاتٌ وَمُكَاشَفَاتٌ وَكَانَ يَقُولُ: كُلُّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ ... اللَّهِ إِلَّا دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ زُورٌ وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ فِي أُمُور إلاهية، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِفَ أَنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّسُولَ الْمَبْعُوثَ فِي الْعَرَبِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنْ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَأَقَامَ هُنَالِكَ ثَمَانِ سِنِينَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَوَجَدَ الْبَعْثَةَ، وَتَرَدَّدَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَرَجَعَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَلَمْ يُؤمن بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا، وَرَثَى مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَخَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ بِلَادِ قَوْمِهِ فَمَاتَ كَافِرًا. وَكَانَ يَذْكُرُ فِي شِعْرِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَاسْمَ اللَّهِ وَأَسْمَاءَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

: «كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ» وَرُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ مَوْتِهِ «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الشَّكَّ يُدَاخِلُنِي فِي مُحَمَّدٍ» . فَمَعْنَى آتَيْناهُ آياتِنا أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ أُمَيَّةَ كَرَاهِيَةَ الشِّرْكِ، وَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ طَلَبَ الْحَقِّ، وَيَسَّرَ لَهُ قِرَاءَةَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْحَنِيفِيَّةَ، فَلَمَّا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَأَشْرَقَ نُورُ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَابَرَ وَحَسَدَ وَأَعْرَضَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتْ حَالُهُ أَنَّهُ انْسَلَخَ عَنْ جَمِيعِ مَا يُسِّرَ لَهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ عِنْدَ إِبَّانِ الِانْتِفَاعِ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي صَرَفَهُ عَنِ الْهُدَى فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، إِذْ مَاتَ عَلَى الْكفْر بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرِ بْنِ صَيْفِيٍّ الرَّاهِبِ، وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ الْخَزْرَجِيُّ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالرَّاهِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، فَلَمَّا قدم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ دَخَلَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ مَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ- قَالَ- جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ- قَالَ- فَإِنِّي عَلَيْهَا- فَقَالَ النَّبِيءُ- لَسْتَ عَلَيْهَا لِأَنَّكَ أَدْخَلْتَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا» فَكَفَرَ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قتال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْرُجُ مَعَهُمْ، إِلَى أَنْ قَاتَلَ فِي حُنَيْنٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ يَئِسَ وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ هُنَالِكَ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقَالُ لَهُ: بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَ، وَذَكَرُوا قِصَّتَهُ فَخَلَطُوهَا وَغَيَّرُوهَا وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بِلْعَامَ هَذَا كَانَ مِنْ صَالِحِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَعَرَّافِيهِمْ فِي زَمَنِ مُرُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَرْضِ (مُؤَابَ) وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِ الصَّلَاحِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحَاتِ 22- 23- 24 فَلَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لِاضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَاطِهِ. وَالْإِيتَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِطْلَاعِ وَتَيْسِيرِ الْعِلْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (¬1) [الْبَقَرَة: 251] . وَ «الْآيَاتُ» دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي كَرَّهَتْ إِلَيْهِ الشِّرْكَ وَبَعَثَتْهُ عَلَى تَطَلُّبِ الْحَنِيفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، أَوْ دَلَائِلِ الْإِنْجِيلِ عَلَى صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: وآتاه الله الْعلم وَالْحكمَة وَهُوَ غلط، والمثبت هُوَ الْمُوَافق لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم. [.....]

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِبِ أَبِي عَامِرِ بْنِ صَيْفِيٍّ. وَالِانْسِلَاخُ حَقِيقَتُهُ خُرُوجُ جَسَدِ الْحَيَوَانِ مِنْ جِلْدِهِ حِينَمَا يُسْلَخُ عَنْهُ جِلْدُهُ، وَالسَّلْخُ إِزَالَةُ جِلْدِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ عَنْ جَسَدِهِ، وَاسْتُعِيرَ فِي الْآيَةِ لِلِانْفِصَالِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ تَرْكُ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، وَمَعْنَى الِانْسِلَاخُ عَنِ الْآيَاتِ الْإِقْلَاعُ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا تَقْتَضِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ أَعْلَمَتْهُ بِفَسَادِ دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَتْبَعَهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بِمَعْنَى لَحِقَهُ غَيْرَ مُفْلِتٍ كَقَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10] فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ [طه: 78] وَهَذَا أَخَصُّ مِنِ اتَّبَعَهُ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَوَصْلِ الْهَمْزَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْغَاوِينَ: الْمُتَّصِفِينَ بِالْغَيِّ وَهُوَ الضَّلَالُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الِاتِّصَافِ بِالْغِوَايَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَغَوَى أَوْ كَانَ غَاوِيًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] . وَرُتِّبَتْ أَفْعَالُ الِانْسِلَاخِ وَالِاتِّبَاعِ وَالْكَوْنِ مِنَ الْغَاوِينَ بِفَاءِ الْعَطْفِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَانَدَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ حَصَلَتْ فِي نَفْسِهِ ظُلْمَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ مَكَّنَتِ الشَّيْطَانَ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ وَإِدَامَةِ إضلاله، فالانسلاخ على الْآيَاتِ أَثَرٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا أَطَاعَ الْمَرْءُ الْوَسْوَسَةَ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِنْ مَقَادِهِ، فَسَخَّرَهُ وَأَدَامَ إِضْلَالَهُ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنهُ ب فَأَتْبَعَهُ فَصَارَ بِذَلِكَ فِي زُمْرَةِ الْغُوَاةِ الْمُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْغِوَايَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أَفَادَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ التَّوْفِيقَ وَعَصَمَهُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ فَلَمْ يَنْسَلِخْ عَنْهَا، وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْمُوَفَّقِينَ لِيَعْلَمُوا فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَوْفِيقِهِمْ، فَالْمَعْنَى: وَلَوْ شِئْنَا لَزَادَ فِي الْعَمَلِ بِمَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ فلرفعه الله بِعِلْمِهِ. وَالرِّفْعَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِكَمَالِ النَّفْسِ وَزَكَائِهَا، لِأَنَّ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةَ تُخَيِّلُ صَاحِبَهَا مُرْتَفِعًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، أَيْ لَو شِئْنَا لَاكْتَسَبَ بِعَمَلِهِ بِالْآيَاتِ فَضْلًا وَزَكَاءً وَتَمَيُّزًا بِالْفَضْلِ، فَمَعْنَى لَرَفَعْنَاهُ لَيَسَّرْنَا لَهُ الْعَمَلَ بِهَا الَّذِي يُشْرُفُ بِهِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها بِذِكْرِ مَا يُنَاقِضُ

تِلْكَ الْمَشِيئَةَ الْمُمْتَنِعَةَ، وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بِأَنَّهُ انْعَكَسَتْ حَالُهُ فَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ رَكَنَ وَمَالَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَلَبِّسِ بِالنَّقَائِصِ وَالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، بِحَالِ مَنْ كَانَ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ فَنَزَلَ مِنِ اعْتِلَاءٍ إِلَى أَسْفَلَ، فَبِذِكْرِ الْأَرْضِ عُلِمَ أَنَّ الْإِخْلَادَ هُنَا رُكُونٌ إِلَى السُّفْلِ أَيْ تَلَبُّسٌ بِالنَّقَائِصِ وَالْمَفَاسِدِ. وَاتِّبَاعُ الْهَوَى تَرْجِيحُ مَا يَحْسُنُ لَدَى النَّفْسِ مِنَ النَّقَائِصِ الْمَحْبُوبَةِ، عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْحَقُّ وَالرُّشْدُ، فَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارٌ لِلِاخْتِيَارِ وَالْمَيْلِ، وَالْهَوَى شَاعَ فِي الْمَحَبَّةِ الْمَذْمُومَةِ الْخَاسِرَةِ عَاقِبَتُهَا. وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَمْثِيلُهُ بِالْكَلْبِ اللَّاهِثِ، لِأَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْحَالَةِ الَّتِي صَيَّرَتْهُ شَبِيهًا بِحَالِ الْكَلْبِ اللَّاهِثِ تَفَرَّعَ عَلَى إِخْلَادِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ، فَالْكَلَامُ فِي قُوَّةٍ أَنْ يُقَالَ: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَصَارَ فِي شَقَاءٍ وَعِنَادٍ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِلَخْ. وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْمَثَلِ بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ مَأْلُوفٌ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ التَّشْبِيهَ هُنَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمُتَعَارَفِ فِي التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، فَهَذَا الضَّالُّ تَحَمَّلَ كُلْفَةَ اتِّبَاعِ الدِّينِ الصَّالِحِ وَصَارَ يَطْلُبُهُ فِي حِينٍ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ فَلَقِيَ مِنْ ذَلِكَ نَصَبًا وَعَنَاءً، فَلَمَّا حَانَ حِينُ اتِّبَاعِ الْحَقِّ ببعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَمَّلَ مَشَقَّةَ الْعِنَادِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ فِي وَقْتٍ كَانَ جَدِيرًا فِيهِ بِأَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَائِهِ لِحُصُولِ طِلْبَتِهِ فَكَانَتْ حَالَتُهُ شَبِيهَةً بِحَالَةِ الْكَلْبِ الْمَوْصُوفِ بِاللَّهَثِ، فَهُوَ يَلْهَثُ فِي حَالَةِ وُجُودِ أَسْبَابِ اللَّهَثِ مِنَ الطَّرْدِ وَالْإِرْهَابِ وَالْمَشَقَّةِ وَهِيَ حَالَةُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَفِي حَالَةِ الْخُلُوِّ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَهِيَ حَالَةُ تَرْكِهِ فِي دَعَةٍ وَمُسَالَمَةٍ، وَالَّذِي يُنَبِّهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُهُ أَوْ تَتْرُكْهُ. وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَان حَالَة تصلح لِلتَّشْبِيهِ بِهَا فِي الْحَالَتَيْنِ غَيْرُ حَالَةِ الْكَلْبِ اللَّاهِثِ، لِأَنَّهُ يَلْهَثُ إِذَا أَتْعَبَ وَإِذَا كَانَ فِي دَعَةٍ، فَاللَّهَثُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَثَ حَالَةٌ تُؤْذِنُ بِحَرَجِ الْكَلْبِ مِنْ جَرَّاءِ عُسْرِ تَنَفُّسِهِ عَنِ اضْطِرَابِ بَاطِنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِاضْطِرَابِ بَاطِنِهِ، سَبَبٌ آتٍ مِنْ غَيْرِهِ

فَمَعْنَى إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ إِنْ تُطَارِدْهُ وَتُهَاجِمْهُ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمْلِ الَّذِي هُوَ الْهُجُومُ عَلَى أَحَدٍ لِقِتَالِهِ، يُقَالُ حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى الْقَوْمِ حَمْلَةً شَعْوَاءَ أَوْ حَمْلَةً مُنْكَرَةً. وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ تَوْضِيحَهُ، وَأَغْفَلَ الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» هَذَا الْمَعْنَى لِهَذَا الْفِعْلِ. فَهَذَا تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ مُرَكَّبٌ مُنْتَزَعَةٌ فِيهِ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَالْحَالَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا مِنْ مُتَعَدِّدٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فِي شَقِّ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُقَابِلٌ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَتَتَقَابَلُ أَجْزَاءُ هَذَا التَّمْثِيلِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الضَّالُّ بِالْكَلْبِ، وَيُشَبَّهَ شَقَاؤُهُ وَاضْطِرَابُ أَمْرِهِ فِي مُدَّةِ الْبَحْثِ عَنِ الدِّينِ بِلَهَثِ الْكَلْبِ فِي حَالَةِ تَرْكِهِ فِي دَعَةٍ، تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَيُشَبَّهَ شَقَاؤُهُ فِي إِعْرَاضِهِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ عِنْدَ مَجِيئِهِ بِلَهَثِ الْكَلْبِ فِي حَالَةِ طَرْدِهِ وَضَرْبِهِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَقَدْ أَغْفَلَ هَذَا الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَرَّرُوا التَّمْثِيلَ بِتَشْبِيهِ حَالَةٍ بَسِيطَةٍ بِحَالَةٍ بَسِيطَةٍ فِي مُجَرَّدِ التَّشْوِيهِ أَو الخسة. فيؤول إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْكَلْبِ إِظْهَارُ خِسَّةِ الْمُشَبَّهِ، كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ كَبِيرُ جَدْوَى، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى أَنَّهُ لِتَشْوِيهِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، لِتَكْتَسِبَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ تَشْوِيهًا، وَذَلِكَ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ التَّمْثِيلِ. وَالْكَلْبُ حَيَوَانٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ذُو أَنْيَابٍ وَأَظْفَارٍ كَثِيرُ النَّبْحِ فِي اللَّيْلِ قَلِيلُ النَّوْمِ فِيهِ كَثِيرُ النَّوْمِ فِي النَّهَارِ، يَأْلَفُ مَنْ يُعَاشِرُهُ ويحرس مَكَانَهُ مِنَ الطَّارِقِينَ الَّذِينَ لَا يَأْلَفُهُمْ، وَيَحْرُسُ الْأَنْعَامَ الَّتِي يُعَاشِرُهَا، وَيَعْدُو عَلَى الذِّئَابِ، وَيَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، لِأَنَّهُ ذَكِيٌّ. وَيَلْهَثُ إِذَا أَتْعَبَ أَوِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ، وَيَلْهَثُ بِدُونِ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي خِلْقَتِهِ ضِيقًا فِي مَجَارِي النَّفَسِ يَرْتَاحُ لَهُ بِاللَّهَثِ. وَجُمْلَةُ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِطَابُ فِي تَحْمِلْ وَتَتْرُكْ لِمُخَاطَبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَعْنَى إِنْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ حَامِلٌ، أَوْ يَتْرُكْهُ تَارِكٌ. وَاللَّهَثُ: سُرْعَةُ التَّنَفُّسِ مَعَ امْتِدَادِ اللِّسَانِ لِضِيقِ النَّفَسِ، وَفِعْلُهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا، وَمُضَارِعُهُ بِفَتْحِهَا لَا غَيْرَ، وَالْمَصْدَرُ اللَّهَثُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ وَيُقَالُ

[سورة الأعراف (7) : آية 177]

اللُّهَاثُ بِضَمِّ اللَّامِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَدْوَاءِ، وَلَيْسَ بِصَوْتٍ. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الْآيَتَيْنِ، وَالْمِثَالُ الْحَالُ أَيْ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ مَثَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْكَلْبِ الْمُشْتَبَهِ شَبِيهَةٌ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ وَلَيْسَتْ عَيْنَهَا. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، هُوَ مَثَلُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ شَابَهُوهُ فِي أَنهم أَتَوا الْقُرْآنَ فَكَذَّبُوا بِهِ، فَكَانَتْ حَالُهُمْ كَحَالِ ذَلِكَ الْمُكَذِّبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَيْ حَالُ الْكَلْبِ الْمَذْكُورَةِ كَحَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ مَعْرِفَةَ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتَمَنَّوْنَ مُسَاوَاةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ فِي عَنَاءٍ وَحَيْرَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ بِكِتَابٍ مُبِينٍ انْتَقَلُوا إِلَى عَنَاءِ مُعَانَدَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 157] وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ آيَةَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا إِلَى آخِرِهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ. وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيِ اقْصُصْ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَغَيْرَهَا، وَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا يَشْمَلُهَا وَغَيْرَهَا مِنَ الْقَصَصِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِي الْقَصَصِ تَفَكُّرًا وَمَوْعِظَةً، فَيُرْجَى مِنْهُ تَفَكُّرُهُمْ وَمَوْعِظَتُهُمْ، لِأَنَّ لِلْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ النَّظَائِرِ شَأْنًا عَظِيمًا فِي اهْتِدَاءِ النُّفُوسِ بِهَا وَتَقْرِيبِ الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ إِلَى النُّفُوسِ الذَّاهِلَةِ أَوِ الْمُتَغَافِلَةِ، لِمَا فِي التَّنْظِيرِ بِالْقِصَّةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ تَذَكُّرِ مُشَاهَدَةِ الْحَالَةِ بِالْحَوَاسِّ، بِخِلَافِ التَّذْكِيرِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّنْظِيرِ بالشَّيْء المحسوس. [177] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 177] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ إِنْشَاءَ ذَمٍّ لَهُمْ، بِأَنْ كَانُوا فِي حَالَةٍ شَنِيعَةٍ

[سورة الأعراف (7) : آية 178]

وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَالظُّلْمُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَحَلُّوهُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي جَعَلَهُمْ مَذْمُومِينَ فِي الدُّنْيَا وَمُعَذَّبِينَ فِي الْآخِرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ مَا ظَلَمُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَشَأْنُ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ نَفْسَهُ، وَفِيهِ إِزَالَةُ تَبَجُّحِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يتبعوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهُ وَيَغِيظُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ. وَجُمْلَةُ: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ فَتَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَانْتِفَاءِ مِنَ الْقَصَصِ مَا ظَلَمُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَقَوْلُهُ: كانُوا يَظْلِمُونَ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [75] . [178] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 178] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ وَالْمَثَلِ وَمَا أُعْقِبَا بِهِ مِنْ وَصْفِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تُحَصِّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَذَلِكَ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّذْيِيلِ، وَفِيهَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُهْتَدِينَ وَتَلْقِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ مِنْهُ وَالْعِصْمَةِ مِنْ مَزَالِقِ الضَّلَالِ، أَيْ فَالَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ دَلَّتْ حَالُهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَحَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ. وَالْهِدَايَةُ حَقِيقَتُهَا إِبَانَةُ الطَّرِيقِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْإِرْشَادِ لِمَا فِيهِ النَّفْعُ سَوَاءٌ اهْتَدَى الْمَهْدِيُّ إِلَى مَا هُدِيَ إِلَيْهِ أَمْ لَمْ يَهْتَدِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَان: 3] وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] . ثُمَّ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَتْقَنُ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَأَدْوَمُهَا، مَا لَمْ تَقُمِ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ يَعْنِي بِهِ مَنْ يُقَدِّرُ اللَّهُ اهْتِدَاءَهُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى مَنْ يُرْشِدُهُ اللَّهُ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ،

وَقَدِ اسْتُفِيدَ ذَلِكَ مِنَ الْقِصَّةِ الْمُذَيَّلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا [الْأَعْرَاف: 175] فَإِيتَاءُ الْآيَاتِ ضَرْبٌ مِنَ الْهِدَايَةِ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا فَانْسَلَخَ مِنْها [الْأَعْرَاف: 175] وَقَالَ وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الْأَعْرَاف: 176] وَقَالَ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها [الْأَعْرَاف: 176] فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، فَالْحَالَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُدَ إِلَى الْأَرْضِ لَيْسَتْ حَالَةَ هُدًى، وَلَكِنَّهَا حَالَةُ تَرَدُّدٍ وَتَجْرِبَةٍ، كَمَا تَكُونُ حَالَةُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ حُضُورِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُبْطِنٍ لَهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُنَا: مَنْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا فَهُوَ الْمُهْتَدِي. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ وَاسْتِمْرَارِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَفَاةِ صَاحِبِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَافَاةِ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، أَيْ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ وَإِنْ بَانَ مُهْتَدِيًا فَلَيْسَ بِالْمُهْتَدِي لِيَنْطَبِقَ هَذَا عَلَى حَالِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُرْفَعَ بِهَا. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَيْسَ مِنْ بَابِ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: وَشِعْرِي شِعْرِي وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَيْسَ فِي مَفَادِ الثَّانِي مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَفَادِ مَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ فَإِنَّ فِيهَا الْقَصْرَ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَزِيدَ فِي جَانِبِ الْخَاسِرِينَ الْفَصْلُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَمْيِيزِهِمْ بِعُنْوَانِ الْخُسْرَانِ تَحْذِيرًا مِنْهُ، فَالْقَصْرُ فِيهِ مُؤَكِّدٌ. وَجُمِعَ الْوَصْفُ فِي الثَّانِي مُرَاعَاةً لِمَعْنَى (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ، وَإِنَّمَا رُوعِيَ مَعْنَى (مَنِ) الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَلِتَبَيُّنِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِ (مَنِ) الْأُولَى مُفْرَدًا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْهِدَايَةِ بِالْإِضْلَالِ، وَمُقَابَلَةِ الْمُهْتَدِي بِالْخَاسِرِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ فَائِزٌ رَابِحٌ فَحُذِفَ ذِكْرُ رِبْحِهِ إِيجَازًا. وَالْخُسْرَانُ اسْتُعِيرَ لِتَحْصِيلِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعَمَلِ كَمَا يُسْتَعَارُ الرِّبْحُ لِحُصُولِ

[سورة الأعراف (7) : آية 179]

الْخَيْرِ مِنَ الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [9] ، وَفِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [16] . [179] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 179] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا [الْأَعْرَاف: 175] ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا انْتَقَلَ مِنْ صُورَةِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَهُ خَلَقَهُ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّم، مَعَ مَالهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلتَّذْيِيلِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْقِصَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الْأَعْرَاف: 178] الْآيَةَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِقَدْ لِقَصْدِ تَحْقِيقِهِ لِأَنَّ غَرَابَتَهُ تُنْزِلُ سَامِعَهُ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي تَأْوِيلِهِ، وَلِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ وُصِفُوا بِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها- إِلَى قَوْلِهِ- بَلْ هُمْ أَضَلُّ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَحْلَامٍ وَأَفْهَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالُوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْرِضِ التَّهَكُّمِ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] . وَالذَّرْءُ الْخَلْقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [136] . وَاللَّامُ فِي لِجَهَنَّمَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ خَلَقْنَا كَثِيرًا لِأَجْلِ جَهَنَّمَ. وَجَهَنَّمُ مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لَهَا بِعَلَاقَةِ الْمُسَبِّبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِأَعْمَالِ الضَّلَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْكَوْنِ فِي جَهَنَّمَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا لِأَجْلِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ لَا يُقْصَدُ إِيجَادُ خَلْقٍ لِتَعْمِيرِهَا، وَلَيْسَتِ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ لِعَدَمِ انْطِبَاقِ حَقِيقَتِهَا عَلَيْهَا، وَفِي «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُمْ لِإِغْرَاقِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَأْتِي مِنْهُمْ إِلَّا أَفْعَالُ أَهْلِ النَّارِ، مَخْلُوقِينَ لِلنَّارِ دَلَالَةً عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِيمَا يُؤَهِّلُهُمْ لدُخُول النَّار اه، وَهَذَا

يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ فِي ذَرَأْنا وَهُوَ تَكَلُّفٌ رَاعَى بِهِ قَوَاعِدَ الِاعْتِزَالِ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: لِجَهَنَّمَ كَثِيراً لِيَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِ ذَرَأْنا. وَمَعْنَى خَلْقِ الْكَثِيرِ لِأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى النَّارِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَثِيرًا فَجَعَلَ فِي نُفُوسِهِمْ قُوًى مِنْ شَأْنِهَا إِفْسَادُ مَا أَوْدَعَهُ فِي النَّاسِ مِنِ اسْتِقَامَةِ الْفِطْرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَاف: 172] وَهِيَ قُوَى الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَخَلْقُهَا أَشَدُّ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ الْفِطْرِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ الْحِكْمَةَ، فَجُعِلَتِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ الْمُسَمَّيْنَ بِالْهَوَى تَغْلِبُ قُوَّةَ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالرَّشَادُ، فَتُرَجِّحُ نُفُوسُهُمْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَتَتْبَعُهَا وَتُعْرِضُ عَنِ الْفِطْرَةِ، فَدَلَائِلُ الْحَقِّ قَائِمَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْهِمْ فَبِحَسَبِ خِلْقَةِ نُفُوسِهِمْ غَيْرَ ذَاتِ عَزِيمَةٍ عَلَى مُقَاوَمَةِ الشَّهَوَاتِ: جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِجَهَنَّمَ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ تَخْلُقْ فِيهِمْ دَوَاعِي الْحَقِّ فِي الْفِطْرَةِ. وَالْجِنُّ خَلْقٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لَنَا، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، وَأَنَّهُمْ مَطْبُوعُونَ عَلَى مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَهَذَا الْخَلْقُ لَا قِبَلَ لَنَا بِتَفْصِيلِ نِظَامِهِ وَلَا كَيْفِيَّاتِ تَلَقِّيهِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: لَهُمْ قُلُوبٌ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِخُصُوصِ الْإِنْسِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ: قُلُوبٌ، وَعُقُولٌ، وَعُيُونٌ وَآذَانٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِلْجِنِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمَ الْجِنَّ عَلَى الْإِنْسِ فِي الذِّكْرِ، لِيَتَعَيَّنَ كَوْنُ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ مِنْ بَعْدُ صِفَاتٍ لِلْإِنْسِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ. والقلوب اسْمٌ لِمَوْقِعِ الْعُقُولِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَالْفِقْهُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [65] . وَمَعْنَى نَفْيِ الْفِقْهِ وَالْإِبْصَارِ والسمع عَن آلالتها الْكَائِنَةِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عَطَّلُوا أَعْمَالَهَا بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهَا فِي أَهَمِّ مَا تَصْلُحُ لَهُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَبَدِيُّ،

وَيُدْفَعُ بِهِ الضُّرُّ الْأَبَدِيُّ، لِأَنَّ آلَاتِ الْإِدْرَاكِ وَالْعِلْمِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي جَلْبِ أَفْضَلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ أَكْبَرِ الْمَضَارِّ، نُفِيَ عَنْهُمْ عَمَلُهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمُّ، مِثْلَ النَّكِرَةِ، فَهَذَا عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ غَيْرِ هَذَا، فَالنَّفْيُ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ بَعْضِ الْمَوْجُودِ بِالْمَعْدُومِ كُلِّهِ. وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْأَعْيُنِ عَلَى الْآذَانِ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ لتشريف السّمع يتلَقَّى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: 7] لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ سَلَكَ طَرِيقَ التَّرَقِّي مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الْمُدْرَكَاتِ إِلَى آلَاتِ الْإِدْرَاكِ الْأَعْيُنِ ثُمَّ الْآذَانِ فَلِلْآذَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فِي الِارْتِقَاءِ. وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ كَلَامٍ بِتَفْظِيعِ حَالِهِمْ فَجُعِلَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلسَّامِعِينَ. وَعُرِّفُوا بِالْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ بِسَبَبِهَا أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ تْسَوِيَتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ أَوْ جَعْلِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَشْبِيهِهِمْ بِالْأَنْعَامِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعُقَلَاءُ فَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ وَأَعْيُنَهُمْ وَآذَانَهُمْ، قُلُوبُ الْأَنْعَامِ وَأَعْيُنُهَا وَآذَانُهَا، فِي أَنَّهَا لَا تَقِيسُ الْأَشْيَاءَ عَلَى أَمْثَالِهَا، وَلَا تنْتَفع بِبَعْض للدلائل الْعَقْلِيَّةِ فَلَا تَعْرِفُ كَثِيرًا مِمَّا يُفْضِي بِهَا إِلَى سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَ (بَلْ) فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِلِانْتِقَالِ وَالتَّرَقِّي فِي التَّشْبِيهِ فِي الضَّلَالِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْله: كَالْأَنْعامِ يؤول إِلَى مَعْنَى الضَّلَالِ، كَانَ الِارْتِقَاءُ فِي التَّشْبِيهِ بِطَرِيقَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ فِي الضَّلَالِ. وَوَجْهُ كَوْنِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ: أَنَّ الْأَنْعَامَ لَا يَبْلُغُ بِهَا ضَلَالُهَا إِلَى إِيقَاعِهَا فِي مُهَاوِي الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ، لِأَنَّ لَهَا إِلْهَامًا تَتَفَصَّى بِهِ عَنِ الْمَهَالِكِ كَالتَّرَدِّي مِنَ الْجِبَالِ وَالسُّقُوطِ فِي الْهُوَّاتِ، هَذَا إِذَا حُمِلَ التَّفْضِيلُ فِي الضَّلَالِ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي جِنْسِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّلَالِ وَمُقَارَنَاتِهِ كَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الْأَنْعَامَ قَدْ خُلِقَ إِدْرَاكُهَا مَحْدُودًا لَا يَتَجَاوَزُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَنُقْصَانُ انْتِفَاعِهَا بِمَشَاعِرِهَا لَيْسَ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهَا، فَلَا تَكُونُ بِمَحِلِّ الْمَلَامَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الضَّلَالَة فَإِنَّهُم حجروا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُدْرَكَاتِهِمْ، بِتَقْصِيرٍ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضٍ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 180]

وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهُوَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ النِّهَايَةِ فِي الْغَفْلَةِ، وَبُلُوغُهُمْ هَذَا الْحَدَّ أُفِيدَ بِصِيغَة الْقصر الادعائي إِذِ ادُّعِيَ انْحِصَارُ صِفَةِ الْغَفْلَةِ فِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ غَافِلٌ غَيْرَهُمْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغَفْلَةِ غَيْرِهِمْ كُلُّ غَفْلَةٍ فِي جَانِبِ غَفْلَتِهِمْ كَلَا غَفْلَةٍ، لِأَنَّ غَفْلَةَ هَؤُلَاءِ تَعَلَّقَتْ بِأَجْدَرِ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا تَقْضِي الْغَفْلَةُ عَنْهُ بِالْغَافِلِ إِلَى الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ، فَهِيَ غَفْلَةٌ لَا تَدَارُكَ مِنْهَا، وَعَثْرَةٌ لَا لَعًى لَهَا. وَالْغَفْلَةُ عَدَمُ الشُّعُورِ بِمَا يَحِقُّ الشُّعُورُ بِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى ضَلَالِهِمْ لَفْظُ الْغَفْلَةِ بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ يُعَدُّ عَدَمُ الشُّعُورِ بِهِ غَفْلَةً، فَفِي قَوْلِهِ: هُمُ الْغافِلُونَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ ضِمْنِيَّةٌ، وَالْغَفْلَةُ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَفِي وَصْفِ الْغافِلُونَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ أَوْ مُنْكِرُونَ. وَقَدْ وَقَعَ التَّدَرُّجُ فِي وَصْفِهِمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ نَفْيِ انْتِفَاعِهِمْ، بِمَدَارِكِهِمْ ثُمَّ تَشْبِيهِهِمْ بِالْأَنْعَامِ، ثُمَّ التَّرَقِّي إِلَى أَنَّهُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ قَصْرِ الْغَفْلَة عَلَيْهِم. [180] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَوَسَّطَهُ فِي خِلَالَ مَذَامِّ الْمُشْرِكِينَ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ أَفْظَعَ أَحْوَالِ الْمَعْدُودِينَ لِجَهَنَّمَ هُوَ حَالُ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَالًا لِأَخَصِّ الصِّفَاتِ بِمَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ: وَهِيَ صِفَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الصِّفَاتِ نَحْوَ الْفَرْدِ، الصَّمَدِ. وَيَنْضَوِي تَحْتَ الشِّرْكِ تَعْطِيلُ صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ: الْبَاعِثِ، الْحَسِيبِ، وَالْمُعِيدِ، وَنَشَأَ عَنْ عِنَادِ أَهْلِ الشِّرْكِ إِنْكَار صفة الرَّحْمَن. فَعَقَّبَتِ الْآيَاتُ الَّتِي وَصَفَتْ ضَلَالَ إِشْرَاكِهِمْ بِتَنْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِقْبَالِ عَلَى دُعَاءِ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يُعْرِضُوا عَنْ شَغَبِ الْمُشْرِكِينَ وَجِدَالِهِمْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَرَّكُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، أَنْ أَنْكَرُوا اسْمه تَعَالَى الرَّحْمَن، وَهُوَ إِنْكَارٌ لَمْ يُقْدِمْهُمْ عَلَيْهِ جَهْلُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِمَا

يَدُلُّ عَلَيْهِ وَصْفُ (رَحِمَانٍ) مِنْ شِدَّةِ الرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا أَقْدَمَهُمْ عَلَيْهِ مَا يُقَدِّمُ كُلَّ مُعَانِدٍ مِنْ تَطَلُّبِ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْطِئَةِ لِلْمُخَالِفِ، وَلَوْ فِيمَا يَعْرِفُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُ. أَنَّهُ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها أَنَّ أَبَا جَهْلٍ سَمِعَ بَعْضَ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَمَرَّةً يَقْرَأُ فَيَذْكُرُ الرَّحْمَانَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ «مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَهُوَ إِنَّمَا يَعْبُدُ آلِهَةً كَثِيرَةً» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَعَطْفُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفُ الْأَخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَضَلَالِهِمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ الْمُفِيدِ تَأْكِيدَ اسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهَا، الْمُسْتَفَادِ مِنَ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اتِّسَامَهُ بِهَا أَمْرٌ ثَابِتٌ، وَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ، وَقَدِ الْتُزِمُ مِثْلُ هَذَا التَّقْدِيمِ فِي جَمِيعِ الْآيِ الَّتِي فِي هَذَا الْغَرَضِ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [110] فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَسُورَةِ طه [8] لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَفِي سُورَةِ الْحَشْرِ [24] لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءً لِلَّهِ تَعَالَى بِتَخْيِيلِهِمْ أَنَّ تَعَدُّدَ الِاسْمِ تَعَدُّدٌ لِلْمُسَمَّى تَمْوِيهًا عَلَى الدَّهْمَاءِ. وَالْأَسْمَاءُ هِيَ الْأَلْفَاظُ الْمَجْعُولَةُ أَعْلَامًا عَلَى الذَّاتِ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ بِالْغَلَبَةِ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ وَهُوَ (اللَّهُ) عَلَمٌ عَلَى ذَاتِ الْإِلَهِ الْحَقِّ بِالتَّخْصِيصِ، شَأْنُ الْأَعْلَام، و (الرَّحْمَن) وَ (الرَّحِيمُ) اسْمَانِ لِلَّهِ بِالْغَلَبَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ مُفْرَدٍ دَلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَأُطْلِقَ إِطْلَاقَ الْإِعْلَامِ نَحْوَ الرَّبِّ، وَالْخَالِقِ، وَالْعَزِيزِ، وَالْحَكِيمِ، وَالْغَفُورِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا مَا كَانَ مُرَكَّبًا إِضَافِيًّا نَحْوَ: ذُو الْجَلَالِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِالْأَوْصَافِ أَشْبَهُ، وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى مَعْنًى لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ نَحْوَ: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: 4] . وَالْحُسْنَى مُؤَنَّثُ الْأَحْسَنِ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْحُسْنِ الْكَامِلِ فِي ذَاتِهِ، الْمَقْبُولِ لَدَى الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْهَوَى، وَلَيْسَ المُرَاد بالْحسنِ الملاءمة لِجَمِيعِ النَّاس، لِأَن الملاءمة وصف إِضَافَة نِسْبِيٌّ، فَقَدْ يُلَائِمُ زَيْدًا مَا لَا يُلَائِمُ عَمْرًا، فَلِذَلِكَ فَالْحُسْنُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلشَّيْءِ الْحَسَنِ.

وَوَصْفُ الْأَسْمَاءِ بِـ الْحُسْنى: لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ كَمَالٍ حَقِيقِيٍّ، أَمَّا بَعْضُهَا فَلِأَنَّ مَعَانِيَهَا الْكَامِلَةَ لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا لِلَّهِ نَحْوَ الْحَيِّ، وَالْعَزِيزِ، وَالْحَكِيمِ، وَالْغَنِيِّ، وَأَمَّا الْبَعْضُ الْآخَرُ فَلِأَنَّ مَعَانِيَهَا مُطْلَقًا لَا يَحْسُنُ الِاتِّصَافُ بِهَا إِلَّا فِي جَانِبٍ اللَّهِ نَحْوَ الْمُتَكَبِّرِ، وَالْجَبَّارِ، لِأَنَّ مَعَانِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَأَشْبَاهِهَا كَانَتْ نَقْصًا فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُتَّسِمَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا لِعَجْزِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ، بِخِلَافِ الْإِلَهِ، لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، فَكَانَ اتِّصَافُ الْمَخْلُوقِ بِهَا مَنْشَأَ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ اتِّصَافُ الْخَالِقِ بِهَا مَنْشَأَ صَلَاحٍ، لِأَنَّهَا مَصْدَرُ الْعَدَالَةِ وَالْجَزَاءِ الْقِسْطِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوهُ بِها تَفْرِيعٌ عَنْ كَوْنِهَا أَسْمَاءً لَهُ، وَعَنْ كَوْنِهَا حُسْنَى، أَيْ فَلَا حَرَجَ فِي دُعَائِهِ بِهَا لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، لَا كَمَا يَزْعُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلِأَنَّهَا حُسْنَى فَلَا ضَيْرَ فِي دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا. وَذَلِكَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُدْعَى بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى صِفَاتِهِ وَعَلَى أَفْعَالِهِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ على صفة الله تَعَالَى وشأن من شؤونه عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ لِلْأَفْهَامِ بِحَسَبِ الْمُعْتَادِ يَسُوغُ أَنْ يُطْلَقَ مِنْهُ اسْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَكُنْ مَجِيئُهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ نَحْوَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: 15] أَوْ يُوهِمُ مَعْنَى نَقْصٍ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ نَحْوَ الْمَاكِرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: 54] . وَلَيْسَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى مُنْحَصِرَةً فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» لِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْأَسْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَلَكِنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ ذَاتَ الْعَدَدِ لَهَا تِلْكَ الْمَزِيَّةُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فَقَالَ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ وَلَمْ يَقَعْ هَذَانِ الِاسْمَانِ فِيمَا رُوِيَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ بأسانيد صحية مَشْهُورَةٍ تَعْيِينُ الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَوَقَعَ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: «دَخَلَ الْجَنَّةَ» هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ إِلَى آخِرِهَا، فَعَيَّنَ صِفَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعًا وَتِسْعِينَ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ بَيْنَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِبَيَانِهَا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ ثِقَةٌ

عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَهَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ» . وَتَعْيِينُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ مَزِيَّتَهَا أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا وَحَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ تُعَدَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً أُخْرَى. وَقَدْ عَدَّ ابْنُ بُرْجَانَ الْأَشْبِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ «أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحسنى» مائَة واثنتين وَثَلَاثِينَ اسْمًا مُسْتَخْرَجَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَقْبُولَةِ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ «الْأَسْنَى فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يُنِيفُ عَلَى مِائَتَيِ اسْمٍ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْعَرَبِيِّ ذَكَرَ عِدَّةً مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مِثْلَ مُتِمُّ نُورِهِ، وَخير الْوَارِثِينَ، وَخير الْمَاكِرِينَ، وَرَابِعِ ثَلَاثَةٍ، وَسَادِسِ خَمْسَةٍ، وَالطَّيِّبِ، وَالْمُعَلِّمِ إِلَخْ. وَلَا تَخْفَى سَمَاجَةُ عَدِّ نَحْوِ رَابِعِ ثَلَاثَةٍ، وَسَادِسِ خَمْسَةٍ، فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي سِيَاقِ الْمَجَازِ الْوَاضِحِ وَلَا مَنَاصَ مِنْ تَحْكِيمِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ الْوُقُوفِ عِنْدَ صُورَةٍ ظَاهِرَةٍ مِنَ اللَّفْظِ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ كِتَابِ «الْأَحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ» لَعَلَّهُ يَعْنِي «عَارِضَةَ الْأَحْوَذِيِّ» «أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَلْفَ اسْمٍ» وَلَمْ أَجِدْهُ فِي نسخ «عارضة الأحواذي» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مِنْ خَاصَّةٍ تَلَامِيذِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمَوْجُودُ فِي كِتَابِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لَهُ أَنَّهُ حَضَرَهُ مِنْهَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ اسْمًا وَسَاقَهَا فِي كِتَابِ «الْأَحْكَامِ» ، وَسَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الْمَطْبُوعَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا فِي كِتَابِهِ «الْأَمَدِ» (أَيْ «الْأَمَدِ الْأَقْصَى» ) فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ إِلَى مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسَبْعِينَ اسْمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْمِ الَّذِي يَقْتَضِي مَدْحًا خَالِصًا، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ شُبْهَةٌ وَلَا اشْتِرَاكٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَنْصُوصًا هَلْ يُطْلَقُ وَيُسَمَّى اللَّهُ بِهِ، فَنَصَّ الْبَاقِلَّانِيُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِك، وَنَصّ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ لَا يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِاسْمٍ قَدْ أَطْلَقَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَأَنْ يَكُونَ مَدْحًا خَالِصًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا اشْتِرَاكَ أَمْرٌ لَا يُحْسِنُهُ، إِلَّا الْأَقَلُّ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ، فَإِذَا أُبِيحَ ذَلِكَ تَسَوَّرَ عَلَيْهِ مَنْ يَظُنُّ بِنَفْسِهِ الْإِحْسَانَ، فَأَدْخَلَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا. وَاخْتُلِفَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: 15] ومَكَرَ اللَّهُ [آل عمرَان: 54] وَنَحْوَ ذَلِكَ هَلْ يُطْلَقُ مِنْهَا اسْمُ الْفَاعِلِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا يُطْلَقُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ، وَجَوَّزَتْ فِرْقَةٌ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِسَبَبِهِ نَحْوَ: اللَّهُ مَاكِرٌ بالذين يمكرون بِالَّذِينَ يَمْكُرُونَ بِالدِّينِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ ذَلِكَ

دُونَ تَقْيِيدٍ فَمَمْنُوعٌ إِجْمَاعًا. وَالْمُرَادُ مِنْ تَرْكِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَاصِدِينَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، أَوْ تَرْكُ الْإِصْغَاءِ لِكَلَامِهِمْ لِئَلَّا يَفْتِنُوا عَامَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِشُبُهَاتِهِمْ، أَيِ اتركوهم وَلَا تغلّبوا أَنْفُسَكُمْ فِي مُجَادَلَتِهِمْ، فَإِنِّي سَأَجْزِيهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنًى «ذَرْ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ عَنْ وَسَطِ الشَّيْءِ إِلَى جَانِبِهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى تَرْجِعُ مُشْتَقَّاتُهُ كُلُّهَا، وَلَمَّا كَانَ وَسَطُ الشَّيْءِ يُشَبَّهُ بِهِ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، اسْتَتْبَعَ ذَلِكَ تَشْبِيهَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ بِالْإِلْحَادِ، فَأُطْلِقَ الْإِلْحَادُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِفْسَادِ، ويعدى حِينَئِذٍ ب (فِي) لِتَنْزِيلِ الْمَجْرُورِ بِهَا مَنْزِلَةَ الْمَكَانِ لِلْإِلْحَادِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَعَمُّدٍ لِلْإِفْسَادِ، وَيُقَالُ: لَحَدَ وَأَلْحَدَ، وَالْأَشْهُرُ أَلْحَدَ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَا حَمْزَةَ يُلْحِدُونَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- مِنْ أَلْحَدَ الْمَهْمُوزِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، مِنْ لَحَدَ الْمُجَرَّدِ. وَإِضَافَةُ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَسْمَاؤُهُ الَّتِي وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي تَسْمِيَتُهُ بِهَا. وَمَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ جَعْلُهَا مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ بِإِنْكَارِ تَسْمِيَتِهِ تَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتٍ ثَابِتَةٍ لَهُ، وَهُوَ الْأَحَقُّ بِكَمَالِ مَدْلُولِهَا فَإِنَّهُم أَنْكَرُوا الرحمان، كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَعَلُوا تَسْمِيَتَهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَسِيلَةً لِلتَّشْنِيعِ، وَلَمْزِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ عَدَّدَ الْآلِهَةَ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْبُهْتَانِ وَالْجَوْرِ فِي الْجِدَالِ، فَحُقَّ بِأَنْ يُسَمَّى إِلْحَادًا لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الْحَقِّ بِقَصْدِ الْمُكَابَرَةِ وَالْحَسَدِ. وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي أَسْمائِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» الْحَدِيثَ، وَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: وَعَصَيْتُ فِيكِ أَقَارِبِي فَتَقَطَّعَتْ ... بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ عُرَى أَسْبَابِي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 183]

وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ ذَكَرَهَا الْفَخْرُ، وَأَنَا لَا أَرَاهَا مُلَاقِيَةً لِإِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهَا. وَجُمْلَةُ: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْمُلْحِدِينَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ لَا تَهْتَمُّوا بِإِلْحَادِهِمْ وَلَا تَحْزَنُوا لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَسُمِّيَ إِلْحَادُهُمْ عَمَلًا لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ أَيْ سَيُجْزَوْنَ بِجَمِيعِ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِلْحَادُهُمْ فِي أَسْمَائِهِ. وَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِي تفِيد تَأْكِيد. وَقِيلَ: مَا كانُوا يَعْمَلُونَ دُونَ مَا عَمِلُوا أَوْ مَا يَعْمَلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سُنَّةٌ لَهُمْ ومتجدد مِنْهُم. [181- 183] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 181 إِلَى 183] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الْأَعْرَاف: 179] الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ: التَّنْوِيهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ضلالهم، أَي عرّض عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاكَ عَنْهُم بِالْمُسْلِمين، فَمَا صدق «الْأُمَّةِ» هُمُ الْمُسْلِمُونَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يُرِيدُ نَفْسَهُ فَإِنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ بَلَغَنَا أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِه الْآيَةَ: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا» . وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَبَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ عُرِفَ تَفْسِيرُهَا مِنْ نَظَرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ التَّكْذِيبِ بِالْبَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] . وَالِاسْتِدْرَاجُ مُشْتَقٌّ مِنَ الدَّرَجَةِ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهِيَ طَبَقَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ مُرْتَفِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ بِقَدْرِ مَا تَرْتَفِعُ الرِّجْلُ لِلِارْتِقَاءِ مِنْهَا إِلَى مَا فَوْقَهَا تَيْسِيرًا لِلصُّعُودِ فِي مِثْلِ الْعُلُوِّ أَوِ الصَّوْمَعَةِ أَوِ الْبُرْجِ، وَهِيَ أَيْضًا وَاحِدَة الأعواد المصوفة فِي السُّلَّمِ يُرْتَقَى مِنْهَا إِلَى الَّتِي فَوْقَهَا، وَتُسَمَّى هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِرَقَاةً، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي فِعْلِ الِاسْتِدْرَاجِ لِلطَّلَبِ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَتَدَرَّجَ، أَيْ صَاعِدًا أَوْ نَازِلًا، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْقَاصِدِ إِبْدَالَ حَالِ أَحَدٍ إِلَى غَيْرِهَا بِدُونِ إِشْعَارِهِ، بِحَالِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْرَى بِحَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ يَشْتَمِلُ عَلَى تَشْبِيهَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ حُسْنِ الْحَالِ بِرِفْعَةِ الْمَكَانِ وَضِدُّهُ بِسَفَالَةِ الْمَكَانِ، وَالْقَرِينَةُ تُعِينُ الْمَقْصُودَ مِنَ انْتِقَالٍ إِلَى حَالٍ أَحْسَنَ أَوْ أَسْوَأَ. وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى مُرَاعَاةِ هَذَا التَّمْثِيلِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا تَضَمَّنَ الِاسْتِدْرَاجُ مَعْنَى الْإِيصَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ عُلِّقَ بِفِعْلِهِ مَجْرُورٌ بِمِنَ الِابْتِدَائِيَّةِ أَيْ مُبْتَدِئًا اسْتِدْرَاجَهُمْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُفْضٍ بِهِمْ إِلَى الْمَبْلَغِ الضَّارِّ، فَ حَيْثُ هُنَا لِلْمَكَانِ عَلَى أَصْلِهَا، أَيْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِدْرَاجِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَعْلَمُونَ تَدَرُّجَهُ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ عَظِيمٌ لَا يُظَنُّ بِالْمَفْعُولِ بِهِ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ. وَالْإِمْلَاءُ إِفْعَالٌ وَهُوَ الْإِمْهَالُ، وَهَمْزَةُ هَذَا الْمَصْدَرِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، مُشْتَقٌ مِنَ الْمِلَاوَةِ مُثَلَّثَةِ الْمِيمِ، وَهِيَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ يُقَالُ أَمَلَاهُ وَمَلَّاهُ إِذَا أَمْهَلَهُ وَأَخَّرَهُ، كِلَاهُمَا بِالْأَلِفِ دُونَ هَمْزٍ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى عَمَّرَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ بِالْحَيَاةِ مَلَّاكَ اللَّهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تُسَمَّى: لَامُ التَّبْيِينِ، وَلَهَا اسْتِعْمَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا خَفَاءٌ وَمَرْجِعُهَا: إِلَى أَنَّهَا يُقْصَدُ مِنْهَا تَبْيِينُ اتِّصَالِ مَدْخُولِهَا بِعَامِلِهِ لِخَفَاءٍ فِي ذَلِكَ الِاتِّصَالِ، فَإِنَّ اشْتِقَاقَ أَمْلَى مِنَ الْمَلْوِ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ مَكِينٍ، لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ

مِنْهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْحَدث، فَلم يَجِيء مِنْهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى اللَّامِ، لِتَبْيِينِ تَعَلُّقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَمْلَى لِلْبَعِيرِ بِمَعْنَى أَطَالَ لَهُ فِي طُولِهِ فِي الْمَرْعَى، فَهُوَ جَاءَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ. فَجُمْلَةُ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا، فَإِنَّ الِاسْتِدْرَاجَ وَالْإِمْلَاءَ ضَرْبٌ مِنَ الْكَيْدِ، وَكَيْدُ اللَّهِ مَتِينٌ أَيْ قَوِيٌّ لَا انْفِلَاتَ مِنْهُ لِلْمَكِيدِ. وَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: إِنَّهَا تُغْنِي فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ غِنَاءَ الْفَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] ، أَيْ: يَكُونُ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجُ وَذَلِكَ الْإِمْلَاءُ بَالِغَيْنِ مَا أَرَدْنَاهُ بِهِمْ لِأَنَّ كَيَدِي قَوِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ أُمْلِي مَعْطُوفًا عَلَى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ: وَسَأُمْلِي لَهُمْ. وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ فعلي (نستدرج) و (أملي) فِي كَوْنِ ثَانِيهِمَا بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَوَّلِهِمَا بِنُونِ الْعَظَمَةِ مُغَايَرَةٌ اقْتَضَتْهَا الْفَصَاحَةُ مِنْ جِهَةِ ثِقَلِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ حَرْفَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي النُّطْقِ فِي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ وَلِلتَّفَنُّنِ وَالِاكْتِفَاءِ بِحُصُولِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ الْأَوَّلِ. وَ (الْكَيْدُ) لَمْ يُضْبَطْ تَحْدِيدُ مَعْنَاهُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ يُرَادِفُ الْمَكْرَ وَالْحِيلَةَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: «ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِيَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا وَمَمْدُوحًا وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَذْمُومِ أَكْثَرَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَيْدَ أَخَصُّ مِنْ الِاحْتِيَالِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ غُلِبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَى تَحْصِيلٍ مَا لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمَكِيدُ لَاحْتَرَزَ مِنْهُ، فَهُوَ احْتِيَالٌ فِيهِ مَضِرَّةٌ مَا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، فَمُرَادُ الرَّاغِبِ بِالْمَذْمُومِ الْمَذْمُومُ عِنْدَ الْمَكِيدِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ» وَقَالَ ابْنُ كَمَالْ بَاشَا: الْكَيْدُ الْأَخْذُ عَلَى خَفَاءٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِظْهَارُ الْكَائِدِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُهُ. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ هَذِهِ التَّدْقِيقَاتِ: أَنَّ الْكَيْدَ أَخَصُّ مِنَ الْحِيلَةِ وَمِنَ الِاسْتِدْرَاجِ. وَوُقُوعُ جُمْلَةِ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ اسْتِدْرَاجَهُمْ وَالْإِمْلَاءُ لَهُمْ كَيْدٌ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ إِلَى مَا يَكْرَهُونَهُ، وَتَأْجِيلٌ لَهُمْ إِلَى حُلُولِ مَا يَكْرَهُونَهُ،

[سورة الأعراف (7) : آية 184]

لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى هَذَا شَامِلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْوَصْفِ، الْمَتِينِ، مَا لَوْ حُمِلَ الْكَيْدُ عَلَى مَعْنَى الْأَخْذِ عَلَى خَفَاءٍ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِظْهَارِ خِلَافِ مَا يُخْفِيهِ، فَإِنَّ جُمْلَةَ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لَا تُفِيدُ إِلَّا تَعْلِيلَ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْإِمْلَاءِ بِأَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِ مَنْ يَأْخُذُ عَلَى خَفَاءٍ دُونَ تَلْوِينِ أَخْذِهِ بِمَا يَغُرُّ الْمَأْخُوذَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ كَائِدِينَ لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. وَإِطْلَاقُهُ هُنَا جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الْحَالِ الَّتِي يَسْتَدْرِجُ اللَّهُ بِهَا الْمُكَذِّبِينَ مَعَ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى أَمَدٍ هُمْ بَالِغُوهُ، بِحَال من يهيىء أَخْذًا لِعَدُوِّهِ مَعَ إِظْهَارِ الْمُصَانَعَةِ وَالْمُحَاسَنَةِ لِيَزِيدَ عَدُوَّهُ غُرُورًا، وَلِيَكُونَ وُقُوعُ ضَرِّ الْأَخْذِ بِهِ أَشَدَّ وَأَبْعَدَ عَنِ الاستعداد لتلقيه. و (المتين) الْقَوِيُّ، وَحَقِيقَتُهُ الْقَوِيُّ الْمَتْنِ أَيِ الظَّهْرِ، لِأَنَّ قُوَّةَ مَتْنِهِ تُمَكِّنُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ، وَمَتْنُ كُلِّ شَيْءٍ عَمُودُهُ وَمَا يتماسك بِهِ. [184] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 184] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) لَمَّا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ مُنْبَعِثًا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ مَنْ جَاءَ بِهَا، وَنَاشِئًا عَنْ ظَنٍّ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَجِيءُ بِهَا الْبَشَرُ، وَأَنَّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ مَجْنُونٌ، عَقَّبَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ وَوَعِيدَهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَمَا يَزْعُمُونَ. وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُشْرَكَةِ فِي الْحُكْمِ اسْتِعْمَالٌ عَجِيبٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهِيَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَتَنْبِيهِهِمْ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَدْرَجُونَ وَمُمْلًى لَهُمْ. والاستفهام لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ نَافِيَةٌ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ دُخُولُ (مِنْ) عَلَى مَنْفِيِّ مَا، لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِعْلُ يَتَفَكَّرُوا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا

دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أَيْ أَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُفَكِّرِينَ أَهْلَ النَّظَرِ، وَالْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ عَنِ الْعَمَلِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ وَلَا مُتَعَلِّقٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلْمِ الظَّانِّ إِلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ الْمَظْنُونِ وَجَعْلِهِ قَضِيَّةً مُسْتَقِلَّةً، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرَيْنِ خَبَرٍ مِنْ جَانِبِ الظَّانِّ وَنَحْوِهِ، وَخَبَرٍ مِنْ جَانِبٍ الْمُتَكَلِّمِ دَخَلَ فِي قِسْمِ الْوَاقِعَاتِ فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: 65] هُوَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ لَا يَنْطِقُونَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، أَيْ ذَلِكَ عِلْمُكَ وَهَذَا عِلْمِي، وَقَوْلُهُ هُنَا: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي قُوَّة: أَو لم يَتَفَكَّرُوا صَاحِبُهُمْ غَيْرُ مَجْنُونٍ، مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جَنَّةٍ. فَتَعْلِيقُ أَفْعَالِ الْقَلْبِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ، وَأَحْسَبُ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ أُسْلُوبِ التَّعْلِيقِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، وَأَنَّ خَصَائِصَ الْعَرَبِيَّةِ لَا تَنْحَصِرُ. وَ «الصَّاحِبُ» حَقِيقَتُهُ الَّذِي يُلَازِمُ غَيْرَهُ فِي حَالَةٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: 41] ، وَسُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ صَاحِبَةً، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الَّذِي لَهُ مَعَ غَيْرِهِ حَادِثٌ عَظِيمٌ وَخَبَرٌ، تَنْزِيلًا لِمُلَازَمَةِ الذِّكْرِ مَنْزِلَةَ مُلَازَمَةِ الذَّاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ لِامْرَأَتِهِ، أُمِّ مَعْبَدٍ، لَمَّا أَخْبَرَتْهُ بِدُخُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهَا فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ وَوَصَفَتْ لَهُ هَدْيَهُ وَبَرَكَتَهُ: «هَذَا صَاحِبُ قُرَيْشٍ» ، وَقَوْلُ الْحَجَّاجِ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ لِأَهْلٍ الْعِرَاقِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ» يُرِيدُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ بِالْأَهْوَازِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِمْ أَصْحَابَهُ أَنَّهُ كَثُرَ اشْتِغَالُهُ بِهِمْ، وَقَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ: كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا فوصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ صَاحِبُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ: هُوَ بِمَعْنَى الَّذِي اشْتَغَلُوا بِشَأْنِهِ وَلَزِمُوا الْخَوْضَ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] . وَالْجِنَّةُ- بِكَسْرِ الْجِيمِ- اسْمٌ لِلْجُنُونِ، وَهُوَ الْخَبَالُ الَّذِي يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَثَرِ مَسِّ الْجِنِّ إِيَّاهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَتِ الْجِنَّةُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ،

بِحَرْفِ الْبَاءِ الدَّالِّ عَلَى الْمُلَابَسَةِ. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَعَجِبَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي شَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ غَيْرُ مَجْنُونٍ، رَدًّا عَلَيْهِمْ وَصْفَهُمْ إِيَّاهُ بِالْجُنُونِ وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] ، وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدُّخان: 14] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] . وَجُمْلَةُ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجَوَابِ سَائِلٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: فَمَاذَا شَأْنُهُ، أَوْ هِيَ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِ جُمْلَةِ: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فَفُصِلَتْ لِكَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا الْمُغْنِي عَنِ الْعَطْفِ. وَالنَّذِيرُ الْمُحَذِّرُ مِنْ شَيْءٍ يَضُرُّ، وَأَصْلُهُ الَّذِي يُخْبِرُ الْقَوْمَ بِقُدُومٍ عَدُوِّهِمْ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ» يُقَالُ أَنْذَرَ نِذَارَةً بِكَسْرِ النُّونِ مِثْلَ بِشَارَةٍ فَهُوَ مُنْذِرٌ وَنَذِيرٌ. وَهَذَا مِمَّا جَاءَ فِيهِ فَعِيلٌ فِي مَوْضِعٍ مُفْعِلٍ، مِثْلَ الْحَكِيمِ، بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، وَقَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيِ الْمُسْمِعُ. وَالْمُبِينُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ إِذا أوضح، وَوَقع هَذَا الْوَصْفِ عقب الْإِخْبَار ب (نَذِير) يَقْتَضِي أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْخَبَرِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ النَّذِيرُ الْمُبِينُ لِنِذَارَتِهِ بِحَيْثُ لَا يُغَادِرُ شَكًّا فِي صِدْقِهِ، وَلَا فِي تَصْوِيرِ الْحَالِ الْمُحَذَّرِ مِنْهَا، فَالْغَرَضُ مِنْ إِتْبَاعِ «النَّذِيرِ» بِوَصْفِ «الْمُبِينِ» التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ لَمْ يَنْصَاعُوا لِنِذَارَتِهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْ شَرٍّ مَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَقْطَعُ عُذْرَهُمْ. وَيَجُوزُ جَعْلُ مُبِينٌ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ ضَمِيرِ صَاحِبِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَذِيرٌ وَأَنَّهُ مُبِينٌ فِيمَا يُبَلِّغُهُ مِنْ نِذَارَةٍ وَغَيْرِهَا. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ أَوْصَاف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّذَارَةِ وَالْبَيَانِ، وَذَلِكَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، هُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ هُوَ نَذِيرٌ مُبِينٌ لَا مَجْنُونٌ كَمَا يَزْعُمُونَ، وَفِي هَذَا اسْتِغْبَاءٌ أَوْ تَسْفِيهٌ لَهُمْ بِأَنَّ حَالَهُ لَا يَلْتَبِسُ بِحَالِ الْمَجْنُونِ لِلْبَوْنِ الْوَاضِحِ بَيْنَ حَالِ النِّذَارَةِ الْبَيِّنَةِ وَحَالِ هَذَيَانِ الْمَجْنُونِ. فَدَعْوَاهُمْ جُنُونَهُ: إِمَّا غَبَاوَةٌ مِنْهُمْ بِحَيْثُ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الْحَقَائِقُ الْمُتَمَايِزَةُ،

[سورة الأعراف (7) : آية 185]

وَإِمَّا مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ وَافْتِرَاءٌ على الرَّسُول. [185] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 185] أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) تَرَقٍّ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي حَالِ رَسُولِهِمْ. إِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعَمُّ، وَهُوَ ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا هُوَ آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي دعاهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ: أَنَّ دَعْوَةَ الرَّسُولِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ بَوَاعِثِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] . وَعُدِّيَ فِعْلُ (النَّظَرِ) إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّأَمُّلُ بِتَدَبُّرٍ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] وَتَقُولُ نَظَرْتُ فِي شَأْنِي، فَدَلَّ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّفَكُّرَ عَمِيقٌ مُتَغَلْغِلٌ فِي أَصْنَافِ الْمَوْجُودَاتِ وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَالْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [75] . وَإِضَافَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَيَانِيَّةٌ أَيِ الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ مُلْكُ اللَّهِ لَهُمَا، فَالْمُرَادُ السَّمَاءُ بِمَجْمُوعِهَا وَالْأَرْضُ بِمَجْمُوعِهَا الدَّالَّيْنِ عَلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَطَفَ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عَلَى مَلَكُوتِ فَقَسَّمَ النَّظَرَ إِلَى نَظَرٍ فِي عَظِيمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى نَظَرٍ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَدَقَائِقِ أَحْوَالِهَا الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالنَّظَرُ إِلَى عَظمَة السَّمَوَات وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالصُّنْعِ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَوْ نَظَرُوا فِي ذَلِكَ نَظَرَ اعْتِبَارٍ لَعَلِمُوا أَنْ

صَانِعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْسَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَلَزَالَ إِنْكَارُهُمْ دَعْوَةَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. وأَنْ هَذِهِ هِيَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ النُّونِ خُفِّفَتْ، فَكَانَ اسْمُهَا ضَمِيرَ شَأْنٍ مُقَدَّرًا. وَجُمْلَةُ: عَسى أَنْ يَكُونَ إِلَخْ خَبَرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ. وأَنْ الَّتِي بَعْدَ عَسَى مَصْدَرِيَّةٌ هِيَ الَّتِي تُزَادُ بَعْدَ عَسَى غَالِبًا فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَاسْمُ يَكُونَ ضَمِيرُ شَأْنٍ أَيْضًا مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ (يَكُونَ) غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يُعْتَبَرَ اسْمًا لِكَانَ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَنْظُرُوا فِي تَوَقُّعٍ قُرْبِ أَجَلِهِمْ. وَصِيغَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ لِإِفَادَةِ تَهْوِيلِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ، بِجَعْلِ مُتَعَلِّقٍ النَّظَرِ مِنْ مَعْنَى الْإِخْبَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْطُرَ فِي النُّفُوسِ، وَأَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَدِيثًا وَخَبَرًا فَكَأَنَّهُ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ مُقَرَّرٌ. وَهَذَا مَوْقِعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ حَيْثُمَا وَرَدَ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى: ضَمِيرُ الْقِصَّةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ جُمْلَةَ خَبَرِهِ قَدْ صَارَتْ شَيْئًا مُقَرَّرًا وَمِمَّا يَقُصُّهُ النَّاسُ وَيَتَحَدَّثُونَ بِهِ. وَمَعْنَى النَّظَرِ فِي تَوَقُّعِ اقْتِرَابِ الْأَجَلِ، التَّخَوُّفُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْأَجَلُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُكَذِّبِينَ هُوَ أَجَلُ الْأُمَّةِ لَا أَجَلُ الْأَفْرَادِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ تَهْدِيدٌ بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ، نَبَّهَهُمْ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي تَوَقُّعِ حُلُولِ الِاسْتِئْصَالِ بِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ كَمَا هَلَكَ الْمُكَذِّبُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا تَفَكَّرُوا فِي أَنَّ صَاحِبَهُمْ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَمَا كَانَ الْعَاقِلُ بِالَّذِي يَحْدُثُ لِقَوْمِهِ حَادِثًا عَظِيمًا مِثْلَ هَذَا، وَيَحْدُثُ لِنَفْسِهِ عَنَاءً كَهَذَا الْعَنَاءِ لِغَيْرِ أَمْرٍ عَظِيمٍ جَاءَ بِهِ، وَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَإِذَا نَظَرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ الْمَلِكُ الْأَعْظَمُ، وَأَنَّهُ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ، فَآلَ ذَلِكَ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ أَوْ آلَ فِي أَقَلِّ الِاحْتِمَالَاتِ إِلَى الشَّكِّ فِي ذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِي تَوَقُّعِ مَصِيرٍ لَهُمْ مِثْلِ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُكَذِّبُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ مَجِيءَ السَّاعَةِ، وَانْقِرَاضَ هَذَا الْعَالَمِ، فَهُوَ أَجَلُهُمْ

وَأَجَلُ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ فَيَكُونُ تَخْوِيفًا مِنْ يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَمِنْ بَدِيعِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ التَّبَصُّرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي ثُبُوتِ الْحَقَائِقِ وَالنَّسَبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جِيءَ مَعَ فِعْلَيِ الْقَلْبِ بِصِيغَةِ الْقَضِيَّةِ وَالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَاف: 184] وَقَوْلِهِ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وَلَمَّا أُرِيدَ التَّبَصُّرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ جُعِلَ فِعْلُ الْقَلْبِ مُتَعَلِّقًا بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ تَوْبِيخَهُمْ وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ بطريقة الِاسْتِفْهَام التعجيبي الْمُفِيدِ لِلِاسْتِبْعَادِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فَهُوَ تَعْجِيبٌ مَشُوبٌ بِاسْتِبْعَادٍ لِلْإِيمَانِ بِمَا أَبْلَغَ إِلَيْهِمُ اللَّهُ بِلِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا نَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَدْ بَلَغَ مُنْتَهَى الْبَيَانِ قَوْلًا وَدَلَالَةً بِحَيْثُ لَا مَطْمَعَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَدَلَّ مِنْهُ. وَ (أَيْ) هُنَا اسْمٌ أُشْرِبَ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَأَصْلُهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِحِصَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَمَّا يُشَارِكُهَا فِي نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ أَوْ صِفَةٍ، فَإِذَا أُشْرِبَ (أَيْ) مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، كَانَ لِلسُّؤَالِ عَنْ تَعْيِينِ مُشَارِكٍ لِغَيْرِهِ فِي الْوَصْفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ (أَيْ) طلبا لتعيينه، فالمسؤول عَنْهُ بِهَا مُسَاوٍ لِمُمَاثِلٍ لَهُ مَعْرُوفٍ فَقَوْلُهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ سُؤَالٌ عَنِ الْحَدِيثِ الْمَجْهُولِ الْمُمَاثِلِ لِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى (أَيٍّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [5، 6] . وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَحَقِيقَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ الْخَبَرُ وَالْقِصَّةُ الْحَادِثَةُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الذاريات: 24] وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصِيرَ حَدِيثًا وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ. ف «الحَدِيث» هُنَا إِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطّور: 34] فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَهُ بِمَعْنَى بَعْدَ الْقُرْآنِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ دَعْوَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّسَالَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَاف: 184] .

[سورة الأعراف (7) : آية 186]

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ عَلَى هَذَا بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يُؤْمِنُونَ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ شَمَلَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْمَصْنُوعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَهُ عَائِدًا عَلَى مَعْنَى الْمَذْكُورِ أَيْ مَا ذُكِرَ من ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [4] أَيْ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِمْ غَيْرَ مَا ذُكِرَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُ فَلَا يُرْجَى مِنْهُمْ إِيمَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُؤْمِنُونَ وَ (بَعْدَ) هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى غَيْرَ، لِأَنَّ الظُّرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ وَالْمُفَارَقَةِ تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْمُغَايِرِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] وَحَمْلُ (بَعْدَ) عَلَى حَقِيقَتِهَا هُنَا يُحْوِجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَيُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ سَوَاء السَّبِيل. [186] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 186] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: 185] ، لِإِفَادَةِ أَنَّ ضَلَالَهُمْ أَمْرٌ قَدَّرَ اللَّهُ دَوَامَهُ، فَلَا طَمَعَ لِأَحَدٍ فِي هَدْيِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ حَاقًّا عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِالتَّكْذِيبِ، وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي حَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَدَمِ النَّظَرِ فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ، وَفِي توقع اقتراب استيصالهم، كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فَرِيقًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَيُطْلِعُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَنْكَشِفُ بَعْضُ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ بِالْمُوَافَاةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ عَلَى جُمْلَةِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِمْرَارِ ضَلَالِهِمْ وَانْتِفَاءِ هَدْيِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا وَقَعَ فِي الْمَاضِي. وَتَفْسِيرُ: نَذَرُهُمْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً

[سورة الأعراف (7) : آية 187]

فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] وَتَفْسِيرُ «طُغْيَانَ» ويَعْمَهُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: نَذَرُهُمْ بِالنُّونِ وَبِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالْجَزْمِ، عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ فَلا هادِيَ لَهُ وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ وَالْوَجْه ظَاهر. [187] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَذْكُرُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَمُحَاوَلَةِ تعجيزهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ. وَمُنَاسِبَةُ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ هِيَ التَّعَرُّضُ لِتَوَقُّعِ اقْتِرَابِ أَجَلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الْأَعْرَاف: 185] سَوَاءٌ أَفُسِّرَ الْأَجَلُ بِأَجَلِ إِذْهَابِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ، أَمْ فُسِّرَ بِأَجَلِهِمْ وَأَجَلِ بَقِيَّةِ النَّاسِ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَة، فَإِن الْكَلَام عَلَى السَّاعَةِ مُنَاسَبَةً لِكِلَا الْأَجَلَيْنِ. وَقَدْ عُرِفَ مِنْ شِنْشَنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِنْكَارُهُمُ، الْبَعْثَ وَتَهَكُّمُهُمْ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ مِنْ أَجْلِ إِخْبَارِهِ عَنِ الْبَعْثِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7، 8] ، وَقَدْ جَعَلُوا يسْأَلُون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ وَوَقْتِهَا تَعْجِيزًا لَهُ، لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِهَا فَهُوَ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِوَقْتِهَا وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29، 30] .

فَالسَّائِلُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة النازعات [42] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها- وَقَوْلِهِ- عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 1- 3] يَعْنِي الْبَعْثَ وَالسَّاعَةَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْمَعْنِيُّ بِالسَّائِلِينَ الْيَهُودُ أَرَادُوا امْتِحَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ كُلُّهَا، وَقِيلَ إِنَّ آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الْآيَةَ، فِيمَا اخْتُلِفَ فِي مَكَانِ نُزُولِهِ وَالسُّوَرُ الَّتِي حُكِيَ فِيهَا مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ مَكِّيَّةٌ أَيْضًا نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالسَّاعَةُ مُعَرَّفَةٌ بِاللَّامِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى وَقْتِ فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَالدُّخُولِ فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ، وَتُسَمَّى: يَوْمَ الْبَعْثِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ. وأَيَّانَ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى السُّؤَالِ عَنِ الزَّمَانِ وَهُوَ جَامِدٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ مُرَكَّبٌ مِنْ (أَيِّ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَ (آنَ) وَهُوَ الْوَقْتُ، ثُمَّ خُفِّفَتْ (أَيُّ) وَقُلِبَتْ هَمْزَةُ (آنَ) يَاءً لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ، فَصَارَتْ (أَيَّانَ) بِمَعْنَى أَيُّ زَمَانٍ، وَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ بِمَا بَعْدَ (أَيَّانَ) ، وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَعْنًى لَا اسْمَ ذَاتٍ، إِذْ لَا يُخْبَرُ بِالزَّمَانِ عَنِ الذَّاتِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا اسْمَ شَرْطٍ لِعُمُومِ الْأَزْمِنَةِ فَذَلِكَ بِالنَّقْلِ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الشَّرْطِ كَمَا نُقِلَتْ (مَتَى) مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ تَوْسِيعَاتٌ فِي اللُّغَةِ تَصِيرُ مَعَانِيَ مُتَجَدِّدَةً، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِ (أَيَّانَ) احْتِمَالَاتٍ يَرْجِعُونَ بِهَا إِلَى مَعَانِي أَفْعَالٍ، وَكُلُّهَا غَيْرُ مَرَضِيَّةٍ، وَمَا ارْتَأَيْنَاهُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْهَا. فَقَوْلُهُ: أَيَّانَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِصَدَارَةِ الِاسْتِفْهَامِ، ومُرْساها مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُضَافٌ إِلَيْهِ آنَ الْأَصْلُ أَيُّ (آنٍ) آنُ مَرْسَى السَّاعَةِ. وَجُمْلَةُ: أَيَّانَ مُرْساها فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فعل يَسْئَلُونَكَ وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِالْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ عَن جملَة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ. وَالْمَرْسَى مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الْإِرْسَاءِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ يُقَالُ رَسَا الْجَبَلُ ثَبَتَ، وَأَرْسَاهُ أَثْبَتَهُ وَأَقَرَّهُ، وَالْإِرْسَاءُ الِاسْتِقْرَارُ بَعْدَ السَّيْرِ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:

وَقَالَ رَائِدُهُمْ أَرْسُوا نُزَاوِلُهَا وَمَرْسَى السَّفِينَةِ اسْتِقْرَارُهَا بَعْدَ الْمَخْرِ قَالَ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْإِرْسَاءَ هُنَا اسْتِعَارَةً لِلْوُقُوعِ تَشْبِيهًا لِوُقُوعِ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ مترقبا أَو مُتَرَدّد فِيهِ بِوُصُولِ السَّائِرِ فِي الْبَرِّ أَوِ الْبَحْرِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُهُ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِجَوَابِهِمْ جَوَابَ جِدٍّ وَإِغْضَاءٍ عَنْ سُوءِ قَصْدِهِمْ بِالسُّؤَالِ التَّهَكُّمَ، إِظْهَارًا لِنَفِيَ الْوَصْمَةِ عَنْ وَصْفِ النُّبُوءَةِ مِنْ جَرَّاءِ عَدَمِ الْعلم بِوَقْت الشاعة، وَتَعْلِيمًا لِلَّذِينَ يَتَرَقَّبُونَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ جَوَابِ الرَّسُولِ عَنْ سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ عِلْمٌ لِلْجَمِيعِ بِتَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ فَإِذَا أَمْرُ السَّاعَةِ مِمَّا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى تَطَلُّبِهِ. فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ - فَقَالَ- مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ عَمَلٍ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ- فَقَالَ- أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ . وَعِلْمُ السَّاعَةِ هُوَ عِلْمُ تَحْدِيدِ وَقتهَا كَمَا ينبىء عَنْهُ السُّؤَالُ، وَقَوْلُهُ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، فَإِضَافَةُ عِلْمٍ إِلَى ضَمِيرِ السَّاعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيْنَهُمَا أَيْ عِلْمُ وَقْتِهَا، وَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَظَرْفِيَّةُ (عِنْدَ) مَجَازِيَّةٌ اسْتُعْمِلَتْ فِي تَحْقِيقِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِوَقْتِهَا. وَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ: لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَوْكِيدُهُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَالْقَصْرُ الْحَقِيقِيُّ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْإِضَافِيِّ وَزِيَادَةٍ، لِأَنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ بِالتَّحْدِيدِ مَقْصُورٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّعْرِيفُ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ دُونَ الرَّسُولِ الْمَسْئُولِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى خَطَأِهِمْ وَإِلَى شُبْهَةِ خَطَأِهِمْ. وَ (التَّجْلِيَةُ) الْكَشْفُ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَشْمَلُ الْكَشْفَ بِالْإِخْبَارِ وَالتَّعْيِينِ، وَالْكَشْفَ بِالْإِيقَاعِ، وَكِلَاهُمَا مَنْفِيُّ الْإِسْنَادِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَقْتَهَا، وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُهَا إِذَا أَرَادَ، فَإِذَا أَظْهَرَهَا فَقَدْ أَجْلَاهَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِوَقْتِها لِلتَّوْقِيتِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] . وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ، قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى (عِنْدَ) ، وَالتَّحْقِيقُ: أَن مَعْنَاهُ ناشىء عَنْ مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ.

وَمَعْنَى اللَّامِ يُنَاسِبُ أَحَدَ مَعْنَيَيِ الْإِجْلَاءِ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ، لِأَنَّهُ الَّذِي إِذَا حَصَلَ تَمَّ كَشْفُ أَمْرِهَا، وَتَحَقَّقَ النَّاسُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِجْلَائِهَا كَانَ عَالِمًا بِوَقْتِ حُلُولِهَا. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ. وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ وَهُوَ لِوَقْتِها عَلَى فَاعِلِ يُجَلِّيها الْوَاقِعِ اسْتِثْنَاءً مُفْرَغًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَجْلِيَةَ أَمْرِهَا تَكُونُ عِنْدَ وَقْتِ حُلُولِهَا لِأَنَّهَا تَأْتِي بَغْتَةً. وَجُمْلَةُ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ الْإِفَادَةِ بِهَوْلِهَا، وَالْإِيمَاءِ إِلَى حِكْمَةِ إِخْفَائِهَا. وَفِعْلُ ثَقُلَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِشِدَّةِ، أَمْرِهَا كَقَوْلِهِ: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْجِيبًا بِصِيغَةِ فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- فَتُقَدَّرُ الضَّمَّةُ ضَمَّةَ تَحْوِيلِ الْفِعْلِ لِلتَّعْجِيبِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ ضَمَّةٌ أَصْلِيَّةٌ فِي الْفِعْلِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: 5] . وَالثِّقَلُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا يُسْتَعَارُ الْعِظَمُ وَالْكِبَرُ، لِأَنَّ شِدَّةَ وَقْعِ الشَّيْءِ فِي النُّفُوسِ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهَا تخيّل لمن خلت بِهِ أَنَّهُ حَامِلٌ شَيْئًا ثَقِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] أَيْ شَدِيدًا تَلَقِّيهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَوَصْفُ السَّاعَةِ بِالثِّقَلِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ مَظْرُوفٌ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْحَوَادِثِ، فَوَصْفُهَا بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ، وَهِيَ كَوْنُ الثِّقَلِ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَكُونُ وَصْفًا لِلزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ وَصْفٌ لِلْأَحْدَاثِ، فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الزَّمَانِ، فَإِسْنَادُهُ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِهِ ظَرْفًا لِلْأَحْدَاثِ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77] . وَثِقَلُ السَّاعَةِ أَيْ شِدَّتُهَا هُوَ عِظَمُ مَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَهُولَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنْ تَصَادُمِ الْكَوَاكِبِ، وَانْخِرَامِ سِيَرِهَا، وَمِنْ زَلَازِلِ الْأَرْضِ وَفَيَضَانِ الْبَرَاكِينِ، وَالْبِحَارِ، وَجَفَافِ الْمِيَاهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ اخْتِلَالِ النظام الَّذِي مَكَان عَلَيْهِ سَيْرُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُحْدِثُ شِدَّةً عَظِيمَةً عَلَى كُلِّ ذِي إِدْرَاكٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ.

وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ ثَقُلَتْ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الدَّالِّ عَلَى مَكَانِ حُلُولِ الْفِعْلِ، وَحَذْفُ مَا حَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ وَهُوَ حَرْفُ (إِلَى) الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، لِيَعُمَّ كُلَّ مَا تَحْوِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِمَّا يَقع عملية عملية الثِّقَلُ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ. وَجُمْلَةُ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً مُسْتَأْنَفَةٌ جَاءَتْ تَكْمِلَةً لِلْإِخْبَارِ عَنْ وَقْتِ حُلُولِ السَّاعَةِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بَغْتَةً يُحَقِّقُ مَضْمُونَ الْإِخْبَارِ عَنْ وَقْتِهَا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ إِلَّا لِلَّهِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُظْهِرِهِ لِأَحَدٍ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ إِظْهَارِ وَقْتِهَا انْتِفَاءٌ مُتَوَغِّلٌ فِي نَوْعِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِأَحَدٍ بِحُلُولِهَا بِالْكُنْهِ وَلَا بِالْإِجْمَالِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ لَهَا مِنْ أَمَارَاتٍ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنْ أَمَارَاتِهَا فَلَا يُنَافِي إِتْيَانَهَا بَغْتَةً، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَمَارَاتِ مُمْتَدَّةُ الْأَزْمَانِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مَعَهَا تَهَيُّؤٌ لِلْعِلْمِ بِحُلُولِهَا. وَ «الْبَغْتَةُ» مَصْدَرٌ عَلَى زِنَةِ الْمَرَّةِ مِنَ الْبَغْتِ وَهُوَ الْمُفَاجَأَةُ أَيِ الْحُصُولُ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ لَهُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَام [31] . وَجُمْلَة: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها مُؤَكدَة لجملة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ وَمُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ سُؤَالِهِمْ فَلِذَيْنِكَ فُصِلَتْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ السُّؤَالِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وحَفِيٌّ فَعِيلٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُشْتَقًّا مِنْ حَفِيٍّ بِهِ، مِثْلِ غَنِيٍّ فَهُوَ غَنِيٌّ إِذَا أَكْثَرَ السُّؤَالَ عَنْ حَالِهِ تَلَطُّفًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّكَ أَكْثَرْتَ السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى عَلِمْتَهُ، فَيَكُونُ وَصْفُ حَفِيٌّ كِنَايَةً عَنِ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ تَقْتَضِي حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فُسِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» فَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ بِالسُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ سَبَبُ الْعِلْمِ، كَقَوْلٍ السَّمَوْأَلِ أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ أَوْ غَيْرِهِمَا: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ ... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَوْلِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: طُلِّقْتِ إِنْ لَمْ تَسْأَلِي أَيَّ فَارِسٍ ... حَلِيلُكِ إِذْ لَاقَى صداء وخثعها

وَقَوْلِ أُنَيْفِ بْنِ زَبَّانَ النَّبْهَانِيِّ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مَنْ أَحْفَاهُ إِذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ فِي فِعْلٍ، فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مِثْلِ حَكِيمٍ، أَيْ كَأَنَّكَ مُلِحٌّ فِي السُّؤَالِ عَنْهَا، أَيْ مُلِحٌّ عَلَى اللَّهِ فِي سُؤَالِ تَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا [مُحَمَّد: 37] . وَقَوْلُهُ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْله: يَسْئَلُونَكَ مُعْتَرضَة بَين يَسْئَلُونَكَ وَمُتَعَلِّقِهِ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: عَنْها عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِكُل من يَسْئَلُونَكَ- وحَفِيٌّ عَلَى نَحْوٍ مَنِ التَّنَازُعِ فِي التَّعْلِيقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَفِيٌّ مُشْتَقًّا مِنْ حَفِيٍّ بِهِ، كَرَضِيٍّ بِمَعْنَى بَالَغَ فِي الْإِكْرَامِ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ أَيْ مُكْرِمٌ لَهُمْ وَمُلَاطِفٌ فَيَكُونُ تَهَكُّمًا بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ يُظْهِرُونَ لَكَ أَنَّكَ كَذَلِكَ لِيَسْتَنْزِلُوكَ لِلْخَوْضِ مَعَهُمْ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ: إِنَّ بَيْنَنَا قُرَابَةً فَأَسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ فَقَالَ الله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَلَّقُ عَنْها ب يَسْئَلُونَكَ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ حَفِيٌّ لِظُهُورِهِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ تَأْخِيرَ عَنْها لِلْإِيفَاءِ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَعَلَّقُ هِمَّتُهُ بِتَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اهْتَمَّ بِذَلِكَ لَكَانَ فِي اهْتِمَامِهِ تَطَلُّبًا لِإِبْطَالِ الْحِكْمَةِ فِي إِخْفَائِهَا، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ عِلْمِهِ بِوَقْتِهَا لَا يُنَافِي كَرَامَتَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ كَمَالًا نَفْسِيًّا يَصْرِفُهُ عَنْ تَطَلُّبِ ذَلِكَ، وَلَوْ تَطَلَّبَهُ لَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، كَمَا صَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَوْتِ حِينَ حَلَّ أَجَلُهُ كَيْلَا يَنْزِعَ رُوحَهُ وَهُوَ كَارِهٌ، وَهَذِهِ سَرَائِرُ عَالِيَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَأُكِّدَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَاهَا

[سورة الأعراف (7) : آية 188]

لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ لَا يُرْجَى غَيْرُهُ وَأَنَّ الْحَصْرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ثُمَّ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ اسْتِدْرَاكٌ عَنِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ تَأْكِيدًا لِكَوْنِهِ حَصْرًا حَقِيقِيًّا، وَإِبْطَالًا لِظَنِّ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِكُلِّ مَجْهُولٍ، وَمِنْ ذَلِكَ وَقْتُ السَّاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوْقَاتِهِمْ يَسْتَطِيعُونَ إِعْلَامَ النَّاسِ فَيَسْتَدِلُّونَ بِعَدَمِ عِلْمِ السَّاعَةِ عَلَى عَدَمِ صِدْقٍ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ ضَلَالَةٌ مُلَازِمَةٌ لِلْعُقُولِ الْأَفِنَةِ، فَإِنَّهَا تَتَوَهَّمُ الْحَقَائِقَ عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَتُوقِنُ بِمَا يُخَيَّلُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُهُ أُصُولًا تَبْنِي عَلَيْهَا مَعَارِفَهَا وَمُعَامَلَاتِهَا، وَتَجْعَلُهَا حُكْمًا فِي الْأُمُورِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَهَذَا فَرْطُ ضَلَالَةٍ، وَإِنَّهُ لَضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَقَدْ حَكَى التَّارِيخُ الْقَدِيمُ شَاهِدًا مِمَّا قُلْنَاهُ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ دَانْيَالَ- مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْحَقَةِ بِالتَّوْرَاةِ أَنَّ- (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكَ بَابِلَ رَأَى رُؤْيَا أَزْعَجَتْهُ وَتَطَلَّبَ تَعْبِيرَهَا، فَجَمَعَ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ وَالسَّحَرَةَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِصُورَةِ مَا رَآهُ فِي حُلْمِهِ مِنْ دُونِ أَنْ يَحْكِيَهُ لَهُمْ، فَلَمَّا أَجَابُوهُ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي طَاقَةِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِ الْمَلِكِ إِلَّا الْآلِهَةُ، غَضِبَ، وَاغْتَاظَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَأَنَّهُ أحضر دانيال النَّبِي وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (بَابِلَ) وَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يُنْبِئْهُ بِصُورَةِ رُؤْيَاهُ، ثُمَّ بِتَعْبِيرِهَا، وَأَنَّ دَانْيَالَ اسْتَنْظَرَهُ مُدَّةً، وَأَنَّهُ الْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (عِزْرِيَا) وَ (مِيشَايِيلُ) وَ (حَنَنْيَا) فَدَعَوُا اللَّهَ لِيُنْقِذَ دَانْيَالَ مِنَ الْقَتْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى دَانْيَالَ بِصُورَة مَا رءاه الْمَلِكُ فَأَخْبَرَ دَانْيَالُ الْمَلِكَ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَبَّرَ لَهُ، فَنَالَ حُظْوَةً لَدَيْهِ انْظُرِ الْإِصْحَاحَ الثَّانِي مِنْ سفر دانيال. [188] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 188] قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي التَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ وَمِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ، وَزِيَادَةٌ مِنَ التَّعْلِيمِ لِلْأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَتَمْيِيزُ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا عَمَّا لَيْسَ مِنْهَا.

وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قصد من استينافها الِاهْتِمَامُ بِمَضْمُونِهَا، كَيْ تَتَوَجَّهَ الْأَسْمَاعُ إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ مَعَ تَقَدُّمِهِ مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ... قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: 187] لِلِاهْتِمَامِ بِاسْتِقْلَالِ الْمَقُولِ، وَأَنْ لَا يَنْدَرِجَ فِي جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ، وَخُصَّ هَذَا الْمَقُولُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَحْوَ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ لِيَقْلِعَ مِنْ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ تَوَهُّمَ مُلَازِمَةِ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ لِصِفَةِ النُّبُوَّةِ، إِعْلَانًا لِلْمُشْرِكِينَ بِالْتِزَامِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَاعِنٍ فِي نُبُوَّتِهِ حَتَّى يَسْتَيْئِسُوا مِنْ تَحَدِّيهِ بِذَلِكَ، وَإِعْلَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا تَقْتَضِيهِ النُّبُوَّةُ وَمَا لَا تَقْتَضِيهِ، وَلِذَلِكَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِهِ الْمُغَيَّبَةِ، فَضْلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُغَيَّبَاتِ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. فِي «تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ أَلَا يُخْبِرُكَ رَبُّكَ بِالسِّعْرِ الرَّخِيصِ قَبْلَ أَنْ يَغْلُوَ فَتَشْتَرِيَ عِنْدَ الْغَلَاءِ، وَبِالْأَرْضِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَجْدُبَ فَتَرْتَحِلَ مِنْهَا إِلَى الَّتِي قَدْ أَخْصَبَتْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَوَرَّكُوا بِهِ مِثْلَ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ، وَقَدْ جُمِعَ رَدُّ الْقَوْلَيْنِ فِي قَول. وَمَعْنَى الْمُلْكِ هُنَا الِاسْتِطَاعَةُ وَالتَّمَكُّنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [76] ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ، هُنَا: مَا يَشْمَلُ الْعِلْمَ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لِنَفْيِ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ هُوَ مُوجِبُ تَوَجُّهِ النَّفْسِ إِلَى عَمَلِهِ. وَقَدَّمَ النَّفْعَ فِي الذِّكْرِ هُنَا عَلَى الضُّرِّ: لِأَنَّ النَّفْعَ أَحَبُّ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَعَكَسَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْوَيْنُ أَمْرِ مَعْبُودَاتِهِمْ وَأَنَّهَا لَا يُخْشَى غَضَبُهَا. وَإِنَّمَا عَطَفَ قَوْلَهُ: وَلا ضَرًّا مَعَ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتَطَلَّبُ إِضْرَارَ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْمِيمُ الْأَحْوَالِ إِذْ لَا تَعْدُو أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ عَنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ، فَصَارَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الضِّدَّيْنِ مِثْلَ ذِكْرِ الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ وَذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّرِّ وَالْخَيْرِ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [3] ، وَجَعَلَ نَفْيَ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا مُقَدِّمَةً لِنَفْيِ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ، لِأَنَّ غَايَةَ النَّاسِ مِنَ التَّطَلُّعِ إِلَى

مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ هُوَ الْإِسْرَاعُ إِلَى الْخَيْرَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهَا وَتَقْرِيبِهَا، وَإِلَى التَّجَنُّبِ لِمَوَاقِعِ الْأَضْرَارِ، فَنَفْيُ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، يَعُمُّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُلْكِ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْعُمُومِ مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَجْمُوعِ النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ مُتَّصِلًا، أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ بِأَنْ يُعَلِّمَنِيهِ وَيُقَدِّرَنِي عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَى مَوَاقِعِهِ وَخَلْقُ الْمَوَانِعِ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ النَّفْعِ، وَمِنْ أَسْبَابِ اتِّقَاءِ الضُّرِّ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاتِّصَالِ يُنَاسِبُ ثُبُوتَ قُدْرَةٍ لِلْعَبْدِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْكَسْبِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوَجِّهَ نَفْسَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مُغَيَّبٍ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ أَوْ لِإِكْرَامِ الْأُمَّةِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ- إِلَى قَوْلِهِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: 44] . وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ تَكْمِلَةً لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، سَوَاءٌ مِنْهُ مَا كَانَ يَخُصُّ نَفْسَهُ وَمَا كَانَ من شؤون غَيْرِهِ. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَفِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ، مِمَّا فِيهِ نَفْعُهُ وَضَرُّهُ وَمَا عَدَاهُ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِالْغَيْبِ بِانْتِفَاءِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ، وَتَجَنُّبِ السُّوءِ، اسْتِدْلَالٌ بِأَخَصِّ مَا لَوْ عَلِمَ الْمَرْءُ الْغَيْبَ لَعَلِمَهُ، أَوَّلَ مَا يَعْلَمُ وَهُوَ الْغَيْبُ الَّذِي يُهِمُّ نَفْسَهُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ إِطْلَاعَهُ عَلَى الْغَيْبِ لَكَانَ الْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ إكرام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ إِطْلَاعُهُ عَلَى مَا فِيهِ رَاحَتُهُ أَوَّلَ مَا يَنْبَغِي إِطْلَاعُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ كَانَ انْتِفَاءُ غَيره أولى. ودلي التَّالِي، فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ، هُوَ الْمُشَاهَدَةُ مِنْ فَوَاتِ خَيْرَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ لَمْ يَتَهَيَّأْ لِتَحْصِيلِهَا وَحُصُولِ أَسْوَاءٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُمْ إِذْ كَانُوا يتعرضون لَهُ السوء. وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهِي مستأنفة ستينافا بَيَانِيًّا، نَاشِئًا عَنِ التَّبَرُّؤِ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا لِأَنَّ السَّامِعِينَ يَتَوَهَّمُونَ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أخص صِفَات النَّبِي فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِنْ نَفْيِهِ ذَلِكَ عَنْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 190]

نَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَيَسْأَلُوا عَنْ عَمَلِهِ مَا هُوَ بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُ مَا نَفَى، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الرِّسَالَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي النِّذَارَةِ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَعَوَاقِبِهَا وَالْبِشَارَةِ بِعَوَاقِبِ الِانْتِهَاءِ عَنْهَا وَاكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ وَصْفَ النَّذِيرِ عَلَى وَصْفِ الْبَشِيرِ، هُنَا: لِأَنَّ الْمَقَامَ خِطَابُ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ، فَالنِّذَارَةُ أَعْلَقُ بِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّذِيرِ الْبَشِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] . وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَتَنَازَعُ تَعَلُّقَهُ كُلٌّ مِنْ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ: لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَمْرَيْنِ يَخْتَصُّ بِالَّذِينَ تَهَيَّئُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِأَنْ يَتَأَمَّلُوا فِي الْآيَاتِ وَيُنْهُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُوا الْحَقَّ عَلَى آبَائِهِمْ، دُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا دَيْدَنَهُمُ التَّكْذِيبَ وَالْإِعْرَاضَ وَالْمُكَابَرَةَ، فَالْمُضَارِعُ مُرَادٌ بِهِ الْحَالُ وَالِاسْتِقْبَالُ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ، لِيَشْمَلَ مَنْ تَهَيَّأَ لِلْإِيمَانِ حَالًا وَمَآلًا، وَأَمَّا شُمُولُهُ لِمَنْ آمَنُوا فِيمَا مَضَى فَهُوَ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ إِذْ هُمْ أَوْلَى، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] . وَفِي نَظْمِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ التَّنَازُعِ، وَإِيلَاءِ وصف (البشير) ب (قوم يُؤْمِنُونَ) ، إِيهَامٌ أَنَّ الْبِشَارَةَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ النِّذَارَةِ الْمَتْرُوكَ ذِكْرُهُ فِي النَّظْمِ هُوَ لِأَضْدَادِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ [الْأَحْقَاف: 12] . وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْمُسْتَتْبَعَاتُ مَقْصُودَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ لِأَنَّ فِيهَا اسْتِفَادَةَ مَعَانٍ وَافِرَةٍ مِنْ أَلْفَاظ وجيزة. [189، 190] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 189 إِلَى 190] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

(190) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، عَادَ بِهَا الْكَلَامُ إِلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ مِنَ الَّذِي سَلَفَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: 172] الْآيَةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: 188] لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَقُولَ قُصِدَ مِنْهُ إِبْطَالُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ وَصْفِ الرِّسَالَةِ وَعِلْمِ الرَّسُولِ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْآخَرُ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ عُقُولِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَإِشْرَاكِ آبَائِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ جَرَيَانُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْرَاف: 188] وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي خَلَقَكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالتَّذْكِيرِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ هَذَا الْكَلَامِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَقَدْ صَدَّرَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ النَّوْعِ الْمُبْتَدَأِ بِخَلْقِ أَصله وَهُوَ ءادم وَزَوْجُهُ حَوَّاءُ تَمْهِيدًا لِلْمَقْصُودِ. وَتَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِاسْمِ الْجَمْعِ، فِي مِثْلِهِ، فِي الِاسْتِعْمَالِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْمَجْمُوعِيَّ، أَيْ جُمْلَةُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، أَيْ خَلَقَ مَجْمُوعَ الْبَشَرِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَتَكُونُ النَّفْسُ هِيَ نَفْسُ آدَمَ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ جَمِيعُ الْبَشَرِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْجَمِيعِيَّ أَيْ خَلَقَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَتَكُونُ النَّفْسُ هِيَ الْأَبُ، أَيْ أَبُو كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] وَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: 39] . وَلَفْظُ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَحْدَهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ فِي كِلَا الْخَلْقَيْنِ امْتِنَانًا، وَفِي كليهمَا اعْتِبَارا واتعاضا. وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمَ وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ جَعَلُوا الْأَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْفَخْرُ، وَالْبَيْضَاوِيُّ

وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَصَمُّ، وَابْنُ الْمُنِيرِ، وَالْجُبَّائِيُّ. وَوُصِفَتِ النَّفْسُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِدْمَاجِ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، لِأَنَّ كَوْنَهَا وَاحِدَةً أَدْعَى لِلِاعْتِبَارِ إِذْ يَنْسَلُّ مِنَ الْوَاحِدَةِ أَبْنَاءٌ كَثِيرُونَ حَتَّى رُبَّمَا صَارَتِ النَّفْسُ الْوَاحِدَةُ قَبِيلَةً أَوْ أُمَّةً، فَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَذْكِيرٌ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ حَيْثُ بَثَّهُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي الْكَلَامِ اسْتِخْدَامًا فِي ضَمِيرَيِ تَغَشَّاها وَمَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ: فِيما آتاهُما وَبِهَذَا يَجْمَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بَيْنَ كِلَا الرَّأْيَيْنِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الْأُنْثَى بِفِعْلِ جَعَلَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَعْلُ الْأُنْثَى زَوْجًا لِلذَّكَرِ، لَا الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ خَلَقَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ مِنْها لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ: مِنْ نَوْعِهَا، وَقَوْلُهُ: مِنْها صِفَةٌ لِ زَوْجَها قُدِّمَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ لِلِاهْتِمَامِ بِالِامْتِنَانِ بِأَنْ جَعَلَ الزَّوْجَ وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ نَوْعِ ذَكَرِهَا وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مُطَّرِدَةٌ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَوْلُهُ: لِيَسْكُنَ إِلَيْها تَعْلِيلٌ لِمَا أَفَادَتْهُ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ. وَالسُّكُونُ مَجَازٌ فِي الِاطْمِئْنَانِ وَالتَّأَنُّسِ أَيْ: جَعَلَ مِنْ نَوْعِ الرَّجُلِ زَوْجَهُ لِيَأْلَفَهَا وَلَا يَجْفُوَ قُرْبَهَا، فَفِي ذَلِكَ مِنَّةُ الْإِينَاسِ بِهَا، وَكَثْرَةُ مُمَارَسَتِهَا لِيَنْسَاقَ إِلَى غِشْيَانِهَا، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ التَّنَاسُلَ حَاصِلًا بِغَيْرٍ دَاعِي الشَّهْوَةِ لَكَانَتْ نَفْسُ الرَّجُلِ غَيْرَ حَرِيصَةٍ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ نَسْلِهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ حَاصِلًا بِحَالَةِ أَلَمٍ لَكَانَتْ نَفْسُ الرَّجُلِ مُقِلَّةً مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ إِلَّا لِلِاضْطِرَارِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّرَدُّدِ، كَمَا يَنْصَرِفُ إِلَى شُرْبِ الدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ الْمُعَقِّبَةِ مَنَافِعَ، وَفَرَّعَ عَنْهُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ مَا يَحْدُثُ عَنْ بَعْضِ سُكُونِ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجِهِ وَهُوَ الْغِشْيَانُ. وَصِيغَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّكَلُّفِ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّكَلُّفَ يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ.

وَذُكِّرَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي فعلي يسكن و (تغشى) : بِاعْتِبَار كَون مَا صدق الْمَعَادِ، وَهُوَ النَّفْسُ الْوَاحِدَةُ، ذَكَرًا، وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَغَشَّاها، وَالْمَرْفُوعُ فِي حَمَلَتْ. وَ (مَرَّتْ) : بِاعْتِبَار كَون مَا صدق الْمَعَادَ وَهُوَ زَوْجُهَا أُنْثَى، وَهُوَ عَكْسٌ بَدِيعٌ فِي نَقْلِ تَرْتِيبِ الضَّمَائِرِ. وَوَصْفُ الْحِمْلِ بِ خَفِيفاً إِدْمَاجٌ ثَانٍ، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ فِي مَبْدَئِهِ لَا تَجِدُ مِنْهُ الْحَامِلُ أَلَمًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا حَمْلًا خَاصًّا، وَلَكِنَّهُ الْخَبَرُ عَنْ كُلِّ حَمْلٍ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّوْجَيْنِ جِنْسُهُمَا، فَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالَةٍ تَحْصُلُ مِنْهَا عِبْرَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ عِبْرَةُ تَطَوُّرِ الْحمل كَيفَ يبتدىء خَفِيفًا كَالْعَدَمِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَثْقُلَ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» «قَالَ: مَالِكٌ وَكَذَلِكَ (أَيْ كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْمُخَوَّفِ وَالْمَرِيضِ الْمُخَوَّفِ» ) : الْحَامِلُ فِي أَوَّلِ حَمْلِهَا بِشْرٌ وَسُرُورٌ وَلَيْسَ بِمَرَضٍ وَلَا خَوْفٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] وَقَالَ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَحَقِيقَةُ الْمُرُورِ: الِاجْتِيَازُ، وَيُسْتَعَارُ لِلتَّغَافُلِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ لِلشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يُونُس: 72] أَيْ: نَسِيَ دُعَاءَنَا، وَأَعْرَضَ عَنَ شُكْرِنَا لِأَنَّ الْمَارَّ بِالشَّيْءِ لَا يَقِفُ عِنْدَهُ وَلَا يُسَائِلُهُ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] . وَقَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يُوسُف: 105] . فَمَعْنَى فَمَرَّتْ بِهِ لَمْ تَتَفَطَّنْ لَهُ، وَلَمْ تُفَكِّرْ فِي شَأْنِهِ، وَكُلُّ هَذَا حِكَايَةٌ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ. وَالْإِثْقَالُ ثِقَلُ الْحِمْلِ وَكُلْفَتُهُ، يُقَالُ أَثْقَلَتِ الْحَامِلُ فَهِيَ مُثْقَلٌ وَأَثْقَلَ الْمَرِيضُ فَهُوَ مُثْقَلٌ، وَالْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ مِثْلُ أَوْرَقَ الشَّجَرُ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ أَقْرَبَتِ الْحَامِلُ فَهِيَ مقرب إِذا أقرب إِبَّانُ وَضْعِهَا. وَقَدْ سَلَكَ فِي وَصْفِ تَكْوِينِ النَّسْلِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ: لِمَا فِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْأَطْوَارِ، الدَّالَّةِ عَلَى دَقِيقِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَبِلُطْفِهِ بِالْإِنْسَانِ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أَنَّ كُلَّ أَبَوَيْنِ يَدْعُوَانِ بِذَلِكَ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ قُلْنَا لَا يَخْلُو أَبْوَاب مُشْرِكَانِ مِنْ أَنْ يَتَمَنَّيَا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مِنَ الْحَمْلِ مَوْلُودٌ صَالِحٌ، سَوَاءٌ نَطَقَا بِذَلِكَ أَمْ أَضْمَرَاهُ فِي نُفُوسِهِمَا، فَإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ طَوِيلَةٌ، لَا تَخْلُو أَنْ يَحْدُثَ هَذَا التَّمَنِّي فِي خِلَالِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّمَنِّي مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمُكَوِّنُهَا، وَلَا حَظَّ لِلْآلِهَةِ إِلَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا دلّت علبه مُحَاجَّاتُ الْقُرْآنِ لَهُمْ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: 34] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فِي الْأَنْعَامِ [1] . وَإِنْ حُمِلَ دَعَوَا عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمُ الدُّعَاءُ. وَإِجْرَاءُ صِفَةِ رَبَّهُما الْمُؤْذِنَةِ بِالرِّفْقِ وَالْإِيجَادِ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْضَارِ الْأَبَوَيْنِ هَذَا الْوَصْفَ عِنْدَ دُعَائِهِمَا اللَّهَ، أَيْ يَذْكُرُ أَنَّهُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يُفِيدُ مَفَادَهُ، وَلَعَلَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا دَعَوْا بِصَلَاحِ الْحَمْلِ قَالُوا: رَبَّنَا آتِنَا صَالِحًا. وَجُمْلَةُ: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ دَعَوَا اللَّهَ. وصالِحاً وَصْفٌ جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَظَاهِرُ التَّذْكِيرِ أَنَّ الْمَحْذُوفَ تَقْدِيرُهُ: (ذَكَرًا) وَكَانَ الْعَرَبُ يَرْغَبُونَ فِي وِلَادَةِ الذُّكُورِ وَقَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النَّحْل: 57] أَيِ الذُّكُورُ. فَالدُّعَاءُ بِأَنْ يُؤْتَيَا ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ صَالِحًا، أَيْ نَافِعًا: لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الصَّلَاحَ الْحَقَّ، وَيُنْذِرَانِ: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَمَعْنَى فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما وَضَمِيرُ جَعَلا لِلنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَزَوْجِهَا، أَيْ جَعَلَ الْأَبَوَانِ الْمُشْرِكَانِ. وَ «الشِّرْكُ» مُصْدَرُ شَرَكَهُ فِي كَذَا، أَيْ جَعَلَا لِلَّهِ شَرِكَةً، وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي شَرِيكًا أَيْ جَعَلَا لِلَّهِ شَرِيكًا فِيمَا آتَاهُمَا اللَّهُ، وَالْخَبَرُ مُرَادٌ مِنْهُ مَعَ الْإِخْبَارِ التَّعْجِيبُ مِنْ سَفَهِ آرَائِهِمْ، إِذْ لَا يَجْعَلُ رَشِيدُ الرَّأْيِ شَرِيكًا لِأَحَدٍ فِي مِلْكِهِ وَصُنْعِهِ بِدُونِ حَقٍّ، فَلِذَلِكَ عُرِفَ الْمَشْرُوكُ فِيهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فَقِيلَ فِيما آتاهُما دُونَ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ:

جَعَلَا لَهُ شِرْكًا فِيهِ: لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ فَسَادِ ذَلِكَ الْجَعْلِ، وَظُلْمِ جَاعِلِهِ، وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْمَجْعُولِ شَرِيكًا لِمَا جُعِلَ لَهُ، وَكُفْرَانِ نِعْمَةِ ذَلِكَ الْجَاعِلِ، إِذْ شَكَرَ لِمَنْ لَمْ يُعْطِهِ، وَكَفَرَ مَنْ أَعْطَاهُ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ. وَجَعَلَ الْمَوْصُولَ (مَا) دُونَ (مَنْ) بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَطِيَّةٌ، أَوْ لِأَنَّ حَالَةَ الطُّفُولَةِ أَشْبَهُ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ. وَهَذَا الشِّرْكُ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الْعَرَبِ، وَبِخَاصَّةٍ أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَجْعَلُ ابْنَهُ سَادِنًا لِبُيُوتِ الْأَصْنَامِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْجُرُ ابْنُهُ إِلَى صَنَمٍ لِيَحْفَظَهُ وَيَرْعَاهُ، وَخَاصَّةً فِي وَقْتِ الصِّبَا، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى صَنَمِهَا الَّذِي تَعْبُدُهُ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّي ابْنَهُ: عَبْدَ كَذَا، مُضَافًا إِلَى اسْمِ صَنَمٍ كَمَا سَمَّوْا عَبْدَ الْعُزَّى، وَعَبْدَ شَمْسٍ، وَعَبْدَ مَنَاة، وَعبد يَا ليل، وَعَبْدَ ضَخْمٍ، وَكَذَلِكَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، وَزَيْدُ مَنَاءَةَ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّعْبِيدِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، يَوْمَ أُحُدٍ: «اعْلُ هُبَلُ» وَقَالَتِ امْرَأَةُ الطُّفَيْلِ لِزَوْجِهَا الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ حِينَ أَسْلَمَ وَأَمَرَهَا بِأَنْ تُسْلِمَ «لَا نَخْشَى عَلَى الصِّبْيَةِ مِنْ (ذِي الشَّرَى) شَيْئًا» ذُو الشَّرَى صَنَمٌ. وَجُمْلَةُ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ كُلِّهِ: مَا ذُكِرَ مِنْهُ آنِفًا مِنْ إِشْرَاكِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ اللَّهِ فِيمَا آتَاهُمَا، وَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَصْنَافِ إِشْرَاكِهِمْ. وَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ مَوْقِعٌ بَدِيعٌ، لِأَنَّ التَّنْزِيهَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا قَبْلُهُ مِنَ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ الْعَجِيبِ، وَالْمِنَنِ الْعَظِيمَةِ، فَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ بِحَقٍّ، وَهُوَ إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ مُخَاطَبٌ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يُشْرِكُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا سَبَقَهَا مِنْ دَلِيلِ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ: حَدِيثًا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فِي تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لِحَوَّاءَ أَنْ تُسَمِّيَ وَلَدَهَا عَبَدَ الْحَارِثِ، وَالْحَارِثُ اسْمُ إِبْلِيسَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 إلى 192]

حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَوَسَمَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» ، بِالضَّعْفِ، وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْقُرْطُبِيُّ وَبَيَّنَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا فِي سَنَدِهِ مِنَ الْعِلَلِ، عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَلْصَقُوهُ بِالْآيَةِ وَجَعَلُوهُ تَفْسِيرًا لَهَا، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ أَنَّهُ فُسِّرَ بِهِ الْآيَةُ وَلَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ جَعَلَهُ فِي بَابِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ «سُنَنِهِ» . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ فِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ لِقُرَيْشٍ خَاصَّةً، وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ هُوَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ خُزَاعَةَ فَلَمَّا آتَاهُمَا اللَّهُ أَوْلَادًا أَرْبَعَةً ذُكُورًا سَمَّى ثَلَاثَةً مِنْهُمْ عَبْدَ مَنَافٍ، وَعَبْدَ الْعُزَّى، وَعَبْدَ الدَّارِ، وَسَمَّى الرَّابِعَ «عَبْدًا» بِدُونِ إِضَافَةٍ وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى بِعَبْدِ قُصَيٍّ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: شِرْكًا- بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- أَيِ اشْتِرَاكًا مَعَ اللَّهِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لَفِعْلِ جَعَلَا مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ جَعَلَا لَهُ الْأَصْنَامَ شِرْكًا، وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ شُرَكَاءَ- بِضَمِّ الشِّينِ جَمْعُ شَرِيكٍ، وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ مَعْنًى. وَفِي جُمْلَةِ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مُحَسِّنٌ مِنَ الْبَدِيعِ وَهُوَ مَجِيءُ الْكَلَامِ مُتَّزِنًا عَلَى مِيزَانِ الشِّعْرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَصِيدَةً، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَدْخُلُ فِي مِيزَانِ الرَّمَلِ. وَفِيهَا الِالْتِفَاتُ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَلَيْسَ عَائِد إِلَى مَا قَبْلُهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلُهُ كَانَ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى خَمْسَ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما- إِلَى قَوْلِهِ- فِيما آتاهُما. [191، 192] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 191 إِلَى 192] أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ كَلَامٌ «مُعْتَرَضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ الْمَسُوقَيْنِ لِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، مُخَاطِبٌ بِهَا النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُسْلِمُونَ، لِلتَّعْجِيبِ مِنْ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَسَامِعَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُشْرِكُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ هَذَا الْإِشْرَاكِ مِنْهُمْ. وَنَفْيُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَخْلُقُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ نَفْيِ الْخَالِقِيَّةِ عَنْهُمْ.

وَأَصْلُ مَعْنَى التَّجَدُّدِ، الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ، هُوَ حُدُوثُ مَعْنَى الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنِدِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ ثُبُوتٍ وَتَقَرُّرٍ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ: أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُمْ مَا خَلَقُوا شَيْئًا فِي الْمَاضِي، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَلْقُ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ لَكَانَ مُتَقَرِّرًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَهُمْ يُخْلَقُونَ يَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَاف: 190] ، أَيْ: وَالْمُشْرِكُونَ يُخْلَقُونَ، وَمَعْنَى الْحَالِ زِيَادَةُ تَفْظِيعِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ لِإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ أَصْنَافًا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا فِي حَالِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُخْلَقُونَ يَوْمًا فَيَوْمًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ خَلْقُهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ يُشَاهِدُونَ الْأَصْنَامَ جَاثِمَةً فِي بُيُوتِهَا وَمَوَاضِعِهَا لَا تَصْنَعُ شَيْئًا فَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ دَالَّةٌ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَدَلَالَةُ الْمُضَارِعِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّكَرُّرِ دَلَالَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ مَعْنَى التَّجَدُّدِ الَّذِي فِي أَصْلِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ، وَهِيَ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرْكِيبِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ الْمُعَيِّنَةِ لَهَا وَلَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ لِذَلِكَ، وَمَعْنَى تَجَدُّدِ مَخْلُوقِيَّتِهِمْ: هُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ صَادِقٌ بِأُمَّةٍ وَجَمَاعَةٍ، فَالْمَخْلُوقِيَّةُ لَا تُفَارِقُهُمْ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ آنًا فَآنًا بِازْدِيَادِ الْمَوَالِيدِ، وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْمَوَاجِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: 6] فَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ أَيُشْرِكُونَ. وَالْمُفَسِّرُونَ أَعَادُوا ضَمِيرَ وهُمْ يُخْلَقُونَ عَلَى مَا لَا يَخْلُقُ، أَيِ الْأَصْنَامُ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا مَعْنَى كَوْنِ الْأَصْنَامِ مَخْلُوقَةً وَهِيَ صُوَرٌ نَحَتَهَا النَّاسُ، وَلَيْسَتْ صُوَرُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَادَّتَهَا مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ الْحِجَارَةُ. وَجَعَلُوا إِجْرَاءَ ضَمَائِرِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ- وَقَوْلِهِ- يُخْلَقُونَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْأَصْنَامِ وَهِيَ جَمَادَاتٌ لِأَنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ، بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ الْمَحْجُوجِينَ فِيهِمْ، وَلَا يظْهر على لهَذَا التَّقْدِيرِ وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ يُخْلَقُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ غَيْرُ مُتَجَدِّدٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي لَهُمْ نَصْراً عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِاللَّامِ بَعْدَ فِعْلِ الِاسْتِطَاعَةِ وَنَحْوِهِ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَقَعُ الْفِعْلُ مِثْلَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً [العنكبوت: 17] .

[سورة الأعراف (7) : آية 193]

وَجُمْلَةُ: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً فَتَكُونُ صِلَةً ثَانِيَةً. وَالْقَوْلُ فِي الْفِعْلَيْنِ مِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ- وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كَالْقَوْلِ فِي مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ هَذَا النَّصْرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى عَجْزِ تِلْكَ الْآلِهَةِ لِأَنَّ مَنْ يُقَصِّرُ فِي نَصْرِ غَيْرِهِ لَا يُقَصِّرُ فِي نَصْرِ نَفْسِهِ لَوْ قَدَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنْ الْأَصْنَامَ لَا يَنْصُرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَهُمْ إِذَا احْتَاجُوا لِنَصْرِهِمْ وَلَا يَنْصُرُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنْ رَامَ أَحَدٌ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصْرِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَخَيَّلُونَ أَنْ تَقُومَ بِهَا الْأَصْنَامُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى انْتِفَاءِ مَقْدِرَةِ الْأَصْنَامِ عَلَى نَفْعِهِمْ، إِذْ كَانَ النَّصْرُ أَشَدَّ مَرْغُوبٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ غارات وقتال وتراث، فَالِانْتِصَارُ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ لَدَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ [يس: 74، 75] وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مَرْيَم: 81، 82] ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «أَعْلُ هُبْلُ» - وَقَالَ أَيْضًا- «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْبِشَارَةِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَيُغْلَبُونَ قَالَ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 12] وَأَنَّهُمْ سَيَمْحَقُونَ الْأَصْنَامَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ الذب عَنْهَا. [193] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 193] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً [الْأَعْرَاف: 191] زِيَادَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ بِذِكْرِ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ سَخَافَةِ الْعُقُولِ وَوَهَنِ الدَّلِيلِ، بَعْدَ ذِكْرِ مَا هُوَ كَافٍ لِتَزْيِيفِهِ. فَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْمَرْفُوعِ فِي وَإِنْ تَدْعُوهُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ الْمَنْصُوبِ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا عَادَ

ضمير أَيُشْرِكُونَ [الْأَعْرَاف: 191] فَبَعْدَ أَنْ عَجَّبَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنْبَأَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْهُدَى. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَالِبِ مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ حِينٍ وَتَلَاحَقُوا بِالْإِيمَانِ، عَدَا مَنْ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَلْيَقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا [الْأَعْرَاف: 198] الْآيَةَ لِيَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ فِي الْآيَة الْآتِيَة، لظهر تَفَاوُتِ الْمَوْقِعِ بَيْنَ لَا يَتَّبِعُوكُمْ وَبَيْنَ لَا يَسْمَعُوا [الْأَعْرَاف: 198] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى إِلَخْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَاف: 191] فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي تَدْعُوهُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَاف: 190] إِلَى هُنَا، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتْبَعُوهُمْ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ تَوَجُّهًا إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوْقَعُ فِي الدَّمْغِ بِالْحُجَّةِ. والْهُدى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ إِذَا دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَوْ دَعَوْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ عَدَمُ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَتَهُمْ أَوْلَى. وَجُمْلَةُ: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وسَواءٌ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي غَيْرَهُ أَيْ لَيْسَ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَعْنَى الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَالْهَمْزَةُ الَّتِي بَعْدَ سَواءٌ يُقَالُ لَهَا هَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ، وَأَصْلُهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ اسْتُعْمِلَتْ فِي التَّسْوِيَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [6] ، أَيْ سَوَاءٌ دَعْوَتُكُمْ إِيَّاهُمْ وَصَمْتُكُمْ عَنِ الدَّعْوَةِ. وَ (عَلَى) فِيهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهِيَ بِمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ أَيْ: سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَمْرَانِ سَوَاءٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يُجْعَلَا سَوَاءً عَلَى الْمَدْعُوِّينَ فَلَمْ يَقُلْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ تَأْيِيسُ

الْمُخَاطَبِينَ مِنَ اسْتِجَابَةِ الْمَدْعُوِّينَ إِلَى مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ لَا الْإِخْبَارُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَيْنِ كَمَا أَنَّهُمَا فِي قَوْلِهِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [الْبَقَرَة: 6] مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ: عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ هُنَالِكَ بَيَانُ انْعِدَامِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْهُدَى. وَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ فِيهِ فِعْلُ التَّسْوِيةِ إِلَى جَانِبَيْنِ وَبَيْنَ مَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُسْنَدَ فِيهِ إِلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَتِ التَّسْوِيَةُ لَا تُهِمُّ إِلَّا جَانِبًا وَاحِدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطّور: 16] فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تُجْعَلَ التَّسْوِيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا- وَكَقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إِبْرَاهِيم: 21] فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ التَّسْوِيَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِينَ. وَوَقَعَ قَوْلُهُ: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مُعَادِلَ أَدَعَوْتُمُوهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْفِعْلِيَّةِ وَالِاسْمِيَّةِ، فَلَمْ يَقُلْ: أَمْ صَمَتُّمْ، فَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» ، عَنْ ثَعْلَبٍ: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ (أَيْ لِمُجَرَّدِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ) قَالَ: وَصَامِتُونَ وَصَمَتُّمْ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَاحِدٌ، (أَيِ الْفِعْلُ وَالْوَصْفُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ سَوَاءٌ) يُرِيدُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَا بَعْدَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ لَمَّا كَانَ فِي قُوَّةِ الْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَثَرٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ إِذِ التَّقْدِيرُ: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ دَعْوَتُكُمْ إِيَّاهُمْ وَصَمْتُكُمْ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَيْسَ لَهُ مُقْتَضٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ بَلْ هُمَا عِنْدَ الْبَلِيغِ سِيَّانَ، وَلَكِنَّ الْعُدُولَ إِلَى الِاسْمِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ وَالْأَسْجَاعَ مِنْ أَفَانِينِ الْفَصَاحَةِ، وَفِيهِمَا تَظْهَرُ بَرَاعَةُ الْكَلَامِ إِذْ يَكُونُ فِيهِ إِيفَاءٌ بِحَقِّ الْفَاصِلَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّكَلُّفِ، كَمَا تَظْهَرُ بَرَاعَةُ الشَّاعِرِ فِي تَوْفِيَتِهِ بِحَقِّ الْقَافِيَةِ إِذَا سَلَمَ مَعَ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي دِيبَاجَةِ «شَرْحِهِ عَلَى الْحَمَاسَةِ» «وَالْقَافِيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَالْمَوْعُودِ بِهِ الْمُنْتَظَرِ يَتَشَوَّقُهَا الْمَعْنَى بِحَقِّهِ، وَاللَّفْظُ بِقِسْطِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ قَلِقَةً فِي مَقَرِّهَا مُجْتَلَبَةً لِمُسْتَغْنٍ عَنْهَا» . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ الْمُتَضَمَّنِهِ، مَعَ عَدَمِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ وَلَا إِفَادَةِ تَجَدُّدٍ، بِخِلَافِ الْفِعْلِيَّةِ، وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، وَالسَّكَاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» ، لَكِنَّ كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُنَادِي

[سورة الأعراف (7) : آية 194]

عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ صَمْتِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ السَّكَاكِيِّ فِي إِبْدَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَة: 8] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] مَعَ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: 14] ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشِّيرَازِيِّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» أَنَّ الثُّبُوتَ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِمْرَارَ، وَقَالَ الشَّارِحُ التَّفْتَازَانِيُّ، فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» : الْحَقُّ أَنْ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ الَّتِي تَكُونُ عُدُولًا عَنِ الْفِعْلِيَّةِ تُفِيدُ الدَّوَامَ الَّذِي هُوَ كَالثُّبُوتِ، وَفَسَّرَ فِي «شَرْحِ تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» الثُّبُوتَ بِمُقَارَنَةِ الدَّوَامِ، وَأَمَّا السَّيِّدُ فِي «شرح الْمِفْتَاح» ، و «حَاشِيَته عَلَى الْمُطَوَّلِ» ، فَقَدْ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ قَدْ يُقْصَدُ بِهَا الدَّوَامُ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا بِحَسْبَ الْمَقَامَاتِ. وَعِنْدِي أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ لَا تُفِيدُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّبُوتِ الْمُقَابِلِ لِلتَّجَدُّدِ، وَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ فَهُوَ مَعْنًى كِنَائِيٍّ لَهَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِفَادَتِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ الْمُعَيِّنَةِ وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ هُنَا، فَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ دَعْوَةً مُتَجَدِّدَةً أَمْ لَازَمْتُمُ الصَّمْتَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدِ احْتَاجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى بَيَانِهِ بِطَرِيقَةِ الدِّقَّةِ بِإِيرَادِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَلَى عَادَتِهِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْعُدُولُ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي مُعَادِلِ التَّسْوِيَةِ اقْتَضَاهُ الْحَالُ الْبَلَاغِيُّ خلافًا لثعلب. [194] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 194] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْمُخَاطَبِ، بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [الْأَعْرَاف: 193] الْآيَةَ، النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا انْتَقَلَ بِهِ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ مُسَاوَاةَ الْأَصْنَامِ إِيَّاهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَفِيهِ الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: الْأَصْنَامُ، فَتَعْرِيفُهَا بِالْمَوْصُولِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى خَطَأِ رَأْيِهِمْ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فِي حِينٍ هِيَ لَيْسَتْ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَهَذَا الْمَوْصُولُ كَالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ: إِنَّ الَّذِينَ تُرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَيَجِيءُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا وَتَعْلِيلًا

لِجُمْلَةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [الْأَعْرَاف: 193] أَيْ لِأَنَّهُمْ عِبَادٌ أَيْ مَخْلُوقُونَ. وَ (الْعَبْدُ) أَصْلُهُ الْمَمْلُوكُ، ضِدَّ الْحُرِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [الْبَقَرَة: 178] وَقَدْ أُطْلِقَ فِي اللِّسَانِ عَلَى الْمَخْلُوقِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَم: 93] وَلذَلِك يُطلق العَبْد عَلَى النَّاسِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْعِبَادِ عَلَى الْأَصْنَامِ كَإِطْلَاقِ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الشَّائِعِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْإِطْلَاقِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِطْلَاقَ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ بِالْمُشْرِكِينَ، يَعْنِي أَنَّ قصارى أَمرهم أَن يَكُونُوا أَحْيَاءً عُقَلَاءَ فَلَوْ بَلَغُوا تِلْكَ الْحَالَةَ لَمَا كَانُوا إِلَّا مَخْلُوقِينَ مِثْلَكُمْ، قَالَ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا بِقَوْلِهِ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ [الْأَعْرَاف: 195] إِلَى آخِرِهِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ رُوعِيَ فِي حُسْنِهِ الْمُشَاكَلَةُ التَّقْدِيرِيَّةُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاثَلَهُمْ بِالْمُخَاطَبِينَ فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ عِبَادَ اللَّهِ أَطْلَقَ الْعِبَادَ عَلَى مُمَاثَلِيهِمْ مُشَاكَلَةً. وَفَرَّعَ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ أَمْرَ التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِ فَادْعُوهُمْ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ المضمن إِجَابَةَ الْأَصْنَامِ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ نَفْسَ الدُّعَاءِ مُمْكِنٌ وَلَكِنَّ اسْتِجَابَتَهُ لَهُمْ لَيْسَتْ مُمْكِنَةً، فَإِذَا دَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ تَبَيَّنَ عَجْزُ الْآلِهَةِ عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ، وَعَجْزُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ تَحْصِيلِهَا مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِهَا لانهاض حجتهم، فئال ظُهُورُ عَجْزِ الْأَصْنَامِ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ لِعِبَادِهَا إِلَى إِثْبَاتِ عَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ نُهُوضِ حُجَّتِهِمْ لِتَلَازُمِ الْعَجْزَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر: 14] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّعْوَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا الدَّعْوَةُ لِلنَّصْرِ وَالنَّجْدَةِ كَمَا قَالَ وَذَاكَ الْمَازِنِيُّ إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَمْرَ التَّعْجِيزِ كِنَايَةٌ عَنْ ثُبُوتِ عَجْزِ الْأَصْنَامِ عَنْ إِجَابَتِهِمْ، وَعَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِظْهَارِ دُعَاءٍ لِلْأَصْنَامِ تَعْقُبُهُ الِاسْتِجَابَةُ. وَالْأَمْرُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَجِيبُوا أَمْرَ تَعْجِيزٍ لِلْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَمْرُ الْغَائِبِ فَإِنَّ طَرِيقَ أَمْرِ الْغَائِبِ هُوَ الْأَمْرُ.

[سورة الأعراف (7) : آية 195]

وَمَعْنَى تَوْجِيهِ أَمْرِ الْغَائِبِ السَّامِعِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُبْلِغَ الْأَمْرَ لِلْغَائِبِ. وَهَذَا أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ عَجْزِ الْأَصْنَامِ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ لِعَجْزِهَا عَنْ تَلَقِّي التَّبْلِيغِ مِنْ عَبَدَتِهَا. [195] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 195] أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها. تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا مِنْ أَمْرِ التَّعْجِيزِ وَثُبُوتِ الْعَجْزِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ عَنِ الْأَصْنَامِ أَسْبَابُ الِاسْتِجَابَةِ تَحَقَّقَ عَجْزُهَا عَنِ الْإِجَابَةِ، وَتَأَكَّدَ مَعْنَى أَمْرِ التَّعْجِيزِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ عَجْزِ الْأَصْنَامِ وَعَجْزِ عَبَدَتِهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِانْتِفَاءِ الْمُلْكِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ كَالتَّقْدِيمِ فِي قَوْلِ حَسَّانَ: لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا وَوَصْفُ الْأَرْجُلِ بِ يَمْشُونَ وَالْأَيْدِي بِ يَبْطِشُونَ وَالْأَعْيُنِ بِ يُبْصِرُونَ وَالْآذَانِ بِ يَسْمَعُونَ إِمَّا لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاصِرُ، وَأَمَّا لِأَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَصْنَامِ كَانَتْ مَجْعُولَةً عَلَى صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ مِثْلَ هُبَلَ، وَذِي الْكَفَّيْنِ، وَكُعَيْبٍ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، وَمِثْلَ سُوَاعٍ كَانَ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ، فَإِذَا كَانَ لِأَمْثَالِ أُولَئِكَ صُوَرُ أَرْجُلٍ وَأَيْدٍ وَأَعْيُنٍ وَآذَانٍ، فَإِنَّهَا عَدِيمَةُ الْعَمَلِ الَّذِي تَخْتَصُّ بِهِ الْجَوَارِحُ، فَلَا يَطْمَعُ طَامِعٌ فِي نَصْرِهَا، وَخَصَّ الْأَرْجُلَ وَالْأَيْدِي وَالْأَعْيُنَ وَالْآذَانَ، لِأَنَّهَا آلَاتُ الْعِلْمِ وَالسَّعْيِ وَالدَّفْعِ لِلنَّصْرِ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرِ الْأَلْسُنَ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ مُرَادٌ بِهَا النَّجْدَةُ وَالنُّصْرَةُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنْ سَبَبِ الِاسْتِنْجَادِ، وَلَكِنَّهُمْ يُسْرِعُونَ إِلَى الِالْتِحَاقِ بِالْمُسْتَنْجِدِ. وَالْمَشْيُ انْتِقَالُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ انْتِقَالًا مُتَوَالِيًا. وَالْبَطْشُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ بِقُوَّةٍ، وَالْإِضْرَارُ بِالْيَدِ بِقُوَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ مُضَارِعُهُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ عَلَى الْغَالِبِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّ الطَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وأَمْ حَرْفٌ بِمَعْنَى (أَوْ) يَخْتَصُّ بِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ تَكُونُ مِثْلَ (أَوْ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ أَيِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ

بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَطْلُوبُ بِهَا التَّعْيِينُ كَانَتْ مِثْلَ (أَوْ) الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يُونُس: 59] أَيْ عَيِّنُوا أَحَدَهُمَا، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ اسْتِفْهَامٍ غير حَقِيقِيّ كَانَت بِمَعْنَى (أَوِ) الَّتِي لِلْإِبَاحَةِ، وَتُسَمَّى، حِينَئِذٍ مُنْقَطِعَةً وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِنَّهَا بِمَعْنَى (بَلِ) الِانْتِقَالِيَّةِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فَكُلَّمَا وَقَعَتْ فِي الْكَلَامِ قُدِّرَ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا، بَلْ أَلَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا، بَلْ أَلَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا، بَلْ أَلَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجَوَارِحِ الْأَرْبَعِ عَلَى حَسَبِ مَا فِي الْآيَةِ مَلْحُوظٌ فِيهِ أَهَمِّيَّتُهَا بِحَسْبَ الْغَرَضِ، الَّذِي هُوَ النَّصْرُ وَالنَّجْدَةُ، فَإِنَّ الرِّجْلَيْنِ تُسْرِعَانِ إِلَى الصَّرِيخِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ، وَالْيَدَيْنِ تَعْمَلَانِ عَمَلَ النَّصْرِ وَهُوَ الطَّعْنُ وَالضَّرْبُ، وَأَمَّا الْأَعْيُنُ وَالْآذَانُ فَإِنَّهُمَا وَسِيلَتَانِ لِذَلِكَ كُلِّهِ فَأُخِّرَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ ذِكْرُ الْأَعْيُنِ هُنَا عَلَى خلاف مُعْتَاد القرءان فِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ هُنَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّرَقِّي. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا اسْتَصْرَخُوا أَصْنَامَهُمْ لِتَتَأَلَّبَ عَلَى الْكَيْدِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ لِيَنْصُرُوكُمْ عَلَيَّ فَتَسْتَرِيحُوا مِنِّي. وَالْكَيْدُ الْإِضْرَارُ الْوَاقِعُ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْإِضْرَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَاف: 183] . وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ لِلتَّعْجِيزِ. وَقَوْلُهُ: فَلا تُنْظِرُونِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْكَيْدِ، أَيْ فَإِذَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ إِضْرَارِي فَأَعْجِلُوا وَلَا تُؤَجِّلُونِي. وَفِي هَذَا التَّحَدِّي تَعْرِيض بِأَنَّهُ سيبلغهم وَيَنْتَصِرُ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَأْصِلُ آلِهَتَهُمْ وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِأَتَمِّ أَحْوَالِ النَّصْرِ وَهِيَ الِاسْتِنْصَارُ بِأَقْدَرِ الْمَوْجُودَاتِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِضْرَارُ بِهِ خَفِيًّا، وَأَنْ لَا يَتَلَوَّمَ لَهُ وَلَا يَنْتَظِرَ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ كَانَ انْتِفَاؤُهُ أَدَلَّ عَلَى عَجْزِهِمْ وَعَجْزِ آلِهَتِهِمْ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كِيدُونِ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ غَيْرَ أَبِي عَمْرٍو، وَأَمَّا تَنْظُرُونَ فَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ: بِحَذْفِ الْيَاءِ إِلَّا يَعْقُوبَ أَثْبَتَهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ جدّ فصيح.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 إلى 197]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 196 إِلَى 197] إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) هَذَا مِنَ الْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ، وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنْ جُمْلَةِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ [الْأَعْرَاف: 195] لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِمَضْمُونِ التَّحَدِّي فِي قَوْلِهِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ [الْأَعْرَاف: 195] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ تَحَقُّقُ عَجْزِهِمْ عَنْ كَيْدِهِ، فَهَذَا تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِتَأَلُّبِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِنْصَارِهِمْ بِشُرَكَائِهِمْ، وَلِثِقَتِهِ بِأَنَّهُ مُنْتَصِرٌ عَلَيْهِمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ التَّعْجِيزِيَّانِ. وَالتَّأْكِيدُ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ. وَالْوَلِيُّ النَّاصِرُ وَالْكَافِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الْأَنْعَام: 14] . وَإِجْرَاءُ الصِّفَةِ لِاسْمِ اللَّهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ عَلَاقَاتِ الْوِلَايَةِ، فَإِنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ وَهُوَ أُمِّيٌّ دَلِيلُ اصْطِفَائِهِ وَتَوَلِّيهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْكِتَابُ الَّذِي عَهِدْتُمُوهُ وَسَمِعْتُمُوهُ وَعَجَزْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي نَزَلَ مِنْهُ إِلَى حَدِّ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذَا التَّوَلِّي وَتَجَدُّدِهِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ، فَكَمَا تَوَلَّى النَّبِيءَ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى صِرَاط نَبِيّهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ كَمَا نَصَرَ نَبِيَّهُ وَأَوْلِيَاءَهُ. وَالصَّالِحُونَ هُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَصْنَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَأِ الْمُخَاطَبِينَ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَ ظُهُورِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهَا لِلْعِبَادَةِ، بِعَجْزِهَا عَنْ نَصْرِ أَتْبَاعِهَا وَعَنْ نَصْرِ أَنْفُسِهَا وَالْقَوْلُ فِي لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ آنِفًا. وَأُعِيدَ لِأَنَّهُ هُنَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُنَالِكَ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ للنبيء وَالْمُسْلِمين ولإبانة الْمُضَادَّةِ بَيْنَ شَأْنِ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ أَوْلِيَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَلِيَكُونَ الدَّلِيلُ مُسْتَقِلًّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعَ مَا يَحْصُلُ فِي تَكْرِيرِهِ مِنْ تَأْكِيد مضمونه.

[سورة الأعراف (7) : آية 198]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 198] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [الْأَعْرَاف: 197] الْآيَةَ أَيْ قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ: وَإِنْ تَدْعُوا الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، أَيِ الْأَصْنَامُ. وَالْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا فِيهِ رُشْدٌ وَنَفْعٌ لِلْمَدْعُوِّ. وَذِكْرُ إِلَى الْهُدَى لِتَحْقِيقِ عَدَمِ سَمَاعِ الْأَصْنَامِ، وَعَدَمِ إِدْرَاكِهَا، لِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِ دَعْوَةِ مَا يَنْفَعُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ. وَلِهَذَا خُولِفَ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا لَا يَسْمَعُوا وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَّبِعُوكُمْ [الْأَعْرَاف: 193] لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا الِاتِّبَاعُ، إِذْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا الْمَشْيُ الْحَقِيقِيُّ وَلَا الْمَجَازِيُّ أَيِ الِامْتِثَالُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ وَتَراهُمْ لِمَنْ يَصْلُحُ أَنْ يُخَاطَبَ فَهُوَ مِنْ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَمَعْنَى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ تَرَاهُمْ كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، لِأَنَّ صُوَرَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْنَامِ كَانَ عَلَى صُوَرِ الْأَنَاسِيِّ وَقَدْ نَحَتُوا لَهَا أَمْثَالَ الْحِدَقِ النَّاظِرَةِ إِلَى الْوَاقِفِ أَمَامَهَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوا أَصْنَامَهُمْ بِصُورَةِ مَنْ قَلَّبَ حَدَقَتَهُ إِلَى الشَّيْءِ ينظر إِلَيْهِ» . [199] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) أَشْبَعَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَفَانِينِ قَوَارِعِ الْمُشْرِكِينَ وَعِظَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَبَعَثَتْهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصدق رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُدَى دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَفَضْحِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ وَالتَّشْوِيهِ بِشُرَكَائِهِمْ، وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِك كلّه التسجيل بِمُكَابَرَتِهِمْ، وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيفَ يركبون رؤوسهم، وَكَيف يَنْأَوْنَ بِجَانِبِهِمْ، وَكَيْفَ يُصِمُّونَ أَسْمَاعَهُمْ، وَيُغْمِضُونَ أَبْصَارَهُمْ عَمَّا دُعُوا إِلَى سَمَاعِهِ وَإِلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَنُظِرَتْ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِهِمْ،

وَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فَحَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنْ أَصْنَافِ الْعَذَابِ، وَأَنْذَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، ثُمَّ أَعْلَنَ بِالْيَأْسِ مِنَ ارْعِوَائِهِمْ، وَبِانْتِظَارِ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَبِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَبْشِيرِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عِبْرَةٌ لِلْمُتَبَصِّرِينَ، وَمَسْلَاةٌ لِلنَّبِيءِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَتَنْوِيهٌ بِفَضْلِهِمْ وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ ذَلِكَ أَنْ يُثِيرَ فِي أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ كَرَاهِيَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَتُحَفِّزَهُمْ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَمُجَافَاتِهِمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، لَا جَرَمَ شرع فِي استيناف غَرَضٍ جَدِيدٍ، يَكُونُ خِتَامًا لِهَذَا الْخَوْضِ الْبَدِيعِ، وَهُوَ غَرَضُ أَمْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِجَفَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَصَلَابَتِهِمْ، وَبِأَنْ يَسَعُوهُمْ مِنْ عَفْوِهِمْ وَالدَّأْبِ عَلَى مُحَاوَلَةِ هَدْيِهِمْ وَالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الْآيَاتِ. وَالْأَخْذُ حَقِيقَتُهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ لِإِضْرَارِهِ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ الْعَدُوَّ مِنْ تَلَابِيبِهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي الْأَسِيرِ أَخِيذٌ، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ إِذَا أُسِرُوا أُخِذُوا وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فَاسْتُعِيرَ لِلتَّلَبُّسِ بِالْوَصْفِ وَالْفِعْلِ مِنْ بَيْنِ أَفْعَالٍ لَوْ شَاءَ لَتَلَبَّسَ بِهَا، فَيُشَبِّهُ ذَلِكَ التَّلَبُّسَ وَاخْتِيَارَهُ عَلَى تَلَبُّسٍ آخَرَ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ عِدَّةِ أَشْيَاءَ، فَمَعْنَى (خُذِ الْعَفْوَ) : عَامِلْ بِهِ وَاجْعَلْهُ وَصْفًا وَلَا تَتَلَبَّسْ بِضِدِّهِ. وَأَحْسَبُ اسْتِعَارَة الْأَخْذ للْعُرْف مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآن وَلذَلِك ارْجع أَنَّ الْبَيْتَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ: خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ هُوَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَأَنَّهُ اتَّبَعَ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى أَسْمَاءَ بن خَارِجَة الْفَزارِيّ أَوْ إِلَى حَاتِمٍ الطَّائِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. وَالْعَفو الصَّفْحُ عَنْ ذَنْبِ الْمُذْنِبِ وَعَدَمُ مُؤَاخَذَتِهِ بِذَنْبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الْبَقَرَة: 219] وَقَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [109] ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَعُمُّ الْعَفْوَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَعَدَمُ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِجَفَائِهِمْ وَمُسَاءَتِهِمُ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ عَمَّتِ الْآيَةُ صُوَرَ الْعَفْوِ كُلَّهَا: لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْعَفْوِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَهُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ مِنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْعَهْدِ، فَأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ

يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِجَفَائِهِمْ وَسُوءِ خُلُقِهِمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ وَلَا يُقَابِلُهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمرَان: 159] ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَفْوِ أَزْمَانِهِ وَأَحْوَالِهِ إِلَّا مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ الْقَاتِلِ غِيلَةً، وَمِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ مَا يَخُصُّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، وَقَدْ يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأُلْحِقَ بِهِ مَا يُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَيَّنِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ضَابِطٌ عَظِيمٌ لِمِقْدَارِ تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ. ثُمَّ الْعَفْوُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَسْبَقُ أَفْرَادِ هَذَا الْعُمُومِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ بَقِيَّتِهَا وَلَمْ يَفْهَمِ السَّلَفُ مِنَ الْآيَةِ غَيْرَ الْعُمُومِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ «هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ» فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ» وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ» وَمَنْ قَالَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْهَا آيَاتُ الْقِتَالِ فَقَدْ وَهِمَ: لِأَنَّ الْعَفْوَ بَابٌ آخَرَ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَلَهُ أَسْبَابُهُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنَ النَّسْخِ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى الْبَيَانِ أَوِ التَّخْصِيصِ فِي اصْطِلَاحِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالْعرْف اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلْمَعْرُوفِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ أَيْ لَا تُنْكِرُهُ إِذَا خُلِّيَتْ وَشَأْنَهَا بِدُونِ غَرَضٍ لَهَا فِي ضِدِّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مُرَادِفَتِهِ لِلْمَعْرُوفِ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعرف ضايع فَقَابَلَ النُّكْرَ بِالْعُرْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَالْأَمْرُ يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنِ الضِّدِّ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَالِاجْتِزَاءُ بِالْأَمْرِ بِالْعُرْفِ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيجَازِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ هُنَا: لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى أُصُولِ الْمَعْرُوفِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَانْهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: «فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ الْمُشْرِكِينَ مُبْتَدَأَةً بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَنَفَرُوا وَلَمَلَّ الدَّاعِي، لِأَنَّ الْمَنَاكِيرَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُحْدِقَةٌ بِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ الِاتِّسَامُ بِهِ وَالتَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ: لِأَنَّ شَأْنَ الْآمِرِ بِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمِثْلِهِ. وَإِلَّا فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلِاسْتِخْفَافِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهَا كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ عَلَى أَنَّ خِطَابَ الْقُرْآنِ النَّاسَ بِأَنْ يَأْمُرُوا بِشَيْءٍ يُعْتَبَرُ أَمْرًا لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَرْجَمَةُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعُرْفِ كَالتَّعْرِيفِ فِي الْعَفْوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْأَمْرِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ المأمورين وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس: 25] ، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ الْمُشْرِكُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ سَبَبُ الْأَمْرِ بِهَذَا الْعُمُومِ أَيْ لَا يَصُدَّنَّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ إِعَادَةِ إِرْشَادِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاء: 63] . وَالْإِعْرَاضُ: إِدَارَةُ الْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ لِلشَّيْءِ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ الْخَدُّ، فَإِنَّ الَّذِي يَلْتَفِتُ لَا يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء: 83] وَهُوَ هُنَا، مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يَسُوءُ مِنْ أَحَدٍ، شَبَّهَ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فِي كَوْنِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُ الْعَلَمِ بِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمُؤَاخَذَةُ. وَ «الْجَهْلُ» هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ، وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِ الْجَهْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِينَ السُّفَهَاءُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَعْظَمُ

[سورة الأعراف (7) : آية 200]

الْجَهْلِ هُوَ الْإِشْرَاكُ، إِذِ اتِّخَاذُ الْحَجَرِ إِلَهًا سَفَاهَةٌ لَا تَعْدِلُهَا سَفَاهَةٌ، ثُمَّ يَشْمَلُ كُلَّ سَفِيهِ رَأْيٍ. وَكَذَلِكَ فَهِمَ مِنْهَا الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَأَقَرَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ فَضَائِلَ الْأَخْلَاقِ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ عَفْوًا عَنِ اعْتِدَاءٍ فَتَدْخُلُ فِي خُذِ الْعَفْوَ، أَوْ إِغْضَاءً عَمَّا لَا يُلَائِمُ فَتَدْخُلُ فِي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ، أَوْ فِعْلَ خَيْرٍ وَاتِّسَامًا بِفَضِيلَةٍ فَتَدْخُلُ فِي وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: «فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا وَهِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ يُبَيِّنَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِن الْأَمر يَأْخُذ الْعَفْوِ يَتَقَيَّدُ بِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا لَا يَقْبَلُ الْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ مِنَ الْحُقُوقِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْعُرْفِ يَتَقَيَّدُ بِأَخْذِ الْعَفْوِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الْخَيْرِ بلين ورفق. [200] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 200] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) وَهَذَا الْأَمْرُ مُرَادٌ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً وَهُوَ شَامِلٌ لِأُمَّتِهِ. (إِمَّا) هَذِهِ هِيَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ اتَّصَلَتْ بِهَا (مَا) الزَّائِدَةُ الَّتِي تُزَادُ عَلَى بَعْضِ الْأَسْمَاءِ غَيْرِ أَدَوَاتِ الشُّرُوطِ فَتُصَيِّرُهَا أَدَوَاتِهَا، نَحْوَ (مَهْمَا) فَإِن أَصْلهَا ماما، وَنَحْوَ (إِذْمَا) وَ (أَيْنَمَا) وَ (أَيَّانَمَا) وَ (حَيْثُمَا) وَ (كَيْفَمَا) فَلَا جَرَمَ أَنَّ (مَا) إِذَا اقْتَرَنَتْ بِمَا يَدُلُّ على الشَّرْط اكتسبته قُوَّةً شَرْطِيَّةً فَلِذَلِكَ كُتِبَتْ (إِمَّا) هَذِهِ عَلَى صُورَةِ النُّطْقِ بِهَا وَلَمْ تُكْتَبْ مَفْصُولَةَ النُّونِ عَنْ (مَا) . وَالنَّزْغُ النَّخْسُ وَالْغَرْزُ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَهُوَ التَّحْقِيقُ، وَأَمَّا الرَّاغِبُ وَابْنُ عَطِيَّةَ فَقَيَّدَاهُ بِأَنَّهُ دُخُولُ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ لِإِفْسَادِهِ، (قُلْتُ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْفَسْخُ بِالسِّينِ وَهُوَ الْغَرْزُ بِإِبْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِلْوَشْمِ) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ فِعْلِ الشَّيْطَانِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يُوسُف: 100] . وَإِطْلَاقُ النَّزْغِ هُنَا عَلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ اسْتِعَارَةٌ: شَبَّهَ حُدُوثَ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي النَّفْسِ بِنَزْغِ الْإِبْرَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْجِسْمِ بِجَامِعِ التَّأْثِيرِ الْخَفِيِّ، وَشَاعَتْ

هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْءَانِ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ. وَالْمَعْنَى إِنْ أَلْقَى إِلَيْكَ الشَّيْطَانُ مَا يُخَالِفُ هَذَا الْأَمْرَ بِأَنْ سَوَّلَ لَكَ الْأَخْذَ بِالْمُعَاقَبَةِ أَوْ سَوَّلَ لَكَ تَرْكَ أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ غَضَبًا عَلَيْهِمْ أَوْ يَأْسًا مِنْ هُدَاهُمْ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ لِيَدْفَعَ عَنْكَ حَرَجَهُ وَيَشْرَحَ صَدْرَكَ لِمَحَبَّةِ الْعَمَلِ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ. وَالِاسْتِعَاذَةُ مَصْدَرُ طَلَبِ الْعَوْذِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلطَّلَبِ، وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى شَيْءٍ يَدْفَعُ مَكْرُوهًا عَنِ الْمُلْتَجِئِ، يُقَالُ: عَاذَ بِفُلَانٍ، وَعَاذَ بِالْحَرَمِ، وَأَعَاذَهُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي عَاذَ مِنْ أَجْلِهِ. فَأَمَرَ اللَّهُ بِدَفْعِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بِالْعَوْذِ بِاللَّهِ، وَالْعَوْذُ بِاللَّهِ هُوَ الِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ بِالْعِصْمَةِ، أَوِ اسْتِحْضَارُ مَا حَدَّدَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ شُكْرٌ عَلَى نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ وَالْعِصْمَةِ، فَإِنَّ الْعِصْمَةَ مِنَ الذُّنُوبِ حَاصِلَةٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يَشْكُرُ اللَّهَ بِإِظْهَارِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِإِدَامَتِهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِثْلُ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، فَالشَّيْطَانُ لَا يَيْأَسُ مِنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهَا تَنْبَعِثُ عَنْهُ بِطَبْعِهِ، وَإِنَّمَا يَتَرَصَّدُ لَهُمْ مَوَاقِعَ خَفَاءِ مَقْصِدِهِ طَمَعًا فِي زَلَّةٍ تَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِغْوَاءَهُمْ، وَلكنه لَا يُفَارِقهُ رَجَاءَ حَمْلِهِمْ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي مَرَاتِبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ إِذَا مَا هَمَّ بِالْوَسْوَسَةِ شَعَرُوا بِهَا فَدَفَعُوهَا، وَلِذَلِكَ عَلَّمَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى دَفْعِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ- قَالُوا- وَأَنْتَ يَا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ «وَأَنَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» رُوِيَ قَوْلُهُ: «فَأَسْلَمَ» بِفَتْحِ الْمِيمِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ، صَارَ الشَّيْطَانُ الْمُقَارِنُ لَهُ مُسْلِمًا، وَهِيَ خُصُوصِيَّة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَالْهَمْزَةُ لِلْمُتَكَلِّمِ: أَيْ فَأَنَا أَسْلَمُ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَأَحْسَبُ أَنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَطَقَ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحَظُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أَقْوَى لِأَنَّ نَزْغَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ أَكْثَرُ، فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَيَّدٌ بِالْعِصْمَةِ فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ.

[سورة الأعراف (7) : آية 201]

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ بِاللَّهِ عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ حَرْفِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَ فِي غَيْرِ مَقَامِ دَفْعِ الشَّكِّ أَوِ الْإِنْكَارِ، فَإِن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَلَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ: التَّعْلِيلُ بِلَازِمِ هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ عَوْذُهُ مِمَّا اسْتَعَاذَهُ مِنْهُ، أَيْ: أَمَرْنَاكَ بِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَعْصِمُكَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَ «السَّمِيعُ» : الْعَالِمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَهُوَ مُرَادٌ مِنْهُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيُّ، أَيْ عَلِيمٌ بِدُعَائِكَ مُسْتَجِيبٌ قَابِلٌ لِلدَّعْوَةِ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَيْ مُمْتَثِلٌ، فَوَصْفُ سَمِيعٌ كِنَايَةٌ عَنْ وَعْدٍ بِالْإِجَابَةِ. وَإِتْبَاعُهُ بِوَصْفِ عَلِيمٌ زِيَادَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ وَصْفَ سَمِيعٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ اسْتِعَاذَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ بِهِ الشَّيْطَانُ عَدُوُّهُ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ دِفَاعِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِهِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ وُقُوفٌ عِنْدَ الْأَدَبِ وَالشُّكْرِ وَإِظْهَارِ الْحَاجَةِ إِلَى الله تَعَالَى. [201] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 201] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) هَذَا تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَتَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِلَى آخِرِهَا مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا أَحَسَّ بِنَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَلذَلِك افتتحت بإن الَّتِي هِيَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا لِرَدِّ تَرَدُّدٍ أَوْ إِنْكَارٍ، كَمَا افْتُتِحَتْ بِهَا سَابِقَتُهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: 200] فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ حِينَئِذٍ قَدْ عُلِّلَ بِعِلَّتَيْنِ أُولَاهُمَا أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مَنْجَاةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَان تذكرا الْوَاجِب مُجَاهَدَةِ الشَّيْطَانِ وَالتَّيَقُّظِ لِكَيْدِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّيَقُّظَ سُنَّةُ الْمُتَّقِينَ، فَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَأْمُورٌ بِمُجَاهِدَةِ الشَّيْطَانِ: لِأَنَّهُ مُتَّقٍ، وَلِأَنَّهُ يَبْتَهِجُ بِمُتَابَعَةِ سِيرَةِ سَلَفِهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] .

وَقَدْ جَاءَتِ الْعِلَّةُ هُنَا أَعَمَّ مِنَ الْمُعَلَّلِ: لِأَنَّ التَّذَكُّرَ أَعَمُّ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ. وَلَعَلَّ اللَّهُ ادَّخَرَ خُصُوصِيَّةَ الِاسْتِعَاذَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي أَقْوَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُعِلَ لِلَّذِينَ قَبْلَهُمْ الْأَمْرُ بِالتَّذَكُّرِ، كَمَا ادَّخَرَ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَ (التَّقْوَى) تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ: الرُّسُلُ وَصَالِحُو أُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ جَعْلُهُمْ قُدْوَةً وَأُسْوَةً حَسَنَةً. وَ (الْمَسُّ) حَقِيقَتُهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْجِسْمِ، وَاسْتُعِيرَ لِلْإِصَابَةِ أَوْ لِأَدْنَى الْإِصَابَةِ. وَالطَّائِفُ هُوَ الَّذِي يَمْشِي حَوْلَ الْمَكَانِ يَنْتَظِرُ الْإِذْنَ لَهُ، فَهُوَ النَّازِلُ بِالْمَكَانِ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَكَانَ، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْخَاطِرِ الَّذِي يَخْطُرُ فِي النَّفْسِ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ نَهَى اللَّهُ عَنْ فِعْلِهِ شَبَّهَ ذَلِكَ الْخَاطِرَ فِي مبدأ جولانه فِي النَّفْسِ بِحُلُولِ الطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ. وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَادِمَ إِلَى أَهْلِ الْبَيْتِ، الْعَائِذَ بِرَبِّ الْبَيْتِ، الْمُسْتَأْنِسَ لِلْقِرَى يَسْتَأْنِسُ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَأْذِنُ، كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ النَّابِغَةِ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ حِينَ أَنْشَدَ أَبْيَاتَهُ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَصَمُّ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ الْقُبَّةْ وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ طَوَافُ الْقَادِمِينَ إِلَى مَكَّةَ بِالْكَعْبَةِ تَشَبُّهًا بالوافدين على الْمَمْلُوك، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ الطَّوَافُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَاسِكِ وَخُتِمَتْ بِالطَّوَافِ أَيْضًا، فَلَعَلَّ كَلِمَةَ طَائِفٍ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمُلِمِّ الْخَفِيِّ قَالَ الْأَعْشَى: وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ وَقَالَ تَعَالَى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ [الْقَلَم: 19] . وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: طائِفٌ، بِأَلْفٍ بَعْدِ الطَّاءِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَقِرَاءَةُ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ: (طَيْفٌ) بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الطَّاءِ وَبِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الطَّاءِ، وَالطَّيْفُ خَيَالٌ يَرَاكَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ شَائِعُ الذِّكْرِ فِي الشِّعْرِ. وَفِي كَلِمَةِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا مَعَ التَّعْبِيرِ بِفِعْلِ مَسَّهُمْ الدَّالِّ عَلَى إِصَابَةٍ غَيْرِ مَكِينَةٍ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَزَعَ إِلَى اللَّهِ

[سورة الأعراف (7) : آية 202]

مِنَ الشَّيْطَانِ، عِنْدَ ابْتِدَاءِ إِلْمَامِ الْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِالنَّفْسِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ إِذَا أُمْهِلَتْ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ تَصِيرَ عَزْمًا ثُمَّ عَمَلًا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّيْطانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ: أَيْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ وَالْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ جُنْدُهُ وَأَتْبَاعُهُ، هُوَ صَادِرٌ عَنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَالتَّذَكُّرُ اسْتِحْضَارُ الْمَعْلُومِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ: تَذَكَّرُوا أَوَامِرَ اللَّهِ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: 135] وَيَشْمَلُ التَّذَكُّرُ تَذَكُّرَ الِاسْتِعَاذَةِ لِمَنْ أُمِرَ بِهَا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، إِنْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَهُمْ، وَمِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَالِاقْتِدَاءُ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا يَعُمُّ سَائِرَ أَحْوَالِ التَّذَكُّرِ لِلْمَأْمُورَاتِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِبْصَارِ عَلَى التَّذَكُّرِ. وَأُكِّدَ مَعْنَى (فَاءِ) التَّعْقِيبِ بِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا دُفْعَةً بِدُونِ تَرَيُّثٍ، أَيْ تَذَكَّرُوا تَذَكُّرَ ذَوِي عَزْمٍ فَلَمْ تَتَرَيَّثْ نُفُوسُهُمْ أَنْ تَبَيَّنَ لَهَا الْحَقُّ الْوَازِعُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَابْتَعَدَتْ عَنْهَا، وَتَمَسَّكَتْ بِالْحَقِّ، وَعَمِلَتْ بِمَا تَذَكَّرَتْ، فَإِذَا هُمْ ثَابِتُونَ عَلَى هُدَاهُمْ وَتَقْوَاهُمْ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْإِبْصَارُ لِلِاهْتِدَاءِ كَمَا يُسْتَعَارُ ضِدُّهُ الْعَمَى لِلضَّلَالِ، أَيْ: فَإِذَا هُمْ مُهْتَدُونَ نَاجُونَ مِنْ تَضْلِيلِ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ إِضْلَالَهُمْ فَسَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ وَوَصَفَهُمْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ دُونَ الْفِعْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِبْصَارَ ثَابِتٌ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَلَيْسَ شَيْئًا مُتَجَدِّدًا، وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَام والثبات. [202] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 202] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا [الْأَعْرَاف: 201] عَطْفُ الضِّدِّ عَلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ الضِّدْيَةَ مُنَاسَبَةٌ يَحْسُنُ بِهَا عَطْفُ حَالِ الضِّدِّ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ شَأْنَ الْمُتَّقِينَ فِي دَفْعِهِمْ طَائِفَ الشَّيَاطِينِ، ذَكَرَ شَأْنَ أَضْدَادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ، كَمَا وَقَعَتْ جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [الْبَقَرَة: 6]

مِنْ جُمْلَةِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2، 3] . وَجَعَلَهَا الزَّجَّاجُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الْأَعْرَاف: 192] أَيْ وَيَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ، يُرِيدُ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُمْ بَلْ يَضُرُّونَهُمْ بِزِيَادَةِ الْغَيِّ. وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ عَلَى وَزْنِ فِعْلَانِ مِثْلُ جَمْعِ خَرَبٍ ووهو ذكر بِزِيَادَة الغي. والإخوان جمع أَخ على وزن فعلان مثل جمع خرب- وَهُوَ ذَكَرُ الْحُبَارَى- عَلَى خِرْبَانٍ. وَحَقِيقَةُ الْأَخِ الْمُشَارِكِ فِي بُنُوَّةِ الْأُمِّ وَالْأَبِ أَوْ فِي بُنُوَّةِ أَحَدِهِمَا وَيُطْلِقُ الْأَخُ مَجَازًا عَلَى الصَّدِيقِ الْوَدُودِ وَمِنْهُ مَا آخى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَوْلُ أبي بكر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ النَّبِيءُ مِنْهُ عَائِشَةَ «إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ- فَقَالَ لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتَ أَخِي وَهِيَ حَلَالٌ لِي» وَيُطْلَقُ الْأَخُ عَلَى الْقَرِينِ كَقَوْلِهِمْ أَخُو الْحَرْبِ، وَعَلَى التَّابِعِ الْمُلَازِمِ كَقَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ: أَخُوكُمْ وَمَوْلَى خَيْرِكُمْ وَحَلِيفُكُمْ ... وَمَنْ قَدْ ثَوَى فِيكُمْ وَعَاشَرَكُمْ دَهْرَا أَرَادَ أَنَّهُ عَبْدُهُمْ، وَعَلَى النَّسَبِ وَالْقُرْبِ كَقَوْلِهِمْ: أَخُو الْعَرَبِ وَأَخُو بَنِي فُلَانٍ. فَضَمِيرُ وَإِخْوانُهُمْ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ قَرِيبًا: لِأَنَّ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ، وَهُوَ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ مُتَعَلِّقًا بِضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُتَّقِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَتَطَلَّبَ السَّامِعُ لِضَمِيرِ وَإِخْوانُهُمْ مَعَادًا غَيْرَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكَلَامِ بِقُرْبِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً [الْأَعْرَاف: 190- 192] فَيَرُدُّ السَّامِعُ الضَّمِيرَ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ بِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ نَظِيرِهِ فِي أَصْلِ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الْأَعْرَاف: 192] ، أَيْ وَإِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ أَقَارِبُهُمْ وَمَنْ هُوَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ وَجَمَاعَةِ دِينِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمرَان: 156] أَيْ يَمُدُّ الْمُشْرِكُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْغَيِّ وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَيْهِ فَلَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنَ الْغَيِّ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ إِلَى الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ أَوِ الْأَتْبَاعِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَعْنَى وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ أَيْ أَتْبَاعُهُمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: 27] أَمَّا الضَّمِيرَانِ الْمَرْفُوعَانِ فِي قَوْلِهِ: يَمُدُّونَهُمْ وَقَوْلِهِ: لَا يُقْصِرُونَ فَهُمَا عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِخْوانُهُمْ أَيِ الشَّيَاطِينِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْمَعْنَى: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ، فَجُمْلَةُ يَمُدُّونَهُمْ خَبَرٌ عَنْ إِخْوانُهُمْ وَقَدْ جَرَى الْخَبَرُ عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ وَلَمْ يَبْرُزْ فِيهِ ضَمِيرُ مَنْ هُوَ لَهُ حَيْثُ كَانَ اللّبْس مَا مونا وَهَذَا كَقَوْلِ يَزِيدَ بْنِ مُنْقِذٍ: وَهُمْ إِذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِي كَوَاثِبِهَا ... فَوَارِسُ الْخَيْلِ لَا مِيلٌ وَلَا قَزَمُ فَجُمْلَةُ «جَالُوا» خَبَرٌ عَنِ الْخَيْلِ وَضَمِيرُ «جَالُوا» عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ «وهم» لَا على الْخَيْلِ. وَقَوْلُهُ فَوَارِسُ خَبَرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِخْوَانِ الْأَوْلِيَاءَ وَيَكُونَ الضَّمِيرَانِ لِلْمُشْرِكِينَ أَيْضًا، أَيْ وَإِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، فَيَكُونُ «الْإِخْوَانُ» صَادِقًا بِالشَّيَاطِينِ كَمَا فَسَّرَ قَتَادَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، كَانَ الشَّيَاطِينُ إِخْوَانًا لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْإِخْوَةِ تَقْتَضِي جَانِبَيْنِ، وَصَادِقًا بِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَالْخَبَرُ جَارٍ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي مُجْتَمِعَةً فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِسَبَبِ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يَمُدُّونَهُمْ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ- مِنَ الْإِمْدَادِ وَهُوَ تَقْوِيَةُ الشَّيْءِ بِالْمَدَدِ وَالنَّجْدَةِ كَقَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشُّعَرَاء: 133] ، وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ: يَمُدُّونَهُمْ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ- مِنْ مَدَّ الْحَبْلَ يَمُدُّهُ إِذَا طَوَّلَهُ، فَيُقَالُ: مَدَّ لَهُ إِذَا أَرْخَى لَهُ كَقَوْلِهِمْ: (مَدَّ اللَّهُ فِي عُمُرِكَ) وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ» «عَامَّةُ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ أَمْدَدْتُ عَلَى أفعلت كَقَوْلِه: أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطّور: 22] وأَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النَّمْل: 36] ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ يَجِيءُ عَلَى مَدَدْتُ قَالَ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَة: 15] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ فَتْحُ الْيَاءِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْقُرَّاءِ- وَالْوَجْهُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يُمِدُّونَهُمْ- أَيْ بِضَمِّ الْيَاءِ- أَنَّهُ مِثْلُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: 21] (أَيْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ فِي الْغَيِّ كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ بِعَذَابٍ) وَقَدْ

[سورة الأعراف (7) : آية 203]

عَلِمْتَ أَنَّ وُقُوعَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرَ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَقْتَضِي قَصْرَ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَا غَلَبَ إِطْلَاقُهُ فِيهِ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ يَمُدُّونَهُمْ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- تَقْتَضِي أَنْ يُعَدَّى فِعْلُ يَمُدُّونَهُمْ إِلَى الْمَفْعُولِ بِاللَّامِ، يُقَالُ مَدَّ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَالْغَيُّ الضَّلَالُ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْغَيِّ بِمَكَانِ الْمُحَارِبَةِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَ لَهُمْ فِي الْغَيِّ مِنْ مَدٍّ لِلْبَعِيرِ فِي الطُّولِ. أَيْ يُطِيلُونَ لَهُمُ الْحَبَلَ فِي الْغَيِّ، تَشْبِيهًا لِحَالِ أَهْلِ الْغِوَايَةِ وَازْدِيَادِهِمْ فِيهَا بِحَالِ النَّعَمِ الْمُطَالِ لَهَا الطُّولُ فِي الْمَرْعَى وَهُوَ الْغَيُّ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ فِي أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَهُوَ أَعْلَى أَحْوَالِ التَّمْثِيلِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُ طَرَفَةَ: لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخَطَأَ الْفَتَى ... لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثُنْيَاهُ بِالْيَدِ وَعَلَيْهِ جَرَى قَوْلُهُمْ: مَدَّ اللَّهُ لِفُلَانٍ فِي عُمُرِهِ، أَوْ فِي أَجَلِهِ، أَوْ فِي حَيَاتِهِ وَالْإِقْصَارُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْفِعْلِ مَعَ قُدْرَةِ الْمُمْسِكِ عَلَى أَنْ يَزِيدَ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ أَيْ وَأَعْظَمُ مِنَ الْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي الْغَيِّ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ جُهْدًا فِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْإِغْوَاءِ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ إِخْوَانَهُمْ أَكْبَرَ الْغَاوِينَ. [203] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي. مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَاف: 199] وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ مِنْ جَهَالَتِهِمْ وَالْآيَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا خَارِقُ الْعَادَةِ أَيْ هُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَيَسْأَلُونَ آيَاتٍ كَمَا يَشَاءُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ (فَجِّرْ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي شَرَحْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها

فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [109] . وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالْكَلْبِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بِآيَة ءاية مِنَ الْقُرْآنِ يَقْتَرِحُونَ فِيهَا مَدْحًا لَهُمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا تَأَخَّرَ الْوَحْيُ يَقُولُونَ لِلنَّبِيءِ هَلَّا أَتَيْتَ بِقُرْآنٍ مِنْ عِنْدِكَ يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ. ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ مِثْلَ (هَلَّا) . وَالِاجْتِبَاءُ الِاخْتِيَارُ، وَالْمَعْنَى: هَلَّا اخْتَرْتَ آيَةً وَسَأَلْتَ رَبَّكَ أَنْ يُعْطِيَكَهَا، أَيْ هَلَّا أَتَيْتَنَا بِمَا سَأَلْنَاكَ غَيْرَ آيَةِ الْقُرْآنِ فَيُجِيبَكَ اللَّهُ إِلَى مَا اجْتَبَيْتَ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَصْبُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي يَعْتَرِي أَهْلَ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ فِي فَهْمِ الْأَشْيَاءِ عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا وَبِحَسَبِ مَنْ يَتَخَيَّلُونَ لَهَا وَيَفْرِضُونَ. وَالْجَوَابُ الَّذِي أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاقْتِصَارِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحَدِّ، أَيْ لَا أَطْلُبُ آيَةً غَيْرَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّمَا أَنْتَظِرُ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَلَا أَسْتَعْجِلُ نُزُولَ الْقُرْآنِ إِذَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ مُتَعَلِّقًا بِالزَّمَانِ. هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ كَلَامٍ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْمَقُولِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَجْمُوعِ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ وَقَعَ التَّخَلُّصُ لِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا بَصائِرُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّورَةِ أَوْ مِنَ الْمُحَاجَّةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 204]

وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ مَا بِهِ اتِّضَاحُ الْحَقِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [104] ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَسْأَلُونَهَا، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ الْإِعْجَازِ وَصُدُورِهِ عَنِ الْأُمِّيِّ، وَبَيْنَ الْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَالْبَقَاءِ عَلَى الْعُصُورِ. وَإِنَّمَا جَمَعَ «الْبَصَائِرَ» لِأَنَّ الْقُرْآنِ أَنْوَاعًا مِنَ الْهُدَى عَلَى حَسَبِ النَّوَاحِي الَّتِي يَهْدِي إِلَيْهَا، مِنْ تَنْوِيرِ الْعَقْلِ فِي إِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ، وَتَسْدِيدِ الْفَهْمِ فِي الدِّينِ، وَوَضْعِ الْقَوَانِينِ لِلْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى طُرُقِ النَّجَاحِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مَهَاوِي الْخُسْرَانِ. وَأَفْرَدَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ عَامَّانِ يَشْمَلَانِ أَنْوَاعَ الْبَصَائِرِ فَالْهُدَى يُقَارِنُ الْبَصَائِرَ وَالرَّحْمَةُ غَايَةٌ لِلْبَصَائِرِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ مَا يَشْمَلُ رَحْمَةَ الدُّنْيَا وَهِيَ اسْتِقَامَةُ أَحْوَالِ الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَامُ الْمَدَنِيَّةِ وَرَحْمَةَ الْآخِرَةِ وَهِيَ الْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكُمْ تَرْغِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَخْوِيفٌ لِلْكَافِرِينَ. ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يتنازعه (بصائر) و (هدى) و (رَحْمَة) لِأَنَّهُ إِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى هَذَا بَصَائِرُ لَكُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَاصَّةً إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَأَنَّهُمْ لَهَوْا عَنْ هَدْيِهِ بِطَلَبِ خوارق الْعَادَات. [204] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 204] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) يُؤْذِنُ الْعَطْفُ بِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمِعُوا- وأَنْصِتُوا وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَابِعٌ لِلْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: 203] إِلَخْ، فَقَوْلُهُ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَذَلِكَ إِعَادَةُ تَذْكِيرٍ لِلْمُشْرِكِينَ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا بِأَنْ لَا يُعْرِضُوا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِأَنْ يَتَأَمَّلُوهُ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَنَّهُ بَصَائِرُ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، لِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يُعَانِدُ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاهَوْنَ عَنِ الْإِنْصَاتِ إِلَى الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .

وَذِكْرُ اسْمِ الْقُرْآنِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِوَاسِطَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ: التَّنْوِيهُ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَجَعَلَ جُمْلَتَهُ مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ غَيْرَ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ وَمِنْ دَوَاعِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ اسْتَقْرَيْتُهُ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. وَالِاسْتِمَاعُ الْإِصْغَاءُ وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْإِنْصَاتُ الِاسْتِمَاعُ مَعَ تَرْكِ الْكَلَامِ فَهَذَا مُؤَكَّدُ (لَا تَسْمَعُوا) . مَعَ زِيَادَةِ مَعْنًى. وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمَاعُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الِامْتِثَالُ لِلْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا [الْأَعْرَاف: 198] وَيَكُونُ الْإِنْصَاتُ جَامِعًا لِمَعْنَى الْإِصْغَاءِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ. وَهَذَا الْخِطَابُ شَامِلٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى وَجْهِ التَّبْلِيغِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِرْشَادِ لِأَنَّهُمْ أَرْجَى لِلِانْتِفَاعِ بِهَدْيِهِ لِأَنَّ قَبْلَهُ قَوْلَهُ: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: 203] . وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَعَلَى مُنَاسَبَتِهَا، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعًا، أَمْ أُرِيدَ الْمُسْلِمُونَ تَصْرِيحًا وَالْمُشْرِكُونَ تَعْرِيضًا، أَمْ أُرِيدَ الْمُشْرِكُونَ لِلِاهْتِدَاءِ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْأَحْرَى لِزِيَادَتِهِ. فَالِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ الْمَأْمُورُ بِهِمَا هُمَا الْمُؤَدِّيَانِ بِالسَّامِعِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَقْضِيِّ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، فَالْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ مَقْصُودٌ بِهِ التَّبْلِيغُ وَاسْتِدْعَاءُ النَّظَرِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، فَالِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ مَرَاتِبُ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ الْمُسْتَمِعِينَ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَفِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، يُبَيِّنُ بَعْضَ إِجْمَالِهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا يُفَسِّرُ سَبَبَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] ، وَيُحَالُ بَيَانُ مُجْمَلِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ بِمُجَرَّدِهِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مُؤَوَّلٌ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ

يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِذَا سَمِعَ أَحَدًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَيُنْصِتَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِمَحْضَرِ صَانِعٍ فِي صَنْعَتِهِ فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِمَاعُ لَأُمِرَ بِتَرْكِ عَمَلِهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَحْمَلِ تَأْوِيلِهَا: فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهَا بِسَبَبٍ رَأَوْا أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِهَا، فَرَوَوْا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ صَلَّى وَرَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً جَهْرِيَّةً فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاة والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْرِ النَّاسِ بِالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَهَؤُلَاءِ قَصَرُوا أَمْرَ الِاسْتِمَاعِ عَلَى قِرَاءَةٍ خَاصَّةٍ دَلَّ عَلَيْهَا سَبَبُ النُّزُولِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَحْوٍ يَقْرُبُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِ بِخُصُوصِ سَبَبِهِ، عِنْدَ مَنْ يُخَصِّصُ بِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ نظم الْآيَة الَّتِي مَعَهَا، وَمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ وَتَأْوِيلٌ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَأْثُورٌ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَى أَمْرَ الِاسْتِمَاعِ عَلَى إِطْلَاقِهِ الْقَرِيبِ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَكِنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى أَمْرِ النَّدْبِ، وَهَذَا الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ قَالُوا الْمُرَادُ من قَوْله قرىء قِرَاءَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّاسِ لِعِلْمِ مَا فِيهِ وَالْعَمَلِ بِهِ لِلْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، لَكَانَ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ سَعِيدِ (بْنِ الْمُسَيِّبِ) : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِخْبَارِ فِي مَحْمَلِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتِلْكَ الْحَوَادِثُ حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ. أَمَّا اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَرْكِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسِرًّا بِالْقِرَاءَةِ، فَالْآيَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ التَّرْكِ مَعْنَى الْإِنْصَاتِ. وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَى أَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لِأَنَّ الَّذِي فِيهَا فعلان هما (قرىء) (وَاسْتَمعُوا) وَالْفِعْلُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ. وَمَعْنَى الشَّرْطِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (إِذَا) يَقْتَضِي إِلَّا عُمُومَ الْأَحْوَالِ أَوِ الْأَزْمَانِ دُونَ

[سورة الأعراف (7) : آية 205]

الْقِرَاءَاتِ وَعُمُومُ الْأَزْمَانِ أَوِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ كَمَا هُوَ بَين. [205] [سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 205] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِقْبَالٌ بِالْخِطَابِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ، بَعْدَ أَنْ أُمِرَ بِمَا أُمِرُ بِتَبْلِيغِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ بِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ يَسْتَلْزِمُ أَمْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةً جَهْرِيَّةً يَسْمَعُونَهَا، فَلَمَّا فَرَغَ الْكَلَامُ مِنْ حَظِّ النَّاسِ نَحْوَ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ فِي حَظّ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ التَّذَكُّرُ الْخَاصُّ بِهِ، فَأُمِرَ بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَكَيْفَمَا تَسَنَّى لَهُ، وَفِي أَوْقَاتِ النَّهَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَجُمْلَةُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ [الْأَعْرَاف: 196] إِلَى هُنَا. وَالنَّفْسُ اسْمٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ، فَهِيَ مُرَادِفَةُ الرُّوحِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَلِكَوْنِ مَقَرِّ النَّفْسِ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ أُطْلِقَتْ عَلَى أُمُورِ بَاطِنِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: 116] وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يَتَطَرَّقُ إِلَى إِطْلَاقِهَا عَلَى خُوَيْصَّةِ الْمَرْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» فَقَابَلَ قَوْلَهُ: فِي نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: فِي مَلَأٍ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ رَبَّكَ وَأَنْتَ فِي خَلْوَتِكَ كَمَا تَذْكُرُهُ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ. وَالذِّكْرُ حَقِيقَةٌ فِي ذِكْرِ اللِّسَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ يَشْمَلُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَشُكْرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِثْلُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْحَوْقَلَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَ «التَّضَرُّعُ» التَّذَلُّلُ- وَلَمَّا كَانَ التَّذَلُّلُ يَسْتَلْزِمُ الْخِطَابَ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ فِي عَادَةِ الْعَرَبِ كَنَّى بِالتَّضَرُّعِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ وَالْكِنَائِيُّ،

وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْخُفْيَةِ فِي قَوْلِهِ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ [55] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقُوبِلَ التَّضَرُّعُ هُنَا بِالْخِيفَةِ وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَوْفِ، فَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى صِيغَةِ الْهَيْئَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْهَيْئَةَ، مِثْلَ الشِّدَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْخِيفَةُ انْفِعَالًا نَفْسِيًّا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِلتَّخَافُتِ بِالْكَلَامِ خَشْيَةَ أَنْ يَشْعُرَ بِالْمَرْءِ مَنْ يَخَافُهُ. فَلِذَلِكَ كُنِّيَ بِهَا هُنَا عَنِ الْإِسْرَارِ بِالْقَوْلِ مَعَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، فَمُقَابَلَتُهَا بِالتَّضَرُّعِ طِبَاقٌ فِي مَعْنَيَيِ اللَّفْظَيْنِ الصَّرِيحَيْنِ وَمَعْنَيَيْهِمَا الْكِنَاءَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ تَضَرُّعًا وَإِعْلَانًا وَخِيفَةً وَإِسْرَارًا. وَقَوْلُهُ: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ مُقَابِلٌ لِكُلٍّ مِنَ التَّضَرُّعِ وَالْخِيفَةِ وَهُوَ الذِّكْرُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِيعَابُ أَحْوَالِ الذَّكَرِ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ بَعْضَهَا قَدْ تَكُونُ النَّفْسُ أَنْشَطَ إِلَيْهِ مِنْهَا إِلَى الْبَعْض الآخر. و (الغدو) اسْمٌ لِزَمَنِ الصَّبَاحِ وَهُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ من النَّهَار. و (الآصال) جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ وَهُوَ النِّصْفُ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَالْمَقْصُودُ اسْتِيعَابُ أَجْزَاءِ النَّهَارِ بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ، فَأَمَّا اللَّيْلُ فَهُوَ زَمَنُ النَّوْمِ، وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي تَحْصُلُ فِيهَا الْيَقَظَةُ خُصَّتْ بِأَمْرٍ خَاصٍّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] عَلَى أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. فَدَلَّ قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذكر الله ولاحد لِلْغَفْلَةِ، فَإِنَّهَا تُحَدَّدُ بِحَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ. فَإِنَّ لَهُ أَوْقَاتًا يَتَلَقَّى فِيهَا الْوَحْي وأوقات شؤون جِبِلِّيَّةٍ كَالطَّعَامِ. وَهَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكُلُّ مَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْوُجُوبِ يُسْتَحْسَنُ لِلْأُمَّةِ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فِيهِ إِلَّا مَا نُهُوا عَنْهُ مِثْلَ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَحْوَ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ أَشَدُّ فِي الِانْتِفَاءِ وَفِي النَّهْيِ مِنْ نَحْوِ: وَلَا تَغْفُلْ، لِأَنَّهُ يَفْرِضُ جَمَاعَةً يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الْغَافِلِينَ فَيُحَذَّرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زُمْرَتِهِمْ وَذَلِكَ أَبْيَنُ لِلْحَالَةِ الْمنْهِي عَنْهَا.

[سورة الأعراف (7) : آية 206]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) تَتَنَزَّلُ مُنْزِلَةَ الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِالذِّكْرِ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ بِ إِنَّ الَّتِي هِيَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، لَا لِرَدِّ تَرَدُّدٍ أَوْ إِنْكَارٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَحَرْفُ التَّوْكِيدِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَيُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْمَعْنَى: الْحَثُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي مُخْتَلَفِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِأَهْلِ الْكَمَالِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَنَّهُمْ مُنْحَطُّونَ عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ الْمَلَائِكَةُ، وَوَجْهُ جَعْلِ حَالِ الْمَلَائِكَةِ عِلَّةً لأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ: أَنَّ مَرْتَبَةَ الرِّسَالَةِ تُلْحِقُ صَاحِبَهَا مِنَ الْبَشَرِ بِرُتْبَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَهَذَا التَّعْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: اذْكُرْ رَبَّكَ لِأَنَّ الذِّكْرَ هُوَ شَأْنُ قَبِيلِكَ، كَقَوْلِ ابْنِ دَارَةَ سَالِمِ بْنِ مُسَافِعٍ: فَإِنْ تَتَّقُوا شَرًّا فَمِثْلُكُمُ اتَّقَى ... وَإِنْ تَفْعَلُوا خَيْرًا فَمِثْلُكُمُ فَعَلْ فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلَ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمَلَائِكَةُ أَسْبَقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِكَوْنِهِ حَاصِلًا مِنْهُمْ بِالْجِبِلَّةِ فَهُمْ مُثُلٌ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مَجْبُولِينَ عَلَى مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، إِذَا تَخَلَّقُوا بِمِثْلِ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ، كَانَ سُمُوُّهُمْ إِلَى تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ أَعْجَبَ، وَاسْتِحْقَاقُهُمُ الشُّكْرَ وَالْفَضْلَ لَهُ أَجْدَرَ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ: مَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِمْ، فَيَتَذَرَّعُ بِذَلِكَ إِلَى إِيجَادِ الْمُنَافِسَةِ فِي التَّخَلُّقِ بِأَحْوَالِهِمْ. وعِنْدَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي رِفْعَةِ الْمِقْدَارِ، وَالْحُظْوَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ التَّنْوِيهَ بِهِمْ يَكُونُ بِأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُمْ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَخَلِيقٌ بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مَنَازِلِ

الرِّفْعَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَيُسَبِّحُونَهُ أَيْ يُنَزِّهُونَهُ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَهَذِهِ الصِّلَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالذِّكْرِ. وَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّجْدِيدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، أَوْ كَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَيْ وَلَا يَسْجُدُونَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِغَيْرِهِ، وَالْمُضَارِعُ يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ أَيْضًا. وَهُنَا مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَوَّلُهَا فِي تَرْتِيبِ الصُّحُفِ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى السُّجُودِ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَمُقْتَضَى السَّجْدَةِ هُنَا أَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ لِلْحَضِّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْمَلَائِكَةِ فِي الذِّكْرِ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْ عَنْ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، أَرَادَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ تَحْقِيقًا للمقصد الَّذِي سبق هَذَا الْخَبَرُ لِأَجْلِهِ. وَأَيْضًا جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ ذِكْرُ اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَأْتِيهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ كَمَا يَقْتَرِحُونَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الْأَعْرَاف: 203] وَبِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، شَرَعَ اللَّهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ سُجُودًا لِيَظْهَرَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَجُحُودُ الْكَافِرِينَ بِهِ حِينَ سَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُمْسِكُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ أَوِ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْمُرْسَلِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَجْدَةِ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] فَدَاوُدُ مِمَّنْ أَمر مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ.

8- سورة الأنفال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 8- سُورَةُ الْأَنْفَالِ عُرِفَتْ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ عَهْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اذْهَبِ الْقَبَضَ (بِفَتْحَتَيْنِ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ الْغَنَائِمُ) فَرَجَعْتُ فِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، قُتِلَ أَخِي وَأُخِذَ سَلَبِي فَمَا جَاوَزْتُ قَرِيبًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ سُورَةُ الْأَنْفَالِ» قَالَ «نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ» فَبِاسْمِ الْأَنْفَالِ عُرِفَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِهِ كُتِبَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ حِينَ كُتِبَتْ أَسْمَاءُ السُّوَرِ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَسْمِيَتِهَا حَدِيثٌ، وَتَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ مِنْ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِآيَةٍ فِيهَا اسْمُ الْأَنْفَالِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْأَنْفَالِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ بَدْرٍ» فَفِي «الْإِتْقَانِ» أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ «سُورَةُ الْأَنْفَالِ» قَالَ «تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ» . وَقَدِ اتَّفَقَ رِجَالُ الْأَثَرِ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أُنْزِلَتْ فِي أَمْرِ بَدْرٍ سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِأَسْرِهَا، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ عَامٍ وَنِصْفٍ مِنْ يَوْمِ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا قَبْلَ الِانْصِرَافِ مِنْ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْهَا نَزَلَتْ وَالْمُسْلِمُونَ فِي بَدْرٍ قَبْلَ قِسْمَةِ مَغَانِمِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا اسْتَمَرَّ نُزُولُهَا إِلَى مَا بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ بَدْرٍ. وَفِي كَلَامِ أَهْلِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ آيَةَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً - إِلَى- مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال: 66] نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ آيَاتِ يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ- إِلَى- لَا يَفْقَهُونَ [الْأَنْفَال: 64، 65] نَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قِيلَ هِيَ الثَّانِيَةُ نُزُولًا بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتِ الْبَقَرَةُ ثُمَّ آلُ عِمْرَانَ ثُمَّ الْأَنْفَالُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا ثَانِيَةُ السُّوَرِ بِالْمَدِينَةِ نُزُولًا بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ نُزُولَ سُورَةٍ بَعْدَ أُخْرَى لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ التَّالِيَةَ تَنْزِلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ نُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ قَدْ يُبْتَدَأُ نُزُولُ سُورَةٍ قَبْلَ انْتِهَاءِ السُّورَةِ الَّتِي ابْتُدِئَ نُزُولُهَا قَبْلُ، وَلَعَلَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ قَدِ انْتَهَتْ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ أَحْكَامُ الْمَغَانِمِ وَالْقِتَالِ، وَتَفَنَّنَتْ أَحْكَامُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَفَانِينَ كَثِيرَةً: مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ الْبَقَرَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِهَا بِقَلِيلٍ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَبَعْدَ نُزُولِ آلِ عِمْرَانَ بِقَلِيلٍ نَزَلَتِ الْأَنْفَالُ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ نُزُولِ الْأَنْفَالِ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُزُولِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [33] قَالَتْ فِرْقَةٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ قَالَ ابْنُ أَبْزَى نَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلِهِمْ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: 33] عِنْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 34] بَعْدَ بَدْرٍ. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ التَّاسِعَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَعَدَدُ آيِهَا، فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَأَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ: سِتٌّ وَسَبْعُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ. وَنُزُولُهَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَهْلِ بَدْرٍ فِي غَنَائِمِ يَوْمِ بَدْرٍ وَأَنْفَالِهِ، وَقِيلَ: بِسَبَبِ مَا سَأَلَهُ بَعْضُ الْغُزَاةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْأَنْفَالِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِ أَوَّلِ آيَةٍ مِنْهَا.

أغراض هذه السورة

أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ ابْتَدَأَتْ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ الْغَنَائِمُ وَقِسْمَتُهَا وَمَصَارِفُهَا. وَالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ. وَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فِي أَمْرِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا. وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ مَعْنَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ. وَذِكْرِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ وَبِخَوْفِهِمْ مِنْ قُوَّةِ عَدَدِهِمْ وَمَا لَقُوا فِيهَا مِنْ نَصْرٍ وَتَأْيِيدٍ مِنَ اللَّهِ وَلُطْفِهِ بِهِمْ. وَامْتِنَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعْلَهُمْ أَقْوِيَاءَ. وَوَعدهمْ بالنصر والهواية إِنِ اتَّقَوْا بِالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ، وَالصَّبْرِ. وَالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ. وَالْأَمْرِ بِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّنَازُعِ. وَالْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ قَصْدُ النُّصْرَةِ لِلدِّينِ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. وَوَصْفِ السَّبَبِ الَّذِي أَخْرَجَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَدْرٍ. وَذِكْرِ مَوَاقِعِ الْجَيْشَيْنِ، وَصِفَاتِ مَا جَرَى مِنَ الْقِتَالِ. وَتَذْكِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ مَكْرِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ بِمَكَّةَ وَخَلَّصَهُ مِنْ عِنَادِهِمْ، وَأَنَّ مَقَامَهُ بِمَكَّةَ كَانَ أَمَانًا لِأَهْلِهَا فَلَمَّا فَارَقَهُمْ فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا بِمَا اقْتَرَفُوا مِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلِانْتِهَاءِ عَنْ مُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ وَإِيذَانِهِمْ بِالْقِتَالِ. وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي عَانَدَتْ رُسُلَ اللَّهِ وَلَمْ يشكروا نعْمَة لله. وَأَحْكَامِ الْعَهْدِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَقْضِهِمُ الْعَهْدَ، وَمَتَى يَحْسُنُ السِّلْمُ. وَأَحْكَامِ الْأَسْرَى. وَأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَوِلَايَتِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ

[سورة الأنفال (8) : آية 1]

[1] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) افْتِتَاحُ السُّورَة ب يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْلَمُوا مَاذَا يَكُونُ فِي شَأْنِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمُ الْأَنْفالِ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَّهُمْ حَاوَرُوا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِصَرِيحِ السُّؤَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَاصِمُ أَوْ يُجَادِلُ غَيْرَهُ بِمَا يُؤْذِنُ حَالُهُ بِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ فَهْمًا فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتِ الْحَوَادِثُ يَوْمَئِذٍ: فَفِي «صَحِيح مُسلم» ، و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ- أَصَبْتُ سَيْفًا لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ نَفِّلْنِيهِ، فَقَالَ: ضَعْهُ (فِي الْقَبَضِ) ، ثُمَّ قُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ ضَعْهُ حَيْثُ أَخَذْتَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ: ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذته، فَنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ، و «سيرة ابْنِ إِسْحَاقَ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ يَوْمَ بَدْرٍ فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا حِينَ سَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا فَرَدَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَقَسَمَهُ بَيْنَنَا عَلَى بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ذَهَبَ الشُّبَّانُ لِلْقِتَالِ وَجَلَسَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ فَلَمَّا كَانَتِ الْغَنِيمَةُ جَاءَ الشُّبَّانُ يَطْلُبُونَ نَفَلَهُمْ فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا تَحْتَ الرَّايَاتِ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ لَكُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، وَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. وَالسُّؤَالُ حَقِيقَتُهُ الطَّلَبُ، فَإِذا عدّي ب (عَن) فَهُوَ طَلَبُ معرفَة الْمَجْرُور ب (عَن) وَإِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ طَلَبُ إِعْطَاءِ الشَّيْءِ، فَالْمَعْنَى، هُنَا: يَسْأَلُونَكَ مَعْرِفَةَ الْأَنْفَالِ، أَيْ مَعْرِفَةَ حَقِّهَا فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِاسْمِ ذَاتٍ، وَالْمُرَادُ حَالُهَا بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حُكْمِهَا صَرَاحَةً وَضِمْنًا فِي ضِمْنِ سُؤَالِهِمُ الْأَثَرَةَ بِبَعْضِهَا. وَمَجِيءُ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دَالٌّ عَلَى تَكَرُّرِ السُّؤَالِ، إِمَّا بِإِعَادَتِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى مِنْ سَائِلَيْنِ مُتَعَدِّدَيْنِ، وَإِمَّا بِكَثْرَةِ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ الْمُحَاوَرَةِ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْله يَسْئَلُونَكَ موذنا بتنازع بَين الْجَيْش فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ عَوَائِدُ مُتَّبَعَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْغَنَائِمِ وَالْأَنْفَالِ أَرَادُوا الْعَمَلَ بِهَا وَتَخَالَفُوا فِي شَأْنِهَا فَسَأَلُوا،

وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ السَّامِعِينَ حِينَ نزُول الْآيَة. و (الْأَنْفَال) جَمْعُ نَفَلَ- بِالتَّحْرِيكِ- وَالنَّفَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّافِلَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَطَاءِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْعَرَبُ فِي الْقَدِيمِ الْأَنْفَالَ عَلَى الْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَرْبِ هُوَ إِبَادَةُ الْأَعْدَاءِ، وَلِذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ صَنَادِيدُهُمْ يَأْبَوْنَ أَخْذَ الْغَنَائِمِ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: يُخْبِرُكِ مَنْ شَهِدَ الْوَقِيعَةَ أَنَّنِي ... أَغْشَى الْوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَإِطْلَاقُ الْأَنْفَالِ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ مَشْهُورٌ قَالَ عَنْتَرَةُ: إِنَّا إِذا احمرا الْوَغَى نَرْوِي الْقَنَا ... وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ وَقَدْ قَالَ فِي الْقَصِيدَةِ الْأُخْرَى: وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ فَعَلَّمَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْأَنْفَالِ الْمَغَانِمَ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ الْأَسَدِيُّ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ: نَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ثُمَّ جِئْتُمُو ... تَرْجُونَ أَنْفَالَ الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ وَيَقُولُونَ نَفَّلَنِي كَذَا يُرِيدُونَ أَغْنَمَنِي، حَتَّى صَارَ النَّفَلُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُعْطَاهُ الْمُقَاتِلُ مِنَ الْمَغْنَمِ زِيَادَةً عَلَى قِسْطِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ لِمَزِيَّةٍ لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَالْغَنَاءِ أَوْ عَلَى مَا يَعْثُرُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَتِيلِهِ، وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْمَغَانِمِ. فَالْمَغَانِمُ، إِذَنْ، تَنْقَسِمُ إِلَى: مَا قَصَدَ الْمُقَاتِلُ أَخْذَهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ مِثْلَ نَعَمِهِمْ، وَمِثْلَ مَا عَلَى الْقَتْلَى مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاتِلِ، وَفِيمَا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُقَاتِلُونَ مِمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِثْلَ لِبَاسِ قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَاحْتَمَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَغَانِمِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَا يُزَادُ لِلْمُقَاتِلِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ سُؤَالًا عَنْ تَنْفِيلٍ بِمَعْنَى زِيَادَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَكَى وُقُوعَ اخْتِلَافٍ فِي قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشَارِكَةَ فِي الْمَغْنَمِ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ تَنْفِيلٍ، فَيَبْقَى النَّفَلُ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَلِأَجْلِ التَّوَسُّعِ فِي أَلْفَاظِ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ تَرَدَّدَ السَّلَفُ فِي الْمَعْنِيِّ مِنَ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ «الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالدِّرْعُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ» وَغَيْرِهِ. وَقَدْ أَطْلَقُوا النَّفَلَ أَيْضًا عَلَى مَا صَارَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِدُونِ انْتِزَاعٍ وَلَا افْتِكَاكٍ كَمَا يُوجَدُ الشَّيْءُ لَا يَعْرَفُ مَنْ

غَنِمَهُ، وَكَمَا يُوجَدُ الْقَتِيلُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَيَدْخُلُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْتَ جِنْسِ الْفَيْءِ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [6، 7] بِقَوْلِهِ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ- إِلَى قَوْلِهِ- بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَذَلِكَ مِثْلُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي سَلَّمُوهَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَفَرُّوا. وَبِهَذَا تَتَحَصَّلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْمَغْنَمُ، وَالْفَيْءُ، وَهُمَا نَوْعَانِ، وَالنَّفَلُ. وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمَةِ وَكَانَتْ مُتَدَاخِلَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْغَزْوِ فِي الْمُسْلِمِينَ خُصَّ كُلُّ اسْمٍ بِصِنْفٍ خَاصٍّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ، وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ أَيْ تَخْصِيصُ اسْمِ الْغَنِيمَةِ بِمَالِ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَلَكِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ فَسَمَّى الْوَاصِلَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِاسْمَيْنِ (أَيْ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) غَنِيمَةً وَفَيْئًا يَعْنِي وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ مَقْسُومِ الْغَنِيمَةِ لَا لِنَوْعٍ مِنَ الْمَغْنَمِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّفَلَ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِمَنْ يَرَى إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ، مِمَّنْ لَمْ يَغْنَمْ ذَلِكَ بِقِتَالٍ. فَالْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمَغْنَمِ. فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ يَصْرِفُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُعْطِيهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْبَطَلِ، أَوْ لِخَصْلَةٍ عَظِيمَةٍ يَأْتِي بِهَا، أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ. فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَقَدْ جَعَلَهَا الْقُرْآنُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ أَوْ لِمَا يَرَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» «وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَا بَلَغَنَا عَنِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ» (يَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَرَادَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِيَوْمِ حُنَيْنٍ) . فَالْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 41] فَيَكُونُ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا إِذْ لَا تَدَاخُلَ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْغَنَائِمُ مُطْلَقًا. وَجَعَلُوا حُكْمَهَا هُنَا أَنَّهَا جُعِلَتْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ أَيْ أَنْ يُقَسِّمَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، بِلَا تَحْدِيدٍ وَلَا اطِّرَادٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِبَدْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ إِذْ كَانَ قَدْ عَيَّنَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْجَيْشِ، فَجَعَلَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْخُمُسَ، وَجعل أَرْبَعَة الْأَخْمَاس حَقًّا لِلْمُجَاهِدِينَ. يَعْنِي وَبَقِيَ حُكْمُ الْفَيْءِ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَلَا نَاسِخٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ عَلَى الِاجْتِهَادِ مِنَ الْإِمَامِ وَقَالَ مَالِكٌ: «إِعْطَاء السَّلَبِ مِنَ التَّنْفِيلِ» ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَنْفَالُ هِيَ خُمُسُ الْمَغَانِمِ وَهُوَ الْمَجْعُولُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْأَنْفَالِ: لَامُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ النَّفَلَ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حَقِّ الْغُزَاةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهُ، فَيُقَالُ هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَيُعْطِيهِ الرَّسُولُ لِمَنْ شَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي «التِّرْمِذِيِّ» إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْف- معنى السَّيْفَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ- وَلَمْ يَكُنْ لِي وَقَدْ صَارَ لِي فَهُوَ لَكَ» . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَغَانِمِ، فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ: الْأَنْفَالُ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ حُكْمُهَا وَصَرْفُهَا، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ (إِلَى) . تَقُولُ: هَذَا لَكَ أَيْ: إِلَى حُكْمِكَ مَرْدُودٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَ ذَلِكَ الْقَوْلِ رَأَوْا أَنَّ الْمَغَانِمَ لَمْ تَكُنْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُخَمَّسَةً بَلْ كَانَتْ تُقْسَمُ بِاجْتِهَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خُمِّسَتْ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ. وَعُطِفَ «وَلِلرَّسُولِ» عَلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: الْأَنْفَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُهَا فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ حَقًّا لِلْغُزَاةِ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَنْ يُعَيِّنُهُ اللَّهُ بِوَحْيِهِ فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِفَائِدَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْأَنْفَالِ بِإِذن الله توقيفا أَوْ تَفْوِيضًا. وَالثَّانِيَةُ: لِتَشْمَلَ الْآيَةُ تَصَرُّفَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ فِي غَيْبَةِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ كَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِخُلَفَائِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ يُعْذَرُونَ عَلَيْهِ لِسِعَةِ الْإِطْلَاقِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْحَاصِلَةِ لِلْغُزَاةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: النَّفَلُ إِعْطَاءُ بَعْضِ الْجَيْشِ أَوْ جَمِيعِهِ زِيَادَةً عَلَى قِسْمَةِ أَخْمَاسِهِمُ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خُمُسِ الْمَغْنَمِ الْمَجْعُولِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ وَأُمَرَائِهِ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ فَلَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ الْمَجْعُولِ لِاجْتِهَادِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَعِلَّةُ ذَلِكَ تَجَنُّبُ إِعْطَاءِ حَقِّ أَحَدٍ لِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَادِ الْإِحَنِ فِي نُفُوسِ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَبْعَثُ الْجَيْشَ عَلَى عِصْيَانِ الْأَمِيرِ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي تَنْفِيلِ بَعْضِ الْجَيْشٍ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ، لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ وَجَعَلَ مَا صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» خُصُوصِيَّةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ لِمَنْ سِوَاهُ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْجَوْرِ وَبِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَعَلَاهُ فِي فُتُوحِهِمَا. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ: فِي أَنَّ النَّفَلَ هَلْ يَبْلُغُ جَمِيعَ الْخُمُسِ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَقَالَ مَالِكٌ مِنَ الْخُمُسِ كُلِّهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: النَّفَلُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ خُمُسَ الْمَغْنَمِ أَهْوَ مُقَسَّمٌ عَلَى مَنْ سَمَّاهُ الْقُرْآنُ أَمْ مُخْتَلِطٌ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي «الْمُوَطَّأ» أَنهم غَزْو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَأُعْطِيَ النَّفَلُ جَمِيعَ أَهْلِ الْجَيْشِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ التَّنْفِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ وَهَؤُلَاءِ يُخَصِّصُونَ عُمُومَ آيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الْأَنْفَال: 41] بِآيَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَالْمَغَانِمُ الْمُخَمَّسَةُ مَا كَانَ دُونَ النَّفَلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ وَأَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ وَأَوْفَقُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُبْسَطُ فِي الْفِقْهِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمُفَسِّرِ إِلَّا الْإِلْمَامُ بِمَعَاقِدِهَا مِنَ الْآيَةِ. وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى جُمْلَةِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ

رَفْعًا لِلنِّزَاعِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، أَوْ فِي طَلَبِ التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ بِأَنَّ أَمْرَ قِسْمَتِهَا مَوْكُولٌ لِلَّهِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِتِلْكَ الْأَنْفَالِ مِمَّنْ أُعْطِيَهَا، تَبَعًا لِعَوَائِدِهِمُ السَّالِفَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ قَدْ وَجَبَ الرِّضَى بِمَا يُقَسِّمُهُ الرَّسُولُ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمَقُولِ. وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهَا جَامِعُ الطَّاعَاتِ. وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا وَاشْتَجَرُوا فِي شَأْنِهَا كَمَا قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: «اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقَنَا» فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّصَافُحِ، وَخَتَمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيِ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاء: 65] . وَالْإِصْلَاحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ، فَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ فَسَادُ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ. وذاتَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنَّثُ (ذُو) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَتَكُونُ أَلِفُهَا مُبْدَلَةً مِنَ الْوَاوِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ مُضَافًا إِلَى الْجِهَاتِ وَإِلَى الْأَزْمَانِ وَإِلَى غَيْرِهِمَا، يُجْرُونَهُ مَجْرَى الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [18] ، عَلَى تَأْوِيلِ جِهَةٍ، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَلَقِيتُهُ ذَاتَ صَبَاحٍ، عَلَى تَأْوِيلِ الْمُقَدَّرِ سَاعَةَ أَوْ وَقْتَ، وَجَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مُلَازَمَتِهَا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (ذَاتَ) أَصْلِيَّةُ الْأَلْفِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا أَعْرِفُ ذَاتَ فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَذَا فَسَّرَهَا الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ: وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَتَكُونُ كَلِمَةً مُقْحَمَةً لِتَحْقِيقِ الْحَقِيقَةِ، جُعِلَتْ مُقَدَّمَةً، وَحَقُّهَا التَّأْخِيرُ لِأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: جَاءَنِي بِذَاتِهِ، وَمِنْهُ يَقُولُونَ: ذَاتُ الْيَمِينِ وَذَات الشمَال، قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. فَالْمَعْنَى: أَصْلِحُوا بَيْنَكُمْ، وَلِذَا فَ (ذَاتَ) مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى أَنَّ (بَيْنَ) فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ فَخَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَجعل اسْما منتصرفا، كَمَا قُرِئَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 94] بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ. فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ (ذَاتَ) فَصَارَ الْمَعْنَى: أَصْلِحُوا حَقِيقَةَ بَيْنِكِمْ

[سورة الأنفال (8) : آية 2]

أَيِ اجْعَلُوا الْأَمْرَ الَّذِي يَجْمَعُكُمْ صَالِحًا غَيْرَ فَاسِدٍ، وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يُنَزَّلَ فِعْلُ أَصْلِحُوا مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ قَصْدًا لِلْأَمْرِ بِإِيجَادِ الصَّلَاحِ لَا بِإِصْلَاحِ شَيْءٍ فَاسِدٍ، وَتُنْصَبُ ذَاتَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْجِدُوا الصَّلَاحَ بَيْنَكُمْ، كَمَا قَرَأْنَا لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 94] بِنَصْبِ بَيْنَكُمْ أَيْ لَقَدْ وَقَعَ التَّقْطِيعُ بَيْنَكُمْ. وَاعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْتِعْمَالِ (ذَاتِ بَيْنِ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمَلُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا وَقَعَ عقب تِلْكَ الْحمل كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَمَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْإِنْشَائِيَّةِ: إِنَّا أَمَرْنَاكُمْ بِمَا ذُكِرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا لَا نَأْمُرُ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِلْهَابٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَلَا تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا يَسْمَحُ بِمِثْلِهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَلَيْسَ الْإِتْيَانُ فِي الشَّرْط بِأَن تَعْرِيضًا بِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَلَا بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَأْنَ (إِن) عدم الجرم بِوُقُوعِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِذَا) عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعَانِي، وَلَكِنَّ اجْتِلَابَ (إِنْ) فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى إِظْهَارِ الْخِصَالِ الَّتِي يَتَطَلَّبُهَا الْإِيمَانُ وَهِيَ: التَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِخِصَالِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَالرِّضَى بِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَالْمَقْصُودُ التَّحْرِيضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ فِي أَحْسَنِ صُوَرِهِ وَمَظَاهِرِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الشَّرْطَ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَال: 2] كَمَا سَيَأْتِي. [2] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 2] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ إِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الْأَمْرِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ،

وَقَدِ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْقِصَرِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِلْ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَلَمْ تَزِدْهُ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُقِمِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ، لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْقُضُهُ الْإِخْلَالُ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: 4] فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ الْإِيمَانِ الَّذِي عُدِمَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، وَهُوَ قَصْرٌ مَجَازِيٌّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الْجَانِبُ الْمَنْفِيُّ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ بِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَطُوِيَ ذِكْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ وَهُوَ حَصْرُ الْإِيمَانِ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُشبه بِهِ، ويئول هَذَا إِلَى مَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الْإِيمَانِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُبَالَغَةً، وَحَرْفُ (الْ) فِيهِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِالدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ. وَقَدْ تَكُونُ جُمْلَةُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 1] بِأَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ بَعْدَ مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَلْ يُمْتَرَى فِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيُجَابُوا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ فَتَنْبَعِثَ نُفُوسُهُمْ إِلَى الِاتِّسَامِ بِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مَوَانِعِ زِيَادَتِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاحْتِمَالَانِ غَيْرَ مُتَنَافِيَيْنِ صَحَّ تَحْمِيلُ الْآيَةِ إِيَّاهُمَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ فَإِنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ مِمَّا يَصح كَونه استينافا بَيَانِيًّا. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الرَّبْطِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءِ بِاخْتِلَافِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْبَلَاغِيَّةُ يَصِحُّ تَعَدُّدُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَوْقِعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا اعْتِبَارَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَيْسَتْ كَيْفِيَّاتٍ لَفْظِيَّةً فَتَحَقَّقْهُ حَقَّ تَحَقُّقِهِ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُ إِيمَانُهُمْ إِلَّا أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي يَعْرِفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَحَقُّقَهَا فِيهِ أَوْ عَدَمَهُ مِنْ عَرْضِ نَفْسِهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ وَارِدًا

مَوْرِدَ الْأَمْرِ بِالتَّخَلُّقِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَةِ أَمَارَاتِ هَذَا التَّخَلُّقِ عَلَى صِفَاتٍ يَأْنَسُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِذَا عَلِمُوهَا. وَالذِّكْرُ حَقِيقَتُهُ التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ، وَإِذَا عُلِّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الذَّاتِ أَسْمَاؤُهَا، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إِذَا نَطَقَ نَاطِقٌ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ بشأن من شؤونه، مِثْلِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ جَرَيَانِ اسْمِهِ أَوْ ضَمِيرِهِ أَوْ مَوْصُولِهِ أَوْ إِشَارَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ ذَاتِهِ. وَالْوَجَلُ خَوْفٌ مَعَ فَزَعٍ فَيَكُونُ لِاسْتِعْظَامِ الْمَوْجُولِ مِنْهُ. وَقَدْ جَاءَ فِعْلُ وَجِلَ فِي الْفَصِيحِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الِانْفِعَالِ الْبَاطِنِيِّ مِثْلَ فَرِحَ، وَصَدِيَ، وَهَوِيَ، وَرَوِيَ. وَأُسْنِدَ الْوَجَلُ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى إِحْسَاسِ الْإِنْسَانِ وَقَرَارَةِ إِدْرَاكِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْعُضْوَ الصَّنَوْبَرِيَّ الَّذِي يُرْسِلُ الدَّمَ إِلَى الشَّرَايِينِ. وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ ذِكْرَ اللَّهِ إِجْمَالًا بَدِيعًا لِيُنَاسِبَ مَعْنَى الْوَجِلِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَكُونُ: بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَبِذِكْرِ عِقَابِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَبِذِكْرِ ثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَهُ الْوَجَلُ فِي قُلُوبِ كُمَّلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَهُ اسْتِحْضَارُ جَلَالِ اللَّهِ وَشِدَّةِ بَأْسِهِ وَسِعَةِ ثَوَابِهِ، فَيَنْبَعِثُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْضَارِ تَوَقُّعُ حُلُولِ بَأْسِهِ، وَتَوَقُّعُ انْقِطَاعِ بَعْضِ ثَوَابِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ وَجَلٌ يَبْعَثُ الْمُؤْمِنَ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ وَتَوَقِّي مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَمُلَاحَظَةِ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ» . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ حَثَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرِّضَى بِمَا قَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنايم بَدْرٍ، وَأَنْ يَتْرُكُوا التَّشَاجُرَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، نَاسَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَجِلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْوَجَلُ حَالَيْنِ يَحْصُلَانِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْحَالُ الْآخَرُ هُوَ الْأَمَلُ وَالطَّمَعُ فِي الثَّوَابِ فَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِلْزَامِ الْوَجَلِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ مِنَ الْوَجَلِ أَنْ يَجِلَ، مِنْ فَوَاتِ الثَّوَابِ أَوْ نُقْصَانِهِ. وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً. التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَاسْتِظْهَارُ مَا يَحْفَظُهُ التَّالِي مِنْ كَلَامٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ يَحْكِيهِ لِسَامِعِهِ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [102] . وَآيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، سُمِّيَتْ آيَاتٌ، لِأَنَّ وَحْيَهَا إِلَى النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَجْزَ قَوْمِهِ، خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ آيَاتٌ. وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ كُلُّهُ آيَةً أَيْضًا بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ جُمْلَتِهِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِلْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، وَهُوَ تِلَاوَتُهَا لِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِهَا فِي صَدْرِ غَيْرِ الْمَتْلُوَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْرَفِ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، إِذْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ كَيْفِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ عَارِضَةٌ، لِلْيَقِينِ، لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ انْقِدَاحِهَا فِي الْعَقْلِ، وَغَايَةُ مَا يُعْرَفُ أَنْ يُقَالَ: ازْدَادَ إِيمَانُ فُلَانٍ، أَوِ ازْدَادَ فُلَانٌ إِيمَانًا، بِطَرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَحْوَالِ، كُلِّهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ لُوحِظَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الْكَلَامُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ عَقْلِيَّيْنِ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ من يَأْتِي بِالْفِعْلِ وَيَصْنَعُهُ كَالْكَاتِبِ لِلْكِتَابَةِ وَالضَّارِبِ بِالسَّيْفِ لِلْقَتْلِ. وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ النَّفْسِ بِثُبُوتِ نِسْبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، أَوْ بِانْتِفَاءِ نِسْبَةِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، تَصْدِيقًا جَازِمًا لَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا فِي الْيَقِينِ بِالنِّسْبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ وُجُودَ اللَّهِ وَوُجُودَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْمُقْتَضِيَةُ مَجِيءَ رَسُولِ اللَّهِ مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَثُبُوتَ صِفَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي لَا يَتِمُّ مَعْنَى رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ بِدُونِهَا: مِثْلَ الصِّدْقِ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَالْعِصْمَةِ عَنِ اقْتِرَافِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: قُوَّةُ الْيَقِينِ فِي نَفْسِ الْمُوقِنِ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِيهَا، وَدَفْعِ الشَّكِّ الْعَارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى وَأَجْلَى مُقَدِّمَاتٍ كَانَ الْيَقِينُ أَقْوَى، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَتَفَاوُتُهَا تَدَرُّجٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى قِلَّةُ التَّدَرُّجِ فِي الْأَدِلَّةِ نَقْصًا لَكِنَّهُ نَقْصٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ أَصْلِ حَقِيقَةِ

الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا لَوْ نَقَصَتْ عَنِ الْيَقِينِ لَبَطَلَتْ مَاهِيَّةُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «بَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ» فَلَوْ أَنَّ نَقْصَ الْأَدِلَّةِ بَلَغَ بِصَاحِبِهِ إِلَى انْخِرَامِ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لَهُ إِيمَانًا، حَتَّى يُوصَفَ بِالنَّقْصِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ بِالزِّيَادَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرِيعَةِ ذِكْرُ نَقْصِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِذَا قَالُوا الْإِيمَانَ يَزِيدُ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا ينقص، وَهُوَ عِبَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] وَلَكِنَّ الِاسْمَ الْمَضْبُوطَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ اسْمُ (الْإِسْلَامِ) كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ حَدِيثُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَالْإِيمَانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُوصَفُ بِالنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْإِقْلَالِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي نَظَائِرِهَا مِنْ آيَاتِ الْكتاب وأقوال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُرِيدُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فَيَقُولُ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْوَصْفُ بِالزِّيَادَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي قَوْلِهِ «بَابُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ» . وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ» ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْ إِقْرَارِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ، فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ بِالنَّقْصِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ لِعَدَمِ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَكَيْفِيَّةُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: أَنَّ دَقَائِقَ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ كُلُّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنْهَا أَوْ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَسْمَاعِ سَامِعَهَا يَقِينًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَزِيدُهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الضَّرُورَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي تَوَاتُرِ الْخَبَرِ مِنَ الْيَقِينِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، وَيَحْصُلُ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِ الْقُلُوبِ ثُمَّ فِي

الْعَمَلِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، حَتَّى يَحْصُلَ كَمَالُ التَّقْوَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ لِكُلِّ آيَةٍ تُتْلَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ زِيَادَةٌ فِي عَوَارِضِ الْإِيمَانِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَتَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ فَهَذَا وَصْفٌ رَاسِخٌ لِلْآيَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا زِيَادَةُ إِدْرَاكٍ لِلْمَعَانِي الْمُؤْمَنِ بِهَا، كَمَا فُسِّرَتْ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ، الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذْ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتُ تَعَلُّقَاتٌ بَعْضُهَا حِسِّيٍّ وَبَعْضُهَا عَقْلِيٌّ. وَحَظُّ الْمَقَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ أَنَّ سَمَاعَ آيَاتِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ يَزِيدُ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةً، بِنَبْذِ الشِّقَاقِ والتشاجر الطَّارِئ ببينهم فِي أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُكْتَسَبُ مِنْ سُيُوفِهِمْ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» (¬1) وَبِذَلِكَ تَتَّضِحُ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، وَتَعْقِيبِهِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَجُعِلَتْ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَوَصْفُهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمَسَاعِي لِيُقَدِّرَ لِلْمُتَوَكِّلِ تَيْسِيرًا مَرَّةً وَيُعَوِّضُهُ عَنِ الْكَسْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَمُنَاسِبَةُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْغَرَضِ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّخَلِّي عَنِ الْأَنْفَالِ، وَالرِّضَى بِقِسْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَمَنْ كَانَ قَدْ حُرِمَ مِنْ نَفَلِ قَتِيلِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي تَعْوِيضِهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِمَّا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصَاحَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِمَّا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى إِعَانَةِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مَرْيَم: 81] فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَدْحًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْرِيضًا بِذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ تَبْقَى فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ آثَارٌ مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا نُهُوا عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِ، لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَوَّتُوهُ فَقَدْ أَضَاعُوا خَيْرًا من الدُّنْيَا. [3] ¬

(¬1) ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا فَقَالَ: وَيذكر عَن ابْن عمر عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الأنفال (8) : آية 3]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ جَاءَ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ، كَمَا أُعِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [4] ، وَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ، فِي وَصْفِهِمْ، إِلَى غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي اجْتُلِبَ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ هُنَا غَرَضُ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى رُكْنَيِ الْإِيمَانِ: وَهُمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَا عَلَاقَةَ لِلصِّلَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ وَالرِّضَى بِقَسْمِهَا، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ الْمَدْحِ، وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الصَّلَاةِ بِالْإِقَامَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَجِيءَ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ فِي يُقِيمُونَ ويُنْفِقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَتُجَدُّدِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَبَرِ بِالصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، الَّتِي مَوْصُولُهَا خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ أَنْ تُعْتَبَرَ خَبَرًا بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَخْبَارٍ مُتَكَرِّرَةٍ، وَمُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعْتَبَرُ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا عَنِ الْمُبْتَدَأِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كُلُّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ مَحْصُورٌ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ أَيْ حَالُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا. وَهَكَذَا فَمَتَى اخْتَلَّتْ صِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ اخْتَلَّ وَصْفُ الْإِيمَانِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْرِ الْمُبَالِغَةَ الْآيِلَةَ إِلَى مَعْنَى قَصْرِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ عَلَى صَاحِبِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْخِبْرَيْنِ، لِظُهُورِ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ لَا يُسْلَبُ مَنْ أَحَدٍ ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهُ فَلَا يَجِلُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً مَنْ أَصُولُ الدِّينِ تُنَافِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: 2] عَلَى إِرَادَةِ أَصْحَابِ الْإِيمَان الْكَامِل. [4] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 4] أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 2] إِلَى آخِرِهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.

وَعُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ صِفَاتٍ لِتَدُلَّ الْإِشَارَةُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْمُسْنَدِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَكَأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَمَيَّزُوا لِلسَّامِعِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَصَارُوا بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرٌ آخَرُ يُشْبِهُ الْقَصْرَ الَّذِي قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: 2] حَيْثُ قُصِرَ الْإِيمَانُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَكِنَّهُ قُرِنَ هُنَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ الْمَقْصُورِ وَهُوَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحِقَّاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ. وَالْحَقُّ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَقَّ بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ لِلشَّيْءِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: 122] . وَيُطْلَقُ كَثِيرًا، عَلَى الْكَامِلِ فِي نَوْعِهِ، الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ نَوْعِهِ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِابْنِهِ الْبَارِّ بِهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أبنائه لَيْسُوا لرشدة وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْتَ بُنُوَّتُكَ وَاضِحَةٌ آثارها، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ فَاسْمُ الْحَقِّ يَجْمَعُ مَعْنَى كَمَالِ النَّوْعِ. وَلِكُلِّ صِيغَةِ قَصْرٍ: مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهَا هُنَا أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّلَاتُ هُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا كَامِلًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ إِحْدَاهَا كَانَ مُؤْمِنًا كَامِلًا، إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، فَمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقًّا أَيْ كَامِلًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْكَلَامِ دَعَا إِلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدِيدِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنْ ثُبُوتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِكُلِّ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَتِلْكَ الْأَدِلَّةُ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ لَا يَسْلِبُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْقَصْرِ عَلَى الِادِّعَائِي هُنَا مُجَرّد صنع بِالْيَدِ، أَوْ ذَهَابٍ مَعَ الْهَوَى عَلَى أَنَّ شَأْنَ الِاتِّصَافِ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْفَضَائِلِ أَنْ يَتَنَاسَقَ مَعَ نَظَائِرِهَا فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ زَادَتْهُ إِيمَانًا، فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصْرَيْنِ.

وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وُضُوحًا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ يَا حَارِثُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ اعْلَمْ مَا تَقُولُ- أَوِ انْظُرْ مَا تَقُولُ- إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ، وَكَأَنِّي أسمع عوراء أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ لَهُ يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ ثَلَاثًا وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ. فَقَوْلُ الْحَارِثِ «أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ مُؤْمِنًا كَامِلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَا كَانَ بِهِ إِيمَانُهُ كَامِلًا وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ أَصْلِ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا سعيد أمومن أَنْتَ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهِ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: 2- 4] فو الله مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا؟. وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ على أَنه موكد لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ ثُبُوتُ الْإِيمَانِ لَهُمْ حَقٌّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْقَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ بِالتَّأْكِيدِ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، بَلِ التَّأْكِيدُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ هُمْ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي وُقُوعِ الْمَصْدَرِ حَالا مثل أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [يُوسُف: 107] ، أَيْ مُحَقِّقِينَ إِيمَانَهُمْ بِجَلَائِلِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [122] . وَجُمْلَةُ: لَهُمْ دَرَجاتٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 6]

وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ دَرَجَاتٌ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ لِلشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ حَقِيقَتُهَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ لِإِمْكَانِ تَخَطِّي الصَّاعِدِ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتُسْتَعَارُ الدَّرَجَةُ لِعِنَايَةِ الْعَظِيمِ بِبَعْضِ مَنْ يَصْطَفِيهِمْ فَتَشَبُّهُ الْعِنَايَةِ بِالدَّرَجَةِ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، لِأَنَّ الدُّنُوَّ مِنَ الْعُلُوِّ عُرْفًا يَكُونُ بِالصُّعُودِ إِلَيْهِ فِي الدَّرَجَاتِ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ الدُّنُوُّ بِدَرَجَاتٍ وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ قَرِينَةُ الْمَجَازِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَعَارَ الدَّرَجَةُ هُنَا لِمَكَانِ جُلُوسِ الْمُرْتَفِعِ كَدَرَجَةِ الْمِنْبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: 228] وَالْقَرِينَةُ هِيَ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَوْجِيهِ عِنَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الْعَظِيمِ. وَتَنْوِينُ دَرَجاتٌ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ. وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُرْزَقُ أَيْ يُعْطَى لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، وَوَصْفُهُ بِكَرِيمٍ بِمَعْنَى النَّفِيسِ فَهُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلرِّزْقِ، وَفِعْلُهُ كَرُمَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْكَرَمِ فِي كُلِّ شَيْء الصِّفَات المحمودية فِي صِنْفِهِ أَوْ نَوْعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْكَرَمِ عَلَى السَّخَاءِ وَالْجُودِ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ كَرِيمٌ، وَتَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا عَلَى أَنَّ وَصْفَ الرِّزْقِ بِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ كِرِيمٌ رَازِقُهُ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ يَرْزُقُ بِوَفْرَةٍ وَبِغير حِسَاب. [5، 6] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 5 إِلَى 6] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) تَشْبِيهُ حَالٍ بِحَالٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ: إِمَّا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَالُ كَحَالِ مَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ كَرَاهِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْوَاقِعِ

وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ مَصْدَرٍ لِفِعْلِ الِاسْتِقْرَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْخَبَرُ بِالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 1] إِذِ التَّقْدِيرُ: اسْتَقَرَّتْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ اسْتِقْرَارًا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، أَيْ فِيمَا يَلُوحُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ وَالِامْتِعَاضِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَوَالِهِمُ النَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ، فَالتَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيٌّ وَلَيْسَ مُرَاعًى فِيهِ تَشْبِيهُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، أَيْ أَنَّ مَا كَرِهْتُمُوهُ مِنْ قِسْمَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى خِلَافِ مُشْتَهَاكُمْ سَيَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ لَكُمْ، حَسَبَ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى مُخَالَفَةِ مُشْتَهَاهُمْ قَوْلُهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 1] كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فَرِيقاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ هَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ كَافِ التَّشْبِيهِ بِمَا قبلهَا على مَا الْأَظْهَرِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَتِ الْعِشْرِينَ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ عَادِلٍ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ، وَبَعْضُهَا مُتَّحِدُ الْمَعْنَى وَبَعْضُهَا مُخْتَلِفُهُ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَتَقْدِيرُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ: الِانْتِقَالُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمَا ظَهَرَ فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْإِخْرَاجُ: إِمَّا مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ، وَإِمَّا تَقْدِيرُ الْخُرُوجِ لَهُمْ وَتَيْسِيرُهُ. وَالْخُرُوجُ مُفَارَقَةُ الْمَنْزِلِ وَالْبَلَدِ إِلَى حِينِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خُرِجَ مِنْهُ، أَوْ إِلَى حِينِ الْبُلُوغِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ. وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْبَيْتِ: هُوَ الْإِخْرَاجُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي خَرَجَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا إِلَى بَدْرٍ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ إِخْرَاجًا مُصَاحِبًا لِلْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُنَا الصَّوَابُ، لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ اسْمَ الْحَقِّ جَامِعٌ لِمَعْنَى كَمَالِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَامِدِ نَوْعِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ أَمْرًا مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ فِي حَالِ كَرَاهَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ.

وَقَدْ أَشَارَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي خرج بِهِ الْمُسلمُونَ إِلَى بَدْرٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ أَنْ قَفَلَتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ لَهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، رَاجِعَةً إِلَى مَكَّةَ، وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي زُهَاءِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا فَانْتَدَبَ بَعْضُهُمْ وَتَثَاقَلَ بَعْضٌ، وَهُمُ الَّذِينَ كَرِهُوا الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَثَاقَلُوا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ظَهْرُهُمْ أَيْ رَوَاحِلُهُمْ فَسَارَ وَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ خَرَجُوا يَوْمَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حَرْبًا وَأَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى الْعِيرِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ، وَبَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ خَبَرُ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ صَارِخًا يَسْتَصْرِخُ قُرَيْشًا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ، فَتَجَهَّزَ مِنْهُمْ جَيْشٌ، وَلِمَا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ وَادِي ذَفِرَانَ بَلَغَهُمْ خُرُوجُ قُرَيْشٍ لِتَلَقِّي الْعِيرِ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْمُضِيِّ فِي سَبِيلِهِ وَكَانَتِ الْعِيرُ يَوْمَئِذٍ فَاتَتْهُمْ، وَاطْمَأَنَّ أَبُو سُفْيَانَ لِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ نَجَّى عِيرَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا (وَكَانَ بَدْرٌ مَوْضِعَ مَاءٍ فِيهِ سُوقٌ لِلْعَرَبِ فِي كُلِّ عَامٍ) فَنُقِيمُ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ وَنَسَقِي الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَتَسَامَعُ الْعَرَبُ بِنَا وَبِمَسِيرِنَا فَلَا يَزَالُوا يَهَابُونَنَا وَيَعْلَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُصِبِ الْعِيرَ، وَأَنَّا قَدْ أَعْضَضْنَاهُ، فَسَارَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بدر وتنبكت عِيرُهُمْ عَلَى طَرِيقِ السَّاحِلِ وَأَعْلَمَ اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَقَالَ: الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمِ النَّفِيرُ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِشَارَتَهُمْ فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ قَائِلِينَ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ فَإِنَّا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ فَظَهَرَ الْغَضَبُ عَلَى وَجْهِهِ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ، فَفَوَّضُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا يَرَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْقَوْمِ بِبَدْرٍ فَسَارُوا. وَكَانَ النَّصْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي هَزَّ بِهِ الْإِسْلَامُ رَأْسَهُ. فَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَلَى نِيَّةِ التَّعَرُّضِ لِلْعِيرِ، وَأَنْ لَيْسَ دُونَ الْعِيرِ قِتَالٌ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْ تَجَمُّعِ قُرَيْشٍ لِقِتَالِهِمْ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَحْسَنَ، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ

فَقَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنِ يَديك وخلفك، فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى (بَرْكِ الْغِمَادِ) (بِفَتْحِ بَاءِ بَرْكِ وَغَيْنُ الْغِمَادِ ومعجمة مَكْسُورَةٌ مَوْضِعٍ بِالْيَمَنِ بَعِيدٍ جِدًّا عَن مَكَّة) لجادلنا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا يَوْمئِذٍ «إِنَّا برءاء مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَإِنَّكَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا» فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ لَا يَرَوْنَ نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ «وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْر فخصته لَخُضْنَاهُ مَعَكَ وَمَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ بِنَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ» فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَابْشُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ- أَيْ وَلَمْ يَخُصَّ وَعْدَ النَّصْرِ، بِتَلَقِّي الْعِيرِ فَقَطْ- فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ زَالَ مِنْ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ ، وَقَوْلُهُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي أَفَادَتْهُ، (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثَاقَلُوا وَقْتَ الْعَزْمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالَّذِينَ اخْتَارُوا الْعِيرَ دُونَ النَّفِيرِ حِينَ اسْتِشَارَةِ وَادِي ذَفِرَانَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ كَانَ مُمْتَدًّا فِي الزَّمَانِ، فَجُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ أَخْرَجَكَ. وَتَأْكِيدُ خَبَرِ كَرَاهِيَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ غَيْرِ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِمَّا

شَأْنُهُ أَنْ لَا يَقَعَ، إِذْ كَانَ الشَّأْنُ اتِّبَاعُ مَا يُحِبُّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْرَهُوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ. وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا التَّنْزِيلُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْكَرَاهِيَةِ فَيَكُونُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ. وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مِنْ فَرِيقاً فَالضَّمِيرُ لِفَرِيقٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ حَالِ الْمُجَادَلَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْهَا، وَهَذَا التَّعْجِيبُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] إِذْ قَالَ يُجادِلُنا وَلَمْ يَقِلْ «جَادَلَنَا» . وَقَوله: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَوْمٌ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي الْخُرُوجِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِلنَّفِيرِ وَتَرْكُ الْعِيرِ، بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَيْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ النَّصْرَ، وَهَذَا التَّبَيُّنُ هُوَ بَيِّنٌ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ شَعَرَ بِهِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا أَذْكِيَاءَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ أَصْفِيَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: طَائِفَةِ الْعِيرِ أَوْ طَائِفَةِ النَّفِيرِ، فَنَصْرُهُمْ إِذَنْ مَضْمُونٌ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ قَدْ أَخْطَأَتْهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ النَّفِيرُ، فَكَانَ بَيِّنًا أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا النَّفِيرَ يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثمَّ رَأَوْا كَرَاهَة النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اخْتَارُوا الْعِيرَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْيَقِينِ بِأَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ فَضَّلُوا غَنِيمَةَ الْعِيرِ عَلَى خَضْدِ شَوْكَةِ أَعْدَائِهِمْ وَنُهُوضِ شَوْكَتِهِمْ بِنَصْرِ بَدْرٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى تَبَيُّنِ الْحَقِّ أَيْ رُجْحَانِ دَلِيلِهِ فِي ذَاتِهِ، وَمَنْ خُفِيَ عَلَيْهِ هَذَا التبيّن مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْذُرْهُ اللَّهُ فِي خَفَائِهِ عَلَيْهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤْخَذُ حُكْمُ مُؤَاخَذَةِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا قَصَّرَ فِي فَهْمِ مَا هُوَ مَدْلُولٌ لِأَهْلِ النَّظَرِ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَأَجَابَهُ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. فَلَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ «مَالَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» وَرَوَى مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ» ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرَّ بِقَوْمٍ مُحْرِمِينَ فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا أُنَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ فَأَفْتَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ

ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ قَالَ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ فَقَالَ: «لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ» . وَجُمْلَةُ: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُجادِلُونَكَ أَيْ حَالَتُهُمْ فِي وَقْتِ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكَ تُشْبِهُ حَالَتُهُمْ لَوْ سَاقَهُمْ سَائِقٌ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْتِ الْحَالَةُ الْمُضَادَّةُ لِلْحَيَاةِ وَهُوَ مَعْنًى تَكْرَهُهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ، وَيُصَوِّرُهُ كُلُّ عَقْلٍ بِمَا يَتَخَيَّلُهُ مِنَ الْفَظَاعَةِ وَالْبَشَاعَةِ كَمَا تَصَوَّرَهُ أَبُو ذُؤَيْبٍ فِي صُورَةِ سَبُعٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا وَكَمَا تَخَيَّلَ، تَأَبَّطَ شَرًّا الْمَوْتَ طَامِعًا فِي اغْتِيَالِهِ فَنَجَا مِنْهُ حِينَ حَاصَرَهُ أَعْدَاؤُهُ فِي جُحْرٍ فِي جَبَلٍ: فَخَالَطَ سَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ يَكْدَحِ الصَّفَا ... بِهِ كَدْحَةً وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تَشْبِيهٌ لِحَالِهِمْ، فِي حِينِ الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّحَاقِ بِالْمُشْرِكِينَ، بِحَالِ مَنْ يُجَادِلُ وَيُمَانِعُ مَنْ يَسُوقُهُ إِلَى ذَاتِ الْمَوْت. وَهَذَا التَّفْسِير أَلْيَقُ بِالتَّشْبِيهِ لِتَحْصُلَ الْمُخَالِفَةُ الْمُطْلَقَةُ بَيْنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَهُمْ فِي قِلَّةٍ، إِرْجَاءٌ بِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَوْتٌ مَظْنُونٌ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَتَأَوَّلُوا الْمَوْتَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَوْتُ الْمُتَيَقَّنُ فَيَكُونُ التَّخَالُفُ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ تَخَالُفًا بِالتَّقْيِيدِ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُساقُونَ وَمَفْعُولُ يَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَى الْمَوْتِ أَيْ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمَوْتَ، لِأَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُخَوِّفِ إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْهَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسَاقُ إِلَيْهِ وَلَا يَرَاهُ، لِأَنَّ لِلْحِسِّ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَى الْإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ التَّعَقُّلِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ: يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَفِي عَكْسِهِ فِي الْمَسَرَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: 50] .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 إلى 8]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 7 إِلَى 8] وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ مَعْطُوفًا عَلَى كَما أَخْرَجَكَ [الْأَنْفَال: 5] عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُشَبَّهًا بِهِ التَّشْبِيهُ الْمُفَادُ بِالْكَافِ وَالْمَعْنَى: كَإِخْرَاجِكَ اللَّهُ مِنْ بَيْتِكَ وَكَوَقْتِ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْآيَةَ وَاسْمُ الزَّمَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَتُؤَوَّلُ بِمَصْدَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَوَقْتِ وَعْدِ اللَّهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَ إِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُتَصَرِّفٌ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَجْرُورِ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِذْ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ شَأْنَ إِذْ الْوَاقِعَةِ فِي مُفْتَتَحِ الْقَصَصِ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ [الْأَنْفَالُ: 1] وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى خَطَأِ رَأْيِهِمْ وَأَنَّ مَا كَرِهُوهُ هُوَ الْخَيْر لَهُم. و «الطَّائِفَة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَجُمْلَةُ: أَنَّها لَكُمْ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ: يَعِدُكُمْ مَصِيرَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَكُمْ، أَيْ كَوْنُهَا مُعْطَاةً لَكُمْ، وَهُوَ إِعْطَاءُ النَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهَا بَيْنَ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَنِيمَةٍ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَهُوَ هُنَا مِلْكٌ عُرْفِيٌّ، كَمَا يَقُولُونَ كَانَ يَوْمُ كَذَا لِبَنِي فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ لَهُم فِيهِ غَلَبَةَ حَرْبٍ وَهِيَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْغَنِيمَةِ. وَتَوَدُّونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى يَعِدُكُمُ أَيْ إِذْ يَقَعُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَالْوُدُّ مِنْكُمْ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي حَالِ وُدِّكُمْ لِقَاءَ الطَّائِفَةِ غَيْرِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهَذَا الْوُدُّ هُوَ مَحَلُّ التَّشْبِيهِ الَّذِي أَفَادَهُ عَطْفُ وَإِذْ يَعِدُكُمُ، مَجْرُورِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الْأَنْفَال: 5] فَهُوَ مِمَّا شُبِّهَ

بِهِ حَالُ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْأَنْفَالِ سُؤَالًا مَشُوبًا بِكَرَاهِيَةِ صَرْفِ الْأَنْفَالِ عَنِ السَّائِلَيْنِ عَنْهَا الرائمين أَخذهَا. و «الود» الْمَحَبَّةُ وذاتِ الشَّوْكَةِ صَاحِبَةُ الشَّوْكَةِ وَوَقَعَ ذاتِ صِفَةً لِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ الطَّائِفَةُ غَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، أَيِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ. والشَّوْكَةِ أَصْلُهَا الْوَاحِدَةُ مِنَ الشَّوْكِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ أَعْوَادٍ دَقِيقَةٍ تَكُونُ مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ كَالْإِبَرِ، فَإِذَا نَزَغَتْ جِلْدَ الْإِنْسَانِ أَدْمَتْهُ أَوْ آلَمَتْهُ، وَإِذَا عَلِقَتْ بِثَوْبٍ أَمْسَكَتْهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا فِي وَرَقِ الْعَرْفَجِ، وَيُقَالُ هَذِهِ شَجَرَةٌ شَائِكَةٌ، وَمِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ ظُهُورِ الشَّرِّ قَوْلُهُمْ: «إِنَّ الْعَوْسَجَ قَدْ أَوْرَقَ» ، وَشَوْكَةُ الْعَقْرَبِ الْبَضْعَةُ الَّتِي فِي ذَنَبِهَا تَلْسَعُ بِهَا. وَشَاعَ اسْتِعَارَةُ الشَّوْكَةِ لِلْبَأْسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، أَيْ ذُو بَأْسٍ يُتَّقَى كَمَا يُسْتَعَارُ الْقَرْنُ لِلْبَأْسِ فِي قَوْلِهِمْ: أَبْدَى قَرْنَهُ، وَالنَّابُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ: كَشَّرَ عَنْ نَابِهِ، وَذَلِكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ أَيْ تَوَدُّونَ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَا يُخْشَى بَأْسُهَا تَكُونُ لَكُمْ أَيْ مِلْكَكُمْ فَتَأْخُذُونَهُمْ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي قِصَّةِ بَدْرٍ حِينَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِانْصِرَافِ عِيرِ قُرَيْشٍ نَحْوَ السَّاحِلِ وَبِمَجِيءِ نَفِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا النَّفِيرُ وَعْدًا مُعَلَّقًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيَخْتَارُونَ اللَّحَاقَ بِالْعِيرِ أَمْ يَقْصِدُونَ نَفِيرَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا خَرَجْنَا لِأَجْلِ الْعِيرِ، وَرَامُوا اللِّحَاقَ بِالْعِيرِ وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُوا لِمُقَاتَلَةِ جَيْشٍ، وَكَانَتِ الْعِيرُ لَا تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَكَانَ النَّفِيرُ فِيمَا قيل يشْتَمل عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مُسَلَّحٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ تَوَدُّونَ غَنِيمَةً بِدُونِ حَرْبٍ، فَلَمَّا لَمْ يَطْمَعُوا بِلِقَاءِ الْجَيْشِ وَرَامُوا لِقَاءَ الْعِيرِ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ غَنِيمَةُ الْعِيرِ وَلَعَلَّ الِاسْتِشَارَةَ كَانَتْ صُورِيَّةً، أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا تَهِنَ قُوَّتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ إِنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ ذَاتَ الشَّوْكَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتَوَدُّونَ عَلَى احْتِمَالَيْ

أَنَّ وَاوَهَا لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ إِظْهَارُ أَنَّ مَا يَوَدُّونَهُ لَيْسَ فِيهِ كَمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَهُمْ مَا فِيهِ كَمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُرْهِبُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْأَصْلَحِ بِهِمْ. فَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِرَادَةِ هُنَا إِرَادَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَالتَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] أَيْ يُسْرٌ بِكُمْ. وَمَعْنَى يُحِقَّ الْحَقَّ: يُثْبِتُ مَا يُسَمَّى الْحَقُّ وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ يُقَالُ: حَقَّ الشَّيْءُ، إِذَا ثَبَتَ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 19] . وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ. هُنَا: دِينُ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَقِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: 29] الْآيَة. وإحقاقه باستيصال مُعَانِدِيهِ، فَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ نَفْعًا قَلِيلًا عَاجِلًا، وَأَرَادَ اللَّهُ نَفْعًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَفِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ جِنَاسُ الِاشْتِقَاقِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْحَقِّ هُوَ فِعْلُ حَقَّ. وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْبَاطِلِ هِيَ فِعْلُ بَطَلَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ قَالُوا فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ . وَكَلِمَاتُ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ وَعَلَى كَلَامِهِ النَّفْسِيِّ، حَقِيقُهُ مِنْ أَقْوَالٍ لَفْظِيَّةٍ يَخْلُقُهَا خَلْقًا غَيْرَ مُتَعَارَفٍ لِيَفْهَمَهَا أَحَدُ الْبَشَرِ وَيُبَلِّغَهَا عَنِ اللَّهِ، مِثْلَ الْقُرْآنِ، أَوْ مَجَازًا مِنْ أَدِلَّةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ، مِثْلَ مَا يُخَاطِبُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] وَفَسَّرَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالَ لِلَّذِي قَالَ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ . وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَقَوْلُهُ: بِكَلِماتِهِ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الَّذِي يُوحِي بِهِ اللَّهُ الدَّالِّ عَلَى إِرَادَتِهِ تَثْبِيتَ الْحَقِّ. مِثْلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَمَا أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُصْرَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.

وَالْبَاءُ فِي بِكَلِماتِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ لِلتَّنْوِيهِ بِإِحْقَاقِ هَذَا الْحَقِّ وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ وَيَسَّرَهُ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَمْرِ، لِيَقُومَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمَأْمُورِينَ بِمَا هُوَ حَظُّهُ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ كَلِمَاتِ الله لَا تتخلف كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْح: 15] ، وَلِمَدْحِ هَذَا الْإِحْقَاقِ بِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِ اللَّهِ. وَقَطُعُ دَابِرِ الشَّيْءِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ كُلِّهِ إِزَالَةً تَأْتِي عَلَى آخِرِ فَرْدٍ مِنْهُ يَكُونُ فِي مُؤَخِّرَتِهِ مِنْ وَرَائِهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [45] . وَالْمَعْنَى: أَرَدْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَأَرَادَ اللَّهُ إِظْهَار أَمركُم وخضذ شَوْكَةِ عَدُوِّكُمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَحْرِمُكُمُ الْغِنَى الْعَارِضَ فَإِنَّ أَمْنَكُمْ وَاطْمِئْنَانَ بَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْسَبُونَ أَنْ لَا تَسْتَطِيعُوا هَزِيمَةَ عَدُوِّكُمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أَيْ إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ وَكَوَّنَ أَسْبَابَهُ بِكَلِمَاتِهِ لِأَجْلِ تَحْقِيقِهِ الْحَقَّ وَإِبْطَالِهِ الْبَاطِلَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْصُولُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ عَيْنَ مَحْصُولِ الْمُعَلَّلِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَشَأْنُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْمُعَلِّلِ، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فَائِدَةُ التَّعْلِيلِ إِظْهَارُ الْغَرَضِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْفَاعِلُ مِنْ فِعْلِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْلِيلُ الْفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَا يَجْهَلُ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ مَا فَعَلَ فِعْلًا إِلَّا وَهُوَ مُرَادٌ لَهُ، فَإِذَا سَمِعْنَا مِنْ كَلَامِ الْبَلِيغِ تَعْلِيلَ الْفِعْلِ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَّا لِذَاتِ الْفِعْلِ، لَا لغَرَض آخر عَائِد عَلَيْهِ، فَإِفَادَةُ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْحَصْرِ حَاصِلَةٌ مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمُعَلَّلِ. وَالْحَصْرُ هُنَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرْكِيبِ، وَلَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَافْهَمْهُ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ غَفَلَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إِحْقَاقَ الْحَقِّ عُمُومًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَهُوَ ضِدُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ

[سورة الأنفال (8) : آية 9]

مَعْنَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الْحَقُّ ذَهَبَ الْبَاطِلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاء: 18] ، وَلَمَّا كَانَ الْبَاطِلُ ضِدَّ الْحَقِّ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ. وَمِنْ لَطَائِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: كَمْ سِنُّكَ فَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وُلِدْتُ يَوْمَ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَيُّ حَقٍّ رُفِعَ وَأَيُّ بَاطِلٍ وُضِعَ» أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ ذكر بَعْدَ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ لِيُحِقَّ الْحَقَّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 140] . وَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمِنْ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ، مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ ثُمَّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ- بِقَوْلِهِ- وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ شَرْطٌ اتِّصَالِيٌّ. ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يُرِيدُ اللَّهُ، أَوْ عَلَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ أَيْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصُدُّ مُرَادَهُ مَا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْ قُوَّةٍ بِأَنْ يَكْرَهَهُ الْمُجْرِمُونَ وهم الْمُشْركُونَ. وَالْكَرَاهَة هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ لَوَازِمِهَا وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِمُقَاوَمَةِ الْمُرَادِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، يُرِيدُونَ إِحْقَاقَ الْبَاطِلِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَنْفُذُ بالرغم على كَرَاهَة الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْكَرَاهَةِ فَلَيْسَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَحْوَالِ نُفُوذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْقَاقَ الْحَقِّ: لِأَنَّهُ إِحْسَاسٌ قَاصِرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى مُدَافَعَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَانَتْ أَسْبَابُ الْمُدَافِعَةِ هِيَ الْغَايَةَ لِنُفُوذِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْكَارِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَوِ الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً فِي سُورَة الْبَقَرَة [170] . [9] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 9] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) يَتَعَلَّقُ ظَرْفُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بِفِعْلِ يُرِيدُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 7] لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُسْتَمِرٌّ تَعَلُّقُهَا

بِأَزْمِنَةٍ مِنْهَا زَمَانُ اسْتِغَاثَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ رَبَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، حِينَ لِقَائِهِمْ مَعَ عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَتِ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُمْ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ، مِنْ مَظَاهِرِ إِرَادَتِهِ تَحْقِيقَ الْحَقِّ فَكَانَتْ الِاسْتِغَاثَةُ يَوْمَ الْقِتَالِ فِي بَدْرٍ وَإِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ حَصَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَرَشَّحَ لَهُمْ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ذَاتَ الشَّوْكَةِ، وَبَيْنَ وَقْتِ الْإِرَادَةِ وَوَقْتِ الِاسْتِغَاثَةِ مُدَّةُ أَيَّامٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْإِرَادَةُ مُسْتَمِرَّةً إِلَى حِينِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ صَحَّ تَعْلِيقُ ظَرْفِ الِاسْتِغَاثَةِ بِفِعْلِهَا، لِأَنَّهُ اقْترن بِبَعْضِهَا فِي امْتِدَادِهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي مُتَعَلِّقٍ هَذَا الظَّرْفِ أَوْ مَوْقِعِهِ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ «نَظَرَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ [لَا] (¬1) تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ أَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَةَ رَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أَيْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ ضَمِيرُ تَسْتَغِيثُونَ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بضمير الْجَمَاعَة لِأَن كَانَ يَدْعُو لِأَجْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُعْلِنًا بِدُعَائِهِ وَهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَدْعُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا بِبَدْرٍ وَرَأَوْا كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَغَاثُوا اللَّهَ تَعَالَى فَتَكُونُ الِاسْتِغَاثَةُ فِي جَمِيعِ الْجَيْشِ وَالضَّمِيرُ شَامِلًا لَهُمْ. وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى رَفْعِ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَلَمَّا كَانُوا يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةٍ وَدَعَوْا بِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ الْقَوِيِّ كَانَ دُعَاؤُهُمُ اسْتِغَاثَةً. فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَيْ وَعَدَكُمْ بِالْإِغَاثَةِ. وَفِعْلُ اسْتَجَابَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الطَّلَبِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ تَحْقِيقُ الْمَطْلُوبِ. ¬

(¬1) زِيَادَة من «سنَن التِّرْمِذِيّ» 5/ 269. كتاب «تَفْسِير الْقُرْآن» (9) بَاب، وَمن سُورَة الْأَنْفَال، رقم (3081) .

وَقَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ هُوَ الْكَلَامُ الْمُسْتَجَابُ بِهِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ أَصْلَهُ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ أَيْ فَحَذَفَ الْجَارَ وسلط عَلَيْهِ فَاسْتَجابَ فَنَصَبَ مَحَلَّهُ. وَأَرَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةَ النُّونِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً لِلتَّفْسِيرِ مَعَ التَّأْكِيدِ كَمَا كَانَتْ تُفِيدُ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ التَّأْكِيدِ، فَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنِ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ، يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْكِيبُهَا مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ، وَأَعْتَضِدُ بِمَا فِي «اللِّسَانِ» مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: «إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ:) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْقَوْلِ كَانَتْ حِكَايَةً، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا (أَيُّ الْقَوْلِ) فَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ نَصَبَتْهَا وَمِثْلُهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاك شرِيف، فحت أَنَّ لِأَنَّهَا فَسَرَّتِ الْكَلَامَ. قُلْتُ: وَوُقُوعُ (أَنَّ) مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ كَثِيرٌ: فِي الْكَلَامِ. وَفِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] الْآيَةَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بِإِنْصَافٍ وَجَدَ مَتَانَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي كَوْنِ (أَنَّ) تَفْسِيرِيَّةً، دُونَ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. مَعَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَرْفِ غَيْرُ بَيِّنٍ. وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الشَّيْءِ النَّافِعِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ مُرْدِفِينَ أَي يرد فهم غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ تَكُونُ الْأَلْفُ رَادِفًا لِغَيْرِهِمْ قَبْلَهُمْ. وَالْإِرْدَافُ الِاتْبَاعُ وَالْإِلْحَاقُ فَيَكُونُ الْوَعْدُ بِأَلْفٍ وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ إِعْدَادِ نَجْدَةٍ لِلْجَيْشِ عِنْدَ الْحَاجَةِ تَكُونُ لَهُمْ مَدَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّهُمْ بِآلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلَغُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَلْفٍ هَنَا مُطْلَقُ الْكَثْرَةِ فَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: بِثَلاثَةِ آلافٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [124] ، وَهُمْ مُرْدَفُونَ بِأَلْفَيْنِ، فَتِلْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْحَرْبِ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ عَظِيمًا أَنْ يَبْعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُ ثُمَّ يُعْقِبُوهَا بِأُخْرَى لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ.

[سورة الأنفال (8) : آية 10]

وَيُوَجِّهُ سُيُوفَهُمْ، وَحُلُولُ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ كَانَ بِكَيْفِيَّةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى: إِمَّا بِتَجْسِيمِ الْمُجَرَّدَاتِ فَيَرَاهُمْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرُؤْيَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِرَاءَةِ اللَّهِ النَّاسَ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يرى عَادَة. [10] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 10] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) عَطْفٌ عَلَى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: 9] فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الْأَنْفَال: 9] أَيْ مَا جَعَلَ جَوَابَكُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا لِيُبَشِّرَكُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ أَنْ يَضْمَنَ لَكُمُ النَّصْرَ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ بِإِمْدَادٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَفَائِدَةُ التَّبْشِيرِ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ لَقِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا قَوِيًّا وَجَيْشًا عَدِيدًا، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِكَيْفِيَّةِ النَّصْرِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَهُمْ بِأَنَّهُ بِجَيْشٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ أَمْيَلُ إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ، فَالنَّصْرُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي يَدِقُّ إِدْرَاكُهُ وَسُكُونُ النَّفْسِ لِتُصَوُّرِهِ بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ مِنْ تَصْوِيرِ مَدَدِ الْمَلَائِكَةِ وَرُؤْيَةِ أَشْكَالِ بَعْضِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا لِتَعَرُّضٍ لِمَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ اخْتِلَافٍ فِي تَرْتِيبِ النَّظْمِ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ [126] : إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَحَذَفَ (لَكُمْ) هُنَا دَفْعًا لِتَكْرِيرِ لَفْظِهِ لَسَبْقِ كَلِمَةِ لَكُمْ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ [الْأَنْفَال: 9] فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْبُشْرَى لَهُمْ، فَأَغْنَتْ لَكُمْ الْأَوْلَى، بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، عَنْ ذِكْرِ لَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِأَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ سِيقَتْ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ فِي حِينِ الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ، فَكَانَ تَقْيِيدُ بُشْرى بِأَنَّهَا لِأَجْلِهِمْ زِيَادَةً فِي الْمِنَّةِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بُشْرَى لِأَجْلِكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْعِتَابِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَعَلَى اخْتِيَارِ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُلَاقِيهِمْ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، فَجَرَّدَ

[سورة الأنفال (8) : آية 11]

بُشْرى عَنْ أَنْ يُعَلِّقَ بِهِ لَكُمْ إِذْ كَانَتِ الْبُشْرَى لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آلِ عِمْرَانَ. ثَانِيهَا: تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بِهِ قُلُوبُكُمْ وَهُوَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لَا بِغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَعْرِيضٌ بِمَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْوَجَلِ مِنَ الطَّائِفَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَقَنَاعَتِهِمْ بِغَنْمِ الْعُرُوضِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْعِيرِ، فَعَرَّضَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَهَّمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ اسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ سَلَكَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَوْعُودَ بِهَا تَمَحَّضَتْ أَنَّهَا طَائِفَةُ النَّفِيرِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَظُنُّوا بِوَعْدِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَسْكِينَ رَوْعِهِمْ، وَعَدَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا بِأَنَّهُ لَا يُطَمْئِنُ قُلُوبَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْفَخْرُ: التَّقْدِيمَ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّقْدِيمِ لَكِنَّهُ وَجَّهَ تَأْخِيرَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [126] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَصَاغَ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ فِي صِيغَةِ النَّعْتِ، وَجَعَلَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ، إِذْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَنَزَّلَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: وَهُمَا الْعِزَّةُ، الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّهُ إِذَا وَعَدَ بِالنَّصْرِ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ، وَالْحِكْمَةُ، فَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِهِ غَوْصُ الْأَفْهَامِ فِي تَبَيُّنِ مُقْتَضَاءِهِ، فَكَيْفَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَعَدَهُمُ الظَّفَرَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ فَاتَتْهُمُ الْعِيرُ أَنَّ ذَلِكَ آيِلٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالظَّفَرِ بِالنَّفِيرِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا جُعِلَتْ كَالْإِخْبَارِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُوم لَهُم. [11] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 11] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) لَقَدْ أَبْدَعَ نَظْمُ الْآيَاتِ فِي التَّنَقُّلِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ

تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، فَقَرَنَهَا، فِي قَرْنِ زَمَانِهَا، وَجَعَلَ يَنْتَقِلُ مِنْ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى بِوَاسِطَةِ إِذِ الزَّمَانِيَّةُ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فِيمَا أَحْسَبُ. وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظَّرْفُ مَفْعُولًا فِيهِ لِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ [الْأَنْفَال: 10] فَإِنَّ إِغْشَاءَهُمُ النُّعَاسَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ وَقت حُصُوله طرفا لِلنَّصْرِ. وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ كَوْنُ الشَّيْءِ غَاشِيًا أَيْ غَامًّا وَمُغَطِّيًا، فَالنَّوْمُ يُغَطِّي الْعَقْلَ. وَالنُّعَاسُ النَّوْمُ غَيْرُ الثَّقِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ السِّنَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُغَشِّيكُمُ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُضَارِعُ أَغْشَاهُ وَبِنَصْبِ النُّعاسَ وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يُغْشِيكُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ، وَالنُّعَاس مفعول ثَانِي لِيَغْشَى بِسَبَبِ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَبِرَفْعِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّ يَغْشَاكُمْ مُضَارِعُ غَشِيَ وَالنُّعَاسُ فَاعِلٌ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّحْتِيَّة وَفتح الْغَيْن وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَنَصْبِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ غَشَّاهُ الْمُضَاعَفِ وَالنُّعَاسُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. فَإِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ أَوِ التَّغْشِيَةِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ أَنْ يَنَامُوا فِي وَقْتٍ لَا يَنَامُ فِي مِثْلِهِ الْخَائِفُ، وَلَا يَكُونُ عَامًّا سَائِرَ الْجَيْشِ، فَهُوَ نَوْمٌ مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ لِفَائِدَتِهِمْ. وَإِسْنَادُ الْغَشْيِ إِلَى النُّعَاسِ حَقِيقَةٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ أَمَنَةً مِنْهُ. و (الأمنة) الْأَمْنُ، وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ (النُّعَاسَ) ، وَعَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ (النُّعَاسَ) . وَإِنَّمَا كَانَ (النُّعَاسُ) أَمْنًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا زَالَ أَثَرُ الْخَوْفِ مِنْ نُفُوسِهِمْ فِي مُدَّةِ النَّوْمِ فَتِلْكَ نِعْمَةٌ، وَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا وَجَدُوا نَشَاطًا، وَنَشَاطُ الْأَعْصَابِ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ شَجَاعَةً وَيُزِيلُ شُعُورِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فُتُورُ الْأَعْصَابِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُغَشِّيكُمُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.

وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ وصف ل (أَمَنَة) لِإِفَادَةِ تَشْرِيفِ ذَلِكَ النُّعَاسِ وَأَنَّهُ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ، فَهُوَ لُطْفٌ وَسَكِينَةٌ وَرَحْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَيَتَأَكَّدُ بِهِ إِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ إِلَى اللَّهِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبُوا (النُّعَاسَ) ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِسْنَادٌ مَخْصُوصٌ، وَلَيْسَ الْإِسْنَادُ الَّذِي يَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعُوا (النُّعَاسَ) يَكُونُ وَصْفُ الْأَمَنَةِ بِأَنَّهَا مِنْهُ سَارِيًا إِلَى الْغَشْيِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَشْيٌ خَاصٌّ قُدْسِيٌّ، وَلَيْسَ مِثْلَ سَائِرِ غَشَيَانِ النُّعَاسِ فَهُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ كَانَ كَرَامَةً لَهُمْ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَصَلَ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [154] ، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: «كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا» . وَذَكَرَ اللَّهُ مِنَّةً أُخْرَى جَاءَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ: وَهِيَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِسْنَادُ هَذَا الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ فِي وَقْتِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ فِيهِ نُزُولُ الْأَمْطَارِ فِي أُفُقِهِمْ، قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ اقْتَرَبُوا مِنْ بَدْرٍ رَامُوا أَنْ يَسْبِقُوا جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ دَهْسَاءَ أَيْ رَمْلًا لَيِّنًا، تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِسْرَاعُ السَّيْرِ إِلَى الْمَاءِ وَكَانَتْ أَرْضُ طَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ مُلَبَّدَةً، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ تَلَبَّدَتِ الْأَرْضُ فَصَارَ السَّيْرُ أَمْكَنَ لَهُمْ، وَاسْتَوْحَلَتِ الْأَرْضُ لِلْمُشْرِكِينَ فَصَارَ السَّيْرُ فِيهَا مُتْعِبًا، فَأَمْكَنَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبْقُ إِلَى الْمَاءِ مِنْ بَدْرٍ وَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَادَّخَرُوا مَاءً كَثِيرًا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَتَطَهَّرُوا وَشَرِبُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ. و (الرجز) الْقَذَرُ، وَالْمُرَادُ الْوَسَخُ الْحِسِّيُّ وَهُوَ النَّجَسُ، وَالْمَعْنَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِالْحَدَثِ. وَالْمُرَادُ الْجَنَابَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْجَيْشَ كُلَّهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْجَيْشِ لَمَّا نَامُوا احْتَلَمُوا فَأَصْبَحُوا عَلَى جَنَابَةٍ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ يُخَيِّلُهَا لِلنَّائِمِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ طَهَارَتَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ طَمَعًا فِي تَثَاقُلِهِ عَنِ الِاغْتِسَالِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ فُقْدَانَ الْمَاءِ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْبَقَاءِ فِي تَنَجُّسِ الثِّيَابِ وَالْأَجْسَادِ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 12 إلى 13]

وَالنَّجَاسَةُ تُلَائِمُ طَبْعَ الشَّيْطَانِ. وَتَقْدِيرُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى مَدٍّ وَحَرْفٍ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ يُؤَمِّنَكُمْ بِكَوْنِكُمْ وَاثِقِينَ بِوُجُودِ الْمَاءِ لَا تَخَافُونَ عَطَشًا وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي الرَّمْلِ، بِأَنْ لَا تَسُوخَ فِي ذَلِكَ الدَّهْسِ الْأَرْجُلُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ حُصُوله بالمطر. و (الرَّبْط) حَقِيقَتُهُ شَدُّ الْوَثَاقِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّثْبِيتِ وَإِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ وَلَهُ رَبَاطَةُ جَأْشٍ. وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ الرَّبْطِ فَهِيَ ترشيح للمجاز. [12، 13] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 12 إِلَى 13] إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: 9] . وَجَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطُّفًا بِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَفْصِيلِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَحَقُّ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ هَذَا الْعِلْمِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَهُمُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَصْرُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَقَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ مِنْ آيَةِ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: 9] وَلِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَغَاثَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ عُرِّفَ اللَّهُ هَنَا بَاسِمِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَافِقَ أُسْلُوبَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: 9] وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِقَدْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لُطْفًا بِهِ وَرَفْعًا لِشَأْنِهِ. وَالْوَحْيُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ إِلْقَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فِي نُفُوسِهِمْ بِتَكْوِينٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا بِإِبْلَاغِهِمْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.

وَ (أَنِّي مَعَكُمْ) قِيلَ هُوَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ مَفْعُولُ يُوحِي، أَيْ يُوحِي إِلَيْهِمْ ثُبُوتَ مَعِيَّتِهِ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ، مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِيُوحِيَ، بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ. وَأَنْتَ عَلَى ذِكْرٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَال: 9] مِنَ تَحْقِيقِ أَنْ تَكُونَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ النُّونِ مُفِيدَةً مَعْنَى (أَنَّ) التَّفْسِيرِيَّةِ، إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَالْمَعِيَّةُ حَقِيقَتُهَا هُنَا مُسْتَحِيلَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْمَعِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ، فَقَدْ يكون مَعْنَاهَا توجه عِنَايَتِهِ إِلَيْهِمْ وَتَيْسِيرِ الْعَمَلِ لَهُمْ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُ (مَعَ) بِمِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: 4] . وَإِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْرِيفُهُمْ وَتَشْرِيفُ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُكَلَّفُونَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تُؤْذِنُ إِجْمَالًا بِوُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَدْعِي الْمُصَاحَبَةَ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَهُمْ: أَنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةً لِلتَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ شَرِيفٍ وَلِذَلِكَ يَذْكُرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعِيَّةُ لِأَنَّهُ سَيُعْلَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ، أَيْ أَنِّي مَعَكُمْ فِي عَمَلكُمْ الَّذِي أكفلكم بِهِ. وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنِّي مَعَكُمْ مِنَ التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي التَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ إِبْدَالٌ لِلْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ بِاقْتِلَاعِهَا وَوَضْعِ أَضْدَادِهَا لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجُبْنَ شَجَاعَةً، وَالْخَوْفَ إِقْدَامًا وَالْهَلَعَ ثَبَاتًا، فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُ الْعِزَّةَ رُعْبًا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ الْمُعْتَادَةِ فَكَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَهِدَ لِلْمَلَائِكَةِ عَمَلَهَا خَوَارِقَ عَادَاتٍ. وَالتَّثْبِيتُ هُنَا مَجَازٌ فِي إِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ النَّفْسَانِيِّ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْخَوْفِ وَمِنْ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَاطْمِئْنَانِهِ. وَعَرَّفَ الْمُثَبَّتُونَ بالموصول لما تومىء إِلَيْهِ صِلَةُ آمَنُوا مِنْ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِعِنَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ وَصْفِ الْإِيمَانِ. وَتَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ إِيقَاعِ ظَنٍّ فِي نُفُوسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِلْهَامًا وَتَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَإِزَالَةٌ لِلِاضْطِرَابِ الشَّيْطَانِيِّ، وَإِنَّمَا

يَكُونُ خَيْرًا إِذَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ خَاطِرًا كَاذِبًا، وَإِلَّا صَارَ غُرُورًا، فَتَشْجِيعُ الْخَائِفِ حَيْثُ يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُ الشَّجَاعَةَ خَاطِرٌ مَلَكِيٌّ وَتَشْجِيعُهُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّى وَيَخَافَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ وَوَسْوَسَةٌ، لِأَنَّهُ تَضْلِيلٌ عَنِ الْوَاقِعِ وَتَخْذِيلٌ. وَلَمْ يُسْنِدْ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى الْمَلَائِكَةِ بَلْ أَسْنَدَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مَلَائِكَةَ نَصْرٍ وَتَأْيِيدٍ فَلَا يَلِيقُ بِقُوَاهُمْ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ، لِأَنَّ الرُّعْبَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ ذَمِيمٌ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِوَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَأَسْنَدَ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ دُونَ بَيَانٍ لِكَيْفِيَّةِ إِلْقَائِهِ، وَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي الْعَالَمِ هُوَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَأَشَارَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْإِهَانَةِ وَبِالِاسْتِدْرَاجِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَصْدِ تَحْقِيرِ الشَّيْطَانِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَصَدَ تَشْرِيفَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُبَارَكٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ خَارِقَ عَادَةٍ، لِأَنَّ أَسْبَابَ ضِدِّهِ قَائِمَةٌ، وَهِيَ وَفْرَةُ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى حِمَايَةِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْعِيرُ. فَجُمْلَةُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا إِخْبَارًا لَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ الَّذِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُمْ تَخْذِيلَ الْكَافِرِينَ بِعَمَلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي كَلَّفَ الْمَلَائِكَةَ بِعَمَلِهِ، فَلَيْسَتْ جُمْلَةُ سَأُلْقِي مُفَسِّرَةً لِمَعْنَى أَنِّي مَعَكُمْ. وَلَمْ يُقِلْ سَنُلْقِي لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُخَاطَبِينَ سَبَبًا فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَتَفْرِيعُ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ عَلَى جُمْلَةِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

الْمُفَرَّعَةِ هُنَا أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَعْنَى، يُؤْذِنُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مِنْ تَخْفِيفِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ إِجْمَالًا قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَوْقَ الْأَعْناقِ على الظَّرْفِيَّة لَا ضربوا. والْأَعْناقِ أَعْنَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَاللَّامُ فِيهِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ لِلْجِنْسِ أَوْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. وَالْبَنَانُ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْإِصْبَعُ وَقِيلَ طَرْفُ الْإِصْبَعِ، وَإِضَافَةُ (كُلٍّ) إِلَيْهِ لِاسْتِغْرَاقِ أَصْحَابِهَا. وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْأَعْنَاقُ وَالْبَنَانُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ إِتْلَافٌ لِأَجْسَادِ الْمُشْرِكِينَ وَضَرْبُ الْبَنَانِ، يُبْطِلُ صَلَاحِيَةَ الْمَضْرُوبِ لِلْقِتَالِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ السِّلَاحِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَدُ أَوْ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْأَصَابِعُ، عَنْ ذِكْرِ السَّيْفِ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَأَنَّ تِلَادِي أَنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي ... وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إِلَيَّ الْأَنَامِلُ يَعْنِي سَيْفَهُ، وَقَالَ أَبُو الْغُولِ الطَّهْوِيُّ: فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي ... فَوَارِسَ صُدِّقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي يُرِيدُ السَّيْفَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَضَرْبُ الْبَنَانِ يَحْصُلُ بِهِ تَعْطِيلُ عَمَلِ الْيَدِ فَإِذَا ضُرِبَتِ الْيَدُ كُلُّهَا فَذَلِكَ أَجْدَرُ. وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً بِتَكْوِينِ قَطْعِ الْأَعْنَاقِ وَالْأَصَابِعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ حَقِيقَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَسْدِيدِ ضَرَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْجِيهِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى جِهَاتِهَا، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، وَقَدْ قِيلَ: الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْكِشَافِ الملحمة. وَجُمْلَة: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَعْلِيلٌ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله أَنَّهُمْ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ

[سورة الأنفال (8) : آية 14]

فَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ. وَالْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِمَّا الْمَلَائِكَةُ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ إِطْلَاعًا لَهُمْ عَلَى حِكْمَةِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. لِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِمْ، وَلَا يَرِيبُكَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِشَارَةِ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِالْمُتَعَيِّنِ، وَإِمَّا مَنْ تَبْلُغُهُمُ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَا فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالْقَوْلُ فِي إِفْرَادِ الْكَافِ هُوَ هُوَ إِذِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْمُرَادُ نَوْعٌ خَاصٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْأَعْنَاقِ وَقَطْعِ الْبَنَانِ. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْمُشَاقَّةُ الْعَدَاوَةُ بِعِصْيَانٍ وَعِنَادٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَشْقُوقِ أَيِ الْمُفَرَّقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ وَالْمُعَادِي يَكُونُ مُتَبَاعِدًا عَنْ عَدُوِّهِ فَقَدْ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ آخَرَ، أَيْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ بِسَبَبِ الِانْتِقَامِ تَعْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَسْتَزِيدُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ هَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَيُوشِكُ مَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِلرَّسُولِ بِدُونِ مُشَاقَّةٍ أَنْ يُوقِعَ فِي عَذَابٍ دُونَ ذَلِكَ، وَخَلِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ ضِدَّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ. وَجُمْلَةُ: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تَذْيِيلٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَيَعُمُّ أَصْنَافَ الْعَقَائِدِ. وَالْمُرَادُ من قَوْله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الْكِنَايَةُ عَنْ عِقَابِ الْمُشَاقِّينَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ تَعَلُّقِ مَضْمُونِ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، كَقَوْلِ عنترة: إِن تغد فِي، دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي ... طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ يُرِيدُ فَإِنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَنْ يَسْتُرُ وَجْهَهُ مِنِّي وَأَنِّي أتوسّمه وأعرفه. [14] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 14] ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) الْخِطَابُ فِي ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذين قتلوا، وَالَّذين قُطِعَتْ بَنَانُهُمْ أَيْ يُقَالُ

لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ حَيْثُ تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ وَبَنَانُهُمْ بِأَنْ يُلْقَى فِي نُفُوسِهِمْ حِينَمَا يُصَابُونَ إِنَّ إِصَابَتَهُمْ كَانَتْ لِمُشَاقَّتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَوَعُّدَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْبَطْشِ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] وَقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: 34] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنَ اخْتِلَاجِ الشَّكِّ نُفُوسَهُمْ، فَإِذَا رَأَوُا الْقَتْلَ الَّذِي لَمْ يَأْلَفُوهُ، وَرَأَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ مَضْرُوبًا بِالسَّيْفِ، ضَرْبًا لَا يَسْتَطِيعُ لَهُ دِفَاعًا، عَلِمَ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ تَحَقَّقَ فِيهِ، فَجَاشَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمُشَاقَّتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ إِصَابَاتٍ تُصِيبُهُمْ مِنْ غَيْرِ مَرْئِيٍّ، فَجُمْلَةُ: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَائِلِينَ، هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: 12] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: 12] وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَلِكَ هُوَ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَنْفَال: 13] فَالتَّقْدِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّكُمْ شَاقَقْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَتَفْرِيعُ فَذُوقُوهُ عَلَى جُمْلَةِ: ذلِكُمْ بِمَا قُدِّرَ فِيهَا تَفْرِيعٌ لِلشَّمَاتَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ، فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَالْإِهَانَةِ، وَمَوْقِعُ فَذُوقُوهُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ، وَالِاعْتِرَاضُ يَكُونُ بِالْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: ضِبَابِ بَنِي الطُّوَالَةِ فَاعْلَمِيهِ ... وَلَا يَغْرُرْكِ نَأْيِي وَاغْتِرَابِي قَالُوا وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ للْعَطْف على الْمَقُول فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكَافِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمْ، أَيْ ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، عِقَابُ الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَكُمْ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ وَالْعَلَاقَةُ الْإِطْلَاقُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ ذَلِكُمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لجَمِيع الْكَافرين.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 16]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 15 إِلَى 16] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) لَمَّا ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَيَّدَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّصْرِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِأَنْ نَصَرَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَأَعْقَبُهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ مَعَ الْكَافِرِينَ بِهِ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِمْ من الوهن والقرار، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: 12] وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ [الْأَنْفَال: 17] الْآيَةَ وَفِي هَذَا تَدْرِيبٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ خُطَّةٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ لَمْ يَزِدْهَا الْإِسْلَامُ إِلَّا تَقْوِيَةً، قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ: تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي ... حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِتَالِ بَدْرٍ، وَلَعَلَّ مُرَادَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ حُكْمَهَا نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ أُثْبِتَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ النَّازِلَةِ بَعْدَ الْمَلْحَمَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَاتِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ ثُمَّ رُتِّبَتْ فِي التِّلَاوَةِ فِي مَكَانِهَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَاللِّقَاءُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ وَاضِحَةٌ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [45] ، وَأَصْلُ اللِّقَاءِ أَنَّهُ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ. وَالزَّحْفُ أَصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا انْبَعَثَ مِنْ مَكَانِهِ مُتَنَقِّلًا على مقعدته يجرر جيله كَمَا يَزْحَفُ الصَّبِيُّ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَشْيِ الْمُقَاتِلِ إِلَى عَدُوِّهِ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ زَحْفٌ لِأَنَّهُ يَدْنُو إِلَى الْعَدُوِّ بِاحْتِرَاسٍ وَتَرَصُّدِ فُرْصَةٍ، فَكَأَنَّهُ يَزْحَفُ إِلَيْهِ.

وَيُطْلَقُ الزَّحْفُ عَلَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ، أَيِ الْكَثِيرِ عَدَدِ الرِّجَالِ، لِأَنَّهُ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ يَثْقُلُ تَنَقُّلُهُ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ، ثُمَّ غُلِبَ إِطْلَاقُهُ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الزَّحْفِ وَيُجْمَعُ عَلَى زُحُوفٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ زَحْفاً فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ الْمَشْيِ فِي الْحَرْب وجلعه وَصْفًا لِتَلَاحُمِ الْجَيْشَيْنِ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلِينَ يَدِبُّونَ إِلَى أَقْرَانِهِمْ دَبِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِذَاتِ الْجَيْشِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ: إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ وَإِمَّا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ هُوَ نَهْيٌ عَنِ الِانْصِرَافِ مِنَ الْقِتَالِ فِرَارًا إِذَا الْتَحَمَ الْجَيْشَانِ، سَوَاءٌ جَعَلْتَ زَحْفًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ مَشْيَ أَحَدِ الْجَيْشَيْنِ يَسْتَلْزِمُ مَشْيَ الْآخَرِ. وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي فَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمْ كَانَ نَهْيًا عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا قِلَّةً فَلَا نَهْيَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ- إِلَى- مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال: 65، 66] ، وَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَ الْمَعْنَى إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ وَهُمْ كَثِيرُونَ فَلَا تَفِرُّوا، فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ قِلَّةً بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى لَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي صِحَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي أَنْفَالِ الْجَيْشِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عِنْدَ قِسْمَةِ مَغَانِمِ بَدْرٍ، وَمَا هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ لِتَوَقُّعِ حُدُوثِ غَزَوَاتٍ يَكُونُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا قَلِيلًا كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ التقهقر إِذا لَا قوا الْعَدُوَّ. فَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا فِي الْحَرْبِ بَغْتَةً وَتَوَلَّى اللَّهُ نَصْرَهُمْ.

وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِآيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً- إِلَى قَوْلِهِ- بِإِذْنِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 65، 66] . وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِيَغِ عُمُومٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ مُطْلَقَةٌ فِي حَالَةِ اللِّقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَتَكُونُ آيَاتُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الْأَنْفَال: 65، 66] مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ هَاتِهِ الْآيَةِ بِمِقْدَارِ الْعَدَدِ وَمُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِهَا اللِّقَاءَ بِقَيْدِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَنَافِعٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا إِنَّ حُكْمَهَا نسخ بِآيَة الضُّعَفَاء آيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ [الْأَنْفَال: 65] الْآيَةَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة، ومآل الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ انْتِظَامِ آيِ السُّورَةِ، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ الثَّانِي لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَأُلْحِقَتِ الْآيَةُ بِهَا، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَثَرِ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الْآيَةَ مُحْكَمٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، لَا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا يخص بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ، وَنَسَبَ ابْنُ الْفُرْسِ، عَنِ النَّحَّاسِ، إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ ابْنُ الْفُرْسِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْنَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ، وَأَنَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْ عَمَلِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الْأُمَرَاءِ الصَّالِحِينَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مَا يَنْضَبِطُ بِهِ مَدَى الْإِذْنِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الْفِرَارِ، وَقَدِ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمرَان: 155] وَمَا عَفَا عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَحَقُّوا الْإِثْمَ، وَلَمَّا انْكَشَفُوا عِنْدَ لِقَاءِ هَوَازِنَ

يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنَّفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [25- 27] وَذِكْرُ التَّوْبَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْإِثْمِ. وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لَا تُوَجِّهُوا إِلَيْهِمْ أَدْبَارَكُمْ، يُقَالُ: وَلَّى وَجْهَهُ فُلَانًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 144] فَيُعَدَّى فِعْلُ وَلَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، (وَمُجَرَّدُهُ وَلِيَ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا وَالِيًا أَيْ قَرِيبًا فَيَكُونُ وَلَّى الْمُضَاعَفُ مِثْلَ قَرَّبَ الْمُضَاعَفِ، فَهَذَا نَظْمُ هَذَا التَّرْكِيب. و (الأدبار) جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ ضِدُّ قُبُلِ الشَّيْءِ وَجْهُهُ، وَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ مِنْهُ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَعْلُهُ أَمَامَهُ، وَدُبُرُهُ ظَهْرُهُ وَمَا تَرَاهُ مِنْهُ حِينَ انْصِرَافِهِ وَجَعْلُهُ إِيَّاكَ وَرَاءَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ اسْتَقْبَلَ وَاسْتَدْبَرَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَمَعْنَى تَوْلِيَتِهِمُ الْأَدْبَارَ صَرْفُ الْأَدْبَارِ إِلَيْهِمْ، أَيِ الرُّجُوعُ عَنِ اسْتِقْبَالِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ فِي سِيَاقِ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مَعَ بَعْضِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِلَّا فَإِنَّ صَرْفَ الظَّهْرِ إِلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ النَّصْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الِانْصِرَافُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، إِذْ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ النَّهْي عَن إدارة الْوَجْهِ عَنِ الْعَدُوِّ، وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ مُسْتَقْبِلِينَ جَيْشَ عَدُوِّهِمْ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ قَبْلَ النَّصْرِ أَوِ الْقَتْلِ. وَعَبَّرَ عَنْ حِينِ الزَّحْفِ بِلَفْظِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الزَّحْفِ أَيْ يُوُلِّهِمْ يَوْمَ الزَّحْفِ دُبُرَهُ أَيْ حِينَ الزَّحْفِ. وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ حَالَةَ التَّحَرُّفِ لِأَجْلِ الْحِيلَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِهَا أَوْ لِإِنْجَادِهَا. وَالْمُسْتَثْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَاتًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا رَجُلًا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَبَقِيَتِ الصِّفَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تحرفه لقِتَال. و (التحرف) الِانْصِرَافُ إِلَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْبَعِيدُ عَنْ وَسَطِهِ فَالتَّحَرُّفُ مُزَايَلَةُ الْمَكَانِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهِ وَالْعُدُولُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ لِذَلِكَ الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْفِرَارِ مِنْهُ.

وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تَحَرُّفٍ أَيْ مُجَانَبَةٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، أَيْ لِأَجْلِ إِعْمَالِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الِاسْمَ، أَوْ لِأَجْلِ إِعَادَةِ الْمُقَاتَلَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الْمَصْدَرَ، وَتَنْكِيرُ قِتَالٍ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الثَّانِي، فَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّحَرُّفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَرِّ لِأَجْلِ الْكَرِّ فَإِنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، وَقَالَ عَمْرو بن معديكرب: وَلَقَدْ أَجْمَعُ رِجْلَيَّ بِهَا ... حَذَرَ الْمَوْتِ وَإِنِّي لَفَرُورُ وَلَقَدْ أَعْطِفُهَا كَارِهَةً ... حِينَ لِلنَّفْسِ مِنَ الْمَوْتِ هَرِيرُ كُلُّ مَا ذَلِكَ مِنِّي خُلُقٌ ... وَبِكُلٍّ أَنَا فِي الرَّوْعِ جَدِيرُ وَالتَّحَيُّزُ طَلَبُ الْحَيِّزِ فَيْعِلٌ مِنَ الْحَوْزِ، فَأَصْلُ إِحْدَى يَاءَيْهِ الْوَاوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَكَانَتِ السَّابِقَةُ سَاكِنَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ تَحَيُّزٌ، فَوَزْنُهُ تَفَيْعُلٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ تَفَعُّلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْكَلِمَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الْإِبْدَالُ وَالْإِدْغَامُ وَهِيَ الْحَيِّزُ، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِمْ: «تَدَيُّرٌ» بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الدَّارَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدَّوَرَانِ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى دُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي جَمْعِهَا دِيَارٌ وَدِيَرَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ مَا عَيْنُهُ يَاءٌ، فَقَالُوا مِنْ ذَلِكَ تَدَيَّرَ بِمَعْنَى أَقَامَ فِي الدَّارِ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الدَّارِ، وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ وَالْمَرْزُوقِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» ، يَعْنِي مَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ جَابِرِ بْنِ حَرِيشٍ: إِذْ لَا تَخَافُ حُدُوجُنَا قَذْفَ النَّوَى ... قَبْلَ الْفَسَادِ إِقَامَةً وَتَدَيُّرَا «التَّدَيُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الدَّارِ وَقِيَاسُهُ تَدَوَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ دِيَارَ أَنِسُوا بِالْيَاءِ وَوَجَدُوا جَانِبَهَا أَوْطَأَ حِسًّا وَأَلْيَنَ مَسًّا فَاجْتَرُّوا عَلَيْهَا فَقَالُوا تَدَيُّرٌ» وَمَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ «الْأَصْلُ فِي تَدَيُّرٍ الْوَاوُ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى دِيَارٍ لِإِلْفِهِمْ لَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ فِي كَلَامِهِمْ» . فَمَعْنَى مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ الْقَهْقَرَى لِيَلْتَحِقَ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ. وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] فِي قَوْلِهِ:

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى مُؤَخَّرَةِ الْجَيْشِ لِأَنَّهَا يَفِيءُ إِلَيْهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحِ أَمْرِهِ أَوْ مَنْ عُرِضَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ يَسْتَنْجِدُ بِهِمْ، فَهُوَ تَوَلٍّ لِمَقْصِدِ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَنْحَازَ إِلَى جَمَاعَةٍ مُسْتَرِيحِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَارِ، وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى الْفِئَةِ الرُّجُوعُ إِلَى مَقَرِّ أَمِيرِ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِفِئَةٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْقُفُولُ إِلَى مَقَرِّ أَمِيرِ الْمِصْرِ الَّذِي وَجَّهَ الْجَيْشَ لِلِاسْتِمْدَادِ بِجَيْشٍ آخَرَ إِذَا رَأَى أَمِيرُ الْجَيْشِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ وَغَيْرِهِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ، وَلَمَّا انْهَزَمَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الْجِسْرِ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَقُتِلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَلَّا تَحَيَّزَ إِلَيَّ فَأَنَا فِئَتُهُ. وباءَ رَجَعَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ ذَلِكَ فَهُوَ قَدْ رَجَعَ مُلَابِسًا لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ (بَاءَ) هُنَا أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ الْبَوْءُ الَّذِي بَاءَهُ. وَهَذَا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْمُسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَغَيْرَهُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَحْرِمَهُ عِنَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّوَلِّي عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ حِينَ الزَّحْفِ. وَالَّذِي أُرَى فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ هُوَ تَحْرِيمُ التَّوَلِّي عَلَى آحَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ إِذَا الْتَقَوْا مَعَ أَعْدَائِهِمْ فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ وَالْمُجَالَدَةِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ إِذَا نَزَلَ الْمُشْرِكُونَ لِمُقَاتَلَتِهِمْ وَعَزَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَإِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ لِلْقِتَالِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ لِلْقِتَالِ، وَلَوْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِرُوا، وإمّا أَن يتشهدوا، وَعَلَى هَذَا فَلِلْمُسْلِمِينَ النَّظَرُ قَبْلَ اللِّقَاءِ هَلْ هُمْ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُونَ الثَّبَات وَجهه أَولا، فَإِنَّ وَقْتَ الْمُجَالَدَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّدْبِيرِ، فَعَلَى الْجَيْشِ النَّظَرُ فِي عَدده وعُدده وَنِسْبَةُ ذَلِكَ مِنْ جَيْشِ عَدُوِّهِمْ، فَإِذَا أَزْمَعُوا الزَّحْفَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الثَّبَاتَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُهُمْ فِي مُدَّةِ نُزُولِهِمْ بِدَارِ الْعَدُوِّ، فَإِذَا رَأَوْا لِلْعَدُوِّ نَجْدَةً أَوِ ازْدِيَادَ قُوَّةٍ نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ هَلْ يَثْبُتُونَ لِقِتَالِهِ أَوْ يَنْصَرِفُونَ بِإِذْنِ أَمِيرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ مُتَابَعَةِ ذَلِكَ

الْعَدُوِّ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِاسْتِنْجَادِ وَالْعَوْدَةِ إِلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ كَمَا صَنَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ إِفْرِيقِيَّةَ الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: 45] وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» . وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنْ يَمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَصْرِ الدِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْجِلَاءِ عَنْ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ، أَنْ يُغَادِرَ دَارَ الْحَرْبِ وَيَرْجِعَ إِلَى مَقَرِّهِ، إِذَا أَمِنَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ الْعَدُوُّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَسْتَطِيعُ بِهِ دِفَاعَهُمْ إِذَا لَحِقُوا بِهِ، فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَوْلِيَةَ أَدْبَارٍ، بَلْ هُوَ رَأْيٌ وَمَصْلَحَةٌ، وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمَلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا قَالَ «فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلْ إِلَيْنَا فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ (أَيِ الَّذِينَ يَكُرُّونَ يَعْنِي أَنَّ فِرَارَكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْفَرِّ لِلْكَرِّ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَلَّى عَنِ الْحَرْبِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا عَكَّرَ أَوِ اعْتَكَرَ) وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» يَتَأَوَّلُ لَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- قَالَ ابْنُ عُمَرَ- فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِرَارَ ابْنِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ مُجَالَدَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ انْسِلَالًا لِيَنْحَازُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَتِلْكَ فِئَتُهُمْ. وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْفِرَارَ فِي وَقْتِ مُنَاجَزَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَهُوَ وَقْتُ اللِّقَاءِ لِأَنَّ الْفِرَارَ حِينَئِذٍ يُوقِعُ فِي الْهَزِيمَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّقْتِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُمْ إِلَّا بِصَبْرِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَلَوِ انْكَشَفُوا بِالْفِرَارِ لَأَعْمَلَ الْمُشْرِكُونَ الرِّمَاحَ فِي ظُهُورِهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حُكْمُ الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَبِهَذَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِحَالِ الزَّحْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ اللِّقَاءِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَأَمَّا آيَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: 65] فَقَدْ

[سورة الأنفال (8) : آية 17]

بَيَّنَتْ حُكْمَ الْعَدَدِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ طَلَبُ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ بِنِسْبَةِ عَدَدِهِمْ إِلَى عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرْسِ. [17] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 17] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: 12] تُفْصِحُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا شَرْطٌ أَوْ غَيْرُهُ- وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فَتَكُونَ رَابِطَةً لِجَوَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: 15] أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تُوَلُّوا الْمُشْرِكِينَ الْأَدْبَارَ تَنْبِيهُكُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا وَعُدَّةً، وَالتَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، فَإِنَّ كَوْنَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيِهِمْ حَاصِلًا مِنَ اللَّهِ لِأَمْنِ الْمُسْلِمِينَ يُفِيدُ تَعْلِيلًا وَتَوْجِيهًا لِنَهْيِهِمْ عَنْ أَنْ يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَلِأَمْرِهِمُ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِضَمَانِ تَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا لِقَوْلِهِ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال 46] فَإِنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ نَاصِرَهُمْ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ عَلَى تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عُذْرَ الْمُتَوَلِّينَ وَالْفَارِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمرَان: 155] . وَإِذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةِ أَفْعَالٍ فَعَلَهَا الْمُخَاطَبُونَ، كَانَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِنَفْيِ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ أَنَّ حُصُولَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ بِأَسْبَابِ ضَرْبِ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنَّبَأَهُمْ أَنَّ تِلْكَ السُّيُوفَ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُؤَثِّرَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ الْمُصِيبَ الْمُطَّرِدَ الْعَامَّ الَّذِي حَلَّ بِأَبْطَالٍ ذَوِي شَجَاعَةٍ، وَذَوِي شَوْكَةٍ وَشِكَّةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ صُورِيًّا، أَكْرَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَارَنَتِهِ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ الضَّرْبُ الْكَائِنُ سَبَبَ الْقَتْلِ فِي الْعَادَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ يَوْمَئِذٍ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةً لِأَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ الْمَنْفِيُّ تَأْثِيرَ الضَّرْبِ

فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتْلِ الْحَاصِلِ يَوْمَ بَدْرٍ مَزِيَّةٌ عَلَى أَيِّ قَتْلٍ يَقَعُ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ، فِي جَاهِلِيَّةٍ أَوْ إِسْلَامٍ، وَذَلِكَ سِيَاقُ الْآيَةِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيمُ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِيلُ نَهْيِهِمْ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا لَقُوا. وَلَيْسَ السِّيَاقُ لِتَعْلِيمِ الْعَقِيدَةِ الْحَقِّ. وَأَصْلُ الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ صُدُورِ الْمُسْنَدِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْمُسْنَدِ أَصْلًا فَلِذَلِكَ صَحَّ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ مَعَ كَوْنِ الْقَتْلِ حَاصِلًا، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ كَوْنُهُ صَادِرًا عَنْ أَسْبَابِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمُفَادِ بِ لكِنَّ أَنَّ الْخَبَرَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْوَاقِعُ صَادِرًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَتَطَلَّبُ أَكَانَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً أَمْ هُوَ دُونَ الْقَتْلِ، وَمَنْ كَانَ فَاعِلًا لَهُ، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ. وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا الِاخْتِصَاصُ، لِأَنَّ نَفْيَ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْمُخَاطَبُونَ مُتَطَلِّبِينَ لِمَعْرِفَةِ فَاعِلِ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مُهِمًّا عِنْدَهُمْ تَعْجِيلُ الْعِلْمِ بِهِ. وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. اسْتِطْرَادٌ بِذِكْرِ تَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ آخَرَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ حَرَّضَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَارْمِهِمْ بِهَا فَأَخَذَ حفْنَة من الحصاء فَاسْتَقْبَلَ بِهَا الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: شُدُّوا فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَصَا فِي عَيْنَيْهِ فَشُغِلَ بِعَيْنَيْهِ فَانْهَزَمُوا، فَلِكَوْنِ الرَّمْيِ قِصَّةً مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ حَذَفَ مَفْعُولَ الرَّمْيِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ رَمْيُ الْحَصْبَاءِ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى لَا تُنَاسِبُ مَهْيَعَ السُّورَةِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَمَيْتَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ إِلْقَاءُ شَيْءٍ أَمْسَكَتْهُ الْيَدُ، وَيُطْلَقُ الرَّمْيُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِسُوءٍ مِنْ

فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ أَيْ أَصَابَهَا بِمَا يَشَلُّهَا- وَقَوْلِ جَمِيلٍ: رَمَى اللَّهُ فِي عَيْنَيْ بُثَيْنَةَ بِالْقَذَى ... وَفِي الْغُرِّ من أنيابها بالقوازح وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النُّور: 6] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَمَيْتَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا الْمَجَازِيِّ أَيْ وَمَا أَصَبْتَ أَعْيُنَهُمْ بِالْقَذَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَصَابَهَا بِهِ لِأَنَّهَا إِصَابَةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ فَنُفِيَتْ عَنِ الرَّمْيِ الْمُعْتَادِ وَأُسْنِدَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرٍ خَفِيٍّ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَفِي «الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا رَمَيْتَ الْفَزَعَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ بِالْحَصْبَاءِ فَانْهَزَمُوا، وَفِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ (رَمَيْتَ) الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، وَ (رَمَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَجَعَلُوا الْمَنْفِيَّ هُوَ الرَّمْيُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُثْبَتَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ رَمَيْتَ هُوَ الرَّمْيُ الْمَجَازِيُّ وَجَعَلَهُ السَّكَاكِيُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فَجَعَلَ مَا رَمَيْتَ نَفْيًا لِلرَّمْيِ الْحَقِيقِيِّ وَجَعَلَ (إِذْ رَمَيْتَ) لِلرَّمْيِ الْمَجَازِيِّ. وَقَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ لِلرَّمْيِ وَأَنَّهُ الرَّمْيُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَتْ لَهُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ كَانَ اخْتِصَاصُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْثِيرِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ، وَإِسْنَادُ حُصُولِهِ إِلَى مُجَرَّدِ فِعْلِ اللَّهِ مُحْتَاجًا إِلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ كَوْنِ رَمْيِ الْحَصَى الْحَاصِلِ بِيَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصِلًا مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، فَاحْتِيجَ فِي نَفْيِهِ إِلَى التَّأْكِيدِ إِبْطَالًا لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي النَّفْيِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِ رَمْيٍ كَامِلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَنْفُونَ الْفِعْلَ وَمُرَادُهُمْ نَفْيُ كَمَالِهِ حَتَّى قَدْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِ ضِدِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ أَيْ شَيْئًا مُجْدِيًا، فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ

هُوَ الرَّمْيُ بِمَعْنَى أَثَرِهِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ وُقُوعِ الرَّمْيِ مِثْلَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الرَّمْيَ وَاقِعٌ مِنْ يَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْيِ إِصَابَةُ عُيُونِ أَهْلِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالَّذِي يَحْصُلُ بِرَمْيِ الْيَدِ، لِأَنَّ أَثَرَ رَمْيِ الْبَشَرِ لَا يَبْلُغُ أَثَرُهُ مَبْلَغَ تِلْكَ الرَّمْيَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَثَرِهَا مَا عَمَّ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ، عُلِمَ انْتِفَاءُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّمْيَةُ مَدْفُوعَةً بِيَدِ مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهَا مَدْفُوعَةٌ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى كَالْقَوْلِ فِي وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْجُمْهُورُ وَلكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ فِيهِمَا. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ- وَما رَمَيْتَ الْآيَةَ. فَإِنَّ قَتْلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَإِصَابَةَ أَعينهم كَانَا الْغَرَض هَزْمِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُبْلِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا أَيْ يُعْطِيَهُمْ عَطَاءً حَسَنًا يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهِ، فَيَظْهَرُ مَا يَدُلُّ عَنْ قِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ مِمَّا تُخْتَبَرُ بِهِ طَوِيَّتُهُمْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ هَذَا الْفِعْلِ هِيَ الْبَلَاءُ وَجَاءَ مِنْهُ الْإِبْلَاءُ بِالْهَمْزِ وَتَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ أَغْفَلَهُ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَمَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُضَارِعُ أَبْلَاهُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْبَلْوَى الَّذِي أَصله الِاخْتِيَار ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِصَابَةِ أَحَدٍ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَظْهَرُ بِهِ مِقْدَارُ تَأَثُّرِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِشَرٍّ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْإِصَابَةَ بِخَيْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: 35] وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ وَشَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْكِنَائِيُّ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، وَبَقِيَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ صَالِحًا لِلْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْلَاهُ مَهْمُوزٌ أَيْ أَصَابَهُ بِخَيْرٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: «يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً وَمِنَ الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً» . قُلْتُ: جَعَلُوا الْهَمْزَةَ فِيهِ دَالَّةً عَلَى الْإِزَالَةِ أَيْ إِزَالَةِ الْبَلَاءِ الَّذِي غَلَبَ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلاءً حَسَناً وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفعل يبلي موكد لَهُ، لِأَنَّ فِعْلَ يُبْلِي دَالٌّ عَلَى بَلَاءٍ حَسَنٍ

[سورة الأنفال (8) : آية 18]

وَضَمِيرٌ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَ (مِنَ) الِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ لِتَشْرِيفِ ذَلِكَ الْإِبْلَاءِ وَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ وَيَكُونُ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل لِلْكَلَامِ و (إِن) هَذَا مُقَيِّدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَقَدْ سَمِعَ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغَاثَتَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لِعِنَايَتِهِ وَنَصْرِهِ فَقَبِلَ دعاءهم ونصرهم. [18] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 18] ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) الْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ عِلَّةٌ لِلتَّوْهِينِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِمَقَاصِدَ يَجْمَعُهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] وَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ تَعْلِيلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [الْأَنْفَال: 51] . وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ وَعُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) ، فَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، مَجْرُورٍ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ وَلِتَوْهِينِ كَيْدِ الْكَافِرِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِشَارَة ب ذلِكُمْ إِلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: 17] مِنْ تَعْلِيلِ الرَّمْيِ بِخَذْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمِهِمْ وَإِبْلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ اثْنَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وكَيْدِ الْكافِرِينَ هُوَ قَصْدُهُمُ الْإِضْرَارَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صُورَةٍ لَيْسَتْ ظَاهِرُهَا بِمُضِرَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءُوا لِإِنْقَاذِ الْعِيرِ لَمَّا عَلِمُوا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ، وَظَنُّوا خْيَبَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِهَا، أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَكَةَ، وَأَقَامُوا عَلَى بَدْرٍ لِيَنْحَرُوا وَيَشْرَبُوا الْخَمْرَ وَيَضْرِبُوا الدُّفُوفَ فَرَحًا وَافْتِخَارًا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ،

[سورة الأنفال (8) : آية 19]

وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اللَّهْوِ، وَلَكِنْ لِيَتَسَامَعَ الْعَرَبُ فَيَتَسَاءَلُوا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَيُخْبِرُوا بِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَصْرِفُهُمْ ذَلِكَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَوْهِينَهُمْ بِهَزْمِهِمْ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ الشَّنْعَاءَ فَهُوَ مُوهِنُ كَيْدِهِمْ فِي الْحَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ، الْكَيْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [183] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، مُوَهِّنٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَبِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ كَيْدِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ، وَيَعْقُوبُ، مُوهِنٌ بِتَسْكِينِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَنَصْبٍ كَيْدَ- وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِإِضَافَةِ مُوهِنِ إِلَى كَيْدِ، وَالْمَعْنَى وَهِيَ إِضَافَةٌ لَفْظِيَّةٌ مُسَاوِيَة للتنكير. [19] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 19] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا خُوطِبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فِي خِلَالِ خُطَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: 18] وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: 18] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا أَزْمَعُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ أَيْضًا وَقَالُوا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَخُوطِبُوا بِأَنْ قَدْ جَاءَهُمُ الْفَتْحُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَيِ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَ تَهَكُّمًا لِأَنَّ فِي مَعْنَى جاءَكُمُ الْفَتْحُ اسْتِعَارَةَ الْمَجِيءِ لِلْحُصُولِ عِنْدَهُمْ تَشْبِيهًا بِمَجِيءِ الْمُنْجِدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْفَتْحِ جَاءِيًا إِيَّاهُمْ. يَقْتَضِي أَنَّ النَّصْرَ كَانَ فِي جَانِبِهِمْ وَلِمَنْفَعَتِهِمْ، وَالْوَاقِعُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِقَرِينَةِ مُخَالَفَتِهِ الْوَاقِعَ بِمَسْمَعِ الْمُخَاطَبِينَ وَمَرْآهُمْ. وَحَمَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِعْلَ جاءَكُمُ عَلَى مَعْنَى: فَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمُ النَّصْرُ وَرَأَيْتُمُوهُ أَنَّهُ

عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ: مِثْلِ وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: 22] وَمِثْلِ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] وَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ. وَصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِنْ تَكْرِيرِهِمُ الدُّعَاءَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِكُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ. وَعُطِفَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى الْعِنَادِ وَالْقِتَالِ نَعُدْ، أَيْ نَعُدْ إِلَى هَزْمِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ لَا تَنْفَعُكُمْ جَمَاعَتُكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ وَاثِقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ: إِنْ تَعُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ. ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ عَلَى فِئَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَصَاحِبُ الْحَال المقترنة ب (لَو) الِاتِّصَالِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَضْمُونِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا الْعَوْدَ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ لِلْمُحِقِّ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى نَعُدْ وَلَا مَوْقِعَ لِجُمْلَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ فَإِنَّ فِئَتَهُمْ أَغْنَتْ عَنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْجَوَابُ عَن هَذَا إِشْكَال أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ بِأَدَاةِ شَرْطٍ مِمَّا يُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ (مَهْمَا) فَلَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّفُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ عَنْ حُصُولِ الشَّرْطِ فِي مَرَّةٍ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَضَى لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَصَرَهُمْ وَعَلِمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا ثُمَّ دَارَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرِحُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْهُ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَعُوقِبُوا بِالْهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 166]- وَقَالَ- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ

عِمْرَانَ [155] ، وَبَعْدُ فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ بِشَارَةٌ أَن النَّصْرَ الْحَاسِمَ سَيَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ نَصْرُ يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ. وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ زِيَادَةٌ فِي تَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَتَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ النَّصْرَ الَّذِي انْتَصَرُوهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ لَا بِأَسْبَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنُسِبَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ، لِكَوْنِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَدْ صَارَ نَادِرًا، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا بُعَدَاءَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُمْ لَمَّا ذُكِّرُوا بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: 9] الْآيَاتِ، وَأُمِرُوا بِالثَّبَاتِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَذُكِّرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: 17، 18] كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا أَيَكُونُ كَذَلِكَ شَأْنُنَا كُلَّمَا جَاهَدْنَا أَمْ هَذِهِ مَزِيَّةٌ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً جَوَابَ هَذَا التَّسَاؤُلِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُهُ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ دَلِيلًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَنْصُرْكُمْ فَقَدْ نَصَرْنَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ النَّصْرِ وَمَعْنَى وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنْ تُمْسِكُوا عَنِ الْجِهَادِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهُوَ أَيِ الْإِمْسَاكُ، خَيْرٌ لَكُمْ لِتَسْتَجْمِعُوا قُوَّتَكُمْ وَأَعْدَادَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حَالِ الْجِهَادِ مُنْتَصِرُونَ، وَفِي حَالِ السِّلْمِ قَائِمُونَ بِأَمْرِ الدَّين وتدبير شؤونكم الصَّالِحَةِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ الْغَنِيمَةِ أَوْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِانْتِصَارِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ وُقُوعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ إِنْ تَعُودُوا إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ نَعُدْ فَنَنْصُرَكُمْ أَيْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ عَطَائِنَا كَمَا قَالَ زُهَيْر: سَأَلنَا فأعطيتكم وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ ... وَمَنْ أَكْثَرَ التَّسْآلَ يَوْمًا سَيُحْرَمُ

يُعْلِمُهُمُ اللَّهُ صِدْقَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْقِعُ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَضْمُونِ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا إِلَّا عَلَى نَصْرِ اللَّهِ. فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِتَعْلِيقِ مَجِيءِ الْفَتْحِ عَلَى أَنْ تَسْتَفْتِحُوا الْمُشْعِرِ بِأَنَّ النَّصْرَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْحُصُولِ إِلَّا إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَثُرَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، ولَوْ إِتِّصَالِيَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ مُتَّصِفٌ بِضِدِّ مَضْمُونِهَا، أَيْ: وَلَوْ كَثُرَتْ فَكَيْفَ وَفِئَتُكُمْ قَلِيلَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ إِيمَانُهُمْ. فَهَذَانِ تَفْسِيرَانِ لِلْآيَةِ وَالْوِجْدَانُ يَكُونُ كِلَاهُمَا مُرَادًا. وَالْفَتْحُ حَقِيقَتُهُ إِزَالَةُ شَيْءٍ مَجْعُولٍ حَاجِزًا دُونَ شَيْءٍ آخَرَ، حِفْظًا لَهُ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ الِافْتِكَاكِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْجِدَارُ حَاجِزٌ، وَالْبَابُ حَاجِزٌ، وَالسَّدُّ حَاجِزٌ، وَالصُّنْدُوقُ حَاجِزٌ، وَالْعِدْلُ تَجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ حَاجِزٌ، فَإِذَا أُزِيلَ الْحَاجِزُ أَوْ فُرِّجَ فِيهِ فَرْجَةٌ يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى الْمَحْجُوزِ سُمِّيَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ فَتْحًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، إِذْ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَخْلُو عَنِ اعْتِبَارِهِ جَمِيعُ اسْتِعْمَالِ مَادَّةِ الْفَتْحِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُسْتَعَارُ لِإِعْطَاءِ الشَّيْءِ الْعَزِيزِ النَّوَالِ اسْتِعَارَةً مُفْرَدَةً أَوْ تَمْثِيلِيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [96] فَالِاسْتِفْتَاحُ هُنَا طَلَبُ الْفَتْحِ أَيِ النَّصْرِ، وَالْمَعْنَى إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ. وَكَثُرَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى حُلُولِ قَوْمٍ بِأَرْضٍ أَوْ بَلَدِ غَيْرِهِمْ فِي حَرْبٍ أَوْ غَارَةٍ، وَعَلَى النَّصْرِ، وَعَلَى الْحُكْمِ، وَعَلَى مَعَانٍ أُخَرَ، عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ إِنْ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: 18] . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْآيَةِ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ يَصْلُحُ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِ الْمُذَيَّلِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى للمقدمة الصُّغْرَى.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 إلى 23]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 20 إِلَى 23] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) لَمَّا أَرَاهُمُ اللَّهُ آيَاتِ لُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ، وَرَأَوْا فَوَائِدَ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانُوا كَارِهِينَ الْخُرُوجَ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَةِ النَّصْرِ، وَاعْتِبَارًا بِأَنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ خَيْرٌ عَوَاقِبُهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمر الله وَرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 1] رُجُوعُ الْخَطِيبِ إِلَى مُقَدِّمَةِ كَلَامِهِ وَدَلِيلِهِ لِيَأْخُذَهَا بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ فِي صُورَةِ نَتِيجَةٍ أَسْفَرَ عَنْهَا احْتِجَاجُهُ، لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْقِيَاسِ هُوَ عَيْنُ النَّتِيجَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 1] فِي سِيَاقِ تَرْجِيحِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا لِذَلِكَ بِحَادِثَةِ كَرَاهَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ وَمُجَادَلَتِهِمْ لِلرَّغْبَةِ فِي عَدَمِهِ، ثُمَّ حَادِثَةِ اخْتِيَارِهِمْ لِقَاءَ الْعِيرِ دُونَ لِقَاءِ النَّفِيرِ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ، وَمَا نَجَمَ عَنْ طَاعَتِهِمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُخَالَفَتِهِمْ هَوَاهُمْ ذَلِكَ مِنَ النَّصْرِ الْعَظِيمِ وَالْغُنْمِ الْوَفِيرِ لَهُمْ مَعَ نَزَارَةِ الرَّزْءِ، وَمِنَ التَّأْيِيدِ الْمُبِينِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّأْسِيسِ لِإِقْرَارِ دِينِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الْأَنْفَال: 7، 8] وَكَيْفَ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِالنَّصْرِ الْعَجِيبِ لَمَّا أَطَاعُوهُ وَانْخَلَعُوا عَنْ هَوَاهُمْ، وَكَيْفَ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْمُشَاقَّةُ ضِدُّ الطَّاعَةِ تَعْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ بِوُجُوبِ التَّبَرُّؤِ مِمَّا فِيهِ شَائِبَةُ عِصْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ شَدِيدٍ عَلَى النُّفُوسِ أَلَا وَهُوَ إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: 15] وَأَظْهَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ عَجِيبِ النَّصْرِ لَمَّا ثَبَتُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَال: 17] ، وَضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ إِنْ هُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَطَلَبُوا مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ أَمْرِهِمْ بِأَنْ

يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَتَوَلَّوْا عَنْهُ، فَذْلَكَةً لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الْوَاقِعَةِ بِطُولِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 1] وَذَلِكَ كُلُّهُ يَقْتَضِي فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَافْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِينَ قَصْدًا لِإِحْضَارِ الذِّهْنِ لِوَعْيِ مَا سَيُقَالُ لَهُمْ، فَنَزَّلَ الْحَاضِرَ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ، فَطَلَبَ حُضُورَهُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمَوْضُوعِ لِطَلَبِ الْإِقْبَالِ. وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَقَبَّلُوا مَا سَيُؤْمَرُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا كَانَ الشِّرْكُ مُسَبِّبًا لِمُشَاقَّةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَوْله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَنْفَال: 13] ، فَخَلِيقٌ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يُسَاوِي قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهَا: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 1] ، مَعَ الْإِشَارَةِ هُنَا إِلَى تَحَقُّقِ وَصْفِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ وَأَنَّ إِفْرَاغَهُ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا قُصِدَ مِنْهُ إِلَّا شَحْذُ الْعَزَائِمِ، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْبَدِيعُ فِي الْمُحَاوَرَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا انْتِظَامًا بَدِيعًا مُعْجِزًا. وَالطَّاعَةُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالتَّوَلِّي الِانْصِرَافُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ. وَإِفْرَادُ الضَّمِير الْمَجْرُور ب (عَن) لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هَذَا الْمُنَاسِبُ لِلتَّوَلِّي بِحَسْبِ الْحَقِيقَةِ. فَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ هُنَا يُشْبِهُ تَرْشِيحَ الِاسْتِعَارَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّوَلِّي عَنِ الرَّسُولِ نَهْيٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [الْأَعْرَاف: 80] وَأَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا- بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا. وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَشْوِيهُ التَّوَلِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعِصْيَانَ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ الطَّاعَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي حِينِ انْخِرَامِ بَعْضِهَا. فَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ هُنَا حَقِيقَتُهُ أَيْ فِي حَالٍ لَا يَعُوزُكُمْ تَرْكُ التَّوَلِّي بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ- وَذَلِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ السَّمْعِ الْعَمَلُ بِالْمَسْمُوعِ، فَمَنْ سَمِعَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْمَسْمُوعِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمر بِالطَّاعَةِ كَلَام يُطَاعُ ظَهَرَ مَوْقِعَ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الصَّادِرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ أَهْلُ الْعُقُولِ كَانَ مُجَرَّدُ سَمَاعِهِ مُقْتَضِيًا عَدَمَ التولي عَنهُ، ضمن تَوَلَّى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ فَأَمْرٌ عَجَبٌ ثُمَّ زَادَ فِي تَشْوِيهِ التَّوَلِّي عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِفِئَةٍ ذَمِيمَةٍ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سَمِعْنَا، وَهُمْ لَا يَصَدِّقُونَهُ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرهُم وينهاهم. و (إِن) لِلتَّمْثِيلِ وَالتَّنْظِيرِ فِي الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي حَثِّ النَّفس على التَّشَبُّه أَوِ التَّجَنُّبِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً [الْأَنْفَال: 47] وَسَيَأْتِي وَأَصْحَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُشَاهَدَتِهِمْ، وَبِإِخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، فَقَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: 31] وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الْأَنْعَام: 25] ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَبَقِيَّتُهُمْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أُحُدٍ، وَكَانُوا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقُولُوا سَمِعْنَا بَلْ قَالُوا: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ، فَلَا يَصْحُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلِ الْمُرَادُ طَوَائِفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ، وَقَدْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَاجَهُوا بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا [النِّسَاء: 46] وَقِيلَ: أُرِيدَ الْمُنَافِقُونَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النِّسَاء: 81] وَإِنَّمَا يَقُولُونَ سَمِعْنَا لِقَصْدِ إِيهَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا، لِأَنَّ السَّمْعَ يُكَنَّى بِهِ عَن الِانْتِفَاع بالسموع وَهُوَ مَضْمُونُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ طاعَةٌ وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ السَّمْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا سَمِعُوهُ، فَالْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى السَّمْعِ الَّذِي أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا وَهُوَ إِيهَامُهُمْ أَنَّهُمْ مُطِيعُونَ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَاوُ الْحَالِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَتَقَرَّرَ مَفْهُومُهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَيُرَسَّخُ اتِّصَافُهُ بِمَفْهُومِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ السَّمْعِ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هُوَ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ هَذِهِ الصِّلَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ لَا خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَصِيَغَ فِعْلُ لَا يَسْمَعُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ السَّمْعِ،

فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وَهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا. وَجُمْلَةُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَسَوْقُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ دَوَابَّ صَمَّاءَ بَكْمَاءَ. وَالتَّعْرِيضُ قَدْ يَكُونُ كِنَايَةً وَلَيْسَ مِنْ أَصْنَافِهَا فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهِيًّا، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ كَلَامٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَدْلُولِهِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُرَادُ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] ، وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ نَحْوَ قَوْلِهِمْ لِلْجَوَادِ: جَبَانُ الْكَلْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلْبٌ، فَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَيْسَ إِرَادَةَ لَازِمِ مَعْنَى لَفْظٍ مُفْرَدٍ وَلَا لَازم معنى تركيب، وَإِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ لِنُطْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [235] التَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا يُدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ يُرِيدُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا دَالًّا كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِغَيْرِهِ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ. قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْرِيضِ قَوْلُ الْقَائِلِ- حِينَ يَسْمَعُ رَجُلًا يَسُبُّ مُسْلِمًا أَوْ يَضْرِبُهُ-: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ لَمْ يُرَدْ بِهِ لَازِمُ مَعْنَى أَلْفَاظٍ وَلَا لَازِمُ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ النُّطْقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِدُونِ مُقْتَضٍ لِلْإِخْبَارِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَبَيْنَ ضَرْبِ الْمَثَلِ: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ ذِكْرُ كَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَشْبِيهِ هَيْئَةِ مَضْرِبِهِ بِهَيْئَةِ مُورِدِهِ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ فِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ. فَالتَّعْرِيضُ كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَوْ مَجَازِهِ، وَيَحْصُلُ بِهِ قَصْدُ التَّعْرِيضِ مِنْ قَرِينَةِ سَوْقِهِ فَالتَّعْرِيضُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِهِمْ بِالدَّوَابِّ، فَإِنَّ الدَّوَابَّ ضَعِيفَةُ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا كَانَتْ صَمَّاءَ كَانَتْ مَثَلًا فِي انْتِفَاءِ الْإِدْرَاكِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ بُكْمًا انْعَدَمَ مِنْهَا مَا انْعَدم مِنْهَا مَا يَعْرِفُ بِهِ صَاحِبُهَا مَا بِهَا، فَانْضَمَّ عَدَمُ الْإِفْهَامِ إِلَى عَدَمِ الْفَهْمِ، فَقَوْلُهُ: الصُّمُّ الْبُكْمُ خَبَرَانِ عَنِ الدَّوَابِّ بِمَعْنَاهُمَا الْحَقِيقِيِّ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنِ التَّشْبِيهِ إِلَى التَّوْصِيفِ لِأَنَّ الَّذِينَ

مِمَّا يُنَاسِبُ الْمُشَبَّهِينَ إِذْ هُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشَبَّهِينَ كَمَا تَخَلَّصَ طَرَفَةُ فِي قَوْلِهِ: خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا ... تَوَسَّطَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي وشَرَّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَصْلُهُ «أَشَرَّ» فحذفت همزته تخفيا كَمَا حُذِفَتْ هَمْزَةُ خَيْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 60] الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالدَّوَابِّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الدَّابَّةَ الصَّمَّاءَ الْبَكْمَاءَ أَخَسُّ الدَّوَابِّ. عِنْدَ اللَّهِ قَيْدٌ أُرِيدَ بِهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقِ كَوْنِهِمْ، أَشَرَّ الدَّوَابِّ بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اصْطِلَاحٍ ادِّعَائِيٍّ، أَيْ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ فِي تُفَاضِلِ الْأَنْوَاعِ لَا فِي تَسَامُحِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَالْعُرْفُ يَعُدُّ الْإِنْسَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَالْحَقِيقَةُ تُفَصِّلُ حَالَاتِ الْإِنْسَانِ فَالْإِنْسَانُ الْمُنْتَفِعُ بِمَوَاهِبِهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ إِلَى الْكَمَالِ هُوَ بِحَقٍّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُجْمِ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي دَلَّى بِنَفْسِهِ إِلَى حَضِيضِ تَعْطِيلِ انْتِفَاعِهِ بِمَوَاهِبِهِ السَّامِيَّةِ يَصِيرُ أَحَطَّ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ. وَالْمُشَبَّهُونَ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، شُبِّهُوا بِالصُّمِّ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا لِأَنَّهُ مِمَّا يَكْفِي سَمَاعُهُ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَشُبِّهُوا بِالْبُكْمِ فِي انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ وَالْعَجْزِ عَنْ رَدِّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فهم مَا قبلوا وَلَا أَظْهَرُوا عُذْرًا عَنْ عَدَمِ قَبُولِهِ. وَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِانْتِهَاءِ قَبُولِ الْمَعْقُولَاتِ وَالْعَجْزِ عَنِ النُّطْقِ بِالْحُجَّةِ أَتْبَعَهُ بِانْتِفَاءِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ أَيْ عَقْلُ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَلْهَ عَقْلَ التَّقَبُّلِ، وَقَدْ وُصِفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْقُرْآنِ كُلٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا إِنَّمَا عَنَى بِهِمْ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالُوا مَقَالَةً تَقْرُبُ مِمَّا جَاءَ فِي الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّوَابَّ مُشَبَّهٌ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى شِبْهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَدْ سَكَتَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ مَوْقِعِ إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ دَقِيقٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ جِبِلَّتَهُمْ لَا تَقْبَلُ دَعْوَةَ الْخَيْرِ وَالْهِدَايَةِ وَالْكَمَالِ، فَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُمُ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ، فَكَانُوا كَالصُّمِّ، وَانْتَفَى عَنْهُمْ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ وَالْكَلَامِ بِمَا يُفِيدُ كَمَالًا نَفْسَانِيًّا فَكَانُوا كَالْبُكْمِ، فَالْمَعْنَى: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ قَابِلِيَّةً لِتَلَقِّي الْخَيْرِ لَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ نُفُوذِ الْحَقِّ فِي نُفُوسِهِمْ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ التَّعَلُّمِ، وَلَكِنَّهُمُ انْتَفَتْ قَابِلِيَّةُ الْخَيْرِ عَنْ جِبِلَّتِهِمُ الَّتِي جُبِلُوا عَلَيْهَا فَلَمْ تَنْفُذْ دَعْوَةُ الْخَيْرِ مِنْ أسماعهم إِلَى تعقلهم، أَيْ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ الْهُدَى إِلَى نُفُوسِهِمْ إِلَّا بِمَا يُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ من لطف إلّا هِيَ بِنَحْوِ اخْتِرَاقِ أَنْوَارٍ نَبَوِيَّةٍ إِلَى قُلُوبِهِمْ. ولَوْ حَرْفُ شَرْطٍ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِانْتِفَاءِ الْجَزَاءِ عَلَى تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، وَمِنْ لَطَائِفِهَا هُنَا أَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ مَلَابَسَةٍ بَاطِنِيَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ (لَوْ) حَرْفًا يُفِيدُ امْتِنَاعَ حُصُولِ جَوَابِهِ بِسَبَبِ حُصُولِ شَرْطِهِ، كَانَ أَصْلُ مَعْنَى لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ كَانَ فِي إِدْرَاكِهِمْ خَيْرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ لَقَبِلُوا هَدْيَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِي جِبِلَّةِ مَدَارِكِهِمْ فَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِكَلَامِ اللَّهِ فَهُمْ كَمَنْ لَا يَسْمَعُ. فَوَقَعَتِ الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ اسْتِعْدَادِ مَدَارِكِهِمْ لِلْخَيْرِ، بِعِلْمِ اللَّهِ عَدَمَ الْخَيْرِ فِيهِمْ. وَوَقَعَ تَشْبِيهُ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِفَهْمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِعَدَمِ إِسْمَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ الْآيَاتِ كَلَامُ اللَّهِ فَإِذَا لَمْ يَقْبَلُوهَا فَكَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُسْمِعْهُمْ كَلَامَهُ فَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخَيْرِ الْجِبِلِّيِّ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْقَابِلِيَّةُ لِلْخَيْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْتِفَاءَ عِلْمِ اللَّهِ بِشَيْءٍ يُسَاوِي عِلْمَهُ بِعَدَمِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ شَيْءٍ. فَصَارَ مَعْنَى لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَوْ كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ خَيْرٌ، وَعَبَّرَ عَنْ قَبُولِهِمُ الْخَيْرَ الْمَسْمُوعَ وَانْفِعَالِ نُفُوسِهِمْ بِهِ بِإِسْمَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمَوَاعِظِ، فَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخَيْرِ الِانْفِعَالِيِّ عَنْهُمْ وَهُوَ التَّخَلُّقُ وَالِامْتِثَالُ لِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: لَوْ جَبَلَهُمُ اللَّهُ عَلَى قَبُولِ الْخَيْرِ لَجَعَلَهُمْ يَسْمَعُونَ أَيْ يَعْمَلُونَ بِمَا يَدْخُلُ أَصْمَاخَهُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ. فَالْكَلَامُ اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْخَيْرِ. وَذَلِكَ هُوَ فَرْدُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعِ الْحَقِّ، عَلَى انْتِفَاءِ جِنْسِ الْخَيْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَمَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ إِجْرَاءُ أَمْرِهِمْ عَلَى الْمَأْلُوفِ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ أَجْنَاسِ الصِّفَاتِ وَأَشْخَاصِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شَاءَ أَنْ يُجْرِيَ أَمْرَهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ فَقَدِ انْتَفَتْ مُخَالَطَةُ الْخَيْرِ نَفْسَهُ، وَكُلُّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي وَقْتِ عِنَادِهِ وَتَصْمِيمِهِ عَلَى الْعِنَادِ قَدِ انْتَفَتْ مُخَالَطَةُ الْخَيْرِ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ الْخَيْرَ يَلْمَعُ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَوْلَى نُورُ الْخَيْرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى ظُلْمَةِ كُفْرِهِ أَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ الْخَيْرَ فَأَصْبَحَ قَابِلًا لِلْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا حِينَئِذٍ فَأَسْمَعَهُ. فَمِثْلُ ذَلِكَ مَثَلُ أَبِي سُفْيَانَ، إِذْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ لَيْلَةِ فَتْحِ مَكَّةَ قَائِدَ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ جَيْشِ الْفَتْحِ وَأُدْخِلَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ أَمَّا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرَ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا» ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَنْ تَشْهَدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالَ: أَمَّا هَذِهِ فَفِي الْقَلْبِ مِنْهَا شَيْءٌ» فَلَمْ يَكْمُلْ حِينَئِذٍ إِسْمَاعُ اللَّهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ تَمَّ فِي نَفْسِهِ الْخَيْرُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَسْلَمَ فَأَصْبَحَ مِنْ خِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا يَسْمَعُونَ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ بِانْتِفَاءِ قَابِلِيَّةِ الِاهْتِدَاءِ عَنْ نُفُوسِهِمْ فِي أَصْلِ جِبِلَّتِهِمْ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِانْتِفَاءِ تَعَلُّمِهِمُ الْحِكْمَةَ وَالْهُدَى فَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُمُ الِاهْتِدَاءُ، ارْتَقَى بِالْإِخْبَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا فَهْمَ الْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ فِيمَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النُّبُوَّةِ لَغَلَبَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّخَلُّقِ بِالْبَاطِلِ عَلَى مَا خَالَطَهَا مِنْ إِدْرَاكِ الْخَيْرِ، فَحَالَ ذَلِكَ التَّخَلُّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا، فَتَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا.

وَهَذَا الْحَالُ الْمُسْتَقِرُّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مُتَفَاوِتُ الْقُوَّةِ، وَبِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِ وَبُلُوغِهِ نِهَايَتَهُ تَكُونُ مُدَّةُ دَوَامِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَجَلِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَكَانَ انْتِهَاؤُهُ قَبْلَ انْتِهَاءِ أَجَلِ الْحَيَاةِ اسْتَطَاعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ فَاهْتَدَى، وَعَلَى ذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّرَيُّثِ عَلَى الْكُفْرِ زَمَنًا مُتَفَاوِتَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ عَطْفُ جُمْلَةِ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ بِمَقْصُودٍ مِنْهُ تَفَرُّعُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى تَفَرُّعَ الْقَضَايَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي تَرْكِيبِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ وَلَا أَنَّهُ مِنْ تَفْرِيعِ النَّتِيجَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ لِأَنَّ تَفْرِيعَ الْأَقْيِسَةِ بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تُشْبِهُ التَّفْرِيعَ بِالْفَاءِ لَيْسَ أُسْلُوبًا عَرَبِيًّا، فَالْجُمْلَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْأُخْرَى، وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا مُنَاسَبَةُ الْمَعْنَى وَالْغَرَضِ، فَلَيْسَ اقْتِرَانُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اقْتِرَانِ قَوْلِهِمْ لَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً لَكَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا، وَلَوْ كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا لَدَرَجَتِ الدَّوَاجِنُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتِجُ: لَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً لَدَرَجَتِ الدَّوَاجِنُ، بِوَاسِطَةِ تَدَرُّجِ اللُّزُومَاتِ فِي ذِهْنِ الْمَحْجُوجِ تَقْرِيبًا لِفَهْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِنَتِيجَةٍ ثُمَّ جَعْلِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ الْحَاصِلَةِ مُقَدِّمَةَ قِيَاسٍ ثَانٍ فَتُطْوَى النَّتِيجَةُ لِظُهُورِهَا اخْتِصَارًا، وَهَذَا لَيْسَ بِأُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ إِنَّمَا الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ فِي إِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِالشَّرْطِيَّةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مُقَدَّمٍ وَتَالٍ، ثُمَّ يَسْتَدْرِكُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِنْتَاجِ بِذَكَرِ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ كَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى بْنِ رَبِيعَةَ يَصِفُ فَرَسَهُ: وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ وَقَوْلِ الْمَعَرِّي: وَلَوْ دَامَتِ الدَّوْلَاتُ كَانُوا كَغَيْرِهِمْ ... رَعَايَا وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ أَوْ بِذَكَرِ مُسَاوِي نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ ... نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أَجَرَّتِ فَإِنَّ إِجْرَارَ اللِّسَانِ يَمْنَعُ نُطْقَهُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ تُنْطِقُنِي. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ لِظُهُورِ الِاسْتِنْتَاجِ مِنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ (لَوِ) الْوَاقِعَةَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَبِيلِ (لَوِ) الْمُشْتَهِرَةِ بَيْنَ النُّحَاةِ بَلَوِ الصُّهَيْبِيَّةِ (بِسَبَبِ وُقُوعِ التَّمْثِيلِ بِهَا بَيْنَهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (¬1) : «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» وَذَلِكَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ (لَوْ) لَقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجَزَاءِ مُسْتَمِرُّ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ حِينَئِذٍ مُتَضَمِّنَةً الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ أَنْ يَتَخَلَّفَ مَضْمُون عِنْد حصلها الْجَزَاءِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّخَلُّفَ، فَقَوْلُهُ: «لَوْ لَمْ يَخَفِ الله لم يعصمه» الْمَقْصُودُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْعِصْيَانِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ حَتَّى فِي حَالِ أَمْنِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَافَ فَعَصَى، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَدَمُ خَوْفِهِ لَمَا عَصَى، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَان: 27] فَالْمَقْصُودُ عَدَمُ انْتِهَاءِ كَلِمَاتِ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَوْ كُتِبَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ كُلِّهِ وَجُعِلَتْ لَهَا أَعْوَادُ الشَّجَرِ كُلِّهِ أَقْلَامًا، لَا أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَنْفَدُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَشْجَارُ أَقْلَامًا وَالْأَبْحُرُ مِدَادًا، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: 111] لَيْسَ الْمَعْنَى لَكِنْ لَمْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا كَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَلَا حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ فَآمَنُوا بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مُنْتَفٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ لَا يَنْتَفِيَ عِنْدَهَا الْإِيمَانُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يَضْعُفُ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ (لَوْ) وَتَصِيرُ (لَوْ) فِي مُجَرَّدِ الِاسْتِلْزَامِ عَلَى طَرِيقَةِ مُسْتَعْمِلَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَسَتَجِيءُ زِيَادَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ (لَوِ) الصُّهَيْبِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ¬

(¬1) شاعت نِسْبَة هَذَا الْكَلَام إِلَى عمر بن الْخطاب وَلم نظفر بِمن نسبه إِلَيْهِ سوى أَن الشمني ذكر فِي شَرحه على «مُغنِي اللبيب» أَنه وجد بِخَط وَالِده أَنه رأى أَبَا بكر ابْن الْعَرَبِيّ نسب هَذَا إِلَى عمر، وَذكر عَليّ قاري فِي كِتَابه فِي الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة عَن السخاوي أَن ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي ظفر بِهَذَا فِي كتاب «مُشكل الحَدِيث» لِابْنِ قُتَيْبَة مَنْسُوبا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرِيب مِنْهُ فِي حق سَالم مولى أبي حُذَيْفَة من كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن سالما شَدِيد الْحبّ لله عز وَجل لَو كَانَ لَا يخَاف الله مَا عَصَاهُ أخرجه أَبُو نعيم فِي «الْحِلْية» .

[سورة الأنفال (8) : آية 24]

فَهَكَذَا تَقْرِيرُ التَّلَازُمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْهُمْ فَلَمْ يَتَوَلَّوْا، لِأَنَّ تَوَلِّيَهُمْ ثَابِتٌ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَو سمعهم اللَّهُ الْإِسْمَاعَ الْمَخْصُوصَ، وَهُوَ إِسْمَاعُ الْإِفْهَامِ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَسْمَعُوهُ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ مُعْرِضُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنَ التَّوَلِّي وَهُوَ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَصَوْغُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ إِعْرَاضِهِمْ أَيْ إِعْرَاضًا لَا قَبُولَ بَعْدَهُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ مِنَ التَّوَلِّي مَا يُعْقِبُهُ إِقْبَالٌ، وَهُوَ تُوَلِّي الَّذِينَ تَوَلَّوْا ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ مُصْعَبِ بن عُمَيْر. [24] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 24] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. إِعَادَة لمضمون قَوْله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَنْفَال: 20] الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ أَوْ مَقْصِدِ الْخُطْبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. فَافْتِتَاحُ السُّورَةِ كَانَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ بَيَانِ أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلَ أَنْ يَخَافُوا اللَّهَ وَيُطِيعُوهُ وَيَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِكَرَاهَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ، ثُمَّ بِكَرَاهَتِهِمْ لِقَاءَ النَّفِيرِ وَأَوْقَفَهُمْ على مَا اجتنوه مِنْ بَرَكَاتِ الِامْتِثَالِ وَكَيْفَ أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَنَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَمَارَةُ الْوَعْدِ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِالنَّصْرِ وَمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِقْنَاعًا لَهُمْ بِوُجُوبِ الثَّبَاتِ فِي وَجْهِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الزَّحْفِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ فِي دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِحْيَاءً لِنُفُوسِهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُكْسِبُ قُلُوبَهُمْ بِتِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ قُوًى قُدْسِيَّةً. وَاخْتِيرَ فِي تَعْرِيفِهِمْ، عِنْدَ النِّدَاءِ، وصف الْإِيمَان ليوميء إِلَى التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَثِقُوا بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ فَيَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ إِذَا دَعَاهُمْ.

وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِجَابَةِ فِي إِجَابَةِ طَلَبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي الْأَعَمِّ، فَأَمَّا الْإِجَابَةُ فَهِيَ إِجَابَةٌ لِنِدَاءٍ وَغَلَبَ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ، وَتقدم ذَلِك عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ [195] . وَإِعَادَةُ حَرْفٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلرَّسُولِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِقْلَالِ الْمَجْرُورِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الِاسْتِجَابَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَمُّ مِنَ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلَّهِ لَا تكون إلّا بِمَعْنَى الْمَجَازِ وَهُوَ الطَّاعَةُ بِخِلَافِ الِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقَةِ وَهُوَ اسْتِجَابَةُ نِدَائِهِ، وَلِلْمَجَازِ وَهُوَ الطَّاعَةُ فَأُرِيدَ أَمْرُهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ بِالْمَعْنَيَيْنِ كُلَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُ دَعْوَةٌ تَقْتَضِي أَحَدَهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ اللَّامِ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الطَّاعَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمرَان: 172] فَإِنَّهَا الطَّاعَةُ لِلْأَمْرِ بِاللَّحَاقِ بِجَيْشِ قُرَيْشٍ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ، فَهِيَ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ دَعاكُمْ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ مُبَاشَرَةً، كَمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الْأَنْفَال: 20] وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قَيْدًا لِلْأَمْرِ بِاسْتِجَابَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ وَإِحْيَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَاللَّامُ فِي لِما يُحْيِيكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ دَعَاكُمْ لِأَجْلِ مَا هُوَ سَبَبُ حَيَاتِكُمُ الرُّوحِيَّةِ. وَالْإِحْيَاءُ تَكْوِينُ الْحَيَاةِ فِي الْجَسَدِ، وَالْحَيَاةُ قُوَّةٌ بِهَا يَكُونُ الْإِدْرَاكُ وَالتَّحَرُّكُ بِالِاخْتِيَارِ وَيُسْتَعَارُ الْإِحْيَاءُ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحَيَاةِ لِلصِّفَةِ أَوِ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا كَمَالُ مَوْصُوفِهَا فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ مِثْلَ حَيَاةِ الْأَرْضِ بِالْإِنْبَاتِ وَحَيَاةِ الْعَقْلِ بِالْعِلْمِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ، وَضِدُّهَا الْمَوْتُ فِي الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: 21] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [122] . وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ تَكْوِينُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَتُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ وَالْإِحْيَاءُ لِبَقَاءِ

الْحَيَاةِ وَاسْتِبْقَائِهَا بِدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْهَا وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: 32] . وَالْإِحْيَاءُ هَذَا مُسْتَعَارٌ لِمَا يُشْبِهُ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْإِنْسَانِ مَا بِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ، فَيَعُمُّ كُلَّ مَا بِهِ ذَلِكَ الْكَمَالُ مِنْ إِنَارَةِ الْعُقُولِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَإِصْلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَمَا يَتَقَوَّمُ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْخِلَالِ الشَّرِيفَةِ الْعَظِيمَةِ، فَالشَّجَاعَةُ حَيَاةٌ لِلنَّفْسِ، وَالِاسْتِقْلَالُ حَيَاةٌ، وَالْحُرِّيَّةُ حَيَاةٌ، وَاسْتِقَامَةُ أَحْوَالِ الْعَيْشِ حَيَاةٌ. وَلَمَّا كَانَ دُعَاءُ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يخلوا عَنْ إِفَادَةِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، فَالْآيَةُ تَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالِامْتِثَالِ لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُولُ سَوَاءٌ دَعَا حَقِيقَةً بِطَلَبِ الْقُدُومِ، أَمْ طَلَبَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَيْدُ لِما يُحْيِيكُمْ مَقْصُودًا لِتَقْيِيدِ الدَّعْوَةِ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ بَلْ هُوَ قَيْدٌ كَاشِفٌ، فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْعُوهُمْ إِلَّا وَفِي حُضُورِهِمْ لَدَيْهِ حَيَاةٌ لَهُمْ، وَيَكْشِفُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَيْدِ لِما يُحْيِيكُمْ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجُبْهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّيَ فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ صُورَةُ الْحَدِيثِ فِي فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَوَقْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِما يُحْيِيكُمْ قَيْدٌ كَاشِفٌ وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أُبَيُّ- وَهُوَ يُصَلِّي- فَالْتَفَتَ أُبَيٌّ وَلَمْ يَجُبْهُ وَصَلَّى أُبَيٌّ فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ مَا مَنَعَكَ يَا أُبَيُّ أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ- فَقَالَ: أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ- قَالَ: بَلَى وَلَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (يُرِيدُ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ حَضَرَ مِنْهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَرُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَ نَحْوَهُ مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، فَتَكُونُ عِدَّةَ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا

التَّنْبِيهَ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لِدُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. مُقْتَضَى ارْتِبَاطِ نَظْمِ الْكَلَامِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُرْتَبِطًا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ عَطْفُهَا عَلَيْهَا عَطْفُ التَّكْمِلَةِ عَلَى مَا تُكَمِّلُهُ، وَالْجُمْلَتَانِ مَجْعُولَتَانِ آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمُصْحَفِ. وافتتحت الْجُمْلَة باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ وَحَثِّ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُفْتَتَحَ بَعْضُ الْجُمَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى خَبَرٍ أَوْ طلب فهم بِأَعْلَم أَوْ تَعَلَّمْ لَفْتًا لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ غَالِبًا بِغَفْلَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُخْبِرَ أَوِ الطَّالِبَ مَا يُرِيدُ إِلَّا عِلْمَ الْمُخَاطَبِ فَالتَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَقْصُودٌ لِلِاهْتِمَامِ، قَالَ تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: 196]- وَقَالَ- اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الْحَدِيد: 20] الْآيَةَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ، بَعْدَ هَذِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 25] وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ: أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ» وَقَدْ يَفْتَتِحُونَ بِتَعَلَّمْ أَوْ تَعَلَّمْنَ قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ تَعَلَّمْ أَنَّ لِلصَّيْدِ غِرَّةً ... وَإِلَّا تُضَيِّعْهَا فَإِنَّكَ قَاتِلُهُ وَقَالَ زِيَادُ بْنُ سَيَّارٍ: تَعَلَّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرُ عَدُوِّهَا ... فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ: وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمُ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ وأَنَّ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ مَعَ إِفَادَةِ (أَنَّ) التَّأْكِيدَ. والحول، وَيُقَال الحؤل: مَنْعُ شَيْءٍ اتِّصَالًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ [هود: 43] .

وَإِسْنَادُ الْحَوْلِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَالْمَعْنَى يَحُولُ شَأْن من شؤون صِفَاتِهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ صِفَةِ الْعِلْمِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ الْمَرْءُ أَوْ تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِتَنْفِيذِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَوْ بِصَرْفِهِ عَنْ فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَلْبِ هُنَا الْبَضْعَةَ الصَّنَوْبَرِيَّةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي بَاطِنِ الصَّدْرِ، وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى عُرُوقِ الْجِسْمِ، بَلِ الْمُرَادُ عَقْلُ الْمَرْءِ وَعَزْمُهُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. فَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَكْمِلَةً لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَخْلُصُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ خُلُوصَ الْحَائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الِاتِّصَالِ بكليهما. وَالْمرَاد ب الْمَرْءِ عَمَلُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْجُسْمَانِيَّةُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَزْمَ الْمَرْءِ وَنِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَعِلَ بِعَزْمِهِ جَوَارِحُهُ، فَشُبِّهَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ بِالْحَائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي كَوْنِهِ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَحُولِ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَحُولُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ وَيَسْتَمِرُّ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ خَاطِرْ يَخْطُرُ فِي النُّفُوسِ: مِنَ التَّرَاخِي فِي الِاسْتِجَابَةِ إِلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْهَا، أَوِ التَّسَتُّرِ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [الْبَقَرَة: 235] . وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَقِبَهُ فَكَانَ مَا قَبْلَهُ تَحْذِيرًا وَكَانَ هُوَ تَهْدِيدًا وَفِي «الْكَشَّاف» ، و «ابْن عَطِيَّةَ» : قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالِامْتِثَالِ وَعَدَمِ إِرْجَاءِ ذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ خَشْيَةَ أَنْ تَعْتَرِضَ الْمَرْءَ مَوَانِعُ مِنْ تَنْفِيذِ عَزْمِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَيْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، أَيْ بَيْنَ عَمَلِهِ وَعَزْمِهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المُنَافِقُونَ: 10] الْآيَةَ. وَهُنَالِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلْمُفَسِّرِينَ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهَا ارْتِبَاطُ الْكَلَامِ وَالَّذِي حَمَلَنَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا دُونَ مَا عَدَاهُ أَنْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ:

[سورة الأنفال (8) : آية 25]

أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إِلَّا تَعَلُّقُ شَأْن من شؤون اللَّهِ بِالْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَيْ جُثْمَانِهِ وَعَقْلِهِ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا، مِثْلَ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ وَدَعْوَةِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَمَا يَكُونُ تَحَوُّلٌ إِلَّا إِلَى أَحَدِهِمَا لَا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا كَالطَّبَائِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْويل وَلَيْسَ حؤلا. وَجُمْلَةُ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمُ (أَنَّ) ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَلِإِجْرَاءِ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ إِلَخْ. وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُحْشَرُونَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ أَيْ: إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ، وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ لِلْكِنَايَةِ عَنِ انْعِدَامِ مَلْجَأٍ أَوْ مَخْبَأٍ تَلْتَجِئُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ فَكَنَّى عَنِ انْتِفَاءِ الْمَكَانِ بِانْتِفَاءِ مَحْشُورٍ إِلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ بِأَبْدَعِ أُسْلُوبٍ، وَلَيْسَ الِاخْتِصَاصُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا مُقْتَضَى لِقَصْرِ الْحَشْرِ عَلَى الْكَوْنِ إِلَى اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم. [25] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 25] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) عَقِبَ تَحْرِيضِ جَمِيعِهِمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ، الْمُسْتَلْزَمِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ ضِدِّهَا بِتَحْذِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى مِنْ جَرَّاءِ فِعْلِ غَيْرِهِمْ إِذَا هُمْ لَمْ يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَوْمِهِمْ، كَيْلَا يَحْسَبُوا أَنَّ امْتِثَالَهُمْ كَافٍ إِذَا عَصَى دَهْمَاؤُهُمْ، فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَةً تَلْحَقُهُمْ فَتَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَبَّ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاخْتَلَّ نِظَامُ جَمَاعَتِهِمْ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ الْحَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِتْنَةِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْفِتْنَةِ يَرْجِعُ إِلَى اضْطِرَابِ الْآرَاءِ، وَاخْتِلَالِ السَّيْرِ، وَحُلُولِ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

فَعَلَى عُقَلَاءِ الْأَقْوَامِ وَأَصْحَابِ الْأَحْلَامِ مِنْهُمْ إِذَا رَأَوْا دَبِيبَ الْفَسَادِ فِي عَامَّتِهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا لِلسَّعْيِ إِلَى بَيَانِ مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَنْ يَكْشِفُوا لَهُمْ مَاهِيَّتَهُ وَشُبْهَتَهُ وَعَوَاقِبَهُ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْهُ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَزْجُرُوا الْمُفْسِدِينَ عَنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ حَتَّى يَرْتَدِعُوا، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ، وَتَوَانَوْا فِيهِ لَمْ يَلْبَثِ الْفَسَادُ أَنْ يَسْرِيَ فِي النُّفُوسِ وَيَنْتَقِلَ بِالْعَدْوَى مِنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَكَادُ، فَيَعْسُرُ اقْتِلَاعُهُ مِنَ النُّفُوسِ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ يُفْسِدُ عَلَى الصَّالِحِينَ صَلَاحُهُمْ وَيُنَكِّدُ عَيْشَهُمْ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا حَلَّتْ بِقَوْمٍ لَا تُصِيبُ الظَّالِمَ خَاصَّةً بَلْ تَعُمُّهُ وَالصَّالِحَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ اتِّقَاؤُهَا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ أَضْرَارَ حُلُولِهَا تُصِيبُ جَمِيعَهُمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ تَكُونُ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تُصِيبُ الْأُمَمَ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهَا أَنْ لَا تَخُصَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ هُوَ الْفَسَادُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَاتٌ تَحْصُلُ بِحَوَادِثَ كَوْنِيَّةٍ يَسْتَتِبُّ فِي نِظَامِ الْعَالِمِ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَنْ يُوَزَّعَ عَلَى الْأَشْخَاصِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِثْلَ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ- قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ثُمَّ يَحْشُرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . وَحَرْفُ لَا فِي قَوْلِهِ: لَا تُصِيبَنَّ نَهْيٌ بِقَرِينَةِ اتِّصَالِ مَدْخُولِهَا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِثْبَاتِ فِي الْخَبَرِ وَبِالطَّلَبِ، فَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ: إِمَّا نعت ل فِتْنَةً بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَمِثْلُهُ وَارِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ: حَتَّى إِذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطَ ... جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ أَيْ مَقُولٌ فِيهِ. وَبَابُ حَذْفِ الْقَوْلِ بَابٌ مُتَّسِعٌ، وَقَدِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْمُبَالِغَةِ فِي

[سورة الأنفال (8) : آية 26]

التَّحْذِيرِ هُنَا وَالِاتِّقَاءِ- مِنَ الْفِتْنَةِ فَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِاتِّقَائِهَا بِنَهْيِهَا هِيَ عَنْ إِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مِنْ أَبْلَغِ صِيَغِ النَّهْيِ بِأَنْ يُوَجِّهَ النَّهْيَ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ نَهْيُهُ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى تَحْذِيرِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي اللَّفْظِ، وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ الْمُخَاطَبِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ نَهْيَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي صِيغَةِ النَّهْيِ يَسْتَلْزِمُ تَحْذِيرَ الْمُخَاطَبِ فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ نَهْيَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، فَإِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَكَلِّمُ نَفْسُهُ عَنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 27] وَيُسَمَّى هَذَا بِالنَّهْيِ الْمُحَوَّلِ، فَلَا ضَمِيرَ فِي النَّعْتِ بِالْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ: لَا تُصِيبَنَّ نَهْيًا مُسْتَأْنَفًا تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِاتِّقَائِهَا مَعَ زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ بِشُمُولِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةِ: لَا تُصِيبَنَّ جَوَابًا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ لَوْ قَالَ: «لَا تُصِيبَنَّكُمْ» كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ، وَقَدْ أَبْطَلَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» جَعْلَ (لَا) نَافِيَةً هُنَا، وَرَدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَجْوِيزَهُ ذَلِكَ. وخَاصَّةً اسْمُ فَاعِلٍ مُؤَنَّثٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى فِتْنَةً فَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُصِيبَنَّ وَهِيَ حَالٌ مُفِيدَةٌ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْذِيرِ. وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ بِفِعْلِ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِلِاهْتِمَامِ لِقَصْدِ شِدَّةِ التَّحْذِيرِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: 24] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ مَنْ يُخَالِفُ الْأَمر بالاستجابة. [26] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ نِيَّاتُهُمْ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الْخِلَافِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

تَذْكِيرُهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ، بَعْدَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ وَالْخَوْفِ، لِيَذْكُرُوا كَيْفَ يَسَّرَ اللَّهُ لَهُمْ أَسْبَابَ النَّصْرِ مِنْ غَيْرِ مَظَانِّهَا، حَتَّى أَوْصَلَهُمْ إِلَى مُكَافَحَةِ عَدُوِّهِمْ وَأَنْ يَتَّقِيَ أَعْدَاؤُهُمْ بَأْسَهُمْ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ قَدْ كَثُرُوا وَعَزُّوا وَانْتَصَرُوا، فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ، وَمَجِيءُ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي سَاقَ لَهُمْ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ هَذَا أَثَرَهُ فِيهِمْ كُلَّمَا احْتَفَظُوا عَلَيْهِ كُفُوهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِمْ، وَمِنْ قَبْلِ تَسْدِيدِ حَالِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُونَ بَعْدَ تَرَفُّهِ حَالِهِمْ أَشَدَّ اسْتِجَابَةً وَأَثْبَتَ قُلُوبًا. وَفَعْلُ وَاذْكُرُوا مُشْتَقٌّ مِنَ الذّكر- بِضَم الدَّال- وَهُوَ التَّذَكُّرُ لَا ذِكْرَ اللِّسَانِ، أَيْ تَذَكَّرُوا. وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُجَرَّدٍ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيِ اذْكُرُوا زَمَنَ كُنْتُمْ قَلِيلًا. وَجُمْلَةُ: أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا إِذْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُضَافِ، وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ وَصْفِ الْقِلَّةِ وَالِاسْتِضْعَافِ فِيهِمْ. وَأَخْبَرَ بِ قَلِيلٌ وَهُوَ مُفْرَدٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ قَلِيلًا وَكَثِيرًا قَدْ يَجِيئَانِ غَيْرَ مُطَابِقَيْنِ لِمَا جَرَيَا عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] . وَالْأَرْضُ يُرَادُ بِهَا الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [56] فَالتَّعْرِيفُ شَبِيهٌ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَوْ أُرِيدَ بِهَا أَرْضُ مَكَّةَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْنَى تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيَّامِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ طَائِفَةً قَلِيلَةَ الْعَدَدِ قَدْ جَفَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَعَادَوْهُمْ فَصَارُوا لَا قَوْمَ لَهُمْ وَكَانُوا عَلَى دِينٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِمِ فَلَا يَطْمَعُونَ فِي نَصْرٍ مُوَافِقٍ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ وَهُمْ فِي مَكَّةَ فَهُمْ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ فَآوَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ صَرَفَ أَهْلَ مَكَّةَ عَنِ اسْتِيصَالِهِمْ ثُمَّ بِأَنْ قَيَّضَ الْأَنْصَارَ أَهْلَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى وَأَهْلَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، فَأَسْلَمُوا وَصَارُوا أَنْصَارًا لَهُمْ بِيَثْرِبَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بِلَاد الْحَبَشَة فئاواهم بِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى يثرب فئاواهم بِهَا، ثُمَّ صَارَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا أَعْدَاءً لِلْمُشْرِكِينَ فَنَصَرَهُمْ هُنَالِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَاللَّهُ

الَّذِي يَسَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ كَسْبٌ أَوْ تَعَمُّلٌ، أَفَلَا يَكُونُ نَاصِرًا لَهُمْ بَعْدَ أَنِ ازْدَادُوا وَعَزُّوا وَسَعَوْا لِلنَّصْرِ بأسبابه، وأفلا يستجيبونهم لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ لِمَا يُحْيِيهِمْ وَحَالُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى النَّصْرِ مِنْهَا يَوْمَ كَانُوا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ. وَالتَّخَطُّفُ شِدَّةُ الْخَطْفِ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: 20] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْغَلَبَةِ السَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ شِبْهُ الْأَخْذِ، فَإِذَا كَانَتْ سَرِيعَةً أَشْبَهَتِ الْخَطْفَ، قَالَ تَعَالَى: وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 27] أَيْ يَأْخُذُكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ بِدُونِ كُبْرَى مَشَقَّةٍ، وَلَا طُولِ مُحَارَبَةٍ إِذْ كُنْتُمْ لُقْمَةً سَايِغَةً لَهُمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْكُمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ خَائِفِينَ فِي مَكَّةَ، وَكَانُوا خَائِفِينَ فِي طُرُقِ هِجْرَتَيْهِمْ، وَكَانُوا خَائِفِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى أَذَاقَهُمُ اللَّهُ نِعْمَةَ الْأَمْنِ مِنْ بَعْدِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ. والنَّاسُ مُرَادٌ بِهِمْ نَاسٌ مَعْهُودُونَ وَهُمُ الْأَعْدَاءُ، الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ مِنَ الْعُرَابِ الْمُوَالِينَ لَهُمْ. وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: هِيَ الْأَمْوَالُ الَّتِي غَنِمُوهَا يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْإِيوَاءُ: جعل الْغَيْر ءاويا، أَيْ رَاجِعًا إِلَى الَّذِي يَجعله، فيؤول مَعْنَاهُ إِلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ. وَالتَّأْيِيدُ: التَّقْوِيَةُ أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا أَيْدٍ، أَيْ ذَا قُدْرَةٍ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْيَدَ يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] . وَجُمْلَةُ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ نِعْمَةِ تَوْفِيرِ الرِّزْقِ فِي خِلَالِ الْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ وَتَوْفِيرِ الْعَدَدِ بَعْدَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ وَوَفْرَةَ الْعَدَدِ يَجْلِبَانِ سَعَةَ الرِّزْقِ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ صَادِقٌ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ عُصُورِ النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ، فَجَمَاعَتُهُمْ لَمْ تَزَلْ فِي ازْدِيَادِ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَلَمْ تَزَلْ مَنْصُورَةً عَلَى الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانُوا يَخَافُونَهَا مِنْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الرُّومِ يَوْمَ تَبُوكَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْفُرْسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَعَلَى الرُّومِ فِي مِصْرَ، وَفِي بَرْقَةَ، وَفِي إِفْرِيقِيَّةَ، وَفِي بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، وَفِي بِلَادِ الْفِرِنْجَةِ مِنْ أُورُوبَّا، فَلَمَّا زَاغَ الْمُسْلِمُونَ وَتَفَرَّقُوا أَخَذَ أَمْرُهُمْ يَقِفُ ثُمَّ يَنْقَبِضُ ابْتِدَاءً مِنْ ظُهُورِ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 إلى 28]

الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ تَفَرُّقٍ وَقَعَ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَقَدْ نَبَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَلَمَّا أَعْطَوْا حَقَّ الشُّكْرِ دَامَ أَمْرُهُمْ فِي تَصَاعُدٍ، وَحِينَ نَسَوْهُ أَخَذَ أَمْرُهُمْ فِي تَرَاجُعٍ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ. وَلَمْ يَزَلِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَوْعِظَةِ أَنْ لَا يَحِيدُوا عَنْ أَسْبَابِ بَقَاءِ عِزِّهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ» ؟ - قَالَ: نَعَمْ- «قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ» الْحَدِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «بُدِئَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بُدِئَ» . [27، 28] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 27 إِلَى 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْعِصْيَانِ الْخَفِيِّ. بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يُظْهِرُوا الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ وَيُبْطِنُوا الْمَعْصِيَةَ وَالْخِلَافَ فِي بَاطِنِهِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خِيَانَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَرَوَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ السِّيَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالْكَلْبِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ (¬1) بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيِّ لَمَّا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَسَأَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ الصُّلْحَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَنْزِلُونَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» فَأَبَوْا وَقَالُوا: «أَرْسِلْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ» فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَبَا لُبَابَةَ وَكَانَ وَلَدُهُ وَعِيَالُهُ وَمَالُهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ قَالُوا لَهُ مَا تَرَى أَنَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بِيَدِهِ عَلَى حَلْقِهِ: أَنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَهَذَا الْخَبَرُ لَمْ ¬

(¬1) قيل: اسْمه رِفَاعَة، وَقيل: مَرْوَان، وَقيل: هَارُون، وَقيل: غير ذَلِك، واشتهر بكنيته.

يَثْبُتْ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا صَحَّ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ كَانَتِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الْمُتَعَلِّقَةِ بِاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الْأَنْفَالِ فَإِنَّ بَيْنَ الْحَادِثَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ وَيُقَرِّبُ هَذَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ انْتِفَاءِ وُقُوعِ خِيَانَةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْخَوْنُ وَالْخِيَانَةُ: إِبْطَالُ وَنَقْضُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ تَعَاقُدٍ مِنْ دُونِ إِعْلَانٍ بِذَلِكَ النَّقْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: 58] وَالْخِيَانَةُ ضِدَّ الْوَفَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَأَصْلُ مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْوَفَاءِ التَّمَامُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَوْنُ فِي ضِدِّ الْوَفَاءِ لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ» أَيْ وَاسْتُعْمِلَ الْوَفَاءُ فِي الْإِتْمَامِ بِالْعَهْدِ، لِأَنَّ مَنْ أَنْجَزَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَتَمَّ عَهْدَهُ فَلِذَلِكَ يُقَالُ: أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ. فَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَهْدٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَكَمَا حُذِّرُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْعَلَنِيَّةِ حُذِّرُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْخَفِيَّةِ. وَتَشْمَلُ الْخِيَانَةُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي لَا تَخُونُوا، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَعُمُّ، فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ فَهِيَ مُرَادٌ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَتَشْمَلُ الْغُلُولَ الَّذِي حَامُوا حَوْلَهُ فِي قَضِيَّةِ الْأَنْفَالِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلَ بَعْضُهُمُ النَّفَلَ وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا يَتَتَبَّعُونَ آثَار الْقَتْلَى ليتنفلوا مِنْهُمْ، تَعَيَّنَ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْغُلُولِ، فَذَلِكَ مُنَاسِبَةُ وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ سَوَاءٌ صَحَّ مَا حُكِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ النُّزُولِ بِقَرِينَاتِهَا. وَفِعْلُ «الْخِيَانَةِ» أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخُونُ، وَقَدْ يُعَدَّى تَعْدِيَةً ثَانِيَةً إِلَى مَا وَقَعَ نَقْضُهُ، يُقَالُ: خَانَ فُلَانًا أَمَانَتَهُ أَوْ عَهْدَهُ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ خَانَهُ فِي عَهْدِهِ أَوْ فِي أَمَانَتِهِ، فَاقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَخُوفِ ابْتِدَاءً، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَخُونِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ أَيْ فِي أَمَانَاتِكُمْ أَيْ وَتَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمَانَاتِكُمْ. وَالنَّهْيُ عَنْ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ هُنَا: إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي قَضِيَّةِ أَبِي لُبَابَةَ: أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى مَا فِي تَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنَ الضُّرِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ خِيَانَةً لِمَنْ بَعَثَهُ مُسْتَفْسِرًا، لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ لَا يُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَشَارٍ.

وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مَعَ قَرِينَاتِهَا فَنَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ اسْتِطْرَادٌ لِاسْتِكْمَالِ النَّهْيِ عَنْ أَنْوَاعِ الْخِيَانَةِ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَصْلِيِّ، إِلَى ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْمُتَّسَعِ فِيهِ، لِقَصْدِ تَبْشِيعِ الْخِيَانَةِ بِأَنَّهَا نَقْضٌ لِلْأَمَانَةِ، فَإِنَّ الْأَمَانَةَ وَصْفٌ مَحْمُودٌ مَشْهُورٌ بِالْحُسْنِ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا يَكُونُ نَقْضًا لَهُ يَكُونُ قَبِيحًا فَظِيعًا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: وَتَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمَانَاتِهِمْ فَهَذَا حَذْفٌ مِنَ الْإِيجَازِ. وَالْأَمَانَةُ اسْمٌ لِمَا يَحْفَظُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ يَأْمَنُهُ مِنْ أَنْ يُضَيِّعَهَا، وَالْأَمِينُ الَّذِي يَحْفَظُ حُقُوقَ مَنْ يُوَالِيهِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتِ الْأَمَانَاتُ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مُبَالَغَةً فِي تَفْظِيعِ الْخِيَانَةِ، بِأَنَّهَا نَقْضٌ لِأَمَانَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى نَاقِضِهَا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] دُونَ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ. وَلِلْأَمَانَةِ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي اسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَا ثَبَتُوا عَلَيْهَا وَتَخَلَّقُوا بِهَا، وَهِيَ دَلِيلُ نَزَاهَةِ النَّفْسِ وَاعْتِدَالِ أَعْمَالِهَا، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ فِي إِضَاعَتِهَا انْحِلَالَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثِينَ: رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ عَلَى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» . (الْوَكْتُ سَوَادٌ يَكُونُ فِي الْبُسْرِ إِذَا قَارَبَ أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا، وَالْمَجْلُ غِلَظُ الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ، وَنَفِطَ تَقَرَّحَ وَمُنْتَبِرًا مُنْتَفِخًا) ، وَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ إِذْ قَالَ فِي آخِرِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَحَسْبُكَ مِنْ رَفْعِ شَأْنِ الْأَمَانَةِ: أَنْ كَانَ صَاحِبُهَا حَقِيقًا بِوِلَايَةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَانَةٌ لَهُمْ وَنُصْحٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

حِينَ أَوْصَى بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ «وَلَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيًّا لَعَهِدْتُ إِلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إِنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . وَقَوْلُهُ: وَتَخُونُوا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَخُونُوا فَهُوَ فِي حَيِّزِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ تَخُونُوا وَلَمْ يَكْتَفِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، الصَّالِحِ لِلنِّيَابَةِ عَنِ الْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّ خِيَانَتَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَقْضُ الْوَفَاءِ لَهُمَا بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ، وَخِيَانَةَ الْأَمَانَةِ نَقْضُ الْوَفَاءِ بِأَدَاءِ مَا ائْتَمَنُوا عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَخُونُوا الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَهِيَ حَالٌ كَاشِفَةٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَشْدِيدُ النَّهْيِ، أَوْ تَشْنِيعُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقَبِيحِ فِي حَالِ مَعْرِفَةِ الْمَنْهِيِّ أَنَّهُ قَبِيحٌ يَكُونُ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْقَبِيحَ فِي حَالِ عِلْمِ فَاعِلِهِ بِقُبْحِهِ يَكُونُ أَشْنَعَ، فَالْحَالُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ الْكَاشِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 117]- وَقَوْلِهِ- فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 22] وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ عَنِ الْخِيَانَةِ بِحَالَةِ الْعِلْمِ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلُ الْجَدْوَى، فَإِنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ مَشْرُوطٍ بِالْعِلْمِ وَكَوْنُ الْخِيَانَةِ قَبِيحَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ «وَأَنْتُمْ ذَوُو عِلْمٍ» أَيْ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَيْ وَأَنْتُمْ عُلَمَاءُ لَا تَجْهَلُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْقَبَائِحِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [22] . وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ لَهُ هُنَا مَفْعُولًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ خِيَانَةَ الْأَمَانَةِ أَيْ تَعْلَمُونَ قُبْحَهَا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فِي آدَابِ دِينِهِمْ تَقْبِيحُ الْخِيَانَةِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلنَّاسِ حَتَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَابْتِدَاءُ جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ بِفِعْلِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: 24]- وَقَوْلِهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 25] وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَذَرِ مِنَ الْخِيَانَةِ الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمَرْءَ حُبُّ الْمَالِ وَهِيَ خِيَانَةُ الْغُلُولِ وَغَيْرُهَا، فَتَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْحَمْلِ عَلَى الْخِيَانَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 29]

وَعَطْفُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِاسْتِيفَاءِ أَقْوَى دَوَاعِي الْخِيَانَةِ، فَإِنَّ غَرَضَ جُمْهُورِ النَّاسِ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَتْرُكُوهَا لِأَبْنَائِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَ قَرْنُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي التَّحْذِيرِ، وَنَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ، قِيلَ إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَزَلَ فِي أَبِي لُبَابَةَ. وَجِيءَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِتْنَةً بِطَرِيقِ الْقَصْرِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ فِتْنَةٌ. وَجَعَلَ نَفْسَ «الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ» فِتْنَةً لِكَثْرَةِ حُدُوثِ فِتْنَةِ الْمَرْءِ مِنْ جَرَّاءِ أَحْوَالِهِمَا، مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا، فَكَأَنَّ وُجُودَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ نَفْسُ الْفِتْنَةِ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ عَنِ اقْتِحَامِ الْمَنَاهِي لِأَجْلِ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد. [29] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) استيناف ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الْأَنْفَال: 20] الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى هُنَا. وَافْتُتِحَ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَخُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِعَهْدِ الْإِيمَانِ وَمَا يَقْتَضِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ، وَعَقِبَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سُوءِ عَوَاقِبِهِ، بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّقْوَى وَبَيَانِ حُسْنِ عَاقِبَتِهَا وَبِالْوَعْدِ بِدَوَامِ النَّصْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَحْوَالِ إِنْ هُمْ دَامُوا عَلَى التَّقْوَى. فَفِعْلُ الشَّرْطِ مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا حُذِّرُوا مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْخِيَانَةِ نَاسَبَ أَنْ تُفْرَضَ لَهُمُ الطَّاعَةُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ. وَلَقَدْ بَدَا حُسْنُ الْمُنَاسَبَةِ إِذْ رُتِّبَتْ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ تَحْذِيرَاتٌ مِنْ شُرُورٍ وَأَضْرَارٍ

مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الْأَنْفَال: 22]- وَقَوْلِهِ- وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال: 25] الْآيَةَ، وَرُتِّبَ عَلَى التَّقْوَى: الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَسَعَةُ الْفَضْلِ. وَالْفُرْقَانُ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ كالشكران والغفران والبتان، وَهُوَ مَا يُفَرِّقُ أَيْ يُمَيِّزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، وَقَدْ أُطْلِقَ بِالْخُصُوصِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ فَأُطْلِقَ عَلَى النَّصْرِ، لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَيْنِ كَانَا مُحْتَمَلَيْنِ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ، وَلُقِّبَ الْقُرْآنُ بِالْفُرْقَانِ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا لِقَصْدِ شُمُولِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ مِنْ مَعَانِيهِ، فَقَدْ فُسِّرَ بِالنَّصْرِ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، الْفُرْقَانُ الْمَخْرَجُ، وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ» ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قَالَ مَخْرَجًا ثُمَّ قَرَأَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق: 3] ، وَفُسِّرَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّمَايُزُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ أَحْوَالُ النَّفْسِ: مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالرِّضَى، وَانْشِرَاحِ الْقَلْبِ، وَإِزَالَةِ الْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ بَيْنَهُمْ، وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَذَمِيمِ الْخَلَائِقِ. وَقَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَكُمْ أَنَّ الْفُرْقَانَ شَيْءٌ نَافِعٌ لَهُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ مَا فِيهِ مَخْرَجٌ لَهُمْ وَنَجَاةٌ مِنَ الْتِبَاسِ الْأَحْوَالِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ وانبهام الْمَقَاصِد، فيؤول إِلَى اسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ، حَتَّى يَكُونُوا مطمئني البال منشر حَيّ الْخَاطِرِ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونُوا: مَنْصُورِينَ، غَالِبِينَ، بصراء بالأمور، كلمة الْأَخْلَاقِ سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، وَذَلِكَ هُوَ مِلَاكُ اسْتِقَامَةِ الْأُمَمِ، فَاخْتِيَارُ الْفُرْقَانِ هُنَا، لِأَنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي غَيْرُهُ مُؤَدَّاهُ فِي هَذَا الْغَرَضِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْفَصَاحَةِ. وَالتَّقْوَى تَشْمَلُ التَّوْبَةُ، فَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ الْفَارِطَةِ الَّتِي تَعْقُبُهَا التَّقْوَى. وَمَفْعُولُ يَغْفِرْ لَكُمْ، مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ الْغُفْرَانَ وَذَلِكَ هُوَ الذَّنْبُ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهُوَ الصَّغَائِرُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّمَمِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِأَنْ يُرَادَ بِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ وَبِالْمَغْفِرَةِ مَغْفِرَةُ الْكَبَائِرِ بِالتَّوْبَةِ الْمُعْقِبَةِ لَهَا، وَقِيلَ التَّكْفِيرُ السِّتْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالْغُفْرَانُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا فِي

[سورة الأنفال (8) : آية 30]

الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَالَ مَقْصُودٌ لِلْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى وَتَحَقُّقِ فَائِدَتِهَا وَالتَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهَا، فَلَا يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ وَلَا الْمَغْفِرَةُ بِأَيِّ احْتِمَالٍ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ مَنَافِعَ أُخْرَى لَهُمْ مِنْ جراء التَّقْوَى. [30] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 30] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ تَأْيِيدِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ إِذْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَال: 26] فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (اذْكُرُوا) مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَال: 26] ، فَإِنَّ الْمَكْرَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكْرٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا. فَهَذَا تَعْدَادٌ لِنِعَمِ النَّصْرِ، الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فِي أَحْوَالٍ مَا كَانَ يَظُنُّ النَّاسُ أَنْ سَيَجِدُوا مِنْهَا مَخْلَصًا، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِنْعَامُ بِحَيَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ نِعْمَةٌ تَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِأَيَّامِ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، وَمَا لَاقَاهُ الْمُسْلِمُونَ عُمُومًا وَمَا لَاقَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا وَأَنَّ سَلَامَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَةٌ لِأُمَّتِهِ. وَالْمَكْرُ إِيقَاعُ الضُّرِّ خُفْيَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي آلِ عِمْرَانَ [54] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [99] . وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ مَعَ إِذْ اسْتِحْضَارٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي دَبَّرُوا فِيهَا الْمَكْرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] . وَمَعْنَى: لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوكَ يُقَالُ أَثْبَتَهُ إِذَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَأَوْثَقَهُ، وَالتَّعْبِيرُ بالمضارع فِي لِيُثْبِتُوكَ، ويَقْتُلُوكَ، ويُخْرِجُوكَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ الْمَكْرِ إِذْ غَايَةُ مَكْرِهِمْ تَحْصِيلُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى تَرَدُّدِ قُرَيْشٍ فِي أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اجْتَمَعُوا

لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ بِدَارِ النَّدْوَةِ فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ قُبَيْلَ هِجْرَتِهِ، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: إِذَا أصبح فأثبتوه بِالْوَثَاقِ وَسُدُّوا عَلَيْهِ بَابَ بَيْتٍ غَيْرَ كُوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ فِي قُرَيْشٍ فَتًى جَلْدًا فَيَجْتَمِعُونَ ثُمَّ يَأْخُذُ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَيْفًا وَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فِي بَيْتِهِ فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا تَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا فَيَأْخُذُونَ الْعَقْلَ وَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ، وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو: الرَّأْيُ أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى جَمَلٍ وَتُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ. وَمَوْقِعُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَيَمْكُرُونَ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَرَّجَ عَلَى بَيَانِهِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهِيَ حَالٌ مُؤَسَّسَةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ فَقَوْلُهُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ هُوَ مَنَاطُ الْفَائِدَةِ مِنَ الْحَالِ وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ يُقَارِنُهُ مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ، وَالْمُضَارِعُ فِي يَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمَكْرِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ وَاوَ الِاعْتِرَاضِ أَيِ الْعَطْفِ الصُّورِيِّ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ الدَّوَامُ أَيْ هُمْ مكروا بك لثبتوك أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَمْكُرُونَ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ «وَأَيْضًا لَتَمَلَّنَّهُ» يَعْنِي النَّبِيءَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَيَمْكُرُونَ مُعْتَرَضَةً وَيَكُونُ جُمْلَةُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمُضَارِعُ فِي جُمْلَةِ: وَيَمْكُرُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ فِي وَيَمْكُرُ اللَّهُ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ مَكْرِ اللَّهِ فِي وَقْتِ مَكْرِهِمْ مِثْلَ الْمُضَارِعِ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ. وَبَيَانُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَقَدَّمَ: فِي آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] وَآيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [99] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَالَّذِينَ تَوَلَّوُا الْمَكْرَ هُمْ سَادَةُ الْمُشْرِكِينَ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَأَعْوَانُ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ دَأْبُهُمُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ كَانُوا أَتْبَاعًا لِلزُّعَمَاءِ يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِمْ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ

[سورة الأنفال (8) : آية 31]

أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُمَّيَّةُ بْنُ خلف، وأضرابهم. [31] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 31] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ بُهْتَانٍ آخَرَ مِنْ حِجَاجِ هَؤُلَاءِ الْمُشْركين، لم تزل آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ يَتَخَلَّلُهَا أَخْبَارُ كُفْرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: 7]- وَقَوله-لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَنْفَال: 13]- وَقَوْلِهِ- فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَال: 17]- وَقَوْلِهِ- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 21]- ثُمَّ بِقَوْلِهِ- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: 30] . وَهَذِهِ الْجُمَلُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الْأَنْفَال: 23] . وَهَذَا الْقَوْلُ مَقَالَةُ الْمُتَصَدِّينَ لِلطَّعْنِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُحَاجَّتِهِ، وَالتَّشْغِيبِ عَلَيْهِ: مِنْهُمُ النَّضْرُ بن الْحَارِث، وطعمية بْنُ عَدِيٍّ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَمَعْنَى قَدْ سَمِعْنا: قَدْ فَهِمْنَا مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَهَا وَإِنَّمَا اهْتَمُّوا بِالْقَصَصِ وَلَمْ يَتَبَيَّنُوا مَغْزَاهَا وَلَا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآدَابِ وَالْحَقَائِقِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 21] أَيْ لَا يَفْقَهُونَ مَا سَمِعُوا. وَمِنْ عَجِيبِ بُهْتَانِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُفْحِمُوا، ثُمَّ اعْتَذَرُوا بِأَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ- قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، كَانَ رَجُلًا مِنْ مَرَدَةِ قُرَيْشٍ وَمِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَسْفَارِ إِلَى الْحِيرَةِ وَإِلَى أَطْرَافِ بِلَادِ الْعَجَمِ فِي تِجَارَتِهِ، فَكَانَ يَلْقَى بِالْحِيرَةِ نَاسًا مِنَ الْعِبَادِ (بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ اسْمُ طَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى) فَيُحَدِّثُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْإِنْجِيلِ وَيَلْقَى مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَنْقُلُ أُسْطُورَةَ حُرُوبِ (رستم) و (أسفنديار) (¬1) مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي قَصَصِهِمُ الْخُرَافِيِّ، ¬

(¬1) سفندياذ بِهَمْزَة قطع مَكْسُورَة، فسين مُهْملَة سَاكِنة، ففاء أُخْت الْقَاف وَقد يكْتب بباء مُوَحدَة عوض الْفَاء لِأَن الْبَاء الفارسية منطقها بَين الْبَاء وَالْفَاء الْعَرَبيَّة فكثيرا مَا تعرب بِالْفَاءِ وبالباء وَهِي مَفْتُوحَة وَبَعْضهمْ يضبطها بِالْكَسْرِ، ثمَّ دَال مُهْملَة مَكْسُورَة، فتحتية، وَآخره ذال مُعْجمَة كَذَا نطق بِهِ الْعَرَب وَكَذَلِكَ كتب فِي «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة» ، وَهُوَ فِي العجمية برَاء فِي آخِره قَالَه التَّفْتَازَانِيّ فِي «شرح الْكَشَّاف» . قلت: وَهُوَ فِي «الْكَشَّاف» وَفِي «سيره ابْن هِشَام» بالراء وَهُوَ إسفنديار بن (كشتاسب) من العائلة الكيانيين من مُلُوك الْفرس لِأَن أَسمَاء مُلُوكهَا مفتتحه بِكَلِمَة (كي) أَوَّلهمْ (كيقباذ) وَفِي زمن (كشتاسب) ظهر (زرادشت) صَاحب الدّيانَة الشهيرة فِي الْفرس قبل الْإِسْلَام، وأخبار حروب إسفنديار مَعَ رستم وَكلهمْ من مُلُوك الطوائف بِفَارِس وَكَانَ رستم ملك بِلَاد التّرْك.

وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ تُتَرْجَمُ لِلْعَرَبِ بِاللِّسَانِ وَيَسْتَظْهِرُهَا قُصَّاصُهُمْ وَأَصْحَابُ النَّوَادِرِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، فِيمَا أَحْسَبُ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ جَاءَ بِنُسْخَةٍ مِنْ خَبَرِ (رُسْتُمَ) وَ (إِسْفَنْدِيَاذَ) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ كَتَبَهَا الْقَصَّاصُونَ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَالْأَنْبَارِ تَذْكِرَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَارٌ لَا حِكْمَةَ فِيهَا وَلَا مَوْعِظَةَ، وَقَدْ أَطَالَ فِيهَا الْفِرْدَوْسِيُّ فِي كِتَابِ «الشَّاهْنَامِهْ» تَطْوِيلًا مُمِلًّا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْقَصَصِ، وَقَالَ الْفَخْرُ: اشْتَرَى النَّضْرُ مِنَ الْحِيرَةَ أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكَانَ يَقْعُدُ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، فَإِسْنَادُ قَوْلِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَيِّدُونَهُ وَيَحْكُونَهُ وَيُحَاكُونَهُ، وَيَحْسَبُونَ فِيهِ مَعْذِرَةٌ لَهُمْ عَنِ الْعَجْزِ الَّذِي تَلَبَّسُوا بِهِ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ نَفَّسَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأُغْلُوطَةِ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَكَرَهُ هُوَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَصْدُرَ أَمْثَالُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَمْثَالِهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَمِنْ ضِمْنَهُمْ مَجْلِسُهُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ بِهَذِهِ النزاقة. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِيهَامٌ بِأَنَّهُمْ تَرَفَّعُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَنَقَلُوا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مَا يُوَازِي قَصَصَ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ وَقَاحَةٌ، وَإِلَّا فَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَشَاءُوا مُعَارَضَةَ مَنْ تَحَدَّاهُمْ وَقَرَّعَهُمْ بِالْعَجْزِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24] مَعَ تَحَيُّزِهِمْ وَتَأَمُّرِهِمْ فِي إِيجَادِ مَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا عَنِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ إِيَّاهُمْ وَتَحَدِّيهِ لَهُمْ، وَمَا قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِي أَمر الْقُرْآن. و

[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 إلى 33]

«الأساطير» جَمْعُ أُسْطُورَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] . وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وجوابها إِذْ جُعِلَ شَرْطُهَا مُضَارِعًا وَالْجَزَاءُ مَاضِيًا جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي (لَوْ) غَالِبًا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمَاضِي فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ جُزْأَيْ جُمْلَتِهَا مَاضِيًا، أَوْ كِلَاهُمَا. فَإِذَا أُرِيدَ التَّفَنُّنَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا، فَالتَّقْدِيرُ: لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ احْتِبَاكًا قَائِمًا مَقَامَ شَرْطَيْنِ وَجَزَاءَيْنِ فَإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالْأُخْرَى مَاضِيَةٌ، فَالتَّقْدِيرُ لَوْ نَشَاءُ أَنْ نَقُولَ نَقُولُ، وَلَوْ شِئْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَاضِي لَقُلْنَا فِيهِ، فَذَلِكَ أَوْعَبُ لِلْأَزْمَانِ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السَّجْدَة: 13]- وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرَّعْد: 31] فَهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا ادَّعَوُا الْقُدْرَةَ عَلَى قَوْلٍ مِثْلِهِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إِغْرَاقًا فِي النفاجة والوقاحة. [32، 33] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 32 إِلَى 33] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) عُطِفَ عَلَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: 30] أَوْ عَلَى قالُوا قَدْ سَمِعْنا [الْأَنْفَال: 31] وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَاحِبُ الْمَقَالَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَهَا أَيْضًا أَبُو جَهْلٍ وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أُسْنِدَ لَهُ قَوْلُ النَّضِرِ قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: 31] فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ هُنَالِكَ مِنْ حِكَايَةِ الْمَعْنَى. وَكَلَامُهُمْ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْقَسَمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ بِطَرِيقَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا كَانَ مَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ مَا يَحْكُونَهُ أَوْ يَعْتَقِدُونَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَجَابَةً، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ شَهِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ: مَا إِنْ أَتَيْتُ بِشَيْءٍ أَنْتَ تَكْرَهُهُ ... إِذَنْ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ يَدِي

وَقَالَ مَعْدَانُ بْنُ جَوَّاسٍ الْكِنْدِيُّ، أَوْ حُجَيَّةُ بْنُ الْمُضَرِّبِ السَّكُونِيُّ: إِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ عَنِّي فَلَامَنِي ... صَدِيقِي وَشَلَّتْ مِنْ يَدَيَّ الْأَنَامِلُ وَكُفِّنْتُ وَحْدِي مُنْذَرًا بِرِدَائِهِ ... وَصَادَفَ حَوْطًا مِنْ أَعَادِيَّ قَاتِلُ وَقَالَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ: بُقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نَهَابِ نُفُوسِ وَقَدْ ضَمَّنَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الْعَاشِرَةِ» هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حِكَايَةِ يَمِينٍ وَجَّهَهَا أَبُو زَيْدٍ السُّرُوجِيُّ عَلَى غُلَامِهِ الْمَزْعُومِ لَدَى وَالِي رَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ حَتَّى اضْطُرَّ الْغُلَامُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: «الِاصْطِلَاءُ بِالْبَلِيَّةِ، وَلَا الِابْتِلَاءُ بِهَذِهِ الْأَلِيَّةِ» . فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِنْ عِنْدِكَ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَأَصِبْنَا بِالْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ وَلَيْسَ الشَّرْطُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يُفِيدَ تَرَدُّدَهُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ كَانُوا لِجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّى لِمُخَاطَرَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلُوهُ أَنْ يُمْطِرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنْهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا لِقَوْمِهِمْ صِحَّةَ جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ فَأَعْلَنُوا الدُّعَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَ. وَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، فَهُمْ غَيْرُ جَازِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَمُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ بَلْ هُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ أَخَصُّ مِنْ عَدَمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ فَهُوَ يَقْتَضِي تَقَوِّي الْخَبَرِ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا وَمِنْ عِنْدِكَ بِلَا شَكٍّ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَاجْتَمَعَ فِي التَّرْكِيبِ تَقَوٍّ وَحَصْرٌ وَذَلِكَ تَعْبِيرُهُمْ يَحْكُونَ بِهِ أَقْوَالَ الْقُرْآنِ الْمُنَوِّهَةَ بِصِدْقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمرَان: 62]

وَهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا وَلَا دَاعِيَ لَهُمْ إِلَى نَفْيِ قُوَّةِ حَقِّيَّتِهِ وَلَا نَفْيِ انْحِصَارِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ حَقًّا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَقًّا كَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ بَاطِلًا فَصَحَّ اعْتِبَارُ انْحِصَارِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ انْحِصَارًا إِضَافِيًّا، إِلَّا أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لَوْلَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا حِكَايَةَ الْكَلَامِ الَّذِي يُبْطِلُونَهُ. وَهَذَا الدُّعَاءُ كِنَايَةٌ مِنْهُمْ عَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَيْسَ كَمَا يُوصَفُ بِهِ، لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَبَيْنَ الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ مَا جَعَلُوهُ سَبَبَ الدُّعَاءِ بِحَسْبِ عُرْفِ كَلَامِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ. ومِنْ عِنْدِكَ حَالٌ مِنَ الْحَقِّ أَيْ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِكَ فَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَفِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ وَصْفٌ لِحِجَارَةٍ أَيْ حِجَارَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِعَذَابِ مَنْ تُصِيبُهُ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ مَطَرَ السَّمَاءِ لَا يَكُونُ بِحِجَارَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: 13] (وَالصَّبُّ قَرِيبٌ مِنَ الْأَمْطَارِ) . وَذكروا عَذَابًا خَاصًّا وَهُوَ مَطَرُ الْحِجَارَةِ ثُمَّ عَمَّمُوا فَقَالُوا: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَذَابَ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَوَصَفُوا الْعَذَابَ بِالْأَلِيمِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ يَقِينِهِمْ بِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهَذَا الدُّعَاءِ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِخَطَرٍ عَظِيمٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَقًّا وَمُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِذْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يَلْزَمُ قَائِلَهُ خَاصَّةً وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ وَنَطَقَ بِهِ مِثْلَ النَّضْرِ وَأَبِي جَهْلٍ وَمَنِ الْتَزَمَ ذَلِكَ وَشَارَكَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ نَادِيهِمْ، كَانُوا قَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ إِلَى تَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ انْتِصَارًا لِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ، وَكَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَقَّ الْعَذَابُ عَلَى قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ الْمُهِينِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 14] وَكَانَ الْعَذَابُ قَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ زَمَنًا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبَ تَأَخُّرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ حِينَ قَالُوا مَا قَالُوا، وَأَيْقَظَ النُّفُوسَ إِلَى حُلُولِهِ بِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَإِعْلَامٍ بِكَرَامَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وَجُودَهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ

الْعِقَابَ سَبَبًا فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ مَكْرُمَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجُودَهُ فِي مَكَانٍ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارٌ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَتْ فِرْقَةٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى نَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلهم: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 34] بَعْدَ بَدْرٍ. وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ بِهَذَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاجْتِلَابِ ضَمِيرِ خِطَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ فِيهِمْ لَطِيفَةٌ مِنَ التَّكْرِمَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَفِيهِمْ رَسُولُهُ، كَمَا قَالَ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمرَان: 101] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ نَظْمُهَا، وَحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَفْكِيكِ الضَّمَائِرِ فَجَعَلَ ضَمَائِرَ الْغَيْبَة من لِيُعَذِّبَهُمْ، وفِيهِمْ ومُعَذِّبَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ ضَمِيرَ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ عَائِدًا إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ وَعَلَى تَأْوِيلِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّهُ إِسْنَادُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ حَلَّ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ. فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ انْتُهِزَتْ بِهَا فُرْصَةُ التَّهْدِيدِ بِتَعْقِيبِهِ بِتَرْغِيبٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ، فَبَعْدَ أَنْ هَدَّدَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ ذَكَّرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، فَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الشِّرْكِ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَتَكُونُ لَهُمْ أَمْنًا وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ، إِذْ مِنَ الْبَيِّنِ أَنْ لَيْسَ المُرَاد ب يَسْتَغْفِرُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: غُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ وَنَحْوَهُ، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلُ يُخَالِفُهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ تَحْرِيضًا وَذَلِكَ فِي الِاسْتِغْفَارِ وَتَلْقِيَنًا لِلتَّوْبَةِ زِيَادَةً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النِّسَاء: 147] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: 38] .

[سورة الأنفال (8) : آية 34]

وَفِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرُوا وَهَذَا مِنَ الْكِنَايَةِ الْعُرْضِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ وَحُسْنُ مَوْقِعِهَا هُنَا أَنَّهَا جَاءَت قيدا لعامل مَنْفِيٍّ، فَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 34] صَادَفَتْ مَحَزَّهَا مِنَ الْكَلَامِ أَيْ لَمْ يَسْلُكُوا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُمْ عَذَابُ اللَّهِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَبَرَكَتِهِ بِإِثْبَاتٍ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمِنُوا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَمَ لِأَنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا مِنَ الشِّرْكِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْإِسْلَامَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . [34] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 34] وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِتَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، بَيَانًا بِالصَّرَاحَةِ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ الْمُبْتَدَإِ ولَهُمْ خَبَرُهُ، وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّقْدِيرُ مَا الَّذِي ثَبَتَ لَهُمْ لِأَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُمْ عَذَابُ اللَّهِ فَكَلِمَةُ (مَا) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَثْبُتْ لَهُم شَيْء. وأَلَّا يُعَذِّبَهُمُ مَجْرُورٌ بِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفَةٍ بَعْدَ (أَنْ) عَلَى الشَّائِعِ مِنْ حَذْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَهُمْ فِي عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ أَوْ مِنْ عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ أَيْ أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمَقْصُودُ الْكِنَايَةُ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَحُلُولِهِ بِهِمْ، أَوْ تَوَقُّعِ حُلُولِهِ بِهِمْ، تَقول الْعَرَب: مَالك أَنْ لَا تُكْرَمَ، أَيْ: أَنْتَ حَقِيقٌ بِأَنْ تُكْرَمَ وَلَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِكْرَامِ شَيْءٌ، فَاللَّفْظُ نَفْيٌ لِمَانِعِ الْفِعْلِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفِعْلَ تَوَفَّرَتْ أَسْبَابُهُ ثُمَّ انْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مَا يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.

وَقَدْ يَتْرُكُونَ (أَن) وَيَقُولُونَ: مَالك لَا تَفْعَلُ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْحَالُ هِيَ مُثِيرُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْجَارِي عَلَى الِاسْتِعْمَالِ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا فِي الْآيَةِ نَافِيَة فَيكون أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اسْمَهَا ولَهُمْ خَبَرَهَا وَالتَّقْدِيرُ وَمَا عَدَمُ التَّعْذِيبِ كَائِنًا لَهُمْ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَالصَّدُّ الصَّرْفُ، وَمَفْعُولُ يَصُدُّونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ فَكَانَ الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَرِيمَةً عَظِيمَةً يَسْتَحِقُّ فَاعِلُوهُ عَذَابَ الدُّنْيَا قُبَيْلَ عَذَابِ الْآخِرَة، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الصَّدِّ عَنِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ بَنَاهُ مُؤَسِّسُهُ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَأْوًى لِلْمُوَحِّدِينَ، فَصَدُّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، صَرْفٌ لَهُ عَنْ كَوْنِهِ عَلَمًا عَلَى التَّوْحِيدِ، إِذْ صَارَ الْمُوَحِّدُونَ مَعْدُودِينَ غير أهل لزيادته، فَقَدْ جُعِلُوا مُضَادِّينَ لَهُ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ مُضَادًّا لِلتَّوْحِيدِ وَأَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْحَج: 25] ، وَالظُّلْمُ الشِّرْكُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَهَذَا الصَّدُّ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْآيَةُ: هُوَ عَزْمُهُمْ عَلَى صَدِّ الْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ أَنْ يَحُجُّوا وَيَعْتَمِرُوا، وَلَعَلَّهُمْ أَعْلَنُوا بِذَلِكَ بِحَيْثُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَدْخُلُونَ مَكَّةَ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : «كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ فَنَصُدُّ مَنْ نَشَاءُ وَنُدْخِلُ مَنْ نَشَاءُ» . قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَضِيَّةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَ أَبِي جَهْلٍ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: «أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، وَكَانَ سعد إِذْ مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَخَرَجَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ (كُنْيَةُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ) هَذَا مَعَكَ- فَقَالَ: هَذَا سَعْدٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاك تَطوف باليبت آمِنًا وَقَدْ

آوَيْتُمُ الصُّبَاةَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا» الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ فَنَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، هُوَ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ رَحِمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَكْرِمَةً لَنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤَاخِذْ عَامَّتَهُمْ بِظُلْمِ الْخَاصَّةِ بَلْ سَلَّطَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُجَازِي كُفْرَهُ وَظُلْمَهُ وَإِذَايَتَهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ عَذَّبَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْإِهَانَةِ نَفَرًا عُرِفُوا بِالْغُلُوِّ فِي كُفْرِهِمْ وَأَذَاهُمْ، مِثْلَ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَطُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَعَذَّبَ بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ مَنْ كَانُوا دُونَ هَؤُلَاءِ كُفْرًا وَاسْتَبَقَاهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ فَكَانَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ أَسْلَمُوا بِقُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ وَهَؤُلَاءِ مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، وَحَقَّقَ بِذَلِكَ رَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» . وَجُمْلَةُ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَصُدُّونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ إِظْهَارُ اعْتِدَائِهِمْ فِي صَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ مَنْ صَدَّ عَمًّا هُوَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ ظَالِمًا، وَمَنْ صَدَّ عَمَّا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ كَانَ أَشَدَّ ظُلْمًا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الْبَقَرَة: 114] أَيْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ أَحَدَ لِأَنَّهُ مَنَعَ شَيْئًا عَنْ مُسْتَحِقِّهِ. وَجُمْلَةُ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تَعْيِينٌ لِأَوْلِيَائِهِ الْحَقِّ، وَتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ مَعَ زِيَادَةِ مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ مِنْ تَعْيِينِ أَوْلِيَائِهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ فُصَلَتْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ مَعَ اقْتِضَائِهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِقَصْدِ التَّصْرِيحِ بِظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ فِي صَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَنَّهُمْ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أَشَدَّ تَعَلُّقًا بِجُمْلَةِ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مِنْ جُمْلَةِ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَكَانَتْ جُمْلَةُ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ كَالدَّلِيلِ، فَانْتَظَمَ الِاسْتِدْلَالُ أَبْدَعَ انْتِظَامٍ، وَلِمَا فِي إِنَاطَةِ وِلَايَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْمُتَّقِينَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سُلِبَتْ عَنْهُمْ وِلَايَتُهُ لَيْسُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَهُوَ مَذَمَّةٌ لَهُمْ وَتَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ بِحُجَّةٍ.

[سورة الأنفال (8) : آية 35]

وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ لكِنَّ نَاشِئٌ عَنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَمَّنَتْهُمَا جُمْلَتَا وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فَرْضَ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْمُوجَبِ الَّذِي أَقْحَمَهُمْ فِي الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حَقِيقُونَ بِوِلَايَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ «الْكَشَّافِ» ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ. وَإِنَّمَا نَفَى الْعِلْمَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَاقْتَضَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ مَنْ أَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَفَاقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمُ الْقَدِيمَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمْ عَلَى الْمُشَايَعَةِ لِلصَّادِّينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الْعِنَادُ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ، وَمُوَافَقَةُ الدَّهْمَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عُقَلَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ تَهَيَّأَ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ مِثْلَ الْعَبَّاسِ وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَحَكِيم بن حزم وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمَنِ اسْتَبَقَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ فَكَانُوا مِنْ نُصَرَائِهِ مِنْ بَعْدِ نُزُولِ هَذِه الْآيَة. [35] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 35] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: 34] فَمَضْمُونُهَا سَبَبٌ ثَانٍ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ، وَمَوْقِعُهَا، عَقِبَ جُمْلَةِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: 34] يَجْعَلُهَا كَالدَّلِيلِ الْمُقَرِّرِ لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهِمْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا عِنْدَ مَسْجِدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَكَانَ حَقِيقًا بِسَلْبِ وِلَايَةِ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، فَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَلَوْ فُصِلَتْ بِاعْتِبَارِهَا مُقَرِّرَةً لِسَلْبِ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ لَصَحَّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ لِأَنَّ الْعَطْفَ أَدَلُّ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِ مَوْقِعِهَا يُفِيدُ الِاعْتِبَارَ الثَّانِي. وَالْمُكَاءُ عَلَى صِيغَةِ مَصَادِرِ الْأَصْوَاتِ كَالرُّغَاءِ وَالثُّغَاءِ وَالْبُكَاءِ وَالنُّوَاحِ، يُقَالُ: مَكَا يَمْكُو إِذَا صَفَّرَ بِفِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْمَكَّاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَجَمُعُهُ مَكَاكِيءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ بَعْدَ الْيَاءِ، وَهُوَ طَائِرٌ أَبْيَضُ يَكُونُ بِالْحِجَازِ.

وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قُلْتُ لِمُنْتَجِعِ بْنِ نَبْهَانَ «مَا تَمْكُو» فَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِهِ وَنَفَخَ. وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ مُشْتَقًّا مِنَ الصَّدَى وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْهَوَاءُ مُحَاكِيًا لِصَوْتٍ صَالِحٍ فِي الْبَرَاحِ مِنْ جِهَةٍ مُقَابِلَةٍ. وَلَا تُعْرَفُ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ، فَتَسْمِيَةُ مُكَائِهِمْ وَتَصْدِيَتِهِمْ صَلَاةً مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْبَيْتِ. كَانَ مِنْ جُمْلَةِ طَرَائِقِ صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ تَشْغِيبُهُمْ عَلَيْهِمْ وَسُخْرِيَتُهُمْ بِهِمْ يُحَاكُونَ قِرَاءَةَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاتَهُمْ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «فَعَلَ ذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَخْلِطُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاتَهُ» وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ هُمْ سَدَنَةُ الْكَعْبَةِ وَأَهْلُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلِاسْتِسْخَارِ مِنَ الصَّلَاةِ سُمِّيَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ، وَالْمُشَاكَلَةُ تَرْجِعُ إِلَى اسْتِعَارَةٍ عَلَاقَتُهَا الْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ أَوِ التَّقْدِيرِيَّةُ فَلَمْ تَكُنْ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَهَذَا الَّذِي نَحَاهُ حُذَّاقُ الْمُفَسِّرِينَ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الْأَحْقَاف: 34] لِأَنَّ شَأْنَ التَّفْرِيعِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ، وَالْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ لَا يُعَدَّانِ كُفْرًا إِلَّا إِذَا كَانَا صَادِرَيْنِ لِلسُّخْرِيَةِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالدِّينِ، وَأَمَّا لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ لَهْوٍ عَمِلُوهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَيْسَ بِمُقْتَضٍ كَوْنَهُ كُفْرًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 37] . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيَمْكُوَنَ وَيُصَفِّقُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاة يصفقون ويصغرون، وَعَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو: أَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا يَمْكُوَنَ فِيهِ نَحْوَ أَبِي قُبَيْسٍ، فَإِذَا صَحَّ الَّذِي قَالَهُ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو فَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ الْبَيْتِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُقَارَبَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يُفِيدُهُ (عِنْدَ) مِنْ شِدَّةِ الْقُرْبِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى عَذَابٍ وَاقِعٍ بِهِمْ، إِذِ الْأَمْرُ هُنَا للتوبيخ والتغليظ وَذَلِكَ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَحَرَبٍ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 إلى 37]

بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَي بكفركم ف (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَكَانَ إِذَا جُعِلَ خَبَرُهَا جُمْلَةً مُضَارِعِيَّةً أَفَادَتِ الِاسْتِمْرَارَ وَالْعَادَةَ، كَقَوْلِ عَايِشَةَ، «فَكَانُوا لَا يَقْطَعُونَ السَّارِقَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» وَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي «الْمُوَطَّأِ» : «كَانُوا يُعْطُونَ النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ» . وَعَبَّرَ هُنَا بِ تَكْفُرُونَ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [39] بِ تَكْسِبُونَ لِأَنَّ الْعَذَابَ المتحدث عَنهُ هُنَاكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ. وَالْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَالْإِضْلَالِ وَمَا يَجُرُّهُ الْإِضْلَالُ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ الرِّئَاسَة. [36، 37] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ. لَمَّا ذَكَرَ صَدَّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمُوجِبَ لِتَعْذِيبِهِمْ، عَقَّبَ بِذكر محاولتهم استيصال الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِ سَبِيلِ اللَّهِ وَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، اهْتِمَامًا بِهَا أَيْ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُنْفِقُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَأَنَّ الْإِنْفَاقَ مُسْتَمِرٌّ لِإِعْدَادِ الْعُدَدِ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْفَاقُهُمْ حَصَلَ فِي الْمَاضِي وَيَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَشْعَرَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِعِلَّةٍ مُلَازِمَةٍ لِنُفُوسِهِمْ وَهِيَ بُغْضُ الْإِسْلَامِ وَصَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْهُ. وَهَذَا الْإِنْفَاقُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْعِمُونَ جَيْشَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ اللَّحْمَ كُلَّ يَوْمٍ، وَكَانَ الْمُطْعِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بن نَوْفَل، وطعمية بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَبُو البخْترِي والعاصي بن هَاشم، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُبَيْهُ بْنُ حَجَّاجٍ السَّهْمِيُّ، وَأَخُوهُ مُنَبِّهٌ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ، كَانُوا يُطْعِمُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ جَزَائِرَ. وَهَذَا الْإِنْفَاقُ وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَى، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهَا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فِي وَفْرَةِ النَّفَقَاتِ. وَهُوَ جَمْعٌ بِالْإِضَافَةِ يَجْعَلُهُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا مُبَالَغَةً، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ.

وَالْفَاءُ فِي فَسَيُنْفِقُونَها تَفْرِيعٌ عَلَى الْعِلَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ دَأْبَهُمْ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَكَرُّرُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ سَتَكُونُ لَهُمْ شَدَائِدُ مِنْ بَأْسِ الْمُسْلِمِينَ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَكْرِيرِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجُيُوشِ لِدِفَاعِ قُوَّةِ الْمُسلمين. وَضمير فَسَيُنْفِقُونَها رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْوَالِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهَا الْمُنْفَقَةَ بَلِ الْأَمْوَالُ الْبَاقِيَةُ أَوْ بِمَا يَكْتَسِبُونَهُ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ وَالرُّتْبِيِّ، أَيْ وَبَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى مَا فَاتَ، وَأُسْنِدَتِ الْحَسْرَةُ إِلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْحَسْرَةِ بِإِنْفَاقِهَا. ثُمَّ إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهَا بِنَفْسِ الْحَسْرَةِ مُبَالَغَةٌ مِثْلُ الْإِخْبَارِ بِالْمَصَادِرِ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ سَبَبُ التَّحَسُّرِ لَا سَبَبُ الْحَسْرَةِ نَفْسِهَا. وَهَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَحْصُلُونَ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى طَائِلٍ فِيمَا أَنْفَقُوا لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ الْمُنْفِقَ إِنَّمَا يَتَحَسَّرُ وَيَنْدَمُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ إِنْفَاقِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ لِيَغْلِبُوا فَلَا يَغْلِبُونَ، فَقَدْ أَنْفَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْجَيْشِ يَوْمَ أُحُدٍ: اسْتَأْجَرَ أَبُو سُفْيَانَ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْأَحَابِيشُ: فِرَقٌ مِنْ كِنَانَةَ تَجَمَّعَتْ مِنْ أَفْذَاذٍ شَتَّى وَحَالَفُوا قُرَيْشًا وَسَكَنُوا حول مَكَّة سمّو أَحَابِيشَ جَمْعُ أُحْبُوشٍ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ أَيِ الْجَمَاعَاتُ فَكَانَ مَا أَحْرَزُوهُ مِنَ النَّصْرِ كِفَاءً لِنَصْرِ يَوْمِ بَدْرٍ، بَلْ كَانَ نَصْرُ يَوْمِ بَدْرٍ أَعْظَمَ. وَلِذَلِكَ اقتنع أَبُو سيفيان يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يَقُولَ «يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» وَكَانَ يَحْسَبُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قُتِلَا فَخَابَ فِي حِسَابِهِ، ثُمَّ أَنْفَقُوا عَلَى الْأَحْزَابِ حِينَ هَاجَمُوا الْمَدِينَةَ ثُمَّ انْصَرَفُوا بِلَا طَائِلٍ، فَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُغْلَبُونَ ارْتِقَاءٌ فِي الْإِنْذَارِ بِخَيْبَتِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَحْصُلُوا مِنْ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى طَائِلٍ تُوعِّدُوا بِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوهُمْ أَيْضًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِغَلَبِ فَتْحِ مَكَّةَ وَانْقِطَاعِ دَابِرِ أَمْرِهِمْ، وَهَذَا كَالْإِنْذَارِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 12] وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِكَوْنِ فَاعِلِ الْفِعْلِ مَعْلُومًا بِالسِّيَاقِ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ غَيْرَ

الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ مَكَّةُ لَقَاحًا. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ وَالرُّتْبِيِّ مِثْلُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَإِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 12] فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ هُنَا إِلَى الْإِظْهَارِ تَخْرِيجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلْإِفْصَاحِ عَنِ التَّشْنِيعِ بِهِمْ فِي هَذَا الْإِنْذَارِ حَتَّى يُعَادَ اسْتِحْضَارُ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ بِأَصْرَحِ عِبَارَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ عُوَيْفِ الْقَوَافِي: اللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ ... وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَشْنِيعِ وَبْرٍ الْمَهْجُوِّ بِتَقْرِيرِ اسْمِهِ وَاسْمِ اللُّؤْمِ الَّذِي شُبِّهَ بِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا. وَعُرِّفُوا بِالْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْأَمْرَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ وَصْفُ الْكُفْرِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَمْرَيْنِ بِهِمْ. ولِيَمِيزَ مُتَعَلِّقٌ بِ يُحْشَرُونَ لِبَيَانِ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ حَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْفَرِيقُ الْخَبِيثُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ غَيْرَ الْمُؤَثِّرَةِ تَكُونُ مُتَعَدِّدَةً، فَتَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ مِنْ جُمْلَةِ الْحُكْمِ لِحَشْرِ الْكَافِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ- لِيَمِيزَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْأَوْلَى وَكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ الثَّانِيَةِ- مُضَارِعُ مَازَ بِمَعْنَى فَرَزَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ الْأُولَى وَفَتْحِ الْمِيمِ التَّحْتِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ. مُضَارِعُ مَيَّزَ إِذَا مَحَّصَ الْفَرْزَ وَإِذْ أُسْنِدَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوَتِ الْقِرَاءَتَانِ.

وَالْخَبِيثُ الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالْخُبْثِ وَالْخَبَاثَةِ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنه حَالَة حشية لِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ مَكْرُوهًا مِثْلِ الْقَذَرِ، وَالْوَسَخِ، وَيُطْلَقُ الْخُبْثُ مَجَازًا عَلَى الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا خِسَّةُ النُّفُوسِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا مَفَاسِدُ الْأَعْمَالِ، وَالطَّيِّبُ الْمَوْصُوفُ بِالطِّيبِ ضد الْخبث بإطلاقيه فَالْكُفْرُ خُبْثٌ لِأَنَّ أَسَاسَهُ الِاعْتِقَادُ، الْفَاسِدُ، فَنَفْسُ صَاحِبِهِ تَتَصَوَّرُ الْأَشْيَاءَ على خلاف حقايقها فَلَا جَرَمَ أَنْ تَأْتِيَ صَاحِبَهَا بِالْأَفْعَالِ عَلَى خِلَافِ وَجْهِهَا، ثُمَّ إِنَّ شَرَائِعَ أَهْلِ الْكُفْرِ تَأْمُرُ بِالْمَفَاسِدِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَصْرِفُ عَنِ الْمَصَالِحِ وَالْهِدَايَةِ بِسَبَبِ السُّلُوكِ فِي طَرَائِقِ الْجَهْلِ وَتَقْلِيبِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَمَا مِنْ ضَلَالَةٍ إِلَّا وَهِيَ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى أُخْرَى مِثْلِهَا، وَالْإِيمَانُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الطَّيِّبِ لِلْفَصْلِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [220] . وَجَعْلُ الْخَبِيثِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ: عِلَّةٌ أُخْرَى لِحَشْرِ الْكَافِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِالْوَاوِ فَالْمَقْصُودُ جَمْعُ الْخَبِيثِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَصْنَافُهُ فِي مَجْمَعٍ وَاحِدٍ، لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ عَنِ الطَّيِّبِ، وَلِتَشْهِيرِ مَنْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَفِي جَمْعِهِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ تَذْلِيلٌ لَهُمْ وَإِيلَامٌ، إِذْ يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرُوا رُكَامًا. وَالرَّكْمُ: ضَمُّ شَيْءٍ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ، وَقَدْ وَصَفَ السَّحَابَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً [النُّور: 43] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ بِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْخَبَرَ الْوَاقِعَ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَانَ بِسَبَبِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ حَالُهُ كَانَ حَقِيقًا بِأَنَّهُ قَدْ خَسِرَ أَعْظَمَ الْخُسْرَانِ، لِأَنَّهُ خَسِرَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَمَنَافِعَ الْآخِرَةِ. فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْخاسِرُونَ هِيَ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ، حَتَّى يُعَدَّ خُسْرَانُ غَيْرِهِمْ كَلَا خُسْرَانَ وَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِالْخُسْرَانِ مِنْ بَين النَّاس.

[سورة الأنفال (8) : آية 38]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) جَرَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ، وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ، وَالْعَكْسُ فَأَنْذَرَهُمْ بِمَا أَنْذَرَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِمَا تَوَعَّدَ ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّدَارُكِ وَإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدُوا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الْإِنَابَةِ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِينَافٌ يَصِحُّ جَعْلُهُ بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِشَأْنِهِمْ، وَذِكْرِ خَيْبَةِ مَسَاعِيهِمْ، مِمَّا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِهِمْ وَالسَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَمَّا إِذَا بَقِيَ لَهُمْ مَخْلَصٌ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَرْطَتِهِمُ الَّتِي ارْتَبَقُوا فِيهَا، فَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْمَقَالَ لِيُرِيَهُمْ أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ، وَالْإِقْلَاعَ فِي مُكْنَتِهِمْ. وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِينَ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى رُوعِيَ فِيهَا جَانِبُ الْمُخَاطَبِ بِالْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَظُّهُ مُجَرَّدَ تَبْلِيغِ مَقَالَةٍ، فَجَعَلَ حَظه حَظّ لمخبر بِالْقَضِيَّةِ الَّذِي يُرَادُ تَقَرُّرُهَا لَدَيْهِ قَبْلَ تَبْلِيغِهَا، وَهُوَ إِذَا بَلَّغَ إِلَيْهِمْ يُبَلِّغُ إِلَيْهِمْ مَا أُعْلِمَ بِهِ وَبُلِّغَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مُخْبِرًا بِخَبَرٍ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ حَامِلٍ لِرِسَالَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالِانْتِهَاءِ: الِانْتِهَاءُ عَنْ شَيْءٍ مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْكُفْرِ هُنَا وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ وَآثَارِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ إِنْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِهَاءُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِيمَانِ. وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَآثَارِهِ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةً خَاصَّةً بِالْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ شَامِلٌ كُلَّ كَافِرٍ لِتَسَاوِي الْحَالِ. وَلَفْظُ الْغُفْرَانِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ جَزَاءِ الذُّنُوبِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مَهْيَعُ الْآيَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لَا مَحَالَةَ، وَيَلْحَقُ بِهِ هُنَا عَذَابُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. واستنبط أَئِمَّتنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامًا لِلْأَفْعَالِ وَالتَّبِعَاتِ الَّتِي قَدْ تصدر من الْكفَّار فِي

حَالِ كَفْرِهِ فَإِذَا هُوَ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهَا هَلْ يُسْقِطُ عَنْهُ إِسْلَامُهُ التَّبِعَاتِ بِهَا. وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا اسْتَقْرَيْتُهُ وَأَصَّلْتُهُ فِي دَلَالَةِ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَصِحُّ أَنَّ تَدُلَّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا وَتَرَاكِيبُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَوْا عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَيَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ أَوِ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ مَحْضًا وَمَا كَانَ فِيهِ حَقٌّ لِلنَّاسِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ كُلُّهَا. وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ وَتَبْقَى عَلَيْهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ الْفَتْوَى لِعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَعْضُ مُخَالَفَةٍ لِهَذَا، وَحَكَوْا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَا غُرْمُ مَا أَصَابَ مِنْ جِنَايَاتٍ وَمَتْلَفَاتٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ مَا نَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الشَّافِعِيِّ بِخِلَافِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لِلَّهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ النَّاسِ وَحُجَّةُ الْجَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْمِيمًا وَتَخْصِيصًا بِمُخَصَّصَاتٍ أُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الِاتِّزَانُ لِأَنَّهُ فِي مِيزَانِ الرَّجَزِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَوْدِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالتَّجَهُّزِ لِحَرْبِهِمْ، مِثْلِ صُنْعِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا تَقْتَضِي أَنَّهُ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: «أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ» وَلِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 إلى 40]

لَمَّا يُفَارِقُوا الْكُفْرَ بَعْدُ فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَوْدِ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ يُسْلِمُوا. وَالسُّنَّةُ الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ وَالسِّيرَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [137] . وَمَعْنَى مَضَتْ تَقَدَّمَتْ وَعَرَفَهَا النَّاسُ. وَهَذَا الْخَبَرُ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ مَا لَقِيَهُ الْأَوَّلُونَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ أَنَّ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ بِمُضِيِّ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لِلْمُخْبَرِينَ بِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَسُنَ تَأْكِيدُهُ بِقَدْ إِذِ الْمُرَادُ تَأْكِيدُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ وُقُوعُ قَوْلِهِ: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مُلَازَمَةٌ فِي شَيْءٍ. وَالْأَوَّلُونَ: السَّابِقُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي حَالَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأُمَمُ الَّتِي سَبَقَتْ وَعَرَفُوا أَخْبَارَهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فَلَقوا عَذَاب الاستيصال مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: 43] . وَيَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ أَيْضًا السَّابِقُونَ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي كُلِّ أُولَئِكَ عِبْرَةٌ لِلْحَاضِرِينَ الْبَاقِينَ، وَتَهْدِيدٌ بِأَنْ يصيروا مصيرهم. [39، 40] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 39 إِلَى 40] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ [الْأَنْفَال: 36] الْآيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: 38] فَتَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَعُودُوا فَقَاتِلُوهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاء: 8]- وَقَوْلِهِ- وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَة: 3] وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَالْفِتْنَةُ اضْطِرَابُ أَمْرِ النَّاسِ وَمَرَجُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ

تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] وَقَوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [71] . وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ انْتِفَاءَ والفتنة غَايَةً لِقِتَالِهِمْ، وَكَانَ قِتَالُهُمْ مَقْصُودًا مِنْهُ إِعْدَامُهُمْ أَوْ إِسْلَامُهُمْ، وَبِأَحَدِ هَذَيْنِ يَكُونُ انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ، فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الْمُرَادَ نَفْيُهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنْهُمْ وَهِيَ فِتْنَتُهُمُ الْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْتِنُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَسْلَمُوا حَصَلَ انْتِفَاءُ فِتْنَتِهِمْ وَإِذَا أَعْدَمَهُمُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَاجِبٌ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَأَنَّهُمْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ- وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى- قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: 29] . وَهِيَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى مَا رَآهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ مُؤَرِّخِينَا: مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا كَانَ أَوَّلُهُ دِفَاعًا لِأَذَى الْمُشْرِكِينَ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ حَيْثُمَا حَلُّوا، فَتِلْكَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 191] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينُ لِلْجِنْسِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ زِيدَ فِيهَا اسْمُ التَّأْكِيدِ وَهُوَ كُلُّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسْبَقُ نُزُولًا مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَاحْتِيجَ فِيهَا إِلَى تَأْكِيدِ مُفَادِ صِيغَةِ اخْتِصَاصِ جِنْسِ الدِّينِ بِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الِاقْتِنَاعُ بِإِسْلَامِ غَالِبِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا تَقَرَّرَ مَعْنَى الْعُمُومِ وَصَارَ نَصًّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَلَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ تَطَلُّبًا لِلْإِيجَازِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ عَلِيمٌ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ مُجَازَاتِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى نَفْعِ أَوْلِيَائِهِ وَمُطِيعِيهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيصَالِ النَّفْع إِلَيْهِم الْإخْفَاء حَالِ مَنْ يُخْلَصُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى انْتِهَائِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ إِنِ انْتَهَوْا عَنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يُظَنُّ خِلَافُهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ ذَلِكَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [92] . وَالْمَوْلَى الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ غَيْرِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ وَفِيهِ مَعْنَى النَّصْرِ. وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ هَاتِهِ الدَّعْوَةِ فَاللَّهُ مُغْنٍ لَكُمْ عَنْ وَلَائِهِمْ، أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ تَوَلِّيهِمْ فَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يُؤْذِنُ بِجَوَابٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تَخَافُوا تَوَلِّيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ يُقَدِّرُ لَكُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ «وَلَئِنْ تَوَلَّيْتَ لَيَعْفِرَنَّكَ اللَّهُ» وَإِنَّمَا الْخَسَارَةُ عَلَيْهِمْ إِذْ حُرِمُوا السَّلَامَةَ وَالْكَرَامَةَ. وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ جَوَاب الشَّرْط ب فَاعْلَمُوا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ، أَيْ لَا تَغْفُلُوا عَنْ ذَلِكَ، كَمَا مَرَّ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: 24] . وَجُمْلَةُ: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ. وَعَطَفَ عَلَى نِعْمَ الْمَوْلى قَوْلَهُ: وَنِعْمَ النَّصِيرُ لِمَا فِي الْمَوْلَى مِنْ مَعْنَى النَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عَطْفِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى قَوْلِهِ: حَسْبُنَا اللَّهُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سورة الأنفال (8) : آية 41]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) انْتِقَالٌ لِبَيَانِ مَا أُجْمِلَ مِنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، الَّذِي افْتَتَحَتْهُ السُّورَةُ، نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ عَادُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْأَنْفَال: 39] . وافتتاحه ب فَاعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى رِعَايَةِ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: 24] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِلْمِ تَقَرُّرُ الْجَزْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْمَعْلُوم، فَيكون فَاعْلَمُوا كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ صَرِيحُهُ وَلَازِمُهُ. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْخُصُوصِ جَيْشُ بَدْرٍ، وَلَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِحُكْمِ الْأَنْفَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ السُّورَةِ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: لِلَّهِ ... وَلِلرَّسُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ ابْتِدَاءً أَنَّ قِسْمَةَ الْمَغَانِمِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُ أَنَّهَا لِاجْتِهَادِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَعْيِينٍ، ثُمَّ شَرَعَ التَّخْمِيسَ. وَذَكَرُوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُخَمِّسْ مَغَانِمَ بَدْرٍ، ثُمَّ خَمَّسَ مَغَانِمَ أُخْرَى بَعْدَ بَدْرٍ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهُ شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَغَانِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ.

وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ قَدِيمًا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَغْنَمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ تَنْضَبِطْ تَقَارِيرُ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ فِي طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَلَطَهَا مَعَ آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَجَعَلَ هَذِهِ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْحَشْرِ وَالْعَكْسَ، أَوْ أَنَّ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُخَصِّصَةً لِلْأُخْرَى: إِمَّا فِي السِّهَامِ، وَإِمَّا فِي أَنْوَاعِ الْمَغَانِمِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَطُولُ. وَتَرَدَّدُوا فِي مُسَمَّى الْفَيْءِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ مَجَالًا لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ: النَّفْلُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْفَيْءُ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، واتّصالها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: 1] أَنَّ المُرَاد بقوله: أَنَّما غَنِمْتُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا حَصَّلْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مِنْ مَتَاعِ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ مَا سُمِّيَ بِالْأَنْفَالِ، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَالنَّفْلُ وَالْغَنِيمَةُ مُتَرَادِفَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ إِذْ قَالَ تَعَالَى هُنَا غَنِمْتُمْ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَة [الْأَنْفَال: 1] : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ التَّعْبِيرَ هُنَا بِفِعْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِعْلٌ مِنْ مَادَّةِ النَّفْلِ يُفِيدُ إِسْنَادَ مَعْنَاهُ إِلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ، وَلِذَلِكَ فَآيَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ سِيقَتْ هُنَا بَيَانا لآيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فَإِنَّهُمَا وَرَدَتَا فِي انْتِظَامٍ مُتَّصِلٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَنَرَى أَنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ النَّفْلِ بِمَا يُعْطِيهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ أَحَدَ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ سَلْبًا أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَسَعُهُ الْخُمُسُ أَوْ مِنْ أَصْلِ مَالِ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ شَاعَ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا يَصِلُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَجَعَلَهَا بِمَعْنَى الْفَيْءِ، فَمَحْمَلُهُ عَلَى بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ. وَتَعْبِيرَاتُ السَّلَفِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَهَذَا مِلَاكُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَمْيِيزِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الْقِتَالِ، فَأَمَّا صُوَرُ قِسْمَتِهَا فَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ، وَيُقَالُ: لَهَا الْمَغْنَمُ، مَا يَأْخُذُهُ الْغُزَاةُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْمُقَاتِلِينَ غَصْبًا، بِقَتْلٍ أَوْ بِأَسْرٍ، أَوْ يَقْتَحِمُونَ دِيَارَهُمْ غَازِينَ، أَوْ مَا يَتْرُكُهُ الْأَعْدَاءُ

فِي دِيَارِهِمْ، إِذَا فَرُّوا عِنْدَ هُجُومِ الْجَيْشِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ. فَأَمَّا مَا يَظْفَرُ بِهِ الْجَيْشُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَزْوِ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَتْرُكُهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمَتَاعِ إِذَا أَخْلَوْا بِلَادَهُمْ قَبْلَ هُجُومِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الْفَيْءُ وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: 1] إلَخْ. فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلِ حَقٌّ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ. وَأَمَّا النَّفْلُ فَلَيْسَ حَقًّا مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِبَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، عَلَى مَا يَرَى مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا تَعْيِينَ لِمِقْدَارِ النَّفْلِ فِي الْخُمُسِ وَلَا حَدَّ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخُمُسِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الْجَارِي عَلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: النَّفْلُ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: النَّفْلُ مَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْخُمُسِ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: أَنَّما اسْمٌ مَوْصُولٌ وَهُوَ اسْمُ (أَنَّ) وَكُتِبَتْ هَذِهِ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَةً بِ (أَنَّ) لِأَنَّ زَمَانَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِ الرَّسْمِ وَضَبْطِ الْفُرُوقِ فِيهِ بَيْنَ مَا يَتَشَابَهُ نُطْقُهُ وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ، فَالتَّفْرِقَةُ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ (مَا) الْكَافَّةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَنْضَبِطْ زَمَنَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ الْأُولَى، وَبَقِيَتْ كِتَابَةُ الْمَصَاحِفِ عَلَى مِثَالِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مُبَالَغَةً فِي احْتِرَامِ الْقُرْآنِ عَنِ التَّغْيِيرِ. ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِعُمُومِ (مَا) لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ غَنِيمَةٌ مُعَيَّنَةٌ خَاصَّةٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، وَمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ بِتَأْوِيلِ: إِنْ غَنِمْتُمْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ إلَخْ. وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ بَعْدَ (أَنَّ) فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ. وَإِنَّمَا صِيغَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، مَعَ كَوْنِ مَعْنَى اللَّامِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ

عَلَى الْأَحَقِّيَّةِ، كَمَا قُرِئَ فِي الشَّاذِّ فَلِلَّهِ خُمُسُهُ لِمَا يُفِيدُهُ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (أَنَّ) مِنَ الْإِسْنَادِ مَرَّتَيْنِ تَأْكِيدًا، وَلِأَنَّ فِي حَذْفِ أَحَدِ رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ تَكْثِيرًا لِوُجُوهِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمُقَدَّرِ، مِنْ نَحْوِ تَقْدِيرِ: حَقٌّ، أَوْ ثَبَاتٌ، أَوْ لَازِمٌ، أَوْ وَاجِبٌ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغُزَاةِ الصَّادِقِ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ غَنِمْتُمْ فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ عَدَا خُمُسِهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ حَقًّا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ أَمْرُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ يَكُونُ لِقَائِدِ الْجَيْشِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ «الْمِرْبَاعَ» بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَفِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ إِذَا جُعِلَ شَيْءٌ حَقًّا لِلَّهِ، مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ عِبَادَةٌ لَهُ: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِلَّذِينَ يَأْمُرُ اللَّهُ بِتَسْدِيدِ حَاجَتِهِمْ مِنْهُ، فَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ مُسْتَحِقُّونَ عَيَّنَهُمُ الشَّرْعُ، فَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْخُمُسَ حَقُّ اللَّهِ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَقَدْ شَاءَ فَوَكَّلَ صَرْفَهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ يَخْلُفُ رَسُولَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْخُمُسُ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَشَذَّ أَبُو الْعَالِيَةِ رُفَيْعٌ (¬1) الرِّيَاحِيُّ وَلَاءً مِنَ التَّابِعِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَيُعْزَلُ مِنْهَا سَهْمٌ فَيَضْرِبُ الْأَمِيرُ بِيَدِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَتْ عَلَيْهِ يَدُهُ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ: أَيْ عَلَى وَجْهٍ يُشْبِهُ الْقُرْعَةَ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ ذَلِكَ السَّهْمِ عَلَى خَمْسَةٍ: سَهْمٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَنَسَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَلِحَقِّهِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَحَالَةِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يُحِبُّ انْتِفَاعَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْخُمُسِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى ¬

(¬1) بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء توفّي سنة تسعين على الصَّحِيح.

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْفَيْء «مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» فَيُقَاسُ عَلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ رَسُولِ اللَّهِ فِي انْتِفَاعِهِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي مَالِ اللَّهِ. وَأَوْضَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، حِينَ تَحَاكَمَا إِلَيْهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَرِجَال «الصَّحِيحِ» ، قَالَ عُمَرُ: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ قَالَ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [الْحَشْر: 7] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لرَسُول الله، وو اللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» . وَالْغَرَضُ مِنْ جَلْبِ كَلَامِ عُمَرَ قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» . وَأَمَّا ذُو الْقُرْبى فَ (أَلْ) فِي الْقُرْبى عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى أَيْ ذَوِي قَرَابَةِ الْمُؤْتِي الْمَالَ. وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ (الرَّسُولُ) الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَيْ وَلِذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ بِ (ذِي) الْجِنْسُ، أَيْ: ذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، أَيْ: قَرَابَتَهُ، وَذَلِكَ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَعَلَ لِأَهْلِ قَرَابَتِهِ حَقًّا فِي مَالِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَاةِ. فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أَغْنَاهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُمْ فِي الْخُمُسِ ثَابِتًا بِوَصْفِ الْقَرَابَةِ. فَذُو الْقُرْبَى مُرَادٌ بِهِ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِقَرَابَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَهُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْقُرْبى جِنْسٌ فَهُوَ مُجْمَلٌ، وَأُجْمِلَتْ رُتْبَةُ الْقَرَابَةِ إِحَالَةً عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي قُرْبَى الرَّجُلِ، وَتِلْكَ هِيَ قُرْبَى نَسَبِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ. ثُمَّ إِنَّ نَسَبَ الْآبَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ يُعَدُّ مُشْتَرَكًا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ الْفَصَائِلُ، وَمَحْمَلُهَا الظَّاهِرُ عَلَى عَصَبَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَبْنَاءِ جَدِّهِ الْأَدْنَى. وَأَبْنَاءُ أَدْنَى أَجْدَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، لِأَنَّ هَاشِمًا لَمْ يَبْقَ لَهُ عَقِبٌ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَالْأَرْجَحُ أَنَّ قُرْبَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ

وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَنَّ الْقُرْبَى هُنَا: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. وَمَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمُتَمَسَّكُ هَؤُلَاءِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ نُكَلِّمُهُ فِيمَا قَسَّمَ مِنَ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا، وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَا فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلَكِنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْأَمْوَالِ الْمُعْطَاةِ وَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ عَطَاءً مِنْ سَهْمِهِ الْخَاصِّ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى وَفَائِهِمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْتِصَارِهِمْ لَهُ، وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ أَيَّدُوا بِهَا دَعْوَةَ الدِّينِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَلَمْ يُضِعْهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِمُوَاسَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُكْسِبُهُمْ حَقًّا مُسْتَمِرًّا. ثَانِيهَا: أَنَّ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ تَسْتَنِدُ لِلْأَوْصَافِ الْمُنْضَبِطَةِ، فَالْقُرْبَى هِيَ النَّسَبُ، وَنَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَاشِمٍ، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَهُمْ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ هُمْ أَبْنَاءُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَإِخْوَةٌ لِهَاشِمٍ، فَالَّذِينَ نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ أَعْيَانَهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَعْطَى مَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ النَّصْرَ، فَمَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُسَاوُونَ أَبْنَاءَ نَوْفَلٍ وَأَبْنَاءَ عَبْدِ شَمْسٍ، فَلَا يَكُونُ فِي عَطَائِهِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَأْوِيلِ ذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ الْجَصَّاصُ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «الْجَامِعِ الصَّغِيرِ» : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ (أَيْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى) وَرَوَى

بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَخَمُسٌ لِذِي الْقُرْبَى فَلِكُلِّ صِنْفٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُمُسُ الْخُمُسِ قَالَ: وَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَا الْقُرْبَى لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَرَابَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَهُمْ (آلُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسُ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَقَالَ آخَرُونَ: بَنُو الْمُطَّلِبِ دَاخِلُونَ فِيهِمْ. وَقَالَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ذَوُو الْقُرْبَى هُمْ عَشِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِنْذَارِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ آلُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، أَيْ قُرَيْشٍ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى بَعْضِ السَّلَفِ وَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْقُرْبَى بَنِي أَبِي لَهَبٍ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ آثَرَ عَلَيْنَا الْأَفْجَرِينَ» رَوَاهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَدٌ، وَبَعْدُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَبِي لَهَبٍ فَلَا يَشْمَلُ أَبْنَاءَهُ فِي الْإِسْلَامِ. ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَغَيْرَهُ. رَوَى عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَتْ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي لَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِي وَيَقُولُونَ: إِنِّي بِنْتُ حَطَبِ النَّارِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُغْضَبٌ شَدِيدُ الْغَضَبِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِي نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي أَلَا وَمَنْ آذَى نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ» . فَوَصَفَ دُرَّةَ بِأَنَّهَا مِنْ نَسَبِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ وَصْفَ قُرْبَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْمَغْنَمِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِوَصْفِ فَقْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا بِوَصْفِ الْفَقْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لَهُمْ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُوَافَقَةَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ فِيهِمْ.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخُمُسَ لِخَمْسَةِ مَصَارِفَ وَلَمْ يُعَيِّنْ مِقْدَارَ مَا لِكُلِّ مَصْرِفٍ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَرْفُهُ لِمَصَارِفِهِ هَذِهِ مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَيُقَسَّمُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَصْرِفٍ مِنْهُ مَا يَفِي بِحَاجَتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا ضَرَّ مَعَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَصْرِفِ الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ الْقِسْمَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ مَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يُنَاطَ بِالْحَاجَةِ، وَبِتَقْدِيمِ الْأَحْوَجِ وَالْأَهَمِّ عِنْدَ التَّضَايُقِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَسَّمُ لِكُلِّ مَصْرَفٍ الْخُمُسُ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهَا خَمْسَةُ مَصَارِفَ، فَجَعَلَهَا مُتَسَاوِيَةً، لِأَنَّ التَّسَاوِيَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِكَةِ الْمُجْمَلَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى دَلِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْجِيحِ وَإِذْ قَدْ جَعَلَ مَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ خُمُسًا وَاحِدًا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ارْتَفَعَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ وَسَهْمُ قَرَابَتِهِ بِوَفَاتِهِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمًا فِي الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، لَا لِأَنَّهُ إِمَامٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُفُهُ فِيهِ الْإِمَامُ، يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِلَا تَقْدِيرٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعَانِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً- إِلَى قَوْلِهِ- وَابْنِ السَّبِيلِ [النِّسَاءِ: 36] . وَالْيَتَامَى وَابْنُ السَّبِيلِ لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالشَّأْنُ، فِي الْيَتَامَى فِي

الْغَالِبِ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُمْ سَعَةٌ فِي الْمَكَاسِبِ فَهُمْ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، وَلَكِنَّهَا دُونَ الْفَقْرِ فَجُعِلَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَغْنَمِ تَوْفِيرًا عَلَيْهِمْ فِي إِقَامَة شؤونهم، فَهُمْ مِنَ الْحَاجَةِ الْمَالِيَّةِ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَهُمْ مِنْ حَالَةِ الْمَقْدِرَةِ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُمْ، فَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِأَمْوَالٍ تَرَكَهَا لَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا. وَالْمَسَاكِين الْفُقَرَاء الشَّديد والفقر جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ كَمَا جَعَلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الزَّكَاةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا فِي الْخُمُسِ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْيَتَامَى حَقًّا فِي الزَّكَاةِ. وَابْنُ السَّبِيلِ أَيْضًا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَلَاغ وتسديد شؤونه، فَهُوَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ ذَا وَفْرٍ وَغِنًى لَمْ يُعْطَ مِنَ الْخُمُسِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْيَتَامَى وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْفَقْرَ، بَلْ مُطْلَقَ الْحَاجَةِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْفَقْرَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَجَعَلَ ذِكْرَهُمْ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَسَاكِينِ لِتَقْرِيرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ شَرْطٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِلْمِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْعَمَلَ بِالْمَعْلُومِ وَالِامْتِثَالَ لِمُقْتَضَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ، صَحَّ تَعَلُّقُ الشَّرْطِ بِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ أَوْ هُوَ الْجَوَابُ مُقَدَّمًا عَلَى شَرْطِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ إلَخْ. وَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ فَاقْطَعُوا أَطْمَاعَكُمْ فِي ذَلِك الْخمس واقتنعوا بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ. مُطْلَقُ الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَ ذَلِكَ. وَالشَّرْطُ هُنَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخِرِهَا. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحِرَفِ (إِنِ) الَّتِي شَأْنُ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ زِيَادَةً فِي حَثِّهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ حَيْثُ يَفْرِضُ حَالُهُمْ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِ شَرْطِهِ إِلْهَابًا لَهُمْ لِيَبْعَثَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فِيهِمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْيَقِينِ بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَهُ وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَرَأَيْتُمْ ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ وَارْتَقَى إِيمَانُكُمْ مِنْ مَرْتَبَةِ حَقِّ الْيَقِينِ إِلَى مَرْتَبَةِ

عَيْنِ الْيَقِينِ فَعَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِنَفْعِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِذْ يَعِدُكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، فَكَانَ مَا دَفَعَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَحْفَظَ لِمَصْلَحَتِكُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لِقُوَّةِ دِينِكُمْ. فَمَنْ رَأَوْا ذَلِكَ وَتَحَقَّقُوهُ فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ هُوَ الْمصلحَة، وَلم يعبأوا بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَقْصٍ فِي حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ، عِلْمًا بِأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَصَالِحَ جَمَّةً آجِلَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلْنا عَطْفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ بِحُصُولِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ بِهِ، فَيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ. وَتَخْصِيصُ مَا أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ جُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ الرَّاجِعَةِ لِلِاعْتِقَادِ، لِأَنَّ لِذَلِكَ الْمَنْزِلِ مَزِيدَ تَعَلُّقٍ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا. وَالْإِنْزَالُ: هُوَ إِيصَالُ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِبْلَاغِ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُنَزَّلُ مِنْ قَبِيلِ الْوَحْيِ، أَيْ وَالْوَحْيُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، لَكِنَّهُ الْوَحْيُ الْمُتَضَمِّنُ شَيْئًا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَال: 7] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْأَلْطَافِ الْعَجِيبَةِ، مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ لِلنَّصْرِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، لِتَعْبِيدِ الطَّرِيقِ، وَتَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ، وَالِاسْتِقَاءِ. وَإِطْلَاقُ الْإِنْزَالِ عَلَى حُصُولِهِ اسْتِعَارَةٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ مِنْ عُلُوٍّ تَشْرِيفًا لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: 26] . وَالتَّطَهُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ غَرَضَ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ مَعْنَاهُ مِمَّا نعلمهُ أَو لما علمناه. ويَوْمَ الْفُرْقانِ هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ سُمِّيَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ لِأَنَّ الْفُرْقَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ:

[سورة الأنفال (8) : آية 42]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الْأَنْفَال: 29] وَقَدْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ يَوْمٍ ظَهَرَ فِيهِ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ الضُّعَفَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ نَصْرُ الْمُحِقِّينَ الْأَذِلَّةِ عَلَى الْأَعِزَّةِ الْمُبْطِلِينَ، وَكَفَى بِذَلِكَ فُرْقَانًا وَتَمْيِيزًا بَيْنَ مَنْ هُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَمَنْ هُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. فَإِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى الْفُرْقانِ إِضَافَةُ تَنْوِيهٍ بِهِ وَتَشْرِيفٍ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفُرْقانِ فَإِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى جُمْلَةِ: الْتَقَى الْجَمْعانِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الِالْتِقَاءِ الْعَجِيبِ الَّذِي كَانَ فِيهِ نَصْرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجَمْعانِ لِلْعَهْدِ. وَهُمَا جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اعْتِرَاضٌ بِتَذْيِيلِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِبَعْضِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى مُتَعَارَفِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، فَقُدْرَةُ اللَّهِ قَلَبَتِ الْأَحْوَالَ وَأَنْشَأَتِ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ مَجَارِيهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَبَبِ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَ الْفُرْقانِ أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الْفُرْقَانِ الَّذِي هُوَ لَقَبُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ يَوْمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي معنييه. [42] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 42] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: 41] فَهُوَ ظَرْفٌ ل أَنْزَلْنا [الْأَنْفَال: 41] أَيْ زَمَنَ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، وَقَدْ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ تَذْكِيرُهُمْ بِحَالَةٍ حَرِجَةٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ

فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ لِلُطْفٍ عَظِيمٍ حَفَّهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ حَالَةُ مَوْقِعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَيْفَ الْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ عَدُوٍّ قَوِيِّ الْعِدَّةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حُسْنِ الْمَوْقِعِ. وَلَوْلَا هَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ وَصْفِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَمَا كَانَ مِنْ دَاعٍ لِهَذَا الْإِطْنَابِ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَصْفُ الْمَنَازِلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ عِبْرَةٌ. وَالْعُدْوَةُ بِتَثْلِيث الْعين صفة الْوَادِي وَشَاطِئُهُ، وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ فِي الْعَيْنِ أَفْصَحُ وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ، فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَالْمرَاد بهَا شاطىء وَادِي بَدْرٍ. وَبَدْرٌ اسْمُ مَاءٍ. والدُّنْيا هِيَ الْقَرِيبَةُ أَيِ الْعُدْوَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ، فَهِيَ أَقْرَبُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدْوَةِ الَّتِي مِنْ جِهَة مَكَّة. وبِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى هِيَ الَّتِي مِمَّا يَلِي مَكَّةَ، وَهِيَ كَثِيبٌ، وَهِيَ قُصْوَى بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِ بَلَدِ الْمُسلمين. وَالْوَصْف ب الدُّنْيا والْقُصْوى يَشْعُرُ الْمُخَاطَبُونَ بِفَائِدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرِيصِينَ أَنْ يَسْبِقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، لِأَنَّهَا أَصْلَبُ أَرْضًا فَلَيْسَ لِلْوَصْفِ بِالدُّنُوِّ وَالْقُصُوِّ أَثَرٌ فِي تَفْضِيلِ إِحْدَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ صَادَفَ أَنْ كَانَتِ الْقُصْوَى أَسْعَدَ بِنُزُولِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا سَبَقَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا اغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا فَلَبَّدَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَعُقْهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ وَأَصَابَ الْأَرْضَ الَّتِي بِهَا قُرَيْشٌ فَعَطَّلَهُمْ عَنِ الرَّحِيلِ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بَدْرًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ وَتَخَيَّرُوا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ وَسَبَقُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاتَّخَذُوا حَوْضًا يَكْفِيهِمْ وَغَوَّرُوا الْمَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ وَجَدُوهُ قَدِ احْتَازَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَ وَلَا يَجِدُ الْمُشْرِكُونَ مَاءً. وَضَمِيرُ وَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي لَفْظِ الْجَمْعانِ مِنْ مَعْنَى: جَمْعُكُمْ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا لَمْ يَبْقَ مَعَادٌ لِضَمِيرِ وَهُمْ إِلَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ وَهُوَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ. والرَّكْبُ هُوَ رَكْبُ قُرَيْشٍ الرَّاجِعُونَ مِنَ الشَّامِ، وَهُوَ الْعِيرُ. أَسْفَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ أَخْفَضَ مِنْ مَنَازِلِهِمَا، لِأَنَّ الْعِيرَ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ، وَقَدْ

تَرَكُوا مَاءَ بَدْرٍ عَنْ يَسَارِهِمْ. ذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا لِتَلَقِّي عِيرِهِ رَجَعَ بِالْعِيرِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَمُرُّ بِبَدْرٍ، وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ لِيَنْجُوَ بِالْعِيرِ، فَكَانَ مَسِيرُهُ فِي السُّهُولِ الْمُنْخَفِضَةِ، وَكَانَ رِجَالُ الرَّكْبِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَالْمَعْنَى: وَالرَّكْبُ بِالْجِهَةِ السُّفْلَى مِنْكُمْ، وَهِيَ جِهَةُ الْبَحْرِ وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَالْمَعْنَى أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُمَا جَيش أبي سُفْيَان بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَعِيرُ الْقَوْمِ أَسْفَلَ مِنَ الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْ عَلِمَ الْعَدُوُّ بِهَذَا الْوَضْعِ لَطَبَقَ جَمَاعَتَيْهِ عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّفَطُّنِ لِذَلِكَ وَصَرَفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يُصَادِفُوا الْعِيرَ فَيَنْتَهِبُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الْأَنْفَال: 7] وَلَوْ حَاوَلُوا ذَلِكَ لَوَقَعُوا بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَانْتَصَبَ أَسْفَلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ عَنِ (الرَّكْبِ) أَيْ وَالرَّكْبُ قَدْ فَاتَكُمْ وَكُنْتُمْ تَأْمُلُونَ أَنْ تُدْرِكُوهُ فَتَنْتَهِبُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ. وَالْغَرَضُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْوَقْتِ، وَبِتِلْكَ الْحَالَةِ: إِحْضَارُهَا فِي ذِكْرِهِمْ، لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَمِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِوَعْدِهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِيهِ جَيْشٌ تُجَاهَ عَدُوِّهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ كَانَ ظَاهِرُهَا مُلَائِمًا لِلْعَدُوِّ، إِذْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي شَوْكَةٍ وَاكْتِمَالِ عُدَّةٍ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْغَلَبَةِ بِحُسْنِ مَوْقِعِ جَيْشِهِ، إِذْ كَانَ بِالْعُدْوَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِسُقْيَاهُمْ وَالَّتِي أَرْضُهَا مُتَوَسِّطَةُ الصَّلَابَةِ، فَأَمَّا جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ الْعَدُوِّ فِي عُدْوَةٍ تَسُوخُ فِي أَرْضِهَا الْأَرْجُلُ مِنْ لِينِ رَمْلِهَا، مَعَ قِلَّةِ مَائِهَا، وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ فَاتَتِ الْمُسْلِمِينَ وَحَلَّتْ وَرَاءَ ظُهُورِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَتْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَاثِقِينَ بِمُكْنَةِ الذَّبِّ عَنْ عِيرِهِمْ، فَكَانَتْ ظَاهِرَةُ هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةَ خَيْبَةٍ وَخَوْفٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَظَاهِرَةَ فَوْزٍ وَقُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مِنْ عَجِيبِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ قَلَبَ تِلْكَ الْحَالَةَ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، فَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا تَعَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فَسَارُوا فِيهَا غَيْرَ مَشْفُوقٍ عَلَيْهِمْ، وَتَطَهَّرُوا وَسَقَوْا، وَصَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ لِجَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَحْلًا يَثْقُلُ فِيهَا السَّيْرُ وَفَاضَتِ الْمِيَاهُ عَلَيْهِمْ، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ

تَهْوِينَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَلَا أَعَدُّوا لِلْحَرْبِ عُدَّتَهَا، وَجَعَلُوا مَقَامَهُمْ هُنَالِكَ مَقَامَ لَهْوٍ وَطَرَبٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَرَأَوْا كَيْفَ أَنْجَزَ اللَّهُ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ. فَالَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أَعْلَمُ السَّامِعِينَ بِفَائِدَةِ التَّوْقِيتِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُفَسِّرِ وَصْفُ الْحَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَةُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ قَلِيلَ الْجَدْوَى. وَجُمْلَةُ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: 41] وَعَامِلُ الْحَالِ فعل الْتَقَى [الْأَنْفَال: 41] أَيْ فِي حَالِ لِقَاءٍ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، قَدْ جَاءَ أَلْزَمَ مِمَّا لَوْ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ، فَإِنَّ اللِّقَاءَ الَّذِي يَكُونُ مَوْعُودًا قَدْ يَتَأَخَّرُ فِيهِ أَحَدُ الْمُتَوَاعِدَيْنِ عَنْ وَقْتِهِ، وَهَذَا اللِّقَاءُ قَدْ جَاءَ فِي إِبَّانٍ مُتَّحِدٍ وَفِي مَكَانٍ مُتَجَاوِرٍ مُتَقَابِلٍ. وَمَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمِيعَادِ: اخْتِلَافُ وَقْتِهِ بِأَنْ يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَنِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ فَلَمْ يَأْتُوا عَلَى سَوَاءٍ. وَالتَّلَازُمُ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا خَفِيَ هُنَا وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى تَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ علمْتُم قلّتكم وكثرتكم، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْحُضُورِ لَا إِلَى الِاخْتِلَافِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ: وَعَلِمْتُمْ قِلَّتَكُمْ وَشَعَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْخَوْفِ مِنْكُمْ لِمَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، أَيْ يَجْعَلُ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ يَتَثَاقَلُ فَلَمْ تَحْضُرُوا عَلَى مِيعَادٍ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى مَا أَفْضَى إِلَيْهِ الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّاسُ مِنْ عُرُوضِ الْعَوَارِضِ وَالْقَوَاطِعِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ. فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لَوْ هَذِهِ مِنْ قَبِيلِ (لَوِ) الصُّهَيْبِيَّةِ فَإِنَّ لَهَا اسْتِعْمَالَاتٍ مِلَاكُهَا: أَنْ لَا يُقْصَدَ مِنْ (لَوْ) رَبْطُ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا بِانْتِفَاءِ مَضْمُونِ شَرْطِهَا، أَيْ رَبْطُ حُصُولِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ بِحُصُولِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، بَلْ يُقْصَدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، سَوَاءٌ فُرِضَ حُصُولُ مَضْمُونِ شَرْطِهَا أَوْ فُرِضَ انْتِفَاؤُهُ، أَمَّا لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ أَوْلَى بِالْحُصُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر: 14] ، وَأَمَّا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَوْلَوِيَّةِ مَضْمُونِ

الْجَوَابِ بِالْحُصُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: 28] . وَمُحَصِّلُ هَذَا أَنَّ مَضْمُونَ الْجَزَاءِ مُسْتَمِرُّ الْحُصُولِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فِي فَرْضِ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنَةً الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَ السَّامِعِ مَظِنَّةُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا نَقِيضُ مَضْمُونِ الْجَوَابِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ طُفَيْلٍ فِي الثَّنَاءِ عَلَى بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ: أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا ... تُلَاقِي الَّذِي لَاقَوْهُ مِنَّا لَمَلَّتِ أَيْ فَكَيْفَ بِغَيْرِ أُمِّنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [23] ، وَكُنَّا أَحَلْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [111] . وَالْمَعْنَى: لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، أَيْ فِي وَقْتِ مَا تَوَاعَدْتُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْمُتَوَاعِدِينَ أَنْ لَا يَسْتَوِيَ وفاؤهما بِمَا تواعدا عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْوَفَاءِ بِهِ، أَيْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ التَّوْقِيتَ كَانَ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ تَقْرِيبًا يُقَدِّرُونَهُ بِأَجْزَاءِ النَّهَارِ كَالضُّحَى وَالْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، لَا يَنْضَبِطُ بِالدَّرَجِ وَالدَّقَائِقِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَبِالْأَحْرَى وَأَنْتُمْ لَمْ تَتَوَاعَدُوا وَقَدْ أَتَيْتُمْ سَوَاءً فِي اتِّحَادِ وَقْتِ حُلُولِكُمْ فِي الْعُدْوَتَيْنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ بِقَدَرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ نَصْرَكُمْ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: 17] . وَهَذَا غَيْرُ مَا يُقَالُ، فِي تَقَارُبِ حُصُولِ حَالٍ لِأُنَاسٍ: «كَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادٍ» كَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ يَرْثِي هَلَاكَ أَحْلَافِهِ وَأَنْصَارِهِ. جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَلِّ دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْحُصُولِ المتعاقب. وَضمير لَاخْتَلَفْتُمْ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الْمُخَاطَبِينَ وَالْغَائِبِينَ، عَلَى تَغْلِيبِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الضَّمَائِرِ مِثْلِهِ.

وَقَدْ ظَهَرَ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ لَمْ تَتَوَاعَدُوا وَجِئْتُمْ عَلَى غَيْرِ اتِّعَادٍ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَيْ لِيُحَقِّقَ وَيُنْجِزَ مَا أَرَادَهُ مِنْ نَصْرِكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا كَانَ تَعْلِيلُ الِاسْتِدْرَاك المفاد بلكن قَدْ وَقَعَ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى اللَّهِ كَانَ مُفِيدًا أَنَّ مَجِيئَهُمْ إِلَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ تَوَاعُدٍ كَانَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ عِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى أَمْراً هُنَا الشَّيْءُ الْعَظِيمُ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ يُجْعَلُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَهُمْ لَا يُطْلِقُونَ (الْأَمْرَ) بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مُهِمٍّ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا سمّي (أمرا) لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِعَمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَم: 21] وَقَوْلِهِ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الْأَحْزَاب: 38] . وكانَ تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ ثُبُوتِ مَعْنَى خَبَرِهَا لِاسْمِهَا مِنَ الْمَاضِي مِثْلَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الرّوم: 47] أَيْ ثَبَتَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْحَقِّيَّةِ عَلَيْنَا من قديم الزَّمن. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَم: 21] . فَمَعْنَى كانَ مَفْعُولًا أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُفْعَلُ. فَاشْتُقَّ لَهُ صِيغَةُ مَفْعُولٍ مِنْ فَعَلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حِينَ قُدِّرَتْ مَفْعُولِيَّتُهُ فَقَدْ صَارَ كَأَنَّهُ فُعِلَ، فَوُصِفَ لِذَلِكَ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِتَسَلُّطِ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ لَا فِي الِاسْتِقْبَالِ. فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: لِيُنْجِزَ اللَّهُ وَيُوقِعَ حَدَثًا عَظِيمًا مُتَّصِفًا مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ عِنْدَ إِبَّانِهِ، أَيْ حَقِيقًا بِأَنْ يُفْعَلَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ فُعِلَ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ الْمُعْتَادَةِ. وَجُمْلَةُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ وَقَهْرُ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى إِهْلَاكِ الْمَهْزُومِينَ وَإِحْيَاءِ الْمَنْصُورِينَ وَحَفَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِهَانَتِهِ الْمُشْرِكِينَ مَا فِيهِ بَيِّنَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ تَقْطَعُ عُذْرَ الْهَالِكِينَ، وَتَقْتَضِي شُكْرَ الْأَحْيَاءِ. وَدُخُولُ لَامِ التَّعْلِيلِ على فعل لِيَهْلِكَ تَأْكِيدٌ لِلَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لِيَقْضِيَ فِي الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا. وَلَوْ لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ لَقِيلَ: يَهْلِكُ مَرْفُوعًا.

وَالْهَلَاكُ: الْمَوْتُ وَالِاضْمِحْلَالُ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْحَيَاةِ. وَالْهَلَاكُ وَالْحَيَاةُ مُسْتَعَارَانِ لِمَعْنَى ذَهَابِ الشَّوْكَةِ، وَلِمَعْنَى نُهُوضِ الْأُمَّةِ وَقُوَّتِهَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهَلَاكِ الْمَوْتُ، وَهُوَ أَشَدُّ الضُّرِّ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِالْهَلَاكِ كُلُّ مَا كَانَ ضُرًّا شَدِيدًا، قَالَ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَة: 42] ، وَبِضِدِّهِ الْحَيَاةُ هِيَ أَنْفَعُ شَيْءٍ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهَا مَا كَانَ مَرْغُوبًا، قَالَ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: 70] وَقَدْ جَمَعَ التَّشْبِيهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَام: 122] . فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قِلَّةٍ، فَلَمَّا قَضَى اللَّهُ بِالنَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَخْفَقَ أَمْرُ الْمُشْرِكِينَ وَوَهَنُوا، وَصَارَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى جِدَّةٍ وَنُهُوضٍ، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ، عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ عَنْ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَأْيِيدِ اللَّهِ قَوْمًا وَخَذْلِهِ آخَرِينَ بِدُونِ رَيْبٍ. وَمِنَ الْبَعِيدِ حمل لِيَهْلِكَ ويَحْيى عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَحَمَّلَهُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ فَلَا يَتَحَمَّلُهُ فِي قَوْله: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ لِأَنَّ حَيَاةَ الْأَحْيَاءِ ثَابِتَةٌ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ يَوْمِ بَدْرٍ. وَدَلَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ الَّذِي فِي عَنْ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى، أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ وَالْحَيَاةُ صَادِرَيْنِ عَنْ بَيِّنَةٍ وَبَارِزَيْنِ مِنْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ «حَيِيَ» بِإِظْهَارِ الْيَاءَيْنِ، وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ: «حَيَّ» بِإِدْغَامِ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى عَلَى قِيَاسِ الْإِدْغَامِ وَهُمَا وَجْهَانِ فَصِيحَانِ. وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (بَعْدَ) ، أَيْ: بَعْدَ بَيِّنَةٍ يَتَبَيَّنُ بِهَا سَبَبُ الْأَمْرَيْنِ: هَلَاكِ مَنْ هَلَكَ، وَحَيَاةِ مَنْ حَيِيَ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دُعَاءَ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ النَّصْرِ، وَسَمِيعٌ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْحِوَارِ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمِنْ مَوَدَّتِهِمْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ هِيَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الَّتِي يُلَاقُونَهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَعَلِيمٌ بِمَا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأُمُورِ الْمَسْمُوعَةِ وَبِمَا يصلح بهم وَيَبْنِي عَلَيْهِ مجد مستقبلهم.

[سورة الأنفال (8) : آية 43]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 43] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا [الْأَنْفَال: 42] فَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ زَمَانُ كَوْنِهِمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا لِوُقُوعِهَا فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُدْوَةِ مِنْ بَدْرٍ، فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ بَدَلٍ. وَالْمَنَامُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى النَّوْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى زَمَنِ النَّوْمِ وَعَلَى مَكَانِهِ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي مَنامِكَ بِفعل يُرِيكَهُمُ، فالإراءة إراءة رُؤْيا، وأسندت الإراءة إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ بِمَدْلُولِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102] فَإِنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَغْلِبُهَا الْأَخْلَاطُ، وَلَا تَجُولُ حَوَاسُّهُمُ الْبَاطِنَةُ فِي الْعَبَثِ، فَمَا رُؤْيَاهُمْ إِلَّا مُكَاشَفَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ عَلَى عَالَمِ الْحَقَائِقِ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا مَنَامٍ، جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا، أَيْ قَلِيلَ الْعَدَدِ وَأَخْبَرَ بِرُؤْيَاهُ الْمُسْلِمِينَ فَتَشَجَّعُوا لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَحَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَزَالَ عَنْهُمْ مَا كَانَ يُخَامِرُهُمْ مِنْ تَهَيُّبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا مِنَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ قِلَّةُ الْعَدَدِ فِي الرُّؤْيَا رَمْزًا وَكِنَايَةً عَنْ وَهَنِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ لَا عَنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ. وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي رُؤْيَا النَّوْمِ دُونَ الْوَحْيِ، لِأَنَّ صُوَرَ الْمَرَائِي الْمَنَامِيَّةِ تَكُونُ رُمُوزًا لِمَعَانٍ فَلَا تُعَدُّ صُورَتُهَا الظَّاهِرِيَّةُ خُلْفًا، بِخِلَافِ الْوَحْيِ بِالْكَلَامِ. وَقَدْ حَكَاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا النَّبِيءِ وَحْيٌ، وَقَدْ يَكُونُ النَّبِيءُ قَدْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى تَعْبِيرِهَا الصَّائِبِ، وَقَدْ يَكُونُ صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ فَظَنَّ كَالْمُسْلِمِينَ ظَاهِرَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ. فَرُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمْ تُخْطِئْ وَلكنهَا أَو همتهم قِلَّةَ الْعَدَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْغُوبُهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حَاصِلٌ، وَهُوَ تَحَقُّقُ النَّصْرِ، وَلَوْ أُخْبِرُوا بِعَدَدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ لَجَبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ فَضَعُفَتْ أَسْبَابُ النَّصْرِ الظَّاهِرَةُ الْمُعْتَادَةُ الَّتِي تُكْسِبُهُمْ حُسْنَ الْأُحْدُوثَةِ. وَرُؤْيَا النبيء لَا تخطىء، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَارِيَةً عَلَى الصُّورَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْخَارِجِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَخَاصَّةً قَبْلَ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ تَكُونُ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمْزِيَّةً وَكِنَايَةً كَمَا فِي حَدِيثِ رُؤْيَاهُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَيُقَالُ لَهُ: اللَّهُ خَيْرٌ، فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُرَادَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَذْلَ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمَهُمْ أَرَى نَبِيئَهُ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا كِنَايَةً بِأَحَدِ أَسْبَابِ الِانْهِزَامِ، فَإِنَّ الِانْهِزَامَ يَجِيءُ مِنْ قِلَّةِ الْعَدَدِ. وَقَدْ يُمْسِكُ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيَانِ التَّعْبِيرِ الصَّحِيحِ لِحِكْمَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ تَعْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ رُؤْيَا الرَّجُلِ الَّذِي قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ النَّبِيءِ لَهُ: «أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا» وَأَبَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنْهَا وَمَا أَخْطَأَ. وَلَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِيُخْبِرَ الْمُؤْمِنِينَ بأنّهم غالبون الْمُشْركُونَ لَآمَنُوا بِذَلِكَ إِيمَانًا عَقْلِيًّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنَ التَّصْوِيرِ بِالْمَحْسُوسِ، وَلَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ وَلَمْ يُرِهِ تِلْكَ الرُّؤْيَا لَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسِبُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حِسَابًا كَبِيرًا. لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكَثِيرٍ. وَهَذِهِ الرُّؤْيَا قَدْ مَضَتْ بِالنِّسْبَةِ لِزَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الرُّؤْيَا الْعَجِيبَةِ. وَالْقَلِيلُ هُنَا قَلِيلُ الْعَدَدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَثِيراً. أَرَاهُ إِيَّاهُمْ قَلِيلِي الْعَدَدِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُكَاشَفَةِ النَّوْمِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ. فَإِنَّ لُغَةَ الْعُقُولِ وَالْأَرْوَاحِ أَوْسَعُ من لُغَة التخاطب، لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِفَادَةِ عِنْدَهَا عَقْلِيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى مَحْسُوسٍ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ وَبَيْنَ الِاسْتِفَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَأخْبر ب «قَلِيل» و «كثير» وَكِلَاهُمَا مُفْرَدٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: 146] .

وَمَعْنَى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أَنَّهُ لَوْ أَرَاكَهُمْ رُؤْيَا مُمَاثِلَةً لِلْحَالَةِ الَّتِي تُبْصِرُهَا الْأَعْيُنُ لَدَخَلَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ الْفَشَلُ، أَيْ إِذَا حَدَّثَهُمُ النَّبِيءُ بِمَا رَأَى، فَأَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ نُفُوسَهُمْ هَلَعٌ، وَإِنْ كَانَ النَّصْرُ مَضْمُونًا لَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يَقْتَضِي أنّ الإراءة كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً وَلِمَ يَتْرُكِ اللَّهُ إِرَاءَتَهُ جَيْشَ الْعَدُوِّ فَلَا تَكُونَ حَاجَةٌ إِلَى تَمْثِيلِهِمْ بِعَدَدٍ قَلِيلٍ، قُلْتُ: يَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَا أَنْ يَرَى رُؤْيَا تَكْشِفُ لَهُ عَنْ حَالِ الْعَدُوِّ، فَحَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، وَجَنَّبَهُ مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى كَدَرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْلِمَ رَبَّهُ عَنْ حَالِ الْعَدُوِّ. وَالْفَشَلُ: الْجُبْنُ وَالْوَهَنُ. وَالتَّنَازُعُ: الِاخْتِلَافُ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْخُطَّةُ الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ مِنْ ثَبَاتٍ أَوِ انْجِلَاءٍ عَنِ الْقِتَالِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أَمْرُ الْقِتَالِ وَمَا يَقْتَضِيهِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي جُمْلَةِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْعَدُوَّ كَثِيرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تُحَاكِي الصُّورَةَ الَّتِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي مَرَائِي الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ تُحَاكِي الْمَعْنَى الرَّمْزِيَّ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي مِرَائِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، مِثْلَ رُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ سَبْعَ بَقَرَاتٍ، وَرُؤْيَا صَاحِبَيْ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ فِي مِرَائِي الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هَزَّ سَيْفًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ، فَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ رَفْعُ مَا فُرِضَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً. فَمَفْعُولُ سَلَّمَ وَمُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفَانِ إِيجَازًا إِذْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ وَالتَّقْدِيرُ: سَلَّمَكُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ بِأَنْ سَلَّمَكُمْ مِنْ سَبَبِهِمَا، وَهُوَ إِرَاءَتُكُمْ وَاقِعَ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدُوِّ يُلْقِي فِي النُّفُوسِ تَهَيُّبًا لَهُ وَتَخَوُّفًا مِنْهُ، وَذَلِكَ يُنْقِصُ شَجَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوَفِّرَ لَهُمْ مُنْتَهَى الشَّجَاعَةِ. وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَلَكِنَّهُ سَلَّمَ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ بِعِنَايَتِهِ، وَاهْتِمَامًا بِهَذَا الْحَادِثِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 44]

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَذْيِيلٌ لِلْمِنَّةِ، أَيْ: أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ بِتِلْكَ الرُّؤْيَا الرَّمْزِيَّةِ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِي الصُّدُورِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ بِالْمُشَاهَدَاتِ وَالْمَحْسُوسَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا تَتَأَثَّرُ بِالِاعْتِقَادَاتِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْهَزِمُونَ، وَاعْتَقَدْتُمْ ذَلِكَ لِصِدْقِ إِيمَانِكُمْ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُثِيرًا فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ مَا يثيره اعتقادي أَنَّ عَدَدَهُمْ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ لَا يُنَافِي تَوَقُّعَ شِدَّةٍ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ، مِنْ مَوْتٍ وَجِرَاحٍ قَبْلَ الِانْتِصَارِ، فَأَمَّا اعْتِقَادُ قِلَّةِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهَا تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ إِقْدَامًا وَاطْمِئْنَانَ بَالٍ، فَلِعِلْمِهِ بِذَلِكَ أَرَاكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا. وَمعنى بِذاتِ الصُّدُورِ الْأَحْوَالُ الْمُصَاحِبَةُ لِضَمَائِرِ النُّفُوسِ، فَالصُّدُورُ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا حَلَّ فِيهَا مِنَ النَّوَايَا وَالْمُضْمَرَاتِ، فَكَلِمَةُ ذَاتِ بِمَعْنَى صَاحِبَةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ (ذُو) أَحَدِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ، فَأَصْلُ أَلِفِهَا الْوَاوُ وَوَزْنُهَا (ذَوَتْ) انْقَلَبَتْ وَاوُهَا أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ فَاطِرٍ [38] فِي قَوْله تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هِيَ تَأْنِيثُ ذُو، وَذُو مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى الصُّحْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِتَغْنِيَ عَنِّي ذَا إِنَائِكَ أَجْمَعَا (¬1) يَعْنِي أَنَّ ذَاتَ الصُّدُورِ الْحَالَةُ الَّتِي قَرَارَتُهَا الصُّدُورُ فَهِيَ صَاحِبَتُهَا وَسَاكِنَتُهَا، فَذَاتُ الصُّدُورِ النَّوَايَا وَالْخَوَاطِرُ وَمَا يَهُمُّ بِهِ الْمَرْءُ وَمَا يدبّره ويكيده. [44] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 44] وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ عَطْفٌ عَلَى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 43] وَهَذِهِ رُؤْيَةُ بَصَرٍ أَرَاهَا اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَانَتْ خَطَأً مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمْ يَرَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ عُدِّيَتْ رُؤْيَا الْمَنَامِ الصَّادِقَةُ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ، فِي قَوْلِهِ: ¬

(¬1) أَوله، إِذا قَالَ قلت بِاللَّه حلفة. يذكر ضيفا أَي إِذا شرب الضَّيْف من إِنَاء اللَّبن وَقَالَ: قدني، أَي حسبي أَقْسَمت عَلَيْهِ بِاللَّه لتغنى عني اذائك أجمعا فَاللَّام فِي (لتغني) لَام الْقسم وَهِي مَفْتُوحَة وتغنى أَي تبعد عني، يَقُولُونَ أغن عني وَجهك أَي أبعده وَأَرَادَ: لَا ترجعه إِلَى. وَذَا انائك: أَي مَا فِي إنائك من اللَّبن وَهُوَ مفعول (تغني) أَي حَلَفت عَلَيْهِ ليشربن جَمِيع مَا فِي الْإِنَاء. وَالْيَاء لتحتيه فِي قَوْله: لتغني مَفْتُوحَة فَتْحة بِنَاء، فَإِن أَصله لتغنين بنُون توكيد فحذفها تَخْفِيفًا وَأبقى الفتحة الَّتِي كَانَت قبلهَا دَلِيلا على أَنَّهَا محذوفة.

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 43] وَجُعِلَتِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ الْخَاطِئَةُ مُسْنَدَةً إِلَى ضَمَائِرِ الْجَمْعَيْنِ، وَظَاهِرُ الْجَمْعِ يَعُمُّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ. أَرَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلُونَ، وَأَرَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلُونَ. خَيَّلَ اللَّهُ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ قِلَّةَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، بِإِلْقَاءِ ذَلِكَ التَّخَيُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَجَعَلَ الْغَايَةَ مِنْ تَيْنَكِ الرُّؤْيَتَيْنِ نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَثَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَثَرَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ أَثَرًا مُتَّحِدًا، فَكَانَ تَخَيُّلُ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةَ الْمُشْرِكِينَ مُقَوِّيًا لِقُلُوبِهِمْ، وَزَائِدًا لِشَجَاعَتِهِمْ، وَمُزِيلًا لِلرُّعْبِ عَنْهُمْ، فَعَظُمَ بِذَلِكَ بَأْسُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانَ لِيَفُلَّ مِنْ بَأْسِهِمْ إِلَّا شُعُورُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ عَدَدًا وَعُدَدًا، فَلَمَّا أُزِيلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، بِتَخْيِيلِهِمْ قِلَّةَ عَدُوِّهِمْ، خَلُصَتْ أَسْبَابُ شِدَّتِهِمْ مِمَّا يُوهِنُهَا. وَكَانَ تَخَيُّلُ الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَوْنَهُمْ أَقَلَّ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَرْدًا عَلَى غَلَيَانِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ، وَغَارًّا إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَنَالُونَ التَّغَلُّبَ عَلَيْهِمْ بِأَدْنَى قِتَالٍ، فَكَانَ صَارِفًا إِيَّاهُمْ عَنِ التَّأَهُّبِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى فَاجَأَهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَنَتَجَ عَنْ تَخَيُّلِ الْقِلَّتَيْنِ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ تَخَيُّلُ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةَ الْمُشْرِكِينَ مُثَبِّطًا عَزِيمَتَهُمْ، كَمَا كَانَ تَخَيُّلُ الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُثَبِّطًا عَزِيمَتَهُمْ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُفْعَمَةً حَنَقًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِيمَانًا بِفَسَادِ شِرْكِهِمْ، وَامْتِثَالًا أَمْرَ اللَّهِ بِقِتَالِهِمْ، فَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَبِّ بَأْسِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَّا صَرْفُ مَا يُثَبِّطُ عَزَائِمَهُمْ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ، فَكَانُوا مُزْدَهِينَ بِعَدَائِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ أَدْنَى جَوْلَةٍ تَجُولُ بَيْنَهُمْ يَقْبِضُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْضًا، فَلذَلِك لَا يعبؤون بِالتَّأَهُّبِ لَهُمْ، فَكَانَ تَخْيِيلُ مَا يَزِيدُهُمْ تَهَاوُنًا بِالْمُسْلِمِينَ يَزِيدُ تَوَاكُلَهُمْ وَإِهْمَالَ إِجْمَاعِ أَمْرِهِمْ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ السَبْعِينَ وَالْمِائَةِ وَكَانُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ زُهَاءَ أَلْفٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسَبُونَ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلًا، فَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقَوْمِهِ، وَقد حرز الْمُسْلِمِينَ: إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُورٍ، أَيْ قُرَابَةُ الْمِائَةِ، وَكَانُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ.

وَهَذَا التَّخَيُّلُ قَدْ يَحْصُلُ مِنِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ وَاخْتِلَافِ الظِّلَالِ، بِاعْتِبَارِ مَوَاقِعِ الرَّائِينَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَوَاقِعِ وَانْخِفَاضِهَا، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الرُّؤْيَةِ عَلَى حَسَبِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَمَوْقِعِ الرَّائِينَ مِنْ مُوَاجَهَتِهَا أَوِ اسْتِدْبَارِهَا، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَحْصُلُ عِنْدَ حُدُوثِ الْآلِ وَالسَّرَابِ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ ضَبَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلْقَاءُ اللَّهِ الْخَيَالَ فِي نُفُوسِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ. وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذِ الْتَقَيْتُمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ العجيبة لهاته الإراءة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الْأَنْفَال: 43] . وإِذِ الْتَقَيْتُمْ ظَرْفٌ لِ يُرِيكُمُوهُمْ وَقَوْلُهُ: فِي أَعْيُنِكُمْ تَقْيِيدٌ لِلْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ الْمَرْئِيُّ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِرَاءَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَقْصِدٍ لَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِرَاءَةَ بَصَرِيَّةٌ لَا حُلْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْي الْعين [آل عمرَان: 13] . وَالِالْتِقَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ اللِّقَاءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَاللِّقَاءُ وَالِالْتِقَاءُ فِي الْأَصْلِ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ، مِنْ صَدِيقٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَفِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحُضُورِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً [الْأَنْفَال: 15] الْآيَةَ. وَيُقَلِّلُكُمْ يَجْعَلُكُمْ قَلِيلًا، لِأَنَّ مَادَّةَ التَّفْعِيلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْجَعْلُ مُتَعَلِّقًا بِذَاتِ الْمَفْعُولِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ» ، قَالَ الرَّاوِي: يُقَلِّلُهَا أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَاءَةِ كَمَا هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى زِيَادَةَ قَوْلِهِ: فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْلِيلَ لَيْسَ بِالنَّقْصِ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: 42] الْمُتَقَدِّمِ أُعِيدَ هُنَا لِأَنَّهُ عِلَّةُ إِرَاءَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْفَرِيقَ الْآخَرِ قَلِيلًا، وَأَمَّا السَّابِقُ فَهُوَ عِلَّةٌ لِتَلَاقِي الْفَرِيقَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

ثُمَّ إِنَّ الْمُشْركين لما يرزوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرَ لَهُمْ كَثْرَةُ الْمُسلمين فَبُهِتُوا، وكغان ذَلِكَ بَعْدَ الْمُنَاجَزَةِ، فَكَانَ مُلْقِيًا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ مَا حَكَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عمرَان [13] قَوْله: ترونهم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ. وَخُولِفَ الْأُسْلُوبُ فِي حِكَايَةِ إِرَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَحِكَايَةِ إِرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا فَنَاسَبَ أَنْ يُحْكَى تَقْلِيلُهُمْ بِإِرَاءَتِهِمْ قَلِيلًا، الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْقَلِيلِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَكَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِعَدُوِّهِمْ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِتَقْلِيلِهِمْ: أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ «تَقْلِيلٌ» الْمُؤَذِنُ بِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي قِلَّتِهِمْ. وَجُمْلَةُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَذْيِيلٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفًا اعْتِرَاضِيًّا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْعَطْفُ يُسَمَّى: عَطْفًا اعْتِرَاضِيًّا، لِأَنَّهُ عَطْفٌ صُورِيٌّ لَيْسَتْ فِيهِ مُشَارَكَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَتُسَمَّى الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْأُمُورُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ. وَالرُّجُوعُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَوَّلِ وَانْتِهَاءِ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ رُجُوعُ أَسْبَابِهَا، أَيْ إِيجَادُهَا، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ تَلُوحُ جَارِيَةً بِتَصَرُّفِ الْعِبَادِ وَتَأْثِيرِ الْحَوَادِثِ، وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ الْعَالِيَةَ، وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَتَصَاعَدُ إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ الْمُعْتَادَةُ، لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ مُؤَثِّرُهَا وَمُوجِدُهَا. عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ، عَالِيَهَا وَقَرِيبَهَا، مُتَأَثِّرٌ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَى وَالنَّوَامِيسِ وَالطَّبَائِعِ، فَرُجُوعُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ رُجُوعٌ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ جَرْيِهِ عَلَى النِّظَامِ الْمُعْتَادِ، وَعَدَمِ جَرْيِهِ، فَإِيجَادُ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَلُوحُ حُصُولُهُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ وَالْعِبَادِ، وَهُوَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ الْحَقِّ رَاجِعٌ إِلَى إِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقِ كُلِّ صَانِعٍ. وَالذَّوَاتُ وَأَحْوَالُهَا كُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ، وَمَآلُهَا كُلُّهُ رُجُوعٌ، فَهَذَا لَيْسَ رُجُوعَ ذَوَاتٍ وَلَكِنَّهُ رُجُوعُ تَصَرُّفٍ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 156] . وَالْمَعْنَى: وَلَا عَجَبَ فِي مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْجَيْشَيْنِ عَلَى خِلَافِ حَالِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمر، فإنّ الإراءة الْمُعْتَادَةَ تَرْجِعُ إِلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة، والإراءة غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَسْبَابٍ يَضَعُهَا اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَتِهِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 46]

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُرْجَعُ- بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ- أَيْ يَرْجِعُهَا، رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَالَّذِي يُرْجِعُهَا هُوَ اللَّهُ فَهُوَ يُرْجِعُهَا إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُرْجَعُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ- أَيْ: تَرْجِعُ بِنَفْسِهَا إِلَى اللَّهِ، وَرُجُوعُهَا هُوَ بِرُجُوع أَسبَابهَا. [45، 46] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 45 إِلَى 46] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) لَمَّا عَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ وَدَلَائِلِ عِنَايَتِهِ، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَكَيْفَ خَذَلَ أَعْدَاءَهُمْ، وَصَرَفَهُمْ عَنْ أَذَاهُمْ، فَاسْتَتَبَّ لَهُمُ النَّصْرُ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، أَقْبَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ يَأْمُرهُم بِمَا يهيءّ لَهُمُ النَّصْرَ فِي الْمَوَاقِعِ كُلِّهَا، وَيَسْتَدْعِي عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا بِهِ قِوَامُ النَّصْرِ فِي الْحُرُوبِ. وَهَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ [الْأَنْفَال: 44] وَجُمْلَةِ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: 48] . وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْوَصَايَا بِالنِّدَاءِ اهْتِمَامًا بِهَا، وَجُعِلَ طَرِيقُ تَعْرِيفِ الْمُنَادَى طَرِيقَ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَصُّ صِفَاتِهِمْ تِلْقَاءَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: 51] . وَاللِّقَاءُ: أَصْلُهُ مُصَادَفَةُ الشَّخْصِ وَمُوَاجَهَتُهُ، بِاجْتِمَاعٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 37] وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وَقَدْ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى لِقَاءٍ خَاصٍّ وَهُوَ لِقَاءُ الْقِتَالِ، فَيُرَادِفُ الْقِتَالَ وَالنِّزَالَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ اللِّقَاءُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: 15] وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَةِ: فِئَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ فِئَةُ الْعَدُوِّ، يَعْنِي الْمُشْركين. و «الفئة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] . وَالثَّبَاتُ: أَصْلُهُ لُزُومُ الْمَكَانِ دُونَ تَحَرُّكٍ وَلَا تَزَلْزُلٍ، وَيُسْتَعَارُ لِلدَّوَامِ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ عَدَمَ التَّحَرُّكِ، بَلْ أُرِيدَ الدَّوَامُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالصَّبْرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَذِكْرُ اللَّهِ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا: هُوَ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَزِيَادَةً فَإِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ ذَكَرَ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَسَمِعَ الذِّكْرَ بِسَمْعِهِ، وَذَكَّرَ مَنْ يَلِيهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، فَفِيهِ فَوَائِدُ زَائِدَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُجَرَّدِ، وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ ذِكْرِ اللِّسَانِ ظَاهِرُ وَصفه ب «كثير» لِأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يُوصَفُ بِالْقُوَّةِ، وَالْمَقْصُودُ تَذَكُّرُ أَنَّهُ النَّاصِرُ. وَهَذَانِ أَمْرَانِ أُمِرُوا بِهِمَا وَهُمَا يَخُصَّانِ الْمُجَاهِدَ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فَهُمَا لِإِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَعْمَالٍ رَاجِعَةٍ إِلَى انْتِظَامِ جَيْشِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَهِيَ عَلَائِقُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَهِيَ الطَّاعَةُ وَتَرْكُ التَّنَازُعِ، فَأَمَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتَشْمَلُ اتِّبَاعَ سَائِرِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعَةِ بِالتَّعْيِينِ، مِثْلَ الْغَنَائِمِ. وَكَذَلِكَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آرَاءِ الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِ لِلرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ: «لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ وَلَوْ تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ» . وَتَشْمَلُ طَاعَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَةَ أُمَرَائِهِ فِي حَيَاتِهِ، لِقَوْلِهِ: «وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي» وَتَشْمَلُ طَاعَةَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَاوَاتِهِمْ لِأُمَرَائِهِ الْغَائِبِينَ عَنْهُ فِي الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا فِي حُكْمِ الْغَيْبَةِ عَنْ شَخْصِهِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ التَّنَازُعِ فَهُوَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ: بِالتَّفَاهُمِ وَالتَّشَاوُرِ، وَمُرَاجَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَجَعُوا إِلَى أُمَرَائِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ [النِّسَاء: 83] . وَقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النِّسَاء: 59] . وَالنَّهْيُ عَنِ التَّنَازُعِ أَعَمُّ مِنَ

الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ: لِأَنَّهُمْ إِذَا نُهُوا عَنِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ، فَالتَّنَازُعُ مَعَ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ. وَلَمَّا كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْشَأَ عَنِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي الْفِطْرَةِ بَسَطَ الْقُرْآنُ الْقَوْلَ فِيهِ بِبَيَان سيّىء آثَارِهِ، فَجَاءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فَحَذَّرَهُمْ أَمْرَيْنِ مَعْلُومًا سُوءُ مَغَبَّتِهِمَا: وَهُمَا الْفَشَلُ وَذَهَابُ الرِّيحِ. وَالْفَشَلُ: انْحِطَاطُ الْقُوَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال: 43] وَهُوَ هُنَا مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَةُ الْفَشَلِ فِي خُصُوصِ الْقِتَالِ وَمُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُتَقَاعِسِ عَنِ الْقِتَالِ بِحَالِ مَنْ خَارَتْ قُوَّتُهُ وَفَشِلَتْ أَعْضَاؤُهُ، فِي انْعِدَامِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْعَمَلِ. وَإِنَّمَا كَانَ التَّنَازُعُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَشَلِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ التَّغَاضُبَ وَيُزِيلُ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَيُحْدِثُ فِيهِمْ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ الدَّوَائِرَ، فَيَحْدُثُ فِي نُفُوسِهِمُ الِاشْتِغَالُ بِاتِّقَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَتَوَقُّعُ عَدَمِ إِلْفَاءِ النَّصِيرِ عِنْدَ مَآزِقِ الْقِتَالِ، فَيَصْرِفُ الْأُمَّةَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى شُغْلٍ وَاحِدٍ فِيمَا فِيهِ نَفْعُ جَمِيعِهِمْ، وَيَصْرِفُ الْجَيْشَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [152] حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ. وَالرِّيحُ حَقِيقَتُهَا تَحَرُّكُ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجُهُ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلْغَلَبَةِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَنَّ الرِّيحَ لَا يُمَانِعُ جَرْيَهَا وَلَا عَمَلَهَا شَيْءٌ فَشُبِّهَ بِهَا الْغَلَبُ وَالْحُكْمُ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِعُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْبِ مِنْ شَطِبٍ ... وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ وَفِي «الْكَشَّافِ» قَالَ سُلَيْكُ بْنُ السَّلَكَةِ: يَا صَاحِبَيَّ أَلَا لَا حَيَّ بِالْوَادِي ... إِلَّا عَبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أَذْوَادِ هَلْ تَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أَوْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي (¬1) وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ، فِي دِيبَاجَةِ «الْمَقَامَاتِ» : «قَدْ جَرَى بِبَعْضِ أَنْدِيَةِ الْأَدَبِ الَّذِي رَكَدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ رِيحُهُ» . ¬

(¬1) تنظران من النظرة، أَي الِانْتِظَار. وَالْمعْنَى هَل تترقبان سَاعَة غَفلَة العبيد فتختلسا الذود أَو تعدوان على العبيد غصبا.

[سورة الأنفال (8) : آية 47]

وَالْمَعْنَى: وَتَزُولُ قُوَّتُكُمْ وَنُفُوذُ أَمْرِكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنَازُعَ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ، وَهُوَ يُوهِنُ أَمْرَ الْأُمَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْفَشَلِ. ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يَعُمُّ نَفْعُهُ الْمَرْءَ فِي نَفْسِهِ وَفِي عَلَاقَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِمُ الْأُمُورَ الْأَرْبَعَةَ، الَّتِي أُمِرُوا بِهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَفِي قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا الْآيَةَ. أَلَا وَهُوَ الصَّبْرُ، فَقَالَ: وَاصْبِرُوا لِأَنَّ الصَّبْرَ هُوَ تَحَمُّلُ الْمَكْرُوهِ، وَمَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتِلْكَ الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، فَالصَّبْرُ يَجْمَعُ تَحَمُّلَ الشَّدَائِدِ وَالْمَصَاعِبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرُوا بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى مَنْفَعَةٍ لِلصَّبْرِ إِلَهِيَّةٍ، وَهِيَ إِعَانَةُ اللَّهِ لِمَنْ صَبَرَ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي تَصَرُّفَاتِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ، لِأَنَّ حَرْفَ التَّأْكِيدِ فِي مِثْلِ هَذَا قَائِمٌ مُقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِع. [47] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 47] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) جُمْلَةُ: وَلا تَكُونُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلا تَنازَعُوا [الْأَنْفَال: 46] عَطْفَ نَهْيٍ عَلَى نَهْيٍ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جملَة فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: 45] عَطْفَ نَهْيٍ عَلَى أَمْرٍ، إِكْمَالًا لِأَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا يُدْنِيهِمْ مِنَ النَّصْرِ، وَأَنْ يَتَجَنَّبُوا مَا يُفْسِدُ إِخْلَاصَهُمْ فِي الْجِهَادِ. وَجِيءَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْبَطَرِ وَالرِّئَاءِ بِطَرِيقَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ إِدْمَاجًا لِلتَّشْنِيعِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَتَكْرِيهًا لِلْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الذَّمِيمَةَ تَتَّضِحُ مَذَمَّتُهَا، وَتَنْكَشِفُ مَزِيدَ الِانْكِشَافِ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَحْوَالِ قَوْمٍ مَذْمُومِينَ

عِنْدَ آخَرِينَ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ، وَأَكْشَفُ لِقُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 21] وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. فَنُهُوا عَنْ أَنْ يُشْبِهُوا حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ لِبَدْرٍ إِذْ خَرَجُوا بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُرِيدَ بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَجْهَ اللَّهِ، وَالْجِهَادُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ. وَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ جَمَاعَةٌ خَاصَّةٌ، وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ مَضَى خَبَرُ خُرُوجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بِقصد حماية غَيرهم فَلَمَّا بَلَغُوا الْجُحْفَةَ جَاءَهُمْ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ كَبِيرُ الْعِيرِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعِيرَ قَدْ سَلِمَتْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: «لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا نَشْرَبُ بِهَا وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَنُطْعِمُ مَنْ حَضَرَنَا مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى يَتَسَامَعَ الْعَرَبُ بِأَنَّنَا غَلَبْنَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ» . فَعَبَّرَ عَنْ تَجَاوُزِهِمُ الْجُحْفَةَ إِلَى بَدْرٍ، بِالْخُرُوجِ لِأَنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. وَانْتَصَبَ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَيْ بَطِرِينَ مُرَائِينَ، وَوَصَفَهُمْ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ الصِّفَتَيْنِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْبَطَرَ وَالرِّيَاءَ خُلُقَانِ مِنْ خُلُقِهِمْ. وَ «الْبَطَرُ» إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْفَخْرُ بِهَا، فَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْجُحْفَةِ، خَرَجُوا عُجْبًا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْجِدَّةِ. «والرئاء» - بِهَمْزَتَيْنِ- أُولَاهُمَا أَصِيلَةٌ وَالْأَخِيرَةُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْيَاءِ لِوُقُوعِهَا مُتَطَرِّفَةً أَثَرَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ. وَوَزْنُهُ فِعَالٌ مَصْدَرُ رَاءَى فَاعَلَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَيُقَالُ: مُرَاآةٌ، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، أَيْ بَالَغَ فِي إِرَاءَةِ النَّاسِ عَمَلَهُ مَحَبَّةً أَنْ يَرَوْهُ لِيَفْخَرَ عَلَيْهِمْ. وسَبِيلِ اللَّهِ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، شَبَّهَ الدِّينَ فِي إبلاغه إِلَى رضى اللَّهِ تَعَالَى، بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى بَيْتِ سَيِّدِ الْحَيِّ لِيَصْفَحَ عَنْ وَارِدِهِ أَوْ يُكْرِمَهُ. وَجِيءَ فِي يَصُدُّونَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِ وَتَجَدُّدِ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمُكَرِّرِينَ ذَلِكَ وَمُجَدِّدِينَهُ. وَبِاعْتِبَارِ الْحُدُوثِ كَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً، وَأَمَّا التَّجَدُّدُ فَمُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَضَارِعِيَّةِ وَلَا يُجْعَلُ الْحَالُ مُقَدَّرَةً.

[سورة الأنفال (8) : آية 48]

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِصَرِيحِهِ، وَوَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ، لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ بِمَا يَعْمَلُونَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ خَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِمْ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَنْ عَمَلِهِمْ بِمَا يُجَازِي بِهِ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ مَنِ اعْتَدَى عَلَى حَرَمِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ من ضمير كَالَّذِينَ خَرَجُوا [الْأَنْفَال: 47] . وَإِسْنَادُ الْإِحَاطَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِسْنَادُ الْإِحَاطَةِ إِلَى صَاحِبِ الْعلم مجَاز. [48] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 48] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) وَإِذْ زَيَّنَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الْأَنْفَال: 44] الْآيَةَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، رُتِّبَ نَظْمُهُ عَلَى أُسْلُوبِهِ الْعَجِيبِ لِيَقَعَ هَذَا الظَّرْفُ عَقِبَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ، فَيَكُونُ لَهُ إِتْمَامُ الْمُنَاسَبَةِ بِحِكَايَةِ خُرُوجِهِمْ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ فِيمَا عَرَضَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَحْوَالِ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، مِمَّا كَانَ فِيهِ سَبَبُ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَقَعَ قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْأَنْفَال: 47] عَقِبَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرِ بِمَا يَنْبَغِي وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِمَنْ لَا يُرْتَضَى، فَيَتِمُّ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْبَدِيعُ الْمُحْكَمُ الِانْتِظَامِ. وَأَشَارَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ إِلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ خِذْلَانِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ صَرَفَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَيْدًا لَهُمْ حِينَ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِيِّ أَنْ يَجِيءَ فِي جَيْشٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي كِنَانَةَ لِنَصْرِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ خَرَجُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ عِيرِهِمْ،

فَأَلْقَى اللَّهُ فِي رَوْعِ سُرَاقَةَ مِنَ الْخَوْفِ، مَا أوجب انخزاله وَجَيْشَهُ عَنْ نَصْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَفْسَدَ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ بِمَا قَذَفَهُ اللَّهُ فِي نَفْسِ سُرَاقَةَ مِنَ الْخَوْفِ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى السَّيْرِ إِلَى إِنْقَاذِ الْعِيرِ ذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ فَكَادَ أَنْ يُثَبِّطَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، فَلَقِيَهُمْ فِي مِسِيرِهِمْ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فِي جُنْدٍ مَعَهُ رَايَةٌ وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ، وَإِنِّي مُجِيرُكُمْ مِنْ كِنَانَةَ، فَقَوِيَ عَزْمُ قُرَيْشٍ عَلَى الْمَسِيرِ، فَلَمَّا أَمْعَنُوا السَّيْرَ وَتَقَارَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَنَازِلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى سُرَاقَةُ الْجَيْشَيْنِ، نَكَصَ سُرَاقَةُ بِمَنْ مَعَهُ وَانْطَلَقُوا، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ: «إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ» فَقَالَ سُرَاقَةُ «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ» فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ عَزْمِ قُرَيْشٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَالْمَسِيرِ، حَتَّى لَقُوا هَزِيمَتَهُمُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ فِي بَدْرٍ، وَكَانَ خُرُوجُ سُرَاقَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِوَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَان، لِئَلَّا ينثني قُرَيْشٌ عَنِ الْخُرُوج، وَكَانَ انخزال سُرَاقَةَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ لِيَتِمَّ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ خَاطِرُ رُجُوعِ سُرَاقَةَ خَاطِرًا مَلَكِيًّا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ لِأَنَّ سُرَاقَةَ لَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنْ يُسْلِمَ مُنْذُ يَوْمِ لِقَائِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، حِينَ شَاهَدَ مُعْجِزَةَ سَوْخِ قَوَائِمِ فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَخْذِهِ الْأَمَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَتْ لَهُ أَبْيَاتٌ خَاطَبَ بِهَا أَبَا جَهْلٍ فِي قَضِيَّتِهِ فِي يَوْمِ الْهِجْرَةِ، وَمَا زَالَ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لِلْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا، وَإِنَّمَا الْمُزَيِّنُ لَهُمْ سُرَاقَةُ بِإِغْرَاءِ الشَّيْطَانِ، بِمَا سَوَّلَ إِلَى سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ مِنْ تَثْبِيتِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُضِيِّ فِي طَرِيقِهِمْ لِإِنْقَاذِ عِيرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَخْشَوْا غَدْرَ كِنَانَةَ بِهِمْ، وَقِيلَ تَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ، وَلَيْسَ تَمَثُّلُ الشَّيْطَانِ وَجُنْدِهِ بِصُورَةِ سُرَاقَةَ وَجَيْشِهِ بِمَرْوِيٍّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ سُرَاقَةَ كَانَ بِوَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الشَّيْطَانِ أُطْلِقَ عَلَى سُرَاقَةَ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ كَمَا يَقُولُونَ: فُلَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون إِسْنَادًا حَقِيقا أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِخَوَاطِرِ وَسْوَسَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِسْنَاد قَوْله: لَا غالِبَ لَكُمُ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ صُدُورِ الْقَوْلِ وَالنُّكُوصِ مِنْ سُرَاقَةَ الْمُتَأَثِّرِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ.

وَقَوْلُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنْ كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ قَوْلٌ فِي نَفْسِهِ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ اسْتَحْضَرَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَقَالَ قَوْلَهُ هَذَا، وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً يَعْنِي رَأَى نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَخَافَ أَنْ يَضُرُّوهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ أَيْ أَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قَوْلِ سُرَاقَةَ فَهُوَ إِعْلَانٌ لَهُمْ بَرَدِّ جِوَارِهِ إِيَّاهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ خَائِنًا لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا نَقْضَ جِوَارٍ أَعْلَنُوا ذَلِكَ لِمَنْ أَجَارُوهُ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ حِينَ أَجَارَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ثُمَّ رَدَّ جِوَارَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: 58] فَالْمَعْنَى: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ جِوَارِكُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: «إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا» فَيَكُونُ قَدِ اقْتَصَرَ عَلَى تَأْمِينِهِمْ مِنْ غَدْرِ قَوْمِهِ بَنِي كِنَانَةَ. وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً وَمَفْعُولُهَا الثَّانِي مَحْذُوفًا اقْتِصَارًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ إِلَى الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً فَالْمُرَادُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَوَقُّعُ أَنْ يُصِيبَهُ اللَّهُ بِضُرٍّ، مِنْ نَحْوِ الرَّجْمِ بِالشُّهُبِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ قَوْلُ سُرَاقَةَ فَلَعَلَّ سُرَاقَةَ قَالَ قَوْلًا فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَعَلَّهُ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ فِيمَا وَعَدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِعَانَةِ ضَرْبًا مِنْ خِيَانَةِ الْعَهْدِ فَخَافَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْخِيَانَةِ. وَ «التَّزْيِينُ» إِظْهَارُ الشَّيْءِ زَيْنًا، أَيْ حَسَنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] ، وَفِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [212] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَرَاهُمْ حَسَنًا مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى إِنْقَاذِ الْعِيرِ، ثُمَّ مِنْ إِزْمَاعِ السَّيْرِ إِلَى بَدْرٍ. وتَراءَتِ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ رَأَتْ كِلْتَا الْفِئَتَيْنِ الْأُخْرَى. ونَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَعَنْ مُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ: أَنَّ نَكَصَ رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْمٍ، وَمَصْدَرُهُ النُّكُوصُ وَهُوَ مِنْ بَابِ رَجَعَ.

[سورة الأنفال (8) : آية 49]

وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى نَكَصَ إِذِ النُّكُوصُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْعَقِبَيْنِ، لِأَنَّهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَرَاءِ كَقَوْلِهِمْ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [66] : فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ. وعَلى مُفِيدَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ السَّيْرِ بِالْعَقِبَيْنِ. وَالْعَقِبَانِ: تَثْنِيَةُ الْعَقِبِ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الرِّجْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [71] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْعَقِبَيْنِ تَفْظِيعُ التَّقَهْقُرِ لِأَنَّ عَقِبَ الرَّجُلِ أَخَسُّ الْقَوَائِمِ لِمُلَاقَاتِهِ الْغُبَار والأوساخ. [49] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 49] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) يَتَعَلَّقُ إِذْ يَقُولُ بِأَقْرَبِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: 48] مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، لِأَنَّ إِذْ لَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَارَنَةِ فِي الزَّمَانِ بَيْنَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ مُتَعَلَّقِهَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ وَاقِعًا فِي وَقْتِ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ فَيَتِمُّ تَعْلِيقُ وَقْتِ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ بِوَقْتِ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا تُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ لِذِكْرِ هَذَا الْخَبَرِ عَقِبَ الَّذِي وَلِيَهُ هُوَ، وَتِلْكَ هِيَ أَنَّ كِلَا الْخَبَرَيْنِ يَتَضَمَّنُ قُوَّةَ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَضَعْفَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقِينُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّ النَّصْرَ سَيَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ عَنْ طَائِفَةٍ أَعَانَتِ الْمُشْرِكِينَ بِتَأْمِينِهِمْ مِنْ عَدُوٍّ يَخْشَوْنَهُ فَانْحَازَتْ إِلَيْهِمْ عَلَنًا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَقْبِيحَ مَا أَقْحَمَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ إِذْ عَمَدُوا إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ أَقْوِيَاءَ. وَالْخَبَرُ الثَّانِي: عَنْ طَائِفَتَيْنِ شَوَّهَتَا صَنِيعَ الْمُسْلِمِينَ حَمَّقَتَاهُمْ وَنَسَبَتَاهُمْ إِلَى الْغُرُورِ فَأَسَرُّوا ذَلِكَ وَلَمْ يَبُوحُوا بِهِ، وَتَحَدَّثُوا بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ أَسَرُّوهُ فِي نُفُوسِهِمْ. فَنَظْمُ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ حِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُقَبِّحُونَ أَعْمَالَ الْمُسْلِمِينَ وَيَصِفُونَهُمْ بِالْغُرُورِ وَقِلَّةِ التَّدْبِيرِ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي دِينِهِمُ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا الْغُرُورِ وَيَجُولُ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِثْلُ هَذَا.

وَ «الْقَوْلُ» هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: الشَّامِلُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمْ طَائِفَةٌ غَيْرُ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ هُمْ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ. فَيَقُولُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ وَعْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَالِينَ لِلْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ. وَ «الْمَرَضُ» هُنَا مَجَازٌ فِي اخْتِلَالِ الِاعْتِقَادِ، شُبِّهَ بِالْمَرَضِ بِوَجْهِ سُوءِ عَاقِبَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [10] . وَأَشَارُوا بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، وَقَدْ جَرَتِ الْإِشَارَةُ عَلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ، لِأَنَّهُمْ مَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِهِمْ أَوْ مُسْتَحْضَرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهِدِ لَهُمْ وَهُمْ يَتَعَارَفُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ فِي حَدِيثِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. والغرور: الْإِيقَاعُ فِي الْمَضَرَّةِ بِإِيهَامِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196] ، وَقَوْلِهِ: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [112] . وَالدّين هُوَ الْإِسْلَامُ، وَإِسْنَادُهُمُ الْغُرُورَ إِلَى الدِّينِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: 65] الْآيَةَ، أَيْ غَرَّهُمْ ذَلِكَ فَخَرَجُوا وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ لِلِقَاءِ جَيْشٍ كَثِيرٍ، وَالْمَعْنَى: إِذْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَقَبْلَ حُصُولِ النَّصْرِ. فَإِطْلَاقُ الْغُرُورِ هُنَا مَجَازٌ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الدِّينِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: 48] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمَسُوقَةِ لِبَيَانِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّهَا كَالْعِلَّةِ لِخَيْبَةِ ظُنُونِ الْمُشْرِكِينَ وَنُصَرَائِهِمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَيَّبَ ظُنُونَهُمْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ نَصَرَهُ، وَهُوَ حَكِيمٌ يُكَوِّنُ أَسْبَابَ النَّصْرِ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُهَا الْبَشَرُ. والتوكّل: الِاسْتِسْلَامُ وَالتَّفْوِيضُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 إلى 51]

وَجُعِلَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ وَهُوَ عِزَّةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَإِلْفَائِهِ مُنْجِيًا مِنْ مَضِيقِ أَمْرِهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَوَابِ وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَهُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ فِيهِ وَالنَّدَى خُلُقَا أَيْ يَنَلْ مِنْ كَرَمِهِ وَلَا يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْسِيِّ: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْأَسْفَارِ أَيْ مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِهِ فَسُرُورُهُ لَا يَدُومُ إِلَّا بَعْضَ يَوْمٍ ثُمَّ يُحْزِنُهُ أَخْذُ الثَّأْرِ إِمَّا مِنْ ذَلِكَ الْمَسْرُورِ إِنْ كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ أَوْ مِنْ أَحَدِ قَوْمِهِ وَذَلِكَ يحزن قومه. [50، 51] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 50 إِلَى 51] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) لَمَّا وُفِّيَ وَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ حَقَّهُ، وَفُصِّلَتْ أَحْوَالُ هَزِيمَتِهِمْ بِبَدْرٍ، وَكَيْفَ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى ضَعْفِ هَؤُلَاءِ وَقُوَّةِ أُولَئِكَ، بِمَا شَاهَدَهُ كُلُّ حَاضِرٍ حَتَّى لَيُوقِنُ السَّامِعُ أَنَّ مَا نَالَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ خِذْلَانٌ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لَاقُونَ هَلَاكَهُمْ مَا دَامُوا مُنَاوِئِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، انْتُقِلَ إِلَى وَصْفِ مَا لَقِيَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِمَّا هُوَ مُغَيَّبٌ عَنِ النَّاسِ، لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ وَيَرْتَدِعَ الْكَافِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَمَامِ الْخَبَر عَن قوم بَدْرٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا جَمِيعَ الْكَافِرِينَ حَمْلًا لِلْمَوْصُولِ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ فَتَكُونُ الْآيَةُ اعْتِرَاضًا مُسْتَطْرَدًا فِي خِلَالِ الْقِصَّةِ بِمُنَاسَبَةِ وَصْفِ مَا لَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، الَّذِي عُجِّلَ لَهُمْ فِيهِ عَذَابُ الْمَوْتِ. وَابْتُدِئَ الْخَبَرُ بِ وَلَوْ تَرى مُخَاطَبًا بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، أَيْ: لَوْ تَرَى أَيُّهَا السَّامِعُ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخَبَرِ خُصُوصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُحْمَلَ الْخِطَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ غَيْرُ النَّبِيءِ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُطْلِعَ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَرَاهُ الْجَنَّةَ فِي عَرْضِ الْحَائِطِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ مَضَى يَكُنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ رَأَيْتَ إِذْ تَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ. فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَكَانَ الْمَاضِي لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَهِيَ حَالَةُ ضَرْبِ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ، لِيُخَيَّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ يُشَاهِدُ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُمَا كَانُوا كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجِيبًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَوَفَّى- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: تَتَوَفَّى- بِتَاءِ التَّأْنِيثِ- رَعْيًا لِصُورَةِ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ. وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ سُمِّيَتْ تَوَفِّيًا لِأَنَّهَا تُنْهِي حَيَاةَ الْمَرْءِ أَوْ تَسْتَوْفِيهَا قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: 11] . وَجُمْلَةُ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَفِّي قَبْضَ أَرْوَاحِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ يَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، أَيْ: يَزِيدُهُمُ الْمَلَائِكَةُ تَعْذِيبًا عِنْدَ نَزْعِ أَرْوَاحِهِمْ، وَهِيَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: يَتَوَفَّى إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّوَفِّي تَوَفِّيًا يَتَوَفَّاهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَافِرِينَ. وَجُمْلَةُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: يَضْرِبُونَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَا مَوْقِعَ لَهَا مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ: وَيَقُولُونَ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الْبَقَرَة: 127] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: 12] .

وَذِكْرُ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ: يَضْرِبُونَ جَمِيعَ أَجْسَادِهِمْ. فَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ وَهُوَ مَا دَبَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: 45] . وَكَذَلِكَ الْوُجُوهُ كِنَايَةٌ عَمَّا أَقْبَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ضَرَبْتُهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، كِنَايَةً عَمَّا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ أَيْ ضَرَبْتُهُ فِي جَمِيع جسده. و «الذَّوْق» مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ، بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْحَرِيقِ مِنْ إِضَافَةِ الْجِنْسِ إِلَى نَوْعِهِ، لِبَيَانِ النَّوْعِ، أَيْ عَذَابًا هُوَ الْحَرِيقُ، فَهِيَ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ. والْحَرِيقِ هُوَ اضْطِرَامُ النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جَهَنَّمُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ عَجَّلَ بِأَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّارِ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْوِينِ، أَيْ: يُذِيقُونَهُمْ، أَوْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشَفِّي، أَوِ الْمُرَادُ بقول الْمَلَائِكَة وَذُوقُوا إِنْذَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَذُوقُونَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الذَّوْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِنْذَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إِبْرَاهِيم: 30] بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ يُؤْذِنُ بِشَيْءٍ سَيَحْدُثُ بَعْدَ التَّمَتُّعِ مُضَادٌّ لِمَا بِهِ التَّمَتُّعُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إِلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ، وَجِيءَ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِتَعْظِيمِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِقَصْدِ التَّنْكِيلِ وَالتَّشَفِّي. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ، مَعَ الْمَجْرُورِ، خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مَوْصُولَةٌ، وَمَعْنَى قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَسْلَفَتْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِيمَا مَضَى، أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَفُرُوعِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ. وَذِكْرُ الْأَيْدِي اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، وَهِي مَا صدق بِما قَدَّمَتْ بِمَا يَجْتَنِيهِ الْمُجْتَنِي مِنَ الثَّمَرِ، أَوْ يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ مِنَ الْأَثْمَانِ، تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَذُكِرَ رَدِيفُ الْمُشَبَّهِ وَهُوَ الْأَيْدِي الَّتِي هِيَ آلَةُ الِاكْتِسَابِ، أَيْ: بِمَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيكُمْ لَكُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عَطْفٌ عَلَى بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: وَبِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَهَذَا عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِإِيقَاعِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْعِلَّةُ الْأُولَى، الْمُفَادَةُ مِنْ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ تَعْلِيلٌ لِإِيقَاعِ الْعِقَابِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ، الْمُفَادَةُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْبَاءِ وَمَجْرُورِهَا، تَعْلِيلٌ لِصِفَةِ الْعَذَابِ أَيْ هُوَ عَذَابٌ مُعَادِلٌ لِأَعْمَالِهِمْ، فَمَوْرِدُ الْعِلَّتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكِنْ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ. وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةٌ عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ الْأَلِيمَ كَانَ كِفَاءً لِلْعَمَلِ الْمُجَازَى عَنْهُ دُونَ إِفْرَاطٍ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّعْلِيلَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْعَذَابُ، فَجَعَلَهُمَا سَبَبَيْنِ لِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَنَّ التَّعْذِيبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُ الْإِثَابَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَرْكَ اللَّهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِهِ إِذَا شَاءَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِظُلْمٍ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ الْعِقَابُ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَالْفَوَاحِشِ، وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ فَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَقَدْ يُعَوَّضُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ بِتَرْضِيَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَا فِي «الْكَشَّافِ» غَيْرَ خَالٍ عَنْ تَعَسُّفٍ حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْإِسْرَاعُ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْعَدْلِ أَوْ لِلْحِكْمَةِ. وَنَفْيُ ظَلَّامٍ- بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ- لَا يُفِيدُ إِثْبَاتَ ظُلْمٍ غَيْرِ قَوِيٍّ لِأَنَّ الصِّيَغَ لَا مَفَاهِيمَ لَهَا، وَجَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى النَّفْيِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا، وَيُزَادُ هُنَا الْجَوَابُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ، لَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُهُ، بِالْعَبِيدِ الْكَثِيرِينَ، فَعُبِّرَ بِالْمُبَالَغَةِ عَنْ كَثْرَةِ أَعْدَادِ الظُّلْمِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَفْرَادِ مَعْمُولِهِ. وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْعَبِيدِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: لِعَبِيدِهِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِيدُ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُرَادِفُ النَّاسَ كَمَا أُطْلِقَ الْعِبَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فِي سُورَة يس [30] .

[سورة الأنفال (8) : آية 52]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 52] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) كَدَأْبِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ حَذْفٌ تَابِعٌ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَحَدَّثُوا عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَوْا بِخَبَرٍ دُونَ مُبْتَدَإٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَحْذُوفٌ، فَقُدِّرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ. فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ، مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الْمَأْلُوفَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَخْصِيصِ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ، فَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] كَذَّبُوا بِآياتِنا وَهُنَا كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَهُنَالِكَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [آل عمرَان 11] وَهُنَا إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ. فَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ بَين كَذَّبُوا [آل عمرَان: 11] وكَفَرُوا فَلِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ شَارَكُوا الْمُشْرِكِينَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَفِي جَحْدِ دَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرُوا هُنَا ابْتِدَاءً بِالْأَفْظَعِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَعُبِّرَ بالْكفْر بِالْآيَاتِ عَن جحد الْآيَات الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَصْرَحُ فِي إِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالَّتِي بَعْدَهَا، فَذُكِرَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ، أَيِ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَحْدُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ. فَأَمَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] فَقَدْ ذُكِرَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ، أَيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ مُتَبَادِرٌ فِي مَعْنَى تَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَ بِهِ، وَإِلْحَادِ مَنْ قَصَدَ الْفِتْنَةَ بِمُتَشَابِهِهِ، فَعُبِّرَ عَنِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي تَكْذِيبِ رَسُولِهِمْ بِوَصْفِ التَّكْذِيبِ. فَأَمَّا الْإِظْهَارُ هُنَا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، فَاقْتَضَاهُ أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرٌ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ اللَّهِ فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِيَدُلَّ عَلَى الذَّاتِ بِعُنْوَانِ الْإِلَهِ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْدَانِيَّةُ.

[سورة الأنفال (8) : آية 53]

وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي آلِ عِمْرَانَ فَلِكَوْنِ التَّكْذِيبِ تَكْذِيبًا لِآيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى ثُبُوتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّكَلُّمِ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا، دُونَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] ، فَلِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ قُوَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى لَازِمِهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الضُّرِّ بِهِمْ، وَيُنْكِرُونَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُمْ، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ التَّعْرِيضِيِّ الَّذِي هُوَ إِبْلَاغُ هَذَا الْإِنْذَارِ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] لَمْ يُقْصَدْ إِلَّا الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ إِذَا عَاقَبَ، فَهُوَ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، عَقِبَهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: 12] الْآيَةَ. وَزِيدَ وَصْفُ «قَوِيٌّ» هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ. وَالْقَوِيُّ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ، وَحَقِيقَتُهَا كَمَالُ صَلَابَةِ الْأَعْضَاءِ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرَادُ مِنْهَا، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: 145] . وَهِيَ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا اللزومي وَهِي مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِ مَا تتعلّق بِهِ إِرَادَته تَعَالَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ كَانَ قَوِيًّا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ عِقَابُ قَوِيٍّ شَدِيدِ الْعِقَابِ، كَقَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 42] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] . [53] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 53] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 52] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا إِلَخْ أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تَسَبَّبُوا بِهَا فِي زَوَالِ نِعْمَتِهِمْ.

وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَبِالْخَبَرِ. وَالتَّسْبِيبُ يَقْتَضِي أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ فَغَيَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّقْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَسْلُبُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَسَبَّبُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي زَوَالِ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَص: 58] . وَهَذَا إِنْذَارٌ لِقُرَيْشٍ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ بَطِرُوا النِّعْمَةَ. فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَقْتَضِي تَجَدُّدَ النَّفْي ومنفيّه. و «التَّغْيِير» تَبْدِيلُ شَيْءٍ بِمَا يُضَادُّهُ فَقَدْ يَكُونُ تَبْدِيلَ صُورَةِ جِسْمٍ كَمَا يُقَالُ: غَيَّرْتُ دَارِي، وَيَكُونُ تَغْيِيرَ حَالٍ وَصِفَةٍ وَمِنْهُ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ أَيْ صِبَاغُهُ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُخَالِفُ، فَتَغْيِيرُ النِّعْمَةِ إِبْدَالُهَا بِضِدِّهَا وَهُوَ النِّقْمَةُ وَسُوءُ الْحَالِ، أَيْ تَبْدِيلُ حَالَةٍ حَسَنَةٍ بِحَالَةٍ سَيِّئَةٍ. وَوَصْفُ النِّعْمَةِ بِ أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ أَصْلَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ. وَمَا بِأَنْفُسِهِمْ مَوْصُولٌ وَصِلَةٌ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا اسْتَقَرَّ وَعَلِقَ بهم. وَمَا صدق مَا النِّعْمَةُ الَّتِي أنعم الله عَلَيْهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّغْيِيرِ تَغْيِيرُ سَبَبِهِ. وَهُوَ الشُّكْرُ بِأَنْ يُبَدِّلُوهُ بِالْكُفْرَانِ. ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ تَكُونُ صَالِحَةً ثُمَّ تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهَا بِبَطَرِ النِّعْمَةِ فَيَعْظُمُ فَسَادُهَا، فَذَلِكَ تَغْيِيرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُدَاةً لَهُمْ، فَإِذَا أَصْلَحُوا اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ مِثْلَ قَوْمِ يُونُسَ وَهُمْ أَهْلُ (نِينَوَى) ، وَإِذَا كَذَّبُوا وَبَطِرُوا النِّعْمَةَ غَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى عَذَابٍ وَنِقْمَةٍ. فَالْغَايَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَتَّى لِانْتِفَاءِ تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْأَقْوَامِ هِيَ غَايَةٌ مُتَّسِعَةٌ، لِأَنَّ الْأَقْوَامَ إِذَا غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ هُدًى أَمْهَلَهُمُ اللَّهُ زَمَنًا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَإِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَقَدْ نَبَّهَهُمْ إِلَى اقْتِرَابِ الْمُؤَاخَذَةِ ثُمَّ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالنَّظَرِ فَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ غَيَّرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِإِبْدَالِهَا بِالْعَذَابِ أَوِ الذُّلِّ أَوِ الْأَسْرِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَشُورِيِّينَ.

[سورة الأنفال (8) : آية 54]

وأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً أَيْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُضْمِرُهُ النَّاسُ وَمَا يَعْمَلُونَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَذِكْرُ صِفَةِ سَمِيعٌ قَبْلَ صِفَةِ عَلِيمٌ يُومِئُ إِلَى أَنَّ التَّغْيِيرَ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُعَرَّضُ بِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ آلِهَةً غَيْرَ الله تَعَالَى. [54] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّسْمِيعِ، تَقْرِيرٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَخُولِفَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ، وَزِيَادَةً لِلْفَائِدَةِ، بِذِكْرِ التَّكْذِيبِ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الْكُفْرِ هُنَاكَ، وَهُمَا سَبَبَانِ لِلْأَخْذِ وَالْإِهْلَاكِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَذِكْرُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ هُنَا دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَنَّ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْمُجْتَرِئِ، يَزِيدُ جَرَاءَتَهُ قُبْحًا لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّهَا جَرَاءَةٌ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ الرَّبَّ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ. وَعُبِّرَ بِالْإِهْلَاكِ عِوَضَ الْأَخْذِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِيُفَسِّرَ الْأَخْذَ بِأَنَّهُ آلَ إِلَى الْإِهْلَاكِ، وَزِيدَ الْإِهْلَاكُ بَيَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ إِهْلَاكُ الْغَرَقِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ لِلتَّعْوِيضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: وَكُلُّ الْمَذْكُورِينَ، أَيْ آلُ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ من قبلهم. [55- 57] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 55 إِلَى 57] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى ذِكْرِ كُفَّارٍ آخَرِينَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ عَاهَدُوا

النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ، وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، وإنّما وَصفهم ب شَرَّ الدَّوَابِّ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَعْوَةِ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَمُعْجِزَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْطَعُ، وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ، فَمَنْ يَجْحَدُهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِمَا لَا عَقْلَ لَهُ، وَقَدِ انْدَرَجَ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي جِنْسِ شَرَّ الدَّوَابِّ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الْأَنْفَال: 22] الْآيَةَ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ. وَالْفَاءُ فِي فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَطَفَتْ صِلَةً عَلَى صِلَةٍ، فَأَفَادَتْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصِّلَةِ، وَأَنَّهَا تَمَامُ الصِّلَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلْإِيمَاءِ، أَيْ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَاسْتَمَرَّ كُفْرُهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ عَطَفَ هُنَا بِالْفَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ إِجْرَاءِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، وَأَتَى بِصِلَةِ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ ثُبُوتِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْجُوٍّ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ. فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ مَعَ عَدَمِ إِيلَاءِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ، لِقَصْدِ إِفَادَةِ تَقْوِيَةِ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، أَيِ الَّذِينَ يَنْتَفِي الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ انْتِفَاءً قَوِيًّا فَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهُ أَشَدَّ الِابْتِعَادِ. وَلَيْسَ التَّقْدِيمُ هُنَا مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الصِّلَةِ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ، إِذَا لَمْ يَقَعِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَقِبَ حَرْفِ النَّفْيِ، أَنْ لَا يُفِيدَ تَقْدِيمُهُ إِلَّا التَّقَوِّيَ، دُونَ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 272] إِذْ لَا يُرَادُ وَأَنْتُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ لَا تُظْلَمُونَ. فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَدَلًا مُطَابِقًا، فَالَّذِينَ عَاهَدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وتعدية عاهَدْتَ بِمن لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْتِزَامًا مِنْ جَانِبِهِمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ أَخَذْتُ مِنْهُ عَهْدًا، أَيِ الْتِزَامًا،

فَلَمَّا ذُكِرَ فِعْلُ الْمُفَاعَلَةِ، الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ الْتِزَامُهُمْ بِأَنْ لَا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَيْسَتْ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً لِعَدَمِ مَتَانَةِ الْمَعْنَى إِذْ يَصِيرُ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَعْضِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ قُرَيْظَةُ فَإِنَّهُمْ عَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحَارِبُوهُ وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ فَأَمَدُّوا الْمُشْرِكِينَ بِالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاعْتَذَرُوا فَقَالُوا: نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا، ثُمَّ عَاهَدُوهُ أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ فَنَكَثُوا عَهْدَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَالُوا مَعَ الْأَحْزَابِ، وَأَمَدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالْأَدْرَاعِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ قُرَيْظَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ بَعْضِ قَبَائِلِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخَصُّهَا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ [التَّوْبَة: 12] الْآيَةَ. وَقَدْ نَقَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ عَهْدَ النُّصْرَةِ فِي أحد، فانخزل بِمَنْ مَعَهُ وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ. وَقَدْ ذُكِرَ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ عَهْدُ فِرَقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِإِجْرَاءِ صِلَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ غَلَبَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَالتَّعْبِيرُ، فِي جَانِبِ نَقْضِهِمُ الْعَهْدَ، بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ مِنْهُمْ وَيَتَكَرَّرُ، بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ عَنْهُ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّأْيِيسِ مِنْ وَفَائِهِمْ بِعَهْدِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ إِلَخْ. فَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ وَيَنْقُضُونَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِ كُلِّ مَرَّةٍ كُلُّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ الَّتِي يَحِقُّ فِيهَا الْوَفَاءُ بِمَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَكَرَّرَ الْعَهْدُ أَمْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، لِأَنَّ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ كُلَّمَا دَعَا دَاعٍ إِلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَبْلَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ، فَالنَّقْضُ الْحَاصِلُ مِنْهُمْ حَصَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، بِأَنِ امْتَدَّ زَمَانُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَالنَّقْضُ مِنْهُمْ قَدْ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ،

وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ هُوَ هُوَ، فَلَا جَدْوَى فِي ادِّعَاءِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَنْقُضُونَ. وَعَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ التَّقْوَى عَنْهُمْ صِفَةٌ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُمْ، وَمَلَكَةٌ فِيهِمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ مِنْ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَوُقُوعُ فِعْلِ يَتَّقُونَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمُّ سَائِرَ جِنْسِ الِاتِّقَاءِ وَهُوَ الْجِنْسُ الْمُتَعَارَفُ مِنْهُ، الَّذِي يتهمّم بِهِ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ وَالْمُتَدَيِّنُونَ، فَيَعُمُّ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَخَشْيَةَ عِقَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَعُمُّ اتِّقَاءَ الْعَارِ، وَاتِّقَاءَ الْمَسَبَّةِ وَاتِّقَاءَ سُوءِ السمعة. فإنّ الخسيس بِالْعَهْدِ، وَالْغَدْرَ، مِنَ الْقَبَائِحِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَحْلَامِ، وَعِنْدَ الْعَرَبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ عَدِمَ مَنْ يَرْكَنُ إِلَى عَهْدِهِ وَحِلْفِهِ، فَيَبْقَى فِي عُزْلَةٍ مِنَ النَّاسِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ قَدْ غَلَبَهُمُ الْبُغْضُ فِي الدِّينِ، فَلَمْ يَعْبَأُوا بِمَا يَجُرُّهُ نَقْضُ الْعَهْدِ، مِنَ الْأَضْرَارِ لَهُمْ. وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْهُمْ فِيمَا يَأْتِي، لَا جَرَمَ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ نَكَالًا لِغَيْرِهِمْ، مَتَى ظَفِرَ بِهِمْ فِي حَرْبٍ يُشْهِرُونَهَا عَلَيْهِ أَوْ يُعِينُونَ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ. وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) مَزِيدَةٍ بَعْدَهَا (مَا) لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ وُقُوعِ الشَّرْطِ وَبِذَلِكَ تَنْسَلِخُ (إِنْ) عَنِ الْإِشْعَارِ بِعَدَمِ الْجُرْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ وَزِيدَ التَّأْكِيدُ بِاجْتِلَابِ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَفِي «شَرْحِ الرَّضِيِّ عَلَى الْحَاجِبِيَّةِ» ، عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ: لَا يَجِيءُ (إِمَّا) إِلَّا بِنُونِ التَّأْكِيدِ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ [مَرْيَم: 26] . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ دَخَلَتِ النُّونُ مَعَ إِمَّا: إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِمَّا الَّتِي هِيَ حَرْفُ انْفِصَالٍ فِي قَوْلِكَ: جَاءَنِي إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو. وَقُلْتُ: دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَ (إِن) المؤكّدة بِمَا، غَالِبٌ، وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، فَقَدْ قَالَ الْأَعْشَى: إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا ... إِنَّا كَذَلِك مَا تحفى وَنَنْتَعِلُ

فَلَمْ يُدْخِلْ عَلَى الْفِعْلِ نُونَ التَّوْكِيدِ. وَالثَّقَفُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، أَيْ: فَإِنْ وَجَدْتَهُمْ وَظَفِرْتَ بِهِمْ فِي حَرْبٍ، أَيِ انْتَصَرْتَ عَلَيْهِمْ. وَالتَّشْرِيدُ: التَّطْرِيدُ وَالتَّفْرِيقُ، أَيْ: فَبَعِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَدْ يُجْعَلُ التَّشْرِيدُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْوِيفِ وَالتَّنْفِيرِ. وَجُعِلَتْ ذَوَاتُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ سَبَبَ التَّشْرِيدِ بِاعْتِبَارِهَا فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِالْهَزِيمَةِ وَالنَّكَالِ، فَهُوَ مِنْ إِنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ وَالْمُرَادُ أَحْوَالُ الذَّوَاتِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَشْرِيدِ مَنْ خَلْفَهُمْ هُوَ مَا أَوْجَبَ التَّنْكِيلَ بِهِمْ وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ. وَالْخَلْفُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِجَامِعِ الِاتِّبَاعِ، وَنَظِيرُهُ (الْوَرَاءُ) . فِي قَوْلِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: «وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي» . وَقَالَ وَفْدُ الْأَشْعَرِيِّينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا» ، وَالْمَعْنَى: فَاجْعَلْهُمْ مَثَلًا وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَرَقَّبُونَ مَاذَا يَجْتَنِي هَؤُلَاءِ مِنْ نَقْضِ عَهْدِهِمْ فَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ نَكَّلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرَيْظَةَ حِينَ حَاصَرَهُمْ وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ بِأَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، فَقَتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى الْعَدُوِّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ إِرْهَابِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَضْعِفُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ فِي هَذَا الْإِغْلَاظِ عَلَى النَّاكِثِينَ تَحْرِيضٌ عَلَى عُقُوبَتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا. وَفِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ يَصُدُّ أَمْثَالَهُمْ عَنِ النَّكْثِ وَيَكْفِي الْمُؤْمِنِينَ شَرَّ النَّاكِثِينَ الْخَائِنِينَ. فَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الشِّدَّةُ كَوْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِعُمُومِ الْعَالَمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ شِدَّةٍ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] .

[سورة الأنفال (8) : آية 58]

وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رَاجِعٌ إِلَى مِنْ الْمَوْصُولَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَدْلُولِ صِلَتِهَا جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ. وَالتَّذَكُّرُ تَذَكُّرُ حَالَةِ الْمُثْقَفِينَ فِي الْحَرْبِ الَّتِي انْجَرَّتْ لَهُمْ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، أَيْ لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا حَلَّ بِنَاقِضِي الْعَهْدِ مِنَ النَّكَالِ، فَلَا يُقْدِمُوا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، فَآلَ مَعْنَى التَّذَكُّرِ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ التَّذَكُّرِ وَإِرَادَةُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ وَغلب فِيهِ. [58] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 58] وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) عَطْفُ حُكْمٍ عَامٍّ لِمُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ الْخَائِنِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ الَّذِينَ تَلُوحُ مِنْهُمْ بَوَارِقُ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، بِحَيْثُ يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا فِيهِ مُخَيِّلَةٌ بِعَدَمِ وَفَائِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَإِذ هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْ مُسَالَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَلَا يَنْتَفِعُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مُسَالَمَتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَالْخَوْفُ تَوَقُّعُ ضُرٍّ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْخَوْفُ الْحَقُّ الْمَحْمُودُ. وَأَمَّا تَخَيُّلُ الضُّرِّ بِدُونِ أَمَارَةٍ فَلَيْسَ مِنَ الْخَوْفِ وَإِنَّمَا هُوَ الْهَوَسُ وَالتَّوَهُّمُ. وَخَوْفُ الْخِيَانَةِ ظُهُورُ بَوَارِقِهَا. وَبُلُوغُ إِضْمَارِهِمْ إِيَّاهَا، بِمَا يَتَّصِلُ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ أُولَئِكَ وَمَا يَأْتِي بِهِ تَجَسُّسُ أَحْوَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَة: 229] وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النِّسَاء: 3] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [229] . وقَوْمٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ قَوْمٍ تَخَافُ مِنْهُمْ خِيَانَةً. وَالْخِيَانَةُ: ضِدُّ الْأَمَانَةِ، وَهِيَ هُنَا: نَقْضُ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْوَفَاءَ مِنَ الْأَمَانَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخِيَانَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَإِلْقَاءُ الشَّيْءِ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [100] . وَإِنَّمَا رُتِّبَ نَبْذُ الْعَهْدِ عَلَى خَوْفِ الْخِيَانَةِ، دُونَ وُقُوعهَا، لِأَن شؤون الْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ الظُّنُونِ وَمَخَائِلِ الْأَحْوَالِ وَلَا يُنْتَظَرُ تَحَقُّقُ وُقُوعِ الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّهُ إِذَا تَرَيَّثَ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي ذَلِكَ يَكُونُونَ قَدْ عَرَّضُوا الْأُمَّةَ لِلْخَطَرِ، أَوْ لِلتَّوَرُّطِ فِي غَفْلَةٍ وَضَيَاعِ مَصْلَحَةٍ، وَلَا تُدَارُ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ بِمَا يُدَارُ بِهِ الْقَضَاءُ فِي الْحُقُوقِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا فَاتَتْ كَانَتْ بَلِيَّتُهَا عَلَى وَاحِدٍ، وَأَمْكَنَ تَدَارُكُ فَائِتِهَا. وَمَصَالِحُ الْأُمَّةِ إِذَا فَاتَتْ تَمَكَّنَ مِنْهَا عَدُوُّهَا، فَلِذَلِكَ عُلِّقَ نَبْذُ الْعَهْدِ بِتَوَقُّعِ خِيَانَةِ الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: «خُذِ اللِّصَّ قَبْلَ يَأْخُذَكَ» ، أَيْ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لِصٌّ. وعَلى سَواءٍ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَبْذًا عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (انْبِذْ) أَيْ حَالَةَ كَوْنِكَ عَلَى سَوَاءٍ. وعَلى فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ فَهِيَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَدْخُولَهَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْتَلَى عَلَيْهِ. وسَواءٍ وَصْفٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [6] . وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِوَاءِ مَعَ مَعْنَى (عَلَى) الطَّرِيقُ، فَعُلِمَ أَنَّ سَواءٌ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَصْفُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى ذاتِ أَلْواحٍ [الْقَمَر: 13] ، أَيْ سَفِينَةٍ ذَات أَلْوَاح. وَقَوله النَّابِغَةِ: كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا أَيِ الْحَيَّةُ ذَاتُ الصَّفَا. وَوَصْفُ النَّبْذِ أَوِ النَّابِذِ بِأَنَّهُ عَلَى سَوَاءٍ، تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمَاشِي عَلَى طَرِيقٍ جَادَّةٍ لَا الْتِوَاءَ فِيهَا، فَلَا مُخَاتَلَةَ لِصَاحِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: 109] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ، فِي ضِدِّهِ: هُوَ يَتْبَعُ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، أَيْ يُرَاوِغُ وَيُخَاتِلُ. وَالْمَعْنَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ نَبْذًا وَاضِحًا عَلَنًا مَكْشُوفًا.

[سورة الأنفال (8) : آية 59]

وَمَفْعُولُ (انْبِذْ) مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ [الْأَنْفَال: 56] وَقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أَيِ انْبِذْ عَهْدَهُمْ. وَعُدِّيَ «انْبِذْ» بِ (إِلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى ارْدُدْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ ذَلِك لَا يَسْتَمِرَّ عَلَى عَهْدِهِمْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي كَيْدِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَخُونُهُمْ لأنّ أمره ينْبذ عَهده مَعَهم ليستلزم أَنَّهُ لَا يَخُونُهُمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تَذْيِيلٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً إِلَخْ تَصْرِيحًا وَاسْتِلْزَامًا. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْخِيَانَةِ فَلَا تَسْتَمِرَّ عَلَى عَهْدِهِمْ فَتَكُونَ مُعَاهِدًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَلِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ مِنَ الْخَائِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ النَّحَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: «هَذَا مِنْ مُعْجِزِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ مِثْلُهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ وَكَثْرَةِ مَعَانِيهِ» . قُلْتُ: وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِرَدِّ عَهْدِهِمْ وَنَبْذِهِ إِلَيْهِمْ فَهِيَ مُغْنِيَةٌ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ، وَتَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذَا مِنْ نكت الإعجاز. [59] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 59] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَدَأَهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْخِيَانَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ، وَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أِبَيِّ سَلُولَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُلُولِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَجَوْا يَوْمَ بَدْرٍ، وَطَمْأَنَةٌ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ سَيُدَالُونَ مِنْهُمْ، وَيَأْتُونَ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، وَتَهْدِيدٌ لِلْعَدُوِّ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُمَكِّنُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمِينَ. وَالسَّبْقُ مُسْتَعَارٌ لِلنَّجَاةِ ممّن يطْلب، والتلفّت مِنْ سُلْطَتِهِ. شَبَّهَ الْمُتَخَلِّصَ مِنْ طَالِبِهِ بِالسَّابِقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: 4] وَقَالَ بَعْضُ بَنِي فَقْعَسٍ: كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ

[سورة الأنفال (8) : آية 60]

أَيْ كَأَنَّكَ لَمْ يَفُتْكَ مَا فَاتَكَ إِذَا أَدْرَكْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ السَّبْقُ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، أَيْ هُمْ وَإِنْ ظَهَرَتْ نَجَاتُهُمُ الْآنَ، فَمَا هِيَ إِلَّا نَجَاةٌ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ، فَهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ، أَوْ لَا يُعْجِزُونَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يُصَيِّرُونَ مَنْ أَفْلَتُوا مِنْهُ عَاجِزًا عَنْ نَوَالِهِمْ، كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فسيحة ... فَهَل تعج زنّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُعْجِزُونَ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَا تَحْسَبَنَّ- بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَلا يَحْسَبَنَّ- بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَفْعُول الأول لحسب، فَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنًا، وَهَذَا اجْتِرَاءٌ مِنْهُ على أُولَئِكَ الايمة وَصِحَّةِ رِوَايَتِهِمْ، وَاحْتَجَّ لَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِإِضْمَارِ مَفْعُولٍ أَوَّلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا، وَاحْتَجَّ لَهَا الزَّجَّاجُ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) قَبْلَ سَبَقُوا فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: حُذِفَ الْفَاعِلُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّهُمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ تُثِيرُهُ جُمْلَةُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ أَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ فَالْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ هُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَكْسُورَةِ وَالْمَفْتُوحَةِ تَعْلِيلٌ إِلَّا أَنَّ الْمَكْسُورَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْمَفْتُوحَةَ تَعْلِيل صَرِيح. [60] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) عطف جُمْلَةُ: وَأَعِدُّوا عَلَى جُمْلَةِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الْأَنْفَال: 57] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا [الْأَنْفَال: 59] ، فَتُفِيدُ مَفَادَ الِاحْتِرَاسِ عَنْ مُفَادِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ:

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا يُفِيدُ تَوْهِينًا لِشَأْنِ الْمُشْرِكِينَ، فَتَعْقِيبُهُ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ: لِئَلَّا يَحْسَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَارُوا فِي مُكْنَتِهِمْ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِرَاسِ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لَهُمْ هُوَ سَبَبُ جَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ هَيَّأَ أَسْبَابَ اسْتِئْصَالِهِمْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا. وَالْإِعْدَادُ التَّهْيِئَةُ وَالْإِحْضَارُ، وَدَخَلَ فِي مَا اسْتَطَعْتُمْ كُلُّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ النَّاسِ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْعُدَّةِ. وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِنَّمَا يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ الَّذِينَ هُمْ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَصَالِحِهَا. وَالْقُوَّةُ كَمَالُ صَلَاحِيَةِ الْأَعْضَاءِ لِعَمَلِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 52] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَتُطْلَقُ الْقُوَّةُ مَجَازًا عَلَى شِدَّةِ تَأْثِيرِ شَيْءِ ذِي أَثَرٍ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى سَبَبِ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ، فَقُوَّةُ الْجَيْشِ شِدَّةُ وَقْعِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَقُوَّتُهُ أَيْضًا سِلَاحُهُ وَعَتَادُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِوَاسِطَتَيْنِ، فَاتِّخَاذُ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالْأَقْوَاسِ وَالنِّبَالِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي جُيُوشِ الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ، وَاتِّخَاذُ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَدَافِعِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالصَّوَارِيخِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي جُيُوشِ عَصْرِنَا. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُفَسَّرُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» قَالَهَا ثَلَاثًا، أَيْ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْقُوَّةِ آلَةُ الرَّمْيِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الْقُوَّةِ فِي آلَةِ الرَّمْيِ. وَعَطْفُ رِباطِ الْخَيْلِ عَلَى الْقُوَّةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْخَاصِّ. وَالرِّبَاطُ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ أُتِيَ بِهَا هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لِتَدُلَّ عَلَى قَصْدِ الْكَثْرَةِ مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ لِلْغَزْوِ، أَيِ احْتِبَاسُهَا وَرَبْطُهَا انْتِظَارًا لِلْغَزْوِ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ رَوَثُهَا وَبَوْلُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ» الْحَدِيثَ. يُقَالُ: رَبَطَ الْفَرَسَ إِذَا شَدَّهُ فِي مَكَانِ حِفْظِهِ، وَقَدْ سَمَّوُا الْمَكَانَ الَّذِي تُرْتَبَطُ فِيهِ الْخَيْلُ

رِبَاطًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْرُسُونَ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ رَاكِبِينَ عَلَى أَفْرَاسِهِمْ، كَمَا وَصَفَ ذَلِكَ لَبِيدٌ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمُلُ شِكَّتِي ... فُرُطٌ وِشَاحِيَ إِنْ رَكَبْتُ زِمَامُهَا إِلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ ... جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دُونَهَا جُرَّامُهَا ثُمَّ أُطْلِقَ الرِّبَاطُ عَلَى مَحْرَسِ الثَّغْرِ الْبَحْرِيِّ، وَبِهِ سَمَّوْا رِبَاطَ (دِمْيَاطَ) بِمِصْرَ، وَرِبَاطَ (الْمُنَسْتِيرِ) بِتُونُسَ، وَرِبَاطَ (سَلَا) بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [200] . وَجُمْلَةُ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، نَاشِئًا عَنْ تَخْصِيصِ الرِّبَاطِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعُمُّهُ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَأَعِدُّوا. وَعَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّهُمْ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَكَانَ تَعْرِيفُهُمْ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِتَعْرِيفِهِمْ، وَلِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ وَجْهِ قِتَالِهِمْ وَإِرْهَابِهِمْ، وَمِنْ ذَمِّهِمْ، أَنْ كَانُوا أَعْدَاءَ رَبِّهِمْ، وَمِنْ تَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذْ عُدُّوا أَعْدَاءً لَهُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ تَوْحِيدِهِ وَهُمْ أَعْدَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ صَارَحُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاءُ دِينِ اللَّهِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ وَأَنْصَارُهُ، فَعَطْفُ وَعَدُوَّكُمْ عَلَى عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ عَطْفِ صِفَةِ مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا ... مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَالْإِرْهَابُ جَعْلُ الْغَيْرِ رَاهِبًا، أَيْ خَائِفًا، فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِذَا عَلِمَ اسْتِعْدَادَ عَدُوِّهِ لِقِتَالِهِ خَافَهُ، وَلَمْ يَجْرَأْ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ هَنَاءً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَمْنًا مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ،

فَيَكُونُ الْغَزْوُ بِأَيْدِيهِمْ: يَغْزُونَ الْأَعْدَاءَ مَتَى أَرَادُوا، وَكَانَ الْحَالُ أَوْفَقَ لَهُم، وَأَيْضًا ذَا رَهَبُوهُمْ تَجَنَّبُوا إِعَانَةَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِم. وَالْمرَاد بالآخرين مِنْ دُونِهِمْ أَعْدَاءٌ لَا يَعْرِفُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّعْيِينِ وَلَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُمْ مَنْ كَانَ يُضْمِرُ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةً وَكَيْدًا، وَيَتَرَبَّصُ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، مِثْلَ بَعْضِ الْقَبَائِلِ. فَقَوْلُهُ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ أَيْ لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْإِعْلَامِ، وَقَدْ عَلِمْتُمُوهُمُ الْآنَ إِجْمَالًا، أَوْ أُرِيدَ: لَا تَعْلَمُونَهُمْ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ وَجُودَهُمْ إِجْمَالًا مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَلِهَذَا نَصَبَ مَفْعُولًا وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا تَنْكَشِفُ عَنْهُ عَاقِبَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ حَرْبِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ كَمَا وَرَدَ فِي السِّيرَةِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ مِنْ دُونِهِمْ بِمَعْنَى: مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهَا لِلْمَكَانِ الْمُخَالِفِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْمُغَايَرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ إِطْلَاقَاتِ كَلِمَةِ (دُونَ) لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ أَغْنَى عَنْهُ وَصْفُهُمْ بِ آخَرِينَ. وَجُمْلَةُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ تَعَقُّبُهُمْ وَالْإِغْرَاءُ بِهِمْ، وَتَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُحْصِي أَعْدَاءَهُمْ وَيُنَبِّهُهُمْ إِلَيْهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ: لِلتَّقَوِّي، أَيْ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ لَازِمِ مَعْنَاهُ، أَمَّا أَصْلُ الْمَعْنَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ إِذْ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا حَمْلُ التَّقْدِيمِ هُنَا عَلَى إِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ فَلَا يَحْسُنُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ بِجُمْلَةِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ فَلَوْ قِيلَ: وَيَعْلَمُهُمُ اللَّهُ لَحَصَلَ مَعْنَى الْقَصْرِ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ إِعْدَادُ الْقُوَّةِ يَسْتَدْعِي إِنْفَاقًا، وَكَانَتِ النُّفُوسُ شَحِيحَةً بِالْمَالِ، تَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ بِإِخْلَافِ مَا أَنْفَقُوهُ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 61]

وَالتَّوْفِيَةُ: أَدَاءُ الْحَقِّ كَامِلًا، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ كَالْقَرْضِ لِلَّهِ، وَجَعَلَ عَلَى الْإِنْفَاقِ جَزَاءً، فَسَمَّى جَزَاءَهُ تَوْفِيَةً عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَتَدُلُّ التَّوْفِيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَجْرَ فِي الدُّنْيَا مَعَ أَجْرِ الْآخِرَةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَتَعْدِيَةُ التَّوْفِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ بطرِيق بِنَاء للْفِعْل لِلنَّائِبِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُوَفَّى هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُوَفَّى هُوَ الثَّوَابُ. وَالتَّوْفِيَةُ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهَا مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: وَفَّاهُ دَيْنَهُ، وَإِنَّمَا وَفَّاهُ مُمَاثِلًا لِدَيْنِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَضَى صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا قَضَى صَلَاةً بِمِقْدَارِهَا فَالْإِسْنَادُ: إِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ. وَالظُّلْمُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ نَقْصَ الْحَقِّ ظُلْمٌ، وَتَسْمِيَةُ النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ ظُلْمًا حَقِيقَةٌ. وَلَيْسَ هُوَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: 33] . [61] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 61] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ أَحْوَالِ مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ: مِنْ وَفَائِهِمْ بِالْعَهْدِ، وَخِيَانَتِهِمْ، وَكَيْفَ يَحِلُّ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ مَعَهُمْ إِنْ خَافُوا خِيَانَتَهُمْ، وَمُعَامَلَتِهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِالْخَائِنِينَ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِ السِّلْمِ إِنْ طَلَبُوا السَّلْمَ وَالْمُهَادَنَةَ، وَكَفُّوا عَنْ حَالَةِ الْحَرْبِ. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَأْنَفُوا مِنَ السَّلْمِ وَأَنْ يُوَافِقُوا مَنْ سَأَلَهُ مِنْهُمْ. وَالْجُنُوحُ: الْمَيْلُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَاحِ الطَّائِرِ: لِأَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ النُّزُولَ مَالَ بِأَحَدِ جَنَاحَيْهِ، وَهُوَ جَنَاحُ جَانِبِهِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ، قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الطَّيْرَ تَتْبَعُ الْجَيْشَ: جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ

فَمَعْنَى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ إِنْ مَالُوا إِلَى السَّلْمِ مَيْلَ الْقَاصِدِ إِلَيْهِ، كَمَا يَمِيلُ الطَّائِرُ الْجَانِحُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَإِنْ طَلَبُوا السّلم فأجبهم إِلَيْهِم، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْعِفُهُمْ إِلَى السَّلْمِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ حَالَهُمْ حَالُ الرَّاغِبِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُظْهِرُونَ الْمَيْلَ إِلَى السَّلْمِ كَيْدًا، فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: 58] فَإِنَّ نَبْذَ الْعَهْدِ نَبْذٌ لِحَالِ السَّلْمِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلسَّلْمِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ (إِلَى) لِتَقْوِيَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى السَّلْمِ مَيْلُ حَقٍّ، أَيْ: وَإِنْ مَالُوا لِأَجْلِ السَّلْمِ وَرَغْبَةً فِيهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ حَقَّ جَنَحَ أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَالَ الَّذِي يعدّى بإلى فَلَا تَكُونُ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ إِلَّا لِغَرَضٍ، وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ يُقَالُ جَنَحَ لَهُ وَإِلَيْهِ. وَالسَّلْمُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا- ضِدُّ الْحَرْبِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالْفَتْحِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ السِّينِ- وَحَقُّ لَفْظِهِ التَّذْكِيرُ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنَّثُ حَمْلًا عَلَى ضِدِّهِ الْحَرْبِ وَقَدْ وَرَدَ مُؤَنَّثًا فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا. وَالْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجُنُوحِ إِلَى السَّلْمِ، لِيَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِدًا فِي جَمِيعِ شَأْنِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمُفَوِّضًا إِلَيْهِ تَسْيِيرَ أُمُورِهِ، لِتَكُونَ مُدَّةُ السَّلْمِ مُدَّةَ تَقَوٍّ وَاسْتِعْدَادٍ، وَلِيَكْفِيَهُ اللَّهُ شَرَّ عَدُوِّهِ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَيِ السَّمِيعُ لِكَلَامِهِمْ فِي الْعَهْدِ، الْعَلِيمُ بِضَمَائِرِهِمْ، فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَاجْنَحْ لَها جِيءَ بِفِعْلِ اجْنَحْ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ جَنَحُوا.... وَطَرِيقُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَفَادَ قَصْرَ مَعْنَى الْكَمَالِ فِي السَّمْعِ وَالْعِلْمِ، أَيْ: فَهُوَ سَمِيعٌ مِنْهُمْ مَا لَا تَسْمَعُ وَيَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُ. وَقَصْرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقِبَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ يُفْضِي إِلَى الْأَمْرِ بِقَصْرِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِقَصْرِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِإِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْقُوَّةِ لِلْعَدُوِّ: دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ أَمْرٌ غَيْرُ تَعَاطِي أَسْبَابِ الْأَشْيَاءِ، فَتَعَاطِي الْأَسْبَاب فِيمَا هِيَ مِنْ مَقْدُورِ النَّاسِ، وَالتَّوَكُّلُ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ طَوَائِفَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، مِنْهُمْ مُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: 48] ، وَمِنْهُمْ مَنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَتْ فِيهِمْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ: قِيلَ: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ [الْأَنْفَال: 55، 56] الْآيَةَ. قِيلَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ، وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَنَحُوا عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. أَوْ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ عَائِدًا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا. فَقِيلَ: عَادَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: عَادَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ [5] فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ. وَمَنْ قَالُوا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَالُوا هَذَا حُكْمٌ بَاقٍ، وَالْجُنُوحُ إِلَى السَّلْمِ إِمَّا بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْمُوَادَعَةِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى صِنْفَيِ الْكُفَّارِ: مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ وَقَعَ قَبْلَهُ ذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: 55] فَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ بَرَاءَةٌ، فَهِيَ مُخَصِّصَةٌ الْعُمُومَ الَّذِي فِي ضَمِيرِ جَنَحُوا أَوْ مُبِيِّنَةٌ إِجْمَالَهُ، وَلَيْسَتْ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: «أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 5] فَدَعْوَى، فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ» . وَهَؤُلَاءِ قَدِ انْقَضَى أَمْرُهُمْ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمَجُوسُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَجْرِي أَمْرُ الْمُهَادَنَةِ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوْلَى: فَإِنْ دَعَوْا إِلَى السَّلْمِ قُبِلَ مِنْهُمْ، إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَعُدَّةٍ: فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 62 إلى 63]

وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِانْتِفَاعٍ يُجْلَبُ بِهِ أَوْ ضُرٍّ يَنْدَفِعُ بِسَبَبِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَأَنْ يُجِيبُوا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ. قَدْ صَالَحَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ، وَوَادَعَ الضُّمَرِيَّ، وَصَالَحَ أَكْيَدَ رَدُومَةَ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ» . أَمَّا مَا هَمَّ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُصَالَحَةِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَمَنْ مَعَهُ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَذَلِكَ قَدْ عَدَلَ عَنْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فِي جَمَاعَةِ الْأَنْصَارِ: لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ. فَهَذَا الْأَمْرُ بِقَبُولِ الْمُهَادَنَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اقْتَضَاهُ حَالُ الْمُسْلِمِينَ وَحَاجَتُهُمْ إِلَى اسْتِجْمَامِ أُمُورِهِمْ وَتَجْدِيدِ قُوَّتِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، بِالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، فِي آيَاتِ السَّيْفِ. قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: نَسَخَتْ بَرَاءَةٌ كُلَّ مُوَاعَدَةٍ وَبَقِيَ حُكْمُ التَّخْيِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَدَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى حَسَبِ مصلحَة الْمُسلمين. [62، 63] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 62 إِلَى 63] وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) لَمَّا كَانَ طَلَبُ السَّلْمِ وَالْهُدْنَةِ مِنَ الْعَدُوِّ قَدْ يَكُونُ خَدِيعَةً حَرْبِيَّةً، لِيُغْرُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْمُصَالَحَةِ ثُمَّ يَأْخُذُوهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، أَيْقَظَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الْأَعْدَاءَ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِمْ، وَيَحْمِلَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ، لِأَنَّهُ الْخُلُقُ الْإِسْلَامِيُّ، وَشَأْنُ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ، وَلَا تَكُونُ الْخَدِيعَةُ بِمِثْلِ نَكْثِ الْعَهْدِ، فَإِذَا بَعَثَ الْعَدُوَّ كُفْرُهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا التَّسَفُّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ، لِلْوَفِيِّ بِعَهْدِهِ، أَنْ يَقِيَهُ شَرَّ خِيَانَةِ الْخَائِنِينَ. وَهَذَا

الْأَصْلُ، وَهُوَ أَخْذُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ، شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التَّوْبَة: 4] وَفِي الْحَدِيثِ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، مِنْهَا: وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَمِنْ أَحْكَام الْجِهَاد عَن الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَخْفِرَ لِلْعَدُوِّ بِعَهْدٍ . وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنْ إِظْهَارِ مَيْلِهِمْ إِلَى الْمُسَالَمَةِ خَدِيعَةً فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ شَرَّهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مَقَامَ نَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: 58] فَإِنَّ ذَلِكَ مَقَامُ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْخِيَانَةِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا مَقَامُ إِضْمَارِهِمُ الْغَدْرَ دُونَ أَمَارَةٍ عَلَى مَا أَضْمَرُوهُ. فَجُمْلَةُ: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ دَلَّتْ عَلَى تَكَفُّلِ كِفَايَتِهِ، وَقَدْ أُرِيدَ مِنْهُ أَيْضًا الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ مُعَامَلَتِهِمْ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَأَنْ لَا يَتَوَجَّسَ مِنْهُ خِيفَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ. وَالْخَدِيعَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [9] . «وَحسب» مَعْنَاهُ كَافٍ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَاسِبُكَ، أَيْ كَافِيكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [173] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ تَأْكِيدُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ. وَجعل حَسْبَكَ مُسْندًا إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ وَصْفٌ، وَشَأْنُ الْإِسْنَادِ أَنْ يَكُونَ لِلذَّاتِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ هُوَ طَلَبُ مَنْ يَكْفِيهِ. وَجُمْلَةُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ: عَلَى أَنَّهُ حَسْبُهُ، وَعَلَى الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ وَهُوَ عَدَمُ التَّحَرُّجِ مِنِ احْتِمَالِ قَصْدِهِمُ الْخِيَانَةَ وَالتَّوَجُّسِ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ خِيفَةً، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَرَكَ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ كُنْتَ يَوْمَئِذٍ أَضْعَفَ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَنَصَرَكَ عَلَى الْعَدُوِّ وَهُوَ مُجَاهِرٌ بِعُدْوَانِهِ، فَنَصْرُهُ إِيَّاكَ عَلَيْهِمْ مَعَ مُخَاتَلَتِهِمْ، وَمَعَ كَوْنِكَ فِي قُوَّةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَكَ، أَوْلَى وَأَقْرَبُ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَخْدَعُوكَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَقْصُودُ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، وَقَدْ

بُدِّلَ الْأُسْلُوبُ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ نَصْرِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ حِينَ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ وَحْدُهُ مُخَالِفًا أُمَّةً كَامِلَةً. وَالتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ بِالْإِعَانَةِ عَلَى عَمَلٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَجُعِلَتِ التَّقْوِيَةُ بِالنَّصْرِ: لِأَنَّ النَّصْرَ يُقَوِّي الْعَزِيمَةَ، وَيُثَبِّتُ رَأْيَ الْمَنْصُورِ، وَضِدُّهُ يُشَوِّشُ الْعَقْلَ، وَيُوهِنُ الْعَزْمَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ «وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ حَتَّى قَالَتْ قُرَيْشٌ: ابْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ» . وَإِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى اللَّهِ: تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ نَصْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَهُوَ النَّصْرُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْخَوَارِقِ، مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّعْوَةِ. وَقَوْلُهُ: وَبِالْمُؤْمِنِينَ عُطِفَ عَلَى بِنَصْرِهِ وَأُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَيُوهِمُ أَنَّ الْمَعْنَى وَنَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ وُجُودَ الْمُؤْمِنِينَ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ إِذْ وَفَّقَهُمْ لِاتِّبَاعِهِ فَشَرَحَ صَدْرَهُ بِمُشَاهَدَةِ نَجَاحِ دَعْوَتِهِ وَتَزَايُدِ أُمَّتِهِ وَلِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ جَيْشًا ثَابِتِي الْجَنَانِ، فَجُعِلَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَاتِهِمْ تَأْيِيدًا. وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَّةٌ أُخْرَى عَلَى الرَّسُولِ، إِذْ جَعَلَ أَتْبَاعَهُ مُتَحَابِّينَ وَذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى سِيَاسَتِهِمْ، وَأَرْجَى لِاجْتِنَاءِ النَّفْعِ بِهِمْ، إِذْ يَكُونُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يُفَضِّلُونَ الْجَيْشَ الْمُؤَلَّفَ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ حُصُولِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ. وَهُوَ أَيْضًا مِنَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْأَحْقَادَ وَالْإِحَنَ، الَّتِي كَانَتْ دَأْبَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَتْ سَبَبَ التَّقَاتُلِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَبَيْنَ بُطُونِ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمِنْهَا قَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ اللَّهَبِيِّ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَا نُحِبُّكُمُو ... وَلَا نَلُومُكُمُو أَنْ لَا تُحِبُّونَاِِ

فَلَمَّا آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَلَبَتِ الْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ مَوَدَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: 103] ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ بِوَشَائِجِ الْأَنْسَابِ، وَلَا بِدَعَوَاتِ ذَوِي الْأَلْبَابِ. وَلِذَلِكَ اسْتَأْنَفَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قَوْلَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا عَنْ مَسَاقِ الِامْتِنَانِ بِهَذَا الِائْتِلَافِ، فَهُوَ بَيَانِيٌّ، أَيْ: لَوْ حَاوَلْتَ تَأْلِيفَهُمْ بِبَذْلِ الْمَالِ الْعَظِيمِ مَا حَصَلَ التَّآلُفُ بَيْنَهُمْ. فَقَوْلُهُ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مُبَالَغَةٌ حَسَنَةٌ لِوُقُوعِهَا مَعَ حَرْفِ (لَوِ) الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، فَكَانَ التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمْ مِنْ آيَاتِ هَذَا الدِّينِ، لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مَنْ أُلْفَتِهِمْ، وَأَمَاطَ عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَشَاهِدِ ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الْإِحَنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِمَّا نَشَأَتْ عَنْهُ حَرْبُ بُعَاثٍ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ حِينٍ إِخْوَانًا أَنْصَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَزَالَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْبَغْضَاءَ بَينهم. وجَمِيعاً مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُجْتَمِعٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ فِي سُورَةِ هُودٍ [55] . وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعَذُّرِ التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ وَلَكِنَّ تَكْوِينَ اللَّهِ يَلِينُ بِهِ الصَّلْبُ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمُتَعَذِّرُ. وَالْخِطَابُ فِي أَنْفَقْتَ وأَلَّفْتَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ. وَإِذْ كَانَ هَذَا التَّكْوِينُ صُنْعًا عَجِيبًا ذَيَّلَ اللَّهُ الْخَبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَوِيُّ الْقُدْرَةِ فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، مُحْكِمُ التَّكْوِينِ فَهُوَ يُكَوِّنُ الْمُتَعَذِّرَ، وَيَجْعَلُهُ كَالْأَمْرِ الْمَسْنُونِ الْمَأْلُوفِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ «إِنَّ» لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ دَلِيلًا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى

[سورة الأنفال (8) : آية 64]

[64] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 64] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَامِرَ وَتَعَالِيمَ عَظِيمَةٍ، مَهَّدَ لِقَبُولِهَا وَتَسْهِيلِهَا بِمَا مَضَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ وَالِامْتِنَانِ بِعِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِظْهَارِ أَنَّ النَّجَاحَ وَالْخَيْرَ فِي طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ، مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا كَامِلُ الِاتِّسَاقِ وَالِانْتِظَامِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ فِيمَا مَضَى وَبِالْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ صَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَظٌّ فِي كِفَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا جَرَمَ أَنْتَجَ ذَلِكَ أَنَّ حَسْبَهُ اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْفَذْلَكَةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَتَخْصِيصُ النَّبِيءِ بِهَذِهِ الْكِفَايَةِ لِتَشْرِيفِ مَقَامِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَكْفِي الْأُمَّةَ لِأَجْلِهِ. وَالْقَوْلُ فِي وُقُوعِ «حَسْبُ» مُسْنَدًا إِلَيْهِ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 62] . وَفِي عَطْفِ الْمُؤْمِنِينَ «عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ هَنَا: تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ كِفَايَةِ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ مُخْتَلِفَةٌ وَهَذَا مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. وَقِيلَ يُجْعَلُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مَفْعُولًا مَعَهُ لِقَوْلِهِ: حَسْبُكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ اسْمٌ ظَاهِرٌ، أَوْ يُجْعَلُ مَعْطُوفًا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ الْمُجَوِّزِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ التَّنْوِيهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي جَعْلِهِمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا التَّشْرِيفِ، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَرْشَقُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَتْ يَوْمَ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَتَكُونُ مَكِّيَّةً، وَبَقِيَتْ مَقْرُوءَةً غَيْرَ مُنْدَرِجَةٍ فِي سُورَة، ثمَّ وَقعت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِذْنٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ لَهَا.

[سورة الأنفال (8) : آية 65]

وَعَنِ النَّقَّاشِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْبَيْدَاءِ فِي بَدْرٍ، قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا مُتَقَدِّمًا عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ ثُمَّ جُعِلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ. وَالتَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا ظَاهِرٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا نَزَلَتْ مَعَ تَمَامِ السُّورَةِ فَهِيَ تَمْهِيدٌ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ لِيُحَقِّقُوا كفايتهم الرَّسُول. [65] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 65] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) أُعِيدَ نِدَاءُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْمَقْصِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَفَّلَ اللَّهُ لَهُ الْكِفَايَةَ، وَعَطَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِسْنَادِ الْكِفَايَةِ إِلَيْهِمْ، احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ كِفَايَتِهِمْ، وَتِلْكَ هِيَ الْكِفَايَةُ بِالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ وَقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقِتالِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقِتَالُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ، أَعْنِي: قِتَالَ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَالتَّحْرِيضُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ. وَلَمَّا كَانَ عُمُومُ الْجِنْسِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْقِتَالِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ بِاعْتِبَارِ الْمُقَاتَلِينَ- بِفَتْحِ التَّاءِ- وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِجْمَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدُوُّ كَثِيرِينَ وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ أَقَلَّ مِنْهُمْ، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةَ. وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ لِأَنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ بَيَانًا لِإِجْمَالٍ كَانَتْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْإِجْمَالَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْعَدُوِّ كَثِيرًا، فَقَدْ صَارَ الْمَعْنَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ.

وَ (صابِرُونَ) ثَابِتُونَ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْآلَامِ صَبْرٌ، لِأَنَّ أَصْلَ الصَّبْرِ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَالثَّبَاتُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَاقَيْتُمْ فَاصْبِرُوا» . وَقَالَ النَّابِغَةُ: تَجَنَّبْ بَنِي حُنَّ فَإِنَّ لِقَاءَهُمْ ... كَرِيهٌ وَإِنْ لَمْ تَلْقَ إِلَّا بِصَابِرِ وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ: سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا وَالْمَعْنَى: عُرِفُوا بِالصَّبْرِ وَالْمَقْدِرَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْجَسَدِ وَأَحْوَالِ النَّفْسِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَوَخِّي انْتِقَاءِ الْجَيْشِ، فَيَكُونُ قَيْدًا لِلتَّحْرِيضِ، أَيْ: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ لَا يَتَزَلْزَلُونَ، فَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ ضَعِيفُ النَّفْسِ فَيَفْشَلُ الْجَيْشُ، كَقَوْلِ طَالُوتَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَة: 249] . وَذُكِرَ فِي جَانِبِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَرَّتَيْنِ عَدَدُ الْعِشْرِينَ وَعَدَدُ الْمِائَةِ، وَفِي جَانِبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ عَدَدُ الْمِائَتَيْنِ وَعَدَدُ الْأَلْفِ، إِيمَاءً إِلَى قِلَّةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَاتِهِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ثَبَاتَهُمْ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالَةِ عَدَدِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زِيَادَةَ عَدَدِ الْجَيْشِ تُقَوِّي نُفُوسَ أَهْلِهِ، وَلَوْ مَعَ كَوْنِ نِسْبَةِ عَدَدِهِمْ مِنْ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ قُوَّةً لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تدفع عَنْهُم وَهن اسْتِشْعَارِ قِلَّةِ عَدَدِ جَيْشِهِمْ فِي ذَاتِهِ. أَمَّا اخْتِيَارُ لَفْظِ الْعِشْرِينَ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَشَرَاتِ دُونَ لَفْظِ الْعَشَرَةِ: فَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ لَفْظَ الْعِشْرِينَ أَسْعَدُ بِتَقَابُلِ السَّكَنَاتِ فِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ لِأَنَّ لِلَفْظَةِ مِائَتَيْنِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِسَكَنَاتِ كَلِمَاتِ الْفَوَاصِلِ مِنَ السُّورَةِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْمِائَةَ مَعَ الْأَلْفِ، لِأَنَّ بَعْدَهَا ذِكْرَ مُمَيِّزِ الْعَدَدِ بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ سَكَنَاتِ الْفَاصِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَفْقَهُونَ فَتَعَيَّنَ هَذَا اللَّفْظُ قَضَاءً لِحَقِّ الْفَصَاحَةِ.

فَهَذَا الْخَبَرُ كَفَالَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ الْعَدَدِ مِنْهُمْ عَلَى عَشْرَةِ أَمْثَالِهِ، مِنْ عَدَدِهِمْ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ ثَبَاتِ الْعَدَدِ مِنْهُمْ، لِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَبِذَلِكَ يُفِيدُ إِطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: 45] ، وَإِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: 15] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ حُكْمٌ شَدِيدٌ شَاقٌّ اقْتَضَتْهُ قِلَّةُ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَكَثْرَةُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِمْ، وَقُصَارَى مَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ ثَبَتُوا لِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ زُهَاءَ الْأَلْفِ، ثُمَّ نَزَلَ التَّخْفِيفُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِالْآيَةِ التَّالِيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجه بِنَاء الْخَيْر الْآتِي: وَهُوَ سَلْبُ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. أَيْ بِعَدَمِ فِقْهِهِمْ. وَإِجْرَاءُ نَفْيِ الْفَقَاهَةِ صِفَةً لِ قَوْمٌ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا فَيُقَالُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، لِقَصْدِ إِفَادَةِ أَنَّ عَدَمَ الْفَقَاهَةِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُمْ بِمَا هُمْ قَوْمٌ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ نَفْيَ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ فِي خُصُوصِ هَذَا الشَّأْنِ، وَهُوَ شَأْنُ الْحَرْبِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِكَ: حَدَّثْتُ فُلَانًا حَدِيثًا فَوَجَدْتُهُ لَا يَفْقَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: فَوَجَدْتُهُ رَجُلًا لَا يَفْقَهُ. وَالْفِقْهُ فَهْمُ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ نَفِيُ الْفِقْهِ عَنْهُمْ مِنْ جَانِبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِمْ بَعْدَ إِجْرَاءِ صِلَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْكُفْرَ سَبَبًا فِي انْتِفَاءِ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ: لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ شَأْنِهِ إِنْكَارُ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ فَصَاحِبُهُ يَنْشَأُ عَلَى إِهْمَالِ النَّظَرِ، وَعَلَى تَعْطِيلِ حَرَكَاتِ فِكْرِهِ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ كَثْرَتَهُمْ تُوجِبُ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى الْأَقَلِّينَ لقَولهم: «إِنَّمَا الْغرَّة لِلْكَاثِرِ» ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ الْمَوْتَ فَإِذَا قَاتَلُوا مَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ نَصْرُهُمْ فِيهَا أَرْجَحَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُعَوِّلُونَ عَلَى نَصْرِ اللَّهِ، وَيَثْبُتُونَ لِلْعَدُوِّ رَجَاءَ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَا يَهَابُونَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُسِرَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 66]

وَقَرَأَ الْجُمْهُور إِنْ يَكُنْ- بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ الْأَصْلُ، لِمُرَاعَاةِ تَأْنِيثِ لَفْظِ مِائَةٍ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَيَجُوزُ فِي فِعْلِهِ الِاقْتِرَانُ بِتَاءِ التَّأْنِيث وَعَدَمه، لَا سِيمَا وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَهُ. وَالْفَصْلُ مُسَوِّغٌ لِإِجْرَاءِ الْفِعْلِ عَلَى صِيغَة التَّذْكِير. [66] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 66] الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمُدَّةٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ» . وَلَعَلَّهُ بَعْدَ نُزُولِ جَمِيعِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَلَعَلَّهَا وُضِعَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُفْرَدَةً غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِآيَاتِ سُورَةٍ أُخْرَى، فَجُعِلَ لَهَا هَذَا الْمَوْضِعُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهَا لِتَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْآيَةِ الَّتِي نَسَخَتْ هِيَ حُكْمَهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَيَّنَ زَمَنَ نُزُولِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مَحْضًا لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. والْآنَ اسْمُ ظَرْفٍ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ. قِيلَ: أَصْلُهُ أَوَانٌ بِمَعْنَى زَمَانٍ، وَلَمَّا أُرِيدَ تَعْيِينُهُ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ لَازَمَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ بِمَعْنَى الْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، فَصَارَ مَعَ اللَّامِ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَلَزِمَهُ النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمْ، وَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» الْآيَةَ، فَعَبَّأَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا حُكْمُ وُجُوبٍ نُسِخَ بِالتَّخْفِيفِ الْآتِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ نَدْبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ حُطَّ ذَلِكَ حِينَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ إِلَى ثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قُلْتُ: وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْوِيُّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مُنَافٍ لِهَذَا الْقَوْلِ.

وَالْوَقْتُ الْمُسْتَحْضَرُ بِقَوْلِهِ: الْآنَ هُوَ زَمَنُ نُزُولِهَا. وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ عِنْدَهُ انْتِهَاءَ الْحَاجَةِ إِلَى ثَبَاتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بِحَيْثُ صَارَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِاثْنَيْنِ، لَا أَكْثَرَ، رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبْقَاءً لِعَدَدِهِمْ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ أَنَّ التَّخْفِيفَ الْمُنَاسِبَ لِيُسْرِ هَذَا الدِّينِ رُوعِيَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَمْ يُرَاعَ قَبْلَهُ لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ مُرَاعَاتِهِ فَرُجِّحَ إِصْلَاحُ مَجْمُوعِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. وَقَوْلِهِ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ثَبَاتَ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ وُجُوبًا وَعَزِيمَةً وَلَيْسَ نَدْبًا خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا يَثْقُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَلِأَنَّ إِبْطَالَ مَشْرُوعِيَّةِ الْمَنْدُوبِ لَا يُسَمَّى تَخْفِيفًا، ثُمَّ إِذَا أُبْطِلَ النَّدْبُ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ ثَبَاتُ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مُبَاحًا مَعَ أَنَّهُ تَعْرِيضُ الْأَنْفُسِ لِلتَّهْلُكَةِ. وَجُمْلَةُ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَقَدْ عَلِمَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَالْكَلَامُ كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِأَنَّهَا مَشَقَّةٌ اقْتَضَاهَا اسْتِصْلَاحُ حَالِهِمْ، وَجُمْلَةُ الْحَالِ الْمُفْتَتَحَةُ بِفِعْلِ مُضِيٍّ يَغْلِبُ اقْتِرَانُهَا بِ (قَدْ) . وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَوْقِعَ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً مَوْقِعَ الْعَطْفِ فَنَشَأَ إِشْكَالٌ أَنَّهُ يُوهِمُ حُدُوثَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِضَعْفِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، مَعَ أَنَّ ضَعْفَهُمْ مُتَحَقِّقٌ، وَتَأَوَّلُوا الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِمْ ضَعْفٌ، لَمَّا كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَعَلِمَهُ اللَّهُ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الضَّعْفَ فِي حَالَةِ الْقِلَّةِ أَشَدُّ. وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَنْ يَكُونَ الضَّعْفُ حَدَثَ فِيهِمْ مِنْ تَكَرُّرِ ثَبَاتِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ مِنْهُمْ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ تَكَرُّرَ مُزَاوَلَةِ الْعَمَلِ الشَّاقِّ تُفْضِي إِلَى الضَّجَرِ. وَالضَّعْفُ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ وَالشَّاقَّةِ، وَيَكُونُ فِي عُمُومِ الْجَسَدِ وَفِي بَعْضِهِ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّنْوِيعِ، وَهُوَ ضَعْفُ الرَّهْبَةِ مِنْ لِقَاءِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ فِي قِلَّةٍ، وَجَعْلُهُ مَدْخُولَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ يُومِئُ إِلَى تَمَكُّنِهِ فِي نُفُوسِهِمْ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ فِي التَّكْلِيفِ.

وَيَجُوزُ فِي ضَادِ (ضَعْفٌ) الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، كَالْمُكْثِ وَالْمَكْثِ، وَالْفُقْرِ وَالْفَقْرِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الضَّادِ- وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الضَّادِ-. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ «فِقْهِ اللُّغَةِ» لِلثَّعَالِبِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ فِي وَهَنِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ، وَالضَّمَّ فِي وَهَنِ الْجِسْمِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهَا تَفْرِقَةٌ طَارِئَةٌ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ضُعَفَاءَ- بِضَمِّ الضَّادِ وَبِمَدٍّ فِي آخِرِهِ- جَمْعَ ضَعِيفٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ لِتَفْرِيعِ التَّشْرِيعِ عَلَى التَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تَكُنْ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِالتَّحْتِيَّةِ- لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَعُبِّرَ عَنْ وُجُوبِ ثَبَاتِ الْعَدَدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمِثْلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَفْظَيْ عَدَدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ وَمِثْلَيْهِمَا: لِيَجِيءَ النَّاسِخُ عَلَى وَفْقِ الْمَنْسُوخِ، فَقُوبِلَ ثَبَاتُ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ بِنَسْخِهِ إِلَى ثَبَاتِ مِائَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْمِائَتَيْنِ فَأُبْقِيَ مِقْدَارُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مُوجِبَ التَّخْفِيفِ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، لَا قِلَّةُ الْمُشْرِكِينَ، وَقُوبِلَ ثَبَاتُ عَدَدِ مِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِثَبَاتِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَلْفَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ جَيْشُهُمْ لَا يَتَجَاوَزُ مَرْتَبَةَ الْمِئَاتِ صَارَ جَيْشُهُمْ يُعَدُّ بِالْآلَافِ. وَأُعِيدَ وَصْفُ مِائَةِ الْمُسْلِمِينَ بِ صابِرَةٌ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّنْوِيهَ بِالِاتِّصَافِ بِالثَّبَاتِ. وَلَمْ تُوصَفْ مِائَةُ الْكُفَّارِ بِالْكُفْرِ وَبِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ: لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ، وَلَا مقتضي لإعادته. وبِإِذْنِ اللَّهِ أَمْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَهُ التَّكْلِيفِيَّ، بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ الْخَبَرِ وَالْوَعْدِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 إلى 68]

وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَغْلِبُوا الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذْنُ اللَّهِ حَاصِلٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ الْمَنْسُوخَةِ وَالنَّاسِخَةِ. وَإِنَّمَا صُرِّحَ بِهِ هُنَا، دُونَ مَا سَبَقَ، لِأَنَّ غَلَبَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ أَظْهَرُ فِي الْخَرْقِ لِلْعَادَةِ، فَيُعْلَمُ بَدْءًا أَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَمَّا غَلَبُ الْوَاحِدِ الِاثْنَيْنِ فَقَدْ يُحْسَبُ نَاشِئًا عَنْ قُوَّةِ أَجْسَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ: لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [67، 68] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 67 إِلَى 68] مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ سَوَاءٌ نَزَلَ بِعَقِبِهِ أَمْ تَأَخَّرَ نُزُولُهُ عَنْهُ فَكَانَ مَوْقِعُهُ هُنَا بِسَبَبِ مُوَالَاةِ نُزُولِهِ لِنُزُولِ مَا قبله أَو كَانَ وَضْعَ الْآيَةِ هُنَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ. وَالْمُنَاسَبَةُ ذِكْرُ بَعْضِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَكَانَ أَعْظَمُ جِهَادٍ مَضَى هُوَ جِهَادُ يَوْمِ بَدْرٍ. لَا جَرَمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ قَضِيَّةِ فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ مُشِيرَةً إِلَيْهَا. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا تَشْرِيعٌ مُسْتَقْبَلٌ أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَصَرُوا بِبَدْرٍ وَإِكْرَامًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّصْرِ الْمُبِينِ، وَسَدًّا لَخُلَّتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، فَنَزَلَتْ لِبَيَانِ الْأَمْرِ الْأَجْدَرِ فِيمَا جَرَى فِي شَأْنِ الْأَسْرَى فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَا مُخْتَصَرُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ وَفِيهِمْ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَادِيَهُمْ بِالْمَالِ وَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى حَرْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى» ، قَالَ أَبُو بكر: «يَا نَبِي اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ» وَقَالَ عُمَرُ: أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا فَهَوِيَ

رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الْآيَةَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَحَبَّ وَاخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْيُسْرِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُسْلِمِينَ إِذْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ رَغْبَةَ أَكْثَرِهِمْ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ. وَلَمَّا اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَشُورَتِهِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَأَى أَنْ يَسْتَشِيرَ النَّاسَ ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَ الرَّأْيَيْنِ بِاجْتِهَادٍ، وَقَدْ أَصَابَ الِاجْتِهَادَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، حِينَئِذٍ، سُهَيْلُ بن بَيْضَاءَ، وَأَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ الْعَبَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ إِضْمَارُ بَعْضِهِمْ- بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْمِهِمْ- أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ. وَرُبَّمَا كَانُوا يُضْمِرُونَ اللَّحَاقَ بِفَلِّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ وَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ فَيَنْقَلِبُ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ هَزِيمَةً كَمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلِأَجْلِ هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : رَوَى عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُقَرِّبَ الْأَسَارَى فَيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ أَوْ يَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جِبْرِيلُ يُخَيِّرُكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الْأُسَارَى وَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ أَوْ تَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَقْوَى عَلَى عَدُوِّنَا وَيُقْتَلُ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَفَعَلُوا . وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءَ إِذَا قَاتَلَ فَقِتَالُهُ مُتَمَحِّضٌ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ نَصْرُ الدَّين وَدفع عدائه، وَلَيْسَ قِتَالُهُ لِلْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ فَإِذَا كَانَ أَتْبَاعُ الدِّينِ فِي قِلَّةٍ كَانَ قَتْلُ الْأَسْرَى تَقْلِيلًا لِعَدَدِ أَعْدَاءِ الدِّينِ حَتَّى إِذَا انْتَشَرَ الدِّينُ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ صَلُحَ الْفِدَاءُ لِنَفْعِ أَتْبَاعِهِ بِالْمَالِ، وَانْتِفَاءِ خَشْيَةِ عَوْدِ الْعَدُوِّ إِلَى الْقُوَّةِ. فَهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِ هَذَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ.

وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَشَارُوا بِالْفِدَاءِ، وَلَيْسَ مُوَجَّهًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ إِلَّا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمرَان: 159] لَا سِيمَا عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ بَلَّغَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَيِّرَ أَصْحَابَهُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَإِنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا عَرَضَ الدُّنْيَا هُمُ الَّذِينَ أَشَارُوا بِالْفِدَاءِ، وَلَيْسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ. فَمَعْنَى مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى نَفْيُ اتِّخَاذِ الْأَسْرَى عَن اسْتِحْقَاق نَبِي لِذَلِكَ الْكَوْنِ. وَجِيءَ بِ (نَبِيءٍ) نَكِرَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ سَابِقٌ فِي حُرُوبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ فِي الْإِصْحَاحِ عِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (¬1) . وَمِثْلُ هَذَا النَّفْيِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى النَّهْيِ نَحْوَ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 53] . وَقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ، كَمَا هُنَا، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ تَمْهِيدًا لِلْعِتَابِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ الرَّأْيِ وَالسِّيَاسَةِ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَوْنِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى هُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي الْأَسْرِ، أَيْ بَقَاؤُهُمْ أَرِقَّاءَ أَوْ بَقَاءُ أَعْوَاضِهِمْ وَهُوَ الْفِدَاءُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ النَّبِيءِ أَسْرَى، لِأَنَّ أَخْذَ الأسرى من شؤون الْحَرْبِ، وَهُوَ من شؤون الْغَلَبِ، إِذَا اسْتَسْلَمَ الْمُقَاتِلُونَ، فَلَا يَعْقِلُ أَحَدٌ نَفْيَهُ عَنِ النَّبِيءِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفِيُ أَثَرِهِ، وَإِذَا نُفِيَ أَثَرُ الْأَسْرِ صَدَقَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: وَهُمَا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ، أَوْ قَتْلُهُمْ، وَلَا يَصْلُحُ الْمَنُّ هُنَا، لِأَنَّهُ يُنَافِي الْغَايَةَ وَهِيَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُ الْأَسْرَى الْحَاصِلِينَ فِي يَدِهِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَجْدَرُ بِهِ حِينَ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ، خَضْدًا لِشَوْكَةِ أَهْلِ الْعِنَادِ، وَقَدْ صَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ تَشْرِيعًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ يَأْسِرُهُمْ فِي غَزَوَاتِهِ. ¬

(¬1) فِي الْفَقْرَة 13 مِنْهُ «وَإِذا دَفعهَا (الضَّمِير عَائِد إِلَى مَدِينَة) الرب إلهك إِلَى يدك جَمِيع ذكورها بِالسَّيْفِ.

وَالْإِثْخَانُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ فِي الْأَذَى. يُقَالُ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَأَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى شِدَّةِ الْجِرَاحَةِ عَلَى الْجَرِيحِ. وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ. فَالْمَعْنَى: حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَأَمْرُهُ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ عَلَى هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ فِي الدُّنْيَا. وَحَمَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى مَعْنَى إِثْخَانِ الْجِرَاحَةِ، فَيَكُونُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ حَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمقَاتل الَّذِي يجرج قِرْنَهُ جِرَاحًا قَوِيَّةً تُثْخِنُهُ، أَيْ حَتَّى يُثْخِنَ أَعْدَاءَهُ فَتَصِيرَ لَهُ الْغَلَبَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُعْظَمِ الْمَوَاقِعِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ قَرِينَةَ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَالْكَلَامُ عِتَابٌ لِلَّذِينَ أَشَارُوا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِي قَطْعِ دَابِرِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ فِي هَلَاكِهِمْ خَضْدًا لِشَوْكَةِ قَوْمِهِمْ فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلْمُقْتَضَى السِّيَاسِيِّ الْعَرَضِيِّ عَلَى الْمُقْتَضَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ التَّيْسِيرُ والرفق فِي شؤون الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29] . وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَسْلَكُ السِّيَاسِيُّ خَفِيًّا حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ سَبَقُوا إِلَى الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ لَهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَكُونَ لَهُ- بِتَحْتِيَّةٍ- عَلَى أُسْلُوبِ التَّذْكِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ- عَلَى صِيغَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ أَشَارُوا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مُعَاتَبٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ وَجُمْلَةُ: تُرِيدُونَ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ.

وَ (عَرَضَ الدُّنْيا) هُوَ الْمَالُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرَضًا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ قَلِيلُ اللُّبْثِ، فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الْعَارِضَ إِذِ الْعُرُوضُ مُرُورُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ مُكْثِهِ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِلْمَاشِينَ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ. وَالْمُرَادُ عَرَضُ الدُّنْيَا الْمَحْضُ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِهِ. وَالْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ، أَيْ: تُحِبُّونَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُحِبُّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، أَيْ يُحِبُّ لَكُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَعُلِّقَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ بِذَاتِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَهُوَ حَذْفُ مُضَافٍ لِلْإِيجَازِ، وَمِمَّا يُحَسِّنُهُ أَنَّ الْآخِرَةَ الْمُرَادَةَ لِلْمُؤْمِنِ لَا يُخَالِطُ نَفْعَهَا ضُرٌّ وَلَا مَشَقَّةٌ، بِخِلَافِ نَفْعِ الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الدُّنْيا الْمُضَافُ وَلَمْ يُحْذَفْ: لِأَنَّ فِي ذِكْرِهِ إِشْعَارًا بِعُرُوضِهِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ. وَإِنَّمَا أَحَبَّ اللَّهُ نَفْعَ الْآخِرَةِ: لِأَنَّهُ نَفْعٌ خَالِدٌ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَصَلَاحُ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ أَمَارَاتٍ، هِيَ أَمَارَاتُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَكُلُّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ نَفْعِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا فِيهِ نَفْعٌ مِنَ الْآخِرَةِ فَفِيهِ مَحَبَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْفِدَاءُ الَّذِي أَحَبُّوهُ لَمْ يَكُنْ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ، وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ عِتَابَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ اسْتَشَارَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا هُوَ عِتَابٌ عَلَى نَوَايَا فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْجَيْشِ، حِينَ تَخَيَّرُوا الْفِدَاءَ أَيْ أَنَّهُمْ مَا رَاعَوْا فِيهِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْمَالِ لِنَفْعِ أَنْفُسِهِمْ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّ حَقِيقًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَنْسَوْا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمُ، الِالْتِفَاتَ إِلَى نَفْعِ الدِّينِ وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الِاسْتِشَارَةِ «قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تُقَوِّي بِهَا أَصْحَابَكَ» فَنَظَرَ إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا الْمَلْحَظَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْجَيْشِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تُحِبُّونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لَكُمُ الثَّوَابَ وَقُوَّةَ

الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ هُوَ النَّفْعَ الدُّنْيَوِيَّ لَكَانَ حِفْظُ أَنْفُسِ النَّاسِ مُقَدَّمًا عَلَى إسعافهم بِالْمَالِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ فِي الْجِهَادِ. فَالْمَعْنَى: يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَالُكُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ إِلَّا عَرَضَ الدُّنْيَا، تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي إِيثَارِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ عَطْفًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَثَرًا فِي أَنَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْآخِرَةِ هُوَ الْحَظُّ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ يُرِيدُهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَوَصْفُ الْعَزِيزِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاء على الِاحْتِيَاجِ، وَعَلَى الرِّفْعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مَحَبَّةُ الْأُمُورِ النَّفِيسَةِ، وَهَذَا يُومِئُ إِلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: 8] فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ أَنْ يَرْبَأُوا بِنُفُوسِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِسَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَأَنْ يَجْنَحُوا إِلَى مَعَالِيهَا. وَوَصْفُ الْحَكِيمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعَالِمُ بِالْمَنَافِعِ الْحَقِّ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى أَمْرٌ مَرْهُوبٌ تُخْشَى عَوَاقِبُهُ، فَيَسْتَثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَمَّا يُتَرَقَّبُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ مِنَ الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ، وَقَدْ نُكِّرَ الْكِتَابُ تَنْكِيرَ نَوْعِيَّةٍ وَإِبْهَامٍ، أَيْ: لَوْلَا وُجُودُ سُنَّةِ تَشْرِيعٍ سَبَقَ عَنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ الْكِتَابُ هُوَ عُذْرُ الْمُسْتَشَارِ وَعُذْرُ الْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِهِ إِذَا أَخْطَأَ، فَقَدِ اسْتَشَارَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَأَوْهَا وَأَخَذَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ مُخَالَفَتُهُمْ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَأَنَّهُ نَصَبَ عَلَى حُكْمِهِ أَمَارَةً هِيَ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُؤْجَرُ. وَ «فِي» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْعَذَاب يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 69]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْمَنْفِيُّ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا، أَيْ: لَوْلَا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ فَصَرَفَ بِلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عَذَابًا كَانَ مِنْ شَأْنِ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ أَنْ يُسَبِّبَهُ لَهُمْ وَيُوقِعَهُمْ فِيهِ. وَهَذَا الْعَذَابُ عَذَابٌ دُنْيَوِيٌّ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعٍ سَابِقٍ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنَ الشَّرْعِ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الْفِدَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ خُيِّرُوا فِيهِ لَمَّا اسْتُشِيرُوا، وَهُوَ أَيْضًا عَذَابٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجُرَّهُ عَمَلُهُمْ جَرَّ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَيْسَ عَذَابَ غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى مَعَاصٍ عَظِيمَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَسْرَى الَّذِينَ فَادَوْهُمْ كَانُوا صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ يَحْمِلُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَنَقًا فَكَانَ مِنْ مُعْتَادِ أَمْثَالِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَسْعَوْا فِي قَوْمِهِمْ إِلَى أَخْذِ ثَأْرِ قَتْلَاهُمْ وَاسْتِرْدَادِ أَمْوَالِهِمْ فَلَوْ فَعَلُوا لَكَانَتْ دَائِرَةً عَظِيمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَصَرَفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَحَبَّةِ أَخْذِ الثَّأْرِ، وَأَلْهَاهُمْ بِمَا شَغَلَهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الصَّرْفُ هُوَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَوْدَةِ لِلْفِدَاءِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ تَشْرِيعًا لِلْمُسْتَقْبَلِ كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا. [69] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 69] فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) الْفَاءُ تُؤْذِنُ بِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الْأَنْفَال: 68] إِلَخْ ... أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حِلِّ الْغَنَائِمِ لَكُمْ لَمَسَّكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَإِذْ قَدْ سَبَقَ الْحِلُّ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْفِدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الْأَنْفَال: 67] الْآيَةَ، أَمْسَكُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْفِدَاءِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ سُمِّيَ مَالُ الْفِدَاءِ غَنِيمَةً تَسْمِيَةً بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ هِيَ مَا افْتَكَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ بِالْإِيجَافِ عَلَيْهِمْ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَظْهَرُ لِي أنّ التَّفْرِيع ناشىء عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: فَاكْتَفُوا بِمَا تَغْنَمُونَهُ وَلَا تُفَادُوا الْأَسْرَى إِلَى أَنْ تُثْخِنُوا فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْغَنِيمَةِ هُنَا إِذْ لَا يَنْبَغِي صَرْفُهُ عَنْ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الْأَنْفَال: 68] امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُمْ بَأْسَ الْعَدُوِّ، فَرَّعَ عَلَى الِامْتِنَانِ الْإِذْنَ لَهُمْ بِأَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَالِ الْفِدَاءِ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ، دُونَ نَكَدٍ وَلَا غُصَّةٍ، فَإِنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ ضُرِّ الْعَدُوِّ بِفَضْلِ اللَّهِ. فَتِلْكَ نِعْمَةٌ لَمْ يَشُبْهَا أَذًى. وَعَبَّرَ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْهَنِيءِ بِالْأَكْلِ: لِأَنَّ الْأَكْلَ أَقْوَى كَيْفِيَّاتِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ، فَإِنَّ الْآكِلَ يَنْعَمُ بلذاذة الْمَأْكُول وبدفع أَلَمَ الْجُوعِ عَنْ نَفْسِهِ- وَدَفْعُ الْأَلَمِ لَذَاذَةٌ- وَيُكْسِبُهُ الْأَكْلُ قُوَّةً وَصِحَّةً- وَالصِّحَّةُ مَعَ الْقُوَّةِ لَذَاذَةٌ أَيْضًا-. وَالْأَمر فِي فَكُلُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمِنَّةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ هُنَا: لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمَغَانِمِ مقرّرة من قبله يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِيَكُونَ قَوْلُهُ: حَلالًا حَالًا مُؤَسِّسَةً لَا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. وغَنِمْتُمْ بِمَعْنَى فَادَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِدَاءَ عِوَضٌ عَنِ الْأَسْرَى وَالْأَسْرَى مِنَ الْمَغَانِمِ. وَالطَّيِّبُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، أَيْ حَلَالًا مِنْ خَيْرِ الْحَلَالِ. وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى: لِأَنَّ التَّقْوَى شُكْرُ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ مِنْ دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى شُكْرٌ عَلَى النِّعْمَةِ، فَحَرْفُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَهُوَ مُغْنٍ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.

[سورة الأنفال (8) : آية 70]

وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ إِحْدَى قَضَايَا جَاءَ فِيهَا الْقُرْآنُ مُؤَيِّدًا لِرَأْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بدر» . [70] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 70] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِحَالِ سَرَائِرِ بَعْضِ الْأَسْرَى، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى وَكَانَ ظَهَرَ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ فَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَفَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ: عَقِيلًا وَنَوْفَلًا. وَقَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكْتَنِي أَتَكَفَّفُ قُرَيْشًا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ أَنْ يفارقوهم. فَمَعْنَى لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مَنْ فِي مَلْكَتِكُمْ وَوِثَاقِكُمْ، فَالْأَيْدِي مُسْتَعَارَةٌ لِلْمِلْكِ. وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَالِكِينَ. وَكَانَ الْأَسْرَى مُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا فَادَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا لِقَصْدِ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَحَبَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَإِذَا آمَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِدَاءِ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ. وَلَيْسَ إِيتَاءُ الْخَيْرِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْإِيمَانِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ الْعَبَّاسُ عَنْ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْخَيْرُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الْجَزْمَ بِالْإِيمَانِ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدَّعُوهُ وَلَا عُرِفُوا بِهِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ أَسْرَى بَدْرٍ مُشْرِكِينَ فَفَادَوْا وَرَجَعُوا وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا.

[سورة الأنفال (8) : آية 71]

وَ «مَا أُخِذَ» هُوَ مَالُ الْفِدَاءِ، وَالْخَيْرُ مِنْهُ هُوَ الْأَوْفَرُ مِنَ الْمَالِ بِأَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الثَّرْوَةِ بِالْعَطَاءِ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا. فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مِنْ فَيْءِ الْبَحْرَيْنِ. وَإِنَّمَا حَمَلْنَا الْخَيْرَ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا فِي خَصَائِصِ النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَذَلِكَ هُوَ خَيْرُ الْآخِرَةِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِظَمِ مَغْفِرَتِهِ الَّتِي يَغْفِرُ لَهُمْ، لِأَنَّهَا مَغْفِرَةُ شَدِيدِ الْغُفْرَانِ رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ، فَمِثَالُ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ غَفُورٌ الْمُقْتَضِي قُوَّةَ الْمَغْفِرَةِ وَكَثْرَتَهَا، مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَعِظَمِ الْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَسْرى - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَاءٍ بَعْدَ السِّينِ- مِثْلَ أَسْرَى الْأُولَى، وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الْأُسَارَى- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَأَلِفٍ بَعْدَ السِّين وَرَاءه- فورود هما فِي هَذِهِ الْآيَة تفنّن. [71] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 71] وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) الضَّمِيرُ فِي يُرِيدُوا عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى. وَهَذَا كَلَامٌ خَاطَبَ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْمِئْنَانًا لِنَفْسِهِ، وَلِيُبَلِّغَ مَضْمُونَهُ إِلَى الْأَسْرَى، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ لِلْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَفَادَهَا قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الْأَنْفَال: 69] ، فَكل ذَلِكَ الْإِذْنُ وَالتَّطْيِيبُ بِالتَّهْنِئَةِ وَالطَّمْأَنَةِ بِأَنْ ضُمِنَ لَهُمْ، إِنْ خَانَهُمُ الْأَسْرَى بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَنَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَعَادُوا إِلَى الْقِتَالِ، بِأَنَّ اللَّهَ يُمَكِّنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا أَمْكَنَهُمْ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، أَيْ: أَنْ يَنْوُوا مِنَ الْعَهْدِ بِعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْغَزْوِ خِيَانَتَكَ، وَإِنَّمَا وَعَدُوا بِذَلِكَ لِيَنْجُوا مِنَ الْقَتْلِ وَالرِّقِّ، فَلَا يَضُرُّكُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ ثَانِيَ مَرَّةٍ. وَالْخِيَانَةُ نَقْضُ الْعَهْدِ وَمَا فِي مَعْنَى الْعَهْدِ كَالْأَمَانَةِ.

فَالْعَهْدُ، الَّذِي أَعْطَوْهُ، هُوَ الْعَهْدُ بِأَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ إِذَا أَطْلَقُوهُمْ فَمِنَ الْأَسْرَى مَنْ يَخُونُ الْعَهْدَ وَيَرْجِعُ إِلَى قِتَالِ مَنْ أَطْلَقُوهُ. وَخِيَانَتُهُمَ اللَّهَ، الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الشِّرْكُ فَإِنَّهُ خِيَانَةٌ لِلْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فِيمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: 172] الْآيَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ فِي الْفِطْرَةِ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَهِيَ تَشْعُرُ بِهِ، وَلَكِنَّهَا تُغَالِبُهَا ضَلَالَاتُ الْعَادَاتِ وَاتِّبَاعُ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَهْدُ الْمُجْمَلُ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الْأَعْرَاف: 189، 190] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ مَا نَكَثُوا مِنَ الْتِزَامِهِمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقِهِ إِذَا جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ، فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَابَرُوا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ. وَتَقْدِيرُهُ: فَلَا تَضُرُّكَ خِيَانَتُهُمْ، أَوْ لَا تَهْتَمَّ بِهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا أَعَادَهُمُ اللَّهُ إِلَى يَدِكَ كَمَا أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلُ. قَوْلُهُ: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ سَكَتَ مُعْظَمُ التَّفَاسِيرِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ عَنْ تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَبَيَانِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَلَمَّ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلْمَامًا خَفِيفًا بِأَنْ فسروا (أمكن) بأقدر، فَهَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ مِنَ الْإِمْكَانِ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ أَوْ مِنَ الْمَكَانَةِ بِمَعْنَى الظَّفَرِ. وَوَقَعَ فِي «الْأَسَاسِ» «أَمْكَنَنِي الْأَمْرُ مَعْنَاهُ أَمْكَنَنِي مِنْ نَفْسِهِ» وَفِي «الْمِصْبَاحِ» «مَكَّنْتُهُ مِنَ الشَّيْءِ تَمْكِينًا وَأَمْكَنْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةً» . وَالَّذِي أَفْهَمُهُ مِنْ تَصَارِيفِ كَلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلْجَعْلِ، وَأَنَّ مَعْنَى أَمْكَنَهُ مِنْ كَذَا جَعَلَ لَهُ مِنْهُ مَكَانًا أَيْ مَقَرًّا، وَأَنَّ الْمَكَانَ مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ كَمَا يَكُونُ الْمَكَانُ مَجَالًا لِلْكَائِنِ فِيهِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 72]

وَ «مِنْ» الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ أَمْكَنَ اتِّصَالِيَّةٌ مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَيْ أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، أَيْ لَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَتَاكُمْ بِهِمْ إِلَى بَدْرٍ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْكُمْ فَسَلَّطَكُمْ عَلَيْهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ حَكِيمٌ فِي مُعَامَلَتِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يعلم مِنْهُم. [72] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 72] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) هَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْإِعْلَامِ بِأَحْكَامِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، نَشَأَ عَنْ قَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْأَسْرَى غَيْرَهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانُوا صَادِقِينَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِمْ وَظَنُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ بِحُكْمِ مَنْ آمَنَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْبَقَاءِ بِدَارِ الشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «مَقْصِدُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا تَبْيِينُ مَنَازِلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا وَالْكُفَّارِ، وَالْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَذِكْرُ نِسَبِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ» . وَتَعَرَّضَتِ الْآيَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَابْتَدَأَتْ بِبَيَانِ فَرِيقَيْنِ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُهُمْ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ فَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ فَرِيقَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ

الَّذِينَ امْتَازُوا بِتَأْيِيدِ الدِّينِ. فَالْمُهَاجِرُونَ امْتَازُوا بِالسَّبْقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَكَبَّدُوا مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ. وَالْأَنْصَارُ امْتَازُوا بِإِيوَائِهِمْ، وَبِمَجْمُوعِ الْعَمَلَيْنِ حَصَلَ إِظْهَارُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَقَدِ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي أَنَّهُمْ آمَنُوا وَأَنَّهُمْ جَاهَدُوا، وَاخْتُصَّ الْمُهَاجِرُونَ بِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا وَاخْتُصَّ الْأَنْصَارُ بِأَنَّهُمْ آوَوْا وَنَصَرُوا، وَكَانَ فَضْلُ الْمُهَاجِرِينَ أَقْوَى لِأَنَّهُمْ فَضَّلُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَطَنِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَبَادَرَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ، فَكَانُوا قُدْوَةً وَمِثَالًا صَالِحًا لِلنَّاسِ. وَالْمُهَاجَرَةُ هَجْرُ الْبِلَادِ، أَيِ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَتَرْكُهَا، قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ: إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجَرَةً ... بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ وَأَصْلُ الْهِجْرَةِ التَّرْكُ وَاشْتُقَّ مِنْهُ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ لِخُصُوصِ تَرْكِ الدَّارِ وَالْقَوْمِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَهُمْ كَانَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ قَوْمَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ قَوْمُهُمْ إِذْ لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ قَوْمَهُ إِلَّا لِسُوءِ مُعَاشَرَةٍ تَنْشَأُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَقَدْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ أَشْهَرِ أَحْوَالِ الْمُخَالِفِينَ لِقَوْمِهِمْ فِي الدِّينِ، فَقَدْ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] . وَهَاجَرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: 26] ، وَهَاجَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْمِهِ، وَهَاجَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ بِإِذْنِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ يَثْرِبَ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْمَدِينَةِ غَلَبَ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الْمُهَاجِرِينَ وَأَصْبَحَتِ الْهِجْرَةُ صِفَةَ مَدْحٍ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ التَّفْضِيلِ: «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ» وَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «وَيْحَكَ إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ- وَقَالَ- لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَالْإِيوَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [26] . وَالنَّصْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [123] . وَالْمُرَادُ بِالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَنَصَرُوا النَّصْرُ الْحَاصِلُ قَبْلَ الْجِهَادِ وَهُوَ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ يَحْمُونَهُمْ بِمَا يَحْمُونَ بِهِ أَهْلَهُمْ، وَلِذَلِكَ غَلَبَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَصْفُ الْأَنْصَارِ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لِإِفَادَةِ الاهتمام بتمييزهم للإخبار عَنْهُمْ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الْفِرَقِ الْأُخْرَى. وَلَمَّا أَطْلَقَ اللَّهُ الْوَلَايَةَ بَيْنَهُمُ احْتَمَلَ حَمْلَهَا عَلَى أَقْصَى مَعَانِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَوْرِدُهَا فِي خُصُوصِ وَلَايَةِ النَّصْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَوُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ جُعِلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، حَتَّى أَنْزَلَ الله قَوْله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 75] أَيْ فِي الْمِيرَاثِ فَنَسَخَتْهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. فَحَمَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمِيرَاثَ، فَقَالَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ لَا يَرِثُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرِ الَّذِي آمَنَ وَهَاجَرَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِك بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الْأَنْفَال: 75] . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْوَلَايَةُ هِيَ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمُؤَازَرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ دُونَ الْمِيرَاثِ اعْتِدَادًا بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا تَشْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ- أَيْ وَلَوْ كَانَ عَاصِبًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ تَقْسِيمِ الْفِرَقِ فَعُطِفَ كَمَا عُطِفَتِ الْجُمَلُ بَعْدَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جُعِلَ تَكْمِلَةً لِحُكْمِ الْفِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ فَصَارَ لَهُ اعْتِبَارَانِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، آيَةً وَاحِدَةً نِهَايَتُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. فَإِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ أَيِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ يُقَابِلُهُ وَصْفُ الشِّرْكِ، وَأَنَّ وَصْفَ الْهِجْرَةِ يُقَابِلُهُ وَصْفُ الْمُكْثِ بِدَارِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَوَّلَ الْآيَةِ مَا لِأَصْحَابِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، مِنَ الْفَضْلِ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَلَايَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِي يُقَابِلُ أَصْحَابَ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ، فَبَيَّنَتْ حُكْمَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَأَثْبَتَتْ لَهُمْ وَصْفَ الْإِيمَانِ، وَأَمَرَتِ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بالتبري مِنْ وَلَايَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا،

فَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ حُكْمُ التَّوَارُثِ وَلَا النَّصْرِ إِلَّا إِذَا طَلَبُوا النَّصْرَ عَلَى قَوْمٍ فَتَنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ. وَفِي نَفْيِ وَلَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَهُمْ، مَعَ السُّكُوتِ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُعْتَبَرُونَ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِمُقَاطَعَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُمْ على الْهِجْرَة. و «الْولَايَة» - بِفَتْحِ الْوَاوِ- فِي الْمَشْهُورِ وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَصْدَرِ تَوَلَّاهُ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْفَتْحُ أَجْوَدُ هُنَا، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِكَسْرِ الْوَاوِ فِي السُّلْطَانِ يَعْنِي فِي وِلَايَاتِ الْحُكْمِ وَالْإِمَارَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ يَجُوزُ فِيهَا الْكَسْرُ، لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ كَالْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ، وَتَبِعَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَأَرَادَ إِبْطَالَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ هُنَا أَجْوَدُ. وَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بَاطِلٌ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ وَجْهَانِ مُتَسَاوِيَانِ مِثْلَ الدَّلَالَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا. وَالظَّرْفِيَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا (فِي) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، تَؤُولُ إِلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: طَلَبُوا أَنْ تَنْصُرُوهُمْ لِأَجْلِ الدِّينِ، أَيْ لِرَدِّ الْفِتْنَةِ عَنْهُمْ فِي دينهم إِذْ حَاوَلَ الْمُشْرِكُونَ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى دِينِ الشِّرْكِ وَجَبَ نَصْرُهُمْ لِأَنَّ نَصْرَهُمْ لِلدِّينِ لَيْسَ مِنَ الْوَلَايَةِ لَهُمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْوَلَايَةِ لِلدِّينِ وَنَصْرِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ اسْتَنْصَرَهُمُ النَّاسُ أَمْ لَمْ يَسْتَنْصِرُوهُمْ إِذَا تَوَفَّرَ دَاعِي الْقِتَالِ، فَجَعَلَ اللَّهُ اسْتِنْصَارَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ جُمْلَةِ دواعي الْجِهَاد. وفَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ، أَيْ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ، وَقُدِّمَ الْخَبَر وَهُوَ فَعَلَيْكُمُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وأل فِي النَّصْرُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ لِأَنَّ اسْتَنْصَرُوكُمْ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ نَصْرٍ وَالْمَعْنَى: فَعَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُتَعَلِّقِ النَّصْرِ وَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِمْ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيثَاقَ يَقْتَضِي عَدَمَ قِتَالِهِمْ إِلَّا إِذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ مَعَ

[سورة الأنفال (8) : آية 73]

الْمُسْلِمِينَ، وَعَهْدُهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَيِّزِينَ بِجَمَاعَةٍ وَوَطَنٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ فَلَا يَتَحَمَّلُ الْمُسْلِمُونَ تَبِعَاتِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِيمَا جَرُّوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَدَاوَاتٍ وَإِحَنٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا يَنْشَأُ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْمُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ فِي دَارِ الْكُفْرِ لَا يُعَدُّ نَكْثًا مِنَ الْكُفَّارِ لِعَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مِنْ عُذْرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ حِينَ عَاهَدْنَاكُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْكُمْ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمُعَاشَرَةٍ، وَهَؤُلَاءِ ظَاهِرُ حَالِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُسَاكِنُونَهُمْ وَيُعَامِلُونَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَحْمِلَهُمُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. وَفِي هَذَا التَّحْذِيرِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وأنّه لَا ينفضه إِلَّا أَمْرٌ صَرِيحٌ فِي مُخَالفَته. [73] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 73] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا [الْأَنْفَال: 72] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَدْلُولِهِ الْكِنَائِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَوْلِيَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَيْسَ صَرِيحَةً مِمَّا يُهِمُّ الْمُسْلِمِينَ لَوْلَا أَنَّ الْقَصْدَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أَيْ: إِنْ لَا تَفْعَلُوا قَطْعَ الْوَلَايَةِ مَعَهُمْ، فَضَمِيرُ تَفْعَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورَ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَكْلِيفَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُنْفِذُوا وَلَايَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لَوْلَا أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ ذَلِكَ وَهُوَ عَدَمُ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ.

وَالْفِتْنَةُ اخْتِلَالُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الْبَقَرَة: 102]- وَقَوْلِهِ- وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْفِتْنَةُ تَحْصُلُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوَاصِرُ قَرَابَةٍ وَوَلَاءٌ وَمَوَدَّةٌ وَمُصَاهَرَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، وَقَدْ كَانَ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مُثِيرًا لِحَنَقِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْقَطِعِ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ يُخْشَى عَلَى ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَجْذِبَهُمْ تِلْكَ الْأَوَاصِرُ وَتَفْتِنَهُمْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَعِزَّتُهُمْ، وَيَقْذِفَ بِهَا الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَيَحِنُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَعُودُوا إِلَى الْكُفْرِ. فَكَانَ إِيجَابُ مُقَاطَعَتِهِمْ لِقَصْدِ قَطْعِ نُفُوسِهِمْ عَنْ تَذَكُّرِ تِلْكَ الصِّلَاتِ، وَإِنْسَائِهِمْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا حَالَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَشْتَغِلُوا إِلَّا بِمَا يُقَوِّيهَا، وَلِيَكُونُوا فِي مُزَاوَلَتِهِمْ أُمُورَ الْإِسْلَامِ عَنْ تَفَرُّغِ بَالٍ مِنْ تَحَسُّرٍ أَوْ تَعَطُّفٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْوَسَائِلَ قَدْ يَسْرِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَتُفْضِي وَسَائِلُ الرَّأْفَةِ وَالْقَرَابَةِ إِلَى وَسَائِلِ الْمُوَافَقَةِ فِي الرَّأْيِ، فَلِذَا كَانَ هَذَا حَسْمًا لِوَسَائِلِ الْفِتْنَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ أَرض الْمُسلمين. و «الْفساد» ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَة الْبَقَرَة [30] . و «الْكَبِير» حَقِيقَتُهُ الْعَظِيمُ الْجِسْمِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ الْقَوِيِّ مِنْ نَوْعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: 5] . وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هُنَا: ضِدُّ صَلَاحِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَظْهَرُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لَمْ تَظْهَرْ شَوْكَتُهُمْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ مِنْ جَرَّاءِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ مُوَاصَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَيَرْمِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَفَرُّقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِيجَادُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَمَالُهَا بِالْتِفَافِ أَهْلِهَا الْتِفَافًا وَاحِدًا، وَتَجَنُّبِ مَا يُضَادُّهَا، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ ضَعُفَ شَأْنُ جَامِعَتِهِمْ فِي الْمَرْأَى وَفِي الْقُوَّةِ. وَذَلِكَ فَسَاد كَبِير.

[سورة الأنفال (8) : آية 74]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 74] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْأَنْفَال: 73] ، وَجُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا [الْأَنْفَال: 75] الْآيَةُ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَبَيَانِ جَزَائِهِمْ وَثَوَابِهِمْ، بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْأَنْفَال: 72] فَلَيْسَتْ هَذِهِ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، وَإِنْ تَشَابَهَتْ أَلْفَاظُهَا: فَالْأُولَى لِبَيَانِ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهَذِهِ وَارِدَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالشَّهَادَةِ لَهُمْ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ مَعَ وَعْدِهِمْ بِالْجَزَاءِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِأَجْلِهِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْأَنْفَال: 72] كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ صِيغَةُ قَصْرٍ، أَيْ قَصْرِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرُوا، وَالْقَصْرُ هُنَا مُقَيَّدٌ بِالْحَالِ فِي قَوْلِهِ: حَقًّا. فَقَوْلُهُ: حَقًّا حَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَصْدَرٌ جُعِلَ مِنْ صِفَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ حَاقُّونَ، أَيْ مُحَقِّقُونَ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنْ عَضَّدُوهُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَلَيْسَ الْحَقُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْبَاطِلِ، حَتَّى يَكُونَ إِيمَانُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرُوا بَاطِلًا، لِأَنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: 72] مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ قَدْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَنَفَى عَنْهُمُ اسْتِحْقَاقَ وَلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّفْعَ بِهِ ضُرٌّ وَلَا نَكَدٌ، فَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَا كَدَرَ فِيهِ. [75] [سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 75] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. بَعْدَ أَنْ مَنَعَ اللَّهُ وَلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّذِينَ آمنُوا وَلم يهجروا بِالصَّرَاحَةِ، ابْتِدَاءً وَنَفَى عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا تَحْقِيقَ الْإِيمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا

هَلْ لِأُولَئِكَ تَمَكُّنٌ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ بِرَأْبِ هَذِهِ الثُّلْمَةِ عَنْهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ بَابَ التَّدَارُكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنِ الْفَصْلِ إِلَى الْعَطْفِ تَغْلِيبًا لِمَقَامِ التَّقْسِيمِ الَّذِي اسْتَوْعَبَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ لِتَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَاءَ كَالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا إِلَخْ، أَيْ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَمِنْ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، فَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَبِذَلِكَ صَارَ فِعْلُ آمَنُوا تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ هاجَرُوا وَجاهَدُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِذَا حَصَلَ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، لِيَكُونَ أَصْحَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ قِسْمًا مُغَايِرًا لِلْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ. فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ آمَنُوا مِنْ بَعْدِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ يُؤْمِنُونَ مِنْ بَعْدُ لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ بِأَنْ هَاجَرُوا قُبِلُوا وَصَارُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ بِنَاءُ بَعْدُ عَلَى الضَّمِّ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: مِنْ بَعْدِ مَا قُلْنَاهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِلَّا صَارَ هَذَا الْكَلَامُ إِعَادَةً لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِذَلِكَ تَسْقُطُ الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْدِيرِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (بَعْدُ) . وَفِي قَوْلِهِ: مَعَكُمْ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ دُونَ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَقِرُّوا بِدَارِ الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الْجِهَادِ مُدَّةً. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا، دُونَ الضَّمِيرِ، لِلِاعْتِنَاءِ بِالْخَبَرِ وَتَمْيِيزِهِمْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ. وَ «مِنْ» فِي قَوْله: مِنْكُمْ تبعضية، وَيُعْتَبَرُ الضَّمِير الْمَجْرُور بِمن، جَمَاعَةُ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ فَقَدْ صَارُوا مِنْكُمْ، أَيْ مِنْ جَمَاعَتِكُمْ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ وَلَايَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أَيْ مِثْلُكُمْ فِي النَّصْرِ وَالْمُوَالَاةِ، قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ «يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، أَيِ اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ فِي أَنَّ الْمُهَاجِرَ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ وَالْعَكْسِ، وَهُوَ قَوْلُ فِرْقَةٍ. وَقَالُوا: إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فَلَا يَقْتَضِي اتِّحَادًا بَيْنَ الْمَعْطُوفَةِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِثْرِ التَّقَاسِيمِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ لَهَا حَظًّا فِي إِتْمَامِ التَّقْسِيمِ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً. فَيَظْهَرُ أَنَّ التَّقَاسِيمَ السَّابِقَةَ لَمَّا أَثْبَتَتْ وَلَايَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَفَتْ وَلَايَةً مِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا حَتَّى يُهَاجِرُوا، ثُمَّ عَادَتْ عَلَى الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تَقَاعُسِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ بِالْبَقَاءِ فِي دَارِ الْكُفْرِ مُدَّةً، فَبَيَّنَتْ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ وَهَاجَرُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي وَلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَشْغَلُ السَّامِعِينَ عَنْ وَلَايَةِ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُذَكِّرُ بِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَرْحَامِ قَائِمَةٌ وَأَنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِغَيْرِهَا مِنَ الْوَلَايَةِ فَمَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ الشُّرُوطِ، وَشَأْنُ الصِّفَاتِ وَالْغَايَاتِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَاتُ قَبْلَهَا مِنَ الْوَلَايَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَلْ مُقَيِّدَةً الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِيهَا. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْأَرْحامِ جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مَقَرُّ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبْقَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي اللُّغَةِ، فَجَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ ذَوِي الْقَرَابَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأُمُومَةِ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْحَامِ الْعَصَابَاتِ دُونَ الْمَوْلُودِينَ بِالرَّحِمِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ لَفْظَ الرَّحِمِ يُرَادُ بِهِ الْعَصَابَةُ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ «وَصَلَتْكَ رَحِمٌ» ، وَكَقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ: ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُمَزَّقُ

حَيْثُ عَبَّرَتْ عَنْ نَوْشِ بَنِي أَبِيهِ بِتَمْزِيقِ أَرْحَامٍ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْلى هُوَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَنَّ الْوَلَايَةَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا تُعْتَبَرُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَحَلِّ الْولَايَة الشَّرْعِيَّة فأولوا الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِالْوَلَايَةِ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُمْ وَلَايَةٌ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا فِي وَلَايَةِ النَّصْرِ فِي الدَّين إِذا لَمْ يَقُمْ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ تَرْكِ هِجْرَةٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ وَلَايَةَ الْإِيمَانِ، وَأُولُو الْأَرْحَامِ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ وَلَايَةَ النَّسَبِ، وَلِوَلَايَةِ الْإِسْلَامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِوَلَايَةِ الْأَرْحَامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ أَيْضًا، بِحَيْثُ لَا تُزَاحِمُ إِحْدَى الْوَلَايَتَيْنِ الْأُخْرَى، وَالِاعْتِنَاءُ بِهَذَا الْبَيَانِ مُؤذن بِمَا لَو شائج الْأَرْحَامِ مِنَ الِاعْتِبَارِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ، فَلِذَلِكَ عُلِّقَتْ أَوْلَوِيَّةُ الْأَرْحَامِ بِأَنَّهَا كَائِنَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ. وَكِتَابُ اللَّهِ قَضَاؤُهُ وَشَرْعُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، إِمَّا بَاقٍ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَكْتُوبَةٌ كَقَوْلِ الرَّاعِي: كَانَ كِتَابُهَا مَفْعُولَا (¬1) وَجَعْلُ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ كَائِنَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَن عدم تَعْبِيره، الأنّهم كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَوْكِيدَ عَهْدٍ كَتَبُوهُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ والتّطاخي وَهل ين ... قض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ فَتَقْيِيدُ أَوْلَوِيَّةِ أُولِي الْأَرْحَامِ بِأَنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِطْرِيٌّ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَثْبَتَهُ بِمَا وَضَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ» الْحَدِيثَ. فَلَمَّا كَانَتْ وَلَايَةُ الْأَرْحَامِ أَمْرًا مُقَرَّرًا فِي الْفِطْرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ وَلَايَةُ الدِّينِ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ وَلَايَةَ الدِّينِ لَا تُبْطِلُ وَلَايَةَ الرَّحِمِ إِلَّا إِذَا تَعَارَضَتَا، لِأَنَّ أَوَاصِرَ الْعَقِيدَةِ وَالرَّأْيِ أَقْوَى مِنْ أَوَاصِرِ الْجَسَدِ، فَلَا يُغَيِّرُهُ مَا وَرَدَ هُنَا مِنْ أَحْكَامِ وَلَايَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْأَصْلِيِّ لِوَلَايَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَانُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى أَهْلِ الْوَلَايَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْوَلَايَةُ، وَيَنْتَفِي التَّفْضِيلُ بِانْتِفَاءِ أَصْلِهَا، فَلَا وَلَايَةَ لِأُولِي الْأَرْحَامِ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. ¬

(¬1) أول الْبَيْت. حَتَّى إِذا قرت عجاجة فتْنَة ... عمياء كَانَ كتابها مَفْعُولا

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ وَلَايَةَ الْأَرْحَامِ هُنَا هَلْ تَشْمَلُ وَلَايَةَ الْمِيرَاثِ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ أَيْ فَهِيَ وَلَايَةُ النَّصْرِ وَحُسْنُ الصُّحْبَة، أَي فنقصر عَلَى مَوْرِدِهَا وَلَمْ يَرَهَا مُسَاوِيَةً لِلْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ إِذْ لَيْسَتْ صِيغَتُهَا صِيغَةَ عُمُومٍ، لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ قَوْلُهُ: أَوْلى بِبَعْضٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ تَشْمَلُ وَلَايَةَ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْوَلَايَةُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَبَطَلَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ غُمُوضًا جَعَلَهَا مَرَامِيَ لِمُخْتَلَفِ الْأَفْهَامِ وَالْأَقْوَالِ. وَأَيًّا مَا كَانَتْ فَقَدْ جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا أَغْنَى عَنْ زِيَادَةِ الْبَسْطِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ هُوَ مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ لِتَقْرِيرِ أَوْلَوِيَّةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِيمَا فِيهِ اعْتِدَادٌ بِالْوَلَايَةِ، أَيْ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْوَلَايَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لِآصِرَةِ الرَّحِمِ حَقًّا فِي الْوَلَايَةِ هُوَ ثَابِتٌ مَا لَمْ يُمَانِعْهُ مَانِعٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَهَذَا الْحُكْمُ مِمَّا عَلِمَ، اللَّهُ أَنَّ إِثْبَاتَهُ رِفْقٌ ورأفة بالأمّة.

9- سورة التوبة

بِسم الله الرّحمن الرّحيم 9- سُورَةُ التَّوْبَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ، وَفِي كَلَامِ السَّلَفِ: سُورَةُ بَرَاءَةٌ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قِصَّةِ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أهل منى بِبَرَاءَة» . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، وَعَن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ» ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» . وَهِيَ تَسْمِيَةٌ لَهَا بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ مِنْهَا. وَتُسَمَّى «سُورَةُ التَّوْبَةِ» فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ فِي مَصَاحِفَ كَثِيرَةٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «سُورَةُ التَّوْبَةِ هِيَ الْفَاضِحَةُ» ، وَتَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» بِاسْمِ التَّوْبَةِ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ: أَنَّهَا وَرَدَتْ فِيهَا تَوْبَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ حَدَثٌ عَظِيمٌ. وَوَقَعَ هَذَانِ الِاسْمَانِ مَعًا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، فِي بَابِ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قَالَ زَيْدٌ «فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، حَتَّى خَاتِمَة سُورَة الْبَرَاءَة [128] . وَهَذَانِ الِاسْمَانِ هُمَا الْمَوْجُودَانِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا. وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَسْمَاءٌ أُخَرُ، وَقَعَتْ فِي كَلَامِ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَدْعُوهَا (أَيْ سُورَةَ بَرَاءَةٌ) «الْمُقَشْقِشَةَ» (بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ قَشْقَشَهُ إِذَا أَبْرَاهُ مِنَ الْمَرَضِ) ، كَانَ هَذَا لَقَبًا لَهَا وَلِسُورَةِ «الْكَافِرُونَ» لِأَنَّهُمَا تُخَلِّصَانِ مَنْ آمَنَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ النِّفَاقِ وَالشِّرْكِ، لِمَا فِيهِمَا مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَلِمَا فِيهِمَا مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدْعُوهَا «الْفَاضِحَةَ» : قَالَ مَا زَالَ يَنْزِلُ فِيهَا «وَمِنْهُمْ- وَمِنْهُمْ» حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا. وَأَحْسَبُ أَنَّ مَا تَحْكِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ يَعْرِفُ بِهِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُ فَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَة: 49] فَقَدْ قَالَهَا بَعْضُهُمْ وَسُمِعَتْ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيءَ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التَّوْبَة: 61] فَهَؤُلَاءِ نُقِلَتْ مَقَالَتُهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ [التَّوْبَة: 42] . وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ سَمَّاهَا «سُورَةَ الْعَذَابِ» لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَذَابِ الْكُفَّارِ، أَيْ عَذَابِ الْقَتْلِ، وَالْأَخْذِ حِينَ يُثْقَفُونَ. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمَّاهَا «الْمُنَقِّرَةَ» (بِكَسْرِ الْقَافِ مُشَدَّدَةٍ) لِأَنَّهَا نَقَّرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ (لَعَلَّهُ يَعْنِي مِنْ نَوَايَا الْغَدْرِ بِالْمُسْلِمِينَ والتمالي على نقص الْعَهْدِ، وَهُوَ مِنْ نَقَرَ الطَّائِرُ إِذَا أَنْفَى بِمِنْقَارِهِ مَوْضِعًا مِنَ الْحَصَى وَنَحْوِهِ لِيَبِيضَ فِيهِ) . وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ: تَسْمِيَتُهَا «الْبَحُوثَ» - بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ بِوَزْنِ فَعُولٍ- بِمَعْنَى الْبَاحِثَةِ، وَهُوَ مِثْلُ تَسْمِيَتِهَا «الْمُنَقِّرَةَ» . وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ دَعَاهَا «الْحَافِرَةَ» كَأَنَّهَا حَفَرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَتْهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُثِيرَةَ» لِأَنَّهَا أَثَارَتْ عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَظْهَرَتْهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمَّاهَا «الْمُبَعْثِرَةَ» لِأَنَّهَا بَعْثَرَتْ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ أَخْرَجَتْهَا مِنْ مَكَانِهَا. وَفِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُخْزِيَةَ» - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الزَّايِ- وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [التَّوْبَة: 2] . وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُنَكِّلَةَ» ، أَيْ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ. وَفِيهِ أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُشَدِّدَةَ» .

وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُدَمْدِمَةَ» - بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ دَمْدَمَ إِذَا أَهْلَكَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: مَا كَانَ لِلنَّبِيءِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التَّوْبَة: 113] الْآيَةَ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ «يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . فَكَانَ آخِرَ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنه عَنْكَ» . وَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ فَنَزَلَتْ مَا كَانَ لِلنَّبِيءِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 113] . وَشَذَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا مَكِّيَّتَانِ، وَهُمَا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: 128] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَة: 19] الْآيَةَ. نَزَلَ فِي الْعَبَّاسِ إِذْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَيَّرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقَالَ: نَحْنُ نَحْجُبُ الْكَعْبَةَ إِلَخْ. وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ نُزُولًا عِنْدَ الْجَمِيعِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَتْحِ، فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، فَهِيَ السُّورَة الرَّابِعَة عشرَة بَعْدَ الْمِائَةِ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ آخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، بَعْدَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: قُبَيْلَ خُرُوجِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَتَكُونُ مِثْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَيْنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ. وَفَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضَ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوْزَاعًا فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ: أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا ابْتِدَاءُ نُزُولِ سُورَةٍ أُخْرَى. وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 13] نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَرِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

لِيُؤَذِّنَ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ. وَهَذَا مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ثَلَاثِينَ آيَةً مِنْهَا، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التَّوْبَة: 30] أُذِّنَ بِهَا يَوْمَ الْمَوْسِمِ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ آيَةً: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: 40] أُذِّنَ بِهِ فِي الْمَوْسِمِ، كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا يُغَلِّبُ الظَّنَّ بِأَنَّ أَرْبَعِينَ آيَةً نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، عَلَى أَنَّ نُزُولَ جَمِيعِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الصِّحَّةِ. وَعَدَدُ آيِهَا، فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ: مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً. اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، عَقَدَ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ عَامِهِ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ (عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ مُخَالَطَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَجِّ مَعَهُ، وَسَمَاعَ تَلْبِيَتِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ، أَيْ قَوْلِهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» .- وَطَوَافُهُمْ عُرَاةً، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ لَمْ يَزَلْ عَامِلًا لَمْ يُنْقَضْ- وَالْمَعْنَى أَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ يَرْبَأُ عَنْ أَنْ يَسْمَعَ مُنْكَرًا مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يُغَيِّرُهُ بِيَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى الْإِيمَانِ- فَأَمْسَكَ عَنِ الْحَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرًا عَنْ وَحْيٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التَّوْبَة: 17، 18]- وَقَوْلِهِ- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَة: 28] الْآيَةَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ بِسَبَبِ دَمٍ كَانَ لِبَنِي بَكْرٍ عِنْدَ خُزَاعَةَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِمُدَّةٍ. وَاقْتَتَلُوا فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ. وَاسْتَصْرَخَتْ خُزَاعَةُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ

مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى الْحَجِّ وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ صَدْرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ (¬1) . ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ. وَقَدْ يَقَعُ خَلْطٌ فِي الْأَخْبَارِ بَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَحُجَّ بِالْمُسْلِمِينَ عِوَضًا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ اشْتَبَهَ بِهِ الْغَرَضَانِ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يتلبّس وعَلى بِمن لُبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَأَرَدْنَا إِيقَاظَ الْبَصَائِرِ لِذَلِكَ. فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِهَا، وَذِكْرُهُ أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا. فَافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَحْدِيدِ مُدَّةِ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ حَالَةِ حَرْبٍ وَأَمْنٍ وَفِي خِلَالِ مُدَّةِ الْحَرْبِ مُدَّةُ تَمْكِينِهِمْ مِنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الدِّينِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَأُتْبِعَ بِأَحْكَامِ الْوَفَاءِ وَالنَّكْثِ وَمُوَالَاتِهِمْ. وَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحُضُورِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَإِبْطَالِ مَنَاصِبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا. وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ. وَإِعْلَانِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بَعِيدًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ لَا تَنْفَعُهُمْ قُوَّتُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ. وَحُرْمَة الْأَشْهر الْحرم. وَضَبْطِ السَّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِبْطَالِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِجَابَةِ إِلَى النَّفِيرِ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ الله، وَنصر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ نَبِيِّهِ وَنَاصِرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِنَصْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَبِنَصْرِهِ إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا هَيَّأَ لَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. ¬

(¬1) من أول السُّورَة حَتَّى قَوْله: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: 40] .

وَالْإِشَارَةِ إِلَى التَّجْهِيزِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ. وَذَمِّ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَثَاقِلِينَ وَالْمُعْتَذِرِينَ وَالْمُسْتَأْذِنِينَ فِي التَّخَلُّفِ بِلَا عُذْرٍ. وَصِفَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ جُبْنٍ وَبُخْلٍ وَحِرْصٍ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُسْتَحِقِّيهَا. وَذِكْرِ أَذَاهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ. وَأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ وَأَمْرِهِمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَكَذِبِهِمْ فِي عُهُودِهِمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْأَمْرِ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَذَمَّةِ مَا أَدْخَلَهُ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ التَّكَالُبِ عَلَى الْأَمْوَالِ. وَأَمْرِ اللَّهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي جِهَادِهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ. وَنَهْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ. وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَذِكْرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَ الضِّرَارِ عَنْ سُوءِ نِيَّةٍ، وَفَضْلِ مَسْجِدِ قِبَاءَ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ. وَانْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ حَالَةِ الْأَعْرَابِ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ وَمُهَاجِرِهِمْ وَمُتَخَلِّفِهِمْ. وَقُوبِلَتْ صِفَاتُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ بِأَضْدَادِهَا صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ. وَذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَفَضْلُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْجِهَادِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالتَّذْكِيرِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ يَأْسِهِمْ. وَالتَّنْوِيهِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَجَيْشِهَا. وَالَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا.

وَالِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ جَبَلَهُ عَلَى صِفَاتٍ فِيهَا كُلُّ خَيْرٍ لَهُمْ. وَشَرْعِ الزَّكَاةِ وَمَصَارِفِهَا وَالْأَمْرِ بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَنَشْرِ دَعْوَةِ الدِّينِ. اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ كِتَابَةَ الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. فَجَعَلُوا سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَقِبَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِدُونِ بَسْمَلَةٍ بَيْنَهُمَا، وَتَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ. وَأَوْضَحُ الْأَقْوَالِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ وَكَانَت قصّتها شَبِيها بِقِصَّتِهَا وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَنَشَأَ مِنْ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ كَتَبَةَ الْمَصَاحِفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَنْفَالِ. وَبَرَاءَة، هَلْ هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ هُمَا سُورَتَانِ، فَتَرَكُوا فُرْجَةً فَصْلًا بَيْنَهُمَا مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ عَدَّهُمَا سُورَتَيْنِ، وَلَمْ يَكْتُبُوا الْبَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَرَكُوا الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهَا لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ أَمَانٌ وَبِشَارَةٌ، وَسُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بِنَبْذِ الْعُهُودِ وَالسَّيْفِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُبْدَأْ بِشِعَارِ الْأَمَانِ ، وَهَذَا إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُونَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَدَا سُورَةِ بَرَاءَةٌ، فَفِي هَذَا رَعْيٌ لِبَلَاغَةِ مَقَامِ الْخِطَابِ كَمَا أَنَّ الْخَاطِبَ الْمُغْضَبَ يبْدَأ خطبَته «بأمّا بَعْدُ» دُونَ اسْتِفْتَاحٍ. وَشَأْنُ الْعَرَبِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ عَهْدٌ فَأَرَادُوا نَقْضَهُ، كَتَبُوا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْبِذُونَ إِلَيْهِمْ بِالْعَهْدِ كِتَابًا وَلَمْ يَفْتَتِحُوهُ بِكَلِمَةِ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْمَوْسِمِ فَقَرَأَ صَدْرَ بَرَاءَةٌ وَلَمْ يُبَسْمِلْ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي رَسَائِلِ نَقْضِ الْعُهُودِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى

[سورة التوبة (9) : آية 1]

عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلُهَا، أَيْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ سَقَطَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ. وَيُفَسِّرُ كَلَامَهُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ كَانَتْ نَحْوَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ نُسِخَ وَرُفِعَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَفِيهِ الْبَسْمَلَةُ فَلَمْ يَرَوْا بَعْدُ أَنْ يَضَعُوهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَمَا نَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَالِكٍ عَزَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى ابْنِ عَجْلَانَ فَلَعَلَّ فِي «نُسْخَةِ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» نَقْصًا. وَالَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ فِي تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَسُورَةِ بَرَاءَةٌ: هُوَ مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجَامِعِ الْأَوَّلِ مِنَ «الْعُتْبُيَّةِ» «قَالَ مَالِكٌ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٌ إِنَّمَا تَرَكَ مَنْ مَضَى أَنْ يَكْتُبُوا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ وَجْهِ الِاتِّبَاعِ فِي ذَلِكَ، كَانَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَسَاقَ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ فِي سَبَبِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَكَيْفَ أَخَذَ عُثْمَانُ الصُّحُفَ مِنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَرْجَعَهَا إِلَيْهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» «مَا تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ مَنْ مَضَى أَنْ يَكْتُبُوا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ وَجْهِ الِاتِّبَاعِ، وَالْمعْنَى فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ الْبَسْمَلَةَ بَيْنَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَة، وَإِنْ كَانَتَا سُورَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ بَرَاءَةٌ كَانَتْ آخِرَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْأَنْفَالَ أُنْزِلَتْ فِي بَدْرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، اتِّبَاعًا لِمَا وَجَدُوهُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ» . وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مَالِكٍ قَوْلًا غير هَذَا. [1] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 1] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) افْتُتِحَتِ السُّورَةُ كَمَا تُفْتَتَحُ الْعُهُودُ وَصُكُوكُ الْعُقُودِ بِأَدَلِّ كَلِمَةٍ عَلَى الْغَرَضِ الَّذِي يُرَادُ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ فُلَانٌ، وَهَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَوْلِ الْمُوَثِّقِينَ: بَاعَ أَوْ وَكَّلَ أَوْ تَزَوَّجَ، وَذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي إِنْشَاءِ الرَّسَائِلِ وَالْمَوَاثِيقِ وَنَحْوِهَا.

وَتَنْكِيرُ بَراءَةٌ تَنْكِيرُ التَّنْوِيعِ، وَمَوْقِعُ بَراءَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّنْوِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ كَافٍ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 1، 2] . وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْفَائِدَةِ أَيْ: الْبَرَاءَةُ صَدَرَتْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وإِلَى لِلِانْتِهَاءِ لِمَا أَفَادَهُ حَرْفُ مِنَ مِنْ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَصْدَرَهَا اللَّهُ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ إِبْلَاغًا إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْبَرَاءَةُ الْخُرُوجُ وَالتَّفَصِّي مِمَّا يُتْعِبُ وَرَفْعُ التَّبِعَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَهْدُ يُوجِبُ عَلَى الْمُتَعَاهِدِينَ الْعَمَلَ بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ وَيُعَدُّ الْإِخْلَافُ بِشَيْءٍ مِنْهُ غَدْرًا عَلَى الْمُخْلِفِ، كَانَ الْإِعْلَانُ بِفَسْخِ الْعَهْدِ بَرَاءَةً مِنَ التَّبِعَاتِ الَّتِي كَانَتْ بِحَيْثُ تَنْشَأُ عَنْ إِخْلَافِ الْعَهْدِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَفْظُ بَراءَةٌ هُنَا مُفِيدًا مَعْنَى فَسْخِ الْعَهْدِ وَنَبْذِهِ لِيَأْخُذَ الْمُعَاهِدُونَ حِذْرَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَنْبِذُونَ الْعَهْدَ وَيَرُدُّونَ الْجِوَارَ إِذَا شَاءُوا تَنْهِيَةَ الِالْتِزَامِ بِهِمَا، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ فِي رَدِّ جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ قُرَيْشٍ، وَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي رَدِّ جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِيَّاهُ قَائِلًا: «رَضِيتُ بِجِوَارِ رَبِّي وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ غَيْرَهُ» . وَقَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: 58] أَيْ: وَلَا تَخُنْهُمْ لِظَنِّكَ أَنَّهُمْ يَخُونُونَكَ فَإِذَا ظَنَنْتَهُ فَافْسَخْ عَهْدَكَ مَعَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْجَانِبُ، الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ وَتَنْهِيَتِهِ، هُوَ جَانِبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، جُعِلَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ صَادِرَةً مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ الْآذِنُ بِهَا، وَمِنْ رَسُولِهِ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لَهَا. وَجُعِلَ ذَلِكَ مُنَهًّى إِلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْلَاغُ ذَلِكَ الْفَسْخِ إِلَيْهِمْ وَإِيصَالُهُ لِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسْخُ غَدْرًا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: عاهَدْتُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَهَذِهِ الْبَرَاءَةُ مَأْمُورُونَ بِإِنْفَاذِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ ظَاهَرَهُمْ عَهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ:

أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَ، وَأَنْ لَا يُخَافَ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ كَانَ مُعْظَمُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَاخِلًا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ الْوَاقِعِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَوْمَئِذٍ زُعَمَاءَ جَمِيعِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ يَوْمَئِذٍ: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ وَضْعُ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ النَّاسِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْعَهْدُ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ كَانَ عَدِيلُهُ لَازِمًا لِفَائِدَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حِينَ صَارَ الْبَيْتُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَزَالَ مَا زَالَ مِنْهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَإِسْلَامِ قُرَيْشٍ وَبَعْضِ أَحْلَافِهِمْ. وَكَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ قَبَائِلِ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ [90] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الْآيَةَ، وَكَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ [4] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الْآيَةَ. وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُهُودِ كَانَ لِغَيْرِ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ، وَبَعْضُهَا كَانَ لِأَجَلٍ قَدِ انْقَضَى، وَبَعْضُهَا لَمْ يَنْقَضِ أَجَلُهُ. فَقَدْ كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ مُؤَجَّلًا إِلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقَدْ كَانَ عَهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَيَكُونُ قَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَال، وَلم تنقض عَلَى بَعْضِهَا، حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِمْرَارِ، وَكَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْعُهُودِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ خَفَرُوا بِالْعَهْدِ فِي مُمَالَاةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُعَاهِدِينَ، وَفِي إِلْحَاقِ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ غُلِبُوا فَنَقَضَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَهْدَ، وَمِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَعْضُ خُزَاعَةَ، وَبَنُو مُدْلِجٍ، وَبَنُو خُزَيْمَةَ أَوْ جُذَيْمَةَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً [التَّوْبَة: 4] فَأَعْلَنَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ إِنْ دَامُوا عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ صَارَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَة: 3] .

[سورة التوبة (9) : آية 2]

وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَرَاءَةُ شَأْنًا من شؤون اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأُسْنِدَ الْعَهْدُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَازِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا عَقَدُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ عُهُودَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فِي وَقْتِ عَدَمِ اسْتِجْمَاعِ قُوَّتِهِمْ، وَأَزْمَانَ كَانَتْ بَقِيَّةُ قُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَوْسِعَةً وَلَا عَهْدًا لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ تَكُونُ أَقْوَمَ إِذَا شَدَّدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَالْآنَ لَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَةُ الدِّينِ مُتَمَحِّضَةً فِي نَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَهُ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ أَذِنَ اللَّهُ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَلَا تَبِعَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نَبْذِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَدْ عَقَدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى نَحْو مَا جزى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَبَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَلَى نَحْوِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَبَاتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكًا، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَصَارَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِنْكُمْ، إِلَى الَّذين عَاهَدَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَاهَدْتُمْ. فَالْقَبَائِلُ الَّتِي كَانَ لَهَا عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَدْ جَمَعَهَا كُلَّهَا الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقْصُودِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ بَرَاءَةٌ مِنَ الْعَهْدِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَهَا بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً [التَّوْبَة: 4] الْآيَة. [2] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 2] فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْنَى الْبَرَاءَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْأَذَانِ بِهَا كَانَتْ إِعْلَامًا لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي فِعْلِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ مِنْهُ أَنَّهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ وَذَلِكَ الْتِفَاتٌ. فَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ وَنُكْتَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِبْلَاغُ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً. وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مُفَرَّعٍ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِهِمْ، أَيْ فَقُلْ لَهُمْ: سِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.

وَالسِّيَاحَةُ حَقِيقَتُهَا السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِهَذَا السَّيْرِ مُفَرَّعًا عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَهْدِ، وَمُقَرِّرًا لحُرْمَة الْأَشْهر الْحَرَام، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ السَّيْرُ بِأَمْنٍ دُونَ خَوْفٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ من الأَرْض، وَلَيْسَ هُوَ سيرهم فِي أَرض قَومهمْ، دلّ على ذَلِك إِطْلَاق السياحة وَإِطْلَاق الْأَرْضِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَسِيحُوا آمِنِينَ حَيْثُمَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَهَذَا تَأْجِيلٌ خَاصٌّ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ شَوَّالٍ وَقْتَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ، وَنِهَايَتُهُ نِهَايَةُ مُحَرَّمٍ فِي آخِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُجِّلَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أُذِّنَ فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَبْتَدِئُ مِنْ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التَّوْبَة: 5] (أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ) تَنْهِيَةً لِذَلِكَ الْأَجَلِ رُوعِيَ فِيهَا الْمُدَّةُ الْكَافِيَةُ لِرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْمُحَرَّمِ. وَقِيلَ: الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، أَيْ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُشْرِكِينَ أَمْنٌ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَأْجِيلٌ خَاصٌّ لِتَأْمِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ التَّأْمِينُ الْمُقَرِّرُ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَمْنِ الْمُقَرِّرِ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْآنِفِ» أَنَّهُ قِيلَ أَنَّهُ أَرَادَ بِانْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ جُعِلَ لَهُ عَهْدٌ جُعِلَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ إِيذَانٌ بِفَرْضِ الْقِتَالِ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَبِأَنَّ مَا دُونَ تِلْكَ الْأَشْهُرِ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَسَيَقَعُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. عَطْفٌ عَلَى فَسِيحُوا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ التَّفْرِيعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِالْأَمَانِ فِي أَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ عَقَّبَهُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ احْتِرَاسًا مِنْ تَطَرُّقِ الْغُرُورِ، وَتَهْدِيدًا بِأَنْ لَا

[سورة التوبة (9) : آية 3]

يَطْمَئِنُّوا مِنْ أَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَإِنْ قَبَعُوا فِي دِيَارِهِمْ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ وَاعْلَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَحِقُّ وَعْيُهُ، وَالتَّدَبُّرُ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [24] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَالْمُعْجِزُ اسْمُ فَاعِلٍ، مِنْ أَعْجَزَ فُلَانًا إِذَا جَعَلَهُ عَاجِزًا عَنْ عَمَلٍ مَا، فَلِذَلِكَ كَانَ بِمَعْنَى الْغَالِبِ وَالْفَائِتِ، الْخَارِجِ عَنْ قُدْرَةِ أَحَدٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ أَمَّنَكُمْ وَإِذَا شَاءَ أَوْقَعَكُمْ فِي الْخَوْفِ وَالْبَأْسِ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عَمَلِ وَاعْلَمُوا فَمَقْصُودٌ مِنْهُ وَعْيُهُ وَالْعِلْمُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَكَانَ ذِكْرُ الْكافِرِينَ إِخْرَاجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ: لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّ اللَّهَ مُخْزِيكُمْ، وَوَجْهُ تَخْرِيجِهِ عَلَى الْإِظْهَارِ الدّلَالَة على سبيبة الْكُفْرِ فِي الْخِزْيِ. وَالْإِخْزَاءُ: الْإِذْلَالُ. وَالْخِزْيُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، أَيْ مُقَدِّرٌ لِلْكَافِرِينَ الْإِذْلَالَ: بِالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، مَا دَامُوا مُتَلَبِّسِينَ بِوَصْفِ الْكُفْرِ. [3] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 1] وَمَوْقِعُ لَفْظِ أَذانٌ كَمَوْقِعِ لفظ بَراءَةٌ [التَّوْبَة: 1] فِي التَّقْدِيرِ، وَهَذَا إِعْلَامٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ بِأَنَّ عَهْدَهُمُ انْتُقِضَ. وَالْأَذَانُ اسْمُ مَصْدَرِ آذَنَهُ، إِذَا أَعْلَمَهُ بِإِعْلَانٍ، مِثْلَ الْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، وَالْأَمَانِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِيذَانِ.

وَإِضَافَةُ الْأَذَانِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ وَحُكْمٌ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَمْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَأْذَنُوا الْمُشْرِكِينَ بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ، لِئَلَّا يَكُونُوا غَادِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: 58] . وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَذَا النِّدَاءِ يُهِمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ. وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: قِيلَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، لِأَنَّهُ يَوْمُ مُجْتَمَعِ النَّاسِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْن عَبَّاس، وطاووس، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» . وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي يَوْمِ مَوْقِفِ عَرَفَةَ مُفْتَرِقِينَ إِذْ كَانَتِ الْحُمْسُ يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَقِفُ بَقِيَّةُ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، وَكَانُوا جَمِيعًا يَحْضُرُونَ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ الْأَكْبَرَ، وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا التَّعْلِيلَ إِلَى مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ مَالِكٌ: لَا نَشُكُّ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجَمْرَةُ، وَيُنْحَرُ فِيهِ الْهَدْيُ، وَيَنْقَضِي فِيهِ الْحَجُّ، مَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْحَجَّ. وَأَقُولُ: أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ شُغْلٍ بِعِبَادَةٍ مِنْ وُقُوفٍ بِالْمَوْقِفِ وَمِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ. فَأَمَّا يَوْمُ مِنًى فَيَوْمُ عِيدِهِمْ. والْأَكْبَرِ بِالْجَرِّ نَعْتٌ لِلْحَجِّ، بِاعْتِبَارِ تَجْزِئَتِهِ إِلَى أَعْمَالٍ، فَوَصَفَ الْأَعْظَمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ بِالْأَكْبَرِ، وَيَظْهَرُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ إِنْشَاءٌ لِهَذَا الْأَذَانِ، مُوَقَّتًا بِيَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى الْأَمْرِ، إِذِ الْمَعْنَى آذِنُوا النَّاسَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ ضَمَّهُمُ الْمَوْسِمُ، وَمَنْ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ: مُؤْمِنُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ، إِذْ كَانَ حُكْمُهُ يَلْزَمُ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَتَعَلَّقُ بِ أَذانٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ- وَهُوَ بَاءُ التَّعْدِيَةِ- أَيْ إِعْلَامُ بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 1] فَإِعَادَتُهَا هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْإِعْلَامَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، تَقْرِيرًا لِعَدَمِ غَدْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ إِعْلَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِفِعْلِ الْبَرَاءَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً دُونَ إِضْمَارٍ وَلَا اخْتِصَارٍ بِأَنْ يُقَالَ: وَأَذَانٌ إِلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، أَوْ بِهَا، أَوْ بِالْبَرَاءَةِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ بَيَانٍ وَإِطْنَابٍ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ أَفْهَامِ السَّامِعِينَ فِيمَا يَسْمَعُونَهُ، فَفِيهِمُ الذَّكِيُّ وَالْغَبِيُّ، فَفِي الْإِطْنَابِ وَالْإِيضَاحِ قَطْعٌ لِمَعَاذِيرِهِمْ وَاسْتِقْصَاءٌ فِي الْإِبْلَاغِ لَهُمْ. وَعُطِفَ وَرَسُولِهِ بِالرَّفْعِ، عِنْدَ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمْ: لِأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَعْلَمُ مِنَ الرَّفْعِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَفِي هَذَا الرَّفْعِ مَعْنًى بَلِيغٌ مِنَ الْإِيضَاحِ لِلْمَعْنَى مَعَ الْإِيجَازِ فِي اللَّفْظِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ قُرْآنِيَّةٌ بَلِيغَةٌ، وَقَدِ اهْتَدَى بهَا ضابىء بْنُ الْحَارِثِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ بِرَفْعِ (قَيَّارٌ) لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ غُرْبَةَ جَمَلِهِ الْمُسَمَّى «قَيَّارًا» غُرْبَةً أُخْرَى غَيْرَ تَابِعَةٍ لِغُرْبَتِهِ. وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ: مَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قِرَاءَةُ وَرَسُولِهِ- بالجرّ- وَلم يصحّ نِسْبَتُهَا إِلَى الْحَسَنِ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ جَرُّ وَرَسُولِهِ وَلَا عَامل بمقتضي جَرَّهُ، وَلَكِنَّهَا ذَاتُ قِصَّةٍ طَرِيفَةٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا قَرَأَ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ- بِجَرِّ وَرَسُولِهِ- فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنْ كَانَ اللَّهُ بَرِيئًا مِنْ رَسُولِهِ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ. وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّوَرُّكَ عَلَى الْقَارِئِ، فَلَبَّبَهُ الرَّجُلُ إِلَى عُمَرَ، فَحَكَى الْأَعْرَابِيُّ قِرَاءَتَهُ فَعِنْدَهَا أَمَرَ عُمَرُ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَرُوِيَ- أَيْضًا- أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ سَمِعَ ذَلِكَ فَرَفَعَ

الْأَمْرَ إِلَى عَلِيٍّ. فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وَضْعِ النَّحْوِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّحْوِ فِي ذِكْرِ سَبَبِ وَضْعِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَهَذَا الْأَذَانُ قَدْ وَقَعَ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي حَجَّهَا أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ، إِذْ أَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِأَبِي بَكْرٍ، مُوَافِيًا الْمَوْسِم ليؤذّن بِبَرَاءَة، فَأَذَّنَ بِهَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً (¬1) مِنْهَا، كَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: «أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً» شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، فَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، أَيْ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ بَرَاءَةٌ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَلَعَلَّ مَعْنَاهُ حَتَّى خَتَمَ مَا نَزَلَ مِنْهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ لَمْ يَتِمَّ نُزُولُهَا يَوْمَئِذٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ آخِرُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَإِنَّمَا أَلْحَقَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَا يَرَوْنَ أَنْ يَنْقُضَ أَحَدٌ عَهْدَهُ مَعَ مَنْ عاهده إلّا بنسفه أَوْ بِرَسُولٍ مِنْ ذِي قَرَابَةِ نَسَبِهِ، فَأَرَادَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَتْرُكَ لِلْمُشْرِكِينَ عُذْرًا فِي عِلْمِهِمْ بِنَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَرُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ فِي مَنَازِلِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِنْ مِنًى، يَصِيحُ بِآيَاتِ بَرَاءَةٌ حَتَّى صَحِلَ صَوْتُهُ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ يَقُولُونَ لِعَلِيٍّ «سَتَرَوْنَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَإِنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّكَ إِلَّا الطَّعْنُ وَالضَّرْبُ» . فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. التَّفْرِيعُ عَلَى جُمْلَةِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ حَالَتَانِ: حَالَةُ التَّوْبَةِ، وَحَالَةُ التَّوَلِّي. ¬

(¬1) تَنْتَهِي الثَّلَاثُونَ آيَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وتنتهي الْأَرْبَعُونَ آيَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: 40] .

[سورة التوبة (9) : آية 4]

وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُوذِنُوا بِالْبَرَاءَةِ، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنْتُمْ فَالْإِيمَانُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِيهِ النَّجَاةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَهْدَ فِيهِ نَجَاةُ الدُّنْيَا لَا غَيْرَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَأُرِيدَ بِفِعْلِ تَوَلَّيْتُمْ مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ، أَيْ: إِنْ دُمْتُمْ عَلَى الشِّرْكِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، أَيِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ وَقَعْتُمْ فِي مُكْنَةِ اللَّهِ، وَأَوْشَكْتُمْ عَلَى الْعَذَابِ. وَجُمْلَةُ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَآذِنُوا النَّاسَ بِبَرَاءَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِأَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ فَقَدْ نَجَا وَمَنْ أَعْرَضَ فَقَدْ أَوْشَكَ عَلَى الْعَذَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَبَشِّرِ الْمُعْرِضِينَ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَاب أَلِيم. و (الْبشَارَة) أَصْلُهَا الْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلْإِنْذَارِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَسُوءُ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [21] . وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: هُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَالسَّبْيِ، وَفَيْءِ الْأَمْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التَّوْبَة: 26] فَإِنَّ تَعْذِيبَهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْضُهُ بِالْقَتْلِ، وَبَعْضُهُ بِالْأَسْرِ وَالسَّبْيِ وَغُنْمِ الْأَمْوَالِ، أَيْ: أَنْذِرِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّكَ مُقَاتِلُهُمْ وَغَالِبُهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] الْآيَة. [4] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 4] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 3] ، وَمن الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التَّوْبَة: 3] لِأَنَّ شَأْنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا وَرَدَ عَقِبَ جُمَلٍ أَنْ

يَرْجِعَ إِلَى مَا تَحْتَوِيهِ جَمِيعُهَا مِمَّا يَصْلُحُ لِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لِهَؤُلَاءِ: مِنْ حُكْمِ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِنْذَارِ بِالْقِتَالِ، الْمُتَرَتِّبِ عَلَى النَّقْضِ، فَهَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَاقُونَ عَلَى حُرْمَةِ عَهْدِهِمْ وَعَلَى السِّلْمِ مَعَهُمْ. وَالْمَوْصُولُ هُنَا يَعُمُّ كُلَّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الصِّلَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ مَدْلُولَ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ. وَحَرْفُ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ عَدَمَ الْإِخْلَالِ بِأَقَلِّ شَيْءٍ مِمَّا عَاهَدُوا عَلَيْهِ أَهَمُّ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِمَّا عَاهَدُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْإِخْلَالِ بِأَقَلِّ شَيْءٍ نَادِرُ الْحُصُولِ. وَالنَّقْصُ لِشَيْءٍ إِزَالَةُ بَعْضِهِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي شَيْءٍ مِمَّا عَاهَدُوا عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِيذَانٌ بِالتَّنْوِيهِ بِهَذَا الِانْتِفَاءِ لِأَنَّ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ أَفَادَتْ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، أَيْ بُعْدِ مَرْتَبَةِ الْمَعْطُوفِ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بُعْدَ كَمَالٍ وَارْتِفَاعِ شَأْنٍ. فَإِنَّ مِنْ كَمَالِ الْعَهْدِ الْحِفَاظَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ احْتَفَظُوا بِعَهْدِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَوَفَّوْا بِهِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَكِيدُوا الْمُسْلِمِينَ بِكَيْدٍ، وَلَا ظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا سِرًّا، فَهَؤُلَاءِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ لَا يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي عُوهِدُوا عَلَيْهَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: بَنُو ضَمْرَةَ، وَحَيَّانِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: هُمْ بَنُو جُذَيْمَةَ، وَبَنُو الدِّيلِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ دَخَلُوا فِي عَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا: أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عَهْدِهِمْ هُمْ ضِدُّ أُولَئِكَ، وَهُمْ قَوْمٌ نَقَصُوا مِمَّا عَاهَدُوا عَلَيْهِ، أَيْ كَادُوا، وَغَدَرُوا سِرًّا، أَوْ ظَاهَرُوا الْعَدُوَّ بِالْمَدَدِ وَالْجَوْسَسَةِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: قُرَيْظَةُ أَمَدُّوا الْمُشْرِكِينَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَبَنُو بَكْرٍ، عَدَوْا عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فَعُبِّرَ عَنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِالنَّقْصِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ عَلَنًا، وَلَا أَبْطَلُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَلَّوْا بِهِ، مِمَّا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَكِيدُوا وَيَمْكُرُوا، وَلِأَنَّهُمْ نَقَضُوا بَعْضَ مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ.

وَذِكْرُ كَلِمَةِ شَيْئاً لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الِانْتِقَاصِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «شَيْءٍ» نَكِرَةٌ عَامَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَتِ انْتِفَاءَ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [113] . وَالْمُظَاهَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الظَّهْرُ، أَيْ صُلْبُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْبَعِيرِ، لِأَنَّ الظَّهْرَ بِهِ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ فِي الْمَشْيِ وَالتَّغَلُّبِ، وَبِهِ قُوَّةُ الْبَعِيرِ فِي الرِّحْلَةِ وَالْحَمْلِ، يُقَالُ: بَعِيرٌ ظَهِيرٌ، أَيْ قَوِيٌّ عَلَى الرِّحْلَةِ، مِثْلَ الْمُعِينِ لِأَحَدٍ عَلَى عَمَلٍ بِحَالِ مَنْ يُعْطِيهِ ظَهْرَهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يُعِيرُهُ ظَهْرَهُ وَيُعِيرُهُ الْآخَرُ ظَهْرَهُ، فَمِنْ ثَمَّ جَاءَتْ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ، وَمِثْلُهُ الْمُعَاضَدَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَضُدِ، وَالْمُسَاعَدَةُ مِنَ السَّاعِدِ، وَالتَّأْيِيدُ مِنَ الْيَدِ، وَالْمُكَاتَفَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكَتِفِ، وَكُلُّهَا أَعْضَاءُ الْعَمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الظُّهُورِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ ضِدُّ الْخَفَاءِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا انْتَصَرَ عَلَى غَيْرِهِ ظَهَرَ حَالُهُ لِلنَّاسِ، فَمُثِّلَ بِالشَّيْءِ الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ خَفَاءٍ، وَلِذَلِكَ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: 4]- وَقَالَ- كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التَّوْبَة: 8]- وَقَالَ- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الْفَتْح: 28]- وَقَالَ- وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: 4] أَيْ مُعِينٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتِمُّوا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً إِلَخْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا تَشْمَلُهُمُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَهْدِ. وَالْمُدَّةُ: الْأَجَلُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَدِّ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَدٌّ فِي زَمَنِ الْعَمَلِ، أَيْ تَطْوِيلٌ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: مَادَ الْقَوْمُ غَيْرَهُمْ، إِذَا أَجَّلُوا الْحَرْبَ إِلَى أَمَدٍ، وَإِضَافَةُ الْمُدَّةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُعَاهِدِينَ لِأَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ مَعَهُمْ، فَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِمْ كَإِضَافَتِهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ رَجَّحَ هُنَا جَانِبَهُمْ، لِأَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِالْأَجَلِ أَصْبَحَ أَكْثَرَ مِنِ انْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، إِذْ صَارَ الْمُسْلِمُونَ أَقْوَى مِنْهُمْ، وَأَقْدَرَ عَلَى حَرْبِهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تَذْيِيلٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ إِلَى الْأَجَلِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّقْوَى، أَيْ مِنِ امْتِثَالِ الشَّرْعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ عَقِبَ الْأَمْرِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ التَّقْوَى.

[سورة التوبة (9) : آية 5]

ثُمَّ إِنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ كُلَّهَا رَغِبَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَانْتَهَتْ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ. [5] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَرْبَعَةً تَبْتَدِئُ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ تَفْرِيعًا مُرَادًا مِنْهُ زِيَادَةُ قَيْدٍ عَلَى قَيْدِ الظّرْف من قَول: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] أَيْ: فَإِذَا انْتَهَى أَجَلُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَانْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَخْ لِانْتِهَاءِ الْإِذْنِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ مُرَادًا بِهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْإِذْنِ بِالْأَمْنِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، الْمُقْتَضِي أَنَّهُ لَا أَمْنَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَة: 2] ،- بَعْدَ قَوْلِهِ- غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] فَيَكُونُ تَأْجِيلًا لَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ، ثُمَّ تَحْذِيرًا مِنْ خَرْقِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَجَبٍ، وَكَذَلِكَ يَسْتَمِرُّ الْحَالُ فِي كُلِّ عَامٍ إِلَى نَسْخِ تَأْمِينِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: 36] . وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ انْقِضَاؤُهَا وَتَمَامُهَا وَهُوَ مُطَاوِعُ سَلْخٍ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْتِعَارَةٌ مِنْ سَلْخِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، أَيْ إِزَالَتُهُ. ثُمَّ شَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً. وَالْحُرُمُ جَمْعُ حَرَامٍ وَهُوَ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّ فُعُلًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ إِنَّمَا يَنْقَاسُ فِي الِاسْمِ الرُّبَاعِيِّ ذِي مَدٍّ زَائِدٍ. وَحَرَامٌ صِفَةٌ. وَقَالَ الرَّضِيُّ فِي بَابِ الْجَمْعِ مِنْ «شَرْحِ الشَّافِيَةِ» إِنَّ جُمُوعَ التَّكْسِيرِ أَكْثَرُهَا مُحْتَاجٌ إِلَى السَّمَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فِي سُورَةُ الْبَقَرَةِ [194] . وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ.

وَانْسِلَاخُهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُتَتَابِعَةِ مِنْهَا، وَقَدْ بَقِيَتْ حُرْمَتُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبِيلَةٌ، لِمَصْلَحَةِ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا آمَنَ جَمِيعُ الْعَرَبِ بَطَلَ حُكْمُ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَارِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَغْنَتْ عَنْهَا. وَالْأَمْرُ فِي فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِلْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ فقد أذن لكل فِي قَتْلِهِمْ، وَفِي أَخْذِهِمْ، وَفِي حِصَارِهِمْ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْ صُوَرِ الْوُجُوبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 12] وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْعَهْدِ قَدْ زَالَتْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ شُرِعُ الْجِهَادُ وَالْإِذْنُ فِيهِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ. وَقَدْ عَمَّتِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ وَعَمَّتِ الْبِقَاعَ إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْأَخْذُ: الْأَسْرُ. وَالْحَصْرُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْقُعُودُ مَجَازٌ فِي الثَّبَاتِ فِي الْمَكَانِ، وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ، لِأَنَّ الْقُعُودَ ثُبُوتٌ شَدِيدٌ وَطَوِيلٌ. فَمَعْنَى الْقُعُودِ فِي الْآيَةِ الْمُرَابَطَةُ فِي مَظَانِّ تَطَرُّقِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَفِي مَظَانِّ وُجُودِ جَيْشِ الْعَدُوِّ وَعُدَّتِهِ. وَالْمَرْصَدُ مَكَانُ الرَّصْدِ. وَالرَّصْدُ: الْمُرَاقَبَةُ وَتَتَبُّعُ النَّظَرِ. وكُلَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَعْمِيمِ الْمَرَاصِدِ الْمَظْنُونِ مُرُورُهُمْ بِهَا، تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِضَاعَتِهِمُ الْحِرَاسَةَ فِي الْمَرَاصِدِ فَيَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ مِنْهَا، أَوْ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَمَارِّ الْعَدُوِّ فَيَنْطَلِقُ الْأَعْدَاءُ آمِنِينَ فَيَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَسَامَعُ جَمَاعَاتُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا بِذَوِي بَأْسٍ وَلَا يَقَظَةٍ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى كُلَّ هُنَا إِلَى مَعْنَى الْكَثْرَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْمَرَاصِدِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ

وَانْتَصَبَ كُلَّ مَرْصَدٍ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِتَضْمِينِ اقْعُدُوا مَعْنَى (الْزَمُوا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] ، وَإِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّ فِعْلِ الْقُعُودِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ فَشُبِّهَ بِالظَّرْفِ وَحُذِفَتْ (فِي) لِلتَّوَسُّعِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (كُلَّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] . فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ. وَالتَّوْبَةُ عَنِ الشِّرْكِ هِيَ الْإِيمَانُ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا إِيمَانًا صَادِقًا، بِأَنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ الدَّالَّةَ إِقَامَتُهَا عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي إِيمَانِهِ، وَبِأَنْ آتَوُا الزَّكَاةَ الدَّالَّ إِيتَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ أَمَارَةُ صِدْقِ النِّيَّةِ فِيمَا بُذِلَ فِيهِ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ شَرْطٌ فِي كَفِّ الْقِتَالِ عَنْهُمْ إِذَا آمَنُوا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ جُزْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ. وَحَقِيقَةُ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتْرُكُوا طَرِيقَهُمُ الَّذِي يَمُرُّونَ بِهِ، أَيِ اتْرُكُوا لَهُمْ كُلَّ طَرِيقٍ أُمِرْتُمْ بِرَصْدِهِمْ فِيهِ أَيِ اتْرُكُوهُمْ يَسِيرُونَ مُجْتَازِينَ أَوْ قَادِمِينَ عَلَيْكُمْ، إِذْ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِخْوَانَكُمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التَّوْبَة: 11] . وَهَذَا الْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا تَمْثِيلًا فِي عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَمُتَارَكَتِهِمْ، يُقَالُ: خَلِّ سَبِيلِي، أَيْ دَعْنِي وَشَأْنِي، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِهِ ... وَأَبْرِزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ الْقَدَرُ

[سورة التوبة (9) : آية 6]

وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلتَّمْثِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ أُرِيدَ بِهِ حَثُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ بِالسُّوءِ لِلَّذِينَ يُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمْ، فَالْمَعْنَى اغْفِرُوا لَهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ وَهُوَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَوِ اقْتَدُوا بِفِعْلِ اللَّهِ إِذْ غَفَرَ لَهُمْ مَا فَرَطَ مِنْهُم كَمَا تعلمُونَ فَكُونُوا أَنْتُمْ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ فِي الْإِغْضَاءِ عمّا مضى. [6] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِنْ تابُوا [التَّوْبَة: 5] لِتَفْصِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 5] لِتَخْصِيصِ عُمُومِهِ، أَيْ إِلَّا مُشْرِكًا اسْتَجَارَكَ لِمَصْلَحَةٍ لِلسِّفَارَةِ عَنْ قَوْمِهِ أَوْ لِمَعْرِفَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَصِيغَ الْكَلَامُ بِطَرِيقَةِ الشَّرْطِ لِتَأْكِيدِ حُكْمِ الْجَوَابِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أنّ الشَّأْن أَنْ تَقَعَ الرَّغْبَةُ فِي الْجِوَارِ مِنْ جَانِبِ الْمُشْرِكِينَ. وَجِيءَ بِحِرَفِ إِنْ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يَكُونَ شَرْطُهَا نَادِرَ الْوُقُوعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَرْضِيٌّ لِكَيْلَا يَزْعُمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ لِقَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَّخِذُوهُ عُذْرًا لِلِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ إِذَا غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ الرَّسُولَ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى فَهَلْ نُقْتَلُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ . أَيْ فَأَمِّنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ إِلَخْ، شَرْطٌ فَرْضِيٌّ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَقَالَةَ هَذَا الرَّجُلِ وَقَعَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَرْوِيَّ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. وَجِيءَ بِلَفْظِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ لَفْظِ مُشْرِكٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ مِثْلُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ- إِذَا لَمْ تُبْنَ عَلَى الْفَتْحِ احْتَمَلَتْ إِرَادَةَ

عُمُومِ الْجِنْسِ وَاحْتَمَلَتْ بَعْضَ الْأَفْرَادِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ فِي سِيَاق النَّفْي بِلَا. وأَحَدٌ أَصْلُهُ «وَاحِدٌ» لِأَنَّ هَمْزَتَهُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْجُزْئِيِّ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لَهُ «فَرْدٌ» فِي اصْطِلَاحِ الْعُلُومِ، فَمَعْنَى أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُشْرِكٌ. وَتَقْدِيمُ أَحَدٌ عَلَى اسْتَجارَكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِيَكُونَ أَوَّلَ مَا يَقْرَعُ السَّمْعَ فَيَقَعُ الْمُسْنَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ مَوْقِعَ التَّمَكُّنِ. وَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعُ، أَوْ لِأَنَّ الشَّرْطَ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ فِي إِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْخَبَرِ فِعْلًا مُقْنِعٌ لِحَرْفِ الشَّرْطِ فِي اقتضائه الْجُمْلَة الفعلية، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْفَاعِلَ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِغَرَضٍ مَا. وَلِذَلِكَ شَاعَ عِنْدَ النُّحَاةِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ اعْتِبَارٍ. وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى إِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَمِنْ تَقْدِيمِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْفِعْلِ، تَأْكِيدُ بَذْلِ الْأَمَانِ لِمَنْ يَسْأَلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا كَانَ لِلِقَائِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُخُولِهِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ مَصْلَحَةٌ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي خَانَتِ الْعَهْدَ، لِئَلَّا تَحْمِلَ خِيَانَتُهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَخُونُوهُمْ أَوْ يَغْدِرُوا بِهِمْ فَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا [الْمَائِدَة: 2] ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . وَالِاسْتِجَارَةُ: طَلَبُ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْكَوْنُ بِالْقُرْبِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا شَائِعًا فِي الْأَمْنِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَسْتَقِرُّ بِمَكَانٍ إِلَّا إِذَا كَانَ آمِنًا، فَمِنْ ثَمَّ سَمَّوُا الْمُؤْمِنَ جَارًا، وَالْحَلِيفَ جَارًا، وَصَارَ فِعْلُ أَجَارَ بِمَعْنَى أَمَّنَ، وَلَا يُطْلَقُ بِمَعْنَى جَعَلَ شَخْصًا جَارًا لَهُ. وَالْمَعْنَى: إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَأْمَنَكَ فَأَمِّنْهُ. وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ الِاسْتِجَارَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفُ الْغَرَضِ وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى مَقَاصِدِ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَجِيرُ أَحَدٌ إِلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ. وَلَمَّا كَانَتْ إِقَامَةُ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ عِنْدَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَخْلُو مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَإِسْمَاعِهِ الْقُرْآنَ، سَوَاءٌ كَانَتِ اسْتَجَارَتُهُ لِذَلِكَ أَمْ لِغَرَضٍ آخَرَ،

لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى هَدْيِ النَّاسِ، جَعَلَ سَمَاعَ هَذَا الْمُسْتَجِيرِ الْقُرْآنَ غَايَةً لِإِقَامَتِهِ الْوَقْتِيَّةِ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْغَايَةُ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ إِيجَازًا، وَهُوَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْمُسْتَجِيرِ مِنْ تَفَاوُضٍ فِي مُهِمٍّ، أَوْ طَلَبِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ فَقَدْ تَمَّتْ أَغْرَاضُ إِقَامَتِهِ لِأَنَّ بَعْضَهَا مِنْ مَقْصِدِ الْمُسْتَجِيرِ وَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَبْدَأَ بِهَا، وَبَعْضَهَا مِنْ مَقْصِدِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ لَا يَتْرُكُهُ يَعُودُ حَتَّى يُعِيدَ إِرْشَادَهُ، وَيَكُونَ آخِرُ مَا يَدُورُ مَعَهُ فِي آخِرِ أَزْمَانِ إِقَامَتِهِ إِسْمَاعَهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَلَامُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، أُضِيفَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ أَوْجَدَهُ اللَّهُ لِيَدُلَّ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ النَّاسِ وَأَبْلَغَهُ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ تَأْلِيفِ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ بِدُونِ صُنْعِ أَحَدٍ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ اسْتِمْرَارِ إِجَارَتِهِ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَحَرْفُ (ثُمَّ) هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ اهْتِمَامًا بِإِبْلَاغِهِ مَأْمَنَهُ. وَمَعْنَى أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أَمْهِلْهُ وَلَا تُهِجْهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ، فَلَمَّا كَانَ تَأْمِينُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِيَّاهُ سَبَبًا فِي بُلُوغِهِ مَأْمَنَهُ، جُعِلَ التَّأْمِينُ إِبْلَاغًا فَأُمِرَ بِهِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِسُوءٍ حَتَّى يَبْلُغَ بِلَادَهُ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفُ تَرْحِيلَهُ وَيَبْعَثُ مَنْ يُبَلِّغُهُ، فَالْمَعْنَى: اتْرُكْهُ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ، كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ لمن يُبَادر أحد بِالْكَلَامِ قَبْلَ إِنْهَاءِ كَلَامِهِ: «أَبْلِعْنِي رِيقِي» ، أَيْ أَمْهِلْنِي لَحْظَةً مِقْدَارَ مَا أَبْلَعُ رِيقِي ثُمَّ أُكَلِّمُكَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُلْتُ لِبَعْضِ أَشْيَاخِي: «أَبْلَعْنِي رِيقِي- فَقَالَ- قَدْ أَبَلَعْتُكَ الرَّافِدَيْنِ» يَعْنِي دجلة والفرات. و (المأمن) مَكَانُ الْأَمْنِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِدُ فِيهِ الْمُسْتَجِيرُ أَمْنَهُ السَّابِقَ، وَذَلِكَ هُوَ دَارُ قَوْمِهِ حَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنَالَهُ بِسُوءٍ. وَقَدْ أُضِيفَ الْمَأْمَنُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِ

[سورة التوبة (9) : آية 7]

لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مَكَانُ الْأَمْنِ الْخَاصِّ بِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَقَرُّهُ الْأَصْلِيُّ، بِخِلَافِ دَارِ الْجِوَارِ فَإِنَّهَا مَأْمَنٌ عَارِضٌ لَا يُضَافُ إِلَى الْمُجَارِ. وَجُمْلَةُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ لَهُمْ بِالْإِجَارَةِ إِلَى أَنْ يَصِلُوا دِيَارَهُمْ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: أَمَرْنَا بِذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أَيْ لَا تُؤَاخِذْهُمْ فِي مُدَّةِ اسْتِجَارَتِهِمْ بِمَا سَبَقَ مِنْ أَذَاهُمْ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ- وَهَذِهِ مَذَمَّةٌ لَهُمْ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ- وَأَوْفِ لَهُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَصِلُوا دِيَارَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، فَكَانَ اسْمُ الْإِشَارَةِ أَصْلَحَ طُرُقِ التَّعْرِيفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، جَمْعًا لِلْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ، وَأَوْجَزَهُ. وَفِي الْكَلَامِ تَنْوِيهٌ بِمَعَالِي أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَغَضٌّ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْغَضِّ الْإِشْرَاكُ الَّذِي يُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ، وَلِذَلِكَ جُعِلُوا قَوْمًا لَا يَعْلَمُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ مُطَّرِدٌ فِيهِمْ، فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ اطِّرَادِهِ فِيهِمْ هُوَ نَشْأَتُهُ عَنِ الْفِكْرَةِ الْجَامِعَةِ لِأَشْتَاتِهِمْ، وَهِيَ عَقِيدَةُ الْإِشْرَاكِ. وَالْعِلْمُ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِمَعْنَى الْعَقْلِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ، وَأَنَّ عَقِيدَةَ الشِّرْكِ مُضَادَّةٌ لِذَلِكَ، أَيْ كَيْفَ يَعْبُدُ ذُو الرَّأْيِ حَجَرًا صَنَعَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُغني عَنهُ. [7] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 1] ثُمَّ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 3]- وَعَنْ قَوْلِهِ- فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 5] الَّتِي كَانَتْ تَدَرُّجًا فِي إِبْطَالِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُهُودٍ سَابِقَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى دَخِيلَةِ الْأَمْرِ، فَلَعَلَّ بَعْضَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ، وَيَسْأَلُ عَنْ سَبَبِهَا، وَكَيْفَ أُنْهِيَتِ الْعُهُودُ وَأُعْلِنْتِ الْحَرْبُ، فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَمْرَانِ: بُعْدُ مَا بَيْنَ الْعَقَائِدِ، وَسَبْقُ الْغَدْرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ كَيْفَ: إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا لِحَالَةِ كِيَانِ الْعَهْدِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ دَوَامُ الْعَهْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ الَّذِينَ عَاهَدُوهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَا بَعْدَهُ فَفِعْلَ يَكُونُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النِّسَاء: 136] كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَى وُقُوعِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ الْعَهْدَ قَدِ انْعَقَدَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَسَمَّاهُ اللَّهُ فَتْحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] وسمّي رضى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ يَوْمَئِذٍ سَكِينَةً فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: 4] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَا يَكُونَ لَكُمْ عَهْدٌ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِلْبَوْنِ الْعَظِيمِ بَيْنَ دِينِ التَّوْحِيدِ وَدِينِ الشِّرْكِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اتِّفَاقُ أَهْلَيْهِمَا، أَيْ فَمَا كَانَ الْعَهْدُ الْمُنْعَقِدُ مَعَهُمْ إِلَّا أَمْرًا مُوَقَّتًا بِمَصْلَحَةٍ. فَفِي وَصْفِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِنْكَارِ عَلَى دَوَامِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا فَسَّرْنَا بِهِ وَجْهَ إِضَافَةِ الْبَرَاءَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِسْنَادَ الْعَهْدِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ [التَّوْبَة: 1] . وَمَعْنَى عِنْدَ الِاسْتِقْرَارُ الْمَجَازِيُّ، بِمَعْنَى الدَّوَامِ أَيْ إِنَّمَا هُوَ عَهْدٌ مُوَقَّتٌ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ نَكَثُوا عَهْدَهُمُ الَّذِي عَاهَدُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ أَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ وَالرِّجَالِ عَلَى خُزَاعَةَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ دَاخِلَةً فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ التَّجْهِيزِ لِغَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ، مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ بِ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، أَيْ لَا يَكُونُ عَهْدُ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالَّذِينَ عَاهَدُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: هُمْ بَنُو ضَمْرَةَ، وَبَنُو جُذَيْمَةَ بْنِ الدِّيلِ، مِنْ كِنَانَةَ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ كِنَانَةَ.

فَالْمَوْصُولُ هُنَا لِلْعَهْدِ، وَهُمْ أَخَصُّ مِنَ الَّذِينَ مَضَى فِيهِمْ قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً [التَّوْبَة: 4] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ: التَّنْوِيهُ بِخَصْلَةِ وَفَائِهِمْ بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَدَخَلُوا فِي الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ قُرَيْشٍ بِخُصُوصِهِمْ، زِيَادَةً عَلَى دُخُولِهِمْ فِي الصُّلْحِ الْأَعَمِّ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ، وَلَا ظَاهَرُوا عَدُوًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إِلَى وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ. عَلَى أَنَّ مُعَاهَدَتَهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَبْعَدُ عَنْ مَظِنَّةِ النَّكْثِ لِأَنَّ الْمُعَاهَدَةَ عِنْدَهُ أَوْقَعُ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَلِفِ الْمُجَرَّدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 12] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ مَنْ عَاهَدَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَوَهِّمُ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا بِأَنْ يُعَاهِدَ فَرِيقًا آخَرَ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ مَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ، أَيْ مَا دَامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ لِعَهْدِهِمْ حُرْمَةً زَائِدَةً لِوُقُوعِهِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حول الْكَعْبَة. وفَمَا ظَرْفِيَّةٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْفَاء الدَّاخِلَة على فَاءُ التَّفْرِيعِ. وَالْفَاءُ الْوَاقِعَةُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ فَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَجْرُورَ إِذَا قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ قَدْ يُشْرَبُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَتَدْخُلُ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] لِوُجُوبِ جَعْلِ الْفَاءِ غَيْرَ تَفْرِيعِيَّةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَهَا الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَقَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» بِجَزْمِ الْفِعْلَيْنِ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ أَنْ يُجَاهِدَ وَسَأَلَهُ الرَّسُولُ «أَلَكَ أَبَوَانِ» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» فِي رِوَايَتِهِ بِفَاءَيْنِ. وَالِاسْتِقَامَةُ: حَقِيقَتُهَا عَدَمُ الِاعْوِجَاجِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ اسْتَجَابَ واستحبّ، وَإِذَا قَامَ الشَّيْءُ انْطَلَقَتْ قَامَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اعْوِجَاجٌ، وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ

[سورة التوبة (9) : آية 8]

لِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ، لِأَنَّ سُوءَ الْمُعَامَلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِالْتِوَاءُ وَالِاعْوِجَاجُ، فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّهِ الِاسْتِقَامَةُ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ. وَمَوْقِعُ إِنَّ أَوَّلَهَا، لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّ إِنَّ فِي مِثْلِ هَذَا تُغْنِي غَنَاءَ فَاءٍ، وَقَدْ أَنْبَأَ ذَلِكَ، التَّعْلِيلُ، أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ لَهُمْ مِنَ التَّقْوَى وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مُنَاسِبَةً لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. عَقِبَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ لَهُمْ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ. وَلِأَنَّ فِي الِاسْتِقَامَةِ لَهُمْ حِفْظًا لِلْعَهْدِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْيَمِينِ. [8] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 8] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً. وكَيْفَ هَذِهِ مُؤَكِّدَةٌ ل كَيْفَ [التَّوْبَة: 7] الَّتِي فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَجُمْلَةُ: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَيَجُوزُ أَن يكون مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ [التَّوْبَة: 7] إِخْبَارًا عَنْ دَخَائِلِهِمْ. وَفِي إِعَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِتَوَجُّهِ الْإِنْكَارِ عَلَى دَوَامِ الْعَهْدِ لِلْمُشْرِكِينَ، حَتَّى كَأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِنْكَارِ، لَا مُجَرَّدَ قَيْدٍ لِلْأَمْرِ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْإِنْكَارُ ابْتِدَاءً، فَيَؤُولُ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا النَّظْمِ إِلَى إِنْكَارِ دَوَامِ الْعَهْدِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَاتِهِ، ابْتِدَاءً، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِلَى إِنْكَارِ دَوَامِهِ بِالْخُصُوصِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَهِيَ حَالَةُ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنْ نِيَّةِ الْغَدْرِ إِنْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ وَالْأَمَارَاتُ، كَمَا فَعَلَتْ هَوَازِنُ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ. فَجُمْلَةُ: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ [التَّوْبَة: 7] . وَضَمِيرُ يَظْهَرُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 7] وَمَعْنَى وَإِنْ يَظْهَرُوا إِنْ يَنْتَصِرُوا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفِعْلِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً [التَّوْبَة: 4] . وَالْمَعْنَى: لَوِ انْتَصَرَ الْمُشْرِكُونَ، بَعْدَ ضَعْفِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ جَرَّبُوا من الْعَهْد مَعكُمْ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي قُوَّتِكُمْ، لَنَقَضُوا الْعَهْدَ. وَضَمِيرُ عَلَيْكُمْ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.

وَمَعْنَى لَا يَرْقُبُوا لَا يُوَفُّوا وَلَا يُرَاعُوا، يُقَالُ: رَقَبَ الشَّيْءَ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرَ تَعَهُّدٍ وَمُرَاعَاةٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّقِيبُ، وَسُمِّيَ الْمَرْقَبُ مَكَانُ الْحِرَاسَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمُرَاعَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، لِأَنَّ مَنْ أَبْطَلَ الْعَمَلَ بِشَيْءٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ وَصَرَفَ نَظَرَهُ عَنْهُ. وَالْإِلُّ: الْحِلْفُ وَالْعَهْدُ وَيُطْلَقُ الْإِلُّ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ. وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْسَابٌ وَقَرَابَاتٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا كِلَا مَعْنَيَيْهِ. وَالذِّمَّةُ مَا يَمُتُّ بِهِ مِنَ الْأَوَاصِرِ مِنْ صُحْبَةٍ وَخُلَّةٍ وَجِوَارٍ مِمَّا يَجِبُ فِي الْمُرُوءَةِ أَنْ يُحْفَظَ وَيُحْمَى، يُقَالُ: فِي ذِمَّتِي كَذَا، أَيْ أَلْتَزِمُ بِهِ وَأَحْفَظُهُ. يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، أَيْ هُمْ يَقُولُونَ لَكُمْ مَا يُرْضِيكُمْ، كَيْدًا وَلَوْ تَمَكَّنُوا مِنْكُمْ لَمْ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. مَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا فَيَأْبَاهُ. وَالْإِبَايَةُ: الِامْتِنَاعُ مِنْ شَيْءٍ مَطْلُوبٍ وَإِسْنَادُ الْإِبَايَةِ إِلَى الْقُلُوبِ اسْتِعَارَةٌ، فَقُلُوبُهُمْ لَمَّا نَوَتِ الْغَدْرَ شُبِّهَتْ بِمَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَأْبَى. وَجُمْلَةُ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ فِي يُرْضُونَكُمْ مَقْصُودٌ مِنْهَا الذَّمُّ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفٌ، مَعَ ذَلِكَ، بِالْخُرُوجِ عَنْ مَهْيَعِ الْمُرُوءَةِ وَالرُّجْلَةِ، إِذْ نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ خالعين زِمَام الْحَيَاة، فَجَمَعُوا الْمَذَمَّةَ الدِّينِيَّةَ وَالْمَذَمَّةَ الْعُرْفِيَّةَ. فَالْفِسْقُ هُنَا الْخُرُوجُ عَنِ الْكَمَالِ الْعُرْفِيِّ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْخُرُوجَ عَنْ مَهْيَعِ الدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لِجَمِيعِهِمْ لَا لِأَكْثَرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ وَصفهم بالْكفْر.

[سورة التوبة (9) : آية 9]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 9] اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ الْمُشْعِرِ اسْتِئْنَافُهُ بعجيب حَالهم فيصد اسْتِقْلَالِهِ بِالْأَخْبَارِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَصَفَ الْقُرْآنُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ مَا وَصَفَ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مِنَ الِاشْتِرَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ لَمْ يُوصَفُوا بِمِثْلِ هَذَا فِي آيَةٍ أُخْرَى نَزَلَتْ بَعْدَهَا لِأَنَّ نُزُولَهَا كَانَ فِي آخِرِ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ بِالشِّرْكِ إِذْ لَمْ تَطُلْ مُدَّةٌ حَتَّى دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، سَنَةَ الْوُفُودِ وَمَا بَعْدَهَا، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ، بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُعْظَمِ بِلَادِ الْعَرَبِ، لَيْسَ لَهُم افتراء فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ ونهوض حجّته، وَلكنه بَقُوا عَلَى الشِّرْكِ لِمَنَافِعَ يَجْتَنُونَهَا مِنْ عَوَائِدِ قَوْمِهِمْ: مِنْ غَارَاتٍ يَشُنُّهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَحَبَّةِ الْأَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ خَمْرٍ وَمَيْسِرٍ وَزِنًى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المذمات واللذّات الْفَائِدَة، وَذَلِكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ «آثَرُوهُ عَلَى الْهُدَى وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ. فَلِكَوْنِ آيَاتِ صِدْقِ الْقُرْآنِ أَصْبَحَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ جُعِلَتْ مِثْلَ مَال بِأَيْدِيهِم، بذلوه وَفَرَّطُوا فِيهِ لِأَجْلِ اقْتِنَاءِ مَنَافِعَ قَلِيلَةٍ، فَلِذَلِكَ مُثِّلَ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِشَيْءٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [16] . وَالْمرَاد ب «الْآيَات» الدَّلَائِلُ، وَهِيَ دَلَائِلُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْحِجَاجِ وَالْإِعْجَازِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِ اللَّهِ بَاءُ التَّعْوِيضِ. وَشَأْنُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ يَبْذُلُهُ مَالِكُهُ لِأَخْذِ مُعَوَّضٍ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، فَجُعِلَتْ آيَاتُ اللَّهِ كَالشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَهُمْ لِأَنَّهَا تَقَرَّرَتْ دَلَالَتُهَا عِنْدَهُمْ ثُمَّ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَاسْتَبْدَلُوهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْعِوَضِ الْمُشْتَرَى بِاسْمِ ثَمَنِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَبْذُولًا لَا مُقْتَنًى جَارٍ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِمَنَافِعِ أَهْوَائِهِمْ بِالثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فَحَصَلَ مِنْ فِعْلِ اشْتَرَوْا وَمِنْ لَفْظِ ثَمَناً اسْتِعَارَتَانِ بِاعْتِبَارَيْنِ.

[سورة التوبة (9) : آية 10]

وَجُمْلَةُ: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ لِأَنَّ إِيثَارَهُمُ الْبَقَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُدُّوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَمُثِّلَ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنْ يَصُدُّ النَّاسَ عَنِ السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ تُبَلِّغُ إِلَى الْمَقْصُود. ومفعول فَصَدُّوا مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ: صَدُّوا كُلَّ قَاصِدٍ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا، فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِيَظْهَرَ اسْتِقْلَالُهَا بِالْأَخْبَارِ، وَأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُعْطَفَ فِي الْكَلَامِ، إِذِ الْعَطْفُ يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ بِمَنْزِلَةِ التَّكْمِلَةِ لِلْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا. وَافْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الذَّمِّ لَهُمْ. وساءَ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ، مِنْ بَابِ بِئْسَ، وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ. وَعُبِّرَ عَنْ عَمَلِهِمْ بِ كانُوا يَعْمَلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ دَأْبٌ لَهُمْ ومتكرّر مِنْهُم. [10] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 10] لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً. يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [التَّوْبَة: 9] لِأَنَّ انْتِفَاءَ مُرَاعَاةِ الْإِلِّ وَالذِّمَّةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُوءُ عَمَلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابتدئ بِهِ للاهتمام بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. وَقَدْ أَفَادَتْ مَعْنًى أَعَمَّ وَأَوْسَعَ مِمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التَّوْبَة: 8] لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْحُكْمِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِشَرْطِ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [التَّوْبَة: 8] يُفِيدُ أَنَّ عَدَمَ مُرَاعَاتِهِمْ حَقَّ الْحِلْفِ وَالْعَهْدِ خلق متأصّل فيهم، سَوَاءً كَانُوا أَقْوِيَاءَ أَمْ مُسْتَضْعَفِينَ، وَإِنَّ ذَلِكَ لِسُوءِ طَوِيَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. وَالْإِلُّ وَالذِّمَّةُ تَقَدَّمَا قَرِيبًا.

[سورة التوبة (9) : آية 11]

وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ إِثْبَاتَ الِاعْتِدَاءِ الْعَظِيمِ لَهُمْ، نَشَأَ عَنِ الْحِقْدِ، الشَّيْءِ الَّذِي أَضْمَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8] . وَالْقَصْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اعْتِدَائِهِمْ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَظِيمٌ بَاطِنِيٌّ عَلَى قَوْمٍ حَالَفُوهُمْ وَعَاهَدُوهُمْ، وَلَمْ يلْحقُوا بهم ضرّ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ: هُمُ الْمُعْتَدُونَ لَا أَنْتُم لأنّهم بدأوكم بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي قَضِيَّةِ خُزَاعَةَ وَبَنِي الدِّيلِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي غَزْوَة الْفَتْح. [11] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 11] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ. تَفْرِيعُ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ لِتَعْقِيبِ الشِّدَّةِ بِاللِّينِ إِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنْ عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِقَصْدِ مَحْوِ أَثَرِ الْحَنَقِ عَلَيْهِمْ إِذَا هُمْ أَسْلَمُوا أَعْقَبَ بِهِ جُمْلَةَ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- الْمُعْتَدُونَ [التَّوْبَة: 9، 10] تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ تَدَارُكَهُمْ أَمْرَهُمْ هَيِّنٌ عَلَيْهِمْ، وَفَرَّعَ عَلَى التَّوْبَةِ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِخْوَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا لِذِكْرِ عَدَاوَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ جُعِلَتْ تَوْبَتُهُمْ سَبَبًا لِلْأُخُوَّةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التَّوْبَة: 5] حَيْثُ إِنَّ الْمُعَقَّبَ بِالتَّوْبَةِ هُنَالِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ وَالتَّرَصُّدِ لَهُمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَى تَوْبَتِهِمْ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِسُوءٍ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ تُوجِبُ أَمْنَهُمْ وَأُخُوَّتَهُمْ. وَمِنْ لَطَائِفِ الْآيَتَيْنِ أَنْ جُعِلَتِ الْأُخُوَّةُ مَذْكُورَةً ثَانِيًا لِأَنَّهَا أَخَصُّ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ تَوْبَتِهِمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةً لِأُخْتِهَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ. وَقَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ. وَصِيغَ هَذَا الْخَبَرُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ يَقْتَضِي ثَبَاتَ الْأُخُوَّةِ وَدَوَامَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ يَعُودُونَ كَالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ مِنْ قَبْلُ فِي أَصْلِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ.

وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَأُطْلِقَتِ الْأُخُوَّةُ هُنَا عَلَى الْمَوَدَّةِ وَالصَّدَاقَةِ. وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فِي الدِّينِ مَجَازِيَّةٌ: تَشْبِيهًا لِلْمُلَابَسَةِ الْقَوِيَّةِ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ زِيَادَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. اعْتِرَاضٌ وَتَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التَّوْبَة: 9] أَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَنَبَذُوهَا عَلَى عِلْمٍ بِصِحَّتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: 23] ، وَبِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ فَرْضِ تَوْبَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ إِذَا أَقْلَعُوا عَنْ إِيثَارِ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاحِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جَامِعًا لِلْحَالَيْنِ، دَالًّا عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التَّوْبَة: 9] آيَاتٌ وَاضِحَةٌ مُفَصَّلَةٌ، وَأَنَّ عَدَمَ اهْتِدَاءِ هَؤُلَاءِ بِهَا لَيْسَ لِنَقْصٍ فِيهَا وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهَا قَوْمٌ يَعْلَمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا فَقَدْ كَانُوا مِنْ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَرَوْا بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا فَلَيْسُوا مِنْ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فَنُزِّلَ عِلْمُهُمْ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لِانْعِدَامِ أَثَرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ، وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمُسَاوَاتِهِمْ لِغَيْرِ أَهْلِ الْعُقُولِ كَقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] . وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ إِذْ أُرِيدَ بِهِ: لِقَوْمٍ ذَوِي عِلْمٍ وَعَقْلٍ. وَعُطِفَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ بِهِ أَعْلَقُ، لِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا فَقَدْ صَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا مِنْ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ، إِذْ سَاوَوُا الْمُسْلِمِينَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِالْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ. وَمَعْنَى التَّفْصِيلِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ من سُورَة الْأَنْعَام [55] .

[سورة التوبة (9) : آية 12]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 12] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) لَمَّا اسْتَوْفَى الْبَيَانَ لِأَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عَهْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التَّوْبَة: 3] وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِبْطَانِهِمُ الْغَدْرَ، وَالَّذِينَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ [التَّوْبَة: 4] الْآيَاتِ، وَالَّذِينَ يَسْتَجِيبُونَ عَطَفَ عَلَى أُولَئِكَ بَيَانَ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ بِنَكْثِ الْعَهْدِ، وَيُعْلِنُونَ بِمَا يُسْخِطُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَهَذَا حَالٌ مُضَادٌّ لِحَالِ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ [التَّوْبَة: 8] . وَالنَّكْثُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي الْأَعْرَافِ [135] . وَعَبَّرَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ بِنَكْثِ الْأَيْمَانِ تَشْنِيعًا لِلنَّكْثِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ يُقَارِنُهُ الْيَمِينُ عَلَى الْوَفَاءِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْعَهْدُ حِلْفًا. وَزِيدَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ زِيَادَةً فِي تَسْجِيلِ شَنَاعَةِ نَكْثِهِمْ: بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ غَدْرٌ لِعَهْدٍ، وَحَنْثٌ بِالْيَمِينِ. وَالطَّعْنُ حَقِيقَتُهُ خَرْقُ الْجِسْمِ بِشَيْءٍ مُحَدَّدٍ كَالرُّمْحِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الثَّلْبِ. وَالنِّسْبَةُ إِلَى النَّقْصِ، بِتَشْبِيهِ عِرْضِ الْمَرْءِ، الَّذِي كَانَ مُلْتَئِمًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، بِالْجَسَدِ السَّلِيمِ. فَإِذَا أُظْهِرَتْ نَقَائِصُهُ بِالثَّلْبِ وَالشَّتْمِ شُبِّهَ بِالْجِلْدِ الَّذِي أُفْسِدَ الْتِحَامُهُ. وَالْأَمْرُ، هُنَا: لِلْوُجُوبِ، وَهِيَ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 5] فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ذَبًّا عَنْ حُرْمَةِ الدِّينِ، وَقَمْعًا لِشَرِّهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ. وأَئِمَّةَ جَمْعُ إِمَامٍ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ قُدْوَةً فِي عَمَلٍ يُعْمَلُ عَلَى مِثَالِهِ، أَوْ عَلَى مِثَالِ عَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [الْقَصَص: 5] أَيْ مُقْتَدًى بِهِمْ، وَقَالَ لَبِيدٌ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا

وَالْإِمَامُ الْمِثَالُ الَّذِي يُصْنَعُ عَلَى شَكْلِهِ، أَوْ قَدْرِهِ، مَصْنُوعٌ، فَأَئِمَّةُ الْكُفْرِ، هُنَا: الَّذِينَ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِيهِ، بِحَيْثُ صَارُوا قُدْوَةً لِأَهْلِ الْكُفْرِ. وَالْمُرَادُ بِأَئِمَّةِ الْكُفْرِ: الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ، فَوُضِعَ هَذَا الِاسْمُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ حِينَ لَمْ يُقَلْ: فَقَاتِلُوهُمْ، لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِبُلُوغِهِمْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ مِنَ الْكُفْرِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَضْمَرُوا النَّكْثَ يَبْقُونَ مُتَرَدِّدِينَ بِإِظْهَارِهِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بَعْضُهُمْ بِإِظْهَارِ النَّقْضِ اقْتَدَى بِهِمُ الْبَاقُونَ، فَكَانَ النَّاقِضُونَ أَئِمَّةً لِلْبَاقِينَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ تَعْلِيلٌ لِقِتَالِهِمْ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ لِأَجْلِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفُوهَا عَلَى السَّلْمِ، فَغَدَرُوا، وَفِيهِ بَيَانٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَيْلَا يَشْرَعُوا فِي قِتَالِهِمْ غَيْرَ مُطَّلِعِينَ عَلَى حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِهِ، فَيَكُونُ قِتَالُهُمْ لِمُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا يُشَحِّذُ شِدَّتَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَنَفْيُ الْأَيْمَانِ لَهُمْ: نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ الْحَقِّ لِلْيَمِينِ، وَهِيَ قَصْدُ تَعْظِيمِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُوفُوا بِأَيْمَانِهِمْ، نَزَلَتْ أَيْمَانُهُمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لفقدان أخصّ خواصّها وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا اقْتَضَتْهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ. أَيِّمَةَ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ. وَقَرَأَ هِشَامٌ عَنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِمَدٍّ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا أَيْمانَ لَهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَيْمانَ عَلَى أَنَّهُ جَمَعُ يَمِينٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-، أَيْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ لَا عَهْدَ لَهُ لِانْتِفَاءِ الْوَازِعِ. وَعَطْفُ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ عَطْفُ قَسِيمٍ عَلَى قَسِيمِهِ، فَالْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى (أَوْ) . فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ: الَّذَيْنِ هُمَا نَكْثُ الْأَيْمَانِ، وَالطَّعْنُ فِي الدِّينِ، كَانَ حُصُولُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِقِتَالِهِمْ، أَيْ دُونَ مُصَالَحَةٍ، وَلَا عَهْدٍ، وَلَا هُدْنَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذِكْرُ طَعْنِهِمْ فِي دين الْمُسلمين ينبىء بَأَنَّ ذَلِكَ الطَّعْنَ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمْ فِي مُدَّةِ الْمُعَاهَدَةِ، فَأُرِيدَ صَدُّهُمْ عَنِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ

[سورة التوبة (9) : آية 13]

فِي عُقُودِ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَطْعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ، فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا شَرْطًا عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصْبَحُوا فِي قُوَّةٍ. وَقَوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أَمْرٌ لِلْوُجُوبِ. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يَجُوزُ أَنْ تكون تعليلا للجملة فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أَيْ قِتَالَهُمْ لِرَجَاءِ أَنْ يَنْتَهُوا، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْقِتَالَ يُفْنِي كَثِيرًا مِنْهُمْ، فَالِانْتِهَاءُ الْمَرْجُوُّ انْتِهَاءُ الْبَاقِينَ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ يَنْتَهُونَ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِانْتِهَاءُ عَنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، لِأَنَّ عَهْدَهُمْ لَا يُقْبَلُ بَعْدَ أَنْ نَكَثُوا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الِانْتِهَاءُ عَنِ الطَّعْنِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ طَعْنُهُمْ فِي دِينِنَا حَاصِلًا فِي مُدَّةِ قِتَالِهِمْ فَلَا جَدْوَى لِرَجَاءِ انْتِهَائِهِمْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِذْ لَا غَايَةَ لِتَنْهِيَةِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عَنِ الْكُفْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لَا اتِّصَالَ لَهَا بِجُمْلَةِ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الْآيَةَ، بَلْ نَاشِئَةً عَنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ- إِلَى قَوْله- أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 5- 12] . وَالْمَعْنَى: الْمَرْجُوُّ أَنَّهُمْ يَنْتَهُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَيُسْلِمُونَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَبَعْدَ حُنَيْنٍ، وَلَمْ يَقَعْ نَكْثٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا فِي سنة الْوُفُود. [13] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 13] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) تَحْذِيرٌ مِنَ التَّوَانِي فِي قِتَالِهِمْ عَدَا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِمْ، وَأَسْرِهِمْ، وَحِصَارِهِمْ، وَسَدِّ مَسَالِكِ النَّجْدَةِ فِي وُجُوهِهِمْ، بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: 5] . وَبَعْدَ أَنْ أُثْبِتَتْ لَهُمْ ثَمَانِيَةُ خِلَالٍ تُغْرِي بِعَدَمِ

الْهَوَادَةِ فِي قِتَالِهِمْ، وَهِيَ قَوْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ [التَّوْبَة: 7] وَقَوْلُهُ: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [التَّوْبَة: 8] وَقَوْلُهُ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ [التَّوْبَة: 8] وَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ [التَّوْبَة: 8] وَقَوْلُهُ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التَّوْبَة: 9] وَقَوْلُهُ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التَّوْبَة: 10] وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التَّوْبَة: 10] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 12] . فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ تَحْذِيرًا مِنَ التَّرَاخِي فِي مُبَادَرَتِهِمْ بِالْقِتَالِ. وَلَفْظُ أَلا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ حَرْفَيْنِ: هُمَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَ (لَا) النَّافِيَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرْفًا وَاحِدًا لِلتَّحْضِيضِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّور: 22] . فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا، عَلَى انْتِفَاءِ مقاتلة الْمُشْركين فِي الْمُسْتَقْبل، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ، فَيَكُونُ دَفْعًا لِأَنْ يَتَوَهَّمَ الْمُسْلِمُونَ حُرْمَةً لِتِلْكَ الْعُهُودِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، تَقْرِيرًا عَلَى النَّفْيِ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ فَاسْتَوْجَبَ طَلَبَ إِقْرَارِهِ بِتَرْكِهِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَمَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى الْقِتَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَفِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ أَلا الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ النَّفْيِ تَخْتَصُّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَسَلَّمَهُ شَارِحَاهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» يُنَادِي عَلَى خِلَافِهِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَلا حَرْفًا وَاحِدًا لِلتَّحْضِيضِ فَهُوَ تَحْضِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ. وَجَعَلَ فِي «الْمُغْنِي» هَذِهِ الْآيَةَ مِثَالًا لِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْذِيرِ وَلَعَلَّ مُوجِبَ هَذَا التَّفَنُّنِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِقِتَالِهِمْ مَعَ بَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ فَرِحُوا بِالنَّصْرِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَالُوا إِلَى اجْتِنَاءِ ثَمَرَةِ السَّلْمِ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمَّا أُمِرُوا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَظِنَّةَ التَّثَاقُلِ عَنْهُ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ، بَعْدَ أَنْ فَازُوا بِسُمْعَةِ النَّصْرِ، وَفِي قَوْلِهِ عَقِبَهُ أَتَخْشَوْنَهُمْ مَا يَزِيدُ هَذَا وُضُوحًا. أَمَّا نَكْثُهُمْ أَيْمَانَهُمْ فَظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 4]- وَقَوْلِهِ- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ [التَّوْبَة: 4] الْآيَةَ. وَذَلِكَ نَكْثُهُمْ عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ إِذْ أَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ جَانِبِ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ هَمٌّ حَصَلَ مَعَ نَكْثِ أَيْمَانِهِمْ وَأَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَيْ نَفْيُهُ عَنْهَا لِأَنَّ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ أَمْرٌ قَدْ مَضَى مُنْذُ سِنِينَ، وَلِأَنَّ إِلْجَاءَهُ إِلَى الْقِتَالِ لَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْإِخْرَاجِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَمَّهُمْ هَذَا أَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَبَّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَكَثُوا الْعَهْدَ طَمِعُوا فِي إِعَادَةِ الْقِتَالِ وَتَوَهَّمُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصُورِينَ وَأَنَّهُمْ إِنِ انْتَصَرُوا أَخْرَجُوا الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من الْمَدِينَة. و (الْهم) هُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَمِ انْصَرَفَ عَنْهُ. وَمُؤَاخَذَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْهَمِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُخْرِجُوهُ، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَجْدَرُ أَنْ يَنْعَى عَلَيْهِمِ الْإِخْرَاجَ لَا الْهَمَّ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التَّوْبَة: 40] وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ إِلَّا لَمَّا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَنْفِيذِهِ، فَعَنِ الْحَسَنِ: هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ غَزَوْهُ فِي أُحُدٍ وَحِينَ غَزَوْا غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ، أَيْ فَكَفَاهُ اللَّهُ سُوءَ مَا هَمُّوا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ قَبْلَ انْعِقَادِ الْعَهْدِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ قَبَائِلُ كَانُوا مُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَكَثُوا الْعَهْدَ سَنَةَ ثَمَانٍ، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَمُّوا بِنَجْدَةِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْح، والغدر بالنّبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَأْتُوهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَيَكُونُوا هُمْ وَقُرَيْشٌ أَلْبًا وَاحِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيُخْرِجُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَمُّوا، وَفَضَحَ دَخِيلَتَهُمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَنَبْذِ عَهِدِهِمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَلَا نَدْرِي أَقَاتَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَ إِعْلَانُ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ) سَبَبًا فِي إِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، تَحْقِيقًا لِلرَّجَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [التَّوْبَة: 12] وَلَعَلَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَدْ أَعْلَنُوا الْحَرْبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ نَاكِثِينَ الْعَهْدَ، وَأَمَدُّوا قُرَيْشًا بِالْعُدَدِ، فَلَمَّا لَمْ تَنْشِبْ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَيِسُوا مِنْ نُصْرَتِهِمْ فَرَجَعُوا إِلَى دِيَارِهِمْ، وَأَغْضَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِغَدْرِهِمْ، وَبَقِيَ عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَاسْتَمَرَّ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَوْله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

أَيْ كَانُوا الْبَادِئِينَ بِالنَّكْثِ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا انْتَصَرُوا لِأَحْلَافِهِمْ مِنْ كِنَانَةَ، فَقَاتَلُوا خُزَاعَةَ أَحْلَافَ الْمُسْلِمِينَ. وأَوَّلَ مَرَّةٍ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِضَافَةُ أَوَّلَ إِلَى مَرَّةٍ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَرَّةً أُولَى وَالْمَرَّةُ الْوَحْدَةُ مِنْ حَدَثَ يحدث، فَمَعْنَى بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدأوكم أَوَّلَ بَدْءٍ بِالنَّكْثِ، أَيْ بَدْءًا أَوَّلَ فَالْمَرَّةُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِلْوَحْدَةِ مِنْ فِعْلٍ مَا، وَالْأَغْلَبُ أَنْ يُفَسَّرَ إِبْهَامُهُ بِالْمَقَامِ، كَمَا هُنَا، وَقَدْ يُفَسِّرُهُ اللَّفْظُ. وأَوَّلَ اسْمِ تَفْضِيلٍ جَاءَ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفُهُ مُؤَنَّثًا لَفْظًا، لِأَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ بِدَلَالَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَيُقَالُ: ثَانِيَ مَرَّةٍ وَثَالِثَ مَرَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَهْدِيدُهُمْ عَلَى النَّكْثِ الَّذِي أَضْمَرُوهُ، وَأَنَّهُ لَا تَسَامُحَ فِيهِ. وَعَلَى كُلٍّ فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِمَّا إِخْرَاجُهُ مِنْ مَكَّةَ مُنْهَزِمًا بَعْدَ أَنْ دَخَلَهَا ظَافِرًا، وَإِمَّا إِخْرَاجُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَيْهَا عَقِبَ الْفَتْحِ، بِأَنْ يَكُونُوا قَدْ هَمُّوا بِغَزْوِ الْمَدِينَةِ وَإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَتَشْتِيتِ جَامِعَةِ الْإِسْلَامِ. وَجُمْلَةُ أَتَخْشَوْنَهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا تُقاتِلُونَ فَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا إِنْكَارٌ أَوْ تَقْرِيرٌ عَلَى سَبَبِ التَّرَدُّدِ فِي قِتَالِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيَنْتَفِي قِتَالُكُمْ إِيَّاهُمْ لِخَشْيِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ جُمْلَةُ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ أَيْ فَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِقِتَالِهِمْ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِذَا خَطَرَ فِي نُفُوسِكُمْ خَاطِرُ عَدَمِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ مِنَ اللَّهِ وَعَدَمَ التَّرَدُّدِ فِي نَجَاحِ الِامْتِثَالِ لَهُ. وَجِيءَ بِالشَّرْطِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ، لِقَصْدِ إِثَارَةِ هِمَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ فَيُبَرْهِنُوا عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا يُقَدِّمُونَ خَشْيَةَ اللَّهِ عَلَى خَشْيَةِ النَّاسِ

[سورة التوبة (9) : الآيات 14 إلى 15]

[14، 15] [سُورَة التَّوْبَة (9) : الْآيَات 14 الى 15] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْعَوْدِ مِنْ غَرَضِ التَّحْذِيرِ، إِلَى صَرِيحِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 12] وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْعَوْدِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ بِاسْتِئْنَافٍ كَمَا وَقَعَ هُنَا. وَجُزِمَ يُعَذِّبْهُمُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَفِي جَعْلِهِ جَوَابًا وَجَزَاءً أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ خَمْسَ فَوَائِدَ تَنْحَلُّ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ إِذْ تَشْتَمِلُ كُلُّ فَائِدَةٍ مِنْهَا عَلَى كَرَامَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِهَانَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَرُوعِيَ فِي كُلِّ فَائِدَةٍ مِنْهَا الْغَرَضُ الْأَهَمُّ فَصَرَّحَ بِهِ وَجَعَلَ مَا عَدَاهُ حَاصِلًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ. الْفَائِدَةُ الْأَوْلَى تَعْذِيبُ الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ إِهَانَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَكَرَامَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. الثَّانِيَةُ: خِزْيُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ عِزَّةَ الْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثَةُ: نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ كَرَامَةٌ صَرِيحَةٌ لَهُمْ وَتَسْتَلْزِمُ هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ إِهَانَةٌ لَهُمْ. الرَّابِعَةُ: شِفَاءُ صُدُورِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي شِفَاءِ صُدُورِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ خُزَاعَةُ، وَتَسْتَلْزِمُ شِفَاءَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَتَسْتَلْزِمُ حَرَجَ صُدُورِ أَعْدَائِهِمْ فَهَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ فِي فَائِدَةٍ. الْخَامِسَةُ: إِذْهَابُ غَيْظِ قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَهَذِهِ تَسْتَلْزِمُ ذَهَابَ غَيْظِ بَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي تَحَمَّلُوهُ مِنْ إِغَاظَةِ أَحْلَامِهِمْ وَتَسْتَلْزِمُ غَيْظَ قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ فِي فَائِدَةٍ. وَالتَّعْذِيبُ تَعْذِيبُ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَةِ. وَأُسْنِدَ التَّعْذِيبُ إِلَى اللَّهِ وَجُعِلَتْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ آلَةً لَهُ تَشْرِيفًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْإِخْزَاءُ: الْإِذْلَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَهُوَ هُنَا الْإِذْلَالُ بِالْأَسْرِ.

وَالنَّصْرُ حُصُولُ عَاقِبَةِ الْقِتَالِ الْمَرْجُوَّةِ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَالشِّفَاءُ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَمُعَالَجَةُ زَوَالِهِ. أُطْلِقَ هُنَا اسْتِعَارَةً لِإِزَالَةِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ تَعَبِ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ، كَمَا اسْتُعِيرَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْمَرَضُ لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: 10] قَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ: شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حمل بن يدّر ... وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شفاني وَإِضَافَة ال صُدُورَ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ دُونَ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَشْفِي اللَّهُ صُدُورَهُمْ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقِتَالِ، وَهُمْ أَقْوَامٌ كَانَتْ فِي قُلُوبِهِمْ إِحَنٌ عَلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوْهُمْ وَأَعَانُوا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مُحَافِظِينَ على عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَكَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِقِتَالِهِمْ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِنَقْضِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ سُرُّوا بِذَلِكَ وَفَرِحُوا، فَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ تُغَايِرُ حَالَتُهُ حَالَةَ الْفَرِيقِ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ فِيهِ. فَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْقَوْمَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ خُزَاعَة حلفاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ نُفُوسُ خُزَاعَةَ إِحَنٌ عَلَى بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ بِالْقِتَالِ، وَفِي ذِكْرِ هَذَا الْفَرِيقِ زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ عَلَى الْقِتَالِ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ فَوَائِدِهِ، وَبِمُقَارَنَةِ حَالِ الرَّاغِبِينَ فِيهِ بِحَالِ الْمُحَرِّضِينَ عَلَيْهِ، الْمَلْحُوحِ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ. وَعَطْفُ فِعْلِ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ عَلَى فِعْلِ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، يُؤْذِنُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِي فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الْمَفْهُومَيْنِ وَالْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ ذَهَابُ غَيْظِ الْقُلُوبِ مُسَاوِيًا لِشِفَاءِ الصُّدُورِ، فَيَحْصُلُ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، مَعَ بَيَانِ مُتَعَلِّقِ الشِّفَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون الِاخْتِلَاف بالمصداق مَعَ اخْتِلَافِ الْمَفْهُومِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِشِفَاءِ الصُّدُورِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَسَرَّةِ وَالِانْشِرَاحِ بِالنَّصْرِ، وَالْمُرَادُ بِذَهَابِ الْغَيْظِ اسْتِرَاحَتَهُمْ مِنْ تَعَبِ الْغَيْظِ، وَتَحَرُّقِ الْحِقْدِ. وَضَمِيرُ قُلُوبِهِمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فَهُمْ مَوْعُودُونَ بِالْأَمْرَيْنِ: شِفَاءُ صُدُورِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَذَهَابُ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ عَلَى نَكْثِ الَّذِينَ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ. وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ الْمَشُوبُ بِإِرَادَةِ الِانْتِقَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سورة التوبة (9) : آية 16]

وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَيْسَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، بَلْ لِذِكْرِ مَنْ لَمْ يُقْتَلُوا، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ فِيهَا مَرْفُوعًا، فَدَلَّ هَذَا النَّظْمُ عَلَى أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ خَانُوا وَغَدَرُوا، وَلَمْ يُقْتَلُوا، بَلْ أَسْلَمُوا مِنْ قَبْلِ هَذَا الْأَمْرِ أَوْ بَعْدَهُ. وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: هِيَ قَبُولُ إِسْلَامِهِمْ أَوْ دُخُولُهُمْ فِيهِ، وَفِي هَذَا إِعْذَارٌ وَإِمْهَالٌ لِمَنْ تَأَخَّرَ. وَإِنَّمَا لَمْ تُفْصَلِ الْجُمْلَةُ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا مِنْ بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَنَاسَبَ انْتِظَامَهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا. فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَسُلَيْمِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو (ذكر هَذَا الثَّالِثَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي الصَّحَابَةِ) . وَالتَّذْيِيلُ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُ النَّاسَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ نِيَّاتِهِمْ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا فِيهِ تَحْقِيقُ الْحِكْمَةِ، فَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تكثيرا للصلاح. [16] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِإِفَادَةِ الْإِضْرَابِ عَنْ غَرَضٍ مِنَ الْكَلَامِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ. وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِفْهَامِ دَائِمًا، فَقَوْلُهُ: حَسِبْتُمْ فِي قُوَّةِ (أَحَسِبْتُمْ) وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ إِنْكَارِيٌّ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ فِي مُدَّةِ إِسْلَامِهِمْ، فَشَمِلَ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ.

وَحَسِبْتُمْ: ظَنَنْتُمْ. وَمَصْدَرُ حَسِبَ، بِمَعْنَى ظَنَّ الْحِسْبَانُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- فَأَمَّا مَصْدَرُ حَسِبَ بِمَعْنَى أَحْصَى الْعَدَدَ فَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ. وَالتَّرْكُ افْتِقَادُ الشَّيْءِ وَتَعَهُّدُهُ، أَيْ: أَنْ يَتْرُكَكُمُ اللَّهُ، فَحُذِفَ فَاعِلُ التَّرْكِ لِظُهُورِهِ. وَلَا بُدَّ لِفِعْلِ التَّرْكِ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِمُتَعَلِّقٍ: مِنْ حَالٍ أَوْ مَجْرُورٍ، يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُفَارِقُ فِيهَا التَّارِكُ مَتْرُوكَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] وَمِثْلِ قَوْلِ عَنْتَرَةَ: فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ وَقَوْلِ كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْدِ يكَرِبَ، عَلَى لِسَانِ شَقِيقِهَا عَبْدِ اللَّهِ حِينَ قَتَلَتْهُ بَنُو مَازِنِ بْنِ زُبَيْدٍ فِي بَلَدِ صَعْدَةَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ: وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِصَعْدَةِ مُظْلِمِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تُتْرَكُوا فِي الْآيَةِ: لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَيْ أَنْ تُتْرَكُوا دُونَ جِهَادٍ، أَيْ أَنْ تُتْرَكُوا فِي دَعَةٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَالْمَعْنَى: كَيْفَ تَحْسَبُونَ أَنْ تُتْرَكُوا، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تُتْرَكُوا دُونَ جِهَادٍ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَجُمْلَةُ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُتْرَكُوا أَيْ لَا تَظُنُّوا أَنْ تُتْرَكُوا فِي حَالِ عَدَمِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِوُقُوعِ ابْتِدَارِ الْمُجَاهِدِينَ لِلْجِهَادِ، وَحُصُولِ تَثَاقُلِ مَنْ تَثَاقَلُوا، وَحُصُولِ تَرْكِ الْجِهَادِ مِنَ التَّارِكِينَ. ولَمَّا حَرْفٌ لِلنَّفْيِ، وَهِيَ أُخْتُ (لَمْ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (لَمْ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: 214] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [142] . وَمَعْنَى عِلْمِ اللَّهِ بِالَّذِينَ جَاهَدُوا: عِلْمُهُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَحُصُولِ امْتِثَالِهِمْ، وَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى الْأَزَلِيِّ بِأَنَّ الشَّيْءَ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ، وَيَجْدُرُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سورة التوبة (9) : آية 17]

وَ (الْوَلِيجَةُ) فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيِ الدَّخِيلَةُ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الَّتِي يُخْفِيهَا فَاعِلُهَا، فَكَأَنَّهُ يُولِجُهَا، أَيْ يُدْخِلُهَا فِي مَكْمَنٍ بِحَيْثُ لَا تَظْهَرُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: مَا يَشْمَلُ الْخَدِيعَةَ وَإِغْرَاءَ الْعَدُوِّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَشْمَلُ اتِّخَاذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ يُخْلِصُ إِلَيْهِمْ وَيُفْضِي إِلَيْهِمْ بِسِرِّ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ تَنْكِيرَ وَلِيجَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ سَائِرَ أَفْرَادِهَا. ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ وَلِيجَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَلِيجَةً كَائِنَةً فِي حَالَةِ تَشْبِيهِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأٌ لِلْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ الْحُسْبَانِ، أَيْ: لَا تَحْسَبُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِكُلِّ مَا تعملونه. [17] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 17] مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) هَذَا ابْتِدَاءُ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْبَرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 1] وَلِمَا اتَّصَلَ بِتِلْكَ الْآيَةِ مِنْ بَيَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ . وَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَة: 28] . وَتَرْكِيبُ (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بُعَدَاءُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] ، أَيْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ بِمَا تُعْمَرُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ.

وَ (مَساجِدَ اللَّهِ) مَوَاضِعُ عِبَادَتِهِ بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ: الْمُرَادُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَسْعَى، وَعَرَفَةَ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْجَمَرَاتِ، وَالْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى. وَعَمْرُ الْمَسَاجِدِ: الْعِبَادَةُ فِيهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا وُضِعَتْ لِلْعِبَادَةِ، فَعَمْرُهَا بِمَنْ يَحِلُّ فِيهَا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ اشْتُقَّتِ الْعُمْرَةُ، وَالْمَعْنَى: مَا يَحِقُّ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ. وَإِنَاطَةُ هَذَا النَّفْيِ بِهِمْ بِوَصْفِ كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ: إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الشِّرْكَ مُوجِبٌ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ مُبَيِّنًا لِسَبَبِ بَرَاءَتِهِمْ مِنْ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَعْمُرُوا فَبَيَّنَ عَامِلَ الضَّمِيرِ وَهُوَ يَعْمُرُوا الدَّاخِلَ فِي حُكْمِ الِانْتِفَاءِ، أَيْ: انْتَفَى تَأَهُّلُهُمْ لِأَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ بِحَالِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَكَانَ لِهَذِهِ الْحَالِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهَذَا الْحِرْمَانِ الْخَاصِّ مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْحِرْمَانُ الَّذِي لَا اسْتِحْقَاقَ بَعْدَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ، أَيْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، فَالْكُفْرُ مُرَادِفٌ لِلشِّرْكِ، فَالْكُفْرُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُوجِبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنْ عِمَارَةِ أَصْحَابِهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا، ثُمَّ هِيَ قَدْ أُقِيمَتْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلَ مَسْجِدٍ وَهُوَ الْكَعْبَةُ عُنْوَانًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَإِعْلَانًا بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] ، فَهَذِهِ أَوَّلُ دَرَجَةٍ مِنَ الْحِرْمَانِ. ثُمَّ كَوْنُ كُفْرِهِمْ حَاصِلًا بِاعْتِرَافِهِمْ بِهِ مُوجِبٌ لِانْتِفَاءِ أَقَلِّ حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِمَارَةِ، وَلِلْبَرَاءَةِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَهَذِهِ دَرَجَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ الْحِرْمَانِ. وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حَاصِلَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ ذَلِكَ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» ، وَمِثْلَ سُجُودِهِمْ لِلْأَصْنَامِ، وَطَوَافِهِمْ بِهَا، وَوَضْعِهِمْ إِيَّاهَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَحَوْلَهَا وَعَلَى سَطْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِإِفْرَادِ مَسْجِدَ اللَّهِ أَيِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، أَوِ التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ لِلْجِنْسِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: مَساجِدَ اللَّهِ، فَيَعُمُّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَا عَدَدْنَاهُ مَعَهُ آنِفًا.

[سورة التوبة (9) : آية 18]

وَجُمْلَةُ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ابْتِدَاءُ ذَمٍّ لَهُمْ، وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَمَيَّزُوا بِوَصْفِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] الْآيَةَ. وحَبِطَتْ بَطَلَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] . وَتَقْدِيمُ فِي النَّارِ عَلَى خالِدُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَيَحْصُلُ مِنْهُ تَعْجِيلُ الْمَسَاءَةِ لِلْكُفَّارِ إِذا سَمِعُوهُ. [18] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) مَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ، لِأَنَّ جُمْلَةَ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 17] لَمَّا اقْتَضَتْ إِقْصَاءَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسَاجِدِ كَانَتْ بِحَيْثُ تُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَطَلَّبُوا مَنْ هُمُ الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يَعْمُرُوا الْمَسَاجِدَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفِيدَةً جَوَابَ هَذَا السَّائِلِ. وَمَجِيءُ صِيغَةِ الْقَصْرِ فِيهَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِقْصَاءُ فِرَقٍ أُخْرَى عَنْ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ، غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ إِقْصَاؤُهُمْ بِالصَّرِيحِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ خُصُوصَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصِّلَةِ لَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِمْ، فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْعِبَادَتَانِ الْمَعْهُودَتَانِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَالْمَفْرُوضَتَانِ فِي الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 43، 44] كِنَايَةً عَنْ أَنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ شَرِيعَتِهِ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ: وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ.

[سورة التوبة (9) : آية 19]

وَقَصَرَ خَشْيَتَهُمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَخَافُونَ الْأَسَدَ وَيَخَافُونَ الْعَدُوَّ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْحَالُ بَيْنَ خَشْيَتِهِمُ اللَّهَ وَخَشْيَتِهِمْ غَيْرَهُ قَدَّمُوا خَشْيَةَ اللَّهِ عَلَى خَشْيَةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ آنِفًا أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التَّوْبَة: 13] ، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِاعْتِبَارِ تَعَارُضِ خَشْيَتَيْنِ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِينَ: فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَهُمْ يَخْشَوْنَ شُرَكَاءَهُمْ وَيَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ لِإِرْضَاءِ شُرَكَائِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَخْشَوْنَ النَّاسَ وَيَعْصُونَ اللَّهَ بِتَحْرِيفِ كَلِمِهِ وَمُجَارَاةِ أَهْوَاءِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [الْمَائِدَة: 44] . وَفَرَّعَ عَلَى وَصْفِ الْمُسْلِمِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَيْ مِنَ الْفَرِيقِ الْمَوْصُوفِ بِالْمُهْتَدِينَ وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي الِاهْتِدَاءُ خُلُقٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَفِي غَيْرِهَا. وَوَجْهُ هَذَا الرَّجَاءِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْا بِمَا هُوَ اهْتِدَاءٌ لَا مَحَالَةَ قَوِيَ الْأَمَلُ فِي أَنْ يَسْتَقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَيَصِيرُ خُلُقًا لَهُمْ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ. وَفِي هَذَا حَثُّ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِاعْتِقَادِ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يُغْنِي عَنْ بَقِيَّتِهَا. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْأَمَلَ فِيهِمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي عدّت لَهُم. [19] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 19] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ سَوَّوْا بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَ الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، فِي أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ، فَتُؤْذِنُ بِأَنَّهَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قَعَدُوا عَنِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، بِعِلَّةِ اجْتِزَائِهِمْ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا

لِلْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْأَحِقَّاءُ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دَلَّ ذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يَحِقُّ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُبَاشِرَ فِيهِ عَمَلَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَثَارَ ظَنٍّ بِأَنَّ الْقِيَامَ بِشَعَائِرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُسَاوٍ لِلْقِيَامِ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ. وَأَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ، وَالْوَاحِدِيُّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ «مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ» وَقَالَ آخَرُ «بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» وَقَالَ آخَرُ «بَلِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ» فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَالَ: «لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستفيته فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ» قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ. . - إِلَى -. . وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ سَرَى هَذَا التَّوَهُّمُ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ رَامَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَيَتْرُكَ الْهِجْرَةَ لِأَجْلِ الشَّغْلِ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالزَّائِرِ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ رَامَ مِثْلَ ذَلِكَ، لِلْقِيَامِ بِحِجَابَةِ الْبَيْتِ. وَرَوَى الطَّبَرَيُّ، وَالْوَاحِدِيُّ: أَنَّ مُمَارَاةً جَرَتْ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبَدْرٍ، وَأَنَّ عَلِيًّا عَيَّرَ الْعَبَّاسَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: «مَا لَكُمْ لَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا إِنَّا لَنَعْمُرُ مَسْجِدَ اللَّهِ وَنَحْجِبُ الْكَعْبَةَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَ (السِّقَايَةُ) صِيغَةٌ لِلصِّنَاعَةِ، أَيْ صِنَاعَةُ السَّقْيِ، وَهِيَ السَّقْيُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَتِ السِّقَايَةُ إِلَى الْحَاجِّ. وَكَذَلِكَ (الْعِمَارَةُ) صِنَاعَةُ التَّعْمِيرِ، أَيِ الْقِيَامُ عَلَى تَعْمِيرِ شَيْءٍ، بِالْإِصْلَاحِ وَالْحِرَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهِيَ، هُنَا: غَيْرُ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 17] وَقَوْلِهِ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 18] وَأُضِيفَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهَا عَمَلٌ فِي ذَاتِ الْمَسْجِدِ. وَتَعْرِيفُ الْحَاجِّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.

وَقَدْ كَانَتْ سِقَايَةُ الْحَاجِّ وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ مَنَاصِبِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمَنَاصِبُ عَشْرَةٌ، وَتُسَمَّى الْمَآثِرَ فَكَانَتِ السِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ السِّدَانَةُ، وَتُسَمَّى الْحِجَابَةُ، لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ. وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَاصِبُ أُخْرَى ثَمَانِيَةً أَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ رَأَيْتُهَا بِخَطِّ جَدِّي الْعَلَّامَةِ الْوَزِيرِ وَهِي: الدّيات والحملات، السِّفَارَةُ، الرَّايَةُ، الرِّفَادَةُ، الْمَشُورَةُ، الْأَعِنَّةُ وَالْقُبَّةُ، الْحُكُومَةُ وَأَمْوَالُ الْآلِهَةِ، الْأَيْسَارُ. فَأَمَّا الدِّيَاتُ وَالْحَمَالَاتُ: فَجَمْعُ دِيَةٍ وَهِيَ عِوَضُ دَمِ الْقَتِيلِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا إِذَا صُولِحَ عَلَيْهِ وَجَمْعُ حَمَالَةَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- وَهِيَ الْغَرَامَةُ الَّتِي يَحْمِلُهَا قَوْمٌ عَنْ قَوْمٍ، وَكَانَتْ لِبَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ. وَمُرَّةُ جَدُّ قُصَيِّ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَأَمَّا السِّفَارَةُ- بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا- فَهِيَ السَّعْيُ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ. وَالْقَائِمُ بِهَا يُسَمَّى سَفِيرًا. وَكَانَتْ لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَبْنَاءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَمَّا الرَّايَةُ، وَتُسَمَّى: الْعُقَابُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- لِأَنَّهَا تَخْفُقُ فَوْقَ الْجَيْشِ كَالْعُقَابِ، فَهِيَ رَايَةُ جَيْشِ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ. وَأَمَّا الرِّفَادَةُ: فَهِيَ أَمْوَالٌ تُخْرِجُهَا قُرَيْشٌ إِكْرَامًا لِلْحَجِيجِ فَيُطْعِمُونَهُمْ جَمِيعَ أَيَّامِ الْمَوْسِمِ يَشْتَرُونَ الْجُزُرَ وَالطَّعَامَ وَالزَّبِيبَ- لِلنَّبِيذِ- وَكَانَتْ لِبَنِي نَوْفَلَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلَ. وَأَمَّا الْمَشُورَةُ: فَهِيَ وِلَايَةُ دَارِ النَّدْوَةِ وَكَانَتْ لِبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ زَمْعَةَ.

وَأَمَّا الْأَعِنَّةُ وَالْقُبَّةُ فَقُبَّةٌ يَضْرِبُونَهَا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا عِنْدَ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَسُمِّيَتِ الْأَعِنَّةَ وَكَانَتْ لِبَنِي مَخْزُومٍ. وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمِّ قُصَيٍّ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَأَمَّا الْحُكُومَةُ وَأَمْوَالُ الْآلِهَةِ- وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حَقِيقَتِهَا- فَأَحْسَبُ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا الْحُكُومَةَ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُتَجَمِّعَ بِهَا هُوَ مَا يُحَصَّلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا أَمْوَالَ الْآلِهَةِ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ تُحَصَّلُ مِنْ نَحْوِ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَمَا يُوهَبُ لِلْآلِهَةِ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ. فَكَانَتْ لِبَنِي سَهْمٍ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَهْمٍ. وَأَمَّا الْأَيْسَارُ وَهِيَ الْأَزْلَامُ الَّتِي يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فَكَانَتْ لِبَنِي جُمَحٍ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَقَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ، عَدَا السِّدَانَةَ وَالسِّقَايَةَ، لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ مِنْ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ» (¬1) . وَكَانَتْ مَنَاصِبُ الْعَرَبِ الَّتِي بِيَدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ خَمْسَةً: الْحِجَابَةَ، وَالسِّقَايَةَ، وَالرِّفَادَةَ، وَالنَّدْوَةَ، وَاللِّوَاءَ- فَلَمَّا كَبُرَ قُصَيٌّ جَعَلَ الْمَنَاصِبَ لِابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ أَبْنَاءُ قُصَيٍّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَدَاعَوْا لِلْحَرْبِ، ثُمَّ تَدَاعَوْا لِلصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ الْحِجَابَةَ وَاللِّوَاءَ وَالنَّدْوَةَ، وَأَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، وَأُحْدِثَتْ مَنَاصِبُ لِبَعْضٍ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِ أَبْنَاءِ قُصَيٍّ فَانْتَهَتِ الْمَنَاصِبُ إِلَى عَشْرَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَذِكْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَيْسَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّسْوِيَةِ الْمَرْدُودَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ السِّقَايَةِ أَوِ الْعِمَارَةِ بِدُونِ الْإِيمَانِ، بَلْ ذِكْرُ الْإِيمَانِ إِدْمَاجٌ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَثَرُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْإِيمَانِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ التَّنَصُّلُ مِنْهُ بِعِلَّةِ اشْتِغَالِهِ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَلَيْسَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِكَوْنِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَزِيَّةَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِثْلَ مَزِيَّةِ الْإِيمَانِ ¬

(¬1) رَوَاهُ ابْن الْأَثِير فِي «النِّهَايَة» فِي مَادَّة (أثر) ومادة (سقى) .

لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ لَمَا جَعَلُوا مَنَاصِبَ دِينِهِمْ مُسَاوِيَةً لِلْإِيمَانِ، بَلْ لَجَعَلُوهَا أَعْظَمَ. وَإِنَّمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُمَا عَمَلَانِ يَعْدِلَانِ الْجِهَادَ، وَفِي الشَّغْلِ بِهِمَا عُذْرٌ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، أَوْ مَزِيَةٌ دِينِيَّةٌ تُسَاوِي مَزِيَّةَ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَدْ دَلَّ ذِكْرُ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ، وَذِكْرُ مَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْعَمَلَيْنِ وَمَنْ عَمِلَهُمَا لَا يُسَاوِيَانِ الْعَمَلَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَمَنْ عَمِلَهُمَا. فَوَقَعَ احْتِبَاكٌ فِي طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الْعَمَلَانِ مَعَ العملين وَلَا عاملوا هَذَيْنِ بِعَامِلِي ذَيْنِكَ الْعَمَلَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَعَلْتُمْ سَقَّايَةَ الْحَاجِّ وَعُمَّارَ الْمَسْجِدِ كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذُكِرَتِ التَّسْوِيَةُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أُسْنِدَتْ إِلَى ضَمِيرِ الْعَامِلِينَ، دُونَ الْأَعْمَالِ: لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي الْكَلَامِ تَعْلِيقُهَا بِالْمَعَانِي بَلْ بِالذَّوَاتِ. وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَوُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: لِبَيَانِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْ مَعْنَى الْإِنْكَارِ الَّذِي فِي الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: أَجَعَلْتُمْ الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ إِلَخْ، وَمَوْقِعُهُ هُنَا خَفِيٌّ إِنْ كَانَتِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ مَعَ السُّورَةِ وَلَمْ تَنْزِلْ قَبْلَهَا، عَلَى مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ مَنْ يَجْعَلُ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْبَيْتِ تُسَاوِيَانِ الْإِيمَانَ وَالْجِهَادَ، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَائِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَهُوَ يَزِيدُ مَوْقِعَهَا خَفَاءً. فَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَنَّ مَوْقِعَهَا الِاعْتِرَاضُ بَيْنَ جُمْلَةِ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَجُمْلَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا [التَّوْبَة: 20] إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا زِيَادَةُ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ، إِعْلَامًا بِأَنَّهُ دَلِيلٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَقَائِدٌ إِلَيْهَا. فَالَّذِينَ آمَنُوا قَدْ هَدَاهُمْ إِيمَانُهُمْ إِلَى فَضِيلَةِ الْجِهَادِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ، فَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَذَلِكَ

بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ شُعَبَهُ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمَكَارِمِ وَالْخَيْرَاتِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الصِّفَتَيْنِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ، وَخَاصَّةً الْجِهَادَ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ: لَوْلَا الْجِهَادُ لَمَا كَانَ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ مِنْ آثَارِ غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ وَجَيْشِ الْفَتْحِ إِذْ آمَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَآمَنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ صَاحِبُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، بِسَبَبِ الْمُمَارَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسِ، فَمَوْقِعُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَاضِحٌ: أَيْ لَا يَهْدِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْقُونَ الْحَاجَّ وَيَعْمُرُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، إِذْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ مَعَ الْإِشْرَاكِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَبَيْنَ الْجِهَادِ، وَتَنَازُعَهُمْ فِي ذَلِكَ، خَطَأٌ مِنَ النَّظَرِ، إِذْ لَا تَسْتَقِيمُ تَسْوِيَةُ التَّابِعِ بِالْمَتْبُوعِ وَالْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَتِ السِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ مُسَاوِيَتَيْنِ لِلْجِهَادِ لَكَانَ أَصْحَابُهُمَا قَدِ اهْتَدَوْا إِلَى نَصْرِ الْإِيمَانِ، كَمَا اهْتَدَى إِلَى نَصْرِهِ الْمُجَاهِدُونَ، وَالْمُشَاهَدَةُ دَلَّتْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ: فَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ بِالْمُهْتَدِينَ. فَالْهِدَايَةُ شَاعَ إِطْلَاقُهَا مَجَازًا بِاسْتِعَارَتِهَا لِمَعْنَى الْإِرْشَادِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَهِيَ بِحَسَبِ هَذَا الْإِطْلَاقِ مُرَادٌ بِهَا مَطْلُوبٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَكُنِّيَ بِنَفْيِ الْهِدَايَةِ عَنْ نَفْيِ حُصُولِ الْغَرَضِ مِنَ الْعَمَلِ. وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ. وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ وَرْدَانَ أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: سُقَاةَ الْحَاجِّ- بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ السَّاقِي- وَقَرَأَ وَعَمَرَةَ- بِالْعَيْنِ الْمَفْتُوحَةِ وَبِدُونِ أَلِفٍ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ عَامِرٍ- وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَنِ ابْن وردان.

[سورة التوبة (9) : آية 20]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 20] الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 19] وَمُفَصِّلَةٌ لِلْجِهَادِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 19] بِأَنَّهُ الْجِهَادُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، وَإِدْمَاجٌ لِبَيَانِ مَزِيَّةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ. وَ (الَّذِينَ هَاجَرُوا) هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَمَّا أَذِنَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمُوا، وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَالْمُهَاجَرَةُ: تَرْكُ الْمَوْطِنِ وَالْحُلُولُ بِبَلَدٍ آخَرَ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْهَجْرِ وَهُوَ التَّرْكُ، وَاشْتُقَّتْ لَهَا صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْهَجْرِ الْقَوِيِّ وَهُوَ هَجْرُ الْوَطَنِ، وَالْمُرَادُ بِهَا- فِي عُرْفِ الشَّرْعِ- هِجْرَةٌ خَاصَّةٌ: وَهِيَ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَا تَشْمَلُ هِجْرَةَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِيطَانِ بَلْ كَانَتْ هِجْرَةً مُؤَقَّتَةً، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ: أَيْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا وَلَمْ يُجَاهِدُوا الْجِهَادَ الْكَثِيرَ الَّذِي جَاهَدَهُ الْمُسْلِمُونَ أَيَّامَ بَقَاءِ أُولَئِكَ فِي الْكُفْرِ، وَالْمَقْصُودُ تَفْضِيلُ خِصَالِهِمْ. وَالدَّرَجَةُ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] . وَقَوْلُهُ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي أَوَائِلِ الْأَنْفَالِ [4] . وَهِيَ فِي كُلِّ ذَلِكَ مُسْتَعَارَةٌ لِرَفْعِ الْمِقْدَارِ. وعِنْدَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رِفْعَةَ مِقْدَارِهِمْ رِفْعَةُ رِضًى مِنَ اللَّهِ وَتَفْضِيلٌ بِالتَّشْرِيفِ، لِأَنَّ أَصْلَ (عِنْدَ) أَنَّهَا ظَرْفٌ لِلْقُرْبِ. وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَعْظَمُ دَرَجَةً أَيْ: أَعْظَمُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْفَوْزِ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي عِظَمِ فَوْزِهِمْ حَتَّى إِنَّ فَوْزَ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَوْزِهِمْ يُعَدُّ كَالْمَعْدُومِ.

[سورة التوبة (9) : الآيات 21 إلى 22]

وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْفَوْزَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي مَيَّزَتْهُمْ: وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ بالأموال والأنفس. [21، 22] [سُورَة التَّوْبَة (9) : الْآيَات 21 إِلَى 22] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) بَيَانٌ لِلدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 20] فَتِلْكَ الدَّرَجَةُ هِيَ عِنَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ بِإِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَيْهِمْ، وَتَحْقِيقِ فَوْزِهِمْ، وَتَعْرِيفِهِمْ بِرِضْوَانِهِ عَلَيْهِمْ، وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَبِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ. وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَمْنَحْهُ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ، الَّذِينَ وَإِنْ صَلَحُوا لِأَنْ يَنَالُوا بَعْضَ هَذِهِ الْمَزَايَا فَهُمْ لَمْ يَنَالُوا جَمِيعَهَا. وَالتَّبْشِيرُ: الْإِخْبَارُ بِخَيْرٍ يَحْصُلُ لِلْمُخْبَرِ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ. فَإِسْنَادُ التَّبْشِيرِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ، مُؤْذِنٌ بِتَعَاقُبِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَجَدُّدِ إِدْخَالِ السُّرُورِ بِذَلِكَ لَهُمْ، لِأَنَّ تَجَدُّدَ التَّبْشِيرِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْمُبَشَّرِ (بِفَتْحِ الشِّينِ) وَإِلَّا لَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ. وَكَوْنُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَفْظَ الرَّبِّ، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، إِيمَاءٌ إِلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَالْعِنَايَةِ: لِأَنَّ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى تَدْبِيرِ الْمَرْبُوبِ وَالرِّفْقِ بِهِ وَاللُّطْفِ بِهِ، وَلِتَحْصُلَ بِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَتَقَدَّمَتِ الرَّحْمَةُ فِي قَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: 1] . وَالرِّضْوَانُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِضَمِّهَا-: الرِّضَا الْكَامِلُ الشَّدِيدُ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُشْعِرُ بِالْمُبَالَغَةِ مِثْلَ الْغُفْرَانِ وَالشُّكْرَانِ وَالْعِصْيَانِ. وَالْجَنَّاتُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ مَرَاتِبِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِ النَّعِيمِ فِيهَا.

[سورة التوبة (9) : آية 23]

وَالنَّعِيمُ: مَا بِهِ الْتِذَاذُ النَّفْسِ بِاللَّذَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الإنفطار: 13] وَقَالَ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] . وَالْمُقِيمُ الْمُسْتَمِرُّ، اسْتُعِيرَتِ الْإِقَامَةُ لِلدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي بِرَحْمَةٍ، ورِضْوانٍ، وَجَنَّاتٍ، ونَعِيمٌ لِلتَّعْظِيمِ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَقَرِينَةُ قَوْلِهِ مِنْهُ وَقَرِينَةُ كَوْنِ تِلْكَ مُبَشَّرًا بِهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تَذْيِيلٌ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَعُمُّ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهَا وَغَيْرَهُ، وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ إِفَادَةُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ عَظِيمِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ هُوَ بَعْضُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَزْدَادُوا رِفْعَةً عِنْدَ رَبِّهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ» . وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ الْمُعْطَى عَلَى عَمَلٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فِي سُورَة الْعُقُود [5] . [23] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 23] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِافْتِتَاحِ غَرَضٍ آخَرَ وَهُوَ تَقْرِيعُ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ يُوَالِيهِمْ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوَّلُ السُّورَةِ فِي تَخْطِيطِ طَرِيقَةِ مُعَامَلَةِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ، لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمُتَامُّ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ أَبَطَنُوا الْكُفْرَ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ: الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ بَقَايَا قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِمَّنْ عُرِفُوا بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُعْرَفُوا وَأَطْلَعَ الله عَلَيْهِم نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ بِطَانَتِهِمْ وَذَوِي قَرَابَتِهِمْ

وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانَ مُعْظَمُهُمْ مُؤْمِنِينَ خُلَّصًا، وَكَانَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَ الْخِطَّابُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إشعارا بِأَنَّ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَصَايَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ وَشِعَارِهِ. وَقَدْ أَسْفَرَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ الَّتِي نَزَلَتْ عَقِبَهَا هَذِهِ السُّورَةُ عَنْ بَقَاءِ بَقِيَّةٍ مِنَ النِّفَاقِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 90]- وَقَوْلِهِ- وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَة: 101] وَنَظَائِرِهُمَا مِنَ الْآيَاتِ. رَوَى الطَّبَرَيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا أَسْقِي الْحَاجَّ، وَقَالَ طَلْحَةُ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَا حَاجِبُ الْكَعْبَةِ، فَلَا نُهَاجِرُ، تَعَلَّقَ بَعْضُ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا «أَتُضَيِّعُونَنَا» فَرَقُّوا لَهُمْ وَجَلَسُوا مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَمَعْنَى اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ أَحَبُّوهُ حُبًّا مُتَمَكِّنًا. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلَ مَا فِي اسْتَقَامَ وَاسْتَبْشَرَ. حَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالَاةِ مَنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ أَوْ بَاطِنِهِ، إِذَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ وَبَدَتْ عَلَيْهِمْ أَمَارَاتُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَجَعَلَ التَّحْذِيرَ مِنْ أُولَئِكَ بِخُصُوصِ كَوْنِهِمْ آبَاءً وَإِخْوَانًا تَنْبِيهًا عَلَى أَقْصَى الْجَدَارَةِ بِالْوَلَايَةِ لِيُعْلَمَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَنَّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى بِحُكْمِ النَّهْيِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ وَالْأَزْوَاجَ هُنَا لِأَنَّهُمْ تَابِعُونَ فَلَا يَقْعُدُونَ بَعْدَ مَتْبُوعِيهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أُرِيدَ بِهِ الظَّالِمُونَ أَنْفُسُهُمْ لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَسَبُّبِ الْعَذَابِ لَهَا، فَالظُّلْمُ إِذَنْ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَلَيْسَ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكُ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ لِلْمُبَالَغَةِ بِمَعْنَى أَنَّ ظُلْمَ غَيْرِهِمْ كَلَا ظُلْمَ بِالنِّسْبَةِ لِعَظَمَةِ ظُلْمِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أَيْ إِلَى الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ،

[سورة التوبة (9) : آية 24]

وَالْمَعْنَى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَقَدْ تَوَلَّى الظَّالِمِينَ فَيَكُونُ الظُّلْمُ عَلَى هَذَا مُرَادًا بِهِ الشِّرْكُ، كَمَا هُوَ الْكَثِيرُ فِي إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ هَؤُلَاءِ أَوْ هَؤُلَاءِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ جَدَارَتَهُمْ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ كَانَتْ لِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ أَعْنِي اسْتِحْبَابَ الْكُفْرِ على الْإِيمَان. [24] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 24] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) ارْتِقَاءٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْعَلَائِقِ الَّتِي قَدْ تُفْضِي إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ زِيَادَةُ تَفْصِيلِ الْأَصْنَافِ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ وَأَسْبَابُ الْمُخَالَطَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا نُفُوسُ النَّاسِ فَيَحُولُ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِبَعْضِ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ الْأَبْنَاءُ هُنَا لِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِهِمْ أَقْوَى مِنَ التَّعَلُّقِ بِالْإِخْوَانِ، وَذُكِرَ غَيْرُهُمْ مِنْ قَرِيبِ الْقَرَابَةِ أَيْضًا. وَابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِ قُلْ يُشِيرُ إِلَى غِلَظِهِ وَالتَّوْبِيخِ بِهِ. وَالْمُخَاطَبُ بِضَمَائِرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قَصَّرُوا فِي بَعْضِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمُتَوَقَّعِ مِنْهُمْ ذَلِكَ، كَمَا يَشْعُرُ بِهِ اقْتِرَانُ الشَّرْطِ بِحَرْفِ الشَّكِّ وَهُوَ إِنْ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْتَرْسِلِينَ فِي ذَلِكَ الْمُلَابِسِينَ لَهُ هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ، فَهُمُ الْمُعَرَّضُ لَهُمْ بِالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْنَافًا مِنَ الْعَلَاقَاتِ وَذَوِيهَا، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَأْلَفَهَا النُّفُوسُ وَتَرْغَبَ فِي الْقُرْبِ مِنْهَا وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهَا، فَإِذَا كَانَ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ يَجُرُّ إِلَى هِجْرَانِ بَعْضِهَا كَالْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ،

وَكَالْأَبْنَاءِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْعَشِيرَةِ الَّذِينَ يَأْلَفُ الْمَرْءُ الْبَقَاءَ بَيْنَهُمْ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يُقْعِدُهُ عَنِ الْغَزْوِ، وَكَالْأَمْوَالِ وَالتِّجَارَةِ الَّتِي تَصُدُّ عَنِ الْغَزْوِ وَعَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِنُ الَّتِي يَأْلَفُ الْمَرْءُ الْإِقَامَةَ فِيهَا فَيَصُدُّهُ إِلْفُهَا عَنِ الْغَزْوِ. فَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ وَالتَّدَافُعُ بَيْنَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ مَا تَجُرُّ إِلَيْهِ تِلْكَ الْعَلَائِقُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ دَحْضُهَا وَإِرْضَاءُ رَبِّهِ. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ بِ أَحَبَّ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْمَحَبَّةِ يَقْتَضِي إِرْضَاءَ الْأَقْوَى مِنَ الْمَحْبُوبِينَ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّهَاوُنِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ مَعَ الْكِنَايَةِ عَنْ جَعْلِ ذَلِكَ التَّهَاوُنِ مُسَبِّبًا عَلَى تَقْدِيمِ مَحَبَّةِ تِلْكَ الْعَلَائِقِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَفِيهِ إِيقَاظٌ إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ مَهْوَاةٍ فِي الدِّينِ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ التَّعْبِيرِ. وَخُصَّ الْجِهَادُ بِالذِّكْرِ مِنْ عُمُومِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُمْ: تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ عَلَى النُّفُوسِ وَمِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَمُفَارَقَةِ الْإِلْفِ، جَعَلَهُ أَقْوَى مَظِنَّةً لِلتَّقَاعُسِ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا وَالسُّورَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي تَخَلَّفَ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ. وَ (الْعَشِيرَةُ) الْأَقَارِبُ الْأَدْنَوْنَ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِشْرَةِ وَهِيَ الْخُلْطَةُ وَالصُّحْبَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعَشِيرَتُكُمْ- بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَعَشِيرَاتُكُمْ- جَمْعُ عَشِيرَةٍ- وَوَجْهُهُ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَشِيرَةً، وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ: «إِنَّمَا تَجْمَعُ الْعَرَبُ عَشِيرَةً عَلَى عَشَائِرَ وَلَا تَكَادُ تَقُولُ عَشِيرَاتٌ» ، وَهَذِهِ دَعْوَى مِنْهُ، وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ فَهِيَ تَدْفَعُ دَعْوَاهُ. وَالِاقْتِرَافُ: الِاكْتِسَابُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَارَفَ إِذَا قَارَبَ الشَّيْءَ. وَالْكَسَادُ، قِلَّةُ التَّبَايُعِ وَهُوَ ضدّ الرّولج وَالنَّفَاقِ، وَذَلِكَ بِمُقَاطَعَةِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ مَعَهُمْ، وَبِالِانْقِطَاعِ عَنِ الِاتِّجَارِ أَيَّامَ الْجِهَادِ. وَجُعِلَ التَّفْضِيلُ فِي الْمَحَبَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَبَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ: لِأَنَّ تَفْضِيلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ يُوجِبُ الِانْقِطَاعَ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، فَإِيثَارُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ يُفْضِي مُوَالَاةً إِلَى الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ، وَإِلَى الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ.

[سورة التوبة (9) : آية 25]

وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ، وَهَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ انْتِظَارُ الشَّرِّ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَيِ الْأَمْرِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ سُوءُ عَاقِبَةِ إِيثَارِكُمْ مَحَبَّةَ الْأَقَارِب وَالْأَمْوَال وَالْمَسَاكِين، عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ. وَالْأَمْرُ: اسْمٌ مُبْهَمٌ بِمَعْنَى الشَّيْءِ وَالشَّأْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِبْهَامِ التَّهْوِيلُ لِتَذْهَبَ نُفُوسُ الْمُهَدَّدِينَ كُلَّ مَذْهَبٍ مُحْتَمَلٍ، فَأَمْرُ اللَّهِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابَ أَوِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُمَا، وَمَنْ فَسَّرَ أَمْرَ اللَّهِ بِفَتْحِ مَكَّةَ فَقَدْ ذُهِلَ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِأَنَّهُمْ فَضَّلُوا قَرَابَتَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَلَى الْجِهَادِ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ فَاسِقُونَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فَحَصَلَ بِمَوْقِعِ التَّذْيِيلِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ من الْفَاسِقين. [25] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 25] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ الْحَثَّ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] ، وَكَانَ التَّمْهِيدُ لِلْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ مُدَرَّجًا بِإِبْطَالِ حُرْمَةِ عَهْدِهِمْ، لِشِرْكِهِمْ، وَبِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ مُضْمِرُونَ الْعَزْمَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِنَقْضِ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَوْ قُدِّرَ لَهُمُ النَّصْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآيَةُ ذَلِكَ: اعْتِدَاؤُهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى ذَلِكَ التَّمْهِيدُ الْمُدَرَّجُ إِلَى الْحَثِّ عَلَى قِتَالِهِمْ وَضَمَانِ نَصْرِ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ حَمَاسَةَ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَوَاهِدِ مَا سَبَقَ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَتَذْكِيرٍ بِمُقَارَنَةِ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ لِحَالَةِ الِامْتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ، وَأَنَّ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ للحالين. فَالْكَلَام استيناف ابْتِدَائِيٌّ لِمُنَاسَبَةِ الْغَرَضِ السَّابِقِ.

وَأُسْنِدَ النَّصْرُ إِلَى اللَّهِ بِالصَّرَاحَةِ لِإِظْهَارِ أَنَّ إِيثَارَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يُفِيتُ بَعْضَ حُظُوظِ الدُّنْيَا، فَفِيهِ حَظُّ الْآخِرَةِ وَفِيهِ حُظُوظٌ أُخْرَى مِنَ الدُّنْيَا وَهِيَ حُظُوظُ النَّصْرِ بِمَا فِيهِ: مِنْ تَأْيِيدِ الْجَامِعَةِ، وَمِنَ الْمَغَانِمِ، وَحِمَايَةِ الْأُمَّةِ مِنِ اعْتِدَاءِ أَعْدَائِهَا، وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إِذْ آثَرُوا مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ عَلَائِقِهِمِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَكَّدَ الْكَلَام ب لَقَدْ لِتَحْقِيقِ هَذَا النَّصْرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَأَنَّهُمْ نَسُوهُ أَوْ شَكُّوا فِيهِ فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ. ومَواطِنَ: جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَالْمَوْطِنُ أَصْلُهُ مَكَانُ التَّوَطُّنِ، أَيِ الْإِقَامَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَقَامِ الْحَرْبِ وَمَوْقِفِهَا، أَيْ نَصْرِكُمْ فِي مَوَاقِعِ حُرُوبٍ كَثِيرَةٍ. ويَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي مَواطِنَ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَصَرَكُمُ وَالتَّقْدِيرُ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاطِنِ، لِأَنَّ مَوَاطِنَ الْحَرْبِ تَقْتَضِي أَيَّامًا تَقَعُ فِيهَا الْحَرْبُ، فَتَدُلُّ الْمَوَاطِنُ عَلَى الْأَيَّامِ كَمَا تَدُلُّ الْأَيَّامُ عَلَى الْمَوَاطِنِ، فَلَمَّا أُضِيفَ الْيَوْمُ إِلَى اسْمِ مَكَانٍ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ النَّصْرِ وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطَفْ لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْمُرَادَ. وَلِهَذَا فَالتَّقْدِيرُ: فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَأَيَّامَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَوْطِنُ حُنَيْنٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. وَتَخْصِيصُ يَوْمِ حُنَيْنٍ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَيَّامِ الْحُرُوبِ: لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْهَزَمُوا فِي أَثْنَاءِ النَّصْرِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمُ النَّصْرُ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِحُصُولِ النَّصْرِ عِنْدَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَحُصُولِ الْهَزِيمَةِ عِنْدَ إِيثَارِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَفِيهِ مَثَلٌ وَشَاهِدٌ لِحَالَتَيِ الْإِيثَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ [التَّوْبَة: 24] لِيَتَنَبَّهُوا إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِيثَارَ قَدْ يَعْرِضُ فِي أَثْنَاءِ إِيثَارٍ آخَرَ، فَهُمْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ كَانُوا قَدْ آثَرُوا مَحَبَّةَ الْجِهَادِ عَلَى مَحَبَّةِ أَسْبَابِهِمْ وَعَلَاقَاتِهِمْ، ثُمَّ هُمْ فِي أَثْنَاءِ الْجِهَادِ قَدْ عَاوَدَهُمْ إِيثَارُ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ إِيثَارِ مَحَبَّتِهَا، وَهِيَ عِبْرَةٌ دَقِيقَةٌ حَصَلَ فِيهَا الضِّدَّانِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ

بَدِيعًا لِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْمُنَاسِبِ لِمَقَامِهِمْ أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْتَمِدُوا عَلَى كَثْرَتِكُمْ. وحُنَيْنٍ اسْمُ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قُرْبَ ذِي الْمَجَازِ، كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَبَيْنَ هوَازن وَثَقِيف وألفا فهما، إِذْ نَهَضُوا لِقِتَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا لِهَزِيمَةِ قُرَيْشٍ وَلِفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ عَلَى هَوَازِنَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو بَنِي نَصْرٍ، وَعَلَى ثَقِيف عبد ياليل بْنُ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وَكَانُوا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِحُنَيْنٍ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَوَثِقُوا بِالنَّصْرِ لِقُوَّتِهِمْ، فَحَصَلَتْ لَهُمْ هَزِيمَةٌ عِنْدَ أَوَّلِ اللِّقَاءِ كَانَتْ عِتَابًا إِلَهِيًّا عَلَى نِسْيَانِهِمُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فِي النَّصْرِ، وَاعْتِمَادِهِمْ على كثرتهم، وَلذَلِك رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ» سَاءَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا هَبَطُوا وَادِي حُنَيْنٍ كَانَ الْأَعْدَاءُ قَدْ كَمَنُوا لَهُمْ فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ، فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُنْحَدِرُونَ فِي الْوَادِي إِلَّا كَتَائِبُ الْعَدُوِّ وَقَدْ شَدَّتْ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ فَلَحِقُوهُمْ يَغْنَمُونَ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ قَوْمًا رُمَاةً فَأَكْثَبُوا الْمُسْلِمِينَ بِالسِّهَامِ فَأَدْبَرَ الْمُسْلِمُونَ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْوَادِي، وَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ فِي الْجِهَةِ الْيُمْنَى مِنَ الْوَادِي وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ عَمَّهُ أَنْ يَصْرُخَ فِي النَّاسِ: يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ- أَوِ السَّمُرَةِ- يَعْنِي أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ- يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ- يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ- يَعْنِي الْأَنْصَارَ- هَلُمُّوا إِلَيَّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِائَةٌ، وَقَاتَلُوا هَوَازِنَ مَعَ مَنْ بَقِيَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، وَتَرَاجَعَ بَقِيَّةُ الْمُنْهَزِمِينَ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُزِمُوا شَرَّ هَزِيمَةٍ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ . فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَأْسُ وَاضْطَرَبُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ، بِحَالِ مَنْ يَرَى الْأَرْضَ الْوَاسِعَةَ ضَيِّقَةً.

[سورة التوبة (9) : آية 26]

فَالضِّيقُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما رَحُبَتْ اسْتُعِيرَ وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَمْثِيلًا لِحَالِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْ شِدَّةٍ بِسَبَبِ اخْتِلَالِ قُوَّةِ تَفْكِيرِهِ، بِحَالِ مَنْ هُوَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الْأَرْضِ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ تَجَاوُزَهُ وَلَا الِانْتِقَالَ مِنْهُ. فالباء للملابسة، وبِما مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ حَالَةَ كَوْنِهَا مُلَابِسَةً لِرُحْبِهَا أَيْ سِعَتِهَا: أَيْ فِي حَالَةِ كَوْنِهَا لَا ضِيقَ فِيهَا وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ: مَلَأْتُ عَلَيْهِ الْأَرْضَ حَتَّى كَأَنَّهَا ... مِنَ الضِّيقِ فِي عَيْنَيْهِ كِفَّةُ حَابِلِ قَالَ الْأَعْلَمُ «أَي من الزعر» هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ: كَأَنَّ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَهِيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ لَمْ تَهْتَدُوا إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ تَفِرُّونَ إِلَيْهِ فَكَأَنَّ الْأَرْضَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْمَلَ فَقَالَ: أَيْ لِشِدَّةِ الْحَالِ وَصُعُوبَتِهَا. وَمَوْقِعُ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ مَوْقِعُ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، أَيْ: وَأَعْظَمُ مِمَّا نَالَكُمْ مِنَ الشَّرِّ أَنْ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ، ومُدْبِرِينَ حَالٌ: إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى وَلَّيْتُمْ أَوْ أُرِيدَ بِهَا إِدْبَارٌ أَخَصُّ مِنَ التَّوَلِّي، لِأَنَّ التَّوَلِّيَ مُطْلَقٌ يَكُونُ لِلْهُرُوبِ، وَيَكُونُ لِلْفَرِّ فِي حِيَلِ الْحُرُوبِ، وَالْإِدْبَارُ شَائِعٌ فِي الْفِرَارِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدُ بِهِ حِيلَةً فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوَلِّي اصْطِلَاحا حَرْبِيّا. [26] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 26] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التَّوْبَة: 25] . وثُمَّ دَالَّةٌ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ نُزُولَ السَّكِينَةِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ أَعْظَمُ مِنَ النَّصْرِ

[سورة التوبة (9) : آية 27]

الْأَوَّلِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، عَلَى أَنَّ التَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ مُرَادٌ تَنْزِيلًا لِعِظَمِ الشِّدَّةِ وَهَوْلِ الْمُصِيبَةِ مَنْزِلَةَ طُولِ مُدَّتِهَا، فَإِنَّ أَزْمَانَ الشِّدَّةِ تُخَيَّلُ طَوِيلَةً وَإِنْ قَصُرَتْ. وَالسَّكِينَةُ: الثَّبَاتُ وَاطْمِئْنَانُ النَّفْسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [248] ، وَتَعْلِيقُهَا بِإِنْزَالِ اللَّهِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِهِ: تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهَا وَبَرَكَتِهَا، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا سَكِينَةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ لَيْسَتْ لَهَا أَسْبَابٌ وَمُقَدِّمَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِمَحْضِ تَقْدِيرِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ أنفًا كَرَامَة لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَةً لِنِدَائِهِ النَّاسَ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ عَلى بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ: تَنْبِيهٌ عَلَى تَجْدِيدِ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِالْمَجْرُورِ الثَّانِي لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ السَّكِينَتَيْنِ: فَسَكِينَةُ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سَكِينَةُ اطْمِئْنَانٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَعَهُ وَثِقَةٍ بِالنَّصْرِ، وَسَكِينَةُ الْمُؤْمِنِينَ سَكِينَةُ ثَبَاتٍ وَشَجَاعَةٍ بَعْدَ الْجَزَعِ وَالْخَوْفِ. وَالْجُنُودُ جَمْعُ جُنْدٍ. وَالْجُنْدُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَهُوَ الْجَمَاعَةُ الْمُهَيَّئَةُ لِلْحَرْبِ، وَوَاحِدُهُ بِيَاءِ النَّسَبِ: جُنْدِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] . وَقَدْ يُطْلَقُ الْجُنْدُ عَلَى الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ ذَاتِ الْقُوَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ [17، 18] وَالْمُرَادُ بِالْجُنُودِ هُنَا جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلُونَ بِهَزِيمَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ أَنْزَلَ، أَيْ أَرْسَلَهَا اللَّهُ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَمْ تَرَوْها وَلِكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ مَلَائِكَةَ النَّصْرِ أَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَ الْجُنُودِ. وَتَعْذِيبُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا: هُوَ تَعْذِيبُ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالسَّبْيِ. وَالْإِشَارَةُ بِ وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ إِلَى الْعَذَابِ الْمَأْخُوذِ من عَذَّبَ. [27] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 27] ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التَّوْبَة: 26] . وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى إِسْلَامِ هَوَازِنَ بَعْدَ تِلْكَ الْهَزِيمَةِ فَإِنَّهُمْ

[سورة التوبة (9) : آية 28]

جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وَغَنَائِمَهُمْ، فَذَلِكَ أَكْبَرُ مِنَّةٍ فِي نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ أَصْبَحَ الْجُنْدُ الْعَدُوُّ لَهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَهُمْ، لَا يَخَافُونَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ فَقَوْلُهُ: يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ دَلِيل الْمَعْطُوف بثم وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ دُونَ الْفِعْلِ الْمَاضِي: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا يَشْمَلُ تَوْبَةَ هَوَازِنَ وَتَوْبَةَ غَيْرِهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِفَادَةِ تَجَدُّدِ التَّوْبَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا هَوَازِنَ فَتَوْبَتُهُ عَلَى هَوَازِنَ قَدْ عَرَفَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَعْلِمُوا بِأَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ نَدِمَ وَتَابَ، فَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ إِنْ أَنَابُوا إِلَيْهِ وَتَرَكُوا الْإِشْرَاكَ بِهِ. [28] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلرُّجُوعِ إِلَى غَرَضِ إِقْصَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 17] الْآيَةَ، جِيءَ بِهِ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِإِبْعَادِهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي إِبْعَادَهُمْ عَنْهُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ، فَقَدْ عَلَّلَ فِيمَا مَضَى بِأَنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَلَيْسُوا أَهْلًا لِتَعْمِيرِ الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ لِلتَّوْحِيدِ، وَعَلَّلَ هُنَا بِأَنَّهُمْ نَجَسٌ فَلَا يَعْمُرُوا الْمَسْجِدَ لِطَهَارَتِهِ. ونَجَسٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي النَّجَاسَةُ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُ، وَقَدْ أُنِيطَ وَصْفُ النَّجَاسَةِ بِهِمْ بِصِفَةِ الْإِشْرَاكِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَلَيْسَتْ نَجَاسَةً ذَاتِيَّةً.

وَالنَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ: هِيَ اعْتِبَارُ صَاحِبِ وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ مُحَقَّرًا مُتَجَنَّبًا مِنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِفَضْلٍ مَا دَامَ مُتَلَبِّسًا بِالصِّفَةِ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَذَلِكَ، فَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لِأَجْلِ عَقِيدَةِ إِشْرَاكِهِ، وَقَدْ يَكُونُ جَسَدُهُ نَظِيفًا مُطَيَّبًا لَا يَسْتَقْذِرُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرُ الْجَسَدِ مُلَطَّخًا بِالنَّجَاسَاتِ لِأَنَّ دِينَهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ التَّطَهُّرُ، وَلَكِنْ تَنَظُّفُهُمْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَوَائِدِهِمْ وَبِيئَتِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ تَحْقِيرُهُمْ وَتَبْعِيدُهُمْ عَنْ مَجَامِعِ الْخَيْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَبَاثَةَ الِاعْتِقَادِ أَدْنَى بِصَاحِبِهَا إِلَى التَّحْقِيرِ مِنْ قَذَارَةِ الذَّاتِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْغُسْلَ عَلَى الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ انْخِلَاعًا عَنْ تِلْكَ الْقَذَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالطِّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ لِإِزَالَةِ خَبَاثَةِ نَفْسِهِ، وَإِنَّ طِهَارَةَ الْحَدَثِ لَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَقَدْ فَرَّعَ عَلَى نَجَاسَتِهِمْ بِالشِّرْكِ الْمَنْعَ مِنْ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، أَيِ الْمَنْعَ مِنْ حُضُورِ مَوْسِمِ الْحَجِّ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَامِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَهُوَ عَامُ تِسْعَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَقَدْ حَضَرَ الْمُشْرِكُونَ مَوْسِمَ الْحَجِّ فِيهِ وَأُعْلِنَ لَهُمْ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ، وَإِنَّمَا أُمْهِلُوا إِلَى بَقِيَّةِ الْعَامِ لِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلُوا فِي الْمَوْسِمِ، وَالرُّجُوع إِلَى آفاقهم مُتَفَاوِتٌ «فَأُرِيدَ مِنَ الْعَامِ مَوْسِمَ الْحَجِّ، وَإِلَّا فَإِنَّ نِهَايَةَ الْعَامِ بِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُمْ قَدْ أُمْهِلُوا إِلَى نِهَايَةِ الْمُحَرَّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] . وَإِضَافَةُ (الْعَامِ) إِلَى ضَمِيرِ (هُمْ) لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِهِمْ بِحُكْمٍ هَائِلٍ فِي ذَلِكَ الْعَامِ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: فَإِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ عَامُكُمْ ... فَعُودُوا إِلَى مِصْرَ فِي الْقَابِلِ وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ لِإِفَادَةِ نَفْيِ التَّرَدُّدِ فِي اعْتِبَارِهِمْ نَجَسًا، فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالنَّجَاسَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَا وَصْفَ لَهُمْ إِلَّا النِّجَسِيَّةَ. وَوَصْفُ (الْعَامِ) بَاسِمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ وَبَيَانِهِ. وَقَوْلُهُ: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ ظَاهِرُهُ نَهْيٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَنِ الْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمُوَاجَهَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ تَقْتَضِي نَهْيَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَقْرُبَ الْمُشْرِكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. جَعَلَ النَّهْي عَن صُورَةِ نَهْيِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ جُعِلُوا

مُكَلَّفِينَ بِانْكِفَافِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا» فَلَيْسَ النَّهْيُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرَابِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ النَّهْيُ عَنْ حُضُورِهِمُ الْحَجَّ لِأَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَتَقَدَّمُهَا زِيَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَعْقُبُهَا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ «بَرَاءَةٌ» أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادَى فِي الْمَوْسِمِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَوْقِيتُ ابْتِدَاءِ النَّهْيِ بِمَا بَعْدَ عَامِهِمُ الْحَاضِرِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى عَمَلٍ يَكْمُلُ مَعَ اقْتِرَابِ اكْتِمَالِ الْعَامِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَجُّ. وَلَوْلَا إِرَادَةُ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي تَوْقِيتِ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرَابِ الْمَسْجِدِ بِانْتِهَاءِ الْعَامِ حِكْمَةٌ وَلَكَانَ النَّهْيُ عَلَى الْفَوْرِ. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: وَعْدُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حِينَ كَانُوا يَفِدُونَ إِلَى الْحَجِّ فَيُنْفِقُونَ وَيُهْدُونَ الْهَدَايَا فَتَعُودُ مِنْهُمْ مَنَافِعُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَدْ أَصْبَحَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ فَلَا جَرَمَ أَنَّ مَا يَرِدُ إِلَيْهَا مِنْ رِزْقٍ يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْعَيْلَةُ: الِاحْتِيَاجُ وَالْفَقْرُ أَيْ إِنَّ خَطَرَ فِي نُفُوسِكُمْ خَوْفُ الْفَقْرِ مِنِ انْقِطَاعِ الْإِمْدَادِ عَنْكُمْ بِمَنْعِ قَبَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْحَجِّ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغْنِيكُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ هَدَى لِلْإِسْلَامِ أَهْلَ تَبَالَةَ وَجُرَشَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، فَأَسْلَمُوا عَقِبَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ بِلَادَ خَصْبٍ وَزَرْعٍ فَحَمَلُوا إِلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْمِيرَةَ، وَأَسْلَمَ أَيْضًا أَهْلُ جُدَّةَ وَبَلَدِهِمْ مَرْفَأٌ تَرِدُ إِلَيْهِ الْأَقْوَاتُ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا، فَحَمَلُوا الطَّعَامَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَبَلَدِهِمْ تَأْتِيهِ السُّفُنُ مِنْ أَقَالِيمَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْهِنْدِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الرَّجَاءِ مَعَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ فِي تَحْقِيقِ وَعْدِهِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

[سورة التوبة (9) : آية 29]

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَكُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ مِنْ وِفَادَةِ الْقَبَائِلِ، فَلَمَّا مَنَعَكُمْ مِنْ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا مَنْفَعَتَكُمْ فَقَدَّرَ غِنَاكُمْ عَنْهُمْ بِوَسَائِلَ أُخْرَى عَلِمَهَا وَأحكم تدبيرها. [29] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِه الْآيَة استيناف ابْتِدَائِيٌّ لَا تَتَفَرَّعُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْكَلَامُ انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ نَبْذِ الْعَهْدِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَحْوَالِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى غَرَضِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِذْ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسَالِمَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ فِي مُدَافَعَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ التَّصَدِّي لِلطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَلَاشِي أَمْرِهِ فَلَمَّا أَخَذَ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَاسْتَقَلَّ أَمْرُهُ بِالْمَدِينَةِ، ابْتَدَأَ بَعْضُ الْيَهُودِ يُظْهِرُ إِحَنَهُ نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَشَأَ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ وَظَاهَرَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ أَهْلَ الْأَحْزَابِ لَمَّا غَزُوا الْمَدِينَةَ فَأَذْهَبَهُمُ اللَّهُ عَنْهَا. ثُمَّ لَمَّا اكْتَمَلَ نَصْرُ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَعُمُومِهِ بِلَادَ الْعَرَبِ بِمَجِيءِ وُفُودِهِمْ مُسْلِمِينَ، وَامْتَدَّ إِلَى تُخُومِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، أَوْجَسَتْ نَصَارَى الْعَرَبِ خِيفَةً مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ تَغْمُضْ عَيْنُ دَوْلَةِ الرُّومِ حَامِيَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ عَنْ تَدَانِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَأَخَذُوا يَسْتَعِدُّونَ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ مُلُوكِ غَسَّانَ سَادَةَ بِلَادِ الشَّامِ فِي مُلْكِ الرُّومِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا وَأَنَّهُمْ يَنْعَلُونَ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا فَإِذَا صَاحِبِي الْأَنْصَارِيِّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ: افْتَحِ افْتَحْ. فَقُلْتُ: أَجَاءَ الْغَسَّانِيُّ. قَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.

فَلَا جَرَمَ لَمَّا أَمِنَ الْمُسْلِمُونَ بَأْسَ الْمُشْرِكِينَ وَأَصْبَحُوا فِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، أَنْ يَأْخُذُوا الْأُهْبَةَ لِيَأْمَنُوا بَأْسَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَابْتَدَأَ ذَلِكَ بِغَزْوِ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَقَدْ هُزِمُوا وَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بَأْسَهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ فَلَمْ يَقَعْ قِتَالٌ مَعَهُمْ بَعْدُ ثُمَّ ثَنَّى بِغَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي هِيَ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ خُصُوصُ النَّصَارَى، وَهَذَا لَا يلاقي مَا تظافرت عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ مِنْ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ تَبُوكَ. ومِنَ بَيَانِيَّةٌ وَهِيَ تُبَيِّنُ الْمَوْصُولَ الَّذِي قَبْلَهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْقَوْمَ الْمَأْمُورَ بِقِتَالِهِمْ ثَبَتَتْ لَهُمْ مَعَانِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَعَاطِفَةِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ، وَأَنَّ الْبَيَانَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الصِّلَةِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّلَاتِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْفَرِيقَ الْمَأْمُورُ بِقِتَالِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ، انْتَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالتَّدَيُّنُ بِدِينِ الْحَقِّ. وَلَمْ يَعْرِفْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُثْبِتُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَحَيَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوهَا بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ أَثْبَتُوا وُجُودَ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَقَدْ وَصَفُوا اللَّهَ بِصِفَاتٍ تُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ فَكَأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِهِ، إِذْ أَثْبَتَ الْيَهُودُ الْجِسْمِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الْمَائِدَة: 64] . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: 30] . وَأَثْبَتَ النَّصَارَى تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِالتَّثْلِيثِ فَقَارَبُوا قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ أَبْعَدُ مِنَ الْيَهُودِ عَنِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَأَنَّ قَوْلَ الْفَرِيقَيْنِ بِإِثْبَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ قَدْ أَلْصَقُوا بِهِ تَخَيُّلَاتٍ وَأُكْذُوبَاتٍ تُنَافِي حَقِيقَةَ الْجَزَاءِ: كَقَوْلِهِمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80] فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَتَكَلَّفَ الْمُفَسِّرُونَ لِدَفْعِ مَا يُرَدُّ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ هَذَا مِنَ الْمُنَوَّعِ وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ وَكُلُّهُ تَعَسُّفَاتٍ.

وَالَّذِي أَرَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْهَا قِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى كَمَا عَلِمْتَ وَلَكِنَّهَا أَدْمَجَتْ مَعَهُمُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْتَضِي التَّفَرُّغَ لِقِتَالِهِمْ وَمُتَارَكَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَرَسُولُهُ فَإِدْمَاجٌ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ اقْتِصَارَ الْقِتَالِ عَلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِمُ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بَلْ كُلُّ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ هِيَ الَّتِي أَرْدَفَتْ بِالتَّبْيِينِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَمَا عَدَاهَا إِدْمَاجٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا مَضَى، فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِأَنَّهُمْ لَا شَرِيعَةَ لَهُمْ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَحْرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي دِينِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَيَلْحَقُ بِهِمُ الْمَجُوسُ (¬1) فَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَدْيَانُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أُمَمِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْعَالَمِ يَوْمَئِذٍ، فَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ نَصَارَى، وَكَانَ فِي الْعَرَب النَّصَارَى فِي بِلَاد الشَّام وطي وَكَلْبٍ وَقُضَاعَةَ وَتَغْلِبَ وَبَكْرٍ، وَكَانَ الْمَجُوسُ بِبِلَادِ الْفُرْسِ وَكَانَ فِرَقٌ مِنَ الْمَجُوسِ فِي الْقَبَائِلِ الَّتِي تَتْبَعُ مُلُوكَ الْفُرْسِ مِنْ تَمِيمٍ وَبَكْرٍ وَالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَأَشْتَاتٌ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ وَقَدْ تَوَفَّرَتْ فِي أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ مِنْ أَسْبَابِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ اخْتِيَارُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِتَعْرِيفِهِمْ بِتِلْكَ الصِّلَاتِ لِأَنَّ الْمَوْصُولِيَّةَ أَمْكَنُ طَرِيقٍ فِي اللُّغَةِ لِحِكَايَةِ أَحْوَالِ كَفْرِهِمْ. وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ عَطْفَ جُمَلٍ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ يَقْتَضِي لُزُومَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لِكُلِّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ، فَإِنَّ الْوَاو لَا تقيد إِلَّا مُطْلَقَ الْجَمْعِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ قَدْ يَكُونُ مُرَادًا بِهِ وَاحِدٌ فَيَكُونُ كَالْمَعْهُودِ بِاللَّامِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسًا ¬

(¬1) الْمَجُوس أَتبَاع (زرادشت) صَاحب الدَّين الَّذِي ظهر بِفَارِس فِي السَّابِع قبل الْمَسِيح. وهم يُؤمنُونَ بإلهين اثْنَيْنِ إِلَه الْخَيْر واسْمه (هُرْمُز) وإله الشَّرّ واسْمه (أهرمز) ، وَبَعْضهمْ يَقُول إِلَه النُّور وإله الظلمَة. وَقد عبدُوا النَّار وأنكروا الْبَعْث، وَزَعَمُوا أَن جَزَاء النُّفُوس يكون بطريقة التجانس للأرواح بِأَن تظهر الرّوح الصَّالِحَة فِي الذوات الصَّالِحَة وَالروح الشريرة فِي الْحَيَوَانَات الذميمة. [.....]

أَوْ أَجْنَاسًا مِمَّا يَثْبُتُ لَهُ مَعْنَى الصِّلَةِ أَوِ الصِّلَاتِ، عَلَى أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ نَائِبٌ عَنِ الْعَامِلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ سَوَاءٌ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمْ جُمِعَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً، وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً، وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: 63- 68] فَقَدْ عُطِفَتْ فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ مَوْصُولَةٍ عَلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْصُولٍ مُخْتَصٌّ الْمَاصَدَقَ عَلَى طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ بَلِ الْعِبْرَةُ بِالِاتِّصَافِ بِمَضْمُونِ إِحْدَى تِلْكَ الصِّلَاتِ جَمِيعِهَا بِالْأُولَى، وَالتَّعْوِيلُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْقَرَائِنِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَيَانٌ لِأَقْرَبِ صِلَةٍ مِنْهُ وَهِيَ صِلَةُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ وَالْأَصْلُ فِي الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ بِلَصْقِ الْمُبَيَّنِ لِأَنَّ الْبَيَانَ نَظِيرَ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ مُفْرِدٌ وَلَيْسَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ الصِّلَةِ عَلَى أَنَّ الْقَرِينَةَ تَرُدُّهُ إِلَى مَرَدِّهِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ التَّنْدِيدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ وَلَمْ يَدِينُوا دِينَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ كِتَابُهُمْ، وَإِنَّمَا دَانُوا بِمَا حَرَّفُوا مِنْهُ، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْهُ، وَمَا أَلْصَقُوا بِهِ، وَلَوْ دَانُوا دِينَ الْحَقِّ لَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ، لِأَنَّ كِتَابَهُمُ الَّذِي أُوتُوهُ أَوْصَاهُمْ بِاتِّبَاعِ النَّبِيءِ الْآتِي مِنْ بَعْدُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تبغون [آل عمرَان: 81- 83] . وَقَوْلُهُ: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. بِمَعْنَى لَا يَجْعَلُونَ حَرَامًا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ مَادَّةَ فَعَّلَ تُسْتَعْمَلُ فِي جَعْلِ الْمَفْعُولِ مُتَّصِفًا بِمَصْدَرِ الْفِعْلِ، فَيُفِيدُ قَوْلُهُ: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ غَيْرَ حَرَامٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُبَاحًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَشْنِيعُ حَالِهِمْ وَإِثَارَةُ كَرَاهِيَتِهِمْ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَلَمَّا كَانَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ قَبِيحًا مُنْكَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: 157]

لَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَهُ دَلُّوا عَلَى فَسَادِ عُقُولِهِمْ فَكَانُوا أَهْلًا لِرَدْعِهِمْ عَنْ بَاطِلِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شَامِلٌ لِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الضَّرُورِيَّاتِ كَحِفْظِ النَّفْسِ وَالنَّسَبِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ وَالْمُشْرِكُونَ لَا يُحَرِّمُونَ ذَلِك. وَالْمرَاد (بِرَسُولِهِ) مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مُتَعَارَفُ الْقُرْآنِ وَلَوْ أُرِيدَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ لَقَالَ وَرُسُلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ إِلَّا مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالتَّحْرِيمِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَهْيِئَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنْ يَغْزُوا الرُّومَ وَالْفُرْسَ وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْتَظِلُّونَ بِنَصْرِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ الَّذِينَ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمْ مِثْلِ قُضَاعَةَ وَتَغْلِبَ بِتُخُومِ الشَّامِ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وحَتَّى غَايَةٌ لِلْقِتَالِ، أَيْ يَسْتَمِرُّ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَضَمِيرُ يُعْطُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. وَالْجِزْيَةَ اسْمٌ لِمَالٍ يُعْطِيهِ رِجَالُ قَوْمٍ جَزَاءً عَلَى الْإِبْقَاءِ بِالْحَيَاةِ أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْأَرْضِ، بُنِيَتْ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْهَيْئَةِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ فِي اعْتِبَارِ الْهَيْئَةِ هُنَا، فَلِذَلِكَ كَانَ الظَّاهِرُ. هَذَا الِاسْمِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنْ كَلِمَةِ (كِزْيَتْ) بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى الْخَرَاجِ نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْخُوَارَزْمِيِّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» . وَلَمْ يَذْكُرُوهَا فِي «مُعَرَّبِ الْقُرْآنِ» لِوُقُوعِ التَّرَدُّدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَادَّةَ الِاشْتِقَاقِ الْعَرَبِيِّ صَالِحَةً فِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْمَعْنَى لِلَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمْ وَلِذَلِكَ عُرِّفَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: عَنْ يَدٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى يُعْطُوا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وعَنْ فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ. أَيْ يَدْفَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِرْسَالُهَا وَلَا الْحَوَالَةُ فِيهَا، وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ الْحَالُ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَالْمُرَادُ يَدُ الْمُعْطِي أَيْ يُعْطُوهَا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ وَلَا مُنَازِعِينَ فِي إِعْطَائِهَا وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ «أَعْطَى بِيَدِهِ» إِذَا انْقَادَ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ صاغِرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُعْطُوا.

[سورة التوبة (9) : آية 30]

وَالصَّاغِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغِرَ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- صَغَرَا بِالتَّحْرِيكِ وَصَغَارًا. إِذَا ذَلَّ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّغَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [124] ، أَيْ وَهُمْ أَذِلَّاءُ وَهَذِهِ حَالٌ لَازِمَةٌ لِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ: وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَحْقِيرُ أَهْلِ الْكُفْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الِانْخِلَاعِ عَنْ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَخَالَفَ ابْنَ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ. وَقَالَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: لِأَنَّ حُكْمَ قِتَالِهِمْ مَضَى فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا إِلَى الْجِزْيَةِ بَلْ كَانَتْ نِهَايَةُ الْأَمْرِ فِيهَا قَوْلَهُ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التَّوْبَة: 5]- وَقَوْلَهُ- فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ [التَّوْبَة: 11]- وَقَوْلَهُ- وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [التَّوْبَة: 15] . وَلِأَنَّهُمْ لَوْ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ لَاقْتَضَى ذَلِكَ إِقْرَارَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَرِّعْ إِجْلَاءَهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ وَذَلِكَ لَمْ يَفْعَله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [30] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التَّوْبَة: 29] وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ الْيَهُود مِنْهُم عَزِيز ابْنُ اللَّهِ، وَيَقُولُ النَّصَارَى مِنْهُمُ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، تَشْنِيعًا عَلَى قَائِلِيهِمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ غَايَتَهُ حَتَّى ساووا الْمُشْركين. وعزيز: اسْمُ حَبْرٍ كَبِيرٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ، وَاسْمُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (عِزْرَا) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ- بْنُ (سَرَايَا) مِنْ سِبْطٍ اللَّاوِيِّينَ، كَانَ

حَافِظًا لِلتَّوْرَاةِ. وَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ (كُورَشُ) مَلِكُ فَارِسَ فَأَطْلَقَهُ مِنَ الْأَسْرِ، وَأَطْلَقَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي بَابِلَ، وَأَذِنَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى أُورْشَلِيمَ وَبِنَاءُ هَيْكَلِهِمْ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 451 قَبْلَ الْمَسِيحِ، فَكَانَ عِزْرَا زَعِيمَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ رَجَعُوا بِقَوْمِهِمْ إِلَى أُورْشَلِيمَ وَجَدَّدُوا الْهَيْكَلَ وَأَعَادَ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مِنْ حِفْظِهِ، فَكَانَ الْيَهُودُ يُعَظِّمُونَ عِزْرَا إِلَى حَدِّ أَنِ ادَّعَى عَامَّتُهُمْ أَنَّ عِزْرَا ابْنُ اللَّهِ، غُلُوًّا مِنْهُمْ فِي تَقْدِيسِهِ، وَالَّذِينَ وَصَفُوهُ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ، وَتَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ عَامَّتِهِمْ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَكُونُوا أَخْلِيَاءَ مِنْ نِسْبَةِ أَحَدِ عُظَمَائِهِمْ إِلَى بُنُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ كَمَا قَالَ مُتَقَدِّمُوهُمُ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: 138] . قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأُلْصِقَ الْقَوْلُ بِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ سُكُوتَ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ وَعَدَمَ تَغْيِيرِهِ يُلْزِمُهُمُ الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ اسْمُ عِزْرَا فِي الْآيَةِ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا عُرِّبَ عُرِّبَ بِصِيغَةٍ تُشْبِهُ صِيغَةَ التَّصْغِيرِ، فَيَكُونُ كَذَلِكَ اسْمُهُ عِنْدَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَصْغِيرَهُ جَرَى عَلَى لِسَانِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ تَحْبِيبًا فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عُزَيْرٌ- مَمْنُوعًا مِنَ التَّنْوِينِ لِلْعُجْمَةِ- وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: بِالتَّنْوِينِ عَلَى اعْتِبَارِهِ عَرَبِيًّا بِسَبَبِ التَّصْغِيرِ الَّذِي أُدْخِلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّصْغِيرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَعْلَامِ الْعَجَمِيَّةِ، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي فَصْلِ النَّظْمِ مِنْ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، وَتَأَوُّلُ قِرَاءَةِ تَرْكِ التَّنْوِينِ بِوَجْهَيْنِ لَمْ يَرْتَضِهِمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّصَارَى بِبُنُوَّةِ الْمَسِيحِ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْمَسِيحِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [45] . وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قالَتِ الْيَهُودُ- وَقالَتِ النَّصارى. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ تَشْهِيرُ الْقَوْلِ وَتَمْيِيزُهُ، زِيَادَةً فِي تَشْنِيعِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وبِأَفْواهِهِمْ حَالٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَعْدُو الْوُجُودَ فِي اللِّسَانِ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُحَقِّقُهُ فِي الْوَاقِعِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ كَاذِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة التوبة (9) : آية 31]

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الْكَهْف: 5] . وَفِي هَذَا أَيْضًا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَسَدُّ بَابِ تَنَصُّلِهِمْ مِنْهُ إِذْ هُوَ إِقْرَارُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَصَرِيحِ كَلَامِهِمْ. وَالْمُضَاهَاةُ: الْمُشَابَهَةُ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى الْقَائِلِينَ: عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ظَاهِرٍ مِنَ الْكَلَامِ، أَيْ يُضَاهِي قَوْلَهُمْ. والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ: مِنَ الْعَرَبِ، وَمِنَ الْيُونَانِ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ مِنْ قَبْلِ النَّصَارَى ظَاهَرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مِنْ قَبْلِ الْيَهُودِ: فَلِأَنَّ اعْتِقَادَ بُنُوَّةِ عُزَيْرَ طَارِئٌ فِي الْيَهُودِ وَلَيْسَ مِنْ عَقِيدَةِ قُدَمَائِهِمْ. وَجُمْلَةُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ دُعَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ عَمَلٍ شَنِيعٍ، وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الدُّعَاءِ: أَيْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ قَتْلًا شَدِيدًا. وَجُمْلَةُ التَّعْجِيبِ مُسْتَأْنَفَةٌ كَشَأْنِ التَّعَجُّبِ. وَجُمْلَةُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، حَتَّى شُبِّهَ الْمَكَانُ الَّذِي يُصْرَفُونَ إِلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِمْ بِمَكَانٍ مَجْهُولٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ بِاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَمَعْنَى يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ. يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ، قَالَ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 9] وَالْإِفْكُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ قَدْ جَاءَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنِ الصِّدْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غير مرّة. [31] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 31] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) الْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: 30] لِيُبْنَى عَلَى التَّقْرِيرِ زِيَادَةُ التَّشْنِيعِ بِقَوْلِهِ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً إِلَخْ، فَوِزَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وِزَانُ جُمْلَةِ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ [الْأَعْرَاف: 148] بَعْدَ جُمْلَةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الْأَعْرَاف: 148] . وَالضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَالْأَحْبَارُ جَمَعُ حَبْرٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهُوَ الْعَالِمُ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ. الرُّهْبَانُ اسْمُ جَمْعٍ لِرَاهِبٍ وَهُوَ التَّقِيُّ الْمُنْقَطِعُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْحَبْرُ بِعَالِمِ الْيَهُودِ لِأَنَّ عُظَمَاءَ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ يَشْتَغِلُونَ بِتَحْرِيرِ عُلُومِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَهُمْ عُلَمَاءُ فِي الدِّينِ وَخُصَّ الرَّاهِبُ بِعَظِيمِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ لِأَنَّ دِينَ النَّصَارَى قَائِمٌ عَلَى أَصْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ. وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ هَؤُلَاءِ أَرْبَابًا أَنَّ الْيَهُودَ ادَّعَوْا لِبَعْضِهِمْ بُنُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ تَأْلِيهٌ، وَأَنَّ النَّصَارَى أَشَدُّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِصُوَرِ عُظَمَاءِ مِلَّتِهِمْ مِثْلَ صُورَةِ مَرْيَمَ، وَصُوَرِ الْحَوَارِيِّينَ، وَصُورَةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، وَالسُّجُودُ مِنْ شِعَارِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ فِي حُرُوبِهِمْ وَلَا يَسْتَنْصِرُونَ بِاللَّهِ. وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِهِمْ وَفِرَقِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ يُحَلِّلُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الدِّينَيْنِ، وَلِذَلِكَ أَفْحَمَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عديا بْنَ حَاتِمٍ لَمَّا وَفَدَ عَلَيْهِ قُبَيْلَ إِسْلَامِهِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقَالَ عَدِيُّ: لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ- فَقُلْتُ: بَلَى- قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِبَعْضِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ مَرْتَبَةَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَكَانَتِ الشَّنَاعَةُ لَازِمَةً لِلْأُمَّتَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِمَقَالِهِمْ كَمَا زَعَمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَإِنَّ الْأُمَّةَ تُؤَاخَذُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ أَفْرَادِهَا إِذَا أَقَرَّتْهُ وَلَمْ تُنْكِرْهُ، وَمَعْنَى اتِّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا دُونَ أَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَخْصِيصُ الْمَسِيحِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ تَأْلِيهَ النَّصَارَى إِيَّاهُ أَشْنَعُ وَأَشْهَرُ. وَجُمْلَةُ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ، وَهِيَ مَحَطُّ زِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ وَإِنْكَارِ صَنِيعِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيمَا زَعَمُوا، لِأَنَّ وَصَايَا كُتُبِ الْمِلَّتَيْنِ طَافِحَةٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ إِشْرَاكِهَا فِي خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ.

[سورة التوبة (9) : آية 32]

وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ إِلهاً واحِداً. وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لقصد التَّنْزِيه والتبرّي مِمَّا افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِك إشراكا. [32] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 32] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِزِيَادَةِ إِثَارَةِ غَيْظِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، بِكَشْفِ مَا يُضْمِرُونَهُ لِلْإِسْلَامِ مِنَ الْمُمَالَاةِ، وَالتَّأَلُّبِ عَلَى مُنَاوَاةِ الدِّينِ، حِينَ تَحَقَّقُوا أَنَّهُ فِي انْتِشَارٍ وَظُهُورٍ، فَثَارَ حَسَدُهُمْ وَخَشَوْا ظُهُورَ فَضْلِهِ عَلَى دِينِهِمْ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [التَّوْبَة: 29] وَالْإِطْفَاءُ إِبْطَالُ الْإِسْرَاجِ وَإِزَالَةُ النُّورِ بِنَفْخٍ عَلَيْهِ، أَوْ هُبُوبِ رِيَاحٍ، أَوْ إِرَاقَةِ مِيَاهٍ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَنِيرِ مِنْ سِرَاجٍ أَوْ جَمْرٍ. وَالنُّورُ: الضَّوْءُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [91] . وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي مُحَاوَلَةِ تَكْذِيبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَإِعَانَةِ الْمُنَاوِئِينَ لِلْإِسْلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْإِرْجَافِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْمُقَاوَمَةِ. وَالِانْضِمَامِ إِلَى صُفُوفِ الْأَعْدَاءِ فِي الْحُرُوبِ، وَمُحَاوَلَةِ نَصَارَى الشَّامِ الْهُجُومَ عَلَى الْمَدِينَةِ بِحَال من بيحاول إِطْفَاءَ نُورٍ بِنَفْخِ فَمِهِ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ مُرَكَّبٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ، وَمِنْ كَمَالِ بَلَاغَتِهِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِتَفْكِيكِ التَّشْبِيهِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ بِالنُّورِ، وَيُشَبَّهَ مُحَاوِلُو إِبْطَالِهِ بِمُرِيدِي إِطْفَاءِ النُّورِ وَيُشَبَّهَ الْإِرْجَافُ وَالتَّكْذِيبُ بِالنَّفْخِ، وَمِنَ الرَّشَاقَةِ أَنَّ آلَةَ النَّفْخِ وَآلَةَ التَّكْذِيبِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْأَفْوَاهُ. وَالْمِثَالُ الْمَشْهُورُ لِلتَّمْثِيلِ الصَّالِحِ لِاعْتِبَارَيِ التَّرْكِيبِ وَالتَّفْرِيقِ قَوْلُ بَشَّارٍ: كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤوسنا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهُ وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ فِي تَمْثِيلِيَّةِ الْآيَةِ أَشَدُّ اسْتِقْلَالًا، بِخِلَافِ بَيْتِ بَشَّارٍ، كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ.

وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُحَاوَلَةَ إِطْفَائِهِ عَبَثٌ وَأَنَّ أَصْحَابَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَةِ لَا يَبْلُغُونَ مُرَادَهُمْ. وَالْإِبَاءُ وَالْإِبَايَةُ: الِامْتِنَاعُ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِتْمَامَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِحَالِ مَنْ يُحَاوِلُهُ مُحَاوِلٌ عَلَى فِعْلٍ وَهُوَ يَمْتَنِعُ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا حَاوَلُوا طَمْسَ الْإِسْلَامِ كَانُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُحَاوِلِينَ إِبْطَالَ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ حَالُهُمْ، فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَحَالِ مَنْ يُحَاوِلُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَفْعَلَهُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ نَفْيٌ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ فِعْلُ يَأْبَى مَجْرَى نَفْيِ الْإِرَادَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُرِيدُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ (أَبَى) وَنَحْوَهُ فِيهِ جَانِبُ نَفْيٍ لِأَنَّ إِبَايَةَ شَيْءٍ جَحْدٌ لَهُ، فَقَوِيَ جَانِبُ النَّفْيِ هُنَا لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ. فَكَانَ إِبَاءُ مَا يُرِيدُونَهُ فِي مَعْنَى نَفْيِ إِرَادَةِ اللَّهِ مَا أَرَادُوهُ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ «كَرِهْتُ إِلَّا أَخَاكَ» . وَجِيءَ بِهَذَا التَّرْكِيبِ هُنَا لِشِدَّةِ مُمَاحَكَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَلَمْ يُجَأْ بِهِ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [8] إِذْ قَالَ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ خُفْيَةً وَفِي لِينٍ وَتَمَلُّقٍ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ فِي قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَأُبَيٍّ بِرَفْعِ قَلِيلٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] : أَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُسْتَثْنَى عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ ضَمِيرِ فَشَرِبُوا عَلَى اعْتِبَارِ تَضْمِينِ شَرِبُوا مَعْنَى، فَلَمْ يَطْعَمُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ، مَيْلًا مَعَ مَعْنَى الْكَلَامِ. والإتمام مُؤذن بِالزِّيَادَةِ وَالِانْتِشَارِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُبْقِيَ نُورَهُ. ولَوْ فِي وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ اتِّصَالِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا أَجْدَرُ بِانْتِفَاءِ مَا قَبْلَهَا لَوْ كَانَ مُنْتَفِيًا. وَالْمُبَالَغَةُ بِكَرَاهِيَةِ الْكَافِرِينَ تَرْجِعُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ بِآثَارِ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةِ، وَهِيَ التَّأَلُّبُ وَالتَّظَاهُرُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الدِّينِ وَإِبْطَالِهِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ كَرَاهِيَتِهِمْ فَلَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُبَالَغَ بِهَا، وَالْكَافِرُونَ هُمُ الْيَهُود وَالنَّصَارَى.

[سورة التوبة (9) : آية 33]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 33] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التَّوْبَة: 32] بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِهَذَا الدِّينِ، فَلَا يُرِيدُ إِزَالَتَهُ، وَلَا يَجْعَلُ تَقْدِيرَهُ بَاطِلًا وَعَبَثًا. وَفِي هَذَا الْبَيَانِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الرَّسُولِ بَعْدَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الدِّينِ. وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ صِيغَةُ قَصْرٍ، أَيْ هُوَ لَا غَيْرُهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِهَذَا النُّورِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مُعَانِدِيهِ يُطْفِئُونَهُ. وَاجْتِلَابُ اسْمُ الْمَوْصُولِ: لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ عِلَّةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهِيَ جُمْلَةٌ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التَّوْبَة: 32] . وَعَبَّرَ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ تَنْوِيهًا بِفَضْلِهِ، وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِهُدًى وَلَا حَقٍّ. وَفِعْلُ الْإِظْهَارِ إِذَا عُدِّيَ بِ عَلَى كَانَ مُضَمَّنًا مَعْنَى النَّصْرِ، أَوِ التَّفْضِيلِ، أَيْ لِيَنْصُرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، أَيْ لِيَكُونَ أَشْرَفَ الْأَدْيَانِ وَأَغْلَبَهَا، وَمِنْهُ الْمُظَاهَرَةُ أَيِ الْمُنَاصَرَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً [التَّوْبَة: 4] . فَالْإِسْلَامُ كَانَ أَشْرَفَ الْأَدْيَانِ: لِأَنَّ مُعْجِزَةَ صِدْقِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَيَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِ إِعْجَازِهَا جَمِيعُ الْعُصُورِ، وَلِخُلُوِّ هَذَا الدِّينِ عَنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْفِعْلِ، فَهُوَ خَلِيٌّ عَنْ إِثْبَاتِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَخَلِيٌّ عَنْ وَضْعِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَخَلِيٌّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ اسْتِقَامَةِ نِظَامِ الْعَالَمِ، وَقَدْ فَصَّلْتُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ «أُصُولَ النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْإِسْلَامِ» . وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حَصَلَ فِي الْعَالَمِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْمِلَلِ إِيَّاهُ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ، بِالرَّغْمِ عَلَى كَرَاهِيَةِ أَقْوَامِهِمْ وَعُظَمَاءِ مِلَلِهِمْ ذَلِكَ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ إِيَّاهُ بِكُلِّ حِيلَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ وَعَلَا وَبَانَ فَضْلُهُ عَلَى الْأَدْيَانِ الَّتِي جَاوَرَهَا وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ

[سورة التوبة (9) : آية 34]

وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تَعَلَّقُوا بِهَا، وَمَا صَلُحَتْ بَعْضُ أُمُورِهِمْ إِلَّا فِيمَا حَاكَوْهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْبَابِ نُهُوضِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِظْهَارِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ أَنْ تَنْقَرِضَ تِلْكَ الْأَدْيَانُ. ولَوْ فِي وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وَصَلْيَةٌ مِثْلَ الَّتِي فِي نَظِيرَتِهَا. وَذُكِرَ الْمُشْرِكُونَ هُنَا لِأَنَّ ظُهُورَ دِينِ الْإِسْلَامِ أَشَدُّ حَسْرَةٍ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، لأنّهم الَّذين ابتدأوا بِمُعَارَضَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ وَدَعَوُا الْأُمَمَ لِلتَّأَلُّبِ عَلَيْهِ وَاسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلِأَنَّ أَتَمَّ مَظَاهِرِ انْتِصَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهِيَ دِيَارُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ غَلَبَ عَلَيْهَا، وَزَالَتْ مِنْهَا جَمِيعُ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَبْقَى دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» فَلِذَلِكَ كَانَتْ كَرَاهِيَةُ الْمُشْرِكِينَ ظُهُورَهُ مَحِلَّ الْمُبَالِغَةِ فِي أَحْوَالِ إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ. [34] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 34] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَنْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَقَائِصِ أَهْلِ الْكِتَابِ، تَحْقِيرًا لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ، لِيَكُونُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَأْلِيهَ عَامَّتِهِمْ لِأَفَاضِلَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمُ الْمُتَقَدِّمِينَ: مِثْلَ عُزَيْرَ، بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسُوا عَلَى حَالِ كَمَالٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمَقَامَ الدِّينِيَّ الَّذِي يَنْتَحِلُونَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ أَنْ يعلم الْمُسلمُونَ تمالئ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى الضَّلَالِ وَعَلَى مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حُبُّ الْخَاصَّةِ الِاسْتِيثَارُ بِالسِّيَادَةِ، وَحُبُّ الْعَامَّةِ الِاسْتِيثَارُ بِالْمَزِيَّةِ بَيْنَ الْعَرَبِ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِالنِّدَاءِ وَاقْتِرَانُهَا بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ، لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا وَرَفْعِ احْتِمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ لِغَرَابَتِهِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ آنِفًا.

وَأُسْنِدَ الْحُكْمُ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُوا مِنْ وُجُودِ الصَّالِحِينَ فِيهِمْ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ. وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، أَيْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ أَكْلًا مُلَابِسًا لِلْبَاطِلِ، أَيْ أَكْلًا لَا مُبَرِّرَ لَهُ، وَإِطْلَاقُ الْأَكْلِ عَلَى أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا [الْفجْر: 19]- وَقَالَ- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [188] وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْبَاطِلُ تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَالْبَاطِلُ يَشْمَلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً، مِنْهَا تَغْيِيرُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ لِمُوَافَقَةِ أَهْوَاءِ النَّاسِ، وَمِنْهَا الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ إِعْطَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ الْمُعَيَّنَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهَا جَحْدُ الْأَمَانَاتِ عَنْ أَرْبَابِهَا أَوْ عَنْ وَرَثَتِهِمْ، وَمِنْهَا أَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَأَمْوَالِ الْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ. وَسَبِيلُ اللَّهِ طَرِيقُهُ اسْتُعِيرَ لِدِينِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى رِضَاهُ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُتَابَعَةِ الدِّينِ الْحَقِّ فِي خَاصَّةِ النَّفْسِ، وَإِغْرَاءِ النَّاسِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ دِينِهِمْ إِذْ يُغَيِّرُونَ الْعَمَلَ بِهَا، وَيُضَلِّلُونَ الْعَامَّةَ فِي حَقِيقَتهَا حتّى يعملوا بِخِلَافِهَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِدِينِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ إِذْ يُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلِمُونَ أَتْبَاعَ مِلَّتِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بدين الحقّ. وَالْأَجَل مَا فِي الصَّدِّ مِنْ مَعْنَى صَدِّ الْفَاعِلِ نَفْسَهُ أَتَتْ صِيغَةُ مُضَارِعِهِ بِضَمِّ الْعَيْنِ: اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ مُضَاعَفٌ مُتَعَدٍّ، وَلذَلِك لم يجىء فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَضْمُومَ الصَّادِ وَلَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُرَادُ فِيهَا أَنَّهُ يَصُدُّ غَيْرَهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ: أَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَسَاوِي أَقْوَامٍ يَضَعُهُمُ النَّاسُ فِي مَقَامَاتِ الرِّفْعَةِ وَالسُّؤْدُدِ وَلَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، فَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى بَيَانُ مَسَاوِي أَقْوَامٍ رَفَعَ النَّاسُ أَقْدَارَهُمْ لِعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَكَانُوا مُنْطَوِينَ عَلَى خَبَائِثَ خَفِيَّةٍ، وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بَيَانُ مَسَاوِي أَقْوَامٍ رَفَعَهُمُ النَّاسُ لِأَجْلِ أَمْوَالِهِمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ إِذَا لَمْ تُنْفَقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ. وَأَمَّا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ إِثْرَ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكٍ فِي وَقْتِ عُسْرَةٍ، وَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْعُدَّةِ وَالظَّهْرِ كَثِيرَةً، كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَةُ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التَّوْبَة: 92] وَقَدْ وَرَدَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ أَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَلْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا عَلَى جَيْشِ غَزْوَةِ تَبُوكٍ وَحَمَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى فَالَّذِينَ انْكَمَشُوا عَنِ النَّفَقَةِ هُمُ الَّذِينَ عَنَتْهُمُ الْآيَةُ بِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَالْكَنْزُ- بِفَتْحِ الْكَافِ- مَصْدَرُ كَنَزَ إِذَا ادَّخَرَ مَالًا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي يُخَزَّنُ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وسَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ الْإِسْلَامِيُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. فَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ قَوْمٌ مَعْهُودُونَ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ مِنَ الْوَعِيدِ، وَيَعْرِفُهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّبَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ.

وَمَعْنَى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ انْتِفَاءُ الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ وَالنَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ: إِمَّا وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا كَالزَّكَاةِ، وَإِمَّا وُجُوبًا عَارِضًا كَالنَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَالنَّفَقَةِ فِي نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ وُلَاةُ الْعَدْلِ. وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: يُنْفِقُونَها عَائِدٌ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَالْوَعِيدُ مَنُوطٌ بِالْكَنْزِ وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ، فَلَيْسَ الْكَنْزُ وَحْدَهُ بِمُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي مَعْرِضِ أَحْكَامِ ادِّخَارِ الْمَالِ، وَفِي مَعْرِضِ إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ، وَلَا هِيَ فِي تَعْيِينِ سُبُلِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ الَّتِي يَجِبُ الْإِخْرَاجُ لِأَجْلِهَا مِنَ الْمَالِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَنْزِ بِالْمَالِ الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ حِينَ وُجُوبِهَا، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِ الْإِنْفَاقِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِ سَبِيلِ اللَّهِ بِالصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْعُمُومَ بَلْ أُرِيدَ بِهِ الْعَهْدُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّهَا نَسَخَتْهَا آيَةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَقَعَ فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنِ الْكَنْزِ، أَيِ الْمَذْمُومِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ فِي آيَةِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْآيَةَ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ» فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْضُ مَالِهِ وَبَعْضُ كَنْزِهِ، أَيْ فَهُوَ الْكَنْزِ الْمَذْمُومِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ كَنْزٍ مَذْمُومًا. وَشَذَّ أَبُو ذَرٍّ فَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِ الْكَانِزِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْكَنْزِ، وَعَلَى عُمُومِ الْإِنْفَاقِ، وَحَمَلَ سَبِيلَ اللَّهِ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ، فَقَالَ بِتَحْرِيمِ كَنْزِ الْمَالِ، وَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ وَلا يُنْفِقُونَها عَلَى مَعْنَى مَا يُسَمَّى عَطْفُ التَّفْسِيرِ، أَيْ عَلَى مَعْنَى الْعَطْفِ لِمُجَرَّدِ الْقَرْنِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ بِالشَّامِ يَنْهَى النَّاسَ عَلَى الْكَنْزِ وَيَقُولُ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِمَكَاوٍ مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجَنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَهُوَ أَمِيرُ الشَّامِ، فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ: إِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: نَزَلَتْ فِيهِمْ وَفِينَا، وَاشْتَدَّ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ عَلَى النَّاسِ وَرَأَوْهُ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

[سورة التوبة (9) : آية 35]

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَشَكَاهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَاسْتَجْلَبَهُ مِنَ الشَّامِ وَخَشِيَ أَبُو ذَرٍّ الْفِتْنَةَ فِي الْمَدِينَةِ فَاعْتَزَلَهَا وَسَكَنَ الرَّبْذَةَ وَثَبَتَ عَلَى رَأْيِهِ وَقَوْلِهِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ دَاخِلَةٌ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ، لِتَنْزِيلِ الْمَوْصُولِ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الصِّلَةِ فِي الْخَبَرِ، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ وَيَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ عَائِدًا إِلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ. وَالْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ آكِلِي الْأَمْوَالِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَذَكَرَ الْكَانِزِينَ، أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُنْذِرَ جَمِيعَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَدَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِذَا عَلِمْتَ أَحْوَالَهُمْ هَذِهِ فَبِشِّرْهُمْ، وَالتَّبْشِيرُ مُسْتَعَارٌ لِلْوَعِيدِ عَلَى طَريقَة التهكّم. [35] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 35] يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) انْتَصَبَ يَوْمَ يُحْمى على الظَّرْفِيَّة لعذاب [التَّوْبَة: 34] ، لِمَا فِي لَفْظِ عَذَابٍ مِنْ مَعْنَى يُعَذَّبُونَ. وَضَمِيرُ عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التَّوْبَة: 34] بِتَأْوِيلِهِمَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى أَمْوالَ النَّاسِ [التَّوْبَة: 34] والذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التَّوْبَة: 34] ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْله: فَبَشِّرْهُمْ [التَّوْبَة: 34] عَائِدًا إِلَى الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ والَّذِينَ يَكْنِزُونَ [التَّوْبَة: 34] . وَالْحَمْيُ شِدَّةُ الْحَرَارَةِ. يُقَالُ: حَمِيَ الشَّيْءُ إِذَا اشْتَدَّ حَرُّهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِعَلَى عَائِدٌ إِلَى الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التَّوْبَة: 34] بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِالْفَاعِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَحْمِي الْحَامُونَ عَلَيْهَا، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ إِلَى الْمَجْرُورِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْمَحْمِيِّ لِظُهُورِهِ: إِذْ هُوَ النَّارُ الَّتِي تُحْمَى، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَنْ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، عُدِّيَ بِعَلَى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْحَمْيَ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَمْوَالِ بِحَيْثُ تَكْتَسِبُ حَرَارَةَ الْمَحْمِيِّ كُلَّهَا، ثُمَّ أُكِدَّ مَعْنَى التَّمَكُّنِ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فِي نارِ جَهَنَّمَ فَصَارَتِ الْأَمْوَالُ مَحْمِيَّةً عَلَيْهَا النَّارُ وَمَوْضُوعَةً فِي النَّارِ.

وَبِإِضَافَةِ النَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ عُلِمَ أَنَّ الْمَحْمِيَّ هُوَ نَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ نَارٍ فِي الْحَرَارَةِ فَجَاءَ تَرْكِيبًا بَدِيعًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَازٍ. وَالْكَيُّ: أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْجِلْدِ جَمْرٌ أَوْ شَيْءٌ مُشْتَعِلٌ. وَالْجِبَاهُ: جَمْعُ جَبْهَةٍ وَهِيَ أَعْلَى الْوَجْهِ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ. وَالْجُنُوبُ: جَمْعُ جَنْبٍ وَهُوَ جَانِبُ الْجَسَدِ مِنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ. وَالظُّهُورُ: جَمْعُ ظَهَرٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَنْفَقَةِ إِلَى مُنْتَهَى فَقَارِ الْعَظْمِ. وَالْمَعْنَى: تَعْمِيمُ جِهَاتِ الْأَجْسَادِ بِالْكَيِّ فَإِنَّ تِلْكَ الْجِهَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْكَيِّ، فَيَحْصُلُ مَعَ تَعْمِيمِ الْكَيِّ إِذَاقَةٌ لِأَصْنَافٍ مِنَ الْآلَامِ. وَسُلِكَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ التَّعْمِيمِ مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ بِالتَّعْدَادِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ الْأَلِيمِ، تَهْوِيلًا لِشَأْنِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: فَتُكْوَى بِهَا أَجْسَادُهُمْ. وَكَيْفِيَّةُ إِحْضَارِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لتحمى من شؤون الْآخِرَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ فَبِقُدْرَةِ اللَّهِ تُحْضَرُ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ أَوْ أَمْثَالُهَا كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَانِعِ الزَّكَاةَ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّهُ يُمَثَّلُ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَقُولُ: «أَنَا مَالك أَنا كنزلك» وَبِقُدْرَةِ اللَّهِ يُكْوَى الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَدَاوَلَ أَعْيَانَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الدُّنْيَا بِانْتِقَالِهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَمِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ. وَجُمْلَةُ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَحْمِيِّ، وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: لِأَنْفُسِكُمْ لِلتَّنْدِيمِ وَالتَّغْلِيظِ وَلَامُ التَّعْلِيلِ مُؤْذِنَةٌ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي عُلِّلَ بِهَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِأَجْلِ نَفْسِهِ إِلَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ رَاحَتِهَا وَنَفْعِهَا، فَلَمَّا آلَ بِهِمُ الْكَنْزُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَانُوا قَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا فِيمَا انْتَفَعُوا بِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، بِمَا كَانَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ وَجُمْلَةُ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ تَوْبِيخٌ وَتَنْدِيمٌ. وَالْفَاءُ فِي فَذُوقُوا لِتَفْرِيعِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْدِيمِ الْأُولَى.

[سورة التوبة (9) : آية 36]

وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْحِسِّ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] . وَمَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ الذَّوْقِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ: أَيْ ذُوقُوا عَذَابَ مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ. وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَلَطِهِمْ فِيمَا كَنَزُوا لِقَصْدِ التَّنْدِيمِ. [36] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِقَامَةِ نِظَامِ التَّوْقِيتِ لِلْأُمَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الصَّالِحِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، وَالْمُنَاسِبِ لِمَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِظَامَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ نِظَامِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، بِوَجْهٍ مُحْكَمٍ لَا مَدْخَلَ لِتَحَكُّمَاتِ النَّاسِ فِيهِ، وَلِيُوَضِّحَ تَعْيِينَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التَّوْبَة: 5] بَعْدَ مَا عَقِبَ ذَلِك من التفاضيل فِي أَحْكَامِ الْأَمْنِ وَالْحَرْبِ مَعَ فِرَقِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ: ضَبْطُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَإِبْطَالُ مَا أَدْخَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا مِنَ النَّسِيءِ الَّذِي أَفْسَدَ أَوْقَاتَهَا، وَأَفْضَى إِلَى اخْتِلَاطِهَا، وأزال حُرْمَة مَاله حُرْمَةَ مِنْهَا، وَأَكْسَبَ حُرْمَةً لِمَا لَا حُرْمَةَ لَهُ مِنْهَا. وَإِنَّ ضَبْطَ التَّوْقِيتِ مِنْ أُصُولِ إِقَامَةِ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَدَفْعِ الْفَوْضَى عَنْ أَحْوَالِهَا. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِتَتَوَجَّهَ أَسْمَاعُ النَّاسِ وَأَلْبَابُهُمْ إِلَى وَعْيِهِ. وَالْمُرَادُ بِالشُّهُورِ: الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهَا الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعِنْدَ أَغْلَبِ الْأُمَمِ، وَهِيَ أَقْدَمُ أَشْهُرِ التَّوْقِيتِ فِي الْبَشَرِ وَأَضْبَطُهَا لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ

مُسَاعِدٌ عَلَى اتِّخَاذِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَوَاقِيتَ لِلْمَوَاعِيدِ وَالْآجَالِ، وَتَارِيخِ الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ، بِمُجَرَّدِ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّ الْقَمَرَ كُرَةٌ تَابِعَةٌ لِنِظَامِ الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُس: 5] وَلِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إِلَى الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ أَضْبَطُ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَطَأِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُهَا أَيْدِي النَّاسِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمَا حَدَثَتِ الْأَشْهُرُ الشَّمْسِيَّةُ وَسَنَتُهَا إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ عِلْمِ الْفَلَكِ وَالْمِيقَاتِ، فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِنِظَامِ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي ضَبْطِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَعَلُوهَا حِسَابًا لِتَوْقِيتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا بَعْضُ الْفُصُولِ، مِثْلَ الْحَرْثِ وَالْحَصَادِ وَأَحْوَالِ الْمَاشِيَةِ، وَقَدْ كَانَ الْحِسَابُ الشَّمْسِيُّ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْقِبْطِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ، وَجَاءَتِ التَّوْرَاةُ بِتَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ الْقَمَرِيَّةِ لِلْأَشْهُرِ، وَتَعْيِينِ الشَّمْسِيَّةِ لِلْأَعْيَادِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَعْيَادَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى التَّحْسِينِ، فَأَمَّا ضَبْطُ الْأَشْهُرِ. فَيَرْجِعُ إِلَى الْحَاجِيِّ. فَأَلْهَمَ اللَّهُ الْبَشَرَ، فِيمَا أَلْهَمَهُمْ مِنْ تَأْسِيسِ أُصُولِ حَضَارَتِهِمْ، أَنِ اتَّخَذُوا نِظَامًا لِتَوْقِيتِ أَعْمَالِهِمُ الْمُحْتَاجَةِ لِلتَّوْقِيتِ، وَأَنْ جَعَلُوهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مُشَاهَدَاتٍ بَيِّنَةٍ وَاضِحَةٍ لِسَائِرِ النَّاسِ، لَا تَنْحَجِبُ عَنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا فِي قَلِيلٍ، ثُمَّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَلُوحَ لَهُمْ وَاضِحَةٌ بَاهِرَةٌ، وَأَلْهَمَهُمْ أَنِ اهْتَدَوْا إِلَى ظَوَاهِرَ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ نِظَامًا مُطَّرِدًا. وَذَلِكَ كَوَاكِبُ السَّمَاءِ وَمَنَازِلُهَا، كَمَا قَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُس: 5] ، وَأَنْ جَعَلُوا تَوْقِيتَهُمُ الْيَوْمِيَّ مُسْتَنِدًا إِلَى ظُهُورِ نُورِ الشَّمْسِ وَمَغِيبِهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ عَلَى نِظَامٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تُنَظَّمُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ، وَجَعَلُوا تَوْقِيتَهُمُ الشَّهْرِيَّ بِابْتِدَاءِ ظُهُورِ أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْقَمَرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى هِلَالًا إِلَى انْتِهَاءِ مِحَاقِهِ فَإِذَا عَادَ إِلَى مِثْلِ الظُّهُورِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ ابْتِدَاءُ شَهْرٍ آخَرَ، وَجَعَلُوا مَرَاتِبَ أَعْدَادِ أَجْزَاءِ الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالشَّهْرِ مُرَتَّبَةً بِتَزَايُدِ ضَوْءِ النِّصْفِ الْمُضِيءِ مِنَ الْقَمَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَبِإِعَانَةِ مَنَازِلِ ظُهُورِ الْقَمَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ حَذْوَ شَكْلٍ مِنَ النُّجُومِ سَمَّوْهُ بِالْمَنَازِلِ. وَقَدْ وَجَدُوا ذَلِكَ عَلَى نِظَامٍ مُطَّرِدٍ، ثُمَّ أَلْهَمَهُمْ فَرَقَبُوا الْمُدَّةَ الَّتِي عَادَ فِيهَا الثَّمَرُ أَوِ الْكلأ الَّذِي ابتدأوا فِي مِثْلِهِ الْعَدَّ وَهِيَ أَوْقَاتُ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَوَجَدُوهَا قَدِ احْتَوَتْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَسَمَّوْا تِلْكَ الْمُدَّةَ عَامًا، فَكَانَتِ الْأَشْهُرُ لِذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأُوا فِيهِ الْحِسَابَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَدَعَوْهَا بِأَسْمَاءٍ لِتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ دَفْعًا لِلْغَلَطِ، وَجَعَلُوا لِابْتِدَاءِ السِّنِينَ بِالْحَوَادِثِ عَلَى حَسَبِ اشْتِهَارِهَا

عِنْدَهُمْ، إِنْ أَرَادُوا ذَلِكَ وَذَلِكَ وَاسْعٌ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلنَّاسِ عِبَادَاتٍ وَمَوَاسِمَ وَأَعْيَادًا دَوْرِيَّةً تَكُونُ مَرَّةً فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الْمُمَاثِلِ لِوَقْتِ أُخْتِهَا فَفَرَضَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ حَجَّ الْبَيْتِ كُلَّ سَنَةٍ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَ، وَجَعَلَ لَهُمْ زَمَنًا مُحْتَرَمًا بَيْنَهُمْ يَأْمَنُونَ فِيهِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَيَسْتَطِيعُونَ فِيهِ السَّفَرَ الْبَعِيدَ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَجْمُوعِ تَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكَوَاكِبِ، وَإِيدَاعِهِ الْإِلْهَامَ بِالتَّفَطُّنِ لِحِكْمَتِهَا، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ضَبْطِ مُطَّرِدِ أَحْوَالِهَا، وَتَعْيِينِهِ مَا عُيِّنَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ بِمَوَاقِيتِهَا، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُرَادًا عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً: أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي النِّظَامِ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي جَعَلَهَا مَقَرَّ الْبَشَرِ بِاعْتِبَارِ تَمَايُزِ كُلِّ وَاحِدٍ فِيهَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا تَجَاوَزَتِ الِاثْنَيْ عَشَرَ صَارَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ مُمَاثِلًا لِنَظِيرٍ لَهُ فِي وَقْتِ حُلُولِهِ فَاعْتُبِرَ شَيْئًا مُكَرَّرًا. وعِنْدَ اللَّهِ مَعْنَاهُ فِي حُكْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَالِاعْتِدَادِ، وَهُوَ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِ عِدَّةَ أَوْ حَالٌ مِنْ عِدَّةَ وفِي كِتابِ اللَّهِ صِفَةٌ لِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً. وَمَعْنَى فِي كِتابِ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَهُوَ التَّقْدِيرُ الَّذِي بِهِ وُجِدَتِ الْمَقْدُورَاتُ، أَعْنِي تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِهَا تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا كَقَوْلِهِ: كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمرَان: 145] أَيْ قَدْرًا مُحَدَّدًا، فَكِتَابُ هُنَا مَصْدَرٌ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْقَمَرَ عَلَى ذَلِكَ النِّظَامِ أَرَادَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا لِحِسَابِ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُس: 5] وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَ يَوْمَ ظَرْفٌ لِ كِتابِ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ الْخَاصِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَ مِمَّا خَلَقَ هَذَا النِّظَامُ الْمُنْتَسِبُ بَيْنَ الْقَمَرِ وَالْأَرْضِ. وَلِهَذَا الْوَجْهِ ذُكِرَتِ الْأَرْضُ مَعَ السَّمَاوَاتِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّمَاوَاتِ، لِأَنَّ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ الَّتِي لِلْقَمَرِ، وَكَانَ بِهَا الْقَمَرُ مُجَزَّءًا أَجْزَاءً، مُنْذُ كَوْنِهِ هِلَالًا، إِلَى رُبْعِهِ الْأَوَّلِ، إِلَى الْبَدْرِ، إِلَى الرُّبْعِ الثَّالِثِ، إِلَى الْمِحَاقِ، وَهِيَ مَقَادِيرُ الْأَسَابِيعِ، إِنَّمَا هِيَ

مَظَاهِرُ بِحَسَبِ سِمَتِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَانْطِبَاعِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْبَادِي مِنْهُ لِلْأَرْضِ. وَلِأَنَّ الْمَنَازِلَ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا بِعَدَدِ لَيَالِي الشَّهْرِ هِيَ مَنَازِلُ فَرْضِيَّةٌ بِمَرْأَى الْعَيْنِ عَلَى حَسَبِ مُسَامَتَتِهِ الْأَرْضَ مِنْ نَاحِيَةِ إِحْدَى تِلْكَ الْكُتَلِ مِنَ الْكَوَاكِبِ، الَّتِي تَبْدُو لِلْعَيْنِ مُجْتَمِعَةً، وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهَا أَبْعَادٌ مُتَفَاوِتَةٌ لَا تَآلُفَ بَيْنَهَا وَلَا اجْتِمَاعَ، وَلِأَنَّ طُلُوعَ الْهِلَالِ فِي مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ قَبْلَ أَحَدَ عَشَرَ طُلُوعًا مِنْ أَيِّ وَقْتٍ ابْتُدِئَ مِنْهُ الْعَدُّ مِنْ أَوْقَاتِ الْفُصُولِ، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالٍ أَرْضِيَّةٍ. فَلَا جَرَمَ كَانَ نِظَامُ الْأَشْهُرِ الْقَمَرِيَّةِ وَسَنَتِهَا حَاصِلًا مِنْ مَجْمُوعِ نِظَامِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ، أَيِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَحْوَالِهَا فِي أَفْلَاكِهَا، وَلِذَلِكَ ذُكِرَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ مَعًا. وَهَذِهِ الْأَشْهَرُ مَعْلُومَةٌ بِأَسْمَائِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَ حِسَابِهَا بَعْدَ مَوْسِمِ الْحَجِّ، فَمَبْدَأُ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ هُوَ ظُهُورُ الْهِلَالِ الَّذِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَجِّ وَذَلِكَ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ بِلَا شَكٍّ، أَلَا تَرَى قَوْلَ لَبِيَدٍ: حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً ... جَزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا أَرَادَ جُمَادَى الثَّانِيَةَ فَوَصَفَهُ بِسِتَّةٍ لِأَنَّهُ الشَّهْرُ السَّادِسُ مِنَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اثْنا عَشَرَ بِفَتْحِ شِينِ عَشَرَ وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ اثْنا عَشَرَ بِسُكُونِ عَيْنِ عَشَرَ مَعَ مَدِّ أَلِفِ اثْنَا مُشْبَعًا. وَالْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مُتَوَالِيَةٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعَرَبِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَالرَّابِعُ فَرْدٌ وَهُوَ رَجَبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ، إِلَّا رَبِيعَةَ فَهُمْ يَجْعَلُونَ الرَّابِعَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا، وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالثَّانِي مِثْلَ رَبِيعٍ وَجُمَادَى، وَلَا اعْتِدَادَ بِهَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ شَذُّوا كَمَا لَمْ يُعْتَدَّ بِالْقَبِيلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُحِلُّ أَشْهُرَ السَّنَةِ كُلِّهَا، وَهِيَ قُضَاعَةُ. وَقَدْ بَيَّنَ إِجْمَالَ هَذِه الْآيَة ا لنَبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ «ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» .

وَتَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَإِقَامَةِ الْحَجِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 97] . وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ يُشْبِهُ تَفْضِيلَ النَّاسِ، فَتَفْضِيلُ النَّاسِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَتَفْضِيلُ غَيْرِهِمْ مِمَّا لَا إِرَادَةَ لَهُ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، الْوَاقِعَةِ فِيهِ، أَوِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ. فَتَفْضِيلُ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَبَرٍ مِنْهُ، أَوْ بِإِطْلَاعٍ عَلَى مُرَادِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا فَضَّلَهَا جَعَلَهَا مَظَانَّ لِتَطَلُّبِ رِضَاهُ، مِثْلَ كَوْنِهَا مَظَانَّ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، أَوْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: 3] أَيْ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَاللَّهُ الْعَلِيمُ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُضِّلَ زَمَنٌ عَلَى زَمَنٍ، وَفُضِّلَ مَكَانٌ عَلَى مَكَانٍ وَالْأُمُورُ الْمَجْعُولَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ شؤون وَأَحْوَالٌ أَرَادَهَا اللَّهُ، فَقَدَّرَهَا، فَأَشْبَهَتِ الْأُمُورَ الْكَوْنِيَّةَ، فَلَا يُبْطِلُهَا إِلَّا إِبْطَالٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَبْطَلَ تَقْدِيسَ السَّبْتِ بِالْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَجْعَلُوا تَفْضِيلًا فِي أَوْقَاتٍ دِينِيَّةٍ: لِأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي يَجْعَلُهَا النَّاسُ تُشْبِهُ الْمَصْنُوعَاتِ الْيَدَوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَتْ بِهَا مَقَاصِدُ صَالِحَةٌ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُغَيِّرُوا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْفَضْلِ لِأَزْمِنَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ أَوْ نَاسٍ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ: مِنْ عِدَّةِ الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَعِدَّةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. أَيْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَمَا عَدَاهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنِ اعْتَرَاهُ التَّبْدِيلُ أَوِ التَّحَكُّمُ فِيهِ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي صِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ. وَالدِّينُ: النِّظَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْخَالِقِ الَّذِي يُدَانُ النَّاسُ بِهِ، أَيْ يُعَامَلُونَ بِقَوَانِينِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [19] ، كَمَا وُصِفَ

بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرّوم: 30] . فَكَوْنُ عِدَّةِ الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ تَحَقَّقَ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَكَوْنُ أَرْبَعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَشْهُرًا حُرُمًا تَحَقَّقَ بِالْجَعْلِ التَّشْرِيعِيِّ لِلْإِشَارَةِ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ وَأَنَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً حُرُمًا اعْتُبِرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِذَلِكَ نُسِخَ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِنْ ضَبْطِ مَوَاقِيتِ الْأَعْيَادِ الدِّينِيَّةِ بِالتَّارِيخِ الشَّمْسِيِّ، وَأُبْطِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَجُمْلَةُ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ وَجُمْلَةُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ. تَفْرِيعٌ عَلَى مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَإِنَّهَا، لَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ، أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ تَعْظِيمَ حُرْمَتِهَا بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ فِيهَا. فَالضَّمِير الْمَجْرُور بفي عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ: لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِسِيَاقِ التَّحْذِيرِ مِنِ ارْتِكَابِ الظُّلْمِ فِيهَا، وَإِلَّا لَكَانَ مُجَرَّدُ اقْتِضَابٍ بِلَا مُنَاسِبَةٍ، وَلِأَنَّ الْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ ادَّعَيَا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ مِثْلَ هُنَّ كَمَا قَالَ هُنَا فِيهِنَّ إِنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ مِثْلَ (هَا) يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدِ كَمَا قَالَ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُمُوعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ التَّأْنِيثِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ مِنَ اللَّيَالِي «خَلَوْنَ» وَفِيمَا فَوْقَهَا «خَلَتْ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ضَمِيرَ فِيهِنَّ بِالْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْمَعَاصِي فِي جَمِيعِ السَّنَةِ يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ

فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي ضَمَائِرِ التَّأْنِيث بَين فيهاو فِيهِنَّ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ تَفَنُّنٌ وَظُلْمُ النَّفْسِ هُوَ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى الْعَذَابِ، فَكَانَ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النِّسَاء: 64] الْآيَةَ وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النِّسَاء: 110] . وَالْأَنْفُسُ تُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَنْفُسُ الظَّالِمِينَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَظْلِمُوا أَيْ لَا يَظْلِمْ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْمَعَاصِي فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالنَّهْيِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُتَلَبِّسًا بِالْعِبَادَةِ فِيهَا فَلْيُكَنْ غَيْرَ مُتَلَبِّسٍ بِالْمَعَاصِي، وَلَيْسَ النَّهْيُ عَنِ الْمَعَاصِي فِيهَا بِمُقْتَضٍ أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ لَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أَعْظَمُ وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا أَكْثَرُ أَجْرًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: 197] فَإِنَّ الْفُسُوقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَجِّ وَفِي غَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ أَنْفُسَ غَيْرِ الظَّالِمِينَ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ كَالنَّفْسِ مِنَ الْجَسَدِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] ، أَيْ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ فِيهَا عَلَى أَرْجَحِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164] وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا تَأْكِيدُ حُكْمِ الْأَمْنِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، أَيْ لَا يَعْتَدِي أَحَدٌ عَلَى آخَرَ بِالْقِتَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 97] وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ لِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ هَذَا تَأْكِيدًا لِمَنْطُوقِ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 5] وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: 7] وَقَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 194] . وَلِذَلِكَ لَا يُشْكَلُ الْأَمْرُ بِمُقَاتَلَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَوَازِنَ أَيَّامًا مِنْ ذِي الْقعدَة لأَنهم ابتدأوا بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَا كَانَ لِيَكُفَّ الْقِتَالَ عِنْدَ مُشَارَفَةِ هَزِيمَةِ الْمُشْركين وهم بدأوهم أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ يَكُونُ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدِ انْتَهَى بِانْقِرَاضِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ بَعْدَ سَنَةِ الْوُفُودِ.

وَالْمَحْمَلُ الْأَوَّلُ لِلْآيَةِ أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَأَخَذَ بِالْمَحْمَلِ الثَّانِي جَمَاعَةٌ: فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ حَرَّمَتِ الْآيَةُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِإِبَاحَةِ الْجِهَادِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُكَمِّلَةً لِمَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ بِلَادِ الْعَرَبِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جُمْهُورِ الْقَبَائِلِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَهُمُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يَحْرُمُ الْغَزْوُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يَبْدَأَ الْعَدُوُّ فِيهَا بِالْقِتَالِ وَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ. وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. أَحْسَبُ أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ مِنْ ظَنِّ أَنَّ النَّهْي عَن انْتِهَاء الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا إِذا بدأوا بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهَذَا يُؤْذَنُ التَّشْبِيهُ التَّعْلِيلِيُّ فِي قَوْلِهِ: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَلَا تَنْتَهِكُوا حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِالْمَعَاصِي، أَوْ بِاعْتِدَائِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَإِن هم بادأوكم بِالْقِتَالِ فَقَاتِلُوهُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 194] فَمَقْصُودُ الْكَلَامِ هُوَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ فِي قِتَالِهِمُ الْمُسْلِمِينَ. وكَافَّةً كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ بِمَنْزِلَةِ (كُلٍّ) لَا يَخْتَلِفُ لَفْظُهَا بِاخْتِلَافِ الْمُؤَكَّدِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَلَا مِنْ تَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَفِّ عَنِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَمَحَلُّهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُؤَكَّدِ بِهَا، فَهِيَ فِي الْأَوَّلِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْمِيمِ الذَّوَاتِ تَعْمِيمُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِعُمُومِ الذَّوَاتِ، أَيْ كُلُّ فِرَقِ الْمُشْرِكِينَ، فَكُلُّ فَرِيقٍ وُجِدَ فِي حَالَةٍ مَا، وَكَانَ قَدْ بَادَأَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَالْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ

[سورة التوبة (9) : آية 37]

بِقِتَالِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ: كُلُّ فَرِيقٍ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحَرَمِ. وَالْكَافُ فِي كَما يُقاتِلُونَكُمْ أَصْلُهَا كَافُ التَّشْبِيهِ اسْتُعِيرَتْ لِلتَّعْلِيلِ بِتَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمَعْلُولِ بِعِلَّتِهِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مِثَالِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] . وَجُمْلَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تَأْيِيدٌ وَضَمَانٌ بِالنَّصْرِ عِنْدَ قِتَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ هُنَا مَعِيَّةُ تَأْيِيدٍ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَيْسَتْ مَعِيَّةَ عِلْمٍ، إِذْ لَا تَخْتَصُّ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُتَّقِينَ. وَابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ، بِحَيْثُ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوهُ وَيَعُوهُ. وَالْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَجْلِ مَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ فِي الْمُتَّقِينَ، دُونَ أَنْ يُقَالَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ لِيَحْصُلَ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِالْحَالِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مَعْدُودُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَّقِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُ جُمْلَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ غَرِيبًا عَنِ السِّيَاقِ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ وَإِيجَازٌ يُفِيدُ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُهُمْ لِتَقْوَاهُمْ، وَأَنَّ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَتَقْوَى، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ هُمُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ، وَهُمُ الْحَامِلُونَ عَلَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمِثْلِ لِلدِّفَاعِ عَن النَّفس. [37] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 37] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 36] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمُقَدِّمَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ إِبْطَالُ النَّسِيءِ وَتَشْنِيعُهُ.

وَالنَّسِيءُ يُطْلَقُ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي أُرْجِئَتْ حُرْمَتُهُ وَجُعِلَتْ لِشَهْرٍ آخَرَ فَالنَّسِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ نَسَأَ الْمَهْمُوزِ اللَّامِ، وَيُطْلَقُ مَصْدَرًا بِوَزْنِ فَعِيلٍ مِثْلَ نَذِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ: كَيْفَ نَذِيرِ (¬1) [الْملك: 17] ، وَمِثْلُ النَّكِيرِ وَالْعُذْرِ وَفِعْلُهُ نَسَأَ الْمَهْمُوزُ، أَيْ أَخَّرَ، فَالنَّسِيءُ- بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ- فِي الْمَشْهُورِ. وَبِذَلِكَ قَرَأَهُ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ- بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ فِي آخِرِهِ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي أُخْتِهَا، وَالْإِخْبَارُ عَنِ النَّسِيءِ بِأَنَّهُ زِيَادَةٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ بِالْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ [الْبَقَرَة: 102] . وَالنَّسِيءُ عِنْدَ الْعَرَبِ تَأْخِيرٌ يَجْعَلُونَهُ لِشَهْرٍ حَرَامٍ فَيُصَيِّرُونَهُ حَلَالًا وَيُحَرِّمُونَ شَهْرًا آخَرَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحَلَالِ عِوَضًا عَنْهُ فِي عَامِهِ. وَالدَّاعِي الَّذِي دَعَا الْعَرَبَ إِلَى وَضْعِ النَّسِيءِ أَنَّ الْعَرَبَ سَنَتُهُمْ قَمَرِيَّةٌ تَبَعًا لِلْأَشْهُرِ، فَكَانَتْ سَنَتُهُمِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا قَمَرِيَّةً تَامَّةً، وَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ قُرُونًا طَوِيلَةً ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فَجَعَلُوا النَّسِيءَ. وَأَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِي صِفَةِ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي وَائِلٍ (¬2) أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَصْحَابَ حُرُوبٍ وَغَارَاتٍ فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ لَا يُغِيرُونَ فِيهَا فَقَالُوا لَئِنْ تَوَالَتْ عَلَيْنَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لَا نُصِيبُ فِيهَا شَيْئًا لِنَهْلِكَنَّ. وَسَكَتَ الْمُفَسِّرُونَ عَمَّا نَشَأَ بَعْدَ قَوْلِ الْعَرَبِ هَذَا، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ مَا يُوهِمُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ لَهُمُ النَّسِيءَ هُوَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ ذَلِكَ لِأَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفٍ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَأَمْرُ النَّسِيءِ مُتَوَغِّلٌ فِي الْقِدَمِ وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ هُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ نُعَيْمٍ أَوْ فُقَيْمٍ- (وَلَعَلَّ نُعَيْمَ تَحْرِيفُ فُقَيْمٍ لِقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ اسْمُ نُعَيْمٍ لَمْ يُعْرَفْ فِي هَذَا) . وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالْقَلَمَّسِ وَلَا يُوجَدُ ذِكْرُ بَنِي فُقَيْمٍ فِي «جَمْهَرَةِ ابْنِ حَزْمٍ» وَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ سَرِيرُ (كَذَا وَلَعَلَّهُ سَرِيُّ) بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ثُمَّ ابْنُ أَخِيهِ عَدِيُّ بْنُ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ خِلَافُ ذَلِكَ قَالَ: انْتَدَبَ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ فَنَسَأَ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (فَكيف كَانَ نَذِير) وَهُوَ غلط. (¬2) هَكَذَا يُؤْخَذ من مَجْمُوع كَلَام الطَّبَرِيّ وَابْن عَطِيَّة والقربي مَعَ حذف المتداخل.

لَهُمُ الشُّهُورَ. ثُمَّ خَلَفَهُ ابْنُهُ عَبَّادٌ. ثُمَّ ابْنُهُ قُلَعٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَانَ بَنُو فُقَيْمٍ أَهْلَ دِينٍ فِي الْعَرَبِ وَتَمَسُّكٍ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ فَانْتَدَبَ مِنْهُمُ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ فَنَسَأَ الشُّهُورَ لِلْعَرَبِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ (أَيِ الَّذِي أَدْخَلَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي الْعَرَبِ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ) . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: كُلُّ مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ (أَيْ مَرْتَبَةُ النَّسِيءِ) كَانَ يُسَمَّى الْقَلَمَّسَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانَ الَّذِي يَلِي النَّسِيءَ يَظْفَرُ بِالرِّئَاسَةِ لِتَرْيِيسِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ. وَكَانَ الْقَلَمَّسُ يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنّي ناسىء الشُّهُورِ وَوَاضِعُهَا مَوَاضِعَهَا وَلَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ (¬1) . اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ أَحَدَ الصَّفَرَيْنِ وَحَرَّمْتُ صَفَرَ الْمُؤَخَّرَ انْفِرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ آخِرَ النُّسَأَةِ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ وَيُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِيهِمْ وَكَانَ يَحْضُرُ الْمَوْسِمَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ فَيُنَادِي أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُعَابُ وَلَا يُجَابُ. وَلَا مَرَدَّ لِمَا يَقُولُ فَيَقُولُونَ أَنْسِئْنَا شَهْرًا، أَيْ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ وَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ وَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتِ الْعَامَ صَفَرَ فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ فَإِذَا حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ تَرَكُوا الْمُحَرَّمَ وَسَمَّوْهُ صَفَرًا فَإِذَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ خَرَجُوا فِي مُحَرَّمٍ وَغَزَوْا فِيهِ وَأَغَارُوا وَغَنِمُوا لِأَنَّهُ صَارَ صَفَرًا فَيَكُونُ لَهُمْ فِي عَامِهِمْ ذَلِكَ صَفَرَانِ وَفِي الْعَامِ الْقَابِلِ يَصِيرُ ذُو الْحِجَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ ذَا الْقَعْدَةِ وَيَصِيرُ مُحَرَّمُ ذَا الْحِجَّةِ فَيَحُجُّونَ فِي مُحَرَّمٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَامَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ثُمَّ يُبَدِّلُونَ فَيَحُجُّونَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ عَامَيْنِ وَلَاءً ثُمَّ كَذَلِكَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» إِنَّ تَأْخِيرَ بَعْضِ الشُّهُورِ بَعْدَ مُدَّةٍ لِقَصْدِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ عَنْ وَقْتِهِ الْقَمَرِيِّ، تَحَرِّيًا مِنْهُمْ لِلسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، فَكَانُوا يُؤَخِّرُونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا، حَتَّى يَعُودَ الدَّوْرُ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَيَعُودُ إِلَى وَقْتِهِ وَنُسِبَ إِلَى شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ذَلِكَ اعْتِبَارٌ مِنْهُمْ بِالشُّهُورِ الْعَجَمِيَّةِ وَلَعَلَّهُ تَبِعَ فِي هَذَا قَوْلَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ اشْتِبَاهٌ. ¬

(¬1) وَقع فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» وَفِي «تفاسير» ابْن عَطِيَّة والقرطبي والطبري (وَلَا أجَاب) . بجيم وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ لَا يجيبني أحد فِيمَا أقوله أَي لَا يرد عَلَيْهِ.

وَكَانَ النَّسِيءُ بِأَيْدِي بَنِي فُقَيْمٍ (¬1) مِنْ كِنَانَةَ وَأَوَّلُ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ هُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمٍ. وَتَقْرِيبُ زَمَنِ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ بِالنَّسِيءِ أَنَّهُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، أَيْ فِي حُدُودِ سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَعْدُو كَوْنَهُ مِنْ أَثَرِ الْكُفْرِ لِمَحَبَّةِ الِاعْتِدَاءِ وَالْغَارَاتِ فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ أَنَّ الَّذِينَ وَضَعُوهُ لَيْسُوا إِلَّا كَافِرِينَ وَمَا هُمْ بِمُصْلِحِينَ، وَمَا الَّذِينَ تَابَعُوهُمْ إِلَّا كَافِرُونَ كَذَلِكَ وَمَا هُمْ بِمُتَّقِينَ. وَوَجْهُ كَوْنِهِ كُفْرًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ شَرْعَ لَهُمُ الْحَجَّ وَوَقَّتَهُ بِشَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ الْمَعْدُودَةِ الْمُسَمَّاةِ بِأَسْمَاءَ تُمَيِّزُهَا عَنِ الِاخْتِلَاطِ، فَلَمَّا وَضَعُوا النَّسِيءَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ بَعْضَ الشُّهُورِ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ، وَيُسَمُّونَهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وَيُصَادِفُونَ إِيقَاعَ الْحَجِّ فِي غَيْرِ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، أَعْنِي شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ وَلِذَلِكَ سَمَّوْهُ النَّسِيءَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ مَادَّةِ النَّسَّاءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ، فَهُمْ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ تَأْخِيرُ شَيْءٍ عَنْ وَقْتِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُسْتَخِفُّونَ بِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُخَالِفُونَ لِمَا وَقَّتَ لَهُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ مُثْبِتِينَ الْحِلَّ لِشَهْرٍ حَرَامٍ وَالْحُرْمَةَ لِشَهْرٍ غَيْرِ حَرَامٍ، وَذَلِكَ جُرْأَةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَاسْتِخْفَافٌ بِهِ، فَلِذَلِكَ يُشْبِهُ جَعْلُهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ، فَكَمَا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ جَعَلُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي التَّشْرِيعِ يُخَالِفُونَهُ فِيمَا شَرَعَهُ فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَالْكُفْرِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ تُوجِبُ كُفْرَ فَاعِلِهَا وَلَكِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ أَوْجَبَ عَمَلَهُمُ الْبَاطِلَ. وَحَرْفُ فِي الْمُفِيدُ الظَّرْفِيَّةَ مُتَعَلِّقٌ «بِزِيَادَةٍ» لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَتَعَدَّى بِفِي يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ [فاطر: 1] فَالزِّيَادَةُ فِي الْأَجْسَامِ تَقْتَضِي حُلُولَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي الْجِسْمِ الْمُشَابِهِ لِلظَّرْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِحْدَاثُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُشْركين فِي شؤون دِيَانَتِهِمْ وَكَانَ فِيهِ إِبْطَالٌ لِمَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَلِحُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ اعْتُبِرَ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ بِمَعْنَى فِي أَعْمَالِ الْكفْر وَإِن لم يَكُنْ فِي ذَاتِهِ كُفْرًا وَهَذَا كَمَا يَقُولُ السَّلَفُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يُرِيدُونَ بِهِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَاهِيَّةَ ¬

(¬1) فقيم بِصِيغَة التصغير اسْم جد.

الْإِيمَانِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] ، أَيْ صَلَاتَكُمْ. عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى أَعْمَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا طَفَحَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ غَيْرُ الِاعْتِقَادِ لَا تَقْتَضِي إِيمَانًا وَلَا كُفْرًا. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَتَأْوِيلُهُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ زِيَادَةٍ فِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ، أَيْ أَمْرٍ مِنَ الضَّلَالِ زِيدَ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِضِدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَم: 76] . وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ مُتَقَارِبَانِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالِاعْتِبَارِ، فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْكُفْرِ فِيهِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْكُفْرِ فِيهِ إِيجَازُ حَذْفٍ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ. وَجُمْلَةُ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ النَّسِيءِ أَيْ هُوَ ضَلَالٌ مُسْتَمِرٌّ، لِمَا اقْتَضَاهُ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مِنَ التَّجَدُّدِ. وَجُمْلَةُ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا بَيَانٌ لِسَبَبِ كَوْنِهِ ضَلَالًا. وَقَدِ اخْتِيرَ الْمُضَارِعُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، أَيْ هُمْ فِي ضَلَالٍ مُتَجَدِّدٍ مُسْتَمِرٍّ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ، وَهُوَ تَحْلِيلُهُ تَارَةً وَتَحْرِيمُهُ أُخْرَى، وَمُوَاطَأَةُ عِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَقْتَضِي أَنَّ النَّسِيءَ كَانَ عَمَلُهُ مُطَّرِدًا بَيْنَ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فَمَا وَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرَيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ مِنْ قَوْلِهِمَا وَكَانَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَبَنُو سَلِيمٍ يَفْعَلُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ اخْتِصَاصُهُمْ بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بِمُتَابَعَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضَلُّ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفُ، وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ. وَالتَّنْكِيرُ وَالْوَحْدَةُ فِي قَوْلِهِ: عَامًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ يُحِلُّونَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ وَيُحَرِّمُونَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ، فَهُوَ كَالْوَحْدَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَوْمًا بِحُزْوَى وَيَوْمًا بِالْعَقِيقِ

وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمًا غَبَّ يَوْمٍ، فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّسِيءَ يَقَعُ عَامًا غَبَّ عَامٍ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ: فَيَوْمًا بِخَيْلٍ تَطْرُدُ الرُّومَ عَنْهُمُ ... وَيَوْمًا بِجُودٍ تَطْرُدُ الْفَقْرَ وَالْجَدْبَا (يُرِيدُ تَارَةً تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَدُوَّ وَتَارَةً تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْفَقْرَ وَالْجَدْبَ) وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حِينَ حُلُولِ الْعَدُوِّ بِهِمْ وَإِصَابَةِ الْفَقْرِ وَالْجَدْبِ بِلَادَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي كِتَابِ «مُعْجِزِ أَحْمَدَ» بِأَنْ قَالَ: «فَإِنْ قَصَدَهُمُ الرُّومُ طَرَدْتَهُمْ بِخَيْلِكَ وَإِنْ نَازَلَهُمْ فَقْرٌ وَجَدْبٌ كَشَفْتَهُ عَنْهُمْ بِجُودِكَ وَإِفْضَالِكَ» . وَقَدْ أَبْقَى الْكَلَامَ مُجْمَلًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ عَمَلِ النَّسِيءِ، وَلَعَلَّ لَهُمْ فِيهِ كَيْفِيَّاتٌ مُخْتَلِفَةٌ هِي مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ السَّامِعِينَ. وَمَحَلُّ الذَّمِّ هُوَ مَا يَحْصُلُ فِي عَمَلِ النَّسِيءِ مِنْ تَغْيِيرِ أَوْقَاتِ الْحَجِّ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا فِي سِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ تَغْيِيرِ حُرْمَةِ بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي سِنِينَ كَثِيرَةٍ ويتعلّق قَوْله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا أَيْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيُوَافِقُوا عَدَدَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَتبقى أَرْبَعَة. والموطأة الْمُوَافَقَةُ، وَهِيَ مفاعلة عَن الوطئ شَبَّهَ التَّمَاثُلَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْفِعْل بالتوافق [فِي] وطيء الْأَرْجُلِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ (وُقُوعُ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ) . وعِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ هِيَ عِدَّةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْأَرْبَعَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ تَأْوِيلٌ عَنْهُمْ وَضَرْبٌ مِنَ الْمَعْذِرَةِ، فَلَا يُنَاسِبُ عَدَّهُ فِي سِيَاقِ التَّشْنِيعِ بِعَمَلِهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى مُحَاوَلَتِهِمْ مُوَافَقَةَ عِدَّةِ مَا حَرَمَ اللَّهُ أَنْ يُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَفِظُونَ بِعَدَدِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَزِيدُ أَثَرٍ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدَدٌ تَابِعٌ لِتَعْيِينِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيُفَرِّطُونَ فِي نَفْسِ الْحُرْمَةِ فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يَزِيدُونَ بَاطِلًا آخَرَ فَيُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الْحَلَالَ. فَقَدِ احْتَفَظُوا بِالْعَدَدِ وَأَفْسَدُوا الْمَعْدُودَ.

وَتَوْجِيهُ عَطْفِ فَيُحِلُّوا عَلَى مَجْرُورِ لَامِ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ هُوَ تَنْزِيلُ الْأَمْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعِلَّةِ مَنْزِلَةَ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّعْلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُ صَاحِبِهِ بِهِ التَّعْلِيلَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ وَالتَّخْطِئَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُعَبِّرَ بِنَحْوِ عِدَّةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَعْلِيلِ عَمَلِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ بِأَنَّهُمْ حَافَظُوا عَلَى عِدَّةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعْظِيمًا. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ. وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَيُحِلُّوهُ، لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ بِتَسْجِيلِ شَنَاعَةِ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، تِلْكَ الْحُرْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَشْهُرِ الْحَلَالِ حِفَاظًا عَلَى عِدَّةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: لِأَنَّ مَا حُكِيَ مِنِ اضْطِرَابِ حَالِهِمْ يُثِيرُ سُؤَالَ السَّائِلِينَ عَنْ سَبَبِ هَذَا الضِّغْثِ مِنَ الضلال الَّذِي تملأوه فَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ فَحَسَّنَ لَهُمُ الْقَبِيحَ. وَالتَّزْيِينُ التَّحْسِينُ، أَيْ جَعْلُ شَيْءٍ زَيْنًا، وَهُوَ إِذًا يَسْنِدُ إِلَى مَا لَا تَتَغَيَّرُ حَقِيقَتُهُ فَلَا يَصِيرُ حَسَنًا، يُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّحْسِينَ تَلْبِيسٌ. وَتَقَدَّمَ التَّزْيِينُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [212] . وَقَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] . وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِحَالِهِمُ الْعَجِيبَةِ حَتَّى يَزُولَ تَعَجُّبُ السَّامِعِ مِنْهَا. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فَهِيَ مَشْمُولَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْلِيلُ لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْغَرِيبَةِ، لِأَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ يَسْتَلْزِمُ التَّعْجِيبَ مِنْ دَوَامِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى مَا فِي صَنِيعِهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ، فَبَعْدَ أَنْ أُفِيدَ السَّائِلُ بِأَنَّ

[سورة التوبة (9) : آية 38]

سَبَبَ ذَلِكَ الِاضْطِرَابِ هُوَ تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ، أُفِيدَ بِأَنَّ دَوَامَهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ اللُّطْفَ وَالتَّوْفِيقَ، الَّذَيْنِ بِهِمَا يَتَفَطَّنُ الضَّالُّ لِضَلَالِهِ فيقلع عَنهُ، جزاءا لَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ، فَلَمْ يَزَالُوا فِي دَرَكَاتِ الضَّلَالِ إِلَى أَقْصَى غَايَةٍ. وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِقَوْلِهِ: الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لِقَصْدِ إِفَادَةِ التَّعْمِيمِ الَّذِي يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ، أَيْ: هَذَا شَأْنُ اللَّهِ مَعَ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ حُرْمَةَ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ إِنَّمَا تُتَلَقَّى عَنِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ هُوَ الَّذِي يَسُنُّ لَهُ نِظَامَهُ فَبِذَلِكَ تَسْتَقِرُّ حُرْمَةُ كُلِّ ذِي حُرْمَةٍ فِي نُفُوسِ جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا أُدْخِلَ عَلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ تَقَشَّعَتِ الْحُرْمَةُ مِنَ النُّفُوسِ فَلَا يَرْضَى فَرِيقٌ بِمَا وَضَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْفِرَقِ، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّسِيءُ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَوْضَاعِ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا النَّاسُ، كَمَا اصْطَلَحُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِتَلْقِينِ عَمْرِو ابْن لُحَيٍّ. وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَامَ الَّذِي يَحُجُّ فِيهِ يُصَادِفُ يَوْمُ الْحَجِّ مِنْهُ يَوْمَ تِسْعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، عَلَى الْحِسَابِ الَّذِي يَتَسَلْسَلُ مِنْ يَوْمِ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ فِيهِ يَنْدَحِضُ أَثَرُ النَّسِيءِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ، قَالُوا فَصَادَفَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ بِحِسَابِ النَّسِيءِ، فَجَاءَتْ حَجَّةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فِي الْحِسَابِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض. [38] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 38] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) هَذَا ابْتِدَاءُ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِطَرِيقَةِ العتاب على التباطؤ بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ النَّفِيرِ إِلَى الْجِهَادِ، وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. قَالَ ابْنُ

عَطِيَّةَ: «لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى تَخَلُّفِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، إِذْ تَخَلَّفَ عَنْهَا قَبَائِلُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقُونَ» فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَة: 36]- وَبِقَوْلِهِ- قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التَّوْبَة: 29- 35] كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ. وَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينَ حَصَلَ مِنْهُمُ التَّثَاقُلُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، حِينَ نَضِجَتِ الثِّمَارُ، وَطَابَتِ الظِّلَالُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةِ حَاجَةٍ إِلَى الظَّهْرِ وَالْعُدَّةِ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَجَلَّى رَسُولُ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِمَا يُوهِمُ مَكَانًا غَيْرَ الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، فَحَصَلَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ تَثَاقُلٌ، وَمِنْ بَعْضِهِمْ تَخْلُفٌ، فَوَجَّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْمَلَامَ الْمُعَقَّبَ بِالْوَعِيدِ. فَإِنْ نَحْنُ جَرَيْنَا عَلَى أَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ كَانَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، كَانَ مَحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا عِتَابٌ عَلَى مَا مَضَى وَكَانَتْ إِذا مُسْتَعْمَلَةً ظَرْفًا لِلْمَاضِي، عَلَى خِلَافِ غَالِبِ اسْتِعْمَالِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: 11] وَقَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ [التَّوْبَة: 92] الْآيَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 75] صَالِحٌ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ، وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا تَنْفِرُوا وإِلَّا تَنْصُرُوهُ وانْفِرُوا خِفافاً مُرَادٌ بِهِ مَا يُسْتَقْبَلُ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِنْ جَرْيَنَا عَلَى مَا عَزَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى النِّقَاشِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ، كَانَتِ الْآيَةُ عِتَابًا عَلَى تَكَاسُلٍ وَتَثَاقَلٍ ظَهَرَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَكَانَتْ إِذا ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التَّوْبَة: 39] تَحْذِيرًا مِنْ تَرْكِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعِيدٌ مِمَّا ثَبَتَ فِي «السِّيرَةِ» وَمَا تَرَجَّحَ فِي نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: وَمَا لَكُمْ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ، ولَكُمْ خَبَرٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكُمْ. وإِذا ظَرْفٌ تَعَلَّقَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الْإِنْكَارَ حَاصِلٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ: انْفِرُوا، وَلَيْسَ مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ ظَرْفُ مُضِيٍّ. وَجُمْلَةُ اثَّاقَلْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَتِلْكَ الْحَالَةُ هِيَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ، أَيْ: مَا لَكُمْ مُتَثَاقِلِينَ. يُقَال: مَا لَك فَعَلْتَ كَذَا، وَمَا لَك تَفْعَلُ كَذَا كَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ [الصافات: 25] ، وَمَا لَك فَاعِلًا، كَقَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88] . وَالنَّفْرُ: الْخُرُوجُ السَّرِيعُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، وَمَصْدَرُهُ حِينَئِذٍ النَّفِيرُ. وَسَبِيلُ اللَّهِ: الْجِهَادُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى رِضَاهُ. واثَّاقَلْتُمْ أَصْلُهُ تَثَاقَلْتُمْ قُلِبَتِ التَّاءُ الْمُثَنَّاةُ ثَاءً مُثَلَّثَةً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا طَلَبًا لِلْإِدْغَامِ، وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِإِمْكَانِ تَسْكِينِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْكَلِمَةِ عِنْدَ إِدْغَامِهِ. (وَالتَّثَاقُلُ) تَكَلُّفُ الثِّقَلِ، أَيْ إِظْهَارُ أَنَّهُ ثَقِيلٌ لَا يَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ. وَالثِّقَلُ حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ تَقْتَضِي شِدَّةَ تَطَلُّبِهِ لِلنُّزُولِ إِلَى أَسْفَلَ، وَعُسْرَ انْتِقَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْبُطْءِ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ بُطْأَهُمْ لَيْسَ عَنْ عَجْزٍ، وَلَكِنَّهُ عَنْ تَعَلُّقٍ بِالْإِقَامَةِ فِي بِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَعُدِّيَ التَّثَاقُلُ بِ إِلَى لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ، كَأَنَّهُ تَثَاقُلٌ يَطْلُبُ فَاعِلُهُ الْوُصُولَ إِلَى الْأَرْضِ لِلْقُعُودِ وَالسُّكُونِ بِهَا. وَالْأَرْضُ مَا يَمْشِي عَلَيْهِ النَّاسُ. وَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْكَارِهِينَ لِلْغَزْوِ الْمُتَطَلِّبِينَ لِلْعُذْرِ عَنِ الْجِهَادِ كَسَلًا وَجُبْنًا بِحَالِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ النُّهُوضُ وَالْخُرُوجُ، فَيُقَابِلُ

ذَلِكَ الطَّلَبَ بِالِالْتِصَاقِ بِالْأَرْضِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْقُعُودِ، فَيَأْبَى النُّهُوضَ فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ. وَقَوْلُهُ: إِلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ بَدِيعٌ: لِأَنَّ تَبَاطُؤَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ، وَتَطَلُّبَهُمُ الْعُذْرَ، كَانَ أَعْظَمُ بَوَاعِثِهِ رَغْبَتَهُمُ الْبَقَاءَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، حَتَّى جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَى اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ: مِلْتُمْ إِلَى أَرْضِكُمْ وَدِيَارِكُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا إِنْكَارِيٌ تَوْبِيخِيٌ، إِذْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. ومِنَ فِي مِنَ الْآخِرَةِ لِلْبَدَلِ: أَيْ كَيْفَ تَرْضَوْنَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا عَنِ الْآخِرَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُرْضَى بِهِ وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبِالْآخِرَةِ: مَنَافِعُهُمَا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا حَاوَلُوا التَّخَلُّفَ عَنِ الْجِهَادِ قَدْ آثَرُوا الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الثَّوَابِ الْحَاصِلِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي الْآخِرَةِ. وَاخْتِيرَ فِعْلُ رَضِيتُمْ دُونَ نَحْوِ آثَرْتُمْ أَوْ فَضَّلْتُمْ: مُبَالَغَةً فِي الْإِنْكَارِ، لِأَنَّ فِعْلَ (رَضِيَ بِكَذَا) يَدُلُّ عَلَى انْشِرَاحِ النَّفْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي حَدِيثِ الْغَارِ «فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ» . وَالْمَتَاعُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَمَتَّعَ، فَهُوَ الِالْتِذَاذُ وَالتَّنَعُّمُ، كَقَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 32] وَوَصْفُهُ بِ قَلِيلٌ بِمَعْنَى ضَعِيفٍ وَدَنِيءٍ اسْتُعِيرَ الْقَلِيلُ لِلتَّافِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ هُنَا مُرَادًا بِهِ الشَّيْءُ الْمُتَمَتَّعُ بِهِ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْقَلِيلِ حَقِيقَةٌ. وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْآخِرَةِ دَالٌّ عَلَى مَعْنَى الْمُقَايَسَةِ، وَقَدْ جَعَلُوا الْمُقَايَسَةَ مِنْ مَعَانِي فِي كَمَا فِي «التسهيل» و «الْمُغنِي» ، وَاسْتَشْهَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَخْذًا مِنَ «الْكَشَّافِ» وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى شَارِحُوهُمَا وَلَا شَارِحُو «الْكَشَّافِ» ، وَقَدْ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَثَلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ (مِنْ) الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ: أَيْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِذَا أُقْحِمَ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَلَزِمَ أَنَّهُ مَا ظَهَرَتْ قلّته إلّا عِنْد مَا قِيسَ بِخَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَنُسِبَ إِلَيْهَا، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُقَايَسَةَ مَعْنًى حَاصِلٌ لِاسْتِعْمَالِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنًى مَوْضُوعًا لَهُ حرف (فِي) .

[سورة التوبة (9) : آية 39]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 39] إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) هَذَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ عُقِّبَ بِهِ الْمَلَامُ السَّابِقُ، لِأَنَّ اللَّوْمَ وَقَعَ عَلَى تَثَاقُلٍ حَصَلَ، وَلَمَّا كَانَ التَّثَاقُلُ مُفْضِيًا إِلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ، صَرَّحَ بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ إِنْ يَعُودُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ التَّثَاقُلِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى أَدَاةِ الشَّرْطِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِغَرَضِ الْإِنْكَارِ بَعْدَ اللَّوْمِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا وَعِيدًا فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى الْجِهَادِ الَّذِي اسْتَنْفَرَهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَجَبَ عَلَى أَعْيَانِهِمْ كُلِّهِمْ بِحَيْثُ لَا يُغْنِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، أَيْ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْيِينُ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ لِلْخُرُوجِ بِسَبَبِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي اسْتُنْفِرُوا لِقِتَالِهِ، بِحَيْثُ وَجَبَ خُرُوجُ جَمِيعِ الْقَادِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ جَيْشَ الْعَدُوِّ مِثْلَيْ عَدَدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التَّوْبَة: 122] فَيَكُونُ الْجِهَادُ قَدْ سَبَقَ لَهُ حُكْمُ فَرْضِ الْعَيْنِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ. وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي قَوْلِهِ: يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي إِطْلَاقِ الْعَذَابِ وَوَصْفِهِ بِالْأَلِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ عَذَابُ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التَّوْبَة: 52] فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْجِهَادِ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ، إِنْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، بِأَنْ يُصِيبَهُمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهْدِيدًا لَا وَعِيدًا. وَقَدْ يُرَجَّحُ هَذَا الْوَجْهُ بِأَنَّهُ قُرِنَ بِعَوَاقِبَ دُنْيَوِيَّةٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ. وَالْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ مَصَائِبُ تَتَرَتَّبُ عَلَى إِهْمَالِ أَسْبَابِ النَّجَاحِ وَبِخَاصَّةٍ تَرْكُ الِانْتِصَاحِ بِنَصَائِحِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَالْمَقْصُودُ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَقَاعَدُوا عَنِ النَّفِيرِ هَاجَمَهُمُ الْعَدُوُّ فِي دِيَارِهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ وَأَتَى اللَّهُ بِقَوْمٍ غَيْرَهُمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 40]

وَالْأَلِيمُ الْمُؤْلِمُ، فَهُوَ فَعِيلٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [لُقْمَان: 2] ، وَقَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمَعِ. وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْفِرُوا بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا لَامْ أَلِفْ عَلَى كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُكْتَبَ (إِنْ لَا) بِنُونٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ ثُمَّ لَامْ أَلِفْ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يُعَذِّبْكُمْ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 38] . وَتَنْكِيرُ قَوْماً لِلنَّوْعِيَّةِ إِذْ لَا تَعَيُّنَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ عَدَمِ النَّفِيرِ وَهُمْ قَدْ نَفَرُوا لَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَّا عَدَدًا غَيْرَ كَثِيرٍ وَهُمُ الْمُخَلَّفُونَ. ويَسْتَبْدِلْ يُبَدِّلْ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْبَدَلُ هُوَ الْمَأْخُوذُ عِوَضًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ [الْبَقَرَة: 108] أَيْ وَيَسْتَبْدِلْ بِكُمْ غَيْرَكُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي تَضُرُّوهُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يُعَذِّبْكُمْ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ: أَيْ يُعَذِّبْكُمْ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ فِي حَالِ أَنْ لَا تَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بِقُعُودِكُمْ، أَيْ يُصِبْكُمُ الضُّرُّ وَلَا يُصِبِ الَّذِي اسْتَنْفَرَكُمْ فِي سَبِيلِهِ ضُرٌّ، فَصَارَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ الْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا تَنْفِرُوا لَا تَضُرُّوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ مَضْمُونَ لَحَاقِ الضُّرِّ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَيْهِمْ فِي جُمْلَةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَدَمُ لَحَاقِ الضُّرِّ بِهِ لِأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَدَخَلَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الضُّرُّ. [40] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 40] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِقَوْلِهِ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التَّوْبَة: 39] لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ قُعُودُهُمْ عَنِ النَّفِيرِ مُضِرًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ

حُصُولِ النَّصْرِ بِدُونِ نَصِيرٍ، فَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ حِينَ كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لَا جَيْشَ مَعَهُ، فَالَّذِي نَصَرَهُ حِينَ كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ قَدِيرٌ عَلَى نَصْرِهِ وَهُوَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَقْدِيرَ قُعُودِهِمْ عَنِ النَّفِيرِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ تَنْصُرُوهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ وَاضِحٌ مِنَ الْمَقَامِ. وَجُمْلَةُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، جُعِلَتْ جَوَابًا لَهُ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ: فَإِنَّ مَضْمُونَ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي الْمَاضِي فَلَا يَكُونُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ لَا تَنْصُرُوهُ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِكُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ إِذْ قَدْ نَصَرَهُ فِي حِينِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا وَاحِدٌ لَا يَكُونُ بِهِ نَصْرٌ فَكَمَا نَصَرَهُ يَوْمَئِذٍ يَنْصُرُهُ حِينَ لَا تَنْصُرُونَهُ. وَسَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ بَيَانُ هَذَا النَّصْرِ بِقَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الْآيَةَ. وَيَتَعَلَّقُ إِذْ أَخْرَجَهُ بِ نَصَرَهُ أَيْ زَمَنَ إِخْرَاجِ الْكُفَّارِ إِيَّاهُ، أَيْ مِنْ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ خُرُوجُهُ مُهَاجِرًا. وَأَسْنَدَ الْإِخْرَاجَ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِيهِ بِأَنْ دَبَّرُوا لِخُرُوجِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: 30] ، وَبِأَنْ آذَوْهُ وَضَايَقُوهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَضَايَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالْمُقَاطَعَةِ، فَتَوَفَّرَتْ أَسْبَابُ خُرُوجِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُونَ فِي تَمْكِينِهِ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلِذَلِكَ كَانُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ مُصَمِّمِينَ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ مَنْ يَرْقُبُهُ وَحَاوَلُوا الْإِرْسَالَ وَرَاءَهُ لِيَرُدُّوهُ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا لِمَنْ يَظْفَرُ بِهِ جَزَاءً جَزِلًا، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ. كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا لَامْ أَلِفْ، عَلَى كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ (إِنْ لَا) - بِهَمْزَةٍ فَنُونٍ فَلَامْ أَلِفْ- لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ: (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (لَا) النَّافِيَةُ، وَلَكِنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ لِلرَّسْمِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ قَوَاعِدُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ كُتِبَ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ

فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [73] . وَهُمْ كَتَبُوا قَوْلَهُ: بَلْ رانَ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ [14] بِلَامٍ بَعْدَ الْبَاءِ وَرَاءٍ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَكْتُبُوهَا بِبَاءٍ وَرَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا. وَقَدْ أَثَارَ رَسْمُ إِلَّا تَنْصُرُوهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْمُصْحَفِ خَشْيَةَ تَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ أَنَّ إِلَّا هِيَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» : «تَنْبِيهٌ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ (إِلَّا) ، (إِلَّا) الَّتِي فِي نَحْوِ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا هَذِهِ كَلِمَتَانِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (لَا) النَّافِيَةُ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ عَلَى إِمَامَتِهِ ذَكَرَهَا فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» مِنْ أَقْسَامِ إِلَّا، وَلَمْ يَتْبَعْهُ الدَّمَامِينِيُّ فِي شُرُوحِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى «الْمُغْنِي» وَلَا الشُّمُنِّيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الرَّصَّاعُ فِي كِتَابِ «الْجَامِعِ الْغَرِيبِ لِتَرْتِيبِ آيِ مُغْنِي اللَّبِيبِ» «وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعَصْرِ (¬1) الْمَشَارِقَةِ مِمَّنِ اعْتَنَى بِشَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ- أَيِ «التَّسْهِيلِ» - أَخَذَ يَعْتَذِرُ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ وَالْإِنْصَافُ أَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْإِشْكَالِ» . وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِيرُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى «الْمُغْنِي» لَيْسَ مَا فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» نَصًّا فِي ذَلِكَ وَهُوَ يُوهِمُهُ فَإِنَّهُ عَرَّفَ الْمُسْتَثْنَى بِالْمُخْرِجِ بِ (إِلَّا) وَقَالَ «وَاحْتَرَزْتُ عَنْ (إِلَّا) بِمَعْنَى إِنْ لَمْ وَمَثَّلَ بِالْآيَةِ، أَيْ فَلَا إِخْرَاجَ فِيهَا» . وَقُلْتُ عِبَارَةُ مَتْنِ «التَّسْهِيلِ» «الْمُسْتَثْنَى هُوَ الْمُخْرَجُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا مِنْ مَذْكُورٍ أَوْ مَتْرُوكٍ بِإِلَا أَوْ مَا بِمَعْنَاهَا» ، وَلَمْ يُعَرِّجْ شَارِحُهُ الْمُرَادِيُّ وَلَا شَارِحُهُ الدَّمَامِينِيُّ عَلَى كَلَامِهِ الَّذِي احْتَرَزَ بِهِ فِي شَرْحِهِ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى شَرْحِ ابْنِ مَالِكٍ عَلَى «تَسْهِيلِهِ» ، وَعِنْدِي أَنَّ الَّذِي دَعَا ابْنَ مَالِكٍ إِلَى هَذَا الِاحْتِرَازِ هُوَ مَا وَقَعَ لِلْأَزْهَرِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا تَكُونُ اسْتِثْنَاءً وَتَكُونُ حَرْفَ جَزَاءٍ أَصْلُهَا «إِنْ لَا» نَقَلَهُ صَاحِبُ «لِسَانِ الْعَرَبِ» . وَصُدُورُهُ مِنْ مِثْلِهِ يَسْتَدْعِي التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ. وثانِيَ اثْنَيْنِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي أَخْرَجَهُ، وَالثَّانِي كُلُّ مَنْ بِهِ كَانَ الْعَدَدُ اثْنَيْنِ فَالثَّانِي اسْمُ فَاعِلٍ أُضِيفَ إِلَى الِاثْنَيْنِ عَلَى مَعْنَى مِنْ، أَيْ ثَانِيًا مِنَ اثْنَيْنِ، وَالِاثْنَانِ هُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ: بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. وَلِكَوْنِ الثَّانِي مَعْلُومًا لِلسَّامِعِينَ كُلِّهِمْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِهِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ هَذَا النَّصْرِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ. وإِذْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ هُما فِي الْغارِ بَدَلٌ مِنْ إِذْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَخْرَجَهُ فَهُوَ زَمَنٌ وَاحِدٌ وَقَعَ فِيهِ الْإِخْرَاجُ، بِاعْتِبَارِ الْخُرُوجِ، وَالْكَوْنُ فِي الْغَارِ. ¬

(¬1) أَوَاخِر الْقرن التَّاسِع أَن الرصاع توفّي سنة 894 أَربع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَارِ لِلْعَهْدِ، لِغَارٍ يَعْلَمُهُ الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَفَى فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ خُرُوجِهِمَا مُهَاجِرَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ غَارٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ خَارِجَ مَكَّةَ إِلَى جَنُوبِيِّهَا، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ، فِي طَرِيقٍ جَبَلِيٍّ. وَالْغَارُ الثُّقْبُ فِي التُّرَابِ أَوِ الصَّخْرِ. وإِذْ الْمُضَافَةُ إِلَى جُمْلَةِ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْمُضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ هُما فِي الْغارِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَالصَّاحِبُ هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَمَعْنَى الصَّاحِبِ: الْمُتَّصِفُ بِالصُّحْبَةِ، وَهِيَ الْمَعِيَّةُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ صَاحِبَةً، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [101] . وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ كَانَا مُخْتَفِيَيْنِ فِي غَارِ ثَوْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حَزِينًا إِشْفَاقًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَيُصِيبُوهُ بِمَضَرَّةٍ، أَوْ يُرْجِعُوهُ إِلَى مَكَّةَ. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا: مَعِيَّةُ الْإِعَانَةِ وَالْعِنَايَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ: قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: 46]- وَقَوْلِهِ- إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: 12] . فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. التَّفْرِيعُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ السَّكِينَةَ أُنْزِلَتْ عَقِبَ الْحُلُولِ فِي الْغَارِ، وَأَنَّهَا مِنَ النَّصْرِ، إِذْ هِيَ نَصْرٌ نَفْسَانِيٌّ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْيِيدُ بِجُنُودٍ لَمْ يَرَوْهَا نَصْرًا جُثْمَانِيًّا. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ السَّكِينَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بَلْ إِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ آثَارِ سَكِينَةِ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ السَّكِينَةُ هِيَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ نَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَحِينَ كَانَ فِي الْغَارِ، وَحِينَ قَالَ لِصَاحِبِهِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. فَتِلْكَ

الظُّرُوفُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نَصَرَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهِيَ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ وَالتَّفْرِيعِ، وَجَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا السَّبْكِ الْبَدِيعِ لِلْمُبَادَأَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ حَصَلَ فِي أَزْمَانٍ وَأَحْوَالٍ مَا كَانَ النَّصْرُ لِيَحْصُلَ فِي أَمْثَالِهَا لِغَيْرِهِ لَوْلَا عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِ، وَأَنَّ نَصْرَهُ كَانَ مُعْجِزَةً خَارِقًا لِلْعَادَةِ. وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَنْدَفِعُ الْحَيْرَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، حَتَّى أَغْرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَأَرْجَعَ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي أَيَّدَهُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَشَأَ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ، وَانْفِكَاكُ الْأُسْلُوبِ بِذِكْرِ حَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ لِذِكْرِ ثَبَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَمَا جَاءَ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا تَبَعًا لِذِكْرِ ثبات النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَتِلْكَ الْحَيْرَةُ نَشَأَتْ عَنْ جَعْلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مُفَرَّعًا عَلَى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها إِنَّهَا جُنُودُ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ وُقُوفٌ مَعَ ظَاهِرِ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ أُسْلُوبِ النَّظْمِ الْمُقْتَضِي تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا. وَالسَّكِينَةُ: اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الْمَخُوفَةِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [248] . وَالتَّأْيِيدُ: التَّقْوِيَةُ وَالنَّصْرُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْيَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ بِمَعْنَى الْجَيْشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجُنُودِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أَلْقَوُا الْحَيْرَةَ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ فَصَرَفُوهُمْ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْبَحْثِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِكْثَارِ الطّلب وَرَاءه والترصّد لَهُ فِي الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ وَالسُّبُلِ الْمُوَصِّلَةِ، لَا سِيَّمَا وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَصَدَ يَثْرِبَ مُهَاجَرَ أَصْحَابِهِ، وَمَدِينَةَ أَنْصَارِهِ، فَكَانَ سَهْلًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْصُدُوا لَهُ طُرُقَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَخْرَجَهُ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا أَيْ بِالْمَلَائِكَةِ، وَيَوْم بَدْرٍ، وَيَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التَّوْبَة: 26] . (وَالْكَلِمَةُ) أَصْلُهَا اللَّفْظَةُ مِنَ الْكَلَامِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَيُخْبِرُ الْمَرْءُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ شَأْنِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] (أَي أبقى التبري مِنَ الْأَصْنَامِ وَالتَّوْحِيدِ لِلَّهِ شَأْنَ عَقِبِهِ وَشِعَارَهُمْ) وَقَالَ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 124] أَيْ بِأَشْيَاءَ مِنَ التَّكَالِيفِ كَذَبْحِ وَلَدِهِ، وَاخْتِتَانِهِ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: 45] أَيْ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ، أَوْ بِوَلَدٍ عَجِيبٍ، وَقَالَ وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَام: 115] أَيْ أَحْكَامُهُ وَوُعُودُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا تُفَرِّقْ بَيْنَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ بَيْنَ أَمْرِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ، وَجَمَعَ اللَّهُ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَأْنُهُمْ وَكَيْدُهُمْ وَمَا دَبَّرُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ. وَمَعْنَى السُّفْلَى الْحَقِيرَةُ لِأَنَّ السُّفْلَ يُكْنَى بِهِ عَنِ الْحَقَارَةِ، وَعَكَسُهُ قَوْلُهُ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا فَهِيَ الدِّينُ وَشَأْنُ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أَنَّ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ بِمَظِنَّةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ عَدَدٍ كَثِيرٍ وَفِيهِمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالذَّكَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ خَذَلَهُمُ اللَّهُ وَقَلَبَ حَالَهُمْ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ. وَجُمْلَةُ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا مُسْتَأْنَفَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْكَلَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهَا صَارَتْ سُفْلَى أَفَادَ أَنَّ الْعَلَاءَ انْحَصَرَ فِي دِينِ اللَّهِ وَشَأْنِهِ. فَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ كَلِمَةُ اللَّهِ عَلَى كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ جَعْلِ كَلِمَةِ اللَّهِ عُلْيَا، لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الْجَعْلُ مِنْ إِحْدَاثِ الْحَالَةِ، بَلْ إِفَادَةَ أَنَّ الْعَلَاءَ ثَابِتٌ لَهَا وَمَقْصُورٌ عَلَيْهَا، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ كَالتَّذْيِيلِ لِجَعْلِ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا سُفْلَى. وَمَعْنَى جَعْلِهَا كَذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا تَصَادَمَتِ الْكَلِمَتَانِ وَتَنَاقَضَتَا بَطَلَتْ كَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاسْتَقَرَّ ثُبُوتُ كَلِمَةِ اللَّهِ.

[سورة التوبة (9) : آية 41]

وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَحْدَهُ وَكَلِمَةُ اللَّهِ بِنَصْبِ (كَلِمَةَ) عَطْفًا عَلَى كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى فَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ عُلْيَا بِجَعْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ: لِأَنَّ الْعَزِيزَ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَالْحَكِيمَ لَا يَفُوتُهُ مَقْصِدٌ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ كَلِمَتُهُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ ضدّه السُّفْلى. [41] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَبَقَ لَوْمُهُمْ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] ، فَالنَّفِيرُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الْجِهَادِ. وَقَدْ قَدَّمَنَا أَنَّ الِاسْتِنْفَارَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ قَادِرٍ عَلَى الْغَزْوِ: لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ مَشَقَّةٍ، وَكَانَ الْمَغْزُوُّ عَدُوًّا عَظِيمًا، فَالضَّمِيرُ فِي انْفِرُوا عَامٌّ لِلَّذِينَ اسْتُنْفِرُوا فَتَثَاقَلُوا، وَإِنَّمَا اسْتُنْفِرَ الْقَادِرُونَ، وَكَانَ الِاسْتِنْفَارُ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ الْغَزْوِ، فَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْأَمْرُ تَوَجُّهَ وُجُوبِ النَّفِيرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ، وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَاجِزِ لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ مَرَضٍ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْعَمَلُ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهَا وَمَا يَصْدُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ نَفِيرٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . وخِفافاً جَمْعُ خَفِيفٍ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الْخِفَّةِ، وَهِيَ حَالَةٌ لِلْجِسْمِ تَقْتَضِي قِلَّةَ كَمِّيَّةِ أَجْزَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَامٍ أُخْرَى مُتَعَارَفَةٌ، فَيَكُونُ سَهْلَ التَّنَقُّلِ سَهْلَ الْحَمْلِ. وَالثِّقَالُ ضِدُّ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الثِّقَلُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] . وَالْخِفَافُ وَالثِّقَالُ هُنَا مُسْتَعَارَانِ لِمَا يُشَابِهُهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَيْشِ وَعَلَائِقِهِمْ، فَالْخِفَّةُ تُسْتَعَارُ لِلْإِسْرَاعِ إِلَى الْحَرْبِ، وَكَانُوا يَتَمَادَحُونَ بِذَلِكَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ، قَالَ قُرَيْطُ بْنُ أَنِيفٍ الْعَنْبَرِيُّ: قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ ... طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا

فَالثِّقَلُ الَّذِي يُنَاسِبُ هَذَا هُوَ الثَّبَاتُ فِي الْقِتَالِ كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: ثِقَالٍ إِذَا لَاقَوْا خِفَافٍ إِذَا دُعُوا وَتُسْتَعَارُ الْخِفَّةُ لِقِلَّةِ الْعَدَدِ، وَالثِّقَلُ لِكَثْرَةِ عَدَدِ الْجَيْشِ كَمَا فِي قَوْلِ قُرَيْطٍ: «زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا» . وَتُسْتَعَارُ الْخِفَّةُ لِتَكْرِيرِ الْهُجُومِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالثِّقَلُ لِلتَّثَبُّتِ فِي الْهُجُومِ. وَتُسْتَعَارُ الْخِفَّةُ لِقِلَّةِ الْأَزْوَادِ أَوْ قِلَّةِ السِّلَاحِ، وَالثِّقَلُ لِضِدِّ ذَلِكَ. وَتُسْتَعَارُ الْخِفَّةُ لِقِلَّةِ الْعِيَالِ، وَالثِّقَلُ لِضِدِّ ذَلِكَ وَتُسْتَعَارُ الْخِفَّةُ لِلرُّكُوبِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ أَخَفُّ سَيْرًا، وَالثِّقَلُ لِلْمَشْيِ عَلَى الْأَرْجُلِ وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ. قَالَ النَّابِغَةُ: عَلَى عَارِفَاتٍ لِلطِّعَانِ عَوَابِسٍ ... بِهِنَّ كُلُومٌ بَيْنَ دَامَ وجالب (¬1) إِذْ اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ لِلضَّرْبِ أَرْقَلُوا ... إِلَى الْمَوْتِ إِرْقَالَ الْجِمَالِ الْمَصَاعِبِ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَالِحَةٌ لِلْإِرَادَةِ مِنَ الْآيَةِ وَلَمَّا وَقَعَ خِفافاً وَثِقالًا حَالًا مِنْ فَاعِلِ انْفِرُوا، كَانَ مَحْمَلُ بَعْضِ مَعَانِيهِمَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْحَالُ مُقَدَّرَةً وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لِلتَّقْسِيمِ، فَهِيَ بِمَعْنَى (أَوْ) ، وَالْمَقْصُودُ الْأَمْرُ بِالنَّفِيرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَالْمُجَاهَدَةُ: الْمُغَالَبَةُ لِلْعَدُوِّ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجُهْدِ- بِضَمِّ الْجِيمِ- أَيْ بَذْلِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْمُغَالَبَةِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُدَافَعَةِ بِالسِّلَاحِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْغَزْوِ مِنْ إِنْفَاقٍ عَلَى الْجَيْشِ وَاشْتِرَاءِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ فَمَنِ اسْتَطَاعَهُمَا مَعًا وَجَبَا عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الَّذِي اسْتَطَاعَهُ مِنْهُمَا. وَتَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَنْفُسِ هُنَا: لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْأَمْوَالِ أَقَلُّ حُضُورًا بِالذِّهْنِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَهَمَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِهَادِ مُجْمَلًا. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْجِهَادِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَجاهِدُوا. ¬

(¬1) أَي على خيل عارفات للطعان أَي متعودات بِهِ.

[سورة التوبة (9) : آية 42]

وَإِبْهَامُ خَيْرٌ لِقَصْدِ تَوَقُّعِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ شُعَبٍ كَثِيرَةٍ أَهَمُّهَا الِاطْمِئْنَانُ مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمُ الرُّومُ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَشُعَبَهُ. وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ الْعِلْمِ دُونَ الْإِيمَانِ مَثَلًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ مَا يَخْفَى فَيَحْتَاجُ مُتَطَلِّبُ تَعْيِينِ شُعَبِهِ إِلَى إِعْمَالِ النّظر وَالْعلم. [42] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 42] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) اسْتِئْنَافٌ لِابْتِدَاءِ الْكَلَامِ عَلَى حَالِ الْمُنَافِقِينَ وَغَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ تَخَلَّفُوا وَاسْتَأْذَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ وَاعْتَلُّوا بِعِلَلٍ كَاذِبَة، وَهُوَ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] . وَانْتُقِلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ هُنَا بَعْضُ الْمُتَثَاقِلِينَ لَا مَحَالَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ [التَّوْبَة: 45] . وَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ ابْتَدَأَ إِشْعَارُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ. وَالْعَرَضُ مَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [169] وَقَوْلِهِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [67] وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَنِيمَةُ. وَالْقَرِيبُ: الْكَائِنُ عَلَى مَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي السَّهْلِ حُصُولُهُ. وقاصِداً أَيْ وَسَطًا فِي الْمَسَافَةِ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَاسْمُ كَانَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ: أَيْ لَوْ كَانَ الْعَرَضُ عَرَضًا قَرِيبًا، وَالسَّفَرُ سَفَرًا مُتَوَسِّطًا، أَوْ: لَوْ كَانَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا. وَالشُّقَّةُ- بِضَمِّ الشِّينِ- الْمَسَافَةُ الطَّوِيلَةُ.

وَتَعْدِيَةُ بَعُدَتْ- بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى ثَقُلَتْ، وَلِذَلِكَ حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَ فِعْلِ بَعُدَتْ وَفَاعِلِهِ الشُّقَّةُ مَعَ تَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ بَعُدَ مِنْهُمُ الْمَكَانُ لِأَنَّهُ شُقَّةٌ، فَثَقُلَ عَلَيْهِمُ السَّفَرُ، فَجَاءَ الْكَلَامُ مُوجَزًا. وَقَوْلُهُ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّ حِلِفَهُمْ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الرُّجُوعِ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَشْعَرُوا أَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ظَانٌّ كَذِبَهُمْ فِي أَعْذَارِهِمْ. وَالِاسْتِطَاعَةُ الْقُدْرَةُ: أَيْ لَسْنَا مُسْتَطِيعِينَ الْخُرُوجَ، وَهَذَا اعْتِذَارٌ مِنْهُمْ وَتَأْكِيدٌ لِاعْتِذَارِهِمْ. وَجُمْلَةُ لَخَرَجْنا مَعَكُمْ جَوَابُ لَوْ. وَالْخُرُوجُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَقَرِّ إِلَى مَكَان آخر قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَيُعَدَّى إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِ (إِلَى) ، وَإِلَى الْمَكَانِ الْمَتْرُوكِ بِ (مِنْ) ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْخُرُوجِ عَلَى السَّفَرِ لِلْغَزْوِ. وَتَقْيِيدُهُ بِالْمَعِيَّةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَمْرَ الْغَزْوِ لَا يَهُمُّهُمُ ابْتِدَاءً، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَخْرُجُونَ لَوْ خَرَجُوا إِجَابَةً لِاسْتِنْفَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُرُوجَ النَّاصِرِ لِغَيْرِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: خَرَجَ بَنُو فُلَانٍ وَخَرَجَ مَعَهُمْ بَنُو فُلَانٍ، إِذَا كَانُوا قَاصِدِينَ نَصْرَهُمْ. وَجُمْلَةُ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ حَالٌ، أَيْ يَحْلِفُونَ مُهْلِكِينَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ مَوْقِعِينَهَا فِي الْهَلَكِ. وَالْهَلَكُ: الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَضْرَارِ الْجَسِيمَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا، أَيْ يَتَسَبَّبُونَ فِي ضَرِّ أَنْفُسِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَهُوَ ضَرُّ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ مِنْ خَبَرِ الْهَذَلِيِّينَ الَّذِينَ حَلَفُوا أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ، فَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَدَخَلُوا غَارًا فِي جبل فانهجم عَلَيْهِمُ الْغَارُ فَمَاتُوا جَمِيعًا. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حَالٌ، أَيْ هُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ عَدَمِ جَدْوَاهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ، أَيْ وَيُطْلِعُ رَسُولَهُ عَلَى كَذِبِهِمْ، فَمَا جَنَوْا مِنَ الْحَلِفِ إِلَّا هَلَاكَ أَنْفُسِهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ سَدَّتْ مَسَدَّ مفعولي يَعْلَمُ.

[سورة التوبة (9) : آية 43]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 43] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) اسْتَأْذَنَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ وَأَذِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى الصِّدْقِ، إِذْ كَانَ ظَاهِرُ حَالِهِمُ الْإِيمَانَ، وَعِلْمًا بِأَنَّ الْمُعْتَذِرِينَ إِذَا أُلْجِئُوا إِلَى الْخُرُوجِ لَا يُغْنُونَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَة: 47] فعاتب الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ أَذِنَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ [مُحَمَّد: 30] . وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهُ غَرَضٌ أُنُفٌ. وَافْتِتَاحُ الْعِتَابِ بِالْإِعْلَامِ بِالْعَفْوِ إِكْرَامٌ عَظِيمٌ، وَلَطَافَةٌ شَرِيفَةٌ، فَأَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِالْعِتَابِ. وَفِي هَذَا الِافْتِتَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ خِفَّةِ مُوجِبِ الْعِتَابِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي، وَتَسْمِيَةُ الصَّفْحِ عَنْ ذَلِكَ عَفْوًا نَاظِرٌ إِلَى مَغْزَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَأُلْقِيَ إِلَيْهِ الْعِتَابُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مَا أَذِنَ لَهُمْ إِلَّا لِسَبَبٍ تَأَوَّلَهُ وَرَجَا مِنْهُ الصَّلَاحَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِحَيْثُ يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ فِي اسْتِعْمَالِ السُّؤَالِ مِنْ سَائِلٍ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَهَذَا مِنْ صِيَغِ التَّلَطُّفِ فِي الْإِنْكَارِ أَوِ اللَّوْمِ، بِأَنْ يُظْهِرَ الْمُنْكِرُ نَفْسَهُ كَالسَّائِلِ عَنِ الْعِلَّةِ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ تَرْكَ الْإِذْنِ كَانَ أَجْدَرَ بِتَبْيِينِ حَالِهِمْ، وَهُوَ غَرَضٌ آخَرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ قَصْدُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَذِنْتَ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ.

[سورة التوبة (9) : آية 44]

وَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِفِعْلِ أَذِنْتَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْفِيِّ فَالْمَعْنَى: لَا مُقْتَضِيَ لِلْإِذْنِ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ. وَفِي زِيَادَةِ لَكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَتَبَيَّنَ زِيَادَةُ مُلَاطَفَةٍ بِأَنَّ الْعِتَابَ مَا كَانَ إِلَّا عَنْ تَفْرِيطٍ فِي شَيْءٍ يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ صَدَقُوا: الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، وَبِالْكَافِرِينَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ صدقُوا الْمُؤْمِنُونَ. [44] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 44] لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [التَّوْبَة: 43] . وَمَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا تُثِيرُهُ جُمْلَةُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [التَّوْبَة: 43] وَالِاعْتِبَارَاتُ مُتَقَارِبَةٌ وَمَآلُهَا وَاحِدٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتُنْفِرُوا أَنْ لَا يَسْتَأْذِنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْأَعْذَارِ: كَالْعُمْيِ، فَهُمْ لَا يَسْتَنْفِرُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ تَخَلَّفُوا وَلَمْ يَسْتَأْذِنُوا فِي التَّخَلُّفِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى نِيَّةِ اللِّحَاقِ بِالْجَيْشِ بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَالِاسْتِئْذَانُ: طَلَبُ الْإِذْنِ، أَيْ فِي إِبَاحَةِ عَمَلٍ وَتَرْكِ ضِدِّهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِبَاحَةِ أَنْ تَقْتَضِيَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ. وَالِاسْتِئْذَانُ يُعَدَّى بِ (فِي) . فَقَوْلُهُ: أَنْ يُجاهِدُوا فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِ (فِي) الْمَحْذُوفَةِ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ أَنْ مُطَّرِدٌ شَائِعٌ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِئْذَانُ يَسْتَلْزِمُ شَيْئَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَمَا قُلْنَا، جَازَ أَنْ يُقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ فِي كَذَا وَاسْتَأْذَنْتُ فِي تَرْكِ كَذَا. وَإِنَّمَا يُذْكَرُ غَالِبًا مَعَ فِعْلِ الِاسْتِئْذَانِ الْأَمْرُ الَّذِي يَرْغَبُ الْمُسْتَأْذِنُ الْإِذْنَ فِيهِ دُونَ ضِدِّهِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ كِلَيْهِمَا صَحِيحًا.

[سورة التوبة (9) : آية 45]

وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّغْبَةَ فِي الْجِهَادِ كَانَ الْمَذْكُورُ مَعَ اسْتِئْذَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي الْآيَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا دُونَ أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الِاسْتِئْذَانُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، فَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي أَنْ يُجَاهِدُوا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ دُونَ اسْتِئْذَانٍ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَتَكَلَّفُوا فِي إِقَامَةِ نَظْمِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مُعْتَرِضَةٌ لِفَائِدَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2، 3] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. [45] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 45] إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ تَبْرِئَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْجِهَادِ: بِبَيَانِ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَنْفِي رَجَاءَهُمْ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ، فَلِذَلِكَ لَا يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لَهُ. وَأَفَادَتْ إِنَّما الْقَصْرُ. وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ يُفِيدُ مُفَادَ خَبَرَيْنِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ وَنَفْيِ ضِدِّهِ كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ هُنَا دَالَّةً بِاعْتِبَارِ أَحَدِ مُفَادَيْهَا عَلَى تَأْكِيدِ جُمْلَةِ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 44] وَقَدْ كَانَتْ مُغْنِيَةً عَنِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَقْدِيمِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ التَّنْوِيهُ بِفَضِيلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ، وَالتَّنْوِيهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِطْنَابِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْذِنُكَ هُنَا لِظُهُورِهِ مِمَّا قَبْلَهُ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الِاسْتِئْذَانِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا [التَّوْبَة: 44] وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْذِنُكَ هُنَا.

وَالسَّامِعُ الْبَلِيغُ يُقَدِّرُ لِكُلِّ كَلَامٍ مَا يُنَاسِبُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ، وَكُلٌّ عَلَى مِنْوَالِهِ يَنْسِجُ. وَعَطْفُ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الصِّلَةِ وَهِيَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِارْتِيَابِ الِارْتِيَابُ فِي ظُهُورِ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ الِارْتِيَابِ كَانُوا ذَوِي وَجْهَيْنِ مَعَهُ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّفْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ حِفَاظًا عَلَى دِينِهِمُ الْفَاسِدِ وَعَلَى صِلَتِهِمْ بِأَهْلِ مِلَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمُ: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 141] . وَلَعَلَّ أَعْظَمَ ارْتِيَابِهِمْ كَانَ فِي عَاقِبَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِأَنَّهُمْ لِكُفْرِهِمْ مَا كَانُوا يُقَدِّرُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَغْلِبُونَ الرُّومَ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ كَمَا آذَنَ بِهِ قَوْلُهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، وَفِي وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِدَمِ ذَلِكَ الِارْتِيَابِ وَرُسُوخِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ أَثَرُهُ اسْتِمْرَارَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الِارْتِيَابُ مُلَازِمًا لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ كَانَ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ إِذْ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا يُؤْمِنُونَ وَارْتَابَتْ وَتَرْتَابُ قُلُوبُهُمْ. وَفَرَّعَ قَوْلَهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ تَفْرِيعَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ: لِأَنَّ الِارْتِيَابَ هُوَ الشَّكُّ فِي الْأَمْرِ بِسَبَبِ التَّرَدُّدِ فِي تَحْصِيلِهِ، فَلِتَرَدُّدِهِمْ لَمْ يُصَارِحُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِصْيَانِ لِاسْتِنْفَارِهِ، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا لَهُ فَسَلَكُوا مَسْلَكًا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَسْلَكُ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقُعُودِ، فَالِاسْتِئْذَانُ مُسَبَّبٌ عَلَى التَّرَدُّدِ، وَالتَّرَدُّدُ مُسَبَّبٌ عَلَى الِارْتِيَابِ وَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. هُوَ قَوْلُهُ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. لِأَنَّهُ الْمُنْتِجُ لِانْحِصَارِ الِاسْتِئْذَانِ فِيهِمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 46]

وفِي رَيْبِهِمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُفِيدَةٌ إِحَاطَةَ الرَّيْبِ بِهِمْ، أَيْ تَمَكُّنَهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي رَيْبِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِ يَتَرَدَّدُونَ. وَالتَّرَدُّدُ حَقِيقَتُهُ ذِهَابٌ وَرُجُوعٌ مُتَكَرِّرٌ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَحَيِّرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ بِحَالِ الْمَاشِي وَالرَّاجِعِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْرِيحٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ أَمْرَ اسْتِئْذَانِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ قَدْ عرفه النَّاس. [46] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 46] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: 45] لِأَنَّ مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِذْ لَوْ أَرَادُوهُ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ. وَهَذَا تَكْذِيبٌ لزعمهم أنّهم تهيّأوا لِلْغَزْوِ ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُمُ الْأَعْذَارُ فَاسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ لِأَنَّ عَدَمَ إِعْدَادِهِمُ الْعُدَّةَ لِلْجِهَادِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ إِرَادَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ. والعدّة بِضَمِّ الْعَيْنِ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، كَالسِّلَاحِ لِلْمُحَارِبِ، وَالزَّادِ لِلْمُسَافِرِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِعْدَادِ وَهُوَ التَّهْيِئَةُ. وَالْخُرُوجُ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ شَرْطُ لَوْ مِنْ فَرْضِ إرادتهم الْخُرُوج تَأْكِيد الانتفاء وُقُوعِهِ بِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ، وَعَبَّرَ عَنْ ضِدِّ

الْخُرُوجِ بِتَثْبِيطِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ فِي السَّبَبِ الْإِلَهِيِّ ضِدُّ الْخُرُوجِ فَعَبَّرَ بِهِ عَنْ مُسَبِّبِهِ، وَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِدْرَاكِ كَذَلِكَ بَعْدَ لَوْ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى الضَّبِّيِّ: فَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ وَقَوْلِ الْغَطَمَّشِ الضَّبِّيِّ: أَخِلَّايَ لَوْ غَيْرُ الْحِمَامِ أَصَابَكُمْ ... عَتِبْتُ وَلَكِنْ مَا عَلَى الْمَوْتِ مَعْتَبُ إِلَّا أَنَّ اسْتِدْرَاكَ ضِدِّ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ كَانَ بِذِكْرِ مَا يُسَاوِي الضِّدَّ: وَهُوَ تَثْبِيطُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، تَوْفِيرًا لِفَائِدَةِ الِاسْتِدْرَاكِ بِبَيَانِ سَبَبِ الْأَمْرِ الْمُسْتَدْرَكِ، وَجَعْلِ هَذَا السَّبَبِ مُفَرَّعًا عَلَى عِلَّتِهِ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ، فَصِيغَ الِاسْتِدْرَاكُ بِذِكْرِ عِلَّتِهِ اهْتِمَامًا بِهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِرَادَتِهِمُ الْخُرُوجَ كَانَ حِرْمَانًا مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَعِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ الْكَلَامُ بِنَسْجٍ بَدِيعٍ وَحَصَلَ التَّأْكِيدُ مَعَ فَوَائِدَ زَائِدَةٍ. وَكَرَاهَةُ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ مُفَسَّرَةٌ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَة: 47] . وَالِانْبِعَاثُ: مُطَاوِعٌ بَعْثَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ. وَالتَّثْبِيطُ: إِزَالَةُ الْعَزْمِ. وَتَثْبِيطُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ: أَنْ خَلَقَ فِيهِمُ الْكَسَلَ وَضَعْفَ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْغَزْوِ. وَالْقُعُودُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي تَرْكِ الْغَزْوِ تَشْبِيهًا لِلتَّرْكِ بِالْجُلُوسِ. وَالْقَوْل: الَّذِي فِي وَقِيلَ اقْعُدُوا قَوْلُ أَمْرِ التَّكْوِينِ: أَيْ كَوَّنَ فِيهِمُ الْقُعُودَ عَنِ الْغَزْوِ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: مَعَ الْقاعِدِينَ مَذَمَّةٌ لَهُمْ: لِأَنَّ الْقَاعِدِينَ هُمُ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْقُعُودُ عَنِ الْغَزْوِ، وَهُمُ الضُّعَفَاءُ مِنْ صِبْيَانٍ وَنِسَاءٍ كالعمي والزمنى.

[سورة التوبة (9) : آية 47]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 47] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التَّوْبَة: 46] لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ كَرَاهِيَةِ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ، وَهِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَضْرَارِ وُجُودِ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضْمِرُونَ الْمَكْرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَخْرُجُونَ مُرْغَمِينَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي جَيْشٍ يَغْزُو بِدُونِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (الْخُرُوجِ) بِفِي شَائِعَةٌ فِي الْخُرُوجِ مَعَ الْجَيْشِ. وَالزِّيَادَةُ: التَّوْفِيرُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ زادُوكُمْ لِدَلَالَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً أَوْ شَيْئًا مِمَّا تُفِيدُ زِيَادَتُهُ فِي الْغَزْوِ نَصْرًا عَلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الْخَبَالُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِتَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَإِنَّ الْخَبَالَ فِي الْحَرْبِ بَعْضٌ مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي قُوَّةِ الْجَيْشِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ عَدَمًا لِلزِّيَادَةِ، وَلَكِنَّهُ ادُّعِيَ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الزِّيَادَةِ فِي فَوَائِدِ الْحَرْبِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ، وَتَفَكُّكُ الشَّيْءِ الْمُلْتَحِمِ الْمُلْتَئِمِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى اضْطِرَابِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَالِ نظامه. وَحَقِيقَة لَأَوْضَعُوا أَسْرَعُوا سَيْرَ الرِّكَابِ. يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ وَضْعًا، إِذَا أَسْرَعَ وَيُقَالُ: أَوْضَعْتُ بَعِيرِي، أَيْ سَيَّرْتُهُ سَيْرًا سَرِيعًا. وَهَذَا الْفِعْلُ مُخْتَصٌّ بِسَيْرِ الْإِبِلِ فَلِذَلِكَ يُنَزَّلُ فِعْلُ أَوْضَعَ مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ لِأَنَّ مَفْعُولَهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَادَّةِ فِعْلِهِ. وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ يَبْذُلُونَ جُهْدَهُمْ لِإِيقَاعِ التَّخَاذُلِ وَالْخَوْفِ بَيْنَ رِجَالِ الْجَيْشِ، وَإِلْقَاءِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، بِحَالِ مَنْ يُجْهِدُ بَعِيرَهُ بِالسَّيْرِ لِإِبْلَاغِ خَبَرٍ مُهِمٍّ أَوْ إِيصَالِ تِجَارَةٍ لِسُوقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الْإِسْرَاء: 5] وَقَوْلُهُ: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: 62] . وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: يَسْعَى لِكَذَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَاعَ إِطْلَاقُ السَّعْيِ فِي الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ خَفِيَتْ مُلَاحَظَةُ تَمْثِيلِ الْحَالَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا ذِكْرُ الْإِيضَاعِ لِعِزَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِتَفْكِيكِ الْهَيْئَةِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الْفَاتِنُونَ بِالرَّكْبِ، وَوَسَائِلُ الْفِتْنَةِ بِالرَّوَاحِلِ.

وَفِي ذِكْرِ خِلالَكُمْ مَا يَصْلُحُ لِتَشْبِيهِ اسْتِقْرَائِهِمُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَفْرَادَ بِتَغَلْغُلِ الرَّوَاحِلِ فِي خِلَالِ الطُّرُقِ وَالشِّعَابِ. وَالْخِلَالُ: جَمْعُ خَلَلٍ بِالتَّحْرِيكِ. وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَعْنَى بَيْنَكُمْ تَشْبِيهًا لِجَمَاعَاتِ الْجَيْشِ بِالْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ. وَكتب كلمة ولَأَوْضَعُوا فِي الْمُصْحَفِ- بِأَلِفٍ بَعْدَ هَمْزَةِ أَوْضَعُوا- الَّتِي فِي اللَّامْ أَلِفْ بِحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ اللَّامِ أَلِفَانِ فَأَشْبَهَتِ اللَّامْ أَلِفْ لَا النَّافِيَةَ لِفِعْلِ أَوْضَعُوا وَلَا يُنْطَقُ بِالْأَلِفِ الثَّانِيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَلَا يَقَعُ الْتِبَاسٌ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَلْسِنَةِ تُكْتَبُ أَلِفًا. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «يُحْتَمَلُ أَنْ تُمْطَلَ حَرَكَةُ اللَّامِ فَتَحْدُثُ أَلِفٌ بَيْنَ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ الَّتِي مِنْ أَوْضَعَ، وَقِيلَ: ذَلِكَ لِخُشُونَةِ هِجَاءِ الْأَوَّلِينَ» ، يَعْنِي لِعَدَمِ تَهْذِيبِ الرَّسْمِ عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ كَتَبُوا لَأَذْبَحَنَّهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [21] قُلْتُ: وَكَتَبُوا لَأُعَذِّبَنَّهُ [النَّمْل: 21] بِلَامْ أَلِفْ لَا غَيْرَ وَهِيَ بِلَصْقِ كَلِمَةِ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النَّمْل: 21] ، وَلَا فِي نَحْو وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 73] فَلَا أَرَاهُمْ كَتَبُوا أَلِفًا بَعْدَ اللَّامْ أَلِفْ فِيمَا كَتَبُوهَا فِيهِ إِلَّا لِمَقْصِدٍ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَفْتُوحَةٌ وَعَلَى أَنَّهَا هَمْزَةُ قَطْعٍ. وَجُمْلَةُ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ [التَّوْبَة: 46] الْعَائِدِ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 45] الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَبَغَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى طَلَبَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [83] . وَعُدِّيَ يَبْغُونَكُمُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ نَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَصْلُهُ يَبْغُونَ لَكُمُ الْفِتْنَةَ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي فِعْلِ بَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ. وَالْفِتْنَةُ: اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَفَسَادُ الرَّأْيِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ

وَقَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ السَّمَّاعُونَ مُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَّاعُونَ مُنَافِقِينَ مَبْثُوثِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ بَغْيَهُمُ الْفِتْنَةَ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَرِيقًا تَنْطَلِي عَلَيْهِمْ حِيَلُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ سُذَّجُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْجَبُونَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَيَتَأَثَّرُونَ وَلَا يَبْلُغُونَ إِلَى تَمْيِيزِ التَّمْوِيهَاتِ وَالْمَكَائِدِ عَنِ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ. وَجَاءَ سَمَّاعُونَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُمْ تَامٌّ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ الَّذِي يُقَارِنُهُ اعْتِقَادُ مَا يُسْمَعُ كَقَوْلِهِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الْمَائِدَة: 41] وَعَنِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ زَيْدٍ: مَعْنَى سَمَّاعُونَ لَهُمْ، أَيْ جَوَاسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَة وجهور الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ، قَالَ النَّحَّاسُ الْأَغْلَبُ أَنَّ مَعْنَى سَمَّاعٍ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَمِثْلُهُ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [الْمَائِدَة: 41] . وَأَمَّا مَنْ يَقْبَلُ مَا يَسْمَعُهُ فَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِيهِ إِلَّا سَامِعٌ مِثْلُ قَائِلٍ. وَجِيءَ بِحَرْفِ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ الدَّالِّ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ دُونَ حَرْفِ (مِنْ) فَلَمْ يَقُلْ وَمِنْكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَوْ وَمِنْهُمْ سَمَّاعُونَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُ السَّمَّاعِينَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ السَّمَّاعِينَ لَهُمْ فَرِيقَانِ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْفُسِهِمْ مَبْثُوثُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لِإِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ وَالْفِتْنَةِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ فَكَانَ اجْتِلَابُ حَرْفِ (فِي) إِيفَاءً بِحَقِّ هَذَا الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَحْمَلَيْ لَفَظِ سَمَّاعُونَ فَقَدْ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَتَانِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ قُصِدَ مِنْهُ إِعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الظَّالِمِينَ لِيَكُونُوا مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ، وَلِيَتَوَسَّمُوا فِيهِمْ مَا وَسَمَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَهُمْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الظُّلْمِ. وَالظُّلْمُ هُنَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] .

[سورة التوبة (9) : آية 48]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 48] لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التَّوْبَة: 47] لِأَنَّهَا دَلِيلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنٌ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، إِذِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ إِذِ انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ أَنْ وَصَلُوا إِلَى أُحُدٍ، وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ قَصَدُوا إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ يَرَوْنَ انْخِزَالَ بَعْضِ جَيْشِهِمْ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الَّذِينَ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَلَّبُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ قَلَبَ الْمُخَفَّفِ، وَالْمُضَاعَفَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَلَبَ الشَّيْءَ إِذَا تَأَمَّلَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ لِيَطَّلِعَ عَلَى دَقَائِقِ صِفَاتِهِ فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ رَاجِعَةً إِلَى الْكَمِّ أَيْ كَثْرَةِ التَّقْلِيبِ، أَيْ ترددوا آراءهم وأعلموا الْمَكَائِدَ وَالْحِيَلَ لِلْإِضْرَارِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلَّبُوا مِنْ قَلَبَ بِمَعْنَى فَتَّشَ وَبَحَثَ، اسْتُعِيرَ التَّقْلِيبُ لِلْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ لِمُشَابَهَةِ التَّفْتِيشِ لِلتَّقْلِيبِ فِي الْإِحَاطَةِ بِحَالِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الْكَهْف: 42] فَيَكُونُ الْمَعْنَى، أَنَّهُمْ بَحَثُوا وَتَجَسَّسُوا لِلِاطِّلَاعِ عَلَى شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخْبَارِ الْعَدُوِّ بِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِكَ وَهُوَ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ [التَّوْبَة: 48] . فَالْمَعْنَى اتَّبَعُوا فِتْنَةً تَظْهَرُ مِنْكَ، أَيْ فِي أَحْوَالِكَ وَفِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلَّبُوا مُبَالَغَةً فِي قَلْبِ الْأَمْرِ إِذَا أَخْفَى مَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْهُ وَأَبْدَى مَا كَانَ خَفِيًّا، كَقَوْلِهِمْ: قَلَبَ لَهُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ. وَتَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَكَ ظَاهِرَةٌ.

[سورة التوبة (9) : آية 49]

وَ (الْأُمُورَ) جَمْعُ أَمْرٍ، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِ الْمَوْصِلِيِّ: وَلَكِنْ مَقَادِيرُ جَرَتْ وَأُمُورُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، أَيْ أُمُورًا تَعْرِفُونَ بَعْضَهَا وَلَا تَعْرِفُونَ بَعْضًا. وحَتَّى غَايَةٌ لِتَقْلِيبِهِمُ الْأُمُورَ. وَمَجِيءُ الْحَقِّ حُصُولُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ زَوَالُ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَانْكِشَافُ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَالْمُرَادُ بِظُهُورِ أَمْرِ اللَّهِ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا وَذَلِكَ يَكْرَهُهُ الْمُنَافِقُونَ. الظُّهُورُ وَالْغَلَبَةُ وَالنَّصْرُ. وأَمْرُ اللَّهِ دِينُهُ، أَيْ فَلَمَّا جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ عَلِمُوا أَنَّ فِتْنَتَهُمْ لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرَوْا فَائِدَةً فِي الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ فَاعْتَذَرُوا عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ أول الْأَمر. [49] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 49] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ اسْتَأْذَنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ تَبُوكَ وَلَمْ يُبْدُوا عُذْرًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْغَزْوِ، وَلَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ يَفْتِنُهُمْ لِمَحَبَّةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَفَضَحَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ: لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجَمْعِ الْمَجْرُورَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 45] ، وَقِيلَ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: ائْذَنْ لَنَا لِأَنَّا قَاعِدُونَ أَذِنْتَ لَنَا أَمْ لَمْ تَأْذَنْ فَأْذَنْ لَنَا لِئَلَّا نَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْوَقَاحَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَلَا إِذْنٍ، وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا ذَلِك لَعَلَّهُم بِرِفْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ

أَنِّي مُسْتَهْتَرٌ بِالنِّسَاءِ فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ افْتَتَنْتُ بِهِنَّ فَأْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ وَلَا تَفْتِنِّي وَأَنَا أُعِينُكَ بِمَالِي، فَأَذِنَ لَهُمْ. وَلَعَلَّ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ. وَالْإِتْيَانُ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي جُمْلَةِ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ عَجِيبِ حَالِهِمْ إِذْ عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ فَهُمُ احْتَرَزُوا عَنْ فِتْنَةٍ فَوَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ إِذْ لَا مَعْهُودَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُؤْذِنُ بِكَمَالِ الْمُعَرَّفِ فِي جِنْسِهِ، أَيْ فِي الْفِتْنَةِ الْعَظِيمَةِ سَقَطُوا، فَأَيُّ وَجْهٍ فُرِضَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْفِتْنَةِ حِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ وَلا تَفْتِنِّي كَانَ مَا وَقَعَ فِيهِ أَشَدَّ مِمَّا تَفَصَّى مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ فِتْنَةَ الدِّينِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي أَعْظَمِ الْفِتْنَةِ بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ فِتْنَةَ سُوءِ السُّمْعَةِ بِالتَّخَلُّفِ فَقَدْ وَقَعَ فِي أَعْظَمَ بِافْتِضَاحِ أَمْرِ نِفَاقِهِمْ، وَإِنْ أَرَادَ فِتْنَةَ النَّكَدِ بِفِرَاقِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ فَقَدْ وَقَعَ فِي أَعْظَمِ نَكَدٍ بِكَوْنِهِ مَلْعُونًا مَبْغُوضًا لِلنَّاسِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْفِتْنَةِ قَرِيبًا. وَالسُّقُوطُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْكَوْنِ فَجْأَةً عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ: شُبِّهَ ذَلِكَ الْكَوْنُ بِالسُّقُوطِ فِي عَدَمِ التَّهَيُّؤِ لَهُ وَفِي الْمُفَاجَأَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي الْفِتْنَةِ فِي حَالِ أَمْنِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، فَهُمْ كَالسَّاقِطِ فِي هُوَّةٍ عَلَى حِينِ ظَنَّ أَنَّهُ مَاشٍ فِي طَرِيقٍ سَهْلٍ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ، لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَسِيرُ مَسْرَى الْمَثَلِ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ وَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْكُفْرِ. وَالْكُفْرُ يَسْتَحِقُّ جَهَنَّمَ. وَإِحَاطَةُ جَهَنَّمَ مُرَادٌ مِنْهَا عَدَمُ إِفْلَاتِهِمْ مِنْهَا، فَالْإِحَاطَةُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِفْلَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: جَمِيعُ الْكَافِرِينَ فَيَشْمَلُ الْمُتَحَدِّثَ عَنْهُمْ لِثُبُوتِ كُفْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 45] . وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ إِثْبَاتُ إِحَاطَةِ جَهَنَّمَ بِهِمْ بِطَرِيقٍ شَبِيهٍ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ شُمُولَ الِاسْمِ الْكُلِّيِّ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ أَشْهَرُ أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال.

[سورة التوبة (9) : آية 50]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 50] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: 45] ، وَمَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَذِبِهِمْ فِي مَا اعْتَذَرُوا بِهِ وأظهروا الاستيذان لِأَجْلِهِ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّ تَرَدُّدَهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ ظُهُورَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَارِحُونَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ وَيَوَدُّونَ خَيْبَةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ لَا يُحِبُّونَ الْخُرُوجَ مَعَهُمْ. وَالْحَسَنَةُ: الْحَادِثَةُ الَّتِي تُحْسِنُ لِمَنْ حَلَّتْ بِهِ وَاعْتَرَتْهُ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ. وَالْمُصِيبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَصَابَ بِمَعْنَى حَلَّ وَنَالَ وَصَادَفَ، وَخُصَّتِ الْمُصِيبَةُ فِي اللُّغَةِ بِالْحَادِثَةِ الَّتِي تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَسُوءُهُ وَتُحْزِنُهُ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِالسَّيِّئَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [120] : إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. وَالْمُرَادُ بِهَا الْهَزِيمَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [95] . وَقَوْلُهُمْ: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ ابْتِهَاجٌ مِنْهُمْ بِمُصَادَفَةِ أَعْمَالِهِمْ مَا فِيهِ سَلَامَتُهُمْ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ يَقَظَتَهُمْ وَحَزْمَهُمْ قَدْ صَادَفَا الْمَحَزَّ، إِذِ احْتَاطُوا لَهُ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي الضُّرِّ. وَالْأَخْذُ حَقِيقَتُهُ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِعْدَادِ وَالتَّلَافِي. وَالْأَمْرُ الْحَالُ الْمُهِمُّ صَاحِبَهُ، أَيْ: قَدِ اسْتَعْدَدْنَا لِمَا يُهِمُّنَا فَلَمْ نَقَعْ فِي الْمُصِيبَةِ. وَالتَّوَلِّي حَقِيقَتُهُ الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [205] . وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي تَخَلُّصِهِمْ مِنَ الْمُصِيبَةِ، الَّتِي قَدْ كَانَتْ تَحِلُّ بِهِمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، بِحَالِ مَنْ أَشْرَفُوا عَلَى خَطَرٍ ثُمَّ سَلِمُوا مِنْهُ وَرَجَعُوا فَارِحِينَ مَسْرُورِينَ بِسَلَامَتِهِمْ وبإصابة أعدائهم.

[سورة التوبة (9) : آية 51]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 51] قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) تَلْقِينُ جَوَابٍ لِقَوْلِهِمْ: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ [التَّوْبَة: 50] الْمُنْبِئِ عَنْ فَرَحِهِمْ بِمَا يَنَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُصِيبَةٍ بِإِثْبَاتِ عَدَمِ اكْتِرَاثِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُصِيبَةِ وَانْتِفَاءِ حُزْنِهِمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ كَتَبَ بِاللَّامِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ لِنَفْعِهِمْ وَمَوْقِعُ هَذَا الْجَوَابِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَفْرَحُ بِمُصَابِ عَدُوِّهِ لِأَنَّهُ يُنَكِّدُ عَدُوَّهُ وَيُحْزِنُهُ، فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيءَ لَا يَحْزَنُ لِمَا أَصَابَهُ زَالَ فَرَحُهُمْ. وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ التَّخَلُّقَ بِهَذَا الْخُلُقِ: وَهُوَ أَنْ لَا يَحْزَنُوا لِمَا يصيبهم لِئَلَّا يهنو وَتَذْهَبَ قُوَّتُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمرَان: 139، 140] . وَأَنْ يَرْضَوْا بِمَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَرْجُوا رِضَى رَبِّهِمْ لِأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ نَصْرَ دِينِهِ. وَجُمْلَةُ هُوَ مَوْلانا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ أَيْ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَنَا، وَلَنَا الرَّجَاءُ بِأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ لَنَا إِلَّا مَا فِيهِ خَيْرُنَا الْعَاجِلُ أَوِ الْآجِلُ، لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَرْضَى لِمَوْلَاهُ الْخِزْيَ. وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قُلْ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَبَرًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ قُلْ ذَلِكَ وَلَا تَتَوَكَّلُوا إِلَّا عَلَى اللَّهِ دُونَ نُصْرَةِ هَؤُلَاءِ، أَيِ اعْتَمِدُوا عَلَى فَضْلِهِ عَلَيْكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لَنْ يُصِيبَنا أَيْ قُلْ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مُؤَيِّدُهُمْ، وَلَيْسَ تَأْيِيدُهُمْ بِإِعَانَتِكُمْ، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْإِجْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فَاءٌ تَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ مُفَرَّعٍ عَلَيْهِ اقْتَضَاهُ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ، أَيْ عَلَى اللَّهِ فليتوكّل الْمُؤْمِنُونَ.

[سورة التوبة (9) : آية 52]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التَّوْبَة: 51] الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَيْهَا، وَالْمُبَيَّنُ هُوَ إِجْمَالُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا [التَّوْبَة: 51] كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَعْنَى لَا تَنْتَظِرُونَ مِنْ حَالِنَا إِلَّا حَسَنَةً عَاجِلَةً أَوْ حَسَنَةً آجِلَةً فَأَمَّا نَحْنُ فَنَنْتَظِرُ مِنْ حَالِكُمْ أَنْ يُعَذِّبَكُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ، أَوْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ عَلَى غَيْرِ أَيْدِينَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا: كَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ، أَوْ بِعَذَابٍ بِأَيْدِينَا، وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ، إِذَا أَذِنَ اللَّهُ بِحَرْبِكُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الْأَحْزَاب: 60] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَخْطِئَةٌ لِتَرَبُّصِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقْتَلُوا، وَيَغْفُلُونَ عَنِ احْتِمَالِ أَنْ يَنْصُرُوا فَكَانَ الْمَعْنَى: لَا تَتَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا أَنْ نُقْتَلَ أَوْ نَغْلِبَ وَذَلِكَ إِحْدَى الحسنين. وَالتَّرَبُّصُ: انْتِظَارُ حُصُولِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ حُصُولُهُ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ. أَنْ يَكُونَ انْتِظَارُ حُصُولِ شَيْءٍ لِغَيْرِ الْمُنْتَظِرِ (بِكَسْرِ الظَّاءِ) وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ التَّرَبُّصِ بِالْبَاءِ لِأَنَّ الْمُتَرَبِّصَ يَنْتَظِرُ شَيْئًا مُصَاحِبًا لِآخَرَ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ الِانْتِظَارُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الْبَقَرَة: 228] فقد نزلت بِأَنْفُسِهِنَّ مَنْزِلَةَ الْمُغَايِرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وُجُوبِ التَّرَبُّصِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «فِي ذِكْرِ الْأَنْفُسِ تَهْيِيجٌ لَهُنَّ عَلَى التَّرَبُّصِ وَزِيَادَةُ بَعْثٍ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ هُنَالِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الْبَقَرَة: 226] فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّهُ تَرَبُّصٌ بِأَزْوَاجِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ: بَلْ عَلَى خَبَرٍ فِي صُورَةِ الْإِنْشَاءِ، فَهِيَ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى

[سورة التوبة (9) : آية 53]

الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: وُجُودُ الْبَوْنِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَاقِبَةِ الْحَرْبِ فِي حَالَيِ الْغَلَبَةِ وَالْهَزِيمَةِ. وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ اسْمِيَّةً فَلَمْ يَقُلْ وَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا: لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ التَّرَبُّصِ، وَكِنَايَةً عَنْ تَقْوِيَةِ حُصُولِ الْمُتَرَبِّصِ لِأَنَّ تَقْوِيَةَ التَّرَبُّصِ تُفِيدُ قُوَّةَ الرَّجَاءِ فِي حُصُولِ الْمُتَرَبِّصِ فَتُفِيدُ قُوَّةَ حُصُولِهِ وَهُوَ الْمُكْنَى عَنْهُ. وَتَفَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا جُمْلَةُ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَرَبُّصُ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُسْفِرًا عَنْ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَانَ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَى الْفَرِيقَيْنِ بِالْمُتَرَبِّصِينَ لِأَنَّ فِيهِمَا نَفْعَهُ وَضَرَّ عَدُوِّهِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْله: فَتَرَبَّصُوا لِلتَّحْضِيضِ الْمَجَازِيِّ الْمُفِيدِ قِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِتَرَبُّصِهِمْ كَقَوْلِ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ: فَتَوَسَّمُونِي إنّني أَنا ذَلِكُم ... شَاكِي سِلَاحِي فِي الْحَوَادِثِ مُعْلَمِ وَجُمْلَةُ إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ تَهْدِيدٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَالْمَعِيَّةُ هُنَا: مَعِيَّةٌ فِي التَّرَبُّصِ، أَوْ فِي زَمَانِهِ، وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا كالعلّة للحضّ. [53] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 53] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) ابْتِدَاءُ كَلَامٍ هُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُسْتَأْذِنِينَ مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ «وَأَنَا أُعِينُكَ بِمَالِي» . رُوِيَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ، الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَة: 49] كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مُنَافِقًا. وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ شُحِّهِمْ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُرْضِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُعُودِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ. وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أَيْ بِمَالٍ تَبْذُلُونَهُ عِوَضًا عَنِ الْغَزْوِ، أَوْ بِمَالٍ تُنْفِقُونَهُ طَوْعًا مَعَ خُرُوجِكُمْ إِلَى الْغَزْوِ، فَقَوْلُهُ: طَوْعاً إِدْمَاجٌ لِتَعْمِيمِ أَحْوَالِ الْإِنْفَاقِ فِي عَدَمِ

الْقَبُولِ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا كَرْهًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التَّوْبَة: 54] . وَالْأَمْرُ فِي أَنْفِقُوا لِلتَّسْوِيَةِ أَيْ: أَنْفِقُوا أَوْ لَا تُنْفِقُوا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَوْ فِي قَوْلِهِ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وَهُوَ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ الشَّرْطِيِّ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ أَنْفَقْتُمْ كَرْهًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَجِيءُ بَعْدَ أَمْثَالِهِ الشَّرْطُ فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] . وَالْكَرْهُ أَشَدُّ الْإِلْزَامِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوْعِ مَرَاتِبُ تُعْلَمُ إِرَادَتُهَا بِالْأَوْلَى، وَانْتَصَبَ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بِتَقْدِيرِ: إِنْفَاقَ طَوْعٍ أَوْ إِنْفَاق كره. ونائت فَاعِلِ يُتَقَبَّلَ: هُوَ مِنْكُمْ أَيْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْكُمْ شَيْءٌ وَلَيْسَ الْمُقَدَّرُ الْإِنْفَاقَ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَنْفِقُوا بَلِ الْمَقْصُودُ الْعُمُومُ. وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِنَفْيِ التَّقَبُّلِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فِيهَا (إِنَّ) الْمُفِيدَةُ لِمَعْنَى فَاءِ التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلُ الْبِرِّ. وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ: الْكَافِرُونَ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 54] . وَإِنَّمَا اخْتِيرَ وَصْفُ الْفَاسِقِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَكَانُوا كَالْمَائِلِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَأْيِيسُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا بَذَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْغَزْوِ يَنْفَعُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ صِدْقِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِنْ شَكِّهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا تَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ يَجِدُونَهَا عِنْدَ الْحَشْرِ عَلَى فَرْضِ ظُهُورِ صِدْقِ الرَّسُولِ. وَيَبْقَوْنَ عَلَى دِينِهِمْ فَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْمَهَالِكِ فِي الْغَزْوِ وَلَا لِلْمَشَاقِّ، وَهَذَا مِنْ سُوءِ نَظَرِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] إِذْ حَسِبَ أَنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْبَعْثِ بِحَالَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ إِذَا صَدَقَ إِخْبَارُ الرَّسُول بِالْبَعْثِ.

[سورة التوبة (9) : آية 54]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 54] وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ [التَّوْبَة: 53] لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِلتَّعْلِيلِ لِعَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ سَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ مَانِعَيْنِ مِنْ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ هُمَا مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ. وَهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى، وَأَنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ. وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِلَى مَذَمَّتِهِمْ بِالنِّفَاقِ الدَّالِّ عَلَى الْجُبْنِ وَالتَّرَدُّدِ. فَذِكْرُ الْكُفْرِ بَيَانٌ لِذِكْرِ الْفُسُوقِ، وَذِكْرُ التَّكَاسُلِ عَنِ الصَّلَاةِ لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ مُتَهَاوِنُونَ بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ إِنْفَاقُهُمْ عَنْ إِخْلَاصٍ وَرَغْبَةٍ. وَذِكْرُ الْكَرَاهِيَةِ فِي الْإِنْفَاقِ لِإِظْهَارِ عَدَمِ الْإِخْلَاصِ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ- بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ- لِأَنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِير وضدّه. [55] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 55] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) تَفْرِيعٌ عَلَى مَذَمَّةِ حَالِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ وَفْرَةَ أَمْوَالِهِمْ لَا تُوجِبُ لَهُمْ طُمَأْنِينَةَ بَالٍ، بِإِعْلَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا يَرَوْنَ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ إِعْجَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَحْسَبُوا الْمُنَافِقِينَ قَدْ نَالُوا شَيْئًا مِنَ الْحَظِّ الْعَاجِلِ بِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ فِي عَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا. فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ.

وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ كَشَفَ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ نُفُوسِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي نُفُوسِهِمْ شُحًّا وَحِرْصًا عَلَى الْمَالِ وَفِتْنَةً بِتَوْفِيرِهِ وَالْإِشْفَاقِ مِنْ ضَيَاعِهِ، فَجَعَلَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ مِنْ جَرَّاءِ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ فِي كَبَدٍ مِنْ جَمْعِهَا. وَفِي خَوْفٍ عَلَيْهَا مِنَ النُّقْصَانِ، وَفِي أَلَمٍ مِنْ إِنْفَاقِ مَا يُلْجِئُهُمُ الْحَالُ إِلَى إِنْفَاقِهِ مِنْهَا، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ، وَتَمَّ مُرَادُهُ. وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهَذَا شَأْنُ الْبُخَلَاءِ وَأَهْلِ الشُّحِّ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَهُمْ مَسْلَاةٌ عَنِ الرَّزَايَا بِمَا يَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ أَوْ عَلَى الصَّبْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخُلُقُ قَدْ جَبَلَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ بَوَاعِثِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، إِذْ الْخلق السيّء يَدْعُو بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنَّ الْكفْر خلق سيّء فَلَا عَجَبَ أَنْ تَنْسَاقَ إِلَيْهِ نَفْسُ الْبَخِيلِ الشَّحِيحِ، وَالنِّفَاقُ يَبْعَثُ عَلَيْهِ الْخلق السيّء مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، لِيَتَّقِي صَاحِبُهُ الْمَخَاطِرَ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي أَوْلَادِهِمْ إِذْ كَانُوا فِي فِتْنَةٍ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى إِيمَانِ بَعْضِ أَوْلَادِهِمْ، وَعَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ أَوْلَادِهِمُ الْمُوَفَّقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: مِثْلِ حَنْظَلَةَ: ابْن أَبِي عَامِرٍ الْمُلَقَّبِ غِسِّيلَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ أَبَوَيْهِمَا. وَلِكَوْنِ ذِكْرِ الْأَوْلَادِ كَالتَّكْمِلَةِ هُنَا لِزِيَادَةِ بَيَانِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِكُلِّ مَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ، عُطِفَ الْأَوْلَادُ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَالتَّكْمِلَةِ وَالِاسْتِطْرَادِ. وَاللَّامُ فِي لِيُعَذِّبَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ: تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حِكْمَةٌ وَعِلَّةٌ فَتُغْنِي عَنْ مَفْعُولِ الْإِرَادَةِ، وَأَصْلُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ أَنْ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] وَيُعَدَّى غَالِبًا بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] وَقَوْلِ كُثَيِّرٍ: أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا فَكَأَنَّمَا ... تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ مَكَانِ وَرُبَّمَا عَدُّوهُ بِاللَّامِ وَكَيْ مُبَالَغَةً فِي التَّعْلِيلِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ: أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ

[سورة التوبة (9) : آية 56]

وَهَذِهِ اللَّامُ كَثِيرٌ وُقُوعُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَمَادَّةِ الْأَمْرِ. وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ سَمَّاهَا (لَامَ أَنْ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] . فَقَوْلُهُ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ ب لِيُعَذِّبَهُمْ وَمُحَاوَلَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَعَسُّفٌ وَعُطِفَ وَتَزْهَقَ عَلَى لِيُعَذِّبَهُمْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَرَادَهُ الله لَهُم عِنْد مَا رَزَقَهُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فَيُعْلَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ أَرَادَ مَوْتَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَيَسْتَغْرِقُ التَّعْذِيبُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ حَيَاتَهُمْ كُلَّهَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا فِي جُزْءٍ مِنْ آخَرِ حَيَاتِهِمْ لَحَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ انْتِفَاعٌ مَا بِأَمْوَالِهِمْ وَلَوْ مَعَ الشُّحِّ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ كافِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا زُهِقَتِ النَّفْسُ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَقَدْ مَاتَ كَافِرًا. وَالْإِعْجَابُ اسْتِحْسَانٌ مَشُوبٌ بِاسْتِغْرَابٍ وَسُرُورٍ مِنَ الْمَرْئِيِّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: 100] أَيِ اسْتَحْسَنْتَ مَرْأَى وَفْرَةِ عَدَدِهِ. وَ (الزُّهُوقُ) الْخُرُوجُ بِشِدَّةٍ وَضِيقٍ، وَقَدْ شَاعَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِه السُّورَة. [56] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 56] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ النِّفَاقِ. وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَيْهِمْ، قُصِدَ مِنْهَا إِبْطَالُ مَا يُمَوِّهُونَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَأْكِيدِ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أَيْ بَعْضٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مُؤْمِنِينَ، كَانَ التَّبْعِيضُ عَلَى اعْتِبَارِ اتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ، بِقَرِينَةِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُمْ تَوَجَّسُوا شَكَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ.

وَالْفَرَقُ: الْخَوْفُ الشَّدِيدُ. وَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ وَقَوْلِهِ: يَفْرَقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ. وَمُقْتَضَى الِاسْتِدْرَاكِ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدْرَكُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْكُمْ، أَيْ كَافِرُونَ، فَحُذِفَ الْمُسْتَدْرَكُ اسْتِغْنَاءً بِأَدَاةِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَذُكِرَ مَا هُوَ كَالْجَوَابِ عَنْ ظَاهِرِ حَالِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ تَظَاهُرٌ بَاطِلٌ وَبِأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّظَاهُرِ بِالْإِيمَانِ فِي حَال كفرهم: هم أَنَّهُمْ يَفْرَقُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَصَلَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فِي الْكَلَامِ إِذِ اسْتُغْنِيَ بِالْمَذْكُورِ عَنْ جُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفَتَيْنِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَفْرَقُونَ لِظُهُورِهِ، أَيْ يَخَافُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ إِيَّاهُمْ أَوْ إِخْرَاجِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَاب: 60، 61] . وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْضًا وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مُتَّصِفُونَ بِصِفَةِ الْجُبْنِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَتِهِمُ الشَّجَاعَةُ وَالْعِزَّةُ، فَالَّذِينَ يَفْرَقُونَ لَا يَكُونُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] وَقَوْلُ مُسَاوِرِ بْنِ هِنْدٍ فِي ذَمِّ بَنِي أَسَدٍ: زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ أُولَئِكَ أُومِنُوا جُوعًا وَخَوْفًا ... وَقَدْ جَاعَتْ بَنُو أَسَدٍ وَخَافُوا فَيَكُونُ تَوْجِيهًا بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ عَقِبَهَا أَوْفَقَ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْخُلُقِ مَانِعٌ مِنَ المواصلة والموافقة.

[سورة التوبة (9) : آية 57]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 57] لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة: 56] . وَالْمَلْجَأُ: مَكَانُ اللَّجَإِ، وَهُوَ الْإِيوَاءُ وَالِاعْتِصَامُ. وَالْمَغَارَاتُ: جَمْعُ مَغَارَةٍ، وَهِيَ الْغَارُ الْمُتِّسِعُ الَّذِي يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ الْوُلُوجَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ اشْتُقَّ لَهَا الْمَفْعَلُ: الدَّالُّ عَلَى مَكَانِ الْفِعْلِ، مِنْ غَارَ الشَّيْءُ إِذَا دَخَلَ فِي الْأَرْضِ. وَالْمُدَّخَلُ مُفْتَعَلٌ اسْمُ مَكَانٍ لِلِادِّخَالِ الَّذِي هُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الدُّخُولِ. قُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا لِوُقُوعِهَا بَعْدَ الدَّالِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي ادَّانَ، وَبِذَلِكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ أَوْ مُدَّخَلًا- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ- اسْمُ مَكَانٍ مِنْ دَخَلَ. وَمَعْنَى لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لَانْصَرَفُوا إِلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَاتِ وَأَصْلُ وَلَّى أَعْرَضَ وَلَمَّا كَانَ الْإِعْرَاضُ يَقْتَضِي جِهَتَيْنِ: جِهَةً يَنْصَرِفُ عَنْهَا، وَجِهَةً يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا، كَانَتْ تَعْدِيَتُهُ بِأَحَدِ الْحَرْفَيْنِ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ. وَالْجُمُوحُ: حَقِيقَتُهُ النُّفُورُ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا تَمْثِيلًا لِلسُّرْعَةِ مَعَ الْخَوْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ لَوْ وَجَدُوا مَكَانًا مِمَّا يَخْتَفِي فِيهِ الْمُخْتَفِي فَلَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ لَقَصَدُوهُ مُسْرِعِينَ خَشْيَةَ أَنْ يَعْزِمَ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ إِلَى الْغَزْو. [58] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 58] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) عُرِفَ الْمُنَافِقُونَ بِالشُّحِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الْأَحْزَاب: 19]- وَقَالَ- أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الْأَحْزَاب: 19] وَمِنْ شُحِّهِمْ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ تُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا رَأَوْهَا تُوَزَّعُ

عَلَى غَيْرِهِمْ طَعَنُوا فِي إِعْطَائِهَا بِمَطَاعِنَ يُلْقُونَهَا فِي أَحَادِيثِهِمْ، وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَيَشْمَئِزُّونَ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يَرُومُونَ بِذَلِكَ أَنْ تُقْصَرَ عَلَيْهِمْ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا الْجَوَّاظِ، مِنَ الْمُنَافِقِينَ، طَعَنَ فِي أَنْ أَعْطَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْأَعْرَابِ رِعَاءِ الْغَنَمِ، إِعَانَةً لَهُمْ، وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ أَنْ يَضَعَ صَدَقَاتِكُمْ فِي رِعَاءِ الْغَنَمِ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ شَافَهَ بِذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيِّ الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْدِلْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ ذَهَبٍ جَاءَ مِنَ الْيَمَنِ سَنَةَ تِسْعٍ، فَلَعَلَّ السَّبَبَ تَكَرَّرَ، وَقَدْ كَانَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ. واللّمز الْقَدْحُ وَالتَّعْيِيبُ، مُضَارِعُهُ مِنْ بَابِ يَضْرِبُ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْ بَابِ يَنْصُرُ، وَبِهِ قَرَأَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ. وَأُدْخِلَتْ فِي عَلَى الصَّدَقاتِ، وَإِنَّمَا اللَّمْزُ فِي تَوْزِيعِهَا لَا فِي ذَوَاتِهَا: لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، فَهَذَا مِنْ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا يَحْتَمِلُ: أَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرُ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ إِنْ أُعْطِيَ اللَّامِزُونَ، أَيْ أَنَّ الطَّاعِنِينَ يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ بِوَجْهِ هَدِيَّةٍ وَإِعَانَةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بُلُوغِهِمُ الْغَايَةَ فِي الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مِنْهُمْ أَيْ: فَإِنْ أُعْطِيَ الْمُنَافِقُونَ رَضِيَ اللَّامِزُونَ، وَإِنْ أُعْطِيَ غَيْرُهُمْ سَخِطُوا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرُومُونَ أَنْ لَا تُقَسَّمَ الصَّدَقَاتُ إِلَّا عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَبُو الْجَوَّاظِ أَنْ يُعْطَى الْأَعْرَابُ مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ رَضُوا، لِأَنَّ الْمُرَادَ صَارُوا رَاضِينَ، أَيْ عَنْكَ. وَدَلَّتْ إِذا الْفُجَائِيَّةُ عَلَى أَنَّ سخطهم أَمر يفاجىء الْعَاقِلَ حِينَ يَشْهَدُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي غَيْرِ مَظِنَّةِ سَخَطٍ، وَشَأْنُ الْأُمُورِ الْمُفَاجِئَةِ أَنْ تَكُونَ غَرِيبَةً فِي بَابهَا.

[سورة التوبة (9) : آية 59]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 59] وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 58] بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ [التَّوْبَة: 58] عطفا ينبىء عَنِ الْحَالَةِ الْمَحْمُودَةِ، بَعْدَ ذِكْرِ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَحَقِيقَتُهُ إِعْطَاءُ الذَّوَاتِ وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى تَعْيِينِ الْمَوَاهِبِ كَمَا فِي وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: 251] وَفِي ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [الْمَائِدَة: 54] . وَقَوْلُهُ: مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَيْ مَا عَيَّنَهُ لَهُمْ، أَيْ لِجَمَاعَتِهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ بِنَوْطِهَا بِأَوْصَافٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [التَّوْبَة: 60] الْآيَةَ. وَإِيتَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِعْطَاؤُهُ الْمَالَ لِمَنْ يَرَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، مِثْلَ النَّفْلِ فِي الْمَغَانِمِ، وَالسَّلَبِ، وَالْجَوَائِزِ، وَالصِّلَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ إِعْطَاؤُهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْحَقَّ فِي الصَّدَقَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ اللَّهِ عَيْنَ إِيتَاءِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَإِنَّمَا ذُكِرَ إِيتَاءُ اللَّهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا عَيَّنَهُ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أَيْ مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ وَقَوْلِهِ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 1] . وَحسب: اسْمٌ بِمَعْنَى الْكَافِي، وَالْكِفَايَةُ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاجْتِزَاءِ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى وَلِيَ مُهِمَّ الْمَكْفِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَهِيَ هُنَا مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَرَضي إِذَا تَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ دَلَّ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَرْضِيِّ، وَإِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِسَبَبِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ، كَقَوْلِهِ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 38] .

[سورة التوبة (9) : آية 60]

وَإِذَا عُدِّيَ بِ (عَنْ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْ تَقْصِيرِهِ أَوْ عَنْ ذَنْبِهِ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التَّوْبَة: 96] . فَالْقَوْلُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْكَلَامُ مَعَ الِاعْتِقَادِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّازِمِ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، فَإِذَا أَضْمَرُوا ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَذَلِكَ مِنَ الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مُقَابَلَةِ حِكَايَةِ اللَّمْزِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَاللَّمْزُ يَكُونُ بِالْكَلَامِ دَلَالَةً عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، جَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنَ الْكَلَامِ كِنَايَةً عَنِ الرِّضَى. وَجُمْلَةُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ حَسْبُنَا اللَّهُ لِأَنَّ كِفَايَةَ الْمُهِمِّ تَقْتَضِي تَعَهُّدَ الْمَكْفِي بِالْعَوَائِدِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ، وَالْإِيتَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الذَّوَاتِ. وَالْفَضْلُ زِيَادَةُ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [غَافِر: 61] وَالْفَضْلُ هُنَا الْمُعْطَى: مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ، بِقَرِينَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ، وَلَوْ جُعِلَتْ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً لَصَحَّتْ إِرَادَةُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ تَعْلِيلٌ. أَيْ لِأَنَّنَا رَاغِبُونَ فَضْلَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: إِنَّا رَاغِبُونَ إِلَى مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لَنَا لَا نَطْلُبُ إِعْطَاءَ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّنَا. وَالرَّغْبَةُ الطّلب بتأدب. [60] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) هَذِهِ الْآيَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 58] وَجُمْلَةِ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيء [التَّوْبَة: 61] الْآيَةَ. وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ اللَّمْزِ فِي الصَّدَقَاتِ أُدْمِجَ فِيهِ تَبْيِينُ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ أَدَاةِ الْحَصْرِ: أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ بِمُسْتَحِقٍّ لِلَّذِينَ لَمَزُوا فِي الصَّدَقَاتِ، وَحَصْرُ الصَّدَقَاتِ فِي كَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةً لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ أَيِ الصَّدَقَاتِ لِهَؤُلَاءِ لَا لَكُمْ. وَأَمَّا انْحِصَارُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دُونَ صِنْفٍ آخَرَ فَيُسْتَفَادُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا فِي مَقَامِ الْبَيَانِ إِذْ لَا تَكُونُ صِيغَةُ الْقَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً لِلْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ مَعًا إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَالْفَقِير صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيِ الْمُتَّصِفُ بِالْفَقْرِ وَهُوَ عَدَمُ امْتِلَاكِ مَا بِهِ كِفَايَةُ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ فِي عَيْشِهِ، وَضِدُّهُ الْغَنِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [135] . والمسكين ذُو الْمَسْكَنَةِ، وَهِيَ الْمَذَلَّةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَا إِذَا جُمِعَ ذِكْرُهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَائِيِّ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِكُلٍّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ مَعْنًى غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْأُخْرَى، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ: الْأَوْضَحُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَقِيرِ الْمُحْتَاجُ احْتِيَاجًا لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الضَّرَاعَةِ وَالْمَذَلَّةِ. وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ احْتِيَاجًا يُلْجِئُهُ إِلَى الضَّرَاعَةِ وَالْمَذَلَّةِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ السِّكِّيتِ، وَيُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فَالْمِسْكِينُ أَشَدُّ حَاجَةً لِأَنَّ الضَّرَاعَةَ تَكُونُ عِنْدَ ضَعْفِ الصَّبْرِ عَنْ تَحَمُّلِ أَلَمِ الْخَصَاصَةِ، وَالْأَكْثَرُ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ عَلَى نَفْسِ الْمُحْتَاجِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [36] . والْعامِلِينَ عَلَيْها مَعْنَاهُ الْعَامِلُونَ لِأَجْلِهَا، أَيْ لِأَجْلِ الصَّدَقَاتِ فَحَرْفُ (عَلَى) لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 185] أَيْ لِأَجْلِ هِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ. وَمَعْنَى الْعَمَلِ السَّعْيُ وَالْخِدْمَةُ وَهَؤُلَاءِ هُمُ السَّاعُونَ عَلَى الْأَحْيَاءِ لِجَمْعِ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَاخْتِيَارُ حَرْفِ (عَلَى) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ أَصْلُ مَعْنَاهُ مِنَ التَّمَكُّنِ، أَيِ الْعَامِلِينَ لِأَجْلِهَا عَمَلًا قَوِيًّا لِأَنَّ السُّعَاةَ يَتَجَشَّمُونَ مَشَقَّةً وَعَمَلًا عَظِيمًا، وَلَعَلَّ الْإِشْعَارَ بذلك لقصد الْإِيمَان إِلَى أَنَّ

عِلَّةَ اسْتِحْقَاقِهِمْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: كَوْنُ عَمَلِهِمْ لِفَائِدَةِ الصَّدَقَةِ، وَكَوْنُهُ شَاقًّا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (عَلَى) دَالَّةً عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ اسْتِعْلَاءُ التَّصَرُّفِ كَمَا يُقَالُ: هُوَ عَامِلٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَيِ الْعَامِلِينَ لِلنَّبِيءِ أَوْ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَيْ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا. وَمِمَّنْ كَانَ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيِّ كَانَ عَلَى صَدَقَاتِ هُذَيْلٍ. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هُمُ الَّذِينَ تُؤَلَّفُ، أَيْ تُؤَنَّسُ نُفُوسُهُمْ لِلْإِسْلَامِ مِنَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بِحِدْثَانِ عَهْدٍ، أَوْ مِنَ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يُسْلِمُوا. وَالتَّأْلِيفُ: إِيجَادُ الْأُلْفَةِ وَهِيَ التَّأَنُّسُ. فَالْقُلُوبُ بِمَعْنَى النُّفُوسِ. وَإِطْلَاقُ الْقَلْبِ عَلَى مَا بِهِ إِدْرَاكُ الِاعْتِقَادِ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أَحْوَالٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَعُرِفَ ضَعْفٌ حِينَئِذٍ فِي إِسْلَامِهِ، مِثْلَ: أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ كُفَّارٌ أَشِدَّاءُ، مِثْلَ: عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ كُفَّارٌ، وَظَهَرَ مِنْهُمْ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ، مِثْلَ: صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ. فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا يَتَأَلَّفُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ مَنْ عَدَّهُمُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعَدَّ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ يَعْنِي الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدِ ائْتَمَنَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَقُرْآنِهِ وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ. والرِّقابِ الْعَبِيدُ جَمْعُ رَقَبَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ. قَالَ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النِّسَاء: 92] . وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ مُغْنِيَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ «فَكِّ الرِّقَابِ» لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ جَعَلَتِ الرِّقَابَ كَأَنَّهَا وُضِعَتِ الْأَمْوَالُ فِي جَمَاعَتِهَا، وَلَمْ يُجَرَّ بِاللَّامِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرِّقَابَ تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَمْوَالُ الصَّدَقَاتِ، وَلَكِنْ تُبْذَلُ تِلْكَ الْأَمْوَال فِي عتق الرِّقَابِ بِشِرَاءٍ أَوْ إِعَانَةٍ

عَلَى نُجُومِ كِتَابَةٍ، أَوْ فِدَاءِ أَسْرَى مُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْأَسْرَى عَبِيدٌ لِمَنْ أَسَرُوهُمْ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] قَوْلُهُ: وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ. وَالْغارِمِينَ الْمَدِينُونَ الَّذِينَ ضَاقَتْ أَمْوَالُهُمْ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّيُونِ، بِحَيْثُ يُرْزَأُ دَائِنُوهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ يُرْزَأُ الْمَدِينُونَ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ لِإِقَامَةِ أَوَدَ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ مِنْ صَرْفِ أَمْوَالٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ لِلدَّائِنِ وَالْمَدِينِ. وسَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ، أَيْ يُصْرَفُ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مَا تُقَامُ بِهِ وَسَائِلُ الْجِهَادِ مِنْ آلَاتٍ وَحِرَاسَةٍ فِي الثُّغُورِ، كُلُّ ذَلِكَ بَرًّا وَبَحْرًا. وابْنِ السَّبِيلِ الْغَرِيبُ بِغَيْرِ قَوْمِهِ، أُضِيفَ إِلَى السَّبِيلِ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ: لِأَنَّهُ أَوْلَدَهُ الطَّرِيقُ الَّذِي أَتَى بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا فِي الْقَوْمِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ ابْنِ السَّبِيلِ. وَلِفُقَهَاءِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ طَرَائِقُ جَمَّةٌ، وَأَفْهَامٌ مُهِمَّةٌ، يَنْبَغِي أَنْ نُلِمَّ بِالْمَشْهُورِ مِنْهَا بِمَا لَا يُفْضِي بِنَا إِلَى الْإِطَالَةِ، وَإِنَّ مَعَانِيَهَا لَأَوْفَرُ مِمَّا تَفِي بِهِ الْمَقَالَةُ. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِجَعْلِ الصَّدَقَاتِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ حَمْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِلْفُقَراءِ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ هَلْ يَجِبُ إِعْطَاءُ كُلِّ صِنْفٍ مِقْدَارًا مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَهَلْ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ فِيمَا يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْ مِقْدَارِهَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِعْطَاءُ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ، بَلِ التَّوْزِيعُ مَوْكُولٌ لِاجْتِهَادِ وُلَاةِ الْأُمُورِ يَضَعُونَهَا عَلَى حَسَبِ حَاجَةِ الْأَصْنَافِ وَسَعَةِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَحُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ. إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَصْنَافَ لِتُعْرَفَ وَأَيُّ صِنْفٍ أَعْطَيْتَ مِنْهَا أَجْزَأَكَ. قَالَ الطَّبَرَيُّ: الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِسَدِّ خَلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ مَآخِذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدَادِهِمْ. قُلْتُ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِثْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ.

وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ: إِلَى وُجُوبِ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لِكُلِّ صِنْفٍ ثُمُنُ الصَّدَقَاتِ فَإِنِ انْعَدَمَ أَحَدُ الْأَصْنَافِ قُسِّمَتِ الصَّدَقَاتُ إِلَى كُسُورٍ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَصْنَافِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَوْزِيعُ مَا يُعْطَى إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الصِّنْفِ. وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ مَعَانِي الْأَصْنَافِ، وَتَحْدِيدِ صِفَاتِهَا: فَالْأَظْهَرُ فِي تَحْقِيقِ وَصْفِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّ الْخَصَاصَةَ مُتَفَاوِتَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ضَبْطِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي لَا يَكُونُ صَاحِبُهَا فَقِيرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دَارَ السُّكْنَى وَالْخَادِمَ لَا يُعَدَّانِ مَالًا يَرْفَعُ عَنْ صَاحِبِهِ وَصْفَ الْفَقْرِ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَقِيلَ: لَا يُعَدُّ الْقَادِرُ عَلَيْهِ فَقِيرًا وَلَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ بِالْفَقْرِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ، وَيَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ... وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ قَوِيًّا وَلَا مَالَ لَهُ جَازَ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالْكَيَا الطَّبَرَيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمْ يَتَعَيَّنُونَ بِتَعْيِينِ الْأَمِيرِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ يُعْطَوْنَ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ أَعْطَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَطَايَا مُتَفَاوِتَةً مِنَ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا. فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلَهُمْ حَقُّ فِيهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا غَيْرُ الصَّدَقَاتِ فَبِفِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَمَرَّ عَطَاؤُهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَزَمَنٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَكُونُوا يُعَيِّنُونَ لَهُمْ ثُمُنَ الصَّدَقَاتِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ هَذَا الْمَصْرِفِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَقِيَاسِ الِاسْتِنْبَاطِ أَيْ دُونَ وُجُودِ أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ وَفِي كَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ نَظَرٌ. وَإِنَّمَا بِنَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَطَّلَ الْمَصْرِفُ فَلِمَنْ يُرَدُّ سَهْمُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَاسَ عَلَى حُكْمِ سَهْمِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْحَبْسِ أَنَّ نَصِيبَهُ يَصِيرُ إِلَى بَقِيَّةِ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ انْقَطَعَ سَهْمُهُمْ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ قِيلَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى

سُقُوطُ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ عَهْدِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ قَطَعَ إِعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ أَنَّ صِنْفَهُمْ لَا يَزَالُ مَوْجُودًا، رَأَى أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى دِينَ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فَلَا مَصْلَحَةَ لِلْإِسْلَامِ فِي دَفْعِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ فِعْلَ عُمَرَ وَسُكُوتَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا فَجَعَلُوا ذَلِكَ نَاسِخًا لِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ مِنَ النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي عَدِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ فِي قُوَّةِ الْإِجْمَاعِ الْقَوْلِيِّ نِزَاعٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ، كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هُمْ بَاقُونَ إِذَا وُجِدُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَسْتَأْلِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَاخْتَارَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أُعْطُوا» . أَيْ فَهُوَ يَرَى بَقَاءَ هَذَا الْمَصْرِفِ وَيَرَى أَنَّ عَدَمَ إِعْطَائِهِمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ لِأَجْلِ عِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» «وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ حُكْمِهِمْ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ» . وَهَذَا الَّذِي لَا يَنْبَغِي تَقَلُّدُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى وَفِي الرِّقابِ فِي شِرَاءِ الرَّقِيقِ لِلْعِتْقِ، وَدَفْعِ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالٍ تَحْصُلُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ لَا يُعَانُ بِهَا الْمُكَاتَبُ وَلَوْ كَانَ آخِرَ نَجْمٍ تَحْصُلُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ. وَقِيلَ: لَا تُعْطَى إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى نُجُومِهِ، دُونَ الْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ فِي عِتْقِ بَعْضِ عَبْدٍ أَوْ نُجُومِ كِتَابَةٍ لَيْسَ بِهَا تَمَامُ حُرِّيَّةِ الْمُكَاتَبِ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ وَالزُّهْرِيُّ وَقِيلَ يَجُوزُ ذَلِكَ. وَفِدَاءُ الْأَسْرَى مِنْ فَكِّ الرِّقَابِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنِ حَبِيبٍ، خِلَافًا لِأَصْبَغَ، مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَشَرْطُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ دِينُهُمْ فِي مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا. وَالْمَيِّتُ الْمَدِينُ الَّذِي لَا وَفَاءَ لِدِينِهِ فِي تَرِكَتِهِ يُعَدُّ مِنَ الْغَارِمِينَ عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَوَّازِ. وَسَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يُخْتَلَفْ أَنَّ الْغَزْوَ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَيُعْطَى الْغُزَاةُ الْمُحْتَاجُونَ فِي بَلَدِ الْغَزْوِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فِي بَلَدِهِمْ، وَأَمَّا الْغُزَاةُ الْأَغْنِيَاءُ فِي بَلَدِ الْغَزْوِ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُمْ

يُعْطَوْنَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَوْنَ. وَالْحَقُّ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ يَشْمَلُ شِرَاءَ الْعُدَّةِ لِلْجِهَادِ مِنْ سِلَاحٍ، وَخَيْلٍ، وَمَرَاكِبَ بَحْرِيَّةٍ، وَنُوتِيَّةٍ، وَمَجَانِيقَ، وَلِلْحُمْلَانِ، وَلِبِنَاءِ الْحُصُونِ، وَحَفْرِ الْخَنَادِقِ، وَلِلْجَوَاسِيسِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِأَخْبَارِ الْعَدُوِّ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ لَهُ مُخَالِفًا، وَأَشْعَرَ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِي مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَهَذَا اجْتِهَادٌ وَتَأْوِيلٌ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «وَمَا جَاءَ أَثَرٌ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ» . وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي الْغَرِيبِ الْمُحْتَاجِ فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ أَنَّهُ مُرَادٌ وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ تَحْتَ مِنَّةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْغَنِيِّ: فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يُعْطَى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْبَغُ: يُعْطَى وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ. وَقَوْلُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى فَرَضَ اللَّهُ أَوْ أَوْجَبَ، فَأَكَّدَ بِفَرِيضَةٍ مِنْ لَفْظِ الْمُقَدَّرِ وَمَعْنَاهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذَا الْحُكْمِ وَالْأَمْرُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ إِمَّا أَفَادَهُ الْحَصْرُ بِ إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ إِلَخْ، أَيْ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فِي قَصْرِ الصَّدَقَاتِ عَلَى هَؤُلَاءِ، أَيْ أَنَّهُ صَادِرٌ عَنِ الْعَلِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مَا يُنَاسِبُ فِي الْأَحْكَامِ، والحكيم الَّذِي أَحْكَمَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي خَلَقَهَا أَوْ شَرَعَهَا. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْي المحقّقين.

[سورة التوبة (9) : آية 61]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) عَطْفٌ ذُكِرَ فِيهِ خُلُقٌ آخَرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ: وَهُوَ تَعَلُّلُهُمْ عَلَى مَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ النَّبِيءُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَذَرِ، وَمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ فَلَتَاتِ نِفَاقِهِمْ، يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ إِرْجَافٌ مِنَ الْمُرْجِفِينَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ يُصَدِّقُ الْقَالَةَ فِيهِمْ، وَيَتَّهِمُهُمْ بِمَا يَبْلُغُهُ عَنْهُمْ مِمَّا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ يَعْتَذِرُونَ بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي الْأَذَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْقَاءُ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي كمالات نبيئهم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّبِيءِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ قَبْلَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 58] فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَكَ» فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى إِظْهَارِ وَصْفِ النَّبِيءِ لِلْإِيذَانِ بِشَنَاعَةِ قَوْلِهِمْ وَلِزِيَادَةِ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِوَصْفِ النُّبُوءَةِ بِحَيْثُ لَا تُحْكَى مَقَالَتُهُمْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ مَا يُشِيرُ إِلَى تَنْزِيهِهِ وَالتَّعْرِيضِ بِجُرْمِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ. وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ كَانُوا يَقُولُونَ فِي حَقِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُؤْذِيهِ إِذَا بَلَغَهُ. وَقَدْ عُدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، الْقَائِلِينَ ذَلِكَ: الْجُلَاسُ بْنُ سُوِيدٍ، قَبْلَ تَوْبَتِهِ، وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَتَّابُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَقُولُ فِيهِ مَا شِئْنَا ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَيْهِ وَنَحْلِفُ لَهُ أَنَّا مَا قُلْنَا فَيَقْبَلُ قَوْلَنَا. وَالْأَذَى: الْإِضْرَارُ الْخَفِيفُ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الضُّرِّ بِالْقَوْلِ وَالدَّسَائِسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [111] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] . وَمَضْمُونُ جُمْلَةِ: وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ مِنَ الْأَذَى.

وَالْأُذُنُ الْجَارِحَةُ الَّتِي بِهَا حَاسَّةُ السَّمْعِ. وَمَعْنَى هُوَ أُذُنٌ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ آلَةُ سَمْعٍ. وَالْإِخْبَارُ بِ هُوَ أُذُنٌ مِنْ صِيغِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَالْأُذُنِ فِي تَلَقِّي الْمَسْمُوعَاتِ لَا يَرُدُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَصْدِيقِهِ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ مِنْ دُونِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَقْبُولِ وَالْمَرْدُودِ. رُوِيَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا هُوَ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَحَدُ الْمُنَافِقِينَ. وَجُمْلَةُ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ جُمْلَةُ قُلْ مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا، عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ، لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِقَلْبِ مَقْصِدِهِمْ إِغَاظَةً لَهُمْ، وَكَمْدًا لِمَقَاصِدِهِمْ، وَهُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ الَّذِي يَحْمِلُ فِيهِ الْمُخَاطَبُ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُهُ، تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى أَنَّهُ الْأَوْلَى بِأَنْ يُرَادَ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: 189] وَمِنْهُ مَا جَرَى بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَالْقَبَعْثَرِيِّ إِذْ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ مُتَوَعِّدًا إِيَّاهُ «لَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ (أَرَادَ لَأَلْزِمْنَكَ الْقَيْدَ لَا تُفَارِقُهُ) فَقَالَ الْقَبَعْثَرَى: «مِثْلُ الْأَمِيرِ يُحْمِلُ عَلَى الْأَدْهَمِ وَالْأَشْهَبِ» فَصَرَفَ مُرَادَهُ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَمْلِ مَعْنَى الرُّكُوبِ وَإِلَى إِرَادَةِ الْفَرَسِ الَّذِي هُوَ أَدْهَمُ اللَّوْنِ مِنْ كَلِمَةِ الْأَدْهَمِ. وَهَذَا مِنْ غَيْرَةِ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْقِبُهُ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ، كَمَا أَعْقَبَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التَّوْبَة: 49] . إِلَى هُنَا بَلْ أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ بُطْلَانِهِ فَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا هُوَ إِبْطَالٌ لِزَعْمِهِمْ مِنْ أَصْلِهِ بِصَرْفِ مَقَالَتِهِمْ إِلَى مَعْنًى لَائِقٍ بِالرَّسُولِ، حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْمَحْكِيِّ أَثَرٌ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى أُذُنُ خَيْرٍ أَنَّهُ يَسْمَعُ مَا يَبْلُغُهُ عَنْكُمْ وَلَا يُؤَاخِذُكُمْ وَيَسْمَعُ مَعَاذِيرَكُمْ وَيَقْبَلُهَا مِنْكُمْ، فَقَبُولُهُ مَا يَسْمَعُهُ يَنْفَعُكُمْ وَلَا يَضُرُّكُمْ فَهَذَا أذن فِي الْخَبَر، أَيْ فِي سَمَاعِهِ وَالْمُعَامَلَةِ بِهِ وَلَيْسَ أُذُنًا فِي الشَّرِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ إِبْطَالٌ لِأَنْ يَكُونَ أُذُنٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادُوهُ مِنَ الذَّمِّ فَإِنَّ الْوَصْفَ بِالْأُذُنِ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يَقْبَلُ الْكَلَامَ الْمُفْضِي إِلَى شَرٍّ بَلْ هُوَ أَعَمُّ، فَلِذَلِكَ صَحَّ تَخْصِيصُهُ هُنَا بِمَا فِيهِ خَيْرٌ. وَهَذَا إِعْمَالٌ فِي غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ. وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكَ بِأَنَّ وَصْفَ أُذُنٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا بِهِ الذَّمُّ كَيْفَ يُضَافُ إِلَى الْخَيْرِ، لِأَنَّ مَحَلَّ الذَّمِّ فِي هَذَا الْوَصْفِ هُوَ قَبُولُ كُلِّ مَا يَسْمَعُ

مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَرٌّ أَوْ خَيْرٌ، بِدُونِ تَمْيِيزٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي اضْطِرَابِ أَعْمَالِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْخَيْرَ، وَيَرْفُضُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنَ الْقَوْلِ، فَقَدْ صَارَ الْوَصْفُ نَافِعًا، لِأَنَّ صَاحِبَهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَقْبَلَ إِلَّا الْخَيْرَ، وَأَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَيْهِ. هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، وَتَصْحِيحُ إِضَافَةِ هَذَا الْوَصْفِ إِلَى الْخَيْرِ، فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى فَيُصَيِّرُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ عَلَى وَجْهِ التَّنَازُلِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ، أَيْ هُوَ أُذُنٌ كَمَا قُلْتُمْ وَقَدِ انْتَفَعْتُمْ بِوَصْفِهِ ذَلِكَ إِذْ قَبِلَ مِنْكُمْ مَعَاذِيرَكُمْ وَتَبَرُّؤَكُمْ مِمَّا يَبْلُغُهُ عَنْكُمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِالرَّشِيقِ لِأَنَّ مَا كَانَ خَيْرًا لَهُمْ قَدْ يَكُونُ شَرًّا لِغَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ أُذُنٌ- بِسُكُونِ الذَّالِ فِيهِمَا- وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِضَمِّ الذَّالِ فِيهِمَا-. وَجُمْلَةُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجَوَابِ لِتَمَحُّضِهِ لِلْخَيْرِ وَبُعْدِهِ عَنِ الشَّرِّ بِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَهُوَ يُعَامِلُ النَّاسَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعَامَلَةِ بِالْعَفْوِ، وَالصَّفْحِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَبِأَنْ لَا يُؤَاخذ أحد إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَالنَّاسُ فِي أَمْنٍ مِنْ جَانِبِهِ فِيمَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَامِلُ إِلَّا بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ فَكَوْنُهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَازِعٌ لَهُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالظِّنَّةِ وَالتُّهْمَةِ. وَالْإِيمَانُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَصْدِيقُهُمْ فِي مَا يُخْبِرُونَهُ، يُقَالُ: آمَنَ لِفُلَانٍ بِمَعْنَى صَدَّقَهُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِاللَّامِ دُونَ الْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يُوسُف: 17] فَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ لَا يَكْذِبُونَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَازِعٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يُخْبِرُوهُ الْكَذِبَ، فَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِخَبَرِ الْكَاذِبِ فَهُوَ يُعَامِلُ النَّاسَ بِشَهَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِهِ، فَهُوَ ضِدُّ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] . وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَرَحْمَةٌ عَلَى جُمْلَتِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ كَوْنَهُ رَحْمَةً لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ أَثَرٌ لِإِغْضَائِهِ عَنْ إِجْرَامِهِمْ وَلِإِمْهَالِهِمْ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَلَوْ آخَذَهُمْ بِحَالِهِمْ دُونَ مَهَلٍ لَكَانَ مِنْ سَبْقِ السَّيْفِ الْعَذَلَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: آمَنُوا الْإِيمَانَ بِالْفِعْلِ، لَا التَّظَاهُرَ

[سورة التوبة (9) : آية 62]

بِالْإِيمَانِ، كَمَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ، يَعْنُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِيمَانِ الْمُبْطِنِينَ لِلْكُفْرِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ- بِجَرِّ- وَرَحْمَةٌ عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ، أَيْ أُذُنُ رَحْمَةٍ، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْخَصْلَةِ مَعَ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ، بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَرَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ لِيُكَفِّرُوا عَنْ سَيِّئَاتِهِمُ الْفَارِطَةِ، ثُمَّ أَعْقَبَ التَّرْغِيبَ بِالتَّرْهِيبِ مِنْ عَوَاقِبِ إِيذَاءِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَهُوَ إِنْذَارٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الدُّنْيَا. وَفِي ذِكْرِ النَّبِيءِ بِوَصْفِ رَسُولَ اللَّهِ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْقَاقِ مُؤْذِيهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ الْمُؤْذِنِ بِالْعَلِيَّةِ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الْعَذَابِ هِيَ الْإِيذَاءُ، فالعلة مركبة. [62] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ بِكَلِمَةِ وَمِنْهُمْ، لِأَنَّ مَا حُكِيَ هُنَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِهِمْ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِإِعْلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ، فَلَا تَغُرُّهُمْ أَيْمَانُهُمْ، فَضَمِيرُ يَحْلِفُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذين يُؤْذونَ النبيء. وَالْمُرَادُ: الْحَلِفُ الْكَاذِبُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، أَيْ بِتَرْكِهِمُ الْأُمُورَ الَّتِي حَلَفُوا لِأَجْلِهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَيْمَانَهُمْ كَاذِبَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [التَّوْبَة: 42] .

فَكَافُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يحلفُونَ على التبرّي، مِمَّا يَبْلُغُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُؤْذِيَةِ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَذَلِكَ يَغِيظُ الْمُسْلِمِينَ وَيُنْكِرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِي عَنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أَيْ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِأَنْ يُرْضُوهُمَا، وَسَيَأْتِي تَعْلِيلُ أَحَقِّيَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُرْضُوهُمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِرْضَاءُ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَتَعْظِيمِ رَسُولِهِ، وَإِرْضَاءُ الرَّسُولِ بِتَصْدِيقِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِكْرَامِهِ. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُرْضُوهُ مَعَ أَنَّ الْمُعَادَ اثْنَانِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَوَّلِ الِاسْمَيْنِ، وَاعْتِبَارُ الْعَطْفِ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِتَقْدِيرِ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ ثَانِيَتُهُمَا كَالِاحْتِرَاسِ وَحَذْفُ الْخَبَرِ إِيجَازٌ. وَمِنْ نُكْتَةِ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِرْضَاءَيْنِ، وَمِنْه قَول ضابىء بْنِ الْحَارِثِ: وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ التَّقْدِيرُ: فَإِنِّي لَغَرِيبٌ وَقَيَّارٌ بِهَا غَرِيبٌ أَيْضًا. لِأَنَّ إِحْدَى الْغُرْبَتَيْنِ مُخَالِفَةٌ لِأُخْرَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يُرْضُوهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي الْخَبَرِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ، أَلَا تَرَى أنّ بَيت ضابىء قَدْ جَاءَ فِي خَبَرِهِ الْمَذْكُورِ لَامُ الِابْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَلَائِقِ (إِنَّ) الْكَائِنَةِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، دُونَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ الْغَالِبُ. وَشَرْطُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ، مُسْتَعْمَلٌ لِلْحَثِّ وَالتَّوَقُّعِ لِإِيمَانِهِمْ، لِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يَبْقَى مَعَهُ احْتِمَالٌ فِي إِيمَانِهِمْ، فَاسْتُعْمِلَ الشَّرْطُ لِلتَّوَقُّعِ وَلِلْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ. وَفِيهِ أَيْضًا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ، إِنْ أَعَادُوا مِثْلَ صَنِيعِهِمْ، بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَحْذِيرٌ مِنْ غَضَبِ الله وَرَسُوله.

[سورة التوبة (9) : آية 63]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 63] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَة: 62] مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى لنَفسِهِ عملا يؤول بِهِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَصِيرُ إِلَى هَذَا الْمصير السيّء. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ، لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مُحَقَّقٌ بِضَرُورَةِ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالرَّسُولِ، وَبِأَنَّ رِضَى اللَّهِ عِنْدَ رِضَاهُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ غَرِيبًا لِوُجُودِ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُ مِمَّا يَحِقُّ أَنْ يَعْلَمُوهُ، كَانَ حَالُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ حَالًا مُنْكَرًا. وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا وَنَحْوِهِ فِي الْإِعْلَامِ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ، كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: 104] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [التَّوْبَة: 78] وَقَوْلِ مَوْيَالِ بْنِ جَهْمٍ الْمَذْحِجِيِّ، أَوْ مُبَشِّرِ بْنِ هُذَيْلٍ الْفَزَارِيِّ: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَمْرَكِ اللَّهَ أَنَّنِي ... كَرِيمٌ عَلَى حِينِ الْكِرَامُ قَلِيلُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ إِلَخْ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَفُسِّرَ الضَّمِيرُ بِجُمْلَةِ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ إِلَى آخِرِهَا. وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا شَأْنًا عَظِيمًا هُوَ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ. وَفَكُّ الدَّالَانِ مِنْ يُحادِدِ وَلَمْ يُدْغَمَا لِأَنَّهُ وَقَعَ مَجْزُومًا فَجَازَ فِيهِ الْفَكُّ وَالْإِدْغَامُ، وَالْفَكُّ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْإِدْغَامُ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [4] فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ. والمحادّة: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ. وَالْفَاءُ فِي فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ لِرَبْطِ جَوَابِ شَرْطِ مَنْ.

[سورة التوبة (9) : آية 64]

وَأُعِيدَتْ (َأَنَّ) فِي الْجَوَابِ لِتَوْكِيدِ أَنَّ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ الشَّرْطِ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا، فَإِنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَكَانَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ تَفْسِيرًا لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَانَ حُكْمُ أَنْ سَارِيًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْجَوَابِ لَعُلِمَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَاهَا، فَلَمَّا ذُكِرَتْ كَانَ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا لَهَا، وَلَا ضَيْرَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ فَاءِ الْجَوَابِ وَمَدْخُولِهَا بِحَرْفٍ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّحْل: 119] وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْرَاب: وإنّ امْرأ دَامَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ ... عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّهُ لَكَرِيمُ وجَهَنَّمَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [206] . وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ إِلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ بِاعْتِبَارِ تَفْسِيرِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ: تَمْيِيزُهُ لِيَتَقَرَّرَ مَعْنَاهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. والْخِزْيُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [85] . [64] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [التَّوْبَة: 62] وَهُوَ إِظْهَارُهُمُ الْإِيمَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُغَيَّبَاتِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْحَذَرَ صَادِرٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الظَّاهِرُ يُنَافِي كَوْنَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ خَبَرَهُ صِدْقٌ فَلِذَلِكَ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ «هُوَ حَذَرٌ يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى

وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ يُظْهِرُ سِرَّهُمُ الَّذِي حَذِرُوا ظُهُورَهُ. وَفِي قَوْله: اسْتَهْزِؤُا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ هُمْ يُظْهِرُونَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ بِهِ إِيهَامَ الْمُسْلِمِينَ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَمَا هُمْ إِلَّا مُسْتَهْزِئُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمُ الْكُفْرَ لِأَنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَفْرُوضٌ فَفِعْلُ يَحْذَرُ فَأُطْلِقَ عَلَى التَّظَاهُرِ بِالْحَذَرِ، أَيْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الصُّورَةِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْحَذَرِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الِاسْتِهْزَاءِ لَوْلَا ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا كَانُوا مُبْطِنِينَ الْكُفْرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْحَذَرُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِكَشْفِ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ فَتَعَيَّنَ صَرْفُ فِعْلِ يَحْذَرُ إِلَى مَعْنَى: يَتَظَاهَرُونَ بِالْحَذَرِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى التَّظَاهُرِ بِمَدْلُولِهِ مِنْ غَرَائِبِ الْمَجَازِ. وَتَأَوَّلَ الزَّجَّاجُ الْآيَةَ بِأَنَّ يَحْذَرُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ، أَيْ لِيَحْذَرَ. وَعَلَى تَأْوِيلِهِ تَكُونُ جملَة قُلِ اسْتَهْزِؤُا اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِجُمْلَةِ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ. وَلَهُمْ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعِيدَةٌ عَنْ مَهْيَعِهَا، ذَكَرَهَا الْفَخْرُ. وَضَمِيرَا عَلَيْهِمْ وتُنَبِّئُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ وَمَعَادِهَا. وَتَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ أَيْ تَنْزِلُ لِأَجْلِ أَحْوَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 185] . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَتَكُونُ تَعْدِيَةُ تُنَبِّئُهُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ: عَلَى نَزْعِ الْخَافِض، أَي تنبيء عَنْهُم، أَي تنبىء الرَّسُولَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَاءُ تُنَبِّئُهُمْ تَاءَ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: تُنَبِّئُهُمْ أَنْتَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِ سُورَةٌ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُنَبِّئُهُمْ بِهَا، وَهَذَا وَصْفٌ لِلسُّورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا فِي اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ اسْتِطْرَادٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَضُرُّ تَخَالُفُ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ ضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ الَّذِي هُوَ لِلْمُنَافِقِينَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَا يَلِيقُ بِأَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ.

[سورة التوبة (9) : آية 65]

وَاخْتِيرَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَحْذَرُ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَالسورَة: طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ ذَاتُ مَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ طَالِعَةِ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَالتَّنْبِئَةُ الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ مَصْدَرُ نَبَّأَ الْخَبَرَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] . وَالِاسْتِهْزَاءُ: تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [14] . وَالْإِخْرَاجُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِظْهَارِ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ بِإِنْزَالِ السُّوَرِ: مِثْلَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذِهِ السُّورَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، حَتَّى سُمِّيَتِ الْفَاضِحَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْدَادِ أَحْوَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمُ. وَالْعُدُولُ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا تَحْذَرُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ سُورَةً تُنَبِّئُكُمْ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ: لِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ هُوَ إِظْهَارُ سَرَائِرِهِمْ لَا إِنْزَالُ السُّورَةِ، فَذِكْرُ الصِّلَةِ وَافٍ بِالْأَمْرَيْنِ: إِظْهَارِ سَرَائِرِهِمْ، وَكَوْنِهِ فِي سُورَةٍ تَنْزِلُ، وَهُوَ أَنَكَى لَهُمْ، فَفِيهِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ كهيعص [80] وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] أَيْ نَرِثُهُ مَاله وَولده. [65] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 65] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التَّوْبَة: 62] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيء [التَّوْبَة: 61] ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِجُمْلَةِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [التَّوْبَة: 62] أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ إِنْ لَمْ تَسْأَلْهُمْ. فَالْحَلِفُ الصَّادِرُ مِنْهُمْ حَلِفٌ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ بَرَاءَتِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالطَّعْنِ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ عَنْ أُمُورٍ خَاصَّةٍ يُتَّهَمُونَ بِهَا جَوَابٌ يُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ

مَا يُتَّهَمُونَ بِهِ، فَإِذَا سُئِلُوا عَنْ حَدِيثٍ يَجْرِي بَيْنَهُمْ يُسْتَرَابُ مِنْهُمْ أَجَابُوا بِأَنَّهُ خَوْضٌ وَلَعِبٌ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ اسْتِجْمَامٌ لِلرَّاحَةِ بَيْنَ أَتْعَابِ السَّفَرِ لِمَا يَحْتَاجُهُ الْكَادُّ عَمَلًا شَاقًّا مِنَ الرَّاحَةِ بِالْمَزْحِ وَاللَّعِبِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَكْبًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ نِفَاقًا، مِنْهُمْ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَوْفِيُّ، وَمَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيُّ، حَلِيفُ بَنِيَ سَلَمَةَ، وَقَفُوا عَلَى عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ يَنْظُرُونَ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ حُصُونَ الشَّامِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فَسَأَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُنَاجَاتِهِمْ فَأَجَابُوا «إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» . وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَتَّجِهُ لِأَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلَةٌ فَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ، مِمَّا يُسْأَلُونَ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِخْبَارًا بِمَا سَيُجِيبُونَ، فَهُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَتَحَدَّثُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ، الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَة: 14] لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِي الِانْفِرَادِ عَنْ مَجَالِسِ الْمُسْلِمِينَ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ السُّؤَالِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنْ حَدِيثِهِمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ، أَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمُ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُمْ بَعْدَهَا أَجَابُوا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْآيَةُ. وَالْقَصْرُ لِلتَّعْيِينِ: أَيْ مَا تَحَدَّثْنَا إِلَّا فِي خَوْضٍ وَلَعِبٍ دُونَ مَا ظَنَنْتَهُ بِنَا مِنَ الطَّعْنِ وَالْأَذَى. وَالْخَوْضُ: تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [68] . وَاللَّعِبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي الْأَنْعَامِ [32] ، وَلَمَّا كَانَ اللَّعِبُ يَشْمَلُ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْغَيْرِ جَاءَ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِذَارِهِمْ بقوله: كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا كَانَ اعْتِذَارُهُمْ مُبْهَمًا رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابَ الْمُوقِنِ بِحَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ بِمَا سَيَعْتَذِرُونَ بِهِ فَقَالَ لَهُمْ

[سورة التوبة (9) : آية 66]

أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاء: 51] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ. وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ وَهُوَ أَبِاللَّهِ عَلَى فِعْلِهِ الْعَامِلِ فِيهِ لِقَصْدِ قَصْرِ التَّعْيِينِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْا فِي اعْتِذَارِهِمْ بِصِيغَةِ قَصْرِ تَعْيِينٍ جِيءَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةِ قَصْرِ تَعْيِينٍ لِإِبْطَالِ مُغَالَطَتِهِمْ فِي الْجَوَابِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ لَعِبَهُمُ الَّذِي اعْتَرَفُوا بِهِ مَا كَانَ إِلَّا اسْتِهْزَاءً بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ لَا بِغَيْرِ أُولَئِكَ، فَقَصْرُ الِاسْتِهْزَاءِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِمَنْ ذُكِرَ اقْتَضَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْقَصْرَ قَيْدٌ فِي الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَيَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي مَعْنَى الْقَصْرِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ وَأَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِنَحْوِ: وَحْدِي، أَوْ لَا غَيْرِي، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ فَلَا يُقَالُ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا وَلَا غَيْرِي، أَيْ وَلَا يُقَالُ: أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ وَغَيْرِي، وَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُفْهَمَ أَبِاللَّهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ أَمْ لَمْ تَكُونُوا مُسْتَهْزِئِينَ. وَالِاسْتِهْزَاءُ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ إِلْزَامٌ لَهُم: لأنّهم استهزأوا بِرَسُولِهِ وَبِدِينِهِ، فَلَزِمَهُمُ الِاسْتِهْزَاءُ بِالَّذِي أَرْسَلَهُ بِآيَاتِ صِدْقِهِ. [66] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 66] لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ. لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: 65] اعْتِذَارًا عَنْ مُنَاجَاتِهِمْ، أَيْ إِظْهَارًا لِلْعُذْرِ الَّذِي تَنَاجَوْا مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنَّهُ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُتْعَبُ: مِنَ الِارْتِيَاحِ إِلَى الْمَزْحِ وَالْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الْجِدِّ، فَلَمَّا كَشَفَ اللَّهُ أَمْرَ اسْتِهْزَائِهِمْ، أَرْدَفَهُ بِإِظْهَارِ قِلَّةِ جَدْوَى اعْتِذَارِهِمْ إِذْ قَدْ تَلَبَّسُوا بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَكْبَرُ مِمَّا اعْتَذَرُوا عَنْهُ، وَهُوَ الْتِبَاسُهُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَظْهَرَ نِفَاقَهُمْ. كَانَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ أَهْوَنَ فَجُمْلَةُ لَا تَعْتَذِرُوا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَهُ، وَهِيَ ارْتِقَاءٌ فِي تَوْبِيخِهِمْ، فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ تَوْكِيدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ [التَّوْبَة: 65] ، مَعَ زِيَادَةِ ارْتِقَاءٍ فِي التَّوْبِيخِ وَارْتِقَاءٍ فِي مَثَالِبِهِمْ بِأَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِمَا هُوَ أَشَدُّ وَهُوَ الْكُفْرُ، فَلِذَلِكَ قُطِعَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى أَنَّ شَأْنَ الْجُمَلِ الْوَاقِعَةِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ أَنْ

تُقْطَعَ وَلَا تُعْطَفَ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يَقْتَضِي التَّعْدَادَ، فَتَقَعُ الْجُمَلُ الْمُوَبَّخُ بِهَا مَوْقِعَ الْأَعْدَادِ الْمَحْسُوبَةِ نَحْوَ وَاحِدٌ، اثْنَانِ، فَالْمَعْنَى لَا حَاجَةَ بِكُمْ لِلِاعْتِذَارِ عَنِ التَّنَاجِي فَإِنَّكُمْ قَدْ عُرِفْتُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ. وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الْجَدْوَى. وَجُمْلَةُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ مِنْ جُمْلَةِ: لَا تَعْتَذِرُوا تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الْجَدْوَى. وَقَوْلُهُ: قَدْ كَفَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْكُفْرِ فِي الْمَاضِي، أَيْ قَبْلَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ كُفْرُهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِإِسْنَادِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ: إِظْهَارُ الْإِيمَانِ، وَإِلَّا فَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِيمَانًا صَادِقًا. وَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمْ: إِظْهَارُهُمُ الْإِيمَانَ، لَا وُقُوعُ حَقِيقَتِهِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ إِضَافَةُ الْإِيمَانِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ دُونَ تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلْحَقِيقَةِ، أَيْ بَعْدَ إِيمَانٍ هُوَ مِنْ شَأْنِكُمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ الصُّورِيُّ غَيْرُ الْحَقِّ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى الْآتِي وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التَّوْبَة: 74] وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآن. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ. جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالتَّبْشِيرِ لِلرَّاغِبِ فِي التَّوْبَةِ تَذْكِيرًا لَهُ بِإِمْكَانِ تَدَارُكِ حَالِهِ. وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ عَجِيبًا كَانَتِ الْبِشَارَةُ لَهُمْ مَخْلُوطَةً بِبَقِيَّةِ النِّذَارَةِ، فَأَنْبَأَهُمْ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَدْ يُعْفَى عَنْهَا إِذَا طَلَبَتْ سَبَبَ الْعَفْوِ: بِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ طَائِفَةً تَبْقَى فِي حَالَةِ الْعَذَابِ، وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَبَثًا وَلَا تَرْجِيحًا بِدُونِ مُرَجِّحٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَّ طَائِفَةً مَرْجُوَّةُ الْإِيمَانِ، فَيُغْفَرُ عَمَّا قَدَّمَتْهُ مِنَ النِّفَاقِ، وَأُخْرَى تُصِرُّ عَلَى النِّفَاقِ حَتَّى الْمَوْتِ، فَتَصِيرُ إِلَى الْعَذَابِ. وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ هَذِهِ تَزِيدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وُضُوحًا مِنْ قَوْلِهِ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- عَذابٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: 67، 68] . وَقَوْلُهُ

[سورة التوبة (9) : آية 67]

بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 74] . وَقَدْ آمَنَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ هَذِه الطَّائِفَة مخشيّا (¬1) بْنَ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيَّ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ تَابَ مِنَ النِّفَاقِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَعُدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاهَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَاسْتُشْهِدَ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْمَقْصُودُ «بِالطَّائِفَةِ» دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْإِخْفَاءِ وَالتَّعْمِيَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» . وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ يَتَوَسَّمُهُمْ. وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمُجْرِمُ الْكَافِرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُعْفَ وتعذب بِبِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى النَّائِبِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَبِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي الْفِعْلَيْنِ وَنَصَبَ طائِفَةٍ الثَّانِي. [67] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 67] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) يَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ احْتِرَاسًا عَنْ أَنْ يَظُنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْعَفْوَ الْمَفْرُوضَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ هُوَ عَفْوٌ يَنَالُ فَرِيقًا مِنْهُمْ بَاقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ النِّفَاقَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ أَصْحَابَهُ سَوَاءٌ، لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ افْتِرَاقَ أَحْوَالِهِمْ بَيْنَ عَفْوٍ وَعَذَابٍ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّفَاقِ، إِلَى مَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ أَيْضًا مِنْ إِيضَاحِ بَعْضِ ¬

(¬1) بميم مَفْتُوحَة وخاء مُعْجمَة سَاكِنة وياء مُشَدّدَة، وحمير بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة وَمِيم مَفْتُوحَة وتحتية مُشَدّدَة. وَفِي «سيرة ابْن إِسْحَاق» ومخشن بنُون من آخِره وبفتح الشين وَقد ذكر اسْمه آنِفا عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: 65] .

أَحْوَالِ النِّفَاقِ وَآثَارِهِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، فَفَصَلَ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا: إِمَّا لِأَنَّهَا كَالْبَيَانِ لِلطَّائِفَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ الْعَذَابَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا فِي حُكْمِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [التَّوْبَة: 69] وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا هِيَ وَالَّتِي بَعْدَهَا بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً [التَّوْبَة: 69] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُنافِقاتُ تَنْصِيصًا عَلَى تَسْوِيَةِ الْأَحْكَامِ لِجَمِيعِ الْمُتَّصِفِينَ بِالنِّفَاقِ: ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، كَيْلَا يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ الْعَفْوَ يُصَادِفُ نِسَاءَهُمْ، وَالْمُؤَاخَذَةَ خَاصَّةٌ بِذُكْرَانِهِمْ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ لِنِسَاءِ الْمُنَافِقِينَ حَظًّا مِنْ مُشَارَكَةِ رِجَالِهِنَّ فِي النِّفَاقِ فَيَحْذَرُوهُنَّ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ اتِّصَالِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى اتِّصَالِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَهُوَ تَبْعِيضٌ مَجَازَيٌّ مَعْنَاهُ الْوَصْلَةُ وَالْوِلَايَةُ، وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى ذَلِكَ اسْمُ الْوِلَايَةِ كَمَا أُطْلِقَ عَلَى اتِّصَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 71] لِمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ هُوَ بَعْضٌ مِنَ الْجَمِيعِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ بَعْضٍ مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ آخَرَ، عُلِمَ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْأَحْوَالِ. وَجُمْلَةُ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى الِاتِّصَالِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الْأَحْوَالِ. وَالْمُنْكِرُ: الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا يُنْكِرُهَا الْإِسْلَامُ. وَالْمَعْرُوفُ: ضِدُّهَا، لِأَنَّ الدِّينَ يَعْرِفُهُ، أَيْ يَرْضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [104] . وَقَبْضُ الْأَيْدِي: كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ، وَهُوَ وَصْفُ ذَمٍّ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْقَسْوَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الشُّحُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ.

[سورة التوبة (9) : آية 68]

وَالنِّسْيَانُ مِنْهُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، أَوْ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، لِأَنَّ الْإِهْمَالَ وَالْإِعْرَاضَ يُشْبِهُ نِسْيَانَ الْمُعْرَضِ عَنْهُ. وَنِسْيَانُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُشَاكَلَةٌ أَيْ حِرْمَانُهُ إِيَّاهُمْ مِمَّا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ النِّسْيَانَ عِنْدَ قِسْمَةِ الْحُظُوظِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ فَذْلَكَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا كَالْبَيَانِ الْجَامِعِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَلَغُوا النِّهَايَةَ فِي الْفُسُوقِ جُعِلَ غَيْرُهُمْ كَمَنْ لَيْسَ بِفَاسِقٍ. وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِمْ فِي الذِّهْنِ لِهَذَا الْحُكْمِ. وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً حَتَّى تكون كالمثل. [68] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 68] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِمَّا اسْتِئْنَاف بياني ناشيء عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [التَّوْبَة: 67] ، وَإِمَّا مُبَيِّنَةٌ لجملة فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي جَهَنَّمَ وَاللَّعْنَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ نِسْيَانِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَالْوَعْدُ أَعَمُّ مِنَ الْوَعِيدِ، فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْتِزَامِ الْمُخْبِرِ لِلْمُخْبَرِ بِشَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَافِعٍ أَوْ ضَارٍّ أَوْ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضُرَّ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] . وَالْوَعِيدُ خَاصٌّ بِالضَّارِّ. وَفَعَلُ الْمُضِيِّ هُنَا: إِمَّا لِلْإِخْبَارِ عَنْ وَعِيدٍ تَقَدَّمَ وَعَدَهُ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ تَذْكِيرًا بِهِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِهِ وَإِمَّا لِصَوْغِ الْوَعِيدِ فِي الصِّيغَةِ الَّتِي تَنْشَأُ بِهَا الْعُقُودُ مِثْلَ (بِعْتُ وَوَهَبْتُ) إِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعِيدٌ لَا يَتَخَلَّفُ مِثْلَ الْعَقْدِ وَالِالْتِزَامِ.

[سورة التوبة (9) : آية 69]

وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقْرِيرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ اتِّصَافُهُمْ بِالْحُكْمِ. وَزِيَادَةُ ذِكْرِ الْكُفَّارَ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا بِأَهْوَنَ حَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَدْ جَمَعَ الْكُفْرُ الْفَرِيقَيْنِ. وَمَعْنَى هِيَ حَسْبُهُمْ أَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لَهُمْ. وَأَصْلُ حَسْبُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْكَافِي، وَلَمَّا كَانَ الْكَافِي يُلَازِمُهُ الْمُكَفِّي كُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنِ الْمُلَازَمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسْبُ عَلَى أَصْلِهِ وَيَكُونُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَهَكُّمًا بِهِمْ، كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا النَّعِيمَ، فَقِيلَ: حَسْبُهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ. وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالتَّحْقِيرُ وَالْغَضَبُ. وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ عَذَابَ جَهَنَّمَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ لِدَفْعِ احْتِمَالِ إِطْلَاقِ الْخُلُودِ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: هِيَ حَسْبُهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ عَذَابًا آخَرَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَهِي عَذَابُ الْخِزْيِ وَالْمَذَلَّةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُنَافِقِينَ الْعَذَابَ، وَأَنَّهُمُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُعَذَّبُ إِذَا بَقُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَعْفُوَّ عَنْهَا هُمُ الَّذِينَ يُؤمنُونَ مِنْهُم. [69] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 69] كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) قِيلَ هَذَا الْخِطَابُ الْتِفَاتٌ، عَنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، إِلَى خِطَابِهِمْ لِقَصْدِ التَّفْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ عَنِ الْغُرُورِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةِ الْإِمْهَالِ بِأَنَّ آخِرَ ذَلِكَ حَبْطُ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانُ.

فَكَافُ التَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْخِطَابِ، تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَوِ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الدَّالِّ عَلَى فِعْلِهِ، وَمِثْلُهُ فِي حَذْفِ الْفِعْلِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ: حَتَّى إِذَا الْكَلَّابُ قَالَ لَهَا ... كَالْيَوْمِ مَطْلُوبًا وَلَا طَالِبَا أَرَادَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ، إِلَّا أَنَّ عَامِلَ النَّصْبِ مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْبَيْتِ. وَقِيلَ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يُبَلِّغَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ [التَّوْبَة: 65] الْآيَةَ. فَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا بِقَوْلِهِ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 67] إِلَخْ فَضَمِيرُ الْخِطَابِ لَهُمْ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِدُونِ الْتِفَاتِ وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَشْبِيهِ حَالِهِمْ فِي مَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ وَأَجْمَعُ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ مِمَّنْ ضَرَبَ الْعَرَبُ بِهِمُ الْمَثَلَ فِي الْقُوَّةِ. وأَشَدَّ مَعْنَاهُ أَقْوَى، وَالْقُوَّةُ هُنَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّعْبَةِ كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15] أَوْ يُرَادُ بِهَا الْعِزَّةُ وَعُدَّةُ الْغَلَبِ بِاسْتِكْمَالِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى أُوقِعَتِ الْقُوَّةُ تَمْيِيزَ الْ أَشَدَّ كَمَا أُوقِعَتْ مُضَافًا إِلَيْهِ شَدِيدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: 5] . وَكَثْرَةُ الْأَمْوَالِ لَهَا أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا طِيبُ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَرَعْيُ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ، وَمِنْهَا وَفْرَةُ التِّجَارَةِ بِحُسْنِ مَوْقِعِ الْمَوْطِنِ بَيْنَ مَوَاطِنِ الْأُمَمِ، وَمِنْهَا الِاقْتِرَابُ مِنَ الْبِحَارِ لِلسَّفَرِ إِلَى الْأَقْطَارِ وَصَيْدِ الْبَحْرِ، وَمِنْهَا اشْتِمَالُ الْأَرْضِ عَلَى الْمَعَادِنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالْمَوَادِّ الصِّنَاعِيَّةِ وَالْغِذَائِيَّةِ مِنَ النَّبَاتِ، كَأَشْجَارِ التَّوَابِلِ وَلِحَاءِ الدَّبْغِ وَالصَّبْغِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالزَّرَارِيعِ وَالزُّيُوتِ. وَكَثْرَةُ الْأَوْلَادِ تَأْتِي مِنَ الْأَمْنِ بِسَبَبِ بَقَاءِ الْأَنْفُسِ، وَمِنَ الْخِصْبِ الْمُؤَثِّرِ قُوَّةُ الْأَبْدَانِ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْمَجَاعَاتِ الْمُعَقِّبَةِ لَلْمُوتَانِ، وَمِنْ حُسْنِ الْمُنَاخِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَوْبِئَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَمِنَ الثَّرْوَةِ بِكَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ وَالسَّرَارِي وَالْمَرَاضِعِ.

وَالِاسْتِمْتَاعُ: التَّمَتُّعُ، وَهُوَ نَوَالُ أَحَدِ الْمَتَاعِ الَّذِي بِهِ الْتِذَاذُ الْإِنْسَانِ وَمُلَائِمُهُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ التَّمَتُّعِ. وَالْخَلَاقُ: الْحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [200] . وَتَفَرَّعَ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ عَلَى كانُوا أَشَدَّ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِدْخَالُهُ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَتَفَرَّعَ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ عَلَى مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الْكَافِ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَقْصِدُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ جُمْلَةِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ لَوْلَا قَصْدُ الْمَوْعِظَةِ بِالْفَرِيقَيْنِ: الْمُشَبَّهِ بِهِمْ، وَالْمُشَبَّهِينَ، فِي إِعْرَاضِ كِلَيْهِمَا عَنْ أَخْذِ الْعُدَّةِ لِلْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَفِي انْصِبَابِهِمَا عَلَى التَّمَتُّعِ الْعَاجِلِ فَلَمْ يَكْتَفِ فِي الْكَلَامِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى حَالِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، قَصْدًا لِلِاعْتِنَاءِ بِكِلَيْهِمَا فَذَلِكَ الَّذِي اقْتَضَى هَذَا الْإِطْنَابَ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَهُ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ لَحَصَلَ أَصْلُ الْمَعْنَى وَلَمْ يُسْتَفَدْ قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَقْصِدُ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ لَمْ يُحْتَجَّ إِلَى نَسْجِ مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ فِي قَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا. وَقَوْلُهُ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ تَأْكِيدٌ لِلتَّشْبِيهِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ بِخُصُوصِهِ، مِنْ بَيْنِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، هُوَ مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، فَلَا يَغُرُّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةِ الْإِمْهَالِ وَالِاسْتِدْرَاجِ، فَقَدَّمَ قَوْلَهُ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وَأَتَى بِقَوْلِهِ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مُؤَكِّدًا لَهُ دُونَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا التَّشْبِيهِ الْأَخِيرِ، لِيَتَأَتَّى التَّأْكِيدُ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا يُتَمِّمُ تَصْوِيرَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا الْمُرَكَّبَةِ، قَبْلَ إِيقَاعِ التَّشْبِيهِ، أَشَدُّ تَمْكِينًا لِمَعْنَى الْمُشَابَهَةِ عِنْدَ السَّامِعِ.

وَقَوْلُهُ: كَالَّذِي خاضُوا تَشْبِيهٌ لِخَوْضِ الْمُنَافِقِينَ بِخَوْضِ أُولَئِكَ وَهُوَ الْخَوْضُ الَّذِي حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: 65] وَلِبَسَاطَةِ هَذَا التَّشْبِيهِ لَمْ يُؤْتَ فِيهِ بِمِثْلِ الْأُسْلُوبِ الَّذِي أُتِيَ بِهِ فِي التَّشْبِيهِ السَّابِقِ لَهُ. أَيْ: وَخُضْتُمْ فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوهُ فِي ذَلِكَ، فَأَنْتُمْ وَهَمَ سَوَاءٌ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحِيقَ بِكُمْ مَا حَاقَ بِهِمْ، وَكَلَامُنَا فِي هَذَيْنِ التَّشْبِيهَيْنِ أَدَقُّ مَا كتب فيهمَا. وكَالَّذِي اسْمٌ مَوْصُولٌ، مُفْرَدٌ، وَإِذْ كَانَ عَائِدُ الصِّلَةِ هُنَا ضَمِيرَ جَمْعٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ المُرَاد ب كَالَّذِي: تَأْوِيلُهُ بِالْفَرِيقِ أَوِ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَن يكون كَالَّذِي هُنَا أَصْلُهُ الَّذِينَ فَخُفِّفَ بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى لُغَةِ هُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ كَقَوْلِ الْأَشْهب بن زميلة النَّهْشَلِيِّ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ وَنُحَاةُ الْبَصْرَةِ يَرَوْنَ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ خَاصًّا بِحَالَةِ أَنْ تَطُولَ الصِّلَةُ كَالْبَيْتِ فَلَا يَنْطَبِقُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْآيَةِ، وَنُحَاةُ الْكُوفَةِ يُجَوِّزُونَهُ وَلَوْ لَمْ تَطُلِ الصِّلَةُ، كَمَا فِي الْآيَةِ، وَقَدِ ادَّعَى الْفَرَّاءُ: أَنَّ الَّذِي يَكُونُ مَوْصُولًا حَرْفِيًّا مُؤَوَّلًا بِالْمَصْدَرِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَمَّا وُصِفَتْ حَالَةُ الْمُشَبَّهِ بِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَانُوا جَدِيرِينَ بِمَا سَيُخْبَرُ بِهِ عَنْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، وَفِي هَذَا التَّعْرِيضِ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالنِّذَارَةِ مَعْنًى عَظِيمٌ. وَالْخَوْضُ: تَقَدَّمَتِ الْحَوَالَةُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ آنِفًا. وَالْحَبْطُ: الزَّوَالُ وَالْبُطْلَانُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] . وَالْمُرَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ: مِنْ مُعَالَجَةِ الْأَمْوَالِ وَالْعِيَالِ وَالِانْكِبَابِ عَلَيْهِمَا، وَمَعْنَى حَبْطِهَا فِي الدُّنْيَا اسْتِئْصَالُهَا وَإِتْلَافُهَا بِحُلُولِ مُخْتَلِفِ الْعَذَابِ

[سورة التوبة (9) : آية 70]

بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَدَمِ تَعْوِيضِهَا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: 80]- أَيْ فِي الدُّنْيَا- وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَم: 80]- أَيْ فِي الْآخِرَةِ- لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، كَقَوْلِهِ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الحاقة: 28، 29] . وَفِي هَذَا كُلِّهِ تَذْكِرَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا يَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمْهَلَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ عَفَا عَنْهُمْ. وَلَمَّا كَانَتْ خَسَارَتُهُمْ جَسِيمَةً جُعِلَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَلَا خَاسِرِينَ فَحُصِرَتِ الْخَسَارَةُ فِي هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرًا مَقْصُودًا بِهِ الْمُبَالَغَةُ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَمْيِيزِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذهن السَّامع. [70] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 70] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) عَادَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: فَضَمِيرُ أَلَمْ يَأْتِهِمْ ومِنْ قَبْلِهِمْ عَائِدَانِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: 65] ، أَوِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: 68] . وَالِاسْتِفْهَامُ مُوَجَّهٌ لِلْمُخَاطَبِ تَقْرِيرًا عَنْهُمْ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَتَاهُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي بُلُوغِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [41] ، شُبِّهَ حُصُولُ الْخَبَرِ عِنْدَ الْمُخْبَرِ بِإِتْيَانِ الشَّخْصِ، بِجَامِعِ الْحُصُولِ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: بَلَغَهُ الْخَبَرُ، قَالَ تَعَالَى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] . وَقَوْمُ نُوحٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [59] . وَنُوحٌ: تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [33] . وَعَادٌ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [65] . وَكَذَلِكَ ثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هُمُ الْكَلْدَانِيُّونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَإِضَافَةُ أَصْحابِ إِلَى مَدْيَنَ بِاعْتِبَارِ إِطْلَاقِ اسْمِ مَدْيَنَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي كَانَ يَقْطُنُهَا بَنُو مَدْيَنَ، فَكَمَا أَنَّ مَدْيَنَ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الْأَعْرَاف: 85] كَذَلِكَ هُوَ اسْمٌ لِمَوْطِنِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَدْيَنَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فِي الْأَعْرَافِ [85] . وَالْمُؤْتَفِكاتِ عُطِفَ عَلَى أَصْحابِ مَدْيَنَ، أَيْ نَبَأِ الْمُؤْتَفِكَاتِ، وَهُوَ جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الِائْتِفَاكِ وَهُوَ الِانْقِلَابُ. أَيِ الْقُرَى الَّتِي انْقَلَبَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا: قُرًى صَغِيرَةٌ كَانَتْ مَسَاكِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَهِيَ: سَدُومُ، وَعَمُورَةُ، وَأَدَمَةُ، وَصِبْوِيمُ وَكَانَتْ قُرًى مُتَجَاوِرَةً فَخُسِفَ بِهَا وَصَارَ عَالِيهَا سَافِلَهَا. وَكَانَتْ فِي جِهَاتِ الْأُرْدُنِّ حَوْلَ الْبَحْرِ الْمَيِّتِ، وَنَبَأُ هَؤُلَاءِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ، وَهُوَ خَبَرُ هَلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ بِحَوَادِثَ مَهُولَةٍ. وَجُمْلَةُ: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ تَعْلِيلٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِدَلَائِلَ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ. وَجُمْلَةُ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ، وَالْمُفَرَّعُ هُوَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ إِلَى قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ لِأَنَّ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَى إِتْيَانِ الرُّسُلِ: أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِنَادِ، وَالْمُكَابَرَةِ، وَالتَّكْذِيبِ لِلرُّسُلِ، وَصَمِّ الْآذَانِ عَنِ الْحَقِّ، فَأَخَذَهُمُ

[سورة التوبة (9) : آية 71]

اللَّهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ نُظِمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الأسلوب البديع إِذا ابْتُدِئَ فِيهِ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ ظَلَمَهُمُ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ لِفَرْطِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ صُنْعِهِمْ حَتَّى جَعَلَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُفَرَّعُ وَجَعَلَ الْمُفَرَّعَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى فِي صُورَةِ الِاسْتِدْرَاكِ. وَنُفِيَ الظُّلْمُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، وَهُوَ النَّفْيُ الْمُقْتَرِنُ بِلَامِ الْجُحُودِ، بَعْدَ فِعْلِ الْكَوْنِ الْمَنْفِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ مِنْ سُورَةِ الْعُقُودِ [6] . وَأُثْبِتَ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ لَهُمْ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْكَوْنِ الْمَاضِي، الدَّالِّ عَلَى تَمَكُّنِ الظُّلْمِ مِنْهُمْ مُنْذُ زَمَانٍ مَضَى، وَصِيغَ الظُّلْمُ الْكَائِنُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، أَيْ عَلَى تَكْرِيرِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَزْمِنَة الْمَاضِيَة. [71] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 71] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) هَذِهِ تُقَابِلُ قَوْلَهُ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 67] لِبَيَانِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي يَنَالُهَا الْعَفْوُ هِيَ الْمُلْتَحِقَةُ بِالْمُؤْمِنِينَ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 67] وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ تَسَلْسَلَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ: فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 67] . وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللُّحْمَةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَهُمْ هِيَ وَلَايَةُ الْإِسْلَامِ، فَهُمْ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مُقَلِّدًا لِلْآخَرِ وَلَا تَابِعًا لَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ لِمَا فِي مَعْنَى الْوَلَايَةِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّنَاصُرِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فكأنّ بَعضهم ناشىء مِنْ بَعْضٍ فِي مَذَامِّهِمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 72]

وَزِيدَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا يُقِيمُونَ الصَّلاةَ تَنْوِيهًا بِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ. وَقَوْلُهُ: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] . وَقَوْلُهُ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ نَسُوا اللَّهَ [التَّوْبَة: 67] لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَقْتَضِي مُرَاقَبَةَ الْمُطَاعِ فَهِيَ ضِدُّ النِّسْيَانِ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ فِي الْمُنَافِقين فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] . وَالسِّينُ لِتَأْكِيدِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ يُفِيدُ مَعَ الْمُضَارِعِ مَا تُفِيدُ (قَدْ) مَعَ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] . وَالْإِشَارَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِهِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى لِعِزَّتِهِ يَنْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنَّهُ لِحِكْمَتِهِ يَضَعُ الْجَزَاء لمستحقّه. [72] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 71] ، كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [التَّوْبَة: 68] بَعْدَ قَوْلِهِ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 67] الْآيَةَ. وَهِيَ أَيْضًا كَالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَة: 71] مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: 21] الْآيَةَ.

وَفِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ إِمَّا لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ وَعْدٍ تَقَدَّمَ فِي آيِ الْقُرْآنِ قُصِدَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ التَّذْكِيرُ بِهِ لِتَحْقِيقِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صِيغَ هَذَا الْوَعْدُ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ صِيَغِ الْعُقُودِ مِثْلُ بِعْتُ وَتَصَدَّقْتُ، لِكَوْنِ تِلْكَ الصِّيغَةِ مَعْهُودَةً فِي الِالْتِزَامِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ [التَّوْبَة: 68] . وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ: لِتَقْرِيرِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ لِيَتَمَكَّنَ تَعَلُّقُ الْفِعْلِ بِهِمْ فَضْلَ تَمَكُّنٍ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] . وَعَطْفُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى جَنَّاتٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ قُصُورًا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً، أَيْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خُبْثِ الْمَسَاكِنِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَآثَارِ عِلَاجِ الطَّبْخِ وَنَحْوِهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [الْبَقَرَة: 25] . و (العدن) : الْخُلْدُ وَالِاسْتِقْرَارُ الْمُسْتَمِرُّ، فَجَنَّاتُ عَدْنٍ هِيَ الْجَنَّاتُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلُ، فَذَكَرَهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مَعَ التَّفَنُّنِ فِي التَّعْبِيرِ وَالتَّنْوِيهِ بِالْجَنَّاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِيهَا. وَجُمْلَةُ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالرِّضْوَانُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَيَجُوزُ ضَمُّهَا. وَكَسْرُ الرَّاءِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَضَمُّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَنَظِيرُهُ بِالْكَسْرِ قَلِيلٌ فِي الْمَصَادِرِ ذَاتِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالرِّضَى وَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، كَالْغُفْرَانِ وَالشُّكْرَانِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي رِضْوانٌ لِلتَّنْوِيعِ، يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الرِّضْوَانِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْرَنْ بِلَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِيُتَوَسَّلَ بِالتَّنْكِيرِ إِلَى الْإِشْعَارِ بِالتَّعْظِيمِ فَإِنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمٌ.

[سورة التوبة (9) : آية 73]

وَ (أَكْبَرُ) تَفْضِيلٌ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ أَصْلٌ لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنَ الْجُثْمَانِيَّةِ. وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنِ وَصَفَاتِهِمَا وَالرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ. وَالْقَصْرُ فِي هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْفَوْز بعظيم. [73] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 73] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) لَمَّا أَشْعَرَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: 68] . بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابَيْنِ عَذَابًا أُخْرَوِيًّا وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ عَذَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ، فَلَمَّا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِشَنَائِعِ الْمُنَافِقِينَ وَبِضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِالْأُمَمِ البائدة، أَمر نبيئه بِجِهَادِ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا هُوَ الْجِهَادُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [60، 61] فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فَبَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَرْتَدِعُوا وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُدَّةِ مَا كُشِفَتْ فِيهِ دَخِيلَتُهُمْ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْهُمْ مِنْ بَوَادِرِ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، أَنْجَزَ اللَّهُ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ بِأَنْ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَادِهِمْ. وَالْجِهَادُ الْقِتَالُ لِنَصْرِ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [54] . وَقُرِنَ الْمُنَافِقُونَ هُنَا بِالْكُفَّارِ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ قَدْ تَحَقَّقَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَجِهَادُهُمْ كَجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَرَنَهُمْ فِي الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ [التَّوْبَة: 68] وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ هُنَالِكَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا آخَرَ، لَا جَرَمَ جَمْعَهُمْ عِنْدَ شَرْعِ هَذَا الْعَذَابِ الْآخَرِ لَهُمْ.

فَالْجِهَادُ الْمَأْمُورُ لِلْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَلَفْظُ (الْجِهَادِ) مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَفَائِدَةُ الْقَرْنِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْجِهَادِ: إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْشَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ خَاضِدًا شَوْكَتَهُمْ. وَأَمَّا جِهَادُهُمْ بِالْفِعْلِ فَمُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُظْهِرِينَ الْكُفْرَ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْجِهَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْمُقَاوَمَةِ بِالْحُجَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عِنْدَ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَكَانَ غَالِبُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي عَهْدِ النُّبُوءَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ جِهَادُهُمْ يَنْتَهِي إِلَى الْكَشْرِ فِي وُجُوهِهِمْ. وَحَمَلَهَا الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَنَسَبَهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا بِمَقْنَعٍ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَعْنَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِيذَانٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ النِّفَاقَ يُوجِبُ جِهَادَهُمْ قَطْعًا لِشَأْفَتِهِمْ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَرِّفُهُمْ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَعْرِفُونَ مِنْهُمْ مَنْ تَكَرَّرَتْ بَوَادِرُ أَحْوَالِهِ، وَفَلَتَاتُ مَقَالِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيءُ مُمْسِكًا عَنْ قَتْلِهِمْ سَدًّا لِذَرِيعَةِ دُخُولِ الشَّكِّ فِي الْأَمَانِ عَلَى الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ لِعُمَرَ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» لِأَنَّ الْعَامَّةَ وَالْغَائِبِينَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَا يَبْلُغُونَ بِعِلْمِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْجَارِيَةِ بِالْمَدِينَةِ، فَيَسْتَطِيعُ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ أَنْ يُشَوِّهُوا الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ صُورَةٍ بَشِيعَةٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْحَقِيقَةَ، فَلَمَّا كَثُرَ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَاشْتَهَرَ مِنْ أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا شَكَّ مَعَهُ فِي وَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَاعَ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَخِيَانَتِهِمْ مَا تَسَامَعَتْهُ الْقَبَائِلُ وَتَحَقَّقَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، تَمَحَّضَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ، وَانْتَفَتْ ذَرِيعَةُ تَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَجَلَ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدِ اقْتَرَبَ، وَأَنَّهُ إِنْ بَقِيَتْ بَعْدَهُ هَذِهِ الْفِئَةُ ذَاتُ الْفِتْنَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا وَعَسُرَ تَدَارُكُهَا، وَاقْتَدَى بِهَا كُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، لَا جَرَمَ آذَنَهُمْ بِحَرْبٍ لِيَرْتَدِعُوا وَيُقْلِعُوا عَنِ النِّفَاقِ. وَالَّذِي يُوجِبُ قِتَالَهُمْ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ، أَيْ صَرَّحَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَانِهِ الْكُفْرَ وَسَمِعَهَا الْآخَرُونَ فَرَضُوا بِهَا، وَصَدَرَتْ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ،

وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكْمَةِ الْإِعْلَامِ بِهَذَا الْجِهَادِ تَهْيِئَةَ الْمُسْلِمِينَ لِجِهَادِ كُلِّ قَوْمٍ يَنْقُضُونَ عُرَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا وَإِنَّمَا الزَّكَاةُ حَقُّ الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا نِفَاقٌ مِنْ قَادَتِهِمُ اتَّبَعَهُ دَهْمَاؤُهُمْ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ سَبَبًا فِي انْزِجَارِ مُعْظَمِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ النِّفَارِ وَإِخْلَاصِهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ. وَكَانَ قَدْ كَفَى اللَّهُ شَرَّ مُتَوَلِّي كِبْرِ النِّفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِمَوْتِهِ فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ كَافِيًا عَنْ إِعْمَالِ الْأَمْرِ بِجِهَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الْأَحْزَاب: 25] . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكْفِيرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ قَائِلِهِ أَوْ فَاعِلِهِ دَلَالَةً بَيِّنَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَنَ الْكُفْرَ. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ بِأَنْ يَكُونَ غَلِيظًا مَعَهُمْ. وَالْغِلْظَةُ يَأْتِي مَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [123] . وَإِنَّمَا وُجِّهَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَى الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ جُبِلَ عَلَى الرَّحْمَةِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَتَخَلَّى عَنْ جِبِلَّتِهِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَنْ لَا يُغْضِي عَنْهُمْ كَمَا كَانَ شَأْنُهُ مِنْ قَبْلُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي نَسْخَ إِعْطَاءِ الْكُفَّارِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يَبْقَى ذَلِكَ لِلدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا. وَجُمْلَةُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مَرَّاتٍ. وَالْمَأْوَى مَا يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ مِنَ الْمَكَانِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَالْمَصِيرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ، أَيْ يَرْجِعُ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْوَى بِالِاعْتِبَارِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُنَا تَفَنُّنٌ

[سورة التوبة (9) : آية 74]

[74] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 74] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ. لَمَّا كَانَ مُعْظَمُ مَا أُخِذَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ هُوَ كَلِمَاتٍ دَالَّةً عَلَى الطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْكُفْرِ وَكَانُوا إِذَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ تَنَصَّلُوا مِنْهُ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، عُقِّبَتْ آيَةُ الْأَمْرِ بِجِهَادِهِمْ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا يَتَنَصَّلُونَ بِهِ تَنَصُّلٌ كَاذِبٌ وَأَنْ لَا ثِقَةَ بِحَلِفِهِمْ، وَعَلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي كُفْرِهِمْ. فَجُمْلَةُ يَحْلِفُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا يُثِيرُهُ الْأَمْرُ بِجِهَادِهِمْ مَعَ مُشَاهَدَةِ ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مِنَ التَّنَصُّلِ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُمْ، إِنِ اعْتُبِرَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ تَكْذِيبَهُمْ فِي حَلْفِهِمْ. وَقَدْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالْجِهَادِ إِنِ اعْتُبِرَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا أُخِّرَ لِلِاهْتِمَامِ بِتَكْذِيبِ أَيْمَانِهِمُ ابْتِدَاءً، وَأُتِيَ بِالْمَقْصُودِ فِي صُورَةِ جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَيْدَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا أَنَّ مُعْظَمَ مَا فِي الْجُمْلَةِ هُوَ شَوَاهِدُ كُفْرِهِمْ وَنَقْضِهِمْ عَهْدَ الْإِسْلَامِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ خُصُوصَ تَكْذِيبِهِمْ فِيمَا حَلَفُوا لَاقْتَصَرَ عَلَى إِثْبَاتِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا بَعْدَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَحِقَّةٌ الْفَصْلَ دُونَ الْعَطْفِ. وَمَفْعُولُ مَا قَالُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ. وَأَكَّدَ صُدُورَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، فِي مُقَابَلَةِ تَأْكِيدِهِمْ نَفْيَ صُدُورِهَا، بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِيَكُونَ تَكْذِيبُ قَوْلِهِمْ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِمْ فِي التَّأْكِيدِ. وَكلمَة الْكُفْرِ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْهُ وَمِنْ مِثْلِهِ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ، وَتُطْلَقُ الْكَلِمَةُ عَلَى الْكَلَامِ إِذَا كَانَ كَلَامًا جَامِعًا مُوجَزًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 8] وَفِي الْحَدِيثِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» . فَكَلِمَةُ الْكُفْرِ جِنْسٌ لِكُلِّ كَلَامٍ فِيهِ تَكْذِيبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَالْكَلِمَاتُ الصَّادِرَةُ عَنْهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا، مَا هِيَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ. فَعَنْ قَتَادَةَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَيٍّ إِذْ كَانَ لَا خَبَرَ يُوجِبُ الْحُجَّةَ وَنَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَلِمَةٌ صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ تَدُلُّ عَلَى تَكْذِيبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْجُلَاسَ- بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ- بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحَنُّ أَشَرُّ مِنْ حَمِيرِنَا هَذِهِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ عَنْهُ رَبِيبُهُ النَّبِيءَ فَدَعَاهُ النَّبِيءُ وَسَأَلَهُ عَنْ مَقَالَتِهِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ لِقَوْلِهِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: 8] فَسَعَى بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَسَأَلَهُ فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ يَكُونُ إِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعٍ كِنَايَةً عَنْ إِخْفَاءِ اسْمِ الْقَائِلِ كَمَا يُقَالُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا. وَقَدْ فَعَلَهُ وَاحِدٌ، أَوْ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ وَاحِدٍ وَسَمَاعِ الْبَقِيَّةِ فَجُعِلُوا مُشَارِكِينَ فِي التَّبِعَةِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ وُقُوعِ كَلِمَةٍ مِنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَآمَرُونَ عَلَى مَا يَخْتَلِقُونَهُ. وَكَانَ مَا يَصْدُرُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَلَقَّفُهُ جُلَسَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ وَيُشَارِكُونَهُ فِيهِ. وَأَمَّا إِسْنَادُ الْكُفْرِ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ فَكَذَلِكَ. وَمَعْنَى بَعْدَ إِسْلامِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَ الْإِسْلَامُ إِلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التَّوْبَة: 66] . والهمّ: نِيَّةُ الْفِعْلِ سَوَاءً فُعِلَ أَمْ لَمْ يُفْعَلْ.

وَنَوَالُ الشَّيْءِ حُصُولُهُ، أَيْ هَمُّوا بِشَيْءٍ لَمْ يُحَصِّلُوهُ وَالَّذِي هَمُّوا بِهِ هُوَ الْفَتْكُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ تَوَاثَقَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَتَرَصَّدُوا لَهُ فِي عَقَبَةٍ بِالطَّرِيقِ تَحْتَهَا وَادٍ فَإِذَا اعْتَلَاهَا لَيْلًا يَدْفَعُونَهُ عَنْ رَاحِلَتِهِ إِلَى الْوَادِي وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرًا وَقَدْ أَخَذَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِخِطَامِ رَاحِلَتِهِ يَقُودُهَا. وَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَسُوقُهَا فَأَحَسَّ حُذَيْفَةُ بِهِمْ فَصَاحَ بِهِمْ فَهَرَبُوا. وَجُمْلَةُ: وَما نَقَمُوا عَطْفٌ عَلَى وَلَقَدْ قالُوا أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا يَنْقِمُونَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى دُخُولِ الْإِسْلَامِ الْمَدِينَةَ شَيْئًا يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ آثَارِ الْكَرَاهِيَةِ وَالْعَدَاوَةِ. وَالنَّقْمُ الِامْتِعَاضُ مِنَ الشَّيْءِ وَاسْتِنْكَارُهُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [126] . وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ اسْتِثْنَاءٌ تَهَكُّمِيٌّ. وَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَظْهَرُ كَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ يَنْقُضُ حُكْمَهُ الْخَبَرِيَّ وَنَحْوَهُ فَيَذْكُرُ شَيْئًا هُوَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْحُكْمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ اسْتَقْصَى فَلَمْ يَجِدْ مَا يُنْقِضُهُ. وَإِنَّمَا أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِمَا جَلَبَهُ حُلُولُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ بِكَثْرَةِ عَمَلِ الْمُهَاجِرِينَ وَبِوَفْرَةِ الْغَنَائِمِ فِي الْغَزَوَاتِ وَبِالْأَمْنِ الَّذِي أَدْخَلَهُ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ إِذْ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةً فَانْتَفَتِ الضَّغَائِنُ بَيْنَهُمْ وَالثَّارَاتُ، وَقَدْ كَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءً وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ تَفَانَوْا فِيهَا قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ وَهِيَ حُرُوبُ بُعَاثٍ. وَالْفضل: الزِّيَادَةُ فِي الْبَذْلِ وَالسَّخَاءِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَفِي جَعْلِ الْإِغْنَاءِ مِنَ الْفَضْلِ كِنَايَةٌ عَنْ وَفْرَةِ الشَّيْءِ الْمُغْنَى بِهِ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ يُعْطِي الْجَزْلَ. وَعُطِفَ الرَّسُولُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي فِعْلِ الْإِغْنَاءِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الْمُبَاشِرُ.

فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّوْبَة: 73] عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَالْعَكْسِ فَلَمَّا أُمِرَ بِجِهَادِهِمْ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ وَتَوَعُّدِهِمْ بِالْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مَفْتُوحَةٌ لَهُمْ وَأَنَّ تَدَارُكَ أَمْرِهِمْ فِي مِكْنَتِهِمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِجِهَادِهِمْ قَطْعُ شَأْفَةِ مَضَرَّتِهِمْ أَوْ أَنْ يَصْلُحَ حَالُهُمْ. وَالتَّوْبَةُ هِيَ إِخْلَاصُهُمُ الْأَيْمَانَ. وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي يَكُ عَائِدٌ إِلَى مَصْدَرِ يَتُوبُوا وَهُوَ التَّوْبُ. وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ التَّوْبَةِ. وَالْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا عَذَابُ الْجِهَادِ وَالْأَسْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ يَكُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ يَتُوبُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ وُقُوعِ الْخَيْرِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْخَيْرُ إِلَّا عِنْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ فِعْلَ التَّكْوِينِ مُؤْذِنٌ بِذَلِكَ. وَحَذْفُ نُونِ «يَكُنْ» لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهَا لِسُكُونِهَا تَهَيَّأَتْ لِلْحَذْفِ وَحَسَّنَهُ وُقُوعُ حَرَكَةٍ بَعْدَهَا وَالْحَرَكَةُ ثَقِيلَةٌ فَلِذَلِكَ شَاعَ حَذْفُ هَذِهِ النُّونِ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [40] . وَجُمْلَةُ: وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ إِلَخْ فَتَكُونُ جَوَابًا ثَانِيًا لِلشَّرْطِ، وَلَا يَرِيبُكَ أَنَّهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ لَا تَصْلُحُ لِمُبَاشَرَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ بِدُونِ فَاءٍ رَابِطَةٍ. لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ فَإِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ كَافٍ فِي رَبْطِ الْجُمْلَةِ تَبَعًا لِلْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ الْقَبَائِلِ إِذْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مَنْ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْوَلِيِّ النَّافِعِ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ الْوَلِيِّ وَأَمَّا مَنْ لَا يَنْفَعُ فَهُوَ حَبِيبٌ وَوَدُودٌ وَلَيْسَ بالولي.

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 77]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : الْآيَات 75 إِلَى 77] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) قِيلَ: نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِسَعَةِ الرِّزْقِ فَدَعَا لَهُ فَأَثْرَى إِثْرَاءً كَثِيرًا فَلَمَّا جَاءَهُ الْمُصَّدِّقُونَ لِيُعْطِيَ زَكَاةَ أَنْعَامِهِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ نَدِمَ فَجَاءَ بِصَدَقَتِهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ. وَذَكَرُوا مِنْ قِصَّتِهِ أَنَّهُ تَابَ وَلَكِنْ لَمْ تُقْبَلْ صَدَقَتُهُ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ وَلَا فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ عُقُوبَةً لَهُ وَإِظْهَارًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ فِي لَنَصَدَّقَنَّ وَمَا بَعْدَهُ مُرَادٌ بِهَا وَاحِد وإنّما نسبت الْفِعْلُ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي إِلْصَاقِ فِعْلِ الْوَاحِدِ بِقَبِيلَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ثَعْلَبَةَ سَأَلَ ذَلِكَ فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِثْلُ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ فَأُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ ثَعْلَبَةُ وَبَخِلَ مِثْلَ مَا بَخِلَ وَإِن لم تجىء فِيهِ قِصَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ لَنَصَّدَّقَنَّ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ عاهَدَ اللَّهَ وَفِعْلُ لَنَصَّدَّقَنَّ أَصْلُهُ لَنَتَصَدَّقَنَّ فَأُدْغِمَ لِلتَّخْفِيفِ. والإعراض: إِعْرَاضُهُمْ عَنْ عَهْدِهِمْ وَعَنْ شُكْرِ نعْمَة ربّهم. وفَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً جَعَلَ نِفَاقًا عَقِبَ ذَلِكَ أَيْ إِثْرَهُ وَلَمَّا ضَمِنَ أَعْقَبَ مَعْنَى أَعْطَى نَصْبَ مَفْعُولَيْنِ وَالْأَصْلُ أَعْقَبَهُمْ بِنِفَاقٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي أَعْقَبَهُمْ لِلْمَذْكُورِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، أَوْ لِلْبُخْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ بَخِلُوا، فَإِسْنَادُ الْإِعْقَابِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَوْ يَعُودُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ أَيْ جَعَلَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ سَبَبًا فِي بَقَاءِ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى مَوْتِهِمْ،

وَذَلِكَ جَزَاءُ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ. وَهَذَا يَقْتَضِي إِلَى أَنَّ ثَعْلَبَةَ أَوْ مُعَتِّبًا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَنَّ حِرْصَهُ عَلَى دَفْعِ صَدَقَتِهِ رِيَاءٌ وَتَقِيَّةٌ وَكَيْفَ وَقَدْ عُدَّ كِلَاهُمَا فِي الصَّحَابَةِ وَأَوَّلُهُمَا فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: هُمَا آخَرَانِ غَيْرُهُمَا وَافَقَا فِي الِاسْمِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ النِّفَاقُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَوْجُودٌ فِي عصر النبوءة كَقَوْلِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «نَافَقَ حَنْظَلَةُ» . وَذَكَرَ ارْتِكَابَهُ فِي خَاصَّتِهِ مَا ظَنَّهُ مَعْصِيَةً وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَبَقُوا يَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ خِلَافَ حَالِ أَصْحَابِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقد يومىء إِلَى هَذَا تَنْكِيرُ نِفاقاً الْمُفِيدُ أَنَّهُ نِفَاقٌ جَدِيدٌ وَإِلَّا فَقَدَ ذُكِرُوا مُنَافِقِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ النِّفَاقُ حَاصِلًا لَهُمْ عَقِبَ فِعْلِهِمْ هَذَا. وَاللِّقَاءُ مُصَادَفَةُ الشَّيْءِ شَيْئًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. فَمَعْنَى إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ لِأَنَّهُ يَوْمُ لِقَاءِ اللَّهِ لِلْحِسَابِ، أَوْ إِلَى يَوْمِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لِقَاءُ اللَّهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ مَحَبَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ اللِّقَاءَ يَقْتَضِي الرُّؤْيَةَ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ من سُورَةِ الْأَحْزَابِ [44] فَنَقَضَ عَلَيْهِم الجبّائي بقول: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ. وَقَدْ تَصَدَّى الْفَخْرُ لِإِبْطَالِ النَّقْضِ بِمَا يُصَيِّرُ الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفًا، وَالْحَقُّ أَنَّ اللِّقَاءَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرُّؤْيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي «نَفْحِ الطِّيبِ» فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ قِصَّةً فِي الِاسْتِدْلَالِ بِآيَةِ الْأَحْزَابِ عَلَى بَعْضِ مُعْتَزِلَةِ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَضَ الْحَنْبَلِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمْ وَعْدَ رَبِّهِمْ وَكَذِبِهِمْ. وَعَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمْ بِصِيغَةِ كانُوا يَكْذِبُونَ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ كَائِنٌ فِيهِمْ وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَدَلَالَةُ الْمُضَارِعِ عَلَى تَكَرُّرِهِ وَتَجَدُّدِهِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْ إِحْدَاثِ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ وَيَزْدَادُ الْفَسَادُ تَمَكُّنًّا مِنَ النَّفْسِ بِطَبِيعَةِ التَّوَلُّدِ الَّذِي هُوَ ناموس الْوُجُود.

[سورة التوبة (9) : آية 78]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 78] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) اسْتِئْنَافٌ لِأَجْلِ التَّقْرِيرِ. وَالْكَلَامُ تَقْرِيرٌ لِلْمُخَاطَبِ عَنْهُمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِذَلِكَ مَعْرُوفٌ لَدَى كُلِّ سَامِعٍ. وَالسِّرُّ مَا يُخْفِيهِ الْمَرْءُ مِنْ كَلَامٍ وَمَا يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [274] . وَالنَّجْوَى: الْمُحَادَثَةُ بِخَفَاءٍ أَيْ يَعْلَمُ مَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَتَحَادَثُونَ بِهِ حَدِيثَ سِرٍّ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ. وَإِنَّمَا عُطِفَتِ النَّجْوَى عَلَى السِّرِّ مَعَ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهَا لِيُنْبِئَهُمْ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مِنَ الْكَيْدِ وَالطَّعْنِ. ثُمَّ عَمَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أَيْ قَوِيٌّ عِلْمُهُ لِجَمِيعِ الْغُيُوبِ. وَالْغُيُوبُ: جَمْعُ غَيْبٍ وَهُوَ مَا خَفِيَ وَغَابَ عَنِ الْعِيَانِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [3] . [79] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 79] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَادِثٍ حَدَثَ فِي مُدَّةِ نُزُولِ السُّورَةِ، ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَجَاءَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِأَوْسُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْ تَمْرٍ، وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَعْطَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَاصِمٌ إِلَّا رِيَاءً وَأَحَبَّ أَبُو عَقِيلٍ أَنْ يُذَكِّرَ بِنَفْسِهِ لِيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ.

فَالَّذِينَ يَلْمِزُونَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ. واللمز: الطَّعْنُ. وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 58] . وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- كَمَا قَرَأَ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 58] . والْمُطَّوِّعِينَ أَصْلُهُ الْمُتَطَوِّعِينَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِجَعْلِ سَبَبِ اللَّمْزِ كَالظَّرْفِ لِلْمُسَبَّبِ. وَعُطِفَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ وَهُمْ مِنْهُمُ، اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ والجهد- بِضَمِّ الْجِيمِ- الطَّاقَةُ. وَأُطْلِقَتِ الطَّاقَةُ عَلَى مُسَبَّبِهَا النَّاشِئِ عَنْهَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَجِدُونَ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: الصَّدَقاتِ أَيْ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ إِلَّا جُهْدَهُمْ. وَالْمُرَادُ لَا يَجِدُونَ سَبِيلًا إِلَى إِيجَادِ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ إِلَّا طَاقَتَهُمْ، أَيْ جُهْدَ أَبْدَانِهِمْ. أَوْ يَكُونُ وَجَدَ هُنَا هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى كَانَ ذَا جِدَّةٍ، أَيْ غِنًى فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ إِلَّا جُهْدَهُمْ وَهَذَا أَحْسَنُ. وَفِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَمَلِ وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَالِ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اعْتِبَارِ أُصُولِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْعَامِلِ. والسخرية: الِاسْتِهْزَاءُ. يُقَالُ: سَخِرَ مِنْهُ، أَيْ حَصَلَتِ السُّخْرِيَةُ لَهُ من كَذَا، فَمن اتِّصَالِيَّةٌ. وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ فِي يَلْمِزُونَ وَيَسْخَرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَرُّرِ. وَإِسْنَادُ سَخِرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الَّذِي حَسَّنَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ لِفِعْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةً تُشْبِهُ سُخْرِيَةَ السَّاخِرِ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ظَاهِرِهِمْ زَمَنًا ثُمَّ أَمْرِهِ بِفَضْحِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، أَيِ احْتَقَرَهُمْ وَلَعَنَهُمْ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ حَاصِلًا مِنْ قَبْلُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي فِي سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 80]

وَجُمْلَةُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ سَخِرَ مِنْهُمْ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَة. [80] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 80] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، وَإِنَّمَا كَانَ نُزُولُهُ لِسَبَبٍ حَدَثَ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمَحْكِيَّةِ بِالْآيَاتِ السَّالِفَةِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ. رَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ بَعْضُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التَّوْبَة: 79] . قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: اسْتَغْفِرْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْ مِمَّنْ صَدَرَ مِنْهُ عَمَلٌ وُبِّخُوا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ تَصْرِيحٍ بِأَنَّ فَاعِلَهُ مُنَافِقٌ فَوَعَدَهُمُ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلَّذِينَ سَأَلُوهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ، فَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ، أَي طلب محوما عُدَّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ ذَنْبٌ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ اسْتِغْفَارٌ مِنْ ظَاهِرِ إِيهَامِ أَفْعَالِهِمْ. وَعَنِ الْأَصَمِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولَ لَمَّا ظَهَرَ مَا ظَهَرَ مِنْ نِفَاقِهِ وَتَنَكَّرَ النَّاسُ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي اسْتَغْفَرَ لِي أَمْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لِي. فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ [5، 6] : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ يَعْنِي فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةً لِآيَةِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ حُدُوثِ مِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ.

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَعُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولَ مَرِضَ فَسَأَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَفَعَلَ. فَنَزَلَتْ. فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَخَّصَ لِي فَسَأَزِيدُ عَلَى السَبْعِينَ فَنَزَلَتْ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المُنَافِقُونَ: 6] . وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِآيَةِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَفِيهَا أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ فِي حَقِّهِمْ. تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ غَيْرِ الْمُؤَكَّدِ وَبَعَثَتْهُ رَحْمَتُهُ بِالنَّاسِ وَحِرْصُهُ عَلَى هُدَاهُمْ وَتَكَدُّرُهُ مِنَ اعْتِرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُنَافِقِينَ اسْتِغْفَارًا مُكَرَّرًا مُؤَكَّدًا عَسَى أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَزُولَ عَنْهُمْ غَضَبُهُ تَعَالَى فَيَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ الْحَقِّ. بِمَا أَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ لِأَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَلَوْ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ قَدْ يَجُرُّ إِلَى تَعَلُّقِ هَدْيِهِ بِقُلُوبِهِمْ بِأَقَلِّ سَبَبٍ، فَيَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَأْيِيسًا مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، أَيْ عَنِ الْبَقِيَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْهُمْ تَأْيِيسًا لَهُمْ وَلِمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِمَّنِ اطَّلَعَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ فَاغْتَبَطَ بِحَالِهِمْ بِأَنَّهُمُ انْتَفَعُوا بِصُحْبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَالْآيَةُ تَأْيِيسٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ الْمُرَادُ مِنْهَا لَازِمُهَا وَهُوَ عَدَمُ الْحَذَرِ مِنَ الْأَمْرِ الْمُبَاحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِفَادَةُ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ الَّتِي تَرُدُّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِإِفَادَتِهَا كَثِيرًا، وَعَدَّ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي مَعَانِي صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطّور: 16] . فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَمَوْقِعُهُ غَرِيبٌ وَلَمْ يُعْنَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُعْرِبُونَ بِبَيَانِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ بَعْدَ لَا مَجْزُومًا يَجْعَلُهُ فِي صُورَةِ النَّهْيِ، وَمَعْنَى النَّهْيِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَا يُسْتَعْمَلُ النَّهْيُ فِي مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ. فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ مَعْنًى يُعَادِلُ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ الَّتِي اسْتُعْمِلَ فِيهَا الْأَمْرُ. وَلِذَلِكَ لَمْ نَرَ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يَذْكُرُونَ التَّسْوِيَةَ فِي مَعَانِي صِيغَةِ النَّهْيِ كَمَا ذَكَرُوهَا فِي مَعَانِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَا نَافِيَةً وَيَكُونَ جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ فَإِنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ مَجْزُومٌ بِلَامِ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتَارَهُ

الْأَخْفَشُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، وَابْنُ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ الْأَحْوَصِ، شَيْخُ أَبِي حَيَّانَ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَبْنِيًّا لَلَزِمَ حَالَةً وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ أَحْوَالَ آخِرِهِ جَارِيَةٌ عَلَى أَحْوَالِ عَلَامَاتِ الْجَزْمِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ مُلَاحَظًا فِي كَلَامِهِمْ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ بِالْجَزْمِ عَلَى التَّوَهُّمِ. وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَزْمِ الْفِعْلِ لَوْ كَانَ كَذَلِك، لَا سِيمَا وَالْأَمْرُ مُؤَوَّلٌ بِالْخَبَرِ، ثُمَّ إِنَّ مَا أَفَادَهُ حَرْفُ التَّخْيِيرِ قَدْ دَلَّ عَلَى تَخْيِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ عَلَى كِلَيْهِمَا. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ النَّهْيِ اسْتُعْمِلَتْ لِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ لِأَنَّهَا قَارَنَتِ الْأَمْرَ الدَّالَّ عَلَى إِرَادَةِ التَّسْوِيَةِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: أَمْرُكَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَنَهْيُكَ عَنْهُ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ مُرَادَهُ فِيهِمْ سَوَاءٌ فُعِلَ الْمَأْمُورُ أَوْ فُعِلَ الْمَنْهِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلَانِ مَعْمُولَيْنِ لِفِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ لَكَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ نَقُولُ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. وسَبْعِينَ مَرَّةً غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ الْمِقْدَارُ مِنَ الْعَدَدِ بَلْ هَذَا الِاسْمُ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ. قَالَ «الْكَشَّافُ» : «السَبْعُونَ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَلَامِهِمْ لِلتَّكَثُّرِ» . وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ» . وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَسَأَزِيدُ عَلَى السَبْعِينَ» فَهُوَ تَوَهُّمٌ مِنَ الرَّاوِي لِمُنَافَاتِهِ رِوَايَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرِوَايَةُ عُمَرَ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَلِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ تُرْوَ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيِّ. وَانْتَصَبَ سَبْعِينَ مَرَّةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ الْعَدَدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ مَرَّةٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [13] . وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ نِفَاقَهُمْ وَأَعْلَمَ نَبِيئَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِهِمْ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَهُمْ مُسْلِمِينَ اغْتِرَارًا بِظَاهِرِ حَالِهِمْ.

وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ ظَاهِرِ حَالِهِمْ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقُرْآنُ يَنْعَتُهُمْ بِسِيمَاهُمْ كَيْلَا يَطْمَئِنَّ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلِيَأْخُذُوا الْحِذْرَ مِنْهُمْ، فَبِذَلِكَ قُضِيَ حَقُّ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْجَرْيِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ اخْتَلَفَ أُسْلُوبُ التَّأْيِيسِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ بَيْنَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا فِي آيَةِ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 113] لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كُفْرُهُمْ ظَاهِرٌ فَجَاءَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ صَرِيحًا، وَكُفْرُ الْمُنَافِقِينَ خَفِيٌّ فَجَاءَ التَّأْيِيسُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ مَنُوطًا بِوَصْفٍ يَعْلَمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَعْلَمُهُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِمَنْ يَسْأَلُهُ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَكُونَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ إِعْلَامًا بِبَاطِنِ حَالِهِ الَّذِي اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ عَدَمَ كَشْفِهِ. وَقَالَ فِي أَبِي طَالِبٍ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَلَمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ أَمْسَكَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْجِنَازَةِ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَأَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ كَرَامَةً لِابْنِهِ وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ» ، أَيْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيٌ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، فَكَانَ لِصَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِ لَهُمْ حِكْمَةٌ غَيْرُ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بَلْ لِمَصَالِحَ أُخْرَى، وَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِأَضْعَفِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي صِيغَةِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ عَدَدِ سَبْعِينَ مَرَّةً اسْتِقْصَاءً لِمَظِنَّةِ الرَّحْمَةِ عَلَى نَحْوِ مَا أَصَّلْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا لِانْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَكُفْرُهُمْ بِاللَّهِ هُوَ الشِّرْكُ. وَكُفْرُهُمْ بِرَسُولِهِ جَحْدُهُمْ رِسَالَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَاحِدَ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَافِرٌ.

[سورة التوبة (9) : آية 81]

وَمَعْنَى وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُ لَهُمُ الْهَدْيَ إِلَى الْإِيمَانِ لِأَجْلِ فِسْقِهِمْ، أَيْ بُعْدِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي أَدِلَّةِ النُّبُوءَةِ، وَعَنِ الْإِنْصَافِ فِي الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْدَنُهُ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَقْبَلُ الْهُدَى فَمَعْنَى لَا يَهْدِي لَا يَخْلُقُ الْهُدَى فِي قُلُوبهم. [81] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا حَصَلَ لِلْمُنَافِقِينَ عِنْدَ الِاسْتِنْفَارِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخَلَّفِينَ خُصُوصُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فَرَحَهُمْ بِتَخَلُّفِهِمْ قَدْ قَوِيَ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنُّوا أَنَّهُمُ اسْتَغْفَلُوهُ فَقَضَوْا مَأْرَبَهُمْ ثُمَّ حَصَّلُوا الِاسْتِغْفَارَ ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنَّ مُعَامَلَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ. فَالْمُخَلَّفُونَ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَأْذَنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُمْ وَكَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ وَصْفُ الْمُخَلَّفِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّ النَّبِيءَ خَلَّفَهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ إِلَّا لِعِلْمِهِ بِفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا كَمَا قَالَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَة: 47] . وَذِكْرُ فَرَحِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَكَانَ التَّخَلُّفُ نَكَدًا عَلَيْهِمْ وَنَغْصًا كَمَا وَقَعَ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالْمَقْعَدُ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ بِقُعُودِهِمْ. وخِلافَ لُغَةٌ فِي خَلْفَ. يُقَالُ: أَقَامَ خِلَافَ الْحَيِّ بِمَعْنَى بَعْدَهُمْ، أَيْ ظَعَنُوا وَلَمْ يَظْعَنْ. وَمِنْ نُكْتَةِ اخْتِيَارِ لَفْظِ خِلَافٍ دُونَ خَلْفَ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قُعُودَهُمْ كَانَ

[سورة التوبة (9) : آية 82]

مُخَالَفَةً لِإِرَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ حِينَ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْغَزْوِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَيْ بِمَقْعَدِهِمْ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ. وَكَرَاهِيَتُهُمُ الْجِهَادَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَصْلَةٌ أُخْرَى مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 41] الْآيَةَ، وَلِكَوْنِهَا خَصْلَةً أُخْرَى جُعِلَتْ جُمْلَتُهَا مَعْطُوفَةً وَلَمْ تُجْعَلْ مُقْتَرِنَةً بِلَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ أَنَّ فَرَحَهُمْ بِالْقُعُودِ سَبَبُهُ هُوَ الْكَرَاهِيَةُ لِلْجِهَادِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ خِطَابُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي وَقْتِ الْحَرِّ حِينَ طَابَتِ الظِّلَالُ. وَجُمْلَةُ: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ قَرْعُ أَسْمَاعِهِمْ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَكَوْنُ نَارِ جَهَنَّمَ أَشَدَّ حَرًّا مِنْ حَرِّ الْقَيْظِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ تَعْرِيضًا بِتَجْهِيلِهِمْ لِأَنَّهُمْ حَذِرُوا مِنْ حَرٍّ قَلِيلٍ وَأَقْحَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا يَصِيرُ بِهِمْ إِلَى حَرٍّ أَشَدَّ. فَيَكُونُ هَذَا التَّذْكِيرُ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ وَاقِعِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِأَجْلِ قُعُودِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ فِي الْحَرِّ، وَفِيهِ كِنَايَةٌ عُرْضِيَّةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ صَائِرِينَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ. وَجُمْلَةُ: لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تَتْمِيمٌ، لِلتَّجْهِيلِ وَالتَّذْكِيرِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ الذِّكْرَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، فَلَا تُجْدِي فِيهِمُ الذكرى وَالْمَوْعِظَة، إِذا لَيْسَ الْمُرَادُ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ وَلَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يفقهُونَ ذَلِك. [82] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 82] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) تَفْرِيعُ كَلَامٍ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ ذِكْرِ فَرَحِهِمْ، وَمِنْ إِفَادَةِ قَوْلِهِ: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التَّوْبَة: 81] مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا وَصَائِرُونَ إِلَيْهَا.

[سورة التوبة (9) : آية 83]

وَالضَّحِكُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرَحِ أَوْ أُرِيدَ ضَحِكُهُمْ فَرَحًا لِاعْتِقَادِهِمْ تَرْوِيجَ حِيلَتِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَذِنَ لَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ. وَالْبُكَاءُ: كِنَايَةٌ عَنْ حُزْنِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَالْأَمْرُ بِالضَّحِكِ وَبِالْبُكَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِخْبَارِ بِحُصُولِهِمَا قَطْعًا إِذْ جُعِلَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَوْ هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [الْبَقَرَة: 243] وَالْمَعْنَى أَنَّ فَرَحَهُمْ زَائِلٌ وَأَنَّ بُكَاءَهُمْ دَائِمٌ. وَالضَّحِكُ: كَيْفِيَّةٌ فِي الْفَمِ تَتَمَدَّدَ مِنْهَا الشَّفَتَانِ وَرُبَّمَا أَسْفَرَتَا عَنِ الْأَسْنَانِ وَهِيَ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ عِنْدَ السُّرُورِ وَالتَّعَجُّبِ مِنَ الْحُسْنِ. وَالْبُكَاءُ: كَيْفِيَّةٌ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ تَنْقَبِضُ بِهَا الْوَجْنَتَانِ وَالْأَسَارِيرُ وَالْأَنْفُ. وَيَسِيلُ الدَّمْعُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ، وَذَلِكَ يَعْرِضُ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْعَجْزِ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْغَلَبِ. وَقَوْلُهُ: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِمْ، أَيْ جَزَاءً لَهُمْ، وَالْمَجْعُولُ جَزَاءً هُوَ الْبُكَاءُ الْمُعَاقِبُ لِلضَّحِكِ الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ سَلَبَ نِعْمَةً بِنِقْمَةٍ عَظِيمَةٍ. وَمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ هُوَ أَعْمَالُ نِفَاقِهِمْ، وَاخْتِيرَ الْمَوْصُولُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ مَعَ الْإِيجَازِ. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ، وَصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يَكْسِبُونَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التَّوْبَة: 70] . [83] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا آذَنَ بِهِ قَوْلُهُ: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التَّوْبَة: 81] إِذْ فُرِّعَ عَلَى الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ عِقَابٌ آخَرُ لَهُمْ، بِإِبْعَادِهِمْ عَنْ مُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ. وَفِعْلُ رَجَعَ يَكُونُ قَاصِرًا ومتعدّيا مرادفا لأرجع. وَهُوَ هُنَا مُتَعَدٍّ، أَيْ أَرْجَعَكَ اللَّهُ.

وَجُعِلَ الْإِرْجَاعُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُخَلَّفِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِرْجَاعُ إِلَى الْحَدِيثِ مَعَهُمْ فِي مِثْلِ الْقِصَّةِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ مُعَامَلَتِهِ مَعَ طَائِفَةٍ، اخْتُصِرَ الْكَلَامُ، فَقِيلَ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِرْجَاعَ الْحَقِيقِيَّ كَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَجَعَلُوهُ الْإِرْجَاعَ مِنْ سَفَرِ تَبُوكَ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ بَلِ الْمُرَادُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ تَكَرَّرَ الْخَوْضُ مَعَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى. وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [154] . أَوْ قَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أَيْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ يَبْتَغُونَ الْخُرُوجَ لِلْغَزْوِ، فَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لِلْغَزْوِ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ تَابُوا وَأَسْلَمُوا فَاسْتَأْذَنُوا لِلْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ لِلْخَوْفِ مِنْ غَدْرِهِمْ إِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّأْدِيبِ لَهُمْ إِنْ كَانُوا قَدْ تَابُوا وَآمَنُوا. وَمَا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ صَالِحٌ لِلْوَجْهَيْنِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ بِ لَنْ وَبَيْنَ كَلِمَةِ أَبَداً تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى لَنْ لِانْتِفَاءِ خُرُوجِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتِّعْدَادِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ إِنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْقُعُودَ وَتَرْضَوْنَ بِهِ فَقَدْ زِدْتُكُمْ مِنْهُ. وَفِعْلُ: رَضِيتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْقُعُودِ عَمَلٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْبَاهُ النَّاسُ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى ارْتِكَابِهِ فِعْلُ رَضِيَ الْمُشْعِرُ بِالْمُحَاوَلَةِ وَالْمُرَاوَضَةِ. جُعِلُوا كَالَّذِي يُحَاوِلُ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ وَتَأْبَى حَتَّى يُرْضِيَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 38] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُنَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الْمَرَّةَ هُنَا لَمَّا كَانَتْ فِي زَمَنٍ مَعْرُوفٍ لَهُمْ وَهُوَ زَمَنُ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ ضَمِنَتْ مَعْنَى الزَّمَانِ. وَانْتِصَابُ الْمَصْدَرِ بِالنِّيَابَةِ عَنِ

[سورة التوبة (9) : آية 84]

اسْمِ الزَّمَانِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ انْتِصَابِهَا فِي قَوْله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التَّوْبَة: 13] وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التَّوْبَة: 80] كَمَا تَقَدَّمَ. وأَوَّلَ مَرَّةٍ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ الَّتِي تَخَلَّفُوا عَنْهَا. وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ وَلَوْ كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُفْرَدٍ وَلَا مُذَكَّرٍ لِأَنَّ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ دَلَالَةً عَلَى الْمَقْصُودِ كَافِيَةً. وَالْفَاءُ فِي فَاقْعُدُوا تَفْرِيعٌ عَلَى إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ، أَيْ لَمَّا اخْتَرْتُمُ الْقُعُودَ لِأَنْفُسِكُمْ فَاقْعُدُوا الْآنَ لِأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ التَّخَلُّفَ. والْخالِفِينَ جَمْعُ خَالِفٍ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ الْغَازِيَ فِي أَهْلِهِ وَكَانُوا يَتْرُكُونَ لِذَلِكَ. مَنْ لَا غَنَاءَ لَهُ فِي الْحَرْبِ. فَكَوْنُهُمْ مَعَ الْخَالِفِينَ تعيير لَهُم. [84] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 84] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ النَّاشِئِ، عَنِ الِاعْتِذَارِ وَالْحَلِفِ الْكَاذِبَيْنِ وَكَانَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ مَشُوبًا بِصُورَةِ التَّخْيِيرِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ يُبْقِي شَيْئًا مِنْ طَمَعِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ الْمُعَامَلَةَ الرَّبَّانِيَّةَ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَالْأَلْفَاظِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ [التَّوْبَة: 81] ، تَهَيَّأَ الْحَالُ لِلتَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ. فَجُمْلَةُ وَلا تُصَلِّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] عَطْفُ كَلَامٍ مُرَادٍ إِلْحَاقُهُ بِكَلَامٍ آخَرَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْزِلُ مُرَاعًى فِيهِ مَوَاقِعُ وَضْعِ الْآيِ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ الذِّكْرِ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ

لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» . قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ فاسِقُونَ قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ اه» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ إِكْرَامًا لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَتَأْلِيفًا لِلْخَزْرَجِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ صِفَةُ أَحَدٍ. وَجُمْلَةُ ماتَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ أَحَدٍ. وَمَعْنَى وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لَا تَقِفْ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْنِهِ لِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي دَفْنِ الْمُسْلِمِ حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَتَرْكُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ وَحُضُورَ دَفْنِهِمْ إِعْلَانٌ بِكُفْرِ مَنْ تُرِكَ ذَلِكَ لَهُ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تَعْلِيلِيَّةٌ وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ وَقَدْ أَغْنَى وُجُودُ (إِنَّ) فِي أَوَّلِهَا عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ. وَالْفِسْقُ مُرَادٌ بِهِ الْكُفْرُ فَالتَّعْبِيرُ بِ فاسِقُونَ عِوَضَ (كَافِرُونَ) مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُفَسَّرَ الْفِسْقُ هُنَا بِالْخُرُوجِ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، أَيْ بِصُورَةِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْفِسْقِ مَعْنًى أَشْنَعَ مِنَ الْكُفْرِ. وَضَمَائِرُ إِنَّهُمْ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ عَائِد إِلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ عَامٌّ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَالنَّهْيُ كَالنَّفْيِ. وَأَمَّا وَصْفُهُ بِالْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ ماتَ فَجَرَى عَلَى لَفْظِ الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ أَصْلَ الصِّفَةِ مُطَابقَة الْمَوْصُوف.

[سورة التوبة (9) : آية 85]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 85] وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، أَيْ لَا تُعْجِبْكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ مَا يَدُلُّ عَلَى شَقَاوَتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَصَّلُوا سَعَادَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَخَسِرُوا الْآخِرَةَ. وَرُبَّمَا كَانَ فِي ذَلِكَ حَيْرَةٌ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا: كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَهُمْ أعداؤه وبغضاء نبيئه. وَرُبَّمَا كَانَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَسْلَاةٌ لَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَإِنْ كَانَتْ فِي صُورَةِ النِّعْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ نِقْمَةٌ وَعَذَابٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عَذَّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِأَنْ سَلَبَهُمْ طُمَأْنِينَةَ الْبَالِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا اكْتَسَبُوا عَدَاوَةَ الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْذَرُونَ أَنْ يُغْرِيَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهِمْ فَيَسْتَأْصِلَهُمْ، كَمَا قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَاب: 60، 61] ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا إِلَى مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يَصِيرُونَ بِهِ إِلَى الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ ذِكْرِ شُحِّهِمْ بِالنَّفَقَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التَّوْبَة: 53] الْآيَتَيْنِ، فَأُفِيدَ هُنَالِكَ عَدَمُ انْتِفَاعِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنَّهَا عَذَابٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أُعِيدَتِ الْآيَةُ بِغَالِبِ أَلْفَاظِهَا هُنَا تَأْكِيدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ إِبْلَاغًا فِي نَفْيِ الْفِتْنَةِ وَالْحَيْرَةِ عَنِ النَّاسِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَالَفَتِ السَّابِقَةَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ جَاءَ الْعَطْفُ فِي أَوَّلِهَا بِالْوَاوِ وَالْأُخْرَى عُطِفَتْ بِالْفَاءِ. وَمُنَاسَبَةُ التَّفْرِيعِ هُنَالِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَمُنَاسَبَةُ عَدَمِ التَّفْرِيعِ هُنَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هَذِهِ لَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ فَقَطْ.

[سورة التوبة (9) : آية 86]

ثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عُطِفَ فِيهَا الْأَوْلَادُ عَلَى الْأَمْوَالِ بِدُونِ إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وَفِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ أُعِيدَتْ (لَا) النَّافِيَةُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْأَوْلَادِ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ لِمُجَرَّدِ التَّكْمِلَةِ وَالِاسْتِطْرَادِ إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ ذَمِّ أَمْوَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا فَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الْأَوْلَادِ تَكْمِلَةً كَانَ شَبِيهًا بِالْأَمْرِ الْمُسْتَقِلِّ فَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ فِي عَطْفِهِ، بِخِلَافِ مَقَامِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ مَعًا مَقْصُودٌ تَحْقِيرُهُمَا فِي نَظَرِ الْمُسْلِمِينَ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَاءَ هُنَا قَوْلُهُ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِإِظْهَارِ أَنْ دُونَ لَامٍ، وَفِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [التَّوْبَة: 55] بِذِكْرِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَحَذْفِ (أَنْ) بَعْدَهَا وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاسْتِعْمَالَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26، 27] . وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) كَثِيرٌ. وَهُنَالِكَ قُدِّرَتْ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ وَتَقْدِيرُ (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ كَثِيرٌ. وَمِنْ مَحَاسِنِ التَّأْكِيدِ الِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ تَفَنُّنٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ اللَّامَ وَنَحْوَهَا قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ هِيَ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: تُفِيدُ التَّعْلِيلَ. وَسَمَّاهَا بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ (لَامَ أَنْ) ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] . رَابِعُهَا: أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَجَاءَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَة: 55] وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ السَّالِفَةَ ذَكَرَتْ حَالَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ فَلَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ. وَهُنَا ذُكِرَتْ حَالَةُ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ لِقَوْلِهِ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التَّوْبَة: 84] فَقَدْ صَارُوا إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى وَانْقَطَعَتْ حَيَاتُهُمُ الدُّنْيَا وَأَصْبَحَتْ حَدِيثًا. وَبَقِيَّةُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَتَفْسِيرِ سالفتها. [86] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 86] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) هَذَا عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ قُصِدَ بِهِ الِانْتِقَالُ إِلَى تَقْسِيمِ فِرَقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْوَاعِ مَعَاذِيرِهِمْ وَمَرَاتِبِهَا فِي الْقَبُولِ. دَعَا إِلَيْهِ الْإِغْلَاظُ

فِي تَقْرِيعِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ نِفَاقًا وَتَخْذِيلًا لِلْمُسْلِمِينَ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] ثُمَّ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً [التَّوْبَة: 42] وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْصُودٌ بِهِ الْمُنَافِقُونَ. وَلِأَجْلِ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ غَرضا جَدِيدا ابتدأت بِذِكْرِ نُزُولِ سُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَيْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السُّورَةِ عَلَيْهَا فِي أَثْنَائِهَا قَبْلَ إِكْمَالِهَا مَجَازٌ مُتَّسَعٌ فِيهِ كَإِطْلَاقِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] وَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] فَهَذَا الْوَصْفُ وَصْفٌ مُقَدَّرٌ شَبِيهٌ بِالْحَال المقدّرة. وابتدأ بِذِكْرِ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ. وَالسُّورَةُ طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ لَهَا مَبْدَأٌ وَنِهَايَةٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا آنِفًا وَقُبَيْلَ هَذَا. وَلَمَّا كَانَتِ السُّورَةُ أَلْفَاظًا وَأَقْوَالًا صَحَّ بَيَانُهَا بِبَعْضِ مَا حَوَتْهُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ فَقَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ تَفْسِيرٌ لِلسُّورَةِ وأَنْ فِيهِ تَفْسِيرِيَّةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] وَيَجُوزُ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ شَبَهُ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَفْظُ آمِنُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بَلْ مَا يُرَادُ فَهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 38] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [التَّوْبَة: 44] . والطّول: السِّعَةُ فِي الْمَالِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ [النِّسَاء: 25] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الطَّوْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولِي الطَّوْلِ مُرَادٌ بِهِمْ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْجِهَادِ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ. فَبِوُجُودِ الطَّوْلِ انْتَفَى عُذْرُهُمْ إِذْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا بِبَدَنِهِ لَا يَنْظُرُ إِلَى كَوْنِهِ ذَا طَوْلٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [التَّوْبَة: 91] .

[سورة التوبة (9) : آية 87]

وَالْمُرَادُ بِأُولِي الطَّولِ أَمْثَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ. وَعَطْفُ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ عَلَى اسْتَأْذَنَكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةٍ فِي الْمَعْطُوفِ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مُجْمَلٌ، وَقَوْلُهُمُ الْمَحْكِيُّ فِيهِ بَيَانُ مَا اسْتَأْذَنُوا فِيهِ وَهُوَ الْقُعُودُ. وَفِي نَظْمِهِ إِيذَانٌ بِتَلْفِيقِ مَعْذِرَتِهِمْ وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ رَغْبَتُهُمْ فِي الْقُعُودِ وَلِذَلِكَ حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِأَنِ ابْتُدِئَ بِ ذَرْنا الْمُقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِي تَرْكِهِمْ بِالْمَدِينَةِ. وَبِأَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلْقَاعِدِينَ الَّذِينَ فِيهِمُ الْعُجَّزُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْجُبَنَاءُ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ كَلِمَةُ مَعَ مِنَ الْإِلْحَاقِ وَالتَّبَعِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ (ذَرْ) أَمْرٌ مِنْ فِعْلٍ مُمَاتٍ وَهُوَ (وَذَرَ) اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ (تَرَكَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَة الْأَنْعَام [70] . [87] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 87] رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنْ دَنَاءَةِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ رُجْلَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلنِّسَاءِ. وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ رَضُوا إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْحَالِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْعَاقِلُ فِي قَبُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 38] وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التَّوْبَة: 83] . وَالْخَوَالِفُ: جَمْعُ خَالِفَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتَخَلَّفُ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ سَفَرِ زَوْجِهَا فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ فَهِيَ الظَّعِينَةُ، أَيْ رَضُوا بِالْبَقَاءِ مَعَ النِّسَاءِ. وَالطَّبْعُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ قُلُوبِهِمْ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى بِالْإِنَاءِ أَوِ الْكِتَابِ الْمَخْتُومِ. وَالطَّبْعُ مُرَادِفُ الْخَتْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَأُسْنِدَ الطَّبْعُ إِلَى الْمَجْهُولِ إِمَّا لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِهِ وَهُوَ اللَّهُ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا كَذَلِكَ وَجُبِلُوا عَلَيْهِ وَفُرِّعَ عَلَى الطَّبْعِ انْعِدَامُ عِلْمِهِمْ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا أَهْلُ

[سورة التوبة (9) : آية 88]

الْأَفْهَامِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِقْهِ، أَيْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ، أَيْ فَآثَرُوا نِعْمَةَ الدَّعَةِ عَلَى سُمْعَةِ الشُّجَاعَةِ وَعَلَى ثَوَابِ الْجِهَادِ إِذْ لَمْ يُدْرِكُوا إِلَّا الْمَحْسُوسَاتِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا فَاقِهِينَ وَذَلِكَ أَصْلُ جَمِيعِ الْمَضَارِّ فِي الدَّارَيْنِ. وَجِيءَ فِي إِسْنَادِ نَفْيِ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقَوِّي الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِ نِسْبَتِهِ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ وتمكّنه مِنْهُم. [88] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 88] لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ نَقِيضُ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ أَصْلًا وَتَفْرِيعًا. فَلَمَّا كَانَ قُعُودُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْجِهَادِ مُسَبَّبًا عَلَى كُفْرِهِمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. وَابْتُدِئَ وَصْفُ أَحْوَالِهِمْ بِوَصْفِ حَالِ الرَّسُولِ لِأَنَّ تَعَلُّقَهُمْ بِهِ وَاتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ هُوَ أَصْلُ كَمَالِهِمْ وَخَيْرِهِمْ، فَقِيلَ: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا. وَقَوْلُهُ: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: 86] . وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [التَّوْبَة: 87] كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ نُصْرَةِ الْمُنَافِقِينَ بِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّسُولَ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: 89] . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: 41] . وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُجَاهِدُوا دُونَ عُذْرٍ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ.

[سورة التوبة (9) : آية 89]

وَ (مَعَهُ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ، فَإِيمَانُهُمْ مَعَهُ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ عِنْدَ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَجِهَادِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مَعَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَاتِ الْمَبْثُوثَةَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَابِعَةٌ لِخَيْرَاتِهِ وَمَقَامَاتِهِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ عَلَى جُمْلَةِ جاهَدُوا وَلَمْ تُفْصَلْ مَعَ جَوَازِ الْفَصْلِ لِيَدُلَّ بِالْعَطْفِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ تِلْكَ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ مَضْمُونِهَا فِيهِمْ مِنْ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مُسْتَأْنَفَةً كَأَنَّهَا إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْخَيْرَاتِ وَالْفَلَاحَ كَانَ لِأَجْلِ جِهَادِهِمْ. وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. فَهُوَ مِمَّا جَاءَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ التَّأْنِيثِ مَعَ عَدَمِ التَّأْنِيثِ وَلَا عَلَامَتِهِ مِثْلَ سُرَادِقَاتِ وَحَمَّامَاتِ. وَجَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ جَمْعَ (خَيْرَةٍ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مُخَفَّفِ (خَيِّرَةَ) الْمُشَدَّدِ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ أُنْثَى (خَيِّرٍ) ، أَوْ هِيَ مُؤَنَّثُ (خَيْرٍ) الْمُخَفَّفِ الْيَاءِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَخْيَرَ. وَإِنَّمَا أَنَّثُوا وَصْفَ الْمَرْأَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ التَّفْضِيلَ، وَعَلَى هَذَا كُلِّهِ يَكُونُ خَيْرَاتٌ هُنَا مُؤَوَّلًا بِالْخِصَالِ الْخَيِّرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَالْمُرَادُ مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَاللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْقَوْلُ فِي وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة. [89] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 89] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجَوَابِ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ [التَّوْبَة: 88] . وَالْإِعْدَادُ: التَّهْيِئَةُ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْعِنَايَةِ وَالتَّهَمُّمِ بِشَأْنِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ قَبْلُ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً [التَّوْبَة: 72] الْآيَة.

[سورة التوبة (9) : آية 90]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ عَلَى جُمْلَةِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: 86] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، فَالْمُرَادُ بِالْمُعَذِّرِينَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَكَثِيرٌ. وَجَعَلُوا مِنْ هَؤُلَاءِ غِفَارًا، وَخَالَفَهُمْ قَتَادَةُ فَجَعَلَهُمُ الْمُعْتَذِرِينَ كَذِبًا، وَهُمْ بَنُو عَامِرٍ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ خَرَجْنَا مَعَكَ أَغَارَتْ أَعْرَابُ طَيِّءٍ عَلَى بُيُوتِنَا. وَمِنَ الْمُعَذِّرِينَ الْكَاذِبِينَ أَسَدٌ، وَغَطَفَانُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي التَّفْسِيرِ يَخْتَلِفُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: الْمُعَذِّرُونَ فَإِنْ كَانُوا الْمُحِقِّينَ فِي الْعُذْرِ فَتَقْدِيرُ الْمُعَذِّرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ الْمُعْتَذِرُونَ، مِنِ اعْتَذَرَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ الْمَخْرَجَيْنِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ، كَمَا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: 49] ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ. وَإِنْ كَانُوا الْكَاذِبِينَ فِي عُذْرِهِمْ فَتَقْدِيرُ الْمُعَذِّرُونَ: أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَذَّرَ بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْعُذْرَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْتَذِرُونَ بِلَا عُذْرٍ فَكَأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُعَذِّرَ بِالتَّشْدِيدِ هُوَ الْمَظْهِرُ لِلْعُذْرِ اعْتِلَالًا وَهُوَ لَا عُذْرَ لَهُ اه. وَقَالَ شَارِحُ «دِيوَانِ النَّابِغَةِ» عِنْدَ قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَدِّعْ أُمَامَةَ وَالتَّوْدِيعُ تَعْذِيرُ أَيْ لَا يَجِدُ عُذْرًا غَيْرَ التَّوْدِيعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُعَذِّرِينَ مِنْ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ لِتَشْمَلَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الْعُذْرِ وَالَّذِينَ كَذَبُوا فِيهِ. وَالِاعْتِذَارُ افْتِعَالٌ مِنْ بَابِ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مَادَّةُ الِافْتِعَالِ لِلتَّكَلُّفِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّصَرُّفِ مِثْلُ الِاكْتِسَابِ وَالِاخْتِلَاقِ. وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَزِيدِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بِمَعْنَاهُ وَإِنَّمَا الْمُجَرَّدُ هُوَ عَذَرَ

بِمَعْنَى قَبِلَ الْعُذْرَ. وَالْعُذْرُ الْبَيِّنَةُ وَالْحَالَةُ الَّتِي يَتَنَصَّلُ الْمُحْتَجُّ بِهَا مِنْ تَبِعَةٍ أَوْ مَلَامٍ عِنْدَ مَنْ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ الْمُعَذِّرُونَ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ-، مِنْ أَعْذَرَ إِذَا بَالَغَ فِي الِاعْتِذَارِ. وَالْأَعْرَابُ اسْمُ جَمْعٍ يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ: أَعْرَابِيٌّ- بِيَاءِ النَّسَبِ- نِسْبَةً إِلَى اسْمِ الْجَمْعِ كَمَا يُقَالُ مَجُوسِيٌّ لِوَاحِدِ الْمَجُوسِ. وَصِيغَةُ الْأَعْرَابِ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَمْعًا لِأَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِ جَمْعِهِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ اسْمَ جَمْعٍ. وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهُمُ الَّذِينَ أَعْلَنُوا بِالْعِصْيَانِ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ مِنَ الْأَعْرَابِ أَيْضا كَمَا ينبىء عَنْهُ السِّيَاقُ، أَيْ قَعَدُوا دُونَ اعْتِذَارٍ. فَالْقُعُودُ هُوَ عَدَمُ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ. وَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْقُعُودُ دُونَ اعْتِذَارٍ مِنْ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ. وَجُمْلَةُ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ وَهَذَا فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْأَعْرَابِ خَلِيطٌ مِنْ مُسْلِمِينَ وَمُنَافِقِينَ كَذَبُوا بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ كَانُوا كَاذِبِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي أَظْهَرُوهُ مِنْ قَبْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي وَعْدِهِمُ النَّصْرَ ثُمَّ قَعَدُوا دُونَ اعْتِذَارٍ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُهُمْ مُتَرَقَّبًا لِأَنَّ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا قَدْ عَلِمَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مَعَهُ بِخِلَافِ الْآخَرِينَ فَكَانُوا مَحْسُوبِينَ فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ. وتخلّفهم أشدّ إِضْرَار لِأَنَّهُ قَدْ يَفُلُّ مِنْ حِدَّةِ كَثِيرٍ مِنَ الْغُزَاةِ. وَجُمْلَةُ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ وَعِيدٍ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ فَهُوَ شَامِلٌ لِلَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهَ وَلِمَنْ كَانَ عُذْرُهُ نَاشِئًا عَنْ نِفَاقٍ وَكَذِبٍ. وَتَنْكِيرُ عَذَابٍ لِلتَّهْوِيلِ وَالْمُرَادُ بِهِ عَذَاب جهنّم.

[سورة التوبة (9) : آية 91]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 91] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ يَنْشَأُ عَنْ تَهْوِيلِ الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ وَمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْوَعِيدِ. اسْتِيفَاءً لِأَقْسَامِ الْمُخَلَّفِينَ مِنْ مَلُومٍ وَمَعْذُورٍ مِنَ الْأَعْرَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي عَطْفِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ عَنْ كُلِّ فَرِيقٍ بِخُصُوصِهِ. وَالضُّعَفَاءُ: جَمْعُ ضَعِيفٍ وَهُوَ الَّذِي بِهِ الضَّعْفُ وَهُوَ وَهْنُ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ. وَالْمَرْضَى: جَمْعُ مَرِيضٍ وَهُوَ الَّذِي بِهِ مَرَضٌ. وَالْمَرَضُ تَغَيُّرُ النِّظَامِ الْمُعْتَادِ بِالْبَدَنِ بِسَبَبِ اخْتِلَالٍ يَطْرَأُ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمِزَاجِ، وَمِنَ الْمَرَضِ الْمُزْمِنِ كَالْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [43] . وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ وَيُرَادُ بِهِ ضِيقُ التَّكْلِيفِ، أَيِ النَّهْيِ. وَالنُّصْحُ: الْعَمَلُ النَّافِعُ لِلْمَنْصُوحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [79] وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالِامْتِثَالِ وَالسَّعْيِ لِمَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمُوَالِي النَّاصِحِ لِمَنْصُوحِهِ. وَجُمْلَةُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نُظِمَتْ نَظْمَ الْأَمْثَالِ. فَقَوْلُهُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ دَلِيلٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى مَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ غَيْرُ مُسِيئِينَ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، أَيْ مُؤَاخَذَةٍ أَوْ مُعَاقَبَةٍ وَالْمُحْسِنُونَ الَّذِينَ فَعَلُوا الْإِحْسَانَ وَهُوَ مَا فِيهِ النَّفْعُ التَّامُّ.

[سورة التوبة (9) : آية 92]

وَالسَّبِيلُ: أَصْلُهُ الطَّرِيقُ وَيُطْلَقُ عَلَى وَسَائِلِ وَأَسْبَابِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّوْمِ وَالْعِقَابِ لِأَنَّ تِلْكَ الْوَسَائِلَ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي يَصِلُ مِنْهُ طَالِبُ الْحَقِّ إِلَى مَكَانِ الْمَحْقُوقِ، وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْإِطْلَاقِ جُعِلَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْخَبَرِ عَنِ السَّبِيلِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النِّسَاء: 34] وَقَوْلُهُ: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [90] . فَدَخَلَ فِي الْمُحْسِنِينَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّ هَذَا مَرْمًى آخَرُ هُوَ أَسْمَى وَأَبْعَدُ غَايَةً. ومِنْ مُؤَكِّدَةٌ لِشُمُولِ النَّفْيِ لِكُلِّ سَبِيلٍ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ شَدِيدُ الْمَغْفِرَةِ وَمِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ لَمْ يُؤْاخَذْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ بِالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ. شَدِيدُ الرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ لَمْ يُكَلِّفْ أَهْلَ الْإِعْذَارِ مَا يشق عَلَيْهِم. [92] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 92] وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) عَطْفٌ عَلَى الضُّعَفاءِ والْمَرْضى [التَّوْبَة: 91] وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ لِلنُّكْتَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُنَالِكَ. وَالْحَمْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَيْ إِذَا أَتَوْكَ لِتُعْطِيَهُمُ الْحَمُولَةَ، أَيْ مَا يَرْكَبُونَهُ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ سِلَاحَهُمْ وَمُؤَنَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ. وَجُمْلَةُ: قُلْتَ لَا أَجِدُ إِلَخْ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي أَتَوْكَ وَإِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ فِعْلِ أَتَوْكَ لِأَنَّ إِتْيَانَهُمْ لِأَجْلِ الْحَمْلِ يَشْتَمِلُ عَلَى إِجَابَةٍ، وَعَلَى مَنْعٍ. وَجُمْلَةُ تَوَلَّوْا جَوَابُ إِذا وَالْمَجْمُوعُ صِلَةُ الَّذِينَ. وَالتَّوَلِّي الرُّجُوعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [الْبَقَرَة: 142] وَقَوْلُهُ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالْفَيْضُ وَالْفَيَضَانُ: خُرُوجُ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ قَرَارِهِ وَوِعَائِهِ، وَيُسْنَدُ إِلَى الْمَائِعِ حَقِيقَةً. وَكَثِيرًا مَا يُسْنَدُ إِلَى وِعَاءِ الْمَائِعِ، فَيُقَالُ: فَاضَ الْوَادِي، وَفَاضَ الْإِنَاءُ. وَمِنْهُ فَاضَتِ الْعَيْنُ دَمْعًا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فَاضَ دَمْعُهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا كُلَّهَا دَمْعٌ فَائِضٌ، فَقَوْلُهُ: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ جَرَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ. ومِنَ لِبَيَانِ مَا مِنْهُ الْفَيْضُ. وَالْمَجْرُورُ بِهَا فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [83] . وحَزَناً نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول لأَجله، وأَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ مَجْرُورٌ بِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ أَيْ حَزِنُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعَةٍ وَقِيلَ: فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْصَارِ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي أَسْمَائِهِمْ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ وَلُقِّبُوا بِالْبَكَّائِينَ لِأَنَّهُمْ بَكَوْا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمْلَانِ حَزَنًا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَرَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ يَسْتَحْمِلُونَهُ فَلَمْ يَجِدْ لَهُمْ حَمُولَةً وَصَادَفُوا سَاعَةَ غَضَبٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ ثُمَّ جَاءَهُ نَهْبُ إِبِلٍ فَدَعَاهُمْ وَحَمَلَهُمْ وَقَالُوا: اسْتَغْفَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، فَرَجَعُوا وَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الْمَعْنِيِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ قَدْ حَمَلَهُمُ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ قِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 99] الْآيَة.

[سورة التوبة (9) : آية 93]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 93] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) لَمَّا نَفَتِ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ أَنْ يَكُونَ سَبِيلٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ لَمْ يَجِدُوا حَمُولَةً، حَصَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ السَّبِيلَ فِي كَوْنِهِ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَهُوَ انْتِقَالٌ بِالتَّخَلُّصِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 94] ، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْنَافِ الَّذِينَ نُفِيَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ. وَفِي هَذَا الْحَصْرِ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ السَّابِقِ، أَيْ لَا سَبِيلَ عِقَابٍ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْجِهَادَ إِذْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَهُمْ أُولُو الطَّوْلِ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ [التَّوْبَة: 86] الْآيَةَ. وَالسَّبِيلُ: حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ. وَمَرَّ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: 91] . وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى السُّلْطَانِ وَالْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّبِعَةِ، شُبِّهَ السُّلْطَانُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالطَّرِيقِ لِأَنَّ السُّلْطَةَ يَتَوَصَّلُ بِهَا مَنْ هِيَ لَهُ إِلَى تَنْفِيذِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْغَيْرِ. وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُفِيدِ لِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَهُوَ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَدْخُولِ (عَلَى) . فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً رُمِزَ إِلَيْهَا بِمَا هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ حَرْفُ (عَلَى) . وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَبْعِيَّةٌ. وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ هُوَ السَّبِيلُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: 91] عَلَى قَاعِدَةِ النَّكِرَةِ

[سورة التوبة (9) : آية 94]

إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، أَيْ إِنَّمَا السَّبِيلُ الْمَنْفِيُّ عَنِ الْمُحْسِنِينَ مُثبت للَّذين يَسْتَأْذِنُونَك وَهُمْ أَغْنِيَاءُ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ الشُّورَى [42] . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ الْعَذَابُ. وَالْمَعْنَى لَيْسَتِ التَّبِعَةُ وَالْمُؤَاخَذَةُ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا عُذْرَ لَهُمْ يُخَوِّلُهُمُ التَّخَلُّفُ. وَقَدْ سَبَقَتْ آيَةُ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [90] ، وَأُحِيلَ هُنَالِكَ تَفْسِيرُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِجَوَابِ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ عِلَّةِ اسْتِيذَانِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، أَيْ بَعَثَهُمْ عَلَى ذَلِكَ رِضَاهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ مِنَ النِّسَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَأُسْنِدَ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَة: 87] لَعَلَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ طَبْعٌ غَيْرُ الطَّبْعِ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ طَبْعٌ عَلَى طَبْعٍ أَنْشَأَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ فَحَرَمَهُمُ النَّجَاةَ مِنَ الطَّبْعِ الْأَصْلِيِّ وَزَادَهُمْ عَمَايَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى فُرِعَ عَلَيْهِ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِنَفْيِ أَصْلِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، أَيْ يَكَادُونَ أَنْ يساووا العجماوات. [94] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 94] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ لَيْسَ قَاصِرًا على الَّذين يستأذنون فِي التَّخَلُّفِ فَإِنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ يُغْنِيهِمْ عَنِ التَّبَرُّؤِ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، فَضَمِيرُ يَعْتَذِرُونَ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ

مُعَادٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التَّوْبَة: 90] فَإِنَّهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمُ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا بَعْدَ رُجُوعِ النَّاسِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ. وإِذا هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقُفُولِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَجُعِلَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ عِنْدَ الرُّجُوعِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقْصِدُونَ بِأَعْذَارِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِيدُونَهَا مَعَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَالنَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْتَذِرُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّأْيِيسِ. وَجُمْلَةُ: لَنْ نُؤْمِنَ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِذَارِ لِعَدَمِ جَدْوَى الِاعْتِذَارِ، يُقَالُ: آمَنَ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [61] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ تَصْدِيقِهِمْ، أَيْ قَدْ نَبَّأْنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ بِمَا يَقْتَضِي تَكْذِيبَكُمْ، فَالْإِبْهَامُ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ نَبَّأَنَا السَّادِّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْنِ تَعْوِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ يُبَيِّنُهُ. ومِنْ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَوْ هِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَدْ نَبَّأْنَا اللَّهُ الْيَقِينَ مِنْ أَخْبَارِكُمْ. وَجُمْلَةُ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا تَعْتَذِرُوا، أَيْ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِذَارِكُمْ فَإِنْ خَشِيتُمُ الْمُؤَاخَذَةَ فَاعْمَلُوا الْخَيْرَ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ إِنْ أَحْسَنْتُمْ فَالْمَقْصُودُ فَتْحُ بَابِ التَّوْبَةِ لَهُمْ، وَالتَّنْبِيهُ إِلَى الْمِكْنَةِ مِنِ اسْتِدْرَاكِ أَمْرِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا. فَالْإِخْبَارُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَمَلَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى حَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ: تُمَكُّنُهُمْ مِنْ إِصْلَاحِ ظَاهِرِ

[سورة التوبة (9) : آية 95]

أَعْمَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَيْ تَصِيرُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى اللَّهِ. فَالرَّدُّ بِمَعْنَى الْإِرْجَاعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [62] . وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَصِيرُ النُّفُوسِ إِلَى عَالَمِ الْخُلْدِ الَّذِي لَا تُصْرَفُ فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَلَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَقَدْ أَنْزَلَهَا إِلَى عَالَمِ الْفَنَاءِ الدُّنْيَوِيِّ فَاسْتَقَلَّتْ بِأَعْمَالِهَا مُدَّةَ الْعُمْرِ كَانَ مَصِيرُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ الْبَعْثِ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ فِيهَا شَبِيهًا بِرَدِّ شَيْءٍ إِلَى مَقَرِّهِ أَوْ إِرْجَاعِهِ إِلَى مَالِكِهِ. وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ. وَالشَّهَادَةُ: الْمُشَاهَدَةُ. وَاللَّامُ فِي الْغَيْبِ والشَّهادَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلِّ غَيْبٍ وَكُلِّ شَهَادَةٍ. وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: لِمَ تُرَدُّونَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ، لِمَا فِي الْإِظْهَارِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، زِيَادَةً فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ. وَمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: عِلْمُ كُلِّ عَمَلٍ عَمِلُوهُ. وَاسْتَعْمَلَ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْمُجَازَاةُ عَلَى كُلِّ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ فَتَجِدُونَهُ عَالِمًا بِكُلِّ مَا عَمِلْتُمُوهُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُجَازَاةِ فِي مَقَامِ الْإِجْرَامِ وَالْجِنَايَةِ لَازِمٌ لِعُمُومِ عِلْمِ مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ بِكُلِّ مَا عملوه. [95] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 95] سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ تَعْدَادٌ لأحوالهم. وَمَعْنَاهَا ناشىء عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ [التَّوْبَة: 94] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَمُخَادِعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ [التَّوْبَة: 94] حَلَفُوا عَلَى أَنَّهُمْ صَادِقُونَ تَرْوِيجًا لِخِدَاعِهِمْ:

وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمَا سَيُلَاقِي بِهِ الْمُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَ رُجُوعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْغَزْوِ. وإِذا هُنَا ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي. وَحَذْفُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، وَلِتَقَدُّمِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ [التَّوْبَة: 42] إِلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي حَلِفِهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ [144] . وَصَرَّحَ بِعِلَّةِ الْحَلِفِ هُنَا أَنَّهُ لِقَصْدِ إِعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ عِتَابِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ تَطْيِيبَ خَوَاطِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ أَرَادُوا التَّمَلُّصَ مِنْ مَسَبَّةِ الْعِتَابِ وَلَذْعِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التَّوْبَة: 62] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التَّوْبَة: 96] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ فَلَمَّا فَاتَ الْأَمْرُ وَعَلِمُوا أَنَّ حَلِفَهُمْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُسْلِمُونَ صَارُوا يَحْلِفُونَ لِقَصْدِ أَنْ يُعْرِضَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ. وَأُدْخِلَ حَرْفُ (عَنْ) عَلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْإِعْرَاضَ عَنْ لَوْمِهِمْ. فَفِي حَذْفِ الْمُضَافِ تَهْيِئَةٌ لِتَفْرِيعِ التَّقْرِيعِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، أَيْ فَإِذَا كَانُوا يَرُومُونَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ تَمَامًا. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّقْرِيعِ فِيهِ إِطْمَاعٌ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ الطَّالِبِ بِأَنَّهُ أُجِيبَتْ طِلْبَتُهُ حَتَّى إِذَا تَأَمَّلَ وَجَدَ مَا طَمِعَ فِيهِ قَدِ انْقَلَبَ عَكْسَ الْمَطْلُوبِ فَصَارَ يَأْسًا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُعَاتَبَةِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهَا وَاسْتِدَامَةِ مُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا بِهِمْ يُوَاجَهُونَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُكَالَمَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَذَلِكَ أَشَدُّ مِمَّا حَلَفُوا للتفادي عَنهُ. فهم مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ أَوْ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ رِجْسٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَوُقُوعُ (إِنَّ) فِي أَوَّلِهَا مُؤْذِنٌ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ.

[سورة التوبة (9) : آية 96]

وَالرِّجْسُ: الْخُبْثُ. وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُهُمْ بِالرِّجْسِ فِي الدَّنَاءَةِ وَدَنَسِ النُّفُوسِ. فَهُوَ رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ. كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْمَائِدَة: 90] . وَالْمَأْوَى: الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ. وجَزاءً حَالٌ مِنْ جَهَنَّمُ، أَيْ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يعْملُونَ. [96] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 96] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 95] لِأَنَّهُمْ إِذَا حَلَفُوا لِأَجْلِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمُ الْمُسلمُونَ فَلَا يلوموهم، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَهُمْ رِضَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ فَرَّعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ لَوْمِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الرِّضَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ إِذْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْضَوْا بِهِ. وَالْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ هُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ (هُمْ) إِلَى التَّعْبِيرِ بِصِفَتِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَمِّهِمْ وَتَعْلِيلِ عَدَمِ الرِّضَى عَنْهُمْ، فَالْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى خَبَرٍ وَعَلَى دَلِيلِهِ فَأَفَادَ مُفَادَ كَلَامَيْنِ لِأَنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْم الْفَاسِقين. [97] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 97] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ رَجَعَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُعَذِّرِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُمْ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ اسْتِطْرَادٌ دَعَا إِلَيْهِ قَرْنُ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي

الذِّكْرِ مَعَ الْأَعْرَابِ. فَلَمَّا تَقَضَّى الْكَلَامُ عَلَى أُولَئِكَ تَخَلَّصَ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْأَعْرَابِ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّصَالِ الْغَرَضَيْنِ وَقَعَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَفْظُ (الْأَعْرَابِ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الِاحْتِكَاكِ بِهِمْ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهُمْ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ أَحْوَالُهُمْ وَيَظُنُّونَ بِجَمِيعِهِمْ خَيْرًا. وَ (أَشَدُّ) وَ (أَجْدَرُ) اسْمَا تَفْضِيلٍ وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا فَيَكُونُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْحَضَرِ، أَيْ كُفَّارَ وَمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ. وَازْدِيَادُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِكُفَّارِ وَمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَمُنَافِقُوهُمْ أَشَدُّ نِفَاقًا مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا الِازْدِيَادُ رَاجِعٌ إِلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ أَمْكَنُ فِي النُّفُوسِ مِنْ كُفْرِ كُفَّارِ الْمَدِينَةِ، وَنِفَاقُهُمْ أَمْكَنُ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَذَلِكَ، أَيْ أَمْكَنُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ مِنْهُ وَالْبُعْدِ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَظُهُورِ بَوَادِرِ الشَّرِّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ غِلَظَ الْقُلُوبِ وَجَلَافَةَ الطَّبْعِ تَزِيدُ النُّفُوسَ السَّيِّئَةَ وَحْشَةً وَنُفُورًا. أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيَّ، وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، لَمَّا رَأَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ صَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِنْ ذَهَبٍ قَسَمَهُ قَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ مُوَاجِهًا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اعْدِلْ» فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْحَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» . فَإِنَّ الْأَعْرَابَ لِنَشْأَتِهِمْ فِي الْبَادِيَةِ كَانُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَكَانَتْ أَذْهَانُهُمْ أَبْعَدَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَأَمْلَأَ بِالْأَوْهَامِ، وَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَعَنْ تَلَقِّي الْهُدَى صَبَاحَ مَسَاءَ أَجْهَلُ بِأُمُورِ الدِّيَانَةِ وَمَا بِهِ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ، وَهُمْ لِتَوَارُثِهِمْ أَخْلَاقَ أَسْلَافِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ التَّطَوُّرَاتِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ سُمُوًّا فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِتْقَانًا فِي وَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَحِكْمَةً تَقْلِيدِيَّةً تَتَدَرَّجُ بِالْأَزْمَانِ، يَكُونُونَ أَقْرَبَ سِيرَةً

بِالتَّوَحُّشِ وَأَكْثَرَ غِلْظَةً فِي الْمُعَامَلَةِ وَأَضِيعَ لِلتُّرَاثِ الْعِلْمِيِّ وَالْخُلُقِيِّ وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا عَزَمَ عَلَى سُكْنَى الرَّبَذَةِ: تَعَهَّدِ الْمَدِينَةَ كَيْلَا تَرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا. فَأَمَّا فِي الْأَخْلَاقِ الَّتِي تُحْمَدُ فِيهَا الْخُشُونَةُ وَالْغِلْظَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْعَظَائِمِ مِثْلُ الشَّجَاعَةِ وَالصَّرَاحَةِ وَإِبَاءِ الضَّيْمِ وَالْكَرَمِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَقْوَى فِي الْأَعْرَابِ بِالْجِبِلَّةِ، وَلِذَلِكَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَيْرِ إِذَا اعْتَقَدُوهُ وَآمَنُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَدُّ وأَجْدَرُ مَسْلُوبَيِ الْمُفَاضَلَةِ مُسْتَعْمَلَيْنِ لِقُوَّةِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهِمَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] . فَالْمَعْنَى أَنَّ كُفْرَهُمْ شَدِيدُ التَّمَكُّنِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَنِفَاقَهُمْ كَذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقِيهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ كُفْراً وَنِفاقاً مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي وَصْفِ أَشَدُّ. سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنَ الْمَعْنَى أَكْمَلَ تَمَكُّنٍ. وَالْأَجْدَرُ: الْأَحَقُّ. وَالْجَدَارَةُ: الْأَوْلَوِيَّةُ. وَإِنَّمَا كَانُوا أَجْدَرَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُمْ يَبْعُدُونَ عَنْ مَجَالِسِ التَّذْكِيرِ وَمَنَازِلِ الْوَحْيِ، وَلِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُذِفَتِ الْبَاءُ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْجَدَارَةِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ. وَالْحُدُودُ: الْمَقَادِيرُ وَالْفَوَاصِلُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَوَاصِلَ الْأَحْكَامِ وَضَوَابِطَ تَمْيِيزِ مُتَشَابِهِهَا. وَفِي هَذَا الْوَصْفِ يَظْهَرُ تَفَاوُتُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّحْقِيقِ أَوْ بِالْحِكْمَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَزِيَادَةُ قَيْدِ (عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ.

[سورة التوبة (9) : آية 98]

وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِهَذَا الْإِفْصَاحِ عَنْ دَخِيلَةِ الْأَعْرَابِ وَخُلُقِهِمْ، أَيْ عَلِيمٌ بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ، وَحَكِيمٌ فِي تَمْيِيز مَرَاتِبهمْ. [98] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 98] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) هَذَا فَرِيقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَقِيَّةً وَخَوْفًا مِنَ الْغَزْوِ أَوْ حُبًّا لِلْمَحْمَدَةِ وَسُلُوكًا فِي مَسْلَكِ الْجَمَاعَةِ، وَهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ وَيَنْتَظِرُونَ الْفُرْصَةَ الَّتِي تُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِانْقِلَابِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ فَتَخْصِيصُهُمْ بِالتَّقْسِيمِ هَنَا مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى مَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنْ أَحْوَالِ النِّفَاقِ، لِأَنَّ التَّقَاسِيمَ فِي الْمَقَامَاتِ الْخِطَابِيَّةِ وَالْمُجَادِلَاتِ تَعْتَمِدُ اخْتِلَافًا مَا فِي أَحْوَالِ الْمُقَسِّمِ، وَلَا يُعْبَأُ فِيهَا بِدُخُولِ الْقَسْمِ فِي قَسِيمِهِ. فَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً هُوَ فِي التَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 99] . وَمَعْنَى يَتَّخِذُ يَعُدُّ وَيَجْعَلُ، لِأَنَّ اتَّخَذَ مِنْ أَخَوَاتِ جَعَلَ. وَالْجَعْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ نَحْوَ جَعَلْتُ الشَّقَّةَ بَرْدًا. وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَدِّ وَالْحُسْبَانِ نَحْوَ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النَّحْل: 91] فَكَذَلِكَ يَتَّخِذُ هُنَا. وَالْمَغْرَمُ: مَا يُدْفَعُ مِنَ الْمَالِ قَهْرًا وَظُلْمًا، فَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويعدون ذَلِك كالأوتاوات الْمَالِيَّةِ وَالرَّزَايَا يَدْفَعُونَهَا تَقِيَّةً. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنِ امْتَنَعُوا مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ مِنْ طَيِّءٍ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا جَاءَهُمُ السَّاعِي لِإِحْصَاءِ زَكَاةِ الْأَنْعَامِ: فَقُولَا لِهَذَا الْمَرْءِ ذُو جَاءَ سَاعِيًا ... هَلُمَّ فَإِنَّ الْمَشْرَفِيَّ الْفَرَائِضُ أَيْ فَرَائِضُ الزَّكَاةِ هِيَ السَّيْفُ، أَيْ يُعْطُونَ السَّاعِيَ ضَرْبَ السَّيْفِ بَدَلًا عَنِ الزَّكَاةِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. وَالدَّوَائِرُ: جَمْعُ دَائِرَةٍ وَهِيَ تَغَيُّرُ الْحَالَةِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ إِلَى اخْتِلَالٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ

وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] وَجُعِلَ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَتَرَبَّصُ بِسَبَبِ حَالَتِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْكُمْ لِظُهُورِ أَنَّ الدَّوَائِرَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِانْتِظَارِ الِانْقِلَابِ بَلْ حَالُهُمْ هِيَ سَبَبُ تَرَبُّصِهِمْ أَنْ تَنْقَلِبَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ لِأَنَّ حَالَتَهُمُ الْحَاضِرَةَ شَدِيدَةٌ عَلَيْهِمْ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ ضَعْفَكُمْ وَهَزِيمَتَكُمْ أَوْ يَنْتَظِرُونَ وَفَاةَ نَبِيِّكُمْ فَيُظْهِرُونَ مَا هُوَ كَامِنٌ فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ. وَقَدْ أَنْبَأَ اللَّهُ بِحَالِهِمُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَقِبَ وَفَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ مِنَ الْعَرَبِ. وَجُمْلَةُ: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَتَحْقِيرٌ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ: تَكْوِينٌ وَتَقْدِيرٌ مَشُوبٌ بِإِهَانَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَمَنِّي مَا يُرِيدُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [89] . وَقَدْ كَانَتْ عَلَى الْأَعْرَابِ دَائِرَةُ السَّوْءِ إِذْ قَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ عَامَ الرِّدَّةِ وَهَزَمُوهُمْ فَرَجَعُوا خَائِبِينَ. وَإِضَافَةُ دائِرَةُ إِلَى السَّوْءِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْوَصْفِ اللَّازِمِ كَقَوْلِهِمْ: عَشَاءُ الْآخِرَةِ. إِذِ الدَّائِرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي السَّوْءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ لَمْ تُضَفِ الدَّائِرَةُ إِلَى السَّوْءِ عُرِفَ مِنْهَا مَعْنَى السَّوْءِ لِأَنَّ دَائِرَةَ الدَّهْرِ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ. وَنَظِيرُهُ إِضَافَةُ السَّوْءِ إِلَى ذِئْبٍ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: فَكُنْتُ كَذِئْبِ السَّوْءِ حِينَ رَأَى دَمًا ... بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ إِذِ الذِّئْبُ مُتَمَحِّضٌ لِلسَّوْءِ إِذْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِلنَّاسِ. وَالسَّوْءُ- بِفَتْحِ السِّينِ- الْمَصْدَرُ، وَبِضَمِّهَا الِاسْمُ. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُمَا بِضَمِّ السِّينِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ سَمِيعٌ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ وَمَا يُدَبِّرُونَهُ مِنَ التَّرَصُّدِ، عَلِيمٌ بِمَا يُبَطِّنُونَهُ ويقصدون إخفاءه.

[سورة التوبة (9) : آية 99]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 99] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَفَّاهُمُ اللَّهُ حَقَّهُمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَضْدَادُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التَّوْبَة: 97]- وَقَوْلِهِ- وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً [التَّوْبَة: 97] . قِيلَ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: 92] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيُّ- هُوَ ابْنُ مُغَفَّلٍ-. وَالْإِنْفَاقُ هُنَا هُوَ الْإِنْفَاقُ هُنَاكَ. وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا مَعْنَى يَتَّخِذُ. وقُرُباتٍ- بِضَمِّ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ-: جَمْعُ قُرْبَةٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ. وَهِيَ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيِ الْقُرْبِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ يَتَّخِذُونَ مَا يُنْفِقُونَ تَقَرُّبًا عِنْدَ اللَّهِ. وَجَمْعُ قُرُبَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْإِنْفَاقِ، فَكُلُّ إِنْفَاقٍ هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ. قَالَ تَعَالَى: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الْإِسْرَاء: 57] . فَ قُرُباتٍ هُنَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي رِضَى اللَّهِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِ عِنْدَ الدَّالَّةِ عَلَى مَكَانِ الدُّنُوِّ. وَ (عِنْدَ) مَجَازٌ فِي التَّشْرِيفِ وَالْعِنَايَةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تُشَبَّهُ بِدَارِ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 54، 55] . ووَ صَلَواتِ الرَّسُولِ دَعَوَاتِهِ. وَأَصْلُ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ. وَجُمِعَتْ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ إِنْفَاقٍ يُقَدِّمُونَهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُمْ بِسَبَبِهِ دَعْوَةً، فَبِتَكَرُّرِ الْإِنْفَاقِ تَتَكَرَّرُ الصَّلَاةُ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ مَنْ يَأْتِيهِ بِصَدَقَتِهِ وَإِنْفَاقِهِ امْتِثَالًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 103] . و

جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِصَدَقَتِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . وَيَجُوزُ عَطْفُ صَلَواتِ الرَّسُولِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعْمُولًا لِ عِنْدَ، أَيْ يَتَّخِذُونَ الْإِنْفَاقَ قُرْبَةً عِنْدَ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ، أَيْ يَجْعَلُونَهُ تَقَرُّبًا كَائِنًا فِي مَكَانِ الدُّنُوِّ مِنْ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ تَشْبِيهًا لِلتَّسَبُّبِ فِي الشَّيْءِ بِالِاقْتِرَابِ مِنْهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ الْإِنْفَاقَ سَبَبًا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ لَهُمْ. فَظَرْفُ (عِنْدَ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ عَطْفًا عَلَى قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ دَعَوَاتِ الرَّسُولِ. أَخْبَرَ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِاتِّخَاذِهِ دَعَوَاتِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالْإِنْفَاقِ إِلَى دَعَوَاتِ الرَّسُولِ إِذْ أُمِرَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 103] . وَجُمْلَةُ: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْبِشَارَةِ لَهُمْ بِقَبُولِ مَا رَجَوْهُ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِيَعِيَهَا السَّامِعُ، وَبِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا، وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمَ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى مَا (يُنْفِقُ) بِاعْتِبَارِ النَّفَقَاتِ. وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هِيَ قُرْبَةٌ لَهُمْ، أَيْ عِنْدِ اللَّهِ وَعِنْدَ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ. وَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ سَابِقِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَتَنْكِيرُ قُرْبَةٌ لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى التَّعْرِيفِ، وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ قَدْ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ. وَجُمْلَةُ: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ عِنْدَ اللَّهِ هِيَ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى وَرِضْوَانُهُ، وَذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَالْقُرْبَةُ عِنْدَ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَابَةُ صَلَاتِهِ. وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَدْعُو لَهُمْ طَلَبُ الرَّحْمَةِ، فَمَآلُ الْأَمْرَيْنِ هُوَ إِدْخَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. وَأُوثِرَ فِعْلُ الْإِدْخَالِ هُنَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يُقَالُ: دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ تَعَالَى: وَادْخُلِي جَنَّتِي [الْفجْر: 30] . وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِمَا رَجَوْهُ وَمَا اسْتُجِيبَ لَهُمْ. وَأُثْبِتَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ، أَيْ غَفُورٌ لِمَا مَضَى مِنْ كُفْرِهِمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ يُفِيضُ النِّعَمَ عَلَيْهِمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 100]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُرْبَةٌ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ وَحْدَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ لاتباع الْقَاف. [100] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 100] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) عُقِّبَ ذِكْرُ الْفِرَقِ الْمُتَلَبِّسَةِ بِالنَّقَائِصِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهَا فِي ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ وَالْمَثَلِ الْكَامِلِ فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالنُّصْرَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِيَحْتَذِيَ مُتَطَلِّبُ الصَّلَاحِ حَذْوَهُمْ، وَلِئَلَّا يَخْلُوَ تَقْسِيمُ الْقَبَائِلِ السَّاكِنَةِ بِالْمَدِينَةِ وَحَوَالَيْهَا وَبَوَادِيهَا، عَنْ ذِكْرِ أَفْضَلِ الْأَقْسَامِ تَنْوِيهًا بِهِ. وَبِهَذَا تَمَّ اسْتِقْرَاءُ الْفِرَقِ وَأَحْوَالِهَا. فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً [التَّوْبَة: 98] . وَالْمَقْصُودُ بِالسَّبْقِ السَّبْقُ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ قَبْلَهَا فِي تَمْيِيزِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ، وَالْكُفَّارِ الصُّرَحَاءِ، وَالْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُرَادَ الَّذِينَ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ مِنْ صِنْفِهِمْ، فَالسَّابِقُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالسَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا قَوْمَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ الَّتِي عِنْدَهَا يَنْتَهِي وَصْفُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَعًا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ: مَنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ شَهِدَ بَدْرًا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَدْرَكُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَعْتَبِرُ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْصارِ لِلْجَمْعِ فِي وَصْفِ السَّبَقِ لِأَنَّهُ مُتَّحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا يَخُصُّ الْمُهَاجِرِينَ. وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ» مَا يُشْبِهُ أَنَّ رَأْيَهُ أَنَّ السَّابِقِينَ أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَذَلِكَ يَخُصُّ الْأَنْصَارَ. وَعَنِ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ السَّابِقِينَ مَنْ

أَسْلَمُوا قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَلَعَلَّهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ إِذْ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى قَائِلٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ مَنْ هَاجَرَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَطِعَ الْهِجْرَةُ، أَيْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَهَذَا يَقْصُرُ وَصْفَ السَّبْقِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. وَلَا يُلَاقِي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِخَفْضِ الْأَنْصارِ. ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ لَا لِلْبَيَانِ. وَالْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ، وَهُوَ النَّاصِرُ. وَالْأَنْصَارُ بِهَذَا الْجَمْعِ اسْمٌ غَلَبَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَعَلَى أَبْنَائِهِمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ. دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَيُطْلَقُ عَلَى أَوْلَادِ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُم الَّذين نشأوا فِي الْإِسْلَامِ كَوَلَدِ ابْنِ صَيَّادٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْأَنْصارِ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَيَكُونُ وَصْفُ السَّابِقِينَ صِفَةً لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَالْأَنْصارِ بِالرَّفْعِ، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى وَصْفِ السَّابِقُونَ وَيَكُونُ الْمُقَسَّمُ إِلَى سَابِقِينَ وَغَيْرِهِمْ خُصُوصَ الْمُهَاجِرِينَ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَبَقِيَّةُ الْأَنْصَارِ اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِيمَانِ، أَيْ آمَنُوا بَعْدَ السَّابِقِينَ: مِمَّنْ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَنْ آمَنُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ مُدَّةٍ. وَالْإِحْسَانُ: هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَإِنَّمَا قُيِّدَ هَذَا الْفَرِيقُ خَاصَّةً لِأَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَا بَعَثَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ، فَهُمْ مُحْسِنُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فَمِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ آمَنَ اعْتِزَازًا بِالْمُسْلِمِينَ حِينَ صَارُوا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَفِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ وَتَرَدُّدٌ، مِثْلُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَرُبَّمَا نَزَلَ بِهِمْ إِلَى النِّفَاقِ وَرُبَّمَا ارْتَقَى بِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ مَعَ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْأَحْزَاب: 60] فَإِذَا بَلَغُوا رُتْبَةَ الْإِحْسَانِ دَخَلُوا فِي وَعْدِ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ وَإِعْدَادِ الْجَنَّاتِ. وَجُمْلَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَبَرٌ عَنِ السَّابِقُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ التَّقَوِّي وَالتَّأْكِيدِ.

[سورة التوبة (9) : آية 101]

وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ عِنَايَتُهُ بِهِمْ وَإِكْرَامُهُ إِيَّاهُمْ وَدِفَاعُهُ أَعْدَاءَهُمْ، وَأَمَّا رِضَاهُمْ عَنْهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى رَضِيَتْ نُفُوسُهُمْ لِمَا أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ. وَالْإِعْدَادُ: التَّهْيِئَةُ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى جَرْيِ الْأَنْهَارِ. وَقَدْ خَالَفَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ مُعْظَمِ الْقُرَّاءِ أَخَوَاتِهَا فَلَمْ تُذْكَرْ فِيهَا (مِنْ) مَعَ (تَحْتِهَا) فِي غَالِبِ الْمَصَاحِفِ وَفِي رِوَايَةِ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ، فَتَكُونُ خَالِيَةً مِنَ التَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ لِحَرْفِ (مِنْ) مَعْنًى مَعَ أَسْمَاءِ الظُّرُوفِ إِلَّا التَّأْكِيدُ، وَيَكُونُ خُلُوُّ الْجُمْلَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ لِحُصُولِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ إِفَادَةِ التَّقَوِّي بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، وَمِنْ فِعْلِ (أَعَدَّ) الْمُؤْذِنِ بِكَمَالِ الْعِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ الْمُعَدُّ إِلَّا أَكْمَلَ نَوْعِهِ. وَثَبَتَتْ (مِنْ) فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ الْمَكِّيِّ، فَتَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى زِيَادَة مؤكدين. [101] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) كَانَتِ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ خَلَصُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطَاعُوهُ وَهُمْ جُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَلِحْيَانُ، وَعُصَيَّةُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي هَؤُلَاءِ مُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِكُلِّ مَنْ يُظْهِرُ لَهُ الْمَوَدَّةَ. وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ قَدْ خَلَصَ أَهْلُهَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطَاعُوهُ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِيهِمْ بَقِيَّةً مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لِأَنَّهُ تَأَصَّلَ فِيهِمْ مِنْ وَقْتِ دُخُولِ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، لَا نَعْتٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ لِلتَّبْعِيضِ وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْأَعْرابِ لِبَيَانِ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ.

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ. ومَرَدُوا وَخبر عَنْهُ، أَوْ تُجْعَلُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً مُؤْذِنَةً بِمُبَعَّضٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَاعَةٌ مَرَدُوا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [46] . وَمَعْنَى مَرَدَ عَلَى الْأَمْرِ مَرِنَ عَلَيْهِ وَدَرِبَ بِهِ، وَمِنْهُ الشَّيْطَانُ الْمَارِدُ، أَيْ فِي الشَّيْطَنَةِ. وَأُشِيرَ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَلَّ الْبَاقِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ الِاسْتِيثَارَ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَطْلَعَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ بِوُجُودِهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: لَا تَعْلَمُهُمْ. وَجُمْلَةُ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: 94] ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلْمِهِ بِهِمْ، فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِهِمْ كَافٍ. وَفِيهِ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَجُمْلَةُ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ اسْتِينَافٌ بَيَانِيٌّ لِلْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ أَثَرِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى يُعَلِّمُهُمْ. فَأُعْلِمَ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَلَا يُفْلِتُهُمْ مِنْهُ عَدَمُ عِلْمِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِهِمْ. وَالْعَذَابُ الْمَوْصُوفُ بِمَرَّتَيْنِ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ. وَقَدْ تَحَيَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ. وَحَمَلُوهُ كُلُّهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَدَدِ. وَذَكَرُوا وُجُوهًا لَا يَنْشَرِحُ لَهَا الصَّدْرُ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْعَدَدَ مُسْتَعْمَلٌ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ التَّكْرِيرِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: 4] أَيْ تَأَمَّلْ تَأَمُّلًا مُتَكَرِّرًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَاسْمُ التَّثْنِيَةِ نَائِبٌ مَنَابَ إِعَادَةِ اللَّفْظِ. وَالْمَعْنَى: سَنُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا مُتَكَرِّرًا مُضَاعَفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: 30] . وَهَذَا التَّكَرُّرُ تَخْتَلِفُ أَعَدَادُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَاخْتِلَافِ أَزْمَانِ عَذَابِهِمْ. وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ: هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَة.

[سورة التوبة (9) : آية 102]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 102] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ [التَّوْبَة: 101] ، أَيْ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ آخَرُونَ أَذْنَبُوا بِالتَّخَلُّفِ فَاعْتَرَفُوا اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بالتقصير. فَقَوله: إِيجَازٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا وَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالذُّنُوبِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ فِي حَالَةِ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنِ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ بِخَلْطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالسَّيِّئِ. وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَرْدَمٌ، وَأَرْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ حِزَامٍ، وَمِرْدَاسٌ، وَأَبُو قَيْسٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَرَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَوَارِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَيَّامًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَالِاعْتِرَافُ: افْتِعَالٌ مِنْ عَرَفَ. وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَلِذَلِكَ صَارَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالشَّيْءِ وَتَرْكِ إِنْكَارِهِ، فَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالذَّنْبِ الْفَائِتِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِقْلَاعُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ ذَنْبٌ مَضَى، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ. وَخَلْطُهُمُ الْعَمَل الصَّالح والسيّء هُوَ خَلْطُهُمْ حَسَنَاتِ أَعْمَالِهِمْ بِسَيِّئَاتِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجَيْشِ. وَقَوْلُهُ: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً جَاءَ ذِكْرُ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ عَلَى اعْتِبَارِ اسْتِوَائِهِمَا فِي وُقُوعِ فِعْلِ الْخَلْطِ عَلَيْهِمَا. وَيُقَالُ: خَلَطَ كَذَا بِكَذَا عَلَى اعْتِبَارِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ مُتَلَابِسَيْنِ بِالْخَلْطِ، وَالتَّرْكِيبَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ أَوْضَحُ وَأَحْسَنُ فَهُوَ أَفْصَحُ.

[سورة التوبة (9) : آية 103]

وَ (عَسَى) : فِعْلُ رَجَاءٍ. وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخَاطَبِ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ وُقُوعِ الْمَرْجُوِّ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّ ذِكْرَ فِعْلِ الرَّجَاءِ يَسْتَتْبِعُ مَعْنَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ فِي وُقُوعِ الشَّيْءِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ. وَمَعْنَى: أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَيْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [37] . وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِب للمقام. [103] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 103] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ تَدَارُكَ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مِمَّا فَاتَ وَكَانَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْغَزْوِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَمْرَيْنِ هُمَا عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجِهَادِ، وَعَدَمُ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِرْشَادٌ لِطَرِيقِ تَدَارُكِهِمْ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مِمَّا فَاتَ وَهُوَ نَفْعُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَالِ، فَالْإِنْفَاقُ الْعَظِيمُ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَنْفَدَ الْمَالَ الْمُعَدَّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أُخِذَ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ انْجَبَرَ بِهِ بَعْضُ الثَّلْمِ الَّذِي حَلَّ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ. فَهَذَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي بِسَبَبِهَا تَخَلَّفْنَا عَنْكَ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهَا وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ لَهُم: لم أومر بِأَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَخَذَ مِنْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَاتِهِمْ ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى آخَرِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ. وَالتَّاءُ فِي تُطَهِّرُهُمْ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تَاءَ الْخِطَابِ نَظَرًا لِقَوْلِهِ: خُذْ، وَأَنْ تَكُونَ تَاءُ الْغَائِبَةِ عَائِدَةً إِلَى الصَّدَقَة. وأيّاما كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُطَهِّرُ وَتُزَكِّي.

وَالتَّزْكِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَكِيًا، أَيْ كَثِيرَ الْخَيْرَاتِ. فَقَوْلُهُ: تُطَهِّرُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ التَّخْلِيَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَقَوْلُهُ: تُزَكِّيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ التَّحْلِيَةِ بِالْفَضَائِلِ وَالْحَسَنَاتِ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَمُجْلِبَةٌ لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ. وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمُ: الدُّعَاءُ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ [التَّوْبَة: 99] . وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ بِصَدَقَتِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ . كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى يَجْمَعُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَبَيْنَ لَفْظِهَا فَكَانَ يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ. وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنَ النَّبِيءِ الدُّعَاءُ. وَجُمْلَة: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُ سَكَنٌ لَهُمْ، أَيْ سَبَبُ سَكَنٍ لَهُمْ، أَيْ خَيْرٌ. فَإِطْلَاقُ السَّكَنِ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ. وَالسَّكَنُ: بِفَتْحَتَيْنِ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، أَيْ يُطْمَأَنُّ إِلَيْهِ وَيُرْتَاحُ بِهِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ سُكُونُ النَّفْسِ، أَيْ سَلَامَتُهَا مِنَ الْخَوْفِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ يُوجِبُ كَثْرَةَ الْحَذَرِ وَاضْطِرَابَ الرَّأْيِ فَتَكُونُ النَّفْسُ كَأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ قَلَقًا لِأَنَّ الْقَلَقَ كَثْرَةُ التَّحَرُّكِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَام: 96] وَقَالَ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً [النَّحْل: 80] ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الزَّوْجَةِ السَّكَنُ، أَوْ لِأَنَّ دُعَاءَهُ لَهُمْ يَزِيدُ نُفُوسَهُمْ صَلَاحًا وَسُكُونًا إِلَى الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَرَدُّدٌ وَاضْطِرَابٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: 45] ، وَالطَّاعَةَ اطْمِئْنَانٌ وَيَقِينٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: 28] . وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمِيعِ هُنَا الْمُجِيبُ لِلدُّعَاءِ. وَذِكْرُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى قَبُولِ دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِدُعَائِهِ. وَذِكْرُ الْعَلِيمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ إِلَّا لِأَنَّ فِي دُعَائِهِ لَهُمْ خَيْرًا عَظِيمًا وَصَلَاحًا فِي الْأُمُورِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ صَلاتَكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ

[سورة التوبة (9) : آية 104]

صَلاتَكَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَالْقِرَاءَتَانِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جِنْسُ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ أَفَادَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ بِالْمُطَابَقَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ يَعُمُّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فُهِمَتْ أَفْرَادُ الْجِنْس بالالتزام. [104] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 104] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) إِنْ كَانَ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَعَرَّضُوا أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدَقَةِ قَدْ بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمُ اضْطِرَابٌ مِنْ خَوْفٍ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَتُهُمْ مَقْبُولَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَكَانَ قَوْله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَة: 103] مُشِيرًا إِلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ اقْتِرَانُ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَقَبُولِ الصَّدَقَاتِ هُنَا لِيُنَاظِرَ قَوْلَهُ: اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [التَّوْبَة: 102] وَقَوْلَهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: 103] كَانَتْ جُمْلَةُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ استينافا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ التَّعْلِيلِ بقوله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَة: 103] ، لِأَنَّهُ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مُوجِبِ اضْطِرَابِ نُفُوسِهِمْ بَعْدَ أَنْ تَابُوا، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرًا مَشُوبًا بِتَعْجِيبٍ مِنْ تَرَدُّدِهِمْ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّذْكِيرُ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى حَالِ نِسْيَانِهِ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ يَعْلَمُوا عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ شَكٌّ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَكَانَ قَوْله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَة: 103] مُجَرَّدَ إِرْشَادٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ إِلَى حِكْمَةِ دُعَائِهِ لَهُمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُ يُصْلِحُ نُفُوسَهُمْ وَيُقَوِّي إِيمَانَهُمْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التَّوْبَة: 103] ، وَكَانَتْ جُمْلَةُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِطْرَادِ لِتَرْغِيبِ أَمْثَالِ أُولَئِكَ فِي التَّوْبَةِ مِمَّنْ تَأَخَّرُوا عَنْهَا، وَكَانَ ضَمِيرُ أَلَمْ يَعْلَمُوا عَائِدًا إِلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقَامِ التَّنْزِيلِ وَهُوَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا. وَنُزِّلَ جَمِيعُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ قَبُولَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ يَعْلَمُ قَبُولَهَا وَمَنْ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةً، وَكَانَ الْكَلَامُ أَيْضًا مَسُوقًا لِلتَّحْضِيضِ.

[سورة التوبة (9) : آية 105]

وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَجِبُ الْعِلْمُ بِأَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى أَنَّهُ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، أَيِ الْمَوْصُوفُ بِالْإِكْثَارِ مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ، الرَّحِيمُ لِعِبَادِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ فَتَعْقِيبُ التَّوَّابُ بِ الرَّحِيمُ فِي غَايَة الْمُنَاسبَة. [105] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 105] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ [التَّوْبَةَ: 104] الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ إِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَقُلْ لَهُمُ اعْمَلُوا، أَيْ بَعْدَ قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةَ بِمَا مَضَى فَوَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الرَّاغِبِ فِي الْكَمَالِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ أَنْ يَزِيدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَجْبُرَ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانَتْ حَقِيقَةً بِأَنْ يُعَمِّرَهَا بِالْحَسَنَاتِ فَعَمَّرَهَا بِالسَّيِّئَاتِ فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهَا التَّوْبَةُ زَالَتِ السَّيِّئَاتُ وَأَصْبَحَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ فَارِغَةً مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِالْعَمَلِ عَقِبَ الْإِعْلَامِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَدُلُّوا عَلَى صِدْقِ تَوْبَتِهِمْ وَفَرْطِ رَغْبَتِهِمْ فِي الِارْتِقَاءِ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِالَّذِينَ سَبَقُوهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلِذَلِكَ كَانَ حَذْفُ مَفْعُولِ اعْمَلُوا لِأَجْلِ التَّعْوِيلِ عَلَى الْقَرِينَةِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ بِعَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ مَا يَشْمَلُ الْعَمَلَ النَّفْسَانِيَّ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالنِّيَّةِ. وَإِطْلَاقُ الْعَمَلِ عَلَى مَا يَشْمَلُ ذَلِكَ تَغْلِيبٌ. وَتَفْرِيعُ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ زِيَادَةٌ فِي التَّحْضِيضِ. وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّقْصِيرِ أَوْ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ كَوْنَ عَمَلِهِمْ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى جَعْلِهِ يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَذَلِكَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الْإِحْسَانِ: «هُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَعَطْفُ وَرَسُولُهُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مُعَامَلَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 106]

وَعَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا تَابُوا قَدْ رَجَعُوا إِلَى حَضِيرَةِ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ فَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَهُمْ كَانُوا بِمَحَلِّ الْكَرَامَةِ مِنْهُمْ وَإِلَّا كَانُوا مَلْحُوظِينَ مِنْهُمْ بِعَيْنِ الْغَضَبِ وَالْإِنْكَارِ. وَذَلِكَ مِمَّا يَحْذَرُهُ كُلُّ أَحَدٍ هُوَ مِنْ قَوْمٍ يَرْمُقُونَهُ شَزْرًا وَيَرَوْنَهُ قَدْ جَاءَ نُكْرًا. وَالرُّؤْيَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى رُؤْيَةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَهِيَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعَاتِ سَوَاءً كَانَتْ ذَوَاتِ مُبْصِرَاتٍ أَمْ كَانَتْ أَحْدَاثًا مَسْمُوعَاتٍ وَمَعَانِيَ مُدْرَكَاتٍ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ الْمَعْنَى الْمُجْزَى لِقَوْلِهِ: عَمَلَكُمْ. وَجُمْلَةُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. وَهُوَ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ مَعًا عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِيهِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيره آنِفا. [106] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) هَذَا فَرِيقٌ آخَرُ عُطِفَ خَبَرُهُ عَلَى خَبَرِ الْفِرَقِ الْآخَرِينَ. وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَمْرُهُمْ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بِمَا يَشَاءُ. وَهَؤُلَاءِ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ، هُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَثَلَاثَتُهُمْ قَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَلَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُهُمْ نِفَاقًا وَلَا كَرَاهِيَةً لِلْجِهَادِ وَلَكِنَّهُمْ شُغِلُوا عِنْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَلْحَقُونَهُ وَانْقَضَتِ الْأَيَّامُ وَأَيِسُوا مِنَ اللِّحَاقِ. وَسَأَلَ عَنْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي تَبُوكَ. فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْهُ وَصَدَقُوهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ نِسَائِهِمْ، فَامْتَثَلُوا وَبَقُوا كَذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَهُمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي تِلْكَ الْمُدَّةِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَة: 71] . وَأُنْزِلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التَّوْبَة: 117- 119] . وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ أَغَرُّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» .

عَلَى التَّوْبَةِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى فَتْحِ بَابِهَا. وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ عَوْدَ ضَمِيرِ أَلَمْ يَعْلَمُوا [التَّوْبَة: 104] إِلَى الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ [التَّوْبَةَ: 104] (هُوَ) ضَمِيرُ فَصْلٍ مُفِيدٌ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وعَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: 104] مُتَعَلِّقَةٌ بِ يَقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى يَتَجَاوَزُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْمَعَاصِي الْمَتُوبِ مِنْهَا. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ عِبَادِهِ. وَكَانَ حَقُّ تَعْدِيَةِ فِعْلِ (يَقْبَلُ) أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ (مِنْ) . وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّ (عَنْ) أبلغ لِأَنَّهُ ينبىء عَنِ الْقَبُولِ مَعَ تَسْهِيلِ سَبِيلِهِ إِلَى التَّوْبَةِ الَّتِي قُبِلَتْ. وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ذَلِكَ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَضْمِينِ مَعْنَى التَّجَاوُزِ. وَجِيءَ بِالْخَبَرِ فِي صُورَةٍ كُلِّيَّةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْمِيمُ الْخطاب، فَالْمُرَاد ب عِبادِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ هِيَ الْإِيمَانُ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ قَطْعًا إِذَا كَانَتْ تَوْبَةً صَحِيحَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْبَةِ الْكَافِرِ عَنْ كُفْرِهِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّ أَدِلَّتَهُ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ دَلَالَةَ ظَوَاهِرَ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. مَقْبُولَةٌ قَطْعًا. وَنُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُوهُ وَهُوَ الْحَقُّ. وَادَّعَى الْإِمَامُ فِي «الْمَعَالِمِ» الْإِجْمَاع عَلَيْهِ وَهِي أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمَازِرِيُّ: إِنَّمَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ طَائِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، يَعْنُونَ لِأَنَّ أَدِلَّةَ قَبُولِ جِنْسِ التَّوْبَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مُتَكَاثِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ وَلَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ تَائِبٍ بِخُصُوصِهِ. وَكَأَنَّ خِلَافَ هَؤُلَاءِ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ بِأَنَّ التَّائِبَ الْمُعَيَّنَ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا. وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي تَوْبَةٍ مُسْتَوْفِيَّةٍ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ (¬1) السُّوءَ بِجَهالَةٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [17] . وَالْأَخْذُ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 104] مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقَبُولِ، لِظُهُورِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ أَخْذًا حَقِيقِيًّا، فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الصَّدَقَةِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة (يعلمُونَ) وَهُوَ خطأ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ مُرْجَوْنَ بِسُكُونِ الْوَاوِ بِدُونِ هَمْزٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْجَاهُ بِالْأَلِفِ، وَهُوَ مُخَفَّفُ أَرْجَأَهُ بِالْهَمْزِ إِذَا أَخَّرَهُ، فَيُقَالُ فِي مُضَارِعِهِ الْمُخَفَّفِ: أَرْجَيْتُهُ بِالْيَاءِ، كَقَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ [الْأَحْزَاب: 51] بِالْيَاءِ، فَأَصْلُ مُرْجَوْنَ مُرْجَيُونَ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّة مُرْجَوْنَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْجِيمِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْل كَمَا قرىء ترجيء من تشَاء [الْأَحْزَاب: 51] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَمْرِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مُؤَخَّرُونَ لِأَجْلِ أَمْرِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ. وَفِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ، تَقْدِيرُهُ: لِأَجْلِ انْتِظَارِ أَمْرِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مُشْعِرٌ بِانْتِظَارِ شَيْءٍ. وَجُمْلَةُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِ خَبَرِهَا وَهُوَ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَيْ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إِمَّا تَعْذِيبُهُمْ، وَإِمَّا تَوْبَتُهُ عَلَيْهِمْ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ تَابُوا. وَالتَّعْذِيبُ مُفِيدٌ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ حِينَئِذٍ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنَبٍ كَبِيرٍ. وَذَنْبُهُمْ هُوَ التَّخَلُّفُ عَنِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] الْآيَةَ. وَقَبُولُ التَّوْبَةِ عَمَّا مَضَى فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. وإِمَّا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ. وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى (أَوِ) الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ، إِلَّا أَنَّ (إِمَّا) تَدْخُلُ عَلَى كِلَا الِاسْمَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا وَتَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تُتْلَى بِالْوَاوِ، وَ (أَوْ) لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى ثَانِي الِاسْمَيْنِ. وَكَانَ التَّسَاوِي بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مَعَ (إِمَّا) أَظْهَرَ مِنْهُ مَعَ (أَوْ) لِأَنَّ (أَوْ) تُشْعِرُ بِأَنَّ الِاسْمَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مَقْصُودٌ ابْتِدَاءً. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [115] . ويُعَذِّبُهُمْ- ويَتُوبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَانِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ حُذِفَتْ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةُ مِنْهُمَا فَارْتَفَعَا كَارْتِفَاعِ قَوْلِهِمْ: «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» لِأَنَّ مَوْقِعَ مَا بَعْدَ (إِمَّا) لِلِاسْمِ نَحْوَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مَرْيَم: 75] وإِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الْكَهْف: 86] . وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِإِبْهَامِ أَمْرِهِمْ عَلَى النَّاسِ، أَيْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، مُحْكَمٌ تَقْدِيرُهُ حِينَ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَته.

[سورة التوبة (9) : الآيات 107 إلى 108]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : الْآيَات 107 إِلَى 108] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) هَذَا كَلَامٌ عَلَى فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْمُؤَاخَذِينَ بِأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِهَا، وَهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَنَوْا مَسْجِدًا حَوْلَ قُبَاءَ لِغَرَضٍ سَيِّءٍ لِيَنْصَرِفَ إِخْوَانُهُمْ عَنْ مَسْجِدِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْفَرِدُوا مَعَهُمْ بِمَسْجِدٍ يَخُصُّهُمْ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا غَيْرَ مُفْتَتَحَةٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَنُكْتَةُ الِاسْتِئْنَافِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالِ الْمُرَادِ بِهَا وَبَيْنَ حَالِ الْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُمُ الْمُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَرَأَهَا الْبَقِيَّةُ بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي أَوَّلِهَا، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي ذِكْرِ فَرِيقٍ آخَرَ مِثْلِ مَنْ ذُكِرَ فِيمَا قَبْلَهَا. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ إِثْرَ جُمْلَةٍ وَلَيْسَ مَا بَعْدَ الْوَاوِ عَطْفَ مُفْرَدٍ. وَقَوْلُهُ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً كَمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَالرَّابِطُ هُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقُمْ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ مَفْعُولُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فَهُوَ سَبَبِيٌّ لِلْمُبْتَدَأِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا تَقُمْ فِي مَسْجِدٍ اتَّخَذُوهُ ضِرَارًا، أَوْ فِي مَسْجِدِهِمْ، كَمَا قَدَّرَهُ الْكِسَائِيُّ. وَمَنْ أَعْرَبُوا أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ [التَّوْبَة: 109] خَبَرًا فَقَدْ بَعُدُوا عَنِ الْمَعْنَى. وَالْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى قِصَّةِ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ مَسْجِدًا قُرْبَ مَسْجِدِ قُبَاءَ لِقَصْدِ الضِّرَارِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي غُنْمِ بْنِ عَوْفٍ وَبَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي. كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سَمَّاهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ بِنَائِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّ أَبَا عَامِرٍ

وَاسْمُهُ عَبْدُ عَمْرٍو، وَيُلَقَّبُ بِالرَّاهِبِ مِنْ بَنِي غُنْمِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ جَاهَرَ بِالْعَدَاوَةِ وَخَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَحَزَّبَ الْأَحْزَابَ الَّتِي حَاصَرَتِ الْمَدِينَةَ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ فَلَمَّا هَزَمَهُمُ اللَّهُ أَقَامَ أَبُو عَامِرٍ بِمَكَّةَ. وَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ هَرَبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمَّا فُتِحَتِ الطَّائِفُ وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ خَرَجَ أَبُو عَامِرٍ إِلَى الشَّامِ يَسْتَنْصِرُ بِقَيْصَرَ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْمِهِ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَبْنُوا مَسْجِدًا لِيَخْلُصُوا فِيهِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِدُهُمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي جَيْشٍ مِنَ الرُّومِ وَيُخْرِجُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَبَعْضُهُمْ مِنْ أَحْلَافِهِمْ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، فَبَنَوْهُ بِجَانِبِ مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ مَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ. وَأَتَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ وَإِذَا قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَلَّيْنَا فِيهِ. فَلَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِهِ إِلَّا خَيْرًا. وَالضِّرَارُ: مَصْدَرُ ضَارَّ مُبَالَغَةٌ فِي ضَرَّ، أَيْ ضِرَارًا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا قَصَدُوهُ مِنْ صَرْفِ بَنِي غُنْمٍ وَبَنِي سَالِمٍ عَنْ قُبَاءَ. وَالْإِرْصَادُ: التَّهْيِئَةُ. وَالْمُرَادُ بِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، لِأَنَّهُ حَارَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْأَحْزَابِ وَحَارَبَهُ مَعَ ثَقِيفٍ وَهَوَازِنَ، فَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، أَيْ مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ. وَجُمْلَةُ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى مُعْتَرِضَةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْحُسْنَى: الْخَيْرُ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مُعْتَرِضَةٌ. وَجُمْلَةُ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً هِيَ الْخَبَرُ عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ أَوَّلَهَا قِيَامٌ.

وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تُكْسِبُهُ يُمْنًا وَبَرَكَةً فَلَا يَرَى الْمُسْلِمُونَ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ مَزِيَّةً عَلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ بَنُو غُنْمٍ وَبَنُو سَالِمٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ غَرَضُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ وَضْعِهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مُفْضِيَةً إِلَى تَرْوِيجِ مَقْصِدِهِمُ الْفَاسِدِ صَارَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى مَفْسَدَةٍ فَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا النَّهْيُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا نُهِيَ النَّبِيءُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سَلَبَ عَنْهُ وَصْفَ الْمَسْجِدِيَّةِ فَصَارَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ بَاطِلَةً لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَوَحْشِيًّا مَوْلَى الْمُطْعَمِ بْنِ عَدِيٍّ وَمَالِكَ بْنَ الدَّخْشَمِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمُوهُ وَحَرِّقُوهُ» ، فَفَعَلُوا . وَتَحْرِيقُهُ تَحْرِيقُ الْأَعْوَادِ الَّتِي يُتَّخَذُ مِنْهَا السَّقْفُ، وَالْجُذُوعِ الَّتِي تُجْعَلُ لَهُ أَعْمِدَةً. وَقَوْلُهُ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ احْتِرَاسٌ مِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ عِبَادَةٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَغَّبُوهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي دَعَوْهُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ أَوْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ مِنْ حُظُوظِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَكُونَ صَرْفُهُ عَنْ صَلَاةٍ فِي وَقْتٍ دُعِيَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَهَذَا أَدَبٌ نَفْسَانِيٌّ عَظِيمٌ. وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ مَكِيدَةِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَطْعَنُوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ دُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِمْ فَامْتَنَعَ، فَقَوْلُهُ: أَحَقُّ وَإِنْ كَانَ اسْمَ تَفْضِيلِ فَهُوَ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَزَالَ كَوْنَهُ حَقِيقًا بِصَلَاتِهِ فِيهِ أَصْلًا. وَلَعَلَّ نُكْتَةَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ أَنَّهُ تَهَكُّمٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِمُجَازَاتِهِمْ ظَاهِرًا فِي دَعْوَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقِيقًا بِصَلَاتِهِ بِمَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقُّ مِنْهُ، فَيُعْرَفُ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أَنَّ هَذَا أُسِّسَ عَلَى ضِدِّهَا.

وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا» . يَعْنِي الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بِالْمَدِينَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِأَنَّهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَصْحَابِ مَسْجِدِ قُبَاءَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ هُوَ مَسْجِدُهُمْ، لِقَوْلِهِ: فِيهِ رِجالٌ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ لَا مَسْجِدًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ كُلِّيًّا انْحَصَرَ فِي فَرْدَيْنِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ، فَأَيُّهُمَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي دَعَوْهُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ كَانَ ذَلِكَ أَحَقَّ وَأَجْدَرَ، فَيَحْصُلُ النَّجَاءُ مِنْ حَظِّ الشَّيْطَانِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِمْ، وَمِنْ مَطَاعِنِهِمْ أَيْضًا، وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ كَانَ قِيَامُ الرَّسُولِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ هُوَ دَأْبَهُ. وَمِنْ جَلِيلِ الْمَنَازِعِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِيهَا مِنْ حُجَّةٍ لِصِحَّةِ آرَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَعَلُوا الْعَامَ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمُ الْهِجْرَةِ مَبْدَأَ التَّارِيخِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ مَا انْتَزَعَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» فِي فَصْلِ تَأْسِيسِ مَسْجِدِ قُبَاءَ إِذْ قَالَ: «وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَلَا أَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ فِي اللَّفْظِ الظَّاهِرِ فِيهِ) مِنَ الْفِقْهِ صِحَّةُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَأَمِنَ فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقَ هَذَا ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ» . وَجُمْلَةُ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ثَنَاءٌ عَلَى مُؤْمِنِي الْأَنْصَارِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ بِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَسْجِدِ قُبَاءَ. وَجَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ (مَسْجِدٍ) الَّذِي هُوَ جِنْسٌ، كَالْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: 119] .

[سورة التوبة (9) : آية 109]

وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَهْلَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لَيْسُوا كَذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ وَالْغُسْلِ بِالْمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطَّهُورِ فَمَا طَهُورُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ أَحَدَنَا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ. قَالَ: هُوَ ذَلِكَ فَعَلَيْكُمُوهُ» ، فَهَذَا يَعُمُّ الْأَنْصَارَ كُلَّهُمْ. وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أَهْلَ قُبَاءَ عَنْ طَهَارَتِهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ هُمْ أَيْضًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسُؤَالُهُ إِيَّاهُمْ لِتَحَقُّقِ اطِّرَادِ هَذَا التَّطَهُّرِ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ. وَأُطْلِقَتِ الْمَحَبَّةُ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّونَ كِنَايَةً عَنْ عَمَلِ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ لِأَنَّ الَّذِي يُحِبُّ شَيْئًا مُمْكِنًا يَعْمَلُهُ لَا مَحَالَةَ. فَقَصَدَ التَّنْوِيهَ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَتَطَهَّرُونَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِالطَّهَارَةِ وَإِرْضَاءً لِمَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ إِيَّاهَا، بِحَيْثُ صَارَتِ الطِّهَارَةُ خُلُقًا لَهُمْ فَلَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لَفَعَلُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ تَذْيِيلٌ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُفُوسَهُمْ وَافَقَتْ خُلُقًا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَفَى بِذَلِكَ تَنْوِيهًا بزكاء أنفسهم. [109] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 109] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: 108] لِزِيَادَةِ بَيَانِ أَحَقِّيَّةِ الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى بِالصَّلَاةِ فِيهِ. وَبَيَانُ أَنَّ تَفْضِيلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ فِي أَنَّهُ حَقِيقٌ بِالصَّلَاةِ فِيهِ تَفْضِيلٌ مَسْلُوبُ الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ لَيْسَ حَقِيقًا بِالصَّلَاةِ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ، لِأَنَّ صَلَاةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ لَوْ وَقَعَتْ لَأَكْسَبَتْ مَقْصِدَ وَاضِعِيهِ رَوَاجًا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَهُوَ غَرَضُهُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْفَاءُ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَحَقِّيَّةِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ بِالتَّصْدِيرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَالتَّأْسِيسُ: بِنَاءُ الْأَسَاسِ، وَهُوَ قَاعِدَةُ الْجِدَارِ الْمَبْنِيِّ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ أَوْ جَصٍّ. وَالْبُنْيَانُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، اسْمٌ لِإِقَامَةِ الْبَيْتِ وَوَضْعِهِ سَوَاءً كَانَ الْبَيْتُ مِنْ أَثْوَابٍ أَمْ مِنْ أَدَمٍ أَمْ كَانَ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ فَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءٌ. وَيُطْلَقُ الْبُنْيَانُ عَلَى الْمَبْنِيِّ مِنَ الْحَجَرِ وَالطِّينِ خَاصَّةً. وَهُوَ هَنَا مُطْلَقٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَي الْمَبْنِيّ. وَمَا صدق (مَنْ) صَاحِبُ الْبِنَاءِ وَمُسْتَحِقُّهُ، فَإِضَافَةُ الْبُنْيَانِ إِلَى ضَمِيرِ (مَنْ) إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ. وَشُبِّهَ الْقَصْدُ الَّذِي جُعِلَ الْبِنَاءُ لِأَجْلِهِ بِأَسَاسِ الْبِنَاءِ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ أُسِّسَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْأَسَاسِ أَنْ تُطْلَبَ لَهُ صَلَابَةُ الْأَرْضِ لِدَوَامِهِ جُعِلَتِ التَّقْوَى فِي الْقَصْدِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ أَحَدُ الْمَسْجِدَيْنِ، فَشُبِّهَتِ التَّقْوَى بِمَا يَرْتَكِزُ عَلَيْهِ الْأَسَاسُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ بِشَيْءٍ مِنْ مُلَائِمَاتِهِ وَهُوَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ. وَفُهِمَ أَنَّ هَذَا الْمُشَبَّهَ بِهِ شَيْءٌ رَاسِخٌ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ فِي تَشْبِيهِ الضِّدِّ بِمَا أُسِّسَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ شُبِّهَ الْمَقْصِدُ الْفَاسِدُ بِالْبِنَاءِ بِجَرْفِ جُرُفٍ مُنْهَارٍ فِي عَدَمِ ثَبَاتِ مَا يُقَامُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسَاسِ بَلْهَ الْبِنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ. وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ تَرْشِيحٌ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الْأَخِيرَةِ تَمْثِيلُ حَالَةِ هَدْمِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِفْضَائِهِ بِبَانِيهِ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ بِانْهِيَارِ الْبِنَاءِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارَ بِسَاكِنِهِ فِي هُوَّةٍ. وَجَعَلَ الِانْهِيَارَ بِهِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ إِفْضَاءً إِلَى الْغَايَةِ مِنَ التَّشْبِيهِ. فَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَحْسُوسٍ وَمَعْقُولٍ وَكَذَلِكَ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا. وَمَقْصُودٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ الْأَوَّلَ حَصَلَ مِنْهُ غَرَضُ بَانِيهِ

[سورة التوبة (9) : آية 110]

لِأَنَّ غَرَضَ الْبَانِي دَوَامُ مَا بَنَاهُ. فَهُمْ لَمَّا بَنَوْهُ لِقَصْدِ التَّقْوَى وَرِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَقْتَضِي خَيْبَتَهُمْ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي مُقَابِلِهِ عُلِمَ أَنَّهُمْ قَدِ اتَّقَوُا اللَّهَ بِذَلِكَ وَأَرْضَوْهُ فَفَازُوا بِالْجَنَّةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ، وَأَنَّ الْبُنْيَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُ بَانِيهِ وَهُوَ الضِّرَارُ وَالتَّفْرِيقُ فَخَابُوا فِيمَا قَصَدُوهُ فَلَمْ يَثْبُتِ الْمَقْصِدُ، وَكَانَ عَدَمُ ثَبَاتِهِ مُفْضِيًا بِهِمْ إِلَى النَّارِ كَمَا يُفْضِي الْبِنَاءُ الْمُنْهَارُ بِسَاكِنِهِ إِلَى الْهَلَاكِ. وَالشَّفَا- بِفَتْحِ الشِّينِ وَبِالْقَصْرِ-: حَرْفُ الْبِئْرِ وَحَرْفُ الْحُفْرَةِ. وَالْجُرُفُ- بِضَمَّتَيْنِ-: جَانِبُ الْوَادِي وَجَانِبُ الْهُوَّةِ. وَهَارٍ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ هَارَ الْبِنَاءُ إِذَا تَصَدَّعَ، فَقِيلَ: أَصْلُهُ هَوَرَ بِفَتْحَتَيْنِ كَمَا قَالُوا خَلَفَ فِي خَالَفَ. وَلَيْسَتِ الْأَلِفُ الَّتِي بَعْدَ الْهَاءِ أَلْفَ فَاعِلٍ بَلْ هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ مُتَحَرِّكَةٌ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ هَارَ الْبِنَاءُ وَأَصْلُ وَزْنِهِ هَاوَرَ، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ بَيْنَ عَيْنِهِ وَلَامِهِ تَخْفِيفًا. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ مِنَ اللُّغَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: شَاكِي السِّلَاحِ، أَصْلُهُ شَائِكٌ. وَرَجُلٌ صَاتٌ عَالِي الصَّوْتِ أَصْلُهُ صَائِتٌ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمُ: انْهَارَ وَلَمْ يَقُولُوا انْهَرَى. وَهَرٍ مُبَالَغَةٌ فِي هَارٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُمَا فِعْلَ أُسِّسَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ بُنْيانَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ بُنْيانَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُرُفٍ- بِضَمِّ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ- بِسُكُونِ الرَّاءِ-. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضرار وَغَيرهم. [110] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 110] لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) جُمْلَةُ: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِتَعْدَادِ مَسَاوِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ بِذِكْرِ سُوءِ عَوَاقِبِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ سُوءَ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ سُوءَ وَقْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ

بِأَنْ نَهَى اللَّهُ رَسُولَهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَأَمَرَهُ بِهَدْمِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَهَاهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَدْ صَارَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مَنْهِيِّينَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَسُلِبَ عَنْهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدْمِهِ. وَيُرَجَّحُ هَذَا الْوَجْهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ بِضَمِيرِ الْمَسْجِدِ أَوِ الْبُنْيَانِ بَلْ جِيءَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التَّوْبَة: 107] كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَقُمْ فِيهِ وَلَا يَزَالُ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَكُونُ إِظْهَارُ لَفْظِ بُنْيانُهُمُ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِهِ. وَالرَّابِطُ هُوَ ضَمِيرُ قُلُوبِهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ لَمَّا بَنَوْهُ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِبَقَاءِ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ مَا دَامَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. وَجَعْلُ الْبُنْيَانِ رِيبَةً مُبَالَغَةٌ كَالْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِلرِّيبَةِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ، فَإِنَّ النِّفَاقَ شَكٌّ فِي الدِّينِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِخْلَاصِ لِلْكَافِرِينَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ اسْتِثْنَاءٌ تَهَكُّمِيٌّ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: 40] ، أَيْ يَبْقَى رِيبَةً أَبَدًا إِلَّا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ مِنْهُمْ وَمَا هِيَ بِمُقَطَّعَةٍ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِهَذَا الْجَعْلِ الْعَجِيبِ وَالْإِحْكَامِ الرَّشِيقِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ سَبَبَ حَسْرَةٍ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَقَطَّعَ بِضَمِّ التَّاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ تَقَطَّعَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَقَطَّعَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ بِحَرْفِ (إِلَى) الَّتِي للانتهاء.

[سورة التوبة (9) : آية 111]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 111] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّنْوِيهِ بِأَهْلِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُمْ جَيْشُ الْعُسْرَةِ، لِيَكُونَ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوَةِ وَكَانُوا صَادِقِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْبَاءِ الَّذِينَ أَضْمَرُوا الْكُفْرَ نِفَاقًا بِأَنَّهُمْ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَسَلْسَلَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] الْآيَاتِ، وَمَا تَوَلَّدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ وَاعْتِلَالِهِمْ وَمَا عَقَبَ ذَلِكَ مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، الْمُتَضَمِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَاتِحَةُ التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَتَمْثِيلِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُسْتَنْهَضُ لِعَمَلٍ فَيَتَثَاقَلُ إِلَى الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] نَاسَبَ أَنْ يُنْزَلَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ الطَّالِبِ فِي كَوْنِ جَزَاءِ الْجِهَادِ اسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً لِإِفَادَتِهَا مَعْنَى الْمُضِيِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ قَدِ اسْتَقَرَّ مِنْ قَبْلُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُمْ كَالَّذِينَ نَسُوهُ أَوْ تَنَاسَوْهُ حِينَ لَمْ يَخِفُّوا إِلَى النَّفِيرِ الَّذِي اسْتُنْفِرُوهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِذَلِكَ قَدِيمٌ مُتَكَرِّرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. وَالِاشْتِرَاءُ: مُسْتَعَارٌ لِلْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ عَنِ الْجِهَادِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا بِمُشَابَهَةِ الْوَعْدِ الِاشْتِرَاءَ فِي أَنَّهُ إِعْطَاءُ شَيْءٍ مُقَابِلَ بَذْلٍ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ.

وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْبَاءِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الثَّمَنِ فِي صِيَغِ الِاشْتِرَاءِ أُدْخِلَتْ هُنَا فِي بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ لِمُشَابَهَةِ هَذَا الْوَعْدِ الثَّمَنَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ تَمْثِيلٌ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ هَيْئَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَأُخْرَى مُشَبَّهٌ بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَظْهَرِ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ. وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ وَصْفِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ الَّذِي يَخْتِمُ الرِّسَالَةَ. وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ- إِلَى قَوْلِهِ- لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الْفَتْح: 29] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ أُمِرُوا مِنْهُمْ بِالْجِهَادِ وَمَنْ أُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى اتِّبَاعِ الدِّينِ مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ الْمَسِيحِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْقَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ. فَإِطْلَاقُ الْمُقَاتَلَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ مَجَازٌ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ فِعْلُ يُقاتِلُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَاللَّامُ فِي لَهُمُ الْجَنَّةَ لِلْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. وَالْمَجْرُورُ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِتَحْقِيقِ تَمَلُّكِهِمُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمَّا كَانَ آجِلًا كَانَ هَذَا الْبَيْعُ مِنْ جِنْسِ السَّلَمِ. وَجُمْلَةُ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اشْتِرَاءَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ لِغَرَابَتِهِ فِي الظَّاهِرِ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَقُولُ: كَيْفَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؟ فَكَانَ جَوَابُهُ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: «فَقَوْلُهُ يُقاتِلُونَ بَيَانٌ، لِأَنَّ مَكَانَ التَّسْلِيمِ هُوَ الْمَعْرَكَةُ، لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ سَلَمٌ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَقُلْ بِالْجَنَّةِ. وَأُتِيَ بِالْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ ثُمَّ أَلْزَمَ اللَّهُ الْبَيْعَ مِنْ جَانِبِهِ وَضَمِنَ إِيصَالَ الثَّمَنِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، أَيْ لَا إِقَالَةَ

وَلَا اسْتِقَالَةَ مِنْ حَضْرَةِ الْعِزَّةِ. ثُمَّ مَا اكْتَفَى بِذَلِكَ بَلْ عَيَّنَ الصُّكُوكَ الْمُثْبَتَ فِيهَا هَذِهِ الْمُبَايَعَةُ وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ» اه. وَهُوَ يَرْمِي بِهَذَا إِلَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ تَمْثِيلًا عَكْسَ مَا فَسَّرْنَا بِهِ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى يُقاتِلُونَ، لِأَنَّ حَالَ الْمُقَاتِلِ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَقْتُلُونَ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَمَا بَعْدَهُ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْعَكْسِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اهْتِمَامٌ بِجِهَادِهِمْ بِقَتْلِ الْعَدُوِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى اهْتِمَامٌ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَدْخَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ. ووَعْداً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنِ اشْتَرى، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى وَعَدَ إِذِ الْعِوَضُ مُؤَجَّلٌ. وحَقًّا صِفَةُ وَعْداً. وعَلَيْهِ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِ حَقًّا، قُدِّمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (عَلَى) مِنْ مَعْنَى الْوُجُوبِ. وَقَوْلُهُ: فِي التَّوْراةِ حَالٌ مِنْ وَعْداً. وَالظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةُ الْكِتَابِ لِلْمَكْتُوبِ، أَيْ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ (¬1) . وَجُمْلَةُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، أَيْ وَعْدًا حَقًّا عَلَيْهِ وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا الْوَعْدَ مُحْتَمِلًا لِلْوَفَاءِ وَعَدَمِهِ كَغَالِبِ الْوُعُودِ فَيُقَالُ: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ إِنْكَارًا عَلَيْهِ. وأَوْفى اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ إِذَا فَعَلَ مَا عَاهَدَ عَلَى فِعْلِهِ. ¬

(¬1) من ذَلِك مَا فِي الاصحاح الْعشْرين من سفر التَّثْنِيَة فَهُوَ فِي أَحْكَام الْحَرْب وَمَا فِي الاصحاح من سفر يُوشَع. وَفِي الْفَقْرَة (24) من الاصحاح الثَّامِن عشر من إنجيل لوقا.

[سورة التوبة (9) : آية 112]

وَ (مِنَ) تَفْضِيلِيَّةٌ، وَهِيَ لِلِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَيْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَذُكِرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عِوَضًا عَنْ ضَمِيرِهِ لِإِحْضَارِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ. وَالْعَهْدُ: الْوَعْدُ بِحلف والوعد الْمُؤَكّد، وَالْبَيْعَةُ عَهْدٌ، وَالْوَصِيَّةُ عَهْدٌ. وَتَفَرَّعَ عَلَى كَوْنِ الْوَعْدِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ كُلِّ وَاعِدٍ، أَنْ يَسْتَبْشِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِبَيْعِهِمْ هَذَا، فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأُضِيفَ الْبَيْعُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ إِظْهَارًا لِاغْتِبَاطِهِمْ بِهِ. وَوَصْفُهُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنى بِبَيْعِكُمُ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ. وَجُمْلَةُ: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ، فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْوَاقِعَ فِي أَوَّلِهِ جَامِعٌ لِصِفَاتِ ذَلِكَ الْبَيْعِ بِعِوَضَيْهِ. وَأُكِّدَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَبِالْجُمْلَةِ الاسمية وَالْوَصْف بِ الْعَظِيمُ الْمُفِيد للأهمية. [112] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 112] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) أَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ هُنَا أَوْصَافٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 111] فَكَانَ أَصْلُهَا الْجَرَّ، وَلَكِنَّهَا قُطِعَتْ عَنِ الْوَصْفِيَّةِ وَجُعِلَتْ أَخْبَارًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ اهْتِمَامًا بِهَذِهِ النُّعُوتِ اهْتِمَامًا أَخْرَجَهَا عَنِ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِعْمَالُ نَعْتًا مَقْطُوعًا، وَمَا هُوَ بِنَعْتٍ اصْطِلَاحِيٍّ وَلَكِنَّهُ نَعْتٌ فِي الْمَعْنَى. فَ التَّائِبُونَ مُرَادٌ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ لِلذُّنُوبِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَافِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي التَّوْبَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [التَّوْبَة: 117] الْآيَةَ أَمْ كَانَ بَعْدَ اقْتِرَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ [التَّوْبَة: 74] بَعْدَ قَوْلِهِ:

وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التَّوْبَة: 74] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا. وَأَوَّلُ التَّوْبَةِ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ إِقْلَاعٌ عَنِ الشِّرْكِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَتَابَ مِنْهُ. وَبِذَلِكَ فَارَقَ النَّعْتُ الْمَنْعُوتَ وَهُوَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 111] . والْعابِدُونَ: الْمُؤَدُّونَ لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. والْحامِدُونَ: الْمُعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الشَّاكِرُونَ لَهُ. والسَّائِحُونَ: مُشْتَقٌّ مِنَ السِّيَاحَةِ. وَهِيَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ بِهِ سَيْرٌ خَاصٌّ مَحْمُودٌ شَرْعًا. وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي فِيهِ قُرْبَةٌ لِلَّهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، مِثْلُ سَفَرِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ أَوِ السَّفَرِ لِلْحَجِّ أَوِ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ. وَحَمْلُهُ هُنَا عَلَى السَّفَرِ لِلْجِهَادِ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ وَأَشْمَلُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ بِخِلَافِ الْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ. والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ: هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْمُصَلُّونَ، إِذِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ لَا تَخْلُو مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. والْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ: الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَيَأْبَاهُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ دُونَ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ وَتَرْكُهُ فِي الْأَخْبَارِ وَنَحْوِهَا جَائِزَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي عَطْفِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِقْلَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. ثُمَّ لَمَّا ذُكِرَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَامِعُونَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْمُصَلُّونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِمَّنْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَانَتْ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ رُكُوعًا فَقَطْ، قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] ، وَبَعْضُ الصَّلَوَاتِ سُجُودًا فَقَطْ كَبَعْضِ صَلَاةِ النَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمرَان: 43] . وَلَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَكَانَا صِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عُطِفَتَا بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اعْتِبَارُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كَالْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُمَا وَهُمَا الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ فَالْوَاوُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّوْبَة: 112] .

والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: صِفَةٌ جَامِعَةٌ لِلْعَمَلِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِهَا. وَحَقِيقَةُ الْحِفْظِ تَوَخِّي بَقَاءِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرَادُ كَوْنُهُ فِيهِ رَغْبَةُ صَاحِبِهِ فِي بَقَائِهِ وَرِعَايَتِهِ عَنْ أَنْ يَضِيعَ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا شَائِعًا عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ وَالْحَافِظُونَ لِمَا عَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ غَيْرِ الْمُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَأُطْلِقَتِ الْحُدُودُ مَجَازًا عَلَى الْوَصَايَا وَالْأَوَامِرِ. فَالْحُدُودُ تَشْمَلُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [229] . وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِهَا هَذِهِ الْأَوْصَافُ. وَعُطِفَتْ بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُوهِمَ تَرْكُ الْعَطْفِ أَنَّهَا مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا صِفَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ مَعْدُودَتَانِ بَعْدَ صِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاوٌ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِ مَعْدُودٍ ثَامِنٍ، وَسَمَّوْهَا وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] . وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» «وَذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ كَالْحَرِيرِيِّ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَدُّوا قَالُوا: سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، إِيذَانًا بِأَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ تَامٌّ وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عَدَدٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَاتٍ إِحْدَاهَا: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ- سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْف: 22] . ثُمَّ قَالَ: الثَّانِيَةُ آيَةُ الزُّمَرِ [71] إِذْ قِيلَ: فُتِحَتْ فِي آيَةِ النَّارِ لِأَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ سَبْعَة، وَفُتِحَتْ [الزمر: 73] فِي آيَةِ الْجَنَّةِ إِذْ أَبْوَابُهَا ثَمَانِيَةٌ. ثُمَّ قَالَ: الثَّالِثَةُ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ الْوَصْفُ الثَّامِنُ. ثُمَّ قَالَ: وَالرَّابِعَةُ: وَأَبْكاراً فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ [5] ذَكَرَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَتَبَجَّحَ بِاسْتِخْرَاجِهَا وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذِكْرِهَا الثَّعْلَبِيُّ ... وَأَمَّا قَوْلُ الثَّعْلَبِيِّ: أَنَّ مِنْهَا الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] فَسَهْوٌ بَيِّنٌ وَإِنَّمَا هَذِهِ وَاوُ الْعَطْفِ اه. وَأَطَالَ فِي خِلَالِ كَلَامِهِ بِرُدُودٍ وَنُقُوضٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْأُسْتَاذِ النَّحْوِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكَفِيفِ الْمَالِقِيِّ (¬1) وَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا عَدُّوا: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ¬

(¬1) قَالَ ابْن عَطِيَّة وَكَانَ مِمَّن استوطن غرناطة وأقرأ فِيهَا فِي مُدَّة ابْن حبوس (أَي ديس بن حبوس الَّذِي تملك غرناطة من سنة 420 إِلَى أَن توفّي سنة 465) .

[سورة التوبة (9) : آية 113]

ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، خَمْسَةٌ، سِتَّةٌ، سَبْعَةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، تِسْعَةٌ، عَشَرَةٌ، فَهَكَذَا هِيَ لُغَتُهُمْ. وَمَتَى جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ أَمْرُ ثَمَانِيَةٍ أَدْخَلُوا الْوَاوَ» اه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَأَقُولُ: كَثُرَ الْخَوْضُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِلْوَاوِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَتَوْجِيهًا وَنَقْضًا. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ ثَابِتٌ، فَأَمَّا فِي الْمَعْدُودِ الثَّامِنِ فَقَدِ اطَّرَدَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا. وَلَا يَرِيبُكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُقْتَرِنِ بِالْوَاوِ فِيهَا لَيْسَ بِثَامِنٍ فِي الْعَدَّةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَوْنِهِ ثَامِنًا فِي الذِّكْرِ لَا فِي الرُّتْبَةِ. وَأَمَّا اقْتِرَانُ الْوَاوِ بِالْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الثَّامِنِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] . فَإِنَّ مَجِيءَ الْوَاوِ لِكَوْنِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةً، فَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا نُكْتَةً لَطِيفَةً جَاءَتِ اتِّفَاقِيَّةً. وَسَيَجِيءُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] . وَجُمْلَةُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 111] عَطْفَ إِنْشَاءٍ عَلَى خَبَرٍ. وَمِمَّا حَسَّنَهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَمْرَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَبْشِيرِهِمْ إِبْلَاغُهُمْ فَكَانَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مُرَادًا مِنْهَا مَعْنَيَانِ خَبَرِيٌّ وَإِنْشَائِيٌّ. فَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التَّوْبَة: 111] . وَالْبِشَارَةُ تقدّمت مرَارًا. [113] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 113] مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) اسْتِئْنَافٌ نُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَسْوِيَةً بَيْنَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَغْفِرَ فِي

انْتِفَاءِ أَهَمِّ الْغَرَضَيْنِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ حُصُولُ الْغُفْرَانِ، فَبَقِيَ لِلتَّخْيِيرِ غَرَضٌ آخَرُ وَهُوَ حُسْنُ الْقَوْلِ لِمَنْ يَرَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمُلَاطَفَةِ لِذَاتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، مِثْلُ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَرَادَ اللَّهُ نَسْخَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَرَجَ فِي تَلَقِّيهِ عَلَى عَادَةِ التَّشْرِيعِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. وَلَعَلَّ الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُبْقِيَ التَّخْيِيرُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ قَدْ ضَعُفَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَرُجِّحَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ بِانْقِرَاضِ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِحُسْنِ الْقَوْلِ وَغَلَبَةِ الدَّهْمَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ فَيُصْبِحُوا فَرِحِينَ بِأَنَّهُمْ رَبِحُوا الصَّفْقَتَيْنِ وَأَرْضَوُا الْفَرِيقَيْنِ، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا تَخْيِيرَ النَّبِيءِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ ذَهَبُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِأَهْلِيهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ طَمَعًا فِي إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَصْبَحَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى اعْتِقَادِ مُسَاوَاةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَغْفِرَةِ فَيَنْتَفِي التَّفَاضُلُ الْبَاعِثُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعًا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَهُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَة: 114] . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : هُوَ أَضْعَفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ، أَوْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سُؤَالِهِ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأُمِّهِ آمِنَةَ حِينَ زَارَ قَبْرَهَا بِالْأَبْوَاءِ. فَهُمَا خَبَرَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ. وَجَاءَتْ صِيغَةُ النَّهْيِ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ مُبَالَغَةً فِي التَّنَزُّهِ عَنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي آخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ

[سورة التوبة (9) : آية 114]

وَيَدْخُلُ فِي الْمُشْرِكِينَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ عَلِمَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِفَاقَهُمْ وَالَّذِينَ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ نِفَاقَهُمْ بِتَحَقُّقِ الصِّفَاتِ الَّتِي أُعْلِنَتْ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا. وَزِيَادَةُ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِقْصَاءِ أَقْرَبِ الْأَحْوَالِ إِلَى الْمَعْذِرَةِ، كَمَا هُوَ مُفَادُ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ، أَيْ فَأَوْلَى إِنْ لَمْ يَكُونُوا أُولِي قُرْبَى. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ لِقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ عَنِ الْمُخَالِفِ، وَتَمْهِيدٍ لِتَعْلِيمِ مَنِ اغْتَرَّ بِمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ مِنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاء: 86] . وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَة: 114] إِلَخْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (لَوْ) الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آل عمرَان [91] . [114] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 114] وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا كانَ للنبيء [التَّوْبَة: 113] إِلَخْ. وَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التَّوْبَة: 113] إِذْ كَانَ شَأْنُ مَا لَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَنْبَغِيَ لِغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِهِمْ مُتَّحِدَةٌ إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ نَبِيُّنَا مِنْ زِيَادَةِ الْفَضْلِ. وَهَذِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ (أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا) فَلَا جرم مَا كَانَ مَا وَرَدَ مِنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ قَدْ يُثِيرُ تَعَارُضًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْمَوْعِدَةُ: اسْمٌ لِلْوَعْدِ. وَالْوَعْدُ صَدَرَ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ لِإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الَّذِي وَعَدَ أَبَاهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَانَ اسْتِغْفَارُهُ لَهُ لِلْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ لَكَانَ يَتَّجِهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْوَعْدِ بِذَلِكَ وَعَلَى الْوَفَاءِ بِهِ مَا اتَّجَهَ عَلَى وُقُوعِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ. فَالتَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ بِالْإِيمَانِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُتَرَدِّدًا فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَمَّا قَالَ لَهُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مَرْيَم: 46] فَسَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ لَعَلَّهُ يَرْفُضُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.

وَطَرِيقُ تَبَيُّنِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ إِمَّا الْوَحْيُ بِأَنْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَإِمَّا بَعْدَ أَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ. وَالتَّبَرُّؤُ: تفعل من برىء مِنْ كَذَا إِذَا تَنَزَّهَ عَنْهُ، فَالتَّبَرُّؤُ مُبَالَغَةٌ فِي الْبَرَاءَةِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ على إِبْرَاهِيم. ولَأَوَّاهٌ فُسِّرَ بِمُعَانٍ تَرْجِعُ إِلَى الشَّفَقَةِ إِمَّا عَلَى النَّفْسِ فَتُفِيدُ الضَّرَاعَةَ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَإِمَّا عَلَى النَّاسِ فَتُفِيدُ الرَّحْمَةَ بِهِمْ وَالدُّعَاءَ لَهُم. وَلَفظ لَأَوَّاهٌ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ: الَّذِي يُكْثِرُ قَوْلَ أَوَّهْ بِلُغَاتِهِ الثَلَاثَ عَشْرَةَ الَّتِي عَدَّهَا فِي «الْقَامُوسِ» ، وَأَشْهَرُهَا أَوَّهْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ. قَالَ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» : وَهَذِهِ أَشْهَرُ لُغَاتِهَا. وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ بِمَعْنَى أَتَوَجَّعُ لِإِنْشَاءِ التَّوَجُّعِ، لَكِنَّ الْوَصْف ب لَأَوَّاهٌ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّأْفَةِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ حِينَ يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ. وَالْفِعْلُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ (أَوَّاهٌ) حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ ثُلَاثِيًّا لِأَنَّ أَمْثِلَةَ الْمُبَالَغَةِ تُصَاغُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ لَهُ، فَأَثْبَتَهُ قُطْرُبٌ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ. وَإِتْبَاعُ (لَأَوَّاهٌ) بِوَصْفِ (حَلِيمٌ) هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَرِينَةٌ عَلَى الْكِنَايَةِ وَإِيذَانٌ بِمُثَارِ التَّأَوُّهِ عِنْدَهُ. وَالْحَلِيمُ: صَاحِبُ الْحِلْمِ. وَالْحِلْمُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-: صِفَةٌ فِي النَّفْسِ وَهِيَ رَجَاحَةُ الْعَقْلِ وَثَبَاتَةٌ وَرَصَانَةٌ وَتَبَاعُدٌ عَنِ الْعُدْوَانِ. فَهُوَ صِفَةٌ تَقْتَضِي هَذِهِ الْأُمُورَ، وَيَجْمَعُهَا عَدَمُ الْقَسْوَةِ. وَلَا تُنَافِي الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ لَكِنْ بِدُونَ تَجَاوُزٍ لِلْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ فِي الشَّرَائِعِ أَوْ عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ. قَالَ: حَلِيمٌ إِذَا مَا الْحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ ... مَعَ الْحِلْمِ فِي عَيْنِ الْعَدو مهيب

[سورة التوبة (9) : آية 115]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ [التَّوْبَة: 114] لِاعْتِذَارٍ عَنِ النَّبِيءِ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي اسْتِغْفَارِهِمَا لِمَنِ اسْتَغْفَرَا لَهُمَا مِنْ أُولِي الْقُرْبَى كَأَبِي طَالِبٍ وَآزَرَ وَمِنَ الْأُمَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِأَنَّ فِعْلَهُمَا ذَلِكَ مَا كَانَ إِلَّا رَجَاءً مِنْهُمَا هدى من استغفرا لَهُ، وَإِعَانَةً لَهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمَا الثَّابِتُ عَلَى كُفْرِهِ إِمَّا بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِ تَرْكَا الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَا الرِّسَالَةَ وَنَصَحَا لِمَنِ اسْتَغْفَرَا لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى مَهَّدَ اللَّهُ لَهُمَا الِاعْتِذَارَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التَّوْبَة: 113] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: 114] . وَفِي ذَلِكَ مَعْذِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أُولِي قَرَابَتِهِمْ قَبْلَ هَذَا النَّهْيِ. فَهَذَا مِنْ بَابِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] . وَفِيهِ تَسْجِيلٌ أَيْضًا لِكَوْنِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ أَحْرِيَاءَ بِقَطْعِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مَا قَطَعُوهُ عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَمْهَلُوهُمْ وَوَعَدُوهُمْ وَبَيَّنُوا لَهُمْ وَأَعَانُوهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا طُغْيَانًا. وَمَعْنَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَعَادَةِ جَلَالِهِ أَنْ يَكْتُبَ الضَّلَالَ لِقَوْمٍ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوهَا، أَيْ يَتَجَنَّبُوهَا. فَهُنَالِكَ يُبَلِّغُ رُسُلَهُ أَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى يَتْرُكُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا قَالَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام-: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: 46] وَلَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ الضَّلَالَ لِقَوْمٍ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ وَاهْتَدَوْا إِلَيْهِ لِعَمَلٍ عَمِلُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ الْعَمَلِ. ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنِ اسْتَغْفَرُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ وُرُودِ النَّهْيِ وَظُهُورِ

[سورة التوبة (9) : آية 116]

دَلِيلِ الْيَأْسِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ قَوْمًا هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ فَيَكْتَبَهُمْ ضُلَّالًا بِالْمَعَاصِي حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا عَمِلُوهُ مَعْصِيَةٌ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ جَمِيعِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ صَيَّرَهَا كَلَامًا جَامِعًا تَذْيِيلًا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَوُقُوعُ إِنَّ فِي أَوَّلِهَا يُفِيدُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ. وَالتَّعْلِيلُ مَضْمُونٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم الْحق. [116] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 116] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) تَذْيِيلٌ ثَانٍ فِي قُوَّةِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التَّوْبَة: 115] ، وَلِذَلِكَ فُصِلَ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّ ثُبُوتَ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْعِلْمِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِبَعْضِ الْمُتَمَلَّكَاتِ يُفْضِي إِلَى إِضَاعَةِ شُؤُونِهَا. فَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) مَعَ عَدَمِ الشَّكِّ فِي مَضْمُونِ الْخَبَرِ يُعَيِّنُ أَنَّ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ فَتَكُونُ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ وَالتَّعْلِيلِ. وَمَعْنَى الْمُلْكِ: التَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: 4] . وَزِيَادَةُ جُمْلَتَيْ: يُحْيِي وَيُمِيتُ لِتَصْوِيرِ مَعْنَى الْمُلْكِ فِي أَتَمِّ مَظَاهِرِهِ الْمَحْسُوسَةِ لِلنَّاسِ الْمُسَلَّمِ بَيْنَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ دَفْعَ ذَلِكَ وَلَا تَأْخِيرَهُ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لِتَأْيِيدِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّهُمْ فَهُوَ نَصِيرٌ لَهُمْ، وَلِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ الْكُفَّارَ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَاضِبٌ عَلَيْهِمْ فَهُوَ لَا يَنْصُرُهُمْ. وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِغَرَضِ الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَلِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة التوبة (9) : آية 117]

وَالنَّصِيرُ: النَّاصِرُ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى النَّصْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [48] . [117] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 117] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) انْتِقَالٌ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّقَاعُسِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى التَّخَلُّفِ، وَمَا طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ التَّحْرِيضِ مِنْ بَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ تِجَاهَ ذَلِكَ التَّحْرِيضِ وَمَا عَقَبَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالضُّعَفَاءِ وَالْجُبَنَاءِ إِلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ الَّذِينَ انْتُدِبُوا لِلْغَزْوِ وَاقْتَحَمُوا شَدَائِدَهُ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِهَا الْمُتَقَرِّرِ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْمُسْنِدَاتِ كُلِّهَا أَفْعَالًا مَاضِيَةً. وَمِنَ الْمُحَسِّنَاتِ افْتِتَاحُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا يُؤْذِنُ بِالْبِشَارَةِ لِرِضَى اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ غَزَوْا تَبُوكَ. وَتَقْدِيمُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعَلُّقِ فِعْلِ التَّوْبَةِ بِالْغُزَاةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذِهِ التَّوْبَةِ وَإِتْيَانِهَا عَلَى جَمِيعِ الذُّنُوبِ إِذْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَمَعْنَى تابَ عَلَيْهِ: غَفَرَ لَهُ، أَيْ لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِالذُّنُوبِ سَوَاءً كَانَ مذنبا أم لَمْ يَكُنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: 20] أَيْ فَغَفَرَ لَكُمْ وَتَجَاوَزَ عَنْ تَقْصِيرِكُمْ وَلَيْسَ هُنَالِكَ ذَنْبٌ وَلَا تَوْبَةٌ. فَمَعْنَى التَّوْبَةِ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا قَدْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ يُسَبِّبُ مُؤَاخَذَةً كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» .

وَأَمَّا تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فَهِيَ اسْتِجَابَتُهُ لِتَوْبَتِهِمْ مِنْ ذَنْبِهِمْ. وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: هُمْ مَجْمُوعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ خُصُّوا بِالثَّنَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا وَلَمْ يَتَثَاقَلُوا وَلَا شَحُّوا بِأَمْوَالِهِمْ، فَكَانُوا أُسْوَةً لِمَنِ اتَّسَى بِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ. وَوَصْفُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار بِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لِصِلَةِ الْمَوْصُولِ تَسَبُّبًا فِي هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ. وَمَعْنَى اتَّبَعُوهُ أَطَاعُوهُ وَلَمْ يُخَالِفُوا عَلَيْهِ، فَالِاتِّبَاعُ مَجَازِيٌّ. وَالسَّاعَةُ: الْحِصَّةُ مِنَ الزَّمَنِ. وَالْعُسْرَةُ: اسْمُ الْعُسْرِ، زِيدَتْ فِيهِ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ. وَسَاعَةُ الْعُسْرَةِ هِيَ زَمَنُ اسْتِنْفَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمْتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] فَالَّذِينَ انْتُدِبُوا وَتَأَهَّبُوا وَخَرَجُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، فَأَمَّا مَا بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ فَذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الِاتِّبَاعُ وَلَكِنَّهُ الْجِهَادُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ اتَّبَعُوهُ أَيِ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ بَعْدَ أَنْ خَامَرَ فَرِيقًا مِنْهُمْ خَاطِرُ التَّثَاقُلِ وَالْقُعُودِ وَالْمَعْصِيَةِ بِحَيْثُ يُشْبِهُونَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَهَذَا الزَّيْغُ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ قَارَبَ الْوُقُوعَ. وكادَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ تَعْمَلُ فِي اسْمَيْنِ عَمَلَ كَانَ، وَاسْمُهَا هُنَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ، وَخَبَرُهَا هُوَ جُمْلَةُ الْخَبَرِ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ اسْمُهَا هُنَا ضَمِيرَ شَأْنٍ لِتَهْوِيلِ شَأْنِهِمْ حِينَ أَشْرَفُوا عَلَى الزَّيْغِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَزِيغُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ. وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ لِجَمْعِ تَكْسِيرٍ ظَاهِرٍ.

[سورة التوبة (9) : آية 118]

وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [8] . وَجُمْلَةُ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ أَيْ تَابَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْفَرِيقِ مُطْلَقًا، وَتَابَ عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ بَعْدَ مَا كَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَزِيغُ، فَتَكُونُ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التَّوْبَة: 118] . وَالْمَعْنَى تَابَ عَلَيْهِمْ فَأُهِمُّوا بِهِ وَخَرَجُوا فَلَقُوا الْمَشَقَّةَ وَالْعُسْرَ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْله عَلَيْهِمْ لل فَرِيقٍ. وَجَوَّزَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ تابَ اللَّهُ، فَالضَّمِيرُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كُلِّهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا على التفسيرين. [118] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 118] وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) وَعَلَى الثَّلاثَةِ مَعْطُوفٌ على النبيء [التَّوْبَة: 117] بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ لِبُعْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ وَتَابَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ لَهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ [التَّوْبَة: 81] الْآيَةَ، وَالَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التَّوْبَة: 90] الْآيَةَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّلاثَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ، كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِدُونِ عُذْرٍ. وَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَأَلَهُمْ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ فَلَمْ يَكْذِبُوهُ بالعذر وَلَكنهُمْ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وَحَزِنُوا. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْتَزِلُوا نِسَاءَهُمْ. ثُمَّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ خَمْسِينَ

لَيْلَةً. وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ مَعَ الْآخَرِينَ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيّ» و «صَحِيح مُسْلِمٍ» طَوِيلٌ أَغَرُّ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وخُلِّفُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ خَلَفَ الْمُخَفَّفِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَرَاءَ غَيْرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلْفِ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْوَرَاءُ. وَالْمَقْصُودُ بَقِيَ وَرَاءَ غَيْرِهِ. يُقَالُ: خَلَفَ عَنْ أَصْحَابِهِ إِذَا تَخَلَّفَ عَنْهُم فِي المشيء يَخْلُفُ بِضَمِّ اللَّامِ فِي الْمُضَارِعِ، فَمَعْنَى خُلِّفُوا خَلَفَهُمْ مُخَلِّفٌ، أَيْ تَرَكَهَمْ وَرَاءَهُ وَهُمْ لَمْ يُخَلِّفُهُمْ أَحَدٌ وَإِنَّمَا تَخَلَّفُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خُلِّفُوا بِمَعْنَى خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْلِيفُهُمْ تَخْلِيفًا مَجَازِيًّا اسْتُعِيرَ لِتَأْخِيرِ الْبَتِّ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنِ الْقَضَاءِ فِي شَأْنِهِمْ فَلَمْ يَعْذُرْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا آيَسَهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ كَمَا آيَسَ الْمُنَافِقِينَ. فَالتَّخْلِيفُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِرْجَاءِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ فَسَّرَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الْمَرْوِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» فَقَالَ: وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقُبِلَ مِنْهُ. اه. يَعْنِي لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى خَلَّفَهُمْ أَحَدٌ، أَيْ جَعَلَهُمْ خَلَفًا وَهُوَ تَخْلِيفٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ لَمْ يُقْضَ فِيهِمْ. وَفَاعِلُ التَّخْلِيفِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اللَّهُ تَعَالَى. وَبِنَاءُ فِعْلِ خُلِّفُوا لِلنَّائِبِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ. وَتَعْلِيقُ التَّخْلِيفِ بِضَمِيرِ الثَّلاثَةِ مِنْ بَابِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ: تَعْلِيقُهُ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] . وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ كَعْبٌ بِهِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْغَايَةِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ لِأَنَّ تَخَيُّلَ ضِيقِ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَضِيقِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ غَايَةٌ لِإِرْجَاءِ أَمْرِهِمُ انْتَهَى عِنْدَهَا التَّخْلِيفُ، وَلَيْسَ غَايَةً لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ، لِأَنَّ تَخَلُّفَهُمْ لَا انْتِهَاءَ لَهُ.

وَضِيقُ الْأَرْضِ: اسْتِعَارَةٌ، أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ كَالضَّيِّقَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ عِنْدَهُمْ. وَذَلِكَ التَّشْبِيهُ كِنَايَةٌ عَنْ غَمِّهِمْ وَتَنَكُّرِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا الْأَرْضَ فِي أَعْيُنِهِمْ كَالضَّيِّقَةِ كَمَا قَالَ الطِّرِمَّاحُ: مَلَأْتُ عَلَيْهِ الْأَرْضَ حَتَّى كَأَنَّهَا ... مِنَ الضِّيقِ فِي عَيْنَيْهِ كِفَّةُ حَابِلِ وَقَوْلُهُ: بِما رَحُبَتْ حَالٌ مِنَ الْأَرْضُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيِ الْأَرْضُ الْمُلَابِسَةُ لسعتها الْمَعْرُوفَة. وبِما مَصْدَرِيَّةٌ. ورَحُبَتْ اتَّسَعَتْ، أَيْ تَخَيَّلُوا الْأَرْضَ ضَيِّقَةً وَهِيَ الْأَرْضُ الْمَوْصُوفَةُ بِسِعَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ. وَضِيقُ أَنْفُسِهِمُ: اسْتِعَارَةٌ لِلْغَمِّ وَالْحَزَنِ لِأَنَّ الْغَمَّ يَكُونُ فِي النَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ الضِّيقِ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْمَحْزُونِ: ضَاقَ صَدْرُهُ، وَلِلْمَسْرُورِ: شُرِحَ صَدْرُهُ. وَالظَّنُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْيَقِينِ وَالْجَزْمِ، وَهُوَ مِنْ مَعَانِيهِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [46]- وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:- وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [66] ، أَيْ وَأَيْقَنُوا أَنَّ أَمْرَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ بِمَا يُوحِي بِهِ إِلَى رَسُولِهِ، أَيِ الْتَجَئُوا إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ تَابُوا إِلَى اللَّهِ وَانْتَظَرُوا عَفْوَهُ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ عَطْفٌ عَلَى ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ حَتَّى وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ. وثُمَّ هُنَا لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ وَلَيْسَتْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِمَّا قَبْلَهَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَهُوَ مُغْنٍ عَنْ جَوَابِ (إِذَا) لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَاهُ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ تَنْهِيَةٌ لِلْغَايَةِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ دَالٌّ عَلَى الْجَوَابِ. وَاللَّامُ فِي لِيَتُوبُوا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ تَابَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْمُخَالَفَةِ وَيَتَنَزَّهُوا عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْمَصْدَرِ لَا عَلَى إِحْدَاثِ الْمَصْدَرِ.

[سورة التوبة (9) : آية 119]

وَلَيْسَ الْمُرَادُ لِيُذْنِبُوا فَيَتُوبُوا، إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَقَامُ التَّنْوِيهِ بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلٌ مُفِيد للامتنان. [119] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 119] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاتِمَةٌ لِلْآيِ السَّابِقَةِ وَلَيْسَتْ فَاتِحَةَ غَرَضٍ جَدِيدٍ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنه قَالَ: «فو الله مَا أَعْلَمُ أَحَدًا ... أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التَّوْبَة: 117- 119] اه. فَهَذِهِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْقِصَّةِ فَإِنَّ الْقِصَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ قَوْمٍ اتَّقَوُا اللَّهَ فَصَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذِكْرِ قَوْمٍ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَاخْتَلَقُوا الْمَعَاذِيرَ وَحَلَفُوا كَذِبًا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ وَصَدَقُوا فِي الِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ الْعُذْرِ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ سَبَبُ فَوْزِ الْفَائِزِينَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا هُوَ الصِّدْقُ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ وَبِأَنْ يَكُونُوا فِي زُمْرَةِ الصَّادِقِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ تَضَمَّنَتْهُمُ الْقِصَّةُ. وَالْأَمْرُ بِ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أَبْلَغُ فِي التَّخَلُّقِ بِالصِّدْقِ مِنْ نَحْوِ: اصْدُقُوا. وَنَظِيرُهُ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَة: 43] . وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ بَعْدَ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 43] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: 67] .

[سورة التوبة (9) : آية 120]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 120] مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِيجَابِ الْغَزْوِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ بَادِيَتِهَا الْحَافِّينَ بِالْمَدِينَةِ إِذَا خَرَجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. فَهَذَا وُجُوبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى هَؤُلَاءِ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُمْ جُنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَسَ ذَاتِهِ. وَالَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ هُمْ: مُزَيْنَةُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ. وَصِيغَةُ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ جُعِلَ التَّخَلُّفُ لَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُمْ، فَهُمْ بُرَآءُ مِنْهُ فَيَثْبُتُ لَهُمْ ضِدُّهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا. فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ لِمَا قَامُوا بِهِ مِنْ غَزْوِ تَبُوكَ، فَهُوَ يَقْتَضِي تَحْرِيضَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ إِلَخْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ تَخَلَّفُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنَ الْأَعْرَابِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ النَّفِيرِ عَلَيْهِمْ إِذَا خَرَجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: هَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِخُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ فَهُوَ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا فِي قِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى كَثْرَةِ الْغُزَاةِ ثُمَّ نُسِخَ لَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَة: 122] فَصَارَ وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا حُكْمُ مَنِ اسْتَنْفَرَهُمُ الْإِمَامُ بِالتَّعْيِينِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِهَؤُلَاءِ التَّخَلُّفُ لَتَعَطَّلَ الْخُرُوجُ. وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الدِّينِ. وَالتَّخَلُّفُ: الْبَقَاءُ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ الْغَيْرِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 81] .

وَالرَّغْبَةُ تُعَدَّى بِحَرْفِ (فِي) فَتُفِيدُ مَعْنَى مَوَدَّةِ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ وَالْحِرْصِ فِيهِ، وَتُعِدِّيَ بِحَرْفِ (عَنْ) فَتُفِيدُ مَعْنَى الْمُجَافَاةِ لِلشَّيْءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: 130] وَهِيَ هُنَا مُعَدَّاةٌ بِ (عَنْ) . أُرِيدَ بِرَغْبَتِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ مَحَبَّتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَحِرْصُهُمْ عَلَى سَلَامَتِهَا دُونَ الْحِرْصِ عَلَى سَلَامَةِ نَفْسِ الرَّسُولِ، فَكَأَنَّهُمْ رَغِبُوا عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ مُلَابِسِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ مُحْتَفِظِينَ بِهَا لِأَنَّهُمْ بِمِقْدَارِ مَنْ يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ يَزْدَادُ تَعَرُّضُ نَفْسِ الرَّسُولِ مِنَ التَّلَفِ قُرْبًا، فَتَخَلُّفُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ عَوْنٌ عَلَى تَقْرِيبِ نَفْسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّلَفِ فَلِذَلِكَ اسْتُعِيرَ لِهَذَا التَّخَلُّفِ لَفْظُ الرَّغْبَةِ عَنْهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنْفُسِهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. نَزَلَ الضَّنُّ بِالْأَنْفُسِ وَالْحَذَرُ مِنْ هَلَاكِهَا بِالتَّلَبُّسِ بِهَا فِي شِدَّةِ التَّمَكُّنِ فَاسْتُعْمِلَ لَهُ حرف بَاء الملابسة. وَهَذِهِ مُلَابَسَةٌ خَاصَّةٌ وَإِنْ كَانَتِ النُّفُوسُ فِي كُلِّ حَالٍ مُتَلَبَّسًا بِهَا. وَهَذَا تَرْكِيبٌ بَدِيعُ الْإِيجَازِ بَالِغُ الْإِعْجَازِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «أُمِرُوا أَنْ يُلَقُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ مَا تَلْقَاهُ نَفْسُهُ عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْلٍ وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ» اه. وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَهْيِيجٌ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى نَفْيِ كَوْنِ التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ ثَابِتًا لَهُمْ، أَيْ أَنَّ مَا يَنَالُونَهُ مِنْ فَضْلٍ وَثَوَابٍ وَأَجْرٍ عَظِيمٍ يَقْضِي بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَالْمَخْمَصَةُ: الْجُوعُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [3] . وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ بِالْأَرْجُلِ. وَالْمَوْطِئُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلْوَطْءِ. وَالْوَطْءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الدَّوْسُ بِحَوَافِرِ الْخَيْلِ وَأَخْفَافِ الْإِبِلِ وَأَرْجُلِ الْغُزَاةِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَغِيظُ الْعَدُوَّ وَيُغْضِبُهُ لِأَنَّهُ يَأْنَفُ مِنْ وَطْءِ أَرْضِهِ بِالْجَيْشِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ هُنَا مُسْتَعَارًا لِإِذْلَالِ الْعَدُوِّ وَغَلَبَتِهِ وَإِبَادَتِهِ، كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الذُّهْلِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

[سورة التوبة (9) : آية 121]

وَوَطِئْتَنَا وَطْئًا عَلَى حَنْقٍ ... وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ وَهُوَ أَوْفَقُ بِإِسْنَادِ الْوَطْءِ إِلَيْهِمْ. وَالنَّيْلُ: مَصْدَرُ (يَنَالُونَ) . يُقَالُ: نَالَ مِنْهُ إِذَا أَصَابَهُ بِرُزْءٍ. وَبِذَلِكَ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ. وَحَرْفُ (مِنْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّبُعِيضِ الْمَجَازِيِّ الْمُتَحَقِّقِ فِي الرَّزِيَّةِ. وَرُزْءُ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَعْدَاءِ بِالْأَسْرِ، وَيَكُونُ مِنْ مَتَاعِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِالسَّبْيِ وَالْغُنْمِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ. فَجُمْلَةُ: كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَغْنَى حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عَنِ اقْتِرَانِهَا بِقَدْ. وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) عَائِدٌ عَلَى (نَصْبٍ) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَإِمَّا لِأَنَّ إِعَادَةَ حَرْفِ النَّفْيِ جَعَلَتْ كُلَّ مَعْطُوفٍ كَالْمُسْتَقِلِّ بِالذِّكْرِ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْبَدَلِ كَمَا يُعَادُ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلَى الْمُتَعَاطِفَاتِ بِ (أَوْ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَدِّدَ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمر إِلَّا وَاحِد مِنْهُ. وَمَعْنَى: كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أَنْ يُكْتَبَ لَهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عَمَلٌ صَالِحٌ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عَمَلًا صَالِحًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ عَامِلُوهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ تَصْدُرُ عَنْ أَصْحَابِهَا وَهُمْ ذَاهِلُونَ فِي غَالِبِ الْأَزْمَانِ أَوْ جَمِيعِهَا عَنِ الْغَايَةِ مِنْهَا فَلَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّاتٌ بِالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهَا لَهُمْ قُرُبَاتٍ بِاعْتِبَارِ شَرَفِ الْغَايَةِ مِنْهَا. وَذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ عَلَيْهَا ثَوَابًا كَمَا جَعَلَ لِلْأَعْمَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا الْقُرْبَةُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ نَوْمَ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّذْيِيلُ الَّذِي أَفَادَ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَدَلَّ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ مُحْسِنِينَ فَدَخَلُوا فِي عُمُومِ قَضِيَّةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بِوَجْه الإيجاز. [121] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 121] وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ عِدَادِ الْكُلَفِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُمْ بِلَا قَصْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى بَعْضِ الْكُلَفِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنِ اسْتِشْعَارِ مَنْ تَحِلُّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ

[سورة التوبة (9) : آية 122]

لَقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالنَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ يَتَذَكَّرُ بِهِ الْمُنْفِقُ أَنَّهُ يَسْعَى إِلَى مَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِنَصْرِ الدِّينِ، وَالنَّفَقَةُ الْكَبِيرَةُ أُدْخِلَ فِي الْقَصْدِ، فَلذَلِك نبه عَلَيْهَا وَعَلَى النَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ لِيُعْلَمَ بِذَكَرِ الْكَبِيرَةِ حُكْمُ النَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْكَبِيرَةِ أَظْهَرُ وَكَانَ هَذَا الْإِطْنَابُ فِي عَدِّ مَنَاقِبِهِمْ فِي الْغَزْوِ لِتَصْوِيرِ مَا بَذَلُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَطْعُ الْوَادِي: هُوَ اجْتِيَازُهُ. وَحَقِيقَةُ الْقَطْعِ: تَفْرِيقُ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ. وَأُطْلِقَ عَلَى الِاجْتِيَازِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْوَادِي: الْمُنْفَرَجُ يَكُونُ بَيْنَ جِبَالٍ أَوْ إِكَامٍ فَيَكُونُ مَنْفَذًا لِسُيُولِ الْمِيَاهِ، وَلِذَلِكَ اشْتُقَّ مِنْ وَدَى بِمَعْنَى سَالَ. وَقَطْعُ الْوَادِي أَثْنَاءَ السَّيْرِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ السَّائِرُونَ بِسَبَبِهِ أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إِلَى غَرَضٍ مَا لِأَنَّهُ يُجَدِّدُ حَالَةً فِي السَّيْرِ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نُدِبَ الْحَجِيجُ إِلَى تَجْدِيد التَّلْبِيَة عِنْد مَا يَصْعَدُونَ شَرَفًا أَوْ يَنْزِلُونَ وَادِيًا أَوْ يُلَاقُونَ رِفَاقًا. وَالضَّمِيرُ فِي كُتِبَ عَائِدٌ إِلَى عَمَلٌ صالِحٌ [التَّوْبَة: 120] . وَلَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (كُتِبَ) ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ صَالِحًا لِيَجْزِيَهُمْ عَنْ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا جَزَاءً عَنْ عَمَلِهِمُ الْمَذْكُورِ عُلِمَ أَنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَانْتَصَبَ أَحْسَنَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ عَنْ أَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَوْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النُّور: 38] وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا [الْقَصَص: 25] فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَبِيلِ وَأَنَّ (أَجْرَ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. وَفِي ذِكْرِ كانُوا وَالْإِتْيَانِ بِخَبَرِهَا مُضَارِعًا إِفَادَةُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ كَانَ ديدنهم. [122] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) كَانَ غَالِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَنْدِيدًا عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي شَأْنِهِ، وَانْتَهَى الْكَلَامُ قَبْلَ هَذَا بِتَبْرِئَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالَّذِينَ حَوْلَهُمْ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ مُؤْذِنَةً بِوُجُوبِ تَمَحُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَزْوِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ بَثُّ عُلُومِهِ وَآدَابِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَتَكْوِينُ جَمَاعَاتٍ قَائِمَةٍ بِعِلْمِ الدِّينِ وَتَثْقِيفِ أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ تَصْلُحَ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ عَلَى مَا قَصَدَهُ الدِّينُ مِنْهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَقُبَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْجِهَادِ بِمَا يُبَيِّنُ أَنْ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ تَمَحُّضُ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ لِأَنْ يَكُونُوا غُزَاةً أَوْ جُنْدًا، وَأَنْ لَيْسَ حَظُّ الْقَائِمِ بِوَاجِبِ التَّعْلِيمِ دُونَ حَظِّ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كِلَيْهِمَا يَقُومُ بِعَمَلٍ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ، فَهَذَا يُؤَيِّدُهُ بِتَوَسُّعِ سُلْطَانِهِ وَتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ، وَالْآخَرُ يُؤَيِّدُهُ بِتَثْبِيتِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ وَإِعْدَادِهِ لِأَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مَا يَضْمَنُ انْتِظَامَ أَمْرِهِ وَطُولَ دَوَامِهِ، فَإِنَّ اتِّسَاعَ الْفُتُوحِ وَبَسَالَةَ الْأُمَّةِ لَا يَكْفِيَانِ لِاسْتِبْقَاءِ سُلْطَانِهَا إِذَا هِيَ خَلَتْ مِنْ جَمَاعَةٍ صَالِحَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالسَّاسَةِ وَأُولِي الرَّأْيِ الْمُهْتَمِّينَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ مُلْكُ اللَّمْتُونِيِّينَ فِي الْأَنْدَلُسِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَقَلَّصَ، وَلَمْ تَثْبُتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ امْتَزَجُوا بِعُلَمَاءِ الْمُدُنِ الَّتِي فَتَحُوهَا وَوَكَلُوا أَمْرَ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَدْ حَرَّضَتْ فَرِيقًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِالْتِفَافِ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوِ لِمَصْلَحَةِ نَشْرِ الْإِسْلَامِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَهَا نَفْرُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لِيَكُونُوا مُرْشِدِينَ لِأَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْ مَحَاسِنَ هَذَا الْبَيَانِ أَنْ قَابَلَ صِيغَةَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْغَزْوِ بِمِثْلِهَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ إِذِ افْتُتِحَتْ صِيغَةُ تَحْرِيضِ الْغَزْوِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [التَّوْبَة: 120] الْآيَةَ وَافْتُتِحَتْ صِيغَةُ التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لغَرَض جَدِيد ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا [التَّوْبَة: 38] ثُمَّ عَنْ قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا [التَّوْبَة: 120] إِلَخْ. وَمَعْنَى أَنْ يَتَخَلَّفُوا هُوَ أَنْ لَا يَنْفِرُوا، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.

وَالْمُرَادُ بِالنَّفِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَنْفِرُوا وَقَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ الْخُرُوجُ إِلَى الْغَزْوِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] أَيْ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا ذَلِكَ النَّفْرَ كُلُّهُمْ. فَضَمِيرُ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ لِيَتَفَقَّهَ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْمُرَادُ لِيَتَفَقَّهَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَهِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تَنْفِرْ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، فَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى (طَائِفَةٌ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى طَائِفَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] عَلَى تَأْوِيلِ اقْتَتَلَ جَمْعُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ نَفْرًا آخَرَ غَيْرَ النَّفْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ النَّفْرُ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ (يَنْفِرُوا) وَ (نَفَرَ) مِنَ الِاسْتِخْدَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا إِلَى طائِفَةٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ. وَقَدْ نقل عَن أيمة الْمُفَسِّرِينَ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ أَقْوَالٌ تَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَالِاعْتِمَادُ فِي مَرَاجِعِ الضَّمَائِرِ عَلَى قَرَائِنِ الْكَلَامِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِيجَازِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى فِطْنَةِ السَّامِعِ فَإِنَّهُمْ أُمَّةٌ فَطِنَةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ لَامِ الْجَحُودِ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ فَتَأْكِيدُهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّهْيِ، أَيْ كَوْنُهُ نَهْيًا جَازِمًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا كَانَ النَّفْرُ لِلْغَزْوِ وَاجِبًا لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إِضَاعَةَ مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبًا لِأَنَّ فِي تَمَحُّضِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَزْوِ إِضَاعَةَ مَصْلَحَةٍ لِلْأُمَّةِ أَيْضًا، فَأَفَادَ مَجْمُوعُ الْكَلَامَيْنِ أَنَّ النَّفْرَ لِلْغَزْوِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَيْ عَلَى طَائِفَةٍ كَافِيَةٍ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِنْهُ،

وَأَنَّ تَرْكَهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى طَائِفَةٍ كَافِيَةٍ مِنْهُمْ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِمَّا أُمِرُوا بِالِاشْتِغَالِ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ فِي وَقْتِ اشْتِغَالِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِالْغَزْوِ. وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي فِعْلِ (انْفِرُوا) ، أَوْ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي ضَمِيرِ (انْفِرُوا) . وَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبًا عَلَى الْكِفَايَةِ، أَيْ عَلَى الْمِقْدَارِ الْكَافِي لِتَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ مِنْ ذَلِكَ الْإِيجَابِ. وَأَشْعَرَ نَفْيُ وُجُوبِ النَّفْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِثْبَاتُ إِيجَابِهِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ النَّفْرُ لَيْسُوا بِأَوْفَرَ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ يَبْقَوْنَ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ، وَأَنْ لَيْسَتْ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ لِلنَّفْرِ، وَأَنَّ الْبَقِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْأَصْلِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّفِيرَ إِلَى الْجِهَادِ يَكُونُ بِمِقْدَارِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الْعَدُوِّ الْمَغْزُوِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَبْقَوْنَ لِلتَّفَقُّهِ يَبْقَوْنَ بِأَكْثَرِ مَا يُسْتَطَاعُ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُخَالِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْآيِ السَّالِفَةِ. وَلَوْلَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ. وَالْفِرْقَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الْمَوَاطِنِ فَالْقَبِيلَةُ فِرْقَةٌ، وَأَهْلُ الْبِلَادِ الْوَاحِدَةِ فِرْقَةٌ. وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَتَنْكِيرُ طائِفَةٌ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ النَّفْرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَتَعْيِينُ مِقْدَارِ الطَّائِفَةِ وَضَبْطُ حَدِّ التَّفَقُّهِ مَوْكُولٌ إِلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْفِرَقِ فَتَتَعَيَّنُ الطَّائِفَةُ بِتَعْيِينِهِمْ فَهُمْ أَدْرَى بِمِقْدَارِ مَا تَتَطَلَّبُهُ الْمَصْلَحَةُ الْمَنُوطُ بِهَا وُجُوبُ الْكِفَايَةِ. وَالتَّفَقُّهُ: تَكَلُّفُ الْفَقَاهَةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فَقِهَ (بِكَسْرِ الْقَافِ) إِذَا فُهِمَ مَا يَدِقُّ فَهْمُهُ فَهُوَ فَاقِهٌ. فَالْفِقْهُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالَ الْفِقْهِ فِيمَا يَخْفَى عِلْمُهُ كَقَوْلِهِ: لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاء: 44] ، وَيَجِيءُ مِنْهُ فَقُهَ- بِضَمِّ الْقَافِ- إِذَا صَارَ الْفِقْهُ سَجِيَّتَهُ، فَقَّاهَةٌ فَهُوَ فَقِيهٌ.

[سورة التوبة (9) : آية 123]

وَلَمَّا كَانَ مَصِيرُ الْفِقْهِ سَجِيَّةً لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ مَا يُبَلِّغُ إِلَى ذَلِكَ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ الْمُؤْذِنَةُ بِالتَّكَلُّفِ مُتَعَيِّنَةً لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا تَكَلُّفُ حُصُولِ الْفِقْهِ، أَيِ الْفَهْمِ فِي الدِّينِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فَهْمَ الدِّينِ أَمْرٌ دَقِيقُ الْمَسْلَكِ لَا يَحْصُلُ بِسُهُولَةٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيَّرَا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ الْعُلُومِ. وَقَدْ ضَبَطَ الْعُلَمَاءُ حَقِيقَةَ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاجْتِهَادِ. وَالْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ شَرٌّ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِنْذَارُ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْهُ النَّذِيرُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] ، فَالْإِنْذَارُ هُوَ الْمَوْعِظَةُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ إِرْشَادٍ إِلَى الْخَيْرِ إِلَّا وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِنْذَارٍ مِنْ ضِدِّهِ. وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْإِنْذَارِ تَعْلِيمُ النَّاسِ مَا يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَذَلِكَ بِأَدَاءِ الْعَالِمِ بَثَّ عُلُومِ الدِّينِ لِلْمُتَعَلِّمِينَ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَحْذَرُونَ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ يَحْذَرُونَ مَا يُحْذَرُ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْحِذْرِ دُونَ الْعَمَلِ لِلْإِنْذَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِنْذَارِ التَّحْذِيرُ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُفِيد الْأَمريْنِ. [123] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 123] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) كَانَ جَمِيعُ بِلَادِ الْعَرَبِ خَلَصَ لِلْإِسْلَامِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَانَتْ تُخُومُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مُجَاوِرَةً لِبِلَادِ الشَّامِ مَقَرِّ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَكَانُوا تَحْتَ حُكْمِ الرُّومِ، فَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَوَّلَ غَزْوَةٍ لِلْإِسْلَامِ تَجَاوَزَتْ بِلَادَ الْعَرَبِ إِلَى مَشَارِفِ الشَّامِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ وَلَكِنْ وُضِعَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى أَيْلَةَ وَبُصْرَى، وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ إِرْهَابًا لِلنَّصَارَى، وَنَزَلَتْ سُورَةُ

بَرَاءَةٌ عَقِبَهَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْوَصِيَّةِ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الْكُفْرِ الْمُجَاوِرَةِ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ كَلَّمَا اسْتَقَرَّ بَلَدٌ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ تُجَاوِرُهُ بِلَادُ كُفْرٍ كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَزْوُ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ. وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ الْخُلَفَاءُ بِفَتْحِ الشَّامِ ثُمَّ الْعِرَاقِ ثُمَّ فَارِسَ ثُمَّ انْثَنَوْا إِلَى مِصْرَ ثُمَّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ ثُمَّ الْأَنْدَلُسِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَكْمِلَةً لِلْأَمْرِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذُيُولِ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِلَّذِينَ آمَنُوا دُونَ النَّبِيءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَغْزُو بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَجَلَهُ الشَّرِيفَ قَدِ اقْتَرَبَ. وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِيمَاءً إِلَى التَّسْلِيَةِ عَلَى فَقْدِ نَبِيِّهِمْ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمرَان: 144] . والغلظة بِكَسْرِ الْغَيْنِ: الشِّدَّةُ الْحِسِّيَّةُ وَالْخُشُونَةُ، وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا لِلْمُعَامَلَةِ الضَّارَّةِ، كَقَوْلِهِ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَذَلِكَ يَجْمَعُ الْجُرْأَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْعُنْفَ فِي الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. اه. قُلْتُ: وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ حَتَّى يَخْشَوْا عَاقِبَةَ التَّصَدِّي لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِحُصُولِ مَا يَجِدُهُ الْكَافِرُونَ مِنْ غِلْظَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا أَشِدَّاءَ فِي قِتَالِهِمْ. وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالشِّدَّةِ لِأَنَّهُ أُمِرَ لَهُمْ بِأَنْ يَجِدَ الْكُفَّارُ فِيهِمُ الشِّدَّةَ. وَذَلِكَ الْوِجْدَانُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْغِلْظَةُ بِحَيْثُ تَظْهَرُ وَتَنَالُ الْعَدُوَّ فَيُحِسُّ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها [طه: 16] . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ لِمَا عَلَيْهِ الْعَدُوُّ مِنَ الْقُوَّةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكُفَّارِ هُنَا هُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَأَنْصَارُهُمُ الرُّومُ، وَهُمْ أَصْحَابُ عَدَدٍ وَعُدَدٍ فَلَا يَجِدُونَ الشِّدَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ شِدَّةً عَظِيمَةً.

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 إلى 125]

وَمِنْ وَرَاءِ صَرِيحِ هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ قُرْبًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَدِينَةِ. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] . وَجُمْلَةُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تَأْيِيدٌ وَتَشْجِيعٌ وَوَعْدٌ بِالنَّصْرِ إِنِ اتَّقَوْا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَا يُرَادُ الْعِلْمُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [41] . وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: 40] . وَهَذَا تَأْيِيدٌ لَهُمْ إِذْ قَدْ عَلِمُوا قُوَّةَ الرّوم. [124، 125] [سُورَة التَّوْبَة (9) : الْآيَات 124 إِلَى 125] وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: 86] وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ زِيدَتْ فِيهَا (مَا) عَقِبَ (إِذَا) وَزِيَادَتُهَا لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى (إِذَا) وَهُوَ الشَّرْطُ، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لِغَرَابَتِهِ كَانَ خَلِيقًا بِالتَّأْكِيدِ، وَلِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُنْكِرُونَ صُدُورَهُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ مضمونها حِكَايَة استيذانهم وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِجْمَالُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّوَرُ الَّتِي أُنْزِلَتْ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ [التَّوْبَة: 86] . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ كُلَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ دُعَاءٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالصَّالِحَاتِ وَالْإِعْجَازِ بِبَلَاغَتِهَا. فَالْمُرَادُ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ فَمِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِلْعِلْمِ بِالْمَعَادِ مِنَ الْمَقَامِ

وَمِنْ أَوَاخِرِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التَّوْبَة: 123] مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْمُنَافِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمُنَافِقُونَ خَاطِرُونَ بِذِهْنِ السَّامِعِ فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَيْهِمْ تَقْوِيَةً لِذَلِكَ التَّعْرِيضِ. وَقَوْلُهُمْ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً خِطَابُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَبِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يُزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الْأَنْفَال: 2] . وَلَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَالُوا: قَدِ ازْدَدْنَا إِيمَانًا، كَقَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لِلْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً، يَعْنِي بِمُذَاكَرَةِ الْقُرْآنِ وَأُمُورِ الدِّينِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ) . وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِمْ: أَيُّكُمْ لِلِاسْتِهْزَاءِ كَانَ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ سُوَرِ الْقُرْآنِ يُزِيدُ سَامِعِيهَا إِيمَانًا تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا لَا يَزِيدُهُمْ إِيمَانًا لَا يَزِيدُ غَيْرَهُمْ إِيمَانًا، يَقِيسُونَ عَلَى أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى حِكَايَةِ اسْتِفْهَامِهِمْ بِحَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ مَقْصِدِهِمْ مِنْهُ. وَتِلْكَ طَرِيقَةُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ: تَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بِغَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ لِنُكْتَةٍ، وَهِيَ هُنَا إِبْطَالُ مَا قَصَدُوهُ مِنْ نَفْيِ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ تَزِيدُ أَحَدًا إِيمَانًا قِيَاسًا عَلَى أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ فَأُجِيبَ اسْتِفْهَامُهُمْ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الْمُتَفَرِّعِ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ لِلسُّورَةِ زِيَادَةً فِي إِيمَانِ بَعْضِ النَّاسِ وَأَكْثَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ حُصُولُ الْبَشَرِ لَهُمْ. وَارْتُقِيَ فِي الْجَوَابِ عَنْ مَقْصِدِهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ بِأَنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ مَنْفِيًّا عَنْهَا زِيَادَةٌ فِي إِيمَانِ بَعْضِ النَّاسِ فَقَطْ بَلِ الْأَمْرُ أَشَدُّ إِذْ هِيَ زَائِدَةٌ فِي كُفْرِهِمْ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْمُؤْمِنُونَ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَأَكْسَبَتْهُمْ بُشْرَى فَحَصَلَ مِنَ السُّورَةِ لَهُمْ نَفْعَانِ عَظِيمَانِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ زَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَأَنْ

تَكُونَ جُمْلَةُ: وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً لِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِمَّا أَثْرَتْهُ السُّورَةُ. أَمَّا جُمْلَةُ: وَهُمْ كافِرُونَ فَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ماتُوا. وَقُوبِلَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ فِي جَانِبِ الْمُنَافِقِينَ تَحْسِينًا بِالِازْدِوَاجِ، بِحَيْثُ كَانَتْ لِلسُّورَةِ فَائِدَتَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُصِيبَتَانِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَجُعِلَ مَوْتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَسَبِّبِ عَلَى زِيَادَةِ السُّورَةِ فِي كُفْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مُصِيبَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ زِيَادَةً فِي الْمُصِيبَةِ الْأُولَى. هَذَا وَجْهُ نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّسْجِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ، وَقَدْ أُغْفِلَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنَ التَّفَاسِيرِ، فَمِنْهَا مَا سَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ. وَمِنْهَا مَا نُشِرَتْ فِيهِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَتُرِكَ جَانِبُ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَالِاسْتِبْشَارُ: أَثَرُ الْبُشْرَى فِي النَّفْسِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَعْجَمَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [171] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ [التَّوْبَة: 111] . وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَبِزِيَادَةِ الرِّجْسِ الرُّسُوخُ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ النَّفْسِ. وَالرِّجْسُ: هُنَا الْكُفْرُ. وَأَصْلُهُ الشَّيْءُ الْخَبِيثُ. كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [90] . وَقَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [125] . وَالْمَرَضُ فِي الْقُلُوبِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [10] . وتعدية فَزادَتْهُمْ بِ إِلى لِأَنَّ زَادَ قَدْ ضَمِنَ مَعْنَى الضَّمِّ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ مِثْلُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: 82] .

[سورة التوبة (9) : آية 126]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 126] أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125] إِلَى آخِرِهِ فَهِيَ مِنْ تَمَامِ التَّفْصِيلِ. وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى طَرِيقَةِ تَصْدِيرِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّصْدِيرُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ فِي غَرَضِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ فِتْنَتَهُمْ فَلَا تَعْقُبُهَا تَوْبَتُهُمْ وَلَا تَذَكُّرُهُمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِنْكَارِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ ازْدِيَادِ كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَمَكُّنِهِ كُلَّمَا نَزَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِإِيرَادِ دَلِيلٍ وَاضِحٍ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ الْمَرْئِيِّ حَتَّى يَتَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ لَا يَرَاهُ. وَالْفِتْنَةُ: اخْتِلَالُ نِظَامِ الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ لِلنَّاسِ وَاضْطِرَابُ أَمْرِهِمْ، مِثْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُنْتَشِرَةِ، وَالتَّقَاتُلِ، وَاسْتِمْرَارِ الْخَوْفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 191] وَقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [193] . فَمَعْنَى أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبَ وَالْمَضَارَّ تَنَالُ جَمَاعَتَهُمْ مِمَّا لَا يُعْتَادُ تَكَرُّرُ أَمْثَالِهِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يَدُلُّ تَكَرُّرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْهُ إِيقَاظُ اللَّهِ النَّاسَ إِلَى سُوءِ سِيرَتِهِمْ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، بِعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِنَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ لَوْ رُزِقُوا التَّوْفِيقَ لَأَفَاقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ مَا يَحِلُّ بِهِمْ كُلَّ عَامٍ مَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ وَقْتِ تَلَبُّسِهِمْ بِالنِّفَاقِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ كَانَتْ خَاصَّةً بِأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ أَمْرَاضٍ تَحِلُّ بِهِمْ، أَوْ مَتَالِفَ تُصِيبُ أَمْوَالَهُمْ، أَوْ جَوَائِحَ تُصِيبُ ثِمَارَهُمْ، أَوْ نَقْصٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَوَالِيدِهِمْ فَإِذَا حَصَلَ شَيْئَانِ مِنْ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ مَرَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلا يَرَوْنَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ أَوَلَا تَرَوْنَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ مِنْ تَنْزِيلِ الرَّائِي مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ حَتَّى يُنْكِرَ عَلَيْهِ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ مَا لَا يَخْفَى.

[سورة التوبة (9) : آية 127]

وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيُّ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِهَا هُوَ زَائِدٌ- فِي رُتْبَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِ- عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْفِتْنَةِ فِي ذَاتِهِ عَجِيبٌ، وَعَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ لِلتَّدَارُكِ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّذَكُّرِ أَعْجَبُ. وَلَوْ كَانَتْ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ لَكَانَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ هُوَ تَأَخُّرَ تَوْبَتِهِمْ وَتَذَكُّرِهِمْ. وَأُتِيَ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ مُبْتَدَأَةً بِاسْمٍ أُسْنِدَ إِلَيْهِ فِعْلٌ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا يَذَكَّرُونَ، قَصْدًا لِإِفَادَةِ التَّقْوَى، أَيِ انْتِفَاءُ تَذَكُّرِهِمْ مُحَقّق. [127] [سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 127] وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَة: 124] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَطْفُ جُمْلَةِ: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ عَلَى جُمْلَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَة: 124] . وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ وَجُمْلَةِ الْجَزَاءِ، أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلنُّزُولِ الَّذِي يَقُولُونَ عِنْدَهُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَة: 124] وَبِالنِّسْبَةِ لِلسُّورَةِ الَّتِي عِنْدَ نُزُولِهَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَوْ لِاخْتِلَافِ السُّورَتَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا سُورَةٌ فِيهَا شَيْءٌ خَاصٌّ بِهِمْ. وَمُوجِبُ زِيَادَةِ (مَا) بَعْدَ (إِذَا) فِي الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدٍ لِاتِّحَادِ مُقْتَضِيهِ. وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عِنْدِ نُزُولِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَدَاةُ الظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ (إِذَا) . فَتَعَيِّنَ أَنْ يَكُونَ نَظَرُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ حَاصِلًا وَقْتَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَفَضْحِ مَكْرِهِمْ لِأَنَّ نَظَرَ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ هُوَ نَظَرُ تَعَجُّبٍ وَاسْتِفْهَامٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التَّوْبَة: 64] . وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمْ كَاتِمُونَ تَعَجُّبَهُمْ مِنْ

ظُهُورِ أَحْوَالِهِمْ خَشْيَةَ الِاعْتِرَافِ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ اجْتَزَوْا بِالتَّنَاظُرِ دُونَ الْكَلَامِ. فَالنَّظَرُ هُنَا نَظَرٌ دَالٌّ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِ النَّاظِرِ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ. وَجُمْلَةُ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ لِأَنَّ النَّظَرَ تَفَاهَمُوا بِهِ فِيمَا هُوَ سِرٌّ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ نَظَرَ تَفَاهُمٍ صَحَّ بَيَانُ جُمْلَتِهِ بِمَا يَدُلُّ على الِاسْتِفْهَام التعجيبي، فَفِي هَذَا النَّظْمِ إِيجَازُ حَذْفٍ بَدِيعٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا فَضِيحَةُ أَمْرِهِمْ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ مُسْتَفْهِمِينَ مُتَعَجِّبِينَ مِنِ اطِّلَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، أَيْ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِذَا خَلَوْتُمْ وَدَبَّرْتُمْ أُمُورَكُمْ، لِأَنَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى دَخِيلَةِ أَمْرِهِمْ. وَزِيَادَةُ جُمْلَةِ: ثُمَّ انْصَرَفُوا لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَسِبُوا مِنْ نُزُولِ السُّورَةِ الَّتِي أَطْلَعَتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ عِبْرَةً وَلَا قُرْبًا مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ كَانَ قُصَارَى أَمْرِهِمُ التَّعَجُّبَ وَالشَّكَّ فِي أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَبُوحُ بِأَسْرَارِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ عِبْرَةٌ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْفِتَنِ الَّتِي تَحِلُّ بِهِمْ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَكَّرُونَ. وَجُمْلَةُ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا فِي تِلْكَ السُّورَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِذَلِكَ وَاهْتِدَائِهِمْ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْفَهْمِ بِأَمْرٍ تَكْوِينِيٍّ فَحُرِمُوا الِانْتِفَاعَ بِأَبْلَغِ وَاعِظٍ. وَكَانَ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، أَيْ لَا يَفْهَمُونَ الدَّلَائِلَ، بِمَعْنَى لَا يَتَطَلَّبُونَ الْهُدَى بِالتَّدَبُّرِ فَيَفْهَمُوا. وَجَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ تَكْوِينٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ يَأْبَاهُ تَسْبِيبُهُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. وَقَدْ أَعْرَضَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرًا يُبَيِّنُ اسْتِفَادَةَ مَعَانِيهَا مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ فَأَتَوْا بِكَلَامٍ يَخَالُهُ النَّاظِرُ إِكْرَاهًا لَهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَتَقْدِيرَاتٍ لَا يَنْثَلِجُ لَهَا الْفُؤَاد.

[سورة التوبة (9) : الآيات 128 إلى 129]

[سُورَة التَّوْبَة (9) : الْآيَات 128 إِلَى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ شِدَّةٍ وَغِلْظَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنَ الْأَعْرَابِ، وَأَمْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ، وَإِنْحَاءً عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي شَأْنِهِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالْمُتَّصِفِينَ بِضِدِّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ نَصَرُوا وَاتَّبَعُوا الرَّسُولَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ. فَجَاءَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَيْنِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْمِنَّةِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّنْوِيهِ بِصِفَاتِهِ الْجَامِعَةِ لِلْكَمَالِ. وَمِنْ أَخَصِّهَا حِرْصُهُ عَلَى هُدَاهُمْ، وَرَغْبَتُهُ فِي إِيمَانِهِمْ وَدُخُولِهِمْ فِي جَامِعَةِ الْإِسْلَامِ لِيَكُونَ رَؤُوفًا رَحِيمًا بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا لَقِيَهُ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا هُوَ إِلَّا اسْتِصْلَاحٌ لِحَالِهِمْ. وَهَذَا مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُقَارِنَةً لِبِعْثَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] ، بِحَيْثُ جَاءَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُزِيلَ الْحَرَجَ مِنْ قُلُوبِ الْفِرَقِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِمْ آيَاتُ الشِّدَّةِ وَعُومِلُوا بِالْغِلْظَةِ تَعْقِيبًا لِلشِّدَّةِ بِالرِّفْقِ وَلِلْغِلْظَةِ بِالرَّحْمَةِ، وَكَذَلِكَ عَادَةُ الْقُرْآنِ. فَقَدِ انْفَتَحَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَابُ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ لِيَدْخُلَهَا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَفِي وُقُوعِهَا آخِرَ السُّورَةِ مَا يُكْسِبُهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَالْخُلَاصَةِ. فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: جاءَكُمْ وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الْخِطَابِ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ الْمَدْعُوَّةِ لِلْإِسْلَامِ. وَالْمَقْصُود بِالْخِطَابِ بادىء ذِي بَدْءٍ هُمُ الْمُعْرِضُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَ الْخطاب بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَسَيَجِيءُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَرَبُ.

وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَهُمَا اللَّامُ وَ (قَدْ) مَعَ كَوْنِ مَضْمُونِهَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْإِنْكَارُ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَلِأَنَّ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مَا يُنْكِرُهُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ مَا يَجْعَلُ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مُنَزَّلِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَنْفَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الْمَجِيءِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ مُرَادًا بِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى اقْتِرَابِ الرَّحِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ الْإِخْبَارُ بِمَجِيئِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ مُنْذُ أَعْوَامٍ طَوِيلَةٍ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ انْتِهَائِهِ، وَهُوَ تَسْجِيلٌ مِنْهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِيدَاعٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. عَلَى أَنَّ آيَاتٍ أُخْرَى خُوطِبَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَنَحْوُهُمْ فَأُكِّدَتْ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: 15] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاء: 174] فَمَا زِيدَتِ الْجُمْلَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُؤَكِّدَةً إِلَّا لِغَرَضٍ أَهَمَّ مِنْ إِزَالَةِ الْإِنْكَارِ. وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْخِطَابِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. شُبِّهَ تَوَجُّهُهُ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَرَقَّبُونَهُ بِمَجِيءِ الْوَافِدِ إِلَى النَّاسِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَهِيَ الذَّاتُ. وَيُضَافُ النَّفْسُ إِلَى الضَّمِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى قَبِيلَةٍ مُعَادُ الضَّمِيرِ، أَيْ هُوَ مَعْدُودٌ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِمْ وَلَيْسَ عِدَادُهُ فِيهِمْ بِحِلْفٍ أَوْ وَلَاءٍ أَوْ إِلْصَاقٍ. يُقَالُ: هُوَ قُرَيْشِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيُقَالُ: الْقُرَيْشِيُّ مَوْلَاهُمْ أَوْ حَلِيفُهُمْ، فَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ صَمِيمِ نَسَبِكُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ لِأَنَّ النَّازِلَ بَيْنَهُمُ الْقُرْآنُ يَوْمَئِذٍ لَا يَعُدُّونَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَالَفَهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ مِثْلَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ، وَفِيهِ امْتِنَانٌ عَلَى الْعَرَبِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَضِيلَتِهِمْ، وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَرْكِ مُنَاوَأَتِهِ وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمُ الِافْتِخَارُ بِهِ وَالِالْتِفَافُ حَوْلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] أَيْ يَبْقَى مِنْهُ لَكُمْ ذِكْرٌ حَسَنٌ.

وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ. وَالْعِزَّةُ: الْغَلَبَةُ. يُقَالُ عَزَّهُ إِذَا غَلَبَهُ. وَمِنْهُ وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص: 23] ، فَإِذا عدي بعلى دَلَّ عَلَى مَعْنَى الثِّقَلِ وَالشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ. قَالَ بِشْرُ بْنُ عَوَانَةَ فِي ذِكْرِ قَتْلِهِ الْأَسَدَ وَمُصَارَعَتِهِ إِيَّاهُ: فَقُلْتُ لَهُ يَعِزُّ عَلِيَّ أَنِّي ... قَتَلْتُ مُنَاسِبِي جَلَدًا وَقَهْرَا وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وعَنِتُّمْ: تَعِبْتُمْ. وَالْعَنَتُ: التَّعَبُ، أَيْ شَاقٌّ عَلَيْهِ حُزْنُكُمْ وَشَقَاؤُكُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] وَذُكِرَ هَذَا فِي صِفَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا خُلُقٌ لَهُ فَيَكُونُ أَثَرُ ظُهُورِهِ الرِّفْقَ بِالْأُمَّةِ وَالْحَذَرَ مِمَّا يُلْقِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ شَفَاعَتُهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْمَوْقِفِ لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ. ثُمَّ إِن ذَلِك يومىء إِلَى أَنَّ شَرْعَهُ جَاءَ مُنَاسِبًا لِخُلُقِهِ فَانْتَفَى عَنْهُ الْحَرَجُ وَالْعُسْرُ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] وَقَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الْعَنَتِ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ الصَّرِيحُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ مَعَ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ السَّابِكَةِ لِلْمَصْدَرِ نُكْتَةٌ. وَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّهُ قَدْ عَزَّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمُ الْحَاصِلُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي مَضَى، وَذَلِكَ بِمَا لَقُوهُ مِنْ قَتْلِ قَوْمِهِمْ، وَمِنَ الْأَسْرِ فِي الْغَزَوَاتِ، وَمِنْ قَوَارِعِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فِي الْقُرْآنِ. فَلَوْ أُتِيَ بِالْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مُشِيرًا إِلَى عَنَتٍ مُعَيَّنٍ وَلَا إِلَى عَنَتٍ وَقَعَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا زَمَانَ لَهُ بَلْ كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يَعِزَّ عَلَيْهِ بِأَنْ يُجَنِّبَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنَّ مَجِيءَ الْمَصْدَرِ مُنْسَبِكًا مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي يَجْعَلُهُ مَصْدَرًا مُقَيَّدًا بِالْحُصُولِ فِي الْمَاضِي، أَلَاَ تَرَى أَنَّكَ تُقَدِّرُهُ هَكَذَا: عَزِيزٌ عَلَيْهِ عَنَتُكُمُ الْحَاصِلُ فِي مَا مَضَى لِتَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا لَقُوهُ مِنَ الشِّدَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِصْلَاحِ حَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يُخْفِضُونَ بَعْدَهَا مِنْ غُلْوَائِهِمْ وَيَرْعَوُونَ عَنْ غَيِّهِمْ وَيَشْعُرُونَ بِصَلَاحِ أَمْرِهِمْ. وَالْحِرْصُ: شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ وَالْجَشَعِ إِلَيْهِ. وَلَمَّا تَعَدَّى إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ الدَّالِّ عَلَى الذَّوَاتِ وَلَيْسَتِ الذَّوَاتُ هِيَ مُتَعَلِّقُ الْحِرْصِ هُنَا تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ فُهِمَ مِنْ مَقَامِ التَّشْرِيعِ، فَيُقَدَّرُ: عَلَى إِيمَانِكُمْ أَو هديكم. و

(الرَّءُوفُ) : الشَّدِيدُ الرَّأْفَةِ. وَالرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهُمَا صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا يَتَنَازَعَانِ الْمَجْرُورَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمَا وَهُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالرَّأْفَةُ: رِقَّةٌ تَنْشَأُ عِنْدَ حُدُوثِ ضُرٍّ بِالْمَرْءُوفِ بِهِ. يُقَال: رؤوف رَحِيمٌ. وَالرَّحْمَةُ: رِقَّةٌ تَقْتَضِي الْإِحْسَانَ لِلْمَرْحُومِ، بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَهُمَا هُنَا وَلَوَازِمُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَتَقَدَّمَتِ الرَّأْفَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] وَالرَّحْمَةُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [3] . وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى عَامِلَيْهِ الْمُتَنَازِعَيْنِهِ فِي قَوْله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَجُّهِ صِفَتَيْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ. وَأما رَحمته بهم. وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ الثَّابِتَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] فَهِيَ رَحْمَةٌ مَشُوبَةٌ بِشِدَّةٍ عَلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ رَائِفٌ وَرَاحِمٌ، وَلَا يُقَال: بهم رؤوف رَحِيمٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى إِرْسَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ صِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةَ تَقْتَضِي مِنْ كُلِّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ الْإِيمَانَ بِهِ وَاتِّبَاعَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ومحب لخيرهم رؤوف رَحِيمٌ بِمَنْ يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فَإِنْ آمَنُوا فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَإِنَّ اللَّهَ حَسِيبُهُ وَكَافِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الشَّرْطُ عَلَى مُقَابِلِهِ لِأَنَّ فَإِنْ تَوَلَّوْا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ ضِدِّهِ وَهُوَ إِنْ أَذْعَنُوا بِالْإِيمَانِ. وَبَعْدَ التَّفْرِيعِ الْتَفَتَ الْكَلَامُ مِنْ خِطَابِ الْعَرَبِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُخَاطَبُوا هُمْ بِهِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ حَرْفِ التَّفْرِيعِ فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ . وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ فَحَسْبُهُ اللَّهُ وَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ. فَجِيءَ بِهَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَرَاعَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عَدَمِ تَأَهُّلِهِمْ لِخِطَابِ اللَّهِ عَلَى تَقْدِيرِ حَالَةِ تَوَلِّيهِمْ. وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ: وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ.

وَالْحَسْبُ: الْكَافِي، أَيْ كَافِيكَ شَرَّ إِعْرَاضِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ هَذَا فَقَدَ أَعْرَضُوا عَنْ حَسَدٍ وَحَنَقٍ. وَتِلْكَ حَالَةُ مَظِنَّةِ السَّعْيِ فِي الْكَيْدِ وَالْأَذَى. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَوْلًا نَاشِئًا عَنْ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ وَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يُؤَكِّدُ الْمَعْلُومَ وَيُرَسِّخُهُ فِي نَفْسِ الْعَالِمِ بِهِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِبْلَاغًا لِلْمُعْرِضِينَ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَافِيهِ إِيَّاهُمْ. وَالتَّوَكُّلُ: التَّفْوِيضُ. وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي وَكَلَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُفِيدُ التَّنْوِيهَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُبَارَكَةِ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِعَيْنِهَا وَلَمْ يُؤْمَرْ بِمُجَرَّدِ التَّوَكُّلِ كَمَا أُمِرَ فِي قَوْلِهِ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] . وَلَا أُخْبِرَ بِأَنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 62] . وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلثَّنَاءِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهِيَ ثَنَاءٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَعُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةُ: وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لِلثَّنَاءِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ رَبًّا لِلْعَرْشِ الْعَظِيمِ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِيرٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْعَظِيمِ، فَالْعَظِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، فَهُوَ مَجْرُورٌ. وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِشْعَارٌ بِالْإِيدَاعِ وَالْإِعْذَارِ لِلنَّاسِ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِاغْتِنَامِ وُجُودِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لِيَتَشَرَّفُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ أَنْوَارِ هَدْيِهِ، لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِمُشَاهَدَتِهِ وَالتَّلَقِّيَ مِنْهُ أَرْجَى لِحُصُولِ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالِانْتِفَاعِ بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمَانِ لِتَحْصِيلِ وَافِرِ الْخَيْرِ الَّذِي لَا يُحْصَلُ مِثْلُهُ فِي أَضْعَافِ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَفِيهِمَا أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى اقْتِرَابِ أَجْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ زَمَنٌ طَوِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَضِيَ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَارِدٍ قُفُولًا، وَلِكُلِّ طَالِعٍ أُفُولًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هُمَا أَحْدَثُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ.

وَقِيلَ: إِنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةُ الْكَلَالَةِ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقِيلَ آخِرُهُ نُزُولًا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [281] . فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ زَيْدٌ: «حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِهِمَا. وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بَحَثَ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي مَا هُوَ مَكْتُوبٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَجِدْهُمَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ خَاتِمَتَيْنِ أَوْ هُوَ يَحْفَظُهُمَا (فَإِنَّ زَيْدًا اعْتَنَى فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ بِحِفْظِهِ وَبِتَتَبُّعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِإِمْلَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِقِرَاءَةِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ غَيْرَهُ) فَوَجَدَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبَا خُزَيْمَةَ يَحْفَظُهُمَا. فَلَمَّا أَمْلَاهُمَا خُزَيْمَةُ أَوْ أَبُو خُزَيْمَةَ عَلَيْهِ تَذَكَّرَ زَيْدٌ لَفْظَهُمَا وَتَذَكَّرَهُمَا مَنْ سَمِعَهُمَا مِنَ الصَّحَابَة حِين قرأوهما، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُمَا آخِرُ مَا أُنْزِلَ، فَلَفْظُهُمَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَتَوَاتُرُهُمَا حَاصِلٌ إِذْ لَمْ يَشُكُّ فِيهِمَا أَحَدٌ وَلَيْسَ إِثْبَاتُهُمَا قَاصِرًا عَلَى إِخْبَارِ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ.

10- سورة يونس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 10- سُورَةُ يُونُسَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ سُورَةَ يُونُسَ لِأَنَّهَا انْفَرَدَتْ بِذِكْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِقَوْمِ يُونُسَ، أَنَّهُمْ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَهُمْ رَسُولُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا آمَنُوا. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: 98] . وَتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ كَرَامَةٌ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِيُونُسَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ يُونُسُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بِأَوْسَعَ مِمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَكِنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى يُونُسَ تَمْيِيزًا لَهَا عَنْ أَخَوَاتِهَا الْأَرْبَعِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ «الر» . وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى نَبِيءٍ أَوْ قَوْمِ نَبِيءٍ عِوَضًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: الر الْأُولَى والر الثَّانِيَةُ. وَهَكَذَا فَإِنَّ اشْتِهَارَ السُّوَرِ بِأَسْمَائِهَا أَوَّلُ مَا يَشِيعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِأُولَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فَوَاتِحُهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً فَكَانُوا يَدْعُونَ تِلْكَ السُّوَرَ بِآلِ حم وَآلِ الر وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَفِي «الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 94- 97] وَجَزَمَ بِذَلِكَ الْقُمِّيُّ النَّيْسَابُورِيُّ. وَفِي «ابْنِ عَطِيَّةَ» عَنْ مُقَاتِلٍ إِلَّا آيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ هُمَا: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْخاسِرِينَ [يُونُس: 94- 95] . وَفِيهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِلَى أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ [وَيُونُس: 40] نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ.

أغراض السورة

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا بِمَكَّةَ وَنَزَلَ بَاقِيهَا بِالْمَدِينَةِ. وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى مُعَيَّنٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ نَاشِئَةٌ عَنْ ظَنِّ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مُجَادَلَةٍ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَظَنُّ هَؤُلَاءِ مُخْطِئٌ. وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَتِسْعُ آيَاتٍ فِي عَدِّ أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ، وَمِائَةٌ وَعَشْرٌ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ. وَهِيَ السُّورَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَبْلَ سُورَةِ هُودٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ لِمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يُونُس: 21] . أَغْرَاضِ السُّورَةِ ابْتُدِئَتْ بِمَقْصِدِ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ عَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، دَلَالَةً نُبِّهَ عَلَيْهَا بِأُسْلُوبٍ تَعْرِيضِيٍّ دَقِيقٍ بُنِي عَلَى الْكِنَايَةِ بِتَهْجِيَةِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ تِلْكَ الْحُرُوفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُس: 1] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ لَهُمْ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِمَا كُنِيَ عَنْهُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُس: 38] . وَأُتْبِعَ بِإِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْطَالِ إِحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولًا بَشَرًا. وَانْتُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ خَالِقُ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرُهُ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَإِلَى إِبْطَالِ مَعَاذِيرِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءُ عِنْدَ اللَّهِ.

وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ. فَذَلِكَ إِبْطَالُ أُصُولِ الشِّرْكِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ دَلَائِلَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبَيَانِ حِكْمَةِ الْجَزَاءِ، وَصِفَةِ الْجَزَاءِ، وَمَا فِي دَلَائِلِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حِكَمٍ وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ. وَوَعِيدِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَبِضِدِّ أُولَئِكَ وُعِدَ الَّذِينَ آمَنُوا. فَكَانَ مُعْظَمُ هَذِهِ السُّورَةِ يَدُورُ حَوْلَ مِحْوَرِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ. فَمِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ إِمْهَالَ اللَّهِ تَعَالَى الْكَافِرِينَ دُونَ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ هُوَ حِكْمَةٌ مِنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِمَا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ لَمَّا أَشْرَكُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَالِاعْتِبَارُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ مَوَاهِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا فِي أَحْوَالِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ مِنَ الْأَلْطَافِ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِلدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا وَزَوَالِهَا، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ السَّلَامِ. وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَتَبَرُّؤُ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ مِنْ عَبَدَتِهَا. وَإِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنِ النَّاسِ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى بُطْلَانِ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى وَاضِحَةٌ. وَتَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَلَكِنَّ الضَّلَالَةَ أَعْمَتْ أَبْصَارَ الْمُعَانِدِينَ. وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوَاقِبِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ بِالرُّسُلِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ قَوْمَ يُونُسَ لِمُصَادَفَةِ مُبَادَرَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ. وَتَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا حَرَّمُوهُ مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ. وَإِثْبَاتُ عُمُومِ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى.

[سورة يونس (10) : آية 1]

وَتَبْشِيرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَتَسْلِيَةُ الرَّسُولِ عَمَّا يَقُولُهُ الْكَافِرُونَ. وَأَنَّهُ لَو شَاءَ الله لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ. ثُمَّ تَخْلُصُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ نُوحٍ وَرُسُلٍ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونَ. ثُمَّ اسْتُشْهِدَ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِتَلْقِينِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا يَعْذُرُ بِهِ لِأَهْلِ الشَّكِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ اهْتِدَاءَ مَنِ اهْتَدَى لِنَفْسِهِ وَضَلَالَ مَنْ ضَلَّ عَلَيْهَا، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ معانديه. [1] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) الر تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي فَوَاتِحِ بَعْضِ السُّورِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَلَا يُنْطَقُ بِهَا إِلَّا عَلَى حَالِ السَّكْتِ، وَحَالُ السَّكْتِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَقْفِ، فَلِذَلِكَ لَا يُمَدُّ اسْمُ را فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي اللُّغَةِ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ لِأَنَّهُ بِالسَّكْتِ تُحْذَفُ الْهَمْزَةُ كَمَا تُحْذَفُ فِي الْوَقْفِ لِثِقَلِ السُّكُوتِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي الْوَقْفِ وَالسَّكْتِ، فَبِذَلِكَ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَلَا تُمَدُّ. وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى عَدَمِ مَدِّ الْحُرُوفِ: را. هَا. يَا. طا. حا. الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مَمْدُودَةً فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ اسْمُ الْإِشَارَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِاعْتِبَارِ حُضُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَكَأَنَّهَا مَنْظُورَةٌ مُشَاهِدَةٌ، فَصَحَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِذْ هِيَ مَتْلُوَّةٌ مَحْفُوظَةٌ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَتَدَبَّرَهَا أَمْكَنَهُ

ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْخَوْضَ فِي شَأْنِهَا هُوَ حَدِيثُ النَّاسِ فِي نَوَادِيهِمْ وَأَسْمَارِهِمْ وَشُغْلِهِمْ وَجِدَالِهِمْ، فَكَانَتْ بِحَيْثُ تَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ عِنْدَ وُرُودِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفَسِّرُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ خَبَرُهُ وَهُوَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ كَمَا فَسَّرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: 56] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: 78] . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : تَصَوَّرَ فِرَاقًا بَيْنَهُمَا سَيَقَعُ قَرِيبًا فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِهَذَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [88] . فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِمَّا الْحَثُّ عَلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَعْلَمُوا صِدْقَ مَنْ جَاءَهُمْ بِهِ. وَإِمَّا إِقْنَاعُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ النَّبِيءَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي هَذِه السُّورَة [يُونُس: 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ فَقِيلَ لَهُمْ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، أَيْ مَا هُوَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ بَلْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ الْإِعْجَازَ حَاصِلٌ بِكُلِّ سُورَةٍ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى الْحَقَائِقِ السَّامِيَةِ وَالْهُدَى إِلَى الْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ فَرَجُلٌ أُمِّيٌّ يَنْشَأُ فِي أُمَّةٍ جَاهِلَةٍ يَجِيءُ بِمِثْلِ هَذَا الْهُدَى وَالْحِكْمَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُوحًى إِلَيْهِ بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] . وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وآياتُ خَبَرُهُ. وَإِضَافَةُ آياتُ إِلَى الْكِتابِ إِضَافَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْبَيَانِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ لِلْآيَاتِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ الْإِشَارَةَ بِ تِلْكَ إِلَى حُرُوفِ الر لِأَنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَعْدَادِهَا التَّحَدِّي بِالْإِعْجَازِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّهَجِّي لِلْمُتَعَلِّمِ. فَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ (الر) فِي مَحَلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرًا عَنْهُ. وَالْمَعْنَى تِلْكَ الْحُرُوفُ

آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، أَيْ مِنْ جِنْسِهَا حُرُوفُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، أَيْ جَمِيعُ تَرَاكِيبِهِ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْحُرُوفِ. وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَنَّ آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ كُلَّهَا مِنْ جِنْسِ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ فَمَا لَكَمَ لَا تَسْتَطِيعُونَ مُعَارَضَتَهَا بِمِثْلِهَا إِنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِهَذَا النَّظْمِ الْمُعْجِزِ دُونَ كَلَامِهِمْ مُحَالًا إِذْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ التَّعْرِيفِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْجِنْسِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ الرَّجُلُ. وَالْحَكِيمُ: وَصْفٌ إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيِ الْحَاكِمُ عَلَى الْكُتُبِ بِتَمْيِيزِ صَحِيحِهَا مِنْ مُحَرَّفِهَا، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الْبَقَرَة: 213] . وَإِمَّا بِمَعْنَى مُفْعَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ مُحْكَمٌ، مِثْلُ عَتِيدٍ، بِمَعْنَى مُعَدٍّ. وَإِمَّا بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ وَالْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ، إِذِ الْحِكْمَةُ هِيَ إِصَابَةُ الْحَقِّ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَوُصِفَ بِوَصْفِ ذِي الْحِكْمَةِ مِنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ النَّاشِئِ عَنِ الْبَلِيغِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: وَغَرِيبَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَةٍ ... قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُصِفَ بِوَصْفِ مُنَزِّلِهِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، كَمَا مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1، 3] . وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْحَكِيمِ مِنْ بَيْنِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ لِهَذَا الْوَصْفِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِمَقَامِ إِظْهَارِ الْإِعْجَازِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِعْجَازِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ.

[سورة يونس (10) : آية 2]

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس 16] . [2] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 2] أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُس: 1] بِمَا فِيهَا مِنْ إِبْهَامِ الدَّاعِي إِلَى التَّوَقُّفِ عَلَى آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ تُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ ذَلِكَ الدَّاعِي فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ هُوَ اسْتِبْعَادُ النَّاسِ الْوَحْيَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ اسْتِبْعَادَ إِحَالَةٍ. وَجَاءَتْ عَلَى هَذَا النَّظْمِ الْجَامِعِ بَيْنَ بَيَانِ الدَّاعِي وَبَيْنَ إِنْكَارِ السَّبَبِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ وَتَجْهِيلِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِيهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِأَنَّهُ مَبْدَأُ الْغَرَضِ الَّذِي جَاءَتْ لَهُ السُّورَةُ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ كَيْفَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبَ إِحَالَةٍ. وَفَائِدَةُ إِدْخَال الِاسْتِفْهَام الْمُسْتَعْمل فِي الْإِنْكَار، عَلَى (كَانَ) دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَعَجِبَ النَّاسُ، هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَعَجُّبِهِمُ الْمُرَادِ بِهِ إِحَالَةُ الْوَحْيِ إِلَى بَشَرٍ. وَالْمَعْنَى: أُحْدِثَ وَتَقَرَّرَ فِيهِمُ التَّعَجُّبُ مِنْ وَحْيِنَا، لِأَنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ يُشْعِرُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّمَكُّنِ فَإِذَا عُبِّرَ بِهِ أَشْعَرَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ حُصُولُهُ. ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب كانَ لِزِيَادَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ هَذَا التَّعَجُّبِ فِيهِمْ، لِأَنَّ أَصْلَ اللَّامِ أَنْ تُفِيدَ الْمِلْكِ، وَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلتَّمَكُّنِ، أَيْ لِتَمَكُّنِ الْكَوْنِ عَجَبًا مِنْ نُفُوسِهِمْ. وعَجَباً خَبَرُ كانَ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ. وأَنْ وأَوْحَيْنا اسْمُ كَانَ، وَجِيءَ فِيهِ بِ (أَنْ) وَالْفِعْل دُونَ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَهُوَ وَحْيُنًا لِيُتَوَسَّلَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ الْفِعْلُ مِنَ التَّجَدُّدِ وَصِيغَةِ الْمُضِيِّ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِ الْوَحْيِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ وَتَجَدُّدِهِ وَذَلِكَ مَا يَزِيدُهُمْ كَمَدًا.

وَالْعَجَبُ: مَصْدَرُ عَجِبَ، إِذَا عَدَّ الشَّيْءَ خَارِجًا عَنِ الْمَأْلُوفِ نَادِرَ الْحُصُولِ. وَلَمَّا كَانَ التَّعَجُّب مبدأ لِلتَّكْذِيبِ وَهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى كَوْنِهِ عَجِيبًا جَاءَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِإِنْكَارِ تَعَجُّبِهِمْ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّ إِنْكَارَ التَّعَجُّبِ من ذَلِك يؤول إِلَى إِنْكَارِ التَّكْذِيبِ بِالْأَوْلَى وَيَقْلَعُ التَّكْذِيبَ مِنْ عُرُوقِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَجَبُ كِنَايَةً عَنْ إِحَالَةِ الْوُقُوعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي سُورَةِ هُودٍ [72، 73] وَقَوْلِهِ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [63] . وَكَانَتْ حِكَايَةُ تَعَجُّبِهِمْ بِإِدْمَاجِ مَا يُفِيدُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ شَأْنُ الرِّسَالَاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا يُوحى إِلَيْهِم [النَّحْل: 43] وَقَالَ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَام: 9] وَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 95] . وَأُطْلِقَ النَّاسُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: 173] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَسُولٌ بَشَرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ. وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا لِأَنَّ الْوَحْيَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَالنَّاس الثَّانِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ الَّذِينَ يُمْكِنُ إِنْذَارُهُمْ، فَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ. وَلكَون المُرَاد بِالنَّاسِ ثَانِيًا غَيْرَ الْمُرَادِ بِهِ أَوَّلَ ذِكْرٍ بِلَفْظِهِ الظَّاهِرِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَنْ أَنْذِرْهُمْ. وَلَمَّا عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ الْأَمْرُ بِالتَّبْشِيرِ لِلَّذِينَ آمَنُوا بَقِيَ النَّاسَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمُ الْإِنْذَارُ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَحُذِفَ الْمُنْذَرُ بِهِ لِلتَّهْوِيلِ، وَلِأَنَّهُ يُعْلَمُ حَاصِلُهُ مِنْ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ، وَفِعْلُ التَّبْشِيرِ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ) جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ. وَالْقَدَمُ: اسْمٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَسَلَفَ، فَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ وَفِي ضِدِّهِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنكر النَّاس إِلَهًا ... مَعَ الْحَسَبِ الْعَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ فِي «الْمُعَلِّمِ» عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الْقَدَمَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ إِلَّا عَنْ مَعْنَى الْمُقَدَّمِ لَكِنْ فِي الشَّرَفِ وَالْجَلَالَةِ. وَهُوَ فَعَلَ بِمَعْنَى فَاعَلَ مِثْلَ سَلَفَ وَثَقَلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ: «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ» يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ (وَفِي رِوَايَةٍ الْجَبَّارُ) فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَط قَطْ، وَعِزَّتِكَ . وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. وَهَذَا أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ لِمَعْنَى «قَدَمَهُ» . وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي «الْمُعَلِّمِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ» لِلْمَازِرِيِّ وَعَزَاهُ إِلَى النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ. وَالْمُرَادُ بِ قَدَمَ صِدْقٍ فِي الْآيَةِ قَدَمُ خَيْرٍ، وَإِضَافَةُ قَدَمَ إِلَى صِدْقٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَأَصْلُهُ قَدَمٌ صِدْقٌ، أَيْ صَادِقٌ وَهُوَ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ: فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ وَصْفُ صِدْقٍ لِ قَدَمَ وَصْفًا مُقَيَّدًا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ يَكُونُ وَصْفًا كَاشِفًا. وَالصِّدْقُ: مُوَافَقَةُ الشَّيْءِ لِاعْتِقَادِ الْمُعْتَقِدِ، وَاشْتُهِرَ فِي مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ. وَيُضَافُ شَيْءٌ إِلَى (صِدْقٍ) بِمَعْنَى مُصَادَفَتِهِ لِلْمَأْمُولِ مِنْهُ الْمَرَضِيِّ وَأَنَّهُ لَا يَخِيبُ ظَنُّ آمِلٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يُونُس: 90] وَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 55] . وَقَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ هَذَا الْمُوحَى بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ إِذْ صَادَفَ صَرْفَهُمْ عَنْ ضَلَالِهِ دِينَهُمْ وَسَمِعُوا مِنْهُ تَفْضِيلَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا فِي ذِكْرِ الْمُفَسِّرِ إِدْمَاجٌ لِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ.

قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً إِلَخْ. وَوَجْهُ هَذَا الْإِبْدَالِ أَنَّ قَوْلهم هَذَا ينبىء عَنْ بُلُوغِ التَّعَجُّبِ مِنْ دَعْوَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَزِيدَ الْإِحَالَةِ وَالتَّكْذِيبِ حَتَّى صَارُوا إِلَى الْقَوْلِ: إِنَّ هَذَا لسحر مُبين [يُونُس: 76] أَوْ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «لَسِحْرٌ» - بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونُ الْحَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُ السِّحْرٍ، أَيْ أَنَّهُ كَلَامٌ يُسْحَرُ بِهِ. فَقَدْ كَانَ مِنْ طُرُقِ السِّحْرِ فِي أَوْهَامِهِمْ أَنْ يَقُولَ السَّاحِرُ كَلَامًا غَيْرَ مَفْهُومٍ لِلنَّاسِ يُوهِمُهُمْ أَنَّ فِيهِ خَصَائِصَ وَأَسْمَاءَ غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ لِغَيْرِ السَّحَرَةِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْوَحْيِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لَساحِرٌ فَالْإِشَارَةُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ وَصْفَهُمْ إِيَّاه بِالسحرِ ينبىء بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدَّعُوهُ هَذَيَانًا وَبَاطِلًا فَهَرِعُوا إِلَى ادِّعَائِهِ سِحْرًا، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَقَائِدِهِمُ الضَّالَّةِ أَنَّ مِنْ طَرَائِقِ السِّحْرِ أَنْ يَقُولَ السَّاحِرُ أَقْوَالًا تَسْتَنْزِلُ عُقُولَ الْمَسْحُورِينَ. وَهَذَا من عجزهم مِنْ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ بِمَطَاعِنَ فِي لَفْظِهِ وَمَعَانِيهِ. وَالسِّحْرُ: تَخْيِيلُ مَا لَيْسَ بِكَائِنٍ كَائِنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَهَرَ، أَيْ سِحْرٌ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ تَلْفِيقٌ مِنْهُمْ وَبُهْتَانٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ الْحق الْمُبين.

[سورة يونس (10) : آية 3]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 3] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِنَّمَا أُوقِعَ هُنَا لِأَنَّ أَقْوَى شَيْءٍ بَعَثَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ سِحْرٌ هُوَ أَنَّهُ أَبْطَلَ الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَنَفَاهَا عَنْ آلِهَتِهِمُ الَّتِي أَشْرَكُوا بِهَا فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] فَلَا جَرَمَ أَنْ أُعْقِبَ إِنْكَارُ إِحَالَتِهِمْ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ أكد الْخَبَر بحروف التَّوْكِيدِ، وَأُوقِعَ عَقِبَهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يُونُس: 2] ، فَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً وَقَوْلِهِ قالَ الْكافِرُونَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ خَبَرُ إِنَّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. وَجُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ رَبَّكُمُ. وَالتَّدْبِيرُ: النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْمُقَدَّرَاتِ وَعَوَائِقِهَا لِقَصْدِ إِيقَاعِهَا تَامَّةً فِيمَا تُقْصَدُ لَهُ مَحْمُودَةَ الْعَاقِبَةِ. وَالْغَايَةُ مِنَ التَّدْبِيرِ الْإِيجَادُ وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ مَا دُبِّرَ. وَتَدْبِيرُ اللَّهِ الْأُمُورَ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَامِ الْعِلْمِ بِمَا يَخْلُقُهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَفْظَ التَّدْبِيرِ هُوَ أَوْفَى الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ بِتَقْرِيبِ إِتْقَانِ الْخَلْقِ. وَالْأَمْرُ: جِنْسٌ يعم جَمِيع الشؤون وَالْأَحْوَالِ فِي الْعَالَمِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [48] . وَفِي إِجْرَاءِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً لَا تَخْلُقُ وَلَا تَعْلَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النّخل: 20] .

وَلِذَلِكَ حَسُنَ وَقْعُ جُمْلَةِ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ عَقِبَ جُمْلَةِ: الَّذِي خَلَقَ بِتَمَامِهَا، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَعَلُوا آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءَ فَإِذَا أُنْذِرُوا بِغَضَبِ اللَّهِ يَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] ، أَيْ حُمَاتُنَا مِنْ غَضَبِهِ. فَبَعْدَ أَنْ وُصِفَ الْإِلَهُ الْحَقُّ بِمَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ آلِهَتِهِمْ نُفِيَ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَصْفُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَحِمَايَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ. وَأُكِّدَ النَّفْيُ بِ مِنْ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَانْتِفَاءِ الْوَصْفِ عَنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الَّذِي دَخَلَتْ (مِنْ) عَلَى اسْمِهِ بِحَيْثُ لَمْ تَبْقَ لِآلِهَتِهِمْ خُصُوصِيَّةٌ. وَزِيَادَةُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ احْتِرَاسٌ لِإِثْبَاتِ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ لِآلِهَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَشَفَاعَتُهُمْ عِنْدَهُ نَافِذَةٌ كَشَفَاعَةِ النِّدِّ عِنْدَ نده. والشفاعة تقدست عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [53] . وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: مَا مِنْ شَفِيعٍ مِثْلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. وَجُمْلَةُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ابْتِدَائِيَّةٌ فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا وَنَتِيجَةٌ لَهَا، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ تِلْكَ الْجُمَلِ وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ: فَاعْبُدُوهُ، وَتَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ جُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ. وَالْإِتْيَانُ فِي صَدْرِهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِأَنَّهُمُ امْتَرَوْا فِي صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَضَلُّوا فِيهَا ضَلَالًا مُبِينًا، فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالْإِيقَاظِ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَقِيقٌ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِنَّ خَالِقَ الْعَوَالِمِ بِغَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْمَقْدِرَةِ وَمَالِكَ أمرهَا ومدبر شؤونها وَالْمُتَصَرِّفَ الْمُطْلَقَ مُسْتَحِقٌّ

لِلْعِبَادَةِ نَظِيرَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَى قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَة: 2- 4] . وَفُرِّعَ عَلَى كَوْنِهِ رَبَّهُمْ أَنْ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ، وَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهُ مُؤَكِّدٌ لِجُمْلَةِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ تَأْكِيدًا بِفَذْلَكَةٍ وَتَحْصِيلٍ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوهُ، كَقَوْلِهِ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُس: 58] إِذْ وَقَعَ قَوْلُهُ (فَبِذَلِكَ) تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَأُوقِعُ بَعْدَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ (فَلْيَفْرَحُوا) . وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا بِذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ الْعِبَادَةُ الْحَقُّ الَّتِي لَا يُشْرَكُ مَعَهُ فِيهَا غَيْرُهُ، بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا اللَّهُ دُونَ مَعْبُودَاتِهِمْ. وَجُمْلَةُ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ ابْتِدَائِيَّةٌ لِلتَّقْرِيعِ. وَهُوَ غَرَضٌ جَدِيدٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِانْتِفَاءِ تَذَكُّرِهِمْ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرُوا فِي أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ وَبِمُلْكِهَا وَبِتَدْبِيرِ أَحْوَالِهَا. وَالتَّذَكُّرُ: التَّأَمُّلُ. وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى ذِكْرِ الْعَقْلِ لِمَعْقُولَاتِهِ، أَيْ حَرَكَتِهِ فِي مَعْلُومَاتِهِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّفَكُّرِ إِلَّا أَنَّ التَّذَكُّرَ لَمَّا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ مَادَّةِ الذِّكْرِ الَّتِي هِيَ فِي الْأَصْلِ جَرَيَانُ اللَّفْظِ عَلَى اللِّسَانِ، وَالَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا أَيْضًا عَنْ خُطُورِ الْمَعْلُومِ فِي الذِّهْنِ بَعْدَ سَهْوِهِ وَغَيْبَتِهِ عَنْهُ كَانَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ حَرَكَةُ الذِّهْنِ فِي مَعْلُومَاتٍ مُتَقَرِّرَةٍ فِيهِ مِنْ قَبْلُ. فَلِذَلِكَ أُوثِرَ هُنَا دُونَ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [الْبَقَرَة: 219] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَرَّرَ فِي النُّفُوسِ بِالْفِطْرَةِ، وَبِمَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ وَالْأَدِلَّةِ فَيَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ مُجَرَّدُ إِخْطَارِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فِي البال.

[سورة يونس (10) : آية 4]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) وَقَعَ أَمْرُهُمْ بِعِبَادَتِهِ عَقِبَ ذِكْرِ الْجَزَاءِ إِنْذَارًا وَتَبْشِيرًا، فَالْجُمْلَةُ كَالدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَتِهِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِثْبَاتِ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِثْلَ تِلْكَ الْعَوَالِمِ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ وُجُودٍ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُعِيدَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ الْكَائِنَةِ فِي تِلْكَ الْعَوَالِمِ خَلْقًا ثَانِيًا. وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَبَدْءُ الْخَلْقِ هُوَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَإِعَادَتُهُ هِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ شِبْهِ كَمَالِ الِاتِّصَالِ، عَلَى أَنَّهَا يَجُوزُ كَوْنُهَا خَبَرًا آخَرَ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ [يُونُس: 3] ، أَوْ عَنْ قَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [يُونُس: 3] . وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِثْبَاتَ الْحَشْرِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَكَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهِ. وَفِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ إِفَادَةُ الْقَصْرِ، أَيْ لَا إِلَى غَيْرِهِ، قَطْعًا لِمَطَامِعِ بَعْضِهِمُ الْقَائِلِينَ فِي آلِهَتِهِمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] يُرِيدُونَ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ عَلَى تَسْلِيمِ وُقُوعِ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ، فَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ كَانَ حَقِيقًا بِالْعِبَادَةِ وَكَانَتْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ بَاطِلًا. وَالْمَرْجِعُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [105] . وجَمِيعاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ فِيهِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ تَوْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ، وَيُسمى موكّدا لِنَفْسِهِ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ لِأَنَّ مَضْمُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ الْوَعْدُ بِإِرْجَاعِهِمْ

إِلَيْهِ وَهُوَ مُفَادُ وَعْدِ اللَّهِ، وَيُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُؤَكِّدَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْعَمَلِ فِيهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَعْدًا حَقًّا. وَانْتُصِبَ حَقًّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَعْدَ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَيُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مُؤَكِّدًا لِغَيْرِهِ، أَيْ مُؤَكِّدًا لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ تَحْتَمِلُهُمَا الْجُمْلَةُ الْمُؤَكَّدَةُ. وَجُمْلَة: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ وَإِمْكَانِهِ بِأَنَّهُ قَدِ ابْتَدَأَ خَلْقَ النَّاسِ، وَابْتِدَاءُ خَلْقِهِمْ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَثُبُوتُ إِمْكَانِهِ يَدْفَعُ تَكْذِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، فَكَانَ إِمْكَانُهُ دَلِيلًا لِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِهِ حَاصِلًا مِنْ تَقْدِيمِ التَّذْكِيرِ بِبَدْءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . وَمَوْقِعُ (إِنَّ) تَأْكِيدُ الْخَبَرِ نَظَرًا لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، فَحَصَلَ التَّأْكِيدُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يُعِيدُهُ أَمَّا كَوْنُهُ بَدَأَ الْخَلْقَ فَلَا يُنْكِرُونَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّهُ) . وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ حَقٌّ وَعْدُهُ بِالْبَعْثِ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَلَا تُعْجِزُهُ الْإِعَادَةُ بَعْدَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْمَصْدَرُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ بِمَا نُصِبَ بِهِ وَعْدَ اللَّهِ أَيْ وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا بَدْءَ الْخَلْقِ ثُمَّ إِعَادَتَهُ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ وَعْدَ اللَّهِ بَدَلًا مُطَابِقًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ (أَنْ) وَمَا بَعْدَهَا مَرْفُوعًا بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي انْتَصَبَ (حَقًّا) بِإِضْمَارِهِ. فَالتَّقْدِيرُ: حَقَّ حَقًّا أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، أَيْ حَقٌّ بَدْؤُهُ الْخَلْقَ ثُمَّ إِعَادَتُهُ. وَالتَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ إِبْدَاءً لِحِكْمَةِ الْبَعْثِ وَهِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُقْتَرَفَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِذْ لَوْ أُرْسِلَ النَّاسُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِغَيْرِ جَزَاءٍ عَلَى الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ لَاسْتَوَى الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْمُسِيئِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَحْسَنَ فِيهَا حَالًا

مِنَ الْمُحْسِنِينَ. فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَلْقَى كُلُّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَالَمُ صَالِحًا لِإِظْهَارِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وُضِعُ نِظَامُهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، قَابِلًا لِوُقُوعِ مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَلِصَرْفِ الْخَيْرَاتِ عَنِ الصَّالِحِينَ وَانْهِيَالِهَا عَلَى الْمُفْسِدِينَ وَالْعَكْسُ لِأَسْبَابٍ وَآثَارٍ هِيَ أَوْفَقُ بِالْحَيَاةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ قَاضِيَةً بِوُجُودِ عَالَمٍ آخَرَ مُتَمَحِّضٌ لِلْكَوْنِ وَالْبَقَاءِ وَمَوْضُوعًا فِيهِ كُلُّ صِنْفٍ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ لَا يَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا قِبَلَ فِيهِ لِتَصَرُّفَاتٍ وَتَسَبُّبَاتٍ تُخَالِفُ الْحَقَّ وَالِاسْتِحْقَاقَ. وَقُدِّمَ جَزَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِشَرَفِهِ وَلِيَاقَتِهِ بِذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ سَلَكُوا فِي عَالَمِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِتَغْلِيبِ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاحِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْقِسْطِ صَالِحَةٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ الْجَزَاءِ وَمَعْنَى الْعِوَضِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي صِفَةٍ وَالْجَزَاءُ بِمَا يُسَاوِي الْمُجْزَى عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ [18] . فَتُفِيدُ الْبَاءُ أَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِمَا يُعَادِلُ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ فَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ صَلَاحًا هُنَالِكَ وَهُوَ غَايَةُ النَّعِيمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ مُكَافَأَةٌ عَلَى قِسْطِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ فِي عَدْلِهِمْ فِيهَا بِأَنْ عَمِلُوا مَا يُسَاوِي الصَّلَاحَ الْمَقْصُودَ مِنْ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ. وَالْإِجْمَالُ هُنَا بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْبَاءِ مُفِيدٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ جَزَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لِصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْجَزَاءَ كُلَّهُ عَدْلٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا زَائِدًا عَلَى الْعَدْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِكْرَامُهُمْ بِأَنَّ جَزَاءَهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِمَا عَمِلُوا، كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النَّحْل: 32] . وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَرَمِ أَنْ يُوهِمَ الْكَرِيمُ أَنَّ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الْمُكَرَمِ هُوَ حَقُّهُ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُ فِيهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ، فَفِيهِ تَفَضُّلٌ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِأَنَّهُمْ لَوْ جُوِّزُوا عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِمْ لَكَانَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ، وَلِأَجْلِ هَذَا خُولِفَ

[سورة يونس (10) : آية 5]

الْأُسْلُوبُ فِي ذِكْرِ جَزَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَجَاءَ صَرِيحًا بِمَا يَعُمُّ أَحْوَالَ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَنْعَام: 70] . وَخُصَّ الشَّرَابُ مِنَ الْحَمِيمِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَنَّهُ أَكْرَهُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي مَأْلُوفِ النُّفُوسِ. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَالْبَاءُ فِي قَوْله: وشراب الْحَمِيم تقدم فِي قَوْله تَعَالَى: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلْعِوَضِ. وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ ذِكْرُ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةُ لِرُجُوعِ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْعِلَّةِ مَا هُوَ جَزَاءُ الْجَمِيعِ لَا جَرَمَ يَتَشَوَّفُ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ فَجَاءَ الِاسْتِئْنَافُ لِلْإِعْلَامِ بِذَلِكَ. وَنُكْتَةُ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ حَيْثُ لَمْ يُعْطَفْ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ عَلَى جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُقَالُ: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ إِلَخْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [الْكَهْف: 2] هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِجَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَأَنَّهُ الَّذِي يُبَادِرُ بِالْإِعْلَامِ بِهِ وَأَنَّ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ جَدِيرٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ لَوْلَا سُؤال السامعين. [5] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 5] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَيْضًا، فَضَمِيرُ (هُوَ) عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ [يُونُس: 3] . وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ مَمْزُوجٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْمَحْجُوجِينَ بِهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّابِقَ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِعَظِيمِ أَمْرِ الْخَلْقِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِذِكْرِ أَشْيَاءَ لَيْسَ لِلْمُخَاطَبِينَ حَظٌّ فِي التَّمَتُّعِ بِهَا. وَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ تَضَمَّنَ أَشْيَاءَ يَأْخُذُ الْمُخَاطَبُونَ بِحَظٍّ عَظِيمٍ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا وَهُوَ خَلْقُ الشَّمْسِ

وَالْقَمَرِ عَلَى صُورَتِهِمَا وَتَقْدِيرُ تَنَقُّلَاتِهِمَا تَقْديرا مضبوطا ألهم اللَّهُ الْبَشَرَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي شُؤُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ. فَجَعْلُ الشَّمْسِ ضِيَاءً لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِضِيَائِهَا فِي مُشَاهَدَةِ مَا تُهِمُّهُمْ مُشَاهَدَتُهُ بِمَا بِهِ قِوَامُ أَعْمَالِ حَيَاتِهِمْ فِي أَوْقَاتِ أَشْغَالِهِمْ. وَجَعْلُ الْقَمَرِ نُورًا لِلِانْتِفَاعِ بِنُورِهِ انْتِفَاعًا مُنَاسِبًا لِلْحَاجَةِ الَّتِي قَدْ تُعَرِّضُ إِلَى طَلَبِ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ فِي وَقْتِ الظُّلْمَةِ وَهُوَ اللَّيْلُ. وَلِذَلِكَ جُعِلَ نوره أَضْعَف لينْتَفع بِهِ بِقَدْرِ ضَرُورَةِ الْمُنْتَفِعِ، فَمَنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يَشْعُرُ بِنُورِهِ وَلَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ سُكُونِهِ الَّذِي جُعِلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ لِحُصُولِهِ، وَلَوْ جُعِلَتِ الشَّمْسُ دَائِمَةَ الظُّهُورِ لِلنَّاسِ لَاسْتَوَوْا فِي اسْتِدَامَةِ الِانْتِفَاعِ بِضِيَائِهَا فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنِ السُّكُونِ الَّذِي يَسْتَجْدُونَ بِهِ مَا فَتَرَ مِنْ قُوَاهُمُ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا نَشَاطُهُمْ وَكَمَالُ حَيَاتِهِمْ. وَالضِّيَاءُ: النُّورُ السَّاطِعُ الْقَوِيُّ، لِأَنَّهُ يُضِيءُ لِلرَّائِي. وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّوْءِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي يُوَضِّحُ الْأَشْيَاءَ، فَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنَ الضَّوْءِ، وَيَاءُ (ضِيَاءٍ) مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ لِوُقُوعِ الْوَاوِ إِثْرَ كَسْرَةِ الضَّادِ فَقُلِبَتْ يَاءً لِلتَّخْفِيفِ. وَالنُّورُ: الشُّعَاعُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ النَّارِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الضِّيَاءِ، يَصْدُقُ عَلَى الشُّعَاعِ الضَّعِيفِ وَالشُّعَاعِ الْقَوِيِّ، فَضِيَاءُ الشَّمْسِ نُورٌ، وَنُورُ الْقَمَرِ لَيْسَ بِضِيَاءٍ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَكِنْ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ بَعْضِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي مَوْضِعِ بَعْضٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَعْسُرُ انْضِبَاطُهُ. وَلَمَّا جُعِلَ النُّورُ فِي مُقَابَلَةِ الضِّيَاءِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نُورٌ مَا. وَقَوْلُهُ: ضِياءً ونُوراً حَالَانِ مُشِيرَانِ إِلَى الْحِكْمَةِ وَالنِّعْمَةِ فِي خَلْقِهِمَا. وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مِقْدَارٍ عِنْدَ صُنْعِهَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (قَدَّرَهُ) : إِمَّا عَائِدٌ إِلَى النُّورِ فَتَكُونُ الْمَنَازِلُ بِمَعْنَى الْمَرَاتِبِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ نُورِ الْقَمَرِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ التَّابِعَةُ لِمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ نَيِّرًا مِنْ كُرَةِ الْقَمَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] . أَيْ حَتَّى نَقُصَ نُورُهُ

لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ فَعَادَ كَالْعُرْجُونِ الْبَالِي. وَيَكُونُ مَنازِلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَدَّرَهُ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ تَقْدِيرًا عَلَى حَسَبِ الْمَنَازِلِ، فَالنُّورُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ لَهُ قَدْرٌ غَيْرُ قَدْرِهِ الَّذِي فِي مَنْزِلَةٍ أُخْرَى. وَإِمَّا عَائِدٌ إِلَى (الْقَمَرِ) عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَقَدَّرَ سَيْرَهُ، فَتَكُونُ مَنازِلَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالْمَنَازِلُ: جَمْعُ مَنْزِلٍ وَهُوَ مَكَانُ النُّزُولِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمَوَاقِعُ الَّتِي يَظْهَرُ الْقَمَرُ فِي جِهَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ. وَهِيَ ثَمَانٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً عَلَى عَدَدِ لَيَالِي الشَّهْرِ الْقَمَرِيِّ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَنَازِلِ عَلَيْهَا مَجَازٌ بِالْمُشَابَهَةِ وَإِنَّمَا هِيَ سُمُوتٌ يَلُوحُ لِلنَّاسِ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي سَمْتٍ مِنْهَا، كَأَنَّهُ يَنْزِلُ بِهَا. وَقَدْ رَصَدَهَا الْبَشَرُ فَوَجَدُوهَا لَا تَخْتَلِفُ. وَعَلِمَ الْمُهْتَدُونَ مِنْهُمْ أَنَّهَا مَا وُجِدَتْ عَلَى ذَلِكَ النِّظَامِ إِلَّا بِصُنْعِ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ. وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ أَمَارَاتُهَا أَنْجُمٌ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى شَكْلٍ لَا يَخْتَلِفُ، فَوَضَعَ الْعُلَمَاءُ السَّابِقُونَ لَهَا أَسْمَاءَ. وَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الطُّلُوعِ عِنْدَ الْفَجْرِ فِي فُصُولِ السَّنَةِ. وَالْعَرَبُ يَبْتَدِئُونَ ذِكْرَهَا بِالشَّرَطَانِ وَهَكَذَا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حُلُولِ الْقَمَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي سَمْتِ مَنْزِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ، فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْهِلَالِ لَلشَّرَطَانِ وَهَكَذَا. وَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا مَرْتَبَةٌ عَلَى حَسَبِ تَقْسِيمِهَا عَلَى فُصُولِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ. وَهِيَ: الْعَوَّاءُ، السِّمَاكُ الْأَعْزَلُ، الْغَفْرُ، الزُّبَانَى، الْإِكْلِيلُ، الْقَلْبُ، الشَّوْلَةُ، النَّعَائِمُ، الْبَلْدَةُ، سَعْدُ الذَّابِحِ، سَعْدُ بُلَعٍ، سَعْدُ السُّعُودِ، سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، الْفَرْغُ الْأَعْلَى، الْفَرْغُ الْأَسْفَلُ، الْحُوتُ، الشَّرَطَانُ، الْبُطَيْنُ، الثُّرَيَّا، الدَّبَرَانُ، الْهَقْعَةُ، الْهَنْعَةُ، ذِرَاع الْأسد، النّشرة، الطَّرْفُ، الْجَبْهَةُ، الزُّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ. وَهَذِه الْمنَازل منقسمة عَلَى الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشْرَ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا الشَّمْسُ فِي فُصُولِ السَّنَةِ، فَلِكُلِّ بُرْجٍ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ بُرْجًا مَنْزِلَتَانِ وَثُلُثٌ، وَهَذَا ضَابِطٌ لِمَعْرِفَةِ نُجُومِهَا وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِهَا مَنَازِلَ لِلْقَمَرِ. وَقَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ بِعِلَّةِ تَقْدِيرِهِ الْقَمَرَ مَنَازِلَ بِأَنَّهَا مَعْرِفَةُ النَّاسِ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، أَيْ عَدَدَ السِّنِينَ بِحُصُولِ كُلِّ سَنَةٍ بِاجْتِمَاعِ اثْنَيْ عَشَرَ.

وَالْحِسَابُ: مَصْدَرُ حَسِبَ بِمَعْنَى عَدَّ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عَدَدَ، أَيْ وَلِتَعْلَمُوا الْحِسَابَ. وَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ، أَيْ وَالْحِسَابَ الْمَعْرُوفَ. وَالْمُرَادُ بِهِ حِسَابُ الْأَيَّامِ وَالْأَشْهُرِ لِأَنَّ حِسَابَ السِّنِينَ قَدْ ذُكِرَ بِخُصُوصِهِ. وَلَمَّا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِسَابِ حِسَابُ الْقَمَرِ، لِأَنَّ السَّنَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَمَرِيَّةٌ، وَلِأَنَّ ضَمِيرَ قَدَّرَهُ عَائِدٌ عَلَى الْقَمَرَ وَإِنْ كَانَ لِلشَّمْسِ حِسَابٌ آخَرُ وَهُوَ حِسَابُ الْفُصُولِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً [الْأَنْعَام: 96] . فَمِنْ مَعْرِفَةِ اللَّيَالِي تُعْرَفُ الْأَشْهُرُ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ الْأَشْهُرِ تُعْرُفُ السَّنَةُ. وَفِي ذَلِكَ رِفْقٌ بِالنَّاسِ فِي ضَبْطِ أُمُورِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ وَمُعَامَلَاتِ أَمْوَالِهِمْ وَهُوَ أَصْلُ الْحَضَارَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُعَرَّفَةَ ضَبْطِ التَّارِيخِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْبَشَرِ. وَجُمْلَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَذَكَرَ حِكْمَةَ بَعْضِ ذَلِكَ أَفْضَى إِلَى الْغَرَضِ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَالِقَهُمَا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ لِيَسْتَفِيقَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْحَكَمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [7] وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَ (الْحَقُّ) هُنَا مُقَابِلٌ لِلْبَاطِلِ. فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ، لِأَنَّ الْبَاطِل من إطلاقاتها أَنْ يُطلق على الْبَعْث وَانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ الْحَقُّ يُطْلَقُ عَلَى مُقَابِلِ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَأَنَّ الْخَالِقَ لَهَا لَيْسَ آلِهَتَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] . وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدُّخان: 38- 39] . وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هَذَا التَّنْبِيهَ بِجُمْلَةِ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مَسُوقَةٌ لِلِامْتِنَانِ بِالنِّعْمَةِ، وَلِتَسْجِيلِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ إِلَى مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ

[سورة يونس (10) : آية 6]

فِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ. فَعَلَى قِرَاءَةِ نُفَصِّلُ بِالنُّونِ وَهِيَ لِنَافِعٍ وَالْجُمْهُورِ وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فَفِي ضَمِيرِ صَاحِبِ الْحَالِ الْتِفَاتٌ، وَعَلَى قِرَاءَة يُفَصِّلُ بالتحية وَهِيَ لِابْنِ كَثِيرٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ. وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ، لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَأْتِي على الْفُصُول الشَّيْءِ كُلِّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [55] . وَالْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّكْرَارِ. وَجُعِلَ التَّفْصِيلُ لِأَجْلِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ، أَيِ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْعِلْمُ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمُضَارِعُ مِنْ تَجَدُّدُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لِمَنْ هُوَ دَيْدَنُهُ وَدَأْبُهُ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَهْلَ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ هُمْ أَهْلُ الِانْتِفَاعِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ. وَذِكْرُ لَفْظِ (قَوْمٍ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ رَسَخَ فِيهِمْ وَصْفُ الْعِلْمِ، فَكَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتَفْصِيلِ الْآيَاتِ لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَلَا مِمَّنْ رَسَخَ فيهم الْعلم. [6] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 6] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِأَحْوَالِ الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةِ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ. وَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ عطف قَوْله تَعَالَى: وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَعَمُّ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ لِشُمُولِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمِنْ خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِمَّا تَبْلُغُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةُ النَّاسِ فِي مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَعَلَى تَفَاوُتِ مَقَادِيرِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ عُقُولِهِمْ. وَتَأْكِيدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَجْلِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ إِلَى التَّوْحِيدِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ.

[سورة يونس (10) : الآيات 7 إلى 8]

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي شَبِيهَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَفِي خَوَاتِمِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَشَمِلَ قَوْلُهُ: وَما خَلَقَ اللَّهُ الْأَجْسَامَ وَالْأَحْوَالَ كُلَّهَا. وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ هُنَا لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ وَفِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [164] لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [190] لِأُولِي الْأَلْبابِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْآيَاتِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنِ التَّقْوَى هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ، وَأَنَّ نَفْعَهَا حَاصِلٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَيْ يَحْذَرُونَ الضَّلَالَ. فَالْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِاتِّقَاءِ مَا يُوقِعُ فِي الْخُسْرَانِ فَيَبْعَثُهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ النَّجَاحِ فَيَتَوَجَّهُ الْفِكْرُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ. وَقَدْ مَرَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [2] عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يُونُس: 5] ، وَأَمَّا آيَةُ الْبَقَرَةِ وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ فَهُمَا وَارِدَتَانِ فِي سِيَاقٍ شَامِلٍ لِلنَّاسِ عَلَى السَّوَاءِ. وَذِكْرُ لَفْظِ (قَوْمٍ) تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قبل هَذِه. [7، 8] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 7 إِلَى 8] إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) هَذَا اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ لِلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْبَعْثِ وَلَا فَكَّرُوا فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْآيَاتِ نَشَأَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمُنَاسِبِ لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَبَيْنَ الْوَعِيدِ الْمُنَاسِبِ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْأَدِلَّةُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَيَتَّقُونَ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ سَادِرُونَ فِي غُلْوَائِهِمْ حَتَّى يُلَاقُوا الْعَذَابَ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ لِلْجَزَاءِ تَأَتَّى الْوَعِيدُ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ وَالْمَصِيرَ إِلَيْهِ.

وَلِوُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعَ الْوَعِيدِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ عُدِلَ فِيهَا عَنْ طَرِيقَةِ الْخِطَابِ بِالضَّمِيرِ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِظْهَار، وَجِيء بالموصولة لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي حُصُولِ الْخَبَرِ. وَقَدْ جُعِلَ عُنْوَانُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا عَلَامَةً عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَكَرَّرَ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنَ الْمَوَاقِعِ مَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَوْصُولِيَّةِ إِلَّا لِلِاشْتِهَارِ بِالصِّلَةِ كَمَا سَنَذْكُرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [15] . وَالرَّجَاءُ: ظَنُّ وُقُوعِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ كَوْنِ الْمَظْنُونِ مَحْبُوبًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ. فَمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَا يَظُنُّونَهُ وَلَا يَتَوَقَّعُونَهُ. وَمَعْنَى: رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْمِلُوا النَّظَرَ فِي حَيَاةٍ أُخْرَى أَرْقَى وَأَبْقَى لِأَنَّ الرِّضَا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالِاقْتِنَاعَ بِأَنَّهَا كَافِيَةٌ يَصْرِفُ النَّظَرَ عَنْ أَدِلَّةِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْهُدَى يَرَوْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حَيَاةً نَاقِصَةً فَيَشْعُرُونَ بِتَطَلُّبِ حَيَاةٍ تَكُونُ أَصْفَى مِنْ أَكْدَارِهَا فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ تَطْلُعَ لَهُمْ أَدِلَّةُ وُجُودِهَا، وَنَاهِيكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ بِهَا وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَعَيُّنِ حُصُولِهَا، فَلِهَذَا جُعِلَ الرِّضَى بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَذَمَّةً وَمُلْقِيًا فِي مَهْوَاةِ الْخُسْرَانِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَهْجَةَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالرِّضَى بِهَا يَكُونُ مِقْدَارُ التَّوَغُّلِ فِيهِمَا بِمِقْدَارِ مَا يَصْرِفُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَلَيْسَ ذَلِك بِمُقْتَضى الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فِيهَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِ بِهَا وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا وَالتَّعَرُّفِ بِهَا إِلَى مَرَاتِبَ أَعْلَى هِيَ مَرَاتِبُ حَيَاةٍ أُخْرَى وَالتَّزَوُّدِ لَهَا. وَفِي ذَلِكَ مَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ بِمِقْدَارِ مَا تَهَيَّأَتْ لَهُ النُّفُوسُ الْعَالِيَةُ مِنْ لَذَّاتِ الْكَمَالَاتِ الرُّوحِيَّةِ، وَأَعْلَاهَا مَقَامُ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَقُلْتُ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا» . وَالِاطْمِئْنَانُ: السُّكُونُ يَكُونُ فِي الْجَسَدِ وَفِي النَّفْسِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: 27] . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَمَعْنَى (اطْمَأَنُّوا بِهَا) سَكَنَتْ أَنْفُسُهُمْ وَصَرَفُوا هِمَمَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَنَافِعِهَا وَلَمْ يَسْعَوْا لِتَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ السُّكُونَ عِنْدَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّحَرُّكِ لِغَيْرِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: إِذَا شِئْتَ رَأَيْتَ هَذَا الْمَوْصُوفَ صَاحِبَ دُنْيَا، لَهَا يَرْضَى، وَلَهَا يَغْضَبُ، وَلَهَا يَفْرَحُ، وَلَهَا يَهْتَمُّ وَيَحْزَنُ. وَالَّذِينَ هُمْ غَافِلُونَ هُمْ عَيْنُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ اللِّقَاءَ، وَلَكِنْ أُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِلِاهْتِمَامِ بِالصِّلَةِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا وَحْدَهَا كَافِيَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنَ الْخَبَرِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَعُدِ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا لِأَنَّ الرِّضَى بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ تَكْمِلَةِ مَعْنَى الصِّلَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا. وَالْمُرَادُ بِالْغَفْلَةِ: إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ أَصْلًا، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ والسياق وَبِمَا تومىء إِلَيْهِ الصِّلَةُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَبِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ مِنْ كَوْنِ غَفْلَتِهِمْ غَفْلَةً عَنْ آيَاتِ اللَّهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا مِمَّا يَدُلُّ مَجْمُوعُهُ عَلَى أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ دَأْبٌ لَهُمْ وَسَجِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ يعتمدونها فتؤول إِلَى مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِبَاءِ النَّظَرِ فِيهَا عِنَادًا وَمُكَابَرَةً. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ تَعْرِضُ لَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ بَعْضِ الْآيَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَأُعْقِبَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِشَارَة لزِيَادَة إحصاء صِفَاتِهِمْ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ، وَلِمَا يُؤذن بِهِ جِيءَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأً عَقِبَ أَوْصَافٍ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِالْخَبَرِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَالْمَأْوَى: اسْمُ مَكَانِ الْإِيوَاءِ، أَيِ الرُّجُوعُ إِلَى مَصِيرِهِمْ وَمَرْجِعِهِمْ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالْإِتْيَانُ بِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، أَيْ أَنَّ مَكْسُوبَهُمْ سَبَبٌ فِي مَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَفَادَ تَأْكِيدَ السَّبَبِيَّةِ الْمُفَادَةِ بِالْبَاءِ. وَالْإِتْيَانُ بِ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَكْسُوبَ دَيْدَنُهُمْ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ دَيْدَنُهُمْ تَكْرِيرَ ذَلِكَ الَّذِي كسبوه.

[سورة يونس (10) : الآيات 9 إلى 10]

[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 9 إِلَى 10] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَكُونَ أَحْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَقِلَّةً بِالذِّكْرِ غَيْرَ تَابِعَةٍ فِي اللَّفْظِ لِأَحْوَالِ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهَا مُقَابَلَةُ أَحْوَالِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِلِقَاءِ اللَّهِ بِأَضْدَادِهَا تنويها بِأَهْلِهَا وإغاضة لِلْكَافِرِينَ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا دُونَ اللَّامِ لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهِيَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ وَعَمَلَهُمْ هُوَ سَبَبُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ لَهُمْ. وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ عَلَى الْمَقْصِدِ النَّافِعِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. فَمَعْنَى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ الْإِرْشَادُ التَّكْوِينِيُّ، أَيْ يَخْلُقُ فِي نُفُوسِهِمُ الْمَعْرِفَةَ بِالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ وَتَسْهِيلَ الْإِكْثَارِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْإِرْشَادُ الَّذِي هُوَ الدَّلَالَةُ بِالْقَوْلِ وَالتَّعْلِيمِ فَاللَّهُ يُخَاطِبُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَالْبَاءُ فِي بِإِيمانِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِيمَانَ يَكُونُ سَبَبًا فِي مَضْمُونِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِتَأْكِيدِ السَّبَبِيَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا إِلَى بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يُونُس: 7، 8] فِي تَكْوِينِ هِدَايَتِهِمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ نُورًا يُوضَعُ فِي عَقْلِ الْمُؤْمِنِ وَلِذَلِكَ النُّورِ أَشِعَّةٌ نُورَانِيَّةٌ تَتَّصِلُ بَيْنَ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ عَوَالِمِ الْقُدْسِ فَتَكُونُ سَبَبًا مِغْنَاطِيسِيًّا لِانْفِعَالِ النَّفْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْكَمَالِ لَا يَزَالُ يَزْدَادُ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَلِذَلِكَ يَقْتَرِبُ مِنَ الْإِدْرَاكِ الصَّحِيحِ الْمَحْفُوظِ مِنَ الضَّلَالِ بِمِقْدَارِ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «قَدْ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» (¬1) . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ ¬

(¬1) أخرجه الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيّ. وَاللَّفْظ لَهُ.

الصَّوَابَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» (¬1) . وَلِأَجْلِ هَذَا النُّورِ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ النَّاسِ إِيمَانًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَلَقَّوُا الْإِيمَانَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَنْوَارُهُ السَّارِيَةُ فِي نُفُوسِهِمْ أَقْوَى وَأَوْسَعَ. وَفِي الْعُدُولِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ إِلَى وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَشَأْنِ هِدَايَتِهِمْ بِأَنَّهَا جَعْلُ مَوْلًى لِأَوْلِيَائِهِ فَشَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ عَطِيَّةً كَامِلَةً مَشُوبَةً بِرَحْمَةٍ وَكَرَامَةٍ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ لَا تَزَالُ مُتَكَرِّرَةً مُتَجَدِّدَةً. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ذِكْرُ تَهَيُّؤِ نُفُوسِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعُرُوجِ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ. وَجُمْلَةُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خَبَرٌ ثَانٍ لِذِكْرِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ هِدَايَتِهِمُ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] . وَالْمُرَادُ مِنْ تَحْتِ مَنَازِلِهِمْ. وَالْجَنَّاتُ تَقَدَّمَ. وَالنَّعِيمُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [21] . وَجُمْلَةُ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا أَحْوَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَالدَّعْوَى: هُنَا الدُّعَاءُ. يُقَالُ: دَعْوَةٌ بِالْهَاءِ، وَدَعْوَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ. وَسُبْحَان: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسْبِيحِ، أَيِ التَّنْزِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . اللَّهُمَّ نِدَاءٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الدُّعَاءِ عَلَى هَذَا التَّسْبِيحِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِهِ، فَالدُّعَاءُ فِيهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَةُ هَذَا التَّسْبِيحِ دُعَاءً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ثَنَاءٌ مَسُوقٌ لِلتَّعَرُّضِ إِلَى إِفَاضَةِ الرَّحَمَاتِ وَالنَّعِيمِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: ¬

(¬1) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» .

إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى كَوْنِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا كَلِمَةَ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ لَا دَعْوَى لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي مَقَامِ الْبَيَانِ يُشْعِرُ بِالْقَصْرِ، (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ لَكِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ) وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّحْمِيدَ مِنْ دَعْوَاهُمْ، فَتَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ دَعْوَى وَخَاتِمَةَ دَعْوَى. وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذَا فِي عَدَدِ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ هُوَ غَايَاتُ الرَّاغِبِينَ بِحَيْثُ إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَنْعَمُوا بِمَقَامِ دُعَاءِ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْقُرْبِ لَمْ يَجِدُوا أَنْفُسَهُمْ مُشْتَاقِينَ لِشَيْءٍ يَسْأَلُونَهُ فَاعْتَاضُوا عَنِ السُّؤَالِ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِمْ فَأُلْهِمُوا إِلَى الْتِزَامِ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ لَفْظٍ عَلَى التَّمْجِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، فَهُوَ جَامِعٌ لِلْعِبَارَةِ عَنِ الْكَمَالَاتِ. وَالتَّحِيَّةُ: اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُفَاتَحُ بِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْرِمَةِ. وَأَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَصْدَرِ حَيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَحْيَاكَ اللَّهُ. ثُمَّ غَلَبَتْ فِي كُلِّ لَفْظٍ يُقَالُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، كَمَا غَلَبَ لَفْظُ السَّلَامِ، فَيَشْمَلُ: نَحْوَ حَيَّاكَ اللَّهُ، وَعم صَبَاحًا، وَعم مَسَاءً وصبّحك اللَّهُ بِخَيْرٍ، وبتّ بِخَيْرٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [86] . وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْ تَحِيَّتِهِمْ بِأَنَّهَا سَلَامٌ، أَيْ لَفْظُ سَلَامٍ، إِخْبَارًا عَنِ الْجِنْسِ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ لَفْظَ السَّلَامِ تَحِيَّةً لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ هِيَ كَلِمَةُ (سَلَامٍ) ، وَأَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ هُنَا بِلَفْظِهَا دُونَ لَفْظِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا السَّلَامُ بِالتَّعْرِيفِ لِيَتَبَادَرَ مِنَ التَّعْرِيفِ أَنَّهُ السَّلَامُ الْمَعْرُوفُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَلِمَةُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَكَذَلِكَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ قَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْد: 23، 24] فَهُوَ تَلَطُّفٌ مَعَهُمْ بِتَحِيَّتِهِمُ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الْإِسْلَامُ.

وَنُكْتَةُ حَذْفِ كَلِمَةِ (عَلَيْكُمْ) فِي سَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَنَّ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ مُجَرَّدُ إِينَاسٍ وَتَكْرِمَةٍ فَكَانَت أشبه بالْخبر وَالشُّكْرِ مِنْهَا بِالدُّعَاءِ وَالتَّأْمِينِ كَأَنَّهُمْ يَغْتَبِطُونَ بِالسَّلَامَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا فِي الْجَنَّةِ فَتَنْطَلِقُ أَلْسِنَتُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ مُعَبِّرَةً عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ، بِخِلَافِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تَقَعُ كَثِيرًا بَيْنَ الْمُتَلَاقِينَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَحْدَثَ الْبَشَرُ لِأَجْلِهِ السَّلَامَ، وَهُوَ مَعْنَى تَأْمِينِ الْمُلَاقِي مِنَ الشَّرِّ الْمُتَوَقَّعِ مِنْ بَيْنِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَنَاكِرِينَ. وَلِذَلِكَ كَانَ اللَّفْظُ الشَّائِعُ هُوَ لَفْظُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ الْأَمَانُ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْأَمَانَ عَلَى الْمُخَاطَبِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى تَسْكِينِ رَوْعِهِ، وَذَلِكَ شَأْنٌ قَدِيمٌ أَنَّ الَّذِي يُضْمِرُ شَرًّا لِمُلَاقِيهِ لَا يُفَاتِحُهُ بِالسَّلَامِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ السَّلَامُ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللِّقَاءِ تَعْمِيمًا لِلْأَمْنِ بَيْنَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقِرَى فِي الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ فَإِنَّ الطَّارِقَ إِذَا كَانَ طَارِقَ شَرٍّ أَوْ حَرْبٍ يَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِ الْقِرَى، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 70] . وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْجَامِعَةِ لِلْإِكْرَامِ، إِذْ هُوَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُكَدِّرُ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَحْيَاكَ اللَّهُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْحَيَاةِ وَقَدْ لَا تَكُونُ طَيِّبَةً، وَالسَّلَامُ يَجْمَعُ الْحَيَاةَ وَالصَّفَاءَ مِنَ الْأَكْدَارِ الْعَارِضَةِ فِيهَا. وَإِضَافَةُ التَّحِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ (هُمْ) مَعْنَاهَا التَّحِيَّةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَوَجْهُ ذِكْرِ تَحِيَّتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ فِي أُنْسٍ وَحُبُورٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ لَذَّاتِ النَّفْسِ. وَجُمْلَةُ وَآخِرُ دَعْواهُمْ بَقِيَّةُ الْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ. وَجُعِلَ حَمْدُ اللَّهِ مِنْ دُعَائِهِمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةُ الْمُفَسَّرَةُ بِهِ آخِرُ دَعْواهُمْ لِأَنَّ فِي دَعْوَاهُمْ مَعْنَى الْقَوْلِ إِذْ جُعِلَ آخِرَ أَقْوَالٍ. وَمَعْنَى آخِرُ دَعْواهُمْ أَنَّهُمْ يَخْتِمُونَ بِهِ دُعَاءَهُمْ فَهُمْ يُكَرِّرُونَ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فَإِذَا أَرَادُوا الِانْتِقَالَ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ النَّعِيمِ نَهَّوْا دُعَاءَهُمْ بِجُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

[سورة يونس (10) : آية 11]

وَسِيَاقُ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ ذِكْرُ دُعَائِهِمْ بِذِكْرِ تَحِيَّتِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ إِذَا تَرَاءَوُا ابْتَدَرُوا إِلَى الدُّعَاءِ بِالتَّسْبِيحِ فَإِذَا اقْتَرَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ إِذَا رَامُوا الِافْتِرَاقَ خَتَمُوا دُعَاءَهُمْ بِالْحَمْدِ، فَأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِآخِرِ دَعْوَاهُمْ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ آخِرَ الدُّعَاءِ هُوَ نَفْسُ الْكَلِمَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَضْلِ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَلِمَتَانِ حبيبتان إِلَى الرحمان خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم» . [11] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 11] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) مَجِيءُ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ خُصُوصِيَّةً لِعَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَمَزِيدَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَتَعَيَّنَ إِيضَاحُ مُنَاسَبَةِ مَوْقِعِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مِنْ غُرُورِهِمْ يَحْسَبُونَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ كَتَصَرُّفَاتِ النَّاسِ مِنَ الِانْدِفَاعِ إِلَى الِانْتِقَامِ عِنْدَ الْغَضَبِ انْدِفَاعًا سَرِيعًا، وَيَحْسَبُونَ الرُّسُلَ مَبْعُوثِينَ لِإِظْهَارِ الْخَوَارِقِ وَنِكَايَةِ الْمُعَارِضِينَ لَهُمْ، وَيُسَوُّونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشَعْوِذِينَ وَالْمُتَحَدِّينَ بِالْبُطُولَةِ وَالْعَجَائِبِ، فَكَانُوا لَمَّا كَذَّبُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركبوا رؤوسهم وَلَمْ تُصِبْهُمْ بِأَثَرِ ذَلِكَ مَصَائِبُ مِنْ عَذَابٍ شَامِلٍ أَوْ مُوتَانٍ عَامٍّ ازْدَادُوا غُرُورًا بِبَاطِلِهِمْ وَإِحَالَةً لِكَوْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج: 47] وَقَوْلِهِ: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ [الذاريات: 59] وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.

وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ رُبَّمَا تَمَنَّوْا نُزُولَ الْعَذَاب بالمشركين واستبطأوا مَجِيءَ النَّصْرِ لِلنَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَصْحَابِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ. وَرُبَّمَا عَجِبَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ. فَلَمَّا جَاءَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوَارِعِ التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ أُعْقِبَتْ بِمَا يُزِيلُ شُبُهَاتِهِمْ وَيُطَمْئِنُ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَجْمَعُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ. وَهُوَ إِجْمَال ينبىء بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِبْقَاءِ الْأَنْوَاعِ إِلَى آجَالٍ أَرَادَهَا، وَجَعَلَ لِهَذَا الْبَقَاءِ وَسَائِلَ الْإِمْدَادِ بِالنِّعَمِ الَّتِي بِهَا دَوَامُ الْحَيَاةِ، فَالْخَيْرَاتُ الْمُفَاضَةُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَثِيرَةٌ، وَالشُّرُورُ الْعَارِضَةُ نَادِرَةٌ وَمُعْظَمُهَا مُسَبَّبٌ عَنْ أَسْبَابٍ مَجْعُولَةٍ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَتَصَرُّفَاتِ أَهْلِهِ، وَمِنْهَا مَا يَأْتِي عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ عِنْدَ مَحَلِّ آجَالِهِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يُونُس: 49] وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: 38] . فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: 7] الْآيَةَ، فَحَيْثُ ذُكِرَ عَذَابُهُمُ الَّذِي هم آئلون إِلَيْهِ نَاسَبَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ سَبَبَ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِتُكْشَفَ شُبْهَةُ غُرُورِهِمْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا حِكْمَةً مِنْ حِكَمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى اتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: 7] قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الرِّفْقَ جَعَلَهُ اللَّهُ مُسْتَمِرًّا عَلَى عِبَادِهِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الْعَالَمِ إِذْ أَرَادَ ثَبَاتَ بِنَائِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ تَوَازِيَ الشَّرِّ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِالْخَيْرِ لُطْفًا مِنْهُ وَرِفْقًا، فَاللَّهُ لِطَيْفٌ بِعِبَادِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الشَّرَّ لَوْ عُجِّلَ لَهُمْ مَا اسْتَحَقُّوهُ لَبَطَلَ النِّظَامُ الَّذِي وُضِعَ عَلَيْهِ الْعَالَمُ. وَالنَّاسُ: اسْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَكَانُوا الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشَّرِّ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ يَتَبَادَرُ مِنْ عُمُومِ النَّاسِ، كَمَا زَادَهُ تَصْرِيحًا قَوْلُهُ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى إِيجَازٍ مُحْكَمٍ بَدِيعٍ، فَذُكِرَ فِي جَانِبِ الشَّرِّ يُعَجِّلُ الدَّالُّ عَلَى أَصْلِ جِنْسِ التَّعْجِيلِ وَلَوْ بِأَقَلِّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَاهُ، وَعُبِّرَ عَنْ تَعْجِيلِ اللَّهِ الْخَيْرَ لَهُمْ بِلَفْظِ اسْتِعْجالَهُمْ الدَّالِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْجِيلِ بِمَا تفيده زِيَاد السِّينِ وَالتَّاءِ لِغَيْرِ الطَّلَبِ إِذْ لَا يَظْهَرُ الطَّلَبُ هُنَا، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمُ: اسْتَأْخَرَ وَاسْتَقْدَمَ وَاسْتَجْلَبَ وَاسْتَقَامَ وَاسْتَبَانَ وَاسْتَجَابَ وَاسْتَمْتَعَ وَاسْتَكْبَرَ وَاسْتَخْفَى وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: 7] . وَمَعْنَاهُ: تَعَجُّلَهُمُ الْخَيْرَ، كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْخَيْرِ مِنْ لَدُنْهِ. فَلَيْسَ الِاسْتِعْجَالُ هُنَا بِمَعْنَى طَلَبِ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَسْأَلُوا تَعْجِيلَ الْخَيْرِ وَلَا سَأَلُوهُ فَحَصَلَ، بَلْ هُوَ بِمَعْنى التَّعْجِيل الْكَثِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِ سُلْمِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ: وَإِذَا الْعَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتِ (أَيْ تَعَجَّلَتْ) ، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْآخَرِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ، كَمَا فِي الْبَيْتِ وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ «فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ» . وَانْتَصَبَ اسْتِعْجالَهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعَجِّلُ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرّ كَمَا يَجْعَل لَهُمُ الْخَيْرَ كَثِيرًا، فَقَوْلُهُ: اسْتِعْجالَهُمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لَا إِلَى فَاعِلِهِ، وَفَاعِلُ الِاسْتِعْجَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْخَيْرِ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَأَصْلُهُ: اسْتِعْجَالَهُمُ الْخَيْرَ، فَدَلَّتِ الْمُبَالَغَةُ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ وَتَأْكِيدُ اللُّصُوقِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِأَنَّ الْخَيْرَ لَهُمْ كَثِيرٌ وَمَكِينٌ. وَقَدْ كَثُرَ اقْتِرَانُ مَفْعُولِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ بِهَذِهِ الْبَاءِ وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهِ فِي مَوَاقِعِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ. وَسَيَجِيءُ فِي النَّحْلِ. وَقَدْ جُعِلَ جَوَابُ (لَوْ) قَوْلَهُ: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، وَشَأْنُ جَوَابِ (لَوْ) أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ، أَيْ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِآجَالِ انْقِرَاضِهِمْ مِيقَاتًا مُعَيَّنًا مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الْحجر: 5] .

وَالْقَضَاءُ: التَّقْدِيرُ. وَالْأَجَلُ: الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِبَقَاءِ قَوْمٍ. وَالْمَعْنَى: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ حُلُولُ أَجَلِهِمْ. وَلَمَّا ضُمِّنَ (قُضِيَ) مَعْنَى بَلَغَ وَوَصَلَ عُدِّيَ بِ (إِلَى) . فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَسِرُّ نَظْمِهَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِهِ فِي فَهْمِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مِثْلُ مَعْنَى قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [58] . وَجُمْلَةُ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا إِلَخْ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِلَى آخِرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَقُضِيَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَرُفِعَ أَجَلُهُمْ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ وَنَصْبِ أَجَلُهُمْ عَلَى أَنَّ فِي (قَضَى) ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (لَوْ) وَجَوَابِهَا الْمُفِيدَةِ انْتِفَاء أَن يَجْعَل اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَهُوَ بُلُوغُ أَجَلِهِمْ إِلَيْهِمْ، أَيْ فَإِذَا انْتَفَى التَّعْجِيلُ فَنَحْنُ نَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا يَعْمَهُونَ، أَيْ نَتْرُكُهُمْ فِي مُدَّةِ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ مُتَلَبِّسِينَ بِطُغْيَانِهِمْ، أَيْ فَرْطِ تَكَبُّرِهِمْ وَتَعَاظُمِهِمْ. وَالْعَمَهُ: عَدَمُ الْبَصَرِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُنْصَبِ الْفِعْلُ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّ النَّصْبَ يَكُونُ فِي جَوَابِ النَّفْيِ الْمَحْضِ، وَأَمَّا النَّفْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَوْ) فَحَاصِلٌ بِالتَّضَمُّنِ، وَلِأَنَّ شَأْنَ جَوَابِ النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَلَى الْمَنْفِيِّ لَا عَلَى النَّفْيِ، وَالتَّفْرِيعُ هُنَا عَلَى مُسْتَفَادٍ مِنَ النَّفْيِ. وَأَمَّا الْمَنْفِيُّ فَهُوَ تَعْجِيلُ الشَّرِّ فَهُوَ لَا يُسَبِّبُ أَنْ يَتْرُكَ الْكَافِرِينَ يَعْمَهُونَ، وَبِذَلِكَ تَعْرِفُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَنَذَرُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، أَيْ فَنَتْرُكُ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ فِي ضَلَالِهِمُ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَالطُّغْيَانُ: الْكُفْرُ.

[سورة يونس (10) : آية 12]

وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ الْكَافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الطُّغْيَانَ أَشَدُّهُ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَلَّامَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا تقدم آنِفا. [12] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 12] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: 11] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ كِلْتَيْهِمَا هُوَ الِاعْتِبَارُ بِذَمِيمِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ تَفْظِيعًا لِحَالِهِمْ وَتَحْذِيرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي أَمْثَالِهَا بِقَرِينَةِ تَنْهِيَةِ هَذِهِ الْآيَةِ بِجُمْلَةِ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا بُيِّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَجْهُ تَأْخِيرِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ وَإِرْجَاءِ جَزَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ بُيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَة حَالهم عِنْد مَا يَمَسُّهُمْ شَيْءٌ من الضّر وَعند مَا يُكْشَفُ الضُّرُّ عَنْهُمْ. فَالْإِنْسَانُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ، أَيِ الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ، لِأَنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ حِينَئِذٍ كَافِرُونَ، إِذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَا يُعَدُّونَ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا مَعَ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ هُمْ تَبَعٌ لَهُمْ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ هُمُ الْكَافِرُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66]- وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ [الانفطار: 6، 7] . وَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا يُنَاسِبُ مِقْدَارَ مَا فِي آحَادِهِمْ مِنْ بَقَايَا هَذِهِ الْحَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيُفِيقُ كُلٌّ مِنْ غَفْلَتِهِ. وَعُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى (النَّاسِ) مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: 11] لِأَنَّ فِي ذِكْرِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ إِيمَاءً إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذْ جَعَلَهُمْ، مِنْ أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى الْأَرْضِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ اللَّامَ فِي الْإِنْسَانِ لِلْعَهْدِ وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِهِ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَاسْمُهُ مُهَشِّمٌ، وَكَانَ مُشْرِكًا، وَكَانَ أَصَابَهُ مَرَضٌ.

وَالضُّرُّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [17] . وَالدُّعَاءُ: هُنَا الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ بِتَضَرُّعٍ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِجَنْبِهِ بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الْإِسْرَاء: 109] وَقَوْلِهِ: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] . أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَاءَ فِي مَوْضِعِ اللَّامِ حَرْفُ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النِّسَاء: 103] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: 190] وَنَحْوُهُ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ جِنِّي التَّغْلِبِيِّ: تَنَاوَلَهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ انْثَنَى بِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ أَيْ عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ، وَهُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مَعَانِي اللَّامِ، لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِالشَّيْءِ يَقَعُ بِكَيْفِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا اسْتِعْلَاؤُهُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا سُلِكَ هُنَا حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْجَنْبَ مُخْتَصٌّ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ الضُّرِّ وَمُتَّصِلٌ بِهِ فَبِالْأَوْلَى غَيْرُهُ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ فِي بَيْتِ جَابِرٍ وَالْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ، فَهَذَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ. وَمَوْضِعُ الْمَجْرُورِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً بِالنَّصْبِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْجَنْبُ مَجْرُورًا بِاللَّامِ وَلَمْ يُنْصَبْ فَيُقَالُ مَثَلًا مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا لِتَمْثِيلِ التَّمَكُّنِ مِنْ حَالَةِ الرَّاحَةِ بِذِكْرِ شِقٍّ مِنْ جَسَدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ فِي تَمَكُّنِهِ، كَمَا كَانَ ذِكْرُ الْإِعْطَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَبَيْتِ جَابِرٍ أَظْهَرَ فِي تَمْثِيلِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ جَمَعَ فِيهَا بَين ذكر الْإِعْطَاء وَذكر الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَصْلِ الْمَعْنَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو اللَّهَ فِي أَنْدَرِ الْأَحْوَالِ مُلَابَسَةً لِلدُّعَاءِ، وَهِيَ حَالَةُ تَطَلُّبِ الرَّاحَةِ وَمُلَازِمَةِ السُّكُونِ. وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِذِكْرِ الْجَنْبِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ قَوْلِهِ: أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلِقَصْدِ تَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ وَتَكْمِيلِهَا، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِطْنَابِ لِزِيَادَةِ تَمْثِيلِ الْأَحْوَالِ، أَيْ دَعَانَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لَا يُلْهِيهِ عَنْ دُعَائِنَا شَيْءٌ. وَالْجَنْبُ: وَاحِدُ الْجُنُوبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ

وَالْقُعُودُ: الْجُلُوسُ. وَالْقِيَامُ: الِانْتِصَابُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا فِي سُورَة الْبَقَرَة [20] . و (إِذا) هّا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ وَتَوْقِيتِ جَوَابِهَا بِشَرْطِهَا، وَلَيْسَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا حِكَايَةُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمُ اللَّهَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَ الرَّخَاءِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إِذْ جَعَلَهَا حَالًا لِلْمُسْرِفِينَ. وَإِذْ عَبَّرَ عَنْ عَمَلِهِمْ بِلَفْظِ كانُوا الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ عَمَلُهُمْ فِي مَاضِي أَزْمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا بِأَفْعَالِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ حَالَهُمْ فِيمَا مَضَى أَدْخَلُ فِي تَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ لَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَيُقْطَعُ عَنْ عَمَلِهِ هَذَا أَوْ يُسَاقُ إِلَى النَّظَرِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ لِأَنَّ هَذَا التَّفْرِيعَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ إِذِ الْحَالَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهَا حَالَةٌ مَحْمُودَةٌ لَوْلَا مَا يَعْقُبُهَا. وَالْكَشْفُ: حَقِيقَتُهُ إِظْهَارُ شَيْءٍ عَلَيْهِ سَاتِرٌ أَوْ غِطَاءٌ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مُطْلَقِ الْإِزَالَةِ. إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ الْمُزَالِ بِشَيْءٍ سَاتِرٍ لِشَيْءٍ. وَالْمُرُورُ: هُنَا مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى اسْتِبْدَالِ حَالَةٍ بِغَيْرِهَا. شُبِّهَ الِاسْتِبْدَالُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ اسْتِبْدَالٌ، أَيِ انْتَقَلَ إِلَى حَالٍ كَحَالِ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ دُعَاؤُنَا، أَيْ نسي حَالَة الاضطراره وَاحْتِيَاجِهِ إِلَيْنَا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ الِاحْتِيَاجِ. وَ (كَأَنْ) مُخَفِّفَةُ كَأَنَّ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ حُذِفَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. وَعُدِّيَ الدُّعَاءُ بِحَرْفِ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ: إِلى ضُرٍّ دُونَ اللَّامِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الضُّرِّ بِالْعَدُوِّ المفاجئ الَّذِي يدعوا إِلَى مَنْ فَاجَأَهُ نَاصِرًا إِلَى دَفْعِهِ.

[سورة يونس (10) : آية 13]

وَجَعْلُ (إِلَى) بِمَعْنَى اللَّامِ بُعْدٌ عَنْ بَلَاغَةِ هَذَا النَّظْمِ وَخَلْطٌ لِلِاعْتِبَارَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ يَعُمُّ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُهُ، أَيْ هَكَذَا التَّزْيِينُ الشَّيْطَانِيُّ زَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فِي مَاضِي أَزْمَانِهِمْ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى موقع (كَذَلِكَ) فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] وَقَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّزْيِينِ الْمُسْتَفَادِ هُنَا وَهُوَ تَزْيِينُ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ، أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّزْيِينِ الْعَجِيبِ زُيِّنَ لِكُلِّ مُسْرِفٍ عَمَلُهُ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ. فَالْمُرَادُ بِالْمُسْرِفِينَ هُنَا الْكَافِرُونَ. واختير لفظ لِلْمُسْرِفِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُبَالَغَتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْرِفِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِيَشْمَلَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ التَّزْيِينِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُزَيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ خَوَاطِرُهُمُ الشَّيْطَانِيَّةُ، فَقَدْ أُسْنِدَ فِعْلُ التَّزْيِينِ إِلَى الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرَّةٍ، أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُزَيِّنِ لَهُمْ غَيْرُ مُهِمَّةٍ هَاهُنَا وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ الِاعْتِبَارُ وَالِاتِّعَاظُ بِاسْتِحْسَانِهِمْ أَعْمَالَهُمُ الذميمة اسْتِحْسَانًا شنيطا. وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَ الْأَعْمَالِ الذَّمِيمَةِ الْقَبِيحَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ مِنْ أَصْحَابِهَا أَنْ تَصِيرَ لَهُمْ دُرْبَةً تُحَسِّنُ عِنْدَهُمْ قَبَائِحَهَا فَلَا يَكَادُونَ يَشْعُرُونَ بِقُبْحِهَا فَكَيْفَ يُقْلِعُونَ عَنْهَا كَمَا قِيلَ: يُقْضَى عَلَى الْمَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ ... حَتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بالْحسنِ [13] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 13] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) عَادَ الْخِطَابُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَوْدًا عَلَى بَدْئِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ- إِلَى قَوْلِهِ- لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُس: 3- 5] بِمُنَاسَبَةِ التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ فِي الْغُرُورِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ

عَنْهُمْ حَتَّى حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ فَجْأَةً. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِيدٌ وَمَوْعِظَةٌ بِمَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: 11] بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْإِنْذَارِ بِأَنَّ الشَّرَّ قَدْ يَنْزِلُ بِهِمْ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ غَيْرُ مُعَجَّلٍ، فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ فَقَضَى إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ أَجَلُهُمْ وَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أُمَمًا مِنْهُم أَصَابَهُم الاستيصال مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ نُوحٍ. وَلِتَوْكِيدِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَقد الَّتِي للتحقيق. والإهلاك: الاستيصال وَالْإِفْنَاءُ. وَالْقُرُونُ: جَمْعُ قَرْنٍ وَأَصْلُهُ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَهْلُ الْقُرُونِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [6] . وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِكُمْ حَالٌ مِنَ الْقُرُونِ. ولَمَّا اسْمُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَتُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَالْعَرَبُ أَكْثَرُوا فِي كَلَامِهِمْ تَقْدِيمَ (لَمَّا) فِي صَدْرِ جُمْلَتِهَا فَأُشِمَّتْ بِذَلِكَ التَّقْدِيمِ رَائِحَةَ الشَّرْطِيَّةِ فَأَشْبَهَتِ الشُّرُوطَ لِأَنَّهَا تُضَافُ إِلَى جُمْلَةٍ فَتُشْبِهُ جُمْلَةَ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّ عَامِلَهَا فِعْلُ مُضِيٍّ فَبِذَلِكَ اقْتَضَتْ جُمْلَتَيْنِ فَأَشْبَهَتْ حُرُوفَ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهُمْ حِينَمَا ظَلَمُوا، أَيْ أَشْرَكُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِثْلُ هُودٍ وَصَالِحٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا. وَجُمْلَةُ: وَجاءَتْهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ ظَلَمُوا. وَالْبَيِّنَاتُ: جَمْعُ بَيِّنَةٍ، وَهِيَ الْحُجَّةُ عَلَى الصِّدْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة يونس (10) : آية 14]

وَجُمْلَةُ: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا. وَمَجْمُوعُ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ هُوَ مَا وُقِّتَ بِهِ الْإِهْلَاكُ وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الْقَصَص: 59] . وَعُبِّرَ عَنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِصِيغَةِ لَامِ الْجُحُودِ مُبَالِغَةً فِي انْتِفَائِهِ إِشَارَةً إِلَى الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ تَذْيِيلٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلِذَلِكَ عَمَّ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ وَعَمَّ الْمُخَاطَبِينَ، وَبِذَلِكَ كَانَ إِنْذَارًا لِقُرَيْشٍ بِأَنْ يَنَالَهُمْ مَا نَالَ أُولَئِكَ. وَالْمُرَادُ بِالْإِجْرَامِ أَقْصَاهُ، وَهُوَ الشِّرْكُ. وَالْقَوْلُ فِي كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ لَفْظِ (الْقَوْمِ) فَهُوَ كَمَا فِي نَظِيرِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي الْبَقَرَة. [14] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 14] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) عَطْفٌ على أَهْلَكْنَا [يُونُس: 13] وَحَرْفُ (ثُمَّ) مُؤْذِنٌ بِبُعْدِ مَا بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ، أَيْ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ تَخْلُفُونَهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَكَوْنُ حَرْفِ (ثُمَّ) هُنَا عَاطِفًا جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ لِأَنَّ جَعْلَهُمْ خَلَائِفَ أَهَمُّ مِنْ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ قَبْلَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ عَوَّضَهُمْ بِهِمْ. وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [165] . وَالْمُرَادُ بِ الْأَرْضِ بِلَادُ الْعَرَبِ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ خَلَفُوا عَادًا وَثَمُودًا وَطَسْمًا وَجَدِيسًا وَجُرْهُمًا فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى الْجُمْلَةِ.

[سورة يونس (10) : آية 15]

وَالنَّظَرُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعِلْمِ الْمُحَقَّقِ، لِأَنَّ النَّظَرَ أَقْوَى طُرُقِ الْمَعْرِفَةِ، فَمَعْنَى لِنَنْظُرَ لنتعلم، أَيْ لِنَعْلَمَ عِلْمًا مُتَعَلِّقًا بِأَعْمَالِكُمْ. فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ تَعَلُّقُهُ التَّنْجِيزِيُّ. وكَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَنْصُوب ب لِنَنْظُرَ، وَالْمَعْنَى فِي مِثْلِهِ: لِنَعْلَمَ جَوَاب كَيفَ تعلمُونَ، قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يخْطر بَيْننَا ... لَا علم مَنْ جَبَّانُهَا مِنْ شجاعها أَي (لَا علم) جَوَابَ مَنْ (جَبَّانُهَا) . وَإِنَّمَا جَعَلَ اسْتِخْلَافَهُمْ فِي الْأَرْضِ عِلَّةً لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ كِنَايَةً عَنْ ظُهُورِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ أَوْ مِمَّا لَا يُرْضِيهِ فَإِذَا ظَهرت أَعْمَالهم عَملهَا اللَّهُ عِلْمَ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ عِلْمًا أَزَلِيًّا، كَمَا أَنَّ بَيْتَ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ مَعْنَاهُ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ مِنَ الشُّجَاعِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِتَعْلِيلِ الْإِقْدَامِ حُصُولَ عِلْمِهِ بِالْجَبَانِ وَالشُّجَاعِ وَلَكِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ ظُهُورِ الْجَبَانِ وَالشُّجَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فِي سُورَةِ آل عمرَان [140] . [15] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: 11] إِلَخْ لِأَن ذَلِك ناشىء عَنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] كَمَا تَقَدَّمَ فَذَلِكَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ. ثُمَّ حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبٌ آخَرُ مِنْ أَسَالِيبِ تَكْذِيبِهِمُ

النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَضَعَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ إِطْمَاعًا لَهُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ مُغَايِرًا أَوْ مُبَدَّلًا إِذَا وَافَقَ هَوَاهُمْ. وَمَعْنَى غَيْرِ هَذَا مُخَالِفُهُ. وَالْمُرَادُ الْمُخَالَفَةُ لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَابْتِدَاءِ كِتَابٍ آخَرَ بِأَسَالِيبَ أُخْرَى، كَمِثْلِ كُتُبِ قَصَصِ الْفُرْسِ وَمَلَاحِمِهِمْ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ كَلَامُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِسُوَرٍ أُخْرَى غَيْرِ الَّتِي نَزَلَتْ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ، وَلَا غَرَضَ لَهُمْ فِيهِ إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا مِنْ نَوْعِ مَا سَبَقَهَا. وَوَصَفَ الْآيَاتِ بِ بَيِّناتٍ لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ طَلَبِهِمْ تَبْدِيلَهَا لَا بِطَلَبِ تَبْدِيلِهِ إِذْ لَا طَمَعَ فِي خَيْرٍ مِنْهُ. وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الذَّوَاتِ، كَمَا تَقُولُ: بَدَّلْتُ الدَّنَانِيرَ دَرَاهِمَ. وَيَكُونُ فِي الْأَوْصَافِ، كَمَا تَقُولُ: بَدَّلْتُ الْحَلَقَةَ خَاتَمًا. فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِهِ مِنْ قَبْلُ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّبْدِيلِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ فِي قَوْلِهِمْ: غَيْرِ هَذَا كَلَامًا غَيْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ قَبْلُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَكْرَهُونَهُ وَيَغِيظُهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَوْجُودِ فَيُغَيِّرَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى عِبَارَاتِ ذَمِّ الشِّرْكِ بِمَدْحِهِ، وَعِبَارَاتِ ذَمِّ أَصْنَامِهِمْ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهَا، وَعِبَارَاتِ الْبَعْثِ وَالنَّشْرِ بِضِدِّهَا، وَعِبَارَاتِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِعِبَارَاتِ بِشَارَةٍ. وَسَمَّوْا مَا طَلَبُوا الْإِتْيَانَ بِهِ قُرْآنًا لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُسَمَّى بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ عَلَمٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيِ ائْتِ بِغَيْرِ هَذَا مِمَّا تُسَمِّيهِ قُرْآنًا. وَالضَّمِيرُ فِي بَدِّلْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَوْ بَدِّلْ هَذَا. وَأَجْمَلَ الْمُرَادَ بِالتَّبْدِيلِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِينَ.

ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جِدًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ أَمر الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يُقْلِعُ شُبْهَتَهُمْ مِنْ نُفُوسِهِمْ إِنْ كَانُوا جَادِّينَ، أَوْ مِنْ نُفُوسِ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ دَهْمَائِهِمْ فَيَحْسَبُوا كَلَامَهُمْ جِدًّا فَيَتَرَقَّبُوا تَبْدِيلَ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ الْمُرَادِ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَوْ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: 7] . وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: إِذا تُتْلى عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تُتْلَى فِيهِ الْآيَاتُ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ تَعْجِيبًا مِنْ كَلَامِهِمْ وَوَهَنِ أَحْلَامِهِمْ. وَلِكَوْنِ الْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ فِعْلًا مَاضِيًا عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا وَاقِعٌ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَكَانَتْ إِضَافَةُ الظَّرْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلُهَا مُضَارِعٌ وَهُوَ تُتْلى دَالَّةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُضَارِعَ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْحَالُ أَوِ الِاسْتِقْبَالُ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي وَاقِعًا فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ اجْتِلَابَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَرُّرِ وَالتَّجَدُّدِ، أَيْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كُلَّمَا تُتْلَى عَلَيْهِم الْآيَات. وَمَا صدق الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا هُوَ مَا صدق الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (عَلَيْهِمْ) ، فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ، فَمَا كَانَ الْإِظْهَارُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ إِلَّا لِأَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ اشْتَهَرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَصَارَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ كَالْعَلَمِ عَلَيْهِمْ. كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: 7] ، وَلَيْسَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ هُنَا عَلَاقَةُ تَعْلِيلٍ فَلَا يَكُونُ الْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَلَمَّا كَانَ لِاقْتِرَاحِهِمْ مَعْنًى صَرِيحٌ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ أَوْ تَبْدِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمَوْجُودِ، وَمَعْنًى الْتِزَامِيٌّ كِنَائِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ، كَانَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ جَوَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا لَقَّنَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:

قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ صَرِيحِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَثَانِيهِمَا: مَا لَقَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ [يُونُس: 16] وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ لَازِمِ كَلَامِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ تَسْمِيَةُ أُنَاسٍ مِمَّنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُمْ خَمْسَةٌ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، وَالْعَاصُ بْنُ عَامِرٍ، قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْكُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَهُبَلَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُهَا. وَقَدْ جَاءَ الْجَوَابُ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ كَلَامًا جَامِعًا قَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ، وَتَعْوِيلًا عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْجَوَابِ، فَأَحَسُّوا بِامْتِنَاعِ تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا جَوَابٌ كَافٍ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ يَشْمَلُ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِهِ وَتَبْدِيلَ بَعْضِ تَرَاكِيبِهِ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّبْدِيلُ الَّذِي هُوَ تَغْيِيرُ كَلِمَاتٍ مِنْهُ وَأَغْرَاضٍ مُمْتَنِعًا كَانَ إِبْطَالُ جَمِيعِهِ وَالْإِتْيَانُ بِغَيْرِهِ أَجْدَرَ بِالِامْتِنَاعِ. وَقَدْ جَاءَ الْجَوَابُ بِأَبْلَغِ صِيَغِ النَّفْيِ وَهُوَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ أَيْ مَا يَكُونُ التَّبْدِيلُ مِلْكًا بِيَدِي. وتِلْقاءِ صِيغَةُ مَصْدَرٍ عَلَى وَزْنِ التِّفْعَالِ. وَقِيَاسُ وَزْنِ التَّفْعَالِ الشَّائِعِ هُوَ فَتْحُ التَّاءِ وَقَدْ شَذَّ عَنْ ذَلِكَ تِلْقَاءٌ، وَتِبْيَانٌ، وَتِمْثَالٌ، بِمَعْنَى اللِّقَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْمُثُولِ فَجَاءَتْ بِكَسْرِ التَّاءِ لَا رَابِعَ لَهَا، ثُمَّ أُطْلِقَ التِّلْقَاءُ عَلَى جِهَةِ التَّلَاقِي ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ [الْقَصَص: 22] . فَمَعْنَى مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي مِنْ جِهَةِ نَفْسِي. وَهَذَا الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِجُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ مُؤَكِّدَةً لِغَيْرِهَا إِذِ التَّبْدِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فِعْلِ الْمُبْدِلِ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْحَالُ لِلتَّقْيِيدِ إِذْ لَا يَجُوزُ فَرْضُ أَنْ يُبَدَّلَ مِنْ تِلْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى التَّبْدِيلَ الَّذِي يَرُومُونَهُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَا مُتَصَرِّفٌ. وَجُمْلَةُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ أَيْ مَا أَتَّبِعُ إِلَّا الْوَحْيَ وَلَيْسَ لِي تَصَرُّفٌ بِتَغْيِيرٍ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَاتِّبَاعُ الْوَحْيِ: تَبْلِيغُ الْحَاصِلِ بِهِ، وَهُوَ الْمُوصَى بِهِ.

[سورة يونس (10) : آية 16]

وَالِاتِّبَاعُ مَجَازٌ فِي عَدَمِ التَّصَرُّفِ، بِجَامِعِ مُشَابَهَةِ ذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ تَجَاوُزِ الِاقْتِفَاءِ فِي الْمَشْيِ. وَاقْتَضَتْ (إِنِ) النَّافِيَةُ وَأَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ قَصْرَ تَعَلُّقِ الِاتِّبَاعِ عَلَى مَا أَوْحَى اللَّهُ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا أُبَلِّغُ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيَّ دُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّبَعُ شَيْئًا مُخْتَرَعًا حَتَّى أَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَقَرِينَةُ كَوْنِهِ إِضَافِيًّا وُقُوعُهُ جَوَابًا لِرَدِّ اقْتِرَاحِهِمْ. فَمَنْ رَامَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْقَصْرِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خَرَجَ بِالْكَلَامِ عَنْ مَهْيَعِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي إِلَخْ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا. وَاقْتَرَنَتْ بِحَرْفِ (إِنْ) لِلِاهْتِمَامِ، وَ (إِنْ) تُؤْذِنُ بِالتَّعْلِيلِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، أَيْ عَصَيْتُهُ بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ آخَرَ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي. وَدَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِقُرْآنٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا بِمَعْنَى إِبْطَالِ هَذَا الْقُرْآنِ وَتَعْوِيضِهِ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ تَبْدِيلَهُ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ مَعَانِي وَحَقَائِقِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُلَقَّنِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ هُنَا: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ نَحْو ذَلِك. [16] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 16] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) هَذَا جَوَابٌ عَنْ لَازِمِ اقْتِرَاحِهِمْ وَكِنَايَتِهِ عَنْ رَمْيِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَذِبِ عَنِ اللَّهِ فِيمَا ادَّعَى مِنْ إِرْسَالِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ قَبْلَهُ. وَلِكَوْنِهِ جَوَابًا مُسْتَقِلًّا عَنْ مَعْنًى قَصَدُوهُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ مَفْصُولًا عَنِ الْأَوَّلِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْمِلَةٍ لِلْجَوَابِ الْأَوَّلِ.

وَفِي هَذَا الْجَوَابِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِقِ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ بِدَلِيلٍ الْتَفَّتْ فِي مَطَاوِيهِ أَدِلَّةٌ، وَقَدْ نُظِّمَ فِيهِ الدَّلِيلُ بِانْتِفَاءِ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، إِذْ قَوْلُهُ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ تَقْدِيرُهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مَا تَلَوْتُهُ. فَإِنَّ فِعْلَ الْمَشِيئَةِ يَكْثُرُ حَذْفُ مَفْعُولِهِ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ نَفْيَ تِلَاوَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُدَّعَى الْكُفَّارِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ إِبْطَالًا لِدَعْوَاهُمُ ابْتِدَاءً وَإِثْبَاتًا لِدَعْوَاهُ مَآلًا. وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِدْلَالِ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا آتِيَكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَمَا أَرْسَلَنِي بِهِ وَلَبَقِيتُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُ عَلَيْهَا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِي. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مَطْوِيٌّ هُوَ مُقْتَضَى جَوَابِ (لَوْ) ، فَإِنَّ جَوَابَ (لَوْ) يَقْتَضِي اسْتِدْرَاكًا مُطَّرِدًا فِي الْمَعْنَى بِأَنْ يُثْبِتَ نَقِيضَ الْجَوَابِ، فَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ، كَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى بْنِ رَبِيعَةَ: فَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ فَتَقْدِيرُهُ هُنَا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ لَكِنَّنِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ. وَتِلَاوَتُهُ هِيَ دَلِيلُ الرِّسَالَةِ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ تَتَضَمَّن إعجازه عليما إِذْ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَبَلَاغِيًّا إِذْ جَاءَ كَلَامًا أَعْجَزَ أَهْلَ اللُّغَةِ كُلَّهُمْ مَعَ تَضَافُرِهِمْ فِي بَلَاغَتِهِمْ وَتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ فَائِقًا عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا مِنْ شَأْنِ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ مِثْلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ فُرِّعَتْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ جُمْلَةُ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِقَدِيمِ حَالِهِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَهُمْ وَهِيَ حَالُ الْأُمِّيَّةِ، أَيْ قَدْ كُنْتُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَهِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، تُشَاهِدُونَ أَطْوَارَ نَشْأَتِي فَلَا تَرَوْنَ فِيهَا حَالَةً تُشْبِهُ حَالَةَ الْعَظَمَةِ، وَالْكَمَالِ الْمُتَنَاهِي الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ، وَلَا بَلَاغَةَ قَوْلٍ وَاشْتِهَارًا بِمُقَاوَلَةِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ وَالْخَطَابَةِ وَالشِّعْرِ تُشْبِهُ بَلَاغَةَ الْقَوْلِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ عَنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ حَالَتُهُ بَعْدَ الْوَحْيِ حَالًا مُعْتَادًا وَكَانَتْ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ الَّذِي

جَاءَ بِهِ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ مَا هُوَ تَهْيِئَةٌ لِهَذِهِ الْغَايَةِ وَكَانَ التَّخَلُّقُ بِذَلِكَ أَطْوَارًا وَتَدَرُّجًا. فَلَا جَرَمَ دَلَّ عَدَمُ تَشَابُهِ الْحَالَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ الْأَخِيرَ حَالٌ رَبَّانِيٌّ مَحْضٌ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُوحًى إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ بِذَاتِهِ عَمَلٌ فِيهِ. فَمَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ دَلِيلًا عَلَى الْمُشْركين وإبطالا لَا دُعَائِهِمْ إِلَّا لِمَا بُنِيَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَكَانَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ هُوَ مَنَاطُهُ، ثُمَّ لَمَّا فَرَّعَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ إِذْ كَانَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَلَوْلَا ذَانِكَ الْأَمْرَانِ لَعَادَ الِاسْتِدْلَالُ مُصَادَرَةً، أَيِ اسْتِدْلَالًا بِعَيْنِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُمْ يَنْهَضُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا حِينَئِذٍ: مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ إِلَيْنَا وَقَدْ شَاءَ أَنْ لَا يُرْسِلَكَ إِلَيْنَا وَلَكِنَّكَ تَقَوَّلْتَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. فَهَذَا بَيَانُ انْتِظَامِ هَذَا الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ آلَ الدَّلِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَالْأُمِّيَّةِ. وَلِكَلِمَةِ تَلَوْتُهُ هُنَا مِنَ الْوَقْعِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَالِيًا كَلَامًا، وَمَتْلُوًّا، وَبَاعِثًا بِذَلِكَ الْمَتْلُوِّ. فَبِالْأَوَّلِ: تُشِيرُ إِلَى مُعْجِزَةِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى تِلَاوَةِ الْكِتَابِ مَعَ تَحَقُّقِ الْأُمِّيَّةِ لِأَنَّ أُسْلُوبَ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ غَيْرُ الْأُسْلُوبِ الَّذِي عَرَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ شُعَرَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ. وَبِالثَّانِي: تُشِيرُ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ الْآتِي بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْإِرْشَادِ الدِّينِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ شَأْنِ أَنْبِيَاءِ الْأَدْيَانِ وَعُلَمَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 48، 49] . وَبِالثَّالِثِ: تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَانْتَظَمَتْ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ دَلَالَةُ صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ الْمَكْتُوبِ أَوِ اسْتِعْرَاضُ الْمَحْفُوظِ، فَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِإِبْلَاغِ كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [2] .

وأَدْراكُمْ عَرَّفَكُمْ. وَفِعْلُ الدِّرَايَةِ إِذَا تَعَلَّقَ بِذَاتٍ يَتَعَدَّى إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ تَارَةً وَبِالْبَاءِ أَيْضًا، يُقَالُ: دَرَيْتُهُ وَدَرَيْتُ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي حِكَايَةِ سِيبَوَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ بِحَرْفِ النَّفْيِ عَطْفًا عَلَى مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَمَرَنِي بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ وَلَا أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ. وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِلَامِ ابْتِدَاءٍ فِي مَوْضِعِ لَا النَّافِيَةِ، أَيْ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ فَتَكُونُ عَطْفًا عَلَى جَوَابِ (لَوْ) فَتَكُونُ اللَّامُ لَامًا زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ كَشَأْنِهَا فِي جَوَابِ (لَوْ) . وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَكُمْ تَدْرُونَ مَعَانِيَهُ فَلَا تَكْذِبُوا. وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ تَفْرِيعُ دَلِيلِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَمُلَازَمَتِهَا لِطَرَفَيْهَا. وَالْعُمُرُ: الْحَيَاةُ. اشْتُقَّ مِنَ الْعُمْرَانِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ يُعَمِّرُ بِهَا الْحَيُّ الْعَالَمَ الدُّنْيَوِيَّ. وَيُطْلَقُ الْعُمُرُ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَوْ عَاشَ الْمَرْءُ مِقْدَارَهَا لَكَانَ قَدْ أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ الْبَقَاءِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ تَنْكِيرِ عُمُراً وَلَيْسَ المُرَاد لثبت مُدَّةَ عُمْرِي، لِأَنَّ عُمْرَهُ لَمْ يَنْتَهِ بَلِ الْمُرَادُ مُدَّةٌ قَدْرُهَا قَدْرُ عُمُرٍ مُتَعَارَفٍ، أَيْ بِقَدْرِ مُدَّةِ عُمُرِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. وَالْمَعْنَى لَبِثْتُ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَانْتَصَبَ عُمُراً عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ. وَاللُّبْثُ: الْإِقَامَةُ فِي الْمَكَانِ مُدَّةً. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [259] . وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ فِيكُمْ عَلَى مَعْنَى فِي جَمَاعَتِكُمْ، أَيْ بَيْنَكُمْ. و (قبل) وَ (بعد) إِذَا أُضِيفَا لِلذَّوَاتِ كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَ أَحْوَالِ الذَّاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ. وَضَمِيرُ (قَبْلِهِ) عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا تَفْرِيعٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ عَلَى نُهُوضِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ مِنْ حَالِهِمْ مَا يَجْعَلُهُمْ كَمَنْ لَا يَعْقِلُ.

[سورة يونس (10) : آية 17]

وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ لَفْظُ تَعْقِلُونَ لِأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِدْرَاكِ. وَمَفْعُولُ تَعْقِلُونَ إِمَّا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَالِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّيَّةِ وَالْإِتْيَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْبَدِيعِ فِي بَلَاغَتِهِ وَمَعَانِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَالَ مَنْ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِسَالَتَهُ إِذْ لَا يَتَأَتَّى مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ لِأَحَدٍ وَلَا يَتَأَتَّى مَا يُقَارِبُهُ إِلَّا بَعْدَ مُدَارَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَمُنَاظَرَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُحَاوَرَةِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ زَمَنًا طَوِيلًا وَعُمْرًا مَدِيدًا، فَكَيْفَ تَأَتَّى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَادِ دَفْعَةً لِمَنْ قَضَى عُمْرَهُ بَيْنَهُمْ فِي بِلَادِهِ يَرْقُبُونَ أَحْوَالَهُ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَمَا عُرِفَ بَلَدُهُمْ بِمُزَاوَلَةِ الْعُلُومِ وَلَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ عَكَفَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَانْقَطَعَ عَنْ مُعَاشَرَةِ النَّاسِ. وَإِمَّا أَنْ يُنَزَّلَ تَعْقِلُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيْ أَفَلَا تَكُونُونَ عَاقِلِينَ، أَيْ فَتَعْرِفُوا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَحي الله. [17] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) لَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهَا بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِالتَّنَصُّلِ مِنْهُ أَعْقَبَتْ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى افْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ وَذَلِكَ مِمَّا عُرِفَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مِنَ اتِّخَاذِهِمُ الشُّرَكَاءَ لَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أَيْ أَشْرَكُوا- إِلَى قَوْلِهِ-: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يُونُس: 13، 14] وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِمْ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] . وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَوْجِيهُ الْكَلَامِ بِصَلَاحِيَتِهِ لِأَنْ يَكُونَ إِنْصَافًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِذْ هُمْ قَدْ عَرَّضُوا بِنِسْبَتِهِ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ حِينَ قَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا [يُونُس: 15] ، وَصَرَّحُوا بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ مَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ كِلَاهُمَا أَظْلَمُ النَّاسِ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مِنْ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ لِيَعْثُرَ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِنْصَافٌ بَيْنَهُمَا فَإِذَا حَصْحَصَ الْمَعْنَى وُجِدَ انْصِبَابُهُ عَلَى الْخَصْمِ وَحْدَهُ.

[سورة يونس (10) : آية 18]

وَالتَّفْرِيعُ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِمَّا تَضَمَّنَ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ. وَمَحَلُّ (أَوْ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ هُوَ التَّقْسِيمُ، وَهُوَ إِمَّا تَقَسُّمُ أَحْوَالٍ، وَإِمَّا تَقَسُّمُ أَنْوَاعٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالظُّلْمُ: هُنَا بِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ. وَإِنَّمَا كَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَشَدَّ الظُّلْمِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْخَالِقِ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَبِتَكْذِيبِ آيَاتِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تَذْيِيلٌ، وَمَوْقِعُهُ يَقْتَضِي شُمُولَ عُمُومِهِ لِلْمَذْكُورِينَ فِي الْكَلَامِ الْمُذَيَّلِ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ) فَيَقْتَضِي أَنَّ أُولَئِكَ مُجْرِمُونَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ. وَالْفَلَاحُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ نَاظِرٌ إِلَى شُمُولِ عُمُومِ الْمُجْرِمِينَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ لِقَصْدِ الاهتمام بمضمونها. [18] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ [يُونُس: 15] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. فَهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى مِنْ قَصَصِ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ أَنْ قَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا [يُونُس: 15] حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ فِي كِلْتَيْهِمَا كُفْرًا أَظْهَرُوهُ فِي صُورَةِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَإِيهَامِ أَنَّ الْعُذْرَ لَهُمْ فِي الِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَعَلَّهُمْ (كَمَا أَوْهَمُوا أَنَّهُ إِنْ أَتَاهُمْ

قُرْآنٌ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ أَوْ بُدِّلَ مَا يَرُومُونَ تَبْدِيلَهُ آمَنُوا) كَانُوا إِذَا أَنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَذَابِ اللَّهِ قَالُوا: تَشْفَعُ لَنَا آلِهَتُنَا عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ (عَلَى مَعْنَى فَرْضِ مَا لَا يَقَعُ وَاقِعًا) «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى» . وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَكَانَ مُشْرِكًا، لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَاضَاهُ أَجْرًا لَهُ عَلَى سَيْفٍ صَنَعَهُ «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ صَاحِبُكَ (يَعْنِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ فَأَقْضِيكَ مِنْهُ» . (وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] الْآيَةَ) . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَيَعْبُدُونَ إِلَخْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [يُونُس: 17] فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ مِنَ الِافْتِرَاءِ. وَإِيثَارُ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَفِيهِ تَمْهِيدٌ لِعَطْفِ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ لِتَحْقِيرِ رَأْيِهِمْ مِنْ رَجَاءِ الشَّفَاعَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ أَضْعَفُ مَقْدِرَةً فِي الْآخِرَةِ. وَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يَعْبُدُونَ ويَقُولُونَ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهَا، أَيْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَيَعْبُدُونَهَا تَعْجِيبًا مِنْ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَمِنْ قَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ هُوَ اللَّهُ. وَقُدِّمَ ذِكْرُ نَفْيِ الضَّرِّ عَلَى نَفْيِ النَّفْعِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْإِقْلَاعُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَدْ كَانَ سَدَنَتُهَا يُخَوِّفُونَ عَبَدَتَهَا بِأَنَّهَا تُلْحِقُ بِهِمْ وَبِصِبْيَانِهِمُ الضُّرَّ، كَمَا قَالَتِ امْرَأَةُ طُفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدُّوسِيِّ حِينَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ وَدَعَاهَا إِلَى أَنْ تُسْلِمَ فَقَالَتْ: «أَمَا تَخْشَى عَلَى الصِّبْيَةِ مِنْ ذِي الشَّرَى» (¬1) . فَأُرِيدَ الِابْتِدَاءُ بِنَفْيِ الضُّرِّ لِإِزَالَةِ أَوْهَامِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الصَّادَّةِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. ¬

(¬1) الشرى- بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَألف فِي آخِره- شجر الحنظل. وَذُو الشرى: صنم كَانَ يعبده بَنو دوس. كَانَ بَين مَكَّة والطائف. وَيُسمى أَيْضا ذَا الْكَفَّيْنِ.

[سورة يونس (10) : آية 19]

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِتَهَكُّمٍ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوا اللَّهَ بِأَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَهُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ شَيْئًا اخْتَرَعُوهُ وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ جَعَلَ اخْتِرَاعَهَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُمْ أَعْلَمُوا اللَّهَ بِهِ وَكَانَ لَا يَعْلَمُهُ فَصَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ بُطْلَانِهِ لِأَنَّ مَا لَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَهُوَ مُنْتَفٍ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ يُرِيدُ نَفْيَ شَيْءٍ عَنْ نَفْسِهِ: مَا عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنِّي. وَفِي ضِدِّهِ قَوْلُهُمْ فِي تَأْكِيدِ وُقُوعِ الشَّيْءِ: يَعْلَمُ اللَّهُ كَذَا، حَتَّى صَارَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ. وفِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ يَعْلَمُ الْعَائِدِ عَلَى (مَا) ، إِذِ التَّقْدِيرُ: بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، أَيْ كَائِنًا فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا تَعْمِيمُ الْأَمْكِنَةِ، كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَاتِ مِثْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى النَّفْيِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتُنَبِّئُونَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِعْلَامُ. وَجُمْلَةُ: سُبْحانَهُ وَتَعالى إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ، فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [100] . وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، أَيْ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تُشْرِكُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. وقرأه الْبَاقُونَ بالتحية عَلَى أَنَّهَا تَعْقِيبٌ لِلْخِطَابِ بِجُمْلَةِ قُلْ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْفَصْلِ لكَمَال الِانْقِطَاع. [19] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

(19) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جملَة يَعْبُدُونَ [يُونُس: 18] وَجُمْلَة: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: 20] . وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَاخْتِرَاعَ صِفَةِ الشَّفَاعَةِ لَهَا هُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي أَحْدَثَهُ ضُلَّالُ الْبَشَرِ فِي الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، فَهِيَ مِمَّا يَشْمَلُهُ التَّوْبِيخُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [يُونُس: 18] . وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُهِمٌّ عَجِيبٌ هُوَ مِنَ الْحِكَمِ الْعُمْرَانِيَّةِ وَالْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ بِالْمَكَانِ الْأَسْمَى، إِذِ الْقَصْرُ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى صِيغَتَيْ إِثْبَاتٍ لِلْمُثْبَتِ وَنَفْيٍ عَمَّا عَدَاهُ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَأْكِيدِ رَدِّ الْإِنْكَارِ، وَلِذَلِكَ يُؤْذِنُ بِرَدِّ إِنْكَارٍ شَدِيدٍ. وَحَسَّنَ الْقَصْرَ هُنَا وُقُوعُهُ عَقِبَ الْجِدَالِ مَعَ الَّذِينَ غَيَّرُوا الدِّينَ الْحَقَّ وَرَوَّجُوا نِحْلَتَهُمْ بِالْمَعَاذِيرِ الْبَاطِلَةِ كَقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] ، وَقَوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [الْبَقَرَة: 211] وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً. فَآيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ تُشِيرُ إِلَى الْوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّفَرُّقِ الطَّارِئِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ الْمُشْعِرِ بِالْمَذَمَّةِ وَالْمُعَقَّبِ بِالتَّخْوِيفِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ إِلَى آخِرِهِ، وَآيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تُشِيرُ إِلَى الْوَحْدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُهَا الْحَنِيفِيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّفَرُّقِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ النَّبِيئِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَرَضًا عَقِبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الْبَقَرَة: 213] . وَأُرِيدَ بِهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَتْبَاعِ الشَّرَائِعِ لِقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [الْبَقَرَة: 213] . وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] . وَالنَّاسُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْبَشَرِ. وَتَعْرِيفُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي لَهَا حَالٌ وَاحِدٌ فِي شَيْءٍ مَا.

وَالْمُرَادُ هُنَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الدِّينِ. وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ناشيء عَنْ سَلَامَةِ الِاعْتِقَادِ مِنَ الضَّلَالِ وَالتَّحْرِيفِ. وَالْإِنْسَانُ لَمَّا أُنْشِئَ عَلَى فِطْرَةٍ كَامِلَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ التَّكَلُّفِ. وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهَا قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَاجَاتِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْبَشَرِ الضَّلَالُ وَالْخَطَأُ فَلَا يَكُونُ الضَّلَالُ عَامًّا عَلَى عُقُولِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقِينَ عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا فَطَرَ الْإِنْسَانَ فَطَرَهُ عَلَى عَقْلٍ سَلِيمٍ مُوَافِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَوَضَعَ فِي عَقْلِهِ الشُّعُورَ بِخَالِقٍ وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَضْعًا جِبِلِّيًّا كَمَا وَضَعَ الْإِلْهَامَاتِ فِي أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ. وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لِأَبِي الْبَشَرِ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ إِنَّ الْبَشَرَ أَدْخَلُوا عَلَى عُقُولِهِمُ الِاخْتِلَافَ الْبَعِيدَ عَنِ الْحق بِسَبَب الاختلاق الْبَاطِلِ وَالتَّخَيُّلِ وَالْأَوْهَامِ بِالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً الْوَحْدَةُ فِي الْحَقِّ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مَدْحُ تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ فَسَادِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتُ خَطَأِ مُنْتَحِلِيهِ بِأَنَّ سَلَفَهُمُ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ فِي فَسَادِ الْعُقُولِ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُخَاطَبِينَ تَعْظِيمٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ، وَلِأَنَّ صِيغَةَ الْقَصْرِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِبْطَالُ زَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَوُقُوعُهُ عَقِبَ ذِكْرِ مَنْ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَصْنَامًا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ صَوَّرُوا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ فِي الْكَعْبَةِ. فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ «كَذَبُوا وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ، وَقَرَأَ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمرَان: 67] » وَبِهَذَا الْوَجْهِ يُجْعَلُ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّاسِ الْعَرَبُ خَاصَّةً بِقَرِينَةِ الْخِطَابِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ تَذْكِيرَهَمْ بِعَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ كَانَ هُوَ وَأَبْنَاؤُهُ وَذُرِّيَّتُهُمْ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ

[سورة يونس (10) : آية 20]

كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26- 28] ، أَيْ فِي عَقِبِهِ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَجُمْلَةُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ مَذْمُومٌ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِمْهَالَ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ لَأَرَاهُمْ وَجْهَ الْفَصْلِ فِي اخْتلَافهمْ باستيصال الْمُبْطِلِ وَإِبْقَاءِ الْمُحِقِّ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أُجْمِلَتْ هُنَا وَأُشِيرَ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الشُّورَى [14] بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. وَالْأَجَلُ: هُوَ أَجَلُ بَقَاءِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، فَالْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ إِذَنْ مُؤَخَّرٌ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مَعْنَى (الْكَلِمَةِ) قَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ [118] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [20] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يُونُس: 18] ، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ افْتِرَاءَهُمْ فِي جَانِبِ الْإِلَهِيَّةِ نَفَى بُهْتَانَهُمْ فِي جَانب النبوءة. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الضَّمِيرِ مُغْنِيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَادِ. وَقَدْ كَانَ ذِكْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فِي نَوَادِيهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ فِي أَيَّامِ مُقَامِهِ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ هُوَ شُغْلُهُمُ الشَّاغِلُ لَهُمْ، وَقد أُجْرِيَ فِي كَلَامِهِمْ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ بِدُونِ سَبْقِ مُعَادٍ، عَلِمَ الْمُتَخَاطِبُونَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَ (لَوْلَا) فِي قَوْلِهِ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَشَأْنُ التَّحْضِيضِ أَنْ يُوَاجَهَ بِهِ الْمُحَضَّضُ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ مِنَ الطَّلَبِ وَشَأْنُ الطَّلَبِ أَنْ يُوَاجَهَ بِهِ الْمَطْلُوبُ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِنْزَالِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُؤَوَّلًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، وَهُوَ مِنْ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 31] أَيْ قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ نُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِيُبَيِّنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ شُبْهَةً عَلَى انْتِفَاءِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدَرَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ طَمَعًا فِي أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَالْآيَةُ: عَلَامَةُ الصِّدْقِ. وَأَرَادُوا خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: 93] وَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْكِيمِهِمُ الْخَيَالَ وَالْوَهمَ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَهُمْ يَفْرِضُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرِيصٌ عَلَى إِظْهَارِ صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ يَسْتَفِزُّهُ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ فَيَغْضَبُ وَيُسْرِعُ فِي مُجَارَاةِ عِنَادِهِمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَفْحَمُوهُ وَأَعْجَزُوهُ وَهُوَ الْقَادِرُ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُدَّعِيَ الرِّسَالَةِ عَنْهُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي دَعْوَاهُ وَمَا دَرَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ نِظَامَ الْأُمُورِ تَقْدِيرًا، وَوَضَعَ الْحَقَائِقَ وَأَسْبَابَهَا، وَأَجْرَى الْحَوَادِثَ عَلَى النِّظَامِ الَّذِي قَدَّرَهُ، وَجَعَلَ الْأُمُورَ بَالِغَةً مَوَاقِيتَهَا الَّتِي حَدَّدَ لَهَا، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُكَذِّبَ الْمُكَذِّبُونَ أَوْ يُعَانِدَ الْجَاهِلُونَ وَقَدْ وَضَعَ لَهُمْ مَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الزَّوَاجِرِ فِي الْآخِرَةِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الدُّنْيَا تَارَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى نُظُمٍ اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى تَبْدِيلِهَا سُؤَالُ سَائِلٍ وَلَا تَسْفِيهُ سَفِيهٍ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. فَهُمْ جَعَلُوا اسْتِمْرَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَعْوَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ بِهَا وَعَدَمَ تَبْدِيلِهِ ذَلِكَ بِآيَاتٍ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ رَغْبَتِهِمْ جَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَيَّدٍ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهُ لَأَيَّدَهُ بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْقَبُولَ عِنْدَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. وَمَا دَرَى الْمَسَاكِينُ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً بِهِمْ

وَطَلَبًا لِصَلَاحِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ عَدَمُ قَبُولِهِمْ رَحْمَتَهُ وَهِدَايَتَهُ. وَلِذَلِكَ أَتَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمُ الْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى لَفْظِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ إِيمَاءً إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ رُبُوبِيَّةُ الْمُصْطَفِي (بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ) لِلْمُصْطَفَى (بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ) مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْخَلْقِ الْمُقْتَضِيَةِ الْغَضَبَ لِغَضَبِهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ مِثْلُ غَضَبِ الْخَلَائِقِ يَسْتَدْعِي الْإِسْرَاعَ إِلَى الِانْتِقَامِ وَمَا عَلِمُوا أَسْرَارَ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحُكْمِ الْإِلَهِيِّ وَالْعِلْمِ الْأَعْلَى. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ بِمَا هُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُرْشِدَةُ وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْ مَدَارِكِهِمْ جَوَابًا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَجَاءَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ هُنَا دُونَ بَعْضِ نَظَائِرِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَعْقِيبِ كَلَامِهِمْ بِالْجَوَابِ شَأْنَ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ حَالِهِ الْمُتَثَبِّتِ فِي أَمْرِهِ. وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْ حَوَاسِّ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَتَكَوَّنُ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فِي الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 109] . وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيِ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ. وَجَاءَ الْكَلَامُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِي مُكْنَةِ الرَّسُولِ الْحَقِّ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَسْأَلُهُ قَوْمُهُ مِنَ الْخَوَارِقِ، فَجَعَلُوا عَدَمَ وُقُوعِ مُقْتَرَحِهِمْ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي إِيقَاعِ مَا سَأَلُوهُ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ يَرْمُونَ بِسُؤَالِهِمْ إِلَى الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِفْحَامِ. وَجُمْلَةُ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أَيْ لَيْسَ دَأْبِي وَدَأْبُكُمْ إِلَّا انْتِظَارَ مَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ، كَقَوْلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: 33] . وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لَهُمْ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ لَا يَتَرَقَّبُونَ مِنْهُ إِلَّا شَرًّا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: 8] .

[سورة يونس (10) : آية 21]

وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: مَعَكُمْ مَجَازِيَّةٌ مستعملة فِي الْإِشْرَاك فِي مُطلق الِانْتِظَار. [21] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 21] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) لَمَّا حَكَى تَمَرُّدَ الْمُشْرِكِينَ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ لَاهُونَ بِبَطَرِهِمْ وَازْدِهَائِهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَالدَّعَةِ فَأَنْسَاهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ أَنْ يَتَوَقَّعُوا حُدُوثَ ضِدِّهِ فَتَفَنَّنُوا فِي التَّكْذِيبِ بِوَعِيدِ اللَّهِ أَفَانِينَ الِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] . وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ حَالِهِمْ، وَالْمُلْقَى إِلَيْهِ الْكَلَامُ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَذْكِيرِ الْكُفَّارِ بِحَالِ حُلُولِ الْمَصَائِبِ بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَيُعِدُّوا عُدَّةَ الْخَوْفِ مِنْ حُلُولِ النِّقْمَةِ الَّتِي أَنْذَرَهُمْ بِهَا فِي قَوْله فَانْتَظِرُوا [يُونُس: 20] كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» . فَالْمُرَادُ بِ النَّاسَ النَّاسُ الْمَعْهُودُونَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ [يُونُس: 12] . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ بِدُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَحْطَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، فَلَمَّا حَيُوا طَفِقُوا يَطْعَنُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَيُعَادُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكِيدُونَ لَهُ. وَالْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَ قُرَيْشًا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَقَدْ أُنْذِرُوا فِيهَا بِالْبَطْشَةِ الْكُبْرَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ السَّبْعِ السِّنِينَ الَّتِي هِيَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ وَبَعْدَ أَنْ حَيُوا، فَتَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبَعْثَةِ أَوْ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَالْإِذَاقَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ اسْتِعَارَةً أَوْ مَجَازًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ

وَالرَّحْمَةُ: هُنَا مُطْلَقَةٌ عَلَى أَثَرِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ وَالنَّفْعُ، كَقَوْلِهِ: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: 28] . وَالضَّرَّاءُ: الضُّرُّ. وَالْمَسُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ. وَالْمَعْنَى إِذَا نَالَتِ النَّاسَ نِعْمَةٌ بَعْدَ الضُّرِّ، كَالْمَطَرِ بَعْدَ الْقَحْطِ، وَالْأَمْنِ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالصِّحَّةِ بَعْدَ الْمَرَضِ. وَ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ لِلْمُفَاجَأَةِ، وَهِيَ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ (إِذَا) الشَّرْطِيَّةِ لِوُقُوعِهِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِلِاتِّصَالِ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي تُلَازِمُهَا الْأَفْعَالُ إِنْ وَقَعَتْ ظَرْفًا ثُمَّ إِنْ وَقَعَتْ شَرْطًا فَلَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ جَوَابًا لَهَا، فَلِذَلِكَ أُدْخِلَ عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ حَرْفُ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْمُفَاجَأَةِ يَدُلُّ عَلَى الْبِدَارِ وَالْإِسْرَاعِ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، فَيُفِيدُ مُفَادَ فَاءِ التَّعْقِيبِ الَّتِي يُؤْتى بهَا الرَّبْط جَوَابِ الشَّرْطِ بِشَرْطِهِ، فَإِذَا جَاءَ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ أَغْنَى عَنْهَا. وَالْمَكْرُ: حَقِيقَتُهُ إِخْفَاءُ الْإِضْرَارِ وَإِبْرَازُهُ فِي صُورَة الْمَسْأَلَة، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] . وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي آياتِنا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْمُلَابَسَةُ، أَيْ مَكْرُهُمُ الْمُصَاحِبُ لِآيَاتِنَا. وَمَعْنَى مَكْرِهِمْ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ مَكْرًا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوهِمُونَ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى لَآمَنُوا بِهَا وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُمْ يُكَذِّبُونَهُ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَحِفَاظًا عَلَى دِينِهِمْ فِي الشِّرْكِ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا التَّعْرِيضَ بِإِنْذَارِهِمْ، أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَعِظَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَسْرَعُ مَكْرًا، أَيْ مِنْكُمْ، فَجَعَلَ مَكْرَ اللَّهِ بِهِمْ أَسْرَعَ مِنْ مَكْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَدَلَّ اسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى أَنَّ مَكْرَ الْكَافِرِينَ سَرِيعٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ وَهِيَ إِسْرَاعٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْجَلُ مَكْرًا بكم مِنْكُم بمكرمكم بِآيَاتِ اللَّهِ. وَأَسْرَعُ: مَأْخُوذٌ مِنْ أَسْرَعَ الْمَزِيدِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوْ مِنْ سَرُعَ الْمُجَرَّدِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِهِ فِي الْكَلَامِ فِيمَا حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ.

[سورة يونس (10) : الآيات 22 إلى 23]

وَأُطْلِقَ عَلَى تَأْجِيلِ اللَّهِ عَذَابَهُمُ اسْمُ الْمَكْرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ ذَلِكَ التَّأْجِيلِ فِي خَفَائِهِ عَنْهُمْ كَهَيْئَةِ فِعْلِ الْمَاكِرِ، وَحَسَّنَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ مُبَاشَرَةً تَهْدِيدًا مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، إِذْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَكْرَهُمْ يَتَمَشَّى عَلَيْهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ يَكْتُبُونَ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ مَحْصِيٌّ مَعْدُودٌ عَلَيْهِمْ لَا يُهْمَلُ، وَهُوَ إِنْذَارٌ بِالْعَذَابِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَكْتُبُونَ ويمكرون لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَرُّرِ، أَيْ تَتَكَرَّرُ كِتَابَتُهُمْ كُلَّمَا يَتَكَرَّرُ مَكْرُهُمْ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: مَا تَمْكُرُونَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِاخْتِلَافِ مُعَادَيِ الضَّمِيرَيْنِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مَا تَمْكُرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَا يَمْكُرُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرِ لِ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [22، 23] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 22 الى 23] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هَذِهِ الْجُمْلَة بدل الشمَال مِنْ جُمْلَةِ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً [يُونُس: 21] إِلَى آخِرِهَا لِأَنَّ الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَكْرُ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ:

فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا سِوَاهُ تَمْهِيدٌ وَإِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ. أَعْقَبَ التَّهْدِيدَ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بِذِكْرِ بَعْضِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ ضَرَّاءَ تَعْقُبَ النِّعْمَةَ لِلِابْتِلَاءِ وَالتَّذْكِيرِ بِخَالِقِهِمْ، ثُمَّ كَيْفَ تُفْرَجُ عَنْهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ فَيَكْفُرُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ كِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ وَلَا يَتَذَكَّرُ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: 20] وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَتَسْجِيلٌ لِكُفْرَانِهَا وَلِتَوَارُدِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَلِكَيْلَا يَغْتَرُّوا بِالْإِمْهَالِ فَيَحْسَبُوهُ رِضًى بِكُفْرِهِمْ أَوْ عَجْزًا عَنْ أَخْذِهِمْ، وَهَذَا مَوْقِعٌ رَشِيقٌ جِدُّ الرَّشَاقَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَإِسْنَادُ التَّسْيِيرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُهُ لِأَنَّهُ خَالِقُ إِلْهَامِ التَّفْكِيرِ وَقُوَى الْحَرَكَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَالْقَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ. وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ وَالتَّعْرِيضِ بِإِخْلَالِهِمْ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ فِي الْبِحَارِ خَاصَّةً. وَإِنَّمَا كَانَتْ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَى مَدْخُولِهَا مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ- إِلَى قَوْلِهِ- بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْمُغَيَّا هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يُسَيِّرُكُمْ مِنَ الْمِنَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُ تَسْيِيرُ رِفْقٍ مُلَائِمٍ لِلنَّاسِ، فَكَانَ مَا بَعْدَ (حَتَّى) وَمَعْطُوفَاتِهَا نِهَايَةَ ذَلِكَ الرِّفْقِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي بَعْدَ (حَتَّى) يَنْتَهِي عِنْدَهَا السَّيْرُ الْمُنْعَمُ بِهِ وَيَدْخُلُونَ فِي حَالَةِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَهَذَا النَّظْمُ نَسْجٌ بَدِيعٌ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ. وَمِنْ بَدِيعِ الْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بِصَدَدِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ جَاءَتْ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ الصَّالِحَةِ لِجَمِيعِ السَّامِعِينَ، فَلَمَّا تَهَيَّأَتْ لِلِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ الضَّرَّاءِ وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِتَلْوِينِ الْأُسْلُوبِ بِمَا يُخَلِّصُهُ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى مَا يَخُصُّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ وَجَرَيْنَ بِكُمْ. وَهَكَذَا أُجْرِيَتِ الضَّمَائِرُ جَامِعَةً لِلْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَمَحَّضَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْخَبَرِ مَنْ عَدَا الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لَا يَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعَانِي وَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ بِطَرِيقِ الرَّمْزِ.

وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَمْثِلَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ كُلِّهَا تَبَعًا «لِلْكَشَّافِ» بِنَاءً عَلَى جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ وَجَعْلِ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لَهُمْ أَيْضًا، وَمَا نَحَوْتُهُ أَنَا أَلْيَقُ. وَابْتُدِئَ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ مِنْ آخِرِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ النِّعْمَةَ شَمِلَتْهُمْ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْعَاصِفَةِ فَجْأَةً فِي حَالِ الْفَرَحِ مُرَادٌ مِنْهُ ابْتِلَاؤُهُمْ وَتَخْوِيفُهُمْ. فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ. وَالسَّيْرُ فِي الْبَرِّ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي الْبَحْرِ. كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَقَدْ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ لِذَلِكَ. وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ السُّفُنَ وَسَيْرَهَا، وَذَكَرَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ، وَالنَّابِغَةُ فِي دَالِيَّتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَيِّرُكُمْ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ بَعْدَهَا رَاءٌ- مِنَ السَّيْرِ، أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَسِيرُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَنْشُرُكُمْ بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ رَاءٌ- مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الرّوم: 20] وَقَوْلِهِ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَة: 10] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ وَأَبِي الزَّغَلِ: كَانُوا (أَيْ أهل الْكُوفَة) يقرأون يَنْشُرُكُمْ فَنَظَرُوا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَوَجَدُوهَا يُسَيِّرُكُمْ (أَيْ بِتَحْتِيَّةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ) فَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَهَا كَذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، أَيْ أَمَرَ بكتبها فِي مصاحب أَهْلِ الْكُوفَةِ. وحَتَّى غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ. وَهِيَ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ أُعْقِبَتْ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَجَوَابِهِ، وَالْجُمْلَةُ وَالْغَايَةُ هِيَ مُفَادُ جَوَابِ إِذا وَهُوَ قَوْلُهُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، فَمَجِيءُ الرِّيحِ الْعَاصِفِ هُوَ غَايَةُ التَّسْيِيرِ الْهَنِيءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، إِذْ حِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ التَّسْيِيرُ كَارِثَةً وَمُصِيبَةً. وَالْفُلْكُ: اسْمٌ لِمَرْكَبِ الْبَحْرِ، وَاسْمُ جَمْعٍ لَهُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ.

وَالْجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الْبَحْرِ، قَالَ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها [هود: 41] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. وَالرِّيحُ مُؤَنَّثَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [57] . وَالطَّيِّبَةُ: الْمُلَائِمَةُ الرَّفِيقَةُ بِالرَّاكِبِينَ. وَالطَّيِّبُ: الْمَوْصُوفُ بِالطِّيبِ الشَّدِيدِ. وَأَصْلُ مَعْنَى الطَّيِّبِ الْمُلَاءَمَةُ فِيمَا يُرَادُ مِنَ الشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] ، وَيُقَالُ: طَابَ لَهُ الْمُقَامُ فِي مَكَانِ كَذَا. وَمِنْهُ سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ رِيحٌ وَعُرْفٌ طِيبًا. وَجُمْلَةُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ جَوَابُ إِذا. وَفِي ذِكْرِ جَرْيِهِنَّ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرَحِهِمْ بِهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْعَاصِفَةِ حَدَثَ فَجْأَةً دُونَ تَوَقُّعٍ مِنْ دَلَالَةِ عَلَامَاتِ النَّوْتِيَّةِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرٍ مُرَادٍ لِلَّهِ تَعَالَى لِيُخَوِّفَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ. وَضَمِيرُ جاءَتْها عَائِدٌ إِلَى الْفُلْكِ لِأَنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ. وَالْعَاصِفُ: وَصْفٌ خَاصٌّ بِالرِّيحِ، أَيْ شَدِيدَةُ السُّرْعَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِوَصْفِ الرِّيحِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّأْنِيثِ، مِثْلُ: نَافِسٍ وَحَائِضٍ وَمُرْضِعٍ، فَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ كَذَلِكَ، وَذُكِرَ وَصْفًا لِلرِّيحِ فَبَقِيَ لَا تَلْحَقُهُ التَّاءُ. وَقَالُوا: إِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْهُ التَّاءُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّسَبِ، مِثْلُ: لَابِنٍ، وَتَامِرٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ مَكانٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْفُلْكِ، فَالِابْتِدَاءُ الَّذِي تُفِيدُهُ (مِنْ) ابْتِدَاءُ الْأَمْكِنَةِ الْمُتَّجِهَةِ إِلَى الْفُلْكِ. وَمَعْنَى أُحِيطَ بِهِمْ أُخِذُوا وَأُهْلِكُوا، فَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: أَحَاطَ الْعَدُوُّ بِالْقَبِيلَةِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَغَلَبَهَا، لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِحْدَاقِ بِهَا وَتَطْوِيقِهَا. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هَزِيمَةً وَامْتِلَاكًا لَهَا صَارَ تَرْتِيبُ أُحِيطَ بِهِمْ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِلْهَلَاكِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُف: 66] وَقَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الْكَهْف: 42] أَيْ هَلَكَتْ. فَمَعْنَى وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ظَنُّوا الْهَلَاكَ.

وَجُمْلَةُ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ جَوَابُ إِذا. وَمَعْنَى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُمْحِضِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ فِي دُعَائِهِمْ، أَيْ دَعَوْهُ وَلَمْ يَدْعُوا مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أَقْلَعُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بَلْ تِلْكَ حَالَتُهُمْ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. وَهَذَا إِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ [الْأَنْعَام: 40، 41] . وَجُمْلَةُ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ دَعَوُا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الدُّعَاءُ. وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى حَالَةٍ حَاضِرَةٍ لَهُمْ، وَهِيَ حَالَةُ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْغَرَقِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْحَالَةُ الْمُشَاهَدَةُ لَهُمْ. وَقَدْ أَكَّدَ وَعْدَهُمْ بِالشُّكْرِ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ: لَامِ تَوْطِئَةِ الْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَالتَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ مِنَ الشَّاكِرِينَ دُونَ لَنَكُونَنَّ شَاكِرِينَ، لِمَا يُفِيدُهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ الَّتِي دَيْدَنُهَا الشُّكْرُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] . وَأَتَى بِحَرْفِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِهِمْ بِالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ عَقِبَ النَّجَاةِ. وَالْبَغْيُ: الِاعْتِدَاءُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [33] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِشْرَاكُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَظِيرِهَا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] . وَسُمِّيَ الشِّرْكُ بَغْيًا لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الْخَالِقِ وَهُوَ أَعْظَمُ اعْتِدَاءٍ، كَمَا يُسَمَّى ظُلْمًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَلَا يَحْسُنُ تَفْسِيرُ الْبَغْيِ هُنَا بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ شَأْنُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ حُلَمَاءَ قَوْمِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وَلِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الزمر: 8] الْآيَةَ. وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ النَّجَاةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لُقْمَان: 32] أَيْ جَعَلُوا مَكَانَ أَثَرِ النِّعْمَةِ بِالنَّجَاةِ مَكَانًا لِلْبَغْيِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ هُوَ قَيْدٌ كَاشِفٌ لِمَعْنَى الْبَغْيِ، إِذِ الْبَغْيُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ، فَهُوَ كَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَافْتُتِحَ الْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِاسْتِصْغَاءِ أَسْمَاعِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَهْدِيدُهُمْ. وَصِيغَةُ قَصْرِ الْبَغْيِ عَلَى الْكَوْنِ مُضِرًّا بِهِمْ كَمَا هُوَ مُفَادُ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ تَنْبِيهً عَلَى حَقِيقَةٍ وَاقِعِيَّةٍ وَمَوْعِظَةٍ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ لِرَعْيِ صَلَاحِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ يَضُرُّونَهُ كَقَوْلِهِ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً [التَّوْبَة: 39] . فَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْإِضْرَارِ لِأَنَّ الْمُسْتَعْلِي الْغَالِبُ يَضُرُّ بِالْمَغْلُوبِ الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا الشَّيْءُ عَلَيْكَ، وَفِي ضِدِّهِ: هَذَا الشَّيْءُ لَكَ، كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] . وَيَقُولُ الْمُقِرُّ: لَكَ عَلَيَّ كَذَا. وَقَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ: وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا وَقَالَ السَّمَوْأَلُ الْيَهُودِيُّ: أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو ... سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ وَذَلِكَ أَنَّ (عَلَى) تَدُلُّ عَلَى الْإِلْزَامِ وَالْإِيجَابِ، وَاللَّامُ تَدَلُّ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقُرْآن حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» . فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ أَنْفُسُ الْبَاغِينَ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ بَيْنَ أَفْرَادِ مُعَادِ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: بَغْيُكُمْ وَبَيْنَ أَفْرَادِ الْأَنْفُسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ» أَيْ،

رَكِبَ كُلُّ وَاحِدٍ دَابَّتَهُ. فَالْمَعْنَى إِنَّمَا بَغْيُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِنَفْسِ الْمُشْرِكِ بِاخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ بِوُقُوعِهِ فِي الْعَذَابِ. ومَتاعَ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ (بَغْيُكُمْ) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلْبَغْيِ، لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْدَرٌ مُشْتَقُّ فَهُوَ كَالْفِعْلِ فَنَابَ الْمَصْدَرُ عَنِ الظَّرْفِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا فِيهِ مَعْنَى الْمُدَّةِ. وَتَوْقِيتُ الْبَغْيِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْهَلَكُمْ إِمْهَالًا طَوِيلًا فَهَلَّا تَتَذَكَّرُونَ؟ فَلَا تَحْسَبُونَ الْإِمْهَالَ رِضًى بِفِعْلِكُمْ وَلَا عَجْزًا وَسَيُؤَاخِذُكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وُجُوهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا غَيْرَ دَائِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَالْمَعْنَى عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ أَمْهَلْنَاكُمْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ لَا غَيْرَ ثُمَّ نُؤَاخِذُكُمْ عَلَى بَغْيِكُمْ عِنْدَ مَرْجِعِكُمْ إِلَيْنَا. وَجُمْلَةُ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ عُطِفَتْ بِ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَصْرَحُ تَهْدِيدًا مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا لَا إِلَى غَيْرِنَا تَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَحَالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحْشَرُ إِلَى الْأَصْنَامِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ مِنْ أَصْلِهِ. وَتَفْرِيعُ فَنُنَبِّئُكُمْ عَلَى جُمْلَةِ: إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ تَفْرِيعُ وَعِيدٍ عَلَى تَهْدِيدٍ. وَاسْتُعْمِلَ الْإِنْبَاءُ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَالْقَادِرُ إِذَا عَلِمَ بِسُوءِ صَنِيعِ عَبْدِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِهِ مَانِعٌ. وَفِي ذِكْرِ كُنْتُمْ وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكَرُّرِ عَمَلِهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ. وَالْوَعِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ فِي شَأْنِ أَعْظَمِ الْبَغْيِ فَكَانَ لِكُلِّ آتٍ مِنَ الْبَغي بِنَصِيب حظا مِنْ هَذَا الْوَعيد.

[سورة يونس (10) : آية 24]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) هَذِهِ الْآيَةُ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: 23] الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ تَمَتُّعَهُمْ بِالدُّنْيَا مَا هُوَ إِلَّا لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ التَّمَتُّعَ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ، وَأَطْنَبَتْ فَشَبَّهَتْ هَيْئَةَ التَّمَتُّعِ بِالدُّنْيَا لِأَصْحَابِهَا بِهَيْئَةِ الزَّرْعِ فِي نَضَارَتِهِ ثُمَّ فِي مَصِيرِهِ إِلَى الْحَصْدِ. والمثل: الْحَال المائلة عَلَى هَيْئَةٍ خَاصَّةٍ، كَانَ التَّشْبِيهُ هُنَا تَشْبِيهَ حَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ بِحَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ. عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْمَثَلِ الَّذِي شَاعَ فِي التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِتَأْكِيدِ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ سُرْعَةُ الِانْقِضَاءِ. وَلِتَنْزِيلِ السَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُ دَوَامَ بَهْجَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي الِانْكِبَابِ عَلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا كَحَالِ مَنْ يَحْسَبُ دَوَامَهُ وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ انْقِضَاء سريع ومفاجىء. وَالْمَعْنَى: قَصْرُ حَالَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى مُشَابَهَةِ حَالَةِ النَّبَاتِ الْمَوْصُوفِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ، بُنِيَ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ عَكْسَ تِلْكَ الْحَالَةِ. شُبِّهَتْ حَالَةُ الْحَيَاةِ فِي سُرْعَةِ تَقَضِّيهَا وَزَوَالِ نَعِيمِهَا بَعْدَ الْبَهْجَةِ بِهِ وَتَزَايُدِ نَضَارَتِهَا بِحَالِ نَبَاتِ الْأَرْضِ فِي ذَهَابِهِ حُطَامًا وَمَصِيرِهِ حَصِيدًا. وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا التَّشْبِيهِ تَضَمُّنُهُ لِتَشْبِيهَاتٍ مُفَرَّقَةٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَالَيْنِ الْمُتَشَابِهَيْنِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ لِتَشْبِيهِ جُزْءٍ مِنَ الْحَالَيْنِ الْمُتَشَابِهَيْنِ، وَلِذَلِكَ أَطْنَبَ وَصْفَ الْحَالَيْنِ مِنِ ابْتِدَائِهِ.

فَقَوْلُهُ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ شَبَّهَ بِهِ ابْتِدَاءَ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ مِنْ وَقْتِ الصِّبَا إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ سِوَى الْأَمَلِ فِي نَعِيمِ الْعَيْش ونضارته، فَلذَلِك الْأَمَلُ يُشْبِهُ حَالَ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ فِي كَوْنِهِ سَبَبَ مَا يُؤَمَّلُ مِنْهُ مِنْ زُخْرُفِ الْأَرْضِ وَنَضَارَتِهَا. وَقَوْلُهُ: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ شَبَّهَ بِهِ طَوْرَ ابْتِدَاءِ نَضَارَةِ الْعَيْشِ وَإِقْبَالِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ، فَذَلِكَ يُشْبِهُ خُرُوجَ الزَّرْعِ بُعَيْدَ الْمَطَرِ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنْ بِوَارِقِ الْمَأْمُولِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلْإِيذَانِ بِسُرْعَةِ ظُهُورِ النَّبَاتِ عَقِبَ الْمَطَرِ فَيُؤْذَنُ بِسُرْعَةِ نَمَاءِ الْحَيَاةِ فِي أَوَّلِ أَطْوَارِهَا. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاخْتِلَاطِ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ ظَهَرَ قَبْلَ جَفَافِ الْمَاءِ، أَيْ فَاخْتَلَطَ النَّبَاتُ بِالْمَاءِ أَيْ جَاوَرَهُ وَقَارَنَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ وَصْفٌ لِنَبَاتِ الْأَرْضِ الَّذِي مِنْهُ أَصْنَافٌ يَأْكُلُهَا النَّاس من الخضروات وَالْبُقُولِ، وَأَصْنَافٌ تَأْكُلُهَا الْأَنْعَامُ مِنَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، وَذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ مَا يُنَعَّمُ بِهِ النَّاسُ فِي الْحَيَاةِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَمَا يُنَعَّمُ بِهِ الْحَيَوَانُ، فَإِنَّ لَهُ حَظًّا فِي نَعِيمِ الْحَيَاةِ بِمِقْدَارِ نِطَاقِ حَيَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَ الْمَأْكُولَ وَالْآكِلَ صَحَّ أَنْ تُشَبَّهَ بِهِ رَغَبَاتُ النَّاسِ فِي تَنَاوُلِ لَذَائِذِ الْحَيَاةِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْهِمَمِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ مَعَالِي الْأُمُورِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الَّتِي تَسْمُو إِلَيْهَا الْهِمَمُ الْعَوَالِي بِالنَّبَاتِ الَّذِي يَقْتَاتُهُ النَّاسُ، وَتَشْبِيهَ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ بِالنَّبَاتِ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ، وَيَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الَّذِينَ يَجْنَحُونَ إِلَى تِلْكَ السَّفَاسِفِ بِالْأَنْعَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ [مُحَمَّد: 12] . وَالْقَوْلُ فِي حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يُونُس: 22] ، وَهُوَ غَايَةٌ شُبِّهَ بِهَا بُلُوغُ الِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا إِلَى أَقْصَاهُ وَنُضُوجِهِ وَتَمَامِهِ وَتَكَاثُرِ أَصْنَافِهِ وَانْهِمَاكِ النَّاسِ فِي تَنَاوُلِهَا وَنِسْيَانِهِمُ الْمَصِيرَ إِلَى الْفَنَاءِ. وَأَمْرُ اللَّهِ: تَقْدِيرُهُ وَتَكْوِينُهُ. وَإِتْيَانُهُ: إِصَابَةُ تِلْكَ الْأَرْضِ بِالْجَوَائِحِ الْمُعَجَّلَةِ لَهَا بِالْيُبْسِ وَالْفَنَاءِ.

وَفِي مَعْنَى الْغَايَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (حَتَّى) مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ بَيْنَ مَبْدَأِ ظُهُورِ لَذَّاتِ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ مُنْتَهَاهَا مَرَاتِبَ جَمَّةً وَأَطْوَارًا كَثِيرَةً، فَذَلِكَ طُوِيَ فِي مَعْنَى (حَتَّى) . وَقَوْلُهُ: لَيْلًا أَوْ نَهاراً تَرْدِيدٌ فِي الْوَقْتِ لِإِثَارَةِ التَّوَقُّعِ مِنْ إِمْكَانِ زَوَالِ نَضَارَةِ الْحَيَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُوَقَّتَ بِمُعَيَّنٍ مِنَ التَّوْقِيتِ يَكُونُ النَّاسُ فِي أَمْنٍ مِنْ حُلُولِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالزُّخْرُفُ: اسْمُ الذَّهَبِ. وَأُطْلِقَ عَلَى مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِمَّا فِيهِ ذَهَبٌ وَتَلْوِينٌ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ. وَإِطْلَاقُ أَخْذِ الْأَرْضِ زُخْرُفَهَا عَلَى حُصُولِ الزِّينَةِ فِيهَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. شُبِّهَتِ الْأَرْضُ بِالْمَرْأَةِ حِينَ تُرِيدُ التَّزَيُّنَ فَتُحْضِرُ فَاخِرَ ثِيَابِهَا مِنْ حُلِيٍّ وَأَلْوَانٍ. وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ عَلَى ذَلِكَ التَّنَاوُلِ اسْمَ الْأَخْذِ، قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] ، وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ: وَخُذِي مَلَابِسَ زِينَةٍ ... وَمُصَبَّغَاتٍ وَهْيَ أَفْخَرُ وَذُكِرَ ازَّيَّنَتْ عَقِبَ زُخْرُفَها تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْخُذُ زُخْرُفَهَا لِلتَّزَيُّنِ. وازَّيَّنَتْ أَصْلُهُ تَزَيَّنَتْ فَقُلِبَتِ التَّاءُ زَايًا لِتُدْغَمَ فِي الزَّايِ فَسُكِّنَتْ وَأُدْغِمَتْ وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِأَجْلِ النُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً إِشَارَة لإِرَادَة الِاسْتِئْصَالِ فَهُوَ يُنْذِرُ بِالتَّهْدِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَيَجْعَلُ التَّمْثِيلَ أَعْلَقَ بِحَيَاتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: 44] لَا سِيَّمَا وَقَدْ ضُرِبَ هَذَا الْمَثَلُ لِتَمَتُّعِ الْكَافِرِينَ بِبَغْيِهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَيَزِيدُ تِلْكَ الْإِشَارَةَ وُضُوحًا قَوْلُهُ: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها الْمُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَهَا مَقْصُودُونَ بِتِلْكَ الْإِصَابَةِ. وَمَعْنَى: أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا مُحَصِّلُونَ لِثَمَرَاتِهَا، فَأَطْلَقَ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ وَدَوَامِهِ لَفْظَ الْقُدْرَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.

[سورة يونس (10) : آية 25]

وَالْحَصِيدُ: الْمَحْصُودُ، وَهُوَ الزَّرْعُ الْمَقْطُوعُ مِنْ مَنَابِتِهِ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَرْضِ بِحَصِيدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا الْمَحْصُودُ نَبَاتُهَا. وَمَعْنَى لَمْ تَغْنَ لَمْ تَعْمُرْ، أَيْ لَمْ تَعْمُرْ بِالزَّرْعِ. يُقَالُ: غَنِيَ الْمَكَانُ إِذَا عَمَرَ. وَمِنْهُ الْمَغْنَى لِلْمَكَانِ الْمَأْهُولِ. وَضِدَّ أَغْنَى أَقْفَرَ الْمَكَانُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْأَمْسِ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالْأَمْسُ: الْيَوْمُ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ. وَاللَّامُ فِيهِ مَزِيدَةٌ لِتَمْلِيَةِ اللَّفْظِ مِثْلَ الَّتِي فِي كَلِمَةِ الْآنَ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْسِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقُ الزَّمَنِ الَّذِي مَضَى لِأَنَّ أَمْسَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْغَدُ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْيَوْمُ فِي مَعْنَى الْحَالِ. وَجَمَعَهَا قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ إِلَى آخِرِهَا تَذْيِيلٌ جَامِعٌ، أَيْ مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ أَيْ نُبَيِّنُ الدَّلَالَاتِ كُلَّهَا الدَّالَّةَ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ. فَهَذِهِ آيَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبِيَّنَةِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ عُمُومِ الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [55] . وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لَامُ الْأَجَلِ. وَالتَّفَكُّرُ: التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِكْرِ، وَقَدْ مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [50] . وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْآيَاتِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّفَكُّرِ وَلَا كَانَ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لِأَجْلِهِمْ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِ الْقَوْمِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي هَذِه السُّورَة. [25] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 25] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يُونُس: 24] ، أَيْ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْهَا آيَةُ حَالَةِ الدُّنْيَا وَتَقَضِّيهَا، وَنَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ دَارِ الْخُلْدِ. وَلَمَّا كَانَتْ جُمْلَةُ

[سورة يونس (10) : آية 26]

كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ [يُونُس: 24] تَذْيِيلًا وَكَانَ شَأْنُ التَّذْيِيلِ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا جَامِعًا مُسْتَقِلًّا جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا مِثْلَهَا فِي الِاسْتِقْلَالِ فَعُدِلَ فِيهَا عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ إِذْ وُضِعَ قَوْله: وَاللَّهُ يَدْعُوا مَوْضِعَ نَدْعُو لِأَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الْجُمْلَةِ يَجْعَلُهَا مُحْتَاجَةً إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا الْمُعَادُ. وَحذف مفعول يَدْعُوا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ. وَالدَّعْوَةُ هِيَ: الطَّلَبُ وَالتَّحْرِيضُ. وَهِيَ هُنَا أَوَامِرُ التَّكْلِيفِ وَنَوَاهِيهِ. وَدَارُ السَّلَامِ: الْجَنَّةُ، قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [127] . وَالْهِدَايَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَقْصُودِ النَّافِعِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا خَلْقُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَقْصُودِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ بَعْدَ قَوْله: وَاللَّهُ يَدْعُوا الْمُفِيدِ التَّعْمِيمَ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْجَنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهَا فَهِيَ هِدَايَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فَتَعَيَّنَ أَنَّ يَهْدِي هُنَا مَعْنَاهُ إِيجَادُ الْهِدَايَةِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ، أَيْ خَلْقُ حُصُولِهِ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ، كَقَوْلِهِ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَاف: 30] وَهَذَا التَّكْوِينُ يَقَعُ إِمَّا فِي كُلِّ جُزْئِيَّةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَشَاعِرَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأَدِلَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْحَال، وشؤون الْغَيْبِ خَفِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . والصراط الْمُسْتَقِيمَ: الطَّرِيق الْموصل. [26] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 26] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُس: 25] لِأَنَّ الْهِدَايَةَ

بِمَنْ يَشَاءُ تُفِيدُ مَهْدِيًّا وَغَيْرَ مَهْدِيٍّ. فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ذِكْرُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ. وَلَمَّا أَوْقَعَ ذِكْرَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي جُمْلَةِ الْبَيَانِ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَأَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْعَمَلُ الْحَسَنُ، وَأَنَّ الْحُسْنَى هِيَ دَارُ السَّلَامِ. وَيَشْرَحُ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [125- 127] : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَالْحُسْنَى: فِي الأَصْل صفة أثنى الْأَحْسَنِ، ثُمَّ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْجِنْسِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهَا لَامُ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَبَعُدَتْ عَنِ الْوَصْفِيَّةِ وَلَمْ تَتْبَعْ مَوْصُوفَهَا. وَتَعْرِيفُهَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، مِثْلَ الْبُشْرَى، وَمِثْلَ الصَّالِحَةِ الَّتِي جَمْعُهَا الصَّالِحَاتُ. وَالْمَعْنَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا جِنْسُ الْأَحْوَالِ الْحُسْنَى عِنْدَهُمْ، أَيْ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَبِذَلِكَ تعين أَن مَا صدقهَا الَّذِي أُرِيدَ بِهَا هُوَ الْجَنَّةُ لِأَنَّهَا أَحْسَنُ مَثُوبَةً يَصِيرُ إِلَيْهَا الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَبِذَلِكَ صَيَّرَهَا الْقُرْآنُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا مِنْ حُصُولِ الْمَلَاذِّ الْعَظِيمَةِ. وَالزِّيَادَةُ يَتَعَيَّنُ أَنَّهَا زِيَادَةٌ لَهُمْ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي نَوْعِ الْحُسْنَى بِالْمَعْنَى الَّذِي صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَن تَفْسِير بِنَوْعٍ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مِمَّا يَسْتَغْرِقُهُ لَفْظُ الْحُسْنَى فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى رِفْعَةِ الْأَقْدَارِ، فَقِيلَ: هِيَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] ، وَقِيلَ: هِيَ رُؤْيَتُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «صَحِيح مُسلم» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، قَالُوا: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحجاب، قَالَ: فو الله مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ . وَهُوَ أَصْرَحُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهَا.

[سورة يونس (10) : آية 27]

وَالرَّهَقُ: الْغَشَيَانُ. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ فَرح. والقتر: لؤن هُوَ غُبْرَةٌ إِلَى السَّوَادِ. وَيُقَالُ لَهُ قَتَرَةٌ وَالَّذِي تَخَلَّصَ لِي من كَلَام الْأَئِمَّة والاستعمال أَن الفترة لَوْنٌ يَغْشَى جِلْدَةَ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ وَالْخَوْفِ. وَهُوَ مِنْ آثَارِ تَهَيُّجِ الْكَبِدِ مِنِ ارْتِجَافِ الْفُؤَادِ خَوْفًا وَتَوَقُّعًا. وَالذِّلَّةُ: الْهَوَانُ. وَالْمُرَادُ أَثَرُ الذِّلَّةِ الَّذِي يَبْدُو عَلَى وَجْهِ الذَّلِيلِ. وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ، أَيْ لَا تَتَشَوَّهُ وُجُوهُهُمْ بِالْقَتَرِ وَأَثَرِ الذِّلَّةِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَا يُؤَثِّرُ الْقَتَرَ وَهَيْئَةَ الذِّلَّةِ. وَلَيْسَ مَعْنَى نَفْيِ الْقَتَرِ وَالذِّلَّةِ عَنْهُمْ فِي جُمْلَةِ أَوْصَافِهِمْ مَدِيحًا لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ وُقُوعًا بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً بَلِ الْمَعْنَى التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُمُ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ تَعْجِيلًا لِلْمَسَاءَةِ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ قَبْلَ التَّصْرِيحِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ إِلَى قَوْله: مُظْلِماً [يُونُس: 27] . وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ نَتِيجَةٌ لِلْمُقَدِّمَةِ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَالُ الِاتِّصَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا وَلَمْ تُعْطَفْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْخُلُودَ لِأَجْلِ إِحْسَانِهِمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . [27] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 27] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُس: 26] . وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الْمُسِيئِينَ بِفِعْلِ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ دُونَ فِعْلِ أَسَاءُوا الَّذِي عَبَّرَ بِهِ فِي جَانِبِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِسَاءَتَهُمْ مِنْ فِعْلِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

وَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فَإِنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لَا يَقَعُ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَظَافِرَةُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. وَجُمْلَةُ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها خَبَرٌ عَنْ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ. وَتَنْكِيرُ (سَيِّئَةٍ) لِلْعُمُومِ، أَيْ جَزَاءُ كُلِّ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَالْعُمُومُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ مَقَامُ عُمُومِ الْمُبْتَدَأِ. كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمُ ضُرًّا أَيْ كُلَّ ضُرٍّ. وَذَلِكَ الْعُمُومُ مُغْنٍ عَنِ الرَّابِطِ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْمُبْتَدَأِ، أَوْ يُقَدَّرُ مَجْرُورٌ، أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ، كَمَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ [الْبَقَرَة: 196] أَيْ فَعَلَيْهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى الذِّلَّةِ لَهُمْ دُونَ زِيَادَةِ وَيَرْهَقُهُمْ قَتَرٌ، لِأَنَّهُ سَيَجِيءُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً. وَجُمْلَةُ: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ. وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَتَأْيِيسٌ. وَالْعَاصِمُ: الْمَانِعُ وَالْحَافِظُ. وَمَعْنَى مِنَ اللَّهِ مِنِ انْتِقَامِهِ وَجَزَائِهِ. وَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِ الذَّاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] . وَجُمْلَةُ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ بَيَانَ تَمْثِيلٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ. وأُغْشِيَتْ مُعَدَّى غَشِيَ إِذَا أَحَاطَ وَغَطَّا، فَصَارَ بِالْهَمْزَةِ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي الْأَعْرَافِ [54] ، وَقَوْلِهِ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ فِي الْأَنْفَالِ

[سورة يونس (10) : الآيات 28 إلى 29]

وَالْقِطَعُ- بِفَتْحِ الطَّاءِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: جَمْعُ قِطْعَةٍ، وَهِيَ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ، سُمِّيَ قِطْعَةً لِأَنَّهُ يُقْتَطَعُ مِنْ كُلٍّ غَالِبًا، فَهِيَ فِعْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ نُقِلَتْ إِلَى الِاسْمِيَّةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ قِطَعاً بِسُكُونِ الطَّاءِ. وَهُوَ اسْمٌ لِلْجُزْءِ مِنْ زَمَنِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود: 81] . وَقَوْلُهُ: مُظْلِماً حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ. وَوَصْفُ اللَّيْلِ وَهُوَ زَمَنُ الظُّلْمَةِ بِكَوْنِهِ مُظْلِمًا لِإِفَادَةِ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ، فَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ الشَّدِيدِ الْإِظْلَامِ بِاحْتِجَابِ نُجُومِهِ وَتَمَكُّنِ ظُلْمَتِهِ. وشبهت قَتَرَةُ وُجُوهِهِمْ بِظَلَامِ اللَّيْلِ. وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ هِيَ كَجُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [يُونُس: 26] . [28، 29] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 28 إِلَى 29] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ [يُونُس: 27] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُس: 26] فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْجَزَاءِ وَسِمَاتِهِ جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِإِجْمَالِ حَالَةٍ جَامِعَةٍ لِلْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ بِتَفْصِيلِ حَالَةٍ يَمْتَازُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ ذِكْرٌ فَظِيعٌ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي كَسْبِ السَّيِّئَاتِ، وَهِيَ سَيِّئَةُ الْإِشْرَاكِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَبِذَلِكَ حَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُقْتَضِيَةِ عَطْفَهَا عَلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ هُوَ ذِكْرُ حَشْرِهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْحَشْرِ مِنِ افْتِضَاحِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ، وَنَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا. وَإِنَّمَا زِيدَ لَفْظُ يَوْمَ

فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ هُوَ زَمَنُ الْحَشْرِ وَأَعْمَالٍ عَظِيمَةٍ أُرِيدَ التَّذْكِيرُ بِهِ تَهْوِيلًا وَمَوْعِظَةً. وَانْتِصَابُ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ، وَإِمَّا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ يَوْمَ نَحْشُرُ النَّاسَ جَمِيعًا. وَضَمِيرُ نَحْشُرُهُمْ لِلَّذِينَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ. وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْبَارِزِ فِي نَحْشُرُهُمْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى إِرَادَةِ عُمُومِ الضَّمِيرِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَشْرَ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ. وَمِنْ نُكَتِ ذِكْرِ حَشْرِ الْجَمِيعِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فَظِيعَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتِضَاحِهِمْ يَكُونُ بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ السَّلَامَةُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ زِيَادَةً فِي النِّعْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَةً فِي النِّكَايَةِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ مِنْ أَمْكِنَةٍ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [111] . وَقَوْلُهُ: مَكانَكُمْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ، وَاسْتِعْمَالُهُ هَذَا شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الْأَمْرِ بِالْمُلَازَمَةِ مَعَ الْتِزَامِ حَذْفِ الْعَامِلِ فِيهِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْأَمْرِ، نَحْوَ: صَهْ، وَيَقْتَرِنُ بِضَمِيرٍ مُنَاسِبٍ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ إِفْرَادٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْإِطْنَابَةِ: مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي وَأَمْرُهُمْ بِمُلَازَمَةِ الْمَكَانِ تَثْقِيفٌ وَحَبْسٌ. وَإِذْ قَدْ جُمِعَ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ وَشُرَكَاؤُهُمْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَبْسَ لِأَجْلِ جَرِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهِيَ كَوْنُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَابِدًا وَالْآخَرِ مَعْبُودًا. وَقَوْلُهُ: أَنْتُمْ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الْمُقَدَّرِ فِي الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ الْمُسَوِّغُ لِلْعَطْفِ عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْعَطْفِ صَارَ الشُّرَكَاءُ مَأْمُورِينَ بِاللُّبْثِ فِي الْمَكَانِ.

وَالشُّرَكَاءُ: الْأَصْنَامُ. وُصِفُوا بِالشُّرَكَاءِ لِاعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ وَالَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ. فَإِضَافَةُ شُرَكَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَهَكُّمٌ. وَعُطِفَ فَزَيَّلْنا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ حُصُولِ ذَلِكَ فِي عَقِبِ وَقْتِ الْأَمْرِ بِاللَّبْثِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْفَاءُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ الزَّمَنِيَّ فِي حُصُولِ مَعْطُوفِهَا إِثْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّزْيِيلَ حَصَلَ مُقَارِنًا لِإِلْزَامِهِمُ الْمَكَانَ عُبِّرَ عَنْ فِعْلِ التَّزْيِيلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ وُقُوعِ التَّزْيِيلِ كَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَزَيَّلَ: مُضَاعَفُ زَالَ الْمُتَعَدِّي. يُقَالُ: زَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ يَزِيلُهُ بِمَعْنَى أَزَالَهُ فَجَعَلُوهُ يَائِيَّ الْعَيْنِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَالَ الْقَاصِرِ الَّذِي هُوَ وَاوِيُّ الْعَيْنِ، فَزَيَّلَ فِعْلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّيْلِ مِثْلَ فَرَّقَ مُبَالَغَةً فِي فَرَقَ. وَالْمَعْنَى وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَفْرِيقٌ قَوِيٌّ بِحَيْثُ انْقَطَعَتْ جَمِيعُ الْوُصَلِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ. وَالتَّزْيِيلُ هُنَا مَجَازِيٌّ فَيَشْمَلُ اخْتِلَافَ الْقَوْلِ. وَتَعْلِيقُ التَّزْيِيلِ بِالْأَصْنَامِ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ مَعْنَاهُ فِيهَا حِينَ أَنْطَقَهَا اللَّهُ بِمَا يُخَالِفُ زَعْمَ عِبَادِهَا. وَجُمْلَةُ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَزَيَّلْنا فَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّعْقِيبِ، وَيَجُوزُ جَعْلُهَا حَالًا. وَيَقُولُ الشُّرَكَاءُ هَذَا الْكَلَامُ بِخَلْقِ نُطْقٍ فِيهَا خَارِقٍ لِلْعَادَةِ يَفْهَمُهُ النَّاسُ لِإِشْعَارِ أُولَئِكَ الْعَابِدِينَ بِأَن أصنامهم تبرأوا مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ نَدَامَةً. وَكَلَامُ الْأَصْنَامِ يُفِيدُ نَفْيَ أَنْ يَكُونُوا عَبَدُوهُمْ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُمْ. وَفِي اسْتِقَامَةِ ذَلِكَ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا غَيْرَهُمْ فَكَيْفَ يَنْفِي كَلَامُهُمْ عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهُمْ وَهُوَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ كَذِبًا. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا بِوُجُوهٍ لَا يَنْثَلِجُ لَهَا الصَّدْرُ. وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنْ يَكُونَ آخِرُ كَلَامِ الْأَصْنَامِ مُبَيِّنًا لِمَا أَجْمَلَهُ أَوَّلُهُ بِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا عَبَدُوهُمْ عِبَادَةً كَامِلَةً وَهِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي يَقْصِدُ مِنْهَا الْعَابِدُ امْتِثَالَ أَمْرِ الْمَعْبُودِ وَإِرْضَاءَهُ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ عَالِمًا وَآمِرًا بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَصْنَامُ غَيْرَ

عَالِمِينَ وَلَا آمِرِينَ اسْتَقَامَ نَفْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ عَبَدَتُهُمْ قَدْ عَبَدُوهُمْ تِلْكَ الْعِبَادَةَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ أَمَرُوهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ كَمَا تُفَسِّرُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41] . فَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَصْنَامُ لَا غَيْرُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُطْقُهَا بِجَحْدِ عِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ أَنْ خَلَقَ لَهَا عُقُولًا فَكَانَتْ عُقُولُهَا مُسْتَحْدَثَةً يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَقَرَّرْ فِيهَا عِلْمٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوهَا. وَيُفَسِّرُ هَذَا قَوْلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. وَجُمْلَةُ: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ لِيُثْبِتُوا الْبَرَاءَةَ مِمَّا أُلْصِقَ بِهِمْ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. وَلَيْسَ قَوْلهم: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قَسَمًا عَلَى كَلَامِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ شَأْنَ الْقَسَمِ أَنْ يَكُونَ فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ خَبَرٌ غَرِيبٌ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فَنَاسَبَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا يُحَقِّقُهُ وَيُبَيِّنُهُ مَعَ تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ. وَالْإِتْيَانُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عِنْدَ تَعْقِيبِ الْكَلَامِ بِجُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ مِنْ فَصِيحِ الِاسْتِعْمَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحجر: 90- 93] . وَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ إِذَا عُطِفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ كَانَ مُؤَكِّدًا لِمَا قَبْلَهُ بِطَرِيقِ تَفْرِيعِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ وَمُؤَكِّدًا لِمَا بَعْدَهُ بِطَرِيقِ جَوَابِ الْقَسَمِ بِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تُفَسَّرْ حَقَّ تَفْسِيرِهَا. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَهُوَ الْمُؤَيِّدُ وَالْمُصَدِّقُ لِدَعْوَى مُدَّعٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء: 6] . وَ (كَفَى) بِمَعْنَى أَجْزَأَ وَأَغْنَى عَنْ غَيْرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا فِي سُورَةِ النِّسَاء [45] . وَهُوَ صِيغَة خَبَرٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي إِنْشَاءِ الْقَسَمِ. وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَأَصْلُهُ كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا.

[سورة يونس (10) : آية 30]

وَانْتَصَبَ: شَهِيداً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْكِفَايَةِ إِلَى اللَّهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِجْمَالِ. وَجُمْلَةُ: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ. (وَإِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) . وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُلْتَزِمُ الْحَذْفِ. وَجُمْلَةُ: كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ. وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَ (إِنِ) الْمُؤَكِّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِنِ) النَّافِيَةِ. وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ: عَنْ عِبادَتِكُمْ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. [30] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 30] هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (30) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس: 25] إِلَى هُنَا. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْله: نَحْشُرُهُمْ [يُونُس: 28] أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي نَحْشُرُهُمْ فِيهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّة. وعامله تَبْلُوا، وَقُدِّمَ هَذَا الظَّرْفُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنَ الْكَلَامِ لِعِظَمِ مَا يَقع فِيهِ. وتَبْلُوا تَخْتَبِرُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَقُّقِ وَعِلْمِ الْيَقِينِ. وأَسْلَفَتْ قَدَّمَتْ، أَيْ عَمَلًا أَسْلَفَتْهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَخْتَبِرُ حَالَتَهُ وَثَمَرَتَهُ فَتَعْرِفُ مَا هُوَ حَسَنٌ وَنَافِعٌ وَمَا هُوَ قَبِيحٌ وَضَارٌّ إِذْ قَدْ وَضَحَ لَهُمْ مَا يُفْضِي إِلَى النَّعِيمِ بِصَاحِبِهِ، وَضِدُّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور تَبْلُوا بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ مِنَ التَّلْوِ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ، أَيْ تَتْبَعُ كُلُّ نَفْسٍ مَا قَدَّمَتْهُ مِنْ عَمَلٍ فَيَسُوقُهَا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ.

وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جملَة: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ فَتَكُونَ مِنْ تَمَامِ التَّذْيِيلِ، وَيَكُونَ ضَمِيرُ (رُدُّوا) عَائِدًا إِلَى (كُلُّ نَفْسٍ) . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [يُونُس: 28] الْآيَةَ فَلَا تَتَّصِلَ بِالتَّذْيِيلِ، أَيْ وَنَرُدُّهُمْ إِلَيْنَا، وَيَكُونَ ضَمِيرُ (رُدُّوا) عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا خَاصَّةً. وَالْمَعْنَى تَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ الْحَشْرُ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فَإِنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِالتَّوَرُّكِ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ مَوَالِيهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ. وَالْإِرْجَاعُ إِلَى اللَّهِ الْإِرْجَاعُ إِلَى تَصَرُّفِهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى مَا يُرْضِيهِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ حِينَ كَانُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مُمْهَلِينَ غَيْرَ مُجَازِينَ. وَالْمَوْلَى: السَّيِّدُ، لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَلَاءُ عَهْدِ الْمِلْكِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مُتَوَلِّي أُمُورِ غَيره وموفر شؤونه. وَالْحَقُّ: الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ وَالصِّدْقِ، أَيْ رُدُّوا إِلَى الْإِلَهِ الْحَقِّ دُونَ الْبَاطِلِ. وَالْوَصْفُ بِالْحَقِّ هُوَ وَصْفُ الْمَصْدَرِ فِي مَعْنَى الْحَاقِّ، أَيِ الْحَاقِّ الْمَوْلَوِيَّةَ، أَيْ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوهُمْ بَاطِلًا. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ. وَمَا كانُوا يَفْتَرُونَ مَا كَانُوا يَكْذِبُونَ مِنْ نِسْبَتِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَيَجُوزُ أَنْ يكون مَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ الْأَصْنَامَ، فَيَكُونَ قَدْ حُذِفَ الْعَائِدُ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ بِدُونِ أَنْ يُجَرَّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِ مَا جُرَّ بِهِ الْعَائِدُ وَالْحَقُّ جَوَازُهُ، فَالتَّقْدِيرُ: مَا كَانُوا يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ. وَضَلَالُهُ: عَدَمُ وُجُودِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَزْعُومِ لَهُ.

[سورة يونس (10) : آية 31]

وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَا صدق (مَا) نَفْسَ الِافْتِرَاءِ، أَيِ الِافْتِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. وَضَلَالُهُ: ظُهُورُ نَفْيه وَكذبه. [31] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 31] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ فِي أَفَانِينِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ تَوَحُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِدْلَالِ لِقَوْلِهِ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يُونُس: 30] لِأَنَّهَا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْوِلَايَةِ. فَاحْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَوَاهِبِ الرِّزْقِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ، وَبِمَوْهِبَةِ الْحَوَاسِّ، وَبِنِظَامِ التَّنَاسُلِ وَالتَّوَالُدِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ الْأَنْوَاعِ، وَبِتَدْبِيرِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَتَقْدِيرِ الْمُقَدَّرَاتِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ وَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا اللَّهُ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَنْسُبُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْمُخْتَصُّ بِهَا هُوَ مُسْتَحِقَّ الْوِلَايَةِ والإلهية. والاستفهام تقديري. وَجَاء الِاسْتِدْلَال بطرِيق الِاسْتِفْهَام وَالْجَوَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْحِوَارِ، فَيَكُونُ الدَّلِيلُ الْحَاصِلُ بِهِ أَوْقَعَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ طُرُقِ التَّعْلِيمِ مِمَّا يُرَادُ رُسُوخُهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ أَنْ يُؤْتَى بِهِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِأَحْوَالِ الرِّزْقِ لِيَكُونَ أَقْوَى حُضُورًا فِي الذِّهْنِ، فَالرِّزْقُ مِنَ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَالرِّزْقُ مِنَ الْأَرْضِ النَّبَاتُ كُلُّهُ مِنْ حَبٍّ وَثَمَرٍ وَكَلَأٍ. وَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنِ اسْتِفْهَامٍ إِلَى آخَرَ.

وَمَعْنَى: يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا، وَهُوَ مِلْكُ إِيجَادِ تَيْنِكَ الْحَاسَّتَيْنِ وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ وَتَذْكِيرٌ بِأَنْفَعِ صُنْعٍ وَأَدَقِّهِ. وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ حَوَاسِّ النَّاسِ. وَأَمَّا الْأَبْصارَ فَجِيءَ بِهِ جَمْعًا لِأَنَّهُ اسْمٌ، فَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي إِفَادَةِ الْعُمُومِ لِاحْتِمَالِ تَوَهُّمِ بَصَرٍ مَخْصُوصٍ فَكَانَ الْجَمْعُ أَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ وَأَنْفَى لِاحْتِمَالِ الْعَهْدِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: 36] لِأَنَّ الْمُرَادَ الْوَاحِدُ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاء: 36] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [46] . وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ: هُوَ تَوَلُّدُ أَطْفَالِ الْحَيَوَانِ مِنَ النُّطَفِ وَمِنَ الْبَيْضِ فَالنُّطْفَةُ أَوِ الْبَيْضَةُ تَكُونُ لَا حَيَاةَ فِيهَا ثُمَّ تَتَطَوَّرُ إِلَى الشَّكْلِ الْقَابِلِ لِلْحَيَاةِ ثُمَّ تَكُونُ فِيهَا الْحَيَاةُ. وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَيِّتِ لِلِابْتِدَاءِ. وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ إِخْرَاجُ النُّطْفَةِ وَالْبَيْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيَّ والْمَيِّتِ فِي الْمَرَّتَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَقَدْ نُظِّمَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ الصُّنْعِ الْعَجِيبِ بِأُسْلُوبِ الْأَحَاجِي وَالْأَلْغَازِ وَجُعِلَ بِمُحَسِّنِ التَّضَادِّ، كُلُّ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [27] . غَيْرَ أَنَّ مَا هُنَا لَيْسَ فِيهِ رَمْزٌ إِلَى شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهُوَ هُنَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ذَكَرَ مَا فِيهِ مَزِيدُ عِبْرَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ كَالْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: 21، 22] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَاء السبية الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِجَوَابِ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ تَسَبُّبَ قَوْلَهِمْ: اللَّهُ عَلَى السُّؤَالِ

الْمَأْمُورِ بِهِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَنزل فعل فَقُلْ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ تَقُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا [الْإِسْرَاء: 51، 52] . وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ نَظِيرُ تَنْزِيلِ الْأَمْرِ مِنَ الْقَوْلِ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ فِي جَزْمِ الْفِعْلِ الْمَقُولِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 31] وَقَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: 53] . التَّقْدِيرُ: إِنْ تَقُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ يُقِيمُوا وَإِنْ تَقُلْ لَهُمْ قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ وَعَادَةُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى حَذْفِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ. وَالرَّأْيَانِ مُتَقَارِبَانِ إِلَّا أَنَّ مَا سَلَكَهُ الْمُحَقِّقُونَ تَقْدِيرُ مَعْنًى وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمُ اعْتِبَارٌ لَا اسْتِعْمَالٌ، وَمَا سَلَكَهُ الْمُعْرِبُونَ تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ وَالْمُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ كَالْمَذْكُورِ. وَلَوْ لَمْ يُنَزَّلِ الْأَمْرُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَمَا جَاءَتِ الْفَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 84، 85] الْآيَاتِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، أَيْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَتَّقُونَ فَاءُ التَّفْرِيعِ، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْوَاحِدُ إِنْكَارُ عَدَمِ التَّقْوَى عَلَيْكُمْ. وَمَفْعُولُ تَتَّقُونَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ تَتَّقُونَهُ، أَيْ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّازِقَ وَالْخَالِقَ وَالْمُدَبِّرَ هُوَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَكَرَّرَ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَفِيهِ تَحَدٍّ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوِ اسْتَطَاعُوا لَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ صَحِيحًا، وَلَكِنَّ خَوْفَهُمْ عَارَ الْكَذِبِ صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ: فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ.

[سورة يونس (10) : آية 32]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 32] فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَتَّقُونَ [يُونُس 31] ، فَالْمُفَرَّعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِالْحُكْمِ الَّذِي سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ الرَّازِقَ، الْوَاهِبَ الْإِدْرَاكَ، الْخَالِقَ، الْمُدَبِّرَ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ قَدْ جَمَعَهَا. وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ مُعَلَّلٌ بِمَجْمُوعِهَا. وَاسْمُ الْجَلَالَةِ بَيَانٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ تَعْرِيضًا بِقُوَّةِ خَطَئِهِمْ وَضَلَالِهِمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ. ورَبُّكُمُ خَبَرٌ. الْحَقُّ صِفَةٌ لَهُ. وَتَقَدَّمَ الْوَصْفُ بِالْحَقِّ آنِفًا فِي الْآيَةِ مِثْلَ هَذِهِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ تَفْرِيعٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى الِاسْتِنْتَاجِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، فَهُوَ تَفْرِيعٌ على تَفْرِيع وتفريع بعد تَفْرِيع. وفَماذا مُرَكَّبٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَ (ذَا) الَّذِي هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ. وَهُوَ يَقَعُ بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ كَثِيرًا. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ مَزِيدٌ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَيُعَبَّرُ عَنْ زِيَادَتِهِ بِأَنَّهُ مُلْغًى تَجَنُّبًا مِنْ إِلْزَامِ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَزِيدًا كَمَا هُنَا. وَقَدْ يُفِيدُ مَعْنَى الْمَوْصُولِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَانْظُرْ مَا يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [50] . وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الضَّلالُ. وبَعْدَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى (غَيْرِ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُغَايِرَ يَحْصُلُ إِثْرَ مُغَايَرَةٍ وَعِنْدَ انْتِفَائِهِ. فَالْمَعْنَى: مَا الَّذِي يَكُونُ إِثْرَ انْتِفَاءِ الْحَقِّ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِي الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ تَعَيَّنَ أَنَّهُ إِنْكَارٌ وَإِبْطَالٌ فَلِذَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الضَّلالُ. فَالْمَعْنَى لَا يَكُونُ إِثْرَ انْتِفَاءِ الْحَقِّ

[سورة يونس (10) : آية 33]

إِلَّا الضَّلَالُ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ تَعَيَّنَ أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْإِلَهِيَّةُ بَاطِلٌ. وَعَبَّرَ عَنِ الْبَاطِلِ بِالضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ أَشْنَعُ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ. وَالْفَاءُ فِي فَأَنَّى تُصْرَفُونَ لِلتَّفْرِيعِ أَيْضًا، أَيْ لِتَفْرِيعِ التَّصْرِيحِ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى الْإِنْكَار والإبطال. وفَأَنَّى اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ، أَيْ إِلَى مَكَانٍ تَصْرِفُكُمْ عُقُولُكُمْ. وَهُوَ مَكَانٌ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ أَنَّكُمْ فِي ضَلَالٍ وَعَمَايَةٍ كَمَنْ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ وَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يَنْعَتُ لَهُ طَرِيقا غير مَوْصُولَة فَهُوَ يُصْرَفُ مِنْ ضَلَالٍ إِلَى ضَلَالٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ فِي سَوْقِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَفُوقُ كُلَّ تَفْسِيرٍ بَرَاعَةً وَإِيجَازًا وَوُضُوحًا. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى تِسْعِ فَاءَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ: الْأُولَى جَوَابِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ فَصِيحَةٌ، والبواقي تفريعية. [33] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 33] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) تَذْيِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ، وَتَأْيِيسٌ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِإِفَادَةِ أَنَّ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَقَدْ ظَهَرَ وُقُوعُ مَا قَدَّرَهُ مِنْ كَلِمَتِهِ فِي الْأَزَلِ. وَالْكَافُ الدَّاخِلَةُ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَافُ التَّشْبِيهِ. وَالْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَهُوَ حَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ، أَيْ كَمَا شَاهَدْتَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، يَعْنِي أَنَّ فِيمَا شَاهَدْتَ مَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ قَدْ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَدَلٌ مِنْ (كَلِمَةُ) أَوْ مِنْ كَلِمَاتُ. وَالْمُرَادُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ كَلِمَاتُ رَبِّكَ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، وَلِأَنَّ

[سورة يونس (10) : آية 34]

الْجَمْعَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْكَلِمَاتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ بِالنِّسْبَةِ لِأُنَاسٍ كَثِيرِينَ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْلَكِ الَّذِي شَأْنُ الشَّيْءِ سُلُوكُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِسْقٌ عَنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ فَسَقُوا كُلَّ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى فِسْقِهِ فَلَا يُؤْمِنُ، فَتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ [الرَّعْد: 17] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ فَسَقُوا الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ خَاصَّةً فَيَكُونَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مَعَ صِفَاتِهِمُ السَّابِقَةِ قَدِ اتَّصَفُوا بِالْفِسْقِ، وَلِإِفَادَةِ كَوْنِ فِسْقِهِمْ عِلَّةً فِي أَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَيَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ الْمَأْخُوذُ مِنْ حَقَّتْ أَيْ كَذَلِكَ الْحَقُّ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِهِ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ وَتَقْرِيبُهُ لَمْ يُشَبَّهْ إِلَّا بِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْيِيلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الفذلكة والتعجيب. [34] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 34] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) اسْتِئْنَافٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يُونُس: 31] . وَهَذَا مَقَامُ تَقْرِيرِ وَتَعْدِيدِ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي التَّكْرِيرِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ حَالَ آلِهَتِهِمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَعْدَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الدَّلِيلَ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرِّزْقِ وَخَلْقِ الْحَوَاسِّ وَخَلْقِ الْأَجْنَاسِ وَتَدْبِيرِ جَمِيعِ الْأُمُورِ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِلَهِيَّةِ بِسَبَبِ

[سورة يونس (10) : آية 35]

ذَلِكَ الِانْفِرَادِ بَيَّنَ هُنَا أَنَّ آلِهَتَهُمْ مَسْلُوبَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهَا. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ غَرَضٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ، وَمَوْقِعُ التَّكْرِيرِ يَزِيدُهُ اسْتِقْلَالًا. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَقْرِيرٌ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ بِطَالِبٍ لِلْجَوَابِ وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِذَلِكَ فَهُوَ فِي مَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آلِهَتِهِمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَرْتَقِيَ مَعَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بقوله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَصَارَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرًا لِصِفَةِ بَدْءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ إِفْرَادٍ، أَيْ دُونَ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ فَالْأَصْنَامُ لَا تَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ وَاللَّهُ مُنْفَرِدٌ بِهَا. وَذِكْرُ إِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِدْمَاجِ فِي الْحِجَاجِ وَهُوَ فَنٌّ بَدِيعٌ. وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يُونُس: 28] . وَقَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَقَوْلِهِ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يُونُس: 32] . وَأَفَكَهُ: قَلَبَهُ. وَالْمَعْنَى: فَإِلَى أَيِّ مَكَانٍ تُقْلَبُونَ. وَالْقَلْبُ مَجَازِيٌّ وَهُوَ إِفْسَادُ الرَّأْيِ. وَ (أَنَّى) هُنَا اسْتِفْهَامٌ عَنْ مَكَانٍ مَجَازِيٍّ شُبِّهَتْ بِهِ الْحَقَائِقُ الَّتِي يُحَوَّلُ فِيهَا التَّفْكِيرُ. وَاسْتِعَارَةُ الْمَكَانِ إِلَيْهَا مِثْلُ إِطْلَاقِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا والمجال أَيْضا. [35] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 35] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) هَذَا تَكْرِيرٌ آخَرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: 34] . وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنُقْصَانِ آلِهَتِهِمْ عَنِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ بِنَشْرِ الْحَقِّ، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى

هُوَ الْهَادِي إِلَى الْكَمَالِ وَالْحَقِّ، وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ مُفِيدٌ قَصْرَ صِفَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ آلِهَتِهِمْ قَصْرَ إِفْرَادٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَّةَ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ أَعْظَمُ الْمِنَنِ لِأَنَّ بِهَا صَلَاحَ الْمُجْتَمِعِ وَسَلَامَةَ أَفْرَادِهِ مِنِ اعْتِدَاءِ قَوِيِّهِمْ عَلَى ضَعِيفِهِمْ، وَلَوْلَا الْهِدَايَةُ لَكَانَتْ نِعْمَةُ الإيجاد مختلة فِي مُضْمَحِلَّةً. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الدِّينُ، وَهُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَأُصُولُهُ وَهِيَ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ. وَقَدْ أَتْبَعَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى كَمَالِ الْخَالِقِ بِبَدْءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَمَالِهِ بِالْهِدَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: 78] وَقَوْلِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: 1- 3] . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَكَمَالِهِ بِإِيجَادِ الْأَجْسَادِ وَمَا فِيهَا هُوَ الْخَلْقُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِنِظَامِ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ وَصَلَاحِهَا هُوَ الْهِدَايَةُ. وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ إِلَى آخِرِهِ تَفْرِيعُ اسْتِفْهَامٍ تَقْرِيرِيٍّ عَلَى مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَتَانِ السَّابِقَتَانِ مِنْ قَصْرِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ آلِهَتِهِمْ. وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ أَهْلُ الْعُقُولِ بِأَنَّ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يُوصِلُ إِلَى الْكَمَالِ الرُّوحَانِيِّ وَهُوَ الْكَمَالُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبَدِ وَهُوَ الْكَوْنُ الْمَصُونُ عَنِ الْفَسَادِ فَإِنَّ خَلْقَ الْأَجْسَادِ مَقْصُودٌ لِأَجْلِ الْأَرْوَاحِ، وَالْأَرْوَاحُ مُرَادٌ مِنْهَا الِاهْتِدَاءُ، فَالْمَقْصُودُ الْأَعْلَى هُوَ الْهِدَايَةُ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْعُقُولُ عُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ احْتَاجَتِ النُّفُوسُ إِلَى هَدْيٍ يُتَلَقَّى مِنَ الْجَانِبِ الْمَعْصُومِ عَنِ الْخَطَأِ وَهُوَ جَانِبُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ كَانَ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ لِأَنَّهُ مُصْلِحُ النُّفُوسِ وَمُصْلِحُ نِظَامِ الْعَالَمِ الْبِشْرِيِّ، فَاتِّبَاعُهُ وَاجِبٌ عَقْلًا وَاتِّبَاعُ غَيْرِهِ لَا مُصَحِّحَ لَهُ، إِذْ لَا غَايَةَ تُرْجَى مِنِ اتِّبَاعِهِ. وَأَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ. وَقَوْلُهُ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أَيِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فَضْلًا عَنْ أَنْ يَهْدِيَ غَيْرَهُ، أَيْ لَا يَقْبَلُ الْهِدَايَةَ فَكَيْفَ يَهْدِي غَيْرَهُ فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُتَّبَعَ.

وَالْمُرَادُ بِـ (مَنْ لَا يَهِدِّي) الْأَصْنَامُ فَإِنَّهَا لَا تَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَم: 42] . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ يَهْتَدِي، أُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ وَنُقِلَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ إِلَى الْهَاءِ السَّاكِنَةِ (وَلَا أَهَمِّيَّةَ إِلَى قِرَاءَةِ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ إِلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو بِجَعْلِ فَتْحِ الْهَاءِ مُخْتَلَسًا بَيْنَ الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْأَدَاءِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا فِي الْقِرَاءَةِ) . وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ- عَلَى اعْتِبَارِ طَرْحِ حَرَكَةِ التَّاءِ الْمُدْغَمَةِ وَاخْتِلَافِ كَسْرَةٍ عَلَى الْهَاءِ عَلَى أَصْلِ التَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِم- بِكَسْر الْبَاء وَكَسْرِ الْهَاءِ- بِإِتْبَاعِ كَسْرَةِ الْيَاءِ لِكَسْرَةِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ هَدَى الْقَاصِرِ بِمَعْنَى اهْتَدَى، كَمَا يُقَالُ: شَرَى بِمَعْنَى اشْتَرَى. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُهْدى تَهَكُّمٌ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَأُرِيدَ بِالْهَدْيِ النَّقْلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ أَيْ لَا تَهْتَدِي إِلَى مَكَانٍ إِلَّا إِذَا نَقَلَهَا النَّاسُ وَوَضَعُوهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ لَهَا، فَيَكُونُ النَّقْلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ شُبِّهَ بِالسَّيْرِ فَشُبِّهَ الْمَنْقُولُ بِالسَّائِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَرَمَزَ إِلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ السَّيْرِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ فِي لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ إِلَّا أَنْ يُهْدى بِمَعْنَى إِهْدَاءِ الْعَرُوسِ، أَيْ نَقْلِهَا مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا، فَيُقَالُ: هُدِيَتْ إِلَى زَوْجِهَا. وَجُمْلَةُ: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تَفْرِيعُ اسْتِفْهَامٍ تَعْجِيبِيٍّ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي بِحَالٍ. وَاتِّبَاعُهُمْ هُوَ عِبَادَتهم إيَّاهُم. فَما اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ، ولَكُمْ خَبَرٌ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكُمْ فَاتَّبَعْتُمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ نَقْلًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.

[سورة يونس (10) : آية 36]

وَقَوْلُ الْعَرَبِ: مَا لَكَ؟ وَنَحْوَهُ اسْتِفْهَامٌ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ النَّاسُ: «مَا لَهُ! مَا لَهُ!» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَبٌ مَا لَهُ» . فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ حَالًا ظَاهِرَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ بَعْدَ (مَا لَهُ) كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ. وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهُ فَقَالَ: فَما لَكُمْ: كَلَامٌ تَامٌّ، أَيْ شَيْءٍ لَكُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ فَما لَكُمْ ثُمَّ يَبْدَأُ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَإِذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَتْبَعُوا الِاسْتِفْهَامَ بِحَالٍ وَهُوَ الْغَالِبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ [الصافات: 25] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَتِمُّ بِدُونِ ذِكْرِ حَالٍ بَعْدَهُ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ الزَّجَّاجِ لَفْظِيٌّ. وَجُمْلَةُ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَا فِي جملَة: فَما لَكُمْ مِنَ الْإِجْمَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا فَهُوَ مِثْلُهُ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ حُكْمِهِمُ الضَّالِّ إِذْ حَكَمُوا بِإِلَهِيَّةِ مَنْ لَا يَهْتَدِي فَهُوَ تَعْجِيبٌ عَلَى تَعْجِيبٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ دَلِيلًا عَلَى حَال محذوفة. [36] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 36] وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [يُونُس: 35] بِاعْتِبَارِ عَطْفِ تِلْكَ عَلَى نَظِيرَتَيْهَا الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا، فَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُحِجَّهُمْ فِيمَا جَعَلُوهُمْ آلِهَةً وَهِيَ لَا تَصَرُّفَ وَلَا تَدْبِيرَ وَلَا هِدَايَةَ لَهَا، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهَا اتِّبَاعٌ لِظَنٍّ بَاطِل، أَي لوهم لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حَقٍّ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ ضمير شُرَكائِكُمْ [يُونُس: 35] وَضمير فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يُونُس: 35] . وَإِنَّمَا عَمَّهُمْ فِي ضمائر شُرَكائِكُمْ وفَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وَخَصَّ بِالْحُكْمِ فِي اتِّبَاعِهِمُ الظَّنَّ أَكْثَرَهُمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ اتَّفَقُوا فِي اتِّبَاعِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا سَوَاءً فِي الِاعْتِقَادِ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مِنْ بَيْنِهِمْ عُقَلَاءَ قَلِيلِينَ ارْتَقَتْ مَدَارِكُ أَفْهَامِهِمْ فَوْقَ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ لِلْأَصْنَامِ تَصَرُّفًا وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا عِبَادَتَهَا تَبَعًا لِلْهَوَى وَحِفْظًا لِلسِّيَادَةِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا لَيْسَ هُوَ تَبْرِئَةً لِلَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ عَنْ غَيْرِ ظَنٍّ بِإِلَهِيَّتِهَا فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنَ الَّذِينَ عَبَدُوهَا عَنْ تَخَيُّلٍ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ زِيَادَةُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِهَا حَتَّى إِنَّ مِنْ عُبَّادِهَا فَرِيقًا لَيْسُوا مُطْمَئِنِّينَ لِتَحَقُّقِ إِلَهِيَّتِهَا. وَبِالتَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ خَاصَّةُ الْقَوْمِ وَأَهْلُ الْأَحْلَامِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَخْطِئَةِ ذَلِكَ الظَّنِّ. فَفِيهِ إِيقَاظٌ لِجُمْهُورِهِمْ، وَفِيهِ زِيَادَةُ مَوْعِظَةٍ لِخَاصَّتِهِمْ لِيُقْلِعُوا عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِي عِبَادَةِ مَا لَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ الْآتِي: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ [يُونُس: 40] . وَالظَّنُّ: يُطْلَقُ عَلَى مَرَاتِبِ الْإِدْرَاكِ، فَيُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 45، 46] وَيُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْمَشُوبِ بِشَكٍّ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الثَّانِي وَأَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ شَائِعٌ فَصَارَ كَالْمُشْتَرِكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [66] ، وَقَوْلُهُ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [118] . وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] وَقَوْلِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ .

وَالظَّنُّ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ، قَالَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الْحُصَيْبِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النُّور: 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. وَهُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَنِدُ إِلَى دَلِيل رَاجع مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ احْتِمَالًا ضَعِيفًا. وَهَذَا الظَّنُّ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. فَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْمُتَعَارِضَاتِ إِعْمَالُ كُلٍّ فِي مَوْرِدِهِ اللَّائِقِ بِهِ بِحَسَبِ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ، فَمَحْمَلُ قَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أَنَّ الْعِلْمَ الْمَشُوبَ بِشَكٍّ لَا يُغْنِي شَيْئًا فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ مَا يُطْلَبُ فِيهِ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ مِنَ الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْجَزْمَ فِيهَا مُمْكِنٌ لِمَنْ أَعْمَلَ رَأْيَهُ إِعْمَالًا صَائِبًا إِذِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْيَقِينُ، فَأَمَّا مَا طَرِيقُ تَحْصِيلِهِ الْأَدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الْيَقِينُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَذَلِكَ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ بَعْدَ إِعْمَالِ النَّظَرِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالِاجْتِهَادِ. وظَنًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ لِ يَتَّبِعُ. وَلَمَّا كَانَ الظَّنُّ يَقْتَضِي مَظْنُونًا كَانَ اتِّبَاعُ الظَّنِّ اتِّبَاعًا لِلْمَظْنُونِ أَيْ يَتَّبِعُونَ شَيْئًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا الظَّنُّ، أَيِ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ. وَتَنْكِيرُ ظَنًّا لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ ظَنًّا وَاهِيًا. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي عَقَائِدِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِلتَّوْحِيدِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقَصْرُ مِنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَالْحَقُّ: هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ مِثْلُ وُجُودِهِ وَحَيَاتِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُ اللَّهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ. وشَيْئاً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ، أَيْ لَا يُغْنِي شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ. ومِنَ لِلْبَدَلِيَّةِ، أَيْ عِوَضًا عَنِ الْحَقِّ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ اسْتِئْنَافٌ للتهديد بالوعيد.

[سورة يونس (10) : آية 37]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 37] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِبْطَالَ تَعَجُّبِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيحَاءِ بِالْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْيِينَ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَيْفَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَحْوَالِ الرَّسُولِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَيْفَ سَأَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ أَوْ يُبَدِّلَ آيَاتِهِ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُؤَالِهِمْ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ غَيْرُ الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَصْفُ افْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَإِقَامَةُ الْأَدِلَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا نَالَ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَبَيَانُ خَطَئِهِمْ فِي اعْتِقَادِ الشِّرْكِ اعْتِقَادًا مَبْنِيًّا عَلَى سُوءِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، لَا جَرَمَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِإِبْطَالِ رَأْيِهِمُ الَّذِي هُوَ مِنَ الظَّنِّ الْبَاطِلِ أَيْضًا بِقِيَاسِهِمْ أَحْوَالَ النُّبُوءَةِ وَالْوَحْيِ بِمِقْيَاسِ عَادَاتِهِمْ كَمَا قَاسُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَارَعَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ بِذِكْرِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ وَتَحَدَّتْهُمْ بِالْإِعْجَازِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. فَجُمْلَةُ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا [يُونُس: 36] بِمُنَاسَبَةِ اتِّبَاعِهِمُ الظَّنَّ فِي الْأَمريْنِ: شؤون الإلهية وَفِي شؤون النُّبُوءَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلَهُ ذِكْرُ

الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي [يُونُس: 15] تَكْمِلَةً لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمِ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] وَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِلتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَهِي مفيدة للْمُبَالَغَة فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، أَيْ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ كَذِبًا وَهُوَ آتٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَا كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: مَا هُوَ بِمُفْتَرًى، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنَ الْوُجُودِ، أَيْ مَا وُجِدَ أَنْ يُفْتَرَى، أَيْ وُجُودُهُ مُنَافٍ لِافْتِرَائِهِ، فَدَلَالَةُ ذَاتِهِ كَافِيَةٌ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرًى، أَيْ لَوْ تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْفَطِنُ تَأَمُّلًا صَادِقًا فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ لَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، فَتَرْكِيبُ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ لِيُفْتَرَى، بِلَامِ الْجُحُودِ، فَحَذَفَ لَامَ الْجُحُودِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْجَارِّ اطِّرَادًا مَعَ (أَنْ) ، وَلَمَّا ظَهَرَتْ (أَنْ) هُنَا حُذِفَ لَامُ الْجُحُودِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ أَنْ يُذْكَرَ لَامُ الْجُحُودِ وَتُقَدَّرَ (أَنْ) وَلَا تُذْكَرَ، فَلَمَّا ذُكِرَ فِعْلُ (كَانَ) الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ لَامِ الْجُحُودِ قَصْدًا لِلْإِيجَازِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجُحُودِ بِأَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ لَامَ الْجُحُودِ تَقَعُ فِي نَفْيِ كَوْنٍ عَنْ فَاعِلٍ لَا عَنْ مَفْعُولٍ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْمِلْكِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِ أَنْ وَالْفِعْلِ يُسَاوِي الْإِخْبَارَ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّ صِلَةَ أَنْ هُنَا فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ. وَالتَّقْدِيرُ مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ افْتِرَاءَ مُفْتَرٍ، فَآلَ إِلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ (أَنْ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ أَيْضًا أَقْوَى مُبَالَغَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ مُفْتَرًى، فَحَصَلَتِ الْمُبَالغَة فِي جِهَتَيْنِ: جِهَةِ فِعْلِ (كَانَ) وَجِهَةِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُفْتَرى أَيْ أَنْ يَفْتَرِيَهُ عَلَى اللَّهِ مُفْتَرٍ. فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُفْتَرى وَهِيَ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ الْكَاشِفِ.

وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَلَمَّا نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ الِافْتِرَاءُ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ، فَجَرَتْ أَخْبَارُهُ كُلُّهَا بِالْمَصْدَرِ تَنْوِيهًا بِبُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى اتَّحَدَ بِأَجْنَاسِهَا. وتَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ، أَيْ مُبَيِّنًا للصادق مِنْهَا ومييزا لَهُ عَمَّا زِيدَ فِيهَا وَأُسِيءَ مِنْ تَأْوِيلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [48] . وَأَيْضًا هُوَ مُصَدَّقٌ (بِفَتْحِ الدَّالِ) بِشَهَادَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِيمَا أَخَذَتْ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى أَصْحَابِهَا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا وَخَاتَمًا. فَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقْتَضِي فَاعِلًا وَمَفْعُولًا. وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ بِأَنْوَاعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ الْكُتُبَ كُلَّهَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا لَهَا أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِمَا جَاءَ مُجْمَلًا فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَنَاسِخٌ لِمَا لَا مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ فِي دَوَامِ حُكْمِهِ، وَدَافِعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي ضَلَّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [48] . وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يُوسُف: 111] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَجُمْلَةُ: لَا رَيْبَ فِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ رَدَّتْ مَزَاعِمَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ مُفْتَرًى بِاقْتِلَاعِ دَعْوَى افْتِرَائِهِ، وَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الْفِطَنِ وَالْعُقُولِ الْعَادِلَةِ، فَالرَّيْبُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْوَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَمُقَارَنَاتِهِ مَا يُثِيرُ الرَّيْبَ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَيْبُ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ رَيْبًا مزعوما مدعى وَهُوَ لَوْ رَاجَعُوا أَنْفُسَهُمْ لَوَجَدُوهَا غَيْرَ مُرْتَابَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] . وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مُحْتَمِلٌ وُجُوهًا أَظْهَرُهَا أَنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةُ تُؤْذِنُ بِالْمَجِيءِ، أَيْ هُوَ وَارِدٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَيْ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ.

[سورة يونس (10) : آية 38]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 38] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ النَّفْيِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ، وَهُوَ ارْتِقَاءٌ بِإِبْطَالِ دَعْوَاهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلَمَّا اخْتَصَّتْ أَمْ بِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرًا مَعَهَا حَيْثُمَا وَقَعَتْ، فَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تُشْعِرُ بِهِ (أَمْ) اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أيقولون افتراه بعد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الِافْتِرَاءِ. وَمِنْ بَدِيعِ الْأُسْلُوبِ وَبَلِيغِ الْكَلَامِ أَنْ قُدِّمَ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِمَا يَقْتَضِي بُعْدَهُ عَنِ الِافْتِرَاءِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَجَلِّ صِفَاتِ الْكتب، وبتشريف نِسْبَة إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ افْتِرَاءً لِيَتَلَقَّى السَّامِعُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمَزِيدِ الِاشْمِئْزَازِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ حَمَاقَةِ أَصْحَابِهَا فَلِذَلِكَ جَعَلَتْ دَعْوَاهُمُ افْتِرَاءَهُ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ دَعْوَى الِافْتِرَاءِ بِتَعْجِيزِهِمْ، وَأَنْ يَقْطَعَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَالْأَمْرُ أَمْرُ تَعْجِيزٍ، وَقَدْ وَقَعَ التَّحَدِّي بِإِتْيَانِهِمْ بِسُورَة تماثل سُورَة الْقُرْآنِ، أَيْ تُشَابِهُهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [23] . وَقَوْلُهُ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [23] : وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وَمَعْنَى صادِقِينَ هُنَا، أَيْ قَوْلُكُمْ أَنَّهُ افْتَرَى، لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْتَرِيَهُ أَمْكَنَكُمْ أَنْتُمْ مُعَارَضَتَهُ فَإِنَّكُمْ سَوَاءٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ اسْتَطَعْتُمْ لِظُهُورِهِ مِنْ فِعْلِ (ادْعُوا) ، أَيْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دَعْوَتَهُ لِنُصْرَتِكُمْ وَإِعَانَتِكُمْ عَلَى تَأْلِيفِ سُورَةٍ مِثْلِ سور الْقُرْآن.

[سورة يونس (10) : آية 39]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 39] بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ لِبَيَانِ كُنْهِ تَكْذِيبِهِمْ، وَأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْمُبَادَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ أَعْجَبُ مِنْ أَصْلِ التَّكْذِيبِ إِذْ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ دُونَ نَظَرٍ فِي أَدِلَّةِ صِحَّتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ [يُونُس: 37] . وَالتَّكْذِيبُ: النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ، أَوِ الْوَصْفُ بِالْكَذِبِ سَوَاء كَانَ من اعْتِقَادٍ أَمْ لَمْ يَكُنْهُ. وَاخْتِيَارُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ عَجِيبِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُنَافِيَةِ لِتَسْلِيطِ التَّكْذِيبِ، فَهُمْ قَدْ كَذَّبُوا قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرُوا، وَهَذَا مِنْ شَأْنِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهَالَةِ. وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ: الْكَوْنُ حَوْلَهُ كَالْحَائِطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُس: 22] . وَيُكَنَّى بِهَا عَنِ التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] وَقَوْلُهُ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الْجِنّ: 28] أَيْ عَلِمَهُ، فَمَضَى بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بِمَا لَمْ يُتْقِنُوا عِلْمَهُ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَشَأْنُهَا مَعَ فِعْلِ الْإِحَاطَةِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمُحَاطِ بِهِ وَهُوَ الْمَعْلُومُ، وَهُوَ هُنَا الْقُرْآنُ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا أَوْ بِمَا لَمْ يُحِطْ عِلْمُهُمْ بِهِ إِلَى بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ جُعِلَ الْعِلْمُ مَعْلُومًا. فَأَصْلُ الْعِبَارَةِ قَبْلَ النَّفْيِ أَحَاطُوا بِعِلْمِهِ أَيْ أَتْقَنُوا عِلْمَهُ أَشَدَّ إِتْقَانٍ فَلَمَّا نُفِيَ صَارَ لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، أَيْ وَكَانَ الْحَقُّ أَنْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ أَدِلَّةِ صِدْقِهِ يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ وَتَدْقِيقِ نَظَرٍ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِ عِلْمُ أَدِلَّتِهِ ثُمَّ إِعَادَةُ التَّأَمُّلِ فِيهَا وَتَسْلِيطُ عِلْمٍ عَلَى عِلْمٍ وَنَظَرٍ عَلَى نَظَرٍ بِحَيْثُ تَحْصُلُ الْإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ. وَفِي هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي فَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَى صِدْقِ التَّأَمُّلِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي تَجْهِيلِ الَّذِينَ بَادَرُوا إِلَى التَّكْذِيبِ مِنْ دُونِ تَأَمُّلٍ فِي شَيْءٍ حَقِيقٍ بِالتَّأَمُّلِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ فِي بَدِيهَةِ السَّمَاعِ قَبْلَ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَيَعْلَمُوا كُنْهَ أَمْرِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا التَّكْذِيبِ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَعَدَاوَةٍ لَا عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مَكْذُوبًا. ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ مُتَفَاوِتٌ: فَمِنْهُ عَدَمٌ بَحْتٌ وَهُوَ حَالُ الدَّهْمَاءِ، وَمِنْهُ عَدَمٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِضَرْبٍ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالتَّرَدُّدِ أَوْ يَكُونُ مَعَ رُجْحَانِ صِدْقِهِ وَلَكِنْ لَا يُحِيطُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ التَّكْذِيبُ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [84] قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَجُمْلَةُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ كَذَّبُوا بِمَا لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِهِمْ بِقِلَّةِ الْأَنَاةِ وَالتَّثَبُّتِ، أَيْ لَوِ انْتَظَرُوا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ، أَيْ مَا يَحْتَاجُ مِنْهُ إِلَى التَّأْوِيلِ بَلْ هُمْ صَمَّمُوا عَلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْوِيلِ. وَالتَّأْوِيلُ: مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ إِذَا رَجَعَ إِلَى الشَّيْءِ. وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى تَفْسِيرِ اللَّفْظِ الَّذِي خَفِيَ مَعْنَاهُ تَفْسِيرًا يظْهر الْمَعْنى، فيؤول وَاضِحًا بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمرَان: 7] الْآيَةَ. وَهُوَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى التَّفْسِيرِ. وَقَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَيُطْلَقُ التَّأْوِيلُ عَلَى اتِّضَاحِ مَا خَفِيَ مِنْ مَعْنَى لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [يُوسُف: 100] وَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: 53] أَيْ ظُهُورَ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَعَلَّ كِلَيْهِمَا مُرَادٌ، أَيْ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُ مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوهُ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِعَدَمِ اعْتِيَادِهِمْ بِمَعْرِفَةِ أَمْثَالِهَا، مِثْلَ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَوُقُوعِ الْبَعْثِ، وَتَفْضِيلِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صَنَادِيدِ الْكَافِرِينَ، وَتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُمْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ الْأُمُورَ بِمَا أَلِفُوهُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَكَانُوا يَقِيسُونَ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ فَكَذَّبُوا بِذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُهُ. وَلَوْ آمَنُوا وَلَازَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِمُوهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ. وَأَيْضًا لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُ مَا حَسِبُوا عَدَمَ التَّعْجِيلِ بِهِ دَلِيلًا عَلَى الْكَذِبِ كَمَا قَالُوا: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] ظَنًّا أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغْضَبُوا اللَّهَ عَجَّلَ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فَظَنُّوا تَأَخُّرَ حُصُولِ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِنْ عِنْدِهِ. وَكَذَلِكَ كَانُوا يَسْأَلُونَ آيَاتٍ مِنَ

الْخَوَارِقِ، كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] الْآيَةَ. وَلَوْ أَسْلَمُوا وَلَازَمُوا النَّبِيءَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِاقْتِرَاحِ الضَّلَالِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَحَرْفُ لَمَّا مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي وَالدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ إِلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُتَوَقَّعُ الْوُقُوعِ، فَفِي النَّفْيِ بِهَا هُنَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ بَيَانُ مَا أَجْمَلَ مِنَ الْمَعَانِي فِيمَا بَعْدُ، فَهِيَ بِذَلِكَ وَعْدٌ، وَأَنَّهُ سَيَحُلُّ بِهِمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا [الْأَعْرَاف: 53] الْآيَةَ. فَهِيَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَعِيدٌ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اسْتِئْنَافٌ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِمَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ السماع. وَالْإِشَارَة ب كَذلِكَ إِلَى تَكْذِيبِهِمُ الْمَذْكُورِ، أَيْ كَانَ تَكْذِيبُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَتَكْذِيبِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبُونَ رُسُلَهُمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ. وَمِمَّا يُقْصَدُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ الْمُعَانِدِينَ الْكَافِرِينَ لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ مُمَاثِلُونَ لِلْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ فَيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ. الثَّانِي: التَّعْرِيضُ بِالنِّذَارَةِ لَهُمْ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ الَّتِي عَرَفَ السَّامِعُونَ مَصِيرَهَا وَشَاهَدُوا دِيَارَهَا. الثَّالِثُ: تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا مِثْلَ مَا لَقِيَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ. وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَى جُمْلَةِ التَّشْبِيهِ خِطَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أَيْ عَاقِبَةُ الْأُمَمِ الَّتِي ظَلَمَتْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ.

[سورة يونس (10) : آية 40]

وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الظَّالِمِينَ مَقْصُودٌ مِنْهُ قِيَاسُ أَمْثَالِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ عَلَيْهِمْ فِي تَرَقُّبِ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ لِتَعْلَمَ عَظَمَةَ مَا يُلَاقُونَكَ بِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّهُمْ مُفْلِتُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَالنَّظَرُ هُنَا بَصَرِيٌّ. وكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، فَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِلْحَالَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، كَقَوْلِهِمْ: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [6] . ف كَيْفَ مَفْعُولٌ بِهِ لفعل فَانْظُرْ، وَجُمْلَةُ: كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ صِفَةُ كَيْفَ. وَالْمَعْنَى انْظُرْ بِعَيْنِكَ حَالَةً صِفَتُهَا كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَهِيَ حَالَةُ خَرَابِ مَنَازِلِهِمْ خَرَابًا نَشَأَ مِنِ اضْمِحْلَالِ أَهْلِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَيْفَ اسْمَ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى فَانْظُرْ هَذَا السُّؤَالَ، أَيْ جَوَابَ السُّؤَالِ، أَيْ تَدَبَّرْهُ وَتَفَكَّرْ فِيهِ. وكَيْفَ خَبَرُ كانَ. وَفِعْلُ النَّظَرِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ بِمَا فِي كَيْفَ مِنْ معنى الِاسْتِفْهَام. [40] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 40] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يُونُس: 39] لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَنَّهُ دُونَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِ مَا كَذَّبُوا بِهِ يَقْتَضِي أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِهِ لَيْسَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَأَمُّلٍ. وَمَا كَانَ بِهَاتِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ حَالُ الْمُكَذِّبِينَ فِيهِ مُتَفَاوِتًا حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبًا مَعَ اعْتِقَادِ نَفْيِ الْكَذِبِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْأُخْرَى مَوْقِعَ التَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ فِي الظَّاهِرِ أَوِ الْبَيَانِ لِلْمُجْمَلِ مِنْ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يُونُس: 39] . فَكَانَ حَالُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ كَحَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِ الْأَصْنَامِ إِذْ قَالَ فِيهِمْ: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا [يُونُس: 36] ،

[سورة يونس (10) : آية 41]

فَأَشْعَرَ لَفْظُ أَكْثَرُهُمْ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهَا مُشَايَعَةً لِقَوْمِهِمْ وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَكَذَلِكَ حَالُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِنِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَكْتُمُ إِيمَانَهُ مُكَابَرَةً وَعَدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَ عَنْ تَقْلِيدٍ لِكُبَرَائِهِمْ. وَالْفَرِيقَانِ مُشْتَرِكَانِ فِي التَّكْذِيبِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا أَنْبَأَتْ عَنْهُ (مِنِ) التَّبْعِيضِيَّةُ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [يُونُس: 38] فَمَعْنَى يُؤْمِنُ بِهِ يصدق بحقيقته فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَظْهَرُ تَكْذِيبُهُ جَمْعًا بَيْنَ إِسْنَادِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ جَعْلِهِمْ بَعْضًا مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ افْتَراهُ. وَاخْتِيَارُ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ مَعَ الْمُعَانَدَةِ، وَاسْتِمْرَارِ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا. وَجُمْلَةُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ، وَبِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا ذكر بِالْمُفْسِدِينَ هُنَا إِلَّا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لذكر بِالْمُفْسِدِينَ مُنَاسَبَةٌ، فَالْمَعْنَى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِهِمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ هُمْ من زمرتهم. [41] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 41] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِتَكْذِيبِهِمْ حَاصِلًا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ تَعَيَّنَ أَنَّ التَّكْذِيبَ الْمَفْرُوضَ هُنَا بِوَاسِطَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ هُوَ التَّكْذِيبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى التَّكْذِيبِ. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا تَبَيَّنَ بِهِ صِدْقُ الْقُرْآنِ هُوَ مُثْبِتٌ لِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَتَى بِهِ، أَيْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ مَا قَارَعْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا تَنْجَعُ فِيهِمُ الْحُجَجُ وَأَعْلِنْ لَهُمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُم كَمَا تبرؤوا مِنْكَ.

وَمَعْنَى: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الْمُتَارَكَةُ. وَهُوَ مِمَّا أُجْرِي مُجْرَى الْمَثَلِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ عَلَى الِاخْتِصَارِ وَوَفْرَةِ الْمَعْنَى، فَأُفِيدَ فِيهِ مَعْنَى الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ وَبِالتَّعْبِيرِ بِالْإِضَافَةِ بِ عَمَلِي وعَمَلُكُمْ، وَلَمْ يُعَبَّرْ بِنَحْوِ لِي مَا أَعْمَلُ وَلَكُمْ مَا تَعْمَلُونَ، كَمَا عُبِّرَ بِهِ بَعْدُ. وَالْبَرِيءُ: الْخَلِيُّ عَنِ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِ. وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ بَرَّأَ الْمُضَاعَفِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَفِعْلُ بَرَّأَ مُشْتَقّ من برىء- بِكَسْرِ الرَّاءِ- مِنْ كَذَا، إِذَا خَلَتْ عَنْهُ تَبِعَتُهُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يُرَادُ بِهِ صَرِيحُهُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُبَاعَدَةِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمُكَنَّى بِهِ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: 216] ، وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْعَمَلِ مَصْدَرًا كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فعلا صلَة لما الْمَوْصُولَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ يَحْدُثُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمَاضِي فَلِكَوْنِهِ قَدِ انْقَضَى لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِذِكْرِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ. وَلَوْ عُبِّرَ بِالْعَمَلِ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَمَلٌ خَاصٌّ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ لَا يَعُمُّ، وَلِتَجَنُّبِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْبَيَانِ مِنْ تَمَامِ الْمُبَيَّنِ، وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَنْسَبُ بِسَلَاسَةِ النَّظْمِ، لِأَنَّ فِي (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أَعْمَلُ مِنَ الْمَدِّ مَا يَجْعَلُهُ أَسْعَدَ بِمَدِّ النَّفَسِ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ: مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَلِمَا فِي تَعْمَلُونَ مِنَ الْمَدِّ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ يُرَاعِي الْفَاصِلَةَ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْفَصَاحَةِ الْمُتَعَارَفَةِ بَين الفصحاء.

[سورة يونس (10) : الآيات 42 إلى 43]

[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 42 إِلَى 43] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) لَمَّا سَبَقَ تَقْسِيمُ الْمُشْرِكِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَنْ يُوقِنُ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا شَيْءَ، وَتَقْسِيمُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ يُؤْمِنُ بِصِدْقِهِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِصِدْقِهِ كَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْسِيمَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلَقِّي مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى كَلَامِهِ، وَقِسْمٍ لَا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّمُونَهُ وَيَنْظُرُونَ سَمْتَهُ. وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ مَسْلَكٌ عَظِيمٌ إِلَى الْهُدَى لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ النَّبِيءِ وَإِرْشَادِهِ يُنِيرُ عُقُولَ الْقَابِلِينَ لِلْهِدَايَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ النَّبِيءِ أَوْ رُؤْيَةِ هَدْيِهِ مُؤْذِنًا بِبُلُوغِهِمُ الْغَايَةَ فِي الضَّلَالَةِ مَيْئُوسًا مِنْ نُفُوذِ الْحَقِّ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورِ كَلَامِهِ عَنْ قُوَّةِ الْإِبْلَاغِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَنَّ التَّوَسُّمَ فِي سَمْتِهِ الشريف وَدَلَائِل نبوءته الْوَاضِحَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَافٍ فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَيْهِ بِشَرَاشِرِهَا، فَمَا عُدِمَ انْتِفَاعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُعَايِنُونَ ذَاتَهُ الشَّرِيفَةَ بِمُعَايَنَتِهَا إِلَّا لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ إِيَّاهُ وَحَسَدِهِمْ، وَقَدْ أَفَادَ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُسْتَمِعِينَ إِلَيْهِ وَالنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ هُنَا اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَطُوِيَتْ جُمْلَةُ: وَلَا يَنْتَفِعُونَ أَوْ نَحْوُهَا لِلْإِيجَازِ بِدَلَالَةِ التَّقْسِيمِ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ. وَالْحِرْمَانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ مَعَ ذَلِكَ التَّكَرُّرِ أَعْجَبُ. فَجُمْلَةُ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مَعَ مَا طُوِيَ فِيهَا. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ بَيَانٌ لِسَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْحَالَةُ الْغَرِيبَةُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَمِعِينَ بِمَنْزِلَةِ صُمٍّ لَا يَعْقِلُونَ فِي أَنَّهُمْ حُرِمُوا التَّأَثُّرَ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْكَلَامِ

فَسَاوَوُا الصُّمَّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ إِذْ جَعَلَهُمْ نَفْسَ الصُّمِّ. وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِسْمَاعِ هَؤُلَاءِ الصُّمِّ وَهَدْيِ هَؤُلَاءِ الْعُمْيِ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى صَمَمِهِمْ عَدَمَ الْعَقْلِ وَضَمُّوا إِلَى عَمَاهُمْ عَدَمَ التَّبَصُّرِ. وَهَذَانِ الِاسْتِفْهَامَانِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَعْقِلُونَهَا، وَإِذْ يَنْظُرُونَ أَعْمَالَهُ وَسِيرَتَهُ وَلَا يَهْتَدُونَ بِهَا، فَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى مُحَاوَلَةِ النَّبِيءِ إِبْلَاغَهُمْ وَهَدْيَهُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ وَالْقَرَائِنِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِفْهَامَانِ إِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ لَا يُتَوَهَّمُ إِشْكَالٌ بِأَنَّ مَوْقِعَ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ هُنَا بَعْدَ مَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ بِحَيْثُ تَنْتَقِضُ الْمُبَالَغَةُ الَّتِي اجْتُلِبَتْ لَهَا (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ، بَلِ الْمَعْنَى بِالْعَكْسِ. وَفِي هَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نُفُوسَهُمْ مَفْطُورَةً عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَبَغْضَاءِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَسَدِهِ كَانَتْ هَاتِهِ الْخِصَالُ حَوَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّأَثُّرِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ فَجِيءَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَقَوِّي الْخَبَرَ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ وَقَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ تَهْدِي دُونَ أَنْ يُقَالَ: أتسمع الصم وتَهْدِي الْعُمْيَ، فَكَانَ هَذَا التَّعْجِيبُ مؤكدا مقوى. و (لَو) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ، وَصْلِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الَّذِي بَعْدَهَا أَقْصَى مَا يُعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ. وَلِذَلِكَ يُقَدِّرُونَ لِتَفْسِيرِ مَعْنَاهَا جُمْلَةً قَبْلَ جُمْلَةِ (لَوْ) مَضْمُونُهَا ضِدَّ الْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا (لَوْ) ، فَيُقَالُ هُنَا: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ بَلْ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ. وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ هُنَا التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْهُدَى كَانَ عَدَمُ فَهْمِهِمْ وَعَدَمُ تَبَصُّرِهِمْ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ وَكَوْنِهِمْ لَا بَصَائِرَ لَهُمْ. فَمَعْنَى: لَا يَعْقِلُونَ

لَيْسَ لَهُمْ إِدْرَاكُ الْعُقُولِ، أَيْ وَلَوِ انْضَمَّ إِلَى صَمَمِهِمْ عَدَمُ عُقُولِهِمْ فَإِنَّ الْأَصَمَّ الْعَاقِلَ رُبَّمَا تَفَرَّسَ فِي مُخَاطِبِهِ وَاسْتَدَلَّ بِمَلَامِحِهِ. وَأَمَّا مَعْنَى: لَا يُبْصِرُونَ فَإِنَّهُمْ لَا بَصِيرَةَ لَهُمْ يَتَبَصَّرُونَ بِهَا. وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ «الْكَشَّافُ» وَهُوَ الْوَجْهُ، إِذْ بِدُونِهِ يَكُونُ مَعْنَى: لَا يُبْصِرُونَ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْعَمَى فَلَا تَقَعُ الْمُبَالَغَةُ بِ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ مَوْقِعَهَا، إِذْ يَصِيرُ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا عُمْيًا. وَمُقْتَضَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَال: أبْصر إِذا اسْتَعْمَلَ بَصِيرَتَهُ وَهِيَ التَّفْكِيرُ وَالِاعْتِبَارُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَكَلَامُ «الْأَسَاسِ» يَحُومُ حَوْلَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يُبْصِرُونَ مَعْنَى التَّأَمُّلِ، أَيْ وَلَوِ انْضَمَّ إِلَى عَمَى الْعُمْيِ عَدَمُ التَّفْكِيرِ كَمَا هُوَ حَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَدْلُولًا لِفِعْلِ يُبْصِرُونَ بِالْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْمَجَازِيِّ. فَبِهَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ فِي أَوَّلِهِ وَعَلَى الْكِنَايَةِ فِي آخِرِهِ وَعَلَى التَّعْجِيبِ وَتَقْوِيَتِهِ فِي وَسَطِهِ حَصَلَ تَحْقِيقٌ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَلَا بِأَبْصَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَتَبَصَّرُونَ فِي الْحَقَائِقِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا هِيَ حَالَةٌ أَصَارَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهَا بِتَكْوِينِهِ وَجَعَلَهَا عِقَابًا لَهُمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ صُمًّا وَعُمْيًا. فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُسْمِعُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ لَا أَنْتَ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ لِلْعِبَارَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ سُؤَالًا عَنْ وَجْهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَقَوْلِهِ: مَنْ يَنْظُرُ إِذْ جِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي الْأَوَّلِ وَبِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي الثَّانِي. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِسْمَاعَ يَكُونُ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ وَاضِحٍ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْجِهَاتِ الصَّالِحَةِ لِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُونَ وَالنَّاظِرُونَ مُتَّحِدِينَ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ وَالْإِفْرَادَ هُنَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مُفَادَ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِيهِمَا هُوَ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْفِعْلُ وَهُمْ عَدَدٌ وَلَيْسَ النَّاظِرُ شَخْصًا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ أَنَّ كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ سَوَاءٌ فِي مُرَاعَاةِ لَفْظِ (مَنْ) وَمَعْنَاهَا، فَلَعَلَّ الِابْتِدَاءَ بِالْجَمْعِ فِي صِلَةِ (مَنِ) الْأُولَى الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ (مَنْ) غَيْرُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَأَنَّ الْعُدُولَ

[سورة يونس (10) : آية 44]

عَنِ الْجَمْعِ فِي صِلَةِ (مَنِ) الثَّانِيَةِ هُوَ التَّفَنُّنُ وَكَرَاهِيَةُ إِعَادَةِ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِثِقَلِهَا لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ حَصَلَ فَهْمُ الْمُرَادِ، أَوْ لَعَلَّ اخْتِلَافَ الصِّيغَتَيْنِ لِلْمُنَاسَبَةِ مَعَ مَادَّةِ فعلي (يستمع) و (ينظر) . فَفِعْلُ (يَنْظُرُ) لَا تُلَائِمُهُ صِيغَةُ الْجَمْعِ لِأَنَّ حُرُوفَهُ أَثْقَلُ مِنْ حُرُوفِ (يَسْتَمِعُ) فَيَكُونُ الْعُدُولُ اسْتِقْصَاءً لمقْتَضى الفصاحة. [44] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 44] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) تَذْيِيلٌ، وَشَمِلَ عُمُومُ النَّاسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَيَنْظُرُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ بِأَنْ سَيَنَالُهُمْ مَا نَالَ جَمِيعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ. وَعُمُومُ النَّاسَ الْأَوَّلُ عَلَى بَابِهِ وَعُمُومُ النَّاسَ الثَّانِي مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ النَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَرِينَةِ الْخَبَرِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ الْإِتْيَانُ فِي جَانِبِ هَؤُلَاءِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ تَنْزِيلًا لِلْكَثْرَةِ مَنْزِلَةَ الْإِحَاطَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَالِبُ حَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ أَشْعَرَ بِكَلَامٍ مَطْوِيٍّ بَعْدَ نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ بِعِقَابِهِ مَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبِ الْعِقَابَ وَلَكِنَّ النَّاسَ يَظْلِمُونَ فَيَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ، فَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ بِالْعِقَابِ وَلَكِنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْهُمْ فَيُعَاقِبُهُمْ عَدْلًا لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا فَاسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ تَغْلِيطِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا جَنُوا بِكُفْرِهِمْ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا ظَلَمُوا اللَّهَ وَلَا رُسُلَهُ فَمَا أَضَرُّوا بِعَمَلِهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ نُونِ لكِنَّ وَنَصْبِ النَّاسَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرفع النَّاسَ.

[سورة يونس (10) : آية 45]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) عَطْفٌ عَلَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ [يُونُس: 28] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ عَوْدًا إِلَى غَرَضٍ مِنَ الْكَلَامِ بَعْدَ تَفْصِيلِهِ وَتَفْرِيعِهِ وَذَمِّ الْمَسُوقِ إِلَيْهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِيمَا مَضَى ذِكْرُ يَوْمِ الْحَشْرِ إِذْ هُوَ حِينُ افْتِضَاحِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ بِبَرَاءَةِ شُرَكَائِهِمْ مِنْهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّقْرِيعِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ مَعَ وُضُوحِ بَرَاهِينِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذْ كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ أَبْلَغَهُمْ مَا كَانَ يَعْصِمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الذَّلِيلِ لَوِ اهْتَدَوْا بِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَإِثْبَاتِ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ وَتَسْفِيهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ وَتَفَنَّنُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَاسْتُوفِيَ الْغَرَضُ حَقَّهُ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ يَوْمِ الْحَشْرِ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ هُوَ حِينَ خَيْبَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَهُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَظَهَرَ افْتِضَاحُ شِرْكِهِمْ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ فَكَانَ مِثْلَ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ خَسِرَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، فَارْتِبَاطُ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِثْبَاتُ وُقُوعِهِ مَعَ تَحْذِيرِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِيهِ. وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ دُونَ قَدْ خَسِرُوا، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ خُسْرَانِهِمْ هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَذَلِكَ التَّكْذِيبُ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ فَارْتَبَطَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ جُمْلَةُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ [يُونُس: 28- 30] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يُونُس: 44] .

وَجُمْلَةُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ إِمَّا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: نَحْشُرُهُمْ وَجُمْلَةِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَحْشُرُهُمْ. وكَأَنْ مُخَفَّفَةُ (كَأَنَّ) الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ إِحْدَى أَخَوَاتِ (إِنَّ) ، وَهِيَ حَرْفُ تَشْبِيهٍ، وَإِذَا خُفِّفَتْ يَكُونُ اسْمُهَا مَحْذُوفًا غَالِبًا، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الِاسْمِ الْمَحْذُوفِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ. وَالْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْمَحْشُورِينَ بَعْدَ أَزْمَانٍ مَضَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بِأَنْفُسِهِمْ لَوْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الْقُبُورِ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. ومِنَ النَّهارِ (مِنْ) فِيهِ تَبْعِيضِيَّةٌ صِفَةٌ لِ ساعَةً وَهُوَ وَصْفٌ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهُ التَّقْيِيدُ إِذْ لَا فَرْقَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنَ النَّهَارِ أَوْ مِنَ اللَّيْلِ وَإِنَّمَا هَذَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي تَسْتَحْضِرُهُ الْأَذْهَانُ فِي الْمُتَعَارَفِ، مِثْلَ ذِكْرِ لَفْظِ الرَّجُلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَافِ: 46] . وَمِنْ هَذَا مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ» ، وَالْمَقْصُودُ سَاعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا قِتَالُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ فِي النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ صَادَفَ أَنَّهُ فِي النَّهَارِ. وَالسَّاعَةُ: الْمِقْدَارُ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الزَّمَنِ الْقَصِيرِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [34] . وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ حَالِ زَمَنِ لُبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ وَبَيْنَ لُبْثِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ وُجُوهٌ: هِيَ التَّحَقُّقُ وَالْحُصُولُ، بِحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ طُولُ الزَّمَنِ مِنَ الْحَشْرِ، وَأَنَّهُمْ حُشِرُوا بِصِفَاتِهِمُ الَّتِي عَاشُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْنَوْا. وَهَذَا اعْتِبَارٌ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِرْجَاعِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّعْرِيضُ بِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ إِحَالَتَهُمُ الْبَعْثَ بِشُبْهَةِ أَنَّ طُولَ اللُّبْثِ وَتَغَيُّرَ الْأَجْسَادِ يُنَافِي إحياءها يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: 10، 11] .

[سورة يونس (10) : آية 46]

وَجُمْلَةُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَحْشُرُهُمْ. وَالتَّعَارُفُ: تَفَاعُلٌ مِنْ عَرَفَ، أَيْ يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا وَيَعْرِفُهُ الْآخَرُ كَذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَقْصُودِ مَنْ ذِكْرِ حَالَةِ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ لِتَصْوِيرِ أَنَّهُمْ حُشِرُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فِي أَجْسَامِهِمْ وَإِدْرَاكِهِمْ زِيَادَةً فِي بَيَانِ إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بِشُبْهَةِ أَنَّهُ يُنَافِي تَمَزُّقَ الْأَجْسَامِ فِي الْقُبُورِ وَانْطِفَاءَ الْعُقُولِ بِالْمَوْتِ. فَظَهَرَ خُسْرَانُهُمْ يَوْمَئِذٍ بِأَنَّهُمْ نَفَوُا الْبَعْثَ فَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لِيَوْمِهِ بِقَبُولِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [46] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 46] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) كَانَ ذِكْرُ تَكْذِيبِهِمُ الَّذِي جَاءَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لسحر مُبين [يُونُس: 2] ، ثُمَّ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إِلَى قَوْلِهِ: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يُونُس: 11- 14] مُنْذِرًا بِتَرَقُّبِ عَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِالْقُرُونِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْفَتُهُ بِالنَّاسِ وَرَغْبَتُهُ أَنْ يَتِمَّ هَذَا الدِّينُ وَأَنْ يَهْتَدِيَ جَمِيعُ الْمَدْعُوِّينَ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا كَانَ النَّبِيءُ يَحْذَرُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فَيَفُوتَ اهْتِدَاؤُهُمْ. وَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يُونُس: 11] تَصْرِيحًا بِإِمْكَانِ اسْتِبْقَائِهِمْ وَإِيمَاءً إِلَى إِمْهَالِهِمْ. جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانًا لِذَلِكَ وَإِنْذَارًا بِأَنَّهُمْ إِنْ أُمْهِلُوا فَأُبْقِيَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ حِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ دُونَ حَائِلٍ.

وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ إِبْهَامِ الْحَاصِلِ مِنَ الْحَالَيْنِ لِإِيقَاعِ النَّاسِ بَين الْخَوْف والرجاء وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ أُوعِدُوا بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ. فَالْمَعْنَى إِنْ وَقَعَ عَذَابُ الدُّنْيَا بِهِمْ فَرَأَيْتَهُ أَنْتَ أَوْ لَمْ يَقَعْ فَتَوَفَّاكَ اللَّهُ فَمَصِيرُهُمْ إِلَيْنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَمَضْمُونُ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ. وَالْجُمْلَتَانِ مَعًا جُمْلَتَا شَرْطٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ. وَلَمَّا جُعِلَ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى اللَّهِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْعِقَابِ الْآجِلِ، تَعَيَّنَ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْوَاقِعَ فِي الشَّرْطِ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لَهُمَا مُنَاسَبَةٌ بِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْإِرْجَاعِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، وَهُمَا حَالَةُ التَّعْجِيلِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَحَالَةُ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَة. وَأما إراءة الرَّسُولِ تَعْذِيبَهُمْ وَتُوَفِّيهِ بِدُونِ إِرَائَتِهِ فَلَا مُنَاسَبَةَ لَهُمَا بِالْإِرْجَاعِ إِلَى اللَّهِ عَلَى كِلْتَيْهِمَا إِلَّا بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَةِ إِحْدَاهُمَا لِحَالَةِ التَّعْجِيلِ وَمُنَاسَبَةِ الْأُخْرَى لِحَالَةِ التَّأْخِيرِ. وَإِنَّمَا كُنِّيَ عَنِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ يُرِيد اللَّهُ الرَّسُولَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ حَالَةَ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهَا إِلَّا الِانْتِصَافَ لِرَسُولِهِ بِأَنْ يُرِيَهُ عَذَابَ مُعَانَدِيهِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ ضِدُّ التَّعْجِيلِ فَكُنِّيَ بِتَوَفِّيهِ عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ بَلْ عَنْ تَأْخِيرِهِ إِذْ كَانَتْ حِكْمَةُ التَّعْجِيلِ هِيَ الِانْتِصَافَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا جَعَلَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ: نَتَوَفَّيَنَّكَ قَسِيمًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: نُرِيَنَّكَ تَعَيَّنَ أَنَّ إِرَاءَتَهُ مَا أُوعِدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَذَاهُمْ لَهُ انْتِصَارًا لَهُ حَتَّى يَكُونَ أَمْرُهُ جَارِيًا عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْمُرْسَلِينَ، كَمَا قَالَ نُوحٌ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 26] وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يُونُس: 47] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] . وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِمَا لَقُوا مِنَ

الْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ بِدَعْوَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْإِهَانَةِ، وَقَتْلِ صَنَادِيدِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 10- 16] . وَالدُّخَانُ هُوَ مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سِنِينِ الْقَحْطِ مِنْ شَبَهِ الدُّخَانِ فِي الْأَرْضِ. وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى: بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَوْلَهُ: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ. ثُمَّ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا إِرْضَاءً لَهُ أَيْضًا إِذْ كَانَ يَوَدُّ اسْتِبْقَاءَ بَقِيَّتِهِمْ وَيَقُولُ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ. فَأَمَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ فَجَزَاؤُهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ. فَطُوِيَ فِي الْكَلَامِ جُمَلٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْجُمَلُ الْمَذْكُورَةُ إِيجَازًا مُحْكَمًا وَصَارَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَإِمَّا نُعَجِّلُ لَهُمْ بَعْضَ الْعَذَابِ فَنُرِيَنَّكَ نُزُولَهُ بِهِمْ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَنُؤَخِّرُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، أَيْ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِي تَعْجِيلِهِ فَمَرْجِعُهُمْ إِلَيْنَا، أَيْ مَرْجِعُهُمْ ثَابِتٌ إِلَيْنَا دَوْمًا فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِيهِمْ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ فِي الدُّنْيَا إِنْ شِئْنَا فِي حَيَاتِكَ أَوْ بَعْدَكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَكَلِمَةُ إِمَّا هِيَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (مَا) الْمُؤَكِّدَةُ لِلتَّعْلِيقِ الشَّرْطِيِّ. وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ نُونٍ وَبِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ مُحَاكَاةً لِحَالَةِ النُّطْقِ، وَقَدْ أُكِّدَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ تَوْكِيدُ فِعْلِ الشَّرْطِ بِالنُّونِ وَتَعَيَّنَتْ زِيَادَةُ (مَا) بَعْدَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ وَصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [77] ، فَلَا يَقُولُونَ: إِنْ تُكْرِمَنِّي أُكْرِمْكَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَلَكِنْ تَقُولُونَ: إِنْ تُكْرِمْنِي بِدُونِ

نُونِ التَّوْكِيدِ كَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ: إِمَّا تُكْرِمْنِي بِدُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ وَلَكِنْ تَقُولُ: إِنْ تُكْرِمْنِي. وَشَذَّ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا ثُمَّ أَكَّدَ التَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ تَأْكِيدًا ثَانِيًا بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ للاهتمام. وَجُمْلَة: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ اسْمِيَّةٌ تُفِيدُ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ، أَيْ ذَلِكَ أَمْرٌ فِي تَصَرُّفِنَا دَوْمًا. وَجُمْلَةُ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ. وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ (ثُمَّ) فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَالتَّرَاخِي الرُّتْبِيُّ كَوْنُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ جُمْلَةَ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّعْرِيضِ بِالْجَزَاءِ عَلَى سُوءِ أَفْعَالِهِمْ كَانَتْ أَهَمَّ مَرْتَبَةً فِي الْغَرَضِ وَهُوَ غَرَضُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى اللَّهِ مُجْمَلٌ وَاطِّلَاعُهُ عَلَى أَفْعَالِهِمُ الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِهَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِلْوَعِيدِ الْمُجْمَلِ، وَالتَّفْصِيلُ أَهَمُّ مِنَ الْإِجْمَالِ. وَقَدْ حَصَلَ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ بِتَفْصِيلِهِ تَمَامُ تَقْرِيرِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَتَأْكِيدُ الْوَعِيدِ. وَأَمَّا كَوْنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ حَاصِلًا بَعْدَ إِرْجَاعِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِمُهْلَةٍ جُمِعَ مَا فِيهِ مِنْ تَكَلُّفِ تَقَرُّرِ تِلْكَ الْمُهْلَةِ هُوَ بِحَيْثُ لَا يُنَاسِبُ حَمْلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَى التَّصَدِّي لِذِكْرِهِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، إِذْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَعِيدِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَحَقِيقَتُهُ: الْمُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ فِيهِ تَصْدِيقٌ لِلْمُخْبِرِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْعَالِمِ عِلْمَ تَحْقِيقٍ. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَفْعَلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، فَأَمَّا مَا مَضَى فَهُوَ بِعِلْمِهِ أَجْدَر.

[سورة يونس (10) : آية 47]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 47] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يُونُس: 46] ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهَذِهِ بَيَّنَتْ أَنَّ مَجِيءَ الرَّسُول للْأمة هِيَ مُنْتَهَى الْإِمْهَالِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ إِنْ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا اسْتَحَقَّتِ الْعِقَابَ عَلَى ذَلِكَ. فَهَذَا إِعْلَامٌ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يَجُرُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدَ بِالْعِقَابِ، فَهِيَ نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْقَصَص: 59] وَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] . وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بَلْ هِيَ تَمْهِيدٌ لِلتَّفْرِيعِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ إِلَخْ، فَلِذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى تَعَيُّنُ أَنْ يُرْسَلَ رَسُولٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأُمَّةِ بِالزَّمَنِ أَوْ بِالنَّسَبِ أَوْ بِالْمَوْطِنِ لَا يَنْضَبِطُ، وَقَدْ تَخْلُو قَبِيلَةٌ أَوْ شَعْبٌ أَوْ عَصْرٌ أَوْ بِلَادٌ عَنْ مَجِيءِ رَسُولٍ فِيهَا وَلَوْ كَانَ خُلُوُّهَا زَمَنًا طَوِيلًا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: 46] . فَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ ذَوَاتِ الشَّرَائِعِ رَسُولٌ مَعْرُوفٌ جَاءَهَا مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَدْيَنَ وَالْيَهُودِ وَالْكِلْدَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَ (إِذَا) لِلظَّرْفِيَّةِ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي زَمَنِ مَجِيءِ الرَّسُولِ يَكُونُ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ (قُضِيَ) لِلتَّشْوِيفِ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ. وَكَلِمَةُ (بَيْنَ) تَدَلُّ عَلَى تَوَسُّطٍ فِي شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ هُنَا عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَرَسُولِهَا، أَيْ قُضِيَ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَرَسُولِهَا بِالْعَدْلِ، أَيْ قَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ عَمَلِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ.

[سورة يونس (10) : الآيات 48 إلى 49]

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الْأُمَّةَ عَلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ فَإِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولًا فَإِرْسَالُهُ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ إِقْلَاعَهُمْ عَنِ الضَّلَالِ فَانْتَهَى أَمَدُ الْإِمْهَالِ بِإِبْلَاغِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَإِنْ أَطَاعُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَبِحُوا، وَإِنْ عَصَوْهُ وَشَاقُّوهُ قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِجَزَاءِ كُلٍّ قَضَاءَ حَقٍّ لَا ظُلْمَ فِيهِ وَهُوَ قَضَاءٌ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِحُدُوثِ مُشَاقَّةٍ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ مُشَاقَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْذَارٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِمَا نَالَهُمْ. وَقَدْ كَانَ مِنْ بَرَكَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتِهِ أَنْ أَبْقَى اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ فَلَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ، وَلَكِنَّهُ أَرَاهُمْ بَطْشَتَهُ وَأَهْلَكَ قَادَتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سَاقَهُمْ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى عَمَّهُمْ وَأَصْبَحُوا دُعَاتَهُ لِلْأُمَمِ وَحَمَلَةَ شَرِيعَتِهِ لِلْعَالَمِ. وَلَمَّا أَشْعَرَ قَوْلُهُ: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ قَضَاءُ زَجْرٍ لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ رَسُولِهِمْ وَأَنَّهُ عِقَابٌ شَدِيدٌ يَكَادُ مَنْ يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعُهُ أَنْ يَجُولَ بِخَاطِرِهِ أَنَّهُ مُبَالَغٌ فِيهِ أُتِيَ بِجُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا الَّذِي هُوَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الذَّنْبَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ ذَنْب عَظِيم. [48، 49] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 48 إِلَى 49] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يُونُس: 46] ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَتِ الْآيَةُ السَّالِفَةُ أَنَّ تَعْجِيلَ الْوَعِيدِ فِي الدُّنْيَا لَهُمْ وَتَأْخِيرَهُ سَوَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذِ الْوَعِيدُ الْأَتَمُّ هُوَ وَعِيدُ الْآخِرَةِ، أُتْبِعَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةً لِتَهَكُّمِهِمْ عَلَى تَأْخِيرِ الْوَعِيدِ.

وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ صُدُورِهِ مِنْهُمْ، وَأُطْلِقَ الْوَعْدُ عَلَى الْمَوْعُودِ بِهِ، فَالسُّؤَالُ عَنْهُ باسم الزَّمَان مؤول بِتَقْدِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مَتَى ظُهُورُهُ. وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْطَاءِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْبَهُونَ بِهِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِحُصُولِهِ بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّهُ وَاقِعٌ فَعَيِّنُوا لَنَا وَقْتَهُ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّنَا لَا نُصَدِّقُكَ حَتَّى نَرَى مَا وَعَدَتْنَا كِنَايَةً عَنِ اعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ حُلُولِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ. وَالْوَعْدُ الْمَذْكُورُ هُنَا مَا هُدِّدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ لِلرَّسُولِ، فَضَمِيرُ التَّعْظِيمِ لِلتَّهَكُّمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] وَقَوله: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 7] وَقَوْلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنَانِيِّ: يُخَبِّرُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، جَمَعُوهُمْ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّ النَّبِيءَ أَخْبَرَ بِهِ وَالْمُسْلِمِينَ آمَنُوا بِهِ فَخَاطَبُوهُمْ بِذَلِكَ جَمِيعًا لِتَكْذِيبِ النَّبِيءِ وَإِدْخَالِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ. وَإِنَّمَا خُصَّ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْأَمْرِ بِجَوَابِهِمْ لِأَنَّهُ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِالْوَعِيدِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَتَابِعُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَمَعْنَى: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً: لَا أَسْتَطِيعُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [76] . وَقُدِّمَ الضَّرُّ عَلَى النَّفْعِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالْغَرَضِ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا اسْتِبْطَاءَ مَا فِيهِ مَضَرَّتُهُمْ وَهُوَ الْوَعِيدُ وَلِأَنَّ اسْتِطَاعَةَ الضَّرِّ أَهْوَنُ مِنِ اسْتِطَاعَةِ النَّفْعِ فَيَكُونُ ذِكْرُ النَّفْعِ بَعْدَهُ ارْتِقَاءً.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمْعِ الْأَمْرَيْنِ الْإِحَاطَةُ بِجِنْسَيِ الْأَحْوَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَجْهُ تَقْدِيمِ النَّفْعِ عَلَى الضَّرِّ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، أَيْ لَكِنْ نَفْعِي وَضَرِّي هُوَ مَا يَشَاءُهُ اللَّهُ لِي. وَهَذَا الْجَوَابُ يَقْتَضِي إِبْطَالَ كَلَامِهِمْ بِالْأُسْلُوبِ الْمُصْطَلَحِ عَلَى تَلْقِيبِهِ فِي فَنِّ الْبَدِيعِ بِالْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، أَيْ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَعَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِ مَا فِيهِ ضَرُّ غَيْرِهِ بِهَذَا الْوَعْدِ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى مَقْدِرَةِ الْمَرْءِ هُوَ مَا لَهُ اخْتِصَاصٌ بِذَاتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي الْإِنْسَانِ قُدْرَةَ اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ وَأَعْضَائِهِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُقْدِرًا إِيَّاهُ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي أَحْوَالِ الْكَوْنِ لَكَانَ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى إِقْدَارِهِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِأَحْوَالِ ذَاتِهِ، لِأَنَّ بَعْضَ أَسْبَابِهَا فِي مَقْدِرَتِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِنْسَانُ مسيّرا فِي شؤونه بِقُدْرَةِ اللَّهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ مِنَ الْحَوَادِثِ مَنُوطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَمُوَافِقَاتُهُ وَمُخَالِفَاتُهُ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ قَدْ يَقَعُ مَا يَضُرُّهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِهِ. فَكَانَ مَعْنَى الْجَوَابِ: أَنَّ الْوَعْدَ مِنَ اللَّهِ لَا مِنِّي وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِهِ بِكُمْ لِأَنَّ لَهُ أَجَلًا عِنْدَ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مِنَ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَمَوْقِعُهَا مِنْ جُمْلَةِ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِأَنَّ جُمْلَةَ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي اقْتَضَتِ انْتِفَاءَ الْقُدْرَةِ عَلَى حُلُولِ الْوَعْدِ. وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ تَتَضَمَّنُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ آجَالَ أَحْوَالِ الْأُمَمِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَجَّلَ حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِمْ بِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تِلْكَ الْآجَالَ فَلَا يَحُلُّ الْعِقَابُ بِهِمْ إِلَّا عِنْدَ مَجِيءٍ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِ مَا حَدَّدَهُ اللَّهُ. وَصُورَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ أَنَّ قَضِيَّةَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ أُمَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ كَانُوا مَشْمُولِينَ لِحُكْمِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَأَنْتُمْ لَكُمْ أَجَلٌ فَتَرَقَّبُوا حُلُولَهُ.

[سورة يونس (10) : الآيات 50 إلى 51]

وَجُمْلَةُ: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ صِفَةٌ لِ (أَجَلٌ) ، أَيْ أَجْلٌ مَحْدُودٌ لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وإِذا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُشْرَبَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ اقْتَرَنَتْ جُمْلَةُ عَامِلِهَا بِالْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِلْجَوَابِ مُعَامَلَةً لِلْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي (إِذَا) مُعَامَلَةَ جَوَاب الشَّرْط. [50، 51] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 50 إِلَى 51] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) هَذَا جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ قَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُمْ مِنَ الْوَعْدِ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا حَقَّ الْوَعْدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 90- 92] ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِبْدَاءٌ لِخَلَلِ كَلَامِهِمْ وَاضْطِرَابِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ هَذَا الْجَوَابَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [يُونُس: 49] ، وَهَذَا الْجَوَابُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ بَعْدَ أَنْ يُجَابَ الْمُخْطِئُ بِالْإِبْطَالِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ إِنْ قُدِّرَ حُصُولُ مَا سَأَلْتُمْ تَعْيِينَ وَقْتِهِ وَنُزُولَ كِسَفٍ مِنَ السَّمَاءِ بِكُمْ أَوْ نَحْوَهُ مَاذَا يَحْصُلُ مِنْ فَائِدَةٍ لَكُمْ فِي طَلَبِ تَعْجِيلِ حُصُولِهِ إِذْ لَا تَخْلُونَ عَنْ أَنْ تَكُونُوا تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُعَاجِلُكُمْ بِالْهَلَاكِ فَلَا يَحْصُلُ إِيمَانُكُمْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْوَاعِظِينَ: نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ لَا نَمُوتَ حَتَّى نَتُوبَ وَنَحْنُ لَا نَتُوبُ حَتَّى نَمُوتَ. وَوَقَعَ فِي خِلَالِ هَذَا الْجَوَابِ تَفَنُّنٌ فِي تَخْيِيلِ التَّهْوِيلِ لِهَذَا الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً تَخْيِيلًا يُنَاسِبُ تَحَقُّقَ وُقُوعه فَإِن هاذين الْوَقْتَيْنِ لَا يَخْلُو

حُلُولُ الْحَوَادِثِ عَنْ أَحَدِهِمَا، عَلَى أَنَّهُ تَرْدِيدٌ لِمَعْنَى الْعَذَابِ الْعَاجِلِ تَعْجِيلًا قَرِيبًا أَوْ أَقَلَّ قُرْبًا، أَيْ أَتَاكُمْ فِي لَيْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ أَوْ فِي صَبِيحَتِهِ، عَلَى أَنَّ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ تَخْيِيلًا مَا لِصُورَةِ وُقُوعِ الْعَذَابِ اسْتِحْضَارًا لَهُ لَدَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ تَذْكِيرُهُمُ انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمَوْعِظَةِ، كَالتَّذْكِيرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 47] . وَالْبَيَاتُ: اسْمُ مَصْدَرِ التَّبْيِيتِ، لَيْلًا كَالسَّلَامِ لِلتَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ مُبَاغَتَةً. وَانْتَصَبَ بَياتاً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَقْتَ بَيَاتٍ. وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِي هُوَ سَادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (أَرَأَيْتُمْ) إِذْ عَلَّقَهُ عَنِ الْعَمَل الِاسْتِفْهَام ب (مَاذَا) . وَمَاذَا كَلِمَتَانِ هُمَا (مَا) الاستفهامية و (إِذا) . أَصْلُهُ إِشَارَةٌ مُشَارٌ بِهِ إِلَى مَأْخُوذٍ مِنَ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ. وَاسْتُعْمِلَ (ذَا) مَعَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي مَعْنَى الَّذِي لِأَنَّهُمْ يُرَاعُونَ لَفْظَ الَّذِي مَحْذُوفًا. وَقَدْ يَظْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] . وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَفِي التَّعْجِيبِ مِنْ تَعَجُّلِهِمُ الْعَذَابَ بِنِيَّةِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ. وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. وَالْمَعْنَى مَا الَّذِي يَسْتَعْجِلُهُ الْمُجْرِمُونَ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ لَا شَيْءَ مِنَ الْعَذَابِ بِصَالِحٍ لِاسْتِعْجَالِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ مُهْلِكٌ حَائِلٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِيمَانِ وَقْتَ حُلُولِهِ. وَفَائِدَةُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، تَهْوِيلُهُ أَوْ تَعْظِيمُهُ أَوِ التَّعْجِيبُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الْبَقَرَة: 26] ، فَالْمَعْنَى مَا هَذَا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي حَالِ كَوْنِهِ يَسْتَعْجِلُهُ الْمُجْرِمُونَ، فَجُمْلَةُ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُسْتَعْجَلُ بَلْ شَأْنُهُ أَنْ يُسْتَأْخَرَ. وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مَعَهَا عَلَى مَعْنَى مَا يُسَمَّى فِي فَنِّ الْبَدِيعِ بِالتَّجَرُّدِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ يَذْكُرُونَ اسْتِعْمَالَ (مَاذَا) بِمَعْنَى (مَا الَّذِي) وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ بَعْضَ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهِ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالًا مُطَّرِدًا. وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» إِذْ زَادَ قَيْدًا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَقَالَ: وَمِثْلُ مَا، ذَا بَعْدَ مَا اسْتِفْهَامِ ... أَوْ مَنْ إِذَا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ يُرِيدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَزِيدًا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْإِلْغَاءِ فِرَارًا مِنْ إِيرَادِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ لَهُ وَلَا هُوَ بِمُفِيدٍ تَأْسِيسَ مَعْنًى فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ لِلتَّقْوِيَةِ وَالتَّأْكِيدِ الْحَاصِلِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكَلَامُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى اسْتِعْمَالَاتِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي فصل عقده ل (مَاذَا) وَأَكْثَرَ مِنَ الْمَعَانِي وَلَمْ يُحَرِّرِ انْتِسَابَ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: 32] الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْمُجْرِمُونَ: أَصْحَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ جُرْمُ الشِّرْكِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: 48] ، وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عِوَضَ أَنْ يُقَالَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْرَامِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي اسْتِعْجَالِ الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ فَيَصِيرُونَ إِلَى الْآخِرَةِ حَيْثُ يُفْضُونَ إِلَى الْعَذَابِ الْخَالِدِ فَشَأْنُهُمْ أَنْ يَسْتَأْخِرُوا الْوَعْدَ لَا أَنْ يَسْتَعْجِلُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ إِلَّا شَرًّا. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ (ثُمَّ) فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَ وُقُوعَهُ حِينَ وُقُوعِهِ بِهِمْ أَغْرَبُ وَأَهَمُّ مِنِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّشْرِيكِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ أَإِذَا مَا وَقَعَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الْمُهْلَةِ. وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ حُصُولُ الْإِيمَانِ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْعَذَابِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى التَّغْلِيطِ وَإِفْسَادِ رَأْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَعَدُوا بِالْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً

[سورة يونس (10) : آية 52]

مِنْهُمْ فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمُجَارَاةِ ظَاهِرِ حَالِهِمْ وَبَيَانِ أَخْطَائِهِمْ، أَيْ أَتُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ عِنْدَ وُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: 189] . وَكَلِمَةُ آلْآنَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ عِنْدَ حُلُولِ مَا تَوَعَّدَهُمْ، فَعَبَّرَ عَنْ وَقْتِ وُقُوعِهِ بِاسْمِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ وَهُوَ (الْآنَ) حِكَايَةً لِلِسَانِ حَالِ مُنْكِرٍ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتَحْضَرَ حَالَ حُلُولِ الْوَعْدِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي زَمَنِ التَّكَلُّمِ، وَهَذَا الِاسْتِحْضَارُ مِنْ تَخْيِيلِ الْحَالَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَاقِعَةً. وَلِذَلِكَ يَحَسُنُ أَنْ نَجْعَلَ (آلْآنَ) اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً بِتَشْبِيهِ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِزَمَنِ الْحَالِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الِاسْتِحْضَارُ. وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِذِكْرِ لَفْظٍ مِنْ رَوَادِفِهِ، وَهُوَ اسْمُ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ. وَجُمْلَةُ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تَرْشِيحٌ، وَإِمَّا تَقْدِيرُ قَوْلٍ فِي الْكَلَامِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ آلْآنَ آمَنْتُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. فَذَلِكَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ نَظْمٍ وَإِعْرَابٍ لِأَنَّ نَظْمَ هَذَا الْكَلَامِ أَدَقُّ مِنْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى: تَسْتَعْجِلُونَ تُكَذِّبُونَ، فَعَبَّرَ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالِاسْتِعْجَالِ حِكَايَةً لِحَاصِلِ قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: 48] الَّذِي هُوَ فِي صُورَةِ الِاسْتِعْجَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْذِيبُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْوَعْدِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [52] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 52] ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً [يُونُس: 50] الْآيَةَ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، فَهَذَا عَذَابٌ أَعْظَمُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً [يُونُس: 50]

[سورة يونس (10) : آية 53]

فَإِنَّ ذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا وَأَمَّا عَذَابُ الْخُلْدِ فَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ مَوْقِعُ عَطْفِ جُمْلَتِهِ بِحَرْفِ (ثُمَّ) . وَصِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْقَائِلُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: 48] . وَأَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَسْجِيلِ وَصْفِ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْإِشْرَاكِ. وَمَعْنَى ظَلَمُوا: أَشْرَكُوا. وَالذَّوْقُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِحْسَاسِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ تُجْزَوْنَ إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. وَجُمْلَةُ: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ جُمْلَةَ: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ تُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَنْ مِقْدَارِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ فَظَاعَةِ مَا كَسَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَعَ إِفَادَةِ تَعْلِيلِ تَسْلِيطِ الْعَذَاب عَلَيْهِم. [53] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 53] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) هَذَا حِكَايَةُ فَنٍّ مِنْ أَفَانِينِ تَكْذِيبِهِمْ، فَمَرَّةً يَتَظَاهَرُونَ بِاسْتِبْطَاءِ الْوَعْدِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَمَرَّةً يُقْبِلُونَ عَلَى الرَّسُولِ فِي صُورَةِ الْمُسْتَفْهِمِ الطَّالِبِ فَيَسْأَلُونَهُ: أَهَذَا الْعَذَابُ الْخَالِدُ، أَيْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، حَقٌّ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: 48] ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ فَهُمُ الْمُسْتَنْبِئُونَ لَا غَيْرُهُمْ، وَضَمِيرُ (هُوَ) عَائِدٌ إِلَى عَذابَ الْخُلْدِ [يُونُس: 52] .

وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ الْوَاقِعُ، فَهُوَ بِمَعْنَى حَاقٍّ، أَيْ ثَابِتٍ، أَيْ أَنَّ وُقُوعَهُ ثَابِتٌ، فَأَسْنَدَ الثُّبُوتَ لِذَاتِ الْعَذَابِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ إِذْ لَا تُوصَفُ الذَّاتُ بِثُبُوتٍ. وَجُمْلَةُ: أَحَقٌّ هُوَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ فِعْلَ يَسْتَنْبِئُونَكَ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَسْتَنْبِئُونَكَ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَالضَّمِيرُ يَجُوزُ كَونه مُبْتَدأ، وأَ حَقٌّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَاسْتَعْمَلُوا الِاسْتِفْهَامَ تَبَالُهًا، وَلِذَلِكَ اشْتَمَلَ الْجَوَابُ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْحَالَتَيْنِ فَاعْتَبَرَ أَوَّلًا ظَاهِرَ حَالِ سُؤَالِهِمْ فَأُجِيبُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ كَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ سُؤَالُ الِاسْتِرْشَادِ تَغْلِيطًا لَهُمْ وَاغْتِنَامًا لِفُرْصَةِ الْإِرْشَادِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِ سُؤَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْجَوَابَ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ إِذْ جَمَعَ بَيْنَ حَرْفِ إِي وَهُوَ حَرْفُ جَوَابٍ يُحَقَّقُ بِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَوَابِ، وَبِالْقَسَمِ، وَإِنَّ، وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَكُلُّهَا مُؤَكِّدَاتٌ. وَالِاعْتِبَارُ الثَّانِي اعْتِبَارُ قَصْدِهِمْ مِنِ اسْتِفْهَامِهِمْ فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. فَجُمْلَةُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ فَمَضْمُونُهَا مِنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ جَوَابًا عَنِ اسْتِفْهَامِهِمْ كَانَ مَضْمُونُ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ جَوَابًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، أَيْ هُوَ وَاقِعٌ وَأَنْتُمْ مُصَابُونَ بِهِ غَيْرَ مُفْلِتِينَ مِنْهُ. وَلَيْسَ فِعْلُ يَسْتَنْبِئُونَكَ مُسْتَعْملا فِي الظَّاهِر بِمَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا اسْتُعْمِلَ قَوْلُهُ: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التَّوْبَة: 64] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِنْبَاءِ وَاقِعَةٌ هُنَا إِذْ قَدْ صَرَّحُوا بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وإِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: حَرْفُ جَوَابٍ لِتَحْقِيقِ مَا تَضَمَّنَهُ سُؤَالُ سَائِلٍ، فَهُوَ مُرَادِفُ (نَعَمْ) ، وَلَكِنْ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْحَرْفِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَبَعْدَهُ الْقَسَمُ. وَالْمُعْجِزُونَ: الْغَالِبُونَ، أَيْ وَمَا أَنْتُمْ بِغَالِبِينَ الَّذِي طَلَبَكُمْ، أَيْ بِمُفْلِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] .

[سورة يونس (10) : آية 54]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 54] وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ، فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يُونُس: 53] إِعْلَامًا لَهُمْ بِهَوْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَسَاهُمْ أَنْ يَحْذَرُوهُ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي لِفِعْلِ (افْتَدَتْ) لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُفْدِيًا بِهِ وَمُفْدِيًا مِنْهُ، أَيْ لَافْتَدَتْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لَا تَتَحَمَّلُهُ أَيَّةُ نَفْسٍ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَنْفُسِ فِي احْتِمَالِ الْآلَامِ، وَلذَلِك ذكر لِكُلِّ نَفْسٍ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَوْ أَنَّ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَيْتُمْ بِهِ. وَجُمْلَةُ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ شَرْطِ (لَوْ) . وَمَا فِي الْأَرْضِ اسْمُ (أَنَّ) . ولِكُلِّ نَفْسٍ خَبَرُ (أَنَّ) وَقُدِّمَ عَلَى الِاسْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ بِحَيْثُ يَنُصُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَسْلَمُ نَفْسٌ مِنْ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ ظَلَمَتْ صفة ل لِكُلِّ نَفْسٍ. وَجُمْلَةُ: لَافْتَدَتْ بِهِ جَوَابُ (لَو) . فعموم لِكُلِّ نَفْسٍ يَشْمَلُ نُفُوسَ الْمُخَاطَبِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ. وَمَعْنَى ظَلَمَتْ أَشْرَكَتْ، وَهُوَ ظُلْمُ النَّفْسِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَمَا فِي الْأَرْضِ يَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ فِي ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَبَاطِنِهَا لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ ظَرْفِيَّةُ جَمْعٍ وَاحْتِوَاءٍ. وَ (افْتَدَى) مُرَادِفُ فَدَى. وَفِيهِ زِيَادَةُ تَاءِ الِافْتِعَالِ لِتَدُلَّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، أَيْ لَتَكَلَّفَتْ فِدَاءَهَا بِهِ. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ. وَضَمِيرُ أَسَرُّوا عَائِد إِلَى لِكُلِّ نَفْسٍ

[سورة يونس (10) : الآيات 55 إلى 56]

بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مَعَ تَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَعَبَّرَ عَن الْإِسْرَار المستقبلي بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ مَضَى، وَالْمَعْنَى: وَسَيُسِرُّونَ النَّدَامَةَ قَطْعًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. وَالنَّدَامَةُ: النَّدَمُ، وَهُوَ أَسَفٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ عَلَى تَفْوِيتِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ عَمَلُهُ فِي الْمَاضِي، وَالنَّدَمُ مِنْ هَوَاجِسِ النَّفْسِ، فَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَلَكِنَّهُ كَثِيرٌ، أَيْ يَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَجَلَّدَ صَاحِبُ النَّدَمِ فَلَمْ يُظْهِرْ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فَقَدْ أَسَرَّ النَّدَامَةَ، أَيْ قَصَرَهَا عَلَى سِرِّهِ فَلَمْ يُظْهِرْهَا بِإِظْهَارِ بَعْضِ آثَارِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَإِنَّمَا أَسَرُّوا النَّدَامَةَ لِأَنَّهُمْ دُهِشُوا لِرُؤْيَةِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فَلَمْ يُطِيقُوا صُرَاخًا وَلَا عَوِيلًا. وَجُمْلَةُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَسَرُّوا مُسْتَأْنَفَةً. وَمَعْنَى: قُضِيَ بَيْنَهُمْ قُضِيَ فِيهِمْ، أَيْ قُضِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَدْلِ، فَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَقَعَ فِيهِمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قُضِيَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ وَآخَرَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا لَيْسَ قَضَاءَ نِزَاعٍ وَلَكِنَّهُ قَضَاءُ زَجْرٍ وَتَأْنِيبٍ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [يُونُس: 47] فَإِنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ بَيْنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ [الْأَعْرَاف: 6، 7] . وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالية. [55، 56] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 55 إِلَى 56] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) تَذْيِيلُ تَنْهِيَةٍ لِلْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَتَرَقُّبِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَيَوْمِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى مُجْمَلِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَعَلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ من هَذِه شؤونه لَا يَعْجِزُ عَنْ تَحْقِيقِ مَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ.

فَكَانَ افْتِتَاحُهُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِمُلْكِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَصَرُّفًا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَتَصَرُّفُهُ فِي أُمُورِ السَّمَاءِ شَامِلٌ لِلْمُغَيَّبَاتِ كُلِّهَا، وَمِنْهَا إِظْهَارُ الْجَزَاءِ بِدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعَذَابِ وَتَصَرُّفُهُ فِي أُمُورِ الْأَرْضِ شَامِلٌ لِتَصَرُّفِهِ فِي النَّاسِ. ثُمَّ أَعْقَبَ بِتَحْقِيقِ وَعْدِهِ، وَأَعْقَبَ بِتَجْهِيلِ مُنْكِرِيهِ، وَأَعْقَبَ بِالتَّصْرِيحِ بِالْمُهِمِّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْبَعْثُ. وَافْتُتِحَ هَذَا التَّذْيِيلُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَأُعِيدَ فِيهِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ لِلِاسْتِيعَاءِ لِسَمَاعِهِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ جَامِعٌ هُوَ حَوْصَلَةُ الْغَرَضِ الَّذِي سَمِعُوا تَفْصِيلَهُ آنِفًا. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ إِنَّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فَقَدْ جَعَلُوهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لِلَّهِ. وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى لِأَنَّ ذَلِكَ اضْطِرَابٌ وَخَبْطٌ. وَقُدِّمَ خَبَرُ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِاسْمِهِ تَعَالَى وَلِإِفَادَةِ الْقَصْرِ لِرَدِّ اعْتِقَادِهِمُ الشَّرِكَةَ كَمَا عَلِمْتَ. وَأُكِدَّ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ بَعْدَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِرَدِّ إِنْكَارِ مُنْكِرِي بَعْضِهِ وَالَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكِرِينَ بَعْضَهُ الْآخَرَ. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ، وَ (مَا) اسْمُ مَوْصُولٍ مُفِيدٌ لِعُمُومِ كُلِّ مَا ثَبَتَتْ لَهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ. وَوَعْدُ اللَّهِ: هُوَ وَعْدُهُ بِعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَعِيدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعْدُهُ مُرَادًا بِهِ الْبَعْثُ، قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: 104] فَسَمَّى إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَعْدًا. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِ لِتَكُونَ الْجُمْلَة مُسْتَقلَّة لتجري مُجْرَى الْمَثَلِ وَالْكَلَامِ الْجَامِعِ.

[سورة يونس (10) : آية 57]

وَوَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ أُرِيدَ بِهِمَا الرَّدُّ عَلَى مُعْتَقِدِي خِلَافَهُمَا فَصَارَتَا فِي قُوَّةِ نَفْيِ الشَّكِّ عَنْ مَضْمُونِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا شَكَّ يَحِقُّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَلِذَلِكَ يَشُكُّونَ. وَتَقْيِيدُ نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْأَكْثَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَجْحَدُهُ مُكَابَرَةً، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ [يُونُس: 40] . فَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِيمَا تقدم. [57] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 57] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) اسْتِئْنَافٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَرَضٌ جَدِيدٌ وَهُوَ خِطَابُ جَمِيعِ النَّاسِ بِالتَّعْرِيفِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي جِدَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْآتِيَ بِهِ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا، وَمَا ذُيِّلَ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَتَحْقِيقِ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ، فَالْكَلَامُ الْآنَ مُنْعَطِفٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يُونُس: 37- 43] . فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ النَّاسِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنَافِعِ الصَّالِحَةِ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخِطَابُ هُنَا عَامًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَوْجِيهَهُ لِخُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ضَمَائِرَ تَعُودُ إِلَيْهِمْ أَوْ أَوْصَافٍ لَهُمْ أَوْ صِلَاتِ مَوْصُولٍ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا انْتَفَعَ بِمَوْعِظَتِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَاهْتَدَوْا وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ بِنَاءً عَلَى الْأَكْثَرِ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيَكُونَ ذِكْرُ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِدْمَاجًا وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ

بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَةِ الْقُرْآنِ وَشِفَائِهِ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَانْتَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. وافتتاح الْكَلَام ب قَدْ لِتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِلْقُرْآنِ. وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لِلْبُلُوغِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْبُلُوغَ أَشْهَرُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُ، يُقَالُ: بَلَغَنِي خَبَرُ كَذَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: جَاءَنِي خَبَرُ كَذَا أَوْ أَتَانِي خَبَرُ كَذَا. وَإِطْلَاقُ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعَزُّ. وَالْمُرَادُ بِمَا جَاءَهُمْ وَبَلَغَهُمْ هُوَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ هِيَ أُصُولُ كَمَالِهِ وَخَصَائِصِهِ وَهِيَ: أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ، وَأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ هُدًى، وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَوْعِظَةُ: الْوَعْظُ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ نُصْحٌ وَتَحْذِيرٌ مِمَّا يَضُرُّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] . وَوَصَفَهَا بِ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ كَمَالِ أَمْثَالِهَا. وَالشِّفَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [14] . وَحَقِيقَتُهُ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَمَجَازُهُ: زَوَالُ النَّقَائِصِ وَالضَّلَالَاتِ وَمَا فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمُرَادُ بِالصُّدُورِ النُّفُوسُ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْهُدَى تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] ، وَأَصْلُهُ: الدَّالَّةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَمَجَازُهُ: بَيَانُ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْحَقَّةِ. وَالرَّحْمَةُ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ.

وَقَدْ أَوْمَأَ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالشِّفَاءِ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِلَى مَا جَاءَ بِهِ بِحَالِ الْمُعْتَلِّ السَّقِيمِ الَّذِي تَغَيَّرَ نِظَامُ مِزَاجِهِ عَنْ حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ فَأَصْبَحَ مُضْطَرِبَ الْأَحْوَالِ خَائِرَ الْقُوَى فَهُوَ يَتَرَقَّبُ الطَّبِيبَ الَّذِي يُدَبِّرُ لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَلَا بُدَّ لِلطَّبِيبِ مِنْ مَوْعِظَةٍ لِلْمَرِيضِ يُحَذِّرُهُ بِهَا مِمَّا هُوَ سَبَبُ نَشْءِ عِلَّتِهِ وَدَوَامِهَا، ثُمَّ يَنْعَتُ لَهُ الدَّوَاءَ الَّذِي بِهِ شِفَاؤُهُ مِنَ الْعِلَّةِ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُ النِّظَامَ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ سُلُوكُهُ لِتَدُومَ لَهُ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَلَا يَنْتَكِسَ لَهُ الْمَرَضُ، فَإِنْ هُوَ انْتَصَحَ بِنَصَائِحِ الطَّبِيبِ أَصْبَحَ مُعَافًى سَلِيمًا وَحَيِيَ حَيَاةً طَيِّبَةً لَا يَعْتَوِرُهُ أَلَمٌ وَلَا يَشْتَكِي وَصَبًا، وَقَدْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ لِكَمَالِهِ قَابِلًا لِتَفْرِيقِ تَشْبِيهِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَزَوَاجِرُ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظُهُ يُشَبَّهُ بِنُصْحِ الطَّبِيبِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِبْطَالُهُ الْعَقَائِدَ الضَّالَّةَ يُشَبَّهُ بِنَعْتِ الدَّوَاءِ لِلشِّفَاءِ مِنَ الْمَضَارِّ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَتَعَالِيمُهُ الدِّينِيَّةُ وَآدَابُهُ تُشَبَّهُ بِقَوَاعِدِ حِفْظِ الصِّحَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ، وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْهُدَى، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالَمِينَ تُشَبَّهُ بِالْعَيْشِ فِي سَلَامَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَلْفَاظَ الْمَكْنِيَّةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقَائِقِ مَعَانِيِهَا كَمَا هُنَا، وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ تَخْيِيلًا كَأَظْفَارِ الْمَنِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ شَأْنِ بَاعِثِ الْقُرْآنِ بِالطَّبِيبِ الْعَلِيمِ بِالْأَدْوَاءِ وَأَدْوِيَتِهَا، وَيَقُومُ مِنْ ذَلِكَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ تَلَقِّي النَّاسِ لِلْقُرْآنِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ وَمُعَالَجَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِتَكْرِيرِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ بِهَيْئَةِ الْمَرْضَى بَيْنَ يَدَيِ الطَّبِيبِ وَهُوَ يَصِفُ لَهُمْ مَا فِيهِ بُرْؤُهُمْ وَصَلَاحُ أَمْزِجَتِهِمْ فَمِنْهُمُ الْقَابِلُ الْمُنْتَفِعُ وَمِنْهُمُ الْمُتَعَاصِي الْمُمْتَنِعُ. فَالْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ثَابِتَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ قَبِلَهَا وَعَمِلَ بِهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَنَبَذَهَا، إِلَّا أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى لَمَّا كَانَ وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ الْمُقْتَضِي لِلْمُبَالَغَةِ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُدَى كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حُصُولُ الْهُدَى بِهِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونَ فِي قِرَانِ الْوَصْفِ الرَّابِعِ. وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، خَاصٌّ بِمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، فَانْتَفَعَ بِهَا فَكَانَ الْقُرْآنُ رَحْمَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: 82] . فَقَيْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِ رَحْمَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَقَدْ خَصَّهُ بِهِ جُمْهُورُ

[سورة يونس (10) : آية 58]

الْمُفَسِّرِينَ. وَمِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ جَعَلَهُ قَيْدًا لِ هُدىً وَرَحْمَةٌ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ هُدًى لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ كَوْنَهُ مَوْعِظَةً وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ هِيَ الْكَلَامُ الْمُحَذِّرُ مِنَ الضُّرِّ وَلِهَذَا عُقِّبَتْ بِقَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ فَكَانَتْ عَامَّةً لِمَنْ خُوطِبَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً فَهُوَ فِي ذَاتِهِ صَالِحٌ لِلشِّفَاءِ لَكِن الشِّفَاءَ بِالدَّوَاءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنِ اسْتَعْمَلَهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى وَرَحْمَةً فَإِنَّ تَمَامَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِهِمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَتُهُمَا، وَأَمَّا لِمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ آثَارُهُمَا، فَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِهِمَا بِمَعْنَى صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْقُوَّةِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاء: 82] ، وَصَرَّحَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [2] بِأَنَّهُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَيْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ إِلَى هُدىً وَرَحْمَةٌ مَعًا إِلَى قَاعِدَةِ الْقَيْدِ الْوَارِدِ بَعْدَ مُفْرَدَاتِ، وَأَمَّا رُجُوعُهُ إِلَى شِفاءٌ فَمُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ وَصْفَ شِفاءٌ قَدْ عُقِّبَ بِقَيْدِ لِما فِي الصُّدُورِ فَانْقَطَعَ عَنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ تَعْرِيفَ الصُّدُورِ بِاللَّامِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَلْيُحْمَلِ الشِّفَاءُ عَلَى مَعْنَى الدَّوَاءِ الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِلشِّفَاءِ لِلَّذِي يَتَنَاوَلُهُ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ. وَصُدِّرَ بِهِ فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» ، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْعَسَلِ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النَّحْل: 69] . وَأَمَّا تَعْلِيقُ فِعْلِ الْمَجِيءِ بِضَمِيرِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمُ الْمَقْصُودَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ. ثُمَّ وَقَعَ التَّفْصِيلُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُ تَلَقِّيهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُس: 58] أَيِ الْمُؤْمِنُونَ. وَعَبَّرَ عَنِ الْهُدَى بِالْفَضْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النِّسَاء: 174، 175] فَعَمَّمَ فِي مَجِيءِ الْبُرْهَانِ وَإِنْزَالِ النُّورِ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَصَّصَ فِي الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْبَلَاغَةِ وَصِحَّة التَّقْسِيم. [58] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 58] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) يَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ

عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَفْرَحُوا بِهِمَا، وَأَنْ يقدروا قدر نعمتها، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا نِعْمَةٌ تَفُوقُ نِعْمَةَ الْمَالِ الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُنِحَهَا أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ حَقِيقَةً بِأَنْ تُفْتَتَحَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ. وَجِيءَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ وَالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهَا تَنْوِيهًا بِالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ، بِحَيْثُ يُؤْمَرُ الرَّسُولُ أَمْرًا خَاصًّا بِأَنْ يَقُولَهَا وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا يُنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَأْمُورًا بِأَنْ يَقُولَهُ. وَتَقْدِيرُ نَظْمِ الْكَلَامِ: قُلْ لَهُمْ فَلْيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ بِذَلِكَ لِيَفْرَحُوا. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَفْرَحُوا فَاءُ التَّفْرِيعِ، وبِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ مَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ فَلْيَفْرَحُوا قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ تَعْرِيضِيٌّ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَهَجُوا بِعَرَضِ الْمَالِ فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: فَبِذلِكَ لِلْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَجْمُوعُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَاخْتِيرَ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ مَعَ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ وَالِاخْتِصَارِ. وَلَمَّا قَصَدَ تَوْكِيدَ الْجُمْلَةِ كُلَّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ قَرَنَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِالْفَاءِ تَأْكِيدًا لِفَاءِ التَّفْرِيعِ الَّتِي فِي فَلْيَفْرَحُوا لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِإِظْهَارِ التَّفْرِيعِ فِي ابْتِدَاءِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ حُذِفَ فِعْلُ (لِيَفْرَحُوا) فَصَارَ مُفِيدًا مُفَادَ جُمْلَتَيْنِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ مَعَ إِيجَازٍ بَدِيعٍ. وَتَقْدِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ فَلْيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ لَا سِوَاهُمَا فَلْيَفْرَحُوا بِذَلِكَ لَا سِوَاهُ. وَالْفَرَحُ: شِدَّةُ السُّرُورِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْكَلَامَ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ وَهُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ حَصَلَ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ فَقُرِنَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ بِالْفَاءِ الَّتِي تَرْبُطُ الْجَوَابَ لِقَصْدِ إِفَادَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَقَوْلِهِ

تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» ، وَقَوْلِهِ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» بِجَزْمِ (تَكُونُوا) وَجَزْمِ (يُولَّ) . فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِذلِكَ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَفْرَحُوا مُؤَكِّدَةٌ لِلرَّبْطِ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُرَادٌ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ. وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ (يَعْنِي أَنْ هَدَاكُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ) . وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْبَرَاءِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ فَإِنَّ الْفَضْلَ هُوَ هِدَايَةُ اللَّهِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَالرَّحْمَةَ هِيَ التَّوْفِيقُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْقَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورَيْنِ. وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ كَمَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّا يجمعُونَ. ومِمَّا يَجْمَعُونَ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْوَالُ وَالْمَكَاسِبُ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمْعِ غَلَبَ فِي جَمْعِ الْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ [الْهمزَة: 2] . وَمِنَ الْمُعْتَادِ أَنَّ جَامِعَ الْمَالِ يَفْرَحُ بِجَمْعِهِ. وَضَمِيرُ يَجْمَعُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ [يُونُس: 57] بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير فَلْيَفْرَحُوا فَإِنَّ الْقَرَائِنَ تَصْرِفُ الضَّمَائِرَ الْمُتَشَابِهَةَ إِلَى مَصَارِفِهَا، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا ضَمِيرُ (أَحْرَزُوا) عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (جَمْعُهُمْ) . وَضَمِيرُ (جَمَعُوا) عَائِدٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَوْلَا نَحْنُ لَغَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ مَعْنَى الْقَصْرِ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَيْضًا الْمُنَاسِبُ لِحَالَةِ الْمُسْلِمِينَ وَحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي ضَعْفٍ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْ ضِعَافِ الْقَوْمِ

أَوْ لِأَنَّ أَقَارِبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَسَلَّطُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمَنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ بِالثَّرْوَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] وَقَالَ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 14، 15] وَقَالَ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196، 197] ، فَلَعَلَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ قَوْلُهُمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: 27] . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: 52، 53] حِينَ قَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ مِنْ مَجْلِسِكَ لَجَلَسْنَا إِلَيْكَ، فَكَمَدَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْآدَابِ الْجَلِيلَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْإِتْيَانِ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْمَعُونَ الْمُقْتَضِي تَجَدُّدَ الْجَمْعِ وَتُكَرُّرَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عِنَايَتَهُمْ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اتِّصَافِهِمْ بِالشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ حَصَّلُوا مَا بِهِ بَعْضُ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا فَهُمْ شِرَارُ النُّفُوسِ خِسَاسُ الْمَدَارِكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَجْمَعُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ، أَيْ مِمَّا يَجْمَعُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ مِمَّا تَجْمَعُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمُ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُس: 57] ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَمَّمَ الْخِطَابَ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ وَبِالْجَدَارَةِ بِالْفَرَحِ، فَبَقِيَ الْخِطَابُ لِمَنْ عَدَا الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ غَيْرُ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ هُنَالِكَ. وَلَا يُنَاسِبُ جَعْلَ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَعْنَى التَّفْضِيلِ إِلَّا بِالِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ نَالُوا الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ فَإِذَا نَالُوا مَعَهُمَا الْمَالَ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِهِمْ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ وَجْهَ تَفْضِيلِ هَذَا الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى مَا يَجْمَعُونَهُ لِقَصْدِ إِعْمَالِ النَّظَرِ فِي وُجُوهِ تَفْضِيلِهِ، فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، مِنْهَا وَاضِحٌ وَخَفِيٌّ. وَيُنْبِئُ بِوَجْهِ تَفْضِيلِهِ فِي

[سورة يونس (10) : آية 59]

الْجُمْلَةِ إِضَافَتُهُ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ إِلَى اللَّهِ وَإِسْنَادُ فِعْلِ يَجْمَعُونَ إِلَى ضمير النَّاسُ [يُونُس: 57] . وَهَذَا الْفَضْلُ أُخْرَوِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ. أَمَّا الْأُخْرَوِيُّ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيُّ فَلِأَنَّ كَمَالَ النَّفْسِ وَصِحَّةَ الِاعْتِقَادِ وَتَطَلُّعَ النَّفْسِ إِلَى الْكَمَالَاتِ وَإِقْبَالَهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُكْسِبُ الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا وَعِيشَةً هَنِيئَةً. قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفجْر: 27، 28] فَجَعَلَ رِضَاهَا حَالًا لَهَا وَقْتَ رُجُوعِهَا إِلَى رَبِّهَا. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: «وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَفْرَحَ الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ لِأَنَّ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ لَيْسَتْ غَيْرَ دَفْعِ الْآلَامِ عِنْدَ جَمْعٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْمَعْنَى الْعَدَمِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّذَّاتُ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةً فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ خَالِصَةً أَلْبَتَّةَ بَلْ تَكُونُ مَمْزُوجَةً بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَكَارِهِ وَهِيَ لَا تَكُونُ بَاقِيَةً، فَكُلَّمَا كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهَا أَكْثَرَ كَانَتِ الْحَسَرَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنْ خَوْفِ فَوَاتِهَا أَكْثَرَ وَأَشَدَّ» . ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ دَوَامِهَا يَقْتَضِي قِصَرَ مُدَّةِ التَّمَتُّعِ بِهَا بِخِلَافِ اللَّذَّات الروحانية. [59] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 59] قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) اسْتِئْنَافٌ أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ للْمُشْرِكين. وافتتاحه ب قُلْ لِقَصْدِ تَوَجُّهِ الْأَسْمَاعِ إِلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ حَكَى تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُ مُفْتَرًى وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، ثُمَّ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى تَفْصِيلِ الشَّرِيعَةِ وَتَصْدِيقِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْجَزَ مُكَذِّبِيهِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ، وَبَانَتْ لِقَاصِدِ الِاهْتِدَاءِ الْمَحَجَّةُ، لَا جَرَمَ دَالَتِ النَّوْبَةُ إِلَى إِظْهَارِ خَطَلِ عُقُولِهِمْ وَاخْتِلَالِ تَكْذِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَكْذِيبًا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فَقَدِ ارْتَبَكُوا فِي دِينِهِمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهُ مُمَاثِلَةُ الْحَالَةِ الَّتِي أَنْكَرُوهَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ وَضَعُوا دِينًا فَجَعَلُوا بَعْضَ أَرْزَاقِهِمْ حَلَالًا لَهُمْ وَبَعْضَهَا حَرَامًا

عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا بِزَعْمِهِمْ فَمَنِ الَّذِي أَبْلَغَهُمْ تِلْكَ الشَّرَائِعَ عَن الله وَلماذَا تَقَبَّلُوهَا عَمَّنْ شَرَعَهَا لَهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُ وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ فَلَزِمَهُمْ مَا أَلْصَقُوهُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِقَ بِهِمْ وَبَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُ رَسُولَهُ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُسَمَّى بِالْقَلْبِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ. ثُمَّ إِنَّ اخْتِيَارَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَشْرِيعِهِمْ فِي خُصُوصِ أَرْزَاقِهِمْ يَزِيدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مُنَاسَبَةً بِآخِرِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ لِيَظْهَرَ مَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ جُمْلَةُ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونُس: 58] ، أَيْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَتِلْكَ الْأَمْوَالُ هِيَ الَّتِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فَجَعَلُوا مِنْهَا حَلَالًا وَمِنْهَا حَرَامًا وَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِذْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ، وَحَسْبُهُمْ بِذَلِكَ شَنَاعَةً بِهِمْ مُلْصَقَةً، وَأَبْوَابًا مِنَ الْخَيْرِ فِي وُجُوهِهِمْ مُغْلَقَةً. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ وآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ تَقْرِيرِيٌّ بِاعْتِبَارِ إِلْزَامِهِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ لَهُمْ، أَوْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ شِيبَ التَّقْرِيرُ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ هُوَ الْمَفْعُول الأول ل (رَأَيْتُمْ) ، وَجُمْلَةُ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ، أَيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ مفعول ثَان ل (رَأَيْتُمْ) ، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ بِالْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: أَذِنَكُمْ بِذَلِكَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا. وقُلْ الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِ قُلْ الْأَوَّلِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأُولَى وَجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ إِشْرَافِ الْأَسْمَاعِ عَلَيْهِ. وَهِيَ مُعَادَلَةٌ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْمُولَتَيْنِ لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُ التَّعْلِيقِ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَزَعَمَ الرَّضِيُّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ. وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [58، 59] . وأَمْ مُتَّصِلَةٌ وَهِيَ مُعَادِلَةٌ لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.

وَالرِّزْقُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فِي الْأَعْرَافِ [50] . وَعَبَّرَ عَنْ إِعْطَاءِ الرِّزْقِ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَمْوَالِهِمْ كَانَتِ الثِّمَارَ وَالْأَعْنَابَ وَالْحُبُوبَ، وَكُلُّهَا مِنْ آثَارِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ مِنَ السَّحَابِ بِتَكْوِينِ اللَّهِ، فَأُسْنِدَ إِنْزَالُهُ إِلَى اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَمُعْظَمُ أَمْوَالِهِمُ الْأَنْعَامُ، وَحَيَاتُهَا مِنَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَهِيَ مِنْ أَثَرِ الْمَطَرِ، قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 24، 32] . وَقَالَ: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] أَيْ سَبَبُ رِزْقِكُمْ وَهُوَ الْمَطَرُ. وَقَدْ عُرِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ. وَهُوَ عَلَى الْمَجَازِ فِي كَلِمَةِ (بَنِي) لِأَنَّ الِابْنَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْمُلَازِمِ لِلشَّيْءِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ إِعْطَاءِ الْأَنْعَامِ بِالْإِنْزَالِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَالْمَجْعُولُ حَرَامًا هُوَ مَا حَكَى اللَّهُ بَعْضَهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَقَوْلِهِ: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [138، 139] . وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ ابْتِدَاءً هُوَ جَعْلُهُمْ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ حَرَامًا عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا عَطْفُ حَلالًا عَلَى حَراماً فَهُوَ إِنْكَارٌ بِالتَّبَعِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَمَدُوا إِلَى بَعْضِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَجَعَلُوهُ حَرَامًا وَمَيَّزُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الرِّزْقِ فَقَدْ جَعَلُوا الْحَلَالَ أَيْضًا حَلَالًا، أَيْ بِجَعْلٍ جَدِيدٍ إِذْ قَالُوا هُوَ حَلَالٌ فَجَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُهَيْمِنِينَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ إِذْ عَمَدُوا إِلَى الْحَلَالِ مِنْهَا فَقَلَبُوهُ حَرَامًا وَأَبْقَوْا بَعْضَ الْحَلَالِ عَلَى الْحِلِّ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ أَبْقَوْهُ عَلَى الْحِلِّ لَمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ حَلَالًا وَلَتَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَعْلَ بَعْضِ الرِّزْقِ حَرَامًا وَبَعْضِهِ حَلَالًا، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مَا كَانَ حَرَامًا حَلَالًا إِذْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: حَلالًا عُطِفَ عَلَى حَراماً وَالتَّقْدِيرَ: وَمِنْهُ حَلَالًا، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ لَا يَعْدُو بَيْنَهُمْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى فَجَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَرَامًا وَحَلَالًا، وَبَعْضَهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا حَلَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ.

[سورة يونس (10) : آية 60]

وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ مَعَ الِاهْتِمَامِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ تَشْنِيعًا لِتَعْلِيقِ الِافْتِرَاءِ بِهِ. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَذِنَ لِظُهُورِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ بذلك الْجعل. [60] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 60] وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ [يُونُس: 59] ، فَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ لِيَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ. وَلِذَلِكَ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ (هُمْ) مُضَافًا إِلَيْهِ الظَّنُّ إِمَّا ضَمِيرِ خِطَابٍ أَوْ غَيْبَةٍ. فَيُقَالُ: وَمَا ظَنُّكُمْ أَوْ وَمَا ظَنُّهُمْ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ بِالصِّلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّرْدِيدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِيمَا حَرَّمُوهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَرِينَ عَلَيْهِ قَدِ انْحَصَرَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مُفْتَرِينَ إِذْ لَا مَسَاغَ لَهُمْ فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ، فَإِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ فَقَدْ صَارَ الِافْتِرَاءُ حَالَهُمُ الْمُخْتَصَّ بِهِمْ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيذَانٌ بِعِلَّةِ التَّعْجِيبِ مِنْ ظَنِّهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَحُذِفَ مَفْعُولَا الظَّنِّ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ مَا ظَنُّهُمْ بِحَالِهِمْ وَبِجَزَائِهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَذِبًا، وَلَكِنَّهُ عُرِّفَ لِتَفْظِيعِ أَمْرِهِ، أَيْ هُوَ الْكَذِبُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ الْمُسْتَقْبَحِ فِي الْعُقُولِ. ويَوْمَ الْقِيامَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَعَامِلُهُ الظَّنُّ، أَيْ مَا هُوَ ظَنُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ إِذَا رَأَوُا الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ مَاذَا يَكُونُ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ لَاقُونِ، وَهَذَا تَهْوِيلٌ.

[سورة يونس (10) : آية 61]

وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يُونُس: 57] . وَفِيهِ قَطْعٌ لِعُذْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالتَّمَرُّدِ بِأَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِالْكُفْرِ دُونَ الشُّكْرِ وَجَعَلُوا رِزْقَهُمْ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ فِي حِينِ قَابَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْفَرَحِ وَالشُّكْرِ فَانْتَفَعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. [61] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ [يُونُس: 60] عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، لِأَنَّ فَصْلَ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ بِالتَّذْيِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ نُقِلَ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالثَّوَابِ لِلرَّسُولِ عَلَى مَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ أَمْرِ الله وتدبير شؤون الْمُسْلِمِينَ وَتَأْيِيدِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَبِالثَّوَابِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِمُ الرَّسُولَ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَجَاءَ هَذَا الْوَعْدُ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِحُصُولِ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ عَمَلَهُمْ وَعَمَلَ النَّبِيءِ مَا كَانَ إِلَّا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَلِيلِ أَعْمَالِهِ وَتَسْلِيَةً عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَكْذِيبٍ وَأَذًى، لِأَنَّ اطِّلَاعَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَعِلْمَهُ بِأَنَّهُ فِي مَرْضَاتِهِ كَافٍ فِي التَّسْلِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] ، وَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ ابْتِدَاءً إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا الْأُولَى وَمَا الثَّانِيَةُ نَافِيَتَانِ.

وَالشَّأْنُ: الْعَمَلُ الْمُهِمُّ وَالْحَالُ الْمُهِمُّ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى شِدَّةِ التَّلَبُّسِ. وَضَمِيرُ (مِنْهُ) إِمَّا عَائِدٌ إِلَى (شَأْنٍ) ، أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنَ الشَّأْنِ قُرْآنًا فَتَكُونُ (مِنْ) مُبَيِّنَةً لِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوْ تَكُونُ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، أَيْ تَتْلُو مِنْ أَجْلِ الشَّأْنِ قُرْآنًا. وَعطف وَما تَتْلُوا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، فَإِنَّ التِّلَاوَة أهم شؤون الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَإِمَّا عَائِدٌ إِلَى قُرْآنٍ، أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، فَتَكُونُ مِنْهُ لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مُؤَخَّرٍ لِتَحْصِيلِ التَّشْوِيقِ إِلَيْهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَوَاوُ (تَتْلُو) لَامُ الْكَلِمَة، وَالْفِعْل مُحْتَمل لِضَمِيرٍ مُفْرَدٍ لِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَكُونُ الْكَلَامُ قد ابتدئ بشؤون النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّهِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَثُنِّيَ بِمَا هُوَ من شؤونه بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَثَلَّثَ بِمَا هُوَ من شؤون الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهِ شَامِلًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ شَأْنٍ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: تَعْمَلُونَ فَلَا يَبْقَى مُرَادًا مِنْهُ إِلَّا مَا يَعْمَلُهُ بَقِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ. وَوَقَعَ النَّفْيُ مَرَّتَيْنِ بِحَرْفِ (مَا) وَمَرَّةً أُخْرَى بِحَرْفِ (لَا) لِأَنَّ حَرْفَ (مَا) أَصْلُهُ أَنْ يُخْلِصَ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ، فَقَصَدَ أَوَّلًا اسْتِحْضَارَ الْحَالِ الْعَظِيمِ مِنْ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ قِرَاءَتِهِ الْقُرْآنَ، وَلَمَّا نُفِيَ عَمَلُ الْأُمَّةِ جِيءَ بِالْحَرْفِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ تَخْلِيصُهُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ لِلتَّثْنِيَةِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا. وَيُعْلَمُ مِنْ قَرِينَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ بِوَاسِطَةِ النَّكِرَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَالْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَمَا يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ سَوَاءٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ وَالْإِعْجَازِ. وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ صِيَغِ الْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهَا إِلَّا كُنَّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ وَيَحْصُلُ وَسَيَحْصُلُ سَوَاءٌ فِي عِلْمِ

اللَّهِ تَعَالَى على طَريقَة الاحتباس كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا كُنْتُمْ وَتَكُونُ وَهَكَذَا، إِلَّا كُنَّا وَنَكُونُ عَلَيْكُمْ شُهُودًا. ومِنْ عَمَلٍ مَفْعُولُ تَعْمَلُونَ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ (مِنْ) لِلتَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ لِيَشْمَلَ الْعَمَلَ الْجَلِيلَ وَالْحَقِيرَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا عُمُومُ الشَّأْنِ وَعُمُومُ التِّلَاوَةِ وَعُمُومُ الْعَمَلِ، أَيْ إِلَّا فِي حَالَةِ عِلْمِنَا بِذَلِكَ، فَجُمْلَةُ كُنَّا عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَوُجُودُ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ أَغْنَى عَنِ اتِّصَالِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِأَنَّ الرَّبْطَ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَالشُّهُودُ: جَمْعُ شَاهِدٍ. وَأُخْبِرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى تَبَعًا لِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَنَظِيرُهُ فِي ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ: فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ ... لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْوَاحِدِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْقُوَّةِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَخْلُو مِنْ مَزَايَا كَثِيرَةٍ مُوَزَّعَةٍ فِي أَفْرَادِهَا. وَالشَّاهِدُ: الْحَاضِرُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَالِمِ بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) . وإِذْ ظَرْفٌ، أَيْ حِين تفيضون. وَالْإِضَافَة فِي الْعَمَلِ: الِانْدِفَاعُ فِيهِ، أَيِ الشُّرُوعُ فِي الْعَمَلِ بِقُوَّةٍ وَاهْتِمَامٍ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَعْمَالُهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمُصَابَرَتُهُمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَخُصَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ وَهَذَا الزَّمَانُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ تَعْمِيمِ الْأَعْمَالِ اهْتِمَامًا بِهَذَا النَّوْعِ فَهُوَ كَذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ مَا وَعَمَلٍ عَظِيمٍ تُفِيضُونَ فِيهِ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا حِينَ تَعْمَلُونَهُ وَحِينَ تُفِيضُونَ فِيهِ.

وَجُمْلَةُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِعَمَلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَالْعُزُوبُ: الْبُعْدُ، وَهُوَ مَجَازٌ هُنَا لِلْخَفَاءِ وَفَوَاتِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْخَفَاءَ لَازِمٌ لِلشَّيْءِ الْبَعِيدِ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِاسْمِ الذَّاتِ دُونَ صِفَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ: عَنْ رَبِّكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْزُبُ- بِضَمِّ الزَّايِ-، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الزَّايِ- وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مُضَارِعِ (عَزَبَ) . وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ الَّذِي فِي مَا يَعْزُبُ. وَالْمِثْقَالُ: اسْمُ آلَةٍ لِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقَلِ الشَّيْءِ فَهُوَ وَزْنُ مِفْعَالٍ مِنْ ثَقُلَ، وَهُوَ اسْمٌ لِصَنْجٍ مُقَدَّرٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ يُوزَنُ بِهِ الثِّقَلُ. وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْهَبَاءَةِ الَّتِي تُرَى فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ كَغُبَارٍ دَقِيقٍ جِدًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأَوَّلُ. وَذُكِرَتِ الذَّرَةُ مُبَالَغَةً فِي الصِّغَرِ وَالدِّقَّةِ لِلْكِنَايَةِ بِذَلِكَ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّرَّةِ يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ هُنَا الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ وَالْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ. وَالْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ وَالْأَبْعَادِ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ. وَتَقْدِيمُ الْأَرْضِ هُنَا لِأَنَّ مَا فِيهَا أَعْلَقُ بِالْغَرَضِ الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ وَهُوَ أَعْمَالُ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ [3] عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِذِكْرِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ النَّاسِ وَمُعْظَمُهُ فِي السَّمَاءِ لَاءَمَ ذَلِكَ أَنْ قُدِّمَتِ السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ. وَعُطِفَ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ عَلَى ذَرَّةٍ تَصْرِيحًا بِمَا كُنِّيَ عَنْهُ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْرَامِ. وأَصْغَرَ بِالْفَتْحِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَرَّةٍ

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 64]

الْمَجْرُورِ عَلَى أَنَّ لَا مُقْحَمَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَطْفَ جُمْلَةٍ وَتَكُونَ لَا نَافِيَةً لِلْجِنْسِ وأَصْغَرَ اسْمَهَا مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ فَيَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ وَيَعْقُوبُ وَلَا أَصْغَرُ- وَلَا أَكْبَرُ بِرَفْعِهِمَا بِاعْتِبَارِ عَطْفِ أَصْغَرَ عَلَى مَحَلِّ مِثْقالِ لِأَنَّهُ فَاعِلُ يَعْزُبُ فِي الْمَعْنَى، وَكَسْرَتُهُ كَسْرَةُ جَرِّ الْحَرْفِ الزَّائِدِ وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ فَصِيحِ الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ لَا نَافِيَةً عَامِلَةً عَمَلَ لَيْسَ وأَصْغَرَ اسْمَهَا. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ قِرَاءَتَيْ نَصْبِ أَصْغَرَ وَرَفْعِهِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى (لَكِنَّ) ، أَيْ لَا يَعْزُبُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ حَاضِرٌ فِي كِتَابٍ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ عُزُوبِ مِثْقَالِ الذَّرَّةِ وَأَصْغَرَ مِنْهَا وَأَكْبَرَ. وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْمَعْنَى لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَيْ إِلَّا مَعْلُومًا مَكْتُوبًا وَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْزُبَ، فَيَكُونَ انْتِفَاءُ عُزُوبِهِ حَاصِلًا بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ. وَالْمَجْرُورُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا وَالْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِلًّا فِي مَحَلِّ خَبَرِ (لَا) النَّافِيَةِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيْ لَا يُوجَدُ أَصْغَرُ مِنَ الذَّرَّةِ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَام: 59] . وَالْكِتَابُ: عِلْمُ اللَّهِ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْكِتَابُ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يُخَالِفُ الْحَقَّ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَمُبِينٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ وَاضِحٍ بَيِّنٍ لَا احْتِمَال فِيهِ. [62- 64] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 62 إِلَى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) اسْتِئْنَافٌ لِلتَّصْرِيحِ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَرَّضِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ [يُونُس: 61] الْآيَةَ،

وَبِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَذًى وَتَهْدِيدٍ، إِذْ أَعْلَنَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْنِ مِنْ مَخَافَةِ أَعْدَائِهِمْ، وَمِنَ الْحُزْنِ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ، وَلَمَّحَ لَهُمْ بِعَاقِبَةِ النَّصْرِ، وَوَعَدَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْآخِرَةِ وَعْدًا لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ وَلَا التَّخَلُّفَ تَطْمِينًا لِنُفُوسِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَهَمِّيَّةِ شَأْنِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [12] ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بِ إِنَّ بَعْدَ أَدَاةِ التَّنْبِيهِ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِ أَوْلِياءَ اللَّهِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى وُقُوعِهِ عقب قَوْله: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ [يُونُس: 61] يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ حَقَّ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَعَ إِفَادَةِ حُكْمٍ عَامٍّ شَمِلَهُمْ وَيَشْمَلُ مَنْ يَأْتِي عَلَى طَرِيقَتِهِمْ. وَجُمْلَةُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ خَبَرُ إِنَّ. وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ لِلْمُتَوَقَّعِ، فَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُتَوَقَّعِ حُصُولُهُ. فَيُقَالُ: خَافَ الشَّيْءَ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ [آل عمرَان: 175] . وَإِذَا كَانَ تَوَقُّعُ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ لِغَيْرِ الْمُتَوَقِّعِ يُقَالُ لِلْمُتَوَقَّعِ: خَافَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعَرَاء: 135] . وَقَدِ اقْتَضَى نَظْمُ الْكَلَامِ نَفْيَ جِنْسِ الْخَوْفِ لِأَنَّ (لَا) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّكِرَةِ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ، وَأَنَّهَا إِذَا بُنِيَ الِاسْمُ بَعْدَهَا عَلَى الْفَتْحِ كَانَ نَفْيُ الْجِنْسِ نَصًّا وَإِذَا لَمْ يُبْنَ الِاسْمُ عَلَى الْفَتْحِ كَانَ نَفْيُ الْجِنْسِ ظَاهِرًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ إِذَا كَانَ الْمَقَامُ صَالِحًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ الَّتِي لَهَا أَفْرَادٌ مِنَ الذَّوَاتِ مِثْلَ رَجُلٍ، فَأَمَّا أَجْنَاسُ الْمَعَانِي فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ فَيَسْتَوِي فِيهَا رَفْعُ اسْمِ (لَا) وَبِنَاؤُهُ عَلَى الْفَتْحِ، كَمَا فِي قَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» فَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بِالرَّفْعِ وَبِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ.

فَمَعْنَى لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ خَائِفٌ، أَيْ هُمْ بِمَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَكْرُوهٌ يُخَافُ مِنْ إِصَابَةِ مِثْلِهِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْأَعْدَاءِ هَجْسًا مِنْ جِبِلَّةِ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ بَوَادِرِ الْمَخَافَةِ، فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْأَحْوَالِ بِنَظَرِ الْيَقِينِ سَلِيمًا مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْمَظَاهِرِ، فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخَافَ، وَلِذَلِكَ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ مَا يَتَوَجَّسُونَ مِنْهُ خِيفَةً، فَالْخَوْفُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْآيَةِ يُقَدَّرُ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ غَيْرُهُمْ لَا مَحَالَةَ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَخَافُهُ خَائِفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذَا اعْتَرَاهُمُ الْخَوْفُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَشِعَ عَنْهُمْ وَتَحُلَّ السَّكِينَةُ مَحَلَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 25، 26] ، وَقَالَ لِمُوسَى: لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: 77] ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ يَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» . ثُمَّ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: 45] . وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ تَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَأَسْنَدَ فِيهِ الْحُزْنَ الْمَنْفِيَّ إِلَى ضَمِيرِ أَوْلِياءَ اللَّهِ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِهِ، وَإِيرَادِ الْفِعْلِ بَعْدَهُ مُسْنَدًا مُفِيدًا تَقَوِّي الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْحُزْنَ هُوَ انْكِسَارُ النَّفْسِ مِنْ إِثْرِ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهَا فَهُوَ لَا تُوجَدُ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالْخَوْفُ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِهِ، ثُمَّ هُمْ وَإِنْ كَانُوا يَحْزَنُونَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ أُمُورٍ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُنُونَ» فَذَلِكَ حُزْنٌ وِجْدَانِيٌّ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَزُولُ بِالصَّبْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمُ الْحُزْنُ الدَّائِمُ وَهُوَ حَزْنُ الْمَذَلَّةِ وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَزَوَالِ دَيْنِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِإِدْخَالِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى تَرْكِيبٍ مُفِيدٍ لِتَقَوِّيِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لِأَنَّ جُمْلَةَ: هُمْ يَحْزَنُونَ يُفِيدُ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا تَقَوِّي الْحُكْمِ الْحَاصِلِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَالْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْفٌ مُتَمَكِّنٌ ثَابِتٌ يَبْقَى فِيهِمْ وَلَا يَجِدُونَ تَخَلُّصًا مِنْهُ.

فَالْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُمْ مَا يَخَافُونَهُ وَأَنْ لَا يَحُلَّ بِهِمْ مَا يُحْزِنُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ مَا يُخَافُ مِنْهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْزِنَ مَنْ يُصِيبُهُ كَانَ نَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُمْ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى نَفْيِ خَوْفِ خَائِفٍ عَلَيْهِمْ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ الْمَنْفِيَّيْنِ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ فِي الْآخِرَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ يَحْصُلَانِ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: 67] . وَقَدْ عَلِمْتَ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ يَبْعُدُ عَنْ مفَاد قَوْله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي، أَيِ الْمُحَالِفُ وَالنَّاصِرُ. وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْوَلْيِ (بِسُكُونِ اللَّامِ) ، وَهُوَ الْقُرْبُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَلِيِّ كُلُّهَا قُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [14] . وَهُوَ قُرْبٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِأَنَّهُ الَّذِي يَتَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَيَتَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْكَرَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوْا، فَاسْمُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتُهُ خَبَرٌ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ يُجْعَلُ جُمْلَةُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ خَبَرَ إِنَّ وَيُجْعَلُ اسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ حَذْفًا جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ فِي حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْخَبَرُ يُفِيدُ أَنْ يَعْرِفَ السَّامِعُ كُنْهَ مَعْنَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اعْتِنَاءً بِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنَّ ... كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَكانُوا يَتَّقُونَ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُلَازِمَةٌ لَهُمْ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ كانُوا وَأَنَّهَا مُتَجَدِّدَةٌ مِنْهُمْ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتَّقُونَ. وَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ فِي الْمُذَاكِّرَاتِ مُنْذُ سِنِينَ خَلَتْ فِي أَيَّامِ الطَّلَبِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَقْوَى مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ حَقِيقَةِ الْوَلِيِّ شَرْعًا وَأَنَّ عَلَى حَقِيقَتِهَا يُحْمَلُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِحَرْبٍ» . وَإِشَارَةُ الْآيَةِ إِلَى تَوَلِّي اللَّهِ إِيَّاهُمْ بالكرامة بقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ . وتعريفْ بُشْرى تَعْرِيف الْجِنْسِ فَهُوَ صَادِقٌ بِبِشَارَاتٍ كَثِيرَةٍ.

وَ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) حَال منْ بُشْرى . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ بِخَيْرَاتٍ قَبْلَ حُصُولِهَا: فِي الدُّنْيَا بِمَا يَتَكَرَّرُ مِنَ الْبِشَارَاتِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، كَقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [الْبَقَرَة: 25] . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَقَالَ: «مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَيْسَ فِيهِ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَيْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ يَرْوِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَلَيْهِ فَالْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُتَّصِلِ السَّنَدِ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدَيْنِ آخَرَيْنِ فِيهِمَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَذَلِكَ سَنَدٌ فِيهِ مَجْهُولٌ، فَحَالَةُ إِسْنَادِ هَذَا الْخَبَرِ مُضْطَرِبَةٌ لِظُهُورِ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَمَحْمَلُ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ صَاحِبَهَا بِخَيْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَحْرَى الْآخِرَةِ، أَوْ كَأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَنْ بُشْرَى الْحَيَاةِ فَأَمَّا بُشْرَى الْآخِرَةِ فَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ [التَّوْبَة: 21] الْآيَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِه الآيةهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قَالَ: هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ أَوْ تُرَى لَهُ. وَمِنَ الْبُشْرَى الْوَعْدُ بِأَنَّ لَهُمْ عَاقِبَةَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنَ السُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُمُ النَّعِيمَ الْخَالِدَ فِي الْآخِرَةِ. وَمُقَابَلَةُ الْحُزْنِ بِالْبُشْرَى مِنْ مُحَسِّنَاتِ الطِّبَاقِ. وَجُمْلَةُ: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى تَأْكِيدِ الْوَعْدِ الَّذِي تضمنه قَوْله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَشَائِرِ مِثْلَ النَّصْرِ

[سورة يونس (10) : آية 65]

وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَا يَتَخَلَّفُ لِأَنَّهُ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّهِ، وَقَدْ نُفِيَ التَّبْدِيلُ بِصِيغَةِ التَّبْرِئَةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِفَاءِ جِنْسِ التَّبْدِيلِ. وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ وَالْإِبْطَالُ، لِأَنَّ إِبْطَالَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ إِيجَادَ نَقِيضِهِ. وكَلِماتِ اللَّهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي أَوْحَى بِهَا إِلَى الرَّسُولِ فِي الْوَعْدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ كَلِماتِ اللَّهِ وَعُمُومِ نَفْيِ التَّبْدِيلِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ تَبْدِيلٌ مَنْفِيٌّ مِنْ أَصْلِهِ. رُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ فَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَدَّلَ كِتَابَ اللَّهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حَاضِرًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: لَا تُطِيقُ ذَلِكَ أَنْتَ وَلَا ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ. وجملةلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ مُؤَكدَة لجملةهُمُ الْبُشْرى وَمُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاخْتِيَارُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِمَا ذُكِرَ، وَفِيهِ كَمَالُ تَمْيِيزٍ لَهُ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَاهُ. وَذُكِرَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَلِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لَا غَيْرُهُ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ رِزْقٍ وَمَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ فَوْزًا إِذَا عَاقَبَتْهُ الْمَذَلَّةُ وَالْإِهَانَةُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَهُ الْعَذَابُ الْخَالِدُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 196، 197] . [65] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 65] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُس: 62] عَطْفَ الْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ لِأَنَّ الْحُزْنَ الْمَذْكُورَ هُنَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُزْنِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُس: 62] ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ

وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ دَفْعَ هَذَا الْحُزْنِ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ النَّفْيِ وَلَكِنْ عُدِلَ إِلَى الْعَطْفِ بِالْوَاوِ لِيُعْطِيَ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ اسْتِقْلَالًا بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ فَيَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ. وَالْحُزْنُ الْمَنْهِيُّ عَنْ تَطَرُّقِهِ هُوَ الْحُزْنُ النَّاشِئُ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالِهِمُ الْبَذِيئَةِ وَتَهْدِيدَاتِهِمْ. وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى دَحْضِهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَحْزَنًا إِلَّا أَذَى القَوْل الْبَذِيء. وَصِيغَةُ لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَاهِرُ صِيغَتِهِ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُحْزِنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ النَّهْيِ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ بِهِ إِلَى مَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَهْيُ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُحْزِنَ النَّاسَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، فَلَمَّا وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ نَهْيِهِ هُوَ عَنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْحُزْنِ فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ عَنْ نَفْسِهِ أَسبَابه وملزوماته فيؤول إِلَى مَعْنَى لَا تَتْرُكْ أَقْوَالَهُمْ تُحْزِنْكَ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ: لَا أَرَيَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، فَالْمُتَكَلِّمُ يَنْهَى الْمُخَاطَبَ عَنْ أَنْ يَرَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فَاعِلًا كَذَا. وَالْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَرَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلَنَّ كَذَا فَأَرَاكَ تَفْعَلُهُ. وَمَعْنَى لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ لَا تَحْزَنْ لِقَوْلِهِمْ فَيُحْزِنَكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي تُحْزِنُ النَّبِيءَ هِيَ أَقْوَالُ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ الْقَوْلِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ مَصْدَرِ الْفِعْلِ اللَّازِمِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً تَعْلِيلٌ لِدَفْعِ الْحُزْنِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ كَأَنَّ النَّبِيءَ يَقُولُ: كَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَالْمُشْرِكُونَ يَتَطَاوَلُونَ عَلَيْنَا وَيَتَوَعَّدُونَنَا وَهُمْ أَهْلُ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ عِزَّتَهُمْ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهَا مَحْدُودَةٌ وَزَائِلَةٌ وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَكَ. وَهِيَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ اسْتِئْنَافٍ بَيَانِيٍّ. وَكُلُّ جُمْلَةٍ كَانَ مَضْمُونُهَا عِلَّةً لِلَّتِي قَبْلَهَا تَكُونُ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، فَالِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ أَعَمُّ مِنَ التَّعْلِيلِ.

وَافْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ مُفَادَ لَامِ التَّعْلِيلِ وَفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ فِيهِ دَفْعُ إِنْكَارٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى كَلِمَةِ قَوْلُهُمْ لِكَيْ لَا يَتَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُ جُمْلَةَ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فَيَحْسَبُهُ مَقُولًا لقَولهم فيتطلب لماذَا يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ سَبَبًا لِحُزْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَيْفَ يَحْزَنُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقَامِ مَا يَهْدِي السَّامِعَ سَرِيعًا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْإِيهَامِ مَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ (وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ) ذَكَرَ قِرَاءَةَ أَبِي حَيْوَةَ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) - وَأُعْرِبَ بَدَلًا مِنْ (قَوْلُهُمْ) فَحَكَمَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ كُفْرٌ. حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «الْكَشَّافِ» فَقَالَ: «وَمَنْ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْ (قَوْلُهُمْ) ثُمَّ أَنْكَرَهُ فَالْمُنْكَرُ هُوَ تَخْرِيجُهُ» . وَلَعَلَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ أَرَادَ أَنَّ كَسْرَ الْهَمْزَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لِأَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مَعْمُولَةً لِ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ شَأْنَ (إِنَّ) بَعْدَ فِعْلِ الْقَوْلِ أَنْ لَا تَكُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لَكِنَّ ذَلِكَ احْتِمَالٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، وَالسِّيَاقُ يُعَيِّنُ الِاحْتِمَالَ الصَّحِيحَ. فَأَمَّا إِذَا فُتِحَتِ الْهَمْزَةُ كَمَا قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا وَهُوَ لَفْظُ قَوْلُهُمْ وَلَا مَحْمَلَ لَهَا عِنْدَهُ إِلَّا أَنَّهَا أَيِ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ. مِنْهَا بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةِ قَوْلُهُمْ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ الله نهى نبيئه عَنْ أَنْ يَحْزَنَ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَكَيْفَ وَهُوَ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَقْتَضِي تَجْوِيزَ تَلَبُّسِ الْمَنْهِيِّ بِالشَّيْءِ الْمُنْهَى عَنْهُ اقْتَضَى ذَلِكَ تَجْوِيزَ تَلَبُّسِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْحُزْنِ لِمَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ وَهَذَا التجويز يؤول إِلَى كُفْرِ مَنْ يُجَوِّزُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْفِيرِ بِاللَّازِمِ، وَمَقْصِدُهُ التَّشْنِيعُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ.

وَإِنَّمَا بَنَى ابْنُ قُتَيْبَةَ كَلَامَهُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ دُونَ تَقْدِيرِ حَرْفٍ قَبْلَ (أَنَّ) لَعَلَّهُ رَاعَى أَنَّ التَّقْدِيرَ خِلَافُ الْأَصْلِ أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ كَافٍ فِي دَفْعِ الْإِيهَامِ. فَالْوَجْهُ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ هَوَّلَ مَا لَهُ تَأْوِيلٌ، وَرَدَّ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ رَدَّ أَصِيلٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِزَّةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لِلْمِلْكِ. وَقَدْ أَفَادَ جَعْلُ جِنْسِ الْعِزَّةِ مِلْكًا لِلَّهِ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا ثَابِتٌ لِلَّهِ، فَيُفِيدُ أَنَّ لَهُ أَقْوَى أَنْوَاعِهَا وَأَقْصَاهَا. وَبِذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ مِنْهَا إِلَّا أَنْوَاعًا قَلِيلَةً، فَمَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِزَّةِ يُوجَدُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّ أَعْظَمَ مِنْهُ مِنْ نَوْعِهِ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ لِمَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ اللَّهِ مِنَ الْعِزَّةِ تَأْثِيرٌ إِذَا صَادَمَ عِزَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ إِلَّا إِذَا أَمْهَلَهُ اللَّهُ، فَكُلُّ عِزَّةٍ يَسْتَخْدِمُهَا صَاحِبُهَا فِي مُنَاوَاةِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ نَصَرَهُ فَهِيَ مَدْحُوضَةٌ مَغْلُوبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] وَإِذْ قَدْ كَانَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِزَجْرِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا هُمْ فِيهِ كَانَ بِحَيْثُ يُؤْمِنُ بِالنَّصْرِ إِذَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ مُرَادُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عِزَّةٍ هُوَ فِي جَانِبِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَدَمِ. وجَمِيعاً حَالٌ من الْعِزَّةَ موكّدة مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا الْمُفِيدَ لِاخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ جِنْسِ الْعِزَّةِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَجُمْلَةُ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِجْرَاءُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَاقِعِ رُكْنًا فِي الْجُمْلَةِ التَّعْلِيلِيَّةِ يَجُرُّ مَعْنَى التَّعْلِيلِ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتُفِيدُ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلًا آخَرَ أَوْ تَكْمِلَةً لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ الْمُخَاطَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِزَّةِ يَعْلَمُ أَقْوَالَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ زَادَ ذَلِكَ قُوَّةً فِي دَفْعِ الْحُزْنِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَتَطْوَالِهِمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمَا يَقُولُونَهُ وَبِأَحْوَالِهِمْ. فَهُوَ إِذَا نَهَاكَ عَنِ الْحُزْنِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا نَهَاكَ إِلَّا وَقَدْ ضَمِنَ لَكَ السَّلَامَةَ مِنْهُمْ مَعَ ضَعْفِكَ وَقُوَّتِهِمْ لِأَنَّهُ يَمُدُّكَ بِقُوَّتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِتَكْوِينِ أَسْبَابِ نَصْرِكَ عَلَيْهِمْ.

[سورة يونس (10) : آية 66]

وَالْمُرَادُ بِ السَّمِيعُ الْعَالِمُ بِأَقْوَالِهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُسْمَعَ، وَبِ الْعَلِيمُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْمُوعَاتٍ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا اسْم (السّميع) . [66] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 66] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) الْمَقْصُودُ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْكَلَامِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِتَأْيِيسِهِمْ مِنْ كُلِّ احْتِمَالٍ لِانْتِصَارِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ حِينَ يَفْهَمُ مَا فِي الْآيَاتِ الْخَمْسِ السّابقة من قَوْلهم: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ [يُونُس: 61] إِلَى هُنَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِهَوَانِ، شَأْنِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِاقْتِرَابِ حُلُولِ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ يُخَامِرُهُمْ بَعْضُ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الرَّسُولِ وَأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ حَقٌّ، ثُمَّ يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُسَلُّونَ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ سَيَجِدُونَ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَسَاطَةً فِي دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لِمِثْلِ هَذَا عَبَدْنَاهُمْ، وَلِلشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَعَدَدْنَاهُمْ، فَسِيقَ هَذَا الْكَلَامُ لِقَطْعِ رَجَائِهِمْ مِنْهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُمْ دُونَ مَا يُظَنُّ بِهِمْ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا عَقِبَ جُمْلَةِ وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يُونُس: 65] أَنَّ أَقْوَالَهُمْ دُحِضَتْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا وُقُوعُهَا عَقِبَ جُمْلَةِ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يُونُس: 65] فَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ لِأَنَّ الَّذِي لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ تَكُونُ لَهُ الْعِزَّةُ الْحَقُّ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِظْهَارُ أَهَمِّيَّةِ الْعِلْمِ بِمَضْمُونِهَا وَتَحْقِيقِهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ، وَزِيدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَبِاجْتِلَابِ لَامِ الْمِلْكِ.

وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ شَأْنُهَا أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الْعُقَلَاءِ وَجِيءَ بِهَا هُنَا مَعَ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ إِثْبَاتُ أَنَّ آلِهَتَهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ جَمَادَاتٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ، تَغْلِيبًا وَلِاعْتِقَادِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةَ عُقَلَاءَ وَهَذَا مِنْ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِإِلْزَامِهِ بِنُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ حَتَّى عَلَى لَازِمِ اعْتِقَادِهِ. وَالْحُكْمُ بِكَوْنِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَاقِلَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ بِالْأَحْرَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مِلْكُ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْأَقْوَى أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ الْأَضْعَفَ فَإِنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَدُوا الْمَسِيحَ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَذِكْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِاسْتِيعَابِ أَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ. وَجُمْلَةُ: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَهِيَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَاتِّبَاعُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمُ اتِّبَاعٌ خَاطِئٌ بَاطِلٌ. وَ (مَا) نَافِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، بِقَرِينَةِ تَأْكِيدِهَا بِ (إِنِ) النَّافِيَةِ، وَإِيرَادِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَهُمَا. وشُرَكاءَ مَفْعُولُ يَدْعُونَ الَّذِي هُوَ صِلَةُ الَّذِينَ. وَجُمْلَةُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِجُمْلَةِ مَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ وَأُعِيدَ مَضْمُونُهَا قَضَاءً لَحِقِّ الْفَصَاحَةِ حَيْثُ حَصَلَ مِنَ الْبُعْدِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِسَبَبِ الصِّلَةِ الطَّوِيلَةِ مَا يُشْبِهُ التَّعْقِيدَ اللَّفْظِيَّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَفْصَحِ كَلَامٍ مَعَ إِفَادَةِ تِلْكَ الْإِعَادَةِ مُفَادَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِمْعَانَ فِي إِثْبَاتِ الْغَرَضِ. والظَّنَّ مَفْعُولٌ لِكِلَا فِعْلَيْ يَتَّبِعُ، ويَتَّبِعُونَ فَإِنَّهُمَا كَفِعْلٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّنَازُعِ لِأَنَّ فِعْلَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لَا يَطْلَبُ عَمَلًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَكْرِيرُ اللَّفْظِ دُونَ الْعَمَلِ فَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يَتِّبِعُ الْمُشْرِكُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.

[سورة يونس (10) : آية 67]

وَالظَّنُّ: هُنَا اسْمٌ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَمْ يُقْصَدْ تَعْلِيقُهُ بِمَظْنُونٍ مُعَيَّنٍ، أَيْ شَأْنُهُمُ اتِّبَاعُ الظُّنُونِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا الْعِلْمُ الْمُخْطِئُ. وَقَدْ بَيَّنَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّ ظَنَّهُمْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. وَالْخَرْصُ: الْقَوْلُ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [116] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. [67] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 67] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [يُونُس: 66] وَجُمْلَةِ: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [يُونُس: 68] جَاءَتْ مَجِيءَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى فَسَادِ ظَنِّهِمْ وَخَرْصِهِمْ بِشَوَاهِدِ خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمُشَاهَدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْعُمْرِ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ نِظَامِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ. وَكَيْفَ كَانَ النَّهَارُ وَقْتًا يَنْتَشِرُ فِيهِ النُّورُ فَيُنَاسِبُ الْمُشَاهَدَةَ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ فِي حَرَكَاتِ أَعْمَالِهِمْ إِلَى إِحْسَاسِ الْبَصَرِ الَّذِي بِهِ تَتَبَيَّنُ ذَوَاتُ الْأَشْيَاءِ وَأَحْوَالُهَا لِتَنَاوُلِ، الصَّالِحِ مِنْهَا فِي الْعَمَلِ وَنَبْذِ غَيْرِ الصَّالِحِ لِلْعَمَلِ. وَكَيْفَ كَانَ اللَّيْلُ وَقْتًا تَغْشَاهُ الظُّلْمَةُ فَكَانَ مُنَاسِبًا لِلسُّكُونِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ فِيهِ إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَدَحُوا لَهَا فِي النَّهَار. فاكانت الظُّلْمَةُ بَاعِثَةً النَّاسَ عَلَى الرَّاحَةِ وَمُحَدِّدَةً لَهُمْ إِبَّانَهَا بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْفَطِنُ وَالْغَافِلُ.

وَلَمَّا قَابَلَ السُّكُونَ فِي جَانِبِ اللَّيْلِ بِالْإِبْصَارِ فِي جَانِبِ النَّهَارِ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ضِدَّانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ السُّكُونِ عَدَمُ الْإِبْصَارِ، وَأَنَّ الْإِبْصَارَ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ فَكَانَ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ. وَوَصْفُ النَّهَارِ بِمُبْصِرٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْإِبْصَارِ فِيهِ حَتَّى جَعَلَ النَّهَارَ هُوَ الْمُبْصِرَ. وَالْمُرَادُ: مُبْصِرًا فِيهِ النَّاسُ. وَمِنْ لَطَائِفِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ النُّورَ الَّذِي هُوَ كَيْفِيَّةُ زَمَنِ النَّهَارِ، شَيْءٌ وُجُودِيٌّ، فَكَانَ زَمَانُهُ حَقِيقًا بِأَنْ يُوصَفَ بِأَوْصَافِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فَإِنَّ ظُلْمَتَهُ عَدَمِيَّةٌ فَاقْتَصَرَ فِي الْعِبْرَةِ بِهِ عَلَى ذِكْرِ الْفَائِدَةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ وَهِيَ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَهُوَ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ إِضَافِيًّا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ إِذْ جَعَلَهُ قَصْرَ تَعْيِينٍ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِخَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمُ انْتَفَتْ عَنْهَا خَصَائِصُ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ حَصَلَ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِجَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ. وَهَذَا الِامْتِنَانُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ وَمِنْ تَعْلِيلِ خَلْقِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَخَلْقِ النَّهَارِ بِعِلَّةِ إِبْصَارِ النَّاسِ، وَكُلُّ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مَا فِي سُكُونِ اللَّيْلِ مِنْ نِعْمَةٍ وَمَا فِي إِبْصَارِهِمْ بِالنَّهَارِ مِنْ نِعْمَةٍ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ نِعَمًا جَمَّةً مِنْ تَحْصِيلِ رَغَبَاتٍ، وَمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبَاتٍ، وَتَحْصِيلِ أَمْوَالٍ وَأَقْوَاتٍ، وَأَنَّ فِي السُّكُونِ بِاللَّيْلِ نِعَمًا جَمَّةً مِنِ اسْتِجْمَامِ الْقُوَى الْمَنْهُوكَةِ وَالْإِخْلَادِ إِلَى مُحَادَثَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، عَلَى أَنَّ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، مَا يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ الْمَلَالَ. وَفِي إِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ بِالِامْتِنَانِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ جَمَعُوا وَصْمَتَيْنِ هُمَا: وَصْمَةُ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ، وَوَصْمَةُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ النِّظَامَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَقَائِقَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ.

فَمِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ: خَلْقُ الشَّمْسِ، وَخَلْقُ الْأَرْضِ، وَخَلْقُ النُّورِ فِي الشَّمْسِ، وَخَلْقُ الظُّلْمَةِ فِي الْأَرْضِ، وَوُصُولُ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِلَى الْأَرْضِ، وَدَوَرَانُ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ نِصْفُ كُرَتِهَا مُوَاجِهًا لِلشُّعَاعِ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ مَحْجُوبًا عَنِ الشُّعَاعِ، وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ وَجَعْلُ نِظَامِ مِزَاجِهِ الْعَصَبِيِّ مُتَأَثِّرًا بِالشُّعَاعِ نَشَاطًا، وَبِالظُّلْمَةِ فُتُورًا، وَخَلْقُ حَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَجَعْلُهَا مُقْتَرِنَةً بِتَأَثُّرِ الضَّوْءِ وَجَعْلُ نِظَامِ الْعَمَلِ مُرْتَبِطًا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَخَلْقُ نِظَامِ الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ مُشْتَمِلًا عَلَى قُوَى قَابِلَةٍ لِلْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ثُمَّ مَدْفُوعًا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ بِسَبَبِ نَشَاطِهِ الْعَصَبِيِّ، ثُمَّ فَاقِدًا بِالْعَمَلِ نَصِيبًا مِنْ قُوَاهُ مُحْتَاجًا إِلَى الِاعْتِيَاضِ بِقُوَى تَخَلُّفِهَا بِالسُّكُونِ وَالْفُتُورِ الَّذِي يُلْجِئُهُ إِلَى تَطَلُّبِ الرَّاحَةِ. وَأَيَّةُ آيَاتٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ، وَأَيَّةُ مِنَّةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ من إِيدَاع الله فِيهِ دَوَاعِيَ تَسُوقُهُ إِلَى صَلَاحِهِ وَصَلَاحِ نَوْعِهِ بِدَاعٍ مِنْ نَفسه. وَوصف لِقَوْمٍ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ تَنْهَضُ دَلَالَتُهَا لِلْعُقُولِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا، وَأَنَّ تَوَجُّهَ التَّفْكِيرِ إِلَى دَلَائِلِهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَّا إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَلَفْتِهِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ سَمَاعُ تَذْكِيرِ اللَّهِ بِهَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي اسْتِخْرَاجِ دَلَالَتِهَا وتفريع مَدْلُولَاتِهَا عَلَى تَفَاوُتِ الْأَذْهَانِ فِي الْفِطْنَةِ وَتَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ جَعَلَ آيَاتِ دَلَالَتِهَا حَاصِلَةً لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَسْمَعُونَ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ فِي تَضَاعِيفِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْوَصْفُ بِالسَّمْعِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا تَفَطَّنُوا لِدَلَالَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: 40] .

[سورة يونس (10) : آية 68]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 68] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [يُونُس: 66] إِلَى آخِرِهَا، وَفِي هَذَا الْبَيَانِ إِدْمَاجٌ بِحِكَايَةِ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ كُفْرِهِمْ مُغَايِرٌ لِادِّعَاءِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، لِأَنَّ هَذَا كُفْرٌ خَفِّيٌّ مِنْ دِينِهِمْ، وَلِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى إِبْطَالِهِ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ. فَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ [يُونُس: 66] أَيْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الضَّمِيرِ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّصَارَى لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ لَمْ يَتَصَدَّ لِإِبْطَالِ زَيْغِ عَقَائِدِ أَهْلِ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلَّهِ بَنَاتٍ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُمْ بَنَاتُهُ مِنْ سَرَوَاتِ نِسَاءِ الْجِنِّ، وَلِذَلِكَ عَبَدَتْ فِرَقٌ مِنَ الْعَرَبِ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41] . وَالِاتِّخَاذُ: جَعْلُ شَيْءٍ لِفَائِدَةِ الْجَاعِلِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَخْذِ لِأَنَّ الْمُتَّخِذَ يَأْخُذُ الشَّيْءَ الَّذِي يَصْطَفِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [74] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فِي الْأَعْرَافِ [146] ، فَالِاتِّخَاذُ يَصْدُقُ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ لِلِاسْتِئْثَارِ بِهِ، وَيَصْدُقُ عَلَى تَكْوِينِ شَيْءٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ. وَهُوَ هَنَا صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَوَلُّدَ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَبَنَّى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ. وَالْوَلَدُ: اسْمٌ مَصُوغٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ مِثْلَ عَمَدَ وَعَرَبَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِلَادَةِ، أَيِ النِّتَاجِ. يُقَالُ: وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَالنَّاقَةُ، وَلَعَلَّ أَصْلَ الْوَلَدِ مَصْدَرٌ

مُمَاتٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ مِثْلَ الْفَرَحِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ. يُقَالُ: هَؤُلَاءِ وَلَدُ فُلَانٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ اسْتَوْلَدَهَا مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: 57] . وَجُمْلَةُ: سُبْحانَهُ إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِذَلِكَ الْمَقَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِ (سَبَّحَ) إِذَا نَزَّهَ، نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ، أَيْ نُسَبِّحُهُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] ، أَيْ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ هَذَا لِأَنَّ مَا قَالُوهُ يَسْتَلْزِمُ تَنْقِيصَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ بُيِّنَتْ جُمْلَةُ التَّنْزِيهِ بِجُمْلَةِ: هُوَ الْغَنِيُ بَيَانًا لِوَجْهِ التَّنْزِيهِ، أَيْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْغِنَى الْمُطْلَقَ عَنْ كُلِّ احْتِيَاجٍ إِلَى مُكَمِّلِ نَقْصٍ فِي الذَّاتِ أَوِ الْأَفْعَالِ، وَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ إِمَّا أَنْ يَنْشَأَ عَنِ انْدِفَاعٍ طَبِيعِيٍّ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّوْلِيدِ وَكَوْنِهَا نَقْصًا غَيْرَ خَفِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَنْشَأَ عَنِ الْقَصْدِ وَالتَّفْكِيرِ فِي إِيجَادِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِسَدِّ ثُلْمَةِ نَقْصٍ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى مَعْنًى فِي الْحَيَاةِ أَوْ خَلَفٍ بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاتِّصَافَ بِغَايَةِ الْكَمَالِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. وَالْغَنِيُّ: الْمَوْصُوفُ بِالْغِنَى، فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي فِعْلِ (غَنِيَ) عَنْ كَذَا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، وَغِنَى اللَّهِ هُوَ الْغِنَى الْمُطْلَقُ، وَفُسِّرَ فِي أُصُولِ الدِّينِ الْغِنَى الْمُطْلَقُ بِأَنَّهُ عَدَمُ الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُخَصِّصِ وَإِلَى الْمَحَلِّ، فَالْمُخَصِّصُ هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ لِلْمُمْكِنِ إِحْدَى صِفَتَيِ الْوُجُودِ أَوِ الْعَدَمِ عِوَضًا عَنِ الْأُخْرَى، فَبِذَلِكَ ثَبَتَ لِلْإِلَهِ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ، أَيِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ انْتِفَاؤُهُ وَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُ التَّرْكِيبُ مِنْ أَجْزَاءٍ وَأَبْعَاضٍ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالْوَلَدُ يَنْشَأُ مِنْ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنِ الْوَالِدِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْغَنِيُّ مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَةِ الِانْفِصَالِ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَدًا لَهُ بِالتَّبَنِّي لِأَجْلِ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى اتِّخَاذِ الْوَلَدِ مِنْ طَلَبِ مَعُونَةٍ أَوْ إِينَاسٍ أَوْ خَلَفٍ، قَالَ تَعَالَى:

وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] وَقَالَ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الْأَنْعَام: 101] . وَجُمْلَةُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُقَرِّرَةٌ لِوَصْفِ الْغِنَى بِأَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض ملكه، فهنو يُسَخِّرُ كُلَّ مَوْجُودٍ لِمَا خَلَقَهُ لِأَجْلِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعَانَةِ وَلَدٍ، وَلَا إِلَى تَرْفِيعِ رُتْبَةِ أَحَدٍ اسْتِصْنَاعًا لَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ لِقُوَّادِ جُيُوشِهِمْ وَأُمَرَاءِ أَقْطَارِهِمْ وَمَمَالِكِهِمْ لِاكْتِسَابِ مَوَدَّتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ. وَهَذَا مُسَاوٍ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [يُونُس: 66] وَدَلَّ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعُبُودِيَّةِ تُنَافِي صِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] . وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُسْتَرَقُّ لِأَبِيهِ وَلَا لِأُمِّهِ وَلِذَلِكَ يُعْتَقُ الْوَلَدُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُهُ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ وَإِنْ عَلَيَا. وَجُمْلَةُ: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا جَوَابٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ كَمَا فُصِلَتْ جُمْلَةُ سُبْحانَهُ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، سَجَّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ. وإِنْ حَرْفُ نَفْيٍ. ومِنْ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِالِاسْتِغْرَاقِ، أَيِ اسْتِغْرَاقِ نَفْيِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحُجَّةِ قَوِيِّهَا وَضَعِيفِهَا، عَقْلِيِّهَا وَشَرْعِيِّهَا. وَ (عِنْدَ) هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا. شَبَّهَ وُجُودَ الْحُجَّةِ لِلْمُحْتَجِّ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّةَ لَكُمْ. وسُلْطانٍ مَحَلُّهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ عِنْدَكُمْ وَاشْتَغَلَ آخِرُ الْمُبْتَدَأِ عَنِ الضَّمَّةِ بِكَسْرَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدَةِ.

[سورة يونس (10) : الآيات 69 إلى 70]

وَالسُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ وَالْحُجَّةُ، لِأَنَّهُ يُكْسِبُ الْمُسْتَدِلَّ بِهِ سُلْطَةً عَلَى مُخَالِفِهِ وَمُجَادِلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [71] . وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِ سُلْطانٍ، أَيْ سُلْطَانٍ مُلَابِسٍ لِهَذَا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَقُولِ. وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّةَ لَكُمْ تُصَاحِبُ مَقُولَكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا. وَجُمْلَةُ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ جَوَاب ثَالِث ناشيء عَنِ الْجَوَابَيْنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِالْحُجَّةِ. وَنَفَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ حُجَّةٌ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّشْنِيعِ بِأَنَّهُمْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى جَنَابِ اللَّهِ فَيَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ بِمَا لَا يُوقِنُونَ بِهِ، وَلِكَوْنِهَا جَوَابًا فُصِلَتْ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ شَيْءٌ ذَمِيمٌ، وَاجْتِرَاءٌ عَظِيمٌ وَجَهْلٌ كَبِير مركب. [69، 70] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 69 إِلَى 70] قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) اسْتِئْنَافٌ افْتتح بِأَمْر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِينَ إِلَى وَعْيِ مَا يَرِدُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ بِحَيْثُ يُطْلَبُ تَبْلِيغُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقُولَ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ يَحْصُلُ مِنْهَا وَعِيدٌ لِلَّذِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، عَلَى مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ، وَعَلَى أَمْثَالِهَا كَقَوْلِهِمْ: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الْأَنْعَام: 139] وَقَوْلِهِمْ: مَا كَانَ لِآلِهَتِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90]

وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَذَلِكَ كُلُّهُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، وَمَاهِيَّةُ الدِّينِ أَنَّهُ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَيَحْصُلُ مِنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ وَعِيدٌ لِأَمْثَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كل من يتفري عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، فَالْمَقُولُ لَهُمُ ابْتِدَاءً هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْفَلَاحُ: حُصُولُ مَا قَصَدَهُ الْعَامِلُ مِنْ عَمَلِهِ بِدُونِ انْتِقَاضٍ وَلَا عَاقِبَةِ سُوءٍ. وَتَقَدَّمَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . فَنَفْيُ الْفَلَاحِ هُنَا نَفْيٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْفَلَاحِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ كَيْفَ نَرَاهُمْ فِي عِزَّةٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُجَابُ السَّائِلُ بِأَنَّ ذَلِكَ تَمْتِيعٌ فِي الدُّنْيَا لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ الْفَلَاحِ مَظْهَرُهُ الْآخِرَةُ، فَ مَتاعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ أَمْرُهُمْ مَتَاعٌ. وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ الْقَلِيلَةُ فِي الدُّنْيَا إِذْ يُقِيمُونَ بِكَذِبِهِمْ سِيَادَتَهُمْ وَعِزَّتَهُمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ ثُمَّ يَزُولُ ذَلِكَ. وَمَادَّةُ (مَتَاعٌ) مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ دَائِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَتَنْكِيرُهُ مُؤْذِنٌ بِتَقْلِيلِهِ، وَتَقْيِيدُهُ بِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُؤَكِّدٌ لِلزَّوَالِ وَلِلتَّقْلِيلِ، وَ (ثُمَّ) مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ هُوَ مَحَقَّةُ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ فَهُوَ أَهَمُّ مَرْتَبَةً مِنْ مَضْمُونِ لَا يُفْلِحُونَ. وَالْمَرْجِعُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ. وَمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ الرُّجُوعُ إِلَى وَقْتِ نَفَاذِ حُكْمِهِ الْمُبَاشِرِ فِيهِمْ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْنا عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمَرْجِعُ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّذْكِيرِ بِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ- إِلَى قَوْلِهِ- وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ كِنَايَةً عَنِ الْمَوْتِ.

[سورة يونس (10) : آية 71]

وَجُمْلَةُ: ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ. وَحَرْفُ (ثُمَّ) هَذَا مُؤَكِّدٌ لِنَظِيرِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمُبَيَّنَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْجِعِ الْحُصُولُ فِي نَفَاذِ حُكْمِ اللَّهِ. وَالْجُمَلُ الْأَرْبَعُ هِيَ مِنَ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ إِيصَالُهُ إِلَى الْإِحْسَاسِ، أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةُ لِتَشْبِيهِهِ بِإِحْسَاسِ الذَّوْقِ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ أَقْوَى أَعْضَاءِ الْجِسْمِ حَاسِّيَّةَ لَمْسٍ وَهُوَ اللِّسَانُ. وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلتَّعْلِيلِ. وَقَوْلُهُ: كانُوا يَكْفُرُونَ يُؤْذِنُ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَتَجَدُّدِهِ بأنواع الْكفْر. [71] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 71] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) انْتِقَالٌ مِنْ مُقَارَعَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُجَجِ السَّاطِعَةِ عَلَى بُطْلَانِ دِينِهِمْ، وَبِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى تَفْنِيدِ أَكَاذِيبِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَالْإِرْهَابِ، إِلَى التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِذِكْرِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُمَاثِلَةِ أَحْوَالُهَا لِأَحْوَالِهِمْ، اسْتِقْصَاءً لِطَرَائِقِ الْحِجَاجِ عَلَى أَصْحَابِ اللَّجَاجِ فَإِنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ مَثَلٌ لِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَتَطَوُّرِهِ، فَفِي ذِكْرِ عَاقِبَةِ قَوْمِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ عَاقِبَتَهُمْ كَعَاقِبَةِ أُولَئِكَ أَوْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُمَتَّعُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يُؤْخَذُونَ أَخْذَةً رَابِيَةً،

كَمَا مُتِّعَ قَوْمُ نُوحٍ زَمَنًا طَوِيلًا ثُمَّ لَمْ يُفْلِتُوا مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، فَذِكْرُ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ عِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَمُلْقِيًا بِالْوَجَلِ وَالذُّعْرِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ أُسْوَةٌ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَقبهَا كَمَا ينبىء عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نِهَايَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس: 99] الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يُونُس: 94] الْآيَاتِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ (إِذْ) مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ تَقْيِيدَ النَّبَأِ بِزَمَنِ قَوْلِهِ: لِقَوْمِهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُحَاوَرَتَهُ قَوْمَهُ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ، لِأَنَّهُ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ قَوْمِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صَمِّ آذَانِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ لَهُمْ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ كَرَّرَ دُعَاءَهُمْ زَمَنًا طَوِيلًا فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ جَدَلٍ بَينه وَبينهمْ، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا أَهْلَ مَكَّةَ سِنِينَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ حَاوَرَهُمْ وَجَادَلَهُمْ وَلِأَنَّ ذَلِكَ الزَّمَنَ هُوَ أَعْظَمُ مَوْقِفٍ وَقَفَهُ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ، وَكَانَ هُوَ الْمَوْقِفُ الْفَاصِلُ الَّذِي أَعْقَبَهُ الْعَذَابُ بِالْغَرَقِ. وإِذْ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي. وَهُوَ هُنَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ نَبَأَ أَوْ مِنْ نُوحٍ. وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ إِجْمَالُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [يُونُس: 13] . وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [يُونُس: 69] . وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَتَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

وَالتَّعْرِيفُ بِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَارِيخِهِ مَضَى فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَعْرِيفُ قَوْمِ نُوحٍ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ طَرِيقٍ لِتَعْرِيفِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْأُمَّةِ اسْمٌ تُعْرَفُ بِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَحْصُلْ دَاعٍ إِلَى تَسْمِيَتِهِمْ بِاسْمِ جَدٍّ أَوْ أَرْضٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَا يَدْعُو إِلَى تَمْيِيزِهِمْ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ غَيْرُهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى حِكَايَةِ اللَّهِ عَنْ هُودٍ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] ، وَلَمَّا حَكَى عَنْ صَالِحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: 74] . وَظَرْفُ إِذْ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَبَأَ نُوحٍ. وَافْتِتَاحُ خِطَابِ نُوحٍ قَوْمَهُ بِ يَا قَوْمِ إيذان بأهيمة مَا سَيُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ طَلَبُ الْإِقْبَالِ. وَلَمَّا كَانَ هُنَا لَيْسَ لِطَلَبِ إِقْبَالِ قَوْمِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا ابْتَدَأَ خِطَابَهُمْ إِلَّا فِي مَجْمَعِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ النِّدَاءَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي طَلَبِ الْإِقْبَالِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ تَوْجِيهُ أَذْهَانِهِمْ إِلَى فَهْمِ مَا سَيَقُولُهُ. وَاخْتِيَارُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِوَصْفِ كَوْنِهِمْ قَوْمَهُ تَحْبِيبٌ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ لِيَأْخُذُوا قَوْلَهُ مَأْخَذَ قَوْلِ النَّاصِحِ الْمُتَطَلِّبِ الْخَيْرَ لَهُمْ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُرِيدُ لِقَوْمِهِ إِلَّا خَيْرًا. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَيْهَا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمَعْنَى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي شَقَّ عَلَيْكُمْ وَأَحْرَجَكُمْ. وَالْكِبَرُ: وَفْرَةُ حَجْمِ الْجِسْمِ بِالنِّسْبَةِ لِأَمْثَالِهِ مِنْ أَجْسَامِ نَوْعِهِ، وَيُسْتَعَارُ الْكِبَرُ لِكَوْنِ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الذَّوَاتِ أَوِ الْمَعَانِي أَقْوَى فِيهِ مِنْهُ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَوْعِهِ، فَقَدْ يَكُونُ مَدْحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [الْبَقَرَة: 45] ، وَيَكُونُ ذَمًّا كَقَوْلِهِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: 5] ، وَيُسْتَعَارُ الْكِبَرُ لِلْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ [الْأَنْعَام: 35] وَكَذَلِكَ هُنَا.

وَالْمَقَامُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مُرَادِفٌ لِلْقِيَامِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى شَأْنِ الْمَرْءِ وَحَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] ، وَقَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مَرْيَم: 73] أَيْ خَيْرٌ حَالَةً وَشَأْنًا. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ مَكَانَ الْمَرْءِ وَمَقَامَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَفِيهِمَا مَظَاهِرُ أَحْوَالِهِ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِهِ فِيهِمْ تَذْكِيرُهُ إِيَّاهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ من أهم شؤونه مَعَ قَوْمِهِ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. فَمَعْنَى: كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي سَئِمْتُمْ أَحْوَالِي مَعَكُمْ وَخَاصَّةً بِتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ. وَتَجَهُّمُ الْحَقِّ عَلَى أَمْثَالِهِمْ شِنْشِنَةُ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي الْفَسَادِ الْمَأْسُورِينَ لِلْهَوَى إِذْ تَقَعُ لَدَيْهِمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَالتَّثْوِيبُ بِهِمْ إِلَى الرَّشَادِ مَوْقِعًا مُرَّ الْمَذَاقِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، شَدِيدَ الْإِيلَامِ لِقُلُوبِهِمْ، لِمَا فِي مُنَازَعَةِ الْحَقِّ نُفُوسَهُمْ مِنْ صَوْلَةٍ عَلَيْهَا لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِخْفَافَ بِهَا وَلَا يُطَاوِعُهُمْ هَوَاهُمْ عَلَى الْإِذْعَانِ إِلَيْهَا، فَيَتَوَرَّطُونَ فِي حَيْرَةٍ وَمُنَازَعَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ تَثْقُلُ عَلَيْهِمْ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا نُفُوسُهُمْ، وَتُكَدِّرُ عَلَيْهِمْ صَفْوَ انْسِيَاقِهِمْ مَعَ هَوَاهُمْ. وَإِضَافَةُ التَّذْكِيرِ إِلَى ضَمِيرِهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِآياتِ اللَّهِ لِتَأْكِيدِ تَعْدِيَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ الثَّانِي، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: تذكيري إيَّاكُمْ. وبِآياتِ اللَّهِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلتَّذْكِيرِ. يُقَالُ: ذَكَّرْتُهُ أَمْرًا نَسِيَهُ، فَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] ، وَقَوْلِ مِسْوَرِ بْنِ زِيَادَةَ الْحَارِثِيِّ: أُذَكِّرُ بِالْبُقْيَا عَلَى مَنْ أَصَابَنِي ... وَبُقْيَايَ أَنِّي جَاهِدٌ غَيْرُ مُؤْتَلِي وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] إِنَّ الْبَاءَ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ أَيْ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ.

وَ (آيَاتِ اللَّهِ) : دَلَائِلُ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَدَلَائِلُ وَحْدَانِيَّتِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فَقَدْ نَسُوا تِلْكَ الدَّلَائِلَ، فَكَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ يُبْرِمُهُمْ وَيُحْرِجُهُمْ. وَجُمْلَةُ: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ جَوَابُ شَرْطِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ تَضَمَّنَ أَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِمْ قَدْ بَلَغَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَمْلِهِ، وَأَنَّهُمْ مُتَهَيِّئُونَ لِمُدَافَعَتِهِ فَأَنْبَأَهُمْ أَنَّ احْتِمَالَ صُدُورِ الدِّفَاعِ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي كَثْرَةٍ وَمَنَعَةٍ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ وَضَعْفٍ، لَا يَصُدُّهُ عَنِ اسْتِمْرَارِ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَحِيدًا فَذَلِكَ يُوهِنُهُ لِأَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ. وَلِأَجْلِ هَذَا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أَيْ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَالتَّوَكُّلُ: التَّعْوِيلُ عَلَى مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ. وَقَدْ مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَالْفَاءُ فِي فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ لِلتَّفْرِيعِ على جملَة فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَلِلْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ حُكْمُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا قَصْدُهُ الْمُبَادَرَةَ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِمُنَاوَأَتِهِمْ لَكَانَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي إِلَخْ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فَإِنِّي عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، كَمَا قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود: 55، 56] . وَإِجْمَاعُ الْأَمْرِ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَفِعْلٍ ضِدَّهُ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّفْرِيقِ، لِأَنَّ الْمُتَرَدِّدَ فِي مَاذَا يَعْمَلُهُ تَكُونُ عِنْدَهُ أَشْيَاءُ مُتَفَرِّقَةٌ فَهُوَ يَتَدَبَّرُ وَيَتَأَمَّلُ فَإِذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ جَمَعَ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا. فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ، أَيْ جَعَلَ أَمْرَهُ جَمْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَفَرقًا. وَيَقُولُونَ: جاؤوا وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ، أَيْ مَجْمُوعٌ غَيْرُ مُتَفَرِّقٍ بِوُجُوهِ الِاخْتِلَافِ. وَالْأَمْرُ: هُوَ شَأْنُهُمْ مِنْ قَصْدِ دَفْعِهِ وَأَذَاهُ وَتَرَدُّدِهِمْ فِي وُجُوهِ ذَلِكَ وَوَسَائِلِهِ.

وَ (شُرَكاءَكُمْ) مَنْصُوبٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. وَالْوَاوُ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَمَعَكُمْ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ تَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَشُرَكاؤُكُمْ مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ فَأَجْمِعُوا، وَسَوَّغَهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى: وَلْيَجْمَعْ شُرَكَاؤُكُمْ أَمْرَهُمْ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأَجْمِعُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ، أَيْ إِنَّ عَزْمَهُمْ لَا يَضِيرُهُ بِحَيْثُ هُوَ يُغْرِيهِمْ بِأَخْذِ الْأُهْبَةِ التَّامَّةِ لِمُقَاوَمَتِهِ. وَزَادَ ذِكْرُ شُرَكَائِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْشَاهَا لِأَنَّهَا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنَ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ [الْأَعْرَاف: 195] . وَعَطْفُ جُمْلَةِ: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ب ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ التَّرَقِّي فِي قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِمَا يُهَيِّئُونَهُ لَهُ مِنَ الضُّرِّ بِحَيْثُ يَتَصَدَّى لَهُمْ تَصَدِّي الْمُشِيرِ بِمَا يُسَهِّلُ لَهُمُ الْبُلُوغَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِ الَّذِي يَنْوُونَهُ وَإِزَالَةَ الْعَوَائِقِ الْحَائِلَةِ دُونَ مَقْصِدِهِمْ. وَجَاءَ بِمَا ظَاهِرُهُ نَهْيُ أَمْرِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ غُمَّةً عَلَيْهِمْ مُبَالَغَةً فِي نَهْيِهِمْ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي تَبَيُّنِ الْوُصُولِ إِلَى قَصْدِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ شَأْنَهُمْ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْتِبَاسًا عَلَيْهِمْ، أَيِ اجْتَهِدُوا فِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ. وَالْغُمَّةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ لِلْغَمِّ. وَهُوَ السِّتْرُ. وَالْمُرَادُ بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ السِّتْرُ الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ انْبِهَامُ الْحَالِ، وَعَدَمُ تَبَيُّنِ السَّدَادِ فِيهِ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّرْكِيبَ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَقَدْ قَالَ طَرَفَةُ مِنْ قَبْلُ: لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلَا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً مَعَ أَنَّهُ عَيْنُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ لِكَوْنِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تُغَيَّرَ أَلْفَاظُهُ.

[سورة يونس (10) : آية 72]

وَ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبةِ، فَإِنَّ رُتْبَةَ إِنْفَاذِ الرَّأْي بِمَا يَزْعمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَذَاهُ أَقْوَى مِنْ تَدْبِيرِ ذَلِكَ، وَمِنْ رُتْبَةِ إِجْمَاعِ الرَّأْيِ عَلَيْهِ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ، فَعُطِفَ بِ (ثُمَّ) الَّتِي تُفِيدُ التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. واقْضُوا أَمْرٌ مِنَ الْقَضَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْإِتْمَامِ وَالْفَصْلِ، أَيِ أَنْفِذُوا مَا تَرَوْنَهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَيْ أَنْفِذُوا حُكْمَكُمْ. وَعُدِّيَ بِ (إِلَى) دُونَ (عَلَى) لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِبْلَاغِ وَالْإِيصَالِ تَنْصِيصًا عَلَى مَعْنَى التَّنْفِيذِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَيَعْقُبُهُ التَّنْفِيذُ أَوِ الْإِرْجَاءُ أَوِ الْعَفْوُ، وَيَكُونُ بِالْفِعْلِ، فَهُوَ قَضَاءٌ بِتَنْفِيذٍ. وَيُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْقَضَاءِ الْفِعْلِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَلا تُنْظِرُونِ تَأْكِيد الْمَدْلُول التَّضْمِينِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِحَرْفِ (إِلَى) . وَالْإِنْظَارُ التَّأْخِيرُ، وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ تُنْظِرُونِ لِلتَّخْفِيفِ، وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَبَقَاءُ نُونِ الْوِقَايَةِ مشْعر بهَا. [72] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 72] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ عَلَى الْكَلَامِ فَجُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ مُفَرَّعَتَانِ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ تَوَلِّيهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَمَرَّ تَعَيَّنَ أَنَّ جَعْلَ التَّوَلِّي فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ مُرَادٌ بِهِ مَا كَانَ حَصَلَ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جَوَابَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ شَيْءٌ قَدْ وَقَعَ أَيْضًا. وَإِنَّمَا قُصِدَ إِقْرَارُهُمْ بِهِ قَطْعًا لِتَعَلُّلَاتِهِمْ وَاسْتِقْصَاءً لِقَطْعِ مَعَاذِيرِهِمْ. وَالْمَعْنَى:

فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ تَوَلَّيْتُمْ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مَا سَأَلْتُكُمْ أَجْرًا فَتَتَّهِمُونِي بِرَغْبَةٍ فِي نَفْعٍ يَنْجَرُّ لِي مِنْ دَعْوَتِكُمْ حَتَّى تُعْرِضُوا عَنْهَا شُحًّا بِأَمْوَالِكُمْ أَوِ اتِّهَامًا بِتَكْذِيبِي، وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِأَنَّ تَوَلِّيَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالُ تُهْمَتِهِمْ إِيَّاهُ بِتَطَلُّبِ نَفْعٍ لِنَفْسِهِ. وَبِذَلِكَ بَرَّأَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَوَلِّيهِمْ، وَبِهَذَا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهَذَا الشَّرْطِ هُوَ التَّحَقُّقُ بَيْنَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةِ الْجَزَاءِ لَا وُقُوعُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُقُوعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ [116] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [87] . وَجُمْلَةُ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تَعْمِيمٌ لِنَفْيِ تَطَلُّبِهِ أَجْرًا عَلَى دَعْوَتِهِمْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ وَبِهِ يَحْصُلُ تَأْكِيدُ جُمْلَةِ: فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ مَعَ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ. وَطَرِيقُ جَزْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُؤْجِرُهُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهِ بِمَا أَوْحَى إِلَيْهِ. وَأَتَى بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُفِيدِ لِكَوْنِهِ حَقًّا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، فَصَارَ بِالْوَعْدِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ الْتَزَمَ اللَّهُ بِهِ. وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ الَّذِي يُعْطَى لِأَجْلِ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ آخِذُ الْعِوَضِ. وَجُمْلَةُ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَتَّبِعَ الدِّينَ الْحَقَّ وَلَوْ كُنْتُ وَحْدِي. وَهَذَا تَأْيِيسٌ لَهُمْ بِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى التَّوَلِّي عَنْهُ لَا يَفُلُّ حَدَّهُ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ مُخَالَفَةِ دِينِهِمُ الضَّلَّالِ. وَبُنِيَ فِعْلُ أُمِرْتُ لِلْمَجْهُولِ فِي اللَّفْظِ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ مِنَ الْفِئَةِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، أَيْ تَوْحِيدُ اللَّهِ دُونَ عِبَادَةِ شَرِيكٍ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِسْلَامِ الْعِبَادَةِ

[سورة يونس (10) : آية 73]

وَتَخْلِيصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] . وَقَدْ سُمِّيَ التَّوْحِيدُ وَدِينُ الْحَقِّ الْخَالِصُ إِسْلَامًا فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ وَسَمَّى اللَّهُ بِهِ سُنَنَ الرُّسُلِ فَحَكَاهُ عَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هُنَا وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: 131] ، وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَة: 128] ، وَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ إِذْ حَكَى عَنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 133] ، وَعَنْ يُوسُفَ تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يُوسُف: 101] ، وَعَنْ مُوسَى وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يُونُس: 8] ، وَعَنْ سُلَيْمَانَ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31] ، وَعَنْ عِيسَى وَالْحَوَارِيِّينَ قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [الْمَائِدَة: 111] . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [128] . وَقَوْلُهُ: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ: أَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [43] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فِي سُورَة بَرَاءَة [119] . [73] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 73] فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ، أَيْ تَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذِه الْجمل على ذكر الْجُمَلِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ تَكُونَ لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ مُنَاسَبَةٌ لِمَا قَبْلَهَا تَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهَا فَيُؤْتَى بِالْفَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72] ، وَإِلَّا فَإِنَّ تَكْذِيبَ قَوْمِ نُوحٍ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي [يُونُس: 71] إِلَخْ، لِأَنَّهُ مَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ رَأَى مِنْهُمْ تَجَهُّمَ دَعْوتِهِ.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ معنى فعل فَكَذَّبُوهُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى تَكْذِيبِهِ مِثْلَ فِعْلِ آمَنُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النِّسَاء: 136] ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ حُصُولِ مَا بَعْدَهَا عَلَى حُصُولِ مَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا الْفَاءُ الَّتِي فِي جُمْلَةِ: فَنَجَّيْناهُ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ قَوْمِهِ قَدِ اسْتَمَرَّ إِلَى وَقْتِ إِغْرَاقِهِمْ وَإِنْجَاءِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنِ اتَّبَعَهُ. وَهَذَا نَظْمٌ بَدِيعٌ وَإِيجَازٌ مُعْجِزٌ إِذْ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى التَّصْرِيحِ بِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ بَلْ أُشِيرَ لَهُ ضِمْنًا بِقَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي [يُونُس: 71] الْآيَةَ، فَكَانَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. ثُمَّ أُشِيرَ إِلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا حَتَى انْتَهَى بِإِغْرَاقِهِمْ، فَذَكَرَ إِنْجَاءَ نُوحٍ وَإِغْرَاقَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَبِذَلِكَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى مَا عَقِبَ مُجَادَلَةِ نُوحٍ الْأَخِيرَةِ قَوْمَهُ الْمُنْتَهِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يُونُس: 72] فَكَانَ تَفَنُّنًا بَدِيعًا فِي النَّظْمِ مَعَ إِيجَازٍ بَهِيجٍ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِنْجَائِهِ قَبْلَ ذِكْرِ الْإِغْرَاقِ الَّذِي وَقَعَ الْإِنْجَاءُ مِنْهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِنْجَاءَهُ أَهَمُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِغْرَاقِ مُكَذِّبِيهِ، وَلِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ السَّامِعِينَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَالْفُلْكُ: السَّفِينَةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ اسْمٌ لِلَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَصِيغَةُ الْجَمْعِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ تَفَرَّعَ عَلَى كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنْهُمْ أَمَةٌ. وَتَعْرِيفُ قَوْمِ نُوحٍ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لِلْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ تَعْذِيبِهِمْ بِالْغَرَقِ، وَأَنَّهُ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، أَيِ الْمُنْذَرِينَ بِالْعَذَابِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْإِنْذَارِ.

[سورة يونس (10) : آية 74]

وَالنَّظَرُ: هُنَا نَظَرُ عَيْنٍ، نُزِّلَ خَبَرُهُمْ لِوُضُوحِهِ وَالْيَقِينِ بِهِ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ. وَالْخطاب ب فَانْظُرْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ فَلَا يُرَادُ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخُصَّ بِالْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ بِأَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ يُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ نَحْوٌ مِمَّا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ أَذَاهُمْ وَإِظْهَارٌ لِعِنَايَةِ الله بِهِ. [74] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ، لِأَنَّ بَعْثَةَ رُسُلٍ كَثِيرِينَ إِلَى أُمَمٍ تَلَقَّوْهُمْ بِمِثْلِ مَا تَلَقَّى بِهِ نُوحًا قَوْمُهُ أَعْجَبُ مِنْ شَأْنِ قَوْمِ نُوحٍ حَيْثُ تَمَالَأَتْ تِلْكَ الْأُمَمُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكُفْرِ. وَلَيْسَتْ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بقوله: مِنْ بَعْدِهِ. وَقَدْ أَبْهَمَ الرُّسُلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَقَعَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ: هُودٌ وَصَالِحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلُوطٌ، وَشُعَيْبٌ. وَقَدْ يَكُونُ هُنَالِكَ رُسُلٌ آخَرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النِّسَاء: 164] ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُنَا مَنْ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى لِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى [يُونُس: 75] . وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَالْبَيِّنَاتُ: هِيَ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ. وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ أَظْهَرُوا لَهُمُ الْمُعْجِزَاتِ بِإِثْرِ إِرْسَالِهِمْ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ جَاءُوا قَوْمَهُمْ مُبَلِّغِينَ الرِّسَالَةَ مُلَابِسِينَ الْبَيِّنَاتِ.

وَقَدْ قُوبِلَ جَمْعُ الرُّسُلِ بِجَمْعِ (الْبَيِّنَاتِ) فَكَانَ صَادِقًا بِبَيِّنَاتٍ كَثِيرَةٍ مُوَزَّعَةٍ عَلَى رُسُلٍ كَثِيرِينَ، فَقَدْ يَكُونُ لِكُلِّ نَبِيءٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلَ آيَةِ صَالِحٍ وَهِيَ النَّاقَةُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِلتَّفْرِيعِ، أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَصِيَغَ النَّفْيُ بِصِيغَةِ لَامِ الْجُحُودِ مُبَالِغَةً فِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِأَقْصَى أَحْوَالِ الِانْتِفَاءِ. حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا لِأَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ، أَيْ لَمْ يَتَزَحْزَحُوا عَنْهُ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْجُحُودِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ حَاوَلُوا إِيمَانَهُمْ مُحَاوَلَةً مُتَكَرِّرَةً. وَدَلَّ قَوْلُهُ: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَنَّ هُنَالِكَ تَكْذِيبًا بَادَرُوا بِهِ لِرُسُلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ تَكْذِيبِهِمُ الَّذِي قَابَلُوا بِهِ الرُّسُلَ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ إِنَّمَا يَكُونُ لِخَبَرِ مخبر فَقَوله: فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مُؤْذِنٌ بِحُصُولِ التَّكْذِيبِ فَلَمَّا كذبوهم جاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ لِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَكَرُّرَ الدَّعْوَةِ وَتَكَرُّرَ الْبَيِّنَاتِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَقْعٌ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ الَّذِي حَصَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْلِعَهُ كَانَ تَكْذِيبًا وَاحِدًا مَنْسِيًّا. وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ وَقْعُ قَوْلِهِ عَقِبَهُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فَإِنَّ الطَّبْعَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ وَرَدَ عَلَيْهَا مَا لَوْ خَلَتْ عِنْدَ وُرُودِهِ عَنِ الطَّبْعِ عَلَيْهَا لَكَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَصِلَ بِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَالَ دُونَ تَأْثِيرِ الْبَيِّنَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَدْ جُعِلَ الطَّبْعُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ مَثَلًا لِكَيْفِيَّاتِ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ، أَيْ مِثْلَ هَذَا الطَّبْعِ الْعَجِيبِ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فَتَأَمَّلُوهُ وَاعْتَبِرُوا بِهِ.

[سورة يونس (10) : آية 75]

وَالطَّبْعُ: الْخَتْمُ. وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِعَدَمِ دُخُولِ الْإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَالِاعْتِدَاءُ: افْتِعَالٌ مِنْ عَدَا عَلَيْهِ، إِذَا ظَلَمَهُ، فَالْمُعْتَدِينَ مُرَادِفُ الظَّالِمِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الشِّرْكَ اعْتِدَاءٌ فَإِنَّهُم كذبُوا الرَّسُول فَاعْتَدَوْا عَلَى الصَّادِقِينَ بِلَمْزِهِمْ بِالْكَذِبِ وَقَدْ جَاءَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [101] كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (¬1) فَهَذَا التَّحَالُفُ لِلتَّفَنُّنِ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. [75] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 75] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ بَعْثَةَ مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ بِعْثَةِ مَنْ سَبَقَهُمَا مِنَ الرُّسُلِ، وَخُصَّتْ بِعْثَةُ مُوسَى وَهَارُونَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا كَانَتِ انْقِلَابًا عَظِيمًا وَتَطَوُّرًا جَدِيدًا فِي تَارِيخِ الشَّرَائِعِ وَفِي نِظَامِ الْحَضَارَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى إِنَّمَا بُعِثُوا فِي أُمَمٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَكَانَتْ أَدْيَانُهُمْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى إِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ، وَإِبْطَالِ مَا عَظُمَ مِنْ مَفَاسِدَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ شَرَائِعَ شَامِلَةً لِجَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَظْمِ الْأُمَّةِ وَتَقْرِيرِ حَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا. فَأَمَّا بِعْثَةُ مُوسَى فَقَدْ أَتَتْ بِتَكْوِينِ أُمَّةٍ، وَتَحْرِيرِهَا مِنِ اسْتِعْبَادِ أُمَّةٍ أُخْرَى إِيَّاهَا، وَتَكْوِينِ وَطَنٍ مُسْتَقِلٍّ لَهَا، وَتَأْسِيسِ قَوَاعِدِ اسْتِقْلَالِهَا، وَتَأْسِيسِ جَامِعَةٍ كَامِلَةٍ لَهَا، وَوَضْعِ نِظَامِ سِيَاسَةِ الأمّة، وَوضع ساسة يدبرون شؤونها، وَنِظَامِ دِفَاعٍ يَدْفَعُ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَيُمَكِّنُهَا مِنِ اقْتِحَامِ أَوْطَانِ أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِعْطَاءِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى قَوَانِينِ حَيَاتِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ كَثِيرِ نَوَاحِيهَا، فَبَعْثَةُ مُوسَى كَانَتْ أَوَّلَ مَظْهَرٍ عَامٍّ مِنْ مَظَاهِرِ الشَّرَائِعِ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي تَارِيخِ الشَّرَائِعِ وَلَا فِي تَارِيخِ نِظَامِ الْأُمَمِ، ¬

(¬1) فِي المطبوعة (كَذَلِك نطبع على قُلُوب الْكَافرين) وَهُوَ خطأ. [.....]

وَهُوَ مَعَ تَفَوُّقِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ قَدِ امْتَازَ بِكَوْنِهِ تَلْقِينًا مِنَ اللَّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ، الْمُرِيدِ إِقْرَارَ الصَّالِحِ وَإِزَالَةَ الْفَاسِدِ. وَجَعَلَ مُوسَى وَهَارُونَ مَبْعُوثَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ طَلَبَ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ مُؤَيِّدًا وَمُعْرِبًا عَنْ مَقَاصِدَ مُوسَى فَكَانَ بِذَلِكَ مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ بِالْمُشَارَكَةِ فِي أَعْمَالِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ سُورَةُ الْقَصَصِ، فَالْمَبْعُوثُ أَصَالَةً هُوَ مُوسَى وَأَمَّا هَارُونُ فَبُعِثَ مُعِينًا لَهُ وَنَاصِرًا، لِأَنَّ تِلْكَ الرِّسَالَةَ كَانَتْ أَوَّلُ رِسَالَةٍ يَصْحَبُهَا تَكْوِينُ أُمَّةٍ. وَفِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [103] ، وَعَلَى صِفَةِ إِرْسَالِ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ مِنِفْطَاحُ الثَّانِي أَحَدُ فَرَاعِنَةِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشَرَةَ مِنَ الْأُسَرِ الَّتِي مَلَكَتْ بِلَادَ الْقِبْطِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَأِ خَاصَةُ النَّاسِ وَسَادَتُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى بُعِثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبُعِثَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلتِهِ لِيُطْلِقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالسَّينُ والتّاء فِي فَاسْتَكْبَرُوا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكَبُّرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَنْ تَلَقِّي الدَّعْوَةِ مِنْ مُوسَى، لِأَنَّهُمْ احْتَقَرُوهُ وَأَحَالُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ اللهِ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ مُسْتَعْبَدِينَ اسْتَعْبَدَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَهَذَا وَجْهُ اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ عَنْ إِعْراَضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالِاسْتِكْبَارِ كَمَا حَكَى اللهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 47] . وتفريع فَاسْتَكْبَرُوا عَلَى جُمْلَةِ بَعَثْنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ إِعْرَاضٍ مِنْهُمْ وَإِنْكَارٍ فِي مُدَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ هُوَ اسْتِكْبَارٌ. وَجُمْلَةُ: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَقَدْ كَانَ الْإِجْرَامُ دَأْبَهُمْ وَخُلُقَهُمْ فَكَانَ اسْتِكْبَارُهُمْ عَلَى مُوسَى مِنْ جُمْلَةِ إِجْرَامِهِمْ.

[سورة يونس (10) : الآيات 76 إلى 77]

وَالْإِجْرَامُ: فِعْلُ الْجُرْمِ، وَهُوَ الْجِنَايَةُ وَالذَّنْبُ الْعَظِيمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [40] . وَقَدْ كَانَ الْفَرَاعِنَةُ طُغَاةً جَبَابِرَةً فَكَانُوا يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ آلِهَةً لِلْقِبْطِ وَكَانُوا قَدْ وَضَعُوا شَرَائِعَ لَا تَخْلُو عَنْ جَوْرٍ، وَكَانُوا يَسْتَعْبِدُونَ الْغُرَبَاءَ، وَقَدِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَذَلُّوهُمْ قُرُونًا فَإِذَا سَأَلُوا حَقَّهُمُ اسْتَأْصَلُوهُمْ وَمَثَّلُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [الْقَصَص: 4] ، وَكَانَ الْقِبْطُ يَعْتَقِدُونَ أَوْهَامًا ضَالَّةً وَخُرَافَاتٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ، أَيْ فَلَا يُسْتَغْرَبُ اسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ فِي مُوسَى وَهَارُونَ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: 63] فَأَغْرَاهُمُ الْغَرُورُ عَلَى أَنَّ سَمَّوْا ضَلَالَهُمْ وَخَوَرَهُمْ طَرِيقَةً مُثْلَى. وَعَبَّرَ بِ قَوْماً مُجْرِمِينَ دُونَ كَانُوا مُجْرِمِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذِه السُّورَة. [76، 77] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 76 إِلَى 77] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) أَيْ لَمَّا رَأَوْا الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي هِيَ حَقٌ ثَابِتٌ وَلَيْسَتْ بِتَخَيُّلَاتٍ وَتَمْوِيهَاتٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ مُوسَى صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، تَدَرَّجُوا مِنْ مُجَرَّدِ الْإِبَاءِ الْمُنْبَعِثِ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ إِلَى الْبُهْتَانِ الْمُنْبَعِثِ عَنِ الشُّعُورِ بِالْمَغْلُوبِيَّةِ. وَالْحَقُّ: يُطْلَقُ اسْمًا عَلَى مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الْعَدْلُ الْصَالِحُ، وَيُطْلَقُ وَصْفًا عَلَى الثَّابِتِ الَّذِي لَا رِيبَةَ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: أَنْتَ الصَّدِيقُ الْحَقُّ. وَيُلَازِمُ الْإفِرْادَ لِأَنَّهُ

مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وَالَّذِي أَثْبَتَ لَهُ الْمَجِيءَ هُنَا هُوَ الْآيَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا مُوسَى إِعْجَازًا لَهُمْ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 103] فَكَانَ جَعْلُ الْحَقِّ جَائِيًا بِتِلْكَ الْآيَاتِ صَالِحًا لِمَعْنَيَيِ الْحَقِّ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً لَا رِيبَةَ فِيهَا كَانَتْ فِي ذَاتِهَا حَقًّا فَمَجِيئُهَا حُصُولُهَا وَظُهُورُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتُ صِدْقِ مُوسَى فِي رِسَالَتِهِ فَكَانَ الْحَقُّ جَائِيًا مَعَهَا، فَمَجِيئُهُ ثُبُوتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ لِكَلِمَةِ الْحَقُّ هُنَا مِنَ الْوَقْعِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَمَامِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَلِكَلِمَةِ مِنْ عِنْدِنا مَا لَيْسَ لغَيْرِهِمَا فِي الْإِيجَازِ، وَهَذَا مِنْ حَدِّ الْإِعْجَازِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الصِّدْقِ ظَهَرَتْ وَأَنَّ الْمَحْجُوجِينَ أَيْقَنُوا بِصِدْقِ مُوسَى وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ. وَاعْتِذَارُهُمْ عَنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا سِحْرٌ هُوَ اعْتِذَارُ الْمَغْلُوبِ الْعَدِيمِ الْحُجَّةِ الَّذِي قَهَرَتْهُ الْحُجَّةُ وَبَهَرَهُ سُلْطَانُ الْحَقِّ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنْتَشَبٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْمَقْبُولَةِ فَهُوَ يُهْرَعُ إِلَى انْتِحَالِ مُعَارَضَاتٍ بِمَعَاذِيرَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّمْحِيصِ وَلَا تَثْبُتُ فِي مَحَكِّ النَّقْدِ. «وَلَا بُدَّ لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ» وَإِذْ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الدَّهْمَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَوْهَامِ أَنَّ السِّحْرَ يُظْهِرُ الشَّيْءَ فِي صُورَةِ ضِدِّهِ، ادَّعَى هَؤُلَاءِ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ مُوسَى هُوَ سِحْرٌ ظَهَرَ بِهِ الْبَاطِلُ فِي صُورَةِ الْحَقِّ بِتَخْيِيلِ السِّحْرِ. وَمَعْنَى ادِّعَاءِ الْحَقِّ سِحْرًا أَنَّ دَلَائِلَهُ مِنْ قَبِيلِ التَّخَيُّلَاتِ وَالتَّمْوِيهَاتِ، فَكَذَلِكَ مَدْلُولُهُ هُوَ مَدْلُولُ السِّحْرِ وَهُوَ إِنْشَاءُ تَخَيُّلٍ بَاطِلٍ فِي نُفُوسِ الْمَسْحُورِينَ، وَقَدْ حَمَلَهُمُ اسْتِشْعَارُهُمْ وَهَنَ مَعْذِرَتِهِمْ عَلَى أَنْ أَبْرَزُوا دَعْوَاهُمْ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ الْمُتَثَبِّتِ صَاحِبُهُ فَأَكَّدُوا الْكَلَامَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّوْكِيدِ وَلَامُ الِابْتِدَاءِ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ، وَزَادُوا ذَلِكَ تَرْوِيجًا بِأَنْ وَصَفُوا السِّحْرَ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، أَيْ شَدِيدَ الْوُضُوحِ. وَالْمُبِينُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ، مُرَادِفُ بَانَ: ظَهَرَ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَهُمْ حِينَ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ مِثْلُ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَخُرُوجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى مُجَاوِبَةٌ مِنْهُ عَنْ كَلَامِهِمْ فَفُصِلَتْ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اسْتَخْرَجْنَاهَا فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] ، وَنَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. تَوَلَّى مُوسَى وَحْدَهُ دُونَ هَارُونَ مُجَادَلَتَهُمْ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلدَّعْوَةِ أَصَالَةً، وَلِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ. وَاسْتِفْهَامُ أَتَقُولُونَ إِنْكَارِيٌّ. وَاللَّامُ فِي لِلْحَقِّ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا لَامَ الْبَيَانِ. وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا لَامَ الْمُجَاوَزَةِ بِمَعْنَى (عَنْ) . وَجُمْلَةُ: أَسِحْرٌ هَذَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، أَنْكَرَ مُوسَى عَلَيْهِمْ وَصْفَهُمُ الْآيَاتِ الْحَقَّ بِأَنَّهَا سِحْرٌ. وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِجَهْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ، بِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ كَافِيَةٌ فِي ظُهُورِ حَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَفْعُولُ أَتَقُولُونَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ فَالتَّقْدِيرُ: أَتَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: 183] وَقَوْلُهُ: بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النِّسَاء: 81] . وَلَمَّا نَفَى مُوسَى عَنْ آيَاتِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ سِحْرًا ارْتَقَى فَأَبَانَ لَهُمْ فَسَادَ السِّحْرِ وَسُوءَ عَاقِبَةِ مُعَالِجِيهِ تَحْقِيرًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنَوِّهُونَ بِشَأْنِ السِّحْرِ. فَجُمْلَةُ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَسِحْرٌ هَذَا. فَالْمَعْنَى: هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ وَإِنَّمَا أَعْلَمُ أَنَّ السَّاحِرَ لَا يُفْلِحُ، أَيْ لَوْ كَانَ سَاحِرًا لَمَّا شَنَّعَ حَالَ السَّاحِرِينَ، إِذْ صَاحَبُ الصِّنَاعَةِ لَا يُحَقِّرُ صِنَاعَتَهُ لِأَنَّهُ لَوْ رَآهَا مُحَقَّرَةً لما التزمها.

[سورة يونس (10) : آية 78]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 78] قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) الْكَلَامُ عَلَى جُمْلَةِ: قالُوا أَجِئْتَنا مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ [يُونُس: 77] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَجِئْتَنا إنكاري، بَنَوْا إِنْكَارَهُمْ عَلَى تَخْطِئَةِ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَعَلَى سُوءِ ظَنِّهِمْ بِهِ وَبِهَارُونَ فِي الْغَايَةِ الَّتِي يَتَطَلَّبَانِهَا مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى. وَإِنَّمَا وَاجَهُوا مُوسَى بِالْخِطَابِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ الدَّعْوَةَ وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ، ثُمَّ أَشْرَكَاهُ مَعَ أَخِيهِ هَارُونَ فِي سُوءِ ظَنِّهِمْ بِهِمَا فِي الْغَايَةِ من عملهما. ولِتَلْفِتَنا مُضَارِعُ لَفَتَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ مُتَعَدِّيًا: إِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مُقَابِلٍ لِوَجْهِهِ. وَالْفِعْلُ الْقَاصِرُ مِنْهُ لَيْسَ إِلَّا لَا لمطاوعة. يُقَالُ: الْتَفَتَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّحْوِيلِ عَنِ الْعَمَلِ أَوِ الِاعْتِقَادِ إِلَى غَيْرِهِ تَحْوِيلًا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ نَظَرٌ إِلَى مَا كَانَ يَنْظُرُهُ، فَأَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ ثُمَّ غَلَبَتْ حَتَّى صَارَتْ مُسَاوِيَةَ الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ جمعت صلَة عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا كُلَّ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَ آبَاؤُهُمْ مُتَلَبِّسِينَ بِهَا. وَاخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِ وَجَدْنا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنهم نشأوا عَلَيْهَا وَعَقَلُوهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يُكْسِبُهُمْ تَعَلُّقًا بِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ أَحْوَالَ آبَائِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ تَعَلُّقًا بِهَا تَبَعًا لِمَحَبَّةِ آبَائِهِمْ لِأَنَّ مَحَبَّةَ الشَّيْءِ تَقْتَضِي مَحَبَّةَ أَحْوَالِهِ وَمُلَابَسَاتِهِ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا عِنْدَهُمْ صَوَابٌ وَحَقٌّ لِأَنَّهُمْ قَدِ اقْتَدَوْا بِآبَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] . وَقَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْبِيَاء: 53، 54] ، وَقَدْ

جَاءَهُمْ مُوسَى لِقَصْدِ لَفْتِهِمْ عَمَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ يَحْسَبُونَهُ إِفْسَادًا قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 127] . وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ آبَائِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمُلَازَمَتِهِمْ لَهَا. وَعَطْفُ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ تَفَطَّنُوا لِغَرَضِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَجِيئِهِمَا إِلَيْهِمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ، أَيْ أَنَّهُمَا يُحَاوِلَانِ نَفْعًا لِأَنْفُسِهِمَا لَا صَلَاحًا لِلْمَدْعُوِّينَ، وَذَلِكَ النَّفْعُ هُوَ الِاسْتِحْوَاذُ عَلَى سِيَادَةِ مِصْرَ بِالْحِيلَةِ. وَالْكِبْرِيَاءُ: الْعَظَمَةُ وَإِظْهَارُ التَّفَوُّقِ عَلَى النَّاسِ. وَالْأَرْضُ: هِيَ الْمَعْهُودَةُ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الْأَعْرَاف: 110] . وَلَمَّا كَانُوا ظَنُّوا تَطَلُّبَهُمَا لِلسِّيَادَةِ أَتَوْا فِي خِطَابِ مُوسَى بِضَمِيرِ الْمُثَنَّى الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ هَارُونَ كَانَ حَاضِرًا فَالْتَفَتُوا عَنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ إِلَى خِطَابِ الِاثْنَيْنِ. وَإِنَّمَا شَرَّكُوا هَارُونَ فِي هَذَا الظَّنِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَاءَ مَعَ مُوسَى وَلَمْ يُبَاشِرِ الدَّعْوَةَ فَظَنُّوا أَنَّهُ جَاءَ مَعَهُ لِيَنَالَ مِنْ سِيَادَةِ أَخِيهِ حَظًّا لِنَفْسِهِ. وَجُمْلَةُ: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَجِئْتَنا. وَهِيَ فِي قُوَّةِ النَّتِيجَةِ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ بِمَا مَعَهَا مِنَ الْعِلَّةِ، أَيْ لَمَّا تَبَيَّنَ مَقْصِدُكُمَا فَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ. وَتَقْدِيمُ لَكُمَا عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَيْنِ هُمَا الْأَهَمُّ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْيِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ كَانَ لِأَجَلِ مُوسَى وَهَارُونَ إِذْ تَوَهَّمُوهُمَا مُتَطَلِّبَيْ نَفْعٍ لِأَنْفُسِهِمَا. فَالْمُرَادُ مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ذَاتَاهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا انْطَوَيَا عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِ إِبْطَالِ دِينِ آبَاءِ الْقِبْطِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى سِيَادَةِ بِلَادِهِمْ. وَصِيغَتْ جُمْلَةُ: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ اسْمِيَّةً دُونَ أَنْ يَقُولُوا وَمَا نُؤْمِنُ لَكُمَا لِإِفَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ وَأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانُهُمْ بِهِمَا مُتَقَرِّرٌ مُتَمَكِّنٌ لَا طَمَاعِيَةَ لِأَحَدٍ فِي ضِدّه.

[سورة يونس (10) : الآيات 79 إلى 82]

[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 79 إِلَى 82] وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) جُمْلَةُ: وَقالَ فِرْعَوْنُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [يُونُس: 76] ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ جَوَابٍ ثَانٍ لِحَرْفِ (لَمَّا) حُكِيَ أَوَّلًا مَا تَلَقَّى بِهِ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ دَعْوَةَ مُوسَى وَمُعْجِزَتَهُ مَنْ مَنْعِ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ تَأْيِيدًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ثُمَّ حُكِيَ ثَانِيًا مَا تَلَقَّى بِهِ فِرْعَوْنُ خَاصَّةً تِلْكَ الدَّعْوَةَ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَأْيِيدِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [يُونُس: 76] لِيُثْبِتُوا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا مِمَّا تَحْصِيلُ أَسْبَابِهِ مِنْ خَصَائِصِ فِرْعَوْنَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ لِخَاصَّةِ الْأُمَّةِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِإِبْطَالِ مَا يُخْشَى مِنْهُ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: ائْتُونِي هُمْ مَلَأُ فِرْعَوْنَ وَخَاصَّتُهُ الَّذِينَ بِيَدِهِمْ تَنْفِيذُ أَمْرِهِ. وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ جَمِيعِ السَّحَرَةِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُ بِدَقَائِقِهِ، وَأَقْدَرُ عَلَى إِظْهَارِ مَا يَفُوقُ خَوَارِقَ مُوسَى فِي زَعْمِهِ، فَحُضُورُهُمْ مُغْنٍ عَنْ حُضُورِ السَّحَرَةِ الضُّعَفَاءِ فِي عِلْمِ السِّحْرِ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ مَظِنَّةُ أَنْ لَا يُوَازِيَ مَا أَظْهَرُهُ مُوسَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ فَإِذَا أَتَوْا بِمَا هُوَ دُونَ مُعْجِزَةِ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ مُرَوِّجًا لِدَعْوَةِ مُوسَى بَيْنَ دَهْمَاءِ الْأُمَّةِ. وَالْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ بِكُلِّ سَاحِرٍ تَعْلَمُونَهُ وَتَظْفَرُونَ بِهِ، أَوْ أُرِيدَ بِكُلِّ مَعْنَى الْكَثْرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَجُمْلَةُ: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالَ فِرْعَوْنُ، عَطَفَ مَجِيءَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ مُوسَى لَهُمْ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ فِرْعَوْنُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ فِي إِحْضَارِهِمْ وَهُوَ تَعْقِيبٌ بِحَسْبِ الْمُتَعَارَفِ فِي الْإِسْرَاعِ بِمِثْلِ الشَّيْءِ الْمَأْمُورِ

بِهِ، وَالْمَعْطُوفُ فِي الْمَعْنَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الَّذِي يَعْقُبُ قَوْلَهُ: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ هُوَ إِتْيَانُهُمْ بِهِمْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ فِي الْغَرَضِ الَّذِي سيقت الْقِصَّة لأجل حُذِفَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً عَقْلِيَّةً وَلَفْظِيَّةً مِنْ قَوْلِهِ: جاءَ السَّحَرَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَوْهُ بِهِمْ فَلَمَّا جَاءُوا قَالَ لَهُمْ مُوسَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّحَرَةُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ مُوسَى بِأَنْ يَبْتَدِئُوا بِإِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ إِظْهَارًا لقُوَّة حجَّة لِأَنَّ شَأْنَ الْمُبْتَدِئِ بِالْعَمَلِ الْمُتَبَارِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَمْكَنَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ مُبَارِيهِ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالِ الَّتِي قِوَامُهَا التَّمْوِيهُ وَالتَّرْهِيبُ، وَالَّتِي يَتَطَلَّبُ الْمُسْتَنْصِرُ فِيهَا السَّبْقَ إِلَى تَأَثُّرِ الْحَاضِرِينَ وَإِعْجَابِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ السَّحَرَةَ خَيَّرُوا مُوسَى بَين أَن يبتديء هُوَ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئُوا، وَأَنَّ مُوسَى اخْتَارَ أَنْ يَكُونُوا الْمُبْتَدِئِينَ. وَفَعْلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَةِ الْمُرَادُ مِنْهَا الِاخْتِيَارُ وَإِظْهَارُ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَالْإِلْقَاءُ: رَمْيُ شَيْءٍ فِي الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ. وَإِطْلَاقُ الْإِلْقَاءِ عَلَى عَمَلِ السِّحْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَ تَصَارِيفِ السَّحَرَةِ فِي أَعْمَالِهِمُ السِّحْرِيَّةِ يَكُونُ بِرَمْيِ أَشْيَاءَ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَأَنَّهَا يُخَيَّلُ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، وَكَانَ مُنْتَهَى أَعْمَالِ السَّاحِرِ أَنْ يُخَيِّلَ الْجَمَادَ حَيًّا. وَمَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ قُصِدَ بِهِ التَّعْمِيمُ الْبَدَلِيُّ، أَيَّ شَيْءٍ تُلْقُونَهُ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي إِظْهَارِ عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَبْلَغِ سِحْرِهِمْ، وَتَهْيِئَةٍ لِلْمَلَأ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُبْطِلٌ سِحْرَهُمْ عَلَى يَدِ رَسُولِهِ. وَلَا يُشْكِلُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ مُوسَى بِإِلْقَاءِ السِّحْرِ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا كَافِرِينَ وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِلْقَائِهِ

إِظْهَارُ بُطْلَانِهِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْرِيرِ شُبْهَةِ الْمُلْحِدِ مِمَّنْ يَتَصَدَّى لِإِبْطَالِهَا بَعْدَ تَقْرِيرِهَا مِثْلُ طَرِيقَةِ عَضُدِ الدِّينِ الْأَيْجِي فِي كِتَابِهِ «الْمَوَاقِفِ» . وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ صُورَةِ سِحْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ إِصْرَارِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَمَا لَقِيَهُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنِ اعْتِلَاءِ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مَعَهُ، وَكَيْفَ كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى وَلِمَنْ كَفَرُوا عَاقِبَةُ السُّوءِ، لِيَكُونُوا مَثَلًا لِلْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجُ بِالذِّكْرِ إِلَّا عَلَى مَقَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ رَأَى سِحْرَهُمُ الدَّالَّةِ عَلَى يَقِينِهِ بِرَبِّهِ وَوَعْدِهِ، وَبِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْحَقِّ. وَذَلِكَ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ ذِكْرِ انْدِحَاضِ سِحْرِهِمْ تِجَاهَ مُعْجِزَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولَ أَلْقُوا لِتَنْزِيلِ فِعْلِ أَلْقُوا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِ مَفْعُولِهِ. وَمَعْنَى جِئْتُمْ بِهِ أَظْهَرْتُمُوهُ لَنَا، فَالْمَجِيءُ قَدِ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ، لِأَنَّ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُظْهِرُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَهُ، فَالْمُلَازَمَةُ عُرْفِيَّةٌ. وَلَيْسَ المُرَاد أَنهم جاؤوا مِنْ بِقَاعٍ أُخْرَى مُصَاحِبِينَ لِلسِّحْرِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ كُلُّهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ مُدُنٍ عَدِيدَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَا يُعَبَّرُ فِيهِ بِنَحْوِ: جَاءَ بِكَذَا، فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَقَامَ فِي نَحْو وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يُوسُف: 18] لَا يَسْتَقِيمُ فِي نَحْوِ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النُّور: 11] . وَنَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ بِجَعْلِ مَا جِئْتُمْ مُسْنَدًا إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ مَفْعُولًا لِفِعْلِ سَيُبْطِلُهُ، وَبِجَعْلِهِ اسْمًا مُبْهَمًا، ثُمَّ تَفْسِيرِهِ بِجُمْلَةِ جِئْتُمْ بِهِ ثُمَّ بَيَانِهِ بِعَطْفِ الْبَيَانِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ، وَهُوَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ثُمَّ مَجِيءُ ضَمِيرِ السِّحْرِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ سَيُبْطِلُهُ، كُلُّ ذَلِكَ إِطْنَابٌ وَتَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِيَتَقَرَّرَ الْإِخْبَارُ بِثُبُوتِ حَقِيقَةٍ فِي السِّحْرِ لَهُ وَيَتَمَكَّنُ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ فَضْلُ تَمَكُّنٍ وَيَقَعُ الرُّعْبُ فِي نُفُوسِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: السِّحْرُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ هِيَ هَمْزَةُ (الْ) ، فَتَكُونُ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا جِئْتُمْ بِهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَالسَّحَرُ عَطْفُ بَيَانٍ لِاسْمِ الْمَوْصُولِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ آلسِّحْرَ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِالْمَدِّ لِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، فَتَكُونُ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا جِئْتُمْ بِهِ اسْتِفْهَامِيَّةً وَيَكُونُ (آلسحرَ) اسْتِفْهَامًا مُبَيِّنًا لِ (مَا) الاستفهامية. وَهُوَ مستعم فِي التَّحْقِيرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمْرٌ هَيِّنٌ يَسْتَطِيعُهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ. وإِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ خَبَرُ (مَا) الْمَوْصُولَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَاسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَمَنْ وَافَقَهُ وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) زِيَادَةٌ فِي إِلْقَاءِ الرَّوْعِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَإِبْطَالُهُ: إِظْهَارُ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، لِأَنَّ إِظْهَارَ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُ تَأْثِيرَهُ عَلَى النَّاسِ بِفَضْحِ سَرِّهِ، وَأَشَارَتْ عَلَّامَةُ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى قُرْبِ إِبْطَالِهِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِطَرِيقِ الْوَحْيِ الْخَاصِّ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، أَوِ الْعَامِّ بِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَهِيَ مَدْلُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. فَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، وَتَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ بِمَا فِيهِ نَفْيُ الْإِصْلَاحِ. وَتَعْرِيفُ الْمُفْسِدِينَ بِلَامِ الْجِنْسِ، مِنَ التَّعْمِيمِ فِي جِنْسِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْفِيِّ وَجِنْسِ الْمُفْسِدِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ سِحْرَهُمْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ عَمَلِ الْمُفْسِدِينَ، وَإِضَافَةُ عَمَلَ إِلَى الْمُفْسِدِينَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ فِعْلُ مَنْ شَأْنُهُمُ الْإِفْسَادُ فَيَكُونُ نَسْجًا عَلَى مِنْوَالِهِمْ وَسِيرَةً عَلَى مُعْتَادِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِإِصْلَاحِ عَمَلِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِي نَفَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤَيِّدُهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ تَصْيِيرِهِ صَالِحًا، لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِفْسَادِ لَا تَقْبَلُ أَنْ تَصِيرَ صَلَاحًا حَتَّى يُنْفَى تَصْيِيرُهَا كَذَلِكَ عَنِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا إِصْلَاحُهَا هُوَ إِعْطَاؤُهَا الصَّلَاحَ، فَإِذَا نَفَى اللَّهُ إِصْلَاحَهَا فَذَلِكَ بِتَرْكِهَا وَشَأْنِهَا، وَمِنْ شَأْنِ الْفَسَادِ أَنْ يَتَضَاءَلَ مَعَ الزَّمَانِ حَتَّى يَضْمَحِلَّ.

وَلَمَّا قُدِّمَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ إِصْلَاحِهِ تَسْلِيطُ أَسْبَابِ بُطْلَانِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْطُلَ تَأْثِيرُهُ، وَأَنَّ عَدَمَ إِصْلَاحِ أَعْمَالِ أَمْثَالِهِمْ هُوَ إِبْطَالُ أَغْرَاضِهِمْ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الْأَنْفَال: 8] أَيْ يُظْهِرَ بُطْلَانَهُ. وَإِنَّمَا كَانَ السَّحَرَةُ مُفْسِدِينَ لِأَنَّ قَصْدَهُمْ تَضْلِيلُ عُقُولِ النَّاسِ لِيَكُونُوا مُسَخَّرِينَ لَهُمْ وَلَا يَعْلَمُوا أَسْبَابَ الْأَشْيَاء فيبقوا ءالة فِيمَا تَأْمُرُهُمُ السَّحَرَةُ، وَلَا يَهْتَدُوا إِلَى إِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا. أَمَّا السَّحَرَةُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِفْسَادُهُمْ أَظْهَرُ لِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِبْطَالَ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ وَتَرْوِيجِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَاتِ. وَجُمْلَةُ: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أَيْ سَيُبْطِلُهُ وَيُحِقُّ الْحَقَّ، أَيْ يُثْبِتُ الْمُعْجِزَةَ. وَالْإِحْقَاقُ: التَّثْبِيتُ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَقُّ حَقًّا لِأَنَّهُ الثَّابِتُ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ لِقَصْدِ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْبَاءُ فِي بِكَلِماتِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالْكَلِمَاتُ: مُسْتَعَارَةٌ لِتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى بِالْإِيجَادِ وَهُوَ التَّعَلُّقُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْوِينِ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ وَعَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ رَشِيقَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ يُشْبِهُ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ إِدْرَاكُ مَعْنًى وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى عِلْمِهِ. وَجُمْلَةُ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فِي مَوضِع الْحَال، و (لَو) وَصْلِيَةٌ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي بَعْدَهَا غَايَةٌ فِيمَا يُظَنُّ فِيهِ تَخَلُّفُ حُكْمِ مَا قَبْلَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] ، فَيَكُونُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ أَجْدَرَ وَأَوْلَى بِتَحْقِيقِ الْحُكْمِ السَّابِقِ مَعَهُ. وَإِنَّمَا كَانَتْ كَرَاهِيَةُ الْمُجْرِمِينَ إِحْقَاقَ الْحَقِّ غَايَةً لِمَا يُظَنُّ فِيهِ تَخَلُّفَ الْإِحْقَاقِ لِأَنَّ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْعَثَهُمْ عَلَى

[سورة يونس (10) : آية 83]

مُعَارَضَةِ الْحَقِّ الَّذِي يَسُوءُهُمْ وَمُحَاوَلَةِ دَحْضِهِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ أَقْوِيَاءُ يَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الصَّعْبُ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَاذِلُهُمْ. وَأَرَادَ (بِالْمُجْرِمِينَ) فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْإِجْرَامِ تَعْرِيضًا بِهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِصِفَةِ الْإِجْرَامِ بِأَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَرِهْتُمْ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ عُدُولًا عَنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِالذَّمِّ، وُقُوفًا عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ قَالَ لَهُ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] فَأَتَى بِالْقَضِيَّةِ فِي صُورَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَقَامِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ تَكْرِيرِ دَعْوَتِهِمْ، وَمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ. وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُحَاوِلِينَ مِنَ النَّبِيءِ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ، فَكَانَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ بِأَبْلَغِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَمُوسَى كَانَ مُحَاوِلًا فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَكَانَ فِي مَقَامِ التَّرْغِيب باللين. [83] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 83] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى لِأَنَّ حَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذُرِّيَّةٍ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَكَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِيجَازًا. وَالتَّقْدِيرُ: تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ تَصْمِيمٌ عَلَى الْإِعْرَاضِ. وَقَدْ طُوِيَ مَا حَدَثَ بَيْنَ الْمُحَاوَرَةِ وَبَيْنَ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَهُوَ إِلْقَاءُ مُوسَى عَصَاهُ وَالْتِقَامُهَا مَا أَلْقَوْهُ مِنْ سِحْرِهِمْ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِ ذَلِكَ إِذِ

الْمَقْصُودُ الْإِفْضَاءُ إِلَى أَنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْإِعْرَاضِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ تَمْثِيلِ أَعْمَالِهِمْ بِحَالِ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَفِعْلُ آمَنَ أَصْلُهُ (أَأْمَنَ) بِهَمْزَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَصْلِيَّةٌ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَمَانَةِ، وَالثَّانِيَةُ هَمْزَةٌ مَزِيدَةٌ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا أَمَانَةٍ، أَيْ غَيْرَ كَاذِبٍ فَصَارَ فِعْلُ آمَنَ بِمَعْنَى صَدَّقَ، وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ عُدِّيَ بِاللَّامِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ (آمَنَ) بِمَعْنَى صَدَّقَ مِنَ الْأَمَانَةِ وَبَيْنَ (آمَنَ) بِمَعْنَى جَعَلَهُ فِي أَمْنٍ، أَيْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَهَذِهِ اللَّامُ سَمَّاهَا ابْنُ مَالِكٍ لَامَ التَّبْيِينِ وَتَبِعَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيُؤَكِّدُ قَصْدَ التَّقْوِيَةِ فِي مِثْلِ فِعْلِ (آمَنَ) بِمَعْنَى صَدَّقَ دَفْعَ أَنْ يَلْتَبِسَ بِفِعْلِ (آمَنَهُ) إِذَا جَعَلَهُ فِي أَمْنٍ وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [90] . وَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ لِتُضَمُّنِهِ مَعْنَى صَدَّقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ [يُونُس: 90] . وَالذُّرِّيَّةُ: الْأَبْنَاءُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [34] . أَيْ فَمَا آمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى إِلَّا أَبْنَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَبْلُغْ دَعْوَتُهُ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِم حِينَئِذٍ. و (على) فِي قَوْلِهِ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ بِمَعْنَى (مَعَ) مِثْلُ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ أَيْ آمَنُوا مَعَ خَوْفِهِمْ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ (ذُرِّيَّةِ) ، أَيْ فِي حَالِ خَوْفِهِمِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُمْ. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَلَمْ يَصُدَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ خَوْفُهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ آمَنُوا عِنْدَ ظُهُورِ مُعْجِزَتِهِ، أَيْ أَعْلَنُوا الْإِيمَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُعَرَفُ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ وَلَا فَائِدَةَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ الْإِظْهَارُ. أَيْ مِنَ الْحَاضِرِينَ

فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ عَادَةَ هَذِهِ الْمَجَامِعِ أَنْ يَغْشَاهَا الشَّبَابُ وَالْيَافِعُونَ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالذُّرِّيَّةِ أَيِ الْأَبْنَاءِ، كَمَا يُقَالُ: الْغِلْمَانُ، فَيَكُونُونَ قَدْ آمَنُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ كَفَرُوا بِهِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدِ ابْتَدَأَ بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ مُبَادَرَةً لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 43] فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ ابْتِدَاءً هُوَ دَعْوَةُ فِرْعَوْنَ وَتَخْلِيصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ من الْأسر. و (الْمَلأ) تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأُضِيفَ الْمَلَأُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الذُّرِّيَّةِ، أَيْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَلَى خَوْفٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهُمْ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ الْمَشْهَدَ خَشْيَةَ أَنْ يَغْضَبُوا عَلَيْهِمْ وَيُؤْذُوهُمْ لِإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى لِمَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ مُؤَاخَذَةِ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ جَمِيعَ قَبِيلَتِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْجَبَابِرَةِ فِي أَخْذِ الْقَبِيلَةِ بِفَعْلَةٍ مِنْ بعض رجالها. و (الْفِتَن) إِدْخَالُ الرَّوْعِ وَالِاضْطِرَابِ عَلَى الْعَقْلِ بِسَبَبِ تَسْلِيطِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ النَّفْسُ تَحَمُّلَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِخَوْفِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، أَيْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي خَوْفِهِمُ الشَّدِيدِ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ زَادَ فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِالْخَوْفِ، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ ثَنَاءٍ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ إِذْ آمَنُوا فِي حَالِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْمَلِكِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمِنْ مَلَئِهِمْ، أَيْ قَوْمِهِمْ، وَهُوَ خَوْفٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ آثَارَهُ تَتَطَرَّقُ الْمَرْءُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى فِي خَلْوَتِهِ وَخُوَيِّصَّتِهِ لِشِدَّةِ مُلَابَسَةِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مَفَرًّا مِنْهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ اتِّسَاعِ مَقْدِرَةِ فِرْعَوْنَ بَيَانِ تَجَاوُزِهِ الْحَدَّ فِي الْجَوْرِ، وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَا يَزَعُهُ عَنْ إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِأَضْدَادِهِ وَازِعٌ.

[سورة يونس (10) : الآيات 84 إلى 86]

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِ بَطْشِ فِرْعَوْنَ. وَالْعُلُوُّ: مُسْتَعَارٌ لِلْغَلَبَةِ وَالِاسْتِبْدَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31] . وَالْإِسْرَافُ: تَجَاوُزُ حَدِّ الِاعْتِدَالِ الْمَعْرُوفِ فِي فِعْلٍ، فَهُوَ تَجَاوُزٌ مَذْمُومٌ، وَأَشْهَرُ مَوَارِدِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ الْإِفْرَاطِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِسْرَافًا فِيمَا عُرِفَ بِهِ مُلُوكُ زَمَانِهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَكْرُوهَةِ عِنْدَ النَّاسِ الْمُلَازِمَةِ لِلْمُلُوكِ فِي الْعَادة. وَقَوله: لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِهِ بِالْإِسْرَافِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُ لَمُسْرِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الْأَنْعَام [56] . [84- 86] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 84 إِلَى 86] وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) عَطَفَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ عَلَى أَوَّلِهَا فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ فِرْعَوْنُ [يُونُس: 79] ، وَهَذَا خِطَابُ مُوسَى لِجَمِيعِ قَوْمِهِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ بِمِصْرَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ وَآمَنُوا بِهِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَثْبِيتُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فِي حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى تَوَكُّلِهِمْ، وَأَمْرُ مَنْ عَدَاهُمُ الَّذِينَ خَافَ ذُرِّيَّتُهُمْ أَنْ يُؤَنِّبُوهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْإِيمَانِ بِأَنْ لَا يَجَبِّنُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَأَنْ لَا يَخْشَوْا فِرْعَوْنَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ حَقًّا كَمَا أَظْهَرَتْهُ أَقْوَالُكُمْ فَعَلَيْهِ اعْتَمِدُوا فِي نَصْرِكُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَعْتَمِدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِمُصَانَعَةِ فِرْعَوْنَ وَلَا عَلَى فِرْعَوْنَ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لَهُ.

وَأَرَادَ إِثَارَةَ صِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَإِلْهَابَ قُلُوبِهِمْ بِجَعْلِ إِيمَانِهِمْ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ، حَيْثُ تَخَوَّفُوا مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَكْتُمُوا إِيمَانَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ عَدَمَ اكْتِرَاثِهِمْ بِبَطْشِ فِرْعَوْنَ عَلَامَةً عَلَى إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بِإِظْهَارِ مُتَّبِعِيهَا جَمَاعَتَهُمْ، فَلَا تُغْتَفَرُ فِيهَا التَّقِيَّةُ حِينَئِذٍ. وَبِذَلِكَ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ مِثْلُ بِلَالٍ، وَعَمَّارٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، فَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَتَحَمَّلُوا الْأَذَى، وَإِنَّمَا سُوِّغَتِ التَّقِيَّةُ لِلْآحَادِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تَقَوُّمِ جَامِعَةِ الْإِيمَانِ فَذَلِكَ مَحَلُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: 106] . فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يُونُس: 83] ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى نَهْيِهِمْ عَنْ مَخَافَةِ فِرْعَوْنَ. وَالتَّوَكُّلُ: تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَجُمْلَةُ: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ شَرْطٌ ثَانٍ مُؤَكِّدٌ لِشَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ حُصُولَ هَذَا التَّوَكُّلِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُصُولِ إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِالتَّوَكُّلِ وَأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَمُبَيِّنٌ أَيْضًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ، أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ إِيمَانَ مُسْلِمٍ لِلَّهِ، أَيْ مُخْلِصٍ لَهُ غَيْرِ شَائِبٍ إِيَّاهُ بِتَرَدُّدٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلَا فِي أَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرْطَيْنِ مَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ كُلٍّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ الْآخَرِ. وَهَذَا مِنْ مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَلَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا مَعَ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ: النُّطْقُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ، فَالْإِيمَانُ انْفِعَالٌ قَلْبِيٌّ نَفْسَانِيٌّ، وَالْإِسْلَامُ عَمَلٌ جُسْمَانِيٌّ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِمَا فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ إِذْ لَا يُعْلَمُ حُصُولُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ إِلَّا بِالْقَوْلِ وَالطَّاعَةِ، وَإِذْ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ حَقًّا إِلَّا إِذَا وَافَقَ مَا فِي

النَّفْسِ، قَالَ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] . وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَتَوَكَّلُوا كَانُوا مُؤْمِنِينَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَلَا أَنَّهُمْ إِنْ تَوَكَّلُوا كَانُوا مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ التَّدَيُّنُ بِالدِّينِ. وَمِنْ ثَمَّ كَانَ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا جَوَابًا لِلشَّرْطَيْنِ كِلَيْهِمَا. أَيْ يُقَدَّرُ لِلشَّرْطِ الثَّانِي جَوَابٌ مُمَاثِلٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْآيَةِ وَمَا حَاوَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ الْكَلَامِ. وَقَدْ كَانَ صَادِقُ إِيمَانِهِمْ مَعَ نُورِ الْأَمْرِ النَّبَوِيِّ الَّذِي واجههم بِهِ نبيئهم مُسْرِعًا بِهِمْ إِلَى التَّجَرُّدِ عَنِ التَّخَوُّفِ وَالْمُصَانَعَةِ، وَإِلَى عَقْدِ الْعَزْمِ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَلِذَلِكَ بَادَرُوا بِجَوَابِهِ بِكَلِمَةٍ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا مُشْتَمِلَةً عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْقَصْرِ الْمُقْتَضِي تَجَرُّدَهُمْ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأُشِيرَ إِلَى مُبَادَرَتِهِمْ بِأَنْ عُطِفَتْ جُمْلَةُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ عَلَى مَقَالَةِ مُوسَى بِفَاءِ التَّعْقِيبِ خِلَافًا لِلْأُسْلُوبِ الْغَالِبِ فِي حِكَايَةِ جُمَلِ الْأَقْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ. ثُمَّ ذَيَّلُوا كَلِمَتَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ بِسُؤَالِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَقِيَهُمْ ضُرَّ فِرْعَوْنَ، نَاظِرِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ قَبْلَ مَصْلَحَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ تَمَكَّنَ الْكَفَرَةُ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ قَوِيَتْ شَوْكَةُ أَنْصَارِ الْكُفَّارِ فَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فَيَفْتَتِنُ بِذَلِكَ عَامَّةُ الْكَفَرَةِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ دِينَهُمُ الْحَقُّ. وَالْفِتْنَةُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا آنِفًا. وَسَمَّوْا ذَلِكَ فِتْنَةً لِأَنَّهَا تَزِيدُ النَّاسَ تَوَغُّلًا فِي الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ فِتْنَةٌ. وَالْفِتْنَةُ مَصْدَرٌ. فَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ فِتْنَةً هُوَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ سَبَبَ فِتْنَةٍ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَجْعَلْنا إِلَى ضَمِيرِهِمُ الْمُخْبَرِ عَنهُ بفتنة تَعْدِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ

[سورة يونس (10) : آية 87]

الْعَقْلِيِّ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ بِفِتْنَةٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ إِذْ لَا يَفْرِضُونَ أَنْ يَكُونُوا فَاتِنِينَ وَلَا يَسْمَحُ الْمَقَامُ بِأَنَّهُمْ أَرَادُوا لَا تَجْعَلْنَا مَفْتُونِينَ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَوَصَفُوا الْكُفَّارَ بِ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ، وَلِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِأَنْوَاعِ الظُّلْمِ: ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ، وَظُلْمِ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ سَأَلُوا مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فَطَلَبُوا النَّجَاةَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، أَيْ مِنْ بَطْشِهِمْ وَإِضْرَارِهِمْ. وَزِيَادَةُ بِرَحْمَتِكَ لِلتَّبَرُّؤِ مِنَ الْإِدْلَالِ بِإِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] . وَذِكْرُ لَفْظِ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ: لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقَوْلِهِ: مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي أَوَاسِطِ الْبَقَرَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ غير مرّة. [87] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 87] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ [يُونُس: 84] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، أَيْ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ السَّابِق، لِأَن مَجْمُوعه قصَص هِيَ حِكَايَةُ أَطْوَارٍ لِقِصَّةِ مُوسَى وَقَوْمِهِ. وَوَقَعَ الْوَحْيُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ، فَيُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا بَيْنَ الرَّسُول ومؤازره. والتبوّؤ: اتِّخَاذُ مَكَانٍ يَسْكُنُهُ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَوْءِ، أَيِ الرُّجُوعِ، كَأَنَّ صَاحِبَ الْمَسْكَنِ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الرُّجُوعَ إِلَى مَحَلِّ سَكَنِهِ وَلَوْ كَانَ تَبَاعَدَ عَنهُ فِي شؤون اكْتِسَابِهِ بِالسَّيْرِ إِلَى السُّوقِ أَوِ الصَّيْدِ أَوِ الِاحْتِطَابِ أَوْ قَطْفِ الثِّمَارِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ

عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ فِي آلِ عمرَان [121] . فَمَعْنَى تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما اجْعَلَا قَوْمَكُمَا مُتَبَوِّئِينَ بُيُوتًا. وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْأَصْلِ هُوَ السَّاكِنُ بِالْمَبَاءَةِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، إِذْ كَانَا سَبَب تبوّؤ قَوْمِهِمَا لِلْبُيُوتِ. وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: لِقَوْمِكُما إِذْ جَعَلَ التَّبَوُّؤَ لِأَجْلِ الْقَوْم. وَمعنى تبوؤ الْبُيُوتِ لِقَوْمِهِمَا أَنْ يَأْمُرَا قَوْمَهُمَا بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَأْمُرَانِهِمْ بِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارٌ فِي مِصْرَ مِنْ قَبْلُ، إِذْ لَا يَكُونُونَ قَاطِنِينَ مِصْرَ بِدُونِ مَسَاكِنَ، وَقَدْ كَانُوا سَاكِنِينَ أَرْضَ (جَاسَانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ (مَنْفِيسَ) قَاعِدَةِ الْمَمْلَكَةِ يَوْمَئِذٍ فِي جَنُوبِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ الْبُيُوتُ الْمَأْمُورُ بِتَبَوُّئِهَا غَيْرَ الْبُيُوتِ الَّتِي كَانُوا سَاكِنِيهَا. وَاضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ وَذَكَرُوا رِوَايَاتٍ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِحَالَةِ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْبُيُوتِ بُيُوتُ الْعِبَادَةِ أَيْ مَسَاجِدُ يُصَلُّونَ فِيهَا، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَنْ تَأَوَّلَهُ وُقُوعُ قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عَقِبَهُ. وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُفَارِقُونَ مِصْرَ قَرِيبًا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: الْبُيُوتُ بُيُوتُ السُّكْنَى وَأَمْسَكُوا عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُنَاسب للتبوؤ لِأَن التبوؤ السُّكْنَى، وَالْمُنَاسِبُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ الْبُيُوتِ، وَكَوْنِهَا بِمِصْرَ. فَالَّذِي يَظْهَرُ بِنَاءً عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ خِيَامٌ أَوْ أَخْصَاصٌ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِاتِّخَاذِهَا تَهْيِئَةً لِلِارْتِحَالِ وَهِيَ غَيْرُ دِيَارِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا فِي (جَاسَانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ فِرْعَوْنَ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَادِيَةِ لِيَعْمَلُوا عِيدَ الْفِصْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا سَأَلَهُ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ مُوسَى كَرَّرَ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ فِرْعَوْنَ كُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ وَالْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَقَدْ صَارَ لَهُمْ ذَلِكَ عِيدًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ هَذِهِ الْخِيَامَ أَوِ الْأَخْصَاصَ الَّتِي تَتَّخِذُونَهَا تَجْعَلُونَهَا مَفْتُوحَةً إِلَى الْقِبْلَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْقِبْلَةُ: اسْمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ قِبْلَةَ بِلَادِ مِصْرَ كَقِبْلَةِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهِيَ الْجَنُوبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْقِبْلَةِ فِي الْآيَةِ حِكَايَةً لِتَعْبِيرِ مُوسَى عَنْهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ جَارِيًا عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ بِالِاسْتِقْبَالِ إِلَى صَخْرَةِ الْقُدْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى قَدْ عَبَّرَ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى الْجَنُوبِ فَحُكِيَتْ عِبَارَتُهُ فِي الْقُرْآنِ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ لَهُ الشَّائِعِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْجَنُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ كَلِمَةُ قِبْلَةٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْبُيُوتِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُهَا مِنْ أَبْوَابِهَا فِي غَالِبِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَفِي ذَلِكَ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ. وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْبُيُوتَ بِأَنَّهَا بُيُوتُ السُّكْنَى فَسَّرُوا قِبْلَةً: إِمَّا بِمَعْنَى مُتَقَابِلَةً، وَإِمَّا بِمَعْنَى اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَحَلَّ صَلَاتِكُمْ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْبُيُوتَ بِالْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَسَّرُوا الْقِبْلَةَ بِأَنَّهَا قِبْلَةُ الصَّلَاةِ، أَيْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُلَائِمُ تَرْكِيبَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لِأَنَّ التَّرْكِيبَ اقْتَضَى أَنَّ الْمَجْعُولَ قِبْلَةً هُوَ الْبُيُوتُ أَنْفُسُهَا لَا أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ فِيهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِذَا افْتَقَدْنَا التَّأْوِيلَاتِ كُلَّهَا لَا نَجِدُهَا إِلَّا مُفَكَّكَةً مُتَعَسِّفَةً خَلَا التَّفْسِيرِ الَّذِي عَوَّلْنَا عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ اجْعَلُوا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ مِنْ عَمَلِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَقَوْمِهِمَا إِذْ كُلُّ أَحَدٍ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْتَهُ قِبْلَةً.

[سورة يونس (10) : آية 88]

وَأَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، أَيِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، وَالَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَهَا مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ مُوسَى اتِّبَاعًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبْنَائِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى أَمْرِهِمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَنَّ اتِّخَاذَ الْبُيُوتِ كَانَ فِي حَالَةِ رَحِيلٍ فَكَانَتْ حَالَتُهُمْ مَظِنَّةَ الشُّغُلِ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي مُدَّةِ رِحْلَتِهِمْ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا قَبْلَهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ أَمْرٌ بِحَالَةٍ مُشْعِرَةٍ بِتَرَقُّبِ أَخْطَارٍ وَتَخَوُّفٍ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً [يُونُس: 85] فَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَنَاجُونَ مِنْهُ وَالْمُؤْمِنُونَ هُمْ قَوْمُ مُوسَى الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يُونُس: 83] وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا [يُونُس: 84، 85] . [88] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 88] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) عَطَفَ بَقِيَّةَ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِمَّا فِيهِ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ. وَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِخَبَرِ خُرُوجِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ لِتَعْرِيفِ كَرَامَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى رَبِّهِ بِأَنِ اسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، وَأَنْفَذَ بِرِسَالَتِهِ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنْ إِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ. وَمَهَّدَ مُوسَى لِدُعَائِهِ تَمْهِيدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ لِزَجْرِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ لَا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُ لِقَوْمِهِ وَلِنَفْسِهِ، فَسَأَلَ اللَّهَ سَلْبَ النِّعْمَةِ عَنْ

فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَحُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ لِخَضْدِ شَوْكَتِهِمْ وَتَذْلِيلِ تَجَبُّرِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ وَيَسْهُلَ قَبُولُهُمُ الْإِيمَانَ. وَلَمَّا كَانَتِ النِّعْمَةُ مُغْرِيَةً بِالطُّغْيَانِ لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْخَبَاثَةِ جَعَلَ مُوسَى إِمْدَادَ فِرْعَوْنَ بِالنِّعْمَةِ مُغْرِيًا لِفِرْعَوْنَ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ فَكَانَ دُعَاءُ مُوسَى عَلَيْهِمُ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ وَتَطَلُّبًا لِإِيمَانِهِمْ بِوَسَائِلِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَلِمَ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُوسَى وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ. وَافْتُتِحَ الدُّعَاءُ بِالنِّدَاءِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِمَقَامِ الدُّعَاءِ. وَنُودِيَ اللَّهُ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ تَذَلُّلًا لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا تَوْطِئَةٌ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ حَقِيقَةَ الْإِخْبَارِ ضَرُورَةَ أَنَّ مُوسَى يُوقِنُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمْهِيدِ لِطَلَبِ سَلْبِ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ. ثُمَّ الِانْتِقَالِ إِلَى الدُّعَاءِ بِسَلْبِ مَا أُوتُوهُ. فَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ إِلَخْ مَقْصُودٌ بِهِ الِاهْتِمَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ دَفْعِ تَرَدُّدٍ أَوْ دَفْعِ إِنْكَارٍ. وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَحَلِّ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ. وَالَّذِي سَلَكَهُ أَهْلُ التَّدْقِيقِ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ: الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَأَصْحَابِهِمَا، عَلَى نَحْوِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] فَاللَّامُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّعْلِيلِ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى التَّرَتُّبِ وَالتَّعْقِيبِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَاءُ التَّعْقِيبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ فَشَبَّهَ تَرَتُّبَ الشَّيْءِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَيْسَ عِلَّةً فِيهِ بِتَرَتُّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ التَّرَتُّبِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِمَنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَثَرُهُ، فَالْمَعْنَى: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فَضَّلُوا بِذَلِكَ وَأَضَلُّوا. وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ خَمْسَةٌ أُخْرَى:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ، وَنُسِبَ إِلَى الْفَرَّاءِ، وَفَسَّرَ بِهِ الطَّبَرَيُّ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ حَرْفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أَيْ فَضَلُّوا. حَكَاهُ الْفَخْرُ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّامَ لَامُ الدُّعَاءِ. رُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ وَأَثْقَلُهَا. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ آتَيْنَاهُمْ زِينَةً وَأَمْوَالًا تَقْرِيرًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَجُّبِ، قَالَهُ الْفَخْرُ. الْخَامِسُ: تَأْوِيلُ مَعْنَى الضَّلَالِ بِأَنَّهُ الْهَلَاكُ، قَالَهُ الْفَخْرُ. وَهِيَ وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ مُتَفَاوِتَةُ الضَّعْفِ فَلَا نُطِيلُ بِتَقْرِيرِهَا. وَالزِّينَةُ: مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ النَّاسُ، وَمَا يَحْسُنُ فِي أَنْظَارِهِمْ مِنْ طَرَائِفِ الدُّنْيَا، كَالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ وَالْمَبَانِي الضَّخْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمرَان: 14] وَقَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: 46] وَقَالَ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] . وَالْأَمْوَالُ: مَا بِهِ قِوَامُ الْمَعَاشِ، فَالزِّينَةُ تُلْهِيهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْمَوَاعِظِ، وَتُعَظِّمُ شَأْنَهُمْ فِي أَنْظَارِ قَوْمِهِمْ، وَالْأَمْوَالُ يُسَخِّرُونَ بِهَا الرَّعِيَّةَ لِطَاعَتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ لِلْفَرَاعِنَةِ مِنْ سَعَة الرزق ورفاعية الْعَيْشِ مَا سَارَ ذِكْرُهُ فِي الْآفَاقِ. وَظَهَرَتْ مُثُلٌ مِنْهُ فِي أَهْرَامِهِمْ وَنَوَاوِيسِهِمْ. وَأُعِيدَ النِّدَاءُ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُعَلَّلَةِ وَالْجُمْلَةِ الْمُعَلِّلَةِ لِتَأْكِيدِ التَّذَلُّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْإِجَابَةِ وَلِإِظْهَارِ التَّبَرُّؤِ مِنْ قَصْدِ الِاعْتِرَاضِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ لِيُضِلُّوا بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِضَمِّ الْيَاءِ- عَلَى مَعْنَى سَعْيِهِمْ فِي تَضْلِيلِ النَّاسِ.

وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّحِدٌ لِأَنَّهُمْ إِذَا ضَلُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ قَادَةُ قَوْمِهِمْ كَانَ ضَلَالُهُمْ تَضْلِيلًا لِغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَضَلُّوا النَّاسَ فَإِنَّهُمْ مَا أَضَلُّوهُمْ إِلَّا وَهُمْ ضَالُّونَ مِثْلُهُمْ. وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ الزِّينَةَ سَبَبُ ضَلَالِهِمْ وَالْأَمْوَالَ سَبَبُ إِضْلَالِ النَّاسِ. وَأُعِيدَ النِّدَاءُ ثَالِثَ مَرَّةٍ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ التَّوَجُّهِ وَالتَّضَرُّعِ. وَجُمْلَةُ: اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَالنِّدَاءُ يَقُومُ مَقَامَ وَصْلِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَالطَّمْسُ: الْمَحْوُ وَالْإِزَالَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [47] . وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَيُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا هُنَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فِي سُورَةِ يس [66] . وَلَعَلَّ تَعْدِيَتَهُ بِ (عَلَى) لِإِرَادَةِ تَمَكُّنِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ لِتَضْمِينِ الطَّمْسِ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ بِآلَةِ الْمَحْوِ وَالْإِزَالَةِ، فَطَمْسُ الْأَمْوَالِ إِتْلَافُهَا وَإِهْلَاكُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاشْدُدْ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّدِّ، وَهُوَ الْعُسْرُ. وَمِنْهُ الشِّدَّةُ لِلْمُصِيبَةِ وَالتَّحَرُّجِ، وَلَوْ أُرِيدَ غَيْرُ ذَلِكَ لَقِيلَ: وَاطْبَعْ، أَوْ وَاخْتِمْ، أَوْ نَحْوُهُمَا، فَيَكُونُ شَدَّ بِمَعْنَى أَدْخَلَ الشَّدَّ أَوِ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ جَدَّ فِي كَلَامِهِ، أَيِ اسْتَعْمَلَ الْجَدَّ. وَحَرْفُ (عَلَى) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً لِإِفَادَةِ تَمَكُّنِ الشِّدَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَدْخَلَ الشِّدَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْقُلُوبُ: النُّفُوسُ وَالْعُقُولُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ بِالْأَنْكَادِ وَالْأَحْزَانِ الَّتِي تَجْعَلُ قُلُوبَهُمْ فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ أَيِ اجْعَلْهُمْ فِي عَنَاءٍ وَبَلْبَلَةِ بَالٍ مَا دَامُوا فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا حِرْصٌ مِنْهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى وَسَائِلِ هِدَايَتِهِمْ رَجَاءَ أَنَّهُمْ إِذَا زَالَتْ عَنْهُمُ النِّعَمُ وَضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِكُرُوبِ

الْحَيَاةِ تُفَكَّرُوا فِي سَبَبِ ذَلِكَ، فَعَجَّلُوا بِالنَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ مُعْتَادُ النُّفُوسِ الْغَافِلَةِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر: 8] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اشْدُدْ مِنَ الشَّدِّ، وَهُوَ الْهُجُومُ. يُقَالُ: شَدَّ عَلَيْهِ، إِذَا هَجَمَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ فِي حَالَةِ النِّعْمَةِ وَالدَّعَةِ آمِنَةٌ سَاكِنَةٌ فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَشُدَّ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِهِ، تَمْثِيلًا لِحَالِ إِصَابَةِ نُفُوسِهِمْ بِالْأَكْدَارِ وَالْأَحْزَانِ بِحَالِ مَنْ يَشُدُّ عَلَى عَدْوِهِ لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الْإِسْرَاء: 64] أَيْ طَوِّعْهُمْ لِحُكْمِكَ وَسَخِّرْهُمْ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَوْقِعَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَنْ تَكُونَ فَاءَ السَّبَبِيَّةِ فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ، أَيِ افْعَلْ بِهِمْ ذَلِكَ لِيُؤْمِنُوا. وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ إِضْمَارًا وَاجِبًا بَعْدَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ. فَقَوْلُهُ: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: فَيُؤْمِنُوا حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ إِيقَاعِ جَوَابِ الدُّعَاءِ بِصِيغَةِ إِثْبَاتِ الْإِيمَانِ، إِلَى إِيرَادِهِ بِصِيغَةِ نَفْيٍ مُغَيًّا بِغَايَةٍ هِيَ رُؤْيَةُ الْعَذَابِ سُلُوكًا لِأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ تَرْتِيبِ الْجَوَابِ عَلَى الدُّعَاءِ وَبَيْنَ مَا اسْتَبَانَ لَهُ مِنْ طَبْعِ نُفُوسِهِمْ بِطَبْعِ أَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُ فِيهِمُ الْحُجَجُ وَأَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ وَشَرَاسَةَ نُفُوسِهِمْ لَا تُذَلِّلُهَا إِلَّا الْآلَامُ الْجَسَدِيَّةُ وَالنَّفْسَانِيَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِلَاجٌ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ إِيصَالِهِمْ مِنْ طُرُقِ الضَّغْطِ وَالشِّدَّةِ حَيْثُ لَمْ تُجْدِ فِيهِمْ وَسَائِلُ الْحُجَّةِ، فَقَالَ: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيْ أَنَّ شَأْنَهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعُ إِذْ جَمَعَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ جَوَابَ الدُّعَاءِ وَبَيَانَ عِلَّةِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: فَيُؤْمِنُوا فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَوَابِ فِعْلِ الدُّعَاءِ هُوَ غَايَةُ الْجَوَابِ الَّتِي بَعْدَ حَتَّى، فَتِلْكَ هِيَ مَصَبُّ الْجَوَابِ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهٌ لَا تُرْهِقُهُ غَبَرَةُ الْإِشْكَالِ، وَلَا يَعْسُرُ

[سورة يونس (10) : آية 89]

مَعَهُ الْمَنَالُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَلا يُؤْمِنُوا إلَخْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ وَجُمْلَةُ الدُّعَاءِ بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَعْنَى: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ فَيَسْتَمِرُّ ضَلَالُهُمْ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَهَذَا تَأْوِيلُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ عَذَابُ الْفَقْرِ وَالْجُوعِ وَعَذَابُ النَّكَدِ فِي النَّفْسِ. وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِحْسَاسِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةً عَنْ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ مُلَازِمَةٌ لِحُلُولِ الشَّيْء الْمشَاهد. [89] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 89] قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ لِكَلَامِ مُوسَى جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ أَنْ لَا تُعْطَفَ جُمَلُهَا كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ قَدْ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي يُفِيدُ تَحْقِيقَ الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَشُبِّهَ بِالْمُضِيِّ. وَأُضِيفَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى ضَمِيرٍ التَّثْنِيَةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا حُكِيَتْ عَنْ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْدَهُ لِأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعَا لَمَّا كَانَ هَارُونُ مُوَاطِئًا لَهُ وَقَائِلًا بِمِثْلِهِ لِأَنَّ دَعْوَتَهُمَا وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ: كَانَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو وَهَارُونُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُؤَمِّنُ. وَمَعْنَى إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِعْطَاءُ مَا سَأَلَهُ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَسْلِبَ عَن فِرْعَوْن وملئه النِّعَمَ، وَيُوَالِيَ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبَ حَتَّى يَسْأَمُوا مُقَاوَمَةَ دَعْوَةِ مُوسَى وَتَنْحَطُّ غَلْوَاؤُهُمْ،

قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: 130] وَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [الْأَعْرَاف: 133] . وَفَرَّعَ عَلَى إِجَابَةِ دَعْوَتِهِمَا أَمَرَهُمَا بِالِاسْتِقَامَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ شُكْرٌ عَلَى الْكَرَامَةِ فَإِنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ دَعْوَةَ عَبْدِهِ إِحْسَانٌ لِلْعَبْدِ وَإِكْرَامٌ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا وَأَعْظَمُ الشُّكْرِ طَاعَةُ الْمُنَعِّمِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مُوسَى وَهَارُونُ مُسْتَقِيمِينِ، وناهيك باستقامة النبوءة كَانَ أَمْرُهُمَا بِالِاسْتِقَامَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا. وَأَعْقَبَ حَثَّهُمَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْمُولًا لِلِاسْتِقَامَةِ تَنْبِيهًا عَلَى تَوَخِّي السَّلَامَةِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ اهْتِمَامًا بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْفَسَادِ. وَالِاسْتِقَامَةُ: حَقِيقَتُهَا الِاعْتِدَالُ، وَهِيَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ كَثِيرًا فِي مَعْنَى مُلَازِمَةِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، لِأَنَّهُ شَاعَ تَشْبِيهُ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ بِالِاعْوِجَاجِ وَالِالْتِوَاءِ. وَقِيلَ لِلْحَقِّ: طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] ، فَكَانَ أَمْرُهُمَا بِالِاسْتِقَامَةِ جَامِعًا لِجَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَمْرَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: قُلْ: آمَنَتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ . وَمِنَ الِاسْتِقَامَةِ أَنْ يَسْتَمِرَّا عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَلَا يَضْجَرَا. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمِلٌ لِلسِّيرَةِ وَالْعَمَلِ الْغَالِبِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعانِّ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً. وَهُمَا نُونَانِ: إِحْدَاهُمَا نُونُ الْمُثَنَّى وَالْأُخْرَى نُونُ التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَلا تَتَّبِعانِّ بِنُونٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَهِيَ نُونُ رَفْعِ الْمُثَنَّى لَا نُونُ التَّوْكِيدِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ (لَا) عَلَى هَاتِهِ الْقِرَاءَةِ نَافِيَةً غَيْرَ نَاهِيَةٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ الْمُضَارِعَةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحَرْفِ نَفْيٍ يَجُوزُ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاو وَعَدَمه.

[سورة يونس (10) : آية 90]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 90] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً [يُونُس: 87] عَطَفَ الْغَرَضَ عَلَى التَّمْهِيدِ، أَيْ، أَمَرْنَاهُمَا بِاتِّخَاذِ تِلْكَ الْبُيُوتِ تَهْيِئَةً لِلسَّفَرِ وَمُجَاوَزَةِ الْبَحْرِ. وَجَاوَزْنَا، أَيْ قَطَعْنَا بِهِمُ الْبَحْرَ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ أَقْطَعْنَاهُمُ الْبَحْرَ بِمَعْنَى جَعَلْنَاهُمْ قَاطِعِينَ الْبَحْرَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [138] . وَمُجَاوَزَتُهُمُ الْبَحْر تَقْتَضِي خَوْضَهُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جعل لَهُم طائق فِي الْبَحْرِ يَمرونَ مِنْهَا. وفَأَتْبَعَهُمْ بِمَعْنَى لَحِقَهُمْ. يُقَالُ: تَبِعَهُ فَأَتْبَعُهُ إِذَا سَارَ خَلْفَهُ فَأَدْرَكَهُ. وَمِنْهُ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10] . وَقِيلَ: أَتْبَعَ مُرَادِفُ تَبِعَ. وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ، مَصْدَرُ بَغَى. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي الْأَعْرَافِ [33] . وَالْعَدْوُ: مَصْدَرُ عَدَا. وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ مَسُوقٌ لِتَأْكِيدِ الْبَغْيِ. وَإِنَّمَا عُطِفَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى فِي الظُّلْمِ بِاعْتِبَارِ اشْتِقَاقِ فِعْلِ عَدَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ دخل الْبَحْر يقتصّى آثَارَهُمْ فَسَارَ فِي تِلْكَ الطَّرَائِقِ يُرِيدُ الْإِحَاطَةَ بِهِمْ وَمَنْعَهُمْ مِنَ السَّفَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ اتِّبَاعُهُ إِيَّاهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا إِذْ لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ حَقٍّ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادُوا مُفَارَقَةَ بِلَادِ فِرْعَوْنَ وَلَيْسَتْ مُفَارَقَةُ أَحَدٍ بَلَدَهُ مَحْظُورَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي الْبَقَاءِ، فَإِنَّ لِذِي الْوَطَنِ حَقًّا فِي الْإِقَامَةِ فِي وَطَنِهِ فَإِذَا رَامَ مُغَادَرَةَ وَطَنِهِ فَقَدْ تَخَلَّى عَنْ حَقٍّ لَهُ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ حَقِّهِ،

فَلِذَلِكَ كَانَ الْخَلْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عِقَابًا، وَكَانَ النَّفْيُ وَالتَّغْرِيبُ فِي الْإِسْلَامِ عُقُوبَةً لَا تَقَعُ إِلَّا بِمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، وَكَانَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَكَانِ عِقَابًا، وَمِنْهُ السِّجْنُ، فَلَيْسَ الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ طَوْعًا بِعُدْوَانٍ. فَلَمَّا رَامَ فِرْعَوْنَ مَنْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخُرُوجِ وَشَدَّ لِلِّحَاقِ بِهِمْ لَرَدِّهِمْ كَرْهًا كَانَ فِي ذَلِكَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا، لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ إِكْرَاهَهُمْ عَلَى الْبَقَاءِ وَلِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ ذَلِكَ تَسْخِيرُهُمْ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ لِوُقُوعِ إِذا الْفُجَائِيَّةِ بَعْدَهَا. وَهِيَ غَايَةٌ لِلِاتِّبَاعِ، أَيِ اسْتَمَرَّ اِتِّبَاعُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ إِيَّاهُ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَفْتَأُ يَجِدُّ فِي إِدْرَاكِهِمْ إِلَى أَنْ أَنْجَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاخْتَرَقُوا الْبَحْرَ، وَرَدَّ اللَّهُ غَمْرَةَ الْمَاءِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فَغَرِقُوا وَهَلَكَ فِرْعَوْنُ غَرِيقًا، فَمُنْتَهَى الْغَايَةِ هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِذَا) ، وَالْجُمْلَةُ الْمُضَافَةُ هِيَ إِلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنَتُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِكَوْنِ الْغَايَةِ وَهِيَ إِدْرَاكُ الْغَرَقِ إِيَّاهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ انْتَهَى الِاتِّبَاعُ، وَلَيْسَتِ الْغَايَةُ هِيَ قَوْلُهُ: آمَنْتُ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرَانِ مُتَقَارِنَيْنِ. وَالْإِدْرَاكُ: اللِّحَاقُ وَانْتِهَاءُ السَّيْرِ. وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْغَرَقَ دَنَا مِنْهُ تَدْرِيجِيًّا بِهَوْلِ الْبَحْرِ وَمُصَارَعَتِهِ الْمَوْجَ، وَهُوَ يَأْمَلُ النَّجَاةَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرِ الْإِيمَانَ حَتَّى أَيِسَ مِنَ النَّجَاةِ وَأَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِتَصَلُّبِهِ فِي الْكُفْرِ. وَتَرْكِيبُ الْجُمْلَةِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهَا قَامَتْ مَقَامَ خَمْسَ جُمَلٍ: جُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّ فِرْعَوْنَ حَاوَلَ اللِّحَاقَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَقْصَى أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ وَالطَّمَعِ فِي اللِّحَاقِ. وَجُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يلحقهم. وَهَاتَانِ مستفادان مِنْ (حَتَّى) ، وَهَاتَانِ مِنَّةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَجُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّهُ غَمَرَهُ الْمَاءُ فَغَرِقَ، وَهَذِهِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ وَكَرَامَةٌ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَجُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ قَهَرَتْهُ أَدِلَّةُ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ رَبْطِ جُمْلَةِ إِيمَانِهِ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ. وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ لِلْإِيمَانِ وَأَنَّ الْحَقَّ يَغْلِبُ الْبَاطِلَ فِي النِّهَايَةِ. وَجُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّهُ مَا آمَنَ حَتَّى أَيْسَ مِنَ النَّجَاةِ لِتَصَلُّبِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ ذَلِكَ غَلَبَهُ اللَّهُ. وَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لِلْكَافِرِينَ وَعِزَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى جُمْلَةِ: إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، وَجُعِلَ مَا مَعَهَا كَالْوَسِيلَةِ إِلَيْهَا، فَجُعِلَتْ (حَتَّى) لِبَيَانِ غَايَةِ الِاتِّبَاعِ وَجُعِلَتِ الْغَايَةُ أَنْ قَالَ: آمَنْتُ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مُنْدَفِعًا إِلَيْهِ بِدَافِعِ حَنَقِهِ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِ، فَكَانَتْ غَايَتُهُ إِيمَانُهُ بِحَقِّهِمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ: الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ لِيُفِيدَ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِاللَّهِ تَصْوِيبَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا هُدُوا إِلَيْهِ، فَجَعَلَ الصِّلَةَ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، وَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِاللَّهِ إِلَّا مَا تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ إِذْ لَمْ يَتَبَصَّرْ فِي دَعْوَةِ مُوسَى تَمَامَ التَّبَصُّرِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ أَنْ يَزِيدَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ مِنْ مُوسَى دَعَوْتَهُ لِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَنَطَقَ بِمَا كَانَ يَسْمَعُهُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْوَصْفُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أَسْلَمْتُ، بَلْ قَالَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يَلْزَمُنِي مَا الْتَزَمُوهُ. جَاءَ بِإِيمَانِهِ مُجْمَلًا لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ التَّفْصِيلِ وَلِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ تَفْصِيلَهُ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَحْقِيقُ صِفَةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانَ فِي بَقَاءِ بَدَنِهِ بَعْدَ غَرَقِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آمَنْتُ أَنَّهُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّهُ) عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةً. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى اعْتِبَارِ (إِنَّ) وَاقِعَةً فِي أَوَّلِ جُمْلَةٍ، وَأَنَّ جُمْلَتَهَا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ آمَنْتُ بِحَذْفِ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ آمَنْتُ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْبَدَلِ تدل عَلَيْهِ.

[سورة يونس (10) : الآيات 91 إلى 92]

[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 91 إِلَى 92] آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) مَقُولٌ لِقَوْلٍ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: قَالَ اللَّهُ. وَهُوَ جَوَابٌ لقَوْله: آمَنْتُ [يُونُس: 90] لِأَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ طَلَبَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْغَرَقِ اعْتِرَافًا لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ وَجَّهَ إِلَيْهِ كَلَامًا. فَأَجَابَهُ اللَّهُ بِكَلَامٍ. وَقَالَ اللَّهُ هَذَا الْكَلَامُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِتَعْذِيبِهِ تَأْيِيسًا لَهُ مِنَ النَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، تِلْكَ النَّجَاةُ الَّتِي هِيَ مَأْمُولَةٌ حِينَ قَالَ: آمَنْتُ [يُونُس: 90] إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ مَا آمَنَ إِلَّا وَقَدْ تَحَقَّقَ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ مُوسَى، وَعَلِمَ أَنَّ مَا حَلَّ بِهِ كَانَ بِسَبَبِ غَضَبِ اللَّهِ، وَرَجَا مِنِ اعْتِرَافِهِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيُنْجِيَهُ مِنَ الْغَرَقِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَقِبَ كَلَامِهِ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي آلْآنَ إِنْكَارِيٌّ. وَالْآنَ: ظَرْفٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: آمَنْتُ [يُونُس: 90] تَقْدِيرُهُ: الْآنَ تُؤْمِنُ، أَيْ هَذَا الْوَقْتُ. وَيُقَدَّرُ الْفِعْلُ مُؤَخَّرًا، لِأَنَّ الظَّرْفَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَحَطَّ الْإِنْكَارِ هُوَ الظَّرْفُ. وَالْإِنْكَارُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْإِنْكَارَ لَيْسَ وَقْتًا يَنْفَعُ فِيهِ الْإِيمَانُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ فِي قُوَّةِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا إِيمَانَ الْآنَ. وَالْمَنْفِيُّ هُوَ إِيمَانٌ يُنْجِي مَنْ حَصَلَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي وَقْتِ حُصُولِ الْمَوْتِ. وَهُوَ وَقْتٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِيمَانُ الْكَافِرِ وَلَا تَوْبَةُ الْعَاصِي، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النِّسَاء: 18] . و

(الْآن) اسْمُ ظَرْفٍ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ ... وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [66] . وَجُمْلَةُ: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَعْمُولِ (تُؤَمِنُ) الْمَحْذُوف، وَهِي موكدة لِمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، فَإِنَّ إِيمَانَهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ مُنْكَرٌ، وَيَزِيدُهُ إِنْكَارًا أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَمُفْسِدًا لِلدِّينِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَمُفْسِدًا فِي الْأَرْضِ بِالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَالتَّمْوِيهِ بِالسِّحْرِ. وَصِيغَةُ: كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ بِالْإِفْسَادِ مِنْ: وَكُنْتَ مُفْسِدًا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَبِمِقْدَارِ مَا قَدَّمَهُ مِنَ الْآثَامِ وَالْفَسَادِ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. وَالْفَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، تُفْصِحُ عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ رُمْتَ بِإِيمَانِكَ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ أَنْ أُنْجِيَكَ مِنَ الْغَرَقِ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ، وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى التَّهَكُّمِ، فَإِطْلَاقُ الْإِنْجَاءِ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْبَحْرِ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ. وَلَيْسَ مُسَوِّغُهَا التَّهَكُّمَ الْمَحْضَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي نَوْعِهَا، بَلْ فِيهَا عَلَاقَةُ الْمُشَابِهَةِ، لِأَنَّ إِخْرَاجَهُ إِلَى الْبَرِّ كَامِلًا بِشَكَّتِهِ يُشْبِهُ الْإِنْجَاءَ، وَلَكِنَّهُ ضِدُّ الْإِنْجَاءِ، فَكَانَ بِالْمُشَابِهَةِ، اسْتِعَارَةً، وَبِالضِّدْيَةِ تَهَكُّمًا، وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: بِبَدَنِكَ حَالٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: بِبَدَنِكَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ تَأْكِيدِ آيَةِ إِنْجَاءِ الْجَسَدِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (بَدَنِكَ) فِي مَعْنَى الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ مِنَ الْكَافِ فِي نُنَجِّيكَ كَزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: «فَإِذَا هُوَ أَبُو زَيْدٍ بِعَيْنِهِ وَمَيْنِهِ» . وَالْبَدَنُ: الْجِسْمُ بِدُونِ رُوحٍ وَهَذَا احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يُظَنَّ الْمُرَادُ الْإِنْجَاءَ مِنَ الْغَرَقِ. وَالْمَعْنَى: نُنْجِيكَ وَأَنْتَ جِسْمٌ. كَمَا يُقَالُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جُثَّةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ الِاقْتِصَارَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا كَانَ دَاعٍ لِلْبَلِيغِ أَنْ يَزِيدَ ذَلِكَ الْقَيْدَ،

فَإِنَّ كُلَّ زِيَادَة فِي كَلَام الْبَلِيغِ يُقْصَدُ مِنْهَا مَعْنًى زَائِدٌ، وَإِلَّا لَكَانَتْ حَشْوًا فِي الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ الْبَلِيغُ مَوْزُونٌ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسَاسِ الْإِيجَازِ. ولِمَنْ خَلْفَكَ أَيْ مَنْ وَرَاءَكَ. وَالْوَرَاءُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُتَأَخِّرِ وَالْبَاقِي، أَيْ مَنْ لَيْسُوا مَعَكَ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ يَخْلُفُهُ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْكَهَنَةِ وَالْوُزَرَاءِ، أَيْ لِتَكُونَ ذَاتُهُ آيَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَالِبُ مَنْ أَشْرَكُوا بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ وَأَقْهَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَآلِهَتِهِ فِي اعْتِقَادِ الْقِبْطِ، إِذْ يَرَوْنَ فِرْعَوْنَ الْإِلَهَ عِنْدَهُمْ طريحا على شاطيء الْبَحْرِ غَرِيقًا. فَتِلْكَ مِيتَةٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهَا الدَّجَلَ بِأَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُتَابِعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّكَاذِيبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يُغْلَبُ، وَأَنَّ الْفَرَاعِنَةَ حِينَ يَمُوتُونَ إِنَّمَا يُنْقَلُونَ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ. وَلِذَلِكَ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَبْنُونَ لَهُ الْبُيُوتَ فِي الْأَهْرَامِ وَيُودِعُونَ بِهَا لِبَاسَهُ وَطَعَامَهُ وَرِيَاشَهُ وَأَنْفَسَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ، فَمَوْتُهُ بِالْغَرَقِ وَهُوَ يَتَّبِعُ أَعْدَاءَهُ ميتَة لَا تووّل بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ كَوْنُهُ آيَةً لِمَنْ خَلْفَهُ عِلَّةً لِإِخْرَاجِهِ مِنْ غَمْرَةِ الْمَاءِ مَيِّتًا كَامِلًا، فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ غَرِقَ إِذَا نَظَرُوا فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَلَمْ يَعْدِمْ فِرْعَوْنُ فَائِدَةً مِنْ إِيمَانِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ قَدَّرَ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ غَمَرَاتِ الْمَاءِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَاءِ أَكْلَةً لِلْحِيتَانِ وَلَكِنْ لَفَظَتْهُ الْأَمْوَاجُ، وَتِلْكَ حَالَةٌ أَقَلُّ خِزْيًا مِنْ حَالَاتِ سَائِرِ جَيْشِهِ بِهَا ظَهَرَ نَفْعُ مَا لَهُ بِمَا حَصَلَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي آخِرِ أَحْوَالِهِ. وَكَلِمَةُ فَالْيَوْمَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى (الْآنَ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ أُطْلِقَ عَلَى جُزْءٍ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ تَذْيِيلٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَوْ وَاوُ الْحَالِ.

وَالْمُرَادُ مِنْهُ: دَفْعُ تَوَهُّمِ النَّقْصِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ عِنْدَ مَا يُحْرَمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الِاهْتِدَاءَ بِهَا، فَهِيَ فِي ذَاتِهَا دَلَائِلُ هُدًى سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ أَمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْرَحُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى وَالَّذِي اتَّبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ قَدْ أَصَابَهُ الْغَرَقُ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَآيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي، وَيُقَالُ لَهُ (ميرنبتا) - بياء فَارِسِيَّةٍ- أَوْ (مِنْفِتَاحُ) ، أَوْ (مِنِيفْتَا) وَهُوَ ابْنُ رَعَمْسِيسَ الثَّانِي الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْيُونَانِ بَاسِمِ (سِيزُوسْتِرِيسَ) ، مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشَرَةَ مِنَ الْأُسَرِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ، وَكَانُوا فِي حُدُودِ سَنَةِ 1491 قَبْلَ الْمَسِيحِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ هَذَا قَصِيرًا أَحْمَرَ فَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّ مِنِفْطَاحَ الثَّانِي مَاتَ غَرِيقًا فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهُ خَرَجَتْ جُثَّتُهُ بَعْدَ الْغَرَقِ فَدُفِنَ فِي وَادِي الْمُلُوكِ فِي صَعِيدِ مِصْرَ. فَذَكَرَ الْمُنَقِّبُونَ عَنِ الْآثَارِ أَنَّهُ وُجِدَ قَبْرُهُ هُنَاكَ، وَذَلِكَ يُومِئُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. وَوُجُودُ قَبْرٍ لَهُ إِنْ صَحَّ بِوَجْهٍ مُحَقَّقٍ، لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مَاتَ غَرِيقًا، وَإِنْ كَانَ مُؤَرِّخُو الْقِبْطِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِصِفَةِ مَوْتِهِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَهَنَةَ أَجْمَعُوا عَلَى إِخْفَائِهَا كَيْلَا يَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَى الْأُمَّةِ فِيمَا يُمَجِّدُ بِهِ الْكَهَنَةُ كُلَّ فِرْعَوْنَ مِنْ صِفَاتِ بُنُوَّةِ الْآلِهَةِ. وَخَلَفَتْهُ فِي مُلْكِ مِصْرَ ابْنَتُهُ الْمُسَمَّاةُ (طُوسِيرُ) لِأَنَّهُ تَرَكَهَا وَابْنًا صَغِيرًا. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الصَّرَاحَةِ وَالْإِغْلَاقِ. وَمِنْ دَقَائِقِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَهِيَ عِبَارَةٌ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهَا فِيمَا كُتِبَ مِنْ أَخْبَارٍ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّهَا لَمِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ فِي

[سورة يونس (10) : آية 93]

الْقُرْآنِ إِذْ كَانَتِ الْآيَةُ مُنْطَبِقَةً عَلَى الْوَاقِعِ التَّارِيخِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْوَاجَ أَلْقَتْ جُثَّتَهُ عَلَى السَّاحِلِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ فَعَثَرَ عَلَيْهِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَتَقَصَّوْنَ آثَارَهُ مِمَّنْ بَقَوْا بَعْدَهُ بِمَدِينَةِ مصر لما استبطأوا رُجُوعَهُ وَرُجُوعَ جَيْشِهِ، فَرَفَعُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ عِبْرَة لَهُم. [93] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 93] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْجُمَلِ مَقْصُودٌ مِنْهَا مَوْعِظَةُ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحْوَالِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي مُشَابَهَةِ كُفْرِهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَبِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] . فَلَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ السَّوْءِ أَتْبَعَهُ بِمَثَلِ الصَّلَاحِ بِحَالِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرَّسُولَ وَاتَّبَعُوهُ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمِ الْحُسْنَى لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَصِيرَيْ فَرِيقَيْنِ جَاءَهُمْ رَسُولٌ فَآمَنَ بِهِ فَرِيقٌ وَكَفَرَ بِهِ فَرِيقٌ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْإِيمَانِ، وَبِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. فَالْمُرَادُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَوْمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ [يُونُس: 91] الْآيَةَ وَتَرْتِيبُ الْإِخْبَارِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ بَوَّأَهُمْ مُبَوَّأَ صِدْقٍ عَقِبَ مُجَاوَزَتِهِمُ الْبَحْرَ غرق فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ صَحْرَاءَ التِّيهِ وَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَقْبَلُوا عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسهم وَإِصْلَاح شؤونهم، وَرُزِقُوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأُعْطُوا النَّصْرَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهُمْ تُحَاوِلُ مَنْعَهُمْ مِنِ امْتِلَاكِ الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ. فَمَا زَالُوا يَتَدَرَّجُونَ فِي مَدَارِجِ الْخَيْرِ وَالْإِنْعَامِ فَذَلِكَ مُبَوَّأُ الصِّدْقِ.

وَالرِّزْقُ: مِنَ الطَّيِّبَاتِ. فَمَعْنَى فَمَا اخْتَلَفُوا أُولَئِكَ وَلَا مَنْ خَلَفَهُمْ مِنْ أبنائهم وأخلافهم. والتبوّؤ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالْمُبَوَّأُ: مَكَانُ الْبَوْءِ، أَيِ الرُّجُوعِ، وَالْمُرَادُ الْمَسْكَنُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى (صِدْقٍ) مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَوَّأُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا. وَالصِّدْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَالِصِ فِي نَوْعِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يُونُس: 2] . وَالْمُرَادُ بِمُبَوَّأِ الصِّدْقِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِين وَمَا فِيهَا مِنْ خِصْبٍ وَثَرَاءٍ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: 137] . وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَمَا اخْتَلَفُوا عَلَى بَوَّأْنا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ شَكَرُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ وَلَمْ يُكْفُرُوهَا كَمَا كَفَرَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ حَرَمًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِالرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَوَقَعَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَتَقْدِيرُ مَعْنَاهُ: فَشَكَرُوا النِّعْمَةَ وَاتَّبَعُوا وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَمَا خَالَفُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالِاخْتِلَافُ افْتِعَالٌ أُرِيدَ بِهِ شِدَّةُ التَّخَالُفِ وَلَا يُعْرَفُ لِمَادَّةِ هَذَا الْمَعْنَى فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْخَلْفُ لِمَعْنَى الْوَرَاءِ فَتَعِينَ أَنَّ زِيَادَةَ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ (اكْتَسَبَ) مُبَالَغَةً فِي (كَسَبَ) ، فَيُحْمَلُ عَلَى خِلَافِ تَشْدِيدٍ وَهُوَ مُضَادَّةُ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ فَإِنَّ الْكَلَامَ ثَنَاءٌ مُرْدَفٌ بِغَايَةٍ تُؤْذِنُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ نِهَايَةٌ لِلثَّنَاءِ وَإِثْبَاتٌ لِلَّوْمِ إِذْ قَدْ نَفَى عَنْهُمُ الِاخْتِلَافَ إِلَى غَايَةٍ تُؤْذِنُ بِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ عِنْدَ تِلْكَ الْغَايَةِ فَالَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا هُمُ الَّذِينَ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ مُبَوَّأَ صِدْقٍ. وَقَدْ جَاءُوا بِعْدَهُمْ إِلَى أَنْ جَاءَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَهَؤُلَاءِ مَا صَدَقَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: جاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمرَان: 19] .

وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَلَمْ يعملوا بِمَا جاؤوهم بِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ بِمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَبْل مَبْعَثِهِ مُقِرِّينَ بِنَبِيءٍ يَأْتِي، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ اخْتَلَفُوا فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُرْآنَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمرَان: 19] ، وَقَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 4] فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَبْلَ هَذَا قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: 1، 2] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] . وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِحَرْفِ (حَتَّى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَتَعْقِيبُ فَمَا اخْتَلَفُوا بِالْغَايَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُنْتَهَى حَالَةِ الشُّكْرِ، أَيْ فَبَقُوا فِي ذَلِكَ الْمُبَوَّأِ، وَفِي تِلْكَ النِّعْمَةِ، حَتَّى اخْتَلَفُوا فَسُلِبَتْ نِعْمَتُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَلَبَهُمْ أَوْطَانَهُمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَذْيِيلٌ وَتَوَعُّدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ مَضَوْا بِمَا عَمِلُوا وَأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ كَقَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَة: 134] ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَاضِرِينَ الْيَوْمَ أَنْ يُفَكِّرُوا فِي وَسَائِلِ الْخَلَاصِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ يَوْم الْقِيَامَة. و (بَين) ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْقَضَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ (يَقْضِي) فَفِعْلُ الْقَضَاءِ كَأَنَّهُ مُتَخَلِّلٌ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَبْيِينِ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.

[سورة يونس (10) : الآيات 94 إلى 95]

وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اخْتَلَفُوا مِنْ وُجُودِ مُخَالِفٍ (بِكَسْرِ اللَّامِ) ومخالف (بِفَتْحِهَا) . [94، 95] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 94 إِلَى 95] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) تَفْرِيعٌ عَلَى سِيَاقِ الْقَصَصِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَثَلًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَعِظَةً بِمَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ. انْتَقَلَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ كِلَاهُمَا تَعْرِيضٌ بِالْمُكَذِّبِينَ، فَالْأُسْلُوبُ السَّابِقُ تَعْرِيضٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ الْمَوَالِي تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَمَا فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمُرَاد من مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ هُوَ الْمُنَزَّلُ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ وَهُوَ مَا أُنْزِلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْقَصَصِ. ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ مَا سِوَاهُمَا أَوَّلُهُمَا: أَنْ تَبْقَى الظَّرْفِيَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا (فِي) عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَيَكُونُ الشَّكُّ قَدْ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ أَصْحَابُهُ، أَيْ فَإِنْ كُنْتَ فِي قَوْمٍ أَهْلِ شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، أَيْ يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِ هَذِهِ الْقَصَصِ، كَمَا يُقَالُ: دَخَلَ فِي الْفِتْنَةِ، أَيْ فِي أَهْلِهَا. وَيكون معنى فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فَاسْأَلْ أَهْلَ الْكِتَابِ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ وَإِشْهَادٍ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ يُخْبِرُوا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرْتَهُمْ بِهِ، فَيَزُولُ الشَّكُّ مِنْ نُفُوسِ أَهْلِ الشَّكِّ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ تَوَاطُؤَكَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ.

وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: 109] وَيَكُونُ سَوْقُ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ لِقَصْدِ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فَيَكُونُ اسْتِقْرَارُ حَاصِلِ الْمُحَاوَرَةِ فِي نُفُوسِهِمْ أَمْكَنَ مِمَّا لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مُوَاجَهَةً. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ التَّعْرِيضِيِّ يَسْلُكُهَا الْحُكَمَاءُ وَأَصْحَابُ الْأَخْلَاقِ مَتَى كَانَ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَظِنَّةَ نُفُورٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: 65] أَوْ كَانَ فِي ذَلِك الْإِلْقَاء رفق بِالَّذِي يُقْصَدُ سَوْقُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَصْمِ مِنَ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ ص. وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يلاقي قَوْله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَن الْمَسْئُول عَنْهُ مِمَّا لَا يَكْتُمُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِي الْقَصَصِ الْمُوَافَقَةُ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ إِعْلَانِهَا وَالشَّهَادَةِ بِهَا. وَغَيْرُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا فِي الْآيَةِ، وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يُنَاكِدُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ. وَإِنَّمَا تكون جملَة: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مَادَّةُ السُّؤَالِ مِنْ كَوْنِهِمْ يُجِيبُونَ بِمَا يُزِيلُ الشَّكَّ، فَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ التَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور فَسْئَلِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَسُكُونِ السِّينِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ فَسَلْ بِفَتْحِ السِّينِ دُونَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَبِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ السِّينِ مُخَفَّفُ سَأَلَ. فَجُمْلَةُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لجواب سُؤال ناشىء عَنِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، كَأَنَّ السَّامِعَ يَقُولُ: فَإِذَا سَأَلْتَهُمْ مَاذَا يَكُونُ، فَقِيلَ: لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.

[سورة يونس (10) : الآيات 96 إلى 97]

وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمَ السَّامِعِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ لَا عِلْمَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْحَاجَةِ لِإِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قُرِنَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ، وَهُمَا: لَامُ الْقَسَمِ وَقَدْ، لِدَفْعِ إِنْكَار الْمُعَرَّضِ بِهِمْ. وَبِذَلِكَ كَانَ تَفْرِيعُ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ تَعْرِيضًا أَيْضًا بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يَحْذَرُ الْكَوْنُ مِنْهُمْ. وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ فِيمَا لَا شُبْهَةَ لِلشَّكِّ فِيهِ. فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الشَّكِّ. وَكَذَلِكَ عَطَفَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي التَّعْرِيضِ بِهِمْ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ خَاسِرُونَ. وَنَظِيرُهُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: 65] ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: فَإِنْ كُنْتُمْ شَاكِّينَ فِي صِدْقِ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ مِمَّا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَكُمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ يُخْبِرُوكُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ، لَقَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَكُونُوا شَاكِّينَ وَلَا تُكَذِّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فتكونوا خاسرين. [96، 97] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 96 إِلَى 97] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) تَبَيَّنَ تَنَاسُبُ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ السَّابِقَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا سَبَقَ التَّعْرِيضُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي صدق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِمْ فِي صِدْقِهِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مِنْ زُمْرَةِ الْفِرَقِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا، فَهُمْ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الْحُجَّةُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مُكَابَرَةٍ، وَلَيْسُوا طَالِبِينَ لِلْحَقِّ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي فُطِرَتْ عَلَيْهَا عُقُولُهُمْ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، فَالَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا يَجِيءُ مِنَ الْآيَاتِ هُمْ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، تِلْكَ أَمَارَاتُهُمْ. وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّأْيِيسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ.

وَمَعْنَى (حقت) ثبتَتْ. و (على) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ تَمَكُّنُ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ: أَمْرُ التَّكْوِينِ، وَجُمِعَتِ الْكَلِمَاتُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَهَا نَاسٌ كَثِيرُونَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَحِقُّ عَلَيْهِ كَلِمَةٌ. وَقَرَأَ غَيْرُ نَافِعٍ، وَابْن عَامر كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ إِذْ تَحِقُّ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ كَلِمَةٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ عِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ. قَالَ غَيْرُهُمْ: وَتَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مَظْهَرًا لِمَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشِّقْوَةِ وَإِنْذَارٌ بِوَشْكِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ. فَالْمَوْصُولُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مُرَادٌ بِهِ مَعْهُودٌ، وَالْجُمْلَةُ كلهَا مستأنفة، و (إنّ) لِلتَّوْكِيدِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّحْقِيقُ، أَيْ لَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُولَئِكَ فَقَدِ اتَّضَحَ أَمْرُهُمْ وَالْيَأْسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُجْعَلَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْقَصَصِ السَّابِقَةِ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، وَالْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ الْجَامِعِ جَمِيعَ الْأُمَمِ الَّتِي هِيَ بِمَثَابَةِ الْأُمَمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَتَكُونُ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، فَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، وَتُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ بِشَارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ آخَرُ بِالْمُشْرِكِينَ. وَ (لَوْ) وَصَلْيَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ تَجِئْهُمْ إِلَّا بعض الْآيَات. و (كل) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [31] وَقَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [27] ، أَيْ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُشْبِهُ فِي الْكَثْرَةِ اسْتِغْرَاقَ جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمُمْكِنِ وُقُوعُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ آنِفًا.

[سورة يونس (10) : آية 98]

وَرُؤْيَةُ الْعَذَابِ، كِنَايَةٌ عَنْ حُلُولِهِ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا حِين لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ نُزُولَ الْعَذَابِ هُوَ ابْتِدَاءُ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُجَازَاةِ عَفْوٌ. وَمِنْ بَرَكَةِ هَذَا الدِّينِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ قَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ بهم عذَابا. [98] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 98] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّغْلِيطِ عَلَى امْتِنَاعِ أَهْلِ الْقُرَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ فَإِنَّ أَهْلَ الْقُرَى مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنُوا. وَالْغَرَضُ مَنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْقُرَى التَّعْرِيضُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَالتَّخَلُّصِ بِالتَّعْرِيضِ إِلَى الْمَخْصُوصِينَ بِهِ، وَلِلْإِفْضَاءِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ قَوْمِ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ. وَ (لَوْلَا) حَرْفٌ يَرِدُ لَمَعَانٍ مِنْهَا التَّوْبِيخُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ التَّوْبِيخِ كِنَايَةً عَنِ التَّغْلِيطِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى قَدِ انْقَضَوْا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى (لَوْلَا) التَّحْضِيضُ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ بِحَثٍّ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ قَدْ فَاتَ وُقُوعُهُ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّغْلِيطِ وَالتَّنْدِيمِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى تَفْوِيتِهِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِعْلَ مُضِيٍّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النُّور: 16] . وَإِذَا تَوَجَّهَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ (لَوْلَا) إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْفِعْلِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، كَقَوْلِه: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: 13]

وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الْأَنْعَام: 43] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ (كَانَ) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُضِيِّ وَالِانْقِضَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْقُرَى. قَالَ تَعَالَى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: 6] ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِعْمَالًا وَمَعْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ [هود: 116] ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ. وَالْمُسْتَخْلَصُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْمِ يُونُسَ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمْ يُونُسُ، تَوَقُّعًا لِنُزُولِ الْعَذَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَيْسَتْ مُخَالَفَةً لِمَا عَامَلَ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَأَنْ لَيْسَتْ لِقَوْمِ يُونُسَ خُصُوصِيَّةً، وَبِذَلِكَ لَا يكون استثنائهم اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَإِذْ كَانَ الْكَلَامُ تَغْلِيطًا لِأَهْلِ الْقُرَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَعْرِيضًا بِالتَّحْذِيرِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ. كَانَ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا صَرِيحًا وَوُقُوعُ قَرْيَةٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَسَاقِ الْإِثْبَاتِ أَفَادَ الْعُمُومَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ مِثْلَ قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا» أَيْ كُلَّ ضُرٍّ لَا ضُرًّا مُعَيَّنًا، وَبِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَلِذَلِكَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَجَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْعُكْبَرِيِّ فِي «إِعْرَابِ الْقُرْآنِ» ، وَالْكَوَاشِيِّ فِي «التَّخْلِيصِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا جُمْلَةَ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فِي قُوَّةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا مَنْصُوبًا وَلَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: لَمَّا آمَنُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُعَامِلُهُمُ اللَّهُ مُعَامَلَةَ قَوْمِ يُونُسَ إِذْ آمَنُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ. وَذَلِكَ حَالهم عِنْد مَا تَسَامَعُوا بِقُدُومِ جَيْشِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ الَّذِي لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ عِدَّةً وَعُدَّةً، فَيَكَادُ يَحِلُّ بِهِمْ عَذَابُ اسْتِئْصَالٍ لَوْلَا أَنَّهُمْ عَجَّلُوا بِالْإِيمَانِ يَوْمَ الْفَتْحِ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» .

وَقَوْمُ يُونُسَ هُمْ أَهْلُ قَرْيَةِ نَيْنَوَى (¬1) مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ. وَهُمْ خَلِيطٌ مِنَ الْآشُورِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُسَرِ مُلُوكِ بَابِلَ بَعْدَ بُخْتُنَصَّرَ. وَكَانَتْ بِعْثَةُ يُونُسَ إِلَيْهِمْ فِي أول الْقرى الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ يُونُسَ وَتَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَلَمَّا كَذَّبَهُ أَهْلُ نَيْنَوَى تَوَعَّدَهُمْ بِخَسْفِ مَدِينَتِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ غَاضِبًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ خَافُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا بِاللَّهِ فَقَبِلَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ. وَالْمَذْكُورُ أَنَّهُمْ رَأَوْا غَيْمًا أَسْوَدَ بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ تَوَعَّدَهُمْ يُونُسُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِحُلُولِ الْعَذَابِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ فَآمَنُوا وَخَضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ مَا حَلَّ بِيُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي خُرُوجِهِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِلَاعِ الْحُوتِ إِيَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْكَشْفُ: إِزَالَةُ مَا هُوَ سَاتِرٌ لِشَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الرَّفْعِ. وَالْمُرَادُ: تَقْدِيرُ الرَّفْعِ وَإِبْطَالُ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْكَشْفِ تَنْزِيلًا لِمُقَارَبَةِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ. وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْخِزْيِ يَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ خِزْيٌ، إِذْ هُوَ حَالَةٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ فَإِذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ لِقَوْمٍ فَقَدْ أَرَادَ إِذْلَالَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِضَافَة حَقِيقَة لِلتَّخْصِيصِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْخِزْيِ الْحَالَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ مِنْ حُلُولِهِ. وَهِيَ شَنَاعَةُ الْحَالَةِ لِمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِثْلُ الْخَسْفِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، وَأَشْنَعُ الْخِزْيِ مَا كَانَ بِأَيْدِي أُنَاسٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي حَلَّ بِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالَّذِي كَادَ أَنْ يَحِلَّ بِجَمِيعِ قُرَيْشٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا نَجَّى قَوْمَ يُونُسَ. ¬

(¬1) بِفَتْح النونين بَينهمَا يَاء تحتية سَاكِنة وَبعد النُّون الثَّانِيَة وَاو مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف، هِيَ إِحْدَى مدن بِلَاد أشور من الْعرَاق كائنة على الضفة الْيُسْرَى من الدجلة بناها الْملك أشور سنة 2229 قبل الميلاد وَكَانَت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.

وَ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) صِفَةٌ لِـ عَذابَ الْخِزْيِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْأُمَمِ الْكَافِرَةِ هُوَ عُقَابٌ فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَهُ عِقَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي لَمْ تُعَذَّبْ فِي الدُّنْيَا قَدِ ادُّخِرَ لَهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَالتَّمْتِيعُ: الْإِمْهَالُ. وَإِبْهَامُ حِينٍ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ آجَالِ آحَادِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْتِيعُ بِالْحَيَاةِ لَا بِكَشْفِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ إِذْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي نَجَاةِ قَوْمِ يُونُسَ تَتَمَثَّلُ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ تَصْمِيمٍ عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتِخْفَافٍ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ شَكًّا فِي صِدْقِ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنَّمَا حَرَّفُوا وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَإِنَّ فِي نَيْنَوَى كَثِيرًا مِنْ أَسْرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَلَمَّا أَوْعَدَهُمْ يُونُسُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَرَأَوْا أَمَارَاتِهِ بَعْدَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا اهْتَدَوْا وَآمَنُوا إِيمَانًا خَالِصًا. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا صَدَرَتْ مِنْهُ فَلْتَةُ الْمُغَاضَبَةِ كَانَ قَدْ خَلَطَ فِي دَعْوَتِهِ شَيْئًا مِنْ حَظِّ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الدِّينِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ إِيمَانَ قَوْمِهِ لِعِلْمِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَالصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ، وَهَذَا عَتَّابٌ وَتَأْدِيبٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا جَرَى لِيُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْمُغَاضَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ يُنْقِصُ مِنْ قَدْرِهِ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» يَعْنِي فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ لَا فِي التَّفَاضُلِ فِيهَا. وَقَدْ كَانَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ قَوْمِ يُونُسَ إِذْ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ جَيْشِ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَقَبْلَ أَنْ يَقَعُوا فِي قَبْضَةِ الْأَسْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ

[سورة يونس (10) : آية 99]

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مُؤْمِنًا قَبْل أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ التَّعَلُّقُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ لَيْسَ بِإِيمَانٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْعَوَذِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ إِذْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا» . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي آخِرِ سُورَةِ غَافِرٍ [84] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَى آخَرِ السُّورَة فَانْظُرْهُ. [99] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 99] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 97] لِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ. وَهَذَا تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُشَابَهَةِ حَالِ قُرَيْشٍ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالٍ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ مُوسَى وَقَوْمِ يُونُسَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْمُقَدِّمَةِ الْكُلِّيَّةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ الْمُفَرَّعَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّسْلِيَةِ. وَالنَّاسُ: الْعَرَبُ، أَوْ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مَنْ سَوْقِ الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يُونُس: 71] . وَالتَّأْكِيدُ بِ كُلُّهُمْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ، وَالتَّأْكِيدُ بِ جَمِيعاً لِزِيَادَةِ رَفْعِ احْتِمَالِ الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَدَارِكَ النَّاسِ مُتَسَاوِيَةً مُنْسَاقَةً إِلَى الْخَيْرِ، فَكَانُوا سَوَاءً فِي قَبُولِ الْهُدَى وَالنَّظَر الصَّحِيح. و

(لَو) تَقْتَضِي انْتِفَاءَ جَوَابِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا. فَالْمَعْنَى: لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ خَلَقَ عُقُولَ النَّاسِ مُتَأَثِّرَةً وَمُنْفَعِلَةً بِمُؤَثِّرَاتِ التَّفَاوُتِ فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِق فَلم يتواطؤا عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا إِذَا اسْتَكْمَلَتْ خِلْقَةُ عَقْلِهَا مَا يُهَيِّئُهَا لِلنَّظَرِ الصَّحِيحِ وَحُسْنِ الْوَعْيِ لِدَعْوَةِ الْخَيْرِ وَمُغَالَبَةِ الْهُدَى فِي الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ. وَجُمْلَةُ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ إلَخْ مُفَرَّعَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ تَتَعَلَّقْ مَشِيئَتُهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارُ مَا هُوَ كَالْمُحَاوَلَةِ لِتَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ جَمِيعًا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ إِنْكَارِيٌّ، فَنَزَّلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ أَهْلِ مَكَّةَ وَحَثِيثِ سَعْيِهِ لِذَلِكَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ صَالِحَةٍ مَنْزِلَةَ مَنْ يُحَاوِلُ إِكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّنْزِيلِ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِ. وَلِأَجْلِ كَوْنِ هَذَا الْحِرْصِ الشَّدِيدِ هُوَ مَحَلُّ التَّنْزِيلِ وَمَصَبُّ الْإِنْكَارِ وَقَعَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ، فَقِيلَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَفَتُكْرِهُ النَّاسَ، أَوْ أَفَأَنْتَ مُكْرِهُ النَّاسِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمُسْنَدِ يُفِيدُ تَقَوِّيَ الْحُكْمِ فَيُفِيدُ تَقْوِيَةَ صُدُورِ الْإِكْرَاهِ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكُونَ تِلْكَ التَّقْوِيَةُ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ وَمَعْذِرَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَمَنْ بَلَغَ الْمَجْهُودَ حَقَّ لَهُ الْعُذْرُ. وَلَيْسَ تَقْدِيُمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ، أَيِ الْقَصْرِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ غَيْرُ صَالِحٍ لِاعْتِبَارِ الْقَصْرِ، إِذْ مُجَرَّدُ تَنْزِيلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِكْرَاهَ النَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ كَافٍ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى تَشْبِيهِ حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِحِرْصِ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِكْرَاهَهُمْ عَلَيْهِ. فَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ غَيْرُ وَجِيهٍ، لِأَنَّ قَرِينَةَ التَّقَوِّي وَاضِحَةٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ. وَالْإِكْرَاهُ: الإلجاء والقسر.

[سورة يونس (10) : آية 100]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 100] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ [يُونُس: 99] لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِهَا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا إِنْكَارُ أَنْ يَقْدِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِلْجَاءِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ كَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا تَسْتَطِيعُ نَفْسٌ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهَا بِالْإِيمَانِ. وَالْإِذْنُ: هُنَا إِذَنُ تَكْوِينٍ وَتَقْدِيرٍ. فَهُوَ خَلَقَ النَّفْسَ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ الْحَقِّ مُمَيِّزَةً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، مُتَوَصِّلَةً بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّبَعَ وَمَا لَا يَنْبَغِي، مُتَمَكِّنَةً بِصِحَّةِ الْإِرَادَةِ مِنْ زَجْرِ دَاعِيَةِ الْهَوَى وَالْأَعْرَاضِ الْعَاجِلَةِ وَمِنِ اتِّبَاعِ دَاعِيَةِ الْحَقِّ وَالْعَاقِبَةِ الدَّائِمَةِ حَتَّى إِذَا وُجِّهَ إِلَيْهَا الْإِرْشَادُ حَصَلَ فِيهَا الْهدى. ويومىء إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْإِذْنِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَقَابَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ بِحَالَةِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَعَلِمَ أَنَّ حَالَةَ الْإِيمَانِ حَالَةُ مَنْ يَعْقِلُونَ، فَبَيَّنَتْ آيَةُ وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [يُونُس: 99] أَنَّ إِيمَانَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ هُوَ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِيمَانَهُ. وَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ إِيمَانَ مَنْ آمَنَ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِيمَانَهُ، وَكِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلَى تَقْدِيرِ التَّكْوِينِ فِي النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ. وَالرِّجْسُ: حَقِيقَتُهُ الْخُبْثُ وَالْفَسَادُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ خُبْثٌ نَفْسَانِيٌّ، وَالْقَرِينَةُ مُقَابَلَتُهُ بِالْإِيمَانِ كَالْمُقَابِلَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً إِلَى قَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 124، 125] . وَالْمَعْنَى: وَيُوقِعُ

[سورة يونس (10) : آية 101]

الْكُفْرَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيِ الَّذِينَ لَا تَهْتَدِي عُقُولُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ. وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّمَكُّنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَنَجْعَلُ بنُون العظمة. [101] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 101] قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ [يُونُس: 99] إلَخْ. قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ، أَيْ فَادْعُهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَدَفْعِ غِشَاوَاتِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ بِالْإِرْشَادِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ وَتَصَارِيفِهَا الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، مِثْلِ أَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ، وَتَقَادِيرِ مَسِيرِهَا، وَأَحْوَالِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ الْبِحَارُ وَالْجِبَالُ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ قُلِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا. وَقَدْ عَمَّمَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَتَوَجَّهَ كُلُّ نَفْسٍ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا وأيسر اسْتِدْلَال عَلَيْهِ لَدَيْهَا. وَالنَّظَرُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَصْلُحُ لِلنَّظَرِ الْقَلْبِيِّ وَالنَّظَرِ الْبَصَرِيِّ، وَلِذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِعْمَالِهِ عَمَلَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ لِكَيْلَا يَتَمَحَّضَ لَهُ، فَجِيءَ بَعْدَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمُعَلِّقِ لِكِلَا الْفِعْلَيْنِ بِحَيْثُ أَصْبَحَ حَمْلُ النَّظَرِ عَلَى كِلَيْهِمَا عَلَى حَدِّ السَّوَاءِ فَصَارَ صَالِحًا لِلْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ.

وَمَاذَا بِمَعْنَى مَا الَّذِي، و (مَا) اسْتِفْهَام، و (ذَا) أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ، وَهُوَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا) قَامَ مَقَامَ اسْمٍ مَوْصُولٍ. وفِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَائِمٌ مَقَامَ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَأَصْلُ وَضْعِ التَّرْكِيبِ: مَا هَذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ فِي مَعْنَى: مَا الَّذِي. وَالْمَقْصُودُ: انْظُرُوا مَا يَدُلُّكُمْ عَلَى جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ حَالَةٌ فَهُوَ مُرَادٌ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ بِتَرْكِيبِهِ فِي صُورَةِ مَفْعُولَيْنِ، نَحْوَ: انْظُرُوا الشَّمْسَ طَالِعَةً، وَانْظُرُوا السَّحَابَ مُمْطِرًا، وَهَكَذَا، وَكُلُّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ آيَةٌ فَهُوَ مُرَادٌ بِالنَّظَرِ الْبَصَرِيِّ نَحْوَ: انْظُرُوا إِنْبَاتَ الْأَرْضِ بَعْدَ جَدْبِهَا فَهُوَ آيَةٌ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ. فَ (ذَا) لَمَّا قَامَ مَقَامَ اسْمِ الْمَوْصُولِ صَارَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَجْرَامِ وَأَعْرَاضِهَا الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَخَصُّ ذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْأَةِ دَعْوَتِهِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ دَلَائِلُ عَلَى كَمَالِهِ وَصِدْقِهِ. وَقَدْ طُوِيَ فِي الْكَلَامِ جَوَابُ الْأَمْرِ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ عَقِبَ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ، فَالتَّقْدِيرُ: انْظُرُوا تَرَوْا آيَاتٍ مُوصِلَةٍ إِلَى الْإِيمَانِ. وَجُمْلَةُ: وَما تُغْنِي الْآياتُ مُعْتَرِضَةٌ ذُيِّلَتْ بِهَا جُمْلَةُ: انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً لِمَقُولِ الْقَوْلِ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى أَبْلِغْهُمْ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَتْ تُغْنِي الْآيَاتُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ لَا تُؤْمِنُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُفِيدًا أَنَّ ذَلِكَ آيَاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ حَسُنَ وَقْعُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْآيَاتِ هُنَا، فَمَعْنَى وَما تُغْنِي الْآياتُ: وَمَا يُغْنِي مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالْآيَاتِ كَالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَزِيدَتِ (النُّذُرُ) فَعُطِفَتْ عَلَى الْآيَاتِ لِزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَتَّى تَكُونَ أَوْسَعَ دَلَالَةٍ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا لِتَكُونَ كَالتَّذْيِيلِ لَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ

[سورة يونس (10) : الآيات 102 إلى 103]

الْقُرْآنَ جَاءَ لِلنَّاسِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَبِالتَّخْوِيفِ ثُمَّ سَجَّلَ عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ بِأَنَّهُ لَا تَنْجَعُ فِيهِ الْآيَاتُ وَالْأَدِلَّةُ وَلَا النُّذُرُ وَالْمُخَوِّفَاتُ. وَلَفْظُ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ يُفِيدُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَصْفٌ عُرِفُوا بِهِ وَأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ مِنْ نُفُوسِهِمْ، لِأَنَّ اجْتِلَابَ لَفْظِ قَوْمٍ هُنَا مَعَ صِحَّةِ حُلُولِ غَيْرِهِ مَحَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ: عَمَّنْ لَا يُؤْمِنُونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْعَنْبَرِيِّ: قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذِيهِ لَهُمْ ... طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا أَيْ قَوْمٌ هَذِهِ سَجِيَّتُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ آنِفًا. وَهُوَ هُنَا أَبْدَعُ لِأَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنِ الْإِضْمَارِ. وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ الإعجاز هُنَا. [102، 103] [سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 102 إِلَى 103] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ [يُونُس: 101] بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ النُّذُرِ. فَهِيَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى انْتِفَاءِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْآيَاتِ وَالنُّذُرِ وَعَلَى إِصْرَارِهِمْ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ: مَاذَا يُنْتَظَرُونَ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ سِيقَتْ قَصَصُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ، وَوَقع الِاسْتِفْهَام بهل لِإِفَادَتِهَا تَحْقِيقَ السُّؤَالِ وَهُوَ بِاعْتِبَار تَحْقِيق الْمَسْئُول عَنْهُ وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالْجَوَابِ بِالتَّحْقِيقِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ مَجَازٌ تَهَكُّمِيٌّ إِنْكَارِيٌّ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُونَ شَيْئًا يَأْتِيهِمْ لِيُؤْمِنُوا، وَلَيْسَ ثَمَّةُ شَيْءٍ يَصْلُحُ لِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ إِلَّا أَنْ يَنْتَظِرُوا حُلُولَ مِثْلِ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مَنْ قَبْلِهِمُ الَّتِي هَلَكُوا فِيهَا. وَضُمِّنَ الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَى النَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ شَيْئًا مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ. وَأُطْلِقَتِ الْأَيَّامُ عَلَى مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ الْعَظِيمَةِ. وَمِنْ هَذَا إِطْلَاقُ «أَيَّامِ الْعَرَبِ» على الوقائع الْوَاقِعَة فِيهَا. وَجُمْلَةُ: قُلْ فَانْتَظِرُوا مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ. وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ بِ قُلِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ. وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ وَبِذَلِكَ يَصِيرُ التَّفْرِيعُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْقَائِلِ شَبِيهًا بِعَطْفِ التَّلْقِينِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] . عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ اخْتِلَافٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمَا آئِلَان إِلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا مَوْقِعٌ غَرِيبٌ لِفَاءِ التَّفْرِيعِ. وَبِهَذَا النَّسْجِ حَصَلَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ لِأَنَّهُ بِالتَّفْرِيعِ اعْتُبِرَ نَاشِئًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّ اللَّهَ بَلَّغَهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَهُ قَوْمَهُ فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ إِلَّا التَّبْلِيغُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ وعد الله نبيئه بِأَنَّهُ يَرَى مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ وَعِيدٌ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ. وَسَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا. وَجُمْلَةُ: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَن جملَة: فَانْتَظِرُوا لِأَنَّهَا تُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: هَا نَحْنُ أُولَاءِ نَنْتَظِرُ وَأَنْتَ مَاذَا تَفْعَلُ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ تَرَقُّبِهِ النَّصْرَ إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ سُوءًا فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ

يَنْتَظِرُ مِنْ ذَلِكَ ضِدَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ، فَالْمَعِيَّةُ فِي أَصْلِ الِانْتِظَارِ لَا فِي الْحَاصِل بالانتظار. و (مَعَ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. ومِنَ الْمُنْتَظِرِينَ خَبَرُ (إِنَّ) وَمُفَادُهُ مُفَادُ (مَعَ) إِذْ مَا صدق الْمُنْتَظِرِينَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْمُنْتَظِرُونَ. وثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا لِأَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَذَابٍ. وَلَمَّا كَانُوا مُهَدَّدِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِمَوْضِعٍ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَجَّلَ اللَّهُ الْبِشَارَةَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ يُنَجِّيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِقُدْرَتِهِ كَمَا أَنْجَى الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِنْجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ثُمَّ نُنَجِّي. وحَقًّا عَلَيْنا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ بُدِّلَ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا. وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلتَّفَضُّلِ بِهِ وَالْكَرَامَةِ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِّ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ عَلَى وِزَانِ نُنَجِّي رُسُلَنا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ مِنَ الْإِنْجَاءِ. فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ الَّذِي قَبْلَهُ تَفَنُّنٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الْجِيمِ عَلَى صُورَةِ النُّطْق بهَا للاتقاء الساكنين.

[سورة يونس (10) : آية 104]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 104] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةُ الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُس: 101] ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّظَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ هُنَالِكَ النَّظَرُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَإِنَّ جُحُودَهُمْ إِيَّاهَا هُوَ الَّذِي أَقْدَمَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ بِإِثْبَاتِهَا وَأَبْطَلَ الْإِشْرَاكَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى إِثْبَاتِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْقَبَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الشَّكِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ دَلَائِلَ صِحَّةِ دِينِهِ بَيِّنَةٌ لِلنَّاظِرِينَ. وَالْمُرَادُ بِ «النَّاسِ» فِي هَذَا الْخِطَابِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَوْ جَمِيعِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ لَمَّا يَسْتَجِيبُوا لِلدَّعْوَةِ. وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي شَكٍّ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّمَكُّنِ تَشْبِيهًا لِتَمَكُّنِ الصِّفَةِ بِتَمَكُّنِ الظَّرْفِ مِنَ الْمَظْرُوفِ مِنْ جِهَةِ الْإِحَاطَةِ. وَعَلَّقَ الظَّرْفَ بِذَاتِ الدِّينِ، وَالْمُرَادُ الشَّكُّ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَهِيَ الْحَالَةُ الْمُلْتَبِسَةُ بِهِمْ أَعْنِي حَالَةَ حَقِّيَّتِهِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دِينِي لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ شَكٌّ آتٍ مِنْ دِينِي. وَهُوَ ابْتِدَاء يؤول إِلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ شَاكِّينَ شَكًّا سَبَبُهُ دِينِي، أَيْ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّيَّتِهِ، لِأَنَّ الشَّكَّ يُحْمَلُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يُونُس: 94] . وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَة: 23] .

وَالشَّكُّ فِي الدِّينِ هُوَ الشَّكُّ فِي كَوْنِهِ حَقًّا، وَكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الشَّكُّ عِنْدَ عَدَمِ تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ هَذَا الدِّينِ بِالْكُنْهِ وَعَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، فَالشَّكُّ فِي صِدْقِهِ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ فِي مَاهِيَّتِهِ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَدْرَكُوا كُنْهَهُ لَمَا شَكُّوَا فِي حَقِّيَّتِهِ. وَجُمْلَةُ: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنى. فالتقدير الْجَوَابِ: فَأَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ فَسَادِ دِينِكُمْ، فَلَا أَتَّبِعُهُ، فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ. وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ أَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ مَعْنًى ثَانٍ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذَا الدِّينِ فَخُلَاصَتُهُ أَنِّي لَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنِّي أَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الْكَافِرُونَ: 1، 2] ثُمَّ قَوْلُهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] فَيَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرَضَانِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعُ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا. وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمُ الْأَصْنَامُ. وَعُومِلَتِ الْأَصْنَامُ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَوْصُولِ الَّذِي لِجَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ مُجَارَاةً لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِيهَا مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ. وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَاخْتِيَارُ صِلَةِ التَّوَفِّي هُنَا فِي نَعْتِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَبْلُغْ بِهِمُ الْإِشْرَاكُ إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُحْيِي وَتُمِيتُ. وَاخْتِيَارُ ذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ تَعَالَى تَعْرِيضٌ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْمَوْتِ فَيُقْصِرُونَ مِنْ طُغْيَانِهِمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، وَبَيْنَ إِثْبَاتِ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ يَقُومُ مَقَامَ صِيغَةِ الْقَصْرِ لَوْ قَالَ: فَلَا أَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ: أَنَّ شَأْنَهَا أَنْ يُطْوَى فِيهَا الطَّرَفُ الْمَنْفِيُّ للاستغناء عَنهُ بالطرف الْمُثْبِتِ لِأَنَّهُ

[سورة يونس (10) : آية 105]

الْمَقْصُودُ. وَذَلِكَ حِينَ يَكُونُ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ هُوَ طَرَفُ الْإِثْبَاتِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ طَرَفُ النَّفْيِ هُوَ الْأَهَمُّ كَمَا هُنَا وَهُوَ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أوّلا عدل على صِيغَةِ الْقَصْرِ إِلَى ذِكْرِ صِيغَتَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ. فَهُوَ إطناب اقْتِضَاء الْمَقَامُ، كَقَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ أَوِ السَّمَوْأَلِ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وأُمِرْتُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وأَنْ أَكُونَ مُتَعَلِّقٌ بِ أُمِرْتُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَهُوَ الْبَاءُ الَّتِي هِيَ لِتَعْدِيَةِ فعل (أمرت) ، و (أَن) مَصْدَرِيَّةٌ لِأَنَّ نَصْبَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا يُعَيِّنُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وَيَمْنَعُ احْتِمَالَ أَنَّهَا تَفْسِيرِيَّةٌ. وَأُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَقَائِبُ هَذَا اللَّقَبِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ فَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ انْصَرَفَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَدَّرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ. وَفِي جَعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ تَشْرِيفٌ لِهَذَا الْجَمْعِ وتنويه بِهِ. [105] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 105] وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُعْضِلٌ لِأَنَّ الْوَاو عاطفة على مَحَالَةَ، وَوَقَعَتْ بَعْدَهَا (أَنْ) . فَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً، فَوُقُوعُ فِعْلِ الطَّلَبِ بَعْدَهَا غَيْرُ مَأْلُوفٍ لِأَنَّ حَقَّ صِلَةِ (أَنْ) أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : قَدْ سَوَّغَ سِيبَوَيْهٍ أَن تُوصَف (أَنْ) بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْلُ (أَنْ) بِمَا تَكُونُ مَعَهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَفِعْلَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دَالَّانِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ غَيْرُهُمَا من الْأَفْعَال اه. يُشِيرُ إِلَى مَا فِي «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» «بَابٌ تَكُونُ (أَنْ) فِيهِ بِمَنْزِلَةِ (أَيْ) » . فَالْمَعْنَى: وَأُمِرْتُ بِإِقَامَةِ وَجْهِيَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، وَيَكُونُ الْعَطْفُ عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ.

وَقِيلَ الْوَاوُ عَطَفَتْ فِعْلًا مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ (أُمِرْتُ) . وَالتَّقْدِيرُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ، وَتَكُونُ (أَنْ) مُفَسِّرَةً لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، لِأَنَّهُ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَعِنْدِي: أَنَّ أُسْلُوبَ نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا لِمُقْتَضًى بَلَاغِيٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِصِيغَةِ أَقِمْ وَجْهَكَ خُصُوصِيَّةٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَلْنُعْرِضْ عَمَّا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» وَعَنْ جَعْلِ الْآيَةِ مِثَالًا لِمَا سَوَّغَهُ سِيبَوَيْهِ وَلْنَجْعَلِ الْوَاوَ مُتَوَسَّعًا فِي اسْتِعْمَالِهَا بِأَنِ اسْتُعْمِلَتْ نَائِبَةً مَنَابَ الْفِعْلِ الَّذِي عُطِفَتْ عَلَيْهِ، أَيْ فعل أُمِرْتُ [يُونُس: 104] دُونَ قَصْدِ تَشْرِيكِهَا لِمَعْطُوفِهَا مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَلِ اسْتُعْمِلَتْ لِمُجَرَّدِ تَكْرِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أُمِرْتُ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرًا لِمَا فِي الْوَاوِ مِنْ تَقْدِيرِ لَفْظِ فِعْلِ (أُمِرْتُ) لِقَصْدِ حِكَايَةِ اللَّفْظِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ بِلَفْظِهِ، وَلِيَتَأَتَّى عَطْفُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مَنْ عَطَفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [49] ، وَهُوَ هُنَا أَوَعْبُ. وَالْإِقَامَةُ: جَعْلَ الشَّيْءِ قَائِمًا. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِإِفْرَادِ الْوَجْهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتْرُكُ وَجْهَهُ يَنْثَنِي إِلَى شَيْءٍ آخَرَ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الدِّينِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: مَحِّضْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ لَا تَجْعَلْ لِغَيْرِ الدِّينِ شَرِيكًا فِي تَوَجُّهِكَ. وَهَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنْ تَوْجِيهِ نَفْسِهِ بِأَسْرِهَا لِأَجْلِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَإِرْشَادِ الْأُمَّةِ وَإِصْلَاحِهَا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [20] . وحَنِيفاً حَال من لِلدِّينِ وَهُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ حَنِفَ أَيْ مَالَ عَنِ الْآلِهَةِ وَتَمَحَّضَ لِلَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة يونس (10) : آية 106]

وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَهْيٌ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ تَصْرِيحًا بِمَعْنَى حَنِيفاً. وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ اعْتِنَاءً بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوَهُ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ مِنْ نَحْوِ: لَا تَكُنْ مُشْرِكًا، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنَ الطَّائِفَةِ ذَاتِ نحلة الْإِشْرَاك. [106] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 106] وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) عَطْفٌ عَلَى وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُونُس: 105] . وَلَمْ يُؤَكَّدِ الْفِعْلُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِئَلَّا يَمْنَعَ وُجُودُهَا مِنْ حَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ بِأَنَّ حَذْفَهُ تَخْفِيفٌ وَفَصَاحَةٌ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَمَّا اقْترن بِمَا يومىء إِلَى التَّعْلِيلِ كَانَ فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَأْكِيدِهِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ يومىء إِلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ دُعَائِكَ، إِذْ دُعَاءُ أَمْثَالِهَا لَا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ فِعْلِ تَدْعُ وَمَفْعُولِهِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلْحَثِّ عَلَى دُعَائِهِ اللَّهَ. وَتَفْرِيعُ فَإِنْ فَعَلْتَ عَلَى النَّهْيَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا مَعْذِرَةَ لِمَنْ يَأْتِي مَا نُهِيَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أُكِّدَ نَهْيُهُ وَبُيِّنَتْ عِلَّتُهُ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَاعْتَدَى عَلَى حَقِّ رَبِّهِ. وَأَكَّدَ الْكَوْنَ مِنَ الظَّالِمِينَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِ (إِنَّ) لِزِيَادَةِ التَّحْذِيرِ، وَأُتِيَ بِ (إِذَنْ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: فَإِنْ فَعَلْتَ فَمَاذَا يَكُونُ؟.

[سورة يونس (10) : آية 107]

وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الظَّالِمِينَ مِنْ تَأْكِيدٌ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُونُس: 105] وَنَظَائِرِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْفَرْضِ تَنْبِيهُ النَّاسِ عَلَى فَظَاعَةِ عِظَمِ هَذَا الْفِعْلِ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقِينَ لَكَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . [107] [سُورَة يُونُس (10) : آيَة 107] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [يُونُس: 106] لِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِإِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ نَافِعَةً أَوْ ضَارَّةً، وَكَانَ إِسْنَادُ النَّفْعِ أَوِ الضُّرِّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ عَلَى مَعْنَى صُدُورِهِمَا مِنْ فَاعِلِهِمَا ابْتِدَاءً، وَلَا يَتَبَادَرُ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ مَعْنَى الْوَسَاطَةِ فِي تَحْصِيلِهِمَا مِنْ فَاعِلٍ، عُقِّبَتْ جُمْلَةُ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [يُونُس: 106] بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ النَّفْعَ أَوِ الضُّرَّ لِأَحَدٍ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهَا أَوْ يَتَعَرَّضَ فِيهَا إِلَّا مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ أَوْ شَفَاعَةٍ. وَوَجْهُ عَطْفِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَغَايُرٍ فِي الْمَعْنَى بِالتَّفْصِيلِ وَالزِّيَادَةِ، وَبِصِيغَتَيِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَفِي قَوْلِهِ: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ الدَّاخِلِ فِيهِمَا أَصْنَامُهُمْ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [38] أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ.

وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَنَفْيِ الضُّرِّ. فَيَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِهَذَا الْحَكَمِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ. وَالْمَسُّ: حَقِيقَتُهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى جِسْمٍ لِاخْتِبَارِ مَلْمَسِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِصَابَةِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [201] . وَالْإِرَادَةُ بِالْخَيْرِ: تَقْدِيرُهُ وَالْقَصْدُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَرَدَّدُ عِلْمُهُ فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَهُ، فَإِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَقَدْ عَبَّرَ بِالْمَسِّ فِي مَوْضِعِ الْإِرَادَةِ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [17] وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَلَكِنْ عَبَّرَ هُنَا بِالْإِرَادَةِ مُبَالَغَةً فِي سَلْبِ الْمَقْدِرَةِ عَمَّنْ يُرِيدُ مُعَارَضَةَ مُرَادِهِ تَعَالَى كَائِنًا مَنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّعَرُّضَ لِلَّهِ فِي خَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِهِ قَبْلَ حُصُولِ فِعْلِهِ، فَإِنَّ التَّعَرُّضَ حِينَئِذٍ أَهْوَنُ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَسِيَاقُهَا فِي بَيَانِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمُعَارِضِ وَالْمُعَانِدِ. وَالْفَضْلُ: هُوَ الْخَيْرُ، وَلِذَلِكَ فَإِيقَاعُهُ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ الْوَاصِلَ إِلَى النَّاسِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ إِلَيْهِ يُصِيبُهُمْ بِمَا يَشَاءُ. وتنكير (ضرّ) و (خير) لِلنَّوْعِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَكُلٌّ مِنْ جُمْلَةِ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَجُمْلَةِ: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ مَعَهَا، وَلَيْسَ الْجَوَابُ بِمَحْذُوفٍ. وَجُمْلَةُ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا قَبْلَهَا وَالْحَوْصَلَةِ لَهُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْخَيْرِ، فَيَكُونُ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى التَّعَرُّضِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ حَتَّى يَكُونَ مِمَّا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ مَشِيئَةُ اللَّهِ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِالْخَيْرِ أَوْ يَعُودَ

إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الضُّرِّ، وَالضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فَيَكُونُ تَخْوِيفًا وَتَبْشِيرًا وَتَحْذِيرًا وَتَرْغِيبًا. وَقَدْ أُجْمِلَتِ الْمَشِيئَةُ هُنَا وَلَمْ تُبَيَّنْ أَسْبَابُهَا لِيَسْلُكَ لَهَا النَّاسُ كُلَّ مَسْلَكٍ يَأْمُلُونَ مِنْهُ تَحْصِيلَهَا فِي الْعَطَاءِ وَكُلَّ مَسْلَك يَتَّقُونَ بوقعهم فِيهَا فِي الْحِرْمَانِ. وَالْإِصَابَةُ: اتِّصَالُ شَيْءٍ بِآخَرَ وَوُرُودُهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَسِّ الْمُتَقَدِّمِ، فَقَوْلُهُ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [17] وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَالتَّذْيِيلُ بِجُمْلَةِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِعْطَاءَ الْخَيْرِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ وَتَجَاوُزٌ مِنْهُ تَعَالَى عَنْ سَيِّئَاتِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَتَقْصِيرِهِمْ وَغَفَلَاتِهِمْ، فَلَوْ شَاءَ لَمَا تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَتَوَرَّطُوا كُلُّهُمْ. وَلَوْلَا غُفْرَانُهُ لَمَا كَانُوا أَهْلًا لِإِصَابَةِ الْخَيْرِ، لِأَنَّهُمْ مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكَمَالِ لَا يَخْلُونَ مِنْ قُصُورٍ عَنِ الْفَضْلِ الْخاَلِدِ الَّذِي هُوَ الْكَمَالُ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَيُشِيرُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ سَيِّئَاتِ عِبَادِهِ الْمُسْرِفِينَ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ إِلَّا بِمَا لَا يَرْضَى عَنْهُ بِحَالٍ كَمَا قَالَ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] ، وَأَنَّهُ لَوْلَا تَجَاوُزُهُ عَنْ كَثِيرٍ لَمَسَّهُمُ اللَّهُ بِضُرٍّ شَدِيدٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

[سورة يونس (10) : آية 108]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 108] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ كَذَيْلٍ لِمَا مَضَى فِي السُّورَةِ كُلِّهَا وَحَوْصَلَةٍ لِمَا جَرَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّرْغِيبِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَلَامًا جَامِعًا وَمُوَادَعَةً قَاطِعَةً. وَافْتِتَاحُهَا بِ قُلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّلَقِّي. وَافْتِتَاحُ الْمَقُولِ بِالنِّدَاءِ لِاسْتِيعَاءِ سَمَاعِهِمْ لِأَهَمِّيَّةِ مَا سَيُقَالُ لَهُمْ، وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ابْتِدَاءً الْمُشْرِكُونَ، وَلِذَلِكَ أُطِيلُ الْكَلَامُ فِي شَأْنِهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ مَعَهُمْ مَنِ اهْتَدَى تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ قَدْ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْحَقُّ قَدْ أُبْلِغَ إِلَيْهِمْ وَتَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ حَقًّا. وَالْحَقُّ: هُوَ الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَوَصَفَهُ بِ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ مُبِينٌ لَا يَخْلِطُهُ بَاطِلٌ وَلَا رَيْبٌ، فَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ إِرْشَادٌ مِنَ الَّذِي يُحِبُّ صَلَاحَ عِبَادِهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ شَأْنُ مَنْ يَرُبُّ، أَيْ يَسُوسُ وَيُدَبِّرُ. وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ: فَمَنِ اهْتَدى عَلَى جُمْلَةِ: قَدْ جاءَكُمُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْحَقِّ الْوَاضِحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ إِتْبَاعَهُ غُنْمٌ لِمُتَّبِعِهِ وَلَيْسَ مَزِيَّةً لَهُ عَلَى اللَّهِ، لِيُتَوَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُعْرِضَ عَنْهُ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا تَبِعَةَ الْإِعْرَاضِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِنَفْسِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاهْتِدَاءَ نِعْمَةٌ وَغِنًى وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ ضُرٌّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَوَجْهُ الْإِتْيَانِ بِطَرِيقَتَيِ الْحَصْرِ فِي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَفِي فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَتَمَطَّوْنَ فِي الِاقْتِرَاحِ فَيَقُولُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُمْ يَمُنُّونَ عَلَيْهِ لَوْ أَسْلَمُوا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَغِيظُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ فَكَانَ الْقَصْرُ مُفِيدًا أَنَّ اهْتِدَاءَهُ مَقْصُورٌ عَلَى تَعَلُّقِ اهْتِدَائِهِ بِمَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِنَفْسِهِ أَيْ بِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى التَّعَلُّقِ بِفَائِدَتِي. وَأَنَّ ضَلَالَهُ مَقْصُورٌ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَعْنَى عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ لِمَضَرَّتْهَا لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى التَّعَلُّقِ بِمَضَرَّتِي. وَجُمْلَةُ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنِ اهْتَدى فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ التَّفْرِيعِ، وَإِتْمَامٌ لِلْمُفَرَّعِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اهْتِدَاءُ الْمُهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَضَلَالُ الضَّالِّ عَلَى نَفْسِهِ تَحَقَّقَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَأْمُورٍ مِنَ اللَّهِ بِأَكْثَرَ مِنَ التَّبْلِيغِ وَأَنَّهُ لَا نَفْعَ لِنَفْسِهِ فِي اهْتِدَائِهِمْ وَلَا يَضُرُّهُ ضَلَالُهُمْ، فَلَا يَحْسَبُوا حِرْصَهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا حَتَّى يَتَمَطَّوْا وَيَشْتَرِطُوا، وَأَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمْ وَمُبَلِّغٌ مَا فِي اتِّبَاعِهِ خَيْرُهُمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ ضُرُّهُمْ. وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى دَوَامِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَثَبَاتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَمَعْنَى الْوَكِيلِ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ تَحْصِيلُ الْأَمْرِ. وعَلَيْكُمْ بِمَعْنَى عَلَى اهْتِدَائِكُمْ فَدَخَلَ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِهَا بِقَرِينَة الْمقَام.

[سورة يونس (10) : آية 109]

[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 109] وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) عَطْفٌ عَلَى قُلْ أَيْ بَلِّغِ النَّاسَ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ، أَيِ اتَّبِعْ فِي نَفْسِكَ وَأَصْحَابِكَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ. واصْبِرْ أَيْ عَلَى مُعَانَدَةِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقَرِينَةِ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فَإِنَّهَا غَايَةٌ لِهَذَا الصَّبْرِ الْخَاصِّ لَا لِمُطْلَقِ الصَّبْرِ. وَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ يَقْتَضِي فَرِيقَيْنِ حَذَفَ مُتَعَلِّقَهُ تَعْوِيلًا عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ، أَيْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ثَنَاءٌ وَتَذْيِيلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ بَيْنَ كُلِّ خَصْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَفِي غَيْرِهَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحاكِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ التَّذْيِيلِ. وخَيْرُ تَفْضِيلٌ، أَصْلُهُ أَخْيَرُ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالْأَخْيَرِيَّةُ مِنَ الْحَاكِمِينَ أَخْيَرِيَّةُ وَفَاءِ الْإِنْصَافِ فِي إِعْطَاءِ الْحُقُوقِ. وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ مُعَاقَبَةِ الظَّالِمِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، فَفِي الْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ إِيمَاءٌ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا وَعَانَدُوا. وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ فِيهِ بَرَاعَةُ الْمَقْطَعِ.

11- سورة هود

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 11- سُورَةُ هُودٍ سُمِّيَتْ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ سُورَةَ هُودٍ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ؟ قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ. وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَسُمِّيَتُ بَاسِمِ هُودٍ لِتَكَرُّرِ اسْمِهِ فِيهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَلِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِيهَا أَطْوَلُ مِمَّا حُكِيَ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ عَادًا وُصِفُوا فِيهَا بِأَنَّهُمْ قَوْمُ هُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: 60] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَسْمِيَةِ سُورَةِ يُونُسَ وَجْهٌ آخَرُ لِلتَّسْمِيَةِ يَنْطَبِقُ عَلَى هَذِهِ وَهُوَ تَمْيِيزُهَا مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ ذَوَاتِ الِافْتِتَاحِ بِ الر. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَتَادَةَ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً وَهِيَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إِلَى قَوْله: لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114] . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: 12] ، وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إِلَى قَوْلِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: 17] قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] الْآيَةَ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي بَعْضِ آيِهَا تَوَهُّمٌ لِاشْتِبَاهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي قِصَّةٍ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ كَمَا يَأْتِي، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ وَاضِحٌ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ وَقَبْلَ سُورَةِ يُوسُفَ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ فِيهَا وَقَعَ بِعَشْرِ سُوَرٍ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَعَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا. وَقَدْ عُدَّتْ آيَاتُهَا مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي الْعَدَدِ الْمَدَنِيِّ الْأَخِيرِ. وَكَانَتْ آيَاتُهَا مَعْدُودَةً فِي الْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ. وَأَغْرَاضُهَا: ابْتَدَأَتْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى التَّحَدِّي لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآن بِمَا تومىء إِلَيْهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَبِاتِّلَائِهَا بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ. وَبِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِأَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نَذِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَتَاعٍ حَسَنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَإِثْبَاتِ الْحَشْرِ. وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى خَفَايَا النَّاسِ.

وَأَنَّ اللَّهَ مُدَبِّرُ أُمُورِ كُلِّ حَيٍّ عَلَى الْأَرْضِ. وَخَلْقِ الْعَوَالِمِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَأَنَّ مَرْجِعَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَا خَلَقَهُمْ إِلَّا لِلْجَزَاءِ. وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ وَمَا يَقْتَرِحُونَهُ مِنْ آيَاتٍ عَلَى وِفْقِ هَوَاهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] . وَأَنَّ حَسْبَهُمْ آيَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي تحداهم بمعارضته تعجزوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَتَبَيَّنَ خُذْلَانُهُمْ فَهُمْ أَحِقَّاءُ بِالْخَسَارَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَضَرْبِ مَثَلٍ لِفَرِيقِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَذِكْرِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ- وَتَفْصِيلِ مَا حَلَّ بِهِمْ- وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَمَدْينَ، وَرِسَالَةِ مُوسَى، تَعْرِيضًا بِمَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ وَمَا يَنْبَغِي مِنْهُ الْحَذَرُ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ تَنْفَعْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا. وَأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَنْبَاءِ عِظَةٌ لِلْمُتَّبِعِينَ بِسِيَرِهِمْ. وَأَنَّ مِلَاكَ ضَلَالِ الضَّالِّينَ عَدَمُ خَوْفِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ صَائِرُونَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ. وَانْفَرَدَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِتَفْصِيلِ حَادِثِ الطُّوفَانِ وَغَيْضِهِ. ثُمَّ عَرَّضَ بِاسْتِئْنَاسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ بِاخْتِلَافِ قَوْمِ مُوسَى فِي الْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ فَمَا عَلَى الرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَقِيمَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَأَنْ لَا يَرْكَنُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَالْمُضِيِّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الصَّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا هَلَاكَ مَعَ الصَّلَاحِ. وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ عِظَاتٌ وَعِبَرٌ وَالْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاة.

[سورة هود (11) : آية 1]

[سُورَة هود (11) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) الر تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نُظَرَائِهَا وَمَا سُورَةُ يُونُسَ بِبَعِيدٍ. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ الْقَوْلُ فِي الِافْتِتَاحِ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ وَتَنْكِيرُهُ مُمَاثِلٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [2] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مِنْ عِنْد الله فَلَمَّا ذَا يَعْجَبُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ. فَ (كِتَابٌ) مُبْتَدَأٌ، سَوَّغَ الِابْتِدَاءُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْكِيرِ لِلنَّوْعِيَّةِ. ومِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ خَبَرٌ وأُحْكِمَتْ آياتُهُ صِفَةٌ لِ (كِتَابٍ) ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أُحْكِمَتْ آياتُهُ صِفَةً مُخَصَّصَةً، وَهِيَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (أُحْكِمَتْ) هُوَ الْخَبَرُ. وَتَجْعَلَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ أُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ. وَالْإِحْكَامُ: إِتْقَانُ الصُّنْعِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَهِيَ إِتْقَانُ الْأَشْيَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ سَالِمَةً مِنَ الْأَخْلَالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِنَوْعِهَا، أَيْ جُعِلَتْ آيَاتُهُ كَامِلَةً فِي نَوْعِ الْكَلَامِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ وَمِنْ أَخْلَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] . وَبِهَذَا الْمَعْنى تنبىء الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ: الْجُمَلُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِمَعَانِيهَا الْمُخْتَتَمَةِ بِفَوَاصِلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ جُمَلِ الْقُرْآنِ بِالْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [39] ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.

[سورة هود (11) : آية 2]

وَالتَّفْصِيلُ: التَّوْضِيحُ وَالْبَيَانُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَغَيْرِهِ بِمَا يُمَيِّزُهُ، فَصَارَ كِنَايَةً مَشْهُورَةً عَنِ الْبَيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْمَعَانِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [55] . وَنَظِيرُهُ: الْفَرْقُ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْبَيَانِ فَسُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَانًا. وَعَنِ الْفَصْلِ فَسُمِّيَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ الْفَرْقَانِ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخان: 4] . و (ثمَّ) لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِمَا فِي التَّفْصِيلِ مِنَ الِاهْتِمَامِ لَدَى النُّفُوسِ لِأَنَّ الْعُقُولَ تَرْتَاحُ إِلَى الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ. ومِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَيْ مِنْ عِنْدِ الْمَوْصُوفِ بِإِبْدَاعِ الصُّنْعِ لِحِكْمَتِهِ، وَإِيضَاحِ التَّبْيِينِ لِقُوَّةِ عِلْمِهِ. وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِخَفَايَا الْأَشْيَاءِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَشْيَاءُ كَانَتِ الْإِحَاطَةُ بِهَا أَعَزَّ، فَالْحَكِيمُ مُقَابِلٌ لِ أُحْكِمَتْ، وَالْخَبِيرُ مُقَابِلٌ لِ فُصِّلَتْ. وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُتَعَلِّقَ الْعِلْمِ وَمُتَعَلِّقَ الْقُدْرَةِ إِذِ الْقُدْرَةُ لَا تَجْرِي إِلَّا عَلَى وِفْقِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهُ رُوعِيَ فِي الْمُقَابَلَةِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ أَشَدُّ تَبَادُرًا فِيهِ لِلنَّاسِ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا مِنْ بليغ المزاوجة. [2] [سُورَة هود (11) : آيَة 2] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي مَعْنَى أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1] مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مُحْكَمَةٍ وَمُفَصَّلَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُوحِيَ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا أُحْكِمَ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِيجَابِ عِبَادَةِ اللَّهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِلَّهِ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَنْهُ جَمِيعُ التَّفَاصِيلِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ

الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ كَانَ فِيهَا الْأَمْرُ بِمُلَابَسَةِ اسْمِ اللَّهِ لِأَوَّلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] . وَالْخِطَابُ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الَّتِي بَعْدَهُ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَهُمْ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: 1] وَجُمْلَةِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [هود: 3] الْآيَةَ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِهِ. وَوُقُوعُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَقِبَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَضْمُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً وَذَلِكَ لِأَنَّ شَأْنَ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَا وَقَعَ بَعْدَهُ وَنَاشِئًا مِنْهُ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْبَشِيرِ وَالنَّذِيرِ هُوَ جَامِعُ عَمَلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِمَنْ آمَنَ وَأَطَاعَ، وَنَذِيرٌ لِمَنْ أَعْرَضَ وَعَصَى، وَذَلِكَ أَيْضًا جَامِعٌ لِلْأُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ الْعَقَائِدُ السَّمْعِيَّةُ، وَهَذَا عين الإحكام. و (من) فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ إِنِّي نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لَكُمْ جَائِيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ النِّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ لِمُقَابَلَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مِنْ طَلَبِ تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِطَرِيقِ النَّهْيِ وَطَلَبِ عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالنِّذَارَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَالْبِشَارَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الثَّانِي

[سورة هود (11) : آية 3]

[3] [سُورَة هود (11) : آيَة 3] وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: 2] وَهُوَ تَفْسِيرٌ ثَانٍ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ لَفْظِ التَّفْصِيلِ، فَهَذَا ابْتِدَاءُ التَّفْصِيلِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ وَإِرْشَادٌ لِوَسَائِلِ نَبْذِ عِبَادَةِ مَا عَدَا اللَّهَ تَعَالَى، وَدَلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْثَالٌ وَنُذُرٌ، فَالْمَقْصُودُ: تَقْسِيمُ التَّفْسِيرِ وَهُوَ وَجْهُ إِعَادَةِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، أَيْ طَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ مَضَى، وَذَلِكَ النَّدَمُ. وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنْ عَمَلِ ذَنْبٍ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يعود إِلَيْهِ. و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِفَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَهَمُّ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا هُوَ مُسَمَّى التَّوْبَةِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ فِي نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَبَيَانٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْمَتَاعُ: اسْمُ مَصْدَرِ التَّمْتِيعِ لِمَا يُتَمَتَّعُ بِهِ، أَيْ يُنْتَفَعُ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَالْحَسَنُ: تَقْيِيدٌ لِنَوْعِ الْمَتَاعِ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ فِي نَوْعِهِ، أَيْ خَالِصًا مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ طَوِيلًا بَقَاؤُهُ لِصَاحِبِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَالْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ: الْإِبْقَاءُ، أَيِ الْحَيَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْصِلُهُمْ. وَوَصَفَهُ بِالْحُسْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ.

وَ (إِلى أَجَلٍ) مُتَعَلِّقٌ بِ يُمَتِّعْكُمْ وَهُوَ غَايَةٌ لِلتَّمْتِيعِ، وَذَلِكَ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ لَهُ نِهَايَةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَتَاعُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ بِالْأَجَلِ: أَجْلُ كُلِّ وَاحِدٍ وَهُوَ نِهَايَةُ حَيَاتِهِ، وَهَذَا وَعْدٌ بِأَنَّهُ نِعْمَةٌ بَاقِيَةٌ طُولَ الْحَيَاةِ. وَجُمْلَةُ: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُمَتِّعْكُمْ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَتَاعِ الْحَسَنِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ إِعْطَاءُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَالْفَضْلُ: إِعْطَاءُ اَلْخَيْرِ. سُمِّيَ فَضْلًا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ فَاعِلَ اَلْخَيْرِ يَفْعَلُهُ بِمَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَصَارَ الْفَضْلُ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ اَلْخَيْرِ. وَالْفَضْلُ الْأَوَّلُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِفَضْلِ اللَّهِ الْغَنِيِّ عَنِ النَّاسِ. وَالْفَضْلُ الثَّانِي الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْمَتَاعِ فِي الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: وَيُؤْتِ اللَّهُ فَضْلَهُ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فِي عَمَلِهِ. وَلَمَّا عُلِّقَ الْإِيتَاءُ بِالْفَضْلَيْنِ عُلِمَ أَنَّ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِ الْمُجْزِيِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عُلِّقَ بِذِي فَضْلٍ وَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالتَّعْلِيلِ وَبِالتَّقْدِيرِ. وَضَبْطُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَعَ اخْتِلَافٍ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَزِيَادَةِ بَيَانٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ عَطْفٌ عَلَى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَا جَاءَ تَفْسِيرًا لِ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1] وَهُوَ مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبَلِّغَهُ إِلَى النَّاسِ. وَتَوَلَّوْا: أَصْلُهُ تَتَوَلَّوْا، حذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا.

[سورة هود (11) : آية 4]

وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِ أَنِ وَبِكَوْنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا اسْمًا مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِقَصْدِ شِدَّةِ تَأْكِيدِ تَوَقُّعِ الْعَذَابِ. وَتَنْكِيرُ يَوْمٍ لِلتَّهْوِيلِ، لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ لِلِاحْتِمَالِ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ، فَتَخْوِيفُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا أَوْقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ تَنْكِيرُ يَوْمٍ صَالِحًا لِإِيقَاعِهِ مُقَابِلًا لِلْجَزَاءَيْنِ فِي قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، فَيُقَدِّرُ السَّامِعُ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَيْنِ كَمَا رَجَوْتُ لَكُمْ إِنِ اسْتَغْفَرْتُمْ ثَوَابَيْنِ. وَوَصْفُهُ بِالْكَبِيرِ لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِبَرِ الْكِبَرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ شِدَّةُ مَا يَقَعُ فِيهِ، أَعْنِي الْعَذَابَ، فَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْكِبَرِ مجَاز عَقْلِي. [4] [سُورَة هود (11) : آيَة 4] إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى قُدْرَتِهِ غَيْرَ مُنْفَلِتِينَ مِنْهُ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى تَوَلِّيكُمْ عَنْ أَمْرِهِ. فَالْمَرْجِعُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمِهِ الْعُرْفِيِّ وَهُوَ عَدَمُ الِانْفِلَاتِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِيَّاهُ خَاصَّةً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَنْسَبُ بِالْمَصِيرِ الدُّنْيَوِيِّ لِأَنَّهُ الْمُسَلَّمُ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْمَصِيرُ الْأُخْرَوِيُّ فَلَوِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ قَوِيٌّ مُقْتَضٍ لِزِيَادَةٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَصْرُ إِذْ هُمْ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُرْجَعُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْهَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى غَيْرِهِ.

[سورة هود (11) : آية 5]

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُجُوعِكُمْ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ أَلَيْسَ يُعَذِّبُكُمْ عذَابا كَبِيرا. [5] [سُورَة هود (11) : آيَة 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) حَوْلَ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى إِعْلَامِهِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ فِي جَهْلِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، فَقَدَّمَ لِذَلِكَ إِبْطَالَ وَهْمٍ مِنْ أَوْهَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّهُمْ فِي مُكْنَةٍ مِنْ إِخْفَاءِ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ قَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِلَخْ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، جَمْعًا بَيْنَ إِخْبَارِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ إِبْطَالِ تَوَهُّمَاتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِصِفَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ نَشَأَ هَذَا الْكَلَامُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [هود: 4] لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ أَيْضًا مَوْصُوفٌ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَتَمَامِ الْعِلْمِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ أَلا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِغَرَابَةِ أَمْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ وَلِلْعِنَايَةِ بِتَعْلِيمِ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمَائِرُ الْجَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِبْلَاغِ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: 2] وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ لِلْمُفْرَدِ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: 4] .

وَالثَّنْيُ: الطَّيُّ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ. يُقَالُ: ثَنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، إِذَا جَعَلَهُ ثَانِيًا، يُقَالُ: هَذَا وَاحِدٌ فَاثْنِهِ، أَيْ كُنْ ثَانِيًا لَهُ، فَالَّذِي يَطْوِي الشَّيْءَ يَجْعَلُ أَحَدَ طَاقَيْهِ ثَانِيًا لِلَّذِي قَبْلَهُ فَثَنْيُ الصُّدُورِ: إِمَالَتُهَا وَحَنْيُهَا تَشْبِيهًا بِالطَّيِّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ الطَّأْطَأَةُ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْإِجْرَاءَ عَلَى حَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِ مِنَ الثَّنْيِ وَالصُّدُورِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةٍ نَفْسِيَّةٍ بِهَيْئَةٍ حِسِّيَّةٍ. فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ ذَلِكَ تَعْجِيبًا مِنْ جَهَالَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ كَانُوا يَقِيسُونَ صِفَاتَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِ النَّاسِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَحْجُبُونَهُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَيُرْخِي السِّتْرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْشِي ثَوْبَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَقُولُ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قَلْبِي؟ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللَّهِ. فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَيْشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت: 22، 23] . وَجَمِيعُ أَخْطَاءِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَدْيَانِ الْمَاضِيَةِ تَسْرِي إِلَى عُقُولِهِمْ مِنَ النَّظَرِ السَّقِيمِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ، وَتَقْدِيرِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ بِمَقَادِيرَ مُتَعَارَفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَقِيَاسُ الْغَائِب على الشَّاهِد. وَقَدْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ فَرْقِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَالِكِ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مَعْلُومَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ تَعْصِمُهُمْ عِنْدَ الْغَايَةِ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ وَأَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ.

وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي: فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ إِضْمَارِهِمْ الْعَدَاوَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُفُوسِهِمْ وَتَمْوِيهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِحَالِ مَنْ يُثْنِي صَدْرَهُ لِيُخْفِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْشِي ثَوْبَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتُرَهُ بِهِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَ الْآيَةِ مَكِّيَّةً إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ بِمُصَانِعَيْنِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَأْوِيلُهَا بِإِرَادَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً. وَهَذَا نَقَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زَهْرَةَ وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْمَنْطِقِ، وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَوَدَّةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْطَوٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ، أَيْ عَدَاوَةِ الدِّينِ، فَضَرَبَ اللَّهُ ثَنْيَ الصُّدُورِ مَثَلًا لِإِضْمَارِهِ بُغْضَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ لِقَصْدِ إِبْهَامِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمرَان: 173] قِيلَ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَخْفُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ الْآيَةِ وَلَا اتِّسَاقَ الضَّمَائِرِ. فَلَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ تَنْطَبِقُ عَلَى صَنِيعِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِعْلُهُمْ هُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ دَعْوَةِ الْحَقِّ أَنْ لَا تَذْهَبَ بَاطِلًا حَتَّى عِنْدَ مَنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوهَا، فَإِنَّهَا تَلْفِتُ عُقُولَهُمْ إِلَى فَرْضِ صِدْقِهَا أَوِ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى دَفْعِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُثِيرُ حَقِيقَتَهَا وَيُشِيعُ دِرَاسَتَهَا. وَكَمْ مِنْ مُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ حَقٍّ مَا وَسِعَهُمْ إِلَّا التَّحَفُّزُ لِشَأْنِهَا وَالْإِفَاقَةُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ سَمِعُوا دَعْوَةَ الْقُرْآنِ إِذْ أَخَذُوا يَتَدَبَّرُونَ وَسَائِلَ مُقَاوَمَتِهَا وَنَقْضِهَا وَالتَّفَهُّمِ فِي مَعَانِيهَا لِإِيجَادِ دَفْعِهَا، كَحَالِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ قَالَ لِخِبَابِ بْنِ الْأَرَتِّ حِينَ تَقَاضَاهُ أَجْرَ سَيْفٍ صَنَعَهُ فَقَالَ لَهُ: لَا أَقْضِيَكَهُ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِهِ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيَكَ. فَقَالَ الْعَاصِي لَهُ: إِذَا أَحْيَانِي اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِي فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ فَأَقْضِيكَ مِنْهُ. فَنَزَلَ

فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] . وَهَذَا مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ لِمَعْنَى الْبَعْثِ وَتَوَهُّمِهِ أَنَّهُ يُعَادُ لِمَا كَانَ حَالُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ. وَالِاسْتِخْفَاءُ: الِاخْتِفَاءُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ وَاسْتَأْخَرَ. وَجُمْلَةُ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ إلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِتْمَامًا لِجُمْلَةِ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ مُتَّصِلَةً بِهَا فَيَكُونُ حَرْفُ أَلا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِنَظِيرِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ لزِيَادَة تَحْقِيق الْخَبَر، فَيَتَعَلَّقُ ظَرْفُ (حِينَ) بِفِعْلِ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ وَيَتَنَازَعُهُ مَعَ فِعْلِ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَتَكُونُ الْحَالَةُ الْمَوْصُوفَةُ حَالَةً وَاحِدَةً مُرَكَّبَةً مِنْ ثَنْيِ الصُّدُورِ وَاسْتِغْشَاءِ الثِّيَابِ. وَالِاسْتِغْشَاءُ: التَّغَشِّي بِمَا يُغَشِّي، أَيْ يَسْتُرُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: 7] ، مثل اسْتَجَابَ. وَزِيَادَةُ وَما يُعْلِنُونَ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عِلْمِهِ بِالْخَفِيَّاتِ دُونَ الظَّاهِرِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نَتِيجَةٌ وَتَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيْ يُعْلَمُ سِرَّهُمْ وَجَهْرَهُمْ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ فِي النُّفُوسِ وَهُوَ يَعْلَمُ الْجَهْرَ بِالْأَوْلَى. فَذَاتُ الصُّدُورِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ عَلِيمٌ أَيِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ الصُّدُورِ. وَكَلِمَةُ (ذَاتِ) مُؤَنَّثُ (ذُو) يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الْأَنْفَال: 43] وَقَوْلِهِ: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [1] . وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا النُّفُوسُ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ بِالصَّدْرِ.

وَاخْتِيَارُ مِثَالِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ عَلِيمٌ لِاسْتِقْصَاءِ التَّعْبِيرِ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِكُلِّ مَا تَسَعُهُ اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ فَتَقْصُرُ عَنْ أَلْفَاظٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ اسْتِيعَابِ مَا يَصْلُحُ مِنَ الْمُعَبِّرَاتِ لِتَحْصِيلِ تَقْرِيبِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ. وَذَاتُ الصُّدُورِ: الْأَشْيَاءُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي النُّفُوسِ الَّتِي لَا تَعْدُوهَا. فأضيفت إِلَيْهَا.

[سورة هود (11) : آية 6]

[سُورَة هود (11) : آيَة 6] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [هود: 5] . وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، وَإِنَّمَا نُظِمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ تَفَنُّنًا لِإِفَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ بِ (مِنْ) ، وَلِإِدْمَاجِ تَعْمِيمِ رِزْقِ اللَّهِ كُلَّ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ فِي أَثْنَاءِ إِفَادَةِ عُمُومِ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ كُلِّ دَابَّةٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُخِّرَ الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ لِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ رَازِقُ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا حِيلَةَ لَهَا فِي الِاكْتِسَابِ اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهَا، فَإِنَّ كَوْنَهُ رَازِقًا لِلدَّوَابِّ قَضِيَّةٌ مِنَ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ عُمُومِ الْبَشَرِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ رِزْقُ اللَّهِ إِيَّاهَا دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ بِمَا تَحْتَاجُهُ. وَالدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ أَيْ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ. وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى دَابَّةٍ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ التَّابِعِ لِعُمُومِ الذَّوَاتِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ رِزْقِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِهَا. وَتَقْدِيمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ رِزْقُها لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلِإِفَادَةِ تَرْكِيبِ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهَا وَلَمْ

يُهْمِلْهُ، لِأَنَّ (عَلَى) تَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ وَالْمَحْقُوقِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ شَيْئًا، فَمَا أَفَادَ مَعْنَى اللُّزُومِ فَإِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُهُ بِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى صِفَاتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ ذَلِكَ لَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا [الْأَنْبِيَاء: 104] وَقَوْلُهُ: حَقًّا عَلَيْنا [يُونُس: 103] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ رِزْقُ الدَّوَابِّ فِي ظَاهِرِ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ أَنَّهُ رِزْقٌ مِنْ أَصْحَابِ الدَّوَابِّ وَمَنْ يُرَبُّونَهَا، أَيْ رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. فَالْمُسْتَثْنَى هُوَ الْكَوْنُ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُطْلَقُ الْكَوْنِ مِمَّا يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ رَزَّاقٌ فَحَصْرُ الرِّزْقِ فِي الْكَوْنِ عَلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْعُرْفِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ مُسَبِّبٌ ذَلِكَ الرِّزْقَ وَمُقَدِّرُهُ. وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْمُسْتَثْنَى، أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّ كُلِّ دَابَّةٍ وَمُسْتَوْدَعِهَا. فَلَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْحَصْرِ. وَالْمُسْتَقَرُّ: مَحَلُّ اسْتِقْرَارِهَا. وَالْمُسْتَوْدَعُ: مَحَلُّ الْإِيدَاعِ، وَالْإِيدَاعُ: الْوَضْعُ وَالدَّخَرُ. وَالْمُرَادُ بِهِ مُسْتَوْدَعُهَا فِي الرَّحِمِ قَبْلَ بُرُوزِهَا إِلَى الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [98] . وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينِ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اخْتِصَارٌ، أَيْ كُلُّ رِزْقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَيْ كِتَابَةٍ، فَالْكِتَابُ هُنَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: 24] . وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَقْدِيرِ الْعِلْمِ وَتَحْقِيقِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانًا وَلَا تَخَلُّفًا. كَمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ يُقْصَدُ مِنْهَا أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْأَمْرِ وَلَا يُنْقَصَ وَلَا يُبْطَلَ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ والتطاخي وَهل ينْقض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ بِمَعْنَى: أَظْهَرَ، وَهُوَ تَخْيِيلٌ لِاسْتِعَارَةِ الْكِتَابِ لِلتَّقْدِيرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَنْ يُطَالِعُهُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ

[سورة هود (11) : آية 7]

[7] [سُورَة هود (11) : آيَة 7] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] . وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ عِلْمِ اللَّهِ وَتَعَلُّقَاتِ قُدْرَتِهِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَازَمُهُ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِسِعَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَجُمْلَةُ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا وَأَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ فِعْلِ (خَلَقَ) وَلَامِ التَّعْلِيلِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] الْمَسُوقَةِ مَسَاقَ الدَّلِيلِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَغَيْرُ رَشِيقٍ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ مَحْسُوسًا وَلَا مُتَقَرِّرًا لَدَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ هُوَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَبَعْضُهُ طَرَأَ عَلَيْهِ تَغْيِير بِخلق السَّمَوَات فَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِثْبَاتِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقَدْرَتِهِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [هود: 6] إلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مخلوقا قبل السَّمَوَات وَكَانَ مُحِيطًا بِالْمَاءِ أَوْ حَاوِيًا لِلْمَاءِ. وَحَمْلُ الْعَرْشِ عَلَى أَنَّهُ ذَاتٌ مخلوقة فَوق السَّمَوَات هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَاءَ مَخْلُوق قبل السَّمَوَات وَالْأَرْضِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَكَيْفِيَّتُهُ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ مِمَّا لَا قِبَلَ لِلْأَفْهَامِ بِهِ إِذِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ تَقْرِيبٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَرْشِ مُلْكَ اللَّهِ وَحُكْمَهُ تَمْثِيلًا بِعَرْشِ السُّلْطَانِ، أَيْ كَانَ مُلْكُ اللَّهِ قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مُلْكًا عَلَى الْمَاءِ. وَقَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ خَلَقَ وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْبَلْوُ: الِابْتِلَاءُ، أَيِ اخْتِبَارُ شَيْءٍ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ بِأَحْوَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ ظُهُورِ آثَارٍ خَلْقِهِ

تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَلْوِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَجَعْلُ الْبَلْوِ عِلّة لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ لِكَوْنِهِ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْأَرْضِ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا الْخَلْقِ، ثُمَّ إِنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ يَسْتَتْبِعُ خَلْقَ مَا جُعِلَتِ الْأَرْضُ عَامِرَةً بِهِ، وَاخْتِلَافُ أَعْمَالِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْخَلْقُ فَكَانَتْ مِنْ حِكْمَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَكَانَ التَّعْلِيلُ هُنَا بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ عِلَّةٌ. وأَيُّكُمْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْحَالِ اللَّازِمِ ذِكْرُهَا بَعْدَ ضَمِيرِ الْخطاب فِي لِيَبْلُوَكُمْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَبْلُوَ) إِلَى ضَمِيرِ الذَّوَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَمَامُ الْفَائِدَةِ فَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذِكْرِ حَالِ تَقَيُّدِ مُتَعَلِّقِ الِابْتِلَاءِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْلِيقِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ صُدُورُ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ مِنْ شَرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِكْمَالًا لِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَلِذَلِكَ أُعْقِبَتْ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ إِلَخْ. وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَالْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِاعْتِبَارِ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلَ ذَلِكَ الْخَلْقَ الْعَجِيبَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ إِعَادَةُ خَلْقِ النَّاسِ. وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَوْلَا الْجَزَاءُ لَكَانَ هَذَا الْخَلْقُ عَبَثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: 38] . فَإِنْ حُمِلَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ كَانَتِ الْحَالُ مَقَدَّرَةً مِنْ فَاعِلِ خَلَقَ أَيْ خَلَقَ ذَلِكَ مُقَدِّرًا أَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ، وَإِنْ حُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً. وُوَجْهُ جَعْلِهَا جُمْلَةً شَرْطِيَّةً إِفَادَةُ تَجَدُّدِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ كُلِّ إِخْبَارٍ بِالْبَعْثِ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَيَقُولَنَّ إِلَخْ، فَاللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَجَوَابُ (إِنَّ) مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ الْقَسَمِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ أَنْ يُحْذَفَ جَوَابُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِغَرَابَةِ صُدُورِهِ مِنَ الْعَاقِلِ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ الْقَوِيُّ وَالتَّنْزِيلُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يُحِيلُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَقَدْ شَاهَدُوا آثَارَ بَدْءِ الْخَلْقِ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَبْدَعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا سِحْرٌ عَلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِ (قُلْتَ) ، وَمَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا السَّحَرَةُ لِخَصَائِصَ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: إِلَّا سَاحِرٌ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَفْهُومِ مِنْ ضَمِيرِ قُلْتَ أَيْ أَنَّهُ يَقُولُ كَلَامًا يَسْحَرُنَا بِذَلِكَ. وَوَجْهُ جَعْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ سِحْرًا أَنَّ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَخُرَافَاتِهِمْ أَنَّ مِنْ وَسَائِلِ السِّحْرِ الْأَقْوَالَ الْمُسْتَحِيلَةَ وَالتَّكَاذِيبَ الْبُهْتَانِيَّةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ كُلَّمَا أُخْبِرُوا بِهِ لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ حُصُولِهِ بَلْهَ إِيمَانُهُمْ بِهِ. ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ الْمَهْمُوزَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ الْمُجَرَّدِ، أَيْ بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ أَنَّهُ سَاحِرٌ

[سورة هود (11) : آية 8]

[8] [سُورَة هود (11) : آيَة 8] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ. مُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ فِي كِلَيْهِمَا وَصْفُ فَنٍّ مِنْ أَفَانِينِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ وَتَهَكُّمِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَإِذَا خَبَّرَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَعْثِ وَأَنَّ شِرْكَهُمْ سَبَبٌ لِتَعْذِيبِهِمْ جَعَلُوا كَلَامَهُ سِحْرًا، وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بِعُقُوبَةِ الْعَذَابِ عَلَى الْإِشْرَاكِ اسْتَعْجَلُوهُ، فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ اسْتَفْهَمُوا عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ عَنْهُمُ اسْتِفْهَامَ تَهَكُّمٍ ظَنًّا أَنَّ تَأَخُّرَهُ عَجْزٌ. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَجُمْلَةُ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ جَوَابُ الْقَسَمِ مغنية من جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالْأُمَّةُ: حَقِيقَتُهَا الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ كَأَنَّهُمْ رَاعَوْا أَنَّهَا الْأَمَدُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ جِيلٌ فَأُطْلِقَتْ عَلَى مُطْلَقِ الْمُدَّةِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ. ومَعْدُودَةٍ مَعْنَاهُ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُؤَجَّلَةٌ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَدِيدَةً لِأَنَّهُ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْعَدِّ وَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى التَّقْلِيلِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْعَدَدِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِي عَكْسِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ، مِثْلُ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الْبَقَرَة: 212] . وَالْحَبْسُ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ مَكَانًا لَا يَتَجَاوَزُهُ. وَلِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ كَمَا هُنَا، أَيْ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا وَيَحِلَّ بِنَا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ.

أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمْ إِذْ يَقُولُونَ مَا يَحْبِسُ عَنَّا الْعَذَابَ، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ كَمَا تُفَصَّلُ الْمُحَاوَرَةُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَتَخْوِيفٌ بِأَنَّهُ لَا يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ مُؤَخَّرٌ. وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْإِيمَاءِ بِأَنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ لَا شَكَّ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يُوَقَّتُ بِوَقْتٍ. وَالصَّرْفُ: الدَّفْعُ وَالْإِقْصَاءُ. وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَالٌّ بِهِمْ حُلُولًا لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ بِحَالٍ. وَجُمْلَةُ وَحاقَ بِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ. وَصِيغَةُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَهَذَا عَذَابُ الْقَتْلِ يَوْمَ بدر. وَمَا صدق مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ الْعَذَابُ، وَبَاءُ بِهِ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَذَابِ كَانَ سَبَبًا لِاسْتِهْزَائِهِمْ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ كَانَ مِنْ أسِبَابِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَتَقْدِيرُهُ إِحَاطَةُ الْعَذَابِ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ مخلصا.

[سورة هود (11) : آية 9]

[سُورَة هود (11) : آيَة 9] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود: 8] . فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ بَطِرُوا نِعْمَةَ التَّمْتِيعِ فَسَخِرُوا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الضَّلَالَةِ رَاسِخُونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِي غَيْرِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَجْرِي انْفِعَالَاتُهُمْ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ دُونَ رَجَاءٍ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالْبُؤْسِ وَتَصَرُّفَاتِ خَالِقِ النَّاسَ وَمُقَدِّرِ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِتَقَلُّبَاتِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَشَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنَّهُمْ إِنْ حَلَّتْ بِهِمُ الضَّرَّاءُ بَعْدَ النِّعْمَةِ مَلَكَهُمُ الْيَأْسُ مِنَ الَخَيْرِ وَنَسُوا النِّعْمَةَ فَجَحَدُوهَا وَكَفَرُوا مُنْعِمَهَا، فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ رَحْمَةٌ وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ نَزْعٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. فَتَعْرِيفُ (الْإِنْسَانِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَبِذَلِكَ اكْتَسَبَتِ الْجُمْلَةُ قُوَّةَ التَّذْيِيلِ. فَمِعْيَارُ الْعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود: 11] كَمَا يَأْتِي، فَيَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ عُرْفِيًّا جَارِيًا عَلَى اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ أَوِ النَّاسِ، وَلِأَن وصفي لَيَؤُسٌ كَفُورٌ يُنَاسِبَانِ الْمُشْرِكِينَ فَيَتَخَصَّصُ الْعَامُّ بِهِمْ. وَقِيلَ التَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ مُرَادٌ مِنْهُ إِنْسَانٌ خَاصٌّ، فَرَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ إِنْسَانٍ إِذَا حَلَّ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي النَّاسِ فِي هَذَا الْيَأْسِ. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَالْإِذَاقَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِيصَالِ الْإِدْرَاكِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَاخْتِيرَتْ مَادَّةُ الْإِذَاقَةِ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مِنْ إِدْرَاكِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَذُوقُ إِلَّا مَا يَشْتَهِيهِ.

[سورة هود (11) : آية 10]

وَالرَّحْمَةُ، أُرِيدَ بِهَا: رَحْمَةُ الدُّنْيَا. وَأُطْلِقَتْ عَلَى أَثَرِهَا وَهُوَ النِّعْمَةُ كَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْمُرَادُ النِّعْمَةُ السَّابِقَةُ قَبْلَ نُزُولِ الضُّرِّ. والنزع حَقِيقَته: خلق الثَّوْبِ عَنِ الْجَسَدِ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي سَلْبِ النِّعْمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (مِنْ) دُونَ (عَنْ) لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى السَّلْبِ وَالِافْتِكَاكِ، فَذِكْرُ (مِنْ) تَجْرِيدٌ لِلْمَجَازِ. وَجُمْلَة إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجُرِّدَتْ مِنَ الِافْتِتَاحِ بِاللَّامِ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي خَبَرِ (إِنَّ) . وَاسْتُغْنِيَ بِجَوَابِ الْقَسَمِ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ لَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى شَرْطٍ وَقَسَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ [هود: 8] إِلَى آخِره. واليؤوس وَالْكَفُورُ مِثَالَا مُبَالَغَةٍ فِي الْآيِسِ وَكَافِرِ النِّعْمَةِ، أَيْ جَاحِدِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكَفُورِ: مُنْكِرُ نِعْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَصْدُرُ مِنْهُ أَقْوَالٌ وَخَوَاطِرُ مِنَ السُّخْطِ عَلَى مَا انْتَابَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ قَطُّ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقِسْمِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ لَا مُبَالَغَةَ فِيهَا وَلَا تَغْلِيب. [10] [سُورَة هود (11) : آيَة 10] وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتْمِيمٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا حَكَتْ حَالَةً ضِدَّ الْحَالَةِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ قَسَمٍ وَشَرْطٍ وَجَوَابُ قَسَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهَا. وَضَمِيرُ أَذَقْناهُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فَتَعْرِيفُهُ كَتَعْرِيفِ مَعَادِهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ.

وَالنَّعْمَاءُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالْمَدِّ- النَّعْمَةُ وَاخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُ النَّعْمَةِ أَشْهَرُ لِمُحَسِّنِ رَعْيِ النَّظِيرِ فِي زِنَةِ اللَّفْظَيْنِ النَّعْمَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْمُرَادُ هُنَا النِّعْمَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الضَّرَّاءِ. وَالْمَسُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَاخْتِيَارُ فِعْلِ الْإِذَاقَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاخْتِيَارُ فِعْلِ الْمَسِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِدْرَاكِ الضَّرَّاءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ إِصَابَةَ الضَّرَّاءِ أَخَفُّ مِنْ إِصَابَةِ النَّعْمَاءِ، وَأَنَّ لُطْفَ اللَّهِ شَامِلٌ لِعِبَادِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ. وَجُعِلَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْقَوْلَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَبَجُّحٌ وَتَفَاخُرٌ، فَالَخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الِازْدِهَاءِ وَالْإِعْجَابِ، وَذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى زِيَادَةِ عَنِّي مُتَعَلِّقًا بِ ذَهَبَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تَذْهَبَ عَنْهُ السَّيِّئَاتُ غُرُورًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِ، وَ (فَرِحٌ وَفَخُورٌ) مِثَالَا مُبَالَغَةٍ، أَيْ لِشَدِيدِ الْفَرَحِ شَدِيدِ الْفَخْرِ. وَشِدَّةُ الْفَرَحِ: تَجَاوُزُهُ الْحَدَّ وَهُوَ الْبَطَرُ وَالْأَشَرُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: 76] . وَالْفَخْرُ: تَبَاهِي الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ لِلنَّاسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى النِّعْمَةِ بَعْدَ الْبَأْسَاءِ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الضَّرَّاءِ فَلَا يَتَفَكَّرُ فِي وُجُودِ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَنَاقِلِ الْأَحْوَالِ، وَالْمُخَالِفِ بَيْنَ أَسْبَابِهَا. وَفِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى [48] وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ.

[سورة هود (11) : آية 11]

[سُورَة هود (11) : آيَة 11] إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) احْتِرَاسٌ بِاسْتِثْنَاءٍ مِنَ (الْإِنْسَانِ) . وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ صَبَرُوا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّ الصَّبْرَ مِنْ مُقَارَنَاتِ الْإِيمَانِ فَكَنَّيَ بِالَّذِينِ صَبَرُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يُرَوِّضُ صَاحِبَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْهَوَى وَنَبْذِ مُعْتَادِ الضَّلَالَةِ. قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: 3] . وَمِنْ مَعَانِي الصَّبْرِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ هُنَا وَصْفُ (صَبَرُوا) دُونَ (آمَنُوا) لِأَنَّ الْمُرَادَ مُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْكُفَّارِ فِي قَوْله: إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ [هود: 9] . وَدَلَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرٍ. وَقَدْ نُسِجَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُرُقِ الْحَذَرِ مِنْ صِفَتَيِ الْيَأْسِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَمِنْ صِفَتَيِ الْفَرَحِ وَالْفَخْرِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ وَصْفِهِمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَبِالصَّبْرِ وَعَمِلَ الصَّالِحَات تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 5] . [12] [سُورَة هود (11) : آيَة 12] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ- إِلَى قَوْله- يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: 7، 8] مَنْ ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَيُشِير هَذَا التَّفْرِيعُ

إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ سَبَبٌ لِتَوْجِيهِ هَذَا التَّوَقُّعِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ مِنِ ارْعِوَائِهِمْ لِتَكَرُّرِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ يَأْسًا قَدْ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ دُعَائِهِمْ، فَذَلِكَ كُلُّهُ أُفِيدُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالتَّوَقُّعُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحْذِيرٍ مِنْ شَأْنِهِ التَّبْلِيغُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَعَلَّكَ تَارِكٌ. وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّفْيِ لِلتَّحْذِيرِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] . وَالِاسْتِفْهَامُ كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْحَالَةِ حَدًّا يُوجِبُ تَوَقُّعَ الْأَمْرِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ حَتَّى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَسْتَفْهِمُ عَنْ حُصُولِهِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّحْرِيكُ مِنْ هِمَّةِ الْمُخَاطَبِ وَإِلْهَابُ هِمَّتِهِ لِدَفْعِ الْفُتُورِ عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَجْوِيزُ تَرْكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغَ بَعْضِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ مَا فِيهِ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْذَارُهُمْ بِالْعَذَابِ وَإِعْلَامُهُمْ بِالْبَعْثِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الْأَعْرَاف: 203] . وَالْمَعْنَى تَحْذِيرُهُ مِنَ التَّأَثُّرِ بِعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَرْكِهِ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ، فَالْخِطَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمُرَادٌ مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ عِلْمُ السَّامِعِينَ بِمَضْمُونِهِ. وَضائِقٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ ضَاقَ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ (ضَيِّقٌ) هُنَا إِلَى ضائِقٌ لِمُرَاعَاةِ النَّظِيرِ مَعَ قَوْلِهِ: (تَارِكٌ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَصَاحَةً. وَلِأَنَّ ضائِقٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَمَكُّنِ وَصْفِ الضِّيقِ مِنْ صَدْرِهِ بِخِلَافِ ضَيِّقٍ، إِذْ هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، إِيمَاء إِلَى أَنَّ أَقْصَى مَا يُتَوَهَّمُ تَوَقُّعُهُ فِي جَانِبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ ضِيقٌ قَلِيلٌ يَعْرِضُ لَهُ. وَالضِّيقُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْغَمِّ وَالْأَسَفِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ وَهُوَ الِانْشِرَاحُ فِي الْفَرَحِ وَالْمَسَرَّةِ.

وضائِقٌ عَطْفٌ عَلَى تارِكٌ فَهُوَ وَفَاعِلُهُ جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنْ (لَعَلَّكَ) فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا. وأَنْ يَقُولُوا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْبِيَاء: 3] ، فَيَكُونُ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ لِاقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ بِأَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، وَيَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود: 7] ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: مَا يَحْبِسُ الْعَذَابَ عَنَّا، بِوَاسِطَةِ كَوْنِ ضائِقٌ دَاخِلًا فِي تَفْرِيعِ التَّحْذِيرِ عَلَى قَوْلَيْهِمُ السَّابِقَيْنِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالضَّمِيرِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُعْقِبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَكُونَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الذِّهْنِ، وَلِقَصْدِ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى فَاعِلِهِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ لِأَنَّهُ سَبَبُ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْ فَاعِلِهِ فَجِيءَ بِالضَّمِيرِ الْمُفَسِّرِ فِيمَا بَعْدُ لِمَا فِي لَفْظِ التَّفْسِيرِ مِنَ الطُّولِ، فَيَحْصُلُ بِذِكْرِهِ بُعْدٌ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَمَرْفُوعِهِ، فَلِذَلِكَ اخْتُصِرَ فِي ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ الِاهْتِمَامُ وَقَوِيَ الِاهْتِمَامُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهِ فِي الذِّهْنِ. وَمُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا ضَمِيرَ بِهِ عَائِدًا إِلَى بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ. عَلَى أَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِ سَبَبٌ لِضِيقِ صَدْرِهِ، أَيْ لَا يَضِيقُ لَهُ صَدْرُكَ، وَجَعَلُوا أَنْ يَقُولُوا مَجْرُورًا بِلَامِ التَّعْلِيلِ مُقَدَّرَةً. وَعَلَيْهِ فَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ. وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ضائِقٌ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ بِالْمَتِينِ. ولَوْلا: لِلتَّحْضِيضِ، والكنز: المَال الْكُنُوز أَيِ الْمَخْبُوءُ. وَإِنْزَالُهُ: إِتْيَانُهُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ فَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مُرَادٌ بِهِ تَجَدُّدُ هَذَا الْقَوْلِ وَتُكَرُّرُهُ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُمْ فِي

الْمَاضِي، وَبِقَرِينَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي ضِيقِ صَدْرِهِ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَمُرَادُهُمْ بِ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ أَنْ يَجِيءَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ شَاهِدًا بِرِسَالَتِهِ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْبَأُ بِإِعْرَاضِهِمْ وَيَتَنَازَلُ لِإِجَابَةِ مُقْتَرِحِ عِنَادِهِمْ، وَمِنْ قُصُورِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَدَى التَّأْيِيدِ الرَّبَّانِيِّ. وَجُمْلَةُ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِهِ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ مِنْ مَقَالَتِهِمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا تَتْرُكْ إِبْلَاغَهُمْ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ مِنْ مَقَالِهِمْ لِأَنَّكَ نَذِيرٌ لَا وَكِيلٌ عَلَى تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ، حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَى يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ تَرْكُ دَعْوَتِهِمْ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنْتَ نَذِيرٌ لَا مُوَكَّلٌ بِإِيقَاعِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ بَلْ هُوَ لِلَّهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِرَدِّ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ يَأْتِي بِمَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْخَوَارِقِ فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِمْ بِهِ جَعَلُوا ذَلِكَ سَنَدًا لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ رَدًّا حَاصِلًا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْخِطَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ إِذْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ نَحْوِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا الْإِتْيَانَ بِمُعْجِزَاتٍ عَلَى وِفْقِ هَوَاهُمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ إِلَى هُنَا، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْقَصْرُ مِنْ إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَلَى إَلْجَائِهِمْ لِلْإِيمَانِ. وَمِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّ اللَّهَ وَكِيلٌ عَلَى قُلُوبِ الْمُكَذِّبِينَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْكَلَامُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ لِيَكُونَ تَذْيِيلًا وَإِتْيَانًا لِلْغَرَضِ بِمَا هُوَ كَالدَّلِيلِ،

[سورة هود (11) : آية 13]

وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَكْرِ أُولَئِكَ، وَأَنَّهُ وَكِيلٌ عَلَى جَزَائِهِمْ وَأَنَّ اللَّهُ عَالِمٌ بِبَذْلِ النَّبِيءِ جُهْدَهُ فِي التَّبْلِيغ. [13] [سُورَة هود (11) : آيَة 13] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) أَمْ هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلِ) الَّتِي لِلْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، إِلَّا أَنَّ (أَمْ) مُخْتَصَّةٌ بِالِاسْتِفْهَامِ فَتُقَدَّرُ بَعْدَهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَيَقُولُونَ افتراه. والإضراب انتقالي فِي قُوَّةِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا كَلَامٌ مُفْتَرًى، وَقَرَّعَهُمْ بِالْحُجَّةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِصَاحِبِهِ، فَهُوَ الْكَذِبُ عَنْ عَمْدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَجُمْلَةُ قُلْ فَأْتُوا جَوَابٌ لِكَلَامِهِمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَلَى مَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حِكَايَةُ الْمُحَاوِرَةِ بِصِيغَةِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ أَوْ كَانَتْ أَمْرًا بِالْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] . وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (افْتَرَاهُ) عَائِدٌ إِلَى النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: 12] . وَضَمِيرُ الْغَائِبِ الْبَارِزِ الْمَنْصُوبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: 12] . وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: جَلْبُهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِرْفَادِ مِنَ الْغَيْرِ أَمْ بِالِاخْتِرَاعِ مِنَ الْجَالِبِ وَهَذَا تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّحَدِّي.

وَتَحَدَّاهُمْ هُنَا بِأَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ خِلَافَ مَا تَحَدَّاهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ يُونُسَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ التَّحَدِّي أَوَّلَ الْأَمْرِ بِأَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ نُسِخَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ يُونُسَ. فَتَخَطَّى أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنْ قَالُوا إِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ، وَهُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا بِسُورَةٍ ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ هُنَا بِعَشْرِ سُوَرٍ لِأَنَّهُمْ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ هُنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِسُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ فَلَمَّا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي صِفَتِهَا أَكْثَرَ عَلَيْهِمْ عَدَدَهَا. وَمَا وَقَعَ مِنَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مُمَاثَلَتُهَا لِسُوَرِ الْقُرْآنِ فِي كَمَالِ الْمَعَانِي، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَمَعْنَى مُفْتَرَياتٍ أَنَّهَا مُفْتَرَيَاتُ الْمَعَانِي كَمَا تَزْعُمُونَ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ بِمِثْلِ قَصَصِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَاذِيبِهِمْ. وَهَذَا مِنْ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، فَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ مِثْلِهِ هِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتِهِ لَا فِي سَدَادِ مَعَانِيهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذَا دَلِيلُ عَلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ وَفَصَاحَتَهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عُلُوِّ مَعَانِيهِ وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِ بَعْضًا. وَهُوَ كَذَلِكَ. وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ لِعَمَلٍ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ مَجَازًا وَلَوْ بِدُونِ نِدَاءٍ. وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ وَادْعُوا لِذَلِكَ. وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ إِنْ شِئْتُمْ حِينَ تَكُونُونَ قَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ فَلَكُمْ أَنْ تَدْعُوا مَنْ تَتَوَسَّمُونَ فِيهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ تَرْجُونَ أَنْ يَنْفَحَكُمْ بِتَأْيِيدِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ وَبِتَيْسِيرِ النَّاسِ لِيُعَاوِنُوكُمْ كَقَوْلِهِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: 23] . ومِنْ دُونِ اللَّهِ وَصْفٌ لِ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَنُكْتَةُ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا عَمَّمَ لَهُمْ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِمَنِ

[سورة هود (11) : آية 14]

اسْتَطَاعُوا أَكَّدَ أَنَّهُمْ دُونَ اللَّهِ فَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِكُلِّ مَنْ عَدَا اللَّهَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِكُمُ افْتَراهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ. وُوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِافْتِرَاءُ يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا لَكَمَ لَا تَفْتَرُونَ أَنْتُمْ مِثْلَهُ فتنهض حجتكم. [14] [سُورَة هود (11) : آيَة 14] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) تَفْرِيعٌ عَلَى وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ [هود: 13] أَيْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لكم من تَدْعُو لَهُمْ فَأَنْتُمْ أَعْجَزُ مِنْهُمْ لِأَنَّكُمْ مَا تَدْعُونَهُمْ إِلَّا حِينَ تَشْعُرُونَ بِعَجْزِكُمْ دُونَ مُعَاوِنٍ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ عَجْزُ هَؤُلَاءِ مُوقِعًا فِي يَأْسِ الدَّاعِينَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ. وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُعَاوَنَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَعَانِ فِيهِ، وَهِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْمُعَاوَنَةَ تَنْشَأُ عَنِ النِّدَاءِ إِلَى الْإِعَانَةِ غَالِبًا فَإِذَا انْتُدِبَ الْمُسْتَعَانُ بِهِ إِلَى الْإِعَانَةِ أَجَابَ النِّدَاءَ بِحُضُورِهِ فَسُمِّيَتِ اسْتِجَابَةً. وَالْعِلْمُ: الِاعْتِقَادُ الْيَقِينُ، أَيْ فَأَيْقِنُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَا أُنْزِلَ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ مُلَابِسًا لِعِلْمِ اللَّهِ. أَيْ لِأَثَرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ جَعْلُهُ بِهَذَا النَّظْمِ لِلْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَثَرٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ. وَقَدْ أَفَادَتْ (أَنَّمَا) الْحَصْرَ، أَيْ حَصْرَ أَحْوَالِ الْقُرْآنِ فِي حَالَةِ إِنْزَالِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّما أُنْزِلَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَنْصَرُوهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ بِطَلَبِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَصْنَامِ عَنْ إِعَانَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ.

[سورة هود (11) : الآيات 15 إلى 16]

وَالْفَاءُ فِي فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى فَاعْلَمُوا. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمِ تَأْخِيرِهِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: 91] أَيْ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَفِعْلِ الْمَيْسِرِ. وَالْمَعْنَى: فَهَلْ تُسلِمُونَ بَعْدَ تَحَقُّقِكُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى دَوَامِ الْفِعْلِ وَثَبَاتِهِ. وَلَمْ يَقُلْ فَهَلْ تُسْلِمُونَ لِأَنَّ حَالَةَ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ تُكْسِبُ الْيَقِينَ بِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ فَتَقْتَضِي تَمَكُّنَهُ مِنَ النُّفُوسِ وَذَلِكَ التَّمَكُّنُ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَة الاسمية. [15، 16] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 15 إِلَى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (16) اسْتِئْنَافٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ نَاشِئٌ عَنْ جُمْلَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 14] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ تَفَرَّعَتْ عَلَى نُهُوضِ الْحُجَّةِ فَإِنْ كَانُوا طَالِبِينَ الْحَقَّ وَالْفَوْزَ فَقَدِ اسْتَتَبَّ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْإِسْلَامِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا يَطْلُبُونَ الْكِبْرِيَاءَ وَالسِّيَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَيَأْنَفُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِغَيْرِهِمْ فَهُمْ مُرِيدُونَ الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ حُذِّرُوا مِنْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِالْمَتَاعِ الْعَاجِلِ وَأُعْلِمُوا بِأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، أَعْنِي جُمْلَةَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إلَخْ ... وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ تَمْهِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى بِوَارِقِ الْغُرُورِ وَمَزَالِقِ الذُّهُولِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ حَالَهُمْ كَانَ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِأَسْبَابِ مُكَابَرَتِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِظَاهِرِ حُسْنِ

حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَحْسَبُوا أَيْضًا أَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ فَأُوقِظُوا مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 196، 197] . وَفِعْلُ الشَّرْطِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ يُفِيدُ اقْتِصَارَ الْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إِذْ حُصِرَ أَمْرُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَهُوَ مَعْنَى الْخُلُودِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: 18، 19] . فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ لَا يَطْلُبُ إِلَّا مَنَافِعَ الْحَيَاةِ وَزِينَتَهَا. وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ إِرَادَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَمَا آمَنَ إِلَّا لِذَلِكَ، فَمَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا فِي حَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا النبيء قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الْأَحْزَاب: 28، 29] فَذَلِكَ فِي مَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي الْحَيَاةِ وَزِينَتِهَا وَهُوَ تَرَفُ الْعَيْشِ وَزِينَةُ اللِّبَاسِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيه إِعْرَاضُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ التَّرَفِ وَتِلْكَ الزِّينَةِ. وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَقْوَامُ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ. وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، أَيْ نَجْعَلُ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَافِيَةً وَمَعْنَى وَفَائِهَا أَنَّهَا غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ تَكَالِيفِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ نُقْصَانٍ فِي تَمَتُّعِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ

بِأَعْمَالِهِمْ وَهُوَ النُّقْصَانُ النَّاشِئُ عَنْ مُعَاكَسَةِ هَوَى النَّفْسِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ لذاتهم الَّتِي هيّأوها لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ تَتَهَيَّأُ لَهُمْ أَسْبَابُ التَّمَتُّعِ بِالدُّنْيَا عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ التَّهَيُّؤِ فَيَتْرُكُونَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ لِمُرَاعَاتِهِمْ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَذَّرَهُمْ مِنْ تَبِعَاتِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْمُرَاعَاةِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ نُوَفِّ بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى نُوَصِّلُ أَوْ نُبْلِغُ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْنِ. فَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ وَزِينَتَهَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مُرَادَهُ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْآيَةِ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ، فَالتَّوْفِيَةُ: عَدَمُ النَّقْصِ. وَعُلِّقَتْ بِالْأَعْمَالِ وَهِيَ الْمَسَاعِي. وَإِضَافَةُ الْأَعْمَالِ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ تُفِيدُ أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الَّتِي عَنَوْا بِهَا وَأَعَدُّوهَا لِصَالِحِهِمْ أَيْ نَتْرُكُهَا لَهُمْ كَمَا أَرَادُوا لَا نُدْخِلُ عَلَيْهِمْ نَقْصًا فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ التَّوْفِيَةُ مُتَفَاوِتَةٌ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرِكُ فِيهَا بَيْنَهُمْ هُوَ خَلُوُّهُمْ مِنْ كُلَفِ الْإِيمَانِ وَمَصَاعِبِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَى عِصْيَانِ الْهَوَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ نَتْرُكُهُمْ وَشَأْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا لَا يُجَازَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِجَزَاءِ سَلْبِ بَعْضِ النِّعَمِ عَنْهُمْ بَلْ يُتْرَكُونَ وَشَأْنَهُمْ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْهَالًا. فَهَذَا كَالتَّكْمِلَةِ لِمَعْنَى جُمْلَةِ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، إِذِ الْبَخْسُ هُوَ الْحَطُّ مِنَ الشَّيْءِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ظُلْمًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَا رَآهُ الْأَشْعَرِيُّ أَنْ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ. وَضَمِيرُ فِيها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَياةَ وَأَنْ يَعُودَ إِلَى (الْأَعْمَالِ) . وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَلَكِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَرْبُطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَأُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ مَا يُذْكَرُ

[سورة هود (11) : آية 17]

بَعْدَ اخْتِيَارِهِ مِنَ الْحُكْمِ مِنْ أَجْلِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وإِلَّا النَّارُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْطَاهُ النَّاسُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ عِنْدَنَا. وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ أَيِ الِانْعِدَامُ. وَالْمُرَادُ بِ مَا صَنَعُوا مَا عَمِلُوا، وَمِنَ الْإِحْسَان من الدُّنْيَا كَإِطْعَامِ الْعُفَاةِ وَنَحْوِهِ مِنْ مُوَاسَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ هُنَا بِ صَنَعُوا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يُسَمَّى صَنِيعَةً. وَضَمِيرُ فِيها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الدُّنْيا الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ صَنَعُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْآخِرَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ (بَطَلَ) ، أَيِ انْعَدَمَ أَثَرُهُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَظَّهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ لَا تَعْدُو ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ فَارِسَ وَالرُّومَ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمُتْعَةِ «أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» . وَالْبَاطِلُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَذْهَبُ ضَيَاعًا وَخُسْرَانًا. [17] [سُورَة هود (11) : آيَة 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ. مَوْعِدُهُ أُغْلِقَتْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَثْرَةِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهَا مِنْ جِهَةِ مَعَادِ الضَّمَائِرِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ جِهَةِ إِجْمَالِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَمَوْقِعِ الِاسْتِفْهَامِ،

وَمَوْقِعِ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَمْ يُلَخِّصْهُ أَحَدٌ مِثْلُهُ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي حِكَايَةِ بَعْضِهَا. وَالِاخْتِلَافُ فِي مَا صدق فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَفِي الْمُرَادِ مِنْ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَفِي الْمَعْنِيِّ بِ يَتْلُوهُ. وَفِي الْمُرَادِ مِنْ شاهِدٌ. وَفِي مَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُوهُ. وَفِي مَعْنَى (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مِنْهُ، وَفِي مَعَادِ الضَّمِير الْمَجْرُورِ بِ (مِنْ) . وَفِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابُ مُوسى. وَفِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَفِي مَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ إلَخْ فَهَذِهِ مَفَاتِيحُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالَّذِي تَخَلَّصَ لِي مِنْ ذَلِكَ وَمِمَّا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا هُوَ أَوْضَحُ وَجْهًا وَأَقْرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ شَبَهًا: أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 13، 14] وَأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِتَقْرِيرِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَابْتِعَادِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ تَفْرِيعُ الضِّدِ عَلَى ضِدِّهِ فِي إِثْبَاتِ ضِدِّ حُكْمِهِ لَهُ، أَيْ إِنْ كَانَ حَالُ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ كَمَا وُصِفَ فَثَمَّ قَوْمٌ هُمْ بِعَكْسِ حَالِهِمْ قَدْ نَفَعَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالشَّوَاهِدُ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 14] ، أَيْ كَمَا أَسْلَمَ مَنْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْكُمْ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، أَيْ إِنْ كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ أَفَيُؤْمِنُ بِهِ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ نَظْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19] أَيْ أَنْتَ تُنْقِذُ مِنَ النَّارِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب. وفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ لَا يُرَادُ بِهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ. فَكَلِمَةُ (مَنْ) هُنَا تَكُونُ كَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ صَادِقَةً عَلَى مَنْ تَحَقَّقَتْ لَهُ الصِّلَةُ، أَعْنِي أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا تَسْتَقِيمُ الْإِشَارَةُ. وَإِفْرَادُ ضَمَائِرِ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ وَذَلِكَ أَحَدُ اسْتِعْمَالَيْنِ. وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ آخَرُ. وَالتَّقْدِيرُ:

أَفَمَنْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [14] . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا النَّصَارَى فَقَطْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي الْعَرَبِ وَيَعْرِفُ أَهْلُ مَكَّةَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا أَحَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ مِثْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِمَّنْ آمَنُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَدَلُّوا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ أَفْهَامِهِمْ وَلِوُضُوحِ دَلَالَةِ الْبَيِّنَةِ، فَأَصْحَابُهَا مُؤْمِنُونَ بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ حُجَّةُ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَكَوْنُ النَّصَارَى عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا رَسُولًا صَادِقًا. وَكَوْنُ الْيَهُودِ عَلَى بَيِّنَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِانْتِظَارِهِمْ رَسُولًا مُبَشَّرًا بِهِ فِي كِتَابِهِمْ وَإِنْ كَانُوا فِي كُفْرِهِمْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ. فَالْمُرَادُ عَلَى بَيِّنَةٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 14] ، وَيُعَيِّنُهَا اللَّاحِقُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ابْتِدَاءً مَجَازِيًّا. وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ رَبِّهِ أَنَّهَا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَوِصَايَتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَاف: 157] . وَذَكَرَ كِتَابَ مُوسَى وَأَنَّهُ مِنْ قَبْلِهِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَيُقَوِّي أَنَّ المُرَاد ب فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّصَارَى. وَفِعْلُ (يَتْلُوهُ) مُضَارِعُ التَّلْوِ وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَلَيْسَ مِنَ التِّلَاوَةِ، أَيْ يَتْبَعُهُ. وَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّأْيِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِالْحَقِّ يَحْضُرُ وَرَاءَ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُوهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.

وَالْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْهُ شَاهِدٌ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ لِإِعْجَازِهِ الْمُعَانِدِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ آتٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى رَبِّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شاهِدٌ أَيْ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ كَائِنٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ إِعْجَازُهُ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. ومِنْ قَبْلِهِ حَالٌ مِنْ كِتابُ مُوسى. وكِتابُ مُوسى عَطْفٌ عَلَى شاهِدٌ مِنْهُ وَالْمُرَادُ تَلْوُهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقِ الِارْتِقَاءِ فَإِنَّ النَّصَارَى يَهْتَدُونَ بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى مَا فِي الْإِنْجِيلِ بِالتَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا أَصْلُهُ وَفِيهَا بَيَانُهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا عُطِفَ كِتابُ مُوسى عَلَى شاهِدٌ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ يَتْلُوهُ قُيِّدَ كِتَابُ مُوسَى بِأَنَّهُ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ. وَيَتْلُوهُ كِتَابُ مُوسَى حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّاهِدِ أَيْ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي النُّزُولِ. وَإِذَا كَانَ المُرَاد ب فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّصَارَى خَاصَّةً كَانَ لِذِكْرِ كِتابُ مُوسى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ كِتَابَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ كَامِلَةٍ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وإِماماً وَرَحْمَةً حَالَانِ ثَنَاءٌ عَلَى التَّوْرَاةِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ وَرَحْمَةٌ لِلنَّاسِ يَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهَا فَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِجَزَاءِ الِاسْتِقَامَةِ إِذِ الْإِمَامُ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُعْمَلُ عَلَى مِثَالِهِ. وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسُوا مِثْلَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: 89] . وَإِقْحَامُ أُولئِكَ هُنَا يُشْبِهُ إِقْحَامَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ مُسَبَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُعَضَّدَةٍ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ.

وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبر فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَضَمِيرُ (بِهِ) عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ مِنْ تَقَدُّمِ ضَمِيرِهِ فِي قَوْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [هود: 13] . وَبِهِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ مَعَ قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 13، 14] أَيْ يُؤْمِنُونَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يُؤْمِنُونَ) إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ وَإِرَادَةِ أَوْصَافِهَا مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ وَارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 14] فَإِنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُؤَيَّدَةٍ بِشَاهِدٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَعْضُودَةٍ بِكِتَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ قَبْلِ بَيِّنَتِهِمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: 10] فَاسْتَقَامَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ تَمَامُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَنْتَ لَا يَعُوزُكَ تَرْكِيبُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأَوَّلَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ مِمَّا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا فَبَصَرُكَ فِيهَا حَدِيدٌ، وَبِيَدِكَ لِفَتْحِ مَغَالِقِهَا مَقَالِيدٌ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّضَ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 14] ، وَأَرَاهُمُ الْقُدْوَةَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، عَادَ فَحَذَّرَ مِنَ الْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ بَيِّنَةِ رَبِّهِ وَشَوَاهِدِ رُسُلِهِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ. وَالْأَحْزَابُ: هُمْ جَمَاعَاتُ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَالْمُشْرِكُونَ حِزْبٌ، وَالْيَهُودُ حِزْبٌ، وَالنَّصَارَى حِزْبٌ، قَالَ تَعَالَى:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ [ص: 12، 13] . وَالْبَاءُ فِي يَكْفُرْ بِهِ كَالْبَاءِ فِي يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَالْمَوْعِدُ: ظَرْفٌ لِلْوَعْدِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَصِيرِ الصَّائِرِ إِلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ لِعَمَلٍ أَنْ يُعَيَّنَ بِهِ بِوَعْدٍ سَابِقٍ. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَعْرِيضِيَّةً بِالْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَنَقْصَهُ، فَمِنْ لَوَازِمِهِ ذَمُّ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ مَظِنَّةٍ لِلتَّلَبُّسِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيُطْلَبُ مِنْهُ تَرْكُهُ وَيَكُونُ النَّهْيُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْكَفُّ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ [23] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْذِيرَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الامتراء فِي الْوَحْي لَمَا كَانَ لِتَفْرِيعِ ذَلِكَ عَلَى إِيتَاءِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْكِتَابَ مُلَازَمَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ التَّعْرِيضَ بِالَّذِينِ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ قَدَّمَ إِلَيْهِمُ احْتِجَاجَ سَبْقِ الْوَحْيِ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ نَظَرًا لِحَالِ الَّذِينَ اسْتُعْمِلَ النَّهْيُ كِنَايَةً عَنْ ذَمِّهِمْ فَإِنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِمَزِيَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ.

وَضَمِيرَا الْغَيْبَةِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضمير افْتَراهُ [هود: 13] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ مِنْ أَنه لوضوح حَقِيقَته لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْتَرَى فِي صِدْقِهِ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِاعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ مِنَ الِاهْتِمَامِ. وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَهِيَ مُرَادِفَةُ الِامْتِرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ. وَاخْتِيرَ النَّهْيُ عَلَى الْمِرْيَةِ دُونَ النَّهْيِ عَنِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِامْتِرَاءِ فِيهِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْجَزْمِ بِالْكَذِبِ بِالْأَوْلَى، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْيَقِينِ بِكَذِبِ الْقُرْآنِ أَشَدُّ ذَمًّا وَشَنَاعَةً. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ فِي شكّ ناشىء عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الشَّكُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَكًّا فِي ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ لِأَن حَقِيقَة القرآنية أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالشَّكُّ النَّاشِئُ عَلَى نُزُولِهِ شَكٌّ فِي مَجْمُوعِ حَقِيقَتِهِ. وَهَذَا مِثْلُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَقْدِير مُضَاف يؤول بِهِ إِلَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُرَادِ أَوْصَافُهَا. وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ جِنْسِ الْحَقِّ عَلَى الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْحَقِّ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ حَقٌّ غَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِكَ: حَاتِمٌ الْجَوَادُ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ناشيء عَلَى حُكْمِ الْحَصْرِ، فَإِنَّ الْحَصْرَ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُرَادَ انْتِفَاءُ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَا طُلِبَ الْإِيمَانُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، أَيْ أَنَّ فِي طِبَاعِ أَكْثَرِ النَّاسِ تَغْلِيبُ الْهَوَى عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ لم يُؤمنُوا.

[سورة هود (11) : الآيات 18 إلى 19]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 18 إِلَى 19] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ مِنْ إِبْطَالِ زَعْمِهِمْ أَنَّ النَّبِيءَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- افْتَرَى الْقُرْآنَ وَنَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْجِيزُهُمْ عَنْ بُرْهَانٍ لِمَا زَعَمُوهُ، كَرَّ عَلَيْهِمْ أَنْ قَدْ وَضَّحَ أَنَّهُمُ الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ عِدَّةَ أَكَاذِيبَ، مِنْهَا نَفْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِهِ. فَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ النَّارَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ إِذْ نَسَبُوا الْقُرْآنَ إِلَى غَيْرِ مَنْ أَنْزَلَهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَاهُ، فَكَانُوا بَالِغِينَ غَايَةَ الظُّلْمِ حَتَّى لَقَدْ يُسْأَلُ عَنْ وُجُودِ فَرِيقٍ أَظْلَمَ مِنْهُمْ سُؤال إِنْكَار يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدٌ أَظْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [114] ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [37] فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ. وَافْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ هُوَ مَا وَضَعُوهُ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: 28] . وَقَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [الْمَائِدَة: 103] أَيْ إِذْ يَقُولُونَ: أَمَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ اسْتِئْنَافٌ. وَتَصْدِيرُهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ بِسَبَبِ مَا قَبْلَ اسْمِ

الْإِشَارَةِ مِنَ الْوَصْفِ، وَهَذَا أَشَدُّ الظُّلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَلِمَا يُؤْذِنُ بِهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى تَعْلِيلِ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ عُلِمَ أَنَّ عَرْضَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ عَرْضُ زَجْرٍ وَانْتِقَامٍ. وَالْعَرْضُ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) أَفَادَ معنى الْإِحْضَار بإراءة. وَاخْتِيَارُ وَصْفِ السَّبَبِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَطْفُ فِعْلِ (يَقُولُ) عَلَى فِعْلِ (يُعْرَضُونَ) الَّذِي هُوَ خَبَرٌ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُزْءِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ هُنَا ابْتِدَاءُ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مَقْصُودٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْمَعْنَى أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ لِلْعِقَابِ وَيُعْلَنُ الْأَشْهَادُ بِأَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ فَضْحًا لَهُمْ. وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَاهِدٍ بِمَعْنَى حَاضِرٍ، أَوْ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الْمُخْبِرِ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ. وَهَؤُلَاءِ الْأَشْهَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَاسْتِحْضَارُهُمْ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ حَتَّى يَشْتَهِرَ مَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْ حَالِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ شُهْرَتُهُمْ بِالسُّوءِ وَافْتِضَاحُهُمْ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُمْ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي فِي الصِّلَةِ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ وَهُوَ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْهِيرُهُمْ دُونَ الشَّهَادَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعْلَانِ هَذِهِ الصِّفَةِ التَّشْهِيرُ وَالْخِزْيُ لَا إِثْبَاتُ كَذِبِهِمْ لِأَنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْنَدْ الْعَرْضُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ وَأُسْنِدَ إِلَى ذَوَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ. وَجُمْلَةُ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْلِ الْأَشْهَادِ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ يُنَاسِبُ مَقَامَ التَّشْهِيرِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ خِزْيًا وَتَحْقِيرًا

[سورة هود (11) : آية 20]

لَهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْأَشْهَادِ وُقُوعُ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] مُصَرَّحًا فِيهِ بِذَلِكَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [45] . وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: (يَبْغُونَهَا) عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ الله لأنّ السَّبِيل يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُؤَنَّثًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْغُونَ أَنْ تَصِيرَ سَبِيلُ اللَّهِ عَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمَةٌ وَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يُصَيِّرُوهَا عَوْجَاءَ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتْبَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُمْ وَيَغْضَبُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ. وَهُنَا انْتَهَى كَلَامُ الْأَشْهَادِ لِأَنَّ نَظِيرَهُ الَّذِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] فِي قَوْلِهِ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ انْتَهَى بِمَا يُمَاثِلُ آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتُصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ (هُمْ) فِي قَوْلِهِ: هُمْ كافِرُونَ وَهُوَ تَوْكِيدٌ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَسْجِيلِ إِنْكَارِهِمْ الْبَعْثَ وَتَقْرِيرِهِ إِشْعَارًا بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ فَحُكِيَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ لِمَا قِيلَ فِي شَأْنِ قَوْمٍ أُدْخِلُوا النَّارَ وَظَهَرَ عِقَابُهُمْ فَلَا غَرَضَ لِحِكَايَةِ مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَكِلَا الْمَقَالَتَيْنِ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا يَحْكِي الْبَلِيغُ فِيمَا يَحْكِيهِ مَا لَهُ مُنَاسِبَةٌ لِمَقَامِ الْحِكَايَةِ. [20] [سُورَة هود (11) : آيَة 20] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ الِاقْتِصَارِ فِي تَهْدِيدِهِمْ عَلَى وَصْفِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: هَلْ هُمْ سَالِمُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَقْدِرَةِ اللَّهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعْجِيلَ عَذَابِهِمْ.

وَإِعَادَةُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] لِتَقْرِيرِ فَائِدَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ السَّابِقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِيهِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَى شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِمْهَالَهُمْ. وَالْمُعْجِزُ هُنَا الَّذِي أَفْلَتَ مِمَّنْ يَرُومُ إِضْرَارَهُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] . وَالْأَرْضُ: الدُّنْيَا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ لَوْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَوْضِعًا مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَعْصِمُونَ بِهِ. فَهَذَا نفي للملاجيء وَالْمَعَاقِلِ الَّتِي يَسْتَعْصِمُ فِيهَا الْهَارِبُ. وَعِنْدِي أَنَّ مُقَارَنَةَ (فِي الْأَرْضِ) بِ (مُعْجِزِينَ) جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَحْقَاف: 32] وَلَعَلَّهُ مِمَّا جَرَى كَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُ إِيَاسِ بن قُبَيْصَةَ الطَّائِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَنْصَارُ، أَيْ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَجَمَعَ لَهُمْ نَفْيَ سَبَبَيْ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَادِرِ وَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْقَادِرُ أَوْ مُعَارَضَةُ قَادِرٍ آخَرَ إِيَّاهُ يَمْنَعُهُ مِنْ تَسْلِيطِ عِقَابِهِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَوْلِيَاءَ) لِمَا فِي الْوَلِيِّ هُنَا مِنْ مَعَانِي الْحَائِلِ وَالْمُبَاعِدِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: 119] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تَوَلَّوْهَا، أَيْ أَخْلَصُوا لَهَا الْمَحَبَّةَ وَالْعِبَادَةَ.

وَمَعْنَى نَفْيِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى نَفْيُ أَثَرِ هَذَا الْوَصْفِ، أَيْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ أَصْنَامُهُمْ وَآلِهَتُهُمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَ (دُونِ) اسْمٌ غير ظرف، و (من) الْجَارَّةُ لِ (دُونِ) زَائِدَةٌ تُزَادُ فِي الظُّرُوفِ غير المتصرفة، و (من) الْجَارَّةُ لِ (أَوْلِيَاءَ) زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ الْمَنْفِيِّ، أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْأَوْلِيَاءِ. وَالْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الْمُشْعِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا عَنْ عَجْزٍ. يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ. خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ خَبرا أوّلا وَجُمْلَةُ يُضاعَفُ خَبَرًا ثَانِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ حَالًا وَجُمْلَةُ يُضاعَفُ خَبَرًا أَوَّلَ. مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ حَالًا مِنْهُ فَتَكُونُ اسْتِطَاعَةُ السَّمْعِ الْمَنْفِيَّةُ عَنْهُمْ مُسْتَعَارَةٌ لِكَرَاهِيَتِهِمْ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَأَقْوَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نُفِيَتْ الْإِطَاقَةُ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ أَرَادَ بِنَفْيِ إِطَاقَةِ الْوَدَاعَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحْزَنُ لِذَلِكَ الْحُزْنِ مِنَ الْوَدَاعِ فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ غَيْرَ الْمُطَاقِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالِاسْتِطَاعَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ

يَدْعُوهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَيُعْرِضُونَ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْمَعُوهُ. قَالَ تَعَالَى: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها [الجاثية: 8] وَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] لِأَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا وَوَعَوْا لَاهْتَدَوْا لَأَنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَدِلَّةِ وَنَتَائِجِهَا فَسَمَاعُهُ كَافٍ فِي حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ. وَالْإِبْصَارُ الْمَنْفَيُّ هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ مَا كَانُوا يُوَجِّهُونَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى الْمَصْنُوعَاتِ تَوْجِيهَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ بَلْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ الْغَافِلِ عَمَّا فِيهَا مِنَ الدَّقَائِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا: وَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُبْصِرُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْصِرُونَهَا وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْإِبْصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي حُصُولِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ عَمَلُ الْفِكْرِ بِخِلَافِ السَّمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا لِ (أَوْلِيَاءَ) ، وَسَوَّغَ كَوْنَهَا حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا آلِهَةً لَهُمْ فِي حَالِ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ السَّمْعَ وَلَا الْإِبْصَارَ. وَإِعَادَةُ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْأَصْنَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اعْتَقَدُوهَا تَعْقِلُ، فَفِي هَذَا الْإِضْمَارِ مَعَ نَفْيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَنْهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. وَالْإِتْيَانُ بِأَفْعَالِ الْكَوْنِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ إِلَى قَوْلِهِ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لِإِفَادَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنْ تَمَكُّنِ الْحَدَثِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ آكُدُ مِنْ: لَا يُعْجِزُونَ وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهُ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ صِيَغِ أَفْعَالِ الْكَوْنِ إِذْ جَاءَ أَوَّلُهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ بِحَرْفِ (لَمْ) لَهُ مَعْنَى الْمُضِيِّ فَلَيْسَ الْمُخَالَفَةُ مِنْهَا إلّا تفننا.

[سورة هود (11) : الآيات 21 إلى 22]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 21 إِلَى 22] أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) اسْتِئْنَافٌ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا تَأْكِيدٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] . وَالْمَوْصُولُ فِي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ الْمَعْرُوفُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ، أَيْ أَنْ بَلَغَكُمْ أَنَّ قَوْمًا خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمُ الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَخَسَارَةُ أَنْفُسِهِمْ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الِاهْتِدَاءِ، فَلَمَّا ضَلُّوا فَقَدْ خَسِرُوهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] . وَالضَّلَالُ: خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ. وَمَا كانُوا يَفْتَرُونَ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَحْقَاف: 28] . وَفِي إِسْنَادِ الضَّلَالِ إِلَى الْأَصْنَامِ تَهَكُّمٌ عَلَى أَصْحَابِهَا. شُبِّهَتْ أَصْنَامُهُمْ بِمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا لِيَلْحَقَ بِمَنِ اسْتَنْجَدَ بِهِ فَضَلَّ فِي طَرِيقِهِ. وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ فَذْلَكَةٌ وَنَتِيجَةٌ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] لِأَنَّ مَا جُمِعَ لَهُمْ مِنَ الزَّجِّ لِلْعُقُوبَةِ وَمِنِ افْتِضَاحِ أَمْرِهِمْ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ النُّذُرِ وَعَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّهُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي الْآخِرَة. و (لَا جَرَمَ) كَلِمَةُ جَزْمٍ وَيَقِينٍ جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ (جَرَمَ) مُشْتَقٌّ مِمَّا تُنُوسِيَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَرْكِيبِهَا، وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ أَنْ

[سورة هود (11) : آية 23]

تَكُونَ (لَا) مِنْ أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَ (جَرَمَ) اسْمٌ بِمَعْنَى مَحَالَةَ أَيْ لَا مَحَالَةَ أَوْ بِمَعْنَى بُدَّ أَيْ لَا بُدَّ. ثُمَّ يَجِيءُ بَعْدَهَا أَنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا فَتَكُونُ (أَنَّ) مَعْمُولَةً لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا. وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَالتَّوْثِيقِ وَتُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْقَسَمِ فَيَجِيءُ بَعْدَهَا فِي مَا يَصْلُحُ لِجَوَابِ قَسَمٍ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ. قَالَهُ عَمْرو بن معديكرب لِأَبِي بَكْرٍ. وَعَبَّرَ عَمَّا لَحِقَهُمْ مِنَ الضُّرِّ بِالْخَسَارَةِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّهُ ضُرٌّ أَصَابَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَرْجُونَ الْمَنْفَعَةَ فَهُمْ مِثْلُ التُّجَّارِ الَّذِينَ أَصَابَتْهُمُ الْخَسَارَةُ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الرِّبْحَ. وَإِنَّمَا كَانُوا أَخْسَرِينَ، أَيْ شَدِيدِي الْخَسَارَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ مَا افْتَرَقَ بَيْنَ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ. وَلِأَنَّهُمْ شَقَوْا مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَحْسَبُونَهُ سَعَادَةً قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْف: 103، 104] فَكَانُوا أَخْسَرِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَضَمِيرُ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ يُفِيدُ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْحَدَّ الْأَقْصَى فِي الْخَسَارَةِ، فَكَأَنَّهُمُ انفردوا بالأخسرية. [23] [سُورَة هود (11) : آيَة 23] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْبَالِغِينَ أَقْصَى غَايَاتِ الْخَسَارَةِ ذَكَرَ مُقَابِلَهُمْ الَّذِينَ بَلَغُوا أَعْلَى دَرَجَاتِ السَّعَادَةِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ النُّفُوسَ تَشْرَئِبُّ عِنْدَ سَمَاعِ حُكْمِ الشَّيْءِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ ضِدِّهِ. وَالْإِخْبَاتُ: الْخُضُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، أَيْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ أَحْسَنَ طَاعَةٍ. وَمُوقِعُ أُولئِكَ هُنَا مِثْلُ مَوْقِعِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.

[سورة هود (11) : آية 24]

وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَوْقِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي الْمَكَانِ هُوَ أَحَقُّ الْأَحْوَالِ بِإِطْلَاقِ وَصْفِ الصَّاحِبِ عَلَى الْحَالِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ إِذِ الْأَمْكِنَةُ لَا تُقْصَدُ إِلَّا لِأَجْلِ الْحُلُولِ فِيهَا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا قَبْلَهَا فَمَنْزِلَتُهَا مَنْزِلَةُ عَطْفِ الْبَيَانِ، وَلَا تُعْرَبُ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [82] فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فَعُدْ إِلَيْهِ وَزِدْ إِلَيْهِ مَا هُنَا. [24] [سُورَة هود (11) : آيَة 24] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَبَيْنَ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ أُعْقِبَ بِبَيَانِ التَّنْظِيرِ بَيْنَ حَالَيْ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقَةِ تَمْثِيلِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَمٍّ وَمَدْحٍ. فَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ وَتَحْصِيلٌ لَهُ وَلِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَاقَعَةِ سَبَبِهِ. وَالْمَثَلُ، بِالتَّحْرِيكِ: الْحَالَةُ وَالصِّفَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ [35] ، أَيْ حَالَةُ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ تُشْبِهُ حَالَ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ مِنْ جِهَةٍ وَحَالَ الْبَصِيرِ السَّمِيعِ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ وَلَيْسَ اسْتِعَارَةً لِوُجُودِ كَافِ التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهٌ مُفْرَدٌ لَا مُرَكَّبٌ. وَالْفَرِيقَانِ هُمَا الْمَعْهُودَانِ فِي الذِّكْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَهَمَا فَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ وَفَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ قَدْ سَبَقَ مَا يُؤْذِنُ بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [هود: 18] . ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [هود: 23] الْآيَةَ.

وَالْفَرِيقُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُفَارِقُ، أَيْ يُخَالِفُ حَالُهَا حَالَ جَمَاعَةٍ أُخْرَى فِي عَمَلٍ أَوْ نِحْلَةٍ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [81] . شَبَّهَ حَالَ فَرِيقِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ الْوَاضِحَةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِحَالِ الْأَعْمَى، وَشُبِّهُوا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ بِحَالِ مَنْ هُوَ أَصَمُّ. وَشَبَّهَ حَالَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْبَصَرِ، سَلِيمَ السَّمْعِ فَهُوَ فِي هُدًى وَيَقِينٍ مِنْ مُدْرَكَاتِهِ. وَتَرْتِيبُ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا فِي الذِّكْرِ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا تقدم ينبىء بِالْمُرَادِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. وَالتَّرْتِيبُ فِي اللَّفِّ وَالنَّشْرِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَبَّهِينَ بالأعمى والأصم هُوَ الْفَرِيقُ الْمَقُولُ فِيهِمْ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] . وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَصَمِّ للْعَطْف على كَالْأَعْمى عَطَفَ أَحَدَ الْمُشَبَّهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمِيعِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْبَصِيرِ. وَأَمَّا الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَصِيرِ فَهِيَ لِعِطْفِ التَّشْبِيهِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّشْرُ بَعْدَ اللَّفِّ. فَهِيَ لِعَطْفِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ بِهَا لِلتَّقْسِيمِ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. وَقَدْ يَظُنُّ النَّاظِرُ أَنَّ الْمُنَاسِبَ تَرْكُ عَطْفِ صِفَةِ الْأَصَمِّ على صفة كَالْأَعْمى كَمَا لَمْ يُعْطَفْ نَظِيرَاهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [18] ظَنًّا بِأَنَّ مَوْرِدَ الْآيَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ مَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ. وَذَلِكَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ حَوَاشِي الْكَشَّافِ بِأَنَّ

الْعَطْفَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِ تَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا لِهَذَا التَّنْزِيلِ نُكْتَةً وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنه مُجَرّد استمال فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ: يَا لهف زيابة للحارب ال ... صَابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي الدَّاعِي إِلَى عَطْفِ صِفَةِ الْأَصَمِّ على صفة كَالْأَعْمى أَنَّهُ مَلْحُوظٌ فِيهِ أَنَّ لِفَرِيقِ الْكُفَّارِ حَالَيْنِ كُلُّ حَالٍ مِنْهُمَا جَدِيرٌ بِتَشْبِيهِهِ بِصِفَةٍ مِنْ تَيْنَكَ الصِّفَتَيْنِ عَلَى حِدَةٍ، فَهُمْ يُشَبِّهُونَ الْأَعْمَى فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي طَرِيقُ إِدْرَاكِهَا الْبَصَرَ، ويشبهون الْأَصَمَّ فِي عَدَمِ فَهْمِ الْمَوَاعِظِ النَّافِعَةِ الَّتِي طَرِيق فهما السَّمْعُ، فَهُمْ فِي حَالَتَيْنِ كُلُّ حَالٍ مِنْهُمَا مُشَبَّهٌ بِهِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ تَشْبِيهَانِ مُفَرَّقَانِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي وَالَّذِي فِي الْآيَةِ تَشْبِيهُ مَعْقُولَيْنِ بِمَحْسُوسَيْنِ، وَاعْتِبَارُ كُلِّ حَالٍ مِنْ حَالَيْ فَرِيقِ الْكُفَّارِ لَا مَحِيدَ عَنْهُ لِأَنَّ حُصُولَ أَحَدِ الْحَالَيْنِ كَافٍ فِي جَرِّ الضَّلَالِ إِلَيْهِمْ بَلْهَ اجْتِمَاعُهُمَا، إِذِ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمَنْفِيِّ. وَأَمَّا الدَّاعِي إِلَى الْعَطْفِ فِي صِفَتَيِ الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِحَالِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فَبِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَا فِي حَالِ فَرِيقِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ تُشْبِهُ حَالَةَ مَجْمُوعِ صِفَتَيِ الْبَصِيرِ السَّمِيعِ، إِذِ الِاهْتِدَاءُ يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ فَلَوْ ثَبَتَتْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَانْتَفَتِ الْأُخْرَى لَمْ يَحْصُلْ الِاهْتِدَاءُ إِذِ الْأَمْرَانِ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ، فَهُمَا فِي قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْكَوْنَ الدَّاعِيَ إِلَى عَطْفِ السَّمِيعِ عَلَى الْبَصِيرِ فِي تَشْبِيهِ حَالِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْمُزَاوَجَةُ فِي الْعِبَارَةِ لِتَكُونَ الْعِبَارَةُ عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ مُمَاثِلَةً لِلْعِبَارَةِ عَنْ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَالْمُزَاوَجَةُ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى فَصَاحَتِهِ.

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 26]

وَجُمْلَةُ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِلْغَرَضِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّفْضِيلِ وَالْمُفَضَّلِ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مَعْلُومٌ تَفْضِيلُ الْفَرِيقِ الْمُمَثَّلِ بِالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ عَلَى الْفَرِيقِ الْمُمَثَّلِ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ حَالِهِمَا، وَالْمَثَلُ: الْحَالُ. وَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ أَمْرَهُمْ فَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ جُمْلَةَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَالْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامٌ وَإِنْكَارُ انْتِفَاءِ تَذَكُّرِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «تذكرُونَ» بتَشْديد الدَّال. وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِقُرْبِ مُخْرَجَيْهِمَا وَلِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْفِعْلِ. وَفِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ بِ الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ محسن الطباق. [25، 26] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) انْتِقَالٌ مِنْ إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ وَوَصْفِ أَحْوَالِهِمْ وَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ إِلَى مَوْعِظَتِهِمْ بِمَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَاقَاهُ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- قَبْلَهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ. فَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْوَاوَ الِابْتِدَائِيَّةُ. وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بلام الْقسم ولَقَدْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا غَفَلُوا عَنِ الْحَذَرِ مِمَّا بِقَوْمِ نُوحٍ مَعَ مُمَاثَلَةِ حَالِهِمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ رِسَالَتِهِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَحْكِيٌّ بِفِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَحَلِّ حَالٍ، أَيْ قَائِلًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ وَهُوَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ، أَيْ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ (أَنِّي نَذِيرٌ) ، أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالنِّذَارَةِ الْبَيِّنَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آلِ عِمْرَانَ [33] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف [59] . وَجُمْلَة أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مُفَسِّرَةٌ لِجُمْلَةِ أَرْسَلْنا لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا تَفْسِيرًا لِ نَذِيرٌ لِمَا فِي نَذِيرٌ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ نُوحٍ [2، 3] قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ (أَنِّي) إِذَا اعْتُبِرَتْ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَيَجُوزُ جَعْلُ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ عَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْهَمْزَةِ- وَاسْمُهَا ضمير شَأْن محذوفا، أَيْ أَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعْلِيلٌ لِ نَذِيرٌ لِأَنَّ شَأْنَ النِّذَارَةِ أَنْ تَثْقُلَ عَلَى النُّفُوسِ وَتُخْزِهِمْ فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِالتَّعْلِيلِ لِدَفْعِ حَرَجِ مَا يُلَاقُونَهُ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْأَلِيمِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ الْعَذَابُ بِالْأَلِيمِ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْعَذَابِ لَمَّا بَلَغَتِ الْغَايَةَ جُعِلَ زَمَانُهُ أَلِيمًا، أَيْ مُؤْلِمًا. وَجُمْلَةُ أَخافُ عَلَيْكُمْ وَنَحْوُهَا مِثْلُ أَخْشَى عَلَيْكَ، تُسْتَعْمَلُ لِلتَّوَقُّعِ فِي الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِاعْتِبَارِ إِمْكَانِ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْمَقْطُوعِ بِهِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَخْشَى عَلَيْهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْخَوْفِ مِنْهُ وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَخُوفِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيت لبيد. و

[سورة هود (11) : آية 27]

(الْعَذَاب) هُنَا نَكِرَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِنُزُولِهِ بِهِمْ وَلَكِنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِإِيمَانِ قَوْمِهِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ فِي التَّبْلِيغِ، فَعَلِمَ أَنَّ شَأْنَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتْرُكَ مَنْ عَصَوْهُ دُونَ عُقُوبَةٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كَلَامِهِ الْآتِي إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ [هود: 33] عَلَى مَا يَأْتِي هُنَالِكَ. وَكَانَ الْعَذَابُ شَامِلًا لِعَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا إِنْ بَقَوْا عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقْرِنُ الْوَعِيدَ بِالدَّعْوَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كَلَامِهِ الْآتِي وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: 33] ، وَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى أَذْهَانِ قَوْمِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي كَلَامِهِمُ الْآتِي فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود: 32] . وَلَعَلَّ فِي كَلَامِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا تُفِيدُهُمْ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الطوفان. [27] [سُورَة هود (11) : آيَة 27] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) عَطَفَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ عَلَى فعل أَرْسَلْنا [هود: 25] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ بَادَرُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُجَادَلَةِ الْبَاطِلَةِ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: 25] إِلَى آخِرِهِ. وَلَمْ تَقَعْ حِكَايَةُ ابْتِدَاءِ مُحَاوَرَتِهِمْ إِيَّاهُ بِ (قَالَ) مُجَرَّدًا عَنِ الْفَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُحَاوَرَتِهِ إِيَّاهُمْ هُنَا لَمْ يَقَعْ بِلَفْظِ الْقَوْلِ فَلَمْ يُحْكَ جَوَابُهُمْ بِطَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْمَلَأُ: سَادَةُ الْقَوْمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

جَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فَقَدَّمُوا لِذَلِكَ مُقْدِمَاتٍ اسْتَخْلَصُوا مِنْهَا تَكْذِيبَهُ، وَتِلْكَ مُقْدِمَاتٌ بَاطِلَةٌ أَقَامُوهَا عَلَى مَا شَاعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي رَوَّجَهَا الْإِلْفُ وَالْعَادَةُ فَكَانُوا يُعِدِّونَ التَّفَاضُلَ بِالسُّؤْدُدِ وَهُوَ شَرَفٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ قِوَامُهُ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ أَسْبَابَ السُّؤْدُدِ أَسْبَابًا مَادِّيَّةً جَسَدِيَّةً، فَيُسَوِّدُونَ أَصْحَابَ الْأَجْسَامِ الْبَهِجَةِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لِأَنَّهُمْ بِبَسَاطَةِ مَدَارِكِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ حُسْنَ الذَّوَاتِ، وَيُسَوِّدُونَ أَهْلَ الْغِنَى لِأَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي نَوَالِهِمْ، وَيُسَوِّدُونَ الْأَبْطَالَ لِأَنَّهُمْ يُعِدُّونَهُمْ لِدِفَاعِ أَعْدَائِهِمْ. ثُمَّ هُمْ يَعْرِفُونَ أَصْحَابَ تِلْكَ الْخِلَالِ إِمَّا بِمُخَالَطَتِهِمْ وَإِمَّا بِمُخَالَطَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَإِذَا تَسَامَعُوا بِسَيِّدِ قَوْمٍ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ تَعَرَّفُوا أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَشْرَافِ وَالسَّادَةِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوهُ إِلَّا لَمَّا رَأَوْا فِيهِ مِنْ مُوجِبَاتِ السِّيَادَةِ وَهَذِهِ أَسْبَابٌ مُلَائِمَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ إِذْ لَا عِنَايَةَ لَهُمْ بِالْجَانِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ. فَلَمَّا دَعَاهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعْوَةً عَلِمُوا مِنْهَا أَنَّهُ يَقُودُهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا فَرَأَوُا الْأَسْبَابَ الْمَأْلُوفَةَ بَيْنَهُمْ لِلسُّؤْدُدِ مَفْقُودَةً مَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالسِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ فَجَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ بِسِيَادَةٍ لِلْأُمَّةِ وَقِيَادَةٍ لَهَا. وَهَؤُلَاء لقصود عُقُولِهِمْ وَضَعْفِ مَدَارِكِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا إِدْرَاكَ أَسْبَابِ الْكَمَالِ الْحَقِّ، فَذَهَبُوا يَتَطَلَّبُونَ الْكَمَالَ مِنْ أَعْرَاضٍ تعرض للنَّاس بِالصَّدَقَةِ مِنْ سَعَةِ مَالٍ، أَوْ قُوَّةِ أَتْبَاعٍ، أَوْ عِزَّةِ قَبِيلَةٍ. وَتِلْكَ أَشْيَاءُ لَا يَطَّرِدُ أَثَرُهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا إِشْعَارٍ لَهَا بِكَمَالِ صَاحِبِهَا إِذْ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَقَلُّ النَّاسِ عُقُولًا، وَالْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ مِثْلُ الْبَقَرَةِ بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ لَبَنٍ، وَالشَّاةُ بِمَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ صُوفٍ، بَلْ غَالِبُ حَالِهَا أَنَّهَا بِضِدِّ ذَلِكَ. وَرُبَّمَا تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ كَالْجِنِّ، أَوْ زِيَادَةِ خِلْقَةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي عَمَلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا مِثْلِ جَمَالِ الصُّورَةِ وَكَمَالِ الْقَامَةِ، وَتِلْكَ وَإِنْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمَوْصُوفَاتِهَا لَكِنَّهَا لَا تُفِيدُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَصَادِرَ كَمَالَاتٍ،

فَقَدْ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ كَالظِّبَاءِ وَالْمَهَا وَالطَّوَاوِيسِ، فَإِنِ ارْتَقَوْا عَلَى ذَلِكَ تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ وَإِجَادَةِ الرِّمَايَةِ وَالْمُجَالَدَةِ وَالشَّجَاعَةِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِأَنْ تُعَدَّ فِي أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَلَكِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّهَا آلَاتٌ لِإِنْقَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَبِدُونِ ذَلِكَ تَكُونُ آلَاتٍ لِإِنْفَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّيِّئَةِ مِثْلَ شَجَاعَةِ أَهْلِ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالشُّطَّارِ، وَمِثْلَ الْقُوَّةِ عَلَى خَلْعِ الْأَبْوَابِ لِاقْتِحَامِ مَنَازِلِ الْآمِنِينَ. وَإِنَّمَا الْكَمَالُ الْحَقُّ هُوَ زَكَاءُ النَّفْسِ وَاسْتِقَامَةِ الْعَقْلِ، فَهُمَا السَّبَبُ الْمُطَّرِدُ لِإِيصَالِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَهُمَا تَكُونُ الْقُوَى الْمُنَفِّذَةُ خَادِمَةً كَالشَّجَاعَةِ لِلْمُدَافِعِينَ عَنِ الْحَقِّ وَالْمُلْجِئِينَ لِلطُّغَاةِ عَلَى الْخُنُوعِ إِلَى الدِّينِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ وَغَيْبَةِ الصَّوَابِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْمَعْصُومِ، وَهُوَ مَقَامُ النُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ. فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مَنْ قَوْمِ نُوحٍ لَمَّا قَصَّرُوا عَنْ إِدْرَاكِ أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَتَطَلَّبُوا الْأَسْبَابَ مِنْ غَيْرِ مَكَانِهَا نَظَرُوا نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مِنْ جِنْسِ غَيْرِ الْبَشَرِ، وَتَأَمَّلُوهُ وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْا فِي أَجْسَامِهِمْ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ مَنْ هُمْ أَجْمَلُ وُجُوهًا أَوْ أَطْوَلُ أَجْسَامًا. مِنْ أجل ذَلِك أخطأوا الِاسْتِدْلَالَ فَقَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فَأَسْنَدُوا الِاسْتِدْلَالَ إِلَى الرُّؤْيَةِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اسْتِدْلَالَهُمْ ضَرُورِيًّا مِنَ الْمَحْسُوسِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ، أَيْ مَا نَرَاكَ غَيْرَ إِنْسَانٍ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لِلنَّاسِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحَ أَوْ قَوَائِمَ زَائِدَةً. وَالْبَشَرُ- مُحَرَّكَةً-: الْإِنْسَانُ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا. قَالَ الرَّاغِبُ: «عَبَّرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِالْبَشَرِ اعْتِبَارًا بِظُهُورِ بَشَرَتَهُ وَهِيَ جِلْدُهُ مِنَ الشَّعْرِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ» أَيْ وَالرِّيشُ. وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ

الْإِنْسَانِ فَيُطْلَقُ كَمَا يُطْلَقُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْأَكْثَرِ، وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ. وَقَدْ يُثَنَّى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: 47] . وَقَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فَجَعَلُوا أَتْبَاعَ النَّاسِ الْمَعْدُودِينَ فِي عَادَتِهِمْ أَرَاذِلَ مَحْقُورِينَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا مَيْزَةَ لَهُ عَلَى سَادَتِهِمُ الَّذِينَ يَلُوذُ بِهِمْ أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَأَقْوِيَاؤُهُمْ. فَنَفَوْا عَنْهُ سَبَبَ السِّيَادَةِ مِنْ جِهَتَيْ ذَاتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ لِأَنَّهُمْ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ مُخَالَطَةِ أَمْثَالِهِمْ وَأَنَّهُ لَوْ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ لَاتَّبَعُوهُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ بَعْدَهُ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] الْآيَة. والأرذال: جَمْعُ أَرْذَلَ الْمَجْعُولِ اسْمًا غَيْرَ صِفَةٍ كَذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ، أَوْ جَمْعُ رَذِيلٍ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَالرَّذِيلُ: الْمُحْتَقَرُ. وَأَرَادُوا أَنَّهُمْ مِنْ لَفِيفِ الْقَوْمِ غَيْرُ سَادَةٍ وَلَا أَثْرِيَاءَ. وَإِضَافَةُ (أَرَاذِلُ) إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَعْيِينِ الْقَبِيلَةِ، أَيْ أَرَاذِلُ قَوْمِنَا. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا أَرَاذِلُنَا لِحِكَايَةِ أَنَّ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَاءً إِلَى شُهْرَةِ أَتْبَاعِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَيْنَ قَوْمِهِمْ بِوَصْفِ الرَّذَالَةِ وَالْحَقَارَةِ، وَكَانَ أَتْبَاعُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ضُعَفَاءِ الْقَوْمِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ أَزْكِيَاءِ النُّفُوسِ مِمَّنْ سَبَقَ لَهُمُ الْهُدَى. وبادِيَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ فِي آخِرِهِ- عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ بَدَا الْمَقْصُورِ إِذَا ظَهَرَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ لَمَّا تَحَرَّكَتْ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ وَزْنُ فَاعِلٍ وَقَعَتِ الْوَاوُ مُتَطَرِّفَةً إِثْرَ كَسْرَةٍ فَقُلِبَتْ يَاءً. وَالْمَعْنَى فِيمَا يَبْدُو لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ دُونَ بَحْثٍ عَنْ خَفَايَاهُ وَدَقَائِقِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ- بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ- عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَدَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: فِيمَا يَقَعُ أَوَّلَ الرَّأْيِ، أَيْ دُونَ إِعَادَةِ النَّظَرِ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ التَّمْوِيهِ، وَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ. وَالرَّأْيُ: نَظَرُ الْعَقْلِ، مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ رَأَى، كَمَا اسْتُعْمِلَ رَأَى بِمَعْنَى ظَنَّ وَعَلِمَ.

يَعْنُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ غَرَّتْهُمْ دَعْوَتُكَ فَتَسَرَّعُوا إِلَى مُتَابَعَتِكَ وَلَوْ أَعَادُوا النَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ لَعَلِمُوا أَنَّكَ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تتبع. وانتصاب بادِيَ الرَّأْيِ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي وَقْتِ الرَّأْيِ دُونَ بَحْثٍ عَنْ خَفِيِّهِ، أَوْ فِي الرَّأْيِ الْأَوَّلِ دُونَ إِعَادَةِ نظر. وَإِضَافَة بادِيَ إِلَى الرَّأْيِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: لَا يَلْبَثُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مُتَّبِعِيكَ رُشْدُهُمْ فَيُعِيدُوا التَّأَمُّلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَيُكْشَفَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ. وَلَمَّا وَصَفُوا كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ بِمَا يَنْفِي سِيَادَةَ الْمَتْبُوعِ وَتَزْكِيَةَ التَّابِعِ جَمَعُوا الْوَصْفَ الشَّامِلَ لَهُمَا. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْمُفَرِّقَيْنِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعِهِ فَضْلٌ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَتَّى يَكُونَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَيِّدًا لَهُمْ وَيَكُونُ أَتْبَاعُهُ مُفَضَّلَيْنِ بِسِيَادَةِ مَتْبُوعِهِمْ. وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، وَالْمُرَادُ هُنَا آثَارُهُ وَعَلَامَاتُهُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُرَى، فَجَعَلُوا عَدَمَ ظُهُورِ فَضْلٍ لَهُمْ عَلَيْهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ فَضْلِهِمْ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا تَخْفَى آثَارُهُ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ انْتِفَاءُ رُؤْيَتِهَا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهَا إِذْ لَوْ ثَبَتَتْ لَرُئِيَتْ. وَجُمْلَةُ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ إِبْطَالٌ لِلْمَنْفِيِّ كُلِّهِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ بِإِثْبَاتِ ضِدِّ الْمَنْفِيِّ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ إِيَّاهُمْ كَاذِبِينَ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ ثَبَتَ ضِدَّهُ، فَزَعَمُوا نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَاذِبًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَأَتْبَاعَهُ كَاذِبِينَ فِي دَعْوَى حُصُولِ الْيَقِينِ بِصِدْقِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُمُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَهَذَا الظَّنُّ الَّذِي زَعَمُوهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى الدَّلِيلِ الْمَحْسُوسِ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَاسْتُعْمَلَ الظَّنُّ هُنَا فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 46] وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْكَلَام.

[سورة هود (11) : آية 28]

[سُورَة هود (11) : آيَة 28] قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، فَهَذِهِ لَمَّا وَقَعَتْ مُقَابِلًا لِكَلَامٍ مَحْكِيٍّ يُقَالُ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [هود: 27] . وَافْتِتَاحُ مُرَاجَعَتِهِ بِالنِّدَاءِ لِطَلَبِ إِقْبَالِ أَذْهَانِهِمْ لِوَعْيِ كَلَامِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاخْتِيَارِ اسْتِحْضَارِهِمْ بِعُنْوَانِ قَوْمِهِ لِاسْتِنْزَالِ طَائِرِ نُفُورِهِمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ فَلَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا خَيْرًا. وَإِذْ قَدْ كَانَ طَعْنُهُمْ فِي رِسَالَتِهِ مُدَلِّلًا بِأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا لَهُ مَزِيَّةً وَفَضْلًا، وَمَا رَأَوْا أَتْبَاعَهُ إِلَّا ضُعَفَاءَ قَوْمِهِمْ وَإِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ كَذِبِهِ وَضَلَالِ أَتْبَاعِهِ، سَلَكَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مُجَادَلَتِهِمْ مَسْلَكَ إِجْمَالٍ لِإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ ثُمَّ مَسْلَكَ تَفْصِيلٍ لِرَدِّ أَقْوَالِهِمْ، فَأَمَّا مَسْلَكُ الْإِجْمَالِ فَسَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْقَلْبِ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَرَوْا فِيهِ وَفِي أَتْبَاعِهِ مَا يَحْمِلُ عَلَى التَّصْدِيقِ بِرِسَالَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ مَنْعَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ مُتَابَعَتِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْهَدْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ. فَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى آخِرِهِ. مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتَ ذَا بُرْهَانٍ وَاضِحٍ، وَمُتَّصِفًا بِرَحْمَةِ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ بِالْهُدَى فَلَمْ تَظْهَرْ لَكُمُ الْحُجَّةُ وَلَا دَلَائِلُ الْهُدَى، فَهَلْ أُلْزِمُكُمْ أَنَا وَأَتْبَاعِي بِهَا، أَيْ بِالْإِذْعَانِ إِلَيْهَا وَالتَّصْدِيقِ

بِهَا إِنْ أَنْتُمْ تَكْرَهُونَ قَبُولَهَا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا تَأَمُّلًا بَرِيئًا مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَعَلِمُوا صدق دَعوته. وأَ رَأَيْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ إِذَا كَانَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ غَيْرَ عَامِلٍ فِي مُفْرَدٍ فَهُوَ تَقْرِيرٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّادَّةِ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (رَأَيْتُمْ) ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ آئلا إِلَى مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَلَكِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي طَلَبِ مَنْ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَجْحَدُ الْخَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [47] . وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى قَوْله تَعَالَى فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُلْزِمُكُمُوها إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُكْرِهُكُمْ عَلَى قَبُولِهَا، فَعُلِّقَ الْإِلْزَامُ بِضَمِيرِ الْبَيِّنَةِ أَوِ الرَّحْمَةِ. وَالْمُرَادُ تَعْلِيقُهُ بِقَبُولِهَا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ. وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُعْجِزَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَتُهُ الطُّوفَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ مُعْجِزَاتٌ أُخْرَى لَمْ تُذْكَرْ، فَإِنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لَا تَخْلُو مِنْ مُعْجِزَاتٍ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ نِعْمَةُ النُّبُوءَةِ وَالتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، مَعَ مَا صَحِبَهَا مِنَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِهَا، فَعَطْفُ (الرَّحْمَةِ) عَلَى (الْبَيِّنَةِ) يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْبَيِّنَةِ إِذِ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أُعِيدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَعُمِّيَتْ أُعِيدَ عَلَى (الرَّحْمَةِ) لِأَنَّهَا أَعَمُّ. وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (عُمِّيَتْ) وَهُوَ حَرْفٌ تَتَعَدَّى بِهِ الْأَفْعَالُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنَى الَخَفَاءِ، مِثْلُ: خَفِيَ عَلَيْكَ. وَلَمَّا كَانَ عُمِّيَ فِي مَعْنَى خَفِيَ عُدِّيَ بِ (عَلَى) ، وَهُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيِ التَّمَكُّنِ، أَيْ قُوَّةِ مُلَازَمَةِ الْبَيِّنَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُ.

وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَهُ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَرَادَ بِهِ إِظْهَارَ رِفْقِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ. وَمَعْنَى فَعُمِّيَتْ فَخَفِيَتْ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، إِذْ شُبِّهَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْهَا الْمُخَاطَبُونَ كَالْعَمْيَاءِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي لِلْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى: الْخَفَاءِ عدي فعل (عميت) بِحَرْفِ (عَلَى) تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ. وَفِي ضِدِّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء: 59] ، أَيْ آتَيْنَاهُمْ آيَةً وَاضِحَةً لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهَا لِأَنَّهَا آيَةٌ مَحْسُوسَةٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَحْدُهُمْ إِيَّاهَا ظُلْمًا فَقَالَ: فَظَلَمُوا بِها [الْإِسْرَاء: 59] . وَمِنْ بَدِيعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُنَا أَنَّ فِيهَا طِبَاقًا لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِمْ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] . فَقَابَلَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَهُمْ مُقَابَلَةً بِالْمَعْنَى وَاللَّفْظِ إِذْ جَعَلَ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ مِنْ قَبِيلِ الْعَمَى. وَعَطْفُ (عُمِّيَتْ) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ إِيتَائِهِ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ وَبَيْنَ خَفَائِهَا عَلَيْهِمْ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ. وَجُمْلَةُ أَنُلْزِمُكُمُوها سَادَّةُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ عُلِّقَ عَنِ الْعَمَلِ بِدُخُولِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فَعْلُ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ. وَتَقْدِير الْكَلَام: قَالَ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى آخِرِهِ أَتَرَوْنَ أَنُلْزِمُكُمْ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَكَانَ لَهُ أَعْوَانٌ عَلَيْهِ وَهُمْ أَتْبَاعُهُ فَأَرَادَ أَنْ لَا يُهْمِلَ ذِكْرَ أَتْبَاعِهِ وَأَنَّهُمْ أَنْصَارٌ لَهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَهِيبَ بِهِمْ. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ تَحْقِيرِ الْآخَرِينَ إِيَّاهُمْ.

[سورة هود (11) : آية 29]

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِكْرَاهِهِمْ إِعْرَاضًا عَنِ الْعِنَايَةِ بِهِمْ فَتَرَكَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ أَشَدُّ فِي تَوَقُّعِ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ. وَالْكَارِهُ: الْمُبْغِضُ لِشَيْءٍ. وَعُدِّيَ بِاللَّامِ إِلَى مَفْعُولِهِ لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ تَعَلُّقِ الْكَرَاهِيَةِ بِالرَّحْمَةِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، أَيْ وَأَنْتُمْ مُبْغِضُونَ قَبُولَهَا لِأَجْلِ إِعْرَاضِكُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى كارِهُونَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِهِ بَعَثُهُمْ عَلَى إِعَادَةِ التَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ. وَتَخْفِيضُ نُفُوسِهِمْ. وَاسْتِنْزَالُهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَعْذِرَتَهُمْ بِمَا صَنَعُوا وَلَا الْعُدُولَ عَنْ تَكْرِير دعوتهم. [29] [سُورَة هود (11) : آيَة 29] وَيا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) إِعَادَةُ الْخِطَابِ بِ يَا قَوْمِ تَأْكِيدٌ لِمَا فِي الْخِطَابِ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَأَمَّا عَطْفُ النِّدَاءِ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ وَاحِدٌ وَشَأْنُ عَطْفِ النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُنَادَى، كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ: يَا ساهر الْبَرْق أيقظن رَاقِدَ السَّمُرِ ... لَعَلَّ بِالْجِزْعِ أَعْوَانًا عَلَى السَّهَرِ ثُمَّ قَالَ: وَيَا أَسِيرَةَ حِجْلَيْهَا أَرَى سَفَهًا ... حَمْلَ الْحُلِيِّ بِمَنْ أَعْيَا عَنِ النَّظَرِ فَأَمَّا إِذَا اتَّحَدَ الْمُنَادَى فَالشَّأْنُ عَدَمُ الْعَطْفِ كَمَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [42- 45] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ - إِلَى قَوْلِهِ- وَلِيًّا فَقَدْ تَكَرَّرَ النِّدَاءُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.

فَتَعَيَّنَ هُنَا أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ مَقُولِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا مِنْ حِكَايَةِ اللَّهِ عَنْهُ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّصَالِ النِّدَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَأَنَّ أَحَدَهَا لَا يُغْنِي عَنِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْلِ لِأَنَّ النِّدَاءَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ فَجُمْلَتُهُ ابْتِدَائِيَّةٌ وَعَطْفُهَا إِذَا عُطِفَتْ مُجَرَّدُ عَطْفٍ لَفْظِيٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفَنُّنًا عَرَبِيًّا فِي الْكَلَامِ عِنْدَ تَكَرُّرِ النِّدَاءِ اسْتِحْسَانًا لِلْمُخَالَفَةِ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ. وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا قَرِيبًا فِي قِصَّةِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِصَّةِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [30- 33] فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ثُمَّ قَالَ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِر: 38- 41] . فَعَطَفَ (وَيَا قَوْمِ) تَارَةً وَتَرَكَ الْعَطْفَ أُخْرَى. وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْوَصْفِ الْمُنَادَى بِهِ فَقَدْ جَاءَ الْعَطْفُ وَهُوَ أَظْهَرُ لِمَا فِي اخْتِلَافِ وَصْفِ الْمُنَادَى مِنْ شِبْهِ التَّغَايُرِ كَقَوْلِ قَيْسٍ بْنِ عَاصِمٍ، وَقِيلَ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: أَيَا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَةَ مَالِكٍ ... وَيَا ابْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ وَالْفَرَسِ الْوَرْدِ فَقَوْلُهُ: (وَيَا بْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ) عَطْفُ نِدَاءٍ عَلَى نِدَاءٍ وَالْمُنَادَى بِهِمَا وَاحِدٌ. لَمَّا أَظْهَرَ لَهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يُجْبِرُهُمْ عَلَى إِيمَانٍ يَكْرَهُونَهُ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيبِهِمْ مِنَ النَّظَرِ فِي نَزَاهَةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْعًا دُنْيَوِيًّا بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مَالا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ، فَمَاذَا يَتَّهِمُونَهُ حَتَّى يَقْطَعُونَ بِكَذِبِهِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَجُمْلَةُ إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ مَالًا، وَالْمَالُ أَجْرٌ، نَشَأَ تَوَهُّمُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ جَزَاءً عَلَى الدَّعْوَةِ فَجَاءَ بِجُمْلَةِ إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسًا. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَالًا وأَجرِيَ تُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ مَالًا وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُ ثَوَابًا. وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى عَمَلٍ. وَيُسَمَّى ثَوَابُ اللَّهِ أَجْرًا لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى جملَة لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا كَالنَّتِيجَةِ لِمَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ نَفْيَ طَمَعِهِ فِي الْمُخَاطَبِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُؤْذِي أَتْبَاعَهُ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ هَؤُلَاءِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ أَتْبَاعِهِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُول من تَغْلِيظ قَوْمِهِ فِي تَعْرِيضِهِمْ لَهُ بِأَنْ يَطْرُدَهُمْ بِمَا أَنَّهُمْ لَا يُجَالِسُونَ أَمْثَالَهُمْ إِيذَانًا بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ يُوجِبُ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَطْرُدُهُمْ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: 27] مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ لَا يُمَاثِلُونَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِ. وَالطَّرْدُ: الْأَمْرُ بِالْبُعْدِ عَنْ مَكَانِ الْحُضُورِ تَحْقِيرًا أَوْ زَجْرًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [52] . وَجُمْلَة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِنَفِيَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَمُحَاسِبٌ مَنْ يَطْرُدُهُمْ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَنْتَصِرُ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ مَجَازِيَّةً، أَوْ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ دَعْوَتِي لِأَنِّي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى شَيْءٍ يَخُصُّنِي فَهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِي كَمَنْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ

[سورة هود (11) : آية 30]

حَضَرُوا مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ أَحَدُهُمْ، وَاسْتَحْيَا أَحَدُهُمْ، وَأَعْرَضَ الثَّالِثُ «أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» . وَتَأْكِيدُ الَخَبَرِ بِ (إِنَّ) إِنْ كَانَ اللِّقَاءُ حَقِيقَةً لِرَدِّ إِنْكَارِ قَوْمِهِ الْبَعْثَ، وَإِنْ كَانَ اللِّقَاءُ مَجَازًا فَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ اللِّقَاءِ. وَقَدْ زِيدَ هَذَا التَّأْكِيدُ تَأْكِيدًا بِجُمْلَةِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ ضِدُّ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ جملَة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أَيْ لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ فَتَحْسَبُونَهُمْ لَا حَضْرَةَ لَهُمْ وَأَنْ لَا تَبِعَةَ فِي طَرْدِهِمْ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَجْهَلُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ تَجْهَلُونَ ذَلِكَ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: قَوْماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَهْلَهُمْ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُمْ كَأَنَّهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [164] . [30] [سُورَة هود (11) : آيَة 30] وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) إِعَادَةُ وَيا قَوْمِ مِثْلُ إِعَادَتِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالنَّصْرُ: إِعَانَةُ الْمُقَاوِمِ لِضِدٍّ أَوْ عَدُوٍّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ فَعُدِّيَ بِ (مِنْ) أَيْ مَنْ يُخَلِّصُنِي، أَيْ يُنْجِينِي مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عِقَابِهِ، لِأَنَّ طَرْدَهُمْ إِهَانَةٌ تُؤْذِيهِمْ بِلَا مُوجِبٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ إِهَانَةَ أَوْلِيَائِهِ. وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَى قَوْمِهِ فِي إِهْمَالِهِمُ التَّذَكُّرِ، أَيِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَالْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ-.

[سورة هود (11) : آية 31]

وَأَصْلُ تَذَكَّرُونَ، تَتَذَكَّرُونَ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ ذَالًا وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ «تَذَكَّرُونَ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَبِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَالتَّذَكُّرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فِي آخِرِ سُورَة الْأَعْرَاف [201] . [31] [سُورَة هود (11) : آيَة 31] وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) هَذَا تَفْصِيلٌ لِمَا رَدَّ بِهِ مَقَالَةَ قَوْمِهِ إِجْمَالًا، فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى نَفْيِ نُبُوَّتِهِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ هُوَ فِي جَوَابِهِمْ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ فَضْلًا غَيْرِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: 11] ، وَلِذَلِكَ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ من لَوَازِم النبوءة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ. وَالْقَوْلُ بِمَعْنَى الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا انْتِفَاؤُهُ فِي الْمَاضِي فَمَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ، أَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي مُضْمِرٌ ادِّعَاءَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ أَقُلْهُ. وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهِيَ بَيْتٌ أَوْ مِشْكَاةٌ كَبِيرَةٌ يُجْعَلُ لَهَا بَابٌ، وَذَلِكَ لِخَزْنِ الْمَالِ أَوِ الطَّعَامِ، أَيْ حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ. وَذِكْرُ الْخَزَائِنِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شُبِّهَتِ النِّعَمُ وَالْأَشْيَاءُ النَّافِعَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُدَّخَرُ فِي الْخَزَائِنِ، وَرَمَزَ إِلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْخَزَائِنُ. وَإِضَافَةُ خَزائِنُ إِلَى اللَّهِ لِاخْتِصَاصِ اللَّهِ بِهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فَنَفْيٌ لِشُبْهَةِ قَوْلِهِمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [هود: 27] وَلِذَلِكَ أَعَادَ مَعَهُ فِعْلَ الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ إِبْطَالُ دَعْوَى أُخْرَى أَلْصَقُوهَا بِهِ، وَتَأْكِيدُهُ بِ (إِنَّ) لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَقُولُهُ قَائِلُهُ إِلَّا مُؤَكَّدًا لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِ لَوِ ادَّعَاهُ مُدَّعٍ، فَلَمَّا نَفَاهُ نَفَى صِيغَةَ إِثْبَاتِهِ. وَلَمَّا أَرَادَ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: 27] أَبْطَلَهُ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيطِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا ضَعْفَهُمْ وَفَقْرَهُمْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ فَضْلِهِمْ، فَأَبْطَلَهُ بِأَنَّ ضَعْفَهُمْ لَيْسَ بِحَائِلٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الضَّعْفِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ فَقْرٍ وَقِلَّةٍ وَبَيْنَ الْحِرْمَانِ مَنْ نَوَالِ الْكِمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَأَعَادَ مَعَهُ فِعْلَ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْقَوْلِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِيمَا قِيلَ، فَالْقَوْلُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يَقُولُ مَا يَعْتَقِدُ، وَهِيَ تَعْرِيضِيَّةٌ بالمخاطبين لأَنهم يضمون ذَلِكَ وَيُقَدِّرُونَهُ. وَالِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزَّرْيِ وَهُوَ الِاحْتِقَارُ وَإِلْصَاقُ الْعَيْبِ، فَأَصْلُهُ: ازْتِرَاءٌ، قُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا بَعْدَ الزَّايِ كَمَا قُلِبَتْ فِي الِازْدِيَادِ. وَإِسْنَادُ الِازْدِرَاءِ إِلَى الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ سَبَبُ الِازْدِرَاءِ غَالِبًا، لِأَنَّ الِازْدِرَاءَ يَنْشَأُ عَنْ مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ النَّاظِرِ. وَنَظِيرُهُ إِسْنَادُ الْفَرَقِ إِلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا ... وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: 116] وَإِنَّمَا سَحَرُوا عُقُولَهُمْ وَلَكِنَّ الْأَعْيُنَ تَرَى حَرَكَاتِ السَّحَرَةِ فَتُؤْثِرُ رُؤْيَتُهَا عَلَى عُقُولِ الْمُبْصِرِينَ. وَجِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْكِيدِ نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ جعلُوا ضعف أَتْبَاعه نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَقْرِهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْخَيْر عَنْهُمْ فَاقْتَضَى دَوَامُ ذَلِكَ مَا دَامُوا ضُعَفَاءَ فُقَرَاءَ، فَلِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ: لَنْ يَنَالُوا خَيْرًا، فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.

وَجُمْلَةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ أَنْ يَقُولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً. وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَمَعْنَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ أَمْرَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى رَبِّهِمُ الَّذِي علم بِمَا أَوْدَعَهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالَّذِي وَفَّقَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، أَيْ فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَتَعْلِيقُهُ بِالنُّفُوسِ تَنْبِيهٌ لِقَوْمِهِ عَلَى غَلَطِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] بِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْجُثْمَانِيِّ الدُّنْيَوِيِّ وَجَهِلُوا الْفَضَائِلَ وَالْكِمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ وَالْعَطَايَا اللَّدُنِّيَّةَ الَّتِي اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ شِدَّةُ الْعِلْمِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِنَفْيِ أَنْ يَقُول: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً. وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ مُجَازَاةً لِلْقَوْلِ، أَيْ لَوْ قُلْتَ ذَلِكَ لَكُنْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَظْلِمُهُمْ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ حَقِيقَتِهِمْ، وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِاقْتِحَامِ الْقَوْلِ بِمَا لَا يصدق. وَقَوله: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَبْلَغُ فِي إِثْبَاتِ الظُّلْمِ مِنْ: إِنِّي ظَالِمٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَأَكَّدَهُ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ: إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَحَرْفِ الْجَزَاءِ، تَحْقِيقًا لِظُلْمِ الَّذِينَ رَمَوُا الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّذَالَةِ وَسَلَبُوا الْفَضْلَ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّعْرِيضَ بِقَوْمِهِ فِي ذَلِكَ. وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ذِكْرُ مَوْقِفٍ آخَرَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ فِي شَأْنِ هَؤُلَاءِ الْمُؤمنِينَ.

[سورة هود (11) : الآيات 32 إلى 33]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 32 إِلَى 33] قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصْلًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُخَاصَمَةُ بِالْقَوْلِ وَإِيرَادُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] ، وَيَكُونُ فِي الشَّرِّ كَقَوْلِهِ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: 197] . وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ جَادَلَهُمْ فِيمَا هُوَ شَرٌّ فَعَبَّرَ عَنْ مُرَادِهِمْ بِلَفْظِ الْجِدَالِ الْمُوَجَّهِ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَهَذَا قَوْلٌ وَقَعَ عَقِبَ مُجَادَلَتِهِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْمُجَادَلَةَ كَانَتْ آخِرَ مُجَادَلَةٍ جَادَلَهَا قَوْمَهُ، وَأَنَّ ضَجَرَهُمْ وَسَآمَتَهُمْ مِنْ تَكْرَارِ مُجَادَلَتِهِ حَصَلَ سَاعَتَئِذٍ فَقَالُوا قَوْلَهُمْ هَذَا، كَانَت كُلُّهَا مُجَادَلَاتٍ مَضَتْ. وَكَانَتِ الْمُجَادَلَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الَّتِي اسْتَفَزَّتِ امْتِعَاضِهِمْ مِنْ قَوَارِعِ جَدَلِهِ حَتَّى سَئِمُوا مِنْ تَزْيِيفِ مُعَارَضَتِهِمْ وَآرَائِهِمْ شَأْنَ الْمُبْطِلِ إِذَا دَمَغَتْهُ الْحُجَّةُ، وَلِذَلِكَ أَرَادُوا طَيَّ بِسَاطِ الْجِدَالِ، وَأَرَادُوا إِفْحَامَهُ بِأَنْ طَلَبُوا تَعْجِيلَ مَا تَوَعَّدَهُمْ مِنْ عَذَابٍ يَنْزِلُ بِهِمْ كَقَوْلِهِ آنِفًا: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 26] . وَقَوْلُهُمْ: فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذَمُّرِ وَالتَّضْجِيرِ وَالتَّأْيِيسِ مِنْ الِاقْتِنَاعِ، أَجَابَهُمْ بِالْمُبَادَرَةِ لِبَيَانِ الْعَذَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الْمَوْعِظَةِ فَبَادَرَ بِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيَانِ مُجَادَلَتِهِ. وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: إِحْضَارُهُ. وَأَرَادُوا بِهِ تَعْجِيلَهُ وَعَدَمَ إِنْظَارِهِ.

[سورة هود (11) : آية 34]

و (مَا تَعِدُنا) مِصْدَاقُهُ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 26] . وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ قَصْرُ قَلْبٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ طَلَبِهِمْ، حَمَلَا لِكَلَامِهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الَخَصْمِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بِتَعَذُّرِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ كَاذِبًا وَهُمْ جَازِمُونَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَوَعَّدْهُمْ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ احْتِرَاسٌ رَاجِعٌ إِلَى حَمْلِ الْعَذَابِ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا. وَمَعْنَى وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ مَا أَنْتُمْ بِنَاجِينَ وَفَالِتِينَ مِنَ الْوَعِيدِ، يُرِيدُ أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَعَلَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَكُنْ لَهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ فَوَّضَهُ إِلَى الْمَشِيئَةِ أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ يُوقِنُ بِنُزُولِهِ بِهِمْ فَيَكُونُ التَّعْلِيقُ بِ إِنْ شاءَ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُعَجَّلًا أَو مُؤَخرا. [34] [سُورَة هود (11) : آيَة 34] وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) عَطْفٌ عَلَى وَعْظِهِمْ بِحُلُولِ الْعَذَابِ وَتَوَقُّعِهِ بَيَانَ حَالِ مُجَادَلَتِهِ إِيَّاهُمُ الَّتِي امْتَعَضُوا مِنْهَا بِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ لِنَفْعِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ وَتَسْفِيهِ آرَائِهِمْ حَيْثُ كَرِهُوا مَا هُوَ نَفْعٌ لَهُمْ. وَالنُّصْحُ: قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ يُرِيدُ صَاحِبُهُ صَلَاحَ الْمَعْمُولِ لِأَجْلِهِ. وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ النَّافِعَةِ الْمُنْقِذَةِ مِنَ الْأَضْرَارِ. وَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [91] . وَفِي الْحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» أَيِ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ لَهُمَا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُنَبَّأُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [79] . فَالْمُرَادُ بِالنُّصْحِ هُنَا هُوَ مَا سَمَّاهُ قَوْمُهُ بِالْجِدَالِ، أَيْ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى نُصْحًا، لِأَنَّ الْجِدَالَ يَكُونُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، فَجَوَابُهَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وَلَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ بُنِيَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ نَفْعِ النُّصْحِ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ فَجُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَأُتِيَ بِالشَّرْطِ قَيْدًا لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَهُوَ شَرْطٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ دَلِيلِ جَوَابِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيقِ وَلَكِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى تَعْلِيقٍ، وَغَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ التَّقْيِيدُ أَصْلًا، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّرْطِ فِي الشُّرُوطِ الْمَفْرُوضَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ أَكَلْتِ، إِنْ شَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِي شَرْطٍ مُقَيِّدٍ لِشَرْطٍ آخَرَ. عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِذَا اجْتَمَعَ فِعْلَا الشَّرْطَيْنِ حَصَلَ مَضْمُونُ جَوَابِهِمَا. وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنْ تَسْتَغِيثُوا بِنَا إِنْ تُذْعَرُوا تَجِدُوا ... مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانَهَا كَرَمُ فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَكُلٌّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مَقْصُودٌ التَّعْلِيقِ بِهِ. وَقَدْ حُذِفَ جَوَابُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْآخَرِ عَلَيْهِ. وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ مُؤْذِنٌ بِعَزْمِهِ عَلَى تَجْدِيدِ النُّصْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ وَاجِبَهُ هُوَ الْبَلَاغُ وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ كَرَاهِيَةِ دَعْوَةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَبَبُهُ خِذْلَانُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَلَوْلَاهُ لَنَفَعَهُمْ نُصْحُهُ، وَلَكِنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَعْلَمُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَلَا مَدَى اسْتِمْرَارِ غَوَايَتِهِمْ فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْأَمْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دُخُولِ اللَّامِ عَلَى مَفْعُولِ (نَصَحَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي بَرَاءَةَ

[سورة هود (11) : آية 35]

وَالْإِغْوَاءُ: جَعْلُ الشَّخْصِ ذَا غِوَايَةٍ، وَهِيَ الضَّلَالُ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ. وَجُمْلَةُ هُوَ رَبُّكُمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَعْلِيمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ إِنْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللَّهِ، أَوْ لِتَذْكِيرِهِمْ بِذَلِكَ إِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِهِ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ وَدًّا، وَسُوَاعًا، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرًا. وَالتَّقْدِيمُ فِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَلَيْسَ لِلْقَصْرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ أَصْلًا بَلْهَ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى غَيْرِهِ. وَتَمَثَّلَتْ فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ صُورَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ تَفْكِيرِ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ الَّتِي رَانَ عَلَيْهَا الضَّلَالُ فَقَلَبَ أَفْكَارَهَا إِلَى اعْوِجَاجٍ فَظِيعٍ، وَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي الْأُمَمِ الَّتِي لَمْ يُثَقِّفْ عُقُولَهَا الْإِرْشَادُ الدِّينِيُّ فَغَلَبَ عَلَيْهَا الِانْسِيَاقُ وَرَاءَ دَاعِي الْهَوَى، وَامْتَلَكَهَا الْغُرُورُ بِظَنِّ الْخَطَأِ صَوَابًا، وَمُصَانَعَةِ مَنْ تُصَأْصِئُ عَيْنُ بَصِيرَتِهِ بِلَائِحٍ مِنَ النُّورِ، مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى إِغْمَاضِهَا وَعَدِمَتِ الْوَازِعَ النَّفْسَانِيَّ فَلَمْ تَعْبَأْ إِلَّا بِالصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ وَلَمْ تَهْتَمَّ إِلَّا بِاللَّذَّاتِ وَحُبِّ الذَّاتِ وَلَا تَزِنُ بِمِعْيَارِ النَّقْدِ الصَّحِيحِ خُلُوصَ النُّفُوسِ مِنْ دخل النقائص. [35] [سُورَة هود (11) : آيَة 35] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْقِصَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْهَا فَقَدْ أَبْعَدَ، وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِنَظِيرِهَا السَّابِقِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ تَفَاصِيلَ الْقِصَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْمُخَاطَبُونَ تَفَاصِيلٌ عَجِيبَةٌ تَدْعُو الْمُنْكِرِينَ إِلَى أَنْ يَتَذَكَّرُوا إِنْكَارَهُمْ وَيُعِيدُوا ذِكْرَهُ.

وَكَوْنُ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا حَصَلَ فِي زَمَنِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَام- وشاهدة بكتب بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مَعَ أُمِّيَّتِهِ وَبُعْدِ قَوْمِهِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آيَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مَنْ خَلْفِهِ. فَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَرْفُ أَمْ الْمُخْتَصُّ بِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَمَوْقِعُ الْإِنْكَارِ بَدِيعٌ لِتَضَمُّنِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وأَمْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ لِغَرَضٍ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ. وَجُمْلَةُ قُلْ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِذَلِكَ إِذْ قَدْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تُغْنِ فِيهِمْ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَكَانَتْ تَبِعَةُ افْتِرَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ. وَتَقْدِيُمُ (عَلَيَّ) مُؤْذِنٌ بِالْقَصْرِ، أَيْ إِجْرَامِي عَلَيَّ لَا عَلَيْكُم فَلَمَّا ذَا تُكْثِرُونَ ادِّعَاءَ الِافْتِرَاءِ كَأَنَّكُمْ سَتُؤَاخَذُونَ بِتَبِعَتِهِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْرَاجِ لَهُمْ وَالْكَلَامِ الْمُنْصِفِ. وَمَعْنَى جَعْلِ الِافْتِرَاءِ فِعْلًا لِلشَّرْطِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقَعَ الِافْتِرَاءُ كَقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: 116] . وَلَمَّا كَانَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ إِجْرَامًا عَدَلَ فِي الْجَوَابِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالِافْتِرَاءِ مَعَ أَنَّهُ الْمُدَّعِي إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْإِجْرَامِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: فَعَلَيَّ إِجْرَامُ افْتِرَائِي. وَذِكْرُ حَرْفِ (عَلَى) مَعَ الْإِجْرَامِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْإِجْرَامَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ مَادَّةُ الْإِجْرَامِ.

[سورة هود (11) : آية 36]

وَالْإِجْرَامُ: اكْتِسَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ الذَّنْبُ، فَهُوَ يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ لَا مَحَالَةَ. وَجُمْلَةُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَتَأْيِيدُهُ بِمُقَابِلِهِ، أَيْ فَإِجْرَامِي عَلَيَّ لَا عَلَيْكُمْ كَمَا أَنَّ إِجْرَامَكُمْ لَا تَنَالُنِي مِنْهُ تَبِعَةٌ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُجْرِمُونَ أَيْ تَبِعَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ مَعْنَى لَا تَقْدِيرَ إِعْرَابٍ، وَالشَّيْءُ يُؤَكَّدُ بِضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 2، 3] . وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَوْجِيهٌ بَدِيعٌ وَهُوَ إِفَادَةُ تَبْرِئَةِ نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ الْقُرْآنَ فَإِنَّ افْتِرَاءَ الْقُرْآنِ دَعْوًى بَاطِلَةً ادَّعَوْهَا عَلَيْهِ فَهِيَ إِجْرَامٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ قَوْلِكُمُ الَّذِي تُجْرِمُونَهُ عليّ بَاطِلا. [36] [سُورَة هود (11) : آيَة 36] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا [هود: 32] أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وَاسْمُ (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهُ أَمْرُهُمْ خَطِيرٌ لِأَنَّهَا تَأْيِيسٌ لَهُ مِنْ إِيمَانِ بَقِيَّةِ قَوْمِهِ كَمَا دَلَّ حَرْفُ لَنْ الْمُفِيدُ تَأْبِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِتَسْلِيَتِهِ بِجُمْلَةِ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّسْلِيَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُحْزِنِ. وَالِابْتِئَاسُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْهَمُّ وَالْحَزَنُ، أَيْ لَا تَحْزَنْ. وَمَعْنَى الِافْتِعَالِ هُنَا التَّأَثُّرِ بِالْبُؤْسِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْخَبَر الْمَذْكُور. بِما كانُوا يَفْعَلُونَ هُوَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَاعْتِرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى وَقْتِ أَنْ

[سورة هود (11) : آية 37]

أُوحِيَ إِلَيْهِ هَذَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [نوح: 6، 7] . وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِ قَدْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَدْ آمَنَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ يَقِينًا دُونَ الَّذين ترددوا. [37] [سُورَة هود (11) : آيَة 37] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) لَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الِابْتِئَاسِ بِفِعْلِهِمْ مَعَ شِدَّةِ جُرْمِهِمْ مُؤْذِنًا بِأَنَّ اللَّهَ يَنْتَصِرُ لَهُ، أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ لِتَهْيِئَةِ نَجَاتِهِ وَنَجَاةِ مَنْ قَدْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [الْقَمَر: 10، 11] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَبْتَئِسْ [هود: 36] وَهِيَ بِذَلِكَ دَاخِلَةٌ فِي الْمُوحَى بِهِ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْفُلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَوَحْيِنا، وَلِذَلِكَ فَنُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الْفُلْكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا لِلْبَشَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا يُوجَدُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْ إِحْصَاءِ قُرُونِهَا. وَالْفُلْكُ اسْمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالْبَاءُ فِي بِأَعْيُنِنا لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (اصْنَعِ) . وَالْأَعْيُنُ اسْتِعَارَةٌ لِلْمُرَاقَبَةِ وَالْمُلَاحَظَةِ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي بِأَعْيُنِنا بِمَعْنَى الْمُثَنَّى، أَيْ بِعَيْنَيْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] . وَالْمُرَادُ الْكِنَايَةُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ مِنَ الْخَلَلِ وَالْخَطَأِ فِي الصُّنْعِ.

[سورة هود (11) : الآيات 38 إلى 39]

وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْوَحْيُ الَّذِي بِهِ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْفُلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِبَاءِ الْمُلَابَسَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ بِالصُّنْعِ. وَدَلَّ النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَلَى أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِ سَيَنْزِلُ بِهِمْ عِقَابٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْمُخَاطَبَةُ الَّتِي تَرْفَعُ عِقَابَهُمْ فَتَكُونُ لِنَفْعِهِمْ كَالشَّفَاعَةِ، وَطَلَبِ تَخْفِيفِ الْعِقَابِ لَا مُطْلَقَ الْمُخَاطَبَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا تَوْطِئَةٌ لِنَهْيِهِ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ فِي شَأْنِ ابْنِهِ الْكَافِرِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سُؤَالُ نَجَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّدُّ عَلَيْهِ حِينَ السُّؤَالِ أَلْطَفَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَقَعُ وَبَيَانٌ لِسَبَبِ الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثَالٌ لِتَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ السَّائِلِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزِلَةَ السَّائِلِ إِذَا قَدَّمَ إِلَيْهِ من الْكَلَام مَا يُلَوِّحُ إِلَى جِنْسِ الْخَبَرِ فَيَسْتَشْرِفُهُ لِتَعْيِينِهِ اسْتِشْرَافًا يُشْبِهُ اسْتِشْرَافَ السَّائِلِ عَنْ عين الْخَبَر. [38، 39] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 38 إِلَى 39] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ [هود: 37] ، أَيْ أُوحِيَ إِلَيْهِ اصْنَعِ الْفُلْكَ، وَصَنَعَ الْفُلْكَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ صُنْعِهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ لِتَخْيِيلِ السَّامِعِ أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِصَدَدِ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَجُمْلَةُ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَصْنَعُ.

وكُلَّما كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (كُلَّ) وَ (مَا) الظَّرْفِيَّةِ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَانْتَصَبَتْ (كُلَّ) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظَّرْفِيَّةَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ سَخِرُوا، وَهُوَ جَوَابُهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: وَسَخِرَ مِنْهُ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي كُلِّ زَمَنِ مرورهم عَلَيْهِ. و (لما) فِي (كُلَّمَا) مِنَ الْعُمُومِ مَعَ الظَّرْفِيَّةِ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلُ (إِذَا) فَاحْتَاجَتْ إِلَى جَوَابٍ وَهُوَ سَخِرُوا مِنْهُ. وَجُمْلَةُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا حِكَايَةٌ لِمَا يُجِيبُ بِهِ سُخْرِيَتَهُمْ، أُجْرِيَتْ عَلَى طَرِيقَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ سَخِرُوا تَتَضَمَّنُ أَقْوَالًا تَنْبَنِي عَنْ سُخْرِيَتِهِمْ أَوْ تُبِينُ عَنْ كَلَامٍ فِي نُفُوسِهِمْ. وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ فِي عَمَلِ السَّفِينَةِ وَمِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِذْ كَانُوا حَوْلَهُ وَاثِقِينَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ جَمْعُهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ. وَالسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ بِاحْتِقَارٍ وَاسْتِحْمَاقٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [10] ، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى بِ (مِنْ) . وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنْهُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ لَا يَأْتِي بِتَصْدِيقِ مُدَّعَاهُ. وَسُخْرِيَةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْ سَفَهِ عُقُولِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَالسُّخْرِيَتَانِ مُقْتَرِنَتَانِ فِي الزَّمَنِ. وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما تَسْخَرُونَ فَهُوَ تَشْبِيهٌ فِي السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى السُّخْرِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ بَوْنٌ.

[سورة هود (11) : آية 40]

وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ كَافَ التَّشْبِيهِ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] فَيُفِيدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ السُّخْرِيَتَيْنِ، لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ الْمُعَلَّلَةَ أَحَقُّ مِنَ الْأُخْرَى، فَالْكُفَّارُ سَخِرُوا مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِعَمَلٍ يَجْهَلُونَ غَايَتَهُ، وَنُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعُهُ سَخِرُوا مِنَ الْكُفَّارِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فِي غُرُورٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أَيْ سَيَظْهَرُ مَنْ هُوَ الْأَحَقُّ بِأَنْ يُسْخَرَ مِنْهُ. وَفِي إِسْنَادِ (الْعِلْمِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ دُونَ الضَّمِيرِ الْمُشَارِكِ بِأَنْ يُقَالَ: فَسَوْفَ نَعْلَمُ، إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْأَحَقُّ بِعِلْمِ ذَلِكَ. وَهَذَا يُفِيدُ أَدَبًا شَرِيفًا بِأَنَّ الْوَاثِقَ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ لَا يُزَعْزِعُ ثِقَتَهُ مُقَابَلَةُ السُّفَهَاءِ أَعْمَالَهُ النَّافِعَةَ بِالسُّخْرِيَةِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَسْخَرُوا مِنَ السَّاخِرِينَ. وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ [192] . وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابُ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ الْخَالِدُ فِي الْآخِرَةِ. ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَحُلُولُ الْعَذَابِ: حُصُولُهُ شَبَّهَ الْحُصُولَ بِحُلُولِ الْقَادِمِ إِلَى الْمَكَانِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَة. [40] [سُورَة هود (11) : آيَة 40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) حَتَّى غَايَةٌ لِ يَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] أَيْ يَصْنَعُهُ إِلَى زَمَنِ مَجِيءِ أَمْرِنَا، فَ إِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ جِيءَ لَهُ بِجَوَابٍ. وَهُوَ جُمْلَةُ قُلْنَا احْمِلْ.

وَجَعَلَ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا فِي حَرْفِ الشَّرْطِ مِنْ مَعْنَى الزَّمَانِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَحَصَلَ مَعْنَى الْغَايَةِ عِنْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَظْمٌ بَدِيعٌ بِإِيجَازِهِ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَمْرَ التَّكْوِينِ بِالطُّوفَانِ، وَيَحْتَمِلُ الشَّأْنَ وَهُوَ حَادِثُ الْغَرَقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِهِ بِأَنَّهُ فَوْقَ مَا يَعْرِفُونَ. وَمَجِيءُ الْأَمْرِ: حُصُولُهُ. وَالْفَوَرَانُ: غَلَيَانُ الْقِدْرِ، وَيُطْلِقُ عَلَى نَبْعِ الْمَاءِ بِشِدَّةٍ، تَشْبِيهًا بِفَوَرَانِ مَاءٍ فِي الْقِدْرِ إِذَا غَلِيَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلَ قَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: 12] . وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُمْ إِسْنَادُهُ إِلَى التَّنُّورِ، فَإِنَّ التَّنُّورَ هُوَ الْمَوْقِدُ الَّذِي يَنْضَجُ فِيهِ الْخُبْزُ، فَكَثُرَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ التَّنُّورِ، بَلَغَتْ نِسْبَةُ أَقْوَالٍ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي قَبُولُهُ. وَمِنْهَا مَا لَهُ وَجْهٌ وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ. فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَبْقَى التَّنُّورَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَجَعَلَ الْفَوَرَانَ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنْ أَحَدِ التَّنَانِيرِ وَأَنَّهُ عَلَامَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا فَارَ الْمَاءُ مِنْ تَنُّورِهِ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأَ الطُّوفَانِ فَرَكِبَ الْفُلْكَ وَأَرْكَبَ مَنْ مَعَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ التَّنُّورَ عَلَى الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ فَفَسَّرَهُ بِسَطْحِ الْأَرْضِ، أَيْ فَارَ الْمَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ بِسَطْحِ الْأَرْضِ كَفُوَّهَةِ التَّنُّورِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَعْلَى الْأَرْضِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ فارَ والتَّنُّورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ لِاشْتِدَادِ الْحَالِ، كَمَا يُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ. وَقَعَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فِي

تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: وَأَنْشَدَ الطَّبَرْسِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ. وَهُوَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ... وَنَفْثَأُهَا عَنَّا إِذَا قِدْرُهَا غَلَى يُرِيدُ بِالْقِدْرِ الْحَرْبَ، وَنَفْثَأُهَا، أَيْ نُسَكِّنُهَا، يُقَالُ: فَثَأَ الْقِدْرُ إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهَا بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَفارَ التَّنُّورُ مَثَلٌ لِبُلُوغِ الشَّيْءِ إِلَى أَقْصَى مَا يُتَحَمَّلُ مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَامْتَلَأَ الصَّاعُ، وَفَاضَتِ الْكَأْسُ وَتَفَاقَمَ. وَالتَّنُّورُ: مَحْفِلُ الْوَادِي، أَيْ ضَفَّتُهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ طَمَا الْوَادِي مِنْ قَبِيلِ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. وَالْمَعْنَى: بِأَنَّ نَفَاذَ أَمْرِنَا فِيهِمْ وَبَلَغُوا مِنْ طُولِ مُدَّةِ الْكُفْرِ مَبْلَغًا لَا يُغْتَفَرُ لَهُمْ بَعْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] . وَالتَّنُّورُ: اسْمٌ لِمَوْقِدِ النَّارِ لِلْخُبْزِ. وَزَعَمَهُ. اللَّيْثُ مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ، أَيْ كَالصَّابُونِ وَالسَّمُّورِ. وَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: كَلَامُ اللَّيْثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيٌّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَعُّولٌ مِنْ تَنَرَ وَلَا نَعْرِفُ تَنَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نُونٌ قَبْلَ رَاءٍ فَإِنَّ نَرْجِسَ مُعَرَّبٌ أَيْضًا. وَقَدْ عُدَّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَنَظَمَهَا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ دُرَيْدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَزْنُهُ فَعَّولٌ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، قَالَ: وَزْنُهُ تَفْعُولٌ مِنَ النُّورِ (أَيْ فَالتَّاءُ زَايِدَةٌ) وَأَصْلُهُ تَنُوُورٌ بِوَاوَيْنِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى هَمْزَةً لِانْضِمَامِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا ثُمَّ شُدِّدَتِ النُّونُ عِوَضًا عَمَّا حُذِفَ أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِ: تَقَضَّى الْبَازِيُّ بِمَعْنَى تَقَضَّضَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ. وَالزَّوْجُ: شَيْءٌ يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ فِي حَالِةٍ. وَأَصْلُهُ اسْمٌ لِمَا يَنْضَمُّ إِلَى فَرْدٍ فَيَصِيرُ زَوْجًا لَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجٌ للْآخر. وَالْمرَاد ب زَوْجَيْنِ هُنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنَ النَّوْعِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَةُ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ، أَيِ احْمِلْ فِيهَا مِنْ أَزْوَاجِ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، واثْنَيْنِ مَفْعُولُ احْمِلْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ زَوْجَيْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [143] . وَلِئَلَّا يَحْمِلَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْ نَوْعٍ لِتَضِيقَ السَّفِينَةُ وَتَثْقُلَ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِتَنْوِينِ كُلٍّ فَيَكُونُ تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَكُونُ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ احْمِلْ، وَيَكُونُ اثْنَيْنِ صِفَةً لِ زَوْجَيْنِ أَيْ لَا تَزِدْ عَلَى اثْنَيْنِ. وَأَهْلُ الرَّجُلِ قَرَابَتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَزَوْجُهُ أَوَّلُ مَنْ يُبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْأَهْلِ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: 29] ، وَقَالَ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمرَان: 121] أَيْ مِنْ عِنْدِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-. ومَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ مَنْ مَضَى قَوْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ وَعِيدُهُ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ، يَعْنِي إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهلك كَافِرًا.، وَمَا صدق هَذَا إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَابْنُهُ مِنْهَا الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَكَانَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- امْرَأَتَانِ. وَعُدِّيَ سَبَقَ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ سَبَقَ مَعْنَى: حَكَمَ، كَمَا عُدِّيَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 171] لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِالْتِزَامِ النَّافِعِ.

[سورة هود (11) : آية 41]

وَ (مَنْ آمَنَ) كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِيلِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْقِصَّةِ فِي قِلَّةِ الصَّالِحِينَ. قِيلَ: كَانَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَكَانَ مُعْظَمُ حُمُولَةِ السَّفِينَةِ من الْحَيَوَان. [41] [سُورَة هود (11) : آيَة 41] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: 40] أَيْ قُلْنَا لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَنْ أُمِرَ بِحَمْلِهِ ارْكَبُوا. وَضَمِيرُ فِيها لَمَفْهُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ السَّفِينَةِ كَقَوْلِهِ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [الْقَمَر: 13] أَيْ سَفِينَةٍ. وَعُدِّيَ فِعْلُ ارْكَبُوا بِ (فِي) جَرْيًا عَلَى الْفَصِيحِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ إِذَا عَلَاهَا. وَأَمَّا رُكُوبُ الْفلك فيعدّى ب (فِي) لِأَنَّ إِطْلَاقَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا هُوَ جُلُوسٌ وَاسْتِقْرَارٌ فَلَا يُقَالُ: رَكِبَ السَّفِينَةَ، فَأَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرُّكُوبِ الْحَقِيقِيِّ وَالرُّكُوبِ الْمُشَابِهِ لَهُ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ. وَالْبَاء فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ارْكَبُوا أَيْ مُلَابِسِينَ لِاسْمِ اللَّهِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْقَوْلِ لِقَائِلِهِ، أَيْ قَائِلِينَ: بِاسْمِ اللَّهِ. ومَجْراها وَمُرْساها- بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ فِيهِمَا- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَهُمَا مَصْدَرَا، أَجْرَى السَّفِينَةَ إِذَا جَعَلَهَا جَارِيَةً، أَيْ سَيَّرَهَا بِسُرْعَةٍ، وَأَرْسَاهَا إِذَا جَعَلَهَا رَاسِيَةً، أَيْ وَاقِفَةً عَلَى الشاطئ. يُقَال: رما إِذَا ثَبَتَ فِي الْمَكَانِ.

[سورة هود (11) : الآيات 42 إلى 43]

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ «مَجْرَاهَا» فَقَطْ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مَفْعَلٌ لِلْمَصْدَرِ أَوِ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ. وَأَمَّا مُرْساها- فَبِضَمِّ الْمِيمِ- مِثْلَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: مَرْسَاهَا- بِفَتْحِ الْمِيمِ-. وَالْعُدُولُ عَنِ الْفَتْحِ فِي مُرْساها فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْقِيَاسِ مُمَاثِلُ (مَجْرَاهَا) وَجْهُهُ دَفْعُ اللَّبْسِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِاسْمِ الْمَرْسَى الَّذِي هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِرُسُوِّ السُّفُنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْراها وَمُرْساها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالنِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، أَيْ وَقْتَ إِجْرَائِهَا وَوَقْتَ إِرْسَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَهُوَ رَأْيُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالرُّكُوبِ الْمُقَيَّدِ بِالْمُلَابَسَةِ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي التَّعْلِيلِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَأَكَّدَ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ تَحْقِيقًا لِأَتْبَاعِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنَ الْغَرَقِ. [42، 43] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 42 الى 43] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعَا إِلَى اعْتِرَاضِهَا هُنَا ذِكْرُ (مُجْرَاهَا) إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ وَصْفًا لِعِظَمِ الْيَوْمِ وَعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَيْسِيرِ نَجَاتِهِمْ. وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ. وَعَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] . وَالْمَوْجُ: مَا يَرْتَفِعُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى سَطْحِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ، وَتَشْبِيهُهُ بِالْجِبَالِ فِي ضَخَامَتِهِ. وَذَلِكَ إِمَّا لِكَثْرَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي تَعْلُو الْمَاءَ وَإِمَّا لِدَفْعِ دَفَقَاتِ الْمَاءِ

الْوَارِدَةِ مِنَ السُّيُولِ وَالْتِقَاءِ الْأَوْدِيَةِ الْمَاءَ السَّابِقَ لَهَا، فَإِنَّ حَادِثَ الطُّوفَانِ مَا كَانَ إِلَّا عَنْ مِثْلِ زَلَازِلَ تَفَجَّرَتْ بِهَا مِيَاهُ الْأَرْضِ وَأَمْطَارٌ جَمَّةٌ تَلْتَقِي سُيُولُهَا مَعَ مِيَاهِ الْعُيُونِ فَتَخْتَلِطُ وَتَجْتَمِعُ وَتَصُبُّ فِي الْمَاءِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهَا حَتَّى عَمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ إِغْرَاقَ أَهْلِهَا، كَمَا سَيَأْتِي. وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) . عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَنادى عَلَى أَعْلَقِ الْجُمَلِ بِهَا اتِّصَالًا وَهِيَ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: 41] لِأَنَّ نِدَاءَهُ ابْنَهُ كَانَ قَبْلَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، إِذْ يَتَعَذَّرُ إِيقَافُهَا بَعْدَ جَرْيِهَا لِأَنَّ الرَّاكِبِينَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُسْتَقِرِّينَ فِي جَوْفِ السَّفِينَةِ. وَابْنُ نُوحٍ هَذَا هُوَ ابْنٌ رَابِعٌ فِي أَبْنَائِهِ مِنْ زَوْجٍ ثَانِيَةٍ لِنُوحٍ كَانَ اسْمُهَا (وَاعِلَةَ) غَرِقَتْ، وَأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ. قِيلَ كَانَ اسْمُ ابْنِهِ (يَامَا) وَقِيلَ اسْمُهُ (كَنْعَانُ) وَهُوَ غَيْرُ كَنْعَانَ بْنِ حَامٍ جَدِّ الْكَنْعَانِيِّينَ. وَقَدْ أَهْمَلَتِ التَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ ذِكْرَ هَذَا الِابْنِ وَقَضِيَّةِ غَرَقِهِ وَهَلْ كَانَ ذَا زَوْجَةٍ أَوْ كَانَ عَزَبًا. وَجُمْلَةُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ حَالٌ مِنِ ابْنَهُ. وَالْمَعْزِلُ: مَكَانُ الْعُزْلَةِ أَيِ الِانْفِرَادِ، أَيْ فِي مَعْزِلٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ لَمْ يُؤْمِنْ بِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَمْ يُصَدِّقْ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ارْتَدَّ فَأَنْكَرَ وُقُوعَ الطُّوفَانِ فَكَفَرَ بِذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ الرَّسُولَ.

وَجُمْلَةُ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَادَى وَهِيَ إِرْشَادٌ لَهُ وَرِفْقٌ بِهِ. وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ ارْكَبْ مَعَنا لِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُ عَنِ الرُّكُوبِ يَجْعَلُهُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ إِذْ لَا يَكُونُ إِعْرَاضُهُ عَنِ الرُّكُوبِ إِلَّا أَثَرًا لِتَكْذِيبِهِ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ. فَقَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ ارْكَبْ مَعَنا كِنَايَةٌ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقَةِ الْعَرْضِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَدْ زَادَ ابْنَهُ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ بِالطُّوفَانِ قَوْلُهُ مُتَهَكِّمًا سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ. و (بنيّ) تَصْغِيرُ (ابْنٍ) مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَتَصْغِيرُهُ هُنَا تَصْغِيرُ شَفَقَةٍ بِحَيْثُ يُجْعَلُ كَالصَّغِيرِ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. فَأَصْلُهُ بُنَيْو، لِأَنَّ أَصْلَ ابْنٍ بَنْو، فَلَمَّا حَذَفُوا مِنْهُ الْوَاوَ لِثِقَلِهَا فِي آخِرِ كَلِمَةٍ ثُلَاثِيَّةٍ نَقَصَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَعَوَّضُوهُ هَمْزَةَ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ، وَمَهْمَا عَادَتْ لَهُ الْوَاوُ الْمَحْذُوفَةُ لِزَوَالِ دَاعِي الْحَذْفِ طُرِحَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ إِضَافَةُ الْمُصَغَّرِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَزِمَ كَسْرُ الْوَاوِ لِيَصِيرَ بُنَيْوِي، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْوَاوُ بَيْنَ عَدُوَّتَيْهَا الْيَاءَيْنِ قُلِبَتْ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي يَاءِ التَّصْغِيرِ فَصَارَ بُنَيَّي بِيَاءَيْنِ فِي آخِرِهِ أُولَاهُمَا مُشَدَّدَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُنَادَى الْمُضَافُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ يَجُوزُ حَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ وَإِبْقَاءُ الْكَسْرَةِ صَارَ بُنَيَّ- بِكَسْرِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بُنَيَّ بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا يَجُوزُ فَتْحُهَا فِي النِّدَاءِ، أَصله يَا بُنَيِّيَ بِيَاءَيْنِ أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ وَهِيَ يَاءُ التَّصْغِيرِ مَعَ لَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي أَصْلُهَا الْوَاوُ ثُمَّ اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ الْأَصْلِيَّةُ. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ سَآوِي وَجُمْلَةُ قالَ لَا عاصِمَ لِوُقُوعِهِمَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ. وَقَوْلُهُ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ قَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ أعالي الْجبَال. و (آوي) : أَنْزِلُ، وَمَصْدَرُهُ: الْأُوِيُّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ-.

وَجُمْلَةُ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ إِمَّا صِفَةٌ لِ (جَبَلٍ) أَيْ جَبَلٍ عَال، وإمّا استيناف بَيَانِيٌّ، لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السّلام- يسْأَل لماذَا يَأْوِي إِلَى جَبَلٍ إِذِ ابْنُهُ قَدْ سَمِعَهُ حِينَ يُنْذِرُ النَّاسَ بِطُوفَانٍ عَظِيمٍ فَظَنَّ الِابْنُ أَنَّ أَرْفَعَ الْجِبَالِ لَا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ، وَأَنَّ أَبَاهُ مَا أَرَادَ إِلَّا بُلُوغ المَاء إِلَى غَالِبَ الْمُرْتَفَعَاتِ دُونَ الْجِبَالِ الشَّامِخَاتِ. وَلِذَلِكَ أَجَابَهُ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ مَأْمُورِهِ وَهُوَ الطُّوفَانُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ. وَاسْتِثْنَاءُ مَنْ رَحِمَ مِنْ مَفْعُولٍ يَتَضَمَّنُهُ (عَاصِمَ) إِذِ الْعَاصِمُ يَقْتَضِي مَعْصُومًا وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَأَرَادَ بِ مَنْ رَحِمَ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ النَّجَاةَ مِنَ الْغَرَقِ بِرَحْمَتِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُظْهِرُهُ الْوَحْيُ بِصُنْعِ الْفُلْكِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى كَيْفِيَّةِ رُكُوبِهِ. وَالْمَوْجُ: اسْمُ جَمْعِ مَوْجَةٍ، وَهِيَ: مَقَادِيرُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ تَتَصَاعَدُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ مِنَ اضْطِرَابِ الْمَاءِ بِسَبَبِ شِدَّةِ رِيَاحٍ، أَوْ تَزَايُدِ مِيَاهٍ تَنْصَبُّ فِيهِ، وَيُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ إِذَا اضْطَرَبَ مَاؤُهُ. وَقَالُوا: مَاجَ الْقَوْمُ، تَشْبِيهًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ وَاضْطِرَابِهِمْ بِاضْطِرَابِ الْبَحْرِ. وَحَيْلُولَةُ الْمَوْجِ بَيْنَهُمَا فِي آخِرِ الْمُحَاوَرَةِ يُشِيرُ إِلَى سُرْعَةِ فَيَضَانِ الْمَاءِ فِي حِينِ الْمُحَاوَلَةِ. وَأَفَادَ قَوْلُهُ: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ أَنَّهُ غَرِقَ وَغَرِقَ مَعَهُ مَنْ تَوَعَّدَهُ بِالْغَرَقِ، فَهُوَ إيجاز بديع.

[سورة هود (11) : آية 44]

[سُورَة هود (11) : آيَة 44] وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) لَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] وُقُوعَ الْغَرَقِ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ كَمَا عَلِمْتَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى انْتِهَاءِ الطُّوفَانِ. وَبِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَفْعُولِ هُنَا اخْتِصَارٌ لِظُهُورِ فَاعِلِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ. وَخِطَابُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِطَرِيقَةِ النِّدَاءِ وَبِالْأَمْرِ اسْتِعَارَةٌ لِتَعَلُّقِ أَمْرِ التَّكْوِينِ بِكَيْفِيَّاتِ أَفْعَالٍ فِي ذَاتَيْهِمَا وَانْفِعَالِهِمَا بِذَلِكَ كَمَا يُخَاطَبُ الْعَاقِلُ بِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ فَيَقْبَلُهُ امْتِثَالًا وَخَشْيَةً. فَالِاسْتِعَارَةُ هُنَا فِي حَرْفِ النِّدَاءِ وَهِي تبعيّة. والبلغ حَقِيقَتُهُ اجْتِيَازُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى الْحَلْقِ بِدُونِ اسْتِقْرَارٍ فِي الْفَمِ. وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِإِدْخَالِ الشَّيْءِ فِي بَاطِنِ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ، وَمَعْنَى بَلْعِ الْأَرْضِ مَاءَهَا: دُخُولُهُ فِي بَاطِنِهَا بِسُرْعَةٍ كَسُرْعَةِ ازْدِرَادِ الْبَالِعِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ جَفَافُ الْأَرْضِ بِحَرَارَةِ شَمْسٍ أَوْ رِيَاحٍ بَلْ كَانَ بِعَمَلٍ أَرْضِيٍّ عَاجِلٍ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ زَلَازِلَ وَخَسْفًا انْشَقَّتْ بِهِ طَبَقَةُ الْأَرْضِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ حَتَّى غَارَتِ الْمِيَاهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ. وَإِضَافَةُ الْماءُ إِلَى (الْأَرْضِ) لِأَدْنَى مُلَابسَة لكَونه فِي وَجْهِهَا. وَإِقْلَاعُ السَّمَاءِ مُسْتَعَارٌ لِكَفِّ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْهَا لِأَنَّهُ إِذَا كَفَّ نُزُولُ الْمَطَرِ لَمْ يُخَلِّفِ الْمَاءَ الَّذِي غَارَ فِي الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْبَلْعِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ لِغَيْضِ الْمَاءِ. وَفِي قِرَانِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، وَفِي مُقَابَلَةِ (ابْلَعِي) بِ أَقْلِعِي مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ.

وغِيضَ الْماءُ مُغْنٍ عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى كَوْنِ السَّمَاءِ أَقْلَعَتْ وَالْأَرْضِ بَلَعَتْ، وَبُنِيَ فِعْلُ غِيضَ الْماءُ لِلنَّائِبِ لِمِثْلِ مَا بُنِيَ فُعِلَ وَقِيلَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِ الْغَيْضِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ لَهُ حَقِيقَةً لِأَن حُصُوله حُصُول مُسَبَّبٌ عَنْ سَبَبٍ وَالْغَيْضُ: نُضُوبُهُ فِي الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ: الْمَاءُ الَّذِي نَشَأَ بِالطُّوفَانِ زَائِدًا عَلَى بِحَارِ الْأَرْضِ وَأَوْدِيَتِهَا. وَقَضَاءُ الْأَمْرِ: إِتْمَامُهُ. وَبِنَاءُ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالِاسْتِوَاءُ: الِاسْتِقْرَارُ. وَالْجُودِيُّ: اسْمُ جَبَلٍ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَأَرْمِينَا، يُقَالُ لَهُ الْيَوْمَ (أَرَارَاطُ) . وَحِكْمَةُ إِرْسَائِهَا عَلَى جَبَلٍ أَنَّ جَانِبَ الْجَبَلِ أَمْكَنُ لِاسْتِقْرَارِ السَّفِينَةِ عِنْدَ نُزُولِ الرَّاكِبِينَ لأنّها تخف عِنْد مَا يَنْزِلُ مُعْظَمُهُمْ فَإِذَا مَالَتِ اسْتَنَدَتْ إِلَى جَانِبِ الْجَبَلِ. وبُعْداً مَصْدَرُ (بَعُدَ) عَلَى مِثَالِ كَرُمَ وَفَرِحَ، مَنْصُوبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، كَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِثْلَ: تَبًّا لَهُ، وَسُحْقًا، وَسُقْيًا، وَرَعْيًا، وَشُكْرًا. وَالْبُعْدُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْقِيرِ بِلَازِمِ كَرَاهِيَةِ الشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ: بَعُدَ أَوْ نَحْوُهُ لِمَنْ فُقِدَ، إِذَا كَانَ مَكْرُوهًا كَمَا هُنَا. وَيُقَالُ: نَفْيُ الْبُعْدِ لِلْمَرْغُوبِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ، فَيُقَالُ لِلْمَيِّتِ الْعَزِيزِ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: يَقُولُونَ لَا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونِي ... وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَحْجَمِ: إِخْوَتِي لَا تَبْعُدُوا أَبَدًا ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعُدُوا وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ (بَعِدَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْبُعْدِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْهَلَاك وَالْمَوْت، و (بعد) الْمَضْمُومُ الْعَيْنِ فِي الْبُعْدِ الْحَقِيقِيِّ. وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَغَرِقُوا. وَالْقَائِلُ (بُعْدًا) قَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ

الْمُؤْمِنُونَ تَحْقِيرًا لِلْكُفَّارِ وَتَشَفِّيًا مِنْهُمْ وَاسْتِرَاحَةً، فَبُنِيَ فِعْلُ وَقِيلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ قَائِلِهِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نُكَتًا مِمَّا أَتَيْنَا عَلَى أَكْثَرِهِ «وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي وَالنُّكَتِ اسْتَفْصَحَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ هَذِهِ الْآيَةَ ورقصوا لَهَا رؤوسهم لَا لِتَجَانُسِ الْكَلِمَتَيْنِ ابْلَعِي وأَقْلِعِي وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلِي الْكَلَامَ مِنْ حُسْنٍ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي هِيَ اللُّبُّ وَمَا عَدَاهَا قُشُورٌ» اه. وَقَدْ تَصَدَّى السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ لِبَيَانِ بَعْضِ خَصَائِصِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، تَقْفِيَةً عَلَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فِيمَا نَرَى فَقَالَ: «وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ، مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي ... (¬1) وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ. أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ ... فَنَقُولُ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنًى أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا ... وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ ... وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ.. وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا وَعَدْنَا مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ.. وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ.. وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ بِالْمَأْمُورِ ... وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ.. وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ ... كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ ... ثُمَّ بَنَى عَلَى تَشْبِيهِهِ هَذَا نَظْمُ الْكَلَامِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: قِيلَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ الْوَاقِعِ بِسَبَبِهَا قَوْلُ الْقَائِلِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الْمَجَازِ الْخِطَابَ لِلْجَمَادِ ... فَقَالَ: يَا أَرْضُ- وَيا سَماءُ ... ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغَوْرِ الْمَاءِ فِي الأَرْض البلغ.. لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ، ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ ... تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي) ... ثُمَّ أَمَرَ عَلَى ¬

(¬1) النكت مَوَاضِع كَلَام اختصرناه .

سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلشَّبَهِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، ثُمَّ قَالَ ماءَكِ بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ وَاخْتَارَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ لِأَجْلِ التَّرْشِيحِ. ثُمَّ اخْتَارَ لِاحْتِبَاسِ الْمَطَرِ الْإِقْلَاعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ مَا كَانَ، ثُمَّ أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ قَائِلًا أَقْلِعِي لِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ فِي ابْلَعِي، ثُمَّ قَالَ: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ. وَقِيلَ بُعْداً فَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْ غَاضَ الْمَاءَ، وَلَا بِمَنْ قَضَى الْأَمْرَ وَسَوَّى السَّفِينَةَ وَقَالَ بُعْداً، كَمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِقَائِلِ يَا أَرْضُ وَيَا سَماءُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، سُلُوكًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ لِسَبِيلِ الْكِنَايَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ ذِي قُدْرَةٍ لَا يُكْتَنَهُ قَهَّارٍ لَا يُغَالَبُ، فَلَا مَجَالَ لِذَهَابِ الْوَهْمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ قَائِلًا يَا أَرْضُ وَيَا سَماءُ، وَلَا غَائِضًا مَا غَاضَ، وَلَا قَاضِيًا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ تَسْوِيَةُ السَّفِينَةِ وَإِقْرَارُهَا بِتَسْوِيَةِ غَيْرِهِ وَإِقْرَارِهِ. ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالتَّعْرِيضِ تَنْبِيهًا لِسَالِكِي مَسْلَكِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ لَا غَيْرَ خَتْمَ إِظْهَارٍ لِمَكَانِ السُّخْطِ وَلِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنَّ قِيَامَةَ الطُّوفَانِ وَتِلْكَ الصُّورَةَ الْهَائِلَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لِظُلْمِهِمْ. وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُوَ النَّظَرُ فِي إِفَادَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ فِيهَا، وَجِهَةُ كُلِّ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِيمَا بَيْنَ جُمَلِهَا، لِذَلِكَ أَنَّهُ اخْتِيرَ يَا دُونَ سَائِرِ أَخَوَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى بُعْدِ الْمُنَادَى الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَقَامُ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ.. وَهُوَ تَبْعِيدُ الْمُنَادَى الْمُؤْذِنُ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ ... وَاخْتِيرَ ابْلَعِي عَلَى ابْتَلِعِي لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ، وَلِمَجِيءِ حَظِّ التَّجَانُسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْلِعِي أَوْفَرَ. وَقِيلَ ماءَكِ بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ لِمَا كَانَ فِي الْجَمْعِ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِكْثَارِ الْمُتَأَتِّي عَنْهَا مَقَامُ إِظْهَارِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ.. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ ابْلَعِي بِدُونِ الْمَفْعُولِ أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ تَرْكَهُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ تَعْمِيمِ الِابْتِلَاعِ

لِلْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالْبِحَارِ وَسَاكِنَاتِ الْمَاءِ بِأَسْرِهِنَّ نَظَرًا إِلَى مقَام ولأرود أَمر الَّذِي هُوَ مَقَامُ عَظَمَةٍ وَكِبْرِيَاءٍ. ثُمَّ إِذْ بَيَّنَ الْمُرَادَ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ مَعَ أَقْلِعِي احْتِرَازًا عَنِ الْحَشْوِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي أَنْ لَمْ يَقُلْ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فَأَقْلَعَتْ.. وَكَذَا الْأَمْرُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَمْرُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: لِيَبْعَدِ الْقَوْمُ، طَلَبًا لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاخْتِصَارِ وَهُوَ نُزُولُ بُعْداً مَنْزِلَةَ لِيَبْعَدُوا بُعْدًا، مَعَ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ مَعَ (بُعْدًا) الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْبُعْدَ يَحِقُّ لَهُمْ. ثُمَّ أَطْلَقَ الظُّلْمَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ نَوْعٍ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَظَاعَةِ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَدَّمَ النِّدَاءَ عَلَى الْأَمْرِ، فَقِيلَ: يَا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دُونَ أَنْ يُقَالَ: ابْلَعِي يَا أَرْضُ وَأَقْلِعِي يَا سَمَاءُ، جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّازِمِ فِيمَنْ كَانَ مَأْمُورًا حَقِيقَةً مِنْ تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ عَقِيبَهُ فِي نَفْسِ الْمُنَادَى قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنَى التَّرْشِيحِ. ثُمَّ قَدَّمَ أَمْرَ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرِ السَّمَاءِ وَابْتُدِئَ بِهِ لِابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا، وَنُزُولِهَا لِذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى، ثُمَّ أَتْبَعَهَا قَوْلُهُ: وَغِيضَ الْماءُ لِاتِّصَالِهِ بِغَيْضِيَّةِ الْمَاءِ وَأَخْذِهِ بِحُجْزَتِهَا، أَلَا تَرَى أَصْلَ الْكَلَامِ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ مَاءَهَا وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ فَأَقْلَعَتْ عَنْ إِرْسَالِهِ، وَغِيضَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ أُنْجِزَ الْمَوْعُودُ.. ثُمَّ أَتْبَعَهُ حَدِيثُ السَّفِينَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِمَا خُتِمَتْ ...

[سورة هود (11) : الآيات 45 إلى 47]

وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَهِيَ كَمَا تَرَى نَظْمٌ لِلْمَعَانِي لِطَيْفٌ وَتَأْدِيَةٌ لَهَا مُلَخَّصَةٌ مُبَيَّنَةٌ، لَا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الْفِكْرَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ. وَلَا الْتِوَاءَ يُشِيكُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُرْتَادِ، بَلْ إِذَا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا وجدت ألفاظها تطابق مَعَانِيهَا ومعانيها تطابق أَلْفَاظَهَا. وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَأَلْفَاظُهَا عَلَى مَا تَرَى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ، سَلِيمَةٌ عَنِ التَّنَافُرِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَشَاعَةِ، عَذْبَةٌ على العذبات، سلسلة عَلَى الْأَسَلَاتِ ... » . هَذِهِ نِهَايَةُ كَلَام الْمِفْتَاح. [45- 47] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 45 إِلَى 47] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) مَوْقِعُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ نِدَاءَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا كَانَ بَعْدَ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ نِدَاءً دَعَاهُ إِلَيْهِ دَاعِيَ الشَّفَقَةِ فَأَرَادَ بِهِ نَفْعَ ابْنِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ نَجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ إِلَّا لِلَّذِينَ يَرْكَبُونَ السَّفِينَةَ، وَلِأَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا ابْنَهُ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فَأَبَى وَجَرَتِ السَّفِينَةُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى نَجَاتِهِ فَكَيْفَ يَسْأَلُهَا مِنَ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كَمَا سَيَأْتِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا وَقَعَ قَبْلَ غَرَقِ النَّاسِ، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يُنَجِّيَ ابْنَهُ مِنَ الْغَرَقِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غَرَقِ مَنْ غَرِقُوا، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لِابْنِهِ وَأَنْ لَا يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ. وَالنِّدَاءُ هَنَا نِدَاءُ دُعَاءٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَدَعَا نُوحٌ رَبَّهُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَصْدُرُ بِالنِّدَاءِ غَالِبًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَشْرِيفٌ لِنُوحٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى رَأْفَةِ اللَّهِ بِهِ وَأَنَّ نَهْيَهُ الْوَارِدَ بَعْدَهُ نَهْيُ عِتَابٍ. وَجُمْلَةُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بَيَانٌ لِلنِّدَاءِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا تُعْطَفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا لَمْ يُعْطَفِ الْبَيَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 3، 4] ، وَخُولِفَ ذَلِكَ هُنَا. وَوَجَّهَ فِي «الْكَشَّافِ» اقْتِرَانَهُ بِالْفَاءِ بِأَنَّ فِعْلَ نَادَى مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ النِّدَاءِ، أَيْ مِثْلَ فِعْلِ (قُمْتُمْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ بَيَانٌ لِلنِّدَاءِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ نَادَى مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى إِرَادَةِ النِّدَاءِ، أَيْ أَرَادَ نِدَاءَ رَبِّهِ فَأَعْقَبَ إِرَادَتَهُ بِإِصْدَارِ النِّدَاءِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ النِّدَاءَ فَتَرَدَّدَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: 40] فَلَمْ يَطُلْ تَرَدُّدُهُ لَمَّا غَلَبَتْهُ الشَّفَقَةُ عَلَى ابْنِهِ فَأَقْدَمَ عَلَى نِدَاءِ، رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِاعْتِذَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. فَقَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاعْتِذَارِ وَالتَّمْهِيدِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالًا لَا يَدْرِي قَبُولَهُ وَلَكِنَّهُ اقْتَحَمَهُ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ فَلَهُ عُذْرُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ. وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 37] إِذْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِهِ قَدْ سَبَقَ

مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرٌ بِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ. وَهَذَا الْمَوْصُولُ مُتَعَيِّنٌ لِكَوْنِهِ صَادِقًا عَلَى ابْنِهِ إِذْ لَيْسَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهِ طَلَبَ مِنْهُ رُكُوبَ السَّفِينَةِ وَأَبَى، وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ ظَالِمٌ، أَيْ كَافِرٌ، وَأَنَّهُ مُغْرَقٌ، فَكَانَ عَدَمُ رُكُوبِهِ السَّفِينَةَ وَغَرَقُهُ أَمَارَةً أَنَّهُ كَافِرٌ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَجْهَلُ أَنَّ ابْنَهُ كَافِرٌ، وَلِذَلِكَ فَسُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَلَكِنَّهُ يَطْمَعُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ لِأَجْلِ قَرَابَتِهِ بِهِ، فَسُؤَالُهُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَاعَةِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَخْذٌ بِأَقْصَى دَوَاعِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِابْنِهِ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ الْمُفِيدُ أَنَّهُ لَا رَادَّ لِمَا حَكَمَ بِهِ وَقَضَاهُ، وَأَنَّهُ لَا دَالَّةَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ مَقَامُ تَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ مَا لَيْسَ بِمُحَالٍ. وَقَدْ كَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ تَقَرَّرَ فِي شَرْعِهِ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لِلْكَافِرِينَ، فَكَانَ حَالُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام- كَحال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ للنبيء وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 113] الْآيَةَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ تَعْرِيضٌ بِالْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّأَدُّبِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَسْئُولِ اسْتِغْنَاءً بِعِلْمِ الْمَسْئُولِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَسْأَلُكَ أَمْ أَتْرُكُ، كَقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُكَ أَنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ وَمَعْنَى أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أَشَدُّهُمْ حُكْمًا. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ يَتَعَلَّقُ بِمَاهِيَّةِ الْفِعْلِ، فَيُفِيدُ أَنَّ حكمه لَا يجوز وَأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَلَكِنَّهُ إِعْلَامٌ بِأَنَّ قَرَابَةَ الدِّينِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ هِيَ الْقَرَابَةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.

قَالَ النَّابِغَةُ يُخَاطِبُ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ: إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَالَ تَعَالَى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة: 56] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ لِغَرَابَتِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فَ (إِنَّ) فِيهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ. وعَمَلٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ- مَصْدَرٌ أَخْبَرَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَبِرَفْعِ غَيْرُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ (عَمَلٌ) . وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ عَمَلٌ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَبِنَصْبِ غَيْرُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ (عَمِلَ) . وَمَعْنَى الْعَمَلِ غَيْرِ الصَّالِحِ الْكُفْرُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْكُفْرِ (عَمَلٌ) لِأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي عَمَلِ صَاحِبِهِ كَامْتِنَاعِ ابْنِ نُوحٍ مِنَ الرُّكُوبِ الدَّالِّ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِوَعِيدِ الطُّوفَانِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيُهُ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ نَهْيَ عِتَابٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ بِسَبَبِ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، سَقَطَ مَا مَهَّدَ بِهِ لِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ، فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يَسْأَلَهُ وَأَنْ يَتَدَبَّرَ مَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ «فَلَا تَسْأَلَنِّي» - بِتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةُ وَنُونُ الْوِقَايَةِ أُدْغِمَتَا. وَأَثْبَتَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. أَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ فَقَرَأَ «فَلَا تسألنّ» - بنُون مشدة مَفْتُوحَةٍ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ

«فَلَا تَسْأَلْنِ» - بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً- عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمُعَدَّى إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَأَكْثَرُهُمْ حَذَفَ الْيَاءَ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا فِي الْوَصْلِ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو. ثُمَّ إِنْ كَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَسْبِقْ لَهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ كَانَ نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، نَهْيَ تَنْزِيهٍ لِأَمْثَالِهِ لِأَن دَرَجَة النبوءة تَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى سُؤَالِ رَبِّهِ سُؤْلًا لَا يَعْلَمُ إِجَابَتَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وَقَوْلِهِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبإ: 38] ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَكَانَ سُؤَالُهُ الْمَغْفِرَةَ لِابْنِهِ طَلَبًا تَخْصِيصَهُ مِنَ الْعُمُومِ. وَكَانَ نَهْيُهُ نَهْيَ لَوْمٍ وَعِتَابٍ حَيْثُ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ رَبِّهِ جَوَازَ ذَلِكَ. وَكَانَ قَوْلُهُ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ مُحْتَمِلًا لِظَاهِرِهِ، وَمُحْتَمِلًا لِأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعِلْمِ بِضِدِّهِ، أَيْ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إِلَى آخِرِهِ تَعْرِيضًا بِالْمَسْئُولِ كَانَ النَّهْيُ فِي قَوْله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نَهْيًا عَنِ الْإِلْحَاحِ أَوِ الْعَوْدِ إِلَى سُؤَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُجَرَّدَ تَمْهِيدٍ لِلسُّؤَالِ لِاخْتِبَارِ حَالِ إِقْبَالِ اللَّهِ عَلَى سُؤَالِهِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَسْئَلْنِ نَهْيًا عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالسُّؤَالِ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ بِكَلَامِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ تَنْزِيهُهُ عَنْ تَعْرِيضِ سُؤَالِهِ لِلرَّدِّ. وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ مَوْعِظَةٌ عَلَى تَرْكِ التَّثَبُّتِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ. وَالْجَهْلُ فِيهِ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

[سورة هود (11) : آية 48]

فَأَجَابَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَ رَبِّهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنَصُّلِ مِمَّا سَأَلَ فَاسْتَعَاذَ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِنْ كَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرَادَ بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ التَّعْرِيضَ بِالسُّؤَالِ فَهُوَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ فَالِاسْتِعَاذَةُ تَتَعَلَّقُ بِتَبِعَةِ ذَلِكَ أَوْ بِالْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ التَّمْهِيدَ لِلسُّؤَالِ فَالِاسْتِعَاذَةُ ظَاهِرَةٌ، أَيِ الِانْكِفَافُ عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالسُّؤَالِ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ ابْتِدَاءٌ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِطَلَبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ كَانَ أَهْلًا لِلرَّحْمَةِ. وَقَدْ سَلَكَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَسْلَكَ كَوْنِ سُؤَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سُؤَالًا لِإِنْجَاءِ ابْنِهِ مِنَ الْغَرَقِ فَاعْتَرَضَتْهُمْ سُبُلٌ وَعْرَةٌ مُتَنَائِيَةٌ، وَلَقُوا عَنَاءً فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا، وَالْآيَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا، وَلَعَلَّنَا سَلَكْنَا الْجَادَّةَ فِي تَفْسِيرهَا. [48] [سُورَة هود (11) : آيَة 48] قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَرَبِّهُ، فَإِنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أَجَابَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: 47] إِلَى آخِرِهِ خَاطَبَهُ رَبُّهُ إِتْمَامًا لِلْمُحَاوَرَةِ بِمَا يُسَكِّنُ جَأْشَهُ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ يَا نُوحُ اهْبِطْ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ لِيَجِيءَ عَلَى وَتِيرَةِ حِكَايَةِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ... وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] فَحَصَلَ بِذَلِكَ الْبِنَاءِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِشَارَةِ إِلَى جُزْءِ الْقِصَّةِ، كَمَا حَصَلَ بِالْفَصْلِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ جُزْءُ الْمُحَاوَرَةِ.

وَنِدَاءُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلتَّنْوِيهِ بِهِ بَيْنَ الْمَلَأِ. وَالْهُبُوطُ: النُّزُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] . وَالْمُرَادُ: النُّزُولُ مِنَ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ. وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ، وَهُوَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ الْوَدَاعِ أَيْضًا، يَقُولُونَ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَخِطَابُهُ بِالسَّلَامِ حِينَئِذٍ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ كَانَ كَافِلًا لَهُ النَّجَاةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [الْقَمَر: 13، 14] . وَأَصْلُ السَّلَامِ: السَّلَامَةُ، فَاسْتُعْمِلَ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِيذَانًا بِتَأْمِينِ الْمَرْءِ مُلَاقِيَهُ وَأَنَّهُ لَا يُضْمِرُ لَهُ سُوءًا، ثُمَّ شَاعَ فَصَارَ قَوْلًا عِنْدَ اللِّقَاءِ لِلْإِكْرَامِ. وَبِذَلِك نهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: اهْبِطْ بِسَلامٍ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الْحجر: 46] فَإِنَّ السَّلَامَ ظَاهِرٌ فِي التَّحِيَّةِ لِتَقْيِيدِهِ بِ (آمِنِينَ) . وَلَوْ كَانَ السَّلَامُ مُرَادًا بِهِ السَّلَامَةُ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِ (آمَنِينَ) تَوْكِيدًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. ومِنَّا تَأْكِيدٌ لِتَوْجِيهِ السَّلَامِ إِلَيْهِ لِأَنَّ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْمَعْنى: بِسَلام ناشىء مِنْ عِنْدِنَا، كَقَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَذَا التَّأْكِيدُ يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ الصِّلَةِ وَالْإِكْرَامِ فَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الَّذِي لَا تُذْكَرُ مَعَهُ (مِنْ) . وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيِ اهْبِطْ مَصْحُوبًا بِسَلَامٍ مِنَّا. وَمُصَاحَبَةُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ مُصَاحِبَةٌ مَجَازِيَّةٌ.

وَالْبَرَكَاتُ: الْخَيْرَاتُ النَّامِيَةُ، وَاحِدَتُهَا بَرَكَةٌ، وَهِيَ مِنْ كَلِمَاتِ التَّحِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدُّعَاءِ. وَلَمَّا كَانَ الدَّاعُونَ بِلَفْظِ التَّحِيَّةِ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ بِدُعَاءِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَصُدُورُ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْ لَدُنْهِ قَائِمٌ مَقَامَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ فَهُوَ إِفَاضَةُ بَرَكَاتٍ عَلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيمُهُمْ وَتَأْمِينُهُمْ وَالْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ. وَ (عَلَيْكَ) يَتَعَلَّقُ (بِسَلَامٍ) وَ (بَرَكَاتٍ) وَكَذَلِكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ. وَالْأُمَمُ: جَمْعُ أُمَّةٍ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي يَجْمَعُهَا نَسَبٌ إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ. يُقَالُ: أُمَّةُ الْعَرَبِ، أَوْ لُغَةٌ مِثْلَ أُمَّةِ التُّرْكِ، أَوْ مَوْطِنٌ مِثْلَ أُمَّةِ أَمْرِيكَا، أَوْ دِينٌ مِثْلَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَ أُمَمٍ دَالٌّ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكُونُ بَعْدَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَيْسَ الَّذِينَ رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ أُمَمًا لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ لِقَوْلِهِ: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] . وَتَنْكِيرُ أُمَمٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّعْمِيمَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ. وَ (مِنْ) فِي مِمَّنْ مَعَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى الَّذِينَ رَكِبُوا مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السَّفِينَةِ. وَمِنْهُمْ أَبْنَاؤُهُ الثَّلَاثَةُ. فَالْكَلَامُ بِشَارَةٌ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ مِنْهُمْ أُمَمًا كَثِيرَةً يَكُونُونَ مَحَلَّ كَرَامَتِهِ وَبَرَكَاتِهِ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنْ يَجْعَلَ مِنْهُمْ أُمَمًا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. وَهَذَا النَّظْمُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ بَدَأَ نُوحًا بِالسَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ وَشَرَكَ مَعَهُ فِيهِمَا أُمَمًا نَاشِئِينَ مِمَّنْ هُمْ مَعَهُ، وَفِيهِمُ النَّاشِئُونَ مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ مَعَهُ أَبْنَاءَهُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ نَسْلُهُ مِنْ بَعْدِهِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ مَعَهُ يَشْمَلُهُمُ السَّلَام والبركات بادىء بَدْء قَبْلَ نَسْلِهِمْ إِذْ عُنْوِنَ عَنْهُمْ بِوَصْفِ مَعِيَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ كَرَامَتِهِمْ. وَإِذْ كَانَ التَّنْوِيهُ بِالنَّاشِئِينَ

عَنْهُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اخْتِصَاصَهُمْ بِالْكَرَامَةِ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ نَاشِئِينَ عَنْ فِئَةٍ مُكَرَّمَةٍ بِمُصَاحَبَةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَحَصَلَ تَنْوِيهُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصُحْبَتِهِ وَنَسْلِهِمْ بِطَرِيقِ إِيجَازٍ بَدِيعٍ. وَجُمْلَةُ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ إِلَخْ، عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهَا تَبْيِينٌ لِمَا أَفَادَهُ التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْ أُمَمٍ آخَرِينَ. وَهَذِهِ الْوَاو تسمى استينافية وَأَصْلُهَا الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَبَعْضُهُمْ يُرْجِعُهَا إِلَى الْوَاوِ الزَّائِدَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الَّذِينَ أُغْرِقُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ جَدِّهِمْ، فَأُشْعِرُوا بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَنْبَأَ اللَّهُ نُوحًا بِأَنَّهُ سَيُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاء: 3] أَيْ وَكَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ غَيْرَ شَاكِرِينَ لِلنِّعْمَةِ. وَإِطْلَاقُ الْمَسِّ عَلَى الْإِصَابَةِ الْقَوِيَّةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فِي الْأَنْعَامِ [17] . وَذِكْرُ مِنَّا مَعَ يَمَسُّهُمْ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِ بِسَلامٍ مِنَّا لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يُصِيبُ الْأُمَّةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِالرِّضَى أَوِ الْغَضَبِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ تُرَتَّبِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ عَلَى أَسْبَابِهَا، إِذْ مِنْ حَقِّ النَّاسِ أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي الْحَوَادِثِ وَيَتَوَسَّمُوا فِي جَرَيَانِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُمْ بِدَلَالَةِ الْكَائِنَاتِ عِنْدَ انْقِطَاعِ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ يُبَيِّنُونَ لَهُمْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ وَيَكِلُونَ إِلَيْهِمُ النَّظَرَ فِي وَضْعِ الْمَدْلُولَاتِ عِنْدَ دَلَالَاتِهَا. وَمِثَالُهُ مَا هُنَا فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يُمَتِّعُ أُمَمًا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا يصنعون.

[سورة هود (11) : آية 49]

[سُورَة هود (11) : آيَة 49] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) اسْتِئْنَافٌ أُرِيدَ مِنْهُ الامتنان على النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّسْلِيَةُ. فَالِامْتِنَانُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها. وَالْمَوْعِظَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِلَخْ. وَالتَّسْلِيَةُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقِصَّةُ. وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ. وَأَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْأَخْبَارُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ النَّاسِ أَوْ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. فَهَذِهِ الْأَنْبَاءُ مُغَيَّبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ مُجْمَلَاتِهَا، وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الزَّمن الغابر نبيء يُقَالُ لَهُ: نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَصَابَ قَوْمَهُ طُوفَانٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ غَيْبٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَدَّعُوا عِلْمَهُ. عَلَى أَنَّ فِيهَا مَا هُوَ غَيْبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مِثْلَ قِصَّةِ ابْنِ نُوحٍ الرَّابِعِ وَعِصْيَانِهِ أَبَاهُ وَإِصَابَتِهِ بِالْغَرَقِ، وَمِثْلَ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ هُبُوطِهِ مِنَ السَّفِينَةِ، وَمِثْلَ سُخْرِيَةِ قَوْمِهِ بِهِ وَهُوَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، وَمَا دَارَ بَيْنَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمِهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ أهل الْكتاب. وَجُمْلَة مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ- ونُوحِيها- وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَخْبَارٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ بَعْضُهَا خَبَرٌ وَبَعْضُهَا حَالٌ. وَضَمِيرُ أَنْتَ تَصْرِيحٌ بِالضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: تَعْلَمُها لِتَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ.

وَعَطْفُ وَلا قَوْمُكَ مِنَ التَّرَقِّي، لِأَنَّ فِي قَوْمِهِ مَنْ خَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ كَانَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَثِيرًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِمَّا إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِمَّا إِلَى الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَمْثَالِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا، وَإِمَّا إِلَى تِلْكَ بِتَأْوِيلِ النَّبَأِ، فَيَكُونُ التَّذْكِيرُ بَعْدَ التَّأْنِيثِ شَبِيهًا بِالِالْتِفَاتِ. وَوَجْهُ تَفْرِيعِ أَمْرِ الرَّسُولِ بِالصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِيهَا قِيَاسَ حَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى حَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ، فَكَمَا صَبَرَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ. وَخَبَرُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُسْتَفَادٌ مِمَّا حُكِيَ مِنْ مُقَاوَمَةِ قَوْمِهِ وَمِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّبَاتَ مَعَ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةِ مِنْ مُسَمَّى الصَّبْرِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ عِلَّةٌ لِلصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيِ اصْبِرْ لِأَنَّ دَاعِيَ الصَّبْرِ قَائِمٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ تَكُونُ لِلْمُتَّقِينَ، فَسَتَكُونُ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ. وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الَّتِي تَعْقُبُ حَالَةً أُخْرَى. وَقَدْ شَاعَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: 132] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعاقِبَةُ لِلْجِنْسِ. وَاللَّامُ فِي لِلْمُتَّقِينَ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْمِلْكِ، فَيَقْتَضِي مِلْكَ الْمُتَّقِينَ لِجِنْسِ الْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ لَهُمْ لَا تَفُوتُهُمْ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَن أضدادهم.

[سورة هود (11) : الآيات 50 إلى 52]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 50 إِلَى 52] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) عَطْفٌ عَلَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: 25] ، فَعَطَفَ وَإِلى عادٍ عَلَى إِلى قَوْمِهِ [هود: 25] ، وَعَطَفَ أَخاهُمْ على نُوحاً [هود: 25] ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. وَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْعَطْفَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّ الْجَارَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَقَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ لِيُحْضَرَ ذِكْرُ عَادٍ مَرَّتَيْنِ بِلَفْظِهِ ثُمَّ بِضَمِيرِهِ. وَوَصْفُ (هُودٍ) بِأَنَّهُ أَخُو عَادٍ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ نَسَبِهِمْ كَمَا يُقَالُ: يَا أَخَا الْعَرَبِ، أَيْ يَا عَرَبِيُّ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ وَهُودٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَجُمْلَةُ قالَ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِي أَرْسَلْنا [هود: 25] . وَوَجْهُ التَّصْرِيحِ بِفِعْلِ الْقَوْلِ لِأَنَّ فِعْلَ (أَرْسَلْنَا) مَحْذُوفٌ، فَلَوْ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا كَمَا بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: 25] لَكَانَ بَيَانًا لِمَعْدُومٍ وَهُوَ غَيْرُ جَلِيٍّ. وَافْتِتَاحُ دَعْوَتِهِ بِنِدَاءِ قَوْمِهِ لِاسْتِرْعَاءِ أَسْمَاعِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَهَمِّيَّةِ مَا سَيُلْقِي إِلَيْهِمْ.

وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اعْبُدُوا أَوْ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. والإتيان بِالْحَال الاستقصاد إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَا إِلَهَ لَهُمْ غَيْرُهُ، أَوْ فِي حَالِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَهُمْ غَيْرُهُ. وَذَلِكَ تَشْنِيعٌ لِلشِّرْكِ. وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ تَوْبِيخٌ وَإِنْكَارٌ. فَهِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَيْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِي ادِّعَاءِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ كَانَ قَالَهَا مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ تَكْرِيرٌ لِلْأَهَمِّيَّةِ، يُقْصَدُ بِهِ تَهْوِيلُ الْأَمْرِ وَاسْتِرْعَاءُ السَّمْعِ اهْتِمَامًا بِمَا يَسْتَسْمِعُونَهُ، وَالنِّدَاءُ هُوَ الرَّابِطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَقُولَةً فِي وَقْتٍ غَيْرِ الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، فَكَوْنُهَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ ظَاهِرٌ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِير لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي فَطَرَنِي دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى الْإِرْشَادِ أَجْرًا بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُ يَسُوقُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ، لِأَنَّ إِظْهَارَ الْمُتَكَلِّمِ عِلْمَهُ بِالْأَسْبَابِ يُكْسِبُ كَلَامَهُ عَلَى الْمُسَبِّبَاتِ قُوَّةً وَتَحْقِيقًا. وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَاطِفَةً اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا عَنْ عَدَمِ تَعَقُّلِهِمْ، أَيْ تَأَمُّلِهِمْ فِي دَلَالَةِ حَالِهِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يُبَلِّغُ وَنُصْحِهِ لَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ. وَالْعَقْلُ: الْعِلْمُ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَيا قَوْمِ مِثْلَ نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- آنِفًا. وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ، أَيْ طَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا مَضَى مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنْ تَرْكِ عَقِيدَةِ الشّرك، لِأَن الاسْتِغْفَار اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الِاعْتِرَافَ

بِوُجُودِهِ وَيَسْتَلْزِمُ اعْتِرَافَ الْمُسْتَغْفِرِ بِذَنْبٍ فِي جَانِبِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ قَبْلَ مَجِيءِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَيْهِمْ غَيْرَ ذَنْبِ الْإِشْرَاكِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرْعٌ مِنْ قَبْلُ. وَأَمَّا ذَنْبُ الْإِشْرَاكِ فَهُوَ مُتَقَرِّرٌ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ جَمِيعِهَا فَكَانَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ جَامِعًا لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصْرِيحًا وَتَكْنِيَةً. وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ. وَفِي مَاهِيَّةِ التَّوْبَةِ الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنب فيؤول إِلَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْإِشْرَاكِ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى الْإِقْلَاعِ أَهَمُّ مِنْ طَلَبِ الْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ. ويُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ مِنِ اسْتَغْفِرُوا. وَالْإِرْسَالُ: بَعْثٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَأَطْلَقَ الْإِرْسَالَ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَشُبِّهَ بِإِرْسَالِ شَيْءٍ مِنْ مَكَانِ الْمُرْسِلِ إِلَى الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ. وَالسَّمَاءُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَصْدَرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ» . ومِدْراراً حَالٌ مِنَ السَّمَاءِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الدُّرُورِ وَهُوَ الصَّبُّ، أَيْ غَزِيرًا. جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِمْدَادَهُمْ بِالْمَطَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَتْ عَادٌ أَهْلَ زَرْعٍ وَكُرُومٍ فَكَانُوا بِحَاجَةٍ إِلَى الْمَاءِ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ السِّدَادَ لِخَزْنِ الْمَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ سِنِينَ فَتَنَاقَصَ نَسْلُهُمْ وَرِزْقُهُمْ جَزَاءً عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُودًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُرْسِلِ السَّماءَ وَعْدًا وَتَنْبِيهًا عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ دِيَارهمْ من حضر موت إِلَى الْأَحْقَافِ مُدُنًا وَحُلَلًا وَقِبَابًا. وَكَانُوا أَيْضًا مُعْجَبِينَ بِقُوَّةِ أُمَّتِهِمْ وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] فَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ جَزَاءً عَلَى تَرْكِ الشِّرْكِ زِيَادَةَ قُوَّتِهِمْ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَسِعَةِ

[سورة هود (11) : الآيات 53 إلى 56]

الْأَرْزَاقِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ يَجْعَلُهَا فِي غِنًى عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى وَقَادِرَةً عَلَى حِفْظِ اسْتِقْلَالِهَا وَيَجْعَلُ أُمَمًا كَثِيرَةً تَحْتَاجُ إِلَيْهَا. وإِلى قُوَّتِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَزِدْكُمْ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِ إِلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَضُمُّ. وَهَذَا وَعْدٌ لَهُمْ بِصَلَاحِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ تَحْذِيرًا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ. وَالتَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ. ومُجْرِمِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَتَوَلَّوْا أَيْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِجْرَامِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. [53- 56] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 53 الى 56] قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ. مُحَاوَرَةٌ مِنْهُمْ لِهُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِجَوَابٍ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْعَاطِفِ. وَافْتِتَاحُ كَلَامِهِمْ بِالنِّدَاءِ يُشِيرُ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَنَبَّهَ لَهُ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ لِغَفْلَتِهِ فَنَادَوْهُ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ تَوْبِيخُهُ وَلَوْمُهُ فَيَكُونُ كِنَايَةً ثَانِيَةً، أَوِ اسْتِعْمَالُ النِّدَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَوْلُهُمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بُهْتَانٌ لِأَنَّهُ أَتَاهُمْ بِمُعْجِزَاتٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [هود: 59] وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ لَمْ يَذْكُرْ آيَةً مُعَيَّنَةً لِهُودٍ- عَلَيْهِ

السَّلَامُ-. وَلَعَلَّ آيَتَهُ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ عِنْدَ بِعْثَتِهِ بِوَفْرَةِ الْأَرْزَاقِ وَالْأَوْلَادِ وَاطِّرَادِ الْخِصْبِ وَفْرَةً مُطَّرِدَةً لَا تَنَالُهُمْ فِي خِلَالِهَا نَكْبَةٌ وَلَا مُصِيبَةٌ بِحَيْثُ كَانَتْ خَارِقَةً لِعَادَةِ النِّعْمَةِ فِي الْأُمَمِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا من الْأَنْبِيَاء نبيء إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ» الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ تَكُنْ طِبْقًا لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ فَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ. وَلَمْ يَجْعَلُوا وَما نَحْنُ بِتارِكِي مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ. وعَنْ فِي عَنْ قَوْلِكَ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ لَا نَتْرُكُهَا تَرْكًا صَادِرًا عَنْ قَوْلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْف: 82] . وَالْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عِلَّةً لِتَرْكِهِمْ آلِهَتَهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ لِلسَّامِعِ وَمَنْ مَعَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَاذَا تَعُدُّونَ دَعْوَتَهُ فِيكُمْ، أَيْ نَقُولُ إِنَّكَ مَمْسُوسٌ مِنْ بَعْضِ آلِهَتِنَا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْآلِهَةِ تَهْدِيدًا لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّى لَهُ جَمِيعُ الْآلِهَةِ لَدَكُّوهُ دَكًّا. وَالِاعْتِرَاءُ: النُّزُولُ وَالْإِصَابَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَصَابَكَ بِسُوءٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ أَصَابَتْهُ بِمَسٍّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ بِدَعْوَةِ رَفْضِ عِبَادَتِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى انْتِظَامِ الْحُجَّةِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ نَوْعِ مَا يَصْدُرُ عَنِ السُّفِسْطَائِيِّينَ، فَجَعَلُوهُ مَجْنُونًا وَجَعَلُوا سَبَبَ جُنُونِهِ مَسًّا مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلِمَ يَتَفَطَّنُوا إِلَى دَخَلِ كَلَامِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْآلِهَةَ كَيْفَ تَكُونُ سَبَبًا فِي إِثَارَةِ ثَائِرٍ عَلَيْهَا.

وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَقُولِ اللِّسَانِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي اعْتِقَادَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ. قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) . لَمَّا جَاءُوا فِي كَلَامِهِمْ بِرَفْضِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَبِجَحْدِ آيَاتِهِ وَبِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى مُلَازَمَةِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ وَبِالتَّنْوِيهِ بِتَصَرُّفِ آلِهَتِهِمْ أَجَابَهُمْ هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ وَأَنَّهُمْ كَابَرُوا وَجَحَدُوا آيَاتِهِ. وَجُمْلَةُ أُشْهِدُ اللَّهَ إِنْشَاءٌ لِإِشْهَادِ اللَّهِ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْشَاءٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْخَلْقِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ قَصْدِ إِعْلَامِ السَّامِعِ بِمَا يُضْمِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى صِيَغِ الْعُقُودِ إِنْشَاءً بِلَفْظِ الْخَبَرِ. ثُمَّ حَمَّلَهُمْ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ شُرَكَائِهِمْ مُبَادَرَةً بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ أَتَوْا بِهِ اسْتِطْرَادًا، فَلِذَلِكَ كَانَ تَعَرُّضُهُ لِإِبْطَالِهِ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَجُمْلَةِ فَإِنْ تَوَلَّوْا [هود: 57] بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ فَإِنْ تَوَلَّوْا إِلَى آخِرِهَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَيَأْتِي. وَمَعْنَى إِشْهَادِهِ فَيُرَادُ مِنْ شُرَكَائِهِمْ تَحْقِيقُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ عَلَى أَمْرٍ جَازِمٍ قَدْ أَوْجَبَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَتَى فِي إِشْهَادِهِمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِزَاجَةَ إِنْشَاءِ الْإِشْهَادِ دُونَ رَائِحَةِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا يشركونه. وَمَا صدق الْمَوْصُولِ الْأَصْنَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمُؤَكَّدِ فِي

قَوْلِهِ: فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وَلَمَّا كَانَتِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَقْتَضِي اعْتِقَادَ عَجْزِهَا عَنْ إِلْحَاقِ إِضْرَارٍ بِهِ فَرَّعَ عَلَى الْبَرَاءَةِ جُمْلَةَ فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِقَوْمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ خِطَابُهُ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ، فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَكِيدُوهُ. وَأَدْخَلَ فِي ضَمِيرِ الْكَائِدِينَ أَصْنَامَهُمْ مُجَارَاةً لِاعْتِقَادِهِمْ وَاسْتِقْصَاءً لِتَعْجِيزِهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ وَأَصْنَامُكُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ. وَالْأَمْرُ بِ (كِيدُونِي) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيزِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْنَامِ وَبِالنِّسْبَةِ لِقَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات: 39] . وَهَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدُوهُ ثُمَّ ارْتَقَى فِي رُتْبَةِ التَّعْجِيزِ وَالِاحْتِقَارِ فَنَهَاهُمْ عَنِ التَّأْخِيرِ بِكَيْدِهِمْ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِأَصْنَامِهِمْ وَبِهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ إِنِّي تَوَكَّلْتُ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ فَكِيدُونِي وَهُوَ التَّعْجِيزُ وَالِاحْتِقَارُ. يَعْنِي: أَنَّهُ وَاثِقٌ بِعَجْزِهِمْ عَنْ كَيْدِهِ لِأَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، فَهَذَا مَعْنًى دِينِيٌّ قَدِيمٌ. وَأُجْرِيَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِدْلَالًا عَلَى صِحَّةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ ضُرِّهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَالِكُهُمْ جَمِيعًا يَدْفَعُ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَجُمْلَةُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها فِي مَحَلِّ صِفَةٍ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ حَالٍ مِنْهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا مِثْلُ الْغَرَضِ مِنْ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالْأَخْذُ: الْإِمْسَاكُ. وَالنَّاصِيَةُ: مَا انْسَدَلَ عَلَى الْجَبْهَةِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ. وَالْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلتَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا بِهَيْئَةِ إِمْسَاكِ الْإِنْسَانِ مِنْ نَاصِيَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ رَأْسُهُ بِيَدِ آخِذِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ انْفِلَاتًا. وَإِنَّمَا كَانَ تَمْثِيلًا لِأَنَّ دَوَابَّ كَثِيرَةً لَا نَوَاصِيَ لَهَا فَلَا يَلْتَئِمُ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ مَعَ عُمُومِ مَا مِنْ دَابَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ مَثَلًا

[سورة هود (11) : آية 57]

صَارَ بِمَنْزِلَةِ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا. وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِالنَّوْعِ الْمَقْصُودِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالِكُ الْقَاهِرُ لِجَمِيعِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَوْنُهُ مَالِكًا لِلْكُلِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفُوتَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُ قَاهِرًا لَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْجِزَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ تَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِتَوَكُّلِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِإِجْرَاءِ أَفْعَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالتَّأْيِيدِ لِرُسُلِهِ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ الِاتِّصَافُ الرَّاسِخُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُسْتَعَارٌ لِلْفِعْلِ الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ يُشَبَّهُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالسَّوَاءِ. قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: 43] . فَلَا جَرَمَ لَا يُسْلِمُ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ للظّالمين. [57] [سُورَة هود (11) : آيَة 57] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] . وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَوْجَبَهُ قَصْدُ الْمُبَادَرَةِ بِإِبْطَالِ بَاطِلِهِمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، فَهُوَ مُضَارِعٌ، وَهُوَ خِطَابُ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِجْرَاءِ الضَّمَائِرِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَالْوَاوُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَيَكُونُ كالاعتراض فِي إِجْرَاء الْقِصَّةِ لِقَصْدِ الْعِبْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [هود: 35] الْآيَةَ. خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَالْفَاءُ الْأُولَى لِتَفْرِيعِ الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمَوْعِظَةِ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ من كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقُولَ قَوْلٍ مَأْمُورٍ بِهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ الْمُحْتَمَلِ مَعْنَيَيْنِ غَيْرِ مُتَخَالِفَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ، وَلِأَجَلِهِ جَاءَ فِعْلُ تَوَلَّوْا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [مُحَمَّد: 38] . وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [80] . وَجُعِلَ جَوَابُ شَرْطِ التَّوَلِّي قَوْلَهُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَعَ أَنَّ الْإِبْلَاغَ سَابِقٌ عَلَى التَّوَلِّي الْمَجْعُولِ شَرْطًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ لَازِمُ ذَلِكَ الْإِبْلَاغِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ تَبِعَةِ تَوَلِّيهِمْ عَنْهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جُرْمِهِمْ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبْلَاغِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ من كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أُرْسِلَ بِهِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِقِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْذَارِ بِتَبِعَةِ التَّوَلِّي عَلَيْهِمْ وَنُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أَيْ يُزِيلُكُمْ وَيُخْلِفُكُمْ بِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا يَتَوَلَّوْنَ عَنْ رَسُولِهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: 38] . وَارْتِفَاعُ يَسْتَخْلِفُ فِي قِرَاءَةِ الْكَافَّةِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَوَابِ مُجَازٌ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْجَزْمُ. وَإِنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ هُنَا أَرْجَحَ لِإِعْطَاءِ الْفِعْلِ حُكْمَ الْكَلَامِ

[سورة هود (11) : آية 58]

الْمُسْتَأْنَفِ لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ لَا تَبَعًا لِلْجَوَابِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ إِخْبَارُهُمْ لِإِنْذَارِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً وَالْمُرَادُ لَا تَضُرُّونَ اللَّهَ بِتَوَلِّيكُمْ شَيْئًا وشَيْئاً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ تَضُرُّونَهُ الْمَنْفِيِّ. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَنْكِيرِ لَفْظِ الشَّيْءِ غَالِبًا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعُمُومِ بِنَفْيِ الضُّرِّ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَيْ فَاللَّهُ يُلْحِقُ بِكُمُ الِاسْتِئْصَالُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الضُّرِّ، وَلَا تَضُرُّونَهُ أَقَلَّ ضُرٍّ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْمُقَارَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ أَنَّ الْغَالِبَ الْمُضِرَّ بِعَدُّوِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ بَعْضَ الضُّرِّ مِنْ جَرَّاءِ الْمُقَارَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، فَمُوقِعُ إِنَّ فِيهَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالْحَفِيظُ: أَصْلُهُ مُبَالَغَةُ الْحَافِظِ، وَهُوَ الَّذِي يضع الْمَحْفُوظ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ غَيْرُ حَافِظِهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقُدْرَة والقهر. [58] [سُورَة هود (11) : آيَة 58] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: جاءَ أَمْرُنا بِمَعْنَى اقْتِرَابِ الْمَجِيءِ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ. وَالْأَمْرُ أُطْلِقَ عَلَى أَثَرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينٍ، أَيْ لَمَّا اقْتَرَبَ مَجِيءُ أَثَرِ أَمْرِنَا، وَهُوَ الْعَذَابُ، أَيِ الرِّيحُ الْعَظِيمُ.

[سورة هود (11) : الآيات 59 إلى 60]

وَمُتَعَلِّقُ نَجَّيْنا الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا. وَكَيْفِيَّةُ إِنْجَاءِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْبَاءُ فِي بِرَحْمَةٍ مِنَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَكَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِهِمْ سَبَبًا فِي نَجَاتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْحَمْهُمْ لِشَمِلَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ فَكَانَ نِقْمَةً لِلْكَافِرِينَ وَبَلْوًى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا. وَالتَّقْدِيرُ وَأَيْضًا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَهُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْغَلِيظُ. فَفِي هَذَا مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى إِنْجَاءٍ ثَانٍ، أَيْ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ نَجَّيْناهُمْ عَلَى نَجَّيْنا، وَهَذَانِ الْإِنْجَاءَانِ يُقَابِلَانِ جَمْعَ الْعَذَابَيْنِ لِعَادٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: 60] . وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْإِنْجَاءِ وَحُذِفَ السَّبَبُ عَكْسُ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِظُهُورِ أَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ كَانَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود: 59] . وَالْغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الْخَشِنُ ضِدُّ الرَّقِيقِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ. وَاسْتَعْمَلَ الْمَاضِي فِي وَنَجَّيْناهُمْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ الْوَعْد بِوُقُوعِهِ. [59، 60] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 59 إِلَى 60] وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) الْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ بِسَبَبِ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها [الْأَعْرَاف: 101]

وَكَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، وَهُوَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ عَقِبَ الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَأْتِي بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْأُمَّةِ. وعادٌ بَيَانٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَجُمْلَةُ جَحَدُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وَهُوَ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ التَّمْهِيدِ بِالْأَجْرَامِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَمْعِ الْعَذَابَيْنِ لَهُمْ. وَالْجَحْدُ: الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ، مِثْلَ إِنْكَارِ الْوَاقِعَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُودًا أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ فَأَنْكَرُوا دَلَالَتَهَا. وَعُدِّيَ جَحَدُوا بِالْبَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَوْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كَفَرُوا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قِيلَ: جَحَدُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ وَكَفَرُوا بِهَا، كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّمْل: 14] . وَجَمَعَ الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَإِنَّمَا عَصَوْا رَسُولًا وَاحِدًا، وَهُوَ هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يُنَاطَ الْجُرْمُ بِعِصْيَانِ جِنْسِ الرُّسُلِ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ هُودًا لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِشَخْصِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] ، فَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بِأَمْرِ تَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 123] . وَمَعْنَى اتِّبَاعِ الْأَمْرِ: طَاعَةُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَالِاتِّبَاعُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِمَا يُمْلَى عَلَى الْمُتَّبِعِ، لِأَنَّ الْأَمَرَ يُشْبِهُ الْهَادِيَ لِلسَّائِرِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُمْتَثِلَ يُشْبِهُ الْمُتَّبِعَ لِلسَّائِرِ.

وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ. وَالْعَنِيدُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمُعَانَدَةِ. يُقَالُ: عَنَدَ- مُثَلَّثُ النُّونِ- إِذَا طَغَى، وَمَنْ كَانَ خُلُقُهُ التَّجَبُّرُ، وَالْعُنُودُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى بَاطِلٍ، فَدَلَّ اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَ الْجَبَابِرَةِ الْمُعَانِدِينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَطَاعُوا دُعَاةَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ. وكُلِّ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِنْ أُرِيدَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ قَوْمِهِمْ فَالْعُمُومُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ جِنْسُ الْجَبَابِرَةِ فَ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [27] . وَإِتْبَاعُ اللَّعْنَةِ إِيَّاهُمْ مُسْتَعَارٌ لِإِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ إِصَابَةً عَاجِلَةً دُونَ تَأْخِيرٍ كَمَا يُتْبَعُ الْمَاشِي بِمَنْ يَلْحَقُهُ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ حُسْنًا مَا فِيهَا من الْمُشَاركَة وَمن مُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَلْعُونِينَ فَأُتْبِعُوا بِاللَّعْنَةِ. وَبُنِيَ فِعْلُ اتَّبَعُوا لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يُسْنَدِ الْفِعْلُ إِلَى اللَّعْنَةِ مَعَ اسْتِيفَائِهِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِتْبَاعَهَا لَهُمْ كَانَ بِأَمْرٍ فَاعِلٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا تَبِعَتْهُمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ. وَاللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ بِإِهَانَةٍ وَتَحْقِيرٍ. وَقَرَنَ الدُّنْيَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ تَهْوِينِ أَمْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَعْنَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا أَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَرِثُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَهَابُهُ. وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَهْوِيلِ الْخَبَرِ وَمُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ إِنَّ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِجُمْلَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ عَادًا.

[سورة هود (11) : آية 61]

وَعُدِّيَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عَصَوْا فِي مُقَابَلَةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ نِعْمَةُ رَبِّهِمْ لِأَنَّ مَادَّةَ الْكُفْرِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الذَّاتِ وَإِنَّمَا تَتَعَدَّى إِلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ. وَجُمْلَةُ أَلا بُعْداً لِعادٍ ابْتِدَائِيَّةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمٍّ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً عِنْدَ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] . وقَوْمِ هُودٍ بَيَانٌ لِ (عَادٍ) أَوْ وَصْفٌ لِ (عَادٍ) بِاعْتِبَارِ مَا فِي لَفْظِ قَوْمِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي الذَّمِّ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ رَسُولِهِمْ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ ذِكْرُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ عَادٍ أُخْرَى وَهُمْ إِرَمُ كَمَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ عَادٌ غَيْرُ قَوْمِ هُودٍ وَهُمْ إِرَمُ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الْفجْر: 6، 7] . [61] [سُورَة هود (11) : آيَة 61] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً- إِلَى قَوْلِهِ- غَيْرُهُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: 50] إِلَخْ. وَذِكْرُ ثَمُودَ وَصَالِحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَثَمُودُ: اسْمُ جَدٍّ سُمِّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ. وَجُمْلَةُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَفْيِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِثْلَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَا يَدَّعُونَ لِأَصْنَامِهِمْ خَلْقًا وَلَا رِزْقًا، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ نَاهِضَةً وَاضِحَةً.

وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ وَالْإِحْدَاثُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فِي الْأَنْعَامِ [6] . وَجَعَلَ الْخَبَرَيْنِ عَنِ الضَّمِيرِ فِعْلَيْنِ دُونَ: هُوَ مُنْشِئُكُمْ وَمُسْتَعْمِرُكُمْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ يُنْشِئْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا هُوَ، وَلَمْ يَسْتَعْمِرْكُمْ فِيهَا غَيْرُهُ. وَالْإِنْشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ خَلْقُ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ إِنْشَاءَهُ إِنْشَاءٌ لِنَسْلِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ تَعَلُّقُ خَلْقِهِمْ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَرْسٍ وَزَرْعٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [146- 148] أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ جِبَالِ الْأَرْضِ بُيُوتًا وَيَبْنُونَ فِي الْأَرْضِ قُصُورًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً [الْأَعْرَاف: 74] ، فَكَانَتْ لَهُمْ مَنَافِعُ مِنَ الْأَرْضِ تُنَاسِبُ نِعْمَةَ إِنْشَائِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ مَنَافِعِهِمْ فِي الْأَرْضِ قُيِّدَتْ نِعْمَةُ الْخَلْقِ بِأَنَّهَا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي أُنْشِئُوا مِنْهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها. وَالِاسْتِعْمَارُ: الْإِعْمَارُ، أَي جعلكُمْ عامرينها، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي اسْتَبْقَى وَاسْتَفَاقَ. وَمَعْنَى الْإِعْمَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَرْضَ عَامِرَةً بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ تَعْمِيرًا لِلْأَرْضِ حَتَّى سُمِّيَ الْحَرْثُ عِمَارَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَمْرُ الْأَرْضِ. وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ النِّعَمِ أَمْرَهُمْ بِاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، أَيْ طَلَبِ مغْفرَة أجرامهم، والإقلاع عمّا لَا يَرْضَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ. وَمِنْ تَفَنُّنِ الْأُسْلُوبِ أَنْ جعلت هَذِه النعم علّة لِأَمْرِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِطَرِيقِ جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَجُعِلَتْ عِلَّةً أَيْضًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ. وَعُطِفَ الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ بِحَرْفِ التَّرَاخِي لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 51] فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

[سورة هود (11) : آية 62]

وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا أَنْ يَكُونَ جُرْمُهُمْ مِمَّا يُقْبَلُ الاسْتِغْفَار عَنهُ، فأجيبوا بأنّ اللَّهَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ بِتَعْلِيلٍ. وَحَرْفُ إِنَّ فِيهَا لِلتَّأْكِيدِ تَنْزِيلًا لَهُمْ فِي تَعْظِيمِ جُرْمِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي قَبُولِ اسْتِغْفَارِهِ. وَالْقُرْبُ: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلرَّأْفَةِ وَالْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْبُعْدَ يُسْتَعَارُ لِلْجَفَاءِ وَالْإِعْرَاضِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ الْأَضْبَطِ: تَبَاعَدَ عَنِّي مِطْحَلٌ إِذْ دَعَوْتُهُ ... أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدًا فَكَذَلِكَ يُسْتَعَارُ ضِدُّهُ لِضِدِّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [186] . وَالْمُجِيبُ هُنَا: مُجِيبُ الدُّعَاءِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ. وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ: إِعْطَاء السَّائِل مسؤوله. [62] [سُورَة هود (11) : آيَة 62] قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) هَذَا جَوَابُهُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ الْبَلِيغَةِ الْوَجِيزَةِ الْمَلْأَى إِرْشَادًا وَهَدْيًا. وَهُوَ جَوَابٌ مَلِيءٌ بِالضَّلَالِ وَالْمُكَابَرَةِ وَضَعْفِ الْحُجَّةِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ أَوِ الْمَلَامِ وَالتَّنْبِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [هود: 53] . وَقَرِينَةُ التَّوْبِيخِ هُنَا أَظْهَرُ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ بِخَيْبَةِ رَجَائِهِمْ فِيهِ فَهُوَ تَعْنِيفٌ. وقَدْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ.

وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مَرْجُوًّا لِدَلَالَةِ فِعْلِ الرَّجَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَرَقُّبُ الْخَيْرِ، أَيْ مَرْجُوًّا لِلْخَيْرِ، أَيْ وَالْآنَ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ خَيْرِكَ. وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ شَرًّا، وَإِنَّمَا خَاطَبُوهُ بِمِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ بُعِثَ فِيهِمْ وَهُوَ شَابٌّ (كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) أَيْ كُنْتَ مَرْجُوًّا لِخِصَالِ السِّيَادَةِ وَحِمَايَةِ الْعَشِيرَةِ وَنُصْرَةِ آلِهَتِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَبْلَ هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْنِيفِ، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ أَيْضًا جُمْلَةُ أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا. وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ. وَعَبَّرُوا عَنْ أَصْنَامِهِمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ أَنْ يَعْبُدُوهَا فِي زَعْمِهِمِ اقْتِدَاءً بِآبَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ أُسْوَةٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْإِنْكَارَ اتِّجَاهًا فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرُوا يَأْسَهُمْ مِنْ صَلَاحِ حَالِهِ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي صِدْقِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ وَزَادُوا ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ النُّكَتِ هُنَا إِثْبَاتُ نُونِ (إِنَّ) مَعَ نُونِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ إِظْهَارٍ لِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَالْإِظْهَارُ ضَرْبٌ مِنَ التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [9] مِنْ قَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا لِأَنَّ الْحِكَايَةَ فِيهَا عَنْ أُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي دَرَجَاتِ التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَة خطاب لوَاحِد، فَكَانَ تَدْعُونا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ هِيَ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَقَعْ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ نُونَاتٍ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ هُنَالِكَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي (تَدْعُونَنَا) فَلَوْ جَاءَ (إِنَّنَا) لَاجْتَمَعَ أَرْبَعُ نُونَاتٍ.

[سورة هود (11) : آية 63]

وَالْمُرِيبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَرَابَ إِذَا أُوقِعَ فِي الرَّيْبِ، يُقَالُ: رَابَهُ وَأَرَابَهُ بِمَعْنًى، وَوَصْفُ الشَّكِّ بِذَلِكَ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِمْ: جدّ جدّه. [63] [سُورَة هود (11) : آيَة 63] قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ قالَ وَهُوَ الشَّأْنُ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَابْتِدَاءُ الْجَوَابِ بِالنِّدَاءِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ إِلَى مَا سَيَقُولُهُ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ. وَخَاطَبَهُمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِيَّةِ لَهُ لِلْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نوح. وَالْكَلَام فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً كَالْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ هُنَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُوجِبِ تَقْدِيمِ مِنْهُ عَلَى رَحْمَةً هُنَا، وَتَأْخِيرِ مِنْ عِنْدِهِ [هود: 28] عَن رَحْمَةً [هود: 28] فِي قِصَّةِ نُوحٍ السَّابِقَةِ. فَالْجَوَابُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّفَنُّنِ بِعَدَمِ الْتِزَامِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي إِعَادَةِ الْكَلَامِ الْمُتَمَاثِلِ، هُوَ أَيْضًا أَسْعَدُ بِالْبَيَانِ فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَدَفْعِ اللَّبْسِ. فَلَمَّا كَانَ مَجْرُورُ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ ظَرْفًا وَهُوَ (عِنْدَ) كَانَ صَرِيحًا فِي وَصْفِ الرَّحْمَةِ بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ الرَّبَّانِيِّ بِهَا وَبِمَنْ أُوتِيَهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمَجْرُورُ هُنَا ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقَعَ عَقِبَ فِعْلِ آتانِي لِيَكُونَ تَقْيِيدُ الْإِيتَاءِ بِأَنَّهُ من الله مشير إِلَى إِيتَاءٍ خَاصٍّ ذِي عِنَايَةٍ بِالْمُؤْتَى إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ كَوْنُهُ مِنَ

اللَّهِ تَحْصِيلًا لِمَا أُفِيدَ مِنْ إِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِيتَاءً خَاصًّا، وَلَوْ أُوقِعَ مِنْهُ عَقِبَ رَحْمَةً لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ ذَلِكَ عِوَضٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، أَيْ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَآتَانِي رَحْمَتَهُ، كَقَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مَرْيَم: 21] أَيْ وَرَحْمَتَنَا لَهُمْ، أَيْ لِنَعِظَهُمْ وَنَرْحَمَهُمْ. وَجُمْلَةُ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ. وَالْمَعْنَى إِلْزَامٌ وَجَدَلٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُم تنكرون نبوءتي توبّخونني عَلَى دَعْوَتِكُمْ فَأَنَا مُؤْمِنٌ بِأَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أَفَتَرُونَ أَنِّي أَعْدِلُ عَنْ يَقِينِي إِلَى شَكِّكُمْ، وَكَيْفَ تَتَوَقَّعُونَ مِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ يَقِينِي بِذَلِكَ يَجْعَلُنِي خَائِفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ وَلَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي. وَالْكَلَامُ على قَوْله: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [هود: 30] فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَفَرَّعَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ جُمْلَةَ: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أَيْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ فَمَا دُعَاؤُكُمْ إِيَّايَ إِلَّا سَعْيٌ فِي خُسْرَانِي. وَالْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ حُدُوثُ حَالٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، أَيْ فَمَا يَحْدُثُ لِي إِنِ اتَّبَعَتْكُمْ وَعَصَيْتُ اللَّهَ إِلَّا الْخُسْرَانُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 6] ، أَيْ كُنْتُ أَدْعُوهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ فَلَمَّا كَرَرْتُ دَعْوَتَهُمْ زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَفَرُّوا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ فَزَادُوا فِي الْفِرَارِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ هُنَالِكَ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا مِنْ فِرَارٍ، وَلَقِيلَ هُنَا: فَمَا تَزِيدُونَنِي إِلَّا مِنْ تَخْسِيرٍ. وَالتَّخْسِيرُ، مَصْدَرُ خَسِرَ، إِذَا جعله خاسرا.

[سورة هود (11) : الآيات 64 إلى 65]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 64 إِلَى 65] وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود: 62] فَأَتَاهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تُزِيلُ الشَّكَّ. وَإِعَادَةُ وَيا قَوْمِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [هود: 30] . وَالْإِشَارَةُ بِهَذِهِ إِلَى النَّاقَةِ حِينَ شَاهَدُوا انْفِلَاقَ الصَّخْرَةِ عَنْهَا. وَإِضَافَةُ النَّاقَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ. وآيَةً ولَكُمْ حَالَانِ مِنْ نَاقَةٍ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْحَالِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَسَتَجِيءُ قِصَّةٌ فِي إِعْرَابِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [72] . وَأَوْصَاهُمْ بِتَجَنُّبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا لِتَوَقُّعِهِ أَنَّهُمْ يَتَصَدَّوْنَ لَهَا مِنْ تَصَلُّبِهِمْ فِي عِنَادِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَقْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَالدَّارُ: الْبَلَدُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [78] ، وَذَلِكَ التَّأْجِيلُ اسْتِقْصَاءٌ لَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ. وَالْمَكْذُوبُ: الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الْكَاذِبُ. يُقَالُ: كَذَبَ الْخَبَرَ، إِذَا اخْتَلَقَهُ

[سورة هود (11) : الآيات 66 إلى 68]

[66- 68] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 66 الى 68] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ هُودٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَمُتَعَلِّقُ نَجَّيْنا مَحْذُوفٌ. وَعَطْفُ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ عَلَى مُتَعَلِّقِ نَجَّيْنا الْمَحْذُوفِ، أَيْ نَجَّيْنَا صَالِحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَمِنَ الْخِزْيِ الْمُكَيَّفِ بِهِ الْعَذَابُ فَإِنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ بَعْضُهَا أَخْزَى مِنْ بَعْضٍ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعَطْفِ عَطْفُ مِنَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ لَا عَطْفُ إِنْجَاءٍ عَلَى إِنْجَاءٍ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْمُتَعَلِّقَ وَلَمْ يَعْطِفِ الْفِعْلَ، كَمَا عَطَفَ فِي قِصَّةِ عَادٍ نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْجَاءٌ مِنْ عَذَابٍ مُغَايِرٍ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَتَنْوِينُ يَوْمِئِذٍ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذْ جَاءَ أَمْرُنَا. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ، وَهُوَ ذُلُّ الْعَذَابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ ثَمُودَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ، أَيْ لِظُلْمِهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ الشِّرْكِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَيْضًا.

[سورة هود (11) : الآيات 69 إلى 73]

وَالصَّيْحَةُ: الصَّاعِقَةُ أَصَابَتْهُمْ. وَمَعْنَى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا. وَتَقَدَّمَ شُعَيْبٌ فِي الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَلَا إِنَّ ثَمُودًا» - بِالتَّنْوِينِ- عَلَى اعْتِبَارِ ثَمُودٍ اسْمِ جَدِّ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، بِدُونِ تَنْوِينٍ عَلَى اعْتِبَارِهِ اسْمًا لِلْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ. وَهُمَا طَرِيقَتَانِ مَشْهُورَتَانِ لِلْعَرَبِ فِي أَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ الْمُسَمَّاةِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْدَادِ الْأَعْلَيْنَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] . [69- 73] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 69 إِلَى 73] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: 25] .

وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِه القصّة هود: الْمَوْعِظَةُ بِمَصِيرِ قَوْمِ لُوطٍ إِذْ عَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مُجَادَلَةُ إِبْرَاهِيمَ. وَقُدِّمَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِذَلِكَ وَلِلتَّنْوِيهِ بِمَقَامِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ، وَلِذَلِكَ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْحِكَايَةِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا نَحْوَ وَإِلى عادٍ [هود: 50] إِلَخْ. وَالرُّسُلُ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] . وَالْبُشْرَى: اسْمٌ. لِلتَّبْشِيرِ وَالْبِشَارَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] . هَذِهِ الْبُشْرَى هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ لِأَنَّ بِشَارَةَ زَوْجِهِ بِابْنٍ بِشَارَةٌ لَهُ أَيْضًا. وَالْبَاءُ فِي بِالْبُشْرى لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِأَجْلِ الْبُشْرَى فَهِيَ مُصَاحِبَةٌ لَهُمْ كَمُصَاحَبَةِ الرِّسَالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِهَا. وَجُمْلَةُ قالُوا سَلاماً فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِلْبُشْرَى، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْبُشْرَى، وَإِنَّ مَا اعْتُرِضَ بَيْنَهَا حِكَايَةُ أَحْوَالٍ، وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [54] . وسَلاماً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَقَعَ بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَلَّمْنَا سَلَامًا. وسَلامٌ الْمَرْفُوعُ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَمْرِي سَلَامٌ، أَيْ لَكُمْ، مِثْلَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: 18] . وَرَفْعُ الْمَصْدَرِ أَبْلَغُ مِنْ نَصْبِهِ، لِأَنَّ الرّفع فِيهِ تناسي مَعْنَى الْفِعْلِ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. وَلِذَلِكَ خَالَفَ بَيْنَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَدَّ السَّلَامَ بِعِبَارَةٍ أَحْسَنَ مِنْ عِبَارَةِ الرُّسُلِ زِيَادَةً فِي الْإِكْرَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَيَّا الْخَلِيلُ بِأَحْسَنِ مِمَّا حُيِّيَ بِهِ، أَيْ نَظَرًا إِلَى الْأَدَبِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ لَنَا فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النِّسَاء: 86] ،

فَحُكِيَ ذَلِكَ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَدَاءً لِمَعْنَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْكَلْدَانِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قالَ سَلامٌ- بِفَتْحِ السِّينِ وَبِأَلْفٍ بَعْدِ اللَّامِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخلف: قالَ سَلامٌ- بِكَسْرِ السِّينِ وَبِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ اللَّامِ- وَهُوَ اسْمُ الْمُسَالَمَةِ. وَسُمِّيَتْ بِهِ التَّحِيَّةُ كَمَا سُمِّيَتْ بِمُرَادِفِهِ (سَلَامٌ) فَهُوَ مِنْ بَابِ اتِّحَادِ وَزْنِ فَعَّالٍ وَفِعْلٍ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ مِثْلَ: حَرَامٌ وَحَرْمٌ، وَحَلَالٌ وَحَلٌّ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَما لَبِثَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْقِيبِ إِسْرَاعًا فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَتَعْجِيلِ الْقِرَى سُنَّةٌ عَرَبِيَّةٌ: ظَنَّهُمْ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَاسًا فَبَادَرَ إِلَى قِرَاهِمْ. وَاللُّبْثُ فِي الْمَكَانِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ عَنْهُ، أَيْ فَمَا أَبْطَأَ. وأَنْ جاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ لَبِثَ، أَيْ فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، أَيْ فَمَا أَبْطَأَ مَجِيئُهُ مُصَاحِبًا لَهُ، أَيْ بَلْ عَجَّلَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ فَاعِلِ لَبِثَ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيُقَدَّرُ جَارٌّ لِ جاءَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمَا لَبِثَ بِأَنْ جَاءَ بِهِ. وَانْتِفَاءُ اللُّبْثِ مُبَالَغَةٌ فِي الْعَجَلِ. وَالْحَنِيذُ: الْمَشْوِيُّ، وَهُوَ المحنوذ. وَالشَّيْء أَسْرَعُ مِنَ الطَّبْخِ، فَهُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَعْجِيلِ إِحْضَارِ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ. وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَشَدُّ فِي عَدَمِ الْأَخْذِ مِنْ (لَا تَتَنَاوَلُهُ) . وَيُقَالُ: نَكِرَ الشَّيْءَ إِذَا أَنْكَرَهُ أَيْ كَرِهَهُ. وَإِنَّمَا نَكِرَهُمْ لِأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ إِمْسَاكَهُمْ عَنِ الْأَكْلِ لِأَجْلِ التَّبَرُّؤِ مِنْ طَعَامِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَادَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا كَانَ النَّازِلُ بِالْبَيْتِ يُضْمِرُ شَرًّا لِمُضِيفِهِ، لِأَنَّ أَكْلَ طَعَامِ الْقِرَى كَالْعَهْدِ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى، لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطْرَةِ، فَإِذَا انْكَفَّ أَحَدٌ عَنْ تَنَاوُلِ الْإِحْسَانِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْمُسَالَمَةَ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ كَفُورًا لِلْإِحْسَانِ.

وَلِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُ نَكِرَهُمْ بِ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، أَيْ أَحَسَّ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْهُمْ وَأَضْمَرَ ذَلِكَ. وَمَصْدَرُهُ الْإِيجَاسُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ شَرًّا لَهُ، أَيْ حَسِبَهُمْ قُطَّاعًا، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْدَهُ. وَجُمْلَةُ قالُوا لَا تَخَفْ مَفْصُولَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الْجَوَابَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ظَهَرَ أَثَرُهَا عَلَى مَلَامِحِهِ، فَكَانَ ظُهُورُ أَثَرِهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إِنِّي خِفْتُ مِنْكُمْ، وَلِذَلِكَ أَجَابُوا مَا فِي نَفْسِهِ بِقَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُحْكَى بِهَا الْمُحَاوَرَاتُ، أَوْ هُوَ جَوَابُ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، أَيْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي خِفْتُ مِنْكُمْ، كَمَا حُكِيَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [52] قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. وَمِنْ شَأْنِ النَّاسِ إِذَا امْتَنَعَ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِ طَعَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: لَعَلَّكَ غَادِرٌ أَوْ عَدُوٌّ، وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْوَافِدِ: أَحَرْبٌ أَمْ سِلْمٌ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ مُكَاشَفَةً مِنْهُمْ إِيَّاهُ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنَةٌ لِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ. وَالْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ كَرَامَةُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصُدُورُهُمْ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أُرْسِلْنا أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ، إِيجَازًا لِظُهُورِهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا. وَعَبَّرَ عَنِ الْأَقْوَامِ الْمُرَادِ عَذَابُهُمْ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ قَوْمِ لُوطٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ اسْمٌ يَجْمَعُهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى نَسَبٍ بَلْ كَانُوا خَلِيطًا مِنْ فَصَائِلَ عُرِفُوا بِأَسْمَاءِ قُرَاهُمْ، وَأَشْهَرُهَا سَدُومُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ. وَجُمْلَةُ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَوْجَسَ، لِأَنَّ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَتْ حَاضِرَةً تُقَدِّمُ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ عَادَتَهُمْ كَعَادَةِ الْعَرَبِ مِنْ بَعْدِهِمْ أَنَّ رَبَّةَ الْمَنْزِلِ تَكُونُ خَادِمَةَ الْقَوْمِ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَالْعَرُوسُ خَادِمُهُمْ» . وَقَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ التَّمِيمِيُّ:

يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالِ الْقَوْمِ وَالْغُرَبَا وَقَدِ اخْتُصِرَتِ الْقِصَّةُ هُنَا اخْتِصَارًا بَدِيعًا لِوُقُوعِهَا فِي خِلَالِ الْحِوَارِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَحِكَايَةُ ذَلِكَ الْحِوَارِ اقْتَضَتْ إِتْمَامَهُ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ. وَأَمَّا الْبُشْرَى فَقَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ [28] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا اقْتَضَى تَرْتِيبُ الْمُحَاوَرَةِ تَقْدِيمَ جُمْلَةِ قالُوا لَا تَخَفْ حُكِيَتْ قِصَّةُ الْبُشْرَى وَمَا تَبِعَهَا مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بِطَرِيقَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ تَصْلُحُ لِلْقَبْلِيَّةِ وَلِلْمُقَارَنَةِ وَلِلْبَعْدِيَّةِ، وَهِيَ الْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ. وَإِنَّمَا ضَحِكَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِغُلَامٍ، وَكَانَ ضَحِكُهَا ضَحِكَ تَعَجُّبٍ وَاسْتِبْعَادٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي التّوراة فِي الْإِصْلَاح الثَّامِنِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ سَارَّةُ امْرَأَتُكَ؟ فَقَالَ: هَا هِيَ فِي الْخَيْمَةِ. فَقَالُوا: يَكُونُ لِسَارَّةَ امْرَأَتِكَ ابْنٌ، وَكَانَتْ سَارَّةُ سَامِعَةً فِي بَابِ الْخَيْمَةِ فَضَحِكَتْ سَارَّةُ فِي بَاطِنِهَا قَائِلَةً: أَفَبِالْحَقِيقَةِ أَلِدُ وَأَنَا قَدْ شِخْتُ؟ فَقَالَ الربّ: لماذَا ضَحِكَتْ سَارَّةُ؟ فَأَنْكَرَتْ سَارَّةُ قَائِلَةً لَمْ أَضْحَكْ، لِأَنَّهَا خَافَتْ، قَالَ: لَا بَلْ ضَحِكْتِ» . وَتَفْرِيعُ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ على جملَة فَضَحِكَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ لِأَنَّهَا مَا ضَحِكَتْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ بَشَّرَهَا الْمَلَائِكَةُ بِابْنٍ، فَلَمَّا تَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ بَشَّرُوهَا بِابْنِ الِابْنِ زِيَادَةً فِي الْبُشْرَى. وَالتَّعْجِيبُ بِأَنْ يُولَدَ لَهَا ابْنٌ وَيَعِيشَ وَتَعِيشَ هِيَ حَتَّى يُولَدَ لِابْنِهَا ابْنٌ. وَذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْعَجَبِ لِأَنَّ شَأْنَ أَبْنَاءِ الشُّيُوخِ أَنْ يَكُونُوا مَهْزُولِينَ لَا يَعِيشُونَ غَالِبًا إِلَّا مَعْلُولَيْنِ، وَلَا يُولَدُ لَهُمْ فِي الْأَكْثَرِ وَلِأَنَّ شَأْنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يُولَدُ لَهُمْ أَنْ لَا يُدْرِكُوا يَفْعَ أَوْلَادِهِمْ بَلْهُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ. وَلَمَّا بَشَّرُوهَا بِذَلِكَ صَرَّحَتْ بِتَعَجُّبِهَا الَّذِي كَتَمَتْهُ بِالضَّحِكِ، فَقَالَتْ:

يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، فَجُمْلَةُ قالَتْ جَوَابٌ لِلْبِشَارَةِ. وَ (يَعْقُوبُ) مُبْتَدَأٌ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ الْحَالِ. وَهَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ يَعْقُوبَ بِفَتْحَةٍ وَهُوَ حِينَئِذٍ عَطْفٌ عَلَى إِسْحاقَ. وَفُصِلَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ وَخَطْبُهُ سَهْلٌ وَإِنِ اسْتَعْظَمَهُ ظَاهِرِيَّةُ النُّحَاةِ كَأَبِي حَيَّانَ بِقِيَاسِ حَرْفِ الْعَطْفِ النَّائِبِ هُنَا مَنَابَ الْجَارِّ عَلَى الْجَارِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ إِذْ كَوْنُ لَفْظٍ بِمَعْنَى لَفْظٍ لَا يَقْتَضِي إِعْطَاءَهُ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَالنِّدَاءُ فِي يَا وَيْلَتى اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَنْزِيلِ الْوَيْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ حَتَّى تُنَادَى، كَأَنَّهَا تَقُولُ: يَا وَيْلَتِي احْضُرْ هُنَا فَهَذَا مَوْضِعُكَ. وَالْوَيْلَةُ: الْحَادِثَةُ الْفَظِيعَةُ وَالْفَضِيحَةُ. وَلَعَلَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْوَيْلِ. وَتُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ، يُقَالُ: يَا وَيْلَتِي. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَة يَا وَيْلَتى - بِفَتْحَةٍ مُشْبَعَةٍ فِي آخِرِهِ بِأَلْفٍ-. وَالْأَلِفُ الَّتِي فِي آخر يَا وَيْلَتى هُنَا يَجُوزُ كَوْنُهَا عِوَضًا عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا أَلِفُ الِاسْتِغَاثَةِ الْوَاقِعَةِ خَلَفًا عَنْ لَامِ الِاسْتِغَاثَةِ. وَأَصِلُهُ: يَا لِوَيْلَةَ. وَأَكْثَرُ مَا تَجِيءُ هَذِهِ الْأَلِفُ فِي التَّعَجُّبِ بِلَفْظِ عَجِبَ، نَحْوَ: يَا عَجَبًا، وَبِاسْمِ شَيْءٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، نَحْوَ: يَا عُشْبًا. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِإِمَالَةٍ وَلَمْ يُقْرَأْ بِالْإِمَالَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُتِبَ بِصُورَةِ الْيَاءِ عَلَى أَصْلِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ. وَجُمْلَةُ أَنَا عَجُوزٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ مَنَاطُ التَّعَجُّبِ. وَالْبَعْلُ: الزَّوْجُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فِي سُورَةِ النُّورِ [31] ، فَانْظُرْهُ.

وَزَادَتْ تَقْرِيرَ التَّعَجُّبِ بِجُمْلَةِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِكَمَالِ الِاتِّصَالِ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً فِي أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ فَلَمْ تَطْمَئِنَّ لِتَحْقِيقِ بُشْرَاهُمْ. وَجُمْلَةُ هَذَا بَعْلِي مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى هَذَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ بَعْلِي، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَهُوَ كَمَا تَرَى. وَانْتَصَبَ شَيْخاً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُبَيِّنَةً لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِشَارَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ- بِرَفْعِ شَيْخٍ- عَلَى أَنَّ (بَعْلِي) بَيَانٌ مِنْ (هَذَا) وَ (شَيْخٌ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَرَتْ عَلَى هَذِه الْقِرَاءَة النادرة لَطِيفَةٌ وَهِيَ: مَا أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْجَلِيل سَالم أَبُو حَاجِبٍ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ دُعِيَ عِنْدَ بَعْضِ الْأَعْيَانِ فِي بَغْدَادَ إِلَى مَأْدُبَةٍ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ غَنَّتْ مِنْ وَرَاءِ السِّتَارِ جَارِيَةٌ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ بِبَيْتَيْنِ: وَقَالُوا لَهَا هَذَا حَبِيبُكِ مُعْرِضٌ ... فَقَالَتْ: أَلَا إِعْرَاضُهُ أَهْوَنُ الْخَطْبِ فَمَا هِيَ إِلَّا نَظْرَةٌ وَابْتِسَامَةٌ ... فَتَصْطَكُّ رِجْلَاهُ وَيَسْقُطُ لِلْجَنْبِ فَطَرِبَ كُلُّ مَنْ بِالْمَجْلِسِ إِلَّا أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ: مَا لَكَ لَمْ يُطْرِبْكَ هَذَا؟. فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَعْذُورٌ يَحْسَبُنِي لَحَنْتُ فِي أَنْ قُلْتُ: مُعْرِضٌ- بِالرَّفْعِ- وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ «وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ» فَطَرِبَ الْمُبَرِّدُ لِهَذَا الْجَوَابِ (¬1) . وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهَا بِجُمْلَةِ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهَا لِأَنَّهُ تَعَجُّبٌ مُرَادٌ مِنْهُ الِاسْتِبْعَادُ. وأَمْرِ اللَّهِ هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ، أَيْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ ¬

(¬1) رَأَيْت هَذِه النادرة فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب «الْكِنَايَات» لأبي الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ طبع السَّعَادَة بِالْقَاهِرَةِ سنة 1326 واحسبها دخيلة فِيهِ.

قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَاتِ. وَجَوَابُهُمْ جَارٍ عَلَى ثِقَتِهِمْ بِأَنَّ خبرهم حق منبىء عَنْ أَمْرِ الله. وَجُمْلَة رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ تَعَجُّبِهَا، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ فِي قُوَّةِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: لَا عَجَبَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ إِعْطَاءَكِ الْوَلَدَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَبَرَكَةٌ، فَلَا عَجَبَ فِي تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِهَا وَأَنْتُمْ أَهْلٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ فَلَا عَجَبَ فِي وُقُوعِهَا عِنْدَكُمْ. وُوَجْهُ تَعْلِيلِ نَفْيِ الْعَجَبِ بِهَذَا أَنَّ التَّعَجُّبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صُدُورِ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَخْصِيصِ اللَّهِ بِهِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَامْرَأَتَهُ فَكَانَ قَوْلهم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ مُفِيدًا تَعْلِيلَ انْتِفَاءِ الْعَجَبَيْنِ. وَتَعْرِيفُ الْبَيْتِ تَعْرِيفُ حُضُورٍ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْحَاضِرُ بَينهم الَّذِي جرفى فِيهِ هَذَا التَّحَاوُرُ، أَيْ بَيْتُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْمَعْنَى أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النِّدَاءِ التَّنْوِيهُ بِهِمْ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ اخْتِصَاصًا لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ تَعْلِيلٌ لِتَوَجُّهِ رَحْمَتِهِ وَبَرَكَاتِهِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْمَدُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَبِأَنَّهُ مَجِيدٌ، أَيْ عَظِيمُ الشَّأْنِ لَا حَدَّ لِنِعَمِهِ فَلَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا وَلَدًا، وَفِي اخْتِيَارِ وَصْفِ الْحَمِيدِ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كِنَايَةٌ عَنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السّلام- وَأَهله.

[سورة هود (11) : الآيات 74 إلى 76]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 74 إِلَى 76] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) التَّعْرِيفُ فِي الرَّوْعُ وَفِي الْبُشْرى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ آنِفًا، فَالرَّوْعُ: مُرَادِفُ الْخِيفَةِ. وَقَوْلُهُ: يُجادِلُنا هُوَ جَوَاب فَلَمَّا صِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ كَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] . وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُحَاوَرَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَقَوْلُهُ: فِي قَوْمِ لُوطٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي عِقَابِ قَوْمِ لُوطٍ. وَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَالْمُرَادُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعَيِّنُهُ الْمَقَامُ، كَقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُهَا. وَالْمُجَادَلَةُ هُنَا: دُعَاءٌ وَمُنَاجَاةٌ سَأَلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ الْعَفْوَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ خَشْيَةَ إِهْلَاكِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَكُونُ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ. وَعُدِّيَتْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جِدَالِ الْمَلَائِكَةِ التَّعَرُّضُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِصَرْفِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ. وَالْحَلِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ وَهُوَ صِفَةٌ تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَاحْتِمَالَ الْأَذَى. وَالْأَوَّاهُ أَصْلُهُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَهُوَ قَوْلُ: أَوِّهِ. وَأَوِّهِ: اسْمُ فِعْلٍ نَائِبٍ مَنَابَ أَتَوَجَّعُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِهُمُومِ النَّاسِ.

[سورة هود (11) : آية 77]

وَالْمُنِيبُ مَنْ أَنَابَ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْبِ وَهُوَ النُّزُولُ. وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ مِنَ التَّقْصِيرِ، أَيْ مُحَاسِبٌ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَحْذَرُ مِنْهُ. وَحَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَتَرْكِهِ. وَجُمْلَةُ يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَقُولُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَوْ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: أَمْرُ رَبِّكَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ. وَأمر اللَّهِ قَضَاؤُهُ، أَيْ أَمر تكوينه. [77] [سُورَة هود (11) : آيَة 77] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] . فَالتَّقْدِيرُ: فَفَارَقُوا إِبْرَاهِيمَ وَذَهَبُوا إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَلَمَّا جَاءُوا لُوطًا، فَحَذَفَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ إِيجَازًا قُرْآنِيًّا بَدِيعًا. وَقَدْ جَاءُوا لُوطًا كَمَا جَاءُوا إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَظَنَّهُمْ نَاسًا وَخَشِيَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ قَوْمُهُ بِعَادَتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، فَلِذَلِكَ سِيءَ بِهِمْ. وَمَعْنَى ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ضَاقَ ذَرْعَهُ بِسَبَبِهِمْ، أَيْ بِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ فَحَوَّلَ الْإِسْنَادَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ تَمْيِيزًا لِأَنَّ إِسْنَادَ الضِّيقِ إِلَى صَاحِبِ الذَّرْعِ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَالذَّرْعُ: مَدُّ الذِّرَاعِ فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ تَقْدِيرُ الْمَسَافَةِ. وَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْبَعِيرِ فَهُوَ مَدُّ ذِرَاعَيْهِ فِي السَّيْرِ عَلَى قَدْرِ سَعَةِ خُطْوَتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: ضَاقَ ذَرْعًا

تَمْثِيلًا بِحَالِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُرِيدُ مَدَّ ذِرَاعِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ مَدَّهَا كَمَا يُرِيدُ فَيَكُونُ ذَرْعُهُ أَضْيَقَ مِنْ مُعْتَادِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِحَالِ الْبَعِيرِ الْمُثْقَلِ بِالْحِمْلِ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ مَدَّ ذِرَاعَيْهِ كَمَا اعْتَادَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِحَالِ مَنْ لَمْ يَجِدْ حِيلَةً فِي أَمر يُرِيد علمه؟ بِحَالِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ مَدَّ ذِرَاعِهِ كَمَا يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يُنَاجِي الْمَرْءُ نَفْسَهُ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ. وَالْعَصِيبُ: الشَّدِيدُ فِيمَا لَا يُرْضِي. يُقَالُ: يَوْمٌ عَصِيبٌ إِذَا حَدَثَ فِيهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ أَوْ أَحْوَالِ الْجَوِّ كَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ. وَهُوَ بِزِنَةِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: اعْصَوْصَبَ الشَّرُّ اشْتَدَّ. قَالُوا: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِكَ: عَصَبْتَ الشَّيْءَ إِذَا شَدَدْتَهُ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّة يُفِيد الشدّة وَالضَّغْطَ، يُقَالُ: عَصَبَ الشَّيْءَ إِذَا لَوَاهُ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ. وَيُقَالُ: عَصَبَتْهُمُ السُّنُونُ إِذَا أَجَاعَتْهُمْ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى فِعْلٍ مُجَرَّدٍ لِوَصْفِ الْيَوْمِ بِعَصِيبٍ. وَأَرَادَ: أَنَّهُ سَيَكُونُ عَصِيبًا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَادَةِ قَوْمِهِ السَّيِّئَةِ وَهُوَ مُقْتَضٍ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ نَهَارًا. وَمِنْ بَدِيعِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَسْبِقُ إِلَى نَفْسِ الْكَارِهِ لِلْأَمْرِ أَنْ يُسَاءَ بِهِ وَيَتَطَلَّبُ الْمُخَلِّصَ مِنْهُ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا، ثُمَّ يُصْدِرُ تَعْبِيرًا عَنِ الْمَعَانِي وَتَرْتِيبًا عَنْهُ كَلَامًا يُرِيحُ بِهِ نَفْسَهُ. وَتَصْلُحُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنْ تَكُونَ مِثَالًا لِإِنْشَاءِ الْمُنْشِئِ إِنْشَاءَهُ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ الْحُصُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هَذَا أَصْلُ الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ تَكُنْ فِي الْكَلَامِ دَوَاعِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَدَوَاعِي الْحَذف وَالزِّيَادَة.

[سورة هود (11) : آية 78]

[سُورَة هود (11) : آيَة 78] وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) أَيْ جَاءَهُ بَعْضُ قَوْمِهِ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْمَجِيءُ إِلَى الْقَوْمِ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَجِيءِ دأبهم وَقد تمالؤوا عَلَى مِثْلِهِ، فَإِذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ فَسَيَعْقُبُهُ مَجِيءُ بَعْضٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَهَذَا مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيلَةِ إِذا فعله بَعْضهَا، كَقَوْلِ الْحَارِثِ بن وَعْلَةَ الْجَرْمِيِّ: قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَةَ أَخِي ... فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي ويُهْرَعُونَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ- فَسَّرُوهُ بِالْمَشْيِ الشَّبِيهِ بِمَشْيِ الْمَدْفُوعِ، وَهُوَ بَيْنَ الْخَبَبِ وَالْجَمْزِ، فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَشْيُ الْأَسِيرِ الَّذِي يُسْرَعُ بِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ الْهَرْعَ هُوَ دَفْعُ الْمَاشِي حِينَ مَشْيِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ تُنُوسِيَ، وَبَقِيَ أَهْرَعَ بِمَعْنَى سَارَ سَيْرًا كَسَيْرِ الْمَدْفُوعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتَزَمُوا فِيهَا صِيغَةَ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُسْنَدَةٌ إِلَى فَاعِلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. وَفَسَّرَهُ فِي «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» بِأَنَّهُ الِارْتِعَادُ مِنْ غَضَبٍ أَوْ خَوْفٍ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَجُمْلَةُ يُهْرَعُونَ حَالٌ. وَقَدْ طَوَى الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْغَرَض الَّذِي جاؤوا لِأَجْلِهِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَقَدْ صَارَتْ لَهُمْ دَأْبًا لَا يَسْعَوْنَ إِلَّا لِأَجْلِهِ. وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَجاءَهُ قَوْمُهُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُ غَرَضَهُمْ مِنْ مَجِيئِهِمْ، فَهُوَ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَمَّا تَلَقَّاهُمْ بِهِ. وَبَادَرَهُمْ لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ وَبِأَنَّهُمْ قَوْمُهُ تَرْقِيقٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ تَصَلُّبَهُمْ فِي عَادَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ [هود: 79] ، كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى بَناتِي. وبَناتِي بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخُذُوهُنَّ. وَجُمْلَةُ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْعَرْضِ. وَمَعْنَى هُنَّ أَطْهَرُ أَنَّهُنَّ حَلَالٌ لَكُمْ يَحُلْنَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ قُصِدَ بِهِ قُوَّةُ الطَّهَارَةِ. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى جَمْعٍ، إِذْ بُيِّنَ بِقَولِهِ: بَناتِي. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ابْنَتَانِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْبَنَاتِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ هَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُنَّ كَبَنَاتِي. وَأَرَادَ نِسَاءً مِنْ قَوْمِهِ بِعَدَدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ جَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا فَسَّرَ بِهِ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِهِنَّ لِقَوْمِهِ إِذْ قَالَ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا عِنْدَهُ كَثِيرُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ النِّسَاءُ فَتَزَوَّجُوهُنَّ. وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحَامِلِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بَنَاتِ صُلْبِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ قَتَادَةَ. وَإِذْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ ابْنَتَانِ صَارَ الْجَمْعُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاثْنَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] . وَقِيلَ: كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ. وَتَعْتَرِضُ هَذَا الْمَحْمَلَ عَقَبَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا فَكَيْفَ تَكْفِيهِمْ بِنْتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ؟!. الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هؤُلاءِ بَناتِي عَرْضٌ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَكَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ هَذِهِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْبَنَاتِ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ تَزْوِيجًا لَمْ يَكْفِينَ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَزْوِيجٍ فَمَا هُوَ؟. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْقَوْم الَّذين جاؤوه بِقَدْرِ عَدَدِ بَنَاتِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعَ بَنَاتِهِ حَتَّى مِنْ قَوْمِهِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَ

لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي بَنَاتِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصرفا بِوَصْف النبوءة بِالْوَحْيِ لِلْمَصْلَحَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِبَاحَةُ تَمْلِيكِ الْأَبِ بَنَاتِهِ إِذَا شَاءَ، فَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ شُرَكَاءَ فِي مِلْكِ بَنَاتِهِ كَانَ اسْتِمْتَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَلَالًا فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ الْبِغَاءُ مِنْ بَقَايَا الْجَاهِلِيَّةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ. وَأَمَّا لَحَاقُ النَّسَبِ فِي أَوْلَادِ مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُنَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالَّذِي تَلِيطُهُ أُمُّهُ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَغَايَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْأَوْلَادُ بِآبَاءٍ فَيَكُونُوا لَاحِقِينَ بِأُمَّهَاتِهِمْ مثل ابْن الزِّنَى وَوَلَدِ اللِّعَانِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّحْلِيلُ مُبَاحًا ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَهُوَ مِمَّا يُشْرَعُ شَرْعًا مُؤَقَّتًا مِثْلَ مَا شُرِعَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُحَرَّمًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدِ اشْتَغَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ تَحْرِيرِ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ تَزْوِيجِ الْمُؤْمِنَاتِ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ فُضُولٌ. وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أَنْ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَاتَّقُوا اللَّهَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا تُخْزُونِ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. وَأَثْبَتَهَا أَبُو عَمْرٍو. وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالْمَذَلَّةُ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَرَادَ مَذَلَّتَهُ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. جَعَلَ الضَّيْفَ كَالظَّرْفِ، أَيْ لَا تَجْعَلُونِي مَخْزِيًّا عِنْدَ ضَيْفِي إِذْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى فِي ضِيَافَتِي، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِوَارٌ عِنْدِ رَبِّ الْمَنْزِلِ، فَإِذَا لَحِقَتِ الضَّيْفَ إِهَانَةٌ كَانَتْ عَارًا عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ. وَالضَّيْفٌ: الضَّائِفُ، أَيِ النَّازِلُ فِي مَنْزِلِ أَحَدٍ نُزُولًا غَيْرَ دَائِمٍ، لِأَجْلِ مُرُورٍ فِي سَفَرٍ أَوْ إِجَابَةِ دَعْوَةٍ.

[سورة هود (11) : الآيات 79 إلى 80]

وَأَصْلُ ضَيْفٍ مَصْدَرُ فِعْلِ ضَافَ يَضِيفُ، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ، وَعَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ غَيْرِ الْمَصْدَرِ فَيُجْمَعُ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا وَقَدْ ظَنَّ لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَلَائِكَةَ رِجَالًا مَارِّينَ بِبَيْتِهِ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالطَّعَامِ وَالْمَبِيتِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ لِأَنَّ إِهَانَةَ الضَّيْفِ مَسَبَّةٌ لَا يَفْعَلُهَا إِلَّا أَهْلُ السَّفَاهَةِ. وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ بِمَعْنَى بَعْضُكُمْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَمَالُؤَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَانْعِدَامِ رَجُلٍ رَشِيدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهَذَا إِغْرَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّعَقُّلِ لِيَظْهَرَ فِيهِمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ إِلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ فَيَنْهَاهُمْ، فَإِنَّ ظُهُورَ الرَّشِيدِ فِي الْفِئَةِ الضَّالَّةِ يَفْتَحُ بَابَ الرَّشَادِ لَهُمْ. وَبِالْعَكْسِ تَمَالُؤُهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَزِيدُهُمْ ضراوة بِهِ. [79، 80] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 79 إِلَى 80] قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. ولَقَدْ عَلِمْتَ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ يَعْلَمُ. فَأُكِّدَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَعْلَمُ لِأَنَّ حَالَهُ فِي عَرْضِهِ بَنَاتِهِ عَلَيْهِمْ كَحَالِ مَنْ لَا يَعْلَمُ خُلُقَهُمْ، وَكَذَلِكَ التَّوْكِيدُ فِي وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ، وَكِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ، أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا رَغْبَةٌ فِي بَنَاتِكَ وَإِنَّكَ تَعْلَمُ مُرَادَنَا.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: 65] . وَمَا الْأُولَى نَافِيَةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَمَا الثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ. وَالْحَقُّ: مَا يَحِقُّ، أَيْ يَجِبُ لِأَحَدٍ أَوْ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَيُقَالُ: مَا لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، بِمَعْنَى لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِالشَّيْءِ وَعَنِ التَّجَافِي عَنْهُ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ لَمْ أَرَ مثله، وَقد تحيّر الْمُفَسِّرُونَ فِي تَقْرِيرِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ رَغْبَةٌ. وَجَوَابُهُ بِ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً جَوَابُ يَائِسٍ مِنِ ارْعِوَائِهِمْ. ولَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي، وَهَذَا أَقْصَى مَا أَمْكَنَهُ فِي تَغْيِيرِ هَذَا الْمُنْكَرِ. وَالْبَاءُ فِي بِكُمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ، أَيْ عَلَيْكُمْ. يُقَالُ: مَا لِي بِهِ قُوَّةٌ وَمَا لِي بِهِ طَاقَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ [الْبَقَرَة: 249] . وَيَقُولُونَ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ، أَيْ قُدْرَةٌ أَوْ حِيلَةٌ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: لَيْتَ لِي قُوَّةً أَدْفَعُكُمْ بِهَا، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُوَّةَ أَنْصَارٍ لِأَنَّهُ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ. وَمَعْنَى أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أَوْ أَعْتَصِمُ بِمَا فِيهِ مَنَعَةٌ، أَيْ بِمَكَانٍ أَوْ ذِي سُلْطَانٍ يَمْنَعُنِي مِنْكُمْ. وَالرُّكْنُ: الشِّقُّ مِنَ الْجَبَلِ المتّصل بِالْأَرْضِ.

[سورة هود (11) : آية 81]

[سُورَة هود (11) : آيَة 81] قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) هَذَا كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَاشَفُوهُ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذْ قَدْ كَانُوا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَكَانُوا حَاضِرِي الْمُجَادَلَةِ حَكَى كَلَامَهُمْ بِمِثْلِ مَا تُحْكَى بِهِ الْمُحَاوَرَاتُ فَجَاءَ قَوْلُهُمْ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى نَحْوِ مَا حُكِيَ قَوْلُ: لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْلُ قَوْمِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي كَلَّمُوا بِهِ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَ بِلُوطٍ تَوَقُّعُ أَذَى ضَيْفِهِ مَبْلَغَ الْجَزَعِ وَنَفَادَ الْحِيلَةِ جَاءَهُ نَصْرُ اللَّهِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رُسُلِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا [يُوسُف: 110] . وَابْتَدَأَ الْمَلَائِكَةُ خِطَابَهُمْ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالتَّعْرِيفِ بِأَنْفُسِهِمْ لِتَعْجِيلِ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ عَلِمَ أَنَّهُمْ مَا نَزَلُوا إِلَّا لِإِظْهَارِ الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الْحجر: 8] . ثُمَّ أَلْحَقُوا هَذَا التَّعْرِيفَ بِالْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ. وَجِيءَ بِحَرْفِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَاطَبُوهُ بِمَا يُزِيلُ الشَّكَّ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ صَرَفَ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَنْ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَرَجَعُوا مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، وَلَوْ أَزَالَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ التَّشَكُّلَ بِالْأَجْسَادِ الْبَشَرِيَّةِ فَأَخْفَاهُمْ عَنْ عُيُونِ الْكُفَّارِ لَحَسِبُوا أَنَّ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْفَاهُمْ فَكَانُوا يُؤْذُونَ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وَلَمْ يَقُولُوا لَنْ يَنَالُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَعْلَمُوا لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مَا كَانَ يَشُكُّ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَنَالُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يَخْشَى سَوْرَتَهُمْ أَنْ يَتَّهِمُوهُ بِأَنَّهُ أَخْفَاهُمْ. وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ أَعْمَى أَبْصَارَ الْمُرَاوِدِينَ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ

ضَيْفِهِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ ضَيْفَ لُوطٍ سَحَرَةٌ فَانْصَرَفُوا. وَذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [37] وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ. وَجُمْلَةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ فَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِالسُّرَى عَلَى جُمْلَةِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ لِمَا فِي حَرْفِ لَنْ مِنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ. فَلَمَّا رَأَى ابْتِدَاءَ سَلَامَتِهِ مِنْهُمْ بِانْصِرَافِهِمْ حَسُنَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ سَلَامَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ وَبِنَجَاتِهِ، فَذَلِكَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَ (أَسْرِ) أَمْرٌ بِالسُّرَى- بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَصْرِ-. وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِلسَّيْرِ فِي اللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَفِعْلُهُ: سَرَى يُقَالُ بِدُونِ هَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَيُقَالُ: أَسْرَى بِالْهَمْزَةِ. قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ- عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ سَرَى. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْرَى. وَقَدْ جَمَعُوهُ فِي الْأَمْرِ مَعَ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إِذَا سَرَى بِهِمْ فَقَدْ سَرَى بِنَفْسِهِ إِذْ لَوْ بَعَثَ أَهْلَهُ وَبَقِيَ هُوَ لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: أَسْرِ بِهِمْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَذْهَبْتُ زَيْدًا وَبَيْنَ ذَهَبْتُ بِهِ. وَالْقِطْعُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-: الْجُزْءُ مِنَ اللَّيْلِ. وَجُمْلَةُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالِالْتِفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَأْمُورِ بِمُغَادَرَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ. وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ التَّقَصِّي فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْهِجْرَةِ غَضَبًا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ التَّعَلُّقَ بِالْوَطَنِ وَلَوْ تَعَلُّقَ الرُّؤْيَةَ. وَكَانَ تَعْيِينُ اللَّيْلِ لِلْخُرُوجِ كَيْلَا يُلَاقِي مُمَانَعَةً مِنْ قَوْمِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِهِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ دِفَاعُهُمْ.

وَ (إِلَّا امْرَأَتَكَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَهْلِكَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِكَ وَذَلِكَ كَلَامٌ مُوجَبٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْرِ بِهَا، أُرِيدَ أَنْ لَا يُعْلِمَهَا بِخُرُوجِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُخْلِصَةً لِقَوْمِهَا فَتُخْبِرُهُمْ عَنْ زَوْجِهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِرَفْعِ- امْرَأَتَكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدٌ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ. قِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ خَرَجَتْ مَعَهُمْ ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَنَّتْ إِلَى قَوْمِهَا فَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الِالْتِفَاتِ فَامْتَثَلُوا وَلَمْ تَمْتَثِلِ امْرَأَتُهُ لِلنَّهْيِ فَالْتَفَتَتْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَّا امْرَأَتَكَ تَلْتَفِتُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَهُمْ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ الْمُضِيِّ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: مَا يُصِيبُهُمْ، فاستعمال فعل المضيء لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ، أَوْ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَجُمْلَةُ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قُطِعَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا اهْتِمَامًا وَتَهْوِيلًا. وَالْمَوْعِدُ: وَقْتُ الْوَعْدِ. وَالْوَعْدُ أَعَمُّ مِنَ الْوَعِيدِ فَيُطْلَقُ عَلَى تَعْيِينِ الشَّرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَوْعِدِ هُنَا مَوْعِدُ الْعَذَاب الَّذِي عمله لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِمَّا بِوَحْيٍ سَابِقٍ، وَإِمَّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ طَوَتْهُ الْآيَةُ هُنَا إِيجَازًا، وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ صَحَّ تَعْرِيفُ الْوَعْدِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ. وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ صَدَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا عَن سُؤال بِجَيْش فِي نَفْسِهِ مِنِ اسْتِبْطَاءِ نُزُولِ الْعَذَابِ.

[سورة هود (11) : الآيات 82 إلى 83]

وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي مَثَلِهِ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ إِرْخَاءً لِلْعِنَانِ مَعَ الْمُخَاطَبِ الْمُقَرَّرِ لِيَعْرِفَ خَطَأَهُ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي أوّل اللَّيْل. [82، 83] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 82 إِلَى 83] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا. وَقَوْلُهُ: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ تَعَودُ الضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ الْمَجْرُورَةُ بِالْإِضَافَةِ وَبِحَرْفِ (عَلَى) عَلَى الْقَرْيَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ السِّيَاقِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَرْيَةَ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمِ انْقِلَابَ خَسْفٍ حَتَّى صَارَ عَالِيَ الْبُيُوتِ سَافِلًا، أَيْ وَسَافِلُهَا عَالِيًا، وَذَلِكَ مِنَ انْقِلَابِ الْأَرْضِ بِهِمْ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ جَعْلِ الْعَالِي سَافِلًا لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الْإِهَانَةِ. وَالسِّجِّيلُ: فُسِّرَ بِوَادٍ نَارٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ: سِجِّيلٌ بِاللَّامِ، وَسَجِّينٌ بِالنُّونِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ بِحِجَارَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ سِجِّيلِ جَهَنَّمَ، كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَجِلْدُهَا مِنْ أَطُومِ الْبَيْتِ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنَ السَّمَاءِ. وَلَعَلَّ الْخَسْفَ فَجَّرَ مِنَ الْأَرْضِ بَرَاكِينَ قَذَفَتْ عَلَيْهِمْ حِجَارَةَ مَعَادِنٍ مُحْرِقَةٍ كَالْكِبْرِيتِ، أَوْ لَعَلَّ بُرْكَانًا كَانَ قَرِيبًا مِنْ مُدُنِهِمُ انْفَجَرَ بِاضْطِرَابَاتٍ أَرْضِيَّةٍ ثُمَّ زَالَ مِنْ ذَلِكَ

الْمَكَانِ بِحَوَادِثَ تَعَاقَبَتْ فِي الْقُرُونِ، أَوْ طَمَى عَلَيْهِ الْبَحْرُ وَبَقِيَ أَثَرُ الْبَحْرِ عَلَيْهَا حَتَّى الْآنَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بُحَيْرَةَ لُوطٍ أَوِ الْبَحْرَ الْمَيِّتَ. وَقِيلَ: سِجِّيلٌ مُعَرَّبُ (سَنْكَ جِيلَ) عَنِ الْفَارِسِيَّةِ أَيْ حَجَرٌ مَخْلُوطٌ بِطِينٍ. وَالْمَنْضُودُ: الْمَوْضُوعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهَا مُتَتَابِعَةٌ مُتَتَالِيَةٌ فِي النُّزُولِ لَيْسَ بَيْنَهَا فَتْرَةٌ. وَالْمُرَادُ وَصْفُ الْحِجَارَةِ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا جُعِلَتْ مِنْ سِجِّيلٍ، أُجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَى سِجِّيلٍ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى وَصْفِ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهُ. وَالْمُسَوَّمَةُ: الَّتِي لَهَا سِيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَالْعَلَامَاتُ تُوضَعُ لِأَغْرَاضٍ، مِنْهَا عَدَمُ الِاشْتِبَاهِ، وَمِنْهَا سُهُولَةُ الْإِحْضَارِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمُعَدَّةِ الْمُهَيَّئَةِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ مِنْ لَوَازِمَ التَّوْسِيمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكَ لِأَنَّ تَسْوِيمَهَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ تَقْدِيرُهُ إِيَّاهَا لَهُمْ. وَضَمِيرُ وَما هِيَ يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمَجْرُورَةُ قَبْلَهُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَمَا تِلْكَ الْقرْيَة بِبَعِيد من الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْعَرَبِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهَا فَيَنْظُرُ مَصِيرَهَا، فَالْمُرَادُ الْبُعْدُ الْمَكَانِيُّ. وَيَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْحِجَارَةِ، أَيْ وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ بِبَعِيدٍ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِهَا. وَالْبُعْدُ بِمَعْنَى تَعَذُّرِ الْحُصُولِ وَنَفْيِهِ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَجُرِّدَ بَعِيدٍ عَنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ الْحِجَارَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ لَفْظًا، وَمَعَ كَوْنِ بَعِيدٍ هُنَا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَالشَّأْنُ أَنْ يُطَابِقَ مَوْصُوفَهُ فِي تَأْنِيثِهِ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يُجْرُونَ فَعِيلًا الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ إِذَا جَرَى عَلَى مُؤَنَّثٍ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ زِيَادَةً فِي التَّخْفِيفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف [56] إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: 63] وَقَوْلِهِ: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] . وَقِيلَ:

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 86]

إِنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مَرْيَم: 28] مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَيْ بَاغِيَةٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَعُولٌ بَغُويٌ فَوَقَعَ إِبْدَالٌ وَإِدْغَامٌ. وَتَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِشَيْء بعيد عَن الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مُعَادِ ضمير هِيَ. [84- 86] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 84 إِلَى 86] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَوْلُهُ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً- إِلَى قَوْلِهِ- مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: 61] إِلَخْ. أَمَرَهُمْ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مِنْ إِصْلَاحِ الْعُقُولِ وَالْفِكْرِ. وَثَالِثُهَا: صَلَاحُ الْأَعْمَالِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فِي الْعَالَمِ بِأَنْ لَا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ. وَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا الثَّانِي: وَهُوَ شَيْءٌ مِنْ صَلَاحِ الْعَمَلِ خُصَّ بِالنَّهْيِ لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَيْهِ كَانَ فَاشِيًا فِيهِمْ حَتَّى نَسُوا مَا فِيهِ مِنْ قُبْحٍ وَفَسَادٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَفُّ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. فَابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّلَاحِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ مَظْلَمَةٍ كَانَتْ مُتَفَشِّيَةً فِيهِمْ، وَهِيَ خِيَانَةُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ

الْأَعْرَافِ. وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ خَصْلَتَيِ السَّرِقَةِ وَالْغَدْرِ، لِأَنَّ الْمُكْتَالَ مُسْتَرْسِلٌ مُسْتَسْلِمٌ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَعَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فَعَزَّزَهُ بِالْأَمْرِ بِضِدِّهِ وَهُوَ إِيفَاؤُهُمَا. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أَنَّكُمْ بِخَيْرٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ رُؤْيَتَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ شُكْرُهَا. وَالْبَاءُ فِي بِخَيْرٍ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْخَيْرُ: حُسْنُ الْحَالَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 180] . وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَيْهِ هُنَا لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، أَيْ إِنَّكُمْ فِي غِنًى عَنْ هَذَا التَّطْفِيفِ بِمَا أُوتِيتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ وَالثَّرْوَةِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي قُبْحَ مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي نَظَرِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَيَقْطَعُ مِنْهُمُ الْعُذْرَ فِي ارْتِكَابِهِ. وَهَذَا حَثٌّ عَلَى وَسِيلَةِ بَقَاءِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ ارْتَقَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يَحِلُّ بِهِمْ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا. وَلِصُلُوحِيَّتِهِ لِلْأَمْرَيْنِ أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَعِصْيَانِ وَاهِبِهَا. ومُحِيطٍ وصف ل يَوْمٍ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ مُحِيطٌ عَذَابُهُ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ إِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَيْهِ. وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي جُمْلَةِ وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ وَالتَّنْبِيهِ لِمَضْمُونِهَا، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْأَمْرُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ نَقْصِهِمَا. وَالشَّيْءُ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] . لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِيفَاءِ بِطَلَبِ حُصُولِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْقِسْطِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهُوَ مُتَعَلق ب أَوْفُوا فَيُفِيدُ أَنَّ الْإِيفَاءَ

يُلَابِسُهُ الْقِسْطُ، أَيِ الْعَدْلُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مَعْرُوفٌ حَسَنٌ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ضِدَّهُ ظُلْمٌ وَجُورٌ وَهُوَ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ. وَالْقِسْطُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي آلِ عِمْرَانَ [18] . وَالْبَخْسُ: النَّقْصُ. وَتَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُفَسَّرًا. وَذِكْرُ ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ تَذْيِيلٌ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. لِأَنَّ التَّطْفِيفَ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ فِي أَشْيَائِهِمْ، وَتَعْدِيَةُ تَبْخَسُوا إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِاعْتِبَارِهِ ضِدَّ أَعْطَى فَهُوَ مِنْ بَابِ كَسَا. وَالْعَثْيُ- بِالْيَاءِ- مِنْ بَابِ سَعَى وَرَمَى وَرَضِيَ، وَبِالْوَاوِ كَدَعَا، هُوَ: الْفَسَادُ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا مِثْلَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ. وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ كُلِّهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْمِيمُ أَمَاكِنِ الْفَسَادِ. وَالْفَسَادُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [11] . وَقَدْ حَصَلَ النَّهْيُ عَنِ الْأَعَمِّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْعَامِّ، وَبِهِ حَصَلَتْ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ: بِالْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ الْخَاصِّ، ثُمَّ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِ التَّعْمِيمِ الْأَعَمِّ بِتَعْمِيمِ الْمَكَانِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِهِ بِالْمُؤَكِّدِ اللَّفْظِيِّ. وَسَلَكَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْفَسَادِ مَسْلَكَ التَّدَرُّجِ فَابْتَدَأَهُ بنهيهم عَن نوح مِنَ الْفَسَادِ فَاشٍ فِيهِمْ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَهُوَ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى لِلْفَسَادِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكْمَةِ فِي تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ بِقَبُولِ الْإِرْشَادِ وَالْكَمَالِ.

وَإِذْ قَدْ كَانَتْ غَايَةُ الْمُفْسِدِ مِنَ الْإِفْسَادِ اجْتِلَابَ مَا فِيهِ نَفْعٌ عَاجِلٌ لَهُ مِنْ نَوَالِ مَا يُحِبُّهُ أَعْقَبَ شُعَيْبٌ مَوْعِظَتَهُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَهُوَ النَّفْعُ الْبَاقِي هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الْمَتَاعِ العاجل. وَلَفظ بَقِيَّتُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مِنْهَا: الدَّوَامُ، وَمُؤْذِنَةٌ بِضِدِّهِ وَهُوَ الزَّوَالُ، فَأَفَادَتْ أَنَّ مَا يَقْتَرِفُونَهُ مَتَاعٌ زَائِلٌ، وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَظٌّ بَاقٍ غَيْرُ زَائِلٍ، وَبَقَاؤُهُ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ. فَأَمَّا كَوْنُهُ دُنْيَوِيًّا فَلِأَنَّ الْكسْب الْحَلَال ناشىء عَنِ اسْتِحْقَاقٍ شَرْعِيٍّ فِطْرِيٍّ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ تَرَاضٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَلَا يَحْنَقُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى آخِذِهِ فَيُعَادِيهِ وَيَتَرَبَّصُ بِهِ الدَّوَائِرَ فَبِتَجَنُّبِ ذَلِكَ تَبْقَى الْأُمَّةُ فِي أَمْنٍ مِنْ تَوَثُّبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنَ الْأَمْوَالَ بِالدِّمَاءِ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» فَكَمَا أَنَّ إِهْرَاقَ الدِّمَاءِ بِدُونِ حَقٍّ يُفْضِي إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي بَيْنَ الْأُمَّةِ فَكَذَلِكَ انْتِزَاعُ الْأَمْوَالِ بِدُونِ وَجْهِهَا يُفْضِي إِلَى التَّوَاثُبِ وَالتَّثَاوُرِ فَتَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلِابْتِزَازِ وَالزَّوَالِ. وَأَيْضًا فَلِأَنَّ نَوَالَهَا بِدُونِ رِضَى اللَّهِ عَنْ وَسَائِلِ أَخْذِهَا كُفْرَانٌ لِلَّهِ يُعَرِّضُ إِلَى تَسْلِيطِ عِقَابِهِ بِسَلْبِهَا مِنْ أَصْحَابِهَا. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» . وَأَمَّا كَوْنُهُ أُخْرَوِيًّا فَلِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ عَنْهَا مُقَارَنٌ لِلْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ عَلَى تَرْكِهَا، وَذَلِكَ الْجَزَاءُ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مَرْيَم: 76] . عَلَى أَنَّ لفظ (الْبَقِيَّة) يحْتَمل مَعْنًى آخَرَ مِنَ الْفَضْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَّا مَا يَحْتَفِظُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ النَّفَائِسُ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَتِ (الْبَقِيَّةُ) عَلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ الْمُبَارَكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ [الْبَقَرَة: 248] ،

وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [هود: 116] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ أَوْ رُوَيْشِدٌ الطَّائِيُّ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتٌ قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: الْمَعْنَى ثُمَّ يَأْتِينِي خِيَارُكُمْ وَأَمَاثِلُكُمْ يُقِيمُونَ الْمَعْذِرَةَ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ أَهْلٍ، أَيْ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ. وَفِي كَلِمَةِ (الْبَقِيَّةِ) مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ عِنْدَ طَلَبِ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ: ابْقُوا عَلَيْنَا، وَيَقُولُونَ «الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، قَالَ الْأَعْشَى: قَالُوا الْبَقِيَّةَ- وَالْهِنْدِيُّ يَحْصُدُهُمْ ... وَلَا بَقِيَّةَ إِلَّا الثَّارُ- وَانْكَشَفُوا وَقَالَ مِسْوَرُ بْنُ زِيَادَةَ الْحَارِثِيُّ: أُذَكَّرُ بِالْبُقْيَا عَلَى مَنْ أَصَابَنِي ... وَبُقْيَايَ أَنِّي جَاهِدٌ غَيْرُ مُؤْتَلِي وَالْمَعْنَى إِبْقَاءُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَنَجَاتُكُمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ الْعَاجِلَةِ السَّيِّئَةِ الْعَاقِبَةَ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِوَعِيدِ الِاسْتِئْصَالِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَالِحَةٌ هُنَا. وَلَعَلَّ كَلَامَ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِهَا فَحَكَاهُ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ. وَإِضَافَةُ (بَقِيَّةٍ) إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا جَمْعًا وَتَفْرِيقًا إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَيَمُّنٍ. وَهِيَ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ مِنْ فَضْلِهِ أَوْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَفَاسِدَهُمْ وَيَرْتَكِبُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا إِذَا صَدَّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرًا لَهُمْ، فَمَوْقِعُ الشَّرْطِ هُوَ كَوْنُ الْبَقِيَّةِ خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا تَكُونُ الْبَقِيَّةُ خَيْرًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.

[سورة هود (11) : آية 87]

وَجَاءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الِاتِّصَافِ بِالْفِعْلِ فِي زَمَانِ الْحَالِ تَقْرِيبًا لِإِيمَانِهِمْ بِإِظْهَارِ الْحِرْصِ عَلَى حُصُولِهِ فِي الْحَالِ وَاسْتِعْجَالًا بِإِيمَانِهِمْ لِئَلَّا يَفْجَأَهُمُ الْعَذَابُ فَيَفُوتُ التَّدَارُكُ. وَجُمْلَةُ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اعْبُدُوا وَنَظَائِرِهِ، أَيِ افْعَلُوا ذَلِكَ بِاخْتِيَارِكُمْ لِأَنَّهُ لِصَلَاحِكُمْ وَلَسْتُ مُكْرِهِكُمْ عَلَى فِعْلِهِ. وَالْحَفِيظُ: الْمُجْبِرُ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [107] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ لِئَلَّا يَشْمَئِزُّوا مِنَ الْأَمْرِ. وَهَذَا اسْتِقْصَاءٌ فِي التَّرْغِيبِ وَحسن الْجِدَال. [87] [سُورَة هود (11) : آيَة 87] قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) كَانَتِ الصَّلَاةُ مِنْ عِمَادِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَكَانَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُلْحِدُونَ قد تمالؤوا فِي كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى إِنْكَارِهَا وَالِاسْتِهْزَاءِ بِفَاعِلِهَا أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 53] ، فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ أَخَصَّ أَعْمَالِهِ الْمُخَالِفَةِ لِمُعْتَادِهِمْ جَعَلُوهَا الْمُشِيرَةَ عَلَيْهِ بِمَا بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أُمُورٍ مُخَالِفَةٍ لِمُعْتَادِهِمْ- بِنَاءً عَلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ فِي مُخَالَفَةِ الْمُعْتَادِ- قَصْدًا لِلتَّهَكُّمِ بِهِ وَالسُّخْرِيَةِ عَلَيْهِ تَكْذِيبًا لَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَإِسْنَادُ الْأَمْرِ إِلَى الصَّلَوَاتِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَأْمُرُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ صَلَاتَهُ تَأْمُرُهُ بِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ، أَيْ تَأْمُرُهُ بِأَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى تَرْكِ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. إِذْ مَعْنَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِعَمَلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَشْيَاءَ.

وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ آباؤُنا مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْمَعْبُودَاتِ. وَمَعْنَى تَرَكِهَا تَرْكُ عِبَادَتِهَا كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَعْبُدُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ: أَنْ نَتْرُكَ مِثْلَ عِبَادَةِ آبَائِنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَصَلَوَاتُكَ» بِصِيغَةِ جَمْعِ صَلَاةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ «أَصَلَاتُكَ» بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وأَوْ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا لِتَقْسِيمِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَّجِرُ فَلَا يُطَفِّفُ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ فَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ التَّطْفِيفِ. فَقَوْلُهُ: أَنْ نَفْعَلَ عَطْفٌ عَلَى مَا يَعْبُدُ آباؤُنا، أَيْ أَنْ نَتْرُكَ فِعْلَ مَا نَشَاءُ فِي أَمْوَالِنَا فَنَكُونَ طَوْعَ أَمْرِكَ نَفْعَلُ مَا تَأْمُرُنَا بِفِعْلِهِ وَنَتْرُكُ مَا تَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِ أَوْ بِمَعْنَى وَاوِ الْجَمْعِ، كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَجَعَلُوهُ عَطْفًا عَلَى نَتْرُكَ فَتَوَجَّسُوا عَدَمَ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَتَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْآخَرُ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَحَدُهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَالْآخَرُ عَلَى تَأْوِيلِ فِعْلِ تَأْمُرُكَ وَكِلَاهُمَا تَكَلُّفٌ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُ فَصَارُوا إِلَى صَرْفِ أَوْ عَنْ مُتَعَارَفِ مَعْنَاهَا وَقَدْ كَانُوا فِي سَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ. وَسَكَتَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِثْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَأَوْمَأَ الْبَغَوِيُّ وَالنَّسَفِيُّ إِلَى مَا صَرَّحْنَا بِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ اسْتِئْنَافُ تَهَكُّمٍ آخَرَ. وَقَدْ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَلَامِ الْقَسَمِ، وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي جُمْلَةِ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فَاشْتَمَلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ. وَالْحَلِيمُ، زِيَادَةٌ فِي التَّهَكُّمِ: ذُو الْحِلْمِ أَيِ الْعَقْلِ، وَالرَّشِيدُ: الْحَسَنُ التَّدْبِيرِ فِي المَال.

[سورة هود (11) : آية 88]

[سُورَة هود (11) : آيَة 88] قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) تَقَدَّمَ نَظِيرُ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقِصَّةِ صَالِحٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ الْحَسَنِ هُنَا مِثْلُ الْمُرَادِ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي كَلَامِ نُوحٍ وَكَلَامِ صَالِحٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَهُوَ نعْمَة النبوءة، وَإِنَّمَا عَبَّرَ شُعَيْبٌ- عَلَيْهِ السّلام- عَن النبوءة بِالرِّزْقِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا [هود: 87] لِأَنَّ الْأَمْوَالَ أَرْزَاقٌ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي. وَالتَّقْدِيرُ: مَاذَا يَسَعُكُمْ فِي تَكْذِيبِي، أَوْ مَاذَا يُنْجِيكُمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِي، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ عَلَى فَرْضِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، أَيْ فَالْحَزْمُ أَنْ تَأْخُذُوا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، أَوْ فَالْحَزْمُ أَنْ تَنْظُرُوا فِي كُنْهِ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لِصَلَاحِكُمْ. وَمَعْنَى وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ من التّابعين فَمن بَعْدِهِمْ: مَا أُرِيدُ مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ أَنْ أَمْنَعَكُمْ أَفْعَالًا وَأَنَا أَفْعَلُهَا، أَيْ لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ شَيْءٍ وَأَنَا أَفْعَلُهُ. وَبَيَّنَ فِي «الْكَشَّافِ» إِفَادَةَ التَّرْكِيبِ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ «يُقَالُ: خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ ... وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا» اه. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِضِدِّ حَالِهِ، فَإِذَا ذُكِرَتْ فِي غَرَضٍ دَلَّتْ عَلَى الِاتِّصَافِ بِضِدِّهِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ بِذِكْرِ اسْمِ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ

بِهِ الْخِلَافُ مَدْخُولًا لِحَرْفِ إِلى الدَّالِ عَلَى الِانْتِهَاءِ إِلَى شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ لِتَضْمِينِ أُخالِفَكُمْ مَعْنَى السَّعْيِ إِلَى شَيْءٍ. وَيَتَعَلَّقُ إِلى مَا أَنْهاكُمْ بِفِعْلِ أُخالِفَكُمْ، وَيَكُونُ أَنْ أُخالِفَكُمْ مَفْعُولَ أُرِيدُ. فَقَوْلُهُ: أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ أَيْ أَنْ أَفْعَلَ خِلَافَ الْأَفْعَالِ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا بِأَنْ أَصْرِفَكُمْ عَنْهَا وَأَنَا أَصِيرُ إِلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَمْرًا يَعُمُّ الْأُمَّةَ وَإِيَّاهُ وَذَلِكَ شَأْنُ الشَّرَائِعِ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ خِطَابَ الْأُمَّةِ يَشْمَلُ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَفِي هَذَا إِظْهَارُ أَنَّ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ يَنْهَى أَيْضًا نَفْسَهُ عَنْهُ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى مَا فِي النَّهْيِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى أَنَّ شَأْنَهُ لَيْسَ شَأْنَ الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ أَعْمَالٍ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، لِأَنَّ مثل ذَلِك ينبىء بِعَدَمِ النُّصْحِ فِيمَا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ، إِذْ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ النُّصْحَ وَالْخَيْرَ فِي ذَلِكَ لَاخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْمِي التَّوْبِيخُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 44] أَيْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ كِتَابَ الشَّرِيعَةِ الْعَامَّةِ لَكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَوْلَى بِجَلْبِ الْخَيْرِ لِأَنْفُسِكُمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ الْمُعَاكَسَةُ وَالْمُنَازَعَةُ إِمَّا لِأَنَّهُ عَرَفَ مِنْ مَلَامِحِ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوهُ سَاعِيًا إِلَى التَّمَلُّكِ عَلَيْهِمْ وَالتَّجَبُّرِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ نُفُوسِهِمْ خَوَاطِرَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ تَهْجِسَ فِيهَا. وَهَذَا الْمَحْمَلُ فِي الْآيَةِ يَسْمَحُ بِهِ اسْتِعْمَالُ التَّرْكِيبِ وَمَقَاصِدُ الرُّسُلِ وَهُوَ أَشْمَلُ لِلْمَعَانِي مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي قَصْرُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُ قَوْلَ قَوْمِهِ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا [هود: 87] ، فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ أَنَّهُ مَا قَصَدَ إِلَّا مُخَالَفَتَهُمْ وَتَخْطِئَتَهُمْ وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَكَانَ مُقْتَضَى إِبْطَالِ ظِنَّتِهِمْ أَنْ يَنْفِيَ أَنْ يُرِيدَ مُجَرَّدَ مُخَالَفَتِهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبِهِ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.

فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ أَنَّهُ مَا يُرِيدُ مُجَرَّدَ الْمُخَالَفَةِ كَشَأْنِ الْمُنْتَقِدِينَ الْمُتَقَعِّرِينَ وَلَكِنْ يُخَالِفُهُمْ لِمَقْصِدٍ سَامٍ وَهُوَ إِرَادَةُ إِصْلَاحِهِمْ. وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا جَاءَ وَفْدُ فَزَارَة إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: «أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَقَالَ عُمَرُ: أَمِّرْ فُلَانًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَى خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى خِلَافِكَ» . فَهَذَا التَّفْسِيرُ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَقِدِينَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَنْتَقِدُ الشَّيْءَ وَيَقِفُ عِنْدَ حَدِّ النَّقْدِ دُونَ ارْتِقَاءٍ إِلَى بَيَانِ مَا يُصْلِحُ الْمَنْقُودَ. وَقِسْمٌ يَنْتَقِدُ لِيُبَيِّنَ وَجْهَ الْخَطَأِ ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِبَيَانِ مَا يُصْلِحُ خَطَأَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَلَّقُ إِلى مَا أَنْهاكُمْ بِفِعْلِ أُرِيدُ وَكَذَلِكَ أَنْ أُخالِفَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِ أُرِيدُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ لَامِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أُرِيدُ إِلَى النَّهْيِ لِأَجْلِ أَنْ أُخَالِفَكُمْ، أَيْ لِمَحَبَّةِ خِلَافِكُمْ. وَجُمْلَةُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِرَادَةِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مُجْمَلٌ فِيمَا يُرِيدُ إِثْبَاتَهُ مِنْ أَضْدَادِ الْمَنْفِيِّ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ الضِّدَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُهُ هُوَ الْإِصْلَاحُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ اسْتِطَاعَتِهِ بِتَحْصِيلِ الْإِصْلَاحِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ. وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ تَأْكِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْرَ قَدْ كَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، كَقَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ أَوِ السَّمَوْأَلِ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ عَمَلِهِ وَكَانَ فِي بَيَانِهِ مَا يَجُرُّ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ أَعْقَبَهُ بِإِرْجَاعِ الْفَضْلِ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فَسَمَّى إِرَادَتَهُ الْإِصْلَاحَ تَوْفِيقًا وَجَعَلَهُ مِنَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ إِلَّا بِاللَّهِ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَجُمْلَةُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُرِيدُ.

[سورة هود (11) : الآيات 89 إلى 90]

وَالتَّوْفِيقُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَفْقًا لِآخَرَ، أَيْ طِبْقًا لَهُ، وَلِذَلِكَ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ والدّاعية إِلَى الطَّاعَةِ. وَجُمْلَة عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: تَوْفِيقِي لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا كَالْجُزْءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيُسَوِّغُ مَجِيءَ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّوَكُّلُ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَالْإِنَابَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] . [89، 90] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 89 إِلَى 90] وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النُّكْتَةِ فِي إِعَادَةِ النِّدَاءِ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ لِمُخَاطَبٍ مُتَّحِدٍ قَرِيبًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا فِي أَوَّلِ الْعُقُودِ [2] ، أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ. وَالشِّقَاقُ: مَصْدَرٌ شَاقَّهُ إِذَا عَادَاهُ. وَقَدْ مَضَتْ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَوَّلِ الْأَنْفَالِ [13] . وَالْمَعْنَى: لَا تَجُرُّ إِلَيْكُمْ عَدَاوَتُكُمْ إِيَّايَ إِصَابَتَكُمْ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ إِلَى آخِرِهِ، فَالْكَلَامُ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّهُ يَنْهَى الشِّقَاقَ أَنْ يُجَرَّ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ

نَهْيُهُمْ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا الشِّقَاقَ سَبَبًا لِلْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَتِهِ، فَيُوقِعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِهِ بِإِعْرَاضِهِمْ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ. وَلَقَدْ كَانَ فَضْحُ سُوءِ نَوَايَاهُمُ الدَّاعِيَةِ لَهُمْ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ عَقِبَ إِظْهَارِ حُسْنِ نِيَّتِهِ مِمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] مُصَادِفًا مَحَزَّ جَوْدَةِ الْخَطَابَةِ إِذْ رَمَاهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِضِدِّ مَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ. وَجُمْلَةُ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُصِيبَكُمْ وَالْوَاوُ رَابِطَةُ الْجُمْلَةِ. وَلِمَعْنَى الْحَالِ هُنَا مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَتِهَا إِذِ اعْتُبِرَ قُرْبُ زَمَانِهِمْ بِالْمُخَاطِبِينَ كَأَنَّهُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْبُعْدِ بُعْدُ الزَّمَنِ وَالْمَكَانِ وَالنَّسَبِ، فَزَمَنُ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرُ بَعِيدٍ فِي زَمَنِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالدِّيَارُ قَرِيبَةٌ مِنْ دِيَارِهِمْ، إِذْ مَنَازِلُ مَدْيَنَ عِنْدَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ مُجَاوِرَةٌ مَعَانٍ مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ، وَدِيَارُ قَوْمِ لُوطٍ بِنَاحِيَةٍ الْأُرْدُنِّ إِلَى الْبَحْرِ الْمَيِّتِ وَكَانَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَهُوَ جَدُّ الْقَبِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ، مُتَزَوِّجًا بِابْنَةِ لُوطٍ. وَجُمْلَةُ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ تَعْلِيل الْأَمر بِاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَجَاءِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا وَتَابُوا. وَتَفَنَّنَ فِي إِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ مَرَّةً وَإِلَى ضَمِيرِ قَوْمِهِ أُخْرَى لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ كَيْلَا يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِعْرَاضِ وَلِلتَّشَرُّفِ بِانْتِسَابِهِ إِلَى مَخْلُوقِيَّتِهِ. وَالرَّحِيمُ تَقَدَّمَ.

[سورة هود (11) : آية 91]

وَالْوَدُودُ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْوُدِّ وَهُوَ الْمَحَبَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [89] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بالتّوبة. [91] [سُورَة هود (11) : آيَة 91] قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) وَالْفِقْه: الْفَهْمُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [78] ، وَقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [65] . وَمُرَادُهُمْ مِنْ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصْدَ الْمُبَاهَتَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] وَقَوْلِهِ عَنِ الْيَهُودِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَة: 88] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا نَتَعَقَّلُهُ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ كَالْمُحَالِ لِمُخَالَفَتِهِ مَا يَأْلَفُونَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَدَمَ فَهْمِ كَلَامِهِ لِأَنَّ شُعَيْبًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ مِقْوَالًا فصيحا، وَوَصفه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَقُولُ مَا لَا نُصَدِّقُ بِهِ. وَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِإِدَانَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَيْهِ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أَيْ وَإِنَّكَ فِينَا لَضَعِيفٌ، أَيْ غَيْرُ ذِي قُوَّةٍ وَلَا مَنَعَةٍ. فَالْمُرَادُ الضَّعْفُ عَنِ الْمُدَافَعَةِ إِذَا رَامُوا أَذَاهُ وَذَلِكَ مِمَّا يُرَى لِأَنَّهُ تُرَى دَلَائِلُهُ وَسِمَاتُهُ. وَذِكْرُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: 27] بِحَيْثُ نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ

يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَبْصَارِهِمْ فَصَرَّحُوا بِفِعْلِ الرُّؤْيَة. وأكّدوه ب (إنّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُبَالَغَةً فِي تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِيهِ، أَوْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ تَعْرِيضٌ بِغَبَاوَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِ حَجَلَ بْنِ نَضْلَةَ: إِنْ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحٌ وَمِنْ فَسَادِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الضَّعِيفِ بِفَاقِدِ الْبَصَرِ وَأَنَّهُ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ فَرَكَّبُوا مِنْهُ أَنَّ شُعَيْبًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أَعْمَى، وَتَطَرَّقُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى فَرْضِ مَسْأَلَةِ جَوَازِ الْعَمَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَوْهَامٍ. وَلَمْ يُعْرَفْ مِنَ الْأَثَرِ وَلَا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ مَا فِيهِ أَنَّ شُعَيْبًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أَعْمَى. وَعَطَفُوا عَلَى هَذَا قَوْلَهُمْ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِمَّا مُهِّدَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ، أَيْ لَا يَصُدُّنَا عَنْ رَجْمِكَ شَيْءٌ إِلَّا مَكَانُ رَهْطِكَ فِينَا، لِأَنَّكَ أَوْجَبْتَ رَجْمَكَ بِطَعْنِكَ فِي دِينِنَا. وَالرَّهْطُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى رَجُلٍ أُرِيدَ بِهِ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ كَثِيرًا، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ الرَّهْطِ الَّذِي أَصْلُهُ الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَلَمْ يَقُولُوا قَوْمَكَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ قَدْ نَبَذُوهُ. وَكَانَ رَهْطُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ خَاصَّةٍ أَهْلِ دِينِ قَوْمِهِ فَلِذَلِكَ وَقَّرُوهُمْ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْ قَرِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ مَا يُؤْذِيهِ لِقَرَابَتِهِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَصَرَهُ رَهْطُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَ مَنْ سَخِطَهُ أَهْلُ دِينِهِمْ. عَلَى أَنَّ قَرَابَتَهُ مَا هُمْ إِلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ لَا يُخْشَى بَأْسُهُمْ وَلَكِنَّ الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لِقَرَابَتِهِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُخْلِصِينَ لِدِينِهِمْ. فَالْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ بَعْدَ لَوْلا يُقَدَّرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وَقَوْلُهُ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ [هود: 92] ، فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا وَإِنَّمَا عِزَّةُ الرَّجُلِ بِحُمَاتِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ وُجُودَ رَهْطِهِ الْمَانِعِ مِنْ رَجْمِهِ وُجُودٌ خَاصٌّ وَهُوَ وُجُودُ التَّكْرِيمِ وَالتَّوْقِيرِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا رَهْطُكَ مُكَرَّمُونَ عِنْدَنَا لَرَجَمْنَاكَ.

وَالرَّجْمُ: الْقَتْلُ بِالْحِجَارَةِ رَمْيًا، وَهُوَ قِتْلَةُ حَقَارَةٍ وَخِزْيٍ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَنْ يَخْلَعُ دِينَهُ الرَّجْمُ فِي عَوَائِدِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى كَوْنُهُ قَوِيًّا فِي نُفُوسِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ كَفَّهُمْ عَنْ رَجْمِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ مَا كَانَ إِلَّا لِأَجْلِ إِكْرَامِهِمْ رَهْطَهُ لَا لِلْخَوْفِ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ أَنَّ حَقَّ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنْ تُفْصَلَ وَلَا تُعْطَفَ لِأَنَّهَا مَعَ إِفَادَتِهَا تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا قَدْ أَفَادَتْ أَيْضًا حُكْمًا يَخُصُّ الْمُخَاطَبَ فَكَانَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَدِيرَةً بِأَنْ تُعْطَفَ عَلَى الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ أَحْوَالَهُ مِثْلَ جُمْلَةِ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَالْجُمَلِ بعْدهَا. والعزة: الْقَوْم وَالشِّدَّةُ وَالْغَلَبَةُ. وَالْعَزِيزُ: وَصْفٌ مِنْهُ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْوَقْعِ عَلَى النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَة: 128] ، أَيْ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَعْنَى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أَنَّكَ لَا يُعْجِزُنَا قَتْلُكَ وَلَا يَشْتَدُّ عَلَى نُفُوسِنَا، أَيْ لِأَنَّكَ هَيِّنٌ عَلَيْنَا وَمُحَقَّرٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ لَكَ مَنْ يَنْصُرُكَ مِنَّا. وَعِزَّةُ الْمَرْءِ عَلَى قَبِيلَةٍ لَا تَكُونُ غَلَبَةَ ذَاتِهِ إِذْ لَا يَغْلِبُ وَاحِدٌ جَمَاعَةً، وَإِنَّمَا عِزَّتُهُ بِقَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ فَمَعْنَى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ غَلَبَتَنَا. وَقَصْدُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْذِيرُهُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُخَالَفَةِ رَهْطِهِ بِأَنَّهُمْ يُوشِكُ أَنْ يَخْلَعُوهُ وَيُبِيحُوا لَهُمْ رَجْمَهُ. وَهَذِهِ مَعَانٍ جِدُّ دَقِيقَةٍ وَإِيجَازٌ جِدُّ بَدِيعٍ. وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ بِمُفِيدٍ تَخْصِيصًا وَلَا تقويا.

[سورة هود (11) : آية 92]

[سُورَة هود (11) : آيَة 92] قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) لَمَّا أَرَادُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي وَجَّهُوهُ إِلَيْهِ تَحْذِيرَهُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُخَالَفَةِ دِينِهِمْ، أَجَابَهُمْ بِمَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُعَوِّلًا عَلَى عِزَّةِ رَهْطِهِ وَلَكِنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ مِنْ كُلِّ عَزِيزٍ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَضْمُونَ هَذَا الْخَبَرِ وَلَيْسَ غَافِلًا عَنْهُ، أَيْ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا رَهْطِي أَغْلَبُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تُعَامِلُونِي بِأَنِّي غَيْرُ عَزِيزٍ عَلَيْكُمْ وَلَا بِأَنَّ قَرَابَتِي فِئَةٌ قَلِيلَةٌ لَا تُعْجِزُكُمْ لَوْ شِئْتُمْ رَجْمِي. وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ لِلتَّنْبِيهِ لِكَلَامِهِ وَأَنَّهُ مُتَبَصِّرٌ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيِ اللَّهُ أَعَزُّ مِنْ رَهْطِي، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِزَازِهِ بِاللَّهِ لَا بِرَهْطِهِ فَلَا يُرِيبُهُ عَدَمُ عِزَّةِ رَهْطِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَعِزَّتُهُ بِعِزَّةِ مُرْسِلِهِ. وَجُمْلَةُ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيِ اللَّهُ أَعَزُّ فِي حَالِ أَنَّكُمْ نَسِيتُمْ ذَلِكَ. وَالِاتِّخَاذُ: الْجَعْلُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [74] . وَالظِّهْرِيُّ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- نِسْبَةٌ إِلَى الظَّهْرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ، وَالتَّغْيِيرَاتُ فِي الْكَلِمِ لِأَجْلِ النِّسْبَةِ كَثِيرَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالظِّهْرِيِّ الْكِنَايَةُ عَنِ النِّسْيَانِ، أَوِ الِاسْتِعَارَةُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَوْضُوعَ بِالْوَرَاءِ يُنْسَى لِقِلَّةِ مُشَاهَدَتِهِ، فَهُوَ يُشْبِهُ الشَّيْءَ الْمَجْعُولَ خَلْفَ الظَّهْرِ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ ظِهْرِيًّا حَالًا مُؤَكِّدَةً لِلظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: وَراءَكُمْ إِغْرَاقًا فِي مَعْنَى النِّسْيَانِ لِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالْأَصْنَامِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَوْ عَنْ مُلَاحَظَةِ صِفَاتِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ تَعْلِيلٌ لِمَفْهُومِ جُمْلَةِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ تَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ وَاسْتِنْصَارُهُ بِهِ.

[سورة هود (11) : آية 93]

وَالْمُحِيطُ: الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ فَاعِلُ الْإِحَاطَةِ. وَأَصْلُ الْإِحَاطَةِ: حِصَارُ شَيْءٍ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ مِثْلَ إِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ وَالسُّورِ بِالْبَلْدَةِ وَالسُّوَارِ بِالْمِعْصَمِ. وَفِي «الْمَقَامَاتِ الْحَرِيرِيَّةِ» : «وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ أَخْلَاطُ الزُّمَرِ، إِحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ، وَالْأَكْمَامِ بِالثَّمَرِ» . وَيُطْلَقُ مَجَازًا فِي قَوْلِهِمْ: أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكَذَا، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، بِمَعْنَى عِلْمِ كُلِّ مَا يَتَضَمَّنُ أَنْ يُعْلَمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَحُذِفَ التَّمْيِيزُ وَأُسْنِدَتِ الْإِحَاطَةُ إِلَى الْعَالِمِ بِمَعْنَى: إِحَاطَةِ عِلْمِهِ، أَيْ شُمُولِ عِلْمِهِ لِجَمِيعِ مَا يُعْلَمُ فِي غَرَضٍ مَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الْجِنّ: 28] أَيْ عِلْمُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَالْمُرَادُ إِحَاطَةُ عِلْمِهِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَا عَلِمَهُ من أَعْمَالهم. [93] [سُورَة هود (11) : آيَة 93] وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) . عَطَفَ نِدَاءً عَلَى نِدَاءٍ زِيَادَةً فِي التَّنْبِيهِ، وَالْمَقْصُودُ عَطْفُ مَا بَعْدَ النِّدَاءِ الثَّانِي عَلَى مَا بَعْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ. وَجُمْلَةُ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ. وَالْمَعْنَى: اعْمَلُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَكَانَتِكُمْ، أَيْ حَالُكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، أَيِ اعْمَلُوا مَا تُحِبُّونَ أَنْ تَعْمَلُوهُ بِي. وَجُمْلَةُ إِنِّي عامِلٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَلَمْ يَقْرِنْ حَرْفَ سَوْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفَاءِ وَقُرِنَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْفَاءِ فَجُمْلَةُ سَوْفَ تَعْلَمُونَ هُنَا جُعِلَتْ مُسْتَأْنَفَةًِِِِ

[سورة هود (11) : الآيات 94 إلى 95]

اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا إِذْ لَمَّا فَاتَحَهُمْ بِالتَّهْدِيدِ كَانَ ذَلِك ينشىء سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَمَّا يَنْشَأُ عَلَى هَذَا التَّهْدِيدِ فيجاب بالتهديد ب سَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَلِكَوْنِهِ كَذَلِكَ كَانَ مُسَاوِيًا لِلتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ الْوَاقِعِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْمَآلِ، وَلَكِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَشْأَةِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ عَنْ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا فَفِي خِطَابِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْمَهَ مِنَ الشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْخِطَابِ الْمَأْمُور بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ جَرْيًا عَلَى مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللِّينِ لَهُمْ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: 159] . وَكَذَلِكَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ مَعْمُولَيْ تَعْلَمُونَ فَهُوَ هُنَا غَلِيظٌ شَدِيدٌ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَهُوَ هُنَالِكَ لَيِّنٌ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ [الْأَنْعَام: 135] . ومَنْ اسْتِفْهَامٌ مُعَلَّقٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، أَيْ تَعْلَمُونَ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ. وَالْعَذَابُ: خِزْيٌ لِأَنَّهُ إِهَانَةٌ. وَالِارْتِقَابُ: التَّرَقُّبُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ رَقَبَهُ إِذَا انْتَظَرَهُ. وَالرَّقِيبُ هُنَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ إِنِّي مَعَكُمْ رَاقِبٌ، أَيْ كُلٌّ يَرْتَقِبُ مَا يُجَازِيهِ اللَّهُ بِهِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا أَو مكذّبا. [94، 95] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 94 إِلَى 95] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) عُطِفَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً [هود: 59] بِالْوَاوِ فِيهِمَا وَعُطِفَ نَظِيرَاهُمَا فِي قِصَّةِ ثَمُودٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً [هود: 66] وَفِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [هود: 82] لِأَنَّ قِصَّتَيْ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ كَانَ فِيهِمَا تَعْيِينُ أَجَلِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ النَّبِيئَانِ

قَوْمَهُمَا فَفِي قِصَّةِ ثَمُودَ فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] ، وَفِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا تَرْقُبُ السَّامِعِ لِمَا حَلَّ بِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَوْعِدِ فَكَانَ الْمَوْقِعُ لِلْفَاءِ لِتَفْرِيعِ مَا حَلَّ بِهِمْ عَلَى الْوَعِيدِ بِهِ. وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ تَعْيِينٌ لِمَوْعِدِ الْعَذَابِ وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ فِيهِمَا مُجْمَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ [هود: 57] ، وَقَوْلُهُ: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] . وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى جاءَ أَمْرُنا إِلَى قَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً فِي قِصَّةِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ فَهُوَ تَشْبِيهُ الْبُعْدِ الَّذِي هُوَ انْقِرَاضُ مَدْيَنَ بِانْقِرَاضِ ثَمُودَ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ التَّمَاثُلُ فِي سَبَبِ عِقَابِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَهُوَ عَذَابُ الصَّيْحَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ الِاسْتِطْرَادَ بِذَمِّ ثَمُودَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ جُرْأَةً فِي مُنَاوَأَةِ رُسُلِ اللَّهِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِاخْتِتَامِ الْكَلَامِ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ نَاسَبَ أَنْ يُعَادَ ذِكْرُ أَشَدِّهَا كُفْرًا وَعِنَادًا فَشَبَّهَ هَلَكَ مَدْيَنَ بِهَلَكِهِمْ. وَالِاسْتِطْرَادُ فَنٌّ مِنَ الْبَدِيعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي الِاسْتِطْرَادِ بِالْهِجَاءِ بِالْحَارِثِ أَخِي أَبِي جَهْلٍ: إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً الَّذِي حَدَّثْتِنِي ... فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمُ ... وَنَجَا بِرَأْسِ طمرّة ولجام

[سورة هود (11) : الآيات 96 إلى 97]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 96 إِلَى 97] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) عَطَفَ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ. وَعُقِّبَتْ قِصَّةُ مَدْيَنَ بِذِكْرِ بَعْثَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقُرْبِ مَا بَيْنَ زَمَنَيْهِمَا، وَلِشِدَّةِ الصِّلَة بَين النبيئين فَإِنَّ مُوسَى بُعِثَ فِي حَيَاةِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَقَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ شُعَيْبٍ. وتأكيد الْخَبَر ب (قد) مِثْلَ تَأْكِيدِ خَبَرِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: 25] . وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِلْمُصَاحَبَةِ فَإِنَّ ظُهُورَ الْآيَاتِ كَانَ مُصَاحِبًا لِزَمَنِ الْإِرْسَالِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُدَّةُ دَعْوَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ الْمُبِينُ، أَيِ الْمُظْهِرُ صِدْقَ الْجَائِي بِهِ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ التَّأْيِيدُ الْإِلَهِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذكر فِرْعَوْن وملإه فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَعُقِّبَ ذِكْرُ إِرْسَالِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذِكْرِ اتِّبَاعِ الْمَلَإِ أَمْرَ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ حَصَلَ بِأَثَرِ الْإِرْسَالِ فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَمَرَهُمْ بِتَكْذِيبِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ فِرْعَوْنَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الضَّمِيرِ وَالْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ، وَالْإِعْلَانِ بِذَمِّهِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الرُّشْدِ عَنْ أَمْرِهِ. وَجُمْلَةُ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ حَالٌ مِنْ فِرْعَوْنَ. وَالرَّشِيدُ: فَعِيلٌ مِنْ رَشَدَ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَفَرِحَ، إِذَا اتَّصَفَ بِإِصَابَةِ الصَّوَابِ. يُقَالُ: أَرْشَدَكَ اللَّهُ. وَأُجْرِيَ وَصْفُ رَشِيدٍ عَلَى الْأَمْرِ مَجَازًا عَقْلِيًّا. وَإِنَّمَا الرَّشِيدُ الْآمِرُ مُبَالَغَةً فِي اشْتِمَالِ الْأَمْرِ عَلَى مَا يَقْتَضِي انْتِفَاءُ الرُّشْدِ فَكَأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَوْصُوفُ

[سورة هود (11) : الآيات 98 إلى 99]

بِعَدَمِ الرُّشْدِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَمْرَ فِرْعَوْنَ سَفَهٌ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرُّشْدِ وَالسَّفَهِ. وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ وَصْفِ أَمْرِهِ بِالسَّفِيهِ إِلَى نَفْيِ الرُّشْدِ عَنْهُ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الِاقْتِدَاءَ بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا لَيْسَ فِيهِ أَمَارَةٌ عَلَى سَدَادِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُتَّبَعَ فَمَاذَا غرّهم باتباعه. [98، 99] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 98 إِلَى 99] يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) جُمْلَةُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من فِرْعَوْنَ [هود: 97] الْمَذْكُورِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَالْإِيرَادُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَارِدًا، أَيْ قَاصِدًا الْمَاءَ، وَالَّذِي يُورِدُهُمْ هُوَ الْفَارِطُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْفَرْطُ. وَالْوِرْدُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-: الْمَاءُ الْمَوْرُودُ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مفعول، مثل دبح. وَفِي قَوْلِهِ: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ اسْتِعَارَةُ الْإِيرَادِ إِلَى التَّقَدُّمِ بِالنَّاسِ إِلَى الْعَذَابِ، وَهِيَ تَهَكُّمِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِيرَادَ يَكُونُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ وَأَمَّا التَّقَدُّمُ بِقَوْمِهِ إِلَى النَّارِ فَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ. ويَقْدُمُ مُضَارِعُ قَدَمَ- بِفَتْحِ الدَّالِ- بِمَعْنَى تَقَدَّمَ الْمُتَعَدِّي إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا غَيْرَهُ. وَإِنَّمَا جَاءَ فَأَوْرَدَهُمُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْإِيرَادِ وَإِلَّا فَقَرِينَةُ قَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْمَاضِي:

وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالضَّمِيرُ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ الْمَحْذُوفِ هُوَ الرَّابِطُ وَهُوَ تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ الشَّرابُ [الْكَهْف: 29] ، لِأَنَّ الْوِرْدَ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا. وَالْإِتْبَاعُ: الْإِلْحَاقُ. وَاللَّعْنَةُ: هِيَ لَعْنَةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. ويَوْمَ الْقِيامَةِ مُتَعَلق ب فَاتَّبَعُوا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أُتْبِعُوا لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ الْأُولَى قُيِّدَتْ بِالْمَجْرُورِ بِحَرْفِ فِي الظَّرْفِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْإِتْبَاعَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِلَعْنَةٍ أُخْرَى. وَجُمْلَةُ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ اللَّعْنَةِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّعْنَةِ، أَيْ بِئْسَ الرِّفْدُ هِيَ. وَالرِّفْدُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ ذِبْحٍ، أَيْ مَا يُرْفَدُ بِهِ. أَيْ يُعْطَى. يُقَالُ: رَفَدَهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا يُعِينُهُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَنَحْوِهِ. وَفِي حَذْفِ الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ إِيجَازٌ لِيَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا لِإِحْدَى اللَّعْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا بَئِيسٌ. وَإِطْلَاقُ الرِّفْدِ عَلَى اللَّعْنَةِ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَالْمَرْفُودُ: حَقِيقَتُهُ الْمُعْطَى شَيْئًا. وَوُصِفَ الرِّفْدُ بِالْمَرْفُودِ لِأَنَّ كِلْتَا اللَّعْنَتَيْنِ مَعْضُودَةٌ بِالْأُخْرَى، فَشُبِّهَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَهِيَ مَرْفُودَةٌ. وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْمَرْفُودُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ رفد.

[سورة هود (11) : الآيات 100 إلى 101]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 100 إِلَى 101] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) اسْتِئْنَافٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْأَنْبَاءِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَذْكُورِ كُلِّهِ مِنَ الْقَصَصِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا بَعْدَهَا. وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. وَجُمْلَةُ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْقَصَصَ مَضَى لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ هَذَا الْقَصَصِ الْبَلِيغِ. وَجُمْلَةُ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ مُعْتَرِضَةٌ. حَالٌ مِنَ الْقُرى. وقائِمٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَحَصِيدٌ، وَالْمَعْنَى: مِنْهَا زَرْعٌ قَائِمٌ وَزَرْعٌ حَصِيدٌ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْقَائِمُ: الزَّرْعُ الْمُسْتَقِلُّ عَلَى سُوقِهِ. وَالْحَصِيدُ: الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَكِلَاهُمَا مُشَبَّهٌ بِهِ لِلْبَاقِي مِنَ الْقُرَى وَالْعَافِي. وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ مَا كَانَ مِنَ الْقُرَى الَّتِي قَصَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قُرًى قَائِمًا بَعْضُهَا كَآثَارِ بَلَدِ فِرْعَوْنَ كَالْأَهْرَامِ وَبَلْهُوبَةَ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْهَوْلِ) وَهَيْكَلِ الْكَرْنَكِ بِمِصْرَ، وَمِثْلَ آثَارِ نِينَوَى بَلَدِ قَوْمِ يُونُسَ، وَأَنْطَاكِيَّةَ قَرْيَةِ الْمُرْسَلِينَ الثَّلَاثَةِ، وَصَنْعَاءَ بَلَدِ قَوْمِ تُبَّعٍ، وَقُرًى بَائِدَةٍ مِثْلَ دِيَارِ عَادٍ، وَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَرْيَةِ مَدْيَنَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقُرَى الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَاصَّةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاعْتِبَارُ.

وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي ظَلَمْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرى بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ جَزَاءً عَنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فَكَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ إِذْ جَرُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ. وَفَرَّعَ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَنْفُسِهِمِ انْتِفَاءَ إِغْنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ التَّرَتُّبُ وَالتَّفْرِيعُ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَنْفُسَهُمْ مَظْهَرُهُ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا كَانُوا يَعْبُدُونَهَا لِلْخَلَاصِ مِنْ طَوَارِقِ الْحَدَثَانِ وَلِتَكُونَ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانُوا فِي أَمْنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ بَأْسٌ فِي الدُّنْيَا اعْتِمَادًا عَلَى دَفْعِ أَصْنَامِهِمْ عَنْهُمْ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الضِّدُّ مُضَادًّا لِتَأْمِيلِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيعِ التَّعْرِيضُ بِتَحْذِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْعِ الْأَصْنَامِ، فَقَدْ أَيْقَنَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الْأُمَمَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَيْفَ وَهَؤُلَاءِ اقْتَبَسُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ قَدْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ مَا شَاهَدُوا آثَارَهُ، فَذَلِكَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ. وَجُمْلَةُ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ عِلَاوَةً وَارْتِقَاءً عَلَى عَدَمِ نَفْعِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ شَأْنُهُمْ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ عَنْهُمْ فَحَسْبُ وَلَكِنَّهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا وَخُسْرَانًا، أَيْ زَادَتْهُمْ أَسْبَابَ الْخُسْرَانِ. وَالتَّتْبِيبُ: مَصْدَرُ تَبَبَهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي التِّبَابِ وَهُوَ الْخَسَارَةُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَصْنَامَهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا لَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْفِعْل المقيّد ب لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةِ الْمُفِيدَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَوَجْهُ زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا حِينَئِذٍ أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الطَّمَعِ فِي إِنْقَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ حَالَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ التَّوْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُشَارِكَةِ فِي الصِّفَةِ دُونَ قَيْدِهَا، أَيْ زَادُوهُمْ تَتْبِيبًا قَبْلَ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ زَادَهُمُ اعْتِقَادُهُمْ فِيهَا انْصِرَافًا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ

[سورة هود (11) : آية 102]

الرُّسُلِ وَزَادَهُمْ تَأْمِيلُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَدْ كَانَتْ خُرَافَاتُ الْأَصْنَامِ وَمَنَاقِبُهَا الْبَاطِلَةُ مُغْرِيَةً لَهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالضَّلَالِ وَانْحِطَاطِ الْأَخْلَاقِ وَفَسَادِ التَّفْكِيرِ جُرْأَةً عَلَى رُسُلِ اللَّهِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ الْمُسْتَوْجِبُ حُلُولَ عَذَابه بهم. [102] [سُورَة هود (11) : آيَة 102] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) الْإِشَارَة إِلَى الْمَذْكُورَة مِنِ اسْتِئْصَالِ تِلْكَ الْقُرَى. وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَخْذُ رَبِّكَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ الَّذِي أَخَذْنَا بِهِ تِلْكَ الْقُرَى أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى. وَالتَّشْبِيهُ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْعَاقِبَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجه الشّبه. [103، 104] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 103 إِلَى 104] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) بَيَانٌ لِلتَّعْرِيضِ وَتَصْرِيحٌ بَعْدَ تَلْوِيحٍ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبك فَاحْذَرُوهُ وحذروا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْأَخْذِ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِي هَذَا تَخْلُصٌ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّعْرِيضِ بِمَدْحِهِمْ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ وَيَعْتَبِرُ بِالْعِبْرِ كَقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] .

وَجَعَلَ عَذَابَ الدُّنْيَا آيَةً دَالَّةً عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْقُرَى الظَّالِمَةَ تَوَعَّدَهَا اللَّهُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: 47] فَلَمَّا عَايَنُوا عَذَابَ الدُّنْيَا كَانَ تَحَقُّقُهُ أَمَارَةً عَلَى تَحَقُّقِ الْعَذَابِ الْآخَرِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى أنّ المتكلّم يبتدىء كَلَامًا لِأَجْلِ وَصفه. وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى الْآخِرَة لأنّ مَا صدقهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُرَاعَاةٌ لِمَعْنَى الْآخِرَةِ. وَاللَّامُ فِي مَجْمُوعٌ لَهُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَجْمُوعٌ النَّاسُ لِأَجْلِهِ. وَمَجِيءُ الْخَبَرِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الثَّبَاتِ، أَيْ ثَابِتٌ جَمْعُ اللَّهِ النَّاسَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ تَعَلُّقِ الْجَمْعِ بِالنَّاسِ وَتَمَكُّنِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْيَوْمِ حَتَّى لُقِّبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] . وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ لِلْيَوْمِ بِأَنَّهُ يُشْهَدُ. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْفَاعِلِ إِذِ الْمُرَادُ يَشْهَدُهُ الشَّاهِدُونَ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى شَاهِدِينَ مُعَيَّنِينَ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهُ شُهُودًا خَاصًّا وَهُوَ شُهُودُ الشَّيْءِ الْمَهُولِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا يَقْصِدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ مَرْئِيًّا رُؤْيَةً خَاصَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى الْمُحَقَّقِ أَيْ مَشْهُودٌ بِوُقُوعِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَقٌّ مَشْهُودٌ، أَيْ عَلَيْهِ شُهُودٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ، وَاضِحٌ لِلْعَيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى كَثِيرِ الشَّاهِدِينَ إِيَّاهُ لِشُهْرَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ مَجْلِسٌ مَشْهُودٌ، كَقَوْلِ أُمِّ قَيْسٍ الضَّبِيَّةِ:

وَمَشْهَدٌ قَدْ كَفَيْتُ النَّاطِقِينَ بِهِ ... فِي مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مَشْهُودِ فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاء: 41، 42] الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَبَيْنَ جملَة يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ [هود: 105] إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مُسْتَدِلِّينَ بِتَأْخِيرِ وُقُوعِهِ فِي حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِهِ يَغِيظُ اللَّهَ تعَالَى فَيُعَجِّلُهُ لَهُمْ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى أَجَلٍ حَدَّدَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ يَوْمِ خَلْقِ الْعَالَمِ كَمَا حَدَّدَ آجَالَ الْأَحْيَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29، 30] . وَالْأَجَلُ: أَصْلُهُ الْمُدَّةُ الْمُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي أَمْرٍ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ اللَّامِ، كَمَا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [الْأَعْرَاف: 34] . وَالْمَعْدُودُ: أَصْلُهُ الْمَحْسُوبُ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمَضْبُوطِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ يَلْزَمُهُ التَّعَيُّنُ، أَوْ كِنَايَةً عَن الْقرب.

[سورة هود (11) : الآيات 105 إلى 108]

[سُورَة هود (11) : الْآيَات 105 إِلَى 108] يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) جملَة يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ تَفْصِيلٌ لِمَدْلُولِ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: 103] الْآيَةَ، وَبَيَّنَتْ عَظَمَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ تَبَعًا لذَلِك التَّفْصِيل. فالقصد الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَتَمْهِيدٌ لَهُ أَفْصَحَ عَنْ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ اقْتَضَاهُ وَضْعُ الِاسْتِطْرَادِ بِتَعْظِيمِ هَوْلِ الْيَوْمِ فِي مَوْضِعِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِتَنَاسُبِ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ، وَالظُّرُوفُ صَالِحَةٌ لِاتِّصَالِ الْكَلَامِ كَصَلَاحِيَّةِ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ وَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ. ويَوْمَ مِنْ قَوْله: يَوْمَ يَأْتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (حِينَ) أَوْ (سَاعَةَ) ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فِي لفظ (يَوْم) و (لَيْلَة) تَوَسُّعًا بِإِطْلَاقِهِمَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ زَمَانِهِمَا إِذْ لَا يَخْلُو الزَّمَانُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي نَهَارٍ أَوْ فِي لَيْلٍ فَذَلِكَ يَوْمٌ أَوْ لَيْلَة فَإِذا أطلقها هَذَا الْإِطْلَاقَ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهُمَا إِلَّا مَعْنَى (حِينَ) دُونَ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ وَلَا بِنَهَارٍ وَلَا لَيْلٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَ النَّابِغَةَ: تَخَيَّرْنَ مِنْ أَنْهَارِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ فَأَضَافَ (أَنْهَارَ) جَمْعَ نَهَارٍ إِلَى الْيَوْمِ. وَرُوِيَ: مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ. وَقَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيْرِ: كَأَنَّ الْقَلْبَ لَيْلَةَ قِيلَ: يُغْدَى ... بِلَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ أَوْ يُرَاحُ

أَرَادَ سَاعَةَ، قِيلَ: يُغْدَى بِلَيْلَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: يُغْدَى أَوْ يُرَاحُ، فَلَمْ يُرَاقِبْ مَا يُنَاسِبُ لَفْظَ لَيْلَةَ مِنَ الرَّوَاحِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ مَعْنَاهُ حِينَ يَأْتِي، وَضَمِيرُ (يَأْتِي) عَائِدٌ إِلَى يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ وُقُوعُهُ وَحُلُولُهُ كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ [الزخرف: 66] . فَقَوله: يَوْمَ يَأْتِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَجُمْلَةُ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى فِعْلِهَا لِلْغَرَضِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ حِينِ يَحُلُّ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ. وَالضَّمِيرُ فِي بِإِذْنِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ضمير نُؤَخِّرُهُ [هود: 104] . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: 38] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْطَالُ اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَهَا حَقُّ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ. ونَفْسٌ يَعُمُّ جَمِيعَ النُّفُوسِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَشَمَلَ النُّفُوسَ الْبَرَّةَ وَالْفَاجِرَةَ، وَشَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِ وَكَلَامَ الْمُجَادِلِ عَنْ نَفْسِهِ. وَفُصِّلَ عُمُومُ النُّفُوسِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ مُفِيدٌ تَفْصِيلَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: 103] ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى هَذَا النَّسْجِ لِأَجْلِ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ شِبْهِ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 104] إِلَى قَوْلِهِ: بِإِذْنِهِ وَذَلِكَ نَسِيجٌ بَدِيعٌ. وَالشَّقِيُّ: فَعِيلٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ شَقِيَ، إِذَا تَلَبَّسَ بِالشَّقَاءِ وَالشَّقَاوَةِ، أَيْ سُوءِ الْحَالَةِ وَشَرِّهَا وَمَا يُنَافِرُ طَبْعَ الْمُتَّصِفِ بِهَا. وَالسَّعِيدُ: ضِدَّ الشَّقِيِّ، وَهُوَ الْمُتَلَبِّسُ بِالسَّعَادَةِ الَّتِي هِيَ الْأَحْوَالُ الْحَسَنَةُ الْخَيِّرَةُ الْمُلَائِمَةُ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا. وَالْمَعْنَى: فَمِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ هُوَ فِي عَذَابٍ وَشِدَّةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي نِعْمَةٍ وَرَخَاءٍ.

وَالشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ مِنَ الْمَوَاهِي الْمَقُولَةِ بِالتَّشْكِيكِ فَكِلْتَاهُمَا مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ. وَهَذَا إِجْمَالٌ تَفْصِيلُهُ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا إِلَى آخِرِهِ. وَالزَّفِيرُ: إِخْرَاجُ الْأَنْفَاسِ بِدَفْعٍ وَشِدَّةٍ بِسَبَبِ ضَغْطِ التَّنَفُّسِ. وَالشَّهِيقُ: عَكْسُهُ وَهُوَ اجْتِلَابُ الْهَوَاءِ إِلَى الصَّدْرِ بِشِدَّةٍ لِقُوَّةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّنَفُّسِ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي جَهَنَّمَ الزَّفِيرَ وَالشَّهِيقَ تَنْفِيرًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ لِمَا فِي ذِكْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنَ التَّشْوِيهِ بِهِمْ وَذَلِكَ أَخْوَفُ لَهُمْ مِنَ الْأَلَمِ. وَمَعْنَى مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ التَّأْيِيدُ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَإِلَّا فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَعْرُوفَةَ تَضْمَحِلُّ يَوْمَئِذٍ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيم: 48] أَوْ يُرَادُ سَمَاوَاتُ الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا. وإِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَزْمَانِ الَّتِي عَمَّهَا الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: مَا دامَتِ أَيْ إِلَّا الْأَزْمَانُ الَّتِي شَاءَ اللَّهُ فِيهَا عَدَمَ خُلُودِهِمْ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْخَالِدِينَ تَبَعًا لِلْأَزْمَانِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى غَالِبِ إِطْلَاقِ مَا الْمَوْصُولَةِ أَنَّهَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ ضَمِيرِ خالِدِينَ لِأَنَّ مَا تُطْلَقُ عَلَى الْعَاقِلِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] . وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَرَاتِبُ فِي طُولِ الْمُدَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ ثُمَّ يُعْفَى عَنْهُ، مِثْلَ أَهْلِ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمُ الْجُهَنَّمِيُّونَ فِي الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمُ الْخَالِدُونَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكُفَّارُ . وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئ عَن الِاسْتِئْنَاف، لِأَنَّ إِجْمَالَ الْمُسْتَثْنَى يُنْشِئُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: مَا هُوَ تَعْيِينُ الْمُسْتَثْنى أَو لماذَا لَمْ يَكُنِ الْخُلُودُ عَامًّا. وَهَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي الْوَاقِعُ فِي جَانِبِ الَّذِينَ سُعِدُوا فَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ التَّائِبِينَ فِي الْعَذَابِ إِلَى أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ بِدُونِ شَفَاعَةٍ، أَوْ بِشَفَاعَةٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «يَدْخُلُ نَاسٌ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا صَارُوا كَالْحُمَمَةِ أُخْرِجُوا وَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْجُهَنَّمِيُّونَ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهُ التَّحْذِيرُ مِنْ تَوَهُّمُ اسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ ذَلِكَ النَّعِيمَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ بَلْ هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وُقُوعُ الْمَشِيئَةِ بَلْ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَوْ تَعَلَّقَتِ الْمَشِيئَةُ لَوَقَعَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ دَلَّتِ الْوُعُودُ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ إِذَا أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ كَانُوا خَالِدِينَ فِيهَا فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ نَعِيمُهَا. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. وَالْمَجْذُوذُ: الْمَقْطُوعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُعِدُوا- بِفَتْحِ السِّينِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ السِّينِ- عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ فِعْلِهِ قَاصِرًا لَا مَفْعُولَ لَهُ لَكِنَّهُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْقَاصِرِ مُعَامَلَةَ الْمُتَعَدِّي فِي مَعْنَى فُعِلَ بِهِ مَا صَيَّرَهُ صَاحِبَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: جُنَّ فُلَانٌ، إِذَا فُعِلَ بِهِ مَا صَارَ بِهِ ذَا جُنُونٍ فَ سُعِدُوا بِمَعْنَى أُسْعِدُوا. وَقِيلَ: سَعِدَ مُتَعَدٍّ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ، يَقُولُونَ: سَعِدَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَسْعَدَهُ. وَخَرَجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أُسْعِدُوا، فَحُذِفَ هَمْزُ الزِّيَادَةِ كَمَا قَالُوا مَجْنُوبٌ (بِمُوَحَّدَةٍ فِي آخِرِهِ) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رجل مَسْعُود.

[سورة هود (11) : آية 109]

[سُورَة هود (11) : آيَة 109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ فَإِنَّهَا تُكْسِبُ سَامِعَهَا يَقِينًا بِبَاطِلِ مَا عَلَيْهِ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَبِخَيْبَةِ مَا أَمَّلُوهُ فِيهِمْ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّ سَابِقَ شَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ يُؤْذِنُ بِسُوءِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَ السَّامِعِ أَنْ يَشُكَّ فِي سُوءِ الشِّرْكِ وَفَسَادِهِ. وَالْخِطَابُ فِي نَحْوِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ يَقْصِدُ بِهِ أَيَّ سامع لَا سامع معيّن سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مُعَيَّنًا. وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيكون فَلا تَكُ مَقْصُودًا بِهِ مُجَرَّدُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ كَلِمَةِ: لَا شَكَّ، وَلَا مَحَالَةَ، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ، وَنَحْوَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يكون تثبيتا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّصَلُّبِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَا تَكُنْ شَاكًّا فِي أَنَّكَ لَقِيتَ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ التَّكْذِيبِ مِثْلَ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ مِنْ أُمَمِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا عِبَادَةَ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُتَوَارِثِينَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَالْمِرْيَةُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ-: الشَّكُّ. وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهَا عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ أَوْ تَفَاعَلَ وَافْتَعَلَ. وَلَمْ يَجِئْ عَلَى وَزْنٍ مُجَرَّدٍ لأنّ أصل المُرَاد الْمُجَادَلَةُ وَالْمُدَافَعَةُ مُسْتَعَارًا مِنْ مَرَيْتُ الشَّاةَ إِذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا يُجَارَى وَلَا يُمَارَى. وَفِي الْقُرْآنِ أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: 12] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الِامْتِرَاءُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ

وَمَا فِي قَوْله: مِمَّا يَعْبُدُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَقَدْ تَتَبَّعْتُ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ عَنَاهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا فِي نَحْوِ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَهُوَ مِمَّا أُلْهِمْتُ إِلَيْهِ وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] . وَمَعْنَى الشَّكِّ فِي عِبَادَتِهِمْ لَيْسَ إِلَّا الشَّكُّ فِي شَأْنِهَا، لِأَنَّ عِبَادَتهم مَعْلُومَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ مِرْيَتِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ الشَّكِّ فِيمَا قَدْ يَعْتَرِيهِ مِنَ الشَّكِّ مِنْ أَنَّهُمْ هَلْ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَتْرُكُهُمْ إِلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُسْتَأْنَفَةٌ، تَعْلِيلًا لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَوَجْهُ كَوْنِهِ عِلَّةً أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دِينُهُمْ عَيْنَ دِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ عِقَابًا عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْتُمْ تُوقِنُونَ بِأَنَّ جَزَاءَهُمْ سَيَكُونُ مُمَاثِلًا لِجَزَاءِ أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَمَاثِلَةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا كَما يَعْبُدُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْمَصَادِرِ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ نَائِبَةٌ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. التَّقْدِيرُ: إِلَّا عِبَادَةَ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَالْآبَاءُ: أُطْلِقَ عَلَى الْأَسْلَافِ، وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَدْنَانِيِّيِنَ كَانَتْ أُمُّهُمْ جُرْهُمِيَّةً، وَهِيَ امْرَأَةُ إِسْمَاعِيلَ، وَجُرْهُمْ مِنْ إِخْوَةِ ثَمُودَ، وَثَمُودُ إِخْوَةٌ لَعَادٍ، وَلِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ أُمُّهُمْ خُزَاعِيَّةً وَهِيَ زَوْجُ قُصَيٍّ. وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فِي الْعَرَبِ أَتَاهُمْ بِهَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ جَدُّ خُزَاعَةَ. وَعَبَّرَ عَنْ عِبَادَةِ الْآبَاءِ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ، أَيْ إِلَّا كَمَا اعْتَادَ آبَاؤُهُمْ عِبَادَتَهُمْ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْمُضِيِّ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ،

[سورة هود (11) : آية 110]

فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِهِمْ، تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُمْ سَلَفُهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَعَلَى أَنَّهُمُ اقْتَدَوْا بِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَعْلُولُ، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَعْنَى كَافِ التَّشْبِيهِ لِذَلِكَ. فَالْمَعْنَى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا وَفَّيْنَا أَسْلَافَهُمْ. وَالتَّوْفِيَةُ: إِكْمَالُ الشَّيْءِ غَيْرِ مَنْقُوصٍ. وَالنَّصِيبُ: أَصْلُهُ الْحَظُّ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ (مُوَفُّوهُمْ) وَ (نَصِيبَهُمْ) هُنَا اسْتِعْمَالًا تَهَكُّمِيًّا كَأَنَّ لَهُمْ عَطَاءً يَسْأَلُونَهُ فَوُفُّوهُ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِتَحْقِيقِ التَّوْفِيَةِ زِيَادَةً فِي التَّهَكُّمِ، لِأَنَّ مِنْ إِكْرَامِ الْمَوْعُودِ بِالْعَطَاءِ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُ الْوَعْدُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْبِشَارَةِ. وَالْمُرَادُ نَصِيبُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ كَمَا اسْتَأْصَلَ الْأُمَمَ السَّابِقَة ببركة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» . [110] [سُورَة هود (11) : آيَة 110] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. اعْتِرَاض لتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَأْسَ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْمِكَ عَلَيْكَ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: 109] . وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّثْبِيتِ فَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] . وَقَوْلُهُ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَمَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ اخْتِلَافُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ فِي تَقْرِيرِ بَعْضِهَا وَإِبْطَالِ بَعْضٍ، وَفِي إِظْهَارِ بَعْضِهَا

وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ مِثْلَ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَفِي تَأْوِيلِ الْبَعْضِ عَلَى هَوَاهُمْ، وَفِي إِلْحَاقِ أَشْيَاءَ بِالْكِتَابِ عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 79] . فَهَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ فَيَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بَيْنَ مُثْبِتٍ وَنَافٍ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِأَنْوَاعِهِ وَأَحْوَالِهِ يَرْجِعُ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ. فَجُمِعَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي جَمْعًا بَدِيعًا فِي تَعْدِيَةِ الِاخْتِلَافِ بِحَرْفِ (فِي) الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ كَالْمُلَابَسَةِ، أَيْ فَاخْتُلِفَ اخْتِلَافًا يُلَابِسُهُ، أَيْ يُلَابِسُ الْكِتَابَ. وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِبَيَانِ الْمُخْتَلِفِينَ وَلَا بِذَمِّهِمْ لِأَنَّ مِنْهُمُ الْمَذْمُومَ وَهُمُ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى إِدْخَالِ الِاخْتِلَافِ، وَمِنْهُمُ الْمَحْمُودَ وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ عَلَى الْمُبَدِّلِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ [الْمَائِدَة: 66] وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود: 111] ، بَلْ كَانَ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهِ. بُنِيَ فِعْلُ (اخْتُلِفَ) لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ إِلَّا فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ لَا فِي فَاعِلِهِ. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةٍ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: 109] وَيَكُونُ الِاعْتِرَاضُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: 109] أَيْ وَلَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أَيْ لَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ، فَأَهْلَكَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُخَالِفِينَ وَنَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ هُوَ نَائِبُ فَاعِلِ (قُضِيَ) . وَالتَّقْدِيرُ: لَوَقَعَ الْعَذَابُ بَيْنَهُمْ، أَيْ فِيهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي جَمَاعَةً مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ. وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ مُتَعَلِّقًا بِ (قُضِيَ) ، أَيْ لِحُكْمٍ بَيْنَهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُصِيبِ مِنَ الْمُخْطِئِ فِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ فَيَكُونُ تَحْذِيرًا مِنَ الِاخْتِلَافِ، أَيْ أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَمْهَلَ اللَّهُ الْمُخْتَلِفِينَ فَتَرَكَهُمْ فِي شَكٍّ. وَلَيْسَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فَيُوقِفَهُمْ عَلَى تَمْيِيزِ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالْحَذَرِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمْ بَقِيتُمْ فِي شَكٍّ وَلَحِقَكُمْ جَزَاءُ أَعْمَالِكُمْ. والكلمة هِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ الْأَزَلِيَّةُ وَسُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ. وَهِيَ أَنَّهُ وَكَلَّ النَّاسَ إِلَى إِرْشَادِ الرُّسُلِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ، ثُمَّ إِلَى بَذْلِ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَالسَّعْيِ إِلَى الِاتِّفَاقِ وَنَبْذِ الْخِلَافِ بِصَرْفِ الْأَفْهَامِ السَّدِيدَةِ إِلَى الْمَعَانِي، وَبِالْمُرَاجَعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالتَّبَصُّرِ فِي الْحَقِّ، وَالْإِنْصَافِ فِي الْجَدَلِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَجْعَلُوا الْحَقَّ غَايَتَهُمْ وَالِاجْتِهَادَ دَأْبَهُمْ وَهِجِّيرَاهُمْ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ هِيَ أَنَّ الْفَصْلَ وَالِاهْتِدَاءَ إِلَى الْحَقِّ مُصْلَحَةٌ لِلنَّاسِ وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَا لِلَّهِ. وَتَمَامُ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَبْذُلُوا اجْتِهَادَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى زِيَادَةِ تَعَقُّلِهِمْ وَتَفْكِيرِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [115] وَقَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [7] . وَوَصَفَهَا بِالسَّبْقِ لِأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ، بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهَا، وَبِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى سُنَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَقَرَّرَتْ مِنْ قَبْلُ. وَمَعْنَى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ قَضَاءُ اسْتِئْصَالِ الْمُبْطِلِ وَاسْتِبْقَاءِ الْمُحِقِّ، كَمَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُكَذِّبِينَ، وَلَكِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ خِلَافَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْأُمَّةِ كِتَابَهَا. وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُخْتَلِفِينَ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.

وَمُتَعَلِّقُ الْقَضَاءِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، أَيْ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [السَّجْدَة: 25] . وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: 109] فَيَكُونُ ضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مَا يَعْبُدُونَ [هود: 109] الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَفِي شَكٍّ مِنْ تَوْفِيَةِ نَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَيَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوَّلِ الْوَجْهَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا، فَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى يَوْمَ مِنْ قَوْله: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ [هود: 105] إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، أَيْ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُهُ، أَيْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَانِي الْوَجْهَيْنِ، أَيِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ. أَمَّا ضَمِيرُ مِنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكِتَابِ، أَيْ أَقْدَمُوا عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ عَلَى شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ فِي كِتَابِهِمْ، أَيْ دُونَ عِلْمٍ يُوجِبُ الْيَقِينَ مِثْلَ اسْتِقْرَاءِ عُلَمَائِنَا لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ يُوجِبُ الظَّنَّ الْقَرِيبَ مِنَ الْيَقِينِ، كَظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَلَغَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الصَّحِيحَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْكِتَابِ لَا يُعَدُّ اخْتِلَافًا فِي الْكِتَابِ إِذِ الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنَاطُ الذَّمِّ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي مَتْنِ الْكِتَابِ لَا فِي التَّفْرِيعِ مِنْ أَدِلَّتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ [هود: 100] . وَالْمُرِيبُ: الْمُوقِعُ فِي الشَّكِّ، وَوَصْفُ الشَّكِّ بِذَلِكَ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشعر شَاعِر.

[سورة هود (11) : آية 111]

[سُورَة هود (11) : آيَة 111] وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) تَذْيِيلٌ لِلْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَ (إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ إِنَّ الثَّقِيلَةِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي بكر عَن عَاص، وَأُعْمِلَتْ فِي اسْمِهَا فَانْتَصَبَ بَعْدَهَا. وَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةُ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ يَكْثُرُ إِعْمَالُهَا وَيَكْثُرُ إِهْمَالُهَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَنُحَاةُ الْبَصْرَةِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (إِنَّ) مُشَدَّدَةً عَلَى الْأَصْلِ. وبتنوين كُلًّا عوض عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلَّهُمْ، أَيْ كُلَّ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ، وَمِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَ (لَمَا) مُخَفَّفَةٌ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ، فَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى (مَا) لَامُ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى خَبَرِ- إِنَّ. وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَ (مَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْفَصْلُ بَيْنَ اللَّامَيْنِ دَفْعًا لِكَرَاهَةِ تَوَالِي مِثْلَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ- مِنْ (لَمَّا) . فَعِنْدَ مَنْ قَرَأَ (إِن) مخفّفة وشدّة الْمِيمَ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تَكُونُ (إِنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَمَّا مَنْ شَدَّدَ النُّونَ (إِنَّ) وَشَدَّدَ الْمِيمَ مِنْ (لَمَّا) وَهُمُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ فَتَوْجِيهُ قِرَاءَتِهِمْ وَقِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ مَا قَالَه الْقُرَّاء: إِنَّهَا بِمَعْنَى (لمن مَا) فَحذف إِحْدَى الْمِيمَاتِ الثَّلَاثِ، يُرِيدُ أَنَّ (لَمَّا) لَيْسَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي صُورَتِهَا كَصُورَةِ حَرْفِ (لَمَّا) فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ (لِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ صُورَةَ النُّطْقِ بِهَا) وَإِنَّمَا هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَامِ الِابْتِدَاءِ وَ (مِنَ) الْجَارَّةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى كَثْرَةِ تَكَرُّرِ الْفِعْلِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ أَبِي حَيَّةَ النَّمِرِيِّ:

وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ أَيْ نُكْثِرُ ضَرْبَ الْكَبْشِ، أَيْ أَمِيرِ جَيْشِ الْعَدُوِّ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَاقِي مِنَ الْوَحْيِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [الْقِيَامَة: 16] الْآيَةَ. فَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ مَا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، فَلَمَّا قُلِبَتْ نُونُ (مِنْ) مِيمًا لِإِدْغَامِهَا فِي مِيمِ (مَا) اجْتَمَعَ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتِ الْمِيمُ الْأُولَى تَخْفِيفًا وَهِيَ مِيمُ (مِنْ) لِوُجُودِ دَلِيلٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمِيمُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ نُونُ (مِنْ) فَصَارَ (لَمَّا) . وَلَامُ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لَامُ قَسَمٍ. وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ مِنْ إِلْحَاقِ الْجَزَاءِ عَنْ عَمَلِهِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ لَلَاقُونَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّ تَوْفِيَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَعْمَالَهُمْ حَقَّقَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُسَامِحْ فِيهِ. فَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ الَّتِي خَرَجَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ وَتَبِعَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَنَصْرُ الشِّيرَازِيُّ النَّحْوِيُّ (¬1) وَمَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ. وَقَدْ أَنْهَاهَا أَبُو شَامَةَ فِي «شَرْحِ مَنْظُومَةِ الشَّاطِبِيِّ» إِلَى سِتَّةِ وُجُوهٍ وَأَنْهَاهَا غَيْرُهُ إِلَى ثَمَانِيَةِ وُجُوهٍ. وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ تَوْفِيَةِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ فِيهَا سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّوْكِيدَاتِ، أَوَّلُهَا: كَلِمَةُ (إِنَّ) وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ، وَثَانِيهَا (كَلُّ) وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ، وَثَالِثُهَا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ (إِنَّ) ، وَرَابِعُهَا حَرْفُ (مَا) إِذَا جَعَلْنَاهُ مَوْصُولًا عَلَى قَوْلِ ¬

(¬1) هُوَ نصر بن عَليّ بن مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ الْفَسَوِي الْفَارِسِي الْمَعْرُوف بِأبي مَرْيَم، خطيب شيراز. لَهُ «تَفْسِير الْقُرْآن» ، و «شرح إِيضَاح أبي عَليّ الْفَارِسِي» . كَانَ حَيا سنة 565.

[سورة هود (11) : آية 112]

الْفَرَّاءِ، وَخَامِسُهَا الْقَسَمُ الْمُضْمَرُ، وَسَادِسُهَا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ، وَسَابِعُهَا النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَتَوْفِيَةُ أَعْمَالِهِمْ بِمَعْنَى تَوْفِيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، أَيْ إِعْطَاءُ الْجَزَاءِ وَافِيًا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَمِنَ السُّوءِ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اسْتِئْنَافٌ وَتَعْلِيلٌ لِلتَّوْفِيَةِ لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ بِأَعْمَالِهِمْ مَعَ إِرَادَةِ جَزَائِهِمْ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُطَابِقًا لِلْعَمَلِ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ. وَذَلِكَ مُحَقّق التوفية. [112] [سُورَة هود (11) : آيَة 112] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ. تَرَتَّبَ عَنِ التَّسْلِيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [هود: 110] وَعَنِ التَّثْبِيتِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: 109] الْحَضُّ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ قَوِيمٍ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِقَامَةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، دَوَامًا جِمَاعُهُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ وَالْحَذَرُ مِنْ تَغْيِيرِهِ. وَلَمَّا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي كِتَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَطَفَ على أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِهِ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الِاسْتِقَامَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ مِنْ دَوَاعِي الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ بِنُهُوضِ فِرَقٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى تَبْدِيلِهِ لِمُجَارَاةِ أَهْوَائِهِمْ، وَلِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأُمَّةِ عَمْدًا إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِهَا إِنْ هُوَ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافُهَا عَلَى أَحْكَامِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الِاسْتِقَامَةُ حَائِلًا دُونَ ذَلِكَ، إِذِ الِاسْتِقَامَةُ هِيَ الْعَمَلُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا قِيدَ شِبْرٍ. وَمُتَعَلِّقُهَا الْعَمَلُ بِالشَّرِيعَةِ

بَعْدَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي عَمْرَةَ الثَّقَفِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» فَجَعَلَ الِاسْتِقَامَةَ شَيْئًا بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَوُجِّهَ الْأَمر إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنويها بِشَأْنِهِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَما أُمِرْتَ فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ الْمُتَلَقِّي لِلْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ ابْتِدَاءً. وَهَذَا تَنْوِيهٌ لَهُ بِمَقَامِ رِسَالَتِهِ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِخِطَابِ أُمَّتِهِ بِذَلِكَ بِقَوْلُهُ: وَمَنْ تابَ مَعَكَ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنِ (اسْتَقِمْ) . وَمَعْنَى تَشْبِيهُ الِاسْتِقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِمَا أُمِرَ بِهِ النَّبِيءُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِ الِاسْتِقَامَةِ مِمْثَالَةً لِسَائِرِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْمُجْمَلِ بِالْمُفَصَّلِ فِي تَفْصِيلِهِ بِأَنْ يَكُونَ طِبْقَهُ. ويؤول هَذَا الْمَعْنَى إِلَى أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَعْنَى (عَلَى) كَمَا يُقَالُ: كُنْ كَمَا أَنْتَ. أَيْ لَا تَتَغَيَّرْ، وَلْتُشْبِهْ أَحْوَالُكَ الْمُسْتَقْبَلَةُ حَالَتَكَ هَذِهِ. وَمَنْ تابَ عُطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي أُمِرْتَ. وَمُصَحِّحُ الْعَطْفِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْفَصْلُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَمَنْ تابَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَوْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، ومَعَكَ حَالٌ مِنْ تابَ وَلَيْسَ متعلّقا ب تابَ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أُصُولَ الصَّلَاحِ الدِّينِيِّ وَفُرُوعِهِ لِقَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» . وَسُئِلَ عَمَّا فِي هُودٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ .

[سورة هود (11) : آية 113]

وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْغَوْا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمْ وَمَنْ تابَ مَعَكَ. وَالطُّغْيَانُ أَصْلُهُ التَّعَاظُمُ وَالْجَرَاءَةُ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَرَاءَةُ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا أُمِرُوا بِهِ، قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه: 81] . فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ كِتَابِهِ كَمَا نَهَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ شَمِلَ الطُّغْيَانُ أُصُولَ الْمَفَاسِدِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ جَامِعًا لِأَحْوَالِ مَصَادِرِ الْفَسَادِ مِنْ نَفْسِ الْمُفْسِدِ وَبَقِيَ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ عَدْوَى فَسَادِ خَلِيطِهِ فَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113] . وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: جَعَلَ اللَّهُ الدِّينَ بَيْنَ لَاءَيْنِ وَلا تَطْغَوْا وَلا تَرْكَنُوا [هود: 113] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اسْتِئْنَافٌ لِتَحْذِيرِ مَنْ أَخْفَى الطُّغْيَانَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ بَصِيرٌ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِدَلَالَةِ مَادَّتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْبَيِّنِ وَدَلَالَةِ صِيغَتِهِ على قوته. [113] [سُورَة هود (11) : آيَة 113] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) الرُّكُونُ: الْمَيْلُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَفِعْلُهُ كَعَلِمَ. وَلَعَلَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّكْنِ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْجنب، لأنّ المائل يُدْنِي جَنْبَهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُمَالِ إِلَيْهِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ

[سورة هود (11) : آية 114]

لِلْمُوَافِقِ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ نَهَاهُمْ عَنِ التَّقَارُبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يُضِلُّوهُمْ وَيُزِلُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ الْمُحَقَّقَةِ أَوِ الْمَظْنُونَةِ. وَالْمَسُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [201] ، وَالْمُرَادُ: نَارُ الْعَذَابِ فِي جَهَنَّمَ. وَجُمْلَةُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حَالٌ، أَيْ لَا تَجِدُونَ مَنْ يَسْعَى لِمَا يَنْفَعُكُمْ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، أَيْ وَلَا تَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُكُمْ، أَيْ مِنْ يُخَفِّفُ عَنْكُمْ مَسَّ عَذَابِ النَّارِ أَوْ يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا. ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلِيَاءَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْحُمَاةِ وَالْحَائِلِينَ. وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: وَلا تَطْغَوْا [هود: 112] وَقَوْلُهُ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَصْلَيِ الدِّينِ، وَهُمَا: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُ الْحَسَنِ: «جَعَلَ اللَّهُ الدَّين بَين لائين وَلا تَطْغَوْا، وَلَا تركنوا» . [114] [سُورَة هود (11) : آيَة 114] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى خطاب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى جَمِيعِ

الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَ مَعَهُ مَا يُنَاسِبُ الْأَوْقَاتَ الْمُعَيَّنَةَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ الْآتِي. وَطَرَفُ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ، فَالتَّثْنِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ. والنَّهارِ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ نَهَارًا لِأَنَّ الضِّيَاءَ يَنْهَرُ فِيهِ، أَيْ يَبْرُزُ كَمَا يَبْرُزُ النَّهْرُ. وَالْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ إِيقَاعُ الْعَمَلِ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَالطَّرَفَانِ ظَرْفَانِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِيقَاعُ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَهِيَ الصُّبْحُ وَصَلَاةٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ الْعَصْرُ وَقِيلَ الْمَغْرِبُ. وَالزُّلَفُ: جَمْعُ زُلْفَةٍ مِثْلَ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ أُخْتِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمَّا لَمْ تُعَيَّنِ الصَّلَوَاتُ الْمَأْمُورُ بِإِقَامَتِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ الزَّمَانِ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَلًا فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمُتَوَاتِرُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ هِيَ الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي تَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: 78] . وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَوَّلَ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِ إِذَا أَصْبَحَ وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَآخِرَ أَعْمَالِهِ إِذَا أَمْسَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ لِتَكُونَ السَّيِّئَاتُ الْحَاصِلَةُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَمْحُوَّةً بِالْحَسَنَاتِ الْحَافَّةِ بِهَا. وَهَذَا مُشِيرٌ إِلَى حِكْمَةِ كَرَاهَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِلْحَثِّ عَلَى الصَّلَاةِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهَا فِي أَوْقَاتِ تَعَرُّضِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُمَا بِأَدِلَّةٍ أُخَرَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْوُجُوبِ فِي الْمَذْكُورِ فِيهَا.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ، وَتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وإِنَّ فِيهِ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالتَّفْرِيعِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّعْلِيلُ مُشْعِرٌ بِعُمُومِ أَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْلُولِ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ الْجَمْعِ بِاللَّامِ مِنَ الْعُمُومِ. وَإِذْهَابُ السَّيِّئَاتِ يَشْمَلُ إِذْهَابَ وُقُوعِهَا بِأَنْ يَصِيرَ انْسِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ سَهْلًا وَهَيِّنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] وَيَكُونُ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا. وَيَشْمَلُ أَيْضًا مَحْوَ إِثْمِهَا إِذَا وَقَعَتْ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَمَحْمَلُ السَّيِّئَاتِ هُنَا عَلَى السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرِ الَّتِي هِيَ مِنَ اللَّمَمِ حَمْلًا لِمُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: 32] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النِّسَاء: 31] ، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ أَنَّ اجْتِنَابَ الْفَوَاحِشِ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ أَوْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْحَسَنَاتِ يُذْهِبُ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [31] . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةَ حرَام فَأتى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذكرت ذَلِكَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونُ أَنْ أَمَسَّهَا وَهَا أَنَا ذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

شَيْئًا فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأَتْبَعَهُ رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: لَا، بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَضَعَّفَهُمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ دُونَ بَقِيَّةِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: (فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ) فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي فَهَذِهِ الْآيَةُ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ لِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] قَبْلَهَا وَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 115] بَعْدَهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ رَجَّحُوا أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصّلوات وَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَا الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وَقَدْ جَاءَ تَائِبًا لِيُعْلِمَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فيؤوّل قَوْلُ الرَّاوِي: فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شُمُولُ عُمُومِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِقَضِيَّةِ السَّائِلِ وَلِجَمِيعِ مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ إِصَابَةِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْفَوَاحِشِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ: فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ، وَلَمْ يَقُولَا: فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أَيْ تَذْكِرَةٌ لِلَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَذَّكَّرَ وَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ طَلَبِ الرُّشْدِ وَالْخَيْرِ، وَهَذَا أَفَادَ الْعُمُومَ نَصًّا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] .

[سورة هود (11) : آية 115]

[سُورَة هود (11) : آيَة 115] وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: 109] الْآيَاتِ، لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّثْبِيتِ مِنْ جَرَّاءِ تَأْخِيرِ عِقَابِ الَّذِينَ كَذَّبُوا. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ لَا تَخْلُو عَنْ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ وَمُخَالِفَةٍ لِهَوَى كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ الصَّبْرُ عَلَى الْجَمِيعِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَتَوْجِيهُ الْخطاب إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهٌ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ وَأُمَّتُهُ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالتَّفْرِيعِ الْمُقْتَضِي جَمْعَهُمَا أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِينَ وَإِلَّا لَمَّا كَانَ لِلتَّفْرِيعِ مَوْقِعٌ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مَجْلُوبٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَسُمِّيَ الثَّوَابُ أَجْرًا لِوُقُوعِهِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ وَمَوْعُودًا بِهِ فَأشبه الْأجر. [116] [سُورَة هود (11) : آيَة 116] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) هَذَا قَوِيُّ الِاتِّصَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود: 102] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا دَعَا إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ الِاسْتِطْرَادِيُّ فِي مَعَانٍ مُتَمَاسِكَةٍ. وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَنَهَوْا قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ لَمَّا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ. وَذَلِكَ إِرْشَادٌ إِلَى وُجُوبِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وَالْآيَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذِ الْمَعْنَى: وَلَا تَكُونُوا كَالْأُمَمِ مِنْ قَبِلِكُمْ إِذْ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَأَسْرَفُوا فِي غَلْوَائِهِمْ حَتَّى حَلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ تَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ كَانَ حَالُكُمْ كَحَالِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أُتِيَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّهُ فِي مَوْقِعِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّينَهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا كَمَا كَانُوا فَيُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَكُونُوا مُسْتَقِيمِينَ وَلَا تَطْغَوْا وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الظَّالِمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي فِي الْآيَةِ لِتَفَنُّنِ فَوَائِدِهِ وَدَقَائِقِهِ وَاسْتِقْلَالِ أَغْرَاضِهِ مَعَ كَونهَا آئلة إِلَى غَرَضٍ يُعَمِّمُهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ كَرَدِّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا ظُهُورِ قَصْدٍ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَتَحْضِيضُ الْفَائِتِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا تَحْذِيرُ غَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَالْعِبْرَةُ بِمَا أَصَابَهُمْ. وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ. وَالْبَقِيَّةُ: الْفَضْلُ وَالْخَيْرُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْفَضْلِ الْبَقِيَّةُ كِنَايَةً غَلَبَتْ فَسَارَتْ مَسْرَى الْأَمْثَالِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُفَرِّطُ فِيهِ. وَبَقِيَّةُ النَّاسِ: سَادَتُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ، قَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ

وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا» . فَمِنْ هُنَالِكَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فِي صِفَاتِ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِي فُلَانٍ بَقِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أُولُو فَضْلٍ وَدِينٍ وَعِلْمٍ بِالشَّرِيعَةِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّسُلَ وَلَكِنْ أُرِيدَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَحَمَلَةُ الشَّرَائِعِ يَنْهَوْنَ قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَالْفساد: الْمعاصِي وَاخْتِلَاف الْأَحْوَالِ، فَنَهْيُهُمْ يَرْدَعُهُمْ عَنِ الِاسْتِهْتَارِ فِي الْمَعَاصِي فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُمْ فَلَا يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَهْنُ وَالِانْحِلَالُ كَمَا حَلَّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ. وَفِي هَذَا تنويه بأصحاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَدعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَان حَتَّى آمَنَ كُلُّهُمْ، وَأُولُو بَقِيَّةٍ بَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اخْتَلَطُوا بِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ وَيُعَلِّمُونَ الدِّينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 110] . وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ كَذَلِك ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «بِقْيَةٍ» - بِكَسْرِ الْبَاءِ- الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ- فَهِيَ لُغَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْحَابُ كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَعَلَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْهَيْئَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَخَيُّلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ. وإِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ أُولُوا بَقِيَّةٍ وَهُوَ يَسْتَتْبِعُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقُرُونِ إِذِ الْقُرُونُ الَّذِينَ فِيهِمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي حُكْمِ الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْضِيضِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقُرُونِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ فَهْمِ الَّذِينَ يَنْعَى عَلَيْهِمْ فُقْدَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْهُمْ. وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونُ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يُسْتَثْنَى إِذْ كُلُّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ عَوَاقِبِ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَى التَّحْضِيضِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَدِمُوا أُولِي بَقِيَّةٍ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرُونِ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ كَانَ الْمُوَقَّعُ لِلِاسْتِدْرَاكِ

لِرَفْعِ هَذَا الْإِيهَامِ، فَصَارَ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُنْقَطِعًا، وَعَلَامَةُ انْقِطَاعِهِ انْتِصَابُهُ لِأَنَّ نَصْبَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ مَنْصُوبٍ أَمَارَةً عَلَى اعْتِبَارِ الِانْقِطَاعِ إِذْ هُوَ الْأَفْصَحُ. وَهَلْ يَجِيءُ أَفْصَحُ كَلَامٍ إِلَّا عَلَى أَفْصَحِ إِعْرَابٍ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا اتِّصَالُهُ لَجَاءَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ أَنْجَيْنا بَيَانِيَّةٌ، بَيَانٌ لِلْقَلِيلِ لِأَنَّ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقُرُونِ هُمُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَفِي الْبَيَانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَهْيَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ هُوَ سَبَبُ إِنْجَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ لِأَنَّ النَّهْيَ سَبَبُ السَّبَبِ إِذِ النَّهْيُ يُسَبِّبُ الْإِقْلَاعَ عَنِ الْمَعَاصِي الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّجَاةِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: فَكَانُوا يَتُوبُونَ وَيُقْلِعُونَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَيَنْجُونَ مِنْ مَسِّ النَّارِ الَّذِي لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهُمْ. وَجُمْلَةُ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ وُجُودِ قَلِيلٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ وَتَبْيِينٌ لِإِجْمَالِهِ. وَالْمَعْنَى: وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَلَمْ يَنْتَهُوا هُمْ وَلَا قَوْمُهُمْ وَاتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 34] تَفْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ. وَاتِّبَاعُ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ هُوَ الِانْقِطَاعُ لَهُ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الْمُتَّبِعِ عَلَى مَتْبُوعِهِ. وَأُتْرِفُوا: أُعْطُوا التَّرَفَ، وَهُوَ السَّعَةُ وَالنَّعِيمُ الَّذِي سَهَّلَهُ اللَّهُ لَهُمْ فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَتْرَفَهُمْ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ.

[سورة هود (11) : آية 117]

وكانُوا مُجْرِمِينَ أَيْ فِي اتِّبَاعِ التَّرَفِ فَلَمْ يَكُونُوا شَاكِرِينَ، وَذَلِكَ يُحَقِّقُ مَعْنَى الِاتِّبَاعَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالتَّرَفِ مَعَ الشُّكْرِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ بَلْ هُوَ تَمَحُّضٌ وَانْقِطَاعٌ دُونَ شَوْبِهِ بِغَيْرِهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ آخَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَحَقَّ عَلَيْهِمْ هَلَاكُ الْمُجْرِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [هود: 117] . [117] [سُورَة هود (11) : آيَة 117] وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ [هود: 116] لما يُؤذنهُ بِهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ تَعَرُّضِ الْمُجْرِمِينَ لِحُلُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ بِنَاءً عَلَى وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ نُزُولَ الْعَذَابِ مِمَّنْ نَزَلَ بِهِ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُمْ جَرُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْهَلَاكَ بِمَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَصِيغَةُ وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ انْتِفَاءِ الْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ [79] ، وَقَوْلِهِ: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي آخِرِ الْعُقُودِ [116] فَارْجِعْ إِلَى ذَيْنِكَ الْمَوْضِعَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِ الْقُرى أَهْلُهَا، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسل كَقَوْلِه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] . وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ رَبُّكَ أَيْ لَمَّا يُهْلِكِ النَّاسَ إِهْلَاكًا مُتَلَبِّسًا بِظُلْمٍ. وَجُمْلَةُ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ حَالٌ مِنَ الْقُرى أَيْ لَا يَقَعُ إِهْلَاكُ اللَّهِ ظَالِمًا لِقَوْمٍ مُصْلِحِينَ.

[سورة هود (11) : الآيات 118 إلى 119]

وَالْمُصْلِحُونَ مُقَابِلُ الْمُفْسِدِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ- وَقَوْلِهِ- وَكانُوا مُجْرِمِينَ [هود: 116] ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ وَلَكِنْ يُهْلِكُ قَوْمًا ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [الْقَصَص: 59] . وَالْمُرَادُ: الْإِهْلَاكُ الْعَاجِلُ الْحَالُّ بِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ حُلُولِ أَمْثَالِهِ دُونَ الْإِهْلَاكِ الْمَكْتُوبِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ فَنَاءُ أُمَّةٍ وَقِيَامُ أُخْرَى فِي مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ حَسَبَ سنَن مَعْلُومَة. [118، 119] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 118 إِلَى 119] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) لَمَّا كَانَ النَّعْيُ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَقَعْ فِيهِمْ مَنْ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فَاتَّبَعُوا الْإِجْرَامَ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِهْلَاكِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُصْلِحِينَ لَمَا أُهْلِكُوا، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ قَدْ يُثِيرُ تَوَهُّمَ أَنَّ تَعَاصِيَ الْأُمَمِ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ خُرُوجٌ عَنْ قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يَرْفَعُ هَذَا التَّوَهُّمَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى الْحَقِّ مُسْتَمِرَّةً عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا. وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي أُقِيمَ عَلَيْهَا نِظَامُ هَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ نِظَامُ عُقُولِ الْبَشَرِ قَابِلًا لِلتَّطَوُّحِ بِهِمْ فِي مَسْلَكِ الضَّلَالَةِ أَوْ فِي مَسْلَكِ الْهُدَى عَلَى مَبْلَغِ اسْتِقَامَةِ التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ حُجُبِ الضَّلَالَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْعُقُولَ صَالِحَةً لِذَلِكَ جَعَلَ مِنْهَا قَبُولَ الْحَقِّ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْعُقُولِ مِنْ عَوَارِضِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالِ وَهِيَ الْفِطْرَةُ الْكَامِلَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً،

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] . لَمْ يَدَّخِرْهُمْ إِرْشَادًا أَوْ نُصْحًا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ وَدُعَاةِ الْخَيْرِ وَمُلَقِّنِيهِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُمْ أُولُو الْبَقِيَّةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنَ النَّاسِ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى إِلْهَامٍ مُتَّحِدٍ لَا تَعْدُوهُ كَمَا خَلَقَ إِدْرَاكَ الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ عَلَى نِظَامٍ لَا تَتَخَطَّاهُ مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ، فَنَجِدُ حَالَ الْبَعِيرِ وَالشَّاةِ فِي زَمَنِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَحَالِهِمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ هَذَا النِّظَامَ فِي الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَى بِإِقَامَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مَسَاعِي الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ الْمَخْلُوطَةِ، لِيَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْخَالِصَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَلَوْ خُلِقَ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مُقْتَضِيًا ثَوَابَ النَّعِيمِ وَلَا كَانَ الْفَسَادُ مُقْتَضِيًا عِقَابَ الْجَحِيمِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَشَرَ عَلَى نِظَامٍ مِنْ شَأْنِهِ طَرَيَانُ الِاخْتِلَافِ بَينهم فِي الْأُخوة، وَمِنْهَا أَمْرُ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَهَمُّهَا وَأَعْظَمُهَا لِيَتَفَاوَتَ النَّاسُ فِي مَدَارِجِ الِارْتِقَاءِ وَيَسْمُوا إِلَى مَرَاتِبِ الزُّلْفَى فَتَتَمَيَّزُ أَفْرَادُ هَذَا النَّوْعِ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْحَيَاةِ حَتَّى يُعَدَّ الْوَاحِدُ بِأَلْفٍ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَال: 37] . وَهَذَا وَجْهُ مُنَاسِبَةِ عَطْفِ جُمْلَةِ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى جُمْلَتَيْ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يُسَاوِي مَضْمُونَ جَوَابِ الشَّرْطِ فَحُذِفَ إِيجَازًا. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلَهُمْ كَذَلِكَ. وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّحَدُوا فِي أَمْرٍ مِنْ عَظَائِمِ أُمُورِ الْحَيَاةِ كَالْمَوْطِنِ وَاللُّغَةِ وَالنَّسَبِ وَالدِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] . فَتُفَسَّرُ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَتُهَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَكْوِينِهَا كَمَا يُقَالُ: الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ.

وَمَعْنَى كَوْنِهَا وَاحِدَةً أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِ الْحَقِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مِنْ حَيْثُ الدِّينِ الْخَالِصِ. وَفُهِمَ مِنْ شَرْطِ (لَوْ) أَنَّ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ مُنْتَفِيَةٌ، أَيْ مُنْتَفٍ دَوَامُهَا عَلَى الْوَحْدَةِ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ وُجِدُوا فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ مُتَّفِقِينَ فَلَمْ يَلْبَثُوا حَتَّى طَرَأَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ ابْنَيْ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الْبَقَرَة: 213] وَقَوْلِهِ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فِي سُورَةِ يُونُسَ [19] فَعُلِمَ أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا مَضَى فَلَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ لَا يدْرِي هَل يؤول أَمْرُهُمْ إِلَى الِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ دَائِمٌ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ. وَلَمَّا أَشْعَرَ الِاخْتِلَافُ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالِاخْتِلَافَ، عَقَّبَ عُمُومَ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، أَيْ فَعَصَمَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُخَالِفِ خَارِجًا عَنِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ مُتَّبِعِيهِ، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا الِاخْتِلَافُ وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ قَصْمُهُ وَبَذْلُ الْوُسْعِ فِي إِزَالَتِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ بِالْإِرْشَادِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يُنْجِعْ ذَلِكَ فَبِالْقِتَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ الْعَرَبِ الَّذِينَ جَحَدُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَكَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- فِي قِتَالِ الْحُرَوْرِيِّةِ الَّذِينَ كَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. وَأَمَّا تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ فَهُوَ تَأْكِيدٌ بِمَضْمُونِ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الِاخْتِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: مُخْتَلِفِينَ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ

لَمَّا خَلَقَهُمْ عَلَى جِبِلَّةٍ قَاضِيَةٍ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَالنَّزَعَاتِ وَكَانَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَى تِلْكَ الْجِبِلَّةِ وَعَالِمًا بِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا كَانَ الِاخْتِلَافُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِخَلْقِهِمْ، وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لَا يَلْزَمُهَا الْقَصْرُ عَلَيْهَا بَلْ يَكْفِي أَنَّهَا غَايَةُ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَكُونُ مَعَهَا غَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى فَلَا يُنَافِي مَا هُنَا قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] لِأَنَّ الْقَصْرَ هُنَالِكَ إِضَافِيٌّ، أَيْ إِلَّا بِحَالَةِ أَنْ يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُوا، وَالْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ لَا يُنَافِي وُجُودَ أَحْوَالٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا قَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ مَارَسَ أَسَالِيبَ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ لَيْسَ لِلْقَصْرِ بَلْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُوجِبُ الْحَيْرَةَ فِي التَّفْسِيرِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يوذن بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا لَا رَحْمَةَ لَهُمْ فِيهِ، فَهُوَ اخْتِلَافٌ مُضَادٌّ لِلرَّحْمَةِ، وَضِدُّ النِّعْمَةِ النِّقْمَةُ فَهُوَ اخْتِلَافٌ أَوْجَبَ الِانْتِقَامَ. وَتَمَامُ كَلِمَةِ الرَّبِّ مَجَازٌ فِي الصِّدْقِ وَالتَّحَقُّقِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [115] ، فَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ نَصِيبُ جَهَنَّمَ. وَالْكَلِمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ. فَكَلِمَةُ اللَّهِ: تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَتُهُ. أَطْلَقَ عَلَيْهَا كَلِمَةُ مَجَازًا لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِي صُدُورِ كَلِمَةِ (كُنْ) وَهِيَ أَمْرُ التَّكْوِينِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [115] . وَجُمْلَةُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ تَفْسِيرٌ لِلْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ. وَذَلِكَ تَعْبِيرٌ عَنِ الْإِرَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ.

[سورة هود (11) : آية 120]

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ كَلَامًا خَاطَبَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ فَيَكُونُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ تَفْسِيرًا لِ كَلِمَةُ. ومِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تَبْعِيضٌ، أَيْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِشُمُولِ تَثْنِيَةِ كِلَا النَّوْعَيْنِ لَا لِشُمُولِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِمُنَافَاتِهِ لِمَعْنَى التَّبْعِيضِ الَّذِي أفادته مَنْ. [120] [سُورَة هود (11) : آيَة 120] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) هَذَا تَذْيِيلٌ وَحَوْصَلَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى وَأَنْبَاءِ الرُّسُلِ ... فَجُمْلَةُ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ إِلَى آخِرِهَا عَطْفُ الْإِخْبَارِ عَلَى الْإِخْبَارِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةً. وَهَذَا تَهْيِئَةٌ لِاخْتِتَامِ السُّورَةِ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا سِيقَ فِيهَا مِنَ الْقَصَص والمواعظ. وانتصف كُلًّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ نَقُصُّ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ لِيَأْتِيَ بَيَانُهُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ أَرْسَخَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَتَنْوِينُ كُلًّا تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ نَبَأٍ عَنِ الرُّسُلِ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، فَقَوْلُهُ: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بَيَانٌ لِلتَّنْوِينِ الَّذِي لَحِقَ (كُلًّا) . وَمَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بَدَلٌ مِنْ كُلًّا. وَالْقَصَصُ يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ [3] . وَالتَّثْبِيتُ: حَقِيقَتُهُ التَّسْكِينُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ يَنْتَفِي الِاضْطِرَابُ وَالتَّزَلْزُلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [66] ، وَقَوْلِهِ:

فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [12] ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: 260] . وَالْفُؤَادُ: أُطْلِقَ عَلَى الْإِدْرَاكِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَتَثْبِيتُ فُؤَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةُ يَقِينِهِ وَمَعْلُومَاتِهِ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُعَادُ ذِكْرُهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ أُمَمِهِمْ مَعَهُمْ يَزِيدُهُ تَذَكُّرًا وَعِلْمًا بِأَنَّ حَالَهُ جَارٍ عَلَى سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَازْدَادَ تَذَكُّرًا بِأَنَّ عَاقِبَتَهُ النَّصْرُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَتَجَدُّدُ تَسْلِيَةٍ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَذَلِكَ يَزِيدُهُ صَبْرًا. وَالصَّبْرُ: تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ. وَأَنَّ تَمَاثُلَ أَحْوَالِ الْأُمَمِ تِلْقَاءَ دَعْوَةِ أَنْبِيَائِهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْعُصُورِ يَزِيدُهُ عِلْمًا بِأَنَّ مَرَاتِبَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَنَّ قَبُولَ الْهُدَى هُوَ مُنْتَهَى ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْمُصَارَعَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ شَأْنٌ قَدِيمٌ، وَهِيَ مِنَ النَّوَامِيسِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا النِّظَامُ الْبَشَرِيُّ، فَلَا يُحْزِنُهُ مُخَالَفَةُ قَوْمِهِ عَلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ عِلْمًا بِسُمُوِّ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ قَبِلُوا هُدَاهُ، وَاعْتَصَمُوا مِنْ دِينِهِ بِعُرَاهُ، فَجَاءَهُ فِي مِثْلِ قِصَّةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهِ بَيَانُ الْحَقِّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَالْإِشَارَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي هذِهِ قِيلَ إِلَى السُّورَةِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَانَتْ أَوْفَى بِأَنْبَاءِ الرُّسُلِ مِنَ السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَهَا وَبِهَذَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ- إِلَى قَوْلِهِ- مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 116- 119] . فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنه لم يجىء مِثْلَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَتَأَمَّلْ.

[سورة هود (11) : الآيات 121 إلى 122]

وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِ الْحَقُّ تَأْمِينُ الرَّسُولِ مِنِ اخْتِلَافِ أُمَّتِهِ فِي كِتَابِهِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ [هود: 116] الْمُفْهِمِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسُوا بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ آنِفًا. وَتَعْرِيفُهُ إِشَارَةٌ إِلَى حق مَعْهُود للنبيء إِمَّا بِأَنْ كَانَ يَتَطَلَّبُهُ، أَوْ يَسْأَلُ رَبَّهُ. وَالْمَوْعِظَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الْوَعْظِ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا يَصُدُّ الْمَرْءَ عَنْ عَمَلٍ مُضِرٍّ. وَالذِّكْرَى: مُجَرَّدُ التَّذْكِيرِ بِمَا يَنْفَعُ. فَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا وَيَتَبَصَّرُوا فِي أَحْوَالِهَا. وَتَنْكِيرُ مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى للتعظيم. [121، 122] [سُورَة هود (11) : الْآيَات 121 إِلَى 122] وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ [هود: 120] الْآيَةَ، لِأَنَّهَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ بِأَنْ يُخَاطِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا خِطَابُ الْآيِسِ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرَى الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِإِعْرَاضِهِمْ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْحَقِّ تَأَلُّبُهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَمُقَاوَمَتُهُمُ الْحَقَّ. فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ عَدِيلًا لِقَوْلِهِ: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120] . وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْمُور أَن بقوله عَلَى لِسَانِهِ وَلِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ هُوَ نَظِيرُ مَا حُكِيَ عَنْ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي هَذِهِ السُّورَةِ آنِفًا. وَضَمَائِرُ إِنَّا عامِلُونَ وإِنَّا مُنْتَظِرُونَ للنبيء وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ.

[سورة هود (11) : آية 123]

وَفِي أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ التَّفْوِيضُ إِلَى رَأْسِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يَقْطَعَ أَمْرًا عَنْ أُمَّتِهِ ثِقَةً بِأَنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ فِعْلَهُ. كَمَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ وَطَالِبِينَ رَدَّ سَبَايَاهُمْ وَغَنَائِمِهِمُ «اخْتَارُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ السَّبْيَ أَوِ الْأَمْوَالَ» . فَلَمَّا اخْتَارُوا السَّبْيَ رَجَعَ السَّبْيُ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْتَشِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ يُطَيِّبُ ذَلِكَ لِهَوَازِنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِّهِ فِي أَوَّلِ مَا يَجِيءُ مِنَ السَّبي، فَقَالَ الْمُؤمنِينَ: طَيَّبْنَا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، كَمَا يُقَالُ فِي الْوَعِيدِ: سَوف ترى. [123] [سُورَة هود (11) : آيَة 123] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) كَلَامٌ جَامع وَهُوَ تذييل لِلسُّورَةِ مُؤْذِنٌ بِخِتَامِهَا، فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ، أَوْ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ وَهُوَ مِلْكُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ، أَيْ لِلَّهِ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهَذَا كَلَامٌ يَجْمَعُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا وُعِدُوا مِنَ النَّعِيمِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ، وَنِذَارَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا تُوُعِّدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ يَمْلِكُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ. وَإِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ

بِفَسَادِ آرَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ. وَمَعْنَى إِرْجَاعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ: أَنَّ أَمْرَ التَّدْبِيرِ وَالنَّصْرِ وَالْخِذْلَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنْ حَسَبَ النَّاسُ وَهَيَّأُوا فَطَالَمَا كَانَتِ الْأُمُورُ حَاصِلَةً عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَعَدَّ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِدُّ، وَكَثِيرًا مَا اعْتَزَّ الْعَزِيزُ بِعِزَّتِهِ فَلَقِيَ الْخِذْلَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْتَقِبُ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُسْتَضْعَفُونَ بِمَحَلِّ الْعِزَّةِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى أُولِي الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ الْأُمُورَ، وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِ كُلُّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَا نَافِعًا يُرْجَعُ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ النَّائِبِ، أَيْ يُرْجِعُ كُلُّ ذِي أَمْرٍ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ (الْأَمْرُ) هُوَ فَاعِلُ الرُّجُوعِ، أَيْ يَرْجِعُ هُوَ إِلَى اللَّهِ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالرُّجُوعُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ عَجْزِ النَّاسِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ حَسَبَ رَغَبَاتِهِمْ بِهَيْئَةِ مُتَنَاوِلِ شَيْءٍ لِلتَّصَرُّفِ بِهِ ثُمَّ عَدِمَ اسْتِطَاعَتَهُ التَّصَرُّفَ بِهِ فَيُرْجِعُهُ إِلَى الْحَرِيِّ بِالتَّصَرُّفِ بِهِ، أَوْ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ خُضُوعِ الْأُمُورِ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ دُونَ تَصَرُّفِ الْمُحَاوِلِينَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِهَيْئَةِ الْمُتَجَوِّلِ الْبَاحِثِ عَنْ مَكَانٍ يَسْتَقِرُّ بِهِ ثُمَّ إِيوَائِهِ إِلَى الْمَقَرِّ اللَّائِقِ بِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ رَمَزَ إِلَيْهَا بِفِعْلِ يُرْجَعُ وَتَعْدِيَتُهُ بِ إِلَيْهِ. وتفريع أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَلَى رُجُوعِ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَيْهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُعْبَدَ وَأَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مُهِمٍّ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّخْطِئَةِ لِلَّذِينِ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَتَوَكَّلُوا عَلَى شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ وَنَفْعِهَا. ويتضمّن أَمر النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ.

وَالْمُرَادُ أَنْ يَعْبُدَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَبِقَرِينَةِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ كُلُّ أَمْرٍ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ وَلَا مِنَ التَّوَكُّلِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِوُجُوبِ سَبَبِ تَخْصِيصِهِ بِهِمَا. وَجُمْلَةُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَذْلَكَةٌ جَامِعَةٌ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالْوَاوُ فِيهِ كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ عَدَمَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَيِّ عَمَلٍ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ وَصْفُ الْغَافِلِ بِالْعَمَلِ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِالذَّوَاتِ نَحْوَ: بِغَافِلٍ عَنْكُمْ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عَلَى الْعَمَلِ جَزَاءً. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ «عَمَّا تَعْمَلُونَ» - بِتَاءٍ فوقية- خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ تَسْلِيَة للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.

12- سورة يوسف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 12- سُورَةُ يُوسُفَ الِاسْمُ الْوَحِيدُ لِهَذِهِ السُّورَةِ اسْمُ سُورَةِ يُوسُفَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابِ «الْإِصَابَةِ» فِي تَرْجَمَةِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ الزُّرَقِيِّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا رَافِعِ بْنَ مَالِكٍ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِسُورَةِ يُوسُفَ، يَعْنِي بَعْدَ أَن بَايع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْعَقَبَةِ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا قَصَّتْ قِصَّةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كُلَّهَا، وَلَمْ تُذْكَرْ قِصَّتُهُ فِي غَيْرِهَا. وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ فِي غَيْرِهَا إِلَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَافِرٍ. وَفِي هَذَا الِاسْمِ تَمَيُّزٌ لَهَا مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ الَرَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ مِنْ أَوَّلِهَا مَدَنِيَّةٌ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَهُوَ وَاهٍ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ هُودٍ، وَقَبْلَ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَلَمْ تذكر قصَّة نبيء فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْإِطْنَابِ.

من مقاصد هذه السورة

وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَدَدِ فِي الْأَمْصَارِ. مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ زَمَانًا، فَقَالُوا (أَيِ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ) : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سُورَة يُوسُف: 1، 2] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. فَأَهَمُّ أَغْرَاضِهَا: بَيَانُ قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ إِخْوَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ مِنْ نَوَاحٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَفِيهَا إِثْبَاتُ أَنَّ بَعْضَ الْمَرَائِي قَدْ يَكُونُ إِنْبَاءً بِأَمْرٍ مُغَيَّبٍ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ النُّبُوءَاتِ وَهُوَ مِنْ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الْمَشْرِقِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [سُورَة يُوسُف: 4] الْآيَاتِ. وَأَنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا عِلْمٌ يَهَبُهُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ. وَتَحَاسُدُ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ. وَلُطْفُ اللَّهِ بِمَنْ يَصْطَفِيهِ مِنْ عباده. وَالْعبْرَة بِحَسب الْعَوَاقِبِ، وَالْوَفَاءِ، وَالْأَمَانَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالتَّوْبَةِ. وَسُكْنَى إِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ بِأَرْضِ مصر. وتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَقِيَهُ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ آلِهِمْ مِنَ الْأَذَى. وَقد لَقِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِهِ أَشَدَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ بُعَدَاءِ كَفَّارِ قَوْمِهِ، مِثْلَ عَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ، وَالنَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ،

وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَإِنَّ وَقْعَ أَذَى الْأَقَارِبِ فِي النُّفُوسِ أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ أَذَى الْبُعَدَاءِ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [سُورَة يُوسُف: 7] . وفيهَا الْعبْرَة بصبر الْأَنْبِيَاء مثل يَعْقُوب ويوسف- عَلَيْهِم السَّلَامُ- عَلَى الْبَلْوَى. وَكَيْفَ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. وَفِيهَا الْعِبْرَةُ بِهِجْرَة قوم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَلَّ بِهِ كَمَا فَعَلَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلُهُ، وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُرَيْشًا يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ تبعا لهجرة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهَا مِنْ عِبَرِ تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ وَقَوَانِينِهَا وَنِظَامِ حُكُومَاتِهَا وَعُقُوبَاتِهَا وَتِجَارَتِهَا. وَاسْتِرْقَاقُ الصَّبِيِّ اللَّقِيطِ. وَاسْتِرْقَاقُ السَّارِقِ، وَأَحْوَالُ الْمَسَاجِينِ. وَمُرَاقَبَةُ الْمَكَايِيلِ. وَإِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أُسْلُوبًا خَاصًّا مِنْ أَسَالِيبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْإِعْجَازُ فِي أُسْلُوبِ الْقَصَصِ الَّذِي كَانَ خَاصَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ يَعْجَبُونَ مِمَّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ أَقَاصِيصِ الْعَجَمِ وَالرُّومِ، فَقَدْ كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ يَفْتِنُونَ قُرَيْشًا بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِ الْأُمَمِ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ النَّضْرُ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْحِيرَةِ فَتَعَلَّمَ أَحَادِيثَ (رُسْتُمَ) وَ (اسْفَنْدَيَارَ) مِنْ أَبْطَالِ فَارِسٍ، فَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا بِذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَنَا وَاللَّهِ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَهَلُمَّ أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ بِأَخْبَارِ الْفُرْسِ، فَكَانَ مَا فِي بَعْضُهَا مِنَ التَّطْوِيلِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْفُرْسِ يُمَوِّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ

[سورة يوسف (12) : آية 1]

أَشْبَعُ لِلسَّامِعِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى أُسْلُوبِ اسْتِيعَابِ الْقِصَّةِ تَحَدِّيًا لَهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ. عَلَى أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ قَدْ طَوَتْ كَثِيرًا مِنَ الْقِصَّةِ مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ أَثَرٍ فِي الْعِبْرَةِ. وَلِذَلِكَ تَرَى فِي خِلَالِ السُّورَةِ وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ [سُورَة يُوسُف: 56] مَرَّتَيْنِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [سُورَة يُوسُف: 76] فَتِلْكَ عِبَرٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي أَقْوَالِ الصَّالِحِينَ كَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [سُورَة يُوسُف: 67] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سُورَة يُوسُف: 90] . [1] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) الر. تقدم الْكَلَام على نظاير الر وَنَحْوهَا فِي أوّل سُورَة الْبَقَرَة. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. الْكَلَام على تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مَضَى فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَوُصِفَ الْكِتَابُ هُنَا بِ الْمُبِينِ وَوُصِفَ بِهِ فِي طَالِعَةِ سُورَة يُونُس بالحكيم لِأَنَّ ذِكْرَ وَصْفِ إِبَانَتِهِ هُنَا أَنْسَبُ، إِذْ كَانَتِ الْقِصَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ مُفَصَّلَةً مُبَيِّنَةً لِأَهَمِّ مَا جَرَى فِي مُدَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمِصْرَ. فَقِصَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً لِلْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، بِخِلَافِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ: هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعِينَ-، إِذْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لَدَيْهِمْ إِجْمَالًا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا إِيَّاهَا وَمُفَصِّلًا.

[سورة يوسف (12) : آية 2]

وَنُزُولُهَا قبل اخْتِلَاط النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ، وَبِذَلِكَ سَاوَى الصَّحَابَةُ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِلْمِ تَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَعْلَمُهُ الْمُشَرِّعُونَ. فَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي. وَالْمُرَادُ: الْإِبَانَةُ التَّامَّةُ بِاللَّفْظِ وَالْمعْنَى. [2] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ تَعْلِيلَ الْإِبَانَةِ مِنْ جِهَتَيْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ قُرْآنًا يَدُلُّ عَلَى إِبَانَةِ الْمَعَانِي، لِأَنَّهُ مَا جُعِلَ مَقْرُوءًا إِلَّا لِمَا فِي تَرَاكِيبِهِ مِنَ الْمعَانِي المفيدة للقارىء. وَكَوْنُهُ عَرَبِيًّا يُفِيدُ إِبَانَةَ أَلْفَاظِهِ الْمَعَانِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلَّذِينِ خُوطِبُوا بِهِ ابْتِدَاءً، وَهُمُ الْعَرَبُ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَتَبَيَّنُونَ شَيْئًا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي حَوْلَهُمْ لِأَنَّ كُتُبَهُمْ كَانَتْ بِاللُّغَاتِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَبَرِهَا وَهُوَ فِعْلُ أَنْزَلْناهُ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَضَمِيرُ أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ فِي قَوْلِهِ: الْكِتابِ الْمُبِينِ [سُورَة يُوسُف: 1] . وقُرْآناً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي أَنْزَلْناهُ، أَيْ كِتَابًا يُقْرَأُ، أَيْ مُنَظَّمًا عَلَى أُسْلُوبٍ مُعَدٍّ لِأَنْ يُقْرَأَ لَا كَأُسْلُوبِ الرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ أَوِ الْأَشْعَارِ، بَلْ هُوَ أُسْلُوبُ كِتَابٍ نَافِعٍ نَفْعًا مُسْتَمِرًّا يَقْرَأُهُ النَّاسُ. وعَرَبِيًّا صِفَةٌ لِ قُرْآناً. فَهُوَ كِتَابٌ بِالْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ كَالْكُتُبِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ كِتَابٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ.

[سورة يوسف (12) : آية 3]

وَقَدْ أَفْصَحَ عَنِ التَّعْلِيلِ الْمَقْصُودِ جُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أَيْ رَجَاءُ حُصُولِ الْعِلْمِ لَكُمْ مِنْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، لِأَنَّكُمْ عَرَبٌ فَنُزُولُهُ بِلُغَتِكُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ هُوَ سَبَبٌ لِعَقْلِكُمْ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْوُضُوحِ حَدَّ أَنْ يَنْزِلَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَأَنَّهُمْ مَا دَامُوا مُعْرِضِينَ عَنْهُ فَهُمْ فِي عِدَادِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَعْقِلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِنْزَالَهُ كَذَلِكَ هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ تَعَقُّلٍ لِأَشْيَاءٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ إِعْجَازٍ وَغَيْرِهِ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ وُقُوعِ (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَحْمَلُ الرَّجَاءِ الْمُفَادِ بِهَا على مَا يؤول إِلَى التَّعْلِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [52] ، وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بَعْدَهَا بِمَا لَا التباس بعده. [3] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [سُورَة يُوسُف: 2] مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ. وَكَوْنُ الْقَصَصَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ تَأْكِيدِ إِنْزَالِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يَتَضَمَّنُ رَابِطًا بَيْنَ جُمْلَةِ الْبَدَلِ وَالْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الْعَظَمَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِالْخَبَرِ، كَمَا يَقُولُ كِتَابُ «الدِّيوَانِ» : أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِكَذَا.

وَتَقْدِيمُ الضَّمِيرِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ نَحْنُ نَقُصُّ لَا غَيْرُنَا، رَدًّا عَلَى مَنْ يَطْعَنُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل: 103] وَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [سُورَة الْفرْقَان: 5]- وَقَوْلِهِمْ: يُعَلِّمُهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ اسْمُهُ الرَّحْمَانُ. وَقَوْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمُ دِيبَاجَةُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَفِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَوَافُقٌ بَيْنَ جُمْلَةِ الْبَدَلِ وَالْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا فِي تَأْكِيدِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [سُورَة يُوسُف: 2] . وَمَعْنَى نَقُصُّ نُخْبِرُ الْأَخْبَارَ السَّالِفَةَ. وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ قَصَّ الْأَثَرَ إِذَا تَتَبَّعَ مَوَاقِعَ الْأَقْدَامِ لِيَتَعَرَّفَ مُنْتَهَى سَيْرِ صَاحِبِهَا. وَمَصْدَرُهُ: الْقَصُّ بِالْإِدْغَامِ، وَالْقَصَصُ بِالْفَكِّ. قَالَ تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [سُورَة الْكَهْف: 64] . وَذَلِكَ أَنَّ حِكَايَةَ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ تُشْبِهُ اتِّبَاعَ خُطَاهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمُّوا الْأَعْمَالَ سِيرَةً وَهِيَ فِي الْأَصْلِ هَيْئَةُ السَّيْرِ، وَقَالُوا: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةَ فُلَانٍ، أَيْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ وَبَيْنَ قَصِّ الْأَثَرِ فَخَصُّوا الْمُجَازِيَّ بِالصَّدْرِ الْمُفَكَّكِ وَغَلَّبُوا الْمَصْدَرَ الْمُدْغَمَ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْمَصْدَرِ الْمُفَكَّكِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. فَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ هُنَا إِمَّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ فِعْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصَصُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ لِلْقَصَصِ شَائِعٌ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سُورَة يُوسُف: 111] . وَقَدْ يَكُونُ وَزْنُ فَعَلٍ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالنَّبَأِ وَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمُنَبَّأِ بِهِ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، وَمِثْلُهُ الْحَسَبُ وَالنَّقَضُ. وَجُعِلَ هَذَا الْقَصَصُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِأَنَّ بَعْضَ الْقَصَصِ لَا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ تَرْتَاحُ لَهُ النُّفُوسُ. وَقَصَصُ الْقُرْآنِ أَحْسَنُ مِنْ قَصَصِ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ حُسْنِ نَظْمِهِ وَإِعْجَازِ أُسْلُوبِهِ وَبِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ، فَكُلُّ قَصَصٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ فِي بَابِهِ، وَكُلُّ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَقُصُّهُ

الْقَاصُّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَحْسَنَ قَصَصِ الْقُرْآنِ حَتَّى تَكُونَ قِصَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَحْسَنَ مِنْ بَقِيَّةِ قَصَصِ الْقُرْآنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ. وَالْبَاءُ فِي بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ نَقُصُّ، فَإِنَّ الْقَصَصَ الْوَارِدَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ أَحْسَنَ لِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنَ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، فَهُوَ يُوحِي مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَحْسَنُ نَفْعًا لِلسَّامِعِينَ فِي أَبْدَعِ الْأَلْفَاظِ وَالتَّرَاكِيبِ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ غِذَاءُ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ وَابْتِهَاجُ النَّفْسِ وَالذَّوْقِ مِمَّا لَا تَأْتِي بِمِثْلِهِ عُقُولُ الْبَشَرِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ، فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ بِالتَّصْرِيحِ وَالْإِضْمَارِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَجُمِعَ لَهُ طُرُقُ التَّعْرِيفِ كُلُّهَا وَهِيَ اللَّامُ وَالْإِضْمَارُ وَالْعَلَمِيَّةُ وَالْإِشَارَةُ وَالْإِضَافَةُ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ. وَحَرْفُ إِنْ مُخَفَّفٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ. وَجُمْلَةُ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفِ وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ كُنْتَ لَامُ الْفَرْقِ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِنْ) النَّافِيَةِ. وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ فِي خَبَرِ كَانَ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ (إِنْ) . وَالضَّمِيرُ فِي قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَالْغَفْلَةُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ لِعَدَمِ تَوَجُّهِ الذِّهْنِ إِلَى الْمَعْلُومِ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْغَفْلَةِ ظَاهِرٌ. وَنُكْتَةُ جَعْلِهِ مِنَ الْغَافِلِينَ دُونَ أَنْ يُوصَفَ وَحْدَهُ بِالْغَفْلَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَفْضِيلِهِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْقُرْآنِ فَدَخَلَ فِي هَذَا الْفَضْلِ أَصْحَابُهُ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْعِلْمِ. وَمَفْهُومُ مِنْ قَبْلِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هُدَى الْقُرْآن. قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة يوسف (12) : آية 4]

: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ لَا يَرْفَعُ رَأسه لينْظر. [4] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 4] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) إِذْ قالَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَوْ بَعْضٍ مِنْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [سُورَة يُوسُف: 3] عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يَشْتَمِلُ عَلَى قَصَصٍ كَثِيرٍ، مِنْهُ قَصَصُ زَمَانِ قَوْلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَبِيهِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَمَا عَقَبَ قَوْلَهُ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ. فَإِذَا حُمِلَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [سُورَة يُوسُف: 3] عَلَى الْمَصْدَرِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ إِذْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرْ. وَيُوسُفُ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اسْمِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [83] . وَهُوَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ مِنْ زَوْجِهِ (رَاحِيلَ) . وَهُوَ أَحَدُ الْأَسْبَاطِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ يُوسُفُ أَحَبَّ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- إِلَيْهِ وَكَانَ فَرْطُ مَحَبَّةِ أَبِيهِ إِيَّاهُ سَبَبَ غَيْرَةِ إِخْوَتِهِ مِنْهُ فَكَادُوا لَهُ مَكِيدَةً فَسَأَلُوا أَبَاهُمْ أَنْ يَتْرُكَهُ يَخْرُجُ مَعَهُمْ. فَأَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ بِعِلَّةِ اللَّعِبِ وَالتَّفَسُّحِ، وَأَلْقُوهُ فِي جُبٍّ، وَأَخْبَرُوا أَبَاهُمْ أَنَّهُمْ فَقَدُوهُ، وَأَنَّهُمْ وَجَدُوا قَمِيصَهُ مُلَوَّثًا بِالدَّمِ، وَأَرَوْهُ قَمِيصَهُ بَعْدَ أَنْ لَطَّخُوهُ بِدَمٍ، وَالْتَقَطَهُ مِنَ الْبِئْرِ سَيَّارَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى مِصْرَ، وَبَاعُوهُ كَرَقِيقٍ فِي سُوقِ عَاصِمَةِ مِصْرَ

السُّفْلَى الَّتِي كَانَتْ يَوْمَئِذٍ فِي حُكْمِ أُمَّةٍ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ يُعْرَفُونَ بِالْعَمَالِقَةِ أَوِ (الْهُكْصُوصُ) . وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (أَبُو فِيسَ) أَوِ (ابِيبِي) . وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَاشْتَرَاهُ (فُوطِيفَارُ) رَئِيسُ شُرْطَةِ فِرْعَوْنَ الْمُلَقَّبُ فِي الْقُرْآنِ بِالْعَزِيزِ، أَيْ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ. وَحَدَثَتْ مَكِيدَةٌ لَهُ مِنْ زَوْجِ سَيِّدِهِ أُلْقِيَ بِسَبَبِهَا فِي السِّجْنِ. وَبِسَبَبِ رُؤْيَا رَآهَا الْمَلِكُ وَعَبَّرَهَا يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي السِّجْنِ، قَرَّبَهُ الْمَلِكُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَأَوْلَاهُ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَهُوَ لَقَبُ الْعَزِيزِ وَسَمَّاهُ (صَفْنَاتِ فَعَنِيجِ) ، وَزَوَّجَهُ (أَسْنَات) بِنْتَ أَحَدِ الْكَهَنَةِ وَعُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَفِي مُدَّةِ حُكْمِهِ جَلَبَ أَبَاهُ وَأَقَارِبَهُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ، فَذَلِكَ سَبَبُ اسْتِيطَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ مِصْرَ. وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَحُنِّطَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمِصْرِيَّةِ. وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ، وَأَوْصَى قبل مَوته قومه بِأَنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ يَرْفَعُونَ جَسَدَهُ مَعَهُمْ. وَلَمَّا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ رَفَعُوا تَابُوتَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَهُمْ وَانْتَقَلُوهُ مَعَهُمْ فِي رحلتهم إِلَى إِلَى أَنْ دَفَنُوهُ فِي (شَكِيمَ) فِي مُدَّةِ يُوشَعَ بْنِ نُونَ. وَالتَّاءُ فِي (أَبَتِ) تَاءٌ خَاصَّةٌ بِكَلِمَةِ الْأَبِ وَكَلِمَةِ الْأُمِّ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، فَمُفَادُهَا مُفَادُ: يَا أَبِي، وَلَا يَكَادُ الْعَرَبُ يَقُولُونَ: يَا أَبِي. وَوَرَدَ فِي سَلَامِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ حِينَ وَقَفَ عَلَى قُبُورِهِمُ الْمُنَوَّرَةِ. وَقَدْ تَحَيَّرَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي تَعْلِيلِ وَصْلِهَا بِآخِرِ الْكَلِمَةِ فِي النِّدَاءِ وَاخْتَارُوا أَنَّ أَصْلَهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ قَدْ يَجْعَلُونَهَا هَاءً فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّهَا جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِعِلَّةٍ غَيْرِ وَجِيهَةٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَصْلَهَا هَاءُ السَّكْتِ جَلَبُوهَا لِلْوَقْفِ عَلَى آخِرِ الْأَبِ لِأَنَّهُ نُقِصَ مِنْ لَامِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ لَمَّا شَابَهَتْ هَاءَ التَّأْنِيثِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ آخِرِ الْكَلِمَةِ إِذَا أَضَافُوا الْمُنَادَى فَقَالُوا: يَا أَبَتِي، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ

بِالْكَسْرَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ بَقَاءُ الْيَاءِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ: أَيا أَبَتِي لَا زِلْتَ فِينَا فَإِنَّمَا ... لَنَا أَمَلٌ فِي الْعَيْشِ مَا دُمْتَ عَائِشًا وَيَجُوزُ كَسْرُ هَذِهِ التَّاءِ وَفَتْحُهَا، وَبِالْكَسْرِ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ، وَبِفَتْحِ التَّاءِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَالنِّدَاءُ فِي الْآيَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُنَادَى حَاضِرًا مَقْصُودٌ بِهِ الِاهْتِمَامُ بِالْخَبَرِ الَّذِي سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِ فَيُنْزِلُ الْمُخَاطَبَ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الْمَطْلُوبِ حُضُورُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الِاهْتِمَامِ أَوِ اسْتِعَارَةٌ لَهُ. وَالْكَوْكَبُ: النَّجْمُ، تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [76] . وَجُمْلَةُ رَأَيْتُهُمْ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، جِيءَ بِهَا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ الْمَرَائِي الْحُلْمِيَّةِ أَنْ يُعَادَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا أَوِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّ سَامِعَ الرُّؤْيَا يَسْتَزِيدُ الرَّائِي أَخْبَارًا عَمَّا رَأَى. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ» الْحَدِيثَ. وَفِي البُخَارِيّ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ.. وَاللَّهِ خَيْرٌ» . وَقَدْ يَكُونُ لَفْظٌ آخَرُ فِي الرُّؤْيَا غَيْرَ فِعْلِهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ» الْحَدِيثَ بِتَكْرَارِ كَلِمَةِ (إِنَّ) وَكَلِمَةِ (إِنَّا) مِرَارًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَحَدَ عَشَرَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- مِنْ عَشَرَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَاسْتَعْمَلَ ضَمِيرَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ لِلْعُقَلَاءِ غَالِبٌ لَا مُطَّرِدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَصْنَامِ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: 198] ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا [سُورَة النَّمْلُ: 18] . وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَالَةُ الْمَرْئِيَّةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَالَةَ الْعُقَلَاءِ، وَهِيَ حَالَةُ السُّجُودِ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ (هُمْ) وَصِيغَةَ جَمْعِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: لِي ساجِدِينَ لِلِاهْتِمَامِ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعْنَى تَضَمُّنِهِ كَلَامَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلُغَتِهِ يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ فِي الْكَوَاكِبِ مِنَ التَّعْظِيمِ لَهُ تَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِهِ فَأَفَادَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَابْتِدَاءُ قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذِكْرِ رُؤْيَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هيّأ نَفسه للنبوءة فَابْتَدَأَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» . وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ تَقْرِيرُ فَضْلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ طَهَارَةٍ وَزَكَاءِ نَفْسٍ وَصَبْرٍ. فَذَكَرَ هَذِهِ الرُّؤْيَا فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْقِصَّةِ الْمَقْصُودَةِ. وَجَعَلَ اللَّهُ تِلْكَ الرُّؤْيَا تَنْبِيهًا لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِعُلُوِّ شَأْنِهِ لِيَتَذَكَّرَهَا كُلَّمَا حَلَّتْ بِهِ ضَائِقَةٌ فَتَطَمَئِنَّ بِهَا نَفْسُهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ طَيِّبَةٌ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبَاهُ بِهَاتِهِ الرُّؤْيَا لِأَنَّهُ عَلِمَ بِإِلْهَامٍ أَوْ بِتَعْلِيمٍ سَابِقٍ مِنْ أَبِيهِ أَنَّ لِلرُّؤْيَا تَعْبِيرًا، وَعَلِمَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كِنَايَةٌ

عَنْ مَوْجُودَاتٍ شَرِيفَةٍ، وَأَنَّ سُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ الشَّرِيفَةِ لَهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَظَمَةِ شَأْنِهِ. وَلَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْجُودَاتٍ مُتَمَاثِلَةٍ، وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كِنَايَةٌ عَنْ أَصْلَيْنِ لِتِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ فَاسْتَشْعَرَ عَلَى الْإِجْمَالِ دَلَالَةَ رُؤْيَاهُ عَلَى رِفْعَةِ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَ بِهَا أَبَاهُ. وَكَانُوا يَعُدُّونَ الرُّؤْيَا مِنْ طُرُقِ الْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ، إِذَا سَلِمَتْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَكَانَ مزاج الزائي غَيْرَ مُنْحَرِفٍ وَلَا مُضْطَرِبٍ، وَكَانَ الرَّائِي قَدِ اعْتَادَ وُقُوعَ تَأْوِيلِ رُؤْيَاهُ، وَهُوَ شَيْءٌ وَرِثُوهُ مِنْ صَفَاءِ نُفُوسِ أَسْلَافِهِمْ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق- عَلَيْهِم السَّلَامُ-. فَقَدْ كَانُوا آل بَيت نبوءة وَصَفَاءِ سَرِيرَةٍ. وَلَمَّا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا، وَقَدْ رَأَى إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْمَنَامِ أنّه يذبح ولد فَلَمَّا أَخْبَرَهُ قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [سُورَة الصافات: 102] . وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ [سُورَة يُوسُف: 6] . فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ مِرَائِي أَبْنَائِهِمْ مُكَاشَفَةً وَحَدِيثًا مَلَكِيًّا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» . وَالِاعْتِدَادُ بِالرُّؤْيَا مِنْ قَدِيمِ أُمُورِ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي رُؤْيَا رَآهَا وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ بِبِلَادِ شَالِيمَ بَلَدٌ مَلْكِيٌّ صَادِقٌ وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ يَهَبُهُ نَسْلًا كَثِيرًا، وَيُعْطِيهِ الْأَرْضَ الَّتِي هُوَ سَائِرٌ فِيهَا (فِي الْإِصْحَاحِ 15 مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) . أَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِهِمْ شَيْءٌ يُفِيدُ اعْتِدَادَهُمْ بِالْأَحْلَامِ، وَلَعَلَّ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: إِنَّ الْأَمَانِيَ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ

يُفِيدُ عَدَمَ اعْتِدَادِهِمْ بِالْأَحْلَامِ، فَإِنَّ الْأَحْلَامَ فِي الْبَيْتِ هِيَ مِرَائِي النَّوْمِ. وَلَكِنَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رُؤْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الْحِجْرِ أَنَّهُ أَتَاهُ آتٍ فَأَمَرَهُ بِحَفْرِ بِئْرِ زَمْزَمَ فَوَصَفَ لَهُ مَكَانَهَا، وَكَانَتْ جُرْهُمْ سَدَمُوهَا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ: «رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ فَوَقَفَ بِالْأَبْطُحِ ثُمَّ صَرَخَ: يَا آلَ غَدَرَ اخْرُجُوا إِلَى مُصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ» فَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ عَقِبَهَا بِثَلَاثِ لَيَالٍ. وَقَدْ عُدَّتِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةُ فِي أُصُولِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَهِيَ مِنْ تُرَاثِهَا عَنْ حِكْمَةِ الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ مِثْلَ الْحَنِيفِيَّةِ. وَبَالَغَ فِي تَقْرِيبِهَا بِالْأُصُولِ النَّفْسِيَّةِ شِهَابُ الدِّينِ الْحَكِيمُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي هَيَاكِلِ النُّورِ وَحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ، وَأَبُو عَلِيٍّ بن سِينَا فِي الْإِشَارَاتِ بِمَا حَاصِلُهُ: وَأَصْلُهُ: أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ (وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ) هِيَ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي مَقَرُّهَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ، فَهِيَ قَابِلَةٌ لِاكْتِشَافِ الْكَائِنَاتِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي هَذَا الْقَبُولِ، وَأَنَّهَا تُودَعُ فِي جِسْمِ الْجَنِينِ عِنْدَ اكْتِمَالِ طَوْرِ الْمُضْغَةِ، وَأَنَّ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ آثَارًا مِنَ الِانْكِشَافَاتِ إِذَا ظَهَرَتْ فَقَدْ يَنْتَقِشُ بَعْضُهَا بِمَدَارِكِ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي لَوْحِ حِسِّهِ الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ عَنِ الِانْتِقَاشِ شَاغِلَانِ: أَحَدُهُمَا حِسِّيٌّ خَارِجِيٌّ، وَالْآخَرُ بَاطِنِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ وَهْمِيٌّ، وَقُوَى النَّفْسِ مُتَجَاذِبَةٌ مُتَنَازِعَةٌ فَإِذَا اشْتَدَّ بَعْضُهَا ضَعُفَ الْبَعْضُ الْآخَرُ كَمَا إِذَا هَاجَ الْغَضَبُ ضَعُفَتِ الشَّهْوَةُ، فَكَذَلِكَ إِنْ تَجَرَّدَ الْحِسُّ الْبَاطِنُ لِلْعَمَلِ شُغِلَ عَنِ الْحِسِّ الظَّاهِرِ، وَالنَّوْمُ شَاغِلٌ لِلْحِسِّ، فَإِذَا قَلَّتْ شَوَاغِلُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ فَقَدْ تَتَخَلَّصُ النَّفْسُ عَنْ شَغْلِ مُخَيِّلَاتِهَا، فَتَطَّلِعُ عَلَى أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ، فَتَكُونُ الْمَنَامَاتُ الصَّادِقَةُ. وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ حَالَةٌ يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ زَكَتْ نُفُوسُهُمْ فَتَتَّصِلُ نُفُوسُهُمْ بِتَعَلُّقَاتٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَتَعَلُّقَاتٍ مِنْ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ فَتَنْكَشِفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ الْمُغَيَّبَةُ بِالزَّمَانِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَوِ الْمُغَيَّبَةُ بِالْمَكَانِ قَبْلَ اطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهَا اطِّلَاعًا عَادِيًّا، وَلذَلِك قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوءَةِ» . وَقَدْ بَيَّنَ تَحْدِيدُ هَذِهِ النِّسْبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَدِيثِ فِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوءَةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ وَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ يَرَاهَا أَوْ تُرَى لَهُ» . وَإِنَّمَا شُرِطَتِ الْمُرَائِي الصَّادِقَةُ بِالنَّاسِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ الِارْتِيَاضَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شَاغِلٌ لِلنَّفْسِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ارْتِقَاءَاتٌ وَكَمَالَاتٌ فَهِيَ مُعِينَةٌ لِجَوْهَرِ النَّفْسِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِعَالَمِهَا الَّذِي خُلِقَتْ فِيهِ وَأُنْزِلَتْ مِنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ تُبْعِدُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَتُبَلِّدُهَا وَتُذَبْذِبُهَا. وَالرُّؤْيَا مَرَاتِبُ: مِنْهَا أَنْ: تَرَى صُوَرَ أَفْعَالٍ تَتَحَقَّقُ أَمْثَالُهَا فِي الْوُجُودِ مثل رُؤْيا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَظَنُّهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ الْيَمَامَةُ فَظَهَرَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ وَجَدَهَا مُطَابِقَةً لِلصُّورَةِ الَّتِي رَآهَا، وَمِثْلَ رُؤْيَاهُ امْرَأَةً فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقيل لَهُ اكشفها فَهِيَ زَوْجُكَ فَكَشَفَ فَإِذَا هِيَ عَائِشَةُ، فَعَلِمَ أَنْ سَيَتَزَوَّجَهَا. وَهَذَا النَّوْعُ نَادِرٌ وَحَالَةُ الْكَشْفِ فِيهِ قَوِيَّةٌ. وَمِنْهَا أَن ترى صور تَكُونُ رُمُوزًا لِلْحَقَائِقِ الَّتِي سَتَحْصُلُ أَوِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْوَاقِعِ، وَتِلْكَ مِنْ قَبِيلِ مُكَاشَفَةِ النَّفْسِ لِلْمَعَانِي وَالْمَوَاهِي وَتَشْكِيلِ الْمُخَيِّلَةِ تِلْكَ الْحَقَائِقَ فِي أَشْكَالٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ مِنْ مَظَاهِرَ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ الَّذِي تَخْتَرِعُهُ أَلْبَابُ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْتَرِعُهُ الْأَلْبَابُ فِي حَالَةِ هَدُوِّ الدِّمَاغِ مِنَ الشَّوَاغِلِ الشَّاغِلَةِ، فَيَكُونُ أَتْقَنَ وَأَصْدَقَ. وَهَذَا أَكْثَرُ أَنْوَاعِ الْمَرَائِي. وَمِنْه رُؤْيا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ قدح لبن حَتَّى رَأَى الرِّيَّ فِي أَظْفَارِهِ ثُمَّ أَعْطَى فَضْلَهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَتَعْبِيرُهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ.

[سورة يوسف (12) : آية 5]

وَكَذَلِكَ رُؤْيَاهُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ نَاشِرَةً شَعْرَهَا خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَحْفَةِ، فَعَبَّرَهَا بِالْحُمَّى تَنْتَقِلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَحْفَةِ، وَرُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ، وَأَنَّ فِيهَا عَمُودًا، وَأَنَّ فِيهِ عُرْوَةً، وَأَنَّهُ أَخَذَ بِتِلْكَ الْعُرْوَةِ فَارْتَقَى إِلَى أَعْلَى العمود، فعبّره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ آخِذًا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّ الرَّوْضَةَ هِيَ الْجَنَّةُ، فَقَدْ تَطَابَقَ التَّمْثِيلُ النَّوْمِيُّ مَعَ التَّمْثِيلِ الْمُتَعَارَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [سُورَة الْبَقَرَة: 256] ، وَفِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» . وَسَيَأْتِي تَأْوِيلُ هَذِهِ الرُّؤْيَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة يُوسُف: 100] . [5] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 5] قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَالنِّدَاءُ مَعَ حُضُورِ الْمُخَاطَبِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ إِحْضَارِ الذِّهْنِ اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ. وبُنَيَّ- بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ- تَصْغِيرُ ابْنٍ مَعَ إِضَافَتِهِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَصْلُهُ بُنَيْوِي أَوْ بُنَيْيِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ لَامَ ابْنٍ الْمُلْتَزَمَ عَدَمُ ظُهُورِهَا هِيَ وَاوٌ أَمْ يَاءٌ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهَا أُدْغِمَتْ فِيهَا يَاءُ التَّصْغِيرِ بَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً لِتَقَارُبِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، أَوْ لِتَمَاثُلِهِمَا فَصَارَ (بُنَيِّي) . وَقَدِ اجْتَمَعَ ثَلَاثُ يَاءَاتٍ فَلَزِمَ حَذْفُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لُزُومًا وَأُلْقِيَتِ الْكَسْرَةُ

الَّتِي اجْتُلِبَتْ لِأَجْلِهَا عَلَى يَاءِ التَّصْغِيرِ دَلَالَةً عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ شَائِعٌ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ فِي إِبْقَائِهَا ثِقَلٌ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ الْتِقَاءَ يَاءَاتٍ ثَلَاثٍ فِيهِ ثِقَلٌ. وَهَذَا التَّصْغِيرُ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْبِيبٍ وَشَفَقَةٍ. نَزَّلَ الْكَبِيرَ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ شَأْنَ الصَّغِيرِ أَنْ يُحَبَّ وَيُشْفَقَ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ إِمْحَاضِ النُّصْحِ لَهُ. وَالْقَصُّ: حِكَايَةُ الرُّؤْيَا. يُقَالُ: قَصَّ الرُّؤْيَا إِذَا حَكَاهَا وَأَخْبَرَ بِهَا. وَهُوَ جَاءَ مِنَ الْقَصَصِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَالرُّؤْيَا- بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ- هِيَ: رُؤْيَةُ الصُّوَرِ فِي النَّوْمِ، فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ بِاخْتِلَافِ عَلَامَتَيِ التَّأْنِيثِ، وَهِيَ بِوَزْنِ الْبُشْرَى وَالْبُقْيَا. وَقَدْ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْعَشَرَةَ كَانُوا يَغَارُونَ مِنْهُ لِفَرْطِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ خُلُقًا وَخَلْقًا، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ الرُّؤْيَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَا تُؤْذِنُ بِرِفْعَةٍ يَنَالُهَا يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى إِخْوَتِهِ الَّذِينَ هُمْ أَحَدَ عَشَرَ فَخَشِيَ إِنْ قَصَّهَا يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِمْ أَنْ تَشْتَدَّ بِهِمُ الْغَيْرَةُ إِلَى حَدِّ الْحَسَدِ، وَأَنْ يَعْبُرُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيَنْشَأُ فِيهِمْ شَرُّ الْحَاسِدِ إِذَا حَسَدَ، فَيَكِيدُوا لَهُ كَيْدًا لِيَسْلَمُوا مِنْ تَفَوُّقِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ فِيهِمْ. وَالْكَيْدُ: إِخْفَاءُ عَمَلٍ يَضُرُّ الْمَكِيدَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [183] . وَاللَّامُ فِي لَكَ لِتَأْكِيدِ صِلَةِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ كَقَوْلِهِ: شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى. وَتَنْوِينُ كَيْداً لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ زِيَادَةٌ فِي تَحْذِيرِهِ مِنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَيْهِمْ. وَقَصَدَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذَلِكَ نَجَاةَ ابْنِهِ مِنْ أَضْرَارٍ تَلْحَقُهُ، وَلَيْسَ قَصْدُهُ إِبْطَالَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ أَضْرَارٍ وَمَشَاقَّ. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِيهِ لَمْ يَبْلُغُوا فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ غَوْصِ النَّظَرِ الْمُفْضِي إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَا إِنْ كَانَتْ

دَالَّةً عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ يَنَالُهُ فَهِيَ خَبَرٌ إِلَهِيٌّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ يَحْسَبُونَهَا مِنَ الْإِنْذَارِ بِالْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي يَزُولُ تَسَبُّبُهَا بِتَعْطِيلِ بَعْضِهَا. وَقَوْلُ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا لِابْنِهِ تَحْذِيرٌ لَهُ مَعَ ثِقَتِهِ بِأَنَّ التَّحْذِيرَ لَا يُثِيرُ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةً لِإِخْوَتِهِ لِأَنَّهُ وَثِقَ مِنْهُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، وَمَكَارِمِ الْخُلُقِ. وَمَنْ كَانَ حَالُهُ هَكَذَا كَانَ سَمْحًا، عَاذِرًا، مُعْرِضًا عَنِ الزَّلَّاتِ، عَالِمًا بِأَثَرِ الصَّبْرِ فِي رِفْعَةِ الشَّأْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِإِخْوَتِهِ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سُورَة يُوسُف: 90] وَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سُورَة يُوسُف: 92] . وَقَدْ قَالَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَخِيهِ الَّذِي قَالَ لَهُ لِأَقْتُلُنَّكَ حَسَدًا لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [سُورَة الْمَائِدَة: 28] . فَلَا يُشْكِلُ كَيْفَ حَذَّرَ يَعْقُوبُ يُوسُفَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ كَيْدِ إِخْوَتِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَا حَذَّرَهُ إِلَّا مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ إِخْوَتِهِ. وَهَذَا كاعتذار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ اللَّذَيْنِ لَقِيَاهُ لَيْلًا وَهُوَ يُشَيِّعُ زَوْجَهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى بَيْتِهَا فَلَمَّا رَأَيَاهُ وَلَّيَا، فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَكْبَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي نُفُوسِكُمَا» . فَهَذِهِ آيَةُ عِبْرَةٍ بِتَوَسُّمِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَحْوَالَ أَبْنَائِهِ وَارْتِيَائِهِ أَنْ يَكُفَّ كَيْدَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. فَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ إِلَخْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَى إِخْوَتِهِ. وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُمْ إِلَى إِضْرَارِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ وَهُوَ

[سورة يوسف (12) : آية 6]

الْمُنَاسِبُ لِكَمَالِهِ الَّذِي يَبْعَثُهُ عَلَى طَاعَةِ أَمْرِ أَبِيهِ. وَوَقَعَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّهُ قَصَّهَا عَلَيْهِم فحسدوه. [6] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 6] وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى تَحْذِيرِهِ مِنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَى إِخْوَتِهِ إِعْلَامًا لَهُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ وَمُسْتَقْبَلِ كَمَالِهِ، كَيْ يَزِيدَ تَمَلِّيًا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ فَيَتَّسِعُ صَدْرُهُ لِاحْتِمَالِ أَذَى إِخْوَتِهِ، وَصَفْحًا عَنْ غَيْرَتِهِمْ مِنْهُ وَحَسَدِهِمْ إِيَّاهُ لِيَتَمَحَّضَ تَحْذِيرُهُ لِلصَّلَاحِ، وَتَنْتَفِي عَنْهُ مَفْسَدَةُ إِثَارَةِ الْبَغْضَاءِ وَنَحْوِهَا، حِكْمَةً نَبَوِيَّةً عَظِيمَةً وَطِبًّا رُوحَانِيًّا نَاجِعًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا مِنَ الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الِاجْتِبَاءِ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالتَّشْبِيهُ هُنَا تَشْبِيهُ تَعْلِيلٍ لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ أَحَدِ الْمَعْلُولَيْنِ بِالْآخَرِ لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ. وَمَوْقِعُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَجْتَبِيكَ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الِاجْتِبَاءِ وَوَجْهِهِ. وَالِاجْتِبَاءُ: الِاخْتِيَارُ وَالِاصْطِفَاءُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاجْتَبَيْناهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [87] ، أَيِ اخْتِيَارُهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ، أَوْ مِنْ بَيْنِ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَلِكَ بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَدَلَالَتِهَا على رفْعَة شَأْنه فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتِلْكَ إِذَا ضُمَّتْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ آلَتْ إِلَى اجْتِبَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِنُبُوءَتِهِ. وَإِنَّمَا عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ رِفْعَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مُسْتَقْبَلِهِ رِفْعَةٌ إِلَهِيَّةٌ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَنَاسِبَةٌ فَلَمَّا كَانَ مَا ابتدأه بِهِ مِنَ النِّعَمِ اجْتِبَاءً وَكَمَالًا نَفْسِيًّا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْحَقُ بِهَا، مِنْ نَوْعِهَا.

ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الِارْتِقَاءَ النَّفْسَانِيَّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ غَايَتُهُ أَنْ يَبْلُغَ بِصَاحِبِهِ إِلَى النبوءة أَوِ الْحِكْمَةِ فَلِذَلِكَ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ اللَّهَ سَيُعَلِّمُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ مُسَبِّبَ الشَّيْءِ مُسَبَّبٌ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فتعليم التّأويل ناشىء عَنِ التَّشْبِيهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ، وَلِأَنَّ اهْتِمَامَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِرُؤْيَاهُ وَعَرْضِهَا عَلَى أَبِيهِ دَلَّ أَبَاهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي نَفْسِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الِاعْتِنَاءَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَتَعْبِيرِهَا. وَهَذِهِ آيَةُ عِبْرَةٍ بِحَالِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ ابْنِهِ إِذْ أَشْعَرَهُ بِمَا تَوَسَّمَهُ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ لِيَزْدَادَ إِقْبَالًا عَلَى الْكَمَالِ بِقَوْلِهِ: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ. وَالتَّأْوِيلُ: إِرْجَاعُ الشَّيْءِ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَدَلِيلِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [سُورَة آل عمرَان: 7] . والْأَحادِيثِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَدِيثٍ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْحَادِثِ، فَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ: إِرْجَاعُ الْحَوَادِثِ إِلَى عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا بِإِدْرَاكِ حَقَائِقِهَا عَلَى التَّمَامِ. وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْأَحَادِيثُ جَمْعَ حَدِيثٍ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَحَدَّثِ بِهِ، فَالتَّأْوِيلُ: تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا. سُمِّيَتْ أَحَادِيثُ لِأَنَّ الْمُرَائِيَ يتحدث بهَا الراؤون وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة يُوسُف: 100] . وَلَعَلَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَوْ يَكُونُ اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ إِيجَازًا مُعْجِزًا، إِذْ يَكُونُ قَدْ حُكِيَ بِهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ صَدَرَ مِنْ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلُغَتِهِ يُعَبِّرُ عَنْ تَأْوِيلِ الْأَشْيَاءِ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْمَعَانِي. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ هُوَ إِعْطَاؤُهُ أَفْضَلَ النِّعَمِ وَهِي نعْمَة النبوءة، أَوْ هُوَ ضَمِيمُهُ الْملك إِلَى النبوءة وَالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ إِتْمَامُ نِعْمَةِ الِاجْتِبَاءِ الْأُخْرَوِيِّ بِنِعْمَةِ الْمَجْدِ الدُّنْيَوِيِّ.

وَعَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الرُّؤْيَا عَلَى سُجُودِ الْكَوَاكِبِ وَالنَّيِّرَيْنِ لَهُ، وَقَدْ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَأْوِيلَ تِلْكَ بِإِخْوَتِهِ وَأَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجِ أَبِيهِ وَهِيَ خَالَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعَلِمَ مِنْ تَمْثِيلِهِمْ فِي الرُّؤْيَا أَنَّهُمْ حِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ يَكُونُ أُخُوَتُهُ قَدْ نَالُوا النُّبُوءَةَ، وَبِذَلِكَ عَلِمَ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ وَعَلَى زَوْجِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السّلام- بالصديقية إِذا كَانَت زَوْجَة نبيء. فَالْمُرَادُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ خاصتهم وهم أنباؤه وَزَوْجُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِعْطَاءُ الْمُلْكِ فَإِتْمَامِهَا عَلَى آلِ يَعْقُوبَ هُوَ أَنْ زَادَهُمْ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْفَضْلِ نِعْمَةَ قَرَابَةِ الْمَلِكِ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ آلِهِ جَمِيعَ قَرَابَتِهِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ تَذْكِيرٌ لَهُ بِنِعَمٍ سَابِقَةٍ، وَلَيْسَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ النُّبُوءَةَ فَالتَّشْبِيهُ تَامٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ الْمُلْكَ فَالتَّشْبِيهُ فِي إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَبَوَيْنِ لَهُ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَادَةً عَلَيْهِ، فَهُمَا أَبَوَاهُ الْأَعْلَيَانِ بِقَرِينَةِ الْمقَام كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ بِتَمْجِيدِ هَذِهِ النِّعَمِ، وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَعَلِمُهُ هُوَ عِلْمُهُ بِالنُّفُوسِ الصَّالِحَةِ لِهَذِهِ الْفَضَائِلِ، لِأَنَّهُ خَلَقَهَا لِقَبُولِ ذَلِكَ فَعَلِمُهُ بِهَا سَابِقٌ، وَحِكْمَتُهُ وَضْعُ النِّعَمِ فِي مَوَاضِعِهَا الْمُنَاسِبَةِ. وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلتَّأْكِيدِ إِذْ لَا يَشُكُّ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالِاهْتِمَامُ ذَرِيعَةٌ إِلَى إِفَادَةِ التَّعْلِيلِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَأَهُّلُهُ لِمِثْلِ تِلْكَ الْفَضَائِل.

[سورة يوسف (12) : آية 7]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 7] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مَبْدَأُ الْقَصَصِ الْمَقْصُودِ، إِذْ كَانَ مَا قَبْلَهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ الْمُنْبِئَةِ بِنَبَاهَةِ شَأْنِ صَاحِبِ الْقِصَّةِ، فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَحِقَتْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلِهَذَا كَانَ أُسْلُوبُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَأُسْلُوبِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا [سُورَة يُوسُف: 8] نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سُورَة ص: 70، 71] إِلَى آخِرِ الْقِصَّة. والظرفية الْمُسْتَفَاد مِنْ فِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ مُقَارَنَةِ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ بِمُقَارَنَةِ الْمَظْرُوفِ لِلظَّرْفِ، أَيْ لَقَدْ كَانَ شَأْنُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِخْوَتِهِ مُقَارِنًا لِدَلَائِلَ عَظِيمَةٍ مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالتَّعْرِيفُ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ عَلَى مَا تَتَطَلَّبُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ. وَالْآيَاتُ حَقِيقَةٌ فِي آيَاتِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ عَلَامَاتٌ يَجْعَلُونَهَا فِي الْمَفَاوِزِ تَكُونُ بَادِيَةً لَا تَغْمُرُهَا الرِّمَالُ لِتَكُونَ مُرْشِدَةً لِلسَّائِرِينَ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى حُجَجِ الصِّدْقِ، وَأَدِلَّةِ الْمَعْلُومَاتِ الدَّقِيقَةِ. وَجَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا مُرَاعًى فِيهِ تَعَدُّدُهَا وَتَعَدُّدُ أَنْوَاعِهَا، فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَلَائِلُ عَلَى مَا لِلصَّبْرِ وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ مِنْ عَوَاقِبِ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ، أَوْ عَلَى مَا لِلْحَسَدِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالِانْدِحَارِ وَالْهُبُوطِ. وَفِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، إِذْ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَحْبَارُ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ قِرَاءَةٍ وَلَا كِتَابٍ وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.

وَفِي بَلَاغَةِ نَظْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا مِنَ الْإِعْجَازِ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ أَلْقَاهُ إِلَى رَسُولِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْجِزَةً لَهُ عَلَى قَوْمِهِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ. وَالسَّائِلُونَ: مُرَادٌ مِنْهُمْ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ السُّؤَالُ عَنِ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [سُورَة فصلت: 10] . وَمِثْلَ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلتَّشْوِيقِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَطَلُّبِ الْخَبَرِ وَالْقِصَّةِ. قَالَ طَرَفَةُ: سَائِلُوا عَنَّا الَّذِي يَعْرِفُنَا ... بِقُوَانَا يَوْمَ تَحْلَاقِ اللمم وَقَالَ السموأل أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ ... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: طُلِّقْتِ إِنْ لَمْ تَسْأَلِي أَيُّ فَارِسٍ ... حَلِيلُكِ إِذْ لَاقَى صُدَاءً وَخَثْعَمَا وَقَالَ أَنِيفُ بْنُ زِبَّانَ النَّبْهَانِيُّ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيْنَ السَّيْفِ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ يَكُونُ تَوْجِيهُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأُنْثَى، لِأَنَّ النِّسَاءَ يُعْنَيْنَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا، وَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ وَكَانَتْ أَخْبَارُهُ الَّتِي يُشَوِّقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَخْبَارُ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ صَرَفَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ عَنِ التَّوْجِيهِ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [سُورَة المعارج: 1] وَقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [سُورَة النبأ: 1] . وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ (السَّائِلِينَ) الْيَهُودُ إِذْ سَأَلَ فريق مِنْهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ مُخَالَطَةٌ للْمُسلمين بِمَكَّة.

[سورة يوسف (12) : آية 8]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 8] إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (كَانَ) مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [سُورَة يُوسُف: 7] ، فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ مَوْقِعٌ مِنْ مَوَاقِعِ الْآيَاتِ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ عِبْرَةً مِنْ عِبَرِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ حَسَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَقْرِبَاءِ، وَعِبْرَةٌ مِنَ الْمُجَازَفَةِ فِي تَغْلِيطِهِمْ أَبَاهُمْ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِرَأْيهِ غُرُورًا مِنْهُمْ، وَغَفْلَةً عَنْ مَرَاتِبِ مُوجِبَاتِ مَيْلِ الْأَبِ إِلَى بَعْضِ أَبْنَائِهِ. وَتِلْكَ الْآيَاتُ قَائِمَةٌ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ قَوْلُ تَآمُرٍ وَتَحَاوُرٍ. وَافْتِتَاحُ الْمَقُولِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّوْكِيدِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وَالْمُرَادُ: تَوْكِيدُ لَازِمِ الْخَبَرِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخَاهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِيهِمْ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا سَوَاءً فِي الْحَسَدِ لَهُمَا وَالْغَيْرَةِ مِنْ تَفْضِيلِ أَبِيهِمْ إِيَّاهُمَا عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ إِقْنَاعَ بعض بذلك ليتمالؤوا عَلَى الْكَيْدِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، وَقَوْلُهُ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ [سُورَة يُوسُفَ: 10] فَقَائِلُ الْكَلَامِ بَعْضُ إِخْوَتِهِ، أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ اقْتُلُوا يُوسُفَ [سُورَة يُوسُفَ: 9] وَقَوْلُهُمْ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ [سُورَة يُوسُفَ: 10] . وَأَخُو يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُرِيدَ بِهِ (بِنْيَامِينَ) وَإِنَّمَا خَصُّوهُ بِالْأُخُوَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ شَقِيقَهُ، أُمُّهُمَا (رَاحِيلُ) بِنْتُ (لَابَانَ) ، وَكَانَ بَقِيَّةُ إِخْوَتِهِ إِخْوَةً لِلْأَبِ، أُمُّ بَعْضِهِمْ (لَيْئَةُ) بِنْتُ (لَابَانَ) ، وَأُمُّ بَعْضِهِمْ (بِلِهَةُ) جَارِيَةُ (لَيْئَةَ) وَهَبَتْهَا (لَيْئَةُ) لِزَوْجِهَا يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وأَحَبُّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُفَضَّلِ بِ (مِنْ) ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمُفَضَّلِ عِنْدَهُ بِ (إِلَى) .

وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخَاهُ أَحَبُّ إِلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى بَاطِلَةً أَثَارَ اعْتِقَادُهَا فِي نُفُوسِهِمْ شِدَّةَ الْغَيْرَةِ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ عَلَيْهِمْ فِي الْكَمَالَاتِ وَرُبَّمَا سَمِعُوا ثَنَاءَ أَبِيهِمْ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ فِي أَعْمَالٍ تَصْدُرُ مِنْهُمَا أَوْ شَاهَدُوهُ يَأْخُذُ بِإِشَارَتِهِمَا أَوْ رَأَوْا مِنْهُ شَفَقَةً عَلَيْهِمَا لِصِغَرِهِمَا وَوَفَاةِ أُمِّهِمَا فَتَوَهَّمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَشَدُّ حُبًّا إِيَّاهُمَا مِنْهُمْ تَوَهُّمًا بَاطِلًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُمْ مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ وَتَكُونَ زِيَادَةُ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا أَمْرًا لَا يَمْلِكُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ وِجْدَانٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤْثِرُهُمَا عَلَيْهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأُمُورِ الظَّاهِرِيَّةِ وَيَكُونُ أَبْنَاؤُهُ قَدْ عَلِمُوا فَرْطَ مَحَبَّةِ أَبِيهِمْ إِيَّاهُمَا مِنَ التَّوَسُّمِ وَالْقَرَائِنِ لَا مِنْ تَفْضِيلِهِمَا فِي الْمُعَامَلَةِ فَلَا يَكُونُ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُؤَاخَذًا بِشَيْءٍ يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ. وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَحَبُّ، أَيْ وَنَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِ التَّعَجُّبُ مِنْ تَفْضِيلِهِمَا فِي الْحُبِّ فِي حَالِ أَنَّ رَجَاءَ انْتِفَاعِهِ مِنْ إِخْوَتِهِمَا أَشَدُّ مِنْ رَجَائِهِ مِنْهُمَا، بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَدْوِ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِالْكَثْرَةِ، فَظَنُّوا مَدَارِكَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُسَاوِيَةً لِمَدَارِكِ الدَّهْمَاءِ، وَالْعُقُولُ قَلَّمَا تُدْرِكُ مَرَاقِي مَا فَوْقَهَا، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكَمَالِ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ غَيْرُ مَا يَنْظُرُهُ مَنْ دُونَهُمْ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ تَعْلِيلًا لِلتَّعَجُّبِ وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ، وَضَمِيرُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ لِجَمِيعِ الْإِخْوَةِ عَدَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخَاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا. وَالْمَقْصُودُ لَازِمُ الْخَبَرِ وَهُوَ تَجْرِئَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ إِتْيَانِ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُغْرِيهِمْ بِهِ فِي قَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا يُوسُفَ [سُورَة يُوسُفَ: 9] ، أَيْ إِنَّا لَا يُعْجِزُنَا الْكَيْدُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ فَإِنَّا عُصْبَةُ وَالْعُصْبَةُ يَهُونُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَدَدُ الْقَلِيلُ كَقَوْلِهِ:

[سورة يوسف (12) : آية 9]

قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ [سُورَة يُوسُف: 14] ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّ أَبانا تَعْلِيلًا لِلْإِغْرَاءِ وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ. وَ «الْعُصْبَةُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، مِثْلَ أَسْمَاءِ الْجَمَاعَاتِ، وَيُقَالُ: الْعِصَابَةُ. قَالَ جُمْهُورُ اللُّغَوِيِّينَ: تُطْلَقُ الْعُصْبَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشْرَةٍ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَذَكَرُوا أَنَّ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: «إِن الَّذين جاو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ» . وَكَانَ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- اثْنَيْ عَشَرَ، وَهُمُ الْأَسْبَاطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أم يَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [140] . والضلال إِخْطَاءُ مَسْلَكِ الصَّوَابِ. وَإِنَّمَا: أَرَادَ وَأَخْطَأَ التَّدْبِيرَ لِلْعَيْشِ لَا الْخَطَأُ فِي الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ. وَالتَّخْطِئَةُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَا تنَافِي الِاعْتِرَاف للمخطىء بالنبوءة. [9] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 9] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ عَنْ غَرَضِ الْقَائِلِينَ مِمَّا قَالُوهُ فَهَذَا الْمَقْصُودُ لِلْقَائِلِينَ. وَإِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ الْكَلَامَ السَّابِقَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِتَتَأَثَّرَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ فَإِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهَا الْمَطْلُوبُ كَانَتْ سَرِيعَةَ الِامْتِثَالِ إِلَيْهِ. وَهَذَا فَنٌّ مِنْ صِنَاعَةِ الْخَطَابَةِ أَنْ يَفْتَتِحَ الْخَطِيبُ كَلَامَهُ بِتَهْيِئَةِ نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِتَتَأَثَّرَ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ. فَإِنَّ حَالَةَ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ تُغْنِي عَنِ الْخَطِيبِ

غِنَاءَ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بَيَانِ الْعِلَلِ وَالْفَوَائِدِ، كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ «فَلَمَّا دَفَنُوا الْمَيْتَ، وَفَاتَ قَوْلُ لَيْتَ، أَشْرَفَ شَيْخٌ مِنْ رِبَاوَةٍ، مُتَأَبِّطًا لِهِرَاوَةٍ، فَقَالَ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ» . وَانْهَلَّ فِي الْخُطَبِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِرْشَادِ. وَأَرَادُوا ارْتِكَابَ شَيْءٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ يُوسُفَ وَأَبِيهِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- تَفْرِقَةً لَا يُحَاوِلُ مِنْ جَرَّائِهَا اقْتِرَابًا بِأَنْ يَعْدِمُوهُ أَوْ يَنْقُلُوهُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى فَيَهْلَكُ أَوْ يُفْتَرَسُ. وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ عِبَرِ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ وَهِيَ التَّخَلُّصُ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْفَاضِلِ بِفَضْلِهِ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فِيهِ أَوْ مُسَاوِيَهُ بِإِعْدَامِ صَاحِبِ الْفَضْلِ وَهِيَ أَكْبَرُ جَرِيمَةٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَسَدِ، وَالْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، وَانْتِهَاكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، وَهُمْ قَدْ كَانُوا أَهْلَ دِينٍ وَمن بَيت نبوءة وَقَدْ أَصْلَحَ اللَّهُ حَالَهُمْ مِنْ بَعْدُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمُ الْأَسْبَاطَ. وَانْتَصَبَ أَرْضاً عَلَى تَضْمِينِ اطْرَحُوهُ مَعْنَى أَوْدِعُوهُ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالْمَفْعُولِ فِيهِ لِأَنَّ أَرْضاً اسْمُ مَكَانٍ فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ مَحْدُودٍ وَزَادَ إِبْهَامًا بِالتَّنْكِيرِ عُومِلَ مُعَامَلَةَ أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْضٌ مَجْهُولَةٌ لِأَبِيهِ. وَجَزْمُ يَخْلُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ. وَالْخُلُوُّ: حَقِيقَتُهُ الْفَرَاغُ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا مَجَازًا فِي عَدَمِ التَّوَجُّهِ لِمَنْ لَا يَرْغَبُونَ تَوَجُّهَهُ لَهُ، فَكَأَنَّ الْوَجْهَ خَلَا مِنْ أَشْيَاءٍ كَانَتْ حَالَّةً فِيهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهُ لَكُمْ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ يَخْلُ وَجْهُ أَبِيكُمْ لِأَجْلِكُمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخْلُو مِمَّنْ عَدَاكُمْ فَيَنْفَرِدُ لَكُمْ.

[سورة يوسف (12) : آية 10]

وَهَذَا الْمَعْنَى كِنَايَةُ تَلْوِيحٍ عَنْ خُلُوصِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ دُونَ مُشَارِكٍ. وَعَطَفَ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى يَخْلُ لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ لِلْأَمْرِ. فَالْمُرَاد كَون ناشيء عَنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاحِ فِيهِ الصَّلَاحَ الدُّنْيَوِيَّ، أَيْ صَلَاحَ الْأَحْوَالِ فِي عَيْشِهِمْ مَعَ أَبِيهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصَّلَاحَ الدِّينِيَّ. وَإِنَّمَا لَمْ يُدَبِّرُوا شَيْئًا فِي إِعْدَامِ أَخِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- شَفَقَةً عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ. وَإِقْحَامُ لَفْظِ قَوْماً بَيْنَ كَانَ وَخَبَرِهَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ صَلَاحَ الْحَالِ صِفَةٌ مُتَمَكِّنَةٌ فِيهِمْ كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [101] . وَهَذَا الْأَمْرُ صَدَرَ مِنْ قَائِلِهِ وَسَامِعِيهِ مِنْهُمْ قبل اتّصافهم بالنبوءة أَوْ بِالْوِلَايَةِ لِأَنَّ فِيهِ ارْتِكَابَ كَبِيرَةِ الْقَتْلِ أَوِ التَّعْذِيبِ وَالِاعْتِدَاءِ، وكبيرة العقوق. [10] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 10] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) فَصْلُ جُمْلَةِ قالَ قائِلٌ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَهَذَا الْقَائِلُ أَحَدُ الْإِخْوَةِ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِهِ الْعَلْمِ إِلَى التَّنْكِيرِ وَالْوَصْفِيَّةِ لِعَدَمِ الْجَدْوَى فِي مَعْرِفَةِ شَخْصِهِ وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ أَنَّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ. وَتَجَنُّبًا لِمَا فِي اسْمِهِ الْعَلَمِ مِنَ الثِّقَلِ

اللَّفْظِيِّ الَّذِي لَا دَاعِيَ إِلَى ارْتِكَابِهِ. قِيلَ: إِنَّهُ (يَهُوذَا) وَقِيلَ: (شَمْعُونَ) وَقِيلَ (رُوبِينَ) ، وَالَّذِي فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ (رَاوبِينُ) صَدَّهُمْ عَنْ قَتْلِهِ وَأَنَّ يَهُوذَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّيَّارَةَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 37. وَعَادَةُ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَذْكُرَ إِلَّا اسْمَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ دُونَ أَسْمَاءِ الَّذِينَ شَمَلَتْهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سُورَة غَافِر: 28] . وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ. وَالْغَيَابَاتُ: جَمْعُ غَيَابَةٍ، وَهِيَ مَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ مِنْ شَيْءٍ. فَيُقَالُ: غَيَابَةُ الْجُبِّ وَغَيَابَةُ الْقَبْرِ وَالْمُرَادُ قَعْرُ الْجُبِّ. وَالْجُبُّ: الْبِئْرُ الَّتِي تُحْفَرُ وَلَا تُطْوَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ «غَيَابَاتِ» بِالْجَمْعِ. وَمَعْنَاهُ جِهَاتُ تِلْكَ الْغَيَابَةِ، أَوْ يَجْعَلُ الْجَمْعَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَاهِيَّةِ الِاسْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [سُورَة النُّور: 40] وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ بِالْإِفْرَادِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجُبِّ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ فِي غَيَابَةِ جُبٍّ مِنَ الْجِبَابِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ادْخُلِ السُّوقَ. وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ. فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَهِدُوا جِبَابًا كَائِنَةً عَلَى أَبْعَادٍ مُتَنَاسِبَةٍ فِي طُرُقِ أَسْفَارِهِمْ يَأْوُونَ إِلَى قُرْبِهَا فِي مَرَاحِلِهِمْ لِسَقْيِ رَوَاحِلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ، وَقَدْ تَوَخَّوْا أَنْ تَكُونَ طَرَائِقُهُمْ عَلَيْهَا، وَأَحْسَبُ أَنَّهَا كَانَتْ يَنْصَبُّ إِلَيْهَا مَاءُ السُّيُولِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بَعِيدَةَ الْقَعْرِ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ إِلْقَاءَهُ فِي الْجُبِّ لَا يُهَشِّمُ عِظَامَهُ وَلَا مَاءَ فِيهِ فَيُغْرِقُهُ. ويَلْتَقِطْهُ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقُوهُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُلْقُوهُ يَلْتَقِطُهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّسَبُّبِ الَّذِي يُفِيدُهُ جَوَابُ الْأَمْرِ إِظْهَارُ أَنَّ مَا أَشَارَ بِهِ

الْقَائِلُ مِنْ إِلْقَاءِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي غَيَابَةِ جُبٍّ هُوَ أَمْثَلُ مِمَّا أَشَارَ بِهِ الْآخَرُونَ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ بِفَيْفَاءَ مُهْلِكَةٍ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ إِبْعَادُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ أَبِيهِ إِبْعَادًا لَا يُرْجَى بَعْدَهُ تَلَاقِيهِمَا دُونَ إِلْحَاقِ ضُرِّ الْإِعْدَامِ بِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّ الْتِقَاطَ السَّيَّارَةِ إِيَّاهُ أَبْقَى لَهُ وَأَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْمَقْصُودِ لَهُمْ وَهُوَ إِبْعَادُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا الْتَقَطَهُ السَّيَّارَةُ أَخَذُوهُ عِنْدَهُمْ أَوْ بَاعُوهُ فَزَادَ بُعْدًا عَلَى بُعْدٍ. وَالِالْتِقَاطُ: تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوِ الطَّرِيقِ، وَاسْتُعِيرَ لِأَخْذِ شَيْءٍ مُضَاعٍ. وَالسَّيَّارَةُ: الْجَمَاعَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِحَالَةِ السَّيْرِ وَكَثْرَتِهِ، فَتَأْنِيثُهُ لِتَأْوِيلِهِ بِالْجَمَاعَةِ الَّتِي تَسِيرُ مِثْلَ الْفَلَّاحَةِ وَالْبَحَّارَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الطَّرِيقَ لَا تَخْلُو مِنْ قَوَافِلَ بَيْنَ الشَّامِ وَمِصْرَ لِلتِّجَارَةِ وَالْمِيرَةِ. وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ وَأَلْقُوهُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ إِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ فَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ وَلَا تَقْتُلُوهُ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِزِيَادَةِ التَّرَيُّثِ فِيمَا أَضْمَرُوهُ لَعَلَّهُمْ يَرَوْنَ الرُّجُوعَ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ تَنْفِيذِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي شَرْطِهِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ وَهُوَ إِنْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ، فَكَانَ هَذَا الْقَائِلُ أَمْثَلَ الْإِخْوَةِ رَأَيًا وَأَقْرَبَهُمْ إِلَى التَّقْوَى، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ السَّيَّارَةَ يَقْصِدُونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِبَابِ لِلِاسْتِقَاءِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْتَفَرَةً عَلَى مَسَافَاتِ مَرَاحِلِ السَّفَرِ. وَفِي هَذَا الرَّأْيِ عِبْرَةٌ فِي الِاقْتِصَادِ مِنَ الِانْتِقَامِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ دون إفراط.

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 12]

[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 11 إِلَى 12] قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ سَوْقَ الْقِصَّةِ يَسْتَدْعِي تَسَاؤُلَ السَّامِعِ عَمَّا جَرَى بَعْدَ إِشَارَةِ أَخِيهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ رَجَعُوا عَمَّا بَيَّتُوا وَصَمَّمُوا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ أَخُوهُمْ. وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مَعَ أَبِيهِمْ بِقَوْلِهِمْ: يَا أَبانا يَقْضِي أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمْ فِي خِطَابِ الِابْنِ أَبَاهُ. وَلَعَلَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ لَا يَأْذَنُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْخُرُوجِ مَعَ إِخْوَتِهِ لِلرَّعْيِ أَوْ لِلسَّبْقِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ سُوءٌ مِنْ كَيْدِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَرِّحُ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ حَالَهُ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْخُرُوجِ كَحَالِ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ فَنَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ، وَأَتَوْا بِالِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى نَفْيِ الِائْتِمَانِ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْسَلَهُ إِلَى إِخْوَتِهِ وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا يَرْعَوْنَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيفًا فَلَعَلَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ مِنْ خُرُوجِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَهُمْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ لَوْمَهُمْ عَلَيْهِ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ. وَتَرْكِيبُ مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [35] ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [38] . وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [88] . وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ لَا تَأْمَنَّا بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مُدْغَمَةٍ مِنْ نُونِ أَمِنَ وَنُونِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتَلَفُوا

فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَذِهِ النُّونِ بَيْنَ إِدْغَامٍ مَحْضٍ، وَإِدْغَامٍ بِإِشْمَامٍ، وَإِخْفَاءٍ بِلَا إِدْغَامٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ مَرْجُوحٌ، وَأَرْجَحُ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ الْإِدْغَامُ بِإِشْمَامٍ، وَهُمَا طَرِيقَتَانِ لِلْكُلِّ وَلَيْسَا مَذْهَبَيْنِ. وَحَرْفُ عَلى الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْأَمْنِ الْمَنْفِيِّ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْ تَعَلُّقِ الِائْتِمَانِ بِمَدْخُولِ عَلى. وَالنُّصْحُ عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمَنْصُوحِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ غَالِبًا وَبِنَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [62] . وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا وَجُمْلَةِ أَرْسِلْهُ. وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ مَا فِيهِ نَفْعٌ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَجُمْلَةُ أَرْسِلْهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الْمُتَقَدِّمَ يُثِيرُ تَرَقُّبَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَعْرِفَةِ مَا يُرِيدُونَ مِنْهُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. ويَرْتَعْ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ على قراءتي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُضَارِعُ ارْتَعَى وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الرَّعْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ. فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَكْلِ الْمَوَاشِي وَالْبَهَائِمِ وَاسْتُعِيرَ فِي كَلَامِهِمْ لِلْأَكْلِ الْكَثِيرِ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الرِّيَاضِ وَالْأَرْيَافِ لِلَّعِبِ وَالسَّبْقِ تَقْوَى شَهْوَةُ الْأَكْلِ فِيهِمْ فَيَأْكُلُونَ أَكْلًا ذَرِيعًا فَلِذَلِكَ شَبَّهَ أَكْلَهُمْ بِأَكْلِ الْأَنْعَامِ. وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسُرُّ أَبَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا فَرِحِينَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ- بِنُونٍ وَسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَائِبِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ- وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتَيْ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ مُضَارِعُ رَتَعَ إِذَا أَقَامَ فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ مِنَ الطَّعَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ

هَذَا مُسْتَعَارٌ مِنْ رَتَعَتِ الدَّابَّةُ إِذَا أَكَلَتْ فِي الْمَرْعَى حَتَّى شَبِعَتْ. فَمُفَادُ الْمَعْنَى عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ وَاحِدٌ. وَاللَّعِبُ: فِعْلٌ أَوْ كَلَامٌ لَا يُرَادُ مِنْهُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُرَادَ بِمِثْلِهِ نَحْوَ الْجَرْيِ والقفز والسّبق والمراماة، نَحْوَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَظَلَّ الْعَذَارَى يَرْتَمِينَ بِشَحْمِهَا يَقْصِدُ مِنْهُ الِاسْتِجْمَامَ وَدَفْعَ السَّآمَةِ. وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا إِذَا لَمْ يَصِرْ دَأَبًا. فَلَا وَجْهَ لِتَسَاؤُلِ صَاحب «الْكَشَّاف» على اسْتِجَازَةِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُمُ اللَّعِبَ. وَالَّذِينَ قَرَأُوا نَرْتَعْ بِنُونِ الْمُشَارَكَةِ قَرَأُوا وَنَلْعَبْ بِالنُّونِ أَيْضًا. وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِثْلَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ [سُورَة يُوسُف: 10] . وَالتَّأْكِيدُ فِيهِمَا لِلتَّحْقِيقِ تَنْزِيلًا لِأَبِيهِمْ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ فِي أَنَّهُمْ يَحْفَظُونَهُ وَيَنْصَحُونَهُ كَمَا نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَأْذَنُ لَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ لِلرَّعْيِ وَنَحْوِهِ. وَتَقْدِيمُ لَهُ فِي لَهُ لَناصِحُونَ ولَهُ لَحافِظُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الرِّعَايَةِ لِلْفَاصِلَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِفَرْطِ عِنَايَتِهِمْ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهُ وَلَا يَنْصَحُ غَيْرَهُ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَوَاطَأُوا عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِيهِمْ عِبْرَة من تواطئ أَهْلِ الْغَرَضِ الْوَاحِدِ عَلَى التَّحَيُّلِ لِنَصْبِ الْأَحَابِيلِ لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ دَنِيءٍ، وَكَيْفَ ابْتَدَأُوا بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ عَدَمِ أَمْنِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَخِيهِمْ وَإِظْهَارُ أَنَّهُمْ نُصَحَاءُ لَهُ، وَحَقَّقُوا ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مَا حَرَصُوا إِلَّا عَلَى فَائِدَةِ أَخِيهِمْ وَأَنَّهُمْ حَافِظُونَ لَهُ وَأَكَّدُوا ذَلِك أَيْضا.

[سورة يوسف (12) : الآيات 13 إلى 14]

[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 13 إِلَى 14] قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَصْلُ جُمْلَةِ قالَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. أَظْهَرَ لَهُمْ سَبَبَ امْتِنَاعِهِ مِنْ خُرُوجِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَهُمْ إِلَى الرِّيفِ بِأَنَّهُ يُحْزِنُهُ لِبُعْدِهِ عَنْهُ أَيَّامًا، وَبِأَنَّهُ يَخْشَى عَلَيْهِ الذِّئَابَ، إِذْ كَانَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَئِذٍ غُلَامًا، وَكَانَ قَدْ رُبِّيَ فِي دَعَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مُرِّنَا بِمُقَاوَمَةِ الوحوش، والذئاب تجترىء عَلَى الَّذِي تُحِسُّ مِنْهُ ضَعْفًا فِي دِفَاعِهَا. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبْعٍ الْفَزَارِيُّ يَشْكُو ضَعْفَ الشَّيْخُوخَةِ: وَالذِّئْبُ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَذْكُرُ ذِئْبًا: فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَكَشَّرَ ضَاحِكًا ... وَقَائِمُ سَيْفِي مِنْ يَدِي بِمَكَانِ تَعِشْ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لَا تَخُونَنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ فَذِئَابُ بَادِيَةِ الشَّامِ كَانَتْ أَشَدَّ خُبْثًا مِنْ بَقِيَّةِ الذِّئَابِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ كَذِئَابِ بِلَادِ الرُّوسِ. وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: إِنَّ الذِّئْبَ إِذَا حُورِبَ وَدَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى عَضَّ الْإِنْسَانَ وَأَسَالَ دَمَهُ أَنَّهُ يَضْرَى حِينَ يَرَى الدَّمَ فَيَسْتَأْسِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ، قَالَ: فَكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ حِينَ رَأَى دَمًا ... بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ وَقَدْ يَتَجَمَّعُ سِرْبٌ مِنَ الذِّئَابِ فَتَكُونُ أَشَدَّ خَطَرًا عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ وَالصَّغِيرِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الذِّئْبُ تَعْرِيفُ الْحَقِيقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، وَيُسَمَّى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ نَوْعِ الذِّئْبِ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ أَحْوَالِ الذَّوَاتِ لَا مِنْ أَحْوَالِ الْجِنْسِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ أَيَّةُ ذَاتٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ دُونَ تَعْيِينٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [سُورَة الْجُمُعَة: 5] أَيْ فَرْدٍ مِنَ الْحَمِيرِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ الْفَرْدِ دُونَ الْجِنْسِ إِسْنَادُ حَمْلِ الْأَسْفَارِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَحْمِلُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: (ادْخُلِ السُّوقَ) إِذَا أَرَدْتَ فَرْدًا مِنَ الْأَسْوَاقِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَقَوْلُكَ: ادْخُلْ، قَرِينَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ شَبِيهٌ بِالنَّكِرَةِ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ فَرْدٌ مِنَ الْجِنْسِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ التَّعْرِيفُ بِعَلَمِ الْجِنْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ اللَّامِ وَبَيْنَ الْمُنْكَرِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَالنَّكِرَةِ. فَالْمَعْنَى: أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، أَيْ يَقْتُلَهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ فَإِنَّكُمْ تَبْعُدُونَ عَنْهُ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ إِمْعَانِهِمْ فِي اللَّعِبِ وَالشُّغْلِ باللهو والمسابقة، فتجتري الذِّئَابُ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالذِّئْبُ: حَيَوَانٌ مِنَ الْفَصِيلَةِ الْكَلْبِيَّةِ، وَهُوَ كَلْبٌ بَرِّيٌّ وَحْشِيٌّ. مِنْ خُلُقِهِ الِاحْتِيَالُ وَالنُّفُورُ. وَهُوَ يَفْتَرِسُ الْغَنَمَ. وَإِذَا قَاتَلَ الْإِنْسَانَ فَجَرَحَهُ وَرَأَى عَلَيْهِ الدَّمَ ضَرَى بِهِ فَرُبَّمَا مَزَّقَهُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ ذَهَابَهُمْ بِهِ غَدًا يُحْدِثُ بِهِ حُزْنًا مُسْتَقْبَلًا (¬1) لِيَصْرِفَهُمْ عَنِ الْإِلْحَاحِ فِي طَلَبِ الْخُرُوجِ بِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الِابْنِ الْبَارِّ أَنْ يَتَّقِيَ مَا يُحْزِنُ أَبَاهُ. ¬

(¬1) ذهب جمع كثير من النُّحَاة فيهم الزَّمَخْشَرِيّ فِي «الْكَشَّاف» و «الْمفصل» إِلَى أَن لَام الِابْتِدَاء إِذا دخلت على الْمُضَارع تخلصه لزمن الْحَال، وَخَالفهُم كثير من الْبَصرِيين. وَالتَّحْقِيق أَن ذَلِك غَالب لَا مطرد. فَهَذِهِ الْآيَة وَقَوله تَعَالَى: أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] تشهدان لعدم اطراد هَذَا الحكم.

وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِقَطْعِ إِلْحَاحِهِمْ بِتَحْقِيقِ أَنَّ حُزْنَهُ لِفِرَاقِهِ ثَابِتٌ، تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، إِذْ رَأَى إِلْحَاحَهُمْ. وَيَسْرِي التَّأْكِيدُ إِلَى جُمْلَةِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ. فَأَبَوْا إِلَّا الْمُرَاجَعَةَ قَالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ أَكَلَهُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، أَرَادُوا تَأْكِيدَ الْجَوَابِ بِاللَّامِ. وَإِنْ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَإِذَنِ الْجَوَابِيَّةِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ خُسْرَانِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ الشَّرْطِ. وَالْمُرَادُ: الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ تَفْرِيطِهِمْ فِيهِ وَعَنْ حِفْظِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَرْضَى أَنْ يُوصَفَ بِالْخُسْرَانِ. وَالْمُرَادُ بِالْخُسْرَانِ: انْتِفَاءُ النَّفْعِ الْمَرْجُوِّ مِنَ الرِّجَالِ، اسْتَعَارُوا لَهُ انْتِفَاءَ نَفْعِ التَّاجِرِ مِنْ تَجْرِهِ، وَهُوَ خَيْبَةٌ مَذْمُومَةٌ، أَيْ إِنَّا إِذَنْ لَمَسْلُوبُونَ مِنْ صِفَاتِ الْفُتُوَّةِ مِنْ قُوَّةٍ وَمَقْدِرَةٍ وَيَقَظَةٍ. فَكَوْنُهُمْ عُصْبَةً يَحُولُ دُونَ تَوَاطِيهِمْ عَلَى مَا يُوجِبُ الْخُسْرَانَ لِجَمِيعِهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْعُصْبَةِ آنِفًا، وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ مِنْ مِقْدَارِ إِظْهَارِ الصَّلَاحِ مَعَ اسْتِبْطَانِ الضُّرِّ وَالْإِهْلَاكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَحْقِيقِ هَمْزَةِ الذِّئْبُ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ يَاءً. وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ نُسِبَ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ إِلَى خَلَفٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ. وَفِي الْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو أَظْهَرَ الْهَمْزَةَ فِي التَّوَقُّفِ، وَأَنَّ حَمْزَةَ أَظْهَرَهَا فِي الْوَصْل.

[سورة يوسف (12) : آية 15]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 15] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) تَفْرِيعُ حِكَايَةِ الذَّهَابِ بِهِ وَالْعَزْمِ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ عَلَى حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبَنِيهِ فِي مُحَاوَلَةِ الْخُرُوجِ بِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى الْبَادِيَةِ يُؤْذِنُ بِجُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ فِيهَا ذِكْرُ أَنَّهُمْ أَلَحُّوا عَلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى أَقْنَعُوهُ فَأَذِنَ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ، وَهُوَ إِيجَازٌ. وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا أَجَابَهُمْ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى مَا طَلَبُوا ذَهَبُوا بِهِ وَبَلَغُوا الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الْجُبُّ. وَفِعْلُ (أَجْمَعَ) يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ. وَمَعْنَاهُ: صَمَّمَ عَلَى الْفِعْلِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَجْعَلُوهُ هُوَ مَفْعُولُ وَأَجْمَعُوا. وَجَوَابُ (لَمَّا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلُوهُ فِي الْجُبِّ. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ تَقْلِيلٌ فِي اللَّفْظِ لِظُهُورِ الْمَعْنَى. وَجُمْلَةُ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، لِأَنَّ هَذَا الْمُوحَى مِنْ مُهِمِّ عِبَرِ الْقِصَّةِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ مَزِيدَةٌ وَجُمْلَةُ أَوْحَيْنا هُوَ جَوَابُ (لَمَّا) ، وَقَدْ قِيلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي قَوْله امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى ... ... الْبَيْتَ. وَقِيلَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ [سُورَة الصافات: 103، 104] الْآيَةَ وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ نَظَرٌ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مُقْتَصِرِينَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَجُمْلَةُ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَوْحَيْنا. وَأُكِّدَتْ بِاللَّامِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا سَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ أَوِ الْأَمْرِ فِي الْحَالِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَذَا الْوَحْيُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلْهَامًا أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ كَيْدِهِمْ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ فَيَكُونُ إِرْهَاصًا لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السّلام- قبل النّبوءة رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِيُزِيلَ عَنْهُ كَرْبَهُ، فَأَعْلَمَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ وَتَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ عَلَى الَّذِينَ كَادُوا لَهُ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّهُ سَيُؤَانِسُهُ فِي وَحْشَةِ الْجُبِّ بِالْوَحْيِ وَالْبِشَارَةِ، وَبِأَنَّهُ سَيُنَبِّئُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِخْوَتَهُ بِمَا فَعَلُوهُ مَعَهُ كَمَا تُؤْذِنُ بِهِ نُونُ التَّوْكِيدِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَجَاتَهُ وَتَمَكُّنَهُ مِنْ إِخْوَتِهِ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَالِ تَمَكُّنٍ مِنْهُمْ وَأَمْنٍ مِنْ شَرِّهِمْ. وَمَعْنَى بِأَمْرِهِمْ: بِفِعْلِهِمُ الْعَظِيمِ فِي الْإِسَاءَةِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ لَتُخْبِرَنَّهُمْ بِمَا فَعَلُوا بِكَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّكَ أَخُوهُمْ بَلْ فِي حَالَةِ يَحْسَبُونَهُ مُطَّلِعًا عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ مُتَكَهِّنًا بِهَا، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ بِمَا وَقَعَ بَعْدَ سِنِينَ مِمَّا حُكِيَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ [سُورَة يُوسُف: 89] الْآيَتَيْنِ. وَعَلَى احْتِمَالِ عَوْدِ ضَمِيرِ إِلَيْهِ عَلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَالْوَحْيُ هُوَ إِلْقَاءُ اللَّهِ إِلَيْهِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَالْوَاوُ أَظْهَرُ فِي الْعَطْفِ حِينَئِذٍ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ إِلَى آخِرِهَا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. ولَتُنَبِّئَنَّهُمْ أَمْرٌ، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ نَبِّئْهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا، أَيْ أَشْعَرِهِمْ بِمَا كَادُوا لِيُوسُفَ-

[سورة يوسف (12) : الآيات 16 إلى 18]

عَلَيْهِ السَّلَامُ-، إِشْعَارًا بِالتَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ [سُورَة يُوسُف: 13] . وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جَمْعِ الْغَائِبِينَ، أَيْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّنَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْجُبُّ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ فِي أَرْضِ (دَوْثَانَ) ، وَدَوْثَانَ كَانَتْ مَدِينَةً حَصِينَةً وَصَارَتْ خَرَابًا. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ كَانَتْ حَوْلَهُ صَحْرَاءُ هِيَ مَرْعَى وَمَرْبَعٌ. وَوَصْفُ الْجُبِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْقَوَافِلِ. وَاتَّفَقَ وَاصِفُو الْجُبِّ عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ (بَانْيَاسَ) وَ (طَبَرِيَّةَ) . وَأَنَّهُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا مِنْ طَبَرِيَّةَ مِمَّا يَلِي دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ قُرْبَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا (سَنْجَلُ أَوْ سَنْجِيلُ) . قَالَ قُدَامَةُ: هِيَ طَرِيقُ الْبَرِيدِ بَيْنَ بَعْلَبَكَّ وَطَبَرِيَّةَ. وَوَصَفَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِالضَّبْطِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْأَوْصَافِ التَّارِيخِيَّةِ الْقَدِيمَةِ أَنَّهُ الطَّرِيقُ الْكُبْرَى بَيْنَ الشَّامِ وَمِصْرَ. وَكَانَتْ تَجْتَازُ الْأُرْدُنَّ تَحْتَ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ وَتَمُرُّ عَلَى (دَوْثَانَ) وَكَانَتْ تَسْلُكُهَا قَوَافِلُ الْعَرَبِ الَّتِي تَحْمِلُ الْأَطْيَابَ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقِ جِبَابٌ كَثِيرَةٌ فِي (دَوْثَانَ) . وَجُبُّ يُوسُفَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ طَبَرِيَّةَ وَصَفَدَ، بُنِيَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ فِي زَمَنِ الدَّوْلَةِ الْأَيُّوبِيَّةِ بِحَسَبِ التَّوَسُّمِ وَهِيَ قَائِمَةٌ إِلَى الْآنَ. [16- 18] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 16 الى 18] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (18) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ عطف على جملَة فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [سُورَة يُوسُف: 15] عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ عَطْفُ جُزْءِ الْقِصَّةِ.

وَالْعِشَاءُ: وَقْتُ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْبَاقِي مِنْ بَقَايَا شُعَاعِ الشَّمْسِ بَعْدَ غُرُوبِهَا. وَالْبُكَاءُ: خُرُوجُ الدُّمُوعِ مِنَ الْعَيْنَيْنِ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ وَالْقَهْرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً [سُورَة التَّوْبَة: 82] . وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْبُكَاءِ الْمُصْطَنَعِ وَهُوَ التَّبَاكِي. وَإِنَّمَا اصْطَنَعُوا الْبُكَاءَ تَمْوِيهًا عَلَى أَبِيهِمْ لِئَلَّا يَظُنُّ بِهِمْ أَنَّهُمُ اغْتَالُوا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلَعَلَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ مَقْدِرَةٌ عَلَى الْبُكَاءِ مَعَ عَدَمِ وِجْدَانِ مُوجِبِهِ، وَفِي النَّاسِ عَجَائِبُ مِنَ التَّمْوِيهِ وَالْكَيْدِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَتَأَثَّرُ أَعْصَابُهُمْ بِتَخَيُّلِ الشَّيْءِ وَمُحَاكَاتِهِ فَيَعْتَرِيهِمْ مَا يَعْتَرِي النَّاسَ بِالْحَقِيقَةِ. وَبَعْضُ الْمُتَظَلِّمِينَ بِالْبَاطِلِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَفِطْنَةُ الْحَاكِمِ لَا تَنْخَدِعُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَلَا تَنُوطُ بِهَا حُكْمًا، وَإِنَّمَا يُنَاطُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ. جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى شُرَيْحٍ تُخَاصِمُ فِي شَيْءٍ وَكَانَتْ مُبْطِلَةً فَجَعَلَتْ تَبْكِي، وَأَظْهَرَ شُرَيْحٌ عَدَمَ الِاطْمِئْنَانِ لِدَعْوَاهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَمَا تَرَاهَا تَبْكِي؟! فَقَالَ: قَدْ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ وَهُمْ ظَلَمَةٌ كَذَبَةٌ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْضِيَ إِلَّا بِالْحَقِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا. وَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ. قُلْتُ: وَمِنَ الْأَمْثَالِ «دُمُوعُ الْفَاجِرِ بِيَدَيْهِ» وَهَذِهِ عِبْرَةٌ فِي هَذِهِ الْعِبْرَةِ. وَالِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّسَابُقِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَالِافْتِعَالُ وَالتَّفَاعُلُ يَشْتَرِكَانِ كَالِانْتِضَالِ وَالتَّنَاضُلِ، وَالِارْتِمَاءِ وَالتَّرَامِي، أَيْ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ: السِّبَاقُ أَيْضًا. كَمَا يُقَالُ النِّضَالُ وَالرِّمَاءُ» . وَالْمُرَادُ: الِاسْتِبَاقُ بِالْجَرْيِ عَلَى الْأَرْجُلِ، وَذَلِكَ مِنْ مَرَحِ الشَّبَابِ وَلَعِبِهِمْ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ أَيْ يُنْتَفَعُ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ثَقَلُهُمْ مِنَ الثِّيَابِ وَالْآنِيَةِ وَالزَّادِ.

وَمَعْنَى فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ، وَفِعْلُ الْأَكْلِ يَتَعَلَّقُ بِاسْمِ الشَّيْءِ. وَالْمُرَادُ بَعْضُهُ. يُقَالُ أَكَلَهُ الْأَسَدُ إِذَا أَكَلَ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ [سُورَة الْمَائِدَة: 3] عَطْفًا عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ عَنْ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهَا، أَيْ بِقَتْلِهَا. وَمِنْ كَلَامِ عُمَرَ حِينَ طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ «أَكَلَنِي الْكَلْبُ» ، أَيْ عَضَّنِي. وَالْمُرَادُ بِالذِّئْبِ جَمْعٌ مِنَ الذِّئَابِ عَلَى مَا عَرَفْتَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [سُورَة يُوسُف: 13] بِحَيْثُ لَمْ يَتْرُكِ الذِّئَابُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا فَدَفَنَّاهُ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ. وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَلِمَ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا ادَّعَوْهُ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَبَاهُمْ لَا يُصَدِّقُهُمْ فِيهِ، فَلَمْ يَكُونُوا طَامِعِينَ بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُمْ. وَفِعْلُ الْإِيمَانِ يُعَدَّى بِاللَّامِ إِلَى الْمُصَدَّقِ- بِفَتْحِ الدَّالِ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [سُورَة العنكبوت: 26] . وَتَقَدَمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [83] . وَجُمْلَةُ وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. وَلَوْ اتِّصَالِيَّةٌ، وَهِي تفِيد أَنه مَضْمُونَ مَا بَعْدَهَا هُوَ أَبْعَدُ الْأَحْوَالِ عَنْ تَحَقُّقِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا فِي ذَلِكَ الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ انْتِفَاءَ إِيمَانِكَ لَنَا فِي الْحَالَيْنِ فَلَا نَطْمَعُ أَنَّ نُمَوِّهَ عَلَيْكَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضِدُّ الشَّرْطِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ لِلْحَالِ مَعَ (لَوْ وَإِنْ) الْوَصْلِيَّتَيْنِ وَلَيْسَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَ الْمَعَرِّي: وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الْأَخِيرَ زَمَانُهُ ... لَآتٍ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الْأَوَائِلُ كَيْفَ لَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ إِنِّي إِنْ كُنْتُ الْمُتَقَدِّمَ زَمَانُهُ بَلْ وَإِنْ كُنْتُ الْأَخِيرَ زَمَانُهُ. فَشَرْطُ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ وَ (إِنْ) الْوَصْلِيَّةُ لَيْسَ لَهُمَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ،

لِأَنَّ الشَّرْطَ مَعَهُمَا لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [170] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً فِي سُورَةِ آلِ عمرَان [91] . وَجُمْلَة وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَلَمَّا كَانَ الدَّمُ مُلَطَّخًا بِهِ الْقَمِيصُ وَكَانُوا قَدْ جَاءُوا مُصَاحِبِينَ لِلْقَمِيصِ فَقَدْ جَاءُوا بِالدَّمِ عَلَى الْقَمِيصِ. وَوَصَفُ الدَّمِ بِالْكَذِبِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ مَكْذُوبٍ كَوْنُهُ دَمَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ هُوَ دَمُ جَدْيٍ، فَهُوَ دَمٌ حَقًّا لَكِنَّهُ لَيْسَ الدَّمُ الْمَزْعُومُ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا كَيْفِيَّةً مِنْ كَيْفِيَّاتِ تَمْوِيهِ الدَّمِ وَحَالَةِ الْقَمِيصِ بِحَالِ قَمِيصِ مَنْ يَأْكُلُهُ الذِّئْبُ مِنْ آثَارِ تَخْرِيقٍ وَتَمْزِيقٍ مِمَّا لَا تَخْلُو عَنْهُ حَالَةُ افْتِرَاسِ الذِّئْبِ، وَأَنَّهُمْ أَفْطَنُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ عُصْبَةٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. فَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لِأَبْنَائِهِ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ذِئْبًا أَحْلَمُ مِنْ هَذَا، أَكَلَ ابْنِي وَلَمْ يُمَزِّقْ قَمِيصَهُ، فَذَلِكَ مِنْ تَظَرُّفَاتِ الْقَصَصِ. وَقَوْلُهُ: عَلى قَمِيصِهِ حَالٌ مِنْ (دَمٍ) فَقُدِّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَالِ. قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ. حَرْفُ الْإِضْرَابِ إِبْطَالٌ لِدَعْوَاهُمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ فَقَدْ صَرَّحَ لَهُمْ بِكَذِبِهِمْ. وَالتَّسْوِيلُ: التَّسْهِيلُ وَتَزْيِينُ النَّفْسِ مَا تَحْرِصُ عَلَى حُصُولِهِ. وَالْإِبْهَامُ الَّذِي فِي كَلِمَةِ أَمْراً يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَشْيَاءَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْذُوا بِهِ

يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: مِنْ قَتْلٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ تَغْرِيبٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعْيِينَ مَا فَعَلُوهُ. وَتَنْكِيرُ أَمْراً لِلتَّهْوِيلِ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْشَاءُ التَّصَبُّرِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ نَائِبٌ مَنَابَ اصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا. عَدَلَ بِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [69] . وَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَاءِ خِطَابِ أَبْنَائِهِ، أَوْ يَكُونُ تَقْدِيرُ: اصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا، عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِنَفْسِهِ. وَيَجُوزُ أَن يكون فَصَبْرٌ جَمِيلٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ فَأَمْرِي صَبْرٌ. أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ كَذَلِكَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْإِنْشَاءِ أَوْقَعُ، وَتَقَدَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَوَصْفُ جَمِيلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا كَاشِفًا إِذِ الصَّبْرُ كُلُّهُ حَسَنٌ دُونَ الْجَزَعِ. كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كُنَيفٍ النَّبْهَانِيُّ: تَصَبَّرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ بِالْحُرِّ أَجْمَلُ ... وَلَيْسَ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ مُعَوَّلُ أَيْ أَجْمَلُ مِنَ الْجَزَعِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مُخَصَّصًا. وَقَدْ فُسِّرَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ بِالَّذِي لَا يُخَالِطُهُ جَزَعٌ. وَالْجَمَالُ: حُسْنُ الشَّيْءِ فِي صِفَاتِ مَحَاسِنِ صِنْفِهِ، فَجَمَالُ الصَّبْرِ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ يُقَلِّلُ خَصَائِصَ مَاهِيَّتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَن النبيء عَلَيْهِ السّلام مَرَّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ لَهَا: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي» ، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي- وَلَمْ تَعْرِفْهُ- فَلَمَّا انْصَرَفَ مَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَت بَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» أَيِ الصَّبْرُ الْكَامِلُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فَتَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ إِنْشَاءِ الِاسْتِعَانَةِ أَوِ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ اسْتِعَانَتِهِ بِاللَّهِ عَلَى تَحَمُّلِ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ أَرَادَ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى الْخَلَاصِ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ. وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا أَصَابَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السّلام- ب مَا تَصِفُونَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي الصِّفَةِ وَوَاثِقًا بِأَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ضُرًّا فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَهُ الْمُصَابُ أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَنْهُ إِجْمَالًا مُوَجَّهًا لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا يَصِفُونَهُ هُوَ مَوْتُهُ بِأَكْلِ الذِّئْبِ إِيَّاهُ وَيَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُرِيدُ أَنَّ مَا يَصِفُونَهُ هُوَ الْمُصَابُ الْوَاقِعُ الَّذِي وَصَفُوهُ وَصْفًا كَاذِبًا. فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [سُورَة الصافات: 180] . وَإِنَّمَا فَوَّضَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يَسْعَ لِلْكَشْفِ عَنْ مَصِيرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ عَلِمَ تَعَذُّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَضُدَ لَهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَبْنَائِهِ أُولَئِكَ. وَقَدْ صَارُوا هُمُ السَّاعِينَ فِي الْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَيِسَ مِنِ اسْتِطَاعَةِ الْكَشْفِ عَنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِدُونِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ مِنْهُمْ فُرْصَةً قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [سُورَة يُوسُف: 87] .

[سورة يوسف (12) : آية 19]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 19] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) عطف على وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ [سُورَة يُوسُف: 16] عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَهَذَا رُجُوعٌ إِلَى مَا جَرَى فِي شَأْنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالْمَعْنَى: وَجَاءَتِ الْجُبَّ. وَ (السَّيَّارَةِ) تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْوَارِدُ: الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ لِيَسْتَقِيَ لِلْقَوْمِ. وَالْإِدْلَاءُ: إِرْسَالُ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ لِنَزْعِ الْمَاءِ. وَالدَّلْوُ: ظَرْفٌ كَبِيرٌ مِنْ جِلْدٍ مَخِيطٍ لَهُ خُرْطُومٌ فِي أَسْفَلِهِ يَكُونُ مَطْوِيًّا عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِ بِسَبَبِ شَدِّهِ بِحَبْلٍ مُقَارِنٍ لِلْحَبْلِ الْمُعَلَّقَةِ فِيهِ الدَّلْوُ. وَالدَّلْوُ مُؤَنَّثَةٌ. وَجُمْلَةُ قَالَ يَا بُشْرَايَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ ذِكْرَ إدلاء الدَّلْو يهيّىء السَّامِعَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا جَرَى حِينَئِذٍ فَيَقَعُ جَوَابُهُ قَالَ يَا بُشْرَايَ. وَالْبُشْرَى: تَقَدَّمَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [64] . وَنِدَاءُ الْبُشْرَى مَجَازٌ، لِأَنَّ الْبُشْرَى لَا تُنَادَى، وَلَكِنَّهَا شُبِّهَتْ بِالْعَاقِلِ الْغَائِبِ الَّذِي احْتِيجَ إِلَيْهِ فَيُنَادَى كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: هَذَا آنُ حُضُورِكَ. وَمِنْهُ: يَا حسرتا، وَيَا عجبا، فَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَحَرْفُ النِّدَاءِ تَخْيِيلٌ أَوْ تَبَعِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فَرِحَ وَابْتَهَجَ بِالْعُثُورِ عَلَى غُلَامٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا بُشْرَايَ بِإِضَافَةِ الْبُشْرَى إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِدُونِ إِضَافَةٍ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى ذَاتِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَاطَبَ الْوَارِدُ بَقِيَّةَ السَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ ذَاتَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَصْعَدَهُ الْوَارِدُ مِنَ الْجُبِّ، إِذْ لَوْ كَانُوا يَرَوْنَهُ لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِتَعْرِيفِهِمْ بِأَنَّهُ غُلَامٌ إِذِ الْمُشَاهَدَةُ كَافِيَةٌ عَنِ الْإِعْلَامِ، فَتَعَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشَاهِدِينَ شَبَحَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ ظَهَرَ مِنَ الْجُبِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَا يُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مَرْئِيَّةٍ بَلْ يُقْصَدُ بِهِ إِشْعَارُ السَّامِعِ بِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ شَيْءٌ فَرِحَ بِهِ غَيْرُ مُتَرَقَّبٍ، كَمَا يَقُولُ الصَّائِدُ لِرِفَاقِهِ: هَذَا غَزَالٌ! وَكَمَا يَقُولُ الغائص: هَذِه صَدَقَة! أَوْ لُؤْلُؤَةٌ! وَيَقُولُ الْحَافِرُ لِلْبِئْرِ: هَذَا الْمَاءُ! قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الصَّائِدَ وَكِلَابَهُ وَفَرَسَهُ: يَقُولُ رَاكِبُهُ الْجِنِّيُّ مُرْتَفِقًا ... هَذَا لَكِنْ وَلَحْمُ الشَّاةِ مَحْجُورُ وَكَانَ الْغَائِصُونَ إِذَا وَجَدُوا لُؤْلُؤَةً يَصِيحُونَ. قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ دُرَّةُ صَدَفَاتِهِ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ وَالْمَعْنَى: وَجَدْتُ فِي الْبِئْرِ غُلَامًا، فَهُوَ لُقَطَةٌ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَنِ الْتَقَطَهُ. وَذَلِكَ سَبَبُ ابْتِهَاجِهِ بِقَوْلِهِ: يَا بُشْرَايَ هَذَا غُلَامٌ. وَالْغُلَامُ: مِنْ سِنِّهِ بَيْنَ الْعَشْرِ وَالْعِشْرِينَ. وَكَانَ سِنُّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَوْمَئِذٍ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَكَانَ هَؤُلَاءِ السيارة من الإسماعيليين كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَيْ أَبْنَاءُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَجِيئُهُمُ الْجُبَّ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ إِذْ كَانُوا قَدِ ابْتَعَدُوا عَنِ الْجُبِّ. وَمَعْنَى أَسَرُّوهُ أَخْفَوْهُ. وَالضَّمِيرُ لِلسَّيَّارَةِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَخْفَوْا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ خَبَرُ الْتِقَاطِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وِلْدَانِ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَاءِ قَدْ تَرَدَّى فِي الْجُبِّ، فَإِذَا عَلِمَ أَهْلُهُ بِخَبَرِهِ طَلَبُوهُ وَانْتَزَعُوهُ

[سورة يوسف (12) : آية 20]

مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ تَوَسَّمُوا مِنْهُ مَخَائِلَ أَبْنَاءِ الْبُيُوتِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَعْرِفُوا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْجُبِّ وَيُعْلِنُوا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي التَّعْرِيفِ بِاللُّقَطَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْله: وَأَسَرُّوهُ مشعرا بِأَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْبَرَهُمْ بِقِصَّتِهِ، فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ طَمَعًا فِي أَنْ يَبِيعُوهُ. وَذَلِكَ مِنْ فِقْدَانِ الدِّينِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالدِّينِ. وبِضاعَةً مَنْصُوبُ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَسَرُّوهُ، أَيْ جَعَلُوهُ بِضَاعَةً. وَالْبِضَاعَةُ: عُرُوضُ التِّجَارَةِ وَمَتَاعُهَا، أَيْ عَزَمُوا عَلَى بَيْعِهِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ، وَمَنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ قَوْمِهِ وَيُبَلِّغُوهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا خَبَرَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَطِيعًا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِخَبَرِهِ. وَفِي عُثُورِ السَّيَّارَةِ عَلَى الْجُبِّ الَّذِي فِيهِ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- آيَةٌ مِنْ لُطْفِ الله بِهِ. [20] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 20] وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) مَعْنَى شَرَوْهُ بَاعُوهُ. يُقَالُ: شَرَى كَمَا يُقَالُ: بَاعَ، وَيُقَالُ: اشْتَرَى كَمَا يُقَالُ: ابْتَاعَ. وَمِثْلُهُمَا رَهَنَ وَارْتَهَنَ، وَعَاوَضَ وَاعْتَاضَ، وَكَرَى وَاكْتَرَى. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ الْفِعْلَ لِلْحَدَثِ وَالِافْتِعَالَ لِمُطَاوَعَةِ الْحَدَثِ. وَمَنْ فَسَّرَ شَرَوْهُ بِاشْتَرَوْهُ أَخْطَأَ خَطَأً أَوْقَعَهُ فِيهِ سُوءُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ شَرَى وَاشْتَرَى مُتَرَادِفَانِ فِي مَعْنَيَيْهِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ وَهَمَ إِذْ لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَالْبَخْسُ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ بَخَسَهُ إِذَا نَقَصَهُ عَنْ قِيمَةِ شَيْئِهِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَبْخُوسِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَتَقَدَّمَ فِعْلُ الْبَخْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] . ودَراهِمَ بدل من بِثَمَنٍ وَهِيَ جُمَعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْمَسْكُوكُ. وَهُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ كَمَا فِي «صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ» . وَقَدْ أَغْفَلَهُ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا هُوَ مُعَرَّبٌ فِي الْقُرْآنِ كَالسُّيُوطِيِّ فِي «الْإِتْقَانِ» . ومَعْدُودَةٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا قَلِيلَةً لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يَسْهُلُ عَدُّهُ فَإِذَا كَثُرَ صَارَ تَقْدِيرُهُ بِالْوَزْنِ أَوِ الْكَيْلِ. وَيُقَالُ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْكَثْرَةِ: لَا يُعَدُّ. وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ كُلُّهَا لِلسَّيَّارَةِ عَلَى أَصَحِّ التَّفَاسِيرِ. وَالزَّهَادَةُ: قِلَّةُ الرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ الشَّيْءِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ، أَوْ قِلَّةُ الرَّغْبَةِ فِي عِوَضِهِ كَمَا هُنَا، أَيْ كَانَ السَّيَّارَةُ غَيْرَ رَاغِبِينَ فِي إِغْلَاءِ ثَمَنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ قِلَّةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَسْعَارِ. وَصَوْغُ الْإِخْبَارِ عَنْ زَهَادَتِهِمْ فِيهِ بِصِيغَةِ مِنَ الزَّاهِدِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِمَّا لَوْ أَخْبَرَ بِكَانُوا فِيهِ زَاهِدِينَ، لِأَنَّ جَعْلَهُمْ مِنْ فريق زاهدين ينبىء بِأَنَّهُمْ جَرَوْا فِي زُهْدِهِمْ فِي أَمْثَالِهِ عَلَى سُنَنِ أَمْثَالِهِمُ الْبُسَطَاءِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّرُونَ قَدْرَ نَفَائِسِ الْأُمُورِ. وفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِ الزَّاهِدِينَ وَ (أَلْ) حَرفٌ لِتَعْرِيفِ الْجِنْس، وَلَيْسَت اسْم مَوْصُول خِلَافًا لِأَكْثَرِ النُّحَاةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ (أَلِ) الدَّاخِلَةَ عَلَى الْأَسْمَاء المشتقة اسْم مَوْصُول مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَهْدٌ وَتَمَسَّكُوا بِعِلَلٍ وَاهِيَةٍ وَخَالَفَهُمُ الْأَخْفَشُ وَالْمَازِنِيُّ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمَزْهُودِ فِيهِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِ تَوَسُّمِهِمْ وَبَصَارَتِهِمْ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ

[سورة يوسف (12) : آية 21]

[21] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 21] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. الَّذِي اشْتَراهُ مُرَادٌ مِنْهُ الَّذِي دَفَعَ الثَّمَنَ فَمَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَوَلَّ الِاشْتِرَاءَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ فِعْلَ الِاشْتِرَاءِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى دَفْعِ الْعِوَضِ، بِحَيْثُ إِنَّ إِسْنَادَ الِاشْتِرَاءِ لِمَنْ يَتَوَلَّى إِعْطَاءَ الثَّمَنِ وَتَسَلُّمَ الْمَبِيعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكُ الثَّمَنِ وَمَالِكُ الْمَبِيعِ يَكُونُ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا، وَلِذَلِكَ يَكْتُبُ الْمُوَثِّقُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ شِرَاءَهُ لِفُلَانٍ. وَالَّذِي اشْتَرَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَجُلٌ اسْمُهُ (فوطيفار) رَئِيس شَرط مَلِكِ مِصْرَ، وَهُوَ وَالِي مَدِينَةِ مِصْرَ، وَلُقِّبَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْعَزِيزِ، وَسَيَأْتِي. وَمَدِينَةُ مِصْرَ هِيَ (مَنْفِيسُ) وَيُقَالُ: (مَنْفُ) وَهِيَ قَاعِدَةُ مِصْرَ السُّفْلَى الَّتِي يَحْكُمُهَا قَبَائِلُ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ عُرِفُوا عِنْدَ القبط باسم (الهيكسوس) أَيِ الرُّعَاةُ. وَكَانَتْ مِصْرُ الْعُلْيَا الْمَعْرُوفَةُ الْيَوْمَ بِالصَّعِيدِ تَحْتَ حُكْمِ فَرَاعِنَةِ الْقِبْطِ. وَكَانَتْ مَدِينَتُهَا (ثِيبَةَ- أَوْ- طِيبَةَ) ، وَهِيَ الْيَوْمَ خَرَابٌ وَمَوْضِعُهَا يُسَمَّى الْأَقْصُرُ، جَمْعُ قَصْرٍ، لِأَنَّ بِهَا أَطْلَالَ الْقُصُورِ الْقَدِيمَةِ، أَيِ الْهَيَاكِلُ. وَكَانَتْ حُكُومَةُ مِصْرَ الْعُلْيَا أَيَامَئِذٍ مُسْتَضْعَفَةً لِغَلَبَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ عَلَى مُعْظَمِ الْقُطْرِ وَأَجْوَدِهِ. وَامْرَأَتُهُ تُسَمَّى فِي كُتُبِ الْعَرَبِ (زَلِيخَا) - بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَقَصْرِ آخِرِهِ- وَسَمَّاهَا الْيَهُودُ (رَاعِيلَ) . ومِنْ مِصْرَ صِفَةٌ لِ الَّذِي اشْتَراهُ. ولِامْرَأَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ قالَ أَوْ بِ اشْتَراهُ أَوْ يَتَنَازَعُهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ، فَيَكُونُ اشْتَرَاهُ لِيَهَبَهُ لَهَا لِتَتَّخِذَهُ وَلَدًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ. وَامْرَأَتُهُ: مَعْنَاهُ زَوْجُهُ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَرْأَةِ وَيُرَادُ مِنْهُ مَعْنَى الزَّوْجَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ [سُورَة هود: 71] .

وَالْمَثْوَى: حَقِيقَتُهُ الْمَحَلُّ الَّذِي يثوي إِلَيْهِ الْمَرْءُ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [128] . وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ حَالِ الْإِقَامَةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمَرْءَ يُثَوَى إِلَى مَنْزِلِ إِقَامَتِهِ. فَالْمَعْنَى: اجْعَلِي إِقَامَتَهُ عِنْدَكِ كَرِيمَةً، أَيْ كَامِلَةً فِي نَوْعِهَا. أَرَادَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ سَبَبًا فِي اجْتِلَابِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا وَنُصْحِهِ لَهُمَا فَيَنْفَعُهُمَا، أَوْ يَتَّخِذَانِهِ وَلَدًا فَيَبَرُّ بِهِمَا وَذَلِكَ أَشَدُّ تَقْرِيبًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ آيِسًا مِنْ وِلَادَةِ زَوْجِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِحُسْنِ تَفَرُّسِهِ فِي مَلَامِحِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمُؤْذِنَةِ بِالْكَمَالِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَجُلًا ذَا فِرَاسَةٍ وَقَدْ جَعَلَهُ الْمَلِكُ رَئِيسَ شُرْطَتِهِ، فَقَدْ كَانَ الْمُلُوكُ أَهْلَ حَذَرٍ فَلَا يُوَلُّونَ أُمُورَهُمْ غَيْرَ الْأَكْفَاءِ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ إِنْ أَجْرَيْنَا اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى قِيَاسِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ تَنْوِيهًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ بِحَيْثُ لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِتَمْكِينٍ أَتَمَّ مِنْهُ لَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ يُشَبَّهَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا فَيَكُونُ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَكَّنَا لِيُوسُفَ تَمْكِينًا كَذَلِكَ التَّمْكِينِ. وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ كَانَتْ لِحَاصِلِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ عُثُورُ السَّيَّارَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِنْجَاءٌ لَهُ عَجِيب الْحُصُول بمصادفة عَدَمِ

الْإِسْرَاعِ بِانْتِشَالِهِ مِنَ الْجُبِّ، أَيْ مَكَّنَا لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَمْكِينًا مِنْ صُنْعِنَا، مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ الَّذِي نَجَّيْنَاهُ، فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ مَكَّنَّا. وَنَظِيرُهُ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] . وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ هَنَا مُرَادٌ بِهِ ابْتِدَاؤُهُ وَتَقْدِيرُ أَوَّلِ أَجْزَائِهِ، فَيُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِحُلُولِهِ مَحَلَّ الْعِنَايَةِ مِنْ عَزِيزِ مِصْرَ قَدْ خَطَّ لَهُ مُسْتَقْبَلَ تَمْكِينِهِ مِنَ الْأَرْضِ بِالْوَجْهِ الْأَتَمِّ الَّذِي أُشِيرَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدُ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [سُورَة يُوسُف: 56] ، فَمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ هُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِمَّا هُنَا، وَهُوَ تَمَامُهُ. وَعَطَفَ عَلَى وَكَذلِكَ عِلَّةً لِمَعْنًى مُسْتَفَادٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْإِيتَاءُ، تِلْكَ الْعِلَّةُ هِيَ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَدَّرَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَالِمًا بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَأَن يَجعله نبيئا أَنْجَاهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ تَهْيِئَةً لِأَسْبَابِ مُرَادِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ آنِفًا عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِ أَبِيهِ لَهُ: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [سُورَة يُوسُف: 6] أَيْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَتَذْيِيلٌ، لِأَنَّ مَفْهُومَهَا عَامٌّ يَشْمَلُ غَلَبَ اللَّهِ إِخْوَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِإِبْطَالِ كَيْدِهِمْ، وَضَمِيرُ أَمْرِهِ عَائِدٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَحَرْفُ عَلى بَعْدَ مَادَّةِ الْغَلَبِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ فِيهِ النِّزَاعُ، كَقَوْلِهِمْ: غَلَبْنَاهُمْ عَلَى الْمَاءِ. وَأمر اللَّهِ هُوَ مَا قَدَّرَهُ وَأَرَادَهُ، فَمَنْ سَعَى إِلَى عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ فَحَالُهُ كَحَالِ الْمُنَازِعِ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ الْأَمْرَ الَّذِي أَرَادَهُ وَيَمْنَعَ حُصُولَ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَشَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَحَالِ الْغَالِبِ لِمُنَازِعِهِ. وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ مُتَمِّمٌ مَا قَدَّرَهُ، وَلِذَلِكَ

[سورة يوسف (12) : آية 22]

عَقَّبَهُ بِالِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْتِدْرَاكًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً ثَابِتَةً شَأْنُهَا أَن لَا تجْعَل لِأَنَّ عَلَيْهَا شَوَاهِدَ مِنْ أَحْوَالِ الْحَدَثَانِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَعَ ظُهُوره. [22] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ اصْطِفَاءِ- يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلنُّبُوءَةِ. ذُكِرَ هُنَا فِي ذِكْرِ مَبْدَأِ حُلُولِهِ بِمِصْرَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِتَمْكِينِهِ فِي الْأَرْضِ وَتَعْلِيمِهِ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ. وَالْأَشُدُّ: الْقُوَّةُ. وَفُسِّرَ بِبُلُوغِهِ مَا بَيْنَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً إِلَى أَرْبَعِينَ. وَالْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ: عِلْمُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْعَمَلُ بِالصَّالِحِ وَاجْتِنَابُ ضِدِّهِ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا النُّبُوءَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 79] . وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمٌ زَائِدٌ عَلَى النُّبُوءَةِ. وَتَنْكِيرُ عِلْماً لِلنَّوْعِيَّةِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ. وَالْمُرَادُ: عِلْمُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [سُورَة يُوسُف: 37] . وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ: الْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ لِأَنَّهَا حُكْمٌ عَلَى هُدَى النَّفْسِ. وَالْعِلْمُ: الْحِكْمَةُ النَّظَرِيَّةُ. وَالْقَوْلُ فِي وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَفِي ذِكْرِ الْمُحْسِنِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِحْسَانَهُ هُوَ سَبَبُ جَزَائِهِ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 23 إلى 29]

وَفِي هَذَا الَّذِي دَبَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَصْرِيحٌ بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السّلام- وَإِخْوَته. [23- 29] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 23 إِلَى 29] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصَّةُ حَاصِلَةً فِي الْوُجُودِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَادِثُ قَبْلَ إِيتَائِهِ النُّبُوءَةَ لِأَنَّ إِيتَاءَ النُّبُوءَةِ غَلَبَ أَنْ يَكُونَ فِي سِنِّ الْأَرْبَعِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنه أُوتِيَ النبوءة وَالرِّسَالَةَ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ وَبَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ. وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الْآيَاتُ لِتَقْرِيرِ ثَبَاتِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى الْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ.

فَالْمُرَاوَدَةُ الْمُقْتَضِيَةُ تَكْرِيرَ الْمُحَاوَلَةِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّكْرِيرِ. وَقِيلَ: الْمُفَاعَلَةُ تَقْدِيرِيَّةٌ بِأَنِ اعْتَبَرَ الْعَمَلَ مِنْ جَانِبٍ وَالْمُمَانَعَةَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ بِمِثْلِهِ. وَالْمُرَاوَدَةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ، إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ. شَبَّهَ حَالَ الْمُحَاوِلِ أَحَدًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مُكَرِّرًا ذَلِكَ. بِحَالِ مَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي الْمُعَاوَدَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَذْهُوبِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ رَاوَدَ بِمَعْنَى حَاوَلَ. وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ رَاوَدَتْهُ مُبَاعَدَةً لَهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، فَالنَّفْسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ غَرَضِ الْمُوَاقَعَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ فَالنَّفْسُ أُرِيدَ بِهَا عَفَافُهُ وَتَمْكِينُهَا مِنْهُ لِمَا تُرِيدُ، فَكَأَنَّهَا تُرَاوِدُهُ عَنْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهَا إِرَادَتَهُ وَحُكْمَهُ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِ (عَلَى) فَذَلِكَ إِلَى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ حُصُولُهُ. وَوَقَعَ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاوِدُ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ عَلَى الْإِسْلَامِ: وَفِي حَدِيث الإسلاء «فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قد وَالله رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ» . وَالتَّعْبِيرُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها لِقَصْدِ مَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَقْرِيرِ عِصْمَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي بَيْتِهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُطَوِّعَهُ لِمُرَادِهَا. وبَيْتِها بَيْتُ سُكْنَاهَا الَّذِي تَبِيتُ فِيهِ. فَمَعْنَى هُوَ فِي بَيْتِها أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ: الْمَنْزِلَ كُلَّهُ، وَهُوَ قَصْرُ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَبَّةُ الْبَيْتِ، أَيْ زَوْجَةُ صَاحِبِ الدَّارِ وَيَكُونُ مَعْنَى هُوَ فِي بَيْتِها أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَغَلْقُ الْأَبْوَابِ: جَعْلُ كُلَّ بَابٍ سَادًّا لِلْفُرْجَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا. وَتَضْعِيفُ غَلَّقَتِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْفِعْلِ وَقُوَّتِهِ، أَيْ أُغْلِقَتْ إِغْلَاقًا مُحْكَمًا.

وَالْأَبْوَابُ: جَمْعُ بَابٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [سُورَة الْمَائِدَة: 23] . وهَيْتَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى بَادِرْ. قِيلَ أَصْلُهَا مِنَ اللُّغَةِ الْحَوْرَانِيَّةِ، وَهِيَ نَبَطِيَّةٌ. وَقِيلَ: هِيَ مِنَ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ. وَاللَّامُ فِي لَكَ لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمَقْصُودِ بِالْخِطَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: سُقْيًا لَكَ وَشُكْرًا لَكَ. وَأَصْلُهُ: هِيتَكَ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ أَمْرًا كَانَ غَيْرَ بِدْعٍ فِي قُصُورِهِمْ بِأَنْ تَسْتَمْتِعَ الْمَرْأَةُ بِعَبْدِهَا كَمَا يَسْتَمْتِعُ الرَّجُلُ بِأَمَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ بِتَرْغِيبٍ بَلِ ابْتَدَأَتْهُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَا يَزِيدُهُ بَيَانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً. وَفِي هَيْتَ لُغَاتٌ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذِكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُون التَّحْتِيَّة وَضم التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ حَرَكَتَا بِنَاءٍ. ومَعاذَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَعْمُولِهِ. وَأَصْلُهُ: أَعُوذُ عَوذًا بِاللَّهِ، أَيْ أَعْتَصِمُ بِهِ مِمَّا تُحَاوِلِينَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ [سُورَة يُوسُف: 79] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَ (إِنَّ) مُفِيدَةٌ تَعْلِيلَ مَا أَفَادَهُ مَعاذَ اللَّهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِصَامِ مِنْهُ بِاللَّهِ الْمُقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ الِاعْتِصَامِ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَيَكُونُ رَبِّي بِمَعْنَى خَالِقِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي لَا يَرْضَى بِأَنْ يَمَسَّهَا غَيْرُهُ، فَهُوَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَيَكُونُ رَبِّي بِمَعْنَى سَيِّدِي وَمَالِكِي. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ تَوْجِيهًا بَلِيغًا حُكِيَ بِهِ كَلَامُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِمَّا لِأَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتَى بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي لُغَةِ

الْقِبْطِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَتَى بِتَرْكِيبَيْنِ عُذْرَيْنِ لِامْتِنَاعِهِ فَحَكَاهُمَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالتَّوْجِيهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِهَا فِي خِيَانَةِ عَهْدِهَا. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَفَافِ وَالتَّقْوَى وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْلَاهُ الْعَزِيزِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِجُمْلَةِ أَحْسَنَ مَثْوايَ، أَيْ جَعَلَ آخِرَتِي حُسْنَى، إِذْ أَنْقَذَنِي مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ أَكْرَمَ كَفَالَتِي. وَتَقَدَّمَ آنِفًا تَفْسِيرُ الْمَثْوَى. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِلِامْتِنَاعِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمًا لِ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُفِيدُ أَهَمِّيَّةَ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ خَبَرًا عَنْهُ لِأَنَّهَا مَوْعِظَةٌ جَامِعَةٌ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ إِجَابَتَهَا لِمَا رَاوَدَتْهُ ظُلْمٌ، لِأَنَّ فِيهَا ظُلْمُ كِلَيْهِمَا نَفْسَهُ بِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ مِمَّا اتَّفَقَتِ الْأَدْيَانُ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَظُلْمُ سَيِّدِهِ الَّذِي آمنهُ على بَينه وَآمَنَهَا عَلَى نَفْسِهَا إِذِ اتَّخَذَهَا زَوَجًا وَأَحْصَنَهَا. وَالْهَمُّ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [74] . وَأَكَّدَ هَمَّهَا ب لَقَدْ وَلَامِ الْقَسَمِ لِيُفِيدَ أَنَّهَا عَزَمَتْ عَزْمًا مُحَقَّقًا. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهَا كَانَتْ جَادَّةً فِيمَا رَاوَدَتْهُ لَا مُخْتَبِرَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَمِّهَا بِهِ التَّمْهِيدُ إِلَى ذِكْرِ انْتِفَاءِ هَمِّهِ بِهَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ. وَجُمْلَةُ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ كُلِّهَا. وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ هَمَّتْ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ

الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُرْدِفَتْ جُمْلَةُ وَهَمَّ بِها بِجُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا الْمُتَمَحَّضِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَحْوَالِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْدَهُ لَا مِنْ أَحْوَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الثَّانِيَةَ مُسْتَقِلَّةٌ لِاخْتِصَاصِ شَرْطِهَا بِحَالِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، فَقَدَّمَ الْجَوَابَ عَلَى شَرْطِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَمْ يَقْرِنِ الْجَوَابَ بِاللَّامِ الَّتِي يَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ لَوْلا بِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَى لَوْلا كُرِهَ قَرْنُهُ بِاللَّامِ قَبْلَ ذِكْرِ حَرْفِ الشَّرْطِ، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ بِجُمْلَةِ وَهَمَّ بِها وَاضِحًا. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يُخَالِطْهُ هَمٌّ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ بِمَا أَرَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُنْتُ أَقْرَأُ غَرِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَلَمَّا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ تَقْدِيمِ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرِ الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا. وَطَعَنَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ جَوَابَ لَوْلا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا. وَيَدْفَعُ هَذَا الطَّعْنَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَرَى مَنْعَ تَقْدِيمِ جَوَابِ لَوْلا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجْعَلُ الْمَذْكُورَ قَبْلَ لَوْلا دَلِيلًا لِلْجَوَابِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ لَوْلا عَلَيْهِ. وَلَا مَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّ لَوْلا وَشَرْطَهَا تَقْيِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَهَمَّ بِها عَلَى جَمِيعِ التَّأْوِيلَاتِ، فَمَا يُقَدَّرُ مِنَ الْجَوَابِ يُقَدَّرُ عَلَى جَمِيعِ التَّأْوِيلَاتِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَمَّ يُوسُفُ بِأَنْ يُجِيبَهَا لِمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ ثُمَّ ارْعَوى وَانْكَفَّ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَثَعْلَبٌ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ انْصَرَفَ عَمَّا هَمَّ بِهِ بِحِفْظِ اللَّهِ أَوْ بِعِصْمَتِهِ، وَالْهَمُّ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ الْكَفِّ عَنْ إِيقَاعِهَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ فَلَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى عِصْمَتَهُمْ مِنْهَا قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ،

وَفِيهِ خِلَافٌ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى يُوسُفَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَمَّ يُوسُفُ وَأَخَذَ فِي التَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ فَرَأَى بُرْهَانًا صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَدْ خَبَطَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي إِلْصَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِمَنْ يُسَمِّيهِمُ الْحَشْوِيَّةَ وَالْمُجَبِّرَةَ، وَهُوَ يَعْنِي الْأَشَاعِرَةَ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ أَسْمَاءِ مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ) وَلَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْ إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَتْلَهُ وَالْقَتْلُ أَشَدُّ. وَالرُّؤْيَةُ: هُنَا عِلْمِيَّةٌ لِأَنَّ الْبُرْهَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُرَى بِالْبَصَرِ. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ. وَهَذَا الْبُرْهَانُ مِنْ جُمْلَتِهِ صَرْفُهُ عَنِ الْهَمِّ بِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ حَالُ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْهَمِّ بِمُطَاوَعَتِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِتَوَفُّرِ دَوَاعِي الْهَمِّ مِنْ حُسْنِهَا، وَرَغْبَتِهَا فِيهِ، وَاغْتِبَاطِ أَمْثَالِهِ بِطَاعَتِهَا، وَالْقُرْبِ مِنْهَا، وَدَوَاعِي الشَّبَابِ الْمُسَوِّلَةِ لِذَلِكَ، فَكَانَ بُرْهَانُ اللَّهِ هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَمِّ بِهَا دُونَ شَيْءٍ آخَرَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَا هُوَ هَذَا الْبُرْهَانُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ نَظَرِيَّةٌ قَبَّحَتْ لَهُ هَذَا الْفِعْلَ، وَقِيلَ: هُوَ وَحْيٌ إِلَهِيٌّ، وَقِيلَ: حِفْظٌ إِلَهِيٌّ، وَقِيلَ: مُشَاهَدَاتٌ تَمَثَّلَتْ لَهُ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِلَى شَيْءٍ مَفْهُومٍ مِمَّا قبله بتضمنه قَوْلُهُ: رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، وَهُوَ رَأْيُ الْبُرْهَانِ، أَيْ أَرَيْنَاهُ كَذَلِكَ الرَّأْيِ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ. وَالصَّرْفُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْحِفْظِ مِنْ حُلُولِ الشَّيْءِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحِلَّ فِيهِ. عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْعِصْمَةِ مِنْ شَيْءٍ

يُوشِكُ أَنْ يُلَابِسَ شَيْئًا. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْعِصْمَةِ بِالصَّرْفِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ حُصُولِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمَا عَنْهُ. وَالسُّوءُ: الْقَبِيحُ، وَهُوَ خِيَانَةُ مَنِ ائْتَمَنَهُ. وَالْفَحْشَاءُ: الْمعْصِيَة، وَهِي الزِّنَى. وَتَقَدَّمَ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] . وَمَعْنَى صَرَفَهُمَا عَنْهُ صَرَفَ مُلَابَسَتَهُ إِيَّاهُمَا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تَعْلِيلٌ لِحِكْمَةِ صَرْفِهِ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ الصَّرْفَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لِئَلَّا يُنْتَقَصَ اصْطَفَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ الْمُخْلَصِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى مَعْنَى الْمُخْلِصِينَ دِينَهُمْ لِلَّهِ. وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَالِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى تَكَلُّفِهِمَا السَّبْقُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحَاوِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْبَابِ. وَانْتَصَبَ الْبابَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَأَصْلُهُ: وَاسْتَبَقَا إِلَى الْبَابِ، مِثْلَ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [سُورَة الْأَعْرَاف: 155] ، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبَقَا مَعْنَى ابْتَدَرَا. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْبَابَ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ إِذْ كَانَتْ عِدَّةَ أَبْوَابٍ مُغْلَقَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَرَّ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِلَى الْبَابِ يُرِيدُ فَتْحَهُ وَالْخُرُوجَ وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَهُ إِلَى الْبَابِ لِتَمْنَعَهُ مِنْ فَتْحِهِ. وَجُمْلَةُ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وقَدَّتْ أَيْ قَطَعَتْ، أَيْ قَطَعَتْ مِنْهُ قَدًّا، وَذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِبَاقِ لَا مَحَالَةَ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْزِيقُ الْقَمِيصِ فِي حَالِ الِاسْتِبَاقِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى صِدْقِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهَا رَاوَدَتْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ التَّمْزِيقُ فِي حَالِ الِاسْتِبَاقِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَبَقَهَا مُسْرِعًا إِلَى الْبَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَمْسَكَتْهُ مِنْ قَمِيصِهِ حِينَ أَعْرَضَ عَنْهَا تُرِيدُ

إِكْرَاهَهُ عَلَى مَا رَاوَدَتْهُ فَجَذَبَ نَفْسَهُ فَتَخَرَّقَ الْقَمِيصُ مِنْ شِدَّةِ الْجَذْبَةِ. وَكَانَ قَطْعُ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ لِأَنَّهُ كَانَ مُوَلِّيًا عَنْهَا مُعْرِضًا فَأَمْسَكَتْهُ مِنْهُ لِرَدِّهِ عَنْ إِعْرَاضِهِ. وَقَدْ أَبْدَعَ إِيجَازُ الْآيَةِ فِي جَمْعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَحْتَ جُمْلَةِ اسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ. وَصَادَفَ أَنْ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا، أَيْ زَوْجَهَا، وَهُوَ الْعَزِيزُ، عِنْدَ الْبَابِ الْخَارِجِيِّ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْبَابِ الْخَارِجِيِّ. وَإِطْلَاقُ السَّيِّدِ عَلَى الزَّوْجِ قِيلَ: إِنَّ الْقُرْآنَ حَكَى بِهِ عَادَةَ الْقِبْطِ حِينَئِذٍ، كَانُوا يَدْعُونَ الزَّوْجَ سَيِّدًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي عَادَةِ الْعَرَبِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ هُنَا مِنْ دَقَائِقِ التَّارِيخِ مِثْلَ قَوْلِهِ الْآتِي مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [سُورَة يُوسُف: 76] . وَلَعَلَّ الزَّوَاجَ فِي مِصْرَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ غَالِبًا. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَتَحَ الْأَبْوَابَ الَّتِي غَلَّقَتْهَا زَلِيخَا بَابًا بَابًا حَتَّى بَلَغَ الْخَارِجِيَّ، كُلُّ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِبَاقِهِمَا، وَهُوَ إِيجَازٌ. وَالْإِلْفَاءُ: وِجْدَانُ شَيْءٍ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ لِوِجْدَانِهِ، فَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ مُفَاجِئًا، أَوْ حَاصِلًا عَنْ جَهْلٍ بِأَوَّلِ حُصُولٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [سُورَة الْبَقَرَة: 170] . وَجُمْلَةُ قالَتْ مَا جَزاءُ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا، لِأَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ: مَاذَا حَدَثَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ سَيِّدِهَا وَهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَابْتَدَرَتْهُ بِالْكَلَامِ إِمْعَانًا فِي الْبُهْتَانِ بِحَيْثُ لَمْ تَتَلَعْثَمْ، تُخَيِّلُ لَهُ أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَفْرَغَتِ الْكَلَامَ فِي قَالَبٍ كُلِّيٍّ لِيَأْخُذَ صِيغَةَ الْقَانُونِ، وَلِيَكُونَ قَاعِدَةً لَا يُعْرَفُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَلَا يَسْعُ الْمُخَاطَبُ إِلَّا الْإِقْرَارَ لَهَا. وَلَعَلَّهَا كَانَتْ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَانِعَةً لَهُ مِنْ عِقَابِهِ، فَأَفْرَغَتْ كَلَامَهَا فِي قَالَبٍ كُلِّيٍّ. وَكَانَتْ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَشْعُرَ زَوْجُهَا بِأَنَّهَا تَهْوَى غَيْرَ سَيِّدِهَا، وَأَنْ تُخِيفَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ كَيْدِهَا لِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْهَا مَرَّةً أُخْرَى.

وَرَدَّدَتْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَيْنَ صِنْفَيْنِ مِنَ الْعِقَابِ، وَهُمَا: السِّجْنُ، أَيِ الْحَبْسُ. وَكَانَ الْحَبْسُ عِقَابًا قَدِيمًا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 29] . وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ أَنْوَاعٌ، وَهُوَ عِقَابٌ أَقْدَمُ فِي اصْطِلَاحِ الْبَشَرِ. وَمِنْهُ الضَّرْبُ وَالْإِيلَامُ بِالنَّارِ وَبِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ السِّجْنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِرَارًا. وَجُمْلَةُ قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ كَلَامِهَا. وَمُخَالَفَةُ التَّعْبِيرِ بَيْنَ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا السَّجْنُ أَوْ عَذَابٌ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّجْنِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَسْجُونُ وَيُطْلَقُ عَلَى مَصْدَرِ سَجَنَ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يُسْجَنَ أَوْضَحُ فِي تَسَلُّطِ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى خَبَرِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ يُفِيدُ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِلرَّدِّ عَلَيْهَا. وَكَانَ مَعَ الْعَزِيزِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ وَكَانَ فَطِنًا عَارِفًا بِوُجُوهِ الدَّلَالَةِ. وَسُمِّيَ قَوْلُهُ شَهَادَة لِأَنَّهُ يؤول إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ فِي إِثْبَاتِ اعْتِدَاءِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى سَيِّدَتِهِ أَوْ دَحْضِهِ. وَهَذَا مِنَ الْقَضَاءِ بِالْقَرِينَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمْسَكَتْ ثَوْبَهُ لِأَجْلِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ لِعِقَابِهِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِقْبَالِهِ لَهُ إِيَّاهَا فَإِذَا أَرَادَ الِانْفِلَاتَ مِنْهَا تَخَرَّقَ قَمِيصُهُ مِنْ قُبُلٍ، وَبِالْعَكْسِ إِنْ كَانَ إِمْسَاكُهُ فِي حَالِ فِرَارٍ وَإِعْرَاضٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَيْفِيَّةِ تَمْزِيقِ الْقَمِيصِ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وُقُوعُ تَمْزِيقِ الْقَمِيصِ تُحَاوِلُ أَنْ تَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَنَّهَا أَمْسَكَتْهُ لِتُعَاقِبَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا خَطَرَ بِبَالِ الشَّاهِد أَنَّ تَمْزِيقًا وَقَعَ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الشَّاهِدُ تَمْزِيقَ الْقَمِيصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّاهِدَ كَانَ يَظُنُّ صِدْقَهَا فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهَا فَوَقَعَ عَكْسُ ذَلِكَ كَرَامَةً لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَجُمْلَةُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ مُبَيِّنَةٌ لِفِعْلِ شَهِدَ. وَزِيَادَةُ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ بَعْدَ فَصَدَقَتْ، وَزِيَادَةُ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ بَعْدَ فَكَذَبَتْ تَأْكِيدٌ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحَقِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَحْكَامِ. وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنَ الرَّبْطِ وَالتَّسَبُّبِ بَيْنَ مَضْمُونِ شَرْطِهَا وَمَضْمُونِ جَوَابِهَا مِنْ دُونِ تَقْيِيدٍ بِاسْتِقْبَالٍ وَلَا مُضِيٍّ. فَمَعْنَى إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَمَا بَعْدَهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ حَصَلَ فِي الْمَاضِي فَقَدْ حَصَلَ صِدْقُهَا فِي الْمَاضِي. وَالَّذِي رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ، هُوَ الْعَزِيزُ لَا مَحَالَةَ. وَقَدِ اسْتَبَانَ لَدَيْهِ بَرَاءَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَاكْتَفَى بِلَوْمِ زَوْجِهِ بِأَنَّ ادِّعَاءَهَا عَلَيْهِ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ فَضَمِيرُ جَمْعِ الْإِنَاثِ خِطَابٌ لَهَا فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ هُنَّ مِنْ صِنْفِهَا بِتَنْزِيلِهِنَّ مَنْزِلَةَ الْحَوَاضِرِ. وَالْكَيْدُ: فِعْلُ شَيْءٍ فِي صُورَةٍ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَقْصُودٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [183] . ثُمَّ أَمَرَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا رَمَتْهُ بِهِ، أَيْ عَدَمُ مُؤَاخَذَتِهَا بِذَلِكَ، وَبِالْكَفِّ عَنْ إِعَادَةِ الْخَوْضِ فِيهِ. وَأَمَرَ زَوْجَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذَنْبِهَا، أَيْ فِي اتِّهَامِهَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْجُرْأَةِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ الْعَزِيزُ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ. وَقِيلَ: كَانَ حَلِيمًا عَاقِلًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ مُولَعًا بِهَا، أَوْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْمُلْكِ تُخَفِّفُ مُؤَاخَذَةَ الْمَرْأَةِ بِمُرَاوَدَةِ مَمْلُوكِهَا. وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَالُ مُرَاوَدَتِهَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ بَادَرَتْهُ بِقَوْلِهَا: هَيْتَ لَكَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

[سورة يوسف (12) : آية 30]

وَالْخَاطِئُ: فَاعِلُ الْخَطِيئَةِ، وَهِيَ الْجَرِيمَةُ. وَجَعَلَهَا مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ خَطِئُوا تَخْفِيفًا فِي مُؤَاخَذَتِهَا. وَصِيغَةُ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ تَغْلِيبٌ. وَجُمْلَةُ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ إِذْ هُوَ صَاحِبُ الْحُكْمِ. وَجُمْلَةُ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ عطف عَلَى جُمْلَةِ يُوسُفُ أَعْرِضْ فِي كَلَامِ الْعَزِيزِ عَطْفُ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ وَالْمَأْمُورُ مُخْتَلِفٌ. وَكَافُ الْمُؤَنَّثَةِ الْمُخَاطَبَةِ مُتَعَيِّنٌ أَنَّهُ خِطَابٌ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَالْعَزِيزُ بَعْدَ أَنْ خَاطَبَهَا بِأَنَّ مَا دَبَّرَتْهُ هُوَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنِّدَاءِ ثُمَّ أَعَادَ الْخِطَابَ إِلَى الْمَرْأَةِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الْخِطَابِ يُسَمَّى بِالْإِقْبَالِ، وَقَدْ يُسَمَّى بِالِالْتِفَاتِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ عِنْدَ الِالْتِفَاتِ الْبَلَاغِيِّ، وَهُوَ عَزِيزٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَرْمِيِّ مِنْ طَيٍّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: إِخَالُكَ مُوعِدِي بِبُنِّيٍّ جُفَيْفٍ ... وَهَالَةَ إِنَّنِي أَنْهَاكِ هَالَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» : وَالْعَرَبُ تَجْمَعُ فِي الْخِطَابِ وَالْإِخْبَارِ بَيْنَ عِدَّةٍ ثُمَّ تُقْبِلُ أَوْ تَلْتَفِتُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى وَاحِدٍ لِكَوْنِهِ أَكْبَرَهُمْ أَوْ أَحْسَنَهُمْ سَمَاعًا وأخصّهم بِالْحَال. [30] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 30] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) النِّسْوَةُ: اسْمُ جَمْعِ امْرَأَةٍ لَا مُفْرَدَ لَهُ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ قِلَّةٍ مِثْلُهُ نِسَاءٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [61] . وَقَوْلُهُ: فِي الْمَدِينَةِ صِفَةٌ لِنِسْوَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهُنَّ كُنَّ مُتَفَرِّقَاتٍ فِي دِيَارٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ هِيَ قَاعِدَةُ مِصْرَ السُّفْلَىِِ

وَهِيَ مَدِينَةُ (مَنْفِيسَ) حَيْثُ كَانَ قَصْرُ الْعَزِيزِ، فَنُقِلَ الْخَبَرُ فِي بُيُوتِ الْمُتَّصِلِينَ بِبَيْتِ الْعَزِيزِ. وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ بَاحَتْ بِالسِّرِّ لِبَعْضِ خَلَائِلِهَا فَأَفْشَيْنَهُ كَأَنَّهَا أَرَادَتِ التَّشَاوُرَ مَعَهُنَّ، أَوْ أَرَادَتِ الِارْتِيَاحَ بِالْحَدِيثِ إِلَيْهِنَّ (وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ) . وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [سُورَة يُوسُف: 31] وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ [سُورَة يُوسُف: 32] . وَالْفَتَى: الَّذِي فِي سِنِّ الشَّبَابِ، وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَعَنِ الْخَادِمِ كَمَا يُكَنَّى بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضمير امْرَأَتُ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ غُلَامُ زَوْجِهَا فَهُوَ غُلَامٌ لَهَا بِالتَّبَعِ مَا دَامَتْ زَوْجَةٌ لِمَالِكِهِ. وَشَغَفَ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ، وَهُوَ الشِّغَافُ- بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ- وَهُوَ غِلَافُ الْقَلْبِ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِثْلَ كَبَدَهُ وَرَآهُ وَجَبَهَهُ، إِذَا أَصَابَ كَبِدَهُ وَرِئَتَهُ وَجَبْهَتَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي شَغَفَها لِ فَتاها. وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ جِيءَ بِالتَّمْيِيزِ لِلنِّسْبَةِ بِقَوْلِهِ: حُبًّا. وَأَصْلُهُ شَغَفَهَا حُبُّهُ، أَيْ أَصَابَ حُبُّهُ شِغَافَهَا، أَيِ اخْتَرَقَ الشَّغَافَ فَبَلَغَ الْقَلْبَ، كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ. وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ فِي وَقالَ نِسْوَةٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ إِلَى أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ غَيْرُ الْجَمْعِ الْمُذَكِّرِ السَّالِمِ يَجُوزُ تَجْرِيدُهُ مِنَ التَّاءِ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ، وَقَرْنُهُ بِالتَّاءِ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ مِثْلَ وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ [سُورَة يُوسُف: 19] . وَأَمَّا الْهَاءُ الَّتِي فِي آخِرِ نِسْوَةٌ فَلَيْسَتْ عَلَامَةَ تَأْنِيثٍ بَلْ هِيَ هَاءُ فِعْلَةٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، مِثْلَ صِبْيَةٍ وَغَلِمَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الَّذِي اشْتَرَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِاسْمِ الْعَزِيزِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ [سُورَة يُوسُف: 21] . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ اسْمِهِ وَاسْمِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَفِي الْعِبْرَانِيَّةِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 31 إلى 32]

وَمَجِيءُ تُراوِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ كَوْنِ الْمُرَاوَدَةِ مَضَتْ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ لِقَصْدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهَا فِي أَنْفُسِهِنَّ وَلَوْمِهَا عَلَى صَنِيعِهَا. وَنَظِيرُهُ فِي اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [سُورَة هود: 74] . وَجُمْلَةُ قَدْ شَغَفَها حُبًّا فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ تُراوِدُ فَتاها. وَجُمْلَةُ إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِظْهَارِ اللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهَا. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ اعْتِقَادِهِنَّ ذَلِكَ، وَإِبْعَادًا لِتُهْمَتِهِنَّ بِأَنَّهُنَّ يَحْسُدْنَهَا عَلَى ذَلِكَ الْفَتَى. وَالضَّلَالُ هُنَا: مُخَالَفَةُ طَرِيقِ الصَّوَابِ، أَيْ هِيَ مَفْتُونَةُ الْعَقْلِ بِحُبِّ هَذَا الْفَتَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الضَّلَالَ الدِّينِيَّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سُورَة يُوسُف: 8] . [31، 32] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 31 إِلَى 32] فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) حَقُّ سَمِعَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَسْمُوعِ بِنَفْسِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ هُنَا إِمَّا لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى أُخْبِرَتْ، كَقَوْلِ الْمَثَلِ: «تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ تُخْبَرُ عَنْهُ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مَزِيدَةً لِلتَّوْكِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 6] .

وَأَطْلَقَ عَلَى كَلَامِهِنَّ اسْمَ الْمَكْرِ، قِيلَ: لِأَنَّهُنَّ أَرَدْنَ بِذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْلُهُنَّ إِلَيْهِا فَيُغْرِيَهَا بِعَرْضِهَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِنَّ فَيَرَيْنَ جَمَالَهُ لِأَنَّهُنَّ أَحْبَبْنَ أَنْ يَرَيْنَهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُنَّ قُلْنَهُ خُفْيَةً فَأَشْبَهَ الْمَكْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى قَوْلِهِنَّ اسْمُ الْمَكْرِ لِأَنَّهُنَّ قُلْنَهُ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ وَهُنَّ يُضْمِرْنَ حَسَدَهَا عَلَى اقْتِنَاءِ مِثْلِهِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّغَفُ بِالْعَبْدِ فِي عَادَتِهِمْ غَيْرَ مُنْكَرٍ. وَأَعْتَدَتْ: أَصْلُهُ أَعْدَدَتْ، أُبْدِلَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [37] . وَالْمُتَّكَأُ: مَحَلُّ الِاتِّكَاءِ. وَالِاتِّكَاءُ: جَلْسَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْجَنْبِ مَعَ انْتِصَابٍ قَلِيل فِي النصب الْأَعْلَى. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاتِّكَاءُ إِذَا أُرِيدَ إِطَالَةُ الْمُكْثِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، أَيْ أَحْضَرَتْ لَهُنَّ نَمَارِقَ يَتَّكِئْنَ عَلَيْهَا لِتَنَاوُلِ طَعَامٍ. وَكَانَ أَهْلُ التَّرَفِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَمَا كَانَتْ عَادَةً لِلرُّومَانِ، وَلَمْ تَزَلْ أَسِرَّةُ اتِّكَائِهِمْ مَوْجُودَةً فِي دِيَارِ الْآثَار. وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» . وَمَعْنَى آتَتْ أَمَرَتْ خَدَمَهَا بِالْإِيتَاءِ كَقَوْلِهِ: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [سُورَة غَافِر: 36] . وَالسِّكِّينُ: آلَةُ قَطْعِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: أَحْضَرَتْ لَهُنَّ أُتْرُجًّا وَمَوْزًا فَحَضَرْنَ وَاتَّكَأْنَ، وَقَدْ حَذَفَ هَذَانِ الْفِعْلَانِ إِيجَازًا. وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ سِكِّينًا لِقَشْرِ الثِّمَارِ. وَقَوْلُهُا: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا. وَعُدِّيَ فِعْلُ الْخُرُوجِ بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّهُ ضُمًّنَ مَعْنَى (ادْخُلْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دُخُولُهُ عَلَيْهِنَّ لَا مُجَرَّدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَمَعْنَى أَكْبَرْنَهُ أَعْظَمْنَهُ، أَيْ أَعَظَمْنَ جَمَالَهُ وَشَمَائِلَهُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْعَدِّ، أَيْ أَعْدَدْنَهُ كَبِيرًا، وَأُطْلِقَ الْكِبَرُ عَلَى عَظِيمِ الصِّفَاتِ تَشْبِيهًا لِوَفْرَةِ الصِّفَاتِ بِعِظَمِ الذَّاتِ.

وَتَقْطِيعُ أَيْدِيَهُنَّ كَانَ مِنَ الذُّهُولِ، أَيْ أَجْرَيْنَ السَّكَاكِينَ عَلَى أَيْدِيهِنَّ يَحْسَبْنَ أَنَّهُنَّ يَقْطَعْنَ الْفَوَاكِهَ. وَأُرِيدَ بِالْقَطْعِ الْجَرْحُ، أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ مَجَازًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَطَعَ قِطْعَةً مِنْ لَحْمِ الْيَدِ. وحاشَ لِلَّهِ تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ يُرَادُ مِنْهُ إِبْطَالُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَبَرَاءَتُهُ مِنْهُ. وَأَصْلُ (حَاشَا) فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْحَرْفِ فَيُجَرُّ بِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيُقْتَصِرُ عَلَيْهِ تَارَةً. وَقَدْ يُوصَلُ بِهِ اسْمُ الْجَلَالَةِ فَيَصِيرُ كَالْيَمِينِ عَلَى النَّفْيِ يُقَالُ: حَاشَا اللَّهَ، أَيْ أُحَاشِيَهُ عَنْ أَنْ يَكْذِبَ، كَمَا يُقَالُ: لَا أُقْسِمُ. وَقَدْ تُزَادُ فِيهِ لَامُ الْجَرِّ فَيُقَالُ: حَاشَا لِلَّهِ وَحَاشَ لِلَّهِ، بِحَذْفِ الْأَلِفِ، أَيْ حَاشَا لِأَجْلِهِ، أَيْ لِخَوْفِهِ أَنْ أَكْذِبَ. حُكِيَ بِهَذَا التَّرْكِيبِ كَلَامٌ قَالَتْهُ النِّسْوَةُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي لُغَةِ الْقِبْطِ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «حَاشَا لِلَّهِ» بِإِثْبَاتِ أَلْفِ حَاشَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةَ بِحَذْفِهَا فِيهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى الْحَذْفِ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ. وَقَوْلُهُنَّ: مَا هَذَا بَشَراً مُبَالَغَةٌ فِي فَوْتِهِ مَحَاسِنَ الْبَشَرِ، فَمَعْنَاهُ التَّفْضِيلُ فِي مَحَاسِنِ الْبَشَرِ، وَهُوَ ضِدُّ مَعْنَى التَّشَابُهِ فِي بَابِ التَّشْبِيهِ. ثُمَّ شَبَّهْنَهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقَةِ حَصْرِهِ فِي جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا مُؤَكَّدًا. وَكَانَ الْقِبْطُ يَعْتَقِدُونَ وُجُودَ مَوْجُودَاتٍ عُلْوِيَّةٍ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْآلِهَةِ أَوْ قُضَاةِ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَيَجْعَلُونَ لَهَا صُوَرًا، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَتَوَخَّوْنَ أَنْ تَكُونَ ذَوَاتًا حَسَنَةً. وَمِنْهَا مَا هِيَ مُدَافِعَةٌ عَنِ الْمَيِّتِ يَوْمَ الْجَزَاءِ. فَأَطْلَقَ فِي الْآيَةِ اسْمَ الْمَلَكِ عَلَى مَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ مُمَاثِلَةً لِحَقِيقَةِ مُسَمَّى الْمَلَكِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِ السَّامِعِينَ. فَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمُتَخَيَّلِ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمَسْنُونَةُ زُرْقٍ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ

وَالْفَاءُ فِي فَذلِكُنَّ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا كَمَا زَعَمْتُنَّ مَلَكًا فَهُوَ الَّذِي بَلَغَكُنَّ خَبَرُهُ فَلُمْتُنَّنِي فِيهِ. ولُمْتُنَّنِي فِيهِ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ، مِثْلَ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» . وَهُنَالِكَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي شَأْنِهِ أَوْ فِي مَحَبَّتِهِ. وَالْإِشَارَةُ بِ (ذَلِكُنَّ) لِتَمْيِيزِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، إِذْ كُنَّ لَمْ يَرَيْنَهُ قَبْلُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِعَدَمِ عِلْمِ النِّسْوَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مُعَرِّفَاتِهِ غَيْرَ تِلْكَ الصِّلَةِ، وَقَدْ بَاحَتْ لَهُنَّ بِأَنَّهَا رَاوَدَتْهُ لِأَنَّهَا رَأَتْ مِنْهُنَّ الافتتان بِهِ فَعَلِمَتْ أَنَّهُنَّ قَدْ عَذَرْنَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُنَّ كُنَّ خَلَائِلَ لَهَا فَلَمْ تَكْتُمْ عَنْهُنَّ أَمْرَهَا. وَاسْتَعْصَمَ: مُبَالَغَةٌ فِي عَصَمَ نَفْسَهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلَ: اسْتَمْسَكَ وَاسْتَجْمَعَ الرَّأْيَ وَاسْتَجَابَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ امْتَنَعَ امْتِنَاعَ مَعْصُومٍ، أَيْ جَاعِلًا الْمُرَاوَدَةَ خَطِيئَةً عَصَمَ نَفْسَهُ مِنْهَا. وَلَمْ تَزَلْ مُصَمِّمَةً عَلَى مُرَاوَدَتِهِ تَصْرِيحًا بِفَرْطِ حُبِّهَا إِيَّاهُ، وَاسْتِشْمَاخًا بِعَظَمَتِهَا، وَأَنْ لَا يَعْصِيَ أَمْرَهَا، فَأَكَّدَتْ حُصُولَ سِجْنِهِ بِنُونَيِ التَّوْكِيدِ، وَقَدْ قَالَتْ ذَلِكَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُ إِرْهَابًا لَهُ. وَحُذِفَ عَائِدُ صِلَةِ مَا آمُرُهُ وَهُوَ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ بِالْبَاءِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ مِثْلَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ ... وَالسَّجْنُ- بِفَتْحِ السِّينِ-: قِيَاسُ مَصْدَرِ سَجَنَهُ، بِمَعْنَى الْحَبْسِ فِي مَكَانٍ مُحِيطٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَلَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِهِمْ- بِفَتْحِ السِّينِ- إِلَّا فِي قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالسِّجْنُ- بِكَسْرِ السِّينِ-: اسْمٌ لِلْبَيْتِ الَّذِي يُسْجَنُ فِيهِ، كَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ كَالذَّبْحِ وَأَرَادُوا الْمَسْجُونَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُا آنِفًا: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سُورَة يُوسُف: 25] . وَالصَّاغِرُ: الذَّلِيلُ. وَتَرْكِيبُ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَقْوَى فِي مَعْنَى الْوَصْفِ بِالصَّغَارِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَلَيَكُونَنَّ صَاغِرًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة يوسف (12) : الآيات 33 إلى 34]

قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] ، وَقَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ [119] . وَإِعْدَادُ الْمُتَّكَأِ لَهُنَّ، وَبَوْحُهَا بِسِرِّهَا لَهُنَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ من خلائلها. [33، 34] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 33 إِلَى 34] قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ مَا حُكِيَ قَبْلَهُ مَقَامُ شِدَّةٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْأَلَ سَامِعُهُ عَنْ حَالِ تَلَقِّي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيهِ لِكَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُنَاجَاةٌ لِرَبِّهِ الَّذِي هُوَ شَاهِدُهُمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي نَفْسِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَهَرَ بِهِ فِي مَلَئِهِنَّ تَأْيِيسًا لَهُنَّ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَأْمُرُهُ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «السِّجْنُ» - بِكَسْرِ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ السِّينِ- عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ إِنَّ السَّجْنَ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَفَضَّلَ السَّجْنَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ وَالشِّدَّةِ وَضِيقِ النَّفَسِ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْأَةِ الْحَسَنَةِ النَّفِيسَةِ عَلَى مَا فِيهِ منا للذة وَلَكِنَّ كُرْهَهُ لِفِعْلِ الْحَرَامِ فَضُلَ عِنْدَهُ مُقَاسَاةُ السِّجْنِ. فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ صَارَ السَّجْنُ مَحْبُوبًا إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَهِيَ مَحَبَّةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ مُلَاءَمَةِ الْفِكْرِ، كَمَحَبَّةِ الشُّجَاعِ الْحَرْبَ. فَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ السِّجْنَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْأَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الرِّضَى بِالسِّجْنِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مَحَارِمِهِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي إِخْبَارِ مَنْ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِهِ فَاسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا دَاعِيَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِمَسْلُوبِ الْمُفَاضَلَةِ.

وَعَبَّرَ عَمَّا عَرَضَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَوْنِ الْمَطْلُوبِ حَالَةً هِيَ مَظَنَّةُ الطَّوَاعِيَةِ، لِأَنْ تُمَالِئَ النَّاسُ عَلَى طَلَبِ الشَّيْءِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ لِلْفِعْلِ، فَأَظْهَرَ أَنَّ تَمَالُئَهُنَّ عَلَى طَلَبِهِنَّ مِنْهُ امْتِثَالُ أَمْرِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَفُلَّ مِنْ صَارِمِ عَزْمِهِ عَلَى الْمُمَانَعَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِسُؤَالِ الْعِصْمَةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَرَكِ كَيْدِهِنَّ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الرِّضَى بِوَعِيدِهَا إِلَى سُؤَالِ الْعِصْمَةِ مِنْ كَيْدِهَا. وَأَسْنَدَ فِعْلَ يَدْعُونَنِي إِلَى نُونِ النِّسْوَةِ، فَالْوَاوُ الَّذِي فِيهِ هُوَ حَرْفٌ أَصْلِيٌّ وَلَيْسَتْ وَاوُ الْجَمَاعَةِ، وَالنُّونُ لَيْسَتْ نُونُ رَفْعٍ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ النِّسْوَةِ، وَوَزْنُهُ يَفْعَلْنَ. وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الَّتِي دَعَتْهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، إِمَّا لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ مِنْ رَغَبَاتِ صِنْفِ النِّسَاءِ فَيَكُونُ عَلَى وَزَانِ جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي كَيْدَهُنَّ، وَإِمَّا لِأَنَّ النِّسْوَةَ اللَّاتِي جَمَعَتْهُنَّ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ لَمَّا سَمِعْنَ كَلَامَهَا تَمَالَأْنَ عَلَى لَوْمِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَحْرِيضِهِ عَلَى إِجَابَةِ الدَّاعِيَةِ، وَتَحْذِيرِهِ مِنْ وَعِيدِهَا بِالسِّجْنِ. وَعَلَى وَزَانِ هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِي جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي كَيْدَهُنَّ [سُورَة يُوسُف: 28] أَيْ كَيْدَ صِنْفِ النِّسَاءِ، مِثْلَ قَوْلِ الْعَزِيزِ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، أَيْ كَيْدَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ. وَجُمْلَةُ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخَوُّفِ وَالتَّوَقُّعِ الْتِجَاءً إِلَى اللَّهِ وَمُلَازَمَةً لِلْأَدَبِ نَحْوَ رَبِّهِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ تُقَلُّبِ الْقَلْبِ وَمِنَ الْفِتْنَةِ بِالْمَيْلِ إِلَى اللَّذَّةِ الْحَرَامِ. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَنْهُ جُمْلَةَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ. وَمَعْنَى أَصْبُ أَمِلْ. وَالصَّبْوُ: الْمَيْلُ إِلَى الْمَحْبُوبِ. وَالْجَاهِلُونَ: سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، فَالْجَهْلُ هُنَا مُقَابِلُ الْحِلْمِ. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ مُبَالَغَةَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَكُنْ جَاهِلًا كالقول فِي وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [سُورَة يُوسُف: 32] .

[سورة يوسف (12) : آية 35]

وَعَطْفُ جُمْلَةِ فَاسْتَجابَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَجَّلَ إِجَابَةَ دُعَائِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ. وَاسْتَجَابَ: مُبَالَغَةٌ فِي أَجَابَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله: فَاسْتَعْصَمَ [سُورَة يُوسُف: 32] . وَصَرْفُ كَيْدِهِنَّ عَنْهُ صَرْفُ أَثَرِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ ثَبَّتَهُ عَلَى الْعِصْمَةِ فَلَمْ يَنْخَدِعْ لِكَيْدِهَا وَلَا لِكَيْدِ خَلَائِلِهَا فِي أَضْيَقِ الْأَوْقَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فِي مَوْضِعِ الْعلَّة ل فَاسْتَجابَ الْمَعْطُوفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، أَيْ أَجَابَ دُعَاءَهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْإِجَابَةِ وَعَلِيمٌ بِالضَّمَائِرِ الْخَالِصَةِ. فَالسَّمْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ، يُقَالُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَتَأْكِيدُهُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَحْقِيقِ ذَلِك الْمَعْنى. [35] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 35] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) ثُمَّ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ فَإِنَّ مَا بَدَا لَهُمْ أَعْجَبُ بَعْدَ مَا تَحَقَّقَتْ بَرَاءَتُهُ. وَإِنَّمَا بَدَا لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ شَاعَتِ الْقَالَةُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي شَأْنِهِ فَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ انْصِرَافِ النِّسْوَةِ لِأَنَّهَا خَشِيَتْ إِنْ هُنَّ انْصَرَفْنَ أَنْ تَشِيعَ الْقَالَةُ فِي شَأْنِهَا وَشَأْنِ بَرَاءَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَرَامَتْ أَنْ تُغَطِّيَ ذَلِكَ بِسِجْنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْمُجْرِمِينَ بِإِرَادَتِهِ السُّوءَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَهِيَ تَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى تَطْوِيعِهِ لَهَا. وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تُوهِمَ النَّاسَ بِأَنَّ مُرَاوَدَتَهُ إِيَّاهَا وَقَعَتْ يَوْمَ ذَلِكَ الْمَجْمَعِ، وَأَنْ تُوهِمَ أَنَّهُنَّ شَوَاهِدُ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ لِجَمَاعَةِ الْعَزِيزِ مِنْ مُشِيرٍ وَآمِرٍ. وَجُمْلَةُ لَيَسْجُنُنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مُعَلِّقَةُ فِعْلَ بَدا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهُ لِأَجْلِ لَامِ الْقَسَمِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَفِيهِ

[سورة يوسف (12) : آية 36]

دَلِيلٌ لِلْمَعْمُولِ الْمَحْذُوفِ إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَخْتَصُّ بِأَفْعَالِ الظَّنِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّعْلِيقِ وُجُودُ أَدَاةٍ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: بَدَا لَهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَسَمُ، أَيْ بَدَا لَهُمْ تَأْكِيدُ أَنْ يَسْجُنُوهُ. وَذَكَرَ فِي «الْمُغْنِي» فِي آخِرِ الْجُمَلِ الَّتِي لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ: وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي الْفَاعِلِ وَنَائِبِ الْفَاعِلِ، هَلْ يَكُونُ جُمْلَةً؟ فَأَجَازَهُ هِشَامُ وَثَعْلَبٌ مُطْلَقًا، وَأَجَازَهُ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ قَلْبِيًّا وَوُجِدَ مُعَلَّقٌ، وَحَمَلُوا الْآيَةَ عَلَيْهِ، وَنُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهٍ. وَهُوَ يؤول إِلَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَالتَّعْلِيقُ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى. وَالْحِينُ: زَمَنٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، فَإِنْ كَانَ حَتَّى حِينٍ مِنْ كَلَامِهِمْ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِسَجْنِهِ سَجْنًا غَيْرَ مُؤَجَّلِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحِكَايَةِ كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ أَبْهَمَ الْمُدَّةَ الَّتِي أَذِنُوا بِسِجْنِهِ إِلَيْهَا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ فِيهَا الْغَرَضُ مِنَ الْقِصَّةِ. وَالْآيَاتُ: دَلَائِلُ صِدْقِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكَذِبِ امْرَأَة الْعَزِيز. [36] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 36] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) اتَّفَقَ جَمِيعُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ سِينِ السِّجْنَ هُنَا بِمَعْنَى الْبَيْتِ الَّذِي يُسْجَنُ فِيهِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِالْمَكَانِ لَا بِالْمَصْدَرِ. وَهَذَانَ الْفَتَيَانِ هُمَا سَاقَيِ الْمَلِكِ وَخَبَّازُهُ غَضِبَ عَلَيْهِمَا الْمَلِكُ فَأَمَرَ بِسَجْنِهِمَا. قِيلَ: اتُّهِمَا بِتَسْمِيمِ الْمَلِكِ فِي الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ. وَجُمْلَةُ قالَ أَحَدُهُما ابْتِدَاءُ مُحَاوَرَةٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْقَوْلِ.

وَكَانَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مِنْ فُنُونِ عُلَمَائِهِمْ فَلِذَلِكَ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَيْنَهُمْ. وَهَذَانَ الْفَتَيَانِ تَوَسَّمَا مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَالَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فَظَنَّا أَنَّهُ يُحْسِنُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا وَلَمْ يَكُونَا عَلِمَا مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ صَادَفَا الصَّوَابَ، وَلِذَلِكَ قَالَا: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، أَيِ الْمُحْسِنِينَ التَّعْبِيرَ، أَوِ الْمُحْسِنِينَ الْفَهْمَ. وَالْإِحْسَانُ: الْإِتْقَانُ، يُقَالُ: هُوَ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، أَيْ لَا يُتْقِنُهَا. وَمِنْ عَادَةِ الْمَسَاجِينِ حِكَايَةُ الْمَرَائِي الَّتِي يَرَوْنَهَا، لِفِقْدَانِهِمُ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ، وَلِأَنَّهُمْ يَتَفَاءَلُونَ بِمَا عَسَى أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِالْخَلَاصِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَانَ عِلْمُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَشْتَغِلُ بِهَا كَهَنَةُ الْمِصْرِيِّينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مَلِكِ مِصْرَ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [سُورَة يُوسُف: 43] كَمَا سَيَأْتِي. وَالْعَصْرُ: الضَّغْطُ بِالْيَدِ أَوْ بِحَجْرٍ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى شَيْءٍ فِيهِ رُطُوبَةٌ لِإِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ زَيْتٍ أَوْ مَاءٍ. وَالْعَصِيرُ: مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْمَعْصُورِ سُمِّيَ بِاسْمِ مَحَلِّهِ، أَيْ مَعْصُورٍ مِنْ كَذَا. وَالْخُبْزُ: اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ أَوْ نَحْوِهِمَا يُعْجَنُ بِالْمَاءِ وَيُوضَعُ قُرْبَ النَّارِ حَتَّى يَنْضُجَ لِيُؤْكَلَ، وَيُسَمَّى رَغِيفًا أَيْضًا. وَالضَّمِيرُ فِي بِتَأْوِيلِهِ لِلْمَذْكُورِ، أَوْ لِلْمَرْئِيِّ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 37 إلى 38]

وَجُمْلَةُ إِنَّا نَراكَ تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَفَادِ من نَبِّئْنا. [37، 38] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 37 إِلَى 38] قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) جُمْلَةُ قالَ لَا يَأْتِيكُما جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمَا فَفُصِّلَتْ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ جُمَلِ التَّحَاوُرِ. أَرَادَ بِهَذَا الْجَواب أَن يفترص إِقْبَالَهُمَا عَلَيْهِ وَمُلَازِمَةَ الْحَدِيثِ مَعَهُ إِذْ هُمَا يَتَرَقَّبَانِ تَعْبِيرَهُ الرُّؤْيَا فَيُدْمَجُ فِي ذَلِكَ دَعَوْتُهُمَا إِلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مَعَ الْوَعْدِ بِأَنَّهُ يَعْبُرُ لَهُمَا رُؤْيَاهُمَا غَيْرَ بَعِيدٍ، وَجَعَلَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا لَهُمْ، وَهُوَ وَقْتُ إِحْضَارِ طَعَامِ الْمَسَاجِينِ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ فِي السِّجْنِ حَوَادِثُ يُوَقِّتُونَ بِهَا، وَلِأَنَّ انْطِبَاقَ الْأَبْوَابِ وَإِحَاطَةَ الْجُدْرَانِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِلَّا حَوَادِثُ أَحْوَالِهِمْ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ هُبُوبٍ مِنْهُ. وَيُظْهِرُ أَنَّ أَمَدَ إِتْيَانِ الطَّعَامِ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما مِنْ تَعْجِيلِهِ لَهُمَا تَأْوِيلَ رُؤْيَاهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَتَرَيَّثُ فِي ذَلِكَ. وَوَصْفُ الطَّعَامِ بِجُمْلَةِ تُرْزَقانِهِ تَصْرِيحٌ بِالضَّبْطِ بِأَنَّهُ طَعَامٌ مَعْلُومُ الْوَقْتِ لَا تَرَقُّبَ طَعَامٍ يُهْدَى لَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَنْضَبِطُ حُصُولُهُ.

وَحَقِيقَةُ الرِّزْقِ: مَا بِهِ النَّفْعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [سُورَة آل عمرَان: 37] أَيْ طَعَامًا، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [50] أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [سُورَة مَرْيَم: 62] . وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْمُتَعَارَفِ كَقَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ [سُورَة النِّسَاء: 5] . وَمِنْ هُنَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَطَاءِ الْمُوَقَّتِ، يُقَالُ: كَانَ بَنُو فُلَانٍ مِنْ مُرْتَزِقَةِ الْجُنْدِ، وَرِزْقُ الْجُنْدِ كَذَا كُلَّ يَوْمٍ. وَضَمِيرُ بِتَأْوِيلِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير بِتَأْوِيلِهِ [سُورَة يُوسُف: 36] الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَرْئِيُّ أَوِ الْمَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ إِلَى طَعَامٍ إِذْ لَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُ التَّأْوِيلِ عَنِ الْأَنْبَاءِ بِأَسْمَاءِ أَصْنَافِ الطَّعَامِ خِلَافًا لِمَا سَلَكَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُنَاسِبُ الْغَرَضَ، وَهِيَ حَالُ الْإِنْبَاءِ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَحَالُ عَدَمِهِ، أَيْ لَا يَأْتِي الطَّعَامُ الْمُعْتَادُ إِلَّا فِي حَالِ أَنِّي قَدْ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِ رُؤْيَاكُمَا، أَيْ لَا فِي حَالِ عَدَمِهِ. فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِضَافِيٌّ. وَجُرِّدَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ (وَقَدْ) مَعَ أَنَّهَا مَاضِيَةٌ اكْتِفَاءً بِرَبْطِ الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ [سُورَة التَّوْبَة: 121] . وَجُمْلَةُ ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ وَعْدَهُ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ يُثِيرُ عَجَبَ السَّائِلِينَ عَنْ قُوَّةِ عِلْمِهِ وَعَنِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا هَذَا الْعِلْمُ، فَيُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَخَلُّصًا إِلَى دَعْوَتِهِمَا لِلْإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ الْقِبْطُ مُشْرِكِينَ يَدِينُونَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِيذَانٌ بِأَنَّهُ عَلَّمَهُ عُلُومًا أُخْرَى، وَهِيَ عُلُومُ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالِاقْتِصَادِ وَالْأَمَانَةِ كَمَا قَالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [سُورَة يُوسُف: 55] . وَزَادَ فِي الِاسْتِينَافِ الْبَيَانِيِّ جُمْلَةَ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ التَّأْوِيلَ وَعُلُومًا أُخْرَى مِمَّا يُثِيرُ السُّؤَالَ عَنْ وَسِيلَةِ

حُصُولِ هَذَا الْعِلْمِ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّ سَبَبَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ أَنَّهُ انْفَرَدَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَرَكَ مِلَّةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَرَادَ الله اخْتِيَاره لديهم، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلًا. وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [161] . وَأَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مَا يَشْمَلُ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ وَالْقِبْطَ الَّذِينَ شَبَّ بَيْنَهُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [سُورَة يُوسُف: 39] ، أَوْ أَرَادَ الْكَنْعَانِيِّينَ خَاصَّةً، وَهُمُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ تَعْرِيضًا بِالْقِبْطِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ. وَأَرَادَ بِهَذَا أَنْ لَا يُوَاجِهَهُمْ بِالتَّشْنِيعِ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُورِهِمْ مِنْ مَوْعِظَتِهِ. وَزِيَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ كافِرُونَ أَرَادَ بِهِ تَخْصِيصَ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ مِثْلَ كُفَّارِ الْعَرَبِ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ الْقِبْطِ لِأَنَّ الْقِبْطَ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانُوا يُثْبِتُونَ بَعْثَ الْأَرْوَاحِ وَالْجَزَاءِ. وَالتَّرْكُ: عَدَمُ الْأَخْذِ لِلشَّيْءِ مَعَ إِمْكَانِهِ. أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ مِلَّةَ الْقِبْطِ مَعَ حُلُولِهِ بَيْنَهُمْ، وَكَوْنُ مَوْلَاهُ مُتَدَيِّنًا بِهَا. وَذَكَرَ آبَاءَهُ تَعْلِيمًا بِفَضْلِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِسَابِقِيَّةِ الصَّلَاحِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُتَسَلْسِلٌ مِنْ آبَائِهِ، وَقَدْ عَقَلَهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ ثُمَّ تَأَيَّدَ بِمَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ الشَّرَفُ الْعِظَامِيُّ وَالشَّرَفُ الْعِصَامِيُّ. وَلذَلِك قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَكْرَمِ النَّاسِ: «يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بن إِبْرَاهِيم نبيء ابْن نبيء ابْن نبيء ابْن نبيء» . وَمِثْلَ هَذِهِ السلسلة فِي النبوءة لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ غَيْرَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالنُّبُوءَةِ أَكْمَلَهَا وَهُوَ الرِّسَالَةُ، أَوْ إِذَا كَانَ إِخْوَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرَ أَنْبِيَاءٍ عَلَى رَأْيِ فَرِيقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَأَرَادَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ آبَائِهِ اتِّبَاعَهَا فِي أُصُولِهَا قَبْلَ أَن يعْطى النبوءة إِذَا كَانَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى آبَائِهِ مِنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالِاقْتِصَادِ أَوْ أَنَّ نُبُوءَتَهُ كَانَتْ بِوَحْيٍ مِثْلَ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى آبَائِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً- إِلَى قَوْلِهِ- أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سُورَة الشورى: 13] . وَذِكْرُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي الْحَقِّ يَزِيدُ دَلِيلَ الْحَقِّ تَمَكُّنًا، وَذِكْرُ ضِدِّهِمْ فِي الْبَاطِلِ لِقَصْدِ عَدَمِ الْحُجَّةِ بِهِمْ بِمُجَرَّدِهِمْ. كَمَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [سُورَة يُوسُف: 40] . وَجُمْلَةُ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي قُوَّةِ الْبَيَانِ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي مِنْ كَوْنِ التَّوْحِيدِ صَارَ كَالسَّجِيَّةِ لَهُمْ عرف بهَا أسلافه بَيْنَ الْأُمَمِ، وَعَرَّفَهُمْ بِهَا لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْفُرْصَةِ. وَلَا يَخْفَى مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْجُحُودِ مِنْ مُبَالَغَةِ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي آخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ [116] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَأُدْخِلَتْ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالنَّفْيِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِئْنَافِ وَالْبَيَانِ لِقَصْدِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِ دِينِ التَّوْحِيدِ بِأَنَّهُ فَضْلٌ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى النَّاسِ أَيِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّرْغِيبِ بِالْجُمْلَةِ. وأتى بالاستدراك بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ حَالُ مَنْ يَكْفُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الْهُدَاةِ نِعْمَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ النَّاسُ فِيهَا فَيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ خَيْرٌ وَإِنْقَاذٌ لَهُمْ مِنَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 39 إلى 40]

الِانْحِطَاطِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ صِدْقِ الرُّسُلِ كُفْرٌ بِنِعْمَةِ الْعقل وَالنَّظَر. [39، 40] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 39 إِلَى 40] يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) استيناف ابْتِدَائِيٌّ مُصَدَّرٌ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْفَتَيَيْنِ بِطَرِيقِ النِّدَاءِ الْمُسْتَرْعِي سَمْعَهُمَا إِلَى مَا يَقُولُهُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِوَصْفِ الصُّحْبَةِ فِي السَّجْنِ دُونَ اسْمَيْهِمَا إِمَّا لِجَهْلِ اسْمَيْهِمَا عِنْدَهُ إِذْ كَانَا قَدْ دَخَلَا السِّجْنَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ تَطُولَ الْمُعَاشَرَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ، وَإِمَّا لِلْإِيذَانِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ صِلَةُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الضَّرَّاءِ الْإِلْفَ فِي الْوَحْشَةِ، فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأَحْوَالِ صِلَةٌ تَقُومُ مَقَامَ صِلَةِ الْقَرَابَةِ أَوْ تَفُوقُهَا. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى- كَسْرِ سِينِ- السِّجْنِ هُنَا بِمَعْنَى الْبَيْتِ الَّذِي يُسْجَنُ فِيهِ الْمُعَاقَبُونَ، لِأَنَّ الصَّاحِبَ لَا يُضَافُ إِلَى السِّجْنِ إِلَّا بِمَعْنَى الْمَكَانِ. وَالْإِضَافَةُ هُنَا عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، مِثْلَ: مَكْرُ اللَّيْلِ، أَيْ يَا صَاحِبَيْنِ فِي السِّجْنِ. وَأَرَادَ بِالْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهُمَا بِهِ تَقْرِيرَهُمَا بِإِبْطَالِ دِينِهِمَا، فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَقَدْ رَتَّبَ لَهُمَا الِاسْتِدْلَالُ بِوَجْهٍ خِطَابِيٍّ قَرِيبٍ مِنْ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، إِذْ

فَرَضَ لَهُمَا إِلَهًا وَاحِدًا مستفردا بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ مِلَّتِهِ الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِهَا. وَفَرَضَ لَهُمَا آلِهَةً مُتَفَرِّقِينَ كُلُّ إِلَهٍ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي أَشْيَاءٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ لَا يَعُدُّوهَا إِلَى مَا هُوَ مِنْ نِطَاقِ سُلْطَانِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ حَالُ مِلَّةِ الْقِبْطِ. ثُمَّ فَرَضَ لَهُمَا مُفَاضَلَةً بَيْنَ مَجْمُوعِ الْحَالَيْنِ حَالِ الْإِلَهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِلْآلِهَةِ الْمُتَعَدِّدِينَ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى إِقْنَاعِهِمَا بِأَنَّ حَالَ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْظَمُ وَأَغْنَى، فَيَرْجِعَانِ عَنِ اعْتِقَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وُجُودَ الْحَالَيْنِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ. هَذَا إِذَا حُمِلَ لَفْظُ خَيْرٌ عَلَى ظَاهِرِ الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ وَهُوَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ مُشْتَرَكَاتٍ فِي صِفَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْخَيْرِ عِنْدَ الْعَقْلِ، أَيِ الرُّجْحَانِ وَالْقَبُولِ. وَالْمَعْنَى: اعْتِقَادُ وُجُودِ أَرْبَابٍ مُتَفَرِّقِينَ أَرْجَحُ أَمِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، لِيَسْتَنْزِلَ بِذَلِكَ طَائِرَ نَظَرِهِمَا وَاسْتِدْلَالِهِمَا حَتَّى يَنْجَلِيَ لَهُمَا فَسَادُ اعْتِقَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، إِذْ يَتَبَيَّنُ لَهُمَا أَنَّ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقِينَ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ تَطَرُّقِ الْفَسَادِ وَالْخَلَلِ فِي تصرفهم، كَمَا يومىء إِلَيْهِ وَصْفُ التَّفَرُّقِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعَدُّدِ وَوَصْفُ الْقَهَّارِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَحْدَانِيَّةِ. وَكَانَتْ دِيَانَةُ الْقِبْطِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ الَّتِي حَفِظَهَا التَّارِيخُ وَشَهِدَتْ بِهَا الْآثَارُ دِيَانَةَ شِرْكٍ، أَيْ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَبِالرَّغْمِ عَلَى مَا يُحَاوِلُهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْإِفْرِنْجِ مِنْ إِثْبَاتِ اعْتِرَافِ الْقِبْطِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ وَتَأْوِيلِهِمْ لَهُمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ بِأَنَّهَا رُمُوزٌ لِلْعَنَاصِرِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنَّ يُثْبِتُوا إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ هُوَ مُعْطِي التَّصَرُّفَ لِلْآلِهَةِ الْأُخْرَى. وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ سَائِرِ أَدْيَانِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الشِّرْكَ يَنْشَأُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْخَيَالِ فَيُصْبِحُ تَعَدُّدَ آلِهَةٍ. وَالْأُمَمُ الْجَاهِلَةُ تَتَخَيَّلُ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ مِنْ تَخَيُّلَاتِ نِظَامِ مُلُوكِهَا وَسَلَاطِينِهَا وَهُوَ النِّظَامُ الْإِقْطَاعِيُّ الْقَدِيمُ.

نَعَمْ إِنَّ الْقِبْطَ بَنَوْا تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْقُوَى وَالْعَنَاصِرِ وَبَعْضِ الْكَوَاكِبِ ذَاتِ الْقُوَى. وَمَثَلُهُمُ الْإِغْرِيقُ فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ أَلَّهُوا الْحِجَارَةَ. وَقُصَارَى مَا قَسَّمُوهُ فِي عِبَادَتِهَا أَنْ جَعَلُوا بَعْضَهَا آلِهَةً لِبَعْضِ الْقَبَائِلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إِلَى لَاتِهَا وَأَحْسَنُ حَالًا من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الَّذِينَ جَعَلُوا الْآلِهَةَ رُمُوزًا لِلنُّجُومِ وَالْكَوَاكِبِ. وَكَانَتْ آلِهَةُ الْقِبْطِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَبًّا أَكْبَرَهَا عِنْدَهُمْ آمَونْ رَعْ. وَمِنْ أَعْظَمِ آلِهَتِهِمْ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ وَهِيَ: أُوزُورِيسُ، وَإِزيسُ، وَهُورُوسُ. فَلِلَّهِ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ إِذْ عَبَّرَ عَنْ تَعَدُّدِهَا بِالتَّفَرُّقِ فَقَالَ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ [سُورَة يُوسُف: 39] . وَبَعْدَ أَنْ أَثَارَ لَهُمَا الشَّكَّ فِي صِحَّةِ إِلَهِيَّةِ آلِهَتِهِمُ الْمُتَعَدِّدِينَ انْتَقَلَ إِلَى إِبْطَالِ وُجُودِ تِلْكَ الْآلِهَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِقَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ لَا تَحَقُّقَ لِحَقَائِقِهَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بَلْ هِيَ تَوَهُّمَاتٌ تَخَيَّلُوهَا. وَمَعْنَى قَصْرِهَا عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لَا مُسَمَّيَاتٍ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا أَسْمَاؤُهَا. وَقَوْلُهُ: أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِلضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي سَمَّيْتُمُوها. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى آبَائِهِمْ سَدًّا لِمَنَافِذِ الِاحْتِجَاجِ لِأَحَقِّيَّتِهَا بِأَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ مَعْبُودَاتُ آبَائِهِمْ، وَإِدْمَاجًا لِتَلْقِينِ الْمَعْذِرَةِ لَهُمَا لِيَسْهُلَ لَهُمَا الْإِقْلَاعُ عَنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَإِنْزَالُ السُّلْطَانِ: كِنَايَةٌ عَنْ إِيجَادِ دَلِيلِ إِلَهِيَّتِهَا فِي شَوَاهِدِ الْعَالَمِ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ.

[سورة يوسف (12) : آية 41]

وَجُمْلَةُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ إِبْطَالٌ لِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَزْعُومَةِ لِآلِهَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَا حُكْمَ لَهَا فِيمَا زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ حُكْمِهَا وَتَصَرُّفِهَا. وَجُمْلَةُ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ انْتِقَالٌ مِنْ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِلَى التَّعْلِيمِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذَلِك نتيجة إِثْبَات الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ، فَهِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْحُكْمِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ خُلَاصَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، أَيْ ذَلِكَ الدِّينُ لَا غَيْرُهُ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَغَيْرُكُمْ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- إِلَى- لَا يَشْكُرُونَ [سُورَة يُوسُف: 38] . [41] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 41] يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) افْتَتَحَ خِطَابَهُمَا بِالنِّدَاءِ اهْتِمَامًا بِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمَا مِنَ التَّعْبِيرِ، وَخَاطَبَهُمَا بِوَصْفِ صاحِبَيِ السِّجْنِ أَيْضًا. ثُمَّ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ عَنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْآيَةِ صَدَرَ مِنْهُ عَلَى نَحْوِ النَّظْمِ الَّذِي نُظِمَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَانَ جَمْعُ التَّأْوِيلِ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ مُجْمَلَةٍ، لِأَنَّ فِي تَأْوِيل إِحْدَى الرؤيين مَا يَسُوءُ صَاحِبَهَا قَصْدًا لِتَلَقِّيهِ مَا يَسُوءُ بَعْدَ تَأَمُّلٍ قَلِيلٍ كَيْلَا يَفْجَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا هُوَ رَائِي عَصْرَ الْخَمْرِ، وَأَنَّ الَّذِي تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ هُوَ رَائِي أَكْلَ الطَّيْرِ مِنْ خُبْزٍ عَلَى رَأْسِهِ.

[سورة يوسف (12) : آية 42]

وَإِذَا كَانَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ مَا صَدَرَ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ فِي الْآيَةِ إِيجَازٌ لِحِكَايَةِ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَكَانَ كَلَامًا مُعَيَّنًا فِيهِ كُلٌّ مِنَ الْفَتَيَيْنِ بِأَنْ قَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَكَيْتُ وَكَيْتُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَكَيْتُ وَكَيْتُ، فَحُكِيَ فِي الْآيَةِ بِالْمَعْنَى. وَجُمْلَةُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ تَحْقِيقٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، وَأَنَّ تَعْبِيرَهَا هُوَ مَا أَخْبَرَهُمَا بِهِ فَإِنَّهُمَا يَسْتَفْتِيَانِ فِي دَلَالَةِ الرُّؤْيَا عَلَى مَا سَيَكُونُ فِي شَأْنِ سِجْنِهِمَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْبَرُ هَمِّهِمَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ تَعْبِيرُ رُؤْيَاهُمَا. وَالِاسْتِفْتَاءُ: مَصْدَرُ اسْتَفْتَى إِذَا طَلَبَ الْإِفْتَاءَ. وَهُوَ: الْإِخْبَارُ بِإِزَالَةِ مُشْكِلٍ، أَوْ إِرْشَادٌ إِلَى إِزَالَةِ حَيْرَةٍ. وَفِعْلُهُ أَفْتَى مُلَازِمٌ لِلْهَمْزِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فعل مُجَرّد، فدلا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَمَزَهُ فِي الْأَصْلِ مُجْتَلَبٌ لِمَعْنًى، قَالُوا: أَصْلُ اشْتِقَاقِ أَفْتَى مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ، فَكَأَنَّ الَّذِي يُفْتِيهِ يُقَوِّي نَهْجَهُ بِبَيَانِهِ فَيَصِيرُ بِقُوَّةِ بَيَانِهِ فَتِيًّا أَيْ قَوِيًّا. وَاسْمُ الْخَبَرِ الصَّادِرِ مِنَ الْمُفْتِي: فَتْوَى- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِضَمِّهَا مَعَ الْوَاوِ مَقْصُورًا، وَبِضَمِّ الْفَاءِ مَعَ الْيَاء مَقْصُورا-. [42] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 42] وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) قَالَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلَّذِي ظَنَّ نَجَاتَهُ مِنَ الْفَتَيَيْنِ وَهُوَ السَّاقِي. وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَرِيبِ مِنَ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي صِحَّةِ تَعْبِيرِهِ الرُّؤْيَا. وَأَرَادَ بِذِكْرِهِ ذِكْرُ قَضِيَّتِهِ وَمَظْلَمَتِهِ، أَيِ اذْكُرْنِي لِرَبِّكَ، أَيْ سَيِّدِكَ. وَأَرَادَ بِرَبِّهِ مَلِكَ مِصْرَ. وَضَمِيرَا فَأَنْساهُ ورَبِّهِ يَحْتَمِلَانِ الْعود إِلَى لِلَّذِي، أَيْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ الَّذِي نَجَا أَنْ يَذْكُرَهُ لِرَبِّهِ، فَالذِّكْرُ الثَّانِي هُوَ الذِّكْرُ الْأَوَّلُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 إلى 45]

الضَّمِيرَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَقالَ أَيْ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ اللَّهِ، فَالذِّكْرُ الثَّانِي غَيْرُ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَلَعَلَّ كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. وَذَلِكَ أَنَّ نِسْيَانَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ إِلْهَامَ الْمَلِكِ تَذَكُّرِ شَأْنِهِ كَانَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَهِيًّا فِي نِسْيَانِ السَّاقِي تَذْكِيرَ الْمَلِكِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِتَابًا إِلَهِيًّا لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى اشْتِغَالِهِ بِعَوْنِ الْعِبَادِ دُونَ اسْتِعَانَةِ رَبِّهِ عَلَى خَلَاصِهِ. وَلَعَلَّ فِي إِيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَلَطُّفًا فِي الْخَبَرِ عَنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُوَجَّهَ فِي الْمَعَانِي الْمُوَجَّهَةِ أَلْطَفُ مِنَ الصَّرِيحِ. وَالْبِضْعُ: مِنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ. وَفِيمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْ حَالِ سجنهم مَا ينبىء عَلَى أَنَّ السِّجْنَ لَمْ يَكُنْ مَضْبُوطًا بِسِجِلٍّ يُذْكَرُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْمَسَاجِينِ، وَأَسْبَابُ سَجْنِهِمْ، وَالْمُدَّةُ الْمَسْجُونُ إِلَيْهَا، وَلَا كَانَ مِنْ وَزَعَةِ السُّجُونِ وَلَا مِمَّنْ فَوْقَهُمْ مَنْ يَتَعَهَّدُ أَسْبَابَ السَّجْنِ وَيَفْتَقِدُ أَمْرَ الْمَسَاجِينِ وَيَرْفَعُ إِلَى الْمَلِكِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ أَوْ مِنَ الْعَامِ. وَهَذَا مِنَ الْإِهْمَالِ وَالتَّهَاوُنِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي أَوَّلَ مَا يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ أَمر المساجين. [43- 45] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 43 إِلَى 45] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) هَذَا عَطْفُ جُزْءٍ مِنْ قِصَّةٍ عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا تَكْمِلَةً لِوَصْفِ خَلَاصِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ السِّجْنِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَلِكُ لِلْعَهْدِ، أَيْ مَلِكُ مِصْرَ. وَسَمَّاهُ الْقُرْآنُ هُنَا مَلِكًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ مُلُوكِ مِصْرَ الْقِبْطِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَلِكًا لِمِصْرَ أَيَّامَ حَكَمَهَا (الْهِكْسُوسُ) ، وَهُمُ الْعَمَالِقَةُ، وَهُمْ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، أَوْ مِنَ الْعَرَبِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُمْ مُؤَرِّخُو الْإِغْرِيقِ بِمُلُوكِ الرُّعَاةِ، أَيِ الْبَدْوُ. وَقَدْ مَلَكُوا بِمِصْرَ مِنْ عَامِ 1900 إِلَى عَامِ 1525 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَكَانَ عَصْرُهُمْ فِيمَا بَيْنَ مُدَّةِ الْعَائِلَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ وَالْعَائِلَةِ الثَّامِنَةِ عَشْرَةَ مِنْ مُلُوكِ الْقِبْطِ، إِذْ كَانَتْ عَائِلَاتُ مُلُوكِ الْقِبْطِ قَدْ بَقِيَ لَهَا حُكْمٌ فِي مِصْرَ الْعُلْيَا فِي مَدِينَةِ (طِيبَةَ) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ [سُورَة يُوسُف: 21] . وَكَانَ مَلِكُهُمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ضَعِيفًا لِأَنَّ السِّيَادَةَ كَانَتْ لِمُلُوكِ مِصْرَ السُّفْلَى. وَيُقَدِّرُ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ السُّفْلَى فِي زَمَنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ فِي مُدَّةِ الْعَائِلَةِ السَّابِعَةِ عَشْرَةَ. فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَلِكِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ التَّعْبِيرِ بِفِرْعَوْنٍ مَعَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مَلِكِ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلَقَبِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِنْ دَقَائِقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ. وَقَدْ وَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ إِذْ عَبَّرَ فِيهَا عَنْ مَلِكِ مِصْرَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السّلام- فِرْعَوْن وَمَا هُوَ بِفِرْعَوْنَ لِأَنَّ أُمَّتَهُ مَا كَانَتْ تَتَكَلَّمُ بِالْقِبْطِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ لُغَتُهُمْ كَنْعَانِيَّةً قَرِيبَةً مِنَ الْآرَامِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، فَيَكُونُ زَمَنُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي آخِرِ أَزْمَانِ حُكْمِ مُلُوكِ الرُّعَاةِ عَلَى اخْتِلَافٍ شَدِيدٍ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: سِمانٍ جَمْعُ سَمِينَةٍ وَسَمِينٍ، مِثْلَ كِرَامٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِ بَقَراتٍ. وعِجافٌ جَمْعُ عَجْفَاءَ. وَالْقِيَاسُ فِي جَمْعِ عَجْفَاءَ عُجْفٌ لَكِنَّهُ صِيغَ هُنَا بِوَزْنِ فِعَالٍ لِأَجْلِ الْمُزَاوَجَةِ لِمُقَارِنِهِ وَهُوَ سِمانٍ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبَوِيَةٍ وَالْقِيَاسُ أَبْوَابٌ لَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى أَخْبِيَةٍ. وَالْعَجْفَاءُ: ذَاتُ الْعَجَفِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْهُزَالُ الشَّدِيدُ.

ووَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبْعَ بَقَراتٍ. وَالسُّنْبُلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [261] . وَالْمَلَأُ: أَعْيَانُ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [60] . وَالْإِفْتَاءُ: الْإِخْبَارُ بِالْفَتْوَى. وَتَقَدَّمَتْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [سُورَة يُوسُف: 41] . وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَفْتُونِي إِفْتَاءً مُلَابِسًا لِرُؤْيَايَ مُلَابَسَةَ الْبَيَانِ للمجمل. وَتَقْدِيم لِلرُّءْيا عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ تَعْبُرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِالرُّؤْيَا فِي التَّعْبِيرِ. والتعريف فِي لِلرُّءْيا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَاللَّام فِي لِلرُّءْيا لَامُ التَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ عَنِ الْعَمَلِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ. يُقَالُ: عَبَرَ الرُّؤْيَا مِنْ بَابِ نَصَرَ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَعَبَرَتِ الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْإِثْبَاتُ. وَرَأَيْتُهُمْ يُنْكِرُونَ عَبَّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّعْبِيرِ، وَقَدْ عَثَرْتُ عَلَى بَيْتٍ أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ «الْكَامِلِ» لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ: رَأَيْتُ رُؤْيَايَ ثُمَّ عَبَرْتُهَا ... وَكُنْتُ لِلْأَحْلَامِ عَبَّارًا وَالْمَعْنَى: فَسَّرَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَوَّلَ إِشَارَاتِهَا وَرُمُوزَهَا. وَكَانَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مِمَّا يَشْتَغِلُونَ بِهِ. وَكَانَ الْكَهَنَةُ مِنْهُمْ يَعُدُّونَهُ مِنْ عُلُومِهِمْ وَلَهُمْ قَوَاعِدُ فِي حَلِّ رُمُوزِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ. وَقَدْ وُجِدَتْ فِي آثَارِ الْقِبْطِ أَوْرَاقٌ مِنَ الْبَرْدِي فِيهَا ضَوَابِطُ وَقَوَاعِدُ لِتَعْبِيرِ الرُّؤَى، فَإِنَّ اسْتِفْتَاءَ صَاحِبَيِ السِّجْنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي رؤييهما ينبىء بِأَنَّ ذَلِكَ شَائِعٌ فِيهِمْ، وَسُؤَالُ الْملك أهل ملأَهُ تَعْبِير رُؤْيَاهُ ينبىء عَنِ احْتِوَاءِ ذَلِكَ الْمَلَأِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِمْ عِلْمُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَلَا يَخْلُو مَلَأُ الْمَلِكِ مِنْ حُضُورِ كُهَّانٍ مِنْ شَأْنِهِمْ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا.

وَفِي التَّوْرَاةِ «فَأَرْسَلَ وَدَعَا جَمِيعَ سَحَرَةِ مِصْرَ وَجَمِيعَ حُكَمَائِهَا وَقَصَّ عَلَيْهِمْ حُلْمَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَنْ يَعْبُرُهُ لَهُ» (¬1) . وَإِنَّمَا كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ فِيهِ إِلَى الْكَهَنَةِ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي أَخْبَارِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ كِسْرَى أَرْسَلَ إِلَى سُطَيْحٍ الْكَاهِنِ ليعبر لَهُ رُؤْيا أَيَّام ولادَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنَ الْإِرْهَاصَاتِ النَّبَوِيَّةِ. وَحَصَلَ لِكِسْرَى فَزَعٌ فَأَوْفَدَ إِلَيْهِ عَبْدَ الْمَسِيحِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْله لِلرُّءْيا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ يَقُصُّهَا عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُرُونَ هَذِهِ الرُّؤْيَا. وَالْأَضْغَاثُ: جَمْعُ ضِغْثٍ- بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ- وَهُوَ: مَا جُمِعَ فِي حُزْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَخْلَاطِ النَّبَاتِ وَأَعْوَادِ الشَّجَرِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَحْلَامِ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ، أَيْ أَضْغَاثٌ لِلْأَحْلَامِ. وَالْأَحْلَامُ: جَمْعُ حُلُمٍ- بِضَمَّتَيْنِ- وَهُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ الرُّؤْيَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. شُبِّهَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا بِالْأَضْغَاثِ فِي اخْتِلَاطِهَا وَعَدَمِ تَمَيُّزِ مَا تَحْتَوِيهِ لَمَّا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ تَأْوِيلُهَا. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ أَيْضًا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ أَحْلَامِكَ هَذِهِ بِعَالِمِينَ. وَجُمِعَتْ أَحْلامٍ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَشْيَاءِ الْمَرْئِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُلْمِ، فَهِيَ عِدَّةُ رُؤَى. وَالْبَاءُ فِي بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْعَامِلِ بِالْمَفْعُولِ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ بَاءِ الْإِلْصَاقِ مِثْلَ بَاء وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 6] ، لِأَنَّهُمْ نَفَوُا التَّمَكُّنَ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحُلْمِ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الْمَعْمُولِ عَلَى الْوَصْفِ الْعَامِلِ فِيهِ كَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. ¬

(¬1) الإصحاح الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ من سفر التكوين.

فَلَمَّا ظَهَرَ عَوَصُ تَعْبِيرِ هَذَا الْحُلُمِ تَذَكَّرَ سَاقَيِ الْمَلِكِ مَا جَرَى لَهُ مَعَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ. وَابْتِدَاءُ كَلَامِهِ بِضَمِيرِهِ وَجَعْلِهِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَخَبَرُهُ فِعْلِيٌّ لِقَصْدِ اسْتِجْلَابِ تَعَجُّبِ الْمَلِكِ مِنْ أَنْ يكون الساقي ينبىء بِتَأْوِيلِ رُؤْيَا عَوِصَتْ عَلَى عُلَمَاءِ بَلَاطِ الْمَلِكِ، مَعَ إِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، وَهُوَ إِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِتَأْوِيلِهَا، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ يُفِيدُ التَّقَوِّي، وَإِسْنَادُ الْإِنْبَاءِ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْبَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَأَرْسِلُونِ. وَفِي ذَلِكَ مَا يَسْتَفِزُّ الْمَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ لِيَأْتِيَ بِنَبَأِ التَّأْوِيلِ إِذْ لَا يَجُوزُ لِمِثْلِهِ أَنْ يُغَادِرَ مَجْلِسَ الْمَلِكِ دُونَ إِذْنٍ. وَقَدْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ يَجِدُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السِّجْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ. وَلَعَلَّ سَبَبَ يَقِينِهِ بِبَقَاءِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السِّجْنِ أَنَّهُ كَانَ سِجْنَ الْخَاصَّةِ فَكَانَ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنْ إِطْلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ يَبْلُغُ مَسَامِعَ الْمَلِكِ وَشِيعَتِهِ. وادَّكَرَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَصْلُهُ: اذْتَكَرَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ، قُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا لِثِقَلِهَا وَلِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا ثُمَّ قُلِبَتِ الذَّالُ لِيَتَأَتَّى إِدْغَامُهَا فِي الدَّالِ لِأَنَّ الدَّالَ أَخَفُّ مِنَ الذَّالِ. وَهَذَا أَفْصَحُ الْإِبْدَالِ فِي ادَّكَرَ. وَهُوَ قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سُورَة الْقَمَر: 15] كَمَا فِي الصَّحِيحِ. وَمَعْنَى بَعْدَ أُمَّةٍ بَعْدَ زَمَنٍ مَضَى عَلَى نِسْيَانِهِ وِصَايَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالْأُمَّةُ: أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَأَصْلُ إِطْلَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هُوَ أَنَّهَا زَمَنٌ يَنْقَرِضُ فِي مِثْلِهِ جِيلٌ، وَالْجِيلُ يُسَمَّى أُمَّةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سُورَة آل عمرَان: 110] عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ. وَإِطْلَاقُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبَالَغَةٌ فِي زَمَنِ نِسْيَانِ السَّاقِي. وَفِي التَّوْرَاةِ كَانَتْ مُدَّةُ نِسْيَانِهِ سَنَتَيْنِ. وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ فِي أُنَبِّئُكُمْ- فَأَرْسِلُونِ مُخَاطَبٌ بِهَا الْمَلِكُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 99] .

[سورة يوسف (12) : آية 46]

وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ بِخَبَرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ حُصُولِ تَعْبِيرِهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ، إِذْ لَيْسَ مِثْلُهُ مَظِنَّةَ أَنْ يَكُونَ بَين المساجين. [46] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 46] يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ مُؤْذِنٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الَّذِي نَجَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ. وَحُذِفَ مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرُ إِرْسَالِهِ وَمَشْيِهِ وَوُصُولِهِ، إِذْ لَا غَرَضَ فِيهِ مِنَ الْقِصَّةِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. والصِّدِّيقُ أَصْلُهُ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [75] ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ وَصْفِ الصِّدِّيقِ اسْتِعْمَالُ اللَّقَبِ الْجَامِعِ لِمَعَانِي الْكَمَالِ وَاسْتِقَامَةِ السُّلُوكِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ لَا تَجْتَمِعُ إِلَّا لِمَنْ قَوِيَ صِدْقُهُ فِي الْوَفَاءِ بِعَهْدِ الدِّينِ. وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَلِمَةُ الرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ قَالَ: «الصِّدِّيقُونَ هُمْ دُوَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» . وَهَذَا مَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سُورَة النِّسَاء: 69] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سُورَة الْمَائِدَة: 75] . وَمِنْهُ مَا لقّب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ رَجْفِ جَبَلِ أُحُدٍ «اسْكُنْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْك نبيء وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ» . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَفْضَلُ الْأمة بعد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ هَذَا الْوَصْفَ مَعَ صفة النبوءة فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ

وَقَدْ يُطْلَقُ الصِّدِّيقُ عَلَى أَصْلِ وَصْفِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [سُورَة الْحَدِيد: 19] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِيهَا. فَهَذَا الَّذِي اسْتَفْتَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي رُؤْيَا الْمَلِكِ وَصَفَ فِي كَلَامِهِ- يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ وَصْفُ الصِّدِّيقِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِهِ عَنْ خِبْرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ اكْتَسَبَهَا مِنْ مُخَالَطَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السِّجْنِ. فَضَمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [75] ، وَإِلَى قَوْلِهِ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [69] . وَإِعَادَةُ الْعِبَارَاتِ الْمَحْكِيَّةِ عَنِ الْمَلِكِ بِعَيْنِهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَلَّغَ السُّؤَالَ كَمَا تَلَقَّاهُ، وَذَلِكَ تَمَامُ أَمَانَةِ النَّاقِلِ. والنَّاسِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سُورَة آل عمرَان: 173] . وَالنَّاسُ هُنَا هُمُ الْمَلِكُ وَأَهْلُ مَجْلِسِهِ، لِأَنَّ تَأْوِيلَ تِلْكَ الرُّؤْيَا يُهِمُّهُمْ جَمِيعًا لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ تَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ وَيَعْلَمَ أَهْلُ مَجْلِسِهِ أَنَّ مَا عَجَزُوا عَنْ تَأْوِيلِهِ قَدْ عُلِّمَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَعَ حَذْفِ مَعْمُولِ يَعْلَمُونَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ مَا يفِيدهُ علمه.

[سورة يوسف (12) : الآيات 47 إلى 49]

[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 47 إِلَى 49] قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) عَبَرَ الرُّؤْيَا بِجَمِيعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَالْبَقَرَاتُ لِسِنِينِ الزِّرَاعَةِ، لِأَنَّ الْبَقَرَةَ تُتَّخَذُ لِلْإِثْمَارِ. وَالسِمَنُ رَمْزٌ لِلْخِصْبِ. وَالْعَجَفُ رَمْزٌ لِلْقَحْطِ. وَالسُّنْبُلَاتُ رَمْزٌ لِلْأَقْوَاتِ فَالسُّنْبُلَاتُ الْخُضْرُ رَمْزٌ لِطَعَامٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكَوْنُهَا سَبْعًا رَمَزٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي السَّبْعِ السِّنِينَ، فَكُلُّ سُنْبُلَةٍ رَمْزٌ لِطَعَامِ سَنَةٍ، فَذَلِكَ يَقْتَاتُونَهُ فِي تِلْكَ السِّنِينِ جَدِيدًا. وَالسُّنْبُلَاتُ الْيَابِسَاتُ رَمْزٌ لِمَا يُدَّخَرُ، وَكَوْنُهَا سَبْعًا رَمْزٌ لِادِّخَارِهَا فِي سَبْعِ سِنِينَ لِأَنَّ الْبَقَرَاتِ الْعِجَافَ أَكَلَتِ الْبَقَرَاتِ السِّمَانَ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ سِنِي الْجَدْبِ أَتَتْ عَلَى مَا أَثْمَرَتْهُ سِنُو الْخِصْبِ. وَقَوْلُهُ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ عَمَّا يَكُونُ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الزَّرْعَ عَادَتُهُمْ، فَذِكْرُهُ إِيَّاهُ تَمْهِيدٌ لِلْكَلَامِ الْآتِي وَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِ دَأَباً. وَالدَّأَبُ: الْعَادَةُ وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] . وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَزْرَعُونَ، أَيْ كَدَأْبِكُمْ. وَقَدْ مَزَجَ تَعْبِيرَهُ بِإِرْشَادٍ جَلِيلٍ لِأَحْوَالِ التَّمْوِينِ وَالِادِّخَارِ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ مَنَامٌ حِكْمَتُهُ كَانَتْ رُؤْيَا الْمَلِكِ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ بِالْأُمَّةِ الَّتِي آوَتْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَوَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِوَاسِطَةِ رُؤْيَا الْمَلِكِ، كَمَا أَوْحَى إِلَى سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِوَاسِطَةِ الطَّيْرِ. وَلَعَلَّ الْمَلِكَ قَدِ اسْتَعَدَّ لِلصَّلَاحِ وَالْإِيمَانِ.

وَكَانَ مَا أَشَارَ بِهِ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى الْمَلِكِ مِنَ الِادِّخَارِ تَمْهِيدًا لِشَرْعِ ادِّخَارِ الْأَقْوَاتِ لِلتَّمْوِينِ، كَمَا كَانَ الْوَفَاءُ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ ابْتِدَاءَ دَعْوَةِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَشَارَ إِلَى إِبْقَاءِ مَا فَضُلَ عَنْ أَقْوَاتِهِمْ فِي سُنْبُلِهِ لِيَكُونَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ إِصَابَةِ السُّوسِ الَّذِي يُصِيبُ الْحَبَّ إِذَا تَرَاكَمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ فِي سُنْبُلِهِ دُفِعَ عَنْهُ السُّوسُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِتَقْلِيلِ مَا يَأْكُلُونَ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ لِادِّخَارِ مَا فَضُلَ عَنْ ذَلِكَ لِزَمَنِ الشِّدَّةِ، فَقَالَ: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ. وَالشِّدَادُ: وَصْفٌ لِسِنِي الْجَدْبِ، لِأَنَّ الْجَدْبَ حَاصِلٌ فِيهَا، فَوَصَفَهَا بِالشِّدَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَأَطْلَقَ الْأَكْلَ فِي قَوْلِهِ: يَأْكُلْنَ عَلَى الْإِفْنَاءِ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [سُورَة النِّسَاء: 2] . وَإِسْنَادُهُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ إِلَى السِّنِينَ إِسْنَادُ مَجَازٍ عَقْلِيٍّ، لِأَنَّهُنَّ زَمَنُ وُقُوعِ الْفَنَاءِ. وَالْإِحْصَانُ: الْإِحْرَازُ وَالِادِّخَارُ، أَيِ الْوَضْعُ فِي الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَطْمُورُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةَ يَفْنَى فِيهَا مَا ادُّخِرَ لَهَا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ يَبْقَى فِي الْأَهْرَاءِ. وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى اسْتِكْثَارِ الِادِّخَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ فَهُوَ بِشَارَة وَإِدْخَال المسرة والأمل بَعْدَ الْكَلَامِ الْمُؤَيِّسِ، وَهُوَ مِنْ لَازِمِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الشِّدَّةِ، وَمِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُصُولِ الْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ. ويُغاثُ مَعْنَاهُ يُعْطَوْنَ الْغَيْثَ، وَهُوَ الْمَطَرُ. وَالْعَصْرُ: عَصْرُ الْأَعْنَابِ خُمُورًا. وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْله: أَعْصِرُ خَمْراً [سُورَة يُوسُف: 36] .

[سورة يوسف (12) : آية 50]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 50] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ لَمَّا أَبْلَغَهُ السَّاقِي صُورَةَ التَّعْبِيرِ. وَالْخِطَابِ لِلْمَلَأِ لِيُرْسِلُوا مَنْ يُعِينُونَهُ لِجَلْبِهِ. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ. فَالتَّقْدِيرُ: فَأَرْسَلُوا رَسُولًا مِنْهُمْ. وَضَمِيرَا الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: بِهِ وَقَوْلِهِ: جاءَهُ عَائِدَانِ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَضَمِيرُ قالَ الْمُسْتَتِرُ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَبَى يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ بَرَاءَتُهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ فِي بَيْتِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ الْمَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِئَلَّا يَكُونَ تَبْرِيزُهُ فِي التَّعْبِيرِ الْمُوجِبِ لِإِطْلَاقِهِ مِنَ السِّجْنِ كَالشَّفِيعِ فِيهِ فَيَبْقَى حَدِيثُ قَرَفِهِ بِمَا قُرِفَ بِهِ فَاشِيًا فِي النَّاسِ فَيَتَسَلَّقُ بِهِ الْحَاسِدُونَ إِلَى انْتِقَاصِ شَأْنِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ يَوْمًا مَا، فَإِنَّ تَبْرِئَةَ الْعِرْضِ مِنَ التُّهَمِ الْبَاطِلَةِ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ، وَلِيَكُونَ حُضُورُهُ لَدَى الْمَلِكِ مَرْمُوقًا بِعَيْنٍ لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِشَائِبَةِ نَقْصٍ. وَجَعَلَ طَرِيقَ تَقْرِيرِ بَرَاءَتِهِ مُفْتَتَحَةً بِالسُّؤَالِ عَنِ الْخَبَرِ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ مِنْ أَوله، فَمَعْنَى فَسْئَلْهُ بَلِّغْ إِلَيْهِ سُؤَالًا مِنْ قِبَلِي. وَهَذِهِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَحِقُّ بِأَنْ يُؤْتَسَى بِهَا. وَهِيَ تَطَلُّبُ الْمَسْجُونِ بَاطِلًا أَنْ يَبْقَى فِي السِّجْنِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بَرَاءَتُهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي سُجِنَ لِأَجْلِهِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ حَتَّى يَظْهَرَ النَّصْر. وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» ، أَيْ دَاعِيَ الْمَلِكِ وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ، أَيْ لَمَّا رَاجَعْتُ الْمَلِكَ. فَهَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [سُورَة يُوسُف: 7] .

[سورة يوسف (12) : آية 51]

وَالسُّؤَالُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ دُونَ طَلَبِ الْفَهْمِ، لِأَنَّ السَّائِلَ عَالِمٌ بِالْأَمْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ السَّائِلُ حَثَّ الْمَسْئُولِ عَنْ عِلْمِ الْخَبَرِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [سُورَة النبإ: 1] . وَجُعِلَ السُّؤَالُ عَنِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ دُونَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ تَسْهِيلًا لِلْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهَا، لِأَنَّ ذِكْرَهَا مَعَ مَكَانَةِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَلِكِ رُبَّمَا يَصْرِفُ الْمَلِكَ عَنِ الْكَشْفِ رَعْيًا لِلْعَزِيزِ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ الْمُتَّكَأِ شاع بَين النَّاس، وَأَصْبَحَتْ قَضِيَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَشْهُورَةً بِذَلِكَ الْيَوْمِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [سُورَة يُوسُف: 35] ، وَلِأَنَّ النِّسْوَةَ كُنَّ شَوَاهِدَ عَلَى إِقْرَار امْرَأَة العزيم بِأَنَّهَا رَاوَدَتْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ نَفْسِهِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ طَلَبُ الْكَشْفِ عَنْ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ فِي الْبَحْثِ وَغَايَةِ الْإِيجَازِ فِي الْخِطَابِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَهِيَ تَذْيِيلٌ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكَشْفَ الْمَطْلُوبَ سَيَنْجَلِي عَنْ بَرَاءَتِهِ وَظُهُورِ كَيْدِ الْكَائِدَاتِ لَهُ ثِقَةً بِاللَّهِ رَبِّهِ أَنَّهُ نَاصِرُهُ. وَإِضَافَةُ كَيْدٍ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّ الْكَيْدَ وَاقِعٌ مِنْ بَعْضِهِنَّ، وَهِيَ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فِي غَرَضِهَا مِنْ جَمْعِ النِّسْوَةِ فَأُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَتِهِنَّ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ الْمُعَيَّنِ على التِّبْيَان. [51] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 51] قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) جُمْلَةُ قالَ مَا خَطْبُكُنَّ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْجُمَلَ الَّتِي سَبَقَتْهَا تُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ عَمَّا حَصَلَ مِنَ الْمَلِكِ لَمَّا أُبْلِغَ إِلَيْهِ اقْتِرَاحُ يُوسُفَ-

عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ شِدَّةِ تَشَوُّقِهِ إِلَى حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ قَالَ الْمَلِكُ لِلنِّسْوَةِ. وَوُقُوعُ هَذَا بَعْدَ جُمْلَةِ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [سُورَة يُوسُف: 50] إِلَى آخِرِهَا مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ الْمَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ اللَّائِي كَانَتْ جَمَعَتْهُنَّ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ لَمَّا أعتدت لهنّ متّكأ فَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ إِلَى آخِرِهِ. وَأُسْنِدَتِ الْمُرَاوَدَةُ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ لِوُقُوعِهَا مِنْ بَعْضِهِنَّ غَيْرَ مُعَيِّنٍ، أَوْ لِأَنَّ الْقَالَةَ الَّتِي شَاعَتْ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ مَخْلُوطَةً ظَنًّا أَنَّ الْمُرَاوَدَةَ وَقَعَتْ فِي مَجْلِسِ الْمُتَّكَأِ. وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ الْمُهِمُّ مِنْ حَالَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ. قِيلَ: سُمِّيَ خَطْبًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُخَاطِبَ الْمَرْءُ صَاحِبَهُ بِالتَّسَاؤُلِ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُطْبَةِ، أَيْ يَخْطُبُ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْخُطْبَةُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَخْطُوبٌ فِيهِ. وَجُمْلَةُ قُلْنَ مَفْصُولَةٌ لِأَجْلِ كَوْنِهَا حِكَايَةَ جَوَابٍ عَنْ كَلَامِ الْمَلِكِ أَيْ قَالَتِ النِّسْوَةُ عَدَا امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ. وحاشَ لِلَّهِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ وَالتَّنْزِيهِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّبَرُّؤُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِنَّ مِنَ الْمُرَاوَدَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا آنِفًا وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِيهَا. وَجُمْلَةُ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ النَّفْيِ الَّذِي فِي حاشَ لِلَّهِ. وَهِيَ جَامِعَةٌ لِنَفْيِ مُرَاوَدَتِهِنَّ إِيَّاهُ وَمُرَاوَدَتِهِ إِيَّاهُنَّ لِأَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ السُّوءِ. وَنَفْيُ عِلْمِهِنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ دَعْوَتِهِنَّ إِيَّاهُ إِلَى السُّوءِ وَنَفْيِ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُنَّ إِلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُنَّ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ لَمْ يَزِدْنَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِ الْمَلِكِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْنَ لِإِقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي مَجْلِسِهِنَّ بِأَنَّهَا رَاوَدَتْهُ

عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، خَشْيَةً مِنْهَا، أَوْ مَوَدَّةً لَهَا، فَاقْتَصَرْنَ عَلَى جَوَابِ مَا سُئِلْنَ عَنْهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ النسْوَة اللَّاتِي أَحْضَرَهُنَّ الْمَلِكُ. وَلَمْ يَشْمَلْهَا قَوْلُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [سُورَة يُوسُف: 5] لِأَنَّهَا لَمْ تَقْطَعْ يَدَهَا مَعَهُنَّ، وَلَكِنْ شَمَلَهَا كَلَامُ الْمَلِكِ إِذْ قَالَ: إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُرَاوَدَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ مِنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ دُونَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي أَعَدَّتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَجُمْلَةُ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مَفْصُولَةٌ لِأَنَّهَا حِكَايَةُ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالِ الْمَلِكِ. وَالْآنَ: ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [66] . وحَصْحَصَ: ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. والْحَقُّ: هُوَ بَرَاءَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِمَّا رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلَّ قِيلَ وَقَالَ وَشَكٍّ، فَزَالَ ذَلِكَ بِاعْتِرَافِهَا بِمَا وَقَعَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا مِنْ إِقْرَارِهَا الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِأَنَّهُ قَرِيبُ الْوُقُوعِ فَهُوَ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنَ الْمُضِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِقَوْلِ النِّسْوَةِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فَيَكُونُ الْمَاضِي عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الزَّمَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيِ الْآنَ لَا قبله للدلالة عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ زَمَنٌ بَاطِلٌ وَهُوَ زَمَنُ تُهْمَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْمُرَاوَدَةِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ تَعْيِينٍ إِذْ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَدْرِي أَيُّ الْوَقْتَيْنِ وَقْتُ الصِّدْقِ أَهُوَ وَقْتُ اعْتِرَافِ النِّسْوَةِ بِنَزَاهَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْ هُوَ وَقْتُ رَمْيِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ إِيَّاهُ بِالْمُرَاوَدَةِ.

[سورة يوسف (12) : آية 52]

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي جُمْلَةِ أَنَا راوَدْتُهُ لِلْقَصْرِ، لِإِبْطَالِ أَنْ يكون النسْوَة راودنه. فَهَذَا إِقْرَارٌ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَشَهَادَةٌ لِغَيْرِهَا بِالْبَرَاءَةِ، وَزَادَتْ فَأَكَّدَتْ صِدْقَهُ بِ (إِنَّ) وَاللَّام. وَصِيغَة لَمِنَ الصَّادِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهَا، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [56] . [52] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 52] ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) ظَاهِرُ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ الْأَقَلُّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَزَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى فِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنُسِبَ إِلَى الْجُبَّائِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهُوَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [سُورَة يُوسُف: 51] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ إِقْرَارٍ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَا كَانَتْ رَمَتْهُ بِهِ. فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْإِقْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جُمْلَةِ أَنَا راوَدْتُهُ أَيْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ لِيَعْلَمَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَعْلَمَ لَامُ كَيْ، وَالْفِعْلُ بعْدهَا مَنْصُوب ب (أَن) مُضْمَرَةٍ، فَهُوَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ للملابسة أَو الظَّرْفِيَّة، أَيْ فِي غَيْبَتِهِ، أَيْ لَمْ أَرْمِهِ بِمَا يَقْدَحُ فِيهِ فِي مَغِيبِهِ. وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ. وَالْخِيَانَةُ: هِيَ تُهْمَتُهُ بِمُحَاوَلَةِ السُّوءِ مَعَهَا كَذِبًا، لِأَنَّ الْكَذِبَ ضِدَّ أَمَانَةِ الْقَوْلِ بِالْحَقِّ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. تَمَدَّحَتْ بِعَدَمِ الْخِيَانَةِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ نَفَتِ الْخِيَانَةَ فِي الْمَغِيبِ وَهُوَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحَالَةُ

الْمَغِيبِ أَمْكَنُ لمريد الْخِيَانَةِ أَنْ يَخُونَ فِيهَا مِنْ حَالَةِ الْحَضْرَةِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَدْ يَتَفَطَّنُ لِقَصْدِ الْخَائِنِ فَيَدْفَعُ خِيَانَتَهُ بِالْحُجَّةِ. وأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ عَطْفٌ عَلَى لِيَعْلَمَ وَهُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِإِصْدَاعِهَا بِالْحَقِّ، أَيْ وَلِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ عَالِمًا بِمَضْمُونِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ عِلَّةَ إِقْرَارِهَا هُوَ عِلْمُهَا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَمَعْنَى لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لَا يُنَفِّذُهُ وَلَا يُسَدِّدُهُ. فَأُطْلِقَتِ الْهِدَايَةُ الَّتِي هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ عَلَى تَيْسِيرِ الْوُصُولِ، وَأُطْلِقَ نَفْيُهَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ التَّيْسِيرِ، أَيْ إِنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْكَوْنِ جَرَتْ عَلَى أَنَّ فُنُونَ الْبَاطِلِ وَإِنْ رَاجَتْ أَوَائِلُهَا لَا تَلْبَثُ أَنْ تَنْقَشِعَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 18] . والكيد: تقدم.

[سورة يوسف (12) : آية 53]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، مَضَتْ فِي بَقِيَّةِ إِقْرَارِهَا فَقَالَتْ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي. وَذَلِكَ كَالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهَا: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سُورَة يُوسُف: 52] مِنْ أَنَّ تَبْرِئَةَ نَفْسِهَا مِنْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ادِّعَاءٌ بِأَنَّ نَفْسَهَا بَرِيئَةٌ بَرَاءَةً عَامَّةً فَقَالَتْ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، أَي مَا أبرىء نَفْسِي مِنْ مُحَاوَلَةِ هَذَا الْإِثْمِ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَقَدْ أَمَرَتْنِي بِالسُّوءِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ. فَالْوَاوُ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، أَيْ لَا أَدَّعِي بَرَاءَةَ نَفْسِي مِنِ ارْتِكَابِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ كَثِيرَةُ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَزْمَانِ، أَيْ أَزْمَانِ وُقُوعِ السُّوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّفْسِ بِهِ يَبْعَثُ عَلَى ارْتِكَابِهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَبْدَهُ، أَيْ رَحْمَتُهُ بِأَنْ يُقَيِّضَ لَهُ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ فِعْلِ السُّوءِ، أَوْ يُقَيِّضُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ السُّوءِ، كَمَا جَعَلَ إِبَايَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِجَابَتِهَا إِلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ حَائِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّوَرُّطِ فِي هَذَا الْإِثْمِ، وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمَا. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَتْهُ بِجُمْلَةِ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ أَذْنَبَ، وَشَدِيدُ الرَّحْمَةِ لِعَبْدِهِ إِذَا أَرَادَ صَرْفَهُ عَنِ الذَّنْبِ.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْمَهَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَيُحَرِّمُونَ الْحَرَامَ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سُورَة العنكبوت: 61] وَكَانُوا يَعْرِفُونَ الْبِرَّ وَالذَّنْبَ. وَفِي اعْتِرَافِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ عِبْرَةٌ بِفَضِيلَةِ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، وَتَبْرِئَةُ الْبَرِيءِ مِمَّا أُلْصِقَ بِهِ، وَمِنْ خَشْيَةِ عِقَابِ اللَّهِ الْخَائِنِينَ. وَقِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ الْآيَة [سُورَة يُوسُف: 50] . وَقَوْلُهُ: قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [سُورَة يُوسُف: 51- 52] اعْتِرَاضٌ فِي خِلَالِ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطَّبَرِيُّ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : (وَكَفَى بِالْمَعْنَى دَلِيلًا قَائِدًا إِلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ- ثُمَّ قَالَ- فَماذا تَأْمُرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: 109- 110] وَهُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ يُخَاطِبُهُمْ وَيَسْتَشِيرُهُمْ) اه. يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَلْيَقُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ قَلْبٍ مَلِيءٍ بِالْمَعْرِفَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ أَخُنْهُ [سُورَة يُوسُف: 52] عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الْقَضِيَّةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ، أَيْ لَمْ أَخُنْ سَيِّدِي فِي حُرْمَتِهِ حَالَ مَغِيبِهِ. وَيَكُونُ مَعْنَى وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِلَخْ.. مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ قَصَدَ بِهِ التَّوَاضُعَ، أَيْ لَسْتُ أَقُولُ هَذَا ادِّعَاءً بِأَنَّ نَفْسِي بَرِيئَةٌ مِنِ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ إِلَّا مُدَّةَ رَحْمَةِ اللَّهِ النَّفْسَ بِتَوْفِيقِهَا لِأَكُفَّ عَنِ السُّوءِ، أَيْ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ مَا اتُّهِمْتُ بِهِ وَأَنَا لست بمعصوم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 54 إلى 55]

[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 54 إِلَى 55] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) السِّينُ وَالتَّاءُ فِي أَسْتَخْلِصْهُ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلَهَا فِي اسْتَجَابَ وَاسْتَأْجَرَ. وَالْمَعْنَى أَجْعَلُهُ خَالِصًا لِنَفْسِي، أَيْ خَاصًّا بِي لَا يُشَارِكُنِي فِيهِ أَحَدٌ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِهِ وَالْعَمَلِ مَعَهُ. وَقَدْ دَلَّ الْمَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَقْرِيبَهُ مِنْهُ مَا ظَهَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَحُسْنِ خُلُقِهِ، وَنَزَاهَتِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَوْجَبَ اصْطِفَاءَهُ. وَجُمْلَةُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَوْهُ بِهِ، أَي بِيُوسُف- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَحَضَرَ لَدَيْهِ وَكَلَّمَهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي كَلَّمَهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَلِكِ، فَالْمُكَلِّمُ هُوَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السّلام-. وَالْمَقْصُود من جملَة فَلَمَّا كَلَّمَهُ إِفَادَة أَن يُوسُف- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَّمَ الْمَلِكَ كَلَامًا أَعْجَبَ الْمَلِكَ بِمَا فِيهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَأَدَبٍ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ جَوَابُ (لَمَّا) . وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلِكُ لَا مَحَالَةَ. وَالْمَكِينُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ مَكُنَ- بِضَمِّ الْكَافِ- إِذَا صَارَ ذَا مَكَانَةٍ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَكَانِ. وَالْأَمِينُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَأْمُونٍ عَلَى شَيْءٍ، أَيْ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي حِفْظِهِ. وَتَرَتُّبُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى تَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَّمَ الْمَلِكَ كَلَامَ حَكِيمٍ أَدِيبٍ فَلَمَّا رَأَى حُسْنَ مَنْطِقِهِ وَبَلَاغَةَ قَوْلِهِ وَأَصَالَةَ رَأْيِهِ رَآهُ أَهْلًا لِثِقَتِهِ وَتَقْرِيبِهِ مِنْهُ.

وَهَذِهِ صِيغَةُ تَوْلِيَةٍ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنَ الْخِصَالِ، لِأَنَّ الْمَكَانَةَ تَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إِذْ بِالْعِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَبِالْقُدْرَةِ يَسْتَطِيعُ فِعْلَ مَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَمَانَةُ تَسْتَدْعِي الْحِكْمَةَ وَالْعَدَالَةَ، إِذْ بالحكمة يوثر الْأَفْعَال الصَّالِحَة وَيتْرك الشَّهَوَات الْبَاطِلَةَ، وَبِالْعَدَالَةِ يُوصِلُ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا. وَهَذَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ فِي أُمُورِ مَمْلَكَتِهِ وَبِأَنْ يَقْتَرِحَ عَلَيْهِ مَا يَرْجُو مِنْ خَيْرٍ، فَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ. وَجُمْلَةُ قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ حِكَايَةُ جَوَابِهِ لِكَلَامِ الْمَلِكِ وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وعَلى هُنَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ وَالتَّمَكُّنُ، أَيِ اجْعَلْنِي مُتَصَرِّفًا فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ. وخَزائِنِ جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ-، أَيِ الْبَيْتُ الَّذِي يُخْتَزَنُ فِيهِ الْحُبُوبُ وَالْأَمْوَالُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمَعْهُودَةُ لَهُمْ، أَيْ أَرْضُ مِصْرَ. وَالْمُرَادُ مِنْ خَزائِنِ الْأَرْضِ خَزَائِنُ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَهِيَ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ إِذْ لَا يَخْلُو سُلْطَانٌ مِنْ خَزَائِنَ مَعْدُودَةٍ لِنَوَائِبِ بِلَادِهِ لَا الْخَزَائِنُ الَّتِي زِيدَتْ مِنْ بَعْدُ لِخَزْنِ الْأَقْوَاتِ اسْتِعْدَادًا لِلسَّنَوَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: مِمَّا تُحْصِنُونَ [سُورَة يُوسُف: 48] . وَاقْتِرَاحُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَلِكَ إِعْدَادٌ لِنَفْسِهِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ عَلَى سُنَّةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ مِنِ ارتياح نُفُوسهم للْعلم فِي الْمَصَالِحِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ مَالًا لِنَفْسِهِ وَلَا عَرَضًا مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا، وَلكنه سَأَلَ أَنْ يُوَلِّيَهُ خَزَائِنَ الْمَمْلَكَةِ لِيَحْفَظَ الْأَمْوَالَ وَيَعْدِلَ فِي تَوْزِيعِهَا وَيَرْفُقَ بِالْأُمَّةِ فِي جَمْعِهَا وَإِبْلَاغِهَا لِمَحَالِّهَا.

وَعَلَّلَ طَلَبَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ الْمُفِيدُ تَعْلِيلَ مَا قَبْلَهَا لِوُقُوعِ (إِنَّ) فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَتَيْنِ يَعْسُرُ حُصُولُ إِحْدَاهُمَا فِي النَّاس بله كِلْتَيْهِمَا، وَهُمَا: الْحِفْظُ لِمَا يَلِيهِ، وَالْعِلْمُ بِتَدْبِيرِ مَا يَتَوَلَّاهُ، لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنَّ مَكَانَتَهُ لَدَيْهِ وَائْتِمَانَهُ إِيَّاهُ قَدْ صَادَفَا مَحَلَّهُمَا وَأَهْلَهُمَا، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَفِي بِوَاجِبِهِمَا، وَذَلِكَ صِفَةُ الْحِفْظِ الْمُحَقِّقِ لِلِائْتِمَانِ، وَصِفَةُ الْعِلْمِ الْمُحَقِّقِ لِلْمَكَانَةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيفٌ بِفَضْلِهِ لِيَهْتَدِيَ النَّاسُ إِلَى اتِّبَاعِهِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحِسْبَةِ. وَشَبَّهَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَقَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي دُخُولِهِ فِي الْخِلَافَةِ مَعَ نَهْيِهِ الْمُسْتَشِيرَ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَنْ يَتَأَمَّرَ عَلَى اثْنَيْنِ. قُلْتُ: وَهُوَ تَشْبِيهٌ رَشِيقٌ، إِذْ كِلَاهُمَا صِدِّيقٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ لِوُجُوبِ عَرْضِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِوِلَايَةِ عَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ عَلَى إِيثَار مَنْفَعَة نَفسه عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ عَلِمَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ هُنَالِكَ لِأَنَّهُ كَانَ الْمُؤْمِنَ الْوَحِيدَ فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ، فَهُوَ لِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ يَبُثُّ أُصُولَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا شَرِيعَةُ آبَائِهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. فَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَن عبد الرحمان بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عبد الرحمان لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» ، لِأَن عبد الرحمان بْنَ سَمُرَةَ لَمْ يَكُنْ مُنْفَرِدًا بِالْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ أَمْثَالِهِ وَلَا رَاجِحًا عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ جَوَازَ طَلَبِ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَهْلٌ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَلَّ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: «يَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ إِنَّ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَلِهِ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ

[سورة يوسف (12) : الآيات 56 إلى 57]

أَوْ وَلِيَهُ مَنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يُوَلَّى. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ وَلَا سَبِيلَ لِعَزْلِهِ إِلَّا بِطَلَبِ أَهْلِهِ» . وَقَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ غَيْرِ الْمَازِرِيِّ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الْإِمَارَةِ، أَيْ مِنْ «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، مَا ظَاهِرُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الطَّلَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» حُرْمَةُ الطَّلَبِ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: وَإِنَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا نَقَلَ الْمَازِرِيُّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ لِلْغَزَّالِيِّ فِي «الْوَجِيز» . [56، 57] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 56 إِلَى 57] وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ آيَةِ وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ آنِفا. والتبوؤ: اتِّخَاذُ مَكَانٍ لِلْبَوْءِ، أَيِ الرُّجُوع، فَمَعْنَى التبوؤ النُّزُولُ وَالْإِقَامَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً فِي [سُورَةِ يُونُسَ: 87] . وَقَوْلُهُ: يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ كِنَايَةٌ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي جَمِيعِ مَمْلَكَةِ مِصْرَ فَهُوَ عِنْدَ حُلُولِهِ بِمَكَانٍ مِنَ الْمَمْلَكَةِ لَوْ شَاءَ أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِهِ لَفَعَلَ، فَجُمْلَةُ يَتَبَوَّأُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا من لِيُوسُفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَيْثُ يَشاءُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ حَيْثُ نَشاءُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ-، أَيْ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، أَيْ حَيْثُ نَأْمُرُهُ أَوْ نُلْهِمُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَّحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَشَاءُ إِلَّا مَا شَاءَهُ اللَّهُ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 60]

وَجُمْلَةُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ إِلَى آخِرِهَا تَذْيِيلٌ لِمُنَاسَبَةِ عُمُومِهِ لِخُصُوصِ مَا أَصَابَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الرَّحْمَةِ فِي أَحْوَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ مَوَاقِفِ الْإِحْسَانِ الَّتِي كَانَ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ النِّعَمِ وَشَرَفِ الْمُنْزِلَةِ جَزَاءً لَهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُ وَلِكُلِّ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى. وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الْإِيمَانِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي جَانِبِ التَّقْوَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ عَقْدُ الْقَلْبِ الْجَازِمُ فَهُوَ حَاصِلٌ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا التَّقْوَى فَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاخْتِلَافِ الْأَعْمَال والأزمان. [58- 60] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 58 إِلَى 60] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) طَوَى الْقُرْآنُ أَخَرَةَ أَمْرِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَحُلُولَ سِنِي الْخِصْبِ وَالِادِّخَارِ ثُمَّ اعْتِرَاءَ سِنِي الْقَحْطِ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْغَرَضِ الَّذِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِظْهَارُ مَا يَلْقَاهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَوِيهِمْ وَكَيْفَ تَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةُ النَّصْرِ وَالْحُسْنَى، وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَتِ الْقِصَّةُ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ مَصِيرِ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي حَاجَةٍ إِلَى نِعْمَتِهِ، وَمِنْ جَمْعِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الَّذِي يُحِبُّهُ، ثُمَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ مَظَاهِرِ عَفْوِهِ عَنْ إِخْوَتِهِ وَصِلَتِهِ رَحِمَهُ، لِأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ أَثَرًا فِي مَعْرِفَةِ فَضَائِلِهِ. وَكَانَ مَجِيءُ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى مِصْرَ لِلْمِيرَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْقَحْطِ بِأَرْضِ مِصْرَ وَمَا جَاوَرَهَا مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ مَنَازِلِ آلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ

السَّلَامُ-، وَكَانَ مَجِيئُهُمْ فِي السّنة الثَّانِيَة مِنْ سِنِي الْقَحْطِ. وَإِنَّمَا جَاءَ إِخْوَتُهُ عَدَا بِنْيَامِينَ لِصِغَرِهِ، وَإِنَّمَا رَحَلُوا لِلْمِيرَةِ كُلُّهُمْ لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّزْوِيدَ مِنَ الطَّعَامِ كَانَ بِتَقْدِيرٍ يُرَاعَى فِيهِ عَدَدُ الْمُمْتَارِينَ، وَأَيْضًا لِيَكُونُوا جَمَاعَةً لَا يَطْمَعُ فِيهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَكَانَ الَّذِينَ جَاءُوا عَشَرَةً. وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُمْ جَاءُوا مُمْتَارِينَ مِنْ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [يُوسُف: 55] وَقَوْلِهِ الْآتِي: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ [سُورَة يُوسُف: 59] . وَدُخُولُهُمْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُرَاقِبُ أَمْرَ بَيْعِ الطَّعَامِ بِحُضُورِهِ وَيَأْذَنُ بِهِ فِي مَجْلِسِهِ خَشْيَةَ إِضَاعَةِ الْأَقْوَاتِ لِأَنَّ بِهَا حَيَاةَ الْأُمَّةِ. وَعَرَفَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِخْوَتَهِ بَعْدَ مُضِيِّ سِنِينَ عَلَى فِرَاقِهِمْ لِقُوَّةِ فِرَاسَتِهِ وَزَكَانَةِ عَقْلِهِ دُونَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَعَرَفَهُمْ. وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ إِيَّاهُمْ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّجَدُّدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَتَهُ إِيَّاهُمْ حَصَلَتْ بِحِدْثَانِ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ تَوَسُّمٍ وَتَأَمُّلٍ. وَقُرِنَ مَفْعُولُ مُنْكِرُونَ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلَامِ التَّقْوِيَةِ وَلَمْ يقل وهم منكرونه لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ جَهْلِهِمْ بِمَعْرِفَتِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ فِي لَهُ مُنْكِرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ نُكْرَتِهِمْ إِيَّاهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَإِنَّ شَمَائِلَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْسَتْ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَجْهَلَ وَيَنْسَى. وَالْجَهَازُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا- مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ، وَأَوَّلُهُ مَا سَافَرَ لِأَجْلِهِ مِنَ الْأَحْمَالِ. وَالتَّجْهِيزُ: إِعْطَاءُ الْجِهَازِ. وَقَوْلُهُ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ يَقْتَضِي وُقُوعَ حَدِيثٍ مِنْهُمْ عَنْ أَنَّ لَهُمْ أَخًا مِنْ أَبِيهِمْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ وَإِلَّا لَكَانَ إِنْبَاءُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُمْ بِهَذَا يُشْعِرُهُمْ

أَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ عَارِفًا بِهِمْ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَفِي التَّوْرَاةِ (¬1) أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- احْتَالَ لِذَلِكَ بِأَنْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ أَنْ يَكُونُوا جَوَاسِيسَ لِلْعَدو وَأَنَّهُمْ تبرأوا مِنْ ذَلِكَ فَعَرَّفُوهُ بِمَكَانِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَبِأَبِيهِمْ وَعدد عائلتهم، فَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ أَظْهَرَ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدَهُمْ رَهِينَةً عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعُوا وَيَأْتُوا بِأَخِيهِمُ الْأَصْغَرِ لِيُصَدِّقُوا قَوْلَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي. ومِنْ أَبِيكُمْ حَالٌ مِنْ (أَخٍ لَكُمْ) أَيْ أُخُوَّتُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيكُمْ، وَهَذَا مِنْ مَفْهُومِ الِاقْتِصَارِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَيْ مِنْ أَبِيكُمْ وَلَيْسَ مِنْ أُمِّكُمْ، أَيْ لَيْسَ بِشَقِيقٍ. وَالْعُدُولُ عَنْ أَن يُقَال: ايتوني بِأَخِيكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ حِكَايَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِظْهَارِ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِأَخِيهِمْ إِلَّا مِنْ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ عِنْدَهُ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الْمَعْرِفَةَ إِلَى التَّنْكِيرِ تَنَابُهًا فِي التَّظَاهُرِ بِجَهْلِهِ بِهِ. وَلا تَقْرَبُونِ أَيْ لَا تَعُودُوا إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ أَخَاهُمْ رَهِينَةً. وَقَوْلُهُ: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْعود إِلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ كِفَايَةِ الْمِيرَةِ الَّتِي امْتَارُوهَا لِعَائِلَةٍ ذَاتِ عَدَدٍ مِنَ النَّاسِ مِثْلَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ بَعْدُ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ [سُورَة يُوسُف: 65] . وَدَلَّ قَوْلُهُ: خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُنْزِلُ الْمُمْتَارِينَ فِي ضِيَافَتِهِ لِكَثْرَةِ الْوَافِدِينَ عَلَى مِصْرَ لِلْمِيرَةِ. وَالْمُنْزِلُ: الْمُضِيفُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَعْدِ بِأَنْ يُوفِيَ لَهُمُ الْكَيْلَ وَيُكْرِمَ ضِيَافَتَهُمْ إِنْ أَتَوْا بِأَخِيهِمْ. وَالْكَيْلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُرَاد مِنْهُ الْمَصْدَرِ. فَمَعْنَى فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أَيْ لَا يُكَالُ لَكُمْ، كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِهِمْ مِنِ ابتياع الطَّعَام. ¬

(¬1) الإصحاح (42) من سفر التكوين.

[سورة يوسف (12) : آية 61]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 61] قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَعْدٌ بِأَنْ يَبْذُلُوا قُصَارَى جُهْدِهِمْ فِي الْإِتْيَانِ بِأَخِيهِمْ وَإِشْعَارٌ بِصُعُوبَةِ ذَلِكَ. فَمَعْنَى سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سَنُحَاوِلُ أَنْ لَا يَشِحَّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ [سُورَة يُوسُف: 24] . وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ عَطْفٌ عَلَى الْوَعْدِ بِتَحْقِيقِ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وحرف التَّأْكِيد. [62] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 62] وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِفِتْيَتِهِ بِوَزْنِ فِعْلَةٍ جَمْعُ تَكْسِيرِ فَتًى مِثْلِ أَخٍ وَإِخْوَةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ لِفِتْيانِهِ بِوَزْنِ إِخْوَانٍ. وَالْأَوَّلُ صِيغَةُ قِلَّةٍ وَالثَّانِي صِيغَةُ كَثْرَةٍ وَكِلَاهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْآخَرِ. وَعَدَدُ الْفِتْيَانِ لَا يَخْتَلِفُ. وَالْفَتَى: مَنْ كَانَ فِي مَبْدَأِ الشَّبَابِ، وَمُؤَنَّثُهُ فَتَاةٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَادِمِ تَلَطُّفًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِالشَّبَابِ فِي الْخِدْمَةِ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مَا يَسْتَخْدِمُونَ الْعَبِيدَ. وَالْبِضَاعَةُ: الْمَالُ أَوِ الْمَتَاعُ الْمُعَدُّ لِلتِّجَارَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الدَّرَاهِمُ الَّتِي ابْتَاعُوا بِهَا الطَّعَامَ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها رَجَاءَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهَا عَيْنُ بِضَاعَتِهِمْ إِمَّا بِكَوْنِهَا مَسْكُوكٌ سِكَّةَ بِلَادِهِمْ وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ الصُّرَرِ الَّتِي كَانَتْ مَصْرُورَةً فِيهَا كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَيْ يَعْرِفُونَ أَنَّهَا وضعت هُنَالك قصدا عَطِيَّةٍ مِنْ عَزِيزِ مِصْرَ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 63 إلى 64]

وَالرِّحَالُ: جَمْعُ رَحْلٍ، وَهُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْبَعِيرِ مِنْ مَتَاعِ الرَّاكِبِ، وَلِذَا سُمِّيَ الْبَعِيرُ رَاحِلَةً. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 144] . وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ اسْتَشْعَرَ بِنَفَاذِ رَأْيِهِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ غَيْرَ وَاجِدِينَ بِضَاعَةً لِيَبْتَاعُوا بِهَا الْمِيرَةَ لِأَنَّهُ رَأَى مَخَايِلَ الضّيق عَلَيْهِم. [63، 64] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 63 إِلَى 64] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) مَعْنَى مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكَيْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ بِالطَّعَامِ الْمُعَبَّرِ عَنهُ بالجهاز قرينَة أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْكَيْلِ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ تَرْكِيبَ مُنِعَ مِنَّا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ، إِذْ جَعَلُوا الْكَيْلَ مَمْنُوعَ الِابْتِدَاءِ مِنْهُمْ لِأَنَّ مِنْ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ. وَالْكَيْلُ مَصْدَرٌ صَالِحٌ لِمَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ لَنْ نَكِيلَ، فَالْمَمْنُوعُ هُوَ ابْتِدَاءُ الْكَيْلِ مِنْهُمْ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِمْ مَا يُكَالُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْكَيْلِ بِطَلَبِهِ، أَيْ مُنِعَ مِنَّا ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّنَا لَا نُمْنَحُهُ إِلَّا إِذَا وَفَّيْنَا بِمَا وَعَدْنَا مِنْ إِحْضَارِ أَخِينَا. وَلِذَلِكَ صَحَّ تَفْرِيعُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا عَلَيْهِ، فَصَارَ تَقْدِير الْكَلَامِ: مُنِعْنَا مِنْ أَنْ نَطْلُبَ الْكَيْلَ إِلَّا إِذَا حَضَرَ

مَعَنَا أخونا. فَتعين أَنه حَكَوُا الْقِصَّةَ لِأَبِيهِمْ مُفَصَّلَةً وَاخْتَصَرَهَا الْقُرْآن لظُهُور المرد. وَالْمَعْنَى: إِنْ أَرْسَلْتَهُ مَعَنَا نَرْحَلْ لِلِاكْتِيَالِ وَنَطْلُبْهُ. وَإِطْلَاقُ الْمَنْعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ، لِأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا بِالْحِرْمَانِ فَصَارَ طَلَبُهُمْ مَمْنُوعًا مِنْهُمْ لِأَنَّ طَلَبَهُ عَبَثٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَكْتَلْ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ عِوَضَ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى أَخانا أَيْ يَكْتَلْ مَعَنَا. وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَرْسِلْ. وَأَكَّدُوا حِفْظَهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ. وَجَوَابُ أَبِيهِمْ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنِّي آمَنُكُمْ عَلَيْهِ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَاذَا أَفَادَ ائْتِمَانُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ حَتَّى آمَنَكُمْ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، فَهُوَ يَسْتَفْهِمُ عَنْ وَجْهِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ عَلَى احْتِمَالَيْهَا هُوَ التَّفْرِيعُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً [سُورَة يُوسُف: 64] ، أَيْ خَيْرٌ حِفْظًا مِنْكُمْ، فَإِنْ حَفِظَهُ اللَّهُ سَلِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ لَمْ يَسْلَمْ كَمَا لَمْ يَسْلَمْ أَخُوهُ مِنْ قَبْلُ حِينَ أَمِنْتُكُمْ عَلَيْهِ. وَهُمْ قَدِ اقْتَنَعُوا بِجَوَابِهِ وَعَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ مُرْسِلٌ مَعَهُمْ أَخَاهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُرَاجِعُوهُ فِي شَأْنه. وحافِظاً مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ حافِظاً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهِيَ حَال لَازِمَة.

[سورة يوسف (12) : آية 65]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 65] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) أَصْلُ الْمَتَاعِ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الْعُرُوضِ وَالثِّيَابِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى أَعْدَالِ الْمَتَاعِ وَأَحْمَالِهِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ الْحَالِّ فِيهِ. وَجُمْلَةُ قالُوا يَا أَبانا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَرَقُّبِ السَّامِعِ أَنْ يَعْلَمَ مَاذَا صَدَرَ مِنْهُمْ حِينَ فَجَأَهُمْ وِجْدَانُ بِضَاعَتِهِمْ فِي ضمن مَتَاعهمْ لِأَنَّهُ مُفَاجَأَةٌ غَرِيبَةٌ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُعْطَفْ بِالْفَاءِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَبْغِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَطَلَّبُ مِنْهُمْ تَحْصِيلَ بُغْيَةٍ فَيُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ بُغْيَةٌ أُخْرَى، أَيْ مَاذَا نَطْلُبُ بَعْدَ هَذَا. وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا نَافِيَةً، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ. وَجُمْلَةُ هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا نَبْغِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَإِنَّمَا عَلِمُوا أَنَّهَا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ بِقَرِينَةِ وَضْعِهَا فِي الْعِدْلِ بَعْدَ وَضْعِ الطَّعَامِ وَهُمْ قَدْ كَانُوا دَفَعُوهَا إِلَى الْكَيَّالِينَ، أَوْ بِقَرِينَةِ مَا شَاهَدُوا فِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ إِنْ هُمْ أَتَوْا بِأَخِيهِمْ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [سُورَة يُوسُف: 59] . وَجُمْلَةُ وَنَمِيرُ أَهْلَنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا، لِأَنَّهَا فِي قُوَّةِ هَذَا ثَمَنُ مَا نَحْتَاجُهُ مِنَ الْمِيرَةِ صَارَ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ بِهِ أَهْلَنَا، أَيْ نَأْتِيهِمْ بِالْمِيرَةِ. وَالْمِيرَةُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ-: هِيَ الطَّعَامُ الْمَجْلُوبُ.

[سورة يوسف (12) : آية 66]

وَجُمْلَةُ وَنَحْفَظُ أَخانا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَنَمِيرُ أَهْلَنا، لِأَنَّ الْمَيْرَ يَقْتَضِي ارْتِحَالًا لِلْجَلْبِ، وَكَانُوا سَأَلُوا أَبَاهُمْ أَنْ يَكُونَ أَخُوهُمْ رَفِيقًا لَهُمْ فِي الارتحال الذُّكُور، فَكَانَت الْمُنَاسب بَيْنَ جُمْلَةِ وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَجُمْلَةِ وَنَحْفَظُ أَخانا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ تَطْمِينًا لِخَاطِرٍ فِيهِمْ. وَجُمْلَةُ وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ زِيَادَةٌ فِي إِظْهَارِ حِرْصِهِمْ عَلَى سَلَامَةِ أَخِيهِمْ لِأَنَّ فِي سَلَامَتِهِ فَائِدَةً لَهُمْ بِازْدِيَادِ كَيْلِ بَعِيرٍ، لِأَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يُعْطِي الْمُمْتَارَ أَكْثَرَ مِنْ حِمْلِ بَعِيرٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَ أَخُوهُمْ مَعَهُمْ أَعْطَاهُ حِمْلَ بَعِيرٍ فِي عِدَادِ الْأُخْوَةِ. وَبِهِ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا. وَهَذِهِ الْجُمَلُ مُرَتَّبَةٌ تَرْتِيبًا بَدِيعًا لِأَنَّ بَعْضَهَا مُتَوَلِّدٌ عَنْ بَعْضٍ. وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ إِلَى الطَّعَامِ الَّذِي فِي مَتَاعِهِمْ. وَإِطْلَاقُ الْكَيْلِ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ. قِيلَ: إِنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لَهُمْ: لَعَلَّهُمْ نَسُوا الْبِضَاعَةَ فَإِذَا قَدِمْتُمْ عَلَيْهِمْ فَأَخْبِرُوهُمْ بِأَنَّكُمْ وَجَدْتُمُوهَا فِي رحالكُمْ. [66] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 66] قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) اشْتَهَرَ الْإِيتَاءُ وَالْإِعْطَاءُ وَمَا يُرَادُ بِهِمَا فِي إِنْشَاءِ الْحَلِفِ لِيَطْمَئِنَّ بِصِدْقِ الْحَالِفِ غَيْرُهُ وَهُوَ الْمَحْلُوفُ لَهُ. وَفِي حَدِيثِ الْحَشْرِ «فَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ» ، كَمَا أُطْلِقَ فِعْلُ الْأَخْذِ عَلَى تَلَقِّي الْمَحْلُوفِ لَهُ لِلْحَلِفِ، قَالَ تَعَالَى: وأخذنا مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [سُورَة النِّسَاء: 21] وقَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ [سُورَة يُوسُف: 80] .

وَلَعَلَّ سَبَبَ إِطْلَاقِ فِعْلِ الْإِعْطَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ كَانَ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ يُعْطِي الْمَحْلُوفَ لَهُ شَيْئًا تَذْكِرَةً لِلْيَمِينِ مِثْلَ سَوْطِهِ أَوْ خَاتَمِهِ، أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ ضَمَانًا يَكُونُ رَهِينَةً عِنْدَهُ. وَكَانَتِ الْحمالَة طَريقَة للتوثق فَشَبَّهَ الْيَمِينَ بِالْحَمَالَةِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْإِعْطَاءَ وَالْأَخْذَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ ضِدُّ ذَلِكَ فِي إبِْطَال التَّوَثُّق يُقَالُ: رَدَّ عَلَيْهِ حِلْفَهُ. وَالْمَوْثِقُ: أَصْلُهُ مصدر ميمي للتوثّق، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مَا بِهِ التَّوَثُّقُ، يَعْنِي الْيَمِينَ. ومِنَ اللَّهِ صِفَةٌ لِ مَوْثِقاً، ومِنَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ مَوْثِقًا صَادِرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ فِيمَا وَعَدُوا بِهِ بِأَنْ يَحْلِفُوا بِاللَّهِ فَتَصِيرُ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَتَوَثُّقٍ صَادِرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: لَكَ مِيثَاقُ اللَّهِ أَوْ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُضَافُ الْمِيثَاقُ وَالْعَهْدُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَأَنَّ الْحَالِفَ اسْتَوْدَعَ اللَّهَ مَا بِهِ التَّوَثُّقُ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ. وَجُمْلَةُ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَوْثِقاً. وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلٍ يَقُولُهُ أَبْنَاؤُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ إِيقَاعُهُ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِالْقَسَمِ لَقَالُوا: لَنَأْتِيَنَّكَ بِهِ، فَلَمَّا حَكَاهُ هُوَ رَكَّبَ الْحِكَايَةَ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُهُمْ وَبِالضَّمَائِرِ الْمُنَاسِبَةِ لِكَلَامِهِ بِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 117] ، وَإِنَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: قُلْ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَمَعْنَى يُحاطَ بِكُمْ يُحِيطُ بِكُمْ مُحِيطٌ وَالْإِحَاطَةُ: الْأَخْذُ بِأَسْرٍ أَوْ هَلَاكٍ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِمْ، وَأَصْلُهُ إِحَاطَةُ الْجَيْشِ فِي الْحَرْبِ، فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ التَّغَلُّبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [سُورَة يُونُس: 22] .

[سورة يوسف (12) : آية 67]

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ فَتَأْوِيلُهُ: إِلَّا مُحَاطًا بِكُمْ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَقِيبٌ عَلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْحَلِفِ. وَالْوَكِيلُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَوْكُولٍ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [173] . [67] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 67] وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَقالَ يَا بَنِيَّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يُوسُف: 66] . وَإِعَادَةُ فِعْلِ قالَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ زَمَنِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مَعًا مُسَبَّبَيْنِ عَلَى إِيتَاءِ مَوْثِقِهِمْ، لِأَنَّهُ اطْمَأَنَّ لِرِعَايَتِهِمُ ابْنَهُ وَظَهَرَتْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي سفرهم للإمتار، فَقَوْلُهُ: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ صَادِرٌ فِي وَقْتِ إِزْمَاعِهِمُ الرَّحِيلَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِهِ هَذَا الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَخَّ. وَالْأَبْوَابُ: أَبْوَابُ الْمَدِينَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَابِ آنِفًا. وَكَانَتْ مَدِينَةَ (مَنْفِيسَ) مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْعَالَمِ فَهِيَ ذَاتُ أَبْوَابٍ. وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَرْعِيَ عَدَدُهُمْ أَبْصَارَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحُرَّاسَهَا وَأَزْيَاؤُهُمْ أَزْيَاءُ الْغُرَبَاءِ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُوجِسُوا مِنْهُمْ خِيفَةً مِنْ تَجَسُّسٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَرُبَّمَا سَجَنُوهُمْ

أَوْ رَصَدُوا الْأَعْيُنَ إِلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ضُرًّا لَهُمْ وَحَائِلًا دُونَ سُرْعَةِ وُصُولِهِمْ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَدُونَ قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ: «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ» . وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ إِقَامَةِ الْحُرَّاسِ وَالْأَرْصَادِ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ اقْتَصَرَ عَلَى تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ دُونَ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنَ الْمَشْيِ فِي سِكَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَوَثِقَ بِأَنَّهُمْ عَارِفُونَ بِسِكَكِ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَخْشَ ضَلَالَهُمْ فِيهَا، وَعَلِمَ أَنَّ (بِنْيَامِينَ) يَكُونُ فِي صُحْبَةِ أَحَدِ إِخْوَتِهِ لِئَلَّا يَضِلَّ فِي الْمَدِينَةِ. وَالْمُتَفَرِّقَةُ أَرَادَ بِهَا الْمُتَعَدِّدَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الْمُتَعَدِّدَةِ إِلَى الْمُتَفَرِّقَةِ الْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ الْأَمْرِ وَهِيَ إِخْفَاءُ كَوْنِهِمْ جَمَاعَةً وَاحِدَةً. وَجُمْلَةُ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، أَيْ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ بِوَصِيَّتِي هَذِهِ شَيْئًا. ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أُغْنِي، أَيْ لَا يَكُونُ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مُغْنِيًا غَنَاءً مُبْتَدِئًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ هُوَ الْأَدَبُ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَا أَمَرَ اللَّهُ، فَإِنْ صَادَفَ مَا قَدَّرَهُ فَقَدْ حَصَلَ فَائِدَتَانِ، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَدَّرَهُ حَصَلَتْ فَائِدَةُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاقْتِنَاعُ النَّفْسِ بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَرْكِيبِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [41] . وَأَرَادَ بِهَذَا تَعْلِيمَهُمُ الِاعْتِمَادَ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ الظَّاهِرَةِ تَأَدُّبًا مَعَ وَاضِعِ الْأَسْبَابِ وَمُقَدِّرِ الْأَلْطَافِ فِي رِعَايَةِ الْحَالَيْنِ، لِأَنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَطَّلِعَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَالِ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّفَهَا بِعَلَامَاتِهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّعْيِ لَهَا. وَهَذَا سِرُّ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ، وَفِي الْأَثَرِ «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا يَسَّرَ أَسْبَابَهُ»

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [سُورَة الْإِسْرَاء: 19] . ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْأَسْبَابِ أَنْ تَحْصُلَ عِنْدَهَا مُسَبَّبَاتُهَا. وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ بِمُعَارَضَةِ أَسْبَابٍ أُخْرَى مُضَادَّةٍ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ حَاصِلَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِكَوْنِ السَّبَبِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِأَشْيَاءَ متضادة باعتبارات فيخطىء تَعَاطِيَ السَّبَبِ فِي مُصَادَفَةِ الْمُسَبَّبِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْلَا نِظَامُ الْأَسْبَابِ وَمُرَاعَاتُهَا لَصَارَ الْمُجْتَمَعُ الْبَشَرِيُّ هَمَلًا وَهَمَجًا. وَالْإِغْنَاءُ: هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَنَاءِ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَبِالْمَدِّ-، وَهُوَ الْإِجْزَاءُ وَالِاضْطِلَاعُ وَكِفَايَةُ الْمُهِمِّ، وَأَصْلُهُ مُرَادِفُ الْغِنَى- بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَالْقَصْرِ- وَهُمَا مَعًا ضِدُّ الْفَقْرِ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْغَنَاءِ الْمَفْتُوحِ الْمَمْدُودِ فِي الْإِجْزَاءِ وَالْكِفَايَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ مَنْ أَجْزَأَ وَكَفَى فَقَدْ أَذْهَبَ عَنْ نَفْسِهِ الْحَاجَةَ إِلَى الْمُغْنِينَ وَأَذْهَبَ عَمَّنْ أَجْزَأَ عَنْهُ الِاحْتِيَاجَ أَيْضًا، وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِيُّ حَتَّى غَلَبَ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْكَلَامِ تَخْصِيصُ الْغَنَاءِ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتَخْصِيصُ الْغِنَى- بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ- فِي مَعْنَى ضِدِّ الْفَقْرِ وَنَحْوِهِ حَتَّى صَارَ الْغَنَاءُ الْمَمْدُودُ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ فِي مَعْنَى ضِدِّ الْفَقْرِ. وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ دَقَائِقِ اسْتِعْمَالِهِمْ فِي تَصَارِيفِ الْمُتَرَادِفَاتِ. فَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ ابْنِ بِرِّيٍّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْغناء مصدر ناشىء عَنْ فِعْلِ أَغْنَى الْمَهْمُوزِ بِحَذْفِ الزَّائِدِ الْمُوهِمِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ مُجَرَّدٌ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ فِعْلِ غَنِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مَتْرُوكٌ مُمَاتٌ لَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. وَلِذَلِكَ فَمَعْنَى فِعْلِ (أَغْنَى) بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَعْنَى الْأَفْعَالِ الْقَاصِرَةِ، وَلَمْ يُفِدْهُ الْهَمْزُ تَعْدِيَةً، فَلَعَلَّ هَمْزَتَهُ دَالَّةٌ عَلَى الصَّيْرُورَةِ ذَا غِنًى، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُ أَنْ لَا يَنْصِبَ الْمَفْعُولَ بِهِ بَلْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مُرَادِفًا لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ: أُغْنِي غَنَاءَ الذَّاهِبِ ... ينَ أُعَدُّ لَلْحَدَثَانِ عَدًّا

وَيَقُولُونَ: أَغْنَى فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، أَيْ فِي أَجْزَاهُ عِوَضَهُ وَقَامَ مَقَامَهُ، وَيَأْتُونَ بِمَنْصُوبٍ فَهُوَ تَرْكِيبٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ حَرْفَ (عَنْ) فِيهِ لِلْبَدَلِيَّةِ وَهِيَ الْمُجَاوَزَةُ الْمَجَازِيَّةُ. جَعَلَ الشَّيْءَ الْبَدَلَ عَنِ الشَّيْءِ مُجَاوِزًا لَهُ لِأَنَّهُ حَلَّ مَحَلَّهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَكَأَنَّهُ جَاوَزَهُ فَسَمَّوْا هَذِهِ الْمُجَاوَزَةَ بَدَلِيَّةً وَقَالُوا: إِنَّ (عَنْ) تَجِيءُ لِلْبَدَلِيَّةِ كَمَا تَجِيءُ لَهَا الْبَاءُ. فَمَعْنَى مَا أُغْنِي عَنْكُمْ لَا أُجْزِي عَنْكُمْ، أَيْ لَا أَكْفِي بَدَلًا عَنْ إِجْزَائِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. ومِنْ شَيْءٍ نَائِبٌ مَنَابَ شَيْئًا، وَزِيدَتْ مِنْ لِتَوْكِيدِ عُمُومِ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [سُورَة يس: 23] أَيْ مِنَ الضُّرِّ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئاً مَفْعُولًا مُطْلَقًا، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْغَنَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [سُورَة الْبَقَرَة: 48] ، قَالَ: أَيْ قَلِيلًا مِنَ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً لَكِنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ شَيْئاً مَفْعُولًا بِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّوَسُّعِ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ. وَجُمْلَةُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. وَالْحُكْمُ: هُنَا بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ وَالتَّقْدِيرِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [سُورَة الطَّلَاق: 3] . وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَازِعَ مُرَادَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ وَاجِبُهُ أَنْ يَتَطَلَّبَ الْأُمُورَ مِنْ أَسْبَابِهَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ وَصِيَّتَهُ بِأَخْذِ الْأَسْبَابِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ هُوَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ الَّذِي يَضِلُّ فِي فَهْمِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اقْتِصَارًا وَإِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ أَتَى بِجُمْلَةِ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أَمْرًا لَهُمْ

[سورة يوسف (12) : آية 68]

وَلِغَيْرِهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَاجِبُ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ، وَأَنَّ مَقَامَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّدِّيقِينَ بَلْ هُوَ وَاجِبُ كُلِّ مُؤْمِنٍ كَامِلِ الْإِيمَانِ لَا يَخْلِطُ إِيمَانَهُ بأخطاء الجاهليات. [68] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 68] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَدَلَّتْ حَيْثُ عَلَى الْجِهَةِ، أَيْ لَمَّا دَخَلُوا مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ بِالدُّخُولِ مِنْهَا. فَالْجُمْلَةُ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا حَيْثُ هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْجِهَةِ. وَقَدْ أَغْنَتْ جُمْلَةُ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ عَنْ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمُ ارْتَحَلُوا وَدَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ سَلِمُوا مِمَّا كَانَ يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ. وَمَا كَانَ دُخُولُهُمْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَوْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُحَاطَ بِهِمْ، فَالْكَلَامُ إِيجَازٌ. وَمَعْنَى مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَنَّهُ مَا كَانَ يَرُدُّ عَنْهُمْ قَضَاءَ اللَّهِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ سَلَامَتَهُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا حاجَةً مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ الشَّيْءِ الْمَنْفِيِّ إِغْنَاؤُهُ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَضَاهَا. وَالْقَضَاءُ: الْإِنْفَاذُ، وَمَعْنَى قَضَاهَا أَنْفَذَهَا. يُقَالُ: قَضَى حَاجَةً لِنَفْسِهِ، إِذَا أَنْفَذَ مَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ، أَيْ نَصِيحَةً لِأَبْنَائِهِ أَدَّاهَا لَهُمْ وَلَمْ يَدَّخِرْهَا عَنْهُمْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَظُنُّهُ نَافِعًا لَهُمْ إِلَّا أَبْلَغَهُ إِلَيْهِمْ.

وَالْحَاجَةُ: الْأَمْرُ الْمَرْغُوبُ فِيهِ. سُمِّيَ حَاجَةً لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَهِيَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. وَالْحَاجَةُ الَّتِي فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هِيَ حِرْصُهُ عَلَى تَنْبِيهِهِمْ لِلْأَخْطَارِ الَّتِي تَعْرِضُ لِأَمْثَالِهِمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ إِذَا دَخَلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْعِلْمِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَنَّ مَا أَسْدَاهُ مِنَ النُّصْحِ لَهُمْ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ عِلْمِ النُّبُوءَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْتِدْرَاكٌ نَشَأَ عَنْ جُمْلَةِ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ إِلَخَّ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَخْذِ أَسْبَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالنَّصِيحَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَدَّرَهُ لَهُمْ، فَإِنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى خَفِيٌّ عَنِ النَّاسِ، وَقَدْ أَمَرَ بِسُلُوكِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَعَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ تَطَلُّبَ الْأَمْرَيْنِ فَيُهْمِلُونَ أَحَدَهُمَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُهْمِلُ مَعْرِفَةَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الظَّاهِرِيَّةَ لَا تَدْفَعُ أَمْرًا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ وَاقِعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُهْمِلُ الْأَسْبَابَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا. وَقَدْ دَلَّ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ بِصَرِيحِهِ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَمِلَ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِتَعْرِيضِهِ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ عَلِمُوا مُرَاعَاةَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَقَرَّرَ الثَّنَاءُ عَلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِاسْتِفَادَتِهِ مِنَ الْكَلَامِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالصَّرَاحَةِ وَمَرَّةً بِالِاسْتِدْرَاكِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي جَهَالَةٍ عَنْ وَضْعِ هَاتِهِ الْحَقَائِقِ مَوْضِعَهَا وَلَا يَخْلُونَ عَنْ مُضَيِّعٍ لِإِحْدَاهِمَا، وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ

[سورة يوسف (12) : آية 69]

اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقُفُولِ عَنْ عَمْوَاسَ لَمَّا بَلَغَهُ ظُهُورُ الطَّاعُونِ بِهَا وَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَلَسْنَا نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ... إِلَى آخر الْخَبَر. [69] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 69] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) مَوْقِعُ جُمْلَةِ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ كَمُوقِعِ جُمْلَةِ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ [سُورَة يُوسُف: 68] فِي إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَالْإِيوَاءُ: الْإِرْجَاعُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [8] . وَأُطْلِقَ الْإِيوَاءُ هُنَا مَجَازًا عَلَى الْإِدْنَاءِ وَالتَّقْرِيبِ كَأَنَّهُ إِرْجَاعٌ إِلَى مَأْوًى، وَإِنَّمَا أَدْنَاهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِسْرَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ. وَجُمْلَةُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ. وَكَلَّمَهُ بِكَلِمَةٍ مُخْتَصَرَةٍ بَلِيغَةٍ إِذْ أَفَادَهُ أَنَّهُ هُوَ أَخُوهُ الَّذِي ظَنَّهُ أَكَلَهُ الذِّئْبُ. فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَبِالْقَصْرِ الَّذِي أَفَادَهُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، أَي أَنا مَقْصُور عَلَى الْكَوْنِ أَخَاكَ لَا أَجْنَبِيٌّ عَنْكَ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَالِابْتِئَاسُ: مُطَاوَعَةُ الْإِبْئَاسِ، أَيْ جَعْلُ أَحَدٍ بَائِسًا، أَيْ صَاحِبَ بُؤْسٍ. وَالْبُؤْسُ: هُوَ الْحُزْنُ وَالْكَدَرُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ سُورَةِ هُودٍ. وَالضَّمِيرَانِ فِي كانُوا ويَعْمَلُونَ رَاجِعَانِ إِلَى

[سورة يوسف (12) : الآيات 70 إلى 75]

إِخْوَتِهِمَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَجِدُهُ أَخُوهُ (بِنْيَامِينُ) مِنَ الْحُزْنِ لِهَلَاكِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ وَفَظَاظَةِ إِخْوَتِهِ وَغَيْرَتِهِمْ مِنْهُ. وَالنَّهْيُ عَنِ الِابْتِئَاسِ مُقْتَضٍ الْكَفَّ عَنْهُ، أَيْ أَزِلْ عَنْكَ الْحُزْنَ وَاعْتَضْ عَنْهُ بِالسُّرُورِ. وَأَفَادَ فِعْلُ الْكَوْنِ فِي الْمُضِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا عَمِلُوهُ فِيمَا مَضَى. وَأفَاد صوغ يَعْمَلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَنَّهُ أَعْمَالٌ مُتَكَرِّرَةٌ مِنَ الْأَذَى. وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِنَفْسِ أَخِيهِ لِتَلَقِّي حَادِثِ الصُّوَاعِ بِاطْمِئْنَانٍ حَتَّى لَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِمَحَلِّ الرِّيبَةِ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَام-. [70- 75] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 70 إِلَى 75] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ. وَإِسْنَادُ جَعَلَ السِّقَايَةَ إِلَى ضَمِيرِ يُوسُفَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ آمِرٌ بِالْجَعْلِ وَالَّذِينَ جَعَلُوا السِّقَايَةَ هُمُ الْعَبِيدُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْكَيْلِ. وَالسِّقَايَةُ: إِنَاءٌ كَبِيرٌ يُسْقَى بِهِ الْمَاءُ وَالْخَمْرُ. وَالصُّوَاعُ: لُغَةٌ فِي الصَّاعِ، وَهُوَ وِعَاءٌ لِلْكَيْلِ يُقَدَّرُ بِوَزْنِ رِطْلٍ وَرُبُعٍ أَوْ وَثُلُثٍ. وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ

بِالْمِقْدَارِ، يُقَدِّرُ كُلُّ شَارِبٍ لِنَفْسِهِ مَا اعْتَادَ أَنَّهُ لَا يَصْرَعُهُ، وَيَجْعَلُونَ آنِيَةَ الْخَمْرِ مُقَدَّرَةً بِمَقَادِيرَ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَقُولُ الشَّارِبُ لِلسَّاقِي: رِطْلًا أَوْ صَاعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَتَسْمِيَةُ هَذَا الْإِنَاءِ سِقَايَةً وَتَسْمِيَتُهُ صُوَاعًا جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي التَّوْرَاةِ سُمِّيَ طَاسًا، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْ فِضَّةٍ. وَتَعْرِيفُ السِّقايَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ سِقَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهَا مَجْلِسُ الْعَظِيمِ. وَإِضَافَةُ الصُّوَاعِ إِلَى الْمَلِكِ لِتَشْرِيفِهِ، وَتَهْوِيلِ سَرِقَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَة، لِأَن شؤون الدَّوْلَةِ كُلَّهَا لِلْمَلِكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ الْمَلِكُ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَعْظِيمًا لَهُ. وَالتَّأْذِينُ: النِّدَاءُ الْمُكَرَّرُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] . وَالْعِيرُ: اسْمٌ لِلْحَمُولَةِ مِنْ إِبِلٍ وَحَمِيرٍ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ أَحْمَالٍ وَمَا مَعَهَا مِنْ رُكَّابِهَا، فَهُوَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَأُسْنِدَتِ السَّرِقَةُ إِلَى جَمِيعِهِمْ جَرْيًا عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْجَمَاعَةِ بِجُرْمِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ. وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ أَيَّتُهَا لِتَأْوِيلِ الْعِيرِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الرُّكَّابَ هُمُ الْأَهَمُّ. وَجُمْلَةُ قالُوا جَوَابٌ لِنِدَاءِ الْمُنَادِي إِيَّاهُمْ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ، فَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا فِي طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَكَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْعِيرِ. وَجُمْلَةُ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ قالُوا. وَمَرْجِعُ ضَمِيرِ أَقْبَلُوا عَائِدٌ إِلَى فِتْيَانِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ

إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قالُوا، أَيْ وَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فِتْيَانُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَجَعَلُوا جُعْلًا لِمَنْ يَأْتِي بِالصُّوَاعِ. وَالَّذِي قَالَ: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمُقْبِلِينَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ. وَالزَّعِيمُ: الْكَفِيلُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ جَعَلَهَا الْفُقَهَاءُ أَصْلًا لِمَشْرُوعِيَّةِ الْجُعْلِ وَالْكَفَالَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ذَا شَرْعٍ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ لِلْأَخْذِ بِ (أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا) : إِذَا حَكَاهُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَوْمئِذٍ نبيئا فَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ رَسُولٌ بِشَرْعٍ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَكُنْ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتْبَاعٌ فِي مِصْرَ قَبْلَ وُرُودِ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِيهِمْ. فَهَذَا مَأْخَذٌ ضَعِيفٌ. وَالتَّاءُ فِي تَاللَّهِ حَرْفُ قَسَمٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَيَخْتَصُّ بِالدُّخُولِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى لَفْظِ رَبِّ، وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ الْعَجِيبِ. وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي [سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: 57] . وَقَوْلُهُمْ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ. أَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَفَدَوْا عَلَى مِصْرَ مَرَّةً سَابِقَةً وَاتُّهِمُوا بِالْجَوْسَسَةِ فَتَبَيَّنَتْ بَرَاءَتُهُمْ بِمَا صَدَقُوا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا وَصَفُوهُ مِنْ حَالِ أَبِيهِمْ وَأَخِيهِمْ. فَالْمُرَادُ بِ الْأَرْضِ الْمَعْهُودَةُ، وَهِيَ مِصْرُ. وَأَمَّا بَرَاءَتُهُمْ مِنَ السَّرِقَةِ فَبِمَا أَخْبَرُوا بِهِ عِنْدَ قُدُومِهِمْ مِنْ وِجْدَانِ بِضَاعَتِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ، وَلَعَلَّهَا وَقَعَتْ فِي رِحَالِهِمْ غَلَطًا. عَلَى أَنَّهُمْ نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الِاتِّصَافَ بِالسَّرِقَةِ بِأَبْلَغَ مِمَّا نَفَوْا بِهِ الْإِفْسَادَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ بِنَفْيِ الْكَوْنِ سَارِقِينَ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: وَمَا جِئْنَا لِنَسْرِقَ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَصْفٌ يُتَعَيَّرُ بِهِ، وَأَمَّا الْإِفْسَادُ الَّذِي نَفَوْهُ، أَيِ التَّجَسُّسُ فَهُوَ مِمَّا يَقْصِدُهُ الْعَدُوُّ عَلَى عَدُوِّهِ فَلَا يَكُونُ عَارًا، وَلَكِنَّهُ اعْتِدَاءٌ فِي نَظَرِ الْعَدُوِّ.

وَقَوْلُ الْفِتْيَانِ (فَما جَزاؤُهُ) إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ تَحْكِيمٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنُوا جَزَاءً يُؤْخَذُونَ بِهِ، فَهَذَا تَحْكِيمُ الْمَرْءِ فِي ذَنبه. وَمعنى فَما جَزاؤُهُ: مَا عِقَابُهُ. وَضَمِيرُ جَزاؤُهُ عَائِدٌ إِلَى الصُّوَاعِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامِ، أَيْ مَا جَزَاءُ سَارِقِهِ أَوْ سَرِقَتِهِ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ إِنْ تَبَيَّنَ كَذِبُكُمْ بِوُجُودِ الصُّوَاعِ فِي رِحَالِكُمْ. وَقَوْلُهُ: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ. جَزاؤُهُ الْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ، ومَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَهِيَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَأَنَّ جُمْلَةَ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجُمْلَةَ فَهُوَ جَزاؤُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ، وَالْجُمْلَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَجُمْلَةُ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ صِلَةَ الْمَوْصُولِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ الصُّوَاعُ هُوَ جَزَاءُ السَّرِقَةِ، أَيْ ذَاتُهُ هِيَ جَزَاءُ السَّرِقَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ تَكُونُ عِوَضًا عَنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، أَيْ أَن يصير رَفِيقًا لِصَاحِبِ الصُّوَاعِ لِيَتِمَّ مَعْنَى الْجَزَاءِ بِذَاتٍ أُخْرَى. وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ إِتْلَافَ ذَاتِ السَّارِقِ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لَا تَبْلُغُ عُقُوبَتُهَا حَدَّ الْقَتْلِ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ فَهُوَ جَزاؤُهُ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِجُمْلَةِ جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، لِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ الِانْفِلَاتِ مِنْهُ، وَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ تَفْرِيعِ التَّأْكِيدِ عَلَى الْمُوَكَّدِ. وَقَدْ حَكَمَ إِخْوَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وَتَرَاضَوْا عَلَيْهِ فَلَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا مَشْهُورًا بَيْنَ الْأُمَمِ أَنْ يُسْتَرَقَّ السَّارِقُ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْمَغْلُوبِ فِي الْقِتَالِ. وَلَعَلَّهُ كَانَ حُكْمًا مَعْرُوفًا فِي مِصْرَ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [سُورَة يُوسُف: 76] . وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ بِقِيمَة كَلَامِ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-،

[سورة يوسف (12) : آية 76]

أَيْ كَذَلِكَ حُكْمُ قَوْمِنَا فِي جَزَاءِ السَّارِقِ الظَّالِمِ بِسَرِقَتِهِ أَوْ أَرَادُوا أَنَّهُ حُكْمُ الْإِخْوَةِ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ مِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ، أَيْ فَهُوَ حَقِيقٌ لِأَنْ نَجْزِيَهُ بِذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْجَزَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ نَجْزِي، أَيْ نَجْزِي الظَّالِمِينَ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْله. [76] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 76] فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) فَبَدَأَ أَيْ أَمَرَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْبَدَاءَةِ بِأَوْعِيَةِ بَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ. وَأَوْعِيَةٌ: جَمْعُ وِعَاءٍ، وَهُوَ الظَّرْفُ،. مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَعْيِ وَهُوَ الْحِفْظُ. وَالِابْتِدَاءُ بِأَوْعِيَةِ غَيْرِ أَخِيهِ لِإِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُوجَدُ فِي وِعَائِهِ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ اسْتَخْرَجَها لِلسِّقَايَةِ. وَهَذَا التَّأْنِيثُ فِي تَمَامِ الرَّشَاقَةِ إِذْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ أَنَّهَا سِقَايَةٌ جُعِلَتْ صُوَاعًا. فَهُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَالْقَوْلُ فِي كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ كَالْقَوْلِ فِي كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سُورَة يُوسُف: 75] . وَالْكَيْدُ: فِعْلٌ يُتَوَصَّلُ بِظَاهِرِهِ إِلَى مَقْصِدٍ خَفِيٍّ. وَالْكَيْدُ: هُنَا هُوَ إِلْهَامُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِهَذِهِ الْحِيلَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي وَضْعِ الصُّوَاعِ وَتَفْتِيشِهِ وَإِلْهَامِ إِخْوَتِهِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُصْمَتِ. وَأُسْنِدَ الْكَيْدُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُلْهِمُهُ فَهُوَ مُسَبِّبُهُ. وَجَعَلَ الْكَيْدَ لِأَجَلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ لِفَائِدَتِهِ.

وَجُمْلَةُ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بَيَانٌ لِلْكَيْدِ بِاعْتِبَارِ جَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ وَضْعِ السِّقَايَةِ وَمِنْ حُكْمِ إِخْوَتِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُلَائِمُ مَرْغُوبَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِبْقَاءِ أَخِيهِ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ شَرِيعَةُ الْقِبْطِ تُخَوِّلُهُ ذَلِكَ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ شَرْعَهُمْ فِي جَزَاءِ السَّارِقِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الشَّيْءُ وَيُضْرَبَ وَيُغَرَّمَ ضِعْفَيِ الْمَسْرُوقِ أَوْ ضِعْفَيْ قِيمَتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ حُكْمِهِ وَهُوَ استرقاق السراق. وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ لَوْلَا حِيلَةُ وَضْعِ الصُّوَاعِ فِي مَتَاعِ أَخِيهِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا شَائِعًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ [سُورَة يُوسُف: 75] كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ كَانَ عَادِلًا فَلَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ فِي بِلَادِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَمِثْلُهُ مَا كَانَ فِي شَرْعِ الرُّومَانِ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْمَدِينِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الشَّرِيعَةٌ لَا مُطْلَقُ السُّلْطَانِ. وَمَعْنَى لَامِ الْجَحُودِ هُنَا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَبَبٌ يُخَوِّلُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْذَ أَخِيهِ عِنْدَهُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ أَسْبَابِ أَخْذِ أَخِيهِ الْمَنْفِيَّةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَرْفُ جَرٍّ مَحْذُوفٌ قَبْلَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا نَفْيُ الْأَخْذِ، أَيْ أَسْبَابُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَيْ يُلْهِمَ تَصْوِيرَ حَالَتِهِ وَيَأْذَنَ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي عَمَلِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْجَمَّةِ لِيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَهُمْ وَلِذُرِّيَّتِهِمْ. وَجُمْلَةُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ تَذْيِيلٌ لِقِصَّةِ أَخْذِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخَاهُ لِأَنَّ فِيهَا رَفْعَ دَرَجَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْحَالِ بِالتَّدْبِيرِ الْحَكِيمِ مِنْ وَقْتِ مُنَاجَاتِهِ أَخَاهُ إِلَى وَقْتِ اسْتِخْرَاجِ السِّقَايَةِ مِنْ رَحْلِهِ. وَرَفْعَ دَرَجَةِ أَخِيهِ فِي الْحَالِ بِإِلْحَاقِهِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْعَيْشِ الرَّفِيهِ وَالْكَمَالِ بِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ مِنْ فِيهِ. وَرَفْعَ دَرَجَاتِ إِخْوَتِهِ وَأَبِيهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِسَبَبِ رَفْعِ دَرَجَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحُنُوِّهِ عَلَيْهِمْ. فَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِقُوَّةِ الشَّرَفِ مِنِ

اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] ، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [4] . وَجُمْلَةُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ ثَانٍ لِجُمْلَةِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ الْآيَةَ. وَفِيهَا شَاهِدٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ عِلْمَ الَّذِي خَلَقَ لَهُمُ الْعِلْمَ لَا يَنْحَصِرُ مَدَاهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ نِهَايَةٍ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ. وَالْفَوْقِيَّةُ مَجَازٌ فِي شَرَفِ الْحَالِ، لِأَنَّ الشَّرَفَ يُشَبَّهُ بِالِارْتِفَاعِ. وَعَبَّرَ عَنْ جِنْسِ الْمُتَفَوِّقِ فِي الْعِلْمِ بِوَصْفِ عَلِيمٌ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْعَلِيمِ الْمُطْلَقِ سُبْحَانَهُ. وَظَاهِرُ تَنْكِيرِ عَلِيمٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ فَيَعُمُّ كُلَّ مَوْصُوفٍ بِقُوَّةِ الْعِلْمِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعُمُومُ هَذَا الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَيَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ الْعَقْلِ إِذْ لَيْسَ فَوْقَ اللَّهِ عَلِيمٌ. وَقَدْ يُحْمَلُ التَّنْكِيرُ عَلَى الْوَحْدَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ عَلِيمٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ التَّنْكِيرُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْصِيصِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بِإِضَافَةِ دَرَجاتٍ إِلَى مَنْ نَشاءُ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِتَنْوِينِ دَرَجاتٍ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِتَعَلُّقِ فِعْلِ نَرْفَعُ بِمَفْعُولِهِ وَهُوَ مَنْ نَشاءُ.

[سورة يوسف (12) : آية 77]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 77] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) لَمَّا بُهِتُوا بِوُجُودِ الصُّوَاعِ فِي رَحْلِ أَخِيهِمُ اعْتَرَاهُمْ مَا يَعْتَرِي الْمَبْهُوتَ فَاعْتَذَرُوا عَنْ دَعْوَاهُمْ تَنَزُّهَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ، إِذْ قَالُوا: وَما كُنَّا سارِقِينَ [سُورَة يُوسُف: 73] ، عُذْرًا بَأَنَّ أَخَاهُمْ قَدْ تَسَرَّبَتْ إِلَيْهِ خَصْلَةُ السَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ جَانِبِ أَبِيهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّ أَخَاهُ الَّذِي أُشِيعَ فَقْدُهُ كَانَ سَرَقَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ عَلِمَ فِتْيَانُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ الْمُتَّهَمَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى، فَهَذَا اعْتِذَارٌ بِتَعْرِيضٍ بِجَانِبِ أُمِّ أَخَوَيْهِمْ وَهِيَ زَوْجَةُ أَبِيهِمْ وَهِيَ (رَاحِيلُ) ابْنَةُ (لَابَانَ) خَالِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَكَانَ لِيَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ: (رَاحِيلُ) هَذِهِ أُمُّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبِنْيَامِينَ وَ (لِيئَةُ) بِنْتُ لَابَانَ أُخْتُ رَاحِيلَ وَهِيَ أُمُّ رُوبِينَ، وَشَمْعُونَ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَبِسَاكِرَ، وَزَبُولُونَ وَ (بُلْهَةُ) جَارِيَةُ رَاحِيلَ وَهِيَ أُمُّ دَانَا، وَنَفْتَالِي وَ (زُلْفَةُ) جَارِيَةُ رَاحِيلَ أَيْضًا وَهِيَ أُمُّ جَادَ، وَأَشِيرَ. وَإِنَّمَا قَالُوا: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ بُهْتَانًا وَنَفْيًا لِلْمَعَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَلَيْسَ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَام- سَرقَة من قَبْلُ، وَلَمْ يَكُنْ إِخْوَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَام- يَوْمئِذٍ أَنْبِيَاءَ. وَشَتَّانَ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْكَذِبِ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ. وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ بِمَسْمَعٍ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ. وَقَوْلُهُ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ إِلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ بِمَعْنَى الْمَقَالَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 99] . وَيَكُونُ مَعْنَى أَسَرَّهَا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ تَحَمَّلَهَا وَلَمْ يُظْهِرْ

غَضَبًا مِنْهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ زَجْرِهِمْ وَعِقَابِهِمْ مَعَ أَنَّهَا طَعْنٌ فِيهِ وَكذب عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَنْحُو أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا حِكَايَةً لِمَا أَجَابَهُمْ بِهِ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَرَاحَةً عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَةِ، وَهُوَ كَلَام موجه لَا يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مَا نَسَبُوهُ إِلَى أَخِي أَخِيهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ أَشَدُّ شَرًّا فِي حَالَتِكُمْ هَذِهِ لِأَنَّ سَرِقَتَكُمْ مُشَاهَدَةٌ وَأَمَّا سَرِقَةُ أَخِي أَخِيكُمْ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى، وَفِعْلُ قالَ يُرَجِّحُ هَذَا الْوَجْهَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي فَأَسَرَّها عَائِد إِلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. وَبِهَذَا فَسَّرَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، أَيْ قَالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ يُشْبِهُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، لَكِنَّ تَأْنِيثَهُ بِتَأْوِيلِ الْمَقُولَةِ أَوِ الْكَلِمَةِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً تَفْسِيرا للضمير فِي فَأَسَرَّها. وَالْإِسْرَارُ، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الْكَلَامِ عَنْ أَنْ يَسْمَعَهُ سَامِعٌ. وَجُمْلَةُ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قِيلَ هِيَ تَوْكِيدٌ لِجُمْلَةِ فَأَسَرَّها يُوسُفُ. وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ لَا يُعْطَفَ. وُوَجْهُ عَطْفِهَا مَا فِيهَا مِنَ الْمُغَايَرَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا بِزِيَادَةِ قَيْدِ لَهُمْ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ أَبْدَى لِأَخِيهِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَاد لَهُم يُبْدِ لَهُمْ غَضَبًا وَلَا عِقَابًا كَمَا تَقَدَّمَ مُبَالَغَةً فِي كَظْمِ غَيْظِهِ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ مُضَافٍ مُنَاسِبٍ، أَيْ لَمْ يُبْدِ أَثَرَهَا. وشَرٌّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَصْلُهُ أَشَّرُ، ومَكاناً تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْأَشَرِّ. وَأُطْلِقَ الْمَكَانُ عَلَى الْحَالَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْحَالَةُ هِيَ السَّرِقَةُ، وَإِطْلَاقُ الْمَكَانِ وَالْمَكَانَةِ عَلَى الْحَالَةِ شَائِعٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [135] ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الِاتِّصَافِ بِوَصْفٍ مَا بِالْحُلُولِ فِي مَكَانٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَلَّلُوا سَرِقَةَ أَخِيهِمْ بِأَنَّ أَخَاهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ سَرَقَ فَإِذَا كَانَتْ سَرِقَةٌ سَابِقَةٌ مِنْ أَخٍ أَعْدَتْ أَخَاهُ الْآخَرَ لِلسَّرِقَةِ، فَهُمْ وَقَدْ سَبَقَهُمْ أَخَوَانِ

[سورة يوسف (12) : الآيات 78 إلى 79]

بِالسَّرِقَةِ أَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونُوا سَارِقِينَ مِنَ الَّذِي سَبَقَهُ أَخٌ وَاحِدٌ. وَالْكَلَامُ قَابِلٌ لِلْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى أَنْتُمْ شَرٌّ حَالَةً مِنْ أَخِيكُمْ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُمَا بَرِيئَانِ مِمَّا رَمَيْتُمُوهُمَا بِهِ وَأَنْتُمْ مُجْرِمُونَ عَلَيْهِمَا إِذْ قَذَفْتُمْ أَوَّلَهُمَا فِي الْجُبِّ، وَأَيَّدْتُمْ تُهْمَةَ ثَانِيهِمَا بِالسَّرِقَةِ. ثُمَّ ذَيَّلَهُ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ، وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِدْقِكُمْ فِيمَا وَصَفْتُمْ أَوْ بِكَذِبِكُمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ، فَالْمُرَاد: أعلم لحَال مَا تصفون. [78، 79] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 78 إِلَى 79] قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) نَادَوْا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ إِمَّا لِأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ وِلَايَةٍ مُهِمَّةٍ يُدْعَى بِمَا يُرَادِفُ الْعَزِيزَ فَيَكُونُ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَزِيزًا، كَمَا أَنَّ رَئِيسَ الشُّرْطَةِ يُدْعَى الْعَزِيزَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [سُورَة يُوسُف: 30] وَإِمَّا لِأَنَّ يُوسُفَ ضُمَّتْ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْعَزِيزِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَجَمَعَ التَّصَرُّفَاتِ وَرَاجَعُوهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِمْ. وَوَصَفُوا أَبَاهُمْ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ تَقْتَضِي التَّرْقِيقَ عَلَيْهِ، وَهِيَ: حَنَانُ الْأُبُوَّةِ، وَصِفَةُ الشَّيْخُوخَةِ، وَاسْتِحْقَاقُهُ جَبْرَ خَاطِرِهِ لِأَنَّهُ كَبِيرُ قَوْمِهِ أَوْ لِأَنَّهُ انْتَهَى فِي الْكِبَرِ إِلَى أَقْصَاهُ فَالْأَوْصَافُ مَسُوقَةٌ لِلْحَثِّ عَلَى سَرَاحِ الِابْنِ لَا لِأَصْلِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَخْبَرُوا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِخَبَرِ أَبِيهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْكَبِيرِ: إِمَّا كَبِيرُ عَشِيرَتِهِ فَإِسَاءَتُهُ تَسُوءُهُمْ جَمِيعًا وَمِنْ عَادَةِ الْوُلَاةِ اسْتِجْلَابُ الْقَبَائِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَبِيراً تَأْكِيدًا لِـ شَيْخاً أَيْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي

الْكِبَرِ من السِّنِّ، وَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ، إِذْ كَانَ هُوَ أَصْغَرَ الْإِخْوَةِ، وَالْأَصْغَرُ أَقْرَبُ إِلَى رِقَّةِ الْأَبِ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تَعْلِيلٌ لِإِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ لَا لِلطَّلَبِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تردّ سوءالنا لِأَنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَمِثْلُكَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يَسُوءُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا. وَالْمَكَانُ: أَصْلُهُ مَحَلُّ الْكَوْنِ أَيْ مَا يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْجِسْمُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِوَضِ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَضَعُهُ آخِذُهُ فِي مَكَانِ الشَّيْءِ الْمُعَوَّضِ عَنْهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «هَذِهِ مَكَانُ حُجَّتِكَ» . ومَعاذَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ اسْمٌ لِلْعَوْذِ، وَهُوَ اللَّجَأُ إِلَى مَكَانٍ لِلتَّحَصُّنِ. وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [سُورَة يُوسُف: 23] . وَانْتَصَبَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ نَائِبًا عَنْ فِعْلِهِ الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مَعَاذًا، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ جُعِلَ الِاسْمُ الْمَجْرُورُ بِبَاءِ التَّعْدِيَةِ مُتَّصِلًا بِالْمَصْدَرِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ فَقِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ، كَمَا قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، عِوَضًا عَنْ أُسَبِّحُ اللَّهَ. وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ. وَالْمَعْنَى: الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ نَلْجَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ أَخْذِ مَنْ لَا حَقَّ لَنَا فِي أَخْذِهِ، أَيْ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الظُّلْمِ لِأَنَّ أَخْذَ مَنْ وُجِدَ الْمَتَاعُ عِنْدَهُ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ التَّحْكِيمَ لَهُ قُوَّةُ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا أَخْذُ غَيْرِهِ فَلَا يَسُوغُ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَرِقَّ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَلِذَلِكَ عُلِّلَ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا. وَدَلِيلُ التَّعْلِيلِ شَيْئَانِ: وُقُوعُ إِنَّ فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْجَزَاء وَهُوَ إِذاً. وَضَمَائِرُ نَأْخُذَ ووَجَدْنا ومَتاعَنا وإِنَّا ولَظالِمُونَ مُرَادٌ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ وَحْدَهُ دُونَ مُشَارِكٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنِ اسْتِعْمَالِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي

[سورة يوسف (12) : الآيات 80 إلى 82]

التَّعْظِيمِ حِكَايَةً لِعِبَارَتِهِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا فَإِنَّهُ كَانَ عَظِيمَ الْمَدِينَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ تَوَاضُعًا مِنْهُ تَشْبِيهًا لِنَفْسِهِ بِمَنْ لَهُ مُشَارِكٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ فِي الْكَلَامِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْخَضِرِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ [80] . وَإِنَّمَا لَمْ يُكَاشِفْهُمْ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِحَالِهِ وَيَأْمُرْهُمْ بِجَلْبِ أَبِيهِمْ يَوْمَئِذٍ: إِمَّا لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ هُوَ تَرَكَهُمْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ أَنْ يَكِيدُوا لِبِنْيَامِينَ فَيَزْعُمُوا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ جَمِيعًا إِلَى أَبِيهِمْ فَإِذَا انْفَرَدُوا بِبِنْيَامِينَ أَهْلَكُوهُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ الْقِبْطِ وَبَيْنَ الْكَنْعَانِيِّينَ فِي تِلْكَ الْمدَّة عَدَاوَة فَخَافَ إِنْ هُوَ جَلَبَ عَشِيرَتَهُ إِلَى مِصْرَ أَنْ تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ ظُنُونُ السُّوءِ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ فَتَرَيَّثَ إِلَى أَنْ يَجِدَ فُرْصَةً لِذَلِكَ، وَكَانَ الْمَلِكُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَفَاءِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَكْرَهُهُ أَوْ يُسِيءُ ظَنَّهُ، فَتَرَقَّبَ وَفَاةَ الْمَلِكِ أَوِ السَّعْيَ فِي إِرْضَائِهِ بِذَلِكَ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْلِمَ مِنْ أَخِيهِ فِي مُدَّةِ الِانْفِرَادِ بِهِ أَحْوَالَ أَبِيهِ وَأَهْلِهِمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَأْتِي بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، وَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ [سُورَة يُوسُف: 89] . [80- 82] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 80 إِلَى 82] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ

(82) اسْتَيْأَسُوا بِمَعْنَى يَئِسُوا فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ، وَمِثْلُهَا فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [سُورَة يُوسُف: 34] وفَاسْتَعْصَمَ. وَالْيَأْسُ مِنْهُ: الْيَأْسُ مِنْ إِطْلَاقِهِ أَخَاهُمْ، فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ. وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِهَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اسْتَيْأَسُوا بِتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْفَوْقِيَّةِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَصْلِ التَّصْرِيفِ. وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِخُلْفٍ عَنْهُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْفَوْقِيَّةِ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَلْبِ فِي الْمَكَانِ ثُمَّ إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ. وخَلَصُوا بِمَعْنَى اعْتَزَلُوا وَانْفَرَدُوا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْخُلُوصِ وَهُوَ الصَّفَاءُ مِنَ الْأَخْلَاطِ. وَمِنْهُ قَول عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا حَيْثُ عَزَمَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى أَنْ يَخْطُبَ فِي النَّاسِ فَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ قَوْمٍ يُرِيدُونَ الْمُزَاحَمَةَ فِي الْخِلَافَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالَ عبد الرحمان بْنُ عَوْفٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رِعَاعَ النَّاسِ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ ... » إِلَخْ. وَالنَّجِيُّ: اسْمٌ مِنَ الْمُنَاجَاةِ، وَانْتِصَابُهُ على الْحَال. وَلما كَانَ الْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى. وَالْمَعْنَى: انْفَرَدُوا تَنَاجِيًا. وَالتَّنَاجِي: الْمُحَادَثَةُ سِرًّا، أَيْ مُتَنَاجِينَ. وَجُمْلَةُ قالَ كَبِيرُهُمْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلَصُوا نَجِيًّا وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الْمُنَاجَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُ كَبِيرِهِمْ هَذَا، وَكَبِيرُهُمْ هُوَ أَكْبَرُهُمْ سَنًّا وَهُوَ رُوبِينُ بِكْرُ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَعْلَمُوا تَقْرِيرِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِعَدَمِ اطْمِئْنَانِ أَبِيهِمْ بِحِفْظِهِمْ لِابْنِهِ. وَجُمْلَةُ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَوْثِقِ، أَيْ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدِّقِكُمْ فِيمَا

تُخْبِرُونَ بِهِ مِنْ أَخْذِ بِنْيَامِينَ فِي سَرِقَةِ الصُّوَاعِ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ كَبِيرُهُمْ أَنَّهُ يَبْقَى فِي مِصْرَ لِيَكُونَ بَقَاؤُهُ عَلَامَةً عِنْدَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَعْرِفُ بِهَا صِدْقَهُمْ فِي سَبَبِ تَخَلُّفِ بِنْيَامِينَ، إِذْ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَبْقَى غَرِيبًا لَوْلَا خَوْفُهُ مِنْ أَبِيهِ، وَلَا يَرْضَى بَقِيَّةُ أَشِقَّائِهِ أَنْ يَكِيدُوا لَهُ كَمَا يَكِيدُونَ لِغَيْرِ الشَّقِيقِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي تَرْدِيدٌ بَيْنَ مَا رَسَمَهُ هُوَ لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا عَسَى أَنْ يكون الله قد قَدَّرَهُ لَهُ مِمَّا لَا قِبَلَ لَهُ بِدَفْعِهِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَحْكُمَ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ لِتَنْزِيلِ فِعْلِ يَحْكُمَ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا. وَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ يَحْكُمَ اللَّهُ بِمَا فِيهِ نَفْعِي. وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ التَّقْدِيرُ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ تَذْيِيلٌ. وخَيْرُ الْحاكِمِينَ إِنْ كَانَ عَلَى التَّعْمِيمِ فَهُوَ الَّذِي حُكْمُهُ لَا جَوْرَ فِيهِ أَوِ الَّذِي حُكْمُهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ نَقْضَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِرَادَةِ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ لِي فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الثَّنَاءِ لِلتَّعْرِيضِ بِالسُّؤَالِ أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ مَا فِيهِ رَأْفَةٌ فِي رَدِّ غُرْبَتِهِ. وَعَدَمُ التَّعَرُّضِ لِقَوْلٍ صَدَرَ مِنْ بِنْيَامِينَ يُدَافِعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَازِمُ السُّكُوتِ لِأَنَّهُ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مُرَادِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنِ اسْتِبْقَائِهِ عِنْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ [يُوسُف: 69] . ثُمَّ لَقَّنَهُمْ كَبِيرُهُمْ مَا يَقُولُونَ لِأَبِيهِمْ. وَمَعْنَى وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ احْتِرَاسٌ مِنْ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ سَرَقَ، وَهُوَ إِمَّا لِقَصْدِ التَّلَطُّفِ مَعَ أَبِيهِمْ فِي نِسْبَةِ ابْنِهِ إِلَى السَّرِقَةِ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْ أَمَانَةِ أَخِيهِمْ مَا خَالَجَهُمْ بِهِ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ السَّرِقَةِ مِنْهُ. وَالْغَيْبُ: الْأَحْوَالُ الْغَائِبَةُ عَنِ الْمَرْءِ. وَالْحِفْظُ: بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَسُؤَالُ الْقَرْيَةِ مَجَازٌ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِهَا. وَالْمُرَادُ بِهَا مَدِينَةُ مِصْرَ. وَالْمَدِينَةُ وَالْقَرْيَةُ مُتَرَادِفَتَانِ. وَقَدْ خُصَّتِ الْمَدِينَةُ فِي الْعُرْفِ بِالْقَرْيَةِ الْكَبِيرَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِيرِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا رِفَاقُهُمْ فِي عِيرِهِمُ الْقَادِمِينَ إِلَى مِصْرَ مِنْ

[سورة يوسف (12) : آية 83]

أَرْضِ كَنْعَانَ، فَأَمَّا سُؤَالُ الْعِيرِ فَسَهْلٌ وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَرْيَةِ فَيَكُونُ بِالْإِرْسَالِ أَوِ الْمُرَاسَلَةِ أَوِ الذَّهَابِ بِنَفْسِهِ إِنْ أَرَادَ الاستثبات. [83] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 83] قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) جُعِلَتْ جُمْلَةُ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ فِي صُورَةِ الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَقَّنَهُ أَخُوهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَرَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ فَقَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ الَّذِي لَقَّنَهُ إِيَّاهُمْ (رُوبِينُ) قَالَ أَبُوهُمْ: بَلْ سَوَّلَتْ ... إِلَخَّ. وَقَوْلُهُ هُنَا كَقَوْلِهِ لَهُمْ حِينَ زَعَمُوا أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَهُوَ تُهْمَةٌ لَهُمْ بِالتَّغْرِيرِ بِأَخِيهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَنَّ بِهِمْ سُوءًا فَصَدَقَ ظنّه فِي زعمم فِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَا ظَنَّهُ فِي أَمْرِ بِنْيَامِينَ، أَيْ أَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ بِهِمْ فِي قَضِيَّةِ (بِنْيَامِينَ) ، وَمُسْتَنَدُهُ فِي هَذَا الظَّنِّ عِلْمُهُ أَنَّ ابْنَهُ لَا يَسْرِقُ، فَعَلِمَ أَنَّ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ مَكِيدَةً. فَظَنُّهُ صَادِقٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَأَمَّا تُهْمَتُهُ أَبْنَاءَهُ بِأَن يَكُونُوا تمالؤوا عَلَى أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ فَهُوَ ظَنٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي قَضِيَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّهُ كَانَ قَالَ لَهُمْ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ سُورَة يُوسُف [64] . وَيَجُوزُ عَلَى النَّبِيءِ الْخَطَأُ فِي الظَّنِّ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ تَرْكِ إِبَّارِ النَّخْلِ. وَلَعَلَّهُ اتَّهَمَ رُوبِينَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اخْتَفَى لِتَرْوِيجِ دَعْوَى إِخْوَتِهِ. وَضَمِيرُ بِهِمْ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبِنْيَامِينَ وَرُوبِينَ. وَهَذَا كَشْفٌ مِنْهُ إِذْ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ حَيَاةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تَعْلِيلٌ لِرَجَائِهِ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ مَوَاقِعُهُمُ الْمُتَفَرِّقَةُ. حَكِيمٌ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ أَسْبَابِ جَمْعِهِمْ بعد التَّفَرُّق.

[سورة يوسف (12) : الآيات 84 إلى 87]

[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 84 إِلَى 87] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) انْتِقَالٌ إِلَى حِكَايَةِ حَالِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي انْفِرَادِهِ عَنْ أَبْنَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ نَفْسَهُ، فَالتَّوَلِّي حَاصِلٌ عَقِبَ الْمُحَاوَرَةِ. وتَوَلَّى: انْصَرَفَ، وَهُوَ انْصِرَافُ غَضَبٍ. وَلَمَّا كَانَ التَّوَلِّي يَقْتَضِي الِاخْتِلَاءَ بِنَفْسِهِ ذكر من أَخْوَاله تَجَدُّدَ أَسَفِهِ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَالْأَسَفُ أَشَدُّ الْحُزْنِ، أَسِفَ كَحَزِنَ. وَنِدَاءُ الْأَسَفِ مَجَازٌ. نَزَّلَ الْأَسَفَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ فَيَقُولُ لَهُ: احْضُرْ فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكَ، وَأَضَافَ الْأَسَفَ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ لِأَنَّ هَذَا الْأَسَفَ جُزْئِيٌّ مُخْتَصٌّ بِهِ مِنْ بَيْنِ جُزْئِيَّاتِ جِنْسِ الْأَسَفِ. وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهَا فِي النِّدَاءِ تُبْدَلُ أَلِفًا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقُرْآنُ تَحَسُّرَهُ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلَمْ يَذْكُرْ تَحَسُّرَهُ عَلَى ابْنَيْهِ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحَسُّرَ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فَلَا يَقْتَضِي ذِكْرُهُ أَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَتَحَسَّرْ قَطُّ إِلَّا عَلَى يُوسُفَ، مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبَ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا.

وَكَذَلِكَ عَطْفُ جُمْلَةِ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ إِذْ لَمْ يَكُنِ ابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ إِلَّا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. فَكُلٌّ مِنَ التَّوَلِّي وَالتَّحَسُّرِ وَابْيِضَاضِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ أَحْوَالِهِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَزْمَانِ. وَابْيِضَاضُ الْعَيْنَيْنِ: ضَعْفُ الْبَصَرِ. وَظَاهِرَةٌ أَنَّهُ تَبَدَّلَ لَوْنُ سَوَادِهِمَا مِنَ الْهُزَالِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ دُونَ عَمِيَتْ عَيْنَاهُ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْحُزْنِ سَبَبِيَّةٌ. وَالْحُزْنُ سَبَبُ الْبُكَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ ابْيِضَاضِ الْعَيْنَيْنِ. وَعِنْدِي أَنَّ ابْيِضَاضَ الْعَيْنَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِبْصَارِ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: قَبْلَ مَا الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ النَّ ... اسِ فِيهَا تَغَيُّضٌ وَإِبَاءُ وَأَنَّ الْحُزْنَ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ الْإِبْصَارِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنَّ تَوَالِيَ إِحْسَاسِ الْحُزْنِ عَلَى الدِّمَاغِ قَدْ أَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ عَمَلِ عَصَبِ الْإِبْصَارِ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الْحُزْنِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صدوره من نبيء، أَوْ أَنَّ التَّصَبُّرَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بَلْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِمْ إِظْهَارُ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ. وَقَدْ حَكَتِ التَّوْرَاةُ بُكَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَحَكَتْ تَمْزِيقَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ثِيَابَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ. وَإِنَّمَا التَّصَبُّرُ فِي الْمُصِيبَةِ كَمَالٌ بَلَغَتْ إِلَيْهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ. وَالْكَظِيمُ: مُبَالَغَةٌ لِلْكَاظِمِ. وَالْكَظْمُ: الْإِمْسَاكُ النَّفْسَانِيُّ، أَيْ كَاظِمٌ لِلْحُزْنِ لَا يُظْهِرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَبْكِي فِي خَلْوَتِهِ، أَوْ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْزُونٍ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَكْظُومٌ. وَجُمْلَةُ قالُوا تَاللَّهِ مُحَاوَرَةُ بنيه إِيَّاه عِنْد مَا سَمِعُوا قَوْلَهُ: يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَقَدْ قَالَهَا فِي خَلْوَتِهِ فَسَمِعُوهَا. وَالتَّاءُ حَرْفُ قَسَمٍ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ وَاوِ الْقَسَمِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: «التَّاءُ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ» . وَسَلَّمَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ،

وَفَسَّرَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَعَجَّبَ مِنْهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَمِنْ ثَمَّ قَلَّ اسْتِعْمَالُ التَّاءِ إِلَّا مَعَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ أَقْوَى الْقَسَمِ. وَجَوَابُ الْقسم هُوَ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْغَايَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْيَمِينِ الْإِشْفَاقُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْهَلَاكِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَنَاسِيهِ مُصِيبَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَحْقِيقَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ تَذَكُّرِ يُوسُفَ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُنَا فِيهِ حَرْفُ النَّفْيِ مُقَدَّرٌ بِقَرِينَةِ عَدَمِ قَرْنِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُثْبَتًا لَوَجَبَ قَرْنُهُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ هُنَا. وَمعنى تَفْتَؤُا تفتر. يُقَال: فتىء مِنْ بَابِ عَلِمَ، إِذَا فَتَرَ عَنِ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْتُرُ فِي حَالِ كَوْنِكَ تَذْكُرُ يُوسُفَ. وَلِمُلَازَمَةِ النَّفْيِ لِهَذَا الْفِعْلِ وَلُزُومِ حَالٍ يَعْقُبُ فَاعِلَهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ. وحَرَضاً مَصْدَرٌ هُوَ شِدَّةُ الْمَرَضِ الْمُشْفِي عَلَى الْهَلَاكِ، وَهُوَ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا، أَيْ بَالِيًا لَا شُعُورَ لَكَ. وَمَقْصُودُهُمُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ صَدًّا لَهُ عَنْ مُدَاوَمَةِ ذِكْرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى لِسَانِهِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ بِاللِّسَانِ يُفْضِي إِلَى دَوَامِ حُضُورِهِ فِي ذِهْنِهِ. وَفِي جَعْلِهِمُ الْغَايَةَ الْحَرَضَ أَوِ الْهَلَاكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَذْكُرُ أَمْرًا لَا طَمَعَ فِي تَدَارُكِهِ، فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَهُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُوَجَّهٌ إِلَى اللَّهِ دُعَاءً بِأَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ: يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ تَعْرِيضٌ بِدُعَاءِ اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ أَسَفَهُ بِرَدِّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَهْلِكْ وَلَكِنَّهُ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ مَجْهُولَةٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ بِفِرَاسَةٍ صَادِقَةٍ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْإِلْهَامِ عِنْد الصُّوفِيَّة. فجملةنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ مُفِيدَةٌ قَصْرَ شَكْوَاهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِاسْمِ اللَّهِ، أَيْ يَشْكُو إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى نَفْسِهِ لِيُجَدِّدَ الْحُزْنَ، فَصَارَتِ الشَّكْوَى بِهَذَا الْقَصْدِ ضَرَاعَةً وَهِيَ عِبَادَةٌ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَصَارَ ابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ النَّاشِئُ عَنِ التَّذَكُّرِ

النَّاشِئِ عَنِ الشَّكْوَى أَثَرًا جَسَدِيًّا نَاشِئًا عَنْ عِبَادَةٍ مِثْلَ تَفَطُّرِ أَقْدَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَالْبَثُّ: الْهَمُّ الشَّدِيدُ، وَهُوَ التَّفْكِيرُ فِي الشَّيْءِ الْمُسِيءِ. وَالْحُزْنُ: الْأَسَفُ عَلَى فَائِتٍ. فَبَيْنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ، وَقَدِ اجْتَمَعَا لِيَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ كَانَ مُهْتَمًّا بِالتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا يَعْتَرِضُهُ مِنَ الْكَرْبِ فِي غُرْبَتِهِ وَكَانَ آسِفًا عَلَى فِرَاقِهِ. وَقَدْ أَعْقَبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ لِيُنَبِّهَهُمْ إِلَى قُصُورِ عُقُولِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ أَنْ يَعْلَمُوهُ أَوْ يَلُومُوهُ، أَيْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ عِلْمُ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوءَةِ الْأُولَى. وَحُكِيَ مِثْلُهَا عَنْ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيض برد تعرضهم بِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي الْمُحَالِ بِأَنَّ مَا يَحْسَبُونَهُ مُحَالًا سَيَقَعُ. ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُهُ وَكَاشَفَهُمْ بِمَا يُحَقِّقُ كَذِبَهُمُ ادِّعَاءَ ائْتِكَالَ الذِّئْبِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ تَقْدِيرِ انْتِهَاءِ الْبَلْوَى فَقَالَ: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. فَجُمْلَةُ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مَا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ تَرَقُّبَ مُكَاشَفَتِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَيْدِ كَثِيرُ الظُّنُونِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المُنَافِقُونَ: 4] . وَالتَّحَسُّسُ- بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ-: شِدَّةُ التَّطَلُّبِ وَالتَّعَرُّفِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ- بِالْجِيمِ- فَهُوَ التَّطَلُّبُ مَعَ اخْتِفَاءٍ وَتَسَتُّرٍ. وَالرَّوْحُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ: النَّفَسُ- بِفَتْحِ الْفَاءِ- اسْتُعِيرَ لِكَشْفِ الْكَرْبِ لِأَنَّ الْكَرْبَ وَالْهَمَّ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا الْغَمُّ وَضِيقُ النَّفَسِ وضيق الصَّدْر، كَذَلِك يُطْلَقُ التَّنَفُّسُ وَالتَّرَوُّحُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَمِنْهُ اسْتِعَارَةُ قَوْلِهِمْ: تَنَفَّسَ الصُّبْحُ إِذَا زَالَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ.

[سورة يوسف (12) : آية 88]

وَفِي خِطَابِهِمْ بِوَصْفِ الْبُنُوَّةِ مِنْهُ تَرْقِيقٌ لَهُمْ وَتَلَطُّفٌ لِيَكُونَ أَبْعَثَ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْيَأْسِ، فَمَوْقِعُ إِنَّ التَّعْلِيلُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَيْأَسُوا مِنَ الظَّفَرِ بِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْتَلِّينَ بِطُولِ مُدَّةِ الْبُعْدِ الَّتِي يَبْعُدُ مَعَهَا اللِّقَاءُ عَادَةً. فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ تَفْرِيجَ كُرْبَةٍ هَيَّأَ لَهَا أَسْبَابَهَا، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاسِعُ الْقُدْرَةِ لَا يُحِيلُ مِثْلَ ذَلِكَ فَحَقُّهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي سَبَبِهِ وَيَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي تَيْسِيرِهِ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ فَهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْغَالِبَةِ فِي الْعَادَةِ وَيُنْكِرُونَ غَيْرَهَا. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ بِخُلْفٍ عَنْهُ وَلَا تَأْيَسُوا- وَإنَّهُ لَا يَأْيَسُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ [سُورَة يُوسُف: 80] . [88] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 88] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ فَارْتَحَلُوا إِلَى مِصْرَ بِقَصْدِ اسْتِطْلَاقِ بِنْيَامِينَ مِنْ عَزِيزِ مِصْرَ ثُمَّ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى التَّحَسُّسِ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَوَصَلُوا مِصْرَ، فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ إِلَخْ ... وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا وَجْهُ دُعَائِهِمْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَصْفِ الْعَزِيزِ. وَأَرَادُوا بِمَسِّ الضُّرِّ إِصَابَتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِطْلَاقُ مَسِّ الضُّرِّ عَلَى الْإِصَابَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [17] . وَالْبِضَاعَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَالْمُزْجَاةُ: الْقَلِيلَةُ الَّتِي لَا يُرْغَبُ فِيهَا فَكَأَنَّ صَاحِبَهَا يُزْجِيهَا، أَي يَدْفَعهَا بكفة لِيَقْبَلَهَا الْمَدْفُوعَةُ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِهَا مَالٌ

[سورة يوسف (12) : الآيات 89 إلى 93]

قَلِيلٌ لِلِامْتِيَارِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ. وَطَلَبُوا التَّصَدُّقَ مِنْهُ تَعْرِيضًا بِإِطْلَاقِ أَخِيهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ إِذْ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ تَعْلِيلٌ لِاسْتِدْعَائِهِمُ التصدّق عَلَيْهِم. [89- 93] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 89 إِلَى 93] قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ. وهَلْ مُفِيدَةٌ لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ. فَهُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى مَا يعلمونه محققا من أفعالهم مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخِيهِ، أَيْ أَفْعَالَهُمُ الذَّمِيمَةَ بِقَرِينَةِ التَّوْبِيخِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِنْيَامِينَ فَهِيَ مَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُ بِهِ مَعَ أَخِيهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْإِهَانَةِ الَّتِي تُنَافِيهَا الْأُخُوَّةُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ الزَّمَنَ زَمَنَ جَهَالَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ صَلُحَ حَالُهُمْ مِنْ بَعْدُ. وَذَلِكَ إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِنْ كَانَ صَار نبيئا أَوْ بِالْفِرَاسَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ حَرِيصِينَ عَلَى رَغَبَاتِ أَبِيهِمْ فِي طَلَبِ

فِدَاءِ (بِنْيَامِينَ) حِينَ أُخِذَ فِي حُكْمِ تُهْمَةِ السَّرِقَةِ وَفِي طَلَبِ سَرَاحِهِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ مَعَ الْإِلْحَاحِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يَعْرِفُ مِنْهُمْ مُعَاكَسَةَ أَبِيهِمْ فِي شَأْنِ بِنْيَامِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ ثَابُوا إِلَى صَلَاحٍ. وَإِنَّمَا كَاشَفَهُمْ بِحَالِهِ الْآنَ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى حَالِهِ يَقْتَضِي اسْتِجْلَابَ أَبِيهِ وَأَهْلِهِ إِلَى السُّكْنَى بِأَرْضِ وِلَايَتِهِ، وَذَلِكَ كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى أَشْيَاءَ لَعَلَّهَا لَمْ تَتَهَيَّأْ إِلَّا حِينَئِذٍ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يُوسُف: 79] فَقَدْ صَارَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَدَّ مَكِينٍ عِنْدَ فِرْعَوْنَ. وَفِي الْإِصْحَاحِ (45) مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لِإِخْوَتِهِ حِينَئِذٍ «وَهُوَ- أَيِ اللَّهُ- قَدْ جَعَلَنِي أَبًا لِفِرْعَوْنَ وَسَيِّدًا لِكُلِّ بَيْتِهِ وَمُتَسَلِّطًا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» . فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي أَطْلَقَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ السِّجْنِ وَجَعَلَهُ عَزِيزَ مِصْرَ قَدْ تُوُفِّيَ وَخَلَفَهُ ابْن لَهُ فجبه يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصَارَ لِلْمَلِكِ الشَّابِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَصَارَ مُتَصَرِّفًا بِمَا يُرِيدُ، فَرَأَى الْحَالَ مُسَاعِدًا لِجَلْبِ عَشِيرَتِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ. وَلَا تُعْرَفُ أَسْمَاءُ مُلُوكِ مِصْرَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمَمْلَكَةَ أَيَّامَئِذٍ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مُلُوكُهَا مِنَ الْقِبْطِ وَهُمُ الْمُلُوك الَّذين يقسهم الْمُؤَرِّخُونَ الْإِفْرِنْجُ إِلَى الْعَائِلَاتِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ، وَالسَّادِسَةَ عَشْرَةَ، وَالسَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَبَعْضِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ. وَالْمَمْلَكَةُ الثَّانِيَةُ مُلُوكُهَا مِنَ الْهُكْسُوسِ، وَيُقَالُ لَهُمُ: الْعَمَالِقَةُ أَوِ الرُّعَاةُ وَهُمْ عَرَبٌ. وَدَامَ هَذَا الِانْقِسَامُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سنة من سَنَةً (2214) قَبْلَ الْمَسِيحِ إِلَى سَنَةِ (1703) قَبْلَ الْمَسِيح. وَقَوْلهمْ: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَشْعَرُوا مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ مِنْ مَلَامِحِهِ ثُمَّ مِنْ تَفَهُّمِ قَوْلِ أَبِيهِمْ لَهُمْ: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إِذْ قَدِ اتَّضَحَ لَهُمُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ مِنْ كَلَامِهِ فَعَرَفُوا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مُرِيدًا نَفْسَهُ.

وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِـ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَضَمِيرِ الْفَصْلِ لِشِدَّةِ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَأُدْخِلَ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ لِأَنَّهُمْ تَطَلَّبُوا تَأْيِيدَهُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ إِنَّكَ بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَالْمُرَادُ لَازِمُ فَائِدَةِ الْخَبَرِ، أَيْ عَرَفْنَاكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَابَهُ بِ أَنَا يُوسُفُ مُجَرَّدٌ عَنِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَحَقِّقِينَ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَأْيِيدُهُ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَهذا أَخِي خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ جَمْعِ اللَّهِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ طُولِ الْفُرْقَةِ، فَجُمْلَةُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ وَهذا أَخِي. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا. فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ وَبِنْيَامِينُ صَبَرَ وَلَمْ يَعْصِ اللَّهَ فَكَانَ تَقِيًّا. أَرَادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْلِيمَهُمْ وَسَائِلَ التَّعَرُّضِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّقْوَى وَالتَّخَلُّقِ بِالصَّبْرِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ فِيهِ وَفِي أَخِيهِ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى إِيثَارِ أَبِيهِمْ إِيَّاهُمَا عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الْخَطَابَةِ أَنْ يَغْتَنِمَ الْوَاعِظُ الْفُرْصَةَ لِإِلْقَاءِ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ فُرْصَةُ تَأَثُّرِ السَّامِعِ وَانْفِعَالِهِ وَظُهُورِ شَوَاهِدِ صِدْقِ الْوَاعِظِ فِي مَوْعِظَتِهِ. وَذِكْرُ الْمُحْسِنِينَ وَضْعٌ لِلظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُمْ. فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْمُحْسِنِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَلِلتَّعْمِيمِ فِي الْحُكْمِ لِيَكُونَ كَالتَّذْيِيلِ، وَيَدْخُلَ فِي عُمُومِهِ هُوَ وَأَخُوهُ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا فِي مَقَامِ التَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ وَإِظْهَارُ الْمَوْعِظَةِ سَائِغٌ لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّبْلِيغِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِهِ» .

وَالْإِيثَارُ: التَّفْضِيلُ بِالْعَطَاءِ. وَصِيغَةُ الْيَمِينِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ، وَهِيَ عِلْمُهُمْ وَيَقِينُهُمْ بِأَنَّ مَا نَالَهُ هُوَ تَفْضِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا مَرْتَبَتَهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُهُ. وَالْمُرَادُ: الْإِيثَارُ فِي الدُّنْيَا بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ. وَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ إِذْ قَالُوا: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ. وَالْخَاطِئُ: فَاعِلُ الْخَطِيئَةِ، أَيِ الْجَرِيمَةِ، فَنَفَعَتْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ. وَلِذَلِكَ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ الذَّنْبَ قَدْ غُفِرَ فَرُفِعَ عَنْهُمُ الذَّمُّ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ. وَالتَّثْرِيبُ: التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنْتَهَى الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ فَيُبْنَى عَلَى الِاخْتِصَارِ فَيَكْتَفِي بِ لَا تَثْرِيبَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا بَاسَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا وَزَرَ [الْقِيَامَة: 11] . وَزِيَادَةُ عَلَيْكُمُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ زِيَادَةِ لَكَ بَعْدَ (سَقْيًا وَرَعْيًا) ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لِأَنَّهَا سَاعَةُ تَوْبَةٍ، فَالذَّنْبُ مَغْفُورٌ لِإِخْبَارِ اللَّهِ فِي شَرَائِعِهِ السَّالِفَةِ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى وَحْيٍ سِوَى أَنَّ الْوَحْيَ لِمَعْرِفَةِ إِخْلَاصِ تَوْبَتِهِمْ. وَأَطْلَقَ الْيَوْمَ عَلَى الزَّمَنِ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعُقُودِ [3] . وَقَوْلُهُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ قَمِيصًا، فَلَعَلَّهُ جَعَلَ قَمِيصَهُ عَلَامَةً لِأَبِيهِ عَلَى حَيَاتِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مُصْطَلَحًا عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ لِلْعَائِلَاتِ فِي النِّظَامِ الْقَدِيمِ عَلَامَاتٌ يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهَا وَيَحْتَفِظُونَ بِهَا لِتَكُونَ وَسَائِلَ لِلتَّعَارُفِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ الْفِتَنِ وَالِاغْتِرَابِ، إِذْ كَانَتْ تَعْتَرِيهِمْ حَوَادِثُ الْفَقْدِ وَالْفِرَاقِ بِالْغَزْوِ وَالْغَارَاتِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَتِلْكَ الْعَلَامَاتُ مِنْ لِبَاسٍ وَمِنْ كَلِمَاتٍ يَتَعَارَفُونَ بِهَا وَهِيَ الشِّعَارُ، وَمِنْ عَلَامَاتٍ فِي الْبَدَنِ وَشَامَاتٍ.

وَفَائِدَةُ إِرْسَالِهِ إِلَى أَبِيهِ الْقَمِيصَ أَنْ يَثِقَ أَبُوهُ بِحَيَاتِهِ وَوُجُودِهِ فِي مِصْرَ، فَلَا يَظُنُّ الدَّعْوَةَ إِلَى قُدُومِهِ مَكِيدَةً مِنْ مَلِكِ مِصْرَ، وَلِقَصْدِ تَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ لَهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ جَعَلَ إِرْسَالَ قَمِيصِهِ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ إِخْوَتِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ إِلَى أَبِيهِمْ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَلْبِهِ فَإِنَّ قُمْصَانَ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ تُنْسَجُ إِلَيْهِمْ خِصِّيصًا وَلَا تُوجَدُ أَمْثَالُهَا عِنْدَ النَّاسِ وَكَانَ الْمُلُوكُ يَخْلَعُونَهَا عَلَى خَاصَّتِهِمْ، فَجَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِرْسَالَ قَمِيصِهِ عَلَامَةً لِأَبِيهِ عَلَى صِدْقِ إِخْوَتِهِ أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَبَرِ صِدْقٍ. وَمِنَ الْبَعِيدِ مَا قِيلَ: إِنَّ الْقَمِيصَ كَانَ قَمِيصَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ قَمِيصَ يُوسُفَ قَدْ جَاءَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى أَبِيهِمْ حِينَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. وَأَمَّا إِلْقَاءُ الْقَمِيصِ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَلِقَصْدِ الْمُفَاجَأَةِ بِالْبُشْرَى لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبْصِرُ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَتَبَيَّنُ رِفْعَةَ الْقَمِيصِ إِلَّا مِنْ قُرْبٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يَصِيرُ بَصِيرًا فَحَصَلَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ فَبَشَّرَهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ. وَلَعَلَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَام نبيء سَاعَتَئِذٍ. وَأُدْمِجَ الْأَمْرُ بِالْإِتْيَانِ بِأَبِيهِ فِي ضِمْنِ تَبْشِيرِهِ بِوُجُودِهِ إِدْمَاجًا بَلِيغًا إِذْ قَالَ: يَأْتِ بَصِيراً ثُمَّ قَالَ: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ لِقَصْدِ صِلَةِ أَرْحَامِ عَشِيرَتِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَتْ عَشِيرَةُ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سِتًّا وَسَبْعِينَ نَفْسًا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ

[سورة يوسف (12) : الآيات 94 إلى 98]

[94- 98] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 94 الى 98] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً التَّقْدِيرُ: فَخَرَجُوا وَارْتَحَلُوا فِي عِيرٍ. وَمَعْنَى فَصَلَتِ ابْتَعَدَتْ عَنِ الْمَكَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] . وَالْعِيرُ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهِيَ الْعِيرُ الَّتِي أَقْبَلُوا فِيهَا مِنْ فِلَسْطِينَ. وَوِجْدَانُ يَعْقُوبَ ريح يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلْهَامٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ بِشَارَةً لَهُ إِذْ ذَكَّرَهُ بِشَمِّهِ الرِّيحَ الَّذِي ضَمَّخَ بِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ خُرُوجِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ وَهَذَا مِنْ صِنْفِ الْوَحْيِ بِدُونِ كَلَامِ مَلَكٍ مُرْسَلٍ. وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [سُورَة الشورى: 51] . وَالرِّيحُ: الرَّائِحَةُ، وَهِيَ مَا يَعْبَقُ مِنْ طِيبٍ تُدْرِكُهُ حَاسَّةُ الشَّمِّ. وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَر بإن وَاللَّامِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِنْكَارِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ، أَيْ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِي لَتَحَقَّقْتُمْ ذَلِكَ. وَالتَّفْنِيدُ: النِّسْبَةُ لِلْفَنَدِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِلَالُ الْعقل من الخرف. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ وَبَقِيَتِ الْكِسْرَةُ. وَالَّذِينَ قَالُوا: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ هُمُ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُمْ لِظُهُورِ الْمُرَادِ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا أَبْنَاءَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَيْهِ.

وَالضَّلَالُ: الْبُعْدُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازٌ فِي قُوَّةِ الِاتِّصَافِ وَالتَّلَبُّسِ وَأَنَّهُ كَتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّك مُسْتَمر على التَّلَبُّسِ بِتَطَلُّبِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ. أَرَادُوا طَمَعَهُ فِي لِقَاءِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَوَصَفُوا ذَلِكَ بِالْقَدِيمِ لِطُولِ مُدَّتِهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ غَيْبَةِ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ- عَلَيْهِمَا السّلام- اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ خِطَابُهُمْ إِيَّاهُ بِهَذَا مُشْتَمِلًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْخُشُونَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَدَبُ عَشِيرَتِهِ مُنَافِيًا لِذَلِكَ فِي عُرْفِهِمْ. وأَنْ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَوُقُوعُ أَنْ بعد فَلَمَّا التَّوْقِيتِيَّةِ كثير فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْكَرَامَةِ الْحَاصِلَةِ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهَا خَارِقُ عَادَةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِ أَنْ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَاعٍ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْبَشِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَعِّلٍ، أَيِ الْمُبَشِّرُ، مِثْلَ السَّمِيعِ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ وَالتَّبْشِيرُ: الْمُبَادَرَةُ بِإِبْلَاغِ الْخَبَرِ الْمُسِرِّ بِقَصْدِ إِدْخَالِ السُّرُورِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [21] . وَهَذَا الْبَشِيرُ هُوَ يَهُوذَا بْنُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْعِيرِ لِيَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُخْبِرُ أَبَاهُ بِخَبَرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَارْتَدَّ: رَجَعَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مُطَاوِعُ رَدَّهُ، أَيْ رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ قُوَّةَ بَصَرِهِ كَرَامَةً لَهُ وَلِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السّلام وخارق لِلْعَادَةِ. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [سُورَة يُوسُف: 84] .

[سورة يوسف (12) : الآيات 99 إلى 100]

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ جَوَابٌ لِلْبِشَارَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْقَوْلَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ قالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، وَكَانَ بَقِيَّةُ أَبْنَائِهِ قَدْ دَخَلُوا فَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَبَيَّنَ لَهُمْ مُجْمَلَ كَلَامِهِ الَّذِي أَجَابَهُمْ بِهِ حِينَ قَالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يُوسُفَ: 85] إِلَخْ. وَقَوْلُهُمُ: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا تَوْبَةٌ وَاعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، فَسَأَلُوا أَبَاهُمْ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ قَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُلَازِمُ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فِي الْحَالِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ إِلَى عِظَمِ الذَّنَبِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ سَيُكَرِّرُ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَقِيلَ: أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ إِلَى سَاعَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ أَخَّرَ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي رِفْعَةِ نَظَرٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. وَأَكَّدَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لتقوية الْخَبَر. [99، 100] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 99 إِلَى 100] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

(100) طَوَى ذِكْرَ سَفَرِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى دُخُولِهِمْ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ شَيْءٌ. وَأَبَوَاهُ أَحَدُهُمَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ أُمَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهِيَ (رَاحِيلُ) تُوُفِّيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ وَلَدَتْ بِنْيَامِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أُطْلِقَ الْأَبَوَانِ عَلَى الْأَبِ زوج الْأَبِ وَهِيَ (لِيئَةُ) خَالَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهِيَ الَّتِي تَوَلَّتْ تَرْبِيَتَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ وَالتَّنْزِيلِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَجْلِ بُعْدِ الْمُعَادِ. وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ جُمْلَةٌ دِعَائِيَّةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ لِكَوْنِهِمْ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ حِينَئِذٍ. فَالْأَمْرُ فِي ادْخُلُوا لِلدُّعَاءِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ [الْأَعْرَاف: 49] . وَالْمَقْصُودُ: تَقْيِيدُ الدُّخُولِ بِ آمِنِينَ وَهُوَ مَنَاطُ الدُّعَاءِ. وَالْأَمْنُ: حَالَةُ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ وَرَاحَةِ الْبَالِ وَانْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ، وَهُوَ يَجْمَعُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الصِّحَّةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إِنَّهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَمِيعَ مَا يُطْلَبُ لِخَيْرِ الْبَلَدِ. وَجُمْلَةُ إِنْ شاءَ اللَّهُ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ كَالِاحْتِرَاسِ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ لِمُجَرَّدِ التَّيَمُّنِ، فَوُقُوعُهُ فِي الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ وَالدُّعَاءِ بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِ

التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ: أَنْ لَا يَقُولَ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الْمُخَاطَبِ بِهِ اللَّهُ صَرَاحَةً. وَجُمْلَةُ إِنْ شاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ادْخُلُوا وَالْحَالِ مِنْ ضَمِيرِهَا. وَالْعَرْشُ: سَرِيرٌ لِلْقُعُودِ فَيَكُونُ مُرْتَفِعًا عَلَى سُوقٍ، وَفِيهِ سَعَةٌ تُمَكِّنُ الْجَالِسَ مِنَ الِاتِّكَاءِ. وَالسُّجُودُ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ تَعْظِيمًا لِلذَّاتِ أَوْ لِصُورَتِهَا أَوْ لِذِكْرِهَا، قَالَ الْأَعْشَى: فَلَمَّا أَتَانَا بُعَيْدَ الْكَرَى ... سَجَدْنَا لَهُ ورفعنا الْعمار (¬1) وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ فَيُعَدَّى إِلَى مَفْعُولِهِ بِاللَّامِ كَمَا فِي الْآيَةِ. وَالْخُرُورُ: الْهُوِيُّ وَالسُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الْأَرْضِ. وَالَّذِينَ خَرُّوا سُجَّدًا هُمْ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ وَهُمْ أَحَدَ عشر وهم: رأوبين، وشمعون، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَيَسَاكِرُ، وَرِبُولُونُ، وَجَادٌ، وَأَشِيرُ، وَدَانِ، وَنَفْتَالِي، وَبِنْيَامِينُ. والشَّمْسَ، والْقَمَرَ، تَعْبِيرُهُمَا أَبَوَاهُ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَرَاحِيلُ. وَكَانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ الْمُلُوكِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مَمْنُوعًا فِي الشَّرَائِعِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى مُسَاوَاةِ النَّاسِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ. وَلِذَلِكَ فَلَا يُعَدُّ قَبُولُهُ السُّجُودَ مِنْ أَبِيهِ عُقُوقًا لِأَنَّهُ لَا غَضَاضَةَ عَلَيْهِمَا مِنْهُ إِذْ هُوَ عَادَتُهُمْ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَخَرُّوا حَالِيَّةً لِأَنَّ التَّحِيَّةَ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. وسُجَّداً حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْخُرُورَ يَقَعُ بِكَيْفِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ. ¬

(¬1) الْعمار- بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم- هُوَ الريحان أَو الآس كَانُوا يحملونه عِنْد تَحِيَّة الْمُلُوك قَالَ النَّابِغَة: يحيون بالريحان يَوْم السباسب

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ إِشَارَةٌ إِلَى سُجُودِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ لَهُ هُوَ مِصْدَاقَ رُؤْيَاهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سُجَّدًا لَهُ. وَتَأْوِيلُ الرُّؤْيَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ [سُورَة يُوسُف: 36] . وَمَعْنَى قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْأَخْبَارِ الرَّمْزِيَّةِ الَّتِي يُكَاشِفُ بِهَا الْعَقْلُ الْحَوَادِثَ الْمُغَيَّبَةَ عَنِ الْحِسِّ، أَيْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا بَاطِلًا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ الْغِذَائِيَّةِ أَوِ الِانْحِرَافَاتِ الدِّمَاغِيَّةِ. وَمَعْنَى أَحْسَنَ بِي أَحْسَنَ إِلَيَّ. يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ بِتَضْمِينِ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطَفَ. وَبَاءُ بِي لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ جَعَلَ إِحْسَانَهُ مُلَابِسًا لِي، وَخَصَّ مِنْ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِ دُونَ مُطْلَقِ الْحُضُورِ لِلِامْتِيَارِ أَوِ الزِّيَادَةِ إِحْسَانَيْنِ هُمَا يَوْمَ أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ وَمَجِيءِ عَشِيرَتِهِ مِنَ الْبَادِيَةِ. فَإِنَّ إِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ لِفِعْلِ أَحْسَنَ فَهِيَ بِإِضَافَتِهَا إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ إِحْسَانٍ غَيْرِ مَعْدُودٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ زَمَنَ ثُبُوتِ بَرَاءَتِهِ مِنَ الْإِثْمِ الَّذِي رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَتِلْكَ مِنَّةٌ، وَزَمَنَ خَلَاصِهِ مِنَ السَّجْنِ فَإِنَّ السَّجْنَ عَذَابُ النَّفْسِ بِالِانْفِصَالِ عَنِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَحِبَّةِ، وَبِخُلْطَةِ مَنْ لَا يُشَاكِلُونَهُ، وَبِشَغْلِهِ عَنْ خَلْوَةِ نَفْسِهِ بِتَلَقِّي الْآدَابِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا زَمَنَ إِقْبَالِ الْمَلِكِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَجِيءُ أَهْلِهِ فَزَوَالُ أَلَمٍ نَفْسَانِيٍّ بِوَحْشَتِهِ فِي الِانْفِرَادِ عَنْ قَرَابَتِهِ وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَأَفْصَحَ بِذِكْرِ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَمَجِيءِ أَهْلِهِ مِنَ الْبَدْوِ إِلَى حَيْثُ هُوَ مَكِينٌ قَوِيٌّ. وَأَشَارَ إِلَى مَصَائِبِهِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِبْقَاءِ فِي الْجُبِّ، وَمُشَاهَدَةِ مَكْرِ إِخْوَتِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، فَكَلِمَةُ بَعْدِ اقْتَضَتْ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ انْقَضَى أَثَرُهُ. وَقَدْ أَلَمَّ بِهِ إِجْمَالًا اقْتِصَارًا عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِعْرَاضًا عَنِ التَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْحَوَادِثِ الْمُكَدِّرَةِ لِلصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ فَمَرَّ بِهَا مَرَّ الْكِرَامِ وَبَاعَدَهَا عَنْهُمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إِذْ نَاطَهَا بِنَزْغِ الشَّيْطَانِ.

وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ نِعْمَةٌ، فَأَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَجِيئُهُمْ بِقَصْدِ الِاسْتِيطَانِ حَيْثُ هُوَ. وَالْبَدْوُ: ضِدُّ الْحَضَرِ، سُمِّيَ بَدْوًا لِأَنَّ سُكَّانَهُ بَادُونَ، أَيْ ظَاهِرُونَ لِكُلِّ وَارِدٍ، إِذْ لَا تَحْجُبُهُمْ جُدْرَانٌ وَلَا تُغْلَقُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابٌ. وَذِكْرُ مِنَ الْبَدْوِ إِظْهَارٌ لِتَمَامِ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ انْتِقَالَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ارْتِقَاءٌ فِي الْحَضَارَةِ. وَالنَّزْغُ: مَجَازٌ فِي إِدْخَالِ الْفَسَادِ فِي النَّفْسِ. شُبِّهَ بِنَزْغِ الرَّاكِبِ الدَّابَّةَ وَهُوَ نَخْسُهَا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [200] . وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَا وَتَعْلِيمِ مَضْمُونِهَا. وَاللُّطْفُ: تَدْبِيرُ الْمُلَائِمِ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ عَلَى تَقْدِيرِ لَطِيفٌ لِأَجْلِ مَا يَشَاءُ اللُّطْفُ بِهِ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى اللُّطْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [103] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا أَوْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلتَّقْوِيَةِ. وَتَفْسِيرُ الْعَلِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . والْحَكِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَوَاسِطَ سُورَة الْبَقَرَة [209] .

[سورة يوسف (12) : آية 101]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) أَعْقَبَ ذِكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِتَوَجُّهِهِ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ بِالِاعْتِرَافِ بِأَعْظَمِ نِعَمِ الدُّنْيَا وَالنِّعْمَةِ الْعُظْمَى فِي الْآخِرَةِ، فَذَكَرَ ثَلَاثَ نِعَمٍ: اثْنَتَانِ دُنْيَوِيَّتَانِ وَهُمَا: نِعْمَةُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَنِعْمَةُ الْعِلْمِ، وَالثَّالِثَةُ: أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ الْحَقِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ- وَجَعَلَ الَّذِي أُوتِيَهُ بَعْضًا مِنَ الْمُلْكِ وَمِنَ التَّأْوِيلِ لِأَنَّ مَا أُوتِيَهُ بَعْضٌ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ وَبَعْضٌ مِنَ التَّأْوِيلِ إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ فِي جَانِبِ مُلْكِ اللَّهِ وَفِي جَانِبِ عِلْمِهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُلْكِ التَّصَرُّفَ الْعَظِيمَ الشَّبِيهَ بِتَصَرُّفِ الْمَلِكِ إِذْ كَانَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُ الْمُلْكَ بِرَأْيِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُلْكِ حَقِيقَتُهُ وَيَكُونُ التَّبْعِيضُ حَقِيقِيًّا، أَيْ آتَيْتَنِي بَعْضَ الْمُلْكِ لِأَنَّ الْمُلْكَ مَجْمُوعُ تَصَرُّفَاتٍ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، وَكَانَ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُف: 6] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وفاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نِدَاءٌ مَحْذُوفٌ حَرْفُ نِدَائِهِ. وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [14] . وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَجُمْلَةُ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ مِنْ قَبِيلِ الْخَبَرِ فِي إِنْشَاءِ الدُّعَاءِ وَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالنِّسْبَةِ لِوِلَايَةِ الدُّنْيَا، قِيلَ لِإِثْبَاتِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِوِلَايَةِ الْآخِرَةِ. فَالْمَعْنَى: كُنْ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

[سورة يوسف (12) : آية 102]

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً إِلَى النِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ الْحَقِّ، فَإِنَّ طَلَبَ تَوَفِّيهِ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ مِنَ الْآنِ، فَهُوَ يَسْأَلُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ إِلَى الْوَفَاةِ. وَالْمُسْلِمُ: الَّذِي اتَّصَفَ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَهُوَ مَا تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَة آل عمرَان [102] . وَالْإِلْحَاقُ: حَقِيقَتُهُ جعل الشَّيْء لَا حَقًا، أَيْ مُدْرِكًا مَنْ سَبَقَهُ فِي السَّيْرِ. وَأُطْلِقَ هُنَا مَجَازًا عَلَى الْمَزِيدِ فِي عِدَادِ قَوْمٍ. وَالصَّالِحُونَ: الْمُتَّصِفُونَ بِالصَّلَاحِ، وَهُوَ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ. وَأَرَادَ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ. فَإِنْ كَانَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السّلام- يَوْمئِذٍ نبيئا فَدُعَاؤُهُ لِطَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِن كَانَ نبّىء فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ دُعَاء لحصوله، وَقد صَار نبيئا بعد ورسولا. [102] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ عِنْدَ انْتِهَائِهَا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذكر من الْحَادِث أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْأَنْبَاءِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ عُقُولِ السَّامِعِينَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ. والْغَيْبِ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ غَابَ فَسُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ نُوحِيهِ لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 103 إلى 104]

وَضَمَائِرُ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ عَائِدَةٌ إِلَى كُلِّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، يَشْمَلُ إِخْوَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالسَّيَّارَةَ، وَامْرَأَةَ الْعَزِيزِ، وَنِسْوَتَهَا. وأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ تَفْسِيرُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيابات الْجب [يُوسُف: 15] . وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِخْلَاصٌ لِمَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ مِنَ الْقِصَّةِ. وَفِيهَا مِنَّةٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِتَنْبِيهِهِمْ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنَ الْجَانِبِ الْعِلْمِيِّ، فَإِنَّ صُدُورَ ذَلِك من النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّ آيَةٌ كُبْرَى عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ تَوَرُّكًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِذْ هِيَ تَمَامُ التَّعْجِيبِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَمْكُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَجْمَعُوا، وَأُتِيَ يَمْكُرُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالة العجيبة. [103، 104] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 103 إِلَى 104] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) انْتِقَالٌ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى الْعِبْرَةِ بِتَصْمِيمِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ، فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يُوسُف: 102] بِاعْتِبَارِ إِفَادَتِهَا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ دَاعِيًا سَامِعِيهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ

يَكُونُ مُطْمِعًا فِي إِيمَانِهِمْ عُقِّبَ بِإِعْلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. والنَّاسِ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ جِنْسِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَاسٌ مُعَيَّنُونَ وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، فَيَكُونُ عُمُومًا عُرْفِيًّا. وَجُمْلَةُ وَلَوْ حَرَصْتَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ مَا وَخَبَرِهَا. وَلَوْ هَذِهِ وَصْلِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ شَرْطَهَا هُوَ أَقْصَى الْأَسْبَابِ لِجَوَابِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَجَوَابُ لَوْ هُوَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا أَوْ دَلِيلُ الْجَوَابِ. وَالْحِرْصُ: شِدَّةُ الطَّلَبِ لِتَحْصِيلِ شَيْءٍ وَمُعَاوَدَتِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ [128] . وَجُمْلَة وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى آخِرِهَا بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَتْهُ مِنَ التَّأْيِيسِ مِنْ إِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ. أَيْ لَا يَسُوءُكَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ فَلَسْتَ تَبْتَغِي أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ جَزَاءً عَلَى التَّبْلِيغِ بَلْ إِيمَانُهُمْ لِفَائِدَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [سُورَة الحجرات: 17] . وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله: وَما تَسْئَلُهُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ، أَيِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لجملة وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لَا لِتَحْصِيلِ أَجْرِ مُبَلِّغِهِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يُوسُف: 102] .

[سورة يوسف (12) : الآيات 105 إلى 106]

[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 105 إِلَى 106] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُف: 103] ، أَيْ لَيْسَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ آيَةِ حُصُولِ الْعِلْمِ لِلْأُمِّيِّ بِمَا فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فَحَسْبُ بَلْ هُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وكَأَيِّنْ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ يُبَيِّنُهُ تَمْيِيزٌ مَجْرُورٌ بِ مِنْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نبيء قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] . وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْإِشْرَاكِ بَعْدَهَا. وَمَعْنَى يَمُرُّونَ عَلَيْها يَرَوْنَهَا، وَالْمُرُورُ مَجَازٌ مَكْنِيٌّ بِهِ عَنِ التَّحَقُّقِ وَالْمُشَاهَدَةِ إِذْ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْمُرُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِآيَاتِ السَّمَاوَاتِ، فَالْمُرُورُ هُنَا كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] . وَضَمِيرُ يَمُرُّونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَمُرُّونَ أَيْ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرُ النَّاسِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَبِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللَّهِ إِلَّا فِي تَشْرِيكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، فَجُمْلَةُ وَهُمْ مُشْرِكُونَ حَالٌ مِنْ أَكْثَرُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَشْنِيعُ حَالِهِمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ

[سورة يوسف (12) : آية 107]

بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ. وَإِسْنَادُ هَذَا الْحُكْمِ إِلَى أَكْثَرُهُمْ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَقْوَالٌ خَلِيَّةٌ عَنْ ذِكْرِ الشَّرِيكِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضًا مِنْهُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ مَعَهُ إِلَهًا آخر. [107] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 107] أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) اعْتِرَاضٌ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَتَانِ قَبْلَهُ مِنْ تَفْظِيعِ حَالِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى خَالِقِهِمْ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ دُونَ إِقْلَاعٍ، فَكَأَنَّهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَوَقُّعِ حُصُولِ غَضَبِ اللَّهِ بِهِمْ آمِنُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ وَيَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ الْخَالِدِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ. وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ: الْإِحَاطَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ [سُورَة لُقْمَان: 32] . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 54] . وَالْغَاشِيَةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي تُحِيطُ بِالنَّاسِ. وَالْعَرَبُ يُؤَنِّثُونَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ مِثْلَ الطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالدَّاهِيَةِ وَالْمُصِيبَةِ وَالْكَارِثَةِ وَالْحَادِثَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَالْحَاقَّةِ. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فِي آخِرِ سُورَة الْأَنْعَام [31] . [108] [سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 108] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ نُزُولِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِلنَّبِيِّء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّ عَلَى صِدْقِ نُبُوءَتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى

الِاعْتِبَارِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسَّبِيلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِإِبْلَاغِهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْفَوْزُ الْخَالِدُ كَإِبْلَاغِ الطَّرِيقِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ لِلسَّائِرِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالسَّبِيلُ يُؤَنَّثُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُذَكَّرُ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [146] . وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْزِيلِ الْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ لِبُلُوغِهِ مِنَ الْوُضُوحِ لِلْعُقُولِ حَدًّا لَا يَخْفَى فِيهِ إِلَّا عَمَّنْ لَا يُعَدُّ مُدْرِكًا. وَمَا فِي جُمْلَةِ هذِهِ سَبِيلِي مِنِ الْإِبْهَامِ قَدْ فسرته جملَة أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ. وعَلى فِيهِ للاستعلاء الْمجَازِي المُرَاد بِهِ التَّمَكُّن، مثل «على هدى من رَبهم» . وَالْبَصِيرَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهِيَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْمَعْنَى: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِبَصِيرَةٍ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا، وَوَصْفُ الْحُجَّةِ بِبَصِيرَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَالْبَصِيرُ: صَاحِبُ الْحُجَّةِ لِأَنَّهُ بِهَا صَارَ بَصِيرًا بِالْحَقِيقَةِ. وَمِثْلُهُ وَصْفُ الْآيَةِ بِمُبْصِرَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [سُورَة النَّمْل: 13] . وَبِعَكْسِهِ يُوصَفُ الْخَفَاءُ بِالْعَمَى كَقَوْلِهِ: وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [سُورَة هود: 28] . وَضَمِيرُ أَنَا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَتر فِي أَدْعُوا، أُتِيَ بِهِ لِتَحْسِينِ الْعَطْفِ بِقَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَهُوَ تَحْسِينٌ وَاجِبٌ فِي اللُّغَةِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَدْعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ. وَقَدْ قَامُوا بِذَلِكَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 109 إلى 110]

بِوَسَائِلِ بَثِّ الْقُرْآنِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي صَدْرِ زَمَانِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» أَيْ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ. ثُمَّ لَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَبَلَغَتْ دَعْوَتُهُ الْأَسْمَاعَ صَارَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [104] . وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَسُبْحانَ اللَّهِ على جملَة أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَأُنَزِّهُهُ. وَسُبْحَانَ: مَصْدَرُ التَّسْبِيحِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا، أَيْ أَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ وَأُنَزِّهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ الَّتِي يُشْرِكُ بِهَا الْمُشْركُونَ من دُعَاء الشُّرَكَاءِ، وَالْوَلَدِ، وَالصَّاحِبَةِ. وَجُمْلَةُ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تَعُمُّ مَا تضمنته. [109، 110] [سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 109 إِلَى 110] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ [سُورَة يُوسُف: 103] إِلَخْ. هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَّصِلٌ مَعْنَاهُمَا بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سُورَة يُوسُف: 102] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [سُورَة يُوسُف: 104] وَقَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي الْآيَة [سُورَة يُوسُف: 108] ، فَإِنَّ تِلْكَ الْآي تَضَمَّنَتِ الْحُجَّةَ

عَلَى صدق الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَتَضَمَّنَتْ أَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا غَيْرُ مُصَدِّقِينَهُ عِنَادًا وَإِعْرَاضًا عَنْ آيَاتِ الصِّدْقِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- سُنَّةٌ إلهية قديمَة فَلَمَّا ذَا يَجْعَلُ الْمُشْرِكُونَ نُبُوءَتَكَ أَمْرًا مُسْتَحِيلًا فَلَا يُصَدِّقُونَ بِهَا مَعَ مَا قَارَنَهَا مِنْ آيَاتِ الصِّدْقِ فَيَقُولُونَ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. وَهَلْ كَانَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- السَّابِقُونَ إِلَّا رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَوْحَى الله إِلَيْهِم فبمَاذَا امْتَازُوا عَلَيْكَ، فَسَلَّمَ الْمُشْرِكُونَ بِبَعْثَتِهِمْ وَتَحَدَّثُوا بِقِصَصِهِمْ وَأَنْكَرُوا نُبُوءَتَكَ. وَرَاءَ هَذَا مَعْنًى آخَرُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِاسْتِوَاءِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَمَا لَقُوهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ فَهُوَ وَعِيدٌ بِاسْتِوَاءِ الْعَاقِبَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ. ومِنْ قَبْلِكَ يَتَعَلَّقُ بِ أَرْسَلْنا فَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْأَزْمِنَة فَصَارَ مَا صدق الْقَبْلِ الْأَزْمِنَةَ السَّابِقَةَ، أَيْ مِنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِرْسَالِ. وَلَوْلَا وُجُودُ مِنْ لَكَانَ قَبْلِكَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِلْمُرْسَلِينَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ الْإِرْسَالِ. وَالرِّجَالُ: اسْمُ جِنْسٍ جَامِدٌ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَأُطْلِقَ هُنَا مُرَادًا بِهِ أُنَاسًا كَقَوْلِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» ، أَيْ إِنْسَانٌ أَوْ شَخْصٌ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَرْأَةِ. وَاخْتِيرَ هُنَا دُونَ غَيْرِهِ لِمُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلًا مِنَ النِّسَاءِ لِحِكْمَةِ قَبُولِ قِيَادَتِهِمْ فِي نُفُوسِ الْأَقْوَامِ إِذِ الْمَرْأَةُ مُسْتَضْعَفَةٌ عِنْدَ الرِّجَالِ دُونَ الْعَكْسِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ تَنَبَّأَتْ سِجَاحِ: أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا وَلَيْسَ تَخْصِيصُ الرِّجَالِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ عَنِ النِّسَاءِ وَمِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ مَنْ سَلَّمُوا بِرِسَالَتِهِمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] وقالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] ، أَيْ فَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ حَتَّى تُبَادِرُوا بِإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ وَتُعْرِضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ.

فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَمْ يَكُنِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- قَبْلَكَ مَلَائِكَةً أَوْ مُلُوكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُدُنِ الْكَبِيرَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ إِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِثْلَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ، وَيَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ كَانَ سَاكِنًا فِي الْبَدْوِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، يُوحَى- بِتَحْتِيَّةٍ وَبِفَتْحِ الْحَاءِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِنُونٍ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ وَالنُّونُ نُونُ الْعَظَمَةِ. وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا مِنَ الْأُسْوَةِ، أَيْ فَكَذَّبَهُمْ أَقْوَامُهُمْ مِنْ قَبْلِ قَوْمِكَ مِثْلَ مَا كَذَّبَكَ قَوْمُكَ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الْعِقَابَ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْأَقْوَامِ السَّابِقِينَ، أَيْ فَيَنْظُرُوا آثَارَ آخِرِ أَحْوَالِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ فَيَعْلَمُ قَوْمُكَ أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ عَلَى قِيَاسِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، فَضَمِيرُ يَسِيرُوا عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة يُوسُف: 108] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. فَإِنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ سَارُوا فِي الْأَرْضِ فَرَأَوْا عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضٌ بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ النَّظَرِ عَنْ مَفْعُولِهِ. وَجُمْلَةُ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَبَرٌ. مَعْطُوفَةٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ فَلَهَا حُكْمُهُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالتَّبْشِيرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِلرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِسَلَامَةِ عَاقِبَةِ الْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا. وَتَعْرِيضٌ أَيْضًا بِأَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ أَيْضًا عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْعَاقِبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَحَصَلَ إِيجَازٌ بِحَذْفِ جملتين. وَإِضَافَة لَدارُ إِلَى الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مِثْلَ «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ» فِي الْحَدِيثِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كثير، وَأَبُو عَمْرو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ الْمُعَانِدِينَ لَمَّا جَرَى ذِكْرُهُمْ وَتَكَرَّرَ صَارُوا كَالْحَاضِرِينَ فَالْتُفِتْ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى نَسَقِ مَا قَبْلَهُ. وحَتَّى مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ عَاطِفَةٌ جملَة إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ، فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَكَذَّبَهُمُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ إِذَا اسْمُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَهُوَ يَلْزَمُ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ تُبَيِّنُ الزَّمَان، وَجُمْلَة اسْتَيْأَسَ مُضَافٌ إِلَيْهَا إِذَا، وَجُمْلَةُ جاءَهُمْ نَصْرُنا جَوَابُ إِذَا لِأَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَلْبِ إِذَا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- غَيْرُ الْمُرَادِ بِ رِجالًا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ وَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِعْطَاءِ الْكَلَامِ اسْتِقْلَالًا بِالدَّلَالَةِ اهْتِمَامًا بِالْجُمْلَةِ. وَآذَنَ حَرْفُ الْغَايَةِ بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا بِمَا قُصِدَ بِهَا مِنْ مَعْنَى قَصْدِ الْأُسْوَةِ بِسَلَفِهِ مِنَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. وَالْمَعْنَى: فَدَامَ تَكْذِيبُهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ وَتَأَخَّرَ تَحْقِيقُ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ حَتَّى اطْمَأَنُّوا بِالسَّلَامَةِ وَسَخِرُوا بِالرُّسُلِ وَأَيِسَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِنْ إِيمَان قَومهمْ. واسْتَيْأَسَ مُبَالَغَةٌ فِي يَئِسَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [سُورَة يُوسُف: 87] . وَتَقَدَّمَ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْيَاءِ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَالَفَ فِيهَا الْبَزِّيُّ رِوَايَةً عَنْهُ.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «أَكُذِّبُوا أَمْ كُذِبُوا- أَيْ بِالْخَفِيفِ أَمْ بِالشَّدِّ- قَالَتْ: كُذِّبُوا- أَيْ بِالشَّدِّ- قَالَ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ فَهِيَ قَدْ كُذِبُوا- أَيْ بِالتَّخْفِيفِ-، قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا وَإِنَّمَا هُمْ أَتْبَاعُ الَّذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقُوا فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِنْ إِيمَانِ مَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ مُكَذِّبُوهُمُ» اه. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- رَأْيٌ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ وَإِنْكَارُهَا أَنْ تَكُونَ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً إِنْكَارٌ يَسْتَنِدُ بِمَا يَبْدُو مِنْ عَوْدِ الضَّمَائِرِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ، وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ قَدْ بَلَغَتْهَا رِوَايَةُ كُذِبُوا بِالتَّخْفِيفِ. وَتَفْرِيعُ فَنُنْجِي مَنْ نَشَاءُ عَلَى جاءَهُمْ نَصْرُنا لِأَنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- هُوَ تَأْيِيدُهُمْ بِعِقَابِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَهُوَ الْبَأْسُ، فَيُنْجِي اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَا يَرُدُّ الْبَأْسَ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْبَأْسُ: هُوَ عَذَابُ الْمُجْرِمِينَ الَّذِي هُوَ نصر للرسل- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.. وَالْقَوْمُ الْمُجْرِمُونَ: الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَنُنْجِي بِنُونَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ مُضَارِعَ أَنْجَى. ومَنْ نَشاءُ مَفْعُولُ نُنْجِي. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فَنُجِّيَ- بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ مَكْسُورَةً وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ مَاضِي نَجَّى الْمُضَاعَفِ بُنِيَ لِلنَّائِبِ، وَعَلَيْهِ فَ مَنْ نَشاءُ هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاضِي فِي (نُجِّيَ) وَالْمُضَارِعِ فِي نَشاءُ احْتِبَاكٌ تَقْدِيرُهُ فَنُجِّيَ مَنْ شِئْنَا مِمَّنْ نَجَا فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَنُنْجِي مَنْ نَشَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ من المكذبين.

[سورة يوسف (12) : آية 111]

[سُورَة يُوسُف (12) : آيَة 111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) هَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سُورَة يُوسُف: 102] وَهِيَ تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ مِنَ التَّعْجِيبِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ مَعَ دَلَالَةِ الْأُمِّيَّةِ. وَهِيَ أَيْضًا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ لِلْجُمَلِ الْمُسْتَطْرَدِ بِهَا لِقَصْدِ الِاعْتِبَارِ بِالْقِصَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُف: 103] . فَلَهَا مَوَاقِعُ ثَلَاثَةٌ عَجِيبَةٌ مِنَ النَّظْمِ الْمُعْجِزِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (قَدْ) وَاللَّامِ لِلتَّحْقِيقِ. وَأُولُو الْأَلْبَابِ: أَصْحَابُ الْعُقُولِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي أَوَاسِطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [197] . وَالْعِبْرَةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ لِلِاعْتِبَارِ، وَهُوَ التَّوَصُّلُ بِمَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ الْمَعْلُومِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْغَائِبِ وَتُطْلَقُ الْعِبْرَةُ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعِبْرَةِ فِي قِصَصِهِمْ أَنَّهَا مَظْرُوفَةٌ فِيهِ ظَرْفِيَّةً مَجَازِيَّةً، وَهِيَ ظَرْفِيَّةُ الْمَدْلُولِ فِي الدَّلِيلِ فَهِيَ قَارَّةٌ فِي قِصَصِهِمْ سَوَاءٌ اعْتَبَرَ بِهَا مَنْ وَفِّقَ لِلِاعْتِبَارِ أَمْ لَمْ يَعْتَبِرْ لَهَا بَعْضُ النَّاسِ. وَجُمْلَةُ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى إِلَى آخِرِهَا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَصَصَ خَبَرُ صِدْقٍ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ وَمَا هُوَ بِقِصَّةٍ

مُخْتَرَعَةٍ. وَوَجْهُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْقِصَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ خَبَرًا عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْآثَارِ على الْوَاقِعَات رتّب طَبِيعِيٌّ فَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَرَتَّبَ أَمْثَالُهَا عَلَى أَمْثَالِهَا كُلَّمَا حَصَلَتْ فِي الْوَاقِعِ، وَلِأَنَّ حُصُولَهَا مُمْكِنٌ إِذِ الْخَارِجُ لَا يَقَعُ فِيهِ الْمُحَالُ وَلَا النَّادِرُ وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِصَصِ الْمَوْضُوعَةِ بِالْخَيَالِ وَالتَّكَاذِيبِ فَإِنَّهَا لَا يَحْصُلُ بِهَا اعْتِبَارٌ لِاسْتِبْعَادِ السَّامِعِ وُقُوعَهَا لِأَنَّ أَمْثَالَهَا لَا يُعْهَدُ، مِثْلَ مُبَالَغَاتِ الْخُرَافَاتِ وَأَحَادِيثِ الْجِنِّ وَالْغُولِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَقِصَّةِ رُسْتَمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ عِنْدَ الْعَجَمِ، فَالسَّامِعُ يَتَلَقَّاهَا تَلَقِّيَ الْفُكَاهَاتِ وَالْخَيَالَاتِ اللَّذِيذَةِ وَلَا يَتَهَيَّأُ لِلِاعْتِبَارِ بِهَا إِلَّا على سَبِيل الفرص وَالِاحْتِمَالِ وَذَلِكَ لَا تَحْتَفِظُ بِهِ النُّفُوسُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُف: 3] فَكَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ نَفَى عَنْهُ الِافْتِرَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْرِيضًا بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَضْرَابِهِ. وَالِافْتِرَاءُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . والَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ السَّابِقَةُ. وَضَمِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ هَذِهِ الْقِصَصُ. وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ. وَالْمُرَادُ بِ كُلِّ شَيْءٍ الْأَشْيَاءُ الْكَثِيرَةُ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْقِصَصِ. وَإِطْلَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْكَثْرَةِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [31] . وَالْهُدَى الَّذِي فِي الْقَصَصِ: الْعِبَرُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى بِمُشَاهَدَةِ مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْقَصَصِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى أَنَّ التَّقْوَى هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ فَإِنَّ فِي قِصَصِ أَهْلِ الْفَضْلِ

دَلَالَةً عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ بِهَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ، فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُمْ وَيَكُونُونَ فِي اطْمِئْنَانِ بَالٍ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَسَبَبٌ لِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] .

13- سورة الرعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 13- سُورَةُ الرَّعْدِ هَكَذَا سُمِّيَتْ مِنْ عَهْدِ السَّلَفِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِذَلِكَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي اسْمِهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِإِضَافَتِهَا إِلَى الرَّعْدِ لِوُرُودِ ذِكْرِ الرَّعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرَّعْد: 13] . فَسُمِّيَتْ بِالرَّعْدِ لِأَنَّ الرَّعْدَ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةٍ مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا أَوْ مُعْظَمُهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الرَّعْدُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَإِذَا كَانَتْ آيَاتُ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرَّعْد: 12] مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا سَيَأْتِي تَعَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَعَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ- أَيْ فِي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ [43]- أَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ فَقَالَ: كَيْفَ وَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجَمَعَ السُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً- إِلَى قَوْلِهِ-: شَدِيدُ الْمِحالِ وَقَوْلِهِ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: 43] .

مقاصدها

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَدَنِيَّ فِيهَا كَثِيرٌ، وَكُلُّ مَا نَزَلْ فِي شَأْنِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ فَهُوَ مَدَنِيٌّ. وَأَقُولُ أَشْبَهُ آيَاتِهَا بِأَنْ يَكُونَ مَدَنِيًّا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: 41] كَمَا سَتَعْلَمُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ- إِلَى- وَإِلَيْهِ مَتابِ [سُورَة الرَّعْد: 30] ، فَقَدْ قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِهَا. وَمَعَانِيهَا جَارِيَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ على الوحدانية وتقريع الْمُشْرِكِينَ وَتَهْدِيدِهِمْ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي أَثَارَتِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ أَخْبَارٌ وَاهِيَةٌ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةً. وَمن آياتها آيَات نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأُلْحِقَتْ بِهَا. فَإِن ذَلِك وَقع فِي بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَذْكُرُوا مَوْقِعَهَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمَكِّيَّاتِ سِوَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوهَا بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ وَذَكَرُوا بَعْدَهَا سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ. وَالَّذِينَ جَعَلُوهَا مَدَنِيَّةً عَدُّوهَا فِي النُّزُولِ بَعْدَ سُورَةِ الْقِتَالِ وَقبل سُورَة الرحمان وَعَدُّوهَا سَابِعَةً وَتِسْعِينَ فِي عِدَادِ النُّزُولِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْقِتَالِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ عَامَ الْفَتْحِ تَكُونُ سُورَةُ الرَّعْدِ بَعْدَهَا. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَأَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ فِي عَدَدِ الْمَدَنِيِّينَ وَخَمْسًا وَأَرْبَعِينَ عِنْد الشَّام. مقاصدها أُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى أَسَاسِ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَإِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَتْ حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ مُوَزَّعَةً عَلَى السُّورَةِ بَدْءًا وَنِهَايَةً. وَمُهِّدَ لِذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ

تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْعَالَمَيْنِ وَنِظَامِهِمَا الدَّالِّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَإِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ انْتقل إِلَى تفنيد أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَزَاعِمِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَتَهْدِيدِهِمْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ. وَالتَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ. وَإِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ آلِهَتِهِمْ. وَأَنَّ اللَّهَ الْعَالِمَ بِالْخَفَايَا وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تُنْعِمُ بِنِعْمَةٍ. وَالتَّهْدِيدِ بِالْحَوَادِثِ الْجَوِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا عَذَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ كَمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ. وَالتَّخْوِيفِ مِنْ يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ قَرَارٍ. وَبَيَانِ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْآيَاتِ عَلَى نَحْوِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَمُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِيَقِينِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا كَمَا لَقِيَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِنْ قَبْلِهِ. وَالثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْإِشَارَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الْقَدَرِ وَمَظَاهِرِ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ وَالْأَمْثَالِ

[سورة الرعد (13) : آية 1]

[1] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) المر تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِ المر مِمَّا وَقَعَ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ الْقَوْلُ فِي تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ طَالِعَةِ سُورَةِ يُونُسَ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ تِلْكَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَخْبَرَ عَنْهَا بِأَنَّهَا آيَاتٌ، أَيْ دَلَائِلُ إِعْجَازٍ، وَلِذَلِكَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِظْهَار فِي مَقَامِ الْإِضْمَارٍ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِعَطْفِ خَبَرٍ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَلْ جِيءَ بِجُمْلَةٍ كَامِلَةٍ مُبْتَدِئَةٍ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّعْرِيفِ بِأَنَّ آيَاتِ الْكِتَابِ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهَا لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهَا آيَاتٌ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّهَا كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ آيَاتٍ. وَأَخْبَرَ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُتُبٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُمْ مِثْلَ قِصَّةِ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ اللَّتَيْنِ عَرَفَهُمَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. فَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوهُ كَأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ أَوِ الْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ مُبَالَغَةً لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ مُنْتَهَى مُرَادِ

[سورة الرعد (13) : آية 2]

اللَّهِ مِنَ النَّاسِ إِذْ كَانَتْ دَرَجَاتٍ مُوَصِّلَةً إِلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا، فَلِذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْهَا كِتَابٌ إِلَّا وَنُسِخَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ عُيِّنَ لِأُمَّةٍ خَاصَّةٍ «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى قَوْلِهِ: الْكِتابِ مُفْرَدٍ، مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ، مِثْلَ مَا أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَ ... امِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ بِالْمُزْدَحَمْ وَالْإِتْيَانُ بِ رَبِّكَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّلَطُّفِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ رَاجِعٌ إِلَى مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ مِنْ إِبْطَالِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الْحَقِّيَّةِ إِبْطَالًا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ النِّزَاعِ فِي أَحَقِّيَّتِهِ، أَيْ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ فِيهِمْ يَسْتَمِرُّ النِّزَاعُ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا. وَابْتِدَاءُ السُّورَةِ بِهَذَا تَنْوِيهٌ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هَذِهِ السُّورَةُ جُزْءٌ مِنْهُ مَقْصُودٌ بِهِ تَهْيِئَةُ السَّامِعِ لِلتَّأَمُّلِ مِمَّا سَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ. [2] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 2] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ ابْتِدَاءُ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَلِذَا تَجِدُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْغَرَضِ قَدْ طَالَ وَاطَّرَدَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ أَصْلَ كفرهم بِالْقُرْآنِ ناشىء عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْكُفْرِ وَعَنْ تَطَبُّعِهِمْ بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الْحَقِّ.

وَالِافْتِتَاحُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَى رَبِّكَ [الرَّعْد: 1] لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ بِهِ لَا يَشْتَبِهُ غَيْرُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ لِيَكُونَ الْخَبَرُ الْمَقْصُودُ جَارِيًا عَلَى مُعَيَّنٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إِبْلَاغًا فِي قَطْعِ شَائِبَةِ الْإِشْرَاكِ. والَّذِي رَفَعَ هُوَ الْخَبَرُ. وَجُعِلَ اسْمَ مَوْصُولٍ لِكَوْنِ الصِّلَةِ مَعْلُومَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَثْبُتُ لَهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ مِثْلَ تِلْكَ الصِّلَةِ غَيْرُ الْمُتَوَحِّدِ وَلِأَنَّهُ مُسَلَّمٌ لَهُ ذَلِكَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] . وَالسَّمَاوَاتُ تَقَدَّمَتْ مِرَارًا، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ وَطَبَقَاتُ الْجَوِّ الَّتِي تَسْبَحُ فِيهَا. وَرَفَعَهَا: خَلَقَهَا مُرْتَفِعَةً، كَمَا يُقَالُ: وَسِّعْ طَوْقَ الْجُبَّةِ وَضَيِّقْ كُمَّهَا، لَا تُرِيدُ وُسِّعْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَيِّقًا وَلَا ضَيِّقْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ وَاسِعًا وَإِنَّمَا يُرَادُ اجْعَلْهُ وَاسِعًا وَاجْعَلْهُ ضَيِّقًا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ رَفَعَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُنْخَفِضَةً. وَالْعَمَدُ: جَمْعُ عِمَادٍ مِثْلُ إهَاب وَأهب، والعماد: مَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْقُبَّةُ وَالْبَيْتُ. وَجُمْلَةُ تَرَوْنَها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّماواتِ، أَيْ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَالْجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ. وَسَيْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي مَسَافَاتٍ شَاسِعَةٍ، فَهُوَ أَسْرَعُ التَّنَقُّلَاتِ فِي بَابِهَا وَذَلِكَ سَيْرُهَا فِي مَدَارَاتِهَا.

وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ. وَالْأَجَلُ: هُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِدَوَامِ سَيْرِهَا، وَهِيَ مُدَّةُ بَقَاءِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الَّذِي إِذَا اخْتَلَّ انْتَثَرَتِ الْعَوَالِمُ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ. وَالْمُسَمَّى: أَصْلُهُ الْمَعْرُوفُ بِاسْمِهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمُحَدَّدِ إِذِ التَّسْمِيَةُ تَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ وَالتَّمْيِيزَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ جُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ يُفَصِّلُ الْآياتِ حَالٌ ثَانِيَةٌ تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِتَكُونَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّعْدَادِ وَالتَّوْقِيفِ وَذَلِكَ اهْتِمَامٌ بِاسْتِقْلَالِهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [3] . وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ [1] . وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا هُنَا أَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمْرِ يَشْمَلُ تَقْدِيرَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّصَرُّفِ بِالتَّكْوِينِ لِلْعُقُولِ وَالْعَوَالِمِ، وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ مُشِيرٌ إِلَى التَّصَرُّفِ بِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَشَأْنُ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُفِيدَ اهْتِدَاءَ النَّاسِ إِلَى الْيَقِينِ بِأَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى، لِأَنَّ النَّظَرَ بِالْعَقْلِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ وَتَدْبِيرَهَا يَهْدِي إِلَى ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةِ يُنَبِّهُ الْعُقُولَ وَيُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ وَيُقَرِّبُهُ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: 3] . وَهَذَا مِنْ إِدْمَاجِ غَرَضٍ فِي أَثْنَاءِ غَرَضٍ آخَرَ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَفِي أَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَعْثِ أَيْضًا.

[سورة الرعد (13) : آية 3]

وَصِيغَ (يُدَبِّرُ) وَ (يُفَصِّلُ) بِالْمُضَارِعِ عَكْسَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالتَّفْصِيلَ مُتَجَدِّدٌ مُتَكَرِّرٌ بِتَجَدُّدِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورَاتِ. وَأَمَّا رَفْعُ السَّمَاوَاتِ وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ تَمَّ وَاسْتَقَرَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً. [3] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 3] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ شِبْهُ التَّضَادِّ. اشْتَمَلَتِ الْأُولَى عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَاشْتَمَلَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ السُّفْلِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا. وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ وَالسِّعَةُ، وَمِنْهُ: ظِلٌّ مَدِيدٌ، وَمِنْهُ مَدُّ الْبَحْرِ وَجَزْرُهُ، وَمَدَّ يَدَهُ إِذَا بَسَطَهَا. وَالْمَعْنَى: خَلَقَ الْأَرْضَ مَمْدُودَةً مُتَّسِعَةً لِلسَّيْرِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا أَسْنِمَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ جِبَالًا شَاهِقَةً مُتَلَاصِقَةً لَمَا تَيَسَّرَ لِلْأَحْيَاءِ الَّتِي عَلَيْهَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالسَّيْرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ فَمَدَّهَا بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ، فَهَذِهِ خِلْقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعَلَى اللُّطْفِ بِعِبَادِهِ فَهِيَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ. وَالرَّوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ، وَهُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِرُّ. أَيْ جِبَالًا رَوَاسِيَ. وَقَدْ حُذِفَ مَوْصُوفُهُ لِظُهُورِهِ فَهُوَ كَقَوْلِه: وَلَهُ الْجَوارِ، أَيِ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ. وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [15] بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا. وَجِيءَ فِي جَمْعِ رَاسٍ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَوَزْنُ فَوَاعِلَ يَطَّرِدُ فِيمَا مُفْرَدُهُ صِفَةٌ لِغَيْرِ عَاقِلٍ مِثْلَ: صَاهِلٍ وَبَازِلٍ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْجِبَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ لِمَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ خِلْقَةِ الْمَعَادِنِ وَالتُّرَابِ فَهِيَ خَفِيَّةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: 19] .

وَالْأَنْهَارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وَهُوَ الْوَادِي الْعَظِيمُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [249] . وَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى أَنْهاراً فَهُوَ مَعْمُولٌ لِ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ. وَدُخُولُ مِنْ عَلَى كُلِّ جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ فِي ذِكْرِ أَجْنَاسِ غَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. ومِنَ هَذِهِ تُحْمَلُ عَلَى التَّبْعِيضِ لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْحَصِرُ وَالْمَوْجُودُ مِنْهَا مَا هُوَ إِلَّا بَعْضُ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ مِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ انْقَضَتْ وَمِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ سَتُوجَدُ. وَالْمُرَادُ بِ الثَّمَراتِ هِيَ وَأَشْجَارُهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الثَّمَراتِ لِأَنَّهَا مَوْقِعُ مِنَّةٍ مَعَ الْعِبْرَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [سُورَة الْأَعْرَاف: 57] . فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَبِذَلِكَ انْتَهَى تَعْدَادُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْأَرْضِ. وَهَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرًا. وَيُعَضِّدُهُ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [11] . وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَتَتَعَلَّقُ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ بِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَبِهَذَا فَسَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُبْعِدُهُ أَنَّهُ لَا نُكْتَةَ فِي تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورِ مَحَلُّ اهْتِمَامٍ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلثَّمَرَاتِ هُنَا، وَلِأَنَّ الثَّمَرَاتِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا وُجُودُ أَزْوَاجٍ وَلَا كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَيْضًا فِيهِ فَوَاتُ الْمِنَّةِ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وَتَنَاسُلِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مُعْظَمَ نَفْعِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ. وَمِمَّا يُقَرِّبُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: 6- 8] . وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ هَمَّا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [سُورَة الْقِيَامَة: 39] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ جِنْسُ الْحَيَوَانِ الْمَخْلُوقِ صِنْفَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى أَحَدُهُمَا زَوْجٌ

مَعَ الْآخَرِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] ، وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ [1] ، وَقَوْلُهُ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] فَذَلِكَ إِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى الصِّنْفِ بِنَاءً عَلَى شُيُوعِ إِطْلَاقِهِ عَلَى صِنْفِ الذَّكَرِ وَصِنْفِ الْأُنْثَى فَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى مُطْلَقِ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ مَا يَتَّصِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: أَنْبَتْنا مَعَ عَدَمِ التَّثْنِيَةِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طَهَ [53] . وَتَنْكِيرُ زَوْجَيْنِ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ جَعَلَ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ فِي زَوْجَيْنِ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الزَّوْجِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ زَوْجٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [143] . وَالْوَصْفُ بقوله: اثْنَيْنِ للتَّأْكِيد تَحْقِيقًا لِلِامْتِنَانِ. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ جُمْلَةُ يُغْشِي حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جَعَلَ. وَجِيءَ فِيهِ بِالْمُضَارِعِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّجَدُّدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا جَعْلٌ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ، وَأَمَّا إِغْشَاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَهُوَ أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَعْرَاضِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ. وَذِكْرُهُ مَعَ آيَاتِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ الْعِلْمِيَّةِ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مِنْ أَعْرَاضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ بِحَسَبِ اتِّجَاهِهَا إِلَى الشَّمْسِ وَلَيْسَا مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ إِذِ الشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهَا بِضِيَاءٍ وَظُلْمَةٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِسُكُونِ الْغَيْنِ- وَتَخْفِيفِ الشِّينِ- مُضَارِعُ أَغْشَى. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِتَشْدِيدِ الشِّينِ- مُضَارِعُ غَشَّى.

[سورة الرعد (13) : آية 4]

وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: 2] إِلَى هُنَا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَجَعَلَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَات ظروفا لآيَات لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ تَتَضَمَّنُ آيَاتٍ عَظِيمَةً يَجْلُوهَا النَّظَرُ الصَّحِيحُ وَالتَّفْكِيرُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْأَوْهَامِ. وَلِذَلِكَ أَجْرَى صِفَةَ التَّفْكِيرِ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّفْكِيرَ الْمُتَكَرِّرَ الْمُتَجَدِّدَ هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ بِحَيْثُ جُعِلَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، أَيْ جِبِلَّتِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ قَوْمٍ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى التَّفْكِيرِ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ فَعَلَّلُوا صُدُورَ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ الْمَادَّةِ وَنَفَوُا الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ مَا فَكَّرُوا إِلَّا تَفْكِيرًا قَاصِرًا مَخْلُوطًا بِالْأَوْهَامٍ لَيْسَ مَا تَقْتَضِيهِ جِبِلَّةُ الْعَقْلِ إِذِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْعِلَلُ وَالْمَوَالِيدُ، بِأَصْلِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. وَجِيءَ فِي التَّفْكِيرِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَلُّفِ وَبِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَفْكِيرٍ شَدِيدٍ وَمُكَرَّرٍ. وَالتَّفْكِيرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [50] . [4] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 4] وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) لِلَّهِ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ فِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَلْهَمَ النَّاسَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْأَرْضِ بِفَلْحِهَا وَزَرْعِهَا وَغَرْسِهَا

وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، فَجَاءَ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُسْنِدَ جَعْلُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُسْنَدْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِأَسْرَارٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا هِيَ مُوجِبُ تَفَاضُلِهَا. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَرِ، وَلَفْتُ النَّظَرِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ. وَأُعِيدَ اسْمُ الْأَرْضِ الظَّاهِرُ دُونَ ضَمِيرِهَا الَّذِي هُوَ الْمُقْتَضَى لِيَسْتَقِلَّ الْكَلَامُ وَيَتَجَدَّدَ الْأُسْلُوبُ، وَأَصْلُ انْتِظَامِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَفِيهَا قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، فَعَدَلَ إِلَى هَذَا تَوْضِيحًا وَإِيجَازًا. وَالْقِطَعُ: جَمْعُ قِطْعَةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهِيَ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَا يُقْتَطَعُ. وَلَيْسَ وَصْفُ الْقِطَعِ بِمُتَجَاوِرَاتٍ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَيْسَ هُوَ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ بِالْآيَاتِ، بَلِ الْمَقْصُودُ وَصْفُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ مُخْتَلِفَاتُ الْأَلْوَانِ وَالْمَنَابِتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِمُتَجَاوِرَاتٍ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْوَانِ والمنابت مَعَ التجاور أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] . فَمَعْنَى قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بِقَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَجَاوِرَةً مُتَلَاصِقَةً. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْأَرْضِ وَقِطَعِهَا يُشِيرُ إِلَى اخْتِلَافٍ حَاصِلٍ فِيهَا عَنْ غَيْرِ صُنْعِ النَّاسِ وَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَرَاعِي وَالْكَلَأِ. وَمُجَرَّدُ ذِكْرِ الْقِطَعِ كَافٍ فِي ذَلِكَ فَأَحَالَهُمْ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنِ اخْتِلَافِ مَنَابِتِ قِطَعِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَبِّ وَالْكَلَأِ وَهِيَ مَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ هُنَا لِاخْتِلَافِ أَكْلِهِ إِذْ لَا مَذَاقَ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ وَلكنه يخْتَلف شَرعه بَعْضِ الْحَيَوَانِ عَلَى بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [الْأَنْعَام: 99] .

وَالزَّرْعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الْأَنْعَام: 141] . والنخيل: اسْم جمع نَخْلَةٍ مِثْلَ النَّخْلِ، وَتَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَكِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالزَّرْعُ يَكُونُ فِي الْجَنَّاتِ يُزْرَعُ بَيْنَ أَشْجَارِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَعْنابٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جَنَّاتٌ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْجَنَّاتِ مُسَاوٍ لِلَّذِي فِي غَيْرِهَا فَاكْتُفِيَ بِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ. وَكَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ هُوَ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الزَّرْعِ الَّذِي فِي الْجَنَّاتِ، وَالنَّخْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي جَنَّاتٍ. وَصِنْوَانٌ: جَمْعُ صِنْوٍ بِكَسْرِ الصَّادِ فِي الْأَفْصَحِ فِيهِمَا وَهِيَ لُغَةُ الْحجاز، وَبِضَمِّهَا فيهمَا أَيْضًا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ. وَالصِّنْوُ: النَّخْلَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مَعَ نَخْلَةٍ أُخْرَى نَابِتَتَيْنِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ أَوْ نَخَلَاتٌ. الْوَاحِدُ صِنْوٌ وَالْمُثَنَّى صِنْوَانِ بِدُونِ تَنْوِينٍ، وَالْجَمْعُ صِنْوَانٌ بِالتَّنْوِينِ جَمْعُ تَكْسِيرٍ. وَهَذِهِ الزِّنَةُ نَادِرَةٌ فِي صِيغ أَو الجموع فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهَا إِلَّا خَمْسَةُ جُمُوعٍ: صِنْوٌ وَصِنْوَانٌ، وَقِنْوٌ وَقِنْوَانٌ، وَزِيدٍ بِمَعْنَى مِثْلٍ وَزِيدَانٍ، وَشِقْذٍ (بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ اسْمُ الْحِرْبَاءِ) وَشِقْذَانٍ، وَحِشٍّ (بِمَعْنَى بُسْتَانٍ) وَحِشَّانٍ. وَخُصَّ النَّخْلُ بِذِكْرِ صِفَةِ صِنْوَانٍ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَقْوَى. وَوَجْهُ زِيَادَةِ وَغَيْرُ صِنْوانٍ تَجْدِيدُ الْعِبْرَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ بِجَرِّ صِنْوانٌ وَجَرِّ وَغَيْرُ عَطْفًا عَلَى زَرْعٌ. وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَطْفًا عَلَى وَجَنَّاتٌ. وَالسَّقْيُ: إِعْطَاءُ الْمَشْرُوبِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا مَاءُ الْمَطَرِ وَمَاءُ الْأَنْهَارِ وَهُوَ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْقِيِّ بِبَعْضِهِ.

وَالتَّفْضِيلُ: مِنَّةٌ بِالْأَفْضَلِ وَعِبْرَةٌ بِهِ وَبِضِدِّهِ وَكِنَايَةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُسْقَى بِفَوْقِيَّةٍ اعْتِبَارًا بِجَمْعِ جَنَّاتٌ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ يُسْقى بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُفَضِّلُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَيُفَضِّلُ بِتَحْتِيَّةٍ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ. وَتَأْنِيثُ بَعْضَها عِنْدَ مَنْ قَرَأَ يُسْقى بِتَحْتِيَّةٍ دُونَ أَنْ يَقُولَ بَعْضَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْجَنَّاتِ عَلَى بَعْضٍ فِي الثَّمَرَةِ. وَالْأُكُلُ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ هُوَ الْمَأْكُولُ. وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ ضَمُّ الْكَافِ. وَظَرْفِيَّةُ التَّفْضِيلِ فِي الْأُكُلِ ظَرْفِيَّةٌ فِي مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ يَظْهَرُ بِالْمَأْكُولِ، أَيْ نُفَضِّلُ بَعْضَ الْجَنَّاتِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ بَعْضَ الْأَعْنَابِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخِيلِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا يُثْمِرُهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَ طَعُومِهِ وَتَفَاضُلَهَا مَعَ كَوْنِ الْأَصْلِ وَاحِدًا وَالْغِذَاءِ بِالْمَاءِ وَاحِدًا مَا هُوَ إِلَّا لِقُوَى خَفِيَّةٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهَا فَجَاءَتْ آثَارُهَا مُخْتَلِفَةً. وَمِنْ ثَمَّ جَاءَتْ جُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مَجِيء التذييل. وَأَشَارَ قَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: 3] . وَقَدْ جُعِلَ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ لِلْآيَاتِ. وَجُعِلَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ دَلَالَاتٍ كَثِيرَةً إِذْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَوُصِفَتِ الْآيَاتُ بِأَنَّهَا مِنِ اخْتِصَاصِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَنْ لَمْ تُقْنِعْهُمْ تِلْكَ الْآيَاتُ مُنَزَّلُونَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْقِلُ وَزِيدَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ سَجِيَّةٌ لِلَّذِينَ انْتَفَعُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِإِجْرَاءِ وَصْفِ الْعَقْلِ على كلمة لِقَوْمٍ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْآيَة قبلهَا.

[سورة الرعد (13) : آية 5]

[سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 5] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [الرَّعْد: 2] فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَهُوَ غَرَضٌ مُسْتَقِلٌّ مَقْصُودٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ أُدْمِجَ ابْتِدَاءً خِلَالَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرَّعْد: 2] تَمْهِيدًا لِمَا هُنَا، ثُمَّ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَيْهِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِمُنَاسَبَةِ التَّدْلِيلِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مُسْتَخْرَجًا مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15]- وَقَوْلِهِ-: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [سُورَة الطارق: 8] فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ إِنْكَارِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّالِفَةَ لَمْ تَبْقَ عُذْرًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَصَارَ فِي إِنْكَارِهِمْ مَحَلُّ عَجَبِ الْمُتَعَجِّبِ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرْطِ فِي مِثْلِ هَذَا تَعْلِيقَ حُصُولِ مَضْمُونِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ فِعْلِ الشَّرْط كَمَا هُوَ شَأْنُ الشُّرُوطِ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا تُراباً عَجَبًا أَمْرٌ ثَابِتٌ سَوَاء عجب مِنْهُ الْمُتَعَجِّبِ أَمْ لَمْ يُعْجَبْ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ اتِّصَافٌ بِتَعَجُّبٍ فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَسْبَقُ مِنْ كُلِّ عَجَبٍ لِكُلِّ مُتَعَجِّبٍ، وَلِذَلِكَ فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ بِمَا وَقَعَ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرَّعْد: 6] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ هُنَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلَ وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة: 12] . وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا يُقْصَدُ تَعَلُّقُهُ بِمَعْمُولٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يُقَدَّرُ: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارٍ، بَلْ يُنَزَّلُ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَكُنْ مِنْكَ تَعَجُّبٌ فَاعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ الَخْ....

عَلَى أَنَّ وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُشْبِهُ وُقُوعَهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَكُونُ لِعُمُومِ الْمَفَاعِيلِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، أَيْ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ شَيْءٍ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَإِنْ تَعْجَبْ إِلَخْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [سُورَة الرَّعْد: 1] . فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، فَعَجَبٌ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ. وَفَائِدَةُ هَذَا هُوَ التَّشْوِيقُ لِمَعْرِفَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ تَهْوِيلًا لَهُ أَوْ نَحْوَهُ، وَلِذَلِكَ فَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْله: فَعَجَبٌ للتنويع لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ صَالِحٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُ، ثُمَّ هُوَ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِي بَابِهِ تَبَعًا لِمَا أَفَادَهُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ مِنَ التَّشْوِيقِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا كُنَّا تُراباً إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا تُرَابًا. وَالْقَوْلُ المحكي عَنْهُم فَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهُمْ: تُرَابًا، وَتَجْدِيدُ خَلْقِهِمْ ثَانِيَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبُ وَالْإِحَالَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَإِذا كُنَّا بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ فِي أَوَّلِهِ قَبْلَ هَمْزَةِ إِذا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ قَبْلَ هَمْزَةِ إِنَّا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ لِأَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ من قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا دَلَائِلَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لِأَن قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لَا يَقُولُهُ إِلَّا كَافِرٌ بِاللَّهِ. أَي بِصِفَات إلهيته إِذْ جَعَلُوهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ وَثَانِيهِمَا اسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَ.

[سورة الرعد (13) : آية 6]

وَعُطِفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةُ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مُفْتَتَحَةً بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا فَإِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا يُحَقِّقُ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِوَضْعِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْإِهَانَةِ. وَكَذَلِكَ عَطْفُ جُمْلَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَقَوْلُهُ: الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَعِيدٌ بِسَوْقِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ سَوْقَ الْمَذَلَّةِ وَالْقَهْرِ، وَكَانُوا يَضَعُونَ الْأَغْلَالَ لِلْأَسْرَى الْمُثْقَلِينَ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ حُرَّةٍ كَمَهَاةِ الرَّمْلِ قَدْ كُبِلَتْ ... فَوْقَ الْمَعَاصِمِ مِنْهَا وَالْعَرَاقِيبِ تَدْعُو قُعَيْنًا وَقَدْ عَضَّ الْحَدِيدُ بِهَا ... عَضَّ الثِّقَافِ عَلَى صُمِّ الأنابيب والأغلال: مَعَ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْعُنُقِ، وَهُوَ أَشد التَّقْيِيد. قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 71] . وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ ثَلَاثًا لِلتَّهْوِيلِ. وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَصْحَاب النَّار. [6] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 6] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) جُمْلَةُ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ تَعْجَبْ [الرَّعْد: 5] ، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ حِكَايَةٌ لِغَرِيبِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْوَعِيدِ. فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِ الْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ تَكْذِيبَهُمْ بِوَعِيدِ الدُّنْيَا لِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعِيدِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَعَدِّهِمْ إِيَّاهُ مُسْتَحِيلًا فِي حَالِ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا آثَارَ الْعَذَابِ النَّازِلِِِ

بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي سيق الْكَلَامَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا وَالتَّفْرِيعِ عَنْهَا، فَهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِنُزُولِهِ بِهِمُ اسْتِخْفَافًا وَاسْتِهْزَاءً كَقَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] ، وَقَوْلِهِمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 93] . وَالْبَاءُ فِي بِالسَّيِّئَةِ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] . وَالسَّيِّئَةُ: الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ. وَهِيَ هُنَا الْمُصِيبَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَنْ تَحُلُّ بِهِ. وَالْحَسَنَةُ ضِدُّهَا، أَيْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عَذَابٌ بِسُوءٍ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: 32] دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا آيَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ حِكَايَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ سُؤَالِهِمُ الظَّانِّينَ أَنَّهُ تَعْجِيزٌ، وَالدَّالِّينَ بِهِ عَلَى التَّهَكُّمِ بِالْعَذَابِ. وَقَبْلِيَّةُ السَّيِّئَةِ قَبْلِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، أَيْ مُخْتَارِينَ السَّيِّئَةَ دُونَ الْحَسَنَةِ. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [46] فَانْظُرْهُ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَهُوَ مَحَلُّ زِيَادَةِ التَّعْجِيبِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْذُرُونَ فِيهِ لَوْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا آثَارَ الْأُمَمَ الْمُعَذَّبَةِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. وَالْمَثُلَاتُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ-: جَمْعُ مَثُلَةٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ- كَسَمُرَةٍ،- وَبِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ- كَعُرْفَةٍ: وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكُونُ مِثَالًا تُمَثَّلُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. وَهَذَا كَشْفٌ لِغُرُورِهِمْ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا

استهزأوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَرَّضُوا لِسُؤَالِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يُعَجَّلْ لَهُمْ حُلُولُهُ اعْتَرَتْهُمْ ضَرَاوَةٌ بِالتَّكْذِيبِ وَحَسِبُوا تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَجْزًا مِنَ المتوعد وكذبوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبَادَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَغْفِرَةِ الْمُوَقَّتَةِ، وَهِيَ التَّجَاوُزُ عَنْ ضَرَاوَةِ تَكْذِيبِهِمْ وَتَأْخِيرُ الْعَذَابِ إِلَى أَجَلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة النَّحْل: 34] . وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] ، أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ قُرَيْشٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُطْعِمُهُمْ مِنْ جُوعٍ. وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى ظُلْمِهِمْ بِمَعْنَى مَعَ. وَسِيَاق الْآيَة يدل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْفِرَةِ هُنَا التَّجَاوُزُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعِقَابِ لَهُمْ إِلَى أَجَلٍ أَرَادَهُ اللَّهُ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ضِدُّ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْعِقَابُ الْمُؤَجَّلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِقَابُ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَمَحْمَلُ الظُّلْمِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الشِّرْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الظُّلْمُ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَإِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سُورَة النِّسَاء: 160] فَلَا تَعَارُضَ أَصْلًا بَيْنَ هَذَا الْمَحْمَلِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 48] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْعِلَاوَةِ إِظْهَارُ شِدَّةِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] .

[سورة الرعد (13) : آية 7]

وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمَذْكُورَةَ مَغْفِرَةٌ دَائِمَةٌ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْعِقَابَ حَالٌّ بِهِمْ من بعد. [7] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 7] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ الْآيَةَ. وَهَذِهِ حَالَةٌ مِنْ أُعْجُوبَاتِهِمْ وَهِيَ عَدَمُ اعْتِدَادِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَأَيَّدَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْظَمُهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَلَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ آيَةً كَمَا يَقْتَرِحُونَهَا، فَلَهُ اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17] . وَمُرَادُهُمْ بِالْآيَةِ فِي هَذَا خَارِقُ عَادَةٍ عَلَى حِسَابِ مَا يَقْتَرِحُونَ، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لِأَنَّ تِلْكَ فِي تَعْجِيلِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَمَا هُنَا فِي مَجِيءِ آيَةٍ تُؤَيِّدُهُ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] . وَلِكَوْنِ اقْتِرَاحِهِمْ آيَةً يَشِفُّ عَنْ إِحَالَتِهِمْ حُصُولَهَا لِجَهْلِهِمْ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى سِيقَ هَذَا فِي عِدَادِ نَتَائِجِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 36] فَبِذَلِكَ انْتَظَمَ تَفَرُّعُ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَتَفَرُّعُ جَمِيعِهَا عَلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ عَيْنُ أَصْحَابِ ضَمِيرِ يَسْتَعْجِلُونَكَ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ الْكُفْرِ عَلَيْهِم، وَلما يومىء إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنْ تَعْلِيلِ صُدُورِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ.

وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ تَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ. ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. يُمَوِّهُونَ بِالتَّحْضِيضِ أَنَّهُمْ حَرِيصُونَ وَرَاغِبُونَ فِي نُزُولِ آيَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ لِيُؤْمِنُوا، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَوْ أُوتُوا آيَةً كَمَا يَقْتَرِحُونَ لَكَفَرُوا بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء: 59] . وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ اقْتِرَاحَهُمْ مِنْ أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، فَقَصَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِفَةِ الْإِنْذَارِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنْتَ مُنْذِرٌ لَا موجد خوارق عَاد. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ قَصْرِهِ عَلَى الْإِنْذَارِ دُونَ الْبِشَارَةِ لِأَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْوَالِهِ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ تَذْيِيلٌ بِالْأَعَمِّ، أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِهَؤُلَاءِ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ يُنْذِرُهُمْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، فَمَا كُنْتَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا كَانَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ آيَاتٌ عَلَى مُقْتَرَحِ أَقْوَامِهِمْ بَلْ كَانَتْ آيَاتُهُمْ بِحَسَبِ مَا أَرَادَ الله أَن يظْهر عَلَى أَيْدِيهِمْ. عَلَى أَنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ تَأْتِي عَلَى حَسَبِ مَا يُلَائِمُ حَالَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا كَانَ الَّذِينَ ظَهَرَتْ بَيْنَهُمْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَبًا أَهْلَ فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ جَعَلَ اللَّهُ مُعْجِزَتَهُ الْعُظْمَى الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا من الْأَنْبِيَاء نبيء إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَبِهَذَا الْعُمُومِ الْحَاصِلِ بِالتَّذْيِيلِ والشامل للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- صَارَ الْمَعْنَى إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِقَوْمِكَ هَادٍ إِيَّاهُمْ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَالْهُدَى مُتَلَازِمَانِ فَمَا مِنْ إِنْذَارٍ إِلَّا وَهُوَ هِدَايَةٌ وَمَا مِنْ هِدَايَةٍ إِلَّا وَفِيهَا إِنْذَارٌ، وَالْهِدَايَةُ أَعَمُّ مِنِ الْإِنْذَارِ فَفِي هَذَا احْتِبَاكٌ بَدِيعٌ.

[سورة الرعد (13) : الآيات 8 إلى 9]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هادٍ بِدُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. أَمَّا فِي الْوَصْلِ فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ سُكُونِ الْيَاءِ وَسُكُونِ التَّنْوِينِ الَّذِي يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ فَتَبَعًا لِحَالَةِ الْوَصْلِ، وَهُوَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ وَفِيهِ مُتَابَعَةُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْوَصْلِ مِثْلَ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ لِزَوَالِ مُوجِبِ حَذْفِ الْيَاءِ وَهُوَ لُغَة صَحِيحَة. [8، 9] [سُورَة الرَّعْد (13) : الْآيَات 8 إِلَى 9] اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: 2] إِلَخَّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. فَلَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْعَدِيدَةُ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ الَّتِي أَوْدَعَ بِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ دَقَائِقَ الْخِلْقَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُ تَعَالَى عِلْمًا عَامًّا بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَعَظَائِمِهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ افْتِتَاحُهُ عَلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ الْغَرَضَ السَّابِقَ بِأَنِ ابْتُدِئَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا ابْتُدِئَ بِهِ هُنَالِكَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْد: 2] . وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِأَنَّ لَهَا مُنَاسَبَةً بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَعَظِيمِ صُنْعِهِ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ وَلَكِنَّ بِعْثَةَ الرَّسُولِ لَيْسَ الْمَقْصِدُ مِنْهَا الْمُنَازَعَاتِ بَلْ هِيَ دَعْوَةٌ لِلنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ.

وَإِذْ قَدْ كَانَ خَلْقُ اللَّهِ الْعَوَالِمَ وَغَيْرَهَا مَعْلُومًا لَدَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ يُذْهِلُهُمْ عَنْ تَذَكُّرِهِ كَانُوا غَيْرَ مُحْتَاجِينَ لِأَكْثَرَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِذَلِكَ وَبِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا قَدْ يَخْفَى مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ آنِفًا بِغَيْرِ عَمَدٍ [الرَّعْد: 2]- وَقَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْد: 4] إِلَخْ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْخَلْقِ فِي آيَةِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: 2] إِلَخْ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَجِيءَ فِي تِلْكَ الصِّلَةِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. فَأَمَّا هُنَا فَصِيغَ الْخَبَرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدُ التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْمُتَكَاثِرَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ [الرَّعْد: 2] . وَذُكِرَ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ مَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَئِذٍ وَلَا تُسْتَشَارُ فِيهِ آلِهَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ بِإِثْبَاتِ الْجُزْئِيِّ لِإِثْبَاتِ الْكُلِّيِّ، فَمَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أَجِنَّةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلِ الْحَمْلِ دُونَ الْحَبَلِ لِاخْتِصَاصِ الْحَبَلِ بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَعُمُومُهَا يَقْتَضِي عِلْمَ الله بِحَال الْحل الْمَوْجُودِ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ، وَتَمَامٍ وَنَقْصٍ، وَحُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَطُولٍ وَقِصَرٍ، وَلَوْنٍ. وَتَغِيضُ: تَنْقُصُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُلُوقِ لِأَنَّ غَيْضَ الرَّحِمِ انْحِبَاسُ دَمِ الْحَيْضِ عَنْهَا، وَازْدِيَادُهَا: فَيَضَانُ الْحَيْضِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْضُ مُسْتَعَارًا لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ. وَالِازْدِيَادُ: التَّعَدُّدُ أَيْ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ مِنْ جَنِينٍ وَاحِدٍ أَوْ عِدَّةِ أَجِنَّةٍ وَذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَجُمْلَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى. فَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الشَّيْءُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ. وعِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

خَبَرًا عَنْ وَكُلُّ شَيْءٍ وبِمِقْدارٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَكُلُّ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون بِمِقْدارٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مِقْدَارٍ وَيَكُونُ بِمِقْدارٍ خَبَرًا عَنْ كُلُّ شَيْءٍ. وَالْمِقْدَارُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِقَرِينَةِ الْبَاءِ، أَيْ بِتَقْدِيرٍ، وَمَعْنَاهُ: التَّحْدِيدُ وَالضَّبْطُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا شُيُوعَ فِيهِ وَلَا إِبْهَامَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْقَائِلِينَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فِرَارًا مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْحَوَادِثِ. وَقَدْ أَبْطَلَ مَذْهَبَهُمْ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ بِمَا لَيْسَ فَوْقَهُ مَرَامٌ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أَثْبَتَتْ عُمُومَ عِلْمِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَقَعَ إِثْبَاتُ الْعُمُومِ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِعِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ الْخَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَجُمْلَةُ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِتَعْمِيمِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ وَالظَّوَاهِرِ وَهُمَا قِسْمَا الْمَوْجُودَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْغَيْبِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [4] . وَأَمَّا الشَّهادَةِ فَهِيَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْمَشْهُودَةُ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ الْمَحْسُوسَةُ، الْمَرْئِيَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَعْمِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كَقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38- 39] . وَالْكَبِيرُ: مَجَازٌ فِي الْعَظَمَةِ، إِذْ قَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ أَسْمَاءِ الْكَثْرَةِ وَأَلْفَاظِ الْكِبَرِ فِي الْعَظَمَةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَالْمُتَعَالِي: الْمُتَرَفِّعُ. وَصِيغَتِ الصِّفَةُ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيِ الرَّفِيعُ رِفْعَةً وَاجِبَةً لَهُ عَقْلًا. وَالْمُرَادُ بِالرِّفْعَةِ هَنَا الْمَجَازُ عَنِ الْعِزَّةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَوْجُودٌ أَنْ يَغْلِبَهُ أَوْ يُكْرِهَهُ، أَوِ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النَّحْل: 3] . وَحَذْفُ الْيَاءِ من الْمُتَعالِ لمرعاة الْفَوَاصِلِ السَّاكِنَةِ لِأَنَّ الْأَفْصَحَ فِي

[سورة الرعد (13) : آية 10]

الْمَنْقُوصِ غَيْرِ الْمُنَوَّنِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ فِي الْقَافِيَةِ أَوْ فِي الْفَوَاصِلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ مِنْ والٍ [الرَّعْد: 11] ، والْآصالِ [الرَّعْد: 15] . وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا يُخْتَارُ إِثْبَاتُهُ مِنَ الْيَاءَاتِ وَالْوَاوَاتِ يُحْذَفُ فِي الْفَوَاصِلِ وَالْقَوَافِي، وَالْإِثْبَاتُ أَقْيَسُ وَالْحَذْفُ عَرَبِيّ كثير. [10] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 10] سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَفِيَّاتِ وَالظَّوَاهِرِ. وَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الضَّمَائِرِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْخِطَابِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ يَصْلُحُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُتَآمِرِينَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ. وَإِنَّمَا يَقَعُ مَعْنَاهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا. وَاسْتُعْمِلَ سَوَاءٌ فِي الْكَلَامِ مُلَازِمًا حَالَةً وَاحِدَةً فَيُقَالُ: هُمَا سَوَاءٌ وَهُمْ سَوَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ. وَمَوْقِعُ سَوَاءٌ هُنَا مَوْقِعُ الْمُبْتَدَأِ. ومَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ سَواءٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا ومَنْ أَسَرَّ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا ومِنْكُمْ حَالٌ مَنْ أَسَرَّ. وَالِاسْتِخْفَاءُ: هُنَا الْخَفَاءُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ. وَالسَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَبَ إِذَا ذَهَبَ فِي السَّرْبِ- بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُوَ الطَّرِيقُ. وَهَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ. وَذِكْرُ الِاسْتِخْفَاءِ مَعَ اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ خَفَاءً، وَذِكْرُ السُّرُوبِ مَعَ النَّهَارِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ ظُهُورًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ سَوَاءٌ لَدَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

[سورة الرعد (13) : آية 11]

وَالْوَاوُ الَّتِي عَطَفَتْ أَسْمَاءَ الْمَوْصُولِ عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ لِلتَّقْسِيمِ فَهِيَ بِمَعْنى أَو. [11] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 11] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ جُمْلَةُ لَهُ مُعَقِّباتٌ إِلَى آخِرِهَا، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِ مِنْ الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْد: 10] . عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَحْفَظُونَهُ، وَضَمِيرَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ جَاءَتْ مُفْرَدَةً لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عَائِدٌ إِلَى أَحَدِ أَصْحَاب تِلْكَ الصلات حَيْثُ إِنَّ ذِكْرَهُمْ ذِكْرُ أَقْسَامٍ مِنَ الَّذِينَ جُعِلُوا سَوَاءً فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لِكُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ مُعَقِّبَاتٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ غَوَائِلِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَّصِلَ الْجُمْلَةُ بِ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْد: 10] ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ لِمُرَاعَاةِ عَطْفِ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ دُونَ إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ. وَالْمَعْنَى كالوجه الأول. و (المعقبات) جُمَعُ مُعَقِّبَةٍ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَكْسُورَةً- اسْمُ فَاعِلِ عَقَبَهُ إِذَا تَبِعَهُ. وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَقِبِ. يُقَالُ: عَقَبَهُ إِذَا اتَّبَعَهُ وَاشْتِقَاقُهُ من الْعقب- يُقَال فَكَسْرٍ- وَهُوَ اسْمٌ لِمُؤَخَّرِ الرَّجُلِ فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ لِأَنَّ الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ كَأَنَّهُ يَطَأُ عَلَى عَقِبَهُ، وَالْمُرَادُ: مَلَائِكَةٌ مُعَقِّبَاتٌ. وَالْوَاحِدُ مُعَقِّبٌ. وَإِنَّمَا جُمِعَ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَاتِ.

وَالْحِفْظُ: الْمُرَاقَبَةُ، وَمِنْهُ سُمِّي الرَّقِيبُ حَفِيظًا. وَالْمَعْنَى: يُرَاقِبُونَ كُلَّ أَحَدٍ فِي أَحْوَالِهِ مِنْ إِسْرَارٍ وَإِعْلَانٍ، وَسُكُونٍ وَحَرَكَةٍ، أَيْ فِي أَحْوَالِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: 10] . ومِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِحَاطَةِ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ صِفَةُ مُعَقِّباتٌ، أَيْ جَمَاعَاتٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] وَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحِفْظُ على الْوَجْه الثَّانِي مرَادا بِهِ الْوِقَايَةُ وَالصِّيَانَةُ، أَيْ يَحْفَظُونَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، أَيْ يَقُونَهُ أَضْرَارَ اللَّيْلِ مِنَ اللُّصُوصِ وَذَوَاتِ السُّمُومِ، وَأَضْرَارَ النَّهَارِ نَحْوَ الزِّحَامِ وَالْقِتَالِ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ جَارًّا وَمَجْرُورًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ يَحْفَظُونَهُ، أَيْ يَقُونَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ. وَهَذَا مِنَّةٌ عَلَى الْعِبَادِ بِلُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ وَإِلَّا لَكَانَ أَدْنَى شَيْءٍ يَضُرُّ بِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [سُورَة الشورى: 19] . إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَسُوقَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ بِمَصْنُوعَاتِهِ وَبَيْنَ التَّذْكِيرِ بِقُوَّةِ قُدْرَتِهِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [سُورَة الرَّعْد: 12] . وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُهُمْ مِنِ الْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ حُلُولِ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ مِنَ الْعَيْشِ فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ وَقَابَلُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُزْءِ وَعَامَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بالتّحقير وَقَالُوا لَو نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]- وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] .

فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّ زَوَالَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بَعْدَ مَا أَنْذَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ. وَالتَّغْيِيرُ: التَّبْدِيلُ بِالْمُغَايِرِ، فَلَا جرم أَنه تديد لِأُولِي النَّعْمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ تعرضوا لتغييرها. فَمَا صدق مَا الْمَوْصُولَةِ حَالَةٌ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حَالَةٌ مُلَابِسَةٌ لِقَوْمٍ، أَيْ حَالَةُ نِعْمَةٍ لِأَنَّهَا مَحَلُّ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَتَغْيِيرُهُ مَطْلُوبٌ. وَأُطْلِقَ التَّغْيِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُغَيِّرُوا عَلَى التَّسَبُّبِ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَجُمْلَةُ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ تَأْكِيدًا لِلتَّحْذِيرِ. لِأَنَّ الْمَقَامَ لِكَوْنِهِ مَقَامَ خَوْفٍ وَوَجَلٍ يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ دُونَ التَّعْرِيضِ وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، أَيْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا بِقَوْمٍ حِينَ يُغَيِّرُونَ مَا بِأَنْفُسِهِمْ لَا يَرُدُّ إِرَادَتَهُ شَيْءٌ. وَذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ أَنْ يَقُولُوا: سَنَسْتَرْسِلُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِذَا رَأَيْنَا الْعَذَابَ آمَنَّا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [سُورَة يُونُسَ: 98] الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْغُرُورِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْوَالِي: الَّذِي يَلِي أَمْرَ أَحَدٍ، أَيْ يَشْتَغِلُ بِأَمْرِهِ اشْتِغَالَ تَدْبِيرٍ وَنَفْعٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ وَلِيَ إِذَا قَرُبَ، وَهُوَ قُرْبُ مُلَابَسَةٍ وَمُعَالَجَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ والٍ بِتَنْوِينِ والٍ دُونَ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِيَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ- وَقْفًا فَقَطْ دُونَ الْوَصْلِ كَمَا عَلِمْتَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فِي هَذِهِ السُّورَة الرَّعْد [33] .

[سورة الرعد (13) : آية 12]

[سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 12] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 13] وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَلَى أُسْلُوبِ تَعْدَادِ الْحُجَجِ الْوَاحِدَةُ تُلْوَى الْأُخْرَى، فَلِأَجْلِ أُسْلُوبِ التَّعْدَادِ إِذْ كَانَ كَالتَّكْرِيرِ لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرَّعْد: 10] . وَقَدْ أَعْرَبَ هَذَا عَنْ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَجِيبِ صُنْعِهِ. وَفِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْإِنْذَارِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [سُورَة الرَّعْد: 11] إِلَخْ أَنَّهُ مِثَالٌ لِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ فِي تَصَرُّفٍ وَاحِدٍ مَعَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَقَاصِدِ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: 8] وَقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سُورَة الرَّعْد: 8] ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالِاسْتِقْلَالِ وَأَنْ يُجَاءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً فِي عِدَادِ الْجُمَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي غَرَضِ السُّورَةِ. وَجَاءَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [سُورَة الرَّعْد: 10] لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالطَّمَعَ يَصْدُرَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهَدَّدُ بِهِمَا الْكَفَرَةُ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، فَجَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ مُخْتَلِفٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةٌ لِكَوْنِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ مُفَرَّعَةً عَنْ أَغْرَاضِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ جُمَلَ فَوَاتِحِ الْأَغْرَاضِ افْتُتِحَتْ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [سُورَة الرَّعْد: 2] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: 8] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [سُورَة الرَّعْد: 11] ، وَجُمَلُ التَّفَارِيعِ افْتُتِحَتْ بِالضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [سُورَة الرَّعْد: 4] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: 3] وَقَوْلِهِ: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ. وخَوْفاً وَطَمَعاً مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى التَّخْوِيفِ وَالْإِطْمَاعِ، فَهُمَا فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ.

وَجَعَلَ الْبَرْقَ آيَةً نِذَارَةً وَبِشَارَةً مَعًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْبَرْقَ فَيَتَوَسَّمُونَ الْغَيْثَ وَكَانُوا يَخْشَوْنَ صَوَاعِقَهُ. وَإِنْشَاءُ السَّحَابِ: تَكْوِينُهُ مِنْ عَدَمٍ بِإِثَارَةِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَتَجَمَّعُ سَحَابًا. وَالسَّحَابُ: اسْمُ جَمْعٍ لِسَحَابَةٍ. وَالثِّقَالُ: جَمْعُ ثَقِيلَةٍ. وَالثِّقْلُ كَوْنُ الْجِسْمِ أَكْثَرَ كَمِّيَّةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَمْثَالِهِ، فَالثِّقْلُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ، فَرُبَّ شَيْءٍ يُعَدُّ ثَقِيلًا فِي نَوْعِهِ وَهُوَ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِنَوْعٍ آخَرَ. وَالسَّحَابُ يَكُونُ ثَقِيلًا بِمِقْدَارِ مَا فِي خِلَالِهِ مِنَ الْبُخَارِ. وَعَلَامَةُ ثِقَلِهِ قُرْبُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَبُطْءُ تَنَقُّلِهِ بِالرِّيَاحِ. وَالْخَفِيفُ مِنْهُ يُسَمَّى جَهَامًا. وَعَطَفَ الرَّعْدَ عَلَى ذِكْرِ الْبَرْقِ وَالسَّحَابِ لِأَنَّهُ مُقَارِنُهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَلَمَّا كَانَ الرَّعْدُ صَوْتًا عَظِيمًا جَعَلَ ذِكْرَهُ عِبْرَةً لِلسَّامِعِينَ لِدَلَالَةِ الرَّعْدِ بِلَوَازِمَ عَقْلِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ، وَكَانَ شَأْنُ تِلْكَ الدَّلَالَةِ أَنْ تَبْعَثَ النَّاظِرَ فِيهَا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ جَعَلَ صَوْتَ الرَّعْدِ دَلِيلًا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً بِأَنْ شُبِّهَ الرَّعْدُ بِآدَمِيٍّ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأُثْبِتَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ، أَيْ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُنَزِّهُ اللَّهَ تَنْزِيهًا مُلَابِسًا لِحَمْدِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَالٌّ عَلَى اقْتِرَابِ نُزُولِ الْغَيْثِ وَهُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ. فَالْقَوْلُ فِي مُلَابَسَةِ الرَّعْدِ لِلْحَمْدِ مُسَاوٍ لِلْقَوْلِ فِي إِسْنَادِ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ. فَالْمُلَابَسَةُ مَجَازِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. والْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الرَّعْدِ، أَيْ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، أَيْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ. ومِنْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُ، أَيِ الْخَوْفِ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ فِي تَنْزِيهِهِ.

وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ تَعْدَادِ الْمَوَاعِظِ لِمُنَاسَبَةِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ أَنَّ التَّنْزِيهَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْجَوِّ يَقُومُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ تَنْزِيهِكُمْ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [سُورَة الزمر: 7] ، وَقَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 8] . وَاقْتُصِرَ فِي الْعِبْرَةِ بِالصَّوَاعِقِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِهَا لِأَنَّهَا لَا نِعْمَةَ فِيهَا لِأَنَّ النِّعْمَةَ حَاصِلَةٌ بِالسَّحَابِ وَأَمَّا الرَّعْدُ فَآلَةٌ مِنْ آلَاتِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سُورَة الْبَقَرَة: 19] . وَكَانَ الْعَرَبُ يَخَافُونَ الصَّوَاعِقَ. وَلَقَّبُوا خُوَيْلِدَ بْنَ نُفَيْلٍ الصَّعِقَ لِأَنَّهُ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ أَحْرَقَتْهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ» ، أَيْ بِكُسُوفِهِمَا فَاقْتَصَرَ فِي آيَتِهِمَا عَلَى الْإِنْذَارِ إِذْ لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ مِنْ كُسُوفِهِمَا نَفْعًا. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّعَجُّبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرَّعْد: 5] إِلَخْ. فَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ كُلُّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرَّعْد: 1] وَقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرَّعْد: 5] وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرَّعْد: 7] . وَقَدْ أُعِيدَ الْأُسْلُوبُ هُنَا إِلَى ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لِانْقِضَاءِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِمَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَتَمَحَّضَ تَخْوِيفُ الْكَافِرِينَ. وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُرَاجَعَةُ بِالْقَوْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ مَفْعُولَ يُجادِلُونَ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. فَالتَّقْدِيرُ: يُجَادِلُونَكَ أَوْ يُجَادِلُونَكُمْ، كَقَوْلِهِ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ

وَالْمُجَادَلَةُ إِنَّمَا تكون فِي الشؤون وَالْأَحْوَالِ، فَتَعْلِيقُ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمَجْرُورِ بِفِعْلِ يُجادِلُونَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ أَوْ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ. وَمِنْ جَدَلِهِمْ مَا حَكَاهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فِي سُورَةِ يس [77، 78] . وَالْمِحَالُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ يَحْتَمِلُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمِيمُ فِيهِ أَصْلِيَّةً فَهُوَ فِعَالٌ بِمَعْنَى الْكَيْدِ وَفِعْلُهُ مَحَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَمَحَّلَ إِذَا تَحَيَّلَ. جَعَلَ جِدَالَهُمْ فِي اللَّهِ جِدَالَ كَيْدٍ لِأَنَّهُمْ يُبْرِزُونَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي نَحْوِ قَوْلهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فَقُوبِلَ بِ شَدِيدُ الْمِحالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ، أَيْ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَا يَغْلِبُونَهُ، وَنَظِيرُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سُورَة آل عمرَان: 54] . وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: هُوَ مِنْ مَاحَلَ عَنْ أَمْرِهِ، أَيْ جَادَلَ. وَالْمَعْنَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمُجَادَلَةِ، أَيْ قَوِيُّ الْحُجَّةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْمِيمُ زَائِدَةً فَهُوَ مِفْعَلٌ مِنَ الْحَوْلِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِبْدَالُ الْوَاوِ أَلِفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْقَلْبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْوَاوِ سَاكِنٌ سُكُونًا حَيًّا. فَلَعَلَّهُمْ قَلَبُوهَا أَلِفًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِحْوَلٍ بِمَعْنَى صَبِيٍّ ذِي حَوْلٍ، أَيْ سَنَةٍ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ أَخْبَارًا عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ حِينَ وَرَدَا الْمَدِينَة يشترطان لدخلولهما فِي الْإِسْلَامِ شُرُوطًا لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَمَّ أَرْبَدُ بِقَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَاصِدَيْنِ قَوْمَهُمَا وَتَوَاعَدَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَجْلِبَا عَلَيْهِ خَيْلَ بَنِي عَامِرٍ. فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ أَصَابَتْهُ وَأَهْلَكَ عَامِرًا بِغُدَّةٍ نَبَتَتْ فِي جِسْمِهِ فَمَاتَ مِنْهَا وَهُوَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ قَوْمِهِ، فَنَزَلَتْ فِي أَرْبَدَ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وَفِي عَامِرٍ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ .

[سورة الرعد (13) : آية 14]

وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَبَّارٍ آخَرَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِيٍّ جَادَلَ فِي اللَّهِ فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ. وَلَمَّا كَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ إِنَّمَا جَاءَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ جِدَالُ الْيَهُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَقْدَمَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ أَخْبَارٌ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ بِالرَّأْيِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فَلَا اعْتِدَادَ بِمَا قَالُوهُ فِيهَا وَلَا يُخْرِجُ السُّورَةَ عَنْ عِدَادِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَرْسَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَوْلَهُ: «أَغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ» مَثَلًا. وَرَثَى لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخَاهُ أَرْبَدَ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا: أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ (¬1) فَجَّعَنِي الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ بِالْفَ ... ارِسِ يَوْمَ الكريهة النّجد [14] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 14] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ وَنُهُوضِ الْمُدَلَّلِ عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ السَّالِفَةِ الَّتِي هِيَ بَرَاهِينُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَبِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهَا قُدْرَةُ قَدِيرٍ، وَبِالْعِلْمِ الْعَامِّ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ تِلْكَ الصِّفَاتِ هُوَ الْمَعْبُودَ بِالْحَقِّ وَأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ ضَلَالٌ. وَالدَّعْوَةُ: طَلَبُ الْإِقْبَالِ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهَا عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ لِلنَّجْدَةِ أَوْ لِلْبَذْلِ. وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا إِذَا أُطْلِقَتْ فِي جَانِبِ اللَّهِ لِاسْتِحَالَةِ الْإِقْبَالِ الْحَقِيقِيِّ فَالْمُرَادُ طَلَبُ الْإِغَاثَةِ أَوِ النِّعْمَةِ. ¬

(¬1) السماك- بِكَسْر السِّين- اسْم لنجوم.

وَإِضَافَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ إِمَّا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ إِنْ كَانَ الْحَقُّ بِمَعْنَى مُصَادَفَةِ الْوَاقِعِ، أَيِ الدَّعْوَةُ الَّتِي تُصَادِفُ الْوَاقِعَ، أَيِ اسْتِحْقَاقُهُ إِيَّاهَا وَإِمَّا مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَنْشَئِهِ كَقَوْلِهِمْ: بُرُودُ الْيَمَنِ، أَيِ الدَّعْوَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حَقٍّ وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ دُعَاءَ اللَّهِ يَصْدُرُ عَنِ اعْتِقَادِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تَصْدُرُ عَنِ اعْتِقَادِ الشِّرْكِ وَهُوَ الْبَاطِلُ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الِاسْتِحْقَاقُ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيْ دَعْوَةُ الْحَقِّ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ. وَقَدْ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [سُورَة الرَّعْد: 14] ، فَكَانَتْ بَيَانًا لَهَا. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تُفْصَلَ وَلَا تُعْطَفَ وَإِنَّمَا عُطِفَتْ لِمَا فِيهَا من التَّفْصِيل وَالتَّمْثِيلِ، فَكَانَتْ زَائِدَةً عَلَى مِقْدَارِ الْبَيَانِ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأَصْنَامِ أَنْ يَدْعُوَهَا الدَّاعُونَ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ صَادِقٌ عَلَى الْأَصْنَامِ. وَضَمِيرُ يَدْعُونَ لِلْمُشْرِكِينَ. وَرَابَطُ الصِّلَةِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَجِيبُونَ مجازاة لِلِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ يُعَامِلُونَ الْأَصْنَامَ مُعَامَلَةَ عَاقِلِينَ. وَالِاسْتِجَابَةُ: إِجَابَةُ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَدَعْوَةِ الدَّاعِي، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِقُوَّةِ الْفِعْلِ. وَالْبَاءُ فِي بِشَيْءٍ لِتَعْدِيَةِ يَسْتَجِيبُونَ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِجَابَةِ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُجَابِ بِهِ بِالْبَاءِ، وَإِذَا أُرِيدَ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ تَحْقِيقُ الْمَأْمُولِ اقْتُصِرَ عَلَى الْفِعْلِ. كَقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [سُورَة يُوسُف: 34] . فَلَمَّا أُرِيدَ هُنَا نَفِيُ إِجْدَاءِ دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ جُعِلَ نَفْيُ الْإِجَابَةِ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ إِلَى انْتِفَاءِ أَقَلِّ مَا يُجِيبُ بِهِ الْمَسْئُولُ وَهُوَ الْوَعْدُ بِالْعَطَاءِ أَوِ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ أَعْجَزُ عَمَّا فَوْقَهُ.

وَتَنْكِيرُ «شَيْءٍ» لِلتَّحْقِيرِ. وَالْمُرَادُ أَقَلُّ مَا يُجَابُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الدَّاعِينَ وَالْمُسْتَجِيبِينَ وَالدَّعْوَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ فَهُوَ يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْكَلَامَ إِلَّا كَدَاعٍ بَاسِطٍ أَوْ إِلَّا كَحَالِ بَاسِطٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَجِيبُونَهُمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ إِلَّا فِي حَالٍ لِدَاعٍ وَمُسْتَجِيبٍ كَحَالِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَيَؤُولُ إِلَى نَفْيِ الِاسْتِجَابَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ بِطَرِيقِ التَّمْلِيحِ وَالْكِنَايَةِ. وَالْمُرَادُ بِ (بَاسِطِ كَفَّيْهِ) مَنْ يَغْتَرِفُ مَاءً بِكَفَّيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ غَيْرِ مَقْبُوضَتَيْنِ إِذِ الْمَاءُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيهِمَا. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: هُوَ كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، فِي تَمْثِيلِ إِضَاعَةِ الْمَطْلُوبِ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَأَصْبَحْتُ فِيمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... مِنَ الْوُدِّ مِثْلَ الْقَابِضِ الْمَاءَ بِالْيَدِ وإِلَى للانتهاء لدلَالَة كَباسِطِ عَلَى أَنَّهُ مَدَّ إِلَى المَاء كفيه مبسوطتين. وَاللَّامُ فِي لِيَبْلُغَ لِلْعِلَّةِ. وَضمير لِيَبْلُغَ عَائِدٌ إِلَى الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ هُوَ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي (بَالِغِهِ) لِلْفَمِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلِيَّةٌ. شُبِّهَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ وَجَلْبِ نَفْعِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ الْأَصْنَامِ لَهُمْ بِشَيْءٍ بِحَالِ الظَّمْآنِ يَبْسُطُ كَفَّيْهِ يَبْتَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَاءُ فِي كَفَّيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ إِلَى فَمِهِ لِيَرْوِيَهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغٍ إِلَى فَمِهِ بِذَلِكَ الطَّلَبِ فَيَذْهَبُ سَعْيُهُ وَتَعَبُهُ بَاطِلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كِنَايَةٍ وَتَمْلِيحٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَجُمْلَةُ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لِاسْتِيعَابِ حَالِ الْمَدْعُوِّ وَحَالِ الدَّاعِي. فَبَيَّنَتِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ حَالَ عَجْزِ الْمَدْعُوِّ عَنِ الْإِجَابَةِ وَأُعْقِبَتْ بِالتَّمْثِيلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كِنَايَةٍ وَتَمْلِيحٍ. وَاشْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْكِنَايَةِ عَلَى خَيْبَةِ الدَّاعِي.

[سورة الرعد (13) : آية 15]

وَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ حَالَ خَيْبَةِ الدَّاعِي بِالتَّصْرِيحِ عَقِبَ تَبْيِينِهِ بِالْكِنَايَةِ. فَبِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ وَالْأُسْلُوبِ حسن الْعَطف، وبالمئال حَصَلَ تَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَتَقْرِيرُهَا وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ كَالْفَذْلَكَةِ لِتَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالضَّلَالُ: التَّلَفُ وَالضَّيَاعُ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْوَصْفِ، أَيْ إِلَّا ضَائِعٌ ضيَاعًا شَدِيدا. [15] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [سُورَة الرَّعْد: 14] أَيْ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ شِعَارُ الْإِلَهِيَّةِ، فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِالْحَقَّةِ مِنْهَا دُونَ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا السُّجُودُ وَهُوَ الْهَوِيُّ إِلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ الْخُضُوعِ فَقَدِ اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْيَا وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَالْمُشْرِكِينَ لَا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ وَلَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى الْعَلَمِ تَبَعًا لِلْأُسْلُوبِ السَّابِقِ فِي افْتِتَاحِ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مَنْ الْمَوْصُولَةِ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ طَوْعاً وَكَرْهاً تَقْسِيمُ أَحْوَالِ السَّاجِدِينَ. وَالْمُرَادُ بِالطَّوْعِ الِانْسِيَاقُ مِنَ النَّفْسِ تَقَرُّبًا وَزُلْفَى لِمَحْضِ التَّعْظِيمِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ. وَبِالْكُرْهِ الِاضْطِرَارُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [سُورَة النَّحْل: 53] . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مُكْرَهٌ أَخُوكَ لَا بَطَلٌ، أَيْ مُضْطَرٌّ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُرْهِ الضَّغْطَ وَالْإِلْجَاءَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْغَرَضِ كَمَا سَيَأْتِي. وَالظِّلَالُ: جَمْعُ ظِلٍّ، وَهُوَ صُورَةُ الْجِسْمِ الْمُنْعَكِسِ إِلَيْهِ نُورٌ. وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَخْصُوصٌ بِالصَّالِحِ لَهُ مِنَ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ ذَاتِ الظِّلِّ تَخْصِيصًا بِالْعَقْلِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَنْ، أَيْ يَسْجُدُ من فِي السَّمَوَات وَتَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ. وَالْغُدُوُّ: الزَّمَانُ الَّذِي يَغْدُو فِيهِ النَّاسُ، أَيْ يَخْرُجُونَ إِلَى حَوَائِجِهِمْ: إِمَّا مَصْدَرًا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَقْتُ الْغُدُوِّ وَإِمَّا جَمْعُ غَدْوَةٍ، فَقَدْ حُكِيَ جَمْعُهَا عَلَى غُدُوٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ وَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ الْمَسَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا اسْتِيعَابُ أَجْزَاءِ أَزْمِنَةِ الظِّلِّ. وَمَعْنَى سُجُودِ الظِّلَالِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مِنْ أَعْرَاضِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ، فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِنِظَامِ انْعِكَاسِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا وَانْتِهَاءِ الْأَشِعَّةِ إِلَى صَلَابَةِ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى تَكُونَ الظِّلَالُ وَاقِعَةً عَلَى الْأَرْضِ وُقُوعَ السَّاجِدِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى السُّجُودَ لِلَّهِ أَوْ يَتْرُكُهُ اشْتِغَالًا عَنْهُ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مِثَالَهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ السُّجُودَ إِلَيْهِ شَهَادَةً رَمْزِيَّةً. وَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ الشَّمْسَ شَمْسَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ لَانْعَدَمَتِ الظِّلَالُ، وَلَوْ جَعَلَ وَجْهَ الْأَرْضِ شَفَّافًا أَوْ لَامِعًا كَالْمَاءِ لَمْ يظْهر الظل عَلَيْهِ بَيِّنًا. فَهَذَا مِنْ رُمُوزِ الصَّنْعَةِ الَّتِي أَوْجَدَهَا اللَّهُ وَأَدَقَّهَا دِقَّةً بَدِيعَةً. وَجَعَلَ نِظَامَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ مُهَيَّئَةً لَهَا فِي الْخِلْقَةِ لِحِكَمٍ مُجْتَمِعَةٍ، مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ رُمُوزًا دَالَّةً عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى حَاجَةِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ أَكْثَرَهَا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ نَوْعَهُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفْرَانِ دُونَ الْحَيَوَانِ.

[سورة الرعد (13) : آية 16]

وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الرَّمْزِيِّ التَّنْبِيهُ لِدَقَائِقِ الصُّنْعِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ جَاءَ عَلَى نِظَامٍ مُطَّرِدٍ دَالٍّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قِيلَ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ ... عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ وَالِاسْتِدْلَالُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَسْجُدُ لِلَّهِ لِأَنَّ ظِلَالَهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هِيَ مَسَاجِدُ لِلْأَصْنَامِ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَهَا أَمْكِنَةٌ مُعَيَّنَةٌ هِيَ حِمَاهَا وَحَرِيمُهَا وَأَكْثَرُ الْأَصْنَامِ، فِي الْبُيُوتِ مِثْلُ: الْعُزَّى وَذِي الْخَلَصَةِ وَذِي الْكَعْبَاتِ حَيْثُ تَنْعَدِمُ الظِّلَالُ فِي الْبُيُوتِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَمِنْ حِكْمَةِ السُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا أَنْ يَضَعَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ فِي عِدَادِ مَا يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا بِإِيقَاعِهِ السُّجُودَ. وَهَذَا اعْتِرَافٌ فِعْلِيٌّ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) لَمَّا نَهَضَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّرِيحَةُ بِمَظَاهِرِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [سُورَة الرَّعْد: 2] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: 3] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: 8] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [سُورَة الرَّعْد: 12] الْآيَاتِ، وَبِمَا فِيهَا مِنْ دَلَالَةٍ رَمْزِيَّةٍ دَقِيقَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [سُورَة الرَّعْد: 14] وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ [سُورَة الرَّعْد: 15] إِلَى آخِرِهَا لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِتَقْرِيرِ الْمُشْرِكِينَ تَقْرِيرًا لَا يَجِدُونَ مَعَهُ عَنِ الْإِقْرَارِ مَنْدُوحَةً، ثُمَّ لِتَقْرِيعِهِمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ تَقْرِيعًا لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا تَجَرُّعُ مَرَارَتِهِ، لِذَلِكَ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَافْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ تَنْوِيهًا بِوُضُوحِ الْحُجَّةِ.

وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ جَاءَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَفْهِمِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِهِ، كَقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [سُورَة النَّبَأِ: 1- 2] . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] . وَإِعَادَةُ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ فِي قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ الَّذِي هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ التَّفْرِيعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ. فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَسْفِيهٌ لِرَأْيِهِمْ بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُسَلَّمِ. وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ أَهْلِيَّة أصنامهم للإهلية فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ لَا يَمْلِكُونَ صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَنْبِيهُ السَّامِعِينَ لِلنَّظَرِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَدَبَّرُوا عَلِمُوهَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ صِفَتَهُ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِأَنْ يُعْبَدَ. وَمَعْنَى الْمُلْكِ هُنَا الْقُدْرَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [76] . وَفِي الحَدِيث: «أَو أملك لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» . وَعَطْفُ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ اسْتِقْصَاءٌ فِي عَجْزِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ الضُّرِّ أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلِاسْتِطَاعَةِ وَأَسْهَلُ.

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ الْخَاصِّ بِهَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ إِبْطَالٌ لِاسْتِحْقَاقِ آلِهَتِهِمُ الْعِبَادَةَ. وَهَذَا إِظْهَارٌ لِمَزِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ تَضَمَّنَ أَن الرَّسُول- عَلَيْهِ السّلام- دَعَا إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ أَثْبَتُوا الرُّبُوبِيَّةَ لِلْأَصْنَامِ فَكَانَ حَالُهُمْ وَحَالُهُ كَحَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَحَالِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ. وَنَفْيُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهًا بِالْحَالَيْنِ وَهَذَا مِنْ صِيَغِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وأَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي التَّشْبِيهِ. فَهِيَ لِتَشْبِيهٍ آخَرَ بِمَنْزِلَةِ أَوْ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: أَوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفَّ نُؤُورُهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ. وَأَظْهَرَ حَرْفَ هَلْ بَعْدَ أَمْ لِأَنَّ فِيهِ إِفَادَةَ تَحْقِيقِ الِاسْتِفْهَامِ. وَذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا تُغْنِي فِيهِ دَلَالَةُ أَمْ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِفْهَامِ وَلِذَلِكَ لَا تَظْهَرُ الْهَمْزَةُ بَعْدَ أَمْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ أَمْ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ. وَجَمْعُ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادُ النُّورِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [1] . وَاخْتِيرَ التَّشْبِيهُ فِي الْمُتَقَابِلَاتِ الْعَمَى وَالْبَصَرِ، وَالظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، لِتَمَامِ الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْعَمَى كَحَالِ الظُّلْمَةِ فِي انْعِدَامِ إِدْرَاكِ

الْمُبْصَرَاتِ، وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِ الْبَصَرِ فِي الْعِلْمِ وَكَحَالِ النُّورِ فِي الْإِفَاضَةِ وَالْإِرْشَادِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ الظُّلُمَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ وَذَلِكَ وَجْهٌ فِي الْجَمْعِ غَيْرِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ. أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أَمْ للإضراب الِانْتِقَال فِي الِاسْتِفْهَام مُقَابل قَوْلِهِ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا، فَالْكَلَامُ بَعْدَ (أَمْ) اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ لِدَلَالَةِ (أَمْ) عَلَيْهَا. وَالتَّقْدِيرُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. وَالْتَفَتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ لِمَا مَضَى مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّغْلِيطِ. فَالْمَعْنَى: لَوْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ يَخْلُقُونَ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ لَكَانَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي الِاغْتِرَارِ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً، أَيْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ، فَجُمْلَةُ خَلَقُوا صِفَةٌ لِ شُرَكاءَ. وَشِبْهُ جُمْلَةِ كَخَلْقِهِ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ خَلَقُوا خَلْقًا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ. وَالْخَلْقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرٌ. وَجُمْلَةُ فَتَشابَهَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَهِيَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ شُرَكاءَ، وَالرَّابِطُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَلْقُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَشَابَهَ خَلْقُهُمْ عَلَيْهِمْ. وَالْوَصْفَانِ هُمَا مصب التهكم والتغليط. وَجُمْلَةُ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [سُورَة الرَّعْد: 16] وَفِي أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَانَ

[سورة الرعد (13) : آية 17]

بِحَيْثُ يَنْتُجُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَالَّذِينَ تَبَيَّنَ قُصُورُهُمْ عَنْ أَنْ يَمْلِكُوا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ كَخَلْقِ اللَّهِ إِنْ هُمْ إِلَّا مَخْلُوقَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا أُولَئِكَ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَشْيَاءُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْخَلْقِ، الْقَهَّارُ لِكُلِّ شَيْءٍ دُونَهُ. وَلِتَعَيُّنِ مَوْضُوعِ الْوَحْدَةِ وَمُتَعَلَّقِ الْقَهْرِ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُمَا. وَالتَّقْدِيرُ: الْوَاحِدُ بِالْخَلْقِ الْقَهَّارُ لِلْمَوْجُودَاتِ. والقهر: الْغَلَبَة، وَتقدم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فِي سُورَة الْأَنْعَام [18] . [17] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 17] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) جُمْلَةُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفَادَ تَسْجِيلَ حِرْمَانِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِ الِاهْتِدَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَهْدِيَ مَنْ لَمْ يَطْبَعِ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ فَاهْتَدَى بِهَا الْمُؤْمِنُونَ. وَجِيءَ فِي هَذَا التَّسْجِيلِ بِطَرِيقَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِحَالَيْ فَرِيقَيْنِ فِي تَلَقِّي شَيْءٍ وَاحِدٍ انْتَفَعَ فَرِيقٌ بِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعَ وَتَعَلَّقَ فَرِيقٌ بِمَا فِيهِ مِنْ مَضَارَّ. وَجِيءَ فِي ذَلِكَ التَّمْثِيلِ بِحَالَةٍ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى بَدِيعِ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَحْصُلَ التَّخَلُّصُ مِنْ ذِكْرِ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ إِلَى ذِكْرِ عِبَرِ الْمَوْعِظَةِ، فَالْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ إِلَخْ.

شُبِّهَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الَّذِي بِهِ الْهُدَى مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ النَّفْعُ وَالْحَيَاةُ مِنَ السَّمَاءِ. وَشُبِّهَ وُرُودُ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ بِالسَّيْلِ يَمُرُّ عَلَى مُخْتَلَفِ الْجِهَاتِ فَهُوَ يَمُرُّ عَلَى التِّلَالِ وَالْجِبَالِ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَمْضِي إِلَى الْأَوْدِيَةِ وَالْوِهَادِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ كُلٌّ بِقَدْرِ سَعَتِهِ. وَتِلْكَ السُّيُولُ فِي حَالِ نُزُولِهَا تَحْمِلُ فِي أَعَالِيهَا زَبَدًا، وَهُوَ رَغْوَةُ الْمَاءِ الَّتِي تَرْبُو وَتَطْفُو عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَيَبْقَى الْمَاءُ الْخَالِصُ الصَّافِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ لِلشَّرَابِ وَالسَّقْيِ. ثُمَّ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ نُزُولِ الْآيَاتِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاظِ النَّظَرِ فِيهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ دَخَلَ الْإِيمَانُ قُلُوبَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَيَمُرُّ عَلَى قُلُوبِ قَوْمٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ الْمُعْرِضُونَ، وَيُخَالِطُ قُلُوبَ قَوْمٍ فَيَتَأَمَّلُونَهُ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ مَا يُثِيرُ لَهُمْ شُبُهَاتٍ وَإِلْحَادًا. كَقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمِنْهُ الْأَخْذُ بِالْمُتَشَابِهِ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [سُورَة آل عمرَان: 7] . شُبِّهَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَيْئَةِ نُزُولِ الْمَاءِ فَانْحِدَارُهُ عَلَى الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَسَيَلَانُهُ فِي الْأَوْدِيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرِهَا، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ مِنْ نَفْسِهِ زَبَدًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الزَّبَدُ أَنْ ذَهَبَ وَفَنِيَ وَالْمَاءُ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ لِلنَّفْعِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّشْبِيهَ بِالْهَيْئَةِ كُلِّهَا جِيءَ فِي حِكَايَةِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ بِالْعَطْفِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَسالَتْ وَقَوْلِهِ: فَاحْتَمَلَ فَهَذَا تَمْثِيلٌ صَالِحٌ لِتَجْزِئَةِ التَّشْبِيهَاتِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا وَهُوَ أَبْلَغُ التَّمْثِيلِ. وَعَلَى نَحْوِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَتَفْسِيرِهِ جَاءَ مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقُوا

وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاء وَلَا نتنبت كَلَأً، مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . وَالْأَوْدِيَةُ: جَمْعُ الْوَادِي، وَهُوَ الْحَفِيرُ الْمُتَّسِعُ الْمُمْتَدُّ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ السَّيْلُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ [سُورَة التَّوْبَة: 121] . وَالْقدر- بِفتْحَتَيْنِ-: التَّقْدِير، فَقَوْلُهُ: بِقَدَرِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَوْدِيَةٌ، وَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ، وَهُوَ أَنْ كَانَتْ أَخَادِيدُ الْأَوْدِيَةِ عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ السُّيُولِ بِحَيْثُ لَا تَفِيضُ عَلَيْهَا وَهُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْأَوْدِيَةِ. وَهَذَا الْحَالُ مَقْصُودٌ فِي التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ حَالُ انْصِرَافِ الْمَاءِ لِنَفْعٍ لَا ضُرَّ مَعَهُ، لِأَنَّ مِنَ السُّيُولِ جَوَاحِفَ تَجْرُفُ الزَّرْعَ وَالْبُيُوتَ وَالْأَنْعَامَ. وَأَيْضًا هُوَ دَالٌّ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَوْدِيَةِ فِي مَقَادِيرِ الْمِيَاهِ. وَلِذَلِكَ حَظٌّ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي قَابِلِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَاخْتِلَافِ الْأَوْدِيَةِ فِي قَبُولِ الْمَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا يَسِيلُ إِلَيْهَا مِنْ مَصَابِّ السُّيُولِ، وَقَدْ تَمَّ التَّمْثِيلُ هُنَا. وَجُمْلَةُ وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاحْتَمَلَ إِلَخْ وَجُمْلَةِ فَأَمَّا الزَّبَدُ إِلَخَّ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ آخَرُ وَرَدَ اسْتِطْرَادًا عَقِبَ ذِكْرِ نَظِيرِهِ يُفِيدُ تَقْرِيبَ التَّمْثِيلِ لِقَوْمٍ لَمْ يُشَاهِدُوا سُيُولَ الْأَوْدِيَةِ مِنْ سُكَّانِ الْقُرَى مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ، فَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ صَوَّاغُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْإِذْخِرِ، فَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ تَمْثِيلَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ غَيْرُهُمْ بِمَثَلِ مَا يُصْهَرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْبَوَاتِقِ فَإِنَّهُ يَقْذِفُ زَبَدًا يَنْتَفِي عَنْهُ وَهُوَ الْخَبَثُ وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِشَيْءٍ فِي حِينِ صَلَاحِ مَعْدِنِهِ لِاتِّخَاذِهِ حِلْيَةً أَوْ مَتَاعًا. وَفِي الْحَدِيثِ «كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ

خَبَثَ الْحَدِيدِ» . فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ تَعَدُّدِ التَّشْبِيهِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [سُورَة الْبَقَرَة: 19] . وَأَقْرَبُ إِلَى مَا هُنَا قَوْلُ لَبِيدٍ: فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجِ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا وَأَفَادَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: زَبَدٌ مِثْلُهُ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ أَيْضًا بِبَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ الزَّبَدَ يَطْفُو عَلَى أَرَقِّ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْمَاءُ وَعَلَى أَغْلَظِهَا وَهُوَ الْمَعْدِنُ فَهُوَ نَامُوسٌ مِنْ نَوَامِيسِ الْخِلْقَةِ، فَبِالتَّقْدِيمِ يَقَعُ تَشْوِيقُ السَّامِعِ إِلَى تَرَقُّبِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الِاهْتِمَامُ بِالتَّشْبِيهِ يُشْبِهُ الِاهْتِمَامَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِ جَهَنَّمَ «فَإِذَا فِيهَا كَلَالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدَانِ» . وَعَدَلَ عَنْ تَسْمِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا أَخْصَرُ وَأَجْمَعُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ فِي ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ صِلَةً، فَلَوْ ذُكِرَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ صِلَةٍ كَالْوَصْفِيَّةِ مَثَلًا لَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَضْلَةِ فِي الْكَلَامِ وَلَطَالَ الْكَلَامُ بِذِكْرِ اسْمِ الْمَعْدِنَيْنِ مَعَ ذِكْرِ الصِّلَةِ إِذْ لَا مَحِيدَ عَنْ ذِكْرِ الْوَقُودِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الزَّبَدِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ قَضَاءً لِحَقِّ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ الْبَدِيعِ. وَلِأَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِعْرَاضًا يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمَا تَرَفُّعًا عَنْ وَلَعِ النَّاسِ بِهِمَا فَإِنَّ اسْمَيْهِمَا قَدِ اقْتَرَنَا بِالتَّعْظِيمِ فِي عُرْفِ النَّاسِ. وَمن فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا تُوقِدُونَ ابْتِدَائِيَّةٌ.

وَ (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تُوقِدُونَ. ذُكِرَ لِإِيضَاحِ الْمُرَادِ مِنَ الصِّلَةِ وَلِإِدْمَاجِ مَا فِيهِ مِنْ مِنَّةِ تَسْخِيرِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِيهِمَا. وَالْحِلْيَةُ: مَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ وَهُوَ الْمَصُوغُ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ، وَذَلِكَ الْمَسْكُوكُ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُوقِدُونَ- بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ- عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ- عَلَى الْغَيْبَةِ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ مُعْتَرِضَةٌ، هِيَ فَذْلَكَةُ التَّمْثِيلِ بِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنْهُ، أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَمَعْنَى يَضْرِبُ يُبَيِّنُ وَيُمَثِّلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنًى يَضْرِبُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . فَحُذِفَ مُضَافٌ فِي قَوْلِهِ: يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ، وَالتَّقْدِيرُ: يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحق وَالْبَاطِل، دلَالَة فِعْلِ يَضْرِبُ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ. وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنَ الْحَقَّ لِتَنْزِيلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الزَّبَدَ مَثَلٌ لِلْبَاطِلِ وَأَنَّ الْمَاءَ مَثَلٌ لِلْحَقِّ، فَارْتَقَى عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا فِي الْمَثَلَيْنِ مِنْ صِفَتَيِ الْبَقَاءِ وَالزَّوَالِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِأَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاقِي الدَّائِمُ، وَأَنَّ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ زَائِلٌ بَائِدٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: 105، 106] ، فَصَارَ التَّشْبِيهُ تَعْرِيضًا وَكِنَايَةً عَنِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ [الرَّعْد: 18] إِلَخْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. فَجُمْلَةُ فَأَمَّا الزَّبَدُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً مُفَرَّعَةٌ عَلَى التَّمْثِيلِ. وافتتحت ب فَأَمَّا لِلتَّوْكِيدِ وَصَرْفِ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَى الْكَلَامِ

لِمَا فِيهِ مِنْ خَفِيِّ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَلِأَنَّهُ تَمَامُ التَّمْثِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً وَمَكَثَ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ. وَالْجُفَاءُ: الطَّرِيحُ الْمَرْمِيُّ، وَهَذَا وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَبِيدُونَ بِالْقَتْلِ وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ. وَعُبِّرَ عَنِ الْمَاءِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْبَقَاءُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيضًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَعْرِضُوا أَحْوَالَهُمْ عَلَى مَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ لِيَعْلَمُوا أَنهم لَيْسُوا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَهَذِهِ الصِّلَةُ مُوَازِنَةٌ لِلْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 105] . وَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ وَجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ النَّافِعِ بِالزَّبَدِ عَنْ ذِكْرِ وَجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ النَّافِعِ بِزَبَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ لِمَا فِي لَفْظِ الْأَمْثالَ مِنَ الْعُمُومِ. فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جُمْلَةِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى صِنْفٍ مِنَ الْمَثَلِ دُونَ جَمِيعِ أَصْنَافِهِ فَلَمَّا أُعْقِبَ بِمَثَلٍ آخَرَ وَهُوَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً جِيءَ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى الْفَائِدَةِ الْعَامَّةِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَحَصَلَ أَيْضًا تَوْكِيدُ جُمْلَةِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ لِأَنَّ الْعَامَّ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْخَاصُّ. فَإِشَارَةُ كَذلِكَ إِلَى التَّمْثِيلِ السَّابِقِ فِي جُمْلَةِ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ مَثَلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ الْبَدِيعِ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّذْيِيلِ. وَالْإِشَارَةُ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْمَثَلِ وَتَنْبِيهِ الْأَفْهَامِ إِلَى حِكْمَتِهِ وَحِكْمَةِ التَّمْثِيلِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَمَا جَمَعَهُ مِنَ التَّمْثِيلِ وَالْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ، وَإِلَى بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ، وَذَلِكَ تَبْهِيجٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَحَدٍّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جُمْلَةَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً لَمْ يُؤْتَ بِهَا لِمُجَرَّدِ تَشْخِيصِ دَقَائِقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالصُّنْعِ الْبَدِيعِ بَلْ وَلِضَرْبِ الْمثل، فَيعلم لممثّل لَهُ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ

[سورة الرعد (13) : آية 18]

وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ كَمَا فِي شَأْن التذييل. [18] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 18] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ، أَيْ فَائِدَةُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ أَنَّ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ حِينَ يَضْرِبُهَا لَهُمُ الْحُسْنَى إِلَى آخِرِهِ. فَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّمْثِيلَيْنِ أَنَّهُمَا عَائِدَانِ إِلَى أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. فَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلتَّمْثِيلِ وَلِلْغَرَضِ مِنْهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ بِمَا عَقَلُوا الْأَمْثَالَ فَجُوزُوا بِالْحُسْنَى، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَعْرَضُوا وَلَمْ يَعْقِلُوا الْأَمْثَالَ، قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [سُورَة العنكبوت: 43] ، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا وَهُوَ سُوءُ الْحِسَابِ الَّذِي عَاقِبَتُهُ الْمَصِيرُ إِلَى جَهَنَّمَ. فَمَعْنَى اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ اسْتَجَابُوا لِدَعْوَتِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَثَلُ السَّابِقُ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: الْحُسْنى مُبْتَدَأٌ ولِلَّذِينَ اسْتَجابُوا خَبَرُهُ. وَفِي الْعُدُولِ إِلَى الْمَوْصُولَيْنِ وَصِلَتَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا- وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصِّلَتَيْنِ سَبَبَانِ لِمَا حَصَلَ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا مَعَ جَعْلِ الْحُسْنَى فِي مَرْتَبَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِهَا أَيْضًا.

[سورة الرعد (13) : آية 19]

وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ وَعِيدِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا فَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [36] . وَأُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ بِسَبَبِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الصِّلَةِ. وسُوءُ الْحِسابِ مَا يَحُفُّ بِالْحِسَابِ مِنْ إغلاظ وإهانة للمحساب. وَأَمَّا أَصْلُ الْحِسَابِ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّهُ عدل. [19] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 19] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى الْآيَة [سُورَة الرَّعْد: 13] . فَالْكَلَامُ لِنَفْيِ اسْتِوَاءِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهًا عَلَى غَفْلَةِ الضَّالِّينَ عَنْ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [سُورَة السَّجْدَة: 18] . وَاسْتُعِيرَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ اسْمُ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ انْتَفَى عِلْمُهُ بِشَيْءٍ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى، فَالْكَافُ لِلتَّشَابُهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَاثُلِ. وَالِاسْتِوَاءُ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَاثُلُ فِي الْفَضْلِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْعَمَى. وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْمَعْنَى اتِّصَالٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ- إِلَى- يُؤْمِنُونَ [سُورَة الرَّعْد: 1] . (¬1) وَجُمْلَةُ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِانْتِفَاءِ بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّذَكُّرِ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شِعَارِ أُولِي الْأَلْبَابِ، أَيِ الْعُقُولِ. وَالْقَصْرُ بِ أَنَّما إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا غَيْرَ أُولِي الْأَلْبَابِ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا عُقُولَ لَهُمْ إِذِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ فَائِدَةُ عُقُولِهِمْ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: الَّذين يُؤمنُونَ .

[سورة الرعد (13) : الآيات 20 إلى 22]

وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ آل عمرَان. [20، 22] [سُورَة الرَّعْد (13) : الْآيَات 20 إِلَى 22] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) يجوز أَن تكون الَّذِينَ يُوفُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَاءَ لِمُنَاسَبَةِ مَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ إِنْكَارِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ. وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ حَالُ فَرِيقَيْنِ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَسَاوِي لِيَظْهَرَ أَنَّ نَفْيَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ ذَلِكَ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ هُوَ نَفْيٌ مُؤَيَّدٌ بِالْحُجَّةِ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُفِيدًا تَعْلِيلًا لِنَفْيِ التَّسْوِيَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ مُسْنَدًا. وَاجْتِلَابُ اسْمِ الْإِشَارَةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: 34] مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سُورَة الْفرْقَان: 33] .

وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا وَبِمَوْقِعِهَا تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ حَقٌّ بِمَا لَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَحُسْنِ الْمَصِيرِ فِي الْآخِرَةِ وَبِمَا لِأَضْدَادِهِمْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ:- وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: 25] . وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: أَنْ يُحَقِّقَ الْمَرْءُ مَا عَاهَدَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَهُ. وَمَعْنَى الْعَهْدِ: الْوَعْدُ الْمُوَثَّقُ بِإِظْهَارِ الْعَزْمِ عَلَى تَحْقِيقِهِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ تَأْكِيدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ نعتا لقَوْله: أُولُوا الْأَلْبابِ وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ نَعْتًا ثَانِيًا. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَعَهْدُ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِمَفْعُولِهِ، أَيْ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] ، فَذَلِكَ عَهْدُهُمْ رَبَّهُمْ. وَأَيْضًا بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي [سُورَة يس: 60- 61] ، وَذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ لَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، فَحَصَلَ الْعَهْدُ بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَإِلَى فَاعِلِهِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ فَنَشَأَ عَلَيْهِ أَصْلُهُمْ وَتَقَلَّدَهُ ذُرِّيَّتُهُ، وَاسْتَمَرَّ اعْتِرَافُهُمْ لِلَّهِ بِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ. وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ عَهْدِ اللَّهِ. وَطَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيفُ عَهْدِهِمْ فَأَخَذُوا يَتَنَاسَوْنَ وَتَشْتَبِهُ الْأُمُورُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَطَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِشْرَاكُ لِتَفْرِيطِهِمُ النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْعَهْدِ قَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَأَسْلَمَ لِلدَّلِيلِ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعْرَضُوا وَكَابَرُوا

ذَلِكَ الْعَهْدَ الْقَائِمَ فِي الْفِطْرَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْإِشْرَاكُ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ وَنَقْضًا لَهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ عَلَى جُمْلَةِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمِيثاقَ يُحْمَلُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَوَاثِيقِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ فَيَشْمَلُ الْمَوَاثِيقَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ عُهُودٍ وَأَيْمَانٍ. وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعُمُومِ حَصَلَتْ مُغَايَرَةٌ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ. وَتِلْكَ هِيَ مُسَوِّغَةُ عَطْفِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ عَلَى يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مَعَ حُصُولِ التَّأْكِيدِ لِمَعْنَى الْأُولَى بِنَفْيِ ضِدِّهَا، وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِاتِّصَافِهِمْ بِضِدِّ ذَلِكَ الْكَمَالِ، فَعُطِفَ التَّأْكِيدُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَالْمِيثَاقُ وَالْعَهْدُ مُتَرَادِفَانِ. وَالْإِيفَاءُ وَنَفْيُ النَّقْضِ مُتَّحِدَا الْمَعْنَى. وَابْتُدِئَ مِنَ الصِّفَاتِ بِهَذِهِ الْخصْلَة لِأَنَّهَا تنبىء عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ أَصْلُ الْخَيْرَاتِ وَطَرِيقُهَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ تَحْذِيرًا مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْضُهُ. وَهَذِهِ الصِّلَاتُ صِفَاتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَعَطْفُهَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْأَصْنَافِ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ فَالْمَعْنَى: الَّذِينَ يَتَّصِفُونَ بِمَضْمُونِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ كُلَّمَا عَرَضَ مُقْتَضٍ لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَمْ يَتَّصِفُوا بِمُقْتَضَاهُ كَانُوا غَيْرَ مُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ، فَمِنْهَا مَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِالضِّدِّ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِلَّا التَّفْرِيطَ فِي الْفَضْلِ. وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ هَذَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ، للدلالة على أَنَّهَا صِلَاتِهَا خِصَالٌ عَظِيمَةٌ تَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا، وَلِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ عُقْبَى الدَّارِ لَا تَتَحَقَّقُ لَهُمْ إِلَّا إِذَا جَمَعُوا كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ.

فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الْفَرِيقِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِهِ أَنَّ وَصْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَهُوَ عَهْدُ الطَّاعَةِ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فِي سُورَةِ يس [61] . وَالْوَصْلُ: ضَمُّ شَيْءٍ لِشَيْءٍ. وَضِدُّهُ الْقَطْعُ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقُرْبِ وَضِدُّهُ الْهَجْرُ. وَاشْتُهِرَ مَجَازًا أَيْضًا فِي الْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ، صِلَةُ الرَّحِمِ، أَيِ الْإِحْسَانُ لِأَجْلِ الرَّحِمِ، أَيْ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ الْآتِيَةِ مِنَ الْأَرْحَامِ مُبَاشرَة أَو بواسط، وَذَلِكَ النَّسَبُ الْجَائِي مِنَ الْأُمَّهَاتِ. وَأُطْلِقَتْ عَلَى قَرَابَةِ النَّسَبِ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنِ اشْتَرَاكٍ فِي الْأُمَّهَاتِ وَلَوْ بَعُدْنَ. وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوَاصِرِ وَالْعَلَائِقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْمَوَدَّةِ وَالْإِحْسَانِ لِأَصْحَابِهَا. فَمِنْهَا آصِرَةُ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا آصِرَةُ الْقَرَابَةِ وَهِيَ صِلَةُ الرَّحِمِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا مُرَادُ اللَّهِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26، 27] . وَإِنَّمَا أُطْنِبَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ وَاصِلَهَا آتٍ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَطَعُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَسَاءُوا إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَكَتَبُوا صَحِيفَةَ الْقَطِيعَةِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ. وَفِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ الْأَرْحَامَ وَلَمْ يُقَطِّعُوا أَرْحَامَ قَوْمِهِمُ الْمُشْركين إِلَّا عِنْد مَا حاربوهم وناووهم.

وَقَوْلُهُ: أَنْ يُوصَلَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ. وَجِيءَ بِهَذَا النَّظْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَرْحَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ. وَالْخَشْيَةُ: خَوْفٌ بِتَعْظِيمِ الْمَخُوفِ مِنْهُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَتُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْخَوْفِ. وَالْخَوْفُ: ظَنُّ وُقُوعِ الْمَضَرَّةِ مِنْ شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [229] . وسُوءَ الْحِسابِ مَا يَحُفُّ بِهِ مِمَّا يَسُوءُ الْمُحَاسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ يَخَافُونَ وُقُوعَهُ عَلَيْهِمْ فيتركون الْعَمَل السيّء. وَجَاءَتِ الصِّلَاتُ الَّذِينَ يُوفُونَ والَّذِينَ يَصِلُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ. وَجَاءَتْ صِلَةُ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَهُوَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لَهُمْ وَتَمَكُّنِهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَنْوِيهًا بِهَا لِأَنَّهَا أُصُولٌ لِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ فَلِأَنَّهُ مِلَاكُ اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ وَمَصْدَرِهَا فَإِذَا تَخَلَّقَ بِهِ الْمُؤمن صدرت عَنْهَا لحسنات وَالْفَضَائِلُ بِسُهُولَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سُورَة الْعَصْر: 2- 3] . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَفِيهَا مَا فِي الصَّبْرِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سُورَة الْبَقَرَة: 45] . وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَأَصْلُهُ الزَّكَاةُ، وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لِلصَّلَاةِ كُلَّمَا ذُكِرَتْ، وَلَهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى مِنِ اعْتِنَاءِ الدِّينِ بِهَا، وَمِنْهَا النَّفَقَاتُ وَالْعَطَايَا كُلُّهَا، وَهِيَ أَهَمُّ

الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ مَا جَعَلَهُ ثَانِيًا لِلصَّلَاةِ. ثُمَّ أُعِيدَ أُسْلُوبُ التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَةِ وَهُوَ قَوْله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ إِفَادَةَ التَّجَدُّدِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تَجَدُّدَ هَذَا الدرء مَا يُحْرَصُ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّاسَ عُرْضَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ عَلَى تَفَاوُتٍ، فَوُصِفَ لَهُمْ دَوَاءُ ذَلِك بِأَن يدعوا السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ. وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا وَفِي إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ كَالْقَوْلِ فِي وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَالصَّبْرُ: مِنَ الْمَحَامِدِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَالْمُرَادُ الصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَنَصْرِ الدِّينِ. وابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِ صَبَرُوا. وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَمَعْنَى ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ ابْتِغَاءُ رِضَاهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا يَطْلُبُ بِهِ إِقْبَالَهُ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [272] . وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ صَبَرُوا لِأَجْلِ أَنَّ الصَّبْرَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنَ اللَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ كَالرِّيَاءِ لِيُقَالَ مَا أَصْبَرَهُ عَلَى الشَّدَائِدِ وَلِاتِّقَاءِ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ. وَالسِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذِكْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً أَوَاخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [274] . وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ وَالطَّرْدُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِزَالَةِ أَثَرِ الشَّيْءِ فَيَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَدْفُوعِ وَقَبْلَ حُصُولِهِ بِأَنْ يُعِدَّ مَا يَمْنَعُ حُصُولَهُ، فَيُصَدِّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يُتْبِعَ السَّيِّئَةَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَطَرْدِ السَّيِّئَةِ. قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» . وَخَاصَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.

وَيُصَدِّقُ بِأَنْ لَا يُقَابِلَ مَنْ فَعَلَ مَعَه سيّئة بِمثلِهِ بَلْ يُقَابِلُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سُورَة فصلت: 34] بِأَنْ يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَكَذَلِكَ بَين الْجَمَاعَات إِذْ لَمْ يُفْضِ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضُّرِّ. قَالَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: 3] . وَيُصَدِّقُ بِالْعُدُولِ عَنْ فِعْلِ السَّيِّئَةِ بَعْدَ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعُدُولَ حَسَنَةٌ دَرَأَتِ السيّئة المعزوم عَلَيْهِ. قَالَ النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً» . فقد جمع يَدْرَؤُنَ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَلِهَذَا لَمْ يُعَقَّبْ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ مُعَامَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ كَمَا أُتْبِعَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [34] . وَكَمَا فِي قَوْلِهِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [96] . وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَدَلَّ اسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . ولَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جُمْلَةٌ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ لَا لِلْمُتَّصِفِينَ بِأَضْدَادِ صِفَاتِهِمْ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ. وَالْعُقْبَى: الْعَاقِبَةُ، وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُعَقِبُ، أَيْ يَقَعُ عَقِبَ شَيْءٍ آخَرَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي آخِرَةِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سُورَة الْقَصَص: 83] . وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ ضِدِّهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سُورَة غَافِر: 52] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [سُورَة الرَّعْد: 35] فَهُوَ مُشَاكَلَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ

[سورة الرعد (13) : الآيات 23 إلى 24]

عِنْدَ قَوْله: وَسَيعْلَمُ الْكَافِر لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: 42] . وَانْظُرْ مَا ذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [37] فَقَدْ زِدْتُهُ بَيَانًا. وَإِضَافَتُهَا إِلَى الدَّارِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْمَعْنَى: لَهُمُ الدَّارُ الْعَاقِبَةُ، أَي الْحَسَنَة. [23، 24] [سُورَة الرَّعْد (13) : الْآيَات 23 إِلَى 24] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) جَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلٌ مِنْ عُقْبَى الدَّارِ. وَالْعَدْنُ: الِاسْتِقْرَارُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [72] . وَذِكْرُ يَدْخُلُونَها لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْبَهِيجَةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ جَنَّاتُ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، وَالْوَاوُ فِي وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَاوُ الْمَعِيَّةِ وَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِكْرَامِ بِأَنْ جَعَلَ أُصُولَهُمْ وَفُرُوعَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمُ الْمُتَأَهِّلِينَ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِصَلَاحِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا فَمَنْ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ دُونَ مَرَاتِبِهِمْ لَحِقَ بِهِمْ، وَمَنْ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ فَوْقَ مَرَاتِبِهِمْ لَحِقُوا هُمْ بِهِ، فَلَهُمُ الْفَضْلُ فِي الْحَالَيْنِ. وَهَذَا كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [سُورَة الصافات: 22] الْآيَةَ لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ عَذَابِ الْأَقَارِبِ عَذَابٌ مُضَاعَفٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بُشْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ سَلَفٌ صَالِحٌ أَوْ خَلَفٌ صَالِحٌ أَوْ زَوْجٌ صَالِحٌ مِمَّنْ تَحَقَّقَتْ فيهم هَذِه الصَّلَاة أَنَّهُ إِذَا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ لَحِقَ بِصَالِحِ أُصُولِهِ أَوْ فَرُوعِهِ أَوْ زَوْجِهِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا إِلَّا لِهَذِهِ الْبُشْرَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة الطّور: 21] .

وَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْأُمَّهَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ كَمَا قَالُوا: الْأَبَوَيْنِ. وَجُمْلَةُ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ عَطْفٌ عَلَى يَدْخُلُونَها فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ. وَهَذَا مِنْ كَرَامَتِهِمْ وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَإِنَّ تَرَدُّدَ رُسُلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ إِكْرَامِهِ. وَذِكْرُ مِنْ كُلِّ بابٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةٍ غِشْيَانِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ لَا تَدْخُلُ مِنْهُ مَلَائِكَةٌ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدُّخُولَ لَمَّا كَانَ مَجْلَبَةَ مَسَرَّةٍ كَانَ كَثِيرًا فِي الْأَمْكِنَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْأَزْمِنَةِ فَهُوَ مُتَكَرِّرٌ لِأَنَّهُمْ مَا دَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ إِلَّا لِأَنَّ كُلَّ بَابٍ مَشْغُولٌ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ كُلِّ بَابٍ فِي كُلِّ آنٍ. وَجُمْلَةُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا مِنَ الدَّاخِلِينَ. وَهَذَا تَحِيَّةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا تَأْنِيسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْبَاءُ فِي بِما صَبَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَجْرُورِ وَهُوَ عَلَيْكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: نَالَكُمْ هَذَا التَّكْرِيمُ بِالسَّلَامِ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ هَذَا النَّعِيمُ الْمُشَاهَدُ بِمَا صَبَرْتُمْ. وَالْمُرَادُ: الصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَعَلَى مَا جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ تَفْرِيعَ ثَنَاءٍ عَلَى حُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَقَامِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَارُ عُقْبَاكُمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عُقْبَى الدَّارِ آنِفا.

[سورة الرعد (13) : آية 25]

[سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) هَذَا شَرْحُ حَالِ أَضْدَادِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى شَرْحِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ: كَمَنْ هُوَ أَعْمى [سُورَة الرَّعْد: 19] . وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يُوفُونَ [الرَّعْد: 20] . وَنَقْضُ الْعَهْدِ: إِبْطَالُهُ وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ. وَزِيَادَةُ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْنِيعِ النَّقْضِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تَوْثِيقِ الْعَهْدِ وَتَأْكِيدِهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26- 27] . وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ خَبَرٌ عَنْ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ وَهِيَ مُقَابِلُ جُمْلَةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. وَالْبُعْدُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْخِزْيِ وَإِضَافَةِ سُوءِ الدَّارِ كَإِضَافَةِ عُقْبَى الدَّارِ. وَالسُّوءُ ضِدُّ الْعُقْبَى كَمَا تقدم. [26] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 26] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَمَّا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ سَمَاعِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ: كَيْفَ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَازْدَادُوا بِهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَهَلَّا عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْخَصَاصَةِ كَمَا قَدَّرَ تَعْذِيبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [سُورَة يُونُس: 88] ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَيَسْخَرُونَ مِنَ الْوَعِيدِ مُزْدَهِينَ بِمَا لَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ. فَأُجِيبَ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ اللَّهَ يَشَاءُ بَسْطَ الرِّزْقِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ وَنَقْصَهُ لِبَعْضٍ آخَرَ لِحِكْمَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَسْبَابِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ اتِّصَالٌ بِحَالِ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّعْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ، وَمَشِيئَتُهُ تَعَالَى وَأَسْبَابُهَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. وَأَفَادَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ تَقْوِيَةً لِلْحُكْمِ وَتَأْكِيدًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ وَلَفْتَ الْعُقُولِ إِلَيْهِ عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ فِي أَمْثَالِهِ. وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِفَادَةِ الْحَصْرِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ «الْكَشَّافُ» إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مَنْ يَزْعُمُ الشَّرِكَةَ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَقْصِدُ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ. وَالْبَسْطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْكَثْرَةِ وَلِلدَّوَامِ. وَالْقَدْرُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَيْهِمْ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْكَافِرِينَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا هَذِهِ الدَّقَائِقَ لِعُنْجُهِيَّةِ نُفُوسِهِمْ فَهُمْ فَرِحُوا بِمَا لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغَفَلُوا عَنِ الْآخِرَةِ، فَالْفَرَحُ الْمَذْكُورُ فَرَحُ بَطَرٍ وَطُغْيَانٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ قَارُونَ: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سُورَة الْقَصَص: 76] ، فَالْمَعْنَى فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا دُونَ اهْتِمَامٍ بِالْآخِرَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَفَادَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الدُّنْيَا فِي حِينِ ذَكَرَ الْآخِرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ.

[سورة الرعد (13) : آية 27]

وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبِالْآخِرَةِ نَعِيمُهُمَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، فَالْكَلَامُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا. وفِي ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنَ الْحَياةُ الدُّنْيا. وَمَعْنَى فِي الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ بِمَعْنَى الْمُقَايَسَةِ، أَيْ إِذَا نُسِبَتْ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ ظَهَرَ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [38] . وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيَنْقَضِي. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [سُورَة آل عمرَان: 196- 197] . [27] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 27] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) عُطِفَ غَرَضٌ عَلَى غَرَضٍ وَقِصَّةٌ عَلَى قِصَّةٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ ذِكْرُ فَرَحِهِمْ بِحَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَقَدِ اغْتَرُّوا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ فَسَأَلُوا تَعْجِيلَ الضُّرِّ فِي قَوْلِهِمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سُورَة الْأَنْفَال: 32] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْرِيرٌ لِنَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [سُورَة الرَّعْد: 7] . فَأُعِيدَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ إِعَادَةَ الْخَطِيبِ كَلِمَةً مِنْ خُطْبَتِهِ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ بَعْدَ أَنْ يَفْصِلَ بِمَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْفَصْلَ بِهِ ثُمَّ يَتَفَرَّغُ إِلَى مَا تَرَكَهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَ التَّنَازُلِ لِيَتَحَدَّى عَبِيدَهُ فَتَبَيَّنَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَالَ التَّبْيِينِ. وكل ذَلِك لَا حق بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سُورَة الرَّعْد: 5] ، وَعَوْدٌ إِلَى الْمُهِمِّ مِنْ غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا أُطِيلَ الْكَلَامُ عَلَى هَدْيِ الْقُرْآنِ عَقِبَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.

وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ مَوْقِعَ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تعجيب الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- مِنْ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ بِحَيْثُ يُوقِنُ مَنْ شَاهَدَ حَالَهُمْ أَنَّ الضَّلَالَ وَالِاهْتِدَاءَ بِيَدِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ جُبِلُوا مِنْ خِلْقَةِ عُقُولِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ لَكَانُوا مُهْتَدِينَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ وَاضِحَةٌ. وَتَحْتَ هَذَا التَّعْجِيبِ معَان أُخْرَى: أَحدهَا: أَنَّ آيَاتِ صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِحَةٌ لَوْلَا أَنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تُدْرِكْهَا لِفَسَادِ إِدْرَاكِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْآيَاتِ الْوَاضِحَةَ الْحِسِّيَّةَ قَدْ جَاءَتْ لِأُمَمٍ أُخْرَى فَرَأَوْهَا وَلَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [سُورَة الْإِسْرَاء: 59] . الثَّالِثُ: أَنَّ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ أَسْبَابًا خَفِيَّةً يَعْلَمُهَا اللَّهُ قَدْ أُبْهِمَتْ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ مِنْهَا مَا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابَلَةِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا وَأَعْرَضُوا حِينَ سَمِعُوا الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، وَقَدْ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمُ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ فَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَلَوْ أَنَابُوا وَأَذْعَنُوا لَهَدَاهُمُ اللَّهُ وَلَكِنَّهُمْ نَفَرُوا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُجِيبَ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ بِأَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا ضَالِّينَ وَبِأَنَّ حَالَهُمْ مَثَارُ تَعْجَبٍ. وَالْإِنَابَةُ: حَقِيقَتُهَا الرُّجُوعُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ دَلَائِلِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْفِرُ مِنَ الْحَقِّ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَالْإِنَابَةُ هُنَا ضد النفور.

[سورة الرعد (13) : الآيات 28 إلى 29]

[سُورَة الرَّعْد (13) : الْآيَات 28 إِلَى 29] الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) اسْتِئْنَافٌ اعْتِرَاضِيٌّ مُنَاسَبَتُهُ الْمُضَادَّةُ لِحَالِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، وَالْبَيَانُ لِحَالِ الَّذِينَ هَدَاهُمْ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مِثَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا هُوَ عَدَمُ اطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا الْقُرْآنَ آيَةً مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ التَّصْرِيحُ بِجِنْسِ عَاقِبَةِ هَؤُلَاءِ، وَالتَّعْرِيضُ بِضِدِّ ذَلِكَ لِأُولَئِكَ، فَذِكْرُهَا عَقِبَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُفِيدُ الْغَرَضَيْنِ وَيُشِيرُ إِلَى السَّبَبَيْنِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلِ الَّذِينَ آمَنُوا بَدَلًا مِنْ مَنْ أَنابَ [الرَّعْد: 27] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الصِّلَةِ جُمْلَةُ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ وَلَا عَطْفُ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عَلَى الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ. فَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ مُعْتَرِضَةٌ والَّذِينَ آمَنُوا الثَّانِي بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ طُوبى لَهُمْ خبر المبدأ. وَالِاطْمِئْنَانُ: السُّكُونُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْيَقِينِ وَعَدَمِ الشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ يُسْتَعَارُ لَهُ الِاضْطِرَابُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [260] . و (ذكر اللَّهِ) يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتُهُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سُورَة الزخرف: 44] ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. وعَلى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: 22] ، أَيْ لِلَّذِينَ كَانَ قَدْ زَادَهُمْ قَسْوَةَ قُلُوبٍ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: 23] .

وَالذِّكْرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ فَإِنَّ إِجْرَاءَهُ عَلَى اللِّسَانِ يُنَبِّهُ الْقُلُوبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ. وَهَذَا وَصْفٌ لِحُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُقَايَسَتِهِ بِسُوءِ حَالَةِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ غَمَرَ الشَّكُّ قُلُوبَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 63] . وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ فِي تَطْمَئِنُّ مَرَّتَيْنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ الِاطْمِئْنَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُهُ شَكٌّ وَلَا تَرَدُّدٌ. وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا وَإِغْرَاءً بِوَعْيِهِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي تَعْرِيفِ الْقُلُوبُ مِنَ التَّعْمِيمِ. وَفِيهِ إِثَارَةُ الْبَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى أَنْ يَتَّسِمُوا بِسِمَةِ الْمُؤمنِينَ من التَّدْبِير فِي الْقُرْآنِ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتُمْ رَاحَةَ بَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ بِأَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَإِنَّ تِلْكَ فِي مُتَنَاوَلِكُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ بِمَسَامِعِكُمْ. وَطُوبَى: مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ طِيبًا إِذَا حَسُنَ، وَهِيَ بِوَزْنِ الْبُشْرَى وَالزُّلْفَى، قُلِبَتْ يَاؤُهَا وَاوًا لِمُنَاسَبَةِ الضَّمَّةِ، أَيْ لَهُمُ الْخَيْرُ الْكَامِلُ لِأَنَّهُمُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِالذِّكْرِ، فَهُمْ فِي طِيبِ حَالٍ: فِي الدُّنْيَا بِالِاطْمِئْنَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ وَهُوَ حُسْنُ الْمَئَابِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ. وَإِطْلَاقُ الْمَآبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آخِرُ أَمْرِهِمْ وَقَرَارِهِمْ كَمَا أَنَّ قَرَارَ الْمَرْءِ بَيْتُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِانْتِشَارِ مِنْهُ. عَلَى أَنَّهُ يُنَاسِبُ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ وَهُوَ عَالَمُ الْخُلْدِ فَمَصِيرُهَا إِلَى الْخُلْدِ رُجُوعٌ إِلَى عَالَمِهَا الْأَوَّلِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ للْملك.

[سورة الرعد (13) : آية 30]

[سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 30] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) هَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّ الْجَوَابَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ جَوَابٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهَالَتِهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَمَا هُنَا هُوَ الْجَوَابُ الرَّادُّ لِقَوْلِهِمْ. فَيَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ مَقُولِ القَوْل، وَيجوز جعله مَقْطُوعَةً عَنْ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ الْقَوْلِ كُلِّهَا، أَوِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ الْمَقُولِ وَهُوَ التَّعَجُّبُ. وَفِي افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ تَأْكِيدٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ صِفَةِ الرِّسَالَةِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ: الْإِرْسَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ أَرْسَلْناكَ، أَيْ مِثْلَ الْإِرْسَالِ الْبَيِّنِ أَرْسَلْنَاكَ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ عَيْنُ الْمُشَبَّهِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لِوُضُوحِهِ لَا يُبَيِّنُ مَا وَضَحَ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَلَمَّا كَانَ الْإِرْسَالُ قَدْ عُلِّقَ بِقَوْلِهِ: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ صَارَتِ الْإِشَارَةُ أَيْضًا مُتَحَمِّلَةً لِمَعْنَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى أُمَمٍ يَقْتَضِي مُرْسَلِينَ، أَيْ مَا كَانَتْ رِسَالَتُكَ إِلَّا مِثْلَ رِسَالَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. كَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [سُورَة الْأَحْقَاف: 9] وَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: 20] لِإِبْطَالِ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَمْ يَأْتِهِمْ بِمَا سَأَلُوهُ فَهُوَ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [سُورَة الرَّعْد: 31] الْآيَاتِ.

وَلِذَلِكَ أُرْدِفَتِ الْجُمْلَة بقوله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَالْأُمَّةُ: هِيَ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سُورَة آل عمرَان: 137] . وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ التَّعْرِيضَ بِالْوَعِيدِ بِمِثْلِ مَصِيرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا. وَتَضَمَّنَ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ أَنَّ الْإِرْسَالَ لِأَجْلِ الْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا لِأَجْلِ الِانْتِصَابِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. فَالْمَقْصُودُ لِتَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، كَقَوْلِه: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [سُورَة النَّمْل: 92] الْآيَةَ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مُعْجِزَتُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [سُورَة الرَّعْد: 7] . وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [سُورَة العنكبوت: 51] . وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ» . وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ بِأَوْضَحِ الْهِدَايَةِ وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ تَدْخُلِ الْهِدَايَةُ قُلُوبَهُمْ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَفْهُومِينَ مِنَ الْمَقَامِ لَا إِلَى أُمَّةٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْهَا مُؤْمِنُونَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَكْفُرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ إِشْرَاكُهُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَفَرُوا بِهِ.

وَاخْتِيَارُ اسْمِ (الرَّحْمَنِ) مِنْ بَيْنِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يكون الله رحمان. قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [60] ، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى كُفْرَيْنِ مِنْ كُفْرِهِمْ: جَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَجحد اسْم الرحمان وَلِأَنَّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَأْيِيدِهِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلنَّاسِ. وَقَدْ أَرَادُوا تَعْوِيضَهُ بِالْخَوَارِقِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ هَدْيًا بِذَاتِهَا وَلَكِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْح فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَاتِبِ «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْرِف الرحمان إِلَّا صَاحِبَ الْيَمَامَةِ، يَعْنِي مُسَيْلمَة، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» . وَيُبْعِدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ قَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ» فَنَزَلَتْ. وَقَدْ لُقِّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْطَالِ كُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ إِبْطَالًا جَامِعًا بِأَنْ يَقُولَ: هُوَ رَبِّي، فَضَمِيرُ هُوَ عَائِد إِلَى (الرحمان) بِاعْتِبَارِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، أَيِ الْمُسَمَّى هُوَ رَبِّي وَأَن الرحمان اسْمُهُ. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِبْطَالٌ لِإِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ. وَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ، فَهُوَ احْتِرَاسٌ لِرَدِّ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى رَبٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ رَبَّهُ اللَّهُ وَإِن ربه الرحمان، فَكَانَ قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ دَالا على أَن الْمَدْعُو بالرحمان هُوَ الْمَدْعُو بالله إِذْ لَا إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد، فَلَيْسَ قَوْله: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِخْبَارا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ.

[سورة الرعد (13) : آية 31]

وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ هِيَ نَتِيجَةٌ لِكَوْنِهِ رَبًّا وَاحِدًا. وَلكنهَا كَالنَّتِيجَةِ لِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّصَالِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ وَهُمَا عَلَيْهِ وإِلَيْهِ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ وَالْمَتَابِ بِالْكَوْنِ عَلَيْهِ، أَيْ لَا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَحَّدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَانَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا اتَّصَفَ بِالرَّحْمَانِيَّةِ كَانَ الْمَتَابُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ رَحْمَانِيَّتَهُ مَظِنَّةٌ لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ عَبْدِهِ. وَالْمَتَابُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ، أَيِ التَّوْبَةُ، يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَصَادِرِ الْمِيمِيَّةِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ زَمَانٍ جُعِلَتْ كِنَايَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ كَالصَّرِيحِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَتَابُ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ عُدِّيَ الْمَتَابُ بِحَرْفِ إِلَى. وَأَصْلُ مَتابِ مَتَابِي- بِإِضَافَةٍ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ- فَحُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا حذف فِي النادي الْمُضَافِ إِلَى الْيَاء. [31] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 31] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَنَّ رِسَالَتَهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مِثْلَ رِسَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صِفَةُ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً تَتِمَّةً لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ هُوَ رَبِّي وَبَيْنَ جُمْلَةِ أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ [سُورَة الرَّعْد: 33] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّ كِتَابًا مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ اشْتَمَلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَكَانَتْ مَصَادِرَ لِإِيجَادِ الْعَجَائِبِ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنٌ كَذَلِكَ، فَهَذَا الْقُرْآنُ لَا يُتَطَلَّبُ مِنْهُ الِاشْتِمَالُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ. وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [سُورَة الْأَنْعَام: 27] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [سُورَة السَّجْدَة: 12] . وَيُفِيدُ ذَلِكَ مَعْنًى تَعْرِيضِيًّا بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِنِهَايَةِ ضَلَالَتِهِمْ، إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَالْحَالُ لَوْ أَنَّ قُرْآنًا أَمَرَ الْجِبَالَ أَنْ تَسِيرَ وَالْأَرْضَ أَنْ تَتَقَطَّعَ وَالْمَوْتَى أَنْ تَتَكَلَّمَ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بَالِغًا ذَلِكَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْكُتُبِ، فَيَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى مِنَ الْحَمَاسَةِ: وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرِ وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَيْنِ الْخَوَارِقِ الْمَفْرُوضَةِ مَا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، أَبَا جَهْلٍ وَابْنَ أبي أميّة وَغَيرهمَا جَلَسُوا خَلْفَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَوْ وَسَّعْتَ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ فَسَيَّرْتَهَا حَتَّى تتسع أَرْضنَا فنحترثهما فَإِنَّهَا ضَيِّقَةٌ، أَوْ قَرِّبْ إِلَيْنَا الشَّامَ فَإِنَّا نَتَّجِرُ إِلَيْهَا، أَوْ أَخْرِجْ قُصَيًّا نُكَلِّمْهُ. وَقَدْ يُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ فَرْضُ تَكْلِيمِ الْمَوْتَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى [سُورَة الْأَنْعَام: 111] ، فَكَانَ فِي ذِكْرِ

هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى تَهَكُّمِهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ قُطِّعَتْ مَسَافَاتُ الْأَسْفَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سُورَة الْأَنْعَام: 94] . وَجُمْلَةُ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً عَطْفٌ عَلَى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْكُتُبِ بَلْ لِلَّهِ أَمْرُ كُلِّ مُحْدَثٍ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْعَجَائِبَ إِنْ شَاءَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عِنْدَ سُؤَالِكُمْ، فَأمر الله نبيئه بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ إِجْرَاءً لِكَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا قَالُوهُ إِلَّا التَّهَكُّمَ، فَحُمِلَ كَلَامُهُمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا هَلْ كَانَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ قُرْآنٌ يَتَأَتَّى بِهِ مِثْلَ مَا سَأَلُوهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَجَّاجِ لِلْقَبَعْثَرَى: لِأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ (يُرِيدُ الْقَيْدَ) . فَأَجَابَهُ الْقَبَعْثَرَى بِأَنْ قَالَ: مِثْلُ الْأَمِيرِ يَحْمِلُ عَلَى الْأَدْهَمِ وَالْأَشْهَبِ، فَصَرَفَهُ إِلَى لَوْنِ فَرَسٍ. وَالْأَمْرُ هُنَا: التَّصَرُّفُ التَّكْوِينِيُّ، أَيْ لَيْسَ الْقُرْآنُ وَلَا غَيْرُهُ بِمُكَوِّنٍ شَيْئًا مِمَّا سَأَلْتُمْ بَلِ اللَّهُ الَّذِي يُكَوِّنُ الْأَشْيَاءَ. وَقَدْ أَفَادَتِ الْجُمْلَتَانِ الْمَعْطُوفَةُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِ بَلْ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْأَمْرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وجَمِيعاً تَأْكِيدٌ لَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ أُفِيدَ بِ بَلْ الْعَاطِفَةِ. وَفُرِّعَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا إنكارا لانْتِفَاء يأسي الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ فَهُمْ حَقِيقُونَ بِزَوَالِ يَأْسِهِمْ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [سُورَة الرَّعْد: 27] .

وَ (يَيْأَسِ) بِمَعْنَى يُوقِنُ وَيَعْلَمُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا مَعَ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَأْسِ الَّذِي هُوَ تَيَقُّنُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْبَحْثِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي مُطْلَقِ الْيَقِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الْيَأْسِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ الرَّيَاحِيِّ: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسَرُونَنِي ... أَلَمْ تَأْيَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ وَشَوَاهِدُ أُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ يَئِسَ بِمَعْنَى عَلِمَ لُغَةُ هَوَازِنَ أَوْ لُغَةُ بَنِي وَهْبِيلَ (فَخِذٌ مِنِ النَّخْعِ سُمِّيَ بِاسْمِ جَدٍّ) . وَلَيْسَ هُنَالك مَا يلجىء إِلَى هَذَا. هَذَا إِذَا جُعِلَ أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ مَفْعُولًا لِ يَيْأَسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ يَيْأَسِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ، وَيَكُونُ أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ مَجْرُورًا بِلَامِ تَعْلِيلٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ، فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِإِنْكَارِ عَدَمِ يَأْسِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَهِيَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَتَهَكُّمِهِمْ بِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ، فَهُدِّدُوا بِمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ بِحُلُولِ الْكَتَائِبِ وَالسَّرَايَا بِهِمْ تَنَالُ الَّذِينَ حلّت فيهم وَتَخْفِيف مَنْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ.

وَاسْتِعْمَالُ لَا يَزالُ فِي أَصْلِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِاسْتِمْرَارِ شَيْءٍ وَاقِعٍ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عِنْدَ وُقُوعِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ بِقُرَيْشٍ مِنْ جُوعٍ أَوْ مَرَضٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَائِمٌ فِيهِمْ حَتَّى يَأْتِي وعد لله. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَتِهِمْ بِالسِّنِينَ السَّبْعِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [سُورَة الْبَقَرَة: 155] . وَمَنْ جَعَلُوا هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةً فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَارِعَةَ السَّرِيَّةُ مِنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تَخْرُجُ لِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهُمْ. وَهُوَ لَا ملجىء إِلَيْهِ. وَالْقَارِعَةُ: فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مِنَ الْقَرْعِ، وَهُوَ ضَرْبُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ. يُقَالُ: قَرَعَ الْبَابَ إِذَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ بِحَلْقَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَرْعُ يُحْدِثُ صَوْتًا مُبَاغِتًا يَكُونُ مُزْعِجًا لِأَجْلِ تِلْكَ الْبَغْتَةِ صَارَ الْقَرْعُ مَجَازًا لِلْمُبَاغَتَةِ وَالْمُفَاجَأَةِ، وَمِثْلُهُ الطَّرْقُ. وَصَاغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ صِيغَةَ تَأْنِيثٍ إِشَارَةً إِلَى مَوْصُوفٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ اخْتِصَارًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ بِالْحَادِثَةِ أَوِ الْكَائِنَةِ أَوِ النَّازِلَةِ، كَمَا قَالُوا: دَاهِيَةٌ وَكَارِثَةٌ، أَيْ نَازِلَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْإِزْعَاجِ فَإِنَّ بَغْتَ الْمَصَائِبِ أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى النَّفْسِ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ سَاعَةِ الْبَعْثِ بِالْقَارِعَةِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْحَادِثَةِ الْمُفْجِعَةِ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ الْإِصَابَةِ إِلَيْهَا. وَهِيَ مِثْلُ الْغَارَةِ وَالْكَارِثَةِ تَحُلُّ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُمْ عَذَابُهَا، أَوْ تَقَعُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ فَيُصِيبُهُمُ الْخَوْفُ مِنْ تَجَاوُزِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَارِعَةِ الْغَزْوَ وَالْقِتَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْقَارِعَةِ عَلَى مَوْقِعَةِ الْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى بِما صَنَعُوا بِسَبَبِ فِعْلِهِمْ وَهُوَ كُفْرُهُمْ وَسُوء معاملتهم نبيئهم. وَأَتَى فِي ذَلِكَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِأَعْمَالِهِمْ. وَضَمِيرُ تَحُلُّ عَائِدٌ إِلَى قارِعَةٌ فَيَكُونُ تَرْدِيدًا لِحَالِهِمْ بَيْنَ إِصَابَةِ الْقَوَارِعِ إِيَّاهُمْ وَبَيْنَ حُلُولِ الْقَوَارِعِ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِمْ فَهُمْ فِي رُعْبِ مِنْهَا وَفَزَعٍ

[سورة الرعد (13) : آية 32]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحُلُّ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ مَعَ الْجَيْشِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. وَالْحُلُولُ: النُّزُولُ. وَتَحُلُّ: بِضَمِّ الْحَاءِ مُضَارِعُ حَلَّ اللَّازِمِ. وَقَدِ الْتُزِمَ فِيهِ الضَّمُّ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ بُحْرُقٌ الْيَمَنِيُّ عَلَى ابْنِ مَالِكٍ فِي شرح لامية الْأَفْعَالِ، وَهُوَ وَجِيهٌ. ووَعْدُ اللَّهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَوْعُودُ اللَّهِ، وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [سُورَة آل عمرَان: 12] ، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ الْغَلَبَ وَدُخُولَ جَهَنَّمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَلَبَ الْقَتْلُ بِسُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى. وَمِنْ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ حُنَيْنٍ وَيَوْمُ الْفَتْحِ. وَإِتْيَانُ الْوَعْدِ: مَجَازٌ فِي وُقُوعِهِ وَحُلُولِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِيذَانًا بِأَنَّ إِتْيَانَ الْوَعْدِ الْمُغَيَّا بِهِ مُحَقِّقٌ وَأَنَّ الْغَايَةَ بِهِ غَايَةٌ بِأَمْرٍ قَرِيبِ الْوُقُوعِ. وَالتَّأْكِيدُ مُرَاعَاةً لإنكار الْمُشْركين. [32] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 32] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [سُورَة الرَّعْد: 31] إِلَخَّ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمُثُلَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي فُرِضَتْ أُرِيدَ بِهَا أُمُورٌ سَأَلَهَا الْمُشْرِكُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً وَتَعْجِيزًا لَا لِتَرَقُّبِ حُصُولِهَا. وَجَاءَتْ عَقِبَ الْجُمْلَتَيْنِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمُثُلِ الَّتِي فِي الْأُولَى وَمِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ الَّتِي فِي الثَّانِيَةِ.

[سورة الرعد (13) : آية 33]

وَقَدِ اسْتَهْزَأَ قَوْمُ نُوحٍ بِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [سُورَة هود: 38] ، وَاسْتَهْزَأَتْ عَادٌ بِهُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 187] ، وَاسْتَهْزَأَتْ ثَمُودُ بِصَالِحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [سُورَة الْأَعْرَاف: 66] ، واستهزأوا بِشُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [سُورَة هود: 87] ، وَاسْتَهْزَأَ فِرْعَوْنُ بِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [سُورَة الزخرف: 43] . وَالِاسْتِهْزَاءُ: مُبَالِغَةٌ فِي الْهَزْءِ مِثْلَ الِاسْتِسْخَارِ فِي السُّخْرِيَةِ. وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ وَالتَّرْكُ مُدَّةً. وَمِنْهُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. وَتقدم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 182] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي «فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ» لِلتَّعْجِيبِ. وَ «عِقَابِ» أَصْلُهُ عِقَابِي مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ مَتابِ. وَالْكَلَام تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، ووعيد للْمُشْرِكين. [33] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 33] أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) الْفَاءُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ مُؤَخَّرَةٌ مِنْ تَقْدِيمٍ لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَهَا الصَّدَارَةُ. فَتَقْدِيرُ أصل النّظم: فأمن هُوَ قَائِمٌ. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَام

وَلَيْسَ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامًا عَلَى التَّفْرِيعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ فِي وُقُوعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ الثَّلَاثَةِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ، خِلَافًا لِمَنْ يَجْعَلُونَ الِاسْتِفْهَامَ وَارِدًا عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ وَمَا عَطَفَهُ. فَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [الرَّعْد: 30] الْمُجَابِ بِهِ حِكَايَةُ كَفْرِهِمُ الْمُضَمَّنِ فِي جُمْلَةِ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [الرَّعْد: 30] ، فَالتَّفْرِيعُ فِي الْمَعْنَى عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ: كفرهم بِاللَّه، وَإِيمَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْد: 31] ، فَيَكُونُ تَرَقِّيًا فِي إِنْكَارِ سُؤَالِهِمْ إِتْيَانَ مُعْجِزَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، أَيْ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارِهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ أَعْجَبَ مِنْهُ جَعْلُهُمُ الْقَائِمَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مُمَاثِلًا لِمَنْ جَعَلُوهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ. وَاعْتُرِضَ أَثَرَ ذَلِكَ بِرَدِّ سُؤَالِهِمْ أَنْ تُسَيَّرَ الْجِبَالُ أَوْ تُقَطَّعَ الْأَرْضُ أَوْ تُكَلَّمَ الْمَوْتَى، وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَعَ إِدْمَاجِ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-، ثمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَصْوِير نظم الْآيَةِ مَحَامِلُ مُخْتَلِفَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَمَرْجِعُ الْمُتَّجَهِ مِنْهَا إِلَى أَنَّ فِي النَّظْمِ حَذْفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيهِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِيَاقُ. وَالْوَجْهُ فِي بَيَانِ النَّظْمِ أَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ أَن كفرهم بالرحمان وَإِيمَانَكَ بِأَنَّهُ رَبُّكَ الْمَقْصُورَةَ عَلَيْهِ الرُّبُوبِيَّةُ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَجْمُوعِ ذَلِكَ اسْتِفْهَامُهُمُ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ تَسْوِيَتَهُمْ مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَنْ لَيْسَ مِثْلُهُ مَنْ جَعَلُوهُمْ لَهُ شُرَكَاءَ، أَيْ كَيْفَ يُشْرِكُونَهُمْ وَهُمْ لَيْسُوا سَوَاءً مَعَ الله. وَمَا صدق فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ هُوَ اللَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ.

وَخَبَرُ (مَنْ هُوَ قائِمٌ) مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. وَالتَّقْدِير: أَمَّنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ وَمَنْ جَعَلُوهُمْ بِهِ شُرَكَاءَ سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ مَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِكَةُ فِي الْعِبَادَةِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِتِلْكَ التَّسْوِيَةِ الْمُفَادِ مِنْ لَفْظِ شُرَكاءَ. وَبِهَذَا الْمَحْذُوفِ اسْتُغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِ مُعَادِلٍ لِلْهَمْزَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، لِأَنَّ هَذَا الْمُقَدَّرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَقْوَى فَائِدَةً مِنْ تَقْدِيرِ الْمُعَادِلِ الَّذِي حَاصِلُهُ أَنْ يَقْدِّرَ: أَمْ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ مُوقِعِ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ، وَتَخْطِئَةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ فِي تَشْرِيكِ آلِهَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَنِدَاءً عَلَى غَبَاوَتِهِمْ إِذْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ. وَالْمُقَدَّرُ بِاعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ وَلِمَا فِي هَذِهِ الصِّلَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَالْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ: الرَّقِيبُ، فَيَشْمَلُ الْحِفْظَ وَالْإِبْقَاءَ وَالْإِمْدَادَ، وَلِتُضَمُّنِهِ مَعْنَى الرَّقِيبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلى الْمُفِيدِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْقِيَامِ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [سُورَة آل عمرَان: 75] . وَيَجِيءُ مِنْ مَعْنَى الْقَائِمِ أَنَّهُ الْعَلِيمُ بِحَالِ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ تَمَامَ الْقَيُّومِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ. فَمَعْنَى قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ مُتَوَلِّيهَا وَمُدَبِّرُهَا فِي جَمِيعِ شُؤُونِهَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَجَلِ وَالرِّزْقِ، وَالْعَالَمُ بِأَحْوَالِهَا وَأَعْمَالِهَا، فَكَانَ إِطْلَاقُ وَصْفِ قائِمٌ هُنَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ. وَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي انْفِرَادِ اللَّهِ بِهَذَا الْقِيَامِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ ذَلِكَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى تَعَلَّقَ قَائِمٌ بُقُولِهِ: عَلى كُلِّ نَفْسٍ لِيَعُمَّ الْقِيَامُ سَائِرَ شُؤُونِهَا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبَتْ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ نَفْسٍ

أَوْ مِنْ قائِمٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَامُ مِنَ الْعِلْمِ، أَيْ قِيَامًا مُلَابِسًا لِمَا عَمِلَتْهُ كُلُّ نَفْسٍ، أَيْ قِيَامًا وِفَاقًا لِأَعْمَالِهَا مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ يَقْتَضِي الْقِيَامَ عَلَيْهَا بِاللُّطْفِ وَالرِّضَى فَتَظْهَرُ آثَارُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة النَّحْل: 97] ، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [سُورَة النُّور: 55] أَوْ مِنْ عَمَلِ شَرٍّ يَقْتَضِي قِيَامَهُ عَلَى النَّفْسِ بِالْغَضَبِ وَالْبَلَايَا. فَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بِعُمُومِهَا تَبْشِيرٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ تَأْمَّلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْأَمْرَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ أَفَادَتْهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ. وَجُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِتْيَان بضمير فَمَنْ هُوَ قائِمٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْإِيفَاءُ بِحَقِّ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ فَتَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلِاسْمِ الْعَلَمِ، وَلِيَكُونَ تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْمَوْصُولِ السَّابِقِ زِيَادَةً فِي التَّصْرِيحِ بِالْحُجَّةِ. وَجُمْلَةُ قُلْ سَمُّوهُمْ اسْتِئْنَافٌ أُعِيدَ مَعَهَا الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَفْهَامِ لِوَعْيِ مَا سَيُذْكَرُ. وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، أَعْنِي جُمْلَةَ سَمُّوهُمْ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ. فَالْمَعْنَى: سَمُّوهُمْ شُرَكَاءَ فَلَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ إِلَّا التَّسْمِيَةُ، أَيْ دُونَ مُسَمَّى الشَّرِيكِ، فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِبَاحَةِ كِنَايَةً عَنْ قلَّة المبالاة بادعائهم أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ مِثْلَ قُلْ كُونُوا حِجارَةً [سُورَة الْإِسْرَاء: 50] ، وَكَمَا تَقول للَّذي يخطىء فِي كَلَامِهِ: قُلْ مَا شِئْتَ. وَالْمَعْنَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهَا حِجَارَةٌ لَا صِفَاتِ لَهَا مِنْ صِفَاتِ التَّصَرُّفِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا

أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [سُورَة يُوسُف: 40] وَقَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها [سُورَة النَّجْم: 23] . وَهَذَا إِفْحَامٌ لَهُمْ وَتَسْفِيهٌ لِأَحْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَلَّهُوا مَا لَا حَقَائِقَ لَهَا فَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [سُورَة الرَّعْد: 16] . وَقَدْ تَمَحَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قُلْ سَمُّوهُمْ بِمَا لَا مُحَصِّلَ لَهُ مِنَ الْمَعْنَى. ثُمَّ أُضْرِبَ عَنْ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ. وَدَلَّتْ أَمْ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ فَتَضَعُوا لَهُ شُرَكَاءَ لم ينبئكم لوجودهم، فَقَوْلُهُ: بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ الْمَوْجُودِ لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَخْفَ عَلَى عِلْمِ الْعَلَّامِ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِ الْأَرْضِ لِزِيَادَةِ تَجْهِيلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَخْفَى عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ لِخَفِيَ عَنْهُ مَا لَا يُرَى وَلَمَا خَفِيَتْ عَنْهُ مَوْجُودَاتٌ عَظِيمَةٌ بِزَعْمِكُمْ. وَفِي سُورَةِ يُونُسَ [18] قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْمِيمِ. وأَمْ الثَّانِيَةُ مُتَّصِلَةٌ هِيَ مُعَادِلَةٌ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرَةَ فِي أَمْ تُنَبِّئُونَهُ. وَإِعَادَةُ الْبَاءِ لِلتَّأْكِيدِ بَعْدَ أَمْ الْعَاطِفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَتُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ بَلْ أَتُنَبِّئُونَهُ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَلَيْسَ الظَّاهِر هُنَا مشتقا مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنَى الْوُضُوحِ بَلْ هُوَ مُشْتَقّ من الظور بِمَعْنَى الزَّوَالِ كِنَايَةً عَنِ الْبُطْلَانِ، أَي بِمُجَرَّد قبُول لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: وَتِلْكَ شِكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا وَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: أَعَيَّرْتِنَا أَلْبَانَهَا ولحومها ... وَذَلِكَ عَارِيا يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرٌ

وَقَوْلُهُ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ إِضْرَابٌ عَنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ إِلَى كَشْفِ السَّبَبِ، وَهُوَ أَنَّ أَيِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ زَيَّنُوا لِلَّذِينِ كَفَرُوا مَكْرَهُمْ بِهِمْ إِذْ وَضَعُوا لَهُمْ عِبَادَتَهَا. وَالْمَكْرُ: إِخْفَاءُ وَسَائِلِ الضُّرِّ. وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [99] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [30] . وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ أَيِمَّةَ الْكُفْرِ مِثْلَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَضَعُوا لِلْعَرَبِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَحَسَّنُوهَا إِلَيْهِمْ مُظْهِرِينَ لَهُمْ أَنَّهَا حَقٌّ وَنَفْعٌ وَمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَادَةً لَهُمْ لِيَسُودُوهُمْ وَيُعَبِّدُوهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ يَقْتَضِي فَاعِلًا مَنْوِيًّا كَانَ قَوْلُهُ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُوَّةِ قَوْلِكَ: زَيَّنَّ لَهُمْ مُزَيَّنٌ. وَالشَّيْءُ الْمُزَيَّنُ (بِالْفَتْحِ) هُوَ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فَهِيَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ التَّزْيِينِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى، فَلَا جَرَمَ أَنَّ مَكْرَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى، فَتَعِيَّنَ أَنَّ الْمَكْرَ مُرَادٌ بِهِ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَبِهَذَا يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ إِضَافَةُ (مَكْرُ) إِلَى ضَمِيرِ الْكُفَّارِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا هُوَ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَجْرُورُ بِبَاءِ التَّعْدِيَةِ، أَيِ الْمَكْرِ بِهِمْ مِمَّنْ زَيَّنُوا لَهُمْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ أَسَالِيبَ وَخُصُوصِيَّاتٍ: أَحَدُهَا: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى قِيَاسِهِمْ أَصْنَامَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لَهَا قِيَاسًا فَاسِدًا لِانْتِفَاءِ الْجِهَةِ الْجَامِعَةِ فَكَيْفَ يُسَوَّى مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَنْ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. ثَانِيهَا: تَبْهِيلُهُمْ فِي جَعْلِهِمْ أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا آلِهَةً. ثَالِثُهَا: إِبْطَالُ كَوْنِ أَصْنَامِهِمْ آلِهَة بِأَن الله لَا يَعْلَمَهَا آلِهَةً، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنَ انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا.

[سورة الرعد (13) : آية 34]

رَابِعُهَا: أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ آلِهَةً مُجَرَّدُ كَلَامٍ لَا انْطِبَاقَ لَهُ مَعَ الْوَاقِعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ. خَامِسُهَا: أَنَّ ذَلِكَ تَمْوِيهٌ بَاطِلٌ رَوَّجَهُ فِيهِمْ دُعَاةُ الْكُفْرِ، وَهُوَ مَعْنَى تَسْمِيَتِهِ مَكْرًا فِي قَوْلِهِ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ. سَادِسُهَا: أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى. وَعَطْفُ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- فَهُوَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَضْمُونِ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ: فَالْأَوْلَى بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ مَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ فَاعِلَيْنِ لِلصَّدِّ بَعْدَ أَنِ انْفَعَلُوا بِالْكُفْرِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَصُدُّوا- بِضَمِّ الصَّادِ- فَهُوَ كَجُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي كَوْنِ مَضْمُونِ كِلْتَيْهِمَا جَعْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولًا لِلتَّزْيِينِ وَالصَّدِّ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تَذْيِيلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَابْنِ كَثِيرٍ فِي إِثْبَاتِ يَاءِ هادٍ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فِي هَذِه السُّورَة [7] . [34] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 34] لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرَّعْد: 33] لِأَن هَذَا التبديد يومىء إِلَى وَعِيدٍ يُسْأَلُ عَنْهُ السَّامِعُ. وَفِيهِ تَكْمِلَةٌ لِلْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ مَعَ زِيَادَةِ الْوَعِيدِ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَتَنْكِيرُ عَذابٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ وَالْخِزْيِ وَالْأَسْرِ. وَإِضَافَةُ عَذابٌ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى فِي.

[سورة الرعد (13) : آية 35]

وَ (مِنَ) الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَعْدِيَةِ واقٍ. وَ (مِنَ) الدَّاخِلَةُ عَلَى واقٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَالْوَاقِي: الْحَائِلُ دُونَ الضُّرِّ. وَالْوِقَايَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ عَذَابِهِ بِقَرِينَةِ مَا ذكر قبله. [35] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 35] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَرْتَبِطُ بُقُولِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ [سُورَة الرَّعْد: 29] . ذُكِرَ هُنَا بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ ضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ [الرَّعْد: 34] . وَالْمَثَلُ: هُنَا الصِّفَةُ الْعَجِيبَةُ، قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ مَعَانِي الْمَثَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْل: 60] ، وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي هُوَ الشَّبِيهُ فِي حَالَةٍ عَجِيبَةٍ أُطْلِقَ عَلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ غَيْرِ الشَّبِيهَةِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِالتَّشْبِيهِ بِهَا. وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خَبَرٌ عَنْ مَثَلُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَهِيَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُضَافِ لِشِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: صِفَةُ زَيْدِ أَسْمَرُ. وَجُمْلَةُ أُكُلُها دائِمٌ خَبَرٌ ثَانٍ، وَالْأُكُلُ بِالضَّمِّ: الْمَأْكُولُ، وَتَقَدَّمَ. وَدَوَامُ الظِّلِّ كِنَايَةٌ عَنِ الْتِفَافِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ لَا فَرَاغَ بَيْنِهَا تَنْفُذُ مِنْهُ الشَّمْسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [سُورَة النبأ: 16] ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَامِدِ الْجَنَّاتِ وَمَلَاذِّهَا. وَجُمْلَةُ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا مُسْتَأْنَفَةٌ.

[سورة الرعد (13) : آية 36]

وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَنَّةِ بِصِفَاتِهَا بِحَيْثُ صَارَتْ كَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمَعْنَى: تِلْكَ هِيَ الَّتِي سَمِعْتُمْ أَنَّهَا عُقْبَى الدَّارِ لِلَّذِينِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إِلَى قَوْله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: 24] هِيَ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّقْوَى الْإِيمَانُ. وَجُمْلَةُ وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْمُنَاسَبَةِ بِالْمُضَادَّةِ. وَهِيَ كَالْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. [36] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 36] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ. الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى فَضْلٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُسْنِ تَلَقِّيهِمْ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [سُورَة الرَّعْد: 30] إِلَخَّ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبِهَا فِي التَّعْقِيبِ بِجُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ [سُورَة الرَّعْد: 36] . وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ انْقَسَمُوا فِي التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ فِرَقًا فَفَرِيقٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَفَرِيقٌ كَفَرُوا بِهِ وَهُمْ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [سُورَة الرَّعْد: 30] ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَفْهُومِينَ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ. وَهَذَا فَرِيقٌ آخَرُ أَيْضًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ أَيْضًا فِي تَلَقِّي الْقُرْآنِ فِرْقَتَيْنِ: فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ صَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَفَرِحُوا بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [83] ، وَكُلُّهُمْ مِنَ النَّصَارَى مِثْلَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ أَيَّامَ مَقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْيَهُودَ

كَانُوا قَدْ سُرُّوا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَرَبِ فَكَانَ الْيَهُودُ يَسْتَظْهِرُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة الْبَقَرَة: 89] . وَكَانَ النَّصَارَى يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَفَرِيقٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمُ الْفَرَحُ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ مُعْظَمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْبُعَدَاءُ عَنْ مَكَّةَ وَمَا كَفَرَ الْفَرِيقَانِ بِهِ إِلَّا حِينَ عَلِمُوا أَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَظْهَرُ بَلَاغَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِ يَفْرَحُونَ دُونَ يُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا سَلَكْنَا هَذَا الْوَجْهَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَبَعْضُ نَصَارَى نَجْرَانَ وَبَعْضُ نَصَارَى الْيَمَنِ، فَإِنْ كَانَت السُّورَة مَدِينَة أَوْ كَانَ هَذَا مِنَ الْمَدَنِيِّ فَلَا إِشْكَالَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الَّذِينَ أُوتُوهُ إِيتَاءً كَامِلًا، وَهُوَ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَعَنِ الْحَسَدِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سُورَة الْبَقَرَة: 121] . فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْزَابِ أَحْزَابُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [37] ، أَيْ وَمِنْ أَحْزَابِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْقُرْآنِ، فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ هُمْ خُبَثَاؤُهُمْ وَدُهَاتُهُمُ الَّذِينَ تَوَسَّمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبْطِلُ شَرَائِعَهُمْ فَأَنْكَرُوا بَعْضَهُ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنِ الْإِيمَاءِ إِلَى ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ أُصُولِ عَقَائِدِهِمْ مِثْلَ عُبُودِيَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصَارَى، وَنُبُوءَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِ. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْأَحْزَابِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَحَزِّبُونَ الْمُتَصَلِّبُونَ لِقَوْمِهِمْ وَلِمَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَهَكَذَا كَانَتْ حَالَةُ اضْطِرَابِ أهل الْكتاب عِنْد مَا دَمْغَتْهُمْ بَعْثَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ يَفْشُو.

قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْلِنَ لِلْفَرِيقَيْنِ بِأَنَّهُ مَا أُمِرَ إِلَّا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [سُورَة آل عمرَان: 64] ، فَمَنْ فَرِحَ بِالْقُرْآنِ فَلْيَزْدَدْ فَرَحًا وَمَنْ أَنْكَرَ بَعْضَهُ فَلْيَأْخُذْ بِمَا لَا يُنْكِرُهُ وَهُوَ عَدَمُ الْإِشْرَاكِ. وَقَدْ كَانَ النَّصَارَى يتبرؤون مِنَ الشِّرْكِ وَيَعُدُّونَ اعْتِقَادَ بُنُوَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرَ شِرْكٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ وَاسْتِنْزَالِ طَائِرِ نَفْسِهِ كَيْلَا يَنْفِرَ مِنَ النَّظَرِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ بَعْدَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ وَأَنَّهَا جَوَابٌ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَأَفَادَتْ إِنَّما أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ، أَيْ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ. وَلَمَّا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَجْمُوعَ شَيْئَيْنِ: عِبَادَةَ اللَّهِ، وَعَدَمَ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي ذَلِكَ آلَ الْمَعْنَى: أَنِّي مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ. وَمِنْ بَلَاغَةِ الْجَدَلِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ بَلْ أَتَى بِهِ مُتَدَرِّجًا فِيهِ فَقَالَ: أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ وَلا أُشْرِكَ بِهِ لِإِبْطَالِ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَلِلتَّعْرِيضِ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ ادِّعَاءَ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَؤُولُ إِلَى الْإِشْرَاكِ. وَجُمْلَة إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، أَيْ أَنْ أَعْبُدَهُ وَأَنْ أَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمُرَ بِذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ اسْتُفِيدَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ.

[سورة الرعد (13) : آية 37]

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ أَدْعُو، أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَئَابِي، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُرْجِعُونَ فِي مُهِمَّهُمْ إِلَى الْأَصْنَامِ يَسْتَنْصِرُونَهَا وَيَسْتَغِيثُونَهَا، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ هَذَا مَا يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِذْ هُوَ مِمَّا كَانُوا فِيهِ سَوَاءً مَعَ الْإِسْلَامِ. عَلَى أَنَّ قَوْله: وَإِلَيْهِ مَآبِ يَعُمُّ الرُّجُوعَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْبَعْثُ. وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْوِفَاقِ فِي أَصْلِ الدِّينِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلّم من مآبي كَحَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرَّعْد: 30] ، وَقَدْ مضى قَرِيبا. [37] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 37] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) اعْتِرَاضٌ وَعَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرَّعْد: 36] لَمَّا ذَكَرَ حَالُ تَلَقِّي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِلْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَرَّجَ عَلَى حَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِسُوءِ تَلَقِّي مُشْرِكِيهِ لَهُ مَعَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِحُسْنِ تَلَقِّيهِ إِذْ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَتَنْوِيرُ عُقُولِهِمْ. وَقَدْ جُعِلَ أَهَمَّ هَذَا الْغَرَضِ التَّنْوِيهُ بِعُلُوِّ شَأْنِ الْقُرْآنِ لَفْظًا معنى. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ. وَالْقَوْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [سُورَة الرَّعْد: 30] . وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي قَوْله: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.

وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ نَائِبٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا كَذَلِكَ الْإِنْزَالُ. وحُكْماً عَرَبِيًّا حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ أَنْزَلْناهُ. وَالْحُكْمُ: هُنَا بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [سُورَة مَرْيَم: 12] . وَجُعِلَ نَفْسُ الْحُكْمِ حَالًا مِنْهُ مُبَالَغَةً. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ ذُو حُكْمٍ، أَيْ حِكْمَةٍ. وَالْحِكْمَةُ تَقَدَّمَتْ. وعَرَبِيًّا حَالٌ ثَانِيَةٌ وَلَيْسَ صِفَةً لِ حُكْماً إِذِ الْحِكْمَةُ لَا تُوصَفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَمِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ حِكْمَةٌ مُعَبَّرٌ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْمَلُهَا وَأَسْهَلُهَا، وَفِي ذَلِكَ إِعْجَازُهُ. فَحَصَلَ لِهَذَا الْكِتَابِ كِمَالَانِ: كَمَالٌ مِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ وَمَقَاصِدِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ حُكْمًا، وَكَمَالٌ مِنْ جِهَةِ أَلْفَاظِهِ وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ كِتَابٌ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ أَشْرَفُ الْمَعْقُولَاتِ فَيُنَاسِبُ شَرَفَهَا أَنْ يَكُونَ إِبْلَاغُهَا بِأَشْرَفِ لُغَةٍ وَأَصْلَحِهَا لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْحِكْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سُورَة الشُّعَرَاء: 192- 195] . ثُمَّ فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا امْتِنَانٌ عَلَى الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ وَبِأَنَّ فِي ذَلِكَ حُسْنَ سُمْعَتِهِمْ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَفْنِ رَأْيِ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 10] . قَالَ مَالِكٌ: فِيهِ بَقَاءُ ذِكْرِكُمْ. وَجُمْلَةُ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مُعْتَرِضَةٌ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقِسْمِ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَهْواءَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ. وَاتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ يَحْتَمِلُ السَّعْيَ لِإِجَابَةِ طَلَبَتِهِمْ إِنْزَالَ آيَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهُ إِجَابَتَهُمْ لِمَا طَلَبُوهُ كَمَا قَالَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام- فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.

[سورة الرعد (13) : الآيات 38 إلى 39]

وَمَعْنَى مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا بَلَغَكَ وَعُلِّمْتَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْقُرْآنُ تَنْوِيهًا بِهِ، أَيْ لَئِنْ شَايَعْتَهُمْ فسألتنا آيَة ير الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ نُزِّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، أَوْ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمْنَاكَ أَنَّا غَيْرُ مُتَنَازِلِينَ لِإِجَابَةِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ فَإِنَّ دِينَهُمْ أَهْوَاءٌ وَيكون مَا صدق مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَالْوَلِيُّ: النَّصِيرُ. وَالْوَاقِي: الْمُدَافِعُ. وَجُعِلَ نَفْيُ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ كِنَايَةً عَنِ الْجَوَابِ، وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعُقُوبَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَرْكَنُوا إِلَى تَمْوِيهَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى دِينِهِمْ تَهْيِيجًا لِتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سُورَة الزمر: 65] ، وَتَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي مَجِيءِ آيَةٍ تُوَافِقُ مُقْتَرَحَاتِهِمْ. ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ تَتَعَلَّقُ بِ وَلِيٍّ وواقٍ. ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَلِيٍّ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَابْنِ كَثِيرٍ فِي حَذْفِهِمْ يَاءَ واقٍ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَإِثْبَاتِ ابْنِ كَثِيرٍ الْيَاءَ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فِي هَذِهِ السُّورَة [الرَّعْد: 7] . [38، 39] [سُورَة الرَّعْد (13) : الْآيَات 38 الى 39] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. هَذَا عَوْدٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِهِمْ آيَةَ الْقُرْآنِ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِآيَةٍ مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ تُمَاثِلُ مَا يُؤْثَرُ مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَآيَاتِ عِيسَى-

عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِبَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْتِي بِآيَاتٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَرَحَاتِ الْأَقْوَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرَّعْد: 37] . وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الرَّدِّ إِزَالَةُ شُبْهَةٍ قَدْ تَعْرِضُ أَوْ قَدْ عَرَضَتْ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فَيَطْعَنُونَ أَوْ طعنوا فِي نبوءة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَأَنَّ شَأْنَ النَّبِيءِ أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِالنِّسَاءِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَقِيلَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَتْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ اه. فَتَعَيَّنَ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْقَائِلِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ حَدِيثٌ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا كَانَ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَازِلًا عَلَى سَبَبٍ. وَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ ثُمَّ سَوْدَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي مَكَّةَ فَاحْتَمَلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا قَالَةَ إِنْكَارٍ تَعَلُّقًا بِأَوْهَنِ أَسْبَابِ الطَّعْنِ فِي النُّبُوءَةِ. وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَعْرِضُ لِلسُّذَّجِ أَوْ لِأَصْحَابِ التَّمْوِيهِ، وَقَدْ يُمَوِّهُ بِهَا الْمُبَشِّرُونَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ فَيُفَضِّلُونَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَتَزَوَّجِ النِّسَاءَ. وَهَذَا لَا يَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ بَعْضُ الْحُظُوظِ الْمُبَاحَةِ لَا تَقْتَضِي تَفْضِيلًا. وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي كُلِّ عَمَلٍ بِمَقَادِيرِ الْكِمَالَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- امْرَأَةً. وَقَدْ كَانَ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَصُورًا فَلَعَلَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ كَانَ مِثْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَبِمَا لَمْ يُكَلِّفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: وَحَصُوراً فَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْهُ أَنَّهُ فَضِيلَةٌ وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَ أَبَاهُ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ لِيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ فَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرَامَةً لَهُ، ثُمَّ قَدَّرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ إِنْفَاذًا لِتَقْدِيرِهِ فَجَعَلَ امْرَأَتَهُ عَاقِرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَدْ

كَانَ لِأَكْثَرِ الرُّسُلِ أَزْوَاجٌ وَلِأَكْثَرِهِمْ ذَرِّيَّةٌ مِثْلَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. وَالْأَزْوَاجُ: جَمَعُ زَوْجٍ، وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الرُّسُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلَ: نُوحٍ وَلُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَعْضِ عِدَّةُ زَوْجَاتٍ مِثْلَ: إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الرَّدِّ هُوَ عَدَمُ مُنَافَاةِ اتِّخَاذِ الزَّوْجَةِ لِصِفَةِ الرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى تَعْدَادِ بَعْضِهِمْ زَوْجَاتٍ كَثِيرَةً. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] . وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَجُمْلَةُ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هِيَ الْمَقْصُودُ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ. وَتَرْكِيبُ مَا كانَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [116] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَكَ شَأْنُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ لَا يَأْتُونَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ. وَإِذْنُ اللَّهِ: هُوَ إِذْنُ التَّكْوِينِ لِلْآيَاتِ وَإِعْلَامُ الرَّسُولِ بِأَنْ سَتَكُونُ آيَةً، فَاسْتُعِيرَ الْإِتْيَانُ لِلْإِظْهَارِ، وَاسْتُعِيرَ الْإِذْنُ لِلْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ.

لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) . تَذْيِيلٌ لِأَنَّهُ أَفَادَ عُمُومَ الْآجَالِ فَشَمِلَ أَجَلَ الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِتَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ تَأَخُّرَ الْوَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِدْقِهِ. وَهَذَا يُنْظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [سُورَة العنكبوت: 53] فَقَدَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الْآيَة [سُورَة الْأَنْفَال: 32] . وَإِذْ قَدْ كَانَ مَا سَأَلُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ وَكَانَ مَا وَعَدُوهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرِّسَالَةِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا أَنَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُصُولِهِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ آجَالًا أَرَادَهَا اللَّهُ وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ وَشُؤُونِهِمْ وَلَكِنَّ الْجَهَلَةَ يَقِيسُونَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا تَجْرِي بِهِ تَصَرُّفَاتُ الْخَلَائِقِ. وَالْأَجَلُ: الْوَقْتُ الْمُوَقَّتُ بِهِ عَمَلٌ مَعْزُومٌ أَوْ مَوْعُودٌ. وَالْكِتَابُ: الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْدِيدِ وَالضَّبْطِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ تَحَقُّقُهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يُخَالَفَ عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا الرَّدِّ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ وَاقِعٍ أَجَلٌ يَقَعُ عِنْدَهُ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، أَيْ تَعْيِينٌ وَتَحْدِيدٌ لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنهُ. وَجُمْلَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْوَعِيدَ كَائِنٌ وَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ مُزِيلًا لَهُ. وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ تَأْيِيسٌ لِلنَّاسِ عَقَّبَ بِالْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَبِإِحْلَالِ الرَّجَاءِ مَحَلَّ الْيَأْسِ، فَجَاءَت جملَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ احْتِرَاسًا. وَحَقِيقَةُ الْمَحْوِ: إِزَالَةُ شَيْءٍ، وَكَثُرَ فِي إِزَالَةِ الْخَطِّ أَوِ الصُّورَةِ، وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ

مُبْصِرَةً [سُورَة الْإِسْرَاء: 12] . وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ وَتَبْدِيلِ الْمَعَانِي كَالْأَخْبَارِ وَالتَّكَالِيفِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّ لَهَا نَسَبًا وَمَفَاهِيمَ إِذَا صَادَفَتْ مَا فِي الْوَاقِعِ كَانَتْ مُطَابَقَتُهَا إِثْبَاتًا لَهَا وَإِذَا لَمْ تَطَابِقْهُ كَانَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا مَحْوًا لِأَنَّهُ إِزَالَة لمدلولاتها. والتثبت: حَقِيقَتُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا قَارًّا فِي مَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [سُورَة الْأَنْفَال: 45] . وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى أَضْدَادِ مَعَانِي الْمَحْوِ الْمَذْكُورَةِ. فَيَنْدَرِجُ فِي مَا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ عِدَّةُ مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّهُ يُعْدِمُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَيُبْقِي مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيَعْفُو عَمَّا يَشَاءُ مِنَ الْوَعِيدِ وَيُقْرِرُ، وَيَنْسَخُ مَا يَشَاءُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَيُبْقِي مَا يَشَاءُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَظَاهِرٌ لِتَصَرُّفِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ تَعَلُّقَاتُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَا فِي عِلْمِهِ لَا يَتَغَيَّرُ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْجَدَ شَيْئًا كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ سَيُوجِدُهُ، وَإِذَا أَزَالَ شَيْئًا كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ سَيُزِيلُهُ وَعَالِمًا بِوَقْتِ ذَلِكَ. وَأُبْهِمُ الْمَمْحُوُّ وَالْمُثَبَّتُ بِقَوْلِهِ: مَا يَشاءُ لِتَتَوَجَّهَ الْأَفْهَامُ إِلَى تَعَرُّفِ ذَلِكَ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ لِأَن تَحت ذَا الْمَوْصُولِ صُوَرًا لَا تُحْصَى، وَأَسْبَابُ الْمَشِيئَةِ لَا تُحْصَى. وَمِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحْوَ الْوَعِيدِ أَنْ يُلْهِمَ الْمُذْنِبِينَ التَّوْبَةَ وَالْإِقْلَاعَ وَيَخْلُقَ فِي قُلُوبِهِمْ دَاعِيَةَ الِامْتِثَالِ. وَمِنْ مَشِيئَةِ التَّثْبِيتِ أَنْ يَصْرِفَ قُلُوبَ قَوْمٍ عَنِ النَّظَرِ فِي تَدَارُكِ أُمُورِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَكْسِ مِنْ تَثْبِيتِ الْخَيْرِ وَمَحْوِهِ. وَمِنْ آثَارِ الْمَحْوِ تَغَيُّرُ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَشْخَاصِ، فَبَيْنَمَا تَرَى الْمُحَارِبَ مَبْحُوثًا عَنْهُ مَطْلُوبًا لِلْأَخْذِ فَإِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ الطَّلَبُ، وَكَذَلِكَ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا آمَنُوا وَدَخَلُوا تَحْتَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي ظُهُورِ آثَارِ رِضَى اللَّهِ أَوْ غَضَبِهِ عَلَى الْعَبْدِ فَبَيْنَمَا تَرَى

أَحَدًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ مَضْرُوبًا عَلَيْهِ الْمَذَلَّةُ لِانْغِمَاسِهِ فِي الْمَعَاصِي إِذَا بِكَ تَرَاهُ قَدْ أَقْلَعَ وَتَابَ فَأَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ. وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ أَيْضًا تَقْلِيبُ الْقُلُوبِ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الْبَغْضَاءَ مَحَبَّةً، كَمَا قَالَتْ هِنْدُ بنت عتبَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ: «مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُذِلِّوُا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ أَصْبَحْتُ وَمَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ» . وَقَدْ مَحَا اللَّهُ وَعِيدَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرَفَعَ عَنْهُمُ السَّيْفَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا مُسْلِمِينَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِئْصَالِهِمْ حِينَ دُخُولِهِ مَكَّةَ فَاتِحًا. وَبِهَذَا يَتَحَصَّلُ أَنَّ لَفْظَ مَا يَشاءُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ بِالْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، وَذَلِكَ لَا تَصِلُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ مَا يُبَيِّنُهُ إِلَّا الْقَلِيلُ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي صِحَّةِ أَسَانِيدِهِ. وَمِنَ الصَّحِيحِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» . وَالَّذِي يَلُوحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُ مَحْوًا، فَهُوَ ثَابِتٌ وَهُوَ قَسِيمٌ لِمَا يَشَاءُ اللَّهُ مَحْوَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ هُوَ عَيْنُ مَا يَشَاءُ اللَّهُ مَحْوَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ سَوَاءً كَانَ تَعْيِينًا بِالْأَشْخَاصِ أَوْ بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْأَنْوَاعِ وَسَوَاءً كَانَتِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الذَّوَاتِ أَوْ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أَفَادَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ مُرَادًا بِهِ الْكُتَّابُ الَّذِي كُتِبَتْ بِهِ الْآجَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، وَأَنَّ الْمَحْوَ فِي غَيْرِ الْآجَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُمُّ الْكِتَابِ مُرَادًا بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يَمْحُو وَيُثْبِتُ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيُمْحَى أَوْ يُثْبَتُ. وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَالْمَوْتَ» . وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ . وَرُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا أَشْيَاءَ الْخَلْقَ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَالْخُلُقَ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ- وَالْأَجَلَ وَالرِّزْقَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ لَا يَتَبَدَّلَانِ خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيِّ. وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ يَقْبَلَانِ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ. فَإِذَا حُمِلَ الْمَحْوُ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْإِزَالَةِ، وَحُمِلَ الْإِثْبَاتُ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْإِبْقَاءِ، وَإِذَا حُمِلَ مَعْنَى أُمُّ الْكِتابِ عَلَى مَعْنَى مَا لَا يَقْبَلُ إِزَالَةَ مَا قُرِّرَ أَنَّهُ حَاصِلٌ أَوْ أَنَّهُ مَوْعُودٌ بِهِ وَلَا يَقْبَلُ إِثْبَاتَ مَا قُرِّرَ انْتِفَاؤُهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارُ وَالْأَحْكَامُ، كَانَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَسِيمًا لِمَا يُمْحَى وَيُثْبَتُ. وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ مَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ مَعْلُومٌ لَا يَتَغَيَّرُ عِلْمُ اللَّهِ بِهِ كَانَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَنْبِيهًا على أَن التغييرات الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى الْأَخْبَارِ مَا هِيَ إِلَّا تغييرات مُقَرَّرَةٌ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِيجَادِهَا أَوْ عَنْ إِعْدَامِهَا مُظْهِرًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي وَقْتٍ مَا. وأُمُّ الْكِتابِ لَا مَحَالَةَ شَيْءٌ مُضَافٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. فَإِنَّ طَرِيقَةَ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ أَنْ تَكُونَ

الْمُعَادَةُ عَيْنَ الْأُولَى بِأَنْ يُجْعَلَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيْ وَعِنْدَهُ أُمُّ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَهُوَ كِتَابُ الْأَجَلِ. فَكَلِمَةُ أُمُّ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِيمَا يُشْبِهُ الْأُمَّ فِي كَوْنِهَا أَصْلًا لِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ أُمُّ لِأَنَّ الْأُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْمَوْلُودُ فَكَثُرَ إِطْلَاقُ أُمِّ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِهِ، فَالْأُمُّ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَا هُوَ أَصْلٌ لِلْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ مَظَاهِرَ قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، أَيْ لِمَا مَحْوُ وَإِثْبَاتُ الْمَشِيئَاتِ مَظَاهِرُ لَهُ وَصَادِرَةٌ عَنْهُ، فَأُمُّ الْكِتَابِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَيُرِيدُ مَحْوَهُ وَمَا سَيُرِيدُ إِثْبَاتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الِاسْتِئْثَارِ بِالْعِلْمِ وَمَا يَتَصَرَّفُ عَنْهُ، أَيْ وَفِي مِلْكِهِ وَعِلْمِهِ أُمُّ الْكِتَابِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. وَلَكِنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ مَظَاهِرَهَا دُونَ اطِّلَاعٍ عَلَى مَدَى ثَبَاتِ تِلْكَ الْمَظَاهِرِ وَزَوَالِهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ الْمُتَصَرِّفُ بِتَعْيِينِ الْآجَالِ وَالْمَوَاقِيتِ فَجَعَلَ لِكُلِّ أَجَلٍ حَدًّا مُعِينًا، فَيَكُونُ أَصْلُ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَعْنَى كُلِّهِ وَقَاعِدَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ أُمُّ أَصْلُ مَا يُكْتَبُ، أَيْ يُقَدَّرُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْحَوَادِثِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ، أَيْ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَفِي الْآثَارِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَعِنْدَهُ ثَابِتُ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا غَيْرِ مُتَغَيِّرَةٍ. وَالْعِنْدِيَّةُ عَلَى هَذَا عِنْدِيَّةُ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ الْعِلْمُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فِيمَا يُبَلِّغُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا سَتَكُونُ عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُؤْمِنُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ فَلَا يَفْجَؤُهُ حَادِثٌ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ نَسْخَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَهُوَ يُشَرِّعُهَا لِمَصَالِحَ ثُمَّ يَنْسَخُهَا لِزَوَالِ أَسْبَابِ شَرْعِهَا وَهُوَ فِي حَالِ شَرْعِهَا يعلم أَنَّهَا آئلة إِلَى أَنْ تُنْسَخَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيُثْبِتُ- بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ- مِنْ ثَبَّتَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ

[سورة الرعد (13) : آية 40]

ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ وَيُثْبِتُ- بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيف الْمُوَحدَة-. [40] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 40] وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) عُطِفَ على جملَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرَّعْد: 39] بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مِنْ إِبْهَامِ مُرَادِ اللَّهِ فِي آجَالِ الْوَعِيدِ وَمَوَاقِيتِ إِنْزَالِ الْآيَاتِ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِالِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ وَلَا بِتَرَقُّبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُحَاسِبُ بِهِ عِبَادَهُ سَوَاءٌ شَهِدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْهَدْهُ. وَجَعَلَ التَّوَفِّيَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ حُلُولِ الْوَعِيدِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بُقُولِهِ: نُرِيَنَّكَ. وَالْمَعْنَى: مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ سَوَاءً رَأَيْتَ عَذَابَهُمْ أَمْ لَمْ تَرَهُ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ بَعْضَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَرَى الْبَعْضَ. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ نَازِلٌ بِهِمْ وَلَوْ تَأَخَّرَ وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَعِيدُ الَّذِي أَمَرَ بِإِبْلَاغِهِ وَاقِعًا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جَاءَ وَعِيدُ الْكَافِرِينَ بِهِ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا بَعْدَهُ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ لَا تَكُونُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِأَشَدَّ مِنَ الْمَقْصِدِ الْمَقْصُودَةِ لِأَجْلِهِ. وَتَأْكِيدُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمَا الْمَزِيدَةِ بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الرَّبْطِ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهُوَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ. عَلَى أَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِعْلُ الشَّرْطِ إِلَّا إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ فَتَكُونُ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ مُقْتَضِيَةً لِاجْتِلَابِ مُؤَكِّدَيْنِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِغَرَضِ تَأْكِيدٍ قَوِيٍّ.

[سورة الرعد (13) : آية 41]

وَقَدْ أرى الله نبيئه بَعْضَ مَا تَوَّعَدَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْهَلَاكِ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَغَيْرَهَا مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ فِي حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُرِهِ بَعْضَهُ مِثْلَ عَذَابِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَإِنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُبْطِنِينَ الْكُفْرَ مِثْلَ: مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَابٌ قَاصِرٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَا يُصِيبُ غَيْرَ الْمُكَذِّبِ لِأَنَّهُ اسْتِئْصَالٌ بِالسَّيْفِ قَابِلٌ لِلتَّجْزِئَةِ وَاخْتِلَافُ الْأَزْمَانِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ حَقِيقَةٌ وَفِي الثَّانِي مُجَازٌ فِي الْوُجُوبِ لِلَّهِ بِالْتِزَامِهِ بِهِ. وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَالْمَحْصُورُ فِيهِ هُوَ الْبَلَاغُ لِأَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ فِي الذِّكْرِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَدْخُولَةِ لِحَرْفِ الْحَصْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لَا غَيْرُهُ مِنْ إِنْزَالِ الْآيَاتِ أَوْ مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِتَعْيِينِ الْمَحْصُورِ فِيهِ. وَجُمْلَةُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَلَيْكَ الْبَلاغُ فَهِيَ مَدْخُولَةٌ فِي الْمَعْنَى لِحَرْفِ الْحَصْرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّمَا عَلَيْنَا الْحِسَابُ، أَيْ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ لَا غَيْرَ الْحِسَابِ مِنْ إِجَابَة مقترحاتهم. [41] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 41] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [الرَّعْد: 40] الْمُتَعَلِّقَةِ بِجُمْلَةِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِإِنْذَارِ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ مَلَامِحَ نَصْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَاحَتْ وَتَبَاشِيرُ ظَفَرِهِ قَدْ طَلَعَتْ لِيَتَدَبَّرُوا فِي

أَمْرِهِمْ، فَكَانَ تَعْقِيبُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْعِقَابَ بَطِيءٌ وَغَيْرُ وَاقِعٍ بِهِمْ. وَهِيَ أَيْضًا بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَّنَ اللَّهَ مُظْهِرُ نَصْرِهِ فِي حَيَاتِهِ وَقَدْ جَاءَتْ أَشْرَاطُهُ، فَهِيَ أَيْضًا احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَيْأَسَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رُؤْيَةِ نَصْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ مُتِمٌّ نُورَهُ بِهَذَا الدِّينِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا إِنْكَارِيٌّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ الْعَائِدُ إِلَيْهِمْ ضَمِيرُ نَعِدُهُمْ. وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى مَا دَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَشْبَاحِ الِاضْمِحْلَالِ بِإِنْقَاصِ الْأَرْضِ، أَيْ سُكَّانِهَا. وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً. وَالْمُرَادُ: رُؤْيَةُ آثَارِ ذَلِكَ النَّقْصِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً، أَي ألم يعملوا مَا حَلَّ بِأَرْضِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ نَقْصِ. وَتَعْرِيفُ الْأَرْضَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ نَأْتِي أَيَّةَ أَرْضٍ مِنْ أَرْضِي الْأُمَمِ. وَأُطْلِقَتِ الْأَرْضُ هُنَا عَلَى أَهْلِهَا مَجَازًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [سُورَة يُوسُف: 82] بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِ النَّقْصِ بِهَا، لِأَنَّ النَّقْصَ لَا يَكُونُ فِي ذَاتِ الْأَرْضِ وَلَا يُرَى نَقْصٌ فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَقَعُ فَيِمَنْ عَلَيْهَا. وَهَذَا من بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [سُورَة مُحَمَّد: 10] . وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَن المُرَاد ب الْأَرْضَ أَرْضُ الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ إيقاظا لَهُم لما غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَخَرَجَتْ مِنْ سُلْطَانِهِ فَتَنْقُصُ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ فِي تَصَرُّفِهِمْ وَتَزِيدُ الْأَرْضُ الْخَاضِعَةُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ فَرِيقًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سُورَةَ الرَّعْدِ مَدَنِيَّةٌ فَإِذَا اعْتُبِرَتْ مَدَنِيَّةً صَحَّ أَنْ تُفَسَّرَ الْأَطْرَافُ بِطَرَفَيْنِ وَهَمَا مَكَّةُ

وَالْمَدِينَةُ فَإِنَّهُمَا طَرَفَا بِلَادِ الْعَرَبِ، فَمَكَّةُ طَرَفُهَا مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ، وَالْمَدِينَةُ طَرَفُ الْبِلَادِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، وَلَمْ يَزَلْ عَدَدُ الْكُفَّارِ فِي الْبَلَدَيْنِ فِي انْتِقَاصٍ بِإِسْلَامِ كُفَّارِهَا إِلَى أَنْ تمحضت الْمَدِينَة لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ تَمَحَّضَتْ مَكَّةُ لَهُ بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ. وَأَيًّا مَا كَانَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ وَسَبَبُ نُزُولِهَا وَمَكَانُهُ فَهِيَ لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى زَوَالٍ وَأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ زَائِلُونَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 51] ، أَيْ مَا هُمُ الْغَالِبُونَ. وَهَذَا إِمْهَالٌ لَهُمْ وَإِعْذَارٌ لَعَلَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ أَمْرَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [سُورَة الرَّعْد: 41] عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا مُؤَكِّدَةً لِلْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَعِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِجُمْلَةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ثُمَّ بِجُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ ثُمَّ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَحْكُمُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ لَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ وَلَوْ تَأَخَّرَ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ الْمُقَيِّدَةُ لِلْفِعْلِ الْمُرَادِ إِذْ هِيَ مَصَبُّ الْكَلَامِ إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ إِذْ لَا يَكَادُ يَخْفَى، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَأَفَادَ نَفْيُ جِنْسِ الْمُعَقِّبِ انْتِفَاءَ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَقِّبًا مِنْ شَرِيكٍ أَوْ شَفِيعٍ أَوْ دَاعٍ أَوْ رَاغِبٍ أَوْ مُسْتَعْصِمٍ أَوْ مُفْتَدٍ. وَالْمُعَقِّبُ: الَّذِي يُعْقِبُ عَمَلًا فَيُبْطِلُهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ غَلَبَتْ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ [سُورَة الرَّعْد: 11] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ يَجِيءُ عَقِبَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ الْعَمَلَ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الِاسْمُ الْعَظِيمُ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ

[سورة الرعد (13) : آية 42]

وَالْوَحْدَانِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ عَدَمَ الْمُنَازِعِ، وَأَيْضًا لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَثَلِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّهُ يَحْكُمُ فَتَكُونُ دَلِيلًا رَابِعًا عَلَى أَنَّ وَعْدَهُ وَاقِعٌ وَأَنَّ تَأَخُّرَهُ وَإِنْ طَالَ فَمَا هُوَ إِلَّا سَرِيعٌ بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: يَحْكُمُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حُكْمُهُ وَسَرِيعًا حِسَابُهُ. وَمَآلُ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ. وَالْحِسَابُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ وَالسُّرْعَةُ: الْعَجَلَةُ، وَهِيَ فِي كُلِّ شَيْء بِحَسبِهِ. [42] [سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 42] وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [سُورَة الرَّعْد: 41] تَهْدِيدًا وَإِنْذَارًا مِثْلَ قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها [مُحَمَّد: 18] وَهُوَ إِنْذَارٌ بِوَعِيدٍ عَلَى تَظَاهُرِهِمْ بِطَلَبِ الْآيَاتِ وَهُمْ يُضْمِرُونَ التَّصْمِيمَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ. شُبِّهَ عَمَلُهُمْ بِالْمَكْرِ وَشُبِّهَ بِعَمَلِ الْمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ كَقَوْلِهِ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 6] . وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ كَعَاقِبَةِ الْأُمَمِ الَّتِي عَرَفُوهَا. فَنَقْصُ أَرْضِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَطْرَافِهَا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ كَمَا مَكَرَ هَؤُلَاءِ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ. وَجُمْلَةُ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: 41] وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرَّعْد: 41] .

وَالْمَعْنَى: مَكَرَ هَؤُلَاءِ وَمَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَحَلَّ الْعَذَابُ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ وَهُوَ يَمْكُرُ بِهَؤُلَاءِ مَكْرًا عَظِيمًا كَمَا مَكَرَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ مَكْرَهُ لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ فَمَكْرُ غَيْرِهِ كَلَا مَكْرٍ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمْ مَكْرًا بُقُولِهِ: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَأَكَّدَ مَدْلُولَ الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَكْرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي [سُورَةِ يُونُسَ: 4] . وَإِنَّمَا جُعِلَ جَمِيعُ الْمَكْرِ لِلَّهِ بِتَنْزِيلِ مَكْرِ غَيْرِهِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، فَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ ادِّعَائِيٌّ، وَالْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً تَنْزِيلِيٌّ. وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْ ظَاهِرِ الْكَسْبِ وَبَاطِنِهِ كَانَ مَكْرُهُ أَشَدَّ مِنْ مَكْرِ كُلِّ نَفْسٍ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِمَّا تُضْمِرُهُ النُّفُوسُ مِنَ الْمَكْرِ فَيَبْقَى بَعْضُ مَكْرِهِمْ دُونَ مُقَابَلَةٍ بِأَشَدَّ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَوِيَّ الشَّدِيدَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغُيُوبَ قَدْ يَكُونُ عِقَابُهُ أَشَدَّ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَفُوقُهُ الضَّعِيفُ بِحِيلَتِهِ. وَجُمْلَةُ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجِنْسُ، أَيِ الْكُفَّارُ، وعُقْبَى الدَّارِ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ سَيَعْلَمُ عُقْبَى الدَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلْكَافِرِينَ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ بِإِفْرَادِ الْكَافِرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَالْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ فِي الْمُعَرَّفِ بلام الْجِنْس.

[سورة الرعد (13) : آية 43]

[سُورَة الرَّعْد (13) : آيَة 43] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) عَطْفٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرَّعْد: 42] مِنْ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [سُورَة الْأَنْعَام: 37] ضَرْبٌ مِنَ الْمَكْرِ بِإِظْهَارِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ فِي شكّ من صدقه وهم يبطنون التصميم على التَّكْذِيب. فَذكرت هَذِه الْآيَة أَنهم قَدْ أَفْصَحُوا تَارَاتٍ بِمَا أَبْطَنُوهُ فَنَطَقُوا بِصَرِيحِ التَّكْذِيبِ وَخَرَجُوا مِنْ طَوْرِ الْمَكْرِ إِلَى طَوْرِ الْمُجَاهَرَةِ بِالْكُفْرِ فَقَالُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا. وَقَدْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِاسْتِحْضَارِ حَالِهِمْ الْعَجِيبَةِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا دَلَائِلَ الصِّدْقِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [سُورَة هود: 38] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [سُورَة هود: 11] . وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا صَرِيحَةً لَا مُوَارَبَةَ فِيهَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابٍ لَا جِدَالَ فِيهِ وَهُوَ تَحْكِيمُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَقَدْ أَمر الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- بِأَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابَ الْوَاثِقِ بِصِدْقِهِ الْمُسْتَشْهِدِ عَلَى ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ مِنْ إِشْهَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِشْهَادِ الْعَالِمِينَ بِالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَة للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- بِالصِّدْقِ شَهَادَةً عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَإِشْهَادُ اللَّهِ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ عَلَى الصِّدْقِ كَقَوْلِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] . وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ كَفى فِي الْمَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ

وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: كَفَى اللَّهُ. وشَهِيداً حَالٌ لَازِمَةٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، أَيْ كَفَى اللَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّاهِدِ. وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالْمَوْصُولُ فِي وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جِنْسُ مَنْ يَتَّصِفُ بِالصِّلَةِ. وَالْمَعْنَى: وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ لِمُرَاعَاةِ لَفْظِ مَنْ. وَتَعْرِيفُ الْكِتابِ تَعْرِيفٌ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، أَيْ وَشَهَادَةُ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَجِيءِ النَّبِيءِ الْمُصَدِّقِ لِلتَّوْرَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ مُعَيَّنًا، فَهُوَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ إِذْ عَلِمَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّهُ شَهِدَ بِأَنَّ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ فِي الصَّحِيحِ. وَكَانَ وَرَقَةُ مُنْفَرِدًا بِمَعْرِفَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقَدْ كَانَ خبر قَوْله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ قُرَيْشٍ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُنْحَصِرِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ الَّذِي آمَنَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ. وَيُبْعِدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَجْهُ شَهَادَةِ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِجْدَانُهُمُ الْبِشَارَةَ بِنَبِيءٍ خَاتَمٍ لِلرُّسُلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوِجْدَانُهُمْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقًا لِسُنَنِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَمُفَسِّرًا لِلرُّمُوزِ الْوَارِدَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَدَّقِ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ التَّعْبِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ تَطْبِيقَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا عُلَمَاؤُهُمْ. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 97] .

14- سورة إبراهيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 14- سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ أُضِيفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَى اسْمِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا غَيْرُهُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا فِي كَلَامِ أَصْحَابِهِ فِي خَبَرٍ مَقْبُولٍ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَرَى فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّورِ أَنَّهَا مِنَ السُّورِ ذَوَاتِ الر. وَقَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الَّتِي جَاءَتْ قِصَصُهُمْ فِيهَا، أَوْ إِلَى مَكَانِ بِعْثَةِ بَعْضِهِمْ وَهِيَ سُورَةُ الْحِجْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُضَفْ سُورَةُ الرَّعْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا متميزة بفاتحها بِزِيَادَةِ حَرْفِ مِيمٍ عَلَى أَلْفٍ وَلَامٍ وَرَاءٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ قَتَادَةَ إِلَّا آيَتَيْ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً- إِلَى قَوْلِهِ- وَبِئْسَ الْقَرارُ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 28] ، وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 30] . نَزَلَ ذَلِكَ فِي الْمُشْرِكِينَ فِي قَضِيَّةِ بَدْرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَوَهُّمًا كَمَا سَتَعْرِفُهُ. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّوَرُ بَعْدَ سُورَةِ الشُّورَى وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ عُدَّتِ السَبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ فِي النُّزُولِ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا أَرْبَعًا وَخمسين عِنْد الْمَدَنِيين، وخمسا وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ، وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَاثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ..

وَاشْتَمَلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ على أَنَّهَا ابتدئت بِالتَّنْبِيهِ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَبِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ لِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الضَّلَالَةِ. وَالِامْتِنَانِ بِأَنْ جَعَلَهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. وَتَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ وَوَعِيدِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وبمن أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَإِيقَاظِ الْمُعَانِدِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ. وَأَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا أَمْرٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِرِسَالَتِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ. وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِرِسَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى فِرْعَوْنَ لِإِصْلَاحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَذْكِيرِهِ قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ وَوُجُوبِ شُكْرِهَا وَمَوْعِظَتِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَمَنْ بَعْدِهِمْ وَمَا لَاقَتْهُ رُسُلُهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ. وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ مَصْنُوعَاتِهِ وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَتَحْذِيرِ الْكُفَّارِ مِنْ تَغْرِيرِ قَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ بِهِمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَان وَكَيف يتبرأون مِنْهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَوَصْفِ حَالِهِمْ وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ وَفَضْلِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَخُبْثِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ثُمَّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ قَوْمٍ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَأَوْقَعُوا مَنْ تَبِعَهُمْ فِي دَارِ الْبَوَارِ بِالْإِشْرَاكِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى مُقَابَلَتِهِ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَدِّ بَعْضِ نِعَمِهِ على النَّاس تَفْضِيلًا ثُمَّ جَمْعِهَا إِجْمَالًا.

[سورة إبراهيم (14) : آية 1]

ثُمَّ ذَكَّرَ الْفَرِيقَيْنِ بِحَالِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَعْلَمَ الْفَرِيقَانِ مَنْ هُوَ سَالِكٌ سَبِيلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ هُوَ نَاكِبٌ عَنْهُ مِنْ سَاكِنِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ. وَإِنْذَارِهِمْ أَن يحل بهم مَا حل بِالَّذِينِ ظَلَمُوا مِنْ قَبْلُ. وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَعْدِ النَّصْرِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثَالِ. وَخُتِمَتْ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 52] إِلَى آخرهَا. [1] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) الر. تقدم الْكَلَام عى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي سُورَةِ يُونُسَ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [سُورَة الْأَعْرَاف: 1- 2] عدا أَن هَذِهِ الْآيَةِ ذُكِرَ فِيهَا فَاعِلُ الْإِنْزَالِ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَادَّةِ الْإِنْزَالِ الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنْ قِبَلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَلِلْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ حَذْفِ الْفَاعِلِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ والإيجاز وَلكنه ذكر هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَمِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ الطمأنة والتصبير للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، فَكَانَ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الْمُنْزِلِ إِلَيْهِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ أَهَمَّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْإِيجَازِ.

أَمَّا التَّعَرُّضُ لِلْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ هُنَا فَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَلِيَجْعَلَ لَهُ حَظٌّ فِي هَذِهِ الْمِنَّةِ وَهُوَ حَظُّ الْوَسَاطَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ غَمِّ المعاندين والمبغضين للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ وَقَعَ إِظْهَارُ صِفَاتِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناهُ. وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ يُبَلِّغُ هَذَا الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَبْيِينِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ مَعَ التَّبْلِيغِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ بِتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ، ثُمَّ بِمَا يَبْنِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْبِشَارَةِ. وَإِذْ قَدْ أُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ. وَتَعْلِيلُ الْإِنْزَالِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، فَمَنِ اهْتَدَى فَبِإِرْشَادِ اللَّهِ وَمَنْ ضَلَّ فَبِإِيثَارِ الضال هوى نَفسه عَلَى دَلَائِلِ الْإِرْشَادِ، وَأَمْرُ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِحِكَمٍ وَمَصَالِحَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ. وَالْإِخْرَاجُ: مُسْتَعَارٌ لِلنَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. شَبَّهَ الِانْتِقَالَ بِالْخُرُوجِ فَشَبَّهَ النَّقْلَ بِالْإِخْرَاجِ. والظُّلُماتِ والنُّورِ اسْتِعَارَةٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ فِي حَيْرَةٍ فَهُوَ كَالظُّلْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ كَالنُّورِ فِي إِيضَاحِ السَّبِيلِ. وَقَدْ يَسْتَخْلِصُ السَّامِعُ مِنْ ذَلِكَ تَمْثِيلَ حَالِ الْمُنْغَمِسِ فِي الْكُفْرِ بِالْمُتَحَيِّرِ فِي ظُلْمَةٍ، وَحَالِ انْتِقَالِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِحَالِ الْخَارِجِ مِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى مَكَانٍ نَيِّرٍ.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 2 إلى 3]

وَجَمْعُ الظُّلُماتِ وَإِفْرَادُ النُّورِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [1] . وَالْبَاءُ فِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْإِذْنُ: الْأَمْرُ بِفِعْلٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْآمِرِ بِهِ، وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِذْنُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِرْسَالُ لِمَصْلَحَتِهِمْ أُضِيفَ الْإِذْنُ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسِ، أَيْ بِإِذْنِ الَّذِي يُدَبِّرُ مَصَالِحَهُمْ. وَقَوْلُهُ: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 1] بَدَلٌ مِنَ النُّورِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ اهتماما بِهِ، وتأكيد لِلْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [88] . وَمُنَاسَبَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَعَارِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، لِاسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ وَلِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ، ظَاهِرَةٌ. وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ مِنْ بَين الصِّفَات العلى لِمَزِيدِ مُنَاسَبَتِهَا لِلْمَقَامِ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ بِرِهَانٌ عَلَى أَحَقِّيَّةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ بِهِ غَالِبٌ لِلْمُخَالِفِينَ مُقِيمٌ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَالْحَمِيدُ: بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، لِأَنَّ فِي إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَظِيمَةً تُرْشِدُ إِلَى حَمْدِهِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْعَبَ الْوَصْفَانِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ كُلِّ مُنْسَاقٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَمِنْ مُجَادِلٍ صَائِرٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بَعْدَ قيام الْحجَّة ونفاد الْحِيلَةِ. [2، 3] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 2 الى 3] اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ (أَيِ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ) اللَّهُ الْمَوْصُوفُ

بِالَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الأَرْض. وَهَذَا الْحَذْفُ جَارٍ عَلَى حَذْفِ الْمسند إِلَيْهِ الْمُسَمّى عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي تَبَعًا لِلسَّكَّاكِيِّ بِالْحَذْفِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَيِ اسْتِعْمَال الْعَرَب عِنْد مَا يَجْرِي ذِكْرُ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَكْسِبَ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ تَقْرِيرًا لِلْغَرَضِ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ أَيْ هُوَ فَتًى مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ إِلَّا رُوَيْسًا عَنْ يَعْقُوبَ- بِالْجَرِّ- عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَكِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ تفِيد أَن الْمُنْتَقل إِلَيْهِ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَهُ، فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ لِأَنَّهُ عِلْمُ الذَّاتِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ مَوْجُودٌ فِي إِطْلَاقِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ الْمَنْقُولِ مِنْهُ إِلَى الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الرَّفْعَ أَقْوَى وَأَفْخَمُ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِالرَّفْعِ- إِذَا وُقِفَ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمِيدِ وَابْتُدِئَ بَاسِمِ اللَّهِ، فَإِذَا وُصِلَ الْحَمِيدِ بَاسِمِ اللَّهِ جُرَّ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُولِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّفْخِيمِ لَا لِلتَّعْرِيفِ، لِأَنَّ مَلِكَ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ وَاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِهَا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ صِرَاطَ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ طُرُقِ آلِهَتِهِمْ لَيْسَ بِوَاصِلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ ذَوِيهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ إِدْمَاجُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَا لَيْسَ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.

وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) لَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا صِرَاطَ غَيْرِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، أَيْ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ آلِهَةً أُخْرَى. وَجُمْلَةُ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ إِنْشَاءُ دُعَاءٍ عَلَيْهِمْ فِي مَقَامِ الْغَضَبِ وَالذَّمِّ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: وَيْحَكَ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وَوَيْلٌ مَصْدَرٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ، وَمَعْنَاهُ الْهَلَاكُ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْحَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ كَانَ اسْمَ مَصْدَرٍ وَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَصَادِرِ، يُنْصَبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَيُرْفَعُ لِإِفَادَةِ الثَّبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي رَفْعِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَيُقَالُ: وَيْلٌ لَكَ وَوَيْلُكَ، بِالْإِضَافَةِ. وَيُقَالُ: يَا وَيْلَكَ، بِالنِّدَاءِ. وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا التَّرْكِيبِ سَبَبُهُ فَيُؤْتَى بِهِ مَجْرُورًا بِحَرْفِ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، أَيْ هَلَاكًا يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُلَاقُونَهُ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَتَقَدَّمَ الْوَيْلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَالْكَافِرُونَ هُمُ الْمَعْهُودُونَ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَلَا اتَّبَعُوا صِرَاطَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَلَا انْتَفَعُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

وَ (يَسْتَحِبُّونَ) بِمَعْنَى يُحِبُّونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَقْدَمَ واستأخر. وَضُمِّنَ يَسْتَحِبُّونَ مَعْنَى يُؤْثِرُونَ، لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَعَدَّتْ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَقِبَ ذِكْرِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَهُمْ، فَأَنْبَأَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ خَيْرَ الدُّنْيَا دُونَ خَيْرِ الْآخِرَةِ إِذْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فِي شَقَاءٍ، فَنَشَأَ مِنْ هَذَا مَعْنَى الْإِيثَارِ، فَضَمَّنَهُ فَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ عَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ يُؤْثِرُونَهَا عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [45] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [99] ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ. وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنْعُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ. شَبَّهَ ذَلِكَ بِمَنْ يَمْنَعُ الْمَارَّ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَجُعِلَ الطَّرِيقُ طَرِيقَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَى مَرْضَاتِهِ فَكَأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَيْهِ، أَوْ يَصُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا مَوَاهِبَهُمْ وَمَدَارِكَهُمْ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُمْ صَدُّوهَا عَنِ السَّيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَ السَّبِيلَ الْعَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [سُورَة الْأَنْعَام: 153] . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 3] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الضَّلَالِ بِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَابْتِغَائِهِمْ سَبِيلَ الْبَاطِلِ، فَ أُولئِكَ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ وفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ عَنْهُ. وَدَلَّ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ مُحِيطٌ بِهِمْ فَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ. وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُمُ الضَّالُّونَ، أَيْ ضَلَالًا بَعُدُوا بِهِ عَنِ الْحَقِّ فَأُسْنِدَ الْبُعْدُ إِلَى سَبَبِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَصْفُهُ بِالْبُعْدِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّاسِعَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ رُجُوعُ سَالِكِهَا، أَيْ ضَلَالٍ قَوِيٍّ يَعْسُرُ إِقْلَاعُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. فَفِيهِ اسْتِبْعَادٌ

[سورة إبراهيم (14) : آية 4]

لِاهْتِدَاءِ أَمْثَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة الشورى: 18] وَقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سُورَة سبأ: 8] . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [116] . [4] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 4] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي ظَاهِرِهَا وَمُسَلَّطَةً عَلَى مُتَعَلِّقِي الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ كَانَ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: هَلَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سُورَة فُصِّلَتْ: 44] فَقَالَ: كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرَيِّ» هُنَالِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا ذَلِكَ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لُغَةَ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ مِنَ اللُّغَاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بِهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَكَانَ مِنْ جملَة مَا موّت لَهُمْ أَوْهَامُهُمْ أَنْ حَسِبُوا أَن للكتب بالإلهية لُغَةً خَاصَّةً تُنَزَّلُ بِهَا ثُمَّ تُفَسَّرُ لِلَّذِينِ لَا يَعْرِفُونَ تِلْكَ اللُّغَةَ. وَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاشٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ سِرَّ الْحَرْفِ وَالطَّلْسَمَاتِ يُمَوِّهُونَ بِأَنَّهَا لَا تكْتب إِلَّا بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُغَةُ الْمَلَائِكَةِ وَلُغَةُ الْأَرْوَاحِ. وَقَدْ زَعَمَ السِّرَاجُ الْبَلْقِينِيُّ: أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ يَكُونُ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ فَقَالَ: وِمِنْ عَجِيبِ مَا تَرَى الْعَيْنَانِ ... أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ بِالسُّرْيَانِي أَفْتَى بِهَذَا شَيْخُنَا الْبَلْقِينِي ... وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِي

وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَصِّرُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُتَهَوِّدُونَ مِنْهُمْ مِثْلَ عَرَبِ الْيَمَنِ تُتَرْجَمُ لَهُمْ بَعْضُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، فَاسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَطَاعِنِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ بِاللُّغَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ السَّالِفَةُ. فَصَارَتْ عَرَبِيَّتُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ وُجُوهِ الطَّعْنِ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ، فَالْقَصْرُ هُنَا لِرَدِّ كَلَامِهِمْ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ بِلِسَانٍ إِلَّا لِسَانِ قَوْمِهِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَا بِلِسَانِ قَوْمٍ آخَرِينَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ آيَةِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ بَيِّنُ الْمُنَاسَبَةِ. وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأَنْزَلْنَاهُ بِلُغَةِ قَوْمِكَ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَإِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ جَارِيَةً عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَلَمْ يَكُنْ رَدًّا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ يَكُنْ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسُوا بِعَرَبٍ لِعَدَمِ تَأَثُّرِهِمْ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنَاطُ الْقَصْرِ هُوَ مَا بَعْدَ لَامِ الْعِلَّةِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِتُبَيِّينَ لَهُمْ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ إِدْمَاجًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِ الْقَصْرُ أَوْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ لِيُبَيِّنَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ بِلِسَانِهِمْ، فَمَا لِقَوْمِكَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَهُوَ بِلِسَانِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ مُوقِعُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ وَمَا بِهِ التَّخَاطُبُ. أُطْلِقَ عَلَيْهَا اللِّسَانُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ بِهِ، مِثْلَ: سَالَ الْوَادِي. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، فَلُغَةُ قَوْمِهِ مُلَابِسَةٌ لِكَلَامِهِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ لِإِرْشَادِهِمْ.

وَالْقَوْمُ: الْأُمَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَقَوْمُ كُلِّ أَحَدٍ رَهْطُهُ الَّذِينَ جَمَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْمُ كُلِّ رَسُولٍ أُمَّتُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الْعَرَبُ، وَأَمَّا أُمَّتُهُ فَهُمُ الْأَقْوَامُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ وَهُمُ النَّاسُ كَافَّةً. وَإِنَّمَا كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَنَزَلَ الْكِتَابُ بِلُغَتِهِمْ لِتَعَذُّرِ نُزُولِهِ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَاخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يكون رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- مِنْ أُمَّةٍ هِيَ أَفْصَحُ الْأُمَمِ لِسَانًا، وَأَسْرَعُهُمْ أَفْهَامًا، وَأَلْمَعُهُمْ ذَكَاءً، وَأَحْسَنُهُمْ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي حَيَاتِهِ عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ عَمَّ الْإِسْلَامُ بِلَادَ الْعَرَبِ وَقَدْ حَجَّ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ. وَقِيلَ مِائَةُ أَلْفٍ وَهْمُ الرِّجَالُ الْمُسْتَطِيعُونَ. وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِمْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا أَصْلَحُ اللُّغَاتِ جَمْعَ مَعَانٍ، وَإِيجَازَ عِبَارَةٍ، وَسُهُولَةَ جَرْيٍ عَلَى الْأَلْسُنِ، وَسُرْعَةَ حِفْظٍ، وَجَمَالَ وَقْعٍ فِي الْأَسْمَاعِ، وَجُعِلَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ المتلقية للْكتاب بادىء ذِي بَدْءٍ، وَعُهِدَ إِلَيْهَا نَشْرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ. وَفِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ الْبَيَانَ كَانَتْ أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى التَّبْيِينِ مِنْ بَيْنِ لُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ هِيَ اللُّغَةُ الَّتِي هِيَ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْكِتَابُ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سُورَة الشُّعَرَاء: 195] . فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَطَاوِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهَا الرَّدُّ عَلَى طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا كِتَابٌ قَبْلَهُ اقْتَصَرَ فِي رَدِّ خَطَئِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُهِمُّهُمْ.

[سورة إبراهيم (14) : آية 5]

وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ الْخَ عَلَى مَجْمُوعِ جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فعل فَيُضِلُّ مَرْفُوعًا غَيْرَ مَنْصُوبٍ إِذْ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ لِيُبَيِّنَ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَا يَكُونُ مَعْلُولًا لِلتَّبْيِينِ وَلَكِنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْإِرْسَالِ الْمُعَلَّلِ بِالتَّبْيِينِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِرْسَالَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِحِكْمَةِ التَّبْيِينِ. وَقَدْ يَحْصُلُ أَثَرُ التَّبْيِينِ بِمَعُونَةِ الِاهْتِدَاءِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ أَثَرُهُ بِسَبَبِ ضَلَالِ الْمُبَيَّنِ لَهُمْ. وَالْإِضْلَالُ وَالْهُدَى مِنَ اللَّهِ بِمَا أَعَدَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْعَزِيزَ قَوِيٌّ لَا يَنْفَلِتُ شَيْءٌ مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ عَمَّا خُلِقَ لَهُ، وَالْحَكِيمُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَمَوْضِعُ الْإِرْسَال والتبيين أُتِي عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنَ الْإِرْشَادِ. وَمَوْقِعُ الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى هُوَ التَّكْوِينُ الْجَارِي عَلَى أَنْسَبِ حَالٍ بِأَحْوَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَالتَّبْيِينُ مِنْ مُقْتَضَى أَمْرِ التَّشْرِيعِ وَالْإِضْلَالِ مِنْ مُقْتَضَى أَمر التكوين. [5] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 5] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) لَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مَسُوقَةً لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ أَعْقَبَ الرَّدَّ بِالتَّمْثِيلِ بِالنَّظِيرِ وَهُوَ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمِثْلِ الْغَايَةِ الَّتِي أُرْسِلَ لَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْرِجَ قَوْمَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَتَأْكِيدُ الْإِخْبَارِ عَنْ إِرْسَالِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ

يُنْكِرُ رِسَالَةَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي ذَلِكَ التَّنْزِيلَ، لِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى الْمُمَاثِلِ، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ إِرْسَالًا مُصَاحِبًا لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ، كَمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَاحِبًا لِآيَةِ الْقُرْآنِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدْ تَمَّ التَّنْظِيرُ وَانْتَهَضَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُنْكِرِينَ. وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، فَسَّرَ الْإِرْسَالَ بِجُمْلَةِ «أَخْرِجْ قَوْمَكَ» الْخَ، وَالْإِرْسَالُ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ فَكَانَ حَقِيقًا بِمَوْقِعِ أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ. والظُّلُماتِ مُسْتَعَارٌ لِلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، والنُّورِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فِي مِصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَرَى إِلَيْهِمُ الشِّرْكُ وَاتَّبَعُوا دِينَ الْقِبْطِ، فَكَانَتْ رِسَالَةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِإِصْلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ مَعَ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْوَاحِد، وَكَانَت آئلة إِلَى إِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ وَإِدْخَالِهِمْ فِي حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. وَالتَّذْكِيرُ: إِزَالَةُ نِسْيَانِ شَيْءٍ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي تَعْلِيمِ مَجْهُولٍ كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ. وَلَمَّا ضُمِّنَ التَّذْكِيرُ مَعْنَى الْإِنْذَارِ وَالْوَعْظِ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، أَيْ ذَكِّرْهُمْ تَذْكِيرَ عِظَةٍ بأيام الله. وبِأَيَّامِ اللَّهِ أَيَّامَ ظُهُورِ بَطْشِهِ وَغَلْبِهِ مَنْ عَصَوْا أَمْرَهُ، وَتَأْيِيدِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَشَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ مُضَافًا إِلَى اسْمِ شَخْصٍ أَوْ قَبِيلَةٍ عَلَى يَوْمٍ انْتَصَرَ فِيهِ مُسَمَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى عَدُوِّهِ، يُقَالُ: أَيَّامُ تَمِيمٍ، أَيْ أَيَّامُ انْتِصَارِهِمْ، فَأَيَّامُ اللَّهِ أَيَّامُ ظُهُورِ قُدْرَتِهِ وَإِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ بِهِ وَنَصْرِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُطِيعِينَ لَهُ.

فَالْمُرَادُ بِـ أَيَّامَ اللَّهِ هُنَا الْأَيَّامُ الَّتِي أَنْجَى اللَّهُ فِيهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَنَصَرَهُمْ وَسَخَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَالنَّصْرِ وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ فِي زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أُمِرَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنْ يُذَكِّرَهُمُوهُ، وَكُلُّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَضْمُونِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُمْتَدٌّ زَمَنُهُ، وَكُلَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِتَذْكِيرٍ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ فَهُوَ مِنْ مَضْمُونِ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَهُوَ مَشْمُولٌ لِتَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ. فَقَوْلُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 20، 21] هُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ الْمُفَسَّرِ بِهِ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَهُوَ وَإِن كَانَ وَاقِعًا بَعْدَ ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَا هُوَ إِلَّا تَذْكِيرٌ صَادِرٌ فِي زَمَنِ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُمْ، وَمَا كَانُوا يُحَصِّلُونَهَا لَوْلَا نَصْرُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَعِنَايَتُهُ بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ رُبَّ ضَعِيفٍ غَلَبَ قَوِيًّا وَنَجَا بِضَعْفِهِ مَا لَمْ يَنْجُ مِثْلُهُ الْقَوِيُّ فِي قُوَّتِهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ، فَالْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ بَعْدَ تَوَغُّلِهِمْ فِيهَا وَانْقِضَاءِ الْأَزْمِنَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَيْهَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ أَحَاطَ بِمَعْنَى هَذَا الشُّمُولِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي ذلِكَ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَجْمَعُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً يَحْتَوِيهَا الظَّرْفُ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ. وَلِكَوْنِ الْآيَاتِ مُخْتَلِفَةً، بَعْضُهَا آيَاتُ مَوْعِظَةٌ وَزَجْرٌ وَبَعْضُهَا آيَاتُ مِنَّةٍ وَتَرْغِيبٍ، جُعِلَتْ مُتَعَلقَة ب لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إِذْ الصَّبْر مُنَاسِب لِلزَّجْرِ

[سورة إبراهيم (14) : آية 6]

لِأَنَّ التَّخْوِيفَ يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَى تَحَمُّلِ مُعَاكَسَةِ هَوَاهَا خِيفَةَ الْوُقُوعِ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَالْإِنْعَامَ يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَى الشُّكْرِ، فَكَانَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ تَوْزِيعًا لِمَا أَجْمَلَهُ ذِكْرُ أَيَّامِ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ بُؤْسٍ وَأَيَّام نعيم. [6] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 6] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بِاعْتِبَارِ غَرَضِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ التَّنْظِيرُ بِسُنَنِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ مِنْ إِرْشَادِ الْأُمَمِ وَتَذْكِيرِهَا، كَمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِذَلِكَ. وَإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ شَوَاهِدِ التَّارِيخِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَعَ أُمَمِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ قَوْلَ مُوسَى لِقَوْمِهِ الْخَ. وَهَذَا مِمَّا قَالَهُ مُوسَى لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُمُ الله من استعباد الْقِبْطِ وَإِهَانَتِهِمْ، فَهُوَ من تَفَاصِيلُ مَا فُسِّرَ بِهِ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يُذَكِّرَهُ قومه. وإِذْ أَنْجاكُمْ ظَرْفٌ للنعمة بِمَعْنى الإنام، أَيِ الْإِنْعَامُ الْحَاصِلُ فِي وَقْتِ إِنْجَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] ، وَكَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ يُقَتِّلُونَ. سِوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ عُطِفَتْ فِيهَا جُمْلَةُ وَيُذَبِّحُونَ عَلَى جُمْلَةِ يَسُومُونَكُمْ وَفِي آيَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ جُعِلَتْ جُمْلَةُ يُذَبِّحُونَ وَجُمْلَةُ يُقَتِّلُونَ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَسُومُونَكُمْ

سُوءَ الْعَذابِ. فَكَانَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَيُذَبِّحُونَ هُنَا مَقْصُودًا بِالْعَدِّ كَأَنَّهُ صِنْفٌ آخَرُ غَيْرُ سُوءِ الْعَذَابِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَعَلَى كِلَا النَّظْمَيْنِ قَدْ حَصَلَ الِاهْتِمَامُ بِهَذَا الْعَذَابِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، فَالْقُرْآنُ حَكَى مُرَادَ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذِكْرِ الْعَذَابِ الْأَعَمِّ وَذِكْرِ الْأَخَصِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ عَلَى كِلَا النَّظْمَيْنِ. وَإِنَّمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِطَرِيقَةٍ تَفَنُّنًا فِي إِعَادَةِ الْقِصَّةِ بِحُصُولِ اخْتِلَافٍ فِي صُورَةِ النَّظْمِ مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَحْكِيِّ، وَهُوَ ذِكْرُ سُوءِ الْعَذَابِ مُجْمَلًا، وَذِكْرُ أَفْظَعِ أَنْوَاعِهِ مُبَيَّنًا. وَأَمَّا عَطْفُ جُمْلَةِ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فَلِأَنَّ مَضْمُونَهَا بِاسْتِقْلَالِهِ لَا يَصْلُحُ لِبَيَانِ سُوءِ الْعَذَابِ، لِأَنَّ اسْتِحْيَاءَ النِّسَاءِ فِي ذَاتِهِ نِعْمَةٌ وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِتَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ، إِذْ يُعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنَ اسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ اسْتِرْقَاقِهِنْ وَإِهَانَتِهِنَّ فَصَارَ الِاسْتِحْيَاءُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ تَهْيِئَةً لِتَعْذِيبِهِنَّ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بَلَاءً. وَأَصْلُ الْبَلَاءِ: الِاخْتِبَارُ. وَالْبَلَاءُ هُنَا الْمُصِيبَةُ بِالشَّرِّ، سُمِّيَ بِاسْمِ الِاخْتِبَارِ لِأَنَّهُ اخْتِبَارٌ لِمِقْدَارِ الصَّبْرِ، فَالْبَلَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي شِدَّةِ الْمَكْرُوهِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَصْدَرِ بِحَيْثُ يَكَادُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَكْرُوهِ. وَمَا وَرَدَ مِنْهُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْخَيْرِ فَإِنَّمَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 35] ، وَقَوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [سُورَة مُحَمَّد: 31] . وَتَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَجُعِلَ هَذَا الضُّرُّ الَّذِي لَحِقَهُمْ وَارِدًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ لِأَنَّ تَخَلِّيَهُ آلَ فِرْعَوْنَ لِفِعْلِ ذَلِكَ وَعَدَمِ إِلْطَافِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَجْعَلُهُ كَالْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى نَبْذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دِينَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ- عَلَيْهِم السّلام- واتّباههم دِينَ الْقِبْطِ وَعِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ. وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ صَلَاحَ مُسْتَقْبَلِهِمْ وَتَنْبِيهَهُمْ لِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَحْرِيفِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [سُورَة الْإِسْرَاء: 8] .

[سورة إبراهيم (14) : آية 7]

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَا فِي فِقْرَةِ (17) مِنَ «الْإِصْحَاحِ» (12) . وَفِقْرَةِ (3) مِنَ «الْإِصْحَاحِ» (13) مِنْ «سِفْرِ الْخُرُوجِ» . وَمَا فِي فِقْرَةِ (13) مِنَ الْإِصْحَاحِ (26) مِنْ «سفر اللّاويين» . [7] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 7] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) عَطْفٌ عَلَى إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمُ الْخَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِالزِّيَادَةِ مِنْهَا نِعْمَةٌ وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءً لَوْلَا سِعَةُ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فَجَاءَتْ بِهِ الْمُقَابَلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ عَلَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، عَلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا وَذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [167] : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [سُورَة الْأَعْرَاف: 86] . وَمَعْنَى تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ تَكَلَّمَ كَلَامًا عَلَنًا، أَيْ كَلَّمَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الَّذِي فِي الْآيَةِ بِمَسْمَعٍ مِنْ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الَّذِي فِي الْفِقْرَاتِ (9- 20) مِنَ الْإِصْحَاحِ (19) مِنْ «سِفْرِ الْخُرُوجِ» ، وَالْفِقْرَاتِ (1- 18، 22) مِنَ الْإِصْحَاحِ (20) مِنْهُ، وَالْفِقْرَاتِ (مِنْ 20 إِلَى 30) مِنَ الْإِصْحَاحِ (23) مِنْهُ. وَالتَّأَذُّنُ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَذَانِ يُقَالُ: أَذَّنَ وَتَأَذَّنَ كَمَا يُقَالُ: تَوَعَّدَ وَأَوْعَدَ، وَتَفَضَّلَ وَأَفْضَلَ. فَفِي صِيغَةِ تَفَعَّلَ زِيَادَةُ مَعْنَى عَلَى صِيغَةِ أَفْعَلَ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ شَكَرْتُمْ مُوَطِّئَةٌ للقسم وَالْقسم مستعلم فِي التَّأْكِيدِ. وَالشُّكْرُ مُؤْذِنٌ بِالنِّعْمَةِ. فَالْمُرَادُ: شُكْرُ نِعْمَةِ الْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ شَكَرْتُمْ وَمَفْعُولُ لَأَزِيدَنَّكُمْ لِيُقَدَّرَ عَامًّا فِي الْفِعْلَيْنِ.

[سورة إبراهيم (14) : آية 8]

وَالْكُفْرُ مُرَادٌ بِهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْمُنْعِمِ بِالْعِصْيَانِ. وَأَعْظَمُ الْكُفْرِ جَحْدُ الْخَالِقِ أَوْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ، كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مُقَابَلَةُ النِّعْمَةِ بِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ. وَاسْتَغْنَى بِ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ عَن لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْل: 21] لِكَوْنِهِ أَعَمَّ وَأَوْجَزَ، وَلِكَوْنِ إِفَادَةِ الْوَعِيدِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّعْرِيضِ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ فَأَنْتُمْ إِذن مِنْهُم. [8] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 8] وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي عَطْفِ بَعْضِ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى بَعْضٍ لِئَلَّا يُتَوَّهَّمَ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَأَذَّنَ بِهِ الرَّبُّ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ اهْتِمَامٌ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَنْوِيهٌ بِهَا حَتَّى تَبْرُزَ مُسْتَقِلَّةً وَحَتَّى يُصْغِيَ إِلَيْهَا السَّامِعُونَ لِلْقُرْآنِ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِهَا أَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِيمَانِهِمْ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ حِينَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَعْزِيزَ جَانِبِهِمْ والحرص على مصحلتهم. فَلَمَّا وَعَدَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ بِالزِّيَادَةِ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالْعُقُوبَةِ خَشِيَ أَنْ يَحْسَبُوا ذَلِكَ لِانْتِقَامِ الْمُثِيبِ بِمَا أَثَابَ عَلَيْهِ، وَلِتَضَرُّرِهِ مِمَّا عَاقَبَ عَلَيْهِ، فَنَبَّهَهُمْ إِلَى هَذَا الْخَاطِرِ الشَّيْطَانِيِّ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إِلَى نُفُوسِهِمْ فَيُكْسِبَهُمْ إِدْلَالًا بِالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ. وأَنْتُمْ فُصِلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ هَذَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ ضَمِيرًا مُتَّصِلًا.

[سورة إبراهيم (14) : آية 9]

وَ (جَمِيعاً) تَأْكِيدٌ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَنَصْبُهُ غَيْرُ بَعِيدٍ. وَالْغَنِيُّ: الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ غِنَاهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ. وَالْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَحْمُودٌ مِنْ غَيْرِكُمْ مُسْتَغْنٍ عَنْ حَمْدِكُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا بِهِ لَكَانُوا حَامِدِينَ بِلِسَانِ حَالِهِمْ كَرْهًا، فَإِنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ تَنَالُهُمْ فَيَحْمَدُونَهَا فَإِنَّمَا يَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [سُورَة الرَّعْد: 15] . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَا فِي الْفِقْرَاتِ (30 إِلَى 33) مِنَ الْإِصْحَاحِ (32) مِنْ «سفر الْخُرُوج» . [9] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 9] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) هَذَا الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ رَجَعَ بِهِ الْخِطَابُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ، لِأَنَّ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ هُنَا هُمُ الْكَافِرُونَ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 2] ، وَهُمْ مُعْظَمُ الْمَعْنِيِّ مِنَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 1] ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أُجْمِلَ لَهُمُ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 4] الْآيَةَ، ثُمَّ فُصِّلَ بِأَنْ ضُرِبَ الْمَثَلُ لِلْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لِغَرَضِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِرْسَالِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِإِخْرَاجِ قَوْمِهِ، وَقُضِيَ حَقُّ ذَلِكَ عَقِبِهِ بِكَلَامٍ جَامِعٍ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْصَلَةِ

وَالتَّذْيِيلُ مَعَ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَتَشَابُهِ عَقْلِيَّاتِهِمْ فِي حُجَجِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَرَدِّ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا رَدَّ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ خُتِمَ بِالْوَعِيدِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُمْ، فَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَقَدْ تَوَاتَرَ خَبَرُهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ بِسَبَبِ خَبَرِ الطُّوفَانِ، وَأَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَمَسَاكِنُهُمْ فِي بِلَادِهِمْ وَهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 45] وَقَالَ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سُورَة الصافات: 137] . وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَشْمَلُ أَهْلَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقَوْمَ تُبَّعٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أُمَمٍ انْقَرَضُوا وَذَهَبَتْ أَخْبَارُهُمْ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [سُورَة الْفرْقَان: 38] . وَجُمْلَةُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الْوَاقِعَةُ حَالًا مِنَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُهَا انْتِفَاءُ عِلْمِ النَّاسِ بِهِمْ. وَمَعْنَى جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ جَاءَ كُلَّ أُمَّةٍ رسولها. وضمائر فَرَدُّوا وأَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ عَائِدٌ جَمِيعُهَا إِلَى قَوْمِ نُوحٍ وَالْمَعْطُوفَاتِ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا أَعْهَدُ سَبْقَ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ وُجُوهٍ أَنْهَاهَا فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى سَبْعَةٍ وَفِي بَعْضِهَا بُعْدٌ، وَأَوْلَاهَا بِالِاسْتِخْلَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ إِخْفَاءً لِشِدَّةِ الضَّحِكِ مِنْ كَلَامِ الرُّسُلِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَظْهَرَ دَوَاخِلُ أَفْوَاهِهِمْ. وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرُّسُلِ.

وَالرَّدُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَكْرِيرِ جَعْلِ الْأَيْدِي فِي الْأَفْوَاهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الرَّاغِبُ» . أَيْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْأَفْوَاهِ ثُمَّ أَزَالُوهَا ثُمَّ أَعَادُوا وَضْعَهَا فَتِلْكَ الْإِعَادَةُ رَدٌّ. وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا التَّمْكِينُ، فَهِيَ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سُورَة الزمر: 22] . فَمَعْنَى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. وَعَطْفُهُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّهُمْ بَادَرُوا بِرَدِّ أَيْدِيهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ بِفَوْرِ تَلَقِّيهِمْ دَعْوَةَ رُسُلِهِمْ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْأَيْدِي فِي الْأَفْوَاهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُتَعَجِّبِ الْمُسْتَهْزِئِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِلْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَتُهُ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ خَبَرًا عَنِ الْأُمَمِ مَعَ اخْتِلَافِ عَوَائِدِهِمْ وَإِشَارَاتِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْأَفْرَادِ فِي حَرَكَاتِهِمْ عِنْدَ التَّعَجُّبِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ إِلَّا بَيَانٌ عَرَبِيٌّ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [سُورَة الزمر: 74] ، فَمِيرَاثُ الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ جَرْيًا عَلَى بَيَانِ الْعَرَبِ عِنْدَ تَنَافُسِ قَبَائِلِهِمْ أَنَّ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَ أَرْضَ عَدُوِّهِ. وَأَكَّدُوا كُفْرَهُمْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِنَّ وَفِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا كَفَرْنا. وَسَمَّوْا مَا كَفَرُوا بِهِ مُرْسَلًا بِهِ تَهَكُّمًا بِالرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سُورَة الْحجر: 6] ، فَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِأَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ مُرْسَلٌ بِهِ مِنَ اللَّهِ، أَيْ كَفَرُوا بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ. فَهَذَا مِمَّا أَيْقَنُوا بِتَكْذِيبِهِمْ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ فَذَلِكَ شَكٌّ فِي صِحَّةِ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَسَدَادِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُعَرَّضٌ لِلنَّظَرِ وَتَمْيِيزِ صَحِيحِهِ مِنْ سَقِيمِهِ، فَمَوْرِدُ الشَّكِّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَوْرِدُ التَّكْذِيبِ نِسْبَةُ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ. فَمُرَادُهُمْ: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مَا هُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ فَإِنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يَقُولُ حَقًّا.

[سورة إبراهيم (14) : آية 10]

وَجَعَلُوا الشَّكَّ قَوِيًّا فَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ وَمُتَمَكِّنٌ كَمَالَ التَّمَكُّنِ. ومُرِيبٍ تَأْكِيد لِمَعْنى لَفِي شَكٍّ، والمريب: المتوقع فِي الرَّيْبِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الشَّكِّ، فَوَصْفُ الشَّكِّ بِالْمُرِيبِ مِنْ تَأْكِيدِ مَاهِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ. وَحُذِفَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا تَخْفِيفًا تَجَنُّبًا لِلثِّقَلِ النَّاشِئِ مِنْ وُقُوعِ نُونَيْنِ آخَرِينِ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: تَدْعُونَنا اللَّازِمُ ذِكْرُهُمَا، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ [62] وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا : إِذْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: تَدْعُونا وَاحِدٌ. [10] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 10] قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَمَوْرِدُ الْإِنْكَارِ هُوَ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَقُدِّمَ مُتَعَلِّقُ الشَّكِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَشُكُّ فِي اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْوَقْعُ، مِثْلَ قَوْلِ الْقَطَامِيِّ: أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرَّتَاعَا فَكَانَ أَبْلَغُ لَهُ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ: أَبْعَدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي كُفْرٌ. وَعُلِّقَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالشَّكِّ، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي أَهَمِّ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ صِفَةُ التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ صِفَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَأُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ وُجُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا حَكِيمًا لِاسْتِحَالَةِ صُدُورِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ

الْعَجِيبَةِ الْمُنَظَّمَةِ عَنْ غَيْرِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَذَلِكَ تَأْيِيدٌ لِإِنْكَارِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ يَقْتَضِي انْفِرَادَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ عِبَادَةَ مَخْلُوقَاتِهِ. وَجُمْلَةُ يَدْعُوكُمْ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ يَدْعُوكُمْ أَنْ تَنْبِذُوا الْكُفْرَ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَيَدْفَعَ عَنْكُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فَيُؤَخِّرَكُمْ فِي الْحَيَاةِ إِلَى أَجَلٍ مُعْتَادٍ. وَالدُّعَاءُ: حَقِيقَتُهُ النِّدَاءُ. فَأُطْلِقَ عَلَى الْأَمْرِ وَالْإِرْشَادِ مَجَازًا لِأَنَّ الْآمِرَ يُنَادِي الْمَأْمُورَ. وَيُعَدَّى فِعْلُ الدُّعَاءِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ غَالِبًا وَهُوَ إِلى، نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [سُورَة غَافِر: 41] . وَقد يُعَدَّى بِلَامِ التَّعْلِيلِ دَاخِلَةً عَلَى مَا جُعِلَ سَبَبًا لِلدَّعْوَةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْلُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ [سُورَة نوح: 7] ، أَيْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ لِتَغْفِرَ، أَيْ دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِتَغْفِرَ لَهُمْ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ، أَيْ يَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَقَدْ يُعَدَّى فِعْلُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ بِاللَّامِ تَنْزِيلًا لِلشَّيْءِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يُدْعَى، كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ

قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. أَرَادُوا إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِقَطْعِ الْمُجَادَلَةِ النَّظَرِيَّةِ، فَنَفَوُا اخْتِصَاصَ الرُّسُلِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ فِي صُورَتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ رُسُلًا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ يَحْسَبُونَ أَنَّ هَذَا أَقْطَعُ لِحُجَّةِ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ مَحْسُوسَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ فِي الِاحْتِجَاجِ، فَلِذَلِكَ طَالَبُوا رُسُلَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِحُجَّةٍ مَحْسُوسَةٍ تُثْبِتُ أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُمْ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ، وَحُسْبَانُهُمْ بِذَلِكَ التَّعْجِيزُ. فَجُمْلَةُ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ قَيْدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا مِنْ جَحْدِ كَوْنِهِمْ رُسُلًا مِنَ اللَّهِ بِالدِّينِ الَّذِي جَاءُوهُمْ بِهِ مُخَالِفًا لِدِينِهِمُ الْقَدِيمِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ كَانَ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ لِجُمْلَةِ فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ بَشَرًا لَا يَقْتَضِي مُطَالَبَتَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنَّمَا اقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ جَاءُوهُمْ بِإِبْطَالِ دِينِ قَوْمِهِمْ، وَهُوَ مَضْمُونُ مَا أُرْسِلُوا بِهِ. وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ دِينِهِمْ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِدِينِهِمْ بِأَنَّهُ مُتَقَلَّدُ آبَائِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَهُمْ مَعْصُومِينَ مِنَ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، وَلِلْأُمَمِ تَقْدِيسٌ لِأَسْلَافِهَا فَلِذَلِكَ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَقُولُوا: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَنْ دِينِنَا. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [71] . الْمُبِينُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِ مَا دلّ عَلَيْهِ.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 إلى 12]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 11 إِلَى 12] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ جَوَابٌ بِطَرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاء النزاع بِبَيَانِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ تَامِّ الْإِنْتَاجِ، وَفِيهِ إِطْمَاعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ. ثُمَّ كَرَّ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ بِتَبْيِينِ خَطَئِهِمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة المُنَافِقُونَ: 8] . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَوَادِحِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ شَدِيدُ الْوَقْعِ عَلَى الْمُنَاظِرِ، فَلَيْسَ قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِلدَّلِيلِ وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الِاسْتِنْتَاجِ مِنْ دَلِيلِهِ. وَمَحَلُّ الْبَيَانِ هُوَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 11] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي زَائِدٍ عَلَيْهَا فَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِنِعَمٍ لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُمْ. فَالِاسْتِدْرَاكُ رَفْعٌ لِمَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ كَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ مُقْتَضَى الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ. وَأَوْرَدَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» وَجْهًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ زِيدَ فِيهَا كَلِمَةُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 10] وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ قَالَ فِيهَا قالَتْ رُسُلُهُمْ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خَاصَّةً بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ يَقُولُونَهَا لِغَيْرِهِمْ إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْهُمْ وَالْمَقَالَةُ الْأُولَى يَقُولُونَهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، أَيْ لِلْمُصَدِّقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ وُجُودَ اللَّهِ أَمْرٌ نَظَرِيٌّ، فَكَانَ كَلَامُ الرُّسُلِ فِي شَأْنِهِ خِطَابًا لِعُمُومِ قَوْمِهِمْ، وَأَمَّا بَعْثَةُ الرُّسُلِ فَهِيَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا قَالُوا هَذَا إِلَّا لِلْمُكَذِّبِينَ لِغَبَاوَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ لَا لِغَيْرِهِمْ. وَأَجَابَ الْأَبِيُّ أَنَّ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ خِطَابٌ لِمَنْ عَانَدَ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، فَكَأَنَّ الْمُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ يُجِيبُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يُقْبِلُ بِالْجَوَابِ عَلَى الْمُخَاطَبِ لِمُعَانَدَتِهِ فَيُجِيبُ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَقَالَتِهِمْ فَهُمْ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبْطِلُوا كَلَامَهُمْ بِالْإِطْلَاقِ بَلْ يُقَرِّرُونَهُ وَيَزِيدُونَ فِيهِ اه. وَالْحَاصِلُ أَنَّ زِيَادَةَ لَهُمْ تُؤْذِنُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى تَوَجُّهِ الرُّسُلِ إِلَى قَوْمِهِمْ بِالْجَوَابِ لِمَا فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمْ مِنَ الدِّقَّةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ إِذِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ بَعْدَ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي نَحْوِ: أَقُولُ لَكَ، لَامُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَقُولُ قَوْلِي لِأَجْلِكَ. ثُمَّ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ تَبْيِينُ أَنَّ مَا سَأَلَهُ الْقَوْمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ اللَّهُ بِمُكْرَهٍ عَلَى إِجَابَةِ مَنْ يَتَحَدَّاهُ. وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْرٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَقَصَدُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا إِلَى آخِرِهِ. وَلَمَّا كَانَ حُصُولُ إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْيِيدِ الرُّسُل بِالْحجَّةِ المسئولة غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِيقَاتِ وَلَا مُتَعَيَّنَ الْوُقُوعِ وَكَانَتْ مُدَّةُ تَرَقُّبِ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِتَكْذِيبِ

الَّذِينَ كَفَرُوا رُسُلَهُمْ تَكْذِيبًا قَاطِعًا وَتَوَقَّعَ الرُّسُلُ أَذَاةَ قَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ شَأْنَ الْقَاطِعِ بِكَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُم قد بدأوهم بِالْأَذَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا. أَظْهَرَ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ غَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مَا عَسَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ مِنْ أَذًى بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ هُمْ وَمَنْ آمن مَعَهم فابتدأوا بِأَنْ أَمَرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ تَذْكِيرًا لَهُمْ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ إِيمَانُهُمْ إِلَى زَعْزَعَةِ الشَّكِّ حِرْصًا عَلَى ثَبَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْن الْخَطَّابِ» . وَفِي ذَلِكَ الْأَمْرِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِمَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ الْكَافِرُونَ مِنَ الْأَذَى، كَقَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ حِينَ آمَنُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 50] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مُؤُذِنٌ بِالْحَصْرِ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ نَصْرًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ نَاصِرِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ رابطة لجملة (ليتوكل الْمُؤْمِنُونَ) بِمَا أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ عَجِبْتُمْ مِنْ قِلَّةِ اكْتِرَاثِنَا بِتَكْذِيبِكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَإِنْ خَشِيتُمْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضِيرَهُمْ عَدُوُّهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [23] . وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ التَّدْبِيرِ إِلَى الْغَيْرِ ثِقَةٌ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ، فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَنْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [59] . وَجُمْلَةُ وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى صِدْقِ رَأْيِهِمْ فِي تَفْوِيضِ

أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا بِوَارِقَ عِنَايَتِهِ بِهِمْ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى طَرَائِقِ النَّجَاةِ وَالْخَيْرِ، وَمَبَادِئُ الْأُمُورِ تَدُلُّ عَلَى غَايَاتِهَا. وَأَضَافُوا السُّبُلَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلِاخْتِصَارِ لِأَنَّ أُمُورَ دِينِهِمْ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لَدَى الْجَمِيعِ فَجَمَعَهَا قَوْلُهُمْ: سُبُلَنا. وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ لِانْتِفَاءِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ، أَتَوْا بِهِ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ اسْتِحْمَاقِ الْكُفَّارِ إِيَّاهُمْ فِي تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ، فَجَاءُوا بِإِنْكَارِ نَفْيِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَمَعْنَى وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ مَا ثَبَتَ لَنَا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ، فَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَزَادُوا قَوْمَهُمْ تأييسا من التأثر بِالْأَذَى فَأَقْسَمُوا عَلَى أَنَّ صَبْرَهُمْ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ سَيَسْتَمِرُّ، فَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ الْمُضَارِعِ الْمُؤَكَّدِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ فِي وَلَنَصْبِرَنَّ دَلَّتْ عَلَى أَذَى مُسْتَقْبَلٍ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضِيِّ الْمُنْتَزَعُ مِنْهَا الْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ: مَا آذَيْتُمُونا عَلَى أَذًى مَضَى. فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى نَصْبِرُ عَلَى أَذًى مُتَوَقَّعٍ كَمَا صَبَرْنَا عَلَى أَذًى مَضَى. وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الرُّسُلِ فَتَكُونَ تَذْيِيلًا وَتَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فَكَانَتْ تَذْيِيلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الزَّائِدِ فِي قَوْلِهِ: الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى عُمُومِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَكَانَتْ تَأْكِيدًا لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مُتَوَكِّلًا فِي أَمْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ، أَيْ لَا يَنْبَنِي التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَيْهِ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 إلى 14]

[13، 14] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 13 الى 14] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. تَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ بِطَرِيقِ الْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا غَيْرُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْحِكَايَةَ عَنْهُمْ كَانَتْ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ. فَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ. وَأَنَّ المُرَاد ب لِرُسُلِهِمْ الرَّسُولُ- مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُجْرِيَتْ عَلَى وَصْفِهِ صِيغَةَ الْجمع على طَرِيق قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [70] . فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [سُورَة الْحَدِيد: 25] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الرَّسُول مُحَمَّد- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- لِأَنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ الْحَدِيدُ، أَيِ الْقِتَالُ بِالسَّيْفِ لِأَهْلِ الدَّعْوَةِ الْمُكَذِّبِينَ، وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ [45] عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا. وَإِطْلَاقُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازٌ: إِمَّا اسْتِعَارَةٌ إِنْ كَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ تَشْبِيهِ الْوَاحِدِ بِالْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 99] . وَإِمَّا مَجَازٌ مُرْسَلٌ إِذَا رُوعِيَ فِيهِ قَصْدُ التَّعْمِيَةِ، فعلاقته الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد. وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَيْهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيَةِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا كُفَّارَ مَكَّةَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ رَسُولًا

مِنْ رُسُلِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ دَخَلَ أَرْضَ مُكَذِّبِيهِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ وامتلكها إِلَّا النَّبِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ «مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» . وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْسَ الْمُرَادِ مِنَ الْأَقْوَامِ السَّالِفَيْنِ فَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ حَتَّى صَارَ الْخَصْلَةَ الَّتِي يُعْرَفُونَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الرُّسُلِ ظَاهِرَ الْجَمْعِ فَيَكُونُ هَذَا التوعد سنة الْأُمَمِ وَيَكُونُ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِمْ بِهِ سُنَّةَ اللَّهِ مَعَ رُسُلِهِ. وَتَأْكِيدُ تَوَعُّدِهِمْ بِالْإِخْرَاجِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ ضَرَاوَةٌ فِي الشَّرِّ. وَ (أَوْ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أَقْسَمُوا عَلَى حُصُولِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، أَحَدُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْمُقَسَّمِينَ، وَالْآخَرُ مَنْ فِعْلِ مَنْ خُوطِبَ بِالْقَسَمِ، وَلَيْسَتْ هِيَ أَوْ الَّتِي بِمَعْنَى إِلَى أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا. وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الرُّسُلِ مُتَّبِعًا مِلَّةَ الْكُفْرِ بَلْ كَانُوا مُنْعَزِلِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسَبُونَهُمْ مُوَافِقِينَ لَهُمْ، وَكَانَ الرُّسُلُ يَتَجَنَّبُونَ مُجْتَمَعَاتِهِمْ بِدُونِ أَنْ يَشْعُرُوا بِمُجَانَبَتِهِمْ، فَلَمَّا جَاءُوهُمْ بِالْحَقِّ ظَنُّوهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ فَطَلَبُوا مِنْهُمْ أَنْ يَعُودُوا إِلَى مَا كَانُوا يَحْسَبُونَهُمْ عَلَيْهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فِي مِلَّتِنا مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ فَكَأَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ. وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [161] ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ عَلَى قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا [سُورَة إِبْرَاهِيم: 13] الْخَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْعَزْمِ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الرُّسُلِ مَا يُثَبِّتُ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَهُوَ الْوَعْدُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ. وَجُمْلَةُ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ (أَوْحَى..) . وَإِسْكَانُ الْأَرْضِ: التَّمْكِينُ مِنْهَا وَتَخْوِيلُهَا إِيَّاهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ [سُورَة الْأَحْزَاب: 27] . وَالْخِطَابُ فِي لَنُسْكِنَنَّكُمُ لِلرُّسُلِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْكُنَ الرَّسُولُ بِأَرْضِ عَدُوِّهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا وَأَنْ يَسْكُنَهَا الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا مَكَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَكَّةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ وَأَسْكَنَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِهَا. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) . ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِهْلَاكِ وَالْإِسْكَانِ الْمَأْخُوذَيْنِ مِنْ لَنُهْلِكَنَّ، ولَنُسْكِنَنَّكُمُ. عَادَ إِلَيْهِمَا اسْمُ الْإِشَارَةِ بِالْإِفْرَادِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [سُورَة الْفرْقَان: 68] . وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَتَمْلِيكٌ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [سُورَة الْبَيِّنَة: 8] . وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْوَعْدُ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، أَيْ ذَلِكَ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ خِفْتُمْ مَقَامِي، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخطاب إِلَى لِمَنْ خافَ مَقامِي لِدَلَالَةِ الْمَوْصُولِ عَلَى الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ.

وَمَعْنَى خافَ مَقامِي خَافَنِي، فَلَفْظُ مَقَامٍ مُقْحِمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] ، لِأَنَّ الْمَقَامَ أَصْلُهُ مَكَانُ الْقِيَامِ، وَأُرِيدَ فِيهِ بِالْقِيَامِ مُطْلَقُ الْوُجُودِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً، فَإِذَا قِيلَ خافَ مَقامِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي (خَافَنِي) بِحَيْثُ إِنَّ الْخَوْفَ يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ. كَمَا يُقَالُ: قَصَّرَ فِي جَانِبِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: 56] . وَكُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ: إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمَرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ أَيْ فِي ابْنِ الْحَشْرَجِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وُجُودِ قُبَّةٍ. وَمِنْهُ مَا فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِسَاقِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ» ، أَيْ هَذَا الْعَائِذُ بِكَ الْقَطِيعَةَ. وَخَوْفُ اللَّهِ: هُوَ خَوْفُ غَضَبِهِ لِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَدَى عَبِيدِهِ. وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَخافَ وَعِيدِ عَلَى خافَ مَقامِي مَعَ إِعَادَةِ فِعْلِ خافَ دُونَ اكْتِفَاء بعطف وَعِيدِ عَلَى مَقامِي لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ وَإِنْ كَانَ صَرِيحُهَا ثَنَاءً عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فَالْمُرَادُ مِنْهَا التَّعْرِيضُ بِالْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ اللَّهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ خافَ مَقامِي تُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْمُشْركين لم يعبأوا بِوَعِيدِ اللَّهِ وَحَسِبُوهُ عَبَثًا، قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: 47] ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [8] ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ ذِكْرِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي ذِكْرِ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ وَإِسْكَانِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَهُمْ فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَجُمِعَ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بإدماج التَّعْرِيض بوعي الْكَافِرِينَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَخَافَ غَضَبَ رَبِّهِ وَأَنْ يَخَافَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 إلى 17]

وَعِيدَهُ، وَالَّذِينَ يَخَافُونَ غَضَبَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ هُمُ الْمُتَّقُونَ الصَّالِحُونَ، فَآلَ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 105] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعِيدِ بِدُونِ يَاءٍ وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ- بِدُونِ يَاءٍ- فِي الْوَقْفِ وَبِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ- فِي حَالَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاقِعَةِ مُضَافًا إِلَيْهَا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ. وَفِيهَا فِي النِّدَاءِ لُغَتَانِ أخريان. [15- 17] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 15 إِلَى 17] وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) جُمْلَةُ وَاسْتَفْتَحُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، أَوْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا النَّصْرَ. وَضَمِيرُ اسْتَفْتَحُوا عَائِدٌ إِلَى الرُّسُلِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ الْخَ، أَيْ فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ وَخَابَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَوَعُّدُهُمُ الرُّسُلَ بِقَوْلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَخَابَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانُوا جَبَابِرَةً عُنَدَاءَ وَأَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَخِيبُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ اسْتَفْتَحُوا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ وَيَكُونُ ضَمِيرُ اسْتَفْتَحُوا عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ وَطَلَبُوا النَّصْرَ عَلَى رُسُلِهِمْ فَخَابُوا فِي ذَلِكَ. وَلِكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ

عَنِيدٍ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَخَابُوا، إِلَى قَوْلِهِ: كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لِمِثْلِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا. وَالِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ النَّصْرُ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [سُورَة الْأَنْفَال: 19] . وَالْجَبَّارُ: الْمُتَعَاظِمُ الشَّدِيدُ التَّكَبُّرِ. وَالْعَنِيدُ الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ. وَتَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [59] . وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَعَاظِمُونَ، فَوَصْفُ جَبَّارٍ خُلُقٌ نَفْسَانِيٌّ، وَوَصْفُ عَنِيدٍ مِنْ أَثَرِ وَصْفِ جَبَّارٍ لِأَنَّ الْعَنِيدَ الْمُكَابِرَ الْمُعَارِضَ لِلْحُجَّةِ. وَبَيْنَ خافَ وَعِيدِ وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ صِفَةٌ لِ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَيْ خَابَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ ذَلِكَ حَظُّهُ مِنَ الْعِقَابِ بَلْ وَرَاءَهُ عِقَابُ الْآخِرَةِ. وَالْوَرَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَحِلُّ بِهِ مِنْ بَعْدُ، فَاسْتُعِيرَ لِذَلِكَ بِجَامِعِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحُصُولِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ الْمَرْءِ لَا يَشْعُرُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [سُورَة الْكَهْف: 79] ، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ وَلَوْ ظفر بهم لَا فتك سَفِينَتَهُمْ، وَقَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ: عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبٌ وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوَرَاءِ عَلَى مَعْنَى مِنْ بَعْدِ فَاسْتِعْمَالٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلَيْسَ عَيْنَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَهَنَّمَ تَنْتَظِرُهُ، أَيْ فَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَالصَّدِيدُ: الْمُهْلَةُ، أَيْ مِثْلُ الْمَاءِ يَسِيلُ مِنَ الدُّمَّلِ وَنَحْوِهِ، وَجَعَلَ الصَّدِيدَ مَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي الْإِسْقَاءِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَاءِ أَنْ يُسْقَى. وَالْمَعْنَى: وَيُسْقَى صَدِيدًا عِوَضَ الْمَاءِ إِنْ طَلَبَ الْإِسْقَاءَ، وَلذَلِك جعل صَدِيدٍ عَطْفَ بَيَانٍ لِ ماءٍ. وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ يُسْقى عَلَى جُمْلَةِ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ لِأَنَّ السَّقْيَ مِنَ الصَّدِيدِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ. وَالتَّجَرُّعُ: تَكَلُّفُ الْجَرْعِ، وَالْجَرْعِ بَلْعُ الْمَاءِ. وَمَعْنَى يُسِيغُهُ يَفْعَلُ سَوْغَهُ فِي حَلْقِهِ. وَالسَّوْغُ انْحِدَارُ الشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ بِدُونِ غُصَّةٍ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرَابُ غَيْرَ كَرِيهِ الطَّعْمِ وَلَا الرِّيحِ، يُقَالُ سَاغَ الشَّرَابُ، وَشَرَابٌ سَائِغٌ. وَمَعْنَى لَا يَكادُ يُسِيغُهُ لَا يُقَارِبُ أَنْ يُسِيغَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسِيغَهُ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [71] . وَإِتْيَانُ الْمَوْتِ: حُلُولُهُ، أَيْ حُلُولُ آلَامِهِ وَسَكَرَاتِهِ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَةٌ ... لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، أَيْ فَيَسْتَرِيحُ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ يَنْتَظِرُهُ عَذَابٌ آخَرُ بَعْدَ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَالْغَلِيظُ: حَقِيقَتُهُ الْخَشِنُ الْجِسْمِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ بِجَامِعِ الْوَفْرَةِ فِي كُلٍّ، أَيْ عَذَابٌ لَيْسَ بِأَخَفِّ مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي سُورَة هود [58] .

[سورة إبراهيم (14) : آية 18]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 18] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَا عَمِلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَثَارَ هَذَا التَّمْثِيلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ شِدَّةِ عَذَابِهِمْ، فَيَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَوْ بِبَالِ مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْأَلَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا مِنَ الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ مِنْ إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ عِتْقِ رِقَابٍ، وَقِرَى ضُيُوفٍ، وَحِمَالَةِ دِيَاتٍ، وَفِدَاءِ أُسَارَى، وَاعْتِمَارٍ، وَرِفَادَةِ الْحَجِيجِ، فَهَلْ يَجِدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ؟ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ تَطَلَّبَتْ نُفُوسُهُمْ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُجُودِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَبَيْنَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فُضُرِبَ هَذَا الْمَثَلُ لِبَيَانِ مَا يكْشف جَمِيع احتمالات. وَالْمَثَلُ: الْحَالَةُ الْعَجِيبَةُ، أَيْ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعَجِيبَةُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَرَمَادٍ الْخَ. فَالْمَعْنَى: حَالُ أَعْمَالِهِمْ، بِقَرِينَةِ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ مَهْمَا أُطْلِقَ مَثَلُ كَذَا إِلَّا وَالْمُرَادُ حَالٌ خَاصَّةٌ مِنْ أَحْوَالِهِ يُفَسِّرُهَا الْكَلَامُ، فَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْمُلْتَزَمِ فِي الْكَلَامِ. فَقَوْلُهُ: أَعْمالُهُمْ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وكَرَمادٍ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. وَلَمَّا جُعِلَ الْخَبَرُ عَنْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَعْمالُهُمْ آلَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ مَثَلَ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَرَمَادٍ. شُبِّهَتْ أَعْمَالُهُمُ الْمُتَجَمِّعَةُ الْعَدِيدَةُ بِرَمَادٍ مُكَدَّسٍ فَإِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيَاحُ بِالرَّمَادِ انْتَثَرَ وَتَفَرَّقَ تَفَرُّقًا لَا يُرْجَى مَعَهُ اجْتِمَاعُهُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ اضْمِحْلَالِ شَيْءٍ كَثِيرٍ بَعْدَ تَجَمُّعِهِ، وَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مَعْقُولَةٌ.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 إلى 20]

وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْعَاصِفِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ عَاصِفٌ رِيحُهُ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مَاطِرٌ، أَيْ سَحَابُهُ. وَالرَّمَادُ: مَا يَبْقَى مِنَ احْتِرَاقِ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ. وَالْعَاصِفُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] . وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنِ اخْتِيرَ لَهُ التَّشْبِيهُ بهيئة الرماد المتجمع، لِأَنَّ الرَّمَادَ أَثَرٌ لِأَفْضَلِ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَشْيَعِهَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ قِرَى الضَّيْفِ حَتَّى صَارَتْ كَثْرَةُ الرَّمَادِ كِنَايَةً فِي لِسَانِهِمْ عَنِ الْكَرَمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ بِالْإِفْرَادِ، وَهَمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَجُمْلَةُ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ سُدًى فَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ حَالِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا ضَلَالٌ بَعِيدٌ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعِيدِ الْبَالِغُ نِهَايَةَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَاهِيَّتُهُ، أَيْ بِعِيدٌ فِي مَسَافَاتِ الضَّلَالِ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَقْصَى الضَّلَالِ أَوْ جِدُّ ضَلَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [116] . [19، 20] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 19 إِلَى 20] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فَإِنَّ هَلَاكَ فِئَةٍ كَامِلَةٍ شَدِيدَةِ الْقُوَّةِ وَالْمِرَّةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ السُّؤَالَ:

كَيْفَ تَهْلَكُ فِئَةٌ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي عَظَمَتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ مَا هُوَ دُونَهَا، فَمَبْدَأُ الِاسْتِئْنَافِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مُوقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ، قُدِّمَ عَلَيْهَا كَمَا تَجْعَلُ النَّتِيجَةَ مُقَدَّمَةً فِي الْخَطَابَةِ وَالْجِدَالِ عَلَى دَلِيلِهَا. وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْخَطَابَةِ» . وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَا سَبَقَهُ مِنْ تَفَرُّقِ الرَّمَادِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ. وَالْخِطَابُ فِي أَلَمْ تَرَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَكُلُّ مَنْ يُظَنُّ بِهِ التَّسَاؤُلُ عَنْ إِمْكَانِ إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ. وَالرُّؤْيَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِلْمِ النَّاشِئِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مُشَاهَدَةٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ، وَأَمَّا كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَقَلِّ تَأَمُّلٍ لِسُهُولَةِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ فَمُحْتَاجٌ إِلَى تَأَمُّلٍ عَمِيقٍ. فَلَمَّا كَانَ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهُ رُؤْيَةَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ عُلِّقَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 101] . وَالْحَقُّ هُنَا: الْحِكْمَةُ، أَيْ ضِدُّ الْعَبَثِ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة الدُّخان: 38، 39] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (خَلَقَ) بِصِيغَةِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ مَفْعُولُهُ وَالْأَرْضَ عُطِفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ (خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى (السَّمَاوَاتِ) وَبِخَفْضِ (الْأَرْضِ) .

[سورة إبراهيم (14) : آية 21]

وَالْخِطَابُ فِي يُذْهِبْكُمْ لِجَمَاعَةٍ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمُخَاطَبُ بِ أَلَمْ تَرَ. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، تَأْكِيدًا لِوَعِيدِهِمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَيْ إِنْ شَاءَ أَعْدَمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَخَلَقَ نَاسًا آخَرِينَ. وَقَدْ جِيءَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ بِالْحُكْمِ الْأَعَمِّ إِدْمَاجًا لِلتَّعْلِيمِ بِالْوَعِيدِ وَإِظْهَارًا لِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُذْهِبُ الْجَبَابِرَةَ الْمُعَانِدِينَ وَيَأْتِي فِي مَكَانِهِمْ فِي سِيَادَةِ الْأَرْضِ بِالْمُؤْمِنِينَ ليمكنهم من الْأَرْضِ. وَجُمْلَةُ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِهَا، وَإِنَّمَا سَلَكَ بِهَذَا التَّأْكِيد ملك الْعَطْفِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ لِلْمُؤَكَّدِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنَّهُ يُفِيدُ أَن هَذَا المشيء سَهْلٌ عَلَيْهِ هَيِّنٌ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سُورَة الرّوم: 27] . وَالْعَزِيزُ عَلَى أَحَدٍ: الْمُتَعَاصِي عَلَيْهِ الْمُمْتَنِعُ بقوته وأنصاره. [21] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 21] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [إِبْرَاهِيم: 20] بِاعْتِبَارِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِذْهَابُ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَأَذْهَبَهُمْ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا، أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: ويبرزون لله، فَعدل عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 1] .

وَالْبُرُوزُ: الْخُرُوجُ مِنْ مَكَانٍ حَاجِبٍ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَرْيَةٍ. وَالْمَعْنَى: حُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ. وجَمِيعاً تَأْكِيدٌ لِيَشْمَلَ جَمِيعَهُمْ مِنْ سَادَةٍ وَلَفِيفٍ. وَقَدْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْفِرَقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمُجَادَلَةِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مَعَ قَادَتِهِمْ، وَمُجَادَلَةُ الْجَمِيعِ لِلشَّيْطَانِ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شُغُلٍ عَنْ ذَلِكَ بِنُزُلِ الْكَرَامَةِ. وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى تَدَارُكِ شَأْنِهِمْ قَبْلَ الْفَوَاتِ. فَالْمَقْصُودُ: التَّحْذِيرُ مِمَّا يُفْضِي إِلَى سُوءِ الْمَصِيرِ. وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُعَدِّيَةٌ فِعْلَ بَرَزُوا إِلَى الْمَجْرُورِ. يُقَالُ: بَرَزَ لِفُلَانٍ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ، أَيْ حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: ظَهَرَ لَهُ. وَالضُّعَفَاءُ: عَوَامُّ النَّاسِ وَالْأَتْبَاعُ. وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: السَّادَةُ، لِأَنَّهُمْ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْعُمُومِ وَكَانَ التَّكَبُّرُ شِعَارَ السَّادَةِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكِبْرِ. وَالتَّبَعُ: اسْمُ جَمْعٍ التَّابِعُ مِثْلُ الْخَدَمِ وَالْخَوَلِ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِأَنَّهَا سَبَبٌ يَقْتَضِي الشَّفَاعَةَ لَهُمْ. وَمُوجِبُ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ فِي فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ كَوْنُ الْمُسْتَكْبِرِينَ يُغْنُونَ عَنْهُمْ لَا أَصْلُ الْغَنَاءِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ لَمَّا رَأَوْا آثَارَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَادَتِهِمْ. كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ غَرُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التورّك والتوبيخ والتبكيت، أَيْ فَأَظْهِرُوا مَكَانَتَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَهَا وَتَغُرُّونَنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَإِيلَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَبَيَّنَهُ مَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ [47، 48] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ اللَّهِ بَدَلِيَّةٌ، أَيْ غَنَاءً بَدَلًا عَنْ عَذَابِ اللَّهِ..

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ مَزِيدَةٌ لِوُقُوعِ مَدْخُولِهَا فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ بِحَرْفِ هَلْ. وشَيْءٍ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَحَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَوَقَعَ جَرُّهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَالْمَعْنَى: هَلْ تُغْنُونَ عَنَّا شَيْئًا. وَجَوَابُ الْمُسْتَكْبِرِينَ اعْتِذَارٌ عَنْ تَغْرِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا قَصَدُوا بِهِ تَوْرِيطَ أَتْبَاعِهِمْ كَيْفَ وَقَدْ وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْضًا، أَيْ لَوْ كُنَّا نَافِعِينَ لَنَفَعْنَا أَنْفُسَنَا. وَهَذَا الْجَوَابُ جَارٍ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ الْعِتَابِيِّ إِذْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ بِأَنَّا لَا نَمْلِكُ لَكُمْ غناء وَلَكِن ابتدأوا بِالِاعْتِذَارِ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُمْ نَحْوَهُمْ فِي الدُّنْيَا عِلْمًا بِأَنَّ الضُّعَفَاءَ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ غَنَاءً مِنَ الْعَذَابِ. وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَبْيِينٌ عَنْ سُؤَالٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ يَسْتَفْتُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَيَصْبِرُونَ أَمْ يَجْزِعُونَ تَطَلُّبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَرَادُوا تَأْيِيسَهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: لَا يُفِيدُنَا جَزَعٌ وَلَا صَبْرٌ، فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ. فَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكُ شَامِلٌ لِلْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُجَابِينَ، جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِتْمَامًا لِلِاعْتِذَارِ عَنْ تَوْرِيطِهِمْ. وَالْجَزَعُ: حُزْنٌ مَشُوبٌ بِاضْطِرَابٍ، وَالصَّبْرُ تَقَدَّمَ. وَجُمْلَةُ مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، أَيْ حَيْثُ لَا مَحِيصَ وَلَا نَجَاةَ فَسَوَاءٌ الْجَزَعُ وَالصَّبْرُ. وَالْمَحِيصُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ كَالْمَغِيبِ وَالْمَشِيبِ وَهُوَ النَّجَاةُ. يُقَال: حَاصَ عَنْهُ، أَيْ نَجَا مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ حَاصَ أَيْضًا، أَيْ مَا لَنَا مَلْجَأٌ وَمَكَانٌ ننجو فِيهِ.

[سورة إبراهيم (14) : آية 22]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 22] وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) أَفْضَتْ مُجَادَلَةُ الضُّعَفَاءِ وَسَادَتِهِمْ فِي تَغْرِيرِهِمْ بِالضَّلَالَةِ إِلَى نُطْقِ مَصْدَرِ الضَّلَالَةِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ إِمَّا لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ كُبَرَاؤُهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْهُدَى عَلِمُوا أَنَّ سَبَبَ إِضْلَالِهِمْ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ نَفْيَ الِاهْتِدَاءِ يُرَادِفُهُ الضَّلَالُ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ انْتَقَلُوا مِنَ الِاعْتِذَارِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَى مَلَامَةِ الشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ لَهُمْ مَا أَوْجَبَ ضَلَالَهَمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمٍ يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ كَالْوِجْدَانِ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَلُومُونِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَلَامٌ صَرِيحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَقَّعَهُ فَدَفَعَهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ يُتَوَّجَهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، فَجُمْلَةُ وَقالَ الشَّيْطانُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقالَ الضُّعَفاءُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ هَذَا الْمَوْقِفِ إِثَارَةَ بُغْضِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكُفْرِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِدِفَاعِ وَسْوَاسِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الشَّيْطَان مَلِيء بإضمار الشَّرّ لَا لَهُمْ فِيمَا وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَفِزَّ غَضَبَهُمْ مِنْ كَيْدِهِ لَهُمْ وَسُخْرِيَتِهِ بِهِمْ، فَيُورِثُهُمْ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً لَهُ وَسُوءَ ظَنِّهِمْ بِمَا يَتَوَقَّعُونَ إِتْيَانَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِ. وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْبِيَةِ. وَمَعْنَى قُضِيَ الْأَمْرُ تُمِّمَ الشَّأْنُ، أَيْ إِذْنُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ. وَمَعْنَى إِتْمَامِهِ: ظُهُورُهُ، وَهُوَ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَهْلِ الْهِدَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سُورَة يس: 59] ، وَذَلِكَ بِتَوْجِيهِ كُلِّ فَرِيقٍ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ، فَيَتَصَدَّى الشَّيْطَانُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمَلَامِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَشْرِيكِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ مَعَهُ فِي تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ، وَقَدْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِإِعْلَانِ الْحَقِّ، وَشَهَادَةٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ كَسْبًا فِي اخْتِيَار الانصياع إِلَى دَعْوَةِ الضَّلَالِ دُونَ دَعْوَةِ الْحَقِّ. فَهَذَا

شَبِيهُ شَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَوْلها لَهُمْ: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ إِظْهَارًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَسْجِيلًا عَلَى أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَقَمْعًا لِسَفْسَطَتِهِمْ. وَأَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِبْلَاغِ لِيُحِيطَ النَّاسَ عِلْمًا بِكُلِّ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ، وَإِيقَاظًا لَهُمْ لِيَتَأَمَّلُوا الْحَقَائِقَ الْخَفِيَّةَ فَتُصْبِحَ بَيِّنَةً وَاضِحَةً. فَقَوْلُ الشَّيْطَانِ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ إِبْطَالٌ لِإِفْرَادِهِ بِاللَّوْمِ أَوْ لِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِ الْمُلَامِ إِلَيْهِ فِي حِينِ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِاللَّوْمِ أَوْ بِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِهِ. وَأَمَّا وَقْعُ كَلَامِ الشَّيْطَانِ مِنْ نُفُوسِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ فَهُوَ مُوقِعُ الْحَسْرَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ زِيَادَةً فِي عَذَابِ النَّفْسِ. وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةً فِي الِاتِّصَافِ، أَيِ الْوَعْدُ الْحَقُّ الَّذِي لَا نَقْضَ لَهُ. وَالْحَقُّ: هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ بِالْمَوْعُودِ بِهِ. وَضِدُّهُ: الْإِخْلَافُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 22] ، أَيْ كَذَبْتُ مَوْعِدِي. وَشَمَلَ وَعَدُ الْحَقِّ جَمِيعَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ عَلَى لِسَان رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-. وَشَمَلَ الْخُلْفُ جَمِيعَ مَا كَانَ يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَوْلِيَائِهِ وَمَا يَعِدُهُمْ إِلَّا غُرُورًا. وَالسُّلْطَانُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، أَيْ لَمْ أَكُنْ مُجْبِرًا لَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ. فَالْمَعْنَى: لَكِنِّي دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ. وَالْمَقْصُودُ: لُومُوا أَنْفُسَكُمْ، أَيْ إِذْ قَبِلْتُمْ إِشَارَتِي وَدَعْوَتِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ صَدْرَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ.

وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ يُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَصْرِ قَلْبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِفْرَادِهِ بِاللَّوْمِ وَحَقُّهُمُ التَّشْرِيكُ فَقَلْبُ اعْتِقَادِهِمْ إِفْرَادُهُ دُونَ اعْتِبَارِ الشِّرْكَةِ، وَهَذَا مِنْ نَادِرِ مَعَانِي الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ أَجْدَرِ الطَّرَفَيْنِ بِالرَّدِّ، وَهُوَ طَرَفُ اعْتِقَادِ الْعَكْسِ بِحَيْثُ صَارَ التَّشْرِيكُ كَالْمُلْغَى لِأَنَّ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَجُمْلَةُ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، بَيَانٌ لِجُمْلَةِ النَّهْيِ عَن لومه لِأَنَّ لَوْمَهُ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مِنْهُ حِيلَةً لِنَجَاتِهِمْ، فَنَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَلُومُوهُ. وَالْإِصْرَاخُ: الْإِغَاثَةُ، اشْتُقَّ مِنَ الصُّرَاخِ لِأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، فَقِيلَ: أَصْرَخَهُ، إِذَا أَجَابَ صُرَاخَهُ، كَمَا قَالُوا: أَعْتَبَهُ، إِذَا قَبِلَ اسْتِعْتَابَهُ. وَأَمَّا عَطْفُ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِقْصَاءُ عَدَمِ غَنَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمُصْرِخِيَّ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً. وَأَصْلُهُ بِمُصْرِخِيِيَ بِيَاءَيْنِ أُولَاهُمَا يَاءُ جَمْعِ الْمُذكر الْمَجْرُور، وثانيتهما يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَحَقُّهَا السُّكُونُ فَلَمَّا الْتَقَتِ الْيَاءَانِ سَاكِنَتَيْنِ وَقَعَ التَّخَلُّصُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بِالْفَتْحَةِ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ «بِمُصْرِخِيَّ» - بِكَسْرِ الْيَاءِ- تَخَلُّصًا مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بالكسرة لِأَن الْكسر هُوَ أَصْلُ التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَحْرِيكُ الْيَاءِ بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، إِلَّا أَنَّ كَسْرَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ. وَأَنْشَدَ فِي تَنْظِيرِ هَذَا التَّخَلُّصِ بِالْكَسْرِ قَوْلُ الْأَغْلَبِ الْعِجْلِيِّ: قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَا فِيِّ ... قَالَتْ لَهُ: مَا أَنْتَ بِالْمُرْضِيِّ أَرَادَ هَلْ لَكِ فِي يَا هَذِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: زَعَمَ قُطْرُبٌ إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي يَرْبُوعٍ. وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ أَجَازَ الْكَسْرَ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ التَّخَلُّصَ بِالْفَتْحَةِ فِي مِثْلِهِ أَشْهَرُ مِنَ التَّخَلُّصِ بِالْكَسْرَةِ وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّصُ بِالْكَسْرَةِ

هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ سَنَدُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. وَقَدْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَسَبَقَهُمَا فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ النَّحَّاسِ وَلَمْ يَطَّلِعِ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى نِسْبَةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِلْأَغْلَبِ الْعجلِيّ. وَالَّذِي يظْهر لِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَرَأَ بِهَا بَنُو يَرْبُوعٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَبَنُو عِجْلِ بْنِ لُجَيْمٍ مِنْ بَكْرِ بن وَائِل، فقرأوا بِلَهْجَتِهِمْ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ للقبائل أَن يقرأوا الْقُرْآنَ بِلَهَجَاتِهِمْ وَهِيَ الرُّخْصَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَة أحرف فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلْكَ الرُّخْصَةُ بِقِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَعْوَامِ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ وَلم يثبت مِمَّا يَنْسَخُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى قَبُولِ كُلِّ قِرَاءَةٍ صَحَّ سَنَدُهَا وَوَافَقَتْ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ تُخَالِفْ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُتَوَفِّرَةٌ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ هَذِهِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فَقُصَارَى أَمْرِهَا أَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا يَنْطِقُ بِهِ أَحَدُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ على لُغَة بعض قَبَائِلِهَا بِحَيْثُ لَو قرىء بِهَا فِي الصَّلَاةِ لَصَحَّتْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ اسْتِئْنَافُ تَنَصُّلٍ آخَرَ مِنْ تَبِعَاتِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ قُصِدَ مِنْهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُ شدَّة التبري مِنْ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنْ أَرَادَ مِنْ مُضِيِّ كَفَرْتُ مُضِيَّ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، أَيْ كُنْتُ غَيْرَ رَاضٍ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ أَظْهَرَ بِهِ التَّذَلُّلَ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْشَاءَ عَدَمِ الرِّضَى بِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فَهُوَ نَدَامَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ حَيْثُ لَا يُقْبَلُ مَتَابٌ. ومِنْ قَبْلُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَشْرَكْتُمُونِ. وَالْإِشْرَاكُ الَّذِي كَفَرَ بِهِ إِشْرَاكُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ بِأَنْ عَبَدُوهُ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، فَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ جِنْسَ الشَّيْطَانِ مُبَاشَرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ بِوَاسِطَةِ عِبَادَةِ آلِهَتِهِ.

[سورة إبراهيم (14) : آية 23]

وَجُمْلَةُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يدْفع عَنْكُم الْعَذَابَ دَافَعٌ فَهُوَ وَاقع بكم. [23] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 23] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً، وَهُوَ انْتِقَالٌ لِوَصْفِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الْمَقْصُودَةِ بِالْوَصْفِ إِظْهَارًا لِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ، فَلَمْ يَدْخُلِ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ فِي الْمُنَازَعَةِ وَالْمُجَادَلَةِ تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنِ الْخَوْضِ فِي تِلْكَ الْغَمْرَةِ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ فِي سَلَامَةٍ وَدَعَةٍ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ، أَيْ بَرَزُوا وَقَالَ الضُّعَفَاءُ وَقَالَ الْكُبَرَاءُ وَقَالَ الشَّيْطَانُ إِلَخْ وَقَدْ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ فَازُوا بِنُزُلِ الْكَرَامَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، فَهُوَ إِذَنْ أَخَصُّ مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَة يُونُس.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 إلى 26]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 24 إِلَى 26] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (26) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَةُ مَا حُكِيَ عَنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَحْوَالِ أَهْلِ الْهِدَايَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً- إِلَى قَوْلِهِ- تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ وَكَلِمَةِ الشِّرْكِ. فَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إِيقَاظٌ لِلذِّهْنِ لِيُتَرَقَّبَ مَا يَرِدُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: أَلَمْ تَعْلَمْ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَثَلُ مِمَّا سَبَقَ ضَرْبُهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بَلِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ، فَالْكَلَامُ تَشْوِيقٌ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ. وَصَوْغُ التَّشْوِيقِ إِلَيْهِ فِي صِيغَةِ الزَّمَنِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَيْهَا حَرْفُ لَمْ الَّتِي هِيَ لِنَفِيِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَالدَّالِّ عَلَيْهَا فِعْلُ ضَرَبَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِقَصْدِ الزِّيَادَةِ فِي التَّشْوِيقِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمَثَلِ وَمَا مُثِّلَ بِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَ إِنْكَارِيٌّ، نَزَلَ الْمُخَاطَبُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْعِلْمِ، أَوْ هُوَ مُسْتَعْمل فِي التعجيب مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى عِلْمِهِ، أَوْ هُوَ لِلتَّقْرِيرِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّقْرِيرِ كَثِيرٌ، وَهُوَ كِنَايَة عَن التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ مُعَلَّقٌ فِعْلُهَا عَنِ الْعَمَلِ بِمَا وَلِيَهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ بِ كَيْفَ. وَإِيثَارُ كَيْفَ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَالَةَ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ ذَاتُ كَيْفِيَّةٍ عَجِيبَةٍ مِنْ بَلَاغَتِهِ وَانْطِبَاقِهِ. وَتَقَدَّمَ الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] . وَضَرْبُ الْمَثَلِ: نَظْمُ تَرْكِيبِهِ الدَّالِّ عَلَى تَشْبِيهِ الْحَالَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَإِسْنَادُ ضَرَبَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ-. وَالْمَثَلُ لَمَّا كَانَ مَعْنًى مُتَضَمِّنًا عِدَّةَ أَشْيَاءَ صَحَّ الِاقْتِصَارُ فِي تَعْلِيقِ فِعْلِ ضَرَبَ بِهِ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ إِلَى آخِرِهِ، فَانْتَصَبَ كَلِمَةً عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ مَثَلًا بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ، لِأَنَّ الْمَثَلَ يَتَعَلَّقُ بِهَا لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ. وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ قِيلَ: هِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ: كَلِمَةُ الشِّرْكِ. وَالطَّيِّبَةُ: النَّافِعَةُ. اسْتُعِيرَ الطَّيِّبُ لِلنَّفْعِ لِحُسْنِ وَقْعِهِ فِي النُّفُوسِ كَوَقْعِ الرَّوَائِحِ الذَّكِيَّةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] . وَالْفَرْعُ: مَا امْتَدَّ مِنَ الشَّيْءِ وَعَلَا، مُشْتَقٌّ مِنَ الِافْتِرَاعِ وَهُوَ الِاعْتِلَاءُ. وَفَرْعُ الشَّجَرَةِ غُصْنُهَا، وَأَصْلُ الشَّجَرَةِ: جِذْرُهَا. وَالسَّمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُزِيدُ الشَّجَرَةَ بَهْجَةً وَحُسْنَ مَنْظَرٍ. وَالْأُكْلُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- الْمَأْكُولُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الشَّجَرَةِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [4] . فَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْبَهْجَةِ فِي الْحِسِّ وَالْفَرَحِ فِي النَّفْسِ، وَازْدِيَادِ أُصُولِ النَّفْعِ بِاكْتِسَابِ الْمَنَافِعِ الْمُتَتَالِيَةِ بِهَيْئَةِ رُسُوخِ الْأَصْلِ، وَجَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَنَمَاءِ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ. وَوَفْرَةِ الثِّمَارِ، وَمُتْعَةِ أَكْلِهَا. وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِحْدَى الْهَيْئَتَيْنِ يُقَابِلُهُ الْجُزْءُ الْآخَرُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِجَمْعِ التَّشْبِيهِ وَتَفْرِيقِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَمْثِيلِ حَالِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ عَلَى الضِّدِّ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَاضِيَةِ مِنَ اضْطِرَابِ الِاعْتِقَادِ، وَضِيقِ الصَّدْرِ، وَكَدَرِ

التَّفْكِيرِ، وَالضُّرِّ الْمُتَعَاقِبِ. وَقَدِ اخْتُصِرَ فِيهَا التَّمْثِيلُ اخْتِصَارًا اكْتِفَاءً بِالْمُضَادِّ، فَانْتَفَتْ عَنْهَا سَائِرُ الْمَنَافِعِ لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ قَالَ: هِيَ الْحَنْظَلُ . وَجُمْلَةُ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ صفة لشَجَرَة خَبِيثَةٍ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يتركونها تلتف عَلَى الْأَشْجَارِ فَتَقْتُلَهَا. وَالِاجْتِثَاثُ: قَطْعُ الشَّيْءِ كُلِّهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجُثَّةِ وَهِيَ الذَّاتُ. ومِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ تَصْوِيرٌ لِ اجْتُثَّتْ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي صِفَةِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. وَجُمْلَةُ مَا لَها مِنْ قَرارٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاجْتِثَاثِ لِأَنَّ الِاجْتِثَاثَ مِنَ انْعِدَامِ الْقَرَارِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الْقُرْآنُ وَإِرْشَادُهُ، وبالكلمة الخبيثة تَعَالَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَعَقَائِدِهِمْ، فَ (الْكَلِمَةُ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. وَالْمَقْصُودُ مَعَ التَّمْثِيلِ إِظْهَارُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَضَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِتَمْثِيلِ كُلِّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافٍ مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً، فَانْظُرْ بَيَانَهُ هُنَالِكَ. وَجُمْلَةُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَالْوَاوُ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ. وَمَعْنَى (لَعَلَّ) رَجَاء تذكرهم، أَيْ تَهْيِئَةُ التَّذَكُّرِ لَهُمْ، وَقَدْ مَضَت نظائرها.

[سورة إبراهيم (14) : آية 27]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 27] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ (27) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَمَّا أَثَارَهُ تَمْثِيلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ بِالشَّجَرَةِ الثَّابِتَةِ الْأَصْلِ بِأَنْ يُسْأَلَ عَن الثَّبَات الْمُشَبَّهِ بِهِ: مَا هُوَ أَثَرُهُ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَيُجَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ الثَّبَاتُ ظَهَرَ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَهُمُ الَّذين آمنُوا إِذا ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ وَلَمْ يَتَزَعْزَعُوا فِيهِ لِأَنَّهُمُ اسْتَثْمَرُوا مِنْ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ. وَالْقَوْلُ: الْكَلَامُ. وَالثَّابِتُ الصَّادِقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَقْوَالُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا صَادِقَةُ الْمَعَانِي وَاضِحَةُ الدَّلِيلِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلِ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْقَوْلِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَمَعْنَى تَثْبِيتِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَا أَنَّ اللَّهَ يسر لَهُم فيهم الْأَقْوَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَإِدْرَاكَ دَلَائِلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهَا قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُخَامِرْهُمْ فِيهَا شَكٌّ فَأَصْبَحُوا ثَابِتِينَ فِي إِيمَانِهِمْ غير مزعزعين وعاملين بِهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدِينَ. وَذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِإِلْفَائِهِمُ الْأَحْوَالَ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ تَعْتَرِهِمْ نَدَامَةٌ وَلَا لَهَفٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَظَاهِرَ كَثِيرَةٍ يَظْهَرُ فِيهَا ثَبَاتُهُمْ بِالْحَقِّ قَوْلًا وَانْسِيَاقًا، وَتَظْهَرُ فِيهَا فِتْنَةُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ يَجْعَلُهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَعِمَايَةٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَالضَّلَالُ: اضْطِرَابٌ وَارْتِبَاكٌ، فَهُوَ الْأَثَرُ الْمُنَاسِبُ لِسَبَبِهِ، أَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ. وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سُورَة لُقْمَان: 13] .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 29]

وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّثْبِيتِ فِيهِمَا مَا وَرَدَ مِنْ وَصْفِ فِتْنَةِ سُؤَالِ الْقَبْرِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ كالتذليل لِمَا قَبْلَهَا. وَتَحْتَ إِبْهَامِ مَا يَشاءُ وَعُمُومِهِ مَطَاوٍ كَثِيرَةٍ مِنَ ارْتِبَاطِ ذَلِكَ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ، وَصَفَاءِ النِّيَّاتِ فِي تَطَلُّبِ الْإِرْشَادِ، وَتَرْبِيَةِ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ بِنَمَائِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَتَّى تَبْلُغَ بُذُورُ تَيْنِكَ الشَّجَرَتَيْنِ مُنْتَهَى أَمَدِهِمَا مِنِ ارْتِفَاعٍ فِي السَّمَاءِ وَاجْتِثَاثٍ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّثْبِيتِ وَالْإِضْلَالِ. وَفِي كُلِّ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ لَا تَبْلُغُ عُقُولُ الْبَشَرِ تَفْصِيلَهَا. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا حَتَّى تَسِيرَ مسير الْمثل. [28، 29] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 28 إِلَى 29] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) أُعْقِبَ تَمْثِيلُ الدِّينَيْنِ بِبَيَانِ آثَارِهِمَا فِي أَصْحَابِهِمَا. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهَا أَعْجَبُ وَالْعِبْرَةَ بِهَا أولى والحذر مِنْهَا مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَلِّي بِضِدِّهَا، ثُمَّ أُعْقِبَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا الْخَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بصرية لِأَن مُتَعَلِّقُهَا مِمَّا يُرَى، وَلِأَنَّ تَعْدِيَةَ فِعْلِهَا بِ إِلَى يُرَجِّحُ ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [سُورَة الْبَقَرَة: 258] .

وَقَدْ نَزَلَ الْمُخَاطَبُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ. وَالْخِطَابُ لِمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مَعَ وُضُوحِ حَالِهِمْ. وَالْكُفْرُ: كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ. وَفِي قَوْله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً مَحْسَنُ الِاحْتِبَاكِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَشُكْرَهَا كُفْرًا بِهَا وَنِقْمَةً مِنْهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ الخَ. وَاسْتُعِيرَ التَّبْدِيلُ لِوَضْعِ الشَّيْءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ شَيْءٌ آخَرُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ تَبْدِيلَ الذَّاتِ بِالذَّاتِ. وَالَّذِينَ بَدَّلُوا هَذَا التبديل فريق معرفون، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْكَلِمَةَ الْخَبِيثَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيْ كَلِمَةَ الشِّرْكِ، وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَكَابَرُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ وَكَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّدُوا مَنِ اسْتَطَاعُوا، وَتَسَبَّبُوا فِي إِحْلَالِ قَوْمِهِمْ دَارَ الْبَوَارِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ أَحَلُّوا إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي بَدَّلُوهَا هِيَ نِعْمَةُ أَنْ بَوَّأَهُمْ حَرَمَهُ، وَأَمَّنَهُمْ فِي سَفَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَسَلَّمَهُمْ مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ وَالْعُدْوَانِ، فَكَفَرُوا بِمَنْ وَهَبَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ وَعَبَدُوا الْحِجَارَةَ. ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ بَعَثَ فِيهِمْ أفضل أنبيائه- صلّى الله عَلَيْهِم جَمِيعًا- وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَهَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ السِّيَادَةِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فبدّلو شُكْرَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ بِهِ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ الْكُبْرَى هِيَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيَّتِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. وَقَوْمُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي مُلَازَمَةِ الْكُفْرِ حَتَّى مَاتُوا كُفَّارًا، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُضَافُوا إِلَيْهِمْ.

وَالْبَوَارُ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ. وَدَارُهُ: مَحَلُّهُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ. وَالْإِحْلَالُ بِهَا الْإِنْزَالُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْلَالِ التَّسَبُّبُ فِيهِ، أَيْ كَانُوا سَبَبًا لِحُلُولِ قَوْمِهِمْ بِدَارِ الْبَوَارِ، وَهِيَ جَهَنَّمُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَوَاقِعُ الْقَتْلِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ: مَوْقِعِ بَدْرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ، وَبِهِ فَسَّرَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَرْضَ بَدْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَحَلُّوا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ مُتَأَخِّرٌ زَمَنُهُ فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَعَلَى تَفْسِيرِ دارَ الْبَوارِ بِدَارِ الْبَوَارِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ جَهَنَّمَ بَدَلًا مِنْ دارَ الْبَوارِ وَجُمْلَةُ يَصْلَوْنَها حَالًا مِنْ جَهَنَّمَ، فَتُخَصُّ دارَ الْبَوارِ بِأَعْظَمِ أَفْرَادِهَا وَهُوَ النَّارُ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَهَمِّيَّتِهِ. وَعَلَى تَفْسِيرِ دارَ الْبَوارِ بِأَرْضِ بَدْرٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَانْتِصَابُ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَصْلَوْنَها عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَمَا يَرْوُونَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً هُمُ الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بْنِ مَخْزُومٍ، قَالَ: فَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ وَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَكَفَيْتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُغْرِضِينَ الْمُضَادِّينَ لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَفِي رِوَايَاتٍ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَلَا يُرِيدُ عُمَرُ وَلَا عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ فاحذروا الأفهام الخطئة. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

[سورة إبراهيم (14) : آية 30]

أَنَّهُمْ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَم وَمن اتبعهُ من الْعَرَبِ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَحَلُّوا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَإِذَا صَحَّ عَنْهُ فَكَلَامُهُ عَلَى مَعْنَى التَّنْظِيرِ وَالتَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْقَرارُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَصْلَوْنَها، أَوْ حَالٌ مِنْ جَهَنَّمَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ الْقَرار هِيَ. [30] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 30] وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) عَطْفٌ عَلَى بَدَّلُوا وأَحَلُّوا، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ. وَالْجَعْلُ يَصْدُقُ باختراع ذَلِك مَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَهُوَ مِنْ خُزَاعَةَ. وَيَصْدُقُ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ وَنَشْرِهِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ، مِثْلَ وَضْعِ أَهْلِ مَكَّةَ الْأَصْنَامَ فِي الْكَعْبَةِ وَوَضْعِ هُبَلَ عَلَى سَطْحِهَا. وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُوَ الْمُمَاثِلُ فِي مَجْدٍ وَرِفْعَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [22] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُضِلُّوا- بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- مِنْ أَضَلَّ غَيْرَهُ إِذَا جَعَلَهُ ضَالًّا، فَجَعَلَ الْإِضْلَالَ عِلَّةً لِجَعْلِهِمْ لِلَّهِ أَنْدَادًا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقْصِدُوا تَضْلِيلَ النَّاسِ وَإِنَّمَا قَصَدُوا مَقَاصِدَ هِيَ مُسَاوِيَةٌ لِلتَّضْلِيلِ لِأَنَّهَا أَوْقَعَتِ النَّاسَ فِي الضَّلَالِ، فَعُبِّرَ عَلَى مَسَاوِي التَّضْلِيلِ بِالتَّضْلِيلِ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِهِ، تَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ بِغَايَةِ فِعْلِهِمْ وَهُمْ مَا أَضَلُّوا إِلَّا وَقَدْ ضَلُّوا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَذَلِكَ إِيجَازٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب ليضلو- بِفَتْحِ الْيَاءِ- وَالْمَعْنَى: لِيَسْتَمِرَّ ضَلَالُهُمْ فَإِنَّهُمْ حِينَ جَعَلُوا الْأَنْدَادَ كَانَ ضَلَالُهُمْ حَاصِلًا فِي

[سورة إبراهيم (14) : آية 31]

زَمَنِ الْحَالِ. وَمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقْبَلَةً لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرِ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ. وَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَضَلُّوا النَّاسَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. وَسَبِيلُ اللَّهِ: كُلُّ عَمَلٍ يَجْرِي عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ. شِبْهُ الْعَمَلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَحَلَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَجُمْلَةُ قُلْ تَمَتَّعُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا إِذَا عَلِمَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْجَزَاءِ الْمُنَاسِبِ لِجُرْمِهِمْ وَكَيْفَ تَرَكَهُمُ اللَّهُ يَرْفُلُونَ فِي النَّعِيمِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ، أَيْ يَمُوتُونَ فَيَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ. وَأُمِرَ بِأَنْ يُبْلِغَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْدَهُونَ بِأَنَّهُمْ فِي تَنَعُّمٍ وَسِيَادَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [196، 197] . [31] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 31] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ بِذِكْرِ حَالِ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ. فَلَمَّا ابْتُدِئَ بِالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّخَلِّي ثُنِّىَ بِالْفَرِيقِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَةِ عَقِبَهَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً- إِلَى أَنْ قَالَ- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة الْإِسْرَاء: 50، 52] .

وَلَمَّا كَانُوا مُتَحَلِّينَ بِالْكَمَالِ صِيَغَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِعُنْوَانِ الْوَصْفِ بِالْإِيمَانِ، وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ صَلَاةٍ وَإِنْفَاقٍ لِقَصْدِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، فَحَصَلَتْ بِذَلِكَ مُنَاسَبَةُ وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ تَضَادِّ الْحَالَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ مِنْ قَبْلُ وَيُنْفِقُونَ مِنْ قَبْلُ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِزَادَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ الْمُضَارِعُ مَعَ تَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ دُونَ صِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ، فَهُوَ مَعَ لَامِ الْأَمْرِ يُلَاقِي حَالَ الْمُتَلَبِّسِ بِالْفِعْلِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ بِخِلَافِ صِيغَةِ (افْعَلْ) فَإِنَّ أَصْلَهَا طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُلْتَبِسًا بِهِ، فَأَصْلُ يُقِيمُوا الصَّلاةَ لِيُقِيمُوا، فَحُذِفَتْ لَامُ الْأَمْرِ تَخْفِيفًا. وَهَذِهِ هِيَ نُكْتَةُ وُرُودِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي مَوَاضِعِ وُرُودِهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [52] ، أَيْ قُلْ لَهُمْ لِيُقِيمُوا وَلْيَقُولُوا، فَحُكِيَ بِالْمَعْنَى. وَعِنْدِي: أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [3] ، أَيْ ذَرْهُمْ لِيَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ. فَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِمْلَاءِ وَالتَّهْدِيدِ، وَلِذَلِكَ نُوقِنُ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ هَذِهِ مَعْمُولَةٌ لِلَامِ أَمْرٍ مَحْذُوفَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ الْمَجْزُومُ بلام الْأَمر محذوفة بَعْدَ تَقَدُّمِ فِعْلِ قُلْ، كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَوَافَقَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَزْمُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ بِ قُلْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمَقُولُ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِعِبَادِي أَقِيمُوا يُقِيمُوا وَأَنْفِقُوا يُنْفِقُوا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِمَا يَقَعُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفَاتَهُمْ نَحْوُ آيَةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا. وَزِيَادَةٌ مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِلتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الْإِنْفَاقِ لِيَكُونَ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ.

وَ (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ يُنْفِقُوا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سِرًّا وَعَلانِيَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [274] . وَالْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْأَحْوَالِ فِي طَلَبِ الْإِنْفَاقِ لِكَيْلَا يَظُنُّوا أَنَّ الْإِعْلَانَ يَجُرُّ إِلَى الرِّيَاءِ كَمَا كَانَ حَالُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْإِنْفَاقَ سِرًّا يُفْضِي إِلَى إِخْفَاءِ الْغَنِيِّ نِعْمَةَ اللَّهِ فَيُجَرُّ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، فَرُبَّمَا تَوَخَّى الْمَرْءُ أَحَدَ الْحَالَيْنِ فَأَفْضَى إِلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي الْحَالِ الْآخَرِ فَتَعَطَّلَ نَفْعٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ بِرٌّ لَا يُكَدِّرُهُ مَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، «وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بالنبات» . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [سُورَة التَّوْبَة: 79] الْآيَةَ. وَقِيلَ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّرِّ الْإِنْفَاقُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِ، وَمِنَ الْعَلَانِيَةِ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ. وَتَقْدِيمُ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى الْحَالَيْنِ لِبُعْدِهِ عَنْ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ، وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِبْقَاءً لِبَعْضِ حَيَاءِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ الْخَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا، أَيْ لِيَفْعَلُوا ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْيَوْمِ الَّذِي تَتَعَذَّرُ فِيهِ الْمُعَاوَضَاتُ وَالْإِنْفَاقُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ مَنَافِعِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ قَبْلَ يَوْمِ الْجَزَاءِ عَنْهُمَا حِينَ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونُوا ازْدَادُوا مِنْ ذَيْنِكَ لِمَا يَسُرُّهُمْ مِنْ ثَوَابِهِمَا فَلَا يَجِدُونَ سَبِيلًا لِلِاسْتِزَادَةِ مِنْهُمَا، إِذْ لَا بَيْعَ يَوْمَئِذٍ فَيُشْتَرَى الثَّوَابُ وَلَا خِلَالَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِرْفَادُ وَالْإِسْعَافُ بِالثَّوَابِ. فَالْمُرَادُ بِالْبَيْعِ الْمُعَاوَضَةُ وَبِالْخِلَالِ الْكِنَايَةُ عَنِ التَّبَرُّعِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [254] . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخِلَالِ هُنَا آثَارُهَا، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْخُلَّةِ، أَيِ الصُّحْبَةِ وَالْمَوَدَّةِ لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْمُتَّقِينَ، قَالَ تَعَالَى:

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 إلى 34]

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [سُورَة الزخرف: 67] . وَقد كني بِنَفْيِ الْبَيْعِ وَالْخِلَالِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ النَّوَالِ وَالْإِرْفَادِ عَنِ انْتِفَاءِ الِاسْتِزَادَةِ. وَإِدْخَالُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى اسْمِ الزَّمَانِ وَهُوَ قَبْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ لِيُفْهَمَ مَعْنَى الْمُبَادَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا بَيْعٌ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ. وَهُمَا وَجْهَانِ فِي نَفْيِ النَّكِرَةِ بِحرف لَا. [32- 34] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 32 إِلَى 34] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً الْآيَةَ. وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ الْآيَةَ. وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ تَعْدَادَهُمْ لِنِعَمٍ تَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا لِيَظْهَرَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوهَا، وَبِالضِّدِّ حَالُ الَّذِينَ شَكَرُوا عَلَيْهَا، وَلِيَزْدَادَ الشَّاكِرُونَ شُكْرًا. فَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 35] . فَجِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمٍ عَامَّةٍ مَشْهُودَةٍ مَحْسُوسَةٍ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهَا إِلَّا أَنَّهَا محتاجة لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَا وَمُوجِدَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمِ الْمُوجِدِ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ. وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ مَعْلُومَةُ الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَالثُّبُوتِ لَهُ، إِذْ لَا يُنَازَعُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ صَاحِبُ الْخَلْقِ وَلَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَخْلُقُ شَيْئًا، كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سُورَة لُقْمَان: 25] ، فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ على إلهية خالقهما وَتَمْهِيدٌ للنعم المودعة فيهمَا فَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَإِخْرَاجُ الثَّمَرَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْبِحَارُ وَالْأَنْهَارُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذِهِ النِّعَمِ فِي آيَاتٍ مَضَتْ. وَالرِّزْقُ الْقُوتُ. وَالتَّسْخِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّذْلِيلُ وَالتَّطْوِيعُ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي جعل الشَّيْء قَابِلًا لِتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَقَوْلُهُ: لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ هُوَ عِلَّةُ تَسْخِيرِ صُنْعِهَا. وَمَعْنَى تَسْخِيرِ الْفُلْكِ: تَسْخِيرُ ذَاتِهَا بِإِلْهَامِ الْبَشَرِ لِصُنْعِهَا وَشَكْلِهَا بِكَيْفِيَّةٍ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِدُونَ مَانِعٍ. وَقَوْلُهُ: بِأَمْرِهِ مُتَعَلق ب لِتَجْرِيَ. وَالْأَمْرُ هُنَا الْإِذْنُ، أَيْ تَيْسِيرُ جَرْيِهَا فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ بِكَفِّ الْعَوَاصِفِ عَنْهَا وَبِإِعَانَتِهَا بِالرِّيحِ الرُّخَاءِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [سُورَة الْحَج: 65] . وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ بِالنِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [سُورَة لُقْمَان: 31] ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ آيَةُ وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيَاحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ الْآيَة [سُورَة الشورى: 32- 33] . وَتَسْخِيرُ الْأَنْهَارِ: خَلْقُهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ تَقْتَضِي انْتِقَالَ الْمَاءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَقَرَارَهُ فِي بَعْضِ الْمُنْخَفَضَاتِ فَيَسْتَقِي مِنْهُ مَنْ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ عَلَى ضِفَافِهِ

حَيْثُ تَسْتَقِرُّ مِيَاهُهُ، وَخَلَقَ بَعْضَهَا مُسْتَمِرَّةَ الْقَرَارِ كَالدِّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ لِلشُّرْبِ وَلِسَيْرِ السُّفُنِ فِيهَا. وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ خَلْقُهُمَا بِأَحْوَالٍ نَاسَبَتِ انْتِفَاعَ الْبَشَرِ بِضِيَائِهِمَا، وَضَبْطِ أَوْقَاتِهِمْ بِسَيْرِهِمَا. وَمَعْنَى دائِبَيْنِ دَائِبَيْنِ عَلَى حَالَاتٍ لَا تَخْتَلِفُ إِذْ لَوِ اخْتَلَفَتْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَشَرُ ضَبْطَهَا فَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ. وَالْفُلْكُ: جَمْعٌ لَفْظُهُ كَلَفْظِ مُفْرَدِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَمَعْنَى وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ أَعْطَاكُمْ بَعْضًا مِنْ جَمِيعِ مَرْغُوبَاتِكُمُ الْخَارِجَةِ عَنِ اكْتِسَابِكُمْ بِحَيْثُ شَأْنُكُمْ فِيهَا أَنْ تَسْأَلُوا اللَّهَ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ تَوَالُدِ الْأَنْعَامِ، وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ، وَدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ: كَدَفْعِ الْأَمْرَاضِ عَنِ الْأَنْعَامِ، وَدَفْعِ الْجَوَائِحِ عَنِ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ. فَجُمْلَةُ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ تَعْمِيمٌ بَعْدَ خُصُوصٍ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُونَهَا وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سُورَة الشورى: 27] ، وَأَنَّ الْإِنْعَامَ وَالِامْتِنَانَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ الْبَذْلِ لَا بِمِقْدَارِ الْحِرْمَانِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها تَأْكِيدٌ لِلتَّذْيِيلِ وَزِيَادَةٌ فِي التَّعْمِيمِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ كَثِيرٌ مِنْهُ مَعْلُومٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُ لَا يُحِيطُونَ بِعِلْمِهِ أَوْ لَا يَتَذَكَّرُونَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعْدَادِ النِّعَمِ. فَمَعْنَى إِنْ تَعُدُّوا إِنْ تُحَاوِلُوا الْعَدَّ وَتَأْخُذُوا فِيهِ. وَذَلِكَ مِثْلَ النِّعَمِ الْمُعْتَادِ بِهَا الَّتِي يَنْسَى النَّاسُ أَنَّهَا مِنَ النعم، كنعمة التنفس، وَنِعْمَةِ الْحَوَّاسِ، وَنِعْمَةِ هَضْمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَنِعْمَةِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ، وَنِعْمَةِ الصِّحَّةِ. وَلِلْفَخْرِ هُنَا تَقْرِيرٌ نَفِيسٌ فَانْظُرْهُ.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 36]

وَالْإِحْصَاءُ: ضَبْطُ الْعَدَدِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصَا اسْمًا لِلْعَدَدِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْحَصَى، وَهُوَ صِغَارُ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُونَ الْأَعْدَادَ الْكَثِيرَةَ بِالْحَصَى تَجَنُّبًا لِلْغَلَطِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَحْقِيقِ تَبْدِيلِ النِّعْمَةِ كُفْرًا، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَنْهَا. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ صِنْفٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَتَأْكِيدِهَا، فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمُشْرِكُ، مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [سُورَة مَرْيَم: 66] ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَصِيغَتَا الْمُبَالغَة فِي لَظَلُومٌ كَفَّارٌ اقْتَضَاهُمَا كَثْرَةُ النِّعَمِ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها، إِذْ بِمِقْدَارِ كَثْرَةِ النِّعَمِ يَكْثُرُ كُفْرُ الْكَافِرِينَ بِهَا إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ الْمُنْعِمِ وَعَبَدُوا مَا لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَجْحَدُونَ نِعَمَ اللَّهِ وَلَا يعْبدُونَ غَيره. [35، 36] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 35 إِلَى 36] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيم: 28] فَإِنَّهُمْ كَمَا بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا أَهْمَلُوا الشُّكْرَ عَلَى مَا بَوَّأَهُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَبَدَّلُوا اقْتِدَاءَهُمْ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِأَسْلَافِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَبَدَّلُوا دُعَاءَ سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ لَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ كُفْرًا بِمَفِيضِ تِلْكَ النِّعَمِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِأَنِ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ النِّعَمِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ الَّتِي يَدْخُلُ تَحْتَ مِنَّتِهَا أَهْلُ مَكَّةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ. وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ فِي الِامْتِنَانِ بِهَا إِلَى أُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لِإِدْمَاجِ التَّنْوِيهِ بِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالتَّعْرِيضِ بِذُرِّيَّتِهِ من الْمُشْركين. (وَإِذا) اسْمُ زَمَانٍ مَاضٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ شَائِعِ الْحَذْفِ فِي أَمْثَالِهِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، زِيَادَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي مَرَّ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، فَمَوْقِعُ الْعِبْرَةِ مِنَ الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ. ورَبِّ مُنَادَى مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ. وَأَصْلُهُ (رَبِّي) ، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى الْيَاءِ. وَالْبَلَدُ: الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرْيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَلَدَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَعْهُود الْحُضُور. والْبَلَدُ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَحِكَايَةُ دُعَائِهِ بِدُونِ بَيَانِ الْبَلَدِ إِبْهَامٌ يَرِدُ بَعْدَهُ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 37] ، أَوْ هُوَ حَوَالَةُ عَلَى مَا فِي عِلْمِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ مَكَّةُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ. وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِلْعَهْدِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، فَهُنَا دَعَا لِلْبَلَدِ بِأَنْ يَكُونَ آمِنًا، وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ دَعَا لِمُشَارٍ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِنْ نَوْعِ الْبِلَادِ الْآمِنَةِ، فَمَآلُ الْمُفَادَيْنِ مُتَّحِدٌ. وَاجْنُبْنِي أَمْرٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، يُقَالُ: جَنَّبَهُ الشَّيْءَ، إِذَا جَعَلَهُ جَانِبًا عَنْهُ، أَيْ بَاعَدَهُ عَنْهُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: جَنَّبَهُ بِالتَّضْعِيفِ أَوْ أَجْنَبَهُ بِالْهَمْزِ. وَجَاءَ الْقُرْآنُ هُنَا بِلُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ لِأَنَّهَا أَخَفُّ. وَأَرَادَ بِبَنِيهِ أَبْنَاءَ صُلْبِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ، أَوْ أَرَادَ جَمِيعَ نَسْلِهِ تَعْمِيمًا فِي الْخَيْرِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي الْبَعْضِ.

وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ صُورَةٌ أَوْ حِجَارَةٌ أَوْ بِنَاءٌ يُتَّخَذُ مَعْبُودًا وَيُدْعَى إِلَهًا. وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلَ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ. وَمِثْلَ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدَهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ. وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لِإِنْشَاءِ التَّحَسُّرِ عَلَى ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ تَعْلِيلٌ لِلدَّعْوَةِ بِإِجْنَابِهِ عِبَادَتَهَا بِأَنَّهَا ضَلَالٌ رَاجَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَحَقٌّ لِلْمُؤْمِنَ الضَّنِينِ بِإِيمَانِهِ أَنْ يَخْشَى أَنْ تَجْتَرِفَهُ فِتْنَتُهَا، فَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِمَا يُفِيدُهُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ أُورَ الْكَلْدَانِيِّينَ إِنْكَارًا عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سُورَة الصافات: 99] وَقَالَ لِقَوْمِهِ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سُورَة مَرْيَم: 48] . فَلَمَّا مَرَّ بِمِصْرَ وَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ثُمَّ دَخَلَ فِلَسْطِينَ فَوَجَدَهُمْ عَبْدَةَ أَصْنَامٍ، ثُمَّ جَاءَ عَرَبَةَ تِهَامَةَ فَأَسْكَنَ بِهَا زَوْجَهُ فَوَجَدَهَا خَالِيَةً وَوَجَدَ حَوْلَهَا جُرْهُمَ قَوْمًا عَلَى الْفِطْرَةِ وَالسَّذَاجَةِ فَأَسْكَنَ بِهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. ثُمَّ أَقَامَ هُنَالِكَ مَعْلَمَ التَّوْحِيدِ. وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْكَعْبَةُ بَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَأْوَى التَّوْحِيدِ، وَأَقَامَ ابْنُهُ هُنَالِكَ لِيَكُونَ دَاعِيَةً لِلتَّوْحِيدِ. فَلَا جَرَمَ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَلَدًا آمِنًا حَتَّى يَسْلَمَ سَاكِنُوهُ وَحَتَّى يَأْوِيَ إِلَيْهِمْ مَنْ إِذَا آوَى إِلَيْهِمْ لَقَّنُوهُ أُصُولَ التَّوْحِيدِ. فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، أَيْ فَمَنْ تَبِعَنِي مِنَ النَّاسِ فَتَجَنَّبَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَهُوَ مِنِّي، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ ذُرِّيَّتُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَصْلُحُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنِّي اتِّصَالِيَّةٌ. وَأَصْلُهَا التَّبْعِيضُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِي اتِّصَالَ الْبَعْضِ بِكُلِّهِ.

[سورة إبراهيم (14) : آية 37]

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَأَدُّبٌ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ وَنَفْعٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ النَّاسِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُهُ. وَالْمَعْنَى وَمَنْ عَصَانِي أُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى رَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ عَصَى. وَهَذَا مِنْ غَلَبَةِ الْحِلْمِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَخَشْيَةٍ مِنَ اسْتِئْصَالِ عُصَاةِ ذُرِّيَّتِهِ. وَلِذَلِكَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ قَلِيلًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سُورَة الْبَقَرَة: 126] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [سُورَة الزخرف: 27] . وَسَوْقُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ هُنَا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَبَرُّوا بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَفْوِيضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِمَنْ يُشْرك بِهِ. [37] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 37] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) جُمْلَةُ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ دُعَاءٍ آخَرَ. وَافْتُتِحَتْ بِالنِّدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّضَرُّعِ. وَفِي كَوْنِ النِّدَاءِ تَأْكِيدًا لِنِدَاءٍ سَابِقٍ ضَرْبٌ مِنَ الرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنِّدَاءِ رَبْطُ الْمِثْلِ بِمِثْلِهِ. وَأُضِيفَ الرَّبُّ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ خِلَافًا لِسَابِقِيهِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي افْتُتِحَ بِهِ فِيهِ حَظٌّ لِلدَّاعِي وَلِأَبْنَائِهِ. وَلَعَلَّ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَاضِرٌ مَعَهُ حِينَ الدُّعَاءِ كَمَا تَدُلُّ لَهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سُورَة الْبَقَرَة: 127] . وَذَلِكَ مِنْ معنى الشُّكْر الْمَسْئُول هُنَا. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذُرِّيَّتِي بِمَعْنَى بَعْضٍ، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهُوَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِ، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَتَقَرِّي مَكَّةَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 39] ، فَذَكَرَ إِسْحَاقَ- عَلَيْهِ السّلام-. والواد: الْأَرْضُ بَيْنَ الْجِبَالِ، وَهُوَ وَادِي مَكَّةَ. وغَيْرِ ذِي زَرْعٍ صِفَةٌ، أَيْ بَوَادٍ لَا يَصْلُحُ لِلنَّبْتِ لِأَنَّهُ حِجَارَةٌ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ذُو تَدُلُّ عَلَى صَاحِبِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: ذُو مَالٍ، فَالْمَالُ ثَابَتٌ لَهُ، وَإِذَا أُرِيدَ ضِدُّ ذَلِكَ قِيلَ غَيْرُ ذِي كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [سُورَة الزمر: 28] ، أَيْ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِوَجِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَقُلْ بِوَادٍ لَا يُزْرَعُ أَوْ لَا زَرْعَ بِهِ. وعِنْدَ بَيْتِكَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِوَادٍ أَوْ حَالٌ. وَالْمُحَرَّمُ: الْمُمَنَّعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَيْدِي إِيَّاهُ بِمَا يُفْسِدُهُ أَوْ يَضُرُّ أَهْلَهُ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ هَلَكَةِ مَنْ يُرِيدُ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. وَمَا أَصْحَابُ الْفِيلِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ. وَعَلَّقَ لِيُقِيمُوا بِ أَسْكَنْتُ، أَيْ عِلَّةُ الْإِسْكَانِ بِذَلِكَ الْوَادِي عِنْدَ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَنْ لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَاغِلٌ فَيَكُونَ الْبَيْتُ مَعْمُورًا أَبَدًا. وَتَوْسِيطُ النِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُقَدِّمَةِ الدُّعَاءِ زِيَادَةٌ فِي الضَّرَاعَةِ. وَتَهَيَّأَ بِذَلِكَ أَنْ يُفَرِّعَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ هِمَّةَ الصَّالِحِينَ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ. وَالْأَفْئِدَةُ: جَمْعُ فُؤَادٍ، وَهُوَ الْقَلْبُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّفْسُ وَالْعَقْلُ. وَالْمُرَادُ فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَهْوُونَ إِلَيْهِمْ. فَأَقْحَمَ لَفْظَ الْأَفْئِدَةِ لِإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ عَنْ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمُسْرِعَ هُوَ الْفُؤَادُ لَا الْجَسَدُ

[سورة إبراهيم (14) : آية 38]

فَلَمَّا ذَكَرَ أَفْئِدَةً لِهَذِهِ النُّكْتَةِ حَسُنَ بَيَانُهُ بِأَنَّهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَ مِنْ بَيَانِيَّةٌ لَا تَبْعِيضِيَّةٌ، إِذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَالْمَعْنَى: فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَقْصِدُونَهُمْ بِحَبَّاتِ قُلُوبِهِمْ. وَتَهْوِي- مُضَارِعُ هَوَى- بِفَتْحِ الْوَاوِ-: سَقَطَ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ اسْتِعَارَةٌ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِاللَّامِ دُونَ عَلَى. وَالْإِسْرَاعُ: جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى زِيَارَتِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ تَأْنِيسُ مَكَانِهِمْ بِتَرَدُّدِ الزَّائِرِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ مِنْهُمْ. وَالتَّنْكِيرُ مُطْلَقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي عُمْرَانِ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ بِالْوَارِدِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْهُ فِي الدُّعَاءِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ اكْتِفَاءً بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمَحَبَّةُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ يَحْصُلُ مَعَهَا مَحَبَّةُ الْبَلَدِ وَتَكْرِيرُ زِيَارَتِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِئْنَاسِهِمْ بِهِ وَرَغْبَتِهِمْ فِي إِقَامَةِ شَعَائِرِهِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. وَرَجَاءُ شُكْرِهِمْ دَاخِلٌ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ جُعِلَ تَكْمِلَةً لَهُ تَعَرُّضًا لِلْإِجَابَةِ وَزِيَادَةً فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَالْمَقْصُودُ: تَوَفُّرُ أَسْبَابِ الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَانْتِفَاءِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا مِنْ فِتْنَةِ الكدح للاكتساب. [38] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 38] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) جَاءَ بِهَذَا التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ جَامِعًا لِمَا فِي ضَمِيرِهِ، وَفَذْلَكَةً لِلْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَذِكْرِ مَنِ اتَّبَعَ دَعْوَتَهُ

[سورة إبراهيم (14) : آية 39]

وَمَنْ عَصَاهُ، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ إِسْكَانِ أَبْنَائِهِ بِمَكَّةَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونُوا حُرَّاسَ بَيْتِ اللَّهِ، وَأَنْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْ يشكروا النعم المسئولة لَهُمْ. وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِأَهْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُرَاقِبُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَيُخَلِّصُوا النِّيَّةَ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، أَيْ تَعْلَمُ أَحْوَالَنَا وَتَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. وَلِكَوْنِهَا تَذْيِيلًا أُظْهِرَ فِيهَا اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَكُونَ التَّذْيِيلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ وَالْكَلَام الْجَامِع. [39] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 39] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) لَمَّا دَعَا اللَّهُ لِأَهَمِّ مَا يُهِمَّهُ وَهُوَ إِقَامَةُ التَّوْحِيدِ وَكَانَ يَرْجُو إِجَابَةَ دَعْوَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَجَبٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ خَطَرَ بِبَالِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ يَسْأَلُهُ وَهُوَ أَنْ وَهَبَ لَهُ وَلَدَيْنِ فِي إِبَّانِ الْكِبَرِ وَحِينَ الْيَأْسِ مِنَ الْوِلَادَةِ فَنَاجَى اللَّهَ فَحَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سُمَيْعُ الدُّعَاءِ، أَيْ مُجِيبٌ، أَيْ مُتَّصِفٌ بِالْإِجَابَةِ وَصْفًا ذَاتِيًّا، تَمْهِيدًا لِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ هَذِهِ كَمَا أَجَابَ دَعْوَتَهُ سَلَفًا. فَهَذَا مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْحَمْدِ. وعَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْكِبَرِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ وَهَبَ ذَلِكَ تَعَلِّيًا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ لَا تَسْمَحَ بِذَلِكَ. وَلِذَلِكَ يُفَسِّرُونَ عَلَى هَذِهِ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ الْكِبَرِ الَّذِي لَا تَحْصُلُ مَعَهُ الْوِلَادَةُ. وَكَانَ عُمْرُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً (86) . وَعُمْرُهُ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِائَةَ سَنَةٍ (100) . وَكَانَ لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَهَبَ، أَيْ وَهَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. وَالسَّمِيعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ كِنَايَةً، وَصِيغَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 إلى 41]

بِمِثَالِ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِيَدُلَّ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لله تَعَالَى. [40، 41] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 40 إِلَى 41] رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ تَمَامِ دُعَائِهِ. وَفِعْلُ اجْعَلْنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْوِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اجْعَلْنِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقِيمَ الصَّلَاةِ. وَالْإِقَامَةُ: الْإِدَامَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالتَّقْدِيرُ وَاجْعَلْ مُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ مِنْ ذُرِّيَّتِي. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَسْأَلُ اللَّهَ إِلَّا أَكْمَلَ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ وَلِذَرِّيَّتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَرِيقٌ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَفَرِيقٌ لَا يُقِيمُونَهَا، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ تَحْصِيلًا لِحَاصِلٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 35] وَلَمْ يَقُلْ: وَمِنْ بَنِيَّ. وَدُعَاؤُهُ بِتَقَبُّلِ دُعَائِهِ ضَرَاعَةٌ بَعْدَ ضَرَاعَةٍ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فِي دُعاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَخْفِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ مَتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [30] . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ سَاكِنَةً. ثُمَّ دَعَا بِالْمَغْفِرَةِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِوَالِدَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ نُبُوءَتِهِ وَمَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ أَبُوهُ بَعْدَ دَعْوَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ، أَمَّا أُمُّهُ فَلَعَلَّهَا تُوُفِّيَتْ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 43]

قَبْلَ نُبُوءَتِهِ. وَهَذَا الدُّعَاءُ لِأَبَوَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ. وَمَعْنَى يَقُومُ الْحِسابُ: يَثْبُتُ. اسْتُعِيرَ الْقِيَامُ لِلثُّبُوتِ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْحِسَابِ بِإِنْسَانٍ قَائِمٍ، لِأَنَّ حَالَةَ الْقِيَامِ أَقْوَى أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ إِذْ هُوَ انْتِصَابٌ لِلْعَمَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، إِذَا قَوِيَتْ وَاشْتَدَّتْ. وَقَوْلُهُمْ: تَرَجَّلَتِ الشَّمْسُ، إِذَا قَوِيَ ضَوْءُهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة [4] . [42، 43] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 42 إِلَى 43] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَلَهُ اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 30] الَّذِي هُوَ وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِسَلَامَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ الْوَعِيدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ إِدْمَاجِ تَسْلِيَةِ الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عَلَى مَا يَتَطَاوَلُونَ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالدَّعَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 47] . وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سُورَة المزمل: 11] . وَبِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ مَعْنَى التَّسْلِيَةِ وَمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ وَصْفِ فَظَاعَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحَشْرِ حَسُنَ اقْتِرَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْعَاطِفِ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَصِيغَةُ لَا تَحْسَبَنَّ ظَاهِرُهَا نَهْيٌ عَنْ حُسْبَانِ ذَلِكَ. وَهَذَا النَّهْيُ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ وَتَحْقِيقِ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْمَقَامِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ لِلنَّاسِ ظَنَّ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ الْمُثِيرَةِ لِذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ إِمْهَالَهُمْ وَتَأْخِيرَ

عُقُوبَتِهِمْ يُشْبِهُ حَالَةَ الْغَافِلِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ تَحَقَّقْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ لَازِمِ عَدَمِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، فَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ، ذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَن الشَّيْء يَأْذَن بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِحَيْثُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُخَاطَبُ، فَنَهْيُهُ عَنْهُ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَقْدِيرِ تَلَبُّسِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْحُسْبَانِ. وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ جَاءَتِ الْآيَةُ سَوَاءً جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحَّ أَنْ يُخَاطَبَ فَيدْخل فِيهِ النَّبِي- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- أَمْ جَعَلْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ابْتِدَاءً وَيَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ. وَنَفْيِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَظُنُّهُ مُؤْمِنٌ بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ لِلظَّالِمِينَ. وَمِنْهُ جَاءَ مَعْنَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [156] . وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ بِإِيقَاعِهَا فِي سَبَبِ الْعَذَابِ الْمُؤْلِمِ، وَظُلْمٌ لِلَّهِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الظُّلْمِ دُونَ الشِّرْكِ مِثْلَ ظُلْمِ النَّاسِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ حِرْمَانِهِمْ حُقُوقَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ الْأَبْصارُ مَبْنِيَّة لِجُمْلَةِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا الْخَ. وَشُخُوصُ الْبَصَرِ: ارْتِفَاعُهُ كَنَظَرِ الْمَبْهُوتِ الْخَائِفِ. وأل فِي الْأَبْصارُ لِلْعُمُومِ، أَيْ تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُ النَّاسِ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ هَوْلِ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ. وَالْإِهْطَاعُ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مَدِّ الْعُنُقِ كَالْمُتَخَتِّلِ، وَهِيَ هَيْئَةُ الْخَائِفِ. وَإِقْنَاعُ الرَّأْسِ: طَأْطَأَتُهُ مِنَ الذُّلِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَنَعَ مِنْ بَابِ مَنَعَ إِذَا تَذَلَّلَ. ومُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ حَالَانِ.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 44 إلى 45]

وَجُمْلَةُ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالطَّرْفُ: تَحَرُّكُ جَفْنِ الْعَيْنِ. وَمَعْنَى لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَعُودُ إِلَى مُعْتَادِهِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَحْوِيلَهُ. فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ هَوْلِ مَا شَاهَدُوهُ بِحَيْثُ يَبْقُونَ نَاظِرِينَ إِلَيْهِ لَا تُطْرَفُ أَعْيُنُهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، إِذْ هِيَ كَالْهَوَاءِ فِي الْخُلُوِّ مِنَ الْإِدْرَاكِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ. وَالْهَوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخَلَاءُ. وَلَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الطِّبِّ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ. [44، 55] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 44 الى 45] وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: 42] ، أَيْ تَسَلَّ عَنْهُمْ وَلَا تَمْلَلْ مِنْ دَعْوَتِهِمْ وَأَنْذِرْهُمْ. وَالنَّاسُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ. وَالْمَقْصُودُ: الْكَافِرُونَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ النَّاسَ نَاسًا مَعْهُودِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. ويَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ. مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ أَنْذِرِ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَفِعْلُ الْإِنْذَارِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ عَلَى التَّوَسُّعِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّحْذِيرِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ» . وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى وُقُوعِهِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَالْعَذَابُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوْ عَذَابُ الدُّنْيَا الَّذِي هُدِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. والَّذِينَ ظَلَمُوا: الْمُشْرِكُونَ.

وَطَلَبُ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِنْ كَانَ مُرَادًا بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَالتَّأْخِيرُ بِمَعْنَى تَأْخِيرِ الْحِسَابِ، أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: أَرْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا لِنُجِيبَ دَعْوَتَكَ. وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] ، فَالتَّأْخِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعَادَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ. وَالرُّسُلُ جَمِيع الرُّسُل الَّذِي جَاءُوهُمْ بِدَعْوَةِ اللَّهِ. وَإِنَّ حُمِلَ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ حِينَ يَرَوْنَ ابْتِدَاءَ الْعَذَابِ فِيهِمْ. فَالتَّأْخِيرُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً. وَالرُّسُلُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا، وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَرِيبُ: الْقَلِيلُ الزَّمَنِ. شَبَّهَ الزَّمَانَ بِالْمَسَافَةِ، أَيْ أَخِّرْنَا مِقْدَارَ مَا نُجِيبُ بِهِ دَعْوَتَكَ. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) لَمَّا ذُكِرَ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَلَبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ رَبِّهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ طَلَبِهِمْ فَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ. وَقَدْ عُدِلَ عَنِ الْجَوَابِ بِالْإِجَابَةِ أَوِ الرَّفْضِ إِلَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْضَ مَا سَأَلُوهُ. وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ بِوَاوِ الْعَطْفِ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مُقَدَّرٍ هُوَ رَفْضُ مَا سَأَلُوهُ، حُذِفَ إِيجَازًا لِأَنَّ شَأْنَ مُسْتَحِقِّ التَّوْبِيخِ أَنْ لَا يعْطى سؤله. التَّقْدِير كَلَّا وَأَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.. الْخَ. وَالزَّوَالُ: الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَكَانِ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الزَّوَالُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْحِسَابِ.

وَحُذِفُ مُتَعَلِّقُ زَوالٍ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [سُورَة النَّحْل: 38] . وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَقْسَمْتُمْ. وَلَيْسَتْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَلذَلِك لم يسْرع فِيهَا طَرِيقُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَمْ يَقُلْ: مَا لَنَا مِنْ زَوَالٍ، بَلْ جِيءَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ الْمُنَاسِبِ لِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ. وَهَذَا الْقَسَمُ قد يكون صادر مِنْ جَمِيعِ الظَّالِمِينَ حِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ تَعَالِيمَ وَاحِدَةً فِي الشِّرْكِ يَتَلَقَّاهَا الْخَلَفُ عَنْ سَلَفِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَادِرًا مِنْ مُعْظَمِ هَذِهِ الْأُمَمِ أَوْ بَعْضِهَا وَلَكِنَّ بَقِيَّتَهُمْ مُضْمِرُونَ لِمَعْنَى هَذَا الْقَسَمِ. وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أُمَمِ الشِّرْكِ عَدَا الْأُمَّةِ الْأُولَى مِنْهُمْ. وَهَذَا مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ الْأُولَى مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَمْ تَسْكُنْ فِي مَسَاكِنِ مُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالسُّكْنَى: الْحُلُولُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ خِلَافًا لِأَصْلِ فِعْلِهِ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَمُرُّونَ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ ويحطون الرّحال هُنَا لَك، وَيَمُرُّونَ عَلَى دِيَارِ عَادٍ فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ. وَتَبَيُّنُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ حَاصِلٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْعَذَابِ مِنْ خَسْفٍ وَفَنَاءِ اسْتِئْصَالٍ. وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَقْوَالِ الْمَوَاعِظِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَوَصْفِ الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ. وَقَدْ جَمَعَ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بَيْنَ دَلَائِلِ الْآثَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَدَلَائِل الموعظة..

[سورة إبراهيم (14) : آية 46]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 46] وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ، أَيْ أَنْذِرْهُمْ فِي حَالِ وُقُوعِ مَكْرِهِمْ. وَالْمَكْرُ: تَبْيِيتُ فِعْلِ السُّوءِ بِالْغَيْرِ وَإِضْمَارُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] ، وَفِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [99] . وَانْتَصَبَ مَكْرَهُمْ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ مَكَرُوا لِبَيَانِ النَّوْعِ، أَيِ الْمَكْرَ الَّذِي اشْتَهَرُوا بِهِ، فَإِضَافَةُ مَكْرٍ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ مَكْرٍ الثَّانِي إِلَى ضَمِيرِ هُمْ. وَالْعِنْدِيَّةُ إِمَّا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ، أَيْ وَفِي عِلْمِ اللَّهِ مَكْرهمْ، فَهُوَ تعري بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِسُوءِ فِعْلِهِمْ، وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ تَكْوِينِ مَا سُمِّيَ بِمَكْرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ فِي إِرَادَةِ اللَّهِ فَيَكُونُ وَعِيدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَكْرِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِتَزُولَ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِنَصْبِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا- فَتَكُونُ (إِنْ) نَافِيَةً وَلَامُ لِتَزُولَ لَامَ الْجُحُودِ، أَيْ وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ زَائِلَةً مِنْهُ الْجِبَالُ، وَهُوَ اسْتِخْفَافٌ بِهِمْ، أَيْ لَيْسَ مَكْرُهُمْ بِمُتَجَاوِزِ مَكْرِ أَمْثَالِهِمْ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي تَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرِيدُ الْمُشْرِكُونَ الْمَكْرَ بِهِمْ لَا يُزَعْزِعُهُمْ مَكْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِي. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى- مِنْ لِتَزُولَ وَرَفْعِ اللَّامِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ إِنْ مُخَفَّفَةً مِنْ إِنْ الْمُؤَكِّدَةِ وَقَدْ أَكْمَلَ إِعْمَالَهَا، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا لِزَوَالِ الْجِبَالِ مِنْ مَكْرِهِمْ، أَيْ هُوَ

[سورة إبراهيم (14) : آية 47]

مَكْرٌ عَظِيمٌ لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ لَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تَزُولَ، أَيْ جَدِيرَةٌ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَدَارَةِ وَالتَّأَهُّلِ لِلزَّوَالِ لَوْ كَانَتْ زَائِلَةً. وَهَذَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ أَمْرٍ شَنِيعٍ أَوْ شَدِيدٍ فِي نَوْعِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [سُورَة مَرْيَم: 90] . [47] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 47] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: 42] . وَهَذَا مَحَلُّ التسلية. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ مَا وَعَدَ الله رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنْ إِنْزَالِ الْعِقَابِ بِأَعْدَائِهِ يُشْبِهُ حَالَ الْمُخْلِفِ وَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ حُسْبَانِهِ. وَأُضِيفَ مُخْلِفَ إِلَى مَفْعُولِهِ الثَّانِي وَهُوَ وَعْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ إِخْلَافِ الْوَعْدِ أَشَدُّ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ وَعْدِهِ عَلَى رُسُلَهُ. ورُسُلَهُ جَمْعٌ مُرَاد بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ، فَهُوَ جَمْعٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا. وَهَذَا تثبيت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ نَصْرِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِهِ. فَأَمَّا وَعْدُهُ لِلرُّسُلِ السَّابِقِينَ فَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ ظَاهِرِ جَمْعِ رُسُلَهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِهِ مُخْلِفَ وَعْدَهُ. وَالْعِزَّةُ: الْقُدْرَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوجِبَ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ يَكُونُ إِمَّا عَنْ عَجْزٍ وَإِمَّا عَنْ عَدَمِ اعْتِيَادِ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَالْعِزَّةُ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 إلى 51]

تَنْفِي الْأَوَّلَ وَكَوْنُهُ صَاحِبَ انْتِقَامٍ يَنْفِي الثَّانِي. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ أَيْضًا وَبِهَا تمّ الْكَلَام. [48- 51] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 48 إِلَى 51] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ الْإِنْذَارِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ فِي هَذَا تَبْيِينَ بَعْضِ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأَهْوَالِ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ، فَجَاءَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ لِيَحْصُلَ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى وَصْفِ هَذَا الْيَوْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ، وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. وَالتَّقْدِيرُ يَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. الْخَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ أَيْضًا. وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ فِي شَيْءٍ إِمَّا بِتَغْيِيرِ صِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [سُورَة الْفرْقَان: 70] ، وَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمًا وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ ذَاتِهِ وَإِزَالَتِهَا بِذَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [سُورَة النِّسَاء: 56] ، وَقَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ [سُورَة سبأ: 16] .

وَتَبْدِيلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَّا بِتَغْيِيرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي كَانَتْ لَهَا وَإِبْطَالِ النُّظُمِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِمَّا بِإِزَالَتِهَا وَوِجْدَانِ أَرْضٍ وَسَمَاوَاتٍ أُخْرَى فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى اسْتِبْدَالُ الْعَالَمِ الْمَعْهُودِ بِعَالَمٍ جَدِيدٍ. وَمَعْنَى وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً [سُورَة إِبْرَاهِيم: 21] . وَالْوَصْفُ بِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لَهُ شُرَكَاءً وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُدَافِعُونَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَضَمِيرُ بَرَزُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ وَبَرَزَ النَّاسُ أَوْ بَرَزَ الْمُشْرِكُونَ. وَالتَّقْرِينُ: وَضْعُ اثْنَيْنِ فِي قَرْنٍ، أَيْ حَبْلٍ. وَالْأَصْفَادُ جَمْعُ صِفَادٍ بِوَزْنِ كِتَابٍ، وَهُوَ الْقَيْدُ وَالْغُلُّ. وَالسَّرَابِيلُ: جَمْعُ سِرْبَالٍ وَهُوَ الْقَمِيصُ. وَجُمْلَةُ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ حَالٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَالْقَطِرَانُ: دَهْنٌ مِنْ تَرْكِيبٍ كِيمْيَاوِيٍّ قَدِيمٍ عِنْدَ الْبَشَرِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ إِغْلَاءِ شَجَرِ الْأَرْزِ وَشَجَرِ السَّرْوِ وَشَجَرِ الْأُبْهُلِ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ وَبَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ- وَهُوَ شَجَرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْعَرْعَرِ. وَمِنْ شَجَرِ الْعَرْعَرِ بِأَنْ تُقْطَعَ الْأَخْشَابُ وَتُجْعَلَ فِي قُبَّةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى بَلَاطٍ سَوِيٍّ وَفِي الْقُبَّةِ قَنَاةٌ إِلَى خَارِجٍ. وَتُوقَدُ النَّارُ حَوْلَ تِلْكَ الْأَخْشَابِ فَتَصْعَدُ الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا وَيَسْرِي مَاءُ الْبُخَارِ فِي الْقَنَاةِ فَتَصُبُّ فِي إِنَاءٍ آخَرَ مَوْضُوعٍ تَحْتَ الْقَنَاة فيتجمع منهماء أَسْوَدُ يعلوه زبد خاثر أَسْوَدُ. فَالْمَاءُ يُعْرَفُ بِالسَّائِلِ وَالزَّبَدُ يُعْرَفُ بِالْبَرْقِيِّ. وَيُتَّخَذُ لِلتَّدَاوِي مِنَ الْجَرَبِ لِلْإِبِلِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَوْصُوفٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ وَعِلْمِ الْأَقْرَبَاذِينِ. وَجُعِلَتْ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ فَيُؤْلِمُ الْجِلْدَ الْوَاقِعَ هُوَ عَلَيْهِ، فَهُوَ لِبَاسُهُمْ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ ابْتِدَاءً بِالْعَذَابِ حَتَّى يَقَعُوا فِي النَّارِ-.

[سورة إبراهيم (14) : آية 52]

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ مُسْتَأْنَفَةٌ، إِمَّا لِتَحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [سُورَة الذاريات: 5، 6] ، وَإِمَّا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَأُخِّرَتْ إِلَى آخَرِ الْكَلَامِ لِتَقْدِيمِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إِذَا قُدِّرَ مَعْمُولًا لَهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا. [52] [سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 52] هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ فِي السُّورَةِ كُلِّهَا مِنْ أَيْنَ ابْتَدَأْتَهُ أَصَبْتَ مُرَادَ الْإِشَارَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ لِلسُّورَةِ كُلِّهَا. وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ التَّبْلِيغِ، أَيْ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَبْلِيغٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِلَامِ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى اسْمِ مَنْ يَسْمَعُ قَوْلًا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَعَطْفُ وَلِيُنْذَرُوا عَلَى بَلاغٌ عَطْفٌ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفَظُ بَلاغٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُعْطَفُ هَذَا عَلَيْهِ فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الْجَرِّ مَعَ وُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِهِ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ إِذا وَقع خبر عَنِ الْمُبْتَدَأِ اتَّصَلَ بِهِ مُبَاشَرَةً دُونَ عَطْفٍ إِذْ هُوَ بِتَقْدِيرِ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، وَإِنَّمَا تُعْطَفُ الْأَخْبَارُ إِذَا كَانَتْ أَوْصَافًا. وَالتَّقْدِيرُ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ لِيَسْتَيْقِظُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. وَاللَّامُ فِي وَلِيُنْذَرُوا لَامُ كَيْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [92] .

وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمُوا مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا اللَّهُ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَيْ مَقْصُورٌ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ الْمُوَحَّدَةِ. وَهَذَا قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَجَاوَزُ تِلْكَ الصِّفَةَ إِلَى صِفَةِ التَّعَدُّدِ بِالْكَثْرَةِ أَوِ التَّثْلِيثِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [سُورَة النِّسَاء: 171] . وَالتَّذَكُّرُ: النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ صدق الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ بِذَوِي الْأَلْبَابِ تَنْزِيلًا لِغَيْرِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: 44] . وَقَدْ رُتِّبَتْ صِفَاتُ الْآيَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى تَرْتِيبٍ عَقْلِيٍّ بِحَسْبِ حُصُولِ بَعْضِهَا عَقِبَ بَعْضٍ، فَابْتُدِئَ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ حُصُولُ التَّبْلِيغِ. ثُمَّ مَا يَعْقُبُ حُصُولُ التَّبْلِيغِ مِنَ الْإِنْذَارِ ثُمَّ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِمَا فِي خِلَالِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الدَّلَائِلِ. ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ فِي مَا جَاءَ بِهِ ذَلِكَ الْبَلَاغُ وَهُوَ تَفَاصِيلُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ هِيَ جَامع حِكْمَة مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَزَّعَةً عَلَى مَنْ بَلَّغَ إِلَيْهِمْ. وَيَخْتَصُّ الْمُسْلِمُونَ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.

15- سورة الحجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 15- سُورَةُ الْحِجْرِ سُمِّيَتْ هَذِه السُّورَة سُورَة الْحِجْرَ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرَهُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ اسْمَ الْحِجْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا. وَالْحِجْرُ اسْمُ الْبِلَادِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِ وَهُوَ حِجْرُ ثَمُودَ. وَثَمُودُ هُمْ أَصْحَابُ الْحِجْرِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ. وَالْمُكْتِبُونَ فِي كَتَاتِيبِ تُونُسَ يَدْعُونَهَا سُورَةَ رُبَما لِأَنَّ كَلِمَةَ «رُبَمَا» لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا وَحُكِيَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي هِيَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ. وَاسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْمُقْتَسِمِينَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَتَفْسِيرُ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا وَافَقَ مِنْهُ كِتَابَنَا فَهُوَ صِدْقٌ وَمَا خَالَفَ كِتَابَنَا فَهُوَ كَذِبٌ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا يَهُودُ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا لَا نُصَحِّحُهُ كَمَا نُبَيِّنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ.

وَلَوْ سَلِمَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ جِهَتَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ فَقَالُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارُوا فِي أَمْرِهِ يَهُودَ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» يَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَنَّهَا فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ اه. وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْنَاءُ فَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَسْتَأْخِرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (أَيْ مِنْ صُفُوفِ الرِّجَالِ) فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ نُوحٍ اه. وَهَذَا تَوْهِينٌ لِطَرِيقِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: «وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْجَوْزَاءِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرٌ، فَلَا اعْتِمَادَ إِلَّا عَلَى حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ مَقْطُوعٌ. وَعَلَى تَصْحِيحِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتِ الرَّابِعَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَةِ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَقَدْ نَزَلَتْ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَارِ الْأَرْقَمِ فِي آخِرِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ بَعْثَتِهِ. وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ.

مقاصد هذه السورة

مَقَاصِدُ هَذِهِ السُّورَةِ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِيهَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى التَّنْوِيهِ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ. وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِنَدَمٍ يَنْدَمُونَهُ عَلَى عَدَمِ إِسْلَامِهِمْ. وَتَوْبِيخِهِمْ بِأَنَّهُمْ شَغَلَهُمْ عَنِ الْهُدَى انْغِمَاسُهُمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ. وَإِنْذَارِهِمْ بِالْهَلَاكِ عِنْدَ حُلُولِ إِبَّانِ الْوَعِيدِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِ. وَتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَمَا يَقُولُونَهُ فِي شَأْنِهِ وَمَا يَتَوَرَّكُونَ بِطَلَبِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ تِلْكَ عَادَةُ الْمُكَذِّبِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ. وَأَنَّهُمْ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ لَوْ أُسْعِفُوا بِمَجِيءِ آيَاتٍ حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ حَافِظٌ كِتَابَهُ مِنْ كَيْدِهِمْ. ثُمَّ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمَا فِيهِ مِنْ نِعَمٍ عَلَيْهِمْ. وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَدَلَائِلِ إِمْكَانِهِ. وَانْتَقَلَ إِلَى خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ. وَقِصَّةِ كُفْرِ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ الْحِجْرِ. وَخُتِمَتْ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِظَارِ سَاعَةِ النَّصْرِ، وَأَنْ يَصْفَحَ عَنِ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُ، وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْتَغِلَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ كَافِيهِ أَعْدَاءَهُ. مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْإِدْمَاجِ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْجِنِّ، وَاسْتِرَاقِهِمُ السَّمْعَ، وَوَصْفِ أَحْوَالِ الْمُتَّقِينَ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الْعَذَاب.

[سورة الحجر (15) : آية 1]

[سُورَة الْحجر (15) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) الر تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ من إعلان التَّحْدِيد بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ مِقْدَارِ مَا نَزَلَ بِالْقُرْآنِ، أَيِ الْآيَاتُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَكُمُ الْمُتَمَيِّزَةُ لَدَيْكُمْ تَمَيُّزًا كَتَمَيُّزِ الشَّيْءِ الَّذِي تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ لِتَنْزِيلِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ. والْكِتابِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَسُمِّيَ كِتَابًا لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَةِ مَا يَنْزِلُ مِنْهُ لِحِفْظِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ فَقَدْ سُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُجْمَعَ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَكُونُ كِتَابًا. وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُفْتَتَحِ تَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ لِقَصْدِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِاسْتِدْعَائِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي دَلَائِلَ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقِّيَّةِ دِينِهِ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ فِي الِاسْمِ الْمَجْعُولِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ جَائِيًا مِنَ التَّوَسُّلِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى كَمَالِ الْجِنْسِ فِي الْمُعَرَّفِ بِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ أَنَّهُ فَائِقٌ فِي جِنْسِهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ، فَاقْتَضَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هِيَ آيَاتُ كِتَابٍ بَالِغٍ مُنْتَهَى كَمَالِ جِنْسِهِ، أَيْ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ.

وَعَطَفَ وَقُرْآنٍ عَلَى الْكِتابِ لِأَنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ وَالتَّشْرِيعِ، فَهُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ لِكِتَابِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ اسْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ لِلْكُتُبِ الْمُشْتَهِرَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ. فَاسْمُ الْقُرْآنِ أَرْسَخُ فِي التَّعْرِيفِ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْعَلَمَ الْأَصْلِيَّ أَدْخَلُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ، فَسَوَاءٌ نُكِّرَ لَفْظُ الْقُرْآنِ أَوْ عُرِّفَ بِاللَّامِ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى كِتَابِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ نُكِّرَ فَتَنْكِيرُهُ عَلَى أَصْلِ الْأَعْلَامِ، وَإِنْ عُرِّفَ فَتَعْرِيفُهُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ كَتَعْرِيفِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ لِأَنَّ «الْقُرْآنَ» مَنْقُولٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى الْقِرَاءَةِ، أَيِ الْمَقْرُوءِ الَّذِي إِذا قرىء فَهُوَ مُنْتَهَى الْقِرَاءَةِ. وَفِي التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى قُوَّةِ الِاتِّصَافِ بِمَادَّةِ الْمَصْدَرِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْعَلَمَيْنِ مِنْ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْعَلَمِ الْآخَرِ حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعَطْفِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ «قُرْآنٍ» بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ «كِتَابٍ» وَهُوَ شَبِيهٌ بِعَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَمَا هُوَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَشْبَهَهُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مَتْبُوعٌ بِوَصْفٍ وَهُوَ مُبِينٍ. وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارٌ بِالْمَعْنَى. وَابْتُدِئَ بِالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ لِمَا فِي التَّعْرِيفِ مِنْ إِيذَانٍ بِالشُّهْرَةِ وَالْوُضُوحِ وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ الْمُعَرَّفَ هُوَ أَصْلُ الْإِخْبَارِ وَالْأَوْصَافِ. ثُمَّ جِيءَ بِالْمُنَكَّرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ وَصْفُهُ بِالْمُبِينِ، وَالْمُنَكَّرُ أَنْسَبُ بِإِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَوُزِّعَتِ الدَّلَالَتَانِ عَلَى نُكْتَةِ التَّعْرِيفِ وَنُكْتَةِ التَّنْكِيرِ. فَأَمَّا تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الذِّكْرِ فَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْكَافِرِينَ وَتَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَجِيءُ وَقْتٌ يَتَمَنَّوْنَ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُنْكِرِينَ نَاسَبَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى

[سورة الحجر (15) : آية 2]

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُنْوَانِهِ الْأَعَمِّ وَهُوَ كَوْنُهُ كِتَابًا، لِأَنَّهُمْ حِينَ جادلوا مَا جالوا إِلَّا فِي كِتَابٍ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 157] وَلِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْآخَرِينَ بِعُنْوَانِ «كِتَابٍ» ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِعُنْوَانِ «أَهْلِ الْكِتَابِ» . فَأَمَّا عُنْوَانُ «الْقُرْآنِ» فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِكَوْنِ الْكِتَابِ مَقْرُوءًا مدروسا وَإِنَّمَا يقرأه وَيَدْرُسُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ. وَلِذَلِكَ قُدِّمَ عُنْوَانُ «الْقُرْآنِ» فِي سُورَةِ النَّمْلِ كَمَا سَيَأْتِي. والمبين: اسْم فَاعل مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِهِ، أَيْ ظُهُورِ قُرْآنِيَّتِهِ الْعَظِيمَةِ، أَيْ ظُهُورِ إِعْجَازِهِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ الْمُعَانِدُونَ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلِ الْمُبِينَ بِمَعْنَى أَبَانَ الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ كَوْنَهُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَشَدُّ فِي تَوْبِيخِ مُنْكِرِيهِ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَة النَّمْل. [2] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 2] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ مُفْتَتَحُ الْغَرَضِ وَمَا قَبْلَهُ كَالتَّنْبِيهِ وَالْإِنْذَارِ. ورُبَما مُرَكَّبَةٌ مِنْ (رُبَ) . وَهُوَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى تَنْكِيرِ مَدْخُولِهِ وَيَجُرُّ وَيَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ. وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَفِيهَا عِدَّةُ لُغَاتٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا. وَاقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الْكَافَّةُ لِ (رُبَّ) عَنِ الْعَمَلِ. وَدُخُولُ (مَا) بَعْدَ (رُبَّ) يَكُفُّ عَمَلَهَا غَالِبًا. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَى الْأَفْعَالِ. فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ فَالْغَالِبُ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّقْلِيلُ.

وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَقَدْ يَكُونُ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُنَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَاضِي فِي التَّحَقُّقِ. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَوْجَبَ دُخُولَهَا عَلَى الْمَاضِي، وَتَأَوَّلَ نَحْوَ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ هُنَا وَاضِحٌ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَوَدُّوا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ. وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: قَدْ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا أَسْلَمُوا. وَالتَّقْلِيلُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيِ احْذَرُوا وَدَادَتَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَقَعَ نَادِرًا كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ فِي التَّوْبِيخِ: لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي تَنَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّدَمُ مَشْكُوكًا فِيهِ لَكَانَ حَقًّا عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا قَدْ تَنَدَمُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِيهِ لِكَيْ لَا تَنْدَمَ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَحَرَّزُ مِنَ الضُّرِّ الْمَظْنُونِ كَمَا يَتَحَرَّزُ مِنَ الْمُتَيَقَّنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وَلَكِنْ بَعْدَ الْفَوَاتِ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِيقَاعِهِ، وَذَلِكَ عِنْد مَا يُقْتَلُونَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ حُضُورِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَقَدْ وَدَّ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِينَ شَاهَدُوا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَدَّ كُفَّارُ قُرَيْشٍ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: 27] . وَكَذَلِكَ إِذَا أُخْرِجَ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي النَّارِ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ وَدُّوا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَتَمُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ عِنَادًا وَكُفْرًا. قَالَ تَعَالَى:

[سورة الحجر (15) : آية 3]

وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْأَنْعَام: 27، 28] ، أَيْ فَلَا يُصَرِّحُونَ بِهِ. ولَوْ فِي لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي لِأَنَّ أَصْلَهَا الشَّرْطِيَّةُ إِذْ هِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، فَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِمَعْنَى التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ الْمُمْتَنَعِ الْحُصُولِ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَنِّي اسْتُعْمِلَتْ فِي ذَلِكَ كَأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَقُولُهُ الْمُتَمَنِّي، وَلَمَّا حُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ عَدَلَ فِي حِكَايَةِ الْمَقُولِ إِلَى حِكَايَتِهِ بِالْمَعْنَى. فَأَصْلُ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ لَوْ كُنَّا مُسْلِمِينَ. وَالْتُزِمَ حَذْفُ جَوَابِ لَوْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ شَاعَ حَذْفُ الْقَوْلِ، فَأَفَادَتْ لَوْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فَصَارَ الْمَعْنَى: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَوْنَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا مِنْ حُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ مَعْنًى عَارِضٌ فِي الْكَلَامِ وَلَيْسَ مدلولها بِالْوَضْعِ. [3] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 3] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) لَمَّا دَلَّتْ (رُبَّ) عَلَى التَّقْلِيلِ اقْتَضَتْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى غُلَوَائِهِمْ هُوَ أَكْثَرُ حَالِهِمْ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْكَمَالِ النَّفْسِيِّ، فَبِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِحَيَاةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، فَخُوطِبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُعَرَّضُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ حَيَاتَهُمْ حَيَاةُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ فِي مَجَارِي أَقْوَالِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكاسي وهم منغسمون فِيمَا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [سُورَة مُحَمَّد: 12] .

وَ (ذَرْ) أَمْرٌ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ مَاضٍ فِي كَلَامِهِمْ. وَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَالْأَمْرُ بِتَرْكِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ قِلَّةُ جَدْوَى الْحِرْصِ عَلَى إِصْلَاحِهِمْ. وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِذْنِ بِمُتَارَكَتِهِمْ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالدَّوَامِ عَلَى دُعَائِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً إِلَى قَوْلِهِ: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [سُورَة الْأَنْعَام: 70] . فَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَعْقَبَهُ بِأَمْرِهِ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّرْكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَدَمِ الرَّجَاءِ فِي صَلَاحِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِ كَبْشَةَ أُخْتِ عَمْرو بن معد يكرب فِي قَتْلِ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ تَسْتَنْهِضُ أَخَاهَا عَمْرًا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهِ: وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمٌ ... وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ وَمَا يُرَادُ بِهِ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِعَانَةِ أَوْ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الْوَسَاطَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [سُورَة المدثر: 11] ، وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [سُورَة المزمل: 11] . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْكِ الْمَجَازِيِّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ مَنْزِلَةَ الْمُتَلَبِّسِ بِالضِّدِّ كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: دَعُونِي أَنُحْ مِنْ قَبْلِ نَوْحِ الْحَمَائِمِ ... وَلَا تَجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ إِذْ مِثْلُ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ عَنْ صَلَاحِ الْمَرْءِ. وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّرْكِ لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ، إِذِ الْمَعْنِيُّ بِهِ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ وَالْبُعْدُ عَنْهُمْ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُ التَّرْكِ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لِيَدُلَّ عَلَى الْيَأْسِ مِنْهُمْ. ويَأْكُلُوا مَجْزُومٌ بلام الْأَمر محذوفة كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [31] . وَهُوَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 4 إلى 5]

أَمْر للتَّوْبِيخِ وَالتَّوَعُّدِ وَالْإِنْذَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [سُورَة المرسلات: 46] . وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ مَجْزُومًا فِي جَوَابِ ذَرْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ سَوَاءً تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَتَهُمْ أَمْ دَعَاهُمْ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَإِلْهَاءُ الْأَمَلِ إِيَّاهُمْ: هُوَ إِنْسَاؤُهُ إِيَّاهُمْ مَا حَقُّهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوهُ بِأَنْ يَصْرِفَهُمْ تَطَلُّبُ مَا لَا يَنَالُونَ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي الْبَعْثِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَة. والْأَمَلُ: مَصْدَرٌ. وَهُوَ ظَنُّ حُصُولِ أَمْرٍ مَرْغُوبٍ فِي حُصُولِهِ مَعَ اسْتِبْعَادِ حُصُولِهِ. فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ كَعْبٍ: أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُهَا ... وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ وَتَفَرَّعَ عَلَى التَّعْرِيضِ التَّصْرِيحُ بِالْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَعِيدِ كَثِيرًا حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِإِمْهَالِهِمْ أَجَلًا مَعْلُومًا كَقَوْلِهِ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ [سُورَة الْفرْقَان: 42] . [4- 5] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 4 إِلَى 5] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) اعْتِرَاضٌ تَذْيِيلِيٌّ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمًا يَشْمَلُهُمْ وَهُوَ حُكْمُ إِمْهَالِ الْأُمَمِ الَّتِي حَقَّ عَلَيْهَا الْهَلَاكُ، أَيْ مَا أَهْلَكْنَا أُمَّةً إِلَّا وَقَدْ مَتَّعْنَاهَا زَمَنًا وَكَانَ لِهَلَاكِهَا أَجَلٌ وَوَقْتٌ مَحْدُودٌ، فَهِيَ مُمَتَّعَةٌ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ عِنْدَ إِبَّانِهِ.

وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِتَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مُؤَيَّدٍ بِتَنْظِيرِهِمْ بِالْمُكَذِّبِينَ السَّالِفِينَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْقُرَى الَّتِي أُهْلِكَتْ مِنْ قَبْلُ لِتَذْكِيرِ هَؤُلَاءِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي إِمْهَالِ الظَّالِمِينَ لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ أَفْلَتُوا مِنَ الْوَعِيدِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدَّرَ اللَّهُ أَجَلًا لِهَلَاكِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ وَلَكِنْ هَدَى كَثِيرًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالسَّيْفِ وَأَهْلَكَ سَادَتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [259] . وَالْكِتَابُ: الْقَدَرُ الْمَحْدُودُ عِنْدَ اللَّهِ. شُبِّهَ بِالْكِتَابِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ. وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى. وَجُمْلَةُ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَفَاكَ عِلْمًا عَلَى ذَلِكَ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ فَهِيَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ قَرْيَةٍ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَإِنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَّغَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنْهُ كَمَا سَوَّغَ الْعُمُومُ صِحَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ النَّكِرَةِ. وَجُمْلَةُ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ لِبَيَانِ فَائِدَةِ التَّحْدِيدِ: أَنَّهُ عَدِمَ الْمُجَاوَزَةِ بَدْءًا وِنَهَايَةً. وَمَعْنَى (تَسْبِقُ أَجَلَهَا) تَفُوتُهُ، أَيْ تُعْدَمُ قَبْلَ حُلُولِهِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ. ويَسْتَأْخِرُونَ: يَتَأَخَّرُونَ. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ. وَأُنِّثَ مُفْرَدًا ضَمِيرُ الْأُمَّةِ مَرَّةً مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَجُمِعَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْخِرُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ عَنهُ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 6 إلى 7]

[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 6 إِلَى 7] وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [سُورَة الْحجر: 3] . وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتِ انْهِمَاكَهُمْ فِي الْمَلَذَّاتِ وَالْآمَالِ، وَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ تَوَغُّلَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَتَكْذِيبَهُمُ الرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ. وَالْمَعْنَى: ذَرْهُمْ يُكَذِّبُونَ وَيَقُولُونَ شَتَّى الْقَوْلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا مِنْ مَقُولِهِمْ. وَالنِّدَاءُ فِي يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِلتَّشْهِيرِ بِالْوَصْفِ الْمُنَادَى بِهِ، وَاخْتِيَارُ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّهَكُّمِ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ قَوْلُهُمْ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. وَقَدْ أَرَادُوا الِاسْتِهْزَاءَ بِوَصْفِهِ فَأَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِالْحَقِّ فِيهِ صَرْفًا لِأَلْسِنَتِهِمْ عَنِ الشَّتْمِ. وَهَذَا كَمَا كَانُوا إِذَا شَتَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَجَوْهُ يَدْعُونَهُ مُذَمَّمًا فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: «أَلَمْ تَرَيْ كَيْفَ صَرَفَ اللَّهُ عَنِّي أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَسَبَّهُمْ، يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ» . وَفِي هَذَا إِسْنَادُ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ بِحَسب مَا يدعبه صَاحِبُ اسْمِ الْمَوْصُولِ، لَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. والذِّكْرُ: مَصْدَرُ ذَكَرَ، إِذَا تَلَفَّظَ. وَمَصْدَرُ ذَكَرَ إِذَا خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ. فَالذِّكْرُ الْكَلَامُ الْمُوحَى بِهِ لِيُتْلَى وَيُكَرَّرَ، فَهُوَ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُعَادُ إِمَّا لِأَنَّ فِيهِ التَّذْكِيرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ بِهِ ذِكْرَهُمْ فِي الْآخَرِينَ، وَقَدْ شَمَلَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 10] وَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سُورَة الزخرف: 44] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْقُرْآنُ.

فَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ ذِكْرًا تَسْمِيَةٌ جَامِعَةٌ عَجِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرِدَ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ قَصَدَ مِنْ إِنْزَالِهِ أَنْ يُقْرَأَ، فَصَارَ الذِّكْرُ وَالْقُرْآنُ صِنْفَيْنِ مِنْ أَصْنَافِ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْقَى لِلنَّاسِ لِقَصْدِ وَعْيِهِ وَتِلَاوَتِهِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الشِّعْرُ وَالْخُطْبَةُ وَالْقِصَّةُ وَالْأُسْطُورَةُ. وَيَدُلُّكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [سُورَة يس: 69] ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرًا، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَصْفَهُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الصِّفَتَيْنِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. فَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مِنْ صِنْفِ الذِّكْرِ وَمِنْ صِنْفِ الْقُرْآنِ، لَا مِنْ صِنْفِ الشِّعْرِ وَلَا مِنْ صِنْفِ الْأَسَاطِيرِ. ثُمَّ صَارَ «الْقُرْآنُ» بِالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ لَا يَصْدُرُ مِنْ عَاقِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا لَا تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمُ الَّتِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ الْعُقَلَاءُ، فَالدَّاعِي بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ. وَالْمَجْنُونُ: الَّذِي جُنَّ، أَيْ أَصَابَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ أَثَرِ مَسِّ الْجِنِّ إِيَّاهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ، فَالْمَجْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ إِلَّا مُسْنَدَةً لِلْمَجْهُولِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُ لَعَلَّهُ يَرْتَدِعُ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهِ أَوْ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَهُ لِلسَّامِعِينَ حَاضِرِي مَجَالِسِهِمْ.

[سورة الحجر (15) : آية 8]

وَجُمْلَةُ لَوْما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَكْذِيب الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْمَجْنُونِ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَكُونُ جَارِيًا عَلَى مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ فأكثره كذب. ولَوْ مَا حرف تحضيض بِمَنْزِلَةِ لَوْلَا التَّحْضِيضِيَّةِ. وَيَلْزَمُ دُخُولُهَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ. وَالْمُرَادُ بِالْإِتْيَانِ بِالْمَلَائِكَةِ حُضُورُهُمْ عِنْدَهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ بِصِدْقِهِ فِي الرِّسَالَةِ. وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [سُورَة الْإِسْرَاء: 92] . ومِنَ الصَّادِقِينَ أَيْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصِّدْقُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ (إِنْ كُنْتَ صَادِقًا) ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [219] ، وَفِي قَوْلِهِ: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [67] . [8] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 8] مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ جَوَابًا لِكَلَامِهِمْ وُشُبُهَاتِهِمْ وَمُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَابْتُدِئَ فِي الْجَوَابِ بِإِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَالُوا: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [سُورَة الْحجر: 7] . أُرِيدَ مِنْهُ إِزَالَةُ جَهَالَتِهِمْ إِذْ سَأَلُوا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَامَةً عَلَى التَّصْدِيقِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ طَلَبُوا ذَلِكَ بِقَصْدِ التَّهَكُّمِ فَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ آيَةُ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ مَشُوبًا بِطَرَفٍ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ صَرْفُهُمْ إِلَى تَعْلِيمِهِمُ الْمَيْزَ بَيْنَ آيَاتِ الرُّسُلِ وَبَيْنَ آيَاتِ الْعَذَابِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يَدَّخِرَهُمْ هَدْيًا وَإِلَّا فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ لَا يُجَابُوا.

وَالنُّزُولُ: التَّدَلِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِقَالُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ نُزُولًا مَخْصُوصًا. وَهُوَ نُزُولُهُمْ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ بِعَذَابٍ يُرْسِلُهُ عَلَى الْكَافِرِينَ، كَمَا أُنْزِلُوا إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَيْسَ مِثْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِالشَّرَائِعِ أَوْ بِالْوَحْيِ. قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [سُورَة آل عمرَان: 39] . وَالْمُرَادُ بِ «الْحَقِّ» هُنَا الشَّيْءُ الحاقّ، أَي الْمُقْتَضِي، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَقْضِيِّ. وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ الْعَذَابُ الْحَاقُّ. قَالَ تَعَالَى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [سُورَة الْحَج: 18] وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ، أَيْ لَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّاسِ غَيْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَّا مُصَاحِبِينَ لِلْعَذَابِ الْحَاقِّ عَلَى النَّاسِ كَمَا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ. وَلَوْ تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لَعُجِّلَ لِلْمُنْزَلِ عَلَيْهِمْ وَلَمَا أُمْهِلُوا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ مُنْظِرُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ اسْتِئْصَالَهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَشْرُ الدِّينِ بِوَاسِطَتِهِمْ فَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى اهْتَدَوْا، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَ كُبَرَاءَهُمْ وَمُدَبِّرِيهِمْ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [8] : وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ. وَقَدْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بدر يقطعون رُؤُوس الْمُشْرِكِينَ. وَالْإِنْظَارُ: التَّأْخِيرُ وَالتَّأْجِيلُ. وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاء. وَقد وسطت هُنَا بَيْنَ جُزْأَيْ جَوَابِهَا رَعْيًا لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ جوابها على قَول: مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ. وَكَانَ شَأْنُ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ فِي صَدْرِ جَوَابِهَا. وَجُمْلَتُهَا هِيَ الْجَوَابُ الْمَقْصُود لقَولهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [سُورَة الْحجر: 7] . وَجُمْلَة مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي الرَّدِّ، وَلِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِإِيجَازِ الْجَوَابِ.

[سورة الحجر (15) : آية 9]

وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إِذَنْ مَا كُنْتُمْ مُنْظَرِينَ بِالْحَيَاةِ وَلَعَجَّلَ لَكُمُ الِاسْتِئْصَالَ إِذْ مَا تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا مَصْحُوبِينَ بِالْعَذَابِ الْحَاقِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَارِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [سُورَة العنكبوت: 53] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا تَنَزَّلُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَتَنَزَّلُ) . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى النِّيَابَةِ-. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ- بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ على المفعولية-. [9] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 9] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِبْطَالِ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ، إِذْ قَالُوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [سُورَة الْحجر: 6] ، بَعْدَ أَنْ عَجَّلَ كَشْفَ شُبْهَتِهِمْ فِي قَوْلهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة الْحجر: 7] . جَاءَ نَشْرُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى عَكْسِ لَفِّ الْمَقَالَيْنِ اهْتِمَامًا بِالِابْتِدَاءِ بِرَدِّ الْمَقَالِ الثَّانِي بِمَا فِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ بِالتَّعْجِيزِ وَالْإِفْحَامِ، ثُمَّ ثُنِّيَ الْعَنَانُ إِلَى رَدِّ تَعْرِيضِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَسُؤَالِ رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ نَوْعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِتَقْرِيرِ إِنْزَالِ الذِّكْرِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَارَاةً لِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ، فَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّا وَضَمِيرِ الْفَصْلِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا فِي الْوَاقِعِ كَقَوْلِهِ: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [سُورَة المُنَافِقُونَ: 1] .

ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ ارْتِقَاءً وَنِكَايَةً لَهُمْ بِأَنَّ مُنْزِلَ الذَّكَرِ هُوَ حَافِظُهُ مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ فَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرَ، وَاللَّامُ لِتَقْوِيَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ لِضَعْفِهِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وَشَمَلَ حَفِظُهُ الْحِفْظَ مِنَ التَّلَاشِي، وَالْحِفْظَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ، بِأَنْ يَسَّرَ تَوَاتُرَهُ وَأَسْبَابَ ذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ حَتَّى حَفِظَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ ظُهُورِ قُلُوبِهَا مِنْ حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ حُفَّاظُهُ بِالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ فِي كُلِّ مِصْرٍ. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» : أَنَّ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَالِكِيَّ الْبَصْرِيَّ (¬1) سُئِلَ عَنْ السِّرِّ فِي تَطَرُّقِ التَّغْيِيرِ لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَسَلَامَةِ الْقُرْآنِ مِنْ طرقِ التَّغْيِيرِ لَهُ. فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ لِلْأَحْبَارِ حِفْظَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [سُورَة الْمَائِدَة: 44] وَتَوَلَّى حِفْظَ الْقُرْآنِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ ذَكَرْتُ هَذَا الْكَلَامَ لِلْمُحَامِلِيِّ فَقَالَ لِي: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ (¬2) . ¬

(¬1) هُوَ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن حمّاد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ ثمَّ الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي الإِمَام المفسّر قَاضِي بَغْدَاد ولد سنة 200 وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة 382 أَخذ عَن أَصْحَاب مَالك بن أنس مثل عبد الله بن مسلمة القعْنبِي، وَأخذ عَن أيمة الحَدِيث مثل إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأبي بكر بن أبي شيبَة. قَالَ الْبَاجِيّ لم تحصل دَرَجَة الِاجْتِهَاد واجتماع آلَته بعد مَالك إِلَّا لإسماعيل القَاضِي. (¬2) أَبُو الْحسن عبيد الله بن المنتاب الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي قَاضِي الْمَدِينَة المنورة فِي زمن المقتدر (من سنة 295 إِلَى سنة 320) كَانَ من أَصْحَاب القَاضِي إِسْمَاعِيل. والمحاملي نِسْبَة إِلَى صنع المحامل فَهُوَ بِفَتْح الْمِيم، وَهُوَ الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل. روى عَن البُخَارِيّ. وَولي قَضَاء الْكُوفَة وَتُوفِّي سنة 380.

[سورة الحجر (15) : الآيات 10 إلى 11]

وَفِي تَفْسِيرِ «الْقُرْطُبِيِّ» فِي خَبَرٍ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ إِسْلَامِ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ، وَحَدَّثَ بِهَا سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَقَالَ سُفْيَانُ: قَالَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فَجَعَلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَضَاعَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فَحَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فَلَمْ يَضِعْ» اه. وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ تَوَارُدِ الْخَوَاطِرِ. وَفِي هَذَا مَعَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ إِغَاظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَمْرَ هَذَا الدِّينِ سَيَتِمُّ وَيَنْتَشِرُ الْقُرْآنُ وَيبقى على ممرّ الْأَزْمَانِ. وَهَذَا مِنَ التَّحَدِّي لِيَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ آيَةً لَتَطَرَّقَتْ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَلَاشْتَمَلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سُورَة النِّسَاء: 82] . [10- 11] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 10 إِلَى 11] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] بِاعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ جَوَابٌ عَنِ اسْتِهْزَائِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] فَإِنَّ جُمْلَةَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ قَوْلٌ بِمُوجَبِ قَوْلِهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ إِبْطَالٌ لِاسْتِهْزَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَفِي هَذَا التَّنْظِيرِ تَحْقِيقٌ لِكُفْرِهِمْ لِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ السالفين مقرّر عِنْدَ الْأُمَمِ وَمُتَحَدَّثٌ بِهِ بَيْنَهُمْ. وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِ أَمْثَالِهِمْ وَإِدْمَاجٍ بِالْكِنَايَةِ عَنْ تَسْلِيَة الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-.

[سورة الحجر (15) : الآيات 12 إلى 13]

وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ سَبْقِ الْإِرْسَالِ مِنَ اللَّهِ، مِثْلَ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَحَدُوهُ وَاسْتَعْجَبُوهُ كَقَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [سُورَة يُونُس: 2] . وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَوْقِعِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي أَمْرُهَا وَاحِدٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [65] . وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [69] ، أَيْ فِي أُمَمِ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا وَجْهُ إِضَافَةِ شِيَعِ إِلَى الْأَوَّلِينَ. وكانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ سُنَّتُهُمْ، فَ (كَانَ) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ، وَالْمُضَارِعُ دَلَّ عَلَى تَكَرُّرِهِ مِنْهُمْ. وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنا مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ، أَيْ رُسُلًا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ رَسُولٍ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُكْثِرُونَ الِاسْتِهْزَاءَ بِرَسُولِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ سَجِيَّةً لَهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا الِاسْتِهْزَاء بالرسول. [12، 13] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 12 إِلَى 13] كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ سُؤَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة الْحجر: 11] فَيَتَسَاءَلُ كَيْفَ تَوَارَدَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنَ الضَّلَالِ فَلَمْ تُفِدْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [سُورَة الذاريات: 53] .

وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر: 9] إِذْ قَدْ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ حِفْظَ الذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكْفُرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ. فَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لِإِجْرَامِهِمْ وَتَلَقِّيهِمُ الْحَقَّ بِالسُّخْرِيَةِ وَعَدَمِ التَّدَبُّرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ لَهُمْ وَصْفُ الْمُجْرِمِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ صَارَ لَهُمْ كَاللَّقَبِ لَا يُشْعِرُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [سُورَة التَّوْبَة: 125] . وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي نَسْلُكُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْلَاكٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ، أَيْ زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلْقُرْآنِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ شِيَعُ الْأَوَّلِينَ مَعَ مَا يُفِيدُهُ الْمُضَارِعُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ الْمُنَاسِبِ لِقَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ تَجَدَّدَ لِهَؤُلَاءِ إِبْلَاغُ الْقُرْآنِ عَلَى سُنَّةِ إِبْلَاغِ الرِّسَالَاتِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِعْذَارٌ لَهُمْ لِيَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ كَمَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ هُوَ السَّلْكُ الْمَأْخُوذُ مِنْ نَسْلُكُهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهَا الْمُقَرَّرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَالسَّلْكُ: الْإِدْخَالُ. قَالَ الْأَعْشَى: كَمَا سَلَكَ السَّكِّيُّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ مِثْلُ السَّلْكِ الَّذِي سَنَصِفُهُ نَسْلُكُ الذِّكْرَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ هَكَذَا نُولِجُ الْقُرْآنَ فِي عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَفْهَمُونَهُ إِذْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَيُدْرِكُونَ خَصَائِصَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِي عُقُولِهِمُ اسْتِقْرَارَ تَصْدِيقٍ بِهِ بَلْ هُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [سُورَة التَّوْبَة: 124- 125] .

[سورة الحجر (15) : الآيات 14 إلى 15]

وَبِهَذَا السُّلُوكُ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِمْ وَيُعَادُ إِسْمَاعُهُمْ إِيَّاهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ. فَضَمِيرُ نَسْلُكُهُ وبِهِ عَائِدَانِ إِلَى الذِّكْرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [سُورَة الْحجر: 9] أَيِ الْقُرْآنِ. وَالْمُجْرِمُونَ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَجُمْلَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بَيَانٌ لِلسَّلْكِ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ تَعِيَهُ عُقُولُهُمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَهَذَا عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ مَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقْتًا مَا. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَجُمْلَةِ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ [الْحجر: 14] الْخَ. وَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُعَامَلَةً لِلنَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ مَضَتْ أَمْرٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ذِكْرُهُ، فَكَانَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ بِقَرِينَةِ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى أَصْلِ الْخَبَرِيَّةِ. وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [137] . وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْأَوَّلِينَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ فِيهِمْ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ هُنَا، وَالْإِضَافَةُ لأدنى مُلَابسَة. [14، 15] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 14 إِلَى 15] وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ [سُورَة الْحجر: 13] وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِإِبْطَالِ جَمِيعِ مَعَاذِيرِهِمْ من قَوْلهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ سُورَة الْحجر [7] وَقَوْلهمْ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سُورَة الْحجر: 6]

بِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِدْقِهِ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الصِّدْقِ بَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْتَحِلُونَ الْمَعَاذِيرَ الْمُخْتَلِفَةَ. وَالْكَلَامُ الْجَامِعُ لِإِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ: أَنَّهُمْ لَوْ فَتَحَ اللَّهُ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ حِينَ سَأَلُوا آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ بِطَلَبٍ مِنَ الرَّسُولِ فَاتَّصَلُوا بِعَالِمِ الْقُدُسِ وَالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ وَرَأَوْا ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ لَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهَا تَخَيُّلَاتٌ وَأَنَّهُمْ سُحِرُوا فَرَأَوْا مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ شَيْئًا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سُورَة الْأَنْعَام: 7] . وَ (ظَلَّ) تَدُلُّ عَلَى الْكَوْنِ فِي النَّهَارِ، أَيْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ وَتَبَيُّنِ الْأَشْبَاحِ وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي الْمَرْئِيِّ. وَالْعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وَيَجُوزُ فِي مُضَارِعِهِ ضَمُّ الرَّاءِ وَبِهِ الْقِرَاءَةُ وَكَسْرُهَا، أَيْ فَكَانُوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ نَهَارًا. وسُكِّرَتْ- بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبِتَخْفِيفِ الْكَافِ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ سُدَّتْ. يُقَالُ: سَكَّرَ الْبَابَ بِالتَّشْدِيدِ وَسَكَرَهُ بِالتَّخْفِيفِ إِذَا سَدَّهُ. وَالْمَعْنَى: لَجَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا شَيْئًا. وَأَتَوْا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَتُّوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. وَرَدُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ظَنٌّ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَعَرَجُوا فِيهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ ذَلِكَ إِضْرَابَ الْمُتَرَدِّدِ الْمُتَحَيِّرِ يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ فَقَالُوا: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ، أَيْ مَا رَأَيْنَاهُ هُوَ تَخَيُّلَاتِ الْمَسْحُورِ، أَيْ فَعَادُوا إِلَى إِلْقَاءِ تَبِعَةِ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَحَرَهُمْ حِينَ سَأَلَ لَهُمُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَفَتَحَهُ لَهُمْ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 18]

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السِّحْرِ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْمٌ هُنَا دُونَ أَنْ يَقُولُوا: بَلْ نَحْنُ مَسْحُورُونَ، لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ السِّحْرَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُهُمْ حَتَّى صَارَ مِنْ خَصَائِصِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَبْيِينُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وتكرر ذَلِك. [16- 18] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 16 إِلَى 18] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي شَأْنِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا توركوا بِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحَ التَّكْذِيبِ أَصْلَيْنِ هُمَا إِبْطَالُهُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ، وَإِثْبَاتُهُ الْبَعْثَ، انْبَرَى الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لَهُمْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْوَاضِحَةَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَانْقِرَاضِ أُمَمٍ وَخَلَفَهَا بِأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [سُورَة الْحجر: 23] الْآيَةَ. وَصَادَفَ ذَلِكَ مُنَاسِبَةَ ذِكْرِ فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فِي تَصْوِيرِ غُلْوَائِهِمْ بِعِنَادِهِمْ، فَكَانَ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ تَخَلُّصًا بَدِيعًا. وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الْحَقَّ لَكَانَ لَهُمْ فِي دَلَالَةِ مَا هُوَ مِنْهُمْ غُنْيَةٌ عَنْ تَطَلُّبِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ.

وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ تَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ الذَّاهِلِينَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فَأُكِّدَ لَهُمُ الْكَلَامُ بِمُؤَكِّدَيْنِ. وَمَرْجِعُ التَّأْكِيدِ إِلَى تَحْقِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَإِلَى الْإِلْجَاءِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ. وَالْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ- بِضَمِّ الْبَاءِ-. وَحَقِيقَتُهُ الْبِنَاءُ الْكَبِيرُ الْمُتَّخَذُ لِلسُّكْنَى أَوْ لِلتَّحَصُّنِ. وَهُوَ يُرَادِفُ الْقَصْرَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [78] . وَأُطْلِقَ الْبُرْجُ عَلَى بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سَمْتِ طَائِفَةٍ مِنَ النُّجُومِ غَيْرِ السَّيَّارَةِ (وَتُسَمَّى النُّجُومُ الثَّوَابِتُ) مُتَجَمِّعٌ بَعْضُهَا بِقُرْبِ بَعْضٍ عَلَى أَبْعَادٍ بَيْنَهَا لَا تَتَغَيَّرُ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْجَوِّ، فَتِلْكَ الطَّائِفَةُ تَكُونُ بِشَكْلٍ وَاحِدٍ يُشَابِهُ نُقَطًا لَوْ خُطِّطَتْ بَيْنَهَا خُطُوطٌ لَخَرَجَ مِنْهَا شِبْهُ صُورَةِ حَيَوَانٍ أَوْ آلَةٍ سَمَّوْا بِاسْمِهَا تِلْكَ النُّجُومَ الْمُشَابِهَةَ لِهَيْئَتِهَا وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي خَطِّ سَيْرِ الشَّمْسِ. وَقَدْ سَمَّاهَا الْأَقْدَمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّوْقِيتِ بِمَا يُرَادِفُ مَعْنَى الدَّارِ أَوِ الْمَكَانِ. وَسَمَّاهَا الْعَرَبُ بُرُوجًا وَدَارَاتٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَجْعُولَةِ سَبَبًا لِوَضْعِ الِاسْمِ تَخَيَّلُوا أَنَّهَا مَنَازِلُ لِلشَّمْسِ لِأَنَّهُمْ وَقَّتُوا بِجِهَتِهَا سَمْتَ مَوْقِعِ الشَّمْسِ مِنْ قُبَّةِ الْجَوِّ نَهَارًا فِيمَا يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الشَّمْسَ تَسِيرُ فِي شِبْهِ قَوْسِ الدَّائِرَةِ. وَجَعَلُوهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَكَانًا بِعَدَدِ شُهُورِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا سُمُوتٌ لِجِهَاتٍ تُقَابِلُ كُلُّ جِهَةٍ مِنْهَا الْأَرْضَ مِنْ جِهَةٍ وَرَاءَ الشَّمْسِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً. ثُمَّ إِذَا انْتَقَلَ مَوْقِعُ الْأَرْضِ مِنْ مَدَارِهَا كُلَّ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ تَتَغَيَّرُ الْجِهَةُ الْمُقَابِلَةُ لَهَا. فَبِمَا كَانَ لَهَا مِنَ النِّظَامِ تَسَنَّى أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَاتٍ لِمَوَاقِيتِ حُلُولِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَحُلُولِ الْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فَهُمْ ضَبَطُوا لِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ حُدُودًا وَهْمِيَّةً عَيَّنُوا مَكَانَهَا فِي اللَّيْلِ مِنْ جِهَةِ مَوْقِعِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ وَأَعَادُوا رَصْدَهَا يَوْمًا فَيَوْمًا، وَكُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةُ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ ضَبَطُوا لِلشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَامَاتٍ فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِمَوْقِعِ الشَّمْسِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَهَكَذَا، حَتَّى رَأَوْا بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا إِلَى

مُقَابِلَةِ الْجِهَةِ الَّتِي ابْتَدَأُوا مِنْهَا فَجَعَلُوا ذَلِكَ حَوْلًا كَامِلًا. وَتِلْكَ الْمَسَافَةُ الَّتِي تُخَالُ الشَّمْسُ قَدِ اجْتَازَتْهَا فِي مُدَّةِ السَّنَةِ سَمَّوْهَا دَائِرَةَ الْبُرُوجِ أَوْ مِنْطَقَةَ الْبُرُوجِ. وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ تِلْكَ الطَّوَائِفِ مِنَ النُّجُومِ جَعَلُوا لَهَا أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي شَبَّهُوهَا بِهَا وَأَضَافُوا الْبُرْجَ إِلَيْهَا. وَهِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ابْتِدَاءٌ مِنْ بُرْجِ مَدْخَلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ: الْحَمَلُ، الثَّوْرُ، الْجَوْزَاءُ، (مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَوْزِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونِ الْوَسَطِ- لِأَنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ) ، السَّرَطَانُ، الْأَسَدُ، السُّنْبُلَةُ، الْمِيزَانُ، الْعَقْرَبُ، الْقَوْسُ، الْجَدْيُ، الدَّلْوُ، الْحُوتُ. فَاعْتَبَرُوا لِبُرْجِ الْحمل شهر (أبرير) وَهَكَذَا، وَذَلِكَ بِمُصَادَفَةِ أَنْ كَانَتِ الشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ فِي سَمْتِ شَكْلٍ نَجْمِيٍّ شَبَّهُوهُ بِنُقَطِ خُطُوطِ صُورَةِ كَبْشٍ. وَبِذَلِكَ يُعْتَقَدُ أَنَّ الْأَقْدَمِينَ ضَبَطُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ وَقَسَّمُوهَا إِلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِلَى الْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قَبْلَ أَنْ يَضْبِطُوا الْبُرُوجَ. وَإِنَّمَا ضَبَطُوا الْبُرُوجَ لِقَصْدِ تَوْقِيتِ ابْتِدَاءِ الْفُصُولِ بِالضَّبْطِ لِيَعْرِفُوا مَا مَضَى مِنْ مُدَّتِهَا وَمَا بَقِيَ. وَأَوَّلُ مَنْ رَسَمَ هَذِهِ الرُّسُومَ الْكَلْدَانِيُّونَ، ثُمَّ انْتَقَلَ عِلْمُهُمْ إِلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ وَمِنْهُمُ الْعَرَبُ فَعَرَفُوهَا وَضَبَطُوهَا وَسَمَّوْهَا بِلُغَتِهِمْ. وَلِذَلِكَ أَقَامَ الْقُرْآنُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْبُرُوجِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا دَقَائِقَهَا وَنِظَامَهَا الَّذِي تَهَيَّأَتْ بِهِ لِأَنْ تَكُونَ وَسِيلَةَ ضَبْطِ الْمَوَاقِيتِ بِحَيْثُ لَا تُخْلَفُ مُلَاحَظَةُ رَاصِدِهَا. وَمَا خَلَقَهَا اللَّهُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ إِلَّا لِيَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِضَبْطِ الْمَوَاقِيتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [سُورَة يُونُس: 5] . ثُمَّ ارْتَقَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِكَوْنِ هَذِهِ الْبُرُوجِ الْعَظِيمَةِ الصُّنْعِ قَدْ جُعِلَتْ بِأَشْكَالٍ تَقَعُ مَوْقِعَ الْحُسْنِ فِي الْأَنْظَارِ فَكَانَتْ زِينَةً لِلنَّاظِرِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِمُشَاهَدَتِهَا فِي اللَّيْلِ فَكَانَتِ الْفَوَائِدُ مِنْهَا عَدِيدَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّعْلِيمِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ. وَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِعِصْمَةِ الْوَحْيِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ،

بِأَنَّ الْعَوَالِمَ الَّتِي يَصْدُرُ مِنْهَا الْوَحْيُ وَيَنْتَقِلُ فِيهَا مَحْفُوظَةً مِنَ الْعَنَاصِرِ الْخَبِيثَةِ. فَهُوَ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر: 9] . وَكَانُوا يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ كَاهِنٌ وَلِذَلِكَ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا حَاوَرَهُمْ فِيمَا أَعَدُّوا مِنَ الِاعْتِذَارِ لِوُفُودِ الْعَرَبِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ إِذَا سَأَلُوهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوءَةَ. وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَقُولُوا هُوَ كَاهِنٌ، فَكَانَ مِنْ كَلَامِ الْوَلِيدِ أَنْ قَالَ «.. وَلَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بزمزة الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ» ، قَالَ تَعَالَى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [سُورَة الحاقة: 42] . وَكَانَ الْكُهَّانُ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ شَيَاطِينَ تَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُمْ كَاذِبُونَ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي الْكَذِبِ. وَالْمُرَادُ بِالْحِفْظِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْحِفْظُ مِنَ اسْتِقْرَارِهَا وَتَمَكُّنِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَالشَّيْطَانُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالرَّجِيمُ: الْمُحَقَّرُ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا احْتَقَرُوا أَحَدًا حَصَبُوهُ بِالْحَصْبَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [سُورَة الْحجر: 34] ، أَيْ ذَمِيمٌ مُحَقَّرٌ. وَالرُّجَامُ- بِضَمِّ الرَّاءِ- الْحِجَارَةُ. قِيلَ وَهِي أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ. وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَرْجُمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالٍ الثَّقَفِيِّ الَّذِي كَانَ دَلِيلُ جَيْشِ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ. قَالَ جَرِيرٌ: إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ ... كَمَا تَرْمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالِ وَالرَّجْمُ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ حَكَاهَا الْقُرْآنُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 116] . وَعَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [سُورَة مَرْيَم: 46] . وَقَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [سُورَة هود: 91] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّجْمُ الْمَذْكُورُ عَقِبِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ.

وَاسْتِرَاقُ السَّمْعِ: سَرِقَتُهُ. صِيغَ وزن الافتعال للتكلف. وَمَعْنَى اسْتِرَاقِهِ الِاسْتِمَاعَ بِخِفْيَةٍ مِنَ الْمُتَحَدِّثِ كَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَسْرِقُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَلَامَهُ الَّذِي يُخْفِيهِ عَنْهُ. وَ «أَتْبَعَهُ» بِمَعْنَى تَبِعَهُ. وَالْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ مِثْلَ هَمْزَةِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [175] . وَالْمُبِينُ: الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ. وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَهُمْ بِأَنَّ الشُّهُبَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا مُتَسَاقِطَةً فِي السَّمَاءِ هِيَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ طَرْدًا لَهَا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ كَامِلًا، فَقَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ مَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُمُ الِاطِّلَاعَ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَوْ أَلْقَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي عِلْمِ أَوْلِيَائِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ. وَرُبَّمَا اسْتَدْرَجَ اللَّهُ الشَّيَاطِينَ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فَلَمْ يَمْنَعِ الشَّيَاطِينَ مِنَ اسْتِرَاقِ شَيْءٍ قَلِيلٍ يُلْقُونَهُ إِلَى الْكُهَّانِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عِصْمَةَ الْوَحْيِ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بَتَاتًا فَجَعَلَ لِلشُّهُبِ قُوَّةَ خَرْقِ التَّمَوُّجَاتِ الَّتِي تَتَلَقَّى مِنْهَا الشَّيَاطِينُ الْمُسْتَرِقُونَ السَّمْعَ وَتَمْزِيقَ تِلْكَ التَّدَرُّجَاتِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ تَحَكُّكِ مُسْتَرِقِ السَّمْعِ عَلَى السَّمَاوَاتِ لِتَحْصِيلِ انْكِشَافَاتِ جَبْلِ الْمُسْتَرِقِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهَا. وَفِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْمُسْتَرِقَ يُلْقِي مَا تَلْقَاهُ مِنَ الِانْكِشَافَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 223] . وَمُقْتَضَى تَكْوِينِ الشُّهُبِ لِلرَّجْمِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِرَاقَ قَدْ مُنِعَ عَنِ الشَّيَاطِينِ. وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُنِعَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ إِحْكَامًا لِحِفْظِ الْوَحْيِ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى النَّاسِ بِالْكِهَانَةِ، فَيَكُونُ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأَبِي

هُرَيْرَةَ- رَضِي الله عَنْهُم- مِنَ اسْتِرَاقِ الْجِنِّ السَّمْعَ وَصْفًا لِلْكِهَانَةِ السَّابِقَةِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» وَصْفًا لِآخِرِ أَمْرِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُودُ مَخْلُوقَاتٍ تُسَمَّى بِالْجِنِّ وَبِالشَّيَاطِينِ مَعَ قَوْلِهِ: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [سُورَة ص: 37] الْآيَةَ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الْجِنِّ نَوْعٌ لَا يُخَالِطُ خَوَاطِرَ الْبَشَرِ، وَيُخَصُّ بِاسْمِ الشَّيَاطِينِ نَوْعٌ دَأْبُهُ الْوَسْوَسَةُ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ بِإِلْقَاءِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ. وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَصْنَافٌ، وَأَنَّهَا سَابِحَةٌ فِي الْأَجْوَاءِ وَفِي طَبَقَاتٍ مِمَّا وَرَاءَ الْهَوَاءِ وَتَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ، وَأَنَّ مِنْهَا أَصْنَافًا لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ دُونَ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْوَسْوَاسُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ. وَبَعْضُ ظَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِنَ السُّنَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ صِنْفًا لَهُ اتِّصَالٌ بِنُفُوسٍ ذَاتِ اسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ لِاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ الْوَاقِعَاتِ قَبْلِ وُقُوعِهَا أَوِ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بُلُوغُ وُقُوعِهَا، فَتَسْبِقُ بَعْضُ النُّفُوسِ بِمَعْرِفَتِهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا الْمُعْتَادِ. وَهَذِهِ النُّفُوسُ هِيَ نُفُوسُ الْكُهَّانِ وَأَهْلِ الشَّعْوَذَةِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الشَّيَاطِينِ هُوَ الْمُسَمَّى بِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. فَهَذَا الصِّنْفُ إِذَا اتَّصَلَ بِتِلْكَ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلِاخْتِلَاطِ بِهِ حُجِزَ بَعْضُ قُوَاهَا الْعَقْلِيَّةِ عَنْ بَعْضٍ فَأُكْسِبَ الْبَعْضُ الْمَحْجُوزُ عَنْهُ ازْدِيَادَ تَأْثِيرٍ فِي وَظَائِفِهِ بِمَا يَرْتَدُّ عَلَيْهِ مِنْ جَرَّاءِ تَفَرُّغِ الْقُوَّةِ الذِّهْنِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمُزَاحَمَةٍ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَتُكْسِبُهُ قُدْرَةً عَلَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ لِأَمْثَالِهِ، فَيَخْتَرِقُ الْحُدُودَ الْمُتَعَارَفَةَ لِأَمْثَالِهِ اخْتِرَاقًا مَا، فَرُبَّمَا خَلُصَتْ إِلَيْهِ تَمَوُّجَاتٍ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ تَمَوُّجَاتِ كُرَةِ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجَاتِ الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، مِمَّا وَرَاءَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ. وَلْنَفْرِضْ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ هَذِهِ التَّمَوُّجَاتِ هِيَ تَمَوُّجَاتُ الْأَثِيرِ فَإِنَّهَا تَحْفَظُ الْأَصْوَاتَ مَثَلًا.

ثُمَّ هَذِهِ التَّمَوُّجَاتُ الَّتِي تَخْلُصُ إِلَى عُقُولِ أَهْلِ هَذِهِ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا تَخْلُصُ إِلَيْهَا مُقَطَّعَةً مُجْمَلَةً فَيَسْتَعِينُ أَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ على تأليفها وتأليفها بِمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ ذَكَاءٍ وَزَكَانَةٍ، وَيُخْبِرُونَ بِحَاصِلِ مَا اسْتَخْلَصُوهُ مِنْ بَيْنِ مَا تَلَقَّفُوهُ وَمَا أَلَّفُوهُ وَمَا أَوَّلُوهُ. وَهُمْ فِي مُصَادَفَةِ بَعْضِ الصِّدْقِ مُتَفَاوِتُونَ عَلَى مِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي حِدَّةِ الذَّكَاءِ وَصَفَاءِ الْفَهْمِ وَالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى مِقْدَارِ دُرْبَتِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِي مُعَالَجَةِ مِهْنَتِهِمْ وَتَقَادُمِ عَهْدِهِمْ فِيهَا. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْكُهَّانُ، وَكَانُوا كَثِيرِينَ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَتَخْتَلِفُ سُمْعَتِهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ بِمِقْدَارِ مُصَادَفَتِهِمْ لِمَا فِي عُقُولِ أَقْوَامِهِمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِسَذَاجَةِ عُقُولِ الْقَوْمِ أَثَرًا مَا، وَكَانَ أَقْوَامُهُمْ يَعُدُّونَ الْمُعَمَّرِينَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِصَابَةِ فِيمَا يُنْبِئُونَ بِهِ، وَهُمْ بِفَرْطِ فطنتهم واستغفالهم البله مِنْ مُرِيدِيهِمْ لَا يُصْدِرُونَ إِلَّا كَلَامًا مُجْمَلًا مُوَجَّهًا قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِعِدَّةِ احْتِمَالَاتٍ، بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُونَ بِالتَّكْذِيبِ الصَّرِيحِ، فَيَكِلُونَ تَأْوِيلَ كَلِمَاتِهِمْ إِلَى مَا يَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ الْأَغْرَاضِ الصَّادِرَةِ فِيهَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَكَلَامُهُمْ خُلُوٌّ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْحَقَائِقِ الصَّالِحَةِ. وَهُمْ بِحِيلَتِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَيَادِينِ النُّفُوسِ وَمُؤْثِرَاتِهَا الْتَزَمُوا أَنْ يَصُوغُوا كَلَامَهُمُ الَّذِي يُخْبِرُونَ بِهِ فِي صِيغَةٍ خَاصَّةٍ مُلْتَزَمًا فِيهَا فِقْرَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَتَمَةٌ بِأَسْجَاعٍ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْسَبُونَ مُزَاوَجَةَ الْفِقْرَةِ لِأُخْتِهَا دَلِيلًا عَلَى مُصَادَفَتِهَا الْحَقَّ وَالْوَاقِعَ، وَأَنَّهَا أَمَارَةُ صِدْقٍ. وَكَانُوا فِي الْغَالِبِ يَلُوذُونَ بِالْعُزْلَةِ، وَيُكْثِرُونَ النَّظَرَ فِي النُّجُومِ لَيْلًا لِتَتَفَرَّغَ أَذْهَانُهُمْ. فَهَذَا حَالُ الْكُهَّانِ وَهُوَ قَائِم على أسس الدَّجَلِ وَالْحِيلَةِ وَالشَّعْوَذَةِ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٍ تَخْتَرِقُ الْحَوَاجِزَ الْمَأْلُوفَةَ. وَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ (أَيْ لَا وُجُودَ لِمَا يَزْعُمُونَهُ) . فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ

يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ (¬1) فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ . وَمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ نبيء اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ (أَيْ أَمَرَ أَوْ أَوْحَى) وَضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ «فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ كُلٌّ فِي وَظِيفَتِهِ» كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ (أَيْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لَهُمْ. وَتَقْرِيبُهَا حَرَكَاتُ آلَةِ تَلَقِّي الرَّسَائِلِ الْبَرْقِيَّةِ- تِلِغْرَافُ) ... فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعَ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعَ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ (أَيْ هِيَ طَبَقَاتٌ مُفَاوَتَةٌ فِي الْعُلُوِّ) . وَوَصْفُ سُفْيَان بِيَدِهِ فحرّفها وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ (فَيَسْمَعُ الْمُسْتَرِقُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ أَوِ السَّاحِرِ) ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قبل أَن يُدْرِكهَا فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ. فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ» . أَمَّا أَخْبَارُ الْكُهَّانِ وَقِصَصُهُمْ فَأَكْثَرُهَا مَوْضُوعَاتٌ وَتَكَاذِيبُ. وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَهَذِهِ الظَّوَاهِرُ كُلُّهَا لَا تَقْتَضِي إِلَّا إِدْرَاكَ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهَا مُقَرَّبَةٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ، لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى عَزَائِمِ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ وَتَوَجُّهَاتِهَا نَحْوَ مُسَخَّرَاتِهِا. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمْعِ لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الْخَبَرِ، فَالَّذِي يَحْصُلُ لِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ شُعُورُ مَا تَتَوَجَّهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَسْخِيرِهِ، وَالَّذِي يَحْصُلُ لِلْكَاهِنِ كَذَلِكَ. وَالْمَآلُ أَنَّ الْكَاهِنَ يُخْبِرُ بِهِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى مسموع. [19، 20] ¬

(¬1) قرّت الدَّجَاجَة تقرّ قرّا: أخفت صَوتهَا.

[سورة الحجر (15) : الآيات 19 إلى 20]

[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 19 إِلَى 20] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى مَدَدْناها وَعَلَى (الرَّوَاسِيَ) فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وَالْمَوْزُونُ: مُسْتَعَارٌ لِلْمِقْدَرِ الْمَضْبُوطِ. ومَعايِشَ: جَمْعُ مَعِيشَةٍ. وَبَعْدَ الْأَلْفِ يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ لَا هَمْزَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ، إِذْ لَا يَلْزَمُ لِلْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْمُنْفَصِلِ الْفَصْلُ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ لِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، أَيْ لِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بمطعمين. وَمَا صدق مَنْ الَّذِي يَأْكُلُ طَعَامَهُ مِمَّا فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي تَقْتَاتُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَلَا يَعْقِلُهَا النَّاسُ. وَالْإِتْيَانُ بِ مَنْ الَّتِي الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا لِلْعَاقِلِ لِلتَّغْلِيبِ. وَمَعْنَى لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ نَفْيٌ أَنْ يَكُونُوا رَازِقِيهِ لِأَنَّ الرِّزْقَ الْإِطْعَامُ. وَمَصْدَرُ رَزَقَهُ الرَّزْقَ- بِفَتْحِ الرَّاءِ-. وَأَمَّا الرِّزْقُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- فَهُوَ الِاسْمُ وَهُوَ الْقُوت.

[سورة الحجر (15) : آية 21]

[سُورَة الْحجر (15) : آيَة 21] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) هَذَا اعْتِرَاض ناشىء عَنْ قَوْلِهِ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [سُورَة الْحجر: 19] الْآيَة، وَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَالْمُرَادُ بِـ (الشَّيْءِ) مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ الْآيَةَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [سُورَة الْكَهْف: 79] أَيْ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ. وَالْخَزَائِنُ تَمْثِيلٌ لِصُلُوحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِتَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ. شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ بِهَيْئَةِ إِخْرَاجِ الْمَخْزُونَاتِ مِنَ الْخَزَائِنِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا وَهُوَ الْخَزَائِنُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [50] . وَشَمَلَ ذَلِكَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْعَالَمِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى النَّاسِ بِدَوَافِعَ وَأَسْبَابٍ تَسْتَتِبُّ فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ بِتَرْكِيبِ شَيْءٍ مَعَ شَيْءٍ مِثْلَ نُزُولِ الْبَرْدِ مِنَ السَّحَابِ وَانْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنَ الْأَرْضِ بِقَصْدٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْمُصَادَفَةِ. وَقَوْلُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أُطْلِقَ الْإِنْزَالُ عَلَى تَمْكِينِ النَّاسِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِنَفْعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] ، إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا لِأَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَثَرِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ شَبَّهَ تَمْكِينَ النَّاسِ مِنْهُ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ اللَّدُنِّيِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَارِيفَ الْأُمُورِ كَائِنٌ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الزُّمُرِ [6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ

[سورة الحجر (15) : آية 22]

وَالْقَدَرُ- بِفَتْحِ الدَّالِّ-: التَّقْدِيرُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فِي سُورَةِ الرَّعْد [17] . وَالْمرَاد ب مَعْلُومٍ أَنَّهُ مَعْلُومُ تَقْدِيرِهِ عِنْدَ الله تَعَالَى. [22] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 22] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ السَّمَاءِ وَظَوَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ وَالْمِنَّةِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ. وَالْإِرْسَالُ: مَجَازٌ فِي نَقْلِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاحَ مُسْتَمِرَّةُ الْهُبُوبِ فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ. وَهِيَ تَظْهَرُ فِي مَكَانٍ آتِيَةٍ إِلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ وَهَكَذَا ... ولَواقِحَ حَالٌ مِنَ الرِّياحَ. وَقَعَ هَذَا الْحَالُ إِدْمَاجًا لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-. ولَواقِحَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ جَمْعُ لَاقِحٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحُبْلَى. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا اسْتِعَارَةً لِلرِّيحِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الرُّطُوبَةِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا فِي نُزُولِ الْمَطَرِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّهَا الْعَقِيمُ ضِدُّ اللَّاقِحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [سُورَة الذاريات: 41] . وَصَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ جَمْعُ مُلَقِّحٍ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ لَاقِحًا، أَيِ الْفَحْلُ إِذَا أَلْقَحَ النَّاقَةَ، فَإِنَّ فَوَاعِلَ يَجِيءُ جَمْعَ مُفْعِلٍ مُذَكَّرٍ نَادِرًا كَقَوْلِ الْحَارِثِ أَوْ ضِرَارٍ النَّهْشَلَيِّ:

لَبَّيْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تطيح الطوائح رُوعِيَ فِيهِ جَوَازُ تَأْنِيثِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَهِيَ جَمْعُ الْفُحُولِ لِأَنَّ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ. وَمَعْنَى الْإِلْقَاحِ أَنَّ الرِّيَاحَ تُلَقِّحُ السَّحَابَ بِالْمَاءِ بِتَوْجِيهِ عَمِلِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ مُتَعَاقِبَيْنِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْبُخَارُ الَّذِي يَصِيرُ مَاءً فِي الْجَوِّ ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا عَلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ ذِي الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَنْقُلَ إِلَى نَوْرِهِ غَبْرَةً دَقِيقَةً مِنْ نَوْرِ الشَّجَرِ الذَّكَرِ فَتَصْلُحُ ثَمَرَتُهُ أَوْ تَثْبُتُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ أَوْ لَا تَصْلُحُ. وَهَذَا هُوَ الْإِبَّارُ. وَبَعْضُهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْلِيقِ الطَّلْعِ الذَّكَرِ عَلَى الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ. وَبَعْضُهُ يُكْتَفَى مِنْهُ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ ذَكَرٍ فِي خِلَالِ شَجَرِ الثَّمَرِ. وَمِنْ بَلَاغَةِ الْآيَةِ إِيرَادُ هَذَا الْوَصْفِ لِإِفَادَةِ كِلَا الْعَمَلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَعْمَلُهُمَا الرِّيَاحُ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِمَا. وَاقْتَصَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا لَوَاقِحُ السَّحَابِ بِالْمَطَرِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَلِقَاحُ الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ وَلَا أُرِيدُ مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ وَلَكِنْ يُحَبَّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَلَقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ تُثْمِرَ ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ وَيَثْبُتُ مَا يَثْبُتُ. وَفَرْعُ قَوْلِهِ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً عَلَى قَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَرْسَلَنَا الرِّيحَ لَوَاقِحَ بِإِفْرَادِ «الرِّيحِ» وَجَمْعِ «لَوَاقِحَ» عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ وَالْجِنْسِ لَهُ عدَّة أَفْرَاد. وفَأَسْقَيْناكُمُوهُ بِمَعْنى جَعَلْنَاهُ لكم سُقْيًا، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ. وَكَثُرَ إِطْلَاقُ أَسْقَى بِمَعْنَى سَقَى.

[سورة الحجر (15) : آية 23]

وَاسْتُعْمِلَ الْخَزْنُ هُنَا فِي مَعْنَى الْخَزْنِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [سُورَة الْحجر: 21] أَيْ وَمَا أَنْتُم لَهُ بحافظين ومنشئين عِنْد مَا تُرِيدُونَ. [23] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 23] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَكَانَ مِمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَطَرِ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ جِنْسُ الْإِحْيَاءِ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْغَافِلِينَ عَنِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْإِحْيَاءِ وَلذَلِك قدم. وَذكر الْإِمَاتَةَ لِلتَّكْمِيلِ. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: 16] لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعُمُومِ التَّصَرُّفِ. وَضَمِيرُ «نَحْنُ» ضَمِيرُ فَصْلٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ. وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامُ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَحْقِيقِهِ وَتَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِلْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ تَكْوِينُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَيَاةُ وَإِحْيَاؤُهَا أَيْضًا بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَامِ. وَقَدْ أُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَدَفْعُ اسْتِبْعَادِ وُقُوعِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُشْركُونَ منكرين نوعا مِنَ الْإِحْيَاءِ كَانَ تَوْكِيدُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّنْزِيلِيِّ. وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ عَطْفٌ عَلَى جملَة وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ. وَمَعْنَى الْإِرْثِ هُنَا الْبَقَاءُ بَعْدَ الموجودات تَشْبِيها للبقاء بِالْإِرْثِ وَهُوَ أَخْذُ مَا يَتْرُكُهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَرض وَغَيرهَا.

[سورة الحجر (15) : الآيات 24 إلى 25]

[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 24 إِلَى 25] وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ وَكَانَ الْإِحْيَاءُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- يُذَكِّرُ بِالْأَحْيَاءِ- بِفَتْحِهَا-، وَكَانَتِ الْإِمَاتَةُ تُذْكَرُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ تَخَلَّصَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِلَازِمِ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ عِلْمِ اللَّهِ وَهُوَ عِلْمُهُ بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَعِلْمُ الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ فَأُرِيدَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا الْأَحْيَاءَ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ إِلَى الْآخِرَةِ، فَالتَّقَدُّمُ فِيهِ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا وهم الْبَاقُونَ بَعْدَ انْقِرَاضِ غَيْرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ يَأْتِي. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْوَصْفَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَجَابَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمُ اسْتَقْدَمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ فِعْلَهُ رُبَاعِيٌّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [34] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْخَبَرُ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهُوَ خَبَرٌ وَاهٍ لَا يُلَاقِي انتظام هَذِه الْآيَاتِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ التَّفَاسِيرِ الضَّعِيفَةِ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ نَتِيجَةُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [سُورَة الْحجر: 23] فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي الْحَيَاةَ الْأُولَى قَادِرٌ عَلَى الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَوْلَى، وَالَّذِي قَدَّرَ الْمَوْتَ مَا قَدَّرَهُ عَبَثًا بَعْدَ أَنْ أَوْجَدَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَّا لِتَسْتَقْبِلُوا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقُدِّرَ الدَّوَامُ عَلَى الْحَيَاةِ الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سُورَة الْملك: 2] . وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لِأَنَّ شَأْنَ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ فِي غَيْرِ مَعْنَى الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكَرِ أَنْ تُفِيدَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ بِمَا قَبْلَهَا.

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 27]

وَالْحَكِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [سُورَة الْبَقَرَة: 269] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [209] . وَ «الْعَلِيمُ» الْمَوْصُوفُ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ، أَيِ الْمُحِيطُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [140] . وَقَدْ أُكِّدَتْ جُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الشَّدِيدِ لِلْحَشْرِ. وَقَدْ أُسْنِدَ الْحَشْرُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بشأن النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْبَعْثِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سُورَة سبأ: 7- 8] أَيْ فَكَيْفَ ظَنُّكَ بِجَزَائِهِ مُكَذِّبِيكَ إِذا حشرهم. [26، 27] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 26 إِلَى 27] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) تَكْمِلَةٌ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِخَلْقِ أَجْنَاسِ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَمِنْهُ يَتَخَلَّصُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا يُخَامِرُهَا مِنْ وَسْوَاسِهِ بِمَا يُرْدِيهِمْ. جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَإِنَّ أَهَمَّ الْإِحْيَاءِ هُوَ إِيجَادُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ. فَفِي هَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَمَوْعِظَةٍ وَذِكْرَى. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الَّذِي يُتْرَكُ حَتَّى يَيْبَسَ فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ صَلْصَالٌ وَهُوَ شِبْهُ الْفَخَّارِ إِلَّا أَنَّ الْفَخَّارَ هُوَ مَا يَبِسَ بِالطَّبْخِ بِالنَّارِ. قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [سُورَة الرَّحْمَن: 14] .

وَالْحَمَأُ: الطِّينُ إِذَا اسْوَدَّ وَكُرِهَتْ رَائِحَتُهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حَمَإٍ صِفَةٌ لِ صَلْصالٍ ومَسْنُونٍ صِفَةٌ لِ حَمَإٍ أَوْ ل صَلْصالٍ. وَإِذا كَانَ الصَّلْصَالُ مِنَ الْحَمَأِ فَصِفَةُ أَحَدِهِمَا صِفَةٌ لِلْآخَرِ. وَالْمَسْنُونُ: الَّذِي طَالَتْ مُدَّةُ مُكْثِهِ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْلِ سَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً تُشْبِهُ السَّنَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ فِعْلَ (سَنَّ) بِمَعْنَى تَرَكَ شَيْئًا مُدَّةً طَوِيلَةً غَيْرُ مَسْمُوعٍ. وَلَعَلَّ (تَسَنَّهْ) بِمَعْنَى تَغَيَّرَ مِنْ طُولِ الْمُدَّةِ أَصْلُهُ مُطَاوِعُ سَنَهٍ ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَمْ يَتَسَنَّهْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [259] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ التَّنْبِيهُ عَلَى عَجِيبِ صُنْعِ الله تَعَالَى إِذْ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَهِينَةِ نَوْعًا هُوَ سَيِّدُ أَنْوَاعِ عَالَمِ الْمَادَّةِ ذَاتِ الْحَيَاةِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَيَاةِ تَتَقَوَّمُ مِنَ التُّرَابِيَّةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالتَّعَفُّنِ، وَهُوَ يُعْطِي حَرَارَةً ضَعِيفَةً. وَلِذَلِكَ تَنْشَأُ فِي الْأَجْرَامِ الْمُتَعَفِّنَةِ حَيَوَانَاتٌ مِثْلَ الدُّودِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا تَنْشَأُ فِي الْأَمْزِجَةِ الْمُتَعَفِّنَةِ الْحُمَّى. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَطْوَارِ الَّتِي مَرَّتْ عَلَى مَادَّةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَة بلام الْقسم وَبِحَرْفِ (قد) لزِيَادَة التَّحْقِيق تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذَا الْخَلْقِ وَأَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ إِدْمَاجٌ وَتَمْهِيدٌ إِلَى بَيَانِ نَشْأَةِ الْعَدَاوَة بَين بني آدَمَ وَجُنْدِ إِبْلِيسَ. وَأُكِّدَتْ جُمْلَةُ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ بِصِيغَةِ الِاشْتِغَالِ الَّتِي هِيَ تَقْوِيَةٌ للْفِعْل بِتَقْدِير نَظِيره الْمَحْذُوفِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي أُكِّدَتْ بِهِ جُمْلَةُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ الْخَ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 28 إلى 35]

وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَعْلِيمُ أَنَّ خَلْقَ الْجَانِّ أَسْبَقُ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ عنصر الْحَرَارَة والحرارة أَسْبَقَ مِنَ الرُّطُوبَةِ. والسَّمُومِ- بِفَتْحِ السِّينِ-: الرِّيحُ الْحَارَّةُ. فَالْجِنُّ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ فِي الْحَرَارَةِ فَيَقْبَلَ الْحَيَاةَ الْخَاصَّةَ اللَّائِقَةَ بِخِلْقَةِ الْجِنِّ، فَكَمَا كَوَّنَ اللَّهُ الْحَمَأَةَ الصَّلْصَالَ الْمَسْنُونَ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، كَوَّنَ رِيحًا حَارَّةً وَجَعَلَ مِنْهَا الْجِنَّ. فَهُوَ مُكَوَّنٌ مِنْ حَرَارَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مِقْدَارِ حَرَارَةِ الْإِنْسَانِ وَمِنْ تَهْوِيَةٍ قَوِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ كُلُّهَا فِي إِتْقَانِ المزج والتركيب. [28- 35] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 28 إِلَى 35] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وإِذْ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظَائِرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ الْإِنْسَانِ، أَيْ أَنِّي خَالِقٌ إِنْسَانًا. وَقَدْ فَهِمَ الْمَلَائِكَةُ الْحَقِيقَةَ بِمَا أَلْقَى اللَّهُ فِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْعِبَارَةِ الْجَامِعَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى.

وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمَادَّةَ الَّتِي مِنْهَا خُلِقَ الْبَشَرُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ شَرَفَ الْمَوْجُودَاتِ بِمَزَايَاهَا لَا بِمَادَّةِ تَرْكِيبِهَا كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. وَالتَّسْوِيَةُ: تَعْدِيلُ ذَاتِ الشَّيْءِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى اعْتِدَالِ الْعَنَاصِرِ فِيهِ وَاكْتِمَالِهَا بِحَيْثُ صَارَتْ قَابِلَةً لِنَفْخِ الرُّوحِ. وَالنَّفْخُ: حَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ مَضْغُوطًا بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ كَالصَّفِيرِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِوَضْعِ قُوَّةٍ لَطِيفَةِ السَّرَيَانِ قَوِيَّةِ التَّأْثِيرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَفْخٍ وَلَا مَنْفُوخٍ. وَتَقْرِيبُ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْحَيِّ أَنَّهُ تَكُونُ الْقُوَّةُ الْبُخَارِيَّةُ أَوِ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الْمُنْبَعِثَةُ مِنَ الْقَلْبِ عِنْدَ انْتِهَاءِ اسْتِوَاءِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ أَجْزَاءِ الْمِزَاجِ تَكَوُّنًا سَرِيعًا دَفْعِيًّا وَجَرَيَانِ آثَارِ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي تَجَاوِيفِ الشَّرَايِينِ إِلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ فِي تَجَاوِيفِ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَغَيْرِهَا. وَإِسْنَادُ النَّفْخِ وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حَقَائِقَ الْعَنَاصِرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِتَفَاضُلِ آثَارِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الذَّاتِ أَوِ الرَّائِحَةِ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ كُلُّهُمْ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا يُلَائِمُ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ أَوْ يُنَافِرُهُ تَبَعًا لِطِبَاعِ الْأَمْزِجَةِ أَوْ لِإِلْفِ الْعَادَةِ وَلَا يُؤْبَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ ضَابِطُ وَصْفِ الْقَذَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنِيَّ يُسْتَقْذَرُ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ تَكْوِينَ نَوْعِهِ، وَمِنْهُ تَخَلَّقَتْ أَفَاضِلُ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الْمِسْكُ طَيِّبٌ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ لِمُلَاءَمَةِ رَائِحَتِهِ لِلشَّمِّ وَمَا هُوَ إِلَّا غُدَّةٌ مِنْ خَارِجَاتِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَزَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [سُورَة السَّجْدَة: 7- 9] .

وَهَذَا تَأْصِيلٌ لِكَوْنِ عَالَمِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ خَاضِعٍ لِعَالَمِ الْأَوْهَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» . وَفِيهِ «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَدَمُهُ يَشْخُبُ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . وَمَعْنَى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ اسْقُطُوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَهَذِهِ الْحَالُ لِإِفَادَةِ نَوْعِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْوُقُوعُ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [سُورَة يُوسُف: 100] . وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِتَعْظِيمٍ يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ وَأَشْكَالَهُمْ تَقْدِيرًا لِبَدِيعِ الصُّنْعِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الدَّالِّ عَلَى تَمَامِ عِلْمِ اللَّهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ. وَأَمْرُ الْمَلَائِكَة السُّجُود لَا يُنَافِي تَحْرِيمَ السُّجُودِ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْإِشْرَاكِ وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ مِنْ تَطَرُّقِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ امْتَازَتْ بِنِهَايَةِ مَبَالِغِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، فَجَاءَتْ بِمَا لم تجىء بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بُلُوغَ أَتْبَاعِهَا أَوْجَ الْكَمَالِ فِي الْمَدَارِكِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ قَبْلُ مَحْظُورًا فَقَدْ سَجَدَ يَعْقُوبُ وَأَبْنَاؤُهُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَكَانُوا أَهْلَ إِيمَانٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَلَا تُقَاسُ أَحْكَامُهُ عَلَى تَكَالِيفِ عَالَمِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ عُنْوَانٌ عَلَى طَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ. وكُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ، أَيْ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ السُّجُودِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ.

وَقَوْلُهُ هُنَا أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [34] وَاسْتَكْبَرَ، لِأَنَّهُ أَبَى أَنَّ يَسْجُدَ وَأَنْ يُسَاوِيَ الْمَلَائِكَةَ فِي الرِّضَى بِالسُّجُودِ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَصَى وَأَنَّهُ تَرَفَّعَ عَنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِهِ. وَجُمْلَةُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ. وَمَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكَ، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْكَ، لِأَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ الْمِلْكَ. وأَلَّا تَكُونَ مَعْمُولٌ لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (فِي) . وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنْ) . وَحَرْفُ (أَنْ) يُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ. فَالتَّقْدِيرُ فِي انْتِفَاءِ كَوْنِكَ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَقَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ جُحُودٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَشَدُّ فِي النَّفْيِ مِنْ (لَا أَسْجُدُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ فِي آخر الْعُقُود [الْمَائِدَة: 116] . وَقَوْلُهُ: لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تَأْيِيدٌ لِإِبَايَتِهِ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ حَقِيرٌ ذَمِيمٌ لَا يَسْتَأْهِلُ السُّجُودَ. وَهَذَا ضَلَالٌ نَشَأَ عَنْ تَحْكِيمِ الْأَوْهَامِ بِإِعْطَاءِ الشَّيْءِ حُكْمَ وَقْعِهِ فِي الْحَاسَّةِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ وَقْعِهِ فِي الْحَاسَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِعْطَاءُ حُكْمٍ مَا مِنْهُ التَّكْوِينُ لِلشَّيْءِ الْكَائِنِ. فَشَتَّانَ بَيْنَ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَبَيْنَ مَقْصِدِ الشَّيْطَانِ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ فِي تَعْلِيلِ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِلْمَخْلُوقِ مِنْهُ بِإِعَادَةِ اللَّهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي وَصَفَ بِهَا الْمَلَائِكَةَ. وَزَادَ فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي سُورَةِ ص [76] إِذْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ هُنَا. وَبِمَجْمُوعِ مَا حُكِيَ عَنْهُ هُنَا وَهُنَاكَ كَانَ إِبْلِيسُ مُصَرِّحًا بِتَخْطِئَةِ الْخَالِقِ، كَافِرًا بِصِفَاتِهِ، فَاسْتَحَقَّ الطَّرْدَ مِنْ عَالَمِ الْقُدُسِ. وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ ص. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ تَفَرَّعَ عَلَى جَوَابِهِ الْمُنْبِئِ عَنْ كَفْرِهِ وَعَدَمِ تَأَهُّلِهِ لِلْبَقَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 36 إلى 38]

وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّكَ رَجِيمٌ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِ إِخْرَاجِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَ (إِنَّ) مُؤْذِنَةٌ بِالتَّعْلِيلِ. وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى سَبَبِ إِخْرَاجِهِ مِنْ عَوَالِمِ الْقُدُسِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ وَصفه بالرجيم متلوث الطَّوِيَّةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ، أَيْ حَيْثُ ظَهَرَ هَذَا فِيكَ فَقَدْ خَبُثَتْ نَفْسُكَ خُبْثًا لَا يُرْجَى بَعْدَهُ صَلَاحٌ فَلَا تَبْقَى فِي عَالَمِ الْقُدُسِ وَالنَّزَاهَةِ. وَالرَّجِيمُ: الْمَطْرُودُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَقَارَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [سُورَة الْحجر: 17] . وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ. واللَّعْنَةَ: السَّبُّ بِالطَّرْدِ. وَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ تَمَكُّنُ اللَّعْنَةِ وَالشَّتْمِ مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَقَعُ فَوْقَهُ. وَجُعِلَ يَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ غَايَةً لِلَّعْنِ اسْتِعْمَالًا فِي مَعْنَى الدَّوَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ أَبَدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي أَنَّ اللَّعْنَةَ تَنْتَهِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُفُهَا ضِدُّهَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّعْنَةَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يُلَاقِيَ جَزَاءَ عَمَلِهِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ من اللَّعْنَة. [36- 38] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 36 إِلَى 38] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) سُؤَالُهُ النَّظِرَةَ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ مَلْعُونٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَاضَ بِهِ خُبْثُ جِبِلَّتِهِ الْبَالِغُ نِهَايَةِ الْخَبَاثَةِ الَّتِي لَا يَشْفِيهَا إِلَّا دَوَامُ الْإِفْسَادِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الرَّغْبَةُ مُجْلِبَةً لِدَوَامِ شِقْوَتِهِ.

وَلَمَّا كَانَتِ اللَّعْنَةُ تَسْتَمِرُّ بَعْدَ انْعِدَامِ الْمَلْعُونِ إِذَا اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ بِسُوءٍ لَمْ يَكُنْ تَوْقِيتُهَا بِالْأَبَدِ مُقَيِّدًا حَيَاةَ الْمَلْعُونِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإِبْلِيسَ غِنًى بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِلى يَوْمِ الدِّينِ عَنْ أَنْ يَسْأَلَ الْإِبْقَاءَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ مَصْدَرَ الشُّرُورِ لِلنُّفُوسِ قَضَاءٌ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ بَثِّ الْخُبْثِ فَكَانَ بِذَلِكَ حَرِيصًا عَلَى دَوَامِهَا بِمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَسَأَلَ النَّظِرَةَ حُبًّا لِلْبَقَاءِ لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ اسْتِمْرَارِ عَمَلِهِ. وَخَاطَبَ اللَّهَ بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ تَخَضُّعًا وَحَثًّا عَلَى الْإِجَابَةِ، وَالْفَاءُ فِي فَأَنْظِرْنِي فَاءُ التَّفْرِيعِ. فَرَّعَ السُّؤَالَ عَنِ الْإِخْرَاجِ. وَوَسَّطَ النِّدَاءَ بَيْنَ ذَلِكَ. وَذُكِرَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ أَوْصَافِ نَفْسِيَّتِهِ بَعْثًا لِكَرَاهِيَتِهِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ حَقَّ النَّفْسِ الْأَبِيَّةِ أَنْ تَأْنَفَ مِنَ الْحَيَاةِ الذَّمِيمَةِ الْمُحَقَّرَةِ، وَذَلِكَ شَأْنُ الْعَرَبِ، فَإِذَا عَلِمُوا هَذَا الْحَوْصَ مِنْ حَالِ إِبْلِيسَ أَبْغَضُوهُ وَاحْتَقَرُوهُ فَلَمْ يَرْضَوْا بِكُلِّ عَمَلٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ. وَالْإِنْظَارُ: الْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [280] . وَالْمُرَادُ تَأْخِيرُ إِمَاتَتِهِ لِأَنَّ الإنظار لَا يكرن لِلذَّاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ لِبَعْضِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْمَوْتُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ الدِّينِ بِ يَوْمِ يُبْعَثُونَ تَمْهِيدًا لِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْعَزْمَ مِنْ إِغْوَاءِ الْبَشَرِ، فَأَرَادَ الْإِنْظَارَ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ وُجُودِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا. وَخَلَقَ اللَّهُ فِيهِ حُبَّ النَّظِرَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لَهُ وَخَلَقَهُ لِأَجْلِهَا وَأَجْلِ آثَارِهَا لِيَحْمِلَ أَوْزَارَ تَبِعَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ تِلْكَ الْحَالَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَسْبَ وَالِاخْتِيَارَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُلَائِمًا لِمَا خُلِقَ لَهُ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيَانُ النَّبَوِيُّ بِقَوْلِهِ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» .

[سورة الحجر (15) : الآيات 39 إلى 40]

وَضَمِيرُ يُبْعَثُونَ لِلْبَشَرِ الْمَعْلُومِينَ مِنْ تَرْكِيبِ خَلْقِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ خُلِقَتْ زَوْجُهُ حِينَئِذٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا نَسْلٌ. وَعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ الْبَعْثِ بِ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ تَفَنُّنًا تَفَادِيًا مِنْ إِعَادَةِ اللَّفْظِ قَضَاءً لِحَقِّ حُسْنِ النَّظْمِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيمِ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْأَجَلَ. فَالْمُرَادُ: الْمَعْلُومُ لَدَيْنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْلُومُ لِلنَّاسِ أَيْضًا عِلْمًا إِجْمَالِيًّا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ فَهُمْ كَالْعَدَمِ. وَهَذَا الْإِنْظَارُ رَمْزٌ إِلَهِيٌّ عَلَى أَنَّ نَامُوسَ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي مِنْ عَالَمِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَنَّ نِظَامَهَا قَائِمٌ عَلَى التَّصَارُعِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 18] وَقَالَ: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ [سُورَة الرَّعْد: 17] . فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَغْنِ نِظَامُ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ قَوَانِينِ الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ وَإِيدَاعِهَا إِلَى الْكَفَاةِ لِتَنْفِيذِهَا وَالذَّوْدِ عَنْهَا. وَعُطِفَتْ مَقُولَاتُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهَا أَثَارَهُ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ فتفرّع عَنهُ. [39، 40] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 39 إِلَى 40] قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) الْبَاءُ فِي بِما أَغْوَيْتَنِي لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ، أَيْ بِسَبَبِ أَنْ خَلَقْتَنِي غَاوِيًا فَسَأُغْوِي النَّاسَ. وَاللَّامُ فِي لَأُزَيِّنَنَّ لَامُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مُرَادٌ بِهَا التَّأْكِيدُ، وَهُوَ الْقَسَمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سُورَة ص: 82] .

وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا، أَيْ حَسَنًا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ لَأُزَيِّنَنَّ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمُ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ فَيَرَوْنَهَا حَسَنَةً، وَأُزَيِّنُ لَهُمُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْمَلَاذِّ الَّتِي تَشْغَلُهُمْ عَنِ الْوَاجِبَاتِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [212] . وَالْإِغْوَاءُ: جَعْلُهُمْ غَاوِينَ. وَالْغَوَايَةُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ-: الضَّلَالُ. وَالْمَعْنَى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ. وَإِغْوَاءُ النَّاسِ كُلِّهِمْ هُوَ أَشَدُّ أَحْوَالِ غَايَةِ الْمُغْوِي إِذْ كَانَتْ غَوَايَتُهُ مُتَعَدِّيَةً إِلَى إِيجَادِ غَوَايَةِ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِما أَغْوَيْتَنِي إِشَارَةٌ إِلَى غَوَايَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ وَهِيَ الَّتِي جَبَلَهُ عَلَيْهَا، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ لِحِكَايَتِهَا طَرِيقَةُ الْمَوْصُولِيَّةِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ الشَّيْطَانِ هَذَا طَفْحٌ بِمَا فِي جِبِلَّتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ تَشَفِّيًا أَوْ إِغَاظَةً لِأَنَّ الْعَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ عِنْدَ خُطُورِ الْغَوَايَةِ لِاقْتِرَانِ الْغَوَايَةِ بِالنُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاخْرُجْ مِنْها [سُورَة الْحجر: 34] ، أَيِ اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سُورَة الْبَقَرَة: 2] ، وَلِأَنَّ جَعْلَ التَّزْيِينِ فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ انْتِشَارَهُ فِي جَمِيعِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا. وَضَمَائِرُ: لَهُمْ، ولَأُغْوِيَنَّهُمْ ومِنْهُمُ، لِبَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ عِلْمًا أُلْقِيَ فِي وِجْدَانِهِ بِأَنَّ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَتَكُونُ لَهُ ذَرِّيَّةٌ، أَوِ اكْتَسَبَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَيَّامَ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَلَئِهِ. وَجَعَلَ الْمُغْوَيْنَ هُمُ الْأَصْلُ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لِأَنَّ عَزِيمَتَهُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى الْإِغْوَاءِ، فَهُوَ الْمَلْحُوظُ ابْتِدَاءٌ عِنْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُغْوَيْنَ هُمُ الْأَكْثَرُ. وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [سُورَة الْحجر: 42] . وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُسْتَثْنَى بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا الْعَكْسِ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 41 إلى 44]

وَقُرِئَ الْمُخْلَصِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- لِنَافِعٍ وَحَمْزَةَ وَعَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ عَلَى مَعْنَى الَّذِينَ أَخْلَصْتَهُمْ وَطَهَّرْتَهُمْ. وبكسر اللَّامِ- لِابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، أَيْ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لَكَ فِي الْعَمَل. [41- 42] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 41 إِلَى 44] قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) الصِّرَاطُ الْمُسْتَقيم: هُوَ الْخَبَر وَالرَّشَادُ. فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ جُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، وَتَنْزِيلًا لِلْمَسْمُوعِ مَنْزِلَةَ الْمَرْئِيِّ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ هُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَمَا يُكْتَبُ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ فُلَانٌ فَلَانًا أَنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ بَاعَهُ كَذَا وَكَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي سَبَقَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سُورَة الْحجر: 40] لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ غَوَايَةَ الْعِبَادِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ مُسْتَأْنَفَةً أَفَادَتْ نَفْيَ سُلْطَانِهِ. وَالصِّرَاطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْهُ عَامِلُهُ فَائِدَةً. شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولَهُ إِلَيْهِ أَيْ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَضَعْتُهَا

فِي النَّاسِ وَفِي غَوَايَتِكَ إِيَّاهُمْ وَهِيَ أَنَّكَ لَا تُغْوِي إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَوْ أَنَّكَ تُغْوِي مَنْ عَدَا عِبَادِي الْمُخْلِصِينَ. ومُسْتَقِيمٌ نَعْتٌ لِ صِراطٌ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَاسْتُعِيرَتِ الِاسْتِقَامَةُ لِمُلَازَمَةِ الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ. وعَلَيَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوُجُوبِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْفِعْل الدَّائِم الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [سُورَة اللَّيْل: 12] أَيْ أَنَّا الْتَزَمْنَا الْهُدَى لَا نَحِيدُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا يُرْسَلُ مِنَ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَيَّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ- عَلَى أَنَّهَا (عَلَى) اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْيَاءِ وَتَنْوِينِهَا- عَلَى أَنَّهُ وَصَفٌ مِنَ الْعُلُوِّ وُصِفَ بِهِ صِرَاطٌ، أَيْ صِرَاطُ شَرِيفٍ عَظِيمِ الْقَدْرِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ سُنَّةً فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا، أَيْ مَائِلًا لِلْغَوَايَةِ مُكْتَسِبًا لَهَا دُونَ مَنْ كَبَحَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّرِّ. فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ وَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ عَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالٍ وَعَلِمَ أَنَّ الْهُدَى فِي خِلَافِهِ فَإِذَا تُوِفِّقَ وَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْهُدَى وَصَرَفَ إِلَيْهِ عَزْمُهُ قَوِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ، وَإِذَا مَالَ إِلَى الضَّلَالِ وَاسْتَحْسَنَهُ وَاخْتَارَ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهِ صَارَ مُتَهَيِّئًا إِلَى الْغَوَايَةِ فَأَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ فَغَوَى. فَالِاتِّبَاعُ مَجَازٌ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ وَاسْتِحْسَانِ الرَّأْيِ كَقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [سُورَة آل عمرَان: 31] . وَإِطْلَاقُ الْغاوِينَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَاوِيًا بِالْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ لِسُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَعَلُّقُ نَفْيِ السُّلْطَانِ بِجَمِيعِ الْعِبَادِ، ثُمَّ اسْتِثْنَاءُ مَنْ كَانَ غَاوِيًا. فَلَمَّا كَانَ سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا عَلِمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ

وَصْفًا بالغواية هُوَ مهيىء تَسَلُّطِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَى مَوْصُوفِهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْغَوَايَةِ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، أَيْ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْغَوَايَةِ لَا بِوُقُوعِهَا. فَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عِبادِي لِلْعُمُومِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيٌّ وَلَا حَيْرَةَ فِي ذَلِكَ. وَضَمِيرُ «مَوْعِدُهُمُ» عَائِدٌ إِلَى مَنِ اتَّبَعَكَ، وَالْمَوْعِدُ مَكَانُ الْوَعْدِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ اسْتُعِيرَ الْمَوْعِدُ لِمَكَانِ اللِّقَاءِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بَيْنَ النَّاسِ لِلِقَاءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْوَعْدُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ تَحَقُّقُ الْمَجِيءِ بِجَامِعِ الْحِرْصِ عَلَيْهِ شَأْنُ الْمَوَاعِيدِ، لِأَنَّ إخلاف الْوَعْد محاور، وَفِي ذَلِكَ تَمْلِيحٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، فَجُعِلُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِلْإِتْيَانِ. وَجُمْلَةُ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ مُسْتَأْنَفَةٌ لِوَصْفِ حَالِ جَهَنَّمَ وَأَبْوَابِهَا لِإِعْدَادِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا تَضِيقُ عَنْ دُخُولِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّبْعَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ [سُورَة الرَّعْد: 23] أَوْ أُرِيدَ بِالْأَبْوَابِ الْكِنَايَةَ عَنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْأَبْوَابَ تَقْتَضِي مَنَازِلَ فَهِيَ مَرَاتِبُ مُنَاسِبَةٌ لِمَرَاتِبِ الْإِجْرَامِ بِأَنْ تَكُونَ أُصُولُ الْجَرَائِمِ سَبْعَةً تَتَفَرَّعُ عَنْهَا جَمِيعُ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ. وَعَسَى أَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ تَشْجِيرِهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ طَبَقَاتِهَا طَبَقَةُ النِّفَاقِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سُورَة النِّسَاء: 145] . وَانْظُرْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَفْرِيعِ مَا يَنْشَأُ عَنِ النِّفَاقِ مِنَ الْمَذَامِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وَجُمْلَةُ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ صِفَةٌ لِ أَبْوابٍ وَتَقْسِيمُهَا بِالتَّعْيِينِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ لِ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، أَيْ

[سورة الحجر (15) : الآيات 45 إلى 48]

لِكُلِّ بَابٍ فَرِيقٌ يَدْخُلُ مِنْهُ، أَوْ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّارِ قِسْمٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مَقْسُومٌ عَلَى طَبَقَاتِ أَقْسَامِ النَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ لَدَى الْحَضْرَةِ الْقُدُسِيَّةِ هِيَ انْكِشَافٌ لِجِبِلَّةِ التَّطَوُّرِ الَّذِي تَكَيَّفَتْ بِهِ نَفْسُ إِبْلِيسَ مِنْ حِينِ أَبَى مِنَ السُّجُودِ وَكَيْفَ تَوَلَّدَ كُلُّ فَصْلٍ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّرِ عَمَّا قَبْلَهُ حَتَّى تَقَوَّمَتِ الْمَاهِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ بمقوماتها كَامِلَة عِنْد مَا صَدَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سُورَة الْحجر: 39، 40] ، فَكُلَّمَا حَدَثَ فِي جِبِلَّتِهِ فَصْلٌ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِنُطْقِ الْجَوَارِحِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الضَّلَالَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ. وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي أُجِيبَتْ بِهَا أَقْوَالُ الشَّيْطَانِ فَمَظْهَرٌ لِلْأَوَامِرِ التَّكْوِينِيَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ لِتَطَوُّرِ أَطْوَارِ إِبْلِيسَ الْمُقَوِّمَةِ لِمَاهِيَّةِ الشَّيْطَنَةِ، وَلِلْأَلْطَافِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِمَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا مِنْ عِبَادِهِ لِمُقَاوَمَةِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ. وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا بِمُنَاظَرَةٍ بَيْنَ اللَّهِ وَأَحَدِ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا بِغَلَبَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ لِخَالِقِهِ، فَإِنَّ ضَعْفَهُ تُجَاهَ عِزَّةِ خَالِقِهِ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى ذَلِك. [45- 48] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 45 إِلَى 48] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، انْتِقَالٌ مِنْ وَعِيدِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى بِشَارَةِ الْمُتَّقِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ. وَالْمُتَّقُونَ: الْمَوْصُوفُونَ بِالتَّقْوَى. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] . وَالْعُيُونُ: جَمْعُ عَيْنٍ اسْمٌ لِثُقْبٍ أَرْضِيٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ. فَقَدْ يَكُونُ انْفِجَارُهَا بِدُونِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ. وَأَسْبَابُهُ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [74] . وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ وَهُوَ التَّفْجِيرُ. وَجُمْلَةُ ادْخُلُوها مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ حَالًا مِنَ الْمُتَّقِينَ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا. وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ. وَالْبَاءُ مِنْ بِسَلامٍ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [54] . وَالْأَمْنُ النَّجَاةُ مِنَ الْخَوْفِ. وَجُمْلَةُ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. وَالْغِلُّ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- الْبُغْضُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [43] ، أَيْ مَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنْ غِلٍّ فِي الدُّنْيَا. وإِخْواناً حَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَالْإِخْوَانِ، أَيْ كَحَالِ الْإِخْوَانِ فِي الدُّنْيَا. وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ الدَّافِعُ إِلَيْهَا اخْتِلَافُ الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ مَصَالِحِ

[سورة الحجر (15) : الآيات 49 إلى 50]

الْمُسْلِمِينَ، وَالشِّدَّةُ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ. كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً . فَقَالَ جَاهِلٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْهَمَذَانِيُّ: كَلَّا، اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: «فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا أُمَّ لَكَ بِفِيكَ التُّرَابُ» . وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ. وَهُوَ مُحَمَلٌ كَالْكُرْسِيِّ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُ الِاضْطِجَاعُ عَلَيْهِ. وَالِاتِّكَاءُ: مَجْلِسُ أَصْحَابِ الدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ لِتَمَكُّنِ الْجَالِسِ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَلُّبِ كَيْفَ شَاءَ حَتَّى إِذَا مَلَّ جِلْسَةً انْقَلَبَ لِغَيْرِهَا. وَالتَّقَابُلُ: كَوْنُ الْوَاحِدِ قُبَالَةَ غَيْرِهِ، وَهُوَ أُدْخِلَ فِي التَّأَنُّسِ بِالرُّؤْيَةِ وَالْمُحَادَثَةِ. وَالْمَسُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ. وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ النَّاشِئُ عَنِ اسْتِعْمَال الْجهد. [49، 50] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 49 إِلَى 50] نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) هَذَا تَصْدِيرٌ لِذِكْرِ الْقَصَصِ الَّتِي أُرِيدَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَا الْمَوْعِظَةُ بِمَا حَلَّ بِأَهْلِهَا، وَهِيَ قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَقِصَّةُ ثَمُودَ. وَابْتُدِئَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيم- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِمَا فِيهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَقْتَفُوا آثَارَهُ فِي التَّوْحِيدِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [سُورَة الْحجر: 4] .

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 56]

وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِفِعْلِ الْإِنْبَاءِ لِتَشْوِيقِ السَّامِعِينَ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ [سُورَة البروج: 17] وَنَحْوِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى الْآتِي: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحجر: 51] . وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِإِعْلَامِ النَّاسِ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ ابْتِدَاءً بِالْمَوْعِظَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ بِجُزْئِيَّاتِ حَوَادِثِ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُعَانِدِينَ وَإِنْجَاءِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَائِرٌ بَيْنَ أَثَرِ الْغُفْرَانِ وَبَيْنَ أَثَرِ الْعَذَابِ. وَقُدِّمَتِ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْعَذَابِ لِسَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ. وَضَمِيرُ أَنَا وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَا فَصْلٍ يُفِيدَانِ تَأْكِيدَ الْخَبَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: نبىء عِبَادِي إِلَى الرَّحِيمُ من المحسّنات البديعية مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ إِذَا سَكَنَتْ يَاءُ أَنِّي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَسْكِينِهَا، فَإِنَّ الْآيَةَ تَأْتِي مُتَّزِنَةً عَلَى مِيزَانِ بَحْرِ الْمُجْتَثِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخَبْنُ فِي عَرُوضِهِ وَضُرُبِهِ فَهُوَ مُتَفْعِلُنْ فعلاتن مرَّتَيْنِ. [51- 56] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 51 إِلَى 56] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) هَذَا الْعَطْفُ مَعَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ بِالْفِعْلِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الصِّيغَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِنْبَاءُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ.

وَ (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَشَكَّلُوا بِشَكْلِ أُنَاسٍ غُرَبَاءٍ مَارِّينَ بِبَيْتِهِ. وَتَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَجُمْلَةُ قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ جَاءَتْ مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَن جملَة فَقالُوا سَلاماً. وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ رَدِّهِ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ إِيجَازًا لِظُهُورِهِ. صرح بِهِ فِي قَوْلِهِ: قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الذاريات: 25] ، أَيْ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ بَعْدَ أَنْ رَدَّ السَّلَامَ. وَفِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّهُ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً حِينَ رَآهُمْ لَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ لِلْأَكْلِ. وَضَمِيرُ إِنَّا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهُوَ يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، لِأَنَّ الضَّيْفَ طَرَقُوا بَيْتَهُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ طُرُوقِ الضَّيْفِ فَظَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ شَرًّا، فَلَمَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ فَاتَحَهُمْ بِطَلَبِ الْأَمْنِ، فَقَالَ: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، أَيْ أَخَفْتُمُونَا. وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الْحجر: 25] . وَالْوَجِلُ: الْخَائِفُ. وَالْوَجَلُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- الْخَوْفُ. وَوَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ [70] نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً. وَقَدْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَفَرَّقُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَاوَبَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، فَنِهَايَةُ الْجَوَابِ هُوَ لَا تَوْجَلْ. وَأَمَّا جُمْلَةُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَهِيَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ إِلَيْهِمُ الْقِرَى وَحَضَرَتِ امْرَأَتُهُ فَبَشَّرُوهُ بِحَضْرَتِهَا كَمَا فُصِّلَ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالْغُلَامُ الْعَلِيمُ: إِسْحَاقُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيْ عَلِيمٌ بِالشَّرِيعَةِ بِأَن يكون نبيئا. وَقَدْ حُكِيَ هُنَا قَوْلُهُمْ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَحُكِيَ فِي سُورَةِ هُودٍ قَوْلُهُمْ لِامْرَأَتِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ كَانَتْ لَهُمَا مَعًا فَقَدْ تَكُونُ حَاصِلَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ بِشَارَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَشَّرِ، وَقَدْ تَكُونُ حَصَلَتْ فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ بَشَّرُوهُ بِانْفِرَادٍ ثُمَّ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَبَشَّرُوهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُبَشِّرُكَ- بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمَكْسُورَةِ مُضَارِعُ بَشَّرَ بِالتَّشْدِيدِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ نُبَشِّرُكَ- بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الشِّينِ- وَهِيَ لُغَةٌ. يُقَالُ بَشَّرَهُ يُبَشِّرُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَبَشَّرْتُمُونِي لِلتَّعَجُّبِ. وعَلى بِمَعْنَى (مَعَ) : دَالَّةٌ عَلَى شِدَّةِ اقْتِرَانِ الْبِشَارَةِ بِمَسِّ الْكِبَرِ إِيَّاهُ. وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ. وَالْمَعْنَى تَعَجَّبَ مِنْ بِشَارَتِهِ بِوَلَدٍ مَعَ أَنَّ الْكِبَرَ مَسَّهُ. وَأُكِّدَ هَذَا التَّعَجُّبُ بِالِاسْتِفْهَامِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ. نَزَلَ الْأَمْرُ الْعَجِيبُ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَقَدْ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْبِشَارَةِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ صَادِقُونَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّعَجُّبِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ «بَشَّرْتُمُونِي» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. قَرَأَ نَافِعٌ تُبَشِّرُونِ- بِكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً دُونَ إِشْبَاعٍ- عَلَى حَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ وَحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ فَصِيحٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِكَسْرِ النُّونِ مُشَدَّدَةً- عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ خَاصَّةً. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ النُّونِ- عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمقَام، أَي تبشرونني. وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُمْ بَشَّرُوهُ بِالْخَبَرِ الْحَقِّ، أَيِ الثَّابِتِ لَا شَكَّ فِيهِ إِبْطَالًا لِمَا اقْتَضَاهُ اسْتِفْهَامُهُ بِقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مِنْ أَنَّ مَا بَشَّرُوهُ بِهِ أَمْرٌ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا وَبَاطِلًا. فَكَلَامُهُمْ رَدٌّ لِكَلَامِهِ وَلَيْسَ جَوَابًا عَلَى اسْتِفْهَامِهِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. ثُمَّ نَهَوْهُ عَنِ اسْتِبْعَادِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ اسْتِبْعَادُ رَحْمَةِ الْقَدِيرِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُبَشِّرِينَ بِهَا مُرْسَلُونَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتِبْعَادُ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ

اللَّهِ فَقَالُوا: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادَ الْمُتَعَجِّبِ مِنْ حُصُولِهِ كَانَ ذَلِكَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ رُسُوخِ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَمْ يُقْلِعْهُ مِنْهَا الْخَبَرُ الَّذِي يَعْلَمُ صِدْقَهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ فَقَارَبَتْ حَالُهُ تِلْكَ حَالَ الَّذِينَ يَيْأَسُونَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَام- منزّها عَن الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ جَاءُوا فِي مَوْعِظَتِهِ بِطَرِيقَةِ الْأَدَبِ الْمُنَاسِبِ فَنَهَوْهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْقَانِطِينَ تَحْذِيرًا لَهُ مِمَّا يُدْخِلُهُ فِي تِلْكَ الزُّمْرَةِ، وَلَمْ يَفْرِضُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ قَانِطًا لرفعة مقَام نبوءته عَنْ ذَلِكَ. وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَحَالِهِ فِي مَقَامِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سُورَة الْبَقَرَة: 260] . وَهَذَا النَّهْيُ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [سُورَة هود: 46] . وَقَدْ ذَكَّرَتْهُ الْمَوْعِظَةُ مَقَامًا نَسِيَهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الضَّالُّونَ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبِ عَنْهُ اجْتِنَابُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ امْتَلَكَهُ الْمُعْتَادُ فَتَعَجَّبَ فَصَارَ ذَلِكَ كَالذُّهُولِ عَنِ الْمَعْلُومِ فَلَمَّا نَبَّهَهُ الْمَلَائِكَةُ أدنى تَنْبِيه تذكّر. الْقُنُوطُ: الْيَأْسُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَنْ يَقْنَطُ- بِفَتْحِ النُّونِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ النُّونِ- وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ قَنَطَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَنَطَ يَقْنَطُ- بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ- مِنْ أَعْلَى اللُّغَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [سُورَة الشورى: 28] . قُلْتُ: وَمِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ اخْتِيَارُهُ كُلَّ لُغَةٍ فِي مَوْضِعِ كَوْنِهَا فِيهِ أَفْصَحَ، فَمَا جَاءَ فِيهِ إِلَّا الْفَتْحُ فِي الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ على الْقِرَاءَتَيْن.

[سورة الحجر (15) : الآيات 57 إلى 60]

[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 57 إِلَى 60] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) حِكَايَةُ هَذَا الْحِوَارِ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَلَائِكَةِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ بَيَانِ فَضْلِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبَيْنَ مَوْعِظَةِ قُرَيْشٍ بِمَا حَلَّ بِبَعْضِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ، انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى سُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَنْزِلُونَ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْحجر: 8] . وَقَدْ نُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ لِاسْتِئْصَالِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَرُؤَسَائِهِمْ. وَالْخَطْبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ مَا خَطْبُكُنَّ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 51] . وَالْقَوْمُ الْمُجْرِمُونَ هم قوم لوط أهل سَدُومَ وَقُرَاهَا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا آلَ لُوطٍ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُجْرِمِينَ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا امْرَأَتَهُ مُتَّصِلٌ لِأَنَّهَا مِنْ آلِ لُوطٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي اسْتِثْنَاءِ آلِ لُوطٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ أُرْسِلْنا لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَيْهِمْ وَلَا أُمِرُوا بِإِنْجَائِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى لُوطٍ لِأَجْلِ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، أَيْ لِعَذَابِهِمْ. وَدلّ على ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إِلَّا آلَ لُوطٍ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 61 إلى 65]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمُنَجُّوهُمْ- بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ- مُضَارِعُ نجّى المضاعف. وقرأه حَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ وَخلف- بِسُكُون النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ- مُضَارِعُ أَنْجَى الْمَهْمُوزِ. وَإِسْنَادُ التَّقْدِيرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ عَلَى سَبَبِهِ. وَهُوَ مَا وُكِّلُوا بِهِ مِنْ تَحْذِيرِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلِهِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْعَذَابِ، وَتَرْكِهِمْ تَحْذِيرَ امْرَأَتِهِ حَتَّى الْتَفَتَتْ فَحَلَّ بِهَا مَا حَلَّ بِقَوْمِ لُوطٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنا- بِتَشْدِيدِ الدَّالِ- مِنَ التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ- مِنْ قَدَرَ الْمُجَرَّدِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَجُمْلَةُ إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَ (إِنَّ) مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ قَدَّرْنا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولِهِ. وأصل الْكَلَام قَدرنَا غُبُورُهَا، أَيْ ذَهَابُهَا وَهَلَاكُهَا. وَالتَّعْلِيقُ يَطْرَأُ عَلَى الْأَفْعَالِ كُلِّهَا وَإِنَّمَا يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَيَقِلُّ فِي غَيْرِهَا. وَلَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهَا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْغَابِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. [61- 65] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 61 إِلَى 65] فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) تَفْرِيعٌ عَلَى حِكَايَةِ قِصَّتِهِمْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَقَدْ طُوِيَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَفَارَقُوهُ وَذَهَبُوا إِلَى لُوطٍ فَلَمَّا جَاءُوا لُوطًا.

وَعُبِّرَ بِآلِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ أَهْلِهِ فَجَاءُوا آلَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ وَالْمَجِيءِ هُوَ لُوطٌ. وَتَوَلَّى لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَلَقِّيَهُمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَبِيرِ الْمَنْزِلِ وَلَكِنَّهُ وَجَدَهُمْ فِي شَكْلٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ فِي الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ تَمُرُّ بِهِمْ فَأُلْهِمَ إِلَى أَنَّ لَهُمْ قِصَّةً غَرِيبَةً وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، أَيْ لَا تُعْرَفُ قبيلتكم. وَتقدم عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: نَكِرَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [70] . وَقَدْ أَجَابُوهُ بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِذْ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وَإِبْطَالًا لِمَا ظَنَّهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفْ قَبِيلَتَهُمْ فَلَا يَأْمَنُهُمْ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِمَا يَضُرُّهُ. وَعُبِّرَ عَنِ الْعَذَابِ بِ «مَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ» إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ التَّعْذِيبُ، أَيْ بِالْأَمْرِ الَّذِي كَانَ قَوْمُكَ يَشُكُّونَ فِي حُلُولِهِ بِهِمْ وَهُوَ الْعَذَابُ، فَعَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْخَبَر الْحق، أَي الصدْق، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِجُمْلَةِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ. وَقَوْلُهُ: قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ حِكَايَةً لِخِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَعْنَى عِبَارَاتِهِمْ مُحَوَّلَةً إِلَى نَظْمٍ عَرَبِيٍّ يُفِيدُ مَعْنَى كَلَامِهِمْ فِي نَظْمٍ عَرَبِيٍّ بَلِيغٍ، فَبِنَا أَنَّ نُبَيِّنَ خَصَائِصَ هَذَا النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ: فَإِعَادَةُ فِعْلِ أَتَيْناكَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ أَتَيْناكَ مُرَادِفٌ لِفِعْلِ جِئْناكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وبِالْحَقِّ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِالْمُرَادِفِ. وَالتَّعْبِيرُ فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بِمَادَّةِ الْمَجِيءِ وَفِي الْفِعْلِ الْآخَرِ بِمَادَّةِ الْإِتْيَانِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ لِدَفْعِ تَكْرَارِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [33] : وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً . وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَقَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِذِكْرِ الْفِعْلِ الثَّانِي وَهُوَ وَأَتَيْناكَ خُصُوصِيَّةٌ لَا تَفِي بِهَا وَاوُ الْعَطْفِ وَهِيَ مُرَاعَاةُ اخْتِلَافِ الْمَجْرُورَيْنِ بِالْبَاءِ فِي مُنَاسبَة كل مِنْهُمَا لِلْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ هُوَ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ جِئْناكَ أَمْرًا حِسِّيًّا وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ يمترون، وَكَانَ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى كَالْحَقِيقِيِّ، إِذْ هُوَ مَجِيءٌ مَجَازِيٌّ مَشْهُورٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقِيِّ، أُوثِرَ فِعْلُ جِئْناكَ لِيُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَيُعَلَّقُ بِهِ «مَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ» . وَتَكُونُ الْبَاءُ الْمُتَعَلّقَة بِهِ للتعدية لِأَنَّهُمْ أجاءوا الْعَذَاب، فموقع قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ مَوْقِعُ مَفْعُولٍ بِهِ، كَمَا تَقُولُ (ذَهَبْتُ بِهِ) بِمَعْنَى أَذْهَبْتُهُ وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَذْهَبْ مَعَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ [سُورَة الزخرف: 41] أَيْ نُذْهِبُكَ مِنَ الدُّنْيَا، أَيْ نُمِيتُكَ. فَهَذِهِ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ فِعْلِ أَتَيْناكَ وَهُوَ بِالْحَقِّ فَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْإِتْيَانِ فَغُيِّرَتْ مَادَّةُ الْمَجِيءِ إِلَى مَادَّةِ الْإِتْيَانِ تَنْبِيهًا عَلَى إِرَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ الْمُرَادِ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ، أَعْنِي الْمَجِيءَ الْمَجَازِيَّ. فَإِنَّ هَذَا الْإِتْيَانَ مُسْنَدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَكَانُوا فِي إِتْيَانِهِمْ مُلَابِسِينَ لِلْحَقِّ، أَيِ الصِّدْقِ، وَلَيْسَ الصِّدْقُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ الْإِتْيَانُ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْحَقِّ للملابسة لَا للتعدية. وَالْقِطْعُ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ- الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً فِي سُورَةِ يُونُسَ [27] . وَأَمَرُوهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَهُ قُدَّامَهُ وَيَكُونُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَهُوَ يَتَّبِعُ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ ظُهُورَهُمْ لِيَكُونَ كَالْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحِلُّ بِقَوْمِهِ بِعَقِبِ خُرُوجِهِ تَنْوِيهًا بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِأَنَّهُمْ أَمَرُوهُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِمْ لِأَنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ قَدْ نَزَلَ بِدِيَارِهِمْ. فَبِكَوْنِهِ وَرَاءَ أَهْلِهِ يَخَافُونَ الِالْتِفَاتَ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُهُمْ. وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ الْتَفَتَتْ فَأَصَابَهَا الْعَذَابُ.

[سورة الحجر (15) : آية 66]

وَ (حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أَيْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ بِالْمُضِيِّ. وَلَمْ يُبَيِّنُوا لَهُ الْمَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُهُ إِلَّا وَقْتَ الْخُرُوجِ، وَهُوَ مَدِينَةُ عَمُّورِيَّةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة هود. [66] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 66] وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) قَضَيْنا قَدَّرْنَا، وَضُمِّنَ مَعْنَى أَوْحَيْنَا فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) . وَالتَّقْدِيرُ: وَقَضَيْنَا ذَلِكَ الْأَمْرَ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِمَا قَضَيْنَا. وذلِكَ الْأَمْرَ إِبْهَامٌ لِلتَّهْوِيلِ. وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ. وأَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِ ذلِكَ الْأَمْرَ وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَمَّنِ وَهُوَ (أَوْحَيْنَا) . فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَقَضَيْنَا الْأَمْرَ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ. فَنُظِمَ الْكَلَامُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ الْوَافِرَ الْمَعْنَى بِمَا فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْأَمْرَ مِنَ الْإِبْهَامِ وَالتَّعْظِيمِ. وَمَجِيءُ جُمْلَةِ دابِرَ مُفَسِّرَةٌ مَعَ صُلُوحِيَّةِ أَنَّ لِبَيَانِ كُلٍّ مِنْ إِبْهَامِ الْإِشَارَةِ وَمِنْ فِعْلِ (أَوْحَيْنَا) الْمُقَدَّرِ المضمن، فتم بذلك إِيجَازٌ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ. وَالدَّابِرُ: الْآخِرُ، أَيْ آخِرُ شَخْصٍ. وَقَطْعُهُ: إِزَالَتُهُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ كُلِّهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [45] . وَإِشَارَةُ هؤُلاءِ إِلَى قَوْمِهِ. ومُصْبِحِينَ دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ، أَيْ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَمَبْدَأُ الصَّبَاحِ وَقْتُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 67 إلى 69]

[سُورَة الْحجر: 73] . [67- 69] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 67 إِلَى 69] وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) عَطْفُ جُزْءٍ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ الْجُزْءُ الْأَهَمُّ فِيهَا. وَمَجِيءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ وَمُحَاوَرَتُهُ مَعَهُمْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَا أَشْفَقَ مِمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا عَلِمَ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مُجَادَلَتِهِمْ مَعَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [81] . وَالْوَاوُ لَا تفِيد تَرْتِيب مَعْطُوفِهَا. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لُوطٍ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الْحجر: 62] ، أَو من الْهَاءِ فِي إِلَيْهِ، وَلَا إِشْكَالَ حِينَئِذٍ. وَالْمَدِينَةُ هِيَ سَدُومُ. ويَسْتَبْشِرُونَ يَفْرَحُونَ وَيُسَرُّونَ. وَهُوَ مُطَاوِعُ بَشَّرَهُ فَاسْتَبْشَرَ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [111] . وَصِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مُبَالَغَةً فِي الْفَرَحِ. ذَلِك أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رِجَالًا غُرَبَاءَ حَلُّوا بِبَيْتِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَفَرِحُوا بِذَلِكَ لِيَغْتَصِبُوهُمْ كَعَادَتِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالْفَضْحُ وَالْفَضِيحَةُ: شُهْرَةُ حَالٍ شَنِيعَةٍ. وَكَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِإِهَانَةِ الضَّيْفِ وَيُعَدُّ ذَلِكَ مَذَلَّةً لِمُضِيفِهِ. وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ بِالْوَازِعِ الدِّينِيِّ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا اسْتِقْصَاءً لِلدَّعْوَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا، وَبِالْوَازِعِ الْعُرْفِيِّ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحِسْحَاسِ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] . وَتَقَدَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَة هود.

[سورة الحجر (15) : الآيات 70 إلى 77]

[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 70 إِلَى 77] قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) الْوَاوُ فِي أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَطْفٌ عَلَى كَلَامِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَطْفِ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْإِنْكَارُ. والْعالَمِينَ النَّاسُ. وَتَعْدِيَةُ النَّهْيِ إِلَى ذَاتِ الْعَالَمِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ حِمَايَةِ النَّاسِ أَوْ عَنْ إِجَارَتِهِمْ، أَيْ أَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَادَتِنَا حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْمَارُّونَ فِي حِمَايَتِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمَارِّينَ عَلَى قُرَاهُمْ. والْعالَمِينَ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ. وَأَرَادُوا بِهِ هُنَا أَصْنَافَ الْقَبَائِلِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ بَنَاتَهُ ظَنًّا أَنَّ ذَلِك يردعهم ويطفىء شَبَقَهُمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَعْنَى عَرْضِهِ بَنَاتِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: بَناتِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ صُلْبِهِ وَكُنَّ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ بَنَاتِهِ لِأَنَّ النَّبِيءَ كَأَبٍ لِأُمَّتِهِ. وَجُمْلَةُ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سكراتهم يَعْمَهُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِلْعِبْرَةِ فِي عَدَمِ جَدْوَى الْمَوْعِظَةِ فِيمَنْ يَكُونُ فِي سَكْرَةِ هَوَاهُ.

وَالْمُخَاطَبُ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ. وَكَلِمَةُ لَعَمْرُكَ صِيغَةُ قَسَمٍ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَفْظِ (عَمْرٍ) لَامُ الْقَسَمِ. وَالْعَمْرُ- بِفَتْحِ الْعين وَسُكُون اللَّام- أَصْلُهُ لُغَةٌ فِي الْعُمْرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَخُصَّ الْمَفْتُوحُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِخِفَّتِهِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْقَسَمَ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي الْكَلَامِ. فَهُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ رَفَعُوهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ وُجُوبًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُكَ قَسَمِي. وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ فِيهَا الْخَبَرُ حَذْفًا لَازِمًا فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. وَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِغَيْرِ اللَّامِ فَحِينَئِذٍ يُقْرِنُونَهُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَيَنْصِبُونَهُمَا، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: عَمْرَكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ فَنُصِبَ عَمْرَ بِنَزْعِ الْخَافِض وَهُوَ يَاء الْقَسَمِ وَنُصِبَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ، أَيْ بِتَعْمِيرِكَ اللَّهَ بِمَعْنَى بِتَعْظِيمِكَ اللَّهَ، أَيْ قَوْلِكِ لِلَّهِ لَعَمْرِكَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِاسْمِ أَحَدٍ تَعْظِيمٌ لَهُ، فَاسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْقَسَمِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ التَّحِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ فِي كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» أَيْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِتَعْظِيمِكَ رَبَّكَ. هَذَا مَا يَظْهَرُ لِي فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ، وَقَدْ خَالَفْتُ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ لِأَدْفَعَ مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنْ إِشْكَالٍ. وَالسَّكْرَةُ: ذَهَابُ الْعَقْلِ. مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّكْرِ- بِفَتْحِ السِّينِ- وَهُوَ السَّدُّ وَالْغَلْقُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الضَّلَالِ تَشْبِيهًا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الْهَوَى عَلَى دَوَاعِي الرَّشَادِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ وَغَشْيَتِهِ. ويَعْمَهُونَ يَتَحَيَّرُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَجُمْلَةُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [سُورَة الْحجر: 66] . والصَّيْحَةُ: صَعْقَةٌ فِي الْهَوَاءِ، وَهِيَ صَوَاعِقُ وَزَلَازِلُ وَفِيهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَانْتَصَبَ مُشْرِقِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَشْرَقُوا إِذَا دَخَلُوا فِي وَقْتِ شُرُوقِ الشَّمْسِ. وَضَمِيرَا عالِيَها سافِلَها لِلْمَدِينَةِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ قَبْلَهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ: تَذْيِيلٌ. وَالْآيَاتُ: الْأَدِلَّةُ، أَيْ دَلَائِلُ عَلَى حَقَائِقَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَضِدِّهَا، وَعَلَى تَعَرُّضِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِعِقَابٍ شَدِيدٍ. وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ الْمَبْدُوءَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحجر: 51] . فَفِيهَا مِنَ الْآيَاتِ آيَةُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فِي بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرَامَةً لَهُ، وَبِشَارَتِهِ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، وَإِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِمَا سَيَحِلُّ بِقَوْمِ لُوطٍ كَرَامَةً لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَنَصْرِ اللَّهِ لُوطًا بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِنْجَاءِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلِهِ، وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ وَامْرَأَتِهِ لِمُنَاصَرَتِهَا إِيَّاهُمْ، وَآيَةُ عُمَايَةِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ عَنْ دَلَائِلِ الْإِنَابَةِ، وَآيَةُ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِينَ فِي عِصْيَانِ الرُّسُلِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ آيَةٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [39] . وَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [37] . وَالْمُتَوَسِّمُونَ أَصْحَابُ التَّوَسُّمِ وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي السِّمَةِ، أَيِ الْعَلَامَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْلَمِ، وَالْمُرَادُ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي الْأَسْبَابِ وَعَوَاقِبِهَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ تَرْدَعْهُمُ الْعِبَرُ بِأَنَّهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ النَّظَرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 إلى 79]

الَّذِينَ لَمْ يَتَّعِظُوا بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّتِي عَرَفُوا أَخْبَارَهَا وَرَأَوْا آثَارَهَا. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ الْجُمْلَةَ بِجُمْلَةِ وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أَيِ الْمَدِينَةُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا هِيَ بِطْرِيقٍ بَاقٍ يُشَاهِدُ كَثِيرٌ مِنْكُمْ آثَارَهَا فِي بِلَادِ فِلَسْطِينَ فِي طَرِيقِ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سُورَة الصافات: 137- 138] . وَالْمُقِيمُ: أَصْلُهُ الشَّخْصُ الْمُسْتَقِرُّ فِي مَكَانِهِ غَيْرُ مُرْتَحِلٍ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِآثَارِ الْمَدِينَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْمَكَانِ بِتَشْبِيهِهِ بِالشَّخْصِ الْمُقِيمِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنَ الْقِصَّةِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ قُرَاهُمْ وَاضِحَةٌ فِيهَا آثَارُ الْخَسْفِ وَالْأَمْطَارِ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ. وَعَبَّرَ فِي التَّذْيِيلِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَسِّمِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَجَعَلَ ذَلِكَ (آيَةً) بِالْإِفْرَادِ تَفَنُّنًا لِأَنَّ (آيَةً) اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ، عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ مَا حَصَلَ لَهُمْ آيَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِي مَطَاوِي تِلْكَ الْآيَاتِ آيَاتٌ. وَالَّذِي فِي دُرَّةِ التَّنْزِيلِ، أَيِ الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ الْآيَاتِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِفْرَادِهِ ثَانِيًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مَا قُصَّ مِنْ حَدِيثِ لُوطٍ وَضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ. فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ. وَأَمَّا كَوْنُ قَرْيَةِ لُوطٍ بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ فَهُوَ فِي جُمْلَتِهِ آيَةٌ وَاحِدَة. فتأمّل. [78، 79] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 78 إِلَى 79] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. عَطَفَ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ لِمَا فِي كِلْتَيْهِمَا مِنَ الْمَوْعِظَةِ. وَذِكْرُ هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ تَكْمِيلٌ وَإِدْمَاجٌ، إِذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ

وَالْمَلَائِكَةِ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابَ الْحِجْرِ لِأَنَّهُمْ مِثْلُ قَوْمِ لُوطٍ فِي مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُشَاهِدُونَ دِيَارَ هَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ. وإِنْ مُخَفَّفَةُ (إِنَّ) وَقَدْ أُهْمِلَ عَمَلُهَا بِالتَّخْفِيفِ فَدَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَة على (الظَّالِمين) اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنَّ) الَّتِي أَصْلُهَا مُشَدَّدَةٌ وَبَيْنَ (إِنَّ) النَّافِيَةِ. والْأَيْكَةِ: الْغَيْضَةُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَاسْمُ الْجَمْعِ (أَيْكٌ) ، وَأُطْلِقَتْ هُنَا مُرَادًا بِهَا الْجِنْسُ إِذْ قَدْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي غَيْضَةٍ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَرق. وَقَدْ تُخَفَّفُ الْأَيْكَةُ فَيُقَالُ: لَيْكَةُ. وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُمْ مَدْيَنُ. وَقِيلَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ. فَأَهْلُ مَدين هم سُكَّانُ الْحَاضِرَةِ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ بَادِيَتُهُمْ، وَكَانَ شُعَيْبٌ رَسُولًا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 176- 177] . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على ذَلِك مُسْتَوفى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ. وَالِانْتِقَامُ: الْعُقُوبَةُ لِأَجْلِ ذَنْبٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّقْمِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ. يُقَالُ: نَقَمَ عَلَيْهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَقَمَ مِنْهُ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَنْقِمُ مِنَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [126] . وَأُجْمِلَ الِانْتِقَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبُيِّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ هُودٍ. وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ضَمِيرُ إِنَّهُما لِقَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ وَأَيْكَةُ قَوْمُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-..

[سورة الحجر (15) : الآيات 80 إلى 84]

وَالْإِمَامُ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ لِأَنَّهُ يَأْتَمُّ بِهِ السَّائِرُ، أَيْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يُوَصِّلُ إِذْ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهُ. وَالْمُبِينُ: الْبَيِّنُ، أَيْ أَنَّ كِلْتَا الْقَرْيَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْقَوَافِلِ بِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [سُورَة الْحجر: 76] فَإِدْخَالُ مَدِينَةِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الضَّمِيرِ هُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ عَائِدٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ قَبِيلَتَانِ، وَهُمَا مَدْيَنُ وَسُكَّانُ الْغَيْضَةِ الْأَصْلِيُّونَ الَّذِينَ نَزَلَ مَدْيَنُ بِجِوَارِهِمْ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَسْكَنَ ابْنَهُ مَدْيَنَ فِي شَرْقِ بِلَادِ الْخَلِيلِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَرْضٍ مَأْهُولَةٍ. وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مُقْتَضَى ذِكْرِ قَوْمِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِاسْمِ مَدْيَنَ مَرَّاتٍ وَبِاسْمِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ مَرَّاتٍ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَة الشّعراء. [80- 84] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 80 إِلَى 84] وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84) جُمِعَتْ قَصَصُ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ: قَوْمِ لُوطٍ، وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَأَصْحَابِ الْحِجْرِ فِي نَسَقٍ، لِتَمَاثُلِ حَالِ الْعَذَابِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَذَابُ الصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ وَالصَّاعِقَةِ. وَأَصْحَابُ الْحِجْرِ هُمْ ثَمُودُ كَانُوا يَنْزِلُونَ الْحِجْرَ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ-. وَالْحِجْرُ: الْمَكَانُ الْمَحْجُورُ، أَيِ الْمَمْنُوعُ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ اخْتِصَاصٍ

بِهِ، أَوِ اشْتُقَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ بُيُوتَهُمْ فِي صَخْرِ الْجَبَلِ نَحْتًا مُحْكَمًا. وَقَدْ جُعِلَتْ طَبَقَاتٌ وَفِي وَسَطِهَا بِئْرٌ عَظِيمَةٌ وَبِئَارٌ كَثِيرَةٌ. وَالْحِجْرُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِاسْمِ مَدَائِنِ صَالِحٍ عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى تَبُوكَ. وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ مَدِينَةِ بَنِي حَنِيفَةَ فَهِيَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهِيَ فِي بِلَادِ نَجْدٍ وَتُسَمَّى الْعُرُوضُ وَهِيَ الْيَوْمَ مِنْ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ كَانَتْ قُبُورًا، وَتَعَلَّقُوا بِحُجَجٍ وَهْمِيَّةٍ. وَمِمَّا يُفَنِّدُ أَقْوَالَهُمْ خَلُوُّ تِلْكَ الْكُهُوفِ عَنْ أَجْسَادٍ آدَمِيَّةٍ. وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ قُبُورًا فَأَيْنَ كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَحْيَاءِ؟. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمُودَ لَمَّا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي خَارِجِ الْبُيُوتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. وَقَدْ وُجِدَتْ فِي مَدَاخِلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ نُقَرٌ صَغِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَجْعُولَةٌ لِوَصْدِ أَبْوَابِ الْمَدَاخِلِ فِي اللَّيْلِ. وَتَعْرِيفُ الْمُرْسَلِينَ لِلْجِنْسِ، فَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 105] . وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: آياتِنا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، وَهِيَ آيَةُ النَّاقَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهَا آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهَا مِنْ صَخْرَةٍ، وَحَيَاتِهَا، وَرَعْيِهَا، وَشُرْبِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا خَرَجَ مَعَهَا فَصِيلُهَا، فَهُمَا آيَتَانِ. وَجُمْلَةُ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مُعْتَرِضَةٌ. وَالنَّحْتُ: بَرْيُ الْحَجَرِ أَوِ الْعُودِ مِنْ وَسَطِهِ أَوْ مِنْ جَوَانِبِهِ. ومِنَ الْجِبالِ تَبْعِيضٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَنْحِتُونَ. وَالْمَعْنَى مِنْ صَخْرِ الْجِبَالِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَنْحِتُونَ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 85 إلى 86]

وَ (آمِنِينَ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَنْحِتُونَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُقَدِّرِينَ أَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ عَقِبَ نَحْتِهَا وَسُكْنَاهَا. وَكَانَتْ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحُصُونِ لَا يَنَالُهُمْ فِيهَا الْعَدُوُّ. وَلَكِنَّهُمْ نَسُوا أَنَّهَا لَا تُأَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ. وَالْفَاءُ فِي فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ لِلتَّعْقِيبِ وَالسَّبَبِيَّةِ. ومُصْبِحِينَ حَالٌ، أَيْ دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ. وَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ يَصْنَعُونَ، أَيِ الْبُيُوتُ الَّتِي عُنُوا بِتَحْصِينِهَا وَتَحْسِينِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كانُوا. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَكْسِبُونَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّكَرُّرِ وَالتَّجَدُّدِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ. وَبِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ أَبْلَغَ مِنْ مَوْقِعِ لَفْظِ (بُيُوتِهِمْ) مَثَلًا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْءٌ مُتَّخَذٌ لِلْإِغْنَاءِ وَمِنْ شَأْنه ذَلِك. [85، 86] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 85 إِلَى 86] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) مَوْقِعُ الْوَاوِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَدِيعٌ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا لِقَصَصِ الْأُمَمِ الْمُعَذَّبَةِ بِبَيَانِ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ فَهُوَ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِمَا يُنَاسِبُهَا، وَلِأَنْ تَكُونَ تَصْدِيرًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ. وَالْمُرَادُ سَاعَةُ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ سَاعَةُ الْبَعْثِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً أَوْ حَالِيَّةً، وَعَلَى الثَّانِي عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَخَبَرًا عَلَى خَبَرٍ.

عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ فِي الْحَالَيْنِ لِجَعْلِهَا مُسْتَقِلَّةً بِإِفَادَةِ مَضْمُونِهَا لِأَهَمِّيَّتِهِ مَعَ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أَكْسَبَهَا هَذَا الْمَوْقِعُ الْبَدِيعُ نَظْمَ الْجُمَلِ الْمُعْجِزِ وَالتَّنَقُّلَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِمَا بَيْنَهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَتَشْمَلُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، فَشَمَلَ الْأُمَمَ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا حَلَّ بِهَا، وَشَمَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ، وَشَمَلَ الْحَوَادِثَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي حَلَّتْ بِالْأُمَمِ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْكِسَفِ. وَالْبَاءُ فِي إِلَّا بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقْنَا، أَيْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَمُقَارِنًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ بَادِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَالْمُلَابَسَةُ هُنَا عُرْفِيَّةٌ فَقَدْ يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ الْحَقِّ عَنْ خَلْقِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ تَأَخُّرًا مُتَفَاوِتًا. فَالْمُلَابَسَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْحَقِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَخَفَائِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ فِي عَاقِبَةِ الْأُمُورِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 18] . وَالْحَقُّ: هُنَا هُوَ إِجْرَاءُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى نِظَامٍ مُلَائِمٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَالسُّمُوِّ وَالْخَفْضِ، فِي كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَلِيقُ بِمَاهِيَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ، وَمَا يَصْلُحُ هُوَ لَهُ، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ النِّظَامُ الْعَامُّ لَا بِحَسَبِ الْأَمْيَالِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا لَاحَ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَوْصُوفُ مُقَارَنًا وَجُودُهُ لِوُجُودِ مَحْقُوقِهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَإِذَا لَاحَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ عَنْ مُنَاسَبَةٍ فَبِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ يَتَّضِحُ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً قَضَتْ بِتَعْطِيلِ الْمُقَارَنَةِ الْمَحْقُوقَةِ، ثُمَّ لَا يَتَبَدَّلُ الْحَقُّ آخِرَ الْأَمْرِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُظْهِرُهُ مَوْقِعُ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي طَغَتْ وَظَلَمَتْ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ تَمَرُّدَهَا وَفَسَادَهَا، وَأَنَّهَا وَإِنْ أُمْهِلَتْ حِينًا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ عُمْرَانِ جُزْءٍ مِنَ الْعَالَمِ زَمَانًا فَهِيَ لَمْ تُفْلِتْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ لَهَا، وَهُوَ مِنَ الْحَقِّ أَيْضًا فَمَا كَانَ إِمْهَالُهَا

إِلَّا حَقًّا، وَمَا كَانَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهَا إِلَّا حَقًّا عِنْدَ حُلُولِ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ التَّمَرُّدُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ أَنْ تُعَطِّلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ عُطْلِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ أَوِ الْخَاصَّةُ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فِي الْكَلَامِ يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ الِاسْتِدْلَالِ، فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَأَيْقَنَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ وَلَوْ غَابَ وَتَأَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نِظَامُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا قَدْ يُعَطِّلُ ظُهُورَ الْحَقِّ فِي نِصَابِهِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ. فَعَلِمَ أَنَّ وَرَاءَ هَذَا النِّظَامِ نِظَامًا مُدَّخَرًا يَتَّصِلُ فِيهِ الْحَقُّ بِكُلِّ مُسْتَحِقٍّ إِنْ خَيْرًا وَإِنْ شَرًّا، فَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ فَاتَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ مُفْلِتًا مِنَ الْجَزَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ عَالَمًا آخَرَ يُعْطِي فِيهِ الْأُمُورَ مُسْتَحِقِّيهَا. فَلِذَلِكَ أعقب الله ووَ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِآيَةِ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، أَيْ أَنَّ سَاعَةَ إِنْفَاذِ الْحَقِّ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُرِيبُكَ مَا تَرَاهُ مِنْ سَلَامَةِ مُكَذِّبِيكَ وَإِمْهَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ [سُورَة يُونُس: 41] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مُقْتَضَى الظَّاهِرِ حَرِيَّةً بِالْفَصْلِ وَعَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَقَّهَا الِاسْتِئْنَافُ وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِإِبْرَازِهَا فِي صُورَةِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا، وَلِأَنَّهَا تَسْلِيَة للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَلِيَصِحَّ تَفْرِيعُ أَمْرِهِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ جَزَاءَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ. وَفِي إِمْهَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ فِي إِنْجَائِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ حِكْمَةٌ تَحَقَّقَ بِهَا مُرَادُ اللَّهِ مِنْ بَقَاءِ هَذَا الدِّينِ وَانْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ بِتَبْلِيغِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ وَحَمْلِهِ إِلَى الْأُمَمِ.

وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ سَاعَةُ الْبَعْثِ وَذَلِكَ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ. وَذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [3] . وَتَفْرِيعُ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَاهُمْ وَسُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِلدَّعْوَةِ. والصَّفْحَ: الْعَفْوُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [13] . وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ مِنْ صَنِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الصَّفْحِ لِظُهُورِهِ، أَيْ عَمَّنْ كَذَّبَكَ وَآذَاكَ. والْجَمِيلَ: الْحَسَنُ. وَالْمُرَادُ الصَّفْحُ الْكَامِلُ. ثُمَّ إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَرْبًا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: 14- 16] الْآيَاتِ. وَخُتِمَتْ بِآيَةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ [سُورَة الْحجر: 23- 25] . وانتقل هُنَا لَك إِلَى التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ. ثُمَّ إِلَى سَوْقِ قَصَصِ الْأُمَمِ الَّتِي عَقِبَتْ عُصُورَ الْخِلْقَةِ الْأُولَى فَآنَ الْأَوَانُ لِلْعَوْدِ إِلَى حَيْثُ افْتَرَقَ طَرِيقُ النَّظْمِ حَيْثُ ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَاتِ، فَجَاءَتْ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: 16] الْآيَاتِ. فَإِنَّ ذَلِكَ خَلْقٌ بَدِيعٌ.

وَزِيدَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ خُلِقَ بِالْحَقِّ. وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَذْلَكَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ- إِلَى-: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سُورَة الْحجر: 25] ، فَعَادَ سِيَاقُ الْكَلَامِ إِلَى حَيْثُ فَارَقَ مَهْيَعَهُ. وَلِذَلِكَ تَخَلَّصَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: 87] النَّاظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر: 9] . وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَالِق الْعَلِيمُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ، أَيْ لِأَنَّ فِي الصَّفْحِ عَنْهُمْ مَصْلَحَةً لَكَ وَلَهُمْ يَعْلَمُهَا رَبُّكَ، فَمَصْلَحَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفْحِ هِيَ كَمَالُ أَخْلَاقِهِ، وَمَصْلَحَتُهُمْ فِي الصَّفْحِ رَجَاءُ إِيمَانِهِمْ، فَاللَّهُ الْخَلَّاقُ لكم وَلَهُم وَلِنَفْسِك وَأَنْفُسِهِمْ، الْعَلِيمُ بِمَا يَأْتِيهِ كُلٌّ مِنْكُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [سُورَة فاطر: 8] . ومناسبة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَفِي وَصفه ب الْخَالِق الْعَلِيمُ إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يكونُونَ أَوْلِيَاء للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ وُلِدُوا، كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» . وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُؤْذِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعَانِي دَاعٍ غَيْرُ نَفْسِي وَرَدَّنِي ... إِلَى اللَّهِ مَنْ أَطْرَدْتُهُ كُلَّ مُطْرَدِ يَعْنِي بِالدَّاعِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتِلْكَ هِيَ نُكْتَةُ ذكر وصف الْخالِقُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.

[سورة الحجر (15) : آية 87]

وَالْعُدُولُ إِلَى إِنَّ رَبَّكَ دُونَ (إِنَّ اللَّهَ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي هُوَ رَبُّهُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ لَا يَأْمُرُهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَلَا يُقَدِّرُ إِلَّا مَا فِيهِ خَيره. [87] [سُورَة الْحجر (15) : آيَة 87] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [سُورَة الْحجر: 85] وَجُمْلَة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً الْآيَةَ. أَتْبَعَ التَّسْلِيَةَ وَالْوَعْدَ بِالْمِنَّةِ لِيُذَكِّرُ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَطْمَئِنَّ بِأَنَّهُ كَمَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِالنِّعَمِ الْحَاصِلَةِ فَهُوَ مُنْجِزُهُ الْوُعُودَ الصَّادِقَةَ. وَفِي هَذَا الِامْتِنَانِ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ. وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر: 9] . فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ عَطْفُ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَهَذَا افْتِتَاحُ غَرَضٍ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّحْقِيرِ لِعَيْشِ الْمُشْرِكِينَ. وَإِيتَاءُ الْقُرْآنِ: أَيْ إِعْطَاؤُهُ، وَهُوَ تَنْزِيلُهُ عَلَيْهِ وَالْوَحْيُ بِهِ إِلَيْهِ. وَأُوثِرَ فِعْلُ آتَيْناكَ دُونَ (أَوْحَيْنَا) أَوْ (أَنْزَلْنَا) لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ أَظْهَرُ فِي الْإِكْرَامِ وَالْمِنَّةِ. وَجَعْلُ الْقُرْآنَ مَعْطُوفًا عَلَى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي يُشْعِرُ بِأَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي. وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [23] بِالْمَثَانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّبْعَ هِيَ أَشْيَاءُ تَجْرِي

تَسْمِيَتُهَا عَلَى التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا أُجْرِيَ عَلَيْهَا اسْمُ عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتٌ أَوْ سُوَرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَذَلِكَ أَيْضًا شَأْنُ مِنَ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ اسْمِ عَدَدٍ. وَأَنَّ الْمُرَادَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٌ أَوْ سُوَرٌ لَهَا مَزِيَّةٌ اقْتَضَتْ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْمَثَانِيَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الزُّمَرِ، وَكَمَا اقْتَضَتْهُ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ، وَلِكَوْنِ الْمَثَانِي غَيْرَ السَّبْعِ مُغَايَرَةً بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ تَصْحِيحًا لِلْعَطْفِ. والْمَثانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مُثَنًّى- بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- اسْمَ مَفْعُولٍ مُشْتَقًّا مِنْ ثَنَّى إِذَا كَرَّرَ تَكْرِيرَةً. قِيلَ الْمَثانِي جَمْعُ مَثْنَاةٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ-. فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي هِيَ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا يُثَنَّى بِهَا، أَيْ تُعَادُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ التَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ هَذَا مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَوْ كِنَايَةً لِأَنَّ التَّكْرِيرَ لَازِمٌ كَمَا اسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [سُورَة الْملك: 4] أَيْ كَرَّاتٍ وَفِي قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَدَوَالَيْكَ. أَوْ هُوَ جَمْعُ مَثْنَاةٍ مَصْدَرًا مِيمِيًّا عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلَةِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ سَبْعَ آيَاتٍ فَالْمُؤْتَى هُوَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ أُمَّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي» فَهُوَ الْأَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ الْفَاتِحَةِ. وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا تُكَرَّرُ فِي الصَّلَاةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السُّوَرُ السَّبْعُ الطِّوَالُ: أُولَاهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةٌ. وَقِيلَ: السُّوَرُ الَّتِي فَوْقَ ذَوَاتِ الْمِئِينَ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 88 إلى 89]

وَعَطْفُ الْقُرْآنَ عَلَى السَّبْعِ مِنْ عَطْفِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ لِيَعْلَمَ أَنَّ إِيتَاءَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتهُ» عَلَى تَأْوِيلِهِ بِأَنَّ كَلِمَةَ «الْقُرْآنِ» مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ «والّذي أُوتِيتُهُ» خَبَرُهُ. وَأُجْرِيَ وَصْفُ الْعَظِيمَ عَلَى الْقُرْآنِ تَنْوِيهًا بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ سُوَرًا كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا بِمَا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ، فَيَكُونُ إِبْهَامُهَا مَقْصُودًا لِصَرْفِ النَّاسِ لِلْعِنَايَةِ بِجَمِيعِ مَا نَزَلْ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ كَمَا أُبْهِمَتْ لَيْلَة الْقدر. [88، 89] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 88 إِلَى 89] لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُثِيرُهُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْحجر: 85] ، وَمِنْ تَسَاؤُلٍ يَجِيشُ فِي النَّفْسِ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِلْمُكَذِّبِينَ فِي النِّعْمَةِ وَالتَّرَفِ مَعَ مَا رُمِقُوا بِهِ مِنَ الْغَضَبِ وَالْوَعِيدِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ بَيَانًا لِمَا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِكَوْنِهَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فَصْلَ الْبَيَانِ عَنِ الْمُبَيَّنِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ قَبْلَهَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّمْهِيدِ لَهَا وَالْإِجْمَالِ لِمَضْمُونِهَا لَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدَ نَهْيٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، كَمَا عُطِفَتْ نَظِيرَتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه [129- 131] : فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا

بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا. فَلَمَّا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ هُنَا فُهِمْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا مَقْصُودَةُ التَّمْهِيدِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَلَوْ عُطِفَتْ هَذِهِ لَمَا فُهِمَ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعُ مِنَ النَّظْمِ. وَالْمَدُّ: أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ. وَأُطْلِقَ عَلَى بَسْطِ الْجِسْمِ وَتَطْوِيلِهِ. يُقَالُ: مَدَّ يَدَهُ إِلَى كَذَا، وَمَدَّ رِجْلَهُ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلزِّيَادَةِ مِنْ شَيْءٍ. وَمِنْهُ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَمَدُّ الْبَحْرِ، وَالْمَدُّ فِي الْعُمُرِ. وَتِلْكَ إِطْلَاقَاتٌ شَائِعَةٌ صَارَتْ حَقِيقَةً. وَاسْتُعِيرَ الْمَدُّ هُنَا إِلَى التَّحْدِيقِ بِالنَّظَرِ وَالطُّمُوحِ بِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَدِّ الْيَدِ لِلْمُتَنَاوِلِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَظَرُ الْإِعْجَابِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ فِي رَفَاهِيَةِ عَيْشِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، أَيْ فَإِنَّ مَا أُوتِيتَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانُوا بِمَحَلِّ الْعِنَايَةَ لَاتَّبَعُوا مَا آتَيْنَاكَ وَلَكِنَّهُمْ رَضُوا بِالْمَتَاعِ الْعَاجِلِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْجِبُ حَالَهُمْ. وَالْأَزْوَاجُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ، أَيِ الْكُفَّارُ وَنِسَائُهُمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ أَنَّ حَالَتَهُمْ أَتَمُّ أَحْوَالِ التَّمَتُّعِ لِاسْتِكْمَالِهَا جَمِيعَ اللَّذَّاتِ وَالْأُنْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ عَنِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ أَثْبَتَهُ الرَّاغِبُ. فَوَجْهُ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَى مِثْلِهِ الْعَيْنُ لَيْسَ ثَابِتًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بَلْ هُوَ شَأْنُ كُبَرَائِهِمْ، أَيْ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ فِي حَالِ خَصَاصَةٍ فَاعْتَبِرْ بِهِمْ كَيْفَ جُمِعَ لَهُمُ الْكُفْرُ وَشَظَفُ الْعَيْشِ. وَالنَّهْيُ عَن الْحزن عَلَيْهِم شَامِلٌ لِكُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُحْزِنَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتُؤْسِفُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [سُورَة الْكَهْف: 6] . وَمِنْهُ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُمْ سَادَةُ أَهْلِ مَكَّة، فلعلّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَحَسَّرَ عَلَى إِصْرَارِهِمْ حَتَّى حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِي هَذَا النَّهْيِ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَعَنْ تَوَعُّدِهِمْ بِأَنْ سَيَحِلُّ بِهِمْ مَا يُثِيرُ الْحُزْنَ لَهُمْ، وَكِنَايَةٌ عَنْ رَحْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ شِدَّةَ قَلْبٍ وَغِلْظَةً لَا جَرَمَ اعْتَرَضَهُ بِالْأَمْرِ بِالرِّفْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُرَادٌ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [سُورَة الْفَتْح: 29] . وَخَفْضُ الْجَنَاحِ تَمْثِيلٌ لِلرِّفْقِ وَالتَّوَاضُعِ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ ينحطّ للوقوع حفض جَنَاحَهُ يُرِيدُ الدُّنُوَّ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ إِذَا لَاعَبَ أُنْثَاهُ فَهُوَ رَاكِنٌ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالرِّفْقِ، أَوِ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لِحَضْنِ فِرَاخِهِ. وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَالْجَنَاحُ تَخْيِيلٌ. وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [سُورَة الْإِسْرَاء: 24] وَقَدْ شَاعَتْ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْمَثَلِ فِي التَّوَاضُعِ وَاللِّينِ فِي الْمُعَامَلَةِ. وَضِدُّ ذَلِكَ رفع الْجنَاح تَمْثِيل لِلْجَفَاءِ وَالشِّدَّةِ. وَمِنْ شِعْرِ الْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ يُخَاطِبُ مَنْ كَانَ مُتَوَاضِعًا فَظَهَرَ مِنْهُ تَكَبُّرٌ (ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ) : وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ... فَلَا تَكُ فِي رِفْعَةٍ أَجْدَلَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا يَجِيءُ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة الْحجر: 94] . وَجُمْلَةُ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. فَالْمَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ هُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِالضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُرَادٌ مِنْهُ الْمُتَارَكَةُ، أَيْ مَا عَلَيَّ إِلَّا إِنْذَارُكُمْ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ ذِكْرُ النذارة دون الْبشَارَة لِأَنَّ النِّذَارَةَ تُنَاسِبُ الْمُكَذِّبِينَ إِذِ النِّذَارَةُ هِيَ الْإِعْلَامُ بِحَدَثٍ فِيهِ ضُرٌّ. وَالنَّذِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مِثْلُ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، وَضَرْبٌ وَجِيعٌ، أَيْ مُوجِعٌ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَمن تَعْرِيف الجزءين قَصْرُ قلب، أَي لست كَمَا تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَغِيظُونَنِي بِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ فَإِنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ غَيْرُ مُتَقَايِضٍ مَعَكُمْ لِتَحْصِيلِ إِيمَانِكُمْ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 90 إلى 91]

والْمُبِينُ: الموضح الْمُصَرّح. [90، 91] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 90 إِلَى 91] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) التَّشْبِيهُ الَّذِي أَفَادَهُ الْكَافُ تَشْبِيهٌ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُشَبَّهُ بِهِ. وَأَمَّا الْمُشَبَّهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيتَاءَ الْمَأْخُوذَ مِنْ فِعْلِ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: 87] ، أَيْ إِيتَاءً كَالَّذِي أَنْزَلْنَا أَوْ كَإِنْزَالِنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. شَبَّهَ إِيتَاءَ بعض الْقُرْآن للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْمُقْتَسِمِينَ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَى رُسُلِ الْمُقْتَسِمِينَ بِحَسْبِ التَّفْسِيرَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي مَعْنَى الْمُقْتَسِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ الْإِنْذَارَ الْمَأْخُوذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [سُورَة الْحجر: 89] ، أَيِ الْإِنْذَارُ بِالْعِقَابِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة الْحجر: 92- 93] . وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أُسْلُوبُ تَخَلُّصٍ مِنْ تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ سَيُحَاسَبُونَ عَلَى مَطَاعِنِهِمْ. وَهُوَ إِمَّا وَعِيدٌ صَرِيحٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْمُقْتَسِمِينَ نَفْسُ الْمُرَادِ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [سُورَة الْحجر: 88] . وَحَرْفُ عَلَى هُنَا بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [سُورَة الْبَقَرَة: 185] وَقَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 4] ، وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ شَيْبَانَ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:

وَنُطَاعِنُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا ... وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرِ وَلَفْظُ الْمُقْتَسِمِينَ افْتِعَالٌ مِنْ قَسَّمَ إِذَا جَعَلَ شَيْئًا أَقْسَامًا. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ هُنَا تَقْتَضِي تَكَلُّفَ الْفِعْلِ. وَالْمُقْتَسِمُونَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ الْعَلَمِ، وَهُوَ كِتَابُ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ طَوَائِفُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ أَقْسَامًا، مِنْهَا مَا أَظْهَرُوهُ وَمِنْهَا مَا أَنْسَوْهُ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ مَصْدَرًا أُطْلِقَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، أَيِ الْمَقْرُوءِ مِنْ كُتُبِهِمْ أَوْ قَسَّمُوا كِتَابَ الْإِسْلَامِ، مِنْهُ مَا صَدَّقُوا بِهِ وَهُوَ مَا وَافَقَ دِينَهُمْ، وَمِنْهُ مَا كَذَّبُوا بِهِ وَهُوَ مَا خَالَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْمُرَادُ بِالْمُقْتَسِمِينَ إِجْمَالًا بَيَّنَهُ وَصْفُهُمْ بِالصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَسِمُونَ غَيْرَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا. وَمَعْنَى التَّقْسِيمِ وَالتَّجْزِئَةِ هُنَا تَفْرِقَةُ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ لَا تَجْزِئَةُ الذَّاتِ. والْقُرْآنَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْمَ الْمَجْعُولَ عَلَمًا لِكِتَابِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابَ الْمَقْرُوءَ فَيُصَدَّقُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وعِضِينَ جَمْعُ عِضَةٍ، وَالْعِضَةُ: الْجُزْءُ وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَأَصْلُهَا عُضْوٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْهَاءُ مِثْلُ الْهَاءِ فِي سَنَةٍ وَشَفَةٍ. وَحَذْفُ اللَّامِ قُصِدَ مِنْهُ تَخْفِيفُ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ تَثْقُلُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهَا، فَعَوَّضُوا عَنْهَا حَرْفًا لِئَلَّا تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَجَعَلُوا الْعِوَضَ هَاءً لِأَنَّهَا أَسْعَدُ الْحُرُوفِ بِحَالَةِ الْوَقْفِ. وَجَمْعُ (عِضَةٍ) عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ.

وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَهُمْ جَحَدُوا بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، أُطْلِقَ عَلَى كِتَابِهِمُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ كِتَابٌ مَقْرُوءٌ، فَأَظْهَرُوا بَعْضًا وَكَتَمُوا بَعْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [سُورَة الْأَنْعَام: 91] فَكَانُوا فِيمَا كَتَمُوهُ شَبِيهَيْنِ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا رَفَضُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَيْضًا جَعَلُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِضِينَ فَصَدَّقُوا بَعْضَهُ وَهُوَ مَا وَافَقَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَّبُوا بَعْضَهُ الْمُخَالِفَ لِأَهْوَائِهِمْ مِثْلَ نَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِبْطَالِ بُنُوَّةِ عِيسَى لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانُوا إِذَا سَأَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: هَلِ الْقُرْآنُ صِدْقٌ؟ قَالُوا: بَعْضُهُ صِدْقٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافَ الْمُشْرِكِينَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة الْأَنْعَام: 25] ، و «قَول كَاهِن» ، و «قَول شَاعِرٍ» . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ نَفَرٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ جَمَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا فَتَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ وَطُرُقَهَا لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَهُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَوْلُ كَاهِنٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، فَقَدْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ أَنْوَاعًا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ. وَهَؤُلَاءِ النّفر هم: حنظة بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأَخُوهُ الْعَاصُ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ، وَزُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ صَيْفِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَوْسُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 92 إلى 93]

وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْمُقْتَسِمِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ الْمُقْتَسِمُونَ الْقُرْآنَ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَكَانَ ثَانِي الْوَصْفَيْنِ بَيَانًا لِأَوَّلِهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَتَانِ لِلتَّفَنُّنِ. وَأَنَّ ذَمَّ الْمُشَبَّهِ بِهِمْ يَقْتَضِي ذَمَّ الْمُشَبَّهِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُشَبَّهِينَ قَدْ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بالردّ والتكذيب. [92، 93] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 92 إِلَى 93] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [سُورَة الْحجر: 85] . وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ، فَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ. وَالْمَقْصُودُ بِالْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ. وَلَيْسَ الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِمَّنْ يَشُكُّ فِي صِدْقِ هَذَا الْوَعِيدِ وَلَكِنَّ التَّأْكِيدَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ تَهْدِيدِ مُعَادِ ضَمِيرِ النصب فِي لَنَسْئَلَنَّهُمْ. وَوَصْفُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِي السُّؤَالِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ حَظًّا مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ، وَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ سُؤَالَ رَبٍّ يَغْضَبُ لِرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ عِقَابُ الْمَسْئُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سُورَة التكاثر: 8] فَهُوَ وَعِيد لِلْفَرِيقَيْنِ. [94- 96] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 94 إِلَى 96] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: 87] بِصَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ عَنِ التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ.

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُخْتَفٍ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ خُفْيَةً وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الشِّعَابِ يَسْتَخْفِي بِصَلَاتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَعِيبُونَ صَلَاتَهُمْ، فَحَدَثَ تَضَارُبٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَدْمَى فِيهِ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَبَعْدَ تِلْكَ الْوَقْعَةِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ دَارَ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا فَكَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِهَا وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ تَزِيدُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الْآيَةَ. وَبِنُزُولِهَا تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاخْتِفَاءَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ وَأَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ جَهْرًا. وَالصَّدْعُ: الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ. وَأَصْلُهُ الِانْشِقَاقُ. وَمِنْهُ انْصِدَاعُ الْإِنَاءِ، أَيِ انْشِقَاقُهُ. فَاسْتُعْمِلَ الصَّدْعُ فِي لَازِمِ الِانْشِقَاقِ وَهُوَ ظُهُورُ الْأَمْرِ الْمَحْجُوبِ وَرَاءَ الشَّيْءِ الْمُنْصَدِعِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْجَهْرُ والإعلان. وَمَا صدق «مَا تُؤْمَرُ» هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَصْدُ شُمُولِ الْأَمْرِ كُلُّ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِتَبْلِيغِهِ هُوَ نُكْتَةُ حَذْفِ مُتَعَلِّقِ تُؤْمَرُ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِنَحْوِ بِتَبْلِيغِهِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِهِ أَوْ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ لَا عَنْ ذَوَاتِهِمْ. وَذَلِكَ إِبَايَتُهُمُ الْجَهْرَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَعَنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَعَنْ تَصَدِّيهِمْ إِلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِعْرَاضَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.

وَجُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْلَانِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّ اخْتِفَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ أَهَمُّهَا تَعَدُّدُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِحَيْثُ يَغْتَاظُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ وَفْرَةِ الدَّاخِلِينَ فِي الدِّينِ مَعَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مَخْفِيَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِإِعْلَانِ دَعْوَتِهِ لِحِكْمَةٍ أَعْلَى تَهَيَّأَ اعْتِبَارُهَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَهْزِئِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَفَاهُ اسْتِهْزَاءُهُمْ وَهُوَ أَقَلُّ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَكِفَايَتُهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ مِنَ الْأَذَى مَفْهُومٌ بِطْرِيقِ الْأَحْرَى. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لَا لِلشَّكِّ فِي تَحَقُّقِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ لِلْجِنْسِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كَفَيْنَاك كل مستهزء. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُصَارَى مَا يُؤْذُونَهُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [سُورَة آل عمرَان: 111] ، فَقَدْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُؤْذُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ تَوَلِّي الْكَافِيَ مُهِمَّ الْمَكْفِيِّ، فَالْكَافِي هُوَ مُتَوَلِّي عَمَلٍ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَبْتَغِي رَاحَةَ الْمُكْفَى. يُقَالُ: كَفَيْتُ مُهِمَّكَ، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا هُوَ الْمُهِمُّ الْمَكْفِيُ مِنْهُ. فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فَإِذَا كَانَ اسْمَ ذَاتٍ فَالْمُرَادُ أَحْوَالُهُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ بَأْسَهُ، وَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ غَرِيمَكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ مُطَالَبَتَهُ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَفَيْنَاكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَإِرَاحَتُكَ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِصُنُوفٍ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِأَسْمَاءِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 97 إلى 99]

وَعُدَّ مِنْ كُبَرَائِهِمْ خَمْسَةٌ هُمُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثُ بن عَيْطَلَةَ (وَيُقَالُ ابْنُ عَيْطَلٍ وَهُوَ اسْمُ أُمِّهِ دُعِيَ لَهَا وَاسْمُ أَبِيهِ قَيْسٌ. وَفِي «الْكَشَّاف» و «الْقُرْطُبِيّ» أَنَّهُ ابْنُ الطُّلَاطِلَةِ، وَمِثْلُهُ فِي «الْقَامُوسِ» ، وَهِيَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْأُولَى وَكَسْرِ الطَّاءِ الثَّانِيَةِ) وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، هَلَكُوا بِمَكَّةَ مُتَتَابِعِينَ، وَكَانَ هَلَاكُهُمُ الْعَجِيبُ الْمَحْكِيُّ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ صَارِفًا أَتْبَاعَهُمْ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ لِانْفِرَاطِ عِقْدِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ كِفَايَتِهِمْ زِيَادَةُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ صَارَ بَأْسُ الْمُسْلِمِينَ مَخْشِيًّا وَقَدْ أَسْلَمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاعْتَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ إِلَّا الِاسْتِهْزَاءُ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَخَشِيَهُ سُفَهَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْبَعْثَةِ. وَوَصْفُهُمْ بِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لِلتَّشْوِيهِ بِحَالِهِمْ، وَلِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ فَقَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ مُجَدِّدُونَ لَهُ. وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جَزَاء بهتانهم. [97- 99] [سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 97 إِلَى 99] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) لَمَّا كَانَ الْوَعِيدُ مُؤْذِنًا بِإِمْهَالِهِمْ قَلِيلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سُورَة المزمل: 11] كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّنْفِيسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سُورَة الْحجر: 96] طَمْأَنَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى تَحَرُّجِهِ مِنْ أَذَاهُمْ وَبُهْتَانِهِمْ مِنْ أَقْوَالِ الشِّرْكِ وَأَقْوَالِ الِاسْتِهْزَاءِ فَأَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَى رَبِّهِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِمْهَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ. وَلَيْسَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُدَاخِلُهُ الشَّكُّ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ كِنَايَةٌ عَنْ الِاهْتِمَامِ بِالْمُخْبَرِ وَأَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [سُورَة الْحجر: 95] أَوْ حَالٌ. وَضِيقُ الصَّدْرِ: مَجَازٌ عَنْ كَدَرِ النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [12] . وَفُرِّعَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَمْرُهُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَقُولُونَهُ مِنْ نِسْبَةِ الشَّرِيكِ، أَيْ عَلَيْكَ بِتَنْزِيهِ رَبِّكَ فَلَا يَضُرُّكَ شِرْكُهُمْ. عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ مَعَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَيُفِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَقُولُونَ، أَيْ فَاقْتَصِرْ فِي دَفْعِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ كَلَامِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [سُورَة الْإِسْرَاء: 93] . وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّكَ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَسَبِّحْ رَبَّكَ بِحَمْدِهِ فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي. وَتَسْبِيحُ اللَّهِ تَنْزِيهُهُ بِقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَالْأَمْرُ فِي وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ مُسْتَعْمَلَانِ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ. ومِنَ السَّاجِدِينَ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالسُّجُودِ مِنْ (سَاجِدًا) كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [119] ، وَقَوْلِهِ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] وَنَظَائِرِهِمَا. وَالسَّاجِدُونَ: هُمُ الْمُصَلُّونَ. فَالْمَعْنَى: وَدُمْ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّقَّاشِ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ (لَعَلَّهُ يَعْنِي بِهِ أَبَا حُذَيْفَةَ الْيَمَانَ

بن الْمُغِيرَةِ الْبَصْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ وَكَانَ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ) وَالِيمَانُ بْنُ رِئَابٍ (كَذَا) رَأَيَاهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ وَاجِبَةً. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّاءَ مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ سَجَدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حِينَ قِرَاءَتِهِ فِي تَرَاوِيحِ رَمَضَانَ وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهَا. وَسُجُودُ الْإِمَامِ عَجِيبٌ وَسُجُودُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مَعَهُ أَعْجَبُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَجْدَةَ هُنَا، فَالسُّجُودُ فِيهَا يُعَدُّ زِيَادَةً وَهِيَ بِدْعَةٌ لَا مَحَالَةَ. والْيَقِينُ: الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ النَّصْرُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ.

16- سورة النحل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 16- سُورَةُ النَّحْلِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ السَّلَفِ سُورَةُ النَّحْلِ، وَهُوَ اسْمُهَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ النَّحْلِ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ- أَيْ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ-. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِمَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [سُورَة النَّحْل: 126] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَسْخِ عَزْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يُمَثِّلَ بِسَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ مُكَافَأَةً عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِحَمْزَةَ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَوَّلَهَا مَكِّيٌّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [سُورَة النَّحْل: 41] فَهُوَ مَدَنِيٌّ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [سُورَة النَّحْل: 79] مَا يُرَجِّحُ أَنَّ بَعْضَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ وَبَعْضَهَا مَدَنِيٌّ، وَبَعْضَهَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ

أغراض هذه السورة

إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [سُورَة النَّحْل: 110] ، وَبَعْضَهَا مُتَأَخِّرُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة النَّحْل: 118] ، يَعْنِي بِمَا قَصَّ مِنْ قَبْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سُورَة الْأَنْعَام: 146] الْآيَاتِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَرَأْتُهَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ فَتَعَجَّبَ وَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ اتَّبِعُوا ابْنَ أخي تُفْلِحُوا فو اللَّهَ إِن الله أَرْسَلَهُ لِيَأْمُرَكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ . وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَبْلَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَآيُهَا مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ بِلَا خِلَافٍ. وَوَقَعَ لِلْخَفَاجِيِّ عَنِ الدَّانِيِّ أَنَّهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ. وَلَعَلَّهُ خَطَأٌ أَوْ تَحْرِيفٌ أَوْ نَقْصٌ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ مُعْظَمُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ إِكْثَارٌ مُتَنَوِّعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى فَسَادِ دِينِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ شَنَاعَتِهِ. وَأَدِلَّةُ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-. وَإِنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَائِمَة على صول مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَابْتُدِئَتْ بِالْإِنْذَارِ بِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ حُلُولُ مَا أُنْذِرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الَّذِي يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَتَلَا ذَلِكَ قَرْعُ الْمُشْرِكِينَ وَزَجْرُهُمْ عَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ فَابْتُدِئَ بِالتَّذْكِيرِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِي السَّمَاءِ مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ وَنُجُومٍ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ نَاسٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَبِحَارٍ وَجِبَالٍ، وَأَعْرَاضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَمَا فِي أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ مِنَ الْعِبَرِ. وَخُصَّتِ النَّحْلُ وَثَمَرَاتُهَا بِالذِّكْرِ لِوَفْرَةِ مَنَافِعِهَا وَالِاعْتِبَارِ بِإِلْهَامِهَا إِلَى تَدْبِيرِ بُيُوتِهَا وَإِفْرَازِ شَهْدِهَا. والتّنويه الْقُرْآن وَتَنْزِيهِهِ عَنِ اقْتِرَابِ الشَّيْطَانِ، وَإِبْطَالِ افْتِرَائِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ تَكْوِينٌ كَتَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ. وَالتَّحْذِيرُ مِمَّا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي أَشْرَكَتْ بِاللَّهِ وَكَذَّبَتْ رُسُلَهُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- عَذَابَ الدُّنْيَا وَمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَابَلَ ذَلِكَ بِضِدِّهِ مِنْ نَعِيمِ الْمُتَّقِينَ الْمُصَدِّقِينَ وَالصَّابِرِينَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ وَظُلِمُوا. وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّرْخِيصُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فِي التُّقْيَةِ مِنَ الْمُكْرَهِينَ. وَالْأَمْرُ بِأُصُولٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَأْصِيلِ الْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْمُوَاسَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَإِبْطَالِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَنَقْضِ الْعُهُودِ، وَمَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَزَاءٍ بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

[سورة النحل (16) : آية 1]

وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالدَّلَائِلِ، وَالِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الطَّيِّبَاتِ الْمُنْتَظِمَةِ، وَالْمَحَاسِنِ، وَحُسْنِ الْمَنَاظِرِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَامَاتِ السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ بِأَضْدَادِهَا. وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ. وَالْإِنْذَارُ بِعَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ عَرَّضَ لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ [سُورَة النَّحْل: 119] إِلَخْ.... وَمِلَاكُ طَرَائِقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [سُورَة النَّحْل: 125] . وتثبيت الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَوَعْدُهُ بِتَأْيِيدِ الله إِيَّاه. [1] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. لَمَّا كَانَ مُعْظَمُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ زَجْرَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَتَوَابِعِهِ وَإِنْذَارَهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِيَوْمٍ يَكُونُ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَتَزُولُ فِيهِ شَوْكَتُهُمْ وَتَذْهَبُ شِدَّتُهُمْ. وَكَانُوا قد استبطأوا ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى اطْمَأَنُّوا أَنَّهُ غَيْرُ وَاقع فصاروا يهزأون بالنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَالْمُسْلِمِينَ فَيَسْتَعْجِلُونَ حُلُولَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِالْوَعِيدِ الْمَصُوغِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ بِأَنْ قَدْ حَلَّ ذَلِكَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ. فَجِيءَ بِالْمَاضِي الْمُرَادِ بِهِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِعْجَالِ حُلُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا يَحُلَّ بَعْدُ. وَالْأَمْرُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْوَعْدِ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَةُ حُصُولِهِ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.

وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِبْهَامٌ يُفِيدُ تَهْوِيلَهُ وَعَظَمَتَهُ لِإِضَافَتِهِ لِمَنْ لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَاتٍ بِوَعْدِ اللَّهِ وَمَرَّاتٍ بِأَجَلِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ مِنْ خِصَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: 47] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُونَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَهَكُّمًا لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ آتٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُضْمِرُونَ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِبْطَاءَهُ وَيُحِبُّونَ تَعْجِيلَهُ لِلْكَافِرِينَ. فَجُمْلَةُ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَتى أَمْرُ اللَّهِ وَهِيَ مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِنْذَارِ. وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ تَعْجِيلِ حُصُولِ شَيْءٍ، فَمَفْعُولُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ التَّعْجِيلُ بِهِ. وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ بِالْبَاءِ فَقَالُوا: اسْتَعْجِلْ بِكَذَا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [57] قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. فَضَمِيرُ تَسْتَعْجِلُوهُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَسْتَعْجِلُوهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِأَمْرِهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 37] . وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَمْرُ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَيْهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ هُنَا دَقِيقٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي مَوَارِدِ صِيَغِ النَّهْيِ. وَيَجْدُرُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا تَرِدُ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّسْوِيَةِ، أَيْ لَا جَدْوَى فِي اسْتِعْجَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَجَّلُ قَبْلَ وَقْتِهِ الْمُؤَجَّلِ لَهُ.

[سورة النحل (16) : آية 2]

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَعِيدِ، إِذِ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ إِنَّمَا كَانَا لِأَجْلِ إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ كَالْمُقَدِّمَةِ، وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ كَالْمَقْصِدِ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرِهِ مَعَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُشْرِكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ لِيَخْتَصَّ التَّبَرُّؤُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ شَرَفِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. [2] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 2] يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِ، وَكَانَ نَاشِئًا عَنْ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا اسْتِحَالَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ. وَأُتْبِعَ تَحْقِيقُ مَجِيءِ الْعَذَابِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ فَقُفِّيَ ذَلِكَ بتبرئة الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ وَوَصَفَ لَهُمُ الْإِرْسَالَ وَصْفًا مُوجَزًا. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَهُوَ جِبْرَئِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالرُّوحُ: الْوَحْيُ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّوحِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ هدي الْعُقُول إِلَى الْحَقِّ، فَشَبَّهَ الْوَحْيَ بِالرُّوحِ كَمَا يُشَبِّهُ الْعِلْمَ الْحَقَّ بِالْحَيَاةِ، وَكَمَا يُشَبِّهُ الْجَهْلَ بِالْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [سُورَة الْأَنْعَام: 122] .

وَوَجْهُ تَشْبِيهِ الْوَحْيِ بِالرُّوحِ أَنَّ الْوَحْيَ إِذَا وَعَتْهُ الْعُقُولُ حَلَّتْ بِهَا الْحَيَاةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهُوَ الْعِلْمُ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ إِذَا حَلَّ فِي الْجِسْمِ حَلَّتْ بِهِ الْحَيَاةُ الْحِسِّيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [سُورَة الشورى: 52] . وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِهِ الْجِنْسُ، أَيْ مِنْ أُمُوره، وَهِي شؤونه وَمُقَدَّرَاتُهُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بهَا. وَذَلِكَ وَجه إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا هُنَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، وَقَوْلَهِ تَعَالَى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [سُورَة الرَّعْد: 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سُورَة الْإِسْرَاء: 85] لِمَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّخْصِيصِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنَزِّلُ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَكْسُورَةً-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّاي مَكْسُورَةً، والْمَلائِكَةَ مَنْصُوبًا. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةً وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً وَرَفْعِ الْمَلائِكَةَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَنَزَّلُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ رَدٌّ عَلَى فُنُونٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فَقَدْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سُورَة الزخرف: 31] وَقَالُوا: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [سُورَة الزخرف: 53] أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَقَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: 7] . وَمَشِيئَةُ اللَّهِ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سُورَة الْأَنْعَام: 124] . وأَنْ أَنْذِرُوا تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ يُنَزِّلُ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْوَحْيِ. وَقَوْلُهُ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ بَيْنَ فِعْلِ يُنَزِّلُ وَمُفَسِّرِهِ.

[سورة النحل (16) : آية 3]

وَ (أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا) مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْذِرُوا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنْ) . وَالتَّقْدِيرُ: أَنْذِرُوا بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَسُوقًا لِلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى وَكَانَ ذَلِكَ ضَلَالًا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ الْعِقَابَ جَعَلَ إِخْبَارَهُمْ بضدّ اعْتِقَادهم وتحذيرهم مِمَّا هُمْ فِيهِ إِنْذَارًا. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ أَحَاطَتْ جُمْلَةُ أَنْ أَنْذِرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُونِ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، لِأَن جملَة أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى إِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِكَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَجُمْلَةُ فَاتَّقُونِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاجْتِنَابِ وَالِامْتِثَالِ اللَّذَيْنِ هُمَا مُنْتَهَى كَمَالِ الْقُوَّة العملية. [3] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 3] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: 1] لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَرَقَّبُوا دَلِيلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُرَكَاءُ. فَابْتُدِئَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُخْلَقُ لَا يُوصَفُ بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا أنبأ عَنهُ التّفريع عَقِبَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِقَوْلِهِ الْآتِي: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: 17] . وَأَعْقَبَ قَوْلَهُ: سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تَحْقِيقًا لِنَتِيجَةِ الدَّلِيلِ، كَمَا يُذْكَرُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ ذِكْرِ الْقِيَاسِ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ ثُمَّ يُذْكَرُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَقِبَ الْقِيَاسِ فِي صُورَةِ النَّتِيجَةِ تَحْقِيقًا لِلْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ فِيهَا هُوَ أَصْلُ انْتِقَاضِ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ هُوَ الَّذِي حَدَاهُمْ

إِلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مَنْ جَاءَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ مُقَدَّمًا عَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُبْدَأُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [سُورَة النَّحْل: 2] . وَعُدِّدَتْ دَلَائِلُ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهَا مُتَضَمِّنَةً نِعَمًا جَمَّةً عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ قَدْ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ شَكَرُوا مَا لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِمْ وَنَسُوا مَنِ انْفَرَدَ بِالْإِنْعَامِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْكُفْرَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عَطْفُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [سُورَة إِبْرَاهِيم: 34] عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: 17] . وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَأَجْمَعُ لِأَنَّهَا مَحْوِيَّةٌ لَهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِمَا، لَكِن مَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالِ الْمَحْوِيَّاتِ اقْتَضَى أَنْ يُعَقَّبَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ فَثَنَّى بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَطْوَارِهِ وَهُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وأحواله لِأَنَّهُ يجمع الْأَنْوَاعَ الَّتِي تَلِي الْإِنْسَانَ فِي إِتْقَانِ الصُّنْعِ مَعَ مَا فِي أَنْوَاعِهَا مِنَ الْمِنَنِ، ثُمَّ بِخَلْقِ مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، ثُمَّ بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَزْمِنَةِ وَالْفُصُولِ وَالْمَوَاقِيتِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْمَعَادِنِ الْأَرْضِيَّةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْبِحَارِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَامَاتِ الِاهْتِدَاءِ فِي السَّيْرِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ إِذِ الْخَلْقُ هُوَ الْمُلَابِسُ لِلْحَقِّ. وَالْحَقُّ: هُنَا ضِدُّ الْعَبَثِ، فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْجَدِّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [سُورَة ص: 27] . وَالْحَقُّ وَالصِّدْقُ يُطْلَقَانِ وَصْفَيْنِ لِكَمَالِ الشَّيْءِ فِي نَوْعِهِ. وَجُمْلَةُ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُعْتَرِضَةٌ.

[سورة النحل (16) : آية 4]

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تَعَالَى عَمَّا تُشْرِكُونَ بمثناة فوقية. [4] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 4] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَيْضًا. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَهِيَ مُشَاهَدَةٌ لَدَيْهِمْ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ أَنْفُسِهِمُ الْمَعْلُومِ لَهُمْ. وَأَيْضًا لَمَّا اسْتَدَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِخَلْقِ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَهُمُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِخَلْقِ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ لِلْمُتَأَمِّلِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ فِي طَرَفَيْ أَطْوَارِهِ مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً مَهِينَةً إِلَى كَوْنِهِ عَاقِلًا فَصِيحًا مُبِينًا بِمَقَاصِدِهِ وَعُلُومِهِ. وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ خَلْقُ الْجِنْسِ الْمَعْلُومِ الَّذِي تَدْعُونَهُ بِالْإِنْسَانِ. وَقَدْ ذُكِرَ لِلِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةُ اعْتِبَارَاتٍ: جِنْسُهُ الْمَعْلُومُ بِمَاهِيَّتِهِ وَخَوَاصِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ وَحُسْنِ الْقَوَامِ، وَبَقِيَّةِ أَحْوَالِ كَوْنِهِ، وَمَبْدَأُ خَلْقِهِ وَهُوَ النُّطْفَةُ الَّتِي هِيَ أَمْهَنُ شَيْءٍ نَشَأَ مِنْهَا أَشْرَفُ نَوْعٍ، وَمُنْتَهَى مَا شَرَّفَهُ بِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ. وَذَلِكَ فِي جُمْلَتَيْنِ وَشِبْهِ جُمْلَةٍ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْخَصِيمُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرُ الْخِصَامِ. ومُبِينٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ فَإِذا هُوَ، أَيْ فَإِذَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ مُفْصِحٌ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَمُرَادِهِ بِالْحَقِّ أَو بِالْبَاطِلِ والمنطق بِأَنْوَاعِ الْحُجَّةِ حَتَّى السَّفْسَطَةِ. وَالْمُرَادُ: الْخِصَامُ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ، وَإِبْطَالُ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَكْذِيبُ مَنْ يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس

[سورة النحل (16) : الآيات 5 إلى 7]

: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [سُورَة الْحجر: 77- 78] . وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (إِذَا) الْمُفَاجِأَةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ لِمَعْنَى تَرَتُّبِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا يُظَنُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنًى لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَرْفٌ. وَلَا مُفَاجَأَةَ بِالْحَقِيقَةِ هُنَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْجَأْهُ ذَلِكَ وَلَا فَجَأَ أَحَدًا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ لَتَرَقَّبَ مِنْهُ الِاعْتِرَافَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ الْإِشْرَاكَ وَالْمُجَادَلَةَ فِي إِبْطَالِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَفِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ كَانَ كَمَنْ فَجَأَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْفَجْأَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاجَأَةُ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. فَإِقْحَامُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ جَعَلَ الْكَلَامَ مُفْهِمًا أَمْرَيْنِ هُمَا: التَّعْجِيبُ مِنْ تَطَوُّرِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْهَنِ حَالَةٍ إِلَى أَبْدَعِ حَالَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْخُصُومَةِ وَالْإِبَانَةِ النَّاشِئَتَيْنِ عَنِ التَّفْكِيرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى كُفْرَانِهِ النِّعْمَةَ وَصَرْفِهِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي عِصْيَانِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ. فَالْجُمْلَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تَنْوِيهٌ، وَبِضَمِيمَةِ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ أُدْمِجَتْ مَعَ التَّنْوِيهِ التَّعْجِيبِ. وَلَوْ قِيلَ: فَهُوَ خَصِيمٌ أَوْ فَكَانَ خَصِيمًا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنى البليغ. [5- 7] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 5 إِلَى 7] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) يَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ الْأَنْعامَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ عَطْفًا على الْإِنْسانَ [سُورَة النَّحْل: 4] ، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَالْأَنْعَامَ، وَهِيَ أَيْضًا مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ، فَيَحْصُلُ

اعْتِبَارٌ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ لِشَبَهِهِ بِتَكْوِينِ الْإِنْسَانِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ خَلَقَها بِمُتَعَلِّقَاتِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الِامْتِنَانُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَيَكُونُ نَصْبُ الْأَنْعامَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا. فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ اهْتِمَامًا بِمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْفَوَائِدِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَتَعْرِيضًا بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِخَلْقِهَا فَجَعَلُوا مِنْ نِتَاجِهَا لِشُرَكَائِهِمْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا. وَأَيُّ كُفْرَانٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُتَقَرَّبَ بِالْمَخْلُوقَاتِ إِلَى غَيْرِ مَنْ خَلَقَهَا. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَصْرٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ. وَجُمْلَةُ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَها عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ تَمَامُ مُقَابَلَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سُورَة النَّحْل: 4] مِنْ حَيْثُ حُصُولِ الِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءً ثُمَّ التَّعْرِيضِ بِالْكُفْرَانِ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ صَرِيحَهُ الِامْتِنَانُ، وَيَحْصُلُ الِاعْتِبَارُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وَمَا بَعْدَهُ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ. والْأَنْعامَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَالْمَعِزُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَشْهَرُ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ، وَلِذَلِكَ يَغْلِبُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْإِبِلِ. وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِشُمُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَشْمَلَ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ مِنْ الِامْتِنَانِ. وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: 3] بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ. وَالدِّفْءُ- بِكَسْرِ الدَّالِ- اسْمٌ لِمَا يُتَدَفَّأُ بِهِ كَالْمِلْءِ وَالْحِمْلِ. وَهُوَ الثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ مِنْ أَوْبَارِ الْأَنْعَامِ وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا تُتَّخَذُ مِنْهَا الْخِيَامُ وَالْمَلَابِسُ.

فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ مَادَّةَ النَّسْجِ جُعِلَ الْمَنْسُوجُ كَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي الْأَنْعَامِ. وَخُصَّ الدِّفْءُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الْمَنَافِعِ لِلْعِنَايَةِ بِهِ. وَعطف مَنافِعُ عَلَى دِفْءٌ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّفْءِ قَلَّمَا تَسْتَحْضِرُهُ الْخَوَاطِرُ. ثُمَّ عُطِفَ الْأَكْلُ مِنْهَا لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِهَا لَا مِنْ ثَمَرَاتِهَا. وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ. وَجُمْلَةُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ تَسْخِيرِهَا لِلْأَكْلِ مِنْهَا وَالتَّغَذِّي، وَاسْتِرْدَادِ الْقُوَّةِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ تَغْذِيَتِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ للاهتمام، لأَنهم شَدِيد وَالرَّغْبَة فِي أَكْلِ اللُّحُومِ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تَأْكُلُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَالْإِرَاحَةُ: فِعْلُ الرَّوَاحِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَعَاطِنِ، يُقَالُ: أَرَاحَ نِعَمَهُ إِذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السُّرُوحِ. وَالسُّرُوحُ: الْإِسَامَةُ، أَيِ الْغُدُوُّ بِهَا إِلَى الْمَرَاعِي. يُقَالُ: سَرَحَهَا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ- سَرَحًا وَسُرُوحًا، وَسَرَّحَهَا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- تَسْرِيحًا. وَتَقْدِيمُ الْإِرَاحَةِ عَلَى التَّسْرِيحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ عِنْدَ الْإِرَاحَةِ أَقْوَى وَأَبْهَجُ، لِأَنَّهَا تُقْبِلُ حِينَئِذٍ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ مَرِحَةً بِمَسَرَّةِ الشِّبَعِ وَمَحَبَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهَا مِنْ مَعَاطِنَ وَمَرَابِضَ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَفِي تَكَرُّرِهَا تَكَرُّرُ النِّعْمَةِ بِمَنَاظِرِهَا. وَجُمْلَةُ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَشْهَرِ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْإِبِلُ، كَقَوْلِهَا

فِي قِصَّةِ أُمِّ زَرْعٍ «رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِيًّا فَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا» ، فَإِنَّ النَّعَمَ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالرُّمْحِ هِيَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بِالْغَارَةِ. وَضَمِيرُ وَتَحْمِلُ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْأَنْعَامِ بِالْقَرِينَةِ. وَاخْتِيَارُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ. وَالْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثَقَلٍ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ مَا يَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ حَمْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِ بَلَدٍ جنس الْبَلَد الَّذِي يَرْتَحِلُونَ إِلَيْهِ كَالشَّامِ وَالْيَمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالرِّحْلَةِ إِلَى الْحَجِّ. وَقَدْ أَفَادَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْنَى تَحْمِلُكُمْ وَتُبَلِّغُكُمْ، بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. وَجُمْلَةُ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ صِفَةٌ لِ بَلَدٍ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى الْبُعْدِ، لِأَنَّ بُلُوغَ الْمُسَافِرِ إِلَى بَلَدٍ بِمَشَقَّةٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ، أَيْ لَا تَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الْأَنْعَامِ الْحَامِلَةِ أَثْقَالَكُمْ. وَالشِّقُّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: الْمَشَقَّةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْمَشَقَّةُ: التَّعَبُ الشَّدِيدُ. وَمَا بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي الشِّقِّ الْمَكْسُورِ الشِّينِ. وَقَدْ نَفَتِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَأَفَادَ ظَاهِرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الرَّوَاحِلِ بِمَشَقَّةٍ وَلَيْسَ مَقْصُودًا، إِذْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَنْعَامِ مُقَارِنًا لِلْأَسْفَارِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ لَوْلَا الْإِبِلُ أَوْ بِدُونِ الْإِبِلِ، فَحُذِفَ لِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.

[سورة النحل (16) : آية 8]

وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، أَيْ خَلَقَهَا لِهَذِهِ الْمَنَافِع لِأَنَّهُ رؤوف رَحِيم بكم. [8] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 8] وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً. وَالْخَيْلَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها [سُورَة النَّحْل: 5] . فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْخَيْلَ. وَالْقَوْلُ فِي مَنَاطِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الِامْتِنَانِ وَالْعِبْرَةُ فِي كُلٍّ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ الْآيَةَ. وَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَكُونَ مَرَاكِبَ لِلْبَشَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي وُجُودِهَا فَائِدَةٌ لِعُمْرَانِ الْعَالَمِ. وَعَطْفُ وَزِينَةً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شِبْهِ الْجُمْلَةِ فِي لِتَرْكَبُوها، فَجُنِّبَ قَرْنُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مِنْ أَجْلِ تَوَفُّرِ شَرْطِ انْتِصَابِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ وَفَاعِلَ عَامِلِهِ وَاحِدٌ، فَإِنَّ عَامِلَهُ فِعْلُ خَلَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ خَلَقَها. وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ فَاعِلَ جَعَلَهَا زِينَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا زِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا تُزَيِّنُ الْأَرْضَ، أَوْ زَيَّنَ بِهَا الْأَرْضَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سُورَة الْملك: 5] . وَهَذَا النَّصْبُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ. وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِامْتِنَانِ فَكَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ فِي عَادَتِهِمْ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى مِنَّةِ الرُّكُوبِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالزِّينَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَمْلَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [سُورَة النَّحْل: 7] ، لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ

عَادَتِهِمْ الْحَمْلُ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَإِنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ تُرْكَبُ لِلْغَزْوِ وَلِلصَّيْدِ، وَالْبِغَالُ تُرْكَبُ لِلْمَشْي وَالْغَزْوِ. وَالْحَمِيرُ تُرْكَبُ لِلتَّنَقُّلِ فِي الْقُرَى وَشِبْهِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ قَالَ «جِئْتُ عَلَى حِمَارِ أَتَانٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» الْحَدِيثَ. وَكَانَ أَبُو سَيَّارَةَ يُجِيزُ بِالنَّاسِ مِنْ عَرَفَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى حِمَارٍ وَقَالَ فِيهِ: خَلُّوا السَّبِيلَ عَنْ أَبِي سَيَّارَهْ ... وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ حَتَّى يُجِيزَ رَاكِبًا حِمَارَهْ ... مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو جَارَهْ فَلَا يَتَعَلَّقُ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلَةٍ عِنْدَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمُنْعَمُ بِهِ قَدْ تَكُونُ لَهُ مَنَافِعُ لَا يَقْصِدُهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلُ الْحَرْثِ بِالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَهُوَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يُعْرَفُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ. أَوْ مَنَافِعُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَدْوِيَةِ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِلنَّاسِ مِنْ قَبْلُ، فَيَدْخُلُ كُلُّ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] ، فَإِنَّهُ عُمُومٌ فِي الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ عَدَا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ مِمَّا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ [145] قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الْآيَةَ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكَلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ لِأَنَّ أَكْلَهَا نَادِرُ الْخُطُورِ بِالْبَالِ لِقِلَّتِهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ أَكَلَ الْمُسْلِمُونَ لُحُومَ الْحُمُرِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِدُونِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي حَالَةِ اضْطِرَارٍ، وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ يَوْمَئِذٍ مَقْرُوءَةٌ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ فَسَكَتَ. ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُِِ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ. فَأُهْرِقَتِ الْقُدُورُ . وَأَنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْمَلُ حُكْمَ أَكْلِهَا. فَالْمَصِيرُ فِي جَوَازِ أَكْلِهَا وَمَنْعِهِ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ فَفِي جَوَازِ أَكْلِهَا خِلَافٌ قَوِيٌّ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَجُمْهُورُهُمْ أَبَاحُوا أَكْلَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالظَّاهِرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةَ الْأَكْلِ لَامْتَنَّ بِأَكْلِهَا كَمَا امْتَنَّ فِي الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ [سُورَة النَّحْل: 5] . وَهُوَ دَلِيلٌ لَا يَنْهَضُ بِمُفْرَدِهِ. فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا قَرَّرْنَا مِنْ جَرَيَانِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكَلُوا لُحُومَ الْخَيْلِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَهُ. وَلَكِنَّهُ كَانَ نَادِرًا فِي عَادَتِهِمْ. وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. وَأَمَّا الْحَمِيرُ فَقَدْ ثَبَتَ أَكْلُ الْمُسْلِمِينَ لُحُومَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ. ثُمَّ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِ ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِذَاتِ الْحَمِيرِ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَتُهُمْ يَوْمَئِذٍ فَلَوِ اسْتَرْسَلُوا عَلَى أَكْلِهَا لَانْقَطَعُوا بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَآبُوا رِجَالًا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَ أَمْتِعَتِهِمْ. وَهَذَا رَأْيُ فَرِيقٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخَذَ فَرِيقٌ مِنَ السَّلَفِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ لِأَنَّهَا مَوْرِدُ النَّهْيِ وَأَبْقَوُا الْوَحْشِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَهُوَ قَول جُمْهُور الْأَئِمَّة مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرِهِمْ.

وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ حُكْمٍ تَعَبُّدِيٍّ فِي التَّفْرِقَةِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» . عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يُحَرَّمَ صِنْفٌ إِنْسِيٌّ لِنَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ دُونَ وَحْشِيِّهِ. وَأَمَّا الْبِغَالُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهَا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِأَنَّ الْبِغَالَ صِنْفٌ مركّب من نوين مُحَرَّمَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ حَرَامًا. وَمَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِتَغْلِيبِ تَحْرِيمِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَمِيرُ عَلَى تَحْلِيلِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْخَيْلُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَآهَا حَلَالًا. وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] . والْبِغالَ: جَمْعُ بَغْلٍ. وَهُوَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ نَوْعِ أُمِّهِ مِنَ الْخَيْلِ وَأَبُوهُ مِنَ الْحَمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْأَنْوَاعِ النَّادِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ نَوْعَيْنِ. وَعَكْسُهُ الْبِرْذَوْنُ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْبِغَالِ عُقْمُ أُنْثَاهَا بِحَيْثُ لَا تَلِدُ. والْحَمِيرَ: جَمْعُ تَكْسِيرِ حِمَارٍ وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَحْمِرَةٍ وَعَلَى حُمُرٍ. وَهُوَ غَالِبٌ لِلذَّكَرِ مِنَ النَّوْعِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَأَتَانٌ. وَقَدْ رُوعِيَ فِي الْجَمْعِ التَّغْلِيبُ. وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ أَوْ فِي وَسَطِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. ويَخْلُقُ مُضَارِعٌ مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الْحَالِ لَا الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ هُوَ الْآنَ يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا هُوَ مَخْلُوقٌ لِنَفْعِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، فَكَمَا خَلَقَ لَهُمُ الْأَنْعَامَ وَالْكُرَاعَ خَلَقَ لَهُمْ وَيَخْلُقُ لَهُمْ خَلَائِقَ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَهَا

[سورة النحل (16) : آية 9]

الْآنَ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أُمَمٍ أُخْرَى كَالْفِيلِ عِنْدَ الْحَبَشَةِ وَالْهُنُودِ، وَمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِأَحَدٍ ثُمَّ يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ مِثْلُ دَوَابِّ الْجِهَاتِ الْقُطْبِيَّةِ كَالْفُقْمَةِ وَالدُّبِّ الْأَبْيَضِ، وَدَوَابِّ الْقَارَّةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلنَّاسِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَالِ لِلتَّجْدِيدِ، أَيْ هُوَ خَالِقٌ وَيَخْلُقُ. وَيَدْخُلُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِ الِامْتِنَانِ الْعَامِّ لِلنَّاسِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى كَافِرِي النِّعْمَةِ. فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْغَيْبِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَنَّهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُلْهِمُ الْبَشَرَ اخْتِرَاعَ مَرَاكِبَ هِيَ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَتِلْكَ الْعَجَلَاتُ الَّتِي يَرْكَبُهَا الْوَاحِدُ وَيُحَرِّكُهَا بِرِجْلَيْهِ وَتُسَمَّى (بِسِكْلَاتٍ) ، وَأَرْتَالُ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَالسَّيَّارَاتُ الْمُسَيَّرَةُ بِمُصَفَّى النِّفْطِ وَتُسَمَّى (أُطُومُوبِيلَ) ، ثُمَّ الطَّائِرَاتُ الَّتِي تَسِيرُ بِالنِّفْطِ الْمُصَفَّى فِي الْهَوَاءِ. فَكُلُّ هَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ نَشَأَتْ فِي عُصُورٍ مُتَتَابِعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا مَنْ كَانُوا قَبْلَ عَصْرِ وُجُودِ كُلٍّ مِنْهَا. وَإِلْهَامُ اللَّهِ النَّاسَ لِاخْتِرَاعِهَا هُوَ مُلْحَقٌ بِخَلْقِ اللَّهِ، فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْهَمَ الْمُخْتَرِعِينَ مِنَ الْبَشَرِ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِلْمِ وَبِمَا تَدَرَّجُوا فِي سُلَّمِ الْحَضَارَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى اخْتِرَاعِهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكُلَّ من نعْمَته. [9] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 9] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ.. اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ بِالرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.

فَلَمَّا ذُكِرَتْ نِعْمَةُ تَيْسِيرِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْجُثْمَانِيَّةِ ارْتَقَى إِلَى التَّذْكِيرِ بِسَبِيلِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الرَّوْحَانِيَّةِ وَهُوَ سَبِيلُ الْهُدَى، فَكَانَ تَعَهُّدُ اللَّهِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ تَيْسِيرِ الْمَسَالِكِ الْجُثْمَانِيَّةِ لِأَنَّ سَبِيلَ الْهُدَى تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَة الأبدية. وَهَذِه السَّبِيلُ هِيَ مَوْهِبَةُ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ أَوْ تَصِلُ إِلَيْهِ بِمَشَقَّةٍ عَلَى خَطَرٍ مِنَ التورّط فِي بيّنات الطَّرِيقِ. فَالسَّبِيلُ: مَجَازٌ لِمَا يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [سُورَة يُوسُف: 108] . وَيَزِيدُ هَذِهِ الْمُنَاسبَة بَيَانا أَنه لِمَا شَرَحْتُ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ نَاسَبَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ لِلْهُدَى، وَإِزَالَةٌ لِلْعُذْرِ، وَأَنَّ مِنْ بَيْنِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ طَرِيقَ ضَلَالٍ وَجَوْرٍ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِتَعَهُّدِ اللَّهِ بِتَبْيِينِ سَبِيلِ الْهُدَى حَرْفُ عَلَى الْمُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ لِمَعْنَى التَّعَهُّدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. شَبَّهَ الْتِزَامَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّعَهُّدِ بِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِب عَلَى الْمَحْقُوقِ بِهِ. وَالْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ. وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِلسَّبِيلِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ، أَي مُسْتَقِيم، وَطَرِيق قصد، وَذَلِكَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَشَأْنِ الْوَصْفِ بِالْمَصَادِرِ، وَإِضَافَةُ قَصْدُ إِلَى السَّبِيلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ. وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ لِأَنَّ الَّذِي تَعَهَّدَ اللَّهُ بِهِ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ لَا ذَاتُ السَّبِيلِ. وَضَمِيرُ وَمِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ جَوَازِ تَأْنِيثِهِ. وجائِرٌ وَصْفٌ لِ السَّبِيلِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ مُذَكَّرًا. أَيْ مِنْ جِنْسِ السَّبِيلِ الَّذِي مِنْهُ أَيْضًا قَصْدُ سَبِيلٍ جَائِرٍ غَيْرُ قَصْدٍ. وَالْجَائِرُ: هُوَ الْحَائِدُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ. وَكُنِّيَ بِهِ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوصِّلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَيْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى ضُرٍّ، فَهُوَ جَائِرٌ بِسَالِكِهِ. وَوَصْفُهُ

[سورة النحل (16) : آية 10]

بِالْجَائِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَمْ يُضَفِ السَّبِيلُ الْجَائِرُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ سَبِيلَ الضَّلَالِ اخْتَرَعَهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ اخْتِرَاعًا لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ النَّاسَ عَنْ سُلُوكِهَا. وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ تذييل. [10] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 10] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أُدْمِجَ فِيهِ امْتِنَانٌ بِمَا يَأْتِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ الْعَجِيبُ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ مِنْ نِعْمَةِ الشَّرَابِ وَنِعْمَةِ الطَّعَامِ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ حَيَاةِ النَّاسِ وَلِلنَّاسِ أَنْفُسِهِمْ. وَصِيغَةُ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ أَفَادَتِ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ لَا غَيْرُهُ. وَهَذَا قَصْرٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَا يَدَّعُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا أَصْنَامًا لَمْ تُنْعِمْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ، فَكَانَ الْقَصْرُ قَصْرَ إِفْرَادٍ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [22] . وَذَكَرَ فِي الْمَاءِ مِنَّتَيْنِ: الشَّرَابَ مِنْهُ، وَالْإِنْبَاتَ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ. وَجُمْلَةُ لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ صِفَةٌ لِ مَاءً، ولَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ شَرابٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ، ومِنْهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ كَذَلِكَ، وَتَقْدِيمُهُ سَوَّغَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ نَكِرَةً.

[سورة النحل (16) : آية 11]

وَالشَّرَابُ: اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَهُوَ الْمَائِعُ الَّذِي تَشْتَفُّهُ الشَّفَتَانِ وَتُبْلِغُهُ إِلَى الْحَلْقِ فَيُبْلَعُ دُونَ مَضْغٍ. وَ (مِنْ) تَبْعِيضَيَّةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُ شَجَرٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مِنْهُ شَرابٌ. وَأُعِيدَ حَرْفُ (مِنْ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ (مِنْ) هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ شَجَرٌ عَلَى شَرابٌ. وَالشَّجَرُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّبَاتِ ذِي السَّاقِ الصُّلْبَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ تَغْلِيبًا. وَرُوعِيَ هَذَا التَّغْلِيبُ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ مَرْعَى أَنْعَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِقِلَّةِ الْكَلَأِ فِي أَرْضِهِمْ، فَهُمْ يَرْعَوْنَ الشَّعَارِي وَالْغَابَاتِ. وَفِي حَدِيثِ «ضَالَّةُ الْإِبِلِ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشّجر حَتَّى يأتيا رَبُّهَا» . وَمِنَ الدَّقَائِقِ الْبَلَاغِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ، فَالْإِسَامَةُ فِيهِ تَكُونُ بِالْأَكْلِ مِنْهُ وَالْأَكْلُ مِمَّا تَحْتَهُ مِنَ الْعُشْبِ. وَالْإِسَامَةُ: إِطْلَاقُ الْإِبِلِ لِلسَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ. يُقَالُ: سَامَتِ الْمَاشِيَةُ فَهِيَ سَائِمَةٌ وأسامها ربّها. [11] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 11] يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) جُمْلَةُ يُنْبِتُ حَالٌ مِنْ ضمير أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: 10] ، أَيْ يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ هَذَا على الْجُمْلَة لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ [سُورَة النَّحْل: 10] لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْصُلُ بِنُزُولِ الْمَاءِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَه من زَرْعٌ وغرس. وَهَذَا الإنبات مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ مَمْزُوجًا بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ عَلَى وِزَانِ مَا

تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [سُورَة النَّحْل: 5] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [سُورَة النَّحْل: 8] الْآيَةَ. وَأُسْنِدَ الْإِنْبَاتُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِأَسْبَابِهِ وَالْخَالِقُ لِأُصُولِهِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى دَفْعِ غُرُورِهِمْ بِقُدْرَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِكَثْرَةِ مَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنَ الدَّقَائِقِ. وَذِكْرُ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَمَا مَعَهُمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَة الْأَنْعَام. والتفكّر تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [50] . وَإِقْحَامُ لَفْظِ «قَوْمٍ» لِلدَّلَالَةِ على أَن التفكّر مِنْ سَجَايَاهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ، أَيْ وَيُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من كل الثَّمَرَاتِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا. وَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ: أَجْنَاسُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الْمَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ النَّاسِ ثَمَرَاتُ أَرْضِهِمْ وَجَوِّهِمْ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْوِيعُ الِامْتِنَانِ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا نَالَهُمْ مِنْ نِعَمِ الثَّمَرَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الزَّرْعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذْيِيلٌ. وَالْآيَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُبْدِعُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ هِيَ إِنْبَاتُ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [4] . وَنِيطَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ بِوَصْفِ التَّفْكِيرِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ لِحُصُولِهَا بِالتَّدْرِيجِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَتَفَكَّرُونَ.

[سورة النحل (16) : آية 12]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْبِتُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بنُون العظمة. [12] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 12] وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ مَمْزُوجَةٌ بِامْتِنَانٍ. وَتَقَدَّمَ مَا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَتَسْخِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] وَفِي أَوَائِلِ سُورَةِ الرَّعْدِ وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَهَذَا انْتِقَالٌ لِلِاسْتِدْلَالِ بِإِتْقَانِ الصُّنْعِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ، وَإِدْمَاجٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ. وَنِيطَتِ الدَّلَالَاتُ بِوَصْفِ الْعَقْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، إِذْ هِيَ دَلَائِلُ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِقْحَامِ لَفْظِ (قَوْمٍ) آنِفًا، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ تَذْيِيلٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ «سَخَّرَ» . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَرَفَعَ مُسَخَّراتٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهَا. فَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِرَفْعِ النُّجُومُ ومُسَخَّراتٌ. وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَّلَ وَاضِحٌ وَالْآخَرَ خَفِيٌّ لِقِلَّةِ مَنْ يَرْقُبُ حَرَكَاتِ النُّجُومِ. وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِ أَمْرُ التَّكْوِينِ لِلنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْمَعْرُوفِ. وَقَدْ أَبْدَى الْفَخْرُ فِي كِتَابِ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» وَجْهًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِفْرَادِ آيَةً فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَبَيْنَ جَمْعِ آيَاتٍ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّ مَا ذُكِرَ

[سورة النحل (16) : آية 13]

أَوَّلًا وَثَالِثًا يَرْجِعُ إِلَى مَا نَجَمَ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَمِيعُهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَابِعَةٌ لِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِيهِ (أَيْ وَهُوَ كُلُّهُ ذُو حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَالَةُ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ فِي الْأَوَّلِ وَحَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الذَّرْءِ فِي التَّنَاسُلِ فِي الْحَيَوَانِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ) وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِظَامٌ يَخُصُّهُ وَدَلَائِلُ تُخَالِفُ دَلَائِلَ غَيْرِهِ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعُ آيَاتٍ (أَيْ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَعْرَاضٌ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبَعْضَهَا أَجْرَامٌ لَهَا أَنْظِمَةٌ مُخْتَلِفَةٌ ودلالات مُتعَدِّدَة) . [13] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 13] وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) عَطْفٌ عَلَى اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [سُورَة النَّحْل: 12] ، أَيْ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وأومئ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ مِنَّةٍ بِقَوْلِهِ لَكُمْ. وَالذَّرْءُ: الْخَلْقُ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَلُّدُ بِالْحَمْلِ وَالتَّفْرِيخِ، فَلَيْسَ الْإِنْبَاتُ ذَرْءًا، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَنْعَامِ وَالْكُرَاعِ (وَقَدْ مَضَتِ الْمِنَّةُ بِهِ) وَلِغَيْرِهَا مِثْلِ كِلَابِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَجَوَارِحِ الصَّيْدِ، وَالطُّيُورِ، وَالْوُحُوشِ الْمَأْكُولَةِ، وَمِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ. وَزِيدَ هُنَا وَصْفُ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَهُوَ زِيَادَةٌ لِلتَّعْجِيبِ وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الِامْتِنَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [27] . وَبِذَلِكَ صَارَ هَذَا آيَةً مُسْتَقِلَّةً فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِجُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَلِكَوْنِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِ الذَّرْءِ أُفْرِدَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.

[سورة النحل (16) : آية 14]

وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ. وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ لِسُطُوحِ الْأَجْسَامِ مُدْرَكَةٌ بِالْبَصَرِ تَنْشَأُ مِنَ امْتِزَاجِ بَعْضِ الْعَنَاصِرِ بِالسَّطْحِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِصَبْغِهَا بِعُنْصُرٍ ذِي لَوْنٍ مَعْرُوفٍ. وَتَنْشَأُ مِنَ اخْتِلَاطِ عُنْصُرَيْنِ فَأَكْثَرَ أَلْوَانٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [69] . وَنِيطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ بِوَصْفِ التَّذَكُّرِ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ إِذْ هِيَ مَشْهُورَةٌ. وَإِقْحَامُ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَبْدَى الْفَخْرُ فِي «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» وَجْهًا لِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: 11] وَقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سُورَة النَّحْل: 12] وَقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: بِأَنَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ اخْتِلَافِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى قُوَّةِ التَّأَمُّلِ بِدَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ النَّاجِمَةِ عَنِ الْأَرْضِ يحْتَاج إِلَى التفكر، وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ. وَدَلَالَةُ مَا ذَرَأَهُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فِي التَّفْكِيرِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَتَنَاسُلِهَا وَفَوَائِدِهَا، فَكَانَتْ بحاجة إِلَى التذكّر، وَهُوَ التَّفَكُّرُ مَعَ تَذَكُّرِ أَجْنَاسِهَا وَاخْتِلَافِ خَصَائِصِهَا. وَأَمَّا دَلَالَةُ تَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ فَلِأَنَّهَا أَدَقُّ وَأَحْوَجُ إِلَى التَّعَمُّقِ. عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ، وَالتَّعَقُّلُ هُوَ أَعْلَى أَحْوَالِ الِاسْتِدْلَال اه. [14] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 14] وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) الْقَوْلُ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَإِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا سَبَقَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْخِيرِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ الْأَنْهَارِ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.

وَمِنْ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ خَلْقُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يُمْكِنُ مَعَهَا السَّبْحُ وَالسَّيْرُ بِالْفُلْكِ، وَتَمْكِينُ السَّابِحِينَ وَالْمَاخِرِينَ مِنْ صَيْدِ الْحِيتَانِ الْمَخْلُوقَةِ فِيهِ وَالْمُسَخَّرَةِ لِحِيَلِ الصَّائِدِينَ. وَزِيدَ فِي الِامْتِنَانِ أَنَّ لَحْمَ صَيْدِهِ طَرِيٌّ. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ تَأْكُلُوا لَحْمًا طَرِيًّا صَادِرًا مِنَ الْبَحْرِ. وَالطَّرِيُّ: ضِدُّ الْيَابِسِ. وَالْمَصْدَرُ: الطَّرَاوَةُ. وَفِعْلُهُ: طَرُوَ، بِوَزْنِ خَشُنَ. وَالْحِلْيَةُ: مَا يَتَحَلَّى بِهِ النَّاسُ، أَيْ يَتَزَيَّنُونَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [17] . وَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَاللُّؤْلُؤُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْبِحَارِ مِثْلِ الْخَلِيجِ الْفَارِسِيِّ، وَالْمَرْجَانُ يُوجِدُ فِي جَمِيعِ الْبِحَارِ وَيَكْثُرُ وَيَقِلُّ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اللُّؤْلُؤِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَفِي سُورَة الرحمان. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَرْجَانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَالِاسْتِخْرَاجُ: كَثْرَةُ الْإِخْرَاجِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ: اسْتَجَابَ لِمَعْنَى أَجَابَ. وَاللُّبْسُ: جَعْلُ الثَّوْبِ وَالْعِمَامَةِ وَالْمَصُوغِ عَلَى الْجَسَدِ. يُقَالُ: لُبْسُ التَّاجِ، وَلُبْسُ الْخَاتَمِ، وَلُبْسُ الْقَمِيصِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [26] . وَإِسْنَادُ لِبَاسِ الْحِلْيَةِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الذُّكُورِ تَغْلِيبٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ غَالِبَ الْحِلْيَةِ يَلْبَسُهَا النِّسَاءُ عَدَا الْخَوَاتِيمِ وَحِلْيَةِ السُّيُوفِ. وَجُمْلَةُ وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ مَعَ إِمْكَانِ الْعَطْفِ لِقَصْدِ مُخَالَفَةِ الْأُسْلُوبِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ تَسْخِيرِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ بِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ كَثِيرًا بِصِيَغٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَ: وَلَو ترى، وأ رَأَيْت، وَمَاذَا تَرَى. وَاجْتِلَابُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي أَمْثَالِهِ يُفِيدُ الْحَثَّ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. فَهَذَا النَّظْمُ لِلْكَلَامِ لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْلَاهَا لَكَانَ الْكَلَامُ هَكَذَا: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي فُلْكٍ مَوَاخِرَ.

[سورة النحل (16) : الآيات 15 إلى 16]

وَعَطْفُ وَلِتَبْتَغُوا عَلَى وَتَسْتَخْرِجُوا لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْ حِكْمَةِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ. وَلَمْ يُجْعَلْ عِلَّةً لِمَخْرِ الْفُلْكِ كَمَا جُعِلَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [12] وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لِأَنَّ تِلْكَ لَمْ تُصَدَّرْ بِمِنَّةِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ بَلْ جَاءَتْ فِي غَرَضٍ آخَرَ. وَأُعِيدَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لِأَجْلِ الْبُعْدِ بِسَبَبِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ. وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: التِّجَارَةُ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [198] . وَعَطْفُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَلَى بَقِيَّةِ الْعِلَلِ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي سَخَّرَ اللَّهُ بِهَا الْبَحْرَ لِلنَّاسِ حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَنَبْذَهُمْ إشراك غير ربّه فِيهَا. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بالذين أشركوا. [15، 16] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 15 إِلَى 16] وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي فِي وُجُودِهَا لُطْفٌ بِالْإِنْسَانِ. وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لَمَّا كَانَتْ مَجْعُولَةً كَالتَّكْمِلَةِ لِلْأَرْضِ وَمَوْضُوعَةً عَلَى ظَاهِرِ سَطْحِهَا عَبَّرَ عَنْ خَلْقِهَا وَوَضْعِهَا بِالْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ رَمْيُ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَعَلَّ خَلْقَهَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، إِذْ لَعَلَّ الْجِبَالَ انْبَثَقَتْ بِاضْطِرَابَاتٍ أَرْضِيَّةٍ كَالزِّلْزَالِ الْعَظِيمِ ثُمَّ حَدَثَتِ الْأَنْهَارُ بِتَهَاطُلِ الْأَمْطَارِ. وَأَمَّا السُّبُلُ وَالْعَلَامَاتُ فَتَأَخُّرُ وَجُودِهَا ظَاهِرٌ، فَصَارَ خَلْقُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ شَبِيهًا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ بَعْدَ تَمَامِهِ. وَلَعَلَّ أَصْلَ تَكْوِينِ الْجِبَالِ كَانَ مِنْ شَظَايَا رَمَتْ بِهَا الْكَوَاكِبُ فَصَادَفَتْ سَطْحَ الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْطَارَ تَهَاطَلَتْ فَكَوَّنَتِ الْأَنْهَارَ فَيَكُونُ تَشْبِيهُ حُصُولِ

هَذَيْنِ بِالْإِلْقَاءِ بَيِّنًا. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى وَضْعِ السُّبُلِ وَالْعَلَامَاتِ تَغْلِيبٌ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَنَحْوِهِ قَوْله تَعَالَى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [سُورَة الْقَمَر: 25] . ورَواسِيَ جَمْعُ رَاسٍ. وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الرَّسْوِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ-. وَيُقَالُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَالسِّينِ مُشَدَّدَةً وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ-. وَهُوَ الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سُورَة سبأ: 13] . وَيُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ رَاسٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْغَالِبِ. وَجَمْعُهُ عَلَى زِنَةِ فَوَاعِلَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ مِثْلُ عَوَاذِلَ وَفَوَارِسَ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الرَّعْدِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تَعْلِيلٌ لِإِلْقَاءِ الرَّوَاسِي فِي الْأَرْضِ. وَالْمَيْدُ: الِاضْطِرَابُ. وَضَمِيرُ تَمِيدَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ بِقَرِينَةِ قَرْنِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُمْ، لِأَنَّ الْمَيْدَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عُلِمَ أَنَّ الْمَجْرُورَ بِالْبَاءِ هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الظَّرْفِ الْمَائِدِ، وَالِاضْطِرَابُ يُعَطِّلُ مَصَالِحَ النَّاسِ وَيُلْحِقُ بِهِمْ آلَامًا. وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ امْتِنَانٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ هُوَ انْتِفَاءُ الْمَيْدِ لَا وُقُوعُهُ. فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى حَذْفٍ تَقْتَضِيهِ الْقَرِينَةُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا. فَالْعِلَّةُ هِيَ انْتِفَاءُ الشَّتْمِ لَا وُقُوعُهُ. وَنُحَاةُ الْكُوفَةِ يُخَرِّجُونَ أَمْثَالَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ أَنْ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ وَلِئَلَّا تَشْتُمُونَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَنُحَاةُ الْبَصْرَةِ يُخَرِّجُونَ مِثْلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وأَنْ. تَقْدِيرُهُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مَعْنًى غَامِضٌ. وَلَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ نُتُوءَ الْجِبَالِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مُعَدَّلًا لِكُرَوِيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ بِحَدٍّ مِنَ الْمَلَاسَةِ يُخَفِّفُ حَرَكَتَهَا فِي الْفَضَاءِ تَخْفِيفًا يُوجِبُ شِدَّةَ اضْطِرَابِهَا.

وَنِعْمَةُ الْأَنْهَارِ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ مِنْهَا شَرَابَهُمْ وَسَقْيَ حَرْثِهِمْ، وَفِيهَا تَجْرِي سُفُنُهُمْ لِأَسْفَارِهِمْ. وَلِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْأَخِيرَةِ عَطَفَ عَلَيْهَا وَسُبُلًا جَمْعُ سَبِيلٍ. وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسَافَرُ فِيهِ بَرًّا. وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ رَجَاءَ اهْتِدَائِكُمْ. وَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ يَصْلُحُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَقَاصِدِ فِي الْأَسْفَارِ مِنْ رَسْمِ الطُّرُقِ وَإِقَامَةِ الْمَرَاسِي عَلَى الْأَنْهَارِ وَاعْتِبَارِ الْمَسَافَاتِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِإِلْهَامِهِ. وَيَصْلُحُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ دَلَالَةً عَلَى الْخَالِقِ الْمُتَوَحِّدِ بِالْخَلْقِ. وَالْعَلَامَاتُ: الْأَمَارَاتُ الَّتِي أَلْهَمَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَضَعُوهَا أَوْ يَتَعَارَفُوهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالْمَسَالِكِ الْمَأْمُونَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَتْبَعُهَا السَّابِلَةُ. وَجُمْلَةُ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: وَهَدَاكُمْ بِالنَّجْمِ فَأَنْتُمْ تَهْتَدُونَ بِهِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ بِالِاهْتِدَاءِ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ السَّبِيلَ وَالْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تَهْدِي فِي النَّهَارِ، وَقَدْ يَضْطَرُّ السَّالِكُ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا فَمَوَاقِعُ النُّجُومِ عَلَامَاتٌ لِاهْتِدَاءِ النَّاسِ السَّائِرِينَ لَيْلًا تعرف بهَا السَّمَوَات، وَأَخَصُّ مَنْ يَهْتَدِي بِهَا الْبَحَّارَةُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِرْسَاءَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا، وَهِيَ هِدَايَةٌ عَظِيمَةٌ فِي وَقْتِ ارْتِبَاكِ الطَّرِيقِ عَلَى السَّائِرِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُتَعَلِّقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالنَّجْمِ تَقْدِيمًا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَكَذَلِكَ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ يَهْتَدُونَ. وَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَة التفاتا يومىء إِلَى فَرِيقٍ خَاصٍّ وَهُمُ السَّيَّارَةُ وَالْمَلَّاحُونَ فَإِنَّ هِدَايَتَهُمْ بِهَذِهِ النُّجُومِ لَا غَيْرَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّجْمِ» تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ النُّجُومُ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا مِثْلُ الْقُطْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 97] .

[سورة النحل (16) : الآيات 17 إلى 18]

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُمْ يَهْتَدُونَ لِمُجَرَّدِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، إِذْ لَا يَسْمَحُ الْمَقَامُ بِقَصْدِ الْقَصْرِ وَإِنْ تَكَلَّفَهُ فِي «الْكَشَّاف» . [17، 18] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 17 إِلَى 18] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [سُورَة النَّحْل: 3] وَثَبَتَتِ الْمِنَّةُ وَحُقَّ الشُّكْرُ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ لِتَكُونَا كَالنَّتِيجَتَيْنِ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَالِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسَاوَاةِ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنْ يَخْلُقُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ. فَالْكَافُ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً شَرِيكَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ مَضْمُونِ الصِّلَتَيْنِ يُعْرَفُ أَيُّ الْمَوْصُولَيْنِ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَيَظْهَرُ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ. وَحِينَ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامَ كَانَ إِطْلَاقُ «مَنْ» الْغَالِبَةُ فِي الْعَاقِلِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ. وَفُرِّعَ عَلَى إِنْكَارِ التَّسْوِيَةِ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ التَّذَكُّرِ فِي انْتِفَائِهَا. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى انْتِفَاءِ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ إِنْكَارٌ عَلَى إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي ذَلِكَ. جملَة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَهِيَ كَالتَّكْمِلَةِ لَهَا لِأَنَّهَا نَتِيجَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ مِنْ الِامْتِنَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلِامْتِنَانِ لِأَنَّ فِيهَا عُمُومًا يَشْمَلُ النِّعَمَ الْمَذْكُورَةَ وَغَيْرَهَا. وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وَفْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ عَدَّهَا الْعَادُّونَ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ التَّنْبِيهُ إِلَى كَثْرَتِهَا بِمَعْرِفَةِ أُصُولِهَا وَمَا يَحْوِيهَا مِنَ الْعَوَالِمِ.

[سورة النحل (16) : آية 19]

وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى مُجْمَلِ النِّعَمِ، وَتَعْرِيضٌ بِفَظَاعَةِ كُفْرِ مَنْ كَفَرُوا بِهَذَا الْمُنْعِمِ، وَتَغْلِيظُ التَّهْدِيدِ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتِئْنَافٌ عَقَّبَ بِهِ تَغْلِيظَ الْكُفْرِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ بِأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَيَتَأَهَّبُوا لِلشُّكْرِ بِمَا يُطِيقُونَ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الزَّوَاجِرِ بِالرَّغَائِبِ كَيْلَا يَقْنَطَ الْمُسْرِفُونَ. وَقَدْ خُولِفَ بَيْنَ خِتَامِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخِتَامِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ وَقع هُنَا لَك وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: 34] لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [سُورَة إِبْرَاهِيم: 28] فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهَا تَسْجِيلَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ كَمَا كَانَتِ النِّعَمُ الْمَعْدُودَةُ عَلَيْهِمْ مُنْتَفِعًا بِهَا كِلَاهُمَا. ثُمَّ كَانَ مِنَ اللَّطَائِفِ أَنْ قُوبِلَ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ فِي آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ بِوَصْفَيْنِ هُنَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ كَانَتْ سَبَبًا لِظُلْمِ الْإِنْسَانِ وَكُفْرِهِ وَهِيَ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعَمَل الْإِنْسَان. [19] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 19] وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: 17] . فَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ العديدة ثمَّ باستنتاج ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ انْتَقَلَ هُنَا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِعُمُومِ الْعِلْمِ. وَلَمْ يُقَدَّمْ لِهَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ وَلَا عُقِّبَ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ خَالِقَ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ يَجِبُ لَهُ أَنْ

[سورة النحل (16) : الآيات 20 إلى 21]

يَكُونُ عَالِمًا بِدَقَائِقِ حَرَكَاتِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَهِيَ بَيْنَ ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ. وَالْمُخَاطَبُ هُنَا هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: 17] . وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِرَدِّ دَعْوَى الشَّرِكَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَعَلَى قِرَاءَتِهِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ أَظْهَرُ فِي التَّهْدِيدِ مِنْهَا فِي قصد التَّعْلِيم. [20، 21] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 20 إِلَى 21] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: 17] وَجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ [سُورَة النَّحْل: 19] . وَمَا صدق الَّذِينَ الْأَصْنَامُ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُتَمَحِّضٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّصْرِيحُ بِمَا اسْتُفِيدَ ضِمْنًا مِمَّا قَبْلَهَا وَهُوَ نَفْيُ الْخَالِقِيَّةِ وَنَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ الْأَصْنَامِ. فَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جُمْلَةُ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً اسْتُفِيدَ مِنْ جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ. [سُورَة النَّحْل: 17] وَعَطْفُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا. وَالْخَبَرُ الثَّانِي وَهُوَ جُمْلَةُ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ تَصْرِيحٌ بِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ جُمْلَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [سُورَة النَّحْل: 19] بِطَرِيقَةِ نَفْيِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ.

وَهِيَ طَرِيقَةُ الْكِنَايَةِ الَّتِي هِيَ كَذِكْرِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. فَنَفْيُ الْحَيَاةِ عَنِ الْأَصْنَامِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْياءٍ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهَا لِأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ أَنْ يَعْلَمُوا أَحْوَالَ غَيْرِهِمْ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ غَيْرُ إِلَهٍ. وَأُسْنِدَ يَخْلُقُونَ إِلَى النَّائِبِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا يُخْرِجُهَا نَحْتُ الْبَشَرِ إِيَّاهَا عَلَى صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ عَنْ كَوْنِ الْأَصْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْلَهُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [سُورَة الصافات: 96] . وَجُمْلَةُ غَيْرُ أَحْياءٍ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَمْواتٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَرَاقَةِ وَصْفِ الْمَوْتِ فِيهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ حَيَاةٍ لِأَنَّهُمْ حِجَارَةٌ. وَوُصِفَتِ الْحِجَارَةُ بِالْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْتِ عَدَمَ الْحَيَاةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْإِعْدَامِ قَبُولُ الْمَوْصُوفَاتِ بِهَا لِمَلَكَاتِهَا، كَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ دَعَا إِلَيْهِ تَنْظِيمُ أُصُولِ الْمُحَاجَّةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَدْعُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَفِيهَا زِيَادَةُ تَبْيِينٍ لِصَرْفِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَجُمْلَةُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا أَصْلُ إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْهِيدٌ لِوَجْهِ التَّلَازُمِ بَيْنَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَبَيْنَ إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 22] . وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَيْ يَشْعُرُونَ ويُبْعَثُونَ عَائِدَانِ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْبَعْثِ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَاقِعٌ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَبْغَتُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [سُورَة الْأَعْرَاف: 187] .

[سورة النحل (16) : الآيات 22 إلى 23]

وَالْبَعْثُ: حَقِيقَتُهُ الْإِرْسَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. وَيُطْلَقُ عَلَى إِثَارَةِ الْجَاثِمِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَعَثْتُ الْبَعِيرَ، إِذَا أَثَرْتُهُ مِنْ مَبْرَكِهِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى سَبَبِهِ. وَقَدْ غَلَبَ الْبَعْثُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى إِحْضَارِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا فَبَعْثُهُ مِنْ جَدَثِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيًّا فَصَادَفَتْهُ سَاعَةُ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا فَمَاتَ سَاعَتَئِذٍ فَبَعْثُهُ هُوَ إِحْيَاؤُهُ عَقِبَ الْمَوْتِ، وَبِذَلِكَ لَا يُعَكَّرُ إِسْنَادُ نَفْيِ الشُّعُورِ بِوَقْتِ الْبَعْثِ عَنِ الْكُفَّارِ الْأَحْيَاءِ الْمُهَدَّدِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَشْعُرُونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ تَدْعُونَ، أَيِ الْأَصْنَامِ. وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ. مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَيٍّ) وَ (آنٍ) بِمَعْنَى أَيُّ زَمَنٍ، وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا يَشْعُرُونَ بِزَمَنِ بَعْثِهِمْ. وَتَقَدَّمَ أَيَّانَ فِي قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [187] . [22، 23] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 22 إِلَى 23] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) اسْتِئْنَافُ نَتِيجَةٍ لِحَاصِلِ الْمُحَاجَّةِ الْمَاضِيَةِ، أَيْ قَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِكَوْنِ مَا مَضَى كَافِيًا فِي إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةِ عَرِيَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْمُؤَكِّدِ تَنْزِيلًا لحَال الْمُشْركين بعد مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: ِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَلِيلٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [163] خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِجُمْلَةِ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأَخْبَارِ، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْقَاطِعَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ أَنَّكُمْ قُلُوبُكُمْ مُنْكِرَةٌ وَأَنْتُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَأَن ذَلِك ناشىء عَنْ عَدَمِ إِيمَانِكُمْ بِالْآخِرَةِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ «الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَاشْتُهِرُوا بِهَا اشْتِهَارَ لَمْزٍ وَتَنْقِيصٍ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [سُورَة الْفرْقَان: 21] ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّلَةِ ارْتِبَاطًا بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْعِنَادِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ظِهْرِيًّا فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا مُؤَاخَذَةً عَلَى نَبْذِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حَقٌّ فَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ أَحَقِّيَّتِهَا مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ أَعَدَّ لِلنَّاسِ يَوْمَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَمَعْنَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جَاحِدَةٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ. اسْتُعْمِلَ الْإِنْكَارُ فِي جَحْدِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ. فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْكِرَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْكِرَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ. وَعَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ ثَابِتٌ لَهُمْ دَائِمٌ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْكَارَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً وَتَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَاعْتَادُوا عَدَمَ التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بُنِيَتْ عَلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ مِنْهُمْ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [21] لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِثْلُ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 24 إلى 25]

وَالْجَرَمُ- بِالتَّحْرِيكِ-: أَصْلُهُ الْبُدُّ. وَكَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى صَارَ بِمَعْنَى حَقًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [22] . وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ مُتَعَلِّقٍ بِ جَرَمَ. وَخَبَرُ لَا النَّافِيَةِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مَوْجُودٌ. وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَوْ لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بدّ من أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ، أَيْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْوَعِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يُخْفُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِنْكَارِ والاستكبار وَغَيرهمَا بالمؤاخذة بِمَا يخفون وَمَا يظهرون من الْإِنْكَار وَالِاسْتِكْبَارِ وَغَيْرِهِمَا مُؤَاخَذَةِ عِقَابٍ وَانْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ وَالتَّذْيِيلِ لَهَا، لِأَنَّ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلًا وَهُوَ قَادِرٌ يُجَازِي فَاعِلَهُ بِالسُّوءِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ الْعُمُومُ. وَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعِقَابِ لَهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْء بدليله. [24، 25] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 24 إِلَى 25] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (25) وإِذا قِيلَ لَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: 22] ، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْضُهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَأَتْبَعَ بِمَعَاذِيرِهِمُ الْبَاطِلَةِ لِإِنْكَارِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَمُسْتَكْبِرَةٌ فَلَا يَعْتَرِفُونَ

بِالنُّبُوءَةِ وَلَا يُخَلُّونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ يَتَطَلَّبُ الْهُدَى، مُضِلُّونَ لِلنَّاسِ صَادُّونَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَذِكْرُ فِعْلِ الْقَوْلِ يَقْتَضِي صُدُورَهُ عَنْ قَائِلٍ يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَأَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِمَا ذُكِرَ مَكْرًا بِالدِّينِ وَتَظَاهُرًا بِمَظْهَرِ النَّاصِحِينَ لِلْمُسْتَرْشِدِينِ الْمُسْتَنْصِحِينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سُورَة النَّحْل: 25] . وإِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْذِنُ بِتَكَرُّرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَأَخَذَ أَتْبَاعُ الْإِسْلَامِ يَكْثُرُونَ، وَصَارَ الْوَارِدُونَ إِلَى مَكَّةَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَاذَا يَدْعُو إِلَيْهِ، دَبَّرَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَاذِيرَ وَاخْتِلَاقًا يَخْتَلِقُونَهُ لِيُقْنِعُوا السَّائِلِينَ بِهِ، فَنَدَبَ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمْ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يَقْعُدُونَ فِي عَقَبَاتِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا الَّتِي يَرِدُ مِنْهَا النَّاسُ، يَقُولُونَ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ أَسَاطِيرُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ أَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدِيَارَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [93] . وَمُسَاءَلَةُ الْعَرَبِ عَنْ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ وَاقِعَةٌ. وَأَصْرَحُهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يزْعم أَنه نبيء، فَقُلْتُ لِأَخِي أُنَيْسٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَائْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ. فَقُلْتُ: لَمْ تشفني من الْخَيْر، فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ

وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ ... » إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَسُؤَالُ السَّائِلِينَ لِطَلَبِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ سُؤَالُ مُسْتَرْشِدٍ عَنْ دَعْوَى بَلَغَتْهُمْ وَشَاعَ خَبَرُهَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حُسْنِ طَوِيَّةٍ، وَيَصُوغُونَ السُّؤَالَ عَنِ الْخَبَرِ كَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ جَوَابٌ بَلِيغٌ تَضَمَّنَ بَيَانَ نَوْعِ هَذَا الْكَلَامِ، وَإِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مَعْرُوفَةٌ وَالْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ مِنْ قَبْلُ. وماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَقَعُ بَعْدَهَا فِعْلٌ هُوَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ نَابَ عَنْهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ. وَ (مَا) يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ وَنَحْوِهِ. وَمَوْضِعُهَا أَنَّهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَمَوْضِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ الِابْتِدَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ رَبُّكُمْ مَا هُوَ. وَقَدْ تَسَامَحَ النَّحْوِيُّونَ فَقَالُوا: إِنَّ (ذَا) مِنْ قَوْلِهِمْ (مَاذَا) صَارَتِ اسْمَ مَوْصُولٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [215] . وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي السُّؤَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ رَبِّهِمْ لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لَا تَكُونُ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَاقْتَضَى التَّقْدِيرُ: أَنْزَلَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ. لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ السَّابِقَةَ لَا تَكُونُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ الْآنَ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أَسْطَارٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ سَطْرٍ. فَأَسَاطِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- كَأُرْجُوحَةٍ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا

قِصَّةٌ مَكْتُوبَةٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسَاطِيرُ فِي الْأَكْثَرِ يَعْنِي بِهَا الْقِصَصَ لَا كُلَّ كِتَابٍ مَسْطُورٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] . وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ قالُوا، وَهِيَ غَايَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يَحْمِلُوا أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فَاللَّامُ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: 8] . وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ كَحَالِ مَنْ يُغْرِي عَلَى مَا يَجُرُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الضُّرِّ إِذْ حَمَلُوا بِذَلِكَ أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ زِيَادَةً عَلَى أَوْزَارِهِمْ. وَالْأَوْزَارُ: حَقِيقَتُهَا الْأَثْقَالُ، جَمْعُ وِزْرٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الزَّايِ- وَهُوَ الثِّقْلُ. وَاسْتُعْمِلَ فِي الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ، لِأَنَّهُ يُثْقِلُ فَاعِلَهُ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْعَنَاءِ، فَأَصْلُ ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ بِالْوِزْرِ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [31] . كَمَا يُعَبِّرُ عَنِ الذُّنُوبِ بِالْأَثْقَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [سُورَة العنكبوت: 13] . وَحَمْلُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ وُقُوعِهِمْ فِي تَبِعَاتِ جَرَائِمِهِمْ بِحَالَةِ حَامِلِ الثِّقْلِ لَا يَسْتَطِيعُ تَفَصِّيًا مِنْهُ، فَلَمَّا شُبِّهَ الْإِثْمُ بِالثِّقْلِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْوِزْرُ شُبِّهَ التَّوَرُّطُ فِي تَبِعَاتِهِ بِحَمْلِ الثِّقْلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، وَحَصَلَ مِنْ الِاسْتِعَارَتَيْنِ الْمُفَرَّقَتَيْنِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلْهَيْئَةِ كُلِّهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّمْثِيلِ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ صَالِحَةً لِلتَّفْرِيقِ إِلَى عِدَّةِ تَشَابِيهَ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ. وَإِضَافَةُ الْأَوْزَارِ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» لِأَنَّهُمْ مَصْدَرُهَا. وَوُصِفَتِ الْأَوْزَارُ بِ كامِلَةً تَحْقِيقًا لِوَفَائِهَا وَشِدَّةِ ثِقْلِهَا لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ ارْتِبَاكِهِمْ فِي تَبِعَاتِهَا إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِضَافَةِ الْحَمْلِ إِلَى الْأَوْزَارِ.

[سورة النحل (16) : آية 26]

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْعَطْفِ وَحَرْفُ الْجَرِّ بَعْدَهُ إِذْ لَا بُدَّ لِحَرْفِ الْجَرِّ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. وَتَقْدِيرُهُ: وَيَحْمِلُوا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ نَظِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْمِلُوا أَوْزَارًا نَاشِئَةً عَنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ نَاشِئَةً لَهُمْ عَنْ تَسَبُّبِهِمْ فِي ضَلَالِ الْمُضَلَّلِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ-، فَإِنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي الضَّلَالِ يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمُضَلَّلِ لِلضَّالِّ فِي جَرِيمَةِ الضَّلَالِ، إِذْ لَوْلَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُ لَاهْتَدَى بِنَظَرِهِ أَوْ بِسُؤَالِ النَّاصِحِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» . وبِغَيْرِ عِلْمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ يُضِلُّونَ نَاسًا غَيْرَ عَالِمِينَ يَحْسَبُونَ إِضْلَالَهُمْ نُصْحًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَالِ تَفْظِيعُ التَّضْلِيلِ لَا تَقْيِيدُهُ فَإِنَّ التَّضْلِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَدَمِ عِلْمٍ كُلًّا أَوْ بَعْضًا. وَجُمْلَةُ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ. افْتُتِحَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَتَضَمَّنُهُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ أَوْ للإقلاع عَنهُ. [26] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 26] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) لَمَّا ذَكَرَ عَاقِبَةَ إِضْلَالِهِمْ وَصَدِّهِمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ أَتْبَعَ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَقَعَ لَهُمْ مَا وَقَعَ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنْ أَنْ يَبْلُغُوا بِصُنْعِهِمْ ذَلِكَ مَبْلَغَ مُرَادِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَائِبُونَ فِي صُنْعِهِمْ كَمَا خَابَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ مَكَرُوا بِرُسُلِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ هُوَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: 24] مُظْهِرِينَهُ بِمَظْهَرِ النَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ وَهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِبْقَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ، سُمِّيَ ذَلِكَ

مَكْرًا بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْمَكْرُ إِلْحَاقُ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ فِي صُورَةِ تَمْوِيهِهِ بِالنُّصْحِ وَالنَّفْعِ، فَنُظِّرَ فِعْلُهُمْ بِمَكْرِ مَنْ قَبْلَهُمْ، أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ مَكَرُوا بِغَيْرِهِمْ مِثْلُ قَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ صَالِحٍ: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً [سُورَة النَّحْل: 50] الْآيَةَ، وَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: 123] . فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُسَاوٍ لِلتَّعْرِيفِ بِلَامِ الْجِنْس. وَمعنى «أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ» اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْقَاصِدِ لِلِانْتِقَامِ بِالْجَائِي نَحْوَ الْمُنْتَقَمِ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [سُورَة الْحَشْر: 2] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ تَمْثِيلٌ لِحَالَاتِ اسْتِئْصَالِ الْأُمَمِ، فَالْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. أَيِ الْمَبْنِيِّ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ. وَإِطْلَاقُ الْبِنَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَارِدٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ: فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا وَقَالَتْ سُعْدَةُ أُمُّ الْكُمَيْتِ بْنِ مَعْرُوفٍ: بَنَى لَكَ مَعْرُوفٌ بِنَاءً هَدَمْتَهُ ... وَلِلشَّرَفِ الْعَادِيِّ بَانٍ وَهَادِمِ ومِنَ الْقَواعِدِ مُتَعَلِّقٌ بِ «أَتَى» . وَمِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَجْرُورُهَا هُوَ مَبْدَأُ الْإِتْيَانِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْصَالِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى هَدْمِهِ. والْقَواعِدِ: الْأُسُسُ وَالْأَسَاطِينُ الَّتِي تُجْعَلُ عُمُدًا لِلْبِنَاءِ يُقَامُ عَلَيْهَا السَّقْفُ. وَهُوَ تَخْيِيلٌ أَوْ تَرْشِيحٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ شَيْءٌ يُشَبَّهُ بِالْقَوَاعِدِ. وَالْخُرُورُ: السُّقُوطُ وَالْهُوِيُّ، فَفِعْلُ خَرَّ مُسْتَعَارٌ لِزَوَالِ مَا بِهِ الْمَنَعَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [سُورَة الْحَشْر: 2] .

[سورة النحل (16) : آية 27]

والسَّقْفُ: حَقِيقَتُهُ غِطَاءُ الْفَرَاغِ الَّذِي بَيْنَ جُدْرَانِ الْبَيْتِ، يُجْعَلُ على الجدران وَيكون مِنْ حَجَرٍ وَمِنْ أَعْوَادٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا اسْتُعِيرَ لَهُ الْبِنَاءُ. ومِنْ فَوْقِهِمْ تَأْكِيد لجملة فَسخرَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ. وَمِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ تَتَرَكَّبُ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ. وَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَكَرُوا فِي الْمَنَعَةِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِسُرْعَةٍ وَأَزَالَ تِلْكَ الْعِزَّةَ بِهَيْئَةِ قَوْمٍ أَقَامُوا بُنْيَانًا عَظِيمًا ذَا دَعَائِمَ وَآوَوْا إِلَيْهِ فَاسْتَأْصَلَهُ اللَّهُ مِنْ قَوَاعِدِهِ فَخَرَّ سَقْفُ الْبِنَاءِ دُفْعَةً عَلَى أَصْحَابِهِ فَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَهَذَا من أبدع التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّهَا تَنْحَلُّ إِلَى عِدَّةِ اسْتِعَارَاتٍ. وَجُمْلَةُ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ. وأل فِي الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فَهِيَ مُفِيدَةٌ مَضْمُونَ قَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَرَدَتْ مَعْطُوفَةً لِحُصُولِ الْمُغَايَرَةِ وَإِلَّا فَإِن شَأْن الموكدة أَنْ لَا تُعْطَفَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ حَلَّ بِهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَإِن الْأَخْذ فجأ أَشَدُّ نِكَايَةً لِمَا يَصْحَبُهُ مِنَ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْوَارِدِ تَدْرِيجًا فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَلَقَّاهُ بِصَبْرٍ. [27] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 27] ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ. عَطْفٌ عَلَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [سُورَة النَّحْل: 25] ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَهَذَا تَكْمِلَةٌ لَهُ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْزِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: 24] . وَذَلِكَ عَائِد إِلَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: 22] .

وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، فَإِنَّ خِزْيَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنَ اسْتِئْصَالِ نَعِيمِ الدُّنْيَا. وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] . وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْأَحْوَالِ الْأَبَدِيَّةِ فَمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مُهَوِّلٌ لِلسَّامِعِينَ. وأَيْنَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِوُجُودِ مَنْ يَحُلُّ فِي الْمَكَانِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ تَهَكُّمٍ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمَكَانِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهَكُّمِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ كَالطَّمَاعِيَةِ لِلْبَحْثِ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَهُمْ عَلِمُوا أَنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ وَلَا مَكَانَ لِحُلُولِهِمْ. وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ مَظْهَرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ لِلْعَيَانِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، فَالْمُخَاطَبُونَ عَالِمُونَ حِينَئِذٍ بِتَعَذُّرِ الْمُشَارَكَةِ. وَالْمَوْصُولُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي ادِّعَاءِ الْمُشَارَكَةِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِ عَبْدَةَ: إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُشَادَّةُ فِي الْخُصُومَةِ، كَأَنَّهَا خُصُومَةٌ لَا سَبِيلَ مَعَهَا إِلَى الْوِفَاقِ، إِذْ قَدْ صَارَ كُلُّ خَصْمٍ فِي شِقٍّ غَيْرِ شَقِّ الْآخَرِ. وَقَرَأَ نَافِع تشقون- بِكَسْرِ النُّونِ- عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ تُعَانِدُونَنِي، وَذَلِكَ بِإِنْكَارِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُشَاقُّونَ- بِفَتْحِ النُّونِ- وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ، أَيْ تُعَانِدُونَ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ، إِذِ الْمُشَاقَّةُ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ بَلْ فِي الْمَعَانِي. وَالتَّقْدِيرُ: فِي إِلَهِيَّتِهِمْ أَوْ فِي شَأْنِهِمْ.

قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ حَكَتْ قَوْلَ أَفَاضِلِ الْخَلَائِقِ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ. وَجِيءَ بِجُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ابْتَدَرُوا الْجَوَابَ لَمَّا وَجَمَ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا، فَأَجَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ جَوَابًا جَامِعًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ الشُّرَكَاءُ الْمَزْعُومُونَ مُغْنِينَ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا شَيْئًا، وَأَنَّ الْخِزْيَ وَالسُّوءَ أَحَاطَا بالكافرين. وَالتَّعْبِير بالماضي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْقَوْلِ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمَ الْحَقَائِقِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [سُورَة الرّوم: 56] ، أَيْ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِنْ جَرَّاءِ مَا يُشَاهِدُوا مِنْ مُهَيَّأِ الْعَذَابِ لِلْكَافِرِينَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْخِزْيِ وَالضُّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْكَوْنِ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَهُوَ قصر ادعائي لبلوغ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ حَدِّ النِّهَايَةِ فِي جِنْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ وَالْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الدَّالِّ عَلَى تَمَكُّنِ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ مِنْهُمْ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ هَوْلِ مَا أعدّ لَهُم.

[سورة النحل (16) : الآيات 28 إلى 29]

[سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 28 إِلَى 29] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ لَيْسَتْ مِنْ مَقُولِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لِأَنْ يُعَرَّفَ الْكَافِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ هَذَا التَّوَفِّيَ مَحْكِيٌّ فِي حَالِ حُصُولِهِ وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَضَتْ وَفَاتُهُمْ وَلَا فَائِدَةَ أُخْرَى فِي ذكر ذَلِك يَوْمَئِذٍ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَأَخْرَجَهُمْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ كُرْهًا فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ. فَالْوَجْهُ أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: 22] أَوْ صِفَةٌ لَهُم، كَمَا يومىء إِلَيْهِ وَصْفُهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِالْمُتَكَبِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 22] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَتْبُوعِ وَالتَّابِعِ فَاجْعَلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جَارٍ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ جَرَى فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْكَلَامِ. أُخْبِرَ عَنْهُ وَحُدِّثَ عَنْ شَأْنِهِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ بِالْحَذْفِ الْمُتَّبَعُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَيُقَابِلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: 32] فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [سُورَة النَّحْل: 30] فَهَذَا نَظِيرُهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَصْفُ حَالَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الشِّرْكِ فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِمَنْ حَلَّ بِهِمْ الِاسْتِئْصَالُ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

ذُكِرَتْ حَالَةُ وَفَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ حَالَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالٌ تَعْرِضُ لِجَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ الِاسْتِئْصَالُ وَمَنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَطْبَقَ مَنْ تَصَدَّى لِرَبْطِهِ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، عَلَى جَعْلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ بَدَلًا مِنَ الْكافِرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [سُورَة النَّحْل: 27] ، أَوْ صِفَةً لَهُ. وَسَكَتَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (وَهُوَ سُكُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ) . وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: «وَهُوَ يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِلْقَوْلِ وَغَيْرَ مُنْدَرِجٍ تَحْتَهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ [سُورَة النَّحْل: 28] اه. وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ الَّتِي لِلْمُؤَنَّثِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ يَتَوَفَّاهُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْأَصْلِ. وَظُلْمُ النَّفْسِ: الشِّرْكُ. وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعَارٌ إِلَى الْإِظْهَارِ الْمُقْتَرِنِ بِمَذَلَّةٍ. شُبِّهَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ عَلَى الْأَرْضِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ وَأَسْرَعُوا إِلَى الِاعْتِرَاف ولخضوع لَمَّا ذَاقُوا عَذَابَ انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ. وَالسَّلَمُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ- الِاسْتِسْلَامُ. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ وَالسَّلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [90] . وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [15] . وَوَصْفُهُمْ بِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يَرْمِي إِلَى أَنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ مُلَابِسٌ لِغِلْظَةٍ وَتَعْذِيبٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: 50] . وَجُمْلَةُ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَمِ أَوَّلُ مَظَاهِرِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْخُضُوعِ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْتَزِعُونَ أَرْوَاحَهُمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُمْ تَعْذِيبَ الِانْتِزَاعِ، وَهُمْ مِنَ

اضْطِرَابِ عُقُولِهِمْ يَحْسَبُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا يُجَرِّبُونَهُمْ بِالْعَذَابِ لِيَطَّلِعُوا عَلَى دَخِيلَةِ أَمْرِهِمْ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِنْ كَذَبُوهُمْ رَاجَ كَذِبُهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَكَفُّوا عَنْهُمُ الْعَذَابَ، لِذَلِكَ جَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ سُوءًا مِنْ قَبْلُ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْحَرْفِ الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ النَّفْيُ وَهُوَ بَلى. وَقَدْ جَعَلُوا عِلْمَ اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وَكِنَايَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَامَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِهِمْ. وَأَسْنَدُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا نَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ إِلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَفْرِيعُ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ عَلَى إِبْطَالِ نَفْيِهِمْ عَمَلَ السُّوءِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ السُّوءَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَاب، وَذَلِكَ عِنْد مَا كُشِفَ لَهُمْ عَنْ مَقَرِّهِمُ الْأَخِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [سُورَة الْأَنْفَال: 50] . وَجُمْلَةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذْيِيلٌ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ يُرَجِّحُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لِرَبْطِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 22] . وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى «بِئْسَ» لَامُ الْقَسَمِ. وَالْمَثْوَى. الْمَرْجِعُ. مِنْ ثَوَى إِذَا رَجَعَ، أَوِ الْمَقَامُ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [128] . وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْ جَهَنَّمَ بِالدَّارِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [سُورَة النَّحْل: 30] تَحْقِيرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي جَهَنَّمَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ بَلْ هُمْ مُتَرَاصُّونَ فِي النَّارِ وَهُمْ فِي مَثْوًى، أَيْ مَحَلٍّ ثَوَاءٍ

[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 31]

[30، 31] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 30 الى 31] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً. لَمَّا افْتُتِحَتْ صِفَةُ سَيِّئَاتِ الْكَافِرِينَ وَعَوَاقِبِهَا بِأَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: 24] قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: 24] ، جَاءَتْ هُنَا مُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَوَاقِبِهَا، فَافْتُتِحَ ذَلِكَ بِمُقَابِلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ قِصَّةُ الْكَافرين، فجَاء التنظير بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ فِي أَبْدَعِ نَظْمٍ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِطْرَادًا. وَلَمْ تَقْتَرِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ كَمَا قُرِنَتْ مُقَابِلَتُهَا بِهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمَّا كَانَ كَذِبًا اخْتَلَقُوهُ كَانَ مَظِنَّةَ أَنْ يُقْلِعَ عَنْهُ قَائِلُهُ وَأَنْ يَرْعَوِيَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنْ لَا يُجْمِعَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ، قُرِنَ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الْمُقْتَضِيَةِ تَكَرُّرَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ الصِّدْقَ مَظَنَّةُ اسْتِمْرَارِ قَائِلِهِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى التّنبيه على تكرّره مِنْهُ. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَقْوَى اللَّهِ وَخَشْيَةُ غَضَبِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ فِي مَكَّةَ، فَالْمَوْصُولُ لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُئِلُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَأَرْشَدُوا السَّائِلِينَ وَلَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ الْقُرْآنِ بِأَوْجَزِ بَيَانٍ وَأَجْمَعِهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ خَيْراً الْمَنْصُوبَةُ، فَإِنَّ لَفْظَهَا شَامِلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَكُلِّ خَيْرٍ فِي الْآخِرَةِ، وَنَصْبُهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا مَعْمُولَةً لِ أَنْزَلَ الْوَاقِعُ فِي سُؤَالِ السَّائِلِينَ، فَدَلَّ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الرَّفْعِ فِي جَوَابِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: 24] بِالرَّفْعِ وَبَيْنَ النَّصْبِ فِي كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً بِالنَّصْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ كَلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ نَظِيرِهَا فِي آيَةِ قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [10] ، وَلَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَالَّذِينَ أَحْسَنُوا: هُمُ الْمُتَّقُونَ فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مقَام الْإِضْمَار توصّلا بِالْإِتْيَانِ بالموصول إِلَى الْإِيمَاء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ جَزَاؤُهُمْ حَسَنَةٌ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هذِهِ الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَحْسَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي نَظَرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ من نُكْتَة هَذَا التوسيط. وَمَعْنَى وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحْسَنُ، فَكَمَا كَانَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ جَهَنَّمَ كَانَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ. فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً [سُورَة النَّحْل: 25] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل: 26] . وَحَسَنَةُ الدُّنْيَا هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَعَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ. وَخَيْرُ الْآخِرَةِ هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة النَّحْل: 97] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهِمْ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [سُورَة النَّحْل: 29] . وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا وَجْهُ تَسْمِيَةِ جَهَنَّمَ مَثْوًى وَالْجَنَّةِ دَارًا. وَ (نِعْمَ) فِعْلُ مَدْحٍ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَمَرْفُوعُهُ فَاعِلٌ دَالٌّ عَلَى جِنْسِ الْمَمْدُوحِ، وَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ آخَرُ يُسَمَّى الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ. فَإِذَا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ تَقَدُّمَ وَلَدارُ الْآخِرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ هُوَ دَارُ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ. وَارْتَفَعَ جَنَّاتُ عَدْنٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي مُسْنَدٍ إِلَيْهِ جَرَى كَلَامٌ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 28] . وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، أَيْ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَجُمْلَةُ يَدْخُلُونَها حَالٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْبَدِيعَةِ حَالَةِ دُخُولِهِمْ لِدَارِ الْخَيْرِ وَالْحُسْنَى وَالْجَنَّاتِ. وَجُمْلَةُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ حَالُ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَدْخُلُونَها. وَمَضْمُونُهَا مُكَمِّلٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ يَدْخُلُونَها مِنَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْبَدِيعَةِ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْجَزَاءِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ. وَجَعْلِ الْجَزَاءِ لِتَمْيِيزِهِ وَكَمَالِهِ بِحَيْثُ يُشَبَّهُ بِهِ جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ. وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمُتَّقِينَ للْعُمُوم.

[سورة النحل (16) : آية 32]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 32] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي أَضْدَادِهِمْ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَمَا قِيلَ فِي مُقَابِلِهِ يُقَالُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَتَوَفَّاهُمُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ، مِثْلُ نَظِيرِهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِتَحْتِيَّةٍ أُولَى كَذَلِكَ. وَالطَّيِّبُ: بِزِنَةِ فَيْعِلَ، مِثْلُ قَيِّمٍ وَمَيِّتٍ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الِاتِّصَافِ بِالطِّيبِ وَهُوَ حُسْنُ الرَّائِحَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَكَمَالِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ فَتُوصَفُ بِهِ الْمَحْسُوسَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَلالًا طَيِّباً [سُورَة الْبَقَرَة: 168] وَالْمَعَانِي وَالنَّفْسِيَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [سُورَة الزمر: 73] . وَقَوْلِهِمْ: طِبْتَ نَفْسًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سُورَة الْأَعْرَاف: 58] . وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» أَيْ مَالًا طَيِّبًا حَلَالًا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا طَيِّبِينَ يَجْمَعُ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي، أَيْ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ مُنَزَّهِينَ مِنَ الشِّرْكِ مُطْمَئِنِّي النُّفُوسِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي أَضْدَادِهِمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 28] . وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ وَهِيَ حَالُ مُقَارَنَةٍ لِ تَتَوَفَّاهُمُ، أَيْ يَتَوَفَّوْنَهُمْ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ سَلَامُ تَأْنِيسٍ وَإِكْرَامٍ حِينَ مَجِيئِهِمْ لِيَتَوَفَّوْهُمْ، لِأَنَّ فعل تَتَوَفَّاهُمُ يبتدىء مِنْ وَقْتِ حُلُولِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى أَنْ تُنْتَزَعَ الْأَرْوَاحُ وَهِيَ حِصَّةٌ قَصِيرَةٌ. وَقَوْلُهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ لِأَضْدَادِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [سُورَة النَّحْل: 28، 29] . وَالْقَوْلُ فِي الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ لِلْجَنَّةِ حِينَ التَّوَفِّي كَالْقَوْلِ فِي ضِدِّهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَهُوَ هُنَا نعيم المكاشفة.

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 34]

[سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 33 إِلَى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة الرَّعْد: 42] لِأَنَّهَا تُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ إِبَّانِ حُلُولِ الْعَذَابِ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا حَلَّ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَقِيلَ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ هُمَا مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ فَيَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِئْصَالُ الْمُعَرَّضُ بِالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [سُورَة النَّحْل: 26] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعده الِاسْتِثْنَاء. ونْظُرُونَ هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ وَهُوَ النِّظَرَةُ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا بِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ اسْتِبْطَائِهِ وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ اغْتِرَارِهِمْ بِتَأَخُّرِ الْوَعِيدِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ. وَإِسْنَادُ الِانْتِظَارِ الْمَذْكُور إِلَيْهِم جَار عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ حَالَهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ظُهُورِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ وَإِفَادَتِهَا التَّحَقُّقَ كَحَالِ مَنْ أَيْقَنَ حُلُولَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ فَهُوَ يَتَرَقَّبُ أَحَدَهُمَا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَا يَأْخُذُ حَذَرَهُ مِنَ الْعَدُوِّ: مَا تَتَرَقَّبُ إِلَّا أَنْ تَقَعَ أَسِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة يُونُس: 102] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [سُورَة الْقَصَص: 19] . وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَمَا هُوَ بِذَلِكَ.

وَجُمْلَةُ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تَنْظِيرٌ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ تَحْقِيقًا لِلْغَرَضَيْنِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الِانْتِظَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ (يَنْظُرُونَ) الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِبْطَاءُ،، أَيْ كَإِبْطَائِهِمْ فِعْلَ الَّذِينَ من قبلهم، فيوشك أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً كَمَا أَخَذَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم. وَهَذَا تحذير لَهُمْ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِبَرَكَتِهِ وَلِإِرَادَتِهِ انتشار دينه. وَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة الرَّعْد: 42] . وَجُمْلَةُ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مُعْتَرضَة بَين جملةَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 33] وَجُمْلَة فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا. وَوَجْهُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ التَّعَرُّضَ إِلَى مَا فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ وَهُوَ اسْتِئْصَالُهُمْ، فَعُقِّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ، أَيْ فِيمَا أَصَابَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ صَارَ تَفْرِيعُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ عَزِيزٌ. وَتَقْدِيرُ أَصْلِهِ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ. فَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ الْمُتَعَارَفِ تَشْوِيقٌ إِلَى الْخَبَرِ، وَتَهْوِيلٌ لَهُ بِأَنَّهُ ظُلْمُ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ خَبَرًا مُفْظِعًا وَهُوَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا. وَإِصَابَةُ السَّيِّئَاتِ إِمَّا بِتَقْدِيرٍ مُضَافٍ، أَيْ أَصَابَهُمْ جَزَاؤُهَا، أَوْ جُعِلَتْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ مَا أَصَابَهُمْ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وحاقَ: أَحَاطَ. وَالْحَيْقُ: الْإِحَاطَةُ. ثُمَّ خَصَّ الِاسْتِعْمَالُ الْحَيْقَ بِإِحَاطَةِ الشَّرِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة النحل (16) : آية 35]

وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ماصدقها الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُونَ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي يَسْتَهْزِئُونَ اسْتِهْزَاءً بِسَبَبِهِ، أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ وُقُوعَهُ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَلَيْسَتِ الْبَاءُ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى عَامِلِ مَوْصُوفِهِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [35] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 35] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ لِحِكَايَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ شُبُهَاتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ تَكْذِيبِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آلِهَتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُعْبَدَ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ خَصَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاجُّوهُ فَقَالُوا لَهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ أَصْنَامًا لَمَا أَقْدَرَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنْ نَحْوِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لَمَا أَقَرَّنَا عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَصْدُ إِفْحَامٍ وَتَكْذِيبٍ. وَهَذَا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَنْظِيرِ أَعْمَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى بِمَا عَمِلُوهُ لَمَا عَاقَبَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ نُزُولُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ بِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْأُمَّةِ.

وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا، فَسَمَّى قَوْلَهُمْ هَذَا تَكْذِيبًا كَتَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ وَتَعْضِيدُ تَكْذِيبِهِمْ بِحُجَّةٍ أَسَاءُوا الْفَهْمَ فِيهَا، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى تَحْرِيكَ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ كَمَا يُحَرِّكُ صَاحِبُ خَيَالِ الظِّلِّ وَمُحَرِّكُ اللُّعَبِ أَشْبَاحَهُ وَتَمَاثِيلَهُ، وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَكْوِينِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَيْنَ مَا يَكْسِبُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ أَمْرِ التَّكْذِيبِ وَأَمْرِ التَّكْلِيفِ، وَتَخْلِيطٌ بَيْنَ الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّخْلِيطُ لَكَانَ قَوْلُهُمْ إِيمَانًا. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ كَفِعْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 26] وَبِقَوْلِهِ: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ [سُورَة النَّحْل: 33] . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ مَا عَلِمْتُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ مُرْضِيًا لِلَّهِ لَمَا أَهْلَكَهُمْ، فَهَلَّا اسْتَدَلُّوا بِهَلَاكِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ وُجُودِيَّةٌ وَدَلَالَةُ الْإِمْهَالِ عَدَمِيَّةٌ. وَضَمِيرُ نَحْنُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي عَبَدْنا. وَحَصَلَ بِهِ تَصْحِيحُ الْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا آباؤُنا لِتَأْكِيدِ مَا النَّافِيَةِ. وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَا عَلَيْهِمْ إِلَّا الْبَلَاغُ وَمِنْهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُكُمْ عَاقِبَةَ أَقْوَامِ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ. وَلَيْسَ الرُّسُلُ بِمُكَلَّفِينَ بِإِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تَسْلُكُوا مَعَهُمُ التَّحَكُّكَ بِهِمْ وَالْإِغَاظَةَ لَهُمْ. وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ الْإِبْلَاغِ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الصَّرِيحُ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ (هَلْ) إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقِبَهُ.

[سورة النحل (16) : آية 36]

وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُعَامَلَتِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلرَّسُولِ غَرَضًا شَخْصِيًّا فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ. وَأُثْبِتَ الْحُكْمُ لِعُمُومِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَإِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَمْرُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلْمُحَاجَّةِ، فَتُفِيدُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَرْدُودِ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا وَتَسْلِيَةً، وَيَتَضَمَّنُ تَعْرِيضًا بإبلاغ الْمُشْركين. [36] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 36] وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 35] . وَهُوَ تَكْمِلَةٌ لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ إِبْطَالًا بِطَرِيقَةِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: 35] . وَجُمْلَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِلْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَقْوَامٌ هَدَاهُمُ اللَّهُ فَصَدَّقُوا

وَآمَنُوا، وَمِنْهُمْ أَقْوَامٌ تَمَكَّنَتْ مِنْهُمُ الضَّلَالَةُ فَهَلَكُوا. وَمَنْ سَارَ فِي الْأَرْضِ رَأَى دَلَائِلَ اسْتِئْصَالِهِمْ. وأَنِ تفسيرية لجملة بَعَثْنا لِأَنَّ الْبَعْثَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، إِذْ هُوَ بَعْثٌ لِلتَّبْلِيغِ. والطَّاغُوتَ: جِنْسُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ يَذْكُرُونَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ: الطَّوَاغِيتُ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [51] . وَأُسْنِدَتْ هِدَايَةُ بَعْضِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ جَمِيعَهُمْ بِالْهُدَى تَنْبِيهًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى إِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: 35] بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، فَاهْتِدَاءُ الْمُهْتَدِينَ بِسَبَبِ بَيَانِهِ، فَهُوَ الْهَادِي لَهُمْ. وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الضَّلَالَةِ بِلَفْظِ «حَقَّتْ عَلَيْهِمْ» دُونَ إِسْنَادِ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الضَّلَالَةِ فَقَدْ كَانَ تَصْمِيمُهُمْ عَلَيْهَا إِبْقَاءً لِضَلَالَتِهِمُ السَّابِقَةِ «فَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ» ، أَيْ ثَبَتَتْ وَلَمْ تَرْتَفِعْ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ الضَّلَالَةِ مِنْ كَسْبِ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ الضَّالِّينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [سُورَة الْأَنْعَام: 125] ، وَقَوْلِهِ عَقِبَ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [سُورَة النَّحْل: 37] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِيَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ أَسْبَابًا عَدِيدَةً بَعْضُهَا جَاءَ مِنْ تَوَالُدِ الْعُقُولِ وَالْأَمْزِجَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا تَابِعٌ لِلدَّعَوَاتِ الضَّالَّةِ بِحَيْثُ تَهَيَّأَتْ مِنَ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ شَتَّى لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ، أَسْبَابٌ تَامَّةٌ تَحُولُ بَيْنَ الضَّالِّ وَبَيْنَ الْهُدَى. فَلَا جَرَمَ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ هِيَ سَبَبُ حَقِّ الضَّلَالَةِ عَلَيْهِمْ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ الْمُبَاشِرَةِ كَانَ ضلالهم من حالات أنفسهم، وَبِاعْتِبَار الْأَسْبَاب الْعَالِيَة المتوالدة كَانَ ضَلَالُهُمْ مِنْ لَدُنْ خَالِقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَخَالِقِ نَوَامِيسِهَا فِي مُتَقَادِمِ الْعُصُورِ. فَافْهَمْ.

[سورة النحل (16) : آية 37]

ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِك الْأَمر باليسر فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا آثَارَ الْأُمَمِ فَيَرَوْا مِنْهَا آثَارَ اسْتِئْصَالٍ مُخَالِفٍ لِأَحْوَالِ الْفَنَاءِ الْمُعْتَادِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْفَنَاءِ لَأَمَرَهُمْ بِمُشَاهَدَةِ الْمَقَابِرِ وَذِكْرِ السّلف الْأَوَائِل. [37] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 37] إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ تَقْسِيمَ كُلِّ أُمَّةٍ ضَالَّةٍ إِلَى مُهْتَدٍ مِنْهَا وَبَاقٍ عَلَى الضَّلَالِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَهُوَ جَارٍ عَلَى حَالِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ جَمِيعًا. وَذَلِكَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّهُمْ سَيَبْقَى مِنْهُمْ فَرِيقٌ عَلَى ضَلَالَةٍ. وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ: الْأُولَى: التَّعْرِيضُ بِالثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ مَعَ مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ الْحَنَقَ فِي نَفْسِ مَنْ يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ يَنْشَأُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَوَانِيَّةِ. واللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَيَكُونُونَ مُهْتَدِينَ وَأَنَّ الضَّلَالَ مِنْهُمْ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ هَدْيَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِمَا نَشَأَ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَتْ لَهُمُ الْبَقَاءَ فِي الضَّلَالِ. وَالْحِرْصُ: فَرْطُ الْإِرَادَةِ الْمُلِحَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْمُرَادِ بِالسَّعْيِ فِي أَسْبَابِهِ. وَالشَّرْطُ هُنَا لَيْسَ لِتَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مَعْلُومُ الْحُصُولِ، لِأَنَّ عَلَامَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ

النَّاسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [سُورَة التَّوْبَة: 128] وَإِنَّمَا هُوَ لِتَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِمَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى دَوَامِ حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ حِرْصًا مُسْتَمِرًّا فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا تَسْتَطِيعُ هَدْيَهُ وَلَا تَجِدُ لِهَدْيهِ وَسِيلَةً وَلَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ. فَالْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: إِنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعِ فَإِنَّنِي ... طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ أَيْضًا: إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ الْفِرَاقَ فَإِنَّمَا ... زُمَّتْ رِكَابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظْلِمِ فَإِنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ فِي الْبَيْتَيْنِ فِي مَعْنَى: إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَصْمِيمًا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِيهِمَا فِي مَعْنَى إِفَادَةِ الْعِلْمِ. وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْتِمْرَارِ ضَلَالِهِمُ اسْمَ الْجَلَالَةِ لِلتَّهْوِيلِ الْمُشَوِّقِ إِلَى اسْتِطْلَاعِ الْخَبَرِ. وَالْخَبَرُ هُوَ أَنَّ هُدَاهُمْ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَحْصِيلَهُ لَا أَنْتَ وَلَا غَيْرُكَ، فَمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ دَوَامَ ضَلَالِهِ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَلَوْلَا هَذِهِ النُّكْتَةُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمْ غَيْرُ اللَّهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لَا يَهْدِي- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَهْدِيهِ هَادٍ. ومَنْ نَائِبُ فَاعِلٍ، وَضَمِيرُ يُضِلُّ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْمُضَلَّلَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- مِنْهُ. فَالْمُسْنَدُ سَبَبِيٌّ وَحُذِفَ الضَّمِيرُ السَّبَبِيُّ الْمَنْصُوبُ لِظُهُورِهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [سُورَة الرَّعْد: 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [سُورَة الْأَعْرَاف: 186] . وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَا يَهْدِي- بِفَتْحِ الْيَاءِ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُوَ الْفَاعِلُ، ومَنْ مَفْعُولُ يَهْدِي، وَالضَّمِيرُ

[سورة النحل (16) : آية 38]

فِي يُضِلُّ لِلَّهِ، وَالضَّمِيرُ السَّبَبِيُّ أَيْضًا مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ قَدَّرَ دَوَامَ ضَلَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [سُورَة الجاثية: 23] إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [سُورَة الجاثية: 23] . وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُمْ مَا لَهُمْ مُنْقِذٌ مِنَ الضَّلَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُمْ عواقب الضلال. [38] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 38] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) انْتِقَالٌ لِحِكَايَةِ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ شَنِيعِ مَقَالَاتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَاسْتِدْلَالٌ مِنْ أَدِلَّةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يخبر بِهِ إِظْهَارًا لِدَعْوَتِهِ فِي مَظْهَرِ الْمُحَالِ، وَذَلِكَ إِنْكَارُهُمُ الْحَيَاة الثَّانِيَة ولبعث بَعْدَ الْمَوْتِ. وَذَلِكَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ سِوَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: 22] . وَالْقَسَمُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ أَرَادُوا بِهِ الدَّلَالَةَ على يقينهم بانتفانه. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي جَهْدَ أَيْمانِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [53] . وَإِنَّمَا أَيْقَنُوا بِذَلِكَ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ سَلَامَةَ الْأَجْسَامِ وَعَدَمَ انْخِرَامِهَا شَرْطٌ لِقَبُولِهَا الْحَيَاةَ، وَقَدْ رَأَوْا أَجْسَادَ الْمَوْتَى مُعَرَّضَةً لِلِاضْمِحْلَالِ فَكَيْفَ تُعَادُ كَمَا كَانَتْ. وَجُمْلَةُ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ عَطْفُ بَيَانٍ لِجُمْلَةِ أَقْسَمُوا وَهِيَ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ. وَالْبَعْثُ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [سُورَة النَّمْل: 65] .

وَالْعُدُولُ عَنِ (الْمَوْتَى) إِلَى مَنْ يَمُوتُ لِقَصْدِ إِيذَانِ الصِّلَةِ بِتَعْلِيلِ نَفْيِ الْبَعْثِ، فَإِنَّ الصِّلَةَ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى التَّعْلِيلِ مِنْ دَلَالَةِ الْمُشْتَقِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الِاشْتِقَاقِ، فَهُمْ جَعَلُوا الِاضْمِحْلَالَ مُنَافِيًا لِإِعَادَةِ الْحَيَاةِ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ [سُورَة النَّمْل: 67] . وبَلى حَرْفٌ لِإِبْطَالِ النَّفْيِ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مُؤَكِّدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْإِبْطَالِ مِنْ حُصُولِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ، أَيْ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى فِعْلٍ هُوَ عَيْنُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وعَلَيْهِ صِفَةٌ لِ وَعْداً، أَيْ وَعْدًا كَالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْخُلْفَ. فَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. شُبِّهَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ. وحَقًّا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ وَعْداً. وَالْحَقُّ هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ الَّذِي لَا يُتَخَلَّفُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [111] . وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ فَيُقِيمُونَ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ دَلِيلَ اسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْبَعْثِ بَعْدَ الفناء. والاستدراك ناشىء عَنْ جَعْلِهِ وَعْدًا عَلَى اللَّهِ حَقًّا، إِذْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ فَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَلِأَنَّ جُمْلَةَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا تَقْتَضِي إِمْكَانَ وُقُوعِهِ وَالنَّاسُ يستبعدون ذَلِك.

[سورة النحل (16) : آية 39]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 39] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) لِيُبَيِّنَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا [سُورَة النَّحْل: 38] لِقَصْدِ بَيَانِ حِكْمَةِ جَعْلِهِ وَعْدًا لَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ، لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِحِكْمَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ لَا تَجْرِي أَفْعَالُهُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ التَّامَّةِ، أَيْ جَعَلَ الْبَعْثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الشَّيْءَ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَيَظْهَرُ حَقُّ الْمُحِقِّ وَيَظْهَرُ بَاطِلُ الْمُبْطِلِ فِي الْعَقَائِدِ وَنَحْوِهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: يَخْتَلِفُونَ كُلَّ مَعَانِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْحُقُوقِ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْحُقُوقِ مِنَ الْمَظَالِمِ كُلَّهُ مَحَلُّ اخْتِلَافِ النَّاسِ وَتَنَازُعِهِمْ. وَعَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ حِكْمَةً فَرْعِيَّةً خَاصَّةً بِالْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ هُنَا، وَهِيَ حُصُولُ الْعِلْمِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا اخْتَرَعُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَفِي حُصُولِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ يَوْمَ الْبَعْثِ مَثَارٌ لِلنَّدَامَةِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْكَارِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْبَعْثِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ. وكانُوا كاذِبِينَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ مِنْ (كَذَّبُوا أَوْ كَاذِبُونَ) ، لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (كَانَ) مِنَ الْوُجُودِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ الِاتِّصَافِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدَ كَذِبُهُمْ وَوُصِفُوا بِهِ. وَكَذِبُهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهِمْ. فَفِيهِ شَتْمٌ صَرِيحٌ تَعْرِيض بالعقاب. [40] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 40] إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة النَّحْل: 38] لِبَيَانِ أَنَّ جَهْلَهُمْ بِمَدَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَاسْتِحَالَتِهِ

عِنْدَهُمْ، فَهِيَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: 39] إِلَى آخِرِهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَكْوِينُ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَنْ تَتَعَلَّقَ قُدْرَتُهُ بِتَكْوِينِهِ. وَلَيْسَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا الْبَعْثُ إِلَّا تَكْوِينٌ، فَمَا بَعْثُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ تَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرًا هُوَ قَصْرُ وُقُوعِ التَّكْوِينِ عَلَى صُدُورِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ تَعَذُّرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا سَلِمَتِ الْأَجْسَادُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَأُرِيدَ بِ قَوْلُنا لِشَيْءٍ تَكْوِينُنَا شَيْئًا، أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِخَلْقِ شَيْءٍ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: إِذا أَرَدْناهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ التَّكْوِينِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى قَوْلِ كُنْ فَقَدْ بَطَلَ تَعَذُّرُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ. وَالشَّيْءُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ وَجُودِهِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْم مَا يؤول إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ مُطْلَقُ الْحَقِيقَةِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلٌ. وأَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ خَبَرٌ عَنْ قَوْلُنا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ كُنْ تَوَجُّهُ الْقُدْرَةِ إِلَى إِيجَادِ الْمَقْدُورِ. عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ بِالْقَوْلِ بِالْكَلَامِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سُورَة يس: 82] وَشُبِّهَ الشَّيْءُ الْمُمْكِنُ حُصُولُهُ بِشَخْصٍ مَأْمُورٍ، وَشُبِّهَ انْفِعَالُ الْمُمْكِنِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لِأَمْرِ الْآمِرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ وَلَا أَنَّ لِلْمَعْدُومِ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ الْكَلَامَ فَيَمْتَثِلُ لِلْآمِرِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 42]

وَ (كَانَ) تَامَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ- بِالرَّفْعِ- أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ جُمْلَةُ أَنْ نَقُولَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى نَقُولَ، أَيْ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وَأَن يكون. [41، 42] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 41 إِلَى 42] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) لَمَّا ثَبَتَتْ حِكْمَةُ الْبَعْثِ بِأَنَّهَا تَبْيِينُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هُدًى وَضَلَالَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بِتَبْيِينٍ بِالْبَعْثِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا صَادِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمُضَادَّةِ وَأَنَّهُمْ مُثَابُونَ وَمُكَرَّمُونَ. فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأُدْمِجَ مَعَ ذَلِكَ وَعْدُهُمْ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا مُقَابَلَةَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِيهَا الْوَاقِعِ بِالتَّعْرِيضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: 36] . فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ [سُورَة النَّحْل: 39] . وَالْمُهَاجِر: مُتَارَكَةُ الدِّيَارِ لِغَرَضٍ مَا. وفِي مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ. تَقْدِيرُهُ: هَاجَرُوا لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ ظُلِمُوا إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ السِّيَاقِ وَهُوَ الْمُشْرِكُونَ. وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ أَصْنَافَ الِاعْتِدَاءِ مِنَ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ.

وَالتَّبْوِئَةُ: الْإِسْكَانُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْجَزَاءِ بِالْحُسْنَى عَلَى الْمُهَاجَرَةِ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ لِلْمُهَاجَرَةِ، لِأَنَّ الْمُهَاجَرَةَ الْخُرُوجُ مِنَ الدِّيَارِ فَيُضَادُّهَا الْإِسْكَانُ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ هاجَرُوا ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْمَعْنَى: لَنُجَازِيَنَّهُمْ جَزَاءً حَسَنًا. فَعَبَّرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِالتَّبْوِئَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاءَةِ. وحَسَنَةً صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ جَارٍ عَلَى «نُبَوِّئَنَّهُمْ» ، أَيْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً. وَهَذَا الْجَزَاءُ يَجْبُرُ كُلَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجَرَةُ مِنَ الْأَضْرَارِ الَّتِي لَقِيَهَا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مُفَارقَة دِيَارهمْ وأهليهم وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا لَاقَوْهُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْمُهَاجَرَةِ مِنْ تَعْذِيبٍ وَاسْتِهْزَاءٍ وَمَذَلَّةٍ وَفِتْنَةٍ، فَالْحَسَنَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْوِيضِهِمْ دِيَارًا خَيْرًا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَوَطَنًا خَيْرًا مِنْ وَطَنِهِمْ، وَهُوَ الْمَدِينَةُ، وَأَمْوَالًا خَيْرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهِيَ مَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ وَمِنَ الْخَرَاجِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً قَالَ لَهُ: «هَذَا مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وَغَلَبَةً لِأَعْدَائِهِمْ فِي الْفُتُوحِ وَأَهَمُّهَا فَتْحُ مَكَّةَ، وَأَمْنًا فِي حَيَاتِهِمْ بِمَا نَالُوهُ مِنَ السُّلْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [سُورَة النُّور: 55] . وَسَبَبُ النُّزُولِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ، أَوِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مِثْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَصْحَابِهِ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يُنَافِي كَوْنَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً. وَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ أُولَئِكَ بِهَذَا الْوَعْدِ. ثُمَّ أَعْقَبَ هَذَا الْوَعْدَ بِالْوَعْدِ الْعَظِيمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. وَمَعْنَى أَكْبَرُ أَنَّهُ أَهَمُّ وَأَنْفَعُ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) ، أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي فِي الْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ الْوَعْدِ كُلِّهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ الْعَظِيمَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ

السَّامِعِينَ أَنْ يَسْأَلُوا كَيْفَ لَمْ يَقْتَدِ بِهِمْ مَنْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ فَتَقَعُ جُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ بَيَانًا لِمَا اسْتُبْهِمَ عَلَى السَّائِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَاقْتَدَوْا بِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: 39] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ الْمُثَارُ هُوَ: كَيْفَ يَحْزَنُ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَيَكُونُ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَعْلَمُونَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ عِلْمَ مُشَاهَدَةٍ لَمَا حَزِنُوا عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَلَكَانَتْ هِجْرَتُهُمْ عَنْ شَوْقٍ إِلَى مَا يُلَاقُونَهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ عَلَى الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ أَقْوَى مِنَ الْعلم الْعقلِيّ لعدم احْتِيَاج الْعلم الحسّي إِلَى اسْتِعْمَال نظر واستدلال، وَلعدم اشْتِمَال الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَفَاصِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي تُحِبُّهَا النُّفُوسُ وَتَرْتَمِي إِلَيْهَا الشَّهَوَاتُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سُورَة الْبَقَرَة: 260] . فَلَيْسَ المُرَاد بقوله تَعَالَى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لَوْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيُؤْمِنُونَ، لَأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ. فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَلَى هَذَا «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا» . وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ. والَّذِينَ صَبَرُوا صِفَةٌ «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا» . وَالصَّبْرُ: تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ. وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ. وَتَقَدَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَةِ [45] . وَالتَّوَكُّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [159] . وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الصَّبْرِ بِالْمُضِيِّ وَفِي جَانِبِ التَّوَكُّلِ بِالْمُضَارِعِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ صَبْرَهُمْ قَدْ آذَنَ بِالِانْقِضَاءِ لِانْقِضَاءِ أَسْبَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ فَرَجًا بِالْهِجْرَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْهِجْرَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ. فَهَذَا بِشَارَةٌ لَهُمْ.

[سورة النحل (16) : الآيات 43 إلى 44]

وَأَنَّ التَّوَكُّلَ دَيْدَنُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ أَعْمَالًا جَلِيلَةً تَتِمُّ لَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ فَهُمْ يُكَرِّرُونَهُ. وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ بِضَمَانِ النَّجَاحِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سُورَة الزمر: 10] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ دُونَ التَّوَكُّلِ عَلَى سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَوَلَائِهِمْ. [43، 44] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 43 الى 44] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43 بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ. كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ جَارِيَةً عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: 24] ، وَرَدِّ مَزَاعِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَارِعَةِ لَهُمْ مُتَخَلِّلًا بِمَا أُدْمِجَ فِي أَثْنَائِهِ مِنْ مَعَانٍ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَعَادَ هُنَا إِلَى إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوءَتِهِ مِنْ أَنَّهُ بَشَرٌ لَا يَلِيقُ بِأَنْ يَكُونَ سَفِيرًا بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ، إِبْطَالًا بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِالرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ الَّذِينَ لَا تُنْكِرُ قُرَيْشٌ رِسَالَتَهُمْ مِثْلُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [سُورَة النَّحْل: 1] . وَقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ نَظْمِ الْكَلَامِ هُنَا بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [سُورَة النَّحْل: 35] الْآيَةَ، تأنيسا للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّ فِيمَا مَضَى مِنَ

الْكَلَامِ آنِفًا حِكَايَةُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِمَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ تَنْوِيهِ مَنْزِلَتِهِ بِأَنَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِهِمْ بقوله تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ وَقَوْلِهِمْ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [سُورَة الْإِسْرَاء: 94] ، فَقُصِرَ الْإِرْسَالُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِرِجَالٍ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ. ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِشَوَاهِدِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ تَوْبِيخًا لَهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يُنَاسِبُهُ الْخِطَابُ لِكَوْنِهِ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ الْمُوَبَّخِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِم بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَخْ. فَهَذَا احْتِجَاجٌ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّابِقِينَ أَهْلِ الْكُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ. والذِّكْرِ: كِتَابُ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي أول سُورَة الْحِجْرِ [6] . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ قَصَدُوا الْمُكَابَرَةَ وَالتَّمْوِيهَ لِتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي تَرِدُ فِي الشَّرْطِ الْمَظْنُونِ عَدَمَ وجوده. وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ. وَالْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُفَرَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» مُعْتَرِضَةً عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا فِي مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ. وَنُقِلَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [29] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَنَّهُ لَا تَقْتَرِنُ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ بِالْفَاءِ. وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ كَلَامَهُ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ.

وَقَوْلُهُ بِالْبَيِّناتِ مُتَعَلِّقٌ بِمُسْتَقَرِّ صِفَةٍ أَوْ حَالًا مِنْ رِجالًا. وَفِي تَعَلُّقِهِ وُجُوهٌ أُخَرُ ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ» ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، فَالْبَيِّنَاتُ دَلَائِلُ الصِّدْقِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ أَوْ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ. وَقَدِ اجْتَمَعَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَافْتَرَقَ بَيْنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ كَمَا تَفَرَّقَ مِنْهُ كَثِيرٌ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْرِ أَيِ الْكِتَابَةِ، فَفَعُولُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. والزُّبُرِ الْكُتُبُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا مَا أُوحِيَ إِلَى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَالتَّوْرَاةِ وَمَا كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ عِيسَى. وَلَعَلَّ عطف الزُّبُرِ عَلَى بِالْبَيِّناتِ عَطْفُ تَقْسِيمٍ بِقَصْدِ التَّوْزِيعِ، أَيْ بَعْضُهُمْ مَصْحُوبٌ بِالْبَيِّنَاتِ وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ قد تَجِيء رُسُلٌ بِدُونِ كُتُبٍ، مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ رَسُولِ أَهْلِ الرَّسِّ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ رَسُولِ عَبْسٍ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كِتَابًا. وَقَدْ تُجْعَلُ الزُّبُرِ خَاصَّةً بِالْكُتُبِ الْوَجِيزَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا شَرِيعَةٌ وَاسِعَةٌ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَالْإِنْجِيلُ كَمَا فَسَّرُوهَا بِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ ذُكِرَتِ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُوَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ وَلَيْسَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.

وَالذِّكْرُ الْكَلَامُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُذْكَرَ، أَيْ يُتْلَى وَيُكَرَّرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . أَيْ مَا كُنْتَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ فَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ. وَالذِّكْرُ: مَا أُنْزِلَ ليقرأه النَّاس ويتلونه تَكْرَارًا لِيَتَذَكَّرُوا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى إِنْزَالِ الذِّكْرِ عَقِبَ قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيِّنَةٌ وَزَبُورٌ مَعًا، أَيْ هُوَ مُعْجِزَةٌ وَكِتَابُ شَرْعٍ. وَذَلِكَ مِنْ مَزَايَا الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا كِتَابٌ آخَرُ، وَلَا مُعْجِزَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سُورَة العنكبوت [50، 51] . وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالتَّبْيِينُ: إِيضَاحُ الْمَعْنَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّاسِ» لِلْعُمُومِ. وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَن مَا صدق الْمَوْصُولَ غَيْرُ الذِّكْرِ الْمُتَقَدِّمِ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لِتُبَيِّنَهُ: لِلنَّاسِ. وَلِذَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا نَزَّلَ إِلَيْهِمُ الشَّرَائِعَ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْقُرْآنَ جَامِعًا لَهَا وَمُبَيِّنًا لَهَا بِبَلِيغِ نَظْمِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: 89] . وَإِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْمُبَلِّغُ لِلنَّاسِ هَذَا الْبَيَان. واللّام عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِذِكْرِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ.

[سورة النحل (16) : آية 45]

وَفُسِّرَ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ عَيْنُ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَهُ للنَّاس، فَيكون إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِنْزَالَ الذِّكْرِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ إِنْزَالُهُ إِلَى النَّاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 10] . وَإِنَّمَا أُتِيَ بِلَفْظِهِ مَرَّتَيْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْزَالَيْنِ: فَإِنْزَالُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، وَإِنْزَالُهُ إِلَى إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ. فَالْمُرَادُ بِالتَّبْيِينِ عَلَى هَذَا تَبْيِينُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، وَتَكُونُ اللَّامُ لِتَعْلِيلِ بعض الحكم الحاقّة بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا أَنْ يُبَيِّنَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحْصُلُ فَوَائِدُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [سُورَة آل عمرَان: 187] . وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَسَائِلِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ مُجْمَلِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَتَرْجِيحُ دَلِيلِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ من تَبْيِينُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ وَاسِطَتُهُ. عطف لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ حِكْمَةٌ أُخْرَى مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ تَهْيِئَةُ تَفَكُّرِ النَّاسِ فِيهِ وَتَأَمُّلِهِمْ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَتَفَكَّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَفَهْمِ فَوَائِدِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي بَيَانِكَ ويعوه بأفهامهم. [45] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 45] أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) بَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ مَسَاوِيهِمْ وَمَكَائِدُهُمْ وَبَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ تَصْرِيحًا وَبِعَذَابِ الدُّنْيَا تَعْرِيضًا، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ تَهْدِيدَهُمُ الصَّرِيحَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِطَرِيقِ اسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِ مِنَ اسْتِرْسَالِهِمْ فِي الْمُعَانَدَةِ غَيْرُ مُقَدِّرِينَ أَنْ

يَقَعَ مَا يُهَدِّدُهُمْ بِهِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَكْرِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ فِي اسْتِرْسَالِهِمْ كَحَالِ مَنْ هُمْ آمِنُونَ بَأْسَ اللَّهِ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ الْمَشُوبِ بِالتَّوْبِيخِ. والَّذِينَ مَكَرُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: السَّيِّئاتِ صِفَةٌ لِمَصْدَرِ مَكَرُوا مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِتَأْنِيثِ صِفَتِهِ. فَالتَّقْدِيرُ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، كَمَا وُصِفَ الْمَكْرُ بِالسَّيِّئِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [سُورَة فاطر: 43] . وَالتَّأْنِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا يُقْصَدُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْخَصْلَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ، كَالْغَدْرَةِ لِلْغَدْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ مَكَرُوا مَعْنَى (اقْتَرَفُوا) فَانْتَصَبَ السَّيِّئاتِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْجَرِّ الَّتِي مَعْنَاهَا الْآلَةُ. وَالْخَسْفُ: زِلْزَالٌ شَدِيدٌ تَنْشَقُّ بِهِ الْأَرْضُ فَتَحْدُثُ بِانْشِقَاقِهَا هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ تَسْقُطُ فِيهَا الدِّيَارُ وَالنَّاسُ، ثُمَّ تَنْغَلِقُ الْأَرْضُ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهَا. وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ أَهْلَ بَابِلَ، وَمَكَانُهُمْ يُسَمَّى خَسْفُ بَابِلَ. وَأَصَابَ قَوْمَ لُوطٍ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَبِلَادُهُمْ مَخْسُوفَةٌ الْيَوْمَ فِي بُحَيْرَةِ لُوطٍ مِنْ فِلَسْطِينَ. وَخَسَفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَيُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا. يُقَالُ: خَسَفَتِ الْأَرْضُ، وَيُقَالُ: خَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ، قَالَ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [سُورَة الْقَصَص: 81] ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ إِلَّا بِحَرْفِ التَّعْدِيَةِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا هُنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، أَيْ جَعَلْنَاهَا خَاسِفَةً بِهِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَمَا يُقَالُ: ذَهَبَ بِهِ. والْعَذابُ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ تَأْلِيمٌ يَسْتَمِرُّ زَمَنًا، فَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى الْخَسْفِ. وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ: إِصَابَتُهُ إِيَّاهُمْ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِالْإِتْيَانِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 46 إلى 47]

وَ (مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) مِنْ مَكَانٍ لَا يَتَرَقَّبُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْهُ ضُرٌّ. فَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، لِأَنَّهُمْ لِبَأْسِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ لَا يَبْغَتُهُمْ مَا يَحْذَرُونَهُ إِذْ قَدْ أَعَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَكَانَ الْآتِي مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ عَذَابًا غَيْرَ مَعْهُودٍ. فَوَقَعَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ كِنَايَةً عَنْ عَذَابٍ لَا يُطِيقُونَ دَفْعَهُ بِحَسَبِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ، وَإِلَّا فَقَدَ جَاءَ الْعَذَابُ عَادًا مِنْ مَكَانٍ يَشْعُرُونَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [سُورَة الْأَحْقَاف: 24] . وَحَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ عَذَابُ الطُّوفَانِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْغَرَقِ لفرعون وَقَومه. [46، 47] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 46 إِلَى 47] أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) الْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [سُورَة الحاقة: 10] . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [44] . وَالتَّقَلُّبُ: السَّعْي فِي شؤون الْحَيَاةِ مِنْ مُتَاجَرَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَسَفَرٍ وَمُحَادَثَةٍ وَمُزَاحَمَةٍ. وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ شَاعِرُونَ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ. وَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل: 45] . وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: 98] . وَتَفْرِيعُ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اعْتِرَاضٌ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ تَقَلُّبُهُمْ شَيْءٌ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ اجْتِمَاعُهُمْ وَتَعَاوُنُهُمْ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيِ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَأْخُذَهُمْ.

وَالتَّخَوُّفُ فِي اللُّغَةِ يَأْتِي مَصْدَرُ تَخَوَّفَ الْقَاصِرُ بِمَعْنَى خَافَ وَمَصْدَرُ تَخَوَّفَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى تَنَقَّصَ، وَهَذَا الثَّانِي لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَهِيَ مِنَ اللُّغَاتِ الْفَصِيحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ. فَلِلْآيَةِ مَعْنَيَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَوَقُّعِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُرِيَهُمْ مُقَدَّمَاتِهِ مِثْلَ الرَّعْدِ قَبْلَ الصَّوَاعِقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَنَقُّصٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَنَقَّصَهُمْ قَبْلَ الْأَخْذِ بِأَنْ يُكْثِرَ فِيهِمُ الْمَوَتَانَ وَالْفَقْرَ وَالْقَحْطَ. وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْخُذَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ. رَوَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟ فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا. التَّخَوُّفُ: التَّنَقُّصُ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (¬1) فَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا يَضِلُّ، قَالُوا وَمَا دِيوَانُنَا؟ قَالَ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ» . وَتَفَرَّعَ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ تَفْرِيعَ الْعِلَّةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) هُنَا مُفِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ وَمُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا ¬

(¬1) قلت: نسب فِي «الْكَشَّاف» هَذَا الْبَيْت إِلَى زُهَيْر وَكَذَلِكَ فِي الأساس وَلَيْسَ زُهَيْر بهذلي. وَنسبه صَاحب «اللِّسَان» إِلَى ابْن مقبل وَلَيْسَ ابْن مقبل بهذلي وَكَيف وَقد قَالَ الشَّيْخ الْهُذلِيّ لعمر قَالَ شَاعِرنَا فَهُوَ هذلي وَوَقع فِي «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ» أَن الشَّيْخ الْهُذلِيّ أجَاب عمر بقوله نعم: «قَالَ شَاعِرنَا أَبُو كَبِير وَقَالَ الخفاجي الْبَيْت من قصيدة لَهُ مَذْكُورَة فِي شعر هُذَيْل فنسبة الْبَيْت إِلَى أبي كَبِير أثبت، وَهَذَا الْبَيْت فِي وصف رَاحِلَة أثر الرحل فِي سنامها فتنقص من وبره. والتامك: بِكَسْر الْمِيم السنام المشرف. والقرد بِكَسْر الرَّاء المتلبد الْوَبر، والنبعة قَصَبَة شجر النبع تتَّخذ مِنْهُ القسي. والسفن بِالتَّحْرِيكِ الْبرد. [.....]

[سورة النحل (16) : آية 48]

بَيَّنَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْفَاءُ. وَالتَّعْلِيلُ هُنَا لِمَا فُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَعْجِيلِ هَلَاكِهِمْ وَأَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ حَتَّى نَسُوا بَأْسَ اللَّهِ فَصَارُوا كَالْآمَنِينَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْتَفْهِمُ عَنْهُمْ: أَهُمْ آمِنُونَ مِنْ ذَلِكَ أم لَا. [48] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 48] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) بَعْدَ أَنْ نَهَضَتْ بَرَاهِينُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَعْدَادِ مَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ جَاءَ الِانْتِقَالُ إِلَى دَلَالَةٍ مِنْ حَالِ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا مُشْعِرَةً بِخُضُوعِهَا لِلَّهِ تَعَالَى خُضُوعًا مُقَارِنًا لِوُجُودِهَا وَتَقَلُّبِهَا آنًا فَآنًا عَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ. وَأَنْبَأَ عَنْهُ لِسَانُ الْحَالِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ، وَهُوَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّظَامَ الْأَرْضِيَّ خَلْقًا يَنْطِقُ لِسَانُ حَالِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي أَشَدِّ الْأَعْرَاضِ مُلَازَمَةً لِلذَّوَاتِ، وَمُطَابَقَةً لِأَشْكَالِهَا وَهُوَ الظِّلُّ. وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [15] . فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ قَدْ رَأَوْا، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ يَرَوْا بِتَحْتِيَّةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَوَلَمْ تَرَوْا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا الْمَوْصُولَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا بِاعْتِبَارِ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْوَصْف بجملة يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ الْآيَةَ.

وَالتَّفَيُّؤُ: تَفَعُّلُ مِنْ فَاءَ الظِّلُّ فَيْئًا، أَيْ عَادَ بَعْدَ أَنْ أَزَالَهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ. لَعَلَّ أَصْلَهُ مِنْ فَاءَ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ مُغَادَرَةِ الْمَكَانِ، وَتَفَيُّؤُ الظِّلَالِ تَنَقُّلُهَا مِنْ جِهَاتٍ بَعْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ زَوَالِهَا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الظِّلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [15] . وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، أَيْ عَنْ جِهَاتِ الْيَمِينِ وَجِهَاتِ الشَّمَائِلِ مَقْصُودٌ بِهِ إِيضَاحُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ لِلظِّلِّ إِذْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِ الشَّخْصِ مَرَّةً وَعَنْ شِمَالِهِ أُخْرَى، أَيْ إِذَا اسْتَقْبَلَ جِهَةً مَا ثُمَّ اسْتَدْبَرَهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ بَلْ كَذَلِكَ الْأَمَامُ وَالْخَلْفُ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ. وَأُفْرِدَ الْيَمِينُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْجِهَةِ كَمَا يُقَالُ الْمَشْرِقُ. وَجَمْعُ الشَّمائِلِ مُرَادًا بِهِ تَعَدُّدُ جِنْسِ جِهَةِ الشَّمَالِ بِتَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا، كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ [سُورَة المعارج: 40] . فَالْمُخَالَفَةُ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ تَفَنُّنٌ. ومجيء فعل يَتَفَيَّؤُا بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ جَرَى عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ جَمْعًا غَيْرَ جَمْعِ تَصْحِيحٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ تَتَفَيَّأُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (ظِلَالُ) مُرَاعَاةً لِلَفْظِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَدِّدًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ. وسُجَّداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ظِلالُهُ الْعَائِدِ إِلَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ قَيْدٌ لِلتَّفَيُّؤِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَيُّؤَ يُقَارِنُهُ السُّجُودُ مُقَارَنَةَ الْحُصُولِ ضِمْنَهُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ داخِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلالُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِرُجُوعِهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. وَجُمِعَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ الْخَلَائِقِ الْعُقَلَاءَ وَهُمُ الْجِنْسُ الْأَهَمُّ.

[سورة النحل (16) : الآيات 49 إلى 50]

وَالدَّاخِرُ: الْخَاضِعُ الذَّلِيلُ، أَيْ دَاخِرُونَ لِعَظَمَةِ الله تَعَالَى. [49، 50] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 49 إِلَى 50] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) لَمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ السُّجُودُ الْقَسْرِيُّ ذُكِرَ بَعْدَهُ هُنَا سُجُودٌ آخَرُ بَعْضُهُ اخْتِيَارٌ وَفِي بَعْضِهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِهِ مُؤْذِنٌ بالحصر، أَي سجد لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ. وَأُوثِرَتْ مَا الْمَوْصُولَةُ دُونَ (مَنْ) تَغْلِيبًا لِكَثْرَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. ومِنْ دابَّةٍ بَيَانٌ لِ مَا فِي الْأَرْضِ، إِذِ الدَّابَّةُ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ. وَمَعْنَى سُجُودِ الدَّوَابِّ لِلَّهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي تَفْكِيرِهَا الْإِلْهَامِيِّ الْتِذَاذَهَا بِوُجُودِهَا وَبِمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْمَرَحِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَتَطْلُبُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهَا مِنَ الْمُتَغَلِّبِ وَمِنَ الْعَوَارِضِ بِالْمُدَافَعَةِ أَوْ بِالتَّوَقِّي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ. فَحَالُهَا بِذَلِكَ كَحَالِ شَاكِرٍ تَتَيَسَّرُ تِلْكَ الْمُلَائِمَاتُ لَهَا، وَإِنَّمَا تَيْسِيرُهَا لَهَا مِمَّنْ فَطَرَهَا. وَقَدْ تَصْحَبُ أَحْوَالَ تَنَعُّمِهَا حَرَكَاتٌ تُشْبِهُ إِيمَاءَ الشَّاكِرِ الْمُقَارِبِ لِلسُّجُودِ، وَلَعَلَّ مِنْ حَرَكَاتِهَا مَا لَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ لِخَفَائِهِ وَجَهْلِهِمْ بِأَوْقَاتِهِ، وَإِطْلَاقُ السُّجُودِ عَلَى هَذَا مَجَازٌ. وَيَشْمَلُ مَا فِي السَّماواتِ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ الْمَلَائِكَةِ، مِثْلَ الْأَرْوَاحِ، أَو يُرَاد بالسماوات الْأَجْوَاءُ فَيُرَادُ بِمَا فِيهَا الطُّيُورُ وَالْفَرَاشُ.

[سورة النحل (16) : آية 51]

وَفِي ذِكْرِ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَقَلِّهَا تَعْرِيضٌ بِذَمِّ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْبَشَرِ عَنْ مَرْتَبَةِ الدَّوَابِّ فِي كُفْرَانِ الْخَالِقِ، وَبِمَدْحِ مَنْ شَابَهَ مِنَ الْبَشَرِ حَالَ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي جَعْلِ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ مَعْمُولَيْنِ لِ يَسْجُدُ اسْتِعْمَالٌ لِلَفْظٍ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَوَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَعْرِيضٌ بِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَوْجِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ. وَجُمْلَةُ يَخافُونَ رَبَّهُمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَالْفَوْقِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ فَوْقِيَّةُ تَصَرُّفٍ وَمِلْكٍ وَشَرَفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [سُورَة الْأَنْعَام: 18] وَقَوْلِهِ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: 127] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَيْ يُطِيعُونَ وَلَا تَصْدُرُ مِنْهُمْ مُخَالَفَةٌ. وَهُنَا مَوضِع سُجُود للقارىء بِالِاتِّفَاقِ. وَحِكْمَتُهُ هُنَا إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ مِنَ الْفَرِيقِ الْمَمْدُوحِ بِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْمَلَائِكَةِ فِي السُّجُودِ لله تَعَالَى. [51] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 51] وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) لَمَّا أُشْبِعَ الْقَوْلُ فِي إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الشَّائِعِ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأُتْبِعَ بِإِبْطَالِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبْطَالِ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ مُتَّبَعٍ عِنْدَ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ بِإِلَهِيَّةِ أَصْلَيْنِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، تَقَلَّدَتْهُ قَبَائِلُ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةُ بِلَادُ فَارِسَ وَالسَّارِي فِيهِمْ سُلْطَانُ كِسْرَى وَعَوَائِدُهُمْ، مِثْلُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، فَقَدْ دَانَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ بِالْمَجُوسِيَّةِ، أَيِ الْمَزْدَكِيَّةِ وَالْمَانَوِيَّةِ فِي زَمَنِ كِسْرَى أَبْرُويِشَ وَفِي زَمَنِ كِسْرَى أَنُوشُرْوَانَ، وَالْمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ عَقِيدَةً بِإِلَهَيْنِ:

إِلَهٍ لِلْخَيْرِ وَهُوَ النُّورُ، وَإِلَهٍ لِلشَّرِّ وَهُوَ الظُّلْمَةُ، فَإِلَهُ الْخَيْرِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرَ وَالْإِنْعَامَ، وَإِلَهُ الشَّرِّ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الشَّرُّ وَالْآلَامُ، وَسَمُّوا إِلَهَ الْخَيْرِ (يَزْدَانُ) ، وَسَمُّوا إِلَهَ الشَّرِّ (آهْرُمُنُ) (¬1) . وَزَعَمُوا أَنَّ يَزْدَانَ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ وَكَانَ لَا يَخْلُقُ إِلَّا الْخَيْرَ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ إِلَّا الْخَيْرُ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ مَرَّةً خَاطِرُ شَرٍّ فَتَوَلَّدَ عَنْهُ إِلَهٌ آخَرُ شَرِيكٌ لَهُ هُوَ إِلَهُ الشَّرِّ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَعَرِّي فِي لُزُومِيَّاتِهِ بِقَوْلِهِ: فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ ... فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ وَلَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ لِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ صُوَرًا مُجَسَّمَةً، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دِينُهُمْ مِنْ عِدَادِ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ لِاخْتِصَاصِ اسْمِ الطَّاغُوتِ بِالصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ الْمَعْبُودَةِ. وَهَذَا الدِّينُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُشْبِهُ الْأَدْيَانَ الَّتِي لَا تَعْبُدُ صُوَرًا مَحْسُوسَةً. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَجُوسِيَّةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إِلَى قَوْلِهِ وَالْمَجُوسَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [17] . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ هُوَ الْمُرَادُ التَّعْقِيبُ بِآيَةِ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [سُورَة النَّحْل: 53] كَمَا سَيَأْتِي. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [سُورَة النَّحْل: 36] . وَمَعْنَى وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ أَنَّهُ دَعَا النَّاسَ وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى بُطْلَانِ اعْتِقَادِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [سُورَة الْفَتْح: 15] وَقَوْلِهِ: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْفَتْح: 15] . وَصِيغَةُ التَّثْنِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلهَيْنِ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ اثْنَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِاثْنِينِيَّةَ مَقْصُودَةٌ بِالنَّهْيِ إِبْطَالًا لِشِرْكٍ مَخْصُوصٍ مِنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ لَا ¬

(¬1) يَزْدَان بتحتية مَفْتُوحَة وزاي سَاكِنة. وأهرمن بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وهاء سَاكِنة وَرَاء وَمِيم مضمومتين وَنون سَاكِنة.

اكْتِفَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ بَلِ الْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ التَّعَدُّدِ الْخَاصِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَجُوسِ بِإِلَهَيْنِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تَوْجِيهُ ذِكْرِ اثْنَيْنِ بِأَنَّهُ لِدَفْعِ احْتِمَالِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا. وَإِذْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ فَقَدْ دَلَّ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى إِبْطَالِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ مَقُولَةٌ لِفِعْلِ وَقالَ اللَّهُ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ كَمَوْقِعِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ (¬1) : أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَبِذَلِكَ أُفِيدَ بِالْمَنْطُوقِ مَا أُفِيدَ قَبْلُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَالضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ اللَّهُ، أَيْ قَالَ اللَّهُ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِالْمَعْنَى كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 117] فَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مُفَسِّرُ «أَمَرْتَنِي» ، وَفِعْلُ «أَمَرْتَنِي» فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَاللَّهُ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ، فَحَكَاهُ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: رَبِّي. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، أَيِ اللَّهُ مُخْتَصٌّ بِصِفَةِ تَوَحُّدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى تَثْنِيَةِ الْإِلَهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ مُعْتَرِضَةً وَاقِعَةً تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْ نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، أَيْ وَاللَّهُ هُوَ مُسَمَّى إِلَهٍ فَاتِّخَاذُ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ. ¬

(¬1) هَذَا الْبَيْت من شَوَاهِد النَّحْو وَعلم الْمعَانِي وَتَمام الْبَيْت: وَلَا فَكُن فِي السِّرّ والجهر مُسلما وَلَا يعرف قَائِله.

وَحَصْرُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي عَلَمِ الْجَلَالَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ مُسَمَّى ذَلِكَ الْعَلَمِ مُسَاوٍ لِمُسَمَّى إِلَهٍ، إِذِ الْإِلَهُ مُنْحَصِرٌ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ الْعَلَمِ. وَتَفْرِيعُ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فَيَكُونُ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَيَكُونُ فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ وَقالَ اللَّهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، أَيْ قَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ فَلَا تَرْهَبُوا غَيْرِي. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، أَيْ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيًّا، أَيْ قَصَرَ الرَّهْبَةَ التَّامَّةَ مِنْهُ عَلَيْهِ فَلَا اعْتِدَادَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَلَى ضُرِّ أَحَدٍ. وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ يَرْهَبُونَ إِلَهَ الشَّرِّ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَرْهُوبُ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنَ اللَّهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِقَصْرِ الرَّغْبَةِ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ قَصْرِ الرَّهْبَةِ عَلَى اعْتِقَادِ قَصْرِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلَى الَّذِينَ يَطْمَعُونَ فِي إِلَهِ الْخَيْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّهْبَةِ لِأَن شَأْن المزدكية أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ عَنْ خَوْفِ إِلَهِ الشَّرِّ لِأَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ هُمْ فِي أَمْنٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى الْخَيْرِ. وَوَقَعَ فِي ضَمِيرِ فَإِيَّايَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِمُنَاسَبَةِ انْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْوَاحِدِ أَنَّهُ اللَّهُ مُنَزِّلُ الْقُرْآنِ تَحْقِيقًا لِتَقْرِيرِ الْعَقِيدَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ اهْتِمَامٌ بِالرَّهْبَةِ لِمَا فِي الِالْتِفَاتِ مِنْ هَزِّ فَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ. وَتَقَدَّمَ تَرْكِيبُ نَظِيرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاقْتِرَانُ فِعْلِ فَارْهَبُونِ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى تَفْرِيعٍ فَيُفِيدُ مَفَادَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ «ارْهَبُونِ» بِالْمَفْعُولِ لَفْظًا يَجْعَلُ الضَّمِيرَ

[سورة النحل (16) : آية 52]

الْمُنْفَصِلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ فِي تَقْدِيرِ مَعْمُولٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِيَّايَ ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ، أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِأَنْ تَقْصُرُوا رَهْبَتَكُمْ عَلَيَّ فَارْهَبُونِ امتثالا لِلْأَمْرِ. [52] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 52] وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [سُورَة النَّحْل: 51] أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِلَهَيْنِ جَعَلُوهُمَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَإِذْ كَانَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ مَظْهَرَيْنِ مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَزْعُمُونَهُ إِلَهًا لِلْخَيْرِ وَإِلَهَا لِلشَّرِّ هُمَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَخَلَ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي مُفَادِ لَامِ الْمِلْكِ، فَأَفَادَ أَنَّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَكَانَ لَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ إِذْ لَا يُعْقَلُ إِلَهٌ بِدُونِ مَخْلُوقَاتٍ. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ. فَعَطْفُهُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سُورَة النَّحْل: 51] لِأَنَّ عَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةِ اقْتَضَتِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ وَقَصْرَهَا عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشَارَ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً فَالدِّينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّاعَةَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَانَتِ الْقَبِيلَةُ لِلْمَلِكِ، أَيْ أَطَاعَتْهُ، فَهُوَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مِلْكِهِ كَانَ حَقِيقًا بِقَصْرِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى فِعْلِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.

[سورة النحل (16) : الآيات 53 إلى 54]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الدِّيَانَةِ، فَيَكُونُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ دِينِ الشِّرْكِ يُنَاسِبُهُ أَنْ لَا يَدِينَ النَّاسُ إِلَّا بِمَا يُشَرِّعُهُ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَكُمُ الدِّينَ لَا غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ مِثْلُ عَمْرو بن لحيي، وَزَرَادَشْتَ، وَمَزْدَكَ، وَمَانِي، قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [سُورَة الشورى: 21] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [سُورَة الْفَاتِحَة: 4] ، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي يُنْكِرُهُ أُولَئِكَ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ. وَالْوَاصِبُ: الثَّابِتُ الدَّائِمُ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَيَزِيدُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. وَتَفَرَّعَ عَلَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ التَّوْبِيخُ عَلَى تَقْوَاهُمْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّقُونَ إِلَهَ الشَّرِّ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ ليأمنوا شرّه. [53، 54] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 53 إِلَى 54] وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ الْكَائِنَةِ فِي ذَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِيمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا سَاقَ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنَ النَّاسِ مُعْرِضُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا وَعَنْ شُكْرِهَا وَهُمُ الْكَافِرُونَ، فَكَانَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ الْقَصْدُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ابْتِدَاءً مَتْبُوعًا بِالِامْتِنَانِ.

وَتَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ هُنَا فَصَارَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُوَ الِامْتِنَانُ بِالنِّعَمِ مُدْمَجًا فِيهِ الِاعْتِبَارُ بِالْخَلْقِ. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَقِبَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. وَابْتُدِئَ بِالنِّعَمِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِجْمَالًا ثُمَّ ذُكِرَتْ مُهِمَّاتٌ مِنْهَا. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وُجُودَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ (أَحَدُهُمَا فِعْلُهُ الْخَيْرُ وَالْآخَرُ فِعْلُهُ الشَّرُّ) أَعْقَبَهُ هُنَا بِأَنَّ الْخَيْرَ وَالضُّرَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُعْطِي النِّعْمَةَ وَهُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا لَابَسَكُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَكُمْ، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيَانِ إِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ. و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَصْدُرُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَنْ صِفَةِ قُدْرَتِهِ أَوْ عَنْ صِفَةِ فِعْلِهِ عِنْدَ مُثْبِتِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَلَمَّا كَانَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُغْنِيًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِي كَمَا هُوَ شَأْنُهَا الْغَالِبُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ اللَّجَأَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ حُصُولِ الضُّرِّ أَعْجَبُ إِخْبَارًا مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ: تَقْرِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مُدَبِّرُ أَسْبَابِ مَا بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ يَخْلُقُ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَجِئُونَ إِلَّا إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ، وَهُوَ ضِدُّ النِّعْمَةِ.

[سورة النحل (16) : آية 55]

وَمَسُّ الضُّرِّ: حُلُولُهُ. اسْتُعِيرَ الْمَسُّ لِلْحُصُولِ الْخَفِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى ضِيقِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَجْأَرُ إِلَى اللَّهِ بِحُصُولِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الضُّرِّ لَهُ. وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَسِّ فِي الْإِصَابَةِ الْخَفِيفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [17] . وتَجْئَرُونَ تَصْرُخُونَ بِالتَّضَرُّعِ. وَالْمَصْدَرُ: الْجُؤَارُ، بِصِيغَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ. وَأَتْبَعَ هَذِهِ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ كَاشِفِ الضُّرِّ عَنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ الْآيَةَ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُنْعِمِ بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِشْرَاكِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ أَعْجَبُ حَالًا وَأَبْعَدُ حُصُولًا مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ. وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارُ رَأْفَةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ عِنْدَ الْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ. وإِذا الْأُولَى مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ ظَرْفٌ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَيَّثُ إِلَى أَنْ يَبْعُدَ الْعَهْدُ بِنِعْمَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِحَيْثُ يُفْجَأُونَ بِالْكُفْرِ دُفْعَةً دُونَ أَنْ يَتَرَقَّبَهُ مِنْهُمْ مُتَرَقِّبٌ، فَكَانَ الْفَرِيقُ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فريق الْمُشْركين. [55] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 55] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفعل يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: 54] الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ [سُورَة النَّحْل: 54] . وَالْكُفْرُ هُنَا كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:

بِما آتَيْناهُمْ أَيْ مِنَ النِّعَمِ. وَكُفْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ إِشْرَاكَهُمْ سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَصْحَبُوهُ عَقِبَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شُبِّهَتْ مُقَارَنَةُ عَوْدِهِمْ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِمُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى عَمَلٍ لِذَلِكَ الْعَمَلِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُبَادَرَتُهُمْ لِكُفْرِ النِّعْمَةِ دُونَ تَرَيُّثٍ. فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمُقَارَنَةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَمْلِيحِيَّةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَمِثْلُهَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَمِثَالُهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: 8] ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ آخِرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي هَذِه السُّورَة [النَّحْل: 25] . وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى فَرِيقٌ [سُورَة النَّحْل: 54] بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْعَامِ بِالْحَالَةِ النَّافِعَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِعْطَاءِ أَنْ يَكُونَ تَمْكِينًا بِالْمَأْخُوذِ الْمَحْبُوبِ. وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ بِما آتَيْناهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً تَفْظِيعًا لِكُفْرَانِهِمْ بِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَبِيح عِنْد تجميع الْعُقَلَاءِ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مُخَاطَبَتَهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرَ إِمْهَالٍ وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَالْمَتَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مَحْبُوبًا وَيُسَرُّ بِهِ. وَيُقَالُ: تَمَتَّعَ بِكَذَا وَاسْتَمْتَعَ. وَتَقَدَّمَ الْمَتَاعُ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ. وَالْخِطَابُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ الْمُفَرَّعُ مِنْ تَمَامِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي الِالْتِفَاتَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إِلَى مَرْجِعِ مَا قبله. وَالْمعْنَى: فَنَقُول تَمَتَّعُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا إِلَى أَمَدٍ.

[سورة النحل (16) : آية 56]

وَفُرِّعَ عَلَيْهِ التَّهْدِيدُ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بَعْدَ زَوَالِ التَّمَتُّعِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أَيْ تَعْلَمُونَ جَزَاء كفركم. [56] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 56] وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) عَطْفُ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ لَهَا مِسَاسٌ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 53] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: 54] . وَمَا حُكِيَ هُنَا هُوَ من تَفَارِيعُ دِينِهِمُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَالَّتِي هِيَ مِنْ تَفَارِيعِ كُفْرَانِ نِعْمَةِ رَبِّهِمْ، إِذْ جَعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سُورَة النَّحْل: 136] . إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى ذِكْرِ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ دُونَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَفْصِيلِ كُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَقَامُ تَعْدَادِ أَحْوَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرًا عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ. وَالْجَعْلُ: التَّصْيِيرُ وَالْوَضْعُ. تَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ فِي مَالِي كَذَا. وَجِيءَ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 38] بِأَنَّهُ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مَضَتْ مِنْ عِنَادِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ.

وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، وَهُوَ ضَمِيرُ (مَا) ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَمِثْلُ حَذْفِ هَذَا الضَّمِيرِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَام. وَمَا صدق صلَة لِما لَا يَعْلَمُونَ هُوَ الْأَصْنَامُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الصِّلَةِ زِيَادَةً فِي تَفْظِيعِ سَخَافَةِ آرَائِهِمْ، إِذْ يَفْرِضُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَطَاءً يُعْطُونَهُ لِأَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَهَا بَلْهَ مَبْلَغِ مَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا، وَتَخَيُّلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَهَا لَيست من الْوُجُودِ وَلَا من الْإِدْرَاكِ وَلَا مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَضمير تَعْلَمُونَ [سُورَة الْحجر: 55] عَائِدٌ إِلَى مَعَادِ ضَمِيرِ يَجْعَلُونَ. وَوَصْفُ النَّصِيبِ بِأَنَّهُ مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِتَشْنِيعِ ظُلْمِهِمْ إِذْ تَرَكُوا الْمُنْعِمَ فَلَمْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُرْضِيهِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ كَإِعْطَاءِ الْمُحْتَاجِ، وَأَنْفَقُوا ذَلِكَ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى أَشْيَاءَ مَوْهُومَةٍ لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا. ثُمَّ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِقَصْدِ التَّهْدِيدِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ الِالْتِفَاتِ هُنَا لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَتَّعُوا [سُورَة النَّحْل: 55] . وَتَصْدِيرُ جُمْلَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالْقَسَمِ لِتَحْقِيقِهِ، إِذِ السُّؤَالُ الْمَوْعُودُ بِهِ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمْ يُنْكِرُونَهُ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤَكَّدَ. وَالْقَسَمُ بِالتَّاءِ يَخْتَصُّ بِمَا يَكُونُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَمْرًا عَجِيبًا وَمُسْتَغْرَبًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [73] . وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [57] . فَالْإِتْيَانُ فِي الْقَسَمِ هُنَا بِحَرْفِ التَّاءِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ سُؤَالًا عَجِيبًا بِمِقْدَارِ غَرَابَةِ الْجُرْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. وَالسُّؤَالُ كِنَايَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ، لِأَنَّ عِقَابَ الْعَادِلِ يَكُونُ فِي الْعُرْفِ عَقِبَ سُؤَالِ الْمُجْرِمِ عَمَّا اقْتَرَفَهُ إِذْ لَعَلَّ لَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ،

[سورة النحل (16) : آية 57]

فَأَجْرَى اللَّهُ أَمرَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ عَلَى ذَلِكَ السَّنَنِ الشَّرِيفِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِ كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعِقَابَ لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ جَرِيمَةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ وَبِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاءَ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَكَانَ مُتَجَدِّدًا وَمُسْتَمِرًّا مِنْهُمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَمَّا تَفْتَرُونَ، وعمّا افتريتم. [57] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 57] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ [سُورَة النَّحْل: 56] . هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَهِيَ نِعْمَةُ النَّسْلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ مَا يَشْتَهُونَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الِامْتِنَانِ ذِكْرُ ضَرْبٍ شَنِيعٍ مِنْ ضُرُوبِ كُفْرِهِمْ. وَهُوَ افْتِرَاؤُهُمْ: أَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سُورَة الصافات: 158] . وَهُوَ اعْتِقَادُ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ. وَالْجَعْلُ: هُنَا النِّسْبَةُ بِالْقَوْلِ. وسُبْحانَهُ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ وَقَعَتْ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا حِكَايَةُ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ إِذِ الْجَعْلُ فِيهِ جعل بالْقَوْل، فَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَاشَ لِلَّهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِك. وَإِنَّا قُدِّمَ سُبْحانَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ لِيَكُونَ نَصًّا فِي أَنَّ التَّنْزِيهَ عَنْ هَذَا الْجَعْلِ لِذَاتِهِ وَهُوَ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ، لَا عَنْ جَعْلِهِمْ لَهُ خُصُوصَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَظَاعَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ

[سورة النحل (16) : الآيات 58 إلى 59]

مَا يَشْتَهُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي التَّفْظِيعِ، فَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التهكّم. وَمَا صدق مَا يَشْتَهُونَ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْبَنَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى [سُورَة النَّحْل: 58] ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ لَهُمْ ذُكُورًا مِنْ أَبْنَائِهِمْ فَهَلَّا جَعَلُوا لِلَّهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِفْسَاد معتقدهم بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ لِلِاسْتِوَاءِ فِي التَّوَلُّدِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْحُدُوثِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ. وَسَيُخَصُّ هَذَا بِالْإِبْطَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [سُورَة النَّحْل: 62] . وَلِهَذَا اقْتُصِرَ هُنَا عَلَى لَفْظِ الْبَنَاتِ الدَّالِّ عَلَى الذَّوَاتِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ الْأَبْنَاءَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَرَجَةٌ أُخْرَى مِنْ كُفْرِهِمْ ستخصّ بالذّكر. [58، 59] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 58 إِلَى 59] وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ اقْتَضَى الْإِطَالَةَ بِهَا أَنَّهَا مِنْ تفاريع شركهم، فَهِيَ لذَلِك جديرة بِأَن تكون مَقْصُودَة بِالذكر كأخواتها. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: 57] الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ قَصْدَهَا بِالْعَدِّ. وَهَذَا الْقَصْدُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ مَآلُ الِاعْتِبَارَيْنِ وَاحِدًا فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى.

وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِعْلَامِ بِازْدِيَادِ الْأُنْثَى بِفِعْلِ بُشِّرَ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ ازْدِيَادُ الْمَوْلُودِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدِ لِمَا يَتَرَقَّبُهُ مِنَ التَّأَنُّسِ بِهِ وَمِزَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِخِدْمَتِهِ وَإِعَانَتِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ نَسْلِ الْقَبِيلَةِ الْمُوجِبِ عِزَّتَهَا، وَآصِرَةِ الصِّهْرِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ بِشَارَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالتَّعْبِيرُ بِهِ يُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ يَعُدُّونَ الْبِشَارَةَ مُصِيبَةً وَذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمُ الْحَقَائِقَ. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ أَقْسَامِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ. وَالْبَاءُ فِي بِالْأُنْثى لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْبِشَارَةِ وَعُلِّقَتْ بِذَاتِ الْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِوِلَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ. وَفِعْلُ ظَلَّ مِنْ أَفْعَالِ الْكَوْنِ أَخَوَاتِ كَانَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ فَاعِلِهَا بِحَالَةٍ لَازِمَةٍ فَلِذَلِكَ تَقْتَضِي فَاعِلًا مَرْفُوعًا يُدْعَى اسْمًا وَحَالًا لَازِمًا لَهُ مَنْصُوبًا يُدْعَى خَبَرًا لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. وَسَمَّاهَا النُّحَاةُ لِذَلِكَ نَوَاسِخَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِيمَا لَوْلَاهَا لَكَانَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَمَّا تَغَيَّرَ مَعَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ سُمِّيَتْ نَاسِخَةً لِرَفْعِهِ، كَمَا سُمِّيَتْ (إِنَّ) وَأَخَوَاتُهَا وَ (ظَنَّ) وَأَخَوَاتُهَا كَذَلِكَ. وَهُوَ اصْطِلَاحٌ تَقْرِيبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَشِيقٍ. وَيُسْتَعْمَلُ ظَلَّ بِمَعْنَى صَارَ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي لَوْنِ وَجْهِ الْكَئِيبِ إِذْ تَرْهَقُهُ غَبَرَةٌ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّوَادِ مُبَالَغَةً. وَالْكَظِيمُ: الْغَضْبَانُ الْمَمْلُوءُ حَنَقًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُوَ كَظِيمٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [84] ، أَيْ أَصْبَحَ حَنِقًا عَلَى امْرَأَتِهِ. وَهَذَا مِنْ جَاهِلِيَّتِهِمُ الْجَهْلَاءِ وَظُلْمِهِمْ، إِذْ يُعَامِلُونَ الْمَرْأَةَ مُعَامَلَةَ مَنْ لَوْ كَانَتْ وِلَادَةُ الذُّكُور باختيارها، وَلماذَا لَا يَحْنَقُ عَلَى نَفْسِهِ إِذْ يُلَقِّحُ امْرَأَتَهُ بِأُنْثَى، قَالَتْ إِحْدَى نِسَائِهِمْ أَنْشَدَهُ الْأَصْمَعِيُّ تَذْكُرُ بَعْلَهَا وَقَدْ هَجَرَهَا لِأَنَّهَا تَلِدُ الْبَنَاتِ:

يَغْضَبُ إِنْ لَمْ نَلِدِ الْبَنِينَا ... وَإِنَّمَا نُعْطِي الَّذِي أُعْطِينَا وَالتَّوَارِي: الِاخْتِفَاءُ، مُضَارِعُ وَارَاهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَرَاءِ وَهُوَ جِهَةُ الْخَلْفِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُفِيدِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [سُورَة الْأَنْعَام: 151] ، أَيْ يَتَوَارَى مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ. وَجُمْلَةُ أَيُمْسِكُهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَوارى، لِأَنَّهُ يَتَوَارَى حَيَاءً مِنَ النَّاسِ فَيَبْقَى مُتَوَارِيًا من قومه أَيَّامًا حَتَّى تُنْسَى قَضِيَّتُهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُمْسِكُهُ إِلَخْ، أَيْ يَتَوَارَى ويتردّد بَيْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: أَأُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنٍ أَمْ أَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ. وَالْمُرَادُ: التَّرَدُّدُ فِي جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ. وَالْهُونُ: الذُّلُّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [93] . وَالدَّسُّ: إِخْفَاءُ الشَّيْءِ بَيْنَ أَجْزَاءِ شَيْءٍ آخَرَ كَالدَّفْنِ. وَالْمُرَادُ: الدَّفْنُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْوَأْدُ. وَكَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ، بَعْضُهُمْ يَئِدُ بِحِدْثَانِ الْوِلَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَئِدُ إِذَا يَفَعَتِ الْأُنْثَى وَمَشَتْ وَتَكَلَّمَتْ، أَيْ حِينَ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا. وَذَلِكَ مِنْ أَفْظَعِ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ وَيَحْسَبُونَهُ حَقًّا لِلْأَبِ فَلَا يُنْكِرُهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى الْفَاعِلِ. وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ حُكْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَأَعْلَنَ ذَمُّهُ بِحَرْفِ أَلا لِأَنَّهُ جَوْرٌ عَظِيمٌ قَدْ تَمَالَأُوا عَلَيْهِ وَخَوَّلُوهُ لِلنَّاسِ ظُلْمًا للمخلوقات، فأسند الحكم إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ جَارِيًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ قَضَاءً لِحَقِّ هَذِه النُّكْتَة.

[سورة النحل (16) : آية 60]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 60] لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى [سُورَة النَّحْل: 58] فَإِن لَهَا ارتباطا بِجُمْلَةِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [سُورَة النَّحْل: 57] كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ، جُمْلَةِ سُبْحانَهُ، غَيْرَ أَنَّ جُمْلَةَ سُبْحانَهُ جَوَابٌ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ جَوَابٌ بِتَحْقِيرِهِمْ عَلَى مَا يُعَامِلُونَ بِهِ الْبَنَاتِ مَعَ نِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ هَذَا الصِّنْفَ الْمُحَقَّرَ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ جَرَى الْجَوَابُ عَلَى اسْتِعْمَال الْعَرَب عِنْد مَا يَسْمَعُونَ كَلَامًا مَكْرُوهًا أَوْ مُنْكَرًا أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاطِقِ بِهِ: بفيك الْحجر، وبفيك الْكَثْكَثُ، وَيَقُولُونَ: تَرِبَتْ يَدَاكَ، وَتَرِبَتْ يَمِينُكَ، وَاخْسَأْ. وَكَذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ شَتْمًا لَهُمْ. وَالْمَثَلُ: الْحَالُ الْعَجِيبَةُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى السُّوءِ لِلْبَيَانِ. وَعُرِّفُوا بِ «الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لِأَنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 22] ، وَقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سُورَة سبأ: 8] . وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ لِأَنَّ بِهَا تَكْمِلَةَ إِفْسَادِ قَوْلِهِمْ وَذَمِّ رَأْيِهِمْ، إِذْ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الِاحْتِيَاجِ وَالْعَجْزِ. وَلَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ ذَلِكَ خَصُّوهُ بِأَخَسِّ الصِّنْفَيْنِ عِنْدَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [سُورَة النَّحْل: 62] ، وَإِنْ لم يكن كَذَلِك فِي الْوَاقِعِ وَلَكِنَّ هَذَا جَرَى عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَمُؤَاخَذَةً لَهُمْ بِرَأْيِهِمْ.

[سورة النحل (16) : آية 61]

وَ (الْأَعْلى) تَفْضِيلٌ، وَحُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فِي الْعُلُوِّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالسَّوْءُ:- بِفَتْحِ السِّينِ- مَصْدَرُ سَاءَهُ، إِذَا عَمِلَ مَعَهُ مَا يَكْرَهُ. وَالسُّوءُ- بِضَمِّ السِّينِ- الِاسْمُ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] . وَالْمَثَلُ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعَانِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [17] . والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَة الْبَقَرَة [209] . [61] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 61] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) هَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ التَّوْبِيخِ عَلَى كُفْرِهِمُ الَّذِي مِنْ شَرَائِعِهِ وَأْدُ الْبَنَاتِ. فَأَمَّا وَصْفُ جَعْلِهِمْ لِلَّهِ الْبَنَاتِ اللَّاتِي يَأْنَفُونَ مِنْهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَوَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حُكْمُ سُوءٍ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِأَنَّهَا مَثَلُ سَوْءٍ، وَعَرَّفَهُمْ بِأَخَصِّ عَقَائِدِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ. وَأَعْظَمُهُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْخَالِقِ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ حَقُّ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الظُّلْمُ فِي الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يُعَدَّ إِلَى مفعول نحولَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سُورَة آل عمرَان: 117] مُرَادًا مِنْهُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَهُوَ الشِّرْكُ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذَا الْإِنْذَارِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَغَيْرُ مُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فَلَا يَقْتَضِي عِقَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى عُمُومِهِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ يُحْمَلُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِمَقَامِ الزَّجْرِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّاسَ مُرَادًا بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ عَادَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ [سُورَة النَّحْل: 55] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ لَفْظُ النَّاسَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَضَمِيرُ عَلَيْها صَادِقٌ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّ الْمَقَامَ دَالٌّ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [سُورَة ص: 32] يَعْنِي الشَّمْسَ، وَيَقُولُونَ: أَصْبَحَتْ بَارِدَةً، يُرِيدُونَ الْغَدَاةَ، وَيَقُولُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحَدٌ يَفْعَلُ كَذَا، يُرِيدُونَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ. وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَمْشِي، وَتَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ ذَاتٍ. وَخُصَّ اسْمُ دَابَّةٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْإِطْلَاقِ عَلَى مَا عَدَا الْإِنْسَانِ مِمَّا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ. وَحَرْفُ لَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ جَوَابِهِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ وُقُوعِ شَرْطِهِ. وَشَرْطُ لَوْ مُلَازِمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ لَوْ مُضَارِعٌ انْصَرَفَ إِلَى الْمَاضِي غَالِبًا. فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُؤَاخِذًا الْخَلْقَ عَلَى شِرْكِهِمْ لَأَفْنَاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَفْنَى الدَّوَابَّ مَعَهُمْ، أَيْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ. وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ شَرْطِ لَوْ هُوَ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا، وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ جَوَابِهَا هُوَ الْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ مَا زَالُوا مَوْجُودِينَ عَلَى الْأَرْضِ. وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ مُؤَاخَذَةِ الظَّالِمِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَبَيْنَ إِفْنَاءِ النَّاسِ غَيْرِ الظَّالِمِينَ وَإِفْنَاءِ الدَّوَابِّ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ لِيَعْبُدُوهُ، أَيْ لِيَعْتَرِفُوا لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سُورَة الذاريات: 56] ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُودَعٌ فِي الْفِطْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [سُورَة الْأَعْرَاف: 172] .

فَنِعْمَةُ الْإِيجَادِ تَقْضِي عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَشْكُرَ مُوجِدَهُ، فَإِذَا جَحَدَ وُجُودَهُ أَوْ جَحَدَ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي وُجِدَ عَلَى شَرْطِهِ، فَاسْتَحَقَّ الْمَحْوَ مِنَ الْوُجُودِ بِالِاسْتِئْصَالِ وَالْإِفْنَاءِ. وَبِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِظُلْمِهِمْ الْإِشْرَاكُ أَوِ التَّعْطِيلُ. وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِك من الاهتداء عَلَى حَقِّ اللَّهِ بِمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، أَوْ عَلَى حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ بِاغْتِصَابِهَا فَهُوَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اعْتِدَاءُ أَحَدٍ عَلَى وُجُودِ إِنْسَانٍ آخَرَ مُحْتَرَمِ الْحَيَاةِ فيعدمه عمدا، لذَلِك جَزَاؤُهُ الْإِفْنَاءُ لِأَنَّهُ أَفْنَى مُمَاثِلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى إِفْنَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمَا دُونُ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ لَهُ عِقَابٌ دُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ غَيْرُ الشِّرْكِ الْإِهْلَاكَ، وَلَكِنْ شَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يُقْصَرَ عَلَى الْجَانِي. فَوَجْهُ اقْتِضَاءِ الْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِفْنَاءُ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَدَوَابِّهِمْ أَنَّ إِهْلَاكَ الظَّالِمِينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحَوَادِثَ عَظِيمَةٍ لَا تَتَحَدَّدُ بِمِسَاحَةِ دِيَارِهِمْ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِهْلَاكِ لَا تَتَحَدَّدُ فِي عَادَةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْإِهْلَاكُ النَّاسَ غَيْرَ الظَّالِمِينَ وَيَتَنَاوَلُ دَوَابَّهُمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الظُّلْمُ، أَيِ الْإِشْرَاكُ لَمْ تَخْلُ مِنْهُ الْأَرْضُ لَزِمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَهْلِ الظُّلْمِ سَرَيَانُ الْإِهْلَاكِ إِلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فَاضْمَحَلَّ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ فَيَأْتِي الْفَنَاءُ فِي قُرُونٍ مُتَوَالِيَةٍ مِنْ زَمَنِ نُوحٍ مَثَلًا، فَلَا يُوجَدُ عَلَى الْأَرْضِ دَابَّةٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ. فَأَمَّا مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ صَالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ لِلصَّالِحِينَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ بِأَحْوَالٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سُورَة الزمر: 61] . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ نَجَّى هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ نَجَّى أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ. وَكَفَاكَ نَجَاةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ فِي السَّفِينَةِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ تَأْخِيرَهُمْ مُتَفَاوِتُ الْآجَالِ، فَفِي مَدَدِ تِلْكَ الْآجَالِ تَبْقَى أَقْوَامٌ كَثِيرَةٌ تَعْمُرُ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَذَلِكَ سَبَبُ بَقَاءِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ حَوْلِهِمْ.

وَاقْتَضَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ دَابَّةٍ إِهْلَاكَ دَوَابِّ النَّاسِ مَعَهُمْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، لَأَنَّ اسْتِئْصَالَ أُمَّةٍ يَشْتَمِلُ عَلَى اسْتِئْصَالِ دَوَابِّهَا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ خُلِقَتْ لِنَفْعِ النَّاسِ فَلَا بِدَعَ أَنْ يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ إِذَا اسْتَأْصَلَ ذَوِيهَا. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ دَابَّةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ظُلْمُ النَّاسِ مُفْضِيًا إِلَى اسْتِئْصَالِ الدَّوَابِّ كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى اسْتِئْصَالِ الظَّالِمِينَ حَاصِلًا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَهَذَا فِي عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الْوَارِدُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [سُورَة الْأَنْفَال: 25] فَذَلِكَ مَنُوطٌ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ، فَاسْتِثْنَاءُ الصَّالِحِينَ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ دَوَالِيبَ كَثِيرَةٍ مِنْ دَوَالِيبِ النِّظَامِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ، وَذَلِكَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْطِيلَهُ لِمَا يَسْتَتْبِعُ تَعْطِيلَهُ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحَ عَظِيمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» ، أَيْ يَكُونُ لِلْمُحْسِنِ الَّذِي أَصَابَهُ الْعَذَابُ تَبَعًا جَزَاءٌ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَنَالُ الْبَرِيءَ هُوَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً عَلَى التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سُورَة الْأَنْعَام: 164] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدَّوَابَّ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اسْتِعْمَالُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا فِيمَا تَصْلُحُ لَهُ ظُلْمًا لَهَا، وَلَا قَتْلُهَا لِأَكْلِهَا ظُلْمًا لَهَا. وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْأَخْذُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَزَاءُ، فَهُوَ أَخْذٌ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهُ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمُنْتَفِيَةَ بِ لَوْ هِيَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ الْمُنَاسِبُ لِلْمُجَازَاةِ، لَأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ فِي الْعُرْفِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ حُصُولِ الذَّنْبِ.

[سورة النحل (16) : آية 62]

وَلِهَذَا جَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا أَنَّهُ تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ. وَالْأَجَلُ: الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِفِعْلٍ مَا. وَالْمُسَمَّى: الْمُعَيَّنُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَعْيِينُ الشَّيْءِ وَتَمْيِيزُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْآجَالِ تَحْدِيدُهَا. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [34] . [62] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 62] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) هَذَا ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ تُخَالِفُ قِصَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [سُورَة النَّحْل: 57] بِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ إِضَافَتِهِمُ الْأَشْيَاءَ الْمَكْرُوهَةَ عِنْدَهُمْ إِلَى اللَّهِ مِمَّا اقْتَضَتْهُ كَرَاهَتُهُمُ الْبَنَاتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: 57] ، فَكَانَ ذَلِكَ الْجَعْلُ يَنْطَوِي عَلَى خَصْلَتَيْنِ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، وَهُمَا: نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِسْبَةُ أَخَسِّ أَصْنَافِ الْأَبْنَاءِ فِي نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ، فَخَصَّتِ الْأُولَى بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَصَّتْ هَذِهِ بِذِكْرِ الْكَرَاهِيَةِ تَصْرِيحًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ مَا يَكْرَهُونَ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ تَفْظِيعُ قَوْلِهِمْ وَتَشْنِيعُ اسْتِئْثَارِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَشْيَاءَ يَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِثْلَ الشَّرِيكِ فِي التَّصَرُّفِ وَأَشْيَاءَ لَا يَرْضَوْنَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَنَسَبُوهَا لِلَّهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: 136] . وَفِي «الْكَشَّافِ» : «يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا» . فَهُوَ مُرَاد من عُمُومِ الْمَوْصُولِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَعَمَّ مِنْ قِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَجِهَةِ زِيَادَةِ أَنْوَاعِ هَذَا الْجَعْلِ. وَجُمْلَةُ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ. وَمَعْنَى تَصِفُ تَذْكُرُ بِشَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، حَتَّى كَأَنَّهَا تَذْكُرُ أَوْصَافَ الشَّيْءِ. وَحَقِيقَةُ الْوَصْفِ: ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْحُلَى. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبِينِ الْمُفَصِّلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: «هَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. جَعَلَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ صَوَّرَتِ الْكَذِبَ بِصُورَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: وَجْهُهَا يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ» اه. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [100] . وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [سُورَة النَّحْل: 116] . وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَعَرِّي: سَرَى بَرَقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ ... فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلَالَا أَيْ يَشْكُو الْإِعْيَاءَ مِنْ قَطْعِ مَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ اسْتِعَارَاتِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ كُلُّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَقْوَالِ خَاصَّتِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ بِاعْتِقَادٍ أَوْ تَهَكُّمٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [سُورَة مَرْيَم: 77] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [سُورَة فصلت: 50] . وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيَّةِ: أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكَيْلَا يُعْيَى. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تَصِفُ. وأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبَ أَوِ الْحُسْنى صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى.

[سورة النحل (16) : آية 63]

وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَحْكِيِّ. وَمَعْنَى لَا جَرَمَ لَا شَكَّ، أَيْ حَقًّا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ. ومُفْرَطُونَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ- فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفْرَطَ، إِذَا بَلَغَ غَايَةَ شَيْءٍ مَا، أَيْ مُفْرِطُونَ فِي الْأَخْذِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدِّدَةً- مِنْ فَرَّطَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً- عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَجْعُولُونَ فَرَطًا- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْمُقَدَّمُ إِلَى الْمَاءِ لِيَسْقِيَ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ سَابِقُونَ إِلَى النَّارِ مُعَجِّلُونَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ اسْتِحْقَاقًا لَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْإِفْرَاطِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ فَبَادَرْنَا بِقِتَالِكُمْ حِينَ نَزَلْتُمْ بِنَا مغيرين علينا. وفيهَا مَعَ ذِكْرِ النَّارِ فِي مُقَابَلَتِهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ نَافِعٍ تَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَ بِهَذَا أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: أَفْرَطَ إِلَى الْمَاءِ إِذَا تقدّم لَهُ. [63] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 63] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الِاعْتِرَاضِيِّ قُصِدَ مِنْهُ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ فِي سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ اسْتَهْوَاهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَالْحَاضِرَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَوَجْهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ لِهَدْيِ النَّاسِ، فَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمَقْصُودِينَ بِالْخَبَرِ لَا إِلَى الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِ الْخَبَرُ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ. وَمَصَبُّ الْقَسَمِ هُوَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ. وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ. وَشَأْنُ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ أَنْ تَقَعَ فِي قَسَمٍ عَلَى مُسْتَغْرَبٍ مَصَبُّ الْقَسَمِ هُنَا هُوَ الْمُفْرَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُم أَعْمَالهم بعد مَا جَاءَهُمْ مِنْ إِرْشَادِ رُسُلِهِمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَرْفِ تَاءِ الْقَسَمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [سُورَة النَّحْل: 56] . وَجُمْلَةُ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفَةٌ على جملَة جَوَاب الْقَسَمِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرْسَلْنَا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَهُمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَهُوَ كَمَالُ التَّنْظِيرِ. وَمِنْهَا الِابْتِدَاعَاتُ الْمُنَافِيَةُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِثْلُ ابْتِدَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي زَيَّنَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. وَجُمْلَةُ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ بِتَمَامِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلتَّنْظِيرِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ وَلِيُّهُمُ عَائِدًا إِلَى الْمُنَظِّرِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَلَا مَانِعَ مِنَ اخْتِلَافٍ مُعَادِي ضَمِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ مَعَ الْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [سُورَة الرّوم: 9] . وَالْمَعْنَى: فَالشَّيْطَانُ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ لَا وَلِيَّ لَهُمُ الْيَوْمَ غَيْرُهُ رَدًّا

[سورة النحل (16) : آية 64]

عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانَ وَلِيَّهُمْ حِينَئِذٍ، وَهُوَ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانٍ مَعْهُودٍ بِعَهْدِ الْحُضُورِ، أَيْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْآنَ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ وِلَايَتِهِ لَهُمْ إِلَى زَمَنِ الْمُتَكَلِّمِ مُطْلَقًا بِدُونِ قَصْدٍ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ. وَأَصْلُهُ: الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [3] . وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي يَوْمٍ مَضَى مُعَرَّفًا بِاللَّامِ إِلَّا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، نَحْوَ: ذَلِكَ الْيَوْمُ، أَوْ مثل: يَوْمئِذٍ. [64] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 64] وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِإِتْمَامِ الْهِدَايَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ فَتُرِكَتْ أَمْثَالُهَا فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. فَلَمَّا ذُكِرَتْ ضَلَالَاتُهُمْ وَشُبْهَاتُهُمْ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، فَالْقُرْآنُ جَاءَ مُبَيِّنًا لِلْمُشْرِكِينَ ضَلَالَهُمْ بَيَانًا لَا يَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ مَسْلَكًا إِلَى النُّفُوسِ، وَمُفْصِحًا عَنِ الْهُدَى إِفْصَاحًا لَا يَتْرُكُ لِلْحِيرَةِ مَجَالًا فِي الْعُقُولِ، وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَازَاهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَعَبَّرَ عَنِ الضَّلَالِ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَالْعَرَبُ اخْتَلَفَتْ ضَلَالَتُهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، عَبَدَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ صَنَمًا، وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الشَّمْسَ وَالْكَوَاكِبَ، وَاتَّخَذَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِنَفْسِهَا أَعْمَالًا يَزْعُمُونَهَا دِينًا صَحِيحًا. وَاخْتَلَفُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الدِّينِ. وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَهَمِّ مِنْ غَايَةِ الْقُرْآنِ وَفَائِدَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا. فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِيَرْغَبَ السَّامِعُونَ فِي تَلَقِّيهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ كُلٌّ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ حَتَّى يَسْتَوُوا فِي الِاهْتِدَاءِ. ثمَّ إِن هَذَا الْقَصْرَ يُعَرِّضُ بِتَفْنِيدِ أَقْوَالِ مَنْ حَسِبُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِذِكْرِ الْقَصَصِ لِتَعْلِيلِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَسْمَارِ وَنَحْوِهَا حَتَّى قَالَ مُضِلُّهُمْ: أَنَا آتِيكُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، آتِيكُمْ بِقصَّة (رستم) و (إسفنديار) . فَالْقُرْآنُ أَهَمُّ مَقَاصِدِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْجَامِعَةُ لِأُصُولِ الْخَيْرِ، وَهِيَ كَشْفُ الْجَهَالَاتِ وَالْهُدَى إِلَى الْمَعَارِفِ الْحَقِّ وَحُصُولُ أَثَرِ ذَيْنَكِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مُجَانَبَةِ الضَّلَالِ وَإِتْبَاعِ الْهُدَى. وَأُدْخِلَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنَ» الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ لَا مِنْ فِعْلِ فَاعِلِ أَنْزَلْنا، فَالنَّبِيءُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْبَيَانِ بِالْقُرْآنِ تَبْلِيغًا وَتَفْسِيرًا. فَلَا يَصِحُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِالتَّبْيِينِ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ إِذْ لَيْسَ مُتَّحِدًا مَعَ الْعَامِلِ فِي الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ فِي الْمَعْطُوفِ فَنُصِبَ هُدىً وَرَحْمَةً لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ، فَاللَّهُ هُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ بِالْقُرْآنِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ حَاصِلٌ بِالْقُرْآنِ فَآلَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ لِلْقُرْآنِ أَيْضًا.

[سورة النحل (16) : آية 65]

وَالتَّعْبِيرُ بِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِلَّذِينَ آمَنُوا، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ الْإِيمَانُ كَالسَّجِيَّةِ لَهُمْ وَالْعَادَةُ الرَّاسِخَةُ الَّتِي تَتَقَوَّمُ بِهَا قَوْمِيَّتُهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَهَاتِهِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْعِبَرِ وَالْحُجَجِ النَّاشِئَةِ عَنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنِعَمِ الْخَالِقِ عَلَى النَّاسِ الْمُبْتَدِئَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: 17] . [65] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 65] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) انْتَهَى الْكَلَامُ الْمُعْتَرَضُ بِهِ وَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى دَلَائِلِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ مَعَ مَا أُدْمِجَ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ. فَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ وَعِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ وَحُجَّةٌ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَالِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ صُنْعِهِ. عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَعْدَادِ نِعَمٍ جَمَّةٍ وَمَعَهَا مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ أَيْضًا جَمْعًا عَجِيبًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَوَصْلًا لِلْكَلَامِ الْمُفَارِقِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سُورَة النَّحْل: 16] ، كَمَا عَلِمْتَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَكَانَ ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَاءِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَسُوقًا مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ هُنَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَالَفَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ النِّعْمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ [سُورَة النَّحْل: 10] بِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِيِّ، فَهُوَ هُنَا لَك الِاسْتِدْلَالُ بِتَكْوِينِ الْمَاءِ وَهُنَا الِامْتِنَانُ. وَبِنَاءُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ

مِنْ شَيْءٍ [سُورَة الرّوم: 40] . وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الْإِضْمَارِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِالْخَبَرِ إِذِ افْتُتِحَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ الْعَلَمِ أَوْضَحُ وَأَصْرَحُ. فَهُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ تَحْقِيقِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَمَوْتُهَا ضِدُّ ذَلِكَ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (أَحْيَا) إِلَى الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي آيَةِ نزُول الْمَطَر هُنَا لَك. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِذَلِكَ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ يُنْكِرُونَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا دَلَالَتَهُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ يُنْكِرُونَ صَلَاحِيَةَ ذَلِكَ لِلِاسْتِدْلَالِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِيَكُونَ مَحَلُّ الْآيَةِ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِهِ وَمَوْتِهَا مِنْ قَبْلِ الْإِحْيَاءِ. وَالْكَلَامُ فِي «قَوْمٍ يَسْمَعُونَ» كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سُورَة النَّحْل: 64] . وَالسَّمْعُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ سَمَاعُ التَّدَبُّرِ وَالْإِنْصَافِ لِمَا تَدَبَّرُوا بِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ السَّمْعِ هُنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْصَافُ وَالِامْتِثَالُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَطَرِ وَحَيَاةَ الْأَرْضِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرَةٌ لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا المكابرة.

[سورة النحل (16) : آية 66]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 66] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى وَمِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَنَافِعِ خَلْقِ الْأَنْعَامِ، أُدْمِجَ فِي مِنَّتِهَا الْعِبْرَةُ بِمَا فِي دَلَالَتِهَا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْله: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سُورَة النَّحْل: 5- 7] . وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُنَا أَنَّ بِأَلْبَانِ الْأَنْعَامِ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ كَمَا تَحْيَا الْأَرْضُ بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ لِآثَارِ مَاءِ السَّمَاءِ أَثَرًا فِي تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانِ بِالْمَرْعَى. وَاخْتَصَّتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بِمَا تُنَبِّهُ إِلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ الْأَلْبَانِ بِقَوْلِهِ: مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلْعِبْرَةِ بِالْمِنَّةِ. فَجُمْلَةُ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سُورَة النَّحْل: 65] ، أَيْ كَمَا كَانَ الْقَوْم يَسْمَعُونَ عِبْرَةٌ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ عِبْرَةٌ أَيْضًا، إِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَتَوْكِيدُهَا بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ كَتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. والْأَنْعامِ: اسْمُ جَمْعٍ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِ أَصْنَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ. وَالْعِبْرَةُ: مَا يُتَّعَظُ بِهِ وَيُعْتَبَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نِهَايَةِ سُورَةِ يُوسُفَ. وَجُمْلَةُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً. وَالْبُطُونُ: جَمْعُ بَطْنٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَوْفِ الْحَاوِيَةِ لِلْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ كُلِّهِ مِنْ مَعِدَةٍ وَكَبِدٍ وَأَمْعَاءَ.

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يُفْرَزُ عَنِ الْعَلَفِ الَّذِي فِي الْبُطُون. وَمَا صدق «مَا فِي بُطُونِهِ» الْعَلَفُ. وَيَجُوزُ جَعْلُهَا تَبْعِيضِيَّةً وَيكون مَا صدق «مَا فِي بُطُونِهِ» هُوَ اللَّبَنُ اعْتِدَادًا بِحَالَةِ مُرُورِهِ فِي دَاخِلِ الْأَجْهِزَةِ الْهَضْمِيَّةِ قَبْلَ انْحِدَارِهِ فِي الضَّرْعِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّوَسُّطِ، أَيْ يُفْرَزُ فِي حَالَةٍ بَيْنَ حَالَتَيِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِ نُسْقِيكُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: تَشْرَبُونَ أَوْ نَحْوُهُ، إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ مَعَ الْعِبْرَةِ. وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَوِيهِ بُطُونُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْعَلَفِ وَالْمَرْعَى يَنْقَلِبُ بِالْهَضْمِ فِي الْمَعِدَةِ، ثُمَّ الْكَبِدِ، ثُمَّ غُدَدِ الضَّرْعِ، مَائِعًا يُسْقَى وَهُوَ مُفْرَزٌ مِنْ بَيْنِ إِفْرَازِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَالْفَرْثُ: الْفَضَلَاتُ الَّتِي تَرَكَهَا الْهَضْمُ الْمُعْدِي فَتَنْحَدِرُ إِلَى الْأَمْعَاءِ فَتَصِيرُ فَرْثًا. وَالدَّمُ: إِفْرَازٌ تَفْرِزُهُ الْكَبِدُ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُنْحَدِرِ إِلَيْهَا وَيَصْعَدُ إِلَى الْقَلْبِ فَتَدْفَعُهُ حَرَكَة الْقلب الميكانيكية إِلَى الشَّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ وَيَبْقَى يَدُورُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [3] . وَمَعْنَى كَونِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَنَّهُ إِفْرَازٌ حَاصِلٌ فِي حِينِ إِفْرَازِ الدَّمِ وَإِفْرَازِ الْفَرْثِ. وَعَلَاقَتُهُ بِالْفَرْثِ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْحَدِرُ فِي عُرُوقِ الضَّرع يمرّ بجوار الْفَضَلَاتِ الْبَوْلِيَّةِ وَالثُّفْلِيَّةِ، فَتُفْرِزُهُ غُدَدُ الضَّرْعِ لَبَنًا كَمَا تُفْرِزُهُ غُدَدُ الْكُلْيَتَيْنِ بَوْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ زَائِدَةٍ، وَكَمَا تُفْرِزُ تَكَامِيشُ الْأَمْعَاءِ ثُفْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ بِخِلَافِ إِفْرَازِ غُدَدِ الْمَثَانَةِ لِلْمَنِيِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُعَالَجَةٍ يَنْحَدِرُ بِهَا الدَّمُ إِلَيْهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّبَنَ يَتَمَيَّعُ مِنْ بَيْنِ طَبَقَتَيْ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْهَمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ حَمْلُهُ بَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ

تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُرَادُ بِهَا الْوَسَطُ بَيْنَ مَرْتَبَتَيْنِ كَقَوْلِهِمُ: الشَّجَاعَةُ صِفَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ. فَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّعْبِيرُ الْقَرِيبُ لِلْأَفْهَامِ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ بِحَسَبِ مَبَالِغِ عِلْمِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ. وَالْمَعْنَى: إِفْرَازٌ لَيْسَ هُوَ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَلْيَنُ مِنَ الدَّمِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي لُزُومِ إِفْرَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْفَضْلَةِ لِأَنَّهُ إِفْرَازٌ طَاهِرٌ نَافِعٌ مُغَذٍّ، وَلَيْسَ قَذَرًا ضَارًّا غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كَالْبَوْلِ وَالثُّفْلِ. وَمَوْقِعُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِ لَبَناً، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ، فَكَانَ لَهَا مَزِيدُ اهْتِمَامٍ، وَقَدْ صَارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حَالًا. وَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِ نُسْقِيكُمْ، وَجُعِلَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لَا لِمَوْرِدِهِ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمَّا فِي الْبُطُونِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الذِّكْرِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ وَلَيْسَ وَصْفًا لِلَّبَنِ. وَقَدْ أَحَاطَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ. فَخُلُوصُهُ نَزَاهَتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَالثُّفْلُ، وَسَوْغُهُ لِلشَّارِبِينَ سَلَامَتُهُ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ الْمَضَارِّ لِمَنْ شَرِبَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُسِيغُهُ الشَّارِبُ وَيَتَجَهَّمُهُ. وَهَذَا الْوَصْفُ الْعَجِيبُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ، إِذْ هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَعْرِفَ دَقَائِقَ تَكْوِينِهِ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَصْفِهِ بِمَا لَوْ وَصَفَ بِهِ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَعِ. وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَقَدْ يُرَاعَى

[سورة النحل (16) : آية 67]

اللَّفْظُ فَيَأْتِي ضَمِيرُهُ مُفْرَدًا، وَقَدْ يُرَاعَى مَعْنَاهُ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجُمُوعِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [21] نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها. وَالْخَالِصُ: الْمُجَرَّدُ مِمَّا يُكَدِّرُ صَفَاءَهُ، فَهُوَ الصَّافِي. وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ الْمُرُورِ فِي الْحَلْقِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ نُسْقِيكُمْ- بِفَتْحِ النُّونِ- مُضَارِعُ سَقَى. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَسْقَى، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ عِوَضًا عَنِ النُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِير للأنعام. [67] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 67] وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [سُورَة النَّحْل: 66] . وَوُجُودُ مِنْ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ نُسْقِيكُمْ [النَّحْل: 66] . فَالتَّقْدِيرُ: وَنَسْقِيكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ تَتَّخِذُونَ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ (مِنْ) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِ تَعَلُّقِ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ بِ تَتَّخِذُونَ، فَإِنَّ نُظُمَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِ تَتَّخِذُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ الْمَعْنَى عَنْ الِامْتِنَانِ بِلُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ السَّاقِي لِلنَّاسِ. وَهَذَا عَطْفٌ مِنْهُ عَلَى مِنَّةٍ، لِأَنَّ نُسْقِيكُمْ وَقَعَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً. وَمُفَادُ فِعْلِ نُسْقِيكُمْ مُفَادُ الِامْتِنَانِ لِأَنَّ السَّقْيَ مَزِيَّةٌ. وَكِلْتَا الْعِبْرَتَيْنِ فِي السَّقْيِ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا مَاءٌ وَأَنَّ كِلْتَيْهِمَا يُضْغَطُ بِالْيَدِ، وَقَدْ أَطْلَقَ

الْعَرَبُ الْحَلْبَ عَلَى عَصِيرِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، قَالَ حَسَّانٌ يَذْكُرُ الْخَمْرَ الْمَمْزُوجَةَ وَالْخَالِصَةَ: كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمَفْصِلِ وَيُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِمَا عِبْرَتَيْنِ مِنْ نَوْعٍ مُتَقَارِبٍ جَعْلُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً عَقِبَ ذِكْرِ السَّقْيَيْنِ دُونَ أَنْ يُذَيِّلَ سَقْيَ الْأَلْبَانِ بِكَوْنِهِ آيَةً، فَالْعِبْرَةُ فِي خلق تِلْكَ الثِّمَارِ صَالِحَةً لِلْعَصْرِ وَالِاخْتِمَارِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى مَنَافِعَ لِلنَّاسِ وَلَذَّاتٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ وَالثَّمَرَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ [سُورَة النَّحْل: 11] الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَ (مِنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ الْمُقَدَّرِ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تَتَّخِذُونَ. وَلَيْسَتِ الثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةً، لِأَنَّ السَّكَرَ لَيْسَ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ، فَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ يَنْتَظِمُ كِلَا الْحَرْفَيْنِ. وَالسَّكَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الشَّرَابُ الْمُسْكِرُ. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِمَا فِيهِ لَذَّتُهُمُ الْمَرْغُوبَةُ لَدَيْهِمْ وَالْمُتَفَشِّيَةُ فِيهِمْ (وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ) فَالِامْتِنَانُ حِينَئِذٍ بِمُبَاحٍ. وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَوُصِفَ بِ حَسَناً لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ لِأَنَّهُمَا حُلْوَانِ لَذِيذَانِ يُؤْكَلَانِ رَطْبَيْنِ وَيَابِسَيْنِ قَابِلَانِ لِلِادِّخَارِ، وَمِنْ أَحْوَالِ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَرُبًّا. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.

[سورة النحل (16) : الآيات 68 إلى 69]

وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ آنِفًا: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سُورَة النَّحْل: 65] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِعْمَةِ سَقْيِ الْأَلْبَانِ وَسَقْيِ السَّكَرِ وَطُعْمِ الثَّمَرِ. وَاخْتِيرَ وَصْفُ الْعَقْلِ هُنَا لِأَنَّ دَلَالَةَ تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْأَنْعَامِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ فِيمَا وَصَفَتْهُ الْآيَةُ هُنَا، وَلَيْسَ هُوَ بِبَدِيهِيٍّ كَدَلَالَةِ الْمَطَرِ كَمَا تقدم. [68، 69] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 68 إِلَى 69] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَمِنَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ. وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الِاعْتِبَارِ لِمَا فِي هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ تَنْبِيهٍ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَوْدَعَ فِي خِلْقَةِ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ هَذِهِ الصَّنْعَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَنْعَامِ أَلْبَانَهَا وَأَوْدَعَ فِي ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ شَرَابًا، وَكَانَ مَا فِي بُطُونِ النَّحْلِ وَسَطًا بَيْنَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي قَلْبِ الثِّمَارِ، فَإِنَّ النَّحْلَ يَمْتَصُّ مَا فِي الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْوَارِ مِنَ الْمَوَادِّ السُّكَّرِيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَسَلًا كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ خُلَاصَةِ الْمَرْعَى. وَفِيهِ عِبْرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي ذُبَابَةِ النَّحْلِ إِدْرَاكًا لِصُنْعٍ مُحْكَمٍ مَضْبُوطٍ مُنْتِجٍ شَرَابًا نَافِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَلْبِ الْحَالِبِ. فَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِفِعْلِ أَوْحى دُونَ أَنْ تُفْتَتَحَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلُ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: 65] ، لِمَا فِي أَوْحى مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى إِلْهَامِ تِلْكَ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ تَدْبِيرًا عَجِيبًا وَعَمَلًا مُتْقَنًا وَهَنْدَسَةً فِي الْجِبِلَّةِ.

فَكَانَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ فِي ذَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَّةً مِنْهُ. وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ وَالْإِشَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى كَلَامِيٍّ. وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا يُلْقِيهِ الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ وَحْيًا لِأَنَّهُ خَفِيٌّ عَنْ أَسْمَاعِ النَّاسِ. وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ هُنَا عَلَى التَّكْوِينِ الْخَفِيِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبِيعَةِ النَّحْلِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ إِلَى عَمَلٍ مُنَظَّمٍ مُرَتَّبٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ آحَادُهَا تَشْبِيهًا لِلْإِلْهَامِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الشَّبِيهَ بِعَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ، أَوِ الْمُؤْتَمَرِ بِإِرْشَادِ الْآمِرِ، الَّذِي تَلَقَّاهُ سِرًّا، فَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ. والنَّحْلِ: اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، وَاحِدُهُ نَحْلَةٌ، وَهُوَ ذُبَابٌ لَهُ جِرْمٌ بِقَدْرِ ضِعْفَيْ جِرْمِ الذُّبَابِ الْمُتَعَارَفِ، وَأَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَلَوْنُ بَطْنِهِ أَسْمَرُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَفِي خُرْطُومِهِ شَوْكَةٌ دَقِيقَةٌ كَالشَّوْكَةِ الَّتِي فِي ثَمَرَةِ التِّينِ الْبَرْبَرِيِّ (الْمُسَمَّى بِالْهِنْدِيِّ) مُخْتَفِيَةٌ تَحْتَ خُرْطُومِهِ يَلْسَعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَتَسُمَّ الْمَوْضِعَ سُمًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا انْفَصَلَتْ شَوْكَتُهَا تَمُوتُ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَخُنْثَى، فَالذُّكُورُ هِيَ الَّتِي تَحْرُسُ بُيُوتَهَا وَلِذَلِكَ تَكُونُ مُحَوِّمَةً بِالطَّيَرَانِ وَالدَّوِيِّ أَمَامَ الْبَيْتِ وَهِيَ تُلَقِّحُ الْإِنَاثَ لَقَاحًا بِهِ تَلِدُ الْإِنَاثُ إِنَاثًا. وَالْإِنَاثُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَعَاسِيبَ، وَهِيَ أَضْخَمُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ. وَلَا تَكُونُ الَّتِي تَلِدُ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أُنْثَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَلِدُ بِدُونِ لِقَاحِ ذَكَرٍ وَلَكِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَلِدُ إِلَّا ذُكُورًا فَلَيْسَ فِي أَفْرَاخِهَا فَائِدَةٌ لِإِنْتَاجِ الْوَالِدَاتِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَهِيَ الَّتِي تُفْرِزُ الْعَسَلَ، وَهِيَ الْعَوَاسِلُ، وَهِيَ أَصْغَرُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ وَهِيَ مُعْظَمُ سُكَّانِ بَيْتِ النَّحْلِ.

وَ (أَن) تَفْسِيرِيَّةٌ، وَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، لِأَنَّ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةَ مِنْ رَوَادِفِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَاتِّخَاذُ الْبُيُوتِ هُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الصُّنْعِ الدَّقِيقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبَائِعِ النَّحْلِ فَإِنَّهَا تَبْنِي بُيُوتًا بِنِظَامٍ دَقِيقٍ، ثُمَّ تُقَسِّمُ أَجْزَاءَهَا أَقْسَامًا مُتَسَاوِيَةً بِأَشْكَالٍ مُسَدَّسَةِ الْأَضْلَاعِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا فَرَاغٌ تَنْسَابُ مِنْهُ الْحَشَرَاتُ، لِأَنَّ خَصَائِصَ الْأَشْكَالِ الْمُسَدَّسَةِ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَنْ تَتَّصِلَ فَتَصِيرُ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْأَشْكَالِ مِنَ الْمُثَلَّثِ إِلَى الْمُعَشَّرِ إِذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهِ لَمْ تَتَّصِلْ وَحَصَلَتْ بَيْنَهَا فُرَجٌ، ثُمَّ تَغُشِّي عَلَى سُطُوحِ الْمُسَدَّسَاتِ بِمَادَّةِ الشَّمْعِ، وَهُوَ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ مُتَمَيِّعَةٌ أَقْرَبُ إِلَى الْجُمُودِ، تَتَكَوَّنُ فِي كِيسٍ دَقِيقٍ جدا تَحت حَلقَة بَطْنِ النَّحْلَةِ الْعَامِلَةِ فَتَرْفَعُهُ النَّحْلَةُ بِأَرْجُلِهَا إِلَى فَمِهَا وَتَمْضُغُهُ وَتَضَعُ بَعْضَهُ لَصْقَ بَعْضٍ لِبِنَاءِ الْمُسَدَّسِ الْمُسَمَّى بِالشَّهْدِ لِتَمْنَعَ تَسَرُّبَ الْعَسَلِ مِنْهَا. وَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ النَّحْلِ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ اكْتُفِيَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالتَّذْكِيرِ بِهَا. وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا تُتَّخَذُ فِي أَحْسَنِ الْبِقَاعِ مِنَ الْجِبَالِ أَوِ الشَّجَرِ أَوِ الْعَرْشِ دُونَ بُيُوتِ الْحَشَرَاتِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِشَرَفِهَا بِمَا تَحْتَوِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهَا: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [سُورَة الْعَنْكَبُوتِ: 41] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِبَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] . ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجِبالِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِمَعْنَى (فِي) ، وَأَصْلُهَا مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا دُونَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّحْلَ تَبْنِي لِنَفْسِهَا بُيُوتًا وَلَا تَجْعَلُ بُيُوتَهَا جُحُورَ الْجِبَالِ وَلَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ وَلَا أَعْوَادَ الْعَرِيشِ

وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سُورَة الْبَقَرَة: 125] . وَلَيْسَتْ مِثْلَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [سُورَة النَّحْل: 81] . وَ «مَا يَعْرِشُونَ» أَيْ مَا يَجْعَلُونَهُ عروشا، جمع عرش، وَهُوَ مَجْلِسٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْحَائِطِ أَوِ الْحَقْلِ يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُسَقَّفُ أَعْلَاهُ بِوَرَقٍ وَنَحْوِهِ لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ فَيَجْلِسُ فِيهِ صَاحِبُهُ مُشْرِفًا عَلَى مَا حَوْلَهُ. يُقَالُ: عَرَّشَ، إِذَا بَنَى وَرَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّرِيرُ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ عَرْشًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [141] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [137] . وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- بِكَسْرِ رَاءِ- يَعْرِشُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّهَا-. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، لِأَنَّ إِلْهَامَ النَّحْلِ لِلْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَكَوُّنُ الْعَسَلِ فِي بُطُونِهَا، وَذَلِكَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ اتِّخَاذِهَا الْبُيُوتَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَسَلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَبْنِي الْبُيُوتَ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَائِدَةً لِلْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ مِنْهُ قُوتَهَا الَّذِي بِهِ بَقَاؤُهَا. وَسُمِّيَ امْتِصَاصُهَا أَكْلًا لِأَنَّهَا تَقْتَاتَهُ فَلَيْسَ هُوَ بِشُرْبٍ. والثَّمَراتِ: جَمْعُ ثَمَرَةٍ. وَأَصْلُ الثَّمَرَةِ مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ غَلَّةٍ، مِثْلُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالنَّحْلُ يَمْتَصُّ مِنَ الْأَزْهَارِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ ثَمَرَاتٍ، فَأُطْلِقَ الثَّمَراتِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَزْهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَاسْلُكِي بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طَبْعِ النَّحْلِ عِنْدَ الرَّعْيِ التَّنَقُّلَ مِنْ زَهْرَةٍ إِلَى زَهْرَةٍ وَمِنْ رَوْضَةٍ إِلَى رَوْضَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ زَهْرَةً أَبْعَدَتْ الِانْتِجَاعَ ثُمَّ إِذَا شَبِعَتْ قَصَدَتِ الْمُبَادَرَةَ بِالطَّيَرَانِ عَقِبَ الشِّبَعِ لِتَرْجِعَ إِلَى بُيُوتِهَا فَتَقْذِفُ مِنْ بُطُونِهَا الْعَسَلَ الَّذِي يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهَا، فَذَلِكَ السُّلُوكُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَبِيعَةِ أَكْلِهَا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَزْهَارِ وَلِلثِّمَارِ غُدَدًا دَقِيقَةً تَفْرِزُ سَائِلًا سُكَّرِيًّا تَمْتَصُّهُ النَّحْلُ وَتَمْلَأُ بِهِ مَا هُوَ كَالْحَوَاصِلِ فِي بُطُونِهَا وَهُوَ يَزْدَادُ حَلَاوَةً فِي بُطُونِ النَّحْلِ بِاخْتِلَاطِهِ بِمَوَادٍّ كِيمْيَائِيَّةٍ مُودَعَةٍ فِي بُطُونِ النَّحْلِ، فَإِذَا رَاحَتْ مِنْ مَرْعَاهَا إِلَى بُيُوتِهَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَفْوَاهِهَا مَا حَصَلَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جِسْمُهَا مَا يَحْتَاجُهُ لِقُوتِهِ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ اجْتِرَارَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ. فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ. وَالْعَسَلُ حِينَ الْقَذْفِ بِهِ فِي خَلَايَا الشَّهْدِ يَكُونُ مَائِعًا رَقِيقًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي جَفَافِ مَا فِيهِ مِنْ رُطُوبَةِ مِيَاهِ الْأَزْهَارِ بِسَبَبِ حَرَارَةِ الشَّمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُ الشَّهْدُ وَحَرَارَةِ بَيْتِ النَّحْلِ حَتَّى يصير خائرا، وَيَكُونُ أَبْيَضَ فِي الرَّبِيعِ وَأَسْمَرَ فِي الصَّيْفِ. وَالسُّلُوكُ: الْمُرُورُ وَسَطَ الشَّيْءِ مِنْ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [12] . وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ مُتَعَدِّيًا كَمَا فِي آيَةِ الْحِجْرِ بِمَعْنَى أَسْلُكُهُ، وَقَاصِرًا بِمَعْنَى مَرَّ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ السُّبُلَ لَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَ (سَلَكَ) الْمُتَعَدِّي، فَانْتِصَابُ سُبُلَ هُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ تَوَسُّعًا. وَإِضَافَةُ السُّبُلِ إِلَى رَبِّكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّحْلَ مُسَخَّرَةٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ السُّبُلِ لَا يَعْدِلُهَا عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَسْلُكْهَا لَاخْتَلَّ نِظَامُ إِفْرَازِ الْعَسَلِ مِنْهَا. وذُلُلًا جَمْعُ ذَلُولٍ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ السُّلُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [71] . وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِلْهَامِ النَّحْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يَخْرُجُ مِنْ

بُطُونِها شَرابٌ بَيَانًا لِمَا سَأَلَ عَنْهُ. وَهُوَ أَيْضًا مَوْضِعُ الْمِنَّةِ كَمَا كَانَ تَمَامَ الْعِبْرَةِ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْخُرُوجِ وَتَكَرُّرِهِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْعَسَلِ بِاسْمِ الشَّرَابِ دُونَ الْعَسَل لما يومىء إِلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ مِنْ مَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ، وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. وَسُمِّيَ شَرَابًا لِأَنَّهُ مَائِعٌ يُشْرَبُ شُرْبًا وَلَا يُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّرَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ فِي أَوَائِلِ هَذِه السُّورَة [النَّحْل: 10] . وَوَصْفُهُ بِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْعِبْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سُورَة الرَّعْد: 4] ، فَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَدَقِيقِ الْحِكْمَةِ. وَفِي الْعَسَلِ خَوَاصٌّ كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الطِّبِّ. وَجُعِلَ الشِّفَاءُ مَظْرُوفًا فِي الْعَسَلِ عَلَى وَجْهِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ مُلَابَسَةِ الشِّفَاءِ إِيَّاهُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَطَّرِدَ الشِّفَاءُ بِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْزِجَةِ، أَوْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْأَمْزِجَةِ عَوَارِضُ تَصِيرُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لَهَا شُرْبُ الْعَسَلِ. فَالظَّرْفِيَّةُ تَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَخَلُّفِ الْمَظْرُوفِ عَنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الْمَظْرُوفِ غَالِبًا. شَبَّهَ تَخَلُّفَ الْمُقَارَنَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِقِلَّةِ كَمِّيَّةِ الْمَظْرُوفِ عَنْ سِعَةِ الظَّرْفِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الظُّرُوفِ وَمَظْرُوفَاتِهَا، وَبِذَلِكَ يَبْقَى تَعْرِيفُ «النَّاسِ» عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا التَّخَلُّفُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ، وَلَوْلَا الْعَارِضُ لَكَانَتِ الْأَمْزِجَةُ كُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِالْعَسَلِ. وَتَنْكِيرُ شِفاءٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، كَمَا أَنَّ مُفَادَ (فِي) مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ. وَعُمُومُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلنَّاسِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بَلْ لَفْظُ (النَّاسِ) عُمُومُهُ بَدَلِيٌّ. وَالشِّفَاءُ ثَابِتٌ لِلْعَسَلِ فِي

أَفْرَادِ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَاجَاتِ الْأَمْزِجَةِ إِلَى الِاسْتِشْفَاءِ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَحْمَلُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا. ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا قَالَ: اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلا فبرىء» . إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُودِهِ فِي الْعَسَلِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مِزَاجَ أَخِي السَّائِلِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مُعَارِضُ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ، فَإِنَّ خَبَرَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْعَسَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بَاقٍ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ. وَمِنْ لَطِيفِ النَّوَادِرِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْلِ فِي الْآيَةِ عَلِيٌّ وَآلِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ: إِنَّمَا النَّحْلُ بَنُو هَاشِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهِمُ الْعِلْمُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَعَلَ اللَّهُ طَعَامك وشرابك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم، فَضَحِك الْمهْدي وحدّث بِهِ الْمَنْصُور فاتّخذوه أُضْحُوكَةً مِنْ أَضَاحِيكِهِمْ. قُلْتُ: الرَّجُلُ الَّذِي أَجَابَ الرَّافِضِيَّ هُوَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ بِشَّارٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مِثْلُ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُمَاثِلَتَيْنِ لَهَا. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَاخْتِيرَ وَصْفُ التَّفَكُّرِ هُنَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَتْهُ الْآيَةُ فِي نِظَامِ النَّحْلِ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ دَقِيقٍ، وَنظر عميق.

[سورة النحل (16) : آية 70]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 70] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِدَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْخَلْقِ التَّصَرُّفَ الْغَالِبَ لَهُمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، عَلَى انْفِرَادِهِ بِرُبُوبِيَّتِهِمْ، وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُهَا بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ فَهُوَ خَلَقَهُمْ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاهُمْ كَرْهًا عَلَيْهِمْ أَوْ يَرُدُّهُمْ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُونَهَا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدًّا لِذَلِكَ وَلَا خَلَاصًا مِنْهُ، وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ بِأَوْضَحِ مَظْهَرٍ. وَابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [سُورَة النَّحْل: 65] . وَأَمَّا إِعَادَةُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا دُونَ الْإِضْمَارِ فَلِأَنَّ مَقَامَ الِاسْتِدْلَالِ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ اسْمِ الْمُسْتَدَلِّ- بِفَتْحِ الدَّالِ- عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ تَصْرِيحًا وَاضِحًا. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلِيًّا لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ: أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً. فَهَذِهِ عِبْرَةٌ وَهِيَ أَيْضًا مِنَّةٌ، لِأَنَّ الْخَلْقَ وَهُوَ الْإِيجَادُ نِعْمَةٌ لِشَرَفِ الْوُجُودِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي التَّوَفِّي أَيْضًا نِعَمٌ عَلَى الْمُتَوَفِّي لِأَنَّ بِهِ تَنْدَفِعُ آلَامُ الْهَرَمِ، وَنِعَمٌ عَلَى نَوْعِهِ إِذْ بِهِ يَنْتَظِمُ حَالُ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْبَاقِينَ بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ قَبْلَهُمْ، هَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ الْغَالِبِ فَرْدًا وَنَوْعًا، وَاللَّهُ يَخُصُّ بِنِعْمَتِهِ وَبِمِقْدَارِهَا مَنْ يَشَاءُ. وَلَمَّا قوبل «ثمَّ توفّاكم» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ فِي إِبَّانِ الْوَفَاةِ، وَهُوَ السِّنُّ الْمُعْتَادَةُ الْغَالِبَةُ لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ نَادِرٌ. وَالْأَرْذَلُ: تَفْضِيلٌ فِي الرَّذَالَةِ، وَهِيَ الرَّدَاءَةُ فِي صِفَاتِ الِاسْتِيَاءِ.

والْعُمُرِ: مُدَّةُ الْبَقَاءِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُمُرِ، وَهُوَ شَغْلُ الْمَكَانِ، أَيْ عُمُرَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها [سُورَة الرّوم: 9] . فَإِضَافَةُ أَرْذَلِ إِلَى الْعُمُرِ الَّتِي هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأَرْذَلِ حَقِيقَةً هُوَ حَالُ الْإِنْسَانِ فِي عُمُرِهِ لَا نَفْسَ الْعُمُرِ. فَأَرْذَلُ الْعُمُرِ هُوَ حَالُ هَرَمِ الْبَدَنِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ، وَهُوَ حَالٌ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ. وَأَمَّا نَفْسُ مُدَّةِ الْعُمُرِ فَهِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِرَذَالَةٍ وَلَا شَرَفٍ. وَالْهَرَمُ لَا يَنْضَبِطُ حُصُولُهُ بِعَدَدٍ مِنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ والبلدان وَالصِّحَّة والاعتدال عَلَى تَفَاوُتِ الْأَمْزِجَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَهَذِهِ الرَّذَالَةُ رَذَالَةٌ فِي الصِّحَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِحَالَةِ النَّفْسِ، فَهِيَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَتُسَمَّى أَرْذَلَ الْعُمُرِ فِيهِمَا، وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَلَامُ التَّعْلِيلِ الدَّاخِلَةُ عَلَى (كَيْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ تَشْبِيهًا لِلصَّيْرُورَةِ بِالْعِلَّةِ اسْتِعَارَةً تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا غَايَةَ لِلْمَرْءِ فِي ذَلِكَ التَّعْمِيرِ تَعْرِيضًا بِالنَّاسِ، إِذْ يَرْغَبُونَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِقْصَارِ مِنْ تِلْكَ الرَّغْبَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِيَصِيرَ غَيْرَ قَابِلٍ لِعِلْمِ مَا لَمْ يُعلمهُ لِأَنَّهُ يبطىء قَبُولَهُ لِلْعِلْمِ. وَرُبَّمَا لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَتَلَقَّاهُ ثُمَّ يُسْرِعُ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ. وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ حَالَةَ انْحِطَاطِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَبِيهًا بِالْعَجْمَاوَاتِ. وَاسْتِعَارَةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى مَعْنَى الْعَاقِبَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّخْطِئَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: [178] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ قَرِيبًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [55] . وَتَنْكِيرُ عِلْمٍ تَنْكِيرُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ، أَيْ لِيَزُولَ مِنْهُ قَبُولُ الْعِلْمِ.

[سورة النحل (16) : آية 71]

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِظَمِ عِلْمِهِ. وَقُدِّمَ وَصْفُ الْعَلِيمِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ، وَبِمِقْدَارِ سِعَةِ الْعِلْمِ يَكُونُ عِظَمُ الْقُدْرَةِ، فَضَعِيفُ الْقُدْرَةِ يَنَالُهُ تَعَبٌ مِنْ قُوَّةِ عِلْمِهِ لِأَنَّ هِمَّتَهُ تَدْعُوهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِالنَّائِلِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ... تَعِبَتْ فِي مرادها الْأَجْسَام [71] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 71] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) هَذَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْقَاهِرَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَرَمٍ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالرِّزْقِ. وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ حَاصِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِيهِ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [سُورَة النَّحْل: 70] . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْقَاهِرِ أَنَّ الرِّزْقَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِيهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى رَغَبَاتِهِمْ وَلَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ فَقَدْ تَجِدُ أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَجْوَدَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا مُقَتَّرًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَبِضِدِّهِ تَرَى أَجْهَلَ النَّاسِ وَأَقَلَّهُمْ تَدْبِيرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَكِلَا الرَّجُلَيْنِ قد حصل لَهُ مَا حَصَلَ قَهْرًا عَلَيْهِ، فَالْمُقَتَّرُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ التَّقْتِيرِ، وَالْمُوَسَّعُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ تَيْسِيرِ رِزْقِهِ، ذَلِك لِأَنَّ الْأَسْبَابَ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِدَةٌ وَمُتَسَلْسِلَةٌ وَمُتَوَغِّلَةٌ فِي الْخَفَاءِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ أَسْبَابَ الْأَمْرَيْنِ مَفْقُودَةٌ وَمَا هِيَ بِمَفْقُودَةٍ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُحَاطٍ بِهَا. وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ

وَلِذَلِكَ أُسْنِدَ التَّفْضِيلُ فِي الرِّزْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ أَسْبَابَهُ خَارِجَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عُقُولِ الْبَشَرِ، وَالْحَكِيمُ لَا يَسْتَفِزُّهُ ذَلِكَ بِعَكْسِ قَوْلِ ابْنِ الرَّاوِنْدِيِّ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا وَهَذَا الْحُكْمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ قَائِلِهِ فِي حَقِيقَةِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِالنِّحْرِيرِيَّةِ. وَتُفِيدُ وَرَاءَ الِاسْتِدْلَالِ مَعْنَى الِامْتِنَانِ لِاقْتِضَائِهَا حُصُولَ الرِّزْقِ لِلْجَمِيعِ. فَجُمْلَةُ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ مُقَدَّمَةٌ لِلدَّلِيلِ وَمِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الرِّزْقِ يَقْتَضِي الْإِنْعَامَ بِأَصْلِ الرِّزْقِ. وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ مَنَاطَ الِاسْتِدْلَالِ، إِنَّمَا الِاسْتِدْلَالُ فِي التَّمْثِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ الْآيَةَ. وَالْقَوْلُ فِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ الْجَلَالَةِ وَبِنَاءَ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَيْهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [سُورَة النَّحْل: 70] . وَالْمَعْنَى: اللَّهُ لَا غَيْرُهُ رَزَقَكُمْ جَمِيعًا وَفَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ وَلَا يَسَعُكُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ لَهُ. وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِدْلَالُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، كَمَا قِيلَ: لَمْحَةٌ دَالَّةٌ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْرِيعٌ بِالْفَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ. وَهُوَ إِدْمَاجٌ جَاءَ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ لِتِبْيَانِ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حِينَ سَوَّوْا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْخَالِقِ فَأَشْرَكُوهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ فَسَادًا فِي تَفْكِيرِهِمْ. وَذَلِكَ مِثْلُ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَةِ الْحَجِّ (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ) . فَمَثَّلَ بُطْلَانَ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِحَالَةِ أَهْلِ النِّعْمَةِ الْمَرْزُوقِينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُشْرِكُوا عَبِيدَهُمْ مَعَهُمْ فِي فَضْلِ رِزْقِهِمْ فَكَيْفَ يُسَوُّونَ بِاللَّهِ عَبِيدَهُ فِي صِفَتِهِ الْعُظْمَى وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ.

وَرَشَاقَةُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحَالَتَيْنِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ وَالْمُشَبَّهَ بِهِمَا حَالَتَا مَوْلًى وَعَبْدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [سُورَة الرّوم: 28] . وَالْغَرَضُ مِنَ التَّمْثِيلِ تَشْنِيعُ مَقَالَتِهِمْ وَاسْتِحَالَةُ صِدْقِهَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ، ثُمَّ زِيَادَةُ التَّشْنِيعِ بِأَنَّهُمْ رَضُوا لِلَّهِ مَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [سُورَة النَّحْل: 57- 60] . وَقَرِينَةُ التَّمْثِيلِ وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ دَلَالَةُ الْمَقَامِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا نَفْيٌ. وَ (مَا) نَافِيَةٌ، وَالْبَاءُ فِي بِرَادِّي رِزْقِهِمْ الْبَاءُ الَّتِي تُزَادُ فِي خَبَرِ النَّفْيِ بِ (مَا) وَ (لَيْسَ) . وَالرَّادُّ: الْمُعْطِي. كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» ، أَيْ فَمَا هُمْ بِمُعْطِينَ رِزْقَهُمْ لِعَبِيدِهِمْ إِعْطَاءَ مُشَاطَرَةٍ بِحَيْثُ يُسَوُّونَهُمْ بِهِمْ، أَيْ فَمَا ذَلِكَ بِوَاقِعٍ. وَإِسْنَادُ الْمِلْكِ إِلَى الْيَمِينِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ وَهْمِيٌّ لِلْمِلْكِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ إِمَّا أَسْرٌ وَهُوَ أَثَرٌ لِلْقِتَالِ بِالسَّيْفِ الَّذِي تُمْسِكُهُ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَإِمَّا شِرَاءٌ وَدَفْعُ الثَّمَنِ يَكُونُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى عُرْفًا، فَهِيَ سَبَب وهمي ناشىء عَنِ الْعَادَةِ. وَفُرِّعَتْ جُمْلَةُ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ، أَيْ لَا يُشَاطِرُونَ عَبِيدَهُمْ رِزْقَهُمْ فَيَسْتَوُوا فِيهِ، أَيْ لَا يَقَعُ ذَلِكَ فَيَقَعُ هَذَا. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ شَبِيهٌ بِمَوْقِعِ الْفِعْلِ بَعْدَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ. وَأَمَّا جُمْلَةُ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فَصَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الِامْتِنَانِ، أَيْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالرِّزْقِ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ تَجْحَدُونَ، اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي التوبيخ، حَيْثُ أَشْرَكُوا مَعَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ آلِهَةً لَا حَظَّ لَهَا فِي الْإِنْعَامِ

عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ جُحُودُ النِّعْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [سُورَة العنكبوت: 17] . وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِي يَجْحَدُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّحْتِيَّةِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانُوا مَوْضِعَ التَّوْبِيخِ نَاسَبَ أَنْ يُعَرِّضَ عَنْ خِطَابِهِمْ وَيَنَالَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبِيخِ بِالتَّعْرِيضِ كَقَوْلِ: أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ ... وَنَفْسٌ أَضَاقَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ بَاعَهَا إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الْخَيْرِ مَرَّةً ... عَصَاهَا وَإِنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَهَا ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا وَقَعَ التَّعْرِيضُ بِهِ بِقَوْلِهِ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب تجحدون بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحْذِيرِ. وَتَصْلُحُ جُمْلَةُ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ، فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ مُتَوَجِّهًا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ فُضِّلُوا بِالرِّزْقِ وَهُمْ أُولُو السِّعَةِ مِنْهُمْ وَسَادَتُهُمْ وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ كُفْرًا بِالدِّينِ وَتَأَلُّبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَيَجْحَدُ الَّذِينَ فُضِّلُوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِذْ أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ فَيَكُونُوا أَشَدَّ إِشْرَاكًا بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سُورَة المزمل: 11] . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجْحَدُونَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّحْتِيَّةِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَفِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِهِمْ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي نُفُوسِهِمْ.

[سورة النحل (16) : آية 72]

وَقَدْ عُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى يَكْفُرُونَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِتَوْكِيدِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 6] . وَتَقْدِيمُ «بِنِعْمَةِ اللَّهِ» عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ يَجْحَدُونَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [72] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 72] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) عَطْفٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِبَدِيعِ الصُّنْعِ فِي خَلْقِ النَّسْلِ إِذْ جُعِلَ مُقَارَنًا لِلتَّأَنُّسِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِذْ جَعَلَ النَّسْلَ مِنْهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُفَارِقًا لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَجَعَلَ النَّسْلَ مَعْرُوفًا مُتَّصِلًا بِأُصُولِهِ بِمَا أُلْهِمَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ دَاعِيَةِ حِفْظِ النَّسَبِ، فَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [21] : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. فَجَعَلَهَا آيَةً تَنْطَوِي عَلَى آيَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الصُّنْعُ نِعَمًا كَثِيرَةً، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ. وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتَيْهَا الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ. وَاللَّامُ فِي جَعَلَ لَكُمْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ جَعَلَ إِلَى ثَانٍ. وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ نَوْعِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [سُورَة النُّور: 21] أَيْ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ بِالْبُيُوتِ، وَقَوْلِهِ: رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سُورَة آل عمرَان: 164] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [سُورَة الْبَقَرَة: 85] .

وَالْخِطَابُ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَغَلَبَ ضَمِيرُ التَّذْكِيرِ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ إِذْ جَعَلَ قَرِينَ الْإِنْسَانِ مُتَكَوِّنًا مِنْ نَوْعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ ذَلِكَ لَاضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى طَلَبِ التَّأَنُّسِ بِنَوْعٍ آخَرَ فَلَمْ يَحْصُلِ التَّأَنُّسُ بِذَلِكَ لِلزَّوْجَيْنِ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَغْلَبِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَهِيَ نِعْمَةٌ يُدْرِكُهَا الْإِنْسَانُ وَلَا يُدْرِكُهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْوَاعِ. وَلَيْسَ مِنْ قِوَامِ مَاهِيَّةِ النِّعْمَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ. وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَصِيرُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ اثْنَيْنِ، فَلِذَا وُصِفَ بِزَوْجٍ الْمُرَادِفُ لِثَانٍ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 35] . وَالْوَصْفُ بِالزَّوْجِ يُؤْذِنُ بِمُلَازَمَتِهِ لِآخَرَ، فَلِذَا سُمِّيَ بِالزَّوْجِ قَرِينُ الْمَرْأَةِ وَقَرِينَةُ الرَّجُلِ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ اخْتُصَّ بِهَا الْإِنْسَانُ إِذْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ جَعْلَ قَرِينٍ لَهُ وَجَبَلَهُ عَلَى نِظَامِ مَحَبَّةٍ وَغَيْرِهِ لَا يَسْمَحَانِ لَهُ بِإِهْمَالِ زَوْجِهِ كَمَا تُهْمِلُ الْعَجْمَاوَاتُ إِنَاثَهَا وَتَنْصَرِفُ إِنَاثُهَا عَنْ ذُكُورِهَا. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ. وَجَعَلَ الْبَنِينَ لِلْإِنْسَانِ نِعْمَةً، وَجَعَلَ كَوْنَهُمْ مِنْ زَوْجَةٍ نِعْمَةً أُخْرَى، لِأَنَّ بِهَا تَحَقُّقَ كَوْنِهِمْ أَبْنَاءَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّكَرِ وَدَوَامَ اتِّصَالِهِمْ بِهِ بِالنِّسْبَةِ، وَوُجُودَ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ أَمْرِهِمْ فِي حَالَةِ ضَعْفِهِمْ. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَزْواجِكُمْ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ جَعَلَ لَكُمْ بَنِينَ مُنْحَدِرِينَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ. وَالْحَفَدَةُ: جَمْعُ حَافِدٍ، مِثْلُ كَمَلَةٍ جَمْعُ كَامِلٍ. وَالْحَافِدُ أَصْلُهُ الْمُسْرِعُ فِي الْخِدْمَةِ. وَأُطْلِقَ عَلَى ابْنِ الِابْنِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ أَنْ يَخْدِمَ جَدَّهُ لِضَعْفِ الْجَدِّ بِسَبَبِ الْكِبَرِ، فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحِفْظِ سِلْسِلَةِ نَسَبِهِ بِسَبَبِ ضَبْطِ الْحَلْقَةِ الْأُولَى مِنْهَا،

وَهِيَ كَوْنُ أَبْنَائِهِ مِنْ زَوْجِهِ ثُمَّ كَوْنُ أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، فَانْضَبَطَتْ سِلْسِلَةُ الْأَنْسَابِ بِهَذَا النِّظَامِ الْمُحْكَمِ الْبَدِيعِ. وَغَيْرُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا يَشْعُرُ بِحَفَدَتِهِ أَصْلًا- لَا يَشْعُرُ بِالْبُنُوَّةِ إِلَّا أُنْثَى الْحَيَوَانِ مُدَّةً قَلِيلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْإِرْضَاعِ. وَالْحَفَدَةُ لِلْإِنْسَانِ زِيَادَةٌ فِي مَسَرَّةِ الْعَائِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [سُورَة هود: 71] . وَقَدْ عَمِلَتْ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي حَفَدَةً بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ مُبَاشَرَةً وَبِوَاسِطَةٍ. وَجُمْلَةُ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمَا بَعْدَهَا، لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ تَضَمُّنِ الْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ، فَإِن من مكمّلاتها سَعَة الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [سُورَة النَّحْل: 14] الْآيَةَ. وَقَالَ طَرَفَةُ: فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي ... بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمَسُودِ فَالْمَالُ وَالْعَائِلَةُ لَا يروق أَحدهَا بِدُونِ الْآخَرِ. ثُمَّ الرِّزْقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ الْمَالُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [سُورَة الْقَصَص: 82] . وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِعْطَاءَ الْمَأْكُولَاتِ الطَّيِّبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [سُورَة آل عمرَان: 37] . ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. والطَّيِّباتِ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ رَزَقَكُمْ، أَيِ الْأَرْزَاقَ الطَّيِّبَاتِ. وَالتَّأْنِيثُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ. وَالطَّيِّبُ: فَيْعِلُ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الْوَصْفِ بِالطَّيِّبِ. وَالطَّيِّبُ: أَصْلُهُ النَّزَاهَةُ وَحُسْنُ الرَّائِحَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمُلَائِمِ الْخَالِصِ مِنَ النَّكَدِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [سُورَة النَّحْل: 97] . وَاسْتُعْمِلَ فِي الصَّالِحِ مِنْ نَوْعِهِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [58] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: 32] وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. فَالطَّيِّبَاتُ هُنَا الْأَرْزَاقُ الواسعة المحبوبة للنَّاس كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَوِ الْمَطْعُومَاتُ وَالْمَشْرُوبَاتُ اللَّذِيذَةُ الصَّالِحَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّيِّبَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [5] ، وَذُكِرَ الطَّيِّبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [168] . وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ وَالْمِنَّةِ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالْبَاطِلِ الْبَيِّنِ، فَتَفْرِيعُ التَّوْبِيخِ عَلَيْهِ وَاضِحُ الِاتِّجَاهِ. وَالْبَاطِلُ: ضِدُّ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا لَا يَخْلُقُ لَا يُعْبَدُ بِحَقٍّ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: أَفَبِالْباطِلِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّعْرِيفِ بِبَاطِلِهِمْ. وَالِالْتِفَاتُ عَنِ الْخِطَابِ السَّابِق إِلَى الْغَيْبَة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَبِالْباطِلِ يَجْرِي الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [سُورَة النَّحْل: 71] . وَقَوله تَعَالَى: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّوْبِيخِ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ مُتَوَجِّهٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً إِلَى قَوْلِهِ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ مِنْ الِامْتِنَانِ بِذَلِكَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ بَعْدَ كَوْنِهِمَا دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ يَكْفُرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ بِكُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ أَخْفَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْكُفْرَانَ يَتَعَلَّقُ بِحَالَاتِ الْقَلْبِ، فَاجْتمع فِي هَذِه الْجُمْلَةِ تَأْكِيدَانِ: التَّأْكِيدُ الَّذِي أَفَادَهُ التَّقْدِيمُ، وَالتَّأْكِيدُ الَّذِي أَفَادَهُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ.

[سورة النحل (16) : آية 73]

وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي يُؤْمِنُونَ ويَكْفُرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ يُؤْمِنُونَ ويَكْفُرُونَ مُحَسِّنٌ بديع الطباق. [73] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 73] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَتَيِ التَّوْبِيخِ وَهُوَ مَزِيدٌ مِنَ التَّوْبِيخِ فَإِنَّ الجملتين الْمَعْطُوف عَلَيْهِمَا أفادتا تَوْبِيخًا عَلَى إِيمَانِهِمْ بالآلهة الْبَاطِل وكفرهم بِنِعْمَةِ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ أَفَادَتْ التَّوْبِيخَ عَلَى شُكْرِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ شُكْرٌ، فَهُمْ عَبَدُوا مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَلَا بِيَدِهِ نِعْمَةٌ، وَهُوَ الْأَصْنَامُ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنَ الرِّزْقِ لِاحْتِيَاجِهَا، وَلَا تَسْتَطِيعُ رِزْقَهُمْ لِعَجْزِهَا. فَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدٌ لِمُفَادِ مَا قَبْلَهَا مَعَ اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ بِمُوجِبِ التَّوْبِيخِ فِي كِلْتَيْهِمَا. وَمِلْكُ الرِّزْقِ الْقُدْرَةُ عَلَى إِعْطَائِهِ. وَالْمِلْكُ يُطْلَقُ عَلَى الْقُدْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] . وَالرِّزْقُ هُنَا مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَ. ومِنْ فِي مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ رِزْقًا مَوْصُوفًا بِوُرُودِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وشَيْئاً مُبَالَغَةٌ فِي الْمَنْفِيِّ، أَيْ وَلَا يملكُونَ جُزْءا قَلِيلًا مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ رِزْقاً. فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولُ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ.

[سورة النحل (16) : آية 74]

وَلا يَسْتَطِيعُونَ عَطْفٌ عَلَى يَمْلِكُ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صِلَةِ مَا، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ لَهُمْ. وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهَا صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ مُجَارَاةً لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَعْقِلُ وَتَشْفَعُ وَتَسْتَجِيبُ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَسْتَطِيعُونَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ شَيْئًا لِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ حِجَارَةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. والاستطاعة: الْقُدْرَة. [74] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 74] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَالْمِنَنِ، إِذْ قَدِ اسْتَقَامَ مِنْ جَمِيعِهَا انْفِرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَنَفْيُ الشَّرِيك لَهُ فِيمَا خَلَقَ وَأَنْعَمَ، وَبِالْأَوْلَى نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَأَنْ يُشَبَّهَ بِالْحَوَادِثِ فَلَا جَرَمَ اسْتَتَبَّ لِلْمَقَامِ أَنْ يُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ زَجْرُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ تَمْثِيلِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ بِاللَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يُمَثِّلُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ. وَهَذَا جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [سُورَة الْبَقَرَة: 21] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سُورَة الْبَقَرَة: 22] ، وَقَوْلُهُ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [سُورَة يس: 78] . والْأَمْثالَ هُنَا جَمْعُ مَثَلٍ- بِفَتْحَتَيْنِ- بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ، كَقَوْلِهِمْ: شَبَهٌ بِمَعْنَى مُشَابِهٍ. وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي تَشْبِيهِ حَالَةٍ بِحَالَةٍ وَهَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعْمَالٌ آخَرُ. وَمَعْنَى الضَّرْبِ فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ كَذَا مَثَلًا، بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . واللّام فِي لِلَّهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ الْأَمْثالَ لَا بِ تَضْرِبُوا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ مَثَلَ الْأَصْنَامِ بِاللَّهِ ضَرْبًا لِلنَّاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [سُورَة الرّوم: 28] .

[سورة النحل (16) : آية 75]

وَوَجْهُ كَوْنِ الْإِشْرَاكِ ضَرْبَ مَثَلٍ لِلَّهِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلْأَصْنَامِ صِفَاتَ الْإِلَهِيَّةِ وَشَبَّهُوهَا بِالْخَالِقِ، فَإِطْلَاقُ ضَرْبِ الْمَثَلِ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [سُورَة الزخرف: 58] . وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةُ هُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، فَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلٍ وَتَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِالْحَوَادِثِ فِي التَّأَثُّرِ بِشَفَاعَةِ الْأَكْفَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَالِازْدِهَاءِ بِالْبَنِينَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَشْبِيهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَوَادِثِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَهْلَهُمْ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تِلْكَ السَّخَافَاتِ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَأَنَّ اللَّهَ إِذْ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ أَنْ يُشَبِّهُوهُ بِمَا شَبَّهُوهُ إِنَّمَا نَهَاهُمْ لِعِلْمِهِ بِبُطْلَانِ اعْتِقَادِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ اسْتِدْعَاءٌ لِإِعْمَالِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ لِيَصِلُوا إِلَى الْعِلْمِ الْبَرِيءِ من الأوهام. [75] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 75] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) أَعْقَبَ زَجْرَهُمْ عَنْ أَنْ يُشَبِّهُوا اللَّهَ بِخَلْقِهِ أَوْ أَنْ يُشَبِّهُوا الْخَلْقَ بِرَبِّهِمْ بِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ مَثَّلَ عَبْدًا بِسَيِّدِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَجُمْلَةُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ [سُورَة النَّحْل: 73] . فَشَبَّهَ حَالَ أَصْنَامِهِمْ فِي الْعَجْزِ عَنْ رِزْقِهِمْ بِحَالِ مَمْلُوكٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُ مَالًا، وَشَبَّهَ شَأْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ بِحَالِ الْغَنِيِّ الْمَالِكِ أَمْرَ نَفْسِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ إِنْفَاقٍ وَغَيْرِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ مُمَاثَلَةَ أَصْنَامِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أُعْقِبَ بِجُمْلَةِ هَلْ يَسْتَوُونَ.

وَذَيَّلَ هَذَا التَّمْثِيلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [26] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَقَامَيْنِ مُتَّحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الأسلوب إِنَّمَا يومىء إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقْصُودِ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودِ ثَانِيًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُنَالِكَ. وَالْعَبْدُ: الْإِنْسَانُ الَّذِي يَمْلِكُهُ إِنْسَانٌ آخَرُ بِالْأَسْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالْإِرْثِ. وَقَدْ وُصِفَ عَبْداً هُنَا بِقَوْلِهِ: مَمْلُوكاً تَأْكِيدًا لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَإِشْعَارًا لِمَا فِي لَفْظِ عَبْدٍ مِنْ مَعْنَى الْمَمْلُوكِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي عَمَلِهِ تَصَرُّفَ الْحُرِّيَّةِ. وَانْتَصَبَ عَبْداً عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلًا وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَي حَال بعد، لِأَنَّ الْمَثَلَ هُوَ لِلْهَيْئَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَجُمْلَةُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ صِفَةُ عَبْداً، أَيْ عَاجِزًا عَنْ كُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ النَّاسُ، كَأَنْ يَكُونُ أَعْمَى وَزَمِنًا وَأَصَمَّ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَقَلَّ الْعَبِيدِ فَائِدَةً. فَهَذَا مَثَلٌ لِأَصْنَامِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُون مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [سُورَة النَّحْل: 20] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً [سُورَة العنكبوت: 17] . ومَنْ مَوْصُولَة مَا صدقهَا حُرٌّ، بِقَرِينَةِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، وَأَنَّهُ وُصِفَ بِالرِّزْقِ الْحَسَنِ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، أَيْ كَيْفَ شَاءَ. وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَمْلِكُونَ رِزْقًا فِي عُرْفِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا حُكْمُ تَمَلُّكِ الْعَبْدِ مَالًا فِي الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِهِ. وَالرِّزْقُ: هُنَا اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَرْزُوقِ بِهِ. وَالْحَسَنُ: الَّذِي لَا يَشُوبُهُ قُبْحٌ فِي نَوْعِهِ مِثْلُ قِلَّةِ وِجْدَانِ وَقْتِ الْحَاجَةِ، أَوْ إِسْرَاعِ فَسَادٍ إِلَيْهِ كَسُوسِ الْبُرِّ، أَوْ رَدَاءَةٍ كَالْحَشَفِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الْمَعْنَى

الْحَاصِلُ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنَ الْحَقَارَةِ وَعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَالْعَجْزِ عَنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَمِنْ حَالِ الْحُرِّيَّةِ وَالْغِنَى وَالتَّصَرُّفِ كَيْفَ يَشَاءُ. وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ مُفَرَّعَةً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا دُونَ أَنْ تُجْعَلَ صِفَةً لِلرِّزْقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ كَمَالٌ فِي مَوْصُوفِهِ، فَكَوْنُهُ صَاحِبَ رِزْقٍ حَسَنٍ كَمَالٌ، وَكَوْنُهُ يَتَصَرَّفُ فِي رِزْقِهِ بِالْإِعْطَاءِ كَمَالٌ آخَرُ، وَكِلَاهُمَا بِضِدِّ نَقَائِصِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَلَا مَا يُنْفِقُ مِنْهُ. وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ فِعْلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّقَوِّي، أَيْ يُنْفَقُ إِنْفَاقًا ثَابِتًا. وَجَعَلَ الْفِعْلَ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ. أَيْ يُنْفِقُ وَيَزِيدُ. وسِرًّا وَجَهْراً حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ يُنْفِقُ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَوَّلَانِ بِالصِّفَةِ، أَيْ مُسِرًّا وَجَاهِرًا بِإِنْفَاقِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا تَعْمِيمُ الْإِنْفَاقِ، كِنَايَةً عَنِ اسْتِقْلَالِ التَّصَرُّفِ وَعَدَمِ الْوِقَايَةِ مِنْ مَانِعِ إِيَّاهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ. وَهَذَا مَثَلٌ لِغِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَجُودِهِ عَلَى النَّاسِ. وَجُمْلَةُ هَلْ يَسْتَوُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، فَبَيَّنَ غَرَضَ التَّشْبِيهِ بِأَنَّ الْمَثَلَ مُرَادٌ مِنْهُ عَدَمُ تَسَاوِي الْحَالَتَيْنِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ مُسَاوَاةِ أَصْحَابِ الْحَالَةِ الْأُولَى لِصَاحِبِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَأَمَّا جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُفِيدِ لِلنَّفْيِ وَبَيْنَ الْإِضْرَابِ بِ بَلْ الِانْتِقَالِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنَ الْمَثَلِ اخْتِصَاصُ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالشُّكْرِ وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُشْكَرَ. وَلَمَّا كَانَ الْحَمْدُ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ الشُّكْرِ فِي مَظْهَرِ النُّطْقِ جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الشُّكْرِ هُنَا، إِذْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى إِخْلَالِ الْمُشْرِكِينَ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ إِذْ

أَثْنَوْا عَلَى الْأَصْنَامِ وَتَرَكُوا الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ» (¬1) . جِيءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْبَلِيغَةِ الدَّلَالَةِ الْمُفِيدَةِ انْحِصَارَ الْحَمْدِ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِمَّا حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ الْحَمْدَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ، وَغَيْرُ اللَّهِ إِذَا أَنْعَمَ فَإِنَّمَا إِنْعَامُهُ مَظْهَرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَإِمَّا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرُ إِفْرَادٍ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَسَّمُوا حَمْدَهُمْ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ هُنَا تَقَدُّمُ قَوْله تَعَالَى: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [سُورَة النَّحْل: 72] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً [سُورَة النَّحْل: 73] . فَلَمَّا ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ الْمُبَيِّنَ لِخَطَئِهِمْ وأعقب بجملة هَلْ يَسْتَوُونَ ثُنِيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الْحَمْدِ لِلَّهِ لَا لِلْأَصْنَامِ. وَجُمْلَةُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِضْرَابٌ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ إِلَى تَجْهِيلِهِمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ. وَأَسْنَدَ نَفْيَ الْعِلْمِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُكَابِرُ اسْتِبْقَاءً لِلسِّيَادَةِ وَاسْتِجْلَابًا لِطَاعَةِ دَهْمَائِهِمْ، فَهَذَا ذَمٌّ لِأَكْثَرِهِمْ بِالصَّرَاحَةِ وَهُوَ ذَمٌّ لِأَقَلِّهِمْ بِوَصْمَةِ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [29] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَإِنَّمَا جَاءَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوُونَ لِمُرَاعَاةِ أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ، لِأَنَّهَا أَصْنَامٌ كَثِيرَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُشَبَّهٌ بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَصِيغَةُ الْجَمْعِ هُنَا تَجْرِيدٌ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ، أَيْ هَلْ يَسْتَوِي ¬

(¬1) رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن عبد الله بن عمر مَرْفُوعا وَفِي سَنَده انْقِطَاع، وروى الديلمي مَا يؤيّد معنى هَذَا الحَدِيث من حَدِيث أنس بن مَالك مَرْفُوعا.

[سورة النحل (16) : آية 76]

أُولَئِكَ مَعَ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْقَادِرِ الْمُتَصَرِّفِ. وَإِنَّمَا أُجْرِيَ ضَمِيرُ جَمْعِهِمْ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْعَالَمِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ أَحَدِ التَّمْثِيلَيْنِ وَهُوَ جَانِبُ الْإِلَه الْقَادِر. [76] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 76] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) هَذَا تَمْثِيلٌ ثَانٍ لِلْحَالَتَيْنِ بِحَالَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ وَجْهِ الشَّبَهِ. فَاعْتُبِرَ هُنَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَالِ الْأَبْكَمِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَعَنِ الْعَمَلِ، وَتَعَذُّرُ الْفَائِدَةِ مِنْهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ الْكَامِلِ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِي إِدْرَاكِهِ الْخَيْرَ وَهَدْيِهِ إِلَيْهِ وَإِتْقَانِ عَمَلِهِ وَعَمَلِ مَنْ يَهْدِيهِ، ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِكَمَالِهِ وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ، وَمَثَلًا لِلْأَصْنَامِ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ. وَقَدْ قَرَنَ فِي التَّمْثِيلِ هُنَا حَالَ الرَّجُلَيْنِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ فَصَّلَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذِكْرِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِأُسْلُوبٍ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، إِذْ حَذَفَ مَنْ صَدْرِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الرَّجُلِ الثَّانِي لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي اسْتِنْتَاجِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ أُسْلُوبِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَأُسْلُوبِ سَابِقِهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً [سُورَة النَّحْل: 75] . وَمِثْلُ هَذَا التَّفَنُّنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ كَرَاهِيَةً لِلتَّكْرِيرِ لِأَنَّ تَكْرِيرَ الْأُسْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْأَلْفَاظِ. وَالْأَبْكَمُ: الْمَوْصُوفُ بِالْبَكَمِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْكَافِ- وَهُوَ الْخَرَسُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ. وَزِيدَ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ زَمِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالْكَلُّ- بِفَتْحِ الْكَافِ- الْعَالَةُ عَلَى النَّاسِ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَعَلَيْنَا» ، أَيْ مَنْ تَرَكَ عِيَالًا فَنَحْنُ نَكْفُلُهُمْ. وَأَصْلُ الْكَلِّ: الثِّقَلُ. وَنَشَأَتْ عَنْهُ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ. وَالْمَوْلَى: الَّذِي يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: هُوَ عَالَةٌ عَلَى كَافِلِهِ لَا يُدَبِّرُ أَمْرَ نَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [30] . ثُمَّ زَادَ وَصْفُهُ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ، أَيْ مَوْلَاهُ فِي عَمَلٍ لِيَعْمَلَهُ أَوْ يَأْتِيَ بِهِ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، أَيْ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا وُجِّهَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْخَيْرَ هُوَ مَا فِيهِ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ مِنَ الْفِعْلِ وَنَفْعِهِ. وَدَلَّتْ صِلَةُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ عَلَى أَنَّهُ حَكِيمٌ عَالِمٌ بِالْحَقَائِقِ نَاصِحٌ لِلنَّاسِ يَأْمُرُهُمْ بِالْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ وَتَبَصَّرَ فِيهِ. وَالْعَدْلُ: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْمَحَجَّةُ الَّتِي لَا الْتِوَاءَ فِيهَا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ يُشَبَّهُ بِالسِّيرَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِذَا كَانَ صَالِحًا كَانَ كَالسُّلُوكِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلَةٍ لِلْمَقْصُودِ وَاضِحَةٍ فَهُوَ لَا يَسْتَوِي مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُ هُدًى وَلَا يَسْتَطِيعُ إِرْشَادًا، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهُ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْأَصْنَامِ الْجَامِدَةِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْ يَحْرُسُهَا وَيَنْفُضُ عَنْهَا الْغُبَارَ وَالْوَسَخَ، وَالثَّانِي مَثَلٌ لِكَمَالِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَإِفَاضَتِهِ الْخَيْرَ على عباده.

[سورة النحل (16) : آية 77]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 77] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) كَانَ مِمَّا حُكِيَ مِنْ مَقَالَاتِ كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ إِفْنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ الْعَظِيمِ وَإِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ أَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ، وَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ. ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى بَسْطِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَسَلْسَلَ الْبَيَانُ، وَتَفَنَّنَتِ الْأَغْرَاضُ بِالْمُنَاسَبَاتِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ عَيَّنَهُ فِي عِلْمِهِ لِحِكْمَتِهِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُفَاجَأَتِهِ، فَثَنَى عِنَانَ الْكَلَامِ إِلَى الِاعْتِرَاضِ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يخرج عَن قُدْرَتِهِ أَعْظَمَ فِعْلٍ مِمَّا غَابَ عَنْ إِدْرَاكِهِمْ وَأَنَّ أَمْرَ السَّاعَةِ الَّتِي أَنْكَرُوا إِمْكَانَهَا وَغَرَّهُمْ تَأْخِيرُ حُلُولِهَا هِيَ مِمَّا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ مَتَى شَاءَهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِحَيْثُ لَمْ يُغَادِرْ شَيْئًا مِمَّا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَجِدَالِهِمْ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمُ اسْتِقْصَاءً لِلْأَعْذَارِ لَهُمْ. وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَأْخِيرِ هَذَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ بِصَرِيحِهِ عَلَى تَعْلِيمٍ، وَبِإِيمَائِهِ إِلَى تَهْدِيدٍ وَتَحْذِيرٍ. فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَامُ الْمِلْكِ. وَالْغَيْبُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْغَائِبَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سُورَة الْبَقَرَة: 3] . وَهُوَ الْغَائِبُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ وَالْعَوَالِمِ الَّتِي لَا تَصِلُ إِلَى مُشَاهَدَتِهَا حَوَاسُّ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ. وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ أَفَادَ الْحَصْرَ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ. وَلَامُ الْمِلْكِ أَفَادَتِ الْحَصْرَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيمُ مُفِيدًا تَأْكِيدَ الْحَصْرِ أَوْ هُوَ لِلِاهْتِمَامِ. وأَمْرُ السَّاعَةِ: شَأْنُهَا الْعَظِيمُ. فَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ الْمُهِمُّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 1] ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ» ، أَيْ شَأْنٌ وَخَطْبٌ. والسَّاعَةِ: عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى وَقت فنَاء هَذَا الْعَالَمِ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ غَيْبِ الْأَرْضِ. وَلَمْحُ الْبَصَرِ: تَوَجُّهُهُ إِلَى الْمَرْئِيِّ لِأَنَّ اللَّمْحَ هُوَ النَّظَرُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ كَوْنُهُ مَقْدُورًا بِدُونِ كُلْفَةٍ، لِأَنَّ لَمْحَ الْبَصَرِ هُوَ أَمْكَنُ وَأَسْرَعُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ فَهُوَ أَيْسَرُ وَأَسْرَعُ مِنْ نَقْلِ الْأَرْجُلِ فِي الْمَشْيِ وَمِنَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدِ. وَهَذَا التَّشْبِيهُ أَفْصَحُ مِنَ الَّذِي فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: فَهُنَّ وَوَادِيِ الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَوَجْهُ الشَّبَهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحَقُّقُ الْوُقُوعِ بِدُونِ مَشَقَّةٍ وَلَا إِنْظَارٍ عِنْدَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وُقُوعه، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا لِإِمْكَانِ الْوُقُوعِ وَتَحْذِيرًا مِنَ الِاغْتِرَارِ بِتَأْخِيرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ السُّرْعَةَ، أَيْ سُرْعَةُ الْحُصُولِ عِنْدَ إِرَادَةِ الله، أَي ذَلِك يَحْصُلُ فَجْأَةً بِدُونِ أَمَارَاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [سُورَة الْأَعْرَاف: 187] . وَالْمَقْصُودُ: إِنْذَارُهُمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ تَبْغَتَهُمُ السَّاعَةُ لِيُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْإِنْذَارِ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْبَصَرُ تَشْبِيهًا فِي سُرْعَةِ الْحُصُولِ إِذِ احْتِمَالٌ مُعَطَّلٌ لِأَنَّ الْوَاقِعَ حَارِسٌ مِنْهُ. وأَوْ فِي أَوْ هُوَ أَقْرَبُ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، إِضْرَابًا عَنِ التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُشَبَّهَ أَقْوَى فِي وَجْهِ الشَّبَهِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَالْمُتَكَلِّمُ يُخَيِّلُ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ يُرِيدُ تَقْرِيبَ الْمَعْنَى إِلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ، ثُمَّ يُعْرِضُ عَنِ التَّشْبِيهِ

[سورة النحل (16) : آية 78]

بِأَنَّ الْمُشَبَّهَ أَقْوَى فِي وَجْهِ الشَّبَهِ وَأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَهُ شَبِيهًا فَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فَيَحْصُلُ التَّقْرِيبُ ابْتِدَاءً ثُمَّ الْإِعْرَابُ عَنِ الْحَقِيقَةِ ثَانِيًا. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْقُرْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقْرَبُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ لَمْحِ الْبَصَرِ هُوَ الْقُرْبُ الْمَكَانِيُّ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ فِي الْمَقْدُورِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ التَّنَاوُلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سُورَة ق: 16] . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِهِ يَكُونُ الْقُرْبُ قُرْبَ الزَّمَانِ، أَيْ أَقْرَبِ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ حِصَّةً، أَيْ أَسْرَعِ حُصُولًا. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ صَالِحٌ لِكِلَا التفسيرين. [78] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 78] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) عَوْدٌ إِلَى إِكْثَارِ الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ وَإِلَى تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى الْبَشَرِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [النَّحْل: 72] بعد مَا فَصَلَ بَيْنَ تَعْدَادِ النِّعَمِ بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَدِ اعْتَبَرَ فِي هَذِهِ النِّعَمِ مَا فِيهَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّاسِ لِيَكُونَ مِنْ ذَلِكَ التَّخَلُّصُ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَيَانُ أُصُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [سُورَة النَّحْل: 81] إِلَى آخِرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا أَخْرَجَكُمْ مِنْ عَدَمٍ وَجَعَلَ فِيكُمُ الْإِدْرَاكَ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِدْرَاكُ مِنَ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْعَدَمِ. وَإِذْ كَانَ هَذَا الصُّنْعُ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فَهُوَ أَيْضًا بَاعِثٌ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ وَنَبْذِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ الْإِنْعَامَ يَبْعَثُ الْعَاقِلَ عَلَى الشُّكْرِ.

وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَجَعْلُ الْخَبَرِ عَنْهُ فِعْلًا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [سُورَة النَّحْل: 65] وَالْآيَاتِ بَعْدَهُ. وَالْإِخْرَاجُ الْإِبْرَازُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. وَالْأُمَّهَاتُ: جَمْعُ أُمٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [23] . وَالْبَطْنُ: مَا بَيْنَ ضُلُوعِ الصَّدْرِ إِلَى الْعَانَةِ، وَفِيهِ الْأَمْعَاءُ وَالْمَعِدَةُ وَالْكَبِدُ وَالرَّحِمُ. وَجُمْلَةُ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً حَالٌ من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي أَخْرَجَكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الطِّفْلَ حِينَ يُولَدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَأْخُذُ حَوَاسُّهُ تَنْقُلُ الْأَشْيَاءَ تَدْرِيجًا فَجَعَلَ اللَّهُ فِي الطِّفْلِ آلَاتِ الْإِدْرَاكِ وَأُصُولَ التَّفَكُّرِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُ أَوْجَدَ فِيكُمْ إِدْرَاكَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ، أَيْ كَوْنُهَا فِي النَّاسِ حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلَغَ كَمَالِهَا الَّذِي يَنْتَهِي بِهَا إِلَى عِلْمِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، أَيْ فَعَلِمْتُمْ أَشْيَاءَ. وَوَجْهُ إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْأَبْصَارِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [31] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [46] . والْأَفْئِدَةَ: جَمَعَ الْفُؤَادِ، وَأَصْلُهُ الْقَلْبُ. وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ أَعْظَمُ آلَاتِ الْإِدْرَاكِ إِذْ بِهِمَا إِدْرَاكُ أَهَمِّ الْجُزْئِيَّاتِ، وَهُمَا أَقْوَى الْوَسَائِلِ لِإِدْرَاكِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. فَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْإِحْسَاسُ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْأَصْوَاتِ الَّذِي آلَتُهُ الصِّمَاخُ، وَبِالْإِبْصَارِ: الْإِحْسَاسُ الْمُدْرِكُ لِلذَّوَاتِ الَّذِي آلَتُهُ الْحَدَقَةُ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا مِنْ بَيْنِ الْحَوَاسِّ لِأَنَّهُمَا أَهَمُّ، وَلِأَنَّ بِهِمَا إِدْرَاكَ دَلَائِلِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ.

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمَا الْأَفْئِدَةَ، أَيِ الْعَقْلَ مَقَرَّ الْإِدْرَاكِ كُلِّهِ، فَهُوَ الَّذِي تَنْقُلُ إِلَيْهِ الْحَوَاسُّ مُدْرَكَاتِهَا، وَهِيَ الْعِلْمُ بِالتَّصَوُّرَاتِ الْمُفْرَدَةِ. وَلِلْعَقْلِ إِدْرَاكٌ آخَرُ وَهُوَ إِدْرَاكُ اقْتِرَانِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهُوَ التَّصْدِيقَاتُ الْمُنْقَسِمَةُ إِلَى الْبَدِيهِيَّاتِ: كَكَوْنِ نَفْيِ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَكَكَوْنِ الْكُلِّ أَعْظَمَ مِنَ الْجُزْءِ. وَإِلَى النَّظَرِيَّاتِ وَتُسَمَّى الْكَسْبِيَّاتُ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِانْتِسَابِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ إِلَى الْآخَرِ بَعْدَ حَرَكَةِ الْعَقْلِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوِ التَّفْرِيقِ، مِثْلُ أَنْ يَحْضُرَ فِي الْعَقْلِ: أَنَّ الْجِسْمَ مَا هُوَ، وَأَنَّ الْمُحْدَثَ- بِفَتْحِ الدَّالِّ- مَا هُوَ. فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ لَا يَكْفِي فِي جَزْمِ الْعَقْلِ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عُلُومٍ أُخْرَى سَابِقَةٍ وَهِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ مَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ وَصِفَةِ الْحُدُوثِ. فَالْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ. وَحُصُولُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَصَوُّرِ مَحْمُولَاتِهَا. وَحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ إِعَانَةِ الْحَوَاسِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَكَانَتِ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ هِيَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْعُلُومِ، وَكَانَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ أَوَّلَ الْحَوَاسِّ تَحْصِيلًا لِلتَّصَوُّرَاتِ وَأَهَمَّهَا. وَهَذِهِ الْعُلُومُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفٌ، لِأَنَّ بِهَا إِدْرَاكَ الْإِنْسَانِ لِمَا يَنْفَعُهُ وَعَمَلَ عَقْلِهِ فِيمَا يَدُلُّهُ عَلَى الْحَقَائِقِ، لِيَسْلَمَ مِنَ الْخَطَأِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَالْأَرْزَاءِ الْعَظِيمَةِ، فَهِيَ نِعْمَةٌ كُبْرَى. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَقِبَ ذِكْرِهَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَيْ هِيَ سَبَبٌ لِرَجَاءِ شُكْرِهِمْ وَاهِبَهَا سُبْحَانَهُ. وَالْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مَضَى غَيْرَ مَرَّةٍ فِي نَظِيره ومماثله.

[سورة النحل (16) : آية 79]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 79] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ وَالتَّدْلِيلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ وَعَلَى لُطْفِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَوْهِبَةَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الَّتِي بِهَا تَحْصِيلُ الْمَنَافِعِ وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ نَبَّهَ النَّاسَ إِلَى لُطْفٍ يُشَاهِدُونَهُ أَجْلَى مُشَاهَدَةً لِأَضْعَفِ الْحَيَوَانِ، بِأَنَّ تَسْخِيرَ الْجَوِّ لِلطَّيْرِ وَخَلْقِهَا صَالِحَةً لِأَنْ تُرَفْرِفَ فِيهِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ هُوَ لُطْفٌ بِهَا اقْتَضَاهُ ضَعْفُ بِنْيَاتِهَا، إِذْ كَانَتْ عَادِمَةً وَسَائِلَ الدِّفَاعِ عَنْ حَيَاتِهَا، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا سُرْعَةَ الِانْتِقَالِ مَعَ الِابْتِعَادِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يَعْدُو عَلَيْهَا مِنَ الْبَشَرِ وَالدَّوَابِّ. فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي مَضْمُونِهَا نِعْمَةٌ عَلَى الْبَشَرِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، بِخِلَافِ نَظِيرَتِهَا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [19] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ فَإِنَّهَا عُطِفَتْ عَلَى آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: 5] ، ثُمَّ قَالَ: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْملك: 6] ثُمَّ قَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [سُورَة الْملك: 16] ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى عُقِّبَتْ هَذِهِ وَحْدَهَا بِجُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَالتَّسْخِيرُ: التَّذْلِيلُ لِلْعَمَلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَالْجَوُّ: الْفَضَاءُ الَّذِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهُ يَبْدُو مُتَّصِلًا بِالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ فِي مَا يَخَالُ النَّاظِرُ. وَالْإِمْسَاكُ: الشَّدُّ عَنِ التَّفَلُّتِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا يُمْسِكُهُنَّ عَنِ السُّقُوطِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ دُونِ إِرَادَتِهَا، وَإِمْسَاكُ اللَّهِ إِيَّاهَا خَلْقُهُ الْأَجْنِحَةَ لَهَا وَالْأَذْنَابَ، وَجَعْلُهُ الْأَجْنِحَةَ وَالْأَذْنَابَ قَابِلَةً لِلْبَسْطِ، وَخَلْقُ عِظَامِهَا أَخَفَّ مِنْ عِظَامِ الدَّوَابِّ بِحَيْثُ إِذَا بَسَطَتْ أَجْنِحَتَهَا وَأَذْنَابَهَا وَنَهَضَتْ بِأَعْصَابِهَا خَفَّتْ خِفَّةً شَدِيدَةً فَسَبَحَتْ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَصْلُحُ ثِقَلُهَا لِأَنْ يَخْرِقَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْهَوَاءِ إِلَّا إِذَا قَبَضَتْ مِنْ أَجْنِحَتِهَا وَأَذْنَابِهَا وَقَوَّسَتْ أَعْصَابَ أَصْلَابِهَا عِنْدَ إِرَادَتِهَا النُّزُولَ إِلَى الْأَرْضِ أَوِ الِانْخِفَاضَ فِي الْهَوَاءِ. فَهِيَ تَحُومُ فِي الْهَوَاءِ كَيْفَ شَاءَتْ ثُمَّ تَقَعُ مَتَى شَاءَتْ أَوْ عَيِيَتْ. فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا اسْتَمْسَكَتْ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ إِمْسَاكًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ لُطْفٌ بِهَا. وَالرُّؤْيَةُ: بَصَرِيَّةٌ. وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ إِلَى لِتَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى (يَنْظُرُوا) . ومُسَخَّراتٍ حَالٌ. وَجُمْلَةُ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [سُورَة النَّحْل: 78] . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ أَلَمْ تَرَوْا بِتَاءِ الْخِطَابِ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الْمَذْكُورِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. مَعْنَاهُ: إِنْكَارُ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمُ الطَّيْرَ مُسَخَّرَاتٍ فِي الْجَوِّ بِتَنْزِيلِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الرُّؤْيَةِ مِنْ إِدْرَاكِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَرْئِيُّ مِنِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ: أَكَانَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِدَلَالَةِ رُؤْيَةِ الطَّيْرِ عَامًّا فِي الْبَشَرِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَدِلُّونَ مِنْ ذَلِكَ بِدَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.

[سورة النحل (16) : آية 80]

وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ مُنَاسِبٌ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا تِلْكَ الْآيَاتِ، فَأَكَّدَتِ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْظُرُونَ بِمِرْآةِ أَنْفُسِهِمْ. وَبَيْنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ تَسْخِيرَ الطَّيْرِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ مُحَسِّنُ الطباق. وَبَين نفي عدم رُؤْيَة الْمُشْركين وتأكيد إِثْبَات رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لذَلِك محسّن الطِّبَاقِ أَيْضًا. وَبَيْنَ ضَمِيرِ يَرَوْا وَقَوْلِهِ: «قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» التَّضَادُّ أَيْضًا، فَحَصَلَ الطِّبَاقُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَهَذَا أَبْلَغُ طِبَاقٍ جَاءَ مَحْوِيًّا لِلْبَيَانِ. وَجَمْعُ الْآيَاتِ لِأَنَّ فِي الطَّيْرِ دَلَائِلَ مُخْتَلِفَةً: مِنْ خِلْقَةِ الْهَوَاءِ، وَخِلْقَةِ أَجْسَادِ الطَّيْرِ مُنَاسِبَةً لِلطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَخَلْقِ الْإِلْهَامَ لِلطَّيْرِ بِأَنْ يَسْبَحَ فِي الْجَوِّ، وَبِأَنْ لَا يَسْقُطَ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ. وَخُصَّتِ الْآيَاتُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ بِخُلُقِ الْإِيمَانِ قَدْ أَلِفُوا إِعْمَالَ تَفْكِيرِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِنَّ خُلُقَ الْكُفْرِ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّفْرَةِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّاصِحِينَ وَعَلَى مُكَابَرَة الحقّ. [80] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 80] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) هَذَا مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الَّتِي أَلْهَمَ اللَّهُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانَ، وَهِيَ نِعْمَةُ الْفِكْرِ بِصُنْعِ الْمَنَازِلِ الْوَاقِيَةِ وَالْمُرَفَّهَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [سُورَة النَّحْل: 78] . وَكُلُّهَا مِنَ الْأَلْطَافِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا عَقْلَ الْإِنْسَانِ وَهَيَّأَ لَهُ وَسَائِلَهَا.

وَهَذِهِ نِعْمَةُ الْإِلْهَامِ إِلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاكِنِ وَذَلِكَ أَصْلُ حِفْظِ النَّوْعِ مِنْ غَوَائِلِ حَوَادِثِ الْجَوِّ مِنْ شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ وَمِنْ غَوَائِلِ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِ. وَهِيَ أَيْضًا أَصْلُ الْحَضَارَةِ وَالتَّمَدُّنِ لِأَنَّ الْبُلْدَانَ وَمَنَازِلَ الْقَبَائِلِ تَتَقَوَّمُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْبُيُوتِ. وَأَيْضًا تَتَقَوَّمُ مِنْ مُجْتَمَعِ الْحُلَلِ وَالْخِيَامِ. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ جُمْلَةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَبُيُوتٌ: يَجُوزُ فِيهِ ضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرُهَا، وَهُوَ جَمْعُ بَيْتٍ. وَضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ فُعُولٌ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي جَمْعِ فَعْلٍ- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَأَمَّا لُغَةُ- كَسْرِ الْبَاءِ- فَلِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَرَكَةِ الضَّمِّ إِلَى النُّطْقِ بِالْيَاءِ ثَقِيلٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكَسْرَ (أَيْ لَا يَعْرِفُونَهُ لُغَةً) وَبَيَّنَ أَبُو عَلِيٍّ جَوَازَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَبِالْكَسْرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَهَا بِالضَّمِّ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْبَيْتُ: مَكَانٌ يُجْعَلُ لَهُ بِنَاءٌ وَفُسْطَاطٌ يُحِيطُ بِهِ يُعَيِّنُ مَكَانَهُ لِيَتَّخِذَهُ جَاعِلُهُ مَقَرًّا يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَسْتَكِنُّ بِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ. وَقَدْ يَكُونُ مُحِيطُهُ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ وَيُسَمَّى جِدَارًا، أَوْ مِنْ أَخْشَابٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَتُسَمَّى أَيْضًا الْأَخْصَاصُ. وَيُوضَعُ فَوْقَ مُحِيطِهِ غِطَاءٌ سَاتِرٌ مِنْ أَعْلَاهُ يُسَمَّى السَّقْفُ، يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُطَيَّنُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ بُيُوتُ أَهْلِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى. وَقَدْ يَكُونُ الْمُحِيطُ بِالْبَيْتِ مُتَّخَذًا مِنْ أَدِيمٍ مَدْبُوغٍ وَيُسَمَّى الْقُبَّةَ، أَوْ مِنْ أَثْوَابٍ تُنْسَجُ مِنْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ وَيُسَمَّى الْخَيْمَةَ أَوِ الْخِبَاءَ، وَكُلُّهَا يَكُونُ بِشَكْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْهَرَمِيِّ تَلْتَقِي شُقَّتَاهُ أَوْ شُقَقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ مُعْتَمِدَةً عَلَى عَمُودٍ وَتَنْحَدِرُ مِنْهُ مُتَّسِعَةً عَلَى شَكْلٍ مَخْرُوطٍ. وَهَذِهِ بُيُوتُ الْأَعْرَابِ فِي الْبَوَادِي أَهْلِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ يَتَّخِذُونَهَا لِأَنَّهَا أَسْعَدُ لَهُمْ فِي انْتِجَاعِهِمْ، فَيَنْقُلُونَهَا مَعَهُمْ إِذَا انْتَقَلُوا

يَتَتَبَّعُونَ مَوَاقِعَ الْكَلَأِ لِأَنْعَامِهِمْ وَالْكَمْأَةِ لِعَيْشِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَيْتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [125] . وجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى أَوْجَدَ، فَتَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَالسَّكَنُ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَسْكُونِ. وَالسُّكْنَى: مَصْدَرُ سَكَنَ فُلَانٌ الْبَيْتَ، إِذَا جَعَلَهُ مَقَرًّا لَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، أَيِ الْقَرَارِ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَكَناً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ جَعَلَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بُيُوتِكُمْ بَيَانٌ لِلسَّكَنِ، فَتَكُونُ مِنْ بَيَانِيَّةٌ، أَوْ تُجْعَلُ ابْتِدَائِيَّةً وَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ بِتَنْزِيلِ الْبُيُوتِ مَنْزِلَةَ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ السَّكَنِ، كَقَوْلِهِمْ: لَئِنْ لَقِيتَ فُلَانًا لَتَلْقَيَنَّ مِنْهُ بَحْرًا. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ بُيُوتَكُمْ سَكَنًا. وَقِيلَ: إِنَّ سَكَناً مَصْدَرٌ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الِامْتِنَانُ بِالْإِلْهَامِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السُّكُونُ، وَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً، لِأَنَّ أَوَّلَ السُّكُونِ يَقَعُ فِي الْبُيُوتِ. وَشَمِلَ الْبُيُوتُ هُنَا جَمِيعَ أَصْنَافِهَا. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ الْقِبَابُ وَالْخِيَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً لِأَنَّ الْقِبَابَ مَنْ أَدَمٍ، وَالْخِيَامَ مِنْ مَنْسُوجِ الْأَوْبَارِ وَالْأَصْوَافِ وَالْأَشْعَارِ، وَهِيَ نَاشِئَةٌ مِنَ الْجِلْدِ، لِأَنَّ الْجِلْدَ هُوَ الْإِهَابُ بِمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا دُبِغَ وَأُزِيلَ مِنْهُ الشَّعْرُ فَهُوَ الْأَدِيمُ. وَهَذَا امْتِنَانٌ خَاصٌّ بِالْبُيُوتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ وَالِارْتِحَالِ، وَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ قُرًى أَوْ قَبَائِلَ رُحَّلًا. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي تَسْتَخِفُّونَها لِلْوِجْدَانِ، أَيْ تَجِدُونَهَا خَفِيفَةً، أَيْ خَفِيفَةَ الْمَحْمَلِ حِينَ تَرْحَلُونَ، إِذْ يَسْهُلُ نَقْضُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا وَطَيُّهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الرَّوَاحِلِ، وَحِينَ تُنِيخُونَ إِنَاخَةَ الْإِقَامَةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ فَيَسْهُلُ ضَرْبُهَا وَتَوْثِيقُهَا فِي الْأَرْضِ.

[سورة النحل (16) : آية 81]

وَ (الظَّعْنُ) - بِفَتْحِ الظَّاء وَالْعين وتسكن الْعين-، وَقَدْ قَرَأَهُ بِالْأَوَّلِ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ، وَبِالثَّانِي الْبَاقُونَ، وَهُوَ السَّفَرُ. وَأَطْلَقَ الْيَوْمَ عَلَى الْحِينِ وَالزَّمَنِ، أَيْ وَقْتَ سَفَرِكُمْ. وَالْأَثَاثُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- اسْمُ جَمْعٍ لِلْأَشْيَاءِ الَّتِي تُفْرَشُ فِي الْبُيُوتِ مِنْ وَسَائِدَ وَبُسُطٍ وَزَرَابِيِّ، وَكُلُّهَا تُنْسَجُ أَوْ تُحْشَى بِالْأَصْوَافِ وَالْأَشْعَارِ وَالْأَوْبَارِ. وَالْمَتَاعُ أَعَمُّ مِنَ الْأَثَاثِ، فَيَشْمَلُ الْأَعْدَالَ وَالْخَطْمَ وَالرَّحَائِلَ وَاللُّبُودَ وَالْعُقُلَ. فَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُتَعِ، وَهُوَ الذَّهَابُ بِالشَّيْءِ، وَلِمُلَاحَظَةِ اشْتِقَاقِهِ تَعَلَّقَ بِهِ إِلَى حِينٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ الْوَعْظُ بِأَنَّهَا أَوْ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى زَوَالٍ يَحُولُ دُونَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى أُهْبَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْآخِرَةِ فَيَتْبَعُوا مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. كَمَا قَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [سُورَة الْأَحْقَاف: 20] . [81] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 81] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) عَطْفٌ عَلَى أَخَوَاتِهَا. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ الْإِلْهَامِ إِلَى التَّوَقِّي مِنْ أَضْرَارِ الْحَرِّ وَالْقَرِّ فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ، أَعْقَبَتْ بِهِ الْمِنَّةَ بِذَلِكَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَالسُّكْنَى، وَبِنِعْمَةِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي

يَكُونُ بِهَا ذَلِكَ التَّوَقِّي بِاسْتِعْمَالِ الْمَوْجُودِ وَصُنْعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ اللِّبَاسِ، إِذْ خَلَقَ اللَّهُ الظِّلَالَ صَالِحَةً لِلتَّوَقِّي مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، وَخَلَقَ الْكُهُوفَ فِي الْجِبَالِ لِيُمْكِنَ اللَّجَأُ إِلَيْهَا، وَخَلَقَ مَوَادَّ اللِّبَاسِ مَعَ الْإِلْهَامِ إِلَى صِنَاعَةِ نَسْجِهَا، وَخَلَقَ الْحَدِيدَ لِاتِّخَاذِ الدُّرُوعِ لِلْقِتَالِ. وَ (مِنْ) فِي مِمَّا خَلَقَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالظِّلَالُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [سُورَة النَّحْل: 48] آنِفًا، لِأَنَّ الظِّلَالَ آثَارُ حَجْبِ الْأَجْسَامِ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالْأَكْنَانُ: جَمَعَ كِنٍّ- بِكَسْرِ الْكَافِ- وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَكْنُونٍ فِيهِ، وَهِيَ الْغِيرَانُ وَالْكُهُوفُ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَلَقَ، ومِنَ الْجِبالِ، لِلتَّبْعِيضِ. كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى الْكُهُوفِ فِي شِدَّةِ حَرِّ الْهَجِيرِ أَوْ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْمَطَرِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَأَلُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِهِمْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَالسَّرَابِيلُ: جَمْعُ سِرْبَالٍ، وَهُوَ الْقَمِيصُ يَقِي الْجَسَدَ حَرَّ الشَّمْسِ، كَمَا يَقِيهِ الْبَرْدَ. وَخَصَّ الْحَرَّ هُنَا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ أَحْوَالِ بِلَادِ الْمُخَاطَبِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الدِّفْءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [سُورَة النَّحْل: 5] ذَكَرَ ضِدَّهُ هُنَا. وَالسَّرَابِيلُ الَّتِي تَقِي الْبَأْسَ: هِيَ دُرُوعُ الْحَدِيدِ. وَلَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْقَمِيصِ الدِّرْعُ، وَالسِّرْبَالُ، وَالْبَدَنُ. وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ، أَيْ تَقِي بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، كَمَا فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [سُورَة الْأَنْعَام: 65] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [سُورَة الْحَدِيد: 25] ، وَهُوَ بَأْسُ السُّيُوفِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 80] .

[سورة النحل (16) : آية 82]

وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ تَذْيِيلٌ لِمَا ذُكِرَ مِنَ النِّعَمِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا فِي النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْإِتْمَامِ، أَوْ إِلَى الْإِتْمَامِ الْمَأْخُوذِ مِنْ يُتِمُّ. وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الرَّغْبَةِ، أَيْ رَغْبَةٌ فِي أَنْ تُسْلِمُوا، أَيْ تَتَّبِعُوا دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا مَآلُهُ شُكْرُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَأْوِيلُ مَعْنَى الرَّجَاءِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سُورَة الْبَقَرَة. [82] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 82] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [سُورَة النَّحْل: 81] وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [سُورَة النَّحْل: 81] وَجُمْلَةُ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [سُورَة النَّحْل: 84] . وَقَدْ حَوَّلَ الْخِطَابَ عَنْهُمْ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَوْعٌ من الِالْتِفَات فِيهِ الْتِفَات مِنَ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ وَالْتِفَاتٌ عَمَّنْ كَانَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَيْهِ بِتَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ. وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لِتُسْلِمُوا فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ. وَالْمَقْصُودُ: تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ. وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ. وَفِعْلُ تَوَلَّوْا هُنَا بِصِيغَة الْمَاضِي، أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ فَلَا تَقْصِيرَ مِنْكَ وَلَا غَضَاضَةَ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ لِلْمَحَجَّةِ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ لَا تَقْلِيبُ قُلُوبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ لَا تَوَلِّي جَزَاءَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ، بَلْ عَلَيْنَا جَزَاؤُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [سُورَة الرَّعْد: 40] . وَجَعَلَ هَذَا جَوَابًا لِجُمْلَةِ فَإِنْ تَوَلَّوْا مِنْ إِقَامَةِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَالْمَعْلُولِ: وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَلَا تَقْصِيرَ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْكَ

[سورة النحل (16) : آية 83]

لِأَنَّكَ مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [سُورَة الْمَائِدَة: 92] . [83] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 83] يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ وَفْرَةِ أَسْبَابِ اتِّبَاعِهِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ: كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ دَلَائِلُ الْإِسْلَامِ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ عَرَفُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهَا إِنْكَارًا وَمُكَابَرَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا حَالًا مِنْ ضمير تَوَلَّوْا [سُورَة النَّحْل: 82] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِجُمْلَةِ تَوَلَّوْا. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ عَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: هُمْ يَعْلَمُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ الْمَعْدُودَةَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ مُنْتَفِعُونَ بِهَا، وَمَعَ تَحَقُّقُهِمْ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ يُنْكِرُونَهَا، أَيْ يَنْكَرُونَ شُكْرَهَا فَإِنَّ النِّعْمَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَشْكُرَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ بِهَا مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَلَمَّا عَبَدُوا مَا لَا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا، فَقَدْ أُطْلِقَ فِعْلُ «يُنْكِرُونَ» بِمَعْنَى إِنْكَارِ حَقِّ النِّعْمَةِ، فَإِسْنَادُ إِنْكَارِ النِّعْمَةِ إِلَيْهِمْ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ يُنْكِرُونَ مُلَابِسَهَا وَهُوَ الشُّكْرُ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جملَة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَيُنْكِرُونَهَا، لِأَنَّ ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ لِلْعَطْفِ اقْتَضَتِ التَّشْرِيكَ فِي الْحُكْمِ، وَلَمَّا كَانَتْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ زَالَ عَنْهَا مَعْنَى الْمُهْلَةِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ لَهُ فَبَقِيَ لَهَا مَعْنَى التَّشْرِيكِ وَصَارَتِ الْمُهْلَةُ مُهْلَةً رُتَبِيَّةً لِأَنَّ إِنْكَارَ نِعْمَةِ اللَّهِ أَمْرٌ غَرِيبٌ. وَإِنْكَارُ النِّعْمَةِ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيع الْمُشْركين أيّمتهم وَدَهْمَاؤُهُمْ، فَفَرِيقٌ مِنَ الْمُشْركين وهم أيّمة الْكُفْرِ شَأْنُهُمُ التَّعَقُّلُ وَالتَّأَمُّلُ فَإِنَّهُمْ عَرِفُوا النِّعْمَةَ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْمُنْعِمِ وَبِمَا سَمِعُوا مِنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ حَتَّى تَرَدَّدُوا وَشَكُّوا فِي

[سورة النحل (16) : آية 84]

دِينِ الشِّرْكِ ثمَّ ركبُوا رؤوسهم وَصَمَّمُوا عَلَى الشِّرْكِ. وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِنْكَارِ الْمُقَابِلِ لِلْإِقْرَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ فَظَاهِرُ كَلِمَةِ «أَكْثَرُ» وَكَلِمَةِ الْكافِرُونَ أَنَّ الَّذِينَ وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ الْكَافِرُونَ هُمْ غَالِبُ الْمُشْرِكِينَ لَا جَمِيعُهُمْ، فَيُحْمَلُ الْمُرَادُ بِالْغَالِبِ عَلَى دَهْمَاءِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ مُعْظَمَهُمْ بُسَطَاءُ الْعُقُولِ بُعَدَاءُ عَنِ النَّظَرِ فَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. فَكَانَ إِشْرَاكَهُمْ رَاسِخًا، بِخِلَافِ عُقَلَائِهِمْ وَأَهْلِ النَّظَرِ فَإِنَّ لَهُمْ تَرَدُّدًا فِي نُفُوسِهِمْ وَلَكِنْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ حُبُّ السِّيَادَةِ فِي قَوْمِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: 33] . [84] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 84] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ يَوْمَ نَبْعَثُ إِلَخْ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [سُورَة النَّحْل: 82] بِتَقْدِيرِ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا. فَالتَّذْكِيرُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْبَلَاغِ الْمُبِينِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَسَنُجَازِي يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهَا. ذَلِكَ أَنَّ وَصْفَ شَهِيدٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَعَلَى الْكَافِرِينَ، أَيْ شَهِيدٌ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ. وَبَعْثُ شَهِيدٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ يُفِيدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ كَمَا سَيَجِيءُ عَقِبَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ [سُورَة النِّسَاء: 41] ، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ أَمْرُ الْعَطْفِ وَالتَّخَلُّصِ إِلَى وَصْفِ يَوْمِ الْحِسَابِ وَإِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ.

وَانْتَصَبَ يَوْمَ نَبْعَثُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ يُقَدَّرُ بِمَا يَسْمَحُ بِهِ الْمَعْنَى، مِثْلُ: نُحَاسِبُهُمْ حِسَابًا لَا يُسْتَعْتَبُونَ مِنْهُ، أَوْ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا مِنَ الْخَطْبِ الْعَظِيمِ. وَالَّذِي دَعَا إِلَى هَذَا الْحَذْفِ هُوَ أَنَّ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي الظَّرْفِ وَهُوَ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ حُوِّلَ إِلَى جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ الظَّرْفِ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، إِذِ الْأَصْلُ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا لَا يُؤذن للَّذين كفرُوا ... إِلَى آخِرِهِ، فَبَقِيَ الظَّرْفُ بِدُونِ مُتَعَلَّقٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ بُدٌّ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِمَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّهْوِيلَ وَالتَّفْظِيعَ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] . وَالْبَعْثُ: إِحْضَارُهُ فِي الْمَوْقِفِ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ إِلْجَامَهُمْ عَنِ الْكَلَامِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِعْتَابِ أَشَدُّ هَوْلًا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهِيدِ عَلَيْهِمْ. وَلَيْسَتْ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْإِذْنِ لَهُمْ مُقَارِنٌ لِبَعْثِ الشَّهِيدِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ بِالْمُجَادَلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَحُذِفَ مُتَعَلَّقِ يُؤْذَنُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْإِذْنِ كِنَايَةً عَنِ الطَّرْدِ كَمَا كَانَ الْإِذْنُ كِنَايَةً عَنِ الْإِكْرَامِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «مَا اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا أَذِنَ لِي» . وَحِينَئِذٍ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلَّقٌ أَوْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنْ جَهَنَّمَ حِينَ يَسْأَلُونَهُ بِقَوْلِهِمُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [سُورَة غَافِر: 49] فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [سُورَة الجاثية: 35] . وَالِاسْتِعْتَابُ: أَصْلُهُ طَلَبُ الْعُتْبَى، وَالْعُتْبَى: الرِّضَى بَعْدَ الْغَضَبِ، يُقَالُ: اسْتَعْتَبَ فُلَانٌ فُلَانًا فَأَعْتَبَهُ، إِذَا أَرْضَاهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [سُورَة فصلت: 24] .

[سورة النحل (16) : آية 85]

وَإِذَا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ نَائِبَ فَاعِلِهِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الرِّضَى، تَقُولُ: اسْتَعْتَبَ فُلَانٌ فَلَمْ يَعْتِبْ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فَقَدْ وَقَعَ نَائِبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرَ الْمُسْتَعْتِبِينَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [57] : فَيَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، وَفِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [35] : فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ. فَفَسَّرَهُ الرَّاغِبُ فَقَالَ: الِاسْتِعْتَابُ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَطْلُبَ الْعُتْبَى اه. وَعَلِيهِ فَيُقَال: اسْتَعْتَبَ فَلَمْ يُسْتَعْتَبْ، وَيُقَالُ: عَلَى الْأَصْلِ اسْتَعْتَبَ فُلَانٌ فَلَمْ يُعْتَبْ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ نَشَأَ عَنِ الْحَذْفِ. وَأَصْلُهُ: اسْتَعْتَبَ لَهُ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ، فَكَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى قَلَّ اسْتِعْمَالُ اسْتَعْتَبَ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَعُطِفَ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ عَلَى لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنْهُ، فَهُوَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، لِلِاهْتِمَامِ بِخُصُوصِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَأْيُوسٌ مِنَ الرِّضَى عَنْهُمْ عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ بِحَيْثُ يَعْلَمُونَ أَنْ لَا طَائِلَ فِي اسْتِعْتَابِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَا يُشِيرُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَسْتَعْتِبُوا. فَإِنْ جُعِلَتْ لَا يُؤْذَنُ كِنَايَةً عَنِ الطَّرْدِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطْرَدُونَ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْهِمْ بِأَن يستعتبوا. [85] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 85] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: 84] . وإِذا شَرْطِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ فَلا يُخَفَّفُ جَوَابُ إِذا. وَقُرِنَ بِالْفَاءِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ وَالْجَوَابِيَّةِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الِاسْتِئْنَافِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 86 إلى 87]

وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَ إِذا ظَرْفًا مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ يَقْتَضِي تَقْدِيرُهُ عَدَمَ وُجُودِ متعلّق للظرف ليقدّر لَهُ مُتَعَلَّقٌ بِمَا يُنَاسِبُ، كَمَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ [سُورَة النَّحْل: 84] . وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ وَبَغَتَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُخَفَّفُ فَصِيحَةٌ وَلَيْسَتْ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ. والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَلَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، ثُمَّ يُسَاقُونَ إِلَى الْعَذَابِ فَإِذَا رَأَوْهُ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ، أَيْ يَسْأَلُونَ تَخْفِيفَهُ أَوْ تَأْخِيرَ الْإِقْحَامِ فِيهِ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَطْلَقَ الْعَذَابَ عَلَى آلَاتِهِ وَمَكَانِهِ. وَجَاءَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَنِ الِاسْمِ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمِ، فَأُرِيدَ تَقَوِّي حُكْمَ النَّفْيِ، أَيْ أَنَّ عَدَمَ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا طَمَاعِيَةَ فِي إِخْلَافِهِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَا حَصَلَ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِالْفَاءِ، أَيْ فَهُمْ يُلْقَوْنَ بِسُرْعَةٍ فِي الْعَذَاب. [86، 87] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 86 إِلَى 87] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ أَشْرَكُوا هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذين لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ. وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ عَلَيْهِمْ لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ إِجْرَامِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى تَكْذِيبِ مَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ نُكْتَةُ

الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ هُنَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ [سُورَة النَّحْل: 85] . فَالْإِشْرَاكُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ إِشْرَاكُهُمُ الْأَصْنَامَ فِي صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَصْنَامَ، أَيِ الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ حَسَبَ اعْتِقَادِهِمْ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أُضِيفَ لَفْظُ «شُرَكَاءَ» إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شُرَكاءَهُمْ، كَقَوْلِ خَالِدِ بْنِ الصَّقْعَبِ النَّهْدِيِّ لعَمْرو بن معديكرب وَقَدْ تَحَدَّثَ عَمْرٌو فِي مَجْلِسِ قَوْمٍ بِأَنَّهُ أَغَارَ عَلَى بَنِي نَهْدٍ وَقَتَلَ خَالِدًا، وَكَانَ خَالِدٌ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَنَادَاهُ: مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكُ يَسْمَعُ، أَيْ قَتِيلُكُ الْمَزْعُومُ، فَالْإِضَافَةُ لِلتَّهَكُّمِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا الشُّرَكَاءَ عِنْدَهُمْ، أَيْ فِي ظَنِّهِمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ لَفْظَ «شُرَكَاءَ» لَقَبًا زَالَ مِنْهُ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالشَّرِكَةِ وَصَارَ لَقَبًا لِلْأَصْنَامِ، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى أَصْلِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْأَصْنَامَ حِينَ تُقْذَفُ مَعَهُمْ فِي النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [سُورَة الْبَقَرَة: 24] . وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا إِمَّا مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَافِ عَنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ فَضْحًا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [سُورَة النُّور: 24] ، وَإِمَّا مِنْ قَبِيلِ التَّنَصُّلِ وَإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى الْمَعْبُودَاتِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ أَغْرَوْنَا بِعِبَادَتِهِمْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [سُورَة الْبَقَرَة: 167] . وَالْفَاءُ فِي فَأَلْقَوْا لِلتَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِتَكْذِيبِ مَا تَضَمَّنَهُ مَقَالُهُمْ، أَنْطَقَ اللَّهُ تِلْكَ الْأَصْنَامَ فَكَذَّبَتْ مَا تَضَمَّنَهُ مَقَالُهُمْ مِنْ كَوْنِ الْأَصْنَامِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، أَوْ مِنْ كَوْنِ عِبَادَتِهِمْ بِإِغْرَاءٍ مِنْهَا تَفْضِيحًا لَهُمْ وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَالْجَمْعُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَاسْمِ الْمَوْصُولِ جَمْعُ الْعُقَلَاءِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ.

وَلَمَّا كَانَ نُطْقُ الْأَصْنَامِ غَيْرَ جَارٍ عَلَى الْمُتَعَارَفِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِلْقَاءِ الْمُؤْذِنِ بِكَوْنِ الْقَوْلِ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَصْنَامِ مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونُوا نَاطِقِينَ فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهَا. وَإِسْنَادُ الْإِلْقَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الشُّرَكَاءِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهَا مَظْهَرُهُ. وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي فِعْلِ «أَلْقَوْا» مُشَاكَلَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْعُقَلَاءِ. وَوَصْفُهُمْ بِالْكَذِبِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ آلِهَةٌ يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى نَحْوِ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ: «فَيُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ» . وَأَمَّا صَرِيحُ كَلَامِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَهُمْ صَادِقُونَ فِيهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ بَدَلٌ مِنَ الْقَوْلَ. وَأُعِيدَ فِعْلُ أَلْقَوْا فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ لِاخْتِلَافِ فَاعِلِ الْإِلْقَاءِ، فَضَمِيرُ الْقَوْلِ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ أَلْقَوُا الثَّانِيَ مُمَاثِلًا لِفِعْلِ «أَلْقَوْا» السَّابِقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِلْقَاءَ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ بِحَالِ الْمُحَارِبِ إِذَا غُلِبَ إِذْ يُلْقِي سِلَاحَهُ بَيْنَ يَدَيْ غَالِبِهِ، فَفِي قَوْلِهِ: أَلْقَوْا مَكْنِيَّةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَعَ مَا فِي لَفْظِ أَلْقَوْا مِنَ الْمُشَاكَلَةِ. والسَّلَمَ- بِفَتْحِ اللَّامِ-: الِاسْتِسْلَامُ، أَيِ الطَّاعَةُ وَتَرْكُ الْعِنَادِ. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ غَابَ عَنْهُمْ وَزَايَلَهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ لِلْأَصْنَامِ مِنْ أَنَّهَا تَسْمَعُ لَهُمْ وَنَحْو ذَلِك.

[سورة النحل (16) : آية 88]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 88] الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) لَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ الَّذِينَ هُمْ لَاقُوهُ عَلَى كُفْرِهِمُ اسْتَأْنَفَ هُنَا بِذِكْرِ زِيَادَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي كُفْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى الْكَوْنِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ. وَالْمَقْصُودُ: تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى كَيْدِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، وَالتَّعْرِيضُ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شِرَاكِهِمْ. وَزِيَادَةُ الْعَذَابِ: مُضَاعَفَتُهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوْقَ الْعَذابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمَعْهُودِ حَيْثُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ [سُورَة النَّحْل: 85] ، لِأَنَّ عَذَابَ كُفْرِهِمْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَارَ كَالْمَعْهُودِ وَأَمَّا عَذَابُ صَدِّهِمُ النَّاسَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ فَكَانَ مَجْهُولًا فَنَاسَبَهُ التَّنْكِيرُ. وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يُفْسِدُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالْمُرَادُ: إِفْسَادُهُمُ الرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ بِتَسْوِيلِ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا فَعَلُوا مَعَ الْأَعْشَى حِينَ جَاءَ مَكَّةَ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ مادحا الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- بِقَصِيدَةِ: هَلِ اغْتَمَضَتْ عَيْنَاكِ لَيْلَةَ أَرْمَدَا وَقِصَّتُهُ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ وَالْأَدَبِ. وَكَمَا فَعَلُوا مَعَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الدَّوْسِيِّ فَإِنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ فَمَشَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا طُفَيْلُ إِنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا وَقَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَ أَمْرَنَا وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسِّحْرِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا فَلَا تُكَلِّمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعْنَ مِنْهُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ كَيْفَ تَعَرَّضُوا لَهُ بِالْأَذَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حِينَ عَلِمُوا إِسْلَامَهُ.

[سورة النحل (16) : آية 89]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ. تَكْرِيرٌ لِجُمْلَةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: 84] لِيُبْنَى عَلَيْهِ عَطْفُ جُمْلَةِ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا كَانَ تَكْرِيرًا أُعِيدَ نَظِيرُ الْجُمْلَةِ عَلَى صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ مُقْتَرِنَةً بِالْوَاوِ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةَ وَصْفِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَحَصَلَتْ مُغَايِرَةٌ مَعَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَالْمُغَايَرَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْعَطْفِ أَيْضًا. وَمِنْ دَوَاعِي تَكْرِيرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [سُورَة النَّحْل: 84- 88] ، فَهُوَ كَالْإِعَادَةِ فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ: فَتَنَازَعَا سَبْطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا مَعَ أَنَّ الْإِعَادَةَ هُنَا أَجْدَرُ لِأَنَّ الْفَصْلَ أَطْوَلُ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْإِعَادَةِ تَأْكِيدُ التَّهْدِيدِ وَالتَّسْجِيلِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ نَبْعَثُ هُنَا بِحَرْفِ فِي، وَعُدِّيَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِحَرْفِ (مِنْ) لِيَحْصُلَ التَّفَنُّنُ بَيْنَ الْمُكَرَّرَيْنِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ. وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّهِيدَ يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ زِيَادَةً فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ شَهَادَةَ الرُّسُلِ عَلَى الْأُمَمِ شَهَادَةٌ لَا مَطْعَنَ لَهُمْ فِيهَا لِأَنَّهَا شُهُودٌ مِنْ قَوْمِهِمْ لَا يَجِدُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَسَاغًا لِلطَّعْنِ.

وَلَمْ تَخْلُ أَيْضًا بَعْدَ التَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ مَنْ صَدِّ الْكَافِرِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ حُسْنِ مَوْقِعِ تَذْكِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ شَهِيدًا يَشْهَدُ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَبِمَا يَضُرُّ أَعْدَاءَهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي نظيرتها. وَلما كَانَ بُعِثَ الشُّهَدَاءُ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُرَادًا بِهِ بَعْثُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُضَارِعِ. وَجُمْلَةُ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ كُلِّهَا. فَالْمَعْنَى: وَجِئْنَا بِكَ لَمَّا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أُمَّتِكَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، أَيْ مُقَدَّرًا أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ حَيًّا فِي آنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ شَهِيدًا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَاخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي فِي جِئْنا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مَجِيءٌ حَصَلَ مِنْ يَوْمِ بِعْثَتِهِ. وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ لِبَقِيَّةِ إِخْوَانِهِ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْأُمَمِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَهْدِيدُ قَوْمِهِ وَتَحْذِيرُهُمْ. وَهَذَا الْوَجْهُ شَدِيدُ الْمُنَاسَبَةِ بِأَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ [سُورَة النَّحْل: 89] الْآيَةَ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذَا أَنَّ جُمْلَةَ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى نَبْعَثُ بِحَيْثُ تَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الظَّرْفِ وَهُوَ يَوْمَ، بَلْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ جُمْلَةِ يَوْمَ نَبْعَثُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا مِنْ وَقْتِ إِرْسَالِكَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَتَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الظَّرْفِ وَيَكُونُ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ مَجَازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، فَشَابَهَ بِهِ مَا حَصَلَ وَمَضَى، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: شَهِيداً. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ

تَغْيِيرِ صِيغَة الْفِعْل عَن الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَهْيِئَةَ عَطْفِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ. وَلَمْ يُوصَفِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَشَهِيدٌ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَأَمَّا وَصْفُهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [128] فَذَلِكَ وَصْفٌ كَاشِفٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ التَّذْكِيرِ لِلْمُخَاطِبِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَمُّوا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ كُفْرَانَ نِعْمَةِ بَعْثِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ مَنْ قَوْمِهِمْ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: عَلى هؤُلاءِ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ شَهَادَتِهِ بِكَوْنِهَا شَهَادَةً عَلَى الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ فِي تَهْدِيدِهِمْ وَتَحْذِيرِهِمْ. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَكْثَرَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَوَاقِعَ أَمْثَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فَرَأَيْتُهُ يُعْنَى بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [89] . وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً أَيْ أَرْسَلْنَاكَ شَهِيدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَمُرْشِدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلشُّرُوعِ فِي تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعَمِ الْإِرْشَادِ وَنِعَمِ الْجَزَاء على الِامْتِثَال وَبَيَانُ بَرَكَاتِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ لَهُمْ.

وَتَعْرِيفُ الْكِتَابِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وتِبْياناً مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَالتِّبْيَانُ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَصْدَرِيَّةِ، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ، وَهُوَ- بِكَسْرِ التَّاءِ-، وَلَا يُوجَدُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ تِفْعَالٌ- بِكَسْرِ التَّاءِ- إِلَّا تِبْيَانٌ بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَمَا هُنَا. وتلقاء بِمَعْنَى اللِّقَاءِ لَا بِمَعْنَى الْمَكَانِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذِهِ الزّنة فَهِيَ- بِفَتْحِ التَّاءِ-. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذِهِ الزِّنَةِ فَهِيَ- بِكَسْرِ التَّاءِ- وَهِيَ قَلِيلَةٌ، عُدَّ مِنْهَا: تِمْثَالٌ، وَتِنْبَالٌ، لِلْقَصِيرِ. وَأَنْهَاهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي نَظْمِ الْفَوَائِدِ (¬1) إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً (¬2) . وَ «كُلُّ شَيْءٍ» يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّهُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ فِي دَائِرَةِ مَا لِمِثْلِهِ تَجِيءُ الْأَدْيَانُ وَالشَّرَائِعُ: مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَإِكْمَالِ الْأَخْلَاقِ، وَتَقْوِيمِ الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ، وَتَبَيُّنِ الْحُقُوقِ، وَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَأْتِي فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدَّقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَوَصْفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَأَسْبَابِ فَلَاحِهَا وَخَسَارِهَا، وَالْمَوْعِظَةِ بِآثَارِهَا بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِهِمْ وَحَضَارَاتِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ. وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَسْرَارٌ وَنُكَتٌ مِنْ أُصُولِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ الْحَقِيقِيِّ إِنْ سَلَكَ فِي بَيَانِهَا طَرِيقَ التَّفْصِيلِ وَاسْتُنِيرَ فِيهَا بِمَا شَرَحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَفَاهُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَعُلَمَاءُ أُمَّتِهِ، ثُمَّ مَا يَعُودُ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ وَصْفِ مَا أَعَدَّ لِلطَّائِعِينَ وَمَا أَعَدَّ لِلْمُعْرِضِينَ، وَوَصْفِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. فَفِي كُلِّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُقْصَدُ بَيَانُهُ لِلتَّبَصُّرِ فِي هَذَا الْغَرَض الْجَلِيل، فيؤول ذَلِكَ الْعُمُومُ الْعُرْفِيُّ بِصَرِيحِهِ إِلَى عُمُومٍ حَقِيقِيٍّ بِضِمْنِهِ وَلَوَازِمِهِ. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعَ الْإِعْجَازِ. ¬

(¬1) منظومة لَيست على رُوِيَ وَاحِد كَذَا فِي «كشف الظنون» . (¬2) انظرها فِي تَفْسِير الألوسي.

[سورة النحل (16) : آية 90]

وَخُصَّ بِالذِّكْرِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبُشْرَى لِأَهَمِّيَّتِهَا فَالْهُدَى مَا يَرْجِعُ مِنَ التِّبْيَانِ إِلَى تَقْوِيمِ الْعَقَائِدِ وَالْأَفْهَامِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الضَّلَالِ. وَالرَّحْمَةُ مَا يَرْجِعُ مِنْهُ إِلَى سَعَادَةِ الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَالْبُشْرَى مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالْحُسْنَيَيْنِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْهُ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِخَوَاصِّهِ كُلِّهَا. فَاللَّامُ فِي لِكُلِّ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٌ بِالتِّبْيَانِ، وَهِيَ لَامُ التَّقْوِيَةِ، لِأَنَّ «كُلَّ شَيْءٍ» فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تِبْياناً. وَاللَّامُ فِي لِلْمُسْلِمِينَ لَام العلّة يتنازع تعلّقها «تبيان وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى» وَهَذَا هُوَ الْوَجْه. [90] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 90] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) لَمَّا جَاءَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ حَسُنَ التَّخَلُّصُ إِلَى تِبْيَانِ أَصُولِ الْهُدَى فِي التَّشْرِيعِ لِلدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَائِدَةِ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، إِذِ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَالتَّقْوَى مُنْحَصِرَةٌ فِي الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ كَوْنِ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَهِيَ جَامِعَةٌ أُصُولَ التَّشْرِيعِ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ مَا حوته. وتصديرهما بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّشْرِيفِ، وَذَكَرَ يَأْمُرُ وَيَنْهى دُونَ أَنْ يُقَالَ: اعْدِلُوا وَاجْتَنِبُوا الْفَحْشَاءَ، لِلتَّشْوِيقِ. وَنَظِيرُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا» الْحَدِيثَ. وَالْعَدْلُ: إِعْطَاءُ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ. وَهُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لِلْحُقُوقِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ مِنَ الْحُقُوقِ الذَّاتِيَّةِ وَحُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ، إِذِ الْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ

بِالْعَدْلِ فِي ذَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سُورَة الْبَقَرَة: 191] ، وَمَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَهِيَ مُعَامَلَةٌ مَعَ خَالِقِهِ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِهِ وَبِأَدَاءِ حُقُوقِهِ وَمُعَامَلَةٌ مَعَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ أَصُولُ الْمُعَاشَرَةِ الْعَائِلِيَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى [سُورَة الْأَنْعَام: 152] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [58] . وَمِنْ هَذَا تَفَرَّعَتْ شُعَبُ نِظَامِ الْمُعَامَلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ آدَابٍ، وَحُقُوقٍ وَأَقْضِيَةٍ، وَشَهَادَاتٍ، وَمُعَامَلَةٍ مَعَ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سُورَة الْمَائِدَة: 8] . وَمَرْجِعُ تَفَاصِيلِ الْعَدْلِ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ. فَالْعَدْلُ هُنَا كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ جَامِعَةٌ فَهِيَ بِإِجْمَالِهَا مُنَاسبَة إِلَى أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَيُصَارُ فِيهَا إِلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَإِلَى مَا رَسَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْبَيَانِ فِي مَوَاضِعِ الْخَفَاءِ، فَحُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأُخُوَّةِ وَالتَّنَاصُحِ قَدْ أَصْبَحَتْ مِنَ الْعَدْلِ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ مُعَامَلَةٌ بِالْحُسْنَى مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهَا. وَالْحَسَنُ: مَا كَانَ مَحْبُوبًا عِنْدَ الْمُعَامَلِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِفَاعِلِهِ، وَأَعْلَاهُ مَا كَانَ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَدُونَ ذَلِكَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ. ثُمَّ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَدْلِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَمَعَ سَائِرِ الْأَصْنَافِ إِلَّا مَا حَرَّمَ الْإِحْسَانَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ» . وَمِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ مَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» : «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ يَأْكُلُ الثَّرَى فَنَزَعَتْ خُفَّهَا وَأَدْلَتْهُ فِي بِئْرٍ وَنَزَعَتْ فَسَقَتْهُ فَغَفَرَ الله لَهَا» . و

فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسَنُوا الذِّبْحَةَ» . وَمِنَ الْإِحْسَانِ أَنْ يُجَازِيَ الْمُحْسَنُ إِلَيْهِ الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ إِذْ لَيْسَ الْجَزَاءُ بِوَاجِبٍ. فَإِلَى حَقِيقَةِ الْإِحْسَانِ تَرْجِعُ أُصُولُ وَفُرُوعُ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ كُلِّهَا فِي الْعَائِلَةِ وَالصُّحْبَةِ. وَالْعَفْوُ عَنِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سُورَة آل عمرَان: 134] . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [151] . وَخَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ مِنْ جِنْسِ أَنْوَاعِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ نَوْعًا مُهِمًّا يَكْثُرُ أَنْ يَغْفُلَ النَّاسُ عَنْهُ وَيَتَهَاوَنُوا بِحَقِّهِ أَوْ بِفَضْلِهِ، وَهُوَ إِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الِاعْتِنَاءُ بِاجْتِلَابِ الْأَبْعَدِ وَاتِّقَاءِ شَرِّهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمُ الْغَفْلَةُ عَنِ الْقَرِيبِ وَالِاطْمِئْنَانُ مِنْ جَانِبِهِ وَتَعَوُّدُ التَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِهِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَثُرَ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ مِنْ مَوَالِيهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [سُورَة النِّسَاء: 2] ، وَقَالَ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [سُورَة الْإِسْرَاء: 26] ، وَقَالَ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [سُورَة النِّسَاءِ: 127] الْآيَةَ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَرَفُوا مُعْظَمَ إِحْسَانَهُمْ إِلَى الْأَبْعَدِينَ لِاجْتِلَابِ الْمَحْمَدَةِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ بَيْنَ النَّاسِ. وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْخُلُقُ مُتَفَشِّيًا فِي النَّاسِ حَتَّى فِي الْإِسْلَامِ إِلَى الْآنِ وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِالْأَقْرَبِينَ. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْصِدُونَ بِوَصَايَا أَمْوَالِهِمْ أَصْحَابَهُمْ مِنْ وُجُوهِ الْقَوْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سُورَة الْبَقَرَة: 180] . فَخَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ جِنْسِ الْعَدْلِ وَجِنْسِ الْإِحْسَانِ إِيتَاءَ الْمَالِ إِلَى ذِي الْقُرْبَى تَنْبِيهًا لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِأَنَّ الْقَرِيبَ أَحَقُّ بِالْإِنْصَافِ مَنْ غَيْرِهِ. وَأَحَقُّ بِالْإِحْسَانِ مَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْغَفْلَةِ وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَجْدَى مِنْ مَصْلَحَةِ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ.

وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى تَقْوِيمِ نِظَامِ الْعَائِلَةِ وَالْقَبِيلَةِ تَهْيِئَةً بِنُفُوسِ النَّاسِ إِلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي شُرِعَتْ فِيمَا بَعْدُ. وَعَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ اهْتِمَامًا بِهِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، فَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى ذُو حُكْمَيْنِ: وُجُوبٌ لِبَعْضِهِ، وَفَضِيلَةٌ لِبَعْضِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ فَرْضِ الْمَوَارِيثِ. وَذُو الْقُرْبَى: هُوَ صَاحِبُ الْقَرَابَةِ، أَيْ مِنَ الْمُؤْتِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [152] . وَالْإِيتَاءُ الْإِعْطَاءُ. وَالْمُرَادُ إِعْطَاءُ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [سُورَة النَّمْل: 76] ، وَقَالَ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [سُورَة الْبَقَرَة: 177] . وَنَهَى اللَّهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَهِيَ أُصُولُ الْمَفَاسِدِ. فَأَمَّا الْفَحْشَاءُ: فَاسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ تَسْتَفْظِعُهُ النُّفُوسُ لِفَسَادِهِ مِنَ الْآثَامِ الَّتِي تُفْسِدُ نَفْسَ الْمَرْءِ: مِنِ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ أَوْ عَمَلٍ مُفْسِدٍ لِلْخَلْقِ، وَالَّتِي تَضُرُّ بِأَفْرَادِ النَّاسِ بِحَيْثُ تُلْقِي فِيهِمُ الْفَسَادَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ غَصْبِ مَالٍ، أَوْ تَضُرُّ بِحَالِ الْمُجْتَمَعِ وَتُدْخِلُ عَلَيْهِ الِاضْطِرَابَ مِنْ حرابة أَو زنا أَوْ تَقَامُرٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ. فَدَخَلَ فِي الْفَحْشَاءِ كُلُّ مَا يُوجِبُ اخْتِلَالَ الْمُنَاسِبِ الضَّرُورِيِّ، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ الْفَوَاحِشَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفَحْشَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [33] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَهُوَ مَا تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ الْمُعْتَدِلَةُ وَتَكْرَهُهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً [سُورَة المجادلة: 2] ، وَقَالَ: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [سُورَة العنكبوت: 29] . وَالِاسْتِنْكَارُ مَرَاتِبٌ، مِنْهَا مَرْتَبَةُ الْحَرَامِ، وَمِنْهَا مَرْتَبَةُ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَشَمِلَ الْمُنْكِرُ كُلَّ مَا يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْمُنَاسِبِ الْحَاجِيِّ، وَكَذَلِكَ مَا يُعَطِّلُ الْمُنَاسِبَ التَّحْسِينِيَّ بِدُونِ مَا يُفْضِي مِنْهُ إِلَى ضُرٍّ.

وَخَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ نَوْعًا مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْبَغْيُ اهْتِمَامًا بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْسَاقُ إِلَيْهِ بِدَافِعِ الْغَضَبِ وَتَغْفُلُ عَمَّا يَشْمَلُهُ مِنَ النَّهْيِ مِنْ عُمُومِ الْفَحْشَاءِ بِسَبَبِ فُشُوِّهِ بَيْنَ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ بَأْسٍ وَشَجَاعَةٍ وَإِبَاءٍ، فَكَانُوا يَكْثُرُ فِيهِمُ الْبَغْيُ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا لَقِيَ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا يَكْرَهُهُ أَوْ مُعَاملَة يعدّها هضيمة وَتَقْصِيرًا فِي تَعْظِيمِهِ. وَبِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ عَلَى مُرِيدِ الْبَغْيِ حُسْنُ الذَّبِّ عَمَّا يُسَمِّيهِ الشَّرَفَ وَقُبْحُ مُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَزَاءِ. فَالْبَغْيُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ فِي الْمُعَامَلَةِ، إِمَّا بِدُونِ مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ كَالْغَارَةِ الَّتِي كَانَتْ وَسِيلَةَ كَسْبٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِمَّا بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي مُقَابَلَةِ الذَّنْبِ كَالْإِفْرَاطِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [سُورَة الْبَقَرَة: 194] . وَقَالَ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [سُورَة الْحَج: 60] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [33] . فَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْرِ بِثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثَةٍ، بَلْ فِي الْأَمْرِ بِشَيْئَيْنِ وَتَكْمِلَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ شَيْئَيْنِ وَتَكْمِلَةٍ. رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَنَّ هَذِهِ كَانَتِ السَّبَبَ فِي تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بِجَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ حَدِيثَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ حَيَاءً مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَهَا النَّبِيءُ عَلَيْهِ. قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ اه. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ مُتَّصِلَةً بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكَانَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِآيَةِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً

لِكُلِّ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: 89] إِلَخْ، وَلِأَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً لِمَا بَعْدَهَا وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [سُورَة النَّحْل: 91] الْآيَةَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ مِنْ خُلُقٍ كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَقَدَحَ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ سَفَاسِفِ الْأَخْلَاقِ وَمَذَامِّهَا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَمر الله نبيئه أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَخَرَجَ، فَوَقَفَ عَلَى مَجْلِسِ قَوْمٍ مِنْ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي الْمَوْسِمِ. فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ، فَقَالَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو مِنْهُمْ: إِلَامَ تَدْعُونَا أَخَا قُرَيْشٍ، فَتَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الْآيَةَ. فَقَالَ: دَعَوْتَ وَاللَّهِ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْفِقْرَاتِ الشَّهِيرَةَ الَّتِي شَهِدَ بِهَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِلْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا هُوَ بِكَلَامِ بَشَرٍ» قَالَهَا عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدِ اهْتَدَى الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى مَا جَمَعَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَعَانِي الْخَيْرِ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ سَنَةَ 99 كَتَبَ يَأْمُرُ الْخُطَبَاءَ بِتِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَتُجْعَلُ تِلَاوَتُهَا عِوَضًا عَمَّا كَانُوا يَأْتُونَهُ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ مِنْ كَلِمَاتِ سَبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَفِي تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ السَّبِّ دَقِيقَةٌ أَنَّهَا تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ السَّبِّ إِذْ هُوَ مَنَّ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِيِّ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تعْيين الْوَقْت الَّتِي ابْتُدِعَ فِيهِ هَذَا السَّبُّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

[سورة النحل (16) : آية 91]

وَفِي «السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ» أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ «الشَّجَرَةَ» بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ وَسَمَّاهُ السُّبْكِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ «شَجَرَةَ الْمَعَارِفِ» . وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالْوَعْظُ: كَلَامٌ يُقْصَدُ مِنْهُ إِبْعَادُ الْمُخَاطَبِ بِهِ عَنِ الْفَسَادِ وَتَحْرِيضُهُ عَلَى الصَّلَاحِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] . وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ مِنْ شَأْنِ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لِلْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ، وَلِذَلِكَ قَارَنَهَا بِالرَّجَاءِ بِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. والتذكر: مُرَاجعَة المنسيّ الْمَغْفُولِ عَنْهُ، أَيْ رَجَاءَ أَنْ تَتَذَكَّرُوا، أَيْ تَتَذَكَّرُوا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ بَاقِيَةٌ فِي نفوسكم. [91] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 91] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمِلَاكِ الْمَصَالِحِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مِلَاكِ الْمَفَاسِدِ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: 90] . فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً حَسَنَةً لِهَذَا الِانْتِقَالِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَغْرَاضِ تَفَنُّنِ الْقُرْآنِ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى كَمَالٍ وَخَيْرٍ بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُبَيِّنِ لِكُلِّ شَيْءٍ. لَا جَرَمَ ذَكَّرَهُمُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ عِنْد مَا أَسْلَمُوا، وَهُوَ مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا فِيهِ: أَنْ لَا يَعْصُوهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَقْتِ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ. وَتَكَرَّرَتِ الْبَيْعَةُ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى أُمُورٍ أُخْرَى، مِثْلِ النُّصْرَةِ الَّتِي بَايَعَ عَلَيْهَا الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَمِثْلِ بَيْعَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.

وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى عَهْدِهِمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَإِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَهُمْ قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [سُورَة الْفَتْح: 10] ، وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [سُورَة الْأَحْزَاب: 23] . وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ. وإِذا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الزَّمَانِ لِتَأْكِيدِ الْوَفَاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَاهَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. [سُورَة النَّحْل: 91] وَالْعَهْدُ: الْحَلِفُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. وَكَذَلِكَ النَّقْضُ تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَنَقْضُ الْأَيْمَانِ: إِبْطَالُ مَا كَانَتْ لِأَجْلِهِ. فَالنَّقْضُ إِبْطَالُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا إِبْطَالُ الْقَسَمِ، فَجَعَلَ إِبْطَالَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَقْضًا لِلْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ تَهْوِيلًا وَتَغْلِيظًا لِلنَّقْضِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُرْمَةِ الْيَمِينِ. وبَعْدَ تَوْكِيدِها زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ بِالْبَعْدِيَّةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَيْمَانٌ مَعْلُومَةٌ وَهِيَ أَيْمَانُ الْعَهْدِ وَالْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ فِيهَا بَعْدِيَّةٌ. وبَعْدِ هُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) ، إِذِ الْبَعْدِيَّةُ وَالْمَعِيَّةُ أَثَرُهُمَا وَاحِدٌ هُنَا، وَهُوَ حُصُولُ تَوْثِيقِ الْأَيْمَانِ وَتَوْكِيدِهَا، كَقَوْلِ الشُّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ: بَنِي عَمِّنَا لَا تَذكرُوا الشّعْر بعد مَا ... دَفَنْتُمْ بِصَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ الْقَوَافِيَا أَيْ لَا تَذْكُرُوا أَنَّكُمْ شُعَرَاءُ وَأَنَّ لَكُمْ شِعْرًا، أَوْ لَا تَنْطِقُوا بِشِعْرٍ مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ فِي وَقْعَةِ صَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ (¬1) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [سُورَة الحجرات: 11] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. ¬

(¬1) وَهَذَا كِنَايَة عَن ترك قَول الشّعْر لِأَن أهم أغراض قَول الشّعْر قد تعطل فيهم.

وَالتَّوْكِيدُ: التَّوْثِيقُ وَتَكْرِيرُ الْفَتْلِ، وَلَيْسَ هُوَ تَوْكِيدَ اللَّفْظِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ فَهُوَ ضِدُّ النَّقْضِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأَيْمَانِ لَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَلَا إِلَى مَفْعُولِهِ إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِالْمَصْدَرِ التَّجَدُّدُ بَلِ الِاسْمُ، فَهِيَ الْإِضَافَةُ الْأَصْلِيَّةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيِ التَّوْكِيدِ الثَّابِتِ لَهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا. وَالْمَعْنَى: بَعْدَ مَا فِيهَا مِنَ التَّوْكِيدِ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ حَلِفِهَا. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مِنَ الْيَمِينِ مَا لَا حَرَجَ فِي نَقْضِهِ، وَهُوَ مَا سَمَّوْهُ يَمِينَ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ انْزِلَاقٌ عَنْ مَهْيَعِ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ. وَيُؤَيِّدُ مَا فَسَّرْنَاهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا الْوَاقِعُ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَنْقُضُوا، أَيْ لَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ فِي حَالِ جَعْلِكُمُ اللَّهُ كَفِيلًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِذَا أَقْسَمْتُمْ بِاسْمِهِ، فَإِنَّ مَدْلُولَ الْقَسَمِ أَنَّهُ إِشْهَادُ اللَّهِ بِصِدْقِ مَا يَقُولُهُ الْمُقْسِمُ: فَيَأْتِي بِاسْمِ اللَّهِ كَالْإِتْيَانِ بِذَاتِ الشَّاهِدِ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَلِفُ شَهَادَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة النُّور: 6] . وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَظْهَرُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّهْيِ عَنْهَا. وَالْكَفِيلُ: الشَّاهِدُ وَالضَّامِنُ وَالرَّقِيبُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرَاعَى لِتَحْقِيقِ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَسَمَ بِاسْمِ اللَّهِ إِشْهَادٌ لِلَّهِ وَكَفَالَةٌ بِهِ. وَقَدْ كَانُوا عِنْدَ الْعَهْدِ يَحْلِفُونَ وَيُشْهِدُونَ الْكُفَلَاءَ بِالتَّنْفِيذِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا قُ ... دِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْتُمُ لَا بِ كَفِيلًا أَيْ أَقَمْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَقَامَ الْكَفِيلِ، أَيْ فَهُوَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ لَهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: أَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [سُورَة التَّوْبَة: 118] .

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مُعْتَرِضَةٌ. وَهِيَ خَبَرٌ مُرَادٌ مِنْهُ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لِتَذْكِيرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ، فَالتَّوْكِيدُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِبِنَاءِ الْجُمْلَةِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ، وَلَا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي يَعْلَمُ وَفِي تَفْعَلُونَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ كُلَّمَا فَعَلُوا فِعْلًا فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ كُلِّهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِلَى هُنَا تَأْكِيدُ الْوِصَايَةِ بِحِفْظِ عَهْدِ الْإِيمَانِ. وَعَدَمِ الِارْتِدَادِ إِلَى الْكُفْرِ، وَسَدِّ مَدَاخِلِ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ بِفُنُونِ الصَّدِّ، كَقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سُورَة سبأ: 35] ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [53] . وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى سَبَبٍ. وَذَكَرُوا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ [سُورَة النَّحْل: 106] أَنَّ آيَةَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ إِلَى آخِرِهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لَمَّا فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا سَيَأْتِي، فَجَعَلُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ اتِّصَالًا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كَأَنَّ قَوْمًا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ لِجَزَعِهِمْ مَا رَأَوْا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ واستضعافهم الْمُسلمين وإيذائهم لَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا يَعِدُونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا مِنَ الْمَوَاعِيدِ أَنْ يَنْقُضُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ اه. يُرِيدُ أَنَّ لَهْجَةَ التَّحْذِيرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ [سُورَة النَّحْل: 92] تنبىء عَنْ حَالَةٍ مِنَ الْوَسْوَسَةِ دَاخَلَتْ قُلُوبَ بَعْضِ حَدِيثِي الْإِسْلَامِ فَنَبَّأَهُمُ اللَّهُ بِهَا وَحَذَّرَهُمْ مِنْهَا فَسَلمُوا.

[سورة النحل (16) : آية 92]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 92] وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) تشنيع لِحَالِ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ. وَعَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [سُورَة النَّحْل: 91] . وَاعْتَمَدَ الْعَطْفُ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ لِمَا فِي هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَوْقِعِ كَالتَّوْكِيدِ لِجُمْلَةِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ. نُهُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مَضْرِبَ مَثَلٍ مَعْرُوفٍ فِي الْعَرَبِ بِالِاسْتِهْزَاءِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا بَعْدَ شَدِّ فَتْلِهِ. فَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا امْرَأَةٌ اسْمُهَا رَيْطَةُ بنت سعد التيمية من بني تيم مِنْ قُرَيْشٍ. وَعَبَّرَ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِاشْتِهَارِهَا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَلِأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ، هُوَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا فِي هَذَا التَّمْثِيلِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَذْكُرُ فِيهِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ إِلَّا مَنِ اشْتُهِرَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ مِثْلُ جَالُوتَ وَقَارُونَ. وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهَا أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً خَرْقَاءَ مُخْتَلَّةَ الْعَقْلِ، وَلَهَا جَوَارٍ، وَقَدِ اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا قَدْرَ ذِرَاعٍ وَصِنَّارَةٍ مِثْلِ أُصْبُعٍ وَفَلْكَةٍ عَظِيمَةٍ (¬1) عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَغْزِلُ هِيَ وَجَوَارِيهَا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَتَنْقُضُ مَا غَزَلَتْهُ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ كُلَّ يَوْمٍ، فَكَانَ حَالُهَا إِفْسَادَ مَا كَانَ نَافِعًا مُحْكَمًا مِنْ عَمَلِهَا وَإِرْجَاعَهُ إِلَى عَدَمِ الصَّلَاحِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِهَا فِي نَقْضِهِمْ عَهْدَ اللَّهِ وَهُوَ عَهْدُ الْإِيمَانِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الرُّجُوعُ إِلَى فَسَادٍ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِصَلَاحٍ. ¬

(¬1) فلكة بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون اللَّام عود بأعلاه دَائِرَة مِنْهُ يلفّ عَلَيْهِ الْغَزل.

وَالْغَزَلُ: هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَغْزُولِ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْبَلُ النَّقْضَ. وَالْغَزْلُ: فِتَلُ نُتَفٍ مِنَ الصُّوفِ أَوِ الشَّعْرِ لِتُجْعَلَ خُيُوطًا مُحْكَمَةَ اتِّصَالِ الْأَجْزَاءِ بِوَاسِطَةِ إِدَارَةِ آلَةِ الْغَزْلِ بِحَيْثُ تَلْتَفُّ النُّتَفُ الْمَفْتُولَةُ بِالْيَدِ فَتَصِيرُ خَيْطًا غَلِيظًا طَوِيلًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَكُونَ سُدًى أَوْ لُحْمَةً لِلنَّسْجِ. وَالْقُوَّةُ: إِحْكَامُ الْغَزْلِ، أَيْ نَقَضَتْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُحْكَمَ الْفَتْلِ لَا مُوجِبَ لِنَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فَتْلُهُ غَيْرَ مُحْكَمٍ لَكَانَ عُذْرٌ لِنَقْضِهِ. وَالْأَنْكَاثُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ-: جَمْعُ نِكْثٍ- بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ- أَيْ مَنْكُوثٌ، أَيْ مَنْقُوضٌ، وَنَظِيرُهُ نَقْضٌ وَأَنْقَاضٌ. وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنَّ مَا كَانَ غَزْلًا وَاحِدًا جَعَلَتْهُ مَنْقُوضًا، أَيْ خُيُوطًا عَدِيدَةً. وَذَلِكَ بِأَنْ صَيَّرَتْهُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْغَزَلِ وَهِيَ كَوْنُهُ خُيُوطًا ذَاتَ عَدَدٍ. وَانْتَصَبَ أَنْكاثاً عَلَى الْحَالِ مِنْ غَزْلَها، أَيْ نَقَضَتْهُ فَإِذَا هُوَ أَنْكَاثٌ. وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ [سُورَة النَّحْل: 91] . وَالدَّخَلُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْفَسَادُ، أَيْ تَجْعَلُونَ أَيْمَانَكُمُ الَّتِي حَلَفْتُمُوهَا.. وَالدَّخَلُ أَيْضًا: الشَّيْءُ الْفَاسِدُ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: تَرَى الْفِتْيَانَ كَالنَّخْلِ وَمَا يُدْرِيكَ مَا الدَّخْلُ (سَكِّنِ الْخَاءَ لُغَةً أَوْ لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ نَظْمًا، أَوْ لِلسَّجْعِ إِنْ كَانَ نَثْرًا) ، أَيْ مَا يُدْرِيكَ مَا فِيهِمْ مِنْ فَسَادٍ. وَالْمَعْنَى: تَجْعَلُونَ أَيْمَانَكُمُ الْحَقِيقَةَ بِأَنْ تَكُونَ مُعَظَّمَةً وَصَالِحَةً فَيَجْعَلُونَهَا فَاسِدَةً كَاذِبَةً، فَيَكُونُ وَصْفُ الْأَيْمَانِ بِالدَّخَلِ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً أَوْ تَجْعَلُونَهَا سَبَبَ فَسَادٍ بَيْنِكُمْ إِذْ تَجْعَلُونَهَا وَسِيلَةً لِلْغَدْرِ وَالْمَكْرِ فَيَكُونُ وَصْفُ الْأَيْمَانِ بِالدَّخَلِ مَجَازًا عَقْلِيًّا. وَوَجْهُ الْفَسَادِ أَنَّهَا تَقْتَضِي اطْمِئْنَانَ الْمُتَحَالِفِينَ فَإِذَا نَقَضَهَا أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ فَقَدْ تَسَبَّبَ فِي الْخِصَامِ وَالْحِقْدِ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ نَقْضِ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ بِمُقْتَضٍ أَنَّ نَقْضًا حَدَثَ فِيهِمْ.

وَ (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) مَعْمُولٌ لِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفَةٍ كَمَا هُوَ غَالِبُ حَالِهَا مَعَ أَنْ. وَالْمَعْنَى التَّعْلِيلُ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِنَقْضِ الْأَيْمَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ تَنْقُضُونَ الْأَيْمَانَ بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، أَيْ أَقْوَى وَأَكْثَرُ. وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ وَالْقَبِيلَةُ. وَالْمَقْصُودُ طَائِفَةُ الْمُشْرِكِينَ وَأَحْلَافُهُمْ. وأَرْبى: أَزْيَدُ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الرُّبُوِّ بِوَزْنِ الْعُلُوِّ، أَيِ الزِّيَادَةِ، يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ أَعْنِي كَثْرَةَ الْعَدَدِ، وَالْمَجَازَ أَعْنِي رَفَاهِيَةَ الْحَالِ وَحُسْنَ الْعَيْشِ. وَكَلِمَةُ أَرْبى تُعْطِي هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا فَلَا تَعْدِلُهَا كَلِمَةٌ أُخْرَى تَصْلُحُ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَوَقْعُهَا هُنَا مِنْ مُقْتَضَى الْإِعْجَازِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَبْعَثُكُمْ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ كَوْنُ أُمَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ أُمَّةٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الْمَنْقُوضُ لِأَجْلِهَا وَأَنَّ الْأُمَّةَ الْمَفْضُولَةَ هِيَ الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا، أَيْ لَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى نَقْضِ الْحَلِفِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَمْوَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَبْعَثُكُمْ ذَلِكَ عَلَى الِانْفِصَالِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَجُمْلَةُ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلتَّعْلِيلِ بِمَا يَقْتَضِي الْحِكْمَةَ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ صِدْقَ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ [سُورَة الْأَنْعَام: 165] . وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا ذَلِكَ الرَّبْوُ إِلَّا بَلْوَى لَكُمْ. وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ. وَمَعْنَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ الْكِنَايَةَ عَنْ إِظْهَارِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ بِهِ يَعُودُ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ أَنَّهُ سَيُبَيِّنُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ فَتَظْهَرُ الْحَقَائِقُ كَمَا هِيَ غَيْرُ مُغَشَّاةٍ بِزَخَارِفِ الشَّهَوَاتِ وَلَا

[سورة النحل (16) : آية 93]

بِمَكَارِهِ مُخَالَفَةِ الطِّبَاعِ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ الْحَقَائِقِ لَا لَبْسَ فِيهَا، فَيَوْمَئِذٍ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْخَيْرُ الْمَحْضُ وَأَنَّ الْكُفْرَ شَرٌّ مَحْضٌ. وَأَكَّدَ هَذَا الْوَعْدَ بِمُؤَكِّدَيْنِ: الْقَسَمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ وَنُونُ التَّوْكِيدِ. ثُمَّ يَظْهَرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي تَرَتُّبِ آثَارِهِ إِذْ يَكُونُ النَّعِيمُ إِثْرَ الْإِيمَانِ وَيَكُونُ الْعَذَابُ إِثْرَ الشِّرْكِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا. [93] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 93] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) لَمَّا أَحَالَ الْبَيَانَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ زَادَهُمْ إِعْلَامًا بِحِكْمَةِ هَذَا التَّأْخِيرِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الْحَقَّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَيَجْعَلُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً. وَلَكِنَّهُ أَضَلَّ مَنْ شَاءَ، أَيْ خَلَقَ فِيهِ دَاعِيَةَ الضَّلَالِ، وَهَدَى مَنْ شَاءَ، أَيْ خَلَقَ فِيهِ دَاعِيَةَ الْهُدَى. وَأَحَالَ الْأَمْرَ هُنَا عَلَى الْمَشِيئَةِ إِجْمَالًا، لِتَعَذُّرِ نَشْرِ مَطَاوِي الْحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَمَرْجِعُهَا إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ النَّاشِئِ عَنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ التَّفْكِيرِ وَمَرَاتِبِ الْمَدَارِكِ وَالْعُقُولِ، وَذَلِكَ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَطَوُّرَاتٍ عَظِيمَةٍ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ فِي تَنَاسُلِهِ وَحَضَارَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [سُورَة الانشقاق: 25] . وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى كُنْهِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَتَظْهَرُ آثَارُهَا فِي فِرْقَةِ الْمُهْتَدِينَ وَفِرْقَةِ الضَّالِّينَ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ قَدْ يَغْتَرُّ بِهِ قِصَارُ الْأَنْظَارِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ الضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ سَوَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ الضَّالِّينَ مَعْذُورُونَ فِي ضَلَالِهِمْ إِذْ كَانَ مِنْ أَثَرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

[سورة النحل (16) : آية 94]

وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُؤَكَّدًا بِتَأْكِيدَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا، أَيْ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلِ ضَلَالٍ أَوْ عَمَلِ هدى. وَالسُّؤَال: كنية عَنِ الْمُحَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ سُؤَالٌ حَكِيمٌ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِنَارَةَ وَلَيْسَ سُؤال استطلاع. [94] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 94] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) لَمَّا حَذَّرَهُمْ مِنَ النّقض الَّذِي يؤول إِلَى اتِّخَاذِ أَيْمَانِهِمْ دَخَلًا فِيهِمْ، وَأَشَارَ بِالْإِجْمَالِ إِلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ فِيهِمْ، أَعَادَ الْكَرَّةَ إِلَى بَيَانِ عَاقِبَةِ ذَلِكَ الصَّنِيعِ إِعَادَةً تُفِيدُ التَّصْرِيحَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَتَأْكِيدَ التَّحْذِيرِ، وَتَفْصِيلَ الْفَسَادِ فِي الدُّنْيَا، وَسُوءَ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا تَصْرِيحًا بِالنَّهْيِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [سُورَة النَّحْل: 92] ، وَكَانَ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَفْصِيلًا لِمَا أُجْمِلَ فِي مَعْنَى الدَّخَلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الْمَعْطُوفُ عَلَى التَّفْرِيعِ وَعِيدٌ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ. وَبِهَذَا التَّصْدِيرِ وَهَذَا التَّفْرِيعِ النَّاشِئِ عَنْ جُمْلَةِ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَارَقَتْ هَذِهِ نَظِيرَتَهَا السَّابِقَةَ بِالتَّفْصِيلِ وَالزِّيَادَةِ فَحُقَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا لِهَذِهِ الْمُغَايَرَةِ وَإِنْ كَانَ شَأْنُ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنْ لَا تُعْطَفَ. وَالزَّلَلُ: تَزَلُّقُ الرِّجْلِ وَتَنَقُّلُهَا مِنْ مَوْضِعِهَا دُونَ إِرَادَةِ صَاحِبِهَا بِسَبَبِ مَلَاسَةِ الْأَرْضِ مِنْ طِينٍ رَطْبٍ أَوْ تَخَلْخُلِ حَصًى أَوْ حَجَرٍ مِنْ تَحْتِ الْقَدَمِ فَيَسْقُطُ الْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَزَلَلُ الْقَدَمِ تَمْثِيلٌ لِاخْتِلَالِ الْحَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلضُّرِّ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ السُّقُوطُ أَوِ الْكَسْرُ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْقَدَمِ تَمَكُّنُ الرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِاسْتِقَامَةِ الْحَالِ وَدَوَامِ السَّيْرِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ تَمْثِيلَ مَا يَجُرُّهُ نَقْضُ الْأَيْمَانِ مِنَ الدَّخَلِ شُبِّهَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ الْمَاشِي فِي طَرِيقٍ بَيْنَمَا كَانَتْ قَدَمُهُ ثَابِتَةً إِذَا هِيَ قَدْ زَلَّتْ بِهِ فَصُرِعَ. فَالْمُشَبَّهُ بِهَا حَالُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ نُكِّرَتْ قَدَمٌ وَأُفْرِدَتْ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُود قدما معيّنة وَلَا عَدَدًا مِنَ الْأَقْدَامِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ لِجَمَاعَةٍ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرٍ: أَرَاكُمْ تُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُونَ أُخْرَى. تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ بِحَالِ الشَّخْصِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْمَشْيِ إِلَى الشَّيْءِ. وَزِيَادَةُ بَعْدَ ثُبُوتِها مَعَ أَنَّ الزَّلَلَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ لِتَصْوِيرِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُ انْحِطَاطٌ مَنْ حَالِ سَعَادَةٍ إِلَى حَالِ شَقَاءٍ وَمَنْ حَالِ سَلَامَةٍ إِلَى حَالِ مِحْنَةٍ. وَالثُّبُوتُ: مَصْدَرُ ثَبَتَ كَالثَّبَاتِ، وَهُوَ الرُّسُوخُ وَعَدَمُ التَّنَقُّلِ، وَخَصَّ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْكُتَّابِ الثُّبُوتَ الَّذِي بِالْوَاوِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّحَقُّقُ مِثْلُ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ لَدَى الْقَاضِي، وَخَصُّوا الثَّبَاتَ الَّذِي بِالْأَلِفِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ. وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ الْقَوِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] . وَالسُّوءُ: مَا يُؤْلِمُ. وَالْمُرَادُ بِهِ: ذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ النَّاكِثِينَ عَنِ الدِّينِ أَوِ الْخَائِنِينَ عُهُودَهُمْ. وصَدَدْتُمْ هُنَا قَاصِر، أَي بكونكم مُعْرِضِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. ذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ جَاءَتْ فِي الْحِفَاظِ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي يُعَاهِدُونَ اللَّهَ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ. فَسَبِيلُ اللَّهِ: هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 95 إلى 96]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةِ غَدْرِ الْعَهْدِ. وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِارْتِدَادِ مُدَّةَ مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة. وَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ حِينَ ظَهَرَ النِّفَاقُ، فَكَانَتْ فَلْتَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَاحِدَةً فِي الْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ تَابَ وَقَبِلَ تَوْبَته النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [95، 96] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 95 إِلَى 96] وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96) الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ إِنْ رَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ وَهَنَاءِ عَيْشٍ. وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ مَا فَاتَهُمْ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَنَافِعَ عِنْدَ قَوْمِ الشِّرْكِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [سُورَة النَّحْل: 91] وَعَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [سُورَة النَّحْل: 94] لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَرَضٍ خَاصٍّ مِمَّا قَدْ يَبْعَثُ عَلَى النَّقْضِ. وَالثَّمَنُ: الْعِوَضُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُعَاوِضُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] . وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ قَلِيلًا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ وَلَيْسَتْ مُقَيَّدَةً، أَيْ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُؤْخَذُ عَنْ نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ هُوَ عِوَضٌ قَلِيلٌ وَلَوْ كَانَ أَعْظَمَ الْمُكْتَسَبَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ عِوَضِ الِاشْتِرَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْقِلَّةِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ.

وَ «مَا عِنْدَ اللَّهِ» هُوَ مَا ادَّخَرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سُورَة النَّحْل: 97] الْآيَةَ فَخَيْرُ الدُّنْيَا الْمَوْعُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَبْذُلُهُ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَخَيْرُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، فَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الِادِّخَارِ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: لَكَ عِنْدِي كَذَا، وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [سُورَة الْأَنْعَام: 59] وَقَوْلُهُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [سُورَة الْحجر: 21] وَقَوْلُهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ. وإِنَّما هَذِهِ مَرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ، فَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً (مَا) عَنْ (إِنَّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ (مَا) الْكَافَّةَ، وَلَكِنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ مَوْصُولَةً اعْتِبَارًا لِحَالَةِ النُّطْقِ وَلَمْ يَكُنْ وَصْلُ أَمْثَالِهَا مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْمُصْحَفِ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَغُرُّكُمُ الْعَاجِلُ. وَفِيهِ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالْعِلْمِ. وَجُمْلَةُ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَهُمْ خَيْرٌ مُتَجَدِّدٌ لَا نَفَادَ لَهُ، وَأَنَّ مَا يُعْطِيهِمُ الْمُشْركُونَ مَحْدُود نافد لِأَنَّ خَزَائِنَ النَّاسِ صَائِرَةٌ إِلَى النَّفَادِ بِالْإِعْطَاءِ وَخَزَائِنُ اللَّهِ بَاقِيَةٌ. وَالنَّفَادُ: الِانْقِرَاضُ. وَالْبَقَاءُ: عَدَمُ الْفَنَاءِ. أَيْ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَفْنَى فَالْأَجْدَرُ الِاعْتِمَادُ عَلَى عَطَاءِ اللَّهِ الْمَوْعُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الِاعْتِمَادِ عَلَى عَطَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَنْفَدُ رِزْقُهُمْ وَلَوْ كَثُرَ. وَهَذَا الْكَلَامُ جَرَى مَجْرَى التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، وَأُرْسِلَ إِرْسَالَ الْمَثَلِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَعَمَّ، وَلِذَلِكَ كَانَ ضَمِيرُ عِنْدَكُمْ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِقَرِينَةِ التَّذْيِيلِ وَالْمَثَلِ، وَبِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا عِنْدَ الْمَوْعُودِ وَمَا عِنْدَ الْوَاعِدِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ لَيْسَ بِيَدِهِمْ شَيْءٌ.

[سورة النحل (16) : آية 97]

وَلَمَّا كَانَ فِي نَهْيِهِمْ عَنْ أَخْذِ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ حَمْلٌ لَهُمْ عَلَى حِرْمَانِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ النّفع العاجل وعدو الْجَزَاءَ عَلَى صَبْرِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وليجزين بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِعَهْدِ اللَّهِ وَمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ النَّاهِي وَالْوَاعِدُ فَلَا جَرَمَ كَانَ هُوَ الْمُجَازِي عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَن ابْن عمر فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ. وأَجْرَهُمْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الثَّانِيَةِ لِ «يَجْزِيَنَّ» بِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَ «أَحْسَنَ» صِيغَةُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْنِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [سُورَة يُوسُف: 33] ، أَيْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمُ الْبَالِغِ فِي الْحُسْنِ وَهُوَ عَمَلُ الدَّوَامِ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ تَجَرُّعِ أَلَمِ الْفِتْنَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ أَكَّدَ الْوَعْدَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنون التوكيد. [97] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 97] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97) لَمَّا كَانَ الْوَعْدُ الْمُتَقَدِّمُ بُقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَيَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة النَّحْل: 96] خَاصًّا بِأُولَئِكَ الَّذِينَ نُهُوا عَنْ أَنْ يَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا عَقَّبَ بِتَعْمِيمِهِ لِكُلِّ مَنْ سَاوَاهُمْ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ التَّبْيِينِ لِلْأَجْرِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْبَيَانِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مُجْمَلِ الْأَجْرِ. وَكِلَا الاعتبارين يُوجب فصلها عَمَّا قَبْلَهَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تَبْيِينٌ لِلْعُمُومِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مَنْ الْمَوْصُولَةُ. وَفِي هَذَا الْبَيَانِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ يَسْتَوِي فِيهَا الذُّكُورُ وَالنِّسَاءُ عَدَا مَا خَصَّصَهُ الدِّينُ بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ. وَأَكَّدَ هَذَا الْوَعْدَ كَمَا أَكَّدَ الْمُبَيَّنَ بِهِ. وَذُكِرَ «لَنُحْيِيَنَّهُ» لِيُبْنَى عَلَيْهِ بَيَانُ نَوْعِ الْحَيَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَياةً طَيِّبَةً. وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْمَقْصُودُ، أَيْ لَنَجْعَلَنَّ لَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. وَابْتُدِئِ الْوَعْدُ بِإِسْنَادِ الْإِحْيَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَشْرِيفًا لَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَهُ حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ مِنَّا. وَلَمَّا كَانَتْ حَيَاةُ الذَّاتِ لَهَا مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَثُرَ إِطْلَاقُ الْحَيَاةِ عَلَى مُدَّتِهَا، فَوَصَفَهَا بِالطِّيبِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، أَيْ طَيِّبٌ مَا يَحْصُلُ فِيهَا، فَهَذَا الْوَصْفُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ طَيِّبًا مَا فِيهَا. وَيُقَارِنُهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْمَرْءِ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ، فَمَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسلمين الَّذين عمِلُوا صَالِحًا عَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْ عَمَلِهِ مَا فَاتَهُ مِنْ وَعْدِهِ. وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ نَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا» . وَالطَّيِّبُ: مَا يَطِيبُ وَيَحْسُنُ. وَضِدُّ الطيّب: الْخَبيث والسيّء. وَهَذَا وَعْدٌ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا. وَأَعْظَمُهَا الرِّضَى بِمَا قَسَمَ لَهُمْ وَحُسْنُ أَمَلِهِمْ بِالْعَاقِبَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَعِزَّةُ الْإِسْلَامِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَهَذَا مَقَامٌ دَقِيقٌ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَحْوَالُ عَلَى تَفَاوُتِ سَرَائِرِ النُّفُوسِ، وَيُعْطِي اللَّهُ فِيهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَرَاتِبِ هِمَمِهِمْ وَآمَالِهِمْ. وَمَنْ رَاقَبَ نَفْسَهُ رَأَى شَوَاهِدَ هَذَا. وَقَدْ عَقَّبَ بِوَعْدِ جَزَاءِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، فَاخْتَصَّ هَذَا بِأَجْرِ الْآخِرَةِ بِالْقَرِينَةِ بِخِلَافِ نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الجزاءين.

[سورة النحل (16) : الآيات 98 إلى 100]

[سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 98 إِلَى 100] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ هُنَا خَفِيٌّ وَدَقِيقٌ، وَلِذَلِكَ تَصَدَّى بَعْضُ حُذَّاقِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْهُ. فَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «لَمَّا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحُ وَوَعَدَ عَلَيْهِ وَصَلَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِيذَانًا بِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُجْزَلُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ» اه. وَهُوَ إِبْدَاءُ مُنَاسَبَةٍ ضَعِيفَةٍ لَا تَقْتَضِي تَمَكُّنَ ارْتِبَاطِ أَجْزَاءِ النَّظْمِ. وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ: «لما قَالَ: ولنجزيهم أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة النَّحْل: 97] أرشد إِلَى الْعلم الَّذِي تَخْلُصُ بِهِ الْأَعْمَالُ مِنَ الْوَسْوَاسِ» اه. وَهُوَ أَمْكَنُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» . وَزَادَ أَبُو السُّعُودِ: «لَمَّا كَانَ مَدَارُ الْجَزَاءِ هُوَ حُسْنَ الْعَمَلِ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا بِهِ يَحْسُنُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِأَنْ يَخْلُصَ مِنْ شَوْبِ الْفَسَادِ» . وَفِي كَلَامَيْهِمَا مِنَ الْوَهَنِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الِاسْتِعَاذَةِ بِإِرَادَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: «الْفَاءُ فِي فَإِذا وَاصِلَةٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهَا فِي مِثْلِ هَذَا» ، فَتَكُونُ الْفَاءُ عَلَى هَذَا لِمُجَرَّدِ وَصْلِ كَلَامٍ بِكَلَامٍ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ. وَقَالَ شَرَفُ الدِّينِ الطَّيْبِيُّ: «قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ مُتَّصِلٌ بِالْفَاءِ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سُورَة النَّحْل: 89] . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَّ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ جَامِعٍ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلٍّ شَيْءٍ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [سُورَة النَّحْل: 90]

الْآيَةَ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [سُورَة النَّحْل: 91] ، وَأَكَّدَهُ ذَلِكَ التَّأْكِيدَ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، أَيْ إِذَا شَرَعْتَ فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ الْجَامِعِ الَّذِي نَبَّهْتَ عَلَى بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، وَنَازَعَكَ فِيهِ الشَّيْطَانُ بِهَمْزِهِ وَنَفْثِهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَالْمَقْصُودُ إِرْشَادُ الْأُمَّةِ» اه. وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ وَقَدِ انْقَدَحَ فِي فِكْرِي قَبْلَ مُطَالَعَةِ كَلَامِهِ ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي كَلَامِهِ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَتَرَحَّمْتُهُ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ فَمَا بَيْنَ جُمْلَةِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً [النَّحْل: 89] إِلَخْ، وَجُمْلَةِ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ الشُّرُوعُ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْقُرْآنَ دُونَ أَنْ يُضْمَرَ لِلْكِتَابِ لِأَجْلِ بُعْدِ الْمَعَادِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَرَأْتَ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ الْفِعْلِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 6] ، وَقَوْلِهِ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ [سُورَة الْإِسْرَاء: 35] وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [سُورَةِ المجادلة: 3] ، أَي يُرِيدُونَ الْعود إِلَى أَزوَاجهم بِقَرِينَة قَوْله بعده مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فِي سُورَة الْمُجَادَلَةِ [3] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [9] ، أَيْ أَوْشَكُوا أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَقَوْلِهِ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [سُورَة الْأَحْزَاب: 53] ، أَيْ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْأَلُوهُنَّ، وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ» . وَحَمَلَهُ قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ وُقُوعِ الْفِعْلِ فَجَعَلُوا إِيقَاعَ الِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ. وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ. وَالصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُهُ، وَنُسِبَ إِلَى النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْبَاءُ فِي بِاللَّهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعَاذَةِ. يُقَالُ: عَاذَ بِحِصْنٍ، وَعَاذَ بِالْحَرَمِ. وَالسِّينُ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِلطَّلَبِ، أَيْ فَاطْلُبِ الْعَوْذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْعَوْذُ: اللَّجَأُ إِلَى مَا يَعْصِمُ وَيَقِي مِنْ أَمْرٍ مُضِرٍّ.

وَمَعْنَى طَلَبُ الْعَوْذِ بِاللَّهِ مُحَاوَلَةُ الْعَوْذِ بِهِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي جَانِبِ اللَّهِ إِلَّا بِالدُّعَاءِ أَنْ يُعِيذَهُ. وَمِنْ أَحْسَنِ الِامْتِثَالِ مُحَاكَاةُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ بِحَيْثُ لَا يُغَيِّرُ إِلَّا التَّغْيِيرَ الَّذِي لَا مَنَاصَ مِنْهُ فَتَكُونُ مُحَاكَاةُ لِفْظِ «اسْتَعِذْ» بِمَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْعَوْذِ بِأَنْ يُقَالَ: أَسْتُعِيذَ، أَوْ أَعُوذُ، فَاخْتِيرَ لَفْظُ أَعُوذُ لِأَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ، فَفِيهِ إنْشَاء الطّلب بِخِلَاف لَفْظُ أَسْتَعِيذُ فَإِنَّهُ أَخْفَى فِي إِنْشَاءِ الطّلب، على أَنه اقْتِدَاءٍ بِمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 97] وَأَبْقَى مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ آيَةِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَى حَالِهِ. وَهَذَا أبدع الِامْتِثَال، فَقَدْ وَرَدَ فِي عَمَلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» يُحَاكِي لَفْظَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي الِاسْتِعَاذَةِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ قِرَاءَة الْقُرْآن، فَلذَلِك لم يُحَاكِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِعَاذَتِهِ لِلْقِرَاءَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيءِ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ. وَمَا يُرْوَى مِنَ الزِّيَادَاتِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَجَاءَ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مَنْ هَمْزِهِ إِلَخْ» . فَتِلْكَ اسْتِعَاذَةُ تَعَوُّذٍ وَلَيْسَتِ الِاسْتِعَاذَةُ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَاسْمُ الشَّيْطَانِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى شَياطِينِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [14] . والرَّجِيمِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فِي سُورَةِ الْحجر [17] . وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ عُمُومُهُ لِأُمَّتِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ إِيذَانًا بِنَفَاسَةِ الْقُرْآنِ وَنَزَاهَتِهِ، إِذْ هُوَ نَازِلٌ مِنَ الْعَالَمِ الْقُدْسِيِّ الْمَلَكِيِّ، فَجَعَلَ افْتِتَاحَ قِرَاءَتَهُ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ النَّقَائِصِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلَا اسْتِطَاعَةُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَ تِلْكَ النَّقَائِصَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا بِأَنْ يسْأَل الله تَعَالَى أَنْ يُبْعِدَ الشَّيْطَانَ عَنْهُ بِأَنْ يَعُوذَ بِاللَّهِ، لِأَنَّ جَانِبَ اللَّهِ قُدْسِيٌّ لَا تَسَلُكُ الشَّيَاطِينُ إِلَى مَنْ يَأْوِي إِلَيْهِ، فَأَرْشَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِلَى سُؤَالِ

ذَلِكَ، وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يُعِيذَهُ مِنْهُ، وَأَنْ يُعِيذَ أُمَّتَهُ عَوْذًا مُنَاسِبًا، كَمَا شُرِعَتِ التَّسْمِيَةُ فِي الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ وَكَمَا شُرِعَتِ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُشْرَعْ لِذَلِكَ كَلِمَةُ (بَاسِمِ اللَّهِ) لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَخَلٍّ عَنِ النَّقَائِصِ، لَا مَقَامُ اسْتِجْلَابِ التَّيَمُّنِ وَالْبَرَكَةِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ يُمْنٌ وَبَرَكَةٌ وَكَمَالٌ تَامٌّ، فَالتَّيَمُّنُ حَاصِلٌ وَإِنَّمَا يُخْشَى الشَّيْطَانُ أَنْ يَغْشَى بَرَكَاتِهِ فَيُدْخِلَ فِيهَا مَا يُنْقِصُهَا، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَارَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى النُّطْقِ بِأَلْفَاظِهِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ وَكِلَاهُمَا مُعَرَّضٌ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَسُوسَةً تَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِهِ مِثْلُ الْإِنْسَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَاءَ يُضِيعُ عَلَى الْقَارِئِ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْمِقْدَارُ الْمَنْسِيُّ مِنْ إِرْشَادٍ، وَوَسْوَسَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَعَانِيهِ مثل أَن يخطىء فَهْمًا أَوْ يَقْلِبَ عَلَيْهِ مُرَادًا، وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ وَسْوَسَةِ الْإِنْسَاءِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُلَائِمُ مَحْمَلَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا تَعَلُّقَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَنَّهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، فَقَالُوا لِأَنَّ الْقَارِئَ كَانَ فِي عِبَادَةٍ فَرُبَّمَا دَخَلَهُ عُجْبٌ أَوْ رِيَاءٌ وَهُمَا مِنَ الشَّيْطَانِ فَأُمِرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ لِلسَّلَامَةِ مِنْ تَسْوِيلِهِ ذَلِكَ. وَمَحْمَلُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى النَّدْبِ لِانْتِفَاءِ أَمَارَاتِ الْإِيجَابِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُ. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ نَدَبَهُ مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ كُلِّ قِرَاءَةٍ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ قِرَاءَةً وَاحِدَةً تَكْفِي اسْتِعَاذَةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَوَّلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قِرَاءَةَ كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً مُسْتَقِلَّةً. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُ مَنْدُوبًا لِلْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَكَرِهَهَا فِي قِرَاءَةِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَأَبَاحَهَا بِلَا نَدْبٍ فِي قِرَاءَةِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ فِي الصَّلَاةِ كِفَايَةً فِي الْحِفْظِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَقِيلَ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً وَنُسِبَ إِلَى عَطَاءٍ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْقُرْآنَ عَلَى قُرْآنِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [سُورَة الْإِسْرَاء: 78]

وَقَالَ: الثَّوْرِيُّ بِالْوُجُوبِ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ تَجِبُ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْوُجُوبُ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّدَبُ لِبَقِيَّةِ أُمَّتِهِ. وَمَدَارِكُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَرَأْتَ، وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ، وَتَأْوِيلُ الْقُرْآنِ مَعَ مَا حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فِعْلًا وَتَرْكًا. وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فَالِاسْتِعَاذَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ لِإِرَادَتِهِ، وَلَيْسَتْ مَشْرُوعَةً عِنْدَ كُلِّ تَلَفُّظٍ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ كَالنُّطْقِ بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي التَّعْلِيمِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ أَوْ شِبْهِهِمَا، خِلَافًا لِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُتَحَذِّقِينَ إِذَا سَاقَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَقَامِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَقُولَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَيَسُوقُ آيَةً. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ الْآيَةَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَبَيَانٌ لِصِفَةِ الِاسْتِعَاذَةِ. فَأَمَّا كَوْنُهَا تَعْلِيلًا فَلِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تَمْنَعُ تَسَلُّطَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيذِ لِأَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْمُتَوَكِّلِينَ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّجَأَ إِلَيْهِ تَوَكُّلٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْإِعْلَامِ بِالْعِلَّةِ تَنْشِيطٌ لِلْمَأْمُورِ بِالْفِعْلِ عَلَى الِامْتِثَالِ إِذْ يَصِيرُ عَالِمًا بِالْحِكْمَةِ وَأَمَّا كَوْنُهَا بَيَانًا فَلِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذِكْرِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِعْرَابٌ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لدفع سُلْطَان الشَّيْطَانِ لِيَعْقِدَ الْمُسْتَعِيذُ نِيَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَيْسَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مُجَرَّدَ قَوْلٍ بِدُونِ اسْتِحْضَارِ نِيَّةِ الْعَوْذِ بِاللَّهِ. فَجُمْلَةُ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْمَوْصُولِ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْفِعْلِ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ. وَجَعَلَ فعلهَا مضارعا لإفاة تَجَدُّدِ التَّوَكُّلِ وَاسْتِمْرَارِهِ. فَنَفْيُ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ مَشْرُوطٌ بِالْأَمْرَيْنِ: الْإِيمَانُ، وَالتَّوَكُّلُ. وَمِنْ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [سُورَة الْحجر: 42] .

وَالسُّلْطَانُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ، وَهُوَ التَّسَلُّطُ وَالتَّصَرُّفُ الْمَكِينُ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِيمَان مبدأ أصيل لِتَوْهِينِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ انْدَفَعَ سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ عَنِ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلِ. وَجُمْلَةُ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: فَسُلْطَانُهُ عَلَى مَنْ؟. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِقَرِينَةِ الْمُقَابلَة، أَي دون الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَحَصَلَ بِهِ تَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْرِيرِ مَضْمُونِهَا، فَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَصْرِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَهْمَلُوا التَّوَكُّلَ وَالَّذِينَ انْخَدَعُوا لِبَعْضِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَمَعْنَى يَتَوَلَّوْنَهُ يَتَّخِذُونَهُ وَلِيًّا لَهُمْ، وَهُمُ الْمُلَازِمُونَ لِلْمِلَلِ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْهَدْيَ الْإِلَهِيَّ عَنْ رَغْبَة فِيهَا وابتهاج بهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فَرِيقُ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمُغَايَرَةَ، وَهُمْ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ لِلشَّيْطَانِ أَقْوَى. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ التَّوَلِّي، أَيِ الَّذِينَ يُجَدِّدُونَ تَوَلِّيهِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّمَا تَوَلَّوْهُ بِالْمَيْلِ إِلَى طَاعَتِهِ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ سُلْطَانُهُ، وَأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ التَّوَلِّي بالإقلاع أَو بِالتَّوْبَةِ انْسَلَخَ سُلْطَانُهُ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا عُطِفَ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ دُونَ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْوَصْفَيْنِ كَصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَوْصُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اجْتِمَاعُ الصِّلَتَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ مُشْرِكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ، أَيْ صَارُوا مُشْرِكِينَ بِسَبَبِهِ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [سُورَة الْأَعْرَاف: 33] .

[سورة النحل (16) : آية 101]

وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ صِفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لِأَنَّ قَرَارَهَا الْقَلْبُ، بِخِلَافِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ مَظَاهِرَهَا الْجَوَارِحُ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَشُدُّ وَأَدْوَمُ لِأَنَّ سَبَبَهُ ثَابِتٌ وَدَائِمٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ مُشْرِكُونَ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ مَا أَشْرَكُوا إِلَّا بِسَبَبِهِ، رَدًّا عَلَيْهِمْ إِذْ يَقُولُونَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا [سُورَة الْأَنْعَام: 148] وَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: 35] وَقَوْلُهُمْ: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [سُورَة الْأَعْرَاف: 28] . [101] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 101] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) اسْتَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَى شَأْنِ الْقُرْآنِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ فِي الصَّدِّ عَنْ مُتَابَعَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبَيَانُ فَضْلِهِ وَهَدْيِهِ فَابْتُدِئَ فِيهَا بِآيَةِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [سُورَة النَّحْل: 2] ، ثُمَّ قُفِيَتْ بِمَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ بَعْدَ تَنَقُّلَاتٍ جَاءَ فِيهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: 24] ، وَأُتْبِعُ ذَلِكَ بِتَنَقُّلَاتٍ بَدِيعَةٍ فَأُعِيدُ الْكَلَامَ عَلَى الْقُرْآنِ وَفَضَائِلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [سُورَة النَّحْل: 64] ثُمَّ قَوْلُهُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: 89] . وَجَاءَ فِي عَقِبِ ذَلِكَ بِشَاهِدٍ يَجْمَعُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ آيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [سُورَة النَّحْل: 90] ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَا يَقْتَضِي تَقَرُّرَ فَضْلِ الْقُرْآنِ فِي النُّفُوسِ نَبَّهَ عَلَى نَفَاسَتِهِ وَيُمْنِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [سُورَة النَّحْل: 98] ، لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِإِبْطَالِ اخْتِلَاقٍ آخَرَ مِنِ اخْتِلَاقِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ اخْتِلَاقًا مُمَوَّهًا بِالشُّبَهَاتِ كَاخْتِلَاقِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: 24] . ذَلِكَ الِاخْتِلَاقُ هُوَ تَعَمُّدُهُمُ التَّمْوِيهَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ

آيَاتِ الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِآيَاتٍ أُخْرَى لِاخْتِلَافِ الْمُقْتَضِي وَالْمَقَامِ. وَالْمُغَايَرَةِ بِاللِّينِ وَالشِّدَّةِ، أَوْ بِالتَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتْبَعُ اخْتِلَافُهُ اخْتِلَافَ الْمَقَامَاتِ وَاخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ وَاخْتِلَافَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَيَتَّخِذُونَ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ دُونَ وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ وَحَمْلِهِ مَحَامِلَهُ مَغَامِزَ يَتَشَدَّقُونَ بِهَا فِي نَوَادِيهِمْ، يَجْعَلُونَ ذَلِكَ اضْطِرَابًا مِنَ الْقَوْلِ وَيَزْعُمُونَهُ شَاهِدًا بِاقْتِدَاءِ قَائِلِهِ فِي إِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا. وَبَعض ذَلِك ناشىء عَنْ قُصُورِ مَدَارِكِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَرَامِي الْقُرْآنِ وَسُمُوِّ مَعَانِيه، وَبَعضه ناشىء عَنْ تَعَمُّدٍ لِلتَّجَاهُلِ تَعَلُّقًا بِظَوَاهِرِ الْكَلَامِ يُلَبِّسُونَ بِذَلِكَ عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِدْرَاكِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُونَ وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا يَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ» اه. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَدَّلْنا مُطْلَقُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَامَاتِ، أَوِ التَّغَايُرُ فِي الْمَعَانِي وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَقَامَاتِ مَعَ وُضُوحِ الْجَمْعِ بَين محاملها. والمرد بِالْآيَةِ الْكَلَامُ التَّامُّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَلَامَةَ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي الْمُعْجِزَةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ. فَيَشْمَلُ التَّبْدِيلُ نَسْخَ الْأَحْكَامِ مِثْلُ نَسْخِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [سُورَة الْإِسْرَاء: 110] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة الْحجر: 94] . وَهَذَا قَلِيلٌ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرَأُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ نَسْخَ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا كَثُرَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ حِينَ تَكَوَّنَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَلَمْ يَرِدْ مِنَ الْآثَارِ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ فِي مَكَّةَ فَمَنْ فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ كَمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فَهُوَ مُشْكِلٌ.

وَيَشْمَلُ التَّعَارُضَ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ التَّعَارُضِ الَّذِي يُحْمَلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَيُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُؤَوِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [5] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [7] ، فَيَأْخُذُونَ بِعُمُومٍ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [سُورَة الشورى: 5] فَيَجْعَلُونَهُ مُكَذِّبًا لِخُصُوصٍ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [سُورَة غَافِر: 7] فَيَزْعُمُونَهُ إِعْرَاضًا عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الْأَخِيرِ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [سُورَة المزمل: 10] يَأْخُذُونَ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُتَارَكَتِهِمْ فَإِذَا جَاءَتْ آيَاتٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِدَعْوَتِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ زَعَمُوا أَنَّهُ انْتَقَضَ كَلَامُهُ وَبَدَا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَبْدُو لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [سُورَة الْأَحْقَاف: 9] مَعَ آيَاتِ وَصْفِ عَذَابِ الْمُشْرِكِينَ وَثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سُورَة الْإِسْرَاء: 15] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سُورَة النَّحْل: 25] . وَمِنْ هَذَا مَا يَبْدُو من تخَالف بادىء الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِي [سُورَةِ فُصِّلَتْ: 11] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها مِنْ سُورَةِ النَّازِعَاتِ [30] ، فَيَحْسَبُونَهُ تَنَاقُضًا مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مَحْمَلٍ بَعْدَ ذلِكَ مِنْ جَعْلِ (بَعْدَ) بِمَعْنَى (مَعَ) وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، فَهُمْ يَتَوَهَّمُونَ التَّنَاقُضَ مَعَ جَهْلِهِمْ أَوْ تجاهلهم بالوحدات الثماني الْمُقَرَّرَةِ فِي الْمَنْطِقِ. فَالتَّبْدِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَدَّلْنا هُوَ التَّعْوِيضُ بِبَدَلٍ، أَيْ عِوَضٍ. وَالتَّعْوِيضُ لَا يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْمُعَوَّضِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- بَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَ شَيْءٍ عوضا عَن شَيْء. وَقَدْ يَبْدُو لِلسَّامِعِ أَنَّ مِثْلَ لَفْظِ الْمُعَوَّضِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- جُعِلَ عِوَضًا عَنْ مِثْلِ لَفْظِ الْعِوَضِ- بِالْكَسْرِ- فِي آيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ مِنْ تَبْشِيرٍ وَإِنْذَارٍ، أَوْ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، أَوْ إِجْمَالٍ وَبَيَانٍ، فَيَجْعَلُهُ الطَّاعِنُونَ اضْطِرَابًا لِأَنَّ مِثْلَهُ قَدْ كَانَ بُدِّلَ

وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [15] . ومَكانَ آيَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ بِأَنْ تَأْتِيَ آيَةً فِي الدَّعْوَةِ وَالْخِطَابِ فِي مَكَانِ آيَةٍ أُخْرَى أَتَتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، فَالْمَكَانُ هُنَا مَكَانٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ حَالَةُ الْكَلَامِ وَالْخِطَابِ، كَمَا يُسَمَّى ذَلِكَ مَقَامًا، فَيُقَالُ: هَذَا مَقَامُ الْغَضَبِ، فَلَا تَأْتِ فِيهِ بِالْمَزْحِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَكَانَهَا مِنْ أَلْوَاحِ الْمُصْحَفِ وَلَا بِإِبْدَالِهَا مَحْوَهَا مِنْهُ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ شَرْطِ إِذا وَجَوَابِهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ لَا الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنَزِّلُ لِلْقُرْآنِ لَارْتَفَعَ الْبُهْتَانُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنْ آيَةٍ بَدَلَ آيَةٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَكَانِ الْأُولَى وَمَكَانِ الثَّانِيَةِ وَمَحْمَلِ كِلْتَيْهِمَا، وَكُلٌّ عِنْدِهِ بِمِقْدَارٍ وَعَلَى اعْتِبَارٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما يُنَزِّلُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ-. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ-. وَحِكَايَةُ طَعْنِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، فَجَعَلُوهُ لَا صِفَةَ لَهُ إِلَّا الِافْتِرَاءَ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَسْتَ بِمُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا مِنْ مُجَازَفَتِهِمْ وَسُرْعَتِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْجَائِرِ فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَهُ افْتِرَاءٌ بَلْ جَعَلُوا الرَّسُولَ مَقْصُورًا عَلَى كَوْنِهِ مُفْتَرِيًا لِإِفَادَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْوَارِدَ مَقْصُورٌ عَلَى كَوْنِهِ افْتِرَاءً. وَأَصْلُ الِافْتِرَاءِ: الِاخْتِرَاعُ، وَغَلَبَ عَلَى اخْتِرَاعِ الْخَبَرِ، أَيِ اخْتِلَاقِهِ، فَسَاوَى الْكَذِبَ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ وَحْدَهُ كَمَا هُنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ مُقْتَرِنًا بِالْكَذِبِ كَقَوْلِهِ الْآتِي: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [سُورَة النَّحْل: 105] إِرْجَاعًا بِهِ إِلَى أَصْلِ الِاخْتِرَاعِ فَيُجْعَلُ لَهُ مَفْعُولٌ هُوَ آيِلٌ إِلَى مَعْنَاهُ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي [سُورَةِ الْعُقُودِ: 103] . وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقَةِ النَّقْضِ الْإِجْمَالِيِّ فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ.

[سورة النحل (16) : آية 102]

وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ لِلَّذِينِ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، أَيْ لَيْسَ كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ لَا يعلمُونَ، أَي لَا يَفْهَمُونَ وَضْعَ الْكَلَامِ مَوَاضِعَهُ وَحَمْلَهُ مَحَامِلَهُ. وَفُهِمَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ افْتِرَاءً وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا وَبُهْتَانًا وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يُنَافِي إِبْطَالَ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَصَالِحُ أَوْ رُوعِيَ الرِّفْقُ. وَيَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ أَكْثَرُ عَلَى إِرَادَةِ جَمِيعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِه السُّورَة. [102] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 102] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] فَلِذَلِكَ فُصِلَ فِعْلُ قُلْ لِوُقُوعِهِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ قُلْ لَهُمْ: لَسْتَ بِمُفْتَرٍ وَلَا الْقُرْآنُ بِافْتِرَاءٍ بَلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنَ اللَّهِ. وَفِي أَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُم ذَلِك شدّ لِعَزْمِهِ لكيلا يكون تجاوزه الْحَدَّ فِي الْبُهْتَانِ صَارِفًا إِيَّاهُ عَنْ مُحَاوَرَتِهِمْ. فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ اللَّهُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُفْتَرٍ بِطَرِيقَةِ النَّقْضِ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَاهِيَّةَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ رَبِّكَ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ حِكَايَةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ رَبِّي، فَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْخطاب تأنيسا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِيَادَةِ تَوَغُّلِ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي طَرِيقَةِ الْخِطَابِ. وَاخْتِيرَ اسْمُ الرَّبِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِنَايَةِ وَالتَّدْبِيرِ. ورُوحُ الْقُدُسِ: جِبْرِيلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَالرُّوحُ: الْمَلَكُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [سُورَة مَرْيَم: 17] ، أَيْ مَلَكًا منْ مَلَائِكَتِنَا.

والْقُدُسِ: الطُّهْرُ. وَهُوَ هَنَا مُرَاد بِهِ معنياه الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ الَّذِي هُوَ الْفَضْلُ وَجَلَالَةُ الْقَدْرِ. وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى الْقُدْسِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ: حَاتِمُ الْجُودِ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ. وَالْمُرَادُ: حَاتِمٌ الْجَوَادُ، وَزَيْدٌ الْخَيِّرُ. فَالْمَعْنَى: الْمَلَكُ الْمُقَدَّسُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَزَّلَهُ مِثْلُ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 20] ، أَيْ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ لَا شَائِبَةَ لِلْبَاطِلِ فِيهِ. وَذُكِرَتْ عِلَّةٌ مِنْ عِلَلِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، أَيْ تَبْدِيلُ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ، بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِلَّذِينِ آمَنُوا إِذْ يَفْهَمُونَ مَحْمَلَ كل آيَة ويهدون بِذَلِكَ وَتَكُونُ آيَاتُ الْبُشْرَى بِشَارَةً لَهُمْ وَآيَاتُ الْإِنْذَارِ مَحْمُولَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ. فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى بِالْحَقِّ إِيقَاظٌ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِ وَأَنَّهَا حَقٌّ. وَفِي التَّعْلِيلِ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيتِ وَالْهُدَى وَالْبُشْرَى بَيَانٌ لِرُسُوخِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَدَادِ آرَائِهِمْ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ السَّامِي، وَأَنَّهُ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ بِصِحَّةِ الْيَقِينِ وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ. وَفِي تَعَلُّقِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ بِفِعْلِ التَّثْبِيتِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حُصُولِ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، فَيُفِيدُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ غير الْمُؤمنِينَ تقصر مَدَارِكُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْحَقِّ فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْفَهْمُ وَيَزْدَادُونَ كُفْرًا وَيَضِلُّونَ وَيَكُونُ نِذَارَةً لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفٍ آخَرَ شَرِيفٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُدىً وَبُشْرى عَطْفٌ عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُثَبِّتَ، فَيَكُونُ هُدىً وَبُشْرى مَصْدَرَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ

[سورة النحل (16) : آية 103]

لِيُثَبِّتَ وَإِنْ كَانَ مَجْرُورَ اللَّفْظِ بِاللَّامِ إِذْ لَا يَسُوغُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَصْدَرًا صَرِيحًا. وَأَمَّا هُدىً وَبُشْرى فَلَمَّا كَانَا مَصْدَرَيْنِ كَانَا حَقِيقَيْنِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ إِعْرَابُهُمَا لَكَانَا مَنْصُوبَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [سُورَة النَّحْل: 8] . [103] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 103] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [سُورَة النَّحْل: 101] . وَهَذَا إِبْطَالٌ لِتَلْبِيسٍ آخَرَ مِمَّا يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى عَامَّتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرُهُ، قَالَ عَنْهُ تَعَالَى: فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [سُورَة المدثر: 24] ، أَيْ لَا يُلَقِّنُهُ مَلَكٌ بَلْ يُعَلِّمُهُ إِنْسَانٌ، وَقَدْ عَيَّنُوهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِالتَّأْكِيدِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ خَاصَّةَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لعامّتهم وَلَا يجهرون بِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ مَكْشُوفٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَدْ كَانَ فِي مَكَّةَ غُلَامٌ رُومِيٌّ كَانَ مَوْلًى لِعَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ اسْمُهُ جَبْرٌ كَانَ يَصْنَعُ السُّيُوفَ بِمَكَّةَ وَيَقْرَأُ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا يَقْرَأُ أَمْثَالُهُ مِنْ عَامَّةِ النَّصَارَى مِنْ دَعَوَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَاتَّخَذَ زُعَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذَلِكَ تَمْوِيهًا عَلَى الْعَامَّةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا أُمِّيِّينَ فَكَانُوا يَحْسَبُونَ مَنْ يَتْلُو كَلِمَاتٍ يَحْفَظُهَا وَلَوْ مُحَرَّفَةً، أَوْ يَكْتُبُ حُرُوفًا يَتَعَلَّمُهَا، يَحْسَبُونَهُ عَلَى عِلْمٍ، وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَانَبَهُ قَوْمُهُ وَقَاطَعُوهُ يَجْلِسُ إِلَى هَذَا الْغُلَامِ، وَكَانَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ. هَذَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا مَا يَقُولُهُ.

وَقِيلَ: كَانَ غُلَامٌ رُومِيٌّ اسْمُهُ بِلْعَامُ، كَانَ عَبْدًا بِمَكَّةَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا الْعَبْدُ يَقُولُ: إِنَّمَا يَقِفُ عَلَيَّ يُعَلِّمُنِي الْإِسْلَامَ. وَظَاهِرُ الْإِفْرَادِ فِي إِلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ عَبْدَانِ هَمَّا جَبْرٌ وَيَسَارٌ كَانَا قِنَّيْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِ بَشَرٌ الْجِنْسُ، وَبِإِفْرَادِ ضَمِيرِهِ جَرَيَانُهُ عَلَى أَفْرَادِ مَعَادِهِ. وَقَدْ كَشَفَ الْقُرْآنُ هَذَا اللَّبْسَ هُنَا بِأَوْضَحِ كَشْفٍ إِذْ قَالَ قَوْلًا فَصْلًا دُونَ طُولِ جِدَالٍ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، أَيْ كَيْفَ يُعَلِّمُهُ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ لَا يَكَادُ يُبِينُ، وَهَذَا الْقُرْآنُ فَصِيحٌ عَرَبِيٌّ مُعْجِزٌ. وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَسْأَلُ سَائِلٌ: مَاذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ؟ فَيُقَالُ: لِسانُ الَّذِي ... إِلَخْ، وَهَذَا النَّظْمُ نَظِيرُ نَظْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [سُورَة الْأَنْعَام: 124] . وَأَلْحَدَ: مِثْلُ لَحَدَ، أَيْ مَالَ عَنِ الْقَوِيمِ. فَهُوَ مِمَّا جَاءَ مِنَ الْأَفْعَالِ مَهْمُوزٌ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، كَقَوْلِهِمْ: أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ. فَمَعْنَى يُلْحِدُونَ يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ لِأَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَاقُ مَعَاذِيرَ، فَهُمْ يَتْرُكُونَ الْحَقَّ الْقَوِيمَ مِنْ أَنَّهُ كَلَامٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى أَنْ يَقُولُوا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَذَلِكَ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ إِلْحَادٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِلْحَادِ الْمَيْلُ بِكَلَامِهِمُ الْمُبْهَمِ إِلَى قَصْدٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وَسَكَتُوا عَنْ تَعْيِينِهِ تَوْسِعَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي اخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ، فَإِذَا وَجَدُوا سَاذَجًا أَبْلَهَ يَسْأَلُ عَنِ الْمَعْنِيِّ بِالْبَشَرِ قَالُوا لَهُ: هُوَ جَبْرٌ أَوْ بِلْعَامُ، وَإِذَا تَوَسَّمُوا نَبَاهَةَ السَّائِلِ تَجَاهَلُوا وَقَالُوا: هُوَ بَشَرٌ مِنَ النَّاسِ، فَإِطْلَاقُ الْإِلْحَادِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِثْلُ إِطْلَاقِ الْمَيْلِ عَلَى الِاخْتِيَارِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْجُمْهُورُ يُلْحِدُونَ- بِضَمِّ الْيَاءِ- مُضَارِعُ أَلْحَدَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ لَحَدَ مُرَادِفُ أَلْحَدَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْحَادُ فِي قَوْلِهِ

[سورة النحل (16) : آية 104]

تَعَالَى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [180] . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهَمْزَةُ كَقَوْلِهِمْ: أَلْحَدَ الْمَيِّتَ، لِأَنَّ تِلْكَ لِلْجَعْلِ ذَا لَحْدٍ. وَاللِّسَانُ: الْكَلَامُ. سُمِّيَ الْكَلَامُ بِاسْمِ آلَتِهِ. وَالْأَعْجَمِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى الْأَعْجَمِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُبَيِّنُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ كُلِّ نَاطِقٍ لَا يَفْهَمُونَ مَا يُرِيدُهُ. وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الدَّوَابَّ الْعَجْمَاوَاتِ. فَالْيَاءُ فِيهِ يَاءُ النَّسَبِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَصْفًا كَانَ النَّسَبُ لِتَقْوِيَةِ الْوَصْفِ. وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَبَانَ، إِذَا صَارَ ذَا إِبَانَةٍ، أَيْ زَائِدٌ فِي الْإِبَانَةِ بِمَعْنَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، فَحَصَلَ تَمَامُ التَّضَادِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ. [104] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 104] إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَوُرُودُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ اخْتِلَاقِ الْمُتَقَعِّرِينَ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُرْجِفِينَ بِالْقَالَةِ فِيهِ بَين الدهماء يومىء إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ أُولَئِكَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ آنِفًا. وَهُمْ فَرِيقٌ مَعْلُومٌ بِشدَّة الْعَدَاوَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالتَّصَلُّبِ فِي التَّصَدِّي لِصَرْفِ النَّاسِ عَنْهُ بِحَيْثُ بَلَغُوا مِنَ الْكُفْرِ غَايَةً مَا وَرَاءَهَا غَايَةٌ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ يَوْمَئِذٍ وَلَكِنَّهُمْ مُشَارٌ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَتَكْشِفُ عَنْ تَعْيِينِهِمْ عَوَاقِبُ أَحْوَالِهِمْ. فَقَدْ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَطْوَلَ مُدَّةً فِي الْكُفْرِ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ يَخْلِطُ كُفْرَهُ بِأَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَنَقِ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الِانْتِصَارِ لِدِينِهِ وَلِقَوْمِهِ وَدَفَعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ فَحَرَمَ اللَّهُ أَبَا جَهْلٍ الْهِدَايَةَ فَأَهْلَكَهُ كَافِرًا، وَهَدَى أَبَا سُفْيَانَ فَأَصْبَحَ مِنْ خِيرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَشَرَّفَ بِصِهْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

كَافِرَيْنِ وَكَانَ كِلَاهُمَا يَدْفَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ الْوَلِيدَ كَانَ يَخْتَلِقُ الْمَعَاذِيرَ وَالْمَطَاعِنَ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ مِنَ الْكَيْدِ، وَعُمَرُ كَانَ يَصْرِفُ النَّاسَ بِالْغِلْظَةِ عَلَنًا دُونَ اخْتِلَاقٍ، فَحَرَمَ اللَّهُ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الِاهْتِدَاءَ، وَهَدَى عُمَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَصْبَحَ الْإِسْلَامُ بِهِ عَزِيزَ الْجَانِبِ. فَتَبَيَّنَ النَّاسُ أَنَّ الْوَلِيدَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّ عُمَرَ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَا مَعًا كَافِرَيْنِ فِي زَمَنٍ مَا. وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [سُورَة الزمر: 3] فَوَصَفَ مَنْ لَا يهديه الله بوصفين الْكَذِبِ وَشِدَّةِ الْكُفْرِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْإِيمَانُ مُنَافِيًا لِجِبِلَّةِ طَبْعِهِ لَا لِأَمْيَالِ هَوَاهُ. وَهَذَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُعَرَّضًا لِلْإِيمَانِ، فَلِذَلِكَ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، أَيْ لَا يُكَوِّنُ الْهِدَايَةَ فِي قَلْبِهِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ عَكْسُ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [سُورَة يُونُس: 96] ، وَكُلٌّ يَرْمِي إِلَى مَعْنًى عَظِيمٍ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجَمِيعِ أَقْوَالِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ وَالتَّذْيِيلِ لِخُلَاصَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ بِدُونِ عَطْفٍ. وَعَطَفَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عَلَى لَا يَهْدِيهِمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَإِلْقَائِهِمْ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُمْ إِذَا حُرِمُوا الْهِدَايَةَ فَقَدْ وَقَعُوا فِي الضَّلَالَةِ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [سُورَة الْحَج: 4] . وَيَشْمَلُ الْعَذَابُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ وَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، ثُمَّ مِنْ إِهَانَةِ الْإِجْهَازِ عَلَيْهِ عقب ذَلِك.

[سورة النحل (16) : آية 105]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 105] إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] بِقَلْبِ مَا زَعَمُوهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [سُورَة النَّحْل: 103] جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل: 103] . فَبَعْدَ أَنْ نَزَّهَ الْقُرْآنَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى وَالْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرِيًا ثُنِيَ الْعِنَانُ لِبَيَانِ مَنْ هُوَ الْمُفْتَرِي. وَهَذَا مِنْ طَرِيقَةِ الْقَلْبِ فِي الْحَالِ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُنَزَّلٌ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَصَارُوا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَكِّدُونَ بِمَضْمُونِهِ قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ يُؤَكِّدُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْقَوْلَ الْآخَرَ، فَلَمَّا رَدَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [سُورَة النَّحْل: 101- 102] . وَرَدَتْ مَقَالَتُهُمُ الْأُخْرَى فِي صَرِيحِهَا بِقَوْلِهِ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَرَدَ مَضْمُونُهَا هُنَا بِقَوْلِهِ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ، حَاصِلًا بِهِ رَدُّ نَظِيرِهَا أَعْنِي قَوْلَهُمْ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بِكَلَامٍ أَبْلَغَ مِنْ كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا فِي قَوْلِهِمْ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بِصِيغَةِ قَصْرٍ هِيَ أَبْلَغُ مِمَّا قَالُوهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ قَصْرٌ لِلْمُخَاطَبِ عَلَى صِفَةِ الِافْتِرَاءِ الدَّائِمَةِ، إِذِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تَقْتَضِي الثَّبَاتَ وَالدَّوَامَ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةٍ تَقْصُرُهُمْ عَلَى الِافْتِرَاءِ الْمُتَكَرِّرِ الْمُتَجَدِّدِ، إِذِ الْمُضَارِعُ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ. وَأَكَّدَ فِعْلَ الِافْتِرَاءِ بِمَفْعُولِهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطلق لكَونه آئلا إِلَيْهِ الْمَعْنَى. وَعُرِّفَ الْكَذِبَ بِأَدَاةِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ الدَّالَّةِ عَلَى تَمَيُّزِ مَاهِيَّةِ الْجِنْسِ وَاسْتِحْضَارِهَا، فَإِنَّ تَعْرِيفَ اسْمِ الْجِنْسِ أَقْوَى مِنْ تَنْكِيرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سُورَة الْفَاتِحَة: 2] .

وَعَبَّرَ عَنِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهِمْ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ ضَمِيرَهُمْ، فَيُقَالُ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ أَنْتُمْ، لِيُفِيدَ اشْتِهَارَهُمْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ، وَلِأَنَّ لِلصِّلَةِ أَثَرًا فِي افْتِرَائِهِمْ، لِمَا تُفِيدُهُ الْمَوْصُولِيَّةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي هِيَ آيَاتُ صِدْقٍ لَا يَسَعُهُ إِلَّا الِافْتِرَاءُ لِتَرْوِيجِ تَكْذِيبِهِ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ. وَفِي هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ عَنْ مُكَابَرَةٍ لَا عَنْ شُبْهَةٍ. ثُمَّ أُرْدِفَتْ جُمْلَةُ الْقَصْرِ بِجُمْلَةِ قَصْرٍ أُخْرَى بِطَرِيقِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَافْتُتِحَتْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، بَعْدَ إِجْرَاءِ وَصْفِ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِ اللَّهِ عَنْهُمْ، لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَرِدُ مِنَ الْخَبَرِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ قَصْرُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ يَتَّخِذُ الْكَذِبَ دَيْدَنًا لَهُ مُتَجَدِّدًا. وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ لِيُفِيدَ أَنَّ جِنْسَ الْكَاذِبِينَ اتَّحَدَ بِهِمْ وَصَارَ مُنْحَصِرًا فِيهِمْ، أَيِ الَّذِينَ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ طَائِفَةُ الْكَاذِبِينَ هُمْ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا يؤول إِلَى مَعْنَى قَصْرِ جِنْسِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، فَيَحْصُلُ قَصْرَانِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ: قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، وَقَصْرُ تِلْكَ الصِّفَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ. وَالْقَصْرَانِ الْأَوَّلَانِ الْحَاصِلَانِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يَفْتَرِي وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ إِضَافِيَّانِ، أَيْ لَا غَيْرُهُمُ الَّذِي رَمَوْهُ بِالِافْتِرَاءِ وَهُوَ مُحَاشًى مِنْهُ، وَالثَّالِثُ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ، إِذْ نَزَلَ بُلُوغُ الْجِنْسِ فِيهِمْ مَبْلَغًا قَوِيًّا مَنْزِلَةَ انْحِصَارِهِ فِيهِمْ. وَاخْتِيرَ فِي الصِّلَةِ صِيغَةُ لَا يُؤْمِنُونَ دُونَ: لَمْ يُؤْمِنُوا، لِتَكُونَ عَلَى وِزَانِ مَا عُرِفُوا بِهِ سَابِقًا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي الْمُضَارِعِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ ضدّ ذَلِك.

[سورة النحل (16) : آية 106]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 106] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) لَمَّا سَبَقَ التَّحْذِيرُ مِنْ نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَاهَدُوهُ، وَأَنْ لَا يَغُرَّهُمْ مَا لِأُمَّةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ السَّعَةِ وَالرُّبُوِّ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ زَلَلِ الْقَدَمِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَبُشِّرُوا بِالْوَعْدِ بِحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ، وَجَزَاءُ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنْ لَا تَغُرَّهُمْ شُبَهُ الْمُشْرِكِينَ وَفُتُونُهُمْ فِي تَكْذِيبِ الْقُرْآنِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُحَاوِلُونَ فِتْنَةَ الرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَالَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَلِذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ إِلَى قَوْلِهِ: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا [سُورَة النَّحْل: 102] ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل: 103] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [سُورَة النَّحْل: 103] . وَكَانَ الْغُلَامُ الَّذِي عَنَوْهُ بِقَوْلِهِمْ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ فَتَنَهُ الْمُشْرِكُونَ فَكَفَرَ، وَهُوَ جَبْرٌ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. وَكَانُوا رَاوَدُوا نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِارْتِدَادِ، مِنْهُمْ: بِلَالٌ، وَخِبَابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَيَاسِرٌ، وَسُمَيَّةُ أَبَوَا عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَمَّارُ ابْنُهُمَا، فَثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَفَتَنُوا عَمَّارًا فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَفَتَنُوا نَفَرًا آخَرِينَ فَكَفَرُوا، وَذَكَرَ مِنْهُمُ الْحَارِثَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِيُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [10] ، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ رَدٌّ لِعَجُزِ الْكَلَامِ عَلَى صَدْرِهِ.

عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مُقَابِلٌ لِمَضْمُونِ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سُورَة النَّحْل: 97] ، فَحَصَلَ التَّرْهِيبُ بَعْدَ التَّرْغِيبِ، كَمَا ابْتُدِئَ بِالتَّحْذِيرِ تَحَفُّظًا عَلَى الصَّالِحِ مِنَ الْفَسَادِ، ثُمَّ أُعِيدَ الْكَلَامُ بِإِصْلَاحِ الَّذِينَ اعْتَرَاهُمُ الْفَسَادُ، وَفُتِحَ بَابُ الرُّخْصَةِ لِلْمُحَافِظِينَ عَلَى صَلَاحِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَتْ تُشِيرُ إِلَى نَفَرٍ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَرَنَ الْخَبَرَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ فِي الْمُبْتَدَأِ شَبَهًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَقَدْ يُعَامَلُ الْمَوْصُولُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [سُورَة البروج: 10] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِلَى قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [34] . وَقِيلَ إِنَّ فَرِيقًا كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، كَمَا رُوِيَ فِي شَأْنِ جَبْرٍ غُلَامِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَلْيَقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 108] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فَالْآيَةُ مُجَرَّدُ تَحْذِيرٍ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَالشَّرْطُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مُعَيَّنٌ بَلْ هُوَ تَحْذِيرٌ، أَيْ مِنْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ فِي الشَّرْطِ يَنْقَلِبُ إِلَى مَعْنَى الْمُضَارِعِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ جَوَابًا. وَالتَّحْذِيرُ حَاصِلٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فَهُوَ تَرْخِيصٌ وَمَعْذِرَةٌ لِمَا صَدَرَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَمْثَالِهِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ مَنْ فَتَنُوهُمْ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ مَنْ كَفَرَ لِئَلَّا يَقَعَ حُكْمُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، أَيْ إِلَّا مَنْ أَكْرَهَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْكُفْرِ، أَيْ عَلَى إِظْهَارِهِ

فَأَظْهَرُهُ بِالْقَوْلِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرِ اعْتِقَادُهُ. وَهَذَا فَرِيقٌ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَمُصَحِّحُ الِاسْتِثْنَاء هُوَ أَن الَّذِي قَالَ قَوْلَ الْكُفَّارِ قَدْ كَفَرَ بِلَفْظِهِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً اسْتِدْرَاك عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يفهم من الِاسْتِثْنَاء أَنَّ الْمُكْرَهَ مُرَخَّصٌ لَهُ أَنْ يَنْسَلِخَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ. ومَنْ شَرَحَ مَعْطُوفٍ بِ لكِنْ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُثْبَتِ، فَحَرْفُ لكِنْ عَاطِفٌ وَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِ الْوَاوِ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَاخْتِيرَ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ دُونَ نَحْوِ: فَقَدْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، أَيْ غَضَبٌ لَا مَغْفِرَةَ مَعَهُ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمْ، فَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَلِتَصْحِيحِ الْإِتْيَانِ بِالْمُبْتَدَأِ نَكِرَةٌ حِينَ قَصَدَ بِالتَّنْكِيرِ التَّعْظِيمَ، أَيْ غَضَبٌ عَظِيمٌ، فَاكْتَفَى بِالتَّنْكِيرِ عَنِ الصِّفَةِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ لَهُمْ عَلَى عَذابٌ عَظِيمٌ فَلِلِاهْتِمَامِ. وَالْإِكْرَاهُ: الْإِلْجَاءُ إِلَى فِعْلِ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِفِعْلِ شَيْءٍ تَضِيقُ عَنْ تَحَمُّلِهِ طَاقَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ إِيلَامٍ بَالِغٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَدْ رَخَّصَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِلْمُكْرَهِ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ أَنْ يُظْهِرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَخْذِ بِذَلِكَ فِي أَقْوَالِ الْكُفْرِ، فَقَالُوا: فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُ تَقِيَّةٌ وَمُصَانَعَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا. وَقَدْ رَخَّصَ اللَّهُ ذَلِكَ رِفْقًا بِعِبَادِهِ وَاعْتِبَارًا لِلْأَشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأَنَّهُ ذكر ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَوَّبَهُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ» . وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ. وَشَذَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَأَجْرَى عَلَى هَذَا التَّظَاهُرُ بِالْكُفْرِ حُكْمَ الْكُفَّارِ فِي الظَّاهِرِ كَالْمُرْتَدِّ فَيُسْتَتَابُ عَنِ الْمُكْنَةِ مِنْهُ. وَسَوَّى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ أَقْوَالِ الْكُفْرِ وَأَفْعَالِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَفْعَالِ الْكُفْرِ لَا يُبِيحُهَا. وَنُسِبَ إِلَى الْأَوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ غَيْرُ وَاضِحَةٍ. وَقَدْ نَاطَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَغفر مَا سوّل الْقَلْبِ. وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مُوجِبَ الرُّخْصَةِ فِي إِظْهَارِ الْكُفْرِ فَهُوَ فِي غَيْرِ الْكُفْرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْلَى كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، وَفِي رَفْعِ أَسْبَابِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي غَيْرِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلَاقِ أَوِ الْبَيْعِ. وَأما فِي الاهتداء عَلَى النَّاسِ مَنْ تَرَتُّبِ الْغُرْمِ فَبَيْنَ مَرَاتِبِ الْإِكْرَاهِ ومراتب الاعتداء الْمُكْره عَلَيْهِ تَفَاوُتٌ، وَأَعْلَاهَا الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ. وَهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّ التَّوَعُّدَ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ وَتَفُوتُ نَفْسُ الْقَتِيلِ. عَلَى أَنَّ أَنْوَاعًا مِنَ الِاعْتِدَاءِ قَدْ يَجْعَلُ الْإِكْرَاهَ ذَرِيعَةً إِلَى ارتكابها بتواطوء بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ لِلْمُكْرِهِ- بِالْكَسْرِ- جَانِبٌ مِنَ النَّظَرِ فِي حَمْلِ التَّبَعَةِ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ مُؤَاخَذَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ الْمَحْضِ وَمَا دُونُ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَالُ الِاجْتِهَادِ. وَالْخِلَافُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مَعْلُومٌ، وَالتَّفَاصِيلُ وَالتَّفَارِيعُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَبَعض التفاسير.

[سورة النحل (16) : آية 107]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 107] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِشَارَةُ ذَلِكَ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سُورَة النَّحْل: 106] . وَضَمِيرُ بِأَنَّهُمُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 106] سَوَاء كَانَ مَا صدق مَنْ مُعَيَّنًا أَوْ مَفْرُوضًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَمَدْخُولُهَا سَبَبٌ. واسْتَحَبُّوا مُبَالَغَةٌ فِي (أَحَبُّوا) مِثْلَ اسْتَأْخَرَ وَاسْتَكَانَ. وَضَمَّنَ (اسْتَحَبُّوا) معنى (فضّلوا) فعدي بِحَرْفِ (عَلَى) ، أَيْ لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا نَفْعَ الدُّنْيَا عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِهِمْ أَحَقِّيَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَا رَجَعُوا عَنْهُ إِلَّا خَوْفَ الْفِتْنَةِ أَوْ رَغْبَةً فِي رَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، فَيَكُونُ كُفْرُهُمْ أَشَدَّ مَنْ كُفْرِ الْمُسْتَصْحِبِينَ لِلْكُفْرِ مِنْ قَبْلِ الْبَعْثَةِ. وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ سَبَبٌ ثَانٍ لِلْغَضَبِ وَالْعَذَابِ، أَيْ وَبِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهِدَايَةَ فَهُمْ مُوَافُونَهُ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ [سُورَة النَّحْل: 104] . وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا فِي صِيغَةِ الْقَوْمَ الْكافِرِينَ مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَلَكِنَّهُ عُمُومٌ بَعْدَ خُصُوصٍ. وَإِقْحَامُ لَفْظِ (قَوْمَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُمْ فَقَدْ عُرِفُوا بِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَصَارَ سَجِيَّةً حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَجْمَعُهُمْ هَذَا الْوَصْفُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَرَيَانَ وَصْفٍ أَوْ خَبَرٍ عَلَى لَفْظِ (قَوْمَ) يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ

[سورة النحل (16) : الآيات 108 إلى 109]

الْبَقَرَةِ [164] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَة يُونُس [101] . [108، 109] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 108 إِلَى 109] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [سُورَة النَّحْل: 107] بِأَنَّ حِرْمَانَهُمُ الْهِدَايَةَ بِحِرْمَانِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِوَسَائِلِهَا: مِنَ النَّظَرِ الصَّادِقِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَمِنَ الْوَعْيِ لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَبَاتِ الْقَلْبِ عَلَى حِفْظِ مَا دَاخَلَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، حَيْثُ انْسَلَخُوا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ تَلَبَّسُوا بِهِ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ تَبْيِينًا لِمَعْنَى الصِّلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ اتِّصَافُهُمْ بِالِارْتِدَادِ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ. وَأَخْبَرَ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْحُكْمِ الْمُبَيَّنِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [النَّحْل: 106] . وَالطَّبْعُ: مُسْتَعَارٌ لِمَنْعِ وُصُولِ الْإِيمَانِ وَأَدِلَّتِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ تَكْمِلَةٌ لِلْبَيَانِ، أَيِ الْغَافِلُونَ الْأَكْمَلُونَ فِي الْغَفْلَةِ، لِأَنَّ الْغَافِلَ الْبَالِغَ الْغَايَةَ يُنَافِي حَالَةَ الِاهْتِدَاءِ.

[سورة النحل (16) : آية 110]

وَالْقَصْرُ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْغَافِلِينَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي الْغَفْلَةِ حَتَّى عُدَّ كُلُّ غَافِلٍ غَيْرِهِمْ كَمَنْ لَيْسَ بِغَافِلٍ. وَمِنْ هُنَا جَاءَ مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْغَفْلَةِ لَا مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ. وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا صَارَ كَالدَّلِيلِ عَلَى مَضْمُونِهَا، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِكَلِمَةِ نَفْيِ الشَّكِّ. فَإِنَّ لَا جَرَمَ بِمَعْنَى (لَا مَحَالَةَ) أَوْ (لَا بُدَّ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وَتَقَدَّمُ بَسْطُ تَفْسِيرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [22] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَسَارَتَهُمْ هِيَ الْخَسَارَةُ، لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا النَّعِيمَ إِضَاعَةً أَبَدِيَّةً. وَيَجْرِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ المتقدّمين فِي مَا صدق (مَنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 106] الْآيَةَ. وَوَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ [22] هُمُ الْأَخْسَرُونَ، وَوَقَعَ هُنَا هُمُ الْخاسِرُونَ لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ هُودٍ [21] تَقَدَّمَهَا أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ بَيَان أَن خَسَارَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِنْ خَسَارَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. [110] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 110] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَى قَوْلِهِ: هُمُ الْخاسِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 106- 109] .

وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُون هَذِه الجلة الْمَعْطُوفَةِ أَعْظَمُ رُتْبَةً مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، إِذْ لَا أَعْظَمَ مِنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سُورَة آل عمرَان: 15] . وَالْمُرَادُ بِ «الَّذِينَ هَاجَرُوا» الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ معنى الْهِجْرَة هُنَا إِلَّا لِهَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا بِدِينِهِمُ» اه. فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ آمَنُوا وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى وَعَذَرَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَذَابَ الْفِتْنَةِ بِأَنْ قَالُوا كَلَامَ الْكُفْرِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ مُطَمْئِنَّةٌ بِالْإِيمَانِ ذَكَرَ فَرِيقًا آخَرَ فَازُوا بِفِرَارٍ مِنَ الْفِتْنَةِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الشدّة يوهن جَامِعَة الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَوْفَى ذِكْرَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى حَظِّهِمْ مِنَ الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ: هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، فَسَمَّى عَمَلَهُمْ هِجْرَةً. وَهَذَا الِاسْمُ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [سُورَة العنكبوت: 26] . وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِ «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ» ، أَيِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فَارَقُوا مَكَّةَ. وَسَمَّى مَا لَقَوْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِتْنَةً. وَالْفِتْنَةُ: الْعَذَابُ وَالْأَذَى الشَّدِيدُ الْمُتَكَرِّرُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ لِمَنْ يَقَعُ بِهِ صَبْرًا وَلَا رَأْيًا، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى

النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [سُورَة الذاريات: 14] ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [سُورَة البروج: 10] . وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . أَيْ فَقَدْ نَالَهُمُ الْأَذَى فِي اللَّهِ. وَالْمُجَاهَدَةُ: الْمُقَاوَمَةُ بِالْجُهْدِ، أَيِ الطَّاقَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُجَاهَدَةِ هُنَا دِفَاعُهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مَكِّيَّتَانِ نَازِلَتَانِ قَبْلَ شَرْعِ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى قِتَالِ الْكُفَّارِ لِنَصْرِ الدِّينِ. وَالصَّبْرُ: الثَّبَاتُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَشَاقِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحرف التوكيد وبالتوكيد اللَّفْظِيِّ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَالِاهْتِمَامُ يَدْفَعُ النَّقِيصَةَ عَنْهُمْ فِي الْفَضْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، دَخَلَتْ عَلَى حَفْصَةَ فَدخل عمر عَلَيْهِمَا فَقَالَ لَهَا: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْكُمْ، فَغَضِبَتْ أَسْمَاءُ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ النَّبِيءِ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي أَرْضِ الْبَعْدَاءِ الْبَغْضَاءِ بِالْحَبَشَةِ وَنَحْنُ كُنَّا نَؤْذَى وَنَخَافُ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ حَفْصَةَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَمَا قُلْتِ لَهُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «لَيست بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ» . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ هاجَرُوا مُتَعَلِّقٌ بِ «غَفُورٌ» مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَأُعِيدَ إِنَّ رَبَّكَ ثَانِيًا لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ مَعَ إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.

[سورة النحل (16) : آية 111]

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِنَّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ العلمية لما يومىء إِلَيْهِ إِضَافَةُ لَفْظِ (رَبَّ) إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ مِنْ كَوْنِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأَصْحَابِهِ كَانَتْ لِأَنَّهُمْ أُوذُوا لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِأَجْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ إِسْنَادُ الْمَغْفِرَةِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصِلا بأسلوب يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ وَعَلَى الذَّاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ اسْمِ النَّبِيءِ بِاسْمِ اللَّهِ بِمُنَاسَبَةِ هَذَا الْإِسْنَادِ بِخُصُوصِهِ. وَضَمِيرُ مِنْ بَعْدِها عَائِدٌ إِلَى الْهِجْرَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ هاجَرُوا، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ: مِنْ هِجْرَةٍ وَفِتْنَةٍ وَجِهَادٍ وَصَبْرٍ، أَوْ إِلَى الْفِتْنَةِ الْمَأْخُوذَةِ مَنْ فُتِنُوا. وَكُلِّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَوْ كُلِّهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فُتِنُوا- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي افْتَتَنَ، بِمَعْنَى وَقَعَ فِي الْفِتْنَة. [111] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 111] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِئْنَافًا وَتَذْيِيلًا بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا، وَقَعَ عَقِبَ التَّحْذِيرِ وَالْوَعِيدِ وَعِيدًا لِلَّذِينِ أُنْذِرُوا وَوَعْدًا لِلَّذِينِ بُشِّرُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [سُورَة النَّحْل: 110] ، فَيَكُونُ انْتِصَابُ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُونَ أَثَرًا لِذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَخْلُو

عَنْهَا غَالِبُ النَّاسِ وَيَجِدُونَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ. فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مُقْتَضَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الظَّرْفِ. وَالْمُجَادَلَةُ: دِفَاعٌ بِالْقَوْلِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ تَبِعَةِ فِعْلٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَالنَّفْسُ الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالشَّخْصِ كَقَوْلِهِ: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ سُورَة الْمَائِدَة [45] . والنّفس الثَّانِيَةِ مَا بِهِ الشَّخْصُ شَخْصٌ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا بِالِاعْتِبَارِ كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ قَتَلَ أَخُوهُ ابْنًا لَهُ (مِنَ الْحَمَاسَةِ) : أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَسْلِيَةً ... إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدْ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [44] . وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَشْعِرُونَ لِلْإِنْسَانِ جُمْلَةً مُرَكَّبَةً مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ فَيُسَمُّونَهَا النَّفْسَ، أَيِ الذَّاتَ وَهِيَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْمُتَكَلِّمُ بِضَمِيرِ (أَنَا) ، وَيَسْتَشْعِرُونَ لِلْإِنْسَانِ قُوَّةً بَاطِنِيَّةً بِهَا إِدْرَاكُهُ وَيُسَمُّونَهَا نَفْسًا أَيْضًا. وَمِنْهُ أَخَذَ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ اسْمَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ. وَالْمَعْنَى: يَأْتِي كُلُّ أَحَدٍ يُدَافِعُ عَنْ ذَاتِهِ، أَيْ يُدَافِعُ بِأَقْوَالِهِ لِيَدْفَعَ تَبَعَاتِ أَعْمَالِهِ. فَفَاعِلُ الْمُجَادَلَةِ وَمَا هُوَ فِي قُوَّةٍ مَفْعُولِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ وُقُوعِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ شَيْئًا وَاحِدًا فِي أَفْعَالِ الظَّنِّ وَالدُّعَاءِ، بِكَثْرَةٍ مِثْلُ: أَرَانِي فَاعِلًا كَذَا، وَقَوْلُهُمْ عَدِمْتَنِي وَفَقَدْتَنِي، وَبِقِلَّةٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الْأَفْعَالِ نَحْوَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَدْ بَتُّ أَحْرُسُنِي وَحْدِي وَيَمْنَعُنِي ... صَوْتُ السِّبَاعِ بِهِ يَضْبَحْنَ وَالْهَامِ وتُوَفَّى تُعْطَى شَيْئًا وَافِيًا، أَيْ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَمَا عَمِلَتْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ تُوَفَّى، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ، أَيْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَإِظْهَارُ كُلِّ نَفْسٍ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ.

[سورة النحل (16) : آية 112]

وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لِلْجَزَاءِ فِي الشَّرِّ وَالْإِجْحَافِ عَنْهُ فِي الْخَيْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَيَّنَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرِّ وَوَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَقِّ لِكُلِّ فَرِيقٍ. وَالْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ هَذَا التَّحْدِيدِ مُفَوَّضٌ لِلَّهِ تَعَالَى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سُورَة الْكَهْف: 49] . وضميرا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ عَائِدَانِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ كُلُّ نَفْسٍ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النُّفُوسِ. وَزِيَادَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِمَفْهُومِ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، لِأَنَّ تَوْفِيَةَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ تَسْتَلْزِمُ كَوْنَ تِلْكَ التَّوْفِيَةِ عَدْلًا، فَصَرَّحَ بِهَذَا اللَّازِمِ بِطَرِيقَةِ نَفْيِ ضِدِّهِ وَهُوَ نَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الْمَعْنى الأول. [112] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 112] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) عَطْفُ عِظَةٍ عَلَى عِظَةٍ. وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا هِيَ جُمَلُ الِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ من قَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: 53] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا إِلَى قَوْله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 83] . فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [سُورَة النَّحْل: 84] . فَبَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوَارِعِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سُورَة النَّحْل: 104] وَقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سُورَة النَّحْل: 106] إِلَى قَوْلِهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 109] عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ جَعَلَهُمْ مَضْرِبَ مَثَلٍ لِقَرْيَةٍ عُذِّبَتْ عَذَابَ الدُّنْيَا، أَوْ جَعَلَهُمْ مَثَلًا وَعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةَ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ [سُورَة النَّحْل: 111] إِلَخْ. عَلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيرِ (اذْكُرْ) ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ هَوْلَ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ إِلَخْ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا شَأْنَ قَرْيَةٍ كَانَتْ آمِنَةً إِلَخْ. وضَرَبَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَيْ جَعَلَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَيْهِ وكوّن نَظْمِهِ، وَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يُقَالُ: أَرْسَلَ فُلَانٌ مَثَلًا قَوْلُهُ: كَيْتٌ وَكَيْتٌ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ بِصِيغَة الْمَاضِي لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي الْحَالِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، مَثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 1] أَوْ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنْ زَمَنِ الْحَالِ، مِثْلَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ، أَيِ اضْرِبْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ مَثَلًا قَرْيَةً إِلَى آخِرِهِ، كَمَا سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [29] . وَإِنَّمَا صِيغَ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ تَوَسُّلًا إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْوِيهًا بِهِ. وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ نَحْوُ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [سُورَة يس: 13] بِمَا سَيُذْكَرُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فَرَاجِعْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [24] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. وَجَعَلَ الْمَثَلَ قَرْيَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ تُبَيِّنُ حَالَهَا الْمَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ الْقَرْيَةِ. وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْلُحَ هَذَا الْمَثَلُ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْقَرْيَةُ قَرْيَتَهُمْ أَعْنِي مَكَّةَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مَثَلًا لِلنَّاسِ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ الْجُوعُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [سُورَة الدُّخان: 10] . وَهُوَ الدُّخَانُ الَّذِي كَانَ يَرَاهُ أَهْلُ مَكَّةَ أَيَّامَ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [سُورَة النَّحْل: 113] . وَلَعَلَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْمَثَلِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، أَيْ أَصْحَابُ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَنْ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِمْ، وَبَعْثًا لَهُمْ عَلَى أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَسَلِمُوا مِمَّا أَصَابَ أَهْلَهَا وَمَا يُصِيبُهُمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْقَرْيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [259] . وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقرْيَة كَقَوْلِه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [سُورَة يُوسُف: 82] . وَالْأَمْنُ: السَّلَامَةُ مِنْ تَسَلُّطِ الْعَدُوِّ. وَالِاطْمِئْنَانُ: الدَّعَةُ وَهُدُوءُ الْبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 103] . وَقَدَّمَ الْأَمْنَ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ إِذْ لَا تَحْصُلُ الطُّمَأْنِينَةُ بِدُونِهِ، كَمَا أَن الْخَوْف يسبّب الِانْزِعَاجِ وَالْقَلَقِ. وَقَوْلُهُ: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً تَيْسِيرُ الرِّزْقِ فِيهَا مِنْ أَسْبَابِ رَاحَةِ الْعَيْشِ، وَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ كَذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [سُورَة الْقَصَص: 57] . وَالرِّزْقُ: الْأَقْوَاتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [37] . وَالرَّغَدُ: الْوَافِرُ الْهَنِيءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَ (مِنْ) كُلِّ مَكانٍ بِمَعْنَى مِنْ أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ. وكُلِّ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] . وَالْأَنْعُمِ: جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ: الْكُفْرُ بِالْمُنْعِمِ، لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوا الْمُنْعِمَ الْحَقَّ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 83] . وَاقْتِرَانُ فِعْلِ «كَفَرَتْ» بِفَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْكُفْرِ عَقِبَ النِّعَمِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا حِينَ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ عِنْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَرْنُ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَهُوَ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمُعَقَّبِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَالرَّسُولُ يُكَرِّرُ الدَّعْوَةَ وَإِنْذَارُهُمْ بِهِ، فَلَمَّا حَصَلَ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ غَيْرِ طَوِيلَةٍ وَكَانَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ جُعِلَ كَالشَّيْءِ الْمُعَقَّبِ بِهِ كُفْرَهُمْ. وَالْإِذَاقَةُ: حَقِيقَتُهَا إِحْسَاسُ اللِّسَانِ بِأَحْوَالِ الطُّعُومِ. وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى إِحْسَاسِ الْأَلَمِ وَالْأَذَى إِحْسَاسًا مَكِينًا كَتَمَكُّنِ ذَوْقِ الطَّعَامِ مِنْ فَمِ ذَائِقِهِ لَا يَجِدُ لَهُ مِدْفَعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] . وَاللِّبَاسُ: حَقِيقَتُهُ الشَّيْءُ الَّذِي يُلْبَسُ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجُوعِ وَالْخَوْفِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ إِلَى مَا يُغْشَى مِنْ حَالَةِ إِنْسَانٍ مُلَازِمَةٍ لَهُ كَمُلَازَمَةِ اللِّبَاسِ لَابِسَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [سُورَة الْبَقَرَة: 187] بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ وَالْمُلَازَمَةِ.

وَمِنْ قَبِيلِهَا اسْتِعَارَةُ (الْبِلَى) لِزَوَالِ صِفَةِ الشَّخْصِ تَشْبِيهًا لِلزَّوَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ بِبِلَى الثَّوْبِ بَعْدَ جِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي الْغُولِ الطَّهَوِيِّ: وَلَا تَبْلَى بَسَالَتُهُمْ وَإِنْ هُمُ ... صُلُوا بِالْحَرْبِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ وَاسْتِعَارَةُ سَلِّ الثِّيَابِ إِلَى زَوَالِ الْمُعَاشَرَةِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي عَنْ ثِيَابِكِ تَنْسِلِ وَمِنْ لَطَائِفِ الْبَلَاغَةِ جَعْلُ اللِّبَاسِ لِبَاسَ شَيْئَيْنِ، لِأَنَّ تَمَامَ اللُّبْسَةِ أَنْ يَلْبِسَ الْمَرْءُ إِزَارًا وَدِرْعًا. وَلَمَّا كَانَ اللِّبَاسُ مُسْتَعَارًا لِإِحَاطَةِ مَا غَشِيَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَمُلَازَمَتِهِ أُرِيدَ إِفَادَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَمُسْتَقِرٌّ فِي إِدْرَاكِهِمِ اسْتِقْرَارَ الطَّعَامِ فِي الْبَطْنِ إِذْ يُذَاقُ فِي اللِّسَانِ وَالْحَلْقِ وَيُحَسُّ فِي الْجَوْفِ وَالْأَمْعَاءِ. فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ الْإِذَاقَةِ تَمْلِيحًا وَجَمْعًا بَيْنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، لِأَنَّ غَايَةَ الْقِرَى وَالْإِكْرَامِ أَنْ يُؤْدَبَ لِلضَّيْفِ وَيُخْلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً مِنْ إِزَارٍ وَبُرُدٍ، فَكَانَتِ اسْتِعَارَتَانِ تَهَكُّمِيَّتَانِ. فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَتَانِ: الْأُولَى: اسْتِعَارَةُ الْإِذَاقَةِ وَهِيَ تَبَعِيَّةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: اللِّبَاسِ وَهِيَ أَصْلِيَّةٌ مُصَرِّحَةٌ. وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ أَنْ جُعِلَتِ الثَّانِيَةُ مُتَفَرِّعَةً عَلَى الْأَوْلَى وَمُرَكَّبَةً عَلَيْهَا بِجَعْلِ لَفْظِهَا مَفْعُولًا لِلَفْظِ الْأُولَى. وَحَصَلَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ مُحِيطَانِ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَمُلَازِمَانِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ بَالِغَانِ مِنْهُمْ مَبْلَغًا أَلِيمًا. وَأَجْمَلَ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ اعْتِمَادًا عَلَى سَبَقِ مَا يُبَيِّنُهُ مِنْ قَوْله: فكفرت بأنعام الله.

[سورة النحل (16) : آية 113]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 113] وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أُذِيقُوا لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، وَكَانَ إِنَّمَا ذَكَرَ مِنْ صُنْعِهِمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِأَنْعُمِ اللَّهِ، زِيدَ هُنَا أَنَّ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ عَامٌّ لِكُلِّ عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِكُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْنَعِ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ تَكْذِيبَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ أَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ. وَمَا مِنْ قَرْيَةٍ أُهْلِكَتْ إِلَّا وَقَدْ جَاءَهَا رَسُولٌ مِنْ أَهْلِهَا وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا [سُورَة الْقَصَص: 59] . وَالْأَخْذُ: الْإِهْلَاكُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [95] . وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْإِنْذَارِ. وَتَعْرِيفُ الْعَذابُ لِلْجِنْسِ، أَيْ فَأَخَذَهُمْ عَذَابٌ كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نبيء إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: 95] . [114] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 114] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَوْعِظَةِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ، وَخُوطِبَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [سُورَة النَّحْل: 114، 115] إِلَى آخِرِهِ.

[سورة النحل (16) : آية 115]

وَلَعَلَّ هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى أَهْلِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ إِذْ أَصْبَحُوا آمِنِينَ عِنْدَ مَلِكٍ عَادِلٍ فِي بَلَدٍ يَجِدُونَ فِيهِ رِزْقًا حَلَالًا وَهُوَ مَا يُضَافُونَ بِهِ وَمَا يكتسبونه بِكَدِّهِمْ، أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ حَالَ الْقَرْيَةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا أَوِ الْمُعَرَّضِ بِهَا فَاشْكُرُوا اللَّهَ الَّذِي نَجَّاكُمْ مِنْ مِثْلِ مَا أَصَابَ الْقَرْيَةَ، فَاشْكُرُوا اللَّهَ وَلَا تَكْفُرُوهُ كَمَا كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ. فَقَوله: وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي الْمَثَلِ: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 112] إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ. وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ لِلْبَعْثِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِإِظْهَارِ صِدْقِ إِيمَانِهِمْ. وَإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْله: وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ لِزِيَادَةِ التَّذْكِيرِ، وَلِتَكُونَ جُمْلَةُ هَذَا الْأَمْرِ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا بِحَيْثُ تَصِحُّ أَنْ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ (وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ) وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا لِلِامْتِنَانِ. وَإِدْخَالِ حَرْفِ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ مُقَدِّمَةٌ لِلْأَمْرِ بِالشُّكْرِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ. وَالْمَقْصُودُ: فَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَلَا تَكْفُرُوهَا فَيَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمَضْرُوبَةِ مَثَلًا. وَالْحَلَالُ: الْمَأْذُونُ فِيهِ شَرْعًا. وَالطَّيِّبُ: مَا يَطِيبُ لِلنَّاسِ طَعْمُهُ وينفعهم قوته. [115] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 115] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً [سُورَة النَّحْل: 114] لِتَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ خَبَائِثُ خُبْثًا

[سورة النحل (16) : الآيات 116 إلى 117]

فِطْرِيًّا لِأَنَّ بَعْضَهَا مُفْسِدٌ لِتَوَلُّدِ الْغِذَاءِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ. وَتِلْكَ هِيَ الْمَيْتَةُ، وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَبَعْضُهَا مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا، فَاللَّهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَذْكُرُونَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَلِإِفَادَةِ بَيَانِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ جِيءَ فِيهَا بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، أَيْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْأَرْبَعَ الْمَذْكُورَاتِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا طَيِّبًا. وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الطِّيبِ وَالْخُبْثِ بِالذَّاتِ. وَقَدْ يَعْرِضُ الْخُبْثُ لِبَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ عَرْضًا. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّحْدِيدِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بِأَرْضِ غُرْبَةٍ وَقَدْ يُؤْكَلُ فِيهَا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ بِبَلَدٍ يُؤْكَلُ فِيهِ الدَّمُ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة والأنعام. [116، 117] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 116 إِلَى 117] وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) عَادَ الْخِطَابُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً [سُورَة النَّحْل: 112] الْآيَةَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، فَرُبَّمَا بَقِيَتْ فِي نُفُوسِ بَعْضِهِمْ كَرَاهِيَةُ أَكْلِ مَا كَانُوا يَتَعَفَّفُونَ عَنْ أَكْلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَعَلَّقَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ. وَلَمْ يُعَلِّقْ بِالْأَمْرِ بِأَكْلِ مَا عَدَا مَا حَرَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنْ جَعْلِ الْحَلَالِ حَرَامًا وَالْحَرَامِ حَلَالًا لَا أَكْلُ جَمِيعِ الْحَلَالِ وَتَرْكُ جَمِيعِ الْحَرَامِ حَتَّى فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، لِأَنَّ إِمْسَاكَ الْمَرْءِ عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ لِكَرَاهِيَةٍ أَوْ عَيْفٍ هُوَ عَمَلٌ قَاصِرٌ عَلَى ذَاتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ: وَهذا حَرامٌ فَهُوَ يُفْضِي إِلَى التَّحْجِيرِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَشْتَهِي أَنْ يَتَنَاوَلَهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِما تَصِفُ هِيَ إِحْدَى اللَّامَيْنِ اللَّتَيْنِ يَتَعَدَّى بِهِمَا فِعْلُ الْقَوْلِ وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى (عَنْ) الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ فَهِيَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [سُورَة آل عمرَان: 168] ، أَيْ قَالُوا عَنْ إِخْوَانِهِمْ. وَلَيْسَتْ هِيَ لَامُ التَّقْوِيَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِالْقَوْلِ. وتَصِفُ مَعْنَاهُ تَذْكُرُ وَصْفًا وَحَالًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [سُورَة النَّحْل: 62] . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ لَا تَقُولُوا ذَلِكَ وَصْفًا كَذِبًا لِأَنَّهُ تَقَوُّلٌ لَمْ يَقُلْهُ الَّذِي لَهُ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ تَصِفُ، أَيْ وَصْفًا كَذِبًا، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، لِأَنَّ الَّذِي لَهُ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَمْ يُنَبِّئْهُمْ بِمَا قَالُوا وَلَا نَصَبَ لَهُمْ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ هِيَ مَقُولُ تَقُولُوا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى لِأَوْصَافِهِمْ أَشْيَاءَ بِالْحِلِّ وَأَشْيَاءَ بِالتَّحْرِيمِ. ولِتَفْتَرُوا عِلَّةٌ لِ تَقُولُوا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الِافْتِرَاءِ حَاصِلًا، لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَقْصُودًا لِلْقَائِلِينَ، فَهِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَلَيْسَتْ لَامَ الْعِلَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا تَنْزِيلُ الْحَاصِلِ الْمُحَقَّقِ حُصُولُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْفِعْلِ. وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالَّذِينَ يَفْتَرُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ.

[سورة النحل (16) : آية 118]

وَجُمْلَةُ مَتاعٌ قَلِيلٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فِي صُورَةِ جَوَابٍ عَمَّا يَجِيشُ بِخَاطِرِ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنْ عَدَمِ فَلَاحِهِمْ مَعَ مُشَاهَدَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي حَالَةٍ مِنَ الْفَلَاحِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَتَاعٌ، أَي نفع موقّت زَائِلٌ وَلَهُمْ بَعْدَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَالْآيَةُ تُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَتَقَوَّلُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ بِنَصٍّ صَرِيحٍ أَوْ بِإِيجَادِ مَعَانٍ وَأَوْصَافٍ لِلْأَفْعَالِ قَدْ جَعَلَ لِأَمْثَالِهَا أَحْكَامًا، فَمَنْ أَثْبَتَ حَلَالًا وَحَرَامًا بِدَلِيلٍ مِنْ مَعَانٍ تَرْجِعُ إِلَى مُمَاثَلَةِ أَفْعَالٍ تَشْتَمِلُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي فَقَدْ قَالَ بِمَا نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا. وَقَدَّمَ لَهُمْ لِلِاهْتِمَامِ زِيَادَةً فِي التَّحْذِيرِ. وَجِيءَ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَن الْعَذَاب خقّهم لأجل افترائهم. [118] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 118] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) لَمَّا شَنَّعَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ جَرْيًا عَلَى مَا اعْتَادَهُ قَوْمُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ، نَظَرَ أُولَئِكَ وَحَذَّرَ هَؤُلَاءِ. فَهَذَا وَجْهُ تَعْقِيبِ الْآيَةِ السَّالِفَةِ بِآيَةِ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى تِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ قَوْلُهُ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، أَيْ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بِمَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا النِّعْمَةَ فَحُرِمُوا مِنْ نَعَمٍ عَظِيمَةٍ. وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ جَانِبَ التَّحْذِيرِ فِيهِ أَهَمُّ مِنْ جَانِبِ التَّنْظِيرِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حُرِّمَ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-

[سورة النحل (16) : آية 119]

الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا سَلَفُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [سُورَة آل عمرَان: 93] ، أَيْ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ ذَلِكَ من الحنيفية. [119] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 119] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ اللَّوَاتِي قَبْلَهَا كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ السَّابِقِ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [سُورَة النَّحْل: 110] . فَلَمَّا ذُكِرَتْ أَحْوَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَانَ مِنْهَا مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ شَارَكُوهُمْ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَوَرَدَتْ قَوَارِعُ الذَّمِّ لِمَا صَنَعُوا، كَانَ مِمَّا يُتَوَهَّمُ عُلُوقُهُ بِأَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ سَيَنَالُهُمْ شَيْء من غمص لِمَا اقْتَرَفُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَمْأَنَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمَّا تَابُوا بِالْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ وَأَصْلَحُوا عَمَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَفْسَدُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ مَغْفِرَةً عَظِيمَةً وَرَحِمَهُمْ رَحْمَةً وَاسِعَةً. وَوَقَعَ الْإِقْبَالُ بِالْخِطَابِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ بَرَكَاتِ الدِّينِ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ. وَذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ لِلنُّكْتَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا. وَالْجَهَالَةُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ. وَالْمُرَادُ: جَهَالَتُهُمْ بِأَدِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ بِ ثُمَّ تَضَمَّنَتْ حُكْمَ التَّوْبَةِ وَأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْ آثَارِهَا، وَذَلِكَ أَهَمُّ عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ وَعِيدٍ، أَيِ الَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ جَاهِلِينَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى فَسَاد مَا علموه. وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُمْ فِي مُدَّةِ تَأَخُّرِهِمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي

[سورة النحل (16) : الآيات 120 إلى 122]

الْإِسْلَامِ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ جَهَالَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، أَوْ جَاهِلِينَ بِالْعِقَابِ الْمُنْتَظَرِ عَلَى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَعِنَادِهِمْ إِيَّاهُ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ عَمِلَ حَرَامًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلًا بِأَنَّهُ حَرَامٌ وَكَانَ غَيْرَ مُقَصِّرٍ فِي جَهْلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [17] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْحَاصِلِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ. وَيَتَّصِلُ خَبَرُ إِنَّ بِاسْمِهَا لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا. وَوَقَعَ الْخَبَرُ بِوَصْفِ اللَّهِ بِصِفَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غُفْرَانِهِ لَهُمْ وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي ضِمْنِ وَصْفِ اللَّهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِجَهالَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَمِلُوا. وَضَمِيرُ مِنْ بَعْدِها عَائِدٌ إِلَى الْجَهَالَةِ أَوْ إِلَى التَّوْبَة. [120- 122] [سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 120 إِلَى 122] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ إِلَى غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا [سُورَة النَّحْل: 119] الْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ، فَبَعْدَ أَنْ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ غَفَرَ لَهُمْ مَا عَمِلُوهُ مِنْ قَبْلُ زَادَهُمْ فَضْلًا بِبَيَانِ فَضْلِ الدِّينِ الَّذِي اتَّبَعُوهُ.

وَجَعَلَ الثَّنَاءَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُقَدِّمَةً لِذَلِكَ لِبَيَانِ أَنَّ فَضْلَ الْإِسْلَامِ فَضْلٌ زَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِأَنَّ مَبْدَأَهُ بِرَسُولٍ وَمُنْتَهَاهُ بِرَسُولٍ. وَهَذَا فَضْلٌ لَمْ يَحْظَ بِهِ دِينٌ آخَرُ. فَالْمَقْصُودُ بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ وَهَاتِهِ الْمُقَدِّمَةِ هُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: 123] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْحَج: 78] . وَالْأَصْلُ الْأَصِيلُ الَّذِي تَفَرَّعَ عَنْهُ وَعَنْ فُرُوعِهِ هَذَا الِانْتِقَالُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مِنْ تَحْرِيمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَنَظَّرَهُمْ بِالْيَهُودِ إِذْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ، تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ بِهَذَا الِانْتِقَالِ لِإِفَادَةِ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَدْ حَادُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُوهَا، وَأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ إِبَاحَةِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، إِلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ فِي آيَةِ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [سُورَة الْأَنْعَام: 145] الْآيَةَ. وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ كَانَ أُمَّةً. وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَجْمَعُهَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [213] . وَوَصْفَ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذَلِكَ وصف بديع جَامع لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي الْفَضْلِ وَالْفُتُوَّةِ وَالْكَمَالِ بِمَنْزِلَةِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ الرَّجُلُ كل الرجل، وَقَول الْبُحْتُرِيُّ: وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا ... لَدَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مُعَاذٌ أُمَّةٌ قَانِتٌ لِلَّهِ» .

وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ بِعْثَتِهِ، مُوَحِّدٌ لِلَّهِ غَيْرُهُ. فَهُوَ الَّذِي أَحْيَا اللَّهُ بِهِ التَّوْحِيدَ، وَبَثَّهُ فِي الْأُمَمِ وَالْأَقْطَارِ، وَبَنَى لَهُ مَعْلَمًا عَظِيمًا، وَهُوَ الْكَعْبَةُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ لِإِشَاعَةِ ذِكْرِهِ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَلَمْ يَزَلْ بَاقِيًا عَلَى الْعُصُورِ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَطَرِ بْنِ مَالِكٍ الْكَاهِنِ: «وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ» ، رَوَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» . وَرَأَيْتُ رِوَايَةً أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [238] . وَاللَّامُ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ. وَالْحَنِيفُ: الْمُجَانِبُ لِلْبَاطِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [135] ، وَالْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةِ أَخْبَارُ كانَ وَهِيَ فَضَائِلُ. وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اعْتِرَاضٌ لِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَدْ صَوَّرُوا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ وَوَضَعُوا الصُّورَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَسُوقًا مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّهُ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا اخْتَلَقَهُ عَلَيْهِ الْمُبْطِلُونَ. فَوِزَانُهُ وِزَانُ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [سُورَة التكوير: 22] . وَهُوَ كَالتَّأْكِيدِ لِوَصْفِ الْحَنِيفِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلُ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [سُورَة طه: 79] . وَنُفِيَ كَوْنُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِحَرْفِ لَمْ لِأَنَّ لَمْ تَقْلِبُ زَمَنَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي، فَتُفِيدُ انْتِفَاءَ مَادَّةِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَتُفِيدُ تَجَدُّدَ ذَلِكَ الْمَنْفِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فَيَحْصُلُ مَعْنَيَانِ: انْتِفَاءُ مَدْلُولِ الْفِعْلِ بِمَادَّتِهِ، وَتَجَدُّدُ الِانْتِفَاءِ بِصِيغَتِهِ، فَيُفِيدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ

السَّلَامُ- لَمْ يَتَلَبَّسْ بِالْإِشْرَاكِ قَطُّ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مُنْذُ صَارَ مُمَيِّزًا، وَأَنَّهُ لَا يَتَلَبَّسُ بِالْإِشْرَاكِ أَبَدًا. وشاكِراً لِأَنْعُمِهِ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ كانَ. وَهُوَ مَدْحٌ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَعْرِيضٌ بِذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 112] . وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا الْكَلَامُ عَلَى أَنْعُمِ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ اجْتَباهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الثَّنَاءَ الْمُتَقَدِّمَ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ سَبَبِ فَوْزِ إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الْمَحَامِدِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [سُورَة الْأَنْعَام: 124] . وَالِاجْتِبَاءُ: الِاخْتِيَارُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مَنْ جَبَى إِذَا جَمَعَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى واجتباهم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [87] . وَالْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: الْهِدَايَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَضَمِيرُ آتَيْناهُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ لِتَوَالِي ثَلَاثَةِ ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ. وَالْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا: كُلُّ مَا فِيهِ رَاحَةُ الْعَيْشِ مِنِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالدِّينِ، وَالصِّحَّةِ، وَالسَّلَامَةِ، وَطُولِ الْعُمْرِ، وَسَعَةِ الرِّزْقِ الْكَافِي، وَحُسْنِ الذِّكْرِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [سُورَة الْبَقَرَة: 201] . وَالصَّلَاحُ: تَمَامُ الِاسْتِقَامَةِ فِي دِينِ الْحَقِّ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْوَصْفُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، إِذْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 83] .

[سورة النحل (16) : آية 123]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 123] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ مُتَبَاعِدٌ فِي رُتْبَةِ الرِّفْعَةِ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا تَنْوِيهًا جَلِيلًا بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَزِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ جَعَلْنَاكَ مُتَّبِعًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ أَجَلُّ مَا أَوْلَيْنَاكُمَا مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [سُورَة النَّحْل: 120] إِلَخْ. تَمْهِيدٌ لَهَا. وَزِيدَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَإِرْشَادٍ صَادِقٍ، تَعْرِيضًا بِأَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا اتِّبَاعَهُمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ قَدْ أَخْطَأُوهَا بِشُبْهَةٍ مِثْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَوْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مِثْلُ مَزَاعِمِ قُرَيْشٍ فِي دِينِهِمْ. وأَنِ تفسيرية لفعل أَوْحَيْنا لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِحَرْفِ التَّفْسِيرِ. وَالِاتِّبَاعُ: اقْتِفَاءُ السَّيْرِ عَلَى سَيْرٍ آخَرَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ بِمِثْلِ عَمَلِ الْآخَرِ. وَانْتَصَبَ حَنِيفاً عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ فَيَكُونُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ لِمُمَاثِلِهِ قَبْلَهُ أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْكَ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ اتَّبِعْ، أَيْ كُنْ يَا مُحَمَّدُ حَنِيفًا كَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ حَنِيفًا. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَتَفْسِيرُ فِعْلِ أَوْحَيْنا بِجُمْلَةِ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ تَفْسِيرٌ بِكَلَامٍ جَامِعٍ لِمَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى مُحَمَّد- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ

مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا مُقَامَةٌ عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَلِمَةَ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ مُنْبَجِسٌ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى حَنِيفاً عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي صَاحِبِ ذَلِكَ الْحَالِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْحَالُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة النَّحْل: 120] ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ تَنْزِيهًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الْمُتَّبِعَةِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَنْ يُخَالِطَهَا شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ. وَنَفِيُ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا بِحَرْفِ مَا النَّافِيَةِ لِأَنَّ مَا إِذَا نَفَتْ فِعْلَ كانَ أَفَادَتْ قُوَّةَ النَّفْيِ وَمُبَاعَدَةَ الْمَنْفِيِّ. وَحَسَبُكَ أَنَّهَا يُبْنَى عَلَيْهَا الْجُحُودُ فِي نَحْوِ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ كَذَا. فَحَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْل: 120] وَمن قَوْلِهِ هُنَا: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثُ فَوَائِدَ: نَفْيُ الْإِشْرَاكِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَةِ الْمَاضِي، وَتَجَدُّدُ نَفْيِ الْإِشْرَاكِ تَجَدُّدًا مُسْتَمِرًّا، وَبَرَاءَتُهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ بَرَاءَةً تَامَّةً. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ شَوَائِبُ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُ جَاءَ كَمَا جَاءَ إِبْرَاهِيمُ مُعْلِنًا تَوْحِيدًا لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَمُجْتَثًّا لِوَشِيجِ الشِّرْكِ. وَالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَذِّرُ مِنَ الْإِشْرَاكِ فَقَدِ امْتَازَ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِهَا بِسَدِّ الْمَنَافِذِ الَّتِي يَتَسَلَّلُ مِنْهَا الْإِشْرَاكُ بِصَرَاحَةِ أَقْوَالِهِ وَفَصَاحَةِ بَيَانِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ فِي ذَلِكَ كَلَامًا مُتَشَابِهًا كَمَا قَدْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْأُخْرَى، مِثْلُ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ وَصْفِ الْيَهُودِ بِأَبْنَاءِ اللَّهِ، وَمَا فِي الأناجيل من موهم بُنُوَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَصِفُونَ.

وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ (أَيْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ) أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ» . وَمَعْنَى اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْوَاقِعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بُنِيَ عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ أُصُولُ الْفِطْرَةِ، وَالتَّوَسُّطُ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَاللِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحَج: 78] . وَفِي قَضِيَّةِ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، ثُمَّ فِدَائِهِ بِذَبْحِ شَاةٍ رَمَزٌ إِلَى الِانْتِقَالِ مِنْ شِدَّةِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى فِي قَرَابِينِهَا إِلَى سَمَاحَةِ دِينِ اللَّهِ الْحَنِيفِ فِي الْقُرْبَانِ بِالْحَيَوَانِ دُونَ الْآدَمِيِّ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سُورَة الصافات: 107] . فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي تُبْنَى تَفَاصِيلُهَا وَتَفَارِيعُهَا عَلَى أُصُولِ شَرِيعَةٍ تُعْتَبَرُ كَأَنَّهَا تِلْكَ الشَّرِيعَةُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ فِي الْإِسْلَامِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ قَدْ جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ شَرِيعَةٌ قَانُونِيَّةٌ سُلْطَانِيَّةٌ، وَشَرْعُ إِبْرَاهِيمَ شَرِيعَةٌ قَبَائِلِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِقَوْمٍ، وَلَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ابْتِدَاءً قَبْلَ أَنْ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَرَائِعِ دِينِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَتَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ.

[سورة النحل (16) : آية 124]

فَاتِّبَاعُ النَّبِيءِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْمُحَاجَّةِ لَهُ وَاتِّبَاعِ مَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ. وَفِي فُرُوعِهَا مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِثْلُ الْخِتَانِ وَخِصَالِ الْفطْرَة وَالْإِحْسَان. [124] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 124] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنًى يَرْتَبِطُ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَبِمَجِيءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَسَاسِهَا. فَلَمَّا نَفَتِ الْآيَةُ قَبْلَ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدًّا عَلَى مَزَاعِمِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، انْتَقَلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى إِبْطَالِ مَا يُشْبِهُ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ. وَهِيَ مَزَاعِمُ الْيَهُودِ أَنَّ مِلَّةَ الْيَهُودِيَّةِ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ زَعْمًا ابْتَدَعُوهُ حِينَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ جَحْدًا لِفَضِيلَةٍ فَاتَتْهُمْ، وَهِيَ فَضِيلَةُ بِنَاءِ دِينِهِمْ عَلَى أَوَّلِ دِينٍ لِلْفِطْرَةِ الْكَامِلَةِ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [65] . فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الثَّلَاثَ اخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى مِلَّتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِأَعْظَمِ دَلِيلٍ وَهُوَ أَنَّ دِينَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَإِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ

بِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْيَهُودِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ رَوَاجًا، لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُخَالِطِينَ الْعَرَبَ فِي بِلَادِهِمْ، فَأَهْلُ مَكَّةَ كَانُوا يَتَّصِلُونَ بِالْيَهُودِ فِي أَسْفَارِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ بِخِلَافِ النَّصَارَى. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا لِلنَّصَارَى الَّذِينَ تَعَرَّضَ لَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَلِهَذَا تَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: 123] إِذْ يُثِيرُ سُؤَالًا مِنَ الْمُخَالِفِينَ: كَيْفَ يَكُونُ الْإِسْلَامُ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ؟ وَفِيهِ جُعِلَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ الْيَوْمَ الْمُقَدَّسَ. وَقَدْ جَعَلَتِ التَّوْرَاةُ لِلْيَهُودِ يَوْمَ التَّقْدِيسِ يَوْمَ السَّبْتِ. وَلَعَلَّ الْيَهُودَ شَغَبُوا بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَيَانًا لِجَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ. وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: 123] وَجُمْلَةِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [سُورَة النَّحْل: 125] إِلَخْ. وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهَا لِقَلْبِ مَا ظَنَّهُ السَّائِلُونَ الْمُشَغِّبُونَ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمُورَدَةِ لِرَدِّ رَأْيِ مَوْهُومٍ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى تَقْدِيرٍ مُضَافٍ، أَيِ اخْتَلَفُوا فِي مِلَّتِهِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى السَّبْتِ، إِذْ لَا طَائِلَ مِنَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ. وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، أَيْ فِي مِلَّتِهِ هُمُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ السَّبْتِ. وَمَعْنَى جُعِلَ السَّبْتُ فُرِضَ وَعُيِّنَ عَلَيْهِمْ، أَيْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ السَّبْتِ: مِنْ تَحْرِيمِ الْعَمَلِ فِيهِ، وَتَحْرِيمِ اسْتِخْدَامِ الْخَدَمِ وَالدَّوَابِّ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ الْيَهُودِ أَوْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ كَوْنِهِ أَوْجَزَ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ اشْتِهَارَهُمْ بِالصِّلَةِ كَافٍ فِي تَعْرِيفِهِمْ مَعَ مَا فِي

الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَذَلِكَ الْإِيمَاءُ هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَلَيْسَ مَعْنَى فِعْلِ اخْتَلَفُوا وُقُوعُ خِلَافٍ بَيْنِهِمْ بِأَمْرِ السَّبْتِ بَلْ فِعْلُ اخْتَلَفُوا مُرَادٌ بِهِ خَالَفُوا كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَاخْتِلَافِهِمْ أَنْبِيَائِهِمْ» ، أَيْ عَمَلِهِمْ خِلَافَ مَا أَمَرَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ. فَحَاصِلُ الْمَعْنَى هَكَذَا: مَا فُرِضَ السَّبْتُ عَلَى أَهْلِ السَّبْتِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَنَّ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ مِنْهَا حُرْمَةُ السَّبْتِ وَلَا هُوَ مِنْ شَرَائِعِهَا. وَلَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ لِلْيَوْمِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَ النَّصَارَى لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا عَلِمْتَ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ الْيَوْمُ الْمُقَدَّسُ فِيهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْكَافِي فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ يَوْمَ حُرْمَةِ السَّبْتِ لَمْ تَكُنْ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ حُرْمَةَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ ادُّخِرَتْ لِلْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» . فَقَوْلُهُ: «فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذَلِكَ فِي مِلَّةٍ أُخْرَى. فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَحْمَلُ الْفِعْلِ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ وُجُوهٍ لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ وَعَدَمِ طَائِلٍ. وَقَدْ جَعَلُوا ضَمِيرَ فِيهِ عَائِدًا إِلَى السَّبْتُ. وَتَأَوَّلُوا مَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ بِوُجُوهٍ. وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ مَا تُوُهِّمَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى جَعْلِ السَّبْتِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اخْتلفُوا على نبيئهم مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَجْلِ السَّبْتِ، لِأَنَّ نَبِيَّهُمْ

أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَظِّمُوا يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا أَنْ يَكُونَ السَّبْتُ هُوَ الْمُفَضَّلَ مِنَ الْأُسْبُوعِ بِعِلَّةِ أَنَّ اللَّهَ قَضَى خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَلْقٌ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي حُرْمَةِ السَّبْتِ. كَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [سُورَة النِّسَاء: 154] . وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْدِلَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنِ الْيَوْمِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِتَعْظِيمِهِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ لِشَهْوَةِ قَوْمِهِ وَقَدْ عُرِفَ بِالصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ. من الْمُفَسِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّوْرَاةَ أَمَرَتْهُمْ بِيَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَعَيَّنُوهُ السَّبْتَ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَاشَ بَيْنَهُمْ ثَمَانِينَ سَنَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ لَسُوءِ فَهْمِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَلَعَلَّكَ تَلُوحُ لَكَ حَيْرَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْتِئَامِ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ. وإِنَّما لِلْحَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ مَقْصُودٌ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ السَّبْتَ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ شَرْعًا جَدِيدًا بِصَرِيحِ كِتَابِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ. وَتَرْكِيبُ الِاسْتِدْلَالِ: إِنْ حُرْمَةَ السَّبْتِ لَمْ تَكُنْ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَأَصْحَابُ تِلْكَ الْحُرْمَةِ لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى جُعِلَ السَّبْتُ أَنَّهُ جُعِلَ يَوْمًا مُعَظَّمًا لَا عَمَلَ فِيهِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ السَّبْتَ مُعَظَّمًا، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ الْجَعْلِ لِأَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ إِيجَازًا لِيَشْمَلَ كُلَّ أَحْوَالِ السَّبْتِ الْمَحْكِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [سُورَة النِّسَاء: 154] وَقَوْلُهُ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [سُورَة الْأَعْرَاف: 163] . وَضُمِّنَ فِعْلُ جُعِلَ مَعْنَى فُرِضَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ عَلَى. وَقَدِ ادَّخَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَارِثُ لِأُصُولِ إِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دِينًا مُخَالِفًا لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَنَصَبَ عَلَى ذَلِكَ شِعَارًا وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ أَصْلُ ذَلِكَ الدِّينِ وَتَغْيِيرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ بِعْثَةِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، لِئَلَّا يَكُونَ يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَرْسِلًا

[سورة النحل (16) : آية 125]

فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لِنَسْخِ دِينِهِمْ بِدِينِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِعْدَادًا لَهُمْ لِتَلَقِّي نَسْخٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِدِينٍ آخَرَ يَكُونُ شِعَارُهُ يَوْمًا آخَرَ غَيْرَ السَّبْتِ وَغَيْرَ الْأَحَدِ. فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ انْتِسَاقُ الْآيِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ. وبَيْنَهُمْ ظَرْفٌ لِلْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ «يَحْكُمُ» ، أَيْ حُكْمًا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. وَلَيْسَتْ بَيْنَهُمْ لِتَعْدِيَةِ «يَحْكُمُ» إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ هُنَا. [125] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 125] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. يَتَنَزَّلُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: 123] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَعْوَتِهِ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَاعِيًا إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَمُخَاطَبَةُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي حِينِ أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقٌ لِأَصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرَائِقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَثْبِيتَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدَّعْوَةِ وَأَنْ لَا يُؤَيِّسَهُ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لَهُ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل: 103] وَأَنْ لَا يَصُدَّهُ عَنِ الدَّعْوَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَتْرُكُوا حِيلَةً يحسبونها تثبّط النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَّا أَلْقَوْا بِهَا إِلَيْهِ مِنْ: تَصْرِيحٍ بِالتَّكْذِيبِ، وَاسْتِسْخَارٍ، وَتَهْدِيدٍ، وَبَذَاءَةٍ، وَاخْتِلَاقٍ، وَبُهْتَانٍ، كَمَا ذَلِكَ مَحْكِيٌّ فِي تَضَاعِيفِ

الْقُرْآنِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَرَاتِبَ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ وَيَزِنُونَهُمْ بِمِعْيَارِ مَوَازِينِ نُفُوسِهِمْ، فَحَسِبُوا مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ مُثَبِّطًا لَهُ وَمُوشِكًا لِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ دَعْوَتِهِمْ. وَسَبِيلُ الرَّبِّ: طَرِيقُهُ. وَهُوَ مُجَازٌ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَامِلَهُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَحْصُلُ لِعَامِلِهِ غَرَضٌ مَا يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى مَكَانٍ مَقْصُودٍ، فَلِذَلِكَ يُسْتَعَارُ اسْمُ السَّبِيلِ لِسَبَبِ الشَّيْءِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِمُهَادَنَةٍ قُرَيْشٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ لَمَّا أَحْزَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْظَرُ الْمُثْلَةِ بِحَمْزَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَالَ: «لَأَقْتُلَنَّ مَكَانَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَلَا أَحْسَبُ مَا ذَكَرَاهُ صَحِيحًا. وَلَعَلَّ الَّذِي غَرَّ مَنْ رَوَاهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّحْل: 126] كَمَا سَيَأْتِي، بَلْ مَوْقِعُ الْآيَةِ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى إِيجَادِ سَبَبِ نُزُولٍ. وَإِضَافَةُ سَبِيلِ إِلَى رَبِّكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِالْتِزَامِهِ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَصَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سُورَة الْأَنْفَال: 36] ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [سُورَة النَّحْل: 125] . وَيُطْلَقُ سَبِيلُ اللَّهِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا عَلَى نُصْرَةِ الدَّيْنِ بِالْقِتَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سُورَة التَّوْبَة: 41] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحِكْمَةِ لِلْمُلَابَسَةِ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْمُعَرِّسِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، بِتَقْدِيرِ: أَعْرَسْتَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَهِيَ إِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِ ادْعُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ادْعُ.

وَحُذِفَ مَفْعُولُ ادْعُ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَوْ لِأَنَّ الْفِعْلَ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّوَامُ عَلَى الدَّعْوَةِ لَا بَيَانُ الْمَدْعُوِّينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الدَّعْوَةِ. وَمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَخْلُوَ دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ: الْحِكْمَةُ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ. فَالْحِكْمَةُ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ الْمُحْكَمَةُ، أَيِ الصَّائِبَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْخَطَأِ، فَلَا تُطْلَقُ الْحِكْمَةُ إِلَّا عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْخَالِصَةِ عَنْ شَوَائِبِ الْأَخْطَاءِ وَبَقَايَا الْجَهْلِ فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ وَفِي تَهْذِيبِهِمْ. وَلِذَلِكَ عَرَّفُوا الْحِكْمَةَ بِأَنَّهَا: مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِحَيْثُ لَا تَلْتَبِسُ عَلَى صَاحِبِهَا الْحَقَائِقُ الْمُتَشَابِهَةُ بَعْضُهَا بِبَعْض وَلَا تخطىء فِي الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ. وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ كَلَامٍ أَوْ عِلْمٍ يُرَاعَى فِيهِ إِصْلَاحُ حَالِ النَّاسِ وَاعْتِقَادُهُمْ إِصْلَاحًا مُسْتَمِرًّا لَا يَتَغَيَّرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [269] مُفَصَّلًا فَانْظُرْهُ. وَتُطْلَقُ الْحِكْمَةُ عَلَى الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُرَادِفُهَا الْحُكْمُ. والْمَوْعِظَةِ: الْقَوْلُ الَّذِي يُلَيِّنُ نَفْسَ الْمَقُولِ لَهُ لِعَمَلِ الْخَيْرِ. وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحِكْمَةِ لِأَنَّهَا حِكْمَةٌ فِي أُسْلُوبٍ خَاصٍّ لِإِلْقَائِهَا. وَتَقَدَّمت عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] . وَوَصْفُهَا بِالْحُسْنِ تَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ لَيِّنَةً مَقْبُولَةً عِنْدَ النَّاسِ، أَيْ حَسَنَةً فِي جِنْسِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ الْأَجْنَاسُ بِتَفَاضُلِ الصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا. وَعَطْفُ الْمَوْعِظَةِ عَلَى «الْحِكْمَةِ» لِأَنَّهَا تُغَايِرُ الْحِكْمَةَ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ الْوَجْهِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْلُكُ بِالْمَوْعِظَةِ مَسْلَكَ الْإِقْنَاعِ، فَمِنَ الْمَوْعِظَةِ حِكْمَةٌ، وَمِنْهَا خَطَابَةٌ، وَمِنْهَا جَدَلٌ.

وَهِيَ مِنْ حَيْثُ مَاهِيَّتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحِكْمَةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بِقَرِينَةِ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ، إِذْ لَمْ يَعْطِفْ مَصْدَرَ الْمُجَادَلَةِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِأَنْ يُقَالَ: وَالْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، بَلْ جِيءَ بِفِعْلِهَا، تَنْبِيها عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْيِيدُ الْإِذْنِ فِيهَا بِأَنْ تَكُونَ بِالَّتِي هِيَ أحسن، كَمَا قَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة العنكبوت: 46] . وَالْمُجَادَلَةُ: الِاحْتِجَاجُ لِتَصْوِيبِ رَأْيٍ وَإِبْطَالِ مَا يُخَالِفُهُ أَوْ عَمَلٍ كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ مَا لَقِيَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ قَدْ يَبْعَثُهُ على الغلظة عَلَيْهِم فِي الْمُجَادَلَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَتَقَدَّمَتْ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ: تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [سُورَة النَّحْل: 111] . وَتَقَدَّمَتْ مِنْ قَبْلُ عِنْدِ قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَالْمعْنَى: إِذا ألجأتك الدَّعْوَةُ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَحَاجِجْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ الْمُحَاجَّةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ تَقْتَضِي صُدُورَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ تَكُونَ الْمُحَاجَّةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ أَشَدَّ حُسْنًا مِنَ الْمُحَاجَّةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 96] . وَلَمَّا كَانَتِ الْمُجَادَلَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمُعَارِضِينَ صَرَّحَ فِي الْمُجَادَلَةِ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْغَائِبِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مُتَفَاوِتُونَ فِي كَيْفِيَّاتِ مُحَاجَّتِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاجُّ بِلِينٍ، مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا» قَالَ: لَا والدماء . وَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَمن جَاءَك فحدّثه إِيَّاهُ وَمَنْ لَمْ يأتك فَلَا تغته وَلَا تَأْتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِمَا يَكْرَهُ مِنْهُ.

وَتَصَدِّي الْمُشْرِكِينَ لِمُجَادَلَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 98] الْآيَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ الزِّبَعْرَى: لَأَخْصِمَنَّ مُحَمَّدًا، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عُبِدَ عِيسَى، وَعُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ فَهَلْ هُمْ حَصَبٌ لِجَهَنَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ مَا بَعْدَ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 101] . أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ «النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» . وَقُيِّدَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْحَسَنَةِ وَلَمْ تُقَيَّدِ الْحِكْمَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا غَالِبًا رَدْعَ نَفْسِ الْمَوْعُوظِ عَنْ أَعْمَالِهِ السَّيِّئَةِ أَوْ عَنْ تَوَقُّعِ ذَلِكَ مِنْهُ، كَانَتْ مَظِنَّةً لِصُدُورِ غِلْظَةٍ مِنَ الْوَاعِظِ وَلِحُصُولِ انْكِسَارٍ فِي نَفْسِ الْمَوْعُوظِ، أرشد اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَتَوَخَّى فِي الْمَوْعِظَةِ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً، أَيْ بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ وَتَرْغِيبِ الْمَوْعُوظِ فِي الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى خِطَابًا لِمُوسَى وَهَارُونَ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [سُورَة طه: 43] . وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ» الْحَدِيثَ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ تَعْلِيمٌ لِمُتَطَلِّبِي الْكَمَالِ مِنْ مُعَلِّمٍ يَهْتَمُّ بِتَعْلِيمِ طُلَّابِهِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً. وَالْمُجَادَلَةُ لَمَّا كَانَتْ مُحَاجَّةً فِي فِعْلٍ أَوْ رَأْيٍ لِقَصْدِ الْإِقْنَاعِ بِوَجْهِ الْحَقِّ فِيهِ فَهِيَ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَوْ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَلَكِنَّهَا جُعِلَتْ قَسِيمًا لَهُمَا هُنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَرَضِ الدَّاعِي إِلَيْهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مُجَادَلَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مِنْ ذُيُولِ الدَّعْوَةِ وُصِفَتْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كَمَا وُصِفَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْحَسَنَةِ.

وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُجَادِلُونَ النَّبِيءَ قَصْدًا لِإِفْحَامِهِ، وَتَمْوِيهًا لِتَغْلِيطِهِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى أُسْلُوبِ مُجَادَلَةِ النَّبِيءِ إِيَّاهُمْ اسْتِكْمَالًا لِآدَابِ وَسَائِلِ الدَّعْوَةِ كُلِّهَا. فَالضَّمِيرُ فِي وَجادِلْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُجَادِلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ تَلَقِّيَ الْمُسْتَفِيدِ وَالْمُسْتَرْشِدِ. وَهَذَا مُوجِبُ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَالْمُجَادَلَةُ الْحَسَنَةُ، بَلْ قَالَ: وَجادِلْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة العنكبوت: 46] . وَيَنْدَرِجُ فِي «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» رَدُّ تَكْذِيبِهِمْ بِكَلَامٍ غَيْرِ صَرِيحٍ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سُورَة سبأ: 24] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سُورَة الْحَج: 68] . وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَسَالِيبِ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا النَّاسَ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ خُطَبِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَإِرْشَادِهِ يَسْلُكُ مَعَهُمْ هَذِهِ الطُّرُقَ الثَّلَاثَةَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ وَمِنْ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ لُزُومُ كَوْنِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ حِكْمَةً مُشْتَمِلًا عَلَى غِلْظَةٍ وَوَعِيدٍ وَخَالِيًا عَنِ الْمُجَادَلَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مُجَادَلَةً غَيْرَ مَوْعِظَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّكَ لَتَأْكُلُ الْمِرْبَاعَ وَهُوَ حَرَامٌ فِي دِينِكَ» ، قَالَهُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.

وَمِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَعَتْ أُصُولَ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْحَقِّ، وَهِيَ الْبُرْهَانُ وَالْخَطَابَةُ وَالْجَدَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ بِالصِّنَاعَاتِ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ. وَأَمَّا السَّفْسَطَةُ وَالشِّعْرُ فَيَرْبَأُ عَنْهُمَا الْحُكَمَاءُ الصَّادِقُونَ بَلْهَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: «إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَقَالَةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى حُجَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْحُجَّةِ إِمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَإِمَّا إِلْزَامُ الْخَصْمِ وَإِفْحَامُهُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حُجَّةً حَقِيقِيَّةً يَقِينِيَّةً مُبَرَّأَةً مِنِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونَ مُفِيدَةً ظَنًّا ظَاهِرًا وَإِقْنَاعًا، فَظَهَرَ انْحِصَارُ الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَوَّلُهَا: الْحُجَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْعَقَائِدِ الْيَقِينِيَّةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحِكْمَةِ. وَثَانِيهَا: الْأَمَارَاتُ الظَّنِّيَّةُ وَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ. وَثَالِثُهَا: الدَّلَائِلُ الَّتِي الْقَصْدُ مِنْهَا إِفْحَامُ الْخَصْمِ وَذَلِكَ هُوَ الْجَدَلُ. وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْجَدَلُ الْوَاقِعُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ يُحَاوِلُ قَائِلُهَا تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ بِالْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ. وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْفَضْلِ» اه. وَهَذَا هُوَ الْمَدْعُوُّ فِي الْمَنْطِقِ بِالسَّفْسَطَةِ، وَمِنْهُ الْمُقَدِّمَاتُ الشِّعْرِيَّةُ وَهِيَ سَفْسَطَةٌ مُزَوَّقَةٌ. وَالْآيَةُ جَامِعَةٌ لِأَقْسَامِ الْحُجَّةِ الْحَقِّ جَمْعًا لِمَوَاقِعِ أَنْوَاعِهَا فِي طُرُقِ الدَّعْوَةِ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّدَاخُلِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّبَايُنِ وَالتَّقْسِيمِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْمَنْطِقِيِّينَ، فَإِنَّ الْحُجَجَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ عِنْدَهُمْ بَعْضُهَا قَسِيمٌ لِبَعْضٍ،

فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهَا التَّبَايُنُ. أَمَّا طُرُقُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْوَجْهِيُّ. وَتَفْصِيلُهُ يَخْرُجُ بِنَا إِلَى تَطْوِيلٍ، وَذِهْنُكَ فِي تَفْكِيكِهَا غَيْرُ كَلِيلٍ. فَإِلَى الْحِكْمَةِ تَرْجِعُ صِنَاعَةُ الْبُرْهَانِ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ وَهِيَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ تَقْتَضِي حُصُولَ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَإِلَى الْمَوْعِظَةِ تَرْجِعُ صِنَاعَةُ الْخَطَابَةِ لِأَنَّ الْخَطَابَةَ تَتَأَلَّفُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ظَنِّيَّةٍ لِأَنَّهَا مُرَاعًى فِيهَا مَا يَغْلِبُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُعْتَادَةِ. وَكَفَى بِالْمَقْبُولَاتِ الْعَادِيَّةِ مَوْعِظَةً. وَمِثَالُهَا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا [سُورَة النِّسَاء: 22] فَقَوْلُهُ: وَمَقْتاً أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ نِكَاحَ الْمَقْتِ، فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ لِأَنَّهُ مُقْنِعٌ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ خَطَابِيٌّ. وَأَمَّا الْجَدَلُ فَمَا يُورَدُ فِي الْمُنَاظَرَاتِ وَالْحِجَاجِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُسَلَّمَةِ بَيْنَ الْمُتَحَاجِّينَ أَوْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَشْهُورَةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْجَدَلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَرُوجُ فِي خُصُوصِ الْمُجَادَلَةِ وَلَا يَلْتَحِقُ بِمَرْتَبَةِ الْحِكْمَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يُقْبَلُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْعِظَةِ لَوْ أُلْقِيَ فِي غَيْرِ حَالِ الْمُجَادَلَةِ. وَسَمَّاهُ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ جَدَلًا تَقْرِيبًا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ، وَبَعْدَ وَصْفِ أَحْوَالِ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.

فَلَمَّا كَانَ التَّحْرِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى اسْتِدَامَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ مُحْتَاجًا لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ بَيَّنَتِ الْحِكْمَةُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَصِيرِ النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ النَّاسِ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيْ فَلَا تَيْأَسْ مِنْ هِدَايَتِهِمْ وَلَا تَتَجَاوَزْ إِلَى حَدِّ الْحُزْنِ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَنْ يَهْتَدِي وَمَنْ يَضِلُّ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا عَلَيْكَ التَّبْلِيغُ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهَذَا قَوْلٌ فَصْلٌ بَيْنَ فَرِيقِ الْحَقِّ وَفَرِيقِ الْبَاطِلِ. وَقَدَّمَ الْعِلْمَ بِمَنْ ضَلَّ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ دَعْوَتَهُمْ أَوْكَدُ وَالْإِرْشَادُ إِلَى اللِّينِ فِي جَانِبِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحُسْنَى أَهَمُّ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ بِالْمُهْتَدِينَ عَلَى وَجْهِ التَّكْمِيلِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ أَيِسَ مِنْ إِيمَانِهِ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَأَمَّا إِنَّ فَهِيَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ لَيْسَتْ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى مَا أَوْضَحَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ فَإِنَّ إِفَادَتَهَا التَّأْكِيدَ هُنَا مُسْتَغْنًى عَنْهَا بِوُجُودِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ لِقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَإِنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ. وَإِعَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى تَقْوِيَةِ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَلَى أَنه خبر (لإنّ) غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَيِّزِ التَّقْوِيَةِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ، فَأُعِيدَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَلَمْ يَقُلْ: وبالمهتدين، تَصْرِيحًا بِالْعِلْمِ فِي جَانِبِهِمْ لِيَكُونَ صَرِيحًا فِي تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ. وَهَذَانِ الْقَصْرَانِ إِضَافِيَّانِ، أَيْ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ، لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَأَنَّكُمْ ضَالُّونَ.

وَالتَّفْضِيلُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ تَفْضِيلٌ عَلَى عِلْمِ غَيْرِهِ بِذَلِكَ. فَإِنَّهُ عِلْمٌ مُتَفَاوِتٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْعَالِمِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ. وَفِي هَذَا التَّفْضِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِ طَلَبِ كَمَالِ الْعِلْمِ بِالْهُدَى، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَغَوْصِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، وَتَجَنُّبِ التَّسَرُّعِ فِي الْحُكْمِ دُونَ قُوَّةِ ظَنٍّ بِالْحَقِّ، وَالْحَذَرِ مِنْ تَغَلُّبِ تَيَّارَاتِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى لَا تَنْعَكِسَ الْحَقَائِقُ وَلَا تَسِيرَ الْعُقُولُ فِي بِنْيَاتِ الطَّرَائِقِ، فَإِنَّ الْحَقَّ بَاقٍ عَلَى الزَّمَانِ وَالْبَاطِلُ تُكَذِّبُهُ الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ. وَالتَّخَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقُومُ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سِيَاسَتِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ سَالِكًا لِلطَّرَائِقِ الثَّلَاثِ: الْحِكْمَةُ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَإِلَّا كَانَ مُنْصَرِفًا عَنِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرَ خَلِيقٍ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَنْ يُعَرِّضَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ لِلتَّلَفِ، فَإِصْلَاحُ الْأُمَّةِ يَتَطَلَّبُ إِبْلَاغَ الْحَقِّ إِلَيْهَا بِهَذِهِ الْوَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَالْمُجْتَمَعُ الإسلامي لَا يَخْلُو عَنْ مُتَعَنِّتٍ أَوْ مُلَبِّسٍ وَكِلَاهُمَا يُلْقِي فِي طَرِيق المصلحين شواك الشُّبَهِ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. فَسَبِيلُ تَقْوِيمِهِ هُوَ الْمُجَادَلَةُ، فَتِلْكَ أَدْنَى لِإِقْنَاعِهِ وَكَشْفِ قِنَاعِهِ. فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا فِي آخِرِ عُمْرِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا» وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى. (لَعَلَّهُ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى الْمُمْسِكَةِ السَّيْفَ أَوِ الْعَصَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ) . وَهَذَا الضَّرْبُ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ مَا ذَكَرَ مَطْلَبٌ لِلنَّاسِ فِي حُكْمٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بَيَانٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ عِلْمَهُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عَلَى ذِكْرِ عِلْمِهِ بِالْمُهْتَدِينَ لِأَنَّ الْمَقَامَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلضَّالِّينَ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَالْوَعِيدُ مُقَدَّمٌ على الْوَعْد.

[سورة النحل (16) : آية 126]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 126] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [سُورَة النَّحْل: 125] ، أَيْ إِنْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الدَّعْوَةِ فَلْتَكُنْ دَعَوْتُكَ إِيَّاهُمْ كَمَا وَصَفْنَا، وَإِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ معاقبين لمشركين عَلَى مَا نَالَكُمْ مِنْ أَذَاهُمْ فَعَاقِبُوهُمْ بِالْعَدْلِ لَا بِتَجَاوُزِ حَدِّ مَا لَقِيتُمْ مِنْهُمْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَتَمَّ اتِّصَالِ، وَحَسْبُكَ وُجُودُ الْعَاطِفِ فِيهَا. وَهَذَا تَدَرُّجٌ فِي رُتَبِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ مُعَامَلَةِ الَّذين يدعونَ ويوعظون إِلَى مُعَامَلَةِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ثُمَّ إِلَى مُعَامَلَةِ الَّذِينَ يُجَازَوْنَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَبِذَلِكَ حَصَلَ حُسْنُ التَّرْتِيبِ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَهَذَا مُخْتَارُ النَحَّاسِ وَابْنِ عَطِيَّةَ وَفَخْرِ الدِّينِ، وَبِذَلِكَ يَتَرَجَّحُ كَوْنُ هَذِهِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً مَعَ سَوَابِقِهَا ابْتِدَاءً مِنَ الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ لِلطَّبَرَانِيِّ. وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى الرُّوَاةِ تَذَكُّرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ حِينَ تَوَعَّدَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يُمَثِّلَ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ إِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُعَاقَبَةُ: الْجَزَاءُ عَلَى فِعْلِ السُّوءِ بِمَا يَسُوءُ فَاعِلَ السُّوءِ. فَقَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ مُشَاكَلَةٌ لِ عاقَبْتُمْ. اسْتَعْمَلَ عُوقِبْتُمْ فِي مَعْنَى عُومِلْتُمْ بِهِ، لِوُقُوعِهِ بَعْدَ فِعْلِ عاقَبْتُمْ، فَهُوَ اسْتِعَارَةُ وَجْهِ شَبَهِهَا هُوَ

[سورة النحل (16) : آية 127]

الْمُشَاكَلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُوقِبْتُمْ حَقِيقَةً لِأَنَّ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْأَذَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَصَدُوا بِهِ عِقَابَهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِ قَوْمِهِمْ وَعَلَى شَتْمِ أَصْنَامِهِمْ وَتَسْفِيهِ آبَائِهِمْ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَعاقِبُوا لِلْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ فَإِنَّ عَدَمَ التَّجَاوُزِ فِي الْعُقُوبَةِ وَاجِبٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَجْعَلُهُمْ فِي قَبْضَتِهِمْ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَبْعَثُهُ الْحَنَقُ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِي الْعِقَابِ. فَهِيَ نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [سُورَة النَّحْل: 110] . وَرَغَّبَهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، أَيْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَبِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَجْلَبُ لِقُلُوبِ الْأَعْدَاءِ، فَوُصِفَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سُورَة فصّلت: 34] ، وَقَوْلُهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سُورَة الشورى: 40] . وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى الصَّبْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ صَبَرْتُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سُورَة الْمَائِدَة: 8] . وَأَكَّدَ كَوْنَ الصَّبْرِ خَيْرًا- بِلَامِ الْقَسَمِ- زِيَادَةً فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالصَّابِرِينَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِصِفَةِ الصَّابِرِينَ، أَيِ الصَّبْرُ خَبَرٌ لجنس الصابرين. [127] [سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 127] وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) خُصَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَقَامَهُ أَعْلَى، فَهُوَ بِالْتِزَامِ الصَّبْرِ أَوْلَى، أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُعَاقَبَةِ.

وَجُمْلَةُ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، أَيْ وَمَا يَحْصُلُ صَبْرُكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاكَ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَبْرَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمٌ لَقِيَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَشَدَّ مِمَّا لَقِيَهُ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ. فَصَبْرُهُ لَيْسَ كَالْمُعْتَادِ، لِذَلِكَ كَانَ حُصُولُهُ بِإِعَانَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَحَذَّرَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 3] . ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنْ لَا يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ بِاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ الْمُسَبِّبَةِ لَهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ النَّبِيءَ مَرَّةً بِالْأَذَى عَلَنًا، وَمَرَّةً بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارِ أَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُ بِعَدَمِ مُتَابَعَتِهِ، وَآوِنَةً بِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ لَهُ وَهُوَ تَدْبِيرُ الْأَذَى فِي خَفَاءٍ. وَالضَّيْقُ- بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- مَصْدَرُ ضَاقَ، مِثْلُ السَّيْرِ وَالْقَوْلِ. وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيُقَالُ: الضِّيقُ- بِكَسْرِ الضَّادِ- مِثْلُ: الْقِيلِ. وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سُورَة هود: 12] . وَالْمُرَادُ ضِيقُ النَّفَسِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْجَزَعِ وَالْكَدَرِ، كَمَا اسْتُعِيرَ ضِدُّهُ وَهُوَ السَّعَةُ وَالِاتِّسَاعُ لِلِاحْتِمَالِ وَالصَّبْرِ. يُقَالُ: فُلَانٌ ضَيِّقُ الصَّدْرِ، قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْحِجْرِ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [سُورَة الْحجر: 97] . وَيُقَالُ سَعَةُ الصَّدْرِ. وَالظَّرْفِيَّةُ فِي ضَيْقٍ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ لَا يُلَابِسُكَ ضِيقُ مُلَابَسَةِ الظَّرْفِ لِلْحَالِّ فِيهِ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مِنْ مَكْرِهِمْ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُنْسَبِكُ إِلَى مَصْدَرٍ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مِنَ التجدّد والتكرّر.

[سورة النحل (16) : آية 128]

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 128] إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْجُرْمِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَلِلتَّرْغِيبِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُعْتَدِينَ، وَلِتَخْصِيصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِمَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِصَرْفِ الْكَدَرِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ جَرَّاءِ أَعْمَالِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. عَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِأَنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ يتّقونه فيقفون عِنْد مَا حَدَّ لَهُمْ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ. وَأَتَى فِي جَانِبِ التَّقْوَى بِصِلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضِيَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى لُزُومِ حُصُولِهَا وَتَقَرُّرِهَا مِنْ قَبْلُ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، لِأَن التّقوى آئلة إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَهُوَ حَقٌّ عَلَى الْمُكَلَّفِ. وَلِذَلِكَ أُمِرَ فِيهَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ. وَأَتَى فِي جَانِبِ الْإِحْسَانِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِ الْإِحْسَانِ ثَابِتًا لَهُمْ دَائِمًا مَعَهُمْ، لِأَنَّ الْإِحْسَان فَضِيلَة، فبصاحبه حَاجَةٌ إِلَى رُسُوخِهِ مِنْ نَفسه وتمكّنه.

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1420 هـ- 2000 م الطبعة الأولى

17- سورة الإسراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 17- سُورَةُ الْإِسْرَاءِ سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ. وَصَرَّحَ الْأُلُوسِيُّ بِأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، إِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي أَولهَا الْإِسْرَاء بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتُصَّتْ بِذِكْرِهِ. وَتُسَمَّى فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فِي (أَبْوَابِ الدُّعَاءِ) عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: «إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي» . وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهَا الْبُخَارِيُّ فِي (كِتَابِ التَّفْسِيرِ) ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي (أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ) . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا. وَهُوَ اسْتِيلَاءُ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ (الْآشُورِيِّينَ) عَلَيْهِمْ ثُمَّ اسْتِيلَاءُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَهُمُ (الرُّومُ) عَلَيْهِمْ. وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ سُبْحانَ، لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِهَذِهِ الْكَلِمَة. قَالَه فِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» .

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا، وَهُمَا وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- إِلَى قَوْله قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 73- 76] . وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعًا، هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاء: 60] وَقَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 80] . وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسًا، هَاتِهِ الْأَرْبَعُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى آخر السُّورَة [الْإِسْرَاء: 107] . وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْمُبْتَدَأَةُ بِقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 33] ، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الْآيَة [الْإِسْرَاء: 32] ، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 57] ، وَقَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 78] ، وَقَوْلُهُ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 26] . وَقِيلَ إِلَّا ثَمَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- سُلْطاناً نَصِيراً [الْإِسْرَاء: 73- 80] . وَأَحْسَبُ أَنَّ مَنْشَأَ هَاتِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحْكَامِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَقْوَالُ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَ لَا تُنَاسِبُ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَ مَدَنِيَّةٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِهَا. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زمن كثرت فِيهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وَأَخَذَ التَّشْرِيعُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَاتِ جَمَاعَتِهِمْ يَتَطَرَّقُ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَقَدْ ذُكِرَتْ فِيهَا أَحْكَامٌ مُتَتَالِيَةٌ لَمْ تُذْكَرْ أَمْثَالُ عَدَدِهَا فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ غَيْرِهَا عَدَا سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِلَى قَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الْإِسْرَاء: 23- 38] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْإِسْرَاءِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوع الْإِسْرَاء بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَهِيَ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فِي مُنْتَصَفِ السَّنَةِ. وَلَيْسَ افْتِتَاحُهَا بِذِكْرِ الْإِسْرَاءِ مُقْتَضِيًا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوعِ الْإِسْرَاءِ. بَلْ يَجُوزُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ بِمُدَّةٍ.

أغراضها

وَذُكِرَ فِيهَا الْإِسْرَاءُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَنْوِيهًا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَتَذْكِيرًا بِحُرْمَتِهِ. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ الْقَصَصِ وَقَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ. وَعُدَّتِ السُّورَةُ الْخَمْسِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ سُورَةِ الْقُرْآنِ. وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَعَشْرٌ فِي عد أهل الْعدَد بِالْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالشَّامِ، وَالْبَصْرَةِ. وَمِائَةٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ. أَغْرَاضُهَا الْعِمَادُ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتُ نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ. وَإِثْبَاتُ فَضْلِهِ وَفضل من أنزل عَلَيْهِ. وَذِكْرُ أَنَّهُ مُعْجِزٌ. وَرَدُّ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَفِيمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوهُ فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْهُ. وَإِبْطَالُ إِحَالَتِهِمْ أَن يكون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. فَافْتُتِحَتْ بِمُعْجِزَةِ الْإِسْرَاءِ تَوْطِئَةً لِلتَّنْظِيرِ بَيْنَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ الدِّينِيَّة، ورمزا إِلَيْهَا إِلَى أَنَّ اللَّهَ أعْطى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَضَائِلِ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى مَنْ قَبْلَهُ. وَأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ الْفَضَائِلَ فَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا فَائِتٌ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَحَلَّهُ بِالْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي تَدَاوَلَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ يَسْتَأْثِرْهُمْ بِالْحُلُولِ

بِذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَهْبِطُ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَرَمْزُ أَطْوَارِ تَأْرِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَسْلَافِهِمْ، وَالَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي أَنَّ أَصْلَ تَأْسِيسِهِ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الْإِسْرَاء: 1] فَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بَعْدَ أَنْ هُجِرَ وَخُرِّبَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أُمَّتَهُ تُجَدِّدُ مَجْدَهُ. وَأَنَّ اللَّهَ مَكَّنَهُ من حرمي النبوءة وَالشَّرِيعَةِ، فَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى لَمْ يَكُنْ مَعْمُورًا حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا عُمِّرَتْ كَنَائِسُ حَوْلَهُ، وَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَحْفَظُوا حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَكَانَ إِفْسَادُهُمْ سَبَبًا فِي تَسَلُّطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَخَرَابِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَفِي ذَلِكَ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سَتَكُونُ عَلَى يَدِ أُمَّةِ هَذَا الرَّسُولِ الَّذِي أَنْكَرُوا رِسَالَتَهُ. ثُمَّ إِثْبَاتُ دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِآيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمِنَنِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعَمِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَتَرْكِ شُكْرِ غَيْرِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ اتِّخَاذِ بَنَاتٍ لَهُ. وَإِظْهَارُ فَضَائِلَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ نَحْوَ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ، وَمُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَمُرَاقَبَةُ اللَّهِ فِي ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّوْرَاةُ كُلُّهَا فِي خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا كَانَتْ فِي أَلْوَاحِ مُوسَى، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الْإِسْرَاء: 22- 39] . وَيَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ الْأَلْوَاحَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْوَصَايَا الْعَشْرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهَا أَحْكَامٌ قُرْآنِيَّةٌ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 1]

عَلَى أَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا فِي الْأَلْوَاحِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ الْآيِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تَزِيدُ بِأَحْكَامٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ كَفُوراً [الْإِسْرَاء: 25- 27] ، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] ، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الْإِسْرَاء: 34- 39] ، مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَفْصِيلٍ وَتَبْيِينٍ عَرِيَتْ عَنْهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْأَلْوَاحِ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَالْحَثُّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا. وَالتَّحْذِيرُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَعَدَاوَتِهِ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَقِصَّةُ إِبَايَتِهِ مِنَ السُّجُودِ. وَالْإِنْذَارُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَذِكْرُ مَا عَرَضَ لِلْأُمَمِ مِنْ أَسْبَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَالْهَلَاكِ. وَتَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَنْصُرَ الْإِسْلَامَ عَلَى بَاطِلِهِمْ. وَمَا لَقِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاسْتِعَانَتِهِمْ بِالْيَهُودِ. وَاقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ، وَتَحْمِيقِهِمْ فِي جَهْلِهِمْ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْتَطْرَدَاتِ وَالنُّذُرِ وَالْعِظَاتِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ مَا هُوَ علم وَحِكْمَة. [1] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) الِافْتِتَاحُ بِكَلِمَةِ التَّسْبِيحِ مِنْ دُونِ سَبْقِ كَلَامٍ مُتَضَمِّنٍ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ خَبَرًا عَجِيبًا يَسْتَقْبِلُهُ السَّامِعُونَ دَالًّا عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَرَفِيعِ مَنْزِلَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ.

فَإِنَّ جُمْلَةَ التَّسْبِيحِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ مَا يُوهِمُ تَشْبِيهًا أَوْ تَنْقِيصًا لَا يَلِيقَانِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافّات: 180] يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي أَكثر من التَّنْزِيه، وَذَلِكَ هُوَ التَّعْجِيبُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُتَحَدَّثِ بِهِ كَقَوْلِهِ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّور: 16] ، وَقَوْلِ الْأَعْشَى: قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْبِيحُ صَادِرًا مِنْهُ كَانَ الْمَعْنَى تَعْجِيبَ السامعين، لِأَن التَّعَجُّب مُسْتَحِيلَةٌ حَقِيقَتُهُ عَلَى اللَّهِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فِي مَحَامِلِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ إِلَى التَّمْثِيلِ، مِثْلُ مَجِيءِ الرَّجَاءِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى نَحْوُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 189] ، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَعَجُّبُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّعْجِيبِ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ أَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَوَجْهُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ عِنْدَ ظُهُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مُزِيلًا لِلشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلِلْإِشْرَاكِ بِهِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطِقَ الْمُتَأَمِّلُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْعَجْزِ. وَأَصْلُ صِيَغِ التَّسْبِيحِ هُوَ كَلِمَةُ «سُبْحَانَ اللَّهِ» الَّتِي نُحِتْ مِنْهَا السَّبْحَلَةُ. وَوَقَعَ التَّصَرُّفُ فِي صِيَغِهَا بِالْإِضْمَارِ نَحْوُ سُبْحَانَكَ وَسُبْحَانَهُ، وَبِالْمَوْصُولِ نَحْوُ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [يس: 36] وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا تُفِيدُهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ هَذَا التَّعْجِيبِ وَالتَّنْوِيهِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْحَادِثُ الْعَظِيمُ وَالْعِنَايَةُ الْكُبْرَى. وَيُفِيدُ أَنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ أَمْرٌ فَشَا بَيْنَ الْقَوْمِ، فَقَدْ آمَنُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَكْبَرَهُ الْمُشْرِكُونَ.

وَفِي ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِرِفْعَةِ قدر مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِثْبَاتُ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ دَعْوَتِهِ مَا لَا قيل لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، فَقَدْ كَانَ إِسْرَاؤُهُ إِطْلَاعًا لَهُ عَلَى غَائِبٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَكَانٍ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وأَسْرى لُغَةٌ فِي سَرَى، بِمَعْنَى سَارَ فِي اللَّيْلِ، فَالْهَمْزَةُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ حَاصِلَةٌ بِالْبَاءِ، بَلْ أسرى فعل مفتح بِالْهَمْزَةِ مُرَادِفُ سَرَى، وَهُوَ مِثْلُ أَبَانَ الْمُرَادِفُ بَانَ، وَمِثْلُ أَنْهَجَ الثَّوْبُ بِمَعْنَى نَهَجَ أَيْ بَلِيَ، فَ أَسْرى بِعَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] . وَلِلْمُبَرِّدِ وَالسُهَيْلِيِّ نُكْتَةٌ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَبْلَغُ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولَ فِي الْفِعْلِ، فَأَصْلُ (ذَهَبَ بِهِ) أَنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: 29] . وَقَالَتِ الْعَرَبُ أَشْبَعَهُمْ شَتْمًا، وَرَاحُوا بِالْإِبِلِ. وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ تُنَاسِبُ الْمَقَامَ هُنَا إِذْ قَالَ أَسْرى بِعَبْدِهِ دُونَ سَرَى بِعَبْدِهِ، وَهِيَ التَّلْوِيحُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مَعَ رَسُولِهِ فِي إِسْرَائِهِ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] ، وَقَالَ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: 40] . فَالْمَعْنَى: الَّذِي جَعَلَ عَبْدَهُ مُسْرَيًا، أَيْ سَارِيًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود: 81] . وَإِذْ قَدْ كَانَ السُّرَى خَاصًّا بِسَيْرِ اللَّيْلِ كَانَ قَوْلُهُ: لَيْلًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السَّيْرَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ إِلَّا تَأْكِيدًا، عَلَى أَنَّ الْإِفَادَةَ كَمَا يَقُولُونَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِقَطْعِ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ السَّيْرِ وَنِهَايَتِهِ فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ، وَأَيْضًا لِيَتَوَسَّلَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ إِلَى تَنْكِيرِهِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. فَتَنْكِيرُ لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ، بِقَرِينَةِ الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْ فِعْلِ أَسْرى، وَبِقَرِينَةِ عَدَمِ تَعْرِيفِهِ، أَيْ هُوَ لَيْلٌ عَظِيمٌ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ زَمَنًا

لِذَلِكَ السُّرَى الْعَظِيمِ، فَقَامَ التَّنْكِيرُ هُنَا مَقَامَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتِيجَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1- 2] إِذْ وَقَعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ. (¬1) وَ (عَبْدُ) الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هَنَا هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لَفْظُ الْعَبْدِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الرَّاجِع إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا مُرَادًا بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ خَبَرَ الْإِسْرَاءِ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَشَاعَ إِنْكَارُهُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ الْمُرَادُ بِعَبْدِهِ مَعْلُومًا. وَالْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لَا إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ لِأَنَّ وَصْفَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تُفِيدُ إِضَافَتُهُ تَعْرِيفًا. وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ الْمُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ مِنْ طَوَافٍ بهَا واعتكاف عِنْدهَا وَصَلَاةٍ. وَأَصْلُ الْمَسْجِدِ: أَنَّهُ اسْمُ مَكَانِ السُّجُودِ. وَأَصْلُ الْحَرَامِ: الْأَمْرُ الْمَمْنُوعُ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْمِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْحَرَمَ. فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالْحَرَامِ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا يُنَاسِبُهُ، نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُ الْمِيتَةِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ أَيْ مَمْنُوعٌ قُرْبَانُهَا لِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهُمْ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَمْنُوعِ مِنْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ مَا. وَيُبَيَّنُ بِذِكْرِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَدْ لَا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الشَّهْرُ ¬

(¬1) وَأما قَوْله: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ فَذَلِك توكيد لِأَن المتحدث عَنْهُم ينكرونه وَلَا يعبؤون بِمَا أعد لَهُم فِيهِ من الْأَهْوَال.

الْحَرامُ [الْبَقَرَة: 194] أَيِ الْحَرَامُ فِيهِ الْقِتَالُ فِي عُرْفِهِمْ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْمُتَعَلَّقُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، فَهُوَ مِنَ الْحَذْفِ لِلتَّعْمِيمِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، فَفِي نَحْوِ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 2] يُرَادُ الْمَمْنُوعُ مِنْ عُدْوَانِ الْمُعْتَدِينَ، وَغَزْوِ الْمُلُوكِ وَالْفَاتِحِينَ، وَعَمَلِ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ فِيهِ. وَالْحَرَامُ: فَعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ حَصَانٌ، أَيْ مَمْنُوعَةٌ بِعَفَافِهَا عَنِ النَّاسِ. فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلسُّجُودِ، أَيْ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمَجْعُولُ حَرَمًا لَهَا. وَهُوَ يَخْتَلِفُ سَعَةً وَضِيقًا بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ لِلطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ. وَقَدْ بَنَى قُرَيْشٌ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ بُيُوتَهُمْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَجَعَلَ قُصَيٌّ بِقُرْبِهِ دَارَ النَّدْوَةِ لِقُرَيْشٍ وَكَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَانْحَصَرَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِهِ بُيُوتُ عَشَائِرِ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ كُلُّ عَشِيرَةٍ تَتَّخِذُ بُيُوتَهَا مُتَجَاوِرَةً. وَمَجْمُوعُ الْبُيُوتِ يُسَمَّى شِعْبًا- بِكَسْرِ الشِّينِ-. وَكَانَتْ كُلَّ عَشِيرَةٍ تَسْلُكُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَنْفَذِ دُورِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جِدَارٌ يُحْفَظُ بِهِ. وَكَانَتِ الْمَسَالِكُ الَّتِي بَيْنَ دُورِ الْعَشَائِرِ تُسَمَّى أَبْوَابًا لِأَنَّهَا يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مِثْلُ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَبَابِ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَابِ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُوَ بَابُ الصَّفَا، وَبَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَبَابُ بَنَيِ تَيْمٍ. وَرُبَّمَا عُرِفَ بَعْضُ الْأَبْوَابِ بِجِهَةٍ تَقْرُبُ مِنْهُ مِثْلُ بَابِ الصَّفَا وَيُسَمَّى بَابَ بَنِي مَخْزُومٍ. وَبَابَ الْحَزْوَرَةِ سُمِّيَ بِمَكَانٍ كَانَتْ بِهِ سُوقٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ تُسَمَّى الْحَزْوَرَةُ. وَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتْ أَبْوَابًا تُغْلَقُ أَمْ كَانَتْ مَنَافِذَ فِي الْفَضَاءِ فَإِنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ حَاجِزَيْنِ. وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جِدَارًا يُحْفَظُ بِهِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ.

وَلُقِّبَ بِالْمَسْجِدِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- جَعَلَهُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: 37] . وَلَمَّا انْقَرَضَتِ الْحَنِيفِيَّةُ وَتَرَكَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الصَّلَاةِ تَنَاسَوْا وَصْفَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَصَارُوا يَقُولُونَ: الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ. فَغَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا التَّعْرِيفُ التَّوْصِيفِيُّ فَصَارَ لَهُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ. وَلَا أَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي عَصْرِ تَحْرِيمِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي [الْبَقَرَةِ: 144] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي أول الْعُقُود [الْمَائِدَة: 2] . وَعَلَمِيَّتُهُ بِمَجْمُوعِ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ وَكِلَاهُمَا مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ. فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِثْلُ النَّجْمِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي مثل الصَّعق، فَحَصَلَ التَّعْرِيفُ بِمَجْمُوعِهِمَا، وَلَمْ يَعُدَّ النُّحَاةُ هَذَا النَّوْعَ فِي أَقْسَامِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ. وَلَعَلَّهُمُ اعْتَبَرُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ. وَلَا بُدَّ مِنْ عَدِّهِ لِأَنَّ عَلَمِيَّتَهُ صَارَتْ بِالْأَمْرَيْنِ. وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَعْرُوفُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الْكَائِنِ بِإِيلِيَاءَ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَالْأَقْصَى، أَيِ الْأَبْعَدُ. وَالْمُرَادُ بُعْدُهُ عَنْ مَكَّةَ، بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ نِهَايَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ اقْتَضَاهُ هُنَا زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مُعْجِزَةِ هَذَا الْإِسْرَاءِ وَكَوْنُهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ لِكَوْنِهِ قَطَعَ مَسَافَةً طَوِيلَةً فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ. وَبِهَذَا الْوَصْفِ الْوَارِدِ لَهُ فِي الْقُرْآنِ صَارَ مَجْمُوعُ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا الْعلم لَهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يَصِفُونَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَسْجِدُ إِيلِيَاءَ. وَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدٌ لِدِينٍ إِلَهِيٍّ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ.

وَفِي هَذَا الْوَصْفِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ وَضْعِهَا مُعْجِزَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ هُوَ مَسْجِدُ طِيبَةَ الَّذِي هُوَ قَصِيٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَقْصَى مِنْهُ حِينَئِذٍ. فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالَّتِي بَينهَا قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدُ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي» . وَفَائِدَةُ ذِكْرِ مَبْدَأِ الْإِسْرَاءِ وَنِهَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَمْرَانِ: - أَحَدُهُمَا: التَّنْصِيصُ عَلَى قِطَعِ الْمَسَافَةِ الْعَظِيمَةِ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الظَّرْفِ وَهُوَ لَيْلًا وَمِنَ الْمَجْرُورَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَسْرى، فَهُوَ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ. - وَثَانِيهِمَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذَا الْإِسْرَاءَ رَمْزًا إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَ مَا جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُ التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الصَّادِرُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَانَ مَقَرُّهَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ إِلَى خَاتِمَتِهَا الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ مَكَّةَ أَيْضًا فَقَدْ صَدَرَتِ الْحَنِيفِيَّةُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَفَرَّعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا عَادَ الْإِسْرَاءُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ كُلَّ سُرًى يَعْقُبُهُ تَأْوِيبٌ. وَبِذَلِكَ حَصَلَ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ نزُول التشريع الاجماعي فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فَفِيهَا: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الْإِسْرَاء: 23- 35] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ سَيَكُونُ دِينًا يَحْكُمُ فِي النَّاسِ وَتُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ. وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا وَرَدَ ذَلِك عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلٌ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً» . فَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ حُدِّدَ بِمُدَّةٍ هِيَ مِنْ مُدَّةِ حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ ذِكْرَهُ. وَهُوَ مِمَّا خصّ الله نبيئه بِمَعْرِفَتِهِ. وَالتَّوْرَاةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَخَلَ أَرْضَ كَنْعَانَ (وَهِيَ بِلَادُ فِلَسْطِينَ) نَصَبَ خَيْمَتِهِ فِي الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيلَ (بَيْتُ إِيلَ مَدِينَةٌ عَلَى بُعْدِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى الشَّمَالِ وَهُوَ بَلَدٌ كَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ (لَوْزًا) فَسَمَّاهُ يَعْقُوبُ: بَيْتُ إِيلَ، كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) وَغَرْبِيَّ بِلَادِ عَايِ (مَدِينَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ تُعْرَفُ الْآنَ «الطَّيِّبَةُ» ) وَبَنَى هُنَالِكَ مَذْبَحَا لِلرَّبِّ. وَهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَذْبَحَ عَلَى الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الْقَرَابِينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ ... صَوَّرُوهَا فِي مَذْبَحِ الْمِحْرَابِ أَيْ مَكَانِ الْمَذْبَحِ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ مَحل التَّعَبُّد، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمرَان: 39] . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَوَخَّى دَاوُدُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ الْخَيْمَةَ وَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ مِحْرَابَهُ أَوْ أوحى الله إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَوْصَى ابْنَهُ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ، أَيِ الْهَيْكَلَ. وَقَدْ ذكر مؤرخو العبرانيين وَمِنْهُم (يوسيفوس) أَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي سَكَنَهُ إِبْرَاهِيمُ

بِأَرْضِ كَنْعَانَ اسْمُهُ (نَابُو) وَأَنه هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي ابْتَنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ الْهَيْكَلَ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بِهِ الصَّخْرَةُ. وَقِصَّةُ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ إِيَّاهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَقَدِ انْتَابَهُ التَّخْرِيبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: - أُولَاهَا: حِينَ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكُ بَابِلَ سَنَةَ 578 قَبْلَ الْمَسِيحِ ثُمَّ جَدَّدَهُ الْيَهُودُ تَحْتَ حُكْمِ الْفُرْسِ. - الثَّانِيَةُ: خَرَّبَهُ الرُّومَانُ فِي مُدَّةِ طِيطُوسَ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَأُعِيدَ بِنَاؤُهُ، فَأَكْمَلَ تَخْرِيبَهُ أَدْرِيَانُوسُ سَنَةَ 135 لِلْمَسِيحِ وَعَفَّى آثَارَهُ فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ إِلَّا أَطْلَالٌ. - الثَّالِثَةُ لَمَّا تَنَصَّرَتِ الْمَلِكَةُ هيلانة أم الإنبراطور قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ (بِيزَنْطَةَ) وَصَارَتْ مُتَصَلِّبَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَأُشْرِبَ قَلْبُهَا بُغْضَ الْيَهُودِ بِمَا تَعْتَقِدُهُ مِنْ قَتْلِهِمُ الْمَسِيحَ كَانَ مِمَّا اعْتَدَتْ عَلَيْهِ حِينَ زَارَتْ أُورْشَلِيمَ أَنْ أَمَرَتْ بِتَعْفِيَةِ أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنْ يُنْقَلَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسَاطِينِ وَنَحْوِهَا فَتُبْنَى بِهَا كَنِيسَةٌ عَلَى قَبْرِ الْمَسِيحِ الْمَزْعُومِ عِنْدَهُمْ فِي مَوْضِعٍ تَوَسَّمُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَوْضِعَ الْقَبْرِ (وَالْمُؤَرِّخُونَ مِنَ النَّصَارَى يَشُكُّونَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُدْعَى أَنَّ الْمَسِيحَ دُفِنَ فِيهِ) وَأَنْ تُسَمِّيَهَا كَنِيسَةَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَتْ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَرْمَى أَزْبَالِ الْبَلَدِ وَقِمَامَاتِهِ فَصَارَ مَوْضِعُ الصَّخْرَةِ مَزْبَلَةً تَرَاكَمَتْ عَلَيْهَا الْأَزْبَالُ فَغَطَّتْهَا وَانْحَدَرَتْ عَلَى دَرَجِهَا. وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَقِيَّةَ أَرْضِ الشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيَشْهَدَ فَتْحَ مَدِينَة إيلياء (¬1) وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ قَبْلِ (أُورْشَلِيمَ) ¬

(¬1) انْظُر «الْإِنْس الْجَلِيل فِي تَارِيخ الْقُدس والخليل» فِي ذكر خراب الْمَسْجِد الْأَقْصَى. وَلم أَقف على وَجه تَسْمِيَة أورشليم باسم إيلياء الْمَذْكُور، وَلَعَلَّه هُوَ، سمي باسم الْمَدِينَة المقدسة عِنْدهم.

وَصَارَتْ تُسَمَّى إِيلِيَاءَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ- وَكَذَلِكَ كَانَ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ عِنْد الْعَرَب عِنْد مَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فِلَسْطِينَ. وإيلياء اسْم نبيء مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ التَّاسِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَبَيْتَانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلَاتُهُ ... وَبَيْتٌ بِأَعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ وَانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُمَرَ وَأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ نَصَارَى. قَالَ عُمَرُ لِبِطْرِيقٍ لَهُمُ اسْمُهُ (صَفْرُونِيُوسَ) «دُلَّنِي على مَسْجِد دَاوُود» ، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الْبَابِ وَقَدِ انْحَدَرَ الزِّبْلُ عَلَى دَرَجِ الْبَابِ فَتَجَشَّمَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ وَنَظَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَسْجِد دَاوُود الَّذِي أَخْبَرَنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَيْهِ» . ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ يَكْنُسُونَ الزِّبْلَ عَنِ الصَّخْرَةِ حَتَّى ظَهَرَتْ كُلُّهَا، وَمَضَى عُمَرُ إِلَى جِهَة محراب دَاوُود فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِ الْقُدْسِ إِلَى فِلَسْطِينَ. وَلَمْ يَبْنِ هُنَالِكَ مَسْجِدًا إِلَى أَنْ كَانَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمَرَ بِابْتِدَاءِ بِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَى الصَّخْرَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَوَكَّلَ عَلَى بِنَائِهَا رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ الْكَنَدِيَّ أَحَدَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَابْتَدَأَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. كَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ. وَلِهَذَا فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ اعْتُبِرَ فِيهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ، حُكْمَ الْمَسْجِدِيَّةِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ. فَالتَّسْمِيَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَهِيَ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مَسْجِدًا بِأَكْمَلِ حَقِيقَةِ الْمَسَاجِدِ. وَاسْتَقْبَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا الْمُقَارِنِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إِلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمَّ نُسِخَ اسْتِقْبَالُهُ وَصَارَتِ الْكَعْبَةُ هِيَ الْقِبْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ.

وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ سَائِحًا نَصْرَانِيًّا اسْمَهُ (ارْكُولْفَ) زَارَ الْقُدْسَ سَنَةَ 670 م، أَيْ بَعْدِ خِلَافَةِ عُمَرَ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى مَسْجِدًا بَنَاهُ عُمَرُ عَلَى شَكْلٍ مُرَبَّعٍ مِنْ أَلْوَاحٍ وَجُذُوعِ أَشْجَارٍ ضَخْمَةٍ وَأَنَّهُ يَسَعُ نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ. (¬1) وَالظَّاهِرُ أَنَّ نِسْبَةً الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهْمٌ مِنْ أَوْهَامِ النَّصَارَى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ كَشْفُ عُمَرَ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ فَظَنُّوهُ بِنَاءً. وَإِذَا صَدَقَ ارْكُولْفُ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ رَأَى مَكَانًا مُرَبَّعًا مِنْ أَلْوَاحٍ وَعَمَدِ أَشْجَارٍ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ مُسْلِمُو الْبِلَادِ لِصِيَانَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عَنِ الِامْتِهَانِ. وَقَوْلُهُ الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَجِيءَ فِي الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ الْمَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السَّامِعِينَ. وَالْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ حَوْلَهُ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْفِعْلِ، مِثْلُ عَافَاكَ اللَّهُ. وَالْبَرَكَةُ: نَمَاءُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوَابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ وبإجابة دُعَاءِ الدَّاعِينَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِي [آلِ عِمْرَانَ: 96] . وَقَدْ وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمرَان: 96] . وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ هَذَا التَّبْرِيكِ أَنَّ شُهْرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْبَرَكَةِ وَبِكَوْنِهِ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَقَدْ تَنَاسَى النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالْعَرَبُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَالنَّصَارَى عَفَّوْا أَثَرَهُ مِنْ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَالْيَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ وَأَيِسُوا مِنْ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْإِعْلَامِ بِبَرَكَتِهِ. ¬

(¬1) مقَال حَرَّره عَارِف عَارِف فِي الْجُمْلَة الْمُسَمَّاة رِسَالَة الْعلم بالمملكة الأردنية فِي عدد 2 من السّنة 12 كانون الأول سنة 1968.

وَ «حَوْلَ» يَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَانِ اسْمِ مَا أُضِيفَ (حَوْلَ) إِلَيْهِ. وَكَوْنُ الْبَرَكَةِ حَوْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهَا إِذَا حَصَلَتْ حَوْلَهُ فَقَدْ تَجَاوَزَتْ مَا فِيهِ فَفِيهِ لَطِيفَةُ التَّلَازُمِ، وَلَطِيفَةُ فَحَوَى الْخِطَابِ، وَلَطِيفَةُ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّكْثِيرِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ: إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَلِكَلِمَةِ حَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُوَقِّعِ مَا لَيْسَ لِكَلِمَةِ (فِي) فِي بَيْتِ زِيَادٍ، ذَلِكَ أَنَّ ظَرْفِيَّةَ (فِي) أَعَمُّ. فَقَوْلُهُ: (فِي قُبَّةٍ) كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا فِي سَاكِنِ الْقُبَّةِ لَكِنْ لَا تُفِيدُ انْتِشَارَهَا وَتَجَاوُزَهَا مِنْهُ إِلَى مَا حَوْلَهُ. وَأَسْبَابُ بَرَكَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَثِيرَةٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ كَلِمَةُ حَوْلَهُ. مِنْهَا أَنَّ وَاضِعَهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمِنْهَا مَا لَحِقَهُ مِنَ الْبَرَكَةُ بِمَنْ صَلَّى بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاء من دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ بِحُلُولِ الرَّسُولِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِعْلَانِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ فِيهِ وَفِيمَا حَوْلَهُ، وَمِنْهَا بَرَكَةُ مَنْ دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن قَبْرِي دَاوُود وَسُلَيْمَانَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْبَرَكَاتِ حُلُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ذَلِكَ الْحُلُولُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ، وَصَلَاتُهُ فِيهِ بِالْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا تَعْلِيلُ الْإِسْرَاءِ بِإِرَادَةِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي لِأَجْلِهَا منح الله نبيئه مِنْحَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ لِلْإِسْرَاءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» . وَأَهَمُّهَا وَأَجْمَعُهَا إِرَاءَتُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، أَيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الْآيَاتِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ عَنْ وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تُفِيدُ حَصْرَ الْغَرَضِ مِنْ مُتَعَلَّقِهَا فِي مَدْخُولِهَا. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ أَعْلَقُ بِتَكْرِيمِ الْمُسْرَى بِهِ وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِ، لِأَنَّ إِرَاءَةَ الْآيَاتِ تَزِيدُ يَقِينَ الرَّائِي بِوُجُودِهَا

الْحَاصِلِ مِنْ قَبْلِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: 75] . فَإِنَّ فِطْرَةَ اللَّهِ جَعَلَتْ إِدْرَاكَ الْمَحْسُوسَاتِ أَثْبَتَ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَدْلُولَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: 260] ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيل أَو لم يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ، لِأَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ مُتَّسِعُ الْمَدَى لَا حَدَّ لَهُ فَقَدْ أَنْطَقَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حِكْمَةِ نُبُوءَةٍ، وَقَدْ بَادر مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاءَةِ الْآيَاتِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهَا تَوْفِيرًا فِي الْفَضْلِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَأَجَادَ: وَلَكِنْ لِلْعِيَانِ لَطِيفُ مَعْنَى ... لَهُ سَأَلَ الْمُعَايَنَةَ الْكَلِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْوِيَةَ يَقِينِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُمْ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْيَقِينِ يَزِيدُونَ ارْتِقَاءً عَلَى دَرَجَةِ مُسْتَوَى الْبَشَرِ وَالْتِحَاقًا بِعُلُومِ عَالَمِ الْحَقَائِقِ وَمُسَاوَاةً فِي هَذَا الْمِضْمَارِ لِمَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ مِنَ الْغَيْبَةِ الَّتِي فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ وَضَمِيرَيْهِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: بارَكْنا ... ولِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا سُلُوكٌ لِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ الْمُتَّبَعَةِ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فِي [الْفَاتِحَةِ: 5] . وَالِالْتِفَاتُ هُنَا امتاز بلطائف: مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ بِجُمْلَةِ التَّسْبِيحِ وَجُمْلَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ صَارَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ مَقَامَ مُشَاهَدَةٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُغَيِّرَ الْإِضْمَارَ إِلَى ضَمَائِرِ الْمُشَاهَدَةِ وَهُوَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ. وَمِنْهَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَن النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عِنْدَ حُلُولِهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى مَقَامِ مَصِيرِهِ فِي عَالَمِ الْمُشَاهَدَةِ.

وَمِنْهَا: التَّوْطِئَةُ وَالتَّمْهِيدُ إِلَى مَحْمَلٍ مَعَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَيَتَبَادَرُ عَوْدُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ ضمير لِنُرِيَهُ لِأَنَّ الشَّأْنَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الِالْتِفَاتِ بِالْقُرْبِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْسَنِ. فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ عَائِدَانِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَاسْتَقْرَبَهُ الطَّيْبِيُّ، وَلَكِنَّ جَمْهَرَةَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ احْتِمَالَهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَقْصُودٌ. وَقَدْ تَجِيءُ الْآيَاتُ مُحْتَمِلَةً عِدَّةَ مَعَانٍ. وَاحْتِمَالُهَا مَقْصُودٌ تَكْثِيرًا لِمَعَانِي الْقُرْآنِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ فَهْمِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُقدمَة التَّاسِعَة. وأياما كَانَ فَمَوْقِعُ (إِنَّ) التَّوْكِيدُ وَالتَّعْلِيلُ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فَصْلُ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا. وَهِيَ إِمَّا تَعْلِيلٌ لإسناد فعل لِنُرِيَهُ إِلَى فَاعِلِهِ وَإِمَّا تَعْلِيلٌ لِتَعْلِيقِهِ بِمَفْعُولِهِ، فَيُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لمن يَنْبَغِي، فَهُوَ مِنْ إِيتَاءِ الْحِكْمَةِ مَنْ هُوَ أَهْلُهَا. وَالتَّعْلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَعُ، إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيلِ إِسْنَادِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ لِلتَّعْلِيلِ هُوَ إِعْطَاءُ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الْعَجِيبَةِ لِمَنْ شَكَّ الْمُشْرِكُونَ فِي حُصُولِهَا لَهُ وَمَنْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهَا مِثْلُهُ. عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ وَبِضَمِيرِ الْفَصْل قصرا مؤكدا، وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلْقَلْبِ، أَيْ هُوَ الْمُدْرِكُ لِمَا سَمِعَهُ وَأَبْصَرَهُ لَا الْكَاذِبُ وَلَا الْمُتَوَهِّمُ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذَا الْقَصْرُ يُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلرَّدِّ. وَلَا يُنَازِعُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْمُسْمِعُ وَالْمُبْصِرُ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّسُولِ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّوَهُّمِ.

ثُمَّ إِنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلَى تَقْدِير كَونهمَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمَا عَلَى أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَبُولِهِمَا لِتَلَقِّي تِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُدْهِشَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْم: 17] ، وَقَوْلُهُ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: 12] . وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمُنَاسِبُ أَنْ تُؤَوَّلَا بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ الْمُبْصِرِ، أَيِ الْقَادِرِ عَلَى إِسْمَاعِ عَبْدِهِ وَإِبْصَارِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيْ الْمُسْمِعُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْإِسْرَاءِ أَكَانَ بِجَسَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَمْ كَانَ بِرُوحِهِ فِي رُؤْيَا هِيَ مُشَاهَدَةٌ رُوحَانِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: هُوَ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِامْتِنَانَ فِي الْآيَةِ وَتَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ بِالْجَسَدِ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا اسْتَوْصَفُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَامَاتٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي طَرِيقِهِ فَوَصَفَهَا لَهُمْ كَمَا هِيَ، وَوَصَفَ لَهُمْ عِيرًا لِقُرَيْشٍ قَافِلَةً فِي طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَيَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَوَجَدُوهُ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ ... » إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَوْضَحُ مِمَّا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَنْ بَيْتِهِ أَوْ كَانَ مَنْ بَيت أم هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَوْ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ. وَالتَّحْقِيقُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ آخَرُ، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَة. فللنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة الإسراء (17) : آية 2]

كَرَامَتَانِ: أُولَاهُمَا الْإِسْرَاءُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَالْأُخْرَى الْمِعْرَاجُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» مُطَوَّلًا وَأَحَادِيثَ غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي سُورَة النَّجْم. [2] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 2] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الْإِسْرَاء: 1] إِلَخْ فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ وَآتَى مُوسَى الْكِتَابَ، فَهُمَا مِنَّتَانِ عَظِيمَتَانِ عَلَى جُزْءٍ عَظِيمٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. فَإِنَّ أَطْوَارَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تُمَثِّلُ مَا تَطَوَّرَ بِهِ حَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي جَامِعَتِهِمْ مِنْ أَطْوَارِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالنُّهُوضِ وَالرُّكُودِ، لِيَعْتَبِرَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فَيَقْتَدُوا أَوْ يَحْذَرُوا. وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاء: 1] فَإِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أوتيها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: وَآتَيْنَاهُ الْقُرْآنَ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (أَيِ التَّوْرَاةَ) ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: 9] أَيْ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ طَرِيقَةِ التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا هُدًى، عَلَى مَا فِي حَالَةِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَيْلًا لِيَرَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِحَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، فقد أُوتِيَ النبوءة لَيْلًا وَهُوَ سَارٍّ بِأَهْلِهِ مِنْ أَرْضِ مَدْيَنَ إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، وَلِحَالِهِ أَيْضًا حِين أسرِي بِهِ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ بِآيَاتِ الْكِتَابِ. وَالْكِتَابُ هُوَ الْمَعْهُودُ إِيتَاؤُهُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي جَعَلْناهُ لِلْكِتَابِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى مُبَالَغَةٌ لِأَنَّ الْهُدَى بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُدَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] .

[سورة الإسراء (17) : آية 3]

وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَالْجَعْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُ هُوَ جَعْلُ التَّكْلِيفِ. وَهُمُ الْمُرَادُ بِ «النَّاسِ» فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الْأَنْعَام: 91] ، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِمْ، عَلَى أَنَّ مَا هُوَ هُدًى لِفَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ صَالِحٌ لِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَدْيِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِكِتَابٍ آخَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلَّا تَتَّخِذُوا- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى الْأَصْلِ فِي حِكَايَةِ مَا يُحْكَى مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ نَهْيًا، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ (الْكِتَابِ) مِنْ مَعْنَى الْأَقْوَالِ، وَيَكُونُ التَّفْسِيرُ لِبَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ اقْتِصَارًا عَلَى الْأَهَمِّ مِنْهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى اعْتِبَارِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى، أَوْ تَكُونُ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورَةً بِلَامٍ مَحْذُوفَةٍ حَذْفًا مُطَّرِدًا، وَالتَّقْدِيرُ: آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. وَالْوَكِيلُ: الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّبُّ، لِأَنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَيْهِ الْعباد فِي شؤونهم، أَيْ أَنْ لَا تَتَّخِذُوا شَرِيكا تلجئون إِلَيْهِ. وَقَدْ عُرِفَ إِطْلَاقُ الْوَكِيلِ عَلَى اللَّهِ فِي لُغَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ يَعْقُوبَ وَأَبْنَائِهِ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يُوسُف: 66] . [3] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 3] ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْحِكَايَةِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ. فَانْتِصَابُ ذُرِّيَّةَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِزِيَادَةِ بَيَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَانًا مَقْصُودًا بِهِ التَّعْرِيضُ بِهِمْ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، أَي حَال كونكم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-،

أَوْ يَنْتَصِبُ عَلَى النداء بِتَقْدِير حرف النِّدَاءِ، أَيْ يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، مَقْصُودًا بِهِ تَحْرِيضُهُمْ عَلَى شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ الْكُفْرِ بِهِ بِاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ دُونَهُ. وَالْحَمْلُ وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ لِنَقْلِهِ، وَالْمُرَادُ الْحَمْلُ فِي السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] أَيْ ذُرِّيَّةَ مَنْ أَنْجَيْنَاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً مُفِيدَةٌ تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكِيلًا، لِأَنَّ أَجْدَادَهُمْ حُمِلُوا مَعَ نُوحٍ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَكَانَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا وَالَّذِينَ حُمِلُوا مَعَهُ كَانُوا شَاكِرِينَ مِثْلَهُ، أَيْ فَاقْتَدُوا بِهِمْ وَلَا تَكْفُرُوا نِعَمَ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ فَتَكُونُ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُذَيِّلَةٌ لِجُمْلَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَيَكُونُ خِطَابًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اخْتِيَارِ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ حَمَلَ مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَام- مَعَاني عَظِيمَةً مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّحْرِيضِ وَالتَّعْرِيضِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَكَانَ سَامُ مِمَّنْ رَكِبَ السَّفِينَةَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ قَصْدًا لِإِدْمَاجِ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ إِنْجَاءِ أُصُولِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ. وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْجَى نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ شُكْرِهِ وَشُكْرِهِمْ تَحْرِيضًا عَلَى الِائْتِسَاءِ بِأُولَئِكَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَشْرَكُوا لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابٌ وَاسْتِئْصَالٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [هود: 48] .

وَفِيهِ أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ كَانُوا شِقَّيْنِ شِقٌّ بَارٌّ مُطِيعٌ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَشِقٌّ مُتَكَبِّرٌ كَافِرٌ وَهُوَ وَلَدُهُ الَّذِي غَرِقَ، فَكَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَثَلًا لِأَبِي فَرِيقَيْنِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْفَرِيقِ الْبَارِّ، فَإِنِ اقْتَدَوْا بِهِ نَجَوْا وَإِنْ حَادُوا فَقَدْ نَزَعُوا إِلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُوشِكُ أَنْ يَهْلَكُوا. وَهَذَا التَّمَاثُلُ هُوَ نُكْتَةُ اخْتِيَارِ ذِكْرِ نُوحٍ مِنْ بَيْنِ أَجْدَادِهِمُ الْآخَرِينَ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُولَئِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْتِئْصَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّتَيْنِ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَعُلُوِّهِمْ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ إِهْمَالِهِمْ وَعْدَ اللَّهِ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَمَا نَجَّاهُ. وَتَأْكِيدُ كَوْنِ نُوحٍ كانَ عَبْداً شَكُوراً بِحَرْفِ (إِنَّ) تَنْزِيلٌ لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ إِمَّا لِتَوْثِيقِ حَمْلِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى تَوَرَّطُوا فِي الْفَسَادِ فَاسْتَأْهَلُوا الِاسْتِئْصَالَ وَذَهَابَ مُلْكِهِمْ، لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ لِأَنَّ مَثَلَهُمْ وَمَثَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ. وَمَعْنَى كَوْنِ نُوحٍ عَبْداً أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ غَيْرُ مُتَكَبِّرٍ بِالْإِشْرَاكِ، وَكَوْنُهُ شَكُوراً، أَيْ شَدِيدًا لِشُكْرِ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ. وَالِاقْتِدَاءُ بِصَالِحِ الْآبَاءِ مَجْبُولَةٌ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَمَحَلُّ تَنَافُسٍ عِنْدَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُ ذَلِكَ كَمُثِيرٍ لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ الِانْتِسَابِ. وَكَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَثَلًا فِي كَمَالِ النَّفْسِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَتَنْبَعِثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ: فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا ... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يخون

[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 إلى 5]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 4 إِلَى 5] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] ، أَيْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هُدًى، وَبَيَّنَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ مُخَالَفَةِ هَدْيِ التَّوْرَاةِ إِعْلَامًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَّخِرْ أُولَئِكَ إِرْشَادًا وَنُصْحًا، فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ. وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْقَضَاءَ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَتَعْدِيَةُ قَضَيْنا بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضْمِينِ قَضَيْنا مَعْنَى (أَبْلَغْنَا) ، أَيْ قَضَيْنَا وَأَنْهَيْنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [66] . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ (الْكِتَابِ) كِتَابَ التَّوْرَاةِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْكِتَابَ آنِفًا، وَيُوجَدُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ بِإِجْمَالٍ (انْظُرِ الْإِصْحَاحَ 26 وَالْإِصْحَاحَ 28 وَالْإِصْحَاحَ 30) ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى إِظْهَارِ لَفْظِ (الْكِتَابِ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بَعْضَ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ. فَتَعْرِيفُ (الْكِتَابِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، إِذْ لَيْسَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ اسْمَ الْكِتَابِ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ آخَرُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ الْأَسْفَارُ الْمُسَمَّاةُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ: أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَا، وَحِزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ، وَهِيَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَكَذَلِكَ كِتَابُ النَّبِيِّ مَلَاخِي. وَالْإِفْسَادُ مَرَّتَيْنِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ وَكِتَابِ أَرْمِيَاءَ.

فَفِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ نِذَارَاتٌ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالْعَاشِرِ. وَأُولَى الْمَرَّتَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ أَرْمِيَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْإِصْحَاحِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَغَيْرِهِمَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْكِتَابِ كِتَابًا وَاحِدًا فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ- بِلَامِ الْجِنْسِ- يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَلِذَلِكَ أَيْضًا وَقَعَ بِالْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ. وَجُمْلَةُ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ- إِلَى قَوْله- حَصِيراً مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَانِعَةٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ أَوْ كِتَابَ اللَّهِ، أَيْ عِلْمَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى حَوَادِثَ عَظِيمَةٍ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْدَائِهِمْ مِنْ أُمَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: حَوَادِثُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَابِلِيِّينَ، وَحَوَادِثُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومَانِيِّينَ. فَانْقَسَمَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ مِنْهُمَا تَنْدَرِجُ فِيهِ حَوَادِثُهُمْ مَعَ الْبَابِلِيِّينَ، وَالنَّوْعُ الْآخَرُ حَوَادِثُهُمْ مَعَ الرُّومَانِيِّينَ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّوْعَيْنِ بِمَرَّتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْهُمَا تَحْتَوِي عَلَى عِدَّةِ مَلَاحِمَ. فَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ مَجْمُوعُ حَوَادِثَ مُتَسَلْسِلَةٍ تُسَمَّى فِي التَّارِيخِ بِالْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ وَهِيَ غَزَوَاتُ (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكِ بَابِلَ وَآشُورَ بِلَادَ أُورْشَلِيمَ. وَالْغَزْوُ الْأَوَّلُ كَانَ سَنَةَ 606 قَبْلَ الْمَسِيحِ، أَسَرَ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْيَهُودِ وَيُسَمَّى الْأَسْرَ الْأَوَّلَ. ثُمَّ غَزَاهُمْ أَيْضًا غَزْوًا يُسَمَّى الْأَسْرَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَانَ سَنَةَ 598 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَسَرَ مَلِكَ يَهُوذَا وَجَمْعًا غَفِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَأَخَذَ الذَّهَبَ الَّذِي فِي هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآنِيَةِ النَّفِيسَةِ. وَالْأَسْرُ الثَّالِثُ الْمُبِيرُ سَنَةَ 588 قَبْلَ الْمَسِيحِ غَزَاهُمْ «بُخْتُنَصَّرَ» وَسَبَى كُلَّ شَعْبِ يَهُوذَا، وَأَحْرَقَ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ، وَبَقِيَتْ أُورْشَلِيمُ خَرَابًا يَبَابًا. ثُمَّ أَعَادُوا تَعْمِيرَهَا كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ [الْإِسْرَاء: 6] .

وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ سِلْسِلَةُ غَزَوَاتِ الرُّومَانِيِّينَ بِلَادَ أُورْشَلِيمَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الْإِسْرَاء: 6] الْآيَةَ. وَإِسْنَادُ الْإِفْسَادِ إِلَى ضَمِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُفِيدٌ أَنَّهُ إِفْسَادٌ مِنْ جُمْهُورِهِمْ بِحَيْثُ تُعَدُّ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُفْسِدَةً وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْلُو مِنْ صَالِحِينَ. وَالْعُلُوُّ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً مَجَازٌ فِي الطُّغْيَانِ وَالْعِصْيَانِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 4] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدُّخان: 31] وَقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31] تَشْبِيهًا لِلتَّكَبُّرِ وَالطُّغْيَانِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الشَّيْءِ لِامْتِلَاكِهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَأَصْلُ وَلَتَعْلُنَّ لَتَعْلُوُونَنَّ. وَأَصْلُ لَتُفْسِدُنَّ لَتُفْسِدُونَنَّ. وَالْوَعْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَوْعُودُ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ، أَيِ الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ لِحُصُولِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الْإِفْسَادِ وَالْعُلُوِّ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الْكَهْف: 98] . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أَيْ مَعْمُولًا وَمُنَفَّذًا. وَإِضَافَةُ وَعْدُ إِلَى أُولاهُما بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالْعُلُوِّ. وَالْبَعْثُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَكْوِينِ السَّيْرِ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [167] ، وَهُوَ بَعْثُ تَكْوِينٍ وَتَسْخِيرٍ لَا بَعْثٌ بِوَحْيٍ وَأَمْرٍ. وَتَعْدِيَةُ بَعَثْنا بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّسْلِيطِ كَقَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الْأَعْرَاف: 167] . وَالْعِبَادُ: الْمَمْلُوكُونَ، وَهَؤُلَاءِ عِبَادُ مَخْلُوقِيَّةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: عِبَادُ اللَّهِ. وَيُقَالُ: عَبِيدٌ، بِدُونِ إِضَافَةٍ، نَحْوُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ، فَإِذَا قُصِدَ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 6 إلى 8]

الْمَمْلُوكُونَ بِالرِّقِّ قِيلَ: عَبِيدٌ، لَا غَيْرُ. وَالْمَقْصُودُ بِعِبَادِ اللَّهِ هُنَا الْأَشُورِيُّونَ أَهْلُ بَابِلَ وَهُمْ جُنُودُ بُخْتُنَصَّرَ. وَالْبَأْسُ: الشَّوْكَةُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْب. وَوَصفه بالشديد لِقُوَّتِهِ فِي نَوْعِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَة سُلَيْمَان [النَّمْل: 33] : قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ. وَجُمْلَةُ فَجاسُوا عَطْفٌ عَلَى بَعَثْنا فَهُوَ مِنَ الْمُقْضَى فِي الْكتاب. وَالْجُلُوس: التَّخَلُّلُ فِي الْبِلَادِ وَطَرْقُهَا ذِهَابًا وَإِيَابًا لِتَتَبُّعِ مَا فِيهَا. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا تَتَبُّعُ الْمُقَاتَلَةِ فَهُوَ جَوْسُ مَضَرَّةٍ وَإِسَاءَةٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَ (خِلَالَ) اسْمٌ جَاءَ عَلَى وَزْنِ الْجُمُوعِ وَلَا مُفْرَدَ لَهُ، وَهُوَ وَسَطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَخَلَّلُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرّوم: 48] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّيارِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ دِيَارِكُمْ، وَذَلِكَ أَصْلُ جَعْلِ (اَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَهِيَ دِيَارُ بَلَدِ أُورْشَلِيمَ فَقَدْ دَخَلَهَا جَيْشُ بُخْتُنَصَّرَ وَقَتَلَ الرِّجَالَ وَسَبَى، وَهَدَمَ الدِّيَارَ، وَأَحْرَقَ الْمَدِينَةَ وَهَيْكَلَ سُلَيْمَانَ بِالنَّارِ. وَلَفْظُ (الدِّيَارِ) يَشْمَلُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ لِأَنَّهُ بَيْتُ عِبَادَتِهِمْ، وَأُسِرَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِذَلِكَ خَلَتْ بِلَادُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ. [6- 8] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 6 الى 8] ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. عَطَفَ جملَة فَجاسُوا [الْإِسْرَاء: 5] فَهُوَ مِنْ تَمَامِ جَوَابِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الْإِسْرَاء: 5] ، وَمِنْ بَقِيَّةِ الْمَقْضِيِّ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مَاضٍ لَفْظًا مُسْتَقْبَلٌ

مَعْنًى، لِأَنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ. وَجِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: نَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا فَيَجُوسُونَ وَنَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَنُمْدِدُكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَنَجْعَلُكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. وَ (ثُمَّ) تُفِيدُ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ وَالتَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ مَعًا. وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ رَدَدْنا مَاضِيا جَريا عَلَى الْغَالِبِ فِي جَوَابِ (إِذَا) كَمَا جَاءَ شَرْطُهَا فِعْلًا مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا [الْإِسْرَاء: 5] أَيْ إِذَا يَجِيءُ يَبْعَثُ. وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: عَلَيْهِمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَرَّةَ، لِأَنَّ رُجُوعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أُورْشَلِيمَ كَانَ بِتَغَلُّبِ مَلِكِ فَارِسَ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَسْرِ الْبَابِلِيِّينَ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ سَلَّطَ اللَّهُ مُلُوكَ فَارِسَ عَلَى مُلُوكِ بَابِلَ الْأَشُورِيِّينَ فَإِنَّ الْمَلِكَ (كُورَشَ) مَلِكَ فَارِسَ حَارَبَ الْبَابِلِيِّينَ وَهَزَمَهُمْ فَضَعُفَ سُلْطَانُهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ (دَارِيُوسُ) مَلِكُ فَارِسَ وَفَتَحَ بَابِلَ سَنَةَ 538 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَذِنَ لِلْيَهُودِ فِي سَنَةِ 530 قَبْلَ الْمَسِيحِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَيُجَدِّدُوا دَوْلَتَهُمْ. وَذَلِكَ نَصْرٌ انْتَصَرُوهُ عَلَى الْبَابِلِيِّينَ إِذْ كَانُوا أَعْوَانًا لِلْفُرْسِ عَلَيْهِمْ. وَالْوَعْدُ بِهَذَا النَّصْرِ وَرَدَ أَيْضًا فِي كتاب أشعياء فِي الْإِصْحَاحَاتِ: الْعَاشِرِ، وَالْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ، وَغَيْرِهَا، وَفِي كِتَابِ أَرْمِيَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ. وَقَوْلُهُ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْضِيِّ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ

أَرْمِيَا «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيل لكل السَّبي الَّذِي سَبَيْتُهُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ: ابْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا، وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ، وَكُلُوا ثَمَرَهَا، خُذُوا نِسَاءً وَلِدُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَاكْثُرُوا هُنَاكَ وَلَا تَقِلُّوا» . ونَفِيراً تَمْيِيز «لأكْثر» فَهُوَ تَبْيِينٌ لِجِهَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ، وَالنَّفِيرُ. اسْمُ جَمْعٍ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْفِرُ مَعَ الْمَرْءِ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: «لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ» . وَالتَّفْضِيلُ فِي (أَكْثَرَ) تَفْضِيلٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُمْ قَبْلَ الْجَلَاءِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَكْثَرَ نَفِيرًا مِنْ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، أَيْ أَفْنَى مُعْظَمَ الْبَابِلِيِّينَ فِي الْحُرُوبِ مَعَ الْفُرْسِ حَتَّى صَارَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بِلَادِ الْأَسْرِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ الْبَابِلِيِّينَ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْضِيِّ فِي الْكِتَابِ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ أَرْمِيَا «وَصَلُّوا لِأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ لِأَنَّهُ بِسَلَامِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلَامٌ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ «يَقُولُ الرَّبُّ أَزْرَعُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتَ يَهُوذَا وَيَكُونُ كَمَا سَهِرْتُ عَلَيْهِمْ لِلِاقْتِلَاعِ وَالْهَدْمِ وَالْقَرْضِ وَالْإِهْلَاكِ، كَذَلِكَ أَسْهَرُ عَلَيْهِمْ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَا يَقُولُونَ: الْآبَاءُ أَكَلُوا حِصْرِمًا وَأَسْنَانُ الْأَبْنَاءِ ضَرَسَتْ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ» . وَمَعْنَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أَنَّنَا نَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ لِأَجْلِ التَّوْبَةِ وَتَجَدُّدِ الْجِيلِ وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي حَالَةِ نِعْمَةٍ، فَإِنْ أَحْسَنْتُمْ كَانَ جَزَاؤُكُمْ حَسَنًا وَإِن أسأتم أَسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَكَمَا أَهْلَكْنَا مَنْ قَبْلَكُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَقَدْ أَحْسَنَّا إِلَيْكُمْ بِتَوْبَتِكُمْ فَاحْذَرُوا الْإِسَاءَةَ كَيْلَا تَصِيرُوا إِلَى مَصِيرِ مَنْ قَبْلَكُمْ.

وَإِعَادَةُ فِعْلِ أَحْسَنْتُمْ تَنْوِيهٌ فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي شَرْحِ بَيْتِ الْأَحْوَصِ فِي الْحَمَاسَةِ: إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ (فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ) لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادَةِ مِنْهُ الْفَائِدَةُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] ، وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ (فِي الْأَصْلِ أَجَزْنَاهُ) غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ» اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ امْتِنَاعَ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ أَنْ تَكُونَ أَغْوَيْناهُمْ تَأْكِيدًا «لأغوينا» وَقَوْلُهُ: كَما غَوَيْنا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُسْنَدٌ إِلَى مُبْتَدَأٍ وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فَتَمَّ الْكَلَامُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ بَيْتِ الْأَحْوَصِ وَمِثَالُ ابْنِ جِنِّيٍّ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ، فَيَرْجِعُ امْتِنَاعُ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى أَنَّ مَا أَخَذَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْآيَةِ تَعَيُّنَهُ فِي بَيْتِ الْأَحْوَصِ. وَأُسْلُوبُ إِعَادَةِ الْفِعْلِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعَلُّقِ شَيْءٍ بِهِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ يُقْصَدُ بِهِ الِاهْتِمَامُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: 130] وَقَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] . وَقَوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ بِأَنْ جُعِلَتْ نَفْسُ الْمُحْسِنِ كَذَاتٍ يُحْسَنُ لَهَا. فَاللَّامُ- لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ أَحْسَنْتُمْ، يُقَالُ: أَحْسَنْتُ لِفُلَانٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. فَقَوْلُهُ: فَلَها مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ، تَقْدِيرُهُ: أَسَأْتُمْ لَهَا. وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ بِظَرْفٍ مُسْتَقِرٍّ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ أَسَأْتُمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ فَعَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [46] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.

وَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ آيَةَ فُصِّلَتْ لَيْسَ فِيهَا تَجْرِيدٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ فِيهَا: فَعَمَلُهُ لنَفسِهِ وإساءته عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُقَدَّرُ اسْمًا كَانَ الْمَجْرُورُ بَعْدَهُ مُسْتَقِرًّا غَيْرَ حَرْفِ تَعْدِيَةٍ، فَجَرَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِخْبَارُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَافِعًا فَيُخْبَرُ عَنْهُ بِمَجْرُورٍ بِاللَّامِ، أَوْ ضَارًّا يُخْبَرُ عَنْهُ بِمَجْرُورٍ بِ (إِلَى) ، وَأَمَّا آيَةُ الْإِسْرَاءِ فَفِعْلُ «أَحْسَنْتُمْ وَأَسَأْتُمُ» الْوَاقِعَانِ فِي الْجَوَابَيْنِ مُقْتَضِيَانِ التَّجْرِيدَ فَجَاءَا عَلَى أَصْلِ تَعْدِيَتِهِمَا بِاللَّامِ لَا لِقَصْدِ نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: 7] ، إِذْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِذَا أَسَأْتُمْ وَجَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ قَضَاءً لِحَقِّ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الْإِسْرَاء: 5] ، وَلِحَقِّ إِفَادَةِ تَرَتُّبِ مَجِيءِ وَعْدِ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ التَّقْسِيمِ إِلَى مَرَّتَيْنِ فَاتَتْ إِفَادَةُ التَّرَتُّبِ وَالتَّفَرُّعِ. والْآخِرَةِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَرَّتَيْنِ، أَيْ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَقِيَّةِ مَا قُضِيَ فِي الْكِتَابِ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِهِ بِالْفَاءِ.

وَالْآخِرَةُ ضد الأولى. وَلَا مَاتَ «ليسوؤوا، وَلِيَدْخُلُوا، وَلِيُتَبِّرُوا» لِلتَّعْلِيلِ، وَلَيْسَتْ لِلْأَمْرِ لِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى كَسْرِ اللَّامَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ كَانَا لَامَيْ أَمْرٍ لَكَانَا سَاكِنَيْنِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، فَيَتَعَيَّنُ أَن اللَّام الأول لَامُ أَمْرٍ (¬1) لَا لَامُ جَرٍّ. وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَا عبادا لنا ليسوؤا وُجُوهَكُمْ إِلَخْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَر، وَيَعْقُوب لِيَسُوؤُا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ مِثْلَ أَخَوَاتِهِ الْأَفْعَالِ الْأَرْبَعَةِ. وَالضَّمَائِرُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِيَسُوؤُا إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عبادا لنا ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ. وَلَيْسَتْ عَائِدَةً إِلَى قَوْلِهِ: عِباداً لَنا الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: 5] ، لِأَن الَّذين أساؤوا وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ هَذِهِ الْمَرَّةَ أُمَّةٌ غَيْرُ الَّذِينَ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ حَسَبِ شَهَادَةِ التَّارِيخِ وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ لِيَسُوءَ بِالْإِفْرَادِ وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ لِنَسُوءَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَتَوْجِيهُ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَنَّ الْهَمْزَةَ الْمَفْتُوحَةَ بَعْدَ الْوَاوِ قَدْ تُرْسَمُ بِصُورَةِ أَلْفٍ، فَالرَّسْمُ يَسْمَحُ بِقِرَاءَةِ وَاوِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ أَلِفَ الْفَرْقِ وَبِقِرَاءَتَيِ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ عَلَامَةُ الْهَمْزَةِ. وَضَمِيرَا «لِيَسُوءُوا وليدخلوا» عَائِدَانِ إِلَى عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ لَا بِاعْتِبَار مَا صدق الْمَعَادِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ صَاحِبِ اسْمِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ تَعْوِيلٌ عَلَى الْقَرِينَةِ لِاقْتِضَاءِ السِّيَاقِ بُعْدَ الزَّمَنِ بَيْنَ الْمَرَّتَيْنِ: فَكَانَ هَذَا الْإِضْمَارُ مِنَ الْإِيجَازِ. ¬

(¬1) انْظُر أول الْفَقْرَة وَمَا يَجِيء بعد فِي الْفَقْرَة الموالية (الناشر) .

وَضَمِيرُ كَما دَخَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَذْكُورِ فِي ذِكْرِ الْمَرَّةِ الْأُولَى بِقَرِينَةِ اقْتِضَاءِ الْمَعْنَى مَرَاجِعَ الضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: 9] ، وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا فَالسِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى مَعَادِ (أَحْرَزُوا) وَمَعَادِ (جَمَعُوا) . وَسَوْءُ الْوُجُوهِ: جَعْلُ الْمَسَاءَةِ عَلَيْهَا، أَيْ تَسْلِيطُ أَسْبَابِ الْمَسَاءَةِ وَالْكَآبَةِ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَبْدُوَ عَلَى وُجُوهِكُمْ لِأَنَّ مَا يُخَالِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ غَمٍّ وَحُزْنٍ، أَوْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى الْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى: وَأُقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ أَرَادَ إِذَا مَا تَفَرَّقَ النَّاسُ وَتَظْهَرُ عَلَامَاتُ الْفَرَقِ فِي أَعْيُنِهِمْ. وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ دُخُولُ غَزْوٍ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الْإِسْرَاء: 5] . وَالتَّتْبِيرُ: الْإِهْلَاكُ وَالْإِفْسَادُ. وَمَا عَلَوْا مَوْصُولُ هُوَ مَفْعُولُ «يُتَبِّرُوا» ، وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا عَلَوْهُ، وَالْعُلُوُّ عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ وَالْغَلَبُ. وَلَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَّا بِتَوَقُّعِ الرَّحْمَةِ دُونَ رَدِّ الْكَرَّةِ، فَكَانَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ هُوَ مَا اقْتَرَفَهُ الْيَهُودُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالتَّمَرُّدِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى عِيسَى وَأَتْبَاعِهِ، وَقَدْ أَنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ مَلَّاخِي فِي الْإِصْحَاحَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنْذَرَهُمْ زَكَرِيَّاءُ وَيَحْيَى وَعِيسَى (¬1) فَلَمْ يَرْعَوُوا فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةَ بِيَدِ الرُّومَانِ. ¬

(¬1) انْظُر الإصحاح الثَّالِث من إنجيل مرقس الحوارى.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَهُودَ بَعْدَ أَنْ عَادُوا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَجَدَّدُوا مُلْكَهُمْ وَمَسْجِدَهُمْ فِي زَمَنِ (دَارِيُوسَ) وَأُطْلِقَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِي بِلَادِهِمُ الَّتِي غَلَبَهُمْ عَلَيْهَا الْبَابِلِيُّونَ وَكَانُوا تَحْتَ نُفُوذِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ مِائَتَيْ سَنَةٍ مِنْ سَنَةِ 530 إِلَى سَنَةِ 330 قَبْلَ الْمَسِيحِ، ثُمَّ أَخَذَ مُلْكُهُمْ فِي الِانْحِلَالِ بِهُجُومِ الْبَطَالِسَةِ مُلُوكِ مِصْرَ عَلَى أُورْشَلِيمَ فَصَارُوا تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ إِلَى سَنَةِ 166 قَبْلَ الْمَسِيحِ إِذْ قَامَ قَائِدٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ اسْمُهُ (مِيثِيَا) وَكَانَ مِنَ اللَّاوِيِّينَ فَانْتَصَرَ لِلْيَهُودِ وَتَوَلَّى الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ وَتَسَلْسَلَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ فِي أَبْنَائِهِ فِي زَمَنٍ مَلِيءٍ بِالْفِتَنِ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ. دَخَلَتِ الْمَمْلَكَةَ تَحْتَ نُفُوذِ الرُّومَانِيِّينَ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا أُمَرَاءَ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ أَشْهَرُهُمْ (هِيرُودُسَ) ثُمَّ تَمَرَّدُوا لِلْخُرُوجِ عَلَى الرومانيين، فَأرْسل فيصر رُومِيَّةَ الْقَائِدَ (سِيسِيَانُوسَ) مَعَ ابْنِهِ الْقَائِدِ (طِيطُوسَ) بِالْجُيُوشِ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ الْمَسِيحِ فَخَرُبَتْ أُورْشَلِيمُ وَاحْتَرَقَ الْمَسْجِدُ، وَأَسَرَ (طِيطُوسُ) نَيِّفًا وَتِسْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَتَلَ مِنَ الْيَهُودِ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ نَحْوَ أَلْفِ أَلْفٍ، ثُمَّ اسْتَعَادُوا الْمَدِينَةَ وَبَقِيَ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ بِهَا إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْإِمْبِرَاطُورُ الرُّومَانِيُّ (أَدْرِيَانُوسُ) فَهَدَمَهَا وَخَرَّبَهَا وَرَمَى قَنَاطِيرَ الْمِلْحِ عَلَى أَرْضِهَا كَيْلَا تَعُودَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ، وَذَلِكَ سَنَةَ 135 لِلْمَسِيحِ. وَبِذَلِكَ انْتَهَى أَمْرُ الْيَهُودِ وَانْقَرَضَ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ تَخْرُجْ أُورْشَلِيمُ مِنْ حُكْمِ الرُّومَانِ إِلَّا حِينَ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخطاب سنة 16 هـ صُلْحًا مَعَ أَهْلِهَا وَهِيَ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ (إِيلِيَاءُ) . وَقَوْلُهُ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ عَطْفَ التَّرْهِيبِ عَلَى التَّرْغِيبِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: بَعْدَ أَنْ يَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ وَيُؤَمِّنَكُمْ فِي الْبِلَاد الَّتِي تلجأون إِلَيْهَا، إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ عُدْنَا إِلَى عِقَابِكُمْ، أَيْ عُدْنَا لِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 10]

وَجُمْلَةُ وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ عِقَابٍ إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَأَنَّ وَرَاءَهُ عِقَابَ الْآخِرَةِ. وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّ التَّعْرِيف فِي لِلْكافِرِينَ يَعُمُّ المخاطبين وَغَيرهم. ويومىء هَذَا إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى ذُنُوبِ الْكُفْرِ بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَتَعَدِّي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا الْكُفْرُ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَقَدْ حَصَلَ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا عِيسَى، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ وَلَكِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَاءَ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ. وَالْحَصِيرُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ فَلَا يُسْتَطَاعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَهُوَ إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ، أَيْ مَحْصُور فِيهِ. [9، 10] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 9 إِلَى 10] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الْأَهَمِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ تأييد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَإِيتَاؤُهُ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْظَمُهَا آيَةُ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] . وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْكُتُبِ لِلْهُدَى وَالتَّحْذِيرِ، وَمَا نالهم من جراء مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَمِنْ عُدُولِهِمْ عَنْ سُنَنِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ. وَفِي ذَلِكَ فَائِدَةُ التَّحْذِيرِ مِنْ وُقُوعِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ الْفَائِدَةُ الْعُظْمَى مِنْ ذِكْرِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فَائِدَةُ التَّارِيخِ.

وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ مُرَاعًى فِيهِ حَالُ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُذْعِنُوا إِلَيْهِ، وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَالتَّوْكِيدُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ دَفْعِ الْإِنْكَارِ وَالِاهْتِمَامِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ. وَقَوْلُهُ: هذَا الْقُرْآنَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَاضِرِ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ مِنَ الْمِقْدَارِ الْمُنَزَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَبُيِّنَتِ الْإِشَارَةُ بِالِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِيسًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَثَرِ الْقَصَصِ الْمَهُولَةِ الَّتِي قُصَّتْ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ، فَأَخْبَرُوا بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَعْصِمُهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذْ هُوَ يَهْدِي لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِمَّا سَلَكَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَعَ الْهِدَايَةِ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَنِذَارَةَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَفِي التَّعْبِير لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ سَتَأْتِي. وَتِلْكَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الرَّهْبَةِ بالرغبة وَعَكسه. ولِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يَهْدِي، أَيْ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ مُلَازِمَاتِ السَّيْرِ وَالطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمِلَّةِ الْأَقْوَمِ، وَفِي حَذْفِ الْمَوْصُوفِ مِنَ الْإِيجَازِ مِنْ جِهَةٍ وَمِنَ التَّفْخِيمِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مَا رَجَّحَ الْحَذْفَ عَلَى الذّكر. والأقوم: تَفْضِيل الْقَوِيمِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ هُدَى كِتَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الْإِسْرَاء: 2] . فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى ضَمَانِ سَلَامَةِ أُمَّةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْحَيْدَةِ عَنِ الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِأُسْلُوبٍ مِنَ الْإِرْشَادِ قَوِيمٍ ذِي أَفْنَانٍ لَا يَحُولُ دُونَهُ وَدُونَ الْوُلُوجِ إِلَى الْعُقُولِ حَائِلٌ، وَلَا يُغَادِرُ مَسْلَكًا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْأَخْلَاقِ وَالطَّبَائِعِ إِلَّا سَلَكَهُ إِلَيْهَا تَحْرِيضًا أَوْ تَحْذِيرًا، بِحَيْثُ لَا يَعْدَمُ الْمُتَدَبِّرُ فِي مَعَانِيهِ اجْتِنَاءَ ثِمَارِ أَفْنَانِهِ، وَبِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْهَا الْكُتُبُ السَّابِقَةُ كَانَتِ الطَّرِيقَةُ

[سورة الإسراء (17) : آية 11]

الَّتِي يَهْدِي إِلَى سُلُوكِهَا أَقْوَمَ مِنَ الطَّرَائِقِ الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا وَاحِدَةً. وَهَذَا وَصْفٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَعْنَى هِدَايَتِهِ إِلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لَوْ أُرِيدَ تَفْصِيلُهُ لَاقْتَضَى أَسْفَارًا، وَحَسْبُكَ مِثَالًا لِذَلِكَ أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي سَدِّ مَسَالِكِ الشِّرْكِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا مِنَ التَّخْلِيطِ بَيْنَ التَّقْدِيسِ الْبَشَرِيِّ وَبَيْنَ التَّمْجِيدِ الْإِلَهِيِّ، فَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِحَالٍ، فَمَحَلُّ التَّفْضِيلِ هُوَ وَسَائِلُ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ مِنَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَلَيْسَ مَحَلُّ التَّفْضِيلِ تِلْكَ الْغَايَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَاوَتُ. وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ فُسِّرَ بِالْجَنَّةِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِجَهَنَّمَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْأَجْرِ وَالْعَذَابِ، فَيَشْمَلَ أَجْرَ الدُّنْيَا وَعَذَابَهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَعَادَةِ عَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشَقَائِهِ، فَجَعَلَ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ فِيهِمَا مَوْعِظَةً لِحَالَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِشَارَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ عَذَابَ الْعَدُوِّ بِشَارَةٌ لِمَنْ عَادَاهُ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ لِمُنَاسَبَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِسْرَاءِ فَلَا غَرَضَ فِي الْإِعْلَامِ بِحَالِ أهل الْكتاب. [11] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 11] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا غَامِضٌ، وَانْتِزَاعُ الْمَعْنَى مِنْ نَظْمِهَا وَأَلْفَاظِهَا أَيْضًا، وَلَمْ يَأْتِ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ بِمَا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ

الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى بِشَارَةٍ وَإِنْذَارٍ وَكَانَ الْمُنْذَرُونَ إِذَا سَمِعُوا الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: 48] عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ الْوَعْدِ أَجَلًا مُسَمًّى. فَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْإِنْسَانُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وأَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَم: 66- 67] وَإِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْكَافِرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآن. وَفعل يدعوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى يَطْلُبُ وَيَبْتَغِي، كَقَوْلِ لَبِيدٍ: أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطْفِلٍ ... بُذِلَتْ لِجِيرَانِ الْجَمِيعِ لِحَامُهَا وَقَوْلُهُ: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مَصْدَرٌ يُفِيدُ تَشْبِيهًا، أَيْ يَسْتَعْجِلُ الشَّرَّ كَاسْتِعْجَالِهِ الْخَيْر، يَعْنِي يستبطىء حُلُولَ الْوَعيد كَمَا يستبطىء أحد تَأَخّر خير وُعِدَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا تَذْيِيلٌ، فَالْإِنْسَانُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلتَّذْيِيلِ، أَيْ وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إِلَّا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَفِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْجَالُ فَإِنَّ (كَانَ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهَا مُتَّصِفٌ بِخَبَرِهَا اتِّصَافًا مُتَمَكِّنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: 54] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ تَبَصُّرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يُونُس: 11] ، وَلَكِنَّهُ دَرَّجَ لَهُمْ وَصُولَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لُطْفًا بِهِمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْعَامِلِ بِمَعْمُولِهِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] أَوْ لِتَضْمِينِ مَادَّةِ الدُّعَاءِ مَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] .

[سورة الإسراء (17) : آية 12]

وَعَجُولٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي عَاجِلٍ. يُقَالُ: عَجِلَ فَهُوَ عَاجِلٌ وَعَجُولٌ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَيَدْعُ بِدُونِ وَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ إِجْرَاءً لِرَسْمِ الْكَلِمَةِ عَلَى حَالَةِ النُّطْقِ بِهَا فِي الْوَصْلِ كَمَا كُتِبَ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وَنَظَائِرُهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ كُتِبَتْ بِالْوَاوِ لَكَانَ صَوَابا. [12] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 12] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) عطف على وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الْإِسْرَاء: 11] ، إِلَخْ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَن جملَة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْإِبْطَاءَ تَأْخِيرُ الْوَعْدِ لَا يَرْفَعُهُ وَأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ لَا يُجْدِي صَاحِبَهُ لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلًا، وَلَمَّا كَانَ الْأَجَلُ عِبَارَةً عَنْ أَزْمَانٍ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى لَيْلٍ وَنَهَارٍ مُتَقَضِّيَيْنِ. وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي أَن الزَّمَان متقض وَإِن طَالَ. فَلَمَّا أُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ أُدْمِجَ فِيهِ مَا هُوَ أَهَمُّ فِي الْعِبْرَةِ بِالزَّمَنَيْنِ وَهُوَ كَوْنُهُمَا آيَتَيْنِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنِهِمَا مِنَّتَيْنِ عَلَى النَّاسِ، وَكَوْنِ النَّاسِ رُبَّمَا كَرِهُوا اللَّيْلَ لِظُلْمَتِهِ، وَاسْتَعْجَلُوا انْقِضَاءَهُ بِطُلُوعِ الصَّبَاحِ فِي أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ الْعِبْرَةِ فِي أَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا آثَارُ النِّعْمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّيْرِ فِي النَّهَارِ. وَاكْتَفَى بَعْدَهَا عَنْ عَدِّ نِعْمَةِ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ لِظُهُورِ ذَلِكَ بِالْمُقَابَلَةِ، وَبِتِلْكَ الْمُقَابَلَةِ حَصَلَتْ نِعْمَةُ الْعِلْمِ بِعَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّمَنُ كُلُّهُ ظُلْمَةً أَوْ كُلُّهُ نُورًا لَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ. وَفِي هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِيمَاءٌ إِلَى ضَرْبِ مَثَلٍ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَلِلضَّلَالِ وَالْهُدَى، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ:

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِلَى قَوْلِهِ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً [الْإِسْرَاء: 9- 10] ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 15] . وَكُلُّ هَذَا الْإِدْمَاجِ تَزْوِيدٌ لِلْآيَةِ بِوَافِرِ الْمَعَانِي شَأْنَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِيجَازِهِ. وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بِالْفَاءِ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتَبْتَغُوا. وَإِضَافَةُ آيَةٍ إِلَى اللَّيْلِ وَإِلَى النَّهَارِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَالْآيَة الَّتِي هِيَ النَّهَارُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ اللَّيْلِ الْآيَةَ الْمُلَازِمَةَ لَهُ وَهِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ الشَّمْسُ، فَتَكُونُ إِعَادَةُ لَفْظِ (آيَةٍ) فِيهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً، وَيَصِيرُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ تَكْوِينِ هَذَيْنِ الْخَلْقَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَحْوِ أَنَّ الْقَمَرَ مَطْمُوسٌ لَا نُورَ فِي جِرْمِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْإِنَارَةَ بِانْعِكَاسِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى كُرَتِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أَنَّ الشَّمْس جعل ضوؤها سَبَبَ إِبْصَارِ النَّاسِ الْأَشْيَاءَ، ف مُبْصِرَةً اسْمُ فَاعِلِ (أَبْصَرَ) الْمُتَعَدِّي، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ بَاصِرًا. وَهَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَعْمَقُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةً وَعِلْمًا فَإِنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَمَا أُعِيدَ لَفْظُ (آيَةٍ) إِلَّا لِأَجْلِهَا. وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَأُطْلِقَ عَلَى انْعِدَامِ النُّورِ، لِأَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَالظُّلْمَةُ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، فَشَبَّهَ اخْتِفَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْمَحْوِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، أَيْ جَعَلْنَا الظُّلْمَةَ آيَةً وَجَعَلْنَا سَبَبَ الْإِبْصَارِ آيَةً. وَأَطْلَقَ وَصْفَ مُبْصِرَةً عَلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِسْنَادًا لِلسَّبَبِ. وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ عِلَّةٌ لِخُصُوصِ آيَةِ النَّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ: آيَتَيْنِ وَجَاءَ التَّعْلِيلُ لِحِكْمَةِ آيَةِ النَّهَارِ خَاصَّةً دُونَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِهَا أَوْضَحُ، وَلِأَنَّ من التنبه إِلَيْهَا يَحْصُلُ التَّنَبُّهُِِ

إِلَى ضِدِّهَا وَهُوَ حِكْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ، كَمَا قَالَ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [67] . ثُمَّ ذُكِرَتْ حِكْمَةٌ أُخْرَى حَاصِلَةٌ مِنْ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ. وَهِيَ حِكْمَةُ حِسَابِ السِّنِينَ، وَهِيَ فِي آيَةِ اللَّيْلِ أَظْهَرُ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْبَشَرِ يَضْبُطُ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ بِاللَّيَالِي، أَيْ حِسَابِ الْقَمَرِ. وَالْحِسَابُ يَشْمَلُ حِسَابَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْفُصُولِ فَعَطْفُهُ عَلَى عَدَدَ السِّنِينَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِلتَّعْمِيمِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَاصِّ اهْتِمَامًا بِهِ. وَجُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ بِاعْتِبَار مَا سيق لَهُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِلشَّرِّ وَالْخَيْرِ والموعود بِهِمَا أَجَلًا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْأَجَلَ مَحْدُودٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْدُوهُ، فَلَا يُقَرِّبُهُ اسْتِعْجَالٌ وَلَا يُؤَخِّرُهُ اسْتِبْطَاءٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا لَا إِبْهَامَ فِيهِ وَلَا شَكَّ عِنْدَهُ. إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدَى (¬1) ... ..... فَلَا تَحْسَبُوا ذَلِكَ وَعْدًا سُدَى. وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالتَّمْيِيزُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْتِبَاسِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ صَدْرُ [هُودٍ: 1] . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْيَاءِ يَكُونُ فِي خَلْقِهَا، وَنِظَامِهَا، وَعِلْمِ اللَّهِ بِهَا، وَإِعْلَامِهِ بِهَا. فَالتَّفْصِيلُ الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي خَلْقِهِ وَنَوَامِيسِ الْعَوَالَمِ عَامٌّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ هُنَا. وَأَمَّا مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ فَذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى. يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرَّعْد: 2] وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 97] . وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ عَلَى أَلْسِنَةِِِِِ ¬

(¬1) صدر بَيت وَتَمَامه: «وكلا ذَلِك وَجه وَقبل» . وَهُوَ لعبد الله بن الزِّبَعْرَى.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 إلى 14]

الرُّسُلِ وَبِمَا خَلَقَ فِي النَّاسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فَصَّلَهُ لِلنَّاسِ الْإِرْشَاد إِلَى التَّوْحِيدِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى الْعِصْيَانِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ. وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَصَّلْناهُ لِاشْتِغَالِ الْمَذْكُورِ بِضَمِيرِ مفعول الْمَحْذُوف. [13، 14] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 13 إِلَى 14] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) لَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ جَارِيًا فِي طَرِيقِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَذاباً أَلِيماً [الْإِسْرَاء: 9- 10] وَمَا عَقَّبَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَمَا أُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ ثَمَّ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا، وَكَانَ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِالْأَعْمَالِ كُلِّهَا، فَأَعْقَبَ ذِكْرَ مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْصِيلِ أَعْمَالِ النَّاسِ تَفْصِيلًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الْإِخْفَاءَ وَهُوَ التَّفْصِيلُ الْمُشَابِهُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْكِتَابَةِ، فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ إِلَخْ عَلَى قَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الْإِسْرَاء: 12] عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَالْمَعْنَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ قَدَّرْنَا لَهُ عمله فِي علمنَا فَهُوَ عَامِلٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا. وَالطَّائِرُ: أُطْلِقَ عَلَى السَّهْمِ، أَوِ الْقِرْطَاسِ الَّذِي يُعَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُ الْحَظِّ فِي عَطَاءٍ أَوْ قُرْعَةٍ لِقِسْمَةٍ أَوْ أَعْشَارِ جَزُورِ الْمَيْسِرِ، يُقَالُ: اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ فَطَارَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: «اقْتَسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ... » وَذَكَرَتْ قِصَّةَ وَفَاتِهِ.

وَأَصْلُ إِطْلَاقِ الطَّائِرِ عَلَى هَذَا: إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمُونَ السِّهَامَ الْمَرْقُومَةَ بِأَسْمَاءِ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى صُبَرِ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ الْمُعَدَّةِ لِلتَّوْزِيعِ. فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ السَّهْمُ الْمَرْقُومُ بِاسْمِهِ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ. وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى رَمْيِ السَّهْمِ فِعْلَ الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلسَّهْمِ رِيشًا فِي قُذَذِهِ لِيَخِفَّ بِهِ اخْتِرَاقُهُ الْهَوَاءَ عِنْدَ رَمْيِهِ مِنَ الْقَوْسِ، فَالطَّائِرُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْحَظِّ مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا يُطْلَقُ اسْمُ السَّهْمِ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ مَا. وَإِمَّا مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ لِمَعْرِفَةِ بَخْتٍ أَوْ شُؤْمِ الزَّاجِرِ مِنْ حَالَةِ الطَّيْرِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فَأُطْلِقَ الطَّائِرُ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَالْإِلْزَامُ: جَعَلَهُ لَازِمًا لَهُ، أَيْ غَيْرَ مُفَارِقٍ، يُقَالُ: لَزِمَهُ إِذَا لَمْ يُفَارِقْهُ. وَقَوْلُهُ: فِي عُنُقِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَالْقُرْبِ، أَيْ عَمَلُهُ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ تُقَلِّدُهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالْعُنُقِ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ تُوضَعُ فِي عُنُقِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَالشِّعْرُ قَلَّدْتُهُ سَلامَة ذَا فا ... ئش وَالشَّيْءُ حَيْثُمَا جُعِلَا (¬1) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالَةٍ لَعَلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَهِيَ وَضْعُ عَلَامَاتٍ تُعَلَّقُ فِي الرِّقَابِ لِلَّذِينَ يُعَيَّنُونَ لِعَمَلٍ مَا أَوْ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، كَمَا قَالَ بَشَّارٌ: كَتَبَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي ... مَوْضِعَ الْخَاتم من أَهله الذِّمَمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عُنُقِهِ تَمْثِيلًا بِالْبَعِيرِ الَّذِي يُوسَمُ فِي عُنُقِهِ بِسِمَةٍ كَيْلَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، أَوِ الَّذِي يُوضَعُ فِي عُنُقِهِ جَلْجَلٌ لِكَيْلَا يَضِلَّ عَنْ صَاحِبِهِ. ¬

(¬1) كَذَا فِي تَفْسِير ابْن عَطِيَّة، وَالَّذِي فِي ديوَان الْأَعْشَى: فلدتك الشّعْر يَا سَلامَة ذَا ... التفضال وَالشَّيْء حَيْثُمَا جعلا [.....]

وَالْمَعْنَى عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُعَامَلُ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَنْقُصُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَهَذَا غَيْرُ كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي سَتُذْكَرُ عَقِبَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً الْآيَةَ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالطَّائِرِ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفَصَّلَةً مُعَيَّنَةً لَا تُغَادَرُ مِنْهَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا أُحْصِيَتْ لِلْجَزَاءِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُخْرِجُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ عَلَى أَنَّ لَهُ نَائِبَ فَاعِلٍ وكِتاباً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَالْكِتَابُ: مَا فِيهِ ذِكْرُ الْأَعْمَالِ وَإِحْصَاؤُهَا. وَالنَّشْرُ: ضِدُّ الطَّيِّ. وَمَعْنَى يَلْقاهُ يَجِدُهُ. اسْتُعِيرَ فِعْلُ يَلْقَى لِمَعْنَى يَجِدُ تَشْبِيهًا لِوِجْدَانِ النِّسْبَةِ بِلِقَاءِ الشَّخْصِ. وَالنَّشْرُ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا عَمِلَهُ بِحَيْثُ إِنَّ الْكِتَابَ يَحْضُرُ مِنْ قَبْلِ وُصُولِ صَاحِبِهِ مَفْتُوحًا لِلْمُطَالَعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَلْقاهُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ، الْقَافِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ عَلَى أَنَّهُ مُضَاعَفُ لَقِيَ تَضْعِيفًا لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ يَجْعَلُهُ لَاقِيًا كَقَوْلِهِ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان: 11] . وَأُسْنِدَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِمَعْنَى يَجْعَلُهُ لَاقِيًا. كَقَوْلِهِ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصّلت: 35] وَقَوْلِهِ: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً [الْفرْقَان: 75] . وَنَشْرُ الْكِتَابِ إِظْهَارُهُ لِيُقْرَأَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير: 10] . وَجُمْلَةُ اقْرَأْ كِتابَكَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالْأَمْرُ فِي اقْرَأْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ وَمُكَنًّى بِهِ عَنِ الْإِعْذَارِ لَهُمْ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْكتاب حَاصِلَة للقارىء.

[سورة الإسراء (17) : آية 15]

وَالْقِرَاءَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُثْبِتَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ أَوْ فِي فَهْمِ النُّقُوشِ الْمَخْصُوصَةِ إِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ نُقُوشٌ وَهِيَ خَوَارِقُ عَادَاتٍ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَفْسِكَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ دَاخِلَةٌ عَلَى فَاعِلِ كَفى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [79] . وَانْتَصَبَ حَسِيباً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْكِفَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ حَسِيبٍ. وَالْحَسِيبُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِثْلُ ضَرِيبِ الْقِدَاحِ بِمَعْنَى ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٍ بِمَعْنَى صَارِمٍ، أَيِ الْحَاسِبُ وَالضَّابِطُ. وَكَثُرَ وُرُودُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ (كَفَى بِكَذَا) . وَعُدِّيَ بِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ معنى الشَّهِيد. وَمَا صدق النَّفْسِ هُوَ الْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فَلِذَلِكَ جَاءَ حَسِيباً بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ. [15] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 15] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مَعَ تَوَابِعِهَا. وَفِيهِ تَبْيِينُ اخْتِلَافِ الطَّائِرِ بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، فَطَائِرُ الْهِدَايَةِ نَفْعٌ لِصَاحِبِهِ وَطَائِرُ الضَّلَالِ ضُرٌّ لِصَاحِبِهِ. وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَجُمْلَةُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لِمَا فِي هَذِهِ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ فَإِنَّ عَمَلَ أَحَدٍ لَا يَلْحَقُ نَفْعُهُ وَلَا ضُرُّهُ بِغَيْرِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنًى مُهِمًّا اعْتُبِرَ إِفَادَةً أَنَفًا لِلسَّامِعِ، فَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَقَدْ رُوعِيَ فِيهَا إِبْطَالُ أَوْهَامِ قَوْمٍ يَظُنُّونَ

أَنَّ أَوْزَارَهُمْ يَحْمِلُهَا عَنْهُمْ غَيْرُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ من أيمة الْكُفْرِ كَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ أَوْزَارُكُمْ، أَيْ تِبْعَاتُكُمْ وَمُؤَاخَذَتُكُمْ بِتَكْذِيبِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ تَبِعَةٌ. وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى تَرَدُّدَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَمَيْلَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْبَعْثِ، فَأَرَادَ التَّمْوِيهَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ ذُنُوبَهُمْ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَى حَقٍّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يُرَوِّجُ عَلَى دَهْمَائِهِمْ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا بِالْحَمَلَاتِ وَالْكَفَالَاتِ وَالرَّهَائِنِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِبْطَالَ ذَلِكَ إِنْقَاذًا لَهُمْ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ الَّذِي يَهْوِي بِهِمْ إِلَى الْمَهَالِكِ مَعَ مَا فِي هَذَا الْبَيَانِ مِنْ تَعْلِيمِ أَصْلٍ عَظِيمٍ فِي الدِّينِ وَهُوَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا عَظِيمًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَتَفَرَّعَ عَنْهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عبد الرحمان، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ذَلِكَ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى . وَلَمَّا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ جِنَازَةُ يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ» . وَالْمَعْنَى أَنَّ وِزْرَ أَحَدٍ لَا يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ فَإِذَا كَانَ قَدْ تَسَبَّبَ بِوِزْرِهِ فِي إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِي الْوِزْرِ حُمِلَ عَلَيْهِ وزر بوزر غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَمْلِ وِزْرِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَمْلُ وِزْرِ نَفْسِهِ عَلَيْهَا وَهُوَ وِزْرُ التَّسَبُّبِ فِي الْأَوْزَارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ، وَكَذَلِكَ وِزْرُ مَنْ يَسُنُّ لِلنَّاسِ وِزْرًا لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ قَبْلُ. وَفِي «الصَّحِيحِ» : «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سنّ الْقَتْل» . وسكتت الْآيَةُ عَنْ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ أَحَدٌ بِصَالِحِ عَمَلِ غَيْرِهِ اكْتِفَاءً إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى بَيَانِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوقِعُ فِي غُرُورٍ، وَتُعَلِّمُ الْمُسَاوَاةَ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ،

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآن مَا يومىء إِلَى أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لِأَحَدٍ فِي هَدْيٍ يَنَالُ مِنْ ثَوَابِ الْمُهْتَدِي قَالَ تَعَالَى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: 74] وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» . وَمِنَ التَّخْلِيطِ تَوَهُّمُ أَنَّ حَمْلَ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَافٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْعُ قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَاعِدَةُ التَّعَاوُنِ وَالْمُوَاسَاةِ وَلَيْسَتْ مِنْ حَمْلِ التَّبِعَاتِ. وتَزِرُ تَحْمِلُ الْوِزْرَ، وَهُوَ الثِّقَلُ. وَالْوَازِرَةُ: الْحَامِلَةُ، وَتَأْنِيثُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَفْسٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] . وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا وازِرَةٌ عَلَى مَعْنَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ قُدِّرَتْ نَفْسٌ ذَاتُ وِزْرٍ لَا تُزَادُ عَلَى وِزْرِهَا وِزْرَ غَيْرِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي لَا وِزْرَ لَهَا لَا تَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهَا بِالْأَوْلَى. وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ لِتَشْبِيهِهِ بِالْحِمْلِ الثَّقِيلِ لِمَا يَجُرُّهُ مِنَ التَّعَبِ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ الثِّقَلُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] . وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا عَطْفٌ عَلَى آيَةِ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ. وَهَذَا اسْتِقْصَاءٌ فِي الْإِعْذَارِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ زِيَادَةً عَلَى نَفْيِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِأَجْرَامِ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَا مُثِيبِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِعْذَارٍ وَقَطْعُ حُجَّةٍ وَلَيْسَ مَقَامَ امْتِنَانٍ بِالْإِرْشَادِ. وَالْعَذَابُ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةُ عَطْفٍ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها [الْإِسْرَاء: 16] الْآيَةَ. وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ اللَّهُ

تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشُّعَرَاء: 209] وَقَالَ: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يُونُس: 47] . عَلَى أَنَّ مَعْنَى (حَتَّى) يُؤْذِنُ بِأَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ مُتَّصِلَةٌ بِالْعَذَابِ شَأْنَ الْغَايَةِ، وَهَذَا اتِّصَالٌ عُرْفِيٌّ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَعْثَةُ مِنْ مُدَّةٍ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَالْإِمْهَالِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ هُنَا عَذَابَ الدُّنْيَا وَكَمَا يَقْتَضِيهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْآيَةِ بَعْدَهَا. عَلَى أَنَّنَا إِذَا اعْتَبَرْنَا التَّوَسُّعَ فِي الْغَايَةِ صَحَّ حَمْلُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا يَعُمُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَوُقُوعُ فِعْلِ مُعَذِّبِينَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ لِتَفْصِيلِ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنَ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْشِدَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ. وَهِيَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى انْتِفَاءِ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ مِنَ الله إِلَى قوم، فَهِيَ حُجَّةٌ لِلْأَشْعَرِيِّ نَاهِضَةٌ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى إِيصَالِ الْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ. فَوُجُودُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ عِنْدَهُمْ وَاجِبَانِ بِالْعَقْلِ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعَطَّلَ وَلَا عُذْرَ لَهُ بَعْدَ بَعْثَةِ رَسُولٍ. وَتَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُرَادَ بِالرَّسُولِ الْعَقْلُ تَطَوُّحٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ وَإِغْمَاضٌ عَنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ نَبْعَثَ إِذْ لَا يُقَالُ بَعَثَ عَقْلًا بِمَعْنَى جَعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فِي سُورَة النِّسَاء [165] .

[سورة الإسراء (17) : آية 16]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 16] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ قَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْمِيلُهُمْ تَبِعَةَ ضَلَالِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. وَهُوَ تَفْرِيعٌ لِتَبْيِينِ أَسْبَابِ حُلُولِ التَّعْذِيبِ بَعْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ أُدْمِجَ فِيهِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّينَ. فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] وَلَكِنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ الْحَالَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَيَظْهَرُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَلَامِ، فَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ هُنَا تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ تَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِشَرْعٍ وَأَنَّ سَبَبَ إِهْلَاكِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ هُوَ عَدَمُ امْتِثَالِهِمْ لِمَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ ذَلِكَ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَ قَرْيَةٍ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِإِرَادَتِهِ. وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُرَادِ عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها إِلَى آخِرِهِ. وَمُتَعَلِّقُ أَمَرْنا مَحْذُوفٌ، أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ، أَيْ بَعَثْنَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ وَأَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ فَعَصَوُا الرَّسُولَ وَفَسَقُوا فِي قَرْيَتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَصْدِيرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِ (إِذَا) أَوْجَبَ اسْتِغْلَاقَ الْمَعْنَى فِي الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرْطِ (إِذَا) وَجُمْلَةِ جَوَابِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ (إِذَا) أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيِ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيْهَا. فَاقْتَضَى ظَاهِرُ مَوْقِعِ (إِذَا)

أَنَّ قَوْلَهُ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها هُوَ جَوَابُ (إِذَا) فَيَقْتَضِي أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ إِهْلَاكَهَا سَابِقَةٌ عَلَى حُصُولِ أَمْرِ الْمُتْرَفِينَ سَبْقَ الشَّرْطِ لِجَوَابِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِإِهْلَاكِ الْقَرْيَةِ ابْتِدَاءً فَيَأْمُرُ اللَّهُ مُتْرَفِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَيَفْسُقُوا فِيهَا فَيَحِقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ، مَعَ أَنَّ مَجْرَى الْعَقْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فُسُوقُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَكُفْرُهُمْ هُوَ سَبَبَ وُقُوعِ إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِإِهْلَاكِ قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ لَا الْعَكْسُ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُسَبِّبُهُ، وَلَا مِنِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَسُوقَهُمْ إِلَى مَا يُفْضِي إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ لِيُحَقِّقَ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهِمْ. وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ وَاضِحَةٌ فِي هَذَا، فَبِنَا أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً فِعْلَ أَمَرْنا مُتْرَفِيها عَلَى نَبْعَثَ رَسُولًا فَإِنَّ الْأَفْعَالَ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ أَتَحَدَّتْ فِي اللَّوَازِمِ أَمِ اخْتَلَفَتْ، فَيَكُونُ أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَنَأْمُرَ مُتْرَفِي قَرْيَةٍ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيَفْسُقُوا عَنْ أَمْرِنَا فَيَحِقَّ عَلَيْهِمْ الْوَعِيدُ فَنُهْلِكُهُمْ إِذَا أَرَدْنَا إِهْلَاكَهُمْ. فَكَانَ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً شَرِيطَةً لِحُصُولِ الْإِهْلَاكِ، أَيْ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَا مكره لَهُ، كم دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمرَان: 127- 128] وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الْأَعْرَاف: 100] وَقَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا [الْإِنْسَان: 28] وَقَوْلِهِ: عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاء: 18] . فَذَكَرَ شَرِيطَةَ الْمَشِيئَةِ مَرَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ لِإِدْمَاجِ التَّعْرِيضِ بِتَهْدِيدِ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِمِثْلِ هَذَا مِمَّا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرَى الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقُ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَمَانٍ لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَسِّفَةٌ أَوْ مَدْخُولَةٌ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ جُمْلَةَ أَمَرْنا مُتْرَفِيها إِلَخْ صِفَةً لِ قَرْيَةً وَجَعَلَ جَوَابَ (إِذَا) مَحْذُوفًا.

وَالْمُتْرَف: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَتْرَفَهُ إِذَا أَعْطَاهُ التُّرْفَةَ. بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- أَيِ النِّعْمَةَ. وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَهُمْ مُعْظَمُ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ. وَكَانَ مُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ ضُعَفَاءَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمّل: 11] . وَتَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِخُصُوصِ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُخَاطِبُونَ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ عِصْيَانَهُمُ الْأَمْرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ هُوَ سَبَبُ فِسْقِهِمْ وَفسق بَقِيَّة قَومهمْ إِذْ هُمْ قَادَةُ الْعَامَّةِ وَزُعَمَاءُ الْكُفْرِ فَالْخِطَابُ فِي الْأَكْثَرِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ اتَّبَعَهُمُ الدَّهْمَاءُ فَعَمَّ الْفِسْقُ أَوْ غَلَبَ عَلَى الْقَرْيَةِ فَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ آمَرْنَا بِالْمَدِّ بِهَمْزَتَيْنِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَهَمْزَةِ فَاءِ الْفِعْلِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ آمِرِينَ، أَيْ دَاعِينَ قَوْمَهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، فَسَكَنَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا تَخْفِيفًا، أَوِ الْأَلِفُ أَلِفُ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ عَافَاهُ اللَّهُ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ الْمَقَرِّ وَعَنِ الطَّرِيقِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ الْخُرُوجُ عَمَّا أَمَّرَ اللَّهُ بِهِ، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . والْقَوْلُ هُوَ مَا يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ كَلَامٍ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ قَوْلُ الْوَعِيدِ كَمَا قَالَ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: 31] . وَالتَّدْمِيرُ: هَدْمُ الْبِنَاءِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلِاسْتِئْصَالِ إِذِ الْمَقْصُودُ إِهْلَاكُ أَهْلِهَا وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ بِنَائِهِمْ كَمَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] . وَتَقَدَّمَ التَّدْمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [137] . وتأكيد فَدَمَّرْناها بِالْمَصْدَرِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ التَّدْمِيرِ لَا نَفْيُ احْتِمَال الْمجَاز.

[سورة الإسراء (17) : آية 17]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 17] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) ضُرِبَ مِثَالٌ لِإِهْلَاكِ الْقُرَى الَّذِي وُصِفَ سَبَبُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِتَمْثِيلِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي الْكَشْفِ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْذِيرِ الْمَقْصُودِ. وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْقُرَى مُقَدَّمًا بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، ثُمَّ بِتَوْجِيهِ الْأَوَامِرِ إِلَى الْمُتْرَفِينَ ثُمَّ فِسْقِهِمْ عَنْهَا وَكَانَ زُعَمَاءُ الْكَفَرَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ مُتْرَفِينَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: 27] وَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: 31] . فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا كَالْفَرْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ إِظْهَارًا لِاسْتِقْلَالِهَا بِوَقْعِ التَّحْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَكَانَ ذَلِك تخريجا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ. وَ (كَمْ) فِي الْأَصْلِ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْعَدَدِ، وَتُسْتَعْمَلُ خَبَرِيَّةً دَالَّةً عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ تَحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ لِنَوْعِ الْعَدَدِ، وَهِيَ هُنَا خَبَرِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا الْتُزِمَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا لِكَوْنِ أَصْلِهَا الِاسْتِفْهَامَ وَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. ومِنَ الْقُرُونِ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ (كَمْ) . وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ يُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَبِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَمَا هُنَا. وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، أَرَادَ أَهْلَ قَرْنِي، أَيْ أَهْلَ الْقَرْنِ الَّذِي أَنَا فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: 38] .

وَتَخْصِيصُ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِيجَازٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ جُعِلَ زَمَنُ نُوحٍ مَبْدَأً لِقَصَصِ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ، وَاعْتُبِرَ الْقَصَصُ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ زَمَنَ نُوحٍ صَارَ كَالْمُنْقَطِعِ بِسَبَبِ تَجْدِيدِ عُمْرَانِ الْأَرْضِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَلِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي حَلَّ بِقَوْمِهِ عَذَابٌ مَهُولٌ وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي أَحَاطَ بِالْعَالَمِ. وَوَجْهُ ذِكْرِهِ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَةَ تَحُولُ دُونَ الِاعْتِبَارِ بِالْعَوَاقِبِ وَدُونَ الِاتِّعَاظِ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ سَبَقَ وَنَاهِيكَ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ الْمَهُولِ. وَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً إِقْبَالٌ عَلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُصُوصِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ إِنَّمَا مَآلُهُ إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَصْدِيق مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ لَجُّوا فِي الْكُفْرِ وَتَفَنَّنُوا فِي التَّكْذِيبِ، فَلَا جَرَمَ خَتَمَ ذَلِكَ بِتَطْمِينِ النَّبِيءِ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ذُنُوبِ الْقَوْمِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُ فَظَاعَتَهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِفِعْلِ كَفى وَبِوَصْفَيْ خَبِيراً بَصِيراً الْمُكَنَّى بِذِكْرِهِمَا عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهِمُ الْمَرْئِيَّةِ وَالْمَعْلُومَةِ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ أَعْنِي أَعْمَالَهُمْ وَنَوَايَاهُمْ. وَقَدَّمَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالضَّمَائِرِ وَالنَّوَايَا لِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ فِي الْفَسَادِ وَالصَّلَاحِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْعَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ (كَفَى) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُ غَيْرِ رَبِّهِ فَهُوَ كَافِيَةِ وَحَسْبُهُ، قَالَ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَة: 137] أَوْ إِلَى أَنَّهُ فِي غُنْيَةٍ عَنِ الْهَمِّ فِي شَأْنِهِمْ كَقَوْلِهِ لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: 46] فَهَذَا إِمَّا تَسْلِيَةٌ لَهُ عَنْ أَذَاهُمْ وَإِمَّا صَرْفٌ لَهُ عَنِ التَّوَجُّعِ لَهُمْ. وَفِي خِطَابِ النَّبِيءِ بِذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِسَامِعِيهِ من الْكفَّار.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 إلى 19]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 18 إِلَى 19] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي [الْإِسْرَاء: 15] وَهُوَ رَاجِعٌ أَيْضا إِلَى جملَة وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الْإِسْرَاء: 13] تَدْرِيجًا فِي التِّبْيَانِ لِلنَّاسِ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، فَابْتُدِئُوا بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَهُمْ تَبِعَةَ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ثُمَّ وَكَلَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِم، وَأَن الْمُسِيء لَا يَضُرُّ بِإِسَاءَتِهِ غَيْرَهُ وَلَا يَحْمِلُهَا عَنْهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 15] . ثُمَّ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُمْ عَلَى غِرَّةٍ وَلَا يَأْخُذُهُمْ إِلَّا بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ إِلَى قَوْلِهِ: خَبِيراً بَصِيراً [الْإِسْرَاء: 15- 17] . ثُمَّ كَشَفَ لَهُمْ مَقَاصِدَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الدُّنْيَا فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ لِمَرْضَاةِ شَهَوَاتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّنْيَا هِيَ قُصَارَى مَرَاتِعِ النُّفُوسِ لَا حَظَّ لَهَا إِلَّا مَا حَصَلَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ فَيَقْصُرُ عَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِسْمٌ عَلِمَ أَنَّ الْفَوْزَ الْحَقُّ هُوَ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَعَمِلَ لِلْآخِرَةِ مُقْتَفِيًا مَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَامَلَ كُلَّ فَرِيقٍ بِمِقْدَارِ هِمَّتِهِ. فَمَعْنَى كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْعَاجِلَةَ، أَيْ دُونَ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ سِوَى جُمْلَتَيْنِ إِثْبَاتٍ لِشَيْءٍ وَنَفْيٍ لِخِلَافِهِ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ هُنَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُ وَقُصَارَى هَمِّهِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ

خَبَرُ (كَانَ) فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ زِيَادَةَ تَحْقِيقٍ لِتَمَحُّضِ إِرَادَتِهِ فِي ذَلِكَ. والْعاجِلَةَ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، أَيِ الْحَيَاةَ الْعَاجِلَةَ، كَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: 15] . وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعْجِيلِ الْعُرْفِيُّ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ الْمُتَعَارَفَةُ، أَيْ أَنْ يُعْطَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ تَعْجِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فِيها. وَإِنَّمَا زَادَ قَيْدَيْ مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ لِأَنَّ مَا يُعْطَاهُ مَنْ أَرَادُوا الْعَاجِلَةَ يُعْطَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي شَاءَ اللَّهُ إِعْطَاءَهَا. وَالْمَشِيئَةُ: الطَّوَاعِيَةُ وَانْتِفَاءُ الْإِكْرَاهِ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، فَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مُرِيدِ الْعَاجِلَةِ فَأُبْدِلَ مِنْهُ بَعْضُهُ، أَيْ عَجَّلْنَا لِمَنْ نُرِيدُ مِنْكُمْ، وَمَفْعُولُ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَهُ، أَيْ لِمَنْ نُرِيدُ التَّعْجِيلَ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ الَّذِي كَثُرَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ كَلَامٍ سَابِقٍ. وَفِيهِ خُصُوصِيَّةُ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ غَيْرَ ذَلِكَ لَوَجَبَ فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ التَّصْرِيحُ بِهِ. وَالْإِرَادَةُ: مُرَادِفُ الْمَشِيئَةِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا نَشاءُ تَفَنُّنٌ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْجَرِّ الْعَامِلِ فِي الْمُبدل مِنْهُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الرَّبْطِ بِضَمِيرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: مَنْ نُرِيدُ مِنْهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ الَّذِي يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَقَطْ قَدْ نُعْطِي بَعْضَهُمْ بَعْضَ مَا يُرِيدُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِنَا وَإِرَادَتِنَا لِأَسْبَابِ مُخْتَلفَة. وَلَا يخلوا أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَ لَهُ بَعْضُ مَا يَرْغَبُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا.

وَعَطْفُ جُمْلَةِ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ بِحَرْفِ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ. ولَهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ جَعَلْنا، قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ. وَجُمْلَةُ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً بَيَانٌ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِجُمْلَةِ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ ومَذْمُوماً مَدْحُوراً حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَصْلاها يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ إِذَا أَصَابَهُ حَرْقُهَا. والذم الْوَصْف بالمعايب الَّتِي فِي الْمَوْصُوفِ. وَالْمَدْحُورُ: الْمَطْرُودُ. يُقَالُ: دَحَرَهُ، وَالْمَصْدَرُ: الدُّحُورُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [18] . وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ جُمْلَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ وَجُمْلَةِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ بِجعْل الْفِعْلَ مُضَارِعًا فِي الْأُولَى وَمَاضِيًا فِي الثَّانِيَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ إِرَادَةَ النَّاسِ الْعَاجِلَةَ مُتَكَرِّرَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أُمُورَ الْعَاجِلَةِ مُتَقَضِّيَةٌ زَائِلَةٌ، وَجَعَلَ فِعْلَ إِرَادَةِ الْآخِرَةِ، مَاضِيًا لِدَلَالَةِ الْمُضِيِّ عَلَى الرُّسُوخِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْآخِرَةِ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ (كَانَ) وَمِنَ الْمُضَارِعِ، وَمَا شَرَطَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَسْعَى لِلْآخِرَةِ سَعْيَهَا وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. وَحَقِيقَةُ السَّعْيِ الْمَشْيُ دُونَ الْعَدْوِ، فَسَعْيُ الْآخِرَةِ هُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْحُصُولِ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالْعَامِلُ لِلصَّالِحَاتِ كَأَنَّهُ يَسِيرُ سَيْرًا سَرِيعًا إِلَى الْآخِرَةِ لِيَصِلَ إِلَى مَرْغُوبِهِ مِنْهَا. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فِي الْمَعْنَى، أَيِ السَّعْيَ لَهَا، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِبَيَانِ النَّوْعِ. وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ خَيْرِ الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ غُرُورٌ وَأَنَّ إِرَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بُدَّ لِنَجَاحِهَا مِنَ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِ حُصُولِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيُبْسِ

[سورة الإسراء (17) : آية 20]

وَجُمْلَةُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَسَعى. وَجِيءَ بِجُمْلَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ، أَيْ وَقَدْ كَانَ رَاسِخَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 17] لِمَا فِي (كَانَ) مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِيمَانِ مَلَكَةً لَهُ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُمْ لِأَجْلِ مَا وُصِفُوا بِهِ قَبْلَ ذِكْرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالسَّعْيُ الْمَشْكُورُ هُوَ الْمَشْكُورُ سَاعِيهِ، فَوَصْفُهُ بِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، إِذِ الْمَشْكُورُ الْمَرْضِيُّ عَنْهُ، وَإِذِ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ جَزَاءِ عَمَلِ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا لَا عَنْ حُسْنِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ قَسِيمٌ لِجَزَاءِ مَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ جَعَلَ الْوَصْفَ لِلْعَمَلِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ عَامِلِهِ بِأَنَّهُ مَرْضِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْكِنَايَةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ إِثْبَاتِ مَلْزُومِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِ كانَ فِي كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ تَحَقَّقَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَقْتَضِي تَرَتُّبَ الشُّكْرِ عَاجِلًا وَالثَّوَابِ آجِلًا. وَقَدْ جَمَعَ كَوْنُهُ مَشْكُورًا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ تَفْصِيلُهَا لَوْ أُرِيد تَفْصِيله. [20] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 20] كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) تَذْيِيلٌ لِآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ إِلَى آخرهَا [الْإِسْرَاء: 18] . وَهَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ خَلْقَهُ مِنْ أَثَرِ رَحْمَتِهِ حَتَّى الْكَفَرَةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِلِقَائِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا عَلَى

حَسَبِ مَا قَدَّرَ لَهُمْ وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: 156] وَقَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . وَتَنْوِينُ كُلًّا تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنْ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلَّ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ نُمِدُّ. وَقَوْلُهُ: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كُلًّا بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ. وَمَجْمُوعُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ هُوَ الْبَدَلُ كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِبْدَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَالْأَصْلُ أَنْ يكون الْمَذْكُور أول عَائِدًا إِلَى الأول إِلَّا إِذَا اتَّصَلَ بِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ مَا يُعَيِّنُ مَعَادَهُ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي قَوْلِ الْمُتَلَمِّسِ: وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلَّا الْأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتِدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ وَالْإِمْدَادُ: اسْتِرْسَالُ الْعَطَاءِ وَتَعَاقُبُهُ. وَجَعْلُ الْجَدِيدِ مِنْهُ مَدَدًا لِلسَّالِفِ بِحَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ. وَجُمْلَةُ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً اعْتِرَاضٌ أَوْ تَذْيِيلٌ، وَعَطَاءُ رَبِّكَ جِنْسُ الْعَطَاءِ، وَالْمَحْظُورُ: الْمَمْنُوعُ، أَيْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا بِالْمَرَّةِ بَلْ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ نصيب مِنْهُ.

[سورة الإسراء (17) : آية 21]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 21] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لَمَّا كَانَ الْعَطَاءُ الْمَبْذُولُ لِلْفَرِيقَيْنِ هُوَ عَطَاءَ الدُّنْيَا وَكَانَ النَّاسُ مُفَضَّلِينَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُدْرِكُونَ حِكْمَتَهُ لَفَتَ اللَّهُ لِذَلِكَ نَظَرَ نَبِيِّهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَفْتَ اعْتِبَارٍ وَتَدَبُّرٍ، ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِأَنَّ عَطَاءَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ عَطَاءٍ، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْفِيعًا فِي دَرَجَاتِ عِلْمِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ تَوْجِيهُ الْعِبْرَةِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالنَّظَرُ حَقِيقَتُهُ تَوَجُّهُ آلَةِ الْحِسِّ الْبَصَرِيِّ إِلَى الْمُبْصِرِ. وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي النَّظَرِ الْمَصْحُوبِ بِالتَّدَبُّرِ وَتَكْرِيرِ مُشَاهَدَةِ أَشْيَاءَ فِي غَرَضٍ مَا، فَيَقُومُ مَقَامَ الظَّنِّ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى الْفِكْرِ الْمُؤَدِّي إِلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي [النِّسَاءِ: 50] . وَ (كَيْفَ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ، وَهُوَ مُعَلِّقٌ فِعْلَ (انْظُرْ) عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ. وَالْمُرَادُ التَّفْضِيلُ فِي عَطَاءِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ الَّذِي يُدْرِكُهُ التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ وَبِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْظِيرِ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ عَطَاءَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَنُوطٍ بِصَلَاحِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفَاضُلٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعَمَلِ الْمُتَّحِدِ، وَقَدْ يَفْضُلُ الْمُسْلِمُ فِيهِ الْكَافِرَ، وَيَفْضُلُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَيَفْضُلُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضًا، وَبَعْضُ الْكَفَرَةِ بَعْضًا، وَكَفَاكَ بِذَلِكَ هَادِيًا إِلَى أَنَّ مَنَاطَ عَطَاءِ الدُّنْيَا أَسْبَابٌ لَيْسَتْ مِنْ وَادِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا مِمَّا يُسَاقُ إِلَى النُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 22]

وَنَصْبُ دَرَجاتٍ وتَفْضِيلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةٍ أَكْبَرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ عَطَاءُ الدُّنْيَا. وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَظَمَةِ الشَّرَفِ، وَالتَّفْضِيلُ: إِعْطَاءُ الْفَضْلِ، وَهُوَ الْجِدَةُ وَالنِّعْمَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ» . وَالْمَعْنَى: النِّعْمَةُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ نعم الدُّنْيَا. [22] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 22] لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) تَذْيِيلٌ هُوَ فَذْلَكَةٌ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ خُلَاصَةَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ تَرْكُ الشِّرْكِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْدَأُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ أَوَّلُ خُطُوَاتِ السَّعْيِ لِمُرِيدِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ قَاعِدَةُ اخْتِلَالِ التَّفْكِيرِ وَتَضْلِيلِ الْعُقُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] . وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَعٌ لِخِطَابِ قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: 21] . وَالْمَقْصُودُ إِسْمَاعُ الْخِطَابِ غَيْرَهُ بِقَرِينَةٍ تُحَقِّقُ أَنَّ النَّبِيءَ قَائِمٌ بِنَبْذِ الشِّرْكِ وَمَنْحٍ عَلَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر. وفَتَقْعُدَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْمُكْثِ وَالدَّوَامِ. أُرِيدَ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَجْرِيدُ مَعْنَى النَّهْيِ إِلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ دَامُوا فِي الذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ. وَالْمَذْمُومُ: الْمَذْكُورُ بِالسُّوءِ وَالْعَيْبِ. وَالْمَخْذُولُ: الَّذِي أَسْلَمَهُ نَاصِرُهُ. فَأَمَّا ذَمُّهُ فَمِنْ ذَوِي الْعُقُولِ، إِذْ أَعْظَمُ سُخْرِيَةً أَنْ يَتَّخِذَ الْمَرْءُ حَجَرًا أَوْ عُودًا رَبًّا لَهُ وَيَعْبُدَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ: [الصافات: 95] ، وَذَمَّهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الشَّرَائِعِ.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 إلى 24]

وَأَمَّا خِذْلَانُهُ فَلِأَنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ وَلِيًّا لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر 14] ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَم: 42] ، وَخِذْلَانُهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [محمّد: 11] وَقَالَ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِر: 50] . [23، 24] . [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 23 الى 24] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ تَخَلُّصًا إِلَى أَعْمِدَةٍ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمُنَاسَبَةِ الْفَذْلَكَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَعْمَالِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى نَبْذِ الشِّرْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] . وَقَدِ ابْتُدِئَ تَشْرِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَحْكَامًا عَظِيمَةً لِإِصْلَاحِ جَامِعَتِهِمْ وَبِنَاءِ أَرْكَانِهَا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا بِارْتِفَاعِهِمْ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَبِانْحِطَاطِ هَؤُلَاءِ عَنْهُمْ، وَفِي جَمِيعِهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مُنْغَمِسِينَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَوَّلُ تَفْصِيلٍ لِلشَّرِيعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَعَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أُسْلُوبُهُ عَنْ أُسْلُوبِ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّذِي وَجَّهَ فِيهِ الْخِطَابَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِ ضَلَالَتِهِمْ. فَمِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ افْتُتِحَتْ بِفِعْلِ الْقَضَاءِ الْمُقْتَضِي الْإِلْزَامَ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِخِطَابِ أُمَّةٍ تَمْتَثِلُ أَمْرَ رَبِّهَا، وَافْتُتِحَ خِطَابُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [151] بِ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَعَلَتِ الْمَقْضِيَّ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ فَحَذَّرَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَآيَةُ الْأَنْعَامِ جَعَلَتِ الْمُحَرَّمَ فِيهَا

هُوَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَاسِبَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ إِذْ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ. وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فَصَلَ فِيهَا حُكْمُ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَحُكْمُ الْقَتْلِ وَحُكْمُ الْإِنْفَاقِ وَلَمْ يَفْصِلْ مَا فِي آيَة الْأَنْعَامُ. وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خَمْسَةَ عَشَرَ تَشْرِيعًا هِيَ أُصُولُ التَّشْرِيعِ الرَّاجِعِ إِلَى نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتُهِرَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَكَّةَ وَتَنَاقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْآفَاقِ، فَلِذَلِكَ أَلَمَّ الْأَعْشَى بِبَعْضِهَا فِي قَصِيدَتِهِ الْمَرْوِيَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لمدح النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ يُرِيدُ الْإِيمَانَ فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْقَصِيدَةُ الدَّالِيَّةُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ ... نَبِيءِ الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَأْكُلَنَّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصَدَا وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ... وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا وَذَا الرَّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنَّهُ ... لِفَاقَتِهِ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا وَلَا تَسْخَرَنْ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضِرَارَةٍ ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدًا وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا (¬1) وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ وَالْوَصَايَا بِفِعْلِ الْقَضَاءِ اهْتِمَامًا بِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا وَحُكْمًا لَازِمًا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاء: 4] لِظُهُورِ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا مِمَّا يَقَعُ وَلَا يَقَعُ. وَ (أَنْ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِمَا فِي (قَضَى) مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورَةً بِبَاءِ جَرٍّ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ قَضَى بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا. وَابْتُدِئَ هَذَاِِ ¬

(¬1) التأبد: التعزب.

التَّشْرِيعُ بِذِكْرِ أَصْلِ التَّشْرِيعَةِ كُلِّهَا وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَجِيءَ بِخِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ قَبْلُ: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الْإِسْرَاء: 20] ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ الْأُمَّةَ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ. وَابْتُدِئَ التَّشْرِيعُ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، إِذْ لَا يُشَاقُّ الْعَقْلُ إِلَى طَلَبِ الصَّالِحَاتِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَالِحًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَقَدْ فَصَّلْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «أُصُولَ النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْإِسْلَامِ» . وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً هَذَا أَصْلٌ ثَانٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. وَانْتَصَبَ إِحْساناً عَلَى المفعولية الْمُطلقَة مصدر نَائِبًا عَنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَحْسِنُوا إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أَيْ وَقَضَى إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ.

وَبِالْوالِدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِحْساناً، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: أَحْسِنْ بِفُلَانٍ كَمَا يُقَالُ أَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [100] . وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَالِدَيْنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِاعْتِبَارِ وَالِدَيْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مِمَّنْ شَمِلَهُمُ الْجَمْعُ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا. وَعَطْفُ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ فَاسْتَحَقَّ الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ أَوْجَدَ النَّاسَ. وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْأَبَوَيْنِ مَظْهَرَ إِيجَادِ النَّاسِ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَالْخَالِقُ مُسْتَحِقُّ الْعِبَادَةِ لِغِنَاهُ عَنِ الْإِحْسَانِ، وَلِأَنَّهَا أَعْظَمُ الشُّكْرِ عَلَى أَعْظَمِ مِنَّةٍ، وَسَبَبُ الْوُجُودِ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ لَا الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِحْسَانِ دُونَ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِدٍ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَبَلَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَأَمَرَ الْوَلَدَ بِمُجَازَاةِ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَبَوَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً. وَشَمِلَ الْإِحْسَانُ كُلَّ مَا يَصْدُقُ فِيهِ هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْبَذْلِ وَالْمُوَاسَاةِ. وَجُمْلَةُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِحْساناً، وإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْمُهَيِّئَةِ لِنُونِ التَّوْكِيدِ، وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ بِنُونٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَبَعْدَهَا (مَا) وَلَكِنَّهُمْ رَاعَوْا حَالَةَ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً فَرَسَمُوهَا كَذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ وَتَبِعَهَا رَسْمُ النَّاسِ غَالِبًا، أَيْ إِنْ يَبْلُغْ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا حَدَّ الْكِبَرِ وَهُمَا عِنْدَكَ، أَيْ فِي كفالتك فوطّىء لَهُمَا خُلُقَكَ وَلَيِّنْ جَانِبَكَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ بِقَرِينَةِ الْعَطْفِ عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَلَيْسَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ يَوْمَئِذٍ. وَإِيثَارُ ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ هُنَا دُونَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فَكَانَ الْإِفْرَادُ أَنْسَبَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ سَوَاءً فِي الْمَقْصُودِ لِأَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُسَاوِي خِطَابَ الْجَمْعِ.

وَخَصَّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالْبَيَانِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ انْتِفَاءِ الْإِحْسَانِ بِمَا يَلْقَى الْوَلَدُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ مِنْ مشقة الْقيام بشؤونهما وَمِنْ سُوءِ الْخُلُقِ مِنْهُمَا. وَوَجْهُ تَعَدُّدِ فَاعِلِ يَبْلُغَنَّ مَظْهَرًا دُونَ جَعْلِهِ بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ بِأَنْ يُقَالَ إِمَّا يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ، الِاهْتِمَامُ بِتَخْصِيصِ كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْوَالِدَيْنِ بِالذِّكْرِ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لِأَنَّ لِكُلِّ حَالَةٍ بَوَاعِثَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي وَاجِبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَقَدْ تَكُونُ حَالَةُ اجْتِمَاعِهِمَا عِنْدَ الِابْنِ تَسْتَوْجِبُ الِاحْتِمَالَ مِنْهُمَا لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ أَحَدِهِمَا الَّذِي الِابْنُ أَشَدُّ حُبًّا لَهُ دُونَ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْفَرِدًا عِنْدَهُ بِدُونِ الْآخَرِ الَّذِي مَيْلُهُ إِلَيْهِ أَشَدُّ، فَالِاحْتِيَاجُ إِلَى ذِكْرِ أَحَدِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ لَهُ. وَقَدْ تَكُونُ حَالَةُ انْفِرَادِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ الِابْنِ أَخَفَّ كُلْفَةً عَلَيْهِ مِنْ حَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا، فَالِاحْتِيَاجُ إِلَى أَوْ كِلاهُما فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنِ اعْتِذَارِ الِابْنِ لِنَفْسِهِ عَنِ التَّقْصِيرِ بِأَنَّ حَالَةَ اجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ أَحْرَجُ عَلَيْهِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذُكِرَتِ الْحَالَتَانِ وَأُجْرِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ بِتَمَامِهَا جَوَابًا لِ (إِمَّا) . وَأُكِّدَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجَوَابِ وَمَضْمُونِ الشَّرْطِ فِي الْوُجُودِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عَلَى أَنَّ أَحَدُهُما فَاعِلُ يَبْلُغَنَّ فَلَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ عَلَامَةٌ لِأَنَّ فَاعِلَهُ اسْمٌ ظَاهِرٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يَبْلُغَانِّ بِأَلِفِ التَّثْنِيَةِ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَالضَّمِيرُ فَاعِلٌ عَائِدٌ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، فَيَكُونُ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بَدَلًا مِنْ أَلِفِ الْمُثَنَّى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْحُكْمُ لِاجْتِمَاعِهِمَا فَقَطْ بَلْ هُوَ لِلْحَالَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ. وَالْخِطَابُ بِ عِنْدَكَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِسَمَاعِ الْكَلَامِ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ بِقَرِينَةٍ سَبْقِ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَوْلِهِ اللَّاحِقِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ [الْإِسْرَاء: 25] .

أُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ مضارع مَعْنَاهُ أتضخر. وَفِيهِ لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ أَشْهَرُهَا كُلُّهَا ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدُ الْفَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي حَرَكَةِ الْفَاءِ، فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْفَاءِ مُنَوَّنَةً-. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ-. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِكَسْرِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ-. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَقُولَ لَهُمَا أُفٍّ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ الْأَذَى الَّذِي أَقَلُّهُ الْأَذَى بِاللِّسَانِ بِأَوْجَزِ كَلِمَةٍ، وَبِأَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حُصُولِ الضَّجَرِ لِقَائِلِهَا دُونَ شَتْمٍ أَوْ ذَمٍّ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ أَذًى بِطْرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ بِالْأَوْلَى. ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ نَهْرِهِمَا لِئَلَّا يَحْسَبَ أَنَّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لِصَلَاحِهِمَا وَلَيْسَ بِالْأَذَى. وَالنَّهْرُ الزَّجْرُ، يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِإِكْرَامِ الْقَوْلِ لَهُمَا. وَالْكَرِيمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [4] . وَبِهَذَا الْأَمْرِ انْقَطَعَ الْعُذْرُ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى الْوَلَدُ أَنْ يَنْصَحَ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ أَو أَن يحذر مِمَّا قَدْ يَضُرُّ بِهِ أَدَّى إِلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنِ الْوَقْعِ. ثُمَّ ارْتَقَى فِي الْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى أَمْرِ الْوَلَدِ بِالتَّوَاضُعِ لَهُمَا تَوَاضُعًا يَبْلُغُ حَدَّ الذُّلِّ لَهُمَا لِإِزَالَةِ وَحْشَةِ نُفُوسِهِمَا إِنْ صَارَا فِي حَاجَةٍ إِلَى مَعُونَةِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ يَبْغِيَانِ أَنْ يَكُونَا هُمَا النَّافِعَيْنِ لِوَلَدِهِمَا. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّخَلُّقُ بِشُكْرِهِ عَلَى إِنْعَامِهِمَا السَّابِقَةِ عَلَيْهِ. وَصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنِ التَّوَاضُعِ بِتَصْوِيرِهِ فِي هَيْئَةِ تذلل الطَّائِر عِنْد مَا يَعْتَرِيهِ خَوْفٌ مِنْ طَائِرٍ أَشَدَّ مِنْهُ إِذْ يَخْفِضُ جَنَاحَهُ مُتَذَلِّلًا. فَفِي التَّرْكِيبِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَالْجَنَاحُ تخييل بِمَنْزِلَة تَخْيِيلٌ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ وَبِمَنْزِلَةِ تَخْيِيلِ الْيَدِ لِلشَّمَالِ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَالزِّمَامِ لِلْقُرَّةِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفَتْ وَقْرَةً ... إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَمْثِيلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [88] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّحْمَةِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ الذُّلِّ النَّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ لَا عَنِ الْخَوْفِ أَوْ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ. وَالْمَقْصُودُ اعْتِيَادُ النَّفْسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ بِاسْتِحْضَارِ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهَا حَتَّى يَصِيرَ لَهُ خُلُقًا، كَمَا قِيلَ: إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَا يُطَاعَانِ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا كُفْرٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَمُقْتَضَى الْآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْبِرِّ وَإِرْضَاؤُهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْرِدَهَا لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْوَلَدِ نَحْوَ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَبَوَانِ وَيَتَشَاحَّانِ فِي طَلَبِ فِعْلِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ رَغْبَتَيْهِمَا بِأَنْ يَأْمُرَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِضِدِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْوَالٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى الْعَمَلِ بِطَلَبَيْهِمَا إِنِ اسْتَطَاعَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ» . وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأُمِّ لِأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَبَوَيْهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: تَرْجِيحُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُحَاسِبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ 23 عَنْ

مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مَالِكًا فَقَالَ: إِنَّ أَبِي فِي بَلَدِ السُّودَانِ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصَ أُمَّكَ. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقَ أَنَّ مَالِكًا أَرَادَ مَنْعَ الِابْنِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى السُّودَانِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأُمِّ. الثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْبِرِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي وُجُوبَ طَلَبِ التَّرْجِيحِ إِذَا أَمَرَا ابْنَهُمَا بِأَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ فِي كِتَابِ «الرِّعَايَةِ» أَنَّهُ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبِرِّ وَلِلْأَبِ الرُّبُعَ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيِ الْبِرِّ وَلِلْأَبِ الثُّلُثَ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ. وَالْوَجْهُ أَنَّ تَحْدِيدَ ذَلِكَ بِالْمِقْدَارِ حَوَالَةٌ عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ وَأَنَّ مَحْمَلَ الْحَدِيثِ مَعَ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْهِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَرْجَحُ عَلَى الْإِجْمَالِ. ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَهِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ إِيصَالَهَا إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَّا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ انْتِقَالًا بَدِيعًا مِنْ قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ فَكَانَ ذِكْرُ رَحْمَةِ الْعَبْدِ مُنَاسِبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّخَلُّقَ بِمَحَبَّةِ الْوَلَدِ الْخَيْرَ لِأَبَوَيْهِ يَدْفَعُهُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهِ فِيمَا يَعْلَمَانِهِ وَفِيمَا يَخْفَى عَنْهُمَا حَتَّى فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا بَعْدَ مَمَاتِهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ «إِذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» . وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُمَا مُسْتَجَابٌ لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُؤَيِّدٌ ذَلِكَ إِذْ جَعَلَ دُعَاءَ الْوَلَدِ عَمَلًا لِأَبَوَيْهِ. وَحُكْمُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاصٌّ بِالْأَبَوَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: 113] الْآيَةَ.

وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً لِلتَّشْبِيهِ الْمَجَازِيِّ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحَاةُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْكَافِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] ، أَيِ ارْحَمْهُمَا رَحْمَةً تُكَافِئُ مَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. وصَغِيراً حَالٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَمْثِيلُ حَالَةٍ خَاصَّةٍ فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَرْبِيَةٍ مُكَيَّفَةٍ بِرَحْمَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي رَحْمَة الْوَلَد، وَصِغَرَ الْوَلَدِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا فَصَارَ قَوْلُهُ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ كَمَا رَبَّيَانِي وَرَحِمَانِي بِتَرْبِيَتِهِمَا. فَالتَّرْبِيَةُ تَكْمِلَةٌ لِلْوُجُودِ، وَهِيَ وَحْدَهَا تَقْتَضِي الشُّكْرَ عَلَيْهَا. وَالرَّحْمَةُ حِفْظٌ لِلْوُجُودِ مِنِ اجْتِنَابِ انْتِهَاكِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الشُّكْرِ، فَجَمَعَ الشُّكْرَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ. وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَأَمَّا مَوَاقِعُ الدُّعَاءِ لَهُمَا فَلَا تَنْضَبِطُ وَهُوَ بِحَسَبِ حَالِ كُلِّ امْرِئٍ فِي أَوْقَاتِ ابْتِهَالِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إِذَا دَعَا لَهُمَا فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ فَقَدِ امْتَثَلَ. وَمَقْصِدُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ يَنْحَلُّ إِلَى مَقْصِدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْسَانِيٌّ وَهُوَ تَرْبِيَةُ نُفُوسِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْجَمِيلِ لِصَانِعِهِ، وَهُوَ الشُّكْرُ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ الْبَارِي تَعَالَى فِي اسْمِهِ الشَّكُورِ، فَكَمَا أَمَرَ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ أَمَرَ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ الصُّورِيِّ وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَفِي الْأَمْرِ بِشُكْرِ الْفَضَائِلِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي إِسْدَائِهَا. وَالْمَقْصِدُ الثَّانِي عُمْرَانِيٌّ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَوَاصِرُ الْعَائِلَةِ قَوِيَّةَ الْعُرَى مَشْدُودَةَ الْوُثُوقِ فَأَمَرَ بِمَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْوُثُوقَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِيُرَبِّيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ التَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ مَا يَقُومُ مَقَامَ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْأُمِّ، ثُمَّ عَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ إِحْسَاسٍ بَعْضُهُ

[سورة الإسراء (17) : آية 25]

غَرِيزِيٌّ ضَعِيفٌ وَبَعْضُهُ عَقْلِيٌّ قَوِيٌّ حَتَّى أَنَّ أَثَرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لَيُسَاوِي بِمَجْمُوعِهِ أَثَرَ عَاطِفَةِ الْأُمِّ الْغَرِيزِيَّةِ أَوْ يَفُوقُهَا فِي حَالَةِ كِبَرِ الِابْنِ. ثُمَّ وَزَّعَ الْإِسْلَامُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ بَقِيَّةِ مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ عَلَى حَسَبِ الدُّنُوِّ فِي الْقُرْبِ النِّسْبِيِّ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ عَزَّزَ اللَّهُ قَابِلِيَّةَ الِانْسِيَاقِ إِلَى تِلْكَ الشِّرْعَةِ فِي النُّفُوسِ. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. فَقَالَ اللَّهُ: أَمَّا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّحِمَ مِنِ اسْمِهِ الرَّحِيمِ» . وَفِي هَذَا التَّكْوِينِ لِأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ تَظْهَرُ آثَارُهُ فِي مُوَاسَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَفِي اتِّحَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: 13] . وَزَادَهُ الْإِسْلَامُ تَوْثِيقًا بِمَا فِي تَضَاعِيفِ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَأْكِيدِ شَدِّ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِمَّا حَاوَلَهُ كُلُّ دِينٍ سَلَفَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَابِهِ مِنْ كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَة الإسلامية» . [25] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 25] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) تَذْيِيلٌ لِآيَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَمَا فَصَلَ بِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ قَبْلَ وُرُودِهِ بَيْنَ مُوَافِقٍ لِمُقْتَضَاهُ وَمُفْرِطٍ فِيهِ، وَمِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ وُرُودِهِ مِنْ مُحَافِظٍ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَمُقَصِّرٍ عَنْ قَصْدٍ أَوْ عَنْ بَادِرَةِ غَفْلَةٍ.

وَلَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ فِي تَضَاعِيفِ ذَلِكَ وَمَا يَقْتَضِيهِ يَعْتَمِدُ خُلُوصَ النِّيَّةِ لِيَجْرِيَ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْخُلُوصِ كَامِلًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا تَكَاسُلَ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى النُّفُوسِ وَالنَّوَايَا، فَوَعَدَ الْوَلَدَ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ إِنْ هُوَ أَدَّى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِوَالِدَيْهِ وَافِيًا كَامِلًا. وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الصَّلَاحُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ مُمْتَثِلِينَ لِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ الضَّمِيرِ فَعَادَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ هَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَضَمِيرُ الْجَمْعِ أَنْسَبُ بِهِ. وَلَمَّا شَمِلَ الصَّلَاحُ الصَّلَاحَ الْكَامِلَ وَالصَّلَاحَ الْمَشُوبَ بِالتَّقْصِيرِ ذَيَّلَهُ بِوَصْفِ الْأَوَّابِينَ الْمُفِيدِ بِعُمُومِهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِهِ وَمَا يُرْضِيهِ، فَفُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَى احْتِبَاكٍ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ أَوَّابِينَ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ لِلصَّالِحِينَ مُحْسِنًا وَلِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا. وَهَذَا يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرَهُمْ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ كَانَ تَذْيِيلًا. وَهَذَا الْأَوْبُ يَكُونُ مُطَّرِدًا، وَيَكُونُ مُعَرَّضًا لِلتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيَقْتَضِي طَلَبَ الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَخْرِمُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَالَةِ الْمُرْضِيَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَوب وَصَاحبه آئب، فَصِيغَ لَهُ مِثَالُ الْمُبَالَغَةِ (أَوَّابٌ) لِصُلُوحِيَّةِ الْمُبَالَغَةِ لِقُوَّةِ كَيْفِيَّةِ الْوَصْفِ وَقُوَّةِ كميته. فالملازم للامتثال فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الْمُرَاقِبُ لِنَفْسِهِ أَوَّابٌ لِشِدَّةِ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الْأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ، والمغلوب بالتفريط يؤوب كُلَّمَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَذَكَرَ رَبَّهُ، فَهُوَ أَوَّابٌ لِكَثْرَةِ رُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَخَاصَّةً حَالَةَ التَّفْرِيطِ وَبَوَادِرَ الْمُخَالَفَةِ. وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ إِيجَازِهَا تَيْسِيرًا بَعْدَ تَعْسِيرٍ مَشُوبًا بِتَضْيِيقٍ وَتَحْذِيرٍ لِيَكُونَ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفْسِهِ رَقِيبًا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 إلى 27]

[26، 27] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 26 الى 27] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. الْقَرَابَةُ كُلُّهَا مُتَشَعِّبَةٌ عَنِ الْأُبُوَّةِ فَلَا جَرَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ الْأَبَوَيْنِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ الْقَرَابَةِ. وَلِلْقَرَابَةِ حَقَّانِ: حُقُّ الصِّلَةِ، وَحَقُّ الْمُوَاسَاةِ. وَقَدْ جَمَعَهُمَا جِنْسُ الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ حَقَّهُ. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ على مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَعَلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الْإِسْرَاء: 23] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْخِطَابِ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ [الْإِسْرَاء: 25] الْآيَةَ إِلَى الْخِطَابِ بِالْإِفْرَادِ بِقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الصِّيغَةِ الْوَاحِدَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَالْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 23] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِعْطَاءِ الْأَشْيَاءِ، وَمَجَازٌ شَائِع فِي التَّمْكِين مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَمِنْهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا» الْحَدِيثَ. وَإِطْلَاقُ الْإِيتَاءِ هَنَا صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي تَوْفِيرِ الْمَعَانِي وَإِيجَازِ الْأَلْفَاظِ. وَقَدْ بَيَّنَتْ أَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ حُقُوقَ ذِي الْقُرْبَى وَمَرَاتِبَهَا: مِنْ وَاجِبَةٍ مِثْلِ بَعْضِ النَّفَقَةِ عَلَى بَعْضِ الْقَرَابَةِ مُبَيَّنَةٍ شُرُوطَهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ وَاجِبَةٍ مِثْلِ الْإِحْسَانِ. وَلَيْسَ لِهَاتِهِ تَعَلُّقٌ بِحُقُوقِ قرَابَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ فِي الْمَالِ تَقَرَّرَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمَّا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَشُرِعَتِ الْمَغَانِمُ وَالْأَفْيَاءُ وَقِسْمَتُهَا. وَلِذَلِكَ حَمَلَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى حُقُوقِ قَرَابَةِ

النَّسَبِ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَنْ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهَا تَشْمَلُ قرَابَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقُرْبى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ الْقُرْبَى مِنْكَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ (أَلْ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى عُطِفَ عَلَيْهِ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُوَاسَاةِ. وَحَقُّ الْمِسْكِينِ هُوَ الصَّدَقَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: 18] وَقَوْلُهُ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَد: 14- 16] . وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حُقُوقَ الْمَسَاكِينِ وَأَعْظَمُهَا آيَةُ الزَّكَاةِ وَمَرَاتِبَ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرَهَا. وَابْنَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ بِحَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَلَهُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ حَقُّ ضِيَافَتِهِ. وَحُقُوق الأضياف جَاءَت فِي كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَليُكرم ضَيفه جايزته يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» . وَكَانَتْ ضِيَافَةُ ابْنِ السَّبِيلِ مِنْ أُصُولِ الْحَنِيفِيَّةِ مِمَّا سَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ الْحَرِيرِيُّ: «وَحُرْمَةُ الشَّيْخِ الَّذِي سَنَّ الْقِرَى» . وَقَدْ جُعِلَ لِابْنِ السَّبِيلِ نَصِيبٌ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاث وَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ الْآيَات [الْإِسْرَاء: 23] . فَأَمَّا إِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى فَالْمَقْصِدُ مِنْهُ مُقَارِبٌ لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ رَعْيًا لِاتِّحَادِ الْمَنْبَتِ الْقَرِيبِ وَشَدًّا لِآصِرَةِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْقَبِيلَةُ. وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِنِظَامِ الْقَبِيلَةِ وَأَمْنِهَا وَذَبِّهَا عَنْ حَوْزَتِهَا. وَأَمَّا إِيتَاءُ الْمِسْكِينِ فَلِمَقْصِدِ انْتِظَامِ الْمُجْتَمَعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَفْرَادِهِ مَنْ هُوَ فِي بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمِسْكِين لَا يعدو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَبِيلَةِ فِي الْغَالِبِ أَقْعَدَهُ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْفَقْرُ عَنِ الْكِفَايَةِ.

وَأَمَّا إِيتَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ فَلِإِكْمَالِ نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ، لِأَنَّ الْمَارَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَنِيهِ بِحَاجَةٍ عَظِيمَةٍ إِلَى الْإِيوَاءِ لَيْلًا لِيَقِيَهُ مِنْ عَوَادِي الْوُحُوشِ وَاللُّصُوصِ، وَإِلَى الطَّعَامِ وَالدِّفْءِ أَو التظلل وقاية مِنْ إِضْرَار الْجُوع والقر أَوِ الْحَرِّ. وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً لَمَّا ذُكِرَ الْبَذْلُ الْمَحْمُودُ وَكَانَ ضِدُّهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَلِأَنَّ فِي الِانْكِفَافِ عَنِ الْبَذْلِ غَيْرِ الْمَحْمُودِ الَّذِي هُوَ التَّبْذِيرُ اسْتِبْقَاءٌ لِلْمَالِ الَّذِي يَفِي بِالْبَذْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالِانْكِفَافُ عَنْ هَذَا تَيْسِيرٌ لِذَاكَ وَعَوْنٌ عَلَيْهِ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَرَضًا مُهِمًّا مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَسُوقِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْتِطْرَادِ فِي أَثْنَاءِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ لِيُظْهِرَ كَوْنَهُ وَسِيلَةً لِإِيتَاءِ الْمَالِ لِمُسْتَحِقِّيهِ، وَكَوْنَهُ مَقْصُودًا بِالْوِصَايَةِ أَيْضًا لِذَاتِهِ. وَلِذَلِكَ سَيَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى إِيتَاءِ الْمَالِ لِمُسْتَحِقِّيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ بِقَوْلِهِ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الْآيَة، [الْإِسْرَاء: 28] ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى مَا يبين أَحْكَامِ التَّبْذِيرِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الْإِسْرَاء: 29] . وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ إِلَخْ.. لِأَنَّ التَّبْذِيرَ لَا يُوصَفُ بِهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَةِ الْمُعْطَى (بِالْفَتْحِ) . فَجُمْلَةُ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 23] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَةَ وَجُمْلَةُ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 2] ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَصِيَّةً سَادِسَةً مِمَّا قَضَى اللَّهُ بِهِ.

وَالتَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الْإِسْرَافِ، فَإِنْفَاقُهُ فِي الْفَسَادِ تَبْذِيرٌ، وَلَوْ كَانَ الْمِقْدَارُ قَلِيلًا، وَإِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحِ إِذَا بَلَغَ حَدَّ السَّرَفِ تَبْذِيرٌ، وَإِنْفَاقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ رَآهُ يُنْفَقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ: لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، فَأَجَابَهُ الْمُنْفِقُ: لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ، فَكَانَ فِيهِ مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ مُحْسِنُ الْعَكْسِ. وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ جُعِلَ عِوَضًا لِاقْتِنَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتٍ وَحَاجِيَّاتٍ وَتَحْسِينَاتٍ. وَكَانَ نِظَامُ الْقَصْدِ فِي إِنْفَاقِهِ ضَامِنَ كِفَايَتِهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ إِذَا أُنْفِقَ فِي وَجْهِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ أَمِنَ صَاحِبُهُ مِنَ إِلَخْصَاصَةِ فِيمَا هُوَ إِلَيْهِ أَشد احتياجا، فَتَجَاوز هَذَا الْحَدِّ فِيهِ يُسَمَّى تَبْذِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ ذَاتِ الْكَفَافِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْوَفْرِ وَالثَّرْوَةِ فَلِأَنَّ ذَلِك الوفر ءات مِنْ أَبْوَابٍ اتَّسَعَتْ لِأَحَدٍ فَضَاقَتْ عَلَى آخَرَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مَحْدُودَةٌ، فَذَلِكَ الْوَفْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْمُعْوِزِينَ وَأَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ يَزْدَادُ عَدَدُهُمْ بِمِقْدَارِ وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْوَفْرِ وَالْجِدَةِ، فَهُوَ مَرْصُودٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعَائِلَةِ وَالْقَبِيلَةِ وَبِالتَّالِي مَصَالِحُ الْأُمَّةِ. فَأَحْسَنُ مَا يُبْذَلُ فِيهِ وَفْرُ الْمَالِ هُوَ اكْتِسَابُ الزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 41] ، وَاكْتِسَابُ الْمَحْمَدَةِ بَيْنَ قَوْمِهِ. وَقَدِيمًا قَالَ الْمَثَلُ الْعَرَبِيُّ «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى الْمُرُوءَةِ الْجِدَةُ» . وَقَالَ ... «اللَّهُمَّ هَبْ لِي حَمْدًا، وَهَبْ لِي مَجْدًا، فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إِلَّا بِفِعَالٍ، وَلَا فِعَالَ إِلَّا بِمَالٍ» . وَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ الْأُمَّةِ عُدَّةً لَهَا وَقُوَّةً لِابْتِنَاءِ أَسَاسِ مَجْدِهَا وَالْحِفَاظِ عَلَى مَكَانَتِهَا حَتَّى تَكُونَ مَرْهُوبَةَ الْجَانِبِ مَرْمُوقَةً بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى مَنْ قَدْ يَسْتَغِلُّ حَاجَتَهَا فَيَبْتَزُّ مَنَافِعَهَا وَيُدْخِلَهَا تَحْتَ نِيرِ سُلْطَانِهِ.

وَلِهَذَا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاء: 5] وَلَمْ يَقُلْ أَمْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهَا أَمْوَالُ السُّفَهَاءِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 6] فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ حِينَ صَارُوا رُشَدَاءَ. وَمَا مَنَعَ السُّفَهَاءَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ إِلَّا خَشْيَةَ التَّبْذِيرِ. وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ تَصَرُّفَ السَّدَادِ وَالصَّلَاحِ لَمَضَى. وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ تَبْذِيراً بَعْدَ وَلا تُبَذِّرْ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُبَذِّرْ، لَا تُبَذِّرْ، مَعَ مَا فِي الْمَصْدَرِ مِنِ اسْتِحْضَارِ جِنْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ اسْتِحْضَارًا لِمَا تُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تَعْلِيل للْمُبَالَغَة فِي النَّهْي عَن التبذير. والتعريف فِي الْمُبَذِّرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ الَّذِينَ عَرَفُوا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] . وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازِمِ غَيْرِ الْمُفَارِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَخِ، كَقَوْلِهِمْ: أَخُو الْعِلْمِ، أَيْ مَلَازِمُهُ وَالْمُتَّصِفُ بِهِ، وَأَخُو السَّفَرِ لِمَنْ يُكْثِرُ الْأَسْفَارَ. وَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: وَأَخُو الْحَضَرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ ... لَةُ تَجْبِي إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ يُرِيدُ صَاحِبَ قَصْرِ الْحَضَرِ، وَهُوَ مَلِكُ بَلَدِ الْحَضَرِ الْمُسَمَّى الضَّيْزَنَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْقُضَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ السيَّطْرُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَحُلَفَائِهِمْ كَمَا يُتَابِعُ الْأَخُ أَخَاهُ. وَقَدْ زِيدَ تَأْكِيدُ ذَلِكَ بِلَفْظِ كانُوا الْمُفِيدِ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ، وَكَفَى بِحَقِيقَةِ الشَّيْطَانِ كَرَاهَةً فِي النُّفُوسِ وَاسْتِقْبَاحًا.

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ التَّبْذِيرَ يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ لِأَنَّهُ إِمَّا إِنْفَاقٌ فِي الْفَسَادِ وَإِمَّا إِسْرَافٌ يَسْتَنْزِفُ الْمَالَ فِي السَّفَاسِفِ وَاللَّذَّاتِ فَيُعَطِّلُ الْإِنْفَاقَ فِي الْخَيْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُرْضِي الشَّيْطَانَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْمُتَّصِفُونَ بِالتَّبْذِيرِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَإِخْوَانِهِ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ التَّبْذِيرَ إِذَا فَعَلَهُ الْمَرْءُ اعْتَادَهُ فَأَدْمَنَ عَلَيْهِ فَصَارَ لَهُ خُلُقًا لَا يُفَارِقُهُ شَأْنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ أَنْ يَسْهُلَ تَعَلُّقُهَا بِالنُّفُوسِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْمَرْءَ لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» ، فَإِذَا بَذَرَ الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ، أَيِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَالْمُبَذِّرُونَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فَتَصِيرُ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ أَنَّ الْمَرْءَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ من المبذرين عِنْد مَا يُبَذِّرُ تَبْذِيرَةً أَوْ تَبْذِيرَتَيْنِ. ثُمَّ أَكَّدَ التَّحْذِيرَ بِجُمْلَةِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَهَذَا تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ أَنْ يُفْضِيَ التَّبْذِيرُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْكُفْرِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ التَّخَلُّقِ بِالطَّبَائِعِ الشيطانية، فَيذْهب يتدهور فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 121] . وَيَجُوزُ حَمْلُ الْكُفْرِ هُنَا عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ دَرَجَاتٍ إِلَى حَالِ التَّخَلُّقِ بِالتَّبْذِيرِ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ صَرْفُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ بِالْمَالِ. فَالتَّخَلُّقُ بِهِ يُفْضِي إِلَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ لِكُفْرَانِ النِّعَمِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي الْمَنْطِقِ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، إِذْ كَانَ الْمُبَذِّرُ مُؤَاخِيًا لِلشَّيْطَانِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ كَفُورًا، فَكَانَ المبذّر كفورا بالمئال أَوْ بِالدَّرَجَةِ الْقَرِيبَةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 28]

وَقَدْ كَانَ التَّبْذِيرُ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَدَّحُونَ بِصِفَةِ الْمِتْلَافِ وَالْمُهْلِكِ الْمَالَ، فَكَانَ عِنْدَهُمُ الْمَيْسِرُ مِنْ أَسْبَابِ الْإِتْلَافِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ التَّلَبُّسِ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَهِيَ مَنِ الْمَذَامِّ، وَأَدَّبَهُمْ بِآدَابِ الْحِكْمَة والكمال. [28] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 28] وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ [الْإِسْرَاء: 26] لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِهِ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ. وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ نَظْمِ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 23] فَإِنَّ الْمُوَاجَهَةَ بِ رَبُّكَ فِي الْقُرْآنِ جَاءَتْ غَالِبًا لخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَعْدِلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ كَانَ إِذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مَالًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ يُعْرِضُ عَنْهُ حَيَاءً فَنَبَّهَهُ اللَّهُ إِلَى أَدَبٍ أَكْمَلَ مِنَ الَّذِي تَعَهَّدَهُ مِنْ قَبْلُ وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ. وَضَمِيرُ عَنْهُمُ عَائِدٌ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَالْإِعْرَاضُ: أَصْلُهُ ضِدُّ الْإِقْبَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- أَيِ الْجَانِبِ، فَأَعَرَضَ بِمَعْنَى أَعْطَى جَانِبَهُ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء: 83] ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْإِيتَاءِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ يُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ، أَيْ إِنْ سَأَلَكَ أَحَدُهُمْ عَطَاءً فَلَمْ تُجِبْهُ إِلَيْهِ أَوْ إِنْ لَمْ تَفْتَقِدْهُمْ بالعطاء الْمَعْرُوف فتباعدت عَنْ لِقَائِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ أَنْ تُلَاقِيَهُمْ بِيَدٍ فَارِغَةٍ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا. وَالْمَيْسُورُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ السُّهُولَةُ، وَفِعْلُهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ. يُقَالُ: يُسِرَ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ- كَمَا يُقَالُ: سُعِدَ الرَّجُلُ

وَنُحِسَ، وَالْمَعْنَى: جُعِلَ يَسِيرًا غَيْرَ عَسِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُقَال: عسر. وَالْقَوْلُ الْمَيْسُورُ: اللِّينُ الْحَسَنُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُمْ شِبْهُ الْمَقْبُولِ بِالْمَيْسُورِ فِي قَبُولِ النَّفْسِ إِيَّاهُ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَقْبُولِ عَسِيرٌ. أَمَرَ اللَّهُ بِإِرْفَاقِ عَدَمِ الْإِعْطَاءِ لِعَدَمِ الْمَوْجِدَةِ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ بِالِاعْتِذَارِ وَالْوَعْدِ عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ، لِئَلَّا يُحْمَلَ الْإِعْرَاضُ عَلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَالشُّحِّ. وَقَدْ شَرَطَ الْإِعْرَاضَ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضًا لِابْتِغَاءِ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ إِعْرَاضًا لِعَدَمِ الْجِدَةِ لَا اعْتِرَاضًا لِبُخْلٍ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَوْلٌ لَيِّنٌ فِي الِاعْتِذَارِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَنَّهُ اعْتِذَارٌ صَادِقٌ وَلَيْسَ تَعَلُّلًا كَمَا قَالَ بَشَّارٌ: وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَاله علل ... رزق الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودٌ فَقَوْلُهُ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُعْرِضَنَّ مُصَدَّرٌ بِالْوَصْفِ، أَيْ مُبْتَغِيًا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. وتَرْجُوها صِفَةٌ لِ رَحْمَةٍ. وَالرَّحْمَةُ هُنَا هِيَ الرِّزْقُ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْعَطَاءُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ سَبَبٌ لِلرَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إِذَا أَعْطَاهُ مُسْتَحِقَّهُ أُثِيبَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِدْمَاجٌ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الشَّرْطِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ كَانَ فَاقِدًا مَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَرْجُوَ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ، وَأَنْ لَا يَحْمِلَهُ الشُّحُّ عَلَى السُّرُورِ بِفَقْدِ الرِّزْقِ لِلرَّاحَةِ مِنَ الْبَذْلِ بِحَيْثُ لَا يعْدم الْبَذْل الْآن إِلَّا وَهُوَ رَاجٍ أَنْ يَسْهُلَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حِرْصًا عَلَى فَضِيلَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرِضَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلَّا فِي حَالِ رَجَاءِ حُصُولِ نِعْمَةٍ فَإِنْ حصلت أَعْطَاهُم.

[سورة الإسراء (17) : آية 29]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 29] وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ التَّبْذِيرِ وَالشُّحِّ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الْإِسْرَاء: 26] . وَلَوْلَا تَخَلُّلُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الْإِسْرَاء: 28] الْآيَةَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ شَأْنَ الْبَيَانِ أَنْ لَا يُعْطَفَ عَلَى الْمُبِيَّنِ، وَأَيْضًا عَلَى أَنَّ فِي عَطْفِهَا اهْتِمَامًا بِهَا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْقَصْدِ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْبَيَانِ بِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ الْبُخْلِ الْمُقَابِلِ لِلتَّبْذِيرِ. وَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْلِيمًا بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةٍ مِنَ الْحَقَائِقِ الدَّقِيقَةِ فَكَانَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ. وَجَاءَ نَظْمُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ فَصِيغَتِ الْحِكْمَةُ فِي قَالَبِ الْبَلَاغَةِ. فَأَما الْحِكْمَة فَإذْ بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَحْمُودَ فِي الْعَطَاءِ هُوَ الْوَسَطُ الْوَاقِعُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَهَذِه الأوساط هِيَ حُدُود المحامد بَيْنَ الْمَذَامِّ مِنْ كُلِّ حَقِيقَةٍ لَهَا طَرَفَانِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي حِكْمَةِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ لِكُلِّ خُلُقٍ طَرَفَيْنِ وَوَسَطًا، فَالطَّرَفَانِ إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ وَكِلَاهُمَا مُقِرٌّ مَفَاسِدَ لِلْمَصْدَرِ وَلِلْمَوْرِدِ، وَأَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ، فَالْإِنْفَاقُ وَالْبَذْلُ حَقِيقَةٌ أَحَدُ طَرَفَيْهَا الشُّحُّ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ لِلْمَحَاوِيجِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ إِذْ يَجُرُّ إِلَيْهِ كَرَاهِيَةَ النَّاس إِيَّاه وكراهتيه إِيَّاهُمْ. وَالطَّرَفُ الْآخَرُ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ، وَفِيهِ مَفَاسِدُ لِذِي الْمَالِ وَعَشِيرَتِهِ لِأَنَّهُ يَصْرِفُ مَالَهُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ إِلَى مَصَارِفَ غَيْرِ جَدِيرَةٍ بِالصَّرْفِ، وَالْوَسَطُ هُوَ وَضْعُ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِنَفْيِ حَالَيْنِ بَيْنَ (لَا وَلَا) . وَأَمَّا الْبَلَاغَةُ فَبِتَمْثِيلِ الشُّحِّ وَالْإِمْسَاكِ بِغَلِّ الْيَدِ إِلَى الْعُنُقِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخَيُّلِ الْيَدِ مَصْدَرًا لِلْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وتخيّل بسطها كَذَلِك وَغَلِّهَا شُحًّا،

وَهُوَ تَخَيُّلٌ مَعْرُوفٌ لَدَى الْبُلَغَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، قَالَ الله تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ثُمَّ قَالَ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَة: 64] وَقَالَ الْأَعْشَى: يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: لَهُ يَدٌ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ نِعْمَةٌ وَفَضْلٌ، فَجَاءَ التَّمْثِيلُ فِي الْآيَةِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِتَمْثِيلِ الَّذِي يَشِحُّ بِالْمَالِ بِالَّذِي غُلَّتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، أَيْ شُدَّتْ بِالْغُلِّ، وَهُوَ الْقَيْدُ مِنَ السَّيْرِ يشد بِهِ يَد الْأَسِيرُ، فَإِذَا غُلَّتِ الْيَدُ إِلَى الْعُنُقِ تَعَذَّرَ التَّصَرُّفُ بِهَا فَتَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَصَارَ مَصْدَرُ الْبَذْلِ مُعَطَّلًا فِيهِ، وَبِضِدِّهِ مِثْلَ الْمُسْرِفِ بِبَاسِطِ يَدِهِ غَايَةَ الْبَسْطِ وَنِهَايَتَهُ وَهُوَ المفاد بقوله: كُلَّ الْبَسْطِ أَيِ الْبَسْطَ كُلَّهُ الَّذِي لَا بَسْطَ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَعْنَى النِّهَايَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْمَعْنى عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَة الْعُقُود [الْمَائِدَة: 64] . هَذَا قَالَبُ الْبَلَاغَةِ الْمَصُوغَةِ فِي تِلْكَ الْحِكْمَةِ. وَقَوْلُهُ: فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً جَوَابٌ لِكِلَا النَّهْيَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ بِطَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، فَالْمَلُومُ يَرْجِعُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الشُّحِّ، وَالْمَحْسُورُ يَرْجِعُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ الشَّحِيحَ مَلُومٌ مَذْمُومٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُمَا كَانَا وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ ... على قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ وَالْمَحْسُورُ: الْمَنْهُوكُ الْقُوَى. يُقَالُ: بَعِيرٌ حَسِيرٌ، إِذَا أَتْعَبَهُ السَّيْرُ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ قُوَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: 4] ، وَالْمَعْنَى: غَيْرَ قَادِرٍ على إِقَامَة شؤونك. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى «تقعد» آنِفا.

[سورة الإسراء (17) : آية 30]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 30] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ اعْتِرَاضٍ بِالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، وَعَنِ الْإِمْسَاكِ الْمُفِيدِ الْأَمْرَ بِالْقَصْدِ، بِأَنَّ هَذَا وَاجِبُ النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَوَاجِبُهُمْ نَحْوَ قَرَابَتِهِمْ وَضُعَفَاءِ عَشَائِرِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الشُّحُّ بِمُبْقٍ مَالَ الشَّحِيحِ لِنَفْسِهِ، وَلَا التَّبْذِيرُ بِمُغْنٍ مَنْ يُبَذِّرُ فِيهِمُ الْمَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِكُلِّ نَفْسٍ رِزْقَهَا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى سَنَنِ الْخِطَابِ السَّابِقِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَّلَ الْكَلَامَ إِلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَّهَ بِالْخِطَابِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْأَوْلَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمَّتُهُ مَقْصُودَةً بِالْخِطَابِ تَبَعًا لَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْوَصَايَا مُخَلَّلَةً بِالْإِقْبَالِ عَلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَقْدِرُ ضِدُّ يَبْسُطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ هُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَمَا يَلِيقُ بِكُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَمَا يَحِفُّ بِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ النُّظُمِ الْعَالَمِيَّةِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِالْأَخْبَارِ. وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالْمُبْصَرَاتِ. وَهَذَانَ الِاسْمَانِ الْجَلِيلَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى بَعْضِ تَعَلُّقِ الْعلم الإلهي.

[سورة الإسراء (17) : آية 31]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 31] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) عَطَفَ جُمْلَةَ حُكْمٍ عَلَى جُمْلَةِ حُكْمٍ لِلنَّهْيِ عَنْ فِعْلٍ يَنْشَأُ عَنِ الْيَأْسِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ وَقَضى رَبُّكَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 23] . وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْإِضْمَارِ مِنَ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا مِنْ أَحْوَال الْجَاهِلِيَّة زجرا لَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخَطِيئَةِ الذَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَكِنَّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَرْقًا فِي النَّظْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيلَ هُنَا خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وَقِيلَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ إِمْلاقٍ [الْأَنْعَام: 151] . وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ يَئِدُونَهُنَّ لِغَرَضَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْفَاقَ الْبِنْتِ وَلَا يَرْجُونَ مِنْهَا إِنْ كَبِرَتْ إِعَانَةً عَلَى الْكَسْبِ فَهُمْ يَئِدُونَهَا لِذَلِكَ، فَذَلِكَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ مِنْ إِمْلاقٍ، فَإِنَّ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ سَبَبُ قَتْلِهِنَّ فَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ مَوْجُودٌ حِينَ الْقَتْلِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فَقْرَ الْأَبِ وَلَكِنْ خَشْيَةَ عُرُوضِ الْفَقْرِ لَهُ أَوْ عُرُوضِ الْفَقْرِ لِلْبِنْتِ بِمَوْتِ أَبِيهَا، إِذْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، فَيَكُونُ الدَّافِعُ لِلْوَأْدِ هُوَ تَوَقُّعَ الْإِمْلَاقِ، كَمَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ، شَاعِرٌ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ: إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِين تَنْدُبُنِي ... فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ... فَيُهْتَكُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ... وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِِِ

فَلِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ ذُكِّرُوا بِتَحْرِيمِ الْوَأْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ مَا تُؤْخَذُ عَلَيْهِ بَيْعَةُ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ. وَمِنْ فِقْرَاتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: دَفْنُ الْبَنَاتِ. مِنَ الْمَكْرُمَاتِ. وَكِلْتَا الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ قَتْلِ الْأَوْلَادِ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا التَّوْجِيهُ للمنظور إِلَيْهِ بادىء ذِي بَدْءٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فَمِنْ أَجْلِ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْفَرْقِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَالِكَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بِتَقْدِيمِ ضَمِيرِ الْآبَاءِ عَلَى ضَمِيرِ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْإِمْلَاقَ الدَّافِعَ لِلْوَأْدِ الْمَحْكِيِّ بِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ هُوَ إِمْلَاقُ الْآبَاءِ فَقَدَّمَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَازِقُهُمْ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ بَنَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْإِمْلَاقُ الْمَحْكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ الْإِمْلَاقُ الْمَخْشِيُّ وُقُوعُهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَوَقَّعَ إِمْلَاقَ الْبَنَاتِ كَمَا رَأَيْتَ فِي الْأَبْيَاتِ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ رَازِقُ الْأَبْنَاءِ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ آبَائِهِمْ. وَهَذَا مِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ. وَالْإِمْلَاقُ: الِافْتِقَارُ. وَتَقَدَّمُ الْكَلَامُ عَلَى الْوَأْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [137] . وَجُمْلَةُ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ، وَفِعْلُ كانَ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ خُصُوصُ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُنَّ اللَّاتِي كَانُوا يَقْتُلُونَهُنَّ وَأْدًا، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا لِأَنَّ الْبِنْتَ يُقَالُ لَهَا: وَلَدٌ. وَجَرَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فِي قَوْله نَرْزُقُهُمْ. و (الخطء) - بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاء- مصدر خطىء بِوَزْنِ فَرِحَ، إِذَا أَصَابَ إِثْمًا، وَلَا يَكُونُ الْإِثْمُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ [الْقَصَص: 8] وَقَالَ: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: 16] .

[سورة الإسراء (17) : آية 32]

وَأَمَّا الْخَطَأ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ- فَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ. وَفِعْلُهُ: أَخْطَأَ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: 5] . وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ هِيَ سِرُّ الْعَرَبِيَّةِ وَعَلَيْهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّتِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُور خِطْأً- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ-، أَيْ إِثْمًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ خِطْأً- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ-. وَالْخَطَأُ ضِدُّ الصَّوَابِ، أَيْ أَنَّ قَتْلَهُمْ مَحْضُ خَطَأٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُعْذَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ خِطَاءً- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الطَّاءِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَمْدُودًا-. وَهُوَ فعال من خطىء إِذَا أَجْرَمَ، وَهُوَ لُغَة فِي خطء، وَكَأَنَّ الْفِعَالَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ. وَأُكِّدَ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مِنَ السَّدَادِ، وَيَقُولُونَ: دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ. وَأُكِّدَ أَيْضًا بِفِعْلِ (كَانَ) لِإِشْعَارِ (كَانَ) بِأَنَّ كَوْنَهُ إِثْمًا أمرا اسْتَقر. [32] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 32] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) عَطْفُ هَذَا النَّهْيِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ وَأْدِ الْبَنَاتِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ مِنْ أَعْذَارِهِمْ فِي وَأْدِ الْبَنَاتِ الْخَشْيَةَ مِنَ الْعَارِ الَّذِي قَدْ يَلْحَقُ مِنْ جَرَّاءِ إِهْمَالِ الْبَنَاتِ النَّاشِئِ عَنِ الْفَقْرِ الرَّامِي بِهِنَّ فِي مَهَاوِي الْعُهْرِ، وَلِأَنَّ فِي الزِّنَى إِضَاعَةَ نَسَبِ النَّسْلِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ لِلنَّسْلِ مَرْجِعٌ يَأْوِي إِلَيْهِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْوَأْدَ فِي الْإِضَاعَةِ. وَجَرَى الْإِضْمَارُ فِيهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا جَرَى فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] لِمِثْلِ مَا وَجَّهَ بِهِ تَغْيِيرَ الْأُسْلُوبِ هُنَالِكَ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا كَانَ مِنْ غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ مِنَ الْوَصَايَا الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 23] . وَالْقُرْبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ أَقَلُّ الْمُلَابَسَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ النَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ الزِّنَا، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ: مَا كَادَ يَفْعَلُ. وَالزِّنَى فِي اصْطِلَاحِ الْإِسْلَامِ مُجَامَعَةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً غَيْرَ زَوْجَةٍ لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةٍ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ. وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ الزِّنَى: مُجَامَعَةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً حُرَّةً غَيْرَ زَوْجٍ لَهُ وَأَمَّا مُجَامَعَةُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ لِلرَّجُلِ فَهُوَ الْبِغَاءُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَتِهِ تَعْلِيلًا مُبَالَغًا فِيهِ مِنْ جِهَاتٍ بِوَصْفِهِ بِالْفَاحِشَةِ الدَّالِّ عَلَى فِعْلَةٍ بَالِغَةٍ الْحَدَّ الْأَقْصَى فِي الْقُبْحِ، وَبِتَأْكِيدِ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، وَبِإِقْحَامِ فِعْلِ (كَانَ) الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ خَبَرَهُ وَصْفٌ رَاسِخٌ مُسْتَقِرٌّ، كَمَا تقدم فِي قَوْله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: 27] . وَالْمُرَادُ: أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ النَّاسُ مِنْ قَبْلُ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الذَّمِّ وَهُوَ ساءَ سَبِيلًا، وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْفِعْلِ الَّذِي يُلَازِمُهُ الْمَرْءُ وَيَكُونُ لَهُ دَأْبًا اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِعَارَةِ السَّيْرِ لِلْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى [طه: 21] ، فَبُنِيَ عَلَى اسْتِعَارَةِ السَّيْرِ لِلْعَمَلِ اسْتِعَارَةُ السَّبِيلِ لَهُ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [22] . وَعِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ النَّسَبِ وَتَعْرِيضَ النَّسْلِ لِلْإِهْمَالِ إِنْ كَانَ الزِّنَى بِغَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ وَهُوَ خَلَلٌ عَظِيمٌ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إِفْسَادَ النِّسَاءِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَالْأَبْكَارِ عَلَى أَوْلِيَائِهِنَّ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْإِهْمَالِ بِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْ تَزَوُّجِهَا، وَطَلَاقِ زَوْجِهَا إِيَّاهَا، وَلِمَا يَنْشَأُ عَنِ الْغَيْرَةِ مِنَ الْهَرْجِ وَالتَّقَاتُلِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

[سورة الإسراء (17) : آية 33]

فَالزِّنَى مِئِنَّةٌ لِإِضَاعَةِ الْأَنْسَابِ وَمَظِنَّةٌ لِلتَّقَاتُلِ وَالتَّهَارُجِ فَكَانَ جَدِيرًا بِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ قَصْدًا وَتَوَسُّلًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ وَنَظَرَ جَزَمَ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الزِّنَى مِنَ الْمَفَاسِدِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَأَمِّلُ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُبْحُهُ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ، وَلَكِنَّ الْعُقَلَاءَ مُتَفَاوِتُونَ فِي إِدْرَاكِهِ وَفِي مِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ، فَلَمَّا أَيْقَظَهُمُ التَّحْرِيمُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّاسِ عُذْرٌ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ الزَّعْمِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ فِي أول السُّورَة. [33] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 33] وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) مَعْلُومَةٌ حَالَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّسَرُّعِ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ فَكَانَ حِفْظُ النُّفُوسِ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ مِنْ أَهَمِّ الْوَصَايَا الَّتِي أَوْصَى بِهَا الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَامِعَةِ. وَهَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ التَّاسِعَةُ. وَالنَّفْسُ هُنَا الذَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] وَقَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: 32] وَقَوْلِهِ: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لُقْمَان: 34] . وَتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلَى الرُّوحِ الْإِنْسَانِيِّ وَهِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ. وَالْقَتْلُ: الْإِمَاتَةُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، أَيْ إِزَالَةُ الْحَيَاةِ عَنِ الذَّاتِ. وَقَوْلُهُ: حَرَّمَ اللَّهُ حُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ الصِّلَةِ وَحَذْفُهُ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: حَرَّمَهَا اللَّهُ. وَعَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِعَيْنِ النَّفْسِ، وَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ قَتْلِهَا.

وَوُصِفَتِ النَّفْسُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ بِمُقْتَضَى كَوْنِ تَحْرِيمِ قَتْلِهَا مَشْهُورًا مِنْ قَبْلِ هَذَا النَّهْيِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ بِآيَاتٍ أُخْرَى نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَ آيَةِ الْأَنْعَامُ حُكْمًا مُفَرِّقًا وَجَمَعَتِ الْأَحْكَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَنْعَامِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الصِّلَةِ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي جَهْلُهُ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِقَتْلِ النَّفْسِ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ، تَنْوِيهًا بِهَذَا الْحُكْمِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ يَهْدِي الْعُقُولَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ لِيُعَمِّرَ بِهِ الْأَرْضَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: 61] ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى إِتْلَافِ نَفْسِ هَدْمٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِنَاءَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ وَشَاعَ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ صَوْنُ النُّفُوسِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِالْإِعْدَامِ، فَبِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، أَيْ عُرِفَتْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ. وَاسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ الْقَتْلُ الْمُصَاحِبُ لِلْحَقِّ، أَيِ الَّذِي يَشْهَدُ الْحَقُّ أَنَّ نَفْسًا مُعَيَّنَةً اسْتَحَقَّتِ الْإِعْدَامَ مِنَ الْمُجْتَمَعِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ يُفَسِّرُهُ فِي وَقْتِ النُّزُولِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقَوَدِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّشْرِيعِ لِلْأُمَّةِ وَإِشْعَارًا بِأَنْ سَيَكُونُ فِي الْأُمَّةِ قَضَاءٌ وَحُكْمٌ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أُبْقِيَ مُجْمَلًا حَتَّى تُفَسِّرَهُ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مِنْ بَعْدُ، مِثْلَ آيَةِ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً إِلَى قَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النِّسَاء: 92- 93] . فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ إِلَّا قَتْلًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ. وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَوْ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ حَقُّ الْقَتْلِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: فَإِذَا قَالُوهَا (أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» . وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ بِالنَّهْيِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَانَ تعْيين الْحَقِّ الْمُبِيحِ لِقَتْلِ النَّفْسِ مَوْكُولًا إِلَى مَنْ لَهُمْ تَعْيِينُ الْحُقُوقِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَتَعْيِينُ الْحَقِّ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَهُوَ مَا سَيُذْكَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً الْآيَةَ. وَحِين كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَلِطِينَ فِي مَكَّةَ بِالْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ أَهْلًا لِلثِّقَةِ بِهِمْ فِي الطَّاعَةِ لِلشَّرَائِعِ الْعَادِلَةِ، وَكَانَ قَدْ يَعْرِضُ أَنْ يَعْتَدِيَ أَحَدُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَتْلِ ظُلْمًا أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ، فَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أَيْ قَدْ جَعَلَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ تَصَرُّفًا فِي الْقَاتِلِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ. وَالسُّلْطَانُ: مَصْدَرٌ مِنَ السُّلْطَةِ كَالْغُفْرَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا اسْتَقَرَّ فِي عَوَائِدِهِمْ مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ. وَكَوْنُهُ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ بِهِ أَوْ يَعْفُو أَوْ يَأْخُذُ الدِّيَةَ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَنْزُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْ ذَوِيهِ لِيَقْتُلُوا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَجْنِ يَدَاهُ قَتْلًا. وَهَكَذَا تَسْتَمِرُّ التِّرَاتُ بَيْنَ أَخْذٍ وَرَدٍّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ أَيْضًا. فَالْمُرَادُ بِالْجَعْلِ مَا أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَادَةِ الْقَوَدِ. وَالْقَوَدُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، لِأَنَّ الْقَوَدَ مِنَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ هُوَ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ بِالْحَقِّ. وَهَذِهِ حَالَةٌ خَصَّهَا اللَّهُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْعُدْوَانِ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِقَبُولِ الْقَوَدِ. وَهَذَا مَبْدَأُ صَلَاحٍ عَظِيمٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ حَمْلُ أَهْلِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَسَادُ مِنْ طَرَفَيْنِ فَيَتَفَاقَمُ أَمْرُهُ، وَتِلْكَ عَادَةٌ جَاهِلِيَّةٌ. قَالَ الشَّمَيْذَرُ الْحَارِثِيُّ: فَلَسْنَا كَمَنْ كُنْتُمْ تُصِيبُونَ سَلَّةً ... فَنَقْبَلُ ضَيْمًا أَوْ نُحَكِّمُ قَاضِيَا وَلَكِنَّ حُكْمَ السَّيْفِ فِينَا مُسَلَّطٌ ... فَنَرْضَى إِذَا مَا أَصْبَحَ السَّيْفُ رَاضِيَاِ

فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِثَالًا سَيِّئًا يُقَابِلُوا الظُّلْمَ بِالظُّلْمِ كَعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الْإِنْصَافِ فَيَقْبَلُوا الْقَوَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ. وَالسَّرَفُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالْمَالِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَالسَّرَفُ فِي الْقَتْلِ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ الْقَاتِلِ، أَمَّا مَعَ الْقَاتِلِ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا قَالَ الْمُهَلْهَلُ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ كُلَيْبٍ: كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّةٌ ... حَتَّى يَعُمُّ الْقَتْلُ آلَ مُرَّةَ وَأَمَّا قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ فَقَدْ كَانُوا يَقْتَنِعُونَ عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقَاتِلِ بِقَتْلِ رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ. وَكَانُوا يَتَكَايَلُونَ الدِّمَاءَ، أَي يجْعَلُونَ كليها مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ شَرَفِ الْقَتِيلِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَة بنت معديكرب: فَيقْتل جبرا بامرىء لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ الْبَوَاءُ: الْكُفْءُ فِي الدَّمِ. تُرِيدُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَهُوَ الْمُسَمَّى جَبْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ التَّكَايُلَ بِالدَّمِ. وَضَمِيرُ يُسْرِفْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ مَظِنَّةِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ بِحَسَبِ مَا تَعَوَّدُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- أَيْ خِطَابٍ لِلْوَلِيِّ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً اسْتِئْنَافٌ، أَيْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ كَانَ مَنْصُورًا بِحكم الْقود فَلَمَّا ذَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ مِنَ النَّصْرِ إِلَى الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ بِالسَّرَفِ فِي الْقَتْلِ. حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنَ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْوَلِيِّ سُلْطَانًا عَلَى الْقَاتِلِ. وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِإِقْحَامِ (كَانَ) الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَقِرُّ الثُّبُوتِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْعَدْلِ إِلَى السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ لَا يُنْصَرُ.

وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِعْجَازِهِ الْخَفِيِّ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ (سُلْطَانٍ) هُنَا الظَّاهِرِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيِ السُّلْطَةِ وَالْحَقِّ وَالصَّالِحِ لِإِرَادَةِ إِقَامَةِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يَأْخُذُ الْحُقُوقَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ إِلَى الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حِينَ تَنْتَظِمُ جَامِعَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ دَوْلَةً دَائِمَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ سُلْطَانٌ. وَهَذَا الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْقَتْلِ الْحَادِثِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ قَتْلُ الْعُدْوَانِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، وَهُوَ الْجِهَادُ، فَلَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى. وَبِهَذَا تَعْلَمُ التَّوْجِيهَ لِلْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْحُكْمِ بِحَيْثُ جُعِلَ مُسْتَقِلًّا، فَعُطِفَ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً، إِمَّا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ حُكْمِ حَالَةٍ تَكْثُرُ، وَإِمَّا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ مُرَادٌ بِهَا الْعُمُومُ، أَيْ وَكُلُّ الَّذِي يُقْتَلُ مَظْلُومًا. وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي جُمْلَةِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ إِذَا قُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ وَالرَّبْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً هُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدِّمَةٌ لِلْخَبَرِ بِتَعْجِيلِ مَا يُطَمْئِنُ نَفْسَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ إِلَخْبَرِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً تَمْهِيدًا لِقَبُولِ النَّهْيِ عَنِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ جعل لَهُ سُلْطَان فَقَدْ صَارَ الْحُكْمُ بِيَدِهِ وَكَفَاهُ ذَلِكَ شِفَاءً لِغَلِيلِهِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 34]

وَمِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ تَوَلِّي وَلِيِّ الْمَقْتُولِ قَتْلَ الْقَاتِلِ دُونَ حُكْمٍ مِنَ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةٌ لِلْخَطَأِ فِي تَحْقِيقِ الْقَاتِلِ، وَذَرِيعَةٌ لِحُدُوثِ قَتْلٍ آخَرَ بِالتَّدَافُعِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَأَهْلِ الْقَاتِلِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ الَّذِي مَا حَدَثَ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ، فَضَمِيرُ فَلا يُسْرِفْ عَائِدٌ إِلَى «وَلِيُّهُ» . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تَعْلِيلٌ لِلْكَفِّ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى «وَلِيُّهُ» . وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْقَتْلِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يَجُولُ فِي كَسْبٍ وَمَالٍ وَنَحْوِهِ، فَكَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي جُمْلَةِ مَا جَالَ فِيهِ. وَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ الْخَالِصِينَ اسْتَبْعَدَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً بِمَكَّةَ فَزَعَمَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ مُنَاسَبَتِهَا وَأَبْطَلْنَا أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةً فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. [34] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 34] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هَذَا مِنْ أَهَمِّ الْوَصَايَا الَّتِي أَوْصَى اللَّهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى لِضَعْفِهِمْ عَنِ التَّفَطُّنِ لِمَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ وَقِلَّةِ نَصِيرِهِمْ لِإِيصَالِ حُقُوقِهِمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ مَا عَسَى أَنْ يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرٍ مِنْ تِلْكَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْعَاشِرَةُ. وَالْقَوْلُ فِي الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ كَالْقَوْلِ فِي سَابِقِيهِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 35]

وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَهْدَ لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقٍ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدُوا عَلَيْهِ النَّبِيءَ، وَهُوَ الْبَيْعَةُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالنَّصْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [91] وَقَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [152] . وَهَذَا التَّشْرِيعُ مِنْ أُصُولِ حُرْمَةِ الْأُمَّةِ فِي نَظَرِ الْأُمَمِ وَالثِّقَةِ بِهَا لِلِانْزِوَاءِ تَحْتَ سُلْطَانِهَا. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَهِيَ مِنْ عِدَادِ مَا وَقَعَ بَعْدَ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا الْآيَات [الْإِسْرَاء: 23] . وَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ، أَيْ لِلْإِيجَابِ الَّذِي اقْتَضَاهُ، وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْعَهْدَ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسْرِي مَسْرَى الْمَثَلِ. وَحذف مُتَعَلق مَسْؤُلًا لظُهُوره، أَي مسؤولا عَنْهُ، أَيْ يَسْأَلُكُمُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْم الْقِيَامَة. [35] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 35] وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) هَذَانِ حُكْمَانِ هُمَا الثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي قَضَى اللَّهُ بِهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَزِيَادَةُ الظَّرْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِذا كِلْتُمْ دُونَ ذِكْرِ نَظِيرِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ لِمَا فِي (إِذَا) مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَتَقْتَضِي تَجَدُّدَ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فِي

جَمِيعِ أَزْمِنَةِ حُصُولِ مَضْمُونِ شَرْطِ (إِذَا) الظَّرْفِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّسَامُحِ فِي شَيْءٍ مِنْ نَقْصِ الْكَيْلِ عِنْدَ كُلِّ مُبَاشَرَةٍ لَهُ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ مَضْمُونَهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ فِي سُوءِ شَرَائِعِهِمْ وَكَانَتْ هُنَا أَجْدَرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْرِيعِ. وَفِعْلُ (كَالَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ مُبَاشِرُ الْكَيْلِ، فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الشَّيْءَ الْمَكِيلَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَقْبِضُ الشَّيْءَ الْمَكِيلَ: مُكْتَالٌ. وَهُوَ مِنْ أَخَوَاتِ بَاعَ وَابْتَاعَ، وَشَرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ وَارْتَهَنَ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 2- 3] . وَ «الْقُسْطَاسِ» - بِضَمِّ الْقَافِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ- بِالْكَسْرِ- حَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكسَائِيّ، وَخلف. وَهَا لُغَتَانِ فِيهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمِيزَانِ أَيْ آلَةِ الْوَزْنِ، وَاسْمٌ لِلْعَدْلِ، قِيلَ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ قَسَطَ، أَيْ عَدَلَ، وَطَاسَ وَهُوَ كِفَّةُ الْمِيزَانِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ» . وَلَعَلَّ كَلِمَةَ قَسَطَ اخْتِصَارٌ لِقِسْطَاسٍ لِأَنَّ غَالِبَ الْكَلِمَاتِ الرُّومِيَّةِ تَنْتَهِي بِحَرْفِ السِّينِ. وَأَصْلُهُ فِي الرُّومِيَّةِ مَضْمُومُ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا غَيَّرَهُ الْعَرَبُ بِالْكَسْرِ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّوْنَ فِي ضَبْطِ الْكَلِمَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «أَعْجَمِيٌّ فَالْعَبْ بِهِ مَا شِئْتَ» . وَمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ صَالِحَانِ هُنَا، لَكِنَّ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ جَاءَ فِيهَا بِالْقِسْطِ فَهُوَ الْعَدْلُ لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّذْكِيرِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِالْعَدْلِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ ظُلْمٌ. وَالْبَاءُ هُنَالِكَ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَجْدَرَ بِاللَّفْظِ الصَّالِحِ لِمَعْنَى آلَةِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّشْرِيعِ بَيَانُ تَحْدِيدِ الْعَمَلِ مَعَ كَونه يومىء إِلَى مَعْنَى الْعَدْلِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْبَاءُ هُنَا ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ وَالْآلَةِ، وَمُفِيدَةٌ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْضًا.

وَالْمُسْتَقِيمُ: السَّوِيُّ، مُشْتَقٌّ مِنِ الْقَوَامِ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَهُوَ اعْتِدَالُ الذَّاتِ. يُقَالُ: قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ. وَوَصْفُ الْمِيزَانِ بِهِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ وَصْفٌ لَهُ كَاشِفٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ كُلَّهُ اسْتِقَامَةٌ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ خَيْرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلَيْ كِلْتُمْ وزِنُوا. وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ، أَيْ خَيْرٌ لَكُمْ. فُضِّلَ عَلَى التَّطْفِيفِ تَفْضِيلًا لِخَيْرِ الْآخِرَةِ الْحَاصِلِ مِنْ ثَوَابِ الِامْتِثَالِ عَلَى خَيْرِ الدُّنْيَا الْحَاصِلِ مِنَ الِاسْتِفْضَالِ الَّذِي يُطَفِّفُهُ الْمُطَفِّفُ، وَهُوَ أَيْضًا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ انْشِرَاحَ النَّفْسِ الْحَاصِلَ لِلْمَرْءِ مِنَ الْإِنْصَافِ فِي الْحَقِّ أفضل من الارتباح الْحَاصِلِ لَهُ بِاسْتِفْضَالِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ. وَالتَّأْوِيلُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْأَوَلِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ. يُقَالُ: أَوَّلَهُ إِذَا أَرْجَعَهُ، أَيْ أَحْسَنَ إِرْجَاعًا، إِذَا أَرْجَعَهُ الْمُتَأَمِّلُ إِلَى مَرَاجِعِهِ وَعَوَاقِبِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَكُونُ كَالْمُنْتَقِلِ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَاهِيَّةُ صَلَاحًا اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْمُتَأَمِّلِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ، فَكَأَنَّهُ أَرْجَعَهَا بَعْدَ التَّطْوَافِ إِلَى مَكَانِهَا الصَّالِحِ بِهَا وَهُوَ مَقَرُّهَا، فَأَطْلَقَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الرَّأْي بعد التَّأَمُّل اسْمَ التَّأْوِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ. وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا: أَنَّ النَّظَرَ إِذَا جَالَ فِي مَنَافِعِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَفِي مَضَارِّ الْإِيفَاءِ فِيهِمَا ثُمَّ عَادَ فَجَالَ فِي مَضَارِّ التَّطْفِيفِ وَمَنَافِعِ الْإِيفَاءِ اسْتَقَرَّ وَآلَ إِلَى أَنَّ الْإِيفَاءَ بِهِمَا خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ، لِأَنَّ التَّطْفِيفَ يَعُودُ عَلَى الْمُطَفِّفِ بِاقْتِنَاءِ جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْمَالِ وَيُكْسِبُهُ الْكَرَاهِيَةَ وَالذَّمَّ عِنْدَ النَّاسِ وَغَضَبَ اللَّهِ وَالسُّحْتَ فِي مَالِهِ مَعَ احْتِقَارِ نَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ، وَالْإِيفَاءُ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُكْسِبُهُ مَيْلَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَرِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْبَرَكَةَ فِي مَالِهِ

[سورة الإسراء (17) : آية 36]

فَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّأْوِيلِ بِمَعَانِيهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِير. [36] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 36] وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) الْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ يَقْفُوهُ إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَاسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. وَالْمُرَادُ بِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِهِ. وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ الطَّعْنُ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، فَكَانُوا يَرْمُونَ النِّسَاءَ بِرِجَالٍ لَيْسُوا بِأَزْوَاجِهِنَّ، وَيَلِيطُونَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ آبَائِهِمْ بُهْتَانًا، أَوْ سُوءَ ظَنٍّ إِذَا رَأَوْا بُعْدًا فِي الشَّبَهِ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ أَوْ رَأَوْا شَبَهَهُ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الْحَيِّ أَوْ رَأَوْا لَوْنًا مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، تَخَرُّصًا وَجَهْلًا بِأَسْبَابِ التَّشَكُّلِ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَنْزِعُ فِي الشَّبَهِ وَفِي اللَّوْنِ إِلَى أُصُولٍ مِنْ سِلْسِلَةِ الْآبَاءِ أَوِ الْأُمَّهَاتِ الْأَدْنَيْنَ أَوِ الْأَبْعَدِينَ، وَجَهْلًا بِالشَّبَهِ النَّاشِئ عَن الوحم. وَقَدْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ (يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أَلْوَانُهُنَّ؟ قَالَ: وُرْقٌ. قَالَ: وَهَلْ فِيهَا مِنْ جَمَلٍ أَسْوَدَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَلَّ ابْنَكَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» ، وَنَهَاهُ عَنِ الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. فَهَذَا كَانَ شَائِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُسَاوِي بِدُونِ مُشَاهَدَةٍ، وَرُبَّمَا رَمَوُا الْجِيرَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُمْ إِذَا غَابَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ

لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ يُلْصِقُوا بِهَا تُهْمَةً بِبَعْضِ جِيرَتِهَا، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ إِذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ شَيْخٌ مُسِنٌّ امْرَأَةً شَابَّةً أَوْ نِصْفًا فَوَلَدَتْ لَهُ أَلْصَقُوا الْوَلَدَ بِبَعْضِ الْجِيرَةِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا «سَلُونِي» أَكْثَرَ الْحَاضِرُونَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مَنْ أَبِي؟ فَيَقُولُ: أَبُوكَ فُلَانٌ . وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ وَكَانَ زَيْدٌ أَبُوهُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ، وَقَدْ أثبت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُسَامَةَ بن زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَهَذَا خُلُقٌ بَاطِلٌ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سُوءِ أَثَرِهِ. وَمِنْهَا تَجَنُّبُ الْكَذِبِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقْفُ: لَا تَقُلْ: رَأَيْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَرَ، وَلَا سَمِعْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ. وَمِنْهَا شَهَادَةُ الزُّورِ وَشَمِلَهَا هَذَا النَّهْيُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بن الْحَنَفِيَّةَ وَجَمَاعَةٌ. وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَسْأَلُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ بِأَنَّ مَرَاجِعَ الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى نِسْبَةٍ لِسَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ أَوْ عَقْلٍ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ. وَهَذَا أَدَبٌ خُلُقِيٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ عَقْلِيٌّ جَلِيلٌ يُعَلِّمُ الْأُمَّةَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ الْعَقْلِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ عِنْدَهَا الْمَعْلُومُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَوْهُومُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ اجْتِمَاعِيٌّ جَلِيلٌ يُجَنِّبُ الْأُمَّةَ مِنَ الْوُقُوعِ وَالْإِيقَاعِ فِي الْأَضْرَارِ وَالْمَهَالِكِ مِنْ جَرَّاءِ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَدِلَّةٍ مَوْهُومَةٍ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِتَقْدِيم (كل) الدَّالَّة عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّهَا كَانَ عَنهُ مسؤولا، لِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ. وَأُقْحِمَ فِعْلُ (كَانَ) لِدَلَالَتِهِ عَلَى رُسُوخِ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَ (عَنْهُ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ لِاسْمِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: 7] . وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالتَّقْدِير: كَانَ مسؤولا عَنْهُ، كَمَا تَقول: كَانَ مسؤولا زَيْدٌ. وَلَا ضَيْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِي رُتْبَةِ نَائِبِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ نَائِبِ الْفَاعِلِ مَمْنُوعًا لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ نَائِبِ الْفَاعِلِ الصَّرِيحِ يُصَيِّرُهُ مُبْتَدَأً وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُبْتَدَأً فَانْدَفَعَ مَانِعُ التَّقْدِيمِ. وَالْمَعْنَى: كُلُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والفؤاد كَانَ مسؤولا عَنْ نَفْسِهِ، وَمَحْقُوقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَ صَاحِبِهِ مِنْ حِسِّهِ. وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّقْصِيرِ وَتَجَاوُزِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ كَعْبٍ: وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوب ومسؤول أَيْ مُؤَاخَذٌ بِمَا اقْتَرَفْتَ مِنْ هجو النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى عَنْ مُؤَاخَذَةِ صَاحِبِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ بِكَذِبِهِ عَلَى حَوَاسِّهِ. وَلَيْسَ هُوَ بِمَجَازٍ عَقْلِيٍّ لِمُنَافَاةِ اعْتِبَارِهِ هُنَا تَأْكِيدَ الْإِسْنَادِ بِ (إِنَّ) وب (كُلُّ) وَمُلَاحَظَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَ (كَانَ) . وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النّور: 24] أَيْ يُسْأَلُ السَّمْعُ: هَلْ سَمِعْتَ؟ فَيَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ، فَيُؤَاخَذُ صَاحِبُهُ بِأَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ إِيَّاهُ وَهَكَذَا. وَالِاسْمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يَعُودُ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعَامِلِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ تَنْزِيلًا لِتِلْكَ الْحَوَاسِّ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِذَلِكَ إِذْ هِيَ طَرِيقُ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ نَفْسُهُ. عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ (أُولَئِكَ) لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ قِيلَ هُوَ اسْتِعْمَالٌ

[سورة الإسراء (17) : آية 37]

حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: 102] وَقَالَ: ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ وَفِيه تَجْرِيد الْإِسْنَاد مَسْؤُلًا إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سُؤَالُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ مِنْ نُكَتِ بلاغة الْقُرْآن. [37] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 37] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) نُهِيَ عَنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ خَصْلَةُ الْكِبْرِيَاءِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَمَّدُونَهَا. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَلَيْسَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ. وَالْمَرَحُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ-: شِدَّةُ ازْدِهَاءِ الْمَرْءِ وَفَرَحِهِ بِحَالِهِ فِي عَظَمَةِ الرِّزْقِ. ومَرَحاً مَصْدَرٌ وَقَعَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَمْشِ. وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ حَالًا كمجيئه صفة يرد مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاتِّصَافِ. وَتَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَمْشِ مَارِحًا، أَيْ مِشْيَةَ الْمَارِحِ، وَهِيَ الْمِشْيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمَاشِي بِتَمَايُلٍ وَتَبَخْتُرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرَحاً مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِفِعْلِ تَمْشِ لِأَنَّ لِلْمَشْيِ أَنْوَاعًا، مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ ذُو مَرَحٍ. فَإِسْنَادُ الْمَرَحِ إِلَى الْمَشْيِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَشْيُ مَرَحًا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَشْيِ شِدَّةُ وَطْءٍ عَلَى الْأَرْضِ وَتَطَاوُلٌ فِي بَدَنِ الْمَاشِي. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ النَّهْيِ بِتَوْجِيهِ خِطَابٍ ثَانٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْمَاشِي مَرَحًا

[سورة الإسراء (17) : آية 38]

لَا تَخْرِقُ بِمَشْيِكَ أَدِيمَ الْأَرْضِ، وَلَا تَبْلُغُ بِتَطَاوُلِكَ فِي مَشْيِكَ طُولَ الْجِبَالِ، فَمَاذَا يُغْرِيكَ بِهَذِهِ الْمِشْيَةِ. وَالْخَرْقُ: قَطْعُ الشَّيْءِ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْأَدِيمِ، فَخَرْقُ الْأَرْضِ تَمْزِيقُ قشر التُّرَاب. وَالْكَلَام مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيظِ بِتَنْزِيلِ الْمَاشِي الْوَاطِئِ الْأَرْضَ بِشِدَّةِ مَنْزِلَةِ مَنْ يَبْتَغِي خَرْقَ وَجْهِ الْأَرْضِ وَتَنْزِيلِهِ فِي تَطَاوُلِهِ فِي مَشْيِهِ إِلَى أَعْلَى مَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ طُولَ الْجِبَالِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّهَكُّمِ التَّشْنِيعُ بِهَذَا الْفِعْلِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي خُلُقِ صَاحِبِهِ وَسُوءٌ فِي نِيَّتِهِ وإهانة للنَّاس بِإِظْهَار الشفوف عَلَيْهِمْ وَإِرْهَابِهِمْ بِقُوَّتِهِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الْبَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يَعْنِي لِأَنَّهَا يُرْهِبُ بِهَا الْعَدُوَّ إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ فِي الْجِهَادِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ (الْأَرْضِ) فِي قَوْلِهِ: لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ دُونَ إِضْمَارٍ لِيَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا عَنْ غَيْرِهِ جَارِيًا مجْرى الْمثل. [38] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 38] كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 23] بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ وَالنَّوَاهِي. فَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا أَمْرٌّ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا نَهْيٌ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ شَيْئًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَقَوْلُهُ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ يَقْتَضِي عِبَادَةً مَذْمُومَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاء: 23] يَقْتَضِي إِسَاءَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيِّئَةً- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبَهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ ضِدُّ الْحَسَنَةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 39]

فَالَّذِي وُصِفَ بِالسَّيِّئَةِ وَبِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَأْمُورًا بِضِدِّهِ إِذْ لَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَكْرُوهًا لِلْآمِرِ بِهِ، وَبِهَذَا يظْهر للسامع معَان اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ. وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ مَا فِي الْمَذْكُورَاتِ مِنْ مَعَانِي النَّهْيِ لِأَنَّ الْأَهَمَّ هُوَ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَقْتَضِيهِ جَمِيعُهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ بِالصَّرَاحَةِ أَوْ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ فِي الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِ مَكْرُوهاً أَيْ هُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالظَّرْفِ إِذْ هُوَ مُضَافٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، فَزِيَادَةُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً لِتَشْنِيعِ الْحَالَةِ، أَيْ مَكْرُوهًا فِعْلُهُ مِنْ فَاعِلِهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ فَاعِلَهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ كانَ سَيِّئُهُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبَهَاءِ ضَمِيرٍ فِي آخِرِهِ-. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى كُلُّ ذلِكَ، وكُلُّ ذلِكَ هُوَ نفس السيء فإضافة (سيىء) إِلَى ضَمِيرِهِ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ تُفِيدُ قُوَّة صفة السيء حَتَّى كَأَنَّهُ شَيْئَانِ يُضَافُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ كُلَّمَا وَقَعَتْ، أَيْ كَانَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا عِنْدَ اللَّهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهاً خَبَرًا ثَانِيًا لِ (كَانَ) لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْقِرَاءَتَيْنِ. [39] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 39] ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ عَدَلَ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْأُمَّةِ بِضَمَائِرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ وَضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إِلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدًّا إِلَى مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ إِلَخ [الْإِسْرَاء: 23] . وَهُوَ تَذْيِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمَلِ النَّهْيِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي صَرَاحَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاء: 23] .

وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ السَبْعَ عَشْرَةَ هُوَ مِنَ الْحِكْمَةِ، تَحْرِيضًا عَلَى اتِّبَاعِ مَا فِيهَا وَأَنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَفِيهِ امْتِنَانٌ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ، فَذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ: مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْأُمِّيُّونَ لَوْلَا الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ. وَالْحِكْمَةُ: مَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَلَطٍ وَلَا اشْتِبَاهٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 269] . وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمَلِ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 23] ، أُعِيدَ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ التَّوْحِيدِ بِتَكْرِيرِ مَضْمُونِهِ وَبِمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِأَنْ يُجَازَى بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ مُهَانًا. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْهِيَّاتِ قَبْلَهُ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 40] . وَالْإِلْقَاءُ: رَمْيُ الْجِسْمِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِالْإِهَانَةِ. وَالْمَلُومُ: الَّذِي يُنْكَرُ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ. وَالْمَدْحُورُ: الْمَطْرُودُ، أَيِ الْمَطْرُودُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَمُبْعَدٌ مَنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَ «تُلْقَى» مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ فَيَتَسَبَّبُ عَلَى جَعْلِكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِلْقَاؤُكُ فِي جَهَنَّم.

[سورة الإسراء (17) : آية 40]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 40] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) تَفْرِيعٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَضَّلَكُمُ اللَّهُ فَأَعْطَاكُمُ الْبَنِينَ وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ نِسْبَةَ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ ادِّعَاءُ آلِهَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الله بِالنُّبُوَّةِ، إِذْ عَبَدَ فَرِيقٌ مِنَ الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَاعْتَلُّوا لِعِبَادَتِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 19- 20] . فَلَمَّا نُهُوا عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ خَصَّصَ بِالتَّحْذِيرِ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ لِيَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِأَنْ يَعْبُدُوا أَبْنَاءَهُ. وَقَدْ جَاءَ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ بِإِبْطَالِ أَصْلِهَا فِي مُعْتَقَدِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ جَعْلَهُمُ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةً يُسَاوِي جَعْلَهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً. فَجُمْلَةُ أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ إِلَى آخِرِهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْإِسْرَاء: 39] تَفْرِيعًا عَلَى النَّهْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مُشْتَمِلٌ عُمُومُهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ الْجَدِيرِ بِتَخْصِيصِهِ بِالْإِنْكَارِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِبَدَلِ الْبَعْضِ. فَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ فِي أَوَّلِ جُمْلَتِهَا وَلَكِنْ أَخَّرَهَا أَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْحَسَنُ فِي مَوْقِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام. وَبَعض الْأَئِمَّة يَجْعَلُ الِاسْتِفْهَامَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْعَاطِفِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَهَكُّمٌ.

وَالْإِصْفَاءُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَفْوًا، أَيْ خَالِصًا، وَتَعْدِيَةُ أَصْفَى إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَأَصْلُهُ: أَفَأَصْفَى لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: بِالْبَنِينَ الْبَاءُ فِيهِ إِمَّا مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ فِعْلِ (أَصْفَى) بِمَفْعُولِهِ. وَأَصْلُهُ: أَفَأَصْفَى لَكُمْ رَبُّكُمُ الْبَنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] أَوْ ضَمَّنَ أَصْفَى مَعْنَى آثَرَ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ دَالَّةً عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِمَجْرُورِهَا، فَصَارَ (أَصْفَى) مَعَ مُتَعَلِّقِهِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلَيْنِ، أَيْ قَصَرَ الْبَنِينَ عَلَيْكُمْ دُونَهُ، أَي جعل لم الْبَنِينَ خَالِصَةً لَا يُسَاوِيكُمْ هُوَ بِأَمْثَالِهِمْ، وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ الْإِنَاثَ الَّتِي تَكْرَهُونَهَا. وَفَسَادُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ فَإِذَا تَبَيَّنَ فَسَادُهُ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ فَقَدْ تَبَيَّنَ انْتِفَاءُ وُقُوعِهِ إِذْ هُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [57] . وَقَوْلِهِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً فِي [النِّسَاءِ: 117] . وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَبَيَانٌ لَهُ، أَيْ تَقُولُونَ: اتَّخَذَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتٍ. وَأَكَّدَ فِعْلَ «تَقُولُونَ» بِمَصْدَرِهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَجَعَلَهُ مُجَرَّدَ قَوْلٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَدَرَ عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَمَّلَهُ قَائِلُهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ لَوَجَدَهُ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَ قَضَايَا الْمَقْبُولِ عَقْلًا. وَالْعَظِيمُ: الْقَوِيُّ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الْإِنْكَارِ. وَلَا أَبْلَغُ فِي تَقْبِيحِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَدْخُولٌ مِنْ جَوَانِبِهِ لِاقْتِضَائِهِ إِيثَارَ اللَّهِ بِأَدْوَنِ صِنْفَيِ الْبُنُوَّةِ مَعَ تَخْوِيلِهِمُ الصِّنْفَ الْأَشْرَفَ. ثُمَّ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ نِسْبَتِهِ خَصَائِصَ الْأَجْسَامِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ تَرْكِيبٍ وَتَوَلُّدٍ وَاحْتِيَاجٍ إِلَى الْأَبْنَاءِ لِلْإِعَانَةِ وَلِيُخَلِّفُوا الْأَصْلَ بَعْدَ زَوَالِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَفِي قَوْلِهِ: اتَّخَذَ إِيمَاءٌ إِلَى فَسَادٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] . وَالِاتِّخَاذُ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَتَّخِذَهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوَلُّدَ فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ

[سورة الإسراء (17) : آية 41]

ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَكَيْفَ يَخْلُقُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَكُونُ ابْنًا لَهُ فَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ ضِغْثٌ على إبّالة. [41] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 41] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) لَمَّا ذَكَرَ فَظَاعَةَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ هَدْيًا كَافِيًا، وَلَكِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ نُفُورًا مِنْ تَدَبُّرِهِ. فَجُمْلَةُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ مُعْتَرِضَةٌ مُقْتَرِنَةٌ بِوَاوِ الِاعْتِرَاضِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ. وَالتَّصْرِيفُ: أَصْلُهُ تَعَدُّدُ الصَّرْفِ، وَهُوَ النَّقْلُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَمِنْهُ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّبْيِينِ بِمُخْتَلِفِ الْبَيَانِ وَمُتَنَوِّعِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [46] . وَحُذِفَ مَفْعُولُ صَرَّفْنا لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيْ، بَيَّنَّا الْبَيَانَ، أَيْ لِيَذَّكَّرُوا بِبَيَانِهِ. وَيَذَّكَّرُوا: أَصْلُهُ يَتَذَكَّرُوا، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ، وَهُوَ مِنَ الذُّكْرِ الْمَضْمُومِ الذَّالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ. وَضَمِيرُ لِيَذَّكَّرُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الْإِسْرَاء: 40] أَيْ لِيَذَّكَّرَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ [الْإِسْرَاء: 40] ، فَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَوْ مِنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً تَعَجُّبٌ مِنْ حَالِهِمْ.

[سورة الإسراء (17) : آية 42]

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ لِيَذَّكَّرُوا بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ ذَكَرَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الذُّكْرُ- بِضَمِّ الذَّالِ-. وَجُمْلَةُ وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ ضَلَالَتِهِمْ. إِذْ كَانُوا يَزْدَادُونَ نُفُورًا مِنْ كَلَامٍ فَصْلٍ وَبَيِّنٍ لِتَذْكِيرِهِمْ. وَشَأْنُ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفِيدَ الطُّمَأْنِينَةَ لِلْمَقْصُودِ. وَالنُّفُورُ: هُرُوبُ الْوَحْشِيِّ وَالدَّابَّةِ بِجَزَعٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ الْأَذَى. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِعْرَاضِهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الدَّوَابّ والأنعام. [42] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 42] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ زِيَادَةً فِي اسْتِئْصَالِ عَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عُرُوقِهَا، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ جُمْلَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الْإِسْرَاء: 39] . وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْمُقْنِعَةِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ. وَلِلِاهْتِمَامِ بِهَا افْتُتِحَتْ بِ قُلْ تَخْصِيصًا لِهَذَا بِالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِهِ. وَجُمْلَةُ كَمَا تَقُولُونَ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لَا تَحَقُّقَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلٍ عَارٍ عَنِ الْمُطَابَقَةِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَابْتِغَاءُ السَّبِيلِ: طَلَبُ طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ تَوَخِّيهِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِصَابَتِهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَوَخِّي وَسِيلَةِ الشَّيْءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنَّ مُوسَى سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقْيَا الْخَضِرِ. وَ (إِذَنْ) دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْجَوَابِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُقْتَرِنَةُ بِجَوَابِ (لَوْ) الِامْتِنَاعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ حُصُولِ

جَوَابِهَا لِأَجْلِ امْتِنَاعِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، وَزَائِدَةٌ بِأَنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ الْجَوَابَ جَزَاءٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمُجَابِ. فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ: وَالْمعْنَى الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ سَبِيلَ السَّعْيِ إِلَى الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، أَيْ لَطَلَبُوا مُغَالَبَةَ ذِي الْعَرْشِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] . وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ السُّلْطَانِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا تَوْسِعَةَ سُلْطَانِهِمْ وَيَسْعَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْغَزْوِ وَيَتَأَلَّبُوا عَلَى السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ لِيَسْلُبُوهُ مُلْكَهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدِيمًا مَا ثَارَتِ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ عَلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ وَسَلَبُوهُ مُلْكَهُ فَلَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ لَسَلَكُوا عَادَةَ أَمْثَالِهِمْ. وَتَمَامُ الدَّلِيلِ مَحْذُوفٌ لِلْإِيجَازِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ ابْتِغَاءُ السَّبِيلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّدَافُعِ وَالتَّغَالُبِ اللَّازِمَيْنِ عُرْفًا لِحَالَةِ طَلَبِ سَبِيلِ النُّزُولِ بِالْقَرْيَةِ أَوِ الْحَيِّ لِقَصْدِ الْغَزْوِ. وَذَلِكَ الْمُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ الْعَالَمِ لِاشْتِغَالِ مُدَبِّرِيهِ بِالْمُقَاتَلَةِ وَالْمُدَافَعَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يُوجَدُ فِي مِيثُلُوجِيَا الْيُونَانِ مِنْ تَغَالُبِ الْأَرْبَابِ وَكَيْدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] . وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُسَمَّى بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ، فَالسَّبِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ عَنِ التَّمَكُّنِ وَالظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ. وَالِابْتِغَاءُ عَلَى هَذَا ابْتِغَاءٌ عَنْ عَدَاوَةٍ وَكَرَاهَةٍ. وَقَوْلُهُ: كَمَا تَقُولُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِمْ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَوْصُولِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ سَبِيلَ الْوُصُولِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وُصُولَ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعْطَافِ وَالتَّقَرُّبِ، أَيْ لَطَلَبُوا مَا يُوَصِّلُهُمْ إِلَى مَرْضَاتِهِ كَقَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الْإِسْرَاء: 57] .

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُمْ آلِهَةً وَقُلْتُمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيَكُونُوا شُفَعَاءَنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَوْ كَانُوا آلِهَةً كَمَا وَصَفْتُمْ إِلَهِيَّتَهُمْ لَكَانُوا لَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْخُضُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ كَافٍ لَكُمْ بِفَسَادِ قَوْلِكُمْ، إِذِ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ فَكَانَ مَآلُ قَوْلِكُمْ إِنَّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ مُكْرَمُونَ عِنْدَهُ، وَهَذَا كَافٍ فِي تَفَطُّنِكُمْ لِفَسَادِ الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّتِهِمْ. وَالِابْتِغَاءُ عَلَى هَذَا ابْتِغَاءُ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمّل: 19] . وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] ، فَالسَّبِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ عَنِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالسَّعْيِ إِلَى مَرْضَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا تَقُولُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنى تَقْيِيد لِلْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ أَيْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ حَالَ كَوْنِهِمْ كَمَا تَقُولُونَ، أَيْ كَمَا تَصِفُونَ إِلَهِيَّتَهُمْ مِنْ قَوْلِكُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . وَاسْتِحْضَارُ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ ذِي الْعَرْشِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الْإِضَافَةُ إِلَى الْعَرْشِ مِنَ الشَّأْنِ الْجَلِيلِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ حَسَدِ الْآلِهَةِ إِيَّاهُ وَطَمَعِهِمْ فِي انْتِزَاعِ مُلْكِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَوِ الَّذِي هُوَ مَطْمَعُ الْآلِهَةِ الِابْتِغَاءُ مِنْ سِعَةِ مَا عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقُولُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الْغَالِبِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِتَبْلِيغِهِ أَنْ يُحْكَى كَمَا يَقُولُ الْمُبَلِّغُ حِينَ إِبْلَاغِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِإِبْلَاغِهِ لِلْغَيْرِ أَنْ يُحْكَى بِالْمَعْنَى. لِأَنَّ فِي حَالِ خِطَابِ الْآمِرِ الْمَأْمُورَ بِالتَّبْلِيغِ يَكُونُ الْمُبَلَّغُ لَهُ غَائِبًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخَاطَبًا عِنْدَ التَّبْلِيغِ فَإِذَا لُوحِظَ حَالُهُ هَذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْغَيْبَة كَمَا قرىء قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: 12]- بِالتَّاءِ وَبِالْيَاءِ- أَو على أَن قَوْلِهِ: كَما يَقُولُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ شَرْطِ (لَو) وَجَوَابه.

[سورة الإسراء (17) : آية 43]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 43] سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا مِنَ الْمَقُولِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَقُولِ، وَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ لِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، بِمَا نَهَضَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ من قَوْله: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [100] . وَالْمُرَادُ بِمَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَهُ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ. وعُلُوًّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَامِلُهُ تَعالى. جِيءَ بِهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ فِعْلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّعَالِيَ هُوَ الِاتِّصَافُ بِالْعُلُوِّ بِحَقٍّ لَا بِمُجَرَّدِ الِادِّعَاءِ كَقَوْلِ سُعْدَةَ أُمِّ الْكُمَيْتِ بْنِ مُعَرٍّ: تَعَالَيْتَ فَوْقَ الْحَقِّ عَنْ آلِ فَقْعَسٍ ... وَلَمْ تَخْشَ فِيهِمْ رِدَّةَ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] ، أَيْ يَدَّعِي الْفَضْلَ وَلَا فَضْلَ لَهُ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَبِيرِ الْكَامِلُ فِي نَوْعِهِ. وَأَصْلُ الْكَبِيرِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ: الْمَوْصُوفُ بِالْكِبَرِ. وَالْكِبَرُ: ضَخَامَةُ جِسْمِ الشَّيْءِ فِي مُتَنَاوَلِ النَّاسِ، أَيْ تَعَالَى أَكْمَلُ عُلُوٍّ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ ذَاتِهِ وَبَيْنَ نِسْبَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ بَلَغَتْ فِي قُوَّةِ الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ يُنَافِي آثَارَ الِاحْتِيَاجِ وَالْعَجْزِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمَّا يَقُولُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ [الْإِسْرَاء: 42] عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ

[سورة الإسراء (17) : آية 44]

[44] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 44] تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) جُمْلَةُ يُسَبِّحُ لَهُ إِلَخْ. حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي سُبْحانَهُ أَيْ نُسَبِّحُهُ فِي حَالِ أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ إِلَخْ، أَيْ يُسَبِّحُ لَهُ الْعَوَالِمُ وَمَا فِيهَا وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ لَامُ تَعْدِيَةِ يُسَبِّحُ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى يَشْهَدُ بِتَنْزِيهِهِ، أَوْ هِيَ اللَّامُ الْمُسَمَّاةُ لَامَ التَّبْيِينِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] وَفِي قَوْلِهِمْ: حَمِدْتُ اللَّهَ لَكَ. وَلَمَّا أُسْنِدَ التَّسْبِيحُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيهَا فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مَا يَحِفُّ بِهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا نَسَبُوهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِلَهِيَّةِ. وَالْخِطَابُ فِي لَا تَفْقَهُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْخِطَابِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الْإِسْرَاء: 40] وَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقولُونَ [الْإِسْرَاء: 42] لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ التَّنْزِيهَ عَنِ النَّقَائِصِ الَّتِي شَهِدَتِ الْمَوْجُودَاتُ- حَيْثُمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا النَّظَرُ- بِتَنْزِيهِهِ عَنْهَا فَلَمْ يُحْرَمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى شَهَادَتِهَا إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ اعْتِقَادِ أَضْدَادِهَا. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدِ اهْتَدَوْا إِلَى ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بِمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَقَادِيرُ الِاهْتِدَاءِ عَلَى تَفَاوُتِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ تَمَامِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 45]

وَقَدْ مَثَّلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ تُفَّاحَةً وَاحِدَةً فَتِلْكَ التُّفَّاحَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ (أَيْ جَوَاهِرُ فَرْدَةٌ) ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ تَامٌّ مُسْتَقِلٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ صِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ هُوَ مِنَ الْجَائِزَاتِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصَّصٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَأَحْوَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. وَلَعَلَّ إِيثَارَ فِعْلِ لَا تَفْقَهُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَعْلَمُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عِلْمٌ دَقِيقٌ فَيُؤَيِّدُ مَا نَحَّاهُ فَخْرُ الدِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَبِّحُ- بِيَاءِ الْغَائِب- وقرأه أَبُو عَمْرٌو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بتاء جمَاعَة الْمُؤَنَّث- وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي جُمُوعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَغَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ مَقَالَتَهُمْ تَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْعِقَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِالْحِلْمِ وَالْإِمْهَالِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ مَقَالَتِهِمْ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَزِيَادَةُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحِلْمَ وَالْغُفْرَانَ صِفَتَانِ لَهُ محققتان. [45] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 45] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَقِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَّهَ بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: 9] ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِمَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ مِنَ

الْإِشَارَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَجَوَامِعِ الْأَعْمَالِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ عَادَ هُنَا إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِمُنَاسَبَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ عَدَمِ فِقْهِهِمْ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَن النقائص، وَتَنْبِيهًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى وُجُوبِ إقلاعهم عَن بعثتهم وَعِنَادِهِمْ، وتأمينا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكْرِهِمْ بِهِ وَإِضْمَارِهِمْ إِضْرَارَهُ، وَقَدْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ الْقُرْآنَ تَغِيظُهُمْ وَتُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الِانْتِقَامَ. وَحَقِيقَة الْحجاب: السَّاتِر الَّذِي يَحْجُبُ الْبَصَرَ عَنْ رُؤْيَةِ مَا وَرَاءَهُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلصِّرْفَةِ الَّتِي يَصْرِفُ اللَّهُ بِهَا أَعدَاء النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِ للإعراض الَّذِي يُعْرِضُونَ بِهِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ. وَجَعَلَ اللَّهُ الْحِجَابَ الْمَذْكُورَ إِيجَادَ ذَلِكَ الصَّارِفِ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَهُمُّونَ وَلَا يَفْعَلُونَ، وَذَلِكَ مِنْ خَوَرِ الْإِرَادَةِ وَالْعَزِيمَةِ بِحَيْثُ يَخْطُرُ الْخَاطِرُ فِي نُفُوسِهِمْ ثُمَّ لَا يُصَمِّمُونَ، وَتَخْطُرُ مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي أَسْمَاعِهِمْ ثُمَّ لَا يَتَفَهَّمُونَ. وَذَلِكَ خُلُقٌ يَسْرِي إِلَى النُّفُوس تديجيا تَغْرِسُهُ فِي النُّفُوس بادىء الْأَمْرِ شَهْوَةُ الْإِعْرَاضِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَن يصير ملكة فِي النَّفْسِ لَا تَقْدِرُ عَلَى خلعه وَلَا تَغْيِيره. وَإِطْلَاقُ الْحِجَابِ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمَعْنَيَيْنِ إِمَّا للْحَمْل عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا لِلْحَمْلِ عَلَى مَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] . وَلَمَّا كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اسْتَبْعَدُوا بِهِ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّهُ يَقُولُ مُحَالًا إِذْ يُخْبِرُ بِإِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7- 8] اسْتَحْضَرُوا فِي هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولَةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ جَعْلِ ذَلِكَ الْحِجَابِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 46]

وَوَصْفُ الْحِجَابِ بِالْمَسْتُورِ مُبَالَغَةٌ فِي حَقِيقَةِ جِنْسِهِ، أَيْ حِجَابًا بَالِغًا الْغَايَةَ فِي حَجْبِ مَا يَحْجُبُهُ هُوَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِسَاتِرٍ آخَرَ، فَذَلِكَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلْنَا حِجَابًا فَوْقَ حِجَابٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: 22] . أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ حِجَابٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحُجُبِ الْمَعْرُوفَةِ فَهُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ وَلَكِنَّهَا تَرَى آثَارَ أَمْثَالِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ نَفَرًا هَمُّوا الْإِضْرَار بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ حَدَثَ لَهُ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَمِّهِ وَكفى الله نبيئه شَرَّهُمْ، قَالَ تَعَالَى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 137] وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي أَخْبَارِ السِّيرَةِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ حِجاباً ومَسْتُوراً مِنَ الْبَدِيعِ الطِّبَاقُ. [46] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 46] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً عَطْفُ جَعَلَ عَلَى جَعَلَ. وَالتَّصْرِيحُ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْجَعْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا جَعْلٌ آخَرُ فَيُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ جَعْلَ الصِّرْفَةِ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَيَكُونُ هَذَا جَعْلَ عَدَمِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ خِلْقَةً فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعَانِيهَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ قَبْلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعَاني الْقُرْآن تبع ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ فَهْمِ مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَإِذَا سَمِعُوا مَا يُبْطِلُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ فَهِمُوا ذَلِكَ فَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، أَيْ زَادَهُمْ ذَلِكَ الْفَهْمُ ضَلَالًا كَمَا حَرَمَهُمْ عَدَمُ الْفَهْمِ هَدْيًا، فَحَالُهُمْ مُتَنَاقِضٌ. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَيَسْمَعُونَ مَا يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْمَعُوهُ لِيَزْدَادُوا بِهِ كُفْرًا. وَمَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» ظَاهِرُهُ أَنَّكَ ذَكَرْتَهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ تَذْكُرْ آلِهَتَهُمْ لِأَنَّ وَحْدَهُ حَالٌ مِنْ رَبَّكَ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ ذَكَرْتَ. وَمَعْنَى الْحَالِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ كَانَ ذِكْرُكَ لَهُ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ فِي وُجُودِ الذِّكْرِ، فَيَكُونُ تَوَلِّي الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ الْغَضَبِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ إِلَّا لِعَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِهَا. وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمَا كَانَ لِتَوَلِّيهِمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ سَبَبٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الْعُزَّى أَوِ اللَّاتَ مَثَلًا وَلَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهَا من الْأَصْنَام لَا يَظُنُّ أَنَّ الذَّاكِرَ لِلْعُزَّى مُنْكِرٌ مَنَاةَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: 45] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ بِتَوْحِيدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُفُورِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ انْفِرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ وَحْدَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَفِعْلِ ذَكَرْتَ. وَلَعَلَّ الْحَالَ الْجَائِيَةَ مِنْ مَعْمُولِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهِمَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقَوْلِ وَاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» أَنَّهُ مُوَحَّدٌ فِي ذِكْرِكَ وَكَلَامِكَ، أَيْ ذَكَرْتَهُ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 47]

وَتَخْصِيصُ الذِّكْرِ بِالْكَوْنِ فِي الْقُرْآنِ لِمُنَاسَبَتِهِ الْكَلَامَ عَلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، فَخُلُوُّ آيَاتِهِ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ فَمِنْ ثَمَّ يَغْضَبُونَ كُلَّمَا وَرَدَ ذِكْرُ اللَّهِ وَلَمْ تُذْكَرْ آلِهَتُهُمْ، فَكَوْنُهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْقَرِينَةَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِنْكَارَ آلِهَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَحْدَهُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ فِي [الْأَعْرَافِ: 70] . وَالتَّوْلِيَةُ: الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ أَتَى. وعَلى أَدْبارِهِمْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فِي سُورَة الْعُقُود [الْمَائِدَة: 21] . ونُفُوراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَافِرٍ مِثْلَ سُجُودٍ وَشُهُودٍ. وَوَزْنُ فُعُولٍ يَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ نُفُورًا عَلَى هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَلَّوْا، وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، أَيْ وَلَّوْا بِسَبَبِ نُفُورِهِمْ من الْقُرْآن. [47] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 47] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) كَانَ الْمُشْرِكُونَ يحيطون بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَسْتَمِعُونَ لِمَا يَقُولُهُ لِيَتَلَقَّفُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ، مِثْلَ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُعَجِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جُعِلَتْ فِي قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَأَنَّهُمْ يُوَلُّونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ سَبَبِ تَجَمُّعِهِمْ لِاسْتِمَاعِ قِرَاءَة النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لإِظْهَار الْعِنَايَة بمضمونها. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عِلْمًا حَقًّا دَاعِيَ اسْتِمَاعِهِمْ، فَإِنْ كَثُرَتِ الظُّنُونُ فِيهِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ ذَلِكَ السَّبَبَ. «وَأعلم» اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى قُوَّةِ الْعِلْمِ وَتَفْصِيلِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ عِلْمًا مِنْ غَيْرِهِ إِذْ لَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما يَسْتَمِعُونَ لِتَعْدِيَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَنِ التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ الْمُشْتَقُّ مِنِ الْعِلْمِ وَمِنَ الْجَهْلِ يُعَدَّى بِالْبَاءِ وَفِي سِوَى ذَيْنِكَ يُعَدَّى بِاللَّامِ. يُقَالُ: هُوَ أَعْطَى لِلدَّرَاهِمِ. وَالْبَاءُ فِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُلَابِسُهُمْ حِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقر فِي مَوضِع الْحَال. وَالتَّقْدِير: متلبسين بِهِ. وَبَيَانُ إِبْهَامِ (مَا) حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى. وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِ يَسْتَمِعُونَ بِهِ. وَالنَّجْوَى: اسْمُ مَصْدَرِ الْمُنَاجَاةِ، وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ سِرًّا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [114] . وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ تَنَاجِيهِمْ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ تَشَاغُلًا عَنْهُ. وإِذْ هُمْ نَجْوى عَطْفٌ عَلَى إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِي يَسْتَمِعُونَهُ، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِنَجْوَاهُمْ. وإِذْ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ نَجْوى بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّ نَجْوَاهُمْ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْقَوْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ غَرَابَةً مِنْ بَقِيَّةِ آفَاكِهِمْ لِلْبَوْنِ الْوَاضِحِ بَيْنَ حَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ حَالِ الْمَسْحُورِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 48]

وَوَقَعَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ دُونَ: إِذْ يَقُولُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ بَاعِثَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ هُوَ الظُّلْمُ، أَيِ الشِّرْكُ فَإِنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ، أَيْ وَلَوْلَا شِرْكُهُمْ لَمَا مَثَّلَ عَاقِلٌ حَالَةَ النَّبِيءِ الْكَامِلَةَ بِحَالَةِ الْمَسْحُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الظُّلْمُ أَيْضًا الِاعْتِدَاءَ، أَيِ الِاعْتِدَاءَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبا. [48] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 48] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ النَّظَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنَ الْوُضُوحِ أَنْ يَكُونَ مَنْظُورًا. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ (كَيْفَ) لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ تمثيلهم للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- بِالْمَسْحُورِ وَنَحْوِهِ. وَأَصْلُ (ضَرَبَ) وَضْعُ الشَّيْءِ وَتَثْبِيتُهُ يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى صَوْغِ الشَّيْءِ عَلَى حَجْمٍ مَخْصُوصٍ، يُقَالُ: ضَرَبَ دَنَانِيرَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِبْرَازِ وَالْبَيَانِ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمُبْرَزِ الْمُبَيَّنِ بِالشَّيْءِ الْمُثْبَتِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي [الْبَقَرَةِ: 26] . وَاللَّامُ فِي لَكَ لِلتَّعْلِيلِ وَالْأَجَلِ، أَيْ ضَرَبُوا الْأَمْثَالَ لِأَجْلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ تَمْثِيلِكَ، أَيْ مَثَّلُوكَ. يُقَالُ: ضَرَبْتُ لَكَ مَثَلًا بِكَذَا. وَأَصْلُهُ مَثَّلْتُكَ بِكَذَا، أَيْ أَجِدُ كَذَا مَثَلًا لَكَ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: 74] وَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] أَيِ اجْعَلْهُمْ مَثَلًا لِحَالِهِمْ. وَجَمَعَ الْأَمْثالَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِالْمَسْحُورِ، وَهُوَ مَثَلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْجِيبُ

مِنْ هَذَا الْمَثَلِ وَمَنْ غَيْرِهِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، هُوَ كَاهِنٌ، هُوَ مَجْنُونٌ، هُوَ سَاحِرٌ، هُوَ مَسْحُورٌ. وَسُمِّيَتْ أَمْثَالًا بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا فِيمَا يَصِفُونَهُ بِهِ لِلنَّاسِ لِئَلَّا يعتقدوه نبيئا، فَجَعَلُوا يَتَطَلَّبُونَ أَشْبَهَ الْأَحْوَالِ بِحَالِهِ فِي خيالهم فيلحقونه بِهِ، كَمَنْ يُدْرَجُ فَرْدًا غَرِيبًا فِي أَشْبَهِ الْأَجْنَاسِ بِهِ، كَمَنْ يَقُولُ فِي الزَّرَافَةِ: إِنَّهَا مِنَ الْأَفْرَاسِ أَو من الْإِبِلِ أَوْ مِنَ الْبَقَرِ. وَفُرِّعَ ضَلَالُهُمْ عَلَى ضَرْبِ أَمْثَالِهِمْ لِأَنَّ مَا ضَرَبُوهُ مِنَ الْأَمْثَالِ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ وَقُوَّةٌ فِي الْكُفْرِ. فَالْمُرَادُ تَفْرِيعُ ضَلَالِهِمُ الْخَاصِّ بِبُطْلَانِ تِلْكَ الْأَمْثَالِ، أَيْ فَظَهَرَ ضَلَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: 9] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ هُنَا أَصْلُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْحَيْرَةُ فِي الطَّرِيقِ وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ، أَيْ ضَرَبُوا لَكَ أَشْبَاهًا كَثِيرَةً لِأَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا فِيمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ شَأْنِكِ الْعَظِيمِ. وَتَفْرِيعُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا عَلَى فَضَلُّوا تَفْرِيعٌ لِتَوَغُّلِهِمْ فِي الْحَيْرَةِ عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي ضَرْبِ تِلْكَ الْأَمْثَالِ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، وَاسْتِطَاعَتُهُ اسْتِطَاعَةُ الظَّفَرِ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبِيلِ سَبِيلُ الْهُدَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ الضَّلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِ ضَلَالِهِمْ بِحَالِ الَّذِي وَقَفَ فِي فَيْفَاءَ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّةِ جِهَةٍ يَسْلُكُ إِلَى الْمَقْصُودِ، عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الضَّلَالِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا كَيْفَ يَصِفُونَ حَالَكَ لِلنَّاسِ لِتَوَقُّعِهِمْ أَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَلِذَلِكَ جَعَلُوا يَنْتَقِلُونَ فِي وَصْفِهِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ بَاطِلٌ لَا يطابقه الْوَاقِع.

[سورة الإسراء (17) : آية 49]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 49] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً وَقالُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقولُونَ [الْإِسْرَاء: 42] بِاعْتِبَارِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا تَقُولُونَ لِقَصْدِ اسْتِئْصَالِ ضَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ، بَعْدَ اسْتِئْصَالِ الَّتِي قَبْلَهَا بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْإِسْرَاء: 47] الَّتِي مَضْمُونُهَا مَظْرُوفٌ لِلنَّجْوَى، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا تَنَاجَوْا بِهِ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَجْهَرُونَ بِإِعْلَانِهِ وَيَعُدُّونَهُ حُجَّتَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ من قَوْله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ هُوَ دَلِيلُ الِاسْتِحَالَةِ فِي ظَنِّهِمْ، فَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى جُمْلَةِ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. وَقُوَّةُ إِنْكَارِ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ الْكَوْنِ عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَأَصْلُ تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الظَّرْفِ التَّقْيِيدَ، لِأَنَّ الْكَوْنَ عِظَامًا وَرُفَاتًا ثَابِتٌ لِكُلِّ مَنْ يَمُوتُ فَيُبْعَثُ. وَالْبَعْثُ: الْإِرْسَالُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، لِأَنَّ الْمَيِّتَ يُشْبِهُ الْمَاكِثَ فِي عَدَمِ مُبَارَحَةِ مَكَانِهِ. وَالْعِظَامُ: جَمْعُ عَظْمٍ، وَهُوَ مَا مِنْهُ تَرْكِيبُ الْجَسَدِ لِلْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ. وَمَعْنَى كُنَّا عِظاماً أَنَّهُمْ عِظَامٌ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 إلى 52]

وَالرُّفَاتُ: الْأَشْيَاءُ الْمَرْفُوتَةُ، أَيِ الْمُفَتَّتَةُ. يُقَالُ: رَفَتَ الشَّيْءَ إِذَا كَسَرَهُ كِسَرًا دَقِيقَةً. وَوَزْنُ فُعَالٍ يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ أَفْعَالِ التَّجْزِئَةِ مِثْلَ الدُّقَاقِ وَالْحُطَامِ وَالْجُذَاذِ وَالْفُتَاتِ. وخَلْقاً جَدِيداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «مَبْعُوثُونَ» . وَذُكِرَ الْحَالُ لِتَصْوِيرِ اسْتِحَالَةِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْفَنَاءِ لِأَنَّ الْبَعْثَ هُوَ الْإِحْيَاءُ، فَإِحْيَاءُ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ، وَكَوْنُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا أَدْخَلُ فِي الِاسْتِحَالَةِ. وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتْبَعْ مَوْصُوفَهُ فِي الْجمع. [50- 52] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 50 إِلَى 52] قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الْإِسْرَاء: 49] . أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ فعل كُنَّا [الْإِسْرَاء: 49] فِي مَقَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: كُونُوا، وَمُقَابَلَةُ عِظاماً وَرُفاتاً فِي مَقَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: حِجارَةً أَوْ حَدِيداً إِلَخْ، مُقَابَلَةَ أَجْسَامٍ وَاهِيَةٍ بِأَجْسَامٍ صُلْبَةٍ. وَمَعْنَى الْجَوَابِ أَنَّ وَهَنَ الْجِسْمِ مُسَاوٍ لِصَلَابَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَكْيِيفِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.

لِهَذَا كَانَتْ جُمْلَةُ قُلْ كُونُوا حِجارَةً إِلَخْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي بَيَّنْتُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: قُلْ لَيْسَ مَبْدَأَ مُحَاوَرَةٍ بَلِ الْمُحَاوَرَةُ بِالْمَقُولِ الَّذِي بَعْدَهُ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْجَوَابِ أُعْطِيَ حُكْمَ الْجَوَابِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قُلْ. وَاعْلَمْ أَنَّ ارْتِبَاطَ رَدِّ مَقَالَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجارَةً إِلَخْ غَامِضٌ، لأَنهم إِنَّمَا استبعدوا أَوْ أَحَالُوا إِرْجَاعَ الْحَيَاةِ إِلَى أَجْسَامٍ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا وَانْخَرَمَ هَيْكَلُهَا، وَلَمْ يُعَلِّلُوا الْإِحَالَةَ بِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْسَامًا ضَعِيفَةً، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ أَقْوَى الْأَجْسَامِ لَأُعِيدَتْ لَهَا الْحَيَاةُ. فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الرَّدِّ عَلَى مَقَالَتِهِمْ وَبَيْنَ مَقَالَتِهِمُ الْمَرْدُودَةِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: كُونُوا مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَابٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ سَوَاءٌ كُنْتُمْ عِظَامًا وَرُفَاتًا أَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَاصَى عَلَيْهَا شَيْءٌ. وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: كُونُوا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْأَجْسَادُ مِنَ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ وَقِيلَ لَكُمْ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَأَحَلْتُمْ ذَلِكَ وَاسْتَبْعَدْتُمْ إِعَادَةَ الْحَيَاةِ فِيهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ نِهَايَةَ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا أَإِذا كُنَّا [الْإِسْرَاء: 49] إِلَخْ تَفْرِيعًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَتَكُونُ الْفَاءُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ عَلَى خِلَافٍ فِي مَجِيئِهَا لِلِاسْتِئْنَافِ، وَالْكَلَامُ انْتِقَالٌ لِحِكَايَةِ تَكْذِيبٍ آخَرَ مِنْ تَكْذِيبَاتِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قُلْ كُونُوا حِجارَةً كَلَامًا مُسْتَأْنِفًا لَيْسَ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً [الْإِسْرَاء: 49] إِلَخْ وَتَكُونُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّسْوِيَةِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً إِلَخْ، وَمُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كُونُوا حِجارَةً، أَيْ فَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَقَالُوا: مَنْ يُعِيدُنَا، أَيْ لَانْتَقَلُوا فِي مَدَارِجِ السَّفْسَطَةِ مِنْ إِحَالَةِ الْإِعَادَةِ إِلَى ادِّعَاءِ عَدَمِ وُجُودِ قَادِرٍ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ لَهُمْ لِصَلَابَةِ أَجْسَادِهِمْ. وَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ يَلْتَئِمُ نَظْمُ الْآيَةِ وَيَنْكَشِفُ مَا فِيهِ مِنْ غُمُوضٍ. وَالْحَدِيدُ: تُرَابٌ مَعْدِنِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَغَاوِرِ الْأَرْضِ، وَهُوَ تُرَابٌ غَلِيظٌ مُخْتَلِفُ الْغِلَظِ، ثَقِيلٌ أَدْكَنُ اللَّوْنِ، وَهُوَ إِمَّا مُحَتَّتُ الْأَجْزَاءِ وَإِمَّا مُورِقُهَا، أَيْ مِثْلَ الْوَرَقِ. وَأَصْنَافُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ، وَتَتَفَاوَتُ أَلْوَانُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَأَشْرَفُ أَصْنَافِهِ الْخَالِصُ، وَهُوَ السَّالِمُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِنْ الْمَوَادِّ الْغَرِيبَةِ. وَهَذَا نَادِرُ الْوُجُودِ وَأَشْهَرُ أَلْوَانِهِ الْأَحْمَرُ، وَيُقَسَّمُ بِاعْتِبَارِ صَلَابَتِهِ إِلَى صِنْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمَّيَانِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَالصُّلْبُ هُوَ الذَّكَرُ وَاللَّيِّنُ الْأُنْثَى. وَكَانَ الْعَرَبُ يَصِفُونَ السَّيْفَ الصُّلْبَ الْقَاطِعَ بِالذَّكَرِ. وَإِذَا صُهِرَ الْحَدِيدُ بِالنَّارِ تَمَازَجَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَمَيَّعَ وَصَارَ كَالْحَلْوَاءِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ حَدِيدَ صَبٍّ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ حَدِيدَ تَطْرِيقٍ، وَمِنْهُ فُولَاذٌ. وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِ صَالِحٌ لِمَا يُنَاسِبُ سَبْكَهُ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَاجَةِ فِيهَا إِلَى شَدَّةِ الصَّلَابَةِ مِثْلَ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ. وَمِنْ خَصَائِصَ الْحَدِيدِ أَنْ يَعْلُوَهُ الصَّدَأُ، وَهُوَ كَالْوَسَخِ أَخْضَرُ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ تَدْرِيجًا إِلَى أُكْسِيدٍ (كَلِمَةٌ كِيمْيَاوِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ أَجْزَاءِ الْأُكْسُجِينِ بِجِسْمٍ فَتُفْسِدُهُ) وَإِذَا لَمْ يُتَعَهَّدِ الْحَدِيدُ بِالصَّقْلِ وَالزَّيْتِ أَخَذَ الصَّدَأُ فِي نَخْرِ سَطْحِهِ، وَهَذَا الْمَعْدِنُ يُوجَدُ فِي غَالِبِ الْبِلَادِ. وَأَكْثَرُ وُجُودِهِ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَفِي صَحْرَاءِ مِصْرَ. وَوُجِدَتْ فِي الْبِلَادِ التُّونِسِيَّةِ

مَعَادِنُ مِنَ الْحَدِيدِ. وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ مِنَ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ فَإِنَّ الطَّوْرَ الثَّانِي من أطور التَّارِيخِ يُعْرَفُ بِالْعَصْرِ الْحَدِيدِيِّ، أَيِ الَّذِي كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَعْمِلُ فِيهِ آلَاتٍ مُتَّخَذَةً مِنَ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ مِنْ أَثَرِ صَنْعَةِ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ قَبْلَ عَصْرِ تَدْوِينِ التَّارِيخِ. وَالْعَصْرُ الَّذِي قَبْلَهُ يُعْرَفُ بِالْعَصْرِ الْحَجَرِيِّ. وَقَدِ اتَّصَلَتْ بِتَعْيِينِ الزَّمَنِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ صُنْعُ الْحَدِيدِ أَسَاطِيرُ وَاهِيَةٌ لَا يَنْضَبِطُ بِهَا تَارِيخُهُ. وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْحَدِيدَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْبَشَرِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ كِتَابَةِ التَّارِيخِ وَلِكَوْنِهِ يَأْكُلُهُ الصَّدَأُ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِلْهَوَاءِ وَالرُّطُوبَةِ لَمْ يَبْقَ مِنْ آلَاتِهِ الْقَدِيمَةِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ. وَقَدْ وُجِدَتْ فِي (طِيبَةَ) : وَمَدَافِنِ الْفَرَاعِنَةِ فِي (مَنْفِيسَ) بِمِصْرَ صُوَرٌ عَلَى الْآثَارِ مَرْسُومٌ عَلَيْهَا: صُوَرُ خَزَائِنَ شَاحِذِينَ مُدَاهُمْ وَقَدْ صَبَغُوهَا فِي الصُّوَرِ بِاللَّوْنِ الْأَزْرَقِ لَوْنِ الْفُولَاذِ، وَذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ قَبْلَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةُ الذَّبِيحِ، وَقِصَّةُ اخْتِتَانِ إِبْرَاهِيمَ بِالْقَدُومِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ السِّكِّينَ وَلَا الْقَدُّومَ كَانَتَا مِنْ حَجَرِ الصَّوَّانِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِآلَةِ الْحَدِيدِ، وَمِنَ الْحَدِيدِ تُتَّخَذُ السَّلَاسِلُ لِلْقَيْدِ، وَالْمَقَامِعُ لِلضَّرْبِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ فِي سُورَةِ الْحَج [21] . والخلق: يعْنى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَوْ خَلْقًا آخَرَ مِمَّا يُعَظِّمُ فِي نُفُوسِكُمْ عَنْ قَبُولِهِ الْحَيَاةَ وَيَسْتَحِيلُ عِنْدَكُمْ عَلَى اللَّهِ إِحْيَاؤُهُ مِثْلَ الْفُولَاذِ وَالنُّحَاسِ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ صِفَةٌ خَلْقاً. وَمَعْنَى يَكْبُرُ يَعْظُمُ وَهُوَ عِظَمٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ فِي نَوْعِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالصُّدُورُ: الْعُقُولُ، أَيْ مِمَّا تَعُدُّونَهُ عَظِيمًا لَا يَتَغَيَّرُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَرْدُودُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 49] . وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا أَشْيَاءَ أَبْعَدَ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ.

وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا كَوْنَهُمْ عِظَامًا حُجَّةً لِاسْتِحَالَةِ الْإِعَادَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ مُقَدَّرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، لِأَنَّ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِمَا حُلُولُ الْحَيَاةِ قَطُّ بِخِلَافِ الرُّفَاتِ وَالْعِظَامِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ فَسَيَقُولُونَ لَكَ: مَنْ يُعِيدُنَا. وَجُعِلَ سُؤَالُهُمْ هُنَا عَنِ الْمُعِيدِ لَا عَنْ أَصْلِ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْمُعِيدِ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِحَالَةِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْإِعَادَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ بِالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُمْ نَفَوْا إِمْكَانَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْجَدَلِيَّ أَقْوَى، فِي مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى، مِنَ الْمَنْعِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ يُعِيدُنا تَهَكُّمِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمَرَ النبيء بِأَن يُجِيبهُمْ عِنْد مَا يَقُولُونَهُ جَوَابَ تَعْيِينٍ لِمَنْ يُعِيدُهُمْ إِبْطَالًا لِلَازِمِ التَّهَكُّمِ، وَهُوَ الِاسْتِحَالَةُ فِي نَظَرِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِجْرَاءٌ لِظَاهِرِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَلَى أَصْلِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْدَرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِزِيَادَةِ الْمُحَاجَّةِ، كَقَوْلِهِ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: 25- 26] . وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولًا لِقَصْدِ مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِأَنَّ الَّذِي فَطَرَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] فَإِنَّهُ لِقُدْرَتِهِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا خَلَقَكُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَالْإِنْغَاضُ: التَّحْرِيكُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ وَالْعَكْسُ. فَإِنْغَاضُ الرَّأْسِ تَحْرِيكُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الِاسْتِهْزَاءِ.

وَاسْتَفْهَمُوا عَنْ وَقْتِهِ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هُوَ اسْتِفْهَامَ تَهَكُّمٍ أَيْضًا فَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابًا حَقًّا إِبْطَالًا لِلَازِمِ التَّهَكُّمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَضَمِيرُ مَتى هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْعَوْدِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يُعِيدُنا كَقَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَ (عَسَى) لِلرَّجَاءِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْمَعْنَى لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا. ويَوْمَ يَدْعُوكُمْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِ يَكُونَ، أَيْ يَكُونَ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ دُعَاءُ اللَّهِ النَّاسَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسُوقُونَ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ بِإِحْيَائِهِمْ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَسْتَلْزِمُ إِحْيَاءَ الْمَدْعُوِّ وَحُصُولَ حُضُورِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي الْإِحْيَاءِ وَالتَّسْخِيرِ لِحُضُورِ الْحِسَابِ. وَالِاسْتِجَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِمُطَاوَعَةِ مَعْنَى يَدْعُوكُمْ، أَيْ فَتَحْيَوْنَ وَتَمْثُلُونَ لِلْحِسَابِ. أَيْ يَدْعُوكُمْ وَأَنْتُمْ عِظَامٌ وَرُفَاتٌ. وَلَيْسَ لِلْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ إِدْرَاكٌ وَاسْتِمَاعٌ وَلَا ثَمَّ اسْتِجَابَةٌ لِأَنَّهَا فَرْعُ السَّمَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِسُرْعَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْضَارِ وَسُرْعَةِ الِانْبِعَاثِ وَالْحُضُورِ لِلْحِسَابِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ ذَلِكَ كَحُصُولِ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِجَابَتِهَا فِي أَنَّهُ لَا مُعَالَجَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَحُصُولِهِ وَلَا رَيْثَ وَلَا بُطْءَ فِي زَمَانِهِ.

وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ عَلَى هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ مَنْ يُعِيدُنا وَالْقَائِلِينَ مَتى هُوَ. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُلَابَسَةِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ، أَيْ حَامِدِينَ، فَهُمْ إِذَا بُعِثُوا خُلِقَ فِيهِمْ إِدْرَاكُ الْحَقَائِقِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْدِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّقْدِيرُ: انْطِقْ بِحَمْدِهِ، كَمَا يُقَالُ: بِاسْمِ اللَّهِ، أَيِ أَبْتَدِئُ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْمُعَرِّسِ: بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، أَيِ احْمَدِ اللَّهَ عَلَى ظُهُورِ صِدْقِ مَا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَيَكُونُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اسْتِئْنَافُ كَلَامِ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرُوا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ. وَالْحَمْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسْتَجِيبُونَ حَامِدِينَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَحَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَعَلَى مَا أَعَدَّ لَكُمْ مِمَّا تُشَاهِدُونَ حِينَ انْبِعَاثِكُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْكَرَامَةِ وَالْإِقْبَالِ. وَأَمَّا جُمْلَةُ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَهِيَ عطف على فَتَسْتَجِيبُونَ، أَيْ وَتَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا. وَالْمُرَادُ: التَّعْجِيبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي بَعْضِ آيَاتٍ أُخْرَى سُؤَالُ الْمَوْلَى حِينَ يُبْعَثُونَ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 112- 114] ، وَقَالَ: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ [الْبَقَرَة: 259] . وَهَذَا التَّعْجِيبُ تَنْدِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَأْيِيدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ ظَنُّوا ظَنًّا خَاطِئًا، وَهُوَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لأيام الله.

[سورة الإسراء (17) : آية 53]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 53] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) لَمَّا أَعْقَبَ مَا أَمر النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- بِتَبْلِيغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَقْوَال تعظهم وتنهنههم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقولُونَ [الْإِسْرَاء: 42] وَقَوْلِهِ: قُلْ كُونُوا حِجارَةً [الْإِسْرَاء: 50] وَقَوْلِهِ: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: 51] ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى الْأَمْرِ بِإِبْلَاغِ الْمُؤْمِنِينَ تَأْدِيبًا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تلوين الْأَغْرَاض وتعقيب بَعْضِهَا بِبَعْضِ أَضْدَادِهَا اسْتِقْصَاءً لِأَصْنَافِ الْهُدَى وَمُخْتَلِفِ أَسَالِيبِهِ وَنَفْعَ مُخْتَلِفِ النَّاسِ. وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ أَقْوَال الْمُشْركين تنبىء عَنْ ضَلَالِ اعْتِقَادِ نَقْلِ الْكَلَام إِلَى أَمر الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا أَقْوَالًا تُعْرِبُ عَنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَعَنْ نُفُوسٍ زَكِيَّةٍ. وَأُوتُوا فِي ذَلِكَ كَلِمَةً جَامِعَةً وَهِيَ يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. والَّتِي هِيَ أَحْسَنُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَقُولُوا. تَقْدِيرُهُ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَقَالَةً وَاحِدَةً. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي قُوَّةِ الْحُسْنِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: 125] ، أَيْ بِالْمُجَادَلَاتِ الَّتِي هِيَ بَالِغَةُ الْغَايَةِ فِي الْحُسْنِ، فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ لَا تَكُونُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَهَذِهِ الْآيَةُ شَدِيدَةُ الِاتِّصَالِ بِالَّتِي قَبْلَهَا وَلَيْسَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى تَطَلُّبِ سَبَبٍ لِنُزُولِهَا. وَهَذَا تَأْدِيبٌ عَظِيمٌ فِي مُرَاقَبَةِ اللِّسَانِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِأَعْمَالٍ تُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» .

وَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ تَأْدِيبُ الْأُمَّةِ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَنُمُّ عَنِ الْمَقَاصِدِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ تَأْدِيبُهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ اجْتِنَابًا لِمَا تُثِيرُهُ الْمُشَادَّةُ وَالْغِلْظَةُ مِنِ ازْدِيَادِ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَصَلُّبِهِمْ فَذَلِك من نزع الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصّلت: 34] . وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ وَقَدْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضُرَّ أَعْدَائِهِمْ بِتَصَارِيفَ مِنْ لُطْفِهِ لِيَكُونُوا آمِنِينَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا سَبَبًا فِي إِفْسَادِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِعِبادِي الْمُؤْمِنُونَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْعُنْوَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَقُولُوا لِلْمُشْرِكِينَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، أَيْ بِالْإِيمَانِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَجَزَمَ يَقُولُوا عَلَى حَذْفِ لَامِ الْأَمْرِ وَهُوَ وَارِدٌ كَثِيرًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَقُولُوا جَوَابًا مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مَعَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ: قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا ذَلِكَ. فَيَكُونُ كِنَايَةً عَلَى أَنَّ الِامْتِثَالَ شَأْنُهُمْ فَإِذَا أُمِرُوا امْتَثَلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [31] . وَالنَّزْغُ: أَصْلُهُ الطَّعْنُ السَّرِيعُ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْإِفْسَادِ السَّرِيعِ الْأَثَرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [100] . وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ أَنْ لَا يَسْتَخِفُّوا بِفَاسِدِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهَا تُثِيرُ مَفَاسِدَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 54]

وَلَمَّا كَانَ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدًا إِلَى عِبَادِي كَانَ الْمَعْنَى التَّحْذِيرَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَثِّ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ شَتَمَهُ أَعْرَابِيٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَشَتَمَهُ عُمَرُ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ فَكَادَ أَنْ يُثِيرَ فِتْنَةً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَهُوَ لَا يُقَيِّدُ إِطْلَاقَ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَقُولُوا الَّتِي أَحْسَنُ فِي كُلِّ حَالٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، وَعلة الْعِلَّةِ عِلَّةٌ. وَذِكْرُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَدَاوَةِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي خِلْقَتِهِ قَدْ جُبِلَ عَلَيْهِ. وَعَدَاوَتُهُ لِلْإِنْسَانِ مُتَقَرِّرَةٌ مِنْ وَقْتِ نَشْأَةِ آدَمَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّهُ يُسَوِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغْلِظُوا عَلَى الْكُفَّارِ بِوَهْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ نَصْرٌ لِلدِّينِ لِيُوقِعَهُمْ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ أَعْظَمَ كَيْدِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُوقِعَ الْمُؤْمِنَ فِي الشَّرِّ وَهُوَ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يعْمل خيرا. [54] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 54] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 47، 48] . فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْطَوِي عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ نَجْوَاهُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلَى الْعِنَادِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ. وَذَلِكَ يَسُوءُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْزِنُهُ أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَوَجَّهَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.

وَمَعْنَى إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ عَلَى هَذَا الْكِنَايَةِ عَنْ مَشِيئَةِ هَدْيِهِ إِيَّاهُمُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، أَوْ مَشِيئَةِ تَرْكِهِمْ وَشَأْنَهُمْ. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا تُفَسَّرُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَيُبَيَّنُ مَوْقِعُهَا، وَمَا قِيلَ غَيْرُهُ أَرَاهُ لَا يَلْتَئِمُ. وَأُوتِيَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامِلِ لِلرَّسُولِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلْخَيْرِ شَأْنٌ مِنْ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَدْبِير شؤون الْمَرْبُوبِينَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، لِيَكُونَ لِإِيقَاعِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَعْلَمُ بِكُمْ وَقْعٌ بَدِيعٌ، لِأَنَّ الَّذِي هُوَ الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِدَخَائِلِ النُّفُوسِ وَقَابِلِيَّتِهَا لِلِاصْطِفَاءِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَا بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ الْآيَةَ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ كُلِّ أَحَدٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ. وَمَعْنَى أَعْلَمُ بِكُمْ أَعْلَمُ بِحَالِكُمْ، لِأَنَّ الْحَالَةَ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ. فَجُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ. وَالرَّحْمَةُ وَالتَّعْذِيبُ مُكَنًّى بِهِمَا عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، بِقَرِينَةِ مُقَارَنَتِهِ لِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الَّذِي هُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ. وَسَلَكَ سَبِيلَ الْكِنَايَةِ بِهِمَا لِإِفَادَةِ فَائِدَتَيْنِ: صَرِيحِهِمَا وَكِنَايَتِهِمَا، وَلِإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَلِيقُ بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ. فَلَمَّا نَاطَ الرَّحْمَةَ بِأَسْبَابِهَا وَالْعَذَابَ بِأَسْبَابِهِ، بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى مَشِيئَتِهِ الرَّحْمَةَ أَوِ التَّعْذِيبَ هُوَ مَشِيئَةُ إِيجَادِ أَسْبَابِهِمَا، وَفِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَشَأْ رَحْمَتَكُمْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ تَعْذِيبَكُمْ يُعَذِّبْكُمْ، عَلَى حُكْمِ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَجِيءَ بِالْعَطْفِ بِحَرْفِ (أَوْ) الدَّالَّةِ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالتَّعْذِيبَ لَا يَجْتَمِعَانِ فَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 55]

وَذِكْرُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ هُنَا فَائِدَتُهُ التَّعْلِيمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَإِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ. وَإِعَادَةُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِتَأْكِيدِ تَسَلُّطِ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا زِيَادَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ النبيء غير مسؤول عَنِ اسْتِمْرَارِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِي الضَّلَالَةِ. إِزَالَةً لِلْحَرَجِ عَنْهُ فِيمَا يَجِدُهُ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ دَاعِيًا. وَالْوَكِيلُ عَلَى الشَّيْءِ: هُوَ الْمَسْئُولُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ نَذِيرًا وَدَاعِيًا لَهُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، فَيُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَاعِيًا وَنَذِيرًا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِذَا نُفِيَ عَنْهُ أَنْ يكون وَكيلا وملجئا آلَ إِلَى مَعْنَى: مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عَادَتْ إِلَيْهِمْ ضَمَائِرُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْإِسْرَاء: 46] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ. وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ وَكِيلًا. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [55] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 55] وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) تَمَاثُلُ الْقَرِينَتَيْنِ فِي فَاصْلِتَيْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَلِمَةِ وَالْأَرْضِ وَكَلِمَةِ عَلى بَعْضٍ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمَا كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَكْمِلَةً لِآيَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الْإِسْرَاء: 54] الْآيَةَ.

وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الْإِسْرَاء: 54] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَائِدٌ إِلَى شَأْن من شؤون النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهِ، تَقْفِيَةً عَلَى إِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُشْركين فِي شؤون الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، بِإِبْطَالِ أَقْوَالِهِمْ فِي أَحْوَال النَّبِي. ذَلِك أَن الْمُشْركين لم يقبلُوا دَعْوَة النَّبِيءِ بِغُرُورِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ بِلَادِهِمْ وَقَادَتِهِمْ، وَقَالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ رَسُولًا، أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا، فَأَبْكَتَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا الرَّدِّ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ الْعَالِمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وَكَانَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَالْمُقَدِّمَةِ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ الْآيَةَ. أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أعلم مِنْهُم بالمستأهل لِلرِّسَالَةِ بِحَسَبِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [124] . وَكَانَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عَلَى عُمُومِ الْمَوْجُودَاتِ لِتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُؤْخَذ مِنْهَا كُلُّ حُكْمٍ لِجُزْئِيَّاتِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِبْطَالِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ جَامِعٌ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ أَحَالُوا إِرْسَالَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَبَعْضُهُمْ أَحَالُوا إِرْسَالَ رَسُولٍ لَيْسَ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ أَحَالُوا إِرْسَالَ مَنْ لَا يَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-. وَذَلِكَ يُثِيرُ أَحْوَالًا جَمَّةً مِنَ الْعُصُورِ وَالرِّجَالِ وَالْأُمَمِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا. فَلَا جَرَمَ كَانَ لِلتَّعْمِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي قَوْلِهِ: بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ أَيْضًا كَالْمُقَدِّمَةِ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلَى بَعْضٍ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ تفاضل الْأَنْبِيَاء ناشىء عَلَى مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّفَاضُلِ. وَهَذَا إِيجَازٌ تضمن إِثْبَات النبوءة وَتَقَرُّرَهَا فِيمَا مضى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، وَتَعَدُّدَ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا

يَجْعَل مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَإِثْبَاتَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ مِنَ الْبَشَرِ، فَمِنْهُمْ رَسُولٌ وَمِنْهُمْ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ، وَإِثْبَاتَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْفَاضِلِ. وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى تَقَرُّرًا لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ إِلَّا مُكَابِرٌ بِالتَّفَاضُلِ حَتَّى بَيْنَ الْأَفْضَلَيْنِ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ مُقَرَّرَةٌ لَا نُكْرَانَ لَهَا. فَعُلِمَ أَنَّ طعنهم فِي نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعْنُ مُكَابَرَةٍ وَحَسَدٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْيَهُودِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاء [54] . وَتَخْصِيص دَاوُود- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالذِّكْرِ عَقِبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعَامَّةِ وَجَّهَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّ فَائِدَةَ التَّلْمِيحِ إِلَى أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَّتَهُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ لِأَنَّ فِي الزَّبُورِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ. وَهَذَا حَسَنٌ. وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ وَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ الْإِيمَاءَ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَرْمُوقَةِ فِي نَظَرِ الْجَاهِلِينَ وَقَاصِرِي الْأَنْظَارِ بِنَظَرِ الْغَضَاضَةِ هِيَ أَحْوَالٌ لَا تَعُوقُ أَصْحَابَهَا عَنِ الصُّعُودِ فِي مَدَارِجِ الْكَمَالِ الَّتِي اصْطَفَاهَا اللَّهُ لَهَا، وَأَن التَّفْضِيل بالنبوءة وَالرِّسَالَةِ لَا يَنْشَأُ عَنْ عَظَمَةٍ سَابِقَة فَإِن دَاوُود- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ رَاعِيًا مِنْ رُعَاةِ الْغَنَمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ ذَا قُوَّةٍ فِي الرَّمْيِ بِالْحَجَرِ، فَأَمَرَ اللَّهُ شَاوُلَ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَن يخْتَار دَاوُود لِمُحَارَبَةِ جَالُوتَ الْكَنْعَانِيِّ، فَلَمَّا قتل دَاوُود جَالُوتَ آتَاهُ الله النبوءة وصيره ملكا لإسرائيل، فَهُوَ النَّبِيءُ الَّذِي تَجَلَّى فِيهِ اصْطِفَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا عَظَمَةٍ وَسِيَادَةٍ. وَذِكْرُ إِيتَائِهِ الزَّبُورَ هُوَ مَحَلُّ التَّعْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَرِثُونَ أَرْضَهُمْ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ فِي الزَّبُورِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقد أُوتِيَ دَاوُود الزَّبُورَ وَلَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كِتَابًا بَعْدَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَام-. وَذكر دَاوُود تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 56]

وَأَمَّا الزَّبُورُ فَذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [163] . وَالزَّبُور: اسْم لمجموع أَقْوَال دَاوُود- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّتِي بَعْضُهَا مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَبَعْضُهَا مِمَّا أُلْهِمَهُ مِنْ دَعَوَاتٍ وَمُنَاجَاةٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِكِتَابِ الْمَزَامِيرِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْد الْقَدِيم. [56] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 56] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) لَمْ أَرَ لِهَذِهِ الْآيَة تَفْسِيرا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ، وَالْحَيْرَةُ بَادِيَةٌ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهَا وَانْتِظَامِ مَوْقِعِهَا مَعَ سَابِقِهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِقْرَاءِ كَلِمَاتِهِمْ. وَمَرْجِعُهَا إِلَى طَرِيقَتَيْنِ فِي مَحْمَلِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إِحْدَاهُمَا فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ. وَثَانِيَتُهُمَا فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَالْفَخْرِ غَيْرُ مَعْزُوَّةٍ لِقَائِلٍ. وَالَّذِي أَرَى فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ جُمْلَةَ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إِلَى تَحْوِيلًا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النبيئين [الْإِسْرَاء: 55] وَجُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الْإِسْرَاء: 57] . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْأَفْضَلِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَثْنَاءِ آيَةِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَقَالَتَهُمْ فِي اصطفاء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرِّسَالَةِ وَاصْطِفَاءِ أَتْبَاعِهِ لِوِلَايَتِهِ وَدِينِهِ، وَهِيَ آيَةُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: 55] إِلَى آخِرِهَا، جَاءَتِ الْمُنَاسَبَةُ لِرَدِّ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَهِيَ اعْتِذَارُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَجَعَلُوهُمْ عِبَادًا مُقَرَّبِينَ وَوَسَائِلَ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمُقَرَّبِينَ حَقًّا انْتُهِزَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِمْ لِتَكُونَ مَخْلَصًا إِلَى إِبْطَالِ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ وَسِيلَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى عَادَةِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ مِنِ اغْتِنَامِ

مُنَاسَبَاتِ الْمَوْعِظَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الْخُطَبَاءِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةُ الْمَعْنَى بِآيَةِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 42] . فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ عَادَ إِلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ بِبُرْهَانِ الْحِسِّ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ كَشْفَ الضُّرِّ. فَأَصْلُ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَلَقَدْ فضلنَا بعض النبيئين عَلَى بعض وآتينا دَاوُود زَبُورًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الْآيَةَ. فَبِمُنَاسَبَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِابْتِهَالِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ ذَكَرَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَتَهُمْ. وَقَدَّمَ ذَلِكَ، عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي أَثَارَ الْمُنَاسَبَةَ، اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ فِعْلِهِمْ لِيَكُونَ إِبْطَالُهُ كَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَيَكُونَ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَةِ الْقَحْطِ قُرَيْشًا بِمَكَّةَ، وَهِيَ السَّبْعُ السُّنُونَ الَّتِي هِيَ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ» . وَتَسَلْسَلَ الْجِدَالُ وَأَخَذَ بَعْضُهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْمُلْكُ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: 17] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [76] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ الدُّعَاءِ الْحَقِّ وَالدُّعَاءِ الْبَاطِلِ. وَمِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [196- 197] . وَالْكَشْفُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ. وَالتَّحْوِيلُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِزَالَةَ الضُّرِّ عَنِ الْجَمِيعِ وَلَا إِزَالَتَهُ عَنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيره.

[سورة الإسراء (17) : آية 57]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 57] أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى النبيئين لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ إِنْ دَعَوْا يُسْتَجَبْ لَهُمْ وَيُكْشَفْ عَنْهُمُ الضُّرُّ، وَلَيْسُوا كَالَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُغْنُوا عَنْكُمْ مِنَ الضُّرِّ كَشْفًا وَلَا صَرْفًا. وَجُمْلَةُ يَبْتَغُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْعُونَ أَوْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَدْعُونَ. وَالْوَسِيلَةُ: الْمَرْتَبَةُ الْعَالِيَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ عَظِيمٍ كَالْمَلِكِ. وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ يَبْتَغُونَ بَدَلَ بَعْضٍ، وَتَكُونُ (أَي) مَوْصُولَة. وَالْمعْنَى: الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ رِضَى اللَّهِ يَبْتَغِي زِيَادَةَ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ، أَيْ يَزْدَادُ عَمَلًا لِلِازْدِيَادِ مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَاصْطِفَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، و (أَيُّ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ يَبْتَغُونَ مَعْرِفَةَ جَوَابِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَقْرَبُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَمُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى رَبِّهِمْ. وَذكر خوف الْعَذَاب بَعْدَ رَجَاءِ الرَّحْمَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْأَدَبِ مَعَ رَبِّهِمْ فَلَا يَزِيدُهُمُ الْقُرْبُ مِنْ رِضَاهُ إِلَّا إِجْلَالًا لَهُ وَخَوْفًا مِنْ غَضَبِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذين ركبُوا رؤوسهم وَتَوَغَّلُوا فِي الْغُرُورِ فَزَعَمُوا أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 58]

وَجُمْلَةُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً تَذْيِيلٌ. وَمَعْنَى كانَ مَحْذُوراً أَنَّ حَقِيقَتَهُ تَقْتَضِي حَذَرَ الْمُوَفَّقِينَ إِذْ هُوَ جدير بذلك. [58] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 58] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) لما عَرَّضَ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الْإِسْرَاء: 57] ، وَتَحَدَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الْإِسْرَاء: 56] جَاءَ بِصَرِيحِ التَّهْدِيدِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِثْلِ قَرْيَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ لَا يعدوها عَذَاب الاستيصال وَهُوَ يَأْتِي عَلَى الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا، أَوْ عَذَابُ الِانْتِقَامِ بِالسَّيْفِ وَالذُّلِّ وَالْأَسْرِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَهُوَ يَأْتِي عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِثْلِ صَرْعَى بَدْرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. فَالْمُرَادُ: الْقُرَى الْكَافِرُ أَهْلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [117] ، وَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [59] . وَحَذْفُ الصِّفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الْكَهْف: 79] . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ شُمُولَ ذَلِكَ الْقُرَى الْمُؤْمِنَةَ، عَلَى مَعْنَى أَنْ لَا بُدَّ لِلْقُرَى مِنْ زَوَالٍ وَفَنَاءٍ فِي سُنَّةِ اللَّهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَارِضٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ مُنَافٍ لِغَرَضِ تَحْذِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ. فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا تَنْفَلِتُ مِنْهُ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي مَصِيرِ كُلِّ حَادِثٍ إِلَى الْفَنَاءِ لَمَا سَلَّمْنَا أَنَّ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا فَائِدَةً. وَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 127] .

[سورة الإسراء (17) : آية 59]

وَ (مِنْ) مَزِيدَةٌ بَعْدَ (إِنِ) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ مَدْخُولِهَا بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ جَمِيعِ الْقُرَى الْكَافِرَةِ كَيْلَا يَحْسَبَ أَهْلُ مَكَّةَ عَدَمَ شُمُولِهِمْ. وَالْكِتَابُ: مُسْتَعَارٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَسَابِقِ تَقْدِيرِهِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ. وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، يُقَالُ: سَطَّرَ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبَهُ سُطُورًا، قَالَ تَعَالَى: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: 1] . [59] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 59] وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها هَذَا كَشْفُ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ تَكْذِيبِهِمْ إِذْ كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَاتٍ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ صَادِقًا وَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَجَاءَنَا بِالْآيَاتِ الَّتِي سَأَلْنَاهُ، غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَتَنَازَلُ لِمُبَارَاتِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها الْآيَة [الْإِسْرَاء: 58] ، أَيْ إِنَّمَا أَمْهَلْنَا الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى أَجَلِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَلَمْ نُجِبْهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا مِنَ الْآيَاتِ لِعَدَمِ جَدْوَى إِرْسَالِ الْآيَاتِ للأولين من قبيلهم فِي الْكُفْرِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ. وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ: كَفُّ الْفَاعِلِ عَنْ فِعْلٍ يُرِيد فعله أَوْ يَسْعَى فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا مُكْرِهَ لِلْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. فَالْمَنْعُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلصَّرْفِ عَنِ الْفِعْلِ وَعَدَمِ إِيقَاعِهِ دُونَ مُحَاوَلَةِ إِتْيَانِهِ. وَالْإِرْسَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَفْعُولُ أَنْ نُرْسِلَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ نُرْسِلَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ نُرْسِلَ رَسُولَنَا، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْآياتِ

لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مُصَاحِبًا للآيات الَّتِي اقتراحها الْمُشْرِكُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ مُسْتَعَارًا لِإِظْهَارِ الْآيَاتِ وَإِيجَادِهَا، فَتَكُونَ الْبَاءُ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ فِعْلِ نُرْسِلَ بِالْآياتِ، وَتَكون بِالْآياتِ مَفْعُولًا فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . والتعريف فِي بِالْآياتِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لِلْعَهْدِ، أَيْ الْمَعْهُودَةِ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، [الْإِسْرَاء: 90] وقالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 124] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَ (أَنْ) الْأُولَى مُفِيدَةٌ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ (مِنَ) الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْمَنْعِ، وَهَذَا الْحَذْفُ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنْ) . وَ (أَنْ) الثَّانِيَةُ مَصْدَرُهَا فَاعِلُ مَنَعَنا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. وَإِسْنَادُ الْمَنْعِ إِلَى تَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِالْآيَاتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ سَبَبُ الصَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ لَمَّا جَاءَتْهُمْ أَمْثَالُ تِلْكَ الْآيَاتِ. فَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ سَجِيَّةٌ لِلْمُشْرِكِ لَا يَقْلَعُهَا إِظْهَارُ الْآيَاتِ، فَلَوْ آمن الْأَولونَ عِنْد مَا أُظْهِرَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ لَكَانَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَجْعَلُوا إِيمَانَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى إِيجَادِ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 96- 97] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا تَثْبِيتٌ لِأَفْئِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ، وتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ فَلَعَلَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يُجِيبَهُمُ اللَّهُ لِمَا سَأَلُوا مِنَ الْآيَاتِ وَلِحُزْنِهِ مِنْ أَنْ يَظُنُّوهُ كَاذِبًا. وَجُمْلَةُ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي مَنَعَنا، أَيْ وَقَدْ آتَيْنَا ثَمُودًا آيَة كَمَا سَأَلُوهُ فَزَادُوا كُفْرًا بِسَبَبِهَا حَتَّى عُجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابُ.

وَمَعْنَى مُبْصِرَةً وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ أَبْصَرَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ مُبْصِرًا وَذَا بَصِيرَةٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُفِيدَةُ الْبَصِيرَةِ، أَيِ الْيَقِينِ، أَيْ تَجْعَلُ مَنْ رَآهَا ذَا بَصِيرَةٍ وَتُفِيدُهُ أَنَّهَا آيَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النَّمْل: 13] . وَخَصَّ بِالذِّكْرِ ثَمُودَ وَآيَتَهَا لِشُهْرَةِ أَمْرِهِمْ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ آثَارَ هَلَاكِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَرِيبَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُبْصِرُهَا صَادِرُهُمْ وَوَارِدُهُمْ فِي رِحْلَاتِهِمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالشَّامِ. وَقَوْلُهُ: فَظَلَمُوا بِها يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ الظُّلْمُ بِمَعْنَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْكُفْرِ يُعَدَّى إِلَى الْمَكْفُورِ بِالْبَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْجَحْدِ، أَيْ كَابَرُوا فِي كَوْنِهَا آيَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: 14] . وَيَجُوزُ بَقَاءُ الظُّلْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهِيَ الِاعْتِدَاءُ بِدُونِ حَقٍّ، وَالْبَاءُ صِلَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّعْدِيَةِ مِثْلُ الْبَاءِ فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] ، أَيْ ظَلَمُوا النَّاقَةَ حِينَ عَقَرُوهَا وَهِيَ لَمْ تَجْنِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَقْرُهَا ظُلْمًا. وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعَجْمَاوَاتِ ظُلْمٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا كَالصَّيْدِ. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً هَذَا بَيَانٌ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى فِي تَرْكِ إِرْسَالِ الْآيَاتِ إِلَى قُرَيْشٍ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ لِيَدْخُلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ وَيَكُونُ نَشْرُ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَتِلْكَ مكرمَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْآيَاتِ كَمَا سَأَلُوا مَعَ أَنَّ جِبِلَّتَهُمُ الْعِنَادُ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرُ فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْصَالُ عَقِبَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ إِظْهَارَ الْآيَاتِ

[سورة الإسراء (17) : آية 60]

تَخْوِيفٌ مِنَ الْعَذَابِ وَاللَّهُ أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] الْآيَةَ، فَعَوَّضْنَا تَخْوِيفَهُمْ بَدَلًا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا. وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ كَالْقَوْلِ فِي وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ مَعْنًى وَتَقْدِيرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالتَّخْوِيفُ: جَعْلُ الْمَرْءِ خَائِفًا. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَخْوِيفاً لِقَصْرِ الْإِرْسَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى عِلَّةِ التَّخْوِيفِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا مُبَارَاةَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ أَوْ لَا طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْأَقْوَامِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. [60] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 60] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ هَذِهِ تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُزْنِهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وَمِنْ إِمْهَالِ عُتَاةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِهِ نَصْرَهُ. وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّكْرِمَةِ لِلنَّبِيءِ وَتَصْبِيرِهِ، وَأَنَّهُ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ إِذْ هُوَ رَبُّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] . فَجُمْلَةُ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاء: 59] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً. وَ (إِذْ) مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لَكَ كَلَامًا هُوَ وَعْدٌ بِالصَّبْرِ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَعِدْهُ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ، أَوْ هُوَ فِعْلُ «اذْكُرْ»

عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ إِعَادَةُ الْخَبَرِ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الذَّاكِرَةِ. وَالْإِحَاطَةُ لَمَّا عُدِّيَ فِعْلُهَا هُنَا إِلَى ذَاتِ النَّاسِ لَا إِلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْغَلَبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] . وَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ إِحَاطَةِ اللَّهِ بِالنَّاسِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ. وَلَعَلَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: 41] . وَالْمَعْنَى: فَلَا تَحْزَنْ لِافْتِرَائِهِمْ وَتَطَاوُلِهِمْ فَسَنَنْتَقِمُ مِنْهُمْ. وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاء: 59] وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَاتٌ. وَالرُّؤْيَا أَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي رُؤْيَا النَّوْمِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي رُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أريها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَسَبْعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، سَمَّاهُمُ التِّرْمِذِيُّ. وَتَأَوَّلَهَا جَمَاعَةٌ أَنَّهَا مَا رَآهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِذْ رَأَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَجَعَلَ يَصِفُهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَرَأَى عِيرَهُمْ وَارِدَةً فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الطَّرِيقِ وَوَصَفَ لَهُمْ حَالَ رِجَالٍ فِيهَا فَكَانَ كَمَا وَصَفَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ: الَّتِي أَرَيْناكَ فَإِنَّهُ وَصْفٌ لِلرُّؤْيَا لِيُعْلَمَ أَنَّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ. وَقِيلَ: رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَرَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَدْخُلْهَا فَافْتَتَنَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمُوا فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ دَخَلَهَا. وَقِيلَ: هِيَ رُؤْيَا مَصَارِعِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بدر أريها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَي بِمَكَّة. وعى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَهِيَ رُؤْيَا نَوْمٍ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.

وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الرَّأْيِ وَاخْتِلَالُ نِظَامِ الْعَيْشِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَذَابِ الْمُكَرَّرِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] ، وَقَالَ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] . فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَوَّلِ الْقَوْلَيْنِ فِي الرُّؤْيَا أَنَّهَا سَبَب فتْنَة الْمُشْركين بازدياد بعدهمْ عَن الْإِيمَان، وَيكون على القَوْل الثَّانِي أَن الْمَرْئِيُّ وَهُوَ عَذَابُهُمْ بِالسَّيْفِ فِتْنَةً لَهُمْ. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالشَّجَرَةَ عَطْفٌ عَلَى الرُّؤْيَا، أَيْ مَا جَعَلْنَا ذِكْرَ الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [64- 66] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [43- 44] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [51- 52] . رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: «زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الْحَجَرَ ثُمَّ يَقُولُ بِأَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تَحْرِقُهَا النَّارُ» . وَجَهِلُوا أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تَأْكُلُهَا النَّارُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ فِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ و «تَفْسِير الطَّبَرِيِّ» . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى قَالَ: الزَّقُّومُ التَّمْرُ بِالزُّبْدِ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ جَارِيَةً فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لأَصْحَابه: تمزقوا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ سَبَب فتْنَة مكفرهم وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعْلِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ ذِكْرَهَا كَانَ سَبَبَ فِتْنَةٍ بِحَذْفِ مُضَافٍ وَهُوَ ذِكْرٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ مَا وُصِفَتْ بِهِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَعْنٌ لَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ إِيجَادَهَا فِتْنَةٌ. أَيْ عَذَابٌ مُكَرَّرٌ، كَمَا قَالَ: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافّات: 63] .

وَالْمَلْعُونَةُ أَيِ الْمَذْمُومَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: 44] وَقَوْلِهِ: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] وَقَوْلِهِ: كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدُّخان: 45- 46] . وَقِيلَ مَعْنَى الْمَلْعُونَةِ: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي مَكَانِ اللَّعْنَةِ وَهِيَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعَذَابِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : قِيلَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ طَعَامٍ ضَارٍّ: مَلْعُونٌ. وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء: 59] الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَصَلِّبُونَ فِي كُفْرِهِمْ مُكَابِرُونَ مُعَانِدُونَ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَا يَأْسَفَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِهِمْ آيَاتٍ، لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِهِمْ، كَمَا قَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 88] . وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ ابْن عَبَّاس قَالَ: فِي الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ بَنُو أُمَيَّةَ. وَهَذَا من الْأَخْبَار الْمُخْتَلفَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا أَخَالُهَا إِلَّا مِمَّا وَضَعَهُ الْوَضَّاعُونَ فِي زَمَنِ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ لِإِكْثَارِ الْمُنَفِّرَاتِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَنَّ وَصْفَ الشَّجَرَةِ بِأَنَّهَا الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي وُجُودِ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ ذُكِرَتْ فِيهَا شَجَرَةٌ مَلْعُونَةٌ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ كَمَا عَلِمْتَ. وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَاقِ خُرُوجٌ عَنْ وَصَايَا الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الحجرات: 11] . وَجِيء بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي نُخَوِّفُهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَخْوِيفٍ حَاضِرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ خَوَّفَهُمْ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ حَتَّى رَأَوُا الدُّخَانَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَسَأَلُوا اللَّهَ كَشْفَهُ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] فَذَلِكَ وَغَيْرُهُ مِنَ التَّخْوِيفِ الَّذِي سُبِقَ فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ حُصُولِ بَعْضِ الْمُخَوِّفَاتِ.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 62]

وَقَدِ اخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي نُخَوِّفُهُمْ ويَزِيدُهُمْ لِاقْتِضَائِهِ تَكَرُّرَ التَّخْوِيفِ وَتَجَدُّدَهُ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا تَجَدَّدَ التَّخْوِيفُ تَجَدَّدَ طُغْيَانُهُمْ وَعَظُمَ. وَالْكَبِيرُ: مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الشَّدِيدِ الْقَوِيِّ فِي نَوْعِ الطُّغْيَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ فِي سُورَة الْبَقَرَة [217] . [61، 62] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 61 إِلَى 62] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاء: 60] أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَالْمَقْصُودُ من هَذَا هُوَ تذكير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَقِيَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ مِنْ مُعَانَدَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْحَسَدَةِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ حِينَ حَسَدَهُ إِبْلِيسُ عَلَى فَضْلِهِ. وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدَمُونَ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِمْ وَهُمْ خِيرَةُ زَمَانِهِمْ كَمَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ نَحْوَ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يَمُتُّ إِلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِي فِي عَهْدِ آدَمَ، فَلِفَرِيقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَلِفَرِيقِ الشَّيْطَانِ الْكَافِرُونَ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: 63] الْآيَةَ، فَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَة للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-. فَأمر الله نبيئه بِأَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَذْكِيرَهُ إِيَّاهُ بِهِ، وَذَكَرَ النَّبِيءُ ذَلِكَ مَوْعِظَةً لِلنَّاسِ بِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ لِيَنْظُرَ الْعَاقِلُ أَيْنَ يَضَعُ نَفْسَهُ. وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ آدَمَ وَبَيَانُ كَلِمَاتِهَا مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَأَسْجُدُ إِنْكَارٌ، أَيْ لَا يَكُونُ.

وَجُمْلَةُ قالَ أَأَسْجُدُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْلِيسَ مِنْ حُكْمِ السُّجُودِ لَمْ يُفِدْ أَكْثَرَ مِنْ عَدَمِ السُّجُودِ. وَهَذَا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ التَّخَلُّفِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ، فَيُجَابُ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ حِينَ الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ السُّجُودِ أَنَّهُ عِصْيَانٌ لأمر الله ناشىء عَنْ جَهْلِهِ وَغُرُورِهِ. وَقَوْلُهُ: طِيناً حَالٌ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيِ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِينًا، فَيُفِيدُ مَعْنَى أَنَّكَ خَلَقْتَهُ مِنَ الطِّينِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ جِنْسَ الطِّينِ حَالًا مِنْهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَلَبَةِ الْعُنْصُرِ التُّرَابِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ فِي تَحْقِيرِهِ فِي نَظَرِ إِبْلِيسَ. وَجُمْلَةُ قالَ أَرَأَيْتَكَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً بِاعْتِبَارِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنِ احْتِقَارِ آدَمَ وَتَغْلِيطِ الْإِرَادَةِ مِنْ تَفْضِيلِهِ. فَقَدْ أُعِيدَ إِنْكَارُ التَّفْضِيلِ بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ الْمُفِيدِ الْإِنْكَارَ. وَعَلَّلَ الْإِنْكَارَ بِإِضْمَارِ الْمَكْرِ لِذُرِّيَّتِهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ أَرَأَيْتَكَ عَنْ جُمْلَةِ قالَ أَأَسْجُدُ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [طه: 120] . وأَ رَأَيْتَكَ تَرْكِيبٌ يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ. وَمَعْنَاهُ: أَخْبِرْنِي عَمَّا رَأَيْتُ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَ (رَأَى) الَّتِي بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَاءِ الْمُخَاطَبِ الْمُفْرَدِ الْمَرْفُوعِ، ثُمَّ يُزَادُ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ كَافُ خِطَابٍ تُشْبِهُ ضَمِيرَ الْخِطَابِ الْمَنْصُوبِ بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا. يُقَال: أرأيتك وأ رأيتكم كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [40] . وَهَذِهِ الْكَافُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْخِطَابِ الَّذِي تُفِيدُهُ تَاءُ الْخِطَابِ الَّتِي فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَهُوَ يُشْبِهُ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَالتَّرْكِيبُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ. وَهَذَا أَقْرَبُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَيُسَوِّغُهُ أَنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْ تَنْصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ مَا هُوَ ضَمِيرُ فَاعِلِهَا نَحْوَ قَوْلِ طَرَفَةَ:

فَمَا لِيَ أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكًا ... مَتى أذن مِنْهُ ينأعني وَيَبْعُدُ أَيْ أَرَى نَفْسِي. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 36] . وَالْمَعْنَى أَخْبِرْنِي عَنْ نِيَّتِكَ أَهَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ بِلَا وَجْهٍ. وَجُمْلَة لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَهِيَ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ مَعَ الشَّرْطِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص: 79] . وَهَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنْ إِبْلِيسَ إِعْرَابًا عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَإِنَّمَا شَرَطَ التَّأْخِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَعُمَّ بِإِغْوَائِهِ جَمِيعَ أَجْيَالِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَلَا يَكُونُ جِيلٌ آمِنًا مِنْ إِغْوَائِهِ. وَصَدَرَ ذَلِكَ مِنْ إِبْلِيسَ عَنْ وِجْدَانٍ أُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ صَادَفَ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَهُ قَدَّرَ لَهُ أَنْ يَكُونَ عُنْصُرَ إِغْوَاءٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ يُغْوِي كَثِيرًا مِنَ الْبَشَرِ وَيَسْلَمُ مِنْهُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى إِغْوَاءِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَلَمْ يَذْكُرْ إِغْوَاءَ آدَمَ وَهُوَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ- إِذْ آدَمُ هُوَ أَصْلُ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْحَسَدِ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ- إِمَّا لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَهُ بعد أَن أعوى آدَمَ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَدْ شَفَى غَلِيلَهُ مِنْهُ وَبَقِيَتِ الْعَدَاوَةُ مُسْتَرْسِلَةً فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: 6] . وَالِاحْتِنَاكُ: وَضْعُ الرَّاكِبِ اللِّجَامَ فِي حَنَكِ الْفَرَسِ لِيَرْكَبَهُ وَيُسَيِّرَهُ، فَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِجَلْبِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إِلَى مُرَادِهِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالْإِغْوَاءِ بِتَسْيِيرِ الْفَرَسِ عَلَى حُبِّ مَا يُرِيد رَاكِبه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 63 إلى 64]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 63 إِلَى 64] قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سُؤَالِ إِبْلِيسَ التَّأْخِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] . وَالذَّهَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ الِانْصِرَافُ بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي نَوَيْتَهُ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَهُوَ كَقَوْلِ النَّبْهَانِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ [طه: 97] . وَالْجَزَاء: مصدر جَزَاء عَلَى عَمَلٍ، أَيْ أَعْطَاهُ عَنْ عَمَلِهِ عِوَضًا. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَالْمَوْفُورُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ وَفَرَهُ إِذَا كَثَّرَهُ. وَأُعِيدَ جَزاءً لِلتَّأْكِيدِ، اهْتِمَامًا وَفَصَاحَةً، كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [يُوسُف: 2] ، وَلِأَنَّهُ أَحْسَنُ فِي جَرَيَانِ وَصْفِ الْمَوْفُورِ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَّصِلٍ بِهِ دُونَ فَصْلٍ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ مَوْفُورًا. فَانْتِصَابُ جَزاءً عَلَى الْحَالِ الْمُوَطِّئَةِ، ومَوْفُوراً صِفَةٌ لَهُ، وَهُوَ الْحَالُ فِي الْمَعْنَى، أَيْ جَزَاءً غَيْرَ مَنْقُوصٍ.

وَالِاسْتِفْزَازُ: طَلَبُ الْفَزِّ، وَهُوَ الْخِفَّةُ وَالِانْزِعَاجُ وَتَرْكُ التَّثَاقُلِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْجَعْلِ النَّاشِئِ عَنْ شِدَّةِ الطَّلَبِ وَالْحَثِّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَى السِّينِ وَالتَّاءِ، أَيِ اسْتَخِفَّهُمْ وَأَزْعِجْهُمْ. وَالصَّوْتُ: يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ كَثِيرًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ صَوْتٌ مِنَ الْفَمِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا هُنَا تَمْثِيلًا لِحَالَةِ إِبْلِيسَ بِحَالِ قَائِدِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالْإِجْلَابُ: جَمْعُ الْجَيْشِ وَسَوْقُهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَلَبَةِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهِيَ الصِّيَاحُ، لِأَنَّ قَائِدَ الْجَيْشِ إِذَا أَرَادَ جَمْعَ الْجَيْشِ نَادَى فِيهِمْ لِلنَّفِيرِ أَوْ لِلْغَارَةِ وَالْهُجُومِ. وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعِ الْفَرَسِ. وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَيْشِ الْفُرْسَانُ. وَمِنْهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي» . وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ صَرْفِ قُوَّتِهِ وَمَقْدِرَتِهِ عَلَى الْإِضْلَالِ بِحَالِ قَائِدِ الْجَيْشِ يَجْمَعُ فُرْسَانَهُ وَرِجَالَتَهُ ... وَلَمَّا كَانَ قَائِدُ الْجَيْشِ يُنَادِي فِي الْجَيْشِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْغَارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا التَّمْثِيلِ. وَالرَّجْلُ: اسْمُ جَمْعِ الرِّجَالِ كَصَحْبٍ. وَقَدْ كَانَتْ جُيُوشُ الْعَرَبِ مُؤَلَّفَةً مِنْ رِجَالَةٍ يُقَاتِلُونَ بِالسُّيُوفِ وَمِنْ كَتَائِبِ فُرْسَانٍ يُقَاتِلُونَ بِنَضْحِ النِّبَالِ، فَإِذَا الْتَحَمُوا اجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ جَمِيعًا. قَالَ أُنَيْفُ بْنُ زَبَّانَ النَّبْهَانِيُّ: وَتَحْتَ نُحُورِ الْخَيْلِ حَرْشَفُ رِجْلَةٍ ... تُتَاحُ لِحَبَّاتِ الْقُلُوبِ نِبَالُهَا ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٍّ سُؤَالُهَا

وَالْمَعْنَى: أَجْمِعْ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَسَائِلَ الْفِتْنَةِ وَالْوَسْوَسَةِ لِإِضْلَالِهِمْ. فَجُعِلَتْ وَسَائِلُ الْوَسْوَسَةِ بِتَزْيِينِ الْمَفَاسِدِ وَتَفْظِيعِ الْمَصَالِحِ كَاخْتِلَافِ أَصْنَافِ الْجَيْشِ، فَهَذَا تَمْثِيلُ حَالِ الشَّيْطَانِ وَحَالِ مُتَّبِعِيهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِحَالِ مَنْ يَغْزُو قَوْمًا بِجَيْشٍ عَظِيمٍ مِنْ فُرْسَانٍ وَرَجَّالَةٍ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَجِلِكَ- بِكَسْرِ الْجِيمِ-، وَهُوَ لُغَةٌ فِي رَجُلٍ مَضْمُومِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ. وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ. وَالْمَعْنَى: بِخَيْلِكَ وَرِجَالِكَ، أَيِ الْفُرْسَانِ وَالْمُشَاةِ. وَالْبَاءُ فِي بِخَيْلِكَ إِمَّا لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ لِمَفْعُولِهِ فَهِيَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَمَجْرُورُهَا مَفْعُولٌ فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ أَجْلِبْ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَإِمَّا لِتَضْمِينِ فِعْلِ أَجْلِبْ مَعْنَى اغْزُهُمْ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ: أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَهِيَ أَنْعَامُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ إِذْ سَوَّلَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا فِي النِّتَاجِ وَالْحَرْثِ لِلْأَصْنَامِ. وَهِيَ مِنْ مَصَارِفِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الْمُسَوِّلُ لِلنَّاسِ بِاتِّخَاذِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الْأَنْعَام: 136] . وَأَمَّا مُشَارَكَةُ الْأَوْلَادِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ فِي أَحْوَالِ أَوْلَادِهِمْ مِثْلَ تَسْوِيلِهِ لَهُمْ أَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَنْ يَسْتَوْلِدُوهُمْ مِنَ الزِّنَى، وَأَنْ يُسَمُّوهُمْ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، كَقَوْلِهِمْ: عَبْدُ الْعُزَّى، وَعَبْدُ اللَّاتِ، وَزَيْدُ مَنَاةَ، وَيَكُونُ انْتِسَابُهُ إِلَى ذَلِكَ الصَّنَمِ. وَمَعْنَى عِدْهُمْ أَعْطِهِمُ الْمَوَاعِيدَ بِحُصُولِ مَا يَرْغَبُونَهُ كَمَا يُسَوِّلُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ جَعَلُوا أَوْلَادَهُمْ لِلْأَصْنَامِ سَلِمَ الْآبَاءُ مِنَ الثُّكْلِ وَالْأَوْلَادُ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَيُسَوِّلُ لَهُمْ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَتَضْمَنُ لَهُمُ

النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «اعْلُ هُبَلُ» . وَمِنْهُ وَعْدُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ عَذَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ لِإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَوَعْدِ الْعُصَاةِ بِحُصُولِ اللَّذَّاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي مِثْلَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْخَمْرِ وَالْمُقَامَرَةِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَعِدْهُمْ لِلتَّعْمِيمِ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ. وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَعِدَهُمْ بِمَا يَرْغَبُونَ لِأَنَّ الْعِدَةَ هِيَ الْتِزَامُ إِعْطَاءِ الْمَرْغُوبِ. وَسَمَّاهُ وَعْدًا لِأَنَّهُ يُوهِمُهُمْ حُصُولَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَلَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَهُ كَشَأْنِ الْكَذَّابِ أَنْ يَحْتَزِرَ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْعَاجِلِ لَقُرْبِ افْتِضَاحِهِ فَيَجْعَلُ مَوَاعِيدَهُ كُلَّهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ بِجُمْلَةِ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. وَالْغُرُورُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ فِي صُورَةِ الْمَحْبُوبِ الْحَسَنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [196] ، وَقَوْلِهِ: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَة الْأَنْعَامِ [112] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا سَوَّلَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي حُصُولِ الْمَرْغُوبِ إِمَّا بَاطِلٌ لَا يَقَعُ، مِثْلَ مَا يُسَوِّلُهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَكَوْنِهِ غُرُورًا لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِمَا يَقَعُ فِي صُورَةِ الْوَاقِعِ فَهُوَ تَلْبِيسٌ وَإِمَّا حَاصِلٌ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ بِالْعَاقِبَةِ، مِثْلَ مَا يُسَوِّلُهُ لِلنَّاسِ مِنْ قَضَاءِ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَمَحَبَّةِ الْعَاجِلِ دُونَ تَفْكِيرٍ فِي الْآجِلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَارَنَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ أَو كَونه آئلا إِلَيْهِ بِالْإِضْرَارِ. وَقَدْ بَسَطَ هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنْ كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» . وَإِظْهَارُ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ دون أَن يُؤْتى بِضَمِيرِهِ الْمُسْتَتِرِ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَوْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى لَكَانَ فِي النَّثْرِ شِبْهُ عَيْبِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يَحْسُنُ اشْتِمَالُهَا عَلَى ضَمِيرٍ لَيْسَ من أَجْزَائِهَا.

[سورة الإسراء (17) : آية 65]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 65] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) وَجُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِ قالَ اذْهَبْ [الْإِسْرَاء: 63] . وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: 63] وَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: 64] ، فَإِن مَفْهُوم فَمَنْ تَبِعَكَ ومَنِ اسْتَطَعْتَ [الْإِسْرَاء: 64] ذريّة مَنِ قَبِيلِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ فَيُفِيدُ أَنَّ فريقا من درية آدَمَ لَا يَتَّبِعُ إِبْلِيسَ فَلَا يَحْتَنِكُهُ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ أَوْ حَفِظَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي خَاطِرِ إِبْلِيسَ لِيَعْلَمَ الْحَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْفَرِيقِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا أَنَّ فَرِيقًا لَا يَحْتَنِكُهُ لِقَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 62] . فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالْوَصْفِ وَبِالسَّبَبِ. فَأَمَّا الْوَصْفُ فَفِي قَوْلِهِ: عِبادِي الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا لِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ، فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَالْجِنَّ وَأَعْرَضُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مِنْ أُولَئِكَ. وَأَمَّا السَّبَبُ فَفِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَكَانَ خَيْرَ وَكِيلٍ لَهُمْ إِذْ حَاطَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَحَفِظَهُمْ مِنْهُ. وَفِي هَذَا التَّوَكُّلِ مَرَاتِب من الانفلات عَنِ احْتِنَاكِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَالسُّلْطَانُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ هُوَ الْحُكْمُ الْمُسْتَمِرُّ بِحَيْثُ يَكُونُونَ رَعِيَّتَهُ وَمِنْ جُنْدِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ يَسْتَهْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَثُوبُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ، وَكَفَاكَ مِنْ ذَلِكَ دَوَامُ تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ، وَتَصْدِيقُهُمْ

[سورة الإسراء (17) : آية 66]

رَسُولَهُ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عِبَادًا لِلَّهِ مُتَطَلِّبِينَ شُكْرَ نِعْمَتِهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ سَخُفَتْ فِي شَأْنِهِمْ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [99- 100] . فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ أَبَدًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَنْخَدِعُ لِوَسْوَاسِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُهُ فِيمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِمِقْدَارِ ذَلِكَ الِانْخِدَاعِ يَقْتَرِبُ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ» . فَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَكْمِلَةً لِتَوْبِيخِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَتَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبًا لِلنَّبِيءِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ. وَمَآلُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتلف الِاعْتِبَار. [66] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 66] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَدِلَّةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصْرِيفِ فِي الْعَالَمِ الْمَشُوبَةِ بِمَا فِيهَا مِنْ نِعَمٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَالدَّالَّةِ بِذَلِكَ الشَّوْبِ عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ وَمُحْكَمِ التَّدْبِيرِ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَسِيَادَةِ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَعَلَيْهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ عَوْدًا إِلَى قَوْله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الْإِسْرَاء: 11]

كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ فَرَاجِعْهُ. فَلَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ أُعْقِبَ هُنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ. وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: 67] ، أَيْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ دُعَائِهِ وَدَعَوْتُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُ: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: 67] . وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ وَمُسْتَحْضَرًا بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِاسْتِدْعَاءِ إِقْبَالِ السَّامِعِينَ عَلَى الْخَبَرِ الْمُؤْذِنِ بِأَهَمِّيَّتِهِ حَيْثُ افْتُتِحَ بِمَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ خَبَرٌ عَظِيمٌ لكَونه من شؤون الْإِلَهِ الْحَقِّ وَخَالِقِ الْخلق ومدبر شؤونهم تَدْبِيرَ اللَّطِيفِ الرَّحِيمِ، فَيُوجِبُ إِقْبَالَ السَّامِعِ بِشَرَاشِرِهِ إِنْ مُؤْمِنًا مُتَذَكِّرًا أَوْ مُشْرِكًا نَاظِرًا مُتَدَبِّرًا. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. وَبِتَعْرِيفِ طَرَفَيْهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْحِصَارِ، أَيْ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ لَا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَعْبُدُونَهُ بَاطِلًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَكُمْ. وَجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تكَرر ذَلِك وتحدده. فَحَصَلَتْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى إِيجَازِهَا مَعَانٍ جَمَّةٌ خُصُوصِيَّةٌ. وَفِي ذَلِكَ حَدُّ الْإِعْجَازِ. وَيُزْجِي: يَسُوقُ سَوْقًا بَطِيئًا شَبَّهَ تَسْخِيرَ الْفُلْكِ لِلسَّيْرِ فِي الْمَاءِ بِإِزْجَاءِ الدَّابَّةِ الْمُثْقَلَةِ بِالْحِمْلِ. وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعٌ لَا مُفْرَدٌ. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ فَيَشْمَلُ الْأَنْهَارَ كَالْفُرَاتِ وَالدِّجْلَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَالْفَضْلُ: الرِّزْقُ، أَيْ لِلتِّجَارَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [198] . وَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَى

[سورة الإسراء (17) : آية 67]

النَّاسِ كُلِّهِمْ مُنَاسِبٌ لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ عَرَبُ الْيَمَنِ وَعَرَبُ الْعِرَاقِ وَالنَّاسُ غَيْرُهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تَعْلِيلٌ وَتَنْبِيهٌ لِمَوْقِعِ الِامْتِنَانِ لِيَرْفُضُوا عِبَادَةَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي هَذِه الْمِنَّة. [67] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 67] وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) بَعْدَ أَنْ أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى حَقِّ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ صُنْعِهِ بِاعْتِرَافِهِمْ، أَعْقَبَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ إِقْرَارَهُمْ بِانْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ ثُمَّ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ مُنَاقَضَةِ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ زَوَالِ اضْطِرَارِهِمْ. فَجُمْلَةُ وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ إِذْ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ عَنْ فِعْلِهِ إِخْبَارًا حَقِيقِيًّا. وَجُمْلَةُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ. وَضُرُّ الْبَحْرِ: هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الْغَرَقِ لِأَنَّهُ يُزْعِجُ النُّفُوسَ خَوْفًا، فَهُوَ ضُرٌّ لَهَا. وضَلَّ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ فِعْلٌ مِنَ الضَّلَالِ، وَهُوَ سُلُوكُ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوَصِّلَةٍ لِلْمَقْصُودِ خَطَأً. وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عَمَلِ اللِّسَانِ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ، أَيْ مَنْ يَتَكَرَّرُ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ. فَالْمَعْنَى غَابَ وَانْصَرَفَ ذِكْرُ الَّذِينَ عَادَتُكُمْ دُعَاؤُهُمْ عَنْ أَلْسِنَتِكُمْ فَلَا تَدْعُونَهُمْ، وَذَلِكَ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الدُّعَاءِ هُنَا الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ اللِّسَانُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَهُمْ هُوَ ضَلَالُ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ تَارَةً كَمَا تَجْرِي أَسْمَاءُ الْأَصْنَامِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تَدْعُونَ خَاصًّا بِأَصْنَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُ دُعَاؤُهُمْ إِيَّاهَا دُونَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّجَدُّدِ فَإِذَا اشْتَدَّ بِهِمُ الضُّرُّ دَعَوُا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] . وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَنَصْبُ الْمُسْتَثْنَى لَا يَخْتَلِفُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَرْيًا عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى. وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: أَعْرَضْتُمْ. وَالْإِعْرَاضُ: التَّرْكُ، أَيْ تَرَكْتُمْ دُعَاءَ اللَّهِ، بِقَرِينَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُقْتَضَى الْمُضَارع من إِفَادَة التَّجَدُّدِ وَبَيْنَ مُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنِ انْحِصَارِ الدُّعَاءِ فِي الْكَوْنِ بِاسْمِهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: إِلَى الْبَرِّ عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضْمِينِ نَجَّاكُمْ مَعْنَى أَبْلَغَكُمْ وَأَوْصَلَكُمْ. وَجُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً اعْتِرَاضٌ وَتَذْيِيلٌ لِزِيَادَةِ التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ. وَ «الْكَفُورُ» صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ كَثِيرُ الْكُفْرِ. وَالْكُفْرُ ضِدُّ الشُّكْرِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ. فَهَذَا الِاسْتِغْرَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا بِحَمْلِهِ عَلَى غَالِبِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِشْرَاكِ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَفُوراً رَاجِعَةً إِلَى قُوَّةِ صِفَةِ الْكُفْرَانِ أَوْ عَدَمِ الشُّكْرِ فَإِنَّ أَعْلَاهُ إِشْرَاكُ غَيْرِ الْمُنْعِمِ مَعَ الْمُنْعِمِ فِي نِعْمَةٍ لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْرَاقُ حَقِيقِيًّا، أَيْ كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ كَفُورًا، أَيْ غَيْرَ خَالٍ مِنَ الْكُفْرَانِ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ رَاجِعَةً إِلَى كَثْرَةِ أَحْوَالِ الْكُفْرَانِ مَعَ تَفَاوُتِهَا. وَكَثْرَةُ كُفْرَانِ الْإِنْسَانِ هِيَ تَكَرُّرُ إِعْرَاضِهِ عَنِ الشُّكْرِ فِي مَوْضِعِ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 68 إلى 69]

الشُّكْرِ ضَلَالًا أَوْ سَهْوًا أَوْ غَفْلَةً لِإِسْنَادِهِ النِّعَمَ إِلَى أَسْبَابِهَا الْمُقَارِنَةِ دُونَ مُنْعِمِهَا وَلِفَرْضِهِ مُنْعِمِينَ وَهْمِيِّينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْإِنْعَامِ. وَذِكْرُ فِعْلِ (كَانَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَانَ مُسْتَقِرٌّ فِي جِبِلَّةِ هَذَا الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَشْعُرُ بِمَا وَرَاءَ عَالَمِ الْحِسِّ فَإِنَّ الْحَوَاسَّ تَشْغَلُهُ بِمُدْرِكَاتِهَا عَنْ التَّفَكُّرِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْحَافِظَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ بِالْفِكْرِ. وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَذَكُّرِ النِّعْمَةِ كَانَتْ شَوَاغِلُهُ عَنْ تَذَكُّرِ النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ مُغَطِّيَةً عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ مُدْرَكَاتِ الْحَوَاسِّ مِنْهَا الْمُلَائِمُ لِلنَّفْسِ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَمِنْهَا الْمُنَافِرُ لَهَا. فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَدْرَكَ الْمُلَائِمَ لَمْ يَشْعُرْ بِقُدْرَةٍ عِنْدَهُ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ حَتَّى صَارَ عَادَةً فَذُهِلَ عَمَّا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْمُنَافِرَ اسْتَذْكَرَ فُقْدَانَ الْمُلَائِمِ فَضَجَّ وَضَجِرَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] . وَلِهَذَا قَالَ الْحُكَمَاءُ: الْعَافِيَةُ تَاج على رُؤُوس الْأَصِحَّاءِ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمَرْضَى فَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي أَشَارَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ [الْإِسْرَاء: 68] الْآيَةَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آدَابِ النَّفْسِ فِي الشَّرِيعَةِ تَذْكِيرُهَا بِنِعَمِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] لِيَقُومَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ مقَام معاهدتها. [68، 69] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 68 إِلَى 69] أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) تَفْرِيعٌ عَلَى جملَة أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: 67] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَفُرِّعَ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الشُّكْرِ وَعَوْدِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ.

وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ الْأَرْضِ فِي بَاطِنِهَا مِنَ الزِّلْزَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [45] . وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ فِي الْبَرِّ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَنْسَوْنَهَا فَلَوْ حَدَثَ لَكُمْ خَسْفٌ لَهَلَكْتُمْ هَلَاكًا لَا نَجَاةَ لَكُمْ مِنْهُ بِخِلَافِ هَوْلِ الْبَحْرِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ السَّلَامَةُ فِي الْبَرِّ غَيْرُ مُدْرَكٍ قَدْرُهَا قَلَّ أَنْ تَشْعُرَ النُّفُوسُ بِنِعْمَتِهَا وَتَشْعُرَ بِخَطَرِ هَوْلِ الْبَحْرِ فَيَنْبَغِي التَّدَرُّبُ عَلَى تَذَكُّرِ نِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِنَ الضُّرِّ ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ السَّلَامَةِ مُعَرَّضٌ إِلَى الْأَخْطَارِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ إِنْكَارِي وَتَوْبِيخِي. وَالْجَانِبُ: هُوَ الشِّقُّ. وَجَعْلُ الْبَرِّ جَانِبًا لِإِرَادَةِ الشِّقِّ الَّذِي يُنْجِيهِمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشَّاطِئُ الَّذِي يَرْسُونَ عَلَيْهِ، إِشَارَةً إِلَى إِمْكَانِ حُصُولِ الْخَوْفِ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ حُلُولِهِمْ بِالْبَرِّ بِحَيْثُ يَخْسِفُ بِهِمْ ذَلِكَ الشَّاطِئَ، أَيْ أَنَّ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى سِيَّانِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَوِيَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَإِضَافَةُ الْجَانِبِ إِلَى الْبِرِّ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ. وَالْبَاءُ فِي يَخْسِفَ بِكُمْ لِتَعْدِيَةِ يَخْسِفَ بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ. وَالْحَاصِبُ: الرَّامِي بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ. يُقَالُ: حَصَبَهُ، وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ، أَيْ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ عَارِضًا حَاصِبًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِالَّذِي يَرْمِي الْحَصْبَاءَ، أَيْ مَطَرَ حِجَارَةٍ، أَيْ بَرَدٌ يُشْبِهُ الْحِجَارَةَ، وَقِيلَ: الْحَاصِبُ هُنَا بِمَعْنَى ذِي الْحَصْبَاءِ، فَصُوغَ اسْمُ فَاعِلٍ لَهُ مِنْ بَابِ فَاعِلٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّسَبِ مِثْلُ لِابْنٍ وَتَامِرٍ. وَالْوَكِيلُ: الْمُوَكَّلُ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِمُهِمِّ مُوَكِّلِهِ، وَالْمُدَافِعُ عَنْ حَقِّ مُوَكِّلِهِ، أَيْ لَا تَجِدُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَنْ يُجَادِلُنَا عَنْكُمْ أَوْ يُطَالِبُنَا بِمَا أَلْحَقْنَاهُ بِكُمْ مِنَ الْخَسْفِ أَوِ الْإِهْلَاكِ بِالْحَاصِبِ، أَيْ لَا تَجِدُوا مِنْ قَوْمِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ مَنْ يَثْأَرُ لَكُمْ

كَشَأْنِ مَنْ يَلْحَقُهُ ضُرٌّ فِي قَوْمِهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ وَيُطَالِبَ بِدَمِهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَعِصَابَتُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ لِمَا يَقَعُ فِي الْبَرِّ مِنَ الْحَدَثَانِ. وَ (أَمْ) عَاطِفَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، أَي بل أأمنتم، فَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ مَعَ (أَمْ) لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهِ، أَيْ أَوْ هَلْ كُنْتُمْ آمَنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ. وَالتَّارَةُ: الْمَرَّةُ الْمُتَكَرِّرَةُ، قِيلَ عَيْنُهُ هَمْزَةٌ ثُمَّ خُفِّفَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُودِهِ مَهْمُوزًا وَهُمْ لَا يَهْمِزُونَ حَرْفَ الْعِلَّةِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَأَمَّا تَخْفِيفُ الْمَهْمُوزِ فَكَثِيرٌ مِثْلُ: فَأْسٍ وَفَاسٍ، وَكَأْسٍ وَكَاسٍ. وَمَعْنَى أَنْ يُعِيدَكُمْ أَنْ يُوجِدَ فِيكُمُ الدَّوَاعِيَ إِلَى الْعَوْدِ تَهْيِئَةً لِإِغْرَاقِكُمْ وَإِرَادَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْكُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَفْرِيعٌ فَيُرْسِلَ عَلَيْهِ. وَالْقَاصِفُ: الَّتِي تَقْصِفُ، أَيْ تَكْسِرُ. وَأَصْلُ الْقَصْفِ: الْكَسْرُ. وَغَلَبَ وَصْفُ الرِّيحِ بِهِ. فَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُؤَنَّثِ فَلَمْ يُلْحِقُوهُ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ، مِثْلَ عاصِفٌ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] . وَالْمَعْنَى: فَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ رِيحًا قَاصِفًا، أَيْ تَقْصِفُ الْفُلْكَ، أَيْ تُعْطِبُهُ بِحَيْثُ يَغْرَقُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَيُغْرِقَكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الرِّيحِ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الرِّيَاحِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِكُفْرِكُمْ، أَيْ شِرْكِكُمْ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي التَّهْدِيدِ بِعَدَمِ وُجُودِ مُنْقِذٍ لَهُمْ، بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِالْغَرَقِ لِأَنَّ الْغَرِيقَ قَدْ يَجِدُ مُنْقِذًا. وَالتَّبِيعُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّابِعِ، أَيِ الْمُتَتَبِّعُ غَيْرَهُ الْمُطَالِبُ لِاقْتِضَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ. أَيْ لَا تَجِدُوا مَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ وَلَا مَنْ يُطَالِبُ لَكُمْ بِثَأْرٍ.

[سورة الإسراء (17) : آية 70]

وَوَصْفُ (تَبِيعٍ) يُنَاسِبُ حَالَ الضُّرِّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّ الْبَحْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ رِجَالُ قَبِيلَةِ الْقَوْمِ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، فَلَوْ رَامُوا الثَّأْرَ لَهُمْ لَرَكِبُوا الْبَحْرَ لِيُتَابِعُوا آثَارَ مَنْ أَلْحَقَ بِهِمْ ضُرًّا. فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا تَبِيعاً وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَكِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِمَّا إِلَى الْإِغْرَاقِ الْمَفْهُوم من فَيُغْرِقَكُمْ، وَإِمَّا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِرْسَالِ الْقَاصِفِ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلْفَاظَ يَخْسِفَ ويُرْسِلَ ويُعِيدَكُمْ وفَيُرْسِلَ وفَيُغْرِقَكُمْ خَمْسَتُهَا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَتُغْرِقَكُمْ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرِّيحِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، أَوْ عَلَى الرِّيَاحِ عَلَى قِرَاءَةِ أبي جَعْفَر. [70] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 70] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) اعْتِرَاضٌ جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَاعْترضَ بِذكر نعْمَة عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَأَشْبَهَ التَّذْيِيلَ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِهِ مَا يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ. وَالْمُرَادُ بِبَنِي آدَمَ جَمِيعُ النَّوْعِ، فَالْأَوْصَافُ الْمُثْبَتَةُ هُنَا إِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ لِلنَّوْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْجَمَاعَاتِ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ خَمْسَ مِنَنٍ: التَّكْرِيمَ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَرِّ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَحْرِ، وَالرِّزْقَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالتَّفْضِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.

فَأَمَّا مِنَّةُ التَّكْرِيمِ فَهِيَ مَزِيَّةٌ خَصَّ بِهَا اللَّهُ بَنِي آدَمَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ. وَالتَّكْرِيمُ: جَعْلُهُ كَرِيمًا، أَيْ نَفِيسًا غَيْرَ مَبْذُولٍ وَلَا ذَلِيلٍ فِي صُورَتِهِ وَلَا فِي حَرَكَةِ مَشْيِهِ وَفِي بَشَرَتِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ لَا يَعْرِفُ النَّظَافَةَ وَلَا اللِّبَاسَ وَلَا تَرْفِيهَ الْمَضْجَعِ وَالْمَأْكَلِ وَلَا حُسْنَ كَيْفِيَّةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا الِاسْتِعْدَادَ لِمَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعَ مَا يَضُرُّهُ وَلَا شُعُورَهُ بِمَا فِي ذَاتِهِ وَعَقْلِهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ فَيَسْتَزِيدُ مِنْهَا وَالْقَبَائِحَ فَيَسْتُرُهَا وَيَدْفَعُهَا، بَلْهُ الْخُلُوَّ عَنِ الْمَعَارِفِ وَالصَّنَائِعِ وَعَنْ قَبُولِ التَّطَوُّرِ فِي أَسَالِيبِ حَيَاتِهِ وَحَضَارَتِهِ. وَقَدْ مَثَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلتَّكْرِيمِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِشُ الطَّعَامَ بفمه بل بِرَفْعِهِ إِلَى فِيهِ بِيَدِهِ وَلَا يَكْرَعُ فِي الْمَاءِ بَلْ يَرْفَعُهُ إِلَى فِيهِ بِيَدِهِ، فَإِنَّ رَفْعَ الطَّعَامِ بِمِغْرَفَةٍ وَالشَّرَابِ بِقَدَحٍ فَذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ التَّكْرِيمِ وَهُوَ تَنَاوُلٌ بِالْيَدِ. وَالْحَمْلُ: الْوَضْعُ عَلَى الْمَرْكَبِ مِنَ الرَّوَاحِلِ. فَالرَّاكِبُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَرْكُوبِ. وَأَصْلُهُ فِي رُكُوبِ الْبَرِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُمُ الرَّوَاحِلَ وَأَلْهَمَهُمُ اسْتِعْمَالَهَا. وَأَمَّا الْحَمْلُ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ الْحُصُولُ فِي دَاخِلِ السَّفِينَةِ. وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ الْحُصُولِ اسْتِعَارَةٌ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَشَاعَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] . وَمَعْنَى حَمْلِ اللَّهِ النَّاسَ فِي الْبَحْرِ: إِلْهَامُهُ إِيَّاهُمُ اسْتِعْمَالَ السُّفُنِ وَالْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، فَجُعِلَ تَيْسِيرُ ذَلِكَ كَالْحَمْلِ. وَأَمَّا الرِّزْقُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَطْعَمَ مَا يَشَاءُ مِمَّا يَرُوقُ لَهُ، وَجَعَلَ فِي الطُّعُومِ أَمَارَاتٍ عَلَى النَّفْعِ، وَجَعَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِنْسَان من المطعومات أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ إِلَّا أَشْيَاءَ اعْتَادَهَا، عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْإِنْسِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ أَكْثَرُهَا اتِّسَاعًا فِي تَنَاوُلِ الطُّعُومِ.

وَأَمَّا التَّفْضِيلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ الْمُشَاهَدُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ. وَذَلِكَ الَّذِي جِمَاعُهُ تَمْكِينُ الْإِنْسَانِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بِرَأْيِهِ وَحِيلَتِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ تَفْضِيلًا عَلَى الْبَقِيَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِيمِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالتَّكْرِيمُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَكْرِيمِهِ فِي ذَاتِهِ، وَالتَّفْضِيلُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَشْرِيفِهِ فَوْقَ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ فَضَّلَهُ بِالْعَقْلِ الَّذِي بِهِ استصلاح شؤونه وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ عَنْهُ وَبِأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، هَذَا هُوَ التَّفْضِيلُ الْمُرَادُ. وَأَمَّا نِسْبَةُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَأَنْوَاعٍ من الموجودات الْخفية عَنَّا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنّ فَلَيْسَتْ بمقصودة هُنَا وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَدِلَّةٍ تَوْقِيفِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ الشَّرِيعَةِ. فَلَا تُفْرَضُ هُنَا مَسْأَلَةُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَفَاصِيلِهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدْ فَرَضَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا عَلَى عَادَتِهِ مِنْ التَّحَكُّكِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالتَّعَسُّفِ لِإِرْغَامِ الْقُرْآنِ عَلَى تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْأَدَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاسْتَوْجَبَ الْغَضَاضَةَ وَالْمَلَامَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ إِقْحَامَ لَفْظِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا مُرَاد مِنْهُ التَّقْيِيد وَالِاحْتِرَازُ وَالتَّعْلِيمُ الَّذِي لَا غُرُورَ فِيهِ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ ثَمَّ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ مُفَضَّلٍ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ تَكُونُ مُسَاوِيَةً أَوْ أَفْضَلَ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا، وَتَبْيِينُهُ يُتَلَقَّى مِنَ الشَّرِيعَةِ فِيمَا بَيَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا سَكَتَتْ فَلَا نَبْحَثُ عَنْهُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ: تَفْضِيلًا لِإِفَادَةِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ، أَيْ تَفْضِيلًا كَبِيرًا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 72]

[71، 72] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 71 الى 72] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ التَّهْدِيدِ بِعَاجِلِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً [الْإِسْرَاء: 66- 69] إِلَى ذِكْرِ حَالِ النَّاسِ فِي الْآخِرَةِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ. وَلَا يَحْسُنُ لَفْظُ (يَوْمَ) لِلتَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاء: 70] عَلَى أَنْ يَكُونَ تَخَلُّصًا مِنْ ذِكْرِ التَّفْضِيلِ إِلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ فَوَائِدُ التَّفْضِيلِ، فَتَرَجَّحَ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، فَفَتْحَةُ يَوْمَ إِمَّا فَتْحَةَ إِعْرَابٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ شَائِعِ الْحَذْفِ فِي ابْتِدَاءِ الْعِبَرِ الْقُرْآنِيَّةِ وَهُوَ فِعْلُ «اذْكُرْ» فَيَكُونُ يَوْمَ هُنَا اسْمَ زَمَانٍ مَفْعُولًا لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَلَيْسَ ظَرْفًا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أُوتِيَ لِلتَّفْرِيعِ لِأَنَّ فِعْلَ (اذْكُرِ) الْمُقَدَّرَ يَقْتَضِي أَمْرًا عَظِيمًا مُجملا فَوَقع تَفْصِيله بِذِكْرِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّ التَّفْصِيلَ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْإِجْمَالِ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فَتْحَتُهُ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لْإِضَافَتِهِ اسْمَ الزَّمَانِ إِلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَن الْفَاء تزاد فِي الْخَبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ مَا عَدَا سِيبَوَيْهِ وَإِمَّا ظَرْفٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْسِيمُ الَّذِي بَعْدَهُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ

إِلَى قَوْلِهِ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: تَتَفَاوَتُ النَّاسُ وَتَتَغَابَنُ. وَبَيْنَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ إِلَخْ. وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ، أَيْ يُعْمَلُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ أَوْ سِيرَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُبَيِّنُ الْدِّينِ: مِنْ دِينِ حَقٍّ لِلْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ وَمِنْ دِينِ كُفْرٍ وَبَاطِلٍ لِلْأُمَمِ الضَّالَّةِ. وَمَعْنَى دُعَاءِ النَّاسِ أَنْ يُدْعَى يَا أُمَّةَ فُلَانٍ وَيَا أَتْبَاعَ فُلَانٍ، مِثْلُ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا أُمَّةَ مُوسَى، يَا أُمَّةَ عِيسَى، وَمِثْلُ: يَا أُمَّةَ زُرَادَشْتَ. وَيَا أُمَّةَ بَرْهَمَا، وَيَا أُمَّةَ بُوذَا، وَمِثْلُ: يَا عَبَدَةَ الْعُزَّى، يَا عَبَدَةَ بَعْلَ، يَا عَبَدَةَ نَسْرٍ. وَالْبَاءُ لتعدية فعل نَدْعُوا لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، يُقَالُ: دَعَوْتُهُ بِكُنْيَتِهِ وَتَدَاعَوْا بِشِعَارِهِمْ. وَفَائِدَةُ ندائهم بمتبوعيهم التَّعْجِيل بِالْمَسَرَّةِ لِاتِّبَاعِ الْهُدَاةِ وَبِالْمَسَاءَةِ لِاتِّبَاعِ الْغُوَاةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا بِذَلِكَ رَأَوْا مَتْبُوعِيهِمْ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُمْ فَعَلِمُوا مَصِيرَهُمْ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تَفْرِيعَ التَّفْصِيلِ لِمَا أجمله قَوْله: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، أَي وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ، أَيْ كِتَابَ أَعْمَالِهِ بِيَمِينِهِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ أُوتِيَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ قَوْله: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أَيْ فَيُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ، أَيْ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ. وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ إِلْهَامُ صَاحِبِهِ إِلَى تَنَاوُلِهِ بِالْيَمِينِ. وَتِلْكَ عَلَامَةُ عِنَايَةٍ بِالْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يَعْزِمُ عَمَلًا عَظِيمًا قَالَ تَعَالَى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 45] ، وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ- وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طيبا- تلقاها الرحمان بِيَمِينِهِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ... » إِلَخْ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، كَمَا فِي آيَةِ الْحَاقَّةِ [25] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ فَاءِ جَوَابِ (أَمَّا) ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ دون غَيرهم يقرؤون كِتَابَهُمْ، لِأَنَّ فِي اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ مَسَرَّةً لَهُمْ وَنَعِيمًا بِتَذَكُّرِ وَمَعْرِفَةِ ثَوَابِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ صَحِيفَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَسُرُّ وَعَلَى تَذَكُّرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا يُطَالِعُ الْمَرْءُ أَخْبَارَ سَلَامَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَرَفَاهَةِ حَالِهِمْ، فَتَوَفُّرُ الرَّغْبَةِ فِي قِرَاءَةِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ شِنْشِنَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ فَسَكَتَ عَنْ قِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ هُنَا. وَوَرَدَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: 13- 14] . وَالظُّلْمُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا بِمَعْنَى النَّقْصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: 33] ، لِأَنَّ غَالِبَ الظُّلْمِ يَكُونُ بِانْتِزَاعِ بَعْضِ مَا عِنْدَ الْمَظْلُومِ فَلَزِمَهُ النُّقْصَانُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا يُعْطَاهُ مِنَ الْجَزَاءِ مِمَّا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي ازْدِيَادِهِ. وَالْفَتِيلُ: شِبْهُ الْخَيْطِ تَكُونُ فِي شَقِّ النَّوَاةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [49] ، وَهُوَ مَثَلٌ لِلشَّيْءِ الْحَقِيرِ التَّافِهِ، أَيْ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا وَلَوْ قَلِيلًا جِدًّا. وَعَطْفُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عَطْفُ الْقَسِيمِ عَلَى قَسِيمِهِ فَهُوَ من حَيِّزِ «أَمَّا» التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا من كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى، وَلَمَّا كَانَ الْقَسِيمُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ هُمْ مَنْ أُوتُوا كِتَابَهُمْ بِالْيَمِينِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِضِدِّ ذَلِكَ يُؤْتَى

كِتَابَهُ بِالشَّمَالِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ وَأُتِيَ لَهُ بِصِلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ كَوْنُهُ أَعْمَى حُكْمًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِ الْفَظِيعَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ الدُّنْيَا، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي الدُّنْيَا الضَّلَالَةُ فِي الدِّينِ، أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْعَمَى عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي الْآخِرَةِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْعَمَى مِنَ الْحَيْرَةِ وَاضْطِرَابِ الْبَالِ، فَالْأَعْمَى أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِمُشَابِهِ الْأَعْمَى بِإِحْدَى الْعَلَاقَتَيْنِ. وَوَصْفُ أَعْمى فِي الْمَرَّتَيْنِ مُرَادٌ بِهِ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ لَا التَّفْضِيلُ. وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي أَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ أَقْوَى مِنْهُ فِي حَالِهِ فِي الدُّنْيَا أُشِيرَ إِلَى شِدَّةِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا الْقَائِمِ مَقَامَ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ فِي الْعَمَى لِكَوْنِ وَصْفِ (أَعْمَى) غَيْرَ قَابِلٍ لِأَنْ يُصَاغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ فِي حَالِ الْوَصْفِ. وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ (أَشَدَّ) وَنَحْوِهِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى التَّفْضِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اشْتِقَاقِ صِيغَةِ (أَفْعَلَ) لِيَتَأَتَّى ذِكْرُ السَّبِيلِ، لِمَا فِي الضَّلَالِ عَنِ السَّبِيلِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ الْعَمَى وَإِيضَاحِهِ، لِأَنَّ ضَلَالَ فَاقِدِ الْبَصَرِ عَنِ الطَّرِيق فِي حَال السَّيْرُ أَشَدَّ وَقْعًا فِي الْإِضْرَارِ مِنْهُ وَهُوَ قَابِعٌ بِمَكَانِهِ، فَعَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْوَجِيزِ إِلَى التَّرْكِيبِ الْمُطْنِبِ لِمَا فِي الْإِطْنَابِ مِنْ تَمْثِيلِ الْحَالِ وَإِيضَاحِهِ وَإِفْظَاعِهِ وَهُوَ إِطْنَابٌ بَدِيعٌ. وَقَدْ أُفِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ عَمَاهُ فِي الدَّارَيْنِ عَمَى ضَلَالٍ عَنِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ. وَمَعْنَى الْمُفَاضَلَةِ رَاجِعٌ إِلَى مُفَاضَلَةِ إِحْدَى حَالَتَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فِي الضَّلَالِ وَأَثَرِهِ لَا إِلَى حَالِ غَيْرِهِ. فَالْمَعْنَى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَوَجْهُ كَوْنِ ضَلَالِهِ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ أَنَّ ضَلَالَهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ فِي مُكْنَتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ بِطَلَبِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَى السَّبِيلِ الْمُوصِلُ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهِ خَلِيًّا عَنْ لَحَاقِ الْأَلَمِ بِهِ، وَأَمَّا ضَلَالُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ ضَلَالٌ لَا خَلَاصَ مِنْهُ وَهُوَ مُقَارِنٌ لِلْعَذَابِ الدَّائِمِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ضَلَالُهُ فِي الْآخِرَةِ أَدْخَلَ فِي حَقِيقَةِ الضلال وماهيته.

[سورة الإسراء (17) : آية 73]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 73] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) حِكَايَةُ فَنٍّ مِنْ أَفَانِينِ ضَلَالِهِمْ وَعَمَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء: 72] ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ وَصْفِ حَالِهِمْ وَإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ فِي تَكْذِيب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِكْرِ حَالٍ آخَرَ مِنْ حَالِ مُعَارَضَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَهِيَ حَالُ طَمَعِهِمْ فِي أَنْ يستنزلوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنْ يَقُولَ قَوْلًا فِيهِ حُسْنُ ذِكْرٍ لَآلِهَتِهِمْ لِيَتَنَازَلُوا إِلَى مُصَالَحَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ إِذَا وَافَقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ مُرَادٌ مِنْهَا كُفَّارُ قُرَيْش، أَي متولوا تَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ. وَغَيْرُ الْأُسْلُوبِ مِنْ خِطَابِهِمْ فِي آيَاتِ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الْإِسْرَاء: 66] إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَغَيُّرِ الْمَقَامِ مِنْ مَقَامِ اسْتِدْلَالٍ إِلَى مَقَامِ امْتِنَانٍ. وَالْفَتْنُ وَالْفُتُونُ: مُعَامَلَةٌ يَلْحَقُ مِنْهَا ضُرُّ وَاضْطِرَابُ النَّفْسِ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعَامَلَةِ يَعْسُرُ دَفْعُهَا، مِنْ تَغَلُّبٍ عَلَى الْقُوَّةِ وَعَلَى الْفِكْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [191] . وعدي لَيَفْتِنُونَكَ بِحَرْفِ (عَنْ) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى فِعْلٍ كَانَ الْفَتْنُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَعْنَى (يَصْرِفُونَكَ) . وَالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِمَا تُعْطِيهِ مَعَانِي تَرَاكِيبِهَا مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا تَقْتَضِيهِ أَدِلَّةُ عصمَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ خَوَاطِرُ إِجَابَةِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا يَطْمَعُونَ.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ بِضْعَةُ مَحَامِلَ أُخْرَى لِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، فَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْقَبُولِ لِوَهَنِ سَنَدِهِ وَعَدَمِ انْطِبَاقِهِ عَلَى مَعَانِي الْآيَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَتَتَحَمَّلُهُ الْآيَةُ بِتَكَلُّفٍ. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ راودوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسَوِّيَهُمْ مَعَ مَنْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عِنْدَهُمْ مِثْلِ: بِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَخَبَّابٍ، وَصُهَيْبٍ، وَأَنَّهُمْ وَعَدُوا النَّبِيءَ إِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْلِسُوا إِلَيْهِ وَيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ حِين لَا يَكُونُ فِيهِ تَنْقِيصُ آلِهَتِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ هَمَّ بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ بَعْضَ اللِّينِ رَغْبَةً فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بَعْضَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَهُوَ مَا فِيهِ فَضْلُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَة [الْأَنْعَام: 52] ، أَوْ مَا فِيهِ تنقيص الْأَصْنَامِ. وَسِمَاتُ التَّخَرُّصِ وَضِيقِ الْعَطَنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِحَاقِّ أَلْفَاظِهَا بَادِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ هَاتِهِ الْأَخْبَارِ. وَإِذْ قَدْ مُلِئَتْ بِهَا كُتُبُ التَّفْسِيرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَمْثَلِ مَا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَخْبَارَ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاظِرِينَ فَنَقُولُ: إِنَّ رَغْبَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اقْتِرَابِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفِي تَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ، أَجَالَتْ فِي خَاطِرِهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى بَعْضِ مَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى تَخْفِيفِ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ أَوْ إِنْظَارِهِمْ أَوْ إِرْضَاءِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ بِالتَّخَلِّي عَنْ مَجْلِسِهِ حِينَ يَحْضُرُهُ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُنْتَدَبُونَ إِلَى ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَيْسَ فِيهِ فَوَاتُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَادُوا يَصْرِفُونَكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لما سَأَلُوهُ. فالموصول فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِلْعَهْدِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسَبِ مَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْمَنِّ عَلَى النَّبِيءِ بِعِصْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَمَسَاقُ إِظْهَارِ مِلَلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَخَوُّفِهِمْ مِنْ عَوَاقِبِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَنْ يَكُونَ.

وَقَوْلُهُ: لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ مُتَعَلق ب لَيَفْتِنُونَكَ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِضْمَارًا مِنْهُمْ وَطَمَعًا فِي أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ، أَيْ غَيْرَ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ. وَهَذَا طَمَعٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَسْتَدْرِجُوا النَّبِيءَ مِنْ سُؤَالٍ إِلَى آخَرَ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نِيَّاتِهِمْ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي أَن النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- هَمَّ بِذَلِكَ كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، إِذْ لَامُ التَّعْلِيلِ لَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ غَرَضِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وَلَا تَقْتَضِي غَرَضَ الْمَفْعُولِ وَلَا عِلْمَهُ. وَ (إِنَّ) مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ فِي لَيَفْتِنُونَكَ هِيَ اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ فَلَا تَقْتَضِي تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ. وَجُمْلَةُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ. و (إِذا) حَرْفُ جَزَاءٍ وَالنُّونُ الَّتِي بِآخِرِهَا نُونُ كَلِمَةٍ وَلَيْسَتْ تَنْوِينَ تَمْكِينٍ فَتَكُونُ جَزَاء لفعل لَيَفْتِنُونَكَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْمُتَعَلِّقَاتِ مُقْحَمًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ لِتَصِيرَ وَاوُ الْعَطْفِ مَعَ (إِذًا) مُفِيدَةً مَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَوَجْهُ عَطْفِهَا بِالْوَاوِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى حَرْفِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي حَاوَرُوا النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- فِيهَا وألحوا عَلَيْهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ أَحْوَالِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْ صَرَفُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَوْحَينَا إِلَيْك لَا تخذوك خَلِيلًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَاتَّخَذُوكَ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَهُوَ لَوْ صَرَفُوكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لَا تخذوك خَلِيلًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَاتَّخَذُوكَ لَامُ جَوَابِ (لَوْ) إِذْ كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا مُثْبَتًا. وَالْخَلِيلُ: الصَّدِيقُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 74 إلى 75]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 74 إِلَى 75] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الْإِسْرَاء: 73] بِنَاءً عَلَى مَا نَحَوْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَمَقَامٌ آخَرُ مِنْ مَقَامِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِجَاهَ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَكْمِلَةِ مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ الرُّكُونُ إِلَيْهِمْ رُكُونًا فِيمَا سَأَلُوهُ مِنْهُ عَلَى نَحْوِ مَا سَاقَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ يَقْتَضِي امْتِنَاعًا لِوُجُودٍ، أَيْ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، أَيْ بِسَبَبِ وُجُودِ شَرْطِهِ. وَالتَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَكَانِهِ غَيْرَ مُقَلْقَلٍ وَلَا مَقْلُوعٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْبَقَاءِ عَلَى حَالِهِ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [265] . وَعُدِّيَ التَّثْبِيتُ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ الدَّالِّ عَلَى ذَاتِهِ. وَالْمُرَادُ تَثْبِيتُ فَهْمِهِ وَرَأْيِهِ، وَهَذَا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِهَا بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْمَقَامِ، مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] . فَالْمَعْنَى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَا رَأْيَكَ فَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ لَقَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ جَوَابِ (لَوْلَا) ، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِجَوَابِهَا لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الرُّكُونَ مُجْمَلٌ فِي أَشْيَاءَ هِيَ مَظِنَّةُ الرُّكُونِ وَلَكِنَّ الرُّكُونَ مُنْتَفٍ مِنْ أَصْلِهِ لِأَجْلِ التَّثْبِيتِ بِالْعِصْمَةِ كَمَا

انْتَفَى أَنْ يَفْتِنَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ تَنْفِيذِ فِتْنَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: وَلَوْلَا أَنْ عَصَمْنَاكَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَأَرَيْنَاكَ أَنَّ مَصْلَحَةَ الشِّدَّةِ فِي الدِّينِ وَالتَّنْوِيهِ بِأَتْبَاعِهِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ ضُعَفَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَا تُعَارِضُهَا مَصْلَحَةُ تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِالْغَضَاضَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمِ اسْتِئْلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ إِظْهَارَ الْهَوَادَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ تُطْمِعُ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّرَقِّي إِلَى سُؤَالِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مَدًى مِمَّا سَأَلُوهُ، فَمَصْلَحَةُ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِ الْحَزْمِ مَعَهُمْ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ مُلَايَنَتِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ، أَيْ فَلَا فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا، أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ، أَيْ تَوَعَّدْتَهُمْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى بَعْضِ مَا سَأَلُوكَ اسْتِنَادًا لِدَلِيلِ مَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ وَاضِحَةٍ وَغَفْلَةً عَنْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ خَفِيَّةٍ اغْتِرَارًا بِخِفَّةِ بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ فِي جَانِبِ عِظَمِ مَا وَعَدُوا بِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَالرُّكُونُ: الْمَيْلُ بِالرُّكْنِ، أَيْ بِالْجَانِبِ مِنَ الْجَسَدِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمُوَافَقَةِ بِعَلَاقَةِ الْقُرْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ هُودٍ [113] ، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [83] . وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ تَرْكَنُ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الرُّكُونِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ مَصْدَرِ تَرْكَنُ طَلَبُ الْخِفَّةِ لِأَنَّ مَصْدَرَ تَرْكَنُ وَهُوَ الرُّكُونُ فِيهِ ثِقَلٌ فَتَرْكُهُ أَفْصَحُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَلِيلًا لِأَنَّ تَنْكِيرَ شَيْئاً مُفِيدٌ التَّقْلِيلَ، فَكَانَ فِي ذِكْرِهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى التَّقْلِيلِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) لتوغلها فِي إِبْهَام جِنْسِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ جِنْسِ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا مُفِيدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: 20] . وَ (إِذَنْ) الثَّانِيَةُ جَزَاءٌ لِ كِدْتَ تَرْكَنُ، وَلِكَوْنِهَا جَزَاءً فُصِلَتْ عَنِ الْعَطْفِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ. فركون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ غَيْرُ

وَاقِعٍ وَلَا مُقَارِبٍ الْوُقُوعَ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ نَفَتْهُ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ، وَهِيَ: (لَوْلَا) الِامْتِنَاعِيَّةُ. وَفِعْلُ الْمُقَارَبَةِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مَا كَانَ يَقَعُ الرُّكُونُ وَلَكِنْ يَقَعُ الِاقْتِرَابُ مِنْهُ، وَالتَّحْقِيرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ شَيْئاً، وَالتَّقْلِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَلِيلًا. أَيْ لَوْلَا إِفْهَامُنَا إِيَّاكَ وَجْهَ الْحَقِّ لَخَشِيَ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْ رُكُونٍ ضَعِيفٍ قَلِيلٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَدَخَلَتْ (قَدْ) فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَأَصْبَحَ تَحْقِيقُهَا مَعْدُومًا، أَيْ لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَتَحَقَّقَ قُرْبُ مَيْلِكَ الْقَلِيلِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّا ثَبَّتْنَاكَ. وَجُمْلَةُ إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ جَزَاءٌ لِجُمْلَةِ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. وَلِمَا فِي (إِذَنْ) مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ اسْتُغْنِيَ عَنْ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّفْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ فَلَأَذَقْنَاكَ. وَالضِّعْفُ- بِكَسْرِ الضَّادِ-: مُمَاثِلٌ مِقْدَارَ شَيْءٍ ذِي مِقْدَارٍ، فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُبَيِّنًا بِجِنْسِهِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [النُّور: 30] ، أَيْ ضِعْفَيْ مَا أُعِدَّ لِتِلْكَ الْفَاحِشَةِ. وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ سَاغَ إِطْلَاقُهُ دُونَ بَيَانٍ اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِ السِّيَاقِ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ ذِكْرَ الْإِذَاقَةِ فِي مقَام التحذير ينبىء بِأَنَّهَا إِذَاقَةُ عَذَابٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ ضِعْفٌ. ثُمَّ إِنَّ الضِّعْفَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِعَدَمِ حَمْلِ الضِّعْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ عِلْمٌ بِمِقْدَارِ الْعَذَابِ يُرَادُ تَضْعِيفُهُ كَقَوْلِهِ: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [38] . وَإِضَافَةُ الضِّعْفِ إِلَى الْحَيَاةِ وَإِلَى الْمَمَاتِ عَلَى مَعْنَى (فِي) ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ مَعْنَى (فِي) بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِإِضَافَةِ مَا يُضَافُ إِلَى الْأَوْقَاتِ. فَالتَّقْدِيرُ: لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ وَضِعْفًا فِي الْمَمَاتِ، فَضِعْفُ عَذَابِ الْحَيَاةِ هُوَ تَرَاكُمُ الْمَصَائِبِ وَالْأَرْزَاءِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ، أَيِ الْعُمْرِ بِزَوَالِ مَا كَانَ يَنَالُهُ

مِنْ بَهْجَةٍ وَسُرُورٍ بِتَمَامِ دَعْوَتِهِ وَانْتِظَامِ أُمَّتِهِ، ذَلِكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ، وَعَذَابُ الْمَمَاتِ أَنْ يَمُوتَ مَكْمُودًا مُسْتَذَلًّا بَيْن كُفَّارٍ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ فَازُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفُوا عَلَى السُّقُوطِ أَمَامَهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَضِعْفَ الْمَماتِ فِي اسْتِمْرَارِ ضِعْفِ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ حَتَّى الْمَمَاتِ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ضِعْفِ الْمَمَاتِ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَكَنَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَاجْتِلَابًا لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ فِي نَظَرِهِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الِاجْتِهَادِ عِقَابٌ فِي الْآخِرَةِ إِذِ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَقَدْ سوغ الله لنبيئه الِاجْتِهَاد وَجعل للمخطىء فِي اجْتِهَادِهِ أَجْرًا كَمَا قَرَّرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [68] . وَأَمَّا مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَأَرْزَاؤُهَا فَهِيَ مُسَبَّبَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ مَنِ الْأَغْلَاطِ وَالْأَخْطَاءِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّفَادِي مِنْهَا حُسْنُ النِّيَّةِ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا قَدْ أَخْطَأَ وَجْهَ الصَّوَابِ، فَتَدَبَّرْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي تَدَبُّرَ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلِهَذَا خُولِفَ التَّعْبِيرُ الْمُعْتَادُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَعُبِّرَ هُنَا بِ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَأَذَقْناكَ. وَمَوْقِعُهَا تَحْقِيقُ عَدَمِ الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْإِذَاقَةِ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ أَهَمُّ مِنْ إِذَاقَتِهِ، فَرُتْبَتُهُ فِي الْأَهَمِّيَّةِ أَرْقَى. وَالنَّصِيرُ: النَّاصِرُ الْمُخَلِّصُ مِنَ الْغَلَبَةِ أَوِ الَّذِي يَثْأَرُ لِلْمَغْلُوبِ، أَيْ لَا تَجِدُ لِنَفْسِكَ مَنْ يَنْتَصِرُ لَكَ فَيَصُدُّنَا عَنْ إِلْحَاقِ ذَلِكَ بِكَ أَوْ يَثْأَرُ لَك منا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 إلى 77]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 76 إِلَى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الْإِسْرَاء: 73] تِعْدَادًا لِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ. وَالضَّمَائِرُ مُتَّحِدَةٌ. وَالِاسْتِفْزَازُ: الْحَمْلُ عَلَى التَّرَحُّلِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ فَزَّ بِمَعْنَى بَارَحَ الْمَكَانَ، أَيْ كَادُوا أَنْ يَسْعَوْا أَنْ تَكُونَ فَازًّا، أَيْ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [64] . وَالْمَعْنَى: كَادُوا أَنْ يُخْرِجُوكَ مِنْ بَلَدِكَ. وَذَلِكَ بِأَنْ هَمُّوا بِأَنْ يُخْرِجُوهُ كُرْهًا ثُمَّ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ حِينَ خَرَجَ مُهَاجِرًا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ ارْتَأَوْا بَعْدَ زَمَانٍ أَنْ يُبْقُوهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مِنْ أَرْضِكَ وَهِيَ مَكَّةُ. وَقَوْلُهُ: لِيُخْرِجُوكَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِفْزَازِ، أَيِ اسْتِفْزَازًا لِقَصْدِ الْإِخْرَاجِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِخْرَاجِ: مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ دُونَ رُجُوعٍ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ عِلَّةً لِلِاسْتِفْزَازِ لِأَنَّ الِاسْتِفْزَازَ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْرَاجِ. وَجُمْلَةُ وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ وَ (إِذًا) ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: لَا يَلْبَثُونَ وَهِي (إِذا) الْمُلَازِمَةُ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذَا) حَرْفَ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَهِيَ الَّتِي نُونُهَا حَرْفٌ مِنَ الْكَلِمَةِ وَلَكِنْ كَثُرَتْ كِتَابَتُهَا بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الِاسْمِ

الْمُنَوَّنِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبًا بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ جَازَ رَفْعُ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا وَنَصْبُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (إِذًا) ظرفا للزمان، وتنوينها عوض عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ لَمْ يَنْتَصِبْ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا نَادِرًا لِانْتِفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذًا أَخْرَجُوكَ أَوْ وَإِذًا خَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلْفَكَ. وخَلْفَكَ أُرِيدَ بِهِ بَعْدَكَ. وَأَصْلُ الْخَلْفِ الْوَرَاءُ فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ خِلافَكَ وَهُوَ لُغَةٌ فِي خَلْفٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 81] . وَاللُّبْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ لَا يَسْتَقِرُّونَ فِي مَكَّةَ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُونَ. وَقَدْ خَرَجَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مُهَاجِرًا وَكَانُوا السَّبَبَ فِي خُرُوجِهِ فَكَأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] ، فَلَمْ يَلْبَثِ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِي إِخْرَاجِهِ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ قَوْمَهُمْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى وَقْعَةٍ بَدْرٍ فَلَقُوا حَتْفَهُمْ هُنَالِكَ فَلَمْ يَرْجِعُوا وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، وَأَبْقَى الله عامتهم ودهاءهم لِضَعْفِ كَيْدِهِمْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ مُخْرِجِيهِ، أَيِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِي خُرُوجِهِ، لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا قَلِيلًا. وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا صَاحِبُهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا اسْمٌ جَامِدٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: 136] ، أَيْ عَادَةُ اللَّهِ فِي كُلِّ

رَسُولٍ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ أَنْ لَا يَبْقَوْا بَعْدَهُ، خَرَجَ هُودٌ مِنْ دِيَارِ عَادٍ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ صَالِحٌ مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَهَلَكَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَإِضَافَةُ سُنَّةَ إِلَى مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ سُنَّتُنَا فِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هِيَ الْإِضَافَةُ الْحَقِيقِيَّةُ. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ من مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمَ مَصْدَرٍ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَنَنَّا ذَلِكَ لِمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ. فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمًا جَامِدًا فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنًى اشْتِقَاقِيٍّ. وَجُمْلَةُ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ سَبَبِ كَوْنِ لُبْثِهِمْ بَعْدَهُ قَلِيلًا. وَإِنَّمَا سَنَّ اللَّهُ هَذِهِ السُّنَّةَ لِرُسُلِهِ لِأَنَّ تَآمُرَ الْأَقْوَامِ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ يَسْتَدْعِي حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِئَلَّا يَبْقَوْا مَرْمُوقِينَ بِعَيْنِ الْغَضَاضَةِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَأَجْوَارِهِمْ بِشِبْهِ مَا كَانَ يُسَمَّى بِالْخَلْعِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَجُمْلَةُ وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِلَةِ الْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلِأَنَّ عَادَتَنَا لَا تَتَحَوَّلُ. وَالتَّعْبِيرُ ب لَا تَجِدُ مُبَالَغَةٌ فِي الِانْتِفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [17] . وَالتَّحْوِيلُ: تَغْيِيرُ الْحَالِ وَهُوَ التَّبْدِيلُ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ الْحَقْ بِأَرْضِ الشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَصَدَّقَ النَّبِيءُ قَوْلَهُمْ فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ

[سورة الإسراء (17) : آية 78]

الْآيَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ. وَسَبَبُ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ فَرِيقٌ: إِنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صدر السُّورَة. [78] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 78] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) كَانَ شَرْعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِلْأُمَّةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُثْبَتٍ فِي التَّشْرِيعِ الْمُتَوَاتِرِ إِنَّمَا أَبْلَغَهُ النَّبِيءُ أَصْحَابَهُ فَيُوشِكُ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَقَدْ عَيَّنَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا لِلصَّلَوَاتِ بَعْدَ تَقَرُّرِ فَرْضِهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَقِبَ حَادِثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا لِلتَّشْرِيعِ الَّذِي شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أَيَّامَئِذٍ الْمُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَات [الْإِسْرَاء: 23] . فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا عَقِبَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا امْتَنَّ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِصْمَةِ وَبِالنُّصْرِ ذَكَّرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ يَعْبُدُهُ بِهَا، وَبِالزِّيَادَةِ مِنْهَا طَلَبًا لِازْدِيَادِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاء: 79] . فَالْخِطَابُ بِالْأَمر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّ خِطَابَ النَّبِيءِ بِتَشْرِيعٍ تَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَشَاعَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ مَا كَانُوا يسْأَلُون عَن اخْتِصَاصِ حُكْمٍ إِلَّا فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ الْقَوِيِّ، كَمَنْ سَأَلَهُ: أَلَنَا هَذِهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ.

وَالْإِقَامَةُ: مَجَازٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ وَالْإِدَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَاللَّامُ فِي لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لَامُ التَّوْقِيتِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) . وَالدُّلُوكُ: مِنْ أَحْوَالِ الشَّمْسِ، فَوَرَدَ بِمَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ قَوْسٍ فَرْضِيٍّ فِي طَرِيقِ مَسِيرِهَا الْيَوْمِيِّ. وَوَرَدَ بِمَعْنَى: مَيْلُ الشَّمْسِ عَنْ مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَوْسِ وَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَرَدَ بِمَعْنَى غُرُوبِهَا، فَصَارَ لَفْظُ الدُّلُوكِ مُشْتَرَكًا فِي الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ. وَالْغَسَقُ: الظُّلْمَةُ، وَهِيَ انْقِطَاعُ بَقَايَا شُعَاعِ الشَّمْسِ حِينَ يُمَاثِلُ سَوَادُ أُفُقِ الْغُرُوبِ سَوَادَ بَقِيَّةِ الْأُفُقِ وَهُوَ وَقْتُ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَيُسَمَّى الْعَتَمَةَ، أَيِ الظُّلْمَةَ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا أَرْبَعَةً، فَالدُّلُوكُ يَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. وَفُهِمَ مِنْ حَرْفِ (إِلَى) الَّذِي لِلِانْتِهَاءِ أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّ الْغَايَةَ كَانَتْ لِفِعْلِ أَقِمِ الصَّلاةَ فَالْغَايَةُ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَايَةَ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ جَعَلَ وَقْتَهَا مُتَّسِعًا، لِأَنَّ هَذَا فَهْمٌ يَنْبُو عَنْهُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ مِنْ وُجُوبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ أَوِ الْأَكْمَلُ. وَقَدْ زَادَ عمل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا لِلْآيَةِ. وَأَمَّا مِقْدَارُ الِاتِّسَاعِ فَيُعْرَفُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ. فَكَلِمَةُ «دُلُوكٍ» لَا تُعَادِلُهَا كَلِمَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا فِي «الْمُوَطَّأِ» وَمَوْصُولًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ لِلصُّبْحِ وَقْتًا لَهُ ابْتِدَاءٌ وَنِهَايَةٌ. وَهُوَ أَيْضًا ثَابِتٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَدَا الْمَغْرِبِ فَقَدْ سَكَتَ عَنْهَا الْأَثَرُ. فَتَرَدَّدَتْ

أَنْظَارُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا بَيْنَ وُقُوفٍ عِنْدَ الْمَرْوِيِّ وَبَيْنَ قِيَاسِ وَقْتِهَا عَلَى أَوْقَاتِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الثَّانِي أَرْجَحُ، لِأَنَّ امْتِدَادَ وَقْتِ الصَّلَاةِ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُصَلِّي وَهِيَ تُنَاسِبُ تَيْسِيرَ الدِّينِ. وَجُعِلَ الْغَسَقُ نِهَايَةً لِلْأَوْقَاتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ الْغَسَقِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْمُتَعَارَفُ فِي الْغَايَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) فَعُلِمَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْغَسَقِ وَقْتُ صَلَاةٍ، وَهَذَا جَمْعٌ بَدِيعٌ. ثُمَّ عَطَفَ قُرْآنَ الْفَجْرِ عَلَى الصَّلاةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، أَيِ الصَّلَاةَ بِهِ. كَذَا قَدَّرَ الْقُرَّاءُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ قُرْآنًا كَقَوْلِه: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمّل: 20] ، أَيْ صَلُّوا بِهِ نَافِلَةَ اللَّيْلِ. وَخُصَّ ذِكْرُ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا يُجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ رُكُوعِهَا، وَلِأَنَّ سُنَّتَهَا أَنْ يُقْرَأَ بِسُوَرٍ مِنْ طُوَالِ الْمُفَصَّلِ فَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ لِلْمَأْمُومِينَ أَكْثَرُ فِيهَا وَقِرَاءَتُهُ لِلْإِمَامِ وَالْفَذُّ أَكْثَرُ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عَطْفَ جُمْلَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْزَمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. فَيُعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ حَتْمٌ. وَهَذَا مُجْمَلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَوَاتِ. وَمَقَادِيرِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالْعُرْفُ فِي مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِوَجْهِ تَخْصِيصِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِاسْمِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَشْهُودَةٌ، أَيْ مَحْضُورَةٌ. وَفُسِّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ» . وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي

[سورة الإسراء (17) : آية 79]

فَضْلِهَا وَبَرَكَتِهَا. وَأَيْضًا فَهِيَ يَحْضُرُهَا أَكْثَرُ الْمُصَلِّينَ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ النَّشَاطِ وَبَعْدَهَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيَخْرُجُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَيَكْثُرَ سَمَاعُ الْقُرْآن حِينَئِذٍ. [79] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 79] وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) عَطْفٌ عَلَى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: 78] فَإِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا لفعل أَقِمِ [الْإِسْرَاء: 78] . وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقُ بِ «تَهَجَّدْ» عَلَى مُتَعَلِّقِهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَتَحْرِيضًا عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيمِهِ اكْتَسَبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَجُعِلَ مُتَعَلِّقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَاءُ الْجَزَاءِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [7] . وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فِي مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَصْبَ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: 78] عَلَى الْإِغْرَاءِ فَيَكُونُ فَتَهَجَّدْ تَفْرِيعًا عَلَى الْإِغْرَاءِ تَفْرِيعَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ، وَتَكُونُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى (بَعْضٍ) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النِّسَاء: 46] وَهُوَ أَيْضًا حَسَنٌ. وَضَمِيرُ بِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: 78] وَإِنْ كَانَ الْمَعَادُ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي الْفَجْرِ وَالْمَذْكُورُ هُنَا مُرَادًا مُطْلَقُهُ، كَقَوْلِكَ. عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا نِصْفُ الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَكَ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.

وَالتَّهَجُّدُ: الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُجُودِ، وَهُوَ النَّوْمُ. فَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ مثل التحرج والتأثم. وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ. وَاللَّامُ فِي لَكَ متلعقة بِ نافِلَةً وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ نَافِلَةً لِأَجْلِكَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّهَجُّدِ خَاص بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ فِي عِدَادِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ فَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. وَفِي هَذَا الْإِيجَابِ عَلَيْهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ، وَلِهَذَا أُعْقِبَ بِوَعْدِ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. فَجُمْلَةُ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ تَعْلِيلٌ لِتَخْصِيصِهِ بِإِيجَابِ التَّهَجُّدِ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعْدٌ. فَالْمَعْنَى: لِيَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا. وَالْمَقَامُ: مَحَلُّ الْقِيَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ الْمَعْدُودُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِيهِ وَلَا يَجْلِسُوا، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَجْلِسُ. وَانْتَصَبَ مَقاماً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ يَبْعَثَكَ. وَوَصْفُ الْمَقَامِ بِالْمَحْمُودِ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ. وَالْمَحْمُودُ مَنْ يَقُومُ فِيهِ، أَيْ يُحْمَدُ أَثَرُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِغَنَائِهِ عَنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا- بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ- أَيْ جَمَاعَاتٍ كُلُّ أمة تتبع نبيئها يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ! حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيءِ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ» . وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة الإسراء (17) : آية 80]

فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَالَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ . قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» . وَقَدْ وَرَدَ وَصْفُ الشَّفَاعَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مُفَصَّلًا. وَذَلِكَ مَقَامٌ يَحْمَدُهُ فِيهِ كُلُّ أهل الْمَحْشَر. [80] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 80] وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشُّكْرِ الْفِعْلِيِّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالشُّكْرِ اللِّسَانِيِّ بِأَنْ يَبْتَهِلَ إِلَى اللَّهِ بِسُؤَالِ التَّوْفِيقِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَانٍ وَالدُّخُولِ إِلَى مَكَانٍ كَيْلَا يَضُرَّهُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوهُ مِنْهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ لِقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاء: 79] ، فَلَمَّا وَعَدَهُ بِأَنْ يُقِيمَهُ مَقَامًا مَحْمُودًا نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَالَهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ يَقُومُهُ. وَفِي هَذَا التَّلْقِينِ إِشَارَةٌ إِلَهِيَّةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُخْرِجُهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مُهَاجَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قُبَيْلَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ مُقَدِّمَةً لِلْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالْمُدْخَلُ وَالْمُخْرَجُ- بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِفَتْحِ الْحَرْفِ الثَّالِثِ- أَصْلُهُ اسْمُ مَكَانِ الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ. اخْتِيرَ هُنَا الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ دُخُولٌ وَخُرُوجٌ مُيَسَّرَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاقِعَانِ بِإِذْنِهِ. وَذَلِكَ دُعَاءٌ بِكُلِّ دُخُولٍ وَخُرُوجٍ مباركين لتتم الْمُنَاسبَة بَيْنَ الْمَسْئُولِ وَبَيْنَ الْمَوْعُودِ بِهِ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَهَذَا السُّؤَالُ يَعُمُّ كُلَّ مَكَانٍ يَدْخُلُ إِلَيْهِ وَمَكَانٍ يَخْرُجُ مِنْهُ. والصدق: هُنَا الْكَمَال وَمَا يُحْمَدُ فِي نَوْعِهِ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ فَهُوَ كَالْكَاذِبِ لِأَنَّهُ يُخْلِفُ ظَنَّ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ. وَقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ جَمِيعَ الْمَدَاخِلِ إِلَى مَا يُقَدَّرُ لَهُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ وَجَمِيعَ الْمَخَارِجِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَعَطَفَ عَلَيْهِ سُؤَالَ التَّأْيِيدِ

[سورة الإسراء (17) : آية 81]

وَالنَّصْرِ فِي تِلْكَ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخَارِجِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَائِمِ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَعْدَائِهِ بِنَصْرِ أَتْبَاعِهِ وَخَذْلِ أَعْدَائِهِ. فَالسُّلْطَانُ: اسْمُ مَصْدَرٍ يُطْلَقُ عَلَى السُّلْطَةِ وَعَلَى الْحُجَّةِ وَعَلَى الْمُلْكِ. وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، تَشْمَلُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ اللَّهُ تَأْيِيدًا وَحُجَّةً وَغَلَبَةً وَمُلْكًا عَظِيمًا، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَنَصَرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَسَخَّرَ لَهُ مَنْ لَمْ يُنَوِّهْ بِنُهُوضِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ دَلَائِلِ الصِّدْقِ، وَنَصْرِهِ بِالرُّعْبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْمدْخل والمخرج بِأَنَّ الْمُخْرَجَ الْإِخْرَاجُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ وَالْمُدْخَلَ الْإِدْخَالُ إِلَى بَلَدِ مَكَّةَ فَاتِحًا، وَجَعَلَ الْآيَةَ نَازِلَةً قُبَيْلَ الْفَتْحِ، فَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ مَدْخُولٌ مِنْ جِهَاتٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالنَّصِيرُ: مُبَالَغَةٌ فِي النَّاصِرِ، أَيْ سُلْطَانا ينصرني. وَإِذ قَدْ كَانَ الْعَمَلُ الْقَائِمُ بِهِ النَّبِيءُ هُوَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَانَ نَصْرُهُ تَأْيِيدًا لَهُ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ، فَصَارَ هَذَا الْوَصْفُ تَقْيِيدًا لِلسُّلْطَانِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ سُلْطَانًا لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ سُلْطَانًا لِنَصْرِهِ فِيمَا يَطْلُبُ النُّصْرَةَ وَهُوَ التَّبْلِيغُ وَبَثُّ الْإِسْلَامِ فِي النَّاس. [81] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 81] وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) أَعْقَبَ تَلْقِينَهُ الدُّعَاءَ بِسَدَادِ أَعْمَالِهِ وَتَأْيِيدِهِ فِيهَا بِأَنْ لَقَّنَهُ هَذَا الْإِعْلَانَ الْمُنْبِئَ بِحُصُولِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْمُلْهَمَةِ بِإِبْرَازِ وَعْدِهِ بِظُهُورِ أَمْرِهِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ عَنْ شَيْءٍ مَضَى. وَلَمَّا كَانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ هِيَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ كَانَ الْوَعْدُ بِظُهُورِ الْحَقِّ وَعْدًا بِظُهُورِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَفَوْزِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَاسْتَحْفَظَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَلِيلَةَ إِلَى أَنْ أَلْقَاهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى مَسَامِعِ مَنْ كَانُوا أَعْدَاءَهُ

[سورة الإسراء (17) : آية 82]

فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَوَجَدَ فِيهَا وَحَوْلَهَا الْأَصْنَامَ جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْهَا بِقَضِيبٍ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فَتَسْقُطُ تِلْكَ الْأَنْصَابُ عَلَى وُجُوهِهَا. وَمَجِيءُ الْحق مُسْتَعْمل مجَازًا فِي إِدْرَاكِ النَّاسِ إِيَّاهُ وَعَمَلِهِمْ بِهِ وَانْتِصَارِ الْقَائِمِ بِهِ عَلَى مُعَاضِدِيهِ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الظَّاهِرِ بِالشَّيْءِ الَّذِي كَانَ غَايِبَا فَوَرَدَ جَائِيًا. وزَهَقَ اضمحل بعد وجوده. وَمَصْدَرُهُ الزُّهُوقُ وَالزَّهَقُ. وَزُهُوقُ الْبَاطِلِ مَجَازٌ فِي تَرْكِهِ أَصْحَابَهُ فَكَأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بَيْنَهُمْ فَفَارَقَهُمْ. وَالْمَعْنَى: اسْتَقَرَّ وَشَاعَ الْحَقُّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ النَّبِيءُ وَانْقَضَى الْبَاطِلُ الَّذِي كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومٍ يَشْمَلُ كُلَّ بَاطِلٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْبَاطِلِ كَانَ الثَّبَاتُ وَالِانْتِصَارُ شَأْنَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبَاطِلِ فَإِذَا انْتَفَى الْبَاطِلُ ثَبَتَ الْحَقُّ. وَبِهَذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: ظَهَرَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَانْقَضَى الْبَاطِلُ فِيهَا، وَذَلِكَ شَأْنُ الْبَاطِلِ فِيمَا مَضَى مِنَ الشَّرَائِعِ أَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ. وَدَلَّ فِعْلُ كانَ عَلَى أَنَّ الزُّهُوقَ شِنْشِنَةُ الْبَاطِلِ، وَشَأْنُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنَّهُ يَظْهَرُ ثُمَّ يَضْمَحِلُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً فِي صَدْرِ سُورَة يُونُس [2] . [82] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 82] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَالْجُمَلِ الَّتِي سَبَقَتْهَا مِنْ مَعْنَى التأييد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ

الْإِغَاظَةِ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الْإِسْرَاء: 73] . فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ أَيَّدَهُ بِالْعِصْمَةِ مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَتَبْشِيرِهِ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ وَبِالْخَلَاصِ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ هَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ قَرِيبًا إِلَى هَلَاكٍ وَأَنَّ دِينَهُمْ صَائِرٌ إِلَى الِاضْمِحْلَالِ، أَعْلَنَ لَهُ وَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَا مِنْهُ غَيْظُهُمْ وَحَنَقُهُمْ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي طَمِعُوا أَنْ يَسْأَلُوا النَّبِيءَ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَصْنَامِهِمْ بِسُوءٍ، أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَجَدِّدًا مُسْتَمِرًّا، فِيهِ شِفَاءٌ لِلرَّسُولِ وَأَتْبَاعه وخسارة لأعدائه الظَّالِمين، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مَصْدَرُ الْحَقِّ وَمُدْحِضُ الْبَاطِلِ أَعْقَبَ قَوْلَهُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] بِقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ الْآيَةَ. وَلِهَذَا اخْتِيرَ لِلْإِخْبَارِ عَنِ التَّنْزِيلِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الْمُشْتَقُّ مِنْ فِعْلِ الْمُضَاعَفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ، وَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّهُ يَسْتَمِرُّ هَذَا التَّنْزِيلُ زَمَنًا طَوِيلًا. وَمَا هُوَ شِفاءٌ مَفْعُولُ نُنَزِّلُ. ومِنَ الْقُرْآنِ بَيَانٌ لِمَا فِي (مَا) مِنَ الْإِبْهَامِ كَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَج: 30] ، أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَتَقْدِيمُ الْبَيَانِ لِتَحْصِيلِ غَرَضِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ مَعَ غَرَضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ: مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ إِلَخْ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنْهُ بِحَيْثُ يُعْرَفُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: نُنَزِّلُ الشِّفَاءَ وَالرَّحْمَةَ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَلَيْسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَلَا لِلِابْتِدَاءِ. وَالشِّفَاءُ حَقِيقَتُهُ زَوَالُ الدَّاءِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي زَوَالِ مَا هُوَ نَقْصٌ وَضَلَالٌ وَعَائِقٌ عَنِ النَّفْعِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِبُرْءِ السَّقَمِ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الْفَوَارِسِ: وَيْكَ عَنْتَرُ قَدِّمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَزِيدُ خَسَارَةً لِلْكَافِرِينَ، لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، كُلُّ آيَةٍ مِنْ ذَلِكَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَدْيِ وَصَلَاحِ حَالٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَهُ،

وَمُشْتَمِلَةٌ بِضِدِّ ذَلِكَ عَلَى مَا يَزِيدُ غَيْظَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى الظُّلْمِ، أَيِ الشِّرْكِ، فَيَزْدَادُونَ بِالْغَيْظِ كَرَاهِيَةً لِلْقُرْآنِ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خَسَارًا بِزِيَادَةِ آثَامِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى فَاسِدِ أَخْلَاقِهِمْ وَبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التَّوْبَة: 124- 125] . وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ يُشْتَفَى بِهَا مِنَ الْأَدْوَاءِ وَالْآلَامِ وَرَدَ تَعْيِينُهَا فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فَشَمِلَتْهَا الْآيَةُ بِطَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَّا تَأْصِيلَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي قِرَاءَةِ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِلِاسْتِشْفَاءِ مِنْ أَدْوَاءٍ مَوْصُوفَةٍ بَلْهُ الِاسْتِعَاذَةِ بِآيَاتٍ مِنْهُ مِنَ الضَّلَالِ كَثِيرَةٍ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» وَغَيْرِهِمَا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سِرِّيَّةٍ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا فَأَبَوْا فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ فَأَتَوْنَا، فَقَالُوا: أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُ حَتَّى يُعْطُونَا، فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً، قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي (أَيْ إِلْهَامٌ أَلْهَمَهُ اللَّهُ) ، قَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ» . فَهَذَا تَقْرِيرٌ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِحَّةِ إِلْهَامِ أَبِي سَعِيدٍ- رَضِيَ الله عَنهُ-.

[سورة الإسراء (17) : آية 83]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 83] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ نِعْمَةً عَظِيمَةً لِلنَّاسِ، وَكَانَ إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ حِرْمَانًا عَظِيمًا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ أَنْ يَرْضَوْا بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ زِيَادَتِهِ الظَّالِمِينَ خَسَارًا مُسْتَغْرَبًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ التَّسَاؤُلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ السَّبَبِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي يُوقِعُ الْعُقَلَاءَ فِي مَهْوَاةِ هَذَا الْحِرْمَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ فِيهِ من نعْمَة هويها وَأُولِعَ بِهَا، وَهِيَ نِعْمَةٌ تَتَقَاصَرُ عَنْ أَوْجِ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا لَوْلَا الْهَوَى الَّذِي عُلِّقَ بِهَا وَالْغُرُورُ الَّذِي أَرَاهُ إِيَّاهَا قُصَارَى الْمَطْلُوبِ، وَمَا هِيَ إِلَّا إِلَى زَوَالٍ قَرِيبٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمّل: 11] وَقَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196- 197] . فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَضْمُونُهَا مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ اسْتُفِيدَ بَيَانُهَا بِوُقُوعِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ أَكْثَرُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ كُفَّارٌ وَأَكْثَرَ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ. فَالْمَعْنَى: إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَعْرَضُوا وَإِذَا مَسَّهُمُ الشَّرُّ يَئِسُوا. وَهَذَا مُقَابِلُ حَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ كَانَ الْقُرْآنُ شِفَاءً لِأَنْفُسِهِمْ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ مِنْ شِيَمِهِمْ وَالصَّبْرُ عَلَى الضُّرِّ مِنْ خُلُقِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْعَامِ: إِعْطَاءُ النِّعْمَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ النِّعَمَ الْكَامِلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: 7] . وَقَوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصديقين [النِّسَاء: 69] .

وَالْإِعْرَاضُ: الصَّدُّ، وَضِدُّ الْإِقْبَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [68] . وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [26] . وَالْجَانِبُ: الْجَنْبُ. وَهُوَ الْجِهَةُ مِنَ الْجَسَدِ الَّتِي فِيهَا الْيَدُ، وَهُمَا جَانِبَانِ: يَمِينٌ وَيَسَارٌ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِجانِبِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ بَعُدَ مُصَاحِبًا لِجَانِبِهِ، أَيْ مُبْعِدًا جَانِبَهُ. وَالْبُعْدُ بِالْجَانِبِ تَمْثِيلُ الْإِجْفَالِ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ عَنْتَرَةُ: وَكَأَنَّمَا يَنْأَى بِجَانِبِ دُفِّهَا الْ ... وَحْشِيِّ مِنْ هَزَجِ الْعَشِيِّ مُؤَوَّمٍ (¬1) فَالْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَأى بِجانِبِهِ صَدَّ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ. وَهَذَا غَيْرُ الْمُفَادِ مِنْ مَعْنَى أَعْرَضَ فَلَيْسَ تَأْكِيدًا لَهُ، فَالْمَعْنَى: أَعْرَضَ وَتَبَاعَدَ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَعْرَضَ وَنَأى لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ، أَيْ أَعْرَضَ عَنَّا وَأَجْفَلَ مِنَّا، أَيْ مِنْ عِبَادَتِنَا وَأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنَأى بِهَمْزَةٍ بَعْدَ النُّونِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَاءَ بِأَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ ثُمَّ هَمْزَةٍ. وَهَذَا مِنَ الْقَلْبِ الْمَكَانِيِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَتَطَلَّبُونَ تَخْفِيفَ الْهَمْزَةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ وَبَعْدَهَا مَدَّةٌ فَيَقْلِبُونَ الْمَدَّةَ قَبْلَ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ وُقُوعَهَا بَعْدَ الْمَدِّ أَخَفُّ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَاءَ فِي رَأَى، وَقَوْلُهُمْ: آرَامٌ فِي أَرْآمٍ، جَمْعُ رِئْمٍ، وَقِيلَ: نَاءَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى ثَقُلَ، أَيْ عَنِ الشُّكْرِ، أَيْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 176] . ¬

(¬1) أَرَادَ أَنَّهَا مجفلة فِي سَيرهَا نشطة، فَهِيَ حِين تسير تميل إِلَى جَانبهَا كَانَ هرا يخدش جَانبهَا الْأَيْسَر فتميل إِلَى جِهَة الْيَمين، أَي لَا تسير على استقامة، وَذَلِكَ من نشاط الدَّوَابّ.

[سورة الإسراء (17) : آية 84]

وَجُمْلَةُ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا أَنْعَمْنا أَنَّهُ إِذَا زَالَتْ عَنْهُ النِّعْمَةُ صَلُحَ حَالُهُ فَبَيَّنَ أَنَّ حَالَهُ مُلَازِمٌ لِنُكْرَانِ الْجَمِيلِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَإِذَا زَالَتِ النِّعْمَةُ عَنْهُ لَمْ يُقْلِعْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّهُ يَيْأَسُ مِنَ الْخَيْرِ وَيَبْقَى حَنِقًا ضَيِّقَ الصَّدْرِ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَدَارَكُ أَمْرَهُ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [51] وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَدَلَّ قَوْله: كانَ يَؤُساً عَلَى قُوَّةِ يَأْسِهِ إِذْ صِيغَ لَهُ مِثَالُ الْمُبَالَغَةِ. وَأُقْحِمَ مَعَهُ فِعْلُ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى رُسُوخِ الْفِعْلِ، تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِ فِي وَقْتِ مَسِّ الضُّرِّ إِيَّاهُ لِأَنَّ حَالَةَ الضُّرِّ أَدْعَى إِلَى الْفِكْرَةِ فِي وَسَائِلِ دَفْعِهِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْإِعْرَاضِ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ لَا يُسْتَغْرَبُ فِيهَا الِازْدِهَاءُ لِمَا هُوَ فِيهِ من النِّعْمَة. [84] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 84] قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) هَذَا تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَنْهِيَةٌ لِلْغَرَضِ الَّذِي ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْإِسْرَاء: 66] الرَّاجِعِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْوَحِيدُ، وَإِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعَمِ. وَإِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَرِيقَانِ فِي قَوْله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الْآيَة [الْإِسْرَاء: 71] ، وَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: 82] . وَلِمَا فِي كَلِمَةِ (كُلٍّ) مِنَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا.

[سورة الإسراء (17) : آية 85]

وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء: 72] وَقَوْلِهِ: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: 82] وَقَوْلِهِ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِسْرَاء: 83] . وَالشَّاكِلَةُ: الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي اعْتَادَهَا صَاحِبُهَا وَنَشَأَ عَلَيْهَا. وَأَصْلُهَا شَاكِلَةُ الطَّرِيقِ، وَهِيَ الشُّعْبَةُ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهُ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ ثَوْبًا يُشَبِّهُ بِهِ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ: لَهُ خُلُجٌ تَهْوِي فُرَادَى وَتَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ ذِي نَيِّرَيْنِ بَادِي الشَّوَاكِلِ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ الشَّاكِلَةُ هُنَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْآيَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ، وَالتَّرْغِيبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ تَشْكِيكِهِمْ فِي حَقِّيَّةِ دِينِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَنْظُرُونَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً الْآيَة [سبأ: 24] . [85] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَقْعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْآيِ الَّتِي مَعَهَا يَقْتَضِي نَظْمُهُ أَنَّ مرجع ضمير يَسْئَلُونَكَ هُوَ مَرْجِعُ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالسَّائِلُونَ عَنِ الرُّوحِ هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرَّوْحِ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الْآيَةَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ خَاصَّةً وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ. وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْكَالَ فِي إِفْرَادِ هَذَا السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَبِذَلِكَ

يَكُونُ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا مُسَبَّبًا عَلَى نُزُولِهَا بَيْنَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ أَهْلِ يَثْرِبَ صِلَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ صِهْرٍ وَتِجَارَةٍ وَصُحْبَةٍ. وَكَانَ لِكُلِّ يَثْرِبِيٍّ صَاحِبٌ بِمَكَّةَ يَنْزِلُ عِنْدَهُ إِذَا قَدِمَ الْآخَرُ بَلَدَهُ، كَمَا كَانَ بَيْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَقِصَّتُهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِيَثْرِبَ يَسْأَلَانِهِمْ عَنْ أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْيَهُودُ لَهُمَا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ. وَذَكَرُوا لَهُمْ أَهْلَ الْكَهْفِ وَذَا الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرُّوحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فَسَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنْهَا فَأَجَابَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَأَجَابَ عَنِ الرُّوحِ بِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُثِيرُ إِشْكَالًا فِي وَجْهِ فَصْلِ جَوَابِ سُؤَالِ الرُّوحِ عَنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِذِكْرِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْكَهْفِ. وَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنِ الرُّوحِ وَقَعَ مُنْفَرِدًا أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ جُمِعَ مَعَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ ثَانِي مَرَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ سُؤَالِ الرُّوحِ مِمَّا أُلْحِقُ بِسُورَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ نَزَلَ بِمَكَّةَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: نَزَلَ قَوْلُهُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بِمَكَّةَ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا مَعَ النَّبِيءِ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَأمْسك النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ

عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْي قَالَ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الْآيَةَ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَنَّ النَّبِيءُ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى فهم معنى الرُّوحِ فَانْتَظَرَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَا يُجِيبُهُمْ بِهِ أَبْيَنَ مِمَّا أَجَابَ بِهِ قُرَيْشًا، فَكَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْزَالَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتْلُوَهَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمْ وَقُرَيْشًا سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتَغَيَّرُ. هَذَا، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي: أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ تَخْلِيطًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا اسْتَقَوْا مِنَ الْيَهُودِ شَيْئًا وَمِنَ النَّصَارَى شَيْئًا فَقَدْ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مُخَالَطَةٌ مَعَ نَصَارَى الشَّامِ فِي رِحْلَتِهِمُ الصَّيْفِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا هِيَ من شؤون النَّصَارَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ كَانُوا نَصَارَى كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيَّ يَظْهَرُ أَنَّهَا مِمَّا عُنِيَ بِهِ النَّصَارَى لِارْتِبَاطِ فُتُوحَاتِهِ بِتَارِيخِ بِلَادِ الرُّومِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ مَا لَقَّنُوا قُرَيْشًا إِلَّا السُّؤَالَ عَنِ الرُّوحِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ السَّبَبُ فِي إِفْرَادِ السُّؤَالِ عَنِ الرُّوحِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذِكْرُ الْقِصَّتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَرَّرَ السُّؤَالُ فِي مُنَاسَبَاتٍ وَذَلِكَ شَأْنُ الَّذِينَ مَعَارِفُهُمْ مَحْدُودَةٌ فَهُمْ يُلْقُونَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ. وَسُؤَالُهُمْ عَنِ الرُّوحِ مَعْنَاهُ أَنهم سَأَلُوا عَنْ بَيَانِ مَاهِيَّةِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالرُّوحِ وَالَّتِي يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهِ. وَالرُّوحُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْجُودِ الْخَفِيِّ الْمُنْتَشِرِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّفْكِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَوَّمُ فِي الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا بَعْدَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى نُزُولِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] . وَهَذَا يُسَمَّى أَيْضًا بِالنَّفْسِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: 27] .

وَيُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْكَائِنِ الشَّرِيفِ الْمُكَوَّنِ بِأَمْرٍ إِلَهِيٍّ بِدُونِ سَبَبٍ اعْتِيَادِيٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وَقَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ [النِّسَاء: 171] . وَيُطْلَقُ لَفْظُ (الرُّوحِ) عَلَى الْمَلَكِ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى الرُّسُلِ. وَهُوَ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمِنْهُ قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: 193] . وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْمَذْكُورِ هُنَا مَا هُوَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ الرُّوحُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، قَالُوا لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الْمُشْكِلُ الَّذِي لَمْ تَتَّضِحْ حَقِيقَتُهُ، وَأَمَّا الرُّوحُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرِينَ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهُ سُؤَالًا عَنْ مَعْنَى مُصْطَلَحٍ قُرْآنِيٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَارِدُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِمْ وَهُوَ سِفْرُ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الْأَوَّلِ «وَرُوحُ اللَّهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» . وَلَيْسَ الرُّوحُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِوَارِدٍ فِي كُتُبِهِمْ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ جِبْرِيلَ، وَالْأَصَحُّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَفِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَهُمْ مَرَّةً، فَقَالَ لَهُمْ: هُوَ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- . وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ وَبَيَانِ مَاهِيَّتِهَا، فَإِنَّهَا قَدْ شَغَلَتِ الْفَلَاسِفَةَ وَحُكَمَاءَ الْمُتَشَرِّعِينَ، لِظُهُورِ أَنَّ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْجِسْمِ، بِهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُدْرِكًا وَبِزَوَالِهِ يَصِيرُ الْجِسْمُ مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ وَالْإِدْرَاكِ، فَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ فِي الْجِسْمِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ إِذْ قَدْ ظَهَرَ بِالتَّشْرِيحِ أَنَّ جِسْمَ الْمَيِّتِ لَمْ يَفْقِدْ شَيْئًا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ عُقُولُ النَّاسِ قَاصِرَةً عَنْ فَهْمِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ وَكَيْفِيَّةِ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ وَكَيْفِيَّةِ انْتِزَاعِهَا مِنْهُ وَفِي مَصِيرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ الِانْتِزَاعِ، أُجِيبُوا بِأَنَّ

الرُّوحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ كَائِنٌ عَظِيمٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ. فَلَفْظُ أَمْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادِفَ الشَّيْءِ. فَالْمَعْنَى: الرُّوحُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ، فَإِضَافَةُ أَمْرِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَمْرٍ اخْتُصَّ بِاللَّهِ اخْتِصَاصَ عِلْمٍ. وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْسُ الْمَصْدَرِ وَتَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً كَمَا فِي قَوْله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: 40] ، أَيِ الرَّوْحُ يَصْدُرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِتَكْوِينِهِ أَوْ يُرَادُ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْخَلْقِ وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيِ الرَّوْحُ بَعْضُ مَأْمُورَاتِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيِ الرَّوْحُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ» اهـ. أَيْ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لَيْسَ جَوَابًا بِبَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ عَنِ اسْتِعْلَامِهِ وَإِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُؤْتَوْهُ. وَالِاحْتِمَالَاتُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ. وَفِيهَا رَمْزٌ إِلَى تَعْرِيفِ الرُّوحِ تَعْرِيفًا بِالْجِنْسِ وَهُوَ رَسْمٌ. وَجُمْلَةُ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلسَّائِلِينَ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ أَوْ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ، وَالْمُخَاطَبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقَلِيلِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُؤْتَى مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْمَعْلُومُ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ أَوْ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ. وَوَصْفُهُ بِالْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْحَقَائِقِ. وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» قَالُوا (أَيِ الْيَهُودُ) : «أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا التَّوْرَاةَ

وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأُنْزِلَتْ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي الْآيَة [الْكَهْف: 109] . وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ أَحْبَارُ يَهُودَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّكَ تَقُولُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ قَالَ: كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ. قَالُوا: فَإِنَّكَ تَتْلُو أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَقَدْ آتَاكُمْ مَا إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لُقْمَان: 27] . هَذَا، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا تَقْرِيبَ شَرْحِ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَشَرِّعِينَ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ الشَّارِحِ لَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِرُسُومٍ نَاقِصَةٍ مَأْخُوذَةٌ فِيهَا الْأَجْنَاسُ الْبَعِيدَةُ وَالْخَوَاصُّ التَّقْرِيبِيَّةُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطَةِ وَتَحْكِيمُ الْآثَارِ الَّتِي بَعْضُهَا حَقِيقِيٌّ وَبَعْضُهَا خَيَالِيٌّ، وَكُلُّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُرْبِ مِنْ شَرْحِ خَاصَّاتِهِ وَأَمَارَاتِهِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ تَصَوُّرَاتِهِمْ لِمَاهِيَّتِهِ الْمَبْنِيَّاتِ عَلَى تَفَاوُتِ قُوَى مَدَارِكِهِمْ وَكُلُّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ رُسُومًا خَيَالِيَّةً وَشِعْرِيَّةً مُعَبِّرَةً عَنْ آثَارِ الرُّوحِ فِي الْإِنْسَان. وَإِذا قَدْ جَرَى ذِكْرُ الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصُرِفَ السَّائِلُونَ عَنْ مُرَادِهِمْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ اقْتَضَاهُ حَالُهُمْ وَحَالُ زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ لِمُحَاوَلَةِ تَعَرُّفِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ وَسَائِلِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَغَيَّرَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي اقْتَضَتْ صَرْفَ السَّائِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ التَّغَيُّرِ، وَقَدْ تَتَوَفَّرُ تَغَيُّرَاتٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَزِيدُ أَهْلَ الْعِلْمِ اسْتِعْدَادًا لِتَجَلِّي بَعْضِ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ، فَلِذَلِكَ لَا نُجَارِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ حَقِيقَةَ الرُّوحِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْ بَيَانِهَا لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسَكَ عَنْهَا فَلَا يَنْبَغِي الْخَوْضُ فِي شَأْنِ الرُّوحِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً. فَقَدْ رَأَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 إلى 87]

وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» ، وَالنَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَصُدُّ الْعُلَمَاءَ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الرُّوحِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هِيَ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَالْأَرْوَاحُ حَادِثَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَرِسْطَالِيسَ. وَقَالَ قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ: هِيَ قَدِيمَةٌ. وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مُرَادِهِمْ فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَادِثَةً أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقِيلَ: الْأَرْوَاحُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ خَلْقِ الْأَبْدَانِ الَّتِي تُنْفَخُ فِيهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْجَارِي عَلَى ظَوَاهِرِ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنَ الْأَزَلِ كَوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: تُخْلَقُ عِنْدَ إِرَادَةِ إِيجَادِ الْحَيَاةِ فِي الْبَدَنِ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فَنَاءِ أَجْسَادِهَا وَأَنَّهَا تَحْضُرُ يَوْم الْحساب. [86، 87] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 86 إِلَى 87] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ [الْإِسْرَاء: 82] الْآيَةَ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْمُنَاسَبَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] تَلْقِينَ كَلِمَةِ عِلْمٍ جَامِعَةٍ، وَتَضَمَّنَ أَنَّ الْأُمَّةَ أُوتِيَتْ عِلْمًا وَمُنِعَتْ عِلْمًا، وَأَنَّ عِلْمَ النُّبُوءَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا أُوتِيَتْهُ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْعِلْمِ دَفْعًا لِغُرُورِ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْيَاءِ يُكْسِبُهَا إِعْجَابًا بِتَمَيُّزِهَا عَمَّنْ دُونَهَا فِيهِ، فَأُوقِظَتْ إِلَى أَنَّ الَّذِي مَنَحَ الْعِلْمَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ، وَخُوطِبَ بِذَلِكَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَعْظَمُ عِلْمٍ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُ عِلْمِهِ خَاضِعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَمَا الظَّنُّ بِعِلْمِ غَيْرِهِ، تَعْرِيضًا لِبَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ. فَالْكَلَامُ صَرِيحُهُ تَحْذِيرٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ

الِامْتِنَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً وَتَعْرِيضٌ بِتَحْذِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ. وَجُمْلَةُ لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَهُوَ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ وَمُغْنٍ عَنْهُ. ولَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا بِمَعْنَى لَنُذْهِبَنَّهُ، أَيْ عَنْكَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (نُذْهِبُهُ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1] . وَمَا صدق الْمَوْصُولِ الْقُرْآنُ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ نَفْيَ الطَّمَعِ فِي اسْتِرْجَاعِ الْمَسْلُوبِ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سَلْبِهِ. فَذِكْرُهُ أَدْخَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْغُرُورِ. وَالْوَكِيلُ: مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ الْمُهِمُّ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُدَافِعُ عَنْكَ وَالشَّفِيعُ لَكُ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْغَلَبَةِ عُدِّيَ بِ (عَلَى) . وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالْمُطَالَبَةِ عُدِّيَ إِلَى الْمَرْدُودِ بِالْبَاءِ، أَيْ مُتَعَهِّدًا بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. وَمَعْنَى التَّعَهُّدِ: بِهِ التَّعَهُّدُ بِاسْتِرْجَاعِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَلِأَنَّ التَّعَهُّدَ لَا يَكُونُ بِذَاتِ شَيْءٍ بَلْ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَجَرَى، الْكَلَامُ عَلَى الْإِيجَازِ. وَذَكَرَ هُنَا وَكِيلًا وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا نَصِيراً لِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ عَلَى فَرْضِ سَلْبِ نِعْمَةِ الِاصْطِفَاءِ، فَالْمُطَالَبَةُ بِإِرْجَاعِ النِّعْمَةِ شَفَاعَةٌ وَوَكَالَةٌ عَنْهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ قَبْلَهَا فَهِيَ فِي فَرْضِ إِلْحَاقِ عُقُوبَةٍ بِهِ، فَمُدَافِعَةُ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ أَوِ الثَّأْرِ بِهَا نَصْرٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مُنْقَطِعٌ فَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ تَوَقُّعِ ذَلِكَ، أَيْ

[سورة الإسراء (17) : آية 88]

لَكِنَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ نَفَتْ مَشِيئَةَ الذَّهَابِ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فَهُوَ بَاقٍ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى بَقَاءِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . وَمَوْقِعُ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مَنَعَتْ تَعَلُّقَ الْمَشِيئَةِ بِإِذْهَابِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، لِأَنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فَلَا يَحْرِمُكَ فَضْلَ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْكَ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ (كَانَ) لِتَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةٌ عَلَى تَوْكِيدِهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَى التَّعْلِيل والتفريع. [88] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) اسْتِئْنَافٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الِامْتِنَانِ. وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً [الْإِسْرَاء: 87] . وَافْتِتَاحُهُ بِ (قُلْ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَهَذَا تنويه بشرف الْقُرْآنَ فَكَانَ هَذَا التَّنْوِيهُ امْتِنَانًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ شِفَاءً وَرَحْمَةً، وَتَحَدِّيًا بِالْعَجْزِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ لِلَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا خَسَارًا. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَجُمْلَةُ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَجَرَّدَ الْجَوَابَ مِنَ اللَّامِ الْغَالِبِ اقْتِرَانُهَا بِجَوَابِ الْقَسَمِ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ لَامَيْنِ: لَامِ الْقَسَمِ، وَلَامِ النَّافِيَةِ.

وَمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ: الِاتِّفَاقُ وَاتِّحَادُ الرَّأْيِ، أَيْ لَوْ تَوَارَدَتْ عُقُولُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ. فَهُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيِ لَا اجْتِمَاعُ التَّعَاوُنِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. وَذِكْرُ الْجِنِّ مَعَ الْإِنْسِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، كَمَا يُقَالُ: «لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ، وَأَيْضًا لَأَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ لِلْقُرْآنِ: الْمُمَاثَلَةُ فِي مَجْمُوعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْآدَابِ وَالشَّرَائِعِ، وَهِيَ نَوَاحِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْعِلْمِيِّ. وَجُمْلَةُ لَا يَأْتُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُوَطَّأِ لَهُ بِاللَّامِ. وَجَوَابُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا يَأْتُونَ. وَ (لَوْ) وَصْلِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةُ أَنْ لَا يَشْمَلَهُ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [91] . وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَعَاوَنَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا حَاوَلُوا ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدُ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ الْمَدْلُولِ بِقَوْلِهِ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ اجْتِمَاعٌ تَظَافَرَ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ وَمَقْصِدٍ وَاحِدٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفْحِمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَدِّي بإعجاز الْقُرْآن.

[سورة الإسراء (17) : آية 89]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 89] وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) لَمَّا تَحَدَّى اللَّهُ بُلَغَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِعْجَازِ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْكَلَامِ، مُدْمِجًا فِي ذَلِكَ النَّعْيَ عَلَيْهِمْ إِذْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. وَذُكِرَتْ هُنَا نَاحِيَةٌ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ، وَهِيَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْثَالِ. وَتَقَدَّمُ ذِكْرُ الْمَثَلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَثَلِ الْحَالُ أَيْ مِنْ كُلِّ حَالٍ حَسَنٍ مِنَ الْمَعَانِي يَجْدُرُ أَنْ يُمَثَّلَ بِهِ وَيُشَبَّهَ مَا يُزَادُ بَيَانُهُ فِي نَوْعِهِ. فَجُمْلَةُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي حُكْمِهَا الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ زِيَادَةً فِي الِامْتِنَانِ وَالتَّعْجِيزِ. وَتَأْكِيدُهَا بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِرَدِّ أَفْكَارِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَوْرِدُ التَّأْكِيد هُوَ فعل صَرَّفْنا الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالتَّصْرِيفُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الْإِسْرَاء: 41] . وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَيْدُ لِلنَّاسِ دُونَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَالْإِعْجَازِ، فَكَانَ النَّاسُ مَقْصُودِينَ بِهِ قَصْدًا أَصْلِيًّا مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ بِخِلَافِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً فَكَانُوا مَعْلُومِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَجْهُ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِفِعْلِ صَرَّفْنا عَلَى الْآخَرِ: أَنَّ ذِكْرَ النَّاسِ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَجْلِ كَوْنِ الْكَلَامِ مَسُوقًا لِتَحَدِّيهِمْ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ

ذِكْرُ الْقُرْآنِ أَهَمَّ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَنَّ الِاعْتِبَارَاتِ الطَّارِئَةَ تُقَدَّمُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَى الاعتبارات الْأَصْلِيَّة، أَن الِاعْتِبَارَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِتَقَرُّرِهَا فِي النُّفُوسِ تَصِيرُ مُتَعَارَفَةً فَتَكُونُ الِاعْتِبَارَاتُ الطَّارِئَةُ أَعَزَّ مَنَالًا. وَمِنْ هَذَا بَابُ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْأَظْهَرُ كَوْنُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسِ لِلْعُمُومِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَ التَّصْرِيفِ بِقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَشَدُّ تَعْجِيزًا لِمَنْ يَرُومُ مُعَارَضَتَهُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، إِذْ قَدْ يَقْدِرُ بَلِيغٌ مِنَ الْبُلَغَاءِ عَلَى غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى غَرَضٍ آخَرَ، فَعَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ كَثْرَةِ أَغْرَاضِهِ عَجْزٌ بَيِّنٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَغْرَاضِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [23] فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَإِنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَتَنْوِينُ (مَثَلٍ) لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ شَرِيفٍ. وَالْمُرَادُ: شَرَفُهُ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ التَّمْثِيلِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. لِلتَّبْعِيضِ، وَ (كُلِّ) تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَبْعَاضٍ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَثَلِ. وَحذف مفعول فَأَبى لِلْقَرِينَةِ، أَيْ أَبَى الْعَمَلَ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُفُوراً تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَيْ تَأْكِيدٌ فِي صُورَةِ النَّقْصِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْمَاعِ بِأَنْ إِبَايَتَهُمْ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْتَثْنَى مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِذِ الْكُفُورُ أَخَصُّ مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ لِلْقَرِينَةِ. وَهُوَ اسْتثِْنَاء مفرغ لِمَا فِي فعل فَأَبى مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ، مِثْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 93] . وَالْكُفُورُ- بِضَم الْكَاف- المجحود، أَيْ جَحَدُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هدى وعاندوا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 إلى 93]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 90 إِلَى 93] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) عَطَفَ جُمْلَةَ وَقالُوا عَلَى جُمْلَةِ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الْإِسْرَاء: 89] ، أَي كفرُوا بِالْقُرْآنِ وطالبوا بمعجزات أُخْرَى. وَضمير الْجمع عَائِد إِلَى أَكثر النَّاس الَّذِينَ أَبَوْا إِلَّا كُفُورًا، بِاعْتِبَارِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَهُمْ وَهُمْ رَاضُونَ بِهِ وَمُتَمَالِئُونَ عَلَيْهِ مَتَى عَلِمُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ كُلَّهُ بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ قَائِلًا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بَعْضَهُ. وَلَمَّا اشْتَمَلَ قَوْلُهُمْ عَلَى ضَمَائِرِ الْخِطَابِ تَعَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَاطَبَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً إِمَّا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا فِي مَقَامَاتٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَزَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَنَاسًا مَعَهُمُ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَبَعَثُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ

يَأْتِيَهُمْ. فَأَسْرَعَ إِلَيْهِمْ حِرْصًا عَلَى هُدَاهُمْ، فَعَاتَبُوهُ عَلَى تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِمْ. وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ مِنْ مَالٍ أَوْ تَسْوِيدٍ. وَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِم لَا يَبْتَغِي غَيْرُ نُصْحِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا مِنْهُ الثَّبَاتَ انْتَقَلُوا إِلَى طَلَبِ بَعْضِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَرُوِي أَنَّ الَّذِي سَأَلَ مَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ. وَحَكَى اللَّهُ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِحرف (لن) لمفيد لِلتَّأْيِيدِ لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ قَالُوهُ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ مَكَّةَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا أَنَّ أَرْضَهَا قَلِيلَةُ الْمِيَاهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الْجَنَّاتِ. وَالتَّفْجِيرُ: مَصْدَرُ فَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ مُبَالَغَةً فِي الْفَجْرِ، وَهُوَ الشَّقُّ بِاتِّسَاعٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ فَجْرُ الصَّبَاحِ فَجْرًا لِأَنَّ الضَّوْءَ يَشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقًّا طَوِيلًا عَرِيضًا، فَالتَّفْجِيرُ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَجْرِ وَهُوَ تَشْقِيقٌ شَدِيدٌ بِاعْتِبَارِ اتِّسَاعِهِ. وَلِذَلِكَ نَاسَبَ الْيَنْبُوعَ هُنَا وَالنَّهَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الْكَهْف: 33] وَقَوْلِهِ: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ (فَجَّرَ) الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ مُخَفَّفَةً- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ فَجَرَ كَنَصَرَ، فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْيَنْبُوعَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ أَوْ يُعَبِّرُ عَنْ مُخْتَلِفِ أَقْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى التَّصْمِيمِ فِي الِامْتِنَاعِ. وَمَعْنَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ لَنْ نُصَدِّقَكَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْنَا. وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ. يُقَالُ: آمَنَهُ، أَيْ صَدَّقَهُ. وَكَثُرَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى

الْمَفْعُولِ بِاللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يُوسُف: 17] وَقَالَ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] . وَهَذِهِ اللَّامُ مِنْ قَبِيلِ مَا سَمَّاهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» لَامَ التَّبْيِينِ. وَغَفَلَ عَنِ التَّمْثِيلِ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ مَجْرُورَ اللَّامِ بَعْدَ فِعْلِ نُؤْمِنَ مَفْعُولٌ لَا الْتِبَاسَ لَهُ بِالْفَاعِلِ وَإِنَّمَا تُذْكَرُ اللَّامُ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهَا لِدَفْعِ الْتِبَاسِ مَفْعُولِ فِعْلِ «آمَنَ» بِمَعْنَى صَدَّقَ بِمَفْعُولِ فِعْلِ (آمَنَ) إِذَا جَعَلَهُ أَمِينًا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: [83] . وَالْيَنْبُوعُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الْكَثِيرَةِ النَّبْعِ الَّتِي لَا يَنْضُبُ مَاؤُهَا. وَصِيغَةُ يَفْعُولٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ غَيْرُ قِيَاسِيَّةٍ، وَالْيَنْبُوعُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَّةِ النَّبْعِ غَيْرَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْوَارِدَةَ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا ظَاهِرٌ اشْتِقَاقُهُ كَالْيَنْبُوعِ وَالْيَنْبُوتِ، وَبَعْضُهَا خَفِيٌّ كَالْيَعْبُوبِ لِلْفَرَسِ الْكَثِيرِ الْجَرْيِ. وَقِيلَ: اشْتُقَّ مِنَ الْعَبِّ الْمَجَازِيِّ. وَمِنْهُ أَسْمَاءٌ مُعَرَّبَةٌ جَاءَ تَعْرِيبُهَا عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ مِثْلَ يَكْسُومَ اسْمِ قَائِدٍ حَبَشِيٍّ، وَيَرْمُوكَ اسْمِ نَهْرٍ. وَقَدِ اسْتَقْرَى الْحَسَنُ الصَّاغَانِيُّ مَا جَاءَ مِنَ الْكَلِمَاتِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ فِي مُخْتَصَرٍ لَهُ مُرَتَّبٍ على حُرُوف المعجم. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْمُزْهِرِ» : إِنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ عَقَدَ لَهُ فِي «الْجَمْهَرَةِ» بَابًا. وَالْجَنَّةُ، وَالنَّخِيلُ، وَالْعِنَبُ، وَالْأَنْهَارُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [266] . وَخَصُّوا هَذِهِ الْجَنَّةَ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْجَنَّةِ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً لِمِلْكِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ لَا يَبْتَغُونَ مِنْ هَذَا الِاقْتِرَاحِ نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يَبْتَغُونَ حُصُولَهُ وَلَوْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُقْتَرَحِ عَلَيْهِ. وَالْمُقْتَرَحُ هُوَ تَفْجِيرُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْقَاحِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا وُجُودَ الْجَنَّةِ تَمْهِيدًا لِتَفْجِيرِ أَنْهَارٍ خِلَالَهَا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا يَنْبُوعًا يَسْقِي النَّاسَ كُلَّهُمْ، أَوْ تُفَجِّرَ أَنْهَارًا تَسْقِي جَنَّةً وَاحِدَةً تَكُونُ تِلْكَ الْجَنَّةُ وَأَنْهَارُهَا لَكَ. فَنَحْنُ مُقْتَنِعُونَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَا بُغْيَةَ الِانْتِفَاعِ مِنْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.

وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ بِقَوْلِهِ: تَفْجِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّ تَفْجُرَ قَدْ كَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْفَجْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِمَفْعُولِهِ الْمُطْلَقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدَدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الْإِسْرَاء: 106] ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: خِلالَها، لِأَنَّ الْجَنَّةَ تَتَخَلَّلُهَا شُعَبُ النَّهْرِ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ. فَجَمَعَ الْأَنْهَارَ بِاعْتِبَارِ تَشَعُّبِ مَاءِ النَّهْرِ إِلَى شُعَبٍ عَدِيدَةٍ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ فَتُفَجِّرَ هُنَا بِالتَّشْدِيدِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مِنْ أَفَانِينِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً انْتِقَالٌ مِنْ تَحَدِّيهِ بِخَوَارِقَ فِيهَا مَنَافِعُ لَهُمْ إِلَى تَحَدِّيهِ بِخَوَارِقَ فِيهَا مَضَرَّتُهُمْ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّوْسِيعَ عَلَيْهِ، أَيْ فَلْيَأْتِهِمْ بِآيَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ فِي مَضَرَّتِهِمْ. وَهَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ كَمَا قَالُوا. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْإِغْرَاقَ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعُوا بَيْنَ جَعْلِ الْإِسْقَاطِ لِنَفْسِ السَّمَاءِ. وَعَزَّزُوا تَعْجِيبَهُمْ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ وَهِيَ كَما زَعَمْتَ إِنْبَاءً بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُصَدِّقُ بِهِ أَحَدٌ. وَعَنَوْا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: 9] وَبِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: 44] ، إِذْ هُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَإِشْرَافِهِمْ عَلَى الْحِسَابِ. وَجَعَلُوا (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الطّور: 44] تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ قِطْعَةً مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أَبَوْا تَعْدِيَةَ فِعْلِ تُسْقِطَ إِلَى ذَاتِ السَّمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَوْ إِحْدَاهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَلَيْسَ ذَلِك بمستبعد. و «الكسف» - بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ السِّينِ- جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ. وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِسُكُونِ السِّينِ- بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَكْسُوفِ بِمَعْنَى الْمَقْطُوعِ.

وَالزَّعْمُ: الْقَوْلُ الْمُسْتَبْعَدُ أَوِ الْمُحَالُ. وَالْقَبِيلُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ هُمْ قَبِيلٌ خَاصٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَوْ تَأْتِيَ بِفَرِيقٍ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ تَرْقى فِي السَّماءِ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرُّقِيَّ تَدَرُّجٌ فِي السَّمَاوَاتِ كَمَنْ يَصْعَدُ فِي الْمِرْقَاةِ وَالسُّلَّمِ. ثُمَّ تَفَنَّنُوا فِي الِاقْتِرَاحِ فَسَأَلُوهُ إِنْ رَقَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِكِتَابٍ يَنْزِلُ من السَّمَاء يقرؤونه، فِيهِ شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ بَلَغَ السَّمَاءَ. قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ. وَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا كَامِلًا دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُوا قَدْ أَلْحَدُوا بِتَنْجِيمِ الْقُرْآنِ، تَوَهُّمًا بِأَنَّ تَنْجِيمَهُ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ التَّنْجِيمَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي التَّأَمُّلَ وَالتَّصَنُّعَ فِي تَأْلِيفِهِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ بَيَانُ حِكْمَةِ تَنْجِيمِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرُقِيِّكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ التَّبْيِينِ. عَلَى أَنَّ «رُقِيَّكَ» مَفْعُولُ نُؤْمِنَ مِثْلُ قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فَيَكُونُ ادِّعَاءُ الرُّقِيِّ مَنْفِيًّا عَنْهُ التَّصْدِيقُ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ. وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعِلَّةِ وَمَفْعُولُ نُؤْمِنَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ لِأَجْلِ رُقِيِّكَ هِيَ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ رَقَى فِي السَّمَاءِ لَكَذَّبُوا أَعْيُنَهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يَرَوْنَهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ مِنْهُمْ وَتَهَكُّمٌ. وَلَمَّا كَانَ اقْتِرَاحُهُمُ اقْتِرَاحَ مُلَاجَّةٍ وَعِنَادٍ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ كَلَامِهِمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَ رَبِّي الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَمَا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 إلى 95]

تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُقْتَضِيَةِ قَصْرَ نَفْسِهِ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ لَسْتُ رَبًّا مُتَصَرِّفًا أَخْلُقُ مَا يُطْلَبُ مِنِّي، فَكَيْفَ آتِي بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَكَيْفَ أَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ يُخْلَقْ فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ قَالَ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْقَافِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي- عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لجواب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات. [94، 95] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 94 إِلَى 95] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) بَعْدَ أَنْ عُدَّتْ أَشْكَالُ عِنَادِهِمْ وَمَظَاهِرُ تَكْذِيبِهِمْ أُعْقِبَتْ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْجُحُودِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهِيَ تَوَهُّمُهُمُ اسْتِحَالَةَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ لِلنَّاسِ بِرِسَالَةٍ بَشَرًا مِثْلَهُمْ. فَذَلِكَ التَّوَهُّمُ هُوَ مَثَارُ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ، فَالَّذِينَ هَذَا أَصْلُ مُعْتَقَدِهِمْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، وَمَا قَصْدُهُمْ مِنْ مُخْتَلَفِ الْمُقْتَرَحَاتِ إِلَّا إِرْضَاءُ أَوْهَامِهِمْ بِالتَّنَصُّلِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، فَلَوْ أَتَاهُمُ الرَّسُولُ بِمَا سَأَلُوهُ لَانْتَقَلُوا فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ، أَوْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعَ مَا فِي هَذَا مِنْ بَيَانِ أَصْلِ كُفْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا رَدٌّ بِالْخُصُوصِ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 92] وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: 93] إِلَى آخِرِهِ.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا يَقْتَضِي بِصَرِيحِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مَا قَالُوهُ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ اعْتِقَادَ قَائِلِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَنُطْقَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ يَمْنَعُ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي دِينِهِمْ. وَإِلْقَاءُ هَذَا الْكَلَامِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَأَدَاةِ الْعُمُومِ جَعَلَهُ تَذْيِيلًا لِمَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ تَفَنُّنِهِمْ فِي أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ. فَالظَّاهِرُ حَمْلُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. أَيْ مَا مَنَعَ جَمِيعَ النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا ذَلِكَ التَّوَهُّمُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ اللَّهَ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] . وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ هُودٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 33- 34] ، وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سُورَة الشُّعَرَاء: 154] ، وَعَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشُّعَرَاء: 186] ، وَحُكِيَ عَنْ قوم فِرْعَوْن فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: 47] . وَقَالَ فِي قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] . وَإِذ شَمِلَ الْعُمُومُ كَفَّارَ قُرَيْشٍ أَمَرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ الْآيَةَ، فَاخْتَصَّ اللَّهُ رَسُوله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ أَصْلِهَا اخْتِصَاصًا لَمْ يُلَقِّنْهُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الشُّبْهَةَ بِاسْتِنْصَارِ اللَّهِ تَعَالَى على أقوامهم فَقَالَ عَنْ نُوحٍ قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 118] .

[سورة الإسراء (17) : آية 96]

وَقَالَ مِثْلَهُ عَنْ هُودٍ وَصَالِحٍ، وَقَالَ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 48] ، فَقَدِ ادَّخَرَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ قَوَاطِعَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَشُبَهِ الضَّلَالَةِ بِمَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ إِلَخْ: أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرَّسُولَ لِلْقَوْمِ من نوعهم للتمكين مِنْ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّ اتِّحَادَ النَّوْعِ هُوَ قِوَامُ تَيْسِيرِ الْمُعَاشَرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَام: 9] ، أَيْ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُمْكِنَ التَّخَاطُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ وَصْفٌ لِ مَلائِكَةٌ. ومُطْمَئِنِّينَ حَالٌ. وَالْمُطْمَئِنُّ: السَّاكِنُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمُتَمَكِّنُ غَيْرُ الْمُضْطَرِبِ، أَيْ مَشْيُ قَرَارٍ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ قَاطِنُونَ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُ نَازِلِينَ برسالة للرسل لنزلنا عَلَيْهِمْ مَلَكًا. وَلَمَّا كَانَ الْمَشْيُ وَالِاطْمِئْنَانُ فِي الْأَرْضِ مِنْ صِفَةِ الْإِنْسَانِ آلَ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْ كُنْتُمْ مَلَائِكَةً لَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا فَلَمَّا كُنْتُمْ بَشَرًا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ. وَمَجِيءُ الْهُدَى هُوَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ إِلَى الْهدى. [96] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 96] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) بَعْدَ أَنْ خَصَّ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلْقِينِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلضَّلَالَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَلْقِينِهِ أَيْضًا مَا لَقَّنَهُ الرُّسُلَ السَّابِقِينَ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ

[سورة الإسراء (17) : آية 97]

وَتَحْكِيمِهِ فِي أَعْدَائِهِ، فَأَمَرَهُ بِ قُلْ كَفى بِاللَّهِ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ وَتَعَهُّدًا لَهُ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ وَهُودٌ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 26] ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الرُّسُلِ قَالَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ لِمَجْمُوعِ مُقْتَرَحَاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَمَفْعُولُ كَفى مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: كَفَانِي. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَهُوَ الْمُخْبِرِ بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ. وَأُرِيدَ بِالشَّهِيدِ هُنَا الشَّهِيدُ لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّصِيرِ وَالْحَاكِمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبُ الْحُكْمِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ ظَرْفَ (بَيْنَ) يُنَاسِبُ مَعْنَى الْحُكْمِ. وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: 87] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 3] . وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ فِعْلِ كَفى بِفَاعِلِهِ. وَأَصْلُهُ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِلِاكْتِفَاءِ بِهِ تَعَالَى، والخبير: الْعَلِيمُ. وَأُرِيدَ بِهِ الْعَلِيمُ بِالنَّوَايَا وَالْحَقَائِقِ، والبصير: الْعَلِيمُ بِالذَّوَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مِنْ أَحْوَالِهَا.، وَالْمَقْصُودُ مِنِ اتِّبَاعِهِ بِهِ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَشُمُولُهُ. [97] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 97] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى [الْإِسْرَاء: 94] جَمْعًا بَيْنَ الْمَانِعِ الظَّاهِرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْهُدَى وَبَيْنَ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ حِرْمَانُ التَّوْفِيقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ

لِذَوِي الْعُقُولِ فَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوَفِّقْهُ. وَأَسْبَابُ الْحِرْمَانِ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ لَا يُلْقِي عَقْلَهُ لِتَلَقِّي الْحَقِّ وَيَتَّخِذُ هَوَاهُ رَائِدًا لَهُ فِي مَوَاقِفِ الْجِدِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْإِسْرَاء: 96] ارْتِقَاءً فِي التَّسْلِيَةِ، أَيْ لَا يَحْزُنْكَ عَدَمُ اهْتِدَائِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الِاهْتِدَاءَ لَمَّا أَخَذُوا بِالْعِنَادِ قَبْلَ التَّدَبُّرِ فِي حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتعريف فِي الْمُهْتَدِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، فَالْمُعَرَّفُ مُسَاوٍ لِلنَّكِرَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُوَ مُهْتَدٍ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُهْتَدٍ التَّوْطِئَةُ إِلَى ذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ، كَمَا يُقَالُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا فُلَانٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ فِي قَوْله: الْمُهْتَدِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَى الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ دُونَ مَنْ تُرِيدُ أَنْتَ هَدَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ. وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْكَمَالِ لِأَنَّ الْهُدَى الْمُرَادَ هُنَا هُدًى وَاحِدٌ وَهُوَ الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ. وحذفت يَاء الْمُهْتَدِ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَيْهَا بِدُونِ يَاءٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الِاسْمِ الْمَنْقُوصِ غَيْرِ الْمُنَوَّنِ بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهَا أُوثِرَتْ مِنْ جِهَةِ التَّخْفِيفِ لِثِقَلِ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ ثِقَلِ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ. وَرُسِمَتْ بِدُونِ يَاءٍ لِأَنَّ شَأْنَ أَوَاخِرِ الْكَلِمِ أَنْ تُرْسَمَ بِمُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ. وَأَمَّا فِي حَالِ النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ فَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَلِذَلِكَ كَتَبُوا الْيَاءَ فِي مَصَاحِفِهِمْ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ وَجَعَلُوهَا أَدَقَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ

فِي الْمُصْحَفِ تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا رَسَمَهُ الصَّحَابَةُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ. وَالْبَاقُونَ حَذَفُوا الْيَاءَ فِي النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فِي غَيْرِ الشِّعْرِ إِلَّا أَنَّ الْفُصَحَاءَ يُجْرُونَ الْفَوَاصِلَ مَجْرَى الْقَوَافِي، وَاعْتَبَرُوا الْفَاصِلَةَ كل جملَة ثمَّ بِهَا الْكَلَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَمْثِيلُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابَةِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفجْر: 4] وَقَوْلِهِ: قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الْكَهْف: 64] . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [9] . وَالْخِطَابُ فِي فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَتِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، فَنَفْيُ وُجْدَانِ الْأَوْلِيَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ وُجُودِ الْأَوْلِيَاءِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ لَوَجَدَهُمْ هُوَ وَعَرَفَهُمْ. وَالْأَوْلِيَاءُ: الْأَنْصَارُ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَنْصَارًا يُخَلِّصُونَهُمْ مِنْ جَزَاءِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلِيَاءُ بِمَعْنَى مُتَوَلِّي شَأْنِهِمْ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ مَنْ يُصْلِحُ حَالَهُمْ فَيَنْقُلُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 257] . وَجَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلِيًّا وَلَا لِجَمَاعَتِهِ وَلِيًّا، كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. ومِنْ دُونِهِ أَيْ غَيْرِهِ. وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذَكَرَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الْوَلِيّ أَو المئال لَهُ بِذِكْرِ صُورَةِ عِقَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ الْآيَةَ.

وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَشْيَهُمْ عُدِّيَ الْحَشْرُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى (يَمْشُونَ. وَقَدْ فَهِمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ فسألوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالتَّعْذِيبِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَرَقُّ تَحَمُّلًا لِصَلَابَةِ الْأَرْضِ مِنَ الرِّجْلِ. وَهَذَا جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْجُرْمِ، لِأَنَّهُمْ رَوَّجُوا الضَّلَالَةَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَوَسَمُوا الْحَقَّ بِسِمَاتِ الضَّلَالِ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ حُوِّلَتْ وُجُوهُهُمْ أَعْضَاءَ مَشْيٍ عِوَضًا عَنِ الْأَرْجُلِ. ثُمَّ كَانُوا عُمْياً وَبُكْماً جَزَاءَ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْقُرْآنِ، وصُمًّا جَزَاءَ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت: 5] . وَقَالَ عَنْهُمْ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 125- 126] ، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء: 72] أَيْ مَنْ كَانَ أَعْمَى عَنِ الْحَقِّ فَهُوَ فِي الْحَشْرِ يَكُونُ مَحْرُومًا مِنْ مُتْعَةِ النَّظَرِ. وَهَذِهِ حَالَتُهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ. وَالْمَأْوَى مَحَلُّ الْأَوْيِ، أَيِ النُّزُولِ بِالْمَأْوَى. أَيِ الْمَنْزِلِ وَالْمَقَرِّ. وَخَبَتِ النَّارُ خُبُوًا وَخَبْوًا. نَقَصَ لَهِيبُهَا. وَالسَّعِيرُ: لَهَبُ النَّارِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَعْرِ النَّارِ إِذَا هُيِّجَ وَقُودُهَا. وَقَدْ جَرَى الْوَصْفُ فِيهِ عَلَى التَّذْكِيرِ تَبَعًا لِتَذْكِيرِ اللَّهَبِ. وَالْمَعْنَى: زِدْنَاهُمْ لَهَبًا فِيهَا. وَفِي قَوْلِهِ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً إِشْكَالٌ لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ لَا تَخْبُو. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [الْبَقَرَة: 86] . فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكَفَرَةَ وَقُودٌ لِلنَّارِ قَالَ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: 24] فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ زَالَ اللَّهَبُ الَّذِي كَانَ مُتَصَاعِدًا مِنْ أَجْسَامِهِمْ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُعَادَوْا كَمَا كَانُوا فَيَعُودَ الِالْتِهَابُ لَهُمْ.

[سورة الإسراء (17) : آية 98]

فَالْخَبْوُ وَازْدِيَادُ الِاشْتِعَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ لَا فِي أَصْلِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ سُلِّطَ فِعْلُ زِدْناهُمْ عَلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ كَانَ فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا خَبَتْ فِيهِمْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا، وَلم يقل: زدناهم سَعِيرًا. وَعِنْدِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ جَارٍ عَلَى طَرِيق التهكّم وبادىء الْإِطْمَاعِ الْمُسْفِرِ عَنْ خَيْبَةٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ مُقْتَرِنًا بِكُلِّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْخَبْوِ، كَمَا تُفِيدُهُ كَلِمَةُ (كُلَّمَا) الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى كُلِّ زَمَانٍ. وَهَذَا فِي ظَاهِرِهِ إِطْمَاعٌ بِحُصُولِ خَبْوٍ لِوُرُودِ لَفْظِ الْخَبْوِ فِي الظَّاهِر، وَلكنه يؤول إِلَى يَأْسٍ مِنْهُ إِذْ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ سَعِيرِهَا فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ، لِاقْتِرَانِ ازْدِيَادِ سَعِيرِهَا بِكُلِّ أَزْمَانِ خَبْوِهَا. فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيحِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: 40] ، وَقَوْلُ إِيَاسٍ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ الَّذِي سَأَلَهُ: عَلَى مَنْ قَضَيْتَ؟ فَقَالَ: عَلَى ابْنِ أُخْت خَالك. [98] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 98] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْفَظِيعَ الْمَحْكِيَّ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ السُّؤَالَ عَنْ سَبَبِ تَرَكُّبِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُفْظِعَةِ، فَالْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ. فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْإِسْرَاء: 97] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورُ. وَالْجَزَاءُ: الْعِوَضُ عَنْ عَمَلٍ. وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ.

[سورة الإسراء (17) : آية 99]

وَالظَّاهِرُ أَنَّ جملَة وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً إِلَخْ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. فَذُكِرَ وَجْهُ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ لَهُمْ، وَذُكِرَ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ بِالْآيَاتِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ صُنُوفٌ مِنَ الْجَرَائِمِ تَفْصِيلًا وَجَمْعًا تُنَاسِبُهَا الْعُقُوبَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الْإِسْرَاء: 97] . وَثَانِيهِمَا: إِنْكَارُهُمُ الْبَعْث بقَوْلهمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً الْمُنَاسِبُ لَهُ أَنْ يُعَاقَبُوا عِقَابًا يُنَاسِبُ مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ تَجَدُّدِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَصِيرِ رُفَاتًا، فَإِنَّ رُفَاتَ الْإِحْرَاقِ أَشَدُّ اضْمِحْلَالًا مِنْ رُفَاتِ الْعِظَامِ فِي التُّرَابِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي حِكَايَة قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَقَوْلِهِ: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِنْكَارِيٌّ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي إِثْبَاتِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أَإِذا وَفِي إِثْبَاتِهَا فِي قَوْله: أَإِذا.. لَمَبْعُوثُونَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِه السُّورَة. [99] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 99] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) جُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ جَزاؤُهُمْ [الْإِسْرَاء: 98] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الرَّدْعِ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً [الْإِسْرَاء: 98] . فَبَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِأُسْلُوبِ التَّهْدِيدِ عَطَفَ عَلَيْهِ إِبْطَالَ اعْتِقَادِهِمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي الْإِمْكَانِ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِقْنَاعِهِمْ هُنَا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بِاعْتِقَادِ اسْتِحَالَتِهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ

حِكَايَةً كَلَامُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَإِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَي بتعذر إِعَادَة خَلْقِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَلَمْ يَسْتَدِلُّوا بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَكَانَ تَمْثِيلُ خَلْقِ أَجْسَامٍ مِنْ أَجْزَاءٍ بَالِيَةٍ بِخَلْقِ أَشْيَاءَ أَعْظَمَ مِنْهَا مِنْ عَدَمٍ أَوْغَلَ فِي الْفَنَاءِ دَلِيلًا يَقْطَعُ دَعْوَاهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا إِنْكَارِيٌّ مَشُوبٌ بِتَعْجِيبٍ مِنِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَرَتْ عَقَائِدُهُمْ عَلَى اسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ كَانُوا بِحَالِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ دَلَائِلُ قُدْرَةِ الله تَعَالَى، فيؤول الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَنَّهَا عُدِّيَتَ إِلَى كَوْنِ اللَّهِ قَادِرًا، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ المبصرات. وَالْمعْنَى: أَو لم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. وَضَمِيرُ مِثْلَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَرَوْا وَهُوَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ [الْإِسْرَاء: 94] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمِثْلُ: الْمُمَاثِلُ، أَيْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ نَاسًا أَمْثَالَهُمْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِ إِعَادَةِ أَجْسَامِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ لَا فِي أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا آخَرَ، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَعْثَ إِعَادَةُ أَجْسَامٍ أُخْرَى عَنْ عَدَمٍ، فَيُخْلَقُ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ عَلَى مِثَالِ جَسَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا وَتُوضَعُ فِيهِ الرُّوحُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ «مِثْلَ» هُنَا كِنَايَةً عَنْ نَفْسِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِيهِ، أَيْ عَلَى جَعْلِ الْكَافِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَفْظِ «مِثْلِهِ» غَيْرَ زَائِدَةٍ. وَالْمَعْنَى: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُمْ، أَيْ أَنْ يُعِيدَ خَلْقَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلِعُلَمَائِنَا طُرُقٌ فِي إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ عِنْدَ الْبَعْثِ فَقِيلَ: تَكُونُ الْإِعَادَةُ عَنْ عَدَمٍ، وَقِيلَ تكون عَن جمع مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْأَجْسَامِ. وَقِيلَ: يَنْبُتُ مِنْ عَجْبِ

ذَنَبِ كُلِّ شَخْصٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ مُمَاثِلٌ لِجَسَدِهِ كَمَا تَنْبُتُ مِنَ النَّوَاةِ شَجَرَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِلشَّجَرَةِ الَّتِي أَثْمَرَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ النَّوَاةِ. وَوَصْفُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَكَوْنُهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ. وَجُمْلَةُ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا لِتَأْوِيلِهَا بِمَعْنَى قَدْ رَأَوْا ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمْ عُقُولٌ، أَيْ تَحَقَّقُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَالْأَجْلُ: الزَّمَانُ الْمَجْعُولُ غَايَةً يُبْلَغُ إِلَيْهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى امْتِدَادِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ لِكُلِّ حَيٍّ بِحَسَبِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ آلَاتِ الْجِسْمِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَتَخْرِمُ بَعْضَ تِلْكَ السَّلَامَةِ أَوْ تُقَوِّيهَا. وَالْأَجَلُ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَةِ الْوَقْتِ الَّذِي جُعِلَ لِوُقُوعِ الْبَعْثِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا الْجَعْلِ لَهُمْ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُبْعَثُ حِينَئِذٍ، فَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَجَلًا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْأَجَلِ لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي فِيهِ: رَيْبٌ، وَأَنَّ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ مُكَابَرَةٌ أَوْ إِعْرَاضٌ عَنِ النَّظَرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ أَجْلَ الْحَيَاةِ، أَيْ وَجُعِلَ لِحَيَاتِهِمْ أَجَلًا، فَيَكُونَ اسْتِدْلَالًا ثَانِيًا عَلَى الْبَعْثِ، أَيْ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لِحَيَاتِهِمْ، فَمَا أَوَجَدَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَجَعَلَ لِحَيَاتِهِمْ أَجَلًا إِلَّا لِأَنَّهُ سَيُعِيدُهُمْ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى،

[سورة الإسراء (17) : آية 100]

وَإِلَّا لَمَا أَفْنَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَحْيَاهُمْ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مَا يُوجِدُهُ الْحَكِيمُ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ وَعَدَمِ فَنَائِهِ، فَمَا كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ إِلَّا فَنَاءً عَارِضًا لِاسْتِقْبَالِ وُجُودٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْوُجُودِ وَأَبْقَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا الْجَعْلِ لَهُمْ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْآجَالَ آجَالُهُمْ. وَكَوْنُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْضًا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّ لِحَيَاتِهِمْ آجَالًا. وَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: لَهُمْ أَجَلًا تَعْرِيضًا بِالْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ الْإِمْهَالِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَتَعْرِيضًا بِالتَّذْكِيرِ بِإِفَاضَةِ الْأَرْزَاقِ عَلَيْهِمْ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرًا بِمَا تَحْتَوِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَأَسْبَابِهَا. وَجُمْلَةُ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً تَفْرِيعٌ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتَاهُ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، أَيْ عَلِمُوا أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَمَعَ عِلْمِهِمْ أَبَوْا إِلَّا كُفُورًا. فَالتَّفْرِيعُ مِنْ تَمَامِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَاسْتِثْنَاءُ الْكُفُورِ مِنَ الْإِبَايَةِ تَأْكِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْكُفُورُ: جُحُودُ النِّعْمَةِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَاخْتِيرَ «الْكُفُورُ» هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَكَفَرُوا نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ فَعَبَدُوا غير الْمُنعم. [100] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 100] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) اعْتِرَاض ناشىء عَنْ بَعْضِ مُقْتَرَحَاتِهِمُ الَّتِي تَوَهَّمُوا عَدَمَ حُصُولِهَا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ إِرْسَالِ بَشِيرٍ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ لِتَكْمِلَةِ رَدِّ شُبُهَاتِهِمْ. وَهَذَا رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْله: تَفْجِيراً [الْإِسْرَاء: 90- 91] ، وَقَوْلُهُمْ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الْإِسْرَاء: 93] مِنْ تَعَذُّرِ حُصُولِ ذَلِكَ لِعَظِيمِ قِيمَتِهِ.

وَمَعْنَى الرَّدِّ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ فِي جَانِبِ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ لَوْ شَاءَ أَنْ يُظْهِرَهُ لَكُمْ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الرَّدِّ بَيَانُ مَا فِيهِمْ مِنَ الْبُخْلِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَشَكَرُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا نِعْمَةَ لَهَا. وَيَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ. وَشَأْنُ (لَوْ) أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْلُ مَاضِيًا فِي الْأَكْثَرِ أَوْ مُضَارِعًا فِي اعْتِبَارَاتٍ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَإِذَا أَوْقَعُوا الِاسْمَ بَعْدَهَا فِي الْكَلَامِ وَأَخَّرُوا الْفِعْلَ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِقَصْدٍ بَلِيغٍ: إِمَّا لِقَصْدِ التَّقَوِّي وَالتَّأْكِيدِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْأَدَاةِ ثُمَّ ذِكْرَ فَاعِلِهِ ثُمَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ مَرَّةً ثَانِيَةً تَأْكِيدٌ وَتَقْوِيَةٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التَّوْبَة: 6] وَإِمَّا لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّقَوِّي إِلَى الِاخْتِصَاصِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَا قُدِّمَ الْفَاعِلُ مِنْ مَكَانَهُ إِلَّا لمقصد طَرِيقٍ غَيْرِ مَطْرُوقٍ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ التَّخْرِيجُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ «لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا» . وَالْمَعْنَى: لَو أَنْتُم اختصصتم بِمِلْكِ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ دُونَ اللَّهِ لَمَا أَنْفَقْتُمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ شَيْئًا. وَذَلِكَ أَشَدُّ فِي التَّقْرِيعِ وَفِي الِامْتِنَانِ بِتَخْيِيلِ أَنَّ إِنْعَامَ غَيْرِهِ كَالْعَدَمِ. وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لَا يُنَاكِدُ اخْتِصَاصَ (لَوْ) بِالْأَفْعَالِ لِلِاكْتِفَاءِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِهَا غَيْرَ مُوَالٍ إِيَّاهَا وَمُوَالَاتُهُ إِيَّاهَا أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَنْتَ عَالِمٌ لَبَذَذْتَ الْأَقْرَانَ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فَرْضُ أَنْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبل. ولَأَمْسَكْتُمْ هُنَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، لِأَن الْمَقْصُود: إِذن لَاتَّصَفْتُمْ بِالْإِمْسَاكِ، أَيِ الْبُخْلِ. يُقَالُ: فُلَانٌ مُمْسِكٌ، أَيْ بَخِيلٌ. وَلَا يُرَادُ أَنَّهُ مُمْسِكٌ شَيْئًا مُعَيَّنًا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 102]

وَأَكَّدَ جَوَابَ (لَوْ) بِزِيَادَة حرف (إِذن) فِيهِ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْجَوَابِيَّةِ، وَلِأَن فِي (إِذن) مَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 42] . وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَوَانَةَ: أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ ... وَقَدْ لَاقَى الْهِزَبْرُ أَخَاك بشرا إِذن لَرَأَيْتِ لَيْثًا أَمّ لَيْثًا ... هِزَبْرًا أَغْلَبًا لَاقَى هِزَبْرَا وَجُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً حَالِيَّةٌ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تُفِيدُ تَذْيِيلًا لِأَنَّهَا عَامَّةُ الْحُكْمِ. فَالْوَاوُ فِيهَا لَيْسَتْ عَاطِفَةً. وَالْقَتُورُ: الشَّدِيدُ الْبُخْلِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَتْرِ وَهُوَ التَّضْيِيقُ فِي الْإِنْفَاق. [101، 102] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 101 إِلَى 102] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) بَقِيَ قَوْلُهُمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 92] غَيْرَ مَرْدُودٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَهُ مُخَالَفَةً لِبَقِيَّةِ مَا اقْتَرَحُوهُ بِأَنَّهُ اقْتِرَاحُ آيَةِ عَذَابٍ وَرُعْبٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ آيَاتِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- التِّسْعِ. فَكَانَ ذِكْرُ مَا آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَعَدَمِ إِجْدَاءِ ذَلِكَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ تَنْظِيرًا لِمَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّنَا آتَيْنَا مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَزَعَمُوا ذَلِكَ سِحْرًا، فَفِي ذَلِكَِِ

مَثَلٌ لِلْمُكَابِرِينَ كُلِّهِمْ وَمَا قُرَيْشٌ إِلَّا مِنْهُمْ. فَفِي هَذَا مَثَلٌ لِلْمُعَانِدِينَ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ. وَالْآيَاتُ التِّسْعُ هِيَ: بَيَاضُ يَدِهِ كُلَّمَا أَدْخَلَهَا فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا، وَانْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقَمْلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالرِّجْزُ وَهُوَ الدُّمَّلُ، وَالْقَحْطُ وَهُوَ السُّنُونَ وَنَقَصُ الثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف. وَجَمعهَا الفيروزآبادىّ فِي قَوْلِهِ: عَصًا، سَنَةٌ، بَحْرٌ، جَرَادٌ، وَقُمَّلُ ... يَدٌ، وَدَمٌ، بَعْدَ الضَّفَادِعِ طُوفَانُ فَقَدْ حَصَلَتْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الِاعْتِنَاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالة مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالرِّسَالَةِ بِعِلَّةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بَشَرٌ، وَلِلْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَقَّنُوهُمْ شُبَهَ الْإِلْحَادِ فِي الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِيَصْفُوَ لَهُمْ جَوُّ الْعِلْمِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَهُمْ مَا كَانُوا يَحْسُبُونَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ حِسَابًا. فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ عَلَى رِسَالَتِهِ. وَهَذَا مِثْلُ التَّنْظِيرِ بَيْنَ إِيتَاءِ مُوسَى الْكتاب وَإِيتَاءِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: 9] . فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 93] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي الْآيَة [الْإِسْرَاء: 100] . ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّفْرِيعِ إِلَى التَّسْجِيلِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتِشْهَادًا بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِدْمَاجًا لِلتَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَاوَوُا الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِ

نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُظَاهَرَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِالدَّسِّ وَتَلْقِينِ الشُّبَهِ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً. وَالْخِطَابُ فِي قَوْله: فَسْئَلْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ: سُؤَالُ الِاحْتِجَاجِ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَا سُؤَالُ الِاسْتِرْشَادِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ. وَقَوْلُهُ: مَسْحُوراً ظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَأَثِّرًا بِالسِّحْرِ، أَيْ سَحَرَكَ السَّحَرَةُ وَأَفْسَدُوا عَقْلَكَ فَصِرْتَ تَهْرِفُ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الدَّالِّ عَلَى خَلَلِ الْعَقْلِ (مِثْلَ الْمَيْمُونِ وَالْمَشْئُومِ) . وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ فِرْعَوْنُ فِي مَقَامٍ غَيْرِ الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشُّعَرَاء: 35] ، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، [الشُّعَرَاء: 34] فَيَكُونُ إِعْرَاضًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْآيَاتِ وَإِقْبَالًا عَلَى تَطَلُّعِ حَالِ مُوسَى فِيمَا يَقُولُهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء: 25] . وكل تِلْكَ أَقْوَال صَدَرَتْ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي مَقَامَاتِ مُحَاوَرَاتِهِ مَعَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَحُكِيَ فِي كُلِّ آيَةٍ شَيْءٌ مِنْهَا. وَ (إِذَا) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَيْنا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جاءَهُمْ عَائِدٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ إِذْ جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاسْأَلْهُمْ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ تَعَلَّقَ ظَنُّهُ بِحَقِيقَةِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ فَرَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهَا سِحْرٌ، أَوْ تَعَلَّقَ ظَنُّهُ بِحَقِيقَةِ حَالِ مُوسَى فَرَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَصَابَهُ سِحْرٌ، لِأَنَّ الظَّنَّ دُونَ الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِين. وَمعنى قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَبْقَ فِي نَفْسِهِ شَكٌّ فِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَكِبْرِيَاءً.

وَأُكِّدَ كَلَامُ مُوسَى بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ عِلْمِ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَيْقَنَ مُوسَى بِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ: إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَعْلَمَهُ بِهِ، وَإِمَّا بِرَأْيٍ مُصِيبٍ، لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عِنْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ الضَّرُورِيِّ حُصُولٌ عَقْلِيٌّ طَبِيعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ عَقْلٍ سَلِيمٍ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ لَقَدْ عَلِمْتَ- بِضَمِّ التَّاءِ-، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَيْسَتْ بِسِحْرٍ كَمَا زَعَمْتَ كِنَايَةً عَلَى أَنَّهُ وَاثِقٌ مِنْ نَفْسِهِ السَّلَامَةَ مِنَ السِّحْرِ. وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ جِيءَ لَهَا بِاسْمِ إِشَارَةِ الْعَاقِلِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: 36] ، وَقَوْلُ جَرِيرٍ: ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللَّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُشَارَ بِ (أُولَاءِ) إِلَى الْعَاقِلِ. وَالْبَصَائِرُ: الْحُجَجُ الْمُفِيدَةُ لِلْبَصِيرَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهَا نَفْسُ الْبَصِيرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فِي آخر سُورَة الْأَعْرَافِ [203] . وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ بِطَرِيقِ إِضَافَةِ وَصْفِ الرَّبِّ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَ هَذِهِ الْخَوَارِقِ. وَالْمَثْبُورُ: الَّذِي أَصَابَهُ الثُّبُورُ وَهُوَ الْهَلَاكُ. وَهَذَا نِذَارَةٌ وَتَهْدِيدٌ لِفِرْعَوْنَ بِقُرْبِ هَلَاكِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُوسَى ظَنًّا تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءٍ تَامٍّ أَفَادَهُ هَلَاكُ الْمُعَانِدِينَ لِلرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْرِ لَعَلَّ فِرْعَوْنَ يُقْلِعُ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ عِنْده احْتِمَالا ضَعِيفا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ تَوَقُّعَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ ظَنًّا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَفِي ذِكْرِ هَذَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى إِتْمَامٌ لِتَمْثِيلِ حَالِ مُعَانِدِي الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِحَال من عَائِد رِسَالَةَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 103 إلى 104]

وَجَاءَ فِي جَوَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِفِرْعَوْنَ بِمِثْلِ مَا شَافَهَهُ فِرْعَوْنُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً مُقَارَعَةً لَهُ وَإِظْهَارًا لِكَوْنِهِ لَا يَخَافُهُ وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْمِثْلِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 194] . [103، 104] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 103 إِلَى 104] فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) أُكْمِلَتْ قِصَّةُ الْمَثَلِ بِمَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَمْثِيلِ الْحَالَيْنِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمُحَاوَلَاتِهِمْ صَائِرَةٌ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مَكْرُ فِرْعَوْنَ وَكَيْدُهُ، فَفَرَّعَ عَلَى تَمْثِيلِ حَالَيِ الرِّسَالَتَيْنِ وَحَالَيِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمَا ذكر عَاقِبَة الْحَالة الممثل بهَا نذارة لِلْمُمَثَّلِينَ بِذَلِكَ الْمَصِيرِ. فَقَدْ أَضْمَرَ الْمُشْرِكُونَ إِخْرَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَمُثِّلَتْ إِرَادَتُهُمْ بِإِرَادَةِ فِرْعَوْنَ إِخْرَاجَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 76] . وَالِاسْتِفْزَازُ: الِاسْتِخْفَافُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِبْعَادِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ فِي هَذِه السُّورَة [الْإِسْرَاء: 76] . وَالْمُرَادُ بِمَنْ مَعَهُ جُنْدُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ يَتَّبِعُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَرْضُ الْأُولَى هِيَ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، وَالْأَرْضُ الثَّانِيَةُ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِوَعْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهَا.

[سورة الإسراء (17) : آية 105]

وَوَعْدُ الْآخِرَةِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْخَلَائِقَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَاللَّفِيفُ: الْجَمَاعَاتُ الْمُخْتَلِطُونَ مِنْ أَصْنَافٍ شَتَّى، وَالْمَعْنَى: حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِغَرَقِ الْكَفَرَةِ وَتَمْلِيكِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَنَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَعْنَى جِئْنا بِكُمْ أَحْضَرْنَاكُمْ لَدَيْنَا. وَالتَّقْدِيرُ: جِئْنَا بكم إِلَيْنَا. [105] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 105] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عَوْدٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بشأن الْقُرْآن فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الْإِسْرَاء: 89] . فَلَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [الْإِسْرَاء: 90] الْآيَاتِ إِلَى هُنَا وَسَمَحَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ تَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ. وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِصِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَحْتَوِي عَلَى ثَنَاءٍ عَظِيمٍ وَتَنْبِيهٍ لِلتَّدَبُّرِ فِيهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِعْلُ النُّزُولِ مَرَّتَيْنِ، وَذُكِرَ لَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُتَعَلِّقٌ مُتَمَاثِلُ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُخْتَلِفُ الْمَعْنَى، فَعَلَّقَ إِنْزَالَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى الْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] وَهُوَ رَدٌّ لِتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَعَلَّقَ نُزُولَ الْقُرْآنِ، أَيْ بُلُوغَهُ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى الْحَقِّ الثَّانِي مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، أَيْ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بِهِ قِوَامُ صَلَاحِ النَّاسِ وَفَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: 105] . وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَقَامِ. وَالْبَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَالْمُصَاحَبَةُ

[سورة الإسراء (17) : آية 106]

تُشْبِهُ الظَّرْفِيَّةَ. وَلَوْلَا اخْتِلَافُ مَعْنَى الْبَاءَيْنِ فِي الْآيَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ لِأَنَّهُ إِذَا أُنْزِلَ بِالْحَقِّ نَزَلَ بِهِ وَلَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى عَامِلِهِ لِلْقَصْرِ رَدًّا عَلَى الْمُنْكِرِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ سِحْرٌ مُبِينٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَجُمْلَةِ وَقُرْآناً فَرَقْناهُ [الْإِسْرَاء: 106] . أَيْ وَفِي ذَلِكَ الْحَقِّ نَفْعٌ وَضُرٌّ فَأَنْتَ بِهِ مُبَشِّرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ. وَالْقَصْرُ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوهُ أَشْيَاءَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ ظَنُّوا أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُول بشرا. [106] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 106] وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) عَطْفٌ عَلَى جملَة أَنْزَلْناهُ [الْإِسْرَاء: 105] . وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي فَرَقْناهُ مُقَدَّمَةً عَلَى صَاحِبِهَا تَنْوِيهًا الْكَوْنُ قُرْآنًا، أَيْ كَوْنُهُ كِتَابًا مَقْرُوءًا. فَإِنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ التِّلَاوَةُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي يُحْفَظُ وَيُتْلَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الْحجر: 1] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَهَذَا الْكِتَابُ لَهُ أَسْمَاءٌ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ فَهُوَ كِتَابٌ، وَقُرْآنٌ، وَفُرْقَانٌ، وَذِكْرٌ، وَتَنْزِيلٌ. وتجري عَلَيْهِ هَذِه الْأَوْصَافُ أَوْ بَعْضُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: 78] وَقَوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] بِاعْتِبَارِ أَنَّ

الْمَقَامَ لِلْأَمْرِ بِالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَإِلَى قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: 1] فِي مَقَامِ كَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِوَصْفِ الْقُرْآنِ غَيْرُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى فَرَقْناهُ جَعَلْنَاهُ فَرْقًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا غَيْرَ مُجْتَمِعٍ صَبْرَةً وَاحِدَةً. يُقَالُ: فَرَّقَ الْأَشْيَاءَ إِذَا بَاعَدَ بَيْنَهَا، وَفَرَّقَ الصَّبْرَةَ إِذَا جَزَّأَهَا. وَيُطْلَقُ الْفَرْقُ عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يُشْبِهُ تَفْرِيقَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ، فَيَكُونُ فَرَقْناهُ مُحْتَمِلًا مَعْنَى بَيَّنَّاهُ وَفَصَّلْنَاهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: قُرْآناً حَالًا مِنْ ضَمِيرِ فَرَقْناهُ آلَ الْمَعْنَى إِلَى: أَنَّا فَرَقْنَاهُ وَأَقْرَأْنَاهُ. وَقَدْ عُلِّلَ بِقَوْلِهِ: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ. فَهُمَا عِلَّتَانِ: أَنْ يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ وَتِلْكَ عِلَّةٌ لِجَعْلِهِ قُرْآنًا، وَأَنْ يُقْرَأَ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ مَهَلٍ وَبُطْءٍ وَهِيَ عِلَّةٌ لِتَفْرِيقِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ أَثْبَتَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ. وَجُمْلَةُ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُرْآناً فَرَقْناهُ. وَفِي فِعْلِ نَزَّلْناهُ الْمُضَاعَفِ وَتَأْكِيدِهِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْرِيقِ إِنْزَالِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ [الْإِسْرَاء: 105] . وَطُوِيَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ لِلِاجْتِزَاءِ بِمَا فِي قَوْلِهِ: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ مِنِ اتِّحَادِ الْحِكْمَةِ. وَهِيَ مَا صَرَّحَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الْفرْقَان: 32] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَرَّقْنَا إِنْزَالَهُ رَعْيًا لِلْأَسْبَابِ والحوادث. وَفِي كَلَام الْوَجْهَيْنِ إِبْطَالٌ لَشُبْهَتِهِمْ إِذْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 107 إلى 109]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 107 إِلَى 109] قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) اسْتِئْنَافُ خطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُلَقِّنَهُ بِمَا يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَوْضَحَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الْإِسْرَاء: 88] فَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمثلِهِ، ثمَّ بِبَيَان فَضَائِلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الْإِسْرَاء: 89] ، ثُمَّ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمُعْجِزَاتٍ أخر، ثمَّ بكشف شُبْهَتَهُمُ الَّتِي يُمَوِّهُونَ بِهَا امْتِنَاعَهُمْ مِنَ الْإِيمَان برسالة بشر، وَبَيَّنَ لَهُمْ غَلَطَهُمْ أَوْ مُغَالَطَتَهُمْ، ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ اللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ بِتَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ بِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَعَ مُوسَى وَمَا عُجِّلَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ، ثُمَّ بِكَشْفِ شُبْهَتِهِمْ فِي تَنْجِيمِ الْقُرْآنِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْوِيضِ النَّظَرِ فِي تَرْجِيحِ الْإِيمَانِ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ إِيمَانِهِمْ وَعَدَمِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا لِلتَّسْوِيَةِ، أَيْ إِنْ شِئْتُمْ. وَجُزِمَ لَا تُؤْمِنُوا بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْزُومِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ [16] فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ، فَحَرْفُ (لَا) حَرْفُ نَفْيٍ وَلَيْسَ حَرْفَ نَهْيٍ، وَلَا يَقَعُ مَعَ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِهِ التَّسْوِيَةُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَاحْتِقَارِهِمْ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ، وَيَنْدَمِجُ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَعْلِيلٌ لِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَدَمِهِ أَوْ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ قُلْ، أَوْ لِكِلَيْهِمَا، شَأْنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَرِدُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ، أَيْ إِنَّمَا كَانَ إِيمَانُكُمْ بِالْقُرْآنِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إِيمَانِكُمْ بِهِ بِإِيمَانِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ، فَهُمْ أَرْجَحُ مِنْكُمْ أَحْلَامًا وَأَفْضَلُ مَقَامًا، وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعلم، فَإِنَّهُم إِذا يَسْمَعُونَهُ يُؤمنُونَ بِهِ وَيَزِيدُهُمْ إِيمَانًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْوَعْدِ بِالرَّسُولِ الَّذِي أُنْزِلَ هَذَا عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ جَهَلَةٌ وَأَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَمْثَالُ: وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَقَدْ تَسَامَعَ أَهْلُ مَكَّةَ بِشَهَادَتِهِ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ آمَنَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ مِثْلِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمُعَيْقِيبٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِخْبَارٌ بِمَغِيبٍ. وَضَمَائِرُ «بِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ، وَيُتْلَى» عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ مَعْهُودِ الْحَذْفِ، أَيْ آمَنُوا بِصِدْقِهِ. وَمِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ. وَالْخُرُورُ: سُقُوطُ الْجِسْمِ. قَالَ تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل: 26] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [143] . وَاللَّامُ فِي لِلْأَذْقانِ بِمَعْنَى (عَلَى) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] ، وَقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: ............... ..... (¬1) ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ ¬

(¬1) أَوله: «فأضر بهَا بِلَاد دهش فخرت» . وَضمير الغائبة عَائِد على الغول.

وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ لِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَزِيدِ التَّمَكُّنِ كَتَمَكُنِّ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَالْأَذْقَانُ: جَمْعُ الذَّقَنِ- بِفَتْحِ الذَّالِ وَفَتْحِ الْقَافِ- مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَذَكَرَ الذَّقَنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمْكِينِهِمُ الْوُجُوهَ كُلَّهَا مِنَ الْأَرْضِ مِنْ قُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي السُّجُودِ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى. وسُجَّداً جَمْعُ سَاجِدٍ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَخِرُّونَ لِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْخُرُورِ، وَسُجُودُهُمْ سُجُودُ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ آيَةٍ مِنْ دَلَائِلِ عَلْمِهِ وَصَدِقِ رُسُلِهِ وَتَحْقِيقِ وَعْدِهِ. وَعُطِفَتْ وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا عَلَى يَخِرُّونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [السَّجْدَة: 15] . عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: سُبْحانَ رَبِّنا دَلَالَةٌ عَلَى التَّعَجُّبِ وَالْبَهْجَةِ مِنْ تَحَقُّقِ وَعْدِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَجِيءِ الرَّسُول الْخَاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا مِنْ تَمَامِ مَقُولِهِمْ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ تَسْبِيحَهُمْ قَبْلَهُ تَسْبِيحُ تَعَجُّبٍ وَاعْتِبَارٍ بِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ. وَ (إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَدْ بَطَلَ عَمَلُهَا بِسَبَبِ التَّخْفِيفِ، وَوَلِيَهَا فِعْلٌ مِنْ نَوَاسِخِ الْمُبْتَدَأِ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُخَفَّفَةِ. وَقُرِنَ خَبَرُ النَّاسِخِ بِاللَّامِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ. وَالْوَعْدُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيقَ الْمَوْعُودِ بِهِ فَحَصَلَ التَّصْدِيقُ بِالْوَعْدِ وَالْمَوْعُودِ بِهِ. وَمعنى لَمَفْعُولًا أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا جَاءَ فِي وَعْدِهِ، أَيْ يُكَوِّنُهُ وَيُحَقِّقُهُ، وَهَذَا السُّجُودُ سُجُودُ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ إِذْ حَقَّقَ وَعْدَهُ بَعْدَ سِنِينَ طَوِيلَةٍ.

[سورة الإسراء (17) : آية 110]

وَقَوْلُهُ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ تَكْرِيرٌ لِلْجُمْلَةِ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا، أُعِيدَتِ الْجُمْلَةُ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْحَالِ. وَقَدْ يَقَعُ التَّكْرِيرُ مَعَ الْعَطْفِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْقُيُودِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْمُغَايَرَةُ مُصَحِّحَةً الْعَطْفَ، كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ: فَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... إِذَا الْخَصْمُ أَبْزَى مَائِلُ الرَّأْسِ أَنْكَبُ وَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... وَفِي الأَرْض مبثوث شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ فَالْخُرُورُ الْمَحْكِيُّ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْخُرُورُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا خَرُّوا خُرُورًا وَاحِدًا سَاجِدِينَ بَاكِينَ، فَذُكِرَ مَرَّتَيْنِ اهْتِمَامًا بِمَا صَحِبَهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْخُشُوعِ. وَذَكَرَ يَبْكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ. وَالْبُكَاءُ بُكَاءُ فَرَحٍ وَبَهْجَةٍ. وَالْبُكَاءُ: يَحْصُلُ مِنِ انفعال باطني ناشىء عَنْ حُزْنٍ أَوْ عَنْ خَوْفٍ أَوْ عَنْ شَوْقٍ. وَيَزِيدُهُمُ الْقُرْآنُ خُشُوعًا عَلَى خُشُوعِهِمُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ كِتَابِهِمْ. وَمِنَ السُّنَّةِ سُجُودُ الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ لَهُ بِقَصْدِ هَذِهِ الْآيَةِ اقْتِدَاءً بِأُولَئِكَ السَّاجِدِينَ بِحَيْثُ لَا يَذْكُرُ الْمُسْلِمُ سُجُودَ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِلَّا وَهُوَ يرى نَفسه أَجْدَرَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. [110] [سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 110] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لَا شَكَّ أَنَّ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا خَاصًّا إِذْ لَا مُوجِبَ لِذِكْرِ هَذَا التَّخْيِيرِ بَيْنَ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْمِهِ الْعَلَمِ وَبَيْنَ دُعَائِهِ بِصفة الرحمان خَاصَّةً دُونَ

ذِكْرِ غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مِثْلِ: الرَّحِيمِ أَوِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى. ثُمَّ لَا بُدَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ لِوُقُوعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ. فَأَمَّا سَبَبُ نُزُولِهَا فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا يَدْعُو يَا رحمان يَا رَحِيمُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا وَهُوَ يَدْعُو مَثْنَى مَثْنَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَبَين صفة الرحمان اكْتِفَاءً، أَيْ أَوِ الرَّحِيمِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ أَبُو جهل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَا الله يَا رحمان. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّهُ يَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ إِلَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو إِلَهًا آخَرَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ . وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْآيَةِ لِاقْتِصَارِهَا عَلَى اسْمِ الله وَصفَة الرحمان. وَأَمَّا مَوْقِعُهَا هُنَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا حَدَثَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْكَلَامُ رَدٌّ وَتَعْلِيمٌ بِأَنَّ تَعَدُّدَ الْأَسْمَاءِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمُسَمَّى، وَشَتَّانَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ، وَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَتَعَلَّقَانِ بِالذَّوَاتِ لَا بِالْأَسْمَاءِ. وَ (أَيٌّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الزَّائِدَةُ أَفَادَتِ الشَّرْطَ كَمَا تُفِيدُهُ كَيْفَ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الزَّائِدَةُ. وَلِذَلِكَ جُزِمَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا وَهُوَ تَدْعُوا شَرْطًا، وَجِيءَ لَهَا بِجَوَابٍ مُقْتَرِنٍ بِالْفَاءِ، وَهُوَ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى عِلَّةُ الْجَوَابِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى تَدْعُونَ فَلَا حَرَجَ فِي دُعَائِهِ بِعِدَّةِ أَسْمَاءٍ إِذْ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَإِذِ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ. وَمَعْنَى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ادْعُوا هَذَا الِاسْمَ أَوْ هَذَا الِاسْمَ، أَيِ اذْكُرُوا فِي دُعَائِكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا، فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ وَقَعَ تَجَوُّزٌ فِي فِعْلِ ادْعُوا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى اذْكُرُوا أَوْ سَمُّوا فِي دُعَائِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى سَمُّوا، وَهُوَ حِينَئِذٍ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَمُّوا رَبَّكُمُ اللَّهَ أَو سموهُ الرحمان، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ وَأُبْقِيَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا لَا شَكَّ أَنَّ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّصَالًا بِجُمْلَةِ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ جهر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ باسم الرحمان. وَالصَّلَاةُ: تَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ، وَتَحْتَمِلُ الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة قَود فَسَّرَهَا السَّلَفُ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ قِرَاءَتَهَا خَاصَّةً لِأَنَّهَا الَّتِي تُوصَفُ بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ جهر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذكر الرحمان، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْركين: مَا الرحمان؟ وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ، وَقَامَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسُبُّ الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، أَو يسب الرحمان ظَنًّا

أَنَّهُ رَبٌّ آخَرُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ آلِهَتِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِدُعَائِهِ أَوْ لَا يَجْهَرَ بِقِرَاءَةِ صَلَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ. وَلَعَلَّ سُفَهَاءَ الْمُشْرِكِينَ تَوَهَّمُوا مِنْ صدع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّحَكُّكَ بِهِمْ وَالتَّطَاوُلَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فَاغْتَاظُوا وَسَبُّوا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَجْهَرَ بِصَلَاتِهِ هَذَا الْجَهْرَ تَجَنُّبًا لِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ حَفَائِظَهُمْ وَيَزِيدَ تَصَلُّبَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ فِي حِينِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَلْيِينُ قُلُوبِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ النَّهْيُ عَنْ شِدَّةِ الْجَهْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُخافِتْ بِها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ لِكَيْلَا يَجْعَلَ دُعَاءَهُ سِرًّا أَوْ صَلَاتَهُ كُلَّهَا سِرًّا فَلَا يَبْلُغُ أَسْمَاعَ الْمُتَهَيِّئِينَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ تَجَنُّبُ جَهْرٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْكُفَّارُ تَحَكُّكًا أَوْ تَطَاوُلًا كَمَا قُلْنَا. وَالْجَهْرُ: قُوَّةُ صَوْتِ النَّاطِقِ بِالْكَلَامِ. وَالْمُخَافَتَةُ مُفَاعَلَةٌ: مِنْ خَفَتَ بِكَلَامِهِ، إِذَا أَسَرَّ بِهِ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الشِّدَّةِ، أَيْ لَا تُسِرَّهَا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيِ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ الْمَعْلُومَيْنِ مِنْ فِعْلَيْ تَجْهَرْ- وتُخافِتْ أَيِ اطْلُبْ سَبِيلًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِسْمَاعِ النَّاسِ الْقُرْآنَ وَيَنْتَفِي تَوَهُّمُ قَصْدِ التطاول عَلَيْهِم.

[سورة الإسراء (17) : آية 111]

[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 111] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) لَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ أَوْ قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ زِيَادَةِ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ بِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ لِقَطْعِ دَابِرِ تَوَهُّمِ مَنْ توهموا أَن الرحمان اسْمٌ لِمُسَمًّى غَيْرِ مُسَمَّى اسْمِ اللَّهِ، فَبَعْضُهُمْ تَوَهَّمَهُ إِلَهًا شَرِيكًا، وَبَعْضُهُمْ تَوَهَّمَهُ مُعِينًا وَنَاصِرًا، أُمِرَ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقُولَ مَا يَقْلَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَأَنْ يُعَظِّمَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ تَعَالَى بِالْحَمْدِ، أَيْ قَصْرِ جِنْسِ الْحَمْدِ عَلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مُسْتَحِقٍّ لِأَنْ يُحْمَدَ. فَالتَّخْصِيصُ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ دَوَاعِيَ حَمْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَانِبِ دَوَاعِي حَمْدِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الذُّلِّ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَالذُّلُّ: الْعَجْزُ وَالِافْتِقَارُ، وَهُوَ ضِدُّ الْعِزِّ، أَيْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرٌ مِنْ أَجْلِ الذُّلِّ. وَالْمُرَادُ: نَفِيُ النَّاصِرِ لَهُ عَلَى وَجْهٍ مُؤَكَّدٍ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى النَّاصِرِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَجْزِ عَنِ الِانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ. وَيَجُوزُ تَضْمِينُ (الْوَلِيِّ) مَعْنَى (الْمَانِعِ) فَتَكُونُ (مِنْ) لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَاهُ. وَمَعْنَى كَبِّرْهُ اعْتَقِدْ أَنَّهُ كَبِيرٌ، أَيْ عَظِيمٌ الْعِظَمَ الْمَعْنَوِيَّ الشَّامِلَ لِوُجُوبِ الْوُجُودِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ، وَصِفَاتِ الْكَمَالِ كُلِّهَا الْكَامِلَةِ التَّعَلُّقَاتِ، لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِذَلِكَ كُلِّهِ كَمَالٌ، وَالِاتِّصَافَ بِأَضْدَادِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَصَغَارٌ مَعْنَوِيٌّ.

وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحَمْدِ لِأَنَّ فِي هَذِه الصَّلَاة إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ تَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ كَبِّرْهُ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِمَا فِي التَّنْوِينِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَلِأَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَاءِ النِّعَمِ الَّتِي يَعْجِزُ غَيْرُهُ عَن إسدائها.

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1420 هـ- 2000 م الطبعة الأولى

18- سورة الكهف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 18- سُورَةُ الْكَهْفِ سَمَّاهَا رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم سُورَةَ الْكَهْفِ. رَوَى مُسلم، وَأَبُو دَاوُود، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ، عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو، وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ» . وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَنَّهُ سَمَّاهَا سُورَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ فَرْقَدٍ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ إِلَى قَوْله: جُرُزاً [الْكَهْف: 8] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَقِيلَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْكَهْف: 28] الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْف: 107] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الشُّورَى. وَهِيَ الثَّامِنَةُ وَالسِتُّونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ مُتَفَاوِتَةٌ أَصَحُّهَا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَهِيَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. رَوَى الديلمي فِي مُسْند الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْكَهْفِ جُمْلَةً مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ» . وَقَدْ أَغْفَلَ هَذَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» . عدت آيُهَا فِي عَدَدِ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِائَةً وَخَمْسًا، وَفِي عَدَدِ قُرَّاءِ الشَّامِ مِائَةً وَسِتًّا، وَفِي عَدَدِ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ مِائَةً وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَفِي عَدِّ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ مِائَةً وَعَشْرًا، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَقْسِيمِ بَعْضِ الْآيَاتِ إِلَى آيَتَيْنِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَبَسَطَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ بِدُونِ سَنَدٍ، وَأَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمر النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَازْدِيَادُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ وَكَثُرَ تَسَاؤُلُ الْوَافِدِينَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ عَنْ أَمْرِ دَعْوَتِهِ، بَعَثُوا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ (يَثْرِبَ) يَسْأَلُونَهُمْ رَأْيَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ، وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَجِدَ لَهُمُ الْأَحْبَارُ مَا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهِ مِمَّا يُوَجِّهُونَ بِهِ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ، قَالُوا: فَإِنَّ الْيَهُودَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ (أَيْ صِفَاتِهِمْ وَعَلَامَاتِهِمْ) عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا، فَقَدِمَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَصَفَا لِلْيَهُودِ دَعْوَة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم

وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيءٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ أَمْرُهُمْ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هِيَ. فَرَجَعَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ فَأَخْبَرَا قُرَيْشًا بِمَا قَالَهُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، فَجَاءَ جَمْعٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَسَأَلُوهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا (وَهُوَ يَنْتَظِرُ وَقْتَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عَادَةٍ يَعْلَمُهَا) . وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَقَدْ أَصْبَحْنَا الْيَوْمَ عِدَّةَ أَيَّامٍ لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، حَتَّى أَحْزَنَ ذَلِكَ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَشَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِسُورَةِ الْكَهْفِ وَفِيهَا جَوَابُهُمْ عَنِ الْفِتْيَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْكَهْفِ، وَعَنِ الرَّجُلِ الطَّوَّافِ وَهُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ مِنْ أَمر الرّوح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا من [الْإِسْرَاءِ: 85] . قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبَكَّائِيِّ (أَيْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ ابْنُ هِشَامٍ) أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: فَنَادَاهُمْ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «هُوَ (أَيِ الرُّوحُ) جِبْرِيلُ» . وَهَذَا خِلَافُ مَا رَوَى غَيْرُهُ أَنَّ يَهُودَ قَالَتْ لِقُرَيْشٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَلَيْسَ بِنَبِيءٍ وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِهِ فَهُوَ نَبِيءٌ» اهـ. وَأَقُولُ: قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بَعْدَ أَنْ أَجَابَهُمْ عَنْ أَمْرِ الرُّوحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] بِحَسَبِ مَا عَنَوْهُ بِالرُّوحِ عَدَلَ بِهِمْ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ أَمْرٍ كَانَ أَوْلَى لَهُمُ الْعِلْمُ بِهِ وَهُوَ الرُّوحُ الَّذِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاء: 193] وَقَوْلُهُ: وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: 4] (وَهُوَ مِنْ أَلْقَابِ جِبْرِيلَ) عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ

كرامة قرآنية:

الْحَكِيمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِغَاظَةِ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ جِبْرِيلَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الْآيَة [الْبَقَرَة: 97] . وَوَضَّحَهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي قَوْله للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم حِينَ ذَكَرَ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- «ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» فَلَمْ يتْرك النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لَهُمْ مَنْفَذًا قَدْ يُلْقُونَ مِنْهُ التَّشْكِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ إِلَّا سَدَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يَعْتَرِضُكَ هُنَا: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَمْرِ الرُّوحِ هِيَ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فَلَمْ تَكُنْ مُقَارِنَةً لِلْآيَةِ النَّازِلَةِ فِي شَأْنِ الْفِتْيَةِ وَشَأْنِ الرَّجُلِ الطَّوَّافِ فَمَاذَا فَرَّقَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَأَنَّ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ يُرْوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهَا مَعْدُودَةٌ سَادِسَةً وَخَمْسِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَسُورَةُ الْكَهْفِ مَعْدُودَةٌ ثَامِنَةً وَسِتِّينَ فِي النُّزُولِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ آيَةَ الرُّوحِ قَدْ تَكُونُ نَزَلَتْ عَلَى أَنْ تُلْحَقَ بِسُورَةِ الْإِسْرَاءِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُسْلُوبِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَعَلَى مِثْلِ فَوَاصَلِهَا، وَلِأَنَّ الْجَوَابَ فِيهَا جَوَابٌ بِتَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَقَامٌ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ، بِخِلَافِ الْجَوَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي بَسْطًا وَإِطْنَابًا فَفَرَّقَتْ آيَةُ الرُّوحِ عَنِ الْقِصَّتَيْنِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ مُسْتَمِرًّا إِلَى وَقْتِ نُزُولِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَأُنْزِلَ قُرْآنٌ مُوَزَّعٌ عَلَيْهَا وَعَلَى سُورَةِ الْكَهْفِ. وَهَذَا عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي مَعْنَى كَوْنِ الرُّوحِ مِنْ أَمْرِ رَبِّي كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ أَن آيَة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الْإِسْرَاء: 85] مَكِّيَّةٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ عَلِمْتَ تَأْوِيلَهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا أَنَّ أَهَمَّ غَرَضٍ نَزَلَتْ فِيهِ سُورَةُ الْكَهْفِ هُوَ بَيَانُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ أُولَاهُمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَذُكِرَتِ الْأُخْرَى فِي آخِرِهَا. كَرَامَةٌ قُرْآنِيَّةٌ: لِوَضْعِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي الْمُصْحَفِ مُنَاسَبَةٌ حَسَنَةٌ أَلْهَمَ اللَّهُ

أغراض السورة:

إِلَيْهَا أَصْحَابَ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لَمَّا رَتَّبُوا الْمُصْحَفَ فَإِنَّهَا تُقَارِبُ نِصْفَ الْمُصْحَفِ إِذْ كَانَ فِي أَوَائِلِهَا مَوْضِعٌ قِيلَ هُوَ نِصْفُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَهُوَ (التَّاءُ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَتَلَطَّفْ [الْكَهْف: 19] وَقِيلَ نِصْفُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ هُوَ (النُّونُ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الْكَهْف: 74] فِي أَثْنَائِهَا، وَهُوَ نِهَايَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ نِصْفُ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الْكَهْف: 75] ، فَجُعِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مَكَانِ قُرَابَةِ نِصْفِ الْمُصْحَفِ. وَهِيَ مُفْتَتَحَةٌ بِالْحَمْدِ حَتَّى يَكُونَ افْتِتَاحُ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْكَهْف: 1] كَمَا كَانَ افْتِتَاحُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] . وَكَمَا كَانَ أَوَّلُ الرُّبُعِ الرَّابِعِ مِنْهُ تَقْرِيبًا بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] . أَغْرَاضُ السُّورَةِ: افْتُتُحَتْ بِالتَّحْمِيدِ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ تَطَاوُلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَمُلَقِّنِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأُدْمِجَ فِيهِ إِنْذَارُ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ نَسَبُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْلِيَةُ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَنْ أَقْوَالِهِمْ حِينَ تَرَيَّثَ الْوَحْيُ لِمَا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ أَوْلِيَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ عَتْبِهِ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاعَاةِ الْآدَابِ الْكَامِلَةِ. وَذَكَرَ افْتِتَانَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَأَنَّهَا لَا تُكْسِبُ النُّفُوسَ تَزْكِيَةً. وَانْتَقَلَ إِلَى خَبَرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَعَدَاوَتِهِ لِبَنِي آدَمَ لِيَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ كَيْدِهِ. وَقَدَّمَ لِقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ قِصَّةً أَهَمَّ مِنْهَا وَهِيَ قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، لِأَنَّ كِلْتَا الْقِصَّتَيْنِ تَشَابَهَتَا فِي السَّفَرِ لِغَرَضٍ شَرِيفٍ. فَذُو الْقَرْنَيْنِ خَرَجَ لِبَسْطِ سُلْطَانِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 1 إلى 3]

وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى تَعْرِيضٌ بِأَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ تَهَمَّمُوا بِخَبَرِ مَلِكٍ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِمْ وَلَا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَنَسُوا خَبَرًا من سيرة نَبِيّهم. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ مُسْتَطْرَدَاتٌ مِنْ إرشاد النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَتَثْبِيتِهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ الْمُلَازِمِينَ لَهُ خَيْرٌ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَتَمْثِيلِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا، وَمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ، وَالتَّذْكِيرِ بِعَوَاقِبِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَوَعِيدِ أَهْلِهِ وَوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِضِدِّهِمْ، وَالتَّمْثِيلِ لِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَخُتِمَتْ بِتَقْرِيرِ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُوله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَكَانَ فِي هَذَا الْخِتَامِ مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. [1- 3] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً. مَوْقِعُ الِافْتِتَاحِ بِهَذَا التَّحْمِيدِ كَمَوْقِعِ الْخُطْبَةِ يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ فِي الْغَرَضِ الْمُهِمِّ. وَلَمَّا كَانَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ على النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَجْزَلَ نَعْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَبَبُ فَوْزِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ بِطِيبِ الْحَيَاةِ وَانْتِظَامِ الْأَحْوَالِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى النَّاسِ، وَنِعْمَةٌ على النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِأَنْ جَعَلَهُ وَاسِطَةَ ذَلِكَ وَمُبَلِّغَهُ وَمُبَيِّنَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّهُ تَعَالَى أَكْمَلَ الْحَمْدِ إِخْبَارًا وَإِنْشَاءً. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِفَادَةُ جُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اسْتِحْقَاقَهُ أَكْمَلَ الْحَمْدِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَهِيَ هُنَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، أخبر الله نبيئه وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحَمْدِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ، فَأَجْرَى عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَصْفَ بِالْمَوْصُولِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَلِمَا يُفِيدُهُ الْمَوْصُولُ مِنْ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ.

وَذكر النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَقْرِيبٌ لِمَنْزِلَتِهِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ بِمَا فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مِنْ رِفْعَةِ قَدْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] . وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. فَكُلُّ مِقْدَارٍ مُنَزَّلٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْكِتابَ. فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا مَا وَقَعَ إِنْزَالُهُ مِنْ يَوْمِ الْبَعْثَةِ فِي غَارِ حِرَاءٍ إِلَى يَوْمِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يَنْزِلُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُزَادُ بِهِ مِقْدَارُهُ. وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْكِتابَ وَبَيْنَ الْحَالِ مِنْهُ وَهُوَ قَيِّماً. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الْجُمْلَةِ حَالًا وَالْوَاوِ حَالِيَّةً. وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَبِفَتْحِ الْوَاوِ- حَقِيقَتُهُ: انْحِرَافُ جِسْمٍ مَا عَنِ الشَّكْلِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الِانْحِرَافِ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَعَانِي الْمَقْبُولَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَكْسُورَ الْعَيْنِ وَمَفْتُوحَهَا سَوَاءٌ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وَقِيلَ: الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ يَخْتَصُّ بِالْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي «الْكَشَّافِ» . وَيُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ نَسْفَ الْجِبَالِ فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 106- 107] حَيْثُ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَعَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أَنَّ الْمَكْسُورَ أَعَمُّ يَجِيءُ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَأَنَّ الْمَفْتُوحَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالْعِوَجِ هُنَا عِوَجُ مَدْلُولَاتِ كَلَامِهِ بِمُخَالَفَتِهَا لِلصَّوَابِ وَتَنَاقُضِهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْحِكْمَةِ وَإِصَابَةِ الْمُرَادِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ أَوِ الْحَالِيَّةِ إِبْطَالُ مَا يَرْمِيهِ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِمُ: «افْتَرَاهُ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَوْلُ كَاهِنٍ» ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ لَا تَخْلُو مِنْ عِوَجٍ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: 82] .

وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابَ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ الْجَعْلُ بِاللَّامِ دُونَ (فِي) لِأَنَّ الْعِوَجَ الْمَعْنَوِيَّ يُنَاسِبُهُ حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ دُونَ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ مِنْ عَلَائِقِ الْأَجْسَامِ، وَأَمَّا مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَهُوَ أَعَمُّ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِكَمَالِ أَوْصَافِ الْكُتُبِ مِنْ صِحَّةِ الْمَعَانِي وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْخَطَأِ وَالِاخْتِلَافِ. وَهَذَا وَصْفُ كَمَالٍ لِلْكِتَابِ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مُقْتَضٍ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، فَهَذَا كَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] . وقَيِّماً حَالٌ مِنَ الْكِتابَ أَوْ مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ، لِأَنَّهُ إِذَا جُعِلَ حَالًا مِنْ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ الِاتِّصَافُ بِهِ لِلْآخَرِ إِذْ هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَلَا طَائِلَ فِيمَا أَطَالُوا بِهِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَالْقَيِّمُ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى دَوَامِ تَعَهُّدِ شَيْءٍ وَمُلَازَمَةِ صَلَاحِهِ، لِأَنَّ التَّعَهُّدَ يَسْتَلْزِمُ الْقِيَامَ لِرُؤْيَةِ الشَّيْءِ وَالتَّيَقُّظَ لِأَحْوَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَنَّهُ قَيِّمٌ عَلَى هَدْيِ الْأُمَّةِ وَإِصْلَاحِهَا، فَالْمُرَادُ أَنَّ كَمَالَهُ مُتَعَدٍّ بِالنَّفْعِ، فَوِزَانُهُ وِزَانُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: [2] . وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وَقَوْلِهِ: قَيِّماً كَالْجَمْعِ بَيْنَ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] وَبَيْنَ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] وَلَيْسَ هُوَ تَأْكِيدًا لِنَفْيِ الْعِوَجِ. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ لِيُنْذِرَ مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْزَلَ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ لِيُنْذِرَ اللَّهُ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ، وَالْمَفْعُول الأول لِيُنْذِرَ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ،

أَوْ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمُنْذَرُ بِهِ وَهُوَ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ تَهْوِيلًا لَهُ وَلِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ. وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْأَلَمِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا تُؤْلِمُ الْعَدُوَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَالْمُرَادُ هُنَا: شِدَّةُ الْحَالِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْبَأْسِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ الطَّبَرِيُّ. وَهَذَا إِيمَاءٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بَأْسٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِهِ وَبِأَمْرِهِ عِبَادَهُ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فَاسْتِعْمَالُ (لَدُنْ) هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وَلَيْسَ فِي جَعْلِ الْإِنْذَارِ بِبَأْسِ الدُّنْيَا عِلَّةً لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ مَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَ عِلَلِ إِنْزَالِهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ قَدْ تَكُونُ لَهُ عِلَلٌ كَثِيرَةٌ يُذْكَرُ بَعْضُهَا وَيُتْرَكُ بَعْضٌ. وَإِنَّمَا آثَرْتُ الْحَمْلَ على جعل الْيَأْس الشَّدِيدِ بَأْس الدُّنْيَا للنقصي مِمَّا يَرِدُ عَلَى إِعَادَةِ فِعْلِ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: 4] كَمَا سَيَأْتِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَأْسِ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْهُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَّرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَأْسِ الشَّدِيدِ مَا يَشْمَلُ بَأْسَ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَبَأْسَ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَيَكُونَ اسْتِعْمَالُ مِنْ لَدُنْهُ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، أَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا فَلِأَنَّ بَعْضَهُ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَهُمَا مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمَا فَهُمَا مِنْ لَدُنْهُ. وَحذف مفعول لِيُنْذِرَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ لِظُهُورِ أَنَّهُ يُنْذِرُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْكِتَابِ وَلَا بِالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ، وَلِدَلَالَةِ مُقَابَلِهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 4 إلى 5]

وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً، فَهُوَ سَبَبٌ آخَرُ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ أَثَارَتْهُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ لِيَبْقَى الْإِنْذَارُ مُوَجَّهًا إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مُتَعَلِّقٌ بِ يُبَشِّرَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ) ، أَيْ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. وَذِكْرُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِحُصُولِ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ. وَلَا يَتَعَرَّضُ الْقُرْآنُ فِي الْغَالِبِ لِحَالَةِ حُصُولِ الْإِيمَانِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَلِحُكْمِهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ. وَالْمُكْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، شَبَّهَ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْمُلَائِمَاتِ بِالظَّرْفِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ حَالُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ الْحَسَنَ كَالْمُحِيطِ بِهِمْ لَا يُفَارِقُهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَبَداً بِتَأْكِيدٍ لِمَعْنَى ماكِثِينَ بَلْ أُفِيدَ بِمَجْمُوعِهَا الْإِحَاطَةُ وَالدَّوَامُ. [4، 5] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 4 الى 5] وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ. تَعْلِيلٌ آخَرُ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى عَبْدِهِ، جُعِلَ تَالِيًا لِقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْف: 2] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا إِنْذَارٌ مَخْصُوصٌ مُقَابِلٌ لِمَا بَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا إِنْذَارٌ بِجَزَاءٍ خَالِدِينَ فِيهِ وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى تَخْصِيصِ الْبَأْسِ فِي قَوْلِهِ: بَأْساً شَدِيداً [الْكَهْف: 2] بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ هَذَا الْإِنْذَارُ مُغَايِرًا لِمَا قَبْلَهُ وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى شُمُولِ الْبَأْسِ لِلْعَذَابَيْنِ كَانَتْ إِعَادَةُ فِعْلِ يُنْذِرَ تَأْكِيدًا، فَكَانَ عَطْفُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِمَفْعُولِهِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى مَعْنَى مَفْعُولِ فِعْلِ

يُنْذِرَ السَّابِقِ يُعْرَفُ بِهَا الْفَرِيقُ الْمُنْذَرُونُ بِكِلَا الإنذارين، وَهُوَ يومىء إِلَى الْمُنْذَرِينَ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الْكَهْف: 2] وَيُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ أَثَارَتْهَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ التَّبْشِيرِ قَبْلَهَا، وَقَدْ حُذِفَ هَنَا الْمُنْذَرُ بِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مُقَابِلِهِ الْمُبَشَّرِ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً هُنَا الْمُشْركين الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْمَكِّيَّ مَا تَعَرَّضَ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَأَهُّلِهِمْ لِلدُّخُولِ فِي الْعُمُومِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا أُنْذِرُوا بِهِ لِأَجْلِهَا وَلِغَيْرِهَا، فَمَضْمُونُ الصِّلَةِ مِنْ مُوجِبَاتِ مَا أُنْذِرُوا بِهِ لِأَنَّ الْعِلَلَ تَتَعَدَّدُ. وَالْوَلَدُ: اسْمٌ لِمَنْ يُولَدُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [68] . وَجُمْلَةُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ قالُوا. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قالُوا. وَ (مِنْ) لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَالِ أَنَّهَا أَشْنَعُ فِي كُفْرِهِمْ وَهِيَ أَنْ يَقُولُوا كَذِبًا لَيْسَتْ لَهُمْ فِيهِ شُبْهَةٌ، فَأَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَى سَبَبِ الْعِلْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] . وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ فِعْلِ قالُوا، أَيْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ مَنْ عِلْمٍ. وَعَطْفُ وَلا لِآبائِهِمْ لِقَطْعِ حُجَّتِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِآبَائِهِمْ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ فَلَيْسُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يُقَلِّدُوهُمْ.

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً اسْتِئْنَافٌ بِالتَّشَاؤُمِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ الشَّنِيعِ. وَوَجْهُ فَصْلِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا بِالْإِنْشَائِيَّةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْخَبَرِيَّةِ. وَفِعْلُ كَبُرَتْ- بِضَمِّ الْبَاءِ-. أَصْلُهُ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِضَخَامَةِ جِسْمِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي وَصْفٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمل فِي التعجيب مِنْ كِبَرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الشَّنَاعَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَدَلَّ على قصد التعجيب مِنْهَا انْتِصَابُ كَلِمَةً عَلَى التَّمْيِيزِ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْيِيزُ هُنَا مَعْنًى غَيْرَ أَنَّهُ تَمْيِيز نِسْبَة التعجيب، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا مَثَّلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوُرُودِ فَعُلَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُحَوَّلِ لِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فِي مَعْنَى نِعْمَ وَبِئْسَ بِحَسَبِ الْمَقَامِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَبُرَتْ يَرْجِعُ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا التَّمْيِيزُ. وَأُطْلِقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْكَلَامِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، وَقَول النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» وَجُمْلَةُ تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صِفَةٌ لِ كَلِمَةً مَقْصُودٌ بِهَا مِنْ جَرْأَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ بِهَا وَوَقَاحَتِهِمْ فِي قَوْلِهَا. وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ خُرُوجِهَا من أَفْوَاههم تخييلا لِفَظَاعَتِهَا. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ غَيْرُ الْأَفْوَاهِ، لِأَنَّهُ لِاسْتِحَالَتِهِ تَتَلَقَّاهُ وَتَنْطِقُ بِهِ أَفْوَاهُهُمْ وَتَسْمَعُهُ أسماعهم وَلَا تتعقله عُقُولُهُمْ لِأَنَّ الْمُحَالَ لَا يَعْتَقِدُهُ الْعَقْلُ وَلَكِنَّهُ يَتَلَقَّاهُ الْمُقَلِّدُ دُونَ تَأَمُّلٍ.

[سورة الكهف (18) : آية 6]

وَالْأَفْوَاهُ: جمع فَم وَهُوَ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، لِأَنَّ أَصْلَ فَمٍ فَوَهٌ بِفَتْحَتَيْنِ بِوَزْنِ جَمَلٍ، أَوْ فِيهٍ بِوَزْنِ رِيحٍ، فَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ آخِرِهِ لِثِقَلِهَا مَعَ قلَّة حُرُوف الْكَلِمَةِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ النَّاطِقُ حَرْفًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ لِسَانُهُ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَهَا حَرْفٌ ثَقِيلٌ وَهُوَ الْوَاوُ الْمُتَحَرِّكَةُ فَلَمَّا بَقِيَتِ الْكَلِمَةُ مَخْتُومَةً بِوَاوٍ مُتَحَرِّكَةٍ أُبْدِلَتْ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ «فًا» وَلَا يَكُونُ اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا تَنْوِينٌ، فَأُبْدِلَتِ الْأَلِفُ الْمُنَوَّنَةُ بِحَرْفٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الْمِيمُ لِأَنَّهَا تُشَابِهُ الْوَاوَ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهُمَا شَفَهِيَّتَانِ فَصَارَ «فَمٌ» ، وَلَمَّا جَمَعُوهُ رَدُّوهُ إِلَى أَصْلِهِ. وَجُمْلَةُ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ الْكَذِبُ، أَيْ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ خُرُوجَ الْكَذِبِ، فَمَا قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كَذِبٌ، أَيْ لَيْسَتْ لَهُ صِفَةٌ إِلَّا صِفَةُ الْكَذِبِ. هَذَا إِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ يَقُولُونَ خُصُوصَ قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: 4] . وَلَكَ أَنْ تَحْمِلَ يَقُولُونَ عَلَى الْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ قَوْلٌ إِلَّا الْكَذِبُ، فَيَكُونُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ مَا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ، أَوْ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْمُخَالِفِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنْ يَقُولُونَ تذييلا. [6] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 6] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: 4] بِاعْتِبَارِهِمْ مُكَذِّبِينَ كَافِرين بِقَرِينَة مُقَابلَة الْمُؤمنِينَ بهم فِي قَوْله: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [الْكَهْف: 2] ثمَّ قَوْله: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: 4] .

وَ (لَعَلَّ) حَقِيقَتُهَا إِنْشَاءُ الرَّجَاءِ وَالتَّوَقُّعِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّحْذِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسل لِأَنَّهُمَا لَا زمَان لِتَوَقُّعِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَحْذِيرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الِاغْتِمَامِ وَالْحُزْنِ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ قَوْمِهِ. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّسْلِيَةِ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ. وَالْبَاخِعُ: قَاتِلٌ نَفْسَهَ، كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَفَسَّرَهُ الْبُخَارِيُّ بِمُهْلِكٍ. وَتَفْسِيرُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ. وَفِي اشْتِقَاقِهِ خِلَافٌ، فَقيل مُشْتَقّ من الْبِخَاعِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ (بِوَزْنِ كِتَابٍ) وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطَنٌ فِي الْقَفَا فَإِذَا بَلَغَ الذَّابِحُ الْبِخَاعَ فَذَلِكَ أَعْمَقُ الذَّبْحِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [3] وَانْفَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِذِكْرِ هَذَا الِاشْتِقَاقِ فِي «الْكَشَّاف» و «الْفَائِق» و «الأساس» . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» : «بَحَثْتُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالطِّبِّ فَلَمْ أَجِدِ الْبِخَاعَ بِالْمُوَحَّدَةِ» يَعْنِي أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ انْفَرَدَ بِهَذَا الِاشْتِقَاقِ وَبِإِثْبَاتِ الْبِخَاعِ اسْمًا لِهَذَا الْعِرْقِ. قُلْتُ: كَفَى بِالزَّمَخْشَرِيِّ حُجَّةً فِيمَا أَثْبَتَهُ. وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَيْهِ الْمُطَرِّزِيُّ فِي «الْمُغْرِبِ» وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» . فَالْبَخْعُ: أَصْلُهُ أَنْ يَبْلُغَ الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ إِلَى الْقَفَا ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَتْلِ الْمَشُوبِ بِغَيْظٍ. وَالْآثَارُ: جَمْعُ أَثَرٍ وَهُوَ مَا يُؤْثِرُهُ، أَيْ يُبْقِيهِ الْمَاشِي أَوِ الرَّاكِبُ فِي الرَّمْلِ أَوِ الأَرْض من مواطىء أَقْدَامِهِ وَأَخْفَافِ رَاحِلَتِهِ. وَالْأَثَرُ أَيْضًا مَا يُبْقِيهِ أَهْلُ الدَّارِ إِذَا تَرَحَّلُوا عَنْهَا مِنْ تَافِهِ آلَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يعالجون بهَا شؤونهم كَالْأَوْتَادِ وَالرَّمَادِ. وَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ لِأَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ كَمَا يُعْرِضُ السَّائِرُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَتَكُونُ (عَلَى) لِلتَّعْلِيلِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ حَال الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فِي شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى اتِّبَاعِ قَوْمِهِ لَهُ وَفِي غَمِّهِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ. وَتَمْثِيلَ حَالِهِمْ فِي النُّفُورِ وَالْإِعْرَاضِ بِحَالِ مَنْ فَارَقَهُ أَهْلُهُ وَأَحِبَّتُهُ فَهُوَ يَرَى آثَارَ دِيَارِهِمْ وَيَحْزَنُ لِفِرَاقِهِمْ. وَيَكُونُ حرف (على) ظرفا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ شِدَّةُ الِاتِّصَالِ بِالْمَكَانِ. وَكَأَنَّ هَذَا الْكَلَام سيق إِلَى الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فِي آخِرِ أَوْقَاتِ رَجَائِهِ فِي إِيمَانِهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ صَائِرِينَ إِلَى الْإِيمَان، وتهيئة نَفسه أَنْ تَتَحَمَّلَ مَا سَيَلْقَاهُ مِنْ عِنَادِهِمْ رَأْفَةً من ربه بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِيَةِ الْحُصُولَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ إِنِ اسْتَمَرَّ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ وَبَيَانُهُ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي مَقَامِ نُزُولِ الْآيَةِ فَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ. وَبَيَّنَ بِأَنَّهُ الْحَدِيثُ. وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، إِذِ الْحَدِيثُ هُوَ الْكَلَامُ الطَّوِيلُ الْمُتَضَمِّنُ أَخْبَارًا وَقِصَصًا. سُمِّي الْحَدِيثُ حَدِيثًا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَمْرِ الْحَدِيثِ، أَيِ الَّذِي حَدَثَ وَجَدَّ، أَيِ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَجَدَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْمُخَاطَبُ، فَالْحَدِيثُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [23] . وأَسَفاً مَفْعُولٌ لَهُ مِنْ باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ قَاتِلُهَا لِأَجْلِ شَدَّةِ الْحُزْنِ، وَالشَّرْطُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا جَوَابَ لَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْجَوَابِ بِمَا قبل الشَّرْط.

[سورة الكهف (18) : الآيات 7 إلى 8]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 7 إِلَى 8] إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا خُفْيَة جدا أَعْوَزَ الْمُفَسّرين بَيَانهَا، فَمنهمْ سَاكِتٌ عَنْهَا، وَمِنْهُمْ مُحَاوِلٌ بَيَانَهَا بِمَا لَا يَزِيدُ عَلَى السُّكُوتِ. وَالَّذِي يَبْدُو: أَنَّهَا تَسْلِيَة للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَلَى إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ أمهلهم وَأَعْطَاهُمْ زِينَة الدُّنْيَا لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَهُ، وَأَنَّهُمْ بَطَرُوا النِّعْمَةَ، فَإِنَّ الله يسلب عَنْهُم النِّعْمَةَ فَتَصِيرُ بِلَادُهُمْ قَاحِلَةً. وَهَذَا تَعْرِيض بِأَنَّهُ سَيَحُلُّ بِهِمْ قَحْطُ السِّنِينَ السَّبْعِ الَّتِي سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلِهَذَا اتِّصَالٌ بِقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْف: 2] . وموقع (إِن) فِي صَدْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّسْلِيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الْكَهْف: 6] . وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ تَذْكِيرُ بَعْضِهِمْ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهَا إِيجَادًا لِلْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا مِنْ حَيَاةِ الْأَرْضِ وَمَوْتِهَا الْمُمَاثِلِ لِحَيَاةِ النَّاسِ وَمَوْتِهِمْ، وَالْمُمَاثِلِ لِلْحَيَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَوْتِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَنِعْمَةٍ وَنِقْمَةٍ، كُلُّهَا عِبَرٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ بالتغير وَيَأْخُذ الأهبة إِلَى الِانْتِقَالِ مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَلَا يَثِقُ بِقُوَّتِهِ وَبَطْشِهِ، لِيَقِيسَ الْأَشْيَاءَ بِأَشْبَاهِهَا وَيَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى مِعْيَارِ الْفَضَائِلِ وَحُسْنَى الْعَوَاقِبِ. وَأَوْثَرَ الِاسْتِدْلَالُ بِحَالِ الْأَرْضِ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى حسهم وتعقلهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17- 20] ، وَقَالَ: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات: 20] .

وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِعْجَازِ فِي جَمْعِ مُعَانٍ كَثِيرَةٍ يَصْلُحُ اللَّفْظُ لَهَا من مُخْتَلف الْأَغْرَاض الْمَقْصُودَةِ، فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ خَلْقِ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً يَجْمَعُ الِامْتِنَانَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّذْكِيرَ بِبَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ إِذْ وَضَعَ هَذَا الْعَالَمَ عَلَى أَتْقَنِ مِثَالٍ مُلَائِمٍ لِمَا تُحِبُّهُ النُّفُوسُ مِنَ الزِّينَةِ وَالزُّخْرُفِ. وَالِامْتِنَانُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] ، وَقَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمرَان: 14] . وَلَا تَكُونُ الْأَشْيَاءُ زِينَةً إِلَّا وَهِيَ مَبْثُوثَةٌ فِيهَا الْحَيَاةُ الَّتِي بِهَا نَمَاؤُهَا وَازْدِهَارُهَا. وَهَذِهِ الزِّينَةُ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْذُ رَآهَا الْإِنْسَانُ، وَاسْتِمْرَارُهَا بِاسْتِمْرَارِ أَنْوَاعِهَا وَإِنْ كَانَ الزَّوَالُ يَعْرِضُ لِأَشْخَاصِهَا فَتَخْلُفُهَا أَشْخَاصٌ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا. فَيَتَضَمَّنُ هَذَا امْتِنَانًا بِبَثِّ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ. وَمِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الزِّينَةِ أَنَّهَا تُوقِظُ الْعُقُولَ إِلَى النَّظَرِ فِي وُجُودِ مُنْشِئِهَا وَتَسْبُرُ غَوْرَ النُّفُوسِ فِي مِقْدَارِ الشُّكْرِ لِخَالِقِهَا وَجَاعِلِهَا لَهُمْ، فَمِنْ مُوفٍ بِحَقِّ الشُّكْرِ، وَمُقَصِّرٍ فِيهِ وَجَاحِدٍ كَافِرٍ بِنِعْمَةِ هَذَا الْمُنْعِمِ نَاسِبٍ إِيَّاهَا إِلَى غَيْرِ مُوجِدِهَا. وَمِنْ لَوَازِمِهَا أَيْضًا أَنَّهَا تُثِيرُ الشَّهَوَاتِ لِاقْتِطَافِهَا وَتَنَاوُلِهَا فَتُسْتَثَارُ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَلِفُ الْكَيْفِيَّاتِ فِي تَنَاوُلِهَا وَتَعَارُضُ الشَّهَوَاتِ فِي الِاسْتِيثَارِ بِهَا مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَغَالُبِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَاعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَذَلِكَ الَّذِي أَوْجَدَ حَاجَتَهُمْ إِلَى الشَّرَائِعِ لِتَضْبِطَ لَهُمْ أَحْوَالَ مُعَامَلَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَلَّلَ جَعْلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً بِقَوْلِهِ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أَيْ أَفْوَتُ فِي حسن الْعَمَل مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ الرَّاجِعِ إِلَى الْإِيمَان وَالْكفْر، وَعلم الْجَسَدِ الْمُتَبَدِّي فِي الِامْتِثَالِ لِلْحَقِّ وَالْحَيْدَةِ عَنْهُ. فَمَجْمُوعُ النَّاسِ مُتَفَاوِتُونَ فِي حُسْنِ الْعَمَلِ. وَمِنْ دَرَجَاتِ التَّفَاوُتِ فِي هَذَا الْحُسْنِ تُعْلَمُ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى دَرَجَةَ انْعِدَامِ الْحُسْنِ مِنْ أَصْلِهِ وَهِيَ حَالَةُ الْكُفْرِ وَسُوءِ الْعَمَلِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «.. مَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يُقْرَأُ الْقُرْآنَ..» .

[سورة الكهف (18) : آية 9]

وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [30] . وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ التَّنْجِيزِيِّ بِالْمَعْلُومِ عِنْدَ حُصُولِهِ بِقَرِينَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الِاخْتِبَارِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى الْكِنَايَةِ عَنْ ظُهُورِ ذَلِكَ لِكُلِّ النَّاسِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الصَّالِحُ بِضِدِّهِ. وَهُوَ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً تَكْمِيلٌ لِلْعِبْرَةِ وَتَحْقِيقٌ لِفَنَاءِ الْعَالم. فَقَوله: لَجاعِلُونَ اسْمُ فَاعِلٍ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، أَيْ سَنَجْعَلُ مَا عَلَى الْأَرْضِ كُلَّهُ مَعْدُومًا فَلَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا تُرَابٌ جَافٌّ أَجْرَدُ لَا يَصْلُحُ لِلْحَيَاةِ فَوْقَهُ وَذَلِكَ هُوَ فَنَاءُ الْعَالَمِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: 48] . وَالصَّعِيدُ: التُّرَابُ. وَالْجُرُزُ: الْقَاحِلُ الْأَجْرَدُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَى الصَّعِيدِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً فِي هَذِه السُّورَة [40] . [9] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 9] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) (أَمْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي أُنْزِلَتِ السُّورَةُ لِبَيَانِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِانْتِقَالُ اقْتِضَابًا بَلْ هُوَ كَالِانْتِقَالِ مِنَ الدِّيبَاجَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ. عَلَى أَنَّ مُنَاسَبَةَ الِانْتِقَالِ إِلَيْهِ تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: 6] ، إِذْ كَانَ مِمَّا صَرَفَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ إِحَالَتُهُمُ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكَهْفِ وَبَعْثُهُمْ بَعْدَ خُمُودِهِمْ سِنِينَ طَوِيلَةً مِثَالًا لِإِمْكَانِ الْبَعْثِ.

وَ (أَمْ) هَذِهِ هِيَ (أَمِ) الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى (بَلْ) ، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهَا، يُقَدَّرُ بَعْدَهَا حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا بَعْدَهَا كَقَوْلِ أُفْنُونٍ التَّغْلِبِيِّ: أَنَّى جَزَوْا عَامِرًا سوءا بضعته ... أَمْ كَيْفَ يَجْزُونَنِي السُّوأَى عَنِ الْحَسَنِ وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) تَعْجِيبِيٌّ مِثْلُ الَّذِي فِي الْبَيْتِ. وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: أَحَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا عَجَبًا مِنْ بَيْنِ آيَاتِنَا، أَيْ أَعْجَبَ مِنْ بَقِيَّةِ آيَاتِنَا، فَإِنَّ إِمَاتَةَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ عَجَبِ إِنَامَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. لِأَنَّ فِي إِنَامَتِهِمْ إِبْقَاءٌ لِلْحَيَاةِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَلَيْسَ فِي إِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ إِبْقَاءٌ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِغَفْلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بَيَانَ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ لِاسْتِعْلَامِ مَا فِيهَا مِنَ الْعَجَبِ، بِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ عَجِيبٍ وَكَفَرُوا بِمَا هُوَ أَعْجَبُ، وَهُوَ انْقِرَاضُ الْعَالَمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ فَنَاءِ الْعَالَمِ وَيَقُولُونَ: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] . أَيْ إِنِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا لَا حَيَاةُ الْآخِرَةُ وَإِنَّ الدَّهْرَ يُهْلِكُنَا وَهُوَ بَاقٍ. وَفِيهِ لَفْتٌ لِعُقُولِ السَّائِلِينَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعَجَائِبِ الْقَصَصِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى لَهُمُ الِاتِّعَاظُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْأَسْبَابِ وَآثَارِهَا. وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ ذِكْرُ أَحْوَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الْكَهْف: 10] فَأَعْلَمَ النَّاسَ بِثَبَاتِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِمْ فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً [الْكَهْف: 13] . الْآيَاتِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا الشِّرْكَ وَسَفَّهُوا أَهْلَهُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ حَقَّ السَّامِعِينَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهُدَاهُمْ. وَالْخطاب للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم. وَالْمُرَادُ: قَوْمُهُ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنِ الْقِصَّةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَغْرَوْهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا وَتَطَلُّبِ بَيَانِهَا. وَيُظْهِرُ أَنَّ الَّذِينَ لَقَّنُوا قُرَيْشًا السُّؤَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ هُمْ بَعْضُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَهُمْ صِلَةٌ

بِأَهْلِ مَكَّةَ مِنَ التُّجَّارِ الْوَارِدَيْنِ إِلَى مَكَّةَ أَوْ مِنَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ فِي الْأَدْيِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي طَرِيقِ رِحْلَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ وَهِيَ رِحْلَةُ الصَّيْفِ. وَمَحَلُّ التَّعَجُّبِ هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ آياتِنا، أَيْ مِنْ بَيْنِ آيَاتِنَا الْكَثِيرَةِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ وَهُمْ لَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقْصُرُونَ تَعَجُّبَهُمْ عَلَى أَمْثَالِ هَذِه الخوارق فيؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ لَيْسُوا هُمُ الْعَجَبُ مِنْ بَيْنِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، بَلْ عَجَائِبُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَمِنْهَا مَا يُسَاوِيهَا. فَمَعْنَى (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِنا التَّبْعِيضُ، أَيْ لَيْسَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ مُنْفَرِدَةً بِالْعَجَبِ مِنْ بَيْنِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: سَأَلَ فُلَانًا فَهُوَ الْعَالِمُ مِنَّا، أَيِ الْمُنْفَرِدُ بِالْعِلْمِ مِنْ بَيْنِنَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَانُوا عَجَبًا فِي آيَاتِنَا، أَيْ وَبَقِيَّةُ الْآيَاتِ لَيْسَتْ عَجَبًا. وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى سُوءِ نَظَرِهِمْ إِذْ يُعَلِّقُونَ اهْتِمَامَهُمْ بِأَشْيَاءَ نَادِرَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاهْتِمَامِ. وَأَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِالْعَجَبِ وَإِنَّمَا الْعَجَبُ حَالُهُمْ فِي قَوْمِهِمْ، فَثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ. وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وَالْمُرَادُ عَجِيبٌ. وَالْكَهْفُ: الشَّقُّ الْمُتَّسِعُ الْوَسَطِ فِي جَبَلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّسِعًا فَهُوَ غَارٌ. وَالرَّقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الرَّقْمِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ. فَالرَّقِيمُ كِتَابٌ كَانَ مَعَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ. قِيلَ: كَتَبُوا فِيهِ مَا كَانُوا يَدِينُونَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابُ دِينِهِمْ، دِينٍ كَانَ قَبْلَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقِيلَ: هُوَ دِينُ عِيسَى، وَقِيلَ: كَتَبُوا فِيهِ الْبَاعِثَ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى الْكَهْفِ فِرَارًا مِنْ كُفْرِ قَوْمِهِمْ. وَابْتَدَأَ الْقُرْآنُ مِنْ قِصَّتِهِمْ بِمَحَلِ الْعِبْرَةِ الصَّادِقَةِ والقدوة الصَّالِحَة مِنْهُ، وَهُوَ الْتِجَاؤُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ وَاسْتِجَابَتُهُ لَهُمْ.

وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى قِصَّةِ نَفَرٍ مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ثَبَتُوا عَلَى دِينِ الْحَقِّ فِي وَقْتِ شُيُوعِ الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ فَانْزَوَوْا إِلَى الْخَلْوَةِ تَجَنُّبًا لِمُخَالَطَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَأَوَوْا إِلَى كَهْفٍ اسْتَقَرُّوا فِيهِ فِرَارًا مِنَ الْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، فَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ نَوْمًا بَقُوا فِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ أَيْقَظَهُمْ فَأَرَاهُمُ انْقِرَاضَ الَّذِينَ كَانُوا يَخَافُونَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَبَعْدَ أَنْ أَيْقَنُوا بِذَلِكَ أَعَادَ نَوْمَتَهُمُ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ فَأَبْقَاهُمْ أَحْيَاءً إِلَى أَمَدٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ أَوْ أَمَاتَهُمْ وَحَفِظَ أَجْسَادَهُمْ مِنَ الْبِلَى كَرَامَةً لَهُمْ. وَقَدْ عَرَفَ النَّاسُ خَبَرَهُمْ وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى أَعْيَانِهِمْ وَلَا وَقَفُوا عَلَى رَقِيمِهِمْ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ وُقُوعَ قِصَّتِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهَا. وَلَمَّا كَانَتْ مَعَانِي الْآيَاتِ لَا تَتَّضِحُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ تَعَيَّنَ أَنْ نَذْكُرَ مَا صَحَّ عِنْدَ أَعْلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى مَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَافٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مُلَخَّصًا فِي ذَلِكَ دُونَ تَعْرِيجٍ عَلَى مَا هُوَ مِنْ زِيَادَاتِ الْمُبَالِغِينَ وَالْقُصَّاصِ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ أَنَّ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ (أَبْسُسُ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحِّدَةِ وَضَمِّ السِّينِ بَعْدَهَا سِينٌ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ- وَكَانَ بَلَدًا من ثغور طرسوس بَيْنَ حَلَبَ وَبِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَنْطَاكِيَّةَ. وَلَيْسَتْ هِيَ (أَفْسُسَ) - بِالْفَاءِ أُخْتِ الْقَافِ- الْمَعْرُوفَةَ فِي بِلَادِ الْيُونَانِ بِشُهْرَةِ هَيْكَلِ الْمُشْتَرِي فِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْيُونَانِ وَإِلَى أَهْلِهَا كَتَبَ بُولُسُ رِسَالَتَهُ الْمَشْهُورَةَ. وَقَدِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ. وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ (مَرْعَشَ) مِنْ بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَتِ الدِّيَانَةُ النَّصْرَانِيَّةُ دَخَلَتْ فِي تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا دِينَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الرُّومِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ تَنَصُّرِ قُسْطَنْطِينَ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ (أَبْسُسَ) نَفَرٌ مِنْ صَالِحِي النَّصَارَى يُقَاوِمُونَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. وَكَانُوا فِي زمن الإنبراطور (دُوقْيُوسْ) وَيُقَالُ (دِقْيَانُوسْ) الَّذِي

مَلَكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 237. وَكَانَ مُلْكُهُ سَنَةً وَاحِدَةً. وَكَانَ مُتَعَصِّبًا لِلدِّيَانَةِ الرُّومَانِيَّةِ وَشَدِيدَ البغض للنصرانيّة، فأظهروا كَرَاهِيَةَ الدِّيَانَةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَتَوَعَّدَهُمْ دُوقْيُوسْ بِالتَّعْذِيبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى جَبَلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ فَرْسَخَانِ يُقَالُ لَهُ (بِنْجَلُوسْ) فِيهِ كَهْفٌ أَوَوْا إِلَيْهِ وَانْفَرَدُوا فِيهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ فِرَارِهِمْ مَسَامِعَ الْمَلِكِ وَأَنَّهُمْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ أَرْسَلَ وَرَاءَهُمْ فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَوْمَةً فَظَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْمَلِكِ أَمْوَاتًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُسَدَّ فُوَّهَةُ كَهْفِهِمْ بِحَائِطٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ فِيمَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ لَوْ بُنِيَ عَلَى فُوَّهَةِ كَهْفِهِمْ حَائِطٌ لَمَا أَمْكَنَ خُرُوجُ مَنِ انْبَعَثَ مِنْهُمْ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَالَ دُونَ تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ أَنَّ مُدَّتَهُ لَمْ تَطُلْ فِي الْمُلْكِ إِذْ لَمْ تَزِدْ مُدَّتُهُ عَلَى عَامٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَقُوا فِي رَقْدَتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً قَرَّبَهَا ابْنُ الْعِبْرِيِّ بِمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ انْبِعَاثُهُمْ فِي مُدَّةِ ملك (ثاوذوسيوس) فيصر الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ آيَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ فَبَعَثَهُمْ مِنْ مَرْقَدِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ وَأَرْسَلُوا أَحَدَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ (أَبْسُسُ) ، بِدَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهُم طَعَاما. فَعجب النَّاسُ مِنْ هَيْئَتِهِ وَمِنْ دَرَاهِمِهِ وَعَجِبَ هُوَ مِمَّا رَأَى مِنْ تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ. وَتَسَامَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِأَمْرِهِمْ، فَخَرَجَ قَيْصَرٌ الصَّغِيرُ مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَقِسِّيسِينَ وَبَطَارِقَةٍ إِلَى الْكَهْفِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ وَكَلَّمُوهُمْ وَآمَنُوا بِآيَتِهِمْ، وَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُمْ مَاتُوا فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَكَانَتْ آيَةً تَأَيَّدَ بِهَا دِينُ الْمَسِيحِ. وَالَّذِي فِي «كِتَابِ الطَّبَرِيِّ» أَنَّ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى مُشَاهَدَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ هُمْ رَئِيسَا الْمَدِينَةِ (أَرْيُوسْ) وَ (أَطْيُوسْ) وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ لَمَّا شَاهَدَهُمُ النَّاسُ كَتَبَ وَالِيَا الْمَدِينَةِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَحَضَرَ وَشَاهَدَهُمْ وَأَمَرَ بِأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ. وَلَمْ يَذْكُرُوا هَلْ نُفِّذَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يُنَفَّذْ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ وَقَعَ الْعُثُورُ عَلَى هَذَا الْكَهْفِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَعَلَّه قد انْهَدم بِحَادِثِ زِلْزَالٍ أَوْ نَحْوِهِ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَخْبَارُ الزَّائِفَةُ عَنْ تَعْيِينِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ بُلْدَانِ الْمُسلمين فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَثِيرَةً. وَفِي جَنُوبِ الْقُطْرِ التُّونِسِيِّ مَوْضِعٌ يُدْعَى

أَنَّهُ الْكَهْفُ. وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ بَادِيَةِ الْقُطْرِ مَشَاهِدُ يُسَمُّونَهَا السَّبْعَةَ الرُّقُودَ اعْتِقَادًا بِأَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ كَانُوا سَبْعَةً. وَسَتُعْلَمُ مَثَارُ هَذِهِ التَّوَهُّمَاتِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْآلُوسِيِّ» عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، قَدْ مَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً [الْكَهْف: 18] فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ فَبَعَثَ رِجَالًا وَقَالَ: اذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْكَهْفَ وَانْظُرُوا، فَذَهَبُوا فَلَمَّا دَخَلُوهُ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَخْرَجَتْهُمْ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ غَزَا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ فَإِذَا فِيهِ عِظَامٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: هَذِهِ عِظَامُ أَهْلِ الْكَهْفِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ ذَهَبَتْ عِظَامُهُمْ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» عَنِ الْقَفَّالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْخُوَارَزْمِيِّ الْمُنَجِّمِ: «أَنَّ الْوَاثِقَ أَنْفَذَهُ لِيَعْرِفَ حَالَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَسَافَرَ إِلَى الرُّومِ فَوَجَّهَ مَلِكُ الرُّومِ مَعَهُ أَقْوَامًا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُمْ فِيهِ، قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُوَكَّلَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَزَّعَنِي مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَدَخَلْتُ وَرَأَيْتُ الشُّعُورَ عَلَى صُدُورِهِمْ، قَالَ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَاحْتِيَالٌ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَدْ عَالَجُوا تِلْكَ الْجُثَثَ بِالْأَدْوِيَةِ الْمُجَفِّفَةِ لِأَبْدَانِ الْمَوْتَى لِتَصُونَهَا عَنِ الْبِلَى مِثْلِ التَّلْطِيخِ بِالصبرِ وَغَيره» اهـ. وَقَوْلُهُ: (فَسَافَرَ إِلَى الرُّومِ) مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْكَهْفَ كَانَ حَوْلَ مَدِينَةِ (أَفْسُوسْ) - بِالْفَاءِ أُخْتِ الْقَافِ- وَهُوَ وَهْمٌ حَصَلَ مِنْ تَشَابُهِ اسْمَيِ الْبَلَدَيْنِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا، فَإِنَّ بَلَدَ (أَفْسُسْ) فِي زَمَنِ الْوَاثِقِ لَا تَزَالُ فِي حُكْمِ قَيَاصِرَةِ الرُّومِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ: إِنَّ قَيْصَرَ الرُّومِ لَمَّا بَلَغَتْهُ بَعْثَةُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ وَجَّهَهُمُ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ، أَمَرَ بِأَنْ يُجْعَلَ دَلِيلٌ فِي

رُفْقَةِ الْبَعْثَةِ لِيُسَهِّلَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ، أَمَّا مَدِينَةُ (أَبْسُسْ) - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- فَقَدْ كَانَتْ حِينَئِذٍ مِنْ جُمْلَةِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَبِالْأَنْدَلُسِ فِي جِهَة (أغرناطة) بِقُرْبِ قَرْيَةٍ تُسَمَّى (لُوشَةَ) كَهْفٌ فِيهِ مَوْتَى وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رِمَّةٌ، وَأَكْثَرُهُمْ قَدِ انْجَرَدَ لَحْمُهُ وَبَعْضُهُمْ مُتَمَاسِكٌ، وَقَدْ مَضَتِ الْقُرُونُ السَّالِفَةُ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ عِلْمِ شَأْنِهِمْ أَثَارَةً، وَيَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، دَخَلْتُ إِلَيْهِمْ وَرَأَيْتُهُمْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُمْ بِهَذِهِ الْحَالِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ بِنَاءٌ رُومِيٌّ يُسَمَّى الرَّقِيمَ كَأَنَّهُ قَصْرٌ مُحَلِّقٌ (كَذَا بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ لَعَلَّهُ بِمَعْنَى مُسْتَدِيرٍ كَالْحَلْقَةِ) وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ جُدْرَانِهِ وَهُوَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ حَزْنَةٍ، وَبِأَعْلَى حَضْرَةِ (أَغِرْنَاطَةَ) مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ آثَارُ مَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ رُومِيَّةٍ يُقَالُ لَهَا مَدِينَةُ (دِقْيُوسْ) وَجَدْنَا فِي آثَارِهَا غَرَائِبَ فِي قبورها وَنَحْوهَا» اهـ. وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ لَهَا اتِّصَالٌ بِتَارِيخِ طَوْرٍ كَبِيرٍ مِنْ أَطْوَارِ ظُهُورِ الْأَدْيَانِ الْحَقِّ، وَبِخَاصَّةٍ طَوْرُ انْتِشَارِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الْأَرْضِ. وَلِلْكُهُوفِ ذِكْرٌ شَائِعٌ فِي اللَّوْذِ إِلَيْهَا وَالدَّفْنِ بِهَا. وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَصِّرُونَ يُضْطَهَدُونَ فِي الْبِلَادِ فَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى إِلَى الْكُهُوفِ يَتَّخِذُونَهَا مَسَاكِنَ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ دُفِنَ هُنَالِكَ، وَرُبَّمَا كَانُوا إِذَا قَتَلُوهُمْ وَضَعُوهُمْ فِي الْكُهُوفِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَبَّدُونَ فِيهَا. وَلِذَلِكَ يُوجَدُ فِي رُومِيَّةَ كَهْفٌ عَظِيمٌ مِنْ هَذِهِ الْكُهُوفِ اتَّخَذَهُ النَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ هُنَالِكَ، وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسْتَصْحِبُونَ مَعَهُمْ كَلْبًا لِيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْوُحُوشَ مِنْ ذِئَابٍ وَنَحْوِهَا. وَمَا الْكَهْفُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْكُهُوفِ. غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ عِلْمِ الْيَهُودِ بِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَجَعْلِهِمُ الْعِلْمَ بِأَمْرِهِمْ أَمَارَةً عَلَى نبوءة مُحَمَّد صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم يُبْعِدُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْكَهْفِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَتَجَافَوْنَ عَنْ

[سورة الكهف (18) : آية 10]

كُلِّ خَبَرٍ فِيهِ ذِكْرٌ لِلْمَسِيحِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ أَوَوْا إِلَى بَعْضِ الْكُهُوفِ فِي الِاضْطِهَادَاتِ الَّتِي أَصَابَتِ الْيَهُودَ وَكَانُوا يَأْوُونَ إِلَى الْكُهُوفِ. وَيُوجِدُ مَكَانٌ بِأَرْضِ سَكْرَةَ قُرْبَ الْمَرْسَى مِنْ أَحْوَازِ تُونِسَ فِيهِ كُهُوفٌ صِنَاعِيَّةٌ حَقَّقَ لِي بَعْضُ عُلَمَاءِ الْآثَارِ مِنَ الرُّهْبَانِ النَّصَارَى بِتُونِسَ أَنَّهَا كَانَتْ مَخَابِئَ لِلْيَهُودِ يَخْتَفُونَ فِيهَا مِنِ اضْطِهَادِ الرُّومَانِ الْقَرْطَاجَنِّيِّينَ لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ كِلْتَا الْمِلَّتَيْنِ الْيَهُودِيَّة والنصرانية خَبرا عَنْ قَوْمٍ مِنْ صَالِحِيهِمْ عُرِفُوا بِأَهْلِ الْكَهْفِ أَوْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاحِدَةً ادَّعَى أَهْلُ كِلْتَا الْمِلَّتَيْنِ خَبَرَهَا لِصَالِحِي مِلَّتِهِ، وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي تَسْمِيَةِ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَ بِهَا كَهْفُهُمْ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ مِنْ أُمَّةٍ عَجَمِيَّةٍ وَالنَّصَارَى يَعْرِفُونَ حَدِيثَهُمْ ويؤرخون بِهِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فِي سُورَة الْإِسْرَاء [85] . [10] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 10] إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) (إِذْ) ظَرْفٌ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ ب كانُوا [الْكَهْف: 9] فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ كَوْنُ الظَّرْفِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، فَتَكُونُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قبلهَا. وأيا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ إِجْمَالُ قِصَّتِهِمِ ابْتِدَاءً، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قِصَّتَهُمْ لَيْسَتْ أَعْجَبَ آيَاتِ اللَّهِ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِنَايَةِ إِنَّمَا كَانَ تَأْيِيدًا لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ، فَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.

وَأَوَى أَوْيًا إِلَى الْمَكَانِ: جَعَلَهُ مَسْكَنًا لَهُ، فَالْمَكَانُ: الْمَأْوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [8] . وَالْفِتْيَةُ: جمع قلَّة لفتى، وَهُوَ الشَّابُّ الْمُكْتَمِلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالْمُرَادُ بِالْفِتْيَةِ: أَصْحَابُ الْكَهْفِ. وَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِذْ أَوَوْا، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْفِتْيَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ أَتْرَابًا مُتَقَارِبِي السِّنِّ. وَذَكَرَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِيهِ مِنِ اكْتِمَالِ خَلْقِ الرُّجُولِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْفُتُوَّةِ الْجَامِعِ لِمَعْنَى سَدَادِ الرَّأْيِ، وَثَبَاتِ الْجَأْشِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ فَلَمْ يَقِلْ: إِذْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ. وَدَلَّتِ الْفَاءُ فِي جُمْلَةِ فَقالُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بَادَرُوا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ. وَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ، وَذَلِكَ جَامِعٌ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ تُنَاسِبُ عِنَايَتَهُ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَزِيَادَةُ مِنْ لَدُنْكَ لِلتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْإِيتَاءِ تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي (مِنْ) مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَفِي (لَدُنْ) مَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالُوا: آتِنَا رَحْمَةً، لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِمَحَلِّ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوا رَحْمَةً خَاصَّةً وَافِرَةً فِي حِينِ تَوَقُّعِ ضِدِّهَا، وَقَصَدُوا الْأَمْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلِئَلَّا يُلَاقُوا فِي اغْتِرَابِهِمْ مَشَقَّةً وَأَلَمًا، وَأَنْ لَا يُهِينَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ فَيَصِيرُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُقَدِّرَ لَهُمْ أَحْوَالًا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا حُصُولَ مَا خَوَّلَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الْمُشْرِكِينَ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِالتَّهْيِئَةِ الَّتِي هِيَ إِعْدَادُ أَسْبَابِ حُصُولِ الشَّيْءِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِنا ابْتِدَائِيَّةٌ.

وَالْأَمْرُ هُنَا: الشَّأْنُ وَالْحَالُ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ، وَهُوَ مَجْمُوعُ الْإِيمَانِ وَالِاعْتِصَامِ إِلَى مَحَلِّ الْعُزْلَةِ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا بِهِ رُشْدُهُمْ. فَمِنْ ذَلِكَ صَرْفُ أَعْدَائِهِمْ عَنْ تَتَبُّعِهِمْ، وَأَنْ أَلْهَمَهُمْ مَوْضِعَ الْكَهْفِ، وَأَنْ كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةٍ صَالِحَةٍ بِبَقَاءِ أَجْسَامِهِمْ سَلِيمَةً، وَأَنْ أَنَامَهُمْ نَوْمًا طَوِيلًا لِيَمْضِيَ عَلَيْهِمُ الزَّمَنُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ فِيهِ أَحْوَالُ الْمَدِينَةِ، وَحَصَلَ رُشْدُهُمْ إِذْ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَشَاهَدُوهُ مَنْصُورًا مُتَّبَعًا، وَجَعَلَهُمْ آيَةً لِلنَّاسِ عَلَى صِدْقِ الدِّينِ وَعَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى الْبَعْثِ. وَالرَّشَدُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْخَيْرُ وَإِصَابَةُ الْحَقِّ وَالنَّفْعُ وَالصَّلَاحُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَالرُّشْدُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ- مُرَادِفُ الرَّشَدِ. وَغُلِّبَ فِي حُسْنِ تَدْبِيرِ الْمَالِ. لم يُقْرَأْ هَذَا اللَّفْظُ هُنَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا- بِفَتْحِ الرَّاءِ- بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فِي الْبَقَرَةِ [256] ، وَقَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] فَلَمْ يُقْرَأْ فِيهِمَا إِلَّا- بِضَمِّ الرَّاءِ-. وَوَجْهُ إِيثَارِ- مَفْتُوحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ- فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً [الْكَهْف: 24] : أَنَّ تَحْرِيكَ الْحَرْفَيْنِ فِيهِمَا أَنْسَبُ بِالْكَلِمَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي قَرَائِنِ الْفَوَاصِلِ أَلَا تَرَى أَن الْجُمْهُور قرؤوا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الْكَهْف: 66]- بِضَمِّ الرَّاءِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالْقَرَائِنِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ وَهِيَ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْف: 65]- مَعِيَ صَبْراً [الْكَهْف: 67]- مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الْكَهْف: 68]- وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الْكَهْف: 69] إِلَى آخِرِهِ. وَلَمْ يَقْرَأْهُ هُنَالِكَ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ- إِلَّا أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب.

[سورة الكهف (18) : الآيات 11 إلى 12]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 11 إِلَى 12] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) تَفْرِيعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ- بِالْفَاءِ- إِمَّا عَلَى جُمْلَةِ دُعَائِهِمْ، فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ مَضْمُونَهَا اسْتِجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ إِنَامَتَهُمْ كَرَامَةً لَهُمْ. بِأَنْ سَلَّمَهُمْ مِنَ التَّعْذِيبِ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ، وَأَيَّدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَرَى النَّاسَ ذَلِكَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وَإِمَّا عَلَى جُمْلَةِ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ [الْكَهْف: 10] إِلَخْ فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ عَجَّلَ لَهُمْ حُصُولَ مَا قَصَدُوهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِمْ. وَالضَّرْبُ: هُنَا بِمَعْنَى الْوَضْعِ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ عَلَيْهِ حِجَابًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [الْبَقَرَة: 61] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: 26] . وَحذف مفعول فَضَرَبْنا لِظُهُورِهِ، أَيْ ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ غِشَاوَةً أَوْ حَائِلًا عَنِ السَّمْعِ، كَمَا يُقَالُ: بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ، تَقْدِيرُهُ: بَنَى بَيْتًا. وَالضَّرْبُ عَلَى الْآذَانِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنَامَةِ لِأَنَّ النَّوْمَ الثَّقِيلَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السَّمْعِ، لِأَنَّ السَّمْعَ السَّلِيمَ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا النَّوْمُ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ الصَّحِيحِ فَقَدْ يُحْجَبُ بِتَغْمِيضِ الْأَجْفَانِ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ مِنَ الْإِعْجَازِ. وعَدَداً نَعْتُ سِنِينَ. وَالْعَدَدُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ سِنِينَ ذَاتَ عَدَدٍ كَثِيرٍ. وَنَظِيرُهُ مَا فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى غَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ» تُرِيدُ الْكَثِيرَةَ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْعَدَدُ هُنَا تَبَعًا لِإِجْمَالِ الْقِصَّةِ.

وَالْبَعْثُ: هُنَا الْإِيقَاظُ، أَيْ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمَتِهِمْ يَقَظَةَ مَفْزُوعٍ. كَمَا يُبْعَثُ الْبَعِيرُ مِنْ مَبْرَكِهِ. وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ فِي ذِكْرِ لِفْظِ الْبَعْثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْإِفَاقَةِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَكَيْفِيَّتِهِ. وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ تَوَافَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْحِزْبَانِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا مُصِيبٌ وَالْآخِرُ مُخْطِئٌ فِي عَدِّ الْأَمَدِ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ: هُمَا فَرِيقَانِ مِنْ أَهْلِ الْكَهْفِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ [الْكَهْف: 19] . وَفِي هَذَا بُعْدٌ مِنْ لَفْظِ حِزْبٍ إِذْ كَانَ الْقَائِلُ وَاحِدًا وَالْآخِرُونَ شَاكِّينَ، وَبَعِيدٌ أَيْضًا مِنْ فِعْلِ أَحْصى لِأَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ مَا قَصَدُوا الْإِحْصَاءَ لِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ عِنْدَ إِفَاقَتِهِمْ بَلْ خَالُوهَا زَمَنًا قَلِيلًا. فَالْوَجْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِزْبَيْنِ حِزْبَانِ مِنَ النَّاسِ أَهْلِ بَلَدِهِمُ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا انْبِعَاثَهُمْ مِنْ نَوْمَتِهِمْ، أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُصِيبٌ وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَالْمُخْطِئَ، فَهُمَا فَرِيقَانِ فِي جَانِبَيْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَحْصى. وَلَا يَنْبَغِي تَفْسِيرُ الْحِزْبَيْنِ بِأَنَّهُمَا حِزْبَانِ مِنْ أَهْلِ الْكَهْفِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ الْآيَة [الْكَهْف: 19] . وَجَعْلُ حُصُولِ عِلْمِ اللَّهِ بِحَالِ الْحِزْبَيْنِ عِلَّةً لِبَعْثِهِ إِيَّاهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا عَلِمَ اللَّهُ اخْتِلَافَهُمْ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ لِلْعِلْمِ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ تَنْجِيزِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فِي أول السُّورَة الْكَهْف [7] . وأَحْصى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَن يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ مَصُوغًا مِنَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ الْأَوَّلَ تَجَنُّبًا لِصَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِقِلَّتِهِ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ

[سورة الكهف (18) : الآيات 13 إلى 14]

الثَّانِيَ. وَمَعَ كَوْنِ صَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ لَيْسَ قِيَاسًا فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَفِي الْقُرْآنِ. فَالْوَجْهُ، أَنَّ أَحْصى اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَالتَّفْضِيلُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْإِحْصَاءِ مِنَ الضَّبْطِ وَالْإِصَابَةِ. وَالْمَعْنَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَتْقَنُ إِحْصَاءً، أَيْ عَدًّا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوَافِقَ لِلْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ وَيَكُونَ مَا عَدَاهُ تَقْرِيبًا وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ. وَذَلِكَ هُوَ مَا فَصَّلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الْكَهْف: 22] الْآيَةَ. فَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُبْتَدَأٌ وَهُوَ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ لِنَعْلَمَ عَنِ الْعَمَلِ، وَأَحْصى خَبَرٌ عَنْ (أَيُّ) وأَمَداً تَمْيِيز لاسم التَّفْصِيل تَمْيِيزٌ نِسْبَةٍ، أَيْ نِسْبَةِ التَّفْضِيلِ إِلَى مَوْصُوفِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا [الْكَهْف: 34] . وَلَا يَرِيبُكَ أَنَّهُ لَا يَتَّضِحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ مُحَوَّلًا عَنِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَقُولَ: أَفْضَلُ أَمَدِهِ، إِذِ التَّحْوِيلُ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ يُقْصَدُ مِنْهُ التَّقْرِيبُ. وَالْمَعْنَى: لِيَظْهَرَ اضْطِرَابُ النَّاسِ فِي ضَبْطِ تَوَارِيخِ الْحَوَادِث واختلال خرصهم وَتَخْمِينِهِمْ إِذَا تَصَدَّوْا لَهَا، وَيُعْلَمُ تَفْرِيطُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي تَحْدِيدِ الْحَوَادِثِ وَتَارِيخِهَا، وَكِلَا الْحَالَيْنِ يَمُتُّ إِلَى الآخر بصلَة. [13، 14] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 13 إِلَى 14] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) لَمَّا اقْتَضَى قَوْلُهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الْكَهْف: 12] أَنَّ فِي نَبَأِ أَهْلِ الْكَهْفِ تَخَرُّصَاتٍ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ أَثَارَ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ تَطَلُّعًا إِلَى مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ فِي أَمْرِهِمْ،

مِنْ أَصْلِ وُجُودِ الْقِصَّةِ إِلَى تَفَاصِيلِهَا مِنْ مُخْبِرٍ لَا يُشَكُّ فِي صِدْقِ خَبَرِهِ كَانَتْ جُمْلَةُ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجُمْلَةِ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الْكَهْف: 12] . وَهَذَا شُرُوعٌ فِي مُجْمَلِ الْقِصَّةِ وَالِاهْتِمَامِ بِمَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا. وَقَدَّمَ مِنْهَا مَا فِيهِ وَصْفُ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَمُنَابِذَتِهِمْ قَوْمَهُمُ الْكَفَرَةَ وَدُخُولِهِمُ الْكَهْفَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي جُمْلَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ نَحْنُ لَا غَيْرُنَا يَقُصُّ قِصَصَهُمْ بِالْحَقِّ. وَالْحَقُّ: هُنَا الصِّدْقُ. وَالصِّدْقُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [105] . وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيِ الْقَصَصَ الْمُصَاحِبَ لِلصِّدْقِ لَا لِلتَّخَرُّصَاتِ. وَالْقَصَصُ: سَرْدُ خَبَرٍ طَوِيلٍ فَالْإِخْبَارُ بِمُخَاطَبَةٍ مُفَرَّقَةٍ لَيْسَ بِقَصَصٍ، وَتَقَدَّمَ فِي طَالِعِ سُورَةِ يُوسُفَ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ أَهَمِّيَّةٌ وَلَهُ شَأْنٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْقَصَصِ وَالنَّبَأِ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا لِرَدِّ الْإِنْكَارِ. وَزِيَادَةُ الْهُدَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْوِيَةَ هُدَى الْإِيمَانِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ: آمَنُوا بِرَبِّهِمْ بِفَتْح بصايرهم لِلتَّفْكِيرِ فِي وَسَائِلِ النَّجَاةِ بِإِيمَانِهِمْ وَأَلْهَمَهُمُ التَّوْفِيقَ وَالثَّبَاتَ، فَكُلُّ ذَلِكَ هُدًى زَائِدٌ عَلَى هُدَى الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَقْوِيَةَ فَضْلِ الْإِيمَانِ بِفَضْلِ التَّقْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [مُحَمَّد: 17] .

وَالزِّيَادَةُ: وَفْرَةُ مِقْدَارِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، مِثْلُ وَفْرَةِ عَدَدِ الْمَعْدُودِ، وَوَزْنِ الْمَوْزُونِ، وَوَفْرَةِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ. وَفِعْلُ (زَادَ) يَكُونُ قَاصِرًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا كَقَوْلِهِ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الْبَقَرَة: 10] . وَتُسْتَعَارُ الزِّيَادَةُ لِقُوَّةِ الْوَصْفِ كَمَا هُنَا. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ مُسْتَعَارٌ إِلَى تَثْبِيتِ الْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِيهِ، فَلَمَّا شَاعَ إِطْلَاقُ الْقَلْبِ عَلَى الِاعْتِقَادِ اسْتُعِيرَ الرَّبْطُ عَلَيْهِ لِلتَّثْبِيتِ عَلَى عَقْدِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْقَصَص: 10] . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: هُوَ رَابِطُ الْجَأْشِ. وَفِي ضِدِّهِ يُقَالُ: اضْطَرَبَ قَلْبُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَاب: 10] . اسْتُعِيرَ الِاضْطِرَابُ وَنَحْوُهُ لِلتَّرَدُّدِ وَالشَّكِّ فِي حُصُولِ شَيْءٍ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ رَبَطْنا بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الشَّدِّ لِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ. وإِذْ قامُوا ظَرْفٌ لِلرَّبْطِ، أَيْ كَانَ الرَّبْطُ فِي وَقْتٍ فِي قِيَامِهِمْ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ الَّذِي قَامُوا بِهِ مُقَارِنًا لَرَبْطِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، أَيْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَقْدَمُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَذَلِكَ الْقَوْلِ. وَالْقِيَامُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا، بِأَنْ وَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الرُّومِ الْمُشْرِكِ، أَوْ وَقَفُوا فِي مَجَامِعِ قَوْمِهِمْ خُطَبَاءَ مُعْلِنِينَ فَسَادَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ مُسْتَعَارًا لِلْإِقْدَامِ وَالْجَسْرِ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِالْعَمَلِ أَوِ الْقَوْلِ، تَشْبِيهًا لِلِاهْتِمَامِ بِقِيَامِ الشَّخْصِ مِنْ قُعُودٍ لِلْإِقْبَالِ عَلَى عَمَلٍ مَا، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِأَنَّ حِصْنًا وَحَيًّا مِنْ بَنِي أَسَدٍ ... قَامُوا فَقَالُوا حِمَانَا غَيْرُ مَقْرُوبِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قِيَامٌ بَعْدَ قُعُودٍ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ قَالُوهُ وَهُمْ قُعُودٌ. وَعَرَّفُوا اللَّهَ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْجِسْمِ وَخَصَائِصِ الْمُحْدَثَاتِ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا

بَاسِمٍ عَلَمٍ عِنْدَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ هُوَ (جُوبْتِيرِ) الْمُمَثَّلُ فِي كَوْكَبِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِتَعْرِيفِهِمُ الْإِلَهَ الْحَقَّ إِلَّا طَرِيقُ الْإِضَافَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشُّعَرَاء: 23- 24] . هَذَا إِنْ كَانَ الْقَوْلُ مَسُوقًا إِلَى قَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ قَصَدُوا بِهِ إِعْلَانَ إِيمَانِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَإِظْهَارَ عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِتَهْدِيدِ الْمَلِكِ وَقَوْمِهِ، فَيَكُونُ مَوْقِفُهُمْ هَذَا كَمَوْقِفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الشُّعَرَاء: 50] ، أَوْ قَصَدُوا بِهِ مَوْعِظَةَ قَوْمِهِمْ بِدُونِ مُوَاجَهَةِ خِطَابِهِمْ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ مِنْ بَابِ (إِيَّاكِ أَعْنِي فَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) ، وَاسْتِقْصَاءً لِتَبْلِيغِ الْحَقِّ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِحَمْلِ الْقِيَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ نُسِبَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِهِمْ دُونَ بَعْضِهِمْ، بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ [الْكَهْف: 19] تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ فَرِيقًا آخَرَ، وَلِظُهُورِ قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ مِنْ مَقَالِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ إِعْلَامًا لِقَوْمِهِمْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَتَكُونُ جملَة لَنْ نَدْعُوَا اسْتِئْنَافًا. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ قَدْ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي خَاصَّتِهِمْ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الْكَهْف: 16] إِلَخْ. فَالتَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا أَخْطَرُ طَرِيقٍ بَيْنَهُمْ، وَلِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَشْرِيفًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صِفَةً كَاشِفَةً، وَجُمْلَة لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً خبر الْمُبْتَدَأ. وَذكر الدُّعَاءَ دُونَ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِنْ إِجْرَاءِ وَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَمِنْ نِدَاءِ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ السُّؤَالِ. وَجُمْلَةُ لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا أَفَادَهُ تَوْكِيدُ النَّفْيِ بِ (لَنْ) . وَإِنَّ وُجُودَ حَرْفِ الْجَوَابِ فِي خِلَالِ الْجُمْلَةِ يُنَادِي عَلَى كَوْنِهَا مُتَفَرِّعَةً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ.

[سورة الكهف (18) : آية 15]

وَالشَّطَطُ: الْإِفْرَاطُ فِي مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّطِّ، وَهُوَ الْبُعْدُ عَنِ الْمَوْطِنِ لِمَا فِي الْبُعْدِ عَنْهُ مِنْ كَرَاهِيَةِ النُّفُوسِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْإِفْرَاطِ فِي شَيْءٍ مَكْرُوهٍ، أَيْ لَقَدْ قُلْنَا قَوْلًا شَطَطًا، وَهُوَ نِسْبَةُ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى مَنْ دون الله. [15] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 15] هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً [الْكَهْف: 14] إِذْ يَثُورُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ عَمَّنْ يَقُولُ هَذَا الشَّطَطَ إِنْ كَانَ فِي السَّامِعِينَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ السَّائِلِ مَنْزِلَةَ السَّائِلِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْفِتْيَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ ضَمِيرُ قَوْلِهِ: دُونِهِ الْعَائِدُ إِلَى رَبُّنا [الْكَهْف: 14] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى قَوْمِهِمْ بِ هؤُلاءِ لِقَصْدِ تَمْيِيزِهِمْ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ تَعْرِيضٌ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ وَتَفْضِيحُ صُنْعِهِمْ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ قَصْدِ التَّمْيِيزِ. وَجُمْلَةُ اتَّخَذُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْإِخْبَارِ إِذِ اتِّخَاذُهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبِينَ، فَلَيْسَ الْإِخْبَارُ بِهِ بِمُفِيدٍ فَائِدَةَ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ آلِهَةً نَاشِئَةً مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَكَانَ قَوْمُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى عَقِيدَةِ الرُّومِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَجُمْلَةُ لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْكَارِ، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُقَوِّي الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ.

وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ. حَقِيقَتُهُ: الْحَثُّ عَلَى تَحْصِيلِ مَدْخُولِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِسُلْطَانٍ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا آلِهَةً مُتَعَذِّرًا بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِمُ انْصَرَفَ التَّحْضِيضُ إِلَى التَّبْكِيتِ وَالتَّغْلِيطِ، أَيِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا بُرْهَانَ عَلَى إِلَهِيَّتِهِمْ. وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ عَلَى آلِهَتِهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ. وَالْبَيِّنُ: الْوَاضِحُ الدَّلَالَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِذْ لَمْ يَأْتُوا بِسُلْطَانٍ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَقَامُوا اعْتِقَادَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَهُوَ إِنْكَارٌ، أَيْ لَا أَظْلَمَ مِمَّنِ افْتَرَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَظْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الْبَقَرَة: 114] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَقَدْ كَذَبُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِذْ أَثْبَتُوا لَهُ صِفَةً مُخَالِفَةً لِلْوَاقِعِ. وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَة الْمَائِدَة [103] . ثُمَّ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ مَبْدَئِهِ خِطَابًا لِقَوْمِهِمْ أَعْلَنُوا بِهِ إِيمَانَهُمْ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَتِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ قَوْمُنَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَكَانَ ارْتِقَاءً فِي التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ مَبْدَئِهِ دَائِرًا بَيْنَهُمْ فِي خَاصَّتِهِمْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: 89] أَيْ مشركو مَكَّة.

[سورة الكهف (18) : آية 16]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 16] وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْمَشُورَةِ الصَّائِبَةِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْقَائِلِينَ أَنْ تَكُونَ الْمَحْكِيَّاتُ كُلُّهَا صَادِرَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنِ ارْعِوَاءِ قَوْمِهِمْ عَنْ فِتْنَتِهِمْ فِي مَقَامٍ آخَرَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمَقَامِ الَّذِي خَاطَبُوا فِيهِ قَوْمَهُمْ بِأَنْ غَيَّرُوا الْخِطَابَ مِنْ مُوَاجَهَةِ قَوْمِهِمْ إِلَى مُوَاجَهَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِعْلُ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي إِرَادَةِ الْفِعْلِ مِثْلُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الِاعْتِزَالُ قَدْ حَصَلَ فِيمَا بَيْنَ مَقَامِ خِطَابِهِمْ قَوْمَهُمْ وَبَيْنَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْقُرْآنُ اقْتَصَرَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى الْمَقْصِدِ الْأَهَمِّ مِنْهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِهِمْ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْغَرَضِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ قَصَصٍ. وَ «إِذْ» لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَالِاعْتِزَالُ: التَّبَاعُدُ وَالِانْفِرَادُ عَنْ مُخَالَطَةِ الشَّيْءِ، فَمَعْنَى اعْتِزَالِ الْقَوْمِ تَرْكُ مُخَالَطَتِهِمْ. وَمَعْنَى اعْتِزَالِ مَا يَعْبُدُونَ: التَّبَاعُدُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُهُ الْقَوْمُ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ بِاعْتِبَارِ إِفَادَتِهَا مَعْنَى: اعْتَزَلْتُمْ دِينَهُمُ اعْتِزَالًا اعْتِقَادِيًّا، فَيُقَدَّرُ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ نَحْوَ: اعْتَزِلُوهُمُ اعْتِزَالَ مُفَارَقَةٍ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، أَوْ يُقَدَّرُ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمْ دِينَهُمْ يُعَذِّبُونَكُمْ فَأْوُوا

[سورة الكهف (18) : آية 17]

إِلَى الْكَهْفِ. وَجَوَّزَ الْفَرَّاءُ أَنْ تُضَمَّنَ (إِذْ) مَعْنَى الشَّرْطِ وَيَكُونُ فَأْوُوا جَوَابَهَا. وَعَلَى الشَّرْطِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي إِرَادَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالْأَوْيُ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ فَاسْكُنُوا الْكَهْفَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكَهْفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، بِأَنْ كَانَ الْكَهْفُ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْحَقِيقَةِ مِثْلَ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُف: 13] ، أَيْ فَأْوُوا إِلَى كَهْفٍ مِنَ الْكُهُوفِ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ إِشَارَةً مِنْهُمْ إِلَى سُنَّةِ النَّصَارَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَوْ عَادَةِ الْمُضْطَهَدِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا ارْتَأَيْنَاهُ هُنَالِكَ. وَنَشْرُ الرَّحْمَةِ: تَوَفُّرُ تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِينَ. شَبَّهَ تَعْلِيقَ الصِّفَةِ الْمُتَكَرِّرَ بِنَشْرِ الثَّوْبِ فِي أَنَّهُ لَا يُبْقِي مِنَ الثَّوْبِ شَيْئًا مَخْفِيًّا، كَمَا شُبِّهَ بِالْبَسْطِ وَشُبِّهَ ضِدُّهُ بِالطَّيِّ وَبِالْقَبْضِ. وَالْمَرْفِقُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ-: مَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ. وَبِذَلِكَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ،- وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ- وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَتَهْيِئَتُهُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِهِ وَالْعِنَايَةِ، تَشْبِيهًا بِتَهْيِئَةِ الْقِرَى لِلضَّيْفِ الْمُعْتَنَى بِهِ. وَجُزِمَ يَنْشُرْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الثِّقَةِ بِالرَّجَاءِ وَالدُّعَاءِ. وَسَاقُوهُ مَسَاقَ الْحَاصِلِ لِشِدَّةِ ثِقَتِهِمْ بِلُطْفِ رَبِّهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ. [17] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 17] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ. عَطَفَ بَعْضَ أَحْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِهِ بِمُنَاسَبَةِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَحْقِيقِ رَجَائِهِمْ فِي رَبِّهِمْ حِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الْكَهْف: 16] .

وَهَذَا حَالٌ عَظِيمٌ وَهُوَ مَا هَيَّأَ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ مِنْ مَرْفِقٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى اهْتِدَائِهِمْ وَهُوَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَالْمَعْنَى: يَرَى مَنْ تُمْكِنُهُ الرُّؤْيَةُ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: تَرَى عَافِيَاتِ الطَّيْرِ قَدْ وَثِقَتْ لَهَا ... بِشَبَعٍ مِنَ السَّخْلِ الْعِتَاقِ الْأَكِايِلِ وَقَدْ أَوْجَزَ مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الْكَهْفِ: 16] أَنَّهُمْ أَوَوْا إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَخَذُوا بِنَصِيحَتِهِ فَأَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ. وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الْكَهْفِ: 10] فَرَدَّ عَجُزَ الْكَلَامِ على صَدره. وتَتَزاوَرُ مُضَارِعٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّوْرِ- بِفَتْحِ الزَّايِ-، وَهُوَ الْمَيْلُ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ الْوَاوِ-. وَأَصْلُهُ: تَتَزَاوَرُ- بِتَاءَيْنِ أُدْغِمَتْ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي الزَّايِ تَخْفِيفًا-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِتَخْفِيفِ الزَّايِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ لِلتَّخْفِيفِ اجْتِزَاءً بِرَفْعِ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمُضَارَعَةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ تَزْوَرُّ- بِفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ سَاكِنَةٌ وَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ- بِوَزْنِ تَحْمَرُّ. وَكُلُّهَا أَبْنِيَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزَّوَرِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْمَكَانِ، قَالَ عَنْتَرَةُ: فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ أَيْ مَالَ بَعْضُ بَدَنِهِ إِلَى بَعْضٍ وَانْقَبَضَ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْمُضَارَعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ. وتَقْرِضُهُمْ أَيْ تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ. وَأَصْلُ الْقَرْضِ الْقَطْعُ، أَيْ أَنَّهَا لَا تَطَّلِعُ فِي كَهْفِهِمْ.

وَ (ذاتَ الْيَمِينِ) وَ (ذاتَ الشِّمالِ) بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيِ الْجِهَةَ صَاحِبَةَ الْيَمِينِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذاتَ عِنْدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [1] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَمِينِ، والشِّمالِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ يَمِينِ الْكَهْفِ وَشِمَالِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَمَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى الشِّمَالِ الشَّرْقِيِّ، فَالشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ تَطْلُعُ عَلَى جَانِبِ الْكَهْفِ وَلَا تَخْتَرِقُهُ أَشِعَّتُهَا، وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ أَشِعَّتُهَا أَبْعَدَ عَنْ فَمِ الْكَهْفِ مِنْهَا حِينَ طُلُوعِهَا. وَهَذَا وَضْعٌ عَجِيبٌ يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ بِحِكْمَتِهِ لِيَكُونَ دَاخِلَ الْكَهْفِ بِحَالَةِ اعْتِدَالٍ فَلَا يَنْتَابُ الْبِلَى أَجْسَادَهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَالْفَجْوَةُ: الْمُتَّسَعُ مِنْ دَاخِلِ الْكَهْفِ، بِحَيْثُ لَمْ يَكُونُوا قَرِيبِينَ مِنْ فَمِ الْكَهْفِ. وَفِي تِلْكَ الْفَجْوَةِ عَوْنٌ عَلَى حِفْظِ هَذَا الْكَهْفِ كَمَا هُوَ. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَى الشَّمْسَ. وَآيَاتُ اللَّهِ: دَلَائِلُ قُدْرَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَمُؤَيِّدِي دِينِ الْحَقِّ. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ الْقِصَّةِ لِلتَّنْوِيهِ بِأَصْحَابِهَا. وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا اقْتَضَاهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْآيَةِ وَأَصْحَابِهَا.

[سورة الكهف (18) : آية 18]

وَعُمُومُ (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ يَشْمَلُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ لِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ فِيمَنْ هَدَى، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَيْسِيرَ ذَلِكَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ هُوَ أَثَرُ تَيْسِيرِهِمْ لِلْيُسْرَى وَالْهُدَى، فَأَبْلَغَهُمُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ، وَرَزَقَهُمْ أَفْهَامًا تُؤْمِنُ بِالْحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَعَلَى كِتَابَةِ الْمُهْتَدِ بِدُونِ يَاءٍ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَالْمُرْشِدُ: الَّذِي يُبَيِّنُ لِلْحَيْرَانِ وَجْهَ الرُّشْدِ، وَهُوَ إِصَابَةُ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْخَيْرِ. [18] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 18] وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ عَطْفٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالْخِطَابُ فِيهِ كَالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الشَّمْسَ [الْكَهْف: 17] . وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى مَا فِي حَالِهِمْ مِنَ الْعِبْرَةِ لِمَنْ لَوْ رَآهُمْ مِنَ النَّاسِ مُدْمَجٌ فِيهِ بَيَانُ كَرَامَتِهِمْ وَعَظِيمُ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ، وَهُوَ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ لِمَنْ لَوْ رَآهُ مِنَ النَّاسِ. وَمَعْنَى حُسْبَانِهِمْ أَيْقَاظًا: أَنَّهُمْ فِي حَالَةٍ تُشْبِهُ حَالَ الْيَقَظَةِ وَتَخَالُفِ حَالَ النَّوْمِ، فَقِيلَ: كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةً. وَصِيغَ فِعْلُ تَحْسَبُهُمْ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَالْأَيْقَاظُ: جَمْعُ يَقِظٍ، بِوَزْنِ كَتِفٍ، وَبِضَمِّ الْقَافِ بِوَزْنِ عَضُدٍ. وَالرُّقُودُ: جَمْعُ رَاقِدٍ. وَالتَّقْلِيبُ: تَغْيِيرُ وَضْعِ الشَّيْءِ مِنْ ظَاهِرِهِ إِلَى بَاطِنِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الْكَهْف: 42] .

وَ (ذاتَ الْيَمِينِ) وَ (ذاتَ الشِّمالِ) أَيْ إِلَى جِهَةِ أَيْمَانِهِمْ وَشَمَائِلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَلَيْهِمْ حَالَ الْأَحْيَاءِ الْأَيْقَاظِ فَجَعَلَهُمْ تَتَغَيَّرُ أَوْضَاعُهُمْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ إِلَى شَمَائِلِهِمْ وَالْعَكْسُ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ لَعَلَّ لَهَا أَثَرًا فِي بَقَاءِ أَجْسَامِهِمْ بِحَالَةِ سَلَامَةٍ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ بِحَسَبِ الزَّمَنِ الْمَحْكِيِّ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْلِيبَهُمْ لِلْيَمِينِ وَلِلشَّمَالِ كَرَامَةٌ لَهُمْ بِمَنْحِهِمْ حَالَةَ الْأَحْيَاءِ وَعِنَايَةٌ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ التَّقْلِيبَ لِكَلْبِهِمْ بَلِ اسْتَمَرَّ فِي مَكَانِهِ بَاسِطًا ذِرَاعَيْهِ شَأْنَ جِلْسَةِ الْكَلْبِ. وَالْوَصِيدُ: مَدْخَلُ الْكَهْفِ، شُبِّهَ بِالْبَابِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيدُ لِأَنَّهُ يُوصَدُ وَيُغْلَقُ. وَعَدَمُ تَقْلِيبِ الْكَلْبِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْلِيبَهُمْ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ سَلَامَتِهِمْ مِنَ الْبِلَى وَإِلَّا لَكَانَ كَلْبُهُمْ مِثْلَهُمْ فِيهِ بَلْ هُوَ كَرَامَةٌ لَهُمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَفْنَوْا وَأَمَّا كَلْبُهُمْ فَفَنِيَ وَصَارَ رِمَّةً مَبْسُوطَةً عِظَامُ ذِرَاعَيْهِ. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أَيُّهَا السَّامِعُ حِينَ كَانُوا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ زَمَنَ نُزُولِ الْآيَةِ.

وَالْمَعْنَى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ تَكُنْ عَلِمْتَ بِقِصَّتِهِمْ لَحَسِبْتَهُمْ لُصُوصًا قُطَّاعًا لِلطَّرِيقِ، إِذْ هُمْ عَدَدٌ فِي كَهْفٍ وَكَانَتِ الْكُهُوفُ مَخَابِئَ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، كَمَا قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: أَقُولُ لَلَحْيَانٍ وَقَدْ صَفِرَتْ لَهُمْ ... وِطَابِي يومي ضَيِّقُ الْجُحْرِ مِعْوَرُ فَفَرَرْتَ مِنْهُمْ وَمَلَكَكَ الرُّعْبُ مِنْ شَرِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 70] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّعْبَ مِنْ ذَوَاتِهِمْ إِذْ لَيْسَ فِي ذَوَاتِهِمْ مَا يُخَالِفُ خَلْقَ النَّاسِ، وَلَا الْخَوْفَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا إِذْ لَمْ يَكُنِ الرُّعْبُ مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنْ خِلَالِ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ. وَالِاطِّلَاعُ: الْإِشْرَافُ عَلَى الشَّيْءِ وَرُؤْيَتُهُ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنْ طَلَعَ إِذَا ارْتَقَى جَبَلًا، فَصِيَغُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِارْتِقَاءِ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِشْرَافِ فَعُدِّيَ بِ (عَلَى) ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي رُؤْيَةِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [78] ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْخطاب للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم. وَفِي «الْكَشَّافِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَانْتُصِبَ فِراراً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبين لنَوْع لَوَلَّيْتَ. ولَمُلِئْتَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ مَلَّأَكَ الرُّعْبُ وَمَلَّأَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مضاعف ملا وقرىء بِهِمَا. وَالْمَلْءُ: كَوْنُ الْمَظْرُوفِ حَالًّا فِي جَمِيعِ فَرَاغِ الظَّرْفِ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فِي الظَّرْفِ سَعَةٌ لِزِيَادَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمَظْرُوفِ، فَمُثِّلَتِ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ بِالْمَظْرُوفِ، وَمُثِّلَ عَقْلُ الْإِنْسَانِ بِالظَّرْفِ، وَمُثِّلَ تَمَكُّنِ الصِّفَةِ مِنَ النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهَا تَفْكِيرٌ فِي غَيْرِهَا بِمَلْءِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، فَكَانَ فِي قَوْله: لَمُلِئْتَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الْقَصَص: 10] .

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 إلى 20]

وَانْتَصَبَ رُعْباً عَلَى تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الرُّعْبَ هُوَ الَّذِي يَمْلَأُ، فَلَمَّا بُنِيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلُ صَارَ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا تَمْيِيزًا. وَهُوَ إِسْنَادٌ بَدِيعٌ حَصَلَ مِنْهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَلَيْسَ تَمْيِيزًا مُحَوَّلًا عَنِ الْمَفْعُولِ كَمَا قد يلوح بادىء الرَّأْيِ. وَالرُّعْبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [151] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَلَمُلِئْتَ- بِتَشْدِيدِ اللَّامِ- عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَلْءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُعْباً- بِسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ- بِضَم الْعين-. [19، 20] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 19 إِلَى 20] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) عَطْفٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْقِصَّةِ الَّذِي فِيهِ عِبْرَةٌ لِأَهْلِ الْكَهْفِ بِأَنْفُسِهِمْ ليعلموا من أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ حِفْظِهِمْ عَنْ أَنْ تَنَالَهُمْ أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ بِإِهَانَةٍ، وَمِنْ إِعْلَامِهِمْ عِلْمَ الْيَقِينِ بِبَعْضِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ عَظِيمٌ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَة: 260] .

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِنَامَتِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهَا، أَيْ كَمَا أَنَمْنَاهُمْ قُرُونًا بَعَثْنَاهُمْ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ: أَنَّ فِي الْإِفَاقَةِ آيَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ آيَةِ الْإِنَامَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَشْبِيهُ الْبَعْثِ الْمَذْكُورِ بِنَفْسِهِ للْمُبَالَغَة فِي التعجيب كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْبَعْثِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي حُسْنِ مَوْقِعِ لَفْظِ الْبَعْثِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَفِي التَّعْلِيلِ من قَوْله: لِيَتَسائَلُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الْكَهْف: 12] . وَالْمَعْنَى: بَعَثْنَاهُمْ فَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ بَيَان لجملة لِيَتَسائَلُوا. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ تَسَاؤُلًا لِأَنَّهَا تَحَاوُرٌ عَنْ تَطَلُّبِ كُلٍّ رَأْيَ الْآخَرِ لِلْوُصُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُدَّةِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ هُمْ مَنْ عَدَا الَّذِي قَالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ. وَأَسْنَدَ الْجَوَابَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَتِهِمْ: إِمَّا لأَنهم تواطؤوا عَلَيْهِ، وَإِمَّا عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ، أَيْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَبِثْنَا يَوْمًا، وَمِنْهُمْ قَالَ: لَبِثْنَا بَعْضَ يَوْمٍ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ فِي الْقَوْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، أَيْ لَمَّا اخْتَلَفُوا رَجَعُوا فَعَدَلُوا عَنِ الْقَوْلِ بِالظَّنِّ إِلَى تَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ إِيمَانِهِمْ. فَالْقَائِلُونَ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ صَوَابًا. وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِمْ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَدَعُوا الْخَوْضَ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَخُذُوا فِي شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا يَهُمُّكُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. وَهُوَ تَلَقِّي السَّائِلِ بِغَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِحَالِهِ، وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لَكَانَ قَوْلُهُمْ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عَيْنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ.

وَالْوَرِقُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: الْفِضَّةُ. وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ. وَيُقَالُ وَرْقٌ- بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- وَبِذَلِكَ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٌ. وَالْمُرَادُ بِالْوَرِقِ هُنَا الْقِطْعَةُ الْمَسْكُوكَةُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ قِيلَ: كَانَتْ مِنْ دَرَاهِمِ (دِقْيُوسْ) سُلْطَانِ الرّوم. وَالْإِشَارَة بِهَذِهِ إِلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ عِنْدَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ هِيَ (أَبْسُسْ) - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ-. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي صَدْرِ الْقِصَّة. وأَيُّها مَا صدقه أَيُّ مَكَانٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كُلٌّ لَهُ أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا دَكَاكِينُ الْبَاعَةِ، أَيْ فَلْيَنْظُرْ أَيَّ مَكَانٍ مِنْهَا هُوَ أَزْكَى طَعَامًا، أَيْ أَزْكَى طَعَامُهُ مِنْ طَعَام غَيره. وانتصب طَعاماً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ (أَزْكَى) إِلَى (أَيُّ) . وَالْأَزْكَى: الْأَطْيَبُ وَالْأَحْسَنُ، لِأَنَّ الزَّكْوَ الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ. وَالرِّزْقُ: الْقُوتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [37] ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ أَمْرِهِمْ مَنْ يَبْعَثُونَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِطَعَامٍ زَكِيٍّ وَبِأَنْ يَتَلَطَّفَ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتِكُمْ ولْيَتَلَطَّفْ أَمْرٌ لِأَحَدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ سَيُوَكِّلُونَهُ، أَيْ إِنْ تَبْعَثُوهُ يَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ مُعَيَّنًا بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا الْإِجْمَال فِي حِكَايَة كَلَامِهِمْ لَا فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يُوصُوهُ بِذَلِكَ. قِيلَ التَّاءُ مِنْ كَلِمَةٍ وَلْيَتَلَطَّفْ هِيَ نِصْفُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ عَدًّا. وَهُنَالِكَ قَوْلٌ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ هُوَ أَنَّ النُّونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الْكَهْف: 74] هِيَ نِصْفُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ.

وَالْإِشْعَارُ: الْإِعْلَامُ، وَهُوَ إِفْعَالٌ مِنْ شَعَرَ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَكَرُمَ شُعُورًا، أَيْ عَلِمَ. فَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ مِثْلُ هَمْزَةِ أَعْلَمُ مِنْ عَلِمَ الَّذِي هُوَ علم الْعِرْفَانِ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: بِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يُشْعِرَنَّ. فَمَدْخُولُ الْبَاءِ هُوَ الْمَشْعُورُ، أَيِ الْمَعْلُومُ. وَالْمَعْلُومُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي مُتَعَلِّقَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِفِعْلِ يُشْعِرَنَّ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يُخْبِرَنَّ بِوُجُودِكُمْ أَحَدًا. فَهُنَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ مِنْ عَدَدِهِمْ وَمَكَانِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالنُّونُ لِتَوْكِيدِ النَّهْيِ تَحْذِيرًا مِنْ عَوَاقِبِهِ الْمُضَمَّنَةِ فِي جُمْلَةِ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ الْوَاقِعَةِ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ، وَبَيَانًا لِوَجْهِ تَوْكِيدِ النَّهْيِ بِالنُّونِ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ وَالْبَيَانِ، وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي فَصْلَهَا عَمَّا قَبْلَهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّلَطُّفِ وَالنَّهْيِ عَنْ إِشْعَارِ أَحَدٍ بِهِمْ. وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا أَفَادَهُ الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً، فَصَارَ أَحَداً فِي مَعْنَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى حُكْمِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ شِبْهِ النَّهْيِ. وَالظُّهُورُ أَصْلُهُ: الْبُرُوزُ دُونَ سَاتِرٍ. وَيُطْلَقُ عَلَى الظَّفَرِ بِالشَّيْءِ، وَعَلَى الْغَلَبَةِ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قَالَ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: 31] وَقَالَ: وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: 3] وَقَالَ: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْبَقَرَة: 85] . وَالرَّجْمُ: الْقَتْلُ بِرَمْيِ الْحِجَارَةِ عَلَى الْمَرْجُومِ حَتَّى يَمُوتَ، وَهُوَ قَتْلُ إِذْلَالٍ وَإِهَانَةٍ وَتَعْذِيبٍ.

[سورة الكهف (18) : آية 21]

وَجُمْلَةُ يَرْجُمُوكُمْ جَوَابُ شَرْطِ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ. وَمَجْمُوعُ جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ دَلِيلٌ عَلَى خَبَرِ (إِنَّ) الْمَحْذُوفِ لِدَلَالَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يُرْجِعُوكُمْ إِلَى الْمِلَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، أَيْ لَا يَخْلُو أَمْرُهُمْ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا إِرْجَاعِكُمْ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ قَتْلِكُمْ. وَالْمِلَّةُ. الدِّينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [37] عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَأَكَّدَ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِرْجَاعِ إِلَى ملتهم بِأَنَّهَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا انْتِفَاءُ فَلَاحِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبل، لما دلّت عَلَيْهِ حَرْفُ (إِذَا) مِنَ الْجَزَائِيَّةِ. وأَبَداً ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ. وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ بِ (لن) من التَّأْبِيد أَوْ مَا يُقَارِبُهُ. [21] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 21] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها. انْتَقَلَ إِلَى جُزْءِ الْقِصَّةِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ عِبْرَةِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِحَالِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِاطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ لِوُقُوعِ الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِطَرِيقَةِ التَّقْرِيبِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَتَأْيِيدِ الدِّينِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ كَرَامَةِ أَنْصَارِهِ. وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَيْهِمْ مُؤْمِنِينَ مِثْلَهُمْ، فَكَانَتْ آيَتُهُمْ آيَةَ تَثْبِيتٍ وَتَقْوِيَةِ إِيمَانٍ. فَالْكَلَامُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ [الْكَهْف: 19] الْآيَةَ. وَالْقَوْلُ فِي التَّشْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ فِي وَكَذلِكَ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ آنِفًا.

وَالْعُثُورُ عَلَى الشَّيْءِ: الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالظَّفَرُ بِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَقَدْ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ فِي تِلْكَ الْمَدِينَة يتناقله أَهلهَا فَيَسَّرَ اللَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعُثُورَ عَلَيْهِمْ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الْآيَةَ. وَمَفْعُولُ أَعْثَرْنا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الْكَهْف: 20] . تَقْدِيرُهُ: أَعْثَرْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِمْ. وَضَمِيرُ لِيَعْلَمُوا عَائِدٌ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ كَالْمَذْكُورِ. وَوَعْدُ اللَّهِ هُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى لِلْبَعْثِ. وَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، أَيْ سَاعَةَ الْحَشْرِ، فَهُوَ إِنْ صَارَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ تَزُولُ بِهَا خَوَاطِرُ الْخَفَاءِ الَّتِي تَعْتَرِي الْمُؤْمِنَ فِي اعْتِقَادِهِ حِينَ لَا يَتَصَوَّرُ كَيْفِيَّةَ الْعَقَائِدِ السَّمْعِيَّةِ وَمَا هُوَ بِرَيْبٍ فِي الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهُوَ الْوَارِدُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْطُرُ إِلَّا لِصِدِّيقٍ وَلَا يَدُومُ إِلَّا عِنْدَ زِنْدِيقٍ. إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ أَعْثَرْنا، أَيْ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ حِينَ تَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ. وَصِيغَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَالِ التَّنَازُعِ فِي أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ بِالْعُثُورِ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ تَبَادَرُوا إِلَى الْخَوْضِ فِي كَرَامَةٍ يَجْعَلُونَهَا لَهُمْ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِذِكْرِ نِزَاعٍ جَرَى بَيْنَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ فِي أُمُورٍ شَتَّى جَمَعَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْرَهُمْ فَضَمِيرُ يَتَنازَعُونَ وبَيْنَهُمْ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ اللَّهُ ضَمِيرَ لِيَعْلَمُوا. وَضَمِيرُ أَمْرَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ.

وَالتَّنَازُعُ: الْجِدَالُ الْقَوِيُّ، أَيْ يَتَنَازَعُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَهُمْ شَأْنَ أَهْلِ الْكَهْفِ، مِثْلَ: أَكَانُوا نِيَامًا أم أَمْوَاتًا، وأ يبقون أَحْيَاءً أم يموتون، وأ يبقون فِي ذَلِكَ الْكَهْفِ أَمْ يَرْجِعُونَ إِلَى سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَفِي مُدَّةِ مُكْثِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَمْرَهُمْ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَتَنازَعُونَ، أَيْ شَأْنَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بِهِمْ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ التَّنَازُعِ. فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً طُوِيَ هُنَا وَصْفُ الْعُثُورِ عَلَيْهِمْ، وَذُكِرَ عَوْدُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِذِكْرِهِ، إِذْ لَيْسَ مَوْضِعَ عِبْرَةٍ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى مَرْقَدِهِمْ وَطُرُوَّ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ شَأْنٌ مُعْتَادٌ لِكُلِّ حَيٍّ. وَتَفْرِيعُ فَقالُوا عَلَى يَتَنازَعُونَ. وَإِنَّمَا ارْتَأَوْا أَنْ يَبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا لِأَنَّهُمْ خَشَوْا عَلَيْهِمْ مِنْ تَرَدُّدِ الزَّائِرِينَ غَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يُؤْذُوا أَجْسَادَهُمْ وَثِيَابَهُمْ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْلِيبِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا عَلَيْهِمْ بِنَاءً يُمْكِنُ غَلْقُ بَابِهِ وَحِرَاسَتُهُ. وَجُمْلَةُ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الَّذِينَ قَالُوا، ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا. وَالْمَعْنَى: رَبهم أعلم بشؤونهم الَّتِي تنزعنا فِيهَا، فَهَذَا تَنْهِيَةٌ لِلتَّنَازُعِ فِي أَمْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ حِكَايَةِ تَنَازْعِ الَّذِينَ أُعْثِرُوا عَلَيْهِمْ، أَيْ رَبُّ أَهْلِ الْكَهْفِ أَوْ رَبُّ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَمْرِهِمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِوَاقِعِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ.

[سورة الكهف (18) : آية 22]

وَالَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ، فَضَمِيرُ أَمْرَهُمْ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ فَقالُوا، أَي الَّذين غَلَبُوا عَلَى أَمْرِ الْقَائِلِينَ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا. وَإِنَّمَا رَأَوْا أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَسْجِدًا لِيَكُونَ إِكْرَامًا لَهُمْ وَيَدُومَ تَعَهُّدُ النَّاسِ كَهْفَهُمْ. وَقَدْ كَانَ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ مِنْ سُنَّةِ النَّصَارَى، وَنَهَى عَنهُ النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَمَا فِي الْحَدِيثِ يَوْمَ وَفَاةِ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «وَلَوْلَا ذَلِكَ لِأُبْرِزَ قَبْرُهُ» ، أَيْ لِأُبْرِزَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَلَمْ يُجْعَلْ وَرَاءَ جِدَارِ الْحُجْرَةِ. وَاتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَالصَّلَاةُ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى عِبَادَةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ أَوْ شَبِيهٌ بِفِعْلِ مَنْ يَعْبُدُونَ صَالِحِي مِلَّتِهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الذَّرِيعَةُ مَخْصُوصَةً بِالْأَمْوَاتِ لِأَنَّ مَا يَعْرِضُ لِأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْأَسَفِ عَلَى فُقْدَانِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ إِكْرَامٌ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ثُمَّ يُتَنَاسَى الْأَمْرُ وَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ فِي ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَكَانَ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ سُنَّةً لِأَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ شَرْعًا لَهُمْ فَقَدْ نَسَخَهُ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ فَأَجْدَرُ. [22] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 22] سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. لَمَّا شَاعَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ حِينَ نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ صَارَتْ حَدِيثَ النَّوَادِي، فَكَانَتْ مَثَارَ تَخَرُّصَاتٍ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ، وَحَصْرِ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي كَهْفِهِمْ، وَرُبَّمَا أَمْلَى عَلَيْهِمُ الْمُتَنَصِّرَةُ مِنَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ قِصَصًا، وَقَدْ نَبَّهَهُمُ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ وَأَبْهَمَ

عَلَى عُمُومِ النَّاسِ الْإِعْلَامَ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنْ تَتَعَوَّدَ الْأُمَّةُ بِتَرْكِ الِاشْتِغَالِ فِيمَا لَيْسَتْ مِنْهُ فَائِدَةٌ لِلدِّينِ أَوْ لِلنَّاسِ، وَدَلَّ عِلْمُ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَا يَزَالُونَ يَخُوضُونَ فِي ذَلِكَ. وَضَمِيرُ «يَقُولُونَ» عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يَقُولُ النَّاسُ أَوِ الْمُسْلِمُونَ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ حَرَجٌ وَلَكِنَّهُمْ نُبِّهُوا إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ. وَمَعْنَى سِينِ الِاسْتِقْبَالِ سَارَ إِلَى الْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقْتَرِنِ بِالسِّينِ، وَلَيْسَ فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى عَدَدِ الثَّمَانِيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْعِدَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْخَلْقِ يَعْلَمُونَ عِدَّتَهُمْ وَهُمْ مَنْ أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي مقدمتهم مُحَمَّد صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِأَنَّ قِصَّتَهُمْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى عِدَّتِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ. وَكَأَنَّ أَقْوَالَ النَّاسِ تَمَالَأَتْ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُمْ فَرْدِيَّةٌ تَيَمُّنًا بِعَدَدِ الْمُفْرَدِ، وَإِلَّا فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ. وَالرَّجْمُ حَقِيقَتُهُ: الرَّمْيُ بِحَجَرٍ وَنَحْوِهِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِرَمْيِ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا تَثَبُّتٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ لِلتَّعْدِيَةِ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا تَكَلَّمُوا عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ كَانُوا يَرْجُمُونَ بِهِ. وكل من جُمْلَةِ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَجُمْلَةِ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِاسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي قَبْلَهَا، أَوْ مَوْضِعِ الْخَبَرِ الثَّانِي عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَجُمْلَةُ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ الْوَاوُ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، أَوْ مِنِ اسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ وَإِن كَانَ نَكِرَةً

فَإِنَّ وُقُوعَهُ خَبَرٌ عَن مَعْرِفَةٍ أَكْسَبَهُ تَعْرِيفًا. عَلَى أَنَّ وُقُوعَ الْحَالِ جُمْلَةً مُقْتَرِنَةً بِالْوَاوِ قَدْ عُدَّ مِنْ مُسَوِّغَاتِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ. وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْوَاوِ فِيهِ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَةٍ هِيَ صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: وَقَدْ رَدَّهُ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَمِنْ غَرَائِبِ فِتَنِ الِابْتِكَارِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ: إِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى بَعْضِ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ وَلَمْ يُعَيَّنْ مُبْتَكِرُهُ. وَقَدْ عَدَّ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الْحَرِيرِيَّ وَبَعْضَ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ كَابْنِ خَالَوَيْهِ وَالثَّعْلَبِيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قُلْتُ: أَقْدَمُ هَؤُلَاءِ هُوَ ابْنُ خَالَوَيْهِ النَّحْوِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 370 فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِبَعْضِ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ. وَأَحْسَبُ وَصْفَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ أَخْذَهُ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ عَلَى الْكَشَّافِ» مِنْ سُورَةِ التَّحْرِيمِ إِذْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ: أَنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [5] هِيَ الْوَاوُ الَّتِي سَمَّاهَا بَعْضُ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. وَكَانَ الْقَاضِي يَتَبَجَّحُ بِاسْتِخْرَاجِهَا زَائِدَةً عَلَى الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ، أَحَدُهَا: الَّتِي فِي الصِّفَةِ الثَّامِنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [112] . وَالثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وَالثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فِي الزُّمَرِ [73] . قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَمْ يَزَلِ الْفَاضِلُ يَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى أَنْ ذَكَرَهُ يَوْمًا بِحَضْرَةِ أَبِي الْجُودِ النَّحْوِيِّ الْمُقْرِي فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ وَاهِمٌ فِي عَدِّهَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ وَأَحَالَ الْبَيَانَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ دُعَاءِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ هُنَا لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الصِّفَتَيْنِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : سَبَقَ الثَّعْلَبِيُّ الْفَاضِلَ إِلَى عَدِّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفَاضِلَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَزَادَ الثَّعْلَبِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [7] حَيْثُ قَرَنَ اسْمَ عَدَدِ (ثَمَانِيَةَ) بِحِرَفِ الْوَاوِ.

وَمِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنْ كَانَ لِحَقِيقَةِ الثَّمَانِيَةِ اعْتِلَاقٌ بِالْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِمَّا بِلَفْظِهِ كَمَا هُنَا وَآيَةِ الْحَاقَّةَ، وَإِمَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ كَمَا فِي آيَةِ بَرَاءَةَ وَآيَةِ التَّحْرِيمِ، وَإِمَّا بِكَوْنِ مُسَمَّاهُ مَعْدُودًا بِعَدَدِ الثَّمَانِيَةِ كَمَا فِي آيَةِ الزُّمَرِ. وَلَقَدْ يُعَدُ الِانْتِبَاهُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّطَائِفِ، وَلَا يَبْلُغُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعَارِفِ. وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا ضَابِطٌ مَضْبُوطٌ فَلَيْسَ مِنَ الْبَعِيدِ عَدُّ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِنْهَا آيَةَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهَا صَادَفَتِ الثَّامِنَةَ فِي الذِّكْرِ وَإِنْ لَمْ تكن ثامنة فِي صِفَاتِ الْمَوْصُوفِينَ، وَكَذَلِكَ لعد الثَّعْلَبِيّ آيَةِ سُورَةِ الْحَاقَّةِ وَمِثْلُ هَذِهِ اللَّطَائِفِ كَالزَّهْرَةِ تُشَمُّ وَلَا تُحَكُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [112] . وَجُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا تُثِيرُهُ جُمْلَةُ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مِنْ تَرَقُّبِ تَعْيِينِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ عِدَّتِهِمْ. فَأُجِيبَ بِأَنْ يُحَالَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ عَلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَإِسْنَادُ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِعِدَّتِهِمْ هُوَ الْعِلْمُ الْكَامِلُ وَأَنَّ عِلْمَ غَيْرِهِ مُجَرَّدُ ظَنٍّ وَحَدَسٍ قَدْ يُصَادِفُ الْوَاقِعَ وَقَدْ لَا يُصَادِفُهُ. وَجُمْلَةُ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَذَلِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْأَعْلَمُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَسْأَلُوا: هَلْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسُ عَالِمًا بِعِدَّتِهِمْ عِلْمًا غَيْرَ كَامِلٍ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا مَحَالَةَ هُمْ مَنْ أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِوَحْيٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُمْ لَا يوصفون بالأعلمية لِأَنَّ عِلْمَهُمْ مُكْتَسَبٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ الْأَعْلَمِ بِذَلِكَ.

فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً تَفْرِيعٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكَهْف، أَي إِذْ أَرَادَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ الْمُمَارَاةَ فِي عِدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ لِأَخْبَارٍ تَلَقَّوْهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لِأَجْلِ طَلَبِ تَحْقِيقِ عِدَّتِهِمْ فَلَا تُمَارِهِمْ إِذْ هُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَيْسَ فِيهِ جَدْوَى. وَهَذَا التَّفْرِيعُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ. وَالتَّمَارِي: تَفَاعُلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ. وَاشْتِقَاقُ الْمُفَاعَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِيقَاعٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الشَّك، فيؤول إِلَى مَعْنَى الْمُجَادَلَةِ فِي الْمُعْتَقَدِ لِإِبْطَالِهِ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِيهِ، فَأَطْلَقَ الْمِرَاءَ عَلَى الْمُجَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، ثُمَّ شَاعَ فَصَارَ حَقِيقَةً لَمَّا سَاوَى الْحَقِيقَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْمِرَاءِ فِيهِمُ: الْمِرَاءُ فِي عِدَّتِهِمْ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ. وَالْمِرَاءُ الظَّاهِرُ: هُوَ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَلَا يَطُولُ الْخَوْضُ فِيهِ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وَقَوْلِهِ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَإِبَايَتِهِ لِوُضُوحِ حُجَّتِهِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْحُجَّةِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهِ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ. وَالِاسْتِفْتَاءُ: طَلَبُ الْفَتْوَى، وَهِيَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ عِلْمِيٍّ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَمَعْنَى فِيهِمْ أَيْ فِي أَمْرِهِمْ، أَيْ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اسْتِفْتَائِهِمِ الْكِنَايَةُ عَنْ جَهْلِهِمْ بِأَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ. أَوْ يَكُونُ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنْ حُصُولِ علم النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ بِحَيْثُ هُوَ غَنِيٌّ عَنِ اسْتِفْتَاءِ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلِمُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَتَكُونُ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدًا إِلَى السَّائِلِينَ

[سورة الكهف (18) : الآيات 23 إلى 24]

الْمُتَعَنِّتِينَ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ حِرْصِ السَّائِلِينَ عَلَى أَنْ تُعْلِمَهُمْ بِيَقِينِ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ فَإِنَّكَ عَلِمْتَهُ وَلَمْ تُؤْمَرْ بِتَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَوْ لَمْ يُحْمَلِ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ وَجْهٌ. وَفِي التَّقْيِيدِ بِ مِنْهُمْ مُحْتَرَزٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ ضَمِيرِ مِنْهُمْ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَالْمُفَسِّرِينَ. [23، 24] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 23 الى 24] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ هُنَا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْوَاحِدِيُّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَدَهُمْ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ مِنَ الْغَدِ وَلَمْ يَقُلْ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، فَلَمْ يَأْتِهِ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْجَوَابِ إِلَّا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَكَانَ تَأْخِيرُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ بِالْجَوَابِ عِتَابًا رَمْزِيًّا مِنَ اللَّهِ لرَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- كَمَا عَاتَبَ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأُطَوِّفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَلَدًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلَامٍ» . ثُمَّ كَانَ هَذَا عِتَابًا صَرِيحًا فَإِنَّ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِمَا سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَدَ بِالْإِجَابَةِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» كَمَا نَسِيَ سُلَيْمَانُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَعِدَ بِفِعْلِ شَيْءٍ دُونَ التَّقْيِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِهِ اخْتِلَافٌ لِلْمُفَسِّرِينَ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ جُمْلَةِ النَّهْيِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَنْ حُكْمِ النَّهْيِ، أَيْ لَا تَقُولَنَّ: إِنِّي فَاعِلٌ إِلَخْ ... إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ تُعْلَمُ مِنْ إِذْنِهِ بِذَلِكَ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ

يَأْذَنَ اللَّهُ لَكَ بِأَنْ تَقُولَهُ. وَعَلِيهِ فالمصدر المسبك مِنْ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْمَنْهِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَفْعُولُ يَشاءَ اللَّهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا قَوْلًا شَاءَهُ اللَّهُ فَأَنْتَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ أَنْ تَقُولَهُ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَام النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ إِلَّا قَوْلًا مُقْتَرِنًا بِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ (أَنْ) وَالْفِعْلِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِ (أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أَيْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مُلَابسَة القَوْل لحقيقة الْمَشِيئَةِ مُحَالٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَلَبُّسُهُ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ بِلَفْظِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَنَحْوِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ إِذْنُ اللَّهِ لَهُ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَرَامَة للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّهُ أَجَابَ سُؤْلَهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ إِيَّاهُ عَلَى خِلَافِ عَادَةِ اللَّهِ مَعَ الْمُكَابِرِينَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ عِلْمًا عَظِيمًا من أدب النبوءة. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَجَابَ سُؤْلَهُ اسْتِئْنَاسًا لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يُبَادِرَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَهُ، كَيْلَا يَتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ إِجَابَةِ سُؤَالِهِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ تَأْدِيبِ الْحَبِيبِ الْمُكَرَّمِ. وَمِثَالُهُ مَا فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ

حَكِيمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» . فَعَلِمَ حَكِيمٌ أَنَّ قَوْلَ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لَهُ ذَلِكَ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ مَنْعَهُ مِنْ سُؤْلِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ مِنْهُ تَخْلِيقَهُ بِخُلُقٍ جَمِيلٍ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ حَكِيمٌ: أَنْ لَا يَأْخُذَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ: لَا أَسْأَلُكَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ شَيْئًا. فَنَظْمُ الْآيَةِ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِشَيْءٍ لَيْسَتِ اللَّامَ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بَلْ هِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لَا تَقُولَنَّ: إِنِّي فَاعِلٌ كَذَا لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعِدُ بِهِ، فَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ (فِي) . وَ «شَيْءٍ» اسْمٌ مُتَوَغِّلٌ فِي التَّنْكِيرِ يُفَسِّرُهُ الْمقَام، أَي لشَيْء تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ عَائِدَةٌ إِلَى «شَيْءٍ» . أَيْ إِنِّي فَاعِلٌ الْإِخْبَارَ بِأَمْرٍ يَسْأَلُونَهُ. وغَداً مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا. وَلَيْسَتْ كَلِمَةُ (غَدًا) مُرَادًا بِهَا الْيَوْمَ الَّذِي يَلِي يَوْمَهُ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْيَوْمُ بِمَعْنَى زَمَانِ الْحَالِ، وَالْأَمْسُ بِمَعْنَى زَمَنِ الْمَاضِي. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ اقْتِصَارُ إِعْمَالِهَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ مَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ إِنْشَاءً مِثْلَ الْأَيْمَانِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي شُمُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِإِنْشَاءِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يَكُونُ ذِكْرُ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حَلًّا لِعَقْدِ الْيَمِينِ يُسْقِطُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ. وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ مَعْنَى (شَيْءٍ) فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ إِلَخْ: بِحَيْثُ إِذَا أَعْقَبْتَ الْيَمِينَ بِقَوْلِ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وَنَحْوِهِ لَمْ يَلْزَمُ الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ إِلَخْ.. إِنَّمَا قُصِدَ بِذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ السَّهْوِ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الثُّنْيَا

فِي الْأَيْمَانِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ هُوَ مِمَّا ثَبَتَ بِالسَّنَةِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَالِفْ مَالِكٌ فِي إِعْمَالِ الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ، وَهِيَ قَوْلُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تَعِدْ بِوَعْدٍ فَإِنْ نَسِيتَ فَقُلْتَ: إِنِّي فَاعِلٌ، فَاذْكُرْ رَبَّكَ، أَيِ اذْكُرْ مَا نَهَاكَ عَنهُ. وَالْمرَاد بِالذكر التَّدَارُكُ وَهُوَ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ-، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِ التَّذَكُّرِ، وَهُوَ الِامْتِثَالُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ» . وَفِي تَعْرِيفِ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ مِنْ كَمَالِ الْمُلَاطَفَةِ مَا لَا يَخْفَى. وَحَذْفُ مَفْعُولِ نَسِيتَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ إِذَا نَسِيتَ النَّهْيَ فَقُلْتَ: إِنِّي فَاعِلٌ. وَبَعْضُ الَّذِينَ أَعْمَلُوا آيَةَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فِي حَلِّ الْأَيْمَانِ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَعَلُوا قَوْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ تَرْخِيصًا فِي تَدَارُكِ الثُّنْيَا عِنْدَ تَذَكُّرِ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحِدَّ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَحْدِيدَ بِمُدَّةٍ بَلْ وَلَوْ طَالَ مَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالثُّنْيَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الثُّنْيَا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِخِلَافِهِ. وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً لَمَّا أَبَرَّ اللَّهُ وعد نبيه صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم الَّذِي وَعَدَهُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَمْرَ أَهْلِ الْكَهْفِ فَأَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَوْقَفَهُمْ عَلَيْهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِعِتَابِهِ عَلَى

التَّصَدِّي لِمُجَارَاتِهِمْ فِي السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ غَرَضِ الرِّسَالَةِ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ نَهْيَ رَبِّهِ. وَيَعْزِمَ عَلَى تَدْرِيبِ نَفْسِهِ عَلَى إِمْسَاكِ الْوَعْدِ بِبَيَانِ مَا يُسْأَلُ مِنْهُ بَيَانُهُ دُونَ أَنْ يَأْذَنَهُ اللَّهُ بِهِ، أَمَرَهُ هُنَا أَنْ يُخْبِرَ سَائِلِيهِ بِأَنَّهُ مَا بُعِثَ لِلِاشْتِغَالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَرْجُو أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الرُّشْدِ مِنْ بَيَانِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَوْعِظَةٍ وَهُدًى وَلَكِنَّ الْهُدَى الَّذِي فِي بَيَانُ الشَّرِيعَةِ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ. وَالْمَعْنَى: وَقُلْ لَهُمْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا. فجُمْلَةُ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي إِلَخْ ... مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ، أَيِ اذْكُرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَقُلْ فِي نَفْسِكَ: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، أَيِ ادْعُ اللَّهَ بِهَذَا. وَانْتَصَبَ رَشَداً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ التَّفْضِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ فعل أَنْ يَهْدِيَنِ لِأَنَّ الرُّشْدَ نَوْعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ. فَ عَسى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الرَّجَاءِ تَأَدُّبًا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ بِقَرِينَةِ وُقُوعِ هَذَا الْكَلَامِ مُعْتَرِضًا فِي أَثْنَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَارْجُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَهْدِيَكَ فَيُذَكِّرَكَ أَنْ لَا تَعِدَ وَعْدًا بِبَيَانِ شَيْءٍ دُونَ إِذْنِ اللَّهِ. وَالرَّشَدُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْهُدَى وَالْخَيْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الْكَهْف: 10] .

[سورة الكهف (18) : آية 25]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 25] وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) رُجُوعٌ إِلَى بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ بَعْدَ أَنْ تَخَلَّلَ الِاعْتِرَاضُ بَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَى قَوْله: رَشَداً [الْكَهْف: 22- 24] . فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلَبِثُوا عَطْفًا عَلَى مَقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ. [الْكَهْف: 22] أَيْ وَيَقُولُونَ: لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ، لِيَكُونَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا [الْكَهْف: 26] كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ السَّابِقِ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الْكَهْف: 22] ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَقَالُوا لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ إِلَى آخِرِهِ، فَذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِهَذَا الْعَطْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى الْقِصَّةِ كُلِّهَا. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ إِلَى آخِرِهِ، وَهُمْ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ. وَعَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا [الْكَهْف: 26] كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَخْبَرَ بِمُدَّةِ لُبْثِ أَهْلِ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ لُبْثُهُمُ الْأَوَّلُ قَبْلَ الْإِفَاقَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَبْقِ الْكَلَامِ عَلَى اللُّبْثِ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الْكَهْف: 19] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الْكَهْف: 9] إِلَخْ ... أَنَّ مُؤَرِّخِي النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ مُدَّةَ نَوْمَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ لُبْثُهُمْ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِمُ الْأَخِيرِ إِلَى زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ يُقَدَّرَ لُبْثُهُمْ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ. فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْعَدَدِ بِأَنَّهُ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ وَزِيَادَةُ تِسْعٍ، لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالسِّنِينَ الْقَمَرِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِتَارِيخِ الْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ بِالسِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَارِيخُ الْقَوْمِ الَّذِينَ مِنْهُمْ أَهْلُ الْكَهْفِ وَهُمْ أَهْلُ بِلَادِ الرُّومِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ

[سورة الكهف (18) : آية 26]

فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : النَّصَارَى يَعْرِفُونَ حَدِيثَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَيُؤَرِّخُونَ بِهِ. وَأَقُولُ: وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَقَّنُوا قُرَيْشًا السُّؤَالَ عَنْهُمْ يُؤَرِّخُونَ الْأَشْهُرَ بِحِسَابِ الْقَمَرِ وَيُؤَرِّخُونَ السِّنِينَ بِحِسَابِ الدَّوْرَةِ الشَّمْسِيَّةِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ وَأَيَّامِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ يَحْصُلُ مِنْهُ سَنَةٌ قَمَرِيَّةٌ كَامِلَةٌ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً شَمْسِيَّةً، فَيَكُونُ التَّفَاوُتُ فِي مِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ بِثَلَاثِ سِنِينَ زَائِدَةٍ قَمَرِيَّةٍ. كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النِّقَاشِ الْمُفَسِّرِ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنِ التِّسْعِ السِّنِينِ بِالِازْدِيَادِ. وَهَذَا مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِعُمُومِ الْعَرَبِ عِلْمٌ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور ثَلاثَ مِائَةٍ بِالتَّنْوِينِ. وَانْتَصَبَ سِنِينَ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنِ اسْمِ الْعَدَدِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَمْنَعُ مَجِيءَ تَمْيِيزِ الْمِائَةِ مَنْصُوبًا، أَوْ هُوَ تَمْيِيزٌ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِإِضَافَةِ مِائَةٍ إِلَى سِنِينَ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِلْمِائَةِ. وَقَدْ جَاءَ تَمْيِيزُ الْمِائَةِ جَمْعًا، وَهُوَ نَادِرٌ لكنه فصيح. [26] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 26] قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) إِنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ [الْكَهْف: 25] إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ يَكُونُ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا قَطْعًا لِلْمُمَارَاةِ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمُ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَبِثُوا حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ كَانَ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا تَفْوِيضًا إِلَى اللَّهِ فِي عِلْمِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الْكَهْف: 22] .

[سورة الكهف (18) : آية 27]

وَغَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ مِنْ مَوْجُودَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَحْوَالِهِمْ. وَاللَّام فِي لَهُ لِلْمِلْكِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، رَدًّا عَلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ خَبَرِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَنَحْوِهِمْ. وأَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صِيغَتَا تَعْجِيبٍ مِنْ عُمُومِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمُغَيَّبَاتِ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْحَدِيثُ مَعَهُمْ. وَهُوَ إِبْطَالٌ لِوَلَايَةِ آلِهَتِهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ بِدُخُولِ (مِنِ) الزَّائِدَةِ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً هُوَ رَدٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ آلِهَتَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ فِي مِلْكِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا يُشْرِكُ بِرَفْعِ يُشْرِكُ وَبِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِتَاءِ الْخِطَابِ وَجَزْمِ ويُشْرِكُ- عَلَى أَنَّ (لَا) نَاهِيَةٌ. وَالْخِطَابُ لرَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مُرَادٌ بِهِ أُمَّتُهُ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَتَلَقَّاهُ. وَهُنَا انْتَهَتْ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِمَا تَخَلَّلَهَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَة فِيهَا. [27] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 27] وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا [الْكَهْف: 26] بِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الْكَهْف: 26] .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا أَيَّامَئِذٍ لَا يَبِينُ لَهُمْ شَيْءٌ إِلَّا وَانْتَقَلُوا إِلَى طَلَبِ شَيْءٍ آخَرَ فَسَأَلُوا عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَطَلَبُوا من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْقُرْآنِ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [73] . وَالْمَعْنَى: لَا تَعْبَأْ بِهِمْ إِنْ كَرِهُوا تِلَاوَةَ بَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ وَاتْلُ جَمِيعَ مَا أُوحِي إِلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لَهُ. فَلَمَّا وَعَدَهُمُ الْجَوَابَ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَبَرَّ اللَّهُ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِبَيَانِ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَن أَمر نبيئه أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلِكَيْ لَا يُطْمِعَهُمُ الْإِجَابَةُ عَنْ بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ بِالطَّمَعِ فِي أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا طَلَبُوهُ. وَأَصْلُ النَّفْيِ بِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ أَنَّهُ نَفْيُ وُجُودِ اسْمِهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْيُ الْإِذْنِ فِي أَنْ يُبَدِّلَ أَحَدٌ كَلِمَاتِ اللَّهِ. وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، أَيْ بِإِخْفَاءِ بَعْضِهِ بِتَرْكِ تِلَاوَةِ مَا لَا يَرْضَوْنَ بِسَمَاعِهِ مِنْ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي بَعْضِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الْكَهْف: 22] وَقَوْلُهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الْكَهْف: 25] . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] . فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ. وَمَا أُوحِيَ مُفِيدٌ لِلْعُمُومِ، أَيْ كُلَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ. وَمَفْهُومُ الْمَوْصُولِ أَنَّ مَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ لَا يَتْلُوهُ، وَهُوَ مَا اقْتَرَحُوا أَنْ يَقُولَهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ شَطْرًا مِنَ التَّصْوِيبِ.

[سورة الكهف (18) : آية 28]

وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] وَقَوْلِهِ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي الْأَنْفَالِ [2] . وَالْمُلْتَحَدُ: اسْمُ مَكَانٍ مِيمِيٌّ يَجِيءُ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ فِعْلِهِ. وَالْمُلْتَحَدُ: مَكَانُ الِالْتِحَادِ، وَالِالْتِحَادُ: الْمَيْلُ إِلَى جَانِبٍ. وَجَاءَ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ لِأَنَّ أَصْلَهُ تَكَلُّفُ الْمَيْلِ. وَيُفْهَمُ مِنْ صِيغَةِ التَّكَلُّفِ أَنَّهُ مَفَرٌّ مِنْ مَكْرُوهٍ يَتَكَلَّفُ الْخَائِفُ أَنْ يَأْوِيَ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُلْتَحَدُ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ. وَالْمَعْنَى: لَنْ تَجِدَ شَيْئًا يُنْجِيكَ مِنْ عِقَابِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَأْيِيسُهُمْ مِمَّا طَمِعُوا فِيهِ. [28] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 28] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا. هَذَا مِنْ ذُيُولِ الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَهُوَ مُشَارِكٌ لِقَوْلِهِ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ [الْكَهْف: 27] . الْآيَةَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [52] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَنَّ سَادَةَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا زَعَمُوا أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَاسًا أَهْلُ خَصَاصَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَرِقَّاءُ لَا يُدَانُوهُمْ وَلَا يَسْتَأْهِلُونَ الْجُلُوسَ مَعَهُمْ لَأَتَوْا إِلَى مجالسة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَاسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَطْرُدَهُمْ مِنْ حَوْلِهِ إِذَا غَشِيَهُ سَادَةُ قُرَيْشٍ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَا هُنَا آكَدُ إِذْ أَمَرَهُ بِمُلَازَمَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، أَيِ احْبِسْهَا مَعَهُمْ حَبْسَ مُلَازِمَةٍ. وَالصَّبْرُ: الشَّدُّ بِالْمَكَانِ بِحَيْثُ لَا يُفَارِقُهُ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ

الْمَصْبُورَةُ وَهِيَ الدَّابَّةُ تُشَدُّ لِتُجْعَلَ غَرَضًا لِلرَّمْيِ. وَلِتَضْمِينِ فِعْلِ (اصْبِرْ) مَعْنَى الْمُلَازِمَةِ عُلِّقَ بِهِ ظَرْفُ (مَعَ) . والغداة قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِأَلْفٍ بَعْدَ الدَّالِّ-: اسْمُ الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالْعَشِيُّ: الْمَسَاءُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ دُعَاءً مُتَخَلِّلًا سَائِرَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَالدُّعَاءُ: الْمُنَاجَاةُ وَالطَّلَبُ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الصَّلَوَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِمُلَازَمَتِهِمْ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ إِقْبَالِهِمْ عَلَى اللَّهِ فَهُمُ الْأَجْدَرُ بِالْمُقَارَنَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ. وَقَرَأَ ابْن عَامر بِالْغَدَاةِ- بِسُكُونِ الدَّالِ وَوَاوٍ بَعْدَ الدَّالِّ مَفْتُوحَةٍ- وَهُوَ مُرَادِفُ الْغَدَاةِ. وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَوَجْهُ اللَّهِ: مُجَازٌ فِي إِقْبَالِهِ عَلَى الْعَبْدِ. ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِمُوَاصَلَتِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ أَقَلِّ إِعْرَاضٍ عَنْهُمْ. وَظَاهِرُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ نَهْيُ الْعَيْنَيْنِ عَنْ أَنْ تَعْدُوَا عَنِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، أَيْ أَنْ تُجَاوِزَاهُمْ، أَيْ تَبْعُدَا عَنْهُمْ. وَالْمَقْصُودُ: الْإِعْرَاضُ، وَلِذَلِكَ ضُمِّنَ فِعْلُ الْعَدْوِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ، فَعُدِّيَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِ (عَنْ) وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ يُقَالُ: عَدَاهُ، إِذَا جَاوَزَهُ. وَمَعْنَى نَهْيِ الْعَيْنَيْنِ نهي صَاحبهمَا، فيؤول إِلَى مَعْنَى: وَلَا تَعْدِي عَيْنَيْكَ عَنْهُمْ. وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَجُمْلَةُ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا حَالٌ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ جُزْءٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ لَا تَكُنْ إِرَادَةُ الزِّينَةِ سَبَبَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا زِينَةَ لَهُمْ مِنْ بَزَّةٍ وَسَمْتٍ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِحَمَاقَةِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا هَمَّهُمْ وَعِنَايَتَهُمْ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَأَهْمَلُوا الِاعْتِبَارَ بِالْحَقَائِقِ وَالْمَكَارِمِ النَّفْسِيَّةِ فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْقُلُوبِ النَّيِّرَةِ وَجَعَلُوا هَمَّهُمُ الصُّوَرَ الظَّاهِرَةَ.

وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً هَذَا نَهْيٌ جَامِعٌ عَنْ مُلَابَسَةِ شَيْءٍ مِمَّا يَأْمُرُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ تَأْسِيسُ قَاعِدَةٍ لِأَعْمَالِ الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ رَغَائِبِ الْمُشْرِكِينَ وَتَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ نَوَالِ شَيْءٍ مِمَّا رَغِبُوهُ من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم. وَمَا صدق (مِنَ) كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّلَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، دَعَا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم إِلَى طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَجْلِسِهِ حِينَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ هُوَ وَأَضْرَابُهُ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ. وَالْمُرَادُ بِإِغْفَالِ الْقَلْبِ جَعْلُهُ غافلا عَن الْفِكر فِي الْوَحْدَانِيَّةِ حَتَّى رَاجَ فِيهِ الْإِشْرَاكُ، فَإِن ذَلِك ناشىء عَنْ خلقَة عقول ضيفة التَّبَصُّرِ مَسُوقَةٍ بِالْهَوَى وَالْإِلْفِ. وَأَصْلُ الْإِغْفَالِ: إِيجَادُ الْغَفْلَةِ، وَهِيَ الذُّهُولُ عَنْ تَذَكُّرِ الشَّيْءِ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا غَفْلَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ الْغَفْلَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ جَعْلِ الْإِغْفَالِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ فِي خِلْقَةِ تِلْكَ الْقُلُوبِ، وَمَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ. وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَكُونُ عَنْ بَصِيرَةٍ لَا عَنْ ذُهُولٍ، فَالْغَفْلَةُ خِلْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى كَسْبٌ مِنْ قُدْرَتِهِمْ. وَالْفُرُطُ- بِضَمَّتَيْنِ-: الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفُرُوطِ وَهُوَ السَّبْقُ لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَقَ فِي الشَّرِّ. وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْحَالُ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَبَرِ مِنَ الِاسْمِ، أَيْ حَالَةَ تَمَكُّنِ الْإِفْرَاطِ وَالِاعْتِدَاءِ على الْحق.

[سورة الكهف (18) : آية 29]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 29] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الله نبيئه صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِمَا فِيهِ نَقْضُ مَا يَفْتِلُونَهُ مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِتَأْيِيسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَهُ أَنْ يُصَارِحَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُبَلِّغُهُ بِدُونِ هَوَادَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِي إِيمَانِهِمْ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا يَتَنَازَلُ إِلَى مُشَاطَرَتِهِمْ فِي رَغَبَاتِهِمْ بِشَطْرِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ وَكُفْرَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، لَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِوَعْدِ الْإِيمَانِ يستنزلون النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَنْ بَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ. والْحَقُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ هَذَا الْحَقُّ. وَالتَّعْبِيرُ بِ رَبِّكُمْ لِلتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيُؤْمِنْ وَقَوْلِهِ: فَلْيَكْفُرْ لِلتَّسْوِيَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مَرْغُوبٌ فِيهِ. وَفَاعِلُ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفِعْلُ «يُؤْمِنْ، وَيَكْفُرْ» مُسْتَعْمَلَانِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ مَنْ شَاءَ أَنْ يُوقِعَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا الْمُتَلَبِّسِ بِهِ الْآنَ فَإِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ تَجْدِيدٌ لِإِيقَاعِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ إِيكَالِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْوَعِيدِ كِلَاهُمَا

يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: فَمَاذَا يُلَاقِي مَنْ شَاءَ فَاسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَتَنْوِينُ نَارًا لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. وَالسُّرَادِقُ- بِضَمِّ السِّينِ- قِيلَ: هُوَ الْفُسْطَاطُ، أَيِ الْخَيْمَةُ. وَقِيلَ: السُّرَادِقُ: الْحُجْزَةُ- بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ-، أَيِ الْحَاجِزُ الَّذِي يَكُونُ مُحِيطًا بِالْخَيْمَةِ يَمْنَعُ الْوُصُولَ إِلَيْهَا، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْفُسْطَاطِ أَدِيمًا أَوْ ثَوْبًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَالْخَنْدَقِ. وَهُوَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ. أَصْلُهَا (سُرَاطَاقْ) قَالُوا: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمٌ مُفْرَدٌ ثَالِثُهُ أَلِفٌ وَبَعْدَهُ حَرْفَانِ. وَالسُّرَادِقُ: هُنَا تَخْيِيلٌ لِاسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ بِتَشْبِيهِ النَّارِ بِالدَّارِ، وَأُثْبِتَ لَهَا سُرَادِقُ مُبَالَغَةً فِي إِحَاطَةِ دَارِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَشَأْنُ السُّرَادِقِ يَكُونُ فِي بُيُوتِ أَهْلِ التَّرَفِ، فَإِثْبَاتُهُ لِدَارِ الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ. وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ وَهُوَ الْإِنْقَاذُ مِنْ شَدَّةٍ وَبِتَخْفِيفِ الْأَلَمِ. وَشَمِلَ يَسْتَغِيثُوا الِاسْتِغَاثَةَ مِنْ حَرِّ النَّارِ يَطْلُبُونَ شَيْئًا يُبْرِدُ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَصُبُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ مَاءً مَثَلًا، كَمَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الْأَعْرَاف: 50] . وَالِاسْتِغَاثَةُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ النَّاشِئِ عَنِ الْحَرِّ فَيَسْأَلُونَ الشَّرَابَ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى شُمُولِ الْأَمْرَيْنِ ذِكْرُ وَصْفَيْنِ لِهَذَا الْمَاءِ بِقَوْلِهِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ. وَالْإِغَاثَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلزِّيَادَةِ مِمَّا اسْتُغِيثَ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْمُهْلُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ أَشْبَهُهَا هُنَا أَنَّهُ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ فَإِنَّهُ يَزِيدُهَا الْتِهَابًا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [المعارج: 8] . وَالتَّشْبِيهُ فِي سَوَادِ اللَّوْنِ وَشِدَّةِ الْحَرَارَةِ فَلَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا حَرَارَةً، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.

[سورة الكهف (18) : آية 30]

وَالْوَجْهُ أَشَدُّ الْأَعْضَاءِ تَأَلُّمًا مِنْ حَرِّ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [الْمُؤْمِنُونَ: 104] . وَجُمْلَةُ بِئْسَ الشَّرابُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا لِتَشْنِيعِ ذَلِكَ الْمَاءِ مَشْرُوبًا كَمَا شُنِّعَ مُغْتَسَلًا. وَفِي عَكْسِهِ الْمَاءُ الْمَمْدُوحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ [ص: 42] . وَالْمَخْصُوصُ بِذَمِّ بِئْسَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّرَابُ ذَلِكَ الْمَاءُ. وَجُمْلَةُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا لِإِنْشَاءِ ذَمِّ تِلْكَ النَّارِ بِمَا فِيهَا. والمرتفق: مَحل الارتفاق، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ إِذِ اشْتُقَّ مِنَ الْمِرْفَقِ وَهُوَ مَجْمَعُ الْعَضُدِ وَالذِّرَاعِ. سُمِّيَ مِرْفَقًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَصِّلُ بِهِ الرِّفْقَ إِذَا أَصَابَهُ إعياء فيتكىء عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُمِّيَ بِهِ الْعُضْوُ تُنُوسِيَ اشْتِقَاقُهُ وَصَارَ كَالْجَامِدِ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ الْمُرْتَفَقُ. فَالْمُرْتَفَقُ هُوَ الْمُتَّكَأُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَشَأْنُ الْمُرْتَفَقِ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ اسْتِرَاحَةٍ، فَإِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى النَّارِ تَهَكُّمٌ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى مَا يُزَادُ بِهِ عَذَابُهُمْ لَفْظُ الْإِغَاثَةِ، وكما أطلق لى مَكَانِهِمُ السُّرَادِقُ. وَفِعْلُ (سَاءَ) يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ (بِئْسَ) فَيَعْمَلُ عَمَلَ (بِئْسَ) ، فَقَوْلُهُ: مُرْتَفَقاً تَمْيِيزٌ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَ الشَّرابُ. [30] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 30] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا مُرَاعًى فِيهِ حَالُ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ مَا أُعِدَّ لِلْمُشْرِكِينَ تَتَشَوَّفُ نُفُوسُهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُعِدَّ لِلَّذِينَ

آمَنُوا وَنَبَذُوا الشِّرْكَ فَأُعْلِمُوا أَنَّ عَمَلَهُمْ مَرْعِيٌّ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَجَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَالتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا. وَإِعَادَةُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْوَاقِعِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ وَالتَّحْقِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الْجُمُعَة: 8] وَمِثْلُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ وَمَوْقِعُ (إِنَّ) الثَّانِيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي بَيْتِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَهَا اسْتِقْلَالٌ بِمَضْمُونِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُفِيدَةٌ حُكْمًا يَعُمُّ مَا وَقَعَتْ خَبَرًا عَنْهُ وَغَيْرَهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُمَاثِلُ الْخَبَرَ عَنْهُمْ فِي عَمَلِهِمْ، فَذَلِكَ الْعُمُومُ فِي ذَاتِهِ حُكْمٌ جَدِيرٌ بِالتَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِ حُصُوله لأربابه بِخِلَاف بَيْتِ جَرِيرٍ. وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْحَجِّ فَقَدِ اقْتَضَى طُولُ الْفَصْلِ حَرْفَ التَّأْكِيدِ حِرْصًا عَلَى إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَالْإِضَاعَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ضَائِعًا. وَحَقِيقَةُ الضَّيْعَةِ: تَلَفُ الشَّيْءِ مِنْ مَظِنَّةِ وَجُودِهِ. وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى انْعِدَامِ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فَكَأَنَّهُ قَدْ ضَاعَ وَتَلِفَ، قَالَ تَعَالَى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [195] ، وَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [143] . وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْعِ التَّمْكِينِ مِنْ شَيْءٍ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ تَشْبِيهًا لِلْمَمْنُوعِ بِالضَّائِعِ فِي الْيَأْسِ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ إِنَّا لَا نَحْرِمُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أَجْرَ عَمَلِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التَّوْبَة: 120] .

[سورة الكهف (18) : آية 31]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 31] أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) الْجُمْلَة مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا أَجْمَلَ مِنْ عَدَمِ إِضَاعَةِ أَجْرِهِمْ يَسْتَشْرِفُ بِالسَّامِعِ إِلَى تَرَقُّبِ مَا يُبِينُ هَذَا الْأَجْرَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ لِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ لَامُ الْمُلْكِ. وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ، جُعِلَتْ جِهَةَ تَحْتَهُمْ مَنْشَأً لِجَرْيِ الْأَنْهَارِ. وَتَقَدَّمَ شَبِيهُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [72] . وعَدْنٍ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [72] . ومِنْ تَحْتِهِمُ، بِمَنْزِلَةِ مِنْ تَحْتِهَا لِأَنَّ تَحْتَ جَنَّاتِهِمْ هُوَ تَحْتٌ لَهُمْ. وَوَجْهُ إِيثَارِ إِضَافَةِ (تَحْتَ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ دُونَ ضَمِيرِ الْجَنَّاتِ زِيَادَةُ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ لَامُ الْمِلْكِ، فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا الْخَبَر عدَّة مقرارات لِمَضْمُونِهِ، وَهِيَ: التَّأْكِيدُ مَرَّتَيْنِ، وَذِكْرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَلَامِ الْمِلْكِ، وَجَرُّ اسْمِ الْجِهَةِ بِ (مِنْ) ، وَإِضَافَةُ اسْمِ الْجِهَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ: التَّعْرِيضُ بِإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ لِتَتَقَرَّرَ بِشَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَتَمَّ تَقَرُّرٍ.

وَجُمْلَةُ يُحَلَّوْنَ فِي مَوضِع الصّفة «لجنات عَدْنٍ» . وَالتَّحْلِيَةُ: التَّزْيِينُ، وَالْحِلْيَةُ: الزِّينَةُ. وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ مُحِلِّينَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سِوَارٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاس. وَقيل: أَصله جَمْعُ أَسْوِرَةٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ سِوَارٍ. فَصِيغَةُ جَمْعِ الْجَمْعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِ مَا يُحَلَّوْنَ بِهِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْحِلْيَةَ تَكُونُ مُرَصَّعَةً بِأَصْنَافِ الْيَوَاقِيتِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَساوِرَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَسَيَأْتِي وَجْهُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ. وَالسِّوَارُ: حُلِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يُحِيط بِموضع من الذِّرَاعِ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ فِي الفارسية (دستواره) بَهَاءٍ فِي آخِرِهِ كَمَا فِي «كِتَابِ الرَّاغِبِ» ، وَكُتِبَ بِدُونِ هَاءٍ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ ذَهَبٍ فَإِنَّ (مِنْ) فِيهِ لِلْبَيَانِ، وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ كَمَا اكْتَفَى فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ بِذِكْرِ الْفِضَّةِ عَنْ ذِكْرِ الذَّهَبِ بِقَوْلِهِ: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: 21] ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَعْدِنَيْنِ جَمَالُهُ الْخَاصُّ. وَاللِّبَاسُ: سَتْرُ الْبَدَنِ بِثَوْبٍ مِنْ قَمِيصٍ أَوْ إِزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلِلتَّجَمُّلِ. وَالثِّيَابُ: جَمْعُ ثَوْبٍ، وَهُوَ الشُّقَّةُ مِنَ النَّسِيجِ. وَاللَّوْنُ الْأَخْضَرُ أَعْدَلُ الْأَلْوَانِ وَأَنْفَعُهَا عِنْدَ الْبَصَرِ، وَكَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ. قَالَ النَّابِغَةُ: يَصُونُونَ أَجْسَادًا قَدِيمًا نَعِيمُهَا ... بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ

وَالسُّنْدُسُ: صِنْفٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَهُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ يُلْبَسُ مُبَاشِرًا لِلْجِلْدِ لِيَقِيَهُ غِلَظَ الْإِسْتَبْرَقِ. وَالْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ الْمَنْسُوجُ بِخُيُوطِ الذَّهَبِ، يُلْبَسُ فَوْقَ الثِّيَابِ الْمُبَاشِرَةِ لِلْجِلْدِ. وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ مُعَرَّبٌ. فَأَمَّا لَفْظُ (سُنْدُسٍ) فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مُعَرَّبٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِهِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: أَصْلُهُ فَارِسِيٌّ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَصْلُهُ هِنْدِيٌّ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ (الْهِنْدِيَّةِ) (سَنْدُونْ) بِنُونٍ فِي آخِرِهِ. كَانَ قَوْمٌ مِنْ وُجُوهِ الْهِنْدِ وَفَدُوا عَلَى الْإِسْكَنْدَر يحملون مَعَهم هَدِيَّةً مِنْ هَذَا الدِّيبَاجِ، وَأَنَّ الرُّومَ غَيَّرُوا اسْمَهُ إِلَى (سُنْدُوسْ) ، وَالْعَرَبُ نَقَلُوهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا (سُنْدُسْ) فَيَكُونُ مُعَرَّبًا عَنِ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ هِنْدِيٌّ. وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَهُوَ مُعْرَبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ. وَأَصْلُهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ (إِسْتَبْرَهْ) أَوْ (إِسْتَبرْ) بِدُونِ هَاءٍ أَوْ (إِسْتَقْرَهْ) أَوْ (إِسْتَفْرَهْ) . وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ سُرْيَانِيٌّ عُرِّبَ وَأَصْلُهُ (إِسْتُرْوَهْ) . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ رُومِيٌّ عُرِّبَ، وَلِذَلِكَ فَهَمْزَتُهُ هَمْزَةُ قَطْعٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَبَارِقَ قِيَاسًا، عَلَى أَنَّهُمْ صَغَّرُوهُ عَلَى أُبَيْرِقَ فَعَامَلُوا السِّينَ وَالتَّاءَ مُعَامَلَةَ الزَّوَائِدِ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» لِلسُّيُوطِيِّ عَنِ ابْنِ النَّقِيبِ: لَوِ اجْتَمَعَ فُصَحَاءُ الْعَالَمِ وَأَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا هَذَا اللَّفْظَ وَيَأْتُوا بِلَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْفَصَاحَةِ لَعَجَزُوا. وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الطَّاعَةِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْوَعْدُ بِمَا يَرْغَبُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَذَلِكَ مُنْحَصِرٌ فِي: الْأَمَاكِنِ، وَالْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا تَتَّحِدُ فِيهِ الطِّبَاعُ أَوْ تَخْتَلِفُ فِيهِ. وَأَرْفَعُ الْمَلَابِسِ فِي الدُّنْيَا الْحَرِيرُ، وَالْحَرِيرُ كُلَّمَا كَانَ ثَوْبُهُ أَثْقَلَ كَانَ أَرْفَعَ فَإِذَا أُرِيدَ ذِكْرُ هَذَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُذْكَرَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَوْضُوعٍ لَهُ صَرِيحٌ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْتَبْرَقُ

وَلَا يُوجَدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ إِسْتَبْرَقٍ. هَذِهِ خُلَاصَةُ كَلَامِهِ عَلَى تَطْوِيلٍ فِيهِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُنْدُسٍ لِلْبَيَانِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْحُلِيِّ عَلَى اللِّبَاسِ هُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ صِفَةً لِلْجَنَّاتِ ابْتِدَاءً، وَكَانَتْ مَظَاهِرُ الْحُلِيِّ أَبْهَجَ لِلْجَنَّاتِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْحُلِيِّ وَأَخَّرَ اللِّبَاسَ لِأَنَّ اللِّبَاسَ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ لَا بِمَظَاهِرِ الْجَنَّةِ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ [الْإِنْسَان: 21] لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ جَرَى عَلَى صِفَاتِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَجُمْلَةُ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَلْبَسُونَ. وَالِاتِّكَاءُ: جِلْسَةُ الرَّاحَةِ وَالتَّرَفِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [31] . وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ. وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ سَرِيرٍ وَحَجَلَةٍ. وَالْحَجَلَةُ: قُبَّةٌ مِنْ ثِيَابٍ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ تَجْلِسُ فِيهَا الْمَرْأَةُ أَوْ تَنَامُ فِيهَا. وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلنِّسَاءِ: رَبَّاتُ الْحِجَالِ. فَإِذَا وُضِعَ فِيهَا سَرِيرٌ لِلِاتِّكَاءِ أَو الِاضْطِجَاع فِيهِ أَرِيكَةٌ. وَيَجْلِسُ فِيهَا الرَّجُلُ وَيَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ التَّرَفِ. وَجُمْلَةُ نِعْمَ الثَّوابُ اسْتِئْنَافُ مَدْحٍ، وَمَخْصُوصُ فِعْلِ الْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: نِعْمَ الثَّوَابُ الْجَنَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ فِعْلُ إِنْشَاءٍ ثَانٍ وَهُوَ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً لِأَنَّ (حَسُنَ) وَ (سَاءَ) مُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ (نِعْمَ) وَ (بِئْسَ) فَعَمِلَا عَمَلَهُمَا. وَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ: وَحَسُنَتِ الْجَنَّاتُ مُرْتَفَقًا. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ حَالِ أَهْلِ النَّارِ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. وَالْمُرْتَفَقُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ بِخِلَافِ مُقَابِله الْمُتَقَدّم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 36]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 32 إِلَى 36] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا ضَرَبَ مَثَلًا لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِمِثْلِ قِصَّةٍ أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهَا تَأْيِيدَهُ لِلْمُؤْمِنِ وَإِهَانَتَهُ لِلْكَافِرِ، فَكَانَ لِذَلِكَ الْمَثَلِ شَبَهٌ بِمَثَلِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْ عَصْرٍ أَقْرَبَ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ عَصْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِلْفَرِيقَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلَيْنِ كَانَ حَالُ أَحَدِهِمَا مُعْجَبًا مُؤْنِقًا وَحَالُ الْآخَرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَكَانَتْ عَاقِبَةُ صَاحب الْحَال المونقة تَبَابًا وَخَسَارَةً، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ الْآخَرِ نَجَاحًا، لِيُظْهِرَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَا يَجُرُّهُ الْغُرُورُ وَالْإِعْجَابُ وَالْجَبَرُوتُ إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْأَرْزَاءِ، وَمَا يَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَاضِعُ الْعَارِفُ بِسُنَنِ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ فَيَكُونُ مُعَرَّضًا لِلصَّلَاحِ وَالنَّجَاحِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ وَاضْرِبْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: 28] . وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: مَثَلًا تَعَلُّقَ الْحَالِ

بِصَاحِبِهَا، أَيْ شَبَهًا لَهُمْ، أَيْ لِلْفَرِيقَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: 74] ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ «ضَرَبَ، وَمَثَلًا» . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، وَيَعُودُ إِلَى جَمَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. ثُمَّ إِنْ كَانَ حَالُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْمُمَثَّلُ بِهِ حَالًا مَعْرُوفًا فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ حَالٍ مَحْسُوسٍ بِحَالٍ مَحْسُوسٍ. فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنِيُّ بِالرَّجُلَيْنِ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَشَدِّ- بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ- وَقِيلَ- بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ- بن عَبْدِ يَالِيلَ، وَالْآخَرُ مُسْلِمٌ وَهُوَ أَخُوهُ: أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَشَدِّ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ. وَوَقَعَ فِي «الْإِصَابَةِ» : بن هِلَالٍ، وَكَانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ أَيْنَ كَانَتِ الْجَنَّتَانِ، وَلَعَلَّهُمَا كَانَتَا بِالطَّائِفِ فَإِنَّ فِيهِ جَنَّاتِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمَا أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ أَبُوهُمَا وَتَرَكَ لَهُمَا مَالًا فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا أَرْضًا وَجَعَلَ فِيهَا جَنَّتَيْنِ، وَتَصَدَّقَ الْآخَرُ بِمَالِهِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا فِي الدُّنْيَا مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَحَكَى مَصِيرَهُمَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [50- 52] فِي قَوْلِهِ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ الْآيَاتِ.. فَتَكُونُ قِصَّتُهُمَا مَعْلُومَةً بِمَا نَزَلَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَإِنْ كَانَ حَالُ الرَّجُلَيْنِ حَالًا مَفْرُوضًا كَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَمْثِيلُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ مُتَصَوَّرَةٌ مُتَخَيَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكَادُ الْمَرْءُ يَتَخَيَّلُ أَجْمَلَ مِنْهَا فِي مَكَاسِبِ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا التَّمْثِيلُ كَالَّذِي

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الْبَقَرَة: 265] الْآيَاتِ. وَالْأَظْهَرُ- مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَصَنْعِ التَّرَاكِيبِ مِثْلُ قَوْلِهِ: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الْكَهْف: 37] إِلَخْ فَقَدْ جَاءَ (قَالَ) غَيْرُ مُقْتَرِنٍ بِفَاءٍ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الْوَاقِعَةِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [الْكَهْف: 43]- أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَثَلُ قِصَّةً مَعْلُومَةً وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مِثْلُ الْمَوَاعِظِ بِمَصِيرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. وَمَعْنَى جَعَلْنا لِأَحَدِهِما قَدَّرْنَا لَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ. وَذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالْأَعْنَابِ وَالنَّخْلِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [266] . وَمَعْنَى حَفَفْناهُما أَحَطْنَاهُمَا، يُقَالُ: حَفَّهُ بِكَذَا، إِذَا جَعَلَهُ حَافًّا بِهِ، أَيْ مُحِيطًا، قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75] ، لِأَنَّ (حَفَّ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى ثَانٍ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ، مِثْلُ: غَشِيَهُ وَغَشَّاهُ بِكَذَا. وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ أَنْ تَكُونَ مُحَاطَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ. وَمَعْنَى وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً أَلْهَمْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمَا. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الزَّرْعَ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ: كَانَتِ الْجَنَّتَانِ تَكْتَنِفَانِ حَقْلَ الزَّرْعِ فَكَانَ الْمَجْمُوعُ ضَيْعَةً وَاحِدَةً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الزَّرْعِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وكِلْتَا اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمُثَنَّى يُفَسِّرُهُ الْمُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، فَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ دَالٌّ عَلَى شَيْئَيْنِ نَظِيرُ زَوْجٍ، وَمُذَكَّرُهُ (كِلَا) . قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُ كِلَا كِلَوْ وَأَصْلُ كِلْتَا كِلْوَا فَحَذَفَتْ لَامُ الْفِعْلِ مِنْ كِلْتَا وَعُوِّضَتِ التَّاءُ عَنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ لِتَدُلَّ التَّاءُ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَيَجُوزُ فِي خَبَرِ كِلَا وَكِلْتَا الْإِفْرَادُ اعْتِبَارًا لِلَفْظِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ تَثْنِيَتُهُ اعْتِبَارًا لِمَعْنَاهُ كَمَا فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ الْجَرْيُ بَيْنَهُمَا ... قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي وأُكُلَها قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْكَافِ- وَهُوَ الثَّمَرُ، وَتَقَدَّمَ. وَجُمْلَةُ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْمَعْنَى: أَثْمَرَتِ الْجَنَّتَانِ إِثْمَارًا كَثِيرًا حَتَّى أَشْبَهَتِ الْمُعْطِيَ مِنْ عِنْدِهِ. وَمَعْنَى وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً لَمْ تَنْقُصْ مِنْهُ، أَيْ مِنْ أُكُلِهَا شَيْئًا، أَيْ لَمْ تَنْقُصْهُ عَنْ مِقْدَارِ مَا تُعْطِيهِ الْأَشْجَارُ فِي حَالِ الْخِصْبِ. فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِحَذْفِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْ مِقْدَارِ أَمْثَالِهِ. وَاسْتُعِيرَ الظُّلْمُ لِلنَّقْصِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِتَشْبِيهِ هَيْئَةِ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ فِي إِتْقَانِ خَبَرِهِمَا وَتَرَقُّبِ إِثْمَارِهِمَا بِهَيْئَةِ مَنْ صَارَ لَهُ حَقٌّ فِي وَفْرَةِ غَلَّتِهَا بِحَيْثُ إِذَا لَمْ تَأْتِ الْجَنَّتَانِ بِمَا هُوَ مُتَرَقَّبٌ مِنْهُمَا أَشْبَهَتَا مَنْ حَرَمَ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ فَظَلَمَهُ، فَاسْتُعِيرَ الظُّلْمُ لِإِقْلَالِ الْإِغْلَالِ، وَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِلْوَفَاءِ بِحَقِّ الْإِثْمَارِ. وَالتَّفْجِيرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [90] . وَالنَّهَرُ- بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ- لُغَةٌ فِي النَّهْرِ بِسُكُونِهَا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] . وَجُمْلَةُ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ لِأَحَدِهِما. وَالثُّمُرُ- بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ-: الْمَالُ الْكَثِيرُ الْمُخْتَلِفُ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْأَنْعَامِ وَالْجَنَّاتِ وَالْمَزَارِعِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ثُمِّرَ مَالُهُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، يُقَالُ: ثَمَّرَ اللَّهُ مَالَهُ إِذَا كَثُرَ. قَالَ النَّابِغَةُ: فَلَمَّا رَأَى أَنْ ثَمَّرَ اللَّهُ مَالَهُ ... وَأَثَّلَ مَوْجُودًا وَسَدَّ مَفَاقِرَهْ

مُشْتَقًّا مِنِ اسْمِ الثَّمَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ وَعَفْوَ الْمَالِ يُشْبِهَانِ ثَمَرَ الشَّجَرِ. وَشَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً. قَالَ النَّابِغَةُ: مَهْلًا فِدَاءٌ لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ ... وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثَمَرٌ- بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ-. فَقَالُوا: إِنَّهُ جَمْعُ ثِمَارٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ ثُمُرٍ، مِثْلُ كُتُبٍ جَمْعُ كِتَابٍ فَيَكُونُ دَالًّا عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا تُنْتِجُهُ الْمَكَاسِبُ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي جَمْعِ أَسَاوِرَ مِنْ قَوْلِهِ: أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْف: 31] . وَعَنِ النَّحَّاسِ بِسَنَدِهِ إِلَى ثَعْلَبٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ: لَوْ سَمِعْتُ أَحَدًا يَقْرَأُ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ (أَيْ بِضَمِّ الثَّاءِ) لَقَطَعْتُ لِسَانَهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: فَقُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: أَنَأْخُذُ بِذَلِكَ. قَالَ: لَا وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ: ثُمُرٌ، أَيْ بِضَمَّتَيْنِ. وَالْمَعْنَى: وَكَانَ لِصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ مَالٌ، أَيْ غَيْرُ الْجَنَّتَيْنِ. وَالْفَاءُ لتفريع جملَة فَقالَ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ غُرُورٌ بِالنَّفْسِ يَنْطِقُ رَبُّهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِك القَوْل. و (الصاحب) هُنَا بِمَعْنَى الْمُقَارِنِ فِي الذِّكْرِ حَيْثُ انْتَظَمَهُمَا خَبَرُ الْمَثَلِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُلَابِسُ الْمُخَاصِمُ، كَمَا فِي قَوْلِ الْحَجَّاجِ يُخَاطِبُ الْخَوَارِجَ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ» . وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ هُنَا الرَّجُلُ الْآخَرُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ، أَيْ فَقَالَ: مَنْ لَيْسَ لَهُ جَنَّاتٌ فِي حِوَارٍ بَيْنَهُمَا. وَلَمْ يَتَعَلَّقِ الْغَرَضُ بِذِكْرِ مَكَانِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا سَبَبِهِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ فِي الْمَوْعِظَةِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ حَالٌ من ضمير فَقالَ. وَالْمُحَاوَرَةُ: مُرَاجَعَةُ الْكَلَامِ بَيْنَ مُتَكَلِّمِينَ.

وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْمُنْفَصِلُ عَائِدٌ عَلَى ذِي الْجَنَّتَيْنِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يُحاوِرُهُ عَائِدٌ عَلَى صَاحِبِ ذِي الْجَنَّتَيْنِ، وَرَبُّ الْجَنَّتَيْنِ يُحَاوِرُ صَاحِبَهُ. وَدَلَّ فِعْلُ الْمُحَاوَرَةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ وَعَظَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَرَاجَعَهُ الْكَلَامَ بِالْفَخْرِ عَلَيْهِ وَالتَّطَاوُلِ شَأْنَ أهل الغطرسة والنقائص أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَى إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. وأَعَزُّ أَشَدُّ عِزَّةً. وَالْعِزَّةُ: ضِدُّ الذُّلِّ. وَهِيَ كَثْرَةُ عَدَدِ عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَشَجَاعَتِهِ. وَالنَّفَرُ: عَشِيرَةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ مَعَهُ. وَأَرَادَ بِهِمْ هُنَا وَلَدُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ فِي جَوَابِ صَاحِبِهِ بقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَداً [الْكَهْف: 40] . وَانْتَصَبَ نَفَراً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ أَعَزُّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَجُمْلَةُ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ قالَ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ وَقَدْ دَخَلَ جَنَّتَهُ مُرَافِقًا لِصَاحِبِهِ، أَيْ دَخَلَ جَنَّتَهُ بِصَاحِبِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا خِطَابًا لِآخَرَ، أَيْ قَالَ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ [الْكَهْف: 37] . وَوُقُوعُ جَوَابِ قَوْلِهِ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً فِي خِلَالِ الْحِوَارِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ. وَمَعْنَى وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ مُكَذِّبٌ بِالْبَعْثِ بَطِرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الْجَنَّةَ هُنَا وَهُمَا جَنَّتَانِ لِأَنَّ الدُّخُولَ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِحْدَاهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ إِنَّمَا يَدْخُلُ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَمَا دَخَلَ إِلَّا إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ. وَالظَّنُّ بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ، وَإِذَا انْتَفَى الظَّنُّ بِذَلِكَ ثَبَتَ الظَّنُّ بِضِدِّهِ. وَتَبِيدُ: تَهْلِكُ وَتَفْنَى. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هُمَا فِيهَا، أَيْ لَا أعتقد أَنَّهَا تنْتَقض وَتَضْمَحِلُّ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 37 إلى 41]

وَالْأَبَدُ: مُرَادٌ مِنْهُ طُولُ الْمُدَّةِ، أَيْ هِيَ بَاقِيَةٌ بَقَاءَ أَمْثَالِهَا لَا يَعْتَرِيهَا مَا يُبِيدُهَا. وَهَذَا اغْتِرَارٌ مِنْهُ بِغِنَاهُ وَاغْتِرَارٌ بِمَا لِتِلْكَ الْجَنَّةِ مِنْ وُثُوقِ الشَّجَرِ وَقُوَّتِهِ وَثُبُوتِهِ وَاجْتِمَاعِ أَسْبَابِ نَمَائِهِ وَدَوَامِهِ حَوْلَهُ، مِنْ مِيَاهٍ وَظِلَالٍ. وَانْتَقَلَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ اعْتِقَادِهِ دَوَامَ تِلْكَ الْجَنَّةِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اعْتِقَادِهِ بِنَفْيِ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْمُعْتَقَدَيْنَ. وَلَكِنَّهُ أَرَادَ التَّوَرُّكَ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ تَخْطِئَةً إِيَّاهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً تَهَكُّمًا بِصَاحِبِهِ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ قَوْلُهُ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً. وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ «لَيَكُونَنَّ لِي مَالٌ هُنَالِكَ فَأَقْضِيَكَ دَيْنَكَ مِنْهُ» . وَأَكَدَّ كَلَامَهُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ مُبَالَغَةً فِي التَّهَكُّمِ. وَانْتَصَبَ مُنْقَلَباً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ الْخَبَرِ. وَالْمُنْقَلَبُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُنْقَلَبُ إِلَيْهِ، أَيْ يُرْجَعُ. وَضَمِيرُ مِنْهُمَا لِلْجَنَّتَيْنِ عَوْدًا إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ تَفَنُّنًا فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ مِنْها بِالْإِفْرَادِ جَرْيًا عَلَى قَوْلِهِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَقَوْلِهِ: أَنْ تَبِيدَ هذِهِ. [37- 41] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 37 الى 41] قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. حُكِيَ كَلَامُ صَاحِبِهِ بِفِعْلِ الْقَوْلِ بِدُونِ عَطْفٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مُسْتَعْمل فِي التَّعَجُّب وَالْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لِأَنَّ الصَّاحِبَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ مُشْرِكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَهُ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْإِشْرَاكُ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ مُعْتَقَدَاتِهِ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ عُرِفَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْرِفَ مَنْ يُدْرِكُهُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ النَّاسَ فَمَا كَانَ غَيْرُ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانَ عَنْ إِنْكَارِ الْخَلْقِ الثَّانِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] ، فَكَانَ مَضْمُونُ الصِّلَةِ تَعْرِيضًا بِجَهْلِ الْمُخَاطَبِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ تُرابٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا النُّطْفَةُ وَهِيَ أَجْزَاءُ الْأَغْذِيَةِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [يس: 36] . وَالنُّطْفَةُ: مَاءُ الرَّجُلِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّطْفِ وَهُوَ السَّيَلَانُ. وسَوَّاكَ عَدَلَ خَلْقَكَ، أَيْ جَعَلَهُ مُتَنَاسِبًا فِي الشَّكْلِ وَالْعَمَلِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلْفٍ بَعْدِ النُّونِ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلْفِ فِي النُّطْقِ فِي حَالِ الْوَقْفِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْوَصْلِ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ نُطْقٍ بِالْأَلْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِإِثْبَاتِ النُّطْقِ بِالْأَلْفِ فِي حَالِ الْوَصْلِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ يَسْمَحُ بِكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ. وَلَفْظُ لكِنَّا مُرَكَّبٌ مِنْ (لَكِنْ) بِسُكُونِ النُّونِ الَّذِي هُوَ حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، وَمِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ (أَنَا) . وَأَصْلُهُ: لَكِنْ أَنَا، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، أَيْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لَا لِعِلَّةٍ تَصْرِيفِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْهَمْزَةِ حُكْمُ

الثَّابِتِ فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْإِدْغَامِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْذُوفٌ لِعِلَّةِ بِنَاءٍ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ لِعِلَّةٍ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ، وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى نُونِ (لَكِنِ) السَّاكِنَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ فَالْتَقَى نُونَانِ مُتَحَرِّكَتَانِ فَلَزِمَ إِدْغَامُهُمَا فَصَارَ (لَكْنَا) . وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (لَكِنَّ) الْمُشَدَّدَةَ النُّونِ الْمَفُتُوحَتَهَا أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا، لِأَنَّ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةَ مِنْ أَخَوَاتِ إِنَّ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بَعْدَهَا مَنْصُوبًا وَلَيْسَ هُنَا مَا هُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ ضَمِيرِ (أَنَا) ضَمِيرَ نَصْبِ اسْمِ (لَكِنَّ) لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ الْمَنْصُوبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا اعْتِبَارُهُ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ لِمُنَافَاتِهِ لِإِفْرَادِ ضَمَائِرِهِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. (فَأَنَا) مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ رَبِّي ضَمِيرُ شَأْنٍ وَخَبَرُهُ، وَهِيَ خَبَرُ (أَنَا) ، أَيْ شَأْنِي هُوَ اللَّهُ رَبِّي. وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ رَبِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِقْرَارِ، أَيْ أَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ رَبِّي خِلَافًا لَكَ. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ مُضَادَّةُ مَا بَعْدَ (لَكِنْ) لما قبلهَا، وَلَا سِيمَا إِذَا كَانَ الرَّجُلَانِ أَخَوَيْنِ أَوْ خَلِيلَيْنِ كَمَا قِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ اعْتِقَادَهُمَا سَوَاءٌ. وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ اعْتِرَافِهِ بِالْخَالِقِ الْوَاحِدِ بِمُؤَكِّدَاتٍ أَرْبَعَةٍ، وَهِيَ: الْجُمْلَتَانِ الِاسْمِيَّتَانِ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ فِي قَوْلِهِ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْله: اللَّهُ رَبِّي الْمُفِيدِ قَصْرَ صِفَةِ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ لِمُخَاطِبِهِ، أَيْ دُونَكَ إِذْ تَعْبُدُ آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ، وَمَا الْقَصْرُ إِلَّا تَوْكِيدٌ مُضَاعَفٌ، ثُمَّ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِلْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ عَلَى جُمْلَةِ أَكَفَرْتَ عَطْفُ إِنْكَارٍ عَلَى إِنْكَارٍ. وَ (لَوْلَا) لِلتَّوْبِيخِ، كَشَأْنِهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، نَحْو لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: 13] ، أَيْ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ تَقُولَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ عِوَضَ قَوْلِكَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الْكَهْف: 36] . وَالْمَعْنَى: أَكَفَرْتَ بِاللَّهِ وَكَفَرْتَ نِعْمَتَهُ.

وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَا شاءَ اللَّهُ أَحْسَنُ مَا قَالُوا فِيهَا إِنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُلَابَسَةُ حَالِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ إِعْطَاءَهُ إِيَّايَ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ عِنْدِي: أَنْ تَكُونَ (مَا) نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ شَيْءٌ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ لِي. وَجُمْلَةُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ تِلْكَ الْجَنَّةِ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ، أَيْ لَا قُوَّةَ لِي عَلَى إِنْشَائِهَا، أَوْ لَا قُوَّةَ لِمَنْ أَنْشَأَهَا إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْقُوَى كُلَّهَا مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ الْمُفَكِّرَةِ وَالصَّانِعَةِ. فَمَا فِي جُمْلَةِ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِنَ الْعُمُومِ جَعَلَهَا كَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْجَنَّةِ جُزْئِيًّا من جزئيات منشئات الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ الْمَوْهُوبَةِ لِلنَّاسِ بِفَضْلِ الله. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) . جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ رَجَعَ بِهَا إِلَى مُجَاوَبَةِ صَاحِبِهِ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً [الْكَهْف: 34] ، وَعَظَهُ فِيهَا بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنْ تَصِيرَ كَثْرَةُ مَالِهِ إِلَى قِلَّةٍ أَوْ إِلَى اضْمِحْلَالٍ، وَأَنْ يَصِيرَ الْقَلِيلُ مَالُهُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ تَخْفِيفًا وَهُوَ كَثِيرٌ. وَ (أَنَا) ضَمِيرُ فَصْلٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَقَلَّ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ تَرَنِ وَلَا اعْتِدَادَ بِالضَّمِيرِ. وَ (عَسَى) لِلرَّجَاءِ، وَهُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ الْقَرِيبِ الْحُصُولِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ.

وَالْحُسْبَانُ: مَصْدَرُ حَسَبَ كَالْغُفْرَانِ. وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَلَاكًا حُسْبَانًا، أَيْ مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَطاءً حِساباً [النبأ: 36] . وَقِيلَ: الْحُسْبَانُ اسْمُ جَمْعٍ لِسِهَامٍ قِصَارٍ يُرْمَى بِهَا فِي طَلْقٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ. وَقِيلَ: اسْمُ جَمْعِ حُسْبَانَةٍ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْجَرَادِ. وَالْمَعَانِي الْأَرْبَعَةُ صَالِحَةٌ هُنَا، وَالسَّمَاءُ: الْجَوُّ الْمُرْتَفِعُ فَوْقَ الْأَرْضِ. وَالصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [الْمَائِدَة: 6] . وَفَسَّرُوهُ هُنَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا تَوْطِئَةً لِإِجْرَاءِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ زَلَقاً. وَفِي «اللِّسَانِ» عَنِ اللَّيْثِ «يُقَالُ لِلْحَدِيقَةِ، إِذَا خَرِبَتْ وَذَهَبَ شَجْرَاؤُهَا: قَدْ صَارَتْ صَعِيدًا، أَيْ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً لَا شجر فِيهَا» اهـ. وَهَذَا إِذَا صَحَّ أَحْسَنُ هُنَا، وَيَكُونُ وَصْفُهُ بِ زَلَقاً مُبَالَغَةً فِي انْعِدَامِ النَّفْعِ بِهِ بِالْمَرَّةِ. لَكِنِّي أَظُنُّ أَنَّ اللَّيْثَ ابْتَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَيْسَ تَبْيِينًا لِمَدْلُولِ لَفْظِ صَعِيدٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [الْكَهْف: 8] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالزَّلَقُ: مَصْدَرُ زَلَقَتِ الرِّجْلُ، إِذَا اضْطَرَبَتْ وَزَلَّتْ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَسْتَقِرَّ. وَوَصْفُ الْأَرْضِ بِذَلِكَ مُبَالَغَةٌ، أَيْ ذَاتَ زَلَقٍ، أَيْ هِيَ مُزْلَقَةٌ. وَالْغَوْرُ: مَصْدَرُ غَارَ الْمَاءُ، إِذَا سَاخَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ. وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وَجَاءَ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ زِيَادَةً فِي التَّحْقِيقِ لِهَذَا الرَّجَاءِ الصَّادِرِ مصدر الدُّعَاء.

[سورة الكهف (18) : الآيات 42 إلى 43]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 42 إِلَى 43] وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) كَانَ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ رَجُلًا صَالِحًا فَحَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، أَوْ كَانَ رَجُلًا مُحَدَّثًا مِنْ مُحَدَّثِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ مِنْ مُحَدَّثِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالرَّجُلَيْنِ فِي الْآيَةِ، أَلْهَمَهُ اللَّهُ مَعْرِفَةَ مَا قَدَّرَهُ فِي الْغَيْبِ مِنْ عِقَابٍ فِي الدُّنْيَا لِلرَّجُلِ الْكَافِرِ الْمُتَجَبِّرِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ وَأُحِيطَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى رَجَاءِ صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ إِذْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْغَرَضُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ حَلَّ بِالْكَافِرِ عِقَابًا لَهُ عَلَى كُفْرِهِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ أَمْثَالِهِ وَأَنْ لَيْسَ بِخُصُوصِيَّةٍ لِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ. وَالْإِحَاطَةُ: الْأَخْذُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالْقَوْمِ إِذَا غَزَاهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [66] وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [60] . وَالْمَعْنَى: أُتْلِفَ مَالُهُ كُلُّهُ بِأَنْ أَرْسَلَ عَلَى الْجنَّة وَالزَّرْع حسبان مِنَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحَتْ صَعِيدًا زَلَقًا وَهَلَكَتْ أَنْعَامُهُ وَسُلِبَتْ أَمْوَالُهُ، أَوْ خُسِفَ بِهَا بِزَلْزَالٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي لَفْظِ ثَمَرٌ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ [الْكَهْف: 34] .

وَتَقْلِيبُ الْكَفَّيْنِ: حَرَكَةٌ يَفْعَلُهَا الْمُتَحَسِّرُ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَلِّبَهُمَا إِلَى أَعْلَى ثُمَّ إِلَى قُبَالَتِهِ تَحَسُّرًا عَلَى مَا صَرَفَهُ مِنَ الْمَالِ فِي إِحْدَاثِ تِلْكَ الْجَنَّةِ. فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَسُّرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: قَرَعَ السِّنَّ مِنْ نَدَمٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمرَان: 119] . وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، أَيْ وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، وَالْعُرُوشِ: السَّقْفُ. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ. وَجُمْلَةُ عَلى عُرُوشِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خاوِيَةٌ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ أَرْسَلَهُ الْقُرْآنُ مَثَلًا لِلْخَرَابِ التَّامِّ الَّذِي هُوَ سُقُوطُ سُقُوفِ الْبِنَاءِ وَجُدْرَانِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [259] ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ مُرَادٌ بِهِ جُدْرَانُ الْقَرْيَةِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِعُرُوشِهَا، إِذِ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمَنَازِلُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ جُدْرَانٍ وَسُقُفٍ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِكُلِّ هَلَاكٍ تَامّ لَا تبقى مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الشَّيْءِ الْهَالِكِ. وَجُمْلَةُ وَيَقُولُ حِكَايَةٌ لِتَنَدُّمِهِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ. وَالْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُ. وَحَرْفُ النِّدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّلَهُّفِ. وَ (لَيْتَنِي) تَمَنٍّ مُرَادٌ بِهِ التَّنَدُّمُ. وَأَصْلُ قَوْلِهِمْ (يَا لَيْتَنِي) أَنَّهُ تَنْزِيلٌ لِلْكَلِمَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ كَلِمَةَ (لَيْتَ) يَقُولُ: احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُكِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ سُورَة الزمر [56] . وَهَذَا نَدَمٌ عَلَى الْإِشْرَاكِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى جَزَاءِ قَوْلِهِ: وَأَعَزُّ نَفَراً [الْكَهْف: 34] .

[سورة الكهف (18) : آية 44]

وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ. وَجُمْلَةُ يَنْصُرُونَهُ صِفَةٌ، أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ هَذِهِ صِفَتُهَا، فَإِنَّ فِئَتَهُ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ مُنْتَصِراً أَيْ وَلَا يَكُونُ لَهُ انْتِصَارٌ وَتَخَلُّصٌ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَلَمْ تَكُنْ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ اعْتِدَادًا بِتَأْنِيثِ فِئَةٌ فِي اللَّفْظِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ «يَكُنْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَالْوَجْهَانِ جائزان فِي الْفِعْل إِذَا رَفَعَ مَا لَيْسَ بتحقيقي التَّأْنِيثِ. وَأَحَاطَ بِهِ هَذَا الْعِقَابَ لَا لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُمَتِّعُ كَافِرين كثيرين طول حَيَاتِهِمْ وَيُمْلِي لَهُمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ. وَإِنَّمَا أَحَاطَ بِهِ هَذَا الْعِقَابَ جَزَاءً عَلَى طُغْيَانِهِ وَجَعْلِهِ ثَرْوَتَهُ وَمَالَهُ وَسِيلَةً إِلَى احْتِقَارِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اعْتَزَّ بِتِلْكَ النِّعَمِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى التَّكْذِيبِ بِوَعْدِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ عِقَابَ اللَّهِ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعَمِ عَنْهُ كَمَا سُلِبَتِ النِّعْمَةُ عَنْ قَارُونَ حِينَ قَالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [الْقَصَص: 78] . وَبِهَذَا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّعْمَةَ وَسِيلَةً لِلتَّرَفُّعِ عَنْ مَجَالِسِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ قَوْمًا يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُمْ وَطَلَبُوا من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم طَرْدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ كَمَا تقدم. [44] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 44] هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ قَبْلَهَا لِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعُمُومِ الْحَاصِلِ مِنْ قَصْرِ الْوَلَايَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُقْتَضِي تَحْقِيقَ جُمْلَةِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الْكَهْف: 42] ، وَجُمْلَةِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْكَهْف: 43] ، وَجُمْلَةِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [الْكَهْف: 43] ، لِأَنَّ الْوَلَايَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْعَثَ عَلَى نَصْرِ الْمَوْلَى وَأَنْ تُطْمِعَ الْمَوْلَى فِي أَنَّ وَلِيَّهُ يَنْصُرُهُ. وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى الْكَافِرَ مَا دَهَاهُ مِنْ جَرَّاءِ كُفْرِهِ الْتَجَأَ إِلَى أَنْ يَقُولَ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الْكَهْف: 42] ، إِذْ عَلِمَ أَنَّ الْآلِهَةَ الْأُخْرَى لَمْ تُغْنِ وِلَايَتُهُمْ عَنْهُ شَيْئًا، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أَسْلَمَ «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا» . فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ والْوَلايَةُ لِلَّهِ جُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.

وَاسْمُ إِشَارَةِ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْحَالِ الْعَجِيبَةِ بِتَشْبِيهِ الْحَالَةِ بِالْمَكَانِ لِإِحَاطَتِهَا بِصَاحِبِهَا، وَتَشْبِيهُ غَرَابَتِهَا بِالْبُعْدِ لِنُدْرَةِ حُصُولِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ تَقْصُرُ الْوَلَايَةُ عَلَى اللَّهِ. فَالْوَلَايَةُ: جِنْسٌ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُخْتَصٌّ بِاللَّامِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] . وَالْوَلَايَةُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- مَصْدَرُ وَلِيَ، إِذَا ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [72] . وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ الْوَلايَةُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ- وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ أَوِ اسْمٌ بِمَعْنَى السُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ. والْحَقِّ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ، عَلَى أَنه وصف لله تَعَالَى، كَمَا وُصِفَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [30] . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ الْحَقِّ- بِالرَّفْعِ- صِفَةٌ لِلْوَلَايَةِ، فَ الْحَقِّ بِمَعْنَى الصِّدْقِ لِأَنَّ وَلَايَةَ غَيْرِهِ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: «وَالْوَاجِبُ بِذَاتِهِ هُوَ الْحَقُّ مُطْلَقًا، إِذْ هُوَ الَّذِي يَسْتَبِينُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ حَقًّا، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ يُسَمَّى مَوْجُودًا وَمِنْ حَيْثُ إِضَافَتِهِ إِلَى الْعَقْلِ الَّذِي أَدْرَكَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يُسمى حَقًا» اهـ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ وَصْفِهِ هُنَا بِالْحَقِّ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ أَوْ لَا دَوَامَ لَهُ. وَخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَخِيرَ، فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ فِي الْخَيْرِيَّةِ عَلَى ثَوَابِ غَيْرِهِ وَعُقُبِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ مَا يَأْتِي مِنْ ثَوَابٍ مِنْ غَيْرِهِ وَمِنْ عُقْبَى إِمَّا زَائِفٌ مُفْضٍ إِلَى ضُرٍّ وَإِمَّا زَائِلٌ، وَثَوَابُ اللَّهِ خَالِصٌ دَائِمٌ وَكَذَلِكَ عُقْبَاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ اسْمًا ضِدَّ الشَّرِّ، أَيْ هُوَ الَّذِي ثَوَابُهُ وَعُقُبُهُ خَيْرٌ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ شَرٌّ.

[سورة الكهف (18) : آية 45]

وَالتَّمْيِيزُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَ «الْعُقُبُ» بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ الْقَافِ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ، أَيْ آخِرَةُ الْأَمْرِ. وَهِيَ مَا يَرْجُوهُ الْمَرْءُ مِنْ سَعْيِهِ وَعِمْلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عُقْباً بِضَمَّتَيْنِ وَبِالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَبِالتَّنْوِينِ. فَكَأَنَّ مَا نَالَهُ ذَلِكَ الْمُشْرِكُ الْجَبَّارُ مِنْ عَطَاءٍ إِنَّمَا نَالَهُ بِمَسَاعٍ وَأَسْبَابٍ ظَاهِرِيَّةٍ وَلَمْ يَنَلْهُ بِعِنَايَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَةٍ فَلَمْ يَكُنْ خَيْرًا وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ شرا عَلَيْهِ. [45] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 45] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) كَانَ أَعْظَمَ حَائِلٍ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْإِسْلَامِ انْهِمَاكُهُمْ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ وَنَعِيمِهَا، وَالْغُرُورُ الَّذِي غَرَّ طُغَاةَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي فَهْمِ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] ، وَقَالَ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 14- 15] . وَكَانُوا يَحْسَبُونَ هَذَا الْعَالَمَ غَيْرَ آيِلٍ إِلَى الْفَنَاءِ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] . وَمَا كَانَ أحد الرجلَيْن اللَّذين تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمَا إِلَّا وَاحِدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالَ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الْكَهْف: 36] . فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي غَرَّتْهُمْ بَهْجَتُهَا. وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا: تُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ بَقَاءِ الْأَنْوَاعِ الْحَيَّةِ عَلَى الْأَرْضِ وَبَقَاءِ الْأَرْضِ عَلَى حَالَتِهَا. فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَيَاةِ النَّاقِصَةِ غَيْرِ الْأَبَدِيَّةِ لِأَنَّهَا مُقَدَّرٌ زَوَالُهَا، فَهِيَ دُنْيَا.

وَتُطْلَقُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَلَى مُدَّةِ حَيَاةِ الْأَفْرَادِ، أَيْ حَيَاةِ كُلِّ أَحَدٍ. وَوَصْفُهَا بِ (الدُّنْيَا) بِمَعْنَى الْقَرِيبَةِ، أَيِ الْحَاضِرَة غير المنتظرة، كَنَّى عَنِ الْحُضُورِ بِالْقُرْبِ، وَالْوَصْفُ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَماءٍ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنَ (الْحَيَاةِ) الْمُضَافِ إِلَيْهِ (مَثَلَ) . أَيِ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا لَهَا حَالَ أَنَّهَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ. وَهَذَا الْمَثَلُ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِإِطْلَاقَيْهَا، فَهُمَا مَرَادَانِ مِنْهُ. وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنَاسُقُ ضَمَائِرِ الْجُمَعِ الْآتِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ- عُرِضُوا -لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [الْكَهْف: 47- 48] . وَاخْتِلَاطُ النَّبَاتِ: وَفْرَتُهُ وَالْتِفَافُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مِنْ قُوَّةِ الْخِصْبِ وَالِازْدِهَارِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) بَاءُ السَّبَبِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى (مَاءٍ) أَيْ فَاخْتَلَطَ النَّبَاتُ بِسَبَبِ الْمَاءِ، أَيِ اخْتَلَطَ بَعْضُ النَّبَاتِ بِبَعْضٍ. وَلَيْسَتِ الْبَاءُ لتعدية فعل فَاخْتَلَطَ إِلَى الْمَفْعُولِ لِعَدَمِ وُضُوحِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَفِي ذِكْرِ الْأَرْضِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَ (أَصْبَحَ) مُسْتَعْمَلَةٌ بِمَعْنَى صَارَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ. وَالْهَشِيمُ: اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَهْشُومًا مُحَطَّمًا. وَالْهَشْمُ: الْكَسْرُ وَالتَّفْتِيتُ. وتَذْرُوهُ الرِّياحُ أَيْ تُفَرِّقُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَالذَّرْوُ: الرَّمْيُ فِي الْهَوَاءِ. شُبِّهَتْ حَالَةُ هَذَا الْعَالَمِ بِمَا فِيهِ بِحَالَةِ الرَّوْضَةِ تَبْقَى زَمَانًا بَهِجَةً خَضِرَةً ثُمَّ يَصِيرُ نَبْتُهَا بَعْدَ حِينٍ إِلَى اضْمِحْلَالٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ: الْمَصِيرُ مِنْ حَالٍ حَسَنٍ إِلَى حَال سيّء. وَهَذَا تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ لِأَنَّ الْحَالَةَ الْمُشَبَّهَةَ مَعْقُولَةٌ إِذْ لَمْ يَرَ النَّاسُ بَوَادِرَ تَقَلُّصِ بَهْجَةِ الْحَيَاةِ، وَأَيْضًا شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِقْبَالِ نَعِيمِ الدُّنْيَا فِي الْحَيَاةِ مَعَ الشَّبَابِ وَالْجِدَةِ وَزُخْرُفِ الْعَيْشِ لِأَهْلِهِ، ثُمَّ تَقَلُّصِ ذَلِكَ وَزَوَالِ نَفْعِهِ ثُمَّ انْقِرَاضِهِ أَشْتَاتًا

[سورة الكهف (18) : آية 46]

بِهَيْئَةِ إِقْبَالِ الْغَيْثِ مُنْبِتِ الزَّرْعِ وَنَشْأَتِهِ عَنْهُ وَنَضَارَتِهِ وَوَفْرَتِهِ ثُمَّ أَخْذِهِ فِي الِانْتِقَاصِ وَانْعِدَامِ التَّمَتُّعِ بِهِ ثُمَّ تَطَايُرِهِ أَشْتَاتًا فِي الْهَوَاءِ، تَشْبِيهًا لِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ بِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ وَوَجْهُ الشَّبَهِ كَمَا عَلِمْتَ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. مَوْقِعُهَا التَّذْكِيرُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا، وَجَعْلُ أَوَائِلِهَا مُفْضِيَةً إِلَى أَوَاخِرِهَا، وَتَرْتِيبُهُ أَسْبَابَ الْفَنَاءِ عَلَى أَسْبَابِ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ اقْتِدَارٌ عَجِيبٌ. وَقَدْ أُفِيدَ ذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ بِالْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ بِذَلِكَ الْعُمُومِ أَشْبَهَ التَّذْيِيلَ. وَالْمُقْتَدِرُ: الْقوي الْقُدْرَة. [46] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 46] الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) اعْتِرَاضٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النِّعْمَةِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ مَا هُوَ إِلَّا زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي عَلِمْتُمْ أَنَّهَا إِلَى زَوَالٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196] وَأَنَّ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَالِاغْتِبَاطُ بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَرَبِ، قَالَ طَرَفَةُ: فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي ... بَنُونَ كِرَامٌ سادة لمسوّد ووَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ صِفَتَانِ جَرَتَا عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ الْبَاقِيَاتُ، أَيِ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا، أَيْ لَا زَوَالَ لِخَيْرِهَا، وَهُوَ ثَوَابُهَا الْخَالِدُ، فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ.

وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْوَصْفَيْنِ أَنْ يُقَدَّمَ الصَّالِحاتُ عَلَى وَالْباقِياتُ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ إِلَّا أَنَّ أَعْرَفَهُمَا فِي وَصْفِيَّةِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ هُوَ الصَّالِحَاتُ، لِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ أَنْ يُقَالَ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ وَلَا يُقَالُ الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَاتُ، وَلِأَنَّ بَقَاءَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى صَلَاحِهَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الصَّالِحَاتِ وَصْفٌ قَامَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَأَغْنَى عَنْهُ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ لَفْظُ (الصَّالِحَاتِ) بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْكَهْف: 107] ، وَفِي كَلَامِهِمْ قَالَ جَرِيرٌ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي وَلَكِنْ خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ هُنَا، فَقُدِّمَ (الْبَاقِيَاتُ) لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ إِنَّمَا كَانَ مَفْصُولًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَاقٍ، وَهُوَ الْمَالُ وَالْبَنُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: 26] ، فَكَانَ هَذَا التَّقْدِيمُ قَاضِيًا لِحَقِّ الْإِيجَازِ لِإِغْنَائِهِ عَنْ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّ ذَلِكَ زَائِلٌ أَوْ مَا هُوَ بِبَاقٍ وَالْبَاقِيَاتُ مِنَ الصَّالِحَاتِ خَيْرٌ مِنْهُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الْكَهْف: 45] مُفِيدًا لِلزَّوَالِ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ مِنْ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَالْباقِياتُ مُفِيدًا زَوَالَ غَيْرِهَا بِطَرِيقَةِ الِالْتِزَامِ، فَحَصَلَ دَلَالَتَانِ غَيْرُ مُطَابِقَتَيْنِ وَهُمَا أَوْقَعُ فِي صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ، وَحَصَلَ بِثَانِيَتِهِمَا تَأْكِيدٌ لِمُفَادِ الْأُولَى فَجَاءَ كَلَامًا مُؤَكَّدًا مُوجَزًا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ مَرْيَمَ قَوْلُهُ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مَرْيَم: 76] فَإِنَّهُ وَقَعَ إِثْرَ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَم: 73- 74] الْآيَةَ. وَتَقْدِيمُ الْمَالِ عَلَى الْبَنِينَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ خُطُورًا لِأَذْهَانِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالشَّابُّ وَالشَّيْخُ وَمَنْ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ مَا قَدْ كَفَاهُ وَلِذَلِكَ أَيْضًا قُدِّمَ فِي بَيْتِ طَرَفَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 إلى 48]

وَمَعْنَى وَخَيْرٌ أَمَلًا أَنَّ أَمَلَ الْآمِلِ فِي الْمَالِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا يَأْمُلُ حُصُولَ أَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِي حُصُولِهِ وَمَقْصُورٍ عَلَى مُدَّتِهِ. وَأَمَّا الْآمِلُ لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ يَأْمُلُ حُصُولَ أَمْرٍ مَوْعُودٍ بِهِ مِنْ صَادِقِ الْوَعْدِ، وَيَأْمُلُ شَيْئًا تَحْصُلُ مِنْهُ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَمَنْفَعَةُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: وَخَيْرٌ أَمَلًا بِالتَّحَقُّقِ وَالْعُمُومِ تَذْيِيلًا لما قبله. [47، 48] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 47 إِلَى 48] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: 45] . فَلَفْظُ (يَوْمَ) مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، كَمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي أَمْثَالِهِ. فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ تَعَرُّضَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ إِلَى الزَّوَالِ عَلَى وَجْهِ الْمَوْعِظَةِ، أَعْقَبَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ الزَّوَالِ بِتَصْوِيرِ حَالِ الْبَعْثِ وَمَا يَتَرَقَّبُهُمْ فِيهِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِضِدِّهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الْكَهْف: 46] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ غَيْرِ فِعْلِ (اذْكُرْ) يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْوَعِيدِ مِثْلَ: يَرَوْنَ أَمْرًا مُفْظِعًا أَوْ عَظِيمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَذْهَبُ إِلَى تَقْدِيرِهِ نَفْسُ السَّامِعِ. وَيُقَدَّرُ الْمَحْذُوفُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الظَّرْفِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ الْيَوْمِ وَمَا فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ عِنْد قَوْله: قَدْ جِئْتُمُونا إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ عَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَا وَجْهَ مَعَهُ لِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ.

وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ: نَقْلُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا بِزَلْزَالٍ أَرْضِيٍّ عَظِيمٍ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النّمل: 88] . وَقِيلَ: أُطْلِقَ التَّسْيِيرُ عَلَى تَنَاثُرِ أَجْزَائِهَا. فَالْمُرَادُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ كُلَّ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] وَقَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة: 5- 6] وَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ: 20] . وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ، وَالْكَيْفِيَّتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ، وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ انْقِرَاضِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَإِقْبَالِ عَالَمِ الْحَيَاةِ الْخَالِدَةِ وَالْبَعْثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُسَيِّرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو وَيَوْمَ تُسَيَّرُ الْجِبَالُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْجِبالَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَالْمَعْنَى: وَيَرَى الرَّائِي، كَقَوْلِ طَرَفَةَ: تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدٍ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الْكَهْف: 49] . وَالْبَارِزَةُ: الظَّاهِرَةُ، أَيِ الظَّاهِرُ سَطْحُهَا، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ يَسْتُرُ وَجْهَهَا مِنْ شَجَرٍ وَنَبَاتٍ أَوْ حَيَوَانٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 14] . وَجُمْلَةُ وَحَشَرْناهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير تَسِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِنُونِ الْعَظْمَةِ، أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ الْمَنْوِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَسِيرُ الْجِبالُ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ. وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ جُمْلَةَ وَحَشَرْناهُمْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ نُسَيِّرُ الْجِبالَ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِ (نَحْشُرُهُمْ) بِأَنْ أَطْلَقَ الْفِعْلَ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَالْمُغَادَرَةُ: إِبْقَاءُ شَيْءٍ وَتَرْكُهُ مِنْ تَعَلُّقِ فِعْلٍ بِهِ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي حَشَرْناهُمْ ومِنْهُمْ- عُرِضُوا عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: 45] .

وَعَرْضُ الشَّيْءِ: إِحْضَارُهُ لِيُرَى حَالُهُ وَمَا يَحْتَاجُهُ. وَمِنْهُ عَرْضُ الْجَيْشِ عَلَى الْأَمِيرِ لِيَرَى حَالَهُمْ وَعِدَّتَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ «عرضت عليّ لأمم» وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِحْضَارِهِمْ حَيْثُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَتَلَقَّوْنَ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ فِي شَأْنِهِمْ. وَالصَّفُّ: جَمَاعَةٌ يَقِفُونَ وَاحِدًا حَذْوَ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَبْدُو جَمِيعُهُمْ لَا يَحْجُبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ (صَفَّهُمْ) إِذَا أَوْقَفَهُمْ، أُطْلِقَ عَلَى المصفوف. وانتصب فًّا عَلَى الْحَال من واورِضُوا . وَتِلْكَ الْحَالَةُ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ أُحْضِرُوا بِحَالَةِ الْجُنَاةِ الَّذِينَ لَا يَخْفَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إِيقَاعًا للرعب فِي قولبهم. وَجُمْلَةُ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَحَشَرْناهُمْ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي حَشَرْناهُمْ، أَيْ حَشَرْنَاهُمْ وَقَدْ عُرِضُوا تَنْبِيهًا عَلَى سُرْعَةِ عَرْضِهِمْ فِي حِينِ حَشْرِهِمْ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْله: لى رَبِّكَ دُونَ أَنْ يُقَالَ (عَلَيْنَا) لِتَضَمُّنِ الْإِضَافَةِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِأَنَّ فِي هَذَا الْعَرْضِ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ نَصِيبًا مِنَ الِانْتِصَارِ لِلْمُخَاطَبِ إِذْ كَذَّبُوهُ حِينَ أَخْبَرَهُمْ وَأَنْذرهُمْ بِالْبَعْثِ. وجملةقَدْ جِئْتُمُونا مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ خِطَابٌ لِلْمَعْرُوضِينَ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الْقَوْلِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلِينَ لَهُمْ لَقَدْ جِئْتُمُونَا. وَذَلِكَ بِإِسْمَاعِهِمْ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخِطَابُ فِي قَوْله: قَدْ جِئْتُمُونا مُوَجَّهٌ إِلَى معاد ضميررِضُوا. وَالْخَبَرُ فِي قَوْله: قَدْ جِئْتُمُونا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ وَالتَّنْدِيمِ عَلَى إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. وَالْمَجِيءُ: مَجَازٌ فِي الْحُضُورِ، شُبِّهُوا حِينَ مَوْتِهِمْ بِالْغَائِبِينَ وَشُبِّهَتْ حَيَاتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِمَجِيءِ الْغَائِب. وَقَوله: مَا خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُفِيدِ لِلْمُشَابَهَةِ، أَيْ جِئْتُمُونَا مَجِيئًا كَخَلْقِكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَالْخَلْقُ الثَّانِي أَشْبَهَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ، أَيْ فَهَذَا

[سورة الكهف (18) : آية 49]

خَلْقٌ ثَانٍ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَخَلْقِنَا إِيَّاكُمُ الْمَرَّةَ الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] . وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. وَالْإِضْرَابُ فِي قَوْله: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً انْتِقَالٌ مِنَ التَّهْدِيدِ وَمَا مَعَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّغْلِيطِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالتَّغْلِيطِ فِي قَالَبِ الْإِنْكَارِ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيطِ مَجَازًا وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِفَادَةِ مَدْلُولِهِ الْأَصْلِيِّ. وَالزَّعْمُ: الِاعْتِقَادُ الْمُخْطِئُ، أَوِ الْخَبَرُ الْمُعَرَّضُ لِلْكَذِبِ. وَالْمَوْعِدُ أَصْلُهُ: وَقْتُ الْوَعْدِ بِشَيْءٍ أَوْ مَكَانُ الْوَعْدِ. وَهُوَ هُنَا الزَّمَنُ الْمَوْعُودُ بِهِ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمُ اعْتَقَدْتُمْ بَاطِلًا أَنْ لَا يَكُونَ لَكُمْ موعد للبعث بعدا لمَوْت أبدا. [49] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 49] وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) جُمْلَةُ وَوُضِعَ الْكِتابُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ [الْكَهْف: 48] ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَقَدْ وُضِعَ الْكِتَابُ. وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ وُضِعَتْ كُتُبُ أَعْمَالِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدِ كِتَابًا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ [الْإِسْرَاء: 13- 14] الْآيَةَ. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا فِيهِ لِمُرَاعَاةِ إِفْرَادِ لِفَظِ (الْكِتَابِ) . وَعَنِ الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ كِتَابٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَا هُوَ مُتَفَرِّقٌ فِي الْكُتُبِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ أَحَدٍ. وَلَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى وَضْعِ الْكِتَابِ بَيَانُ حَالِ الْمُجْرِمِينَ عِنْدَ وَضْعِهِ.

وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَتَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَلَيْسَ للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِأَن الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم يَوْمَئِذٍ فِي مَقَامَاتٍ عَالِيَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَالْإِشْفَاقُ: الْخَوْفُ مِنْ أَمْرٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَقُولُونَ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ، أَوْ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَإِعَادَتُهُ شَأْنُ الْفَزِعِينَ الْخَائِفِينَ. وَنِدَاءُ الْوَيْلِ: نُدْبَةٌ لِلتَّوَجُّعِ مِنَ الْوَيْلِ. وَأَصْلُهُ نِدَاءٌ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا بِتَنْزِيلِ مَا لَا يُنَادَى مَنْزِلَةَ مَا يُنَادَى لِقَصْدِ حُضُورِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا وَقَتُكِ فَاحْضُرِي، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ لِمُجَرَّدِ الْغَرَضِ مِنَ النِّدَاءِ وَهُوَ التَّوَجُّعُ وَنَحْوُهُ. وَالْوَيْلَةُ: تَأْنِيثُ الْوَيْلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ سُوءُ الْحَالِ وَالْهَلَاكُ. كَمَا أُنِّثَتِ الدَّارُ عَلَى دَارَةَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ الْمَكَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فِي سُورَة الْعُقُود الْمَائِدَة [31] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلهم: مالِ هذَا الْكِتابِ مُسْتَعْمل فِي التَّعَجُّب. (فَمَا) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ، وَمَعْنَاهَا: أَيُّ شَيْءٍ، ولِهذَا الْكِتابِ صِفَةٌ لِ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْكِيرِ، أَيْ مَا ثَبَتَ لِهَذَا الْكِتَابِ. وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 11] . وَجُمْلَةُ لَا يُغادِرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، هِيَ مَثَارُ التَّعَجُّبِ، وَقَدْ جَرَى الِاسْتِعْمَالُ بِمُلَازَمَةِ الْحَالِ لِنَحْوِ مَا لَكَ فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ وَمَا لَكَ فَاعِلًا. وَالْمُغَادَرَةُ: التَّرْكُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الْكَهْف: 47] . وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ: وَصْفَانِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فِعْلَةً أَوْ هَنَةً. وَالْمُرَادُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ هُنَا الْأَفْعَالُ الْعَظِيمَةُ وَالْأَفْعَالُ الْحَقِيرَةُ. وَالْعِظَمُ وَالْحَقَارَةُ يَكُونَانِ بِحَسَبِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ وَيَكُونَانِ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.

وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ التَّعَجُّبُ مِنْ إِحْصَائِهَا. وَعُطِفَتْ عَلَيْهَا الْكَبِيرَةُ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الْإِحْصَاءِ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَيْضًا مِمَّا يُثِيرُ التَّعَجُّبَ، فَقَدْ عَجِبُوا مِنْ إِحَاطَةِ كَاتِبِ الْكِتَابِ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، أَيْ لَا يُبْقِي صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمَا إِلَّا فِي حَالِ إِحْصَائِهِ إِيَّاهَا، أَيْ لَا يُغَادِرُهُ غَيْرَ مُحْصًى. فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَحْصَاهُ فَهُوَ لَمْ يُغَادِرْهُ، فَآلَ إِلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا، وَانْتَفَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ. فَجُمْلَةُ أَحْصاها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالرَّابِطُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذِي الْحَالِ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالْإِحْصَاءُ: الْعَدُّ، أَيْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ مَعْدُودَةً مُفَصَّلَةً. وَجُمْلَةُ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُونَ. أَيْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا عِنْدَ وَضْعِ ذَلِكَ الْكِتَابِ عَرْضًا سَرِيعًا حَصَلَ بِهِ عِلْمُ كُلٍّ بِمَا فِي كِتَابِهِ عَلَى وَجْهٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ. وَجُمْلَةُ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً لِمَا أَفْهَمَتْهُ الصِّلَةُ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ مَا عَمِلُوا، أَيْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ لَمْ يَعْمَلُوهُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَيُؤَاخِذُهُ بِمَا لَمْ يَقْتَرِفْهُ، وَقَدْ حَدَّدَ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَمَا أُمِرُوا بِفِعْلِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مُؤَاخَذَتِهِمْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ: إِفَادَةُ هَذَا الشَّأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ لِتَكُونَ مَقْصُودَةً أَصَالَةً. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَمِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَغَيْرِهِ، فَكَانَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَالِحَةً لِلْفَصْلِ بِدُونِ عَطْفٍ لتَكون تذييلا.

[سورة الكهف (18) : آية 50]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 50] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: 47] بِتَقْدِيرِ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ، تَفَنُّنًا لِغَرَضِ الموعظة الَّذِي سيقت لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِعَوَاقِبِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الصَّالِحَاتِ، وَبِمَدَاحِضِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُجْبِ وَاحْتِقَارِ الْفَضِيلَةِ وَالِابْتِهَاجِ بِالْأَعْرَاضِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ أَصْحَابَهَا كَمَالًا نَفْسِيًّا. وَكَمَا وُعِظُوا بِآخِرِ أَيَّامِ الدُّنْيَا ذُكِّرُوا هُنَا بِالْمَوْعِظَةِ بِأَوَّلِ أَيَّامِهَا وَهُوَ يَوْمُ خَلْقِ آدَمَ، وَهَذَا أَيْضًا تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ الْآيَة [الْكَهْف: 52] ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ بِبَنِي آدَمَ. وَلَهَا أَيْضًا مُنَاسَبَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْحَتْ عَلَى الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِجَاهِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَاحْتَقَرُوا فُقَرَاءَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْكَمَالِ الْحَقِّ وَالْغُرُورِ الْبَاطِلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْكَهْف: 28] ، فَكَانَ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ نَحْوَ آدَمَ مَثَلٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ أَصْلُ الضَّلَالِ، وَأَنَّ خُسْرَانَ الْخَاسِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آيِلٌ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ فِي الْآخَرِ، وَلَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ عِبْرَةٌ تُخَالِفُ عِبْرَةَ غَيْرِهِ، فَذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (مثلا) إِعْلَام بمبادىء الْأُمُورِ، وَذِكْرُهَا هُنَا تَنْظِيرٌ لِلْحَالِ وَتَوْطِئَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ.

وَفَسَقَ: تَجَاوَزَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ، إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي التَّجَاوُزِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالْفِسْقُ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنِ الطَّاعَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «لَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا أَحَادِيثِهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ» ، أَيْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. وَوَافَقَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَأُطْلِقَ الْفِسْقُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْعِصْيَانِ الْعَظِيمِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ، أَيْ تَرَكَ وَابْتَعَدَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَالْعُدُولُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِتَفْظِيعِ فِسْقِ الشَّيْطَانِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنَّهُ فِسْقُ عَبْدٍ عَنْ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ. وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِفِسْقِ الشَّيْطَانِ وَعَلَى تَعَاظُمِهِ عَلَى أَصْلِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِهِ وَاتِّخَاذِ جُنْدِهِ أَوْلِيَاءَ لِأَنَّ تَكَبُّرَهُ عَلَى آدَمَ يَقْتَضِي عَدَاوَتَهُ لِلنَّوْعِ، وَلِأَنَّ عِصْيَانَهُ أَمْرَ مَالِكِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّبَعَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُشْرِكِينَ، إِذْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: 100] . وَلِذَلِكَ عَلَّلَ النَّهْيَ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ. وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ، وَذُرِّيَّةُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ. وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] وَقَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: 4] . عُومِلَ هَذَا الِاسْمُ مُعَامَلَةَ الْمَصَادِرِ لِأَنَّهُ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

[سورة الكهف (18) : آية 51]

وَالْوَلِيُّ: مَنْ يَتَوَلَّى، أَيْ يَتَّخِذُ ذَا وَلَايَةٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ الْقُرْبُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ الصَّدَاقَةُ وَالنَّسَبُ وَالْحِلْفُ. و (من) زايدة لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ تَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ مُبَاعِدِينَ لِي. وَذَلِكَ هُوَ إِشْرَاكُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ كُلَّ حَالَةٍ يَعْبُدُونَ فِيهَا الْآلِهَةَ هِيَ اتِّخَاذٌ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالْخطاب فِي أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَمَا بَعْدَهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُ وَلِيًّا، وَتَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ اتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ أَوْلِيَاءَ، أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ لِلْمُشْرِكِينَ الشَّيْطَانُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَوْلُهُ: بَدَلًا تَمْيِيزٌ مُفَسِّرٌ لِاسْمِ (بِئْسَ) الْمَحْذُوفِ لِقَصْدِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالتَّمْيِيزِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَإِظْهَارُ الظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ، وَلِمَا فِي الِاسْمِ الظَّاهِرِ مِنْ مَعْنَى الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ ذمّ لَهُم. [51] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 51] مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَهُمَا أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ إِلَى قَوْله: بَدَلًا [الْكَهْف: 50] ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَشْهَدُوا خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَلَمْ يَكُونُوا أَحِقَّاءَ بِأَنْ يُعْبَدُوا. وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ الْمَوْجُودَاتِ. وَالْإِشْهَادُ: جَعْلُ الْغَيْرِ شَاهِدًا، أَيْ حَاضِرًا، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ إِحْضَارٍ خَاصٍّ، وَهُوَ إِحْضَارُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْعَمَلِ أَوِ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ. وَنَفْيُ هَذَا الشُّهُودِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ

الْمُشَارَكَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْإِلَهِيَّةِ بِالْفَحْوَى أَيْ، بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ بِسَبْقِ الْعَدَمِ عَلَى وُجُودِهِمْ. وَكُلُّ مَا جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ اسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ، وَالْقِدَمُ مِنْ لَوَازِمَ الْإِلَهِيَّةِ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدْتُهُمْ وَقَوْلِهِ: أَنْفُسِهِمْ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، أَيْ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ. وَمَعْنَى أَنْفُسِهِمْ، أَنْفُسُ بَعْضِهِمْ بِقَرِينَةِ اسْتِحَالَةِ مُشَاهَدَةِ الْمَخْلُوقِ خَلْقَ نَفْسِهِ، فَإِطْلَاقُ الْأَنْفُسِ هَنَا نَظِيرُ إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [الْبَقَرَة: 84] ، أَيْ أَنْفُسَ بَعْضِكُمْ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ وَيَتَقَوَّمُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ لَهُمَا سُكَّانَهُمَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصّلت: 9- 12] . وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَرْضِ جِنًّا مُتَصَرِّفِينَ فَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا مَخُوفًا قَالُوا: أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي، لِيَكُونُوا فِي أَمْنٍ مِنْ ضُرِّهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مَا أَشْهَدْنَاهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَ وَما كُنْتُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْخطاب للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْي. وَالْمرَاد ب الْمُضِلِّينَ الشَّيَاطِينُ، لِأَنَّهُمْ أَضَلُّوا النَّاسَ بِإِلْقَاءِ خَوَاطِرِ الضَّلَالَةِ وَالْفَسَادِ فِي النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 121] . وَجُمْلَةُ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

[سورة الكهف (18) : آية 52]

وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ إِلَى الْمُضِلِّينَ لِإِفَادَةِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّ التَّذْيِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا. وَالْعَضُدُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ- فِي الْأَفْصَحِ، وَبِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الضَّادِ- فِي لُغَةِ تَمِيمٍ. وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخْرَى أَضْعَفُ. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو قَرَأَهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَضَمِّ الضَّادِ- عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ فِي عَضُدٍ وَهِيَ رِوَايَةُ هَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَلَيْسَتْ مَشْهُورَةً. وَهُوَ: الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ الْمِرْفَقِ وَالْكَتِفِ، وَهُوَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْمُعِينِ عَلَى الْعَمَلِ، يُقَالُ: فُلَانٌ عَضُدِي وَاعْتَضَدْتُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَلِيقُ بِالْكَمَالِ الْإِلَهِيِّ أَنْ أَتَّخِذَ أَهْلَ الْإِضْلَالِ أَعْوَانًا فَأُشْرِكَهُمْ فِي تَصَرُّفِي فِي الْإِنْشَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُفِيضٌ الْهِدَايَةَ وَوَاهِبٌ الدِّرَايَةَ فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْوَانُهُ مَصَادِرَ الضَّلَالَةِ، أَيْ لَا يُعِينُ الْمُعِينَ إِلَّا عَلَى عَمَلِ أَمْثَالِهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا قرينا لأشكاله. [52] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 52] وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) عُطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْكَهْف: 50] فَيُقَدَّرُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْف: 51] ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا أَشْهَدْتُ شُرَكَاءَهُمْ جَمِيعًا وَلَا تَنْفَعُهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ إِبْطَالِ مَعْبُودِيَّةِ الشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ إِلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ جَمِيعِ الْآلِهَةِ الَّتِي عَبَدَهَا دَهْمَاءُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ بَيَانِ مَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْيَأْسِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ سَلَكَ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهَا طَرِيقَ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَاهِيَّةِ بِانْتِفَاءِ لَوَازِمِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا انْتَفَى نَفْعُهَا لِلَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ انْتِفَاءَ إِلَهِيَّتِهَا، وَحَصَلَ بِذَلِكَ تَشْخِيصُ خَيْبَتِهِمْ وَيَأْسِهِمْ مِنَ النَّجَاةِ.

[سورة الكهف (18) : آية 53]

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ يَقُولُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ نَقُولُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَالْيَوْمُ الَّذِي يَقع فِيهِ هَذَا القَوْل هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ. وَالْمَعْنَى: يَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، أَيْ زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَائِي. وَقَدَّمَ وَصْفَهُمْ بِوَصْفِ الشُّرَكَاءِ قَبْلَ فِعْلِ الزَّعْمِ تَهَكُّمًا بِالْمُخَاطَبِينَ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِفِعْلِ الزَّعْمِ الدَّالِّ عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ. وَالنِّدَاءُ: طَلَبُ الْإِقْبَالِ لِلنُّصْرَةِ وَالشَّفَاعَةِ. وَالِاسْتِجَابَةُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى سَمَاعِ النِّدَاءِ وَالْأَخْذِ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الْمُنَادِي بِنَحْوِ قَوْلِ: لَبَّيْكُمْ. وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمُنَادَاةِ شُرَكَائِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ مَعَ إِرَادَةٍ لَازِمِهِ وَهُوَ إِظْهَارُ باطلهم بِقَرِينَة فعل الزَّعْمِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا أَنْ يُنَادُوهُمْ حَيْثُ قَالَ فَدَعَوْهُمْ لِطَمَعِهِمْ، فَإِذَا نَادَوْهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ خَيْبَةُ طَمَعِهِمْ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ الدُّعَاءِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ. وَأَتَى بِهِ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِ وُقُوعِهِ حِينَئِذٍ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى. وَالْمَوْبِقُ: مَكَانُ الْوُبُوقِ، أَيِ الْهَلَاكِ. يُقَالُ: وَبَقَ مِثْلُ وَعَدَ وَوَجِلَ وَوَرِثَ. وَالْمَوْبِقُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ حِينَ دَعَوْا أَصْنَامَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ كَوَّنَ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَ مَكَانِهِمْ وَمَكَانِ أَصْنَامِهِمْ فُوَّهَاتِ جَهَنَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً جُمْلَةَ حَالٍ أَيْ وَقَدْ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الْكَهْف: 53] . [53] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 53] وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [الْكَهْف: 52] ، أَيْ جَعَلْنَا الْمَوْبِقَ وَرَآهُ الْمُجْرِمُونَ، فَذِكْرُ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ الْمُجْرِمُونَ مِنْ تَلَبُّسِهِمْ

[سورة الكهف (18) : آية 54]

بِمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ عَذَابَ النَّار. وَكَذَلِكَ عبر بِ (النَّارِ) فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْمَوْبِقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْبِقَ هُوَ النَّارُ فَهُوَ شَبِيهٌ بِعَطْفِ الْبَيَانِ. وَالظَّنُّ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِهِ. وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ رَجَّحُوا أَنَّ تِلْكَ النَّارَ أُعِدَّتْ لِأَجْلِهِمْ فِي حِينِ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِذَلِكَ. وَالْمُوَاقَعَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْحُصُولُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ وَاقِعُونَ فِيهَا وُقُوعَ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ فِي مَوْقِعٍ يَتَطَلَّبُهُ فَكَأَنَّهُ يَقَعُ هُوَ فِيهِ. وَالْمَصْرِفُ: مَكَانُ الصَّرْفِ، أَيِ التَّخَلُّصِ وَالْمُجَاوَزَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ، تَقْدِيرُهُ: وَحَاوَلُوا الِانْقِلَابَ أَوِ الِانْصِرَافَ فَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، أَي مخلصا. [54] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 54] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) عُطِفَ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ فِيهَا أَمْثَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الْكَهْف: 32] وَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: 45] . وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ لَهُمْ مَقْنَعٌ وَمَا لَهُمْ مِنْهُ مَدْفَعٌ عَادَ إِلَى التَّنْوِيهِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ عَوْدًا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ [الْكَهْف: 27] وَقَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْف: 29] فَأَشَارَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي قَرَعَتْ أسماعهم هدي مِنْ جُمْلَةِ هَدْيِ الْقُرْآنِ الَّذِي تَبَرَّمُوا مِنْهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [89] سِوَى أَنَّهُ يُتَّجَهُ هُنَا أَنْ يُسْأَلَ لِمَ قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدَ مُتَعَلِّقِي فِعْلِ التَّصْرِيفِ عَلَى الْآخَرِ إِذْ قَدَّمَ هُنَا قَوْلَهُ: فِي هذَا الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ عَكْسَ آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ أَهَمُّ

مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَا مُقْتَضَى لِلْعُدُولِ عَنْهُ هُنَا بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالْحَقِّ لَا بِهَوَى الْأَنْفُسِ. وَالنَّاسُ: اسْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى الْخُصُوصِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، فَوِزَانُهُ وِزَانُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الْإِسْرَاء: 89] ، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الْكَهْف: 56] . وَهَذَا يُشْبِهُ الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَقَرَائِنَ خَاصَّةٍ. وَجُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تَذْيِيلٌ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَادَلُوا فِيهِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ جَدَلًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لِنَوْعِ بَنِي آدَمَ، وَحَرْفُ (أَلْ) فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ أَوْسَعُ عُمُومًا مِنْ لَفْظِ النَّاسِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَادَلُوا. وَالْجِدَالُ: خُلُقٌ، مِنْهُ ذَمِيمٌ يَصُدُّ عَنْهُ تَأْدِيبُ الْإِسْلَامِ وَيَبْقَى فِي خُلُقِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُ مَحْمُودٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 74- 75] ، فَأَشَارَ بِالثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنَّ جِدَالَهُ مَحْمُودٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] وَلَا الْمُرَادُ بِالْجَدَلِ الْجَدَلَ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّ هَذَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ هُنَا: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ [الْكَهْف: 56] . وَ (شَيْءٌ) اسْمٌ مُفْرَدٌ مُتَوَغِّلٌ فِي الْعُمُومِ. وَلِذَلِكَ صَحَّتْ إِضَافَةُ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَيْهِ، أَيْ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِصِيغَتِهِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ جَدَلِ الْإِنْسَانِ وَجُنُوحِهِ إِلَى الْمُمَارَاةِ وَالنِّزَاعِ حَتَّى فِيمَا تَرْكُ الْجِدَالِ فِي شَأْنِهِ أَحْسَنُ، بِحَيْثُ إِنَّ شِدَّةَ الْوَصْفِ فِيهِ تُشْبِهُ تَفَوُّقَهُ فِي الْوَصْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْرِضُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ.

وَإِنَّمَا أُلْجِئْنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي اسْمِ التَّفْضِيلِ لِظُهُورِ أَنَّ غَيْرَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَنْوَاعِ مَا عَلَى الْأَرْضِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجَدَلُ. فَالْجَدَلُ خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ مِنْ شُعَبِ النُّطْقُ الَّذِي هُوَ فَصْلُ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَجَدَلُهُمْ مَحْمُودٌ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِلَى قَوْلِهِ: وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: 30] . وَأَمَّا الشَّيَاطِينُ فَهُمْ أَكْثَرُ جَدَلًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ لَمَّا نَبَا الْمَقَامُ عَنْ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا غَيْرَ مُرَادِينَ بِالتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَدَلِ. وجَدَلًا تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَالْمَعْنَى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مِنْ جِهَةِ الْجَدَلِ، أَيْ كَثِيرًا جَدَلُهُ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَلِيٍّ: «أَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلًا فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ!؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، قَالَ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا . يُرِيدُ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَنَّ الْأَوْلَى بِعَلِيٍّ أَنْ يَحْمَدَ إِيقَاظَ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِيَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَأَنْ يُسَرَّ بِمَا فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَلَامٍ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِمَا يُحَبِّذُ اسْتِمْرَارَ نَوْمِهِ، فَذَلِكَ مَحَلُّ تَعَجُّبِ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مِنْ جَوَابِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُحْمَلَ التَّفْضِيلُ فِي الْآيَةِ عَلَى بَابه بِأَن يرد أَنَّ الْإِنْسَانَ أَكْثَرُ جَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَجُوزُ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْجَدَلُ لِأَنَّهُ مَحْمَلٌ لَا يُرَادُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَمَنْ أَنْبَأَنَا أَنَّ لِلشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ مَقْدِرَةً عَلَى الْجَدَلِ؟. وَالْجَدَلُ: الْمُنَازَعَةُ بِمُعَاوَضَةِ الْقَوْلِ، أَيْ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُحَاوِلُ بِهِ إِبْطَالَ مَا فِي كَلَامِ الْمُخَاطَبِ مِنْ رَأْيٍ أَوْ عَزْمٍ عَلَيْهِ: بِالْحُجَّةِ أَوْ بِالْإِقْنَاعِ أَوْ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ، وَقَالَ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة: 1] ، وَقَالَ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] ، وَقَالَ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ [النِّسَاء: 107] ، وَقَالَ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [الْأَنْفَال: 6] .

[سورة الكهف (18) : آية 55]

وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ الْجَدَلِ وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ، أَيْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي طَبْعِهِ الْحِرْصُ عَلَى إِقْنَاعِ الْمُخَالِفِ بِأَحَقِّيَّةِ مُعْتَقَدِهِ أَوْ عَمَلِهِ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِرَادَةَ الجدل الْبَاطِل. [55] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 55] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ [الْكَهْف: 54] إِلَخْ. وَمَعْنَاهَا مُتَّصِلٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِحَيْثُ لَوْ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: 54] مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُمَا لَوْلَا أَنَّ فِي جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَقِلَّةً بِالْعَطْفِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا فِي ذَاتِهِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ تَفْرِيعُهُ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا يَحِيدُ بِهِ عَنِ الْمَوْقِعِ الْجَدِيرِ هُوَ بِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ إِذْ أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً مُقَرَّرَةً فِي النُّفُوسِ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِيمَا أَرَى عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ وَبِقَوْلِهِ: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى قَصْدًا لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِذَاتِهَا غَيْرِ مُسْتَعَانَةٍ بِغَيْرِهَا، فَتَكُونُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً تَسْتَأْهِلُ تَوَجُّهَ الْعُقُولِ إِلَى وَعْيِهَا لِذَاتِهَا لَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَلَى غَيْرِهَا. عَلَى أَنَّ عُمُومَ النَّاسَ هُنَا أَشْمَلُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ [الْكَهْف: 54] فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ النَّاسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ فِي أَزْمَانِ مَا بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَهَذَا يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمُ الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَكَذَلِكَ عُمُومُ لَفْظِ الْهُدى يَشْمَلُ هُدَى الْقُرْآنِ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قِيَاسًا تَمْثِيلِيًّا بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَأَحْوَالِ تَلَقِّي الْأُمَمِ دَعَوَاتِ رُسُلِهِمْ.

فَالْمَعْنَى: مَا مَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ شَيْءٌ يَمْنَعُ مِثْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ كَالْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُمُ الَّذِينَ جَاءَهُمُ الْهُدَى بِأَنْوَاعِهِ مِنْ كُتُبٍ وَآيَاتٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى الْخَيْر. والمرد بِ الْأَوَّلِينَ السَّابِقُونَ مِنَ الْأُمَمِ فِي الضَّلَالِ وَالْعِنَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْآبَاءُ، أَيْ سُنَّةُ آبَائِهِمْ، أَيْ طَرِيقَتُهُمْ وَدِينُهُمْ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أُمَّةٌ سَبَقَتْهَا. وأَنْ تَأْتِيَهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ هُوَ فَاعِلُ وَما مَنَعَ. «وَلنْ يُؤْمِنُوا» مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَمَعْنَى تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ تَحِلُّ فِيهِمْ وَتَعْتَرِيهِمْ، أَيْ تُلْقَى فِي نُفُوسِهِمْ وَتُسَوَّلُ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ خَلْقَ مَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 53] . وَسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: طَرِيقَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَإِضَافَةُ (سُنَّةُ) إِلَيْهِمْ تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيِ السُّنَّةُ الَّتِي سَنَّهَا الْأَوَّلُونَ. وَإِسْنَادُ مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ اسْتِعَارَةٌ. وَالْمَعْنَى: مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا الَّذِي مَنَعَ الْأَوَّلِينَ قَبْلَهُمْ مِنْ عَادَةِ الْعِنَادِ وَالطُّغْيَانِ وَطَرِيقَتِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ. وَذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ تَلْقِينٌ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يُبَادِرُوا بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ وَأَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيءِ وَمُكَابَرَتِهِ. وَ (أَوْ) هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى (إِلَى) ، وَانْتِصَابُ فِعْلِ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ (بِأَن) مُضْمَرَةً بَعْدَ (أَوْ) . وَ (أَوْ) مُتَّصِلَةَ الْمَعْنَى بِفِعْلِ مَنَعَ، أَيْ مَنَعَهُمْ تَقْلِيدُ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ كَمَا أَتَى الْأَوَّلِينَ. هَذَا مَا بَدَا لِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَرَاهُ أَلْيَقَ بِمَوْقِعِ هَاتِهِ الْآيَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا.

فَأَمَّا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ عَلَى خِلَافِ هَذَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِالنَّاسِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الْكَهْف: 54] ، أَيْ مَا مَنَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِالْهُدَى عَيْنَ الْمُرَادِ بِالْقُرْآنِ، وَحَمَلُوا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ الْمَاضِينَ، أَيْ فَإِضَافَةُ سُنَّةُ إِلَى الْأَوَّلِينَ مِثْلُ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِيهِمْ، أَيْ يعذبهم عَذَاب الاستيصال. وَجَعَلُوا إِسْنَادَ الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ، أَيْ وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهَكُّمًا وَتَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا عِنْدَ نزُول عَذَاب الاستيصال، أَيْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا [يُونُس: 102] . وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا قَسِيمًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، فَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَفِعْلُ يَأْتِيَهُمُ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ بالاستيصال الْمُفَاجِئِ أَوْ يَأْتِيَهِمُ الْعَذَابُ مُوَاجِهًا لَهُمْ. وَجَعَلُوا قُبُلًا حَالًا مِنَ الْعَذابُ، أَيْ مُقَابِلًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ عَذَابُ مُقَابَلَةٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ، أَيْ عَذَابُ الْجَلَّادِ بِالسُّيُوفِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ مَنْ ذَاقَ عَذَابَ السَّيْفِ فِي غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ فَهُوَ يَرَى عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي سَلَكُوهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْآيَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ، وَتُقْصَرُ عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ. وَالْإِتْيَانُ: مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِوُجُودِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ الَّتِي تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ اسْتِقْبَالٌ نِسْبِيٌّ فَلِكُلِّ أُمَّةٍ اسْتِقْبَالُ سُنَّةِ مَنْ قَبْلَهَا. وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَإِسْنَادُ مَنْعِهِمُ الْإِيمَانَ إِلَى إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ أَوْ إِتْيَانِ الْعَذَابِ إِسْنَادُ مَجَازٍ عَقْلِيٍّ. وَالْمُرَادُ: مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا سَبَبُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ لَهُمْ أَوْ إِتْيَانِ الْعَذَابِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ

[سورة الكهف (18) : آية 56]

هُوَ التَّكَبُّرُ وَالْمُكَابَرَةُ وَالتَّمَسُّكُ بِالضَّلَالِ، أَيْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُمُ الْإِيمَانَ يُخَوِّلُهُمُ الْمَعْذِرَةَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى سُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ إِلَى أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ أَحَدُ الْعَذَابَيْنِ. وَفِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ تَهْدِيدٌ وَإِنْذَارٌ وَتَحْذِيرٌ وَحَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْكُفْرِ. وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 96- 97] . وقُبُلًا حَالٌ مِنَ الْعَذَابِ. وَهُوَ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ قُبُلًا- بِضَمَّتَيْنِ- وَهُوَ جَمْعُ قَبِيلٍ، أَيْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَاب أنواعا. [56] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 56] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى جِدَالِهِمْ فِي هُدَى الْقُرْآنِ بِمَا مَهَّدَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: 54] . وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجِدَالَ فِيهِ مُجَرَّدُ مُكَابَرَةٍ وَعِنَادٍ، وَأَنَّهُ لَا يَحُفُّ بِالْقُرْآنِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا لَمْ يَحُفَّ بِالْهُدَى الَّذِي أَرْسَلَ إِلَى الْأُمَمِ مَا يَمْنَعُهُمُ الْإِيمَانَ بِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ وَظِيفَةَ الرُّسُلِ التَّبْلِيغُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لَا التصدي للجادلة، لِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا الِاسْتِرْشَادُ بَلِ الْغَايَةُ مِنْهَا إِبْطَالُ الْحَقِّ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ جَمِيعُ الرُّسُلِ.

وَجُمْلَةُ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مُرْتَبِطٌ بِجُمْلَتِي وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: 54] . وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الذِّكْرِ جَارٍ عَلَى تَرْتِيبِ مَعَانِيهَا فِي النَّفْسِ بِحَيْثُ يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَة مِنْهَا ناشىء مَعْنَاهَا عَلَى مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَكَانَتْ جُمْلَةُ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ مُفِيدَةً مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِطَالِبِ الْهُدَى، وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جَادَلُوهُ بِالْبَاطِلِ لِإِزَالَةِ الْحَقِّ لَا لِقَصْدٍ آخَرَ. وَاخْتِيَارُ فِعْلِ الْمُضَارَعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الْمُجَادَلَةِ، أَوْ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. وَالْمُجَادِلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [74] . وَالْإِدْحَاضُ: الْإِزْلَاقُ، يُقَالُ: دَحَضَتِ الْقَدَمُ، إِذَا زَلَّتْ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْإِزَالَةِ، لِأَنَّ الرِّجْلَ إِذَا زَلَقَتْ زَالَتْ عَنْ مَوْضِعِ تَخَطِّيهَا، قَالَ تَعَالَى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات: 141] . وَجُمْلَةُ وَاتَّخَذُوا آياتِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُجادِلُ فَإِنَّهُمْ مَا قَصَدُوا مِنَ الْمُجَادَلَةِ الِاهْتِدَاءَ، وَلَكِنْ أَرَادُوا إِدْحَاضَ الْحَقِّ وَاتِّخَاذَ الْآيَاتِ كُلِّهَا وَبِخَاصَّةٍ آيَاتُ الْإِنْذَار هزؤا. والهزو: مَصْدَرُ هَزَأَ، أَيِ اتَّخَذُوا ذَلِكَ مُسْتَهْزَأً بِهِ. وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْآيَاتِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا يَفْعَلُونَ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَعِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ. وَعَطْفُ وَما أُنْذِرُوا عَلَى «الْآيَاتِ» عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَوَغُّلِ كُفْرِهِمْ وَحَمَاقَةِ عُقُولِهِمْ. وَما أُنْذِرُوا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ وَإِنْذَارُهُمْ وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور هُزُواً بِضَمِّ الزَّايِ. وقرأه حَمْزَة هزآ بِسُكُون الزَّاي.

[سورة الكهف (18) : آية 57]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 57] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ مِنْ مُجَادَلَةِ الرُّسُلِ لِسُوءِ نِيَّةٍ، وَمِنِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْإِنْذَارِ، وَعَرَّضَ بِحَمَاقَتِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَشَدُّ الظُّلْمِ. ذَلِك لِأَنَّهُ ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَهُوَ أَعْجَبُ الظُّلْمِ، فَالَّذِينَ ذُكِّرُوا مَا هُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ تَذْكِيرًا بِوَاسِطَةِ آيَات الله فأعرضوا عَنِ التَّأَمُّلِ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا تُنْذِرُهُمْ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَشَأْنُ الْعَاقِلِ إِذَا سَمِعَ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلتَّأَمُّلِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ، كَمَا قَالَ النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِقُرَيْشٍ «إِذَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ غَدًا أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ فَقَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا» فَقَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» . وَ (مَنِ) الْمَجْرُورَةُ مَوْصُولَةٌ. وَهِيَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ ذُكِّرُوا بِالْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ. وَعَطْفُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الذَّكَرِ عَلَى التَّذْكِيرِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا بِالْإِعْرَاضِ وَلَمْ يَتْرُكُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُهْلَةَ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَمَعْنَى نِسْيَانِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ حَالَهُ وَأَعْمَالَهُ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ لِيَعْلَمَ: أَهِيَ صَالِحَةٌ لَا تُخْشَى عَوَاقِبُهَا أَمْ هِيَ سَيِّئَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا يَسْلَمَ مُقْتَرِفُهَا مِنْ مُؤَاخَذَةٍ، وَالصَّلَاحُ بَيِّنٌ وَالْفَسَادُ بَيِّنٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَوَّلُ مَعْرُوفًا وَالثَّانِي مُنْكَرًا، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الذِّكْرَى عَلَى لِسَان الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَهُمْ بِمَجْمُوعِ الْحَالَيْنِ أَشَدُّ النَّاسِ ظُلْمًا، وَلَوْ تَفَكَّرُوا قَلِيلًا لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنْ لِقَاءِ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ.

فَ (مِنْ) اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ. وَالنِّسْيَانُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغَاضِي عَنِ الْعَمَلِ. وَحَقِيقَة النسْيَان تقدم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [106] . وَمَعْنَى مَا قَدَّمَتْ يَداهُ مَا أَسْلَفَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْعَمَل السيء، فَصَارَ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ، قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَقَالَ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَالْآيَةُ مَصُوغَةٌ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ: مِنْهَا مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ. وَجُمْلَةُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً مُسْتَأْنِفَةٌ بَيَانِيَّةٌ نَشَأَتْ عَلَى جُمْلَةِ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ، أَيْ إِنْ لَمْ تَعْلَمْ سَبَبَ نِسْيَانِهِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فَاعْلَمْ أَنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. وَهُوَ يُفِيدُ معنى التَّعْلِيل بالمئال، وَلَيْسَ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ التَّعْلِيلِيَّةِ. وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا: مَدَارِكُ الْعِلْمِ. وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ، وَهُوَ الْغِطَاءُ، لِأَنَّهُ يُكِنُّ الشَّيْءَ، أَيْ يَحْجُبُهُ. وأَنْ يَفْقَهُوهُ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ أَنْ يَفْقَهُوهُ، لِتَضْمِينِ أَكِنَّةً مَعْنَى الْحَائِلِ أَوِ الْمَانِعِ. وَالْوَقْرُ: ثِقَلُ السَّمْعِ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ الصَّوْتِ إِلَى الصِّمَاخِ. وَالضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي يَفْقَهُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ وَالْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْآيَاتِ.

[سورة الكهف (18) : آية 58]

وَجُمْلَةُ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ، وَهِيَ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُعْطَفْ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَعْلُ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ الْمُسْتَقِلِّ. وَأَكَّدَ نَفْيَ اهْتِدَائِهِمْ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ وَهُوَ (لَنْ) ، وَبِلَفْظِ (أَبَدًا) الْمُؤَكِّدِ لِمَعْنَى (لَنْ) ، وَبِحَرْفِ الْجَزَاءِ الْمُفِيدِ تَسَبُّبَ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ. وَإِنَّمَا حَصَلَ مَعْنَى الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَلَى فَطْرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى عَدَمِ قبُول الْحق. [58] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 58] وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) جَرَى الْقُرْآنُ عَلَى عَادَتِهِ فِي تعقيب التَّرْهِيب بالترغيب وَالْعَكْسِ، فَلَمَّا رَمَاهُمْ بِقَوَارِعِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْرِيضَ بِالتَّذْكِيرِ بِالْمَغْفِرَةِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ التَّذْكِيرَ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْخَلْقَ بِرَحْمَتِهِ فِي حِينِ الْوَعِيدِ فَيُؤَخِّرُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ إِلَى حَدٍّ مَعْلُومٍ إِمْهَالًا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَيَتَدَبَّرُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، مُوَجِّهًا الْخِطَابَ إِلَى النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مُفْتَتَحًا بِاسْتِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ الربوبية للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْخَبَرِ تَكْرِيمٌ لَهُ، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] . وَالْوَجْهُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْغَفُورُ نَعْتًا لِلْمُبْتَدَأِ وَيَكُونَ ذُو الرَّحْمَةِ هُوَ الْخَبَرُ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ وَلِمَا بَعْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْغَفُورُ إِدْمَاجًا فِي خِلَالِ الْمَقْصُودِ. فَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمَ الْغَفُورُ تَعْرِيضًا بِالتَّرْغِيبِ فِي الِاسْتِغْفَارِ.

وَالْغَفُورُ: اسْمٌ يَتَضَمَّنُ مُبَالَغَةَ الغفران لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ إِذْ يَغْفِرُ لِمَنْ لَا يُحْصَوْنَ وَيَغْفِرُ ذُنُوبًا لَا تُحْصَى إِنْ جَاءَهُ عَبده تَائِبًا مقلعا مُنْكَسِرًا، عَلَى أَنَّ إِمْهَالَهُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَثَرِ الْمَغْفِرَةِ إِذْ هُوَ مَغْفِرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذُو الرَّحْمَةِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ تَمْهِيدًا لِجُمْلَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْغَفُورُ الْخَبَرُ وَهُوَ الْوَصْفُ الثَّانِي. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِيمَا كَسَبُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ أَحْرِيَاءُ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَكِن اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ. وَفِي ذَلِكَ التَّأْجِيلِ رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ بِتَمْكِينِ بَعْضِهِمْ مِنْ مُهْلَةِ التَّدَارُكِ وَإِعَادَةِ النَّظَرِ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاؤُهُمْ عَلَى حَالِهِمْ زَمَنًا. فَوَصْفُ ذُو الرَّحْمَةِ يُسَاوِي وَصْفَ (الرَّحِيمِ) لِأَن (ذُو) تَقْتَضِي رُسُوخُ النِّسْبَةِ بَيْنَ مَوْصُوفِهَا وَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ وَصْفِ (الرَّحِيمِ) إِلَى ذُو الرَّحْمَةِ لِلتَّنْبِيهِ على أَنه خبر لَا نَعْتَ تَنْبِيهًا بِطَرِيقَةِ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّ اسْمَ (الرَّحِيمِ) صَارَ شَبِيهًا بِالْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ، لِأَنَّهُ صِيغَ بِصِيغَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَبَعُدَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الِاشْتِقَاقِ فِيهِ وَاقْتَرَبَ مِنْ صِنْفِ الصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ. وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ. عَنْ مَضْمُونِ جَوَابِ (لَوْ) ، أَيْ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ إِذْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لِلْعَذَابِ مُتَأَخِّرٌ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمَوْئِلُ: مَفْعِلٌ مِنْ وَأَلَ بِمَعْنَى لَجَأَ، فَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ. وَأَكَّدَ النَّفْيَ بِ (لَنْ) رَدًّا عَلَى إِنْكَارِهِمْ، إِذْ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُفْلِتُونَ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، أَيْ لِأَنْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ دُونَ وَقْتِ وَعْدِهِ أَوْ مَكَانِ وَعْدِهِ، فَهُوَ مَلْجَؤُهُمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَيْ هُمْ غَيْرُ مفلتين مِنْهُ.

[سورة الكهف (18) : آية 59]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 59] وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) بَعْدَ أَنْ أُزِيلَ غُرُورُهُمْ بِتَأَخُّرِ الْعَذَاب، وأبطل ظنهم الْإِفْلَاتُ مِنْهُ بِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ إِمْهَالٌ مِنْ أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ فِي ذَلِكَ بِحَالِ أَهْلِ الْقُرَى السَّالِفِينَ الَّذِينَ أَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ مُدَّةً ثُمَّ لَمْ يَنْجُوا مِنْهُ بِأَخَرَةٍ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ [الْكَهْف: 58] . وَالْإِشَارَةُ بِ «تِلْكَ» إِلَى مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ، وَكَافُ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لَا يُرَاد بِهِ مُخَاطَبٌ وَلَكِنَّهَا مِنْ تَمَامِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَتَجْرِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ حَالَ الْمُخَاطَبِ بِالْإِشَارَةِ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْعَرَبُ يَعْرِفُونَ دِيَارَ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَدْيَنَ وَيَسْمَعُونَ بِقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ فَكَانَتْ كَالْحَاضِرَةِ حِينَ الْإِشَارَةِ. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ. وَالْمُهْلَكُ- بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ- مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ «أَهْلَكَ» ، أَيْ جَعَلْنَا لِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ وَقْتًا مُعَيَّنًا فِي عِلْمِنَا إِذَا جَاءَ حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ. هَذِه قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ عَلَى وَزْنِ مَفْعِلٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ ميمي لهلك. [60] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَأَمْرِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَمَا عَرَضَ لِلشَّيْطَانِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاعْتِزَازِ بِعُنْصُرِهِ جَهْلًا بِأَسْبَابِ الْفَضَائِلِ وَمُكَابَرَةً فِي الِاعْتِرَافِ بِهَا وَحَسَدًا فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، فَضَرَبَ بِذَلِكَ مَثَلًا لِأَهْلِ الضَّلَالِ عَبِيدِ الْهَوَى

وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ، أَعْقَبَ تِلْكَ الْقِصَّةَ بِقِصَّةٍ هِيَ مَثَلٌ فِي ضِدِّهَا لِأَنَّ تَطَلُّبَ ذِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لِلِازْدِيَادِ مِنْهُمَا وَسَعْيَهُ لِلظَّفَرِ بِمَنْ يُبْلِغُهُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْكَمَالِ، اعْتِرَافًا لِلْفَاضِلِ بِفَضِيلَتِهِ. وَفِي ذَلِكَ إِبْدَاءُ الْمُقَابَلَةِ بَين الخلقين وَإِقَامَة الْحُجَّةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَتَرْبِيَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مَا سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ أَمْلَوْا عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قِصَّتَيْنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقَدْ تَقَضَّى الْجَوَابُ عَنِ الْقِصَّةِ الْأَوْلَى وَمَا ذُيِّلَتْ بِهِ، وَآنَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ فَتُخْتَمَ بِذَلِكَ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ لِبَيَانِ الْقِصَّتَيْنِ. قُدِّمَتْ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ قِصَّةٌ لَهَا شَبَهٌ بِهَا فِي أَنَّهَا تَطْوَافٌ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ نَفْعٍ صَالِحٍ، وَهِيَ قِصَّةُ سَفَرِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِطَلَبِ لِقَاءِ مَنْ هُوَ عَلَى عِلْمٍ لَا يَعْلَمُهُ مُوسَى. وَفِي سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَدُلُّوا النَّاسَ عَلَى أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ إِسْرَائِيلَ وَعَلَى سَفَرٍ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لَا سَفَرٍ لِأَجْلِ بَسْطِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ. فَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ مُوسى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [الْكَهْف: 50] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ، أَيِ اذْكُرْ ذَلِكَ الزَّمَنَ وَمَا جَرَى فِيهِ. وَنَاسَبَهَا تَقْدِيرُ فِعْلِ «اذْكُرْ» لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى كَمَا فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ. فَانْتُصِبَ (إِذْ) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. وَالْفَتَى: الذَّكَرُ الشَّابُّ، وَالْأُنْثَى فَتَاةٌ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّابِعِ وَالْخَادِمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُراوِدُ فَتاها فِي سُورَةِ يُوسُفَ [30] . وَفَتَى مُوسَى: خَادِمُهُ وَتَابِعُهُ، فَإِضَافَةُ الْفَتَى إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، كَمَا يُقَالُ: غُلَامُهُ. وَفَتَى مُوسَى هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ

أَفْرَايمَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى، كَانَ اسْمُهُ الْأَصْلِيُّ هُوشَعُ فَدَعَاهُ مُوسَى حِينَ بَعَثَهُ لِلتَّجَسُّسِ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ يُوشَعَ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ التَّغَيُّرَ فِي الِاسْمِ تَلَطُّفٌ بِهِ، كَمَا قَالَ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِأَبِي هُرَيْرَةَ يَا أَبَا هِرٍّ . وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ اسْمُهُ أَبْرَامَ فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِخِصَالِ الْفِطْرَةِ دَعَاهُ إِبْرَاهَامَ. وَلَعَلَّ هَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ تُفِيدُ مَعَانِيَ غَيْرَ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْأُولَى فَتَكُونُ كَمَا دَعَا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم زيدَ الْخَيْلِ زَيْدَ الْخَيْرِ. وَيُوشَعُ أَحَدُ الرِّجَالِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَتَجَسَّسُوا فِي أَرْضِ كَنْعَانَ فِي جِهَاتِ حَلَبَ وَحَبْرُونَ وَيَخْتَبِرُوا بَأْسَ أَهْلِهَا وَخَيْرَاتِ أَرْضِهَا وَمَكَثُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي التَّجَسُّسِ. وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ شَجَّعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقُرْآنُ فِي آيَةِ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [الْمَائِدَة: 23] . كَانَ مِيلَادُ يُوشَعَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1463 قَبْلَ الْمَسِيحِ وَوَفَاتُهُ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1353 وَعَمَّرَ مِائَةً وَعَشْرَ سِنِينَ، وَكَانَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ قَرَّبَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَاتَّخَذَهُ تِلْمِيذًا وَخَادِمًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الِاتِّخَاذِ يُوصَفُ صَاحِبُهُ بِمِثْلِ فَتًى أَوْ غُلَامٍ. وَمِنْهُ وَصْفُهُمُ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمُطَرِّزَ النَّحْوِيَّ اللُّغَوِيَّ غُلَامَ ثَعْلَبٍ، لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ يحيى الشَّيْبَانِيّ المقلب بِثَعْلَبٍ. وَكَانَ يُوشَعُ أحد الرجلَيْن اللَّذين عَهِدَ إِلَيْهِمَا مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنْ يُقَسِّمَا الْأَرْضَ بَيْنَ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِأَنْ يَعْهَدَ إِلَى يُوشَعَ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَعَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى بِذَلِكَ فَصَارَ نَبِيئًا مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَدَبَّرَ أَمْرَ الْأُمَّةِ بَعْدَ مُوسَى سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَكِتَابُ يُوشَعَ هُوَ أَوَّلُ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَابْتُدِئَتِ الْقِصَّةُ بِحِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمُقْتَضِي تَصْمِيمًا عَلَى أَنْ لَا يَزُولَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، أَيْ لَا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ،

ابْتِدَاءً عَجِيبًا فِي بَابِ الْإِيجَازِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَمَلٍ نِهَايَتُهُ الْبُلُوغُ إِلَى مَكَانٍ، فَعُلِمَ أَن ذَلِك الْعلم هُوَ سَيْرُ سَفَرٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَتَاهُ اسْتَعْظَمَ هَذِهِ الرِّحْلَةَ وَخَشِيَ أَنْ تَنَالَهُمَا فِيهَا مَشَقَّةٌ تَعُوقُهُمَا عَنْ إِتْمَامِهَا، أَوْ هُوَ بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا رِحْلَةٌ بَعِيدَةٌ، وَذَلِكَ شَأْنُ أَسْبَابِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَسِيرُ إِلَيْهِ مَكَانٌ يَجِدُ عِنْدَهُ مَطْلَبَهُ. وأَبْرَحَ مُضَارِعُ بَرِحَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى زَالَ يَزُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَاسْتُعِيرَ لَا أَبْرَحُ لِمَعْنَى: لَا أَتْرُكُ، أَوْ لَا أَكُفُّ عَنِ السَّيْرِ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعُ بَرِحَ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ نَاقِصٌ لَا يُسْتَعْمَلُ نَاقِصًا إِلَّا مَعَ النَّفْيِ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا بِقَرِينَةِ الْكَلَامِ، أَيْ لَا أَبْرَحُ سَائِرًا. وَعَنِ الرَّضِيِّ أَنَّ حَذْفَ خَبَرِهَا قَلِيلٌ. وَحَذْفُ ذِكْرِ الْغَرَضِ الَّذِي سَارَ لِأَجْلِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ سَيُذْكَرُ بَعْدُ، وَهُوَ حَذْفُ إِيجَازٍ وَتَشْوِيقٍ، لَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ، لِإِخْرَاجِهَا عَنْ مَطْرُوقِ الْقِصَصِ إِلَى أُسْلُوبِ بَدِيعِ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ قَضَاءً لِحَقِّ بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَارِدٌ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ: «عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَيَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: أَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلَمًا أُعَلِّمُ ذَلِكَ بِهِ. قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ مَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ وَقَالَ لِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، قَالَ (أَيْ فَتَاهُ) : مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا. ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَة وضعا رؤوسهما فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ

فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهُ (وَكَانَ لَمْ يَنَمْ) : لَا أُوقِظُهُ وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ (مُوسَى) نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا. قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ (أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ مُيَسِّرٌ أَسْبَابَ الِامْتِثَالِ لِأَوْلِيَائِهِ: فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا. قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا. فَقَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثارهما حَتَّى انتهيا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ ... الْحَدِيثَ. قَوْلُهُ: «وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ» اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ، وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخَضِرُ يَظُنُّ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَا يُوجَدُ بِهِ قَوْمٌ تَحِيَّتُهُمُ السَّلَامُ، إِمَّا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ خَلَاءً وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَأْهُولًا بِأُمَّةٍ لَيْسَتْ تَحِيَّتُهُمُ السَّلَامَ. وَإِنَّمَا أَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ لِيَكُونَ آيَةً مَشْهُودَةً لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَتَاهُ زِيَادَةً فِي أَسْبَابِ قُوَّةِ يَقِينِهِمَا، وَلِأَنَّ الْمَكَانَ لَمَّا كَانَ ظَرْفًا لِظُهُورِ مُعْجِزَاتِ عِلْمِ النُّبُوءَةِ نَاسَبَ أَنْ يُحَفَّ بِهِ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ إِكْرَامًا لِنُزَلَاءِ ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَمَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّهُ مَكَانٌ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَصَبُّ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَإِنَّهُ النَّهْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَمُرُّ بِجَانِبِ الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمُهُ. وَكَانَتْ تُسَمَّى عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بَحْرَ الْجَلِيلِ، فَإِنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَلَغَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَسِيرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ رَاجِلًا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَكَانًا بَعِيدًا جِدًّا. وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَجَعَلَهُ مِيقَاتًا لَهُ.

وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا الْعَبْدِ أَعْلَمَ مِنْ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يَعْلَمُ عُلُومًا مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ لَمْ يُعَلِّمْهَا اللَّهُ لِمُوسَى. فَالتَّفَاوُتُ فِي الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوُتٌ بِفُنُونِ الْعُلُومِ، وَهُوَ تَفَاوُتٌ نِسْبِيٌّ. وَالْخَضِرُ: اسْمُ رَجُلٍ صَالِحٍ. قِيلَ: هُوَ نَبِيءٌ مِنْ أَحْفَادِ عَابِرَ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ. فَهُوَ الْخَضِرُ بْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ، فَيَكُونُ ابْنَ عَمِّ الْجَدِّ الثَّانِي لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقِيلَ: الْخَضِرُ لَقَبُهُ. وَأَمَّا اسْمُهُ فَهُوَ (بَلْيَا) بِمُوَحَّدَةٍ أَوْ إِيلْيَا بِهَمْزَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ. وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا اخْتِلَافًا لَمْ يُبْنَ عَلَى أَدِلَّةٍ مَقْبُولَةٍ مُتَعَارَفَةٍ وَلَكِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَقْوَالِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ، وَهِيَ لَا يَنْبَغِي اعْتِمَادُهَا لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ مِنَ الرُّمُوزِ وَالْخَلْطِ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، وَالْمُشَاهَدَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْكَشْفِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلُوهُ رَمْزَ الْعُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْخَضِرَ هُوَ جِرْجِسْ: وَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عِيسُو بْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: هُوَ نَبِيءٌ بُعِثَ بَعْدَ شُعَيْبٍ. وجرجس الْمَعْنَى هُوَ الْمَعْرُوف باسم مار جرجس. وَالْعرب يسمونه: مار سرجس كَمَا فِي «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» . وَهُوَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ وُلِدَ فِي الرَّمْلَةِ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ مِنَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 303 وَهُوَ مِنَ الشُّهَدَاءِ. وَهَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَالْخَضِرُ لَقَبٌ لَهُ، أَيِ الْمَوْصُوفُ بِالْخُضْرَةِ، وَهِيَ رَمْزُ الْبَرَكَةِ، قِيلَ: لُقِّبَ خَضِرًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ، أَيِ اخْضَرَّ بِالنَّبَاتِ مِنْ أَثَرِ بَرَكَتِهِ. وَفِي «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ» ذُكِرَتْ تَخَرُّصَاتٌ تُلْصِقُ قِصَّةَ الْخَضِرِ بِقِصَصٍ بَعْضُهَا فَارِسِيَّةٌ وَبَعْضُهَا رُومَانِيَّةٌ وَمَا رَائِدُهُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّشَابُهِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْقِصَصِ، وَذَلِكَ التَّشَابُهُ لَا تَخْلُو عَنْهُ الْأَسَاطِيرُ وَالْقِصَصُ فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ الْأَوْهَامِ وَرَاءَ أَمْثَالِهَا.

وَالْمُحَقَّقُ أَنَّ قِصَّةَ الْخَضِرِ وَمُوسَى يَهُودِيَّةُ الْأَصْلِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَسْطُورَةٍ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ هُوَ الَّذِي أَقْدَمَ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ عَلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ غَيْرُ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَذَّبَ نَوْفًا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ. وَقَدْ كَانَ سَبَبُ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ سُؤَالَ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ مَنْ لَقَّنَهُمُ الْيَهُودُ إِلْقَاءَ السُّؤَالِ فِيهَا على الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 85] . وَاخْتَلَفَ الْيَهُودُ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ الرَّسُولُ وَأَنَّ فَتَاهُ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَقِيلَ: نَعَمْ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ مِيشَا (أَوْ مِنْسَهْ) ابْن يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْخَضِرَ لَقِي النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَعُدَّ مِنْ صَحَابَتِهِ. وَذَلِكَ تَوَهُّمٌ وَتَتَبُّعٌ لِخَيَالِ الْقَصَّاصِينَ. وَسُمِّيَ الْخَضِرُ بَلْيَا بْنَ مِلْكَانْ- أَوْ إِيلْيَا- أَوْ إِلْيَاسَ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخَضِرَ هُوَ إِلْيَاسُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ يس. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَيُقِرُّهُ مُوسَى عَلَى أَفْعَالٍ لَا تُبِيحُهَا شَرِيعَتُهُ. بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ نَبِيئًا مُوحًى إِلَيْهِ بِوَحْيٍ خَاصٍّ، وَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ مِنْ أُمَّةٍ غَيْرُ مَبْعُوثٍ مُوسَى إِلَيْهَا. وَلَمَّا عَلِمَ مُوسَى ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. كَمَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُ مَا رَأَى مِنْ أَعْمَالِهِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ أُخْرَى أُمَّةً وَحْدَهُ. وَأَمَّا وُجُودُهُ فِي أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهُوَ مِنَ السِّيَاحَةِ فِي الْعِبَادَةِ، أَوْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَحْضُرَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَدَّرَهُ لِلِقَاءِ مُوسَى رِفْقًا بِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

[سورة الكهف (18) : الآيات 61 إلى 63]

وَمَعْنَى أَوْ أَمْضِيَ أَوْ أَسِيرَ. وَالْمُضِيُّ: الذَّهَابُ وَالسَّيْرُ. وَالْحُقُبُ- بِضَمَّتَيْنِ- اسْمُ لِلزَّمَانِ الطَّوِيلِ غَيْرُ مُنْحَصِرِ الْمِقْدَارِ، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ. وَعُطِفَ أَمْضِيَ عَلَى أَبْلُغَ بِ (أَوْ) فَصَارَ الْمَعْطُوفُ إِحْدَى غَايَتَيْنِ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ السَّيْرِ، أَيْ إِمَّا أَنْ أَبْلُغَ الْمَكَانَ أَوْ أَمْضِيَ زَمَنًا طَوِيلًا. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى لَا يُخَامِرُهُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ مَكَانٍ هُوَ مجمع للبحرين وَالْفَاء طِلْبَتِهِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِحَرْفِ التَّرْدِيدِ تَأْكِيدَ مُضِيِّهِ زَمَنًا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. فَالْمَعْنَى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ بِسَيْرٍ قَرِيبٍ أَوْ أَسِيرُ أَزْمَانًا طَوِيلَةً فَإِنِّي بَالِغٌ مجمع الْبَحْرين لَا محَالة، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا تَأْيِيسَ فَتَاهُ مِنْ مُحَاوَلَةِ رُجُوعِهِمَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً [الْكَهْف: 62] . أَوْ أَرَادَ شَحْذَ عَزِيمَةِ فَتَاهُ لِيُسَاوِيَهُ فِي صِحَّةِ الْعَزْمِ حَتَّى يَكُونَا عَلَى عزم مُتحد. [61- 63] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 61 إِلَى 63] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالْفَصِيحَةُ لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَضَمِيرُ بَيْنِهِما عَائِدٌ إِلَى الْبَحْرِينِ، أَيْ مَحَلًّا يَجْمَعُ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ. وَأُضِيفَ (مَجْمَعُ) إِلَى (بَيْنَ) عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، فَإِنَّ (بَيْنَ) اسْمٌ لِمَكَانٍ

مُتَوَسِّطِ شَيْئَيْنِ، وَشَأْنُهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ مَكَانٍ مُتَوَسِّطٍ إِمَّا بِالْإِضَافَةِ كَمَا هُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [الْمَائِدَة: 106] ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى مَعْمُولِهِ أَوْ بِدُونِ إِضَافَةٍ تَوَسُّعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 94] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ. وَالْحُوتُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِاسْتِصْحَابِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَلَامَةً عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الحَدِيث. وَالنِّسْيَان تقدم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ نُنْسِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [106] . وَمَعْنَى نِسْيَانِهِمَا أَنَّهُمَا نَسِيَا أَنْ يُرَاقِبَا حَالَهُ أَبَاقٍ هُوَ فِي مِكْتَلِهِ حِينَئِذٍ حَتَّى إِذَا فَقَدَاهُ فِي مَقَامِهِمَا ذَلِكَ تَحَقَّقَا أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فقداه فِيهِ هُوَ الْموضع الْمُؤَقت لَهُمَا بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ فَلَا يَزِيدَا تَعَبًا فِي الْمَشْيِ، فَإِسْنَادُ النِّسْيَانِ إِلَيْهِمَا حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ يُوشَعَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوكَلُ بِحِفْظِ الْحُوتِ فَكَانَ عَلَيْهِ مُرَاقَبَتُهُ إِلَّا أَنَّ مُوسَى هُوَ الْقَاصِدُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَكَانَ يَهُمُّهُ تَعَهُّدُهُ وَمُرَاقَبَتُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْعَمَلِ أَوِ الْحَاجَةِ إِذَا وَكَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ تَعَهُّدِهِ. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَامَ وَبَقِيَ فَتَاهُ يَقْظَانَ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ. وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ. وَالِاتِّخَاذُ: الْجَعْلُ. وَقَدِ انْتَصَبَ سَرَباً عَلَى الْحَالِ مِنْ سَبِيلَهُ مُرَادًا بِالْحَالِ التَّشْبِيهُ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ الْمِسْكُ مِنْهُمَا ... نَسِيمَ الصِّبَا جَاءَتْ بِرِيَّا الْقَرَنْفُلِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ كَيْفَ اتَّخَذَ الْبَحْرَ سَرَبًا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ جاوَزا لِلْعِلْمِ، أَيْ جَاوَزَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَالْغَدَاءُ: طَعَامُ النَّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ الْغُدْوَةِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي وَقْتِ الْغُدْوَةِ، وَضِدُّهُ الْعَشَاءُ، وَهُوَ طَعَامُ الْعَشِيِّ. وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ.

وَالصَّخْرَةُ: صَخْرَةٌ مَعْهُودَةٌ لَهُمَا، إِذْ كَانَا قَدْ أَوَيَا إِلَيْهَا فِي سَيْرِهِمَا فَجَلَسَا عَلَيْهَا، وَكَانَتْ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قِيلَ: إِنَّ مَوْضِعَهَا دُونَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الزَّيْتِ، لِكَثْرَةِ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ. وَقَوْلُهُ: نَسِيتُ الْحُوتَ أَيْ نَسِيتُ حِفْظَهُ وافتقاده، أَي فانفلت فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. هَذَا نِسْيَانٌ آخَرُ غَيْرُ النِّسْيَانِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا نِسْيَانُ ذِكْرِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَما أَنْسانِيهُ- بِضَمِّ هَاءِ- الضَّمِيرِ عَلَى أَصْلِ الضَّمِيرِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ لِأَنَّ حَرَكَةَ الْكَسْرَةِ بَعْدَ الْيَاءِ أَخَفُّ. وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ أَنْسانِيهُ لَا مِنَ الْحُوتِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَنْسَانِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ إِلَّا الشَّيْطَانُ. فَالذِّكْرُ هُنَا ذِكْرُ اللِّسَانِ. وَوَجْهُ حَصْرِهِ إِسْنَادَ هَذَا الْإِنْسَاءِ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِسْيَانِ أَنْ يُخْبِرَ مُوسَى بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ نِسْيَانٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ مَعَ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ الْمَنْسِيِّ وَشِدَّةِ عنايته بِإِخْبَار نبيئه بِهِ. وَمَعَ كَوْنِ الْمَنْسِيِّ أُعْجُوبَةً شَأْنُهَا أَنْ لَا تُنْسَى يَتَعَيَّنُ أَن الشَّيْطَان ألهاه بأَشْيَاء عَن أَن يتَذَكَّر ذَلِك الْحَادِث العجيب وَعلم يُوشَع أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسُوءُهُ الْتِقَاءُ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ الصَّالِحَيْنِ، وَمَا لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي بَثِّ الْعُلُومِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْهَا وَلَوْ بِتَأْخِيرِ وُقُوعِهَا طَمَعًا فِي حُدُوثِ الْعَوَائِقِ. وَجُمْلَةُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَهِيَ بَقِيَّةُ كَلَامِ فَتَى مُوسَى، أَيْ وَأَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ، أَيْ سَبَحَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيِّتًا زَمَنًا طَوِيلًا. وَقَوْلُهُ: عَجَباً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهِيَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْفَتَى، أَيْ أَعْجَبُ لَهُ عَجَبًا، فَانْتَصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا من فعله.

[سورة الكهف (18) : الآيات 64 إلى 70]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 64 إِلَى 70] قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) قالَ ذلِكَ إِلَخْ.. جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الْفَتَى مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ الْمُبْتَغَى أَنَّهُ وَسِيلَةُ الْمُبْتَغَى. وَإِنَّمَا الْمُبْتَغَى هُوَ لِقَاءُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُفْقَدُ فِيهِ الْحُوتُ. وَكُتِبَ نَبْغِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ، فَقِيلَ: أَرَادَ الْكَاتِبُونَ مُرَاعَاةَ حَالَةِ الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْأَحْسَنَ فِي الْوَقْفِ عَلَى يَاءِ الْمَنْقُوصِ أَنْ يُوقَفَ بِحَذْفِهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ مَحْذُوفَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْعَرَبُ يَمِيلُونَ إِلَى التَّخْفِيفِ. فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِحَذْفِ الْيَاءِ- فِي الْوَقْفِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَالنُّونُ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ، أَيْ مَا أَبْغِيهِ أَنَا وَأَنْتَ، وَكِلَاهُمَا يَبْغِي مُلَاقَاةَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ. وَالِارْتِدَادُ: مُطَاوِعُ الرَّدِّ كَأَنَّ رَادًّا رَدَّهُمَا. وَإِنَّمَا رَدَّتْهُمَا إِرَادَتُهُمَا، أَيْ رَجَعَا عَلَى آثَارِ سَيْرِهِمَا، أَيْ رَجَعَا عَلَى طَرِيقِهِمَا الَّذِي أَتَيَا مِنْهُ.

وَالْقَصَصُ: مَصْدَرُ قَصَّ الْأَثَرَ، إِذَا تَوَخَّى مُتَابَعَتَهُ كَيْلَا يُخْطِئَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ. وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ: الْخَضِرُ، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1] . وَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى التَّنْكِيرِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مَا يَقْتَضِي تَعْرِيفَهُ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ الْغَرِيبَ الْعَظِيمَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ أَحْوَالِ عِبَادٍ كَثِيرِينَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ. وَإِيتَاءُ الرَّحْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَ مَرْحُومًا، وَذَلِكَ بِأَنْ رَفَقَ اللَّهُ بِهِ فِي أَحْوَالِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلْنَاهُ سَبَبَ رَحْمَةٍ بِأَنْ صَرَّفَهُ تَصَرُّفًا يَجْلِبُ الرَّحْمَةَ الْعَامَّةَ. وَالْعِلْمُ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ: هُوَ الْإِعْلَامُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَ (عِنْدَ) وَ (لَدُنْ) كِلَاهُمَا حَقِيقَتُهُ اسْمُ مَكَانٍ قَرِيبٍ. وَيُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِمَوْصُوفِهِمَا. وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً صَدَرَتْ مِنْ مَكَانِ الْقُرْبِ، أَيِ الشَّرَفِ وَهُوَ قُرْبُ تَشْرِيفٍ بِالِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ، وَعِلْمًا صَدَرَ مِنْهُ أَيْضًا. وَذَلِكَ أَنَّ مَا أُوتِيهِ مِنَ الْوَلَايَةِ أَوِ النُّبُوءَةِ رَحْمَةٌ عَزِيزَةٌ، أَوْ مَا أُوتِيهِ مِنَ الْعِلْمِ عَزِيزٌ، فَكَأَنَّهُمَا مِمَّا يُدَّخَرُ عِنْدَ اللَّهِ فِي مَكَانِ الْقُرْبِ التَّشْرِيفِيِّ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُعْطَى إِلَّا لِلْمُصْطَفَيْنَ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ مِنْ عِنْدِنا وَبَيْنَ مِنْ لَدُنَّا لِلتَّفَنُّنِ تَفَادِيًا مِنْ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَجُمْلَة قالَ لَهُ مُوسى ابْتِدَاءُ مُحَاوَرَةٍ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) مُجَرَّدَةً عَنِ الْعَاطِفِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتَّبِعُكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَمَلِ نَفْسِ الْمُسْتَفْهِمِ. وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ فِي الْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النّجم: 28] .

وَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ. جُعِلَ الِاتِّبَاعُ كَأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فَوْقَ التَّعْلِيمِ لِشِدَّةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُمَا. فَصِيغَةُ: أَفْعَلُ كَذَا عَلَى كَذَا، مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ وَالتَّعَاقُدِ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ التَّعَاقُدِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا على النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَزَوَّجَهَا مَنْ رَغِبَ فِيهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَفِيهِ أَنَّهُ الْتِزَامٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَدْ تَفَرَّعَ عَنْ حُكْمِ لُزُومِ الِالْتِزَامِ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ يَقُومُ مَقَامَ الِاشْتِرَاطِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْتَصِبِ لِلتَّعْلِيمِ أَنْ يُعَامِلَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ أَقَالِيمِهِمْ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ فِي بَابِ صِفَةِ مَجْلِسِ مَالِكٍ لِلْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ الْمَدَارِكِ: أَنَّ رَجُلًا خُرَاسَانِيًّا جَاءَ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلسَّمَاعِ مِنْ مَالِكٍ فَوَجَدَ النَّاسَ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا يَسْمَعُونَ قِرَاءَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ فَأبى مَالك، فاستعدى الْخُرَاسَانِيُّ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ: جِئْتُ مِنْ خُرَاسَانَ وَنَحْنُ لَا نَرَى الْعَرْضَ وَأَبَى مَالِكٌ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْنَا. فَحَكَمَ الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ: أَنْ يَقْرَأَ لَهُ، فَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَأَصَابَ الْقَاضِي الْحَقَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَانْتَصَبَ رُشْداً عَلَى المفعولية ل تُعَلِّمَنِ أَيْ مَا بِهِ الرُّشْدُ، أَيِ الْخَيْرُ. وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي سَأَلَ مُوسَى تَعَلُّمَهُ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّشْرِيعِ لِلْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، فَإِنَّ مُوسَى مُسْتَغْنٍ فِي عِلْمِ التَّشْرِيعِ عَنِ الِازْدِيَادِ إِلَّا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً، لِأَنَّهُ لِذَلِكَ أَرْسَلَهُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الرِّسَالَةُ عِلْمَهُ. وَقَدْ قَالَ النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فِي قِصَّةِ الَّذين وجدهم يؤبّرون النَّخْلَ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» . وَرَجَعَ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى قَوْلِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ فِي أَنَّ الْمَنْزِلَ الَّذِي نَزَلَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ الْأَلْيَقَ بِالْحَرْبِ.

وَإِنَّمَا رَامَ مُوسَى أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْخَضِرَ لِأَنَّ الِازْدِيَادَ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ هُوَ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَعْلِيمًا لِنَبِيِّهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيهِ الْخَضِرُ هُوَ عِلْمُ سِيَاسَةٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ عَامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنِينَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِحَسَبِ مَا تُهَيِّئُهُ الْحَوَادِثُ وَالْأَكْوَانُ لَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ. فَلَعَلَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ لِنَفْعِ مُعَيَّنِينَ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا جعل مُحَمَّدًا صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم رَحْمَةً عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَمِنْ هُنَا فَارَقَ سِيَاسَةَ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ. وَنَظِيرُهُ معرفَة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَحْوَالَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَحَقُّقُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ دَوْمًا إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَحَقُّقُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ بِإِخْبَار النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم إِيَّاهُ بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُشْداً- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُون الشين-. وقرأه أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ- مِثْلَ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَكَّدَ جُمْلَةَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً بِحَرْفِ (إِنَّ) وَبِحَرْفِ (لَنْ) تَحْقِيقًا لِمَضْمُونِهَا مِنْ تَوَقُّعِ ضِيقِ ذَرْعِ مُوسَى عَنْ قَبُولِ مَا يُبْدِيهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ تَصْدُرُ مِنْهُ أَفْعَالٌ ظَاهِرُهَا الْمُنْكَرُ وَبَاطِنُهَا الْمَعْرُوفُ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أقامهم الله لإجرء الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُنْكِرُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشْرَبَيْنِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُقِرُّونَ الْمُنْكَرَ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْهُ لِمُوسَى وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْهُ حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ إِنْ شَاءَ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَلَى غَيْرِ اغْتِرَارٍ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ. فَمَنَاطُ التَّأْكِيدَاتِ فِي جُمْلَةِ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ خُطُورَةِ أَعْمَالِهِ وَغَرَابَتِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ بِحَيْثُ لَا تُتَحَمَّلُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى أَصْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ فِيهِ الْمُرَاجَعَةَ وَلَمْ يُجِبْهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً.

وَفِي هَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ التَّعْلِيمِ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُعَلِّمُ الْمُتَعَلِّمَ بِعَوَارِضِ مَوْضُوعَاتِ الْعُلُوم الملقنة لَا سِيمَا إِذَا كَانَتْ فِي مُعَالَجَتِهَا مَشَقَّةٌ. وَزَادَهَا تَأْكِيدًا عُمُومُ الصَّبْرِ الْمَنْفِيِّ لِوُقُوعِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ اسْتِطَاعَتُهُ الصَّبْرُ الْمُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ تَجَشَّمَ أَنْ يَصْبِرَ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ، فَأَفَادَ هَذَا التَّرْكِيبُ نَفْيَ حُصُولِ الصَّبْرِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى آكَدِ وَجْهٍ. وَزِيَادَةُ مَعِيَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِدُ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا لَا يَجِدُ مِثْلَهُ مَعَ غَيْرِهِ فَانْتِفَاءُ الصَّبْرِ عَلَى أَعْمَالِهِ أَجْدَرُ. وَجُمْلَةُ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ (إِنَّ) أَوْ مِنْ ضَمِيرِ تَسْتَطِيعَ، فَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَلَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ شَأْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا تُعْطَفَ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا كَمَالَ الِاتِّصَالِ إِذِ الثَّانِيَةُ كَالْعِلَّةِ لِلْأُولَى. وَإِنَّمَا أُوثِرَ مَجِيئُهَا فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، دُونَ أَنْ تُفْصَلَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَتَقَعَ عِلَّةً مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الْمُرَادُ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا عِلَّةٌ مُلَازِمَةٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ هِيَ حَالٌ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وَ (كَيْفَ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ وَأَنْتَ لَا تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تَحُطْ بِهِ خُبْرًا. وَالْخُبْرُ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ-: الْعِلْمُ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْإِحَاطَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، أَيْ إِحَاطَةً مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ. وَالْإِحَاطَةُ: مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا لِقُوَّةِ تَمَكُّنِ الِاتِّصَافِ بِتَمَكُّنِ الْجِسْمِ الْمُحِيطِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أَبْلَغُ فِي ثُبُوتِ الصَّبْرِ مِنْ نَحْوِ: سَأَصْبِرُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ صَبْرٍ ظَاهِرٍ لِرَفِيقِهِ وَمَتْبُوعِهِ. وَظَاهِرٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ هُنَا هُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ الْجَزَعَ أَوِ الضَّجَرَ مِنْ تَعَبٍ فِي

الْمُتَابَعَةِ، وَمِنْ مُشَاهَدَةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ إِدْرَاكُهُ، وَمِنْ تَرَقُّبِ بَيَانِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْمَقَاصِدِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الصَّبْرُ الْكَامِلُ يَقْتَضِي طَاعَةَ الْآمِرِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُفِيدُ الطَّاعَةَ إِبْلَاغًا فِي الِاتِّسَامِ بِأَكْمَلِ أَحْوَالِ طَالِبِ الْعِلْمِ. فَجُمْلَةُ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ سَتَجِدُنِي، أَوْ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ عَطْفًا على صابِراً فيؤوّل بِمَصْدَرٍ، أَيْ وَغَيْرَ عَاصٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهَمَّ مَا يَتَّسِمُ بِهِ طَالِبُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّبْرُ وَالطَّاعَةُ لِلْمُعَلِّمِ. وَفِي تَأْكِيدِهِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ- اسْتِعَانَةً بِهِ وَحِرْصًا عَلَى تَقَدُّمِ التَّيْسِيرِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ- إِيذَانٌ بِأَنَّ الصَّبْرَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَعْسَرُ مِنْ صَبْرِ وَطَاعَةِ الْمُتَعَلِّمِ السَّاذِجِ، لِأَنَّ خُلُوَّ ذِهْنِهِ مِنَ الْعلم لَا يحرجه مِنْ مُشَاهَدَةِ الْغَرَائِبِ، إِذْ لَيْسَ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْمَعَارِفِ مَا يُعَارِضُ قَبُولَهَا، فَالْمُتَعَلِّمُ الَّذِي لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَجَاءَ طَالِبًا الْكَمَالَ فِي عُلُومِهِ إِذَا بَدَا لَهُ مِنْ عُلُومِ أُسْتَاذِهِ مَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِهِ يُبَادِرُ إِلَى الِاعْتِرَاضِ وَالْمُنَازَعَةِ. وَذَلِكَ قَدْ يُثِيرُ النَّفْرَةَ بَينه وَبَين أستاذ، فَلِتَجَنُّبِ ذَلِكَ خَشِيَ الْخَضِرُ أَنْ يَلْقَى مِنْ مُوسَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، فَأَكَّدَ لَهُ مُوسَى أَنَّهُ يَصْبِرُ وَيُطِيعُ أَمْرَهُ إِذَا أَمَرَهُ. وَالْتِزَامُ مُوسَى ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثِقَتِهِ بِعِصْمَةِ مَتْبُوعِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ آتَاهُ علما. وَالتَّاء فِي قَوْلِهِ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي تَفْرِيعٌ عَلَى وَعْدِ مُوسَى إِيَّاهُ بِأَنَّهُ يَجِدُهُ صَابِرًا، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ أَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ الْمُعَلِّمِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ قَدْ يُصَادِفُ وَقْتَ اشْتِغَالِ الْمَسْئُولِ بِإِكْمَالِ عَمَلِهِ فَتَضِيقُ لَهُ نَفْسُهُ،

[سورة الكهف (18) : آية 71]

فَرُبَّمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِدُونِ شَرَهِ نَفْسٍ، وَرُبَّمَا خَالَطَهُ بَعْضُ الْقَلَقِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ غَيْرَ شَافٍ، فَأَرَادَ الْخَضِرُ أَنْ يَتَوَلَّى هُوَ بَيَانَ أَعْمَالِهِ فِي الْإِبَّانِ الَّذِي يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِيَكُونَ الْبَيَانُ أَبْسَطَ وَالْإِقْبَالُ أَبْهَجَ فَيَزِيدُ الِاتِّصَالَ بَيْنَ الْقَرِينَيْنِ. وَالذِّكْرُ، هُنَا: ذِكْرُ اللِّسَانِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [40] . أَعْنِي بَيَانَ الْعِلَلِ وَالتَّوْجِيهَاتِ وَكَشْفَ الْغَوَامِضِ. وَإِحْدَاثُ الذِّكْرِ: إِنْشَاؤُهُ وَإِبْرَازُهُ، كَقَوْلِ ذِي الرمة: أحدتنا لِخَالِقِهَا شُكْرَا وَقَرَأَ نَافِع فَلا تَسْئَلْنِي- بِالْهَمْزِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ سَأَلَ الْمَهْمُوزِ مُقْتَرِنًا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ الْمُدْغَمَةِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَبِإِثْبَاتِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مِثْلَهُ، لَكِنْ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّة تَسْئَلْنِي- بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ-. وَأَثْبَتُوا يَاء الْمُتَكَلّم. [71] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 71] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) أَيْ فَعَقَّبَ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةَ أَنَّهُمَا انْطَلَقَا. وَالِانْطِلَاقُ: الذَّهَابُ وَالْمَشْيُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ ضِدُّ التَّقْيِيدِ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ إِذَا حُلَّ عِقَالُهَا مَشَتْ. فَأَصْلُهُ مُطَاوِعُ أَطْلَقَهُ. وَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِلِانْطِلَاقِ. أَيْ إِلَى أَنْ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ. وَ (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ. أَصْلُ الْكَلَامِ: حَتَّى اسْتَأْجَرَا سَفِينَةً فَرَكِبَاهَا فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا.

وَتَعْرِيفُ السَّفِينَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، مِثْلُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُف: 13] . وإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي هُنَا، وَلَيْسَتْ مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ. وَهَذَا التَّوْقِيتُ يُؤْذِنُ بِأَخْذِهِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ حِينَ رُكُوبِهِمَا. وَفِي ذَلِكَ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الرُّكُوبَ فِيهَا كَانَ لِأَجْلِ خَرْقِهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَقْصُودَ يُبَادِرُ بِهِ قَاصِدُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ دَبَّرَهُ وَارْتَآهُ مِنْ قَبْلُ. وَبُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْخَرْقَ وَقَعَ بِمُجَرَّدِ الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ، لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ اهْتِمَامًا بِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرُّكُوبِ مَقْصُودٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهِ. وَضُمِّنَ الرُّكُوبُ مَعْنَى الدُّخُولِ لِأَنَّهُ رُكُوبٌ مَجَازِيٌّ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: 41] دُونَ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النَّحْل: 8] . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالْخَرْقُ: الثَّقْبُ وَالشَّقُّ، وَهُوَ ضِدُّ الِالْتِئَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَخَرَقْتَها لِلْإِنْكَارِ. وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ الْعِلَّةُ بِقَوْلِهِ: لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ أَنْ يُغَيِّرَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا الْمُنْكَرَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَتَأْكِيدُ إِنْكَارِهِ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. وَالْإِمْرُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-: هُوَ الْعَظِيمُ الْمُفْظِعُ. يُقَالُ: أَمِرَ كَفَرِحَ إِمْرًا، إِذَا كَثُرَ فِي نَوْعِهِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِالْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ دَالٌّ عَلَى شَيْءٍ ضَارٍّ. وَمَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مَقَامُ شِدَّةٍ وَصَرَاحَةٍ. وَلَمْ يَجْعَلْهُ نُكْرًا كَمَا فِي الْآيَةِ بعْدهَا لِأَن الْعلم الَّذِي عَمِلَهُ الْخَضِرُ ذَرِيعَةً لِلْغَرَقِ وَلَمْ يَقَعِ الْغَرَقُ بِالْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِتُغْرِقَ- بمثناة فوقية مَضْمُومَة- عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ لِيَغْرَقَ- بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ أَهْلُهَا عَلَى إِسْنَادِ فِعْلِ الْغَرق للأهل.

[سورة الكهف (18) : آية 72]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 72] قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَعْرِيضٌ بِاللَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ، أَيْ أَتُقِرُّ أَنِّي قُلْتُ إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ مَعِي صَبْرًا. ومَعِيَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ تَسْتَطِيعَ، فَاسْتِطَاعَةُ الصَّبْرِ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي صُحْبَتِهِ لِأَنَّهُ يَرَى أُمُورًا عَجِيبَةً لَا يُدْرِكُ تَأْوِيلَهَا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْقَوْلِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ أَلَمْ يَقَعْ مِنِّي قَوْلٌ فِيهِ خِطَابُكَ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَة. [73] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 73] قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) اعْتَذَرَ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ وَكَانَ قَدْ نَسِيَ الْتِزَامَهُ بِمَا غَشِيَ ذِهْنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُنْكِرُهُ. وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَطُّفِ وَالْتِمَاسِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَاخِذُهُ عَلَى النِّسْيَانِ مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْمُصَاحَبَةِ لِمَا يَنْشَأُ عَنِ النِّسْيَانِ مِنْ خَطَرٍ. فَالْحَزَامَةُ الِاحْتِرَازُ مِنْ صُحْبَةِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ كَلَامُ مُوسَى عَلَى طَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَلَمْ يُبْنَ عَلَى الِاعْتِذَارِ بِالنِّسْيَانِ، كَأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ مَحْقُوقًا بِالْمُؤَاخَذَةِ، فَكَانَ كَلَامًا بَدِيعَ النَّسِيجِ فِي الِاعْتِذَارِ. وَالْمُؤَاخَذَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْأَخْذِ، وَهِيَ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ [النَّحْل: 61] . وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي.

[سورة الكهف (18) : آية 74]

وَالْإِرْهَاقُ: تَعْدِيَةُ رَهَقَ، إِذَا غَشِيَ وَلَحِقَ، أَيْ لَا تُغْشِنِي عُسْرًا. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُعَامَلَةِ بِالشِّدَّةِ. وَالْإِرْهَاقُ: مُسْتَعَارٌ لِلْمُعَامَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَالْعُسْرُ: الشِّدَّةُ وَضِدُّ الْيُسْرِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: عُسْرُ الْمُعَامَلَةِ، أَيْ عَدَمُ التَّسَامُحِ مَعَهُ فِيمَا فَعَلَهُ فَهُوَ يَسْأَلُهُ الْإِغْضَاءَ وَالصَّفْحَ. وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ. وَ (مِنْ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً، فَكَوْنُ الْمُرَادِ بِأَمْرِهِ نِسْيَانَهُ، أَيْ لَا تَجْعَلْ نِسْيَانِي مُنْشِئًا لِإِرْهَاقِي عُسْرًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِأَمْرِهِ شَأْنَهُ مَعَهُ، أَيْ لَا تَجْعَلْ شَأْنِي إِرْهَاقَكَ إيَّايَ عسرا. [74] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 74] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) يَدُلُّ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً عَنِ اعْتِذَارِ مُوسَى، عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ قَبِلَ عُذْرَهُ وَانْطَلَقَا مُصْطَحِبَيْنِ. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ [الْكَهْف: 71] . وَقَوْلُهُ: فَقَتَلَهُ تَعْقِيبٌ لِفِعْلِ لَقِيا تَأْكِيدًا لِلْمُبَادَرَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، فَكَانَتِ الْمُبَادَرَةُ بِقَتْلِ الْغُلَامِ عِنْدَ لِقَائِهِ أَسْرَعَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِخَرْقِ السَّفِينَةِ حِينَ رُكُوبِهَا. وَكَلَامُ مُوسَى فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ جَرَى عَلَى نَسَقِ كَلَامِهِ فِي إِنْكَارِ خَرْقِ السَّفِينَةِ

سِوَى أَنَّهُ وَصَفَ هَذَا الْفِعْلَ بِأَنَّهُ نُكُرٌ، وَهُوَ- بِضَمَّتَيْنِ-: الَّذِي تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَتَسْتَقْبِحُهُ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الشَّيْءِ الْإِمْرِ، لِأَنَّ هَذَا فَسَادٌ حَاصِلٌ وَالْآخَرُ ذَرِيعَةُ فَسَادٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَصَفَ النَّفْسَ بِالزَّاكِيَةِ لِأَنَّهَا نَفْسُ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ فَلَمْ يَقْتَرِفْ ذَنْبًا فَكَانَ زَكِيًّا طَاهِرًا. وَالزَّكَاءُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ زَاكِيَةً- بِأَلْفٍ بَعْدِ الزَّايِ- اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ زَكَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ زَكِيَّةً، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: النُّونُ مِنْ قَوْلِهِ: نُكْراً هِيَ نِصْفُ الْقُرْآنِ، أَيْ نِصْفُ حُرُوفِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ هُوَ حَرْفُ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَتَلَطَّفْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

[سورة الكهف (18) : الآيات 75 إلى 76]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْكَهْفِ [75، 76] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 75 إِلَى 76] قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) كَانَ جَوَابُ الْخَضِرِ هَذَا عَلَى نَسَقِ جَوَابِهِ السَّابِقِ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ مَا حُكِيَ فِي الْآيَةِ بِكَلِمَةِ لَكَ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقَوْلِ. وَإِذْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَقَامِ الْخِطَابِ كَانَ فِي التَّصْرِيحِ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقَوْلِ تَحْقِيقٌ لِوُقُوعِ الْقَوْلِ وَتَثْبِيتٌ لَهُ وَتَقْوِيَةٌ، وَالدَّاعِي لِذَلِكَ أَنَّهُ أَهْمَلَ الْعَمَلَ بِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَكَ لَامُ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى اسْمِ أَوْ ضَمِيرِ السَّامِعِ لِقَوْلٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، نَحْوَ: قَلْتُ لَهُ، وَأَذِنْتُ لَهُ، وَفَسَّرْتُ لَهُ وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ الْمَقُولُ لَهُ الْكَلَامُ مَعْلُومًا مِنَ السِّيَاقِ فَيَكُونُ ذِكْرُ اللَّامِ لِزِيَادَةِ تَقَوِّي الْكَلَامِ وَتَبْلِيغِهِ إِلَى السَّامِعِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ لَامُ التَّبْلِيغِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّامَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِهِ فِي جَوَابِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، فَكَانَ التَّقْرِيرُ وَالْإِنْكَارُ مَعَ ذِكْرِ لَامِ تَعْدِيَةِ الْقَوْلِ أَقْوَى وَأَشَدَّ.

وَهُنَا لَمْ يَعْتَذِرْ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ: إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَسِيَ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ مُوجِبٍ، عَلَى وَاجِبِ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ نَسِيَ وَأَعَرَضَ عَنِ الِاعْتِذَارِ بِالنِّسْيَانِ لِسَمَاجَةِ تَكَرُّرِ الِاعْتِذَارِ بِهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ عَدَلَ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِاشْتِرَاطِ مَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ إِنْ عَادَ لِلسُّؤَالِ الَّذِي لَا يَبْتَغِيهِ صَاحِبُهُ فَقَدْ جَعَلَ لَهُ أَنْ لَا يُصَاحِبَهُ بَعْدَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا» ، فَاحْتَمَلَ كَلَامُ النَّبِيءِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَأَنْصَفَ مُوسَى إِذْ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ مُصَاحَبَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ تَجَنُّبًا لِإِحْرَاجِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَدُنِّي- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم يَعْنِي أَنَّ فِيهَا سَنَدًا خَاصًّا مَرْوِيًّا فِيهِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنْ لَدُنِّي- بِتَخْفِيفِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ نُونُ الْوِقَايَةِ تَخْفِيفًا، لِأَنَّ (لَدُنْ) أَثْقَلُ مِنْ (عَنْ) (وَمِنْ) فَكَانَ التَّخْفِيفُ فِيهَا مَقْبُولًا دُونَهُمَا. وَمَعْنَى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قَدْ وَصَلْتَ مِنْ جِهَتِي إِلَى الْعُذْرِ. فَاسْتُعِيرَ بَلَغْتَ لِمَعْنًى (تَحَتَّمَ وَتَعَيَّنَ) لِوُجُودِ أَسْبَابِهِ بِتَشْبِيهِ الْعُذْرِ فِي قَطْعِ الصُّحْبَةِ بِمَكَانٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّائِرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْبُلُوغَ تَخْيِيلًا، أَوِ اسْتَعَارَ الْبُلُوغَ لِتَعَيُّنِ حُصُولِ الشَّيْءِ بعد المماطلة.

[سورة الكهف (18) : آية 77]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 77] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) نَظْمُ قَوْلِهِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها كَنَظْمِ نَظِيرَيْهِ السَّابِقَيْنِ. وَالِاسْتِطْعَامُ: طَلَبُ الطَّعَامِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ اسْتَطْعَما أَهْلَها كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ (خَرَقَهَا) وَجُمْلَةِ (فَقَتَلَهُ) ، فَهُوَ مُتَعَلِّقُ (إِذَا) . وَإِظْهَارُ لَفْظِ أَهْلَها دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: اسْتَطْعَمَاهُمْ، لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ، تَشْنِيعًا بِهِمْ فِي لُؤْمِهِمْ، إِذْ أَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا. وَذَلِكَ لُؤْمٌ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ الْمُتَّبَعَةِ عِنْدَ النَّاسِ. وَيَقُومُ بِهَا مَنْ يُنْتَدَبُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ عَابِرُ السَّبِيلِ وَيَسْأَلُهُمُ الضِّيَافَةَ، أَوْ مَنْ أَعَدَّ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مِنْ كِرَامِ الْقَبِيلَةِ فَإِبَايَةُ أَهْلِ قَرْيَةٍ كُلِّهِمْ مِنَ الْإِضَافَةِ لُؤْمٌ لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الصَّفَدِيُّ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ سُؤَالًا عَنْ نُكْتَةِ هَذَا الْإِظْهَارِ فِي أَبْيَاتٍ. وَأَجَابَهُ السُّبْكِيُّ جَوَابًا طَوِيلًا نَثْرًا وَنَظْمًا بِمَا لَا يُقْنِعُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْآلُوسِيُّ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ طَلَبِ الطَّعَامِ لِعَابِرِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَرِدْ مَا يَنْسَخُهُ. وَدَلَّ لَوْمُ مُوسَى الْخَضِرَ، عَلَى أَنْ لَمْ يَأْخُذْ أَجْرَ إِقَامَةِ الْحَائِطِ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُقَابَلَةَ حِرْمَانِهِمْ لِحَقِّ الضِّيَافَةِ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْجِدَارِ فِي قَرْيَتِهِمْ.

وَفِي الْآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ ضِيَافَةِ عَابِرِ السَّبِيلِ إِذَا نَزَلَ بِأَحَدٍ مِنَ الْحَيِّ أَوِ الْقَرْيَةِ. وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» أَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم قَالَ: «من كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ (أَيْ يُتْحِفُهُ وَيُبَالِغُ فِي بِرِّهِ) وَضِيَافَتُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ (أَيْ إِطْعَامٌ وَإِيوَاءٌ بِمَا حَضَرَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ كَمَا يُتَكَلَّفُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ) فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الضِّيَافَةُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَالْأَحْيَاءِ، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ. قَالَ سَحْنُونٌ: أَمَّا الْحَضَرُ فَالْفُنْدُقُ يَنْزِلُ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الضِّيَافَةُ حَقٌّ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْبَوَادِي. وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ: الضِّيَافَةُ فَرْضٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَيُقَالُ: ضَيَّفَهُ وَأَضَافَهُ، إِذَا قَامَ بِضِيَافَتِهِ، فَهُوَ مُضِيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ. وَمُضِيفٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْمُتَعَرِّضُ لِلضِّيَافَةِ: ضَائِفٌ وَمُتَضَيِّفٌ، يُقَالُ: ضِفْتُهُ وَتَضَيَّفْتُهُ، إِذَا نَزَلَ بِهِ وَمَالَ إِلَيْهِ. وَالْجِدَارُ: الْحَائِطُ الْمَبْنِيُّ. وَمَعْنَى يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أَشْرَفَ عَلَى الِانْقِضَاضِ، أَيِ السُّقُوطِ، أَيْ يَكَادُ يَسْقُطُ، وَذَلِكَ بِأَنْ مَالَ، فَعَبَّرَ عَنْ إِشْرَافِهِ عَلَى الِانْقِضَاضِ بِإِرَادَةِ الِانْقِضَاضِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ التَّبَعِيَّةِ بِتَشْبِيهِ قُرْبِ انْقِضَاضِهِ بِإِرَادَةِ مَنْ يَعْقِلُ فِعْلَ شَيْءٍ فَهُوَ يُوشِكُ أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ أَرَادَهُ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ طَلَبُ النَّفْسِ حُصُولَ شَيْءٍ وَمَيْلُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. وَإِقَامَةُ الْجِدَارِ: تَسْوِيَةُ مَيْلِهِ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ بِفِعْلٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ بِأَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ كَالَّذِي يُسَوِّي شَيْئًا لَيِّنًا كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 78 إلى 82]

وَقَوْلُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لَوْمٌ، أَيْ كَانَ فِي مُكْنَتِكَ أَنْ تَجْعَلَ لِنَفْسِكَ أَجْرًا عَلَى إِقَامَةِ الْجِدَارِ تَأْخُذُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَلَا تُقِيمُهُ مَجَّانًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ الضِّيَافَةِ وَنَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى مَا نُنْفِقُهُ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْأَتْبَاعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ. وَهَذَا اللَّوْمُ يَتَضَمَّنُ سُؤَالًا عَنْ سَبَبِ تَرْكِ الْمُشَارَطَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْجِدَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَجْرِ، وَلَيْسَ هُوَ لَوْمًا عَلَى مُجَرَّدِ إِقَامَتِهِ مَجَّانًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَهُوَ غَيْرُ مَلُومٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَاتَّخَذْتَ- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ بَعْدَ اللَّامِ وَبِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (اتَّخَذَ) . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ لَتَخِذْتَ بِدُونِ هَمْزَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (تَخِذَ) الْمُفْتَتَحُ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (تَخِذَ) أَوَّلُهُ فَوْقِيَّةٌ، وَهُوَ مِنْ بَاب علم. [78- 82] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 78 إِلَى 82] قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً

(82) الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ حَاصِلٌ مِنِ اشْتِرَاطِ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ سُؤَالِهِ الثَّانِي فَقَدِ انْقَطَعَتِ الصُّحْبَةُ بَيْنَهُمَا، أَيْ هَذَا الَّذِي حَصَلَ الْآنَ هُوَ فِرَاقُ بَيْنِنَا، كَمَا يُقَالُ: الشَّرْطُ أَمْلَكُ عَلَيْكَ أَمْ لَكَ. وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمشَار إِلَيْهِ مِقْدَار فِي الذِّهْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ [الْقَصَص: 83] . وَإِضَافَةُ فِراقُ إِلَى بَيْنِي مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَأَصْلُهُ: فِرَاقٌ بَيْنِي، أَيْ حَاصِلٌ بَيْنَنَا، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ الْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ إِلَى مَعْمُولِهِ، كَمَا يُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ خُرُوجُ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما [الْكَهْف: 61] . وَجُمْلَةُ سَأُنَبِّئُكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، تَقَعُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَهْجِسُ فِي خَاطِرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَسْبَابِ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَأَلَهُ عَنْهَا مُوسَى فَإِنَّهُ قَدْ وَعَدَهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ. وَالتَّأْوِيلُ: تَفْسِيرٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ وَاضِحٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرُّجُوعُ. شَبَّهَ تَحْصِيلُ الْمَعْنَى عَلَى تَكَلُّفٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ بَعْدَ السَّيْرِ إِلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ إِلَخْ.. مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] . وَفِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً تَعْرِيضٌ

بِاللَّوْمِ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ إِحْدَاثُ الذِّكَرِ حَسْبَمَا وَعَدَهُ بقوله فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. وَالْمَسَاكِينُ: هُنَا بِمَعْنَى ضُعَفَاءِ الْمَالِ الَّذِينَ يَرْتَزِقُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ وَيُرَقُّ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَكْدَحُونَ دَهْرَهُمْ لِتَحْصِيلِ عَيْشِهِمْ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ أَشَدَّ الْفَقْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التَّوْبَة: 60] بَلِ الْمُرَادُ بِتَسْمِيَتِهِمْ بِالْفُقَرَاءِ أَنَّهُمْ يُرَقُّ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ: « ... مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ وَأَيُّ مِسْكِينٍ» . وَكَانَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ هَؤُلَاءِ عَمَلَةٌ يَأْجُرُونَ سَفِينَتَهُمْ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلصَّيْدِ. وَمَعْنَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ: هُوَ مَلِكُ بِلَادِهِمْ بِالْمِرْصَادِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ يُسَخِّرُ كُلَّ سَفِينَةٍ يَجِدُهَا غَصْبًا، أَيْ بِدُونِ عِوَضٍ. وَكَانَ ذَلِكَ لِنَقْلِ أُمُورِ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهُ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْمَلِكُ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَشَهَوَاتِهِ، كَمَا كَانَ الْفَرَاعِنَةُ يُسَخِّرُونَ النَّاسَ لِلْعَمَلِ فِي بِنَاءِ الْأَهْرَامِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ لَجَازَ التَّسْخِيرُ مِنْ كُلٍّ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَبَعْدَ تَحَقُّقِهَا. ووراء اسْمُ الْجِهَةِ الَّتِي خَلْفَ ظَهْرِ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَهُوَ ضِدُّ أَمَامَ وَقُدَّامَ. وَيُسْتَعَارُ (الْوَرَاءُ) لِحَالِ تَعَقُّبِ شَيْءٍ شَيْئًا وَحَالِ مُلَازِمَةِ طَلَبِ شَيْءٍ شَيْئًا بِحَقٍّ وَحَالِ الشَّيْءِ الَّذِي سَيَأْتِي قَرِيبًا، كُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْكَائِنِ خَلْفَ شَيْءٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ فِي [الْجَاثِيَةِ: 10] .

وَقَالَ لَبِيدٌ: أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومَ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا وَراءَهُمْ مَلِكٌ بِمَعْنَى أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ مُدَوِّنِي اللُّغَةِ أَنَّ (وَرَاءَ) مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِلَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ هُوَ وَرَاءَكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ اللَّيَالِي تَقُولُ: وَرَاءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ. يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَمَعْنَى كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أَيْ صَالِحَةٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَلِكِ وَسَبَبِ أَخْذِهِ لِلسُّفُنِ قَصَصًا وَأَقْوَالًا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ فِي مَقَامِ الْعِبْرَةِ. وَجُمْلَةُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ جُمْلَتَيْ فَكانَتْ لِمَساكِينَ، ووَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ، فَكَانَ حَقُّهَا التَّأْخِيرَ عَنْ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهَا قُدِّمَتْ خِلَافًا لِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ بِإِرَادَةِ إِعَابَةِ السَّفِينَةِ حَيْثُ كَانَ عَمَلًا ظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ وَحَقِيقَتُهُ الصَّلَاحُ زِيَادَةً فِي تَشْوِيقِ مُوسَى إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ السَّفِينَةِ لِمَسَاكِينَ مِمَّا يَزِيدُ السَّامِعَ تَعَجُّبًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى خَرْقِهَا. وَالْمَعْنَى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَقَدْ فَعَلْتُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: فَعِبْتُهَا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ عَنْ قَصْدٍ وَتَأَمُّلٍ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْإِرَادَةُ عَلَى الْقَصْدِ أَيْضًا. وَفِي «اللِّسَانِ» عَزْوُ ذَلِكَ إِلَى سِيبَوَيْهِ. وَتَصَرُّفُ الْخَضِرِ فِي أَمْرِ السَّفِينَةِ تَصَرُّفٌ بِرَعْيِ الْمُصْلِحَةِ الْخَاصَّةِ عَنْ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَصَالِحِ الضُّعَفَاءِ إِذْ كَانَ الْخَضِرُ عَالِمًا بِحَالِ

الْمَلِكِ، أَوْ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِوُجُودِهِ حِينَئِذٍ، فَتَصَرَّفُ الْخَضِرِ قَائِمٌ مَقَامَ تَصَرُّفِ الْمَرْءِ فِي مَالِهِ بِإِتْلَافِ بَعْضِهِ لِسَلَامَةِ الْبَاقِي، فَتَصَرُّفُهُ الظَّاهِرُ إِفْسَادٌ وَفِي الْوَاقِعِ إِصْلَاحٌ لِأَنَّهُ مِنِ ارْتِكَاب أخف الضررين. وَهَذَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَّا الْخَضِرُ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ مُوسَى. وَأَمَّا تَصَرُّفُهُ فِي قَتْلِ الْغُلَامِ فَتَصَرُّفٌ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ جَارٍ عَلَى قَطْعِ فَسَادٍ خَاصٍّ عَلِمَهُ اللَّهُ وَأَعْلَمَ بِهِ الْخَضِرَ بِالْوَحْيِ، فَلَيْسَ مِنْ مَقَامِ التَّشْرِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مِنْ تَرْكِيبِ عَقْلِ الْغُلَامِ وَتَفْكِيرِهِ أَنَّهُ عَقْلٌ شَاذٌّ وَفِكْرٌ مُنْحَرِفٌ طُبِعَ عَلَيْهِ بِأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ مِنِ انْحِرَافِ طَبْعٍ وَقُصُورِ إِدْرَاكٍ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارٍ مُفْضِيَةٍ إِلَى تِلْكَ النَّفْسِيَّةِ وَصَاحِبِهَا فِي أَنَّهُ يَنْشَأُ طَاغِيًا كَافِرًا. وَأَرَادَ اللَّهُ اللُّطْفَ بِأَبَوَيْهِ بِحِفْظِ إِيمَانِهِمَا وَسَلَامَةِ الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الطَّاغِي لُطْفًا أَرَادَهُ اللَّهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى سَبْقِ عِلْمِهِ، فَفِي هَذَا مَصْلَحَةٌ لِلدِّينِ بِحِفْظِ أَتْبَاعِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ فِيهَا حِفْظُ الدِّينِ، وَمَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَحُكْمِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَالزَّكَاةُ: الطَّهَارَةُ، مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً. وَالرُّحْمُ:- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ-: نَظِيرُ الْكُثْرِ لِلْكَثْرَةِ. وَالْخَشْيَةُ: تَوَقُّعُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِقَتْلِهِ. وَضَمِيرَا الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ فَخَشِينا وَقَوْلِهِ فَأَرَدْنا عَائِدَانِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِغَيْرِهِ فِي الْفِعْلِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ يَكُونُ مِنَ التَّوَاضُعِ لَا مِنَ التَّعَاظُمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَهُ فَنَاسَبَهُ التَّوَاضُعُ فَقَالَ: فَخَشِينا فَأَرَدْنا، وَلَمْ يقل مثله عِنْد مَا قَالَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها لِأَنَّ سَبَبَ الْإِعَابَةِ إِدْرَاكُهُ لِمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِحَالِ تِلْكَ الْأَصْقَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [79] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُبْدِلَهُما- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ- مِنَ التَّبْدِيلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- مِنَ الْإِبْدَال. وَأما قَضِيَّة الْجِدَار فَالْخَضِرُ تَصَرَّفَ فِي شَأْنِهَا عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ اللُّطْفَ بِالْيَتِيمَيْنِ جَزَاءً لِأَبِيهِمَا عَلَى صَلَاحِهِ، إِذْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَبَاهُمَا كَانَ يُهِمُّهُ أَمْرُ عَيْشِهِمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ قَدْ أَوْدَعَ تَحْتَ الْجِدَارِ مَالًا، وَلَعَلَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَ وَلَدَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِ أَشُدِّهِمَا أَنْ يَبْحَثَا عَنْ مَدْفِنِ الْكَنْزِ تَحْتَ الْجِدَارِ بِقَصْدٍ أَوْ بِمُصَادَفَةٍ، فَلَوْ سَقَطَ الْجِدَارُ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا لَتَنَاوَلَتِ الْأَيْدِي مَكَانَهُ بِالْحَفْرِ وَنَحْوِهُ فَعَثَرَ عَلَيْهِ عَاثِرٌ، فَذَلِكَ أَيْضًا لُطْفٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَقَدْ أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ فِي قِصَّةِ الْجِدَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقِصَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَقِفُ عَلَى سِرِّهِ لِأَنَّ فِيهِمَا دَفْعَ فَسَادٍ عَنِ النَّاسِ بِخِلَافِ قِصَّةِ الْجِدَارِ فَتِلْكَ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لِأَبِي الْغُلَامَيْنِ. وَقَوْلُهُ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي تَصْرِيحٌ بِمَا يُزِيلُ إِنْكَارَ مُوسَى عَلَيْهِ تَصَرُّفَاتِهِ هَذِهِ بِأَنَّهَا رَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ فَلَا إِنْكَارَ فِيهَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهَا. ثُمَّ زَادَ بِأَنَّهُ فَعَلَهَا عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي عَلِمَ مُوسَى أَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيءَ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ عَنْ وَحْيٍ، فَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ نَفْسِهِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا أُوثِرَ نَفْيُ كَوْنِ فِعْلِهِ عَنْ أَمْرِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ: وَفَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّي، تَكْمِلَةً لِكَشْفِ حَيْرَةِ

مُوسَى وَإِنْكَارِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَعْلَاتِهِ الثَّلَاثَ كَانَ يُؤَيِّدُ إِنْكَارَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَصَرَّفَ عَنْ خَطَأٍ. وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَيُنَازِعُهُ كُلٌّ من (أردْت) ، و (أردنَا) ، و (أَرَادَ رَبُّكَ) . وَجُمْلَةُ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ تَلْخِيصٌ لِلْمَقْصُودِ كَحَوْصَلَةِ الْمُدَرِّسِ فِي آخِرِ دَرْسِهِ. وتَسْطِعْ مُضَارِعُ (اسْطَاعَ) بِمَعْنَى (اسْتَطَاعَ) . حَذَفَ تَاءَ الِاسْتِفْعَالِ تَخْفِيفًا لِقُرْبِهَا مِنْ مَخْرَجِ الطَّاءِ، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً لِلتَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ لَفَظٍ بِعَيْنِهِ مَعَ وُجُودِ مُرَادِفِهِ. وَابْتُدِئَ بِأَشْهَرِهِمَا اسْتِعْمَالًا وَجِيءَ بِالثَّانِيَةِ بِالْفِعْلِ الْمُخَفَّفِ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ تَسْتَطِعْ يَحْصُلُ مِنْ تَكْرِيرِهِ ثِقَلٌ. وَأَكَدَّ الْمَوْصُولَ الْأَوَّلَ الْوَاقِعَ فِي قَوْلِهِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً تَأْكِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِاللَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الصَّبْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ قَدِ اتَّخَذَتْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ النِّحَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَصْلًا بَنَوْا عَلَيْهِ قَوَاعِدَ مَوْهُومَةً. فَأَوَّلُ مَا أَسَّسُوهُ مِنْهَا أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا وَإِنَّمَا كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي أُوتِيَهُ لَيْسَ وَحْيًا وَلَكِنَّهُ إِلْهَامٌ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ الَّذِي تَصَرَفَهُ فِي الْمَوْجُودَاتِ أَصْلٌ لِإِثْبَاتِ الْعُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَنَّ الْخَضِرَ مَنَحَهُ اللَّهُ الْبَقَاءَ إِلَى انْتِهَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ مَرْجِعًا لِتَلَقِّي الْعُلُومِ

الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ لِأَهْلِ الْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَيُفِيدُهُمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا هُمْ أَهْلٌ لِتَلَقِّيهِ. وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِلْهَامَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْوَحْيِ، وَسَمَّوْهُ الْوَحْيَ الْإِلْهَامِيَّ، وَأَنَّهُ يَجِيءُ عَلَى لِسَانِ مَلَكِ الْإِلْهَامِ، وَقَدْ فَصَّلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَالثَمَانِينَ مِنْ كِتَابِهِ «الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ» ، وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ بِفُرُوقٍ وعلامات ذكرهَا منثورة فِي الْأَبْوَابِ الثَّالِثِ وَالسَّبْعِينَ، وَالثَّامِنِ وَالسِتِّينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَالرَّابِعِ وَالسِّتِينَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ الْإِلْهَامِيَّ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو مَا قَالَهُ مِنْ غُمُوضٍ وَرُمُوزٍ، وَقَدِ انْتَصَبَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مَا يُسَمَّى بِالْإِلْهَامِ حُجَّةً. وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يَثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ، وَأَبْطَلُوا كَوْنَهُ حُجَّةً لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِخَوَاطِرِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا وَلِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهَا النَّسَفِيُّ فِي «عَقَائِدِهِ» ، وَكُلُّ مَا قَالَهُ النَّسَفِيُّ فِي ذَلِكَ حَقٌّ، وَلَا يُقَامُ التَّشْرِيعُ عَلَى أُصُولٍ مَوْهُومَةٍ لَا تَنْضَبِطُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيءٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ مُوحًى إِلَيْهِ بِمَا أُوحِيَ، لِقَوْلِهِ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ، وَأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى خَبَرُهُ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي قُصَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَحِقَهُ الْمَوْتُ الَّذِي يَلْحَقُ الْبَشَرَ فِي أَقْصَى غَايَةٍ مِنَ الْأَجَلِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ، وَأَنْ يَحْمِلَ مَا يُعْزَى إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ الْمَوْسُومِينَ بِالصِّدْقِ أَنَّهُ مَحُوكٌ عَلَى نَسْجِ الرَّمْزِ الْمُعْتَادِ لَدَيْهِمْ، أَوْ عَلَى غِشَاوَةِ الْخَيَالِ الَّتِي قَدْ تُخَيِّمُ عَلَيْهِمْ. فَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِمَّنْ يَقُولُ: أَخْبرنِي الْخضر.

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 84]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 83 إِلَى 84] وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) افْتِتَاحُ هَذِهِ الْقِصَّة ب وَيَسْئَلُونَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ كَمَا كَانَ الِابْتِدَاءُ بِقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اقْتِضَابًا تَنْبِيهًا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [85] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ سَأَلُوا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم ثَلَاثَةَ أَسْئِلَةٍ بِإِغْرَاءٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي يَثْرِبَ. فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرُّوحِ، فَإِنْ أَجَابَ عَنْهَا كُلِّهَا فَلَيْسَ بِنَبِيءٍ» . وَإِنْ أَجَابَ عَنْ بَعْضِهَا وَأَمْسَكَ عَنْ بَعْضٍ فَهُوَ نَبِيءٌ؟. وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ التَّعْجِيلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ النَّازِلَةِ قَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ وَتَأْخِيرِ الْجَوَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِلَى سُورَةِ الْكَهْفِ. وَأَعْقَبْنَا ذَلِكَ بِمَا رَأَيْنَاهُ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ فِي مَوَاقِعَ مُخْتَلِفَةٍ. فَالسَّائِلُونَ: قُرَيْشٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَسْئُولُ عَنْهُ: خَبَرُ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْعَالَمِ عُرِفَ بِلَقَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَانَتْ أَخْبَارُ سِيرَتِهِ خَفِيَّةً مُجْمَلَةً مُغْلَقَةً، فَسَأَلُوا النَّبِيءَ عَنْ تَحْقِيقِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَأَذِنَ لَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ مِنْهَا مَا هُوَ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ للنَّاس فِي شؤون الصَّلَاحِ وَالْعَدْلِ، وَفِي عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، فَكَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ مُنْفَرِدِينَ بِمَعْرِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَكَانَتْ مِنْ أَسْرَارِهِمْ فَلِذَلِكَ جرّبوا بهَا نبوءة مُحَمَّد صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم.

وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْقُرْآنُ ذِكْرَ هَذَا الرَّجُلِ بِأَكْثَرِ مِنْ لَقَبِهِ الْمُشْتَهِرِ بِهِ إِلَى تَعْيِينِ اسْمِهِ وَبِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّ ذَلِك من شؤون أَهْلِ التَّارِيخِ وَالْقَصَصِ وَلَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ مِنْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُفِيدُ الْأُمَّةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةً حِكَمِيَّةً أَوْ خُلُقِيَّةً فَلِذَلِكَ قَالَ الله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ السُّؤَالُ عَنْ خَبَرِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَكَذَلِكَ حُذِفَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ أَيْ مِنْ خَبَرِهِ وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالذِّكْرُ: التَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، أَيْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مَا بِهِ التَّذَكُّرُ، فَجَعَلَ الْمَتْلُوَّ نَفْسَهُ ذِكْرًا مُبَالَغَةً بِالْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا تَخْلِيطَ فِيهِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ الَّذِي يُوصَفُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ بِمَا فِيهِ إِبْطَالٌ لِمَا خَلَطَ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ أَحْوَالِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ كَانُوا فِي عُصُورٍ مُتَقَارِبَةٍ أَوْ كَانَتْ قَصَصُهُمْ تُسَاقُ مَسَاقَ مَنْ جَاسُوا خِلَالَ بِلَادٍ مُتَقَارِبَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ وَشَوَّهُوا تَخْلِيطَهُمْ بِالْأَكَاذِيبِ، وَأَكْثَرُهُمْ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الشَّاهْنَامَةِ الْفِرْدَوْسِيُّ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْأَكَاذِيبِ وَالْأَوْهَامِ الْخُرَافِيَّةِ. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا تَفَرَّقَتْ بِهِمْ فِيهِ أَخْبَارٌ قَصَصِيَّةٌ وَأَخْبَارٌ تَارِيخِيَّةٌ وَاسْتِرْوَاحٌ مِنَ الِاشْتِقَاقَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَهُمْ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِاخْتِلَافِ الْقَصَّاصِينَ الَّذِينَ عُنُوا بِأَحْوَالِ الْفَاتِحِينَ عِنَايَةَ تَخْلِيطٍ لَا عِنَايَةَ تَحْقِيقٍ فَرَامُوا تَطْبِيقَ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَيْهَا. وَالَّذِي يَجِبُ الِانْفِصَال فِيهِ بادىء ذِي بَدْءٍ أَنَّ وَصْفَهُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُ وَهُوَ وَصْفٌ عَرَبِيٌّ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ عُرِفَ بِمَدْلُولِهِ بَيْنَ الْمُثِيرِينَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ فَتَرْجَمُوهُ بِهَذَا اللَّفْظِ.

وَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يُحْمَلَ الْقَرْنَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُمَا عَلَى التَّشْبِيهِ أَوْ عَلَى الصُّورَةِ. فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَا ذُؤَابَتَيْنِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ مُتَدَلِّيَتَيْنِ، وَإِطْلَاقُ الْقَرْنِ عَلَى الضَّفِيرَةِ مِنَ الشَّعْرِ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا ... شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ وَفِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي صِفَةِ غُسْلِ ابْنة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: «فَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ» ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَلِكُ قَدْ أَطَالَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَضَفَّرَهُ ضَفِيرَتَيْنِ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، كَمَا سُمِّيَ خِرْبَاقُ ذَا الْيَدَيْنِ. وَقِيلَ: هُمَا شِبْهُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ مِنْ نُحَاسٍ كَانَا فِي خُوذَةِ هَذَا الْمَلِكِ فَنُعِتَ بِهِمَا. وَقِيلَ: هُمَا ضَرْبَتَانِ عَلَى مَوْضِعَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْإِنْسَانِ يُشْبِهَانِ مَنْبَتَيِ الْقَرْنَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُونِ. وَمِنْ هُنَا تَأْتِي الْأَقْوَالُ فِي تَعْيِينِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَأَحَدُ الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبُوسَ الْمَقْدُونِيُّ. وَذَكَرُوا فِي وَجْهِ تَلْقِيبِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَّهُ ضَفَّرَ شَعْرَهُ قَرْنَيْنِ. وَقِيلَ: كَانَ يَلْبَسُ خُوذَةً فِي الْحَرْبِ بِهَا قَرْنَانِ، وَقِيلَ: رَسَمَ ذَاتَهُ عَلَى بَعْضِ نُقُودِهِ بِقَرْنَيْنِ فِي رَأْسِهِ تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِالْمَعْبُودِ (آمَوُنَ) مَعْبُودِ الْمِصْرِيِّينَ وَذَلِكَ حِينَ مَلَكَ مِصْرَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ هُوَ تُبَّعٌ أَبُو كَرِبٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَأَنَّهُ (أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْفِيَانَ بْنِ جَمْشِيدَ) . هَذِهِ أَوْضَحُ الْأَقْوَالِ، وَمَا دُونَهَا لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَلَا تَصْحِيحُ رِوَايَتِهِ. وَنَحْنُ تُجَاهَ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَحِقُّ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَخْلِصَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْوَالًا تُقَرِّبُ تَعْيِينَهُ وَتَزْيِيفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَلَيْسَ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْيِينِهِ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَوْسَعُ.

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ تُعْطِي صِفَاتٍ لَا مَحِيدَ عَنْهَا: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا صَالِحًا عَادِلًا. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ كَانَ مُلْهَمًا مِنَ اللَّهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ مُلْكَهُ شَمِلَ أَقْطَارًا شَاسِعَةً. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ بَلَغَ فِي فُتُوحِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ مَكَانًا كَانَ مَجْهُولًا وَهُوَ عَيْنٌ حَمِئَةٌ. الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ بَلَغَ بِلَادَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي جِهَةٍ مِمَّا شَمِلَهُ مُلْكُهُ غَيْرِ الْجِهَتَيْنِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ فَكَانَتْ وَسَطًا بَيْنَهُمَا كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْتِقْرَاءُ مَبْلَغِ أَسْبَابِهِ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ أَقَامَ سَدًّا يَحُولُ بَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَبَيْنَ قَوْمٍ آخَرِينَ. السَّابِعَةُ: أَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَائِثِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُفْسِدُونَ بِلَادَ قَوْمٍ مُوَالِينَ لِهَذَا الْمَلِكِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ قَوْمٌ أَهْلُ صِنَاعَةٍ مُتْقَنَةٍ فِي الْحَدِيدِ وَالْبِنَاءِ. التَّاسِعَةُ: أَنَّ خَبَرَهُ خَفِيٌّ دَقِيقٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْأَحْبَارُ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ. وَأَنْتَ إِذَا تَدَبَّرْتَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا صَالِحًا بَلْ كَانَ وَثَنِيًّا فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِتَلَقِّي الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كَمَالَاتٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ أَقَامَ سَدًّا بَيْنَ بَلَدَيْنِ. وَأَمَّا نِسْبَةُ السَّدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصِّينِ وَبَيْنَ بِلَادِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ إِلَيْهِ فِي كَلَامِ بَعْضِ المؤرخين فَهُوَ ناشىء عَنْ شُهْرَةِ الْإِسْكَنْدَرِ، فَتَوَهَّمَ

الْقَصَّاصُونَ أَنَّ ذَلِكَ السَّدَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بِنَائِهِ، كَمَا تَوَهَّمَ الْعَرَبُ أَنَّ مَدِينَةَ تَدْمُرَ بَنَاهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هِيرُودُوتِسَ الْيُونَانِيَّ الْمُؤَرِّخَ ذَكَرَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ حَارَبَ أُمَّهُ (سِكْيُثُوسَ) . وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ اسْمُ مَاجُوجَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (¬1) . وَأَحْسَبُ أَنَّ لِتَرْكِيبِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى اسْمِ إِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ أَثَرًا فِي اشْتِهَارِ نِسْبَةِ السَّدِّ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ الْمُؤَرِّخِينَ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ مَمْلَكَةَ إِسْكَنْدَرَ كَانَتْ تَبْلُغُ فِي الْغَرْبِ إِلَى عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَفِي الشَّرْقِ إِلَى قَوْمٍ مَجْهُولِينَ عُرَاةٍ أَوْ عَدِيمِي الْمَسَاكِنِ، وَلَا أَنَّ أُمَّتَهُ كَانَتْ تُلَقِّبُهُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ. وَإِنَّمَا انْتُحِلَ هَذَا اللَّقَبُ لَهُ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَنْحُهُ هَذَا اللَّقَبَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ مُؤَرِّخِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ رَسْمُ وَجْهِهِ عَلَى النُّقُودِ بِقَرْنَيْنِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُلَقَّبَ بِهِ. وَأَيْضًا فَالْإِسْكَنْدَرُ كَانَتْ أَخْبَارُهُ مَشْهُورَةً لِأَنَّهُ حَارَبَ الْفُرْسَ وَالْقِبْطَ وَهُمَا أُمَّتَانِ مُجَاوِرَتَانِ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُبْطِلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَتَأَتَّى لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ هُوَ أَفْرِيدُونُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَبَابِعَةِ حِمْيَرَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرٍ مُتَوَغِّلٍ فِي الْقِدَمِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ مُعَاصِرًا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ بِلَادُهُ الَّتِي فَتَحَهَا مَجْهُولَةَ الْمَوَاقِعِ. وَلَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ خَبَرِهِ مِثْلَ هَذَا، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّوَهُّمِ هُوَ وُجُودُ كَلِمَةِ (ذُو) الَّتِي اشْتُهِرَ وُجُودُ مِثْلِهَا فِي أَلْقَابِ مُلُوكِ الْيَمَنِ وَتَبَابِعَتِهِ. ¬

(¬1) انْظُر الْقَامُوس الْجَدِيد تأليف لاروس فِي مَادَّة سكيتس.

فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوك الصين لوجوه: أَحَدُهَا: أَنَّ بِلَادَ الصِّينِ اشْتَهَرَ أَهْلُهَا مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَدْبِيرٍ وَصَنَائِعَ. الثَّانِي: أَنَّ مُعْظَمَ مُلُوكِهِمْ كَانُوا أَهْلَ عَدْلٍ وَتَدْبِيرٍ لِلْمَمْلَكَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ سِمَاتِهِمْ تَطْوِيل شعر رؤوسهم وَجَعْلُهَا فِي ضَفِيرَتَيْنِ فَيَظْهَرُ وَجْهُ تَعْرِيفِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنَّ سَدًّا وَرَدْمًا عَظِيمًا لَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعَالَمِ هُوَ مَوْجُودٌ بَيْنَ بِلَادِ الصِّينِ وَبِلَادِ الْمَغُولِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْجُغْرَافِيَا وَالتَّارِيخِ بِالسُّورِ الْأَعْظَمِ، وَسَيَرِدُ وَصْفُهُ. الْخَامِسُ: مَا رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم خَرَجَ لَيْلَةً فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هَكَذَا» ، وَأَشَارَ بِعَقْدِ تِسْعِينَ (أَعْنِي بِوَضْعِ طَرَفِ السَّبَّابَةِ عَلَى طَرَفِ الْإِبْهَامِ) . وَقَدْ كَانَ زَوَالُ عَظَمَةِ سُلْطَانِ الْعَرَبِ عَلَى يَدِ الْمَغُولِ فِي بَغْدَادَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هُمُ الْمَغُولُ وَأَنَّ الرَّدْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الرَّدْمُ الْفَاصِلُ بَيْنَ بِلَادِ الْمَغُولِ وَبِلَادِ الصِّينِ وَبَانِيهِ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَأَنَّ وَصْفَهُ فِي الْقُرْآنِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ تَوْصِيفٌ لَا تَلْقِيبٌ فَهُوَ مِثْلُ التَّعْبِيرِ عَنْ شَاوَلَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ بَاسِمِ طَالُوتَ. وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ الَّذِي بَنَى السَّدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الصِّينِ وَمَنْغُولْيَا. وَاسْمُ هَذَا الْملك (تسينشي هوانفتي) أَوْ (تسين شي هوانق تِي) . وَكَانَ مَوْجُودًا فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ بِنَحْوِ قَرْنٍ. وَبِلَادُ الصِّينِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانَتْ مُتَدَيِّنَةً بِدِينِ (كِنْفِيشْيُوسَ) الْمُشَرِّعِ الْمُصْلِحِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ شَرِيعَتِهِ صَالِحِينَ.

وَهَذَا الْمَلِكُ يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ أَنَّهُ سَاءَتْ حَالَتُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَأَفْسَدَ كَثِيرًا وَقَتَلَ عُلَمَاءَ وَأَحْرَقَ كُتُبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ وَبِأَسْبَابِهَا. وَلَمَّا ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ إِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبُوسَ نَحَلُوهُ بِنَاءَ السَّدِّ. وَزَعَمُوهُ مِنْ صُنْعِهُ كَمَا نَحَلُوهُ لَقَبَ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءَ أَوْهَامٍ عَلَى أَوْهَامٍ وَلَا أساس لوَاحِد مِنْهُمَا وَلَا عَلَاقَةَ لِإِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ بِقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْله قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنْ يَعِدَ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي مَعْنَاهُ. وَالسِّينُ فِي قَول سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [98] . وَجُعِلَ خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ تِلَاوَةً وَذِكْرًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا فِيهِ تَذْكِيرٌ وَمَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ تِلَاوَةً حَسَبَ شَأْنِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُتْلَى لِأَجْلِ الذِّكْرِ وَلَا يُسَاقُ مَسَاقَ الْقَصَصِ. وَقَوْلُهُ مِنْهُ ذِكْراً تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَهُ وَأَخْبَارَهُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُهِمُّهُمْ بَعْضُ أَحْوَالِهِ الْمُفِيدَةِ ذِكْرًا وَعِظَةً. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ نَبَئِهِمْ، لِأَنَّ قِصَّتَهُمْ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا ذَكَرَ، وَأَحْوَالُ ذِي الْقَرْنَيْنِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذَكَرَ هُنَا. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْهُ ذِكْراً لِلتَّبْعِيضِ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ خَبَرِهِ. وَالتَّمْكِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ مُتَمَكِّنًا، أَيْ رَاسِخًا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِقُوَّةِ التَّصَرُّفِ بِحَيْثُ لَا يُزَعْزِعُ قُوَّتَهُ أَحَدٌ. وَحَقُّ فِعْلِ (مَكَّنَا) التَّعْدِيَةُ

[سورة الكهف (18) : الآيات 85 إلى 88]

بِنَفْسِهِ، فَيُقَالُ: مَكَّنَاهُ فِي الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الْأَنْعَام: 6] . فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ لِلتَّوْكِيدِ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ لَهُ، وَنَصَحْتُ لَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَفَنُّنٌ. وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الْأَنْعَام: 6] . فَمَعْنَى التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ إِعْطَاءُ الْمَقْدِرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضٌ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ أَرْضُ مُلْكِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ [يُوسُف: 56] . وَالسَّبَبُ: حَقِيقَتُهُ الْحَبْلُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَقْدِرَةٍ أَوْ آلَاتِ التَّسْخِيرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [166] . وكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 97] أَيْ آتَيْنَاهُ وَسَائِلَ أَشْيَاءَ عَظِيمَة كَثِيرَة. [85- 88] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 85 إِلَى 88] فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) السَّبَبُ: الْوَسِيلَةُ. وَالْمرَاد هُنَا مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ الطَّرِيقُ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَقَرِينَةُ الْمَجَازِ ذِكْرُ الِاتِّبَاعِ وَالْبُلُوغِ

فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَةِ غَيْرِ مَعْنَى السَّبَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً إِظْهَارُ اسْمِ السَّبَبِ دُونَ إِضْمَارِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ حَسُنَ إِظْهَارُ اسْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَيْ فَاتَّبَعَ طَرِيقًا لِلسَّيْرِ وَكَانَ سَيْرُهُ لِلْغَزْوِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ. وَلَمْ يَعُدَّ أَهْلُ اللُّغَةِ مَعْنَى الطَّرِيقِ فِي مَعَانِي لَفْظِ السَّبَبِ لَعَلَّهُمْ رَأَوْهُ لَمْ يَكْثُرْ وَيَنْتَشِرْ فِي الْكَلَامِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَسْبابَ السَّماواتِ [فاطر: 37] مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ أَيْ هَابَ طُرُقَ الْمَنَايَا أَنْ يَسْلُكَهَا تَنَلْهُ الْمَنَايَا، أَيْ تَأْتِيهِ، فَذَلِكَ مَجَازٌ بِالْقَرِينَةِ. وَالْمُرَادُ بِ مَغْرِبَ الشَّمْسِ مَكَانُ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنْ حَيْثُ يَلُوحُ الْغُرُوبُ مِنْ جِهَاتِ الْمَعْمُورِ مِنْ طَرِيقِ غَزْوَتِهِ أَوْ مَمْلَكَتِهِ. وَذَلِكَ حَيْثُ يَلُوحُ أَنَّهُ لَا أَرْضَ وَرَاءَهُ بِحَيْثُ يَبْدُو الْأُفُقُ مِنْ جِهَةٍ مُسْتَبْحِرَةٍ، إِذْ لَيْسَ لِلشَّمْسِ مَغْرِبٌ حَقِيقِيٌّ إِلَّا فِيمَا يَلُوحُ لِلتَّخَيُّلِ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَدْ بَلَغَ بَحْرَ الْخَزَرِ وَهُوَ بُحَيْرَةُ قَزْوِينَ فَإِنَّهَا غَرْبُ بِلَادِ الصِّينِ. وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها. وَالْعَيْنُ: مَنْبَعُ مَاءٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ مَهْمُوزًا مُشْتَقًّا مِنَ الْحَمْأَةِ، وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ. وَالْمَعْنَى: عَيْنٌ مُخْتَلِطٌ مَاؤُهَا بِالْحَمْأَةِ فَهُوَ غَيْرُ صَافٍ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَ الْمِيمِ، أَيْ حَارَّةٍ مِنَ الْحُمُوِّ وَهُوَ الْحَرَارَةُ، أَيْ أَنَّ مَاءَهَا سَخَنَ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْ عُيُونِ النِّفْطِ الْوَاقِعَةِ عَلَى سَاحِلِ بَحْرِ الْخَزَرِ حَيْثُ مَدِينَةُ (بَاكُو) ، وَفِيهَا مَنَابِعُ النِّفْطِ الْآنَ وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا يَوْمَئِذٍ. وَالْمُؤَرِّخُونَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهَا الْبِلَادَ الْمُنْتِنَةَ. وَتَنْكِيرُ قَوْماً يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ وَلَا مَأْلُوفَةٍ حَالَةُ عَقَائِدِهِمْ وَسِيرَتُهُمْ. فَجُمْلَةُ قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا أَشْعَرَ بِهِ تَنْكِيرُ قَوْماً مِنْ إِثَارَةِ سُؤَالٍ عَنْ حَالِهِمْ وَعَمَّا لَاقَاهُ بِهِمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعَذَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ فِي فَسَادٍ مِنْ كُفْرٍ وَفَسَادِ عَمَلٍ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَوْلُ إِلْهَامٍ، أَيْ أَلْقَيْنَا فِي نَفْسِهِ تَرَدُّدًا بَيْنَ أَن يُبَادر استيصالهم وَأَن يُمْهِلَهُمْ وَيَدَعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ، أَيْ قَالَ فِي نَفْسِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى حَالَةٍ وَسَطٍ بَيْنِ صُورَتَيِ التَّرَدُّدِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ نبيئا يُوحى عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ كَلَامًا مُوحًى بِهِ إِلَيْهِ يُخَيِّرُهُ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، مِثْلَ التَّخْيِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [مُحَمَّد: 4] ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ جَوَابًا مِنْهُ إِلَى رَبِّهِ. وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ سَدَادِ اجْتِهَادِهِ كَقَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الْأَنْبِيَاء: 79] . وحُسْناً مُصَدَرٌ. وَعَدَلَ عَنْ (أَنَ تُحْسِنَ إِلَيْهِمْ) إِلَى أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً مُبَالَغَةً فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ حَتَّى جَعَلَ كَأَنَّهُ اتَّخَذَ فِيهِمْ نَفْسَ

الْحُسْنِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الْبَقَرَة: 83] . وَفِي هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ تَلْقِينٌ لِاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ، بِقَرِينَةِ قَسِيمِهِ فِي قَوْلِهِ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً. وَاجْتِلَابُ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ سَيَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ يُعَذِّبْهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ آمَنَ بَعْدَ كُفْرِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ الْآنَ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ تَعْذِيبِهِمْ وَاتِّخَاذِ الْإِمْهَالِ مَعَهُمْ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ حِينَ التَّخْيِيرِ. وَالْمَعْنَى: فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ أَسْنَدَهُ إِلَى ضَمِيرِهِ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَزاءً الْحُسْنى بِإِضَافَةِ جَزاءً إِلَى الْحُسْنى عَلَى الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ جَزاءً الْحُسْنى بِنَصْبِ جَزاءً مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ اسْتِحْقَاقِهِ الْحُسْنَى، أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، أَوْ حَالٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا بِاعْتِبَارِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَالتَّنْكِيرِ. وَتَأْنِيثُ الْحُسْنى بِاعْتِبَارِ الْخَصْلَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُسْنى هِيَ الْجَنَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: 26] . وَالْقَوْلُ الْيُسْرُ: هُوَ الْكَلَامُ الْحَسَنُ، وُصِفَ بِالْيُسْرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَوْنِهِ لَا يُثْقِلُ سَمَاعَهُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاء: 28] أَيْ جَمِيلًا. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُسْنى الْخِصَالَ الْحُسْنَى، فَمَعْنَى عَطْفِ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَنَّهُ يُجَازِي بِالْإِحْسَانِ وَبِالثَّنَاءِ، وَكِلَاهُمَا

[سورة الكهف (18) : الآيات 89 إلى 90]

مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُسْنى ثَوَابَ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مُخْبِرٌ بِهِ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي فَائِدَةِ الْخَبَرِ، عَلَى مَعْنَى. إِنَّا نُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، أَوْ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَنِّي أَعْلَمُ جَزَاءَهُ عِنْدَكَ الْحُسْنَى. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً لِبَيَانِ حَظِّ الْمَلِكِ مِنْ جَزَائِهِ وَأَنَّهُ الْبشَارَة وَالثنَاء. [89، 90] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 89 إِلَى 90] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) تَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاء فِي فَأَتْبَعَ سَبَباً فَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. وَمَطْلِعُ الشَّمْسِ: جِهَةُ الْمَشْرِقِ مِنْ سُلْطَانِهِ وَمَمْلَكَتِهِ، بَلَغَ جِهَةً قَاصِيَةً مِنَ الشَّرْقِ حَيْثُ يُخَالُ أَنْ لَا عُمْرَانَ وَرَاءَهَا، فَالْمَطْلِعُ مَكَانُ الطُّلُوعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَلَغَ سَاحِلَ بَحْرِ الْيَابَانِ فِي حُدُودِ مَنْشُورْيَا أَوْ كُورْيَا شَرْقًا، فَوَجَدَ قَوْمًا تَطَلُعُ عَلَيْهِمُ الشَّمْس لَا يسترهم مِنْ حَرِّهَا، أَيْ لَا جَبَلَ فِيهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهِ وَلَا شَجَرَ فِيهَا، فَهِيَ أَرْضٌ مَكْشُوفَةٌ لِلشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عُرَاةً فَكَانُوا يَتَّقُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ فِي الْكُهُوفِ أَوْ فِي أَسْرَابٍ يَتَّخِذُونَهَا فِي التُّرَابِ. فَالْمُرَادُ بِالسِّتْرِ مَا يَسْتُرُ الْجَسَدَ. وَكَانُوا قَدْ تَعَوَّدُوا مُلَاقَاةَ حَرِّ الشَّمْسِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْقُرِّ لَيْلًا.

[سورة الكهف (18) : آية 91]

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِبْرَةٌ مِنِ اخْتِلَافِ الْأُمَمِ فِي الطَّبَائِعِ وَالْعَوَائِدِ وَسِيرَتِهِمْ عَلَى نَحْو مناخهم. [91] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 91] كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) كَذلِكَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ شَيْءٌ تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِلَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ. وَالْكَافُ وَمَجْرُورُهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شِبْهَ جُمْلَةٍ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ تَشْبِيهًا مُمَاثِلًا لِمَا سَمِعْتَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُشِيرُ إِلَى الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ كَالْمَذْكُورِ لِتَقَرُّرِ الْعِلْمِ بِهِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ أَرَادَ تَشْبِيهَهُ لَمْ يُشَبِّهْهُ بِأَكْثَرِ مِنْ أَنْ يُشَبِّهَهُ بِذَاتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ جُمْلَةٍ حذف أحد جزأيها وَالْمَحْذُوفُ مُبْتَدَأٌ. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ كَذَلِكَ، أَيْ كَمَا سَمِعْتَ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون صفة ل قَوْماً أَيْ قَوْمًا كَذَلِكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ وَجَدَهُمْ فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ، أَيْ فِي كَوْنِهِمْ كُفَّارًا، وَفِي تَخْيِيرِهِ فِي إِجْرَاءِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْعِقَابِ أَوْ عَلَى الْإِمْهَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ جُزْءَ جُمْلَةٍ أَيْضًا جُلِبَتْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ فَيَكُونَ فَصْلَ خِطَابٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْأَمْرُ كَذَا. وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ إِلَخْ ... وَجُمْلَةُ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ [الْكَهْف: 92، 93] إِلَخْ ...

[سورة الكهف (18) : الآيات 92 إلى 98]

وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) . هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي ثُمَّ أَتْبَعَ. وبِما لَدَيْهِ: مَا عِنْدَهُ مِنْ عَظَمَةِ الْمُلْكِ مِنْ جُنْدٍ وَقُوَّةٍ وَثَرْوَةٍ. وَالْخُبْرُ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ-: الْعِلْمُ وَالْإِحَاطَةُ بِالْخَبَرِ، كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَعْلُومِ عَظِيمًا بِحَيْثُ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا علّام الغيوب. [92- 98] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 92 إِلَى 98] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) السُّدُّ- بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا-: الْجَبَلُ. وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجِدَارِ الْفَاصِلِ، لِأَنَّهُ يُسَدُّ بِهِ الْفَضَاءُ، وَقِيلَ: الضَّمُّ فِي الْجَبَلِ وَالْفَتْحُ فِي الْحَاجِزِ.

وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ السِّينِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِفَتْحِ السِّينِ- عَلَى لُغَةِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّدَّيْنِ هُنَا الْجَبَلَانِ، وَبِالسَّدِّ الْمُفْرَدِ الْجِدَارُ الْفَاصِلُ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الَّتِي عَيَّنَتِ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُشْتَرك. وتعريف السَّدَّيْنِ تَعْرِيف الْجِنْسِ، أَيْ بَيْنِ سَدَّيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، أَيِ اتَّبَعَ طَرِيقًا آخَرَ فِي غَزْوَةٍ حَتَّى بَلَغَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ اتَّجَهَ بِهِ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ جِهَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الشَّمَالُ أَوِ الْجَنُوبُ. وَعَيَّنَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لِلشَّمَالِ، وَبَنَوْا عَلَى أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ إِسْكَنْدَرُ الْمَقْدُونِيُّ، فَقَالُوا: إِنَّ جِهَةَ السَّدَّيْنِ بَيْنَ (أَرْمِينِيَا وَأَذْرَبِيجَانَ) . وَنَحْنُ نَبْنِي عَلَى مَا عَيَّنَّاهُ فِي الْمُلَقَّبِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ، فَنَقُولُ: إِنَّ مَوْضِعَ السَّدَّيْنِ هُوَ الشَّمَالُ الْغَرْبِيُّ لِصَحْرَاءِ (قُوبِي) الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الصِّينِ وَبِلَادِ الْمَغُولِ شَمَالَ الصِّينِ وَجَنُوبِ (مَنْغُولْيَا) . وَقَدْ وُجِدَ السَّدُّ هُنَالِكَ وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُ إِلَى الْيَوْمِ شَاهَدَهَا الْجُغْرَافِيُّونَ وَالسَّائِحُونَ وَصُوِّرَتْ صُوَرًا شَمْسِيَّةً فِي كُتُبِ الْجُغْرَافِيَا وَكُتُبِ التَّارِيخِ الْعَصْرِيَّةِ. وَمَعْنَى لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِمْ فَلُغَتُهُمْ مُخَالِفَةٌ لِلُغَاتِ الْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهَا تَرَاجِمَةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُلُوكِ أَنْ يَتَّخِذُوا تَرَاجِمَةً لِيُتَرْجِمُوا لُغَاتِ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ غَرِيبَةٍ لِانْقِطَاعِ أَصْقَاعِهِمْ عَنِ الْأَصْقَاعِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا يُوجَدُ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِفْهَامَهُمْ مُرَادَ الْمَلِكِ وَلَا هُمْ يَسْتَطِيعُونَ الْإِفْهَامَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ مُتَوَغِّلُونَ فِي الْبَدَاوَةِ وَالْبَلَاهَةِ فَلَا يَفْهَمُونَ مَا يَقْصِدُهُ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْقَهُونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْقَافِ- أَيْ لَا يَفْهَمُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِىُّ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ- أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِفْهَامَ غَيْرِهِمْ قَوْلَهُمْ. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ. وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ: «نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْهَمُ مَا يَقُولُ» . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُجَاوِرُونَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ، وَكَانُوا أَضْعَفَ مِنْهُمْ فَسَأَلُوا ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنْ يَقِيَهُمْ مِنْ فَسَادِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ تَعْيِينَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَلَا أَسمَاء قبيلهم سِوَى أَنَّهُمْ قَالُوا: هُمْ فِي مُنْقَطَعِ بِلَادِ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَكَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِنْ قَبَائِلِ بِلَادِ الصِّينِ الَّتِي تُتَاخِمُ بِلَادَ الْمَغُولِ وَالتَّتَرِ. وَجُمْلَةُ قالُوا اسْتِئْنَافٌ لِلْمُحَاوَرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ جُمَلَ حِكَايَةِ الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ لَا تَقْتَرِنُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: 30] الْآيَةَ. فَعَلَى أَوَّلِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ مَنْ طَاعَةٍ وَنِظَامٍ وَمَعَ ذَلِكَ يُعْرِبُونَ عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْأَغْرَاضِ مِثْلَ إِعْرَابِ الْأَطْفَالِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَنَّهُمْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يُفْهَمَ مُرَادُهُمْ بَعْدَ لَأْيٍ. وَافْتِتَاحُهُمُ الْكَلَامَ بِالنِّدَاءِ أَنَّهُمْ نَادَوْهُ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِينَ الْمُضْطَرِّينَ، وَنِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ بِلَقَبِ ذِي القرنين يدل عَلَى أَنَّهُ مَشْهُورٌ بِمَعْنَى ذَلِكَ اللَّقَبِ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُتَاخِمَةِ لِبِلَادِهِ. وَيَاجُوجُ وَمَاجُوجُ أُمَّةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاوَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ حَرْفُ عَطْفٍ فَتَكُونُ أُمَّةً ذَاتَ شَعْبَيْنِ، وَهُمُ الْمَغُولُ وَبَعْضُ أَصْنَافِ التَّتَارِ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ رَسْمِ الْكَلِمَةِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا اسْمَانِ عَرَبِيَّانِ كَمَا سَيَأْتِي فَقَدْ كَانَ الصِّنْفَانِ مُتَجَاوِرَيْنِ.

وَوَقَعَ لِعُلَمَاءِ التَّارِيخِ وعلماء الْأَنْسَاب فِي اخْتِلَافُ إِطْلَاقِ اسْمَيِ الْمَغُولِ وَالتَّتَارِ كُلٌّ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ لِعُسْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُتَقَارِبَيْنِ مِنْهُمَا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَغُولَ هُمْ مَاجُوجُ بِالْمِيمِ اسْمُ جَدٍّ لَهُم يُقَال لَهُ أَيْضا (سكيثوس) وَرُبمَا يُقَال لَهُ (جيته) . وَكَانَ الِاسْمُ الْعَامُّ الَّذِي يَجْمَعُ الْقَبِيلَتَيْنِ مَاجُوجَ ثُمَّ انْقَسَمَتِ الْأُمَّةُ فَسُمِّيَتْ فُرُوعُهَا بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ، فَمِنْهَا مَاجُوجُ وَيَاجُوجُ وَتَتَرُ ثُمَّ التُّرْكُمَانُ ثُمَّ التُّرْكُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاوَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً وَلَكِنَّهَا جَاءَتْ فِي صُورَةِ الْعَاطِفَةِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ كَلِمَةً وَاحِدَةً مُرَكَّبَةً تَرْكِيبًا مَزْجِيًّا، فَيَتَكَوَّنُ اسْمًا لِأُمَّةٍ وَهُمُ الْمَغُولُ. وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ أَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هُمُ الْمَغُولُ وَالتَّتَرُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفِدَاءِ أَنَّ مَاجُوجَ هُمُ الْمَغُولُ فَيَكُونُ يَاجُوجُ هُمُ التَّتَرُ. وَقَدْ كَثُرَتِ التَّتَرُ عَلَى الْمَغُولِ فَانْدَمَجَ الْمَغُولُ فِي التَّتَرِ وَغَلَبَ اسْمُ التَّتَرِ عَلَى الْقَبِيلَتَيْنِ. وَأَوْضَحُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جحش أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لَا إِلْهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» . وَحَلَّقَ بِأُصْبُعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَلَا يُعْرَفُ بِالضَّبْطِ وَقْتُ انْطِلَاقِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ وَلَا سَبَبُ ذَلِكَ. وَيُقَدَّرُ أَنَّ انْطِلَاقَهُمْ كَانَ أَوَاخِرَ الْقَرْنِ السَّادِسِ الْهِجْرِيِّ. وَتَشَتَّتُ مُلْكِ الْعَرَبِ بِأَيْدِي الْمَغُولِ وَالتَّتَرِ مِنْ خُرُوجِ جَنْكِيزْ خَانَ الْمَغُولِيِّ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى بُخَارَى سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمَائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَوَصَلُوا دِيَارَ بكر سنة 628 هـ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ تَخْرِيبِ هُولَاكُو بَغْدَادَ عَاصِمَةَ مُلْكِ الْعَرَب سنة 660 هـ. وَنَظِيرُ إِطْلَاقِ اسْمَيْنِ عَلَى حَيٍّ مُؤْتَلِفٍ مِنْ قَبِيلَتَيْنِ إِطْلَاقُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ عَلَى أُمَّةٍ مِنَ الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ، وَإِطْلَاقُ السَّكَاسِكِ وَالسَّكَرَنِ فِي الْقَبَائِلِ

الْيَمَنِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ هِلَالٍ وَزِغْبَةَ عَلَى أَعْرَابِ إِفْرِيقِيَّةَ الْوَارِدِينَ مِنْ صَعِيدِ مِصْرَ، وَإِطْلَاق أَوْلَاد وزاز وَأَوْلَاد يَحْيَى عَلَى حَيٍّ بِتُونِسَ بِالْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ، وَمُرَادَةُ وَفَرْجَانُ عَلَى حَيٍّ مِنْ وَطَنِ نَابُلَ بِتُونِسَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ كِلْتَيْهِمَا بِأَلِفٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ بِدُونِ هَمْزٍ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْهَمْزِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ أَوْ مُعَرَّبٌ، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّهُ اسْمٌ وَضَعَهُ الْقُرْآنُ حَاكَى بِهِ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ تِلْكَ الْأُمَّةِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ مُجْتَمَعِهِمْ فَاشْتُقَّ لَهُمَا مِنْ مَادَّةِ الْأَجِّ، وَهُوَ الْخَلْطُ، إِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ كَانَتْ أَخْلَاطًا مِنْ أَصْنَافٍ. والاستفهام فِي قَوْلِهِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ، مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ. وَالْخَرْجُ: الْمَالُ الَّذِي يُدْفَعُ لِلْمَلِكِ. وَهُوَ- بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَيُقَالُ فِيهِ الْخَرَاجُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَدًّا- بِضَمِّ السِّينِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرو، وَحَفْص، وَحَمْزَة، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ السِّينِ-. وَقَوْلُهُ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أَيْ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنَ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي عرضتموه أَو خير مِنَ السَّدِّ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ، أَيْ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي يَأْتِي بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمْ، فَإِنَّهُ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ سَدَّ عَلَيْهِمُ الْمُرُورَ مِنْ بَيْنِ الصَّدَفَيْنِ تَحَيَّلُوا فَتَسَلَّقُوا الْجِبَالَ وَدَخَلُوا بِلَادَ الصِّينِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ سُورًا مُمْتَدًّا عَلَى الْجِبَالِ فِي طُولِ حُدُودِ الْبِلَادِ حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلُّقُ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ رَدْمًا.

وَالرَّدْمُ: الْبِنَاءُ الْمُرَدَّمُ. شُبِّهَ بِالثَّوْبِ الْمُرَدَّمِ الْمُؤْتَلِفِ مِنْ رِقَاعٍ فَوْقَ رِقَاعٍ، أَيْ سُدًّا مُضَاعَفًا. وَلَعَلَّهُ بَنَى جِدَارَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ وَرَدَمَ الْفَرَاغَ الَّذِي بَيْنَهُمَا بِالتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ لِيَتَعَذَّرَ نَقْبُهُ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي عَمَلَةً كَثِيرِينَ قَالَ لَهُمْ: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَيْ بِقُوَّةِ الْأَبْدَانِ، أَرَادَ تَسْخِيرَهُمْ للْعَمَل لدفع الضّر عَنْهُمْ. وَقَدْ بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ (تِسِينْ شِي هُوَانِقْ تِي) سُلْطَانُ الصِّينِ هَذَا الرَّدْمَ بِنَاءً عَجِيبًا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ مَلَايِينُ مِنَ الْخَدَمَةِ، فَجَعَلَ طُولَهُ ثَلَاثَةَ آلَاف وثلاثمائة كيلومتر. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَلْفًا ومائتي ميل، وَذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحِ فِي تَقْدِيرِ الْمِيلِ، وَجَعَلَ مَبْدَأَهُ عِنْدَ الْبَحْرِ، أَيِ الْبَحْرِ الْأَصْفَرِ شَرْقِيَّ مَدِينَةِ (بِيكِنْغَ) عَاصِمَةِ الصِّينِ فِي خطّ تجاه مَدِينَةِ (مُكَدْنَ) الشَّهِيرَةِ. وَذَلِكَ عِنْدَ عَرْضِ 4، 40 شَمَالًا، وَطُولِ 02، 12 شَرْقًا، وَهُوَ يُلَاقِي النَّهْرَ الْأَصْفَرَ حَيْثُ الطُّولُ 50، 111 شَرْقًا، وَالْعَرْضُ 50، 39 شَمَالًا، وَأَيْضًا فِي 37 عَرْضِ شَمَالِيٍّ. وَمِنْ هُنَالِكَ يَنْعَطِفُ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ وَيَنْتَهِي بِقُرْبِ 99 طُولًا شَرْقِيًّا وَ40 عَرْضًا شَمَالِيًّا. وَهُوَ مَبْنِيٌّ بِالْحِجَارَةِ وَالْآجُرِّ وَبَعْضُهُ مِنَ الطِّينِ فَقَطْ. وَسُمْكُهُ عِنْدَ أَسْفَلِهِ نَحْوَ 25 قَدَمًا وَعِنْدَ أَعْلَاهُ نَحْوَ 15 قَدَمًا وَارْتِفَاعُهُ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ 15 إِلَى 20 قَدَمًا، وَعَلَيْهِ أَبْرَاجٌ مَبْنِيَّةٌ مِنَ الْقَرَامِيدِ ارْتِفَاعُ بَعْضِهَا نَحْوَ 40 قَدَمًا. وَهُوَ الْآنَ بِحَالَةِ خَرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ الدِّفَاعِ، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ عَلَامَةً عَلَى الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْمُقَاطَعَاتِ الْأَرْضِيَّةِ فَهُوَ فَاصِلٌ بَيْنَ الصين ومنغوليا، وَهُوَ يخترق جبال (يابلوني) الَّتِي هِيَ حُدُودٌ طَبِيعِيَّةٌ بَيْنَ الصِّينِ وَبِلَادِ مَنْغُولْيَا فَمُنْتَهَى طَرَفِهِ إِلَى الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ لِصَحْرَاءِ (قُوبِي) .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَكَّنِّي بِنُونٍ مُدْغَمَةٍ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْفَكِّ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ هُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمُنَاوَلَةِ زُبَرِ الْحَدِيدِ. فَالْإِيتَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمُنَاوَلَةُ وَلَيْسَ تَكْلِيفًا لِلْقَوْمِ بِأَنْ يَجْلِبُوا لَهُ الْحَدِيدَ مِنْ مَعَادِنِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَيْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ تَكْلِيفِهِمْ إِنْفَاقًا عَلَى جَعْلِ السَّدِّ. وَكَانَ هَذَا لِقَصْدِ إِقَامَةِ أَبْوَابٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي مَدَاخِلِ الرَّدْمِ لِمُرُورِ سُيُولِ الْمَاءِ فِي شُعَبِ الْجَبَلِ حَتَّى لَا يَنْهَدِمَ الْبِنَاءُ بِأَنْ جَعْلَ الْأَبْوَابَ الْحَدِيدِيَّةَ كَالشَّبَابِيكِ تَمْنُعُ مُرُورَ النَّاسِ وَلَا تَمْنُعُ انْسِيَابَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ قُضُبِهَا، وَجَعَلَ قُضْبَانَ الْحَدِيدِ مَعْضُودَةً بِالنُّحَاسِ الْمُذَابِ الْمَصْبُوبِ عَلَى الْحَدِيدِ. وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زُبْرَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْحَدِيدِ. وَالْحَدِيدُ: مَعْدَنٌ مِنْ مَعَادِنِ الْأَرْضِ يَكُونُ قِطَعًا كَالْحَصَى وَدُونَ ذَلِكَ فِيهَا صَلَابَةٌ. وَهُوَ يُصَنَّفُ ابْتِدَاءً إِلَى صِنْفَيْنِ: لَيِّنٍ، وَيُقَالُ لَهُ الْحَدِيدُ الْأُنْثَى، وَصُلْبٍ وَيُقَالُ لَهُ الذَّكَرُ. ثُمَّ يُصَنَّفُ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صِنْفًا، وألوانه مُتَقَارِبَةٌ وَهِيَ السِّنْجَابِيُّ، مِنْهَا مَا هُوَ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إِلَى الْبَيَاضِ، وَهُوَ إِذَا صُهِرَ بِنَارٍ قَوِيَّةٍ فِي أَتُونٍ مُغْلَقٍ الْتَأَمَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَجَمَّعَتْ فِي وَسَطِ النَّارِ كَالْإِسْفِنْجَةِ وَاشْتَدَّتْ صَلَابَتُهُ لِأَنَّهُ بِالصِّهْرِ يَدْفَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالصَّدَأِ وَالْخَبَثِ، فَتَعْلُو تِلْكَ الْأَجْزَاءُ عَلَى سَطْحِهِ وَهِيَ الزَّبَدُ. وَخَبَثُ الْحَدِيدِ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . وَلِذَلِكَ فَبِمِقْدَارِ مَا يَطْفُو مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاء الغربية الْخَبِيثَةِ يَخْلُصُ الْجُزْءُ الْحَدِيدِيُّ وَيَصْفُو وَيَصِيرُ زُبَرًا. وَمِنْ تِلْكَ الزُّبَرِ تُصْنَعُ الْأَشْيَاءُ الْحَدِيدِيَّةُ مِنْ سُيُوفٍ وَزُجَاجٍ وَدُرُوعٍ وَلَأْمَاتٍ، وَلَا وَسِيلَةَ لِصُنْعِهِ

إِلَّا الصَّهْرُ أَيْضًا بِالنَّارِ بِحَيْثُ تَصِيرُ الزُّبْرَةُ كَالْجَمْرِ، فَحِينَئِذٍ تُشَكَّلُ بِالشَّكْلِ الْمَقْصُودِ بِوَاسِطَةِ الْمَطَارِقِ الْحَدِيدِيَّةِ. وَالْعَصْرُ الذِي اهْتَدَى فِيهِ الْبَشَرُ لِصِنَاعَةِ الْحَدِيدِ يُسَمَّى فِي التَّارِيخِ الْعَصْرُ الْحَدِيدِيُّ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أَشْعَرَتْ حَتَّى بِشَيْءٍ مُغَيًّا قَبْلَهَا، وَهُوَ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَآتَوْهُ زُبَرَ الْحَدِيدِ فَنَضَّدَهَا وَبَنَاهَا حَتَّى إِذا جعل مَا بَين الصدفين مُسَاوِيا لعلو الصَّدَفَيْنِ. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَالْمُسَاوَاةُ: جَعْلُ الْأَشْيَاءِ مُتَسَاوِيَةً، أَيْ مُتَمَاثِلَةً فِي مِقْدَارٍ أَوْ وَصْفٍ. وَالصَّدَفَانِ- بِفَتْحِ الصَّادِ وَفَتْحِ الدَّالِّ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ، وَهُوَ لُغَةٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ-. وَالصَّدَفُ: جَانِبُ الْجَبَلِ، وَهُمَا جَانِبِا الْجَبَلَيْنِ وَهُمَا السَّدَّانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقَزْوِينِيُّ فِي «الْكَشْفِ» : لَا يُقَالُ إِلَّا صَدَفَانِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَلَا يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا صَدَفٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُصَادِفُ الْآخَرُ، أَيْ فَالصَّدَفَانِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَانِبَيْنِ مِثْلُ الْمِقَصَّانِ لِمَا يُقْطَعُ بِهِ الثَّوْبُ وَنَحْوُهُ. وَعَنْ أَبِي عِيسَى: الصَّدَفُ كُلُّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ انْفُخُوا وَقَوْلِهِ آتُونِي خِطَابٌ لِلْعَمَلَةِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ انْفُخُوا لِظُهُورِهِ مِنْ كَوْنِ الْعَمَل فِي صُنْعِ الْحَدِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: انْفُخُوا فِي الكيران، أَي الْكِيرَانِ الْمَصْفُوفَةِ عَلَى طُولِ مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُور: قالَ آتُونِي مِثْلَ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَن عَاصِم آتُونِي عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ الْإِتْيَانِ، أَيْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا لِلْعَمَلِ. وَالْقِطْرُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-: النُّحَاسُ الْمُذَابُ. وَضَمِيرُ اسْطاعُوا واسْتَطاعُوا لِيَأْجُوجَ وَمَاجُوجَ. وَالظُّهُورُ: الْعُلُوُّ. وَالنَّقْبُ: كَسْرُ الرَّدْمِ، وَعَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِمْ ذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ وَصَلَابَتِهِ. واسْطاعُوا تَخْفِيفُ اسْتَطاعُوا، وَالْجمع فبينهما تَفَنُّنٌ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَابْتُدِئَ بِالْأَخَفِّ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ وَلِيَهُ الْهَمْزُ وَهُوَ حَرْفٌ ثَقِيلٌ لِكَوْنِهِ مِنَ الْحَلْقِ، بِخِلَافِ الثَّانِي إِذْ وَلِيَهُ اللَّامُ وَهُوَ خَفِيفٌ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُبْتَدَأَ بِفِعْلِ اسْتَطاعُوا وَيُثَنَّى بِفِعْلِ اسْطاعُوا لِأَنَّهُ يَثْقُلُ بِالتَّكْرِيرِ، كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 78] ثمَّ قَوْله: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 82] . وَمِنْ خَصَائِصِ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ هُنَا إِيثَارُ فِعْلٍ ذِي زِيَادَةٍ فِي الْمَبْنَى بِمَوْقِعٍ فِيهِ زِيَادَةُ الْمَعْنَى لِأَنَّ اسْتِطَاعَةَ نَقْبِ السَّدِّ أَقْوَى مِنِ اسْتِطَاعَةِ تَسَلُّقِهِ، فَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى عَلَى زِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ فَمَا اسْطاعُوا الْأَوَّلَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مُدْغَمًا فِيهَا التَّاءُ.

وَجُمْلَةُ قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّهُ لَمَّا آذَنَ الْكَلَامُ بِانْتِهَاءِ حِكَايَةِ وَصْفِ الرَّدْمِ كَانَ ذَلِكَ مُثِيرًا سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا صَدَرَ مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ حِينَ أَتَمَّ هَذَا الْعَمَلَ الْعَظِيمَ؟ فَيُجَابُ بِجُمْلَةِ: قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الرَّدْمِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ رَدِّ فَسَادِ أُمَّةِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ عَنْ أُمَّةٍ أُخْرَى صَالِحَة. و (من) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجُعِلَتْ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُ لِذَلِكَ وَيَسَّرَ لَهُ مَا هُوَ صَعْبٌ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ نُطْقًا بِالْحِكْمَةِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ. وَلِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عَمَلًا عَظِيمًا مِثْلَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَهُّدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مِنَ الِانْهِدَامِ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَسَنَّى فِي بَعْضِ أَزْمَانِ انْحِطَاطِ الْمَمْلَكَةِ الَّذِي لَا مَحِيصَ مِنْهُ لِكُلِّ ذِي سُلْطَانٍ. وَالْوَعْدُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَأَرَادَ بِهِ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجَلِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ دَوَامُ ذَلِكَ الرَّدْمِ، فَاسْتَعَارَ لَهُ اسْمَ الْوَعْدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ إِنْ كَانَ نَبِيئًا أَوْ أَلْهَمَهُ إِنْ كَانَ صَالِحًا أَنَّ لِذَلِكَ الرَّدْمِ أَجَلًا مُعَيَّنًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ الْوَعْدِ يَوْمَ قَالَ النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ ردم يَأْجُوج وماجوج هَكَذَا، وَعَقَدَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ» كَمَا تَقَدَّمَ. وَالدَّكُّ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ جَعَلَهُ مَدْكُوكًا، أَيْ مُسَوًّى بِالْأَرْضِ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ جَعَلَهُ دَكَّاءَ بِالْمَدِّ. وَالدَّكَّاءُ: اسْمٌ لِلنَّاقَةِ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 99 إلى 101]

وَجُمْلَةُ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا تَذْيِيلٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَجَلٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: 38] ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يُونُس: 49] أَيْ وَكَانَ تَأْجِيلُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ حَقًّا ثَابِتًا لَا يَتَخَلَّفُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِعُمُومِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ كَانَتْ تَذْيِيلًا بَدِيعًا. [99- 101] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 99 الى 101] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ التَّرْكُ: حَقِيقَتُهُ مُفَارَقَةُ شَيْءٍ شَيْئًا كَانَ بِقُرْبِهِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى جَعْلِ الشَّيْءِ بِحَالَةٍ مُخَالِفَةٍ لِحَالَةٍ سَابِقَةٍ تَمْثِيلًا لِحَالِ إِلْفَائِهِ عَلَى حَالَةٍ، ثُمَّ تَغْيِيرِهَا بِحَالِ مَنْ كَانَ قُرْبَ شَيْءٍ ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْمَجَازُ مُقَيَّدًا بِحَالَةٍ كَانَ عَلَيْهَا مَفْعُولُ تَرَكَ، فَيُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ الْعَهْدِ، وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ أَنَّهُ يَدُومُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ الَّذِي تَرَكَهُ عَلَيْهَا بِالْقَرِينَةِ. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لِذِكْرِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الثَّالِثَةِ مِنْ قَصَصِ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِذْ أَلْهَمَهُ دَفْعَ فَسَادِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ، بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةِ قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى، وَجُمْلَةِ كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فَجَاءَ أُسْلُوبُ حِكَايَةِ هَذِهِ الْقَصَصِ الثَّلَاثِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. ويَوْمَئِذٍ هُوَ يَوْمُ إِتْمَامِ بِنَاءِ السَّدِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ الْآيَةَ. ويَمُوجُ يَضْطَرِبُ تَشْبِيهًا بِمَوْجِ الْبَحْرِ. وَجُمْلَةُ يَمُوجُ حَالٌ مِنْ بَعْضَهُمْ أَوْ مفعول ثَان ل تَرَكْنا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِ (جَعَلْنَا) ، أَيْ جَعَلْنَا يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ يَوْمَئِذٍ مُضْطَرِبِينَ بَيْنَهُمْ فَصَارَ فَسَادُهُمْ قَاصِرًا عَلَيْهِمْ وَدُفِعَ عَنْ غَيْرِهِمْ.

وَالنَّارُ تَأْكُلُ نَفْسَهَا ... إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَجِدُوا مَا اعْتَادُوهُ مِنْ غَزْوِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ رَجَعَ قَوِيُّهُمْ عَلَى ضَعِيفِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) . تَخَلُّصٌ مِنْ أَغْرَاضِ الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي الْقِصَّةِ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَيْدِي مَنِ اخْتَارَهُ اللَّهُ لِإِقَامَتِهَا مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، إِلَى غَرَضِ التَّذْكِيرِ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ تَخَلُّصٌ يُؤْذِنُ بِتَشْبِيهِ حَالِ تَمَوُّجِهِمْ بِحَالِ تَمَوُّجِ النَّاسِ فِي الْمَحْشَرِ، تَذْكِيرًا لِلسَّامِعِينَ بِأَمْرِ الْحَشْرِ وَتَقْرِيبًا بِحُصُولِهِ فِي خَيَالِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى جَمْعِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ وَرَاءَ هَذَا السَّدِّ، بِفِعْلِ مَنْ يَسَّرَهُ لِذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ، هُوَ الْأَقْدَرُ عَلَى جَمْعِ الْأُمَمِ فِي الْحَشْرِ بِقُدْرَتِهِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ أَعْجَبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ. وَاسْتُعْمِلَ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَالنَّفْخُ فِي الصُّوَرِ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ تَشْبِيهًا لِحَالِ الدَّاعِي الْمُطَاعِ وَحَالِ الْمَدْعُوِّ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ السَّرِيعِ الْإِجَابَةِ، بِحَالِ الْجُنْدِ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ أَمْرَ الْقَائِدِ بِالنَّفِيرِ فَيَنْفُخُونَ فِي بُوقِ النَّفِيرِ، وَبِحَالِ بَقِيَّةِ الْجُنْدِ حِينَ يَسْمَعُونَ بُوقَ النَّفِيرِ فَيُسْرِعُونَ إِلَى الْخُرُوجِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصُّوَرُ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْآخِرَةِ.

وَالْحَالَةُ الْمُمَثَّلَةُ حَالَةٌ غَرِيبَةٌ لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتأكيد فعلي فَجَمَعْناهُمْ وعَرَضْنا بِمَصْدَرَيْهِمَا لِتَحَقُّقِ أَنَّهُ جَمْعٌ حَقِيقِيٌّ وَعَرْضٌ حَقِيقِيٌّ لَيْسَا مِنَ الْمَجَازِ، وَفِي تَنْكِيرِ الْجَمْعِ وَالْعَرْضِ تَهْوِيلٌ. وَنَعْتُ الْكَافِرِينَ بِ الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ هُوَ سَبَبُ عَرَضِ جَهَنَّمَ لَهُمْ، أَيِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَالْغِطَاءُ: مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِدَلَالَةِ الْبَصَرِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَحَرْفُ (مِنْ) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ تَمَكُّنُ الْغِطَاءِ مِنْ أَعْيُنِهِمْ بِحَيْثُ كَأَنَّهَا محوية للغطاء. و (عَن) لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ ذِكْرِي. وَنَفْيُ اسْتِطَاعَتِهِمُ السَّمْعَ أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ كُفْرِهِمْ لَا تُطَاوِعُهُمْ نُفُوسُهُمْ لِلِاسْتِمَاعِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ سَمْعاً لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ عَنْ ذِكْرِي عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَمْعًا لِآيَاتِي، فَنَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي نَفْيِ الرَّغْبَةِ وَفِي الْإِعْرَاضِ كَقَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] . وَعَرْضُ جَهَنَّمَ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِبْرَازِهَا حِينَ يُشْرِفُونَ عَلَيْهَا وَقَدْ سِيقُوا إِلَيْهَا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْمُهَيَّئَةُ لَهُمْ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْعَرْضِ تَهَكُّمًا بِهِمْ، لِأَنَّ الْعَرْضَ هُوَ إِظْهَارُ مَا فِيهِ رَغْبَة وشهوة.

[سورة الكهف (18) : آية 102]

[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 102] أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) أَعْقَبَ وَصْفَ حِرْمَانِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِدَلَائِلِ الْمُشَاهَدَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ بِتَفْرِيعِ الْإِنْكَارِ لِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَزْعُمُونَهَا نَافِعَةً لَهُمْ تَنْصُرُهُمْ تَفْرِيعَ الْإِنْكَارِ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي، لِأَنَّ حُسْبَانَهُمْ ذَلِكَ نَشَأَ عَنْ كَوْنِ أَعْيُنِهِمْ فِي غِطَاءٍ وَكَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، أَيْ حَسَبُوا حُسْبَانًا بَاطِلًا فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا حَسِبُوهُ شَيْئًا، وَلِأَجْلِهِ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا. وَتَقَدَّمَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فَاءِ الْعَطْفِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ صَدْرُ الْكَلَامِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَمْثَالِهِ. وَالْخِلَافُ شَهِيرٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ، أَوْ أَنَّ الْعَطْفَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَ حَذْفِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَيقدر هُنَا: أأمنوا عَذَابِي فَحَسِبُوا أَنْ يَتَّخِذُوا إِلَخْ ... وَأَوَّلُ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [75] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَحْسَبُونَهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا ظَنُّوهُ بَاطِلٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت: 2] . وأَنْ يَتَّخِذُوا سَادَ مسدّ مفعولي فَحَسِبَ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ فَهُوَ يَنْحَلُّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِبَادِيَ مُتَّخِذِينَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ دُونِي. وَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى مَعْمُولِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ أَوْلِياءَ الْمَعْمُول ل يَتَّخِذُوا بِقَرِينَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فعل فَحَسِبَ مِنْ أَنَّ هُنَالِكَ

مَحْسُوبًا بَاطِلًا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَوْلِيَاءَ بِاعْتِبَارِ مَا تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْحِمَايَةِ وَالنَّصْرِ. وعِبادِي صَادِقٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَمَنْ عَبَدُوهُمْ مِنَ الْأَخْيَارِ مِثْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَصْدُقُ عَلَى الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ. ومِنْ دُونِي مُتَعَلِّقُ بِ أَوْلِياءَ إِمَّا بِجَعْلِ دُونِي اسْمًا بِمَعْنَى حَوْلَ، أَيْ مِنْ حَوْلِ عَذَابِي، وَتَأْوِيلُ أَوْلِياءَ بِمَعْنَى أَنْصَارًا، أَيْ حَائِلِينَ دون عَذَابي ومانعيهم مِنْهُ، وَإِمَّا بِجَعْلِ دُونِي بِمَعْنَى غَيْرِي، أَيْ أَحَسِبُوا أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ بِوِلَايَتِهِمْ. وَصِيغَ فِعْلُ الِاتِّخَاذِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْلِعِينَ عَنْهُ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» فِعْلَ يَتَّخِذُوا لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ أَحَسِبُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي أَوْلِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً. وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: 40- 41] . وَإِظْهَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَفَحَسِبُوا، بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِدَلَالَتِهَا، وَزِيَادَةً فِي إِظْهَار التوبيخ لَهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا مُقَرَّرَةٌ لِإِنْكَارِ انْتِفَاعِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِمْ فَأَكَّدَ بِأَنَّ جَهَنَّمَ أُعِدَّتْ لَهُمْ نُزُلًا فَلَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهَا وَلِذَلِكَ أَكَّدَ بِحَرْفِ (إِنَّ) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 103 إلى 104]

وأَعْتَدْنا: أَعْدَدْنَا، أبدل الدَّال الأولى تَاءً لِقُرْبِ الْحَرْفَيْنِ، وَالْإِعْدَادُ: التَّهْيِئَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارا [الْكَهْف: 29] . وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ الْمُشْرِكِينَ. وَالنُّزُلُ- بِضَمَّتَيْنِ-: مَا يُعَدُّ لِلنَّزِيلِ وَالضَّيْفِ مِنَ الْقِرَى. وَإِطْلَاقُ اسْمِ النُّزُلِ عَلَى الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ عَلَاقَتُهَا التَّهَكُّمُ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مرداة طحونا [103، 104] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 103 إِلَى 104] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) اعْتِرَاضٌ بِاسْتِئْنَافٍ ابْتِدَائِيٍّ أَثَارَهُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ ... فَإِنَّهُمْ لَمَّا اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ مَنْ لَيْسُوا يَنْفَعُونَهُمْ فَاخْتَارُوا الْأَصْنَامَ وَعَبَدُوهَا وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ اغْتِرَارًا بِأَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ وَهِيَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فَكَانَ عَمَلُهُمْ خَاسِرًا وَسَعْيُهُمْ بَاطِلًا. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ ... إِلَخْ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَقُولِ بِإِصْغَاءِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِافْتِتَاحِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فِي غَرَض مهمّ، وَكَذَلِكَ افْتِتَاحُهُ بِاسْتِفْهَامِهِمْ عَنْ إِنْبَائِهِمُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي الْعَرْضِ لِأَنَّهُ

بِمَعْنَى: أَتُحِبُّونَ أَنْ نُنَبِّئَكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، وَهُوَ عَرْضُ تَهَكُّمٍ لِأَنَّهُ مُنْبِئُهُمْ بِذَلِكَ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَاهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إِلَى آخِرِهِ ... تَمْلِيحٌ إِذْ عَدَلَ فِيهِ عَنْ طَرِيقِةِ الْخِطَابِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِأَنَّكُمُ الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا، إِلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ بِحَيْثُ يَسْتَشْرِفُونَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ فَمَا يُرَوِّعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُمْ هُمْ أَنْفُسُهُمْ. وَالْمَقُولُ لَهُمْ: الْمُشْرِكُونَ، تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ خَيْبَةِ سَعْيِهِمْ. وَنُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ فِي قَوْلِهِ نُنَبِّئُكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نُونُ الْعَظَمَةِ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الْحِكَايَةِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يُنَبِّئُكُمُ اللَّهُ، أَيْ سَيُنَبِّئُكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ رَاجِعَةً إِلَى الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً لِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ بدل من بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا وَفِي هَذَا الْإِطْنَابِ زِيَادَةُ التَّشْوِيقِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ حَيْثُ أَجْرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ مَا يَزِيدُ السَّامِعَ حِرْصًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْوَالِ. وَالضَّلَالُ: خَطَأُ السَّبِيلِ. شَبَّهَ سَعْيَهُمْ غَيْرَ الْمُثْمِرِ بِالسَّيْرِ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مُوَصِّلَةٍ. وَالسَّعْيُ: الْمَشْيُ فِي شِدَّةٍ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [19] ، أَيْ عَمِلُوا

[سورة الكهف (18) : آية 105]

أَعْمَالًا تَقَرَّبُوا بِهَا لِلْأَصْنَامِ يَحْسَبُونَهَا مُبَلِّغَةً إِيَّاهُمْ أغراضا وَقد أخطؤوها وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ خَيْرًا. وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى سَعْيِهِمْ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَعْنَى: الَّذِينَ ضَلُّوا فِي سَعْيِهِمْ. وَبَيْنَ يَحْسَبُونَ ويُحْسِنُونَ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِمَا فِي مَبْحَث الجناس. [105] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 105] أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) جُمْلَةٌ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِئَلَّا يَلْتَبِسُوا بِغَيْرِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 5] . وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا بَعْدِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ حُكْمٍ بِسَبَبِ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ. وَالْآيَاتُ: الْقُرْآنُ وَالْمُعْجِزَاتُ. وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ وَالدَّحْضُ. وَقَوْلُهُ: رَبِّهِمْ يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي نُونِ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ أَنَّهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا، وَيَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.

[سورة الكهف (18) : آية 106]

وَنُونُ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي نُونِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ فَإِنَّهَا الْتِفَاتٌ عَنْ قَوْلِهِ بِآياتِ رَبِّهِمْ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا يُقِيمُ لَهُمْ. وَنَفْيُ إِقَامَةِ الْوَزْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالشَّيْءِ، وَفِي حَقَارَتِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَزِنُونَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَنَافَسَ فِي مَقَادِيرِهَا وَالشَّيْءُ التَّافِهُ لَا يُوزَنُ، فَشُبِّهُوا بِالْمُحَقَّرَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَأَثْبَتَ لَهُمْ عَدَمَ الْوَزْنِ تَخْيِيلًا. وَجُعِلَ عَدَمُ إِقَامَةِ الْوَزْنِ مُفَرَّعًا عَلَى حَبْطِ أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ بِحَبْطِ أَعْمَالِهِمْ صَارُوا مُحَقَّرِينَ لَا شَيْءَ لَهُمْ من الصَّالِحَات. [106] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 106] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) الْإِشَارَةُ إِمَّا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَعِيدِهِمْ فِي قَوْلِهِ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا، أَيْ ذَلِكَ الْإِعْدَادُ جَزَاؤُهُمْ. وَقَوْلُهُ جَزاؤُهُمْ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَوْلُهُ جَهَنَّمُ بَدَلٌ مِنْ جَزاؤُهُمْ بَدَلًا مُطَابِقًا لِأَنَّ إِعْدَادَ جَهَنَّمَ هُوَ عَيْنُ جَهَنَّمَ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ جَهَنَّمَ أَكْسَبَهُ قُوَّةَ التَّأْكِيدِ. وَإِمَّا إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاق يُبينهُ مَا بَعْدَهُ عَلَى نَحْوِ اسْتِعْمَالِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَ تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 107 إلى 108]

وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة، و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. وَاتَّخَذُوا عَطْفٌ عَلَى كَفَرُوا فَهُوَ مِنْ صِلَةِ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَبِمَا اتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُؤًا، أَيْ بِاتِّخَاذِهِمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَالرُّسُلُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ فَيَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ حَالِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إِبْرَاهِيم: 44] . وَالْهُزُؤُ- بِضَمَّتَيْنِ- مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الْوَصْفِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ كَانُوا كَثِيرِي الهزؤ بهم. [107، 108] [سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 107 إِلَى 108] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْبِشَارَةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي مُقَابَلَةِ جُمْلَةِ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا، وَهِيَ مُؤَكَّدَةٌ كَيْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُهْتَمٍّ بِتَأْكِيدِهِ مَعَ مَا فِي التَّأْكِيدَيْنِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْإِنْذَارِ وَتَقْوِيَةِ الْبِشَارَةِ. وَجَعْلُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمَوْصُولَ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ أَعْمَالِهِمْ، فَلِذَلِكَ خُولِفَ نَظْمُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُقَابِلُهَا فَلَمْ

يَقُلْ: جَزَاؤُهُمُ الْجَنَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي الْمُخَالِفِ بَيْنَ وَصْفِ الْجَزَاءَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْف: 29] ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الْكَهْف: 30] . وَفِي الْإِتْيَان ب كانَتْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْجَنَّاتِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ قَبْلُ مُهَيَّأٌ لَهُمْ. وَجِيءَ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ تَكْرِيمًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَالُوا الْجَنَّةَ بِاسْتِحْقَاقِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] . وَجَمْعُ الْجَنَّاتِ إِيمَاءً إِلَى سَعَةِ نَعِيمِهِمْ، وَأَنَّهَا جنان كَثِيرَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ» . وَالْفِرْدَوْسُ: الْبُسْتَانُ الْجَامِعُ لِكُلِّ مَا يَكُونُ فِي الْبَسَاتِينِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ. وَقِيلَ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَرَبِيٌّ، أَيْ لَيْسَ مُعَرَّبًا. وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَأَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ لِلْبَسَاتِينِ وَالْكُرُومِ: الْفَرَادِيسُ. وَفِي مَدِينَةِ حَلَبَ بَابٌ يُسَمَّى بَابُ الْفَرَادِيسِ. وَإِضَافَةُ الْجَنَّاتِ إِلَى الْفِرْدَوْسِ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ جَنَّاتٌ هِيَ مِنْ صِنْفِ الْفِرْدَوْسِ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الْجَنَّةِ أَوْ وَسَطُ الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ إِطْلَاقٌ آخَرُ عَلَى هَذَا الْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ. فَإِنْ حُمِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِ كَانَتْ إِضَافَةُ جَنَّاتُ إِلَى الْفِرْدَوْسِ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً، أَيْ جَنَّاتُ هَذَا الْمَكَانِ.

[سورة الكهف (18) : آية 109]

وَالنُّزُلُ: تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أَي لَيْسَ بعد مَا حَوَتْهُ تِلْكَ الْجَنَّاتُ مِنْ ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ وَالتَّمَتُّعِ مَا تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إِلَيْهِ فَتَوَدُّ مُفَارَقَةَ مَا هِيَ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، أَيْ هُمْ يَجِدُونَ فِيهَا كُلَّ مَا يُخَامِرُ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُشْتَهَى. وَالْحِوَلُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْعِوَجِ وَالصِّغَرِ. وَحَرْفُ الْعِلَّةِ يُصَحَّحُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَكِنَّ الْغَالِبَ فِيمَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الزِّنَةِ مَصْدَرًا التَّصْحِيحُ مِثْلَ: الْحِوَلِ، وَفِيمَا كَانَ مِنْهَا جَمْعًا الْإِعْلَالُ نَحْوَ: الْحِيَلُ جَمْعُ حِيلَةٍ. وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ مُشْتَقٌّ من التَّحَوُّل. [109] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 109] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) لما ابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ ثُمَّ أُفِيضَ فِيهَا مِنْ أَفَانِينِ الْإِرْشَادِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، وَمَا هُوَ خَفِيٌّ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، حَوْلَ الْكَلَامِ إِلَى الْإِيذَانِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنْ عَظِيمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُفِيضِ الْعِلْمِ على رَسُوله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَظُنُّونَهَا مُفْحِمَةً لِلرَّسُولِ وَأَنْ لَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِهَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَصْدَقَ خَبَرٍ، وَبَيَّنَهَا بِأَقْصَى مَا تَقْبَلُهُ أَفْهَامُهُمْ وَبِمَا يَقْصُرُ عَنْهُ عِلْمُ الَّذِينَ أَغْرَوُا الْمُشْرِكِينَ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا، وَكَانَ آخِرَهَا خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ سَعَةَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ مَا يَجْرِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ

مِنَ الْوَحْيِ إِذَا أَرَادَ إِبْلَاغَ بَعْضِ مَا فِي عِلْمِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَفِي هَذَا رَدُّ عَجُزِ السُّورَةِ عَلَى صَدْرِهَا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ لِأَجْلِ قَوْلِ الْيَهُودِ لرَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَيْفَ تَقُولُ، أَيْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [85] . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ: فِي كِتَابِكُمْ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: 269] ثُمَّ تَقْرَءُونَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ... الْآيَةَ. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ: مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ مِمَّا يُوحِي إِلَى رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغُوهُ، فَكُلُّ مَعْلُومٍ يُمْكِنُ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ. فَإِذَا أُخْبِرَ بِهِ صَارَ كَلِمَةً، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ كَلِمَاتٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنْهَا وَلَوْ شَاءَ لَأَخْبَرَ بِغَيْرِهِ، فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَاتِ عَلَيْهَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ. وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَان: 27] . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِإِثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَلِإِثْبَاتِ التَّعَلُّقِ الصُّلُوحِيِّ لِصِفَةِ الْعِلْمِ. وَقَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِهَذَا التَّعَلُّقِ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ مَا يُخْبِرُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ أَحَدِ رُسُلِهِ أَنْ يُكْتَبَ حِرْصًا عَلَى بَقَائِهِ فِي الْأُمَّةِ، شُبِّهَتْ مَعْلُومَاتُ اللَّهِ الْمُخْبَرُ بِهَا وَالْمُطْلَقُ عَلَيْهَا كَلِمَاتٌ بِالْمَكْتُوبَاتِ، وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ الْمِدَادُ الَّذِي بِهِ الْكِتَابَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْمِدَادِ تَخْيِيلٌ كَتَخَيُّلِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ. فَيَكُونُ مَا هُنَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْأَقْلَامِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْمِدَادَ بِمَعْنَى الْحِبْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا تَشْبِيهُ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَطْلُوبِ، كَمَا شُبِّهَ نُورُ اللَّهِ وَهَدْيُهُ بِالْمِصْبَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النُّور: 35] وَيَكُونُ الْمِدَادُ تَخْيِيلًا بِالزَّيْتِ الَّذِي يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ. وَالْمِدَادُ يُطْلَقُ عَلَى الْحِبْرِ لِأَنَّهُ تُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ، أَيْ يُمَدُّ بِهِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ نَوْعِهِ، وَيُطْلَقُ الْمِدَادُ عَلَى الزَّيْتِ الَّذِي يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحِبْرِ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ مَكْنِيَّتَيْنِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِكَلِماتِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ كَلِمَاتِ رَبِّي. وَالْكَلَامُ يُؤْذِنُ بِمُضَافٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: لِكِتَابَةِ كَلِمَاتِ رَبِّي، إِذِ الْمِدَادُ يُرَادُ لِلْكِتَابَةِ وَلَيْسَ الْبَحْرُ مِمَّا يُكْتَبُ بِهِ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ بُنِيَ عَلَى الْمَفْرُوضِ بِوَاسِطَةِ (لَوْ) . وَالْمِدَادُ: اسْمٌ لِمَا يُمَدُّ بِهِ الشَّيْءُ، أَيْ يُزَادُ بِهِ عَلَى مَا لَدَيْهِ. وَلَمْ يَقُلْ مِدَادًا، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُهُ بِالْحِبْرِ لِحُصُولِ ذَلِكَ بِالتَّشْبِيهِ الَّذِي قَبْلَهُ وَإِنَّمَا قُصِدَ هُنَا أَنَّ مِثْلَهُ يَمُدُّهُ. وَالنَّفَادُ: الْفَنَاءُ وَالِاضْمِحْلَالُ، وَنَفَادُ الْبَحْرِ مُمْكِنٌ عَقْلًا. وَأَمَّا نَفَادُ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِمَعْنَى تَعَلُّقَاتِ عِلْمِهِ فَمُسْتَحِيلٌ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ نَفَادِ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِقَيْدِ الظَّرْفِ وَهُوَ قَبْلَ إِمْكَانُ نَفَادِ كَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَكِنْ لَمَّا بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (لَوْ) كَانَ الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي وَكَانَتْ كَلِمَاتُ رَبِّي مِمَّا يَنْفَدُ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.

[سورة الكهف (18) : آية 110]

وَهَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ تَنَاهِي مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي مِنْهَا تِلْكَ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَلَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أَنَّ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى نَفَادًا كَمَا عَلِمْتَهُ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً فِي مَوْضِعِ الْحَال. ولَوْ وصيلة، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى حَالَةٍ هِيَ أَجْدَرُ الْأَحْوَالِ بِأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ مَعَهَا مُفَادُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَيُنَبَّهُ السَّامِعُ عَلَى أَنَّهَا مُتَحَقِّقٌ مَعَهَا مُفَادُ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ ثَانِيَةٌ. وَانْتَصَبَ مَدَداً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُفَسِّرِ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي لفظ بِمِثْلِهِ، أَيْ مِثْلِ الْبَحْرِ فِي الْإِمْدَاد. [110] [سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 110] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ، انْتَقَلَ بِهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُوحِيَ إِلَى رَسُولِهِ بِعِلْمِ كُلِّ مَا يَسْأَلُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِهِ، إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبْعَثْ لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَلَا أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِالْأَشْيَاءِ فَيَتَصَدَّى لِلْإِجَابَةِ عَنْ أَسْئِلَةٍ تُلْقَى إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ بَشَرٌ عِلْمُهُ كَعِلْمِ الْبشر أوحى الله إِلَيْهِ بِمَا شَاءَ إِبْلَاغَهُ عِبَادَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ، وَلَا

عِلْمَ لَهُ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الْأَعْرَاف: 203] . فَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قَصَرَ الْمَوْصُوفَ عَلَى الصِّفَةِ وَهُوَ إِضَافِيٌّ لِلْقَلْبِ، أَيْ مَا أَنَا إِلَّا بَشَرٌ لَا أَتَجَاوَزُ الْبَشَرِيَّةَ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا أَهَمُّ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا بُعِثَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالسَّعْيُ لِمَا فِيهِ السَّلَامَةُ عِنْدَ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الْكَهْف: 2- 5] . وَجُمْلَةُ يُوحى إِلَيَّ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ بَشَرٌ. وإِنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَ (مَا) الْكَافَّةِ كَمَا رُكِّبَتْ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ فَتُفِيدُ مَا تُفِيدُهُ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَمَا تُفِيدُهُ (إِنَّمَا) مِنَ الْحَصْرِ، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا هُنَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى: يُوحِي اللَّهُ إِلَيَّ تَوْحِيدَ الْإِلَهِ وَانْحِصَارَ وَصْفِهِ فِي صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ دُونَ الْمُشَارَكَةِ. وَتَفْرِيعُ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ، أَيْ يُوحَى إِلَيَّ بِوَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِ وَبِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَجَاءَ النَّظْمُ بِطَرِيقَةٍ بَدِيعَةٍ فِي إِفَادَةِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، إِذْ جَعَلَ التَّوْحِيدَ أَصْلًا لَهَا وَفُرِّعَ عَلَيْهِ الْأَصْلَانِ الْآخَرَانِ، وَأَكَّدَ الْإِخْبَارَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَهُوَ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ.

19- سورة مريم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 19- سُورَةُ مَرْيَمَ اسْمُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَأَكْثَرِ كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةُ مَرْيَمَ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّيْلَمَيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ وُلِدَتْ لِيَ اللَّيْلَةَ جَارِيَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّيْلَةَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ مَرْيَمَ فَسَمِّهَا مَرْيَمَ» . فَكَانَ يُكَنَّى أَبَا مَرْيَمَ، وَاشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ نَذِيرٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَنْصَارِيٌّ. وَابْنُ عَبَّاسٍ سَمَّاهَا سُورَةَ كهيعص، وَكَذَلِكَ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَأَصَحِّهَا. وَلَمْ يَعُدَّهَا جَلَالُ الدِّينِ فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمَيْنِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَرَ الثَّانِيَ اسْمًا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ آيَةَ السَّجْدَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْقَوْلُ لِاتِّصَالِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ قَبْلَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُلْحِقَتْ بِهَا فِي النُّزُولِ وَهُوَ بَعِيدٌ.

أغراض السورة

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: 71] الْآيَةَ مَدَنِيٌّ، وَلَمْ يَعْزُهُ لِقَائِلٍ. وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ فَاطِرٍ وَقَبْلَ سُورَةِ طه. وَكَانَ نُزُولُ سُورَةِ طه قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ فَيَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ أَثْنَاءَ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَيْسَ أَبُو مَرْيَمَ هَذَا مَعْدُودًا فِي الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ فَلَا أَحْسَبُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ مَقْبُولًا. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا بُسِطَتْ فِيهَا قِصَّةُ مَرْيَمَ وَابْنِهَا وَأَهْلِهَا قَبْلَ أَنْ تُفَصَّلَ فِي غَيْرِهَا. وَلَا يُشْبِهُهَا فِي ذَلِكَ إِلَّا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ. وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ ثمانا وَتِسْعين. أغراض السُّورَة وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الْقَوْلِ الشَّنِيعِ فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا، فَكَانَ فِيهَا بَيَانُ نَزَاهَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَدَاسَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ. وَهَلْ يُثْبِتُ الْخَطِّيَّ إِلَّا وَشِيجُهُ ثُمَّ التَّنْوِيهِ بِجَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَسْلَافِ هَؤُلَاءِ وَقَرَابَتِهِمْ. وَالْإِنْحَاءِ عَلَى بَعْضِ خَلَفِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى سُنَنِهِمْ فِي الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَتَوْا بِفَاحِشٍ مِنَ الْقَوْلِ إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَأَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمُ الْبَعْثَ وَأَثْبَتَ النَّصَارَى وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ فِي تَبْشِيرِهِ وَنِذَارَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا لِيُسْرِ تِلْكَ اللُّغَةَ. وَالْإِنْذَارُ مِمَّا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَم من الاستيصال. وَاشْتَمَلَتْ عَلَى كَرَامَةِ زَكَرِيَّاءَ إِذْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَرَزَقَهُ وَلَدًا عَلَى الْكِبَرِ وَعُقْرِ امْرَأَتِهِ. وَكَرَامَةُ مَرْيَمَ بِخَارِقِ الْعَادَةِ فِي حَمْلِهَا وَقَدَاسَةِ وَلَدِهَا، وَهُوَ إِرْهَاصٌ لِنُبُوءَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِثْلُهُ كَلَامُهُ فِي المهد. والتنزيه بِإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَمُوسَى، وَإِسْمَاعِيلَ، وَإِدْرِيسَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَوَصْفِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا. وَحِكَايَةِ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْبَعْثَ بِمَقَالَةِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَالْعَاصِي بن وَائِل وتبججهم عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَقَامِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ. وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَصْنَامَهُمُ الَّتِي اعْتَزُّوا بِهَا سَيَنْدَمُونَ عَلَى اتِّخَاذِهَا. وَوَعْدِ الرَّسُولِ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِ. وَذِكْرِ ضَرْبٍ مِنْ كُفْرِهِمْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَلِمِلَّتِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ بَشِيرٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَنَذِيرٌ بِهَلَاكِ مُعَانَدِيهِ كَمَا هَلَكَتْ قُرُونٌ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ صِفَةُ الرَّحْمَنِ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَذُكِرَ اسْمُ الرَّحْمَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَنْبَأَ بِأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا تَحْقِيقُ وَصْفِ اللَّهِ

[سورة مريم (19) : آية 1]

تَعَالَى بِصِفَةِ الرَّحْمَنِ. وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ تَقَعَّرُوا بِإِنْكَارِ هَذَا الْوَصْفِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [60] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْتِطْرَادٌ بِآيَةِ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَم: 64] . [1] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) حُرُوفُ هِجَاءٍ مَرْسُومَةٌ بِمُسَمَّيَاتِهَا وَمَقْرُوءَةٌ بِأَسْمَائِهَا فَكَأَنَّهَا كُتِبَتْ لِمَنْ يَتَهَجَّاهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَجْمُوعِ نَظَائِرِهَا. وَفِي الْمُخْتَارِ مِنَ الْأَقْوَالِ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَكَذَلِكَ مَوْقِعُهَا مِنَ الْكَلَامِ. وَالْأَصْلُ فِي النُّطْقِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنَّهَا تِعْدَادُ حُرُوفٍ مُسْتَقِلَّةٍ أَوْ مُخْتَزَلَةٍ مِنْ كَلِمَاتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَمِيعَ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ بِإِخْلَاصِ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ بِإِسْكَانِ أَوَاخِرِ أَسْمَائِهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ اسْمَ الْحَرْفِ الثَّانِي وَهُوَ هَا بِالْإِمَالَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ (هَا) بِحَرَكَةٍ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ (يَا) بِالْإِمَالَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِإِظْهَارِ دَالِ (صَادْ) . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِدْغَامِهِ فِي ذال ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ [مَرْيَم: 2] وَإِنَّمَا لَمْ يُمَدْ (هَا) وَ (يَا) مَعَ أَنَّ الْقَارِئَ إِنَّمَا يَنْطِقُ بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْحُرُوفِ

[سورة مريم (19) : الآيات 2 إلى 3]

الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّورِ لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا الْمَكْتُوبَةِ أَشْكَالُهَا، وَاسْمَا هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ مَخْتُومَانِ بِهَمْزَةٍ مُخَفَّفَةٍ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي طَالِعِ سُورَةِ يُونُسَ وَهُوَ التَّخْفِيف بِإِزَالَة الْهمزَة لِأَجْلِ السَّكْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ جَرَيْتَ عَلَى غَيْرِ الْمُخْتَارِ فِي مَعَانِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَأَمَّا الْأَقْوَالُ الَّتِي جَعَلَتِ الْفَوَاتِحَ كُلَّهَا مُتَّحِدَةً فِي الْمُرَادِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الَّتِي خَصَّتْ بَعْضَهَا بِمَعَانٍ، فَقِيلَ فِي مَعْنَى كهيعص إِنَّ حُرُوفَهَا مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْكَافِي أَوِ الْكَرِيمِ أَوَ الْكَبِيرِ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ أَوْ رَحِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَلِيمِ أَوَ الْعَظِيمِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّادِقِ، وَقِيلَ مَجْمُوعُهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، حَتَّى قِيلَ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَقِيلَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، أَيْ بِتَسْمِيَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدِيث يعْتَمد. [2- 3] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 2 إِلَى 3] ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) افْتِتَاحُ كَلَامٍ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذِكْرُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، مِثْلُهُ شَائِعُ الْحَذْفِ فِي أَمْثَالِ هَذَا مِنَ الْعَنَاوِينِ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ. وَهُوَ بِمَعْنَى: اذْكُرْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ أَصْلُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا نَائِبًا عَنْ عَامِلِهِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ اذْكُرْ ذِكْرًا، ثُمَّ حُوِّلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا حُوِّلَ فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: 2] . وَيُرَجِّحُهُ عَطْفُ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ [مَرْيَمَ: 16] وَنَظَائِرُهُ. وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةٍ بَدِيعَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْعُدُولِ عَنِ الْأُسْلُوبِ الْمُتَعَارَفِ فِي الْإِخْبَارِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: ذِكْرُ عَبْدِنَا

زَكَرِيَّاءَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ إِلَخْ ... فَرَحْمَةُ رَبِّكَ، فَكَانَ فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ بِأَنَّ اللَّهَ رَحِمَهُ اهْتِمَامٌ بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ لَهُ، وَالْإِنْبَاءُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، مَعَ مَا فِي إِضَافَةِ رَبِّ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى ضَمِيرِ زَكَرِيَّاءَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِمَا. وَافْتُتِحَتْ قِصَّةُ مَرْيَمَ وَعِيسَى بِمَا يَتَّصِلُ بهَا من شؤون آلِ بَيْتِ مَرْيَمَ وَكَافِلِهَا لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا تَذْكِيرًا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَتِهِ لأوليائه. وزكرياء نَبِي مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ زَكَرِيَّاءُ الثَّانِي زَوْجُ خَالَةِ مَرْيَمَ، وَلَيْسَ لَهُ كِتَابٌ فِي أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَأَمَّا الَّذِي لَهُ كِتَابٌ فَهُوَ زَكَرِيَّاءُ بْنُ بَرْخِيَا الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَدْ مَضَتْ تَرْجَمَةُ زَكَرِيَّاءَ الثَّانِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَمَضَتْ قِصَّةُ دُعَائِهِ هُنَالِكَ. وإِذْ نَادَى رَبَّهُ ظرف ل رَحْمَتِ. أَيْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ ذِكْرُ، أَيِ اذْكُرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ. وَالنِّدَاءُ: أَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِطَلَبِ الْإِقْبَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [193] وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 43] . وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ كَثِيرًا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ طَلَبُ إِقْبَالِ الذَّاتِ لِعَمَلٍ أَوْ إِقْبَالِ الذِّهْنِ لِوَعْيِ كَلَامٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحُرُوفُ الَّتِي يُفْتَتَحُ بِهَا طَلَبُ الْإِقْبَالِ حُرُوفَ النِّدَاءِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ بِطَلَبِ حَاجَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نِدَاءٌ لِأَنَّ شَأْنَ الدُّعَاءِ فِي الْمُتَعَارَفِ أَنْ يَكُونَ جَهْرًا. أَيْ تَضَرُّعًا لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ الْمَدْعُوِّ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ زَكَرِيَّاءَ قَالَ: يَا رَبِّ، بِصَوْتٍ خَفِيٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ خَفِيًّا لِأَنَّ زَكَرِيَّاءَ رَأَى أَنَّهُ أَدْخَلَ فِي الْإِخْلَاصِ مَعَ رَجَائِهِ أَنَّ اللَّهَ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ لِئَلَّا تَكُونَ اسْتِجَابَتُهُ مِمَّا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْعُهُ تَضَرُّعًا وَإِنْ كَانَ التَّضَرُّعُ أَعْوَنَ عَلَى صِدْقِ

[سورة مريم (19) : الآيات 4 إلى 6]

التَّوَجُّهِ غَالِبًا، فَلَعَلَّ يَقِينَ زَكَرِيَّاءَ كَافٍ فِي تَقْوِيَةِ التَّوَجُّهِ، فَاخْتَارَ لِدُعَائِهِ السَّلَامَةَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّيَاءِ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ نِدَاءً وَكَوْنِهِ خَفِيًّا، لِأَنَّهُ نِدَاءُ مَنْ يَسْمَعُ الْخَفَاءَ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ: اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ، كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ بِقَوْلِهِ: يَا زَكَرِيَّاءُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مَرْيَم: 7] . وَإِنَّمَا حُكِيَ فِي الْآيَةِ وَصْفُ دُعَاءِ زَكَرِيَّاءَ كَمَا وَقَعَ فَلَيْسَ فِيهَا إِشْعَارٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى إخفاء الدُّعَاء. [4- 6] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 4 إِلَى 6] قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) جُمْلَةُ قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي مَبْنِيَّة لِجُمْلَةِ نَادَى رَبَّهُ [مَرْيَم: 3] . وَهِيَ وَمَا بَعْدَهَا تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنِ اضْطِرَارِهِ لِسُؤَالِ الْوَلَدِ. وَاللَّهُ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، فَلَيْسَ سُؤَالُهُ الْوَلَدَ سُؤَالَ تَوَسُّعٍ لِمُجَرَّدِ تَمَتُّعٍ أَوْ فَخْرٍ. وَوَصَفَ مِنْ حَالِهِ مَا تَشْتَدُّ مَعَهُ الْحَاجَةُ إِلَى الْوَلَد حَالا ومئالا، فَكَانَ وَهَنُ الْعَظْمِ وَعُمُومُ الشَّيْبِ حَالًا مُقْتَضِيًا لِلِاسْتِعَانَةِ بِالْوَلَدِ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ مِنِ اقْتِرَابٍ إِبَّانَ الْمَوْتِ عَادَةً، فَذَلِكَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَوَسِيلَةٌ

لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْخَبَرَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي لَازِمِ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الِاسْتِرْحَامُ لِحَالِهِ. لِأَنَّ الْمُخْبَرَ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- عَالِمٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرَانِ. وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعَظْمِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا شَمِلَهُ الْوَهْنُ فِي جَسَدِهِ لِأَنَّهُ أَوْجَزُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ الْوَهْنِ جَمِيعَ بَدَنِهِ لِأَنَّ الْعَظْمَ هُوَ قِوَامُ الْبَدَنِ وَهُوَ أَصْلَبُ شَيْءٍ فِيهِ فَلَا يَبْلَغُهُ الْوَهْنُ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَ مَا فَوْقَهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَظْمُ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ دَالٌّ عَلَى عُمُومِ الْعِظَامِ مِنْهُ. وَشُبِّهَ عُمُومُ الشَّيْبِ شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِ بِاشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْفَحْمِ بِجَامِعِ انْتِشَارِ شَيْءٍ لَامِعٍ فِي جِسْمٍ أَسْوَدَ، تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا تَمْثِيلِيًّا قَابِلًا لِاعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ فِي التَّشْبِيهِ، وَهُوَ أَبْدَعُ أَنْوَاعِ الْمُرَكَّبِ. فَشُبِّهَ الشَّعْرُ الْأَسْوَدُ بِفَحْمٍ وَالشَّعْرُ الْأَبْيَضُ بِنَارٍ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ وَرُمِزَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ اشْتَعَلَ. وَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ مَكَانُ الشَّعْرِ الَّذِي عَمَّهَ الشَّيْبُ، لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يَعُمُّهُ الشَّيْبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُمَّ اللِّحْيَةَ غَالِبًا، فَعُمُومُ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ أَمَارَةُ التَّوَغُّلِ فِي كِبَرِ السِّنِّ. وَإِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الِاشْتِعَالَ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ الْمُشَبَّهِ بِهَا الشَّيْبُ فَكَانَ الظَّاهِرُ إِسْنَادَهُ إِلَى الشَّيْبِ، فَلَمَّا جِيءَ بِاسْمِ الشَّيْبِ تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ الِاشْتِعَالِ حَصَلَ بِذَلِكَ خُصُوصِيَّةُ الْمَجَازِ وغرابته، وخصوصية التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، مَعَ إِفَادَةِ تَنْكِيرِ شَيْباً مِنَ التَّعْظِيمِ فَحَصَلَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَأَصْلُ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ: وَاشْتَعَلَ الشَّيْبُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ. وَلِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ مَبْنِيِّ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ كَانَ لَهَا أَعْظَمُ وَقْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَوَضَّحَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فَانْظُرْهُمَا.

وَقَدِ اقْتَبَسَ مَعْنَاهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسَوَّدِهِ ... مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا وَلَكِنَّهُ خَلِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ مَضْرِبَ قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: «مَاءٌ وَلَا كَصَدَّى» . وَالشَّيْبُ: بَيَاضُ الشَّعْرِ. وَيَعْرِضُ لِلشَّعْرِ الْبَيَاضُ بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْمَادَّةِ الَّتِي تُعْطِي اللَّوْنَ الْأَصْلِيَّ لِلشَّعْرِ، وَنُقْصَانُهَا بِسَبَبِ كِبَرِ السِّنِّ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ كَانَ الشَّيْبُ عَلَامَةً عَلَى الْكِبَرِ، وَقَدْ يَبْيَضُّ الشَّعْرُ مِنْ مَرَضٍ. وَجُمْلَةُ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ التَّمْهِيدِيَّةِ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِدُعائِكَ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالشَّقِيُّ: الَّذِي أَصَابَتْهُ الشِّقْوَةُ، وَهِيَ ضِدُّ السَّعَادَةِ، أَيْ هِيَ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمَأْمُولِ وَضَلَالُ السَّعْيِ. وَأُطْلِقَ نَفْيُ الشَّقَاوَةِ وَالْمُرَادُ حُصُولِ ضِدِّهَا وَهُوَ السَّعَادَةُ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا عُرْفًا. وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ جَرَى فِي كَلَامِهِمْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي حُصُولِ السَّعَادَةِ مِنْ شَيْءٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيم: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مَرْيَم: 48] أَيْ عَسَى أَنْ أَكُونَ سَعِيدًا. أَيْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ فِي شَأْنِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَمَنْ جَالَسَهُمْ «هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» أَيْ يَسْعَدُ مَعَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، لَمْ نَعْرِفِ اسْمَهُ وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ: وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ ... وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ أَيْ يَسْعَدُ بِهِ جَلِيسُهُ.

وَالْمَعْنَى: لَمْ أَكُنْ فِيمَا دَعَوْتُكَ مِنْ قبل مَرْدُود الدعْوَة مِنْكَ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ مِنَ اللَّهِ الِاسْتِجَابَةَ كُلَّمَا دَعَاهُ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلْإِجَابَةِ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ التَّمْهِيدِ الَّذِي فِي الْجُمَلِ الْمُصَاحِبَةِ لَهُ بل هُوَ بطرِيق الْحَثِّ عَلَى اسْتِمْرَارِ جَمِيلِ صُنْعِ اللَّهِ مَعَهُ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ بِمَا سَلَفَ لَهُ مَعَهُ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ. رُوِيَ أَنَّ مُحْتَاجًا سَأَلَ حَاتِمًا الطَّائِيَّ أَوْ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةٍ قَائِلًا: «أَنَا الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيَّ يَوْمَ كَذَا» فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِمَنْ تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا» . وَجُمْلَةُ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، أَيْ قَارَبْتُ الْوَفَاةَ وَخِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ بَعْدِي. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّاءَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وِرَاثَةِ مَالِهِ» . فَلَعَلَّهُ خَشِيَ سُوءَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا يُخَلِّفُهُ مِنَ الْآثَارِ الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ. وَتِلْكَ أَعْلَاقٌ يَعِزُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ تَلَاشِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فَإِنَّ نُفُوسَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَطْمَحُ إِلَّا لِمَعَالِي الْأُمُورِ وَمَصَالِحِ الدِّينِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ تَبَعٌ. فَقَوْلُهُ يَرِثُنِي يَعْنِي بِهِ وِرَاثَةَ مَالِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّاءَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وِرَاثَةِ مَالِهِ» . وَالظَّوَاهِرُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُورَثُونَ، قَالَ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النَّمْل: 16] . وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ، كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي حَدِيثِهِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» إِذْ قَالَ عُمَرُ: «يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ بِذَلِكَ نَفْسَهُ» ، فَيَكُونُ ذَلِكَ

مِنْ خُصُوصِيَّاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا سَابِقًا كَانَ مُرَادُ زَكَرِيَّاءَ إِرْثَ آثَارِ النُّبُوءَةِ خَاصَّةً مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ وَتَقَايِيدِهِ عَلَيْهَا. وَالْمَوَالِي: الْعُصْبَةُ وَأَقْرَبُ الْقَرَابَةِ، جَمْعُ مَوْلًى بِمَعْنَى الْوَلِيِّ. وَمَعْنَى: مِنْ وَرائِي مِنْ بَعْدِي، فَإِنَّ الْوَرَاءَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ أَيْ بَعْدَ اللَّهِ. فَمَعْنَى مِنْ وَرائِي مِنْ بَعْدِ حَيَاتِي. ومِنْ وَرائِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ الْمَوالِيَ أَوَ الْحَالِ. وَامْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ اسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى فَهِيَ مَنْ سَبْطِ لَاوِي. وَالْعَاقِرُ: الْأُنْثَى الَّتِي لَا تَلِدُ، فَهُوَ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ إِذْ لَا لَبْسَ. وَمَصْدَرُهُ: الْعَقْرُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الْقَافِ-. وَأَتَى بِفِعْلِ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقْرَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا وَثَابِتٌ لَهَا فَلِذَلِكَ حُرِمَ مِنَ الْوَلَدِ مِنْهَا. وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْكَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عِنْدِيَّةٌ خَاصَّةٌ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِتَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا تَبَعًا لِخَلْقِهَا، فَلَمَّا قَالَ مِنْ لَدُنْكَ (¬1) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ وَلِيًّا غَيْرَ جَارٍ أَمْرُهُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ إِيجَادِ الْأَوْلَادِ لِانْعِدَامِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، فَتَكُونُ هِبَتُهُ كَرَامَةً لَهُ. وَيَتَعَلَّقُ لِي ومِنْ لَدُنْكَ بِفِعْلِ هَبْ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِي عَلَى مِنْ لَدُنْكَ لِأَنَّهُ الأهم فِي غَرَضِ الدَّاعِي، وَهُوَ غَرَضٌ خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى الْغَرَضِ الْعَامِّ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة (من عنْدك) .

[سورة مريم (19) : الآيات 7 إلى 8]

وَ (يَرِثُنِي) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِ وَلِيًّا. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الدُّعَاءِ فِي قَوْله فَهَبْ لِي لِإِرَادَةِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَجْوِبَةِ الثَّمَانِيَةِ أَنَّهَا عَلَى تَقْدِير فَاء السَّبَبِيَّة. وآلِ يَعْقُوبَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ خَاصَّةً بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ الْمُشْعِرِ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ، فَيَكُونَ يَعْقُوبُ هُوَ إِسْرَائِيلُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ إِسْرَائِيلَ، أَيْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: 54] ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ آلُ الرَّجُلِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ إِذَا كَانُوا على سنَنه، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: 68] وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الْإِسْرَاء: 3] ، مَعَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ ذَرِّيَّةُ مَنْ حُمِلُوا مَعَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ يَعْقُوبُ آخَرُ غَيْرُ إِسْرَائِيلَ. وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ، قَالَهُ: مَعْقِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ عَمُّ مَرْيَمَ أَخُو عِمْرَانَ أَبِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَخُو زَكَرِيَّاءَ، أَيْ لَيْسَ لَهُ أَوْلَادٌ فَيَكُونَ ابْنُ زَكَرِيَّاءَ وَارِثًا لِيَعْقُوبَ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، فَيَعْقُوبُ عَلَى هَذِهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَالِيَ الَّذِينَ خَافَهُمْ زَكَرِيَّاءُ من وَرَائه. [7- 8] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 7 إِلَى 8] يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ عَقِبَ الدُّعَاءِ إِيجَازًا، أَيْ قُلْنَا يَا زَكَرِيَّاءُ إِلَخْ ...

وَالتَّبْشِيرُ: الْوَعْدُ بِالْعَطَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ قَالَ لِلْأَنْصَارِ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا» ، وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى، فَقَالُوا بشرتنا فَأَعْطِنَا» . وَمَعْنَى اسْمُهُ يَحْيى سَمِّهِ يَحْيَى، فَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ. وَالسَّمِيُّ فَسَّرُوهُ بِالْمُوَافِقِ فِي الِاسْمِ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ قَبْلِ وُجُودِهِ. فَعَلَيْهِ يَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ سِرًّا مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهُ زَكَرِيَّاءَ فَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ يُسَمِّي أَحَدٌ ابْنَهُ يَحْيَى فِيمَا بَيْنَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ وَبَيْنَ ازْدِيَادِ الْوَلَدِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ وَإِكْرَامٌ لِزَكَرِيَّاءَ إِذْ جَعَلَ اسْمَ ابْنِهِ مُبْتَكَرًا، وَلِلْأَسْمَاءِ الْمُبْتَكَرَةِ مَزِيَّةُ قُوَّةِ تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى لِقِلَّةِ الِاشْتِرَاكِ، إِذْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ كَثِيرًا مُدَّةَ وُجُودِهِ، وَلَهُ مَزِيَّةُ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ مِنْ بَعْدُ حِينِ يُسَمُّونَ أَبْنَاءَهُمْ ذَلِكَ الِاسْمَ تَيَمُّنًا وَاسْتِجَادَةً. وَعِنْدِي: أَنَّ السَّمِيَّ هُنَا هُوَ الْمُوَافِقُ فِي الِاسْمِ الْوَصْفِيِّ بِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْوَصْفِ، فَإِنَّ الِاسْمَ أَصْلُهُ فِي الِاشْتِقَاقِ (وَسَمَ) ، وَالسِّمَةُ: أَصْلُهَا وَسْمَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النَّجْم: 27] ، أَيْ يَصِفُونَهُمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ الْآتِي: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: 65] أَيْ لَا مَثِيلَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَسْمَائِهِ. وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى يَحْيَى وَالِامْتِنَانِ عَلَى أَبِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنه لم يجىء قَبْلَ يَحْيَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ مَا اجْتَمَعَ لِيَحْيَى فَإِنَّهُ أُعْطِيَ النُّبُوءَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] ، وَجُعِلَ حَصُورًا لِيَكُونَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ فِي عِصْمَتِهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَلِئَلَّا تَكُونَ لَهُ مَشَقَّةٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الْعِبَادَةِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَوُلِدَ لِأَبِيهِ بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَلِأُمِّهِ بَعْدَ الْعُقْرِ، وَبُعِثَ مُبَشِّرًا بِرِسَالَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ

رَسُولًا، وَجُعِلَ اسْمُهُ الْعَلَمُ مُبْتَكَرًا غَيْرَ سَابِقٍ مِنْ قَبْلِهِ. وَهَذِهِ مَزَايَا وَفَضَائِلُ وُهِبَتْ لَهُ وَلِأَبِيهِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَكُونُ بِمَجْمُوعِ فَضَائِلَ لَا بِبَعْضِهَا وَإِنْ جَلَّتْ، وَلِذَلِكَ قِيلَ «الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ» وَهِيَ كَلِمَةُ صِدْقٍ. وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ جَوَابٌ لِلْبِشَارَةِ. وأَنَّى اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ، وَالتَّعَجُّبُ مُكَنَّى بِهِ عَنِ الشُّكْرِ، فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ عَزِيزَةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا ثُمَّ يَتَعَجَّبَ مِنِ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ اللَّهَ يَهَبُ لَهُ وَلَدًا مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِأَنْ يَأْذَنَهُ بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ غَيْرِ عَاقِرٍ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ امْرَأَتِي عاقِراً حَالٌ مِنْ يَاءِ التَّكَلُّمِ. وَكُرِّرَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ زَكَرِيَّاءَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ عَدَمَ الْوِلَادَةِ بِسَبَبِ عُقْرِ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالرَّجُلِ عُنَّةٌ وَلَا خِصَاءٌ وَلَا اعْتِرَاضٌ، لأَنهم يحسبون الإنعاظ وَالْإِنْزَالَ هُمَا سَبَبُ الْحَمْلِ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِالْمَرْأَةِ عَاهَةُ الْعُقْرِ. وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّ عَدَمَ الْوِلَادَةِ يَكُونُ إِمَّا لِعِلَّةٍ بِالْمَرْأَةِ فِي رَحِمِهَا أَوْ لِعِلَّةٍ فِي مَاءِ الرَّجُلِ يَكُونُ غَيْرَ صَالِحٍ لِنَمَاءِ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي تُبْرِزُهَا رَحِمُ الْمَرْأَةِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَالْكِبَرُ: كَثْرَةُ سِنِي الْعُمْرِ، لِأَنَّهُ يُقَارِنُهُ ظُهُورُ قِلَّةِ النَّشَاطِ وَاخْتِلَالِ نِظَامِ الْجِسْمِ. وعِتِيًّا مَفْعُولُ بَلَغْتُ.

[سورة مريم (19) : آية 9]

وَالْبُلُوغُ: مَجَازٌ فِي حُلُولِ الْإِبَّانِ، وَجَعَلَ نَفْسَهَ هُنَا بَالِغًا الْكِبَرَ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [40] قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ لِأَنَّ الْبُلُوغَ لَمَّا كَانَ مَجَازًا فِي حُصُولِ الْوَصْفِ صَحَّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الْوَصْفِ وَإِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْعُتِيُّ- بِضَمِّ الْعَيْنِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- مَصْدَرُ عَتَا الْعُودُ إِذَا يَبُسَ، وَهُوَ بِوَزْنِ فُعُولٍ أَصْلُهُ عُتُووٌ، وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ تُصَحَّحَ الْوَاوُ لِأَنَّهَا إِثْرَ ضَمَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَثْقَلُوا تَوَالِيَ ضَمَّتَيْنِ بَعْدَهُمَا وَاوَانِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ- ضَمَّتَيْنِ- تَخَلَّصُوا مِنْ ذَلِكَ الثِّقَلِ بِإِبْدَالِ ضَمَّةِ الْعَيْنِ كَسْرَةً ثُمَّ قَلَبُوا الْوَاوَ الْأُولَى يَاءً لِوُقُوعِهَا سَاكِنَةً إِثْرَ كَسْرَةٍ فَلَمَّا قُلِبَتْ يَاءً اجْتَمَعَتْ تِلْكَ الْيَاءُ مَعَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لَامٌ، وَكَأَنَّهُمْ مَا كَسَرُوا التَّاءَ فِي عُتِيٍّ بِمَعْنَى الْيُبْسِ إِلَّا لِدَفْعِ الِالْتِبَاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُتُوِّ الَّذِي هُوَ الطُّغْيَانُ فَلَا مُوجِبَ لِطَلَبِ تَخْفِيفِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. شَبَّهَ عِظَامَهُ بِالْأَعْوَادِ الْيَابِسَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ وَصْفِ الْعُتِيِّ لَهَا اسْتِعَارَة تخييلية. [9] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 9] قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ كَذلِكَ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. وَهِيَ جَوَابٌ عَنْ تَعَجُّبِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ التَّعَجُّبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مَرْيَم: 8] . فَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى الرَّبِّ مِنْ قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [مَرْيَم: 8] . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ إِلَى قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ قالَ رَبُّكَ،

أَيْ كَذَلِكَ الْحَالُ مِنْ كِبَرِكَ وَعُقْرِ امْرَأَتِكَ قَدَّرَ رَبُّكَ، فَفِعْلُ قالَ رَبُّكَ مُرَادٌ بِهِ الْقَوْلُ التَّكْوِينِيُّ، أَيِ التَّقْدِيرِيُّ، أَيْ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَقْرِيرِهِ التَّمْهِيدُ لِإِبْطَالِ التَّعَجُّبِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيَّ هَيِّنٌ، فَجُمْلَةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابا لسؤال ناشىء عَنْ قَوْلِهِ كَذلِكَ لِأَنْ تَقْرِيرَ مَنْشَأِ التَّعَجُّبِ يُثِيرُ تَرَقُّبَ السَّامِعِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُبْطِلُ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ الْمُقَرَّرَ، وَذَلِكَ كَوْنُهُ هَيِّنًا فِي جَانِبِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَذلِكَ هُوَ الْقَوْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قالَ رَبُّكَ، أَيْ أَنَّ قَوْلَ رَبِّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بَلَغَ غَايَةَ الْوُضُوحِ فِي بَابِهِ بِحَيْثُ لَا يَبِينُ بِأَكْثَرِ مَا عَلِمْتَ، فَيَكُونَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَجُمْلَةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ تَعْلِيلٌ لِإِبْطَالِ التَّعَجُّبِ إِبْطَالًا مُسْتَفَادًا مِنْ قَوْلِهِ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ، وَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ قالَ رَبُّكَ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْتِفَاتًا. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ: هُوَ عَلَيْهِ هَيِّنٌ. وَالْهَيِّنُ- بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ-: السَّهْلُ حُصُولُهُ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أَيْ إِيجَادُ الْغُلَامِ لَكَ هَيِّنٌ عَلَيَّ فِي حَالِ كَوْنِي قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْغُلَامِ وَلَمْ تَكُنْ مَوْجُودًا، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُمَاثِلًا لِخَلْقِي إِيَّاكَ، فَكَمَا لَا عَجَبَ مِنْ خَلْقِ الْوَلَدِ فِي الْأَحْوَالِ الْمَأْلُوفَةِ كَذَلِكَ لَا عَجَبَ مِنْ خَلْقِ الْوَلَدِ فِي الْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ إِذْ هُمَا إِيجَادٌ بَعْدَ عَدَمٍ. وَمَعْنَى وَلَمْ تَكُ شَيْئاً: لَمْ تَكُنْ مَوْجُودًا.

[سورة مريم (19) : آية 10]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَدْ خَلَقْتُكَ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: (وَقَدْ خَلَقْنَاكَ) بنُون العظمة. [10] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 10] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) أَرَادَ نَصْبَ عَلَامَةٍ عَلَى وُقُوعِ الْحَمْلِ بِالْغُلَامِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَمْ تُعَيَّنْ زَمَنًا، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الْمَوْعُودُ بِهِ لِحِكْمَةٍ، فَأَرَادَ زَكَرِيَّاءُ أَنْ يَعْلَمَ وَقْتَ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِعْجَالِ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْمُبَادَرَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ آيَةً. وَإِضَافَةُ آيَتُكَ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ آيَةٌ لَكَ، أَيْ جَعَلْنَا عَلَامَةً لَك. وَمعنى أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أَنْ لَا تَقْدِرَ عَلَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِ آيَةً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَهْيَهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ فِي ذَلِكَ لِلْكَوْنِ آيَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُعِلَتْ مُدَّةُ انْتِفَاءِ تَكْلِيمِهِ النَّاسَ هُنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَجُعِلَتْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا وَأَنَّ الْمُرَادَ فِي آلِ عِمْرَانَ أَيَّامٌ بِلَيَالِيهَا. وَأَكَّدَ ذَلِكَ هُنَا بِوَصْفِهَا بِ سَوِيًّا أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ كَامِلَةٍ، أَيْ بِأَيَّامِهَا. وَسَوِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَسْتَوِي الْوَصْفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْوَاحِدَةُ وَالْمُتَعَدِّدُ مِنْهُمَا.

[سورة مريم (19) : آية 11]

وَفُسِّرَ أَيْضًا سَوِيًّا بِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ حَالَ كَوْنِكَ سَوِيًّا، أَيْ بِدُونِ عَاهَةِ الْخَرَسِ وَالْبَكَمِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ لَكَ اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَعَلَى هَذَا فَذِكْرُ الْوَصْفِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَافٍ فِي الِاطْمِئْنَانِ عَلَى انْتِفَاء العاهة. [11] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 11] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ لِيُصَلِّيَ عَلَى عَادَتِهِ، فَكَانَ فِي مِحْرَابِهِ فِي صَلَاةٍ خَاصَّةٍ وَدُعَاءٍ خَفِيٍّ، ثُمَّ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إِذْ هُوَ الْحَبْرُ الْأَعْظَمُ لَهُمْ. وَضُمِّنَ خَرَجَ مَعْنَى طَلَعَ فَعُدِيَّ بِ عَلى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [الْقَصَص: 79] . وَالْمِحْرَابُ: بَيْتٌ أَوْ مُحْتَجَرٌ يُخَصَّصُ لِلْعِبَادَةِ الْخَاصَّةِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ: فَمِحْرَابِي أَحْرَى بِي. وَالْوَحْيُ: الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالْإِيمَاءُ لِإِفَادَةِ مَعْنًى شَأْنُهُ أَنْ يُفَادَ بِالْكَلَامِ. وَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تَفْسِير (لأوحى) ، لِأَنَّ (أَوْحَى) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ زَكَرِيَّاءَ لَمَّا لَمْ يُكَلِّمْهُمْ قَدْ نَذَرَ صَمْتًا فَيَقْتَدُوا بِهِ فَيَصْمُتُوا، وَكَانَ الصَّمْتُ مِنْ صُنُوفِ

[سورة مريم (19) : الآيات 12 إلى 14]

الْعِبَادَةِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مَرْيَم: 26] . فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا فِيمَا اعْتَادُوهُ مِنَ التَّسْبِيحِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَبِّحُوا اللَّهَ تَسْبِيحَ شُكْرٍ عَلَى أَنْ وَهَبَ نَبِيئَهُمُ ابْنًا يَرِثُ عِلْمَهُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا عَلِمُوا تَرَقُّبَهُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرًا مُبْهما يفسره عِنْد مَا تَزُولُ حبسة لِسَانه. [12- 14] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 12 إِلَى 14] يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، بِقَرِينَةِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ لِيَحْيَى، فَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ صَادِرٌ مِنْ قَائِلٍ، وَلَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ إِلَى نُبُوءَتِهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ لِلْأُمَّةِ لَا مِنْ حِكَايَةِ مَا قِيلَ لِزَكَرِيَّاءَ. فَهَذَا ابْتِدَاءُ ذِكْرِ فَضَائِلِ يَحْيَى. وَطُوِيَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِهِ. وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِيَحْيَى كِتَابٌ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ. وَالْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَنِى بِالشَّيْءِ يُشْبِهُ الْآخِذَ. وَالْقُوَّةُ: الْمُرَادُ بِهَا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ الْعَزِيمَةُ وَالثَّبَاتُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلثَّبَاتِ عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَحَمْلِ الْأُمَّةِ عَلَى اتِّبَاعِهِ، فَقَدْ أَخَذَ الْوَهَنُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْأُمَّةِ الْيَهُودِيَّةِ فِي الْعَمَلِ بِدِينِهَا.

وَ (آتَيْناهُ) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ قُلْنَا: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ. وَالْحُكْمُ: اسْمٌ لِلْحِكْمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [269] . وَالْمُرَادُ بِهَا النُّبُوءَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [22] ، فَيَكُونُ هَذَا خُصُوصِيَّةً لِيَحْيَى أَنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ فِي حَالِ صِبَاهُ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ هُوَ الْحِكْمَةُ وَالْفَهْمُ. وصَبِيًّا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي وَآتَيْناهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ اسْتِقَامَةَ الْفِكْرِ وَإِدْرَاكَ الْحَقَائِقِ فِي حَالِ الصِّبَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ، كَمَا أَعْطَى نَبِيئَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِقَامَةَ وَإِصَابَةَ الرَّأْيِ فِي صِبَاهُ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى أُعْطِي النُّبُوءَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ، لِأَنَّ النُّبُوءَةَ رُتْبَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّمَا تُعْطَى عِنْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ يَحْيَى أُعْطِيَ النُّبُوءَةَ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً بِكَثِيرٍ. وَلَعَلَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ شَهِيدًا فِي مُقْتَبَلِ عُمْرِهِ بَاكَرَهُ بِالنُّبُوءَةِ. وَالْحَنَانُ: الشَّفَقَةُ. وَمِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْحَنَّانُ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: حَنَانَيْكَ، أَيْ حَنَانًا مِنْكَ بَعْدَ حَنَانٍ. وَجُعِلَ حَنَانُ يَحْيَى مِنْ لَدُنِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُتَجَاوِزُ الْمُعْتَادِ بَيْنَ النَّاسِ. وَالزَّكَاةُ: زَكَاةُ النَّفْسِ وَنَقَاؤُهَا مِنَ الْخَبَائِثِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] أَوْ أُرِيدَ بِهَا الْبَرَكَةُ. وَتَقِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، مِنِ اتَّقَى إِذَا اتَّصَفَ بِالتَّقْوَى، وَهِيَ تَجَنُّبُ مَا يُخَالِفُ الدِّينَ. وَجِيءَ فِي وَصْفِهِ بِالتَّقْوَى بِفِعْلِ كانَ تَقِيًّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنَ الْوَصْفِ.

[سورة مريم (19) : آية 15]

وَكَذَلِكَ عَطَفَ بُرُورَهُ بِوَالِدَيْهِ عَلَى كَوْنِهِ تَقِيًّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ. وَالْبُرُورُ: الْإِكْرَامُ وَالسَّعْيُ فِي الطَّاعَةِ. وَالْبَرُّ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ الْمَصْدَرِ، فَالْوَصْفُ بِهِ مُبَالَغَةٌ. وَأَمَّا الْبِرُّ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالْجَبَّارُ: الْمُسْتَخِفُّ بِحُقُوقِ النَّاسِ، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْقَسْرُ وَالْغَصْبُ. لِأَنَّهُ يَغْصِبُ حُقُوقَ النَّاسِ. وَالْعَصِيُّ: فَعِيلٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدُ الْعِصْيَانِ، وَالْمُبَالَغَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى النَّفْيِ لَا إِلَى الْمَنْفِيِّ. أَيْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيا بالمرة. [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 15] وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] مُخَاطَبًا بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِيَعْلَمُوا كَرَامَةَ يَحْيَى عِنْدَ اللَّهِ. والسّلام: اسْم للْكَلَام الَّذِي يُفَاتِحُ بِهِ الزَّائِرُ وَالرَّاحِلُ فِيهِ ثَنَاءٌ أَوْ دُعَاءٌ. وَسُمِّيَ ذَلِكَ سَلَامًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ وَلِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الَّذِي أَقْدَمَ هُوَ عَلَيْهِ مُسَالِمٌ لَهُ لَا يَخْشَى مِنْهُ بَأْسًا. فَالْمُرَادُ هُنَا سَلَامٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . فَإِذَا عُرِّفَ السَّلَامُ بِاللَّامِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِثْلُ الْمُرَادِ بِالْمُنَكَّرِ أَوْ مُرَادٌ بِهِ الْعَهْدُ، أَيْ سَلَامٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي السَّلَامِ عَلَى عِيسَى. فَالْمَعْنَى: أَنَّ إِكْرَامَ اللَّهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.

[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 21]

وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا أَحْوَالُ ابْتِدَاءِ أَطْوَارٍ: طَوْرِ الْوُرُودِ عَلَى الدُّنْيَا، وَطَوْرِ الِارْتِحَالِ عَنْهَا، وَطَوْرِ الْوُرُودِ عَلَى الْآخِرَةِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ الْوَاقِعِ فِيهِ تِلْكَ الْأَحْوَالُ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي وَيَوْمَ يَمُوتُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَلَمْ تُذْكَرْ قِصَّةُ قَتْلِهِ فِي الْقُرْآنِ إلّا إِجْمَالا. [16- 21] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 16 إِلَى 21] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) جُمْلَةُ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ عَطْفٌ عَلَى جملَة ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ [مَرْيَم: 2] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَلَا يُرَاعَى حُسْنُ اتِّحَادِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاتِّحَادَ لَيْسَ بِمُلْتَزِمٍ. عَلَى أَنَّكَ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ قَوْله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا مَصْدَرًا وَقَعَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ: التِّلَاوَةُ، أَيِ اتْلُ خَبَرَ مَرْيَمَ الَّذِي نَقُصُّهُ عَلَيْكَ. وَفِي افْتِتَاحِ الْقِصَّةِ بِهَذَا زِيَادَةُ اهْتِمَامٍ بِهَا وَتَشْوِيقٍ لِلسَّامِعِ أَنْ يَتَعَرَّفَهَا وَيَتَدَبَّرَهَا. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَصَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِزِيَادَةِ كَلِمَةِ فِي الْكِتابِ بَعْدَ كَلِمَةِ وَاذْكُرْ . وَفَائِدَةُ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مَنْ أَمَرَ بِذِكْرِهِمْ كَائِنٌ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ ذِكْرِ فَضْلِهِ فِي كَلَامٍ آخَرَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: «لَوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» . وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ عِلْمُ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا لَفْظُ اذْكُرْ . وَلَعَلَّ سُورَةَ مَرْيَمَ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَتَى فِيهَا لَفْظُ وَاذْكُرْ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهَا السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ. وإِذِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ اذْكُرْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْقِصَّةِ وَالْخَبَرِ، وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهِ فِي ظَاهِرِ مَعْنَاهُ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْمَعْنَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذْ) مُجَرَّدَ اسْمِ زَمَانٍ غَيْرَ ظَرْفٍ وَيُجْعَلَ بَدَلًا مِنْ (مَرْيَمَ) ، أَيِ اذْكُرْ زَمَنَ انْتِبَاذِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ [مَرْيَم: 2، 3] . وَالِانْتِبَاذُ: الِانْفِرَادُ وَالِاعْتِزَالُ، لِأَنَّ النَّبْذَ: الْإِبْعَادُ وَالطَّرْحُ، فَالِانْتِبَاذُ فِي الْأَصْلِ افْتِعَالٌ مُطَاوِعُ نَبَذَهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ الْحَاصِلِ بِدُونِ سَبْقِ فَاعِلٍ لَهُ. وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ انْتَبَذَتْ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى حَلَّتْ. وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ. وَالْمَعْنَى: ابْتَعَدَتْ عَنْ أَهْلِهَا فِي مَكَانٍ شَرْقِيٍّ.

وَنُكِّرَ الْمَكَانُ إِبْهَامًا لَهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِتَعْيِينِ نَوْعِهِ إِذْ لَا يُفِيدُ كَمَالًا فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا التَّصَدِّي لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ شَرْقِيٌّ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلِ اتِّخَاذِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ إِذْ كَانَ حَمْلُ مَرْيَمَ بِعِيسَى فِي مَكَانٍ مِنْ جِهَةِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكاناً شَرْقِيًّا » ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالَ لَيْسَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَذِكْرُ كَوْنِ الْمَكَانِ شَرْقِيًّا نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ تَارِيخِ الشَّرَائِعِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُؤَاخَاةِ الْفَوَاصِلِ. وَاتِّخَاذُ الْحِجَابِ: جَعْلُ شَيْءٍ يُحْجَبُ عَنِ النَّاسِ. قِيلَ: إِنَّهَا احْتَجَبَتْ لِتَغْتَسِلَ وَقِيلَ لِتَمْتَشِطَ. وَالرُّوحُ: الْمَلَكُ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْإِرْسَالِ بِهِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دَلَّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا. والتمثل: تكلّف الممائلة، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّكْلَ لَيْسَ شَكْلَ الْمَلَكَ بِالْأَصَالَةِ. وبَشَراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (تَمَثَّلَ) ، وَهُوَ حَالٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَالْبَشَرُ: الْإِنْسَانُ. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] ، أَيْ خَالِقٌ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالسَّوِيُّ: الْمُسَوَّى، أَيِ التَّامُّ الْخَلْقِ. وَإِنَّمَا تَمَثَّلَ لَهَا كَذَلِكَ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ كَمَالِ الْحَقِيقَةِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى كَمَالِ عِصْمَتِهَا إِذْ قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي صُورَتِهِ مَا يُكْرَهُ لِأَمْثَالِهَا، لِأَنَّهَا حَسِبَتْ أَنَّهُ بَشَرٌ اخْتَبَأَ لَهَا لِيُرَاوِدَهَا

عَنْ نَفْسِهَا، فَبَادَرَتْهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهَا مُبَادَرَةً بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَا تَوَهَّمَتْهُ مِنْ قَصْدِهِ الَّذِي هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ خَبَرِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِأَنَّهَا جَعَلَتِ اللَّهَ مَعَاذًا لَهَا مِنْهُ، أَيْ جَعَلَتْ جَانِبَ اللَّهِ مَلْجَأً لَهَا مِمَّا هَمَّ بِهِ. وَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لَهُ. وَذكرهَا صفة (الرحمان) دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ يَرْحَمَهَا اللَّهُ بِدَفْعِ مَنْ حَسِبَتْهُ دَاعِرًا عَلَيْهَا. وَقَوْلُهَا إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا تَذْكِيرٌ لَهُ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ رَبَّهُ. وَمَجِيءُ هَذَا التَّذْكِيرِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الْمُؤْذِنِ بِالشَّكِّ فِي تَقْوَاهُ قَصْدٌ لِتَهْيِيجِ خَشْيَتِهِ، وَكَذَلِكَ اجْتِلَابُ فِعْلِ الْكَوْنِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِ التَّقْوَى مُسْتَقِرَّةً فِيهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَحَثٍّ عَلَى الْعَمَلِ بِتَقْوَاهُ. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَسْتُ بَشَرًا، رَدًّا عَلَى قَوْلِهَا: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا الْمُقْتَضِي اعْتِقَادَهَا أَنَّهُ بَشَرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِأَهَبَ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ لَامِ الْعِلَّةِ. وَمَعْنَى إِسْنَادِ الْهِبَةِ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذِهِ الْهِبَةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ لِيَهَبَ بِيَاءِ الْغَائِبِ، أَيْ لِيَهَبَ رَبُّكِ لَكِ، مَعَ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلِفٍ. وَعِنْدِي أَنَّ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ بِالْيَاءِ بَعْدَ اللَّامِ إِنَّمَا هِيَ نُطْقُ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ بَعْدَ كَسْرِ اللَّامِ بِصُورَةِ نُطْقِ الْيَاءِ. وَمُحَاوَرَتُهَا الْمَلَكَ مُحَاوَلَةٌ قَصَدَتْ بِهَا صَرْفَهُ عَمَّا جَاءَ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَأَرَادَتْ مُرَاجَعَةَ رَبِّهَا فِي أَمْرٍ لَمْ تُطِقْهُ،

كَمَا رَاجَعَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَكَمَا رَاجعه مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً. وَمَعْنَى الْمُحَاوَرَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ لَهَا ضُرًّا عَظِيمًا إِذْ هِيَ مَخْطُوبَةٌ لِرَجُلٍ وَلَمْ يَبْنِ بِهَا فَكَيْفَ يَتَلَقَّى النَّاسُ مِنْهَا الْإِتْيَانَ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَعْرُوفٍ. وَقَوْلُهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَبْرِئَةٌ لِنَفْسِهَا مِنَ الْبِغَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنْ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْكَوْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ فَمُفَادُ قَوْلِهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا غَيْرُ مُفَادِ قَوْلِهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَهُوَ مِمَّا زَادَتْ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى مَا فِي قِصَّتِهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، لِأَنَّ قِصَّتَهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَصَحَّ الِاجْتِزَاءُ فِي الْقِصَّةِ بِقَوْلِهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ. وَقَوْلُهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أَيْ لَمْ يَبْنِ بِي زَوْجٌ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَخْطُوبَةً وَمُرَاكِنَةً لِيُوسُفَ النَّجَّارِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْنِ بِهَا فَإِذَا حَمَلَتْ بِوَلَدٍ اتَّهَمَهَا خَطِيبُهَا وَأَهْلُهَا بِالزِّنَى. وَأَمَّا قَوْلُهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فَهُوَ نَفْيٌ لِأَنْ تَكُونَ بَغِيًّا مِنْ قَبْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ، فَلَا تَرْضَى بِأَنْ تُرْمَى بِالْبِغَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنَزُّهِ عَنِ الْوَصْمِ بِالْبِغَاءِ بِقَاعِدَةِ الِاسْتِصْحَابِ، وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ بَغِيًّا فِيمَا مَضَى أَفَأَعِدُ بَغِيًّا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْرَةٌ ذَكَرَهَا الْفَخْرُ وَالطِّيبِيُّ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَخْرَجٌ مِنْ مَأْزِقِهَا، وَلَيْسَ كَلَامُ مَرْيَمَ مَسُوقًا مَسَاقَ الِاسْتِبْعَادِ مِثْلَ قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً [مَرْيَم: 8] لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ حَالَ زَكَرِيَّاءَ حَالُ رَاغِبٍ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ، وَحَالُ مَرْيَمَ حَالُ مُتَشَائِمٍ مِنْهُ مُتَبَرِّئٍ مِنْ حُصُولِهِ. وَالْبَغِيُّ: اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ، وَوَزْنُهُ فَعِيلٌ أَوْ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَيَكُونُ أَصْلُهُ بَغُوي. لِأَنَّهُ مِنَ

الْبَغْيِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَكَنَ السَّابِقُ مِنْهُمَا قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَعُوِّضَ عَنْ ضَمَّةِ الْغَيْنِ كَسْرَةً لِمُنَاسَبَةِ الْيَاءِ فَصَارَ بَغِيٌّ. وَجَوَابُ الْمَلَكِ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتُ، نَظِيرَ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّاءَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ إِبْطَالِ مُرَادِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَةِ إِلَى بَيَانِ هَوْنِ هَذَا الْخَلْقِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. وَفِي قَوْلِهِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ مَا اشْتَكَتْهُ مِنْ تَوَقُّعِ ضِدِّ قَوْلِهَا وَطَعْنِهِمْ فِي عِرْضِهَا لَيْسَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فِي جَانِبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هُدَى النَّاسِ لِرِسَالَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَصْرِفُهُ عَنْ إِنْفَاذِ مُرَادِهِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ مِنْ ضُرٍّ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُقَدَّمُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ. فَضَمِيرُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ عَائِدٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ حِوَارُهَا مِنْ لِحَاقِ الضُّرِّ بِهَا كَمَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. فَبَيْنَ جَوَابِ الْمَلَكِ إِيَّاهَا وَبَيْنَ جَوَابِ اللَّهِ زَكَرِيَّاءَ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْكَلَام فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ أُسْنِدَ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّاءَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَلَكِ كَانَ تَبْلِيغَ وَحْيٍ عَنِ اللَّهِ جَوَابًا مِنَ اللَّهِ عَنْ مُنَاجَاةِ زَكَرِيَّاءَ، وَأُسْنِدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى الْمَلَكِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ خِطَابِهَا إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ وَلِنَجْعَلَهُ عَطْفٌ عَلَى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا بِاعْتِبَارِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرُّوحِ لَهَا لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ، أَيْ لِأَنَّ هِبَةَ الْغُلَامِ الزَّكِيِّ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهَا، وَجَعْلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً كَرَامَةٌ لِلْغُلَامِ، فَوَقَعَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقَةِ التَّكَلُّمِ.

[سورة مريم (19) : الآيات 22 إلى 23]

وَجُمْلَةُ وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا يَجُوزُ أَنْ تكون من قَوْلِ الْمَلَكِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. وَضَمِيرُ كانَ عَائِدٌ إِلَى الْوَهْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً. وَهَذَا قَطْعٌ لِلْمُرَاجَعَةِ وَإِنْبَاءٌ بِأَنَّ التَّخْلِيقَ قَدْ حَصَلَ فِي رَحمهَا. [22- 23] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 22 إِلَى 23] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّعْقِيبِ، أَيْ فَحَمَلَتْ بِالْغُلَامِ فِي فَوْرِ تِلْكَ الْمُرَاجَعَةِ. وَالْحَمْلُ: الْعُلُوقُ، يُقَالُ: حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدًا، وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً [الْأَحْقَاف: 15] . وَيُقَالُ: حَمَلَتْ بِهِ. وَكَأَنَّ الْبَاءَ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، مِثْلُهَا فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ: حَمَلَتْ بِهِ فِي لَيْلَةٍ قَرْءُودَةٍ ... كَرْهًا وَعَقْدُ نِطَاقِهَا لَمْ يُحْلَلِ وَالِانْتِبَاذُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ انْتِصَابُ مَكاناً تَقَدَّمَ. وقَصِيًّا بَعِيدًا، أَيْ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ أَهْلِهَا. قِيلَ: خَرَجَتْ إِلَى الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ فَارَّةً مِنْ قَوْمِهَا أَنْ يُعَزِّرُوهَا وَأَعَانَهَا خَطِيبُهَا يُوسُفُ النَّجَّارُ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ الْمِصْرِيَّةِ. وَلَا يَصِحُّ. وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا: أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي قَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ مِنَ الْبِلَادِ الْيَهُودِيَّةِ حِينَ صَعَدَتْ إِلَيْهَا مَعَ خَطِيبِهَا يُوسُفَ النَّجَّارِ إِذْ كَانَ مَطْلُوبًا لِلْحُضُورِ بِقَرْيَةِ أَهْلِهِ لِأَنَّ مَلِكَ الْبِلَادِ يُجْرِي إِحْصَاءَ سُكَّانِ الْبِلَادِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مَرْيَم: 27] .

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ لِلتَّعْقِيبِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ جَاءَهَا الْمَخَاضُ بَعْدَ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، قِيلَ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا. وأجاءها مَعْنَاهُ أَلْجَأَهَا، وَأَصْلُهُ جَاءَ، عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ فَقِيلَ: أَجَاءَهُ، أَيْ جَعَلَهَ جَائِيًا. ثُمَّ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى إِلْجَاءِ شَيْءٍ شَيْئًا إِلَى شَيْءٍ، كَأَنَّهُ يَجِيءُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَضْطَرُّهُ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ مِنْ جِئْتُ وَقَدْ جَعَلَتْهُ الْعَرَبُ إِلْجَاءً. وَفِي الْمَثَلِ «شَرٌّ مَا يُجِيئُكَ إِلَى مُخَّةِ عُرْقُوبٍ» . وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْنَا ... أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَخَاضُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ-: طَلْقُ الْحَامِلِ، وَهُوَ تَحَرُّكُ الْجَنِينِ لِلْخُرُوجِ. وَالْجِذْعُ- بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ-: الْعُودُ الْأَصْلِيُّ لِلنَّخْلَةِ الَّذِي يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْجَرِيدُ. وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُرُوقِ وَالْأَغْصَانِ، أَيْ إِلَى أَصْلِ نَخْلَةٍ اسْتَنَدَتْ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ قالَتْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَشَوَّفُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهَا عِنْدَ إِبَّانِ وَضْعِ حَمْلِهَا بَعْدَ مَا كَانَ أَمْرُهَا مُسْتَتِرًا غَيْرَ مَكْشُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ وَقَدْ آنَ أَنْ يَنْكَشِفَ، فَيُجَابُ السَّامِعُ بِأَنَّهَا تَمَنَّتِ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ فِي حَالَةٍ مِنَ الْحُزْنِ تَرَى أَنَّ الْمَوْتَ أَهْوَنُ عَلَيْهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَقَامِ صَبْرِهَا وَصِدْقِهَا فِي تَلَقِّي الْبَلْوَى الَّتِي ابْتَلَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلِذَلِكَ كَانَتْ فِي مَقَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهَا قَبْلَ هَذَا هُوَ الْحَمْلُ. أَرَادَتْ أَنْ لَا يُتَطَرَّقَ عِرْضُهَا بِطَعْنٍ وَلَا تَجُرَّ عَلَى أَهْلِهَا مَعَرَّةً. وَلَمْ تَتَمَنَّ أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ

[سورة مريم (19) : آية 24]

بَعْدَ بُدْوُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْمَوْتَ حِينَئِذٍ لَا يَدْفَعُ الطَّعْنَ فِي عِرْضِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَا الْمَعَرَّةَ عَلَى أَهْلِهَا إِذْ يُشَاهِدُ أَهْلُهَا بَطْنَهَا بِحَمْلِهَا وَهِيَ مَيْتَةٌ فَتَطْرُقُهَا الْقَالَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِتُّ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [157] . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْأَصْلِ. وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ مَاتَ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرُ رَفْعٍ مُتَّصِلٍ. وَالنِّسْيُ- بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ السِّينِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُنْسَى، وَوَزْنُ فِعْلِ يَأْتِي بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ بِقَيْدِ تَهْيِئَتِهِ لِتَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقٍ حَصَلَ. وَذَلِكَ مِثْلُ الذَّبْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 107] ، أَيْ كَبْشٍ عَظِيمٍ مُعَدٍّ لِأَنْ يُذْبَحَ، فَلَا يُقَالُ لِلْكَبْشِ ذِبْحٌ إِلَّا إِذَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَذْبُوحِ ذِبْحٌ بَلْ ذَبِيحٌ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَغْلِبُ إِهْمَالُهَا أَنْسَاءً، وَيَقُولُونَ عِنْدَ الِارْتِحَالِ: انْظُرُوا أَنْسَاءَكُمْ، أَيِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي شَأْنُكُمْ أَنْ تَنْسَوْهَا. وَوَصَفَ النِّسْيَ بِمَنْسِيٍّ مُبَالَغَةً فِي نِسْيَانِ ذِكْرِهَا، أَيْ لَيْتَنِي كُنْتُ شَيْئًا غَيْرَ مُتَذَكَّرٍ وَقَدْ نَسِيَهُ أَهْلُهُ وَتَرَكُوهُ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَا يَحُلُّ بِهِ، فَهِيَ تَمَنَّتِ الْمَوْتَ وَانْقِطَاعَ ذِكْرِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَحَفَصٌ، وَخَلَفٌ نَسْياً- بِفَتْحِ النُّونِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي النِّسْيِ، كَالْوِتْرِ وَالْوَتْرِ، والجسر والجسر. [24] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 24] فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) ضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرُ فِي (نَادَاهَا) عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْغَائِبُ فِي فَحَمَلَتْهُ [مَرْيَم: 22] ، أَيْ: نَادَاهَا الْمَوْلُودُ.

قَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مِنْ تَحْتِها- بِكَسْرِ مِيمِ (مِنْ) - عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ مُتَعَلِّقٌ بِ (نَادَاهَا) وَبِجَرِّ تَحْتِها. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَنْ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- عَلَى أَنَّهَا اسْمُ مَوْصُولٍ، وَفَتَحَ تَحْتَهَا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ جُعِلَ صِلَةً، وَالْمَعْنِيُّ بِالْمَوْصُولِ هُوَ الْغُلَامُ الَّذِي تَحْتَهَا. وَهَذَا إِرْهَاصٌ لِعِيسَى وَكَرَامَةٌ لِأُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَيْدُ مِنْ تَحْتِها لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّهُ نَادَاهَا عِنْدَ وَضْعِهِ قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَهُ مُبَادَرَةً لِلتَّسْلِيَةِ وَالْبِشَارَةِ وَتَصْوِيرًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ تَمَامِ اتِّصَالِ الصَّبِيِّ بِأُمِّهِ. وَأَن مِنْ قَوْلِهِ أَلَّا تَحْزَنِي تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ (نَادَاهَا) . وَجُمْلَةُ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّعْلِيلُ لِجُمْلَةِ أَلَّا تَحْزَنِي، أَيْ أَنَّ حَالَتَكَ حَالَةٌ جَدِيرَةٌ بِالْمَسَرَّةِ دُونَ الْحُزْنِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ الْإِلَهِيَّةِ. السَّرِيُّ: الْجَدْوَلُ مِنَ الْمَاءِ كَالسَّاقِيَةِ، كَثِيرُ الْمَاءِ الْجَارِي. وَهَبَهَا اللَّهُ طَعَامًا طَيِّبًا وَشَرَابًا طَيِّبًا كَرَامَةً لَهَا يَشْهَدُهَا كُلُّ مَنْ يَرَاهَا، وَكَانَ مَعَهَا خَطِيبُهَا يُوسُفُ النَّجَّارُ، وَمَنْ عَسَى أَنْ يَشْهَدَهَا فَيَكُونَ شَاهِدًا بِعِصْمَتِهَا وَبَرَاءَتِهَا مِمَّا يُظَنُّ بِهَا. فَأَمَّا الْمَاءُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الشَّأْنُ أَنْ تَأْوِيَ إِلَى مَجْرَى مَاءٍ لِتَضَعَ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الرُّطَبُ فَقِيلَ كَانَ الْوَقْتُ شِتَاءً، وَلَمْ يَكُنْ إِبَّانَ رُطَبٍ وَكَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ جِذْعَ نَخْلَةٍ مَيْتَةٍ فَسُقُوطُ الرُّطَبِ مِنْهَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَإِنَّمَا أُعْطِيَتْ رُطَبًا دُونَ التَّمْرِ لِأَنَّ الرُّطَبَ أَشْهَى لِلنَّفْسِ إِذْ هُوَ كَالْفَاكِهَةِ وَأَمَّا التَّمْرُ فَغِذَاءٌ.

[سورة مريم (19) : الآيات 25 إلى 26]

[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَائِدَةُ قَوْلِهِ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أَنْ يَكُونَ إِثْمَارُ الْجِذْعِ الْيَابِسِ رُطَبًا بِبَرَكَةِ تَحْرِيكِهَا إِيَّاهُ، وَتِلْكَ كَرَامَةٌ أُخْرَى لَهَا. وَلِتُشَاهِدَ بِعَيْنِهَا كَيْفَ يُثْمِرُ الْجِذْعُ الْيَابِسُ رُطَبًا. وَفِي ذَلِكَ كَرَامَةٌ لَهَا بِقُوَّةِ يَقِينِهَا بِمَرْتَبَتِهَا. وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَقَوَلِهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَة: 195] . وَضُمِّنَ وَهُزِّي مَعْنَى قَرِّبِي أَوْ أَدْنِي، فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) ، أَيْ حَرِّكِي جِذْعَ النَّخْلَةِ وَقَرِّبِيهِ يَدْنُ إِلَيْكِ وَيَلِنْ بَعْدَ الْيُبْسِ وَيُسْقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا. وَالْمَعْنَى: أَدْنِي إِلَى نَفْسِكِ جِذْعَ النَّخْلَةِ. فَكَانَ فَاعِلُ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقُهُ مُتَّحِدًا، وَكِلَاهُمَا ضَمِيرُ مُعَادٍ وَاحِد، وَلَا ضمير فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْمَعْنَى وَوُرُودِ أَمْثَالِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ نَحْوَ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ [الْقَصَص: 32] . فَالضَّامُّ وَالْمَضْمُومُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا مَنَعَ النُّحَاةُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ ضَمِيرَيْ مُعَادٍ وَاحِدٍ إِلَّا فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَفِي فِعْلَيْ: عَدِمَ وَفَقَدَ، لِعَدَمِ سَمَاعِ ذَلِكَ، لَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى، فَلَا يُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ مَنْعُ غَيْرِهِ. وَالرُّطَبُ: تَمْرٌ لَمْ يَتِمَّ جَفَافُهُ. وَالْجَنِيُّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُجْتَنًى، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حَدَثَانِ سُقُوطِهِ، أَيْ عَنْ طَرَاوَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الرُّطَبِ الْمَخْبُوءِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الرُّطَبَ مَتَى كَانَ أَقْرَبَ عَهْدًا بِنَخْلَتِهِ كَانَ أَطْيَبَ طَعْمًا.

وَ (تُساقِطْ) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- أَصْلُهُ تَتَسَاقَطُ بِتَاءَيْنِ أُدْغِمَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ فِي السِّينِ لِيَتَأَتَّى التَّخْفِيفُ بِالْإِدْغَامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ. ورُطَباً عَلَى هَاتِهِ الْقِرَاءَاتِ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ التَّسَاقُطِ إِلَى النَّخْلَةِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ سَاقَطَتِ النَّخْلَةُ تَمْرَهَا، مُبَالَغَةٌ فِي أَسْقَطَتْ ورُطَباً مَفْعُولٌ بِهِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدًا إِلَى بِجِذْعِ النَّخْلَةِ. وَجُمْلَةُ فَكُلِي وَمَا بَعْدَهَا فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أَيْ فَأَنْتِ فِي بُحْبُوحَةِ عَيْشٍ. وَقُرَّةُ الْعَيْنِ: كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ، لِقَوْلِهِمْ: سَخَنَتْ عَيْنُهُ إِذَا كَثُرَ بُكَاؤُهُ، فَالْكِنَايَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ عَنِ السُّرُورِ كِنَايَةٌ بِأَرْبَعِ مَرَاتِبَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [الْقَصَص: 9] . وَقُرَّةُ الْعَيْنِ تَشْمَلُ هَنَاءَ الْعَيْشِ وَتَشْمَلُ الْأُنْسَ بِالطِّفْلِ الْمَوْلُودِ. وَفِي كَوْنِهِ قُرَّةَ عَيْنٍ كِنَايَةً عَنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ وَنَبَاهَةِ شَأْنِهِ. وَفَتْحُ الْقَافِ فِي وَقَرِّي عَيْناً لِأَنَّهُ مُضَارِعُ قَرِرَتْ عَيْنُهُ مِنْ بَابِ رَضِيَ، أُدْغِمَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ إِلَى فَائِهَا فِي الْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْفَاءَ سَاكِنَةٌ. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. (26) هَذَا مِنْ بَقِيَّة مَا ناداها بِهِ عِيسَى، وَهُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى مَرْيَمَ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ الطِّفْلِ، تَلْقِينًا مِنَ اللَّهِ لِمَرْيَمَ وَإِرْشَادًا لِقَطْعِ الْمُرَاجَعَة

مَعَ مَنْ يُرِيدُ مُجَادَلَتَهَا، فَعَلَّمَهَا أَنْ تَنْذُرَ صَوْمًا يُقَارِنُهُ انْقِطَاعٌ عَنِ الْكَلَامِ، فَتَكُونَ فِي عِبَادَةٍ وَتَسْتَرِيحَ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِينَ وَمُجَادَلَةِ الْجَهَلَةِ. وَكَانَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ ضُرُوبِ الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَقَدِ اقْتَبَسَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْمَسَ الَّتِي حَجَّتْ مُصْمَتَةً. وَنُسِخَ فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام بِالسنةِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ مِنَ الشَّمْسِ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيَجْلِسْ وَلِيُتِمَّ صِيَامَهُ» وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ يُدْعَى أَبَا إِسْرَائِيلَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا: «إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ هَدَمَ هَذَا فَتَكَلِّمِي» . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَحْمَسَ حَجَّتْ مُصْمِتَةً، أَيْ لَا تَتَكَلَّمُ. فَالصَّمْتُ كَانَ عِبَادَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَلَيْسَ هُوَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ نَسَخَهُ الْإِسْلَامُ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ» ، وَعَمَلِ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ عَلَى أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبِ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ شَأْنَ النَّذْرِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ أَوِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ لَهُ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَقِبَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ

وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ لَأَمَرَهُ بِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ لَا اعْتِدَادَ بِهِ بِوَجْهٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى عِلَّةِ عَدَمِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِهِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» . فَعَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى يُكْسِبُ النَّفْسَ تَزْكِيَةً وَيَبْلُغُ بِهَا إِلَى غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ مِثْلَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَيُحْتَمَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ الْغَايَةِ السَّامِيَةِ، وَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِانْتِقَامٍ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَلَا تَعْذِيبٍ لَهُ كَمَا كَانَ أَهْلُ الضَّلَالِ يَتَقَرَّبُونَ بِتَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ، وَكَمَا شُرِعَ فِي بَعْضِ الْأَدْيَانِ التَّعْذِيبُ الْقَلِيلُ لِخَضْدِ جَلَافَتِهِمْ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الْحَج: 36- 37] ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ فِي الْهَدَايَا أَنْ يُرِيقُوا دِمَاءَهَا وَيَتْرُكُوا لُحُومَهَا مُلْقَاةً لِلْعَوَافِي. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ» ، فَلَمْ يَرَ لَهُ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ قُرْبَةً. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيءُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قده بِيَدِهِ» . و

فِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ رَجُلَيْنِ وَهُمَا مُقْتَرِنَانِ. فَقَالَ: مَا بَالُهُمَا؟ قَالَا: إِنَّا نَذَرْنَا لَنَقْتَرِنَنَّ حَتَّى نَأْتِيَ الْكَعْبَةَ، فَقَالَ: أَطْلِقَا أَنْفُسَكُمَا لَيْسَ هَذَا نَذْرًا إِنَّمَا النَّذْرُ مَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» . وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّاوِيَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْآثَارِ رَوَاهَا بِلَفْظِ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَقِبَ حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَجْلِسَ: «قَالَ مَالِكٌ: قَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ» . وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً أَنَّهُ جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ كَنَذْرِ صَمْتِ سَاعَةٍ، وَأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلنَّفْسِ الَّتِي كَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّعْذِيبِ بِوُجُوهِ التَّعْذِيبِ إِلَّا لِعَمَلٍ اعْتَبَرَهُ الْإِسْلَامُ مَصْلَحَةً لِلْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ أَوْ لِلْأُمَّةِ أَوْ لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ مِثْلَ الْقِصَاصِ وَالْجَلْدِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: 29] . وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَنْفُسَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» لِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ لَا تُنَاطُ شَرَائِعُهَا إِلَّا بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ. وَالْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ كَمَا قَالَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : «وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ نَحْوِهُ أَوْ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ» ، فَقَوْلُهُ: «وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ» بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِنَذْرِهِ مُخَالِفًا لِنَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.

وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ صَمْتًا بِدُونِ نَذْرٍ وَلَا قَصْدِ عِبَادَةٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا إِلَّا إِذَا بَلَغَ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ الْمُضْنِيَةِ. وَقَدْ بَقِيَ عِنْدَ النَّصَارَى اعْتِبَارُ الصَّمْتِ عِبَادَةً وَهُمْ يَجْعَلُونَهُ تَرَحُّمًا عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَقِفُوا صَامِتِينَ هُنَيْهَةً. وَمَعْنَى فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَانْذُرِي صَوْمًا وَإِنْ لَقِيتِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ صَوْمًا فَحُذِفَتْ جُمْلَةٌ لِلْقَرِينَةِ. وَقَدْ جُعِلَ الْقَوْلُ الْمُتَضَمِّنُ إِخْبَارًا بِالنَّذْرِ عِبَارَةً عَنْ إِيقَاعِ النَّذْرِ وَعَنِ الْإِخْبَارِ بِهِ كِنَايَةً عَنْ إِيقَاعِ النَّذْرِ لِتَلَازُمِهِمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخَبَرِ الصِّدْقُ وَالْمُطَابَقَةُ لِلْوَاقِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] . وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ وَلَا تَفْعَلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْذَنُ فِي الْكَذِبِ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ مَعَ عَدَمِ تَأَتِّي الصِّدْقِ مَعَهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ» . وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَالْمُرَادُ أَنْ تُؤَدِّيَ ذَلِكَ بِإِشَارَةٍ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا بِأَنْ تُشِيرَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَكْلِ، وَإِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي شَرْعِهِمْ مَشْرُوطًا بِتَرْكِ الْكَلَامِ كَمَا قِيلَ فَالْإِشَارَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَة، وَإِن كَانَ الصَّوْمِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَدْ يَأْتِي بِهَا الصَّائِمُ مَعَ تَرْكِ الْكَلَامِ تُشِيرُ إِشَارَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا نَذَرَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهَا حِينَ تُسْأَلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ [مَرْيَم: 29] .

[سورة مريم (19) : الآيات 27 إلى 28]

وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ تَرَيِنَّ نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي صَارَ آخِرُهُ يَاءً بِسَبَبِ حَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ لِأَجْلِ حَرْفِ الشَّرْطِ فَحُرِّكَتِ الْيَاءُ بِحَرَكَةٍ مُجَانِسَةٍ لَهَا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ. وَالْإِنْسِيُّ: الْإِنْسَانُ، وَالْيَاءُ فِيهِ لِلنَّسَبِ إِلَى الْإِنْسِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ إِنْسَانٍ، فَيَاءُ النَّسَبِ لِإِفَادَةِ فَرْدٍ مِنَ الْجِنْسِ مِثْلَ: يَاءُ حَرَسِيٍّ لِوَاحِدٍ مِنَ الْحَرَسِ. وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ لَنْ أُكَلِّمَ أَحَدًا. وَعَدَلَ عَنْ أَحَدٍ إِلَى إِنْسِيًّا لِلرَّعْيِ عَلَى فَاصِلَةِ الْيَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ تَكْلِيمِهَا الْمَلَائِكَةَ إِذْ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِمَنْ هُيِّئَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ سماجة. [27- 28] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 27 إِلَى 28] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ جَاءَتْ أَهْلَهَا عَقِبَ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهَا ابْنُهَا. وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا: أَنَّهَا بَقِيَتْ فِي بَيْتِ لَحْمٍ إِلَى انْتِهَاءِ وَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّطْهِيرِ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْفَاءِ تَعْقِيبًا عُرْفِيًّا مِثْلَ: تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ. وقَوْمَها: أَهْلُ مَحَلَّتِهَا. وَجُمْلَةُ تَحْمِلُهُ حَالٌ من تَاء فَأَتَتْ. وَهَذِهِ الْحَالُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا أَتَتْ مُعْلِنَةً بِهِ غَيْرَ سَاتِرَةٍ لِأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ اللَّهَ سَيُبَرِّئُهَا مِمَّا يُتَّهَمُ بِهِ مِثْلُ مَنْ جَاءَ فِي حَالَتِهَا.

وَجُمْلَةُ قالُوا يَا مَرْيَمُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَقَالَ قَوْمُهَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَوْبِيخًا لَهَا. وَفَرِيٌّ: فَعِيلٌ مِنْ فَرَى مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ. وَلِهَذَا اللَّفْظِ عِدَّةُ إِطْلَاقَاتٍ، وَأَظْهَرُ مَحَامِلِهِ هُنَا أَنَّهُ الشَّنِيعُ فِي السُّوءِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، وَهُوَ جَاءَ مِنْ مَادَّةِ افْتَرَى إِذَا كُذِّبَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْسِبُ وَلَدَهَا الَّذِي حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًى إِلَى زَوْجِهَا كَذِبًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ [الممتحنة: 12] . وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفَرِيَّ وَالْفِرْيَةَ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْإِفْرَاءِ بِالْهَمْزِ، وَهُوَ قَطْعُ الْجَلْدِ لِإِفْسَادِهِ أَوْ لِتَحْرِيقِهِ، تَفْرِقَةً بَيْنَ أَفْرَى وَفَرَى، وَأَنَّ فَرَى الْمُجَرَّدَ لِلْإِصْلَاحِ. وَالْأُخْتُ: مُؤَنَّثُ الْأَخِ، اسْمٌ يُضَافُ إِلَى اسْمٍ آخَرَ، فَيُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى ابْنَةِ أَبَوَيْ مَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمِهِ أَوِ ابْنَةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ تَكُونُ مِنْ أَبْنَاءِ صَاحِبِ الِاسْمِ الَّذِي تُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ اسْمَ قَبِيلَةٍ كَقَوْلِهِمْ: يَا أَخَا الْعَرَبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ضَيْفِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَوْلُهُ لِزَوْجِهِ: «يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟» ، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ (بَنِي) مُضَافًا إِلَى اسْمِ جَدِّ الْقَبِيلَةِ كَانَ مُقَدَّرًا، قَالَ سَهْلُ بْنُ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ: يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَةْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَةْ يُرِيدُ يَا أُخْتَ أَفْضَلِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِنْ بَدْوِهَا وَحَضَرِهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أُخْتَ هارُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَيَكُونَ لِمَرْيَمَ أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ كَانَ صَالِحًا فِي قَوْمِهِ، خَاطَبُوهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ زِيَادَةً فِي التَّوْبِيخِ، أَيْ مَا كَانَ لِأُخْتِ مِثْلِهِ أَنْ تَفْعَلَ فِعْلَتَكَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ. فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ ابْن شُعْبَةَ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَءُونَ يَا أُخْتَ هارُونَ

وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمُ» اه. فَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ لِأَهْلِ نَجْرَانَ أَنْ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنْ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَنِ اسْمُهُ هَارُونُ إِلَّا هَارُونَ الرَّسُولَ أَخَا مُوسَى. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى يَا أُخْتَ هارُونَ أَنَّهَا إِحْدَى النِّسَاء مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ أخي مُوسَى، كَقَوْل أبي بكر: يَا أُخْت بني فراس. وَقد كَانَت مَرْيَم من ذُرِّيَّة هَارُون أَخِي مُوسَى مِنْ سِبْطِ لَاوِي. فَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا كَانَ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّاءُ مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَاسْمُهَا إِلْيَصَابَاتُ، وَإِلْيَصَابَاتُ زَوْجَةُ زَكَرِيَّاءَ نَسِيبَةُ مَرْيَمَ، أَيِ ابْنَةِ عَمِّهَا، وَمَا وَقَعَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي نَسَبِ مَرْيَمَ أَنَّهَا مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَان بن دَاوُود خَطَأٌ. وَلَعَلَّ قَوْمَهَا تَكَلَّمُوا بِاللَّفْظَيْنِ فَحَكَاهُ الْقُرْآنُ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ مَا يُنَافِي حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَالسَّوْءُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْوَاوِ-: مَصْدَرُ سَاءَهُ، إِذَا أَضَرَّ بِهِ وَأَفْسَدَ بَعْضَ حَالِهِ، فَإِضَافَةُ اسْمٍ إِلَيْهِ تُفِيدُ أَنه من شؤونه وَأَفْعَالِهِ وَأَنَّهُ هُوَ مَصْدَرٌ لَهُ. فَمَعْنَى امْرَأَ سَوْءٍ رَجُلَ عَمَلٍ مُفْسِدٍ. وَمَعْنَى الْبَغِيِّ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَعَنَوْا بِهَذَا الْكَلَامِ الْكِنَايَةَ عَنْ كَوْنِهَا أَتَتْ بِأَمْرٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِهَا، أَيْ أَتَتْ بِسَوْءٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَبِيهَا وَبِغَاءٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أُمِّهَا، وَخَالَفَتْ سِيرَةَ أَبَوَيْهَا فَكَانَتِ امْرَأَةَ سَوْءٍ وَكَانَتْ بَغِيًّا وَمَا كَانَ أَبُوهَا امْرَأَ سَوْءٍ وَلَا كَانَتْ أُمُّهَا بَغِيًّا فَكَانَتْ مُبْتَكِرَةً الْفَوَاحِشَ فِي أَهْلِهَا. وَهُمْ أَرَادُوا ذَمَّهَا فَأَتَوْا بِكَلَامٍ صَرِيحُهُ ثَنَاءٌ عَلَى أَبَوَيْهَا مُقْتَضٍ أَنَّ شَأْنَهَا أَنْ تَكُونَ مثل أَبَوَيْهَا.

[سورة مريم (19) : آية 29]

[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 29] فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) أَيْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِشَارَةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُحِيلُهُمْ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّتِهِ، أَوْ أَشَارَتْ إِلَى أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الْجَوَابَ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ إِيَّاهَا وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ إِشَارَتِهَا. وَلَمَّا كَانَتْ إِشَارَتُهَا بِمَنْزِلَةِ مُرَاجَعَةِ كَلَامٍ حُكِيَ حِوَارُهُمُ الْوَاقِعُ عَقِبَ الْإِشَارَةِ بِجُمْلَةِ الْقَوْلِ مَفْصُولَةٍ غَيْرِ مَعْطُوفَةٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ أَنْكَرُوا أَنْ يُكَلِّمُوا مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَأَنْكَرُوا أَنْ تُحِيلَهُمْ عَلَى مُكَالَمَتِهِ، أَيْ كَيْفَ نَتَرَقَّبُ مِنْهُ الْجَوَابَ أَوْ كَيْفَ نُلْقِي عَلَيْهِ السُّؤَالَ، لِأَنَّ الْحَالَتَيْنِ تَقْتَضِيَانِ التَّكَلُّمَ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِيَّةِ فِي الْمَهْدِ مِنْ هَذَا الَّذِي أُحِيلُوا عَلَى مُكَالَمَتِهِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مِنْهُمْ فِي الْإِنْكَارِ، وَتَعَجُّبٌ مِنِ اسْتِخْفَافِهَا بِهِمْ. فَفِعْلُ (كَانَ) زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ (كَانَ) الزَّائِدَةُ تَكُونُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي غَالِبًا. وَقَوْلُهُ فِي الْمَهْدِ خَبَرٌ (مِنَ) الْمَوْصُولَةِ. وصَبِيًّا حَالٌ مِنِ اسْم الْمَوْصُول. و (المهد) فِرَاشُ الصَّبِيِّ وَمَا يمهد لوضعه.

[سورة مريم (19) : الآيات 30 إلى 33]

[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 30 إِلَى 33] قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) كَلَامُ عِيسَى هَذَا مِمَّا أَهْمَلَتْهُ أَنَاجِيلُ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ طَوَوْا خَبَرَ وُصُولِهَا إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا، وَهُوَ طَيٌّ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي أَحْوَالٍ غَيْرِ مَضْبُوطَةٍ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِابْتِدَاءُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِأَنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ: أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ مُرَادٌ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ، أَيْ قدّر أَن يوتيني الْكِتَابَ. وَالْكِتَابُ: الشَّرِيعَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا تَغْيِيرٌ. فَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى كَإِطْلَاقِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْإِنْجِيلُ وَهُوَ مَا كُتِبَ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ فَيَكُونَ الْإِيتَاءُ إِيتَاءَ عِلْمِ مَا فِي التَّوْرَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: 12] فَيَكُونَ قَوْلُهُ وَجَعَلَنِي نَبِيئًا ارْتِقَاءً فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا. وَالْقَوْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ وآتانِيَ الْكِتابَ.

وَالْمُبَارَكُ: الَّذِي تُقَارِنُ الْبَرَكَةُ أَحْوَالَهُ فِي أَعْمَالِهِ وَمُحَاوَرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُبَارَكَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَهُ، إِذَا جَعَلَهُ ذَا بَرَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَارَكَ فِيهِ، إِذَا جَعَلَ الْبَرَكَةَ مَعَهُ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ وَالْيُمْنُ. ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِرَحْمَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُحِلَّ لَهُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلِيَدْعُوَهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ أَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَغَيَّرُوا مِنْ دِينِهِمْ، فَهَذِهِ أَعْظَمُ بَرَكَةٍ تُقَارِنُهُ. وَمِنْ بَرَكَتِهِ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ حُلُولَهُ فِي الْمَكَانِ سَبَبًا لِخَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ مِنْ خِصْبِهَا وَاهْتِدَاءِ أَهْلِهَا وَتَوْفِيقِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِذَا لَقِيَهُ الْجَهَلَةُ وَالْقُسَاةُ وَالْمُفْسِدُونَ انْقَلَبُوا صَالِحِينَ وَانْفَتَحَتْ قُلُوبُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَكْثَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا مِنْ عَامَّةِ الْأُمِّيِّينَ مِنْ صَيَّادِينَ وَعَشَّارِينَ فَصَارُوا دُعَاةَ هَدًى وَفَاضَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْحِكْمَةِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُبَارَكًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيئًا عُمُومًا وَجْهِيًّا، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْله وَجَعَلَنِي نبيئا غُنْيَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً. وَالتَّعْمِيمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أَيْنَ مَا كُنْتُ تَعْمِيمٌ لِلْأَمْكِنَةِ، أَيْ لَا تَقْتَصِرُ بَرَكَتُهُ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْهَيْكَلِ بِالْمَقْدِسِ أَوْ فِي مَجْمَعِ أَهْلِ بَلَدِهِ، بَلْ هُوَ حَيْثُمَا حَلَّ تَحُلَّ مَعَهُ الْبَرَكَةُ. وَالْوِصَايَةُ: الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ بِعَمَلٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَيْ قَدَّرَ وَصِيَّتَي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، أَيْ أَنْ يَأْمُرَنِي بِهِمَا أَمْرًا مُؤَكَّدًا مُسْتَمِرًّا، فَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَوْصانِي مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي قَوْلِهِ آتانِيَ الْكِتابَ. وَالزَّكَاةُ: الصَّدَقَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يُصَلِّيَ وَيُزَكِّيَ. وَهَذَا أَمْرٌ خَاصٌّ بِهِ كَمَا أُمِرَ نَبِيئُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَرِينَةُ

الْخُصُوصِ قَوْلُهُ مَا دُمْتُ حَيًّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ حَيَّاتِهِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَيْ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَتَصَدَّقَ فِي أَوْقَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ غَيْرِ أَوْقَاتِ الدَّعْوَةِ أَوِ الضَّرُورَاتِ. فَالِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَا دُمْتُ حَيًّا اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مُرَادٌ بِهِ الْكَثْرَةُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَتَيْنِ عَلَى أُمَّتِهِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي أَوْصَافٍ تَمَيَّزَ بِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَرْعِ صَلَاةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا شُرِعَ فِي التَّوْرَاةِ. وَالْبَرُّ- بِفَتْحِ الْبَاءِ-: اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَارِّ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ بَيْنَ قَوْمِهِ، لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَ ضَعِيفًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْوَالِدَةُ لِأَنَّهَا تُسْتَضْعَفُ، لِأَنَّ فَرْطَ حَنَانِهَا وَمَشَقَّتِهَا قَدْ يُجَرِّئَانِ الْوَلَدَ عَلَى التَّسَاهُلِ فِي الْبِرِّ بِهَا. وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ الْغَلِيظُ عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ [59] قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَالشَّقِيُّ: الْخَاسِرُ وَالَّذِي تَكُونُ أَحْوَالُهُ كَدِرَةً لَهُ وَمُؤْلِمَةً، وَهُوَ ضِدُّ السَّعِيدِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ [105] . وَوُصِفَ الْجَبَّارُ بِالشَّقِيِّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ فِي الْآخِرَةِ وَرُبَّمَا فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ إِلَى آخِرِهِ، تَنْوِيهٌ بِكَرَامَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ ذِكْرِ يَحْيَى. وَجِيءَ بِالسَّلَامِ هُنَا معرّفا بِاللَّامِ الدَّالَّة عَلَى الْجِنْسِ مُبَالَغَةً فِي تَعَلُّقِ السَّلَامِ بِهِ حَتَّى كَانَ جِنْسُ السَّلَامِ بِأَجْمَعِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مُؤْذِنٌ

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 35]

بِتَفْضِيلِهِ عَلَى يَحْيَى إِذْ قِيلَ فِي شَأْنِهِ وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ [مَرْيَم: 15] ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ وَبَيْنَ النَّكِرَةِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ اللَّامِ لِلْعَهْدِ، أَيْ سَلَامٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْرِيمِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَبِالْأَمْرِ بِكَرَامَتِهِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: 56] ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِ الْمُتَشَهِّدِ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيءُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» . وَمُؤْذِنٌ أَيْضًا بِتَمْهِيدِ التَّعْرِيضِ بِالْيَهُودِ إِذْ طَعَنُوا فِيهِ وَشَتَمُوهُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَقَالُوا: وُلِدَ مِنْ زِنًى، وَقَالُوا: مَاتَ مَصْلُوبًا، وَقَالُوا: يُحْشَرُ مَعَ الْمَلَاحِدَةِ وَالْكَفَرَةِ، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَفَرَ بِأَحْكَامٍ من التَّوْرَاة. [34- 35] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 34 إِلَى 35] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَقُولَةِ فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَم: 30] مَعَ قَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مَرْيَم: 36] ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لَا كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ. وَالْإِشَارَةُ لِتَمْيِيزِ الْمَذْكُورِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا، إِذْ أَنْزَلَهُ الْيَهُودُ إِلَى حَضِيضِ الْجُنَاةِ، وَرَفَعَهُ النَّصَارَى إِلَى مَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُخْطِئٌ مُبْطِلٌ، أَيْ ذَلِكَ هُوَ عِيسَى بِالْحَقِّ،

وَأَمَّا مَنْ تَصِفُونَهُ فَلَيْسَ هُوَ عِيسَى لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ الشَّخْصِ بِصِفَاتٍ غَيْرِ صِفَاتِهِ تَبْدِيلٌ لِشَخْصِيَّتِهِ، فَلَمَّا وَصَفُوهُ بِغَيْرِ مَا هُوَ صِفَتُهُ جُعِلُوا بِمَنْزِلَةِ من لَا يعرفونه فَاجْتُلِبَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِيَتَمَيَّزَ الْمَوْصُوفُ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ عِنْدَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّمْيِيزِ تَمْيِيزُ صِفَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنِ الصِّفَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي أَلْصَقُوهَا بِهِ لَا تَمْيِيزَ ذَاتِهِ عَنِ الذَّوَاتِ إِذْ لَيْسَتْ ذَاتُهُ بِحَاضِرَةٍ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَيْ تِلْكَ حَقِيقَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصِفَتُهُ. وقَوْلَ الْحَقِّ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ فَأَمَّا الرَّفْعُ فَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفٌ لِعِيسَى أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَهُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ مِنْ عِيسَى. وَمَعْنَى قَوْلَ الْحَقِّ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمِعْتُمْ هِيَ قَوْلُ الْحَقِّ، أَيْ مَقُولٌ هُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهَا بَاطِلٌ، أَوْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، أَيْ مَقُولُ الْحَقِّ، أَيِ الْمُكَوَّنُ مِنْ قَوْلِ (كُنْ) ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] . وَجَوَّزَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِتَقْدِيرِ: أُحِقُّ قَوْلَ الْحَقِّ، أَيْ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا، تَقْدِيرُهُ: أُحِقُّ قَوْلَ الْحَقِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الْحَقِّ مَصْدَرًا نَائِبًا عَنْ فِعْلِهِ، أَيْ أَقُولُ قَوْلَ الْحَقِّ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ اعْتِرَاضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْفَاعِل صفة لعيسى أَوْ حَالًا مِنْهُ، أَيْ قَائِلُ الْحَقِّ إِذْ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَم: 30- 33] . والَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ.

وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ، أَيِ الَّذِي فِيهِ يَشُكُّونَ، أَيْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا مَبْنَاهُ الشَّكُّ وَالْخَطَأُ، فَإِنْ عَادَ الْمَوْصُولُ إِلَى الْقَوْلِ فَالِامْتِرَاءُ فِيهِ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي صِدْقِهِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى عِيسَى فَالِامْتِرَاءُ فِيهِ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ رَافِعٍ وَخَافِضٍ. وَجُمْلَةُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ أَوِ الِاشْتِمَالِ مِنْهَا، اكْتِفَاءً بِإِبْطَالِ قَوْلِ النَّصَارَى بِأَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ بِالْإِبْطَالِ، إِذْ هُوَ تَقْرِيرٌ لِعُبُودِيَّةِ عِيسَى وَتَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَمِنْ شَائِبَةِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهُ الْقَوْلُ النَّاشِئُ عَنِ الْغُلُوِّ فِي التَّقْدِيسِ، فَكَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ لِعِيسَى مَا قَدْ يُقَوِّي شُبْهَتَهُمْ فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْيَهُودِ فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ بِمَا عُدِّدَ لِعِيسَى مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ. وَصِيغَةُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الْوَلَدِ عَنْهُ تَعَالَى بِأَبْلَغِ وَجْهٍ لِأَنَّ لَامَ الْجُحُودِ تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُلَاقِي وُجُودَ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَتَّخِذَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ هُوَ خَلَقَهُ، وَاتَّخَذَهُ فَلَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مخلوقاته، فإثبات النبوّة لَهُ خُلْفٌ مِنَ الْقَوْلِ. وَجُمْلَةُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ النَّصَارَى إِذْ جَعَلُوا تَكْوِينَ إِنْسَانٍ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ عَنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُعْتَادٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُكَوَّنَ ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أُصُولُ الْمَوْجُودَاتِ أَبْنَاءً لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْتَضِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْخُضُوعِ إِلَى أَمر التكوين.

[سورة مريم (19) : آية 36]

[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 36] وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَقِيَّةً لِكَلَامٍ جَرَى عَلَى لِسَانِ عِيسَى تَأْيِيدًا لِبَرَاءَةِ أُمِّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْمَعْنَى: تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ الْخَلْقِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ هَمْزَةَ وَأَنَّ مَفْتُوحَةً فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَاعْبُدُوهُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِلِاهْتِمَامِ بِالْعِلَّةِ لِكَوْنِهَا مُقَرِّرَةً لِلْمَعْلُولِ وَمُثْبِتَةً لَهُ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجنّ: 18] وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَاعْبُدُوهُ مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَم: 30] بَعْدَ أَن أرْدف بِمَا تعلّق بِهِ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ. وَلَمَّا اشْتَمَلَ مَدْخُولُ لَامِ التَّعْلِيلِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أُضْمِرَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ. وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ هَكَذَا: فَاعْبُدُوا اللَّهَ لِأَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: 31] ، أَيْ وَأَوْصَانِي بِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَيَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنَّ) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَقِّ مِنْ قَوْلِهِ قَوْلَ الْحَقِّ [مَرْيَم: 34] عَلَى وَجْهِ جَعْلِ قَوْلَ بِمَعْنَى قَائِلٍ، أَيْ قَائِلٌ الْحَقَّ وَقَائِلٌ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَإِنَّ هَمْزَةَ أَنْ يَجُوزُ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْقَوْلِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا خُوطِبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ كَانَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَطْفًا عَلَى مَرْيَمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة مريم (19) : آية 37]

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ [مَرْيَمَ: 16] ، أَيِ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ اللَّهَ رَبِّي فَكَذَلِكَ، وَيَكُونُ تَفْرِيعُ فَاعْبُدُوهُ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مَرْيَم: 35] إِلَى آخِرِهِ ... وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ. وَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ. وَجُمْلَةُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا سَبَقَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ اعْتِقَادُ الْحَقِّ، شُبِّهَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، شَبَّهَ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ فِي كَوْنِهِ مَوْصُولًا إِلَى الْهُدَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِاطْمِئْنَانِ بَالٍ، وَعُلِمَ أَنَّ غَيْرَ هَذَا كَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ مَنْ سَلَكَهَا أَلْقَت بِهِ فِي الْمَخَاوِفُ وَالْمَتَالِفُ كَقَوْلِهِ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: 153] . [37] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 37] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ حَادَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْأَحْزَابُ فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فِي الطَّرَائِقِ الَّتِي سَلَكُوهَا، أَيْ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَخْتَلِفُ سَالِكُوهُ اخْتِلَافًا أَصْلِيًّا، فَسَلَكَ الْأَحْزَابُ طُرُقًا أُخْرَى هِيَ حَائِدَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ.

وَقَوْلُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ متعلّق باختلف. و (من) حَرْفُ تَوْكِيدٍ، أَيِ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ أَحْزَابُ النَّصَارَى، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ وَلَمْ يَكُنِ الْيَهُودُ مُوَافِقِينَ النَّصَارَى فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ. وَقَدْ كَانَ النَّصَارَى عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي حَيَاةِ الْحَوَارِيِّينَ ثُمَّ حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي تَلَامِيذِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [171] أَنَّ الِاخْتِلَافَ انْحَلَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْمَلْكَانِيَّةُ (وَتُسَمَّى الْجَاثُلِيقِيَّةَ) وَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ. وَانْشَعَبَتْ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ عِدَّةُ فِرَقٍ ذَكَرَهَا الشَّهْرَسْتَانِيُّ، وَمِنْهَا الْأَلْيَانَةُ، وَالْبِلْيَارِسِيَّةُ، وَالْمِقْدَانُوسِيَّةُ، وَالسِّبَالِيَّةُ، وَالْبُوطِينُوسِيَّةُ، وَالْبُولِيَّةُ، إِلَى فِرَقٍ أُخْرَى. مِنْهَا فِرْقَةٌ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ تُسَمَّى الرَّكُوسِيَّةُ وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: إِنَّكَ رَكُوسِيٌّ» . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ مَشُوبَةٌ بِعَقَائِدِ الصَّابِئَةِ. وَحَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِرْقَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةِ (الْبُرُوتِسْتَانُ) أَتْبَاعُ (لُوثِيرَ) . وَأَشْهَرُ الْفِرَقِ الْيَوْمَ هِيَ الْمَلْكَانِيَّةُ (كاثوليك) ، واليعقوبية (أرثودوكس) ، والاعتراضية (بروتستان) . وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ قَدِ انْحَصَرَ فِي مَرْجِعٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى اغْتِرَارًا وَسُوءَ فَهْمٍ فِي مَعْنَى لَفْظِ (ابْنٍ) الَّذِي وَرَدَ صِفَةً لِلْمَسِيحِ فِي الْأَنَاجِيلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِذَلِكَ فِيهَا أَيْضًا أَصْحَابُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا «أَنْتُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ» . وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الْحَوَارِيِّ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا الْحَوَارِيِّ كَلِمَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ إِنْسَانٍ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ، فَقَدِ انْحَصَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ فَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَشَمِلَ قَوْلُهُ (الَّذِينَ كَفَرُوا) هَؤُلَاءِ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَشَمِلَ الْمُشْرِكِينَ غَيرهم. وَالْمَشْهَدُ صَالِحٌ لِمَعَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ مِنَ

[سورة مريم (19) : آية 38]

الشُّهُودِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا فِي الْمَعْنَيَيْنِ أَوِ اسْمَ مَكَانٍ لَهُمَا أَوِ اسْمَ زَمَانٍ لَهُمَا، أَيْ يَوْمٍ فِيهِ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ. وَالْوَيْلُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا وَقَدْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ، أَيْ نَفَوْا وَحْدَانِيَّتَهُ، فَدَخَلُوا فِي زُمْرَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ دون الْمُشْركين. [38] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 38] أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صِيغَتَا تَعَجُّبٍ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَيْضًا عَنْ تَهْدِيدِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ بُلُوغِ حَالِهِمْ فِي السُّوءِ مَبْلَغًا يُتَعَجَّبُ مِنْ طَاقَتِهِمْ عَلَى مُشَاهَدَةِ مَنَاظِرِهِ وَسَمَاعِ مَكَارِهِهِ. وَالْمَعْنَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْ مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ بِمَا يَكْرَهُونَهُ. وَقَرِيبٌ هُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَة: 175] . وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فِي التَّعَجُّبِ بَلْ صَادَفَ أَنْ جَاءَ عَلَى صُورَةِ فِعْلِ التَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ أَمْرٌ لِلْمُخَاطَبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِأَنْ يَسْمَعَ وَيُبْصِرَ بِسَبَبِهِمْ، وَمَعْمُولُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسْمَعَ وَأَنْ يُبْصَرَ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّهْدِيدِ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ عَائِدٌ إِلَى (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أَيْ أَعْجِبْ بِحَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ نَصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.

[سورة مريم (19) : آية 39]

وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ التَّقْيِيدُ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ يَأْتُونَنا مِنْ تَرَقُّبِ سُوءِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَقْتَضِي الظَّنَّ بِأَنَّهُمُ الْآنَ فِي سَعَةٍ مِنَ الْحَالِ. فَأُفِيدَ أَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ وَهُوَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ لَهُمْ لِمَا يَتْبَعُهُ مِنِ اضْطِرَابِ الرَّأْيِ وَالْتِبَاسِ الْحَالِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَتِلْكَ نُكْتَةُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِ الظَّالِمُونَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَنُكْتَتُهُ التَّخَلُّصُ إِلَى خُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الظَّالِمِينَ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَإِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . [39] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 39] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) عَقَّبَ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالنِّدَاءَ عَلَى سُوءِ ضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالْأَمْرِ بِإِنْذَارِهِمِ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ لِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَوْلِهِ وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [مَرْيَم: 40] . وَانْتَصَبَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ خَلَفَ عَنِ الْمَفْعُول الثَّانِي ل أَنْذِرْهُمْ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَنْذِرْهُمْ عَذَابَ يَوْمِ الْحَسْرَةِ. وَالْحَسْرَةُ: النَّدَامَةُ الشَّدِيدَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى التَّلَهُّفِ. وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْحَسْرَةِ يَوْمُ الْحِسَابِ، أُضِيفَ الْيَوْمُ إِلَى الْحَسْرَةِ لِكَثْرَةِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنْ

تَحَسُّرِ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ كَأَنَّهُ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ الْحَسْرَةُ، فَهُوَ يَوْمُ حَسْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ يَوْمَ فَرَحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّالِحِينَ. وَاللَّامُ فِي الْحَسْرَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ حَسْرَةِ الظَّالِمِينَ. وَمَعْنَى قُضِيَ الْأَمْرُ: تُمِّمَ أَمْرُ اللَّهِ بِزَجِّهِمْ فِي الْعَذَابِ فَلَا مُعَقِّبَ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرَ اللَّهِ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَي إِذْ حُشِرُوا. وَ (إِذْ) اسْمُ زَمَانٍ، بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ حَالٌ مِنَ الْأَمْرُ وَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِذْ قُضِيَ أَمْرُهُمْ. وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ. وَمَعْنَى جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ الْكِنَايَةُ عَنْ سُرْعَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ بِتَعْذِيبِهِمْ، أَيْ قُضِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى حِينِ أَنَّهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أَيْ بَهْتٍ. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي تَحْذِيرٌ مِنْ حُلُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا كَقَوْلِهِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَمَعْنَى وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ إِلَى حُلُولِ قَضَاءِ الْأَمْرِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ. فَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِيهِ دُونَ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْفِعْلِ وَقْتًا فَوَقْتًا اسْتِحْضَارًا لِذَلِكَ الِاسْتِمْرَارِ الْعَجِيبِ فِي طوله وتمكنه.

[سورة مريم (19) : آية 40]

[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 40] إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) تَذْيِيلٌ لِخَتْمِ الْقِصَّةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَذْيِيلِ الْأَغْرَاضِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ. وَضَمِيرُ يُرْجَعُونَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ عَلَيْها وَإِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَأَنْذِرْهُمْ [مَرْيَم: 39] . وَحَقِيقَةُ الْإِرْثِ: مَصِيرُ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى مَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَمَحُّضِ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ مُشَارِكٍ. فَإِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ فِي تَصَرُّفِ سُكَّانِهَا مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَإِذَا هَلَكَ النَّاسُ وَالْحَيَوَانُ فَقَدْ صَارُوا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَصَارَتِ الْأَرْضُ فِي غَيْرِ تَصَرُّفِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ تَصَرُّفٌ فِيهَا إِلَّا لِخَالِقِهَا، وَهُوَ تَصَرُّفٌ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ مُشْتَرَكًا بِمِقْدَارِ مَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَصَرُّفُهُ بِالْجَزَاءِ. وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِدَفْعِ الشَّكِّ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ الْجَزَاءَ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ فَهُوَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ وَلَا يُفِيدُ تَخْصِيصًا، إِذْ لَا يُفِيدُ رَدَّ اعْتِقَادٍ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ. وَظَهَرَ لِي: أَنَّ مَجِيءَ ضمير الْفَصْل بِمُجَرَّد التَّأْكِيدِ كَثِيرٌ إِذَا وَقَعَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ بَعْدَ ضَمِيرٍ آخَرَ نَحْوَ قَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [14] ، وَقَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [37] . وَأَفَادَ هَذَا التَّذْيِيلُ التَّعْرِيفَ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنَ الْكَوْنِ فِي قَبْضَةِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ الَّذِي أَشْرَكُوا بِعِبَادَتِهِ بَعْضَ مَا عَلَى

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 42]

الْأَرْضِ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَيْسَتْ بِمَرْجُوَّةٍ لِنَفْعِهِمْ إِذْ مَا هِيَ إِلَّا مِمَّا يَرِثُهُ اللَّهُ. وَبِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ جُمْلَةِ وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ بَيِّنًا، فَالتَّقْدِيمُ مُفِيدٌ الْقَصْرَ، أَيْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِنَا. وَمَحْمَلُ هَذَا التَّقْدِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الِاهْتِمَامُ وَمَحْمَلُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْقَصْرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ. [41، 42] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 41 إِلَى 42] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ التَّنْوِيهَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرسل السالفين. وَإِذ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَا الْأَنْبِيَاءِ وَأَوَّلَ مَنْ أَعْلَنَ التَّوْحِيدَ إِعْلَانًا بَاقِيًا، لِبِنَائِهِ لَهُ هَيْكَلَ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، كَانَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، وَذُكِرَ عَقِبَ قِصَّةِ عِيسَى لِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مَرْيَم: 37] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها [مَرْيَم: 40] . وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَخَالَفَهَا الْعَرَبُ بِالْإِشْرَاكِ وَهُمْ وَرَثَةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَ لِتَقْدِيمِ ذِكْرِهِ عَلَى الْبَقِيَّةِ الْمَوْقِعُ الْجَلِيلُ مِنَ الْبَلَاغَةِ. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ لِمُشَابَهَةِ حَالِهِمْ بِحَالِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ جَرَى سَرْدُ خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أُسْلُوبِ سَرْدِ قِصَّةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لِمَا فِي كُلٍّ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ فِي أَوَّلِ قِصَّةِ مَرْيَمَ [16] . والصِّدِّيقُ- بِتَشْدِيدِ الدَّالِ- صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الِاتِّصَافِ، مِثْلُ الْمَلِكِ الضِّلِّيلِ لَقَبِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ مِسِّيكٌ: أَيْ شَحِيحٌ، وَمِنْهُ طَعَامٌ حِرِّيفٌ، وَيُقَالُ: دَلِيل خرّيت، إِذا كَانَ ذَا حِذْقٍ بِالطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ فِي الْمَفَاوِزِ، مُشْتَقًّا مِنَ الْخَرْتِ وَهُوَ ثَقْبُ الشَّيْءِ كَأَنَّهُ يَثْقُبُ الْمَسْدُودَاتِ بِبَصَرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يُوسُف: 46] . وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالصِّدِّيقِ لِفَرْطِ صِدْقِهِ فِي امْتِثَالِ مَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ مَا قَدْ يَكُونُ عُذْرًا لِلْمُكَلَّفِ مِثْلَ مُبَادَرَتِهِ إِلَى مُحَاوَلَةِ ذَبْحِ وَلَدِهِ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي وَحْيِ الرُّؤْيَا، فَالصِّدْقُ هُنَا بِمَعْنَى بُلُوغِ نِهَايَةِ الصِّفَةِ فِي الْمَوْصُوفِ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مَالِكِ وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِإِقْحَامِ فِعْلِ الْكَوْنِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِهِ زِيَادَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبدل، فَإِن (إِذْ) اسْمُ زَمَانٍ وَقَعَ بَدَلًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ اذْكُرْ ذَلِكَ خُصُوصًا مِنْ أَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ أَهَمُّ مَا يُذْكَرُ فِيهِ لِأَنَّهُ مَظْهَرُ صِدِّيقِيَّتِهِ إِذْ خَاطَبَ أَبَاهُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارِ. وَالنَّبِيءُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ أَنْبَأَهُ بِالْخَبَرِ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ مُنَبَّأٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ مُرْسَلًا لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، فَالنَّبِيءُ فِيهِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ

فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] عِنْدَ قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ إِنَّمَا كَانَ عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِيُبَلِّغَ قَوْمَهُ إِبْطَالَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور نَبِيًّا بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ يَاءً لِثِقَلِهَا وَلِمُنَاسَبَةِ الْكَسْرَةِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ (نَبِيئًا) بِهَمْزَةٍ آخِرَهُ، وَبِذَلِكَ تَصِيرُ الْفَاصِلَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عَلَى حَرْفِ الْأَلِفِ، وَمِثْلُ تِلْكَ الْفَاصِلَةِ كَثِيرٌ فِي فَوَاصِلِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ إِلَخْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من (إِبْرَاهِيم) . و (إِذْ) اسْمُ زَمَانٍ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ (إِذْ) ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ زَمَانَ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَجْدَرُ أَوْقَاتِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يُذْكَرَ. وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ هُوَ (آزَارُ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَافْتَتَحَ إِبْرَاهِيمُ خِطَابَهُ أَبَاهُ بِنِدَائِهِ مَعَ أَنَّ الْحَضْرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنِ النِّدَاءِ قَصْدًا لِإِحْضَارِ سَمْعِهِ وَذِهْنِهِ لِتَلَقِّي مَا سَيُلْقِيهِ إِلَيْهِ. قَالَ الْجَدُّ الْوَزِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا أَمْلَاهُ عَلَيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ عَامِ 1318 هـ فَقَالَ: «عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ فِي طَبْعِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ تَحْقِيرَهُمْ لِلصَّغِيرِ كَيْفَمَا بَلَغَ حَالُهُ فِي الْحِذْقِ وَبِخَاصَّةٍ الْآبَاءُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ، فَتَوَجَّهَ إِلَى أَبِيهِ بِخِطَابِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ حُجَّةَ فَسَادِ عِبَادَته فِي صُورَة الِاسْتِفْهَامُ عَنْ سَبَبِ عِبَادَتِهِ وَعَمَلِهِ الْمُخْطِئِ، مُنَبِّهًا على خطئه عِنْد مَا يَتَأَمَّلُ فِي عَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ سَمِعَ ذَلِكَ وَحَاوَلَ بَيَانَ سَبَبِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِ لَمْ يَجِدْ لِنَفْسِهِ مَقَالًا فَفَطِنَ بِخَطَلِ رَأْيِهِ

وَسَفَاهَةِ حِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَبَدَ حَيًّا مُمَيِّزًا لَكَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ مَا. وَابْتَدَأَ بِالْحُجَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْحِسِّ إِذْ قَالَ لَهُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ فَذَلِكَ حُجَّةٌ مَحْسُوسَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِقَوْلِهِ: وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دَفْعِ مَا يُخَالِجُ عَقْلَ أَبِيهِ مِنَ النُّفُورِ عَنْ تَلَقِّي الْإِرْشَادِ مِنِ ابْنِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: 43] ، فَلَمَّا قَضَى حَقَّ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى تَنْبِيهِهِ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ أَثَرٌ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِ حجَّة لاثقة بِالْمُتَصِلِّبِينَ فِي الضَّلَالِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا [مَرْيَم: 45] ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ إِلَيْكَ الْوَعِيدَ عَلَى لِسَانِي، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَجْزِمُ بِذَلِكَ فَافْرِضْ وُقُوعَهُ فَإِنَّ أَصْنَامَكَ لَمْ تَتَوَعَّدْكَ عَلَى أَنْ تُفَارِقَ عِبَادَتَهَا. وَهَذَا كَمَا فِي الشِّعْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا ... لَا تُحْشَرُ الْأَجْسَامُ قُلْتُ: إِلَيْكُمَا إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا قَالَ: وَفِي النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَكْرِيرٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ اسْتِنْزَالِهِ إِلَى قَبُولِ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا مَقَامُ إِطْنَابٍ. وَنُظِّرَ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِ لُقْمَانَ قَوْلَهُ: يَا بُنَيَّ [لُقْمَان: 13- 16] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: بِخِلَافِ قَوْلِ نُوحٍ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا [هود: 42] مَرَّةً وَاحِدَةً دُونَ تَكْرِيرٍ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَقَامِ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ وَهَذَا مِنْ طُرُقُ الْإِعْجَازِ» . انْتَهَى كَلَامُهُ بِمَا يُقَارِبُ لَفْظَهُ. وَأَقُولُ: الْوَجْهُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَمُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ الْعِلَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعْجِيزِ عَنْ إِبْدَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَهُوَ مِنَ التَّوْرِيَةِ فِي مَعْنَيَيْنِ يَحْتَمِلُهُمَا الِاسْتِفْهَامُ.

[سورة مريم (19) : آية 43]

وأَبَتِ : أَصْلُهُ أَبِي، حَذَفُوا يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا تَاءً تَعْوِيضًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ خَاصٌّ بِلَفْظِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً، وَلَعَلَّهُ صِيغَةٌ بَاقِيَةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ. وَرَأَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ التَّاءَ تَصِيرُ فِي الْوَقْفِ هَاءً، وَخَالَفَهُ الْفَرَّاءُ فَقَالَ: بِبَقَائِهَا فِي الْوَقْفِ. وَالتَّاءُ مَكْسُورَةٌ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْيَاءِ وَالْيَاءُ بِنْتُ الْكَسْرَةِ وَلَمَّا كَسَرُوهَا فَتَحُوا الْيَاءَ وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: (يأبت) - بِفَتْحِ التَّاءِ- دُونَ أَلِفٍ بَعْدَهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ (يَا أَبَتَا) بِأَلِفٍ بَعْدِ التَّاءِ لِأَنْ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا نُودِيَ يَجُوزُ فَتْحُهَا وَإِشْبَاعُ فَتَحْتِهَا فَقَرَأَهُ عَلَى اعْتِبَارِ حَذْفِ الْأَلِفِ تَخْفِيفًا وَبَقَاء الفتحة. [43] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 43] يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) إِعَادَةُ نِدَائِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ تَأْكِيدٌ لِإِحْضَارِ الذِّهْنِ وَلِإِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «ثُمَّ ثَنَّى بِدَعْوَتِهِ إِلَى الْحَقِّ مُتَرَفِّقًا بِهِ مُتَلَطِّفًا، فَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ بِالْجَهْلِ الْمُفْرِطِ وَلَا نَفْسَهَ بِالْعِلْمِ الْفَائِقِ وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَعِي طَائِفَةً مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ مَعَكَ، وَذَلِكَ عِلْمُ الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ، فَلَا تَسْتَنْكِفْ، وَهَبْ أَنِّي وَإِيَّاكَ فِي مَسِيرٍ وَعِنْدِي مَعْرِفَةٌ بِالْهِدَايَةِ دُونَكَ فَاتَّبِعْنِي أُنْجِكَ مِنْ أَنْ تَضِلَّ وَتَتِيهَ» اه. ذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَرَى نَفْسَهَ عَلَى عِلْمٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُ كَانَ كَبِيرَ دِيَانَةِ قَوْمِهِ. وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عِلْمَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوءَةِ. وَتَفْرِيعُ أَمْرِهِ بِأَنْ يَتَّبِعَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَقِّيَّةَ الْعَالَمِ بِأَنْ يُتَّبَعَ مَرْكُوزَةٌ فِي غَرِيزَةِ الْعُقُولِ لَمْ يَزَلِ

[سورة مريم (19) : آية 44]

الْبَشَرُ يَتَقَصَّوْنَ مَظَانَّ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ لِجَلْبِ مَا يَنْفَعُ وَاتِّقَاءِ مَا يَضُرُّ، قَالَ تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. [النَّحْل: 43] وَفِي قَوْلِهِ: أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شُبِّهَ إِبْرَاهِيمُ بِهَادِي الطَّرِيقِ الْبَصِيرِ بِالثَّنَايَا، وَإِثْبَاتُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ قَرِينَةُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنْ شُبِّهَ الِاعْتِقَادُ الْمُوصِلُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُبَلِّغِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَيَا أَبَتِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيره قَرِيبا. [44] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 44] يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) إِعَادَةُ النِّدَاءِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ مَا أَفَادَهُ النِّدَاءُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي. وَالْمُرَادُ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ عَبَّرَ عَنْهَا بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ إِفْصَاحًا عَنْ فَسَادِهَا وَضَلَالِهَا، فَإِنَّ نِسْبَةَ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ إِلَى الشَّيْطَانِ مُقَرَّرَةٌ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُ لَا يَفْطِنُونَ إِلَى حَالِهِمْ وَيَتَّبِعُونَ وَسَاوِسَهُ تَحْتَ سِتَارِ التَّمْوِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَعْبُدِ الْأَصْنَامَ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لِلَّذِينِ اتَّخَذُوهَا وَوَضَعُوهَا لِلنَّاسِ، وَعِبَادَتَهَا مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ لِلَّذِينِ سَنُّوا سُنَنَ عِبَادَتِهَا، وَمِنْ وَسَاوِسِهِ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُمْ فِي عِبَادَتِهَا، فَمَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ وَكَفَى بِذَلِكَ ضَلَالًا مَعْلُومًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [117] . وَفِي هَذَا تَبْغِيضٌ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لِأَنَّ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِ النَّاسِ بُغْضَ الشَّيْطَانِ وَالْحَذَرَ مِنْ كَيْدِهِ.

[سورة مريم (19) : آية 45]

وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ آثَارِ وَسْوَسَتِهِ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِصْيَانِ لِلرَّبِّ الْوَاسِعِ الرَّحْمَةِ. وَذِكْرُ وَصْفِ عَصِيًّا الَّذِي هُوَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِصْيَانِ مَعَ زِيَادَةِ فِعْلِ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ عِصْيَانَ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يُنَافِي الرَّحْمَةَ، أَيْ بِمَا يُفْضِي إِلَى النِّقْمَةِ، وَلِذَلِكَ اختير وصف الرحمان مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تُوجِبُ غَضَبَ اللَّهِ فَتُفْضِي إِلَى الْحِرْمَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتْبَعَ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّه كَانَ للرحمان عَصِيًّا، لِإِيضَاحِ إِسْنَادِ الْخَبَرِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَلِزِيَادَةِ التَّنْفِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ صَرِيحِ اسْمِهِ تَنْبِيهًا إِلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مَوْعِظَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَا أَبَتِ قَرِيبا. [45] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 45] يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) لَا جَرَمَ أَنَّهُ لما قرر لَهُ أَنَّ عِبَادَتَهُ الْأَصْنَامَ اتِّبَاعٌ لِأَمْرِ الشَّيْطَان عصيّ الرحمان انْتَقَلَ إِلَى تَوَقُّعِ حِرْمَانِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، فَحَذَّرَهُ مِنْ عَاقِبَةِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِفُ الْبَشَرُ فِي مَذَمَّتِهِمْ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْدَمِجُونَ فِيهِمْ عَنْ ضَلَالٍ بِمَآلِ حَالِهِمْ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَصْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِمَنْ يَحُلُّ بِهِ هُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَبَّرَ عَنِ الْجَلالَة بِوَصْف الرحمان لِلْإِشَارَةِ إِلَى

[سورة مريم (19) : آية 46]

أَنَّ حُلُولَ الْعَذَابِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَرْحَمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِفَظَاعَةِ جُرْمِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يُحْرِمَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ شَأْنُهُ سَعَةُ الرَّحْمَةِ. وَالْوَلِيُّ: الصَّاحِبُ وَالتَّابِعُ وَمَنْ حَالُهُمَا حَالٌ وَاحِدَةٌ وَأَمْرُهُمَا جَمِيعٌ فَكُنِّيَ بِالْوِلَايَةِ عَنِ الْمُقَارَنَةِ فِي الْمَصِيرِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْخَوْفِ الدَّالِّ عَلَى الظَّنِّ دُونَ الْقَطْعِ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ لَا يُثْبِتَ أَمْرًا فِيمَا هُوَ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ، وَإِبْقَاءً لِلرَّجَاءِ فِي نَفْسِ أَبِيهِ لِيَنْظُرَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَمَعْنَى: فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فَتَكُونَ فِي اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ فِي الْعَذَابِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَا أَبَتِ قَرِيبا. [46] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 46] قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) فُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ ... لِوُقُوعِهَا فِي الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . والاستفهام للإنكار إنكارا لِتَجَافِي إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ. وَإِضَافَةُ الْآلِهَةِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ إِضَافَةُ وِلَايَةٍ وَانْتِسَابٍ إِلَى الْمُضَافِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي جَوَابِهِ دَعْوَةُ ابْنِهِ بِمُنْتَهَى الْجَفَاءِ وَالْعُنْجُهِيَّةِ بِعَكْسِ مَا فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ اللِّينِ وَالرِّقَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَاسِيَ الْقَلْبِ، بَعِيدَ الْفَهْمِ، شَدِيدَ التَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ.

وَجُمْلَةُ أَراغِبٌ أَنْتَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَفَاعِلٍ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ عَلَى اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ طَرْدًا لِقَوَاعِدِ التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا اعْتَبَرُوا الِاسْمَ الْوَاقِعَ ثَانِيًا بَعْدَ الْوَصْفِ فَاعِلًا سَادًّا مَسَدَّ الْخَبَرِ فَقَدْ أَثْبَتُوا لِذَلِكَ الِاسْمِ حُكْمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَصَارَ لِلْوَصْفِ الْمُبْتَدَأِ حُكْمُ الْمُسْنَدِ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ فِي نَظَرِ الْبُلَغَاءِ هُوَ مُقْتَضَى كَوْنِ الْمَقَامِ يَتَطَلَّبُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَيَتَطَلَّبُ الِاهْتِمَامَ بِالْوَصْفِ دُونَ الِاسْمِ لِغَرَضٍ يُوجِبُ الاهتمام بِهِ، فيلتجىء الْبَلِيغُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَصْفِ أَوَّلًا وَالْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ ثَانِيًا. ولمّا كَانَ الْوَصْفُ لَهُ عَمَلَ فِعْلِهِ تَعَيَّنَ عَلَى النُّحَاةِ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ مُبْتَدَأً لِأَنَّ لِلْمُبْتَدَأِ عَرَاقَةً فِي الْأَسْمَاءِ، وَاعْتِبَارُهُ مَعَ ذَلِكَ مُتَطَلِّبًا فَاعِلًا، وَجَعَلُوا فَاعِلَهُ سَادًّا مَسَدَّ الْخَبَرِ، فَصَارَ لِلتَّرْكِيبِ شَبَهَانِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ فِي قُوَّةِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ وَمُبْتَدَأٍ مُؤَخَّرٍ. وَلِهَذَا نَظَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى هَذَا الْمَقْصِدِ فَقَالَ: «قُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي لِأَنَّهُ كَانَ أَهَمَّ عِنْدَهَ وَهُوَ بِهِ أَعْنَى» اه. وَلِلَّهِ دَرُّهُ، وَإِنْ ضَاعَ بَيْنَ أَكْثَرِ النَّاظِرِينَ دُرُّهُ. فَدَلَّ النَّظْمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ يُنْكِرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ تَمَكُّنَ الرَّغْبَةِ عَنْ آلِهَتِهِمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَهْتَمُّ بِأَمْرِ الرَّغْبَةِ عَنِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ عَجَبٍ. وَالنِّدَاءُ فِي قَوْلِهِ يَا إِبْراهِيمُ تَكْمِلَةٌ لِجُمْلَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، لِأَنَّ الْمُتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِهِ مَعَ حُضُورِهِ يُقْصَدُ بِنِدَائِهِ تَنْبِيهَهُ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ، كَأَنَّهُ فِي غَيْبَةٍ عَنْ إِدْرَاكِ فِعْلِهِ، فَالْمُتَكَلِّمُ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ فَيُنَادِيهِ لِإِرْجَاعِ رُشْدِهِ إِلَيْهِ، فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ يَا إِبْراهِيمُ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ تَأْكِيدًا لِكَوْنِهِ رَاجِمَهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ كُفْرِهِ بِآلِهَتِهِمْ.

وَالرَّجْمُ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ بِذَلِكَ الرَّمْيِ. وَإِسْنَادُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّ الْوَالِدَ يَتَحَكَّمُ فِي عُقُوبَةِ ابْنِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ حَاكِمًا فِي قَوْمِهِ. وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ إِذْ لَعَلَّهُ كَانَ كَبِيرًا فِي دِينِهِمْ فَيَرْجُمُ قَوْمُهُ إِبْرَاهِيمَ اسْتِنَادًا لِحُكْمِهِ بِمُرُوقِهِ عَنْ دِينِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَذَلِكَ أَنَّهُ هَدَّدَهُ بِعُقُوبَةٍ آجِلَةٍ إِنْ لَمْ يُقْلِعْ عَنْ كُفْرِهِ بِآلِهَتِهِمْ، وَبِعُقُوبَةٍ عَاجِلَةٍ وَهِيَ طَرْدُهُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ وَقَطْعُ مُكَالَمَتِهِ. وَالْهَجْرُ: قَطْعُ الْمُكَالَمَةِ وَقَطْعُ الْمُعَاشَرَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ بِهِجْرَانِهِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِأَنَّهُ هُوَ يَهْجُرُهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْهِجْرَانَ فِي مَعْنَى الطَّرْدِ وَالْخَلْعِ إِشْعَارًا بِتَحْقِيرِهِ. ومَلِيًّا: طَوِيلًا، وَهُوَ فَعِيلٌ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَلَا مَصْدَرٌ. فَمَلِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرٍ مُمَاتٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَمْلَى لَهُ، إِذَا أَطَالَ لَهُ الْمُدَّةَ، فَيَأْتُونَ بِهَمْزَة التَّعْدِيَة، ف مَلِيًّا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيْ هجرا مليّا، وَمِنْه الْمُلَاوَةِ مِنَ الدَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ مِنَ الزَّمَانِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الشَّيْءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الصِّفَةِ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ زَمَانًا طَوِيلًا، بِنَاء عَلَى أَنَّ الْمَلَا مَقْصُورًا غَالِبٌ فِي الزَّمَانِ فَذِكْرُهُ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ مَوْصُوفِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ [الْقَمَر: 13] ، أَيْ سَفِينَةٍ ذَات أَلْوَاح.

[سورة مريم (19) : الآيات 47 إلى 48]

[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 47 إِلَى 48] قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) سَلَامٌ عَلَيْكَ سَلام توديع ومتاركة. وَبَادَرَهُ بِهِ قَبْلَ الْكَلَامِ الَّذِي أَعْقَبَهُ بِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَسُوءُهُ ذَلِكَ الْهَجْرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَرْضَاتِهِ. وَمِنْ حِلْمِ إِبْرَاهِيمَ أَن كَانَت متكارته أَبَاهُ مثوبة بِالْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَتِهِ فِي آخِرِ لَحْظَةٍ. وَالسَّلَام: السَّلامَة. و (على) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ. وَهَذِهِ كَلِمَةُ تَحِيَّةٍ وَإِكْرَامٍ، وَتَقَدَّمَتْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ [مَرْيَم: 15] . وَأَظْهَرَ حِرْصَهُ عَلَى هُدَاهُ فَقَالَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُ لَكَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ، بِأَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَيَغْفِرَ لَهُ الشِّرْكَ الْمَاضِيَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ تَلَقَّى نَهْيًا مِنَ اللَّهِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَة: 114] . وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُ هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاء: 86] . وَجُمْلَة سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ، وَعَلَّامَةُ الِاسْتِقْبَالِ وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ مُؤْذِنَانِ بِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الِاسْتِغْفَارَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الْوَعْدُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لِلتَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الْإِشْرَاكِ.

وَالْحَفِيُّ: الشَّدِيدُ الْبِرِّ وَالْإِلْطَافِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [187] عِنْد قَوْله: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها. وَجُمْلَةُ وَأَعْتَزِلُكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، أَيْ يَقَعُ الِاسْتِغْفَارُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَقَعُ اعْتِزَالِي إِيَّاكُمُ الْآنَ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ غَالِبٌ فِي الْحَالِ. أَظْهَرَ إِبْرَاهِيمُ الْعَزْمَ عَلَى اعْتِزَالِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَتَوَانَى فِي ذَلِكَ وَلَا يَأْسَفُ لَهُ إِذَا كَانَ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِ الْكِلْدَانِ عَازِمًا عَلَى الِالْتِحَاقِ بِالشَّامِ حَسَبَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَنَّ هِجْرَانَهُ أَبَاهُ غَيْرُ مُغْنٍ، لِأَنَّ بَقِيَّة الْقَوْم هم عَلَى رَأْيِ أَبِيهِ فَرَأَى أَنْ يَهْجُرَهُمْ جَمِيعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ وَأَعْتَزِلُكُمْ. وَضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَائِد إِلَى أبي إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْحُضُورِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، لِأَنَّ أَبَاهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَمْرَهُمْ سَوَاءٌ، أَوْ كَانَ هَذَا الْمَقَالُ جَرَى بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ. وَعُطِفَ عَلَى ضَمِيرِ الْقَوْمِ أَصْنَامَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عَدَاوَتِهِ لِتِلْكَ الْأَصْنَامِ إِعْلَانًا بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّةِ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَنَّ الْقَوْم يعبدونها، فَذَلِك وَجْهُ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ. وَالدُّعَاءُ: الْعِبَادَةُ، لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ دُعَاءَ الْمَعْبُودِ. وَزَادَ عَلَى الْإِعْلَانِ بِاعْتِزَالِ أَصْنَامِهِمُ الْإِعْلَانَ بِأَنَّهُ يَدْعُوَ اللَّهَ احْتِرَاسًا مِنْ أَنْ يَحْسَبُوا أَنَّهُ نَوَى مُجَرَّدَ اعْتِزَالِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ فَرُبَّمَا

[سورة مريم (19) : الآيات 49 إلى 50]

اقْتَنَعُوا بِإِمْسَاكِهِ عَنْهُمْ، وَلِذَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ بِعَكْسِ ذَلِكَ يَدْعُو اللَّهَ الَّذِي لَا يَعْبُدُونَهُ. وَعُبِّرَ عَنِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْفِرَادِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ رَبُّهُ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَالْإِضَافَةُ هُنَا تُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، مَعَ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْإِضَافَةُ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَالتَّشْرِيفِ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ. وَجُمْلَةُ عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير وَأَدْعُوا أَيْ رَاجِيًا أَنْ لَا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا. وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [4] . وَفِي إِعْلَانِهِ هَذَا الرَّجَاءَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ بِدُعَاء آلِهَتهم. [49، 50] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 49 إِلَى 50] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) طُوِيَ ذِكْرُ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَزْمُهُ عَلَيْهِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَعْزِمُ أَمْرًا إِلَّا نَفَّذَ عَزْمَهُ، وَاكْتِفَاءً بِذِكْرِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ عَزْمِهِ حَدَثًا وَاقِعًا قَدْ حَصَلَ جَزَاؤُهُ عَلَيْهِ من ربّه، فَإِنَّهُ لَمَّا اعْتَزَلَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَاسْتَوْحَشَ بِذَلِكَ الْفِرَاقِ وَهَبَهُ اللَّهُ ذُرِّيَّة يأنس بهم إِذْ وَهَبَهُ إِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَيَعْقُوبَ ابْنَ ابْنِهِ، وَجَعَلَهُمَا نبيئين. وحسبك بِهَذِهِ مَكْرُمَةً لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ. وَلَيْسَ مُجَازَاةُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ مَقْصُورَةً عَلَى أَنْ وَهَبَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي الِانْحِصَارُ، فَإِنَّهُ قَدْ وَهَبَهُ إِسْمَاعِيلَ

أَيْضًا، وَظَهَرَتْ مَوْهِبَتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ ظُهُورِ مَوْهِبَةِ إِسْحَاقَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ دُونَ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَقُلْ: وَهَبَنَا لَهُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا اعْتَزَلَ قَوْمَهُ خَرَجَ بِزَوْجِهِ سَارَةَ قَرِيبَتِهِ، فَهِيَ قَدِ اعْتَزَلَتْ قَوْمَهَا أَيْضًا إِرْضَاءً لِرَبِّهَا وَلِزَوْجِهَا، فَذَكَرَ اللَّهُ الْمَوْهِبَةَ الشَّامِلَةَ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِزَوْجِهِ، وَهِيَ أَنْ وَهَبَ لَهُمَا إِسْحَاقَ وَبَعْدَهُ يَعْقُوبَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْهِبَةَ لَمَّا كَانَتْ كِفَاءً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ كَانَتْ مَوْهِبَةَ مَنْ يُعَاشِرُ إِبْرَاهِيمَ وَيُؤْنِسُهُ وَهُمَا إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. أَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مَكَّةَ لِيَكُونَ جَارَ بَيْتِ اللَّهِ. وَإِنَّهُ لَجِوَارٌ أَعْظَمُ مِنْ جِوَارِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَبَاهُمَا. وَقَدْ خُصَّ إِسْمَاعِيلُ بِالذِّكْرِ اسْتِقْلَالًا عَقِبَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [ص: 45] ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ فِي سُورَةِ ص [48] ، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الصَّافَّاتِ [99- 101] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فَذُكِرَ هُنَالِكَ إِسْمَاعِيلُ عَقِبَ قَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ إِذْ هُوَ الْمُرَادُ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ. وَالْمُرَادُ بِالْهِبَةِ هُنَا: تَقْدِيرُ مَا فِي الْأَزَلِ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ ازْدِيَادَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ إِبْرَاهِيمَ بِمُدَّةٍ بَعْدَ أَنْ سَكَنَ أَرْضَ كَنْعَانَ وَبَعْدَ أَنِ اجْتَازَ بِمِصْرَ وَرَجَعَ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ ازْدِيَادُ إِسْمَاعِيلَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ بِمُدَّةٍ وَبَعْدَ أَنِ اجْتَازَ بِمِصْرَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَفِي التَّوْرَاةِ، أَوْ أُرِيدَ حِكَايَةُ هِبَةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِيمَا مَضَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ تَنْبِيهًا بِأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ عَلَى إِخْلَاصِهِ.

وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِ يَعْقُوبَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ رَآهُ حَفِيدًا وَسُرَّ بِهِ، فَقَدْ وُلِدَ يَعْقُوبُ قَبْلَ مَوْتِ إِبْرَاهِيم بِخمْس عشرَة سَنَةً، وَأَنَّ مِنْ يَعْقُوبَ نَشَأَتْ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ. وَحَرْفُ (لَمَّا) حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ، أَيْ يَقْتَضِي وُجُودَ جَوَابِهِ لأجل وجود شَرطه فتقتضي جملتين، وَالْأَكْثَر أَن يكون وجود جوابها عِنْد وُجُودِ شَرْطِهَا، وَقَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ فَتَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ الْجَزَائِيَّةِ، أَيِ التَّعْلِيلِ دُونَ تَوْقِيتٍ، وَذَلِكَ كَمَا هُنَا. وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ [الصافات: 113] إِمَّا حَرْفُ تَبْعِيضٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَهَبْنا، أَيْ مَوْهُوبًا مِنْ رَحْمَتِنَا. وَإِمَّا اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ بِتَأْوِيلٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وَإِنْ كَانَ النُّحَاةُ لَمْ يُثْبِتُوا لِكَلِمَةٍ (مِنِ) اسْتِعْمَالِهَا اسْمًا كَمَا أَثْبَتُوا ذَلِكَ لكلمات (الْكَاف) و (عَن) و (على) لَكِنَّ بَعْضَ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ تَقْتَضِيه، كَمَا قَالَ التفتازانيّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» ، وَأَقَرَّهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ (مِنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ وَهَبْنا، أَيْ وَهَبْنَا لَهُمْ بَعْضَ رَحْمَتِنَا، وَهِيَ النُّبُوءَةُ، لِأَنَّهَا رَحْمَةٌ لَهُمْ وَلِمَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ. وَاللِّسَانُ: مَجَازٌ فِي الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ. وَوصف لِسَان بِصدق وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ. الصِّدْقُ: بُلُوغُ كَمَالِ نَوْعِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَلِسَانُ الصِّدْقِ ثَنَاءُ الْخَيْرِ وَالتَّبْجِيلُ، وَوُصِفَ بِالْعُلُوِّ مَجَازًا لِشَرَفِ ذَلِكَ الثَّنَاءِ.

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 53]

وَقَدْ رُتِّبَ جَزَاءُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَبْذِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ تَرْتِيبًا بَدِيعًا إِذْ جُوزِيَ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَهِيَ الْعَقِبُ الشَّرِيفُ، وَنِعْمَةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الرَّحْمَةُ، وَبِأَثَرِ تَيْنِكَ النِّعْمَتَيْنِ وَهُوَ لِسَانُ الصِّدْقِ، إِذْ لَا يُذْكَرُ بِهِ إِلَّا مَنْ حَصَّلَ النِّعْمَتَيْنِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي نَبِيئًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام. [51- 53] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 51 إِلَى 53] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) أَفْضَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ إِلَى أَنْ يُذْكَرَ مُوسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ أشرف نَبِي مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَاذْكُرْ وَجُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَيْهِمَا فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَدَا أَنَّ الْجُمْلَةَ هُنَا غَيْرُ مُعْتَرِضَةٍ بَلْ مُجَرَّدُ اسْتِئْنَافٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُخْلِصًا بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ أَخْلَصَ الْقَاصِرِ إِذَا كَانَ الْإِخْلَاصُ صِفَتَهُ. وَالْإِخْلَاصُ فِي أَمْرٍ مَا: الْإِتْيَانُ بِهِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِتَقْصِيرٍ وَلَا تَفْرِيطٍ وَلَا هَوَادَةٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُلُوصِ، وَهُوَ التَّمَحُّضُ وَعَدَمُ الْخَلْطِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِخْلَاصُ فِيمَا هُوَ شَأْنُهُ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ بِقَرِينَة الْمقَام. وقرأه حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ أَخْلَصَهُ، إِذَا اصْطَفَاهُ.

وَخُصَّ مُوسَى بِعُنْوَانِ (الْمُخْلِصِ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَزِيَّتُهُ، فَإِنَّهُ أَخْلَصَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فَاسْتَخَفَّ بِأَعْظَمِ جَبَّارٍ وَهُوَ فِرْعَوْنُ، وَجَادَلَهُ مُجَادَلَةَ الْأَكْفَاءِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [18، 19] : قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ إِلَى قَوْله: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَص: 17] ، فَكَانَ الْإِخْلَاصُ فِي أَدَاءِ أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِيزَتَهُ. وَلِأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ لِكَلَامِهِ مُبَاشَرَةً قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ الْمَلَكَ بِالْوَحْيِ، فَكَانَ مُخْلَصًا بِذَلِكَ، أَيْ مُصْطَفًى، لِأَنَّ ذَلِكَ مَزِيَّتُهُ قَالَ تَعَالَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] . وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفِ مُوسَى لِأَنَّهُ رَسُولٌ وَنَبِيءٌ. وَعُطِفَ نَبِيئًا عَلَى رَسُولًا مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيءِ، فَلِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُرْسَلُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِيُبَلِّغَ إِلَى النَّاسِ فَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ إِلَّا نَبِيئًا، وَأَمَّا النَّبِيءُ فَهُوَ الْمُنَبَّأُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهُوَ نَبِيءٌ وَلَيْسَ رَسُولًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُنَا لِتَأْكِيدِ الْوَصْفِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رِسَالَتَهُ بَلَغَتْ مَبْلَغًا قَوِيًّا، فَقَوْلُهُ نَبِيئًا تَأْكِيدٌ لَوَصْفِ رَسُولًا. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي لَفْظِ نَبِيئًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ. وَجُمْلَةُ وَنادَيْناهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً فَهِيَ مِثْلُهَا مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالنِّدَاءُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَأَصْلُهُ: جَهْرُ الصَّوْتِ لِإِسْمَاعِ الْبَعِيدِ، فَأُطْلِقَ عَلَى طَلَبِ إِقْبَالِ أَحَدٍ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَمِنْهُ

إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: 9] ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدَى- بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالْقَصْرِ- وَهُوَ بُعْدُ الصَّوْتِ. وَلَمْ يُسْمَعْ فِعْلُهُ إِلَّا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَيْسَتْ بِحُصُولِ فِعْلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ بَلِ الْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [171] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [193] . وَهَذَا النِّدَاءُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي وَبِكَلَامِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [144] ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ صِفَتِهِ هُنَاكَ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [6] . وَالطُّورُ: الْجَبَلُ الْوَاقِعُ بَيْنَ بِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَيُقَالُ لَهُ: طُورُ سَيْنَاءَ. وَجَانِبُهُ: نَاحِيَتُهُ السُّفْلى، وَوَصفه بالأيمن لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، لِأَن جِهَة مشرق الشَّمْسِ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَضْبُطُ بِهَا الْبَشَرُ النَّوَاحِيَ. وَالتَّقْرِيبُ: أَصْلُهُ الْجَعْلُ بِمَكَانِ الْقُرْبِ، وَهُوَ الدُّنُوُّ وَهُوَ ضِدُّ الْبُعْدِ. وَأُرِيدَ هُنَا الْقُرْبُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْوَحْيُ. فَقَوْلُهُ: نَجِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ مُوسى، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى التَّقْرِيبِ. وَنَجِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الْمُنَاجَاةِ. وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ السِّرِّيَّةُ شُبِّهَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يُكَلِّمْ بِمِثْلِهِ أَحَدًا وَلَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ أَحَدًا بِالْمُنَاجَاةِ. وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَجِيءُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَزِيدِ الْمُجَرَّدِ بِحَذْفِ حَرْفِ الزِّيَادَةِ، مِثْلَ جَلِيسٍ وَنَدِيمٍ وَرَضِيعٍ. وَمَعْنَى هِبَةِ أَخِيهِ لَهُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّزَهُ بِهِ وَأَعَانَهُ بِهِ، إِذْ جَعَلَهُ نَبِيئًا وَأَمَرَهُ أَنْ يُرَافِقَهُ فِي الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ فِي لِسَانِ مُوسَى حُبْسَةً، وَكَانَ هَارُونُ

[سورة مريم (19) : الآيات 54 إلى 55]

فَصِيحُ اللِّسَانِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَنْ مُوسَى بِمَا يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ، وَكَانَ يَسْتَخْلِفُهُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْهِبَةُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ رَحِمَ مُوسَى إِذْ يَسَّرَ لَهُ أَخًا فَصِيحَ اللِّسَان، وأكمله بالإنباء حَتَّى يَعْلَمَ مُرَادَ مُوسَى مِمَّا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمْ يُوصَفْ هَارُونُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِذْ لَمْ يُرْسِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُبَلِّغًا عَنْ مُوسَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: 47] فَهُوَ من التغليب. [54، 55] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 54 إِلَى 55] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) خَصَّ إِسْمَاعِيلَ بِالذِّكْرِ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى جَدَارَتِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ بِالذِّكْرِ عَقِبَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْحَاقَ، لِأَن إِسْمَاعِيل صَار جدّ أمة مُسْتَقلَّة قبل أَن يصير يَعْقُوب جدّ أمة، وَلِأَن إِسْمَاعِيلَ هُوَ الِابْنُ الْبِكْرُ لِإِبْرَاهِيمَ وَشَرِيكُهُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [127] . وَخَصَّهُ بِوَصْفِ صِدْقِ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ اشْتَهَرَ بِهِ وَتَرَكَهُ خُلُقًا فِي ذُرِّيَتِهِ. وَأَعْظَمُ وَعْدٍ صَدَقَهُ وَعْدُهُ إِيَّاهُ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَجِدَهُ صَابِرًا عَلَىِ الذَّبْحِ فَقَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] . وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيئًا وَرَسُولًا إِلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَعُدُّونَ أَهْلَهُ أُمَّهُ وَبَنِيهِ وَأَصْهَارَهُ مِنْ جُرْهُمَ. فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

[سورة مريم (19) : الآيات 56 إلى 57]

وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ثُمَّ إِنَّ أُمَّةَ الْعَرَبِ نَشَأَتْ مِنْ ذُرِّيَتِهِ فَهُمْ أَهْلُهُ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وشؤون الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. وَرِضَى اللَّهُ عَنْهُ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِ نِعَمًا كَثِيرَةً، إِذْ بَارَكَهُ وَأَنْمَى نَسْلَهُ وَجَعَلَ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَتِهِ، وَجَعَلَ الشَّرِيعَةَ الْعُظْمَى عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ مِنْ ذُرِّيَتِهِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ نَبِيئًا بِالْهَمْزِ أَوْ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَتَقَدَمَ تَوْجِيهُ الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِ رَسُولٍ وَنَبِيءٍ عِنْدَ ذكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آنِفا. [56، 57] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 56 إِلَى 57] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) إِدْرِيسُ: اسْمٌ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى جَدِّ أَبِي نُوحٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ (أَخْنُوخَ) . فَنُوحٌ هُوَ ابْنُ لَامِكَ بْنِ مَتُّوشَالِحَ بْنِ أَخْنُوخَ، فَلَعَلَّ اسْمَهُ عِنْدَ نَسَّابِيِ الْعَرَبِ إِدْرِيسَ، أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّاهُ بِذَلِكَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنَ الدَّرْسِ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَاسْمُهُ (هَرْمَسُ) عِنْدَ الْيُونَانِ، وَيُزْعَمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ يُسَمَّى عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ (تُوتٌ) أَوْ (تُحُوتِي) أَوْ (تُهُوتِي) لَهَجَاتٌ فِي النُّطْقِ بِاسْمِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعِبْرِيِّ فِي «تَارِيخِهِ» : «أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ يُلَقَّبُ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ (طُرَيْسَمَجِيسَطِيسَ) ، وَمَعْنَاهُ بِلِسَانِهِمُ ثُلَاثِيُّ التَّعْلِيمِ، لِأَنَّهُ كَانَ يصف الله تَعَالَى بِثَلَاثِ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْحِكْمَةُ وَالْحَيَاةُ» اه.

وَلَا يَخْفَى قُرْبُ الْحُرُوفِ الْأُولَى فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ حُرُوف إِدْرِيس، فَلَعَلَّ الْعَرَبَ اخْتَصَرُوا الِاسْمَ لِطُولِهِ فَاقْتَصَرُوا عَلَى أَوَّلِهِ مَعَ تَغْيِيرٍ. وَكَانَ إِدْرِيسُ نَبِيئًا، فَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللَّهِ» . قِيلَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ لِلْبَشَرِ عِمَارَةَ الْمُدُنِ، وَقَوَاعِدَ الْعِلْمِ، وَقَوَاعِدَ التَّرْبِيَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ، وَعِلْمَ الْحِسَابِ بِالنُّجُومِ وَقَوَاعِدَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، وَتَرْكِيبَ الْبَسَائِطِ بِالنَّارِ فَلِذَلِكَ كَانَ عِلْمُ الْكِيِمْيَاءِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ الْخِيَاطَةَ. فَكَانَ هُوَ مَبْدَأَ مَنْ وَضَعَ الْعُلُومَ، وَالْحَضَارَةَ، وَالنُّظُمَ الْعَقْلِيَّةَ. فَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِإِدْرِيسَ أَنَّهُ اشْتُقَّ لَهُ اسْمٌ من الْفرس على وَزْنٌ مُنَاسِبٌ لِلْأَعْلَامِ الْعَجَمِيَّةِ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ مَعَ كَوْنِ حُرُوفِهِ مِنْ مَادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، كَمَا مُنِعَ إِبْلِيسُ مِنَ الصَّرْفِ، وَكَمَا مُنِعَ طَالُوتُ مِنَ الصَّرْفِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي لَفْظِ نَبِيئًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قَالَ جمَاعَة مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ رَفْعٌ مَجَازِيٌّ. وَالْمُرَادُ: رَفَعُ الْمَنْزِلَةِ، لِمَا أُوتِيَهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي فَاقَ بِهِ عَلَى مَنْ سَلَفَهُ. وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ رَفْعٌ حَقِيقِيٌّ إِلَىِ السَّمَاءِ، وَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللَّهِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُ» ، وَعَلَى هَذَا فَرَفْعُهُ مِثْلُ رَفْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ نَزْعِ رُوحِهِ وَرَوْحَنَةِ جُثَّتِهِ. وَمِمَّا يُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ بَقِيَ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً لَا يَنَامُ وَلَا يَأْكُلُ حَتَّى تَرَوْحَنَ، فَرُفِعَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ عِدَّةَ أَنْبِيَاءَ غَيْرَهُ وُجِدُوا فِي السَّمَاوَاتِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيءِ

[سورة مريم (19) : آية 58]

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاوَاتِ أَنَّهُ وَجَدَ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيءِ الصَّالِحِ . فَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَادَةٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَالَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِأُخُوَّةِ التَّوْحِيدِ فَرَجَّحَهَا عَلَى صِلَةِ النَّسَبِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَتِهِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَهْوًا مِنَ الرَّاوِي فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَقَدْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ أَوْ جَدُّ أَبِيهِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي قَوْلِهِ «مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ» مَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ أَبَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [58] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيُّ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَىِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ قَوْله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاء [مَرْيَم: 2] إِلَى هُنَا. وَالْإِتْيَانُ بِهِ دُونَ الضَّمِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمُ جَدِيرُونَ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمُ مِنَ الْأَوْصَافِ، أَيْ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ وَكَوْنُهُمُ فِي عِدَادِ الْمَهْدِيِّينَ الْمُجْتَبَيْنَ وَخَلِيقِينَ بِمَحَبَّتِهِمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُ.

وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ جَزَاءٍ عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَنْ أُعْطَوْهُ مِنْ مَزَايَا النُّبُوءَةِ والصِّدِيقِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا. وَتِلْكَ وَإِنْ كَانَتْ نِعَمًا وَهِدَايَةً وَاجْتِبَاءً فَقَدْ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِإِسْنَادِ تِلْكَ الْعَطَايَا إِلَىِ اللَّهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ هُوَ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا إِذْ لَا أَزْيَدُ مِنَ الْمُجَازَى عَلَيْهِ إِلَّا تَشْرِيفُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّبِيِّينَ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ. وَجُمْلَةُ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ مُسْتَأْنَفَةٌ دَالَّةٌ عَلَى شُكْرِهِمُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ وَتَقْرِيبِهِ إِيَّاهُمُ بِالْخُضُوعِ لَهُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ وَبِالْبُكَاءِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْبُكَاءُ النَّاشِئُ عَنِ انْفِعَالِ النَّفْسِ انْفِعَالًا مُخْتَلِطًا مِنَ التَّعْظِيمِ وَالَخَوْفِ. وسُجَّداً جَمْعُ سَاجِدٍ. وَبُكِيًّا جَمْعُ بَاكٍ. وَالْأَوَّلُ بِوَزْنِ فُعَّلَ مِثْلُ عُذَّلٍ، وَالثَّانِي وَزَنُهُ فُعُولٌ جَمْعُ فَاعِلٍ مِثْلُ قَوْمٍ قعُود، وَهُوَ يائي لِأَنَّ فِعْلَهُ بَكَى يَبْكِي، فَأَصْلُهُ: بُكُويٌّ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَحُرِّكَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ بِحَرَكَةٍ مُنَاسِبَةٍ لِلْيَاءِ. وَهَذَا الْوَزْنُ سَمَاعِيُّ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ وَمِثْلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَوَاضِعِ سُجُودِ الْقُرْآنِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتِدَاءً بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي السُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَهُمْ سَجَدُوا كَثِيرًا عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ، وَنَحْنُ نَسْجُدُ

[سورة مريم (19) : الآيات 59 إلى 63]

اقْتِدَاءً بِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ إِلَيْنَا. وَأَثْنَتْ عَلَى سُجُودِهِمْ قَصْدًا لِلتَّشَبُّهِ بِهِمْ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ حِينَ نَحْنُ مُتَلَبِّسُونَ بِذِكْرِ صَنِيعِهِمْ. وَقَدْ سَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَّ ذَلِك لأمته. [59- 63] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 59 إِلَى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) فرَّعَ عَلَىِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ اعْتِبَارٌ وَتَنْدِيدٌ بِطَائِفَةٍ مِنْ ذُرِّيَاتِهِمْ لَمْ يَقْتَدُوا بِصَالِحِ أسلافهم وهم المعني بالخلف. وَالْخلف- بِسِكُونِ اللَّامِ- عَقِبُ السُّوءِ، وَبِفَتْحِ اللَّامِ- عَقِبُ الْخَيْرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [169] . وَهُوَ هُنَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأُمَمِ الَّتِي ضَلَّتْ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ فِي النَّسَبِ إِلَى إِدْرِيسَ جَدِّ نُوحٍ إِذْ هُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ وَمَنْ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُدْلِي إِلَيْهِ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ وَهُمُ الْعَرَبُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْلِي إِلَيْهِ مِنْ نَسْلِ يَعْقُوبَ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ.

وَلَفْظُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَشْمَلُ طَبَقَاتٍ وَقُرُونًا كَثِيرَةً، لَيْسَ قَيْدًا لِأَنَّ الْخَلَفَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَصْلِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِاسْتِحْضَارِ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ. وَالْإِضَاعَةُ: مَجَازٌ فِي التَّفْرِيطِ بِتَشْبِيهِهِ بِإِهْمَالِ الْعَرَضِ النَّفِيسِ، فَرَّطُوا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمْ فَلَمْ يُخَالِفُوا مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا هُوَ فَسَادٌ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَة الْكَهْفِ [30] . وَالصَّلَاةُ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهَذَانِ وَصْفَانِ جَامِعَانِ لِأَصْنَافِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، فَالشِّرْكُ إِضَاعَةٌ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهُ انْصِرَافٌ عَنِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْمُشْرِكُونَ أَضَاعُوُا الصَّلَاةَ تَمَامًا، قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 43] . وَالشِّرْكُ: اتِّبَاعٌ لِلشَّهَوَاتِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اتَّبَعُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَؤُلَاء هم الْمَقْصُود هُنَا، وَغَيْرُ الْمُشْرِكِينَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَرَّطُوا فِي صَلَوَاتٍ وَاتَّبَعُوا شَهَوَاتٍ ابْتَدَعُوهَا، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْمُ الْغَيِّ. وَالْغَيُّ: الضَّلَالُ، وَيُطْلَقُ عَلَىِ الشَّرِّ، كَمَا أُطْلِقَ ضِدُّهُ وَهُوَ الرُّشْدُ عَلَىِ الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجنّ: 10] وَقَوْلِهِ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً [الجنّ: 21] . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ غَيِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: 68] أَي جَزَاءِ الْآثَامِ. وَتَقَدَّمَ الْغَيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ وَقَوْلِهِ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا كِلَاهُمَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف [202 و146] . وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ فِي ضِدِّهِمْ بِقَوْلِهِ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.

وَحَرْفُ (سَوْفَ) دَالُّ عَلَى أَنَّ لِقَاءَهُمُ الْغَيَّ مُتَكَرِّرٌ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ مُبَالَغَةً فِي وَعِيدِهِمْ وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جِيءَ فِي جَانِبِهِمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ إِشَادَةً بِهِمْ وَتَنْبِيهًا لَهُمْ لِلتَّرْغِيبِ فِي تَوْبَتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَىِ الْحَالِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُمْطَلُونَ فِي الْجَزَاءِ. وَالْجَنَّةُ: عَلَمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَفِيهَا جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيث: «أَو جنّة وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا لَجِنَانٌ كَثِيرَةٌ» . وَالظُّلْمُ: هُنَا بِمَعْنَىِ النَّقْصِ وَالْإِجْحَافِ وَالْمَطْلِ. كَقَوْلِهِ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سُورَة الْكَهْف [33] . وشي: اسْمٌ بِمَعْنَى ذَاتٍ أَوْ مَوْجُودٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَصْدَرُ الظُّلْمِ. وَذِكْرُ شَيْئاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ نَفْيَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّقْصِ وَالْإِجْحَافِ وَالْإِبْطَاءِ، فَيُعَلَمُ انْتِفَاءُ النَّقْصِ الْقَوِيِّ بِالْفَحْوَى دَفَعًا لِمَا عَسَى أَنْ يُخَالِجَ نُفُوسَهُمْ مِنَ الِانْكِسَارِ بعد الْإِيمَان يظنّ أَنَّ سَبْقَ الْكُفْرِ يَحُطُّ مِنْ حُسْنِ مَصِيرِهِمْ. وجَنَّاتِ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةَ. جِيءَ بِصِيغَةِ جَمْعِ جَنَّاتٍ مَعَ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَهُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ وَلَيْسَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وعَدْنٍ: الْخُلْدُ وَالْإِقَامَةُ، أَيْ جَنَّاتِ خُلْدٍ وَوَصْفُهَا بِ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ لزِيَادَة تَشْرِيفِهَا وَتَحْسِينِهَا. وَفِي ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِتَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنَ فِي أَثْنَاءِ وَعْدِ الْمَدْعُوِّينَ إِلَىِ الْإِيمَانِ. وَالْغَيْبُ: مَصْدَرُ غَابَ، فَكُلُّ مَا غَابَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ فَهُوَ غَيْبٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ

وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ وَعَدَهَا إِيَّاهُمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْغَائِبَةِ عَنْهُمْ. أَيْ فِي الْأَزَلِ إِذْ خَلَقَهَا لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمرَان: 133] . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَحْجُوبَةً عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مُهَيِّئَةٌ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أَي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَعَدًا مِنَ اللَّهِ وَاقِعًا. وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْبِشَارَةِ. وَالْوَعْدُ: هُنَا مَصْدَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ كَسَا، فَاللَّهُ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ جَنَّاتِ عَدْنٍ. فَالْجَنَّاتُ لَهُمْ مَوْعُودَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَالْمَأْتِيُّ: الَّذِي يَأْتِيهِ غَيْرُهُ. وَقَدِ اسْتُعِيرُ الْإِتْيَانُ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمُتَرَقَّبِ، تَشْبِيهًا لِمَنْ يُحَصِّلُ الشَّيْءَ بَعْدَ أَنْ سَعَى لِتَحْصِيلِهِ بِمَنْ مَشَى إِلَى مَكَانٍ حَتَّى أَتَاهُ. وَتَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمُحَصَّلِ بِالْمَكَانِ الْمَقْصُودِ. فَفِي قَوْلِهِ مَأْتِيًّا تَمْثِيلِيَّةٌ اقْتُصِرَ مِنْ أَجْزَائِهَا عَلَى إِحْدَى الْهَيْئَتَيْنِ، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْهَيْئَةَ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْمَأْتِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ آتٍ. وَجُمْلَةُ لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً حَالٌ مِنْ عِبادَهُ. وَاللَّغْوُ: فُضُولُ الْكَلَامِ وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وإِنْفَاؤُهُ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ أَقَلِّ الْمُكَدِّرَاتِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية: 11] ، وَكِنَايَةٌ عَنْ جَعْلِ مُجَازَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ بِضِدِّ مَا كَانُوا يُلَاقُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَلَغْوِهِمْ. وَقَوْلُهُ إِلَّا سَلاماً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَيْ لَكِنْ تَسْمَعُونَ سَلَامًا. قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إِبْرَاهِيم: 23] وَقَالَ لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَة: 25، 26] . وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ، فَيُفِيدُ التَّكَرُّرَ الْمُسْتَمِرَ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّكَرُّرِ الْمُفَادِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَأَكْثَرَ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ، وَإِضَافَةُ رزق إِلَى ضميرهم لِزِيَادَةِ الِاخْتِصَاصِ. وَالْبُكْرَةُ: النِّصْفُ الأول من النَّهَار، وَالْعَشِيُّ: النِّصْفُ الْأَخِيرُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِغْرَاقِ الزَّمَنِ، أَيْ لَهُمْ رِزْقُهُمْ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَلَا مُقَدَّرٍ بَلْ كُلَّمَا شَاءُوا فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّيْلَ. وَجُمْلَةُ تِلْكَ الْجَنَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا وَأُجْرِيتَ عَلَيْهَا الصِّفَةُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَنْوِيهًا بِالْمُتَّقِينَ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمرَان: 133] . ونُورِثُ نَجْعَلُ وَارِثًا، أَيْ نُعْطِي الْإِرْثَ. وَحَقِيقَةُ الْإِرْثِ: انْتِقَالُ مَالِ الْقَرِيبِ إِلَى قَرِيبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِمَالِهِ فَهُوَ انْتِقَالٌ مُقَيَّدٌ بِحَالَةٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْعَطِيَّةِ الْمُدَّخَرَةِ لِمُعْطَاهَا، تَشْبِيهًا بِمَالِ الِمَوْرُوثِ الَّذِي يَصِيرُ إِلَى وَارِثِهِ آخِرَ الْأَمر. وَقَرَأَ الجمور نُورِثُ بِسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: نُوَرِّثُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ تَشْدِيد الرَّاءِ- مِنْ ورّثه المضاعف.

[سورة مريم (19) : آية 64]

[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 64] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا غَرِيبٌ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْطَأَ أَيَّامًا عَنِ النُّزُولِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ النَّبِيءَ وَدَّ أَنْ تَكُونَ زِيَارَةُ جِبْرِيلَ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ يَزُورُهُ فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: «أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا» . فَنَزَلَتْ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. أَيْ إِلَى قَوْلِهِ نَسِيًّا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَلْيَقُهُ بِمَوْقِعِهَا هُنَا. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْهُ، فَالنَّظْمُ نَظْمُ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ: وَقُلْ مَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، أَيْ قُلْ يَا جِبْرِيلُ، فَكَانَ هَذَا خِطَابًا لِجِبْرِيلَ لِيُبَلِّغُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ فِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ، وَأَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا هُنَا، وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِتَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ انْتِهَاءِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَأُثْبِتَتِ الْآيَةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ نُزُولُ الْقُرْآنِ. وَالضَّمِيرُ لِجِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ، أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيئَهُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَقَعُ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لَهُمُ اخْتِيَارٌ

فِي النُّزُولِ وَلِقَاءِ الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 27] . ونَتَنَزَّلُ مُرَادِفُ نَنْزِلُ، وَأَصْلُ التَّنَزُّلِ: تُكَلُّفُ النُّزُولِ، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّهُ نُزُولٌ نَادِرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ عَالَمِهِمْ فَكَأَنَّهُ مُتَكَلَّفٌ. قَالَ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: 4] . وَاللَّامُ فِي «لَهُ» لِلْمُلْكِ، وَهُوَ مُلْكُ التَّصَرُّفِ. وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِينا مَا هُوَ أَمَامَنَا، وبِ وَما خَلْفَنا: مَا هُوَ وَرَاءَنَا، وبِ وَما بَيْنَ ذلِكَ: مَا كَانَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ هُوَ بَيْنَ الْأَمَامِ وَالْخَلْفِ. وَالْمَقْصُودُ اسْتِيعَابُ الْجِهَاتِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُخْبَرًا عَنْهُ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَيَّنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَائِنَاتُ الَّتِي فِي تِلْكَ الْجِهَاتِ، فَالْكَلَامُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْحُلُول، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، وَيَسْتَتْبِعُ عُمُومَ أَحْوَالِهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا مِثْلَ التَّنَزُّلِ بِالْوَحْيِ. وَيَسْتَتْبِعُ عُمُومَ الْأَزْمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي وَالْحَالِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ. وَجُمْلَةُ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا على هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُلَقَّنِ بِهِ جِبْرِيلُ جَوَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونَسِيًّا: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ نَسِيَ، أَيْ كَثِيرُ النِّسْيَانِ أَوْ شَدِيدُهُ. وَالنِّسْيَانُ: الْغَفْلَةُ عَنْ تَوْقِيتِ الْأَشْيَاءِ بِأَوْقَاتِهَا، وَقَدْ فَسَّرُوهُ هُنَا بِتَارِكٍ، أَيْ مَا كَانَ رَبُّكَ تَارِكُكَ وَعَلَيْهِ فَالْمُبَالَغَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى

[سورة مريم (19) : آية 65]

طُولِ مُدَّةِ النِّسْيَانِ. وَفُسِّرَ بِمَعْنَى شَدِيدِ النِّسْيَانِ، فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى جَانِبِ نِسْبَةِ نفي النسْيَان عَن اللَّهِ، أَيْ تَحْقِيقُ نَفْيِ النِّسْيَانِ مِثْلَ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصّلت: 46] فَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّ تَنَزُّلَنَا بِأَمْرِ اللَّهِ لِمَا هُوَ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ، فَنَحْنُ لَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَهُوَ لَا يَأْمُرُنَا بِالتَّنَزُّلِ إِلَّا عِنْدَ اقْتِضَاءِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَأْمُرَنَا بِهِ. وَجَوَّزَ أَبُو مُسْلِمٍ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ تَمَامِ حِكَايَةِ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ يَقُولُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ مَنْ كانَ تَقِيًّا [مَرْيَم: 63] ، أَيْ وَمَا نَتَنَزَّلُ فِي هَذِهِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إِلَخْ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وَعَلَيْهِ فَكَافُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ بِأَمْرِ رَبِّكَ خِطَابُ كُلِّ قَائِلٍ لِمُخَاطِبِهِ، وَهَذَا التَّجْوِيزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَأْيٌ لَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لَا تَتَعَيَّنُ مُتَابَعَتُهُ. وَعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهُ، أَوْ هِيَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَيْ وَمَا كَانَ رَبُّنَا غَافِلًا عَنْ إِعْطَاءِ مَا وعدنا بِهِ. [65] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 65] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ فَاعْبُدْهُ إِلَى آخِرِهِ ذُيِّلَ بِهِ الْكَلَامُ الَّذِي لُقِّنَهُ جِبْرِيلُ الْمُتَضَمِّنُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَتَصَرَّفُونَ إِلَّا عَنْ إِذْنِ رَبِّهمْ وَأَنَّ أَحْوَالَهُمْ كُلَّهَا فِي قَبْضَتِهِ بِمَا

يُفِيدُ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْكَائِنَاتِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعِبَادَتِهِ، فَقَدِ انْتَقَلَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ. وَارْتَفَعَ رَبُّ السَّماواتِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مُلْتَزِمَ الْحَذْفِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَحَدٌ بِأَخْبَارٍ وَأَوْصَافٍ ثُمَّ يُرَادُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرٍ آخَرَ. وَهَذَا الْحَذْفُ سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بِالْحَذْفِ الَّذِي اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ كَقَوْلِ الصَّوْلِيِّ أَوِ ابْنُ الزُّبَيْرِ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ-: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرِ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ وَالسَّمَاوَاتُ: الْعَوَالِمُ الْعُلْوِيَّةُ. وَالْأَرْضُ: الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ، وَمَا بَيْنَهُمَا: الْأَجْوَاءُ وَالْآفَاقُ. وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ تَعُمُّ سَائِرَ الْكَائِنَاتِ. وَالْخِطَابُ فِي فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ وهَلْ تَعْلَمُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ الْمُنَاسِبَةِ وَيَحْصُلُ مِنْهُ التَّخَلُّصُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالتَّوْحِيدِ وَتَفْظِيعِ الْإِشْرَاكِ. وَالِاصْطِبَارِ: شِدَّةُ الصَّبْرِ عَلَى الْأَمْرِ الشَّاقِّ، لِأَنَّ صِيغَةَ الِافْتِعَالِ تَرِدُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ الْفِعْلِ. وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُعَدَّى الِاصْطِبَارُ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] وَلكنه عُدِّيَ هُنَا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الثَّبَاتِ. أَيِ اثْبُتْ لِلْعِبَادَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَرَاتِبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَغْلِبُ بَعْضُهَا بَعْضَ النُّفُوسِ فَتَسْتَطِيعَ الصَّبْرَ عَلَى بَعْضِ الْعِبَادَاتِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: «هِيَ أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ» . فَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْعِبَادَةِ كُلِّهَا وَفِيهَا أَصْنَافٌِِ

جَمَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى ثَبَاتِ الْعَزِيمَةِ، نُزِّلَ الْقَائِمُ بِالْعِبَادَةِ مَنْزِلَةَ الْمُغَالِبِ لِنَفْسِهِ، فَعُدِّيَ الْفِعْلُ بِاللَّامِ كَمَا يُقَالُ: اثْبُتْ لِعُدَاتِكَ. وَجُمْلَةُ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وَاقِعَةٌ مُوَقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَالِاصْطِبَارِ عَلَيْهَا. وَالسَّمِيُّ هُنَا الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى المسامي، أَي الممائل فِي شؤونه كُلِّهَا. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالنَّظِيرِ، مَأْخُوذًا مِنَ الْمُسَامَاةِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، لَكِنَّهُ أُخِذَ مِنَ الْمَزِيدِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيِ الْمُسْمِعُ. وَكَمَا سُمِّيَ تَعَالَى الْحَكِيمَ، أَيِ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ، فَالسَّمِيُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ فِي الصِّفَاتِ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الصِّفَاتِ كَالْمُسَامَاةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا مُسَامِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَيْسَ مَنْ يُسَامِيهِ، أَيْ يُضَاهِيهِ، مَوْجُودًا. وَقِيلَ السَّمِيُّ: الْمُمَاثِلُ فِي الِاسْمِ. كَقَوْلِهِ فِي ذِكْرِ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مَرْيَم: 7] . وَالْمَعْنَى: لَا تَعْلَمُ لَهُ مُمَاثِلًا فِي اسْمِهِ اللَّهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُسَمُّوا شَيْئًا مِنْ أَصْنَامِهِمُ اللَّهَ بِاللَّامِ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ لِلْوَاحِدِ مِنْهَا إِلَهٌ، فَانْتِفَاءُ تَسْمِيَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَظَّمَةِ بِاسْمِهِ كِنَايَةً عَنْ إعترافِ النَّاسِ بِأَنْ لَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي صِفَةِ الْخَالِقَيَّةِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَجْتَرِئُوا على أَن يدعوا لِآلِهَتِهِمُ الْخَالِقِيَّةَ. قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] . وَبِذَلِكَ يَتِمُّ كَوْنُ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا.

[سورة مريم (19) : الآيات 66 إلى 67]

وَكُنِّيَ بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِسَمِيِّهِ عَنِ انْتِفَاءِ وُجُودِ سَمِّيٍّ لَهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَعْلُومِ، وَإِذَا انْتَفَى مُمَاثِلُهُ انْتَفَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَة غَيره. [66- 67] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 66 إِلَى 67] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ [مَرْيَم: 65] إِبْطَالَ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ بِهِ نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَى إِبْطَالِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ. وَهُوَ نَفْيُ الْمُشْرِكِينَ وُقُوعَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يَتِمَّ انْتِقَاضُ أَصْلَيِ الْكُفْرِ. فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ، وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ يَقُولُ مُضَارِعًا لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ قَائِلِهِ تَعْجِيبَ إِنْكَارٍ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ بِقَرِينَةِ قَوْله بعده فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ [مَرْيَم: 68] ، فَيُرَادُ مَنْ كَانَتْ هَاتِهِ مَقَالَتُهُ وَهُمْ مُعْظَمُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ نُزُولِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفٌ حُذِفَ، أَيِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، كَمَا حُذِفَ الْوَصْفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، فَتَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامى: 3، 4] . وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ النَّاسِ عَلَى خُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: 21] إِلَى قَوْلِهِ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] فَإِن ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ لِلْعَهْدِ لِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ. فَقِيلَ، قَائِلُ هَذَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إِنْكَارٌ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ، فَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْجُمْلَةِ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا الْإِنْكَارُ مُقْتَرِنَةً بِلَامِ الِابْتِدَاءِ الدَّالَةِ عَلَى تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا، أَيْ يَقُولُ لَا يَكُونُ مَا حَقَّقْتُمُوهُ مِنْ إِحْيَائِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَمُتَعَلِّقُ أُخْرَجُ مَحْذُوفٌ أَيْ أُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ. وَقَدْ دَخَلَتْ لَامُ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا على الْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ بِصَرِيحِ وُجُودِ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ لِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ بِأَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ وَلَا تُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّرِيحَةِ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِي عَدَمِ تَخْلِيصِهَا الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ، وإِنْ صَمَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى مَنْعِهِ، وَتَأَوَّلَ مَا هُنَا بِأَنَّ اللَّامَ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَلَيْسَتْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَتَأَوَّلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، فَلَا تَكُونُ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى الْمُضَارِعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تكلّف لَا ملجىء إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَقُولُ الْإِنْسانُ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ وَمِنَ النَّكِيرِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلِ وُجُودِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ ذُهُولِ الْإِنْسَانِ الْمُنْكِرِ الْبَعْثَ عَنْ خَلْقِهِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلا يَذْكُرُ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ- مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ يَتَذَكَّرُ فَقُلِبَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ ذَالًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا. وَالشَّيْءُ: هُوَ الْمَوْجُودُ، أَيْ أَنَّا خَلَقْنَاهُ وَلَمْ يَكُ مَوْجُودًا.

[سورة مريم (19) : الآيات 68 إلى 70]

وَ (قَبْلُ) مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ. وَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَاعْتُبِرَ مُضَافًا إِلَيْهِ مُجْمَلًا وَلَمْ يُرَاعَ لَهُ لَفْظٌ مَخْصُوصٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بُنِيَتْ (قَبْلُ) عَلَى الضَّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرّوم: 40] . وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ كُلِّ حَالَةٍ هُوَ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ فِي آيَةِ سُورَةِ الرُّومِ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلِ كُلِّ حَدَثٍ وَمِنْ بَعْدِهِ. وَالْمَعْنَى: الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَلَا يَتَذَكَّرُوا حَالَ النَّشْأَةِ الْأُولَى فَإِنَّهَا أَعْجَبُ عِنْدَ الَّذِينَ يَجْرُونَ فِي مَدَارِكِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْإِيجَادَ عَنْ عَدَمٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مَثَّالٍ أَعْجَبُ وَأَدْعَى إِلَى الِاسْتِبْعَادِ مِنْ إِعَادَةِ مَوْجُودَاتٍ كَانَتْ لَهَا أَمْثِلَةٌ. وَلَكِنَّهَا فَسَدَتْ هَيَاكِلُهَا وَتَغَيَّرَتْ تَرَاكِيبُهَا. وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى الشَّاهِدِ وَإِنْ كَانَ الْقَادِرُ سَوَاءٌ عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ. [68- 70] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 68 إِلَى 70] فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ [مَرْيَم: 67] ، بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّهْدِيدِ. وَوَاوُ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ. وَالْقَسَمُ بِالرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدْمَاجٌ لِتَشْرِيفِ قَدْرِهِ. وَضَمِيرُ لَنَحْشُرَنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانُ [مَرْيَم: 66] الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ لَنَحْشُرَنَّ الْمُشْرِكِينَ.

وَعَطْفُ (الشَّيَاطِينَ) عَلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ لِقَصْدِ تَحْقِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ أَحْقَرِ جِنْسٍ وَأَفْسَدِهِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمْ سَبَبُ ضَلَالِهِمُ الْمُوجِبُ لَهُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ، فَحَشَرَهُمْ مَعَ الشَّيَاطِين إنذار لَهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ هُوَ مَصِيرُ الشَّيَاطِينَ وَهُوَ مُحَقَّقٌ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. فَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، وَالضَّمِيرُ لِلْجَمِيعِ. وَهَذَا إعداد آخر للتقريب مِنَ الْعَذَابِ فَهُوَ إِنْذَارٌ عَلَى إِنْذَارٍ وَتَدَرُّجٌ فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لَا لِلْمُهْلَةِ إِذْ لَيْسَتِ الْمُهْلَةُ مَقْصُودَةٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُنْقَلُونَ مِنْ حَالَةِ عَذَابٍ إِلَى أَشَدَّ. وجِثِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، وَالْجُثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ. وَوَزْنُهُ فُعُولٌ مِثْلُ: قَاعِدٍ وَقُعُودٍ وَجَالِسٍ وَجُلُوسٍ، وَهُوَ وَزْنٌ سَمَاعِيٌّ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مَرْيَم: 58] ، فَأصل جثي جثور- بِوَاوَيْنِ- لِأَنَّ فِعْلَهُ وَاوِيٌّ، يُقَالُ: جَثَا يَجْثُو إِذَا بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيهِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْخَاضِعِ الذَّلِيلِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ فِي جُثُووٍ وَاوَانِ اسْتُثْقِلَا بَعْدَ ضَمَّةِ الثَّاءَ فَصِيرَ إِلَى تَخْفِيفِهِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الثِّقَلِ السَّابِقِ وَهُوَ الضَّمَّةُ فَعُوِّضَتْ بِكَسْرِ الثَّاءِ، فَلَمَّا كُسِرْتِ الثَّاءُ تَعَيَنَ قَلْبُ الْوَاوِ الْمُوَالِيَةِ لَهَا يَاءً لِلْمُنَاسَبَةِ فَاجْتَمَعَ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَ أَحدهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاوُ الْأُخْرَى يَاءً وَأُدْغِمَتَا فَصَارَ جثي. وقرى حَمْزَة، وَالْكسَائِيّ، وَحَفْص، وَخلف- بِكَسْر الْجِيم- وَهُوَ كسر إتباع لحركة الثَّاء. وَهَذَا الْجُثُوُّ هُوَ غَيْرُ جُثُوِّ النَّاسِ فِي الْحَشْرِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا [الجاثية: 28] فَإِن ذَلِكَ جُثُوُّ خُضُوعٍ لِلَّهِ، وَهَذَا الْجُثُوُّ حَوْلَ جَهَنَّمَ جُثُوُّ مَذَلَّةٍ. وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ كَالْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ. وَهَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى مِنَ الرُّعْبِ أَشَدُّ مِنَ

اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَهِي حَالَة تمييزهم لِلْإِلْقَاءِ فِي دِرْكَاتِ الْجَحِيمِ عَلَى حَسْبِ مَرَاتِبِ غُلُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَالنَّزْعُ: إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ نَزْعُ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ. وَالشِّيعَةُ: الطَّائِفَة الَّتِي شاعت أَحَدًا، أَيِ اتَّبَعَتْهُ، فَهِيَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [10] . وَالْمُرَادُ هُنَا شِيَعُ أَهْلِ الْكُفْرِ، أَيْ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ مِنْهُمْ. أَيْ مِمَّنْ أَحْضَرْنَاهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ. وَالْعُتِيُّ: الْعِصْيَانُ وَالتَّجَبُّرُ، فَهُوَ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فُعُولٍ مِثْلُ: خُرُوجٍ وَجُلُوسٍ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ التَّاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي جِثِيًّا. وَالْمَعْنَى: لِنُمَيِّزَنَّ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ تَجْمَعُهَا مَحَلَّةٌ خَاصَّةً مِنْ دِينِ الضَّلَالِ مَنْ هُوَ مِنْ تِلْكَ الشِّيعَةِ أَشَدُّ عِصْيَانًا لِلَّهِ وَتَجَبُّرًا عَلَيْهِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِثْلِ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خلف ونظرائهم. و (أيّ) اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنى (مَا) و (من) . وَالْغَالِبُ أَنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا فَتُبْنَى عَلَى الضَّمِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَيُّهُمْ هُوَ أَشَدُّ عتيا على الرحمان. وَذكر صفة الرحمان هُنَا لِتَفْظِيعِ عُتُوِّهِمْ، لِأَنَّ شَدِيد الرّحمة بالخلق حَقِيقٌ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالْإِحْسَانِ لَا بِالْكُفْرِ بِهِ وَالطُّغْيَانِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّزْعُ وَالتَّمْيِيزُ مُجْمَلًا، فَقَدْ يَزْعُمُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ غَيْرَهُ أَشَدُّ عِصْيَانًا، أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِمِقْدَارِ صُلِيِّ النَّارِ فَإِنَّهَا دَرَكَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ. وَالصُّلِيُّ: مَصْدَرُ صَلِيَ النَّارَ كَرَضِيَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ بِوَزْنِ فُعُولٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفُ- بِكْسِرِ الصَّادِ- إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ اللَّامِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي جِثِيًّا.

[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 72]

وَحَرْفَا الْجَرّ يتعلقان بأفعل التَّفْضِيل. [71- 72] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 71 إِلَى 72] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) لَمَّا ذَكَرَ انْتِزَاعَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِالنَّارِ مِنْ بَقِيَّةِ طَوَائِفِ الْكُفْرِ عَطَفَ عَلَيْهِ أَنَّ جَمِيعَ طَوَائِفِ الشِّرْكِ يَدْخُلُونَ النَّارَ، دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ انْتِزَاعَ مَنْ هُوَ أَشد على الرحمان عُتِيًّا هُوَ قُصَارَى مَا يَنَالُ تِلْكَ الطَّوَائِفِ مِنَ الْعَذَابِ بِأَنْ يَحْسَبُوا أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ يَكُونُونَ فِدَاءً لَهُمْ مِنَ النَّارِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَيْ وَذَلِكَ الِانْتِزَاعُ لَا يَصْرِفُ بَقِيَّةَ الشِّيَعِ عَنِ النَّارِ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِهِمُ النَّارَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَين جملَة فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ [مَرْيَم: 68] إِلَخْ وَجُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا [مَرْيَم: 73] إِلَخْ ... فَالْخِطَابُ فِي وَإِنْ مِنْكُمْ إِلْتِفَاتٌ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ولَنُحْضِرَنَّهُمْ [مَرْيَم: 68] عَدْلٌ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ ارْتِقَاءً فِي الْمُوَاجَهَةِ بِالتَّهْدِيدِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِلِالْتِبَاسِ الْمُرَادِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَإِنَّ ضَمِيرَ الْخِطَابِ أَعْرَفُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ مِنْهُمْ إِلَّا وَارِدُهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَإِنَّ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ. فَالْمَعْنَى: وَمَا مِنْكُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ نُزِعَ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ وَغَيْرِهِ إِلَّا وَارِدٌ جَهَنَّمَ حَتْمًا قَضَاهُ اللَّهُ فَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، أَيْ فَلَا تَحْسَبُوا أَنْ تَنْفَعَكُمْ شَفَاعَتُهمْ أَوْ تَمْنَعَكُمْ عِزَّةُ شِيَعِكُمْ، أَوْ تُلْقُونَ التَّبِعَةَ عَلَى سَادَتِكُمْ وَعُظَمَاءِ أَهْلِ ضَلَالِكُمْ، أَوْ يَكُونُونَ فِدَاءً عَنْكُمْ مِنَ النَّارِ.

وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: 42، 43] ، أَيِ الْغَاوِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلنَّفْيِ. وَالْوُرُودُ: حَقِيقَتُهُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَاءِ لِلِاسْتِقَاءِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْوُصُولِ مُطْلَقًا مَجَازًا شَائِعًا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوُرُودِ عَلَى الدُّخُولِ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا غَيْرَ مَشْهُورٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَرِينَةٍ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا زِيَادَةٌ فِي الِارْتِقَاءِ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي الْعَذَابِ، فَلَيْسَ وُرُودُهُمُ النَّارَ بِمُوَقَّتٍ بِأَجْلٍ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ تَنْوِيهًا بِإِنْجَاءِ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَتَشْوِيهًا بِحَالِ الَّذِينَ يَبْقُونَ فِي جَهَنَّمَ جُثِيًّا. فَالْمَعْنَى: وَعِلَاوَةٌ عَلَى ذَلِكَ نُنْجِي الَّذِينَ اتَّقَوْا مِنْ وُرُودِ جَهَنَّمَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُنْجِي الْمُتَّقِينَ مِنْ بَيْنِهِمْ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ نَجَوْا مِنَ الْوُرُودِ إِلَى النَّارِ. وَذِكْرُ إِنْجَاءِ الْمُتَّقِينَ: أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، إِدْمَاجٌ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَثْنَاءِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالْأَصْلُ: وَنَذَرُكُمْ أَيُّهَا الظَّالِمُونَ. وَنَذَرُ: نَتْرُكُ، وَهُوَ مُضَارِعٌ لَيْسَ لَهُ مَاضٍ مِنْ لَفْظِهِ، أَمَاتَ الْعَرَبُ مَاضِي (نَذَرُ) اسْتِغْنَاءً عَنهُ بماضي (ترك) ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [91] . فَلَيْسَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها لِجَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهمْ وَكَافِرهِمْ عَلَى مَعْنَى ابْتِدَاءِ كَلَامٍ بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ

يَرِدُونَ النَّارَ مَعَ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَنْجُونَ مِنْ عَذَابِهَا، لِأَنَّ هَذَا مَعنًى ثَقِيلٌ يَنْبُو عَنْهُ السِّيَاقُ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِيَاقِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَلِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَتَشْرِيفَهُمْ بِالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ يُنَافِي أَنْ يَسُوقَهُمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مسَاقًا وَاحِدًا، كَيْفَ وَقَدْ صَدَّرَ الْكَلَام بقوله فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مَرْيَم: 68] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَم: 85، 86] ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اخْتِلَافِ حَشْرِ الْفَرِيقَيْنِ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: 43] عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] . فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ جَهَنَّمَ مَوْعِدُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ يَنْبُو عَنْهُ مَقَامُ الثَّنَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَةٌ مَثَارُ إِشْكَالٍ وَمَحَطُّ قِيلَ وَقَالَ وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ لَا تَنَالُهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ضَمِيرَ مِنْكُمْ لِجَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَرَوَوْهُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فَصَدَمَهُمْ فَسَادُ الْمَعْنَى وَمُنَافَاةُ حِكْمَةِ اللَّهِ وَالْأَدِلّةِ الدَّالَةِ عَلَى سَلَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمئِذٍ مِنْ لِقَاءِ أَدْنَى عَذَابٍ، فَسَلَكُوا مَسَالِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ الْوُرُودَ بِالْمُرُورِ الْمُجَرَّدِ دُونَ أَنْ يَمَسَّ الْمُؤْمِنِينَ أَذَىً، وَهَذَا بُعْدٌ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّ الْوُرُودَ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ حُصُولُ مَا هُوَ مُودَعٌ فِي الْمَوْرِدِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ وُرُودِ الْحَوْضِ. وَفِي آيِ الْقُرْآنِ مَا جَاءَ إِلَّا لِمَعْنَى الْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها [الْأَنْبِيَاء: 98، 99] وَقَوْلُهُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98] وَقَوْلُهُ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَم: 86] . عَلَى أَنَّ إِيرَادَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى النَّارِ لَا جَدْوَى لَهُ فَيَكُونُ عَبَثًا، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا ذَكَرَهُ لَهُ الْفَخْرُ مِمَّا سَمَّاهُ فَوَائِدَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ وُرُودَ جَهَنَّمَ بِمُرُورِ الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ، فَسَاقُوا الْأَخْبَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مُرُورِ النَّاسِ عَلَى الصِّرَاطِ مُتَفَاوِتِينَ فِي سُرْعَةِ الِاجْتِيَازِ. وَهَذَا أَقَلُ بُعْدًا مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي هَذَيْنِ الْمَحْمَلَيْنِ أَحَادِيثَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَرْتَبَةِ الضَّعْفِ مِمَّا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي «نَوَادِرِ الْأُصُولِ» . وَأَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ مَا رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ: «يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ» الْحَدِيثَ فِي مُرُورِ الصِّرَاطِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَفَّقَ تَعْضِيدًا لِذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» فَتَأَوَّلَ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ بِأَنَّهَا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وَهَذَا مَحَمَلٌ بَاطِلٌ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَسَمٌ يَتَحَلَّلُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ عَذَابًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ مَعَاصٍ فَإِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ كَانُوا كَفَّارَةً لَهُ فَلَا يَلِجُ النَّارَ إِلَّا وُلُوجًا قَلِيلًا يُشْبِهُ مَا يُفْعَلُ لِأَجَلِ تَحِلَّةِ الْقَسْمِ، أَيِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقْسِمَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا صَعُبَ عَلَيْهِ بِرُّ قَسَمِهِ أَخَذَ بِأَقَلِّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ «تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» تَمْثِيلٌ. وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رِوَايَاتٌ أَنَّهُمْ تَخَوَّفُوا مِنْ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ مِنَ الْوُقُوفِ فِي مَوْقِفِ الَخَوْفِ مِنْ شَيْءٍ مُحْتَمَلٍ. وَذَكَرَ فِعْلَ نَذَرُ هُنَا دُونَ غَيْرِهِ لِلْإِشْعَارِ بِالتَّحْقِيرِ، أَيْ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ لَا نَعْبَأُ بِهِمْ، لِأَنَّ فِي فِعْلِ التَّرْكِ مَعْنَى الْإِهْمَالِ. وَالْحَتْمُ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَتَمَهُ إِذْ جَعَلَهُ لَازِمًا، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَحْتُومًا عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْمَقْضِيُّ: الْمَحْكُومُ بِهِ. وَجُثِيُّ تَقَدَّمَ.

[سورة مريم (19) : الآيات 73 إلى 74]

وَقَرَأَ الْجُمْهُور ثمَّ تنجي بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيف الْجِيم. [73- 74] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 73 إِلَى 74] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] وَهَذَا صِنْفٌ آخَرٌ مِنْ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ بِالدُّنْيَا وإِنَاطَتُهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى السَّعَادَةِ بِأَحْوَالِ طِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَشَفّفُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَسْعَدَ مِنْهُمْ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [102] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي أَوَّلِ الْأَنْفَالِ [2] . كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنَ فَيَسْمَعُونَ آيَاتِ النَّعْيِ عَلَيْهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ، وَآيَاتِ الْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ لَعُجِّلَ لَهُمْ، فَنَحْنُ فِي نِعْمَةٍ وَأَهْلُ سِيَادَةٍ، وَأَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ، وَكَيْفَ يَفُوقُونَنَا بَلْ كَيْفَ يَسْتَوُونَ مَعَنَا، وَلَوْ كُنَّا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَمَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ فَإِنَّهُمْ فِي حَالَةِ ضَنْكٍ وَلَا يُسَاوُونَنَا فَلَوْ أَقْصَاهُمْ مُحَمَّدٌ عَنْ مَجْلِسِهِ لَاتَّبَعْنَاهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: 52، 53] ،

وَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: 11] . فَلِأَجْلِ كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقِيسُونَ هَذَا الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَيُغَالِطُونَ بِهِ جُعِلَ قَوْلُهُمْ بِهِ مُعَلَّقًا بِزَمَانِ تِلَاوَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ: آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ: أَنَّهَا وَاضِحَاتُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَمُفْعَمَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَجُوزُ كَوْنُهَا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ قَالُوا لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ مِنْ أَجْلِ شَأْنِهِمْ، فَيَكُونُ هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ قالَ لِتَعْدِيَتِهِ إِلَى مُتَعَلِّقَهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهمْ خِطَابًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ تَقْرِيرِيٌّ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَا ابْنِ كَثِيرٍ مَقاماً- بِفَتْحِ الْمِيمِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ قَامَ، أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى الْحَظِّ وَالرِّفْعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمُسْتَعْمَلِ مَجَازًا فِي الظُّهُورِ وَالْمَقْدِرَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِضَمِّ الْمِيمِ- مِنْ أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَوْنِ فِي الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: خَيْرٌ حَيَاةً. وَجُمْلَةُ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ. وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ كَانُوا أَرْفَهَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَتَاعًا وَأَجْمَلَ مِنْهُمْ مَنْظَرًا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَبَيْنَ تَلْقِينِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُجِيبُهُمْ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَمَوْقِعُهَا التَّهْدِيدُ وَمَا بَعْدَهَا هُوَ الْجَوَابُ. وَالْأَثَاثُ: مَتَاعُ الْبُيُوتِ الَّذِي يتزين بِهِ، ورِءْياً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَبَعْدَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَذِبْحٍ، مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ أَحْسَنُ مَرْئِيًّا، أَيْ مَنْظَرًا وَهَيْئَةً.

[سورة مريم (19) : الآيات 75 إلى 76]

وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ «رِيًّا» - بِتَشْدِيدِ الْيَاء بِلَا همزَة إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي الْيَاءِ الْأُخْرَى، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الرَّيِّ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ وَالتَّرَفُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَيَّانٌ مِنَ النَّعِيمِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّيِّ ضِدُّ الْعَطَشِ، لِأَنَّ الرَّيَّ يُسْتَعَارُ لِلتَّنَعُّمِ كَمَا يُسْتَعَارُ التلهّف للتألّم. [75- 76] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 75 إِلَى 76] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَم: 73] . لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشْفَ مُغَالَطَتِهِمْ أَوْ شُبْهَتِهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ إِمْهَالٌ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ مَلَاذَ الْكَافِرِ اسْتِدْرَاجٌ. فَمِعْيَارُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النِّعْمَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ اسْتِدْرَاجٌ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى حَالِ مَنْ هُوَ فِي نِعْمَةٍ بَيْنَ حَالِ هُدَىً وَحَالِ ضَلَالٍ. قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْأَوَّلِينَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . وَقَالَ فِي شَأْنِ الآخرين أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] .

وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ مُنْغَمِسًا فِي الضَّلَالَةِ اغْتَرَّ بِإِمْهَالِ اللَّهِ لَهُ فَرَكِبَهُ الْغُرُورُ كَمَا رَكِبَهُمْ إِذْ قَالُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا لَامُ الْأَمْرِ أَوِ الدُّعَاءِ، اسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا فِي لَازِمِ مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ التَّحْقِيقِ، أَيْ فسيمد لَهُ الرحمان مَدًّا، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي إِمْهَالِ الضُّلَّالِ، إِعْذَارًا لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، وتنبيها لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى الضُّلَّالِ حَتَّى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ اللَّهَ بِهِ لِعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِطُولِ مُدَّةِ نَعَيْمِ الْكُفَّارِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ قُلْ أَنْ يَقُولَ النَّبِيءُ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ فَلَامُ الْأَمْرِ مُجَرَّدُ مَجَازٍ فِي التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يُبَلِّغَ النَّبِيءُ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فَلَامُ الْأَمْرِ مَجَازٌ أَيْضًا وَتَجْرِيدٌ بِحَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ نَفْسَهُ بِأَنْ يُمِدَّ لَهُمْ. وَالْمَدُّ: حَقِيقَتُهُ إِرْخَاءُ الْحَبْلِ وَإِطَالَتُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْإِمْهَالِ كَمَا هُنَا، وَفِي الْإِطَالَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: مَدَّ اللَّهُ فِي عُمْرِكَ. ومَدًّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ، أَيْ فَلْيُمْدِدْ لَهُ المدّ الشَّديد، فيسينتهي ذَلِكَ. وحَتَّى لِغَايَةِ الْمَدِّ، وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ يمدّ لَهُ الرحمان إِنِّي أَنْ يَرَوْا مَا يُوعَدُونَ، أَيْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ مَا أَوْعِدُوا مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُ طُولُ مُدَّتِهِمْ فِي النِّعْمَةِ. فَتَكُونُ الْغَايَةُ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى لَا لَفْظًا مُفْرَدًا. وَالتَّقْدِيرُ: يمدّ لَهُم الرحمان حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ فَيَعْلَمُوا مَنْ هُوَ أَسْعَدُ وَمَنْ هُوَ أَشْقَى.

وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ لِتَوْكِيدِ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمْ حِينَئِذٍ وَلَيْسَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْغَايَةِ. وإِمَّا حَرْفُ تَفْصِيلٍ لِ مَا يُوعَدُونَ، أَيْ مَا أُوعِدُوا مِنَ الْعَذَابِ إِمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا وَإِمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَعْدُو أَنْ يَرَى أَحَدَ الْعَذَابَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَانْتَصَبَ لَفْظُ الْعَذابَ عَلَى المفعولية ل رَأَوْا. وَحَرْفُ إِمَّا غَيْرُ عَاطِفٍ، وَهُوَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إسَارٍ ومِنَةٍ ... وَإِمَّا دَمٍ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ بِجَرِّ (إِسَارٍ، وَمِنَّةٍ، وَدَمٍ) . وَقَوْلُهُ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَم: 73] فَالْمَكَانُ يُرَادِفُ الْمَقَامَ، وَالْجُنْدُ الْأَعْوَانُ، لِأَنَّ النّدِيَّ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقُوبِلَ خَيْرٌ نَدِيًّا بِ أَضْعَفُ جُنْداً. وَجُمْلَةُ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا لِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِمْهَالِ الْمُفْضِي إِلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ، وَالِاسْتِمْرَارُ: الزِّيَادَةُ. فَالْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِبَاكِ، أَيْ فليمدد لَهُ الرحمان مَدًّا فَيَزْدَدْ ضَلَالًا، وَيَمُدُّ لِلَّذِينِ اهْتَدَوْا فَيَزْدَادُوا هُدًى. وَجُمْلَةُ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً. وَهُوَ ارْتِقَاءٌ مِنْ بِشَارَتِهِمْ بِالنَّجَاةِ إِلَى بِشَارَتِهِمْ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، أَيْ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ مِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الَّتِي اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً، أَيْ فَسَيَظْهَرُ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ الْكَفَرَةُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعِزَّةِ هُوَ أَقَلُّ مِمَّا كَانَ

[سورة مريم (19) : الآيات 77 إلى 80]

عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الشَّظَفِ وَالضَّعْفِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلَيْنِ، إِذْ كَانَ مَآلُ الْكَفَرَةِ الْعَذَابُ وَمَآلُ الْمُؤْمِنِينَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعَذَابِ وَبَعْدُ فَلِلْمُؤْمِنِينَ الثَّوَابُ. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: صِفَتَانِ لِمَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ من الْمقَام، أَي الْأَعْمَالُ الْبَاقِي نَعِيمُهَا وَخَيْرُهَا، وَالصَّالِحَاتُ لِأَصْحَابِهَا هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نِعْمَةِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْبَاقِيَاتِ عَلَى الصَّالِحَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْمَرَدُّ، الْمَرْجِعُ. وَالْمُرَادُ بِهِ عَاقِبَة الْأَمر. [77- 80] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 77 إِلَى 80] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّفْرِيعَاتِ. وَالْمُنَاسَبَةِ: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامِ كَانَ فِي غُرُورٍ مِثْلِ الْغُرُورِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَصْحَابُهُ. وَهُوَ غُرُورُ إِحَالَةِ الْبَعْثِ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ خَبَّابِ بْنِ الأرتّ مَعَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ. فَفِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ خَبَّابًا كَانَ يَصْنَعُ السُّيُوفَ فِي مَكَّة، فَعمل للعاص بْنِ وَائِلَ سَيْفًا وَكَانَ ثَمَنُهُ دينا على الْعَاصِ، وَكَانَ خَبَّابٌ قَدْ أَسْلَمَ، فَجَاءَ خَبَّابٌ يَتَقَاضَى دينه من الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ الْعَاصِ بْنُ

وَائِلٍ: لَا أَقْضِيكَهُ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقَالَ خَبَّابٌ (وَقَدْ غَضِبَ) : لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يَبْعَثك. قَالَ الْعَاصِ: أَو مَبْعُوث أَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ (الْعَاصِ مُتَهَكِّمًا) : إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ أَقْضِيكَ دَيْنَكَ» . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِك. فالعاص بْنُ وَائِلٍ هُوَ الْمُرَادُ بِالَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَرَأَيْتَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ كُفْرِ هَذَا الْكَافِرِ. وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ بِقِصَّتِهِ الْعَجِيبَةِ. نَزَلَتِ الْقِصَّةُ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْوَى طُرُقِ الْعِلْمِ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ منشأ الْعجب وَلَا سِيمَا قَوْلُهُ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ لَفْتُ الذِّهْنِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ إِلَى تَذَكُّرِهَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا. وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ فَلَمْ يُرَدْ بِهِ مُعَيَّنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْآيَاتُ: الْقُرْآنُ، أَيْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَكَذَّبَ بِهَا. وَمِنْ جُمْلَتِهَا آيَاتُ الْبَعْثِ. وَالْوَلَدُ: اسْمُ جَمْعٍ لِوَلَدٍ الْمُفْرَدِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ- فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ- «وَوُلْدٌ» - بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ- فَهُوَ جَمْعُ وَلَدٍ، كَأَسَدٍ وَأُسْدٍ. وَجُمْلَةُ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ جَوَابٌ لِكَلَامِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَتِهِ مِنَ الْوَعْدِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي سَيَجِدُهُ حِينَ يُبْعَثُ، فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إِنْكَارِيُّ وتَعْجِيبِيُّ.

وَ (أَطَّلَعَ) افْتَعَلَ مَنْ طَلَعَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ فِعْلِ الطُّلُوعِ وَهُوَ الِارْتِقَاءُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِمَكَانِ الطُّلُوعِ مَطْلَعٌ بِالتَّخْفِيفِ وَمُطَّلَعٌ بِالتَّشْدِيدِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا أُطْلِقَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الشَّيْءِ، لِأَنَّ الَّذِي يَرُومُ الْإِشْرَافَ عَلَى مَكَانٍ مَحْجُوبٍ عَنْهُ يَرْتَقِي إِلَيْهِ مِنْ عُلُوٍّ، فَالْأَصْلُ أَنَّ فِعْلَ (اطَّلَعَ) قَاصِرٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّعْدِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 54، 55] ، فَإِذَا ضُمِّنَ أَطَّلَعَ مَعْنَى أَشَرَفَ عُدِّيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ كَقَوْلَهِ تَعَالَى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَتَقَدَّمَ إِجْمَالًا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [18] . فَانْتَصَبَ الْغَيْبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلِاخْتِيَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَأْن، يَقُول: أَو قد بَلَغَ مِنْ عَظَمَةِ شَأْنِهِ أَنِ ارْتَقَى إِلَى عِلَمِ الْغَيْبِ» اه. فَالْغَيْبُ: هُوَ مَا غَابَ عَنِ الْأَبْصَارِ. وَالْمَعْنَى: أَأَشْرَفَ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ فَرَأَى مَالًا وَوَلَدًا مُعَدَّيْنِ لَهُ حِينَ يَأْتِي يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ فَرَأَى مَالَهُ وَوَلَدَهُ صَائِرِينَ مَعَهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ عَنَى أَنَّ مَالَهُ وَوَلَدَهُ رَاجِعَانِ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ أَمْ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مُعْطِيهِ ذَلِكَ فَأَيْقَنَ بِحُصُولِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُعِدَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ إِمَّا مُكَاشَفَةُ ذَلِكَ وَمُشَاهَدَتُهُ، وَإِمَّا إِخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِ إِيَّاهُ. وَمُتَعَلِّقُ الْعَهْدِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. تَقْدِيرُهُ: بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا وَوَلَدًا. وعِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ بِتَشْبِيهِ الْوَعْد بِصَحِيفَة مَكْتُوبَة بِهَا تَعَاهُدٌ وَتَعَاقُدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ،

لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَوْثِيقَ مَا يَتَعَاهَدُونَ عَلَيْهِ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ وَوَضَعُوهَا فِي مَكَانٍ حَصِينٍ مَشْهُورٍ كَمَا كَتَبَ الْمُشْرِكُونَ صَحِيفَةَ الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَوَضَعُوهَا فِي الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ والتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْقُضُ ... مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَلَعَلَّ فِي تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِطَرِيقِ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ. وَاخْتِيرَ هُنَا من أَسْمَائِهِ الرَّحْمنِ، لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ مَدْلُولِهِ أَجْدَرُ فِي وَفَائِهِ بِمَا عَهِدَ بِهِ مِنْ النِّعْمَةِ الْمَزْعُومَةِ لِهَذَا الْكَافِرِ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْمِ تَوَرُّكًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وكَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عَنْ مَضْمُونِ كَلَامٍ سَابِقٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ كَلَامٍ يُحْكَى عَنْ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ أَوْ مَسْمُوعٍ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشُّعَرَاء: 61، 62] . وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ عَقِبَ آخِرِ الْكَلَامِ الْمُبْطَلِ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبْطَلِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْإِبْطَالِ وَتَعْجِيلِهِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي سَيَرِدُ بَعْدَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر: 32- 35] على أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِبْطَالِ كَانَتْ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، فَهِيَ نَقِيضُ إِي وَأجل وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَحْرُفِ الْجَوَابِ بِتَقْدِيرِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَقَعُ مَا حَكَى عَنْهُ مِنْ زَعْمِهِ وَلَا مِنْ غُرُورِهِ، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ مُتْبَعَةً بِكَلَامٍ بَعْدَهَا، فَلَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي رَدِّ كَلَامٍ: كَلَّا، وَيَسْكُتُ.

وَلِكَوْنِهَا حَرْفَ رَدْعٍ أَفَادَتْ مَعْنًى تَامًا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ. فَلِذَلِكَ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَنَعَ الْمُبَرِّدُ الْوَقْفَ عَلَيْهَا بِنَاءً على أَنَّهَا لَا بُد أَنْ تُتْبَعَ بِكَلَامٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوَاقِعُهَا أَرْبَعَةٌ: - مُوَقِعٌ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَالِابْتِدَاءُ بِهَا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. - وموقع يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا كَقَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا فَاذْهَبا [الشُّعَرَاء: 14، 15] . - وَمُوقِعٌ يَحْسُنُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عبس: 11] . - وموقع لَا يَحْسُنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 4] . وَكَلَامُ الْفَرَّاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ الْمُبَرِّدِ لَفْظِيُّ لِأَنَّ الْوَقْفَ أَعَمُّ مِنَ السُّكُوتِ التَّامِّ. وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ فِي قَوْلِهِ سَنَكْتُبُ لِتَحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: 98] . وَالْمَدُّ فِي الْعَذَابِ: الزِّيَادَةُ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مَرْيَم: 75] . وَمَا يَقُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهُ لَوْ حَكَيَ كَلَامَهُ لَطَالَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: 183] ، أَيْ وَبِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، أَيْ مَا قَالَهُ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالتَّهَكُّمِ بِالْإِسْلَامِ، وَمَا قَالَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَيْ سَنَكْتُبُ جَزَاءَهُ وَنُهْلِكُهُ فَنَرِثُهُ مَا سَمَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَيْ نَرِثُ أَعْيَانَ مَا ذَكَرَ أَسْمَاءَهُ، إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ. فَ مَا يَقُولُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي نَرِثُهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَنَرِثُ وَلَدَهُ وَمَالَهُ.

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 82]

وَالْإِرْثُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي السَّلْبِ وَالْأَخْذِ، أَوْ كِنَايَةً عَنْ لَازَمِهِ وَهُوَ الْهَلَاكُ. وَالْمَقْصُودُ: تَذْكِيرُهُ بِالْمَوْتِ، أَوْ تَهْدِيدُهُ بِقُرْبِ هَلَاكِهِ. وَمَعْنَى إِرْثِ أَوْلَادِهِ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُونَ فِي حِزْبِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْعَاصِي وَلَدَ عَمْرًا الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ وَهِشَامًا الصَّحَابِيَّ الشَّهِيدَ يَوْمَ أَجْنَادِينَ، فَهُنَا بِشَارَةٌ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونكاية وكمد لِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ. وَالْفَرْدُ: الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ مَا يَصِيرُ بِهِ عَدَدًا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يُحْشَرُ كَافِرًا وَحْدَهُ دُونَ وَلَدِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ، وفَرْداً حَال. [81- 82] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 81 إِلَى 82] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ [مَرْيَم: 66] فَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِأَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ. وَالِاتِّخَاذُ: جَعْلُ الشَّخْصِ الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ، فَجُعِلَ الِاتِّخَاذُ هُنَا الِاعْتِقَادُ وَالْعِبَادَةُ. وَفِي فِعْلِ الِاتِّخَاذِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَقِيدَتَهُمْ فِي تِلْكَ الْآلِهَةِ شَيْءٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ مُخْتَلَقٌ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] . وَفِي قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ يَقْتَضِي أَنْ يَتَّخِذُوا اللَّهَ إِلَهًا، إِذْ بِذَلِكَ تَقَرَّرَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ مِنْ مَبْدَإِ الْخَلِيقَةِ، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ. وَمَعْنَى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا لِيَكُونُوا مُعِزِّينَ لَهُمْ، أَيْ نَاصِرِينَ، فَأَخْبَرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِالْمَصْدَرِ لِتَصْوِيرِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي آلِهَتِهِمْ أَنَّهُمْ نَفْسُ الْعِزِّ، أَيْ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِمَاءِ لَهَا يُكْسِبُهُمْ عِزًّا.

وَأَجْرَى عَلَى الْآلِهَةِ ضَمِيرَ الْعَاقِلِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ تَوَهَّمُوهُمْ عُقَلَاءَ مُدَبِّرِينَ. وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ ويَكُونُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَائِدَيْنِ إِلَى آلِهَةً، أَيْ سَيُنْكِرُ الْآلِهَةُ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ بِالْكُفْرِ، وَسَتَكُونُ الْآلِهَةُ ذُلًّا ضِدَّ الْعِزِّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ سَيَكْفُرُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ سَيَكْفُرُ الْمُشْرِكُونَ بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ فَيَكُونُ مُقَابِلَ قَوْلِهِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً. وَفِيهِ تَمَامُ الْمُقَابَلَةِ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّفُوا جَعْلَهُمْ آلِهَةً لَهُمْ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ، فَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ سَيَكْفُرُونَ يُرَجِّحُ هَذَا الْحَمْلَ لِأَنَّ الْكُفْرَ شَائِعٌ فِي الْإِنْكَارِ الِاعْتِقَادِيِّ لَا فِي مُطْلَقِ الْجُحُودِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ يَكُونُونَ لِلْآلِهَةِ وَفِيهِ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ. وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إِذْ كَانَ السِّيَاقُ يُرْجِعُ كُلًّا إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا أَيْ: وَأَحْرَزَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا سَيَكْفُرُونَ ويَكُونُونَ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَأَن حَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ لِلْحُصُولِ قَرِيبًا، أَيْ سَيَكْفُرُ الْمُشْرِكُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَيَكُونُونَ ضِدًّا عَلَى الْأَصْنَامِ يَهْدِمُونَ هَيَاكِلَهَا وَيَلْعَنُونَهَا، فَهُوَ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دِينَهُ سَيَظْهَرُ عَلَى دِينِ الْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ طِبَاقٌ مَرَّتَيْنِ. وَالضِّدُّ: اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ خِلَافُ الشَّيْءِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ. وَمِنَ الثَّانِي تَسْمِيَةُ الْعَدُوِّ ضِدًّا. وَلِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ لَزِمَ فِي حَالِ الْوَصْفِ بِهِ حَالَةً وَاحِدَةً بِحَيْثُ لَا يُطَابق موصوفه.

[سورة مريم (19) : الآيات 83 إلى 84]

[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 83 إِلَى 84] أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيُّ لِجَوَابِ سُؤَالٍ يَجِيشُ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيغَالِ الْكَافِرِينَ فِي الضَّلَالِ جَمَاعَتَهُمْ وآحَادَهُمْ، وَمَا جَرَّهُ إِلَيْهِمْ مِنْ سُوءِ الْمَصِيرِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مَرْيَم: 81] وَجُمْلَةِ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ [مَرْيَم: 85] . وَأَيْضًا هِيَ كَالتَّذْيِيلِ لِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالتَّقْرِيرِ لِمَضْمُونِهَا لِأَنَّهَا تَسْتَخْلِصُ أَحْوَالَهُمْ، وَتَتَضَمَّنُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِمْهَالِهِمْ وَعَدَمِ تَعْجِيلِ عِقَابِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَ تَعْجِيبِيُّ، وَمَثَلُهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى نَفْيِ فِعْلٍ. وَالْمُرَادُ حُصُولُ ضِدِّهِ بِحَثِّ الْمُخَاطَبِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِتَحْصِيلِهِ، أَيْ كَيْفَ لَمْ تَرَ ذَلِكَ، وَنُزِّلَ إِرْسَالُ الشَّيَاطِينَ على الْكَافرين لَا تضاح آثَارِهِ منزلَة الشَّيْء المرثي الْمُشَاهَدِ، فَوَقَعَ التَّعْجِيبُ مِنْ مَرْآهُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ ذَلِكَ. وَالْأَزُّ: الْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ الْبَاطِنِيُّ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَزِيزِ الْقِدْرِ إِذَا اشْتَدَّ غَلَيَانُهَا. شَبَّهَ اضْطِرَابَ اعْتِقَادِهِمْ وَتَنَاقُضَ أَقْوَالِهِمْ وَاخْتِلَاقَ أَكَاذِيبِهِمْ بِالْغَلَيَانِ فِي صُعُودٍ وَانْخِفَاضٍ وَفَرْقَعَةٍ وَسُكُونٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ فَتَأْكِيدُهُ بِالْمَصْدَرِ تَرْشِيحٌ. وَإِرْسَالُ الشَّيَاطِينَ عَلَيْهِمْ تَسْخِيرُهُمْ لَهَا وَعَدَمُ انْتِفَاعِهِمْ بالإرشاد النّبوي المنقد مِنْ حَبَائِلِهَا، وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ

مَوَاعِظِ الْوَحْيِ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ عَلَى الْكافِرِينَ. وَجَعَلَ تَؤُزُّهُمْ حَالًا مُقَيَّدًا لِلْإِرْسَالِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مُرْسَلَةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينَ عَلَى حَسْبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَصَلَاحِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] . وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِئْنَافِ وَهَذِهِ التَّسْلِيَةِ قَوْلُهُ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلِ الْعَذَابَ لَهُمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، وَعُبِّرَ بِ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ مُعَدًّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ إِكْرَامًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الَّذِي هَلَاكُهُمْ بِيَدِهِ. فَنَهَى عَنْ تَعْجِيلِهِ بِهَلَاكِهِمْ. وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَبُولِ دُعَائِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، فَلَوْ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ لِأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ كَيْلَا يَرُدَّ دَعْوَةَ نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَجِلَ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ أَسْرَعَ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: عَجِلَ إِلَيْهِ إِذَا أَسْرَعَ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] ، فَاخْتِلَافُ حُرُوفِ تَعْدِيَةِ فعل عجل ينبىء عَنِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالتَّعْجِيلِ. وَلَعَلَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [35] أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا اسْتِعْجَالُ الِاسْتِئْصَالِ وَالْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ كَوْنُهُ عَلَى يَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، أَيِ انْتَظِرْ يَوْمَهُمُ الْمَوْعُودَ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أَيْ نُنْظِرُهُمْ وَنُؤَجِّلُهُمْ، وَأَنَّ الْعَذَابَ الْمَقْصُودَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِوُقُوعِهِ فِي خِلَالِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ لِقَوْلِهِ هُنَالِكَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الْأَحْقَاف: 34، 35] .

[سورة مريم (19) : الآيات 85 إلى 87]

وَالْعَدُّ: الْحِسَابُ. وإِنَّما لِلْقَصْرِ، أَيْ مَا نَحْنُ إِلَّا نَعُدُّ لَهُمْ، وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ نَعُدُّ لَهُمْ وَلَسْنَا بِنَاسِينَ لَهُمْ كَمَا يَظُنُّونَ، أَوْ لَسْنَا بِتَارِكِينَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى يَوْمٍ مَوْعُودٍ. وَأَفَادَتْ جُمْلَةُ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ التَّعْجِيلِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ إِنَّما مُرَكَّبَةٌ من (إنّ) و (مَا) وَإِنَّ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدُّ مَجَازًا فِي قَصْرِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ وَيُحْسَبُ. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ باقتراب استئصالهم. [85- 87] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 85 إِلَى 87] يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) إِتْمَامٌ لِإِثْبَاتِ قِلَّةِ غِنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مَرْيَم: 82] . فَجُمْلَةُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ هُوَ مَبْدَأُ الْكَلَامِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا. وَالظَّرْفُ وَمَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَيْهِ إِدْمَاجٌ بُيِّنَتْ بِهِ كَرَامَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهَانَةُ الْكَافِرِينَ. وَفِي ضِمْنِهِ زِيَادَة بَيَان لجملة وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا بِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبَ سَوْقِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا وَمُخالَفَتِهِمْ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ. فَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ

وَضَمِيرُ لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ لِلْآلِهَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوا مَنِ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ مُطْلَقًا، يَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَمَا هُنَا، وَفِي الشَّرِ كَقَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22، 23] ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ فِعْلَ نَحْشُرُ بِقَيْدِ وَفْداً، أَيْ حَشْرَ الْوُفُودِ إِلَى الْمُلُوكِ، فَإِنَّ الْوُفُودَ يَكُونُونَ مُكْرَمِينَ، وَكَانَتْ لِمُلُوكِ الْعَرَبِ وَكُرَمَائِهِمْ وُفُودٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَلِأَعْيَانِ الْعَرَبِ وِفَادَاتٌ سَنَوِيَّةٌ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَسَادَتِهِمْ، وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ وِفَادَةٌ، وَفِي الْمَثَلِ: «إِنَّ الشَّقِيَّ وَافِدُ الْبَرَاجِمِ» . وَقَدِ اتَّبَعَ الْعَرَبُ هَذِهِ السُّنَّةَ فَوَفَدُوا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ السَّادَةِ. وَسَنَةُ الْوُفُودِ هِيَ سَنَةُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ تَلَتْ فَتْحَ مَكَّةَ بِعُمُومِ الْإِسْلَامِ بِلَادَ الْعَرَبِ. وَذِكْرُ صِفَةِ الرَّحْمنِ هُنَا وَاضِحَةُ الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَفْدِ. وَالسَّوْقُ: تَسْيِيرُ الْأَنْعَامِ قُدَّامَ رُعَاتِهَا، يَجْعَلُونَهَا أَمَامَهُمْ لِتَرْهَبَ زَجْرَهُمْ وَسِيَاطَهُمْ فَلَا تَتَفَلَّتُ عَلَيْهِمْ، فَالسَّوْقُ: سَيْرُ خَوْفٍ وَحَذَرٍ. وَقَوْلُهُ وِرْداً حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا التَّشْبِيهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ جَامِدَةً لِأَنَّ مَعْنَى التَّشْبِيهِ يَجْعَلُهَا كَالْمُشْتَقِّ. وَالْوِرْدُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-: أَصْلُهُ السَّيْرُ إِلَى الْمَاءِ، وَتُسَمَّى الْأَنْعَامُ الْوَارِدَةُ وِرْدًا تَسْمِيَةً عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ ذَاتَ وِرْدٍ، كَمَا يُسَمَّى الْمَاءُ الَّذِي يَرِدُهُ الْقَوْمُ وِرْدًا. قَالَ تَعَالَى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98] . وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ يَوْمئِذٍ مَنِ اتخذ عِنْد الرحمان عَهْدًا، أَيْ مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَشْفَعَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ.

[سورة مريم (19) : الآيات 88 إلى 95]

وَمَعْنَى لَا يَمْلِكُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَقْدِرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَة الْعُقُود [76] . [88- 95] [سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 88 إِلَى 95] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ [مَرْيَم: 66] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مَرْيَم: 81] إِتْمَامًا لِحِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا فَصَرِيحُ الْكَلَامِ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكِنَايَتُهُ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى الَّذِينَ شَابَهُوا الْمُشْرِكِينَ فِي نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ تَكْمِلَةٌ لِلْإِبْطَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مَرْيَم: 35] إِلَخْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، أَوْ تَعْلِيمَ دِينِهِمْ وَلَكِنْ تَفْظِيعُ قَوْلِهِمْ وَتَشْنِيعَهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَأْيِيدًا لِعِبَادَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَاعْتِقَادِهِمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ.

وَذِكْرُ الرَّحْمنُ هُنَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِالْمَعْنَى، وَهُمْ لَا يذكرُونَ اسْم الرحمان وَلَا يُقِرُّونَ بِهِ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] ، فَهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا آيَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ [4] . فَذِكْرُ الرَّحْمنُ هُنَا وَضَعٌ لِلْمُرَادِفِ فِي مَوْضِعِ مُرَادِفِهِ، فَذِكْرُ اسْمِ الرَّحْمنُ لِقَصْدِ إِغَاظَتِهِمْ بِذِكْرِ اسْمٍ أَنْكَرُوهُ. وَفِيهِ أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى اخْتِلَالِ قَوْلِهِمْ لمنافاة وصف الرحمان اتِّخَاذَ الْوَلَدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. وَالْخِطَابُ فِي لَقَدْ جِئْتُمْ لِلَّذِينِ قَالُوا اتخذ الرحمان وَلَدًا، فَهُوَ الْتِفَاتٌ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِمُ التَّوْبِيخَ عَلَى وَجْهٍ شَدِيدِ الصَّرَاحَةِ لَا يَلْتَبِسُ فِيهِ الْمُرَادُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: 71] فَلَا يَحْسُنُ تَقْدِيرُ: قُلْ لَقَدْ جِئْتُمْ. وَجُمْلَةُ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً مِنْ التَّشْنِيعِ وَالتَّفْظِيعِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالتَّأْنِيثِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ رَافِعًا لِضَمِيرٍ مُؤَنَّثٍ مُتَّصِلٍ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: تَكادُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ. وَالتَّفَطُّرُ: الِانْشِقَاقُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ تَفَنَّنٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُتَرَادِفِ لِدَفْعِ ثِقَلِ تَكْرِيرِ اللَّفْظِ. وَالْخُرُورُ: السُّقُوطُ. وَمن فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالضَّمِير الْمَجْرُور بِمن عَائِدٌ إِلَى شَيْئاً إِدًّا، أَوْ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.

وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْوِيلِ مِنْ فَظَاعَةِ هَذَا الْقَوْلِ بِحَيْثُ أَنَّهُ يُبَلَّغُ إِلَى الْجَمَادَاتِ الْعَظِيمَةِ فَيُغَيِّرُ كِيَانَهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْكِسَائِيُّ: يَتَفَطَّرْنَ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا تَاءٌ فَوْقِيَّةٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، بِتَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا نُونٌ، مِنَ الِانْفِطَارِ. وَالْوَجْهَانِ مُطَاوِعُ فَطَرَ الْمُضَاعَفِ أَوْ فَطَرَ الْمُجَرَّدِ، وَلَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِنْيَتَيْنِ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَلَعَلَّ مُحَاوَلَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي «الْكَشَّاف» و «الشافية» لَا يَطَّرِدُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفرْقَان: 25] ، وَقَالَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ، وقرىء فِي هَذِهِ الْآيَة: ينفطرون وينفطرن، وَالْأَصْلُ تَوَافُقُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْبَلَاغَةِ. وَالْهَدُّ: هَدْمُ الْبِنَاءِ. وَانْتَصَبَ هَدًّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ نَوْعِ الْخُرُورِ، أَيْ سُقُوطَ الْهَدْمِ، وَهُوَ أَنْ يَتَسَاقَطَ شَظَايَا وَقِطَعًا. وأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنْ يَتَفَطَّرْنَ، وتَنْشَقُّ، وتَخِرُّ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْجَرِّ قَبْلَ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَا أُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْهُ، وَزِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ مِنْهُ اعْتِنَاءً بِبَيَانِهِ. وَمَعْنَى دَعَوْا: نَسَبُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: 5] ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ادَّعَى إِلَى بَنِي فُلَانٍ، أَيِ انْتَسَبَ. قَالَ بَشَامَةُ بْنُ حَزْنٍ النَّهْشَلِيُّ: إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبٍ ... عَنْهُ وَلَا هُوَ بِالْأَبْنَاءِ يَشْرِينَا وَجُمْلَةُ وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.

وَمَعْنَى مَا يَنْبَغِي مَا يَتَأَتَّى، أَوْ مَا يَجُوزُ. وَأَصْلُ الِانْبِغَاءِ: أَنَّهُ مُطَاوِعُ فِعْلِ بَغَى الَّذِي بِمَعْنَى طَلَبَ. وَمَعْنَى، مُطَاوَعَتِهِ: التَّأَثُّرُ بِمَا طُلِبَ مِنْهُ، أَيِ اسْتِجَابَةُ الطَّلَبِ. نَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» : كُلُّ فِعْلٍ فِيهِ عِلَاجٌ يَأْتِي مُطَاوِعُهُ عَلَى الِانْفِعَالِ كَصَرَفَ وَطَلَبَ وَعَلِمَ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ عِلَاجٌ كَعَدِمَ وَفَقَدَ لَا يَتَأَتَّى فِي مُطَاوَعِهِ الِانْفِعَالُ أَلْبَتَّةَ» اه. فَبَانَ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى يَنْبَغِي يَسْتَجِيبُ الطَّلَبَ. وَلِمَّا كَانَ الطَّلَبُ مُخْتَلِفُ الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ الْمَطْلُوبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَنْبَغِي مُخْتَلِفًا بِحَسْبِ الْمَقَامِ فَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: يَتَأَتَّى، وَيُمْكِنُ، وَيَسْتَقِيمُ، وَيَلِيقُ، وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ أَصْلُهُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَاشْتُهِرَتْ فَقَامَتْ مَقَامَ التَّصْرِيحِ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا يَجُوزُ أَن يتّخذ الرحمان وَلَدًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لَوْ طُلِبَ حُصُولُهُ لَمَا تَأَتَّى لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، لَا لِأَنَّ اللَّهَ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الْفرْقَان: 18] يُفِيدُ مَعْنَى: لَا يَسْتَقِيمُ لَنَا، أَوْ لَا يُخَوَّلُ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ أَوْلِيَاءَ غَيْرَكَ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس: 40] يُفِيدُ مَعْنَى لَا تَسْتَطِيعُ. وَنَحْوَ وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] يُفِيدُ مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَنَحْوَ: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] يُفِيدُ مَعْنَى: لَا يُسْتَجَابُ طَلَبُهُ لِطَالِبِهِ إِنْ طَلَبَهُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: يَنْبَغِي لَكَ أَنْ لَا تَفْعَلْ هَذَا، وَبَيْنَ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ مَا يَجُوزُ لِجَلَالِ اللَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرُ ذَاتِهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَوِيَةً فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ. وَذَلِكَ يُنَافِي الْبُنُوَّةَ لِأَنَّ بُنُوَّةَ الْإِلَهِ جُزْءٌ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] ، أَيْ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَعَبَدْتُهُ قَبْلَكُمْ.

وَمَعْنَى آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً: الْإِتْيَانُ الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ، مِثْلُ: بَاءَ بِكَذَا، أَصْلُهُ رَجَعَ، وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى اعْتَرَفَ. وعَبْداً حَالٌ، أَيْ مُعْتَرِفٌ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَبْدًا. وَيَجُوزُ جَعْلُ آتِي الرَّحْمنِ بِمَعْنَى صَائِرٌ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْيَا عَبْدًا وَيُحْشَرُ عَبْدًا بِحَيْثُ لَا تَشُوبُهُ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الرَّحْمنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إِيمَاءٌ إِلَى أَن وصف الرحمان الثَّابِتِ لِلَّهِ، وَالَّذِي لَا يُنْكِرُ الْمُشْرِكُونَ ثُبُوتَ حَقِيقَتِهِ لِلَّهِ وَإِنْ أَنْكَرُوا لَفْظَهُ، يُنَافِي ادِّعَاءَ الْوَلَدِ لَهُ لأنّ الرحمان وَصْفٌ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ وَتَكَثُّرِهَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهَا شَامِلَةٌ لكل مَوْجُود، فَذَلِك يَقْتَضِي أَن كل مَوْجُودٍ مُفْتَقِرٍ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَتَقَوَّمُ ذَلِك إِلَّا بتحقق الْعُبُودِيَّةِ فِيهِ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْمَوْجُودَاتِ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى لَاسْتَغْنَى عَنْ رَحْمَتِهِ لِأَنَّهُ يكون بالبنوة مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الْغِنَى الْمُطْلَقَ، وَلِأَنَّ اتِّخَاذَ الِابْنِ يَتَطَلَّبُ بِهِ مُتَّخِذُهُ بَرَّ الِابْنِ بِهِ وَرَحْمَتَهُ لَهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَ اللَّهِ مُفِيضُ كُلِّ رَحْمَةٍ. فَذِكْرُ هَذَا الْوَصْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً وَقَوْلِهِ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً تَسْجِيلٌ لِغَبَاوَتِهِمْ. وَذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِيمَاءٌ إِلَى دَلِيلِ عَدَمِ لِيَاقَةِ اتِّخَاذِ الِابْنِ بِاللَّهِ. وَذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً اسْتِدْلَالٌ عَلَى احْتِيَاجِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَيْهِ وَإِقْرَارِهَا لَهُ بِمُلْكِهِ إِيَّاهَا.

[سورة مريم (19) : آية 96]

وَجُمْلَةُ لَقَدْ أَحْصاهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَهْدِيدِ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً وَمَا بَعْدَهُ. وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ لَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ كُلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَعَدَّهُمْ فَلَا يَنْفَلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عِقَابِهِ. وَمَعْنَى وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً إِبْطَالُ مَا لِأَجْلِهِ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا ذَلِكَ مُوجب عِبَادَتهم للْمَلَائكَة وَالْجِنَّ لِيَكُونُوا شُفَعَاءَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَأَيْأَسَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْرَدًا لَا نَصِيرَ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ: وَيَأْتِينا فَرْداً. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ آتُونَ لِمَا يَكْرَهُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْإِهَانَةِ إِتْيَانَ الْأَعْزَلِ إِلَى مَنْ يَتَمَكَّنُ من الانتقام مِنْهُ. [96] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 96] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) يَقْتَضِي اتِّصَالَ الْآيَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي الْمَعَانِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَصَفٌ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِضِدِّ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ حَالُ إِتْيَانِهِمْ غَيْرَ حَالِ انْفِرَادٍ بَلْ حَالُ تَأَنُّسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَلَمَّا خُتِمَتِ الْآيَةُ قَبْلَهَا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ آتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْرَدِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُمْ آتُونَ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَمَنَّى الْمُوَرَّطُ فِيهِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَنْصُرُهُ، وَإِشْعَارُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَئِذٍ بِمَقَامِ الْمَوَدَّةِ وَالتَّبْجِيلِ. فَالْمَعْنَى: سَيجْعَلُ لَهُم الرحمان أَوِدَّاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي

[سورة مريم (19) : آية 97]

الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت: 31] ، وَيَجْعَلُ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ مَوَدَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الْأَعْرَاف: 43] . وَإِيثَارُ الْمَصْدَرِ لِيَفِي بِعِدَّةِ مُتَعَلَّقَاتٍ بِالْوُدِّ. وَفُسِّرَ أَيْضًا جَعْلُ الْوُدِّ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَهُمْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْخَيْرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَلَا عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إِدْرَاجٌ مِنْ قُتَيْبَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ خَاصَّةً. وَفُسِّرَ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مَحَبَّةً مِنْهُ تَعَالَى، فَالْجَعْلُ هُنَا كَالْإِلْقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] . هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْوُدِّ، وَقَدْ ذَهَبَ فِيهِ جَمَاعَاتُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَقْوَالٍ شَتَّى مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقبُول. [97] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 97] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ جَامِعٍ بَعْدَ أَفْنَانِ الْحَدِيثِ أَنْ يُؤْذِنَ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ سَيَطْوِي بِسَاطَهُ. وَذَلِكَ شَأْنُ التَّذْيِيلَاتِ وَالْخَوَاتِمِ وَهِيَ مَا يُؤْذِنُ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ. فَلَمَّا احْتَوَتِ السُّورَةُ عَلَى عِبَرٍ وَقَصَصٍ وَبِشَارَاتٍ وَنُذُرٍ جَاءَ هُنَا فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَبَيَانِ بَعْضِ مَا فِي تَنْزِيلِهِ مِنَ الْحِكَمِ. فَيَجُوزُ جَعْلُ الْفَاءِ فَصِيحَةً مُؤْذِنَةً بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلِّغْ مَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ مَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ دِينِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فَمَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ إِلَّا لِلْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ

وَلَا تعبأ بِمَا يحصل مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْغَيْظِ أَوِ الْحِقْدِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَفَفْتَ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا وَآبَائِنَا وَتَسْفِيهِ آرَائِنَا لَاتَّبَعْنَاكَ» . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى وَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَم: 94، 95] . وَوَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَم: 96] . وَالْمُفَرَّعُ هُوَ مَضْمُونُ لِتُبَشِّرَ بِهِ إِلَخْ وَتُنْذِرَ بِهِ إِلَخْ، أَيْ ذَلِكَ أَثَرُ الْإِعْرَاضِ عَمَّا جِئْتَ بِهِ مِنَ النِّذَارَةِ، وَأَثَرُ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْبِشَارَةِ مِمَّا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ فَإِنَّا مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ إِلَّا لِذَلِكَ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ مِثْلُ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] . وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ التَّيْسِيرَ تَسْهِيلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مُيَسَّرٌ لِلْقِرَاءَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَر: 32] . وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ، أَيْ بِلُغَتِكَ، وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 192- 195] فَإِنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ بِأَفْضَلِ اللُّغَاتِ وَأَفْصَحِهَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ وَتَسْهِيلِ حِفْظِهِ مَا لَمْ يُسَهَّلْ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ. وَعَبَّرَ عَن الْكفَّار بِقوم لدّ ذَمًّا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ إِيغَالٍ فِي الْمِرَاءِ وَالْمُكَابَرَةِ، أَيْ أَهْلُ تَصْمِيمٍ عَلَى بَاطِلِهِمْ، فَاللُّدُّ: جَمْعُ أَلَدٍّ، وَهُوَ الْأَقْوَى فِي اللَّدَدِ، وَهُوَ الْإِبَايَةُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ. وَفِي الْحَدِيثِ

[سورة مريم (19) : آية 98]

الصَّحِيحِ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الَخَصِمُ» . وَمِمَّا جَرَّهُ الْإِشْرَاكُ إِلَى الْعَرَبِ مِنْ مَذَامِّ الْأَخْلَاقِ الَّتِي خَلَطُوا بِهَا مَحَاسِنَ أَخْلَاقِهِمْ أَنَّهُمْ رُبَّمَا تُمُدِّحُوا بِاللَّدَدِ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي رِثَاءِ الْبَعْضِ: إِنَّ تَحْتَ الْأَحْجَارِ حَزْمًا وَعَزْمًا ... وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِغْلَاقِ وَقَدْ حَسُنَ مُقَابَلَةُ الْمُتَّقِينَ بِقَوْمٍ لُدٍّ، لِأَنَّ التَّقْوَى امْتِثَالٌ وَطَاعَةٌ وَالشِّرْكَ عِصْيَانٌ وَلَدَدٌ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ عَنْ عِنَادٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَإِيقَاعُ لَفْظِ الْقَوْمِ عَلَيْهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّدَدَ شَأْنُهُمْ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي تَقَوَّمَتْ مِنْهَا قَوْمِيَّتُهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَة يُونُس [101] . [98] [سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 98] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) لَمَّا ذُكِرُوا بِالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ أُتْبِعَ بِالتَّعْرِيضِ بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ لِجَبَرُوتِهَا وَتَعَنُّتِهَا لِتَكُونَ لَهُمْ قِيَاسًا وَمَثَلًا. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [مَرْيَم: 97] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَنِذَارَةِ الْمُعَانِدِينَ، لِأَنَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ نِذَارَةٌ لَهُمْ وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاقْتِرَابِ إِرَاحَتِهِمْ مِنْ ضُرِّهِمْ.

وكَمْ خَبَرِيَّةُ عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ وَالْجِيلُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي تَعِيشُ فِيهِ الْأُمَّةُ، وَشَاعَ تَقْدِيرُهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا تَمْيِيزُ كَمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِنْكَارِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أَيْ مَا تُحِسُّ، أَيْ مَا تَشْعُرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. وَالْإِحْسَاسُ: الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ، أَيْ لَا تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا. وَالرِّكْزُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَيُقَالُ: الرِّزُّ، وَقَدْ رُوِيَ بِهِمَا قَوْلُ لَبِيدٍ: وَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا ... عَن ظهر عيب وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اضْمِحْلَالِهِمْ، كُنِّيَ بِاضْمِحْلَالِ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عَنِ اضْمِحْلَالِ وَجُودِهِمْ.

20- سورة طه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 20- سُورَةُ طَهَ سُمِّيَتْ سُورَةُ (طَاهَا) بَاسِمِ الْحَرْفَيْنِ الْمَنْطُوقِ بِهِمَا فِي أَوَّلِهَا. وَرُسِمَ الْحَرْفَانِ بِصُورَتِهِمَا لَا بِمَا يَنْطِقُ بِهِ النَّاطِقُ مِنَ اسْمَيْهِمَا تَبَعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كُتُبِ السُّنَّةِ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ «مُسْنَدِ الدِّرَامِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَأَ: (طَاهَا) (بِاسْمَيْنِ) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ قَالُوا: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهَا» الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ كَلَامَهُ وَأَسْمَعَهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ السَّخَاوِيِّ أَنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ الْكَلِيمِ» وَفِيهِ عَنِ الْهُذَلِيِّ فِي «كَامِلِهِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةُ مُوسَى» .

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهُ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا آيَةُ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: 130] . وَاسْتَظْهَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: 131] . لِمَا أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «أَضَافَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفًا فَأَرْسَلَنِي إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ أَسْلِفْنِي دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ فَقَالَ: لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيءَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَمَّا وَاللَّهِ إِنِّي لِأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ. فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى نَزَلَتْ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا الْآيَةَ» اه. وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فَهُوَ مِنِ اشْتِبَاهِ التِّلَاوَةِ بِالنُّزُولِ، فَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا مُتَذَكِّرًا فَظَنَّهَا أَبُو رَافِعٍ نَازِلَةً سَاعَتَئِذٍ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا قَبْلُ، أَوْ أَطْلَقَ النُّزُولَ عَلَى التِّلَاوَةِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْمَرْوِيَّاتِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ كَمَا عَلِمْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ مَرْيَمَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ. وَنَزَلَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ فِي «سِيرَتِهِ» عَنْهُ قَالَ: «خَرَجَ عُمَرُ مُتَقَلِّدًا بِسَيْفٍ. فَقِيلَ لَهُ: أَنَّ خَتَنَكَ وَأُخْتَكَ قَدْ صَبَوْا، فَأَتَاهُمَا عُمَرُ وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يُقْرِئُهُمَا سُورَةُ (طَاهَا) ، فَقَالَ: أَعْطَوْنِي الْكِتَابَ الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ؟ فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رِجْسٌ، وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأَ. فَقَامَ عُمَرُ وَتَوَضَّأَ وَأَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ طَهَ. فَلَمَّا قَرَأَ صَدْرًا مِنْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَكْرَمَهُ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ.

أغراضها:

وَكَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْبِعْثَةِ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ. وَعُدَّتْ آيُهَا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةً وخمسا وَثَلَاثِينَ. أغراضها: احْتَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ عَلَى: - التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي مُفْتَتَحِهَا. - وَالتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ لِهَدْيِ الْقَابِلَيْنَ لِلْهِدَايَةِ فَأَكْثَرُهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ. - وَالتَّنْوِيهُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا تُمَاثِلُ رِسَالَةَ أَعْظَمِ رَسُولٍ قَبْلَهُ شَاعَ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامِ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. - وَبَسَطَ نَشْأَةَ مُوسَى وَتَأْيِيدَ اللَّهِ إِيَّاهُ وَنَصْرَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ بِالْحُجَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَبِصَرْفِ كَيْدِ فِرْعَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَتْبَاعِهِ. - وَإِنْجَاءَ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنَ، وَمَا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ بَلَدِ الْقِبْطِ. - وَقِصَّةَ السَّامِرِيِّ وَصُنْعَهُ الْعَجَلَ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي مَغِيبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

[سورة طه (20) : آية 1]

وَكُلُّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَآلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِرٌ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ بَعْثَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصْرِ عَلَى مُعَانَدِيهِ. فَلِذَلِكَ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَعِيدِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ أَمْثَاله ومواعظه. - وتذكير النَّاس بعداوة الشَّيْطَان للْإنْسَان بِمَا تضمنته قصَّة خلق آدم. - وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ سُوءَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ جَعَلُوا مَقَادَتَهُمْ بِيَدِ الشَّيْطَانِ وَإِنْذَارَهُمْ بِسُوءِ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا. - وَتَسْلِيَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ وَتَثْبِيتَهُ عَلَى الدِّينِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَتَهْوِيلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْحَوَادِث والأهوال. [1] [سُورَة طه (20) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) وَهَذَانِ الْحَرْفَانِ مِنْ حُرُوفِ فَوَاتِحِ بَعْضِ السُّوَرِ مِثْلُ الم، وَيس. وَرُسِمَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي الَّتِي هِيَ مُسَمَّى (طا) وَ (هَا) كَمَا رُسِمَ جَمِيعُ الْفَوَاتِحِ الَّتِي بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقُرِئَا لِجَمِيعِ الْقُرَّاء كَمَا قُرِئت بَقِيَّةُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ. فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِي فَوَاتِحِ تِلْكَ السُّوَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقِيلَ هُمَا حَرْفَانِ مُقْتَضَبَانِ مِنْ كَلِمَتَيْ (طَاهِرٍ) وَ (هَادٍ) وَأَنَّهُمَا عَلَى مَعْنَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ.

وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْمَدِّ فِي (طَا) (هَا) فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ. وَقِيلَ مُقْتَضَبَانِ مِنْ فِعْلِ (طَأْ) أَمْرًا مِنَ الْوَطْءِ. وَمِنْ (هَا) ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثَةِ الْغَائِبَةِ عَائِدٌ إِلَى الأَرْضِ. وَفُسِّرَ بِأَنَّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ إِذَا قَامَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَطَأَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ الْأُخْرَى. وَلَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ (طَاهَا) كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْحَبَشِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا إِنْسَانٌ، وَتَكَلَّمَتْ بِهَا قَبِيلَةُ (عَكَّ) أَوْ (عُكْلٍ) وَأَنْشَدُوا لِيَزِيدَ بْنِ مُهَلْهَلٍ: إِنَّ السَّفَاهَةَ طَاهَا مِنْ شَمَائِلِكُمْ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى اعْتِبَارِهِمَا كَلِمَةً لُغَةَ (عَكَّ) أَوْ (عُكْلٍ) أَوْ كَلِمَةً مِنَ الْحَبَشِيَّةِ أَوِ النَّبَطِيَّةِ وَأَنَّ مَعْنَاهَا فِي لُغَةِ: (عَكَّ) يَا إِنْسَانُ، أَوْ يَا رَجُلُ، وَفِي مَا عَدَاهَا: يَا حَبِيبِي، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ سَمَّى اللَّهُ بِهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى النِّدَاءِ، أَوْ هُوَ قَسَمٌ بِهِ. وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ وَأَخْبَارٌ ذَكَرَ بَعْضَهَا عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَيَجْرِي فِيهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ مُتَّحِدَةً فِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا. كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ بِذَلِكَ تَشَابُهٌ فِي النُّطْقِ فَلَا نُطِيلُ بِرَدِّهَا. وَكَذَلِكَ لَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ أَسمَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة طه (20) : الآيات 2 إلى 6]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 2 إِلَى 6] مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمُلَاطَفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ إِرْسَالِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْقَى بِذَلِكَ، أَيْ تُصِيبَهُ الْمَشَقَّةُ وَيَشُدُّهُ التَّعَبُ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدَهُ. وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ أَيْضًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الَخَشْيَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ادَّكَرُوا بِالْقُرْآنِ. وَفِي هَذِهِ الْفَاتِحَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالِاضْطِلَاعِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ، وَبِكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي الْعَزْمِ كَمَا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِمَنْ أُنْزَلَ عَلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ. وَالشَّقَاءُ: فَرْطُ التَّعَبِ بِعَمَلٍ أَوْ غَمٍّ فِي النَّفْسِ، قَالَ النَّابِغَةُ: إِلَّا مَقَالَةَ أَقْوَامٍ شَقِيتُ بِهِمْ ... كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ قَرْعًا عَلَى كَبِدِي وَهَمْزَةُ الشَّقَاءِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ. يُقَالُ: شَقَاءٌ وَشَقَاوَةٌ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَشِقْوَةٌ- بِكَسْرِهَا. وَوُقُوعُ فِعْلِ أَنْزَلْنا فِي سِيَاقِ النَّفْي يَقْتَضِي عُمُومَ مَدْلُولِهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِهِ، وَعُمُومُ الْفِعْلِ يسْتَلْزم عُمُوم متعلقانه مِنْ مَفْعُولٍ وَمَجْرُورٍ. فَيَعُمَّ نَفْيَ جَمِيعِ كُلِّ

إِنْزَالٍ لِلْقُرْآنِ فِيهِ شَقَاءٌ لَهُ، وَنَفْيُ كُلِّ شَقَاءٍ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّقَاءِ فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ سَبَبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّقَاءِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَوَّلُ مَا يُرَادُ مِنْهُ هُنَا أَسَفُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: 6] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَخِيبَ بَلْ لِنُؤَيِّدَكَ وَتَكُونَ لَكَ الْعَاقِبَةُ. وَقَوْلُهُ إِلَّا تَذْكِرَةً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ لِلْقُرْآنِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَّا حَالَ تَذْكِرَةٍ فَصَارَ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَمَا أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ، فَفِعْلُ أَنْزَلْنا عَامِلٌ فِي لِتَشْقى بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَامِلٌ فِي تَذْكِرَةً بِوَاسِطَةِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَنْفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لِتَشْقى حَتَّى تَتَحَيَّرَ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَفْزَعَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا وَتَقَعَ فِي كَلَفٍ لِتَصْحِيحِ النَّظْمِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : «قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ (وَزَادَ غَيْرُ الْوَاحِدِيِّ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ، وَالْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ) لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لِتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا، لَمَّا رَأَوْا مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى الْآيَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ سَنَدٌ. وَالتَّذْكِرَةُ: خُطُورُ الْمَنْسِيِّ بِالذِّهْنِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ مُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ وَالْإِشْرَاكُ مُنَافٍ لَهَا، فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَذْكِيرٌ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ أَوْ تَذْكِيرٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

وَ (مَنْ يَخْشى) هُوَ الْمُسْتَعِدُّ لِلتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ الدِّينِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ يُفَكِّرُ لِلنَّجَاةِ فِي الْعَاقِبَةِ، فَالَخَشْيَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَعْنَى الْإِسْلَامِيُّ، وَهُوَ خَوْفُ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَآلُ، أَي من يؤول أَمْرُهُ إِلَى الَخَشْيَةِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] أَيِ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى. وتَنْزِيلًا حَالٌ مِنَ الْقُرْآنَ ثَانِيَةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْعِنَايَةُ بِهِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِنَايَةِ بِأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَتْرُكُ نَصْرَكَ وَتَأْيِيدَكَ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ عَنْ ضَمِيرِهِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَحَتُّمِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ خَالِقُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَلِذَلِكَ وَصَفَ والسّماوات بِالْعُلَى صِفَةً كَاشِفَةً زِيَادَةً فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ لَا جَرَمَ كَانَ الْقُرْآنُ شَيْئًا عَظِيمًا، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ والرَّحْمنُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَازِمِ الْحَذْفِ تبعا للاستعمال فِي حذف الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَاخْتِيرَ وَصْفُ الرَّحْمنُ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ بِهِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا تَسْمِيَته تَعَالَى الرحمان: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وَفِي ذِكْرِهِ هُنَا وَكَثْرَةِ التَّذْكِيرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ بَعْثٌ عَلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ شُكْرًا عَلَى إِحْسَانِهِ بِالرَّحْمَةِ الْبَالِغَةِ. وَجُمْلَةُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى حَالٌ مِنَ الرَّحْمنُ. أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ.

وَالِاسْتِوَاءُ: الِاسْتِقْرَارُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: 28] الْآيَةَ. وَقَالَ: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] . وَالْعَرْشُ: عَالَمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا، فَقِيلَ هُوَ أَعْلَى سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَأَعْظَمُهَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيُسَمَّى: الْكُرْسِيُّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَصْوِيرِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى. وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِشَأْنِ عَظَمَةِ اللَّهِ بِعَظَمَةِ أَعْظَمِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عَلَى الْعُرُوشِ. وَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ مِنْ أُولَئِكَ مُلُوكَ الْفُرْسِ وَمُلُوكَ الرُّومِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ عِنْدَهُمْ فِي الْعَظَمَةِ. وَحَسَّنَ التَّعْبِيرَ بِالِاسْتِوَاءِ مُقَارَنَتُهُ بِالْعَرْشِ الَّذِي هُوَ مِمَّا يُسْتَوَى عَلَيْهِ فِي الْمُتَعَارَفِ، فَكَانَ ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ كَالتَّرْشِيحِ لِإِطْلَاقِ الْعَرْشِ عَلَى السَّمَاءِ الْعُظْمَى، فَالْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْبَيِّنِ تَأْوِيلُهُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَقِيدَةِ: أَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْأَخْطَلِ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... بِغَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ وَهُوَ مُوَلَّدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ كَالْآيَةِ. وَلَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَإِنَّمَا أَعَدْنَا بَعْضَهُ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُشْتَهِرَةُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الْأَشْعَرِيَّةِ.

[سورة طه (20) : آية 7]

وَفِي «تَقْيِيدِ الْأَبِّيِّ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ» : وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَدَمَ تَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ بِالْجِهَةِ. قِيلَ لِابْنِ عَرَفَةَ: عَادَتُكَ تَقُولُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ كَمَا فِي حَدِيثِ السَّوْدَاءِ وَغَيْرِهَا، فَذِكْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ بِالتَّجْسِيمِ، فَقَالَ: هَذَا صَعْبٌ وَلَكِنْ تَجَاسَرْتُ عَلَى قَوْلِهِ اقْتِدَاءً بِالشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ لِأَنَّهُ سَبَقَنِي لِذَلِكَ. وَأَتْبَعَ مَا دَلَّ عَلَى عَظَمَةِ سُلْطَانِهِ تَعَالَى بِمَا يَزِيدُهُ تَقْرِيرًا وَهُوَ جُمْلَةُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ إِلَخْ. فَهِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. وَالْجُمْلَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَعَةِ السُّلْطَانِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ لِلْقَصْرِ، رَدًّا عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ لِآلِهَتِهِمْ تَصَرُّفَاتٌ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ لِلْجِنِّ اطِّلَاعًا عَلَى الْغَيْبِ، وَلِتَقْرِيرِ الرَّدِّ ذُكِرَتْ أَنْحَاءُ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَالثَّرَى: التُّرَابُ. وَمَا تَحْتَهُ: هُوَ بَاطِنُ الْأَرْضِ كُلُّهُ. وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. [7] [سُورَة طه (20) : آيَة 7] وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [طه: 6] لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا عَلَى عَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَصْلُ النَّظْمِ: وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى إِنْ تَجْهَرْ

بِالْقَوْلِ فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ مَوْقِعُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى وَجُمْلَةُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَصِيغَ النَّظْمُ فِي قَالَبِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ حُصُولِهِ عَلَى طَرِيقَةِ مَا يُسَمَّى بِالْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، وَهُوَ سَوْقُ الْخَبَرِ فِي صِيغَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُقُوعِهِ تَحْقِيقًا لَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا الْقَائِلُ بِالْقَوْلِ لِإِسْمَاعِ مُخَاطِبَهُ، أَيْ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَهْرِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ بِأَسَالِيبَ كَثِيرَةٍ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ شَرْطٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْلِيقُ بَلْ يُقْصَدُ التَّحْقِيقُ كَقَوْلِ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَيْلِيِّ: فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنًا ... سُهُدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ أَيْ سُهُدًا فِي كُلِّ وَقْتٍ حِينَ يَنَامُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ هَوْجَلُ. وَقَوْلِ بَشَامَةُ بْنُ حَزْنٍ النَّهْشَلَيُّ: إِذَا الْكُمَاةُ تَنَحَّوْا أَنْ يُصِيبَهُمُ ... حَدُّ الظُّبَاتِ وَصَلْنَاهَا بِأَيْدِينَا وَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كُنَيْفٍ النَّبْهَانِيِّ: فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ جَالَتْ صُرُوفُهَا ... بِبُؤْسَى وَنُعْمَى وَالْحَوَادِثُ تَفْعَلُ فَمَا لَيَّنَتْ مِنَّا قَنَاةً صَلِيبَةً ... وَمَا ذَلَّلَتْنَا لِلَّتِي لَيْسَ تَجْمُلُ وَقَوْلِ الْقَطَامِيِّ: فَمَنْ تَكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تَجْهَرْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعُمُّ غَيْرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ.

وَاخْتِيرَ فِي إِثْبَاتِ سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى خُصُوصُ عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ السِّرَّ أَخْفَى الْأَشْيَاءِ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ. وَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ مُذَكِّرًا بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ أَنْظَارُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَدَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَادَلُوا فِي ذَلِكَ فِي مَجَامِعِهِمْ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمِ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا! وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا (أَيْ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنَّا) فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22] . وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ النَّاسُ وَمَا يُعْلِنُونَ وَلَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَاظِرَةً إِلَى مِثْلِ مَا نَظَرَتِ الْآيَةُ الْآنِفَةُ الذِّكْرِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [هود: 5] . يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الشَّرْطِ بِطَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَتَوْجِيهِ اخْتِيَارِ فَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ دُونَ حَالَةِ السِّرِّ مَعَ أَنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِ أَنَّ حَالَةَ السِّرِّ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ فِي مَقَامِ الْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ النَّاسِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ. وَأَحْسَبُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ خُصُوصِيَّةً بِهَذَا السِّيَاقِ اقْتَضَاهَا اجْتِهَادُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَاف: 205]

[سورة طه (20) : آية 8]

فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا نَسَخَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: 94] ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاسْتِوَاءِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ فِي الدُّعَاءِ، وَإِبْطَالٌ لِتَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْجَهْرَ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ مِنَ السِّرِّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَالْقَوْلُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ تَلَفُّظُ الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ، فَيَشْمَلُ الْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ وَالْمُحَاوَرَةَ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا مَا لَهُ مَزِيدُ مُنَاسِبَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] الْآيَاتِ. وَجَوَابُ شَرْطِ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تَشُقَّ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، أَيْ فَلَا مَزِيَّةَ لِلْجَهْرِ بِهِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ مَسَاقُ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَةِ الْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، فَلَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ فَرْضُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا إِلَّا عَلَى مَعْنَى الْإِشَارَةِ. وأَخْفى اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَحُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَالْمُرَادُ بِأَخْفَى مِنْهُ: مَا يَتَكَلَّمُ اللِّسَانُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي هِيَ أَخْفَى مِنْ كَلَام السِّرّ. [8] [سُورَة طه (20) : آيَة 8] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ تَضَّمَنَ صِفَاتٍ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عَظَمَتِهِ فَجَاءَ هَذَا التَّذْيِيلُ بِمَا يَجْمَعُ صِفَاتِهِ. وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ اللَّهُ، جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] .

وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَالْأَسْمَاءُ: الْكَلِمَاتُ الدَّالَةُ عَلَى الِاتِّصَافِ بِحَقَائِقَ. وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ: إِمَّا عَلَمٌ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ خَاصَّةً. وَإِمَّا وصف مثل الرحمان وَالْجَبَّارِ وَبَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مُجَرَّدًا مِنَ الْمَعَانِي الْمَدْلُولَةِ لِلْأَسْمَاءِ مِثْلَ الْأَصْنَامِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقَائِقُهَا فِيهِ غَيْرُ بَالِغَةٍ مُنْتَهَى كَمَالِ حَقِيقَتِهَا كَاتِّصَافِ الْبَشَرِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاتِّصَافُ بِهَا كَذِبًا لَا حَقِيقَةً، كَاتِّصَافِ الْبَشَرِ بِالْكِبْرِ، إِذْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْكِبْرِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعِزَّةِ. وَوصف الْأَسْمَاء بِالْحُسْنَى لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حَقَائِقَ كَامِلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَمَّى بِهَا تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَأَمَّا فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ فَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَعْلَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ دَالٌّ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْإِلَهِ، وَعُرِّفَ بِاللَّامِ الدَّالَةِ عَلَى انْحِصَارِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُ، فَكَانَ جَامِعًا لِمَعْنَى وُجُوبِ الْوُجُودِ، وَاسْتَحَقَّ الْعِبَادَةَ لِوُجُودِ أَسْبَابِ اسْتِحْقَاقِهَا عِنْدَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [180] .

[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 10]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 9 إِلَى 10] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) أَعْقَبَ تَثْبِيتَ الرَّسُولِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَتَأَسَّى بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمُقَاسَاةِ الْمَصَاعِبِ، وَتَسْلِيَةً لَهُ بِأَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ جَزَاءَ مَنْ سَلَفَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي عَقِبِ قِصَّةِ مُوسَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ [طه: 99- 101] . وَجَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ آدَمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: 130] الْآيَاتِ. فَجُمْلَةُ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] . الْغَرَضُ هُوَ مُنَاسِبَةُ الْعَطْفِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ يُونُسَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ مَجَازًا وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ قُصَّتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ أَمْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ قَصَصِهَا عَلَيْهِ. وُفِي قَوْلِهِ: إِذْ رَأى نَارًا زِيَادَةٌ فِي التَّشْوِيقِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَأُوثِرَ حَرْفُ (هَلْ) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّ (هَلْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ مِثْلُ (قَدْ) فِي الْإِخْبَارِ. وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُحْكَى بِهِ أَمْرٌ حَدَثَ فِي الْخَارِجِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَحَادِيثَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «وَاحِدُ

الْأَحَادِيثِ أُحْدُوثَةٌ ثُمَّ جَعَلُوهُ جَمْعًا لِلْحَدِيثِ» اه. يَعْنِي اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ صِيغَةِ فَعْلَاءَ. وإِذْ ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ، وَخُصَّ هَذَا الظَّرْف بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ تَشْوِيقًا إِلَى اسْتِعْلَامِ كُنْهِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّارِ تَحْتَمِلُ أَحْوَالًا كَثِيرَةً. وَرُؤْيَةُ النَّارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِلَيْلٍ، وَأَنَّهُ كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى النَّارِ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ: فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ... إِلَخْ. وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ وَالْأَوْلَادُ. وَكَانُوا مَعَهُ بِقَرِينَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ امْكُثُوا. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ «فَأَخَذَ مُوسَى امْرَأَتَهُ وَبَنِيهِ وَأَرْكَبَهُمْ عَلَى الْحَمِيرِ وَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَاء ضمير لِأَهْلِهِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ: بِضَمِّ الْهَاءِ، تَبَعًا لِضَمَّةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي امْكُثُوا. وَالْإِينَاسُ: الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وتأكيد الْخَبَر بإن لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهِ بِشَارَةً لِأَهْلِهِ إِذْ كَانُوا فِي الظُّلْمَةِ. وَالْقَبَسُ: مَا يُؤْخَذُ اشْتِعَالُهُ مِنِ اشْتِعَالِ شَيْءٍ وَيُقْبَسُ، كَالْجَمْرَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الْجَمْرِ وَالْفَتِيلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَقْتَدِحُ بِهِ. وَقِيلَ: اقْتَدَحَ زَنْدَهُ فَصَلُدَ، أَيْ لَمْ يَقْدَحْ. وَمَعْنَى أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً: أَوْ أَلْقَى عَارِفًا بِالطَّرِيقِ قَاصِدًا السَّيْرَ فِيمَا أَسِيرُ فِيهِ فَيَهْدِينِي إِلَى السَّبِيلِ. قِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسِيرَ لَيْلًا.

[سورة طه (20) : الآيات 11 إلى 13]

وَ (أَوْ) هُنَا لِلتَّخْيِيرِ، لِأَنَّ إِتْيَانَهُ بِقَبَسٍ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْقَبَسَ لَا غَيْرَ، وَإِمَّا أَنْ يَزِيدَ فَيَجِدَ صَاحِبَ النَّارِ قَاصِدًا الطَّرِيقَ مِثْلَهُ فَيَصْحَبَهُ. وَحَرْفُ عَلَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ شِدَّةُ الْقُرْبِ مِنَ النَّارِ قُرْبًا أَشْبَهَ الِاسْتِعْلَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشْعِلَ النَّارِ يَسْتَدْنِي مِنْهَا لِلِاسْتِنَارَةِ بِضَوْئِهَا أَوْ لِلِاصْطِلَاءِ بِهَا. قَالَ الْأَعْشَى: وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ وَأَرَادَ بِالْهُدَى صَاحِبَ الْهُدَى. وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلْهَامًا إِيَّاهُ أَنَّهُ سَيَجِدُ عِنْدَ تِلْكَ النَّارِ هُدًى عَظِيمًا، وَيُبَلِّغُ قَوْمَهُ مِنْهُ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ. وَإِظْهَارُ النَّارِ لِمُوسَى رَمْزٌ رَبَّانِيٌّ لَطِيفٌ إِذْ جَعَلَ اجْتِلَابَهُ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ بِاسْتِدْعَاءٍ بِنُورٍ فِي ظُلْمَةٍ رَمْزًا عَلَى أَنَّهُ سَيَتَلَقَّى مَا بِهِ إِنَارَةُ نَاسٍ بِدِينٍ صَحِيحٍ بَعْدَ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ وَسُوء الِاعْتِقَاد. [11- 13] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 11 إِلَى 13] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) بُنِيَ فِعْلُ النِّدَاءِ لِلْمَجْهُولِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِطْلَاعِ الْقِصَّةِ، فَإِبْهَامُ الْمُنَادِي يُشَوِّقُ سَامِعَ الْآيَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِذَا فَاجَأَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ عَلِمَ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَمَكَّنَ فِي النَّفْسِ كَمَالَ التَّمَكُّنِ. وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي تَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنَّ مُوسَى نَادَاهُ مُنَادٍ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُ، فَحُكِيَ نِدَاؤُهُ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ.

وَجُمْلَةُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نُودِيَ. وَبِهَذَا النِّدَاءِ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ كَلَامٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ الْعَوَائِدَ الَّتِي قَرَّرَهَا فِي الْأَكْوَانِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ لَهُ عِنَايَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمُغَيَّرِ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ أَصْوَاتًا خَلْقًا غَيْرَ مُعْتَادٍ غَيْرَ صَادِرَةٍ عَنْ شَخْصٍ مُشَاهَدٍ، وَلَا مُوَجَّهَةٍ لَهُ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ يَتَوَلَّى هُوَ تَبْلِيغَ الْكَلَامِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ إِلَيْهِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: 164] ، إِذْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتِ دَالَّةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَصْوَاتُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ هُوَ مَا نُسَمِّيهِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ. وَلَيْسَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ هُوَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْمَاعِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْمُخَاطَبِ لِتَسْكِينِ رَوْعَةِ نَفْسِهِ مِنْ خِطَابٍ لَا يُرَى مُخَاطِبُهُ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرِّفْقُ بِالْمَرْبُوبِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ لِأَجْلِ غَرَابَتِهِ دَفْعًا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ عَنْ مُوسَى فِي مَصْدَرِ هَذَا الْكَلَامِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «أَنِّيَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى حَذْفِ بَاءِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: نُودِيَ بَأَنِيَ أَنَا رَبِّكَ. وَالتَّأْكِيدُ حَاصِلٌ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ عَلَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ رَبُّهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَدْ حَلَّهُ التَّقْدِيسُ بِإِيجَادِ كَلَامٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ. وَالْخَلْعُ: فَصَلُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ.

وَالنَّعْلَانِ: جِلْدَانِ غَلِيظَانِ يُجْعَلَانِ تَحْتَ الِرِّجْلِ وَيُشَدَّانِ بِرِبَاطٍ مِنْ جِلْدٍ لِوِقَايَةِ الرِّجْلِ أَلَمَ الْمَشْيِ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى، وَكَانَتِ النَّعْلَ تُجْعَلُ عَلَى مِثَالِ الرِّجْلِ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا مِنْهُ لِذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي سَيَسْمَعُ فِيهِ الْكَلَامَ الْإِلَهِيَّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ (¬1) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ نَعْلَاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ» . أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ خُشُوعٍ. وَقَدِ اقْتَضَى كِلَا الْمَعْنِيِّينِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ فَحَرْفُ التَّوْكِيدِ مُفِيدٌ هُنَا التَّعْلِيلَ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ لَا يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ. وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ جِهَاتٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا حُكْمٌ يَقْتَضِي نَزْعَ النَّعْلِ عِنْدَ الصَّلَاةِ. وَالْوَادِ: الْمَفْرَجُ بَيْنَ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ. وَأَصْلُهُ بِيَاءٍ فِي آخِرِهِ. وَكَثُرَ تَخْفِيفُهُ بِحَذْفِ الْيَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِذَا ثُنِّيَ لَزِمَتْهُ الْيَاءُ يُقَالُ: وَادِيَانِ وَلَا يُقَالُ وَادَانِ. وَكَذَلِكَ إِذَا أُضِيفَ يُقَالُ: بِوَادِيكَ وَلَا يُقَالُ بِوَادِكَ. وَالْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ الْمُنَزَّهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [30] . وَتَقْدِيسُ الْأَمْكِنَةِ يَكُونُ بِمَا يَحِلُّ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَظَّمَةِ وَهُوَ هُنَا حُلُولُ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى طُوىً وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِكَسْرِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا بِضَمِّ الطَّاءِ، فَقِيلَ: اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ مِثْلُ هُدًى، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ طَوَاهُ مُوسَى بِالسَّيْرِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي طَوَيْتَهُ سَيْرًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَعْيِينُ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الْوَادِ. ¬

(¬1) فِي لبس الصُّوف من كتاب اللبَاس.

وَأَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ أَمْرٌ لِمُوسَى بِأَنْ يَطْوِيَ الْوَادِيَ وَيَصْعَدَ إِلَى أَعْلَاهُ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى صَعِدَ أَعْلَى الْوَادِي. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمُقَدَّسِ تَقْدِيسَيْنِ، لِأَنَّ الطَّيَّ هُوَ جَعْلُ الثَّوْبِ عَلَى شِقَّيْنِ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَجْعَلَ التَّثْنِيَةَ كِنَايَةً عَنِ التَّكْرِيرِ وَالتَّضْعِيفِ مِثْلَ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: 4] . فَالْمَعْنَى: الْمُقَدَّسُ تَقْدِيسًا شَدِيدًا. فَاسْمُ الْمَصْدَرِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلْعَدَدِ، أَيِ الْمُقَدَّسِ تَقْدِيسًا مُضَاعَفًا. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ طُوىً اسْمٌ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَوْدِيَةِ يَكُونُ ضَيِّقًا بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ أَوْ غَائِرًا كَالْبِئْرِ الْمَطْوِيَّةِ، وَالْبِئْرُ تُسَمَّى طَوِيًّا. وَسُمِّيَ وَادٍ بِظَاهِرِ مَكَّةَ (ذَا طُوًى) بِتَثْلِيثِ الطَّاءِ، وَهُوَ مَكَانٌ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ الْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي (طُوَى) هَلْ يَنْصَرِفُ أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ طَاوٍ، مِثْلُ عُمَرَ عَنْ عَامِرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ طُوىً بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ مُنَوَّنًا، لِأَنَّهُ اسْمُ وَادٍ مُذَكَّرٌ. وَقَوْلُهُ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أَخْبَرَ عَنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى بِطَرِيقِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ الْمُفِيدِ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ إِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْحَصْرِ نَحْوَ: أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ، وَهُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. وَمُوجِبُ التَّقَوِّي هُوَ غَرَابَةُ الْخَبَرِ وَمُفَاجَأَتُهُ بِهِ دَفْعًا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي نَفْسِهِ. وَالِاخْتِيَارُ: تَكَلَّفَ طَلَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ. وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ التَّكَلُّفِ فِي مَعْنَى إِجَادَةِ طَلَبِ الْخَيْرِ.

[سورة طه (20) : الآيات 14 إلى 16]

وَفُرِّعَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِاخْتِيَارِهِ أَنْ أُمِرَ بِالِاسْتِمَاعِ لِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ أَثَرَ الِاخْتِيَارَ إِذْ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِيَارِ إِلَّا اخْتِيَارُهُ لِتَلَقِّي مَا سَيُوحِي اللَّهُ. وَالْمُرَادُ: مَا يُوحَى إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَيَّامِ فَكَوْنُهُ مَأْمُورًا بِاسْتِمَاعِهِ مَعْلُومٌ بِالْأَحْرَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ بِضَمِيرَيِ التَّعْظِيمِ. وَاللَّامُ فِي لِما يُوحى لِلتَّقْوِيَةِ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ «اسْتَمِعْ» إِلَى مَفْعُولِهِ، فَيَجُوزُ أَن تتَعَلَّق باخترتك، أَيِ اخْتَرْتُكَ لِلْوَحْيِ فَاسْتَمِعْ، مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ اسْتَمِعْ معنى أصغ. [14- 16] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 14 إِلَى 16] إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) هَذَا مَا يُوحَى الْمَأْمُورُ بِاسْتِمَاعِهِ، فَالْجُمْلَةُ بدل من لِما يُوحى [طه: 13] بَدَلا مُطلقًا. وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الدَّالِّ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ علمه من شؤون الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ الِاسْمَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَمًا عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ مَا سَيُخَاطَبُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُبَلَّغَةِ عَنْ رَبِّهِمْ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يَتَعَارَفُ بِهِ الْمُتَلَاقُونَ أَنْ يَعْرِفُوا أَسْمَاءَهُمْ، فَأَشَارَ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بَاسِمِ كَلِيمِهِ وَعَلَّمَ كَلِيمَهُ اسْمَهُ، وَهُوَ اللَّهُ.

وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ عَلَمُ الرَّبِّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَاسْمُهُ تَعَالَى فِي اللُّغَةِ الْعَبْرَانِيَّةِ (يَهْوَهْ) أَوْ (أَهْيَهْ) الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ. وَقَدْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ مِثْلِ الْإِصْحَاحِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْفَقْرَة الثَّامِنَة عشرَة، والإصحاح الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ فِي الْفِقْرَةِ السَّادِسَةَ عَشَرَةَ. وَلَعَلَّهُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُتَرْجِمِينَ وَأَكْثَرُ تَعْبِيرِ التَّوْرَاةِ إِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ أَوِ الْإِلَهُ. وَلَفْظُ (أَهْيَهْ) أَوْ (يَهْوَهْ) قَرِيبُ الْحُرُوفِ مِنْ كَلِمَةِ إِلَهٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ «لَاهُمْ» . وَلَعَلَّ الْمِيمَ فِي آخِرِهِ هِيَ أَصْلُ التَّنْوِينِ فِي إِلَهٍ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِدَفْعِ الشَّكِّ عَنْ مُوسَى نَزَلَ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ لِأَنَّ غَرَابَةَ الْخَبَرِ تُعَرِّضُ السَّامِعَ لِلشَّكِّ فِيهِ. وَتَوْسِيطُ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِلْقَصْرِ، إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْمُسَمَّى اللَّهُ، فَالْحَمْلُ حَمْلُ مُوَاطَاةٍ لَا حَمْلُ اشْتِقَاقٍ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: 72] . وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ) . وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ الْعِلْمِ لِمُوسَى بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ مَعْنَى الْعَمَلِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَإِخْلَاصٍ بِالْقَلْبِ. وَوَجْهُ التَّفْرِيعِ أَنَّ انْفِرَادَهُ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُ أَنْ يُعْبَدَ. وَخُصَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِالذِّكْرِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجْمَعُ أَحْوَالَ الْعِبَادَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إِدَامَتُهَا، أَيْ عَدَمُ الْغَفْلَةِ عَنْهَا.

وَالذِّكْرُ يَجُوزُ أَن يكون بِمَعْنى التَّذَكُّر بِالْعَقْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ. وَاللَّامُ فِي لِذِكْرِي لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ أَنْ تَذْكُرَنِي، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذَكِّرُ الْعَبْدَ بِخَالِقِهِ. إِذْ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِمُنَاجَاتِهِ. فَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ وَبِضَمِيمَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْوَى مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا ذَكَرَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَاللَّهُ عَرَّفَ مُوسَى حِكْمَةَ الصَّلَاةِ مُجْمَلَةً وَعَرَّفَهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ أَيْضًا لِلتَّوْقِيتِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلْتُهُ لِذِكْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ الذِّكْرَ اللِّسَانِيَّ لِأَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ يُحَرِّكُ ذِكْرَ الْقَلْبِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ، أَيِ الَّذِي عَيَّنْتُهُ لَكَ. فَفِي الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ إِعْلَامٍ بِأَصْلٍ ثَانٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بَعْدَ أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ. وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْقِيَامَةِ أَوْ سَاعَةِ الْحِسَابِ. وَجُمْلَةُ أَكادُ أُخْفِيها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّاعَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةٍ وَعِلَّتِهَا. وَالْإِخْفَاءُ: السَّتْرُ وَعَدَمُ الْإِظْهَارِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمَجَازُ عَنْ عَدَمِ الْإِعْلَامِ. وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ «كَادَ» تَدُّلُ عَلَى مُقَارَبَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْهَا، فَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي حَيِّزِ الِانْتِفَاءِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:

كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجنّ: 19] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُمْ لِبَدًا غَيْرُ وَاقِعٍ وَلَكِنَّهُ اقْتَرَبَ مِنَ الْوُقُوعِ. وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ مَخْفِيَّةَ الْوُقُوعِ، أَيْ مَخْفِيَّةَ الْوَقْتِ، كَانَ قَوْلُهُ أَكادُ أُخْفِيها غَيْرَ وَاضِحِ الْمَقْصُودِ، فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَمْثَلُهَا ثَلَاثَةٌ. فَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْفَاءُ الْحَدِيثِ عَنْهَا، أَيْ مِنْ شِدَّةِ إِرَادَةِ إِخْفَاءِ وَقْتِهَا، أَيْ يُرَادُ تَرْكُ ذِكْرِهَا وَلَعَلَّ تَوْجِيهَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالسَّاعَةِ لَمْ يَزِدْهُمْ تَكَرُّرُ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عِنَادًا عَلَى إِنْكَارِهَا. وَقِيلَ: وَقَعَتْ أَكادُ زَائِدَةً هُنَا بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَأْكِيدًا لِلْإِخْفَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَا أُخْفِيهَا فَلَا تَأْتِي إِلَّا بَغْتَةً. وَتَأَوَّلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَى أُخْفِيها بِمَعْنَى أُظْهِرُهَا، وَقَالَ: هَمْزَةُ أُخْفِيها لِلْإِزَالَةِ مِثْلُ هَمْزَةِ أَعْجَمَ الْكِتَابَ، وَأَشْكَى زَيْدًا، أَيْ أُزِيلُ خَفَاءَهَا. وَالْخَفَاءُ: ثَوْبٌ تُلَفُّ فِيهِ الْقِرْبَةُ مُسْتَعَارٌ لِلسِّتْرِ. فَالْمَعْنَى: أَكَادُ أُظْهِرُهَا، أَيْ أُظْهِرُ وُقُوعَهَا، أَيْ وُقُوعُهَا قَرِيبٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ غَرَائِبِ اسْتِعْمَالِ (كَادَ) فَيُضَمُّ إِلَى اسْتِعْمَالِ نَفْيِهَا فِي قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [71] . وَقَوْلُهُ لِتُجْزى يتعلّق بآتية وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ بِحِكْمَةِ جَعْلِ يَوْمٍ لِلْجَزَاءِ. وَاللَّامُ فِي لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ متعلّق بآتية. وَمَعْنَى بِما تَسْعى بِمَا تَعْمَلُ، فَإِطْلَاقُ السَّعْيِ عَلَى الْعَمَلِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ

وَفُرِّعَ عَلَى كَوْنِهَا آتِيَةً وَأَنَّهَا مُخْفَاةٌ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَصُدَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِهَا اغْتِرَارًا بِتَأَخُّرِ ظُهُورِهَا، فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ أَكادُ أُخْفِيها أَوْقَعُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْفَاءَ هُوَ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: 51] وَقَالَ: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَصِيغَ نَهْيُ مُوسَى عَنِ الصَّدِّ عَنْهَا فِي صِيغَةِ نَهْيِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنْ أَنْ يُصَدَّ مُوسَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ مُوسَى عَنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ وَكَانَ النَّهْيُ نَهْيَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَنْ يَصُدَّ مُوسَى، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ مُوسَى عَنْ مُلَابَسَةِ صَدِّ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، أَيْ لَا تَكُنْ لَيِّنَ الشَّكِيمَةِ لِمَنْ يَصُدَّكَ وَلَا تُصْغِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ لِينُكَ لَهُ مُجَرِّئًا إِيَّاهُ عَلَى أَنْ يَصُدَّكَ، فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. وَزِيَادَةُ وَاتَّبَعَ هَواهُ لِلْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ إِلَى تَعْلِيلِ الصَّدِّ، أَيْ لَا دَاعِيَ لَهُمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى دُونَ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، بَلِ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالسَّاعَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. وَفُرِّعَ عَلَى النَّهْيِ أَنَّهُ إِنْ صُدَّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ رَدِيَ، أَيْ هَلَكَ. وَالْهَلَاكُ مُسْتَعَارٌ لِأَسْوَأِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَة [42] . والتفريع ناشىء عَن ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ لَا عَلَى النَّهْيِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ وَلَمْ يَقَعْ بِالْجَزَاءِ الْمَجْزُومِ، فَلَمْ يَقُلْ: تَرْدَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ

[سورة طه (20) : الآيات 17 إلى 21]

حُلُولِ (إِنْ) مَعَ (لَا) عِوَضًا عَنِ الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ ضَابِطُ صِحَّةِ جَزْمِ الْجَزَاءِ بَعْدَ النَّهْيِ. وَقَدْ جَاءَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كُلِّ حُكْمٍ، وَأَمْرٍ أَو نهي، فابتدئ بِالْإِعْلَامِ بِأَنَّ الَّذِي يُكَلِّمُهُ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، ثُمَّ عَقَّبَ بِإِثْبَاتِ السَّاعَةِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى النَّهْيِ أَنَّهُ إِنِ ارْتَكَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ هلك وخسر. [17- 21] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 17 إِلَى 21] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) بَقِيَّةُ مَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا انْتِقَالًا إِلَى مُحَاوَرَةٍ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا أَنْ يُرِيَ مُوسَى كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِالْمُعْجِزَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً تَأْكُلُ الْحَيَّاتِ الَّتِي يُظْهِرُونَهَا. وَإِبْرَازُ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً فِي خِلَالِ الْمُحَاوَرَةِ لِقَصْدِ تَثْبِيتِ مُوسَى، وَدَفْعِ الشَّكِّ عَنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ لَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ دُونَ تَجْرِبَةٍ لِأَنَّ مَشَاهِدَ الْخَوَارِقِ تسارع بِالنَّفسِ بادىء ذِي بَدْءٍ إِلَى تَأْوِيلِهَا وَتُدْخِلُ

عَلَيْهَا الشَّكَّ فِي إِمْكَانِ اسْتِتَارِ الْمُعْتَادِ بِسَاتِرٍ خَفِيٍّ أَوْ تَخْيِيلٍ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِسُؤَالِهِ عَمَّا بِيَدِهِ لِيُوقِنَ أَنَّهُ مُمْسِكٌ بِعَصَاهُ حَتَّى إِذَا انْقَلَبَتْ حَيَّةً لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ تِلْكَ الْحَيَّةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عَصَاهُ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحْقِيقِ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةُ اطْمِئْنَانِ قَلْبِهِ بِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الِاصْطِفَاءِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ كَلَامٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ مُتَكَلِّمٍ مُعْتَادٍ وَلَا فِي صُورَةِ الْمُعْتَادِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] . فَظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ شَيْءٍ أُشير إِلَيْهِ. وبنيت الْإِشَارَةُ بِالظَّرْفِ الْمُسْتَقِرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ بِيَمِينِكَ، وَوَقَعَ الظَّرْفُ حَالًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ مَا تِلْكَ حَالُ كَوْنِهَا بِيَمِينِكَ؟. فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ فِي شَأْنِهَا، وَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِبَيَانِ مَاهِيَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ جَرْيًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَبِبَيَانِ بَعْضِ مَنَافِعِهَا اسْتِقْصَاءً لِمُرَادِ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَأَلَ عَنْ وَجْهِ اتِّخَاذِهِ الْعَصَا بِيَدِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَاضِحَاتِ أَنْ لَا يُسْأَلَ عَنْهَا إِلَّا وَالسَّائِلُ يُرِيدُ مِنْ سُؤَالِهِ أَمْرًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» سَكَتَ النَّاسُ وَظَنُّوا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ ... » إِلَى آخِرِهِ. فَابْتَدَأَ مُوسَى بِبَيَانِ الْمَاهِيَةِ بِأُسْلُوبٍ يُؤْذِنُ بِانْكِشَافِ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَتَوَقَّعَ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْهُ تَوَسُّلٌ لِتَطَلُّبِ بَيَانٍ وَرَاءَهُ. فَقَالَ: هِيَ عَصايَ، بِذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ حَذْفُهُ فِي مَقَامِ السُّؤَالِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْجَواب بِوُقُوعِهِ مسؤولا

عَنْهُ، فَكَانَ الْإِيجَازُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: عَصَايَ. فَلَمَّا قَالَ: هِيَ عَصايَ كَانَ الْأُسْلُوبُ أُسْلُوبَ كَلَامِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِخْبَارِ، كَمَا يَقُولُ سَائِلٌ لَمَّا رَأَى رَجُلًا يَعْرِفُهُ وَآخَرَ لَا يَعْرِفُهُ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: فُلَانٌ، فَإِذَا لَقِيَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَسَأَلَهُ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ أَجَابَهُ: هُوَ فُلَانٌ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ مُوسَى جَوَابَهُ بِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنِ اتِّخَاذِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَصْدُ السَّائِل فَقَالَ: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. فَفَصَّلَ ثُمَّ أَجْمَلَ لِيَنْظُرَ مِقْدَارَ اقْتِنَاعِ السَّائِلِ حَتَّى إِذَا اسْتَزَادَهُ بَيَانًا زَادَهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِيَمِينِكَ لِلظَّرْفِيَّةِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ. وَالتَّوَكُّؤُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَتَاعِ، وَالِاتِّكَاءُ كَذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ: تَوَكَّأَ عَلَى الْحَائِطِ وَلَكِنْ يُقَالُ: تَوَكَّأَ عَلَى وِسَادَةٍ، وَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا. وَالْهَشُّ: الْخَبْطُ، وَهُوَ ضَرْبُ الشَّجَرَةِ بِعَصًا لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا، وَأَصْلُهُ مُتَعَدٍّ إِلَى الشَّجَرَةِ فَلِذَلِكَ ضُمَّتْ عَيْنُهُ فِي الْمُضَارِعِ، ثُمَّ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ وَعُدِّيَ إِلَى مَا لِأَجْلِهِ يُوقع الهش بعلى لِتَضْمِينِ (أَهُشُّ) مَعْنَى أُسْقِطُ عَلَى غَنَمِي الْوَرَقَ فَتَأْكُلُهُ، أَوِ اسْتُعْمِلَتْ (عَلَى) بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ وَكِيلٌ عَلَى فُلَانٍ. وَمَآرِبُ: جَمَعُ مَأْرَبَةٍ، مُثَلَّثُ الرَّاءِ: الْحَاجَةُ، أَيْ أُمُورٌ أَحْتَاجُ إِلَيْهَا. وَفِي الْعَصَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ رُوِيَ بَعْضُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْجَاحِظُ مِنْ كِتَابِ «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ» بَابًا لِمَنَافِعِ الْعَصَا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: «هُوَ خَيْرُ مَنْ تُفَارِقُ الْعَصَا» . وَمِنْ لَطَائِفِ مَعْنَى الْآيَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ أَنَّ مُوسَى أَطْنَبَ فِي جَوَابِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيفٍ يَنْبَغِي فِيهِ طُولُ الْحَدِيثِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَآرِبُ أُخْرى حِكَايَةٌ لِقَوْلِ مُوسَى بِمُمَاثِلِهِ، فَيَكُونُ إِيجَازًا بَعْدَ الْإِطْنَابِ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ ذِكْرِ فَوَائِدِ

الْعَصَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِ مُوسَى بِحَاصِلِ مَعْنَاهُ، أَيْ عَدَّ مَنَافِعَ أُخْرَى، فَالْإِيجَازُ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ لَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالضَّمِيرُ الْمُشْتَرَكُ فِي قالَ أَلْقِها عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ دَعَا إِلَى الِالْتِفَاتِ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ حِوَارًا مَعَ قَوْلِ مُوسَى: هِيَ عَصايَ ... إِلَخْ. وَقَوْلُهُ أَلْقِها يَتَّضِحُ بِهِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى غَرَضٍ سَيَأْتِي، وَهُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ كَالَّذِي يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى [طه: 83] . وَالْحَيَّةُ: اسْمٌ لِصِنْفٍ مِنَ الْحَنَشِ مَسْمُومٍ إِذَا عَضَّ بِنَابَيْهِ قَتَلَ الْمَعْضُوضَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ. وَوصف الحيّة بتسعى لِإِظْهَارِ أَنَّ الْحَيَاةَ فِيهَا كَانَتْ كَامِلَةً بِالْمَشْيِ الشَّدِيدِ. وَالسَّعْيُ: الْمَشْيُ الَّذِي فِيهِ شِدَّةٌ، وَلِذَلِكَ خُصَّ غَالِبًا بِمَشْيِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ. وَأُعِيدَ فِعْلُ قالَ خُذْها بِدُونِ عَطْفٍ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ. وَالسِّيرَةُ فِي الْأَصْلِ: هَيْئَةُ السَّيْرِ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْعَادَةِ وَالطَّبِيعَةِ، وَانْتَصَبَ سِيرَتَهَا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ سَنُعِيدُهَا إِلَى سِيرَتِهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَلِبَ حَيَّةً، أَيْ سَنُعِيدُهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالْغَرَضُ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ لِمُوسَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْعَصَا تَطَبَّعَتْ بِالِانْقِلَابِ حَيَّةً، فَيَتَذَكَّرَ ذَلِكَ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ السَّحَرَةِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ حِينَئِذٍ إِلَى وَحي.

[سورة طه (20) : الآيات 22 إلى 23]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 22 إِلَى 23] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) هَذِهِ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا حَتَّى إِذَا تَحَدَّى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عَمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَمَامَ السَّحَرَةِ. فَهَذَا تَمْرِينٌ عَلَى مُعْجِزَةٍ ثَانِيَةٍ مُتَّحِدُ الْغَرَضِ مَعَ إِلْقَاءِ الْعَصَا. وَالْجَنَاحُ: الْعَضُدُ وَمَا تَحْتَهُ إِلَى الْإِبِطِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِجَنَاحِ الطَّائِرِ. وَالضَّمُّ: الْإِلْصَاقُ، أَيْ أَلْصِقْ يَدَكَ الْيُمْنَى الَّتِي كُنْتَ مُمْسِكًا بِهَا الْعَصَا. وَكَيْفِيَّةُ إِلْصَاقِهَا بِجَنَاحِهِ أَنْ تُبَاشِرَ جِلْدَ جَنَاحِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهَا فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ حَتَّى تَمَاسَّ بَشَرَةَ جَنْبِهِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ سُلَيْمَانَ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النّمل: 12] . جَعَلَ اللَّهُ تَغَيُّرَ لَوْنِ جِلْدِ يَدِهِ مُمَاسَّتِهَا جَنَاحَهُ تَشْرِيفًا لِأَكْثَرِ مَا يُنَاسِبُ مِنْ أَجْزَاءِ جِسْمِهِ بِالْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ. وبَيْضاءَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَخْرُجْ، ومِنْ غَيْرِ سُوءٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَيْضاءَ. وَمَعْنَى مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ مِثْلِ الْبَرَصِ وَالْبَهَقِ بِأَنْ تَصِيرَ بَيْضَاءَ ثُمَّ تَعُودَ إِلَى لَوْنِهَا الْمُمَاثِلِ لَوْنَ بَقِيَّةِ بَشَرَتِهِ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَخْرُجْ. وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَخْرُجْ بَيْضاءَ، فَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَخْرُجْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجْعَلُهَا بَيْضَاءَ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ أَوْ نُخْرِجُهَا لَكَ بَيْضَاءَ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ رَاجِعٌ إِلَى تَكْرِيرِ

[سورة طه (20) : الآيات 24 إلى 36]

الْآيَةِ، أَيْ كَرَّرْنَا الْآيَاتِ لِنُرِيَكَ بَعْضَ آيَاتِنَا فَتَعْلَمَ قُدْرَتَنَا عَلَى غَيْرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ لِنُرِيَكَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَلْقِها وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا. ومِنْ آياتِنَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُول الثَّانِي لنريك، فَتكون (من) فِيهِ اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ عَلَى رَأْيِ الْتَفْتَازَانِيِّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [8] ، وَيُشِير إِلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» هُنَا. والْكُبْرى صِفَةٌ لِ آياتِنَا. وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْمَاهِيَّةِ. أَيْ آيَاتِنَا الْقَوِيَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِنَا أَوْ عَلَى أَنا أَرْسَلْنَاك. [24- 36] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 24 إِلَى 36] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) لَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ الْآيَتَيْنِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْخِلَ الرَّوْعَ فِي نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مُوَاجَهَةُ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِالْمَوْعِظَةِ وَمُكَاشَفَتُهُ بِفَسَادِ حَالِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ:

قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 45، 46] . وَالذَّهَابُ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَهَابٌ خَاصٌّ، قَدْ فَهِمَهُ مُوسَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْإِخْبَارِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ لَهُ، أَوْ صَرَّحَ لَهُ بِهِ وَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، عَلَى أَنَّ التّعليل الْوَاقِع بعده ينبىء بِهِ. فَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَلُحَتْ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ الْمُرَادَ ذَهَابٌ خَاصٌّ، وَهُوَ إِبْلَاغُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِ من تَغْيِيره عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَلَمَّا عَلِمَ مُوسَى ذَلِكَ لَمْ يُبَادِرْ بِالْمُرَاجَعَةِ فِي الْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ، بَلْ تَلَقَّى الْأَمْرَ وَسَأَلَ اللَّهَ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ، بِمَا يؤول إِلَى رَبَاطَةِ جَأْشِهِ وَخَلْقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى تَبْلِيغِهِ، وَإِعْطَائِهِ فَصَاحَةَ الْقَوْلِ لِلْإِسْرَاعِ بِالْإِقْنَاعِ بِالْحُجَّةِ. وَحُكِيَ جَوَابُ مُوسَى عَنْ كَلَامِ الرَّبِّ بِفِعْلِ الْقَوْلِ غَيْرِ مَعْطُوفٍ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَرَتَّبَ مُوسَى الْأَشْيَاءَ الْمَسْئُولَةَ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَسْبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْوَاقِعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ مَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَضٍ لِلْعَدْلِ عَنْهُ. فَالشَّرْحُ، حَقِيقَتُهُ: تَقْطِيعُ ظَاهِرِ شَيْءٍ لَيِّنٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِزَالَةِ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ خَوَاطِرَ تُكَدِّرُهُ أَوْ تُوجِبُ تَرَدُّدَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى عَمَلٍ مَا تَشْبِيهًا بِتَشْرِيحِ اللَّحْمِ بِجَامِعِ التَّوْسِعَةِ. وَالْقَلْبُ: يُرَادُ بِهِ فِي كَلَامِهِمُ وَالْعقل. فَالْمَعْنَى: أَزِلْ عَنْ فِكْرِي الْخَوْفَ وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَعْتَرِضُ الْإِنْسَانَ مِنْ عَقَبَاتٍ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِإِقْدَامِهِ وَعَزَامَتِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعُسْرِ، فَسَأَلَ تَيْسِيرَ أَمْرِهِ، أَيْ إِزَالَةَ الْمَوَانِعِ الْحَافَّةِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ.

وَالْأَمْرُ هُنَا: الشَّأْنُ، وَإِضَافَةُ (أَمْرِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِإِفَادَةِ مَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ وَهُوَ أَمْرُ الرِّسَالَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ يَسِيرًا، أَيْ ذَا يُسْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [185] . ثُمَّ سَأَلَ سَلَامَةَ آلَةِ التَّبْلِيغِ وَهُوَ اللِّسَانُ بِأَنْ يَرْزُقَهُ فَصَاحَةَ التَّعْبِيرِ وَالْمَقْدِرَةَ عَلَى أَدَاءِ مُرَادِهِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةً، فَشَبَّهَ حُبْسَةَ اللِّسَانِ بِالْعُقْدَةِ فِي الْحَبْلِ أَوِ الْخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ سُرْعَةَ اسْتِعْمَالِهِ. وَالْعُقْدَةُ: مَوْضِعُ رَبْطِ بَعْضِ الْخَيْطِ أَوِ الْحَبْلِ بِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهِيَ بِزِنَةِ فُعْلَةٍ بِمَعْنى مفعول كقضة وَغَرْفَةٍ أُطْلِقَتْ عَلَى عُسْرِ النُّطْقِ بِالْكَلَامِ أَوْ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِ اللِّسَانِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا حُبْسَةٌ. يُقَالُ: عَقِدَ اللِّسَانُ كَفَرِحَ، فَهُوَ أَعْقَدُ إِذَا كَانَ لَا يُبِينُ الْكَلَامَ. وَاسْتَعَارَ لِإِزَالَتِهَا فِعْلَ الْحِلِّ الْمُنَاسِبِ الْعُقْدَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَزِيَادَةُ لِي بَعْدَ اشْرَحْ وَبَعْدَ يَسِّرْ إِطْنَابٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِأَنَّ الْكَلَامَ مُفِيدٌ بِدُونِهِ. وَلَكِنْ سُلِكَ الْإِطْنَابُ لِمَا تُفِيدُهُ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ، أَيِ اشْرَحْ صَدْرِي لِأَجْلِي وَيَسِّرْ أَمْرِي لِأَجْلِي، وَهِيَ اللَّامُ الْمُلَقَّبَةُ لَامَ التَّبْيِينِ الَّتِي تُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْبَيَانِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ صَدْرِي وأَمْرِي وَاضِحٌ أَنَّ الشَّرْحَ وَالتَّيْسِيرَ مُتَعَلِّقَانِ بِهِ فَكَانَ قَوْله لِي فيهمَا زِيَادَةَ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] وَهُوَ هُنَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ هَذَا الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فَلِيَحْصُلَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ فَيُفِيدُ مَفَادَ التَّأْكِيدِ مِنْ أَجْلِ تَكَرُّرِ الْإِسْنَادِ.

وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لِأَنَّ ذَلِكَ سُؤَالٌ يرجع إِلَى تَبْلِيغ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَيْسَتْ فَائِدَتُهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ لَهَا بِلَامِ التَّبْيِينِ. وَتَنْكِيرُ عُقْدَةً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ عُقْدَةً شَدِيدَةً. ومِنْ لِسانِي صفة لعقدة. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: عُقْدَةَ لِسَانِي، بِالْإِضَافَةِ لِيَتَأَتَّى التَّنْكِيرُ الْمُشْعِرُ بِأَنَّهَا عُقْدَةٌ شَدِيدَةٌ. وَفِعْلُ يَفْقَهُوا مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاصِلِ عَقِبَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النُّور: 30] أَيْ أَنْ نَقُلْ لَهُمْ غُضُّوا يَغُضُّوا، أَيْ شَأْنُهُمُ الِامْتِثَالُ. وَالْفِقْهُ: الْفَهْمُ. وَالْوَزِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل، من وزار عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، مِثْلُ حَكِيمٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْمَعُونَةُ، وَالْمُؤَازَرَةُ كَذَلِكَ، وَالْكُلُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، أَيِ الْظَّهْرِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ أَزِيرًا بِالْهَمْزَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَلَبُوا هَمْزَتَهُ وَاوًا حَمْلًا عَلَى مُوَازِرٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ الَّذِي قُلِبَتْ هَمْزَتُهُ وَاوًا لِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا. فَلَمَّا كَثُرَ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُمْ: مُوَازِرٌ وَيُوَازِرُ بِالْوَاوِ نَطَقُوا بِنَظِيرِهِ فِي الْمَعْنَى بِالْوَاوِ بِدُونِ مُوجِبٍ لِلْقَلْبِ إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى النَّظِيرِ فِي النُّطْقِ، أَيِ اعْتِيَادِ النُّطْقِ بِهَمْزَتِهِ وَاوًا، أَيِ اجْعَلْ مُعِينًا مِنْ أَهْلِي. وَخَصَّ هَارُونَ لِفَرْطِ ثِقَتِهِ بِهِ وَلِأَنَّهُ كَانَ فَصِيحَ اللِّسَانِ مِقْوَالًا، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِهِ مَظِنَّةُ النُّصْحِ لَهُ، وَكَوْنُهُ أَخَاهُ أَقْوَى فِي الْمُنَاصَحَةِ، وَكَوْنُهُ الْأَخَ الْخَاصَّ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ بِأَصَالَةِ الرَّأْيِ. وَجُمْلَةُ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي فعلي اشْدُدْ، وأَشْرِكْهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ اجْعَلْ لِي وَزِيراً. سَأَلَ اللَّهَ

أَنْ يَجْعَلَهُ مُعِينًا لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِمُوسَى فِي أَمْرِهِ، أَيْ أَمْرِ رِسَالَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَقْطُوعَةِ- فِي «أَشْدُدْ» - وَبِضَمِّ هَمْزَةِ- «أُشْرِكْهُ» ، فَالْفِعْلَانِ إِذَنْ مَجْزُومَانِ فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ كَمَا جَزَمَ يَفْقَهُوا قَوْلِي. وهارُونَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِفِعْلِ اجْعَلْ، قُدِّمَ عَلَيْهِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلِاهْتِمَامِ. وَالشَّدُّ: الْإِمْسَاكُ بِقُوَّةٍ. وَالْأَزْرُ: أَصْلُهُ الظَّهْرُ. وَلَمَّا كَانَ الظَّهْرُ مَجْمَعَ حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَقِوَامَ اسْتِقَامَتِهِ أُطْلِقَ اسْمُهُ عَلَى الْقُوَّةِ إِطْلَاقًا شَائِعًا يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ فَقِيلَ الْأَزْرُ لِلْقُوَّةِ. وَقِيلَ: آزَرَهُ إِذَا أَعَانَهُ وَقَوَّاهُ. وَسُمِّيَ الْإِزَارُ إِزَارًا لِأَنَّهُ يُشَدُّ بِهِ الظَّهْرُ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الظَّهْرُ لِيُنَاسِبَ الشَّدَّ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْمُعِينِ وَالْمُعَانِ بِهَيْئَةِ مَشْدُودِ الظَّهْرِ بِحِزَامٍ وَنَحْوِهِ وَشَادِّهِ. وَعَلَّلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ تَحْصِيلَ مَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ، بِأَنْ يُسَبِّحَا اللَّهَ كَثِيرًا وَيَذْكُرَا اللَّهَ كَثِيرًا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ تَسْهِيلًا لِأَدَاءِ الدَّعْوَةِ بِتَوَفُّرِ آلَاتِهَا وَوُجُودِ الْعَوْنِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ تَكْثِيرِهَا. وَأَيْضًا فِيمَا سَأَلَهُ لِأَخِيهِ تَشْرِيكَهُ فِي الدَّعْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ يَجْعَلُ مِنْ أَخِيهِ مُضَاعَفَةً لِدَعْوَتِهِ، وَذَلِكَ يَبْعَثُ أَخَاهُ أَيْضًا عَلَى الدَّعْوَةِ. وَدَعْوَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْتَمِلُ عَلَى التَّعْرِيفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَفِي الدَّعْوَةِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا

اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ، وَإِدْخَالُ الْأُمَّةِ فِي حَضْرَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَفِي ذَلِكَ إِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِإِبْلَاغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي [طه: 42] ، أَيْ لَا تَضْعُفَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ فِي تَحْصِيلِ مَا دَعَا بِهِ إِكْثَارٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمَا وَذِكْرِهِمَا اللَّهَ. وَأَيْضًا فِي التَّعَاوُنِ عَلَى آدَاءِ الرِّسَالَةِ تَقْلِيلٌ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِضَرُورَاتِ الْحَيَاةِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَقْتَسِمَا الْعَمَلَ الضَّرُورِيَّ لِحَيَاتِهِمَا فَيَقِلُّ زَمَنُ اشْتِغَالِهِمَا بِالضَّرُورِيَّاتِ وَتَتَوَفَّرُ الْأَوْقَاتُ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ. وَتِلْكَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ لِكِلَيْهِمَا فِي التَّبْلِيغِ. وَالَّذِي أَلْجَأَ مُوسَى إِلَى سُؤَالِ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِشِدَّةِ فِرْعَوْنَ وَطُغْيَانِهِ وَمَنْعِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مُفَارَقَةِ ضَلَالِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّ فِي دَعْوَتِهِ فِتْنَةً لِلدَّاعِي فَسَأَلَ الْإِعَانَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْفِتْنَة ليتوفّرا لِلتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ كَثِيرًا. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِهِ شَرْحَ صَدْرِهِ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ حَالِي وَحَالَ أَخِي، وَإِنِّي مَا دَعَوْتُكَ بِمَا دَعَوْتُ إِلَّا لِأَنَّنَا مُحْتَاجَانِ لِذَلِكَ، وَفِيهِ تَفْوِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَأَنَّهُ مَا سَأَلَ سُؤَالَهُ إِلَّا بِحَسَبِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ. وَقَوْلُهُ قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَعْدٌ لَهُ بِالْإِجَابَةِ، وَتَصْدِيقٌ لَهُ فِيمَا تَوَسَّمَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ. وَالسُّؤْلُ بِمَعْنَى الْمَسْئُولِ. وَهُوَ وَزْنُ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْخُبْزِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوزِ، وَالْأَكْلِ بِمَعْنَى الْمَأْكُولِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُقْدَةَ زَالَتْ عَنْ لِسَانِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْكَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ أَقَامَ هَارُونَ بِمُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ. وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَنْتَ تَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ وَهَارُونُ أَخُوكَ يُكَلِّمُ فِرْعَوْنَ

[سورة طه (20) : الآيات 37 إلى 41]

» . [37- 41] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 37 الى 41] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) جُمْلَةُ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ [طه: 36] لِأَنَّ جُمْلَةَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ تَتَضَمَّنُ مِنَّةً عَلَيْهِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا تَذْكِيرٌ بِمِنَّةٍ عَلَيْهِ أُخْرَى فِي وَقْتِ ازْدِيَادِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ وُجُودِهِ فَابْتَدَأَهُ بِعِنَايَتِهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ فَعِنَايَتُهُ بِهِ بَعْدَ سُؤَالِهِ أَحْرَى، وَلِأَنَّ تِلْكَ الْعِنَايَةَ الْأُولَى تَمْهِيدٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالرِّسَالَةِ، فَالْكَرَمُ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْإِحْسَانِ يَسْتَدْعِي الِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ. فَهَذَا طَمْأَنَةٌ لِفُؤَادِهِ وَشَرْحٌ لِصَدْرِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مُؤَيَّدًا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 5- 8] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بلام الْقسم و (قد) لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَتَحْقِيقُ الْخَبَرِ لَهُ تَحْقِيقٌ لَلَازِمِهِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ زِيَادَةٌ فِي تَطْمِينِ خَاطِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ [طه: 36] . وَالْمَرَّةُ: فَعْلَةٌ مِنَ الْمُرُورِ، غَلَبَتْ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ عَمَلٍ معيّن يعرف بِالْإِضَافَة أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [13] . وَانْتِصَابُ مَرَّةً هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِفِعْلِ مَنَنَّا، أَيْ مَرَّةً مِنَ المنّ. ووصفها بِأُخْرَى هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا غَيْرُ هَذِهِ الْمِنَّةِ.

وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِلْمِنَّةِ. وَالْوَحْيُ، هُنَا: وَحْيُ الْإِلْهَامِ الصَّادِقِ. وَهُوَ إِيقَاعُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ يَنْثَلِجُ لَهُ نَفْسُ الْمُلْقَى إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَجْزِمُ بِنَجَاحِهِ فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الَّتِي يُقْذَفُ فِي نَفْسِ الرَّائِي أَنَّهَا صِدْقٌ. وَمَا يُوحى مَوْصُولٌ مُفِيدٌ أَهَمِّيَّةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهَا. وَمُفِيدٌ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ إِلْهَامًا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ. وأَنِ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا لِأَنَّهُ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَو تَفْسِير ليوحى. وَالْقَذْفُ: أَصْلُهُ الرَّمْيِ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْوَضْعِ فِي التَّابُوتِ، تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْمُخْفِي عَمَلَهُ، فَهُوَ يُسْرِعُ وَضْعَهُ مِنْ يَدِهِ كَهَيْئَةِ مَنْ يَقْذِفُ حَجَرًا وَنَحْوَهُ. وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [248] . وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَهْرُ النِّيلِ. وَالسَّاحِلُ: الشَّاطِئُ، وَلَامُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ سَخَّرْنَا الْيَمَّ لِأَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، وَلَا يَبْتَعِدَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْمُرَادُ سَاحِلٌ مَعْهُودٌ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصُدُهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِلسِّبَاحَةِ. وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ الْمَنْصُوبَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مُوسَى لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي ذِهْنِ أُمِّهِ الْمُوحَى إِلَيْهَا، وَقَذْفُهُ فِي التَّابُوتِ وَفِي الْيَمِّ وَإِلْقَاؤُهُ فِي السَّاحِلِ كُلُّهَا أَفْعَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِضَمِيرِهِ،

إِذْ لَا فَرْقَ فِي فِعْلِ الْإِلْقَاءِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاشِرًا أَوْ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ. وَيَجُوزُ جَعْلَ الضَّمِيرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَائِدَيْنِ إِلَى التَّابُوتِ وَلَا لَبْسَ فِي ذَلِكَ. وَجَزْمُ يَأْخُذْهُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ جَزْمِ قَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 28] الْمُتَقَدَّمِ آنِفًا. وَالْعَدُوُّ: فِرْعَوْنُ، فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ لِأَنَّهُ انْتَحَلَ لِنَفْسِهِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَدُوُ مُوسَى تَقْدِيرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ عَدْوُهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ غِلْمَانِ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ اعْتَزَمَ عَلَى قَتْلِ أَبْنَائِهِمْ. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوْحَيْنا أَيْ حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا كَانَ بِهِ سَلَامَتُكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَحِينَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ محبّة لتحصل الرقّة لِوَاجِدِهِ فِي الْيَمِّ، فَيَحْرِصُ عَلَى حَيَاتِهِ وَنَمَائِهِ وَيَتَّخِذُهُ وَلَدًا كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [الْقَصَص: 9] لِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ غِلْمَانِ إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ. وَإِلْقَاءُ الْمَحَبَّةِ مَجَازٌ فِي تَعَلُّقِ الْمُحِبَّةِ بِهِ، أَيْ خَلْقُ الْمَحَبَّةِ فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ بِدُونِ سَبَبٍ عَادِيٍّ حَتَّى كَأَنَّهُ وُضِعَ بِالْيَدِ لَا مُقْتَضًى لَهُ فِي الْعَادَةِ. وَوَصْفُ الْمَحَبَّةِ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ لِعَدَمِ ابْتِدَاءِ أَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ الْعُرْفِيَّةِ مِنَ الْإِلْفِ وَالِانْتِفَاعِ، أَلَا تَرَى قَوْلَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: 9] مَعَ قَوْلهَا: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [الْقَصَص: 9] ، فَكَانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْفَعَهَا وَقَبْلَ اتِّخَاذِهِ وَلَدًا.

وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ جُمْلَةُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ إِلَخْ. جُعِلَ الْأَمْرَانِ إِتْمَامًا لِمِنَّةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ إِنْجَاءَهُ مِنَ الْقَتْلِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ إِلَّا إِذَا أَنْجَاهُ مِنَ الْمَوْتِ بِالذُّبُولِ لِتَرْكِ الرَّضَاعَةِ، وَمِنَ الْإِهْمَالِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوِ الْوَهْنِ إِذَا وَلِيَ تَرْبِيَتَهُ مَنْ لَا يُشْفِقُ عَلَيْهِ الشَّفَقَةَ الْجَبِلِّيَّةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ لِأَجْلِ أَنْ تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي. وَالصُّنْعُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، تَشْبِيهًا لِذَلِكَ بِصُنْعِ شَيْءٍ مَصْنُوعٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نِعْمَةً عَظِيمَةً: هُوَ صَنِيعَةُ فُلَانٍ. وَأُخْتُ مُوسَى: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيئَةً كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَتُوُفِّيَتْ مَرْيَمُ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنْ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ فِي بَرِّيَّةِ صِينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ. وَذَلِكَ سَنَةَ 1417 قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ وبنصب فعل لِتُصْنَعَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ وَقُلْنَا: لِتُصْنَعَ. وَقَوْلُهُ عَلى عَيْنِي (على) مِنْهُ للاستعلاء الْمَجَازِيِّ، أَيِ المصاحبة المتمكنة، فعلى هُنَا بِمَعْنَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] .

وَالْعَيْنُ: مَجَازٌ فِي الْمُرَاعَاةِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هود: 37] ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: عَهِدْتُكَ تَرْعَانِيَ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ ... وَتَبْعَثُ حُرَّاسًا عَلَيَّ وَنَاظِرًا وَوَقَعَ اخْتِصَارٌ فِي حِكَايَةِ قِصَّةِ مَشْيِ أُخْتِهِ، وَفُصِّلَتْ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ أَدُلُّكُمْ لِلْعَرْضِ. وَأَرَادَتْ بِ مَنْ يَكْفُلُهُ أُمَّهُ. فَلِذَلِكَ قَالَ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ لِإِكْمَالِ نَمَائِهِ، وَعَلَى أُمِّهِ بِنَجَاتِهِ فَلَمْ تُفَارِقِ ابْنَهَا إِلَّا سَاعَاتٍ قَلَائِلَ، أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ ابْنِهَا. وَعَطْفُ نَفْيِ الْحُزْنِ عَلَى قُرَّةِ الْعَيْنِ لِتَوْزِيعِ الْمِنَّةِ، لِأَنَّ قُرَّةَ عَيْنِهَا بِرُجُوعِهِ إِلَيْهَا. وَانْتِفَاء حزنها بتحقق سَلَامَتِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَمِنَ الْغَرَقِ وَبِوُصُولِهِ إِلَى أَحْسَنِ مَأْوًى. وَتَقْدِيمُ قُرَّةِ الْعَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُزْنِ مَعَ أَنَّهَا أَخَصُّ فَيُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ رُوعِيَ فِيهِ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ أُكْمِلَ بِذِكْرِ الْحِكْمَةِ فِي مَشْيِ أُخْتِهِ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فِي بَيْتِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمَرَاضِعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حَلِيمَةَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) جملَة وَقَتَلْتَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي جُمْلَةِ وَقَتَلْتَ نَفْساً مِنَّةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ.

وَقُدِمَ ذِكْرُ قَتلِهِ النَّفْسَ عَلَى ذِكْرِ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْغَمِّ لِتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ، حَيْثُ افْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِ جِنَايَةٍ عَظِيمَةِ التَّبِعَةِ، وَهِيَ قَتْلُ النَّفْسِ لِيَكُونَ لِقَوْلِهِ فَنَجَّيْناكَ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمِنَّةِ، إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ عُقُوبَةٍ لَا يَنْجُو مِنْ مِثْلِهَا مِثْلُهُ. وَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ نَفْسُ الْقِبْطِيِّ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِي اخْتَصَمَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَغَاثَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى لِيَنْصُرَهُ فَوَكَزَ مُوسَى الْقِبْطِيَّ فَقَضَى عَلَيْهِ كَمَا قُصَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَالْغَمُّ: الْحُزْنُ. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ مَا خَامَرَ مُوسَى مِنْ خَوْفِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَضْمَرَ الِاقْتِصَاصَ مِنْ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ إِذْ كَانَ الْقِبْطُ سَادَةَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَلَيْسَ اعْتِدَاءُ إِسْرَائِيلِيٍّ عَلَى قِبْطِيٍّ بِهَيِّنٍ بَيْنَهُمْ. وَيَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي تَبَنَّى مُوسَى كَانَ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَالْفُتُونُ: مَصْدَرُ فَتَنَ، كَالْخُرُوجِ، وَالثُّبُورِ، وَالشُّكُورِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِتَأْكِيدِ عَامَلِهِ وَهُوَ فَتَنَّاكَ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ فُتُونًا قَوِيًّا عَظِيمًا. وَالْفُتُونُ كَالْفِتْنَةِ: هُوَ اضْطِرَابُ حَالِ الْمَرْءِ فِي مُدَّةٍ مِنْ حَيَاتِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . وَيَظْهَرُ أَنَّ الْفُتُونَ أَصْلُ مَصْدَرِ فَتَنَ بِمَعْنَى اخْتَبَرَ، فَيَكُونُ فِي الشَّرِّ وَفِي الْخَيْرِ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ فَلَعَلَّهَا خَاصَّةٌ بِاخْتِبَارِ الْمُضِرِّ. وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّنْوِينَ فِي فُتُوناً لِلتَّقْلِيلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كَالِاسْتِدْرَاكِ عَلَى قَوْلِهِ فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، أَيْ نَجَّيْنَاكَ وَحَصَلَ لَكَ خَوْفٌ، كَقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَص: 18] فَذَلِكَ الْفُتُونُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفُتُونِ خَوْفُ مُوسَى مِنْ عِقَابِ فِرْعَوْنَ وَخُرُوجُهُ مِنَ الْبَلَدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ

إِلَى قَوْلِهِ: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْقَصَص: 18- 21] . وَذِكْرُ الْفُتُونِ بَيْنَ تِعْدَادِ الْمِنَنِ إِدْمَاجٌ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ دَمَ الْقِبْطِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مُوسَى، فَإِنَّهُ نَفْسٌ مَعْصُومَةُ الدَّمِ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ قَتْلَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَرِدْ إِلَيْهِمْ دَعْوَةٌ إِلَهِيَّةٌ حِينَئِذٍ. فَحِينَ أَنْجَى اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِدَمِهِ فِي شَرْعِ فِرْعَوْنَ ابتلى مُوسَى بالخوف وَالْغُرْبَةِ عِتَابًا لَهُ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: 15- 16] . وَعِبَادُ اللَّهِ الَّذِينَ أَرَادَ بِهِمْ خَيْرًا وَرَعَاهُمْ بِعِنَايَتِهِ يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ حَالَةٍ كَمَالًا يَكْسِبُونَهُ، وَيُسَمَّى مِثْلُ ذَلِكَ بِالِابْتِلَاءِ، فَكَانَ مِنْ فُتُونِ مُوسَى بِقَضِيَّةِ الْقِبْطِيِّ أَنْ قَدَّرَ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ لِيَكْتَسِبَ رِيَاضَةَ نَفْسٍ وَتَهْيِئَةَ ضَمِيرٍ لِتَحَمُّلِ الْمَصَاعِبَ، وَيَتَلَقَّى التَّهْذِيبَ مِنْ صِهْرِهِ الرَّسُولِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلِهَذَا الْمَعْنَى عَقَّبَ ذِكْرَ الْفُتُونِ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْفُتُونِ. أَوْ يَكُونُ الْفُتُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَحْمُودِ الْعَاقِبَةِ وَضِدِّهِ مِثْلَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَاف: 168] ، أَيْ وَاخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا، وَالِاخْتِبَارُ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ تَكْلِيفِهِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ بِحَالِ مَنْ يُخْتَبَرُ، وَلِهَذَا اخْتِيرَ هُنَا دُونَ الْفِتْنَةِ. وَأَهْلُ مَدْيَنَ: قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَمَدِينُ: اسْمُ أَحَدِ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَكَنَتْ ذُريَّته فِي مَوَاطِن تسمى الأيكة على شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ جَنُوبَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ، وَغَلَبَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَ عَلَمًا لِلْمَكَانِ فَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ (أَهْلُ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

وَمَعْنَى جِئْتَ حَضَرْتَ لَدَيْنَا، وَهُوَ حُضُورُهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ جَعَلَ مَجِيئَهُ فِي الْوَقْتِ الصَّالِحِ لِلْخَيْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ. وَالْقَدَرُ: تَقْدِيرُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مُنَاسِبٍ لِمَا يُرِيدُ الْمُقَدِّرُ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ، فَيَكُونُ غَيْرَ مُلَائِمٍ أَوْ فِي مُلَاءَمَتِهِ خَلَلٌ، قَالَ النَّابِغَةُ: فَرِيعَ قَلْبِي وَكَانَتْ نَظْرَةً عَرَضَتْ ... يَوْمًا وَتَوْفِيقَ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارِ أَيْ مُوَافِقَةً مَا كُنْتُ أَرْغَبُهُ. فَقَوْلُهُ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى يُفِيدُ أَنَّ مَا حَصَلَ لِمُوسَى مِنَ الْأَحْوَالِ كَانَ مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرًا مُنَاسِبًا مُتَدَرِّجًا، بِحَيْثُ تَكُونُ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ قَدْ قَدَّرَهَا اللَّهُ وَحَدَّدَهَا تَحْدِيدًا مُنَظَّمًا لِأَجْلِ اصْطِفَائِهِ وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِهِ، فَالْقَدَرُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ بِتَدْبِيرِ إِجْرَاءِ أَحْوَالِهِ عَلَى مَا يُسْفِرُ عَنْ عَاقِبَةِ الْخَيْرِ. فَهَذَا تَقْدِيرٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْعِنَايَةُ بِتَدَرُّجِ أَحْوَالِهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقَدَرُ الْعَامُّ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِتَكْوِينِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُشْعِرُ بِمَزِيَّةٍ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَدِ انْتَبَهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرِيرٌ بِذَوْقِهِ السَّلِيمِ فَقَالَ فِي مَدْحِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَتَى الْخلَافَة إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ وَمِنْ هُنَا خَتْمَ الِامْتِنَانَ بِمَا هُوَ الْفَذْلَكَةُ، وَذَلِكَ جُمْلَةُ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ عَلَى قَوْلِهِِِ

[سورة طه (20) : آية 42]

وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ الْآيَةَ، وَهُوَ تَخَلُّصٌ بَدِيعٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْخِطَابُ بِأَعْمَالِ الرِّسَالَةِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] وَمِنْ قَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] . وَالِاصْطِنَاعُ: صُنْعُ الشَّيْءِ بِاعْتِنَاءٍ. وَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ لِأَجْلِ نَفْسِي. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ الِاصْطِفَاءِ لِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ بِهَيْئَةِ مَنْ يَصْطَنِعُ شَيْئًا لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ فَيَصْرِفُ فِيهِ غَايَةَ إتقان صنعه. [42] [سُورَة طه (20) : آيَة 42] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) رُجُوعٌ إِلَى الْمَقْصِدِ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ، فَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ اخْتَارَهُ وَأَعَدَّهُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَتَّخِذُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ إِلَّا مُرِيدًا جَعْلَهُ مُظْهِرًا لِحِكْمَتِهِ، فَيَتَرَقَّبُ الْمُخَاطَبُ تَعْيِينَهَا، وَقَدْ أَمَرَهُ هُنَا بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَنْ يَذْهَبَ أَخُوهُ مَعَهُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُبَلِّغُ أَخَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِمُرَافَقَتِهِ، لِأَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا حِينَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَتَعِيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ حُصُولِ الذَّهَابِ الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى مِصْرَ بَلَدِ فِرْعَوْنَ وَعِنْدَ لِقَائِهِ أَخَاهُ هَارُونَ وَإِبْلَاغِهِ أَمْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَقَرِينَةُ عَدَمِ إِرَادَةِ الْفَوْرِ هُنَا قَائِمَةٌ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ لِقَصْدِ تَطْمِينِ مُوسَى بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مُصَاحِبًا لِآيَاتِ اللَّهِ، أَيِ الدَّلَائِلِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صَدَقِهِ لَدَى فِرْعَوْنَ. وَمَعْنَى وَلا تَنِيا لَا تَضْعُفَا. يُقَالُ: وَنَى يَنِي وَنًى، أَيْ ضَعُفَ فِي الْعَمَلِ، أَيْ لَا تَنِ أَنْتَ وَأَبْلِغْ هَارُونَ أَنْ لَا يَنِيَ، فَصِيغَةُ النَّهْيِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتهَا ومجازها.

[سورة طه (20) : الآيات 43 إلى 44]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 43 إِلَى 44] اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالٌ إِلَى خِطَابِ مُوسَى وَهَارُونَ. فَيَقْتَضِي أَنَّ هَارُونَ كَانَ حَاضِرًا لِهَذَا الْخِطَابِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بَعْدَهُ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ [طه: 45] ، وَكَانَ حُضُورُ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَوْحَاهُ إِلَى هَارُونَ فِي أَرْضِ «جَاسَانَ» حَيْثُ مَنَازِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضٍ قُرْبَ (طِيبَةَ) . قَالَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «وَقَالَ (أَي الله) هَا هُوَ هَارُونُ خَارِجًا لِاسْتِقْبَالِكَ فَتُكَلِّمُهُ أَيْضًا» . وَفِيهِ أَيْضًا «وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ اذْهَبْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِاسْتِقْبَالِ مُوسَى فَذَهَبَ وَالْتَقَيَا فِي جَبَلِ اللَّهِ» أَيْ جَبَلِ حُورِيبَ، فَيَكُونُ قَدْ طُوِيَ مَا حَدَثَ بَيْنَ تَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى فِي الْوَادِي عِنْدَ النَّارِ وَمَا بَيْنَ وُصُولِ مُوسَى مَعَ أَهْلِهِ إِلَى جَبَلِ (حُورِيبَ) فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ إِلَخْ، جَوَابًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهما: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِلَخْ. وَيَكُونُ فَصْلُ جُمْلَةِ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ إِلَخْ لِوُقُوعِهَا فِي أُسْلُوبِ الْمُحَاوَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ [طه: 42] ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ اذْهَبا أَمَرًا لِمُوسَى بِأَنْ يَذْهَبَ وَأَنْ يَأْمُرَ أَخَاهُ بِالذَّهَابِ مَعَهُ وَهَارُونُ غَائِبٌ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْجُمَلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَقَدْ طُوِيَ مَا بَيْنَ خِطَابِ اللَّهِ مُوسَى وَمَا بَيْنَ حِكَايَةِ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ مُوسَى وَلَقِيَ أَخَاهُ هَارُونَ، وَأَبْلَغَهُ أَمْرَ اللَّهِ لَهُ بِمَا أَمَرَهُ، فَقَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَذْهَبَا إِلَيْهِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لِقَصْدِ كفِّهِ عَنْ طُغْيَانِهِ.

وَفِعْلُ طَغى رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ آخِرُهُ أَلِفًا مُمَالَةً، أَيْ بِصُورَةِ الْيَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ طَغِيَ مِثْلَ رَضِيَ. وَيَجُوزُ فِيهِ الْوَاوُ فَيُقَالُ: يَطْغُو مِثْلَ يَدْعُو. وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى مَعَانِي التَّرْغِيبِ وَالْعَرْضِ وَاسْتِدْعَاءِ الِامْتِثَالِ، بِأَنْ يُظْهِرَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ لَهُ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ مَا يَتَقَبَّلُ بِهِ الْحَقَّ وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَعَ تَجَنُّبِ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْفِيهِ رَأْيِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَجْهِيلِهِ. فَشَبَّهَ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْمَعَانِي الْحَسَنَةِ بِالشَّيْءِ اللَّيِنِ. وَاللِّينُ، حَقِيقَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَهُوَ: رُطُوبَةُ مَلْمَسِ الْجِسْمِ وَسُهُولَةُ لَيِّهِ، وَضِدُّ اللِّينِ الْخُشُونَةُ. وَيُسْتَعَارُ اللِّينُ لِسُهُولَةِ الْمُعَامَلَةِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ ... عَلَى الْأَعْدَاءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا وَاللِّينُ مِنْ شِعَارِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: 125] وَقَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: 159] . وَمِنَ اللِّينِ فِي دَعْوَةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: 18، 19] وَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [الْكَهْف: 47] ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ لَا إِظْهَارُ الْعَظَمَةِ وَغِلْظَةَ الْقَوْلِ بِدُونِ جَدْوًى. فَإِذَا لَمْ يَنْفَعِ اللِّينُ مَعَ الْمَدْعُوِّ وَأَعْرَضَ وَاسْتَكْبَرَ جَازَ فِي مَوْعِظَتِهِ الْإِغْلَاظُ مَعَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46] ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] . وَالتَّرَجِّي الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) إِمَّا تَمْثِيلٌ لِشَأْنِ اللَّهِ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ بِشَأْنِ الرَّاجِي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا لِمُوسَى وَفرْعَوْن بِأَن يرجوا ذَلِكَ،

[سورة طه (20) : الآيات 45 إلى 48]

فَكَانَ النُّطْقُ بِحَرْفِ التَّرَجِّي عَلَى لِسَانِهِمَا، كَمَا تَقُولُ لِلشَّخْصِ إِذَا أَشَرْتَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ: فَلَعَلَّهُ يُصَادِفُكَ تَيْسِيرٌ، وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنَّكَ تَرْجُو ذَلِكَ وَلَكِنْ بِطَلَبِ رَجَاءٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- أَيِ النَّظَرِ، أَيْ لَعَلَّهُ يَنْظُرُ نَظَرَ الْمُتَبَصِّرِ فَيَعْرِفُ الْحَقَّ أَوْ يَخْشَى حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِ فَيُطِيعُ عَنْ خَشْيَةٍ لَا عَنْ تَبَصُّرٍ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ على الْحق، فالتذكر: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْخَشْيَةُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِالْأَخْذِ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى. وَهُنَا انْتَهَى تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَام-. [45- 48] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 45 إِلَى 48] قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) فُصِلْتِ الْجُمْلَتَانِ لِوُقُوعِهِمَا مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى مَعَ أَخِيهِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، أَيْ جَمَعَا أَمَرَهُمَا وَعَزَمَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَنَاجِيَا رَبَّهُمَا

قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى، لِأَنَّ غَالِبَ التَّفْكِيرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْمَوَانِعِ يَكُونُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْأَخْذِ فِي التَّهَيُّؤِ لَهُ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ أَمْرُهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتِياهُ. ويَفْرُطَ مَعْنَاهُ يُعَجِّلُ وَيَسْبِقُ، يُقَال: فَرَطَ يَفْرُطُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَالْفَارِطُ: الَّذِي يسْبق الْوَارِدَة إِلَى الْحَوْضِ لِلشُّرْبِ. وَالْمَعْنَى: نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ بِعِقَابِنَا بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ قَبْلَ أَنْ نُبَلِّغَهُ وَنُحِجَّهُ. وَالطُّغْيَانُ: التَّظَاهُرُ بِالتَّكَبُّرِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] ، أَيْ نَخَافُ أَنْ يُخَامِرَهُ كِبْرُهُ فَيَعُدَّ ذِكْرَنَا إِلَهًا دُونَهُ تَنْقِيصًا لَهُ وَطَعْنًا فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةِ فَيَطْغَى، أَيْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَثَرُ الْكِبَرِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْإِهَانَةِ. فَذَكَرَ الطُّغْيَانَ بَعْدَ الْفَرْطِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا لَا يُطِيقَانِ ذَلِكَ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَضْعَفِ لِأَن نَخَاف يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفِيِ. وَفِي النَّفْي يُذْكَرُ الْأَضْعَفُ بَعْدَ الْأَقْوَى بِعَكْسِ الْإِثْبَاتِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَذْفَهُ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ بِالْحَذْفِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ لَيْسَ نَظِيرُ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ آخَرُ لِكَوْنِ التَّقْسِيمِ التَّقْدِيرِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَ مُتَعَلِّقُ يَفْرُطَ عَلَيْنا وَكَانَ الْفَرْطُ شَامِلًا لِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ حَتَّى الْإِهَانَةَ بِالشَّتْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّقْسِيمُ بِ «أَوْ» مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ طُغْيَانُهُ عَلَى مَنْ لَا يَنَالُهُ عِقَابُهُ، أَيْ أَنْ يَطْغَى عَلَى اللَّهِ بِالتَّنْقِيصِ كَقَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: 38] وَقَوْلِهِ: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى [الْقَصَص: 38] ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى حِينَئِذٍ لتنزيهه عَن التَّصْرِيحِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْكَ فَيَتَصَلَّبَ فِي كُفْرِهِ وَيَعْسُرُ صَرْفُهُ

عَنْهُ. وَفِي التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَةٌ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَيْضًا تَحَرُّزٌ مِنْ رُسُوخِ عَقِيدَةِ الْكُفْرِ فِي نَفْسِ الطَّاغِي فَيَصِيرُ الرَّجَاءُ فِي إِيمَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَفَ مِنْهُ فِيمَا قَبْلُ، وَتِلْكَ مَفْسَدَةٌ فِي نَظَرِ الدِّينِ. وَحَصَلَتْ مَعَ ذَلِكَ رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ. قَالَ اللَّهُ لَا تَخافا، أَيْ لَا تَخَافَا حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ نَهْيٌ مُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّنِي مَعَكُما تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفِي، وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ حِفْظٍ. وأَسْمَعُ وَأَرى حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ أَنَا حَافِظُكُمَا مِنْ كُلِّ مَا تَخَافَانِهِ، وَأَنَا أَعْلَمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ فَلَا أَدَعُ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا تَخَافَانِهِ. وَنُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرى مَنْزِلَةَ اللَّازِمَيْنِ إِذْ لَا غَرَضَ لِبَيَانِ مَفْعُولِهِمَا بَلِ الْمَقْصُودُ: أَنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ. وَالْإِتْيَانُ: الْوُصُولُ وَالْحُلُولُ، أَيْ فَحُلَّا عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ أَثَرُ الذَّهَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ، وَكَانَا قَدِ اقْتَرَبَا مِنْ مَكَانِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمَا فِي مَدِينَتِهِ، فَلِذَا أُمِرَا بِإِتْيَانِهِ وَدَعْوَتِهِ. وَجَاءَتْ تَثْنِيَةُ رَسُولٍ عَلَى الْأَصْلِ فِي مُطَابَقَةِ الْوَصْفِ الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ فِي الْإِفْرَادِ وَغَيْرِهِ. وَفَعُولٌ الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ تَجُوزُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، كَقَوْلِهِمْ نَاقَةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِمْ: وَحْشِيَّةٌ خَلُوجٌ، أَيِ اخْتُلِجَ وَلَدُهَا. وَجَاءَ الْوَجْهَانِ فِي نَحْوِ (رَسُولُ) وَهُمَا وَجْهَانِ مُسْتَوِيَانِ.

وَمِنْ مَجِيئِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَة الشُّعَرَاء [16] :أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَدْخَلَ فَاءَ التَّفْرِيعِ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَبَ إِطْلَاقِهِمْ كَالْمُسْتَقَرِّ الْمَعْلُومِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِمَّا لِأَنَّهُ سَبَقَتْ إِشَاعَةُ عَزْمِهِمَا عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِذَلِكَ الْمَطْلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ كَالْمُقَرَّرِ. وَتَفْرِيعُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ من الله ظَاهر، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ مِنَ اللَّهِ تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَخَصَّا الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ فِرْعَوْنَ قَصْدًا لِأَقْصَى الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ كَوْنَ اللَّهِ رَبَّهُمَا مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِمَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وَكَوْنَهُ رَبَّ النَّاسِ مَعْلُومٌ بِالْأَحْرَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَّمَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ. وَالتَّعْذِيبُ الَّذِي سَأَلَاهُ الْكَفَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُسَخِّرُ لَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فِي الْخِدْمَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْعَبِيدِ وَالْخَوَلِ جَزَاءَ إِحْلَالِهِمْ بِأَرْضِهِ. وَجُمْلَةُ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فِيهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَكَانَتِ الْأُولَى إِجْمَالًا وَالثَّانِيَةُ بَيَانًا. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ بِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ دَلَائِلَ الصِّدْقِ. وَكِلَا الْغَرَضَيْنِ يُوجِبُ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُمَا مُصَاحِبَانِ لِآيَةٍ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِمَا مُسْتَعِدَّيْنِ لِإِظْهَارِ الْآيَةِ إِذَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ آمَنَ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إِلَى إِظْهَارِ الْآيَةِ يَكُنْ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ حُكِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [16] قَوْلُ فِرْعَوْنَ: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حيّة، وَقد تبعتها آيَاتٌ أُخْرَى.

وَالِاقْتِصَارُ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى أُرْسِلَ لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَكْوِينِ أُمَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِأَنْ يَبُثَّ فِيهِمُ الشَّرِيعَةَ الْمُصْلِحَةَ لَهُمْ وَالْمُقِيمَةَ لِاسْتِقْلَالِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، وَلَمْ يُرْسَلْ لِخِطَابِ الْقِبْطِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَعَ ذَلِكَ دَعَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ. وَأَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ طَلَبَ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا يُؤْخَذُ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَالْآيَاتِ الْأُخْرَى. وَالسَّلَامُ: السَّلَامَةُ وَالْإِكْرَامُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّحِيَّةُ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مُعَيَّنٌ يُقْصَدُ بِالتَّحِيَّةَ. وَلَا يُرَادُ تَحِيَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْمُوَاجَهَةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَغَيْرِهِ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ» . وَ (عَلَى) لِلتَّمَكُّنِ، أَيْ سَلَامَةُ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ثَابِتَةٌ لَهُمْ دُونَ رَيْبٍ. وَهَذَا احْتِرَاسٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، فَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] تَعْرِيضٌ بِأَنْ يَطْلُبَ فِرْعَوْنُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَوْلُهُ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا تَعْرِيضٌ لِإِنْذَارِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ حُصُوله مِنْهُ ليبلغ الرِّسَالَةِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ قَبْلَ ظُهُورِ رَأْيِ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يُجَابِهَهُ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِ بِتَصْرِيحِ تَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ. وَهَذَا من أُسْلُوبُ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ الَّذِي أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ. وَتَعْرِيفُ الْعَذَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَالْمُعَرَّفُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَذَابًا عَلَى مَنْ كَذَّبَ.

[سورة طه (20) : الآيات 49 إلى 50]

وَإِطْلَاقُ السَّلَامِ وَالْعَذَاب دون تَقْيِيد بِالدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ تَعْمِيمٌ لِلْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [25، 26] : فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى. وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُمَا بِتَبْلِيغِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى [طه: 49] عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ إِلَى هُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي السُّور الْمَاضِيَة. [49- 50] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 49 إِلَى 50] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) هَذَا حِكَايَةُ جَوَابِ فِرْعَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ بِإِبْلَاغِهِ فِرْعَوْنَ، فَفِي الْآيَةِ حَذْفُ جُمَلٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ قَصْدًا لِلْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَيَاهُ فَقَالَا لَهُ مَا أُمِرَا بِهِ، فَقَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟. وَلِذَلِكَ جَاءَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ بِجُمْلَةٍ مَفْصُولَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي اسْتَقْرَيْنَاهَا مِنْ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. وَوَجَّهَ فِرْعَوْنُ الْخِطَابَ إِلَيْهِمَا بِالضَّمِيرِ الْمُشْتَرَكِ، ثُمَّ خَصَّ مُوسَى بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مُوسَى هُوَ الْأَصْلُ بِالرِّسَالَةِ وَأَنَّ هَارُونَ تَابِعٌ لَهُ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَحْتَوِ عَلَيْهِ كَلَامُهُمَا فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ عَلِمَهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ وَمُخَاطَبَتِهِ، وَلِأَنَّ مُوسَى كَانَ مَعْرُوفًا فِي بَلَاطِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ رَبِيُّهُ أَوْ رَبِيُّ أَبِيهِ فَلَهُ سَابِقَةُ اتِّصَالٍ

بِدَارِ فِرْعَوْنَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَهُ الْمَحْكِيُّ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [18] : قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي تَوَلَّى الْكَلَامَ وَهَارُونَ يُصَدِّقُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ. وَإِضَافَتُهُ الرَّبَّ إِلَى ضَمِيرِهِمَا لِأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: 47] . وَأَعْرَضَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَمَنْ رَبِّي؟ إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ رَبُّكُما إِعْرَاضًا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ وَلَوْ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمَا، لِئَلَّا يَقَعُ ذَلِكَ فِي سَمْعِ أَتْبَاعِهِ وَقَوْمِهِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهِ، أَوْ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا. وَتَوَلَّى مُوسَى الْجَوَابَ لِأَنَّهُ خُصَّ بِالسُّؤَالِ بِسَبَبِ النِّدَاءِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَجَابَ مُوسَى بِإِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا قِيَاسٌ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كُلَّ شَيْءٍ. وكُلَّ شَيْءٍ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِ أَعْطى. وخَلْقَهُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي. وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ الْإِعْطَاءِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ وَالتَّكْوِينَ نِعْمَةٌ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ مَعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ، وَهُوَ الْخَلْقُ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْجَعْلِ، أَيِ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ شَكْلَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، فَكُوِّنَتْ بِذَلِكَ الْأَجْنَاسُ وَالْأَنْوَاعُ وَالْأَصْنَافُ وَالْأَشْخَاصُ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ الْخَلْقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ شَيْءٍ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ أَعْطى وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ خَلْقَهُ، أَيْ أَعْطَى خَلْقَهُ مَا يَحْتَاجُونَهُ، كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 99] . فَتَرْكِيبُ الْجُمْلَةِ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ.

[سورة طه (20) : الآيات 51 إلى 52]

وَالِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (كُلَّ) عُرْفِيٌّ، أَيْ كُلَّ شَيءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْطَاهُ أَصْنَافُ الْخَلْقِ وَيُنَاسِبُ الْمُعْطِي، أَوْ هُوَ اسْتِغْرَاقٌ عَلَى قَصْدِ التَّوْزِيعِ بِمُقَابلَة الْأَشْيَاء بالخلق، مِثْلُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. وَالْمَعْنَى: تَأَمَّلْ وَانْظُرْ هَلْ أَنْتَ أَعْطَيْتَ الْخَلْقَ أَوْ لَا؟ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يعلم أَنه يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، فَإِذَا تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ الْوُجُودَ وَالنِّعَمَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا، فَآمَنَ بِهِ بِعُنْوَانِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ بِمَعْنَيَيْهِ الزَّمَنِيِّ والْرُتْبِيِّ، أَيْ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ هَدَى إِلَى مَا خَلَقَهُمْ لِأَجْلِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: 8- 10] أَيْ طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْجَوَابِ مَا أَخْصَرَهُ وَمَا أَجْمَعَهُ وَمَا أَبَيَنَهُ لِمَنْ أَلْقَى الذِّهْنَ وَنَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَكَانَ طَالبا للحق» . [51- 52] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 51 إِلَى 52] قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) وَالْبَالُ: كَلِمَةٌ دَقِيقَةُ الْمَعْنَى، تُطْلَقُ عَلَى الْحَالِ الْمُهِمِّ، وَمَصْدَرُهُ الْبَالَهُ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [مُحَمَّد: 2] ، أَيْ حَالَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ ... » إِلَخْ، وَتُطْلَقُ عَلَى الرَّأْيِ يُقَالُ: خَطَرَ كَذَا بِبَالِيَ. وَيَقُولُونَ: مَا أَلْقَى لَهُ بَالًا، وَإِيثَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا مِنْ دَقِيقِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ.

أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُحَاجَّ مُوسَى بِمَا حَصَلَ لِلْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ فِرْعَوْنَ، أَيْ قُرُونِ أَهْلِ مِصْرَ، أَيْ مَا حَالُهُمْ، أَفَتَزْعُمُ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى ضَلَالَةٍ. وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ مَنْ لَا يَجِدْ حُجَّةً فَيَعْمِدُ إِلَى التَّشْغِيبِ بِتَخْيِيلِ اسْتِبْعَادِ كَلَامِ خَصْمِهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [يُونُس: 78] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ التَّشْغِيبَ عَلَى مُوسَى حِينَ نَهَضَتْ حُجَّتُهُ بِأَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى الْحَدِيثِ عَنْ حَالِ الْقُرُونِ الْأُولَى: هَلْ هُمْ فِي عَذَابٍ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِ مُوسَى: أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ، فَإِذَا قَالَ: إِنَّهُمْ فِي عَذَابٍ، ثَارَتْ ثَائِرَةُ أَبْنَائِهِمْ فَصَارُوا أَعْدَاءً لِمُوسَى، وَإِذَا قَالَ: هُمْ فِي سَلَامٍ، نَهَضَتْ حُجَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ مُتَابِعٌ لِدِينِهِمْ، وَلِأَنَّ مُوسَى لَمَّا أَعْلَمَهُ بِرَبِّهِ وَكَانَ ذَلِك مشعرا بالخلق الْأَوَّلِ خَطَرَ بِبَالِ فِرْعَوْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنِ الِاعْتِقَادِ فِي مَصِيرِ النَّاسِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَسَأَلَ: مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟ مَا شَأْنُهُمْ وَمَا الْخَبَرُ عَنْهُمْ؟ وَهُوَ سُؤَالُ تَعْجِيزٍ وَتَشْغِيبٍ. وَقَوْلُ مُوسَى فِي جَوَابِهِ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَيْنِ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مُوسَى صَرَفَهُ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يُجْدِي فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ الْمُتَمَحِّضُ لِدَعْوَةِ الْأَحْيَاءِ لَا الْبَحْث عَن أَحْوَال الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ أَفْضَوْا إِلَى عَالَمِ الْجَزَاءِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» . وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يَكُونُ مُوسَى قَدْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ حَالِهِمْ خَيْبَةً لِمُرَادِ فِرْعَوْنَ وَعُدُولًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُوسَى تَجَنَّبَ التَّصَدِّيَ لِلْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ فِي غَيْرِ مَا جَاءَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْإِعْرَاضِ فَوَائِدٌ كَثِيرَةٌ

[سورة طه (20) : الآيات 53 إلى 54]

وَهُوَ عَالِمٌ بِمُجْمَلِ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْأَوْلَى وَغَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أَشْخَاصِهِمْ. وَإِضَافَةُ عِلْمُها مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَضَمِيرُ عِلْمُها عَائِدٌ إِلَى الْقُرُونِ الْأُولى لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ يُؤَنَّثَ ضَمِيرُهُ. وَقَوْلُهُ فِي كِتابٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَجَازًا فِي تَفْصِيلِ الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأُمُورِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَحْقِيقِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَكْتُوبَةَ تَكُونُ مُحَقَّقَةً كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. وَالضَّلَالُ: الْخَطَأُ فِي الْعِلْمِ، شُبِّهَ بِخَطَأِ الطَّرِيقِ. وَالنِّسْيَانُ: عَدَمُ تَذَكُّرِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ فِي ذهن الْعَالم. [53- 54] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 53 إِلَى 54] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى. فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنْهَا مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ من تفنّن الْأَغْرَاض لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ الْأَذْهَانِ. وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى إِذْ لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ تَفْرِيعَ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً. فَقَوْلُهُ

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرَّبِّ الْمَفْهُومِ من رَبِّي [طه: 52] ، أَيْ هُوَ رَبُّ مُوسَى. وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيِ الْجَاعِلُ الْأَرْضَ مِهَادًا فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ حَقِيقًا بِالْإِلَهِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِهاداً- بِكَسْر الْمِيم وَألف بعد الْهَاء- وَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَمْهُودِ مِثْلُ الْفِرَاشِ وَاللِّبَاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ مَهْدٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُمَهَّدُ لِلصَّبِيِّ، أَيْ يُوضَعُ عَلَيْهِ وَيُحْمَلُ فِيهِ، فَيَكُونُ بِوَزْنِ كِعَابٍ جَمْعًا لِكَعْبٍ. وَمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى اعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْبِقَاعِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ مَهْداً- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-، أَيْ كَالْمَهْدِ الَّذِي يُمَهَّدُ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ بِمَصْدَرِ مَهَدَهُ، عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنى الْمَفْعُول كالخلق بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ اسْمًا لِمَا يُمَهَّدُ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَمْهُودَةً مُسَهَّلَةً لِلسَّيْرِ وَالْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ بِحَيْثُ لَا نُتُوءَ فِيهَا إِلَّا نَادِرًا يُمْكِنُ تَجَنُّبُهُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 19، 20] . وَسَلَكَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّلُوكِ وَالسَّلْكُ الَّذِي هُوَ الدُّخُولُ مُجْتَازًا وَقَاطِعًا. يُقَالُ: سَلَكَ طَرِيقًا، أَي دخله مجتازا. وَيسْتَعْمل مجَازًا فِي السّير فِي الطَّرِيق تَشْبِيها للسائر بالشَّيْء الدَّاخِل فِي شَيْء آخر. يُقَال: سلك طَرِيقا. فَحَقُّ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَدْخُولُ فِيهِ، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَسْلَكَ. وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ تَعَدِّيهِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ فَيُقَالُ: أَسْلَكَ الْمِسْمَارَ فِي اللَّوْحِ، أَيْ جَعَلَهُ سَالِكًا

إِيَّاهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَ فِي الْكَلَامِ تَجْرِيدُهُ مِنَ الْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجنّ: 17] . وَكَثُرَ كَوْنُ الِاسْمِ الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا ثَانِيًا يَصِيرُ مَجْرُورًا بِ (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] بِمَعْنَى أَسْلَكَكُمْ سَقَرَ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [200] ، وَقَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [21] . وَقَالَ الْأَعْشَى: كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ أَدْخَلَ الْمِسْمَارَ فِي الْبَابِ نَجَّارٌ، فَصَارَ فِعْلُ سَلَكَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا فَهُوَ سَلَكَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ أَسْلَكَ فِيهَا سُبُلًا، أَيْ جَعَلَ سُبُلًا سَالِكَةً فِي الْأَرْضِ، أَيْ دَاخِلَةً فِيهَا، أَيْ مُتَخَلِّلَةً. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهَا فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّبُلِ: كُلُّ سَبِيلٍ يُمْكِنُ السَّيْرُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَةِ الْأَرْضِ كَالسُّهُولِ وَالرِّمَالِ، أَوْ كَانَ مِنْ أَثَرِ فِعْلِ النَّاسِ مِثْلَ الثَّنَايَا الَّتِي تَكَرَّرَ السَّيْرُ فِيهَا فَتَعَبَّدَتْ وَصَارَتْ طُرُقًا يُتَابِعُ النَّاسُ السَّيْرَ فِيهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ مِنَّةَ خَلْقِ الْأَرْضِ شَفَعَهَا بِمِنَّةِ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنْهَا بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ. وَتلك منّة تنبىء عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ حَيْثُ أَجْرَى ذِكْرِهَا لِقَصْدِ ذَلِكَ التَّذْكِيرِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ: وَصَبَبْنَا الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا فِي آيَةِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 25، 26] . وَهَذَا إِدْمَاجٌ بَلِيغٌ. وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا الْتِفَاتٌ. وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَجَّ الْمُشْرِكِينَ بِحُجَّةِ انْفِرَادِهِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَتَسْخِيرِ السَّمَاءِ مِمَّا لَا سَبِيلَ بِهِمْ إِلَى نُكْرَانِهِ ارْتَقَى

إِلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُطَاعِ فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَسَخَّرَ السَّمَاءَ حَقِيقٌ بِأَنْ تُطِيعَهُ الْقُوَى وَالْعَنَاصِرُ، فَهُوَ يُخْرِجُ النَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ بِسَبَبِ مَاءِ السَّمَاءِ، فَكَانَ تَسْخِيرُ النَّبَاتِ أَثَرًا لِتَسْخِيرِ أَصْلِ تَكْوِينِهِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَتُرَابِ الْأَرْضِ. وَلِمُلَاحَظَةِ هَذِهِ النُّكْتَةِ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِنْبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 99] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فاطر: 35] ، وَقَوْلُهُ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْل: 60] وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [11] : وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. وَقَدْ نَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَلِلَّهِ دَرُّهُ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ. وَحَقِيقَةُ الزَّوْجِ أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. فَكُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمَا هُوَ زَوْجٌ بِاعْتِبَارِ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِسَبْقِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ إِيَّاهُ زَوْجًا. ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمُقْتَرِنَيْنِ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانِ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 27] ، وَقَالَ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: 39] وَقَالَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَة: 35] . وَلَمَّا شَاعَتْ فِيهِ مُلَاحَظَةُ مَعْنَى اتِّحَادِ النَّوْعِ تَطَرَّقُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الزَّوْجِ فِي مَعْنَى النَّوْعِ بِغَيْرِ قَيْدِ كَوْنِهِ ثَانِيًا لِآخَرَ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لُقْمَان: 10] . وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتَدَرَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ ... » الْحَدِيثَ، أَيْ مَنْ أَنْفَقَ نَوْعَيْنِ مِثْلَ الطَّعَامِ

وَالْكُسْوَةِ، وَمِثْلَ الْخَيْلِ وَالرَّوَاحِلِ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ فَأَنْبَتْنَا بِهِ أَنْوَاعًا مِنْ نَبَاتٍ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وَالنَّبَاتُ: مَصْدَرٌ سمي بِهِ النَّبَات، فَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ بِوَزْنِ فَعْلَى، مِثْلُ: مَرِيضٍ وَمَرْضَى. وَالشَّتِيتُ: الْمُشَتَّتُ، أَيِ الْمُبْعَدُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا التَّبَاعُدُ فِي الصِّفَاتِ مِنَ الشَّكْلِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَبَعْضُهَا صَالِحٌ لِلْإِنْسَانِ وَبَعْضُهَا لِلْحَيَوَانِ. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَأَخْرَجْنا. وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلِينَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ. وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ مُرَادٌ بِهِ الْمِنَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: كُلُوا مِنْهَا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ مِنْهَا. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ لِقَصْدِ التَّوْزِيعِ. وَفِعْلُ (رَعَى) يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا. يُقَالُ: رَعَتِ الدَّابَّةُ وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا. وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ الْقَاصِرِ: الرَّعْيُ، وَمَصْدَرُ الْمُتَعَدِّي: الرِّعَايَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: رَأَيْتُكَ تَرْعَانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مُعْتَرِضَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ فَبَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَالْمِنَّةِ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ لِمَنْ تَأَمَّلَ، جُمِعَتْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَصُرِّحَ بِمَا فِي جَمِيعِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ. وَكُلٌّ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّوْكِيدِ مُقْتَضٍ لِفَصْلِ الْجُمْلَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فِي دَلَالَةِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ

[سورة طه (20) : آية 55]

أَنْفُسَهُمْ مِنْ أُولِي النُّهَى، فَمَا كَانَ عَدَمُ اهْتِدَائِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعِدُّوهَا آيَاتٍ. لَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ جَمَّةٍ يَتَفَطَّنُ لَهَا ذَوُو الْعُقُولِ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَيَنْتَبِهُونَ لَهَا بِالتَّذْكِيرِ. وَالنُّهَى: اسْمٌ جَمْعُ نُهْيَةٍ- بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-، أَيِ الْعَقْلِ، سُمِّيَ نُهْيَةً لِأَنَّهُ سَبَبُ انْتِهَاءِ الْمُتَحَلِّي بِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُفْسِدَةِ وَالْمُهْلِكَةِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا سُمِّيَ بِالْعَقْلِ وَسمي بِالْحجرِ. [55] [سُورَة طه (20) : آيَة 55] مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَهَذَا إدماج للتذكير بالخلق الْأَوَّلِ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْمُنَاسَبَةُ مُتَمَكِّنَةٌ فَإِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا يَسْتَدْعِي إِكْمَالَ ذِكْرِ الْمُهِمِّ لِلنَّاسِ مِنْ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ خَلْقُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ شَبِيهًا بِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنْهَا. وَإِخْرَاجُ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ شَبِيهٌ بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: 17، 18] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُتَعَلَّقَاتِهَا فَأَمَّا الْمَجْرُورُ الْأَوَّلُ وَالْمَجْرُورُ الثَّالِثُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِكَوْنِ الْأَرْضِ مَبْدَأَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالْخَلْقِ الثَّانِي. وَأَمَّا تَقْدِيمُ وَفِيها نُعِيدُكُمْ فَلِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَظِيرَيْهِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِيها نُعِيدُكُمْ عَلَى أَنَّ دَفْنَ الْأَمْوَاتِ فِي الْأَرْضِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ لِمُوَارَاةِ الْمَوْتَى سَوَاءٌ كَانَ شَقًّا فِي الْأَرْضِ أَوْ لَحْدًا، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا إِعَادَةٌ فِي الْأَرْضِ فَمَا يَأْتِيهِ بَعْضُ الْأُمَمِ غَيْرِ

[سورة طه (20) : آية 56]

الْمُتَدَيِّنَةِ مِنْ إِحْرَاقِ الْمَوْتَى بِالنَّارِ، أَوْ إِغْرَاقِهِمْ فِي الْمَاءِ، أَوْ وَضْعِهِمْ فِي صَنَادِيقَ فَوْقَ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ اللَّهِ وَفِطْرَتِهِ. لِأَنَّ الْفِطْرَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ فَيَجِبُ أَنْ يُوَارَى فِيهَا. وَكَذَلِكَ كَانَتْ أَوَّلُ مُوَارَاةٍ فِي الْبَشَرِ حِينَ قَتَلَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [31] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَجَاءَتِ الشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ بِوُجُوبِ الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ. وَالتَّارَةُ: الْمَرَّةُ، وَجَمْعُهَا تَارَاتٌ. وَأَصْلُ أَلِفِهَا الْوَاوُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُ أَلِفِهَا هَمْزَةٌ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا تَرَكُوا الْهَمْزَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ظَهَرَ الْهَمْزُ فِي جَمْعِهَا عَلَى فِعَلٍ فَقَالُوا: تِئَرٌ بِالْهَمْزِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا اسْمٌ جَامِدٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مُشْتَقٌّ مِنْهُ. وَالْإِخْرَاجُ: هُوَ إِخْرَاجُهَا إِلَى الْحَشْرِ بَعْدَ إِعَادَةِ هَيَاكِلِ الْأَجْسَامِ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِخْرَاجُ تَارَةً ثَانِيَةً لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَرْضِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ بِإِعَادَةِ خَلْقِهَا كَمَا خُلِقَتْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] . [56] [سُورَة طه (20) : آيَة 56] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) رُجُوعٌ إِلَى قَصَصِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ فِرْعَوْنَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي حَكَتْ مُحَاوَرَةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَقَعَتْ هَذِهِ كَالْمُقَدِّمَةِ لِإِعَادَةِ سَوْقِ مَا جَرَى بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى [طه: 49] بِاعْتِبَارِ

مَا يُقَدَّرُ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ كَلَامٍ حُذِفَ اخْتِصَارًا، تَقْدِيرُهُ: فَأَتَيَاهُ فَقَالَا مَا أَمَرْنَاهُمَا أَنْ يَقُولَاهُ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا إِلَخْ. الْمَعْنَى: فَأَتَيَاهُ وَقَالَا مَا أَمَرْنَاهُمَا وَأَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا عَلَى يَدِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ تَصَلُّبِ فِرْعَوْنَ فِي عِنَادِهِ، وَقُصِدَ مِنْهَا بَيَانُ شِدَّتِهِ فِي كُفْرِهِ وَبَيَانُ أَنَّ لِمُوسَى آيَاتٌ كَثِيرَةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ لِفِرْعَوْنَ فَلَمْ تُجْدِ فِي إِيمَانِهِ. وَأُجْمِلَتْ وَعُمِّمَتْ فَلَمْ تُفَصَّلْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ شِدَّةِ تَصَلُّبِهِ فِي كُفْرِهِ بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي قُصِدَ مِنْهَا بَيَانُ تَعَاقُبِ الْآيَاتِ وَنُصْرَتِهَا. وَإِرَاءَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْآيَاتِ: إِظْهَارُهَا لَهُ بِحَيْثُ شَاهَدَهَا. وَإِضَافَةُ (آيَاتٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُنَا يُفِيدُ تَعْرِيفًا لِآيَاتٍ مَعْهُودَةٍ، فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْجَمْعِ بِالْإِضَافَةِ- يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ- يَكُونُ لِلْعَهْدِ وَيَكُونُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْأَوَّلُ، أَيْ أَرَيْنَا فِرْعَوْنَ آيَاتِنَا الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: 12] . وَهِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً، وَتَبَدُّلُ لَوْنِ الْيَدِ بَيْضَاءَ، وَسِنُوُّ الْقَحْطِ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ. وَقَدِ اسْتَمَرَّ تَكْذِيبُهُ بَعْدَ جَمِيعِهَا حَتَّى لَمَّا رَأَى انْفِلَاقَ الْبَحْرِ اقْتَحَمَهُ طَمَعًا لِلظَّفَرِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَتَأْكِيدُ الْآيَاتِ بِأَدَاةِ التَّوْكِيدِ كُلَّها لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ عِنَادِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فِي سُورَةِ الْقَمَرِ

[سورة طه (20) : الآيات 57 إلى 59]

وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا جُمْلَةَ وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى [طه: 49] ، وَجُمْلَةَ قالَ فَمَنْ رَبُّكُما بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَكَذَّبَ وَأَبى. فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَزْمُ فِرْعَوْنَ عَلَى إِحْضَارِ السَّحَرَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ إِرَادَةِ الْآيَاتِ كُلَّهَا فَوَقَعُوا فِي إِشْكَالِ صِحَّةِ التَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آياتِنا كُلَّها. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ اعْتِرَافِ السَّحَرَةِ بِأَنَّهُمْ غُلِبُوا مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ إِنَّمَا ظَهَرَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِثْلَ: سِنِيِّ الْقَحْطِ، وَالدَّمِ، وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ. وَهَذَا الْحَمْلُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي ترتيبا. [57- 59] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 57 إِلَى 59] قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: 51] وَجَوَابُ مُوسَى عَنْهَا. وَافْتِتَاحُهَا بِفِعْلِ قالَ وَعَدَمُ عَطْفِهِ لَا يَتْرُكُ شَكًّا فِي أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْمُحَاوَرَةِ. وَقَوْلُهُ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَاهُ آيَةَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَانْقِلَابِ يَدِهِ بَيْضَاءَ. وَذَلِكَ مَا سَمَّاهُ فِرْعَوْنُ سِحْرًا. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمُقْتَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمَا: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ...

الْآيَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [29- 35] . وَقَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ هُنَا بِمَا فِي جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها [طه: 56] مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِآيَةِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً. وَإِضَافَتُهُ السِّحْرَ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى قُصِدَ مِنْهَا تَحْقِيرُ شَأْنِ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ سِحْرًا. وَأَسْنَدَ الْإِتْيَانَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. وَمَعْنَى إِتْيَانِهِ بِالسِّحْرِ: إِحْضَارُ السَّحَرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالسِّحْرِ، إِذِ السِّحْرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَاحِرٍ. وَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ مِثْلِهِ مُمَاثَلَةٌ فِي جِنْسِ السِّحْرِ لَا فِي قُوَّتِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ فِرْعَوْنُ الْعِلَّةَ فِي مَجِيءِ مُوسَى إِلَيْهِ: أَنَّهَا قَصْدُهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ قِيَاسًا مِنْهُ عَلَى الَّذِينَ يَقُومُونَ بِدَعْوَةٍ ضِدَّ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَبْغُونَ بِذَلِكَ إِزَالَتَهُمْ عَنِ الْمُلْكِ وَحُلُولَهُمْ مَحَلَّهُمْ، يَعْنِي أَنَّ مُوسَى غَرَّتْهُ نَفْسُهُ فَحَسِبَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ اقْتِلَاعَ فِرْعَوْنَ مِنْ مُلْكِهِ، أَيْ حَسِبْتَ أَنَّ إِظْهَارَ الْخَوَارِقِ يُطَوِّعُ لَكَ الْأُمَّةَ فَيَجْعَلُونَكَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ وَتُخْرِجَنِي مِنْ أَرْضِي. فَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْظِيمِ لَا فِي الْمُشَارَكَةِ، لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَا يُشَمُّ مِنْهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْجَمَاعَةِ تَغْلِيبًا، وَنَزَّلَ فِرْعَوْنُ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْهَا. وَأَرَادَ بِالْجَمَاعَةِ جَمَاعَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُ مُوسَى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [طه: 47] ، أَيْ جِئْتَ لِتُخْرِجَ بَعْضَ الْأُمَّةِ مِنْ أَرْضِنَا وَتَطْمَعُ أَنْ يَتَّبِعَكَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ بِمَا تُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ سَحْرِكَ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَجِئْتَنا إِنْكَارِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْقَسَمَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، وَالْقَسَمُ مِنْ أَسَالِيبِ إِظْهَارِ الْغَضَبِ. وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَالنُّونُ لِتَوْكِيدِهِ. وَقَصَدَ فِرْعَوْنُ مِنْ مُقَابَلَةِ عَمَلِ مُوسَى بِمِثْلِهِ أَنْ يُزِيلَ مَا يُخَالِجُ نُفُوسَ النَّاسِ مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى وَكَوْنِهِ عَلَى الْحَقِّ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الثَّوْرَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِزَالَتِهِ مِنْ مُلْكِ مِصْرَ. وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ طَلَبَ تَعْيِينِ مَوْعِدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى لِيُحْضِرَ لَهُ فِيهِ الْقَائِمِينَ بِسِحْرٍ مِثْلِ سِحْرِهِ. وَالْمَوْعِدُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ الْمِيمِيِّ، أَيِ الْوَعْدُ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانُ الْوَعْدِ، وَهَذَا إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ مَكاناً بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَوْعِداً بِأَحَدِ مَعْنَيَيْهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَقْتَضِي مَكَانًا وَزَمَانًا فَأُبْدِلَ مِنْهُ مَكَانَهُ. وَقَوْلُهُ لَا نُخْلِفُهُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ الْفِعْلِ صِفَةً لِ مَوْعِداً بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيِّ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِجَزْمِ الْفَاءِ مِنْ (نَخْلِفْهُ) عَلَى أَنَّ (لَا) نَاهِيَةً. وَالنَّهْيُ تَحْذِيرٌ مِنْ إِخْلَافِهِ. وسُوىً قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ- بِكَسْرِ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْكَسْرُ بِوَزْنِ فِعَلْ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَزْنُ فِعَلْ يَقِلُّ فِي الصِّفَاتِ، نَحْوَ: قَوْمٌ عِدًى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ: كَسْرُ السِّينِ هُوَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ الْفَصِيحَةُ، وَهُوَ اسْمُ وَصْفٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ اسْتِوَاءَ التَّوَسُّطِ بَيْنَ جِهَتَيْنِ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُوسَى ابْن جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ: وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ ... سِوًى بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِِِ

(الْفَزْرُ: لَقَبٌ لِسَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ) . وَالْمَعْنَى: قَالَ مُجَاهِدُ: إِنَّهُ مَكَانٌ نَصِفٌ، وَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نِصْفٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِئَلَّا يَشُقَّ الْحُضُورُ فِيهِ عَلَى أَهْلِ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَكَانًا مُسْتَوِيًا، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مُرْتَفَعَاتٌ تَحْجُبُ الْعَيْنَ، أَرَادَ مَكَانًا مُنْكَشِفًا لِلنَّاظِرِينَ لِيَشْهَدُوا أَعْمَالَ مُوسَى وَأَعْمَالَ السَّحَرَةِ. ثُمَّ تَعْيِينُ الْمَوْعِدِ غَيْرُ المخلف يَقْتَضِي تعْيين زَمَانَهُ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْلَافُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْوَعْدِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَمَكَانٌ مُعَيَّنٌ، فَمِنْ ثَمَّ طَابَقَهُ جَوَابُ مُوسَى بقوله قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَيَقْتَضِي أَنَّ مَحْشَرَ النَّاسِ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ كَانَ مَكَانًا مَعْرُوفًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ بِسَاحَةِ قَصْرِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِزِينَتِهِمْ وَلَهْوِهِمْ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهِ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي الْمَوَاسِمِ. فَقَوْلُهُ يَوْمُ الزِّينَةِ تَعْيِينٌ لِلْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ تَعْيِينٌ لِلْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ ضُحًى تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ. وَالضُّحَى: وَقْتُ ابْتِدَاءِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا. وَيَوْمُ الزِّينَةِ كَانَ يَوْمُ عِيدٍ عَظِيمٍ عِنْدَ الْقِبْطِ، وَهُوَ يَوْمُ كَسْرِ الْخَلِيجِ أَوِ الْخُلْجَانِ، وَهِيَ الْمَنَافِذُ وَالتُّرَعُ الْمَجْعُولَةُ عَلَى النَّيْلِ لِإِرْسَالِ الزَّائِدِ مِنْ مِيَاهِهِ إِلَى الْأَرَضِينَ الْبَعِيدَةِ عَنْ مَجْرَاهُ لِلسَّقْيِ، فَتَنْطَلِقُ الْمِيَاهُ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي الَّتِي يُمْكِنُ وُصُولُهَا إِلَيْهَا وَيَزْرَعُونَ عَلَيْهَا. وَزِيَادَةُ الْمِيَاهِ فِي النِّيلِ هُوَ تَوْقِيتُ السَّنَةِ الْقِبْطِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ (تُوتَ) الْقِبْطِيِّ، وَهُوَ (أَيْلُولُ) بِحَسْبِ التَّارِيخِ الِإسْكَنْدَرِيِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ

[سورة طه (20) : الآيات 60 إلى 61]

حُلُولِ الشَّمْسِ فِي بُرْجِ الْمِيزَانِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَيْ قَبْلَ فَصْلِ الْخَرِيفِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ يُوَافِقُ الْيَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ تِشْرِينَ (سِبْتَمْبِرَ) . وَأَوَّلَ أَيَّامِ شَهْرِ (تُوتَ) هُوَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ عِنْدَ الْفُرْسِ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِسَابِ انْتِهَاءِ زِيَادَةِ النِّيلِ لَا عَلَى حِسَابِ بُرُوجِ الشَّمْسِ. وَاخْتَارَ مُوسَى هَذَا الْوَقْتَ وَهَذَا الْمَكَانَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ سَيَكُونُ الْفَلَجُ لَهُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مُشَاهِدًا وأوضح رُؤْيَة. [60- 61] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 60 إِلَى 61] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) تَفْرِيعُ التَّوَلِّي وَجَمْعُ الْكَيْدِ عَلَى تَعْيِينِ مُوسَى لِلْمَوْعِدِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ بَادَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِهَذَا الْمَوْعِدِ وَلَمْ يُضِعِ الْوَقْتَ لِلتَّهْيِئَةِ لَهُ. وَالتَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته، أَيِ انْصَرَفَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى حَيْثُ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلَى الْمَدَائِنِ لِجَمْعِ مَنْ عُرِفُوا بِعِلْمِ السِّحْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [22، 23] ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى. وَمَعْنَى جَمْعُ الْكَيْدِ: تَدْبِيرُ أُسْلُوبِ مُنَاظَرَةِ مُوسَى، وَإِعْدَادُ الْحِيَلِ لِإِظْهَارِ غَلَبَةِ السَّحَرَةِ عَلَيْهِ، وَإِقْنَاعِ الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ مُوسَى لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ: أَنْ يَسْعَى الْمُنَاظِرُ جُهْدَهُ لِلتَّشْهِيرِ بِبُطْلَانِ حُجَّةِ خَصْمِهِ بِكُلِّ وَسَائِلِ التَّلْبِيسِ وَالتَّشْنِيعِ وَالتَّشْهِيرِ، وَمُبَادَأَتِهِ بِمَا يَفُتُّ فِي عَضُدِهِ وَيُشَوِّشُ رَأْيَهُ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ تَدْبِيرُهُ.

فَالْجَمْعُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِعْدَادِ الرَّأْيِ. وَاسْتِقْصَاءِ تَرْتِيبِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ [يُونُس: 71] ، أَيْ جَمَعَ رَأْيَهُ وَتَدْبِيرَهُ الَّذِي يَكِيدُ بِهِ مُوسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَجَمَعَ أَهْلَ كَيْدِهِ، أَيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشُّعَرَاء: 38] . وَالْكَيْدُ: إِخْفَاءُ مَا بِهِ الضُّرُّ إِلَى وَقْتِ فِعْلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [183] . وَمَعْنَى ثُمَّ أَتى ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْعِدَ، وَثمّ لِلْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ والْرُتْبِيَّةِ مَعًا، لِأَنَّ حُضُورَهُ لِلْمَوْعِدِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُهْلَةِ الِاسْتِعْدَادِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْحُضُورَ بَعْدَ جَمْعِ كَيْدِهِ أَهَمُّ مِنْ جَمْعِ الْكَيْدِ، لِأَنَّ فِيهِ ظُهُورَ أَثَرِ مَا أَعَدَّهُ. وَجُمْلَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أَتى يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَمَاذَا حَصَلَ حِينَ أَتَى فِرْعَوْنُ مِيقَاتَ الْمَوْعِدِ. وَأَرَادَ مُوسَى مُفَاتَحَةَ السَّحَرَةِ بِالْمَوْعِظَةِ. وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ قَوْلِهِ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أَيْ بِأَهْلِ سِحْرٍ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ كَانَ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَحَاشِيَتِهِ، فَيَكُونُ مَعَادُ الضَّمِيرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى، أَيْ جَمَعَ رِجَالَ كَيْدِهِ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ وَيْلَكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ إِلَانَةِ الْقَوْلِ لِفِرْعَوْنَ: إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوَاجِهًا بِهِ فِرْعَوْنَ بَلْ وَاجَهَ بِهِ السَّحَرَةَ خَاصَّةً الَّذِينَ اقْتَضَاهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَمَعَ كَيْدَهُ، أَيْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِ كَيْدِ فِرْعَوْنَ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ إِلَانَةَ الْقَوْلِ لَهُ غَيْرُ نَافِعَةٍ، إِذْ لَمْ يَزَلْ عَلَى تَصْمِيمِهِ عَلَى الْكُفْرِ، أَغْلَظَ الْقَوْلَ زَجْرًا لَهُ بِأَمْرٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ فِي تِلْكَ

السَّاعَةِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ، كَمَا أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [39] وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى تَمْوِيهِهِمْ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَنَّ سِحْرَهُمْ مُعْجِزَةٌ لَهُمْ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَمِنْ فِرْعَوْنَ رَبِّهِمُ الْأَعْلَى وَقَالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشُّعَرَاء: 44] رَأَى وَاجِبًا عَلَيْهِ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِهِ بِأَقْصَى مَا يَسْتَطِيعُ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ الرِّسَالَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ وَيْلَكُمْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّعَجُّبِ مِنْ حَالٍ غَرِيبَةٍ، أَيْ أَعْجَبُ مِنْكُمْ وَأُحَذِّرُكُمْ، كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَصِيرٍ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ» فَحُكِيَ تَعَجُّبُ مُوسَى بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الدَّالِّ عَلَى الْعَجَبِ الشَّدِيدِ. وَالْوَيْلُ: اسْمٌ لِلْعَذَابِ وَالشَّرِّ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ. وَانْتَصَبَ وَيْلَكُمْ إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ عَلَى التَّحْذِيرِ أَوِ الْإِغْرَاءِ، أَيِ الْزَمُوا وَيْلَكُمْ، أَوِ احْذَرُوا وَيْلَكُمْ وَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ النِّدَاءِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنَا، وَيَا وَيَلَتَنَا. وَتَقَدَّمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَذِباً لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَة الْمَائِدَة [103] . وَالِافْتِرَاءُ الَّذِي عَنَاهُ مُوسَى هُوَ مَا يُخَيِّلُونَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الشَّعْوَذَةِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: انْظُرُوا كَيْفَ تَحَرَّكَ الْحَبْلُ فَصَارَ ثُعْبَانًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَوْجِيهِ التَّخَيُّلَاتِ بِتَمْوِيهِ أَنَّهَا حَقَائِقُ، أَوْ قَوْلُهُمْ: مَا نَفْعَلُهُ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لَنَا، أَوْ قَوْلُهُمْ: أَنَّ مُوسَى كَاذِبٌ وَسَاحِرٌ، أَوْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ إِلَهَهُمْ، أَوْ آلِهَةُ فِرْعَوْنَ آلِهَةٌ. وَقَدْ كَانَتْ مَقَالَاتُ كُفْرِهِمْ أَشْتَاتًا.

[سورة طه (20) : الآيات 62 إلى 64]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيُسْحِتَكُمْ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- مُضَارِعُ سَحَتَهُ: إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- مِنْ أَسْحَتَهُ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، وَكِلْتَا اللُّغَتَيْنِ فُصْحَى. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَفْتَرُوا وَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، أَيِ اجْتَنِبُوا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. بَعْدَ أَنْ وَعَظَهُمْ فَنَهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْذَرَهُمْ عَذَابَهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ الَّذِينَ افْتَرَوُا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيمَا افْتَرَوْا لِأَجْلِهِ. ومَنِ الْمَوْصُولَةُ لِلْعُمُومِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَوْقِعِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى مِنَ الْقِيَاسِ الِاقْتِرَانِيِّ. وَفِي كَلَامِ مُوسَى إِعْلَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَوَّلُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْصِلُهُ بِعَذَابٍ وَيَعْلَمُ خَيْبَةَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يقدم عَلَيْهِ. [62- 64] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 62 إِلَى 64] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) أَيْ تَفَرَّعَ عَلَى مَوْعِظَةِ مُوسَى تَنَازُعُهُمُ الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَرَكَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ بَعْضَ الْأَثَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَشِيَ الِانْخِذَالَ، فَلِذَلِكَ دَعَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلتَّشَاوُرِ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ.

وَالتَّنَازُعُ: تَفَاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، وَهُوَ الْجَذْبُ مِنَ الْبِئْرِ، وَجَذْبُ الثَّوْبِ مِنَ الْجَسَدِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ تَمْثِيلًا فِي اخْتِلَافِ الرَّأْيِ وَمُحَاوَلَةِ كُلِّ صَاحِبِ رَأْيٍ أَنْ يُقْنِعَ الْمُخَالِفَ لَهُ بِأَنَّ رَأْيَهُ هُوَ الصَّوَابُ، فَالتَّنَازُعُ: التَّخَالُفُ. وَالنَّجْوَى: الْحَدِيثُ السِّرِّيُّ، أَيِ اخْتَلَوْا وَتَحَادَثُوا سِرًّا لِيَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَجَعَلَ النَّجْوَى مَعْمُولًا لِ أَسَرُّوا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكِتْمَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَسَرُّوا سِرَّهُمْ، كَمَا يُقَالُ: شِعْرُ شَاعِرٍ. وَزَادَهُ مُبَالَغَةً قَوْلُهُ بَيْنَهُمْ الْمُقْتَضِي أَنَّ النَّجْوَى بَيْنَ طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ لَا يَشْتَرِكُ مَعَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. وَجُمْلَةُ قالُوا إِنْ هذانِ لسحران بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَأَسَرُّوا النَّجْوى، لِأَنَّ إِسْرَارَ النَّجْوَى يَشْتَمِلُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ ذُكِرَ مِنْهَا هَذَا الْقَوْلُ، لِأَنَّهُ الْقَوْلُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ وَالرَّأْيُ الَّذِي أَرْسَوْا عَلَيْهِ، فَهُوَ زُبْدَةُ مَخِيضِ النَّجْوَى. وَذَلِكَ شَأْنُ التَّشَاوُرِ وَتَنَازُعِ الْآرَاءِ أَنْ يُسْفِرَ عَنْ رَأْيٍ يَصْدُرُ الْجَمِيعُ عَنْهُ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِهِمْ عَلَى مَعْنَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، فَقَالَ جَمِيعُهُمْ: نَعَمْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، فَأُسْنِدَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، أَيْ مَقَالَةً تَدَاوَلُوا الْخَوْضَ فِي شَأْنِهَا فَأَرْسَوْا عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ، وَنَطَقُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُمْ، وَهُوَ تَحَقُّقُهُمْ أَنَّ مُوسَى وَأَخَاهُ سَاحِرَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرَّاء المعتبرين قرأوا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ من قَوْله «هاذان» مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو مِنَ الْعَشَرَةِ وَمَا عَدَا الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَلِكَ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي لَفْظِ (هَذَانِ) أَكْثَرُ تَوَاتُرًا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ (إِنَّ)

مُشَدَّدَةً أَوْ مُخَفَّفَةً، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَشْهُورِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَرَأُوا- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (أَنَّ) مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ فَهُمَا قَرَءَا (أَنْ) - بِسُكُونِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَإِنَّ الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ مَا رَسَمُوهُ إِلَّا اتِّبَاعًا لِأَشْهَرِ الْقِرَاءَاتِ الْمَسْمُوعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَّاءِ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ أَقْدَمُ مِنْ كِتَابَتِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْكَاتِبِينَ، وَمَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ الْإِمَامُ إِلَّا مِنْ مَجْمُوعِ مَحْفُوظِ الْحُفَّاظِ وَمَا كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (إِنَّ) وَبِالْأَلِفِ فِي هذانِ وَكَذَلِكَ فِي لَساحِرانِ، فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا آرَاءٌ بَلَغَتِ السِّتَّةَ. وَأَظْهَرُهَا أَنْ تَكُونَ (إِنَّ) حَرْفُ جَوَابٍ مِثْلَ: نَعَمْ وَأَجَلْ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ (إِنَّ) ، أَيِ اتَّبَعُوا لَمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ النَّجْوَى كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ: وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ أَيْ أَجَلْ أَوْ نَعَمْ، وَالْهَاءُ فِي الْبَيْتِ هَاءُ السَّكْتِ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِأَعْرَابِيٍّ اسْتَجْدَاهُ فَلَمْ يُعْطِهِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ وَرَاكِبَهَا. وَهَذَا التَّوْجِيهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ ذَكَرَهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَقَالَ: عَرَضْتُهُ عَلَى عَالِمَيْنَا وَشَيْخَيْنَا وَأُسْتَاذَيْنَا مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدٍ (يَعْنِي الْمُبَرِّدَ) ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ (يَعْنِي الْقَاضِيَ الشَّهِيرَ) فَقَبِلَاهُ وَذَكَرَا أَنَّهُ أَجْوَدُ مَا سَمِعَاهُ فِي هَذَا. وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقَا وَحَقَّقَا، وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّدِّ فِيهِ نَظَرٌ.

وَفِي «التَّفْسِيرِ الْوَجِيزِ» لِلْوَاحِدِيِّ سَأَلَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ) ابْنَ كَيْسَانَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُبْهَمِ إِعْرَابٌ فِي الْوَاحِدِ وَلَا فِي الْجَمْعِ (أَيْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا وَهَؤُلَاءِ إِذْ هُمَا مَبْنِيَّانِ) جَرَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرَى الْوَاحِدِ إِذِ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَنْ لَا تُغَيَّرَ. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل: مَا حسن هَذَا لَوْ تَقَدَّمَكَ أَحَدٌ بِالْقَوْلِ فِيهِ حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ كَيْسَانَ: فَلْيَقُلْ بِهِ الْقَاضِي حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ، فَتَبَسَّمَ. وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ حِكَايَةً لِمَقَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي قَبِلَ هَذَا الرَّأْيَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَوَابِ يَقْتَضِي كَلَامًا سَبَقَهُ. وَدَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى الْخَبَرِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْخَبَرِ جُمْلَةً حُذِفَ مُبْتَدَأُهَا وَهُوَ مَدْخُولُ اللَّامِ فِي التَّقْدِيرِ، وَوُجُود اللّام ينبىء بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَإِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ. وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا بِجَعْلِ (إِنَّ) حَرْفَ تَوْكِيدٍ وَإِعْرَابُ اسْمِهَا الْمُثَنَّى جَرَى عَلَى لُغَةِ كِنَانَةَ وَبِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عَلَامَةَ إِعْرَابِ الْمُثَنَّى الْأَلِفَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ: فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ دَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ نُونِ (إِنْ) مُسَكَّنَةً- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةُ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَساحِرانِ اللَّامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِسُكُونِ نُونِ (إِنْ) - عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي «هَذَانِ» وَبِتَشْدِيدِ نُونِ (هَاذَانِّ) . وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحْدَهُ إِنَّ هَذَيْنِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ (إِنَّ) وَبِالْيَاءِ بَعْدَ ذَالِ «هَذَيْنِ» . فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مُخَالفَة للمصحف. وَأَقل: ذَلِكَ لَا يَطْعَنُ فِيهَا لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ وَوَافَقَتْ وَجْهًا مَقْبُولًا فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَنُزُولُ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْفَصِيحَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِتَجْرِيَ تَرَاكِيبُهُ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي مُتَّحِدَةِ الْمَقْصُودِ. فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّ كِتَابَةَ «إِنَّ هَاذَانِ» خَطَأٌ مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَرِوَايَتِهِمْ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. حَسِبُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَهَذَا تَغَفُّلٌ، فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَا كُتِبَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْحُفَّاظِ، وَمَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا مِنْ أَفْوَاهِ حُفَّاظِهِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ الْمَصَاحِفُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خَطَأٌ فِي الْخَطِّ لَمَا تَبِعَهُ الْقُرَّاءُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُرِكَ مِنَ الْأَلِفَاتِ فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ أَلِفِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالرِّبَا- بِالْوَاوِ- فِي مَوْضِعِ الْألف وَمَا قرأوها إِلَّا بِأَلِفَاتِهَا. وَتَأْكِيدُ السَّحَرَةِ كَوْنَ مُوسَى وَهَارُونَ سَاحِرَيْنِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُخَامِرُهُ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِمَا. وَجَعَلَ مَا أَظْهَرَهُ مُوسَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ سِحْرًا لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي

شَاهَدَتْ نَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهَا: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَسْحَرِ النَّاسِ، وَهُوَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَالْقَائِلُونَ: قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ شَاهَدَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، أَوْ مِمَّنْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ بِالتَّسَامُعِ وَالِاسْتِفَاضَةِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ لِمَلَئِهِمْ. وَوَجْهُ اتِّهَامِهِمَا بِذَلِكَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى [طه: 57] . وَنَزِيدُ هُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ النَّجْوَى بَيْنَ السَّحَرَةِ، أَيْ يُرِيدَانِ الِاسْتِئْثَارَ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ فِي أَرْضِكُمْ فَتَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ بِإِهْمَالِ النَّاسِ لَكُمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى سِحْرِ مُوسَى وَهَارُونَ. وَالطَّرِيقَةُ: السُّنَّةُ وَالْعَادَةُ شُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ السائر، بِجَامِع الْمُلَازَمَةِ. وَالْمُثْلَى: مُؤَنَّثُ الْأَمْثَلِ. وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَثَالَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْحَالَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ أمْثَلُ قَوْمِهِ، أَيْ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَحْسَنُهُمْ حَالًا. وَأَرَادُوا مِنْ هَذَا إِثَارَةَ حَمِيَّةِ بَعْضِهِمْ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهِمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهَا وَشَرَائِعِهَا وَأَخْلَاقِهَا. وَلِذَا فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِأَنْ يَجْمَعُوا حِيَلَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا بِهِ مُوسَى. وَالْبَاءُ فِي بِطَرِيقَتِكُمُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يَذْهَبا. وَالْمَعْنَى: يُذْهِبَانِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ مِنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَجْمِعُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَمْرًا مِنْ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ، إِذَا جَعَلَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فَاجْمَعُوا- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِفَتْحِ الْمِيمِ- أَمْرًا مِنْ جَمَعَ، كَقَوْلِهِ فِيمَا مَضَى فَجَمَعَ كَيْدَهُ [طه: 60] . أَطْلَقَ الْجَمْعَ عَلَى التَّعَاضُدِ وَالتَّعَاوُنِ، تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمُخْتَلِفِ بِالْمُتَفَرِّقِ، وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ. وَسَمَّوْا عَمَلَهُمْ كَيْدًا لِأَنَّهُمْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا لِلْعَامَّةِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ بِعَجِيبٍ، فَهُمْ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَيَكِيدُوا لَهُ بِإِبْطَالِ خِصِّيصِيَّةِ مَا أَتَى بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ تَسَامَعُوا بِدَعْوَةِ مُوسَى، وَمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ، وَأَصْبَحُوا مُتَحَيِّرِينَ فِي شَأْنِهِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اهْتَمَّ السَّحَرَةُ بِالْكَيْدِ لَهُ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [38- 40] : فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ. وَدَبَّرُوا لِإِرْهَابِ النَّاسِ وَإِرْهَابِ مُوسَى وَهَارُونَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ يَأْتُوا حِينَ يَتَقَدَّمُونَ لِإِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ مُصْطَفِّينَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهْيَبُ لَهُمْ. وَلَمْ يَزَلِ الَّذِينَ يَرُومُونَ إِقْنَاعَ الْعُمُومِ بِأَنْفُسِهِمْ يَتَخَيَّرُونَ لذَلِك بهاء الهيبة وَحُسْنَ السَّمْتِ وَجَلَالَ الْمَظْهَرِ. فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ جُلُوسُ الْمُلُوكِ عَلَى جُلُودِ الْأسود، وَرُبمَا لَيْسَ الْأَبْطَالُ جُلُودَ النُّمُورِ فِي الْحَرْبِ. وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ فِعْلَ «تَنَمَّرُوا» فِي قَول ابْن معد يكرب: قَوْمٌ إِذَا لَبِسُوا الْحَدِيدَ ... تَنَمَّرُوا حِلَقًا وَقَدَّا وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْجَارِي مَجْرَى الْمَثَلِ «لَبِسَ لِي فُلَانٌ جِلْدَ النَّمِرِ» . وَثَبَتَ فِي التَّارِيخِ الْمُسْتَنِدِ لِلْآثَارِ أَنَّ كَهَنَةَ الْقِبْطِ فِي مِصْرَ كَانُوا يَلْبِسُونَ جُلُودَ النُّمُورِ.

[سورة طه (20) : الآيات 65 إلى 66]

وَالصَّفُّ: مَصْدَرُ بمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ صَافِّينَ أَوْ مَصْفُوفِينَ، إِذا ترتبوا وَاحِد حَذْوَ الْآخَرِ بِانْتِظَامٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُونَ مُخْتَلِطِينَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا الْوَاحِدَ حَذْوَ الْآخَرِ وَكَانَ الصَّفُّ مِنْهُمْ تِلْوَ الْآخَرِ كَانُوا أَبْهَرَ مَنْظَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصفّ: 4] . وَكَانَ جَمِيعُ سَحَرَةِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ قَدْ أُحْضِرُوا بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ فَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فَالصَّفُّ هُنَا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْس لَا الْوَاحِدَة، أَيْ ثُمَّ ائْتُوا صُفُوفًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38] وَقَالَ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: 22] . وَانْتَصَبَ صَفًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ ائْتُوا وَالْمَقْصُودُ الْإِتْيَانُ إِلَى مَوْضِعِ إِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ وَشَعْوَذَتِهِمْ، لِأَنَّ التَّنَاجِيَ وَالتَّآمُرَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى. وَجُمْلَةُ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يَجْمَعُ مَا قَصَدُوهُ مِنْ تَآمُرِهِمْ بِأَنَّ الْفَلَاحَ يَكُونُ لِمَنْ غَلَبَ وَظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ. فَ اسْتَعْلى مُبَالَغَةٌ فِي عَلَا، أَيْ عَلَا صَاحِبَهُ وَقَهَرَهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَأْخَرَ. وَأَرَادُوا الْفَلَاحَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَة. [65- 66] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 65 إِلَى 66] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَمَعَانِيهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ سِوَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ هُنَا مُصَرَّحٌ بِهَا فِي أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِي أَنَّ التَّخْيِيرَ يَتَسَلَّطُ عَلَى

الْأَوَّلِيَّةِ فِي الْإِلْقَاءِ، وَسِوَى أَنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي أَلْقَوْهُ كَانَ بِتَخْيِيلِ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ثَعَابِينُ تَسْعَى لِأَنَّهَا لَا يُشْبِهُهَا فِي شَكْلِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ سِوَى الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ. وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ (إِذَا) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ أَعَدُّوهَا لِلْإِلْقَاءِ وَكَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَمُرَّ زَمَانٌ تَزُولُ بِهِ خَاصِّيَّاتُهَا فَلِذَلِكَ أَسْرَعُوا بِإِلْقَائِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخَيَّلُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ الْمَصْدَرُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّها تَسْعى. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «تُخَيَّلُ» بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ رَافِعٌ لِضَمِيرِ حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ، أَيْ هِيَ تُخَيَّلُ إِلَيْهِ. وأَنَّها تَسْعى بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَهَذَا التَّخْيِيلُ الَّذِي وَجَدَهُ مُوسَى مِنْ سِحْرِ السَّحَرَةِ هُوَ أَثَرُ عَقَاقِيرَ يُشْرِبُونَهَا تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ، وَتَكُونُ الْحِبَالُ مِنْ صِنْفٍ خَاصٍّ، وَالْعِصِيُّ مِنْ أَعْوَادٍ خَاصَّةٍ فِيهَا فَاعِلِيَّةٌ لِتِلْكَ الْعَقَاقِيرِ، فَإِذَا لَاقَتْ شُعَاعَ الشَّمْسِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ الْعَقَاقِيرُ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ. قِيلَ: وَضَعُوا فِيهَا طِلَاءَ الزِّئْبَقِ. وَلَيْسَ التَّخْيِيلُ لِمُوسَى مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَ الرَّسُولِ لَا تَتَأَثَّرُ بِالْأَوْهَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَثَّرَ بِالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ مِنْهَا الْجَسَدُ كَالْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ ظَاهِرَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي سِحْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تَنْقُضُ الْقَوَاطِعَ. وَلَيْسَ هَذَا مَحَلٌّ ذَكْرِهِ وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «النَّظَرُ الْفَسِيحُ» عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سِحْرِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25] .

[سورة طه (20) : الآيات 67 إلى 69]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 67 إِلَى 69] فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) أَوْجَسَ: أَضْمَرَ وَاسْتَشْعَرَ. وَانْتِصَابُ خِيفَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فِي سُورَةِ هُودٍ [70] . وخِيفَةً اسْمُ هَيْئَةٍ مِنَ الْخَوفِ، أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ خِوْفَةٌ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ. وَزِيَادَةُ فِي نَفْسِهِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا خِيفَةُ تَفَكُّرٍ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا عَلَى مَلَامِحِهِ. وَإِنَّمَا خَافَ مُوسَى مِنْ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ السَّحَرَةِ فَيُسَاوِي مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ انْقِلَابِ عَصَاهُ ثُعْبَانًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَاوَاهُمْ فِي عَمَلِهِمْ وَيَكُونُونَ قَدْ فَاقُوهُ بِالْكَثْرَةِ، أَوْ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَ السَّحَرَةِ مُدَّةً فَيُمْلِي لَهُمْ بِظُهُورِ غَلَبِهِمْ عَلَيْهِ وَمَدِّهِ لِمَا تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فَخَشِيَ ذَلِكَ. وَهَذَا مَقَامُ الْخَوْفِ، وَهُوَ مَقَامٌ جَلِيلٌ مِثْلُهُ مَقَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَصْرَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» . وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَتَقْوِيَةُ تَأْكِيدِهَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَبِالتَّعْرِيفِ فِي الْأَعْلى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا خَامَرَهُ مِنَ الْخَوْفِ إِنَّمَا هُوَ خَوْفُ ظُهُورِ السَّحَرَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُوقِنًا

بِأَنَّ اللَّهَ يُنْجِزُ لَهُ مَا أَرْسَلَهُ لِأَجْلِهِ لَكِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَسْتَدْرِجَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ مُدَّةً قَلِيلَةً لِإِظْهَارِ ثَبَاتِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196، 197] . وَعَبَّرَ عَنِ الْعَصَا بِ مَا الْمَوْصُولَةِ تَذْكِيرًا لَهُ بِيَوْمِ التَّكْلِيمِ إِذْ قَالَ لَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى [طه: 17] لِيَحْصُلَ لَهُ الِاطْمِئْنَانُ بِأَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي صَارَتْ إِلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: وَأَلْقِ عَصَاكَ. وَالتَّلَقُّفُ: الِابْتِلَاعُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِجَزْمِ تَلْقَفْ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ وَأَلْقِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ بِرَفْعِ تَلْقَفْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفْ- بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ-. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ- مِنْ لَقِفَ كَفَرِحَ. وَجُمْلَةُ إِنَّما صَنَعُوا كيد سحر مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الموصولة. وَكيد سحر خَبَرُ (إِنَّ) . وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ بَسِيطٌ لَا قَصْرَ فِيهِ. وَكُتِبَ (إِنَّمَا) فِي الْمُصْحَفِ مَوْصُولَةً (إِنَّ) بِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ كَمَا تُوصَلُ بِ (مَا) الْكَافَّةِ فِي نَحْوِ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [الْبَقَرَة: 173] وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَقَدِّمُونَ يَتَوَخَّوْنَ الْفُرُوقَ فِي رَسْمِ الْخَطِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْدُ ساحِرٍ بِأَلْفٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ كَيْدُ سِحْرٍ- بِكَسْرِ السِّينِ-. وَجُمْلَةُ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَحَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّما صَنَعُوا، أَيْ لَا يَنْجَحُ السَّاحِرُ حَيْثُ كَانَ، لِأَنَّ صَنْعَتَهُ تَنْكَشِفُ بِالتَّأَمُّلِ وَثَبَاتِ النَّفْسِ

[سورة طه (20) : الآيات 70 إلى 71]

فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ بِهَا. وَتَعْرِيفُ السَّاحِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِقَصْدِ الْجِنْسِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ لَا يُفْلِحُ بِهَا كُلُّ سَاحِرٍ. وَاخْتِيرَ فِعْلُ أَتى دُونَ نَحْوِ: حَيْثُ كَانَ، أَوْ حَيْثُ حَلَّ، لِمُرَاعَاةِ كَوْنِ مُعْظَمِ أُولَئِكَ السَّحَرَة مجلوبون مِنْ جِهَاتِ مِصْرَ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى فَوَاصِلِ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى حَرْفِ الْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ. وَتَعْمِيمُ حَيْثُ أَتى لِعُمُومِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا، أَيْ بِسِحْرِهِ. وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِوَصْفِ السَّاحِرِ يَقْتَضِي أَنَّ نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ فِي أُمُورِ السِّحْرِ لَا فِي تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَشْيَاءِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي تقع فِيهَا. [70- 71] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 70 إِلَى 71] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه: 69] . وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَى فَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] . وَالْإِلْقَاءُ: الطَّرْحُ عَلَى الْأَرْضِ. وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُمْ لَا مُلْقِيَ لَهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ سُجَّدًا، فَإِنَّ سُجُودَهُمْ كَانَ إِعْلَانًا بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّ مُوسَى مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُمْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةً عَلَى تَغَلُّبِ مُوسَى عَلَيْهِمْ فَسَجَدُوا تَعْظِيمًا لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَعْظِيمَ فِرْعَوْنَ، جَعَلُوهُ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى حَذَرًا مِنْ بَطْشِهِ. وَسُجَّدٌ: جَمْعُ سَاجِدٍ. وَجُمْلَةُ قالُوا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أُلْقُوا قَائِلِينَ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فَإِنَّ سُجُودَهُمُ اشْتَمَلَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَن تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً لِافْتِتَاحِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ. وَإِنَّمَا آمَنُوا بِاللَّهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَا جَرَى عَلَى يَدِ مُوسَى لَيْسَ مَنْ جِنْسِ السِّحْرِ لِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ السِّحْرُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ آيَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَعْبِيرُهُمْ عَنِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى هَارُونَ وَمُوسَى لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِهَذِهِ النِّسْبَةِ لِأَنَّ لَهُمْ أَرْبَابًا يَعْبُدُونَهَا وَيَعْبُدُهَا فِرْعَوْنُ. وَتَقْدِيمُ هَارُونَ عَلَى مُوسَى هُنَا وَتَقْدِيمُ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [121، 122] : قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ لَا تُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي الْحُكْمِ الْمَعْطُوفِ فِيهِ، فَهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِأَنَّهُ رَبُّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَحُكِيَ كَلَامُهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِيَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [121] قَوْلُ السَّحَرَةِ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّ حِكَايَةَ الْأَخْبَارِ لَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَحْكِيِّ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ.

وَوَجْهُ تَقْدِيمِ هَارُونَ هُنَا الرِّعَايَةُ عَلَى الْفَاصِلَةِ، فَالتَّقْدِيمُ وَقَعَ فِي الْحِكَايَةِ لَا فِي الْمَحْكِيِّ، إِذْ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الشُّعَرَاء: 47، 48] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ هَارُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ السَّحَرَةِ، فَيَكُونُ صَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلَانِ، قَدَّمُوا فِي أَحَدِهِمَا اسْمَ هَارُونَ اعْتِبَارًا بِكِبَرِ سِنِّهِ، وَقَدَّمُوا اسْمَ مُوسَى فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ اعْتِبَارًا بِفَضْلِهِ عَلَى هَارُونَ بِالرِّسَالَةِ وَكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاخْتِلَافُ الْعِبَارَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ. وَيُقَالُ: آمَنَ لَهُ، أَيْ حَصَلَ عِنْدَهُ الْإِيمَانُ لِأَجْلِهِ. كَمَا يُقَالُ: آمَنَ بِهِ، أَيْ حَصَلَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُ بِسَبَبِهِ. وَأَصْلُ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِأَنَّ آمَنَهُ بِمَعْنَى صَدَّقَهُ، وَلَكِنَّهُ كَادَ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ. وَقَرَأَ قَالُونُ وَوَرْشٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَزَرْقِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ آمَنْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا مَدَّةٌ وَهِيَ الْمَدَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ تَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي فِعْلِ آمَنَ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ اسْتِفْهَامٌ. وقرأه ورش من طَرِيقِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ- بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ، فَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِهَمْزَتَيْنِ- عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا. وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ إِيمَانَ السَّحَرَةِ تَغَيَّظَ وَرَامَ عِقَابَهُمْ وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمُوسَى بَعْدَ أَنْ فَتَحَ بَابَ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ نَكْثٌ لِأُصُولِ الْمُنَاظَرَةِ فَاخْتَلَقَ لِلتَّشَفِّي مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عِلَّةَ إِعْلَانِهِمُ الْإِيمَانَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ فِرْعَوْنَ، فَعَدَّ ذَلِكَ جرْأَةً عَلَيْهِ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَأْذَنُوهُ

لَأَذِنَ لَهُمْ، وَاسْتَخْلَصَ مِنْ تَسَرُّعِهِمْ بذلك أَنهم تواطؤوا مَعَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ فَأَظْهَرُوا الْعَجْزَ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهِ. وَمَقْصِدُ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا إِقْنَاعُ الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَأْتِ بِمَا يُعْجِزُ السَّحَرَةُ إِدْخَالًا لِلشَّكِّ عَلَى نُفُوسِ الَّذِينَ شَاهَدُوا الْآيَاتِ. وَهَذِهِ شِنْشِنَةٌ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ اخْتِلَاقُ الْمَغْلُوبِ بَارِد الْعُذْرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اتِّهَامُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِمُ الْحَاكِمِينَ بِالِارْتِشَاءِ، وَاتِّهَامُ الدُّوَلِ الْمَغْلُوبَةِ فِي الْحُرُوبِ قُوَّادَ الْجُيُوشِ بِالْخِيَانَةِ. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى مِثْلُ ضَمِيرِ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ. وَمَعْنَى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّغَ لَكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ. يُقَالُ: أذن لَهُ، إِذْ أَبَاحَ لَهُ شَيْئًا. وَالتَّقْطِيعُ: شِدَّةُ الْقَطْعِ. وَمَرْجِعُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ، وَهِيَ مَا وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ أَيْ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ لَا تُقْطَعُ عَلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْ جَانِبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَيْ تَقْطَعُ الْيَدُ ثُمَّ الرِّجْلُ مِنَ الْجِهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِجِهَةِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ ثُمَّ الْيَدُ الْأُخْرَى ثُمَّ الرِّجْلُ الْأُخْرَى. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ كَانَ شِعَارًا لِقَطْعِ الْمُجْرِمِينَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ حِكَايَةً لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَطْعٍ بِشَكْلٍ آخَرَ، إِذْ لَا أَثَرَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي تَفْظِيعٍ وَلَا فِي شِدَّةِ إِيلَامٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ مُتَتَابِعًا. وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْإِسْلَامِ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ فَإِنَّمَا هُوَ قَطْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ عِنْدَ كُلِّ حِرَابَةٍ فَهُوَ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي الْعُقُوبَةِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ انْتِفَاعُ الْمَقْطُوعِ بِبَاقِي أَعْضَائِهِ مِنْ جَرَّاءِ قَطْعِ يَدٍ ثُمَّ رِجْلٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ قَطْعِ يَدٍ بَعْدَ يَدٍ وَبَقَاءِ الرِّجْلَيْنِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ يَبْدَأُ الْقَطْعُ مِنْ مَبْدَأِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمَقْطُوعِ. وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

وَالتَّصْلِيبُ: مُبَالَغَةٌ فِي الصَّلْبِ. وَالصَّلْبُ: رَبْطُ الْجِسْمِ عَلَى عُودٍ مُنْتَصِبٍ أَوْ دَقُّهُ عَلَيْهِ بِمَسَامِيرَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [157] . وَالْمُبَالَغَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ أَيْضًا بِشِدَّةِ الدَّقِّ عَلَى الْأَعْوَادِ. وَلِذَلِكَ عدلَ عَنْ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ إِلَى حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ تَشْبِيهًا لِشِدَّةِ تَمَكُّنِ الْمَصْلُوبِ مِنَ الْجِذْعِ بِتَمَكُّنِ الشَّيْءِ الْوَاقِعِ فِي وِعَائِهِ. وَالْجُذُوعُ: جَمْعُ جِذْعٍ- بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الذَّالِ- وَهُوَ عُودُ النَّخْلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مَرْيَم: 25] . وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بِحَرْفِ (فِي) مَعَ أَنَّ الصَّلْبَ يَكُونُ فَوْقَ الْجِذْعِ لَا دَاخِلَهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلْبٌ مُتَمَكِّنٌ يُشْبِهُ حُصُولَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ، فَحَرْفُ (فِي) اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِاسْتِعَارَةِ مُتَعَلِّقِ مَعْنَى (فِي) لِمُتَعَلِّقِ مَعْنَى (عَلَى) . وَأَيُّنَا: اسْتِفْهَامٌ عَنْ مُشْتَرِكِينَ فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ. وَفِعْلُ لَتَعْلَمُنَّ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوِقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ فِي آخِرِهِ. وَأَرَادَ بِالْمُشْتَرِكِينَ نَفْسَهُ وَرَبَّ مُوسَى سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى [الشُّعَرَاء: 47] أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ مَا قَدَّمَ لَهُمْ مُوسَى مِنَ الْمَوْعِظَةِ حِينَ قَالَ لَهُمْ بِمَسْمَعٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] ، أَيْ وَسَتَجِدُونَ عَذَابِيَ أَشَدَّ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حُذِّرْتُمُوهُ. وَهَذَا مِنْ غُرُورِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ فِرْعَوْنَ مَا قَابَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى بِقَوْلِهِمْ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 73] ، أَيْ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَبْقَى عَمَلًا مِنْ عَمَلِكَ، فَثَوَابُهُ خَيْرٌ مِنْ رِضَاكَ وَعَذَابُهُ أَشَدُّ من عذابك.

[سورة طه (20) : الآيات 72 إلى 73]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 72 إِلَى 73] قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) أَظْهَرُوا اسْتِخْفَافَهُمْ بِوَعِيدِهِ وَبِتَعْذِيبِهِ، إِذْ أَصْبَحُوا أَهْلَ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ بالرسل إِذا أشرقت عَلَيْهِمْ أَنْوَارُ الرِّسَالَةِ فَسُرْعَانَ مَا يَكُونُ انْقِلَابُهُمْ عَنْ جَهَالَةِ الْكُفْرِ وَقَسَاوَتِهِ إِلَى حِكْمَةِ الْإِيمَانِ وَثَبَاتِهِ. وَلَنَا فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ صِدْقٍ. وَالْإِيثَارُ: التَّفْضِيلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [91] . وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مُقْتَضٍ حَذْفَ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمُقَابَلَةَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ لَنْ نُؤْثِرَ طَاعَتَكَ أَوْ دِينَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ عَطْفُ وَالَّذِي فَطَرَنا، أَيْ لَا نُؤْثِرُكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الَّذِي فَطَرَنَا. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْفَاطِرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْإِيثَارِ. وَأُخِّرَ الَّذِي فَطَرَنا عَنْ مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمْ أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَنَبْذَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ، لِأَنَّ مَا أَنْتَ قاضٍ مَا صدقه مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنْ تَقْطِيعِ

الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالصَّلْبِ، أَيْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا ذَلِكَ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ أَوْ عَدَمُ وُقُوعِهِ، فَلَا نَطْلُبُ مِنْكَ خَلَاصًا مِنْهُ جَزَاءَ طَاعَتِكِ فَافْعَلْ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ (وَالْقَضَاءُ هُنَا التَّنْفِيذُ وَالْإِنْجَازُ) فَإِنَّ عَذَابَكَ لَا يَتَجَاوَزُ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ رَبِّنَا الْجَزَاءَ الْخِالِدَ. وَانْتَصَبَ هذِهِ الْحَياةَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ مُدَّتُهَا. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ إِنَّكَ مَقْصُورٌ عَلَى الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يَتَجَاوَزْهُ إِلَى الْقَضَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَجُمْلَةُ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا فِي مَحَلِّ الْعِلَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ. وَمَعْنَى وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَى تَحَدِّيهِمْ مُوسَى بِسِحْرِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّ فِعْلَهُمْ بَاطِلٌ وَخَطِيئَةٌ لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ لِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ، فَبِذَلِكَ كَانَ مُسْتَوْجِبًا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرَ الْكَلَامِ لِلتَّذْيِيلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَيْرٌ لَنَا بِأَنْ نُؤْثِرَهُ مِنْكَ، وَالْمُرَادُ: رِضَى اللَّهِ، وَهُوَ أَبْقَى مِنْكَ، أَيْ جَزَاؤُهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَبْقَى مِنْ جَزَائِكَ فَلَا يَهُولُنَا قَوْلُكَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: 71] ، فَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِوَعِيدِهِ مُقَابلَة تَامَّة.

[سورة طه (20) : الآيات 74 إلى 76]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 74 إِلَى 76] إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) هَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ حِكَايَةِ قِصَّةِ السَّحَرَةِ وَبَيْنَ ذِكْرِ قِصَّةِ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَاقَهَا اللَّهُ مَوْعِظَةً وَتَأْيِيدًا لِمَقَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُبْعِدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ نَظِيرَهُ عَنْهُمْ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَالْمُجْرِمُ: فَاعِلُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَالْفِعْلُ الْخَبِيثُ. وَالْمُجْرِمُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ هُوَ الْكَافِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] . وَاللَّامُ فِي لَهُ جَهَنَّمَ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَيَكُونُ عَذَابُهُ مُتَجَدِّدًا فِيهَا فَلَا هُوَ مَيِّتٌ لِأَنَّهُ يُحِسُّ بِالْعَذَابِ وَلَا هُوَ حَيٌّ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ أَهْوَنُ مِنْهَا، فَالْحَيَاةُ الْمَنْفِيَّةُ حَيَاةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْخَالِصَةُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْآلَامِ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَتَنَاقَضْ نَفْيُهَا مَعَ نَفْيِ الْمَوْتِ، وَهُوَ كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ [الْبَقَرَة: 68] وَلَا قَوْلُهُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] .

[سورة طه (20) : آية 77]

وَأَمَّا خُلُودُ غَيْرِ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى جَعَلَهَا غَيْرَ مَشْمُولَةٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَلَهَا أَدِلَّةٌ أُخْرَى اقْتَضَتْ خُلُودَ الْكَافِرِ وَعَدَمُ خُلُودِ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِي. وَنَازَعَنَا فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عَدْنٍ وَتَفْسِيرُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [72] . وَالتَّزَكِّي: التَّطَهُّرُ من الْمعاصِي. [77] [سُورَة طه (20) : آيَة 77] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) افْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْقِصَّةِ لِيُلْقِيَ السَّامِعُونَ إِلَيْهَا أَذْهَانَهُمْ. وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَصَصًا طُوِيَتْ بَيْنَ ذِكْرِ الْقِصَّتَيْنِ، فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ حِكَايَةَ الْقِصَّةِ الْأُولَى لَمْ تَزَلْ مُتَّصِلَةً فَتُوُهِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْخُرُوجِ وَقَعَ مُوَالِيًا لِانْتِهَاءِ مَحْضَرِ السَّحَرَةِ، مَعَ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ قَصَصًا كَثِيرَةً ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْخُرُوجَ وَقَعَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِإِرْهَابِ فِرْعَوْنَ كُلَّمَا هَمَّ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ. ثُمَّ نَكَلَ إِلَى أَنْ أَذِنَ لَهُمْ بِأَخَرَةٍ فَخَرَجُوا ثُمَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ فَأَتْبَعَهُمْ.

فَجُمْلَةُ وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً بَعْضَ أَجْزَاءِ قِصَّةٍ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ. وأَسْرِ أَمْرٌ مِنَ السُّرَى- بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ يُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ تَجَنُّبًا لِنُكُولِ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِمْ. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ بِعِبادِي لِتَشْرِيفِهِمْ وَتَقْرِيبِهِمْ وَالْإِيمَاءِ إِلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَبِيدًا لِفِرْعَوْنَ. وَالضَّرْبُ: هُنَا بِمَعْنَى الْجَعْلِ كَقَوْلِهِمْ: ضُرِبَ الذَّهَبُ دَنَانِيرَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاضْرِبُوا إِلَيَّ مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» ، وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْلِهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ [الشُّعَرَاء: 63] لأنّ الضَّرْب هُنَالك مُتَعَدٍّ إِلَى الْبَحْرِ وَهُنَا نُصِبَ طَرِيقًا. وَالْيَبَسُ- بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ-. وَيُقَالُ:- بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ-: وَصْفٌ بِمَعْنَى الْيَابِسِ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالْعَدَمِ وَالْعُدْمِ، وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَلِذَلِكَ لَا يُؤَنَّثُ فَقَالُوا: نَاقَةٌ يَبَسٌ إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا. وَلَا تَخافُ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعْدٌ لِمُوسَى اقْتُصِرَ عَلَى وَعْدِهِ دُونَ بَقِيَّةِ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ فَإِذَا لَمْ يَخَفْ هُوَ تَشَجَّعُوا وَقَوِيَ يَقِينُهُمْ، فَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْبُشْرَى. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ لَا تَخَفْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فَاضْرِبْ، وَكَلِمَةُ تَخَفْ مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِدُونِ أَلْفٍ لِتَكَونَ قِرَاءَتُهَا بِالْوَجْهَيْنِ لِكَثْرَةِ نَظَائِرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ذَاتِ الْأَلِفِ فِي وَسَطِهَا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَيُسَمِّيهِ الْمُؤَدِّبُونَ «الْمَحْذُوفَ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلا تَخْشى فَالْإِجْمَاعُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِأَلْفٍ فِي آخِرِهِ. فَوَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ قَرَأَ بِجَزْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ

[سورة طه (20) : الآيات 78 إلى 79]

أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ لِلْإِطْلَاقِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ مِثْلَ أَلْفِ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَاب: 67] وَأَلْفِ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَاب: 10] ، أَوْ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَلا تَخْشى لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ. والدَّرْكِ- بِفَتْحَتَيْنِ- اسْمُ مَصْدَرِ الْإِدْرَاكِ، أَيْ لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ. والخشية: شِدَّةُ الَخَوْفِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا تَخْشَى شَيْئًا، وَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصِ، أَيْ لَا تَخْشَى شَيْئًا مِمَّا يُخْشَى مِنَ الْعَدْوِ وَلَا من الْغَرق. [78- 79] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 78 إِلَى 79] فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ فَسَرَى بِهِمْ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ رَأَى آيَاتِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَأَيْقَنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَأْيِيدٌ لِمُوسَى أَذِنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يُخْرِجَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ إِذْنُ فِرْعَوْنَ قَدْ حَصَلَ لَيْلًا لِحُدُوثِ مَوَتَانٍ عَظِيمٍ فِي الْقِبْطِ فِي لَيْلَةِ الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ وَهُوَ شَهْرُ (بَرَمْهَاتَ) وَهُوَ الَّذِي اتَّخَذَهُ الْيَهُودُ رَأَسَ سَنَتِهِمْ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَسَمَّوْهُ (تِسَّرِي) فَخَرَجُوا مِنْ مَدِينَةِ (رعمسيس) قَاصِدين شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ. وَنَدِمَ فِرْعَوْنُ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ لِيُرْجِعَهُمْ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَخَرَجَ فِي مَرْكَبَتِهِ وَمَعَهُ سِتُّمِائَةِ مَرْكَبَةٍ مُخْتَارَةٍ وَمَرْكَبَاتٍ أُخْرَى تَحْمِلُ جَيْشه. وأتبع: مرادفع تَبِعَ. وَالْبَاءُ فِي بِجُنُودِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَغِشْيَانُهُ إِيَّاهُمْ: تَغْطِيَتُهُ جُثَثَهُمْ، أَيْ فَغَرِقُوا.

وَقَوْلُهُ مَا غَشِيَهُمْ يُفِيدُ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ غَشِيَهُمْ غَاشٍّ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّهْوِيلُ، أَيْ بَلَغَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْغَرَقِ أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ وَصْفُهُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «هُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي تَسْتَقِلُّ مَعَ قِلَّتِهَا بِالْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ» . وَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْقِصَّةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَجُمْلَةُ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي غَشِيَهُمْ. وَالْإِضْلَالُ: الْإِيقَاعُ فِي الضَّلَالِ، وَهُوَ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ. وَيُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ فِي مَعْنَى الْجَهَالَةِ وَعَمَلِ مَا فِيهِ ضُرٌّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْقَعَ قَوْمَهُ فِي الْجَهَالَةِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ بِمَا بَثَّ فِيهِمْ مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، فَلَمْ يُصَادِفُوا السَّدَادَ فِي أَعْمَالِهِمْ حَتَّى كَانَتْ خَاتِمَتُهَا وُقُوعُهُمْ غَرْقَى فِي الْبَحْرِ بِعِنَادِهِ فِي تَكْذِيبِ دَعْوَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَعَطْفُ وَما هَدى عَلَى أَضَلَّ: إِمَّا مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ لِأَنَّ عَدَمَ الْهُدَى يَصْدُقُ بِتَرْكِ الْإِرْشَادِ مِنْ دُونِ إِضْلَالٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا بِالْمُرَادِفِ مُؤَكِّدًا لِنَفْيِ الْهُدَى عَنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَما هَدى تَأْكِيدًا لِ أَضَلَّ بِالْمُرَادِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: 21] وَقَوْلِ الْأَعْشَى: حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا» مِنْ قَوْلِهِ: إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا ... إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ وَفِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ نُكْتَةَ ذِكْرِ وَما هَدى التَّهَكُّمُ بِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ اه. يَعْنِي أَنَّ فِي قَوْلِهِ وَما هَدى تَلْمِيحًا إِلَى قِصَّةِ قَوْلِهِ الْمَحْكِيِّ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [29] : قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَمَا فِي هَذِهِ مِنْ قَوْلِهِ بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: 63] ، أَيْ هِيَ هُدًى، فَيَكُونُ مِنَ

[سورة طه (20) : الآيات 80 إلى 82]

التَّلْمِيحِ إِلَى لَفْظٍ وَقَعَ فِي قِصَّةٍ مُفْضِيًا إِلَى التَّلْمِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ كَمَا فِي قَوْلِ مُهَلْهَلٍ: لَوْ كُشِفَ الْمَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَخُبِّرَ بِالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ كُلَيْبٍ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَلَامَةِ: أَنْتَ زير نسَاء. [80- 82] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 80 إِلَى 82] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) هَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً الْآيَةَ. وَهَذَا خِطَابٌ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِنِعَمٍ أُخْرَى. وَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهِيَ خَلَاصُهُمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ- وواعَدْناكُمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُمَا حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ- وَوَعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةِ نُزُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ. وَالْمُوَاعَدَةُ: اتِّعَادٌ مِنْ جَانِبَيْنِ، أَيْ أَمَرْنَا مُوسَىِِ

بِالْحُضُورِ لِلْمُنَاجَاةِ فَذَلِكَ وَعَدٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِالْمُنَاجَاةِ، وَامْتِثَالُ مُوسَى لِذَلِكَ وَعَدٌ مِنْ جَانِبِهِ، فَتَمَّ مَعْنَى الْمُوَاعَدَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [52] : وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ 19 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: «فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ جَاءُوا إِلَى بَرِّيَّةِ سَيْنَاءَ هُنَالِكَ نَزَلَ إِسْرَائِيلُ مُقَابِلَ الْجَبَلِ. وَأَمَّا مُوسَى فَصَعِدَ إِلَى اللَّهِ فَنَادَاهُ الرَّبُّ مِنَ الْجَبَلِ قَائِلًا: هَكَذَا نَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ، أَنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً ... » إِلَخْ. وَذِكْرُ الطُّورِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَجَانِبُ الطَّوْرِ: سَفْحُهُ. وَوَصَفُهُ بِالْأَيْمَنِ بِاعْتِبَارِ جِهَةِ الشَّخْصِ الْمُسْتَقْبِلِ مَشْرِقَ الشَّمْسِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ وَشِمَالٌ مُعَيَّنَانِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الْجِهَاتِ وَهُوَ مَطْلَعُ الشَّمْسِ، فَهُوَ الْجَانِبُ الْقِبْلِيُّ بِاصْطِلَاحِنَا. وَجُعِلَ مَحَلُّ الْمُوَاعَدَةِ الْجَانِبَ الْقِبْلِيَّ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [30] : فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَالَ فِيهَا وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [الْقَصَص: 44] فَهُوَ جَانِبٌ غَرْبِيٌّ، أَيْ مِنْ جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ الْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي آنَسَ مُوسَى مِنْهُ نَارًا. وَانْتَصَبَ جانِبَ الطُّورِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ المكانية لأنّه لَا تساعه بِمَنْزِلَةِ الْمَكَانِ الْمُبْهَمِ. وَمَفْعُولُ الْمُوَاعَدَةِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: الْمُنَاجَاةُ. وَتَعْدِيَةُ واعَدْناكُمْ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاعَدَةً لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَومِهِ بِاعْتِبَارِ

أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ وَحْيُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَصِيرُ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ فَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ مَعَ أُولَئِكَ كَالْمَوْاعَدَةِ مَعَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ إِلَخْ فَبِاعْتِبَارِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَخَلَفٍ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ- وَوَاعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُفْرَدِ تكون قِرَاءَة وأنزلنا- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- قَرِيبًا مِنَ الِالْتِفَاتِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ، لِأَنَّ نُونَ الْعَظَمَةِ تُسَاوِي تَاءَ الْمُتَكَلِّمِ. وَالسَّلْوَى تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 16 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَجُمْلَةُ كُلُوا مَقُولٌ مَحْذُوفٌ. تَقْدِيرُهُ: وَقُلْنَا أَوْ قَائِلِينَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا رَزَقْناكُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفُ مَا رَزَقَتُكُمْ بِتَاءِ الْمُفْرَدِ. وَالطُّغْيَانُ: أَشَدُّ الْكِبْرِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ فِي الرِّزْقِ: النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِعِبَادَةِ الْمُنْعِمِ. وَحَرْفُ (فِي) الظَّرْفِيَّةُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ شَبَّهَ مُلَابَسَةَ الطُّغْيَانِ لِلنِّعْمَةِ بِحُلُولِ الطُّغْيَانِ فِيهَا تَشْبِيهًا لِلنِّعْمَةِ الْكَثِيرَةِ بِالْوِعَاءِ الْمُحِيطِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ قَرِينَتُهَا. وَالْحُلُولُ: النُّزُولُ وَالْإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ شُبِّهَتْ إِصَابَةُ آثَارِ الْغَضَبِ إِيَّاهُمْ بِحُلُولِ الْجَيْشِ وَنَحْوِهِ بِدِيَارِ قَوْمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- وَقَرَأُوا وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي- بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُمَا فِعْلَا- حَلَّ

الدَّيْنُ يُقَالُ: حَلَّ الدَّيْنُ إِذَا آنَ أَجَلُ أَدَائِهِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِالضَّمِّ فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَلَّ بِالْمَكَانِ يَحُلُّ إِذَا نَزَلَ بِهِ. كَذَا فِي «الْكَشَّافِ» وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ. وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «لَامِيَّةِ الْأَفْعَالِ» ، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْهُ شَارِحُهَا بَحْرَقٌ الْيَمَنِيُّ فِي «الشَّرْحِ الْكَبِيرِ» . وَوَقَعَ فِي «الْمِصْبَاحِ» مَا يُخَالِفُهُ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ «الْقَامُوسِ» أَنَّ حَلَّ بِمَعْنَى نَزَلَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَلَمْ أَقِفْ لَهُمْ عَلَى شَاهِدٍ فِي ذَلِكَ. وَهَوَى: سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ هُنَا لِلْهَلَاكِ الَّذِي لَا نُهُوضَ بَعْدَهُ، كَمَا قَالُوا: هَوَتْ أُمُّهُ، دُعَاءً عَلَيْهِ، وَكَمَا يُقَالُ: وَيْلَ أُمِّهِ، وَمِنْهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: 9] ، فَأُرِيدَ هُوِيٌّ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْهُوِيُّ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ بِقَرِينَةِ التَّهْدِيدِ. وَجُمْلَةُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ إِلَى آخِرِهَا اسْتِطْرَادٌ بَعْدَ التَّحْذِيرِ مِنَ الطُّغْيَانِ فِي النِّعْمَةِ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُتَدَارَكُ بِهِ الطُّغْيَانُ إِنْ وَقَعَ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَعْنَى تابَ: نَدِمَ عَلَى كُفْرِهِ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. وَقَوْلُهُ ثُمَّ اهْتَدى (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ اسْتُعِيرَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّبَايُنِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْمَنْزِلَةِ كَمَا كَانَتْ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي الْحُدُوثِ. وَمَعْنَى اهْتَدى: اسْتَمَرَّ عَلَى الْهُدَى وَثَبَتَ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَحْقَاف: 13] . وَالْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «الرَّبُّ إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الْإِحْسَانِ غَافِرُ الْإِثْمِ وَالْخَطِيئَةِ ولكنّه لن يبرىء إِبْرَاء» .

[سورة طه (20) : الآيات 83 إلى 85]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 83 إِلَى 85] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَسْرِ بِعِبادِي [طه: 77] الْوَاقِعَةِ تَفْسِيرًا لِفِعْلِ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى [طه: 77] ، فَقَوْلُهُ وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ هُوَ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى مُوسَى. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنْ: مَا أَعْجَلَكَ إِلَخْ. وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ أَيَّامَ مُنَاجَاةِ مُوسَى فِي الطَّوْرِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. وَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْقِصَّةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْإِعْجَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَاجِلًا. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَتُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ: أَنَّ مُوسَى تَعَجَّلَ مُفَارَقَةَ قَوْمِهِ لِيَحْضُرَ إِلَى الْمُنَاجَاةِ قَبْلَ الْإِبَّانِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُ، اجْتِهَادًا مِنْهُ وَرَغْبَةً فِي تَلَقِّي الشَّرِيعَةِ حَسْبَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِجَبَلِ الطُّورِ، وَلَمْ يُرَاعِ فِي ذَلِكَ إِلَّا السَّبْقَ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لِنَفْسِهِ وَلِقَوْمِهِ، فَلَامَهُ اللَّهُ عَلَى أَنْ غَفَلَ عَنْ مُرَاعَاةِ مَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنِ ابْتِعَادِهِ عَنْ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَهُمُ اللَّهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَهْدِ وَيُحَذِّرَهُمْ مَكْرَ مَنْ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مَكَرًا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعًا فَرَكَعَ وَدَبَّ إِلَى الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» . وَقَرِيبٌ مِنْ تَصَرُّفِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْذُ الْمُجْتَهِدِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَهُ مَعَارِضٌ دُونَ عِلْمٍ بِمُعَارَضَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ افْتِتَانِ قَوْمِهِ بِصُنْعِ صَنَمٍ يَعْبُدُونَهُ.

وَلَيْسَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ صُنْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ مِنْ ذَهَبٍ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا فِي مُدَّةِ مَغِيبِ مُوسَى، وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ اسْتِبْطَاؤُهُمْ رُجُوعَ مُوسَى قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91] . وَقَوْلُهُ هُنَا هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا سَائِرِينَ خَلْفَهُ وَأَنَّهُ سَبَقَهُمْ إِلَى الْمُنَاجَاةِ. وَاعْتَذَرَ عَنْ تَعَجُّلِهِ بِأَنَّهُ عَجِلَ إِلَى اسْتِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ مُبَالَغَةً فِي إِرْضَائِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَامِ عَلَى التَّعَجُّلِ بِأَنَّهُ تَسَبَّبَ عَلَيْهِ حُدُوثُ فِتْنَةٍ فِي قَوْمِهِ لِيُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَا وُقِّتَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لِرَغْبَةٍ فِي ازْدِيَادٍ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْأَثَرُ- بِفُتْحَتَيْنِ-: مَا يَتْرُكْهُ الْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَلَامَاتِ قَدَمٍ أَوْ حَافِرٍ أَوْ خُفٍّ. وَيُقَالُ: إِثْرٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ- وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ كَمَا ذَكَرَ ثَعْلَبُ. فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: جَاءَ عَلَى إِثْرِهِ، جَاءَ مُوَالِيًا لَهُ بِقُرْبِ مَجِيئِهِ، شَبَّهَ الْجَائِيَ الْمُوَالِيَ بِالَّذِي يَمْشِي عَلَى عَلَامَاتِ أَقْدَامِ من مَشى قبله قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ الْأَثَرُ بِأَقْدَامٍ أُخْرَى، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ مُوَالَاتُهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ. وَالْمَعْنَى: هُمْ أُولَاءِ سَائِرُونَ عَلَى مَوَاقِعِ أَقْدَامِي، أَيْ مُوَالُونَ لِي فِي الْوُصُولِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» ، تَقْدِيرُهُ: يُحْشَرُونَ سَائِرِينَ عَلَى آثَارِ قَدَمِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى أَثَرِي بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ-. وَاسْتُعْمِلَ تَرْكِيبُ هُمْ أُولاءِ مُجَرَّدًا عَنْ حَرْفِ التَّنْبِيهِ فِي أَوَّلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ خِلَافًا لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [109] : هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ ،

وَتَجْرِيدُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ هَاءِ التَّنْبِيهِ اسْتِعْمَالٌ جَائِزٌ وَأَقَلُّ مِنْهُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ مَعَ الضَّمِيرِ دُونَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، نَحْوَ قَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ: هَا أَنَا دُونَ الْحَبِيبِ يَا وَجَعُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [119] . وَإِسْنَادُ الْفِتَنِ إِلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ وَخَالِقُ أَسْبَابِهِ الْبَعِيدَةِ. وَأَمَّا إِسْنَادُهُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمُبَاشِرُ لِضَلَالِهِمُ الْمُسَبِّبِ لِفِتْنَتِهِمْ. والسَّامِرِيُّ يَظْهَرُ أَنَّ يَاءَهُ يَاءُ نِسْبَةٍ، وَأَنَّ تَعْرِيفَهُ بِاللَّامِ لِلْعَهْدِ. فَأَمَّا النِّسْبَةُ فَأَصْلُهَا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَنْ تَكُونَ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَالسَّامِرِيُّ نُسِبَ إِلَى اسْمِ أَبِي قَبِيلَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ غَيْرِهِمْ يُقَارِبُ اسْمُهُ لَفْظَ سَامِرَ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْقَدِيمَةِ (شُومَرَ) وَ (شَامِرَ) وَهُمَا يُقَارِبَانِ اسْمَ سَامِرَ لَا سِيَّمَا مَعَ التَّعْرِيبِ. وَفِي «أَنْوَارِ التَّنْزِيلِ» : «السَّامِرِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهَا: السَّامِرَةُ» اه. أَخَذْنَا مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ السَّامِرِيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ «مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. لِأَنَّ السَّامِرَةَ أُمَّةٌ مِنْ سُكَّانِ فِلَسْطِينَ فِي جِهَةِ نَابُلُسَ فِي عَهْدِ الدَّوْلَةِ الرُّومِيَّةِ (الْبِيزَنْطِيَّةِ) وَكَانُوا فِي فِلَسْطِينَ قَبْلَ مَصِيرِ فِلَسْطِينَ بِيَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ امْتَزَجُوا بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَاتَّبَعُوا شَرِيعَةَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ تَخَالُفٍ فِي طَرِيقَتِهِمْ عَنْ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ. فَلَيْسَ هُوَ مَنْسُوبًا إِلَى مَدِينَةِ السَّامِرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ نَابُلُسَ لِأَنَّ مَدِينَةَ السَّامِرَةِ بَنَاهَا الْمَلِكُ (عَمْرِي) مَلِكُ مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ سَنَةَ 925 قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَجَعَلَهَا قَصَبَةَ مَمْلَكَتِهِ، وَسَمَّاهَا (شُومِيرُونَ) لِأَنَّهُ بَنَاهَا عَلَى جَبَلٍ اشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ اسْمُهُ (شَامِرَ) بِوَزْنَتَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ، فَعُرِّبَتْ

فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَى سَامِرَةَ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَعُدُّونَهَا مَدِينَةَ كُفْرٍ وَجَوْرٍ، لِأَنَّ (عَمْرِي) بَانِيهَا وَابْنَهُ (آخاب) قد أفسدا دِيَانَةَ التَّوْرَاةِ وَعَبَدَا الْأَصْنَامَ الْكَنْعَانِيَّةَ. وَأَمَرَ اللَّهُ النَّبِيءَ إِلْيَاسَ بِتَوْبِيخِهِمَا وَالتَّثْوِيرِ عَلَيْهِمَا، فَلَا جَرَمَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً زَمَنَ مُوسَى وَلَا كَانَتْ نَاحِيَتُهَا مِنْ أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ زَمَنَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ نَسَبًا إِلَى قَرْيَةٍ اسْمُهَا السَّامِرَةُ مِنْ قُرَى مِصْرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، فَيَكُونُ فَتًى قِبْطِيًّا انْدَسَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعَلُّقِهِ بِهِمْ فِي مِصْرَ أَوْ لِصِنَاعَةٍ يَصْنَعُهَا لَهُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَهْلِ (كِرْمَانَ) ، وَهَذَا يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ تَعْرِيبَ كِرْمَانِيٍّ بِتَبْدِيلِ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي التَّعْرِيبِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ مِنَ السَّامِرِيِّ غَيْرَ يَاءِ نَسَبٍ بَلْ حَرْفًا مِنِ اسْمٍ مِثْلَ: يَاءُ عَلِيٍّ وَكُرْسِيٍّ، فَيَكُونُ اسْمًا أَصْلِيًّا أَوْ مَنْقُولًا فِي الْعَبْرَانِيَّةِ، وَتَكُونُ اللَّامُ فِي أَوَّلِهِ زَائِدَةً. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ خَلِيطًا مِنَ الْقِصَّةِ: أَنَّ السَّامِرِيَّ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظَفَرٍ- بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ- وَأَنَّهُ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوِ ابْنُ خَالِهِ، وَأَنَّهُ كَفَرَ بِدِينِ مُوسَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ على بعض تفاصيل تَشْمَئِزُّ النَّفْسُ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّامِرِيِّينَ لَقَبٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا السَّامِرَةُ، لَهُمْ مَذْهَبٌ خَاصٌّ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ جَمَاعَةِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَهُمْ لَا يُعَظِّمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَا مُوسَى وَهَارُونَ وَيُوشَعَ، وَمَا كَانَتْ هَذِهِ الشُّذُوذَاتِ فِيهِمْ إِلَّا مِنْ بَقَايَا تَعَالِيمِ الْإِلْحَادِ الَّتِي كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا فِي مَدِينَةِ السَّامِرَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّسَاهُلِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَالتَّرَخُّصِ فِي تَعْظِيمِ آلِهَةِ

[سورة طه (20) : آية 86]

جِيرَتِهِمُ الْكَنْعَانِيِّينَ أَصْهَارَ مُلُوكِهِمْ، وَدَامَ ذَلِكَ الشُّذُوذُ فِيهِمْ إِلَى زَمَنِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى إِصْحَاحٌ 10 وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا إِصْحَاحٌ 9 مَا يَقْتَضِي أَنَّ بَلْدَةَ السَّامِرِيِّينَ كَانَتْ مُنْحَرِفَةً عَلَى أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهُ نَهَى الْحَوَارِيِّينَ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَدِينَتِهِمْ. وَوَقَعَتْ فِي كِتَابِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ زَلَّةٌ كُبْرَى، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ هَارُونَ صَنَعَ الْعِجْلَ لَهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: «اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ فَصَنَعَ لَهُمْ عِجْلًا مِنْ ذَهَبٍ» . وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا مِنْ آثَارِ تَلَاشِي التَّوْرَاةِ الْأَصْلِيَّةِ بَعْدَ الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ، وَأَنَّ الَّذِي أَعَادَ كَتْبُهَا لَمْ يُحْسِنْ تَحْرِيرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَمِمَّا نَقْطَعُ بِهِ أَنَّ هَارُونَ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَسُول. [86] [سُورَة طه (20) : آيَة 86] فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) الْغَضَبُ: انْفِعَالٌ لِلنَّفْسِ وَهَيَجَانٌ يَنْشَأُ عَنْ إِدْرَاك مَا يسوؤها وَيُسْخِطُهَا دُونَ خَوْفٍ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ غَضْبَانٌ. وَالْأَسَفُ: انْفِعَالٌ لِلنَّفْسِ يَنْشَأُ مِنْ إِدْرَاكِ مَا يُحْزِنُهَا وَمَا تَكْرَهُهُ مَعَ انْكِسَارِ الْخَاطِرِ. وَالْوَصْفُ مِنْهُ أَسِفَ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الِانْفِعَالَانِ فِي نَفْسِ مُوسَى لِأَنَّهُ يسوؤه وُقُوعُ ذَلِكَ فِي أُمَّتِهِ وَهُوَ لَا يَخَافُهُمْ، فَانْفِعَالُهُ الْمُتَعَلِّقُ بِحَالِهِمْ غَضَبٌ، وَهُوَ أَيْضًا يَحْزُنُهُ وُقُوعُ ذَلِكَ وَهُوَ فِي مُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَ

يَأْمُلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبَ رِضَى اللَّهِ عَنْ قَوْمِهِ فَإِذَا بِهِمْ أَتَوْا بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ فَقَدِ انْكَسَرَ خاطره بَين يَدَيْهِ رَبِّهِ. وَهَذَا ابْتِدَاءُ وَصْفِ قِيَامِ مُوسَى فِي جَمَاعَةِ قَوْمِهِ وَفِيهِمْ هَارُونَ وَفِيهِمُ السَّامِرِيُّ، وَهُوَ يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ، فَابْتَدَأَ بِخِطَابِ قَوْمِهِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَارُونَ لَا يَكُونُ مُشَايِعًا لَهُمْ، فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ بِخِطَابِ قَوْمِهِ ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى هَارُونَ بِقَوْلِهِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ [طه: 92] . وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ. وَافْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِ يَا قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِلَّوْمِ لِأَنَّ انْجِرَارَ الْأَذَى لِلرَّجُلِ مِنْ قَوْمِهِ أَحَقُّ فِي تَوْجِيهِ الْمَلَامِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ إِنْكَارِيُّ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعِدْهُمْ وَعْدًا حَسَنًا لِأَنَّهُمْ أَجْرُوا أَعْمَالَهُمْ عَلَى حَالِ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا، وَشَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَرْضِ النَّفْيِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْوَعْدُ الْحَسَنُ هُوَ: وَعْدُهُ مُوسَى بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، وَمُوَاعَدَتُهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً لِلْمُنَاجَاةِ، وَقَدْ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ وَعْدٌ لِقَوْمِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِصَلَاحِهِمْ، وَلِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ نَاصِرًا لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَادِيًا لَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 80] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَيْسَ الْعَهْدُ بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ بَعِيدًا. وَالْمُرَادُ بِطُولِ الْعَهْدِ طُولُ الْمُدَّةِ، أَيْ بُعْدُهَا، أَيْ لَمْ يَبْعُدْ زَمَنُ وَعْدِ رَبِّكَمْ إِيَّاكُمْ حَتَّى يَكُونَ لَكُمْ يَأْسٌ مِنَ الْوَفَاءِ فَتَكْفُرُوا وَتُكَذِّبُوا مَنْ بَلَّغَكُمُ الْوَعْدَ وَتَعْبُدُوا رَبًّا غَيْرَ الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مَنْ بَلَّغَكُمُ الْوَعْدَ فَتَكُونُ لَكُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَنِسْيَانِ عَهْدِهِ.

[سورة طه (20) : الآيات 87 إلى 88]

وَالْعَهْدُ: مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ وَتَذَكُّرُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى الْمَفْعُولِ كَإِطْلَاقِ الْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ طَالَ الْمَعْهُودُ لَكُمْ وَبَعُدَ زَمَنُهُ حَتَّى نَسِيتُمُوهُ وَعَمِلْتُمْ بِخِلَافِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ عَهْدُهُمُ اللَّهَ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَقَوْلُهُ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 27 وَ40] . وأَمْ إِضْرَابٌ إِبْطَالِيٌّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه: 86] إِنْكَارِيٌّ أَيْضًا، إِذِ التَّقْدِيرُ: بَلْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ، فَلَا يَكُونُ كُفْرُكُمْ إِذَنْ إِلَّا إِلْقَاءً بِأَنْفُسِكُمْ فِي غَضَبِ اللَّهِ كَحَالِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. فَفِي قَوْلِهِ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، إِذْ شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي ارْتِكَابِهِمْ أَسْبَابَ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِدُونِ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ يُحِبُّ حُلُولَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذِ الْحُبُّ لَا سَبَبَ لَهُ. وَقَوْلُهُ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي تَفْرِيعٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الثَّانِي. وَمَعْنَى مَوْعِدِي هُوَ وَعْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ لِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ فِيهِ. [87- 88] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 87 الى 88] قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها وَقَعَتْ جُمْلَةُ قالُوا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا جَرَتْ فِي الْمُحَاوَرَةِ جَوَابًا عَنْ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ

وَإِنَّمَا الْقَائِلُ بَعْضُهُمْ، تَصَدُّوا مُجِيبِينَ عَنِ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ وَهُمْ كُبَرَاءُ الْقَوْمِ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ بِمَلْكِنا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْمِيمِ-. وَهِيَ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَمَعْنَاهَا: بِإِرَادَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا، أَيْ لِإِخْلَافِ مَوْعِدِكَ، أَيْ مَا تَجَرَّأْنَا وَلَكِنْ غَرَّهُمُ السَّامِرِيُّ وَغَلَبَهُمْ دَهْمَاءُ الْقَوْمِ. وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنَ الْمُجِيبِينَ بِمَا فَعَلَهُ دَهْمَاؤُهُمْ. وَالِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعٌ إِلَى مَا أَفَادَهُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ إِخْلَافُهُمُ الْعَهْدَ عَنْ قَصْدٍ لِلضَّلَالِ وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهُ وَقَعَتْ بِإِيجَازٍ عَنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّنَصُّلِ مِنْ تَبِعَةِ نَكْثِ الْعَهْدِ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ قَوْلُهُ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ، فَعُطِفَتِ الْجُمَلُ قَبْلَهُ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ غُلِبُوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِتَضْلِيلِ السَّامِرِيِّ. فَأُدْمِجَتْ فِي هَذَا الِاعْتِذَارِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَضِيَّةِ صَوْغِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدُوهُ وَاغْتَرُّوا بِمَا مُوِّهَ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِلَهُهُمُ الْمَنْشُودُ مِنْ كَثْرَةِ مَا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ أَوْ أَمَامَهُمْ، وَمِمَّا جَاشَ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ حُمِّلْنا- بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَكْسُورَةٍ، أَيْ حَمَّلَنَا مَنْ حَمَّلَنَا، أَوْ حَمَّلْنَا أَنْفُسَنَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً-.

وَالْأَوْزَارُ: الْأَثْقَالُ. وَالزِّينَةُ: الْحُلِيُّ وَالْمَصُوغُ. وَقَدْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ أَزْمَعُوا الْخُرُوجَ قَدِ احْتَالُوا عَلَى الْقِبْطِ فَاسْتَعَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَارِهِ الْقِبْطِيِّ حُلِيًّا فِضَّةً وَذَهَبًا وَأَثَاثًا، كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 12 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خَشَوْا تَلَاشِيَ تِلْكَ الزِّينَةِ فَارْتَأَوْا أَنْ يَصُوغُوهَا قِطْعَةً وَاحِدَةً أَوْ قِطْعَتَيْنِ لِيَتَأَتَّى لَهُمْ حِفْظُهَا فِي مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ. وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْإِلْقَاءُ فِي نَارِ السَّامِرِيِّ للصوغ، كَمَا يومىء إِلَيْهِ الْإِصْحَاحُ 32 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. فَهَذَا حِكَايَةُ جَوَابِهِمْ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُجْمَلًا مُخْتَصَرًا شَأْنَ الْمُعْتَذِرِ بِعُذْرٍ وَاهٍ أَنْ يَكُونَ خَجْلَانَ مِنْ عُذْرِهِ فَيَخْتَصِرُ الْكَلَامَ. فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) ظَاهِرُ حَالِ الْفَاءِ التَّفْرِيعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا صَادِرًا مِنْ قَائِلِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَمِثْلُ قَذْفِنَا زِينَةَ الْقَوْمِ، أَيْ فِي النَّارِ، أَلْقَى السَّامِرِيُّ شَيْئًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ التَّخَلُّصُ إِلَى قِصَّةِ صَوْغِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدُوهُ. وَضَمِيرَا الْغِيبَةِ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ وَقَوْلُهُ: فَقالُوا عَائِدَانِ إِلَى غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. عَلَّقَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْإِخْرَاجَ وَالْقَوْلَ بِالْغَائِبِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَ مُوسَى لَمْ يَكُونُوا مِمَّنِ اعْتَقَدَ إِلَهِيَّةَ الْعِجْلِ وَلَكِنَّهُمْ صَانَعُوا دَهْمَاءَ الْقَوْمِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْقَوْمِ لِمُوسَى. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَيَكُونُ مِنْ

تَمَامِ الْمَعْذِرَةِ الَّتِي اعْتَذَرَ بِهَا الْمُجِيبُونَ لِمُوسَى، وَيَكُونُ ضَمِيرُ فَأَخْرَجَ لَهُمْ الْتِفَاتًا قَصَدَ الْقَائِلُونَ بِهِ التَّبَرِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ الْعِجْلِ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ أَخْرَجَهُ لِمَنْ رَغِبُوا فِي ذَلِكَ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْكَلَامَ كُلَّهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، فَيَكُونُ اعْتِرَاضًا وَإِخْبَارًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأُمَّةِ. وموقع الْفَاء يناكد هَذَا لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَرِدُ لِلِاسْتِئْنَافِ عَلَى التَّحْقِيقِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ تَفْرِيعَ أَخْبَارٍ عَلَى أَخْبَارٍ. وَالْمَعْنَى: فَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَذْفِ الَّذِي قَذَفْنَا مَا بِأَيْدِينَا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا بِيَدِهِ مِنَ النَّارِ لِيَذُوبَ وَيَصُوغَهَا فَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عِجْلًا جَسَدًا. فَإِنَّ فِعْلَ (أَلْقَى) يَحْكِي حَالَةً مُشَبَّهَةً بِحَالَةِ قَذْفِهِمْ مَصُوغَ الْقِبْطِ. وَالْقَذْفُ وَالْإِلْقَاءُ مُتَرَادِفَانِ، شُبِّهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَالْجَسَدُ: الْجِسْمُ ذُو الْأَعْضَاءِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَمْ لَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: 34] . قِيلَ: هُوَ شِقُّ طِفْلٍ وَلَّدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الزَّجَاجُ: الْجَسَدُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ إِنَّمَا هُوَ الْجُثَّةُ، أَيْ أَخْرَجَ لَهُمْ صُورَةَ عِجْلٍ مُجَسَّدَةً بِشَكْلِهِ وَقَوَائِمِهِ وَجَوَانِبِهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ صُورَةٍ مَنْقُوشَةٍ عَلَى طَبَقٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ. وَالْإِخْرَاجُ: إِظْهَارُ مَا كَانَ مَحْجُوبًا. وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِخْرَاجِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَنَعَهُ بِحِيلَةٍ مَسْتُورَةٍ عَنْهُمْ حَتَّى أَتَمَّهُ. وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ. وَكَانَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعِجْلَ عَارِفًا بِصِنَاعَةِ الْحِيَلِ الَّتِي كَانُوا يَصْنَعُونَ بِهَا الْأَصْنَامَ وَيَجْعَلُونَ فِي أَجْوَافِهَا وَأَعْنَاقِهَا مَنَافِذَ كَالزَّمَّارَاتِ تَخْرُجُ مِنْهَا أَصْوَاتٌ إِذَا أُطْلِقَتْ عِنْدَهَا رِيَاحٌ بِالْكِيرِ وَنَحْوِهِ.

وَصَنَعَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ صَنَمًا عَلَى صُورَةِ عِجْلٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا فِي مِصْرَ عِبَادَةَ الْعِجْلِ «إِيبِيسَ» ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا صَاغَهُ السَّامِرِيُّ فِي صُورَةِ مَعْبُودٍ عَرَفُوهُ مِنْ قَبْلُ وَرَأَوْهُ يَزِيدُ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ خُوَارًا، رَسَخَ فِي أَوْهَامِهِمُ الْآفِنَةِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِجْلِ (إِيبِيسَ) . وَإِذْ قَدْ كَانُوا يُثْبِتُونَ إِلَهًا مَحْجُوبًا عَنِ الْأَبْصَارِ وَكَانُوا يَتَطَلَّبُونَ رُؤْيَتَهُ، فَقَالُوا لِمُوسَى: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاء: 153] ، حِينَئِذٍ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ ضَالَّتُهُمُ الْمَنْشُودَةُ. وَقِصَّةُ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ غَيْرُ مُلَائِمَةٍ لِلنَّظَرِ السَّلِيمِ. وَتَفْرِيعُ فَنَسِيَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ تَفْرِيعَ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّامِرِيِّ، أَيْ قَالَ السَّامِرِيُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ تَلَقَّاهُ مِنْ هَدْيٍ أَوْ تَفْرِيعَ مَعْلُولٍ عَلَى عِلَّةٍ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُ سَبَبًا فِي نِسْيَانِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ هَدْيٍ إِذْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ فَحَرَمَهُ التَّوْفِيقَ مِنْ بَعْدُ. وَالنِّسْيَانُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِضَاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها [طه: 126] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَنَسِيَ مِنَ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّامِرِيِّ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ أَفَلا يَرَوْنَ [طه: 89] وَيَكُونَ اعْتِرَاضًا. وَجَعَلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَائِدًا إِلَى مُوسَى، أَيْ فَنَسِيَ مُوسَى إِلَهَكُمْ وَإِلَهَهُ، أَيْ غَفَلَ عَنْهُ، وَذَهَبَ إِلَى الطُّورِ يُفَتِّشُ عَلَيْهِ وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، وَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ يُبْعِدُ هَذَا التَّفْسِيرَ. وَالنِّسْيَانُ: يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي الْغَفْلَة.

[سورة طه (20) : آية 89]

[سُورَة طه (20) : آيَة 89] أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا وَلَيْسَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْقَوْمِ، فَهُوَ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه: 87] وَجُمْلَةِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: 92، 93] إِلَخْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ، أَيْ لِتَفْرِيعٍ الْإِخْبَارٍ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَالْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِخِطَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ وَصُلَحَاؤُهُمْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ التَّوْحِيدِ. وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارِيٌّ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَرَى الْعِجْلَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْبَصَرِ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ رُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ، أَيْ كَيْفَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ لِلْعِجْلِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْتَطِيعُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ مُكَنًّى بِهَا أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمِ، وَلَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ لِجُمْلَةِ وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَى بالبصر بِخِلَاف أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا. وَرُؤْيَةُ انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ بِهَا رُؤْيَةُ أَثَرِ انْتِفَائِهِمَا بِدَوَامِ عَدَمِ التَّكَلُّمِ وَانْتِفَاءِ عَدَمِ نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُسَلَّطٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ إِلَهُهُمْ فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ لَهُمْ ضَرًّا وَنَفْعًا. وَمَعْنَى يَرْجِعُ يَرُدُّ، أَيْ يُجِيبُ الْقَوْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ مِنْ فُقْدَانِهِ صِفَاتَ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيُمَجِّدُونَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَشْكُرُ لَهُمْ وَلَا يَعِدُهُمْ بِاسْتِجَابَةٍ، وَشَأْنُ الْكَامِلِ إِذَا سَمِعَ ثَنَاءً أَوْ تَلَقَّى طِلْبَةً أَنْ يُجِيبَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مَنْ هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ

[سورة طه (20) : الآيات 90 إلى 91]

أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهُمْ مِثْلَ ضُرِّ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ. فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا عَدَمَ غِنَائِهِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ حَالِهِ مِنْ عَدَمِ التَّحَرُّكِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَنْفَعَ أَوْ يَضُرَّ، فَلِذَلِكَ سُلِّطَ الْإِنْكَارُ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ حَالَهُ مِمَّا يُرَى. وَلَامُ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى يَسْتَطِيعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. [76] . وَقَدَّمَ الضَّرَّ عَلَى النَّفْعِ قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فِي اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهِ، لِأَنَّ عُذْرَ الْخَائِفِ مِنَ الضُّرِّ أَقْوَى مِنْ عُذْرِ الرَّاغِبِ فِي النَّفْعِ. وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ أَلَّا يَرْجِعُ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْخَبَرُ، فَ يَرْجِعُ مَرْفُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ مَا عَدَا قِرَاءَاتٍ شَاذَّةٍ. وَلَيْسَتْ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً لِأَنَّ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تَقَعُ بَعْدَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ وَلَا بَعْدَ أَفعَال الْإِدْرَاك. [90- 91] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 90 إِلَى 91] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَفَلا يَرَوْنَ [طه: 89] عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، أَيْ كَيْفَ لَا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِجْلِ الْإِلَهِيَّةَ، بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُقْلِعُونَ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ،

وَتِلْكَ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ، فِي حَالِ أَنَّ هَارُونَ قَدْ وَعَظَهُمْ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذْ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ فِتْنَةٌ فَتَنَهُمْ بِهَا السَّامِرِيُّ، وَأَنَّ ربّهم هُوَ الرحمان لَا مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا فَضْلًا عَنِ الرَّحْمَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعُوا أَمْرَهُ، وَتِلْكَ دَلَالَةٌ سَمْعِيَّةٌ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَلَامِ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ إِبْطَالِ مَا فِي كِتَابِ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّ هَارُونَ هُوَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعَجَلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهُ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنه كَانَ يستهزىء بِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ إِفْكٌ عَظِيمٌ فِي كِتَابِهِمْ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلُ) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُوسَى وَيُنْكِرَ عَلَيْهِمْ. وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ بِ يَا قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِمَقَامِ النَّصِيحَةِ. وَمَعْنَى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ: مَا هُوَ إِلَّا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَلَيْسَ رَبًّا، وَإِن ربّكم الرحمان الَّذِي يَرْحَمُكُمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَاكِفِينَ عَلَى عِبَادَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيُصَرِّحُ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ لَيْسَ هُوَ رَبَّهُمْ. وَرَتَّبَ هَارُونُ خِطَابَهُ عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَهُ بِزَجْرِهِمْ عَنِ الْبَاطِلِ وَعَنْ عِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِرَبٍّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ إِذْ كَانَ رَسُولًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا التَّصْمِيمُ عَلَى اسْتِمْرَارِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فَأَجَابُوا هَارُونَ جَوَابًا جَازِمًا. وعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ عاكِفِينَ قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَوْ أَرَادُوا: لَنْ نَبْرَحَ نَخُصُّهُ بِالْعُكُوفِ لَا نَعْكُفُ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَكَانَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ يَلْزَمُونَهَا ويطوفون بهَا.

[سورة طه (20) : الآيات 92 إلى 94]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 92 إِلَى 94] قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) انْتَقَلَ مُوسَى مِنْ مُحَاوَرَةِ قَوْمِهِ إِلَى مُحَاوَرَةِ أَخِيهِ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا هارُونُ تَابِعَةٌ لِجُمْلَةِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه: 86] ، وَلِجُمْلَةِ قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا [طه: 87] وَقَدْ وُجِدَتْ مُنَاسِبَةٌ لِحِكَايَةِ خِطَابِهِ هَارُونَ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْحِكَايَةِ بِالْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ الَّتِي مِنْهَا جُمْلَةُ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ [طه: 90] إِلَخْ فَهُوَ اسْتِطْرَادٌ فِي خِلَالِ الْحِكَايَةِ لِلْإِشْعَارِ بِعُذْرِ هَارُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ إِلَخْ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِ تِلْكَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ قَوْمِ مُوسَى. عَلِمَ مُوسَى أَنَّ هَارُونَ مَخْصُوصٌ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي الْعِصْمَةَ، فَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِخِطَابٍ يُنَاسِبُ حَالَهُ بَعْدَ أَنْ خَاطَبَ عُمُومَ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الْمَاضِي. وَهَذَا خِطَابُ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى بَقَائِهِ بَيْنَ عَبَدَةِ الصَّنَمِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ مَا مَنَعَكَ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا مَانِعَ لَكَ مِنَ اللِّحَاقِ بِي، لِأَنَّهُ أَقَامَهُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِيهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْخِلَافَةَ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ. وإِذْ رَأَيْتَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَنَعَكَ. وَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، وَ (لَا) حَرْفُ نَفْيٍ. وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ مَعْنَى النَّفْيِ. وَالْمَصْدَرُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ

(أَنْ) هُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَأَمَّا مَفْعُولُ مَنَعَكَ فَمَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنَعَكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَّبِعَنِي وَاضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ احْتِبَاكٍ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ وَتَشْدِيدُ التَّوْبِيخِ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِهَارُونَ مَانِعٌ حِينَئِذٍ مِنَ اللَّحَاقِ بِمُوسَى وَمُقْتَضٍ لِعَدَمِ اللَّحَاقِ بِمُوسَى، كَمَا يُقَالُ: وُجِدَ السَّبَبُ وَانْتَفَى الْمَانِعُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [12] فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي مُفَرَّعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَهُوَ إِنْكَارٌ ثَانٍ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، مَشُوبٌ بِتَقْرِيرٍ لِلتَّهْدِيدِ. وَقَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ ابْنَ أُمَ نِدَاءٌ لِقَصْدِ التَّرْقِيقِ وَالِاسْتِشْفَاعِ. وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مُوسَى حِينَ وَبَّخَهُ أَخَذَ بِشَعْرِ لِحْيَةِ هَارُونَ، وَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجْذِبُهُ إِلَيْهِ لِيَلْطِمَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ [50] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الجمهورا بْنَ أُمَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَأَصْلُهُ: يَا ابْنَ أُمِّي، فَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ حَذْفٌ مَخْصُوصٌ بِالنِّدَاءِ. وَالْقِرَاءَتَانِ وَجْهَانِ فِي حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لَفْظُ أُمَّ وَلَفْظُ (عَمِّ) فِي النِّدَاءِ. وَعُطِفَ الرَّأْسُ عَلَى اللِّحْيَةِ لِأَنَّ أَخْذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ أَشَدُّ أَلَمًا وَأَنْكَى فِي الْإِذْلَالِ. وَابْنُ الْأُمِّ: الْأَخُ. وَعَدَلَ عَنْ (يَا أَخِي) إِلَى (ابْنَ أُمَّ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأُمِّ تَذْكِيرٌ بِأَقْوَى أَوَاصِرِ الْأُخُوَّةِ، وَهِيَ آصِرَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ وَالرِّضَاعِ مِنْ لِبَانٍ وَاحِدٍ.

وَاللِّحْيَةُ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ- فَتْحُ اللَّامِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ- اسْمٌ لِلشَّعْرِ النَّابِتِ بِالْوَجْهِ عَلَى مَوْضِعِ اللِّحْيَيْنِ وَالذَّقْنِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى- كَسْرِ اللَّامِ- مِنْ لِحْيَتِي. وَاعْتَذَرَ هَارُونُ عَنْ بَقَائِهِ بَيْنَ الْقَوْم بقوله نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ ، أَيْ أَنْ تَظُنَّ ذَلِكَ بِي فَتَقَوْلَهَ لَوْمًا وَتَحْمِيلًا لِتَبِعَةِ الْفُرْقَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ إِذَا أَظْهَرَ هَارُونُ غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُخَالِفُهُمُ الْجُمْهُورُ فَيَقَعُ انْشِقَاقٌ بَيْنَ الْقَوْمِ وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فَرَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يُظْهِرَ الرِّضَى عَنْ فِعْلِهِمْ لِيَهْدَأَ الْجُمْهُورُ وَيَصْبِرَ الْمُؤْمِنُونَ اقْتِدَاءً بِهَارُونَ، وَرَأَى فِي سُلُوكِ هَذِهِ السِّيَاسَةِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ مُوسَى لَهُ وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [142] . وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ حِكَايَةِ قَوْلِ مُوسَى الَّذِي قَدَّرَهُ هَارُونُ فِي ظَنِّهِ. وَهَذَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ إِذْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ مَصْلَحَتَانِ مَصْلَحَةُ حِفْظِ الْعَقِيدَةِ وَمَصْلَحَةُ حِفْظِ الْجَامِعَةِ مِنَ الْهَرَجِ. وَفِي أَثْنَائِهَا حِفْظُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَرَجَّحَ الثَّانِيَةَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَهَا لِأَنَّهُ رَآهَا أَدْوَمَ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ حِفْظِ الْعَقِيدَةِ يُسْتَدْرَكُ فَوَاتُهَا الْوَقْتِيُّ بِرُجُوعِ مُوسَى وَإِبْطَالِهِ عِبَادَةَ الْعِجْلِ حَيْثُ غَيَّوْا عُكُوفَهَمْ عَلَى الْعِجْلِ بِرُجُوعِ مُوسَى، بِخِلَافِ مَصْلَحَةِ حِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ إِذَا انْثَلَمَتْ عَسُرَ تَدَارُكُهَا. وَتَضَمَّنَ هَذَا قَوْله نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ، وَكَانَ اجْتِهَادُهُ ذَلِكَ مَرْجُوحًا لِأَنَّ حِفْظَ الْأَصْلِ الْأَصِيلِ لِلشَّرِيعَةِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ الْأُصُولِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ صَلَاحِ الِاعْتِقَادِ هِيَ أُمُّ الْمَصَالِحِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ الِاجْتِمَاعِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامِيِّ» . وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوسَى خَافِيًا عَلَيْهِ أَنَّ هَارُونَ كَانَ مِنْ

[سورة طه (20) : الآيات 95 إلى 96]

وَاجِبِهِ أَنْ يَتْرُكَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَأَنْ يَلْتَحِقَ بِأَخِيهِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الشَّرِيعَةِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ فِيهَا، وَبِحُرْمَةِ الشَّرِيعَةِ يَبْقَى نُفُوذُهَا فِي الْأُمَّةِ وَالْعَمَلُ بِهَا كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ» . وَفِي قَوْله تَعَالَى: يْنَ بَنِي جِنَاسٌ، وَطَرْدٌ وَعَكْسٌ. وَهَذَا بَعْضُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَارُونُ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [150] أَنَّهُ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي. [95- 96] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 95 إِلَى 96] قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) الْتَفَتَ مُوسَى بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى السَّامِرِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي إِضْلَالِ الْقَوْمِ، فَالْجُمْلَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ قَوْلِ الْقَوْمِ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا [طه: 88] إِلَخْ، فَهِيَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ. وَلَعَلَّ مُوسَى لَمْ يُغْلِظْ لَهُ الْقَوْلَ كَمَا أَغْلَظَ لِهَارُونَ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِالدِّينِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ضَلَالِهِ عَجَبٌ. وَلَعَلَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الْقِبْطِ أَوْ مِنْ كِرْمَانَ فَانْدَسَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً وَلِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِأَجْلِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِشَرِيعَةِ مُوسَى أَمْرًا غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَكِنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَنِّفْهُ مُوسَى لِأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالتَّعْنِيفِ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الشَّرِيعَة. وَمعنى فَما خَطْبُكَ مَا طَلَبُكَ، أَيْ مَاذَا تَخْطُبُ، أَيْ تَطْلُبُ، فَهُوَ مَصْدَرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَهِيَ كَلِمَةٌ أَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَارِهِ،

لِأَنَّ الْخَطْبَ هُوَ الشَّأْنُ الْمَكْرُوهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات: 31] ، فَالْمَعْنَى: مَا هِيَ مُصِيبَتُكَ الَّتِي أَصَبْتَ بِهَا الْقَوْمَ وَمَا غَرَضُكَ مِمَّا فَعَلْتَ. وَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ إِلَى قَوْلِهِ فَنَبَذْتُها إِنْ حُمِلَتْ كَلِمَاتُ (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ. وقبضت قَبْضَةً، وَأثر، ونبذتها) عَلَى حَقَائِقِ مَدْلُولَاتِهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَبْصَرْتُ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، أَيْ نَظَرْتُ مَا لَمْ يَنْظُرُوهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَصُرْتُ، وأبصرت كِلَاهُمَا مِنْ أَفْعَالِ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، إِلَّا أَنَّ بَصُرَ بِالشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ صَارَ بَصِيرًا بِهِ أَوْ بَصِيرًا بِسَبَبِهِ، أَيْ شَدِيدَ الْإِبْصَارِ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَبْصَرْتُ، لِأَنَّهُ صِيغَ مِنْ فِعْلٍ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- الَّذِي تُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْمُشَبَّهَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ سَجِيَّةً، قَالَ تَعَالَى: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [11] . وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا جَلِيًّا عَن أَمر مرثيّ تَعَيَّنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ بِاسْتِعَارَةِ بَصُرَ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْإِبْصَارِ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ الْقَوِيِّ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] ، وَكَمَا سُمِّيَتِ الْمَعْرِفَةُ الرَّاسِخَةُ بَصِيرَةً فِي قَوْله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ [يُوسُف: 108] . وَحُكِيَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِالْأَشْيَاءِ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، وَبَصُرْتُ بِالشَّيْءِ: عَلِمْتُهُ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا الْأَخْفَشُ فِي نَقْلِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَأَثْبَتَهُ الزَّجَّاجُ. فَالْمَعْنَى: عَلِمْتُ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وَفَطِنْتُ لِمَا لَمْ يَفْطِنُوا لَهُ، كَمَا جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَوَّلَ وَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ طَرِيقَتَانِ: إِمَّا جَعْلُ بَصُرْتُ مَجَازًا، وَإِمَّا جَعْلُهُ حَقِيقَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْصُرُوا بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَوْقِيَّةٍ- عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. وَالْقَبْضَةُ:- بِفَتْحِ الْقَافِ- الْوَاحِدَةُ: مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ غَلْقُ الرَّاحَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَالْقَبْضَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَضِدُّ الْقَبْضِ: الْبَسْطُ.

وَالنَّبْذُ: إِلْقَاءُ مَا فِي الْيَدِ. وَالْأَثَرُ: حَقِيقَتُهُ: مَا يَتْرُكُهُ الْمَاشِي مِنْ صُورَةِ قَدَمِهِ فِي الرَّمْلِ أَوِ التُّرَابِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [طه: 84] . وعَلى حمل هَذِه الْكَلِمَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُ الرَّسُولِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ جِبْرِيلُ، وَرَوَوْا قِصَّةٌ قَالُوا: إِنَّ السَّامِرِيَّ فَتَنَهُ اللَّهُ، فَأَرَاهُ اللَّهُ جِبْرِيلَ رَاكِبًا فَرَسًا فَوَطِئَ حَافِرُ الْفَرَسِ مَكَانًا فَإِذَا هُوَ مُخْضَرٌّ بِالنَّبَاتِ. فَعَلِمَ السَّامِرِيُّ أَنَّ أَثَرَ جِبْرِيلَ إِذَا أُلْقِيَ فِي جَمَادٍ صَارَ حَيًّا، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ وَصَنَعَ عجلا وَألقى القبضة عَلَيْهِ فَصَارَ جَسَدًا، أَيْ حَيًّا، لَهُ خُوَارٌ كَخُوَارِ الْعِجْلِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ بِالنَّبْذِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَا وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ مِنَ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَلَعَلَّهَا تَسَرَّبَتْ لِلنَّاسِ مِنْ رِوَايَاتِ الْقَصَّاصِينَ. فَإِذَا صُرِفَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ السِّتُّ إِلَى مَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ كَانَ بَصُرْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ وَاهْتَدَيْتُ، أَيِ اهْتَدَيْتُ إِلَى عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وَهُوَ عِلْمُ صِنَاعَةِ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ الَّذِي بِهِ صُنِعَ الْعِجْلُ، وَعِلْمُ الْحِيَلِ الَّذِي أَوْجَدَ بِهِ خُوَارَ الْعِجْلِ، وَكَانَتِ الْقَبْضَةُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ الْقَلِيلِ، وَكَانَ الْأَثَرُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ، أَيِ الشَّرِيعَةِ، وَكَانَ نَبَذْتُ بِمَعْنَى أَهْمَلْتُ وَنَقَضْتُ، أَيْ كُنْتُ ذَا مَعْرِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ مِنْ هَدْيِ الشَّرِيعَةِ فَانْخَلَعْتُ عَنْهَا بِالْكُفْرُ. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الرَّسُولِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ مِنَ اللَّهِ وُأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ. وَكَانَ الْمَعْنَى: إِنِّي بِعَمَلِيَ الْعِجْلَ لِلْعِبَادَةِ نَقَضْتُ اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ مُوسَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اعْتَرَفَ أَمَامَ مُوسَى بِصُنْعِهِ الْعِجْلَ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ جَهِلَ فَضَلَّ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ سَوَّلَتْهُ لَهُ نَفْسُهُ.

[سورة طه (20) : آية 97]

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِتَقْدِيمِهِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ. وَالتَّسْوِيلُ: تَزْيِينُ مَا لَيْسَ بِزَيْنٍ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] ، أَيْ كَذَلِكَ التَّسْوِيلُ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، أَيْ تَسْوِيلًا لَا يَقْبَلُ التَّعْرِيفَ بِأَكْثَرَ من ذَلِك. [97] [سُورَة طه (20) : آيَة 97] قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) لَمْ يَزِدْ مُوسَى فِي عِقَابِ السَّامِرِيِّ عَلَى أَنْ خَلَعَهُ مِنَ الْأُمَّةِ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ مُوسَى أَعْلَمُ بِأَنَّ السَّامِرِيَّ لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ، فَيَكُونُ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، مِثْلَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 96، 97] ، وَيَكُونُ قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ مُوسَى عَلَى ذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ، مِثْلَ الَّذِي قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» ، وَمِثْلَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ بِبَعْضِهِمْ. فَقَوْلُهُ فَاذْهَبْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالِانْصِرَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ وَسَطِ الْأُمَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةَ زَجْرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ

مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ [الْإِسْرَاء: 63] ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ مِمَّا أَنْشَدَهَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» وَلَمْ يَعْزُهُ: فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا وَبِك لأيام مِنْ عَجَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ عَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِحَالِهِ كَقَوْلِ النَّبْهَانِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» : فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ أَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ فَهُوَ إِخْبَارٌ بِمَا عَاقَبَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجَعَلَ حَظَّهُ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَقُولَ لَا مِسَاسَ، أَيْ سَلَبَهُ اللَّهُ الْأُنْسَ الَّذِي فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ فَعَوَّضَهُ بِهِ هَوَسًا وَوِسْوَاسًا وَتَوَحُّشًا، فَأَصْبَحَ مُتَبَاعِدًا عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، عَائِشًا وَحْدَهُ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا يَقْتَرِبُ مِنْهُ، فَإِذَا لَقِيَهُ إِنْسَانٌ قَالَ لَهُ: لَا مِسَاسَ، يَخْشَى أَنْ يَمَسَّهُ، أَيْ لَا تَمَسَّنِي وَلَا أَمَسُّكَ، أَوْ أَرَادَ لَا اقْتِرَابَ مِنِّي، فَإِنَّ الْمَسَّ يُطْلَقُ عَلَى الِاقْتِرَابِ كَقَوْلِهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [هود: 64] ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، أَيْ مُقَارَبَةٌ بَيْنِنَا، فَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ فَظِيعَةٌ أَصْبَحَ بِهَا سُخْرِيَةً. وَمِسَاسَ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرُ مَاسَّهُ بِمَعْنَى مَسَّهُ، وَ (لَا) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، ومِساسَ اسْمُهَا مَبْنَيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. وَقَوْلُهُ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً اللَّامُ فِي لَكَ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: 7] أَيْ فَعَلَيْهَا. وَتَوَعَّدَهُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فَجَعَلَهُ مَوْعِدًا لَهُ، أَيْ مَوْعِدَ الْحَشْرِ وَالْعَذَابِ، فَالْمَوْعِدُ مَصْدَرٌ، أَيْ وَعْدٌ لَا يُخْلَفُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الرّوم: 6] . وَهُنَا تَوَعُّدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنْ تُخْلَفَهُ- بِفَتْحِ اللَّامِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا يُؤَخِّرُهُ اللَّهُ عَنْكَ، فَاسْتُعِيرَ الْإِخْلَافُ لِلتَّأْخِيرِ لِمُنَاسَبَةِ الْمَوْعِدِ.

وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- مُضَارِعُ أَخْلَفَ وَهَمْزَتُهُ لِلْوِجْدَانِ. يُقَالُ: أَخْلَفَ الْوَعْدَ إِذَا وَجَدَهُ مُخْلَفًا، وَإِمَّا عَلَى جَعْلِ السَّامِرِيِّ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ إِخْلَافُ الْوَعْدِ وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ تَبَعًا لِلتَّهَكُّمِ الَّذِي أَفَادَهُ لَامُ الْمِلْكِ. وَبَعْدَ أَنْ أَوْعَدَ مُوسَى السَّامِرِيَّ بَيَّنَ لَهُ وَلِلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ضَلَالَهُمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الإلهيّة لأنّه معرّض لِلِامْتِهَانِ وَالْعَجْزِ، فَقَالَ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً. فَجُعِلَ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّظَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمَحْسُوسَاتِ أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْقُولَاتِ. وَأَضَافَ الْإِلَهَ إِلَى ضَمِيرِ السَّامِرِيِّ تَهَكُّمًا بِالسَّامِرِيِّ وَتَحْقِيرًا لَهُ، وَوَصَفَ ذَلِكَ الْإِلَهَ الْمَزْعُومَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ، أَيِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْكَفَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ ظَلْتَ- بِفَتْحِ الظَّاءِ- فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَصْلُهُ: ظَلَلْتَ: حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ الْأُولَى تَخْفِيفًا مِنْ تَوَالِي اللَّامَيْنِ وَهُوَ حَذْفٌ نَادِرٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ هُوَ قِيَاسٌ. وَفِعْلُ (ظَلَّ) مِنْ أَخَوَاتِ (كَانَ) . وَأَصْلُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى اتِّصَافِ اسْمِهِ بِخَبَرِهِ فِي وَقْتِ النَّهَارِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى (دَامَ) بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَالِبَ الْأَعْمَالِ يَكُونُ فِي النَّهَارِ. وَالْعُكُوفُ: مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ عاكِفاً لِلتَّخْصِيصِ، أَيِ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى.

[سورة طه (20) : آية 98]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنُحَرِّقَنَّهُ- بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً-. وَالتَّحْرِيقُ: الْإِحْرَاقُ الشَّدِيدُ، أَيْ لَنُحَرِّقَنَّهُ إِحْرَاقًا لَا يَدَعُ لَهُ شَكْلًا. وَأَرَادَ بِهِ أَنْ يُذِيبَهُ بِالنَّارِ حَتَّى يَفْسُدَ شَكْلُهُ وَيَصِيرَ قِطَعًا. وَقَرَأَ ابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ لَنُحَرِّقَنَّهُ- بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَبِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ- لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَحْرَقَهُ وَحَرَّقَهُ. وَالنَّسْفُ: تَفْرِيقٌ وَإِذْرَاءٌ لِأَجْزَاءِ شَيْءٍ صَلْبٍ كَالْبِنَاءِ وَالتُّرَابِ. وَأَرَادَ بِالْيَمِّ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ الْمُسَمَّى بَحْرَ الْقُلْزُمِ، وَالْمُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ: بَحْرَ سُوفٍ، وَكَانُوا نَازِلِينَ حِينَئِذٍ عَلَى سَاحِلِهِ فِي سَفْحِ الطُّورِ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ نَسْفَ الْعِجْلِ أَشَدُّ فِي إِعْدَامِهِ مِنْ تَحْرِيقِهِ وَأَذَلُّ لَهُ. وَأَكَّدَ «نَنْسِفَنَّهُ» بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَخْشَى غَضَبَهُ كَمَا يَزْعُمُونَ أنّه إِلَه. [98] [سُورَة طه (20) : آيَة 98] إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِوَعْظِهِ، وَقَدِ الْتَفَتَ مِنْ خِطَابِ السَّامِرِيِّ إِلَى خِطَابِ الْأُمَّةِ إِعْرَاضًا عَنْ خِطَابِهِ تَحْقِيرًا لَهُ، وَقَصْدًا لِتَنْبِيهِهِمْ عَلَى خَطَئِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ صِفَاتَ الْإِلَهِ الْحَقِّ، وَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَعُمُومِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ تَجْمَعُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ، كَمَا قُرِّرَ فِي دَلَالَةِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهَا فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ.

[سورة طه (20) : الآيات 99 إلى 101]

وَأَمَّا عُمُومُ الْعِلْمِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الشَّامِلَةِ لِأَعْمَالِهِمْ لِيَرْقُبُوهُ فِي خَاصَّتِهِمْ. وَاسْتُعِيرَ فِعْلُ وَسِعَ لِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ، لِأَنَّ الْإِنَاءَ الْوَاسِعَ يُحِيطُ بِأَكْثَرِ أَشْيَاءَ مِمَّا هُوَ دُونَهُ. وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ السَّعَةِ إِلَى الله تَعَالَى، فيؤول الْمَعْنَى: وَسِعَ عِلْمُهُ كل شَيْء بِحَيْثُ لَا يضيق علمه عَن شَيْءٍ، أَي لَا يقصر عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَخْفَى الْأَشْيَاء، كَمَا أَفَادَهُ لَفْظُ (كُلِّ) الْمُفِيدُ لِلْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [255] . [99- 101] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 99 إِلَى 101] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ أَفَادَتِ التَّنْوِيهَ بِقِصَّةِ رِسَالَةِ مُوسَى وَمَا عَقَّبَهَا مِنَ الْأَعْمَال الَّتِي جرت مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارا [طه: 9، 10] ، أَيْ مِثْلُ هَذَا الْقِصَصِ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. وَالْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَقُصُّ قَصَصَنَا، وَإِنَّمَا صِيغَ الْمُضَارِعُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ فِي ذَلِكَ الْقَصَصِ.

وَالتَّشْبِيهُ رَاجِعٌ إِلَى تَشْبِيهِهَا بِنَفْسِهَا كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهَا إِذَا أُرِيدَ تَشْبِيهُهَا وَتَقْرِيبُهَا بِمَا هُوَ أَعْرَفُ مِنْهَا فِي بَابِهَا لَمْ يَجِدْ مُرِيدُ ذَلِكَ طَرِيقًا لِنَفْسِهِ فِي التَّشْبِيهِ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهَا بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا لَا يَفُوقُهَا غَيْرُهَا فِي بَابِهَا حَتَّى تُقَرَّبَ بِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ تَبْعِيضِيَّةٌ، هِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَصَصًا مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ، فَتَكُونُ مَفْعُولَ نَقُصُّ. وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ. وَ (مَا) الموصولة مَا صدقهَا الْأَزْمَانُ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تُضَافُ إِلَى أَزْمَانِهَا، كَقَوْلِهِمْ: أَخْبَارُ أَيَّامِ الْعَرَبِ، وَالْقُرُونِ الْوُسْطَى. وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ حَقِّهَا فِي الْمَوْصُولِيَّةِ أَنْ تُعَرَّفَ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَلَوْ عُرِّفَتْ بِ (مَنْ) الْغَالِبَةِ فِي الْعُقَلَاءِ لَصَحَّ ذَلِكَ وكل ذَلِكَ وَاسِعٌ. وَقَوْلُهُ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُقَصُّ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ حِصَّةِ الزَّمَانِ وَلَا إِينَاسُ السَّامِعِينَ بِالْحَدِيثِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْعِبْرَةُ وَالتَّذْكِرَةُ وَإِيقَاظٌ لِبَصَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى مَوْضِعِ الِاعْتِبَارِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ إِعْرَاضُ الْأُمَّةِ عَنْ هَدْيِ رَسُولِهَا وَانْصِيَاعِهَا إِلَى تَضْلِيلِ الْمُضَلِّلِينَ مِنْ بَيْنِهَا. فَلِلْإِيمَاءِ إِلَى هَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ. وَتَنْكِيرُ ذِكْراً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ آتَيْنَاكَ كِتَابًا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنَّا تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى آتَيْناكَ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ كَانَتْ مَخْزُونَةً عِنْدَ اللَّهِ فَخَصَّ بِهَا خَيْرَ عِبَادِهِ.

[سورة طه (20) : الآيات 102 إلى 104]

وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ. وَجعل مَحْمُولا تَمْثِيل لِمُلَاقَاةِ الْمَشَقَّةِ مِنْ جَرَّاءِ الْإِثْمِ، أَيْ مِنَ الْعِقَابِ عَنْهُ. فَهُنَا مُضَافٌ مُقَدَّرٌ وَقَرِينَتُهُ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ خالِدِينَ فِيهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ أَوِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِحرف التوكيد، وَمَا صدقهما، مُتَّحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ رَعْيًا لِلَفْظِ (مِنْ) مَرَّةً وَلِمَدْلُولِهَا مَرَّةً. وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُعْرِضُونَ. فَقَالَ مَنْ أَعْرَضَ ثُمَّ قَالَ خالِدِينَ. وَجُمْلَةُ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ وَمَسُوئِينَ بِهِ. وَ (سَاءَ) هُنَا هُوَ أَحَدُ أَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلَ (بِئْسَ) . وَفَاعِلُ ساءَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ التَّمْيِيزُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ حِمْلًا. وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَفْظِ وِزْراً عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَاءَ لَهُمْ حِمْلًا وِزْرُهُمْ، وَحَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي أَفْعَالِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] أَيْ سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَوَّابُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ لَامُ التَّبْيِينِ. وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: سَاءَهُمُ الْحِمْلُ، فَجِيءَ بِاللَّامِ لِزِيَادَةِ تَبْيِينِ تَعَلُّقِ الذَّمِّ بِحِمْلِهِ، فَاللَّامُ لِبَيَانِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ بِهِمْ سُوءُ الْحِمْلِ. وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- الْمَحْمُولُ مثل الذّبْح. [102- 104] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 102 إِلَى 104] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [طه: 101] فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا [طه: 101] ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ

لَدُنَّا ذِكْراً [طه: 99] وَمَا تَبِعَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [طه: 113] ، تَخَلُّصٌ لِذِكْرِ الْبَعْثِ وَالتَّذْكِيرِ بِهِ وَالنِّذَارَةِ بِمَا يَحْصُلُ لِلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ. وَالصُّورُ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ لِبَعْضِ فَضَائِهِ فَإِذَا نَفَخَ فِيهِ النَّافِخُ بِقُوَّةٍ خَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ، وَقَدِ اتُّخِذَ لِلْإِعْلَامِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلْحَرْبِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ بِيَاءِ الْغِيبَةِ مَبْنِيًّا للْمَجْهُول، أَي ينْفخ نَافِخٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ نَنْفُخُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ- وَإِسْنَادُ النَّفْخِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، مِثْلَ: بَنَى الْأَمِيرُ الْقَلْعَةَ. وَالْمُجْرِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ وَالْكَفَرَةُ. وَالزُّرْقُ: جَمْعُ أَزْرَقٍ، وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ الزُّرْقَةُ. وَالزُّرْقَةُ: لَوْنٌ كَلَوْنِ السَّمَاءِ إِثْرَ الْغُرُوبِ، وَهُوَ فِي جَلْدِ الْإِنْسَانِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ لَوْنَ مَا أَصَابَهُ حَرْقُ نَارٍ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الزُّرْقَةَ لَوْنُ أَجْسَادِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمرَان: 106] ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَوْنُ عُيُونِهِمْ، فَقِيلَ: لِأَنَّ زُرْقَةَ الْعَيْنِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَالْأَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُرَادَ شِدَّةُ زُرْقَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ بِشَارٍ: وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ ... زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزُّرْقِ الْعُمْيُ، لِأَنَّ الْعَمَى يُلَوِّنُ الْعَيْنَ بِزُرْقَةٍ. وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي بَيْتِ بِشَارٍ أَيْضًا. وَالتَّخَافُتُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوِهُ. وَتَخَافُتُهُمْ لِأَجْلِ مَا يَمْلَأُ صُدُورَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] .

وَجُمْلَةُ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً مُبِينَةٌ لِجُمْلَةِ يَتَخافَتُونَ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا وَرُفَاتًا فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فَاسْتَيْقَنُوا ضَلَالَهُمْ إِذْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ لِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ مُبَالَغَةً فِي الْمُكَابَرَةِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ فَلَمْ يَصِيرُوا رُفَاتًا، وَذَلِكَ لِمَا بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ تَفَرُّقِ الْأَوْصَالِ، فَزَعَمُوا أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ. فَالْمُرَادُ بِاللَّبْثِ: الْمُكْثُ فِي الْقُبُورِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [112، 113] ، وَقَوْلُهُ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ الرّوم [55] . و (إِذْ) ظَرْفٌ، أَيْ يَتَخَافَتُونَ فِي وَقْتٍ يَقُولُ فِيهِ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً. وَالْأَمْثَلُ: الْأَرْجَحُ الْأَفْضَلُ. وَالْمَثَالَةُ: الْفَضْلُ، أَيْ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى لِأَنَّ النِّسْبَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلتَّمْيِيزِ. وَالطَّرِيقَةُ: الْحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالرَّأْيُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّأْيُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: 63] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَأْتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْقَائِلِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً بِأَنَّهُ أَمْثَلُ طَرِيقَةٍ بِوَجْهٍ تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ. وَالَّذِي أَرَاهُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَإِنْ سَلَكْنَا بِهِ مَسْلَكَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى اخْتِلَاقِ الِاعْتِذَارِ عَنْ خَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْبَعْثَ وَاقِعًا بَعْدَ طُولِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ طُولًا تَتَلَاشَى فِيهِ أَجْزَاءُ الْأَجْسَامِ، فَلَمَّا وَجَدُوا أَجْسَادَهُمْ كَامِلَةً مِثْلَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ عُذْرًا لِأَنَّ عَشْرَ اللَّيَالِيَ تَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهَا الْأَجْسَامُ. فَكَانَ الَّذِي قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا

[سورة طه (20) : الآيات 105 إلى 107]

يَوْماً أَقْرَبَ إِلَى رَوَاجِ الِاعْتِذَارِ. فَالْمُرَادُ: أَنَّهُ الْأَمْثَلُ مِنْ بَيْنِهِمْ فِي الْمَعَاذِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُصِيبٌ. وَإِنْ سَلَكْنَا بِهِ مَسْلَكَ الْمَجَازِ فَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْقَائِلِ فِي سُوءِ تَقْدِيرِهِ مِنْ لَبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ، فَلَمَّا كَانَ كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ متوغّلا فِي الغلظ مُؤْذِنًا بِجَهْلِ الْمُقَدِّرِينَ وَاسْتِبْهَامُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ دَالًّا عَلَى الْجَهْلِ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي قَضَّى الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ وَالْأُمَمَ الْعَظِيمَةَ وَأَعَادَهُمْ بَعْدَ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَكَانَ الَّذِي قُدَّرَ زَمَنَ الْمُكْثِ فِي الْقُبُورِ بِأَقَلِّ قَدْرٍ أَوْغَلَ فِي الْغَلَطِ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً تَهَكُّمًا بِهِ وَبِهِمْ مَعًا إِذِ اسْتَوَى الْجَمِيعُ فِي الْخَطَأِ. وَجُمْلَةُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ يَتَخافَتُونَ وَظَرْفِيَّةِ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ، أَيْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ سِرًّا وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ وَإِنَّنَا نُخْبِرُ عَنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ خَبَرَ الْعَلِيم الصَّادِق. [105- 107] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 105 إِلَى 107] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْبَعْثِ وَوُصِفَ مَا سَيَنْكَشِفُ لِلَّذِينَ أَنْكَرُوهُ مِنْ خَطَئِهِمْ فِي شُبْهَتِهِمْ بِتَعَذُّرِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهَا ذُكِرَتْ أَيْضًا شُبْهَةٌ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ لَا سُؤَالَ اسْتِهْدَاءٍ، فَكَانُوا يُحِيلُونَ انْقِضَاءَ هَذَا الْعَالَمِ وَيَقُولُونَ: فَأَيْنَ تَكُونُ هَذِهِ الْجِبَالُ الَّتِي نَرَاهَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَهْلُ جِبَالٍ لِأَنَّ مَوْطِنَهُمُ الطَّائِفُ وَفِيهِ جَبَلُ كَرَى. وَسَوَاءٌ كَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِهْزَاءً أَمِ اسْتِرْشَادًا، فَقَدْ أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِمَصِيرِ

الْجِبَالِ إِبْطَالًا لِشُبْهَتِهِمْ وَتَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «جَاءَ هُنَا (أَيْ قَوْلُهُ فَقُلْ يَنْسِفُها بِفَاءٍ وَكُلُّ سُؤَالٍ فِي الْقُرْآنِ «قُلْ» (أَيْ كُلُّ جَوَابٍ فِي لَفْظٍ مِنْهُ مَادَّةُ سُؤَالٍ) بِغَيْرِ فَاءٍ إِلَّا هَذَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ سَأَلُوكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ، فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا فَأَجَابَهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ. وَتِلْكَ أَسْئِلَةٌ تَقَدَّمَتْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ الْجَوَابُ عقب السُّؤَال ا. هـ» . وَأَكَّدَ يَنْسِفُهَا نَسْفًا لِإِثْبَاتِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ لَا اسْتِعَارَةٌ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ... إِلَى آخِرِهِ، وَنَنْسِفُ الْجِبَالَ نَسْفًا، فَقُلْ ذَلِكَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ. وَالنَّسْفُ: تَفْرِيقٌ وَإِذْرَاءٌ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْقَاعُ: الْأَرْضُ السَّهْلَةُ. وَالصَّفْصَفُ: الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَا نُتُوءَ فِيهَا. وَمعنى فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً أَنَّهَا تَنْدَكُّ فِي مَوَاضِعِهَا وَتُسَوَّى مَعَ الْأَرْضِ حَتَّى تَصِيرَ فِي مُسْتَوَى أَرْضِهَا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِلْزَالٍ أَوْ نَحْوِهُ، قَالَ تَعَالَى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة: 4- 6] . وَجُمْلَةُ لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى قَاعًا صَفْصَفاً لِزِيَادَةِ تَصْوِيرِ حَالَةٍ فَيَزِيدُ تَهْوِيلُهَا. وَالْخِطَابُ فِي لَا تَرى فِيها عِوَجاً لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يُخَاطِبُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِلِيهِ. وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ-: ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ، وَيُقَالُ:- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْوَاوِ- كَذَلِكَ فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ عَلَى الصَّحِيحِ من أَقْوَال أيمة اللُّغَةِ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ عَمْرٌو وَاخْتَارَهُ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ» . وَقَالَ جَمَاعَةٌ:- مَكْسُورُ الْعَيْنِ- يَجْرِي عَلَى الْأَجْسَامِ غَيْرِ الْمُنْتَصِبَةِ كَالْأَرْضِ

[سورة طه (20) : الآيات 108 إلى 112]

وَعَلَى الْأَشْيَاءِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالدِّينِ. وَمَفْتُوحُ الْعَيْنِ- يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُنْتَصِبَةُ كَالْحَائِطِ وَالْعَصَا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ الْأَزْهَرِيِّ. وَقَالَ فَرِيقٌ:- مَكْسُورُ الْعَيْنِ- تُوصَفُ بِهِ الْمَعَانِي، وَمَفْتُوحُ الْعَيْنِ- تُوصَفُ بِهِ الْأَعْيَانُ. وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي «الْجَمْهَرَةِ» وَتَبِعَهُ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا، وَكَأَنَّهُ مَالَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَذَلِكَ مِنَ الدَّقَائِقِ الَّتِي يَمِيلُ إِلَيْهَا الْمُحَقِّقُونَ. وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» ، وَتَعَسَّفَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَأْوِيلَ الْآيَةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ خِلَافًا لِظَاهِرِهَا. وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَتَقَدَّمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ فَانْظُرْهُ. وَالْأَمْتُ: النُّتُوءُ الْيَسِيرُ، أَيْ لَا تَرَى فِيهَا وَهْدَةً وَلَا نُتُوءًا مَا. وَالْمَعْنَى: لَا تَرَى فِي مَكَان فسقها عِوَجًا وَلَا أمتا. [108- 112] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 108 إِلَى 112] يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) جُمْلَةُ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ فِي مَعْنَى الْمُفَرَّعَةِ عَلَى جملَة يَنْسِفُها [طه: 105] . ويَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ. وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ

لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلِيَكُونَ تَقْدِيمُهُ قَائِمًا مُقَامَ الْعَطْفِ فِي الْوَصْلِ، أَيْ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ يَوْمَ يَنْسِفُ رَبُّكَ الْجِبَالَ، أَيْ إِذَا نُسِفَتِ الْجِبَالُ نُودُوا لِلْحَشْرِ فَحَضَرُوا يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لِذَلِكَ. وَالدَّاعِي، قِيلَ: هُوَ الْمَلِكُ إِسْرَافِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو بِنِدَاءِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْوِينِ، فَتَعُودُ الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ فِيهَا وَتَهْطَعُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الدَّاعِي الرَّسُولُ، أَيْ يَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ رَسُولَهُمْ. وعِوَجَ لَهُ حَالٌ مِنَ الدَّاعِيَ. وَاللَّامُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الدَّاعِي لِلْأَجْلِ، أَيْ لَا عِوَجَ لِأَجْلِ الدَّاعِي، أَيْ لَا يَرُوغُ الْمَدْعُوُّونَ فِي سَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الدَّاعِي بَلْ يَقْصِدُونَ مُتَّجِهِينَ إِلَى صَوْبِهِ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالدَّاعِيَ الرَّسُولَ أَنْ يُرَادَ بِالْعِوَجِ الْبَاطِلَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِوَجَ كَقَوْلِهِمْ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: 8] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَكَاذِيبِهِمْ، كَمَا عَرَّضَ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الْكَهْف: 1] . فَالْمَصْدَرُ الْمَنْفِيُّ أُرِيدَ مِنْهُ نَفْيُ جِنْسِ الْعِوَجِ فِي اتِّبَاعِ الدَّاعِي، بِحَيْثُ لَا يَسْلُكُونَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، أَوْ لَا يُسْلَكُ بِهِمْ غَيْرُ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، أَوْ بِحَيْثُ يَعْلَمُونَ بَرَاءَةَ رَسُولِهِمْ مِنَ الْعِوَجِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَرى فِيها عِوَجاً [طه: 107] وَقَوْلِهِ لَا عِوَجَ لَهُ مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ، فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَئِذٍ غَيْرَ مُعْوَجَّةٍ وَلَا نَاتِئَةٍ كَمَا قَالَ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 14] كَذَلِكَ جَعَلَ سَيْرَ النَّاسِ عَلَيْهَا لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا مُرَاوَغَةً. وَالْخُشُوعُ: الْخُضُوعُ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ مَظْهَرٌ مِنَ الْخُشُوعِ فَمَظْهَرُ الْخُشُوعِ فِي الصَّوْتِ: الْإِسْرَارُ بِهِ، فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً.

وَالْهَمْسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَقَوْلِهِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا يَرَى الرَّائِي وَلَا يَسْمَعُ السَّامِعُ. وَجُمْلَةُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَتَّبِعُونَ وَإِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْأَصْوَاتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ الْخُشُوعَ لِأَصْحَابِ الْأَصْوَاتِ أَوِ اسْتُعِيرَ الْخُشُوعُ لِانْخِفَاضِ الصَّوْتِ وَإِسْرَارِهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ مِنْ هَوْلِ الْمَقَامِ. وَجُمْلَةُ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ كَجُمْلَةِ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ فِي مَعْنَى التَّفْرِيعِ عَلَى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ إِلَّا همسا وَلَا يجرؤون عَلَى الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَهُمُّهُمْ نَفْعُهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ جَلَالَ اللَّهِ وَالْخَشْيَةَ مِنْهُ يَصُدَّانِ عَنِ التَّوَسُّطِ عِنْدَهُ لِنَفْعِ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَفِيهِ تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَجِدُوا شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَاسْتِثْنَاءُ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ مِنْ عُمُومِ الشَّفَاعَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَقْتَضِي شَافِعًا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ فَيَقْتَضِي فَاعِلًا، أَيْ إِلَّا أَنْ يَشْفَعَ مَنْ أذن لَهُ الرحمان فِي أَنْ يَشْفَعَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ تَامٌّ وَلَيْسَ بِمُفَرَّغٍ. وَاللَّامُ فِي أَذِنَ لَهُ لَامُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ أَذِنَ، مِثْلَ قَوْلِهِ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: 123] . وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُقَالُ لِي: سَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» . وَقَوْلُهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَهُوَ الشَّافِعُ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَي رَضِي الرحمان قَوْلَ الشَّافِعِ لِأَجْلِ الشَّافِعِ، أَيْ إِكْرَامًا لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1]

فَإِنَّ اللَّهَ مَا أَذِنَ لِلشَّافِعِ بِأَنْ يَشْفَعَ إِلَّا وَقَدْ أَرَادَ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ، فَصَارَ الْإِذْنُ بِالشَّفَاعَةِ وَقَبُولِهَا عُنْوَانًا عَلَى كَرَامَةِ الشَّافِعِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ رَضِيَ. وَانْتُصِبَ قَوْلًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ «رَضِيَ» لِأَنَّ رَضِيَ هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ بِهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ. وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ لِجَوَابِ سُؤَالِ مِنْ قَدْ يَسْأَلُ بَيَانَ مَا يُوجِبُ رِضَى اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ الَّذِي يَأْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ. فَبُيِّنَ بَيَانًا إِجْمَالِيًّا بِأَنَّ الْإِذْنَ بِذَلِكَ يَجْرِي عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِسَائِرِ الْعَبِيدِ وَبِأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي أَنْ يَكُونَ وَاضِحًا، وَعَبَّرَ عَنِ السَّرَائِرِ بِمَا خَلْفَهُمْ لِأَنَّ شَأْنَ مَا يُجْعَلُ خَلْفَ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الظَّاهِرَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ، أَيْ فَيَأْذَنُ لِمَنْ أَرَادَ تَشْرِيفَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَنْ يُشَفَّعَ فِي طَوَائِفَ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ، أَوْ بِأَنْ يُشَفَّعَ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى فِي الْمَوْقِفِ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِتَعْجِيلِ حِسَابِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً تَذْيِيلٌ لِلتَّعْلِيمِ بِعَظَمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَآلَةِ عِلْمِ الْبَشَرِ، نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ. وَجُمْلَةُ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، أَيْ ظَهَرَ الْخُضُوعُ فِي الْأَصْوَاتِ وَالْعَنَاءُ فِي الْوُجُوهِ. وَالْعَنَاءُ: الذِّلَّةُ، وَأَصْلُهُ الْأَسْرُ، وَالْعَانِي: الْأَسِيرُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَسِيرُ تَرْهَقُهُ ذِلَّةٌ فِي وَجْهِهِ أُسْنِدَ الْعَنَاءُ إِلَى الْوُجُوهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: 102] ، فَاللَّامُ فِي الْوُجُوهُ عِوَضٌ عَنْ

الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وُجُوهُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 39] أَيْ لَهُمْ. وَأَمَّا وُجُوهُ أَهْلِ الطَّاعَاتِ فَهِيَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّعْرِيفُ فِي الْوُجُوهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَيُرَادُ بِ عَنَتِ خَضَعَتْ، أَيْ خَضَعَ جَمِيعُ النَّاسِ إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْحَيُّ: الَّذِي ثَبُتَ لَهُ وَصَفُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةٌ حَاصِلَةٌ لِأَرْقَى الْمَوْجُودَاتِ، وَهِيَ قُوَّةٌ لِلْمَوْجُودِ بِهَا بَقَاءُ ذَاتِهِ وَحُصُولُ إِدْرَاكِهِ أَبَدًا أَوْ إِلَى أَمَدٍ مَا. وَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ حَيَاةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِضِدِّهَا وَلَا مُنْتَهِيَةٍ. وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ، مُبَالَغَةً فِي الْقَيِّمِ، أَيِ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ تَدْبِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَتَقَدَّمَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] . وَجُمْلَةُ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً إِمَّا مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ أَنْ جُعِلَ التَّعْرِيفُ فِي الْوُجُوهُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وُجُوهُ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى: إِذْ قَدْ خَابَ كُلُّ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَإِمَّا احْتِرَاسٌ لِبَيَانِ اخْتِلَافِ عَاقِبَةِ عَنَاءِ الْوُجُوهِ، فَمَنْ حَمَلَ ظُلْمًا فَقَدْ خَابَ يَوْمَئِذٍ وَاسْتَمَرَّ عَنَاؤُهُ، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا عَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْخَوْفُ بِالْأَمْنِ وَالْفَرَحِ. وَالظُّلْمُ: ظُلْمُ النَّفْسِ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ: شَرْطِيَّةٌ مُفِيدَةُ قَسِيمَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. وَصِيغَ هَذَا الْقَسِيمُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ، وفَلا يَخافُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِمُوَالَاةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، فَتَعَيَّنَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ (لَا) الَّتِي فِيهَا نَاهِيَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِئْنَافِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ.

[سورة طه (20) : الآيات 113 إلى 114]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا يَخافُ بِصِيغَةِ الْمَرْفُوعِ بِإِثْبَاتِ أَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافٌ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهَا الْجَزَاءُ، كَأَنَّ انْتِفَاءَ خَوْفِهِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ الْخَاءِ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ نَهْيٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِفَاءِ. وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ فَاحْتَمَلَتِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَأَشَارَ الطِّيبِيُّ إِلَى أَن الْجُمْهُور توَافق قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً فِي أَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ خَبَرِيَّةٌ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ تُفِيدُ عَدَمَ التَّرَدُّدِ فِي حُصُولِ أَمْنِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْهَضْمِ، أَيْ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ خُصُوصِيَّةٌ لَفْظِيَّةٌ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ خُصُوصِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ. وَمَعْنَى فَلا يَخافُ ظُلْماً لَا يَخَافُ جَزَاءَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُ آمِنٌ مِنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحَاتِ. وَالْهَضْمُ: النَّقْصُ، أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ جَزَائِهِمُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ شَيْئًا كَقَوْلِهِ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: 109] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ بِمَعْنَى النَّقْصِ الشَّدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: 33] ، أَيْ لَا يَخَافُ إِحْبَاطَ عَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْهَضْمُ بِمَعْنَى النَّقْصِ الْخَفِيفِ، وَعَطْفُهُ عَلَى الظُّلْمِ عَلَى هَذَا التَّفْسِير احتراس. [113- 114] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 113 إِلَى 114] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] ، وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ. فَابْتُدِئَ بِالتَّنْوِيهِ بِهِ جُزْئِيًّا

بِالتَّنْوِيهِ بِقَصَصِهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ التَّنْوِيهُ بِهِ كُلِّيًّا عَلَى طَرِيقَةٍ تُشْبِهُ التَّذْيِيلَ لِمَا فِي قَوْلِهِ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا مِنْ مَعْنَى عُمُومِ مَا فِيهِ. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ نَحْوَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ، أَيْ كَمَا سَمِعْتَهُ لَا يُبَيَّنُ بِأَوْضَحَ مِنْ ذَلِكَ. وقُرْآناً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَنْزَلْناهُ. وَقُرْآنٌ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمُرَادُ الْمَقْرُوءُ، أَيِ الْمَتْلُوُّ، وَصَارَ الْقُرْآنُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ مُتَعَبَّدًا بِتِلَاوَتِهَا يَعْجِزُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهَا. وَسُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّهُ نُظِمَ عَلَى أُسْلُوبٍ تَسْهُلُ تِلَاوَتُهُ. وَلُوحِظَ هُنَا الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيُّ قَبْلَ الْغَلَبَةِ وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ مَادَّةُ قَرَأَ مِنْ يُسْرِ تِلَاوَتِهِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِفَصَاحَةِ تَأْلِيفِهِ وَتَنَاسُبِ حُرُوفِهِ. وَالتَّنْكِيرُ يُفِيدُ الْكَمَالَ، أَيْ أَكْمَلَ مَا يَقْرَأُ. وعَرَبِيًّا صِفَةُ قُرْآناً. وَهَذَا وَصْفٌ يُفِيدُ الْمَدْحَ، لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَبْلَغُ اللُّغَاتِ وَأَحْسَنُهَا فَصَاحَةً وَانْسِجَامًا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْعَرَبِ، وَتَحْمِيقٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 10] . وَالتَّصْرِيفُ: التَّنْوِيعُ وَالتَّفْنِينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [46] ، وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [41] . وَذِكْرُ الْوَعِيدِ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ، وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه: 111] . وَالتَّقْوَى: الْخَوْفُ. وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ، أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُطِيعُوا. وَالذِّكْرُ هُنَا بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ، أَيْ يُحَدِثُ لَهُمُ الْقُرْآنُ تَذَكُّرًا وَنَظًرَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَعَبَّرَ بِ يُحْدِثُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَالْقُرْآنُ أَوْجَدَ فِيهِمْ ذِكْرًا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ... سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرًا وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ أَنَّ حَالَ الْقُرْآنِ أَنْ يُقَرِّبَ النَّاسَ مِنَ التَّقْوَى وَالتَّذَكُّرِ، بِحَيْثُ يُمَثَّلُ شَأْنَ مَنْ أَنْزَلَهُ وَأَمَرَ بِمَا فِيهِ بِحَالِ مَنْ يَرْجُو فَيَلْفِظُ بِالْحَرْفِ الْمَوْضُوعِ لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ. فَحَرْفُ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَة تَبَعِيَّة تنبىء عَنْ تَمْثِيلِيَّةٍ مَكْنِيَّةٍ، وَقَدْ مَضَى مَعْنَى (لَعَلَّ) فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [21] . وَجُمْلَةُ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. وَهَذَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ وَعَلَى مِنَّةِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَلْقِينٌ لِشُكْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَ لِعِبَادِهِ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَتَوْجِيهِهِ إِلَيْهِمْ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَحْسَنِ أُسْلُوبٍ فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إِلَى آخِرِهَا ... وَالتَّفْرِيعُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْزَالَ وَالتَّصْرِيفَ وَوَسَائِلَ الْإِصْلَاحِ كلّ ذَلِك ناشىء عَنْ جَمِيلِ آثَارٍ يَشْعُرُ جَمِيعُهَا بِعُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ مَمْلُوكَاتِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْكَمَالِ وَأَنْفَذِ طُرُقِ السِّيَاسَةِ. وَفِي وَصْفِهِ بِالْحَقِّ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُتَسَمَّيْنَ بِالْمُلُوكِ لَا يَخْلُو مِنْ نَقْصٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفرْقَان: 26] . وَفِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» ، أَيْ أَحْضِرُوهُمْ هَلْ تَجِدُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِ الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ حِينَ خَطَبَ فِي الْمَدِينَةِ «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ» .

وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَاسْمِهِ (الْمَلِكُ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِعْظَامَهُ وَإِجْلَالَهُ مُسْتَحِقَّانِ لِذَاتِهِ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى انْحِصَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَمَالِهَا. ثُمَّ أُتْبِعَ بِ (الْحَقُّ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ حَقٍّ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ. وَالْحَقُّ: الَّذِي لَيْسَ فِي مُلْكِهِ شَائِبَةُ عَجْزٍ وَلَا خُضُوعٍ لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ زَائِفٌ. وَفِي تَفْرِيعِ ذَلِكَ عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَانُونُ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ السِّيَاسَةُ الْكَامِلَةُ الضَّامِنَةُ صَلَاحَ أَحْوَالِ مُتَّبِعِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ نَاشِئَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَصَارِيفِ إِصْلَاحِ النَّاسِ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِنَجَاتِهِمْ لَا جَرَمَ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الشَّرِيفِ عَقِبَ سَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ رَغْبَةٌ أَوْ طِلْبَةٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي التَّعْجِيلِ بِهِ إِسْرَاعًا بِعِظَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِهِمْ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكِلَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِحَيْثُ يُنَاسِبُ حَالَ الْأُمَّةِ الْعَامَّ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتِمَّ وَحْيُ مَا قُضِيَ وَحْيُهُ إِلَيْكَ، أَيْ مَا نُفِّذَ إِنْزَالُهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُ التَّعْجِيلِ أَوِ الرَّغْبَةُ الشَّدِيدَةُ فِي النَّفْسِ الَّتِي تُشْبِهُ الِاسْتِبْطَاءَ لَا مُطْلَقُ مَوَدَّةِ الِازْدِيَادِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخضر- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا أَوْ مِنْ خَبَرِهِمَا» .

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْعَجَلَةِ بِالْقُرْآنِ الْعَجَلَةَ بِقِرَاءَتِهِ حَالَ إِلْقَاءِ جِبْرِيلَ آيَاتِهِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيءُ يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ جِبْرِيلُ حِرْصًا عَلَى الْحِفْظِ وَخَشْيَةً مِنَ النِّسْيَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الْآيَةَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [الْقِيَامَة: 16] كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَضَاءِ وحيه إِتْمَامه وانتهاؤه، أَيِ انْتِهَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ النُّزُولِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَةِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِأَصْحَابِكَ وَلَا تُمْلِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتَبَيَّنَ لَكَ مَعَانِيهِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَضَاءُ الْوَحْيِ تَمَامَ مَعَانِيهِ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ يَجْرِي اعْتِبَارُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُقْضى بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَرَفْعِ وَحْيُهُ عَلَى أَنَّهُ نَائِب الْفَاعِل. وقرأه يَعْقُوبُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَبِفَتْحَةٍ عَلَى آخِرَ نَقْضِي وَبِنَصْبِ وَحْيَهُ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِعْجَالٌ مَخْصُوصٌ وَأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ مَحْمُودٌ. وَفِيهِ تَلَطُّفٌ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتْبَعَ نَهْيَهُ عَنِ التَّعَجُّلِ الَّذِي يَرْغَبُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَجْمَعُ كُلِّ زِيَادَةٍ سَوَاءً كَانَتْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ إِلَى الِاجْتِهَادِ تَشْرِيعًا وَفَهْمًا، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَغْبَتَهُ فِي التَّعَجُّلِ رَغْبَةٌ صَالِحَةٌ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيءَ رَاكِعًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ بَلْ رَكَعَ وَدَبَّ إِلَى الصَّفِّ رَاكِعًا فَقَالَ لَهُ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تعد» .

[سورة طه (20) : آية 115]

[سُورَة طه (20) : آيَة 115] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) لَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ قَوْمِهِ ذَاتَ عِبْرَةٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَصَصِهَا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً [طه: 99، 100] فَكَأَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَبَّ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذِهِ الْقَصَصِ ذَاتِ الْعِبْرَةِ رَجَاءَ أَنَّ قَوْمَهُ يَفِيقُونَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] أُعْقِبَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ بِقِصَّةِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا عَرَّضَ لَهُ بِهِ الشَّيْطَانُ، تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . فَالْجُمْلَةُ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَالْمُنَاسَبَةُ مَا سَمِعْتَ. وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَلَامِ الْقَسَمِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْقِصَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ التَّنْظِيرِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ فِي التَّفْرِيطِ فِي الْعَهْدِ، لِأَنَّ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى تَفْرِيطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِيهَا أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: 86] ، وَفِي قِصَّةِ آدَمَ تَفْرِيطًا فِي الْعَهْدِ أَيْضًا. وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه: 96] وَقَالَ فِي هَذِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ [طه: 120] . وَفِي أَنَّ فِي الْقِصَّتَيْنِ نِسْيَانًا لِمَا يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ وَتَذَكُّرُهُ فَقَالَ فِي الْقِصَّةِ الأولى فَنَسِيَ [طه: 16] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.

وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ حُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (قَبْلُ) . وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ مُوسَى أَوْ مِنْ قَبْلِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ بِنَاءَ (قَبْلُ) عَلَى الضَّمِّ عَلَامَةُ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ مَعْنَاهُ. وَالَّذِي ذُكِرَ: إِمَّا عَهْدُ مُوسَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] وَقَوْلِهِ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: 16] وَإِمَّا عَهْدُ اللَّهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَجِعَ إِلَيْهِمْ غَضْبَانَ أَسِفًا، وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: 86] الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ إِلَى آدَمَ: الْعَهْدُ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُنْسِيَ فِيهَا. وَالنِّسْيَانُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِهْمَالِ الْعَمَلِ بِالْعَهْدِ عَمْدًا، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيِّ فَنَسِيَ، فَيَكُونُ عِصْيَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [20، 21] . وَهَذَا الْعَهْدُ هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] الْآيَةَ. وَالْعَزْمُ: الْجَزْمُ بِالْفِعْلِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَهُوَ مُغَالَبَةُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْخَاطِرُ مِنَ الِانْكِفَافِ عَنْهُ لِعُسْرِ عَمَلِهِ أَوْ إِيثَارِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [227] . وَالْمُرَادُ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِلْغَاءُ مَا يُحَسِّنُ إِلَيْهِ عَدَمَ الِامْتِثَالِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: 159] ، وَقَالَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 35] ، وَهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَأَيوب، ومُوسَى، وداوود، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَاسْتُعْمِلَ نَفْيُ وِجْدَانِ الْعَزْمِ عِنْدَ آدَمَ فِي مَعْنَى عَدَمِ وُجُودِ الْعَزْمِ مِنْ صِفَتِهِ فِيمَا عُهِدَ إِلَيْهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ طَلَبِ حُصُولِهِ عِنْدَهُ بِحَالِ الْبَاحِثِ عَلَى عَزْمِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ عِنْدَهُ بعد الْبَحْث.

[سورة طه (20) : آية 116]

[سُورَة طه (20) : آيَة 116] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: 115] إِلَى آخِرِهَا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ بَلْ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، فَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً اهْتِمَامٌ بِهَا لِتَكُونَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَتَلْفِتَ إِلَيْهَا أَذْهَانَ السَّامِعِينَ. فَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةَ آدَمَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارا [طه: 10] ، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ تَذْيِيلًا لِقِصَّةِ هَارُونَ مَعَ السَّامِرِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى. وَانْتَهَتِ الْقِصَّةُ بِذَلِكَ التَّذْيِيلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قِصَّةَ آدَمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] . [117- 119] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 117 الى 119] فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) قِصَّةُ خَلْقِ آدَمَ وَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَإِبَاءِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّجُودِ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَيَانِ مَا اخْتُصَّتْ بِهِ هَاتِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَفَانِينِ وَالتَّرَاكِيبِ. فَقَوْلُهُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ إِشَارَةً مُرَادًا مِنْهَا التَّحْقِيرُ، كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [36] مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [22] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ. وَقَوْلُهُ عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [22] : وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَذُكِرَتْ عَدَاوَتُهُ لَهُمَا جُمْلَةً هُنَالِكَ

وَذُكِرَتْ تَفْصِيلًا هُنَا، فَابْتُدِئَ فِي ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ عَدَاوَتِهِ بِآدَمَ لِأَنَّ آدَمَ هُوَ مَنْشَأُ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِحَسَدِهِ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِذِكْرِ زَوْجِهِ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ إِيَّاهَا تَبَعٌ لِعَدَاوَتِهِ آدَمَ زَوْجَهَا، وَكَانَتْ عَدَاوَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِكِلَيْهِمَا لِاتِّحَادِ عِلَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ حَسَدُهُ إِيَّاهُمَا عَلَى مَا وَهَبَهُمَا اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْفِكْرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْهُدَى وَعُنْوَانُ التَّعْبِيرِ عَنِ الضَّمِيرِ الْمُوَصِّلِ لِلْإِرْشَادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فِي اسْتِهْوَائِهِمَا وَاسْتِهْوَاءِ ذَرِّيَّتِهِمَا، وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ رَأَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى آدَمَ فَحَنَقَ لَمَّا أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) قَوْلُهُ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ: بِأَنْ نُهِيَا نَهْيَ تَحْذِيرٍ عَنْ أَنْ يَتَسَبَّبَ إِبْلِيسُ فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يَرُوقُهُ صَلَاحُ حَالِ عَدُّوِهُ. وَوَقَعَ النَّهْيُ فِي صُورَةِ نَهْيٍ عَنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَعْمَالِ آدَمَ كِنَايَةً عَنْ نَهْيِ آدَمَ عَنِ التَّأَثُّرِ بِوَسَائِلِ إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كِنَايَةً عَنْ: لَا تَفْعَلْ، أَيْ لَا تَفْعَلْ كَذَا حَتَّى أَعْرِفَهُ مِنْكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ خَبَرَ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ. وَأُسْنِدَ تَرَتُّبُ الشَّقَاءِ إِلَى آدَمَ خَاصَّةً دُونَ زَوْجِهِ إِيجَازًا، لِأَنَّ فِي شَقَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ شَقَاءَ الْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْكَوْنِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ شَقَاءَ الذَّكَرِ أَصْلُ شَقَاءِ الْمَرْأَةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى تَعْلِيلٌ لِلشَّقَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمَتَّعًا فِي الْجَنَّةِ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَشْرَبٍ وَاعْتِدَالِ جَوٍّ مُنَاسِبٍ لِلْمِزَاجِ كَانَ الْخُرُوجُ مِنْهَا مُقْتَضِيًا فِقْدَانَ ذَلِكَ. وتَضْحى مُضَارِعُ ضَحِيَ: كَرَضِيَ، إِذَا أَصَابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَمَصْدَرُهُ الضَّحْوُ، وَحَرُّ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ مَبْدَأُ شِدَّتِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُصِيبُكَ مَا يُنَافِرُ مِزَاجَكَ، فَالِاقْتِصَارَ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّحْوِ هُنَا اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَلَا تَصْرَدَ، وَآدَمُ لَمْ يَعْرَفِ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَالظَّمَأَ وَالضَّحْوَ بِالْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا عَرَفَهَا بِحَقَائِقِهَا ضِمْنَ تَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَجُمِعَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَصُولُ كَفَافِ الْإِنْسَانِ فِي مَعِيشَتِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهَا سَيَكُونُ غَايَةَ سَعْيِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاته الْمُسْتَقْبلَة، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي تُصَاحِبُ التَّكْوِينَ تَكُونُ إِشْعَارًا بِخَصَائِصِ الْمُكَوِّنِ فِي مُقَوِّمَاتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ تَوْفِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاخْتِيَارِ اللَّبَنِ عَلَى الْخَمْرِ فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اخْتَرْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ. وَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ انْتِفَاءِ الْجُوعِ وَاللِّبَاسِ فِي قَوْله أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَقَرَنَ بَيْنَ انْتِفَاءِ الظَّمَأِ وَأَلَمِ الْجِسْمِ فِي قَوْله لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، فِي أَنَّ الْجُوعَ خُلُوُّ بَاطِنِ الْجِسْمِ عَمَّا يَقِيهِ تَأَلُّمَهُ وَذَلِكَ هُوَ الطَّعَامُ، وَأَنَّ الْعُرْيَ خُلُوُّ ظَاهِرِ الْجِسْمِ عَمَّا يَقِيهِ تَأَلُّمَهُ وَهُوَ لَفْحُ الْحَرِّ وقرص الْبرد ولمناسبة بَيْنَ الظَّمَأِ وَبَيْنَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَلَمُ حَرَارَةِ الْبَاطِنِ وَالثَّانِي أَلَمُ حَرَارَةِ الظَّاهِرِ. فَهَذَا اقْتَضَى عَدَمَ اقْتِرَانِ ذِكْرِ الظَّمَأِ وَالْجُوعِ، وَعَدَمِ اقْتِرَانِ ذِكْرِ الْعُرْيِ بِأَلَمِ

الْحَرِّ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ جَمْعُ النَّظِيرَيْنِ فِي كِلَيْهِمَا، إِذْ جَمْعُ النَّظَائِرِ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَدِيعِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَوْلَا أَنْ عَرَضَ هُنَا مَا أَوْجَبَ تَفْرِيقَ النَّظَائِرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي تَفْرِيقِ النَّظَائِرِ قِصَّةٌ أَدَبِيَّةٌ طَرِيفَةٌ جَرَتْ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي ذَكَرَهَا الْمَعَرِّي فِي «مُعْجِزِ أَحْمَدَ» شَرَحِهِ عَلَى «دِيوَانِ أَبِي الطَّيِّبِ» إِجْمَالًا، وَبَسَطَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى الدِّيوَانِ» . وَهِيَ: أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ لَمَّا أَنْشَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ قَصِيدَتَهُ الَّتِي طَالِعُهَا: عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا يَصِفُ مَوْقِعَةً بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَالرُّومِ فِي ثَغْرِ الْحَدَثِ: وَقَفْتَ مَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِم تمرّ بك الْأَبْطَال كلمى هزيمَة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم فَاسْتَعَادَهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْشَدَهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، قَالَ لَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ: إِنَّ صَدْرَيِ الْبَيْتَيْنِ لَا يُلَائِمَانِ عَجُزَيْهِمَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ وَأَنْتَ فِي هَذَا مِثْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأَ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ وَوَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ أَنْ يَكُونَ عَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَعَجُزُ الْبَيْتِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ لِيَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ فَيَكُونَ رُكُوبُ الْخَيْلِ مَعَ

الْأَمْرِ لِلْخَيْلِ بِالْكَرِّ، وَيَكُونَ سِبَاءُ الْخَمْرِ لِلَّذَّةِ مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ. فَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَدَامَ اللَّهُ عِزَّ الْأَمِيرِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ الَّذِي اسْتَدْرَكَ عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ هَذَا أَعْلَمُ مِنْهُ بِالشِّعْرِ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَأَخْطَأْتُ أَنَا، وَمَوْلَانَا يَعْرِفُ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَزَّازُ مُعْرِفَةَ الْحَائِكِ لِأَنَّ الْبَزَّازَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا جُمْلَتَهُ وَالْحَائِكَ يَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَزَلِيَّةِ إِلَى الثَّوْبِيَّةِ. وَإِنَّمَا قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ لَذَّةَ النِّسَاءِ بِلَذَّةِ الرُّكُوبِ لِلصَّيْدِ، وَقَرَنَ السَّمَاحَةَ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ لِلْأَضْيَافِ بِالشَّجَاعَةِ فِي مُنَازَلَةِ الْأَعْدَاءِ. وَأَنَا لَمَّا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ أَتْبَعْتُهُ بِذِكْرِ الرَّدَى لِتَجَانُسِهِ وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الْمَهْزُومِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَبُوسًا وَعَيْنُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاكِيَةً قُلْتُ: وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ لِأَجْمَعَ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَى هَذَا أَن امْرُؤ الْقَيْسِ خَالَفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي جَمْعِ شَيْئَيْنِ مُشْتَهِرَيِ الْمُنَاسَبَةِ فَجَمَعَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ مُنَاسَبَةً دَقِيقَةً، وَأَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ خَالَفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ جَمْعِ النَّظِيرَيْنِ فَفَرَّقَهُمَا لِسُلُوكِ طَرِيقَةٍ أَبْدَعَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الطِّبَاقِ بِالتَّضَادِّ وَهُوَ أَعْرَقُ فِي صِنَاعَةِ الْبَدِيعِ. وَجُعِلَتِ الْمِنَّةُ عَلَى آدَمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَسُوقَةً فِي سِيَاقِ انْتِفَاءِ أَضَدَادِهَا لِيُطْرَقَ سَمْعُهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشَّقْوَةِ تَحْذِيرًا مِنْهَا لِكَيْ يَتَحَامَى مَنْ يَسْعَى إِلَى إِرْزَائِهِ مِنْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإنَّك لَا تظمؤا- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) - عَطْفًا لِلْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَأَنَّكَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَجُوعَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، أَيْ إِنَّ لَكَ نَفْيَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَنَفْيَ الظَّمَأِ وَالضَّحْوِ. وَقَدْ حَصَلَ تَأْكِيدُ الْجَمِيعِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِ (إِنْ) وَبِأُخْتِهَا، وَبَيْنَ الأسلوبين تفنّن.

[سورة طه (20) : آية 120]

[سُورَة طه (20) : آيَة 120] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (120) قَوْلُهُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالْفَاءُ لِتَعْقِيبِ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ تَعْقِيبٌ نِسْبِيٌّ بِمَا يُنَاسِبُ مُدَّةً تَقَلُّبٍ فِي خِلَالِهَا بِخَيْرَاتِ الْجَنَّةِ حَتَّى حَسَدَهُ الشَّيْطَانُ وَاشْتَدَّ حَسَدُهُ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (وَسْوَسَ) هُنَا بِحَرْفِ (إِلَى) وَبِاللَّامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [20] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ قَاصِرٌ لَا غِنًى لَهُ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إِلَى) هُنَا بِاعْتِبَارِ انْتِهَاءِ الْوَسْوَسَةِ إِلَى آدَمَ وَبُلُوغِهَا إِيَّاهُ، وَتَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فِي الْأَعْرَافِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ لِأَجْلِهِمَا. وَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ [طه: 117] بَيَانٌ لجملة فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِغَيْرِهَا فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَهَذَا الْقَوْلُ خَاطِرٌ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ آدَمَ بِطَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ وَهِيَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ إِمَّا بِأَلْفَاظٍ نَطَقَ بِهَا الشَّيْطَانُ سِرًّا لِآدَمَ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَيُحَذِّرُوا آدَمَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونَ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِمَّا بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهٍ أَرَادَهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ. وهَلْ أَدُلُّكَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ، وَهُوَ انْسَبُ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ لِلِاسْتِفْهَامِ لِقُرْبِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ. وَالِافْتِتَاحُ بِالنِّدَاءِ لِيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ. وَالشَّجَرَةُ هِيَ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا دُونَ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُذْكَرِ النَّهْيُ عَنْهَا هُنَا وَذُكِرَ فِي قِصَّةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا الْعَرْضُ مُتَقَدِّمٌ

[سورة طه (20) : الآيات 121 إلى 122]

عَلَى الْإِغْرَاءِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [20] قالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَلَمْ يَدُلُّهُ الشَّيْطَانُ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ بَلْ كَذَّبَهُ وَدَلَّهُ عَلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى بِآيَةِ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُخَلَّدْ، فَحَصَلَ لِآدَمَ تَوَهُّمُ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي دَلَّهُ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ أَنْ يَخْلُدَ فِي الْحَيَاةِ. وَالدَّلَالَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ غَيْرِ ظَاهِرٍ لِطَالِبِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشَّجَرَةِ لِقَصْدِ الْأَكْلِ مِنْ ثَمَرَتِهَا. وَسَمَّاهَا هُنَا شَجَرَةِ الْخُلْدِ بِالْإِجْمَالِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَعْيِينِهَا حَتَّى يُقْبِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَيَّنَهَا لَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمَا أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكَلا مِنْها [طه: 121] . وَقَدْ أَفْصَحَ هَذَا عَنِ اسْتِقْرَارِ مَحَبَّةِ الْحَيَاةِ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ. وَالْمُلْكُ: التَّحَرُّرُ مِنْ حُكْمِ الْغَيْرِ، وَهُوَ يُوهِمُ آدَمَ أَنَّهُ يَصِيرُ هُوَ الْمَالِكُ لِلْجَنَّةِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا غَيْرَ مَأْمُورٍ لِآمِرٍ. وَاسْتُعْمِلَ الْبِلَى مَجَازًا فِي الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ إِذَا بَلِيَ فَقَدِ انْتهى لبسه. [121- 122] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 121 إِلَى 122] فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَرْضُ، أَيْ فَعَمِلَ آدَمُ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَكَلَتْ حَوَّاءُ مَعَهُ.

وَاقْتِصَارُ الشَّيْطَانِ عَلَى التَّسْوِيلِ لِآدَمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ بِزَوْجِهَا مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [22] . وَقَوْلُهُ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ عَطَفٌ عَلَى فَأَكَلا مِنْها، أَيْ أَكَلَا مَعًا، وَتَعَمَّدَ آدَمُ مُخَالَفَةَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَإِثْبَاتُ الْعِصْيَانِ لِآدَمَ دُونَ زَوْجِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ قُدْوَةً لِزَوْجِهِ فَلَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ تَبِعَتْهُ زَوْجُهُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: 6] . وَالْغِوَايَةُ: ضِدُّ الرُّشْدِ، فَهِيَ عَمَلٌ فَاسِدٌ أَوِ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَإِثْبَاتُ الْعِصْيَانِ لِآدَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ نبيئا، ولأنّه كَانَ فِي عَالَمٍ غَيْرِ عَالَمِ التَّكْلِيفِ وَكَانَتِ الْغَوَايَةُ كَذَلِكَ، فَالْعِصْيَانُ وَالْغِوَايَةُ يَوْمَئِذٍ: الْخُرُوجُ عَنِ الِامْتِثَالِ فِي التَّرْبِيَةُ كَعِصْيَانِ بَعْضِ الْعَائِلَةِ أَمْرَ كَبِيرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ شَنِيعًا لِأَنَّهُ عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَنَدٌ لِتَجْوِيزِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْعِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَمْ يَكُنْ عَالَمَ تَكْلِيفٍ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَعَصى آدَمُ وَجُمْلَةِ قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ وَالتَّوْبَةَ عَلَيْهِ كَانَا بَعْدَ أَنْ عُوقِبَ آدَمُ وَزَوْجُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَرَتُّبِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دُونَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى التَّوْبَةِ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعْجِيلُ بِبَيَانِ مَآلِ آدَمَ إِلَى صَلَاحٍ.

[سورة طه (20) : الآيات 123 إلى 127]

وَالِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الْأَنْعَامِ [87] ، وَقَوْلُهُ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي النَّحْلِ [121] . وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهَا إِذَا ذُكِرَتْ مَعَ الِاجْتِبَاءِ فِي الْقُرْآنِ النُّبُوءَةُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. [123- 127] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 123 الى 127] قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ آدَمَ بِالْعِصْيَانِ وَالْغِوَايَةِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ جَزَاءِ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى رَبَّهُ [طه: 121] مِنْ قَوْلِهِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَالْأَمْرُ فِي اهْبِطا أَمْرُ تَكْوِينٍ، لِأَنَّهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الأَرْض إلّا بِتَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانَ قَرَارُهُمَا فِي عَالَمِ الْجَنَّةِ بِتَكْوِينِهِ تَعَالَى. وجَمِيعاً يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنَى كُلِّ أَفْرَادِ مَا يُوصَفُ بِجَمِيعٍ، وَكَأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ مِثْلَ: فَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَغَيْرُهُ وَالْوَاحِدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً [هود: 55] وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا. وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا. فَالْمَأْمُورُ بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ وَأَمَّا حَوَّاءُ فَتَبَعٌ لِزَوْجِهَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ بَعْضُكُمْ خُطَّابٌ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَخُوطِبَا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَدَاوَةُ نَسْلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَصْلَانِ لِنَوْعَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَنَوْعِ الشَّيْطَانِ.

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) تَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً عَلَى الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الدُّنْيَا إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا سِيرَةً غَيْرَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ أُودِعُوا فِي عَالَمٍ خَلِيطٍ خَيْرُهُ بِشَرِّهِ، وَحَقَائِقُهُ بِأَوْهَامِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي عَالَمِ الْحَقَائِقِ الْمَحْضَةِ وَالْخَيْرِ الْخَالِصِ، وَفِي هَذَا إِنْبَاءٌ بِطَوْرٍ طَرَأَ عَلَى أَصْلِ الْإِنْسَانِ فِي جِبِلَّتِهِ كَانَ مُعَدًّا لَهُ مِنْ أَصْلِ تَرْكِيبِهِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ يَأْتِيَنَّكُمْ لِآدَمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلٌ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ إِشْعَارًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَا يَشْمَلُ هَذَا الْخِطَابُ إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى الشَّرِّ وَالضَّلَالِ إِذْ قَدْ أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ إِبَايَتِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ، فَلَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى، لِأَنَّ طَلَبَ الِاهْتِدَاءِ مِمَّنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي ضَلَالٍ يُعَدُّ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ فِعْلُ الْحَكِيمِ تَعَالَى. وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَمْرِ أَبِي جَهْلٍ وَأَضْرَابِهِ بِالْإِسْلَامِ إِذْ أَمْثَالُ أَبِي جَهْلٍ لَا يُوقَنُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ

أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الشَّيْطَانَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا دَعَا الشَّيَاطِينَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي فَأَسْلَمَ» . فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُ لِلْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ قَرِينَهُ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينِ: شَيْطَانٌ قَرِينٌ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى الْخَيْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وِصَايَةُ اللَّهِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ طَلَبَ الْهُدَى مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ كَائِنَةٌ فِي الْعُقُولِ أَوْ شَائِعَةٌ فِي الْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَإِنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يُعْذَرْ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي مُدَدِ الْفِتَرِ الَّتِي لم تجىء فِيهَا رُسُلٌ لِلْأُمَمِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَدِ اسْتَوْعَبَهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، وَحَرَّرْنَاهَا فِي «رِسَالَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلا يَضِلُّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَ الْهُدَى الْوَارِدَ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ سَلِمَ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهُ شَيْءٌ مِنْ ضَلَالٍ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ عَلَى الْعُمُومِ كَعُمُومِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ فَلَا يَعْتَرِيَهُ ضَلَالٌ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَنِ اتَّبَعَ مَا فِيهِ هُدًى وَارِدٌ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَفَادَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى. وَهَذَا حَالُ مُتَّبِعِي الشَّرَائِعِ غَيْرِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَائِعُ الْوَضْعِيَّةُ فَإِنَّ وَاضِعِيهَا وَإِنْ أَفْرَغُوا جُهُودَهُمْ فِي تَطَلُّبِ الْحَقِّ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ضَلَالَاتٍ بِسَبَبِ غَفَلَاتٍ، أَوْ تَعَارُضِ أَدِلَّةٍ، أَوِ انْفِعَالٍ بِعَادَاتٍ مُسْتَقِرَّةٍ، أَوْ مُصَانَعَةٍ لِرُؤَسَاءٍ أَوْ أُمَمٍ رَأَوْا أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِمْ. وَهَذَا سُقْرَاطُ وَهُوَ سَيِّدُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ قَدْ كَانَ يَتَذَرَّعُ لِإِلْقَاءِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَثِينَا بِأَنْ يُفْرِغَهُ فِي قَوَالِبِ حِكَايَاتٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْخُنُوعِ لِمُصَانَعَةِ اللَّفِيفِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَرَى تَأْلِيهَ آلِهَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ

أَنْ يَأْمُرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقُرْبَانِ دِيكٍ لِعُطَارِدٍ رَبِّ الْحِكْمَةِ. وَحَالُهُمْ بِخِلَافِ حَالِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقُّونَ الْوَحْيَ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ الَّذِي لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى، وَأَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ مُصَانَعَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَكَوَّنَهُمْ تَكْوِينًا خَاصًّا مُنَاسِبًا لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ مُرَادِهِ مِنْهُمْ، وَثَبَّتَ قُلُوبَهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ اللَّأْوَاءِ، وَلَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَإِنَّ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ نَظْرَةَ حَكِيمٍ يَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى مُرَاعَاةِ أَوْهَامٍ وَعَادَاتٍ. وَالشَّقَاءُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ وَلا يَشْقى هُوَ شَقَاءُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا سَلِمَ مِنَ الشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَدُلُ لِهَذَا مُقَابَلَةُ ضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، إِذْ رَتَّبَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ اخْتِلَالَ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَعِيشَةُ مُرَادٌ بِهَا مُدَّةُ الْمَعِيشَةِ، أَيْ مُدَّةُ الْحَيَاةِ. وَالضَّنْكُ: مَصْدَرُ ضَنُكَ، مِنْ بَابِ كَرُمَ ضَنَاكَةً وَضَنْكًا، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُهُ بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفِهِ، فَوَصَفَ بِهِ هُنَا مَعِيشَةً وَهِيَ مُؤَنَّثٌ. وَالضَّنْكُ: الضِّيقُ، يُقَالُ: مَكَانٌ ضَنْكٌ، أَيْ ضَيِّقٌ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عُسْرِ الْأُمُورِ فِي الْحَيَاةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ: إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا ... أَشْدُدْ وَإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ أَنْزِلِ أَيْ بِمَنْزِلٍ ضَنْكٍ، أَيْ فِيهِ عُسْرٌ عَلَى نَازِلِهِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى عُسْرِ الْحَالِ مِنَ اضْطِرَابِ الْبَالِ وَتَبَلْبُلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَجَامِعَ هَمِّهِ وَمَطَامِحَ نَظَرِهِ تَكُونُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي إِيجَادِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ لِمَطَالِبِهِ، فَهُوَ مُتَهَالِكٌ عَلَى الِازْدِيَادِ خَائِفٌ عَلَى الِانْتِقَاصِ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْكِمَالَاتِ وَلَا مَأْنُوسٌ بِمَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَبَعْضُهُمْ يَبْدُو لِلنَّاسِ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ وَرَفَاهِيَةِ عَيْشٍ وَلَكِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مُطَمَئِنَّةٍ.

وَجَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُ يَوْمَ الْحَشْرِ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى تَمْثِيلًا لِحَالَتِهِ الْحِسِّيَّةِ يَوْمَئِذٍ بِحَالَتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ النَّظَرِ فِي وَسَائِلَ الْهُدَى والنجاة. وَذَلِكَ الْعَمى عُنْوَانٌ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِقْصَائِهِ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَ أَعْمى الْأَوَّلُ مُجَازُ وأَعْمى الثَّانِي حَقِيقَةٌ. وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَجُمْلَةُ قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ إِلَخْ وَاقِعَةٌ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ الْإِنْسَانَ مِنْ يَوْمِ نَشْأَتِهِ التَّحْذِيرَ مِنَ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي الْفِطْرَةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَم الَّتِي يكون فِي الفتر بَيْنَ الشَّرَائِعِ مُسْتَحِقٌّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَاطِبَةً: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ (¬1) ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِعَاقِبَةٍ مِثْلِ حَالِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَى الْمُضَمَّنِ فِي قَوْلِهِ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَالِ الَّتِي تَسَاءَلْتَ عَنْ سَبَبِهَا كُنْتَ نَسِيتَ آيَاتِنَا حِينَ أَتَتْكَ، وَكُنْتَ تُعْرِضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ حِينَ تُدْعَى إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْحَالُ كَانَ عِقَابُكَ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةُ احْتِبَاكَاتٍ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَوَّلِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى وَنَنْسَاهُ، أَيْ نُقْصِيهِ مِنْ رَحْمَتِنَا. وَتَقْدِيرُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَعَمِيتَ عَنْهَا فَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَتُحْشَرُ أَعْمَى. ¬

(¬1) فِي المطبوعة (بِالْفِعْلِ) .

وَالنِّسْيَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَوِ اسْتِعَارَةً فِي الْحِرْمَانِ مِنْ حُظُوظِ الرَّحْمَةِ. وَجُمْلَةُ وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ إِلَخْ تَذْيِيلٌ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ مَا يُخَاطِبُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قُصِدَ مِنْهَا التَّوْبِيخُ لَهُ وَالتَّنْكِيلُ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الَّتِي قَبْلِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْخِطَابِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مَنْ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قُصِدَ مِنْهَا مَوْعِظَةُ السَّامِعِينَ لِيَحْذَرُوا مِنْ أَنْ يَصِيرُوا إِلَى مَثَلِ ذَلِكَ الْمَصِيرِ. فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ التَّذْيِيلَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا عَاطِفَةٌ مَجْمُوعَ كَلَامٍ عَلَى مَجْمُوعِ كَلَامٍ آخَرَ لَا عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: وَمِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، أَيْ كَفَرَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ. فَالْإِسْرَافُ: الِاعْتِقَادُ الضَّالُّ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ ومكابرتها وتكذيبهما. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ هُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، أَيْ وَكَذَلِكَ نَجْزِي فِي الدُّنْيَا الَّذِينَ أَسْرَفُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآيَاتِ. وَأَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ وَلَيْسَ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِ اللَّهِ لِلَّذِي حَشَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. فَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مُقَابِلُ عَذَابِ الدُّنْيَا الْمُفَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً الْآيَةَ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِ اللَّهِ لِلَّذِي يَحْشُرُهُ أَعْمَى، فَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ الْعَذَابُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْمُخَاطَبُ، أَيْ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى مِنْهُ لِأَنَّهُ أطول مُدَّة.

[سورة طه (20) : آية 128]

[سُورَة طه (20) : آيَة 128] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ [طه: 127] . جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ التَّعْجِيبِيَّ مُفَرَّعًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْجَزَاءِ بِالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، تَعْجِيبًا مَنْ حَالِ غَفْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كُتُبِ اللَّهِ وَآيَاتِ الرُّسُلِ. فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْرُوفٍ مِنْ مَقَامِ التَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا لِقَوْمٍ أَحْيَاءٍ يَوْمَئِذٍ. وَالْهِدَايَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ بِتَنْزِيلِ الْعَقْلِيِّ منزلَة الحسيّ، فيؤول مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى التَّبْيِينِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُهَا بِاللَّامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [100] . وَجُمْلَةُ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ مُعَلِّقَةُ فِعْلِ يَهْدِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ لِوُجُودِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، أَيْ أَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إِلَى جَوَابٍ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أَيْ كَثْرَةُ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ. وَفَاعِلُ يَهْدِ ضَمِيرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابَ كَمْ أَهْلَكْنا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا. وَالْمَعْنَى: أَفَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ هَذَا السُّؤَالَ، عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ يَهْدِ مَحْذُوفٌ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ يَحْصُلُ لَهُمُ التَّبْيِينُ. وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّبْيِينِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَشَدُّ غَرَابَةً وَأَحْرَى بِالتَّعْجِيبِ.

[سورة طه (20) : الآيات 129 إلى 130]

وَالْمُرَادُ بِالْقُرُونِ: عَادٌ وَثَمُودُ. فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَمُرُّونَ بِمَسَاكِنِ عَادٍ فِي رَحَلَاتِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ وَنَجْرَانَ وَمَا جَاوَرَهَا، وَبِمَسَاكِنِ ثَمُودَ فِي رَحَلَاتِهِمْ إِلَى الشَّامِ. وَقَدْ مَرَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بِدِيَارِ ثَمُودَ فِي مَسِيرِهِمْ إِلَى تَبُوكَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَلَاكِ تِلْكَ الْقُرُونِ. فَحَرْفُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِلْإِيذَانِ بِالتَّعْلِيلِ. والنهى- بِضَمِّ النُّونِ- وَالْقَصْرِ جَمْعُ نُهْيَةٍ- بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-: اسْمُ الْعَقْلِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ النُّهَى مُفْرَدًا بِمَعْنَى الْعَقْلِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِأَنَّهُمْ عَدِيمُو الْعُقُولِ، كَقَوْلِهِ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 44] . [129- 130] [سُورَة طه (20) : الْآيَات 129 إِلَى 130] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) جُمْلَةُ وَلَوْلا كَلِمَةٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [طه: 128] بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ التَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْعِبْرَةِ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وبأنهم جَدِيرُونَ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. فَلَمَّا كَانُوا قَدْ غَرَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِتَكْذِيبِ الْوَعِيدِ لِمَا رَأَوْا مِنْ تَأَخُّرِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ: 29] عَقَّبَ وَعِيدَهُمْ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُزِيلُ غُرُورَهُمْ بِأَنَّ سَبَبَ التَّأْخِيرِ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29، 30] . وَالْكَلِمَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِيمَا شَأْنُهُ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْكَلِمَاتُ اللَّفْظِيَّةُ مِنَ الْمَعَانِي، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الرَّاجِعِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَيُبْرِزُهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ أَوْ أَمْرِ التَّشْرِيعِ، أَوِ الْوَعْظِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [110] . فَالْكَلِمَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا: مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَأْجِيلِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ أَنْظَرَ قُرَيْشًا فَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنْشَرَ الْإِسْلَامَ بِمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ وَبِذُرِّيَّاتِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِلنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ بَقَاءِ شَرْعِهِ وَانْتِشَارِهِ لِأَنَّهُ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ. وَخَصَّ اللَّهُ مِنْهُمْ بِعَذَابِ السَّيْفِ وَالْأَسَرِ مَنْ كَانُوا أَشِدَّاءَ فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: 33- 34] . وَاللزَام- بِكَسْرِ اللَّامِ-: مَصْدَرُ لَازَمَ: كَالْخِصَامِ، اسْتُعْمِلَ مَصْدَرَا لِفِعْلِ لَزِمَ الثَّانِي لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ عِدَّةِ نَاسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ فِعَالٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، مِثْلَ لِزَازٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: مِنَّا لِزَازٌ كَرِيهَةٌ جُذَّامُهَا وَسِدَادٍ فِي قَوْلِ الْعَرَجِيِّ: أَضَاعُونِي وَأَيُّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ أَيْ: لَكَانَ الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ لَازِمًا لَهُمْ.

فَانْتَصَبَ لِزاماً عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (كَانَ) ، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَمْ أَهْلَكْنا [128] ، أَيْ لَكَانَ الْإِهْلَاكُ الَّذِي أُهْلِكَ مِثْلُهُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُون، وَهُوَ الاستيصال، لَازِمًا لَهُمْ. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عَطْفٌ عَلَى كَلِمَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى يَقَعُ عِنْدَهُ الْهَلَاكُ لَكَانَ إِهْلَاكُهُمْ لِزَامًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ: مَا سَيُكْشَفُ لَهُمْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ: إِمَّا فِي الدُّنْيَا بِأَنْ حَلَّ بِرِجَالٍ مِنْهُم وَهُوَ عَذَابُ الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا سَيَحِلُّ بِمَنْ مَاتُوا كُفَّارًا مِنْهُمْ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [الْفرْقَان: 77] . وَيَظْهَرُ أَنَّهُ شَاعَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ تَأْوِيلُ اسْمِ اللِّزَامِ أَنَّهُ عَذَابٌ تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ يَوْمَ بَدْرٍ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» . يُرِيدُ بِذَلِكَ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ اللِّزَامُ مُتَرَقَّبًا فِي آخِرِ الدُّنْيَا. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُحْوِجُ إِلَى تَأْوِيلِ اللِّزَامِ بِهَذَا كَمَا عَلِمْتَ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَبِالْوَعِيدِ لِتَأْخِيرِ نُزُولِهِ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ الْعَذَابَ وَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَنَحْوُهُ الشَّامِلُ لَهُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ مَا يَقُولُونَ. وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مُزَاوَلَةِ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَةِ أَهْلِهِ بِالصَّلَاةِ، والإعراض عَمَّا متع اللَّهُ الْكُفَّارَ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، وَوَعَدَهُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. فَالتَّسْبِيحُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الصَّلَاةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِحَمْدِ رَبِّكَ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْفَاعِلِ لِفِعْلِهِ، أَيْ سَبِّحْ حَامِدًا رَبَّكَ، فَمَوْقِعُ الْمَجْرُورِ مَوْقِعُ الْحَالِ.

وَالْأَوْقَاتُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ أَوْقَات الصَّلَوَات، وَهِي وَقْتُ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتَانِ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَمَّا الظُّهْرُ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَطْرافَ النَّهارِ كَمَا سَيَأْتِي. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ (فَسَبِّحْ) . وَذَلِكَ وَقْتَا الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ. وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ عَلَى فَسَبِّحْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَيْهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ شَابَهَ تَقْدِيمَ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ الْمُفِيدَةِ مَعْنَى الزَّمَانِ، فَعُومِلَ الْفِعْلُ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» ، أَيِ الْأَبَوَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [79] . وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِآنَاءِ اللَّيْلِ أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتٌ تَمِيلُ فِيهِ النُّفُوسُ إِلَى الدَّعَةِ فَيُخْشَى أَنْ تَتَسَاهَلَ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَآنَاءِ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ. وَهُوَ جَمْعُ إِنْيٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَيَاءٍ فِي آخِرِهِ. وَيُقَالُ: إِنْوٌ- بِوَاوٍ فِي آخِرِهِ. وَيُقَالُ: إِنًى- بِأَلْفٍ فِي آخِرِهِ مَقْصُورًا- وَيُقَالُ: أَنَاءٌ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ وَبِمَدٍّ فِي آخِرِهِ- وَجَمْعُ ذَلِكَ عَلَى آنَاءٍ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ. وَقَوْلُهُ وَأَطْرافَ النَّهارِ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطَرَفُ الشَّيْءِ مُنْتَهَاهُ. قِيلَ: الْمُرَادُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ، وَهُمَا وَقْتَا الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْبَعْضِ، كَقَوْلِهِ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: 238] . وَقِيلَ: الْمُرَادُ طَرَفُ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي قَوْسِ الْأُفُقِ، وَهُوَ بُلُوغُ سَيْرِهَا وَسَطَ الْأُفُقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالزَّوَالِ، وَهُمَا طَرَفَانِ طَرَفُ النِّهَايَةِ وَطَرَفُ الزَّوَالِ، وَهُوَ

[سورة طه (20) : آية 131]

انْتِهَاءُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَابْتِدَاءُ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَوْسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] . وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لِوَقْتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّ وَقْتَهَا مَا بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالدُّخُولِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَتِلْكَ حِصَّةٌ دَقِيقَةٌ. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَلِلنَّهَارِ طَرَفَانِ لَا أَطْرَافٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ وَأَطْرافَ النَّهارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى، وَهُوَ مُتَّسَعٌ فِيهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] . وَالَّذِي حَسَّنَهُ هُنَا مُشَاكَلَةُ الْجَمْعِ لِلْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَعَلَّكَ تَرْضى - بِفَتْحِ التَّاءِ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ رَجَاءً لَكَ أَنْ تَنَالَ مِنَ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ دُونَ زِيَادَةٍ فِي الْوَاجِبِ رِفْقًا بِكَ وَبِأُمَّتِكَ. وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» . وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تَرْضى - بِضَمِّ التَّاءِ- أَيْ يُرْضِيكَ رَبُّكَ، وَهُوَ مُحْتَمل للمعنيين. [131] [سُورَة طه (20) : آيَة 131] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) أُعْقِبَ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ بِنَهْيِهِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمَا يَنْعَمُ بِهِ مِنْ تَنَعَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ فِي حِينِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ بِأَنَّ

ذَلِكَ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى، مِنْهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] . وَذِكْرُ الْأَزْوَاجُ هُنَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعَائِلَاتِ وَالْبُيُوتِ، أَيْ إِلَى مَا مَتَّعْنَاهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُتَعِ فَكُلُّ زَوْجٍ مُمَتَّعٌ بِمُتْعَةٍ فِي زَوْجِهِ مِمَّا يَحْسُنُ فِي نَظَرِ كُلٍّ مِنْ مَحَاسِنِ قَرِينِهِ وَمَا يُقَارِنُ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْبَنِينَ وَالرِّيَاشِ وَالْمَنَازِلِ وَالْخَدَمِ. وَمَدُّ الْعَيْنَيْنِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي إِطَالَةِ النَّظَرِ لِلتَّعْجِيبِ لَا لِلْإِعْجَابِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِمَدِّ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُشْتَهًى. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَالزَّهْرَةُ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-: وَاحِدَةُ الزَّهْرِ، وَهُوَ نَوْرُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ. وَتُسْتَعَارُ لِلزِّينَةِ الْمُعْجِبَةِ الْمُبْهِتَةِ، لِأَنَّ مَنْظَرَ الزَّهْرَةِ يُزَيِّنُ النَّبَاتَ وَيُعْجِبُ النَّاظِرَ، فَزَهْرَةُ الْحَيَاةِ: زِينَةُ الْحَيَاةِ، أَيْ زِينَةُ أُمُورِ الْحَيَاةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْأَنْعَامِ وَالْجَنَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها [الْقَصَص: 60] . وَانْتُصِبَ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى الْحَالِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَهْرَةَ- بِسُكُونِ الْهَاءِ-. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- وَهِيَ لُغَةٌ. لِنَفْتِنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَتَّعْنا. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ لِيَحْصُلَ فِتْنَتُهُمْ فِي خِلَالِهِ، فَفِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَتَاعِ فِتْنَةٌ مُنَاسِبَةٌ لَهُ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 68] .

وَإِنَّمَا مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مُتَسَلْسِلَةٍ عَنْ نُظُمِ الِاجْتِمَاعِ فَكَانَتْ لَهُمْ فِتْنَةً فِي دِينِهِمْ، فَجُعِلَ الْحَاصِلُ بِمَنْزِلَةِ الْبَاعِثِ. وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَتَبَلْبُلِ الْبَالِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعٍ أَوِ الْتِوَاءِ الْأُمُورِ، وَكَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَلِشِرْكِهِمْ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْغَمَّ وَالتَّوَقُّعَ، وَفِتْنَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ظَاهِرَةٌ. فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وُنُهِينُهَا ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [5] . وَجُمْلَةُ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ حُسْنِ شَارَتِهِمْ مَشُوبٌ وَمُبَطَّنٌ بِفِتْنَةٍ فِي النَّفْسِ وَشَقَاءٍ فِي الْعَيْشِ وَعِقَابٍ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَذُيِّلَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الْمُيَسَّرَ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْقَى فِي الدُّنْيَا وَمَنْفَعَتُهُ بَاقِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِمَا يُقَارِنُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّكْرِ. فَإِضَافَةُ رِزْقُ رَبِّكَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ الرِّزْقَ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ رِزْقَ الْكَافِرِينَ لَمَّا خَالَطَهُ وَحَفَّ بِهِ حَالُ أَصْحَابِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّبِعَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ جُعِلَ كَالْمَنْكُورِ انْتِسَابُهُ إِلَى اللَّهِ، وَجُعِلَ رِزْقُ اللَّهِ هُوَ السَّالِمُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْكُفْرَانِ وَمِنْ تَبِعَاتِ ذَلِكَ. وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، وَالْخَيْرِيَّةٌ حَقِيقَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوَاحِيهَا. فَمِنْهَا: خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَاجِلِ شَرٌّ عَلَيْهِ فِي الْآجِلِ، وَمِنْهَا خَيْرٌ مَشُوبٌ بِشُرُورٍ وَفِتَنٍ، وَخَيْرٌ صَافٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً قَوِيَّةً، وَخَيْرٌ مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً ضَعِيفَةً، فَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ تُوَفُّرِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ

[سورة طه (20) : آية 132]

السَّيِّئَةِ وَالْفِتَنِ كَالْمَقْرُونِ بِالْقَنَاعَةِ، فَتَفْضِيلُ الْخَيْرِيَّةِ جَاءَ مُجْمَلًا يَظْهَرُ بِالتَّدَبُّرِ. وَأَبْقى تَفْضِيلٌ عَلَى مَا مُتِّعَ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ فِي رِزْقِ الْكَافِرِينَ بَقَاءً، وَهُوَ أَيْضًا يَظْهَرُ بَقَاؤُهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيمَا يَحِفُّ بِهِ وعواقبه. [132] [سُورَة طه (20) : آيَة 132] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) ذِكْرُ الْأَهْلِ هُنَا مُقَابِلٌ لِذِكْرِ الْأَزْوَاجِ فِي قَوْلِهِ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه: 131] فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ أَزْوَاجَهُ، أَيْ مِتْعَتُكَ وَمِتْعَةُ أَهْلِكَ الصَّلَاةُ فَلَا تُلَفَّتُوا إِلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا. وَأَهْلُ الرَّجُلِ يَكُونُونَ أَمْثَلَ مَنْ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ. وَمِنْ آثَارِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي السُّنَّةِ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بَلَغَهَا أَنَّ سَبْيًا جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ تَشْتَكِي إِلَيْهِ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى تَسْأَلُهُ خَادِمًا مِنَ السَّبْيِ فَلَمْ تَجِدْهُ. فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخَذَتْ وَعَلِيٌّ مُضَّجَعَهُمَا فَجَلَسَ فِي جَانِبِ الْفِرَاشِ وَقَالَ لَهَا وَلِعَلِيٍّ: أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا تُسَبِّحَانِ وَتَحْمَدَانِ وَتُكَبِّرَانِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» . وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ أَهْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَصْطَبِرَ عَلَى الصَّلَاةِ. وَالِاصْطِبَارُ: الِانْحِبَاسُ، مُطَاوِعٌ صَبْرَهُ، إِذَا حَبَسَهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي إِكْثَارِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي النَّوَافِلِ. قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا

الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 1] الْآيَاتُ، وَقَالَ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الْإِسْرَاء: 79] . وَجُمْلَة لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ نَحْنُ نَرْزُقُكَ جُعِلَتْ تَمْهِيدًا لِهَاتِهِ الْأَخِيرَةِ. وَالسُّؤَالُ: الطَّلَبُ التَّكْلِيفِيُّ، أَيْ مَا كَلَّفْنَاكَ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَة شكر لله عَلَى مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا يَطْلُبُ اللَّهُ مِنْهُمْ جَزَاءً آخَرَ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا تَعَوَّدَهُ النَّاسُ مِنْ دَفْعِ الْجِبَايَاتِ وَالْخَرَاجِ لِلْمُلُوكِ وَقَادَةِ الْقَبَائِلِ وَالْجُيُوشِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56- 58] ، فَجُمْلَةُ نَحْنُ نَرْزُقُكَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 131] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ رِزْقَ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ مَسُوقٌ إِلَيْكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ ابْتِدَاءً هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَشْمَلُ أَهْلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُشْتَرِكٌ فِي حُكْمِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى عَطْفٌ عَلَى جملَة لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً الْمُعَلَّلُ بِهَا أَمْرُهُ بِالِاصْطِبَارِ لِلصَّلَاةِ، أَيْ إِنَّا سَأَلْنَاكَ التَّقْوَى وَالْعَاقِبَةَ. وَحَقِيقَةُ الْعَاقِبَةِ: أَنَّهَا كُلُّ مَا يَعْقُبُ أَمْرًا وَيَقَعُ فِي آخِرِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِلَّا أَنَّهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي أُمُورِ الْخَيْرِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّقْوَى تَجِيءُ فِي نِهَايَتِهَا عَوَاقِبُ خَيْرٍ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ تَحْقِيقًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِنَ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ شَأْنَ لَامِ الْمِلْكِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى نَوَالِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ، وَإِنَّمَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي عَاقِبَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا أَيْضًا لِلتَّقْوَى.

[سورة طه (20) : آية 133]

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ، أَيْ لَا تَكُونُ الْعَاقِبَةُ إِلَّا لِلتَّقْوَى. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أُرْسِلَتْ مجْرى الْمثل. [133] [سُورَة طه (20) : آيَة 133] وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) رُجُوعٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَبِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ. وَهُوَ الْغَرَضُ الَّذِي انْتُقِلَ مِنْهُ إِلَى أَغْرَاضٍ مُنَاسِبَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: 113] . وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: 130] فَجِيءَ هُنَا بِشِنَعٍ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ. فَمِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ مِنْهَا التَّعَنُّتَ وَالْمُكَابَرَةَ أَنْ قَالُوا: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ فَنُؤْمِنُ بِرِسَالَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] . وَلَوْلَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ أَتَتْهُمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أُنْكِرَ بِهِ نَفْيُ إِتْيَانِ آيَةٍ لَهُمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ تَحْضِيضُهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ. وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ. والصُّحُفِ الْأُولى: كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18- 19] .

وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ. وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ وَرَقٍ أَوْ كَاغَدٍ أَوْ خِرْقَةٍ يُكْتَبُ فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ مَجْمُوعَ صُحُفٍ أُطْلِقَ الصُّحُفُ عَلَى الْكُتُبِ. وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الصُّحُفِ هُنَا عَلَى الْكُتُبِ أَنَّ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ مِنَ الْكُتُبِ عِلْمًا، وَأَنَّ جَمِيعَهُ حَوَاهُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً وَدَلِيلًا. وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابُهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَلِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَصْدِيقًا لِمَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ. وَقَدْ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ أُمِّيٌّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا نَشَأْ فِي قَوْمٍ أَهْلِ عِلْمٍ وَمُزَاوَلَةٍ لِلتَّارِيخِ مَعَ مَجِيئِهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ مِنْ أَخْبَارِهِمُ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهَا، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146] ، وَكَانُوا لَا يُحَقِّقُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّفَرُّقِ وَتَلَاشِي أُصُولِ كُتُبِهِمْ وَإِعَادَةِ كِتَابَةِ كَثِيرٍ مِنْهَا بِالْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ تَأْوِيلَاتٍ سَقِيمَةٍ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَمَا حَوَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الصِّدْقِ وَالرَّشَادِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ الْبَالِغَتَيْنِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ مُبَاشَرَةً وَعَلَى غَيْرِهِمُ اسْتِدْلَالًا. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: 1- 2] . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفَصٌ، وَابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ تَأْتِهِمْ- بِتَاءِ الْمُضَارِعِ لِلْمُؤَنَّثِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَحْتِيَّةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ بَيِّنَةُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَأَصْلُ الْإِسْنَادِ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ لَيْسَ عَلَامَةً وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَام.

[سورة طه (20) : آية 134]

[سُورَة طه (20) : آيَة 134] وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] ، وَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ حِينَ أَخَّرُوا الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلُوهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، لِأَنَّ مَا هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ ضَلَالٌ بَيِّنٌ قَدْ حَجَبَتْ عَنْ إِدْرَاكِ فَسَادِهُ الْعَادَاتُ واشتغال البال بشؤون دِينِ الشِّرْكِ، فَالْإِشْرَاكُ وَحْدُهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يُوقِظُ عُقُولَهُمْ. فَمَجِيءُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ كَافٍ فِي اسْتِدْلَالِ الْعُقُولِ عَلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْأَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِتْيَانَ الرَّسُولِ لَهُمْ بِآيَةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَنْ نَبْذِ الشِّرْكِ لَوْ سَلَّمَ لَهُمْ جَدَلًا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ هُوَ بِآيَةٍ، فَقَدْ بَطَلَ عُذْرُهُمْ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 156] . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ عَلَى إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ الْخَلْقِ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لَوْلَا حَجْبُ الضَّلَالَاتِ وَالْهَوَى، وَأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ لِإِيقَاظِ

[سورة طه (20) : آية 135]

الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا أَهْلَ فَتْرَةٍ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْحِسَابِ بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ الْإِهْلَاكَ الْمَفْرُوضَ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ، مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ وَقْتُ الْإِرْسَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: هَلَّا كُنْتَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ حُصُولِهِ فِيمَا مَضَى. وَالذُّلُّ: الْهَوَانُ. وَالْخِزْيُ: الِافْتِضَاحُ، أَيِ الذُّلُّ بِالْعَذَابِ. وَالْخِزْيُ فِي حَشْرِهِمْ مَعَ الْجُنَاةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: 87] . [135] [سُورَة طه (20) : آيَة 135] قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه: 133] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالْمَعْنَى: كُلُّ فَرِيقٍ مُتَرَبِّصٌ فَأَنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ بِالْإِيمَانِ، أَيْ تُؤَخِّرُونَ الْإِيمَانَ إِلَى أَنْ تَأْتِيَكُمْ آيَةٌ مِنْ رَبِّي، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ أَنْ يَأْتِيَكُمْ عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَتُفَرَّعُ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَتَرَبَّصُوا. وَمَادَّةُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدَّوَامِ بِالْقَرِينَةِ، نَحْوَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] ، أَي فداوموا عَلَى تَرَبُّصِكُمْ.

وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْذَارِ، وَيُسَمَّى الْمُتَارَكَةَ، أَيْ نَتْرُكُكُمْ وَتَرَبُّصَكُمْ لِأَنَّا مُؤْمِنُونَ بِسُوءِ مَصِيرِكُمْ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السَّجْدَة: 30] . وَفِي مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التَّوْبَة: 52] . وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ: كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. تَفَعَّلٌ مِنَ الرَّبْصِ، وَهُوَ انْتِظَارُ حُصُولِ حَدَثٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. وَفُرِّعَ عَلَى الْمُتَارَكَةِ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمِنْ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُهْتَدُونَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَقُولُهُ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُتَارَكَةِ إِلَّا الْمُوقِنُ بِأَنَّهُ الْمُحِقُّ. وَفِعْلُ (تَعْلَمُونَ) مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، كَقَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . والسوي: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الصِّرَاطِ الْمُسَوَّى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ. وَالْمَعْنَى: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَنْ يَبْقَى مِنَ الْكُفَّارِ الْمُخَاطَبِينَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ سَوَاءٌ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمُوا مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ،

وَصَنَادِيدِ الْمُشْرِكَيْنِ الَّذِينَ شَاهَدُوا نَصْرَ الدِّينِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ مَنْ أَسْلَمُوا مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَمَنْ شَاهَدُوا عِزَّةَ الْإِسْلَامِ. وَيُحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ عِلْمَ الْيَقِينِ. وَقَدْ جَاءَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ كَأَبْلَغِ خَوَاتِمِ الْكَلَامِ لِإِيذَانِهَا بِانْتِهَاءِ الْمَحَاجَّةِ وَانْطِوَاءِ بِسَاطِ الْمُقَارَعَةِ. وَمِنْ مَحَاسِنِهَا: أَنَّ فِيهَا شَبِيهَ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّهَا تُنَظِّرُ إِلَى فَاتِحَةِ السُّورَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى [طه: 2] ، لِأَنَّ الْخَاتِمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ كُلَّ مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَإِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فكفاه انثلاج صَدره أَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ وَالتَّذْكِرَةَ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ فَتَرْكَهُمْ وَضَلَالَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.

21- سورة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 21- سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ سَمَّاهَا السَّلَفُ «سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ» ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطَهَ، وَالْأَنْبِيَاءُ، هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي» . وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُ هَذَا. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا أَسْمَاءُ سِتَّةَ عَشَرَ نَبِيئًا وَمَرْيَمَ وَلَمْ يَأْتِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَدَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. فَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا أَسْمَاءُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَبِيئًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُونُسَ وَلُوطاً [الْأَنْعَام: 83- 86] فَإِنْ كَانَتْ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَقَدْ سَبَقَتْ بِالتَّسْمِيَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِلَّا فَاخْتِصَاصُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِذِكْرِ أَحْكَامِ الْأَنْعَامِ أَوْجَبَ تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ الِاسْمِ فَكَانَتْ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَجْدَرَ مِنْ بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، عَلَى أَنَّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُسَلَّمَةِ أَنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

أغراض السورة:

أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الْأَنْبِيَاء: 44] ، وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْنَى نَنْقُصُهَا بِفَتْحِ الْبُلْدَانِ، أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرُّؤْيَةِ فِي الْآيَةِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضُ الْحِجَازِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّقْصِ نَقْصُ سُلْطَانِ الشِّرْكِ مِنْهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْمُتَعَيَّنِ وَلَا بِالرَّاجِحِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي نَظِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ الَّتِي هِيَ أَيْضًا مَكِّيَّةٌ فَالْأَرْجَحُ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مَكِّيَّةٌ كُلَّهَا. وَهِيَ السُّورَةُ الْحَادِيَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ حم السَّجْدَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّحْلِ، فَتَكُونُ مِنْ أَوَاخِرِ السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ إِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 3] ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [57] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ ابْنُ الزِّبَعْرَى لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] كَمَا يَأْتِي يَقْتَضِي أَنَّ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَقَدْ عُدَّتِ الزُّخْرُفُ ثَانِيَةً وَسِتِّينَ فِي النُّزُولِ. وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ مِائَةٌ وَإِحْدَى عشرَة وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ واثنتا عشرَة. أغراض السُّورَة: وَالْأَغْرَاضُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِه السُّورَة هِيَ: - الْإِنْذَارُ بِالْبَعْثِ، وَتَحْقِيقُ وُقُوعِهِ وَإِنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَانَ قَرِيبًا. - وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ عَدَمٍ وَخَلْقِ الموجودات من المَاء.

- وَالتَّحْذِيرُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ. - وَالتَّذْكِيرُ بِأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ إِلَّا كَأَمْثَالِهِ مِنَ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَ إِلَّا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ. - وَذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. - وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَشَأْنِ رَسُولِ الْإِسْلَامِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ. - وَالتَّذْكِيرُ بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ وَأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لِلَّذِينَ كَذَّبُوا وَاقِعٌ لَا يَغُرُّهُمْ تَأْخِيرُهُ فَهُوَ جَاءٍ لَا مَحَالَةَ. - وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِتَأْخِيرِهِ كَمَا اغْتَرَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى أَصَابَهُمْ بَغْتَةً، وَذَكَرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَتْحَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ. - وَذَكَّرَهُمْ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ. - وَمِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَيَنْتَصِرُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ. - ثُمَّ مَا فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا النِّظَامُ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. - وَتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَنِ الْأَوْلَادِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. - وَمَا يُكْرِهُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يُرِيدُ. - وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ صَائِرُونَ إِلَى الْفَنَاءِ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 1]

-وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْكُبْرَى عَلَيْهِمْ وَهِيَ نِعْمَةُ الْحِفْظِ. - ثُمَّ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. - وَتَنْظِيرُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أُمَمِهِمْ بِأَحْوَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِ قَوْمِهِ. - وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ وَاسْتَجَابَ دَعَوَاتِهِمْ. - وَأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ جَاءُوا بِدِينِ اللَّهِ وَهُوَ دِينٌ وَاحِدٌ فِي أُصُولِهِ قَطَّعَهُ الضَّالُّونَ قَطْعًا. - وَأَثْنَى عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى مَنْ آمَنُوا بِهِمْ. - وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا وَخَيْرِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْحَقِّ وَيُعِينُ رُسُلَهُ عَلَى تَبْلِيغ شَرعه. [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ فِي الِافْتِتَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُنْذَرِينَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالِاقْتِرَابُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقُرْبِ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُطَاوَعَةِ مستعملة فِي تحقق الْفِعْلِ أَيِ اشْتَدَّ قُرْبُ وُقُوعِهِ بِهِمْ. وَفِي إِسْنَادِ الِاقْتِرَابِ إِلَى الْحِسَابِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ حَالَ إِظْلَالِ الْحِسَابِ لَهُمْ بِحَالَةِ شَخْصٍ يَسْعَى لِيَقْرُبَ مِنْ دِيَارِ نَاسٍ، فَفِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْحِسَابِ الْمَعْقُولَةِ بِهَيْئَةٍ مَحْسُوسَةٍ، وَهِيَ هَيْئَةُ الْمُغِيرِ وَالْمُعَجِّلِ فِي الْإِغَارَةِ عَلَى الْقَوْمِ فَهُوَ يُلِحُّ فِي السَّيْرِ تَكَلُّفًا لِلْقُرْبِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ

غَافِلُونَ عَنْ تَطَلُّبِ الْحِسَابِ إِيَّاهُمْ كَمَا يَكُونُ قَوْمٌ غَارِّينَ مُعْرِضِينَ عَنِ اقْتِرَابِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْحِسَابِ إِمَّا يَوْمُ الْحِسَابِ، وَمَعْنَى اقْتِرَابِهِ أَنَّهُ قَرِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، أَوْ قَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» ، أَوِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ مَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رَأَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتهديد بِقرب هَلَاكِهِمْ وَذَلِكَ بِفَنَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. أَوِ الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذَّنْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِرَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلنَّاسِ إِنْ أُبْقِيَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ فَذِكْرُهَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ حِسابُهُمْ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: حِسَابٌ لَهُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ فَصَارَ قَوْلُهُ لِلنَّاسِ مُسَاوِيًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ (حِسَابُ) فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فَكَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَكَمَا تَقُولُ: أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، أَصْلُهُ أَزِفَ الرَّحِيلُ لِلْحَيِّ ثُمَّ صَارَ أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَا أَبَا لَكَ، أَصْلُهُ لَا أَبَاكَ، فَكَانَتْ لَامُ (لَكَ) مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ لِإِمْكَانِ إِغْنَاءِ الْإِضَافَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّامِ. قَالَ الشَّاعِر: أَبَا لمَوْت الَّذِي لَا بُدَّ أَنِّي ... مُلَاقٍ لَا أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي وَأَصْلُ النَّظْمِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ الْحِسَابُ. وَإِنَّمَا نُظِمَ التَّرْكِيبُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِأَنْ قُدِّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَعُرِّفَ النَّاسُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لِيَحْصُلَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبْهَامِ ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَهُ التَّبْيِينُ، وَلِمَا فِي تَقْدِيمِ الْجَارِ

وَالْمَجْرُورِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَنَّ الِاقْتِرَابَ لِلنَّاسِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُكَنَّى عَنْهُمْ بِالنَّاسِ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ التَّقْدِيمِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فَصَارَ مِثْلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ الْحِسَابِ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ مُفَسِّرِهِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْحِسَابُ حِسَابَ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ جِيءَ بِضَمِيرِ النَّاسِ لِيَعُودَ إِلَى لَفْظِ النَّاسِ فَيَحْصُلَ تَأْكِيدٌ آخَرُ وَهَذَا نَمَطٌ بَدِيعٌ مِنْ نَسْجِ الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (مِنْ) أَوْ بِمَعْنَى (إِلَى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ اقْتَرَبَ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا لَغْوًا، وَعَنِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَثَّلَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِمْ: «تَقَرَّبْتُ مِنْكَ» . وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ، أَيِ اقْتَرَبَ مِنْهُمُ الْحِسَابُ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَنْ طُرُقِ عِلْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: 156] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 146] . وَالْإِعْرَاضُ: صَرْفُ الْعَقْلِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالشَّيْءِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: 63] ، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: 68] . وَدَلَّتْ (فِي) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ شِدَّةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُمْ، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ أَشَدَّ الْغَفْلَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِيهَا أَوْ مَظْرُوفُونَ فِي مُحِيطِهَا، ذَلِكَ أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ بِسَبَبِ سَابِقِ كُفْرِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْحِسَابِ وَعَنِ اقْتِرَابِهِ. وَإِعْرَاضُهُمْ هُوَ إِبَايَتُهُمُ التَّأَمُّلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَتَسْتَدِلُّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِعْرَاضِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 2 إلى 3]

لَا يُعَدُّ غَافِلًا عَنْهُ، أَيْ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْحِسَابِ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَلَائِلِ التَّذْكِيرِ بِهِ. فَكَانَتِ الْغَفْلَةُ عَنِ الْحِسَابِ مِنْهُمْ غَيْرَ مَقْلُوعَةٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِسَبَبِ تَعْطِيلِهِمْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَقْلَعَ الْغَفْلَةَ عَنْهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ لِلْبَعْثِ. [2، 3] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 2 الى 3] مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ. جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: 1] لِبَيَانِ تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فَلَمْ يَفْقَهُوا مَعَانِيَهُ وَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُ سَمَاعَ أَلْفَاظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 171] . وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ وَصْفِهِ بِالتَّذْكِيرِ. وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ. أَيِ الْجَدِيدُ نُزُولُهُ مُتَكَرِّرًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرِ كُلَّمَا جَاءَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَزَالُونَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ التَّذْكِيرِ وَإِحْدَاثِهِ مَعَ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانُوا سَمِعُوا ذِكْرًا وَاحِدًا فَلم يعبأوا بِهِ لَانْتَحَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَانُوا سَاعَتَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ حَدَثَانُ إِتْيَانِهِ تَبَيَّنَ لِكُلِّ مُنْصِفٍ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدًّا. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي سُورَةِ [الشُّعَرَاءِ: 5] ، وَلَيْسَ المُرَاد بمحدث مَا قَابَلَ الْقَدِيمَ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْكَلَامِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِسِيَاقِ النَّظْمِ.

وَمَسْأَلَةُ صِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ الْخَوْضُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: 164] . وَجُمْلَةُ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْتِيهِمْ وَهَذَا الْحَالُ مُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ ذِكْرٌ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حَالٌ لَازِمَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي اسْتَمَعُوهُ مُقَيِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ لِأَنَّ جُمْلَةَ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِحَالٍ أُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا لَصَارَ الْكَلَامُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَالِيَّتَيْنِ الزِّيَادَةُ لِقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمُ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ مُحْدَثٍ كَمَا عَلِمْتَ. ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَهِيَ احْتِرَاسٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ أَيِ اسْتِمَاعًا لَا وَعْيَ مَعَهُ. وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ. جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: 1] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَسُوقَةٌ لِذِكْرِ أَحْوَالِ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِدَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْبُهْتَانِ وَالتَّآمُرِ عَلَى رَفْضِهَا. فَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الرَّاجِعَةُ إِلَى لِلنَّاسِ وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ فِي مَعْنَى التَّقْيِيدِ لِمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ.

وَ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّجْوَى، وَلِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ تَنَاجِيهِمْ بِمَا ذُكِرَ وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُفْرُهُمْ وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَلِلنِّدَاءِ عَلَى قُبْحِ مَا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ. وَجُمْلَةُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بَدَلٌ مِنَ النَّجْوَى لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا تَنَاجَوْا بِهِ، فَهُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَجُمْلَةِ قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ مِنْ جُمْلَةِ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى فِي سُورَةِ [طَهَ: 62- 63] فَإِنَّ تِلْكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ آخِرُ مَا أَسْفَرَتْ عَلَيْهِ النَّجْوَى. وَوَجْهُ إِسْرَارِهِمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ قَصْدُهُمْ أَنْ لَا يَطَّلِعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا تَآمَرُوا بِهِ لِئَلَّا يَتَصَدَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ حُجَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاهِيَةٌ يَرُومُونَ بِهَا أَنْ يُضَلِّلُوا الدَّهْمَاءَ، أَوْ أَنَّهُمْ أَسَرُّوا بِذَلِكَ لِفَرِيقٍ رَأَوْا مِنْهُمْ مَخَائِلَ التَّصْدِيقِ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَكَاثَرَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَخَشَوْا أَنْ يَتَتَابَعَ دُخُولُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فَاخْتَلُوا بِقَوْمٍ مَا زَالُوا عَلَى الشِّرْكِ وَنَاجَوْهُمْ بِذَلِكَ لِيُدْخِلُوا الشَّكَّ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالنَّجْوَى: الْمُحَادَثَةُ الْخَفِيَّةُ. وَالْإِسْرَارُ: هُوَ الْكِتْمَانُ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ جِدًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ فِي سُورَةِ [بَرَاءَةَ: 78] ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ جَعْلِ النَّجْوَى مَفْعُولًا لِ أَسَرُّوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فِي [سُورَةِ طَهَ: 62] ، أَيْ جَعَلُوا نَجْوَاهُمْ مَقْصُودَةً بِالْكِتْمَانِ وَبَالَغُوا فِي إِخْفَائِهَا لِأَنَّ شَأْنَ التَّشَاوُرِ فِي الْمُهِمِّ كِتْمَانُهُ كَيْلَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمُخَالِفُ فَيُفْسِدَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِنْكَارِيٌّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ خَاطَبُوا مَنْ قَارَبَ أَنْ يُصَدِّقَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِنُبُوءَتِهِ وَهُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 4]

وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ إِنْكَارِيٌّ وَأَرَادَ بِالسِّحْرِ الْكَلَامَ الَّذِي يَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ فَمَا تَصْدِيقُكُمْ لِنُبُوءَتِهِ إِلَّا مِنْ أَثَرِ سِحْرٍ سَحَرَكُمْ بِهِ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ بِتَصْدِيقِكُمْ بِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ. وَأُطْلِقَ الْإِتْيَانُ عَلَى الْقَبُولِ وَالْمُتَابَعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ لِشَيْءٍ يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِتْيَانِ هُنَا حُضُورُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَجَعَلُوهُ إِتْيَانًا، لِأَنَّ غَالِبَ حُضُورِ الْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونَ بِإِتْيَانٍ إِلَيْهَا، وَجَعَلُوا كَلَامَهُ سِحْرًا فَنَهَوْا مَنْ نَاجَوْهُمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فِي سُورَةِ [فُصِّلَتْ: 26] . وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ تَأْتُونَ السِّحْرَ وَبَصَرُكُمْ سَلِيمٌ، وَأَرَادُوا بِهِ الْعِلْمَ الْبَدِيهِيَّ، فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْبَصَرِ لِأَنَّ الْمُبْصَرَاتِ لَا يَحْتَاجُ إِدْرَاكُهَا إِلَى تفكير. [4] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 4] قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى نَجْوَاهُمْ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوا مِنَ الْإِسْرَارِ بِهَا فَبَعْدَ أَنْ حَكَى مَا تَنَاجَوْا بِهِ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي عَلِمَ نَجْوَاهُمْ يَعْلَمُ كُلَّ قَوْلٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَهْرٍ أَوْ سِرٍّ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَبِذَلِكَ كَانَ هَذَا تَذْيِيلًا، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِتَمَامِ الْعِلْمِ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 5]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ قالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ قَالَهُ أَبُو شَامَةَ، أَيْ قَالَ الرَّسُولُ لَهُمْ، حَكَى اللَّهُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ عَنْ وَحْيٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يَقَوْلَهُ فَقَدْ قَالَهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَعْلَمُ السِّرَّ لِمُرَاعَاةِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مِنْ قَبِيلِ السِّرِّ وَأَنَّ إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِكُلِّ قَوْلٍ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِالسِّرِّ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: 6] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ ذِكْرٌ لِلْإِسْرَارِ، وَكَانَ قَوْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: 4] صَادِرًا مِنْهُمْ تَارَةً جَهْرًا وَتَارَةً سِرًّا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى سِرِّهِمْ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى جَهْرِهِمْ بطريقة الفحوى. [5] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 5] بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) بَلْ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الْأَنْبِيَاء: 3] إِلَى حِكَايَةِ قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَيَحْكِيهِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا فَيَحْكِيهَا، فَضَمِيرُ قالُوا لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا لِخُصُوصِ الْقَائِلِينَ الْأَوَّلِينَ. وبَلْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَهِيَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَحْلَامٍ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مَكْذُوبٌ.

ثُمَّ انْتَقَلُوا فَقَالُوا هُوَ شاعِرٌ أَيْ كَلَامُهُ شِعْرٌ، فَحَرْفُ (بَلْ) الثَّالِثَةِ إِضْرَابٌ مِنْهُمْ عَنْ كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِاضْطِرَابِهِمْ وَهَذَا الِاضْطِرَاب ناشىء عَنْ تَرَدُّدِهِمْ مِمَّا يَنْتَحِلُونَهُ مِنَ الِاعْتِلَالِ عَنِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُبْطِلِ الْمُبَاهِتِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي حُجَّتِهِ كَمَا قِيلَ: الْبَاطِلُ لَجْلَجٌ، أَيْ مُلْتَبِسٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (بَلْ) الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِثْلَ (بَلْ) الْأُولَى لِلِانْتِقَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ بَلْ قَالُوا هُوَ شَاعِرٌ، وَحُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ كَلَامَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَحَلَتْ كُلُّ جَمَاعَةٍ اعْتِلَالًا. وَالْأَضْغَاثُ: جَمْعُ ضِغْثٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَهُوَ الْحِزْمَةُ مِنْ أَعْوَادٍ أَوْ عُشْبٍ أَوْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْلَاطِ مُطْلَقًا كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [44] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أَرَادُوا أَنَّ مَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا. وَفَرَّعُوا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ أَوْ فَرَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى مَقَالَتِهِ نَتِيجَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُطَالَبَةُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ مَا يُحْكَى عَنِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً. وَمِنَ الْبُهْتَانِ أَنْ يَسْأَلُوا الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ يَكُونُ الِادِّعَاءُ بِأَنَّهَا سَحْرٌ أَرْوَجَ فِي مِثْلِهَا فَإِنَّ مِنْ أَشْهَرِ أَعْمَالِ السَّحَرَةِ إِظْهَارَ مَا يَبْدُو أَنَّهُ خَارِقٌ عَادَةً. وَقَدِيمًا قَالَ آلُ فِرْعَوْنَ فِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى: إِنَّهَا سِحْرٌ، بِخِلَافِ آيَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ عَلَى فِعْلِ الْغَائِبِ لِمَعْنَى إِبْلَاغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، أَيْ فَقُولُوا لَهُ: ائْتِنَا بِآيَةٍ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير فَلْيَأْتِنا أَيْ حَالَةُ كَوْنِ هَذَا الْبَشَرِ حِينَ يَأْتِي بِالْآيَةِ يُشْبِهُ

[سورة الأنبياء (21) : آية 6]

رِسَالَتَهُ رِسَالَةَ الْأَوَّلِينَ، وَالْمُشَبَّهُ ذَاتٌ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ وَاسِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّابِغَةُ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ مِنْ ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ أَوْ حَالَةِ كَوْنِ الْآيَةِ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، أَي بِهِ. [6] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 6] مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا الْأَوَّلُونَ مَا أَغْنَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُمْ كَمَا وَدِدْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مِثْلُهَا فَمَا آمَنُوا، وَلِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِهْلَاكُ فَشَأْنُكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ كَشَأْنِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ: 59] . وَإِنَّمَا أَمْسَكَ اللَّهُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَتَكُونَ ذُرِّيَّاتُهُمْ حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ فِي الْعَالَمِ، وَلَوْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ لَكَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ أَنْ يَعْقُبَهَا عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَ (مَا) نَافِيةٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَرْفِ (مَا) . وَمُتَعَلِّقُ آمَنَتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ مَا آمَنَتْ بِالْآيَاتِ قَرْيَةٌ. وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها صِفَةٌ لِ قَرْيَةٍ، وَرَدَتْ مُسْتَطْرَدَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا يَتَرَقَّبُونَ الْإِهْلَاكَ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 7]

وَذُكِرَتِ الْقَرْيَةُ هُنَا مُرَادًا بِهَا أَهْلُهَا لِيُبْنَى عَلَيْهَا الْوَصْفُ بِإِهْلَاكِهَا لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ أَصَابَ أَهْلَ الْقُرَى وَقُرَاهُمْ، فَلِذَلِكَ قِيلَ أَهْلَكْناها دُونَ (أَهْلَكْنَاهُمْ) كَمَا فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: 59] وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ. وَفُرِّعَتْ جُمْلَةُ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ عَلَى جُمْلَةِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ مُقْتَرِنَةً بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا اقْتَرَحُوا كَمَا لَمْ يُؤَمِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ مِثَالًا فِي قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] وَهَذَا أَخْذٌ لَهُمْ بِلَازِم قَوْلهم. [7] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 7] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) عَطْفُ جَوَابٍ عَلَى جَوَابٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْطَالُ مَقْصُودِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 3] إِذا أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلِامْتِيَازِ عَنْهُمْ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِرِسَالَتِهِمْ مَا كَانُوا إِلَّا بَشَرًا وَأَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ إِلَّا وَحْيًا مِنَ اللَّهِ لِمَنِ اخْتَارَهُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ إِلَّا رِجالًا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ رُسُلًا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نُبُوءَةِ النِّسَاءِ مِثْلِ مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى وَمَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى. ثُمَّ عَرَّضَ بِجَهْلِهِمْ وَفَضَحَ خَطَأَهُمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، أَيِ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَحْبَارِ والرهبان. وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لَهُمْ بَعْدَ كَوْنِ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ أَعْرَضَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 8]

عَنْهُمْ فِي تَقْرِيرِهِ وَجُعِلَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ وَجُعِلُوا فِيهِ مُعَبَّرًا عَنْهُمْ بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ، وَلَمَّا أُرِيدَ تَجْهِيلُهُمْ وَإِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ غُيِّرَ الْكَلَامُ إِلَى الْخِطَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُم بتجهيلهم. [8] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 8] وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) الْجَسَدُ: الْجِسْمُ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْجُثَّةَ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقين من أيمة اللُّغَةِ مِثْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً [طه: 88] . وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: 34] . قِيلَ هُوَ شِقُّ غُلَامٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ أَجْرَامًا غَيْرَ مُنْبَثَّةٍ فِيهَا الْأَرْوَاحُ بِحَيْثُ تَنْتَفِي عَنْهُمْ صِفَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي خَاصَّتُهَا أَكْلُ الطَّعَامِ، وَهَذَا رَدٌّ لما يَقُولُونَهُ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 7] مَعَ قَوْلِهِمْ هُنَا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 3] . وَذِكْرُ الْجَسَدِ يُفِيدُ التَّهَكُّمَ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لما قَالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 7] ، وَسَأَلُوا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ كَانَ مُقْتَضَى أَقْوَالِهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ لَكِنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَكْلُ الطَّعَامِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَزِمَهُمْ لَمَّا قَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَادًا بِلَا أَرْوَاحٍ، وَهَذَا مِنَ السَّخَافَةِ بِمَكَانَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا خالِدِينَ فَهُوَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ لِتَحْقِيقِ بَشَرِيَّتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِمَا هُوَ وَاقِعٌ مِنْ عَدَمِ كَفَاءَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِقَطْعِ مَعَاذِيرِ الضَّالِّينَ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ

[سورة الأنبياء (21) : آية 9]

الْأَوَّلُونَ مُخَالِفِينَ لِلْبَشَرِ فَمَاذَا يَصْنَعُونَ فِي لَحَاقِ الْفَنَاءِ إِيَّاهُمْ. فَهَذَا وَجْهُ زِيَادَةِ وَما كانُوا خالِدِينَ. وَأُتِيَ فِي نَفْيِ الْخُلُودِ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ مَا كانُوا تَحْقِيقًا لِتَمَكُّنِ عَدَمِ الخلود مِنْهُم. [9] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 9] ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) ثُمَّ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَالْمَعْنَى: وَأَهَمُّ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّا صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذَا أَهَمُّ فِي الْغَرَضَيْنِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. فَالتَّبْشِيرُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ صَادِقُهُ وَعْدَهُ مِنَ النَّصْرِ، وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ مَاثَلَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ. وَالْمرَاد بالوعد وَعدم النَّصْرَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَنْجَيْناهُمْ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّهُ وَعْدُ عَذَابٍ لِأَقْوَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِ الَّذِينَ قَالُوا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] . وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ إِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ مَا أَتَى بِهِ الْأَوَّلُونَ فَسَأَلْتُمْ مِنْ رَسُولِكُمْ مِثْلَهُ فَإِنَّ حَالَكُمْ كَحَالِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ فَتَرَقَّبُوا مِثْلَ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَتَرَقَّبُ رَسُولُكُمْ مِثْلَ مَا لَقِيَ سَلَفُهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: 102] . وَانْتُصِبَ الْوَعْدُ بِ صَدَقْناهُمُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِنَزْعِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَأَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُقَالَ: صَدَقْنَاهُمْ فِي الْوَعْدِ، لِأَنَّ (صَدَقَ) لَا يَتَعَدَّى

[سورة الأنبياء (21) : آية 10]

إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْحَذْفُ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ وَمِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا فِي الْمَثَلِ «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ» (¬1) . وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ نَشاءُ احْتِبَاكٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ شِئْنَا وَنُنْجِي رَسُولَنَا وَمَنْ نَشَاءُ مِنْكُمْ، وَهُوَ تَأْمِيلٌ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ. وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَنُهْلِكُ الْمُسْرِفِينَ، بَلْ عَادَ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ الَّذِي هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَبَقِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ. وَالْمُسْرِفُونَ: الْمُفْرِطُونَ فِي التَّكْذِيبِ بِالْإِصْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ حَتَّى حَلَّ بهم الْعَذَاب. [10] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 10] لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي جَاءَتْهُمْ هِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا ¬

(¬1) فِي «مجمع الْأَمْثَال» للميداني يضْرب مثلا فِي الصدْق. وَأَصله أَن رجلا ساوم آخر فِي بكر وَهُوَ الْفَتى من الْإِبِل، وَقَالَ: مَا سنه؟ قَالَ: بازل، وَهُوَ الكهل من الْإِبِل فنفر الْبَعِير فَدَعَاهُ صَاحبه هدع هدع وَهُوَ صَوت تسكن بِهِ الصغار من الْإِبِل، فَقَالَ المساوم: «صدقني سنّ بكره» .

الْأَوَّلُونَ، وَتَجْهِيلًا لِأَلْبَابِهِمُ الَّتِي لَمْ تُدْرِكْ عِظَمَ الْآيَةِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ. وَفِي ضَمِيرِ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَتَذْكِيرٌ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَمُوا عَنْهَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَوَّلَ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: 2- 3] كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ ظَاهِرُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَلِقَصْدِ هَذَا الْإِيقَاظِ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ مِنْ لَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَجُعِلَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ (إِلَى) شَأْنَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِنْزَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ بِ «إِلَى» هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ فَجُعِلَ الْإِنْزَالُ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْإِنْزَالَ كَانَ لِأَجْلِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا لَكُمْ. وَتَنْكِيرُ كِتاباً لِلتَّعْظِيمِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ جَمَعَ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: كَوْنَهُ كِتَابَ هُدًى، وَكَوْنَهُ آيَةً وَمُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ أَوْ مُدَانِيهِ. وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِمَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَيُطْلَقُ عَلَى السُّمْعَةِ وَالصِّيتِ كَقَوْلِه ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاء [مَرْيَم: 2] . وَقَدْ أُوثِرَ هَذَا الْمَصْدَرُ هُنَا وَجُعِلَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا فَيَصِحَّ قَصْدُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا مِنْ كَلِمَةِ (الذِّكْرِ) بِأَنَّ مَجِيءَ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَعْظَمِ الْهُدَى، وَهُوَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا بِهِ نِهَايَةُ إِصْلَاحِهِمْ، وَمَجِيئُهُ بِلُغَتِهِمْ، وَفِي قَوْمِهِمْ، وَبِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، سُمْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195]- وَقَالَ- كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [الْبَقَرَة: 151] .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 14]

وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» هُنَا قَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أَنَّهُ الشَّرَفُ، أَيْ فِيهِ شَرَفُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِيهِ شَرَفُكُمْ وَذِكْرُكُمْ آخِرَ الدَّهْرِ كَمَا تُذْكَرُ عِظَامُ الْأُمُورِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] . وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لِنَفْيِ عَقْلِهِمْ مُتَّجِهٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنَ فَإِنَّ مَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ هَدْيُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ عَقْلِهِ، وَمَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ مَجْدُهُ وَسُمْعَتُهُ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ قَدْرِهِ لِلْأُمُورِ حَقَّ قَدْرِهَا كَمَا يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مِثْلِهِ مُضَاعَفًا. وَأَيْضًا فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ آيَةً تَفُوقُ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوا مِثْلَهَا وَهُوَ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ وَمِنْ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِالْقِسْمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: 51] ، وَذَلِكَ لِإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيّ والمعنوي. [11- 14] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 11 إِلَى 14] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: 6] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.

وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَقَ رُسُلَهُ وَعْدَهُ وَهُوَ خَبَرٌ يُفِيدُ ابْتِدَاءَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرُّسُلِ وَنَصْرِهِمْ وَبِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِنَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ تَبَعًا لِذَلِكَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِهْلَاكِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الظَّالِمِينَ وَوَصْفِ مَا حَلَّ بِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ ابْتِدَاءً اهْتِمَامًا بِهِ لِيَقْرَعَ أَسْمَاعَهُمْ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِالِانْقِرَاضِ بِقَاعِدَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَن الله ينشىء بَعْدَهُمْ أُمَّةً مُؤْمِنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ فِي سُورَةِ [إِبْرَاهِيمَ: 19] . وَ (كَمْ) اسْمٌ، لَهُ حَقُّ صَدْرِ الْكَلَامِ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ كَثْرَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فَ (كَمْ) هُنَا خَبَرِيَّةٌ. وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ قَصَمْنا. وَفِي (كَمْ) الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخَلُّفِ إِهْلَاكِ هَذِهِ الْقُرَى، وَبِضَمِيمَةِ وَصْفِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ أَيِ الشِّرْكِ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِ الْإِهْلَاكِ فَحَصَلَ مِنْهُ وَمِنِ اسْمِ الْكَثْرَةِ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ التَّهْدِيدَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالٌّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا بِهِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ (حَضُورَاءُ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ- مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ قَتَلُوا نَبِيئًا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ فِي زَمَنِ أَرْمِيَاءَ نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فَأَفْنَاهُمْ» . فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: 6] . وَأَطْلَقَ الْقَرْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ.

وَوَجْهُ اخْتِيَارِ لَفْظِ قَرْيَةٍ هَنَا نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: 6] . وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَهِيَ هُنَا تَمْيِيزٌ لِإِبْهَامِ (كَمْ) . وَالْقَصْمُ: الْكَسْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يُرْجَى بَعْدَهُ الْتِئَامٌ وَلَا انْتِفَاع. واستعير للاستيصال وَالْإِهْلَاكِ الْقَوِيِّ كَإِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَسَبَأٍ. وَجُمْلَةُ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَجُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ. فَجُمْلَةُ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ. وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى قَرْيَةٍ. وَالْإِحْسَاسُ: الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ فَيَكُونُ بِرُؤْيَةِ مَا يُزْعِجُهُمْ أَوْ سَمَاعِ أَصْوَاتٍ مُؤْذِنَةٍ بِالْهَلَاكِ كَالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ. وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها يَرْكُضُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ بِتَأْوِيلِ (يَرْكُضُونَ) مَعْنَى (يَهْرُبُونَ) ، أَيْ مِنَ الْبَأْسِ الَّذِي أَحَسُّوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَأْسِنَا الَّذِي أَحَسُّوهُ فِي الْقَرْيَةِ. وَذَلِكَ بِحُصُولِ أَشْرَاطِ إِنْذَارٍ مِثْلَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ. وَالرَّكْضُ: سُرْعَةُ سَيْرِ الْفَرَسِ، وَأَصْلُهُ الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ فَيُسَمَّى بِهِ الْعَدْوُ، لِأَنَّ الْعَدْوَ يَقْتَضِي قُوَّةَ الضَّرْبِ بِالرِّجِلِ وَأُطْلِقَ الرَّكْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُرْعَةِ سَيْرِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ بِرَكْضِ الْأَفْرَاسِ.

وَ (مِنْها) ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ الْمَرْفُوعِ. وَدَخَلَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا الْهُرُوبَ مِنْ شِدَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالْبَأْسِ تَصْوِيرًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ. وَلَيْسَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ بِرَابِطَةٍ لِلْجَوَابِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ، وَ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ قَدْ تَكُونُ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ خَلَفًا مِنَ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّابِطِ لِأَنَّ مَعْنَى الْفُجَاءَةِ يَصْلُحُ لِلرَّبْطِ وَلَا يُلَازِمُهُ. وَجُمْلَةُ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ خِطَابٌ لِلرَّاكِضِينَ بتخيل كَونهم الْحَاضِرين الْمُشَاهِدِينَ فِي وَقْتِ حِكَايَةِ قِصَّتِهِمْ، تَرْشِيحًا لِمَا اقْتَضَى اجْتِلَابَ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَهَذَا كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ: دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وُدِّي وَجِيرَتِي ... بِذِي الطَّبَسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيًا أَيْ لَمَّا دَعَاهُ الْهَوَى، أَيْ ذَكَّرَهُ أَحْبَابَهُ وَهُوَ غَازٍ بِذِي الطَّبَسَيْنِ الْتَفَتَ وَرَاءَهُ كَالَّذِي يَدْعُوهُ دَاعٍ مِنْ خَلْفِهِ فَتَخَيَّلَ الْهَوَى دَاعِيًا وَرَاءَهُ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وَبَيْنَ جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خُوطِبُوا بِهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ سَمِعُوهُ بِخَلْقٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَهَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ وَيُبْعِدُهُ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا عِنْدَ كُلِّ عَذَابٍ أُصِيبَتْ بِهِ كُلُّ قَرْيَةٍ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ. وَالْإِتْرَافُ: إِعْطَاءُ التَّرَفِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَرَفَهِ الْعَيْشِ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُعْطِيتُمْ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ وَإِلَى مَسَاكِنِكُمْ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 15]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ مِنْ جُمْلَةِ التَّهَكُّمِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي معنى تُسْئَلُونَ احْتِمَالَاتٍ سِتَّةٍ. أَظْهَرُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: ارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ لِتَرَوْا مَا آلَ إِلَيْهِ فَلَعَلَّكُمْ يَسْأَلُكُمْ سَائِلٌ عَنْ حَالِ مَا أَصَابَكُمْ فَتَعْلَمُوا كَيْفَ تُجِيبُونَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُسَافِرِ أَنْ يَسْأَلَهُ الَّذِينَ يَقْدُمُ إِلَيْهِمْ عَنْ حَالِ الْبِلَادِ الَّتِي تَرَكَهَا مِنْ خِصْبٍ وَرَخَاءٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَكْمِلَةٌ لِلتَّهَكُّمِ. وَجُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنْ جَعَلْتَ جُمْلَةَ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةً عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ آنِفًا تَكُونُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَمَّا يَقُولُونَهُ حِينَ يُسْرِعُونَ هَارِبِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْهَارِبِ الْفَزِعِ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى الْفَزَعِ أَوِ النَّدَمِ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَحَلَّتْ بِهِ الْمَخَاوِفَ فَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فَيُقِرُّونَ بِظُلْمِهِمْ وَيُنْشِئُونَ التَّلَهُّفَ وَالتَّنَدُّمَ بِقَوْلِهِمْ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. وَإِنْ جَعَلْتَ جُمْلَةَ لَا تَرْكُضُوا مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ جُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ جَوَابًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُمْ لَا تَرْكُضُوا عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَيَكُونُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ قَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا ذَنْبَنَا وَحُقَّ التَّهَكُّمُ بِنَا. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فِي سُورَة [الْملك: 11] . [15] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 15] فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 14] ، فَاسْمُ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا يَا وَيْلَنا [الْأَنْبِيَاء: 14] ، وَتَأْنِيثُهُ لِأَنَّهُ

اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِدَعْوَاهُمْ، أَيْ مَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ يَدْعُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ لِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الْأَنْبِيَاء: 13] لِأَنَّ شَأْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا الْخَائِفُ أَنْ يُكَرِّرَهَا إِذْ يَغِيبُ رَأْيُهُ فَلَا يَهْتَدِي لِلْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ آخَرَ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ جَوَابًا فَإِنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى إِعَادَتِهِ. وَالْمَعْنَى: فَمَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ حَتَّى هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْقَوْلُ دَعْوَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ، وَالدُّعَاءُ يُسَمَّى دَعْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فِي [سُورَةِ يُونُسَ: 10] . أَيْ فَمَا زَالَ يُكَرَّرُ دُعَاؤُهُمْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُفُّوا عَنْهُ إِلَى أَنْ صَيَّرْنَاهُمْ كَالْحَصِيدِ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ. وَحَرْفُ حَتَّى مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ. وَالْحَصِيدُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْمَحْصُودُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ إِذَا جَرَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا كَمَا هُنَا. وَالْحَصْدُ: جَزُّ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ بِالْمِنْجَلِ لَا بِالْيَدِ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ الْحَصِيدِ عَلَى الزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ. وَالْخَامِدُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ خَمَدَتِ النَّارُ تَخْمُدُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- إِذَا زَالَ لَهِيبُهَا. شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حُصِدَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَائِمًا عَلَى سُوقِهِ خَضِرًا، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ بِزَرْعٍ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالطَّلْعَةِ،

كَمَا شُبِّهَ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ فِي سُورَةِ [الْفَتْح: 29] . وَيُقَال للناشىء: أَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً فِي سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 37] . فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّبَهَيْنِ شَبَهِ الْبَهْجَةِ وَشَبَهِ الْهَلْكِ أُوثِرَ تَشْبِيهُهُمْ حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالْحَصِيدِ. وَكَذَلِكَ شُبِّهُوا حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالنَّارِ الْخَامِدَةِ فَتَضَمَّنَ تَشْبِيهَهَمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِالنَّارِ الْمَشْبُوبَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ كَمَا شُبِّهَ بِالنَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: 64] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 17] . فَحَصَلَ تَشْبِيهَانِ بَلِيغَانِ وَلَيْسَا بِاسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ فِيهِمَا مَانِعٌ مِنْ تَقَوُّمِ حَقِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ خلافًا للعلّامتين التفتازانيّ وَالْجُرْجَانِيِّ فِي «شَرْحَيْهِمَا لِلْمِفْتَاحِ» مُتَمَسِّكِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلْناهُمْ، فَجَعَلَا ذَلِكَ اسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ إِذْ شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حِينَ انعدامه ونار ذهب قُوَّتُهَا وَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا وَرُمِزَ إِلَيْهِمَا بِلَازِمِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَصْدُ وَالْخُمُودُ فَكَانَ حَصِيداً وَصْفًا فِي الْمَعْنَى لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي جَعَلْناهُمْ، فَالْحَصِيدُ هُنَا وَصْفٌ لَيْسَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْجَامِدِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق: 9] ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى حَصِيداً مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ إِذْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِحَصِيدِ زَرْعٍ بَلْ أُثْبِتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مَحْصُودُونَ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً مِثْلَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خامِدِينَ الَّذِي هُوَ اسْتِعَارَةٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَمَبْنَى الِاسْتِعَارَةِ عَلَى تَنَاسِي التَّشْبِيهِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ مِنْهُمَا وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا دَعَاهُمَا إِلَى ارْتِكَابِ هَذَا التَّكَلُّفِ. وَانْتَصَبَ حَصِيداً خامِدِينَ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ مُكَرَّرٌ لِفِعْلِ الْجَعْلِ كَمَا يُخْبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِخَبَرَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَفْعُولَيْ (جَعَلَ) أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ وَلَيْسَ ثَانِيهُمَا وَصْفًا لِأَوَّلِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهر.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 إلى 17]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 16 إِلَى 17] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) كثير فِي الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِإِتْقَانِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حِكْمَةً فِي خَلْقِ الْمَخْلُوقَات وَخلق نظمهما وَسُنَنِهَا وَفِطَرِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ أَحْوَالُهَا وَآثَارُهَا وَعَلَاقَةُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَنَاسِبَةً مُجَارِيَةً لِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: 85] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ كَيْفِيَّةَ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لِكُلِّ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْوَاعِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَكَثُرَ أَنْ يُنَبِّهَ الْقُرْآنُ الْعُقُولَ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَت الْمُنَاسبَة بَيْنَ خَلْقِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَبَيْنَ جَزَاءِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي أَقَامَتْهُ الشَّرَائِعُ لَهُمْ فِي مُخْتَلَفِ أَجْيَالِهِمْ وَعُصُورِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ إِلَى أَنْ عَمَّتْهُمُ الشَّرِيعَةُ الْعَامَّةُ الْخَاتِمَةُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ تَكْوِينَ حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ تَلْقَى فِيهَا النُّفُوسُ جَزَاءَ مَا قَدَّمَتْهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ جَزَاءً وِفَاقًا. فَلِذَلِكَ كَثُرَ أَنْ تُعَقَّبَ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَا فِي الْخَلْقِ مِنَ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُذَكِّرُ الْجَزَاءَ وَالْحِسَابَ، وَالْعَكْسُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ [الْمُؤْمِنِينَ: 115] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ آخِرِ [الْحِجْرِ: 85] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ فِي سُورَةِ [ص: 26- 28] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ فِي سُورَةِ [الدُّخَانِ: 37- 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ [الْأَحْقَافِ: 3] إِلَى غير هَذِه من الْآيَاتِ. فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ عُقِّبَ بِهَا ذِكْرُ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِيقَاظُ الْعُقُولِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ دَقَائِقِ الْمُنَاسَبَاتِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا بِهِ قِوَامَهُ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْعَوَالِمِ ظَرْفِهَا وَمَظْرُوفِهَا، اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ لَا تَتَخَلَّفُ فِي تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِيمَا يَأْتِيهِ جِنْسُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا مَا لَاحَ لَهُمْ تَخَلُّفُ سَبَبٍ عَنْ سَبَبِهِ أَيْقَنُوا أَنَّهُ تَخَلُّفٌ مُؤَقّت فَإِذا علمهمْ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ شَرَائِعِهِ بِأَنَّهُ ادَّخَرَ الْجَزَاءَ الْكَامِلَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ آمَنُوا بِهِ، وَإِذَا عَلَّمَهُمْ أَنهم لَا يفوتون ذَلِكَ بِالْمَوْتِ بَلْ إِنَّ لَهُمْ حَيَاةً آخِرَةً وَأَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْقَنُوا بهَا، وَإِذا علمهمْ أَنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَ لَهُمْ بَعْضَ الْجَزَاءِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْقَنُوا بِهِ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَعْقِيبُ ذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْبَعْثِ وَإِهْلَاكِ بَعْضِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، أَوْ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

وَحَسْبُكَ تَعْقِيبُ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْآيَاتُ خِتَامُ سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 190- 191] . وَلِأَجْلِ هَذَا اطَّرَدَ أَوْ كَادَ أَنْ يَطَّرِدَ ذِكْرُ لَفْظِ وَما بَيْنَهُما بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ مَا بَيْنَهُمَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ أشرفه هُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبْرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. فَلَيْسَ بِنَاءَ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى رَدِّ اعْتِقَادِ مُعْتَقَدِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى النَّفْيِ أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ بِحَيْثُ كَانُوا كَقَائِلِينَ بِكَوْنِ هَذَا الصُّنْعِ لَعِبًا. وَاللَّعِبُ: الْعَمَلُ أَوِ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ فَائِدَةٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ وَلَا تَحْصِيلُ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ. وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ إِرْضَاءُ النَّفْسِ حِينَ تَمِيلُ إِلَى الْعَبَثِ كَمَا قِيلَ: «لَا بُدَّ لِلْعَاقِلِ مِنْ حَمْقَةٍ يَعِيشُ بِهَا» . وَيُرَادِفُهُ الْعَبَثُ وَاللَّهْوُ، وَضِدُّهُ: الْجِدُّ. وَاللَّعِبُ مِنَ الْبَاطِلِ إِذْ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ حِكْمَةٌ فَضِدُّهُ الْحَقُّ أَيْضًا. وَانْتَصَبَ لاعِبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقْنَا وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهَا. وَجُمْلَةُ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ تَقْرِيرًا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَتَعْلِيلًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَعِبًا، أَيْ عَبَثًا بِأَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَوْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّنَازُلِ لَوْ أَرَدْنَا اللَّهْوَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 18]

لَكَانَ مَا يَلْهُو بِهِ حَاصِلًا فِي أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ مِنَ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهَا أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ سُكَّانَهَا عِبَادًا لَهُ مُخْلِصِينَ، فَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهَا بَاسِمِ الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ وَهُوَ لَدُنْ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ لَدُنَّا، أَيْ غَيْرَ الْعَوَالِمِ الْمُخْتَصَّةِ بِكُمْ بَلْ لَكَانَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِنَا إِذْ هُوَ عَالَمُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. فَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ مِنْ لَدُنْ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَإِضَافَةُ لَدُنْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دَلَالَةُ عَلَى الرِّفْعَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فِي سُورَةِ [الْقَصَصِ: 57] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً فِي سُورَة [آلِ عِمْرَانَ: 8] ، أَيْ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نتَّخذ لهوا لما كَانَ اتِّخَاذُهُ فِي عَالَمِ شَهَادَتِكُمْ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِاللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ شَأْنَ مَنْ يَتَّخِذُ شَيْئًا لِلتَّفَكُّهِ بِهِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ وَلَا يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُتَعَارَفِ عُقُولِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَوَالِمَ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ إِنْ جَعَلْتَ (إِنْ) شَرْطِيَّةً فَارْتِبَاطُهَا بِالَّتِي قَبْلَهَا ارْتِبَاطُ الشَّرْطِ بِجَزَائِهِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ جَوَابُ (لَوْ) وَهُوَ جُمْلَةُ لَاتَّخَذْناهُ فَيَكُونُ تَكْرِيرًا لِلتَّلَازُمِ وَإِنْ جَعَلْتَ (إِنْ) حَرْفَ نَفْيٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِتَقْرِيرِ الِامْتِنَاعِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَوْ) ، أَيْ مَا كُنَّا فاعلين لهوا. [18] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 18] بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ وَارْتِقَاءٍ، أَيْ بَلْ نَحْنُ نَعْمِدُ إِلَى بَاطِلِكُمْ فَنَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةً لِلْبَاطِلِ بَلْهَ أَنْ نَعْمَلَ عَمَلًا هُوَ بَاطِلٌ وَلَعِبٌ.

وَالْقَذْفُ، حَقِيقَتُهُ: رَمْيُ جِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِيرَادِ مَا يُزِيلُ وَيُبْطِلُ الشَّيْءَ مِنْ دَلِيلٍ أَوْ زَجْرٍ أَوْ إِعْدَامٍ أَوْ تَكْوِينِ مَا يَغْلِبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِثْلَ رَمْيِ الْجِسْمِ الْمُبْطَلِ بِشَيْءٍ يَأْتِي عَلَيْهِ لِيُتْلِفَهُ أَوْ يُشَتِّتَهُ، فَاللَّهُ يُبْطِلُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ بُطْلَانَ الْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَبِأَنْ أَوْجَدَ فِي عُقُولهمْ إدراكا للتمييز بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَبِأَنْ يُسَلِّطَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ لِاسْتِئْصَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَبِأَنْ يَخْلُقَ مَخْلُوقَاتٍ يُسَخِّرُهَا لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [12] . وَالدَّمْغُ: كَسْرُ الْجِسْمِ الصَّلْبِ الْأَجْوَفِ، وَهُوَ هُنَا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْقَذْفِ لِإِيرَادِ مَا يُبْطِلُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَيْضًا حَيْثُ اسْتُعِيرَ الدَّمْغُ لِمَحْقِ الْبَاطِلِ وَإِزَالَتِهِ كَمَا يُزِيلُ الْقَذْفُ الْجِسْمَ الْمَقْذُوفَ، فَالِاسْتِعَارَتَانِ مِنِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسَيْنِ لِلْمَعْقُولَيْنِ. وَدَلَّ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى سُرْعَةِ مَحْقِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ عِنْدَ وُرُودِهِ لِأَنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً فَهُوَ سَرِيعُ الْمَفْعُولِ إِذَا وَرَدَ وَوَضُحَ، قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [17] . وَالزَّاهِقُ: الْمُنْفَلِتُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَالْهَالِكُ، وَفِعْلُهُ كَسَمِعَ وَضَرَبَ، وَالْمَصْدَرُ الزُّهُوقُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [55] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فِي سُورَة الْإِسْرَاء [81] . وَعند مَا انْتَهَتْ مُقَارَعَتُهُمْ بِالْحُجَجِ السَّاطِعَةِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 3- 5] . وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 إلى 20]

وَالْعِبَرِ. خُتِمَ الْكَلَامُ بِشَتْمِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ، أَيْ مِمَّا تَصِفُونَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ. وَالْوَيْلُ: كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِسُوءٍ. وَفِيهَا فِي الْقُرْآنِ تَوْجِيهٌ لِأَنَّ الْوَيْلَ اسْم للعذاب. [19، 20] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 19 إِلَى 20] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الْأَنْبِيَاء: 17] مُبَيِّنَةٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض عباد لله تَعَالَى مَخْلُوقُونَ لِقَبُولِ تَكْلِيفِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ تَخَلُّصٌ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِالْحُجَّةِ الدامغة بعد الْإِفَاضَة فِي إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ. فَاللَّامُ فِي وَلَهُ لِلْمِلْكِ، وَالْمَجْرُورُ بِاللَّامِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. ومَنْ فِي السَّماواتِ مُبْتَدَأٌ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ. ومَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ وَغُلِّبَ اسْمُ الْمَوْصُولِ الْغَالِبُ فِي الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ عِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ حَالًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَنْ عِنْدَهُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ خَبرا. وَمَا صدق (مَنْ) جَمَاعَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَكْبِرُونَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَمَنْ عِنْدَهُ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي الْعَوَالِمِ الْمُفَضَّلَةِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِالَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالِاسْتِحْسَارُ: مَصْدَرٌ كَالْحُسُورِ وَهُوَ التَّعَبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَالِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِيخَارِ، أَيْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الِاسْتِحْسَارُ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ عَمَلُهُمُ الْعَظِيمُ، أَيْ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَا لَوْ قَامَ بِعَمَلِهِمْ غَيْرُهُمْ لَاسْتَحْسَرَ ثِقَلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَعُبِّرَ بِالِاسْتِحْسَارِ هُنَا الَّذِي هُوَ الْحُسُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْعَمَلِ الشَّدِيدِ، وَنَفْيُهُ مِنْ قَبِيلِ نَفْيِ الْمُقَيَّدِ بِقَيْدٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَمْثَالِهِ. فَلَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُسُورِ الْقَوِيِّ أَنَّهُمْ قَدْ يَحْسُرُونَ حُسُورًا ضَعِيفًا. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهِلُ الْمَعَانِي بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْمَنْفِيِّ. وَجُمْلَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَتْعَبُ مِنْ عَمَلٍ لَا يَتْرُكُهُ فَهُوَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْيَا مِنْهُ. وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ: ظَرْفَانِ. وَالْأَصْلُ فِي الظَّرْفِ أَنْ يَسْتَوْعِبَهُ الْوَاقِعُ فِيهِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَتَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ بِأَصْوَاتٍ مَخْلُوقَةٍ فِيهِمْ لَا يُعَطِّلُهَا تَبْلِيغُ الْوَحْيِ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَالْفُتُورُ: الِانْقِطَاعُ عَن الْفِعْل.

[سورة الأنبياء (21) : آية 21]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 21] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) (أَمْ) هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ عَطْفَ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجِّيَّةِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ إِلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، انْتِقَالًا مِنْ بَقِيَّةِ الْغَرَضِ السَّابِقِ الَّذِي تَهَيَّأَ السَّامِعُ لِلِانْتِقَالِ مِنْهُ بِمُقْتَضَى التَّخَلُّصِ، الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 19] كَمَا تَقَدَّمَ، إِلَى التَّمَحُّضِ لِغَرَضِ إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَإِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 20] وَجُمْلَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: 23] . وَلَيْسَ إِضْرَابُ الِانْتِقَالِ بِمُقْتَضٍ عَدَمَ الرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ. وَ (أَمْ) تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْكَلَامَ بَعْدَهَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إنكاري، أنكر عَلَيْهِ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً. وَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُتَبَادَرِينَ مِنَ الْمَقَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الضَّمَائِرِ. وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ جَعْلُهُ الْتِفَاتًا عَنْ ضَمِيرِ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الْأَنْبِيَاء: 18] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاسِقًا مَعَ ضَمَائِرِ بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ [الْأَنْبِيَاء: 5] وَمَا بَعْدَهُ. وَوَصْفُ الْآلِهَةِ بِأَنَّهَا مِنَ الْأَرْضِ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارٌ لِأَفَنِ رَأْيِهِمْ، أَيْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ عَالَمِ الْأَرْضِ أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ خَشَبٍ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ فِي [الصَّافَّاتِ: 95] . وَذِكْرُ الْأَرْضِ هُنَا مُقَابَلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 19] لِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَجُمْلَةُ هُمْ يُنْشِرُونَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ آلِهَةً.

[سورة الأنبياء (21) : آية 22]

وَاقْتِرَانُهَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ أَنْ لَا يَنْشُرَ غَيْرَ تِلْكَ الْآلِهَةِ. وَالْمُرَادُ: إِنْشَارُ الْأَمْوَاتِ، أَيْ بَعْثُهُمْ. وَهَذَا مَسُوقٌ لِلتَّهَكُّمِ وَإِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ بطريقة سوق الْمَعْلُوم مساق غَيْرِهِ الْمُسَمّى بتجاهل الْعَارِف، إِذْ أَبْرَزَ تَكْذِيبَهُمْ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ تَكْذِيبِهِمِ اسْتِطَاعَةَ اللَّهِ ذَلِكَ وَعَجْزَهُ عَنْهُ، أَيْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ شُرَكَاؤُهُمْ فَكَانَ وُقُوعُ الْبَعْثِ أَمْرٌ لَا يَنْبَغِي النِّزَاعُ فِيهِ فَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْمُنَازِعُونَ فَإِنَّمَا يُنَازِعُونَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَيَرُومُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ فَأُنْكِرَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّسْبَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُفْعَمَةِ بِالنُّكَتِ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَدَّعُوا لِآلِهَتِهِمْ أَنَّهَا تَبْعَثُ الْمَوْتَى وَلَا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ وَلَكِنْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ إِبْدَاعًا فِي الْإِلْزَامِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: 21] فِي ذِكْرِ الْآلِهَةِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. [22] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 22] لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً [الْأَنْبِيَاء: 21] وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَضَمِيرُ الْمُثَنَّى عَائِدٌ إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: 19] مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: 19] أَيْ لَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ أُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا مِلْكًا لِلَّهِ وَعِبَادًا لَهُ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَاخْتَلَّ نِظَامَهُمَا الَّذِي خُلِقَتَا بِهِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى بُطْلَانِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ آلِهَةً شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ الْخَلْقِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

أَقَامَ فِي الْأَرْضِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» وَذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْمُضْطَرِبِ الَّذِي وَضعه لَهُم أيمة الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ وَتَرْوِيجِ ضَلَالِهِمْ عَلَى عُقُولِ الدَّهْمَاءِ. وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وُجُودِ آلِهَةٍ غَيْرَ اللَّهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أَن الله هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فِي سُورَةِ [الزُّمَرِ: 38] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [9] . فَهِيَ مُسُوقَةٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَا لِإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَا لِإِثْبَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ اعْتِقَادَهُمُ الْبَاطِلَ لِكَشْفِ خَطَئِهِمْ وَإِعْلَانِ بَاطِلِهِمْ. وَالْفَسَادُ: هُوَ اخْتِلَالُ النِّظَامِ وَانْتِفَاءُ النَّفْعِ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَفَسَادُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ أَنْ تَصِيرَا غَيْرَ صَالِحَتَيْنِ وَلَا مُنْتَسِقَتَيِ النِّظَامِ بِأَنْ يُبْطَلَ الِانْتِفَاع بِمَا فيهمَا. فَمِنْ صَلَاحِ السَّمَاءِ نِظَامُ كَوَاكِبِهَا، وَانْضِبَاطُ مَوَاقِيتِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، وَنِظَامُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَمِنْ صَلَاحِ الْأَرْضِ مَهْدُهَا لِلسَّيْرِ، وَإِنْبَاتُهَا الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ، وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَرْعَى وَالْحِجَارَةِ وَالْمَعَادِنِ وَالْأَخْشَابِ، وَفَسَادُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ بِبُطْلَانِ نِظَامِهِ الصَّالِحِ. وَوَجْهُ انْتِظَامِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَتِ الْآلِهَةُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ متصفا بِصِفَات الإلهية الْمَعْرُوفَةِ آثَارُهَا، وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ثُمَّ إِنَّ التَّعَدُّدَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَاتِ وَالْقَدَرِ لِأَنَّ الْآلِهَةَ لَوِ اسْتَوَتْ فِي تعلقات إراداتها ذَلِكَ لَكَانَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ عَبَثًا لِلِاسْتِغْنَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ

كَائِنٌ فَإِنْ كَانَ حُدُوثُهُ بِإِرَادَةِ مُتَعَدِّدِينَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ عَلَى مُؤَثِّرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ عِلَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ. فَلَا جَرَمَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ تَصَرُّفَاتِهَا اخْتِلَافًا بِالْأَنْوَاعِ، أَوْ بِالْأَحْوَالِ، أَوْ بِالْبِقَاعِ، فَالْإِلَهُ الَّذِي لَا تَنْفُذُ إِرَادَتُهُ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ بِإِلَهٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي أَوْجَدَهَا غَيْرُهُ. وَلَا جَرَمَ أَنْ تَخْتَلِفَ مُتَعَلِّقَاتُ إِرَادَاتِ الْآلِهَةِ بِاخْتِلَافِ مَصَالِحِ رَعَايَاهُمْ أَوْ مَوَاطِنِهِمْ أَوْ أَحْوَالُ تَصَرُّفَاتِهِمْ فَكَلٌّ يَغَارُ عَلَى مَا فِي سُلْطَانِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ التَّعَدُّدَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الْإِرَادَاتِ وَحُدُوثَ الْخِلَافِ. وَلَمَّا كَانَ التَّمَاثُلُ فِي حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي قُوَّةِ قُدْرَةِ كُلِّ إِلَهٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ مُقْتَضِيًا تَمَامَ الْمَقْدِرَةِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْقَهْرِ لِلضِّدِّ بِأَنْ لَا يَصُدَّهُ شَيْءٌ عَنِ اسْتِئْصَالِ ضِدِّهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِغَزْوِ ضِدِّهِ وَإِفْسَادِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَوَجَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى غَزْوِ ضِدِّهِ أَنْ يُهْلِكَ كُلَّ مَا هُوَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ فَلَا يَزَالُ يَفْسُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ كُلِّ خِلَافٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [91] . فَلَا جَرَمَ دَلَّتْ مُشَاهَدَةُ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض على انتظامهما فِي مُتَعَدِّدِ الْعُصُورِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى أَنَّ إِلَهَهَا وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ. فَأَمَّا لَوْ فُرِضَ التَّفَاوُت فِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي رُجْحَانَ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ أَدْخَلُ فِي اقْتِضَاءِ الْفَسَادِ إِذْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ لِلْأَقْوَى مِنْهُمْ فَيَجْعَلُ الْكل تَحت كلا كُله وَيُفْسِدُ عَلَى كُلِّ ضَعِيفٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ فِي حَوْزَتِهِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ أَسْرَعَ.

وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ- بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِإِبْطَالِ تَعَدُّدٍ خَاصٍّ، وَهُوَ التَّعَدُّدُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْيُونَانِ الزَّاعِمِينَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَبَائِلِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَكَذَا مَا اعْتَقَدَهُ الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْفُرْسِ الْمُثْبِتِينَ إِلَهَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلْخَيْرِ وَالْآخِرِ لِلشَّرِّ أَوْ أَحَدِهِمَا لِلنُّورِ وَالْآخِرِ لِلظُّلْمَةِ- هُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ. وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا نَحَاهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ مِنْ أَصْلِهِ بِالنِّسْبَةِ لِإِيجَادِ الْعَالَمِ وَسَمُّوهُ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ كَمَا قَالَ سعد الدَّين التفتازانيّ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ» . وَقَالَ فِي «الْمَقَاصِدِ» : «وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ لَا يَخْفَى» . وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إِيجَادِ الْعَالَمِ يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنَ الْحَكِيمَيْنِ أَوِ الْحُكَمَاءِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا بِقِيَاسِ الْآلِهَةِ عَلَى الْمُلُوكِ فِي الْعُرْفِ وَهُوَ قِيَاسٌ إِقْنَاعِيٌّ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ أَنَّ جَانِبَ الدَّلَالَةِ فِيهِ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ هُوَ فَرْضُ أَنْ يَتَمَانَعَ الْآلِهَةُ، أَيْ يَمْنَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ، وَالْخَوْضُ فِيهِ مَقَامُنَا غَنِيٌّ عَنْهُ. وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ هُنَا هُوَ لُزُومُ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ خَارِجَةٍ عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ حَتَّى يَصِيرَ الدَّلِيلُ بِهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [91] . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْرِيرِهِ طَرِيقَتَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ «الْمَوَاقِفِ» . الْأُولَى: طَرِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِلُزُومِ التَّمَانُعِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الْقُدْرَةِ،

فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ إرادتاهما وَحِينَئِذٍ فالفعل إِنْ كَانَ بِإِرَادَتَيْهِمَا لَزِمَ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ تَامَّيْنِ عَلَى مُؤَثَّرٍ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ- وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْعِلَّتَيْنِ التَّامَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ بِإِحْدَى الْإِرَادَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى لَزِمَ تَرْجِيحُ إِحْدَاهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ إِرَادَتَاهُمَا فَيَلْزَمُ التَّمَانُعُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَمْنَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْقُدْرَةِ. وَيَرُدُّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَاتِهِ الطَّرِيقَةِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَسَاوِي الْإِلَهَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى قُدْرَةً مِنَ الْآخَرِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَجْزَ مُطْلَقًا مُنَافٍ لِلْأُلُوهِيَّةِ بَدَاهَةً. قَالَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» . الْأَمْرُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْإِلَهَانِ عَلَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِلَّا الْأَمْرَ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ الْآخَرُ فَلَا يَلْزَمُ عَجْزُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْإِلَهَانِ عَلَى إِيجَادِ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالِاسْتِقْلَالِ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ تَفْوِيضُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَفْعَلَ فَلَا يَلْزَمُ عَجْزُ الْمُفَوِّضِ لِأَنَّ عَدَمَ إِيجَادِ الْمَقْدُورِ لِمَانِعٍ أَرَادَهُ الْقَادِرُ لَا يُسَمَّى عَجْزًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَصَلَ مُرَادُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ بِنَفْسِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ فِي جَمِيعِهَا نَقْصًا فِي الْأُلُوهِيَّةِ لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ مِنْ شَأْنِهَا الْكَمَالُ فِي كُلِّ حَالٍ. إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَخْرِجُ الْبُرْهَانَ عَنْ حَدِّ الْإِقْنَاعِ. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: عول عَلَيْهَا التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ» وَهِيَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْإِلَهَيْنِ يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ حُصُولِ التَّمَانُعِ بَيْنَهُمَا، أَيْ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدُهُمَا

مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْمُتَعَدِّدِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الِاخْتِلَافُ فِي الْإِرَادَةِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْإِمْكَانُ لَازِمًا لِلتَّعَدُّدِ فَإِنْ حَصَلَ التمانع بَينهمَا إِذْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِوُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَتَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ الْآخَرِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْصُلَ الْمُرَادَانِ مَعًا لِلُزُومِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ، وَإِنْ حَصَلَ أَحَدُ الْمُرَادَيْنِ لَزِمَ عَجْزُ صَاحِبِ الْمُرَادِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلُ، وَالْعَجْزُ يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ وَهُوَ مُحَالٌ، فَاجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ أَوْ حُدُوثُ الْإِلَهِ لَازِمٌ لَازم لَازم لِلتَّعَدُّدِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَكُونُ الْمَلْزُومُ الْأَوَّلُ محالا، قَالَ التفتازانيّ: وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْإِيرَادَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى بُرْهَانِ التَّمَانُعِ. وَأَقُولُ يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ إِمْكَانَ التَّمَانُعِ لَا يُوجِبُ نُهُوضَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ بِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْإِلَهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْإِرَادَةِ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ تَفَاوُتِ الْعِلْمِ فِي الِانْكِشَافِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَقِلُّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحُكَمَاءِ. وَالْإِلَهَانِ نَفْرِضُهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَعِلْمُهُمَا وَحِكْمَتُهُمَا يَقْتَضِيَانِ انْكِشَافًا مُتَمَاثِلًا فَلَا يُرِيدُ أَحَدُهُمَا إِلَّا مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَمَانُعٌ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ فِي الْمَقَاصِدِ عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ اللُّزُومِ الْعَادِيِّ. بَقِيَ النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُمَا فَذَلِكَ انْتِقَالٌ إِلَى مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى. وَإِنَّ احْتِمَالَ اتِّفَاقِ الْإِلَهَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَشْيَاءِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِلَهَيْنِ حَكِيمَانِ لَا تَخْتَلِفُ إِرَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا صَحِيحًا لَكِنْ يَصِيرُ بِهِ تَعَدُّدُ الْإِلَهِ عَبَثًا لِأَنَّ تَعَدُّدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا كَانَ إِلَّا لِطَلَبِ ظُهُورِ الصَّوَابِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، فَإِذَا كَانَا لَا يَخْتَلِفَانِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَدُّدِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بِنَاءَ صِفَةِ أَعْلَى الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.

ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ» فَحَقَّقَ أَنَّهَا دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَقَالَ الْمُحَقَّقُ الْخَيَالِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِما، وَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ التَّأْثِيرِ، أَيْ لَو كَانَ مُؤثر فِيهِمَا، أَيِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ اللَّهِ تَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً. وَقَدْ بَسَطَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْخَيَالِيِّ» وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِثْبَاتِ كَلَامِهِ هُنَا. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ لَا مِنَ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْحُكْمِ. وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى بِاعْتِبَارِ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمُفَرَّغِ وَفِي الْمَنْصُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ قَبْلَ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوبِ وَلَا الْمُفَرَّغِ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ إِنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى غَيْرٍ وَالْمُسْتَثْنَى يُعْرَبُ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِنْشَاءُ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ وُجُودِ الشَّرِيكِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ. وَوَصْفُهُ هُنَا بِرَبِّ الْعَرْشِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ بَلْ هُوَ خَالِقُ أَعْظَمِ السَّمَاوَاتِ وَحَاوِيَهَا وَهُوَ الْعَرْشُ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِإِلْزَامِهِمْ لَازِمَ قَوْلِهِمْ بِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ أَنْ يَلْزَمَ انْتِفَاءَ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 23]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 23] لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مُكَمِّلَةٌ لِمَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 19- 20] كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: 21] إِلَخْ.. فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ هُمْ مَعَ قُرْبِهِمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَفْعَلُ، أَيْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ قُرْبُهُمْ إِلَى حَدِّ الْإِدْلَالِ عَلَيْهِ وَانَتِصَابِهِمْ لِتَعَقُّبِ أَفْعَالِهِ. فَلَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ مُشْعِرًا بِفَاعِلٍ حُذِفَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَسْأَلُ سَائِلٌ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّا يَفْعَلُ. وَكَانَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُمُ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ هُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، صَحَّ كَوْنُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَالًا مِنْ مَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 19] ، عَلَى أَنَّ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَمْهِيدٌ لجملة وَهُمْ يُسْئَلُونَ. عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى جملَة وَهُمْ يُسْئَلُونَ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ عَنْ تنزيهه تَعَالَى على الشُّرَكَاءِ فَكَانَ انْتِقَالًا بَدِيعًا بِالرُّجُوعِ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْمُقَرَّبِينَ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَعَ قُرْبِهِمْ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ يُحَاسِبُهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَهُمْ يَخَافُونَ التَّقْصِيرَ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يَسْتَحْسِرُونَ وَلَا يَفْتُرُونَ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ لَيْسَ ضمير وَهُمْ يُسْئَلُونَ بِرَاجِعٍ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضمير يَصِفُونَ [الْأَنْبِيَاء: 22] لِأَنَّ أُولَئِكَ لَا جَدْوَى لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَا بِرَاجِعٍ إِلَى آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: 21] لِعَدَمِ صِحَّةِ سُؤَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَا دَعَانَا إِلَى اعْتِبَارِ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ حَالًا مِنْ مَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 19] .

[سورة الأنبياء (21) : آية 24]

وَالسُّؤَالُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ، وَطَلَبِ بَيَانِ سَبَبِ الْفِعْلِ، وَإِبْدَاءِ الْمَعْذِرَةِ عَنْ فِعْلِ بَعْضِ مَا يُفْعَلُ، وَتَخَلُّصٍ مِنْ مَلَامٍ أَوْ عِتَابٍ عَلَى مَا يُفْعَلُ. وَهُوَ مِثْلُ السُّؤَالِ فِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ» . فَكَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَظِنَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا يُفْعَلُ وَمَا لَا يفعل وبمظنة التَّعَرُّض لِلْخَطَأِ فِي بَعْضِ مَا يُفْعَلُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيَ سُؤَالِ الِاسْتِشَارَةِ أَوْ تَطَلُّبِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي [الْبَقَرَةِ: 30] ، وَلَا سُؤَالَ الدُّعَاءِ، وَلَا سُؤَالَ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِثْلَ أَسْئِلَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ الْحِكَمِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ فِي النُّظُمِ الْكَوْنِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِنْبَاطٌ وَتَتَبُّعٌ وَلَيْسَ مُبَاشَرَةً بِسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا لِتَطُلُّبِ مُخَلِّصٍ مِنْ مَلَامٍ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ الْمُقَرَّبِينَ الَّتِي زَعَمَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، بِطَرِيقَةِ انْتِفَاءِ خَاصِّيَّةِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَنْهُمْ إِذْ هُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ لَا يُسْأَلَ. وَتُسْتَخْرَجُ مِنْ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَرَيَانِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا مَجَالَ فِيهَا لِانْتِقَادِ مُنْتَقِدٍ إِذَا أَتْقَنَ النَّاظِرُ التَّدَبُّرَ فِيهَا أَوْ كُشِفَ لَهُ عَمَّا خَفِي مِنْهَا. [24] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 24] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) جُمْلَةُ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: 21] . أُكِّدَ ذَلِكَ الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ بِمِثْلِهِ اسْتِعْظَامًا

لِفَظَاعَتِهِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ كَمَا بُنِيَ عَلَى نَظِيرِهِ السَّابِقِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَيْهِ دَلِيلُ اسْتِحَالَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَهَذَا بُنِيَ عَلَيْهِ دَلِيلُ بُطْلَانٍ بِشَهَادَةِ الشَّرَائِع سابقها وَلَا حَقّهَا، فَلَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَيْ، هَاتُوا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنْ شَوَاهِدِ الشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [174] . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُهُ وَإِعْلَانُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَاطَبُ الْمُغَالَطَةَ فِيهِ وَلَا فِي مَضْمُونِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [11] ، أَيْ أَنَّ كُتُبَ الذِّكْرِ أَيِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ فِي مُتَنَاوَلِ النَّاسِ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِي أَحَدٍ مِنْهَا أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً. وَإِضَافَةُ ذِكْرُ إِلَى مَنْ مَعِيَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَهُمُ الْمُذَكَّرُونَ- بِفَتْحِ الْكَافِ-. وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ مَعِيَ مَعِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ، أَيْ مَنْ مَعِيَ من الْمُسلمين، فَمَا صدق (مِنَ) الْمَوْصُولَةِ الْأُمَمُ، أَيْ هَذَا ذِكْرُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ مَعِي، أَيِ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ لِأَجْلِكُمْ. فَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 10] . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ الْقُرْآنُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فَمَعْنَاهُ ذِكْرُ الْأُمَمِ الَّذِينَ هُمْ قَبْلِيَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ الْمَعْرُوفَةِ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَكِتَابُ لُقْمَانَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ فِي [آلِ عِمْرَانَ: 18] .

[سورة الأنبياء (21) : آية 25]

وَأُضْرِبَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ مُضَيَّعٌ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ لَا تَرْجُ مِنْهُمُ اعْتِرَافًا بِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا مِنْ دَلِيلِ شَهَادَةِ الشَّرَائِعِ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَلَا يَكْتَسِبُونَ عِلْمَهُ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أَنَّهُمْ لَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ مُعْرِضُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ أَنْتَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالنَّظَرِ فِيهَا. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هَذَا الْحُكْمُ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لَا لِجَمِيعِهِمْ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَجْحَدُونَهُ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ تَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ. وَتِلْكَ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ هُبُوبِ نَسَمَاتِ التَّوْفِيقِ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا عَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ وَجَدَ اللَّوْحَ عِنْدَ أُخْتِهِ مَكْتُوبًا فِيهِ سُورَةُ طه فَأقبل على قِرَاءَته بشراشره فَمَا أتمهَا حَتَّى عَزَمَ على الْإِسْلَام. [25] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 25] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) لَمَّا أَظْهَرَ لِرَسُولِهِ أَنَّ الْمُعَانِدِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّيهِ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأْيِيدِ مَقَالِهِ الَّذِي لَقَّنَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الْأَنْبِيَاء: 24] ، فأفاده تَعْمِيمَهُ فِي شَرَائِعِ سَائِرِ الرُّسُلِ سَوَاءٌ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَمَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ كِتَابُهُ بَاقِيًا مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَمَنْ لَمْ يَبْقَ كِتَابُهُ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 إلى 29]

وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيِ التَّوْحِيدِ وَإِنْ أَفَادَتِ التَّقْرِيرَ تَبَعًا لِفَائِدَتِهَا الْمَقْصُودَةِ. وَفِيهَا إِظْهَارٌ لِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِزَالَةِ الشِّرْكِ مِنْ نُفُوسِ الْبَشَرِ وَقَطْعِ دَابِرِهِ إِصْلَاحًا لِعُقُولِهِمْ بِأَنْ يُزَالَ مِنْهَا أَفْظَعُ خَطَلٍ وَأَسْخَفُ رَأْيٍ، وَلَمْ تَقْطَعْ دَابِرَ الشِّرْكِ شَرِيعَةٌ كَمَا قَطَعَهُ الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَمْ يَحْدُثِ الْإِشْرَاكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ مَزِيدٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ. وَفَرَّعَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَتِهِ عَلَى الْإِعْلَانِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّعُ فِي مَوضِع الْحَال. [26- 29] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 26 إِلَى 29] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) عَطْفُ قِصَّةٍ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ بَيَانِ بَاطِلِهِمْ فِيمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَاطِلٍ آخَرَ وَهُوَ

اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا. وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ سُكَّانِ ضَوَاحِي مَكَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَشَارَكَهُمْ فِي هَذَا الزَّعْمِ بَعْضٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [57] . وَالْوَلَدُ اسْمُ جَمْعٍ مُفْرَدُهُ مِثْلُهُ، أَيِ اتَّخَذَ أَوْلَادًا، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أَرَادُوا أَنَّهُ اتَّخَذَ بَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: 57] . وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ نَقْصًا فِي جَانِبٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَعْقَبَ مَقَالَتَهُمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَهُ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى إِكْمَالِ النَّقْصِ الْعَارِضِ بِفَقْدِ الْوَلَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [68] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] أَنَّهُمْ زَعَمُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أُعْقِبَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ دُونَ ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ، أَيْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ الصَّالِحِينَ. وَالسَّبْقُ، حَقِيقَتُهُ: التَّقَدُّمُ فِي السَّيْرِ عَلَى سَائِرٍ آخَرَ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ مَجَازًا عَلَى التَّقَدُّمِ فِي كُلِّ عَمَلٍ. وَمِنْهُ السَّبْقُ فِي الْقَوْلِ، أَيِ التَّكَلُّمُ قَبْلَ الْغَيْرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَفْيُهُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، أَيْ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] فَإِنَّ التَّقَدُّمَ فِي مَعْنَى السَّبْقِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَبْلَ قَوْلِهِ، أَيْ لَا يَقُولُونَ إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُم أَن يَقُولُونَ. وَهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ

الرَّدُّ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ. وَتَقْدِيمُ بِأَمْرِهِ عَلَى يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ كَذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ لِبَعْضِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا كَفَرُوا بِسَبَبِهِ إِذْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ ارْتَضى لِأَنَّهُ عَائِدُ صِلَةٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِمَنِ ارْتَضَاهُ، أَيِ ارْتَضَى الشَّفَاعَةَ لَهُ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ أَوِ اسْتِجَابَةً لِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [5] . وَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ بِالْقَوْلِ. ثُمَّ زَادَ تَعْظِيمَهُمْ رَبُّهُمْ تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، أَيْ هُمْ يُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَ مَنْ يَخَافُ بِطَشْتَهُ وَيَحْذَرُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ خَشْيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. ومُشْفِقُونَ خَبَرٌ، أَيْ وَهُمْ لِأَجْلِ خَشْيَتِهِ، أَيْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 30]

وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَالْحَذِرُ مِنْهُ. وَالشَّرْطُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ إِلَخْ ... شَرْطٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَهُ لِأَجْلِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ شِدَّةِ خَشْيَتِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ ادّعوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا لَهُمْ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُمْ ادعوا مَا يُوجِبُ لِقَائِلِهِ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى حَدِّ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وَعُدِلَ عَنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ إِلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِيجَازِ. وَأُدْخِلَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيقِ بِنِسْبَتِهِ الشَّرْطَ لِأَدَاتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَدَارَةِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ بِمَنْ ثَبُتَ لَهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِدَعْوَى عَامَّةِ النَّصَارَى إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْرِيضُ فَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ جَهَنَّمُ يَجْزِي الْمُثْبِتِينَ لِلَّهِ شَرِيكًا. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ. [30] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 30] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ- بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَلَمْ يَرَ بِدُونِ وَاوِ عَطْفٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَلَمْ تَثْبُتِ الْوَاوُ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَالْتَزَمَ قُرَّاءُ مَكَّةَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْوَاوِ إِلَى أَنْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأُهْمِلَتْ غَيْرُ قِرَاءَتِهِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ إِنْكَارِيٌّ، تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى إِهْمَالِهِمْ لِلنَّظَرِ. وَالرُّؤْيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً. وَالِاسْتِفْهَامُ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَى كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِ مَا يُنْقِذُ عِلْمُهُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ حَقِيقٌ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنْكَارُ إِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي دَلَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ أَحَدٌ فِي الضَّلَالِ جَدِيرٌ أَيْضًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ بِالتَّقْرِيرِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ. وَالرَّتْقُ: الِاتِّصَالُ وَالتَّلَاصُقُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ. وَالْفَتْقُ: ضِدُّهُ، وَهُوَ الِانْفِصَالُ وَالتَّبَاعُدُ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنَّهُمَا رَتْقٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الصِّفَةِ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كانَتا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَا مَعًا رَتْقًا وَاحِدًا بِأَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ جِسْمًا مُلْتَئِمًا مُتَّصِلًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ سَمَاءٍ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا، وَالْأَرْضُ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا وَكَذَلِكَ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَفَتَقْناهُما. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ نَحْوَ: فَصَارَتَا فَتْقًا، لِأَنَّ الرَّتْقَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا أَشَدَّ تَمَكُّنٍ كَمَا قُلْنَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ فِي فَتْقِهِمَا، وَلِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى حَدَثَانِ الْفَتْقِ إِيمَاءً إِلَى حُدُوثِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَأَنْ لَيْسَ مِنْهَا أَزَلِيٌّ. وَالرَّتْقُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ تَنْشَأُ عَلَى مُحْتَمَلَاتِهَا مَعَانٍ فِي الْفَتْقِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ بَصْرِيَّةً فَالرَّتْقُ الْمُشَاهَدُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ،

وَالْفَتْقُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ حِينَ يَرَى الْمَطَرَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاء وَيرى الْبَرْق يلعج مِنْهَا وَالصَّوَاعِقَ تَسْقُطُ مِنْهَا فَذَلِكَ فَتْقُهَا، وَحِينَ يَرَى انْشِقَاقَ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ وَانْبِثَاقَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ دَالٌّ عَلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جُمِعَ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْ هُوَ عِبْرَةُ دَلَالَةٍ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَتَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [9] . وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ عِلْمِيَّةً احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ أَيْضًا إِنْكَارِيًّا مُتَوَجِّهًا إِلَى إِهْمَالِهِمُ التَّدَبُّرَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مَعَانٍ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُ الْعِلْمِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ حَقِيقَتَاهُمَا، أَيِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ. ثُمَّ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا وَاحِدًا، أَيْ كَانَتَا كُتْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْفَصَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [7] . وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّتْقُ وَالْفَتْقُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا ثُمَّ فَتَقَ اللَّهُ السَّمَاوَات وفتق الله الْأَرْضَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ

وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْآيَاتِ الَّتِي وَصَفَتْ بَدْءَ الْخَلْقِ وَمَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْشَأَهُمَا بَعْدَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بَعْدَ انْعِدَامِهِ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [الْإِسْرَاء: 99] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الْعَدَمُ وَبِالْفَتْقِ الْإِيجَادُ. وَإِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَاهِرٌ لِأَن الرتق والفتق بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ أَمْرُهُمَا عِنْدَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الظُّلْمَةُ وَبِالْفَتْقِ النُّورُ، فَالْمَوْجُودَاتُ وُجِدَتْ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهَا النُّورَ بِأَنْ أَوْجَدَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ نُورًا أَضَاءَ الْمَوْجُودَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ اتِّحَادُ الْمَوْجُودَاتِ حِينَ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ أَثِيرًا أَوْ عَمَاءَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ فِي عَمَاءَ» ، فَكَانَتْ جِنْسًا عَالِيًا مُتَّحِدًا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كُلِّيٌّ انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَبْعَاضًا وَجَعَلَ لِكُلِّ بَعْضٍ مُمَيِّزَاتٍ ذَاتِيَّةً فَصَيَّرَ كُلَّ مُتَمَيِّزٍ بِحَقِيقَةٍ جِنْسًا فَصَارَتْ أَجْنَاسًا. ثُمَّ خَلَقَ فِي الْأَجْنَاسِ مُمَيِّزَاتٍ بِالْعَوَارِضِ لِحَقَائِقِهَا فَصَارَتْ أَنْوَاعًا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَسْعَدُ بِطَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّمْيِيزِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ، وَبَعْضٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ صَاحِبُ «مِرْآةِ الْعَارِفِينَ» جَعَلَ الرَّتْقَ عَلَمًا عَلَى الْعُنْصُرِ الْأَعْظَمِ يَعْنِي الْجِسْمَ الْكُلَّ، وَالْجِسْمُ الْكُلُّ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَرْشِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَكِيمُ الصُّوفِيُّ لُطْفُ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيُّ صَاحِبُ «مَعَارِجِ النُّورِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ

الْحُسْنَى» الْمُتَوَفَّى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ الَّذِي دَخَلَ تُونُسَ عَامَ 1185 هـ فِي مُقَدِّمَاتِ كِتَابِهِ «مَعَارِجِ النُّورِ» وَفِي رِسَالَةٍ لَهُ سَمَّاهَا «رِسَالَةَ الْفَتْقِ وَالرَّتْقِ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعَانِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كل النَّاس وكل عِبْرَةٍ خَاصَّةٍ بِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ فَتَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ لِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ. وَهُوَ عِبْرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي دَقَائِقِهِ فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ. وَهِيَ تَكْوِينُ التَّنَاسُلِ وَتَكْوِينُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا مِنَ الرُّطُوبَةِ وَلَا يَعِيشُ إِلَّا مُلَابِسًا لَهَا فَإِذَا انْعَدَمَتْ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ فَقَدَ الْحَيَاةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْحُمَّى مُفْضِيًا إِلَى الْهُزَالِ ثُمَّ إِلَى الْمَوْتِ. وَجعل هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. ومِنَ الْماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ أَفَلا يُؤْمِنُونَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِيمَانِهِمُ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بوحدانية الله.

[سورة الأنبياء (21) : آية 31]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 31] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) هَذَا مِنْ آثَارِ فَتْقِ الْأَرْضِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا إِذْ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا الْجِبَالَ وَذَلِكَ فَتْقُ تَكْوِينٍ، وَجَعَلَ فِيهَا الطُّرُقَ، أَيِ الْأَرَضِينَ السَّهْلَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَشْيِ فِيهَا عَكْسَ الْجِبَالِ. وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، لِأَنَّهَا رَسَتْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ رَسَخَتْ فِيهَا. وَالْمَيْدُ: الِاضْطِرَابُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنَّ مَعْنَى أَنْ تَمِيدَ أَنْ لَا تَمِيدَ، أَوْ لِكَرَاهَةِ أَنْ تَمِيدَ. وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ فِجَاجًا. وَلَمَّا كَانَ فِجاجاً مَعْنَاهُ وَاسِعَةٌ كَانَ فِي الْمَعْنَى وَصْفًا لِلسَّبِيلِ، فَلَمَّا قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ الْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِ سَطْحِ الْأَرْضِ لِيَسْلُكُوا مِنْهَا طُرُقًا وَاسِعَةً وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَسَالِكَ ضَيِّقَةٍ بَيْنَ الْجبَال كَأَنَّهَا الأودية. وَالْفِجَاجُ: جَمْعُ فَجٍّ. وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ. وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ: الطَّرِيقُ مُطْلَقًا. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ إِنْشَاءً رَجَاءَ اهْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بالاهتداء الاهتداء فِي السَّيْرِ، أَيْ جَعْلِنَا سُبُلًا وَاضِحَةً غَيْرَ مَحْجُوبَةٍ بِالضِّيقِ إِرَادَةَ اهْتِدَائِهِمْ فِي سَيْرِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ تَدْبِيرُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَحْوٍ مَا يُلَائِمُ الْإِنْسَانَ وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مِنَ الْكَلَام الموجه.

[سورة الأنبياء (21) : آية 32]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 32] وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) لَمَّا ذُكِرَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا نَاسَبَ بِحُكْمِ الطِّبَاقِ ذِكْرَ خَلْقِ السَّمَاءِ عَقِبَهُ، إِلَّا أَنَّ حَالَةَ خَلْقِ الْأَرْضِ فِيهَا مَنَافِعٌ لِلنَّاسِ. فَعَقَّبَ ذِكْرَهَا بِالِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الْأَنْبِيَاء: 31] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 31] . وَأَمَّا حَالُ خَلْقِ السَّمَاءِ فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ امْتِنَانٌ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ خَلْقِ السَّمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ. فَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَّةٌ وَهِيَ حِفْظُ السَّمَاءِ مِنْ أَنْ تَقَعَ بَعْضُ الْأَجْرَامِ الْكَائِنَةِ فِيهَا أَوْ بَعْضُ أَجْزَائِهَا عَلَى الْأَرْضِ فَتُهْلِكَ النَّاسَ أَوْ تُفْسِدَ الْأَرْضَ فَتُعَطِّلَ مَنَافِعَهَا، فَذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي خِلَالِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْعِبْرَةِ بِهِ. وَالسَّقْفُ، حَقِيقَتُهُ: غِطَاءُ فَضَاءِ الْبَيْتِ الْمَوْضُوعُ عَلَى جُدْرَانِهِ، وَلَا يُقَالُ السَّقْفُ عَلَى غِطَاءِ الْخِبَاءِ وَالْخَيْمَةِ. وَأُطْلِقَ السَّقْفُ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ جَعَلْنَاهَا كَالسَّقْفِ لِأَنَّ السَّمَاءَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى عَمَدٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [2] . وَجُمْلَةُ وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَآيَاتُ السَّمَاءِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاءُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشُّهُبِ وَسَيْرِهَا وَشُرُوقِهَا وَغُرُوبِهَا وَظُهُورِهَا وَغَيْبَتِهَا، وَابْتِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى حِسَابٍ قَوِيمٍ وَتَرْتِيبٍ عَجِيبٍ، وَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ

[سورة الأنبياء (21) : آية 33]

فَلِذَلِكَ سَمَّاهَا آيَاتٍ. وَكَذَلِكَ مَا يَبْدُو لَنَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ مِثْلَ السَّحَابِ والبرق والرعد. [33] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 33] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَمَّا كَانَتْ فِي إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا مَنَافِعٌ لِلنَّاسِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ بِصَوْغِهَا فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ مُشَارَكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَالْعِبَادَةُ شُكْرٌ، لَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا وَقَدْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَلِكَوْنِ الْمِنَّةِ وَالْعِبْرَةِ فِي إِيجَادِ نَفْسِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنَفْسِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لَا فِي إِيجَادِهَا عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ، جِيءَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ لَا بِفِعْلِ الْجَعْلِ. وَخَلْقُ اللَّيْل هُوَ جزئي مِنْ جُزْئِيَّاتِ خَلْقِ الظُّلْمَةِ الَّتِي أَوْجَدَ اللَّهُ الْكَائِنَاتِ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ الَّتِي تُفِيضُ النُّورَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ، فَإِنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورَ وُجُودِيٌّ وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ، وَالْعَدَمُ سَابِقٌ لِلْوُجُودِ فَالْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِوُجُودِ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ هِيَ الظُّلْمَةُ، وَاللَّيْلُ ظَلَمَةٌ تَرْجِعُ لِجُرْمِ الْأَرْضِ عِنْدَ انْصِرَافِ الْأَشِعَّةِ عَنِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا خَلْقُ النَّهَارِ فَهُوَ بِخَلْقِ الشَّمْسِ وَمَنْ تُوَجُّهِ أَشِعَّتِهَا إِلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ لِلْأَشِعَّةِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فَخَلْقُ النَّهَارِ تَبَعٌ لِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ وَمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ لِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِذِكْرِ خَلْقِ

الشَّمْسِ عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّهَارِ مُنَاسَبَةٌ قَوِيَّةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَنْشَأِ خَلْقِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا ذِكْرُ خَلْقِ الْقَمَرِ فَلِمُنَاسَبَةِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ إِيجَادِ مَا يُنِيرُ عَلَى النَّاسِ بَعْضَ النُّورِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الظُّلْمَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ. كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَضَادَّةَ بِالْحَقَائِقِ أَوْ بِالْأَوْقَاتِ ذِكْرًا مُجْمَلًا فِي بَعْضِهَا الَّذِي هُوَ آيَاتُ السَّمَاءِ، وَمُفَصَّلًا فِي بَعْضٍ آخَرَ وَهُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ كَيْفِيَّةِ سَيْرِهَا وَكَيْفَ لَا يَقَعُ لَهَا اصْطِدَامٌ أَوْ يَقَعُ مِنْهَا تَخَلُّفٌ عَنِ الظُّهُورِ فِي وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ الْمَذْكُورَاتِ لَهُ فَضَاءٌ يَسِيرُ فِيهِ لَا يُلَاقِي فَضَاءَ سَيْرِ غَيْرِهِ. وَضَمِيرُ يَسْبَحُونَ عَائِدٌ إِلَى عُمُومِ آيَاتِ السَّمَاءِ وَخُصُوصِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ أَسْمَاءِ بَعْضِهَا مِثْلَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «إِنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ وَصَفُهَا بِالسِّبَاحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا أَيْضًا ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ، يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي فَلَكٍ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ كُلٌّ، وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ تِلْكَ، فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَقْدِيرًا. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنْ يُفَادَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مُسْتَقِرٌّ

فِي فَلَكٍ لَا يُصَادِمُ فَلَكَ غَيْرِهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ لَفْظِ (كُلٌّ) وَمِنْ ظَرْفِيَّةِ (فِي) أَنَّ لَفْظَ فَلَكٍ عَامٌّ، أَيْ لِكُلٍّ مِنْهَا فَلَكُهُ فَهِيَ أَفْلَاكٌ كَثِيرَةٌ. وَجُمْلَةُ يَسْبَحُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالسَّبْحُ: مُسْتَعَارٌ لِلسَّيْرِ فِي مُتَّسَعٍ لَا طَرَائِقَ فِيهِ مُتَلَاقِيَةً كَطَرَائِقَ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِسِيَرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْفَضَاءِ الْعَظِيمِ. وَالْفَلَكُ فَسَّرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِأَنَّهُ مَدَارُ النُّجُومِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنْهُ أَخَذَهُ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ عَنِ الدَّوَائِرِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي يُضْبَطُ بِهَا سَيْرُ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَخَاصَّةً سَيْرُ الشَّمْسِ وَسَيْرَ الْقَمَرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَقَلَهُ مِنْ فَلَكِ الْبَحْرِ وَهُوَ الْمَوْجُ الْمُسْتَدِيرُ بِتَنْزِيلِ اسْمِ الْجَمْعِ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ. وَالْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْكَةُ الْمَغْزِلِ- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَهِيَ خَشَبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ فِي أَعْلَاهَا مِسْمَارٌ مَثْنِيٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَزْلُ وَيُدَارُ لِيَنْفَتِلَ الْغَزْلُ. وَمِنْ بَدَائِعِ الْإِعْجَازِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ فَإِنَّ حُرُوفَهُ تُقْرَأُ مِنْ آخِرِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا تُقْرَأُ مَنْ أَوَّلِهَا مَعَ خِفَّةِ التَّرْكِيبِ وَوَفْرَةِ الْفَائِدَةِ وَجَرَيَانِهِ مُجْرَى الْمَثَلِ مِنْ غَيْرِ تَنَافُرٍ وَلَا غَرَابَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدّثر: 3] بِطَرْحِ وَاوِ الْعَطْفِ، وَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ بُنِيَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ «الْمَقْلُوبَ الْمُسْتَوِي» وَجَعَلَهُ مِنْ أَصْنَافِ نَوْعٍ سَمَّاهُ الْقَلْبَ. وَخُصَّ هَذَا الصِّنْفُ بِمَا يَتَأَتَّى الْقَلْبُ فِي حُرُوف كَلِمَاته. وسمّاه الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَاتِ» «مَا لَا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكَاسِ» وَبَنَى عَلَيْهِ الْمَقَامَةَ السَّادِسَة عشرَة ووضح أَمْثِلَةً نَثْرًا وَنَظْمًا، وَفِي مُعْظَمِ مَا وَضَعَهُ مِنَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 34]

الْأَمْثِلَةِ تَكَلُّفٌ وَتَنَافُرٌ وَغَرَابَةٌ، وَكَذَلِكَ مَا وَضَعَهُ غَيْرُهُ عَلَى تَفَاوُتِهَا فِي ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْبَدِيعِ فَعَلَيْكَ بِتَتَبُّعِهَا، وَكُلَّمَا زَادَتْ طُولًا زَادَتْ ثِقَلًا. قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» : وَهُوَ نَوْعٌ صَعْبُ الْمَسْلَكِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْهُ شَيْئًا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. ذَكَرَ أَهْلُ الْأَدَبِ أَنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلَ الْبَيْسَانِيَّ زَارَ الْعِمَادَ الْكَاتِبَ فَلَمَّا رَكِبَ لِيَنْصَرِفَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ الْعِمَادُ: «سِرْ فَلَا كَبَا بِكَ الْفُرْسُ» فَفَطِنَ الْقَاضِي أَنَّ فِيهِ مُحَسِّنَ الْقَلْبِ فَأَجَابَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ: «دَامَ عُلَا الْعِمَادِ» وَفِيهِ محسن الْقلب. [34] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 34] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) عُنِيَتِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِاسْتِقْصَاءِ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 3] ، وَقَوْلُهُمْ: أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: 5] وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمَانِيهِمْ لَمَّا أَعْيَاهُمُ اخْتِلَاقُ الْمَطَاعِنِ أَنْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَرْجُونَهُ أَوْ يُدَبِّرُونَهُ قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [30] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ فِي [الْأَنْفَالِ: 30] . وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ فَلَمَّا كَانَ تَمَنِّيهِمْ مَوْتَهَ وَتَرَبُّصُهُمْ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ

[سورة الأنبياء (21) : آية 35]

يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِينَ تَمَنَّوْا ذَلِكَ وَتَرَبَّصُوا بِهِ كَأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ بَعْدَهُ فَتَتِمُّ شَمَاتَتُهُمْ، أَوْ كَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا فَلَا يَشْمَتُ بِهِمْ أَحَدٌ، وُجِّهَ إِلَيْهِمِ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُمُ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ سَيَمُوتُونَ قَبْلَ موت النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يَشْمَتُونَ بِهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أهلك الله رُؤُوس الَّذِينَ عَانَدُوهُ وَهَدَى بَقِيَّتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ طَرِيقَةُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ أَنَّكَ تَمُوتُ كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ وَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِكَ رَيْبَ الْمَنُونِ مِنْ فَرْطِ غُرُورِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ كَانَ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ مَا هُمْ بِخَالِدِينَ حَتَّى يُوقِنُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَوْتَكَ. وَفِي الْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَى مَوْتَهُ مِنْهُم أحد. [35] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 35] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) جُمَلٌ مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الْأَنْبِيَاء: 34] . وَوَجْهُ إِعَادَتِهَا اخْتِلَافُ الْقَصْدِ فَإِنَّ الْأُولَى لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ لِتَعْلِيمِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاسْتُعِيرَ الذَّوْقُ لِمُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ لِأَنَّ الذَّوْقَ إِحْسَاسٌ بِاللِّسَانِ يُقَارِنُهُ ازْدِرَادٌ إِلَى بِالْبَاطِنِ.

وَذَوْقُ الْمَوْتِ ذَوْقُ آلَامِ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَمَّا بَعْدَ حُصُولِهِ فَلَا إِحْسَاسَ لِلْجَسَدِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ النُّفُوسُ الْحَالَّةُ فِي الْأَجْسَادِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَلْ هُوَ اصْطِلَاحُ الْحُكَمَاءِ وَهُوَ لَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مُقَيَّدًا بِوَصْفِ الْمُجَرَّدَاتِ، أَيِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْأَجْسَادِ وَلَا تُلَابِسُ الْمَادَّةَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمُشَاكَلَةٌ: إِمَّا لَفْظِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [116] . وَإِمَّا تَقْدِيرِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [28] . وَجُمْلَةُ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ ذَوْقَ الْمَوْتِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ مُدَّةٌ يَعْتَرِي فِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ، فَعَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَوْتَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ حَتَّى لَا يَحْسَبُوا أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَلَّدٌ. وَقَدْ عَرَضَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَارِضٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ يَوْمَ انْتِقَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى: «لِيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَيُقَطِّعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ» حَتَّى حَضَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَثَبَّتَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: «طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ» . وَقَدْ قَالَ عَبَدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ وَأَجَادَ: رَأَيْتُ الْمَنَايَا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا ... وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مَرْصَدَا وَأَعْقَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَعْلِيمِهِمْ أَنَّ الْحَيَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ وَأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 36]

وَالْبَلْوَى: الِاخْتِبَارُ. وَتَقَدَّمُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَإِطْلَاقُ الْبَلْوَى عَلَى مَا يَبْدُو مِنَ النَّاسِ مِنْ تَجَلُّدٍ وَوَهْنٍ وَشُكْرٍ وَكُفْرٍ، عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ مِمَّا بَنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نِظَامَ الْحَيَاةِ، إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ ابْتِنَاءَ النِّظَامِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ وَتَلَقِّيهِمْ إِيَّاهُ. أَشْبَهَ اخْتِبَارَ الْمُخْتَبِرِ لِيَعْلَمَ أَحْوَالَ مَنْ يَخْتَبِرُهُمْ. وفِتْنَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلِقَةِ تَوْكِيدًا لِفِعْلِ نَبْلُوكُمْ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تُرَادِفُ الْبَلْوَى. وَجُمْلَةُ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ إِثْبَاتٌ لِلْبَعْثِ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالنَّشْرَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ. وَأَمَّا احْتِمَالُ الْقَصْرِ فَلَا يَقُومُ هُنَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِقَادٍ لِلْمُخَاطَبِينَ كَيْفَمَا افترضتهم. [36] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 36] وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) هَذَا وَصْفٌ آخَرُ لِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرَوْنَهُ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ أَذَاهُمْ إِيَّاهُ فِي مَغِيبِهِ، فَإِذَا رَأَوْهُ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ. وَالْهُزُؤُ- بِضَمِّ الْهَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ، إِذَا جَعَلَهُ لِلْعَبَثِ وَالتَّفَكُّهِ. وَمعنى اتّخاذه هزؤا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسْتَهْزَأً بِهِ فَهَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ

بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: 106] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً. وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً فَهِيَ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَكُونُ بِالْكَلَامِ. وَقَدِ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ دُونَ أَنْ يَخْلِطُوهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ فِي شَأْنِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَمَعْنَى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يَذْكُرُهُمْ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَذْكُرُ بِهِ آلِهَتَهُمْ مِمَّا يَسُوءُهُمْ، فَإِنَّ الذِّكْرَ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِشَرٍّ فَإِذَا لَمْ يُصَرَّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ يُصَارُ إِلَى الْقَرِينَةِ كَمَا هُنَا وكما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: 60] . وَكَلَامُهُمْ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، أَيْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ آلِهَتُهُمْ بِمَا هُوَ كَشْفٌ لِكُنْهِهَا الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَن ذكر الرحمان الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ. فَالذِّكْرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِي الذِّكْرِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ المُرَاد بِذكر الرحمان هُنَا الْقُرْآنُ، أَيِ الذِّكْرُ الْوَارِد من الرحمان. وَالْمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرٍ إِلَى ذِكْرٍ. وَمَعْنَى كفرهم بِذكر الرحمان إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] . وَأَيْضًا كُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بَاسِمِ الرَّحْمنِ تَوَرُّكًا عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا يَأْبَوْنَ أَن يكون الرحمان اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: 60] .

[سورة الأنبياء (21) : آية 37]

وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ كافِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ الْحَصْرَ، أَيْ هُمْ كَافِرُونَ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَاقُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ تَوَفُّرِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقًا لِدَوَامِ كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُقْلِعَهُمْ عَن الْكفْر. [37] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 37] خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) جُمْلَةُ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء: 36] وَبَيْنَ جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي، جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي. أَمَّا جُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: 36] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْأَنْبِيَاء: 38] ، لِأَنَّ قَوْلَهَ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: 36] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تَسَاؤُلًا عَنْ مَدَى إِمْهَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي تَحْكِي أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا. فَالْخِطَابُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَبْطِئُونَ حُلُولَ الْوَعِيدِ الَّذِي توعد فَالله تَعَالَى بِهِ الْمُكَذِّبِينَ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ ذِكْرَ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَيِّجُ حَنَقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَيَوَدُّوا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُكَذِّبِينَ الْوَعِيدُ عَاجِلًا فَخُوطِبُوا بِالتَّرَيُّثِ وَأَنْ لَا يَسْتَعْجِلُوا رَبَّهُمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ وَمَا فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلدِّينِ.

وَأَهَمُّهَا مَصْلَحَةُ إِمْهَالِ الْقَوْمِ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ. وَالْعَجَلُ: السُّرْعَةُ. وَخَلْقُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ اسْتِعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. شُبِّهَتْ شِدَّةُ مُلَازمَة الْوَصْف بِكَوْنِهِ مَادَّة لتكوين مَوْصُوفَةً، لِأَنَّ ضَعْفَ صِفَةِ الصَّبْرِ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ مُقْتَضَى التَّفْكِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ. فَإِذَا فَكَّرَ الْعَقْلُ فِي شَيْءٍ مَحْبُوبٍ اسْتَعْجَلَ حُصُولَهُ بِدَاعِي الْمَحَبَّةِ، وَإِذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ مَكْرُوهٍ اسْتَعْجَلَ إِزَالَتَهُ بِدَاعِي الْكَرَاهِيَةِ، وَلَا تَخْلُو أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ عَنْ هَذَيْنِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا بِالطَّبْعِ فَكَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْعَجَلَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الْإِسْرَاء: 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: 19] . ثُمَّ إِنَّ أَفْرَادَ النَّاسِ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاسْتِعْجَالِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي غور النّظر والفكر وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُونَ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْعَجَلَ بِالطِّينِ وَزَعَمَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ فَقَدْ أَبْعَدَ وَمَا أَسْعَدَ. وَجُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَعْنَى: وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ آيَاتِ اللَّهِ فِي نَصْرِ الدِّينِ، وَذَلِكَ بِمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ من النَّصْر وَهلك أيمة الشِّرْكِ وَمَا حَصَلَ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ النَّصْرُ فِيهَا عَاقِبَةَ الْمُسْلِمِينَ. وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ نَهْيٌ عَنْ طَلَبِ التَّعْجِيلِ، أَيْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكِلُوا ذَلِكَ إِلَى مَا يُوَقِّتُهُ اللَّهُ وَيُؤَجِّلُهُ، وَلِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ. فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ وَعَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْوَعِيدِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلِمَةِ تَسْتَعْجِلُونِ تَخْفِيفًا مَعَ بَقَاءِ حَرَكَتِهَا فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ حُذِفَتِ الْحَرَكَةُ من النُّون.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 38 إلى 40]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 38 إِلَى 40] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ اسْتِبْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعْدَ اللَّهِ بِنَصْرِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ ذِكْرُ نَظِيرِهِ فِي جَانِبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ تَسَاءَلُوا عَنْ وَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ تَهَكُّمًا، فَنَشَأَ بِهِ الْقَوْلَانِ وَاخْتَلَفَ الْحَالَانِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: 37] . وَهَذَا مُعَبِّرٌ عَنْ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الَّتِي يَتَلَقَّوْنَ بِهَا دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً وَعِنَادًا. وَذِكْرُ مَقَالَتِهِمْ هَذِه هُنَا مُنَاسِب لِاسْتِبْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ النَّصْرَ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ مُتَّصِلَةً بِجُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: 36] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا. وَخَاطَبُوا بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَعْجِلُونَ وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ. وَاسْتِفْهَامُهُمُ اسْتَعْمَلُوهُ فِي التَّهَكُّمِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِقَرِينَةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُوقِنِينَ بِعَدَمِ حُصُولِ الْوَعْدِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ وَاسْتِئْصَالِ مُعَانِدِيهِ. وَإِلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرِهَا يَنْظُرُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي دُفِنَتْ فِيهِ جُثَثُ الْمُشْرِكِينَ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الْأَعْرَاف: 44]

أَيْ مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَمَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَعَذَابِ النَّارِ. وَجُمْلَةُ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَقَّبُونَ مِنْ حِكَايَةِ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ تَهَكُّمِهِمْ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ. وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَمَّا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِكُمْ وَبِدِينِكُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: 36] . وَحَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَنُكْتَتُهُ تَهْوِيلُ جِنْسِهِ فَتَذْهَبُ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ. وَ (حِينَ) هُنَا: اسْم زمَان مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا وَقْتَهُ وَأَيْقَنُوا بِحُصُولِهِ لَمَا كَذَّبُوا بِهِ وَبِمَنْ أَنْذَرَهُمْ بِهِ وَلَمَا عَدُّوا تَأْخِيرَهُ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِ. وَجُمْلَةُ لَا يَكُفُّونَ مُضَافٌ إِلَيْهَا (حِينَ) . وَضَمِيرُ يَكُفُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا بَدَا لِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ هَذَا الْمُعَادِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَعْنَى الْكَفِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْإِمْسَاكُ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، أَيْ حِينَ لَا يُمْسِكُ الْمَلَائِكَةُ اللَّفْحَ بِالنَّارِ عَنْ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: 50] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ وَيَكُونُ مَا هُنَا إنذار بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ حِكَايَةٌ لِمَا لَقُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ.

وَذِكْرُ الْوُجُوهَ وَالْأَدْبَارَ لِلتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ لِأَنَّ الْوُجُوهَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلِّطَامِ وَلِأَنَّ الْأَدْبَارَ يَأْنَفُ النَّاسُ مِنْ ضَرْبِهَا لِأَنَّ ضربهَا إهانة وهزي، وَيُسَمَّى الْكَسْعَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَكُفُّونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْكَفُّ بِمَعْنَى الدَّرْءِ وَالسَّتْرِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَيْ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا النَّارَ عَنْ وُجُوهِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ. أَيْ حِينَ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مُوَاجَهَةً وَمُدَابَرَةً. وَذِكْرُ الظُّهُورِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوُجُوهِ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُفُّونَهَا عَنْ ظُهُورِهِمْ إِنْ لَمْ تَشْتَغِلْ أَيْدِيهِمْ بِكَفِّهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ لَدَيْنَا كُتُبُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مُنَاسَبَةً تَامَّةً لِلْكَافِرِينَ الْحَاضِرِينَ الْمُقَرَّعِينَ وَلِتَكْذِيبِهِمْ بِالْوَعِيدِ بِالْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: 37] كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى لَا يَكُفُّونَ أَيْ لَا يَكُفُّ عَنْهُمْ نَفْحُ النَّارِ، أَوْ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ نَفْحَ النَّارِ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ فَهُمْ وَاقِعُونَ فِي وَرْطَةِ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ سَتَحُلُّ بِهِمْ هَزِيمَةُ بَدْرٍ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَلَاصًا مِنْهَا وَلَا يَجِدُونَ نَصِيرًا مِنْ أَحْلَافِهِمْ. وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ تَهْوِيلِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، إِلَى التَّهْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِمْ بَغْتَةً وَفَجْأَةً، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ لِعَدَمِ التَّهَيُّؤِ لَهُ وَالتَّوَطُّنِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ: فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزَّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَنَفْيُ النَّاصِرِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . وَفَاعِلُ تَأْتِيهِمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْوَعْدِ. وَإِنَّمَا قُرِنَ الْفِعْلُ بِعَلَامَةِ الْمُؤَنَّثِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ بِاعْتِبَارِ الْوَقْعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ فِيمَا اسْمُهُ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ مِثْلَ الْوَقْعَةِ وَالْغَزْوَةِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا رَأَيْنَا فَلِتَأْوِيلِ الْوَعْدِ بِالسَّاعَةِ أَوِ الْقِيَامَةِ أَو الْحِين لِأَن الْحِينِ فِي مَعْنَى السَّاعَةِ. وَالْبَغْتَةُ: الْمُفَاجَأَةُ، وَهِيَ حُدُوثُ شَيْءٍ غَيْرِ مُتَرَقَّبٍ. وَالْبَهْتُ: الْغَلَبُ الْمُفَاجِئُ الْمُعْجِزُ عَنِ الْمُدَافَعَةِ، يُقَالُ: بَهَتَهُ فَبُهِتَ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 258] فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أَيْ غَلَبَ. وَهُوَ مَعْنَى التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ لَا تُؤَخَّرُ عَنْهُمْ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ أُنْظِرُوا زَمَنًا طَوِيلًا لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ. وَمَا أَشَدَّ انْطِبَاقِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا فِي [الْأَنْفَالِ: 42] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: 44] . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِثْلَ أَبِي جهل وَشَيْبَة ابْني رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ ابْن رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، كَانُوا مِمَّنْ بَغَتَهُمْ عَذَابُ السَّيْفِ وَكَانَ أَنْصَارُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ بَهَتَهُمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِضَمِيرِ تَأْتِيهِمْ السَّاعَةُ وَالْقِيَامَةُ فَهِيَ تَأْتِي بَغْتَةً لِمَنْ هُمْ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تَأْتِيَهُمُ النَّفْخَةُ وَالنَّشْرَةُ بَغْتَةً. وَأما أُولَئِكَ المستهزءون فَكَانُوا قَدِ انْقَرَضُوا مُنْذُ قُرُون.

[سورة الأنبياء (21) : آية 41]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 41] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: 37] تَطْمِينٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِهَا عَلَى جُمْلَةِ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ [الْأَنْبِيَاء: 39] إِلَى آخِرِهَا ظَاهِرَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. [42- 44] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 42 الى 44] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ بَعْدَ أَنْ سُلِّيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْوَعِيدِ أُمِرَ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِأَنَّ غُرُورَهُمْ بِالْإِمْهَالِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَشَأْنِهِ فِي الرَّحْمَةِ بِمَخْلُوقَاتِهِ بِأَنَّهُمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُهُ لَا يَجِدُونَ حَافِظًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرَهُ وَلَا تَمْنَعُهُمْ مِنْهُ آلِهَتُهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَقْرِيعٌ، أَي لَا يكلؤهم مِنْهُ أَحَدٌ فَكَيْفَ تَجْهَلُونَ ذَلِكَ، تَنْبِيها لَهُم إِذا نَسُوا نِعَمَهُ. وَذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِاسْتِيعَابِ الْأَزْمِنَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.

وَقُدِّمَ اللَّيْلُ لِأَنَّهُ زَمَنُ الْمَخَاوِفِ لِأَنَّ الظَّلَامَ يُعِينُ أَسْبَابَ الضُّرِّ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مُبْتَغَاهَا مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ وَعِلَلِ الْأَجْسَامِ. وَذِكْرُ النَّهَارِ بَعْدَهُ لِلِاسْتِيعَابِ. وَمَعْنَى مِنَ الرَّحْمنِ مِنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ. وَجِيءَ بَعْدَ هَذَا التَّفْرِيعِ بِإِضْرَابَاتٍ ثَلَاثَةٍ انْتِقَالِيَّةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْإِضْرَابِ. فَالْإِضْرَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ، وَهُوَ ارْتِقَاءٌ مِنَ التَّقْرِيعِ الْمَجْعُولِ لِلْإِصْلَاحِ إِلَى التَّأْيِيسِ مِنْ صَلَاحِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ فَلَا يُرْجَى مِنْهُمُ الِانْتِفَاعُ بِالْقَوَارِعِ، أَيْ أَخِّرِ السُّؤَالَ وَالتَّقْرِيعَ وَاتْرُكْهُمْ حَتَّى إِذَا تَوَرَّطُوا فِي الْعَذَابِ عَرَفُوا أَن لَا كالىء لَهُمْ. ثُمَّ أَضْرَبَ إِضْرَابًا ثَانِيًا بِ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ (بَلْ) مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لِقَصْدِ التَّقْرِيعِ فَقَالَ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا، أَيْ بَلْ أَلَهُمَ آلِهَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَقْرِيعٌ، أَيْ مَا لَهُمْ آلِهَةٌ مَانِعَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِنَا. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ شُفَعَاءَ. وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَضَمِيرُ يَسْتَطِيعُونَ عَائِدٌ إِلَى آلِهَةٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ مُجَارَاةً لِمَا يُجْرِيهِ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهِمْ. وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَنْصُرُونَهُمْ وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا هُمْ مُؤَيَّدُونَ مِنَ اللَّهِ بِالْقَبُولِ. ثُمَّ أَضْرَبَ إِضْرَابًا ثَالِثًا انْتَقَلَ بِهِ إِلَى كَشْفِ سَبَبِ غُرُورِهِمُ الَّذِي مِنْ جَهْلِهِمْ بِهِ حَسِبُوا أَنْفُسَهُمْ آمِنِينَ مِنْ أَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ فَجَرَّأَهُمْ

ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ، أَيْ فَمَا هُمْ مُسْتَمِرُّونَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا هُوَ تَمْتِيعٌ وَإِمْهَالٌ كَمَا مَتَّعْنَا آبَاءَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَكَمَا كَانَ لِآبَائِهِمْ آجَالٌ انْتَهَوْا إِلَيْهَا كَذَلِكَ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ الْآجَالَ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي مَدَاهَا حَتَّى طَالَتْ أَعمار آبَائِهِم. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَعْمَارَ هَؤُلَاءِ لَا تَبْلُغُ أَعْمَارَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ يُحِلُّ بِهِمُ الْهَلَاكَ لِتَكْذِيبِهِمْ إِلَى أَمَدٍ عَلِمَهُ. وَقَدْ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمُ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْخِطَابِ إِلَى طَرِيقِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ مَا وُجِّهَ إِلَيْهِمْ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يَكْلَأَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ جَعَلَهُمْ أَحْرِيَاءَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها الْآيَةَ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: 22] . ويُصْحَبُونَ إِمَّا مُضَارِعُ صَحِبَهُ إِذَا خَالَطَهُ وَلَازَمَهُ، وَالصُّحْبَةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الَّذِي نَابَ عَنْهُ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلنَّائِبِ مُرَادًا بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا يَصْحَبُهُمُ اللَّهُ، أَيْ لَا يُؤَيِّدُهُمْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَّا مُتَعَلِّقًا بِ يُصْحَبُونَ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) الِاتِّصَالِيَّةِ، أَيْ صُحْبَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِنَا بِمَعْنَى صُحْبَةٍ مَتِينَةٍ. وَهَذَا نَفْيٌ لِمَا اعْتَقَدَهُ الْمُشْرِكُونَ بِقَوْلِهِمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ مَحْذُوفًا لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا يَصْحَبُهُمْ صَاحِبٌ، أَيْ لَا يُجِيرُهُمْ جَارٌ فَإِنَّ الْجِوَارَ يَقْتَضِي حِمَايَةَ الْجَارِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَّا مُتَعَلِّقًا بِ يُصْحَبُونَ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) الَّتِي بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِر: 29] . وَإِمَّا مُضَارِعٌ أَصْحَبَهُ الْمَهْمُوزُ بِمَعْنَى حِفْظَهُ وَمَنْعِهِ، أَيْ مِنَ السُّوءِ. وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ لِحَاضِرِينَ فِي الْأَذْهَانِ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.

وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا ذُكِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ دُونَ وُجُودِ مُشَارٍ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ يَعْنِي بِهَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ تقريع عَلَى إِحَالَتِهِمْ نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ وَعَدِّهِمْ تَأْخِيرَ الْوَعْدِ بِهِ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِ وُقُوعِهِ حَتَّى قَالُوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْبِيَاء: 38] تَهَكُّمًا وَتَكْذِيبًا. فَلَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْبِيَاء: 39- 41] فَرْعٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتِفْهَامًا تَعْجِيبِيًّا مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى أَمَارَاتِ اقْتِرَانِ الْوَعْدِ بِالْمَوْعُودِ اسْتِدْلَالًا عَلَى قُرْبِهِ بِحُصُولِ أَمَارَاتِهِ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَسَدَّتِ الْجُمْلَةُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيِ اعْجَبُوا مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى نُقْصَانِ أَرْضِهِمْ مِنْ أَطْرَافِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَوَجُّهِ عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، فَمَنْ تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صِدْقِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ وَعِنَايَةِ رَبِّهِ بِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ نَأْتِي. فَالْإِتْيَانُ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْغَازِي الَّذِي يَسْعَى إِلَى أَرْضِ قَوْمٍ فَيَقْتُلُ وَيَأْسِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النَّحْل: 26] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ أَرْضَ الْعَرَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 80] فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أَيْ أَرْضَ مِصْرَ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 45]

وَالنُّقْصَانُ: تَقْلِيلُ كَمِّيَّةِ شَيْءٍ. وَالْأَطْرَافُ: جَمْعُ طَرْفٍ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالرَّاءِ-. وَهُوَ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْجِسْمُ مِنْ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ، وَضِدُّهُ الْوَسَطُ. وَالْمُرَادُ بِنُقْصَانِ الْأَرْضِ: نُقْصَانُ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ لَا نُقْصَانُ مِسَاحَتِهَا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَلَمْ يَكُنْ سَاعَتَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَرِينَةُ الْمُشَاهَدَةُ. وَالْمُرَادُ: نُقْصَانُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ بِدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَنْ هَاجَرَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ إِسْلَامِ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَتَجَاوَزُ الْمِائَتَيْنِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي خِتَامِ سُورَةِ الرَّعْدِ. وَجُمْلَةُ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ فَكَيْفَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ وَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَاخْتِيَارُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا بِتَعْرِيفِ جُزْأَيْهَا عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ مَا هُمُ الْغَالِبُونَ بَلِ الْمُسْلِمُونَ الْغَالِبُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ الْغَالِبِينَ لَمَا كَانَ عَدَدُهُمْ فِي تَنَاقُصٍ، وَلَمَا خَلَتْ بَلْدَتُهُمْ مِنْ عَدَدٍ كثير مِنْهُم. [45] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 45] قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (45) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِتْيَانُ عَلَى جَمِيعِ مَا تقدم من استعجالهم بِالْوَعْدِ تَهَكُّمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْأَنْبِيَاء: 38] ،

من التَّهْدِيدِ الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء: 39] إِلَخْ ... وَمِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِالْخَالِقِ وَتَنْبِيهِهِمْ إِلَى بُطْلَانِ آلِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [الْأَنْبِيَاء: 42- 44] ، وَمِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِظُهُورِ بِوَارِقِ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتِرَابِ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الْأَنْبِيَاء: 44] ، عُقِّبَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِتَعْرِيفِ كُنْهِ دَعْوَتِهِ، وَهِيَ قَصْرُهُ عَلَى الْإِنْذَارِ بِمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْذَارًا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ فَلَا تُعْرِضُوا عَنْهُ، وَلَا تَتَطَلَّبُوا مِنِّي آيَةً غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ آجَالِ حُلُولِ الْوَعِيدِ، وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَغِيظُونَنِي بِإِعْرَاضِكُمْ وَالتَّوَغُّلِ فِي كُفْرِكُمْ. فَالْكَلَامُ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، وَقَصْرُهُ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ تَبَعًا لِمُتَعَلِّقِهِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ قَصْرَيْنِ. وَلَمْ يَظْهَرْ لِي مِثَالٌ لَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَسْتَلْزِمُ مُتَارَكَةً لَهُمْ بَعْدَ الْإِبْلَاغِ فِي إِقَامَةِ الْحجَّة عَلَيْهِم وَذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ عَطْفُ اسْتِئْنَافٍ عَلَى اسْتِئْنَافٍ لِأَنَّ التَّذْيِيلَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الصُّمُّ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالصَّمَمُ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْكَلَامِ الْمُفِيدِ تَشْبِيهًا لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعِ بِعَدَمِ وُلُوجِ الْكَلَامِ صِمَاخَ الْمُخَاطَبِ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 18] . وَدَخَلَ فِي عُمُومِهِ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ سُوقِ التَّذْيِيلِ لِيَكُونَ دُخُولُهُمْ فِي الْحُكْمِ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَتَقْيِيدُ عَدَمِ السَّمَاعِ بِوَقْتِ الْإِعْرَاضِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ لِتَفْظِيعِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضٌ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ فَهُوَ أَفْظَعُ مِنْ

[سورة الأنبياء (21) : آية 46]

عَدَمِ سَمَاعِ الْبِشَارَةِ أَوِ التَّحْدِيثِ، وَلِأَنَّ التَّذْيِيلَ مَسُوقٌ عَقِبَ إِنْذَارَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَاخْتِيرَ لَفْظُ الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ الْمُطَابِقُ لِلْغَرَضِ إِذْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا كَمَا قَالَ: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ [يُوسُف: 108] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ كَلَامٌ مُخَاطَبٌ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقَوْلَهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا يَسْمَعُ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ وَرَفْعِ الصُّمُّ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَلَا تُسْمِعُ- بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ وَنَصْبِ الصُّمُّ- خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ نَصٌّ فِي انْفِصَالِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بقوله لَهُم. [46] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 46] وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الْأَنْبِيَاء: 45] وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنْذِرْهُمْ بِأَنَّهُم سيندمون عِنْد مَا يَنَالُهُمْ أَوَّلُ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنْ إِنْذَارِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِلَى إِنْذَارِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَأُكِّدَ الشَّرْطُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ. وَالْمَسُّ: اتِّصَالٌ بِظَاهِرِ الْجِسْمِ. وَالنَّفْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الرَّضْخِ فِي الْعَطِيَّةِ، يُقَالُ نَفَحَهُ بِشَيْءٍ إِذَا أَعْطَاهُ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 47]

وَفِي مَادَّةِ النَّفْحِ أَنَّهُ عَطَاءٌ قَلِيل نزر، وبضميمة بِنَاءِ الْمَرَّةِ فِيهَا، وَالتَّنْكِيرِ، وَإِسْنَادِ الْمَسِّ إِلَيْهَا دُونَ فِعْلٍ آخَرَ أَرْبَعُ مُبَالَغَاتٍ فِي التَّقْلِيلِ، فَمَا ظَنُّكَ بِعَذَابٍ يَدْفَعُ قَلِيلُهُ مَنْ حَلَّ بِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِاسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهُ وَإِنْشَاءِ تُعَجُّبِهِ مِنْ سُوءِ حَالِ نَفْسِهِ. وَالْوَيْلُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 79] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ فِي أَوَّلِ [سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: 2] . وَمَعْنَى إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّا كُنَّا مُعْتَدِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا إِذْ أَعْرَضْنَا عَنِ التَّأَمُّلِ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالظُّلْمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْإِشْرَاكُ لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ مَعْرُوفٌ لَدَيْهِمْ فَلَيْسَ مِمَّا يَعْرِفُونَهُ إِذَا مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ من الْعَذَاب. [47] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 47] وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ [الْأَنْبِيَاء: 46] إِلَخْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِمْ إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 46] ، وَلِبَيَانِ أَنَّهُمْ مُجَازَوْنَ عَلَى جَمِيعِ مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ بَيَانًا بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْعُمُومِ بَعْدَ الْخُصُوصِ فِي الْمُجَازَيْنِ، فَشَابَهَ التَّذْيِيلَ مِنْ أَجْلِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَفِي الْمُجَازَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ قَوْله رَبِّكَ [الْأَنْبِيَاء: 46] ، وَتَكُونَ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ الْتِفَاتًا لِمُنَاسِبَةِ الْجَزَاءِ لِلْأَعْمَالِ كَمَا يُقَالُ:

أَدَّى إِلَيْهِ الْكَيْلَ صَاعًا بِصَاعٍ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَالْوَضْعُ حَقِيقَتُهُ: حَطُّ الشَّيْءِ وَنَصْبُهُ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ ضِدُّ الرَّفْعِ. وَيُطْلَقُ عَلَى صُنْعِ الشَّيْءِ وَتَعْيِينِهِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَجَازٌ. وَالْمِيزَانُ: اسْمُ آلَةِ الْوَزْنِ. وَلَهُ كَيْفِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ، وَهِيَ تَتَّحِدُ فِي كَوْنِهَا ذَاتَ طَبَقَيْنِ مُتَعَادِلَيْنِ فِي الثِّقَلِ يُسَمَّيَانِ كِفَّتَيْنِ- بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ- تَكُونَانِ مِنْ خَشَبٍ أَوْ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا كَانَتَا مِنْ صُفْرٍ سُمِّيَتَا صَنْجَتَيْنِ- بِصَادٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ-، مُعَلَّقٌ كُلُّ طَبَقٍ بِخُيُوطٍ فِي طَرَفٍ يَجْمَعُهُمَا عُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ صَلْبٍ، فِي طَرَفَيْهِ عُرْوَتَانِ يُشَدُّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَبَقٌ مِنَ الطَّبَقَيْنِ يُسَمَّى ذَلِكَ الْعُودُ (شَاهِينُ) وَهُوَ مَوْضُوعٌ مَمْدُودًا، وَتُجْعَلُ بِوَسَطِهِ عَلَى السَّوَاءِ عُرْوَةٌ لِتُمْسِكَهُ مِنْهَا يَدُ الْوَازِنِ، وَرُبَّمَا جَعَلُوا تِلْكَ الْعُرْوَةَ مُسْتَطِيلَةً مِنْ مَعْدِنٍ وَجَعَلُوا فِيهَا إِبْرَةً غَلِيظَةً مِنَ الْمَعْدِنِ مَنُوطَةً بِعُرْوَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْ مَعْدِنٍ مَصُوغَةٍ فِي وَسَطِ (الشَّاهِينِ) فَإِذَا ارْتَفَعَ الشَّاهِينُ تَحَرَّكَتْ تِلْكَ الْإِبْرَةُ فَإِذَا سَاوَتْ وَسَطَ الْعُرْوَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَى سَوَاءٍ عُرِفَ اعْتِدَالُ الْوَزْنِ وَإِنْ مَالَتْ عُرِفَ عَدَمُ اعْتِدَالِهِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْإِبْرَةُ لِسَانًا، فَإِذَا أُرِيدَ وَزْنُ شَيْئَيْنِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَرَجَحُ وُضِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كِفَّةٍ، فَالَّتِي وُضِعَ فِيهَا الْأَثْقَلُ مِنْهُمَا تَنْزِلُ وَالْأُخْرَى ذَاتُ الْأَخَفِّ تَرْتَفِعُ وَإِنِ اسْتَوَيَتَا فَالْمَوْزُونَانِ مُسْتَوَيَانِ، وَإِذَا أُرِيدَ مَعْرِفَةُ ثِقَلِ شَيْءٍ فِي نَفْسِهِ دُونَ نِسْبَتِهِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ جَعَلُوا قِطَعًا مِنْ مَعْدِنٍ: صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ ذَاتِ مَقَادِيرَ مَضْبُوطَةٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهَا مِثْلَ الدِّرْهَمِ وَالْأُوقِيَّةِ وَالرِّطْلِ، فَجَعَلُوهَا تَقْدِيرًا لِثِقَلِ الْمَوْزُونِ لِيُعْلَمَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ فِي التَّعَاوُضِ، وَوَحْدَتُهَا هُوَ الْمِثْقَالُ، وَيُسَمَّى السَّنْجَ- بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا جِيمٌ-.

وَ (الْقِسْطُ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ- اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَفِعْلُهُ أَقْسَطَ مَهْمُوزًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 18] . وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَوَازِينِ هُنَا: أَهْوَ الْحَقِيقَةُ أَمِ الْمَجَازُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ مُوَازِينَ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تُشْبِهُ الْمِيزَانَ الْمُتَعَارَفَ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ مِيزَانًا خَاصًّا بِهِ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي [سُورَةِ الْقَارِعَةِ: 6- 7] . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ تُوزَنُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، وَأَنَّهُ بِيَدِ جِبْرِيلَ، وَعَلَيْهِ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَا يُوزَنُ فِيهَا لِيُوَافِقَ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَنَّهُ مِيزَانٌ عَامٌّ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ ذَلِكَ لَا يُشْبِهُ مِيزَانَ الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ عَلَى مِثَالِهِ تَقْرِيبًا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْوَضْعُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ النَّصْبُ وَالْإِرْصَادُ. وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ الْمِيزَانَ الْوَاقِعَ فِي الْقُرْآنِ مَثَلٌ لِلْعَدْلِ فِي الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 8] ، وَمَالَ إِلَيْهِ الطَّبَرَيُّ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «الْمَوَازِينُ الْحِسَابُ السَّوِيُّ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالنَّصَفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يظلم أحد» هـ. أَيْ فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْعَدْلِ فِي الْجَزَاءِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمِيزَانِ فِي ضَبْطِ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيد: 25] . وَالْوَضْعُ: تَرْشِيحٌ وَمُسْتَعَارٌ لِلظُّهُورِ. وَذَهَبَ الْأَشَاعِرَةُ إِلَى أَخْذِ الْمِيزَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ.

وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فَفَرِيقٌ قَالُوا: الْمِيزَانُ حَقِيقَةٌ، وَفَرِيقٌ قَالُوا: هُوَ مَجَازٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي «الْكَشَّافِ» فَدَلَّ صَنِيعُهُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ جَارِيَانِ عَلَى أَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ وَصَرَّحَ بِهِ فِي «تَقْرِيرِ الْمَوَاقِفِ» . وَفِي «الْمَقَاصِدِ» : «وَنِسْبَةُ الْقَوْلِ بِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِيزَانِ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قُصُورٌ مِنْ بعض الْمُتَكَلِّمين» هـ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّسَفِيَّ فِي «عَقَائِدِهِ» . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» : «انْفَرَدَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ الْمِيزَانِ، وَتَفَرَّدَتِ السَّنَةُ بِذِكْرِ الصِّرَاطِ وَالْحَوْضِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ هَكَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَعْمَالَ تُوزَنُ حَقِيقَةً فِي مِيزَانٍ لَهُ كِفَّتَانِ وَشَاهِينٌ وَتُجْعَلُ فِي الْكِفَّتَيْنِ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَيَخْلُقُ اللَّهُ الِاعْتِمَادَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّمَا يَرْجِعُ الْخَبَرُ عَنِ الْوَزْنِ إِلَى تَعْرِيفِ اللَّهِ الْعِبَادَ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ. وَنَقَلَ الطَّبَرَيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى هَذَا. وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ الْمِيزَانُ وَالْوَزْنُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ أَعْرَاضٌ فَهَا هُنَا يَقِفُ مَنْ وَقَفَ وَيَمْشِي عَلَى هَذَا مَنْ مَشَى. فَمَنْ كَانَ رَأْيُهُ الْوُقُوفَ فَمِنَ الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ، وَمَنْ أَرَادَ الْمَشْيَ لَيَجِدَنَّ سَبِيلًا مِئْتَاءً (¬1) إِذْ يَجِدُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ مِيزَانًا وَوَزْنًا وَمَوْزُونًا، فَإِذَا مَشَى فِي طَرِيقِ الْمِيزَانِ وَالْوَزْنِ وَوَجَدَهُ صَحِيحًا فِي كُلِّ لَفْظَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ تَمْيِيزَ الْمَوْزُونِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ الْقَهْقَرَى فَيُبْطِلَ مَا قَدْ أَثْبَتَ بَلْ يُبْقِي مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَصِحَّتِهِ وَيَسْعَى فِي تَأْوِيلِ هَذَا وَتَبْيِينِهِ اه. ¬

(¬1) بِكَسْر الْمِيم وبهمزة سَاكِنة بعْدهَا وَمد فِي آخِره: الطَّرِيق الْعَام المسلوك.

وَقُلْتُ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ مَقْبُولٌ وَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبٌ لَنَا بِمُتَعَارَفِنَا وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَيْسَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ تُعْرَفُ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ تُجْحَدُ تَصَرُّفَاتُهُ تَعَالَى. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْتِزَامَ صِيغَةِ جَمْعِ الْمَوَازِينَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمِيزَانُ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَزْنِ فِيهَا مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَأَنَّ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ الْقِسْطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُزِيدُ ذَلِكَ تَرْجِيحًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَزْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 8] . وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَيُقَالُ: الْقِسْطَاسُ، وَهُوَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ اللُّغَة الرومية (اللاطينية) . وَقَدْ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ «صَحِيحِهِ» ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. فَعَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِ الْمَوَازِينِ حَقِيقَةً فِي آلَاتِ وَزْنٍ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ لَفْظُ الْقِسْطِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَدْلِ لِلْمَوَازِينِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتِ الْقِسْطِ، وَعَلَى اعْتِبَارٍ فِي الْمَوَازِينِ فِي الْعَدْلِ يَكُونُ لَفْظُ الْقِسْطِ بَدَلًا مِنَ الْمَوَازِينِ فَيَكُونُ تَجْرِيدًا بَعْدَ التَّرْشِيحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ فَإِنَّهُ مُصَدَرٌ صَالِحٌ لِذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَوْمِ الْقِيامَةِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعِلَّةِ مَعَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ لِأَجْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيِ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّوْقِيتِ بِمَعْنَى (عِنْدَ) الَّتِي هِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمُلَاصِقَةِ كَمَا يُقَالُ: كُتِبَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] أَيْ نَضَعُ الْمَوَازِينَ عِنْدَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَتَفْرِيعُ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً عَلَى وَضْعِ الْمَوَازِينِ تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ أَوِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ. وَالظُّلْمُ: ضِدُّ الْعَدْلِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ نَفْيُهُ عَلَى إِثْبَاتِ وَضْعِ الْعَدْلِ. وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ. وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ دَلَّ عَلَى تَأْكِيدِ الْعُمُومِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ. وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ دَلَّ عَلَى تَأْكِيدِ الْعُمُومِ مِنْ فِعْلِ تُظْلَمُ الْوَاقِعِ أَيْضًا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا تُظْلَمُ بِنَقْصٍ مِنْ خَيْرٍ اسْتَحَقَّتْهُ وَلَا بِزِيَادَةِ شَيْءٍ لَمْ تَسْتَحِقَّهُ، فَالظُّلْمُ صَادِقٌ بِالْحَالَيْنِ وَالشَّيْءُ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانٍ عِدَّةٍ مَعَ إِيجَازِ لَفْظِهَا، فَنُفِيَ جِنْسُ الظُّلْمِ وَنُفِيَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ فَأَفَادَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِظُلْمٍ بِدُونِ جَزَاءٍ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. و (إِن) وصيلة دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ مَا بَعْدَهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَوَهَّمَ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْهُ فَإِذَا نَصَّ عَلَى شُمُولِ الْحُكْمِ إِيَّاهُ عُلِمَ أَنَّ شُمُولَهُ لِمَا عَدَاهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَدْ يَرِدُ هَذَا الشَّرْطُ بِحَرْفِ (لَوْ) غَالِبًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي [آلِ عِمْرَانَ: 91] . وَيَرِدُ بِحَرْفِ (إِنْ) كَمَا هُنَا، وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ ... فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِثْقالَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانَ وَأَنَّ اسْمَهَا ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى شَيْئاً. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِثْقالَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ كانَ تَامَّةٌ ومِثْقالَ فَاعِلٌ.

وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّحِدُ الْمَآلِ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِنَفْسٍ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ مِنْ شَرٍّ يُؤْتَ بِهَا فِي مِيزَانِ أَعْمَالِهَا وَيُجَازَ عَلَيْهَا. وَجُمْلَةُ أَتَيْنا بِها عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مُسْتَأْنَفَةٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِمَّا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ. وَضَمِيرُ بِها عَائِدٌ إِلَى مِثْقالَ حَبَّةٍ. وَاكْتَسَبَ ضَمِيرُهُ التَّأْنِيثَ لِإِضَافَةِ مُعَادِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ حَبَّةٍ. وَالْمِثْقَالُ: مَا يُمَاثِلُ شَيْئًا فِي الثِّقَلِ، أَيِ الْوَزْنِ، فَمِثْقَالُ الْحَبَّةِ: مِقْدَارُهَا. وَالْحَبَّةُ: الْوَاحِدَةُ مِنْ ثَمَرِ النَّبَاتِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ السُّنْبُلِ أَوْ فِي الْمَزَادَاتِ الَّتِي كَالْقُرُونِ أَوِ الْعَبَابِيدِ كَالْقَطَانِيِّ. وَالْخَرْدَلُ: حُبُوبٌ دَقِيقَةٌ كَحَبِّ السِّمْسِمِ هِيَ بُزُورُ شَجَرٍ يُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَرْدَلَ. وَاسْمُهُ فِي عِلْمِ النَّبَاتِ (سينابيس) . وَهُوَ صِنْفَانِ بَرِّيٍّ وَبُسْتَانِيٍّ. وَيَنْبُتُ فِي الْهِنْدِ وَمِصْرَ وَأُورُوبَّا. وَشَجَرَتُهُ ذَاتُ سَاقٍ دَقِيقَةٍ يَنْتَهِي ارْتِفَاعُهَا إِلَى نَحْوِ مِتْرٍ. وَأَوْرَاقُهَا كَبِيرَةٌ. يُخْرِجُ أَزْهَارًا صُفْرًا مِنْهَا تتكون بزوره إِذْ تَخْرُجُ فِي مَزَادَاتٍ صَغِيرَةٍ مَمْلُوءَةٍ مِنْ هَذَا الْحَبِّ، تَخْرُجُ خَضْرَاءَ ثُمَّ تَصِيرُ سَوْدَاءَ مِثْلَ الْخُرْنُوبِ الصَّغِيرِ. وَإِذَا دُقَّ هَذَا الْحَبُّ ظَهَرَتْ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُعَطَّرَةٌ إِذَا قُرِّبَتْ مِنَ الْأَنْفِ شَمًّا دَمِعَتِ الْعَيْنَانِ، وَإِذَا وُضِعَ مَعْجُونُهَا عَلَى الْجِلْدِ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ لَذْعًا وَحَرَارَةً ثُمَّ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِلْدُ تَحَمُّلَهَا طَوِيلًا وَيَتْرُكُ مَوْضِعَهُ مِنَ الْجَلْدِ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ لِتَجَمُّعِ الدَّمِ بِظَاهِرِ الْجَلْدِ وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ مَعْجُونُهُ بِالْمَاءِ دَوَاءً يُوضَعُ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُصَابِ بِاحْتِقَانِ الدَّمِ مِثْلَ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالنَّزَلَاتِ الصَّدْرِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَكَفى بِنا حاسِبِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ومفعول كَفى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 إلى 50]

تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَفَى النَّاسَ نَحْنُ فِي حَالِ حِسَابِهِمْ. وَمَعْنَى كَفَاهُمْ نَحْنُ حَاسِبِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَطَلَّعُونَ إِلَى حَاسِبٍ آخَرَ يَعْدِلُ مِثْلَنَا. وَهَذَا تَأْمِينٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُجَازَى أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَفِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ وَتَرْغِيبٌ فِي الثَّوَابِ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حاسِبِينَ مُرَاعًى فِيهِ ضَمِيرُ الْعَظَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بِنا، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: كَفَيْنَا النَّاسَ، وَهَذِهِ الْبَاءُ تَدْخُلُ بَعْدَ فِعْلِ (كَفَى) غَالِبًا فَتَدْخُلُ عَلَى فَاعِلِهِ فِي الْأَكْثَرِ كَمَا هُنَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 79] . وَتَدْخُلُ عَلَى مَفْعُولِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» . وَانْتَصَبَ حاسِبِينَ عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ كَفى. وَتَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي [سُورَة النِّسَاء: 79] . [48- 50] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 48 إِلَى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْإِقْنَاعِيَّةِ وَالزَّجْرِيَّةِ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ شَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ

الشَّاهِدَةِ بِتَنْظِيرِ مَا أُوتِيَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُوتِيَهُ سَلَفُهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ فِي دَعْوَتِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ الَّتِي كَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَجْلِهَا مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ عِنَادِ الْأَقْوَامِ، وَثَبَاتِ الْأَقْدَامِ، وَالتَّأْيِيدِ مِنَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ: 77] . فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَخْبَارٍ مِنْ أَحْوَالِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَفِي سَوْقِ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ تَفْصِيلٌ أَيْضًا لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا يُوحى إِلَيْهِم [الْأَنْبِيَاء: 7] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاء: 25] ، ثُمَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الْأَنْبِيَاء: 45] . وَاتِّصَالِهَا بِجَمِيعِ ذَلِكَ اتِّصَالٍ مُحْكَمٍ وَلِذَلِكَ أُعْقِبَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ مُوسَى وَأَخِيهِ مَعَ قَوْمِهِمَا لِأَنَّ أَخْبَارَ ذَلِكَ مَسْطُورَةٌ فِي كِتَابٍ مَوْجُودٍ عِنْدَ أَهْلِهِ يَعْرِفُهُمُ الْعَرَبُ وَلِأَنَّ أَثَرَ إِتْيَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالشَّرِيعَةِ هُوَ أَوْسَعُ أَثَرٍ لِإِقَامَةِ نِظَامِ أُمَّةٍ يَلِي عَظَمَةَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَافْتِتَاحُ الْقِصَّةِ بِلَامِ الْقَسَمِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّأْكِيدِ لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ وَذُهُولِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ وَتَنَاسِي بَعْضِهِمْ إِيَّاهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ تِلْكَ الْقِصَّةَ. وَمَحَلُّ التَّنْظِيرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ تَأْيِيدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ مُبِينٍ وَتَلَقِّي الْقَوْمِ ذَلِكَ الْكِتَابَ بِالْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ. وَالْفَرْقَانُ: مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ يَوْمَ الْفَرْقَانِ لِأَنَّ فِيهِ كَانَ مَبْدَأَ ظُهُورِ قُوَّةِ

الْمُسْلِمِينَ وَنَصْرُهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفُرْقَانِ التَّوْرَاةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ فِي [سُورَةِ الصَّافَّاتِ: 117] . وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْفرْقَان بِإِسْنَاد إيتائه إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْدُ كَوْنَهُ إِيتَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيًا كَمَا أُوتِيَ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْقُرْآنَ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ إِيتَاءَ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جَاءَ إِلَّا بِمِثْلِهِ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَلَالَةِ ذَلِكَ الْمُوتَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفُرْقَانِ الْمُعْجِزَاتُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ فِي [سُورَةِ غَافِرٍ: 23] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 53] . وَعَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ تَجِيءُ احْتِمَالَاتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَسِيمًا لِبَعْضٍ بَلْ هِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ، فَمَجْمُوعُ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى وَهَارُونُ تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ. وَالضِّيَاءُ: النُّورُ. يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ فِي [سُورَةِ الْمَائِدَةِ: 44] . وَالذِّكْرُ أَصْلُهُ: خُطُورُ شَيْءٍ بِالْبَالِ بَعْدَ غَفْلَةٍ عَنْهُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ لِلتَّقْوِيَةِ فَيَكُونَ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِتَقْوَى اللَّهِ، أَيِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا يَجْهَلُونَ وَبِمَا يَذْهَلُونَ عَنْهُ مِمَّا عَلِمُوهُ وَيُجَدِّدُ فِي نُفُوسِهِمْ

مُرَاقَبَةَ رَبِّهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ ذِكْرٌ لِأَجْلِ الْمُتَّقِينَ، أَيْ كِتَابٌ يَنْتَفِعُ بِمَا فِيهِ الْمُتَّقُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الضَّالِّينَ. وَوَصَفَهُمْ بِمَا يَزِيدُ مَعْنَى الْمُتَّقِينَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2- 3] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْغَيْبِ بِمَعْنَى (فِي) . وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ، أَيْ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي خَاصَّتِهِمْ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ رِيَاءً وَلَا لِأَجْلِ خَوْفِ الزَّوَاجِرِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَذَمَّةِ مِنَ النَّاسِ. وَالْإِشْفَاقُ: رَجَاءُ حَادِثٍ مَخُوفٍ. وَمَعْنَى الْإِشْفَاقِ مِنَ السَّاعَةِ: الْإِشْفَاقُ مِنْ أَهْوَالِهَا، فَهُمْ يُعِدُّونَ لَهَا عُدَّتَهَا بِالتَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ. فَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِكِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ. وَقَدْ عَقَّبَ هَذَا التَّعْرِيضَ بِذِكْرِ الْمَقْصُودِ مِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ النَّاشِئِ هُوَ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُشِيرُ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ حُضُورَهُ فِي الْأَذْهَانِ وَفِي التِّلَاوَةِ بِمَنْزِلَةِ حُضُورِ ذَاتِهِ. وَوَصْفُهُ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِأَنَّ لَفْظَ الذِّكْرِ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 44] . وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْمُبَارَكِ يَعُمُّ نَوَاحِيَ الْخَيْرِ كُلَّهَا لِأَنَّ الْبَرَكَةَ زِيَادَةُ الْخَيْرِ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ بَلَاغَةِ أَلْفَاظِهِ وَحُسْنِهَا وَسُرْعَةِ حِفْظِهِ وَسُهُولَةِ تِلَاوَتِهِ، وَهُوَ أَيْضًا خَيْرٌ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْنَانِ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَاللَّطَائِفِ الْبَلَاغِيَّةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ آيَةٌ عَلَى

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 57]

صِدْقِ الَّذِي جَاءَ بِهِ لِأَنَّ الْبَشَرَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَتَحَدَّاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَمَا اسْتَطَاعُوا. وَبِذَلِكَ اهْتَدَتْ بِهِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ آمَنُوا بِهِ وَفَرِيقٌ مِمَّنْ حَرَّمُوا الْإِيمَانَ. فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ وَافِيًا عَلَى وَصْفِ كِتَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ فُرْقَانٌ وَضِيَاءٌ. وَزَادَهُ تَشْرِيفًا بِإِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَجُعِلَ الْوَحْيُ إِلَى الرَّسُولِ إِنْزَالًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِنْزَالُ مِنْ رِفْعَةِ الْقَدْرِ إِذِ اعْتُبِرَ مُسْتَقِرًّا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ حَتَّى أُنْزِلَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ. وفرّع عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ اسْتِفْهَامٌ تَوْبِيخِيٌّ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ إِنْكَارِهِمْ صِدْقَ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَلِكَوْنِ إِنْكَارِهِمْ صِدْقَهُ حَاصِلًا مِنْهُمْ فِي حَالِ الْخِطَابِ جِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِيَتَأَتَّى جَعْلُ الْمُسْنَدِ اسْمًا دَالًّا عَلَى الِاتِّصَافِ فِي زَمَنِ الْحَالِ وَجَعْلُ الْجُمْلَةِ دَالَّةً عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْوَصْفِ وَفَاءً بِحَقِّ بلاغة النّظم. [51- 57] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 51 إِلَى 57] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ

(57) أُعْقِبَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ هُوَ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ إِذْ قَاوَمَهُ بِالْحُجَّةِ وَبِالْقُوَّةِ وَبِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ إِذْ أَقَامَ لِلتَّوْحِيدِ هَيْكَلًا بِمَكَّةَ هُوَ الْكَعْبَةُ وَبِجَبَلِ (نَابُو) مِنْ بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ حَيْثُ كَانَتْ مَدِينَةٌ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ (لَوْزَا) ثُمَّ بَنَى بَيْتَ إِيلَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ مَدِينَةِ (أُورْشَلِيمَ) فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُقِيمَ بِهِ هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدُ، فَكَانَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ شَاهِدًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَ مُمَاثِلًا لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِ دَابِرِهِ. وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ تَوَرُّكٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ كَانُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي نَعَاهَا جَدُّهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ أَشْهَرُ شَرِيعَةٍ بَعْدَ شَرِيعَةِ مُوسَى. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ عَنْهُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ تَنْزِيلُ الْعَرَبِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ لِشَرِيعَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أُوتِيَ رُشْدًا وَهَدْيًا. وَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِيتَاءِ الرُّشْدِ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِمِثْلِ مَا قَرَّرَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْخِيمِ ذَلِكَ الرُّشْدِ الَّذِي أُوتِيَهُ. وَالرُّشْدُ: الْهُدَى وَالرَّأْيُ الْحَقُّ، وَضِدُّهُ الْغَيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 256] . وَإِضَافَةُ الرُّشْدُ إِلَى ضَمِيرِ

إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيِ الرُّشْدُ الَّذِي أُرْشِدَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا الرُّشْدِ، أَيْ رُشْدًا يَلِيقُ بِهِ وَلِأَنَّ رُشْدَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ كَانَ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ هُوَ الَّذِي عَلِمْتُمْ سُمْعَتَهُ الَّتِي طَبَّقَتِ الْخَافِقَيْنِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُشْدٍ أُوتِيَهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ لَمَّا كَانَتْ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلِاخْتِصَاصِ فَكَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِالْهُدَى بَيْنَ قَوْمِهِ. وَزَادَهُ تَنْوِيهًا وَتَفْخِيمًا تَذْيِيلُهُ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدًا عَظِيمًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِإِبْرَاهِيمَ، أَيْ بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِذَلِكَ الرُّشْدِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَحَلَّ ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ قُرْآنِهِ، أَيْ عَلِمَ مِنْ سَرِيرَتِهِ صِفَاتٍ قَدْ رَضِيَهَا وَأَحْمَدَهَا فَاسْتَأْهَلَ بِهَا اتِّخَاذَهُ خَلِيلًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدُّخان: 32] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] . وَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ أَي من قَبْلُ أَنْ نُوتِيَ مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا. وَوَجْهُ ذكر هَذِه الْقبلية التَّنْبِيه على أَنه مَا وَقَعَ إِيتَاءُ الذِّكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَّا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمَا لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً مَدْرُوسَةً. وإِذْ قالَ ظَرْفٌ لِفِعْلِ آتَيْنا أَيْ كَانَ إِيتَاؤُهُ الرُّشْدَ حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ إِلَخْ، فَذَلِكَ هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيَهُ، أَي حِين نزُول الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَلِكَ أول مَا بدىء بِهِ من الْوَحْيُ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ (الْكَلْدَانِ) وَكَانَ يَسْكُنُ بَلَدًا يُقَالُ لَهُ (كَوْثَى) بِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ فِي التَّوْرَاةِ (أُورَ الْكَلْدَانِ) ، وَيُقَالُ: أَيْضًا إِنَّهَا (أُورْفَةُ) فِي (الرُّهَا) ،

ثُمَّ سَكَنَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُهُ (حَارَانَ) وَحَارَانُ هِيَ (حَرَّانُ) ، وَكَانَتْ بَعْدُ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِصْحَاحِ 12 مِنَ التَّكْوِينِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ» . وَمَاتَ أَبُوهُ فِي (حَارَانَ) كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 11 مِنَ التَّكْوِينِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مِنْ (حَارَانَ) لِأَنَّهُ مِنْ حَارَانَ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ حَرَّانَ بِأَنَّهُ بَلَدُ الصَّابِئَةِ وَفِيهِ هَيْكَلٌ عَظِيمٌ لِلصَّابِئَةِ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَجْعَلُونَ لَهَا صُوَرًا مُجَسَّمَةً. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا عِبَادَتُكُمْ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ؟. وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِأُسْلُوبِ تَوَجُّهِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ذَاتِ التَّمَاثِيلِ لِإِبْهَامِ السُّؤَالِ عَنْ كُنْهِ التماثيل فِي بادىء الْكَلَامِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ حَقِيقَتِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ وَبَيْنَ وَصْفِهَا بِالْمَعْبُودِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِعُكُوفِهِمْ عَلَيْهَا. وَهَذَا مِنْ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ اسْتَعْمَلَهُ تَمْهِيدًا لِتَخْطِئَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ جَوَابَهُمْ فَهُمْ يَظُنُّونَهُ سَائِلًا مُسْتَعْلِمًا وَلِذَلِكَ أَجَابُوا سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِمْ وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فَإِنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ (مَا) أَنَّهُ لِطَلَبِ شرح مَاهِيَّة الْمَسْئُول عَنْهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ لِزِيَادَةِ كَشْفِ مَعْنَاهَا الدَّالِّ عَلَى انْحِطَاطِهَا عَنْ رُتْبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ يَسْلُبُ عَنْهَا الِاسْتِقْلَالَ الذَّاتِيَّ. وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْكَلْدَانُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ (بَعْلُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَكَانَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ رَمْزُ الشَّمْسِ فِي عَهْدِ سَمِيرَمِيسَ، وَعَبَدُوا رُمُوزًا لِلْكَوَاكِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوحٍ: وَدًّا، وَسُوَاعًا، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرًا، إِمَّا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَإِمَّا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى. وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْنَامِ أَشُورَ (إِخْوَانِ الْكَلْدَانِ) صَنَمًا اسْمُهُ (نَسْرُوخُ) وَهُوَ نَسْرٌ لَا مَحَالَةَ.

وَجَعْلُ الْعُكُوفِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فِيهِ معنى الْعِبَادَة، فَذَلِك عُدِّيَ بِاللَّامِ لِإِفَادَةِ مُلَازَمَةِ عِبَادَتِهَا. وَجَاءُوا فِي جَوَابِهِ بِمَا تَوَهَّمُوا إِقْنَاعَهُ بِهِ وَهُوَ أَنَّ عِبَادَةَ تِلْكَ الْأَصْنَامِ كَانَتْ مِنْ عَادَةِ آبَائِهِمْ فَحَسِبُوهُ مِثْلَهُمْ يُقَدِّسُ عَمَلَ الْآبَاءِ وَلَا يَنْظُرُ فِي مُصَادَفَتِهِ الْحَقَّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَجَابَهُمْ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِلَامِ الْقَسَمِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مِنِ اجْتِلَابِ فِعْلِ الْكَوْنِ وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ، إِيمَاءٌ إِلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ وَانْغِمَاسِهِمْ فِيهِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ ضَلَالٌ بَوَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِ مُبِينٍ. فَلَمَّا ذَكَرُوا لَهُ آبَاءَهُمْ شَرَّكَهُمْ فِي التَّخْطِئَةِ بِدُونِ هَوَادَةٍ بِعَطْفِ الْآبَاءِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَلَا عُذْرَ لِآبَائِهِمْ فِي سنَن ذَلِكَ لَهُمْ لِمُنَافَاةِ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ لِحَقِيقَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. وَلِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ ضَلَالًا، وَإِيقَانِهِمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِّ، شَكُّوا فِي حَالِ إِبْرَاهِيمَ أَنَطَقَ عَنْ جِدٍّ مِنْهُ وَأَنَّ ذَلِكَ اعْتِقَادَهُ فَقَالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ، فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْحَقِّ الْمُقَابِلِ لِلَّعِبِ وَذَلِكَ مُسَمَّى الْجِدِّ. فَالْمَعْنَى: بِالْحَقِّ فِي اعْتِقَادِكَ أَمْ أَرَدْتَ بِهِ الْمَزْحَ، فَاسْتَفْهَمُوا وَسَأَلُوهُ أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالْمُرَادُ بِاللَّعِبِ هُنَا لَعِبُ الْقَوْلِ وَهُوَ الْمُسَمَّى مَزْحًا، وَأَرَادُوا بِتَأْوِيلِ

كَلَامِهِ بِالْمَزْحِ التَّلَطُّفَ مَعَهُ وَتَجَنُّبَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْبَاطِلِ اسْتِجْلَابًا لِخَاطِرِهِ لِمَا رَأَوْا مِنْ قُوَّةِ حُجَّتِهِ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوَصْفِ لَاعِبٍ إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مِنْ زُمْرَةِ اللَّاعِبِينَ مُبَالَغَةً فِي تَوَغُّلِ كَلَامِهِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمَزْحِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَائِلُهُ مُتَمَكِّنًا فِي اللَّعِبِ وَمَعْدُودًا مِنَ الْفَرِيقِ الْمَوْصُوفِ بِاللَّعِبِ. وَجَاءَ هُوَ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ وَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّمَاثِيلُ أَرْبَابًا إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ هِيَ مَصْنُوعَةٌ مَنْحُوتَةٌ مِنَ الْحِجَارَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] فَلَمَّا شَذَّ عَنْهَا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنْكَرٍ مِنْكُمْ فَهِيَ مَنْحُوتَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَمَا هِيَ إِلَّا مَرْبُوبَةٌ مَخْلُوقَةٌ وَلَيْسَتْ أَرْبَابًا وَلَا خَالِقَةً. فَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى فَطَرَهُنَّ ضَمِيرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا مَحَالَةَ. فَكَانَ جَوَابُ إِبْرَاهِيمَ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ مَعَ مُسْتَنَدِ الْإِبْطَالِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ. وَلَيْسَ فِيهِ طَرِيقَةُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا ظَنَّهُ الطِّيبِيُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ إِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ لِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ رَسُولَ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدٌ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْمِهِ مَنْ يَشْهَدُ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَنَّهُ بَعْضُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ الْأَزْمَانِ أَوِ الْأَقْطَارِ. وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: شَهِدَ الْفَرَزْدَقُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِِِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 58 إلى 61]

ثُمَّ انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْقَوْلِ إِلَى تَغْيِيرِهِ بِالْيَدِ مُعْلِنًا عَزْمَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ مُؤَكِّدًا عَزْمَهُ بِالْقَسَمِ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الْقَسَمِ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالتَّاءُ تَخْتَصُّ بِقَسَمٍ عَلَى أَمْرٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ وَتَخْتَصُّ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يُوسُفَ: 85] . وَسَمَّى تَكْسِيرَهُ الْأَصْنَامَ كَيْدًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِاعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَدْفَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَسَّهَا بِسُوءٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْكَيْدِ. وَالْكَيْدُ: التَّحَيُّلُ عَلَى إِلْحَاقِ الضُّرِّ فِي صُورَةٍ غَيْرِ مَكْرُوهَةٍ عِنْدَ الْمُتَضَرِّرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 28] . وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَيْدَهُ بِمَا بَعْدَ انْصِرَافِ الْمُخَاطَبِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الضُّرُّ بِالْأَصْنَامِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ عَزْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مَعَ كَوْنِهِ بِالْيَدِ مَقَامُ عَزْمٍ وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَلَوْ حَاوَلَ كَسْرَهَا بِحَضْرَتِهِمْ لَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ: إِزَالَتُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلِذَلِكَ فَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمِكْنَةِ. ومُدْبِرِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فِي [سُورَة بَرَاءَة: 25] . [58- 61] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 58 إِلَى 61] فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ

(61) الضَّمِيرَانِ البارزان فِي فَجَعَلَهُمْ وَفِي لَهُمْ عَائِدَانِ إِلَى الْأَصْنَامِ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ، وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقَرِينَةُ تَصْرِفُ الضَّمَائِرَ الْمُتَمَاثِلَةَ إِلَى مَصَارِفِهَا مِثْلَ ضَمِيرَيِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: 9] . وَالْجُذَاذُ- بِضَمِّ الْجِيمِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: اسْمٌ جَمْعُ جُذَاذَةٍ، وَهِيَ فُعَالَةٌ مِنَ الْجَذِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ مِثْلَ قُلَامَةٍ وَكُنَاسَةٍ، أَيْ كَسَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ قِطَعًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ جُذاذاً- بِكَسْرِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. قِيلَ: كَانَتِ الْأَصْنَامُ سَبْعِينَ صَنَمًا مُصْطَفَّةً وَمَعَهَا صَنَمٌ عَظِيمٌ وَكَانَ هُوَ مُقَابِلَ بَابِ بَيْتِ الْأَصْنَامِ، وَبَعْدَ أَنْ كَسَرَهَا جَعَلَ الْفَأْسَ فِي رَقَبَةِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ. وَمَعْنَى لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ الْأَقْوَامُ إِلَى اسْتِشَارَةِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ لِيُخْبِرَهُمْ بِمَنْ كَسَرَ بَقِيَّةَ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ جَهْلَهُمْ يُطْمِعُهُمْ فِي اسْتِشَارَةِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ اسْتِشَارَةُ سَدَنَتِهِ لِيُخْبِرُوهُمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ وَحْيِهِ الْمَزْعُومِ. وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ مِنْ قَوْله أَصْنامَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 57] . وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ مُحَاكَاةً لِمَعْنَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ قَوْمَهُ يَحْسُبُونَ الْأَصْنَامَ عُقَلَاءَ، وَمِثْلُهُ ضَمَائِرُ قَوْلِهِ بَعْدَهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: 63] .

وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَمِلَهُ بَعْدَ أَنْ جَادَلَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ وَرَأَى جِمَاحَهُمْ عَنِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقَوْلُ قَوْمِهِ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُ الْآلِهَةِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمْ فَرِيقٌ لَمْ يَسْمَعْ تَوَعُّدَ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدَ أَصْنَامَهُمْ وَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَ إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ. وَالْفَتَى: الذَّكَرُ الَّذِي قَوِيَ شَبَابُهُ. وَيَكُونُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْإِبِلِ. وَالْأُنْثَى: فَتَاةٌ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ صِفَةَ مَدْحٍ دَالَّةً عَلَى اسْتِكْمَالِ خِصَالِ الرَّجُلِ الْمَحْمُودَةِ. وَالذِّكْرُ: التَّحَدُّثُ بِالْكَلَامِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «يَذْكُرُ» لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِتَوَعُّدٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 36] كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَوْضِعُ جُمْلَتَيْ يَذْكُرُهُمْ ويُقالُ لَهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ فَتًى. وَفِي قَوْلِهِمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَحْثِ فِي الْقَضِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَرَادُوا تَحْقِيرَهُ بِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَإِنَّمَا يُدْعَى أَوْ يُسَمَّى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ لَيْسَ هُوَ مِنَ النَّاسِ الْمَعْرُوفِينَ. وَرُفِعَ إِبْراهِيمُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ يُقالُ، لِأَنَّ فِعْلَ الْقَوْلِ إِذَا بُنِيَ إِلَى الْمَجْهُولِ كَثِيرًا مَا يَضْمَنُ مَعْنَى الدَّعْوَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ، فَلِذَلِكَ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 62 إلى 67]

حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمُفْرَدِ الْبَحْتِ وَإِنْ كَانَ شَأْنُ فِعْلِ الْقَوْلِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى الْجُمْلَةِ أَوْ إِلَى مُفْرَدٍ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] . وَمَعْنَى عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ عَلَى مُشَاهَدَةِ النَّاسِ، فَاسْتُعِيرَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَمَكُّنِ الْبَصَرِ فِيهِ حَتَّى كَانَ الْمَرْئِيَّ مَظْرُوفٌ فِي الْأَعْيُنِ. وَمَعْنَى يَشْهَدُونَ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الَّذِي تَوَعَّدَ الْأَصْنَام بالكيد. [62- 67] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 62 إِلَى 67] قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) وَقَعَ هُنَا حَذْفُ جُمْلَةٍ تَقْتَضِيهَا دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأْتُوا بِهِ فَقَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَلْ إِبْطَالٌ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ (بَلْ) تَقْتَضِي نَفْيَ مَا دَلَّ عَلَى كَلَامِهِمْ مِنِ اسْتِفْهَامِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّشْكِيكِ، أَيْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِذْ لَمْ يَقْصِدْ إِبْرَاهِيمُ نِسْبَةَ التَّحْطِيمِ إِلَى الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ

لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِكَلَامٍ يُفِيدُ ظَنَّهُ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا مِنَ الْأَصْنَامِ إِلَّا الْكَبِيرُ. وَفِي تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُهُمْ هَذَا الَّذِي حَطَّمَهُمْ إِخْطَارُ دَلِيلِ انْتِفَاءِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُ أَوْهَمَهُمْ أَنَّ كَبِيرَهُمْ غَضِبَ مِنْ مُشَارَكَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَذَلِكَ تَدَرُّجٌ إِلَى دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَإِبْرَاهِيمُ فِي إِنْكَارِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاعِلَ أَرَادَ إِلْزَامَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى انْتِفَاءِ أُلُوهِيَّةِ الصَّنَمِ الْعَظِيمِ، وَانْتِفَاءِ أُلُوهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الْمُحَطَّمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى نِيَّة أَن يكر عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِبْطَالِ وَيُوقِنَهُمْ بِأَنَّهُ الَّذِي حَطَّمَ الْأَصْنَامَ وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَدَفَعَتْ عَنْ أَنْفُسِهَا وَلَوْ كَانَ كَبِيرُهُمْ كَبِيرَ الْآلِهَةِ لَدَفَعَ عَنْ حَاشِيَتِهِ وُحَرَفَائِهِ، وَلذَلِك قَالَ فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ مَا لَا يَنْطِقُ وَلَا يُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ أَهْلٍ لِلْإِلَهِيَّةِ. وَشَمل ضمير فَسْئَلُوهُمْ جَمِيعَ الْأَصْنَامِ مَا تَحَطَّمَ مِنْهَا وَمَا بَقِيَ قَائِمًا. وَالْقَوْمُ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَمْ تَكُنْ تَتَكَلَّمُ مِنْ قَبْلُ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُقْنِعَهُمْ بِأَنَّ حَدَثًا عَظِيمًا مِثْلَ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَنْطِقُوا بِتَعْيِينِ مَنْ فَعَلَهُ بِهِمْ. وَهَذَا نَظِيرُ اسْتِدْلَالِ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ عَلَى دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْرِقُ عَادَةً لِتَصْدِيقِ الْكَاذِبِ، فَخَلْقُهُ خَارِقَ الْعَادَةِ عِنْدَ تَحَدِّي الرَّسُولِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ تَصْدِيقَهُ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُ فِي ذَات الله- عَزَّ وَجَلَّ- قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي ... » وَسَاقَ الْحَدِيثَ.

فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَذَبَ فِي جَوَابِهِ عَنْ قَوْلِ قَوْمِهِ: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا حَيْثُ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، لِأَنَّ (بَلْ) إِذَا جَاءَ بَعْدَ اسْتِفْهَامٍ أَفَادَ إِبْطَالَ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. فَقَوْلُهُمْ: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ كَوْنِهِ مُحَطِّمَ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا قَالَ: بَلْ فَقَدْ نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ نَفْيٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ وَلِاعْتِقَادِهِ فَهُوَ كَذِبٌ. غَيْرَ أَنَّ الْكَذِبَ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ مِثْلَ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَهَذَا الْإِضْرَابُ كَانَ تَمْهِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُمُ الْحَقُّ بِآخِرَةٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ الْآيَةَ. أَمَّا الْإِخْبَارُ بِقَوْلِهِ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَلَيْسَ كَذِبًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ وَلِاعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ وَالْأَخْبَارَ إِنَّمَا تَسْتَقِرُّ بِأَوَاخِرِهَا وَمَا يَعْقُبُهَا، كَالْكَلَامِ الْمُعَقَّبِ بِشَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ تَنْبِيهَهُمْ عَلَى خَطَأِ عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ مَهَّدَ لِذَلِكَ كَلَامًا هُوَ جَارٍ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا إِلَهًا لَمَا رَضِيَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى شُرَكَائِهِ، فَلَمَّا حَصَلَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَحْضَرِ كَبِيرِهِمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَقَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ سَلَبَ الْإِلَهِيَّةَ عَنْ جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهَا كذبات فِي بادىء الْأَمْرِ وَأَنَّهَا عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكَذِبِ إِنَّمَا عِلَّتُهُ خَدْعُ الْمُخَاطَبِ وَمَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْخَبَرِ الْمَكْذُوبِ مِنْ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ بِخِلَافِهِ. فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ يُعْقَبُ بِالصِّدْقِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْكَذِبِ بَلْ كَانَ تَعْرِيضًا أَوْ مَزْحًا أَوْ نَحْوَهُمَا. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ كَذِبَاتٍ كَذَبَهَا» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَالَ كَلَامًا خِلَافًا لِلْوَاقِعِ بِدُونِ إِذن من اللَّهِ بِوَحْيٍ، وَلَكِنَّهُ ارْتَكَبَ قَوْلَ خِلَافِ الْوَاقِعِ لِضَرُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ فَخَشِيَ أَنْ لَا يُصَادِفَ اجْتِهَادُهُ الصَّوَابَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ فَخَشِيَ عِتَابَ اللَّهِ فَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَيْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى خِطَابِ بَعْضٍ وَأَعْرَضُوا عَنْ مُخَاطَبَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] ، أَيْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ مُرَادٌ مِنْهَا التَّوْزِيعُ كَمَا فِي: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى نَفْسِهِ، أَيْ تَرَكَ التَّأَمُّلَ فِي تُهْمَةِ إِبْرَاهِيمَ وَتَدَبَّرَ فِي دِفَاعِ إِبْرَاهِيمَ. فَلَاحَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَرِيءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا الْمَعْرُوفِ. وَالْجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ، أَيْ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ لَا إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّكُمْ أَلْصَقْتُمْ بِهِ التُّهْمَةَ بِأَنَّهُ ظَلَمَ أَصْنَامَنَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ نَسْأَلَهَا عَمَّنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ كَبِيرُهُمْ. وَالرُّجُوعُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ مُسْتَعَارٌ لِشَغْلِ الْبَالِ بِشَيْءٍ عَقِبَ شَغْلِهِ بِالْغَيْرِ، كَمَا يَرْجِعُ الْمَرْءُ إِلَى بَيْتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى مَكَانِ غَيْرِهِ. وَفِعْلُ نُكِسُوا مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ نَكَسَهُمْ نَاكِسٌ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ النَّكْسِ فَاعِلٌ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ فَصَارَ بِمَعْنَى: انْتَكَسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ. وَالنَّكْسُ: قَلْبُ أَعْلَى الشَّيْءِ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، يُقَالُ: صُلِبَ اللِّصُّ مَنْكُوسًا، أَيْ مَجْعُولًا رَأْسُهُ مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ، وَهُوَ أَقْبَحُ هَيْئَاتِ الْمَصْلُوبِ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ انْتِصَابِ جِسْمِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى قَدَمَيْهِ فَإِذَا نُكِّسَ صَارَ انْتِصَابُهُ كَأَنَّهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ هُنَا نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ تَمْثِيلًا لِتَغَيُّرِ رَأْيِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ كَمَا قَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إِلَى مُعَاوَدَةِ الضَّلَالِ بِهَيْئَةِ مَنْ تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُمْ مِنَ الِانْتِصَابِ عَلَى الْأَرْجُلِ إِلَى الِانْتِصَابِ عَلَى الرُّؤُوسِ مَنْكُوسِينَ. فَهُوَ مِنْ تَمْثِيلِ الْمَعْقُولِ

بِالْمَحْسُوسِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْنِيعُ. وَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ أَيْ عَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ بِأَنِ انْكَبُّوا انْكِبَابًا شَدِيدًا بِحَيْثُ لَا تَبْدُو رُؤُوسُهُمْ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أُخْرَى أَشَارَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَغَيَّرَتْ آرَاؤُهُمْ بَعْدَ أَنْ كَادُوا يَعْتَرِفُونَ بِحُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَرَجَعُوا إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالِانْتِصَارِ لِلْأَصْنَامِ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، أَيْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامَ لَا تَنْطِقُ فَمَا أردْت بِقَوْلِك فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ إِلَّا التَّنَصُّلَ مِنْ جَرِيمَتِكَ. فَجُمْلَةُ لَقَدْ عَلِمْتَ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. وَجُمْلَةُ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ تُفِيدُ تَقَوِّي الِاتِّصَافِ بِانْعِدَامِ النُّطْقِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ انْعِدَامِ آلَتِهِ وَهِيَ الْأَلْسُنُ. وَفِعْلُ عَلِمْتَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ انْتَهَزَ إِبْرَاهِيمُ الْفُرْصَةَ لِإِرْشَادِهِمْ مُفَرِّعَا عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا عَلَى عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا وَزَائِدًا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ. وَجَعَلَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهَا النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَلْزُومًا لِعَدَمِ النُّطْقِ لِأَنَّ النُّطْقَ هُوَ وَاسِطَةُ الْإِفْهَامِ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِفْهَامَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعْدُومُ الْعَقْلِ وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وأُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ دَالٌّ عَلَى الضَّجَرِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ صُورَةِ تَنَفُّسِ الْمُتَضَجِّرِ لِضِيقِ نَفْسِهِ مِنَ الْغَضَبِ. وَتَنْوِينُ أُفٍّ يُسَمَّى تَنْوِينَ التَّنْكِيرِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، أَيْ ضَجَرًا قَوِيًّا لَكُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: 23] فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ. وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِبَيَانِ الْمُتَأَفَّفِ بِسَبَبِهِ، أَيْ أُفٍّ لِأَجْلِكُمْ وَلِلْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 إلى 69]

وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَتَشْنِيعِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وفرّع عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّضَجُّرِ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا عَنْ عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِي الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فَقَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ. [68، 69] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 68 إِلَى 69] قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) لَمَّا غَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ لَمْ يَجِدُوا مُخَلِّصًا إِلَّا بِإِهْلَاكِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُبْطِلُ إِذَا قَرَعَتْ بَاطِلَهُ حُجَّةُ فَسَادِهِ غَضِبَ عَلَى الْمُحِقِّ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَفْزَعٌ إِلَّا مُنَاصَبَتُهُ وَالتَّشَفِّي مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ. وَاخْتَارَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ إِهْلَاكُهُ بِالْإِحْرَاقِ لِأَنَّ النَّارَ أَهْوَلُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ وَأَفْظَعُهُ. وَالتَّحْرِيقُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحَرْقِ، أَيْ حَرْقًا مُتْلِفًا. وَأُسْنِدَ قَوْلُ الْأَمْرِ بِإِحْرَاقِهِ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوا هَذَا الْقَوْلَ وَسَأَلُوا مَلِكَهُمْ، وَهُوَ (النُّمْرُوذُ) ، إِحْرَاقَ إِبْرَاهِيمَ فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِهِ لِأَنَّ الْعِقَابَ بِإِتْلَافِ النُّفُوسِ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا وُلَاةُ أُمُورِ الْأَقْوَامِ. قِيلَ الَّذِي أَشَارَ بِالرَّأْيِ بِإِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كُرْدِيٌّ اسْمُهُ (هِينُونُ) ، وَاسْتَحْسَنَ الْقَوْمُ ذَلِكَ، وَالَّذِي أَمَرَ بِالْإِحْرَاقِ (نُمْرُوذُ) ، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِمْ حَرِّقُوهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُشَاوَرَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مُؤَامَرَةً سِرِّيَّةً بَيْنَهُمْ دُونَ حَضْرَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُمْ دَبَّرُوهُ لِيَبْغَتُوهُ بِهِ خَشْيَةَ هُرُوبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً [الْأَنْبِيَاء: 70] . وَنُمْرُوذُ هَذَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ ابْنُ (كُوشَ) بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَزَمَنِ (كُوشَ) . فَالصَّوَابُ أَنَّ (نُمْرُوذَ)

مِنْ نَسْلِ (كُوشَ) . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (نُمْرُوذَ) لَقَبًا لِمَلِكِ (الْكَلْدَانِ) وَلَيْسَتْ عَلَمًا. وَالْمُقَدَّرُ فِي التَّارِيخِ أَنَّ مَلِكَ مَدِينَةِ (أُورَ) فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ (أَلْغَى بْنُ أُورَخَ) وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 258] . وَنَصْرُ الْآلِهَةِ بِإِتْلَافِ عَدُوِّهَا. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ النَّصْرَ، وَهَذَا تَحْرِيضٌ وَتَلْهِيبٌ لِحَمِيَّتِهِمْ. وَجُمْلَةُ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِمَّا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ كَالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ حَرِّقُوهُ فَأَشْبَهَتْ جُمَلَ الْمُحَاوَرَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ عَنْ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قِصَّةِ التَّآمُرِ عَلَى الْإِحْرَاقِ. وَبِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ جُمْلَةٍ أُخْرَى، أَيْ فَأَلْقَوْهُ فِي النَّارِ قُلْنَا: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِإِبْرَاهِيمَ إِذْ وَجَّهَ إِلَى النَّارِ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِسَلْبِ قُوَّةِ الْإِحْرَاقِ، وَأَنْ تَكُونَ بَرْدًا وَسَلَامًا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَزَالَ عَنْ مِزَاجِ إِبْرَاهِيمَ التَّأَثُّرَ بِحَرَارَةِ النَّارِ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كُونِي كَبَرْدٍ فِي عَدَمِ تَحْرِيقِ الْمُلْقَى فِيكِ بِحَرِّكِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا سَلَامًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَذِكْرُ سَلاماً بَعْدَ ذِكْرِ الْبَرْدِ كَالِاحْتِرَاسِ لِأَنَّ الْبَرْدَ مُؤْذٍ بِدَوَامِهِ رُبَّمَا إِذَا اشْتَدَّ، فَعَقَّبَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ السَّلَامِ لِذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَأَهْلَكَتْهُ بِبَرْدِهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَرْداً ثُمَّ أَتْبَعَ بِ سَلاماً وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى بَرْداً لِإِظْهَارِ عَجِيبِ صُنْعِ الْقُدْرَةِ إِذْ صَيَّرَ النَّارَ بَرْدًا. وعَلى إِبْراهِيمَ يَتَنَازَعُهُ بَرْداً وَسَلاماً. وَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي حُصُولِ نَفْعِهِمَا لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفعل الْكَوْن.

[سورة الأنبياء (21) : آية 70]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 70] وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) تَسْمِيَةُ عَزْمِهِمْ عَلَى إِحْرَاقِهِ كَيْدًا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ دَبَّرُوا ذَلِكَ خُفْيَةً مِنْهُ. وَلَعَلَّ قَصْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِنَ الْبَلَدِ فَلَا يَتِمُّ الِانْتِصَارُ لِآلِهَتِهِمْ. وَالْأَخْسَرُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْخَاسِرِ، فَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ. وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ خَسَارَتَهُمْ لَا تُدَانِيهَا خَسَارَةٌ وَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِوَصْفِ الْأَخْسَرِينَ فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ الْخَيْبَةُ. وَسُمِّيَتْ خَيْبَتُهُمْ خَسَارَةً عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِخَيْبَةِ قَصْدِهِمْ إِحْرَاقَهُ بِخَيْبَةِ التَّاجِرِ فِي تِجَارَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، أَيْ فَخَابُوا خَيْبَةً عَظِيمَةً. وَذَلِكَ أَنَّ خَيْبَتَهُمْ جُمِعَ لَهُمْ بِهَا سَلَامَةُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَثَرِ عِقَابِهِمْ وَإِنْ صَارَ مَا أَعَدُّوهُ لِلْعِقَابِ مُعْجِزَةً وَتَأْيِيدًا لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَأَمَّا شِدَّةُ الْخَسَارَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا اسْمُ التَّفْضِيلِ فَهِيَ بِمَا لَحِقَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ إِذْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الْحَجِّ: 44] فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ. وَقَدْ عُدَّ فِيهِمْ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ الْأَخْذَ بِوَجْهٍ مَقْبُولٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْآشُورِيِّينَ فَأَخَذُوا بِلَادَهُمْ، وَانْقَرَضَ مُلْكُهُمْ وَخَلَفَهُمُ الْأَشُورِيُّونَ، وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ الْعِيلَامِيِّينَ مِنْ أَهْلِ السُّوسِ تَسَلَّطُوا عَلَى بِلَادِ الْكَلْدَانِ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 2286 قبل الْمَسِيح. [71- 73] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 71 إِلَى 73] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ

(73) هَذِهِ نَجَاةٌ ثَانِيَةٌ بَعْدَ نَجَاتِهِ مِنْ ضُرِّ النَّارِ، هِيَ نَجَاتُهُ مِنَ الْحُلُولِ بَيْنَ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَهُ كَافِرِينَ بِرَبِّهِ وَرَبِّهِمْ، وَهِيَ نَجَاةٌ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَتِلْكَ بِأَنْ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ الْمُهَاجَرَةَ مِنْ بِلَادِ (الْكَلْدَانِ) إِلَى أَرْضِ (فِلَسْطِينَ) وَهِيَ بِلَادُ (كَنْعَانَ) . وَهِجْرَةُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ الدِّينِ. وَاسْتَصْحَبَ إِبْرَاهِيمُ مَعَهُ لُوطًا ابْنَ أَخِيهِ (هَارَانَ) لِأَنَّهُ آمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ. وَكَانَتْ سَارَةُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَهُمَا، وَقَدْ فُهِمَتْ مَعِيَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُهَاجِرُ إِلَّا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ. وَانْتَصَبَ لُوطاً عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ لَا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ لُوطًا لَمْ يَكُنْ مُهَدَّدًا مِنَ الْأَعْدَاءِ لِذَاتِهِ فَيَتَعَلَّقَ بِهِ فِعْلُ الْإِنْجَاءِ. وَضَمِنَ نَجَّيْناهُ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) . وَالْأَرْضُ: هِيَ أَرْضُ فِلَسْطِينَ. وَوَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهُ بَارَكَهَا لِلْعَالَمِينَ، أَيْ لِلنَّاسِ، يَعْنِي السَّاكِنِينَ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا أَرْضَ خِصْبٍ وَرَخَاءِ عَيْشٍ وَأَرْضَ أَمْنٍ. وَوَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا. وَالْبَرَكَةُ: وَفْرَةُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 96] . وَهِبَةُ إِسْحَاقَ لَهُ ازْدِيَادُهُ لَهُ عَلَى الْكِبَرِ وَبَعْدَ أَنْ يَئِسَتْ زَوْجُهُ سَارَةُ مِنَ الْوِلَادَةِ.

وَهِبَةُ يَعْقُوبَ ازْدِيَاده لِإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ وَرُؤْيَتُهُ إِيَّاهُ كَهْلًا صَالِحًا. وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ غَيْرُ الْمَوْعُودَةِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أَرَادَ الْوَلَدَ فَوُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ كَمَا فِي [سُورَةِ الصَّافَّاتِ: 100] ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ فَكَانَ نَافِلَةً، وَوُلِدَ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ فَكَانَ أَيْضًا نَافِلَةً. وَانْتَصَبَ نافِلَةً عَلَى الْحَالِ الَّتِي عَامِلُهَا وَهَبْنا فَتَكُونُ حَالًا مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ شَأْنُ الْحَالِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِهَا. وَتَنْوِينُ كُلًّا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: وَكُلُّهُمْ جَعَلْنَا صَالِحِينَ، أَيْ أَصْلَحْنَا نُفُوسَهُمْ. وَالْمُرَادُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا لُوطٌ فَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ الْمَعِيَّةِ وَسَيُخَصُّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ «جَعَلَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا دُونَ أَن يُقَال: وأيمة يَهْدُونَ، بِعَطْفِ أَئِمَّةً على صالِحِينَ، اهْتِمَامًا بِهَذَا الْجَعْلِ الشَّرِيفِ، وَهُوَ جَعْلُهُمْ هَادِينَ لِلنَّاسِ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُمْ صَالِحِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَأُعِيدَ الْفِعْلُ لِيَكُونَ لَهُ مَزِيدَ اسْتِقْرَارٍ. وَلِأَنَّ فِي إِعَادَةِ الْفِعْلِ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فَكَانَتْ إِعَادَتُهُ وَسِيلَةً إِلَى إِعَادَةِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ. وَفِي تِلْكَ الْإِعَادَةِ مِنَ الِاعْتِنَاءِ مَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَمَا يَظْهَرُ بِالذَّوْقِ. وَالْأَئِمَّةُ: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ الْقُدْوَةُ وَالَّذِي يَعْمَلُ كَعَمَلِهِ. وَأَصْلُ الْإِمَامِ الْمِثَالُ الَّذِي يُصْنَعُ الشَّيْءُ عَلَى صُورَتِهِ فِي الْخَيْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ.

وَجُمْلَةُ يَهْدُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُقَيِّدَةٌ لِمَعْنَى الْإِمَامَةِ، أَي أَنهم أيمة هُدًى وإرشاد. وَقَوله بِأَمْرِنا أَيْ كَانُوا هَادِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ الْوَحْيُ زِيَادَةً عَلَى الْجَعْلِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : «فِيهِ أَنَّ مَنْ صَلَحَ لِيَكُونَ قُدْوَةً فِي دِينِ اللَّهِ فَالْهِدَايَةُ مَحْتُومَةٌ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ هُوَ بِهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخِلَّ بِهَا وَيَتَثَاقَلَ عَنْهَا. وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَهْتَدِيَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهُدَاهُ أَعَمُّ وَالنُّفُوسُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْمَهْدِيِّ أَمْيَلُ» اه. وَهَذَا الْهَدْيُ هُوَ تَزْكِيَةُ نُفُوسِ النَّاسِ وَإِصْلَاحُهَا وَبَثُّ الْإِيمَانِ وَيَشْمَلُ هَذَا شُؤُونَ الْإِيمَانِ وَشُعَبَهُ وَآدَابَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ فَذَلِكَ إِقَامَةُ شَرَائِعِ الدِّينِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَدْ شَمِلَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِعْلَ الْخَيْراتِ. وفِعْلَ الْخَيْراتِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْخَيْراتِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لِأَنَّ الْخَيْرَاتِ مَفْعُولَةٌ وَلَيْسَتْ فَاعِلَةً فَالْمَصْدَرُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مَفْعُولُهُ، وَأَمَّا الْفَاعِلُ فَتَبَعٌ لَهُ، أَيْ أَنْ يَفْعَلُوا هُمْ وَيَفْعَلَ قَوْمُهُمُ الْخَيْرَاتِ، حَتَّى تَكُونَ الْخَيْرَاتُ مَفْعُولَةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، فَحَذَفَ الْفَاعِلَ لِلتَّعْمِيمِ مَعَ الِاخْتِصَارِ لِاقْتِضَاءِ الْمَفْعُولِ إِيَّاهُ. وَاعْتِبَارُ الْمَصْدَرِ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَبْنِيٍّ لِلنَّائِبِ جَائِزٌ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ. وَهَذَا مَا يُؤْذِنُ بِهِ صَنِيعُ الزَّمَخْشَرِيِّ. عَلَى أَنَّ الْأَخْفَشَ أَجَازَهُ بِدُونِ شَرْطٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْخَيْراتِ هُوَ الْمُوحَى بِهِ، أَيْ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامَ، فَيَكُونَ الْمَصْدَرُ قَائِمًا مَقَامَ الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ الطَّلَبُ، وَالتَّقْدِيرُ: افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: 4] .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 إلى 75]

وَتَخْصِيصُ إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ شُمُولِ الْخَيْرَاتِ إِيَّاهُمَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِمَا لِأَنَّ بِالصَّلَاةِ صَلَاحَ النَّفْسِ إِذِ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَبِالزَّكَاةِ صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ لِكِفَايَةِ عَوَزِ الْمُعْوِزِينَ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَعْنَى الْوَحْيِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ. ثُمَّ خَصَّهُمْ بِذِكْرِ مَا كَانُوا مُتَمَيِّزِينَ بِهِ عَلَى بَقِيَّةِ النَّاسِ مِنْ مُلَازَمَةِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ الْمُفِيدُ تَمَكُّنَ الْوَصْفِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ إِلَى أَنَّهُمْ أَفْرَدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ فَلَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ قَطُّ كَمَا تَقْتَضِيهِ رُتْبَةُ النُّبُوءَةِ مِنَ الْعِصْمَةِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ وَقْتِ التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 38] وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: 135] . [74، 75] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 74 إِلَى 75] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51] . وقدّم مفعول آتَيْنا اهْتِمَامًا بِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الْعِنَايَةِ إِذْ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَ ذِكْرُ قِصَّتِهِ بَعْدَ أَنْ جَرَى ذِكْرُهُ تَبَعًا لِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ بُعِثَ بِشَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَإِلَى قَوْمٍ غَيْرِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ، وَإِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مُوَاطِنَ غَيْرِ الْمَوَاطِنِ الَّتِي حَلَّ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ، بِخِلَافِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 إلى 77]

وَلِأَجْلِ الْبُعْدِ أُعِيدَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ لِيَظْهَرَ عَطْفُهُ عَلَى آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51] ، وَلَمْ يُعَدْ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَقِبَ هَذِهِ. وَأُعْقِبَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ بِقِصَّةِ لُوطٍ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَخُصَّ لُوطٌ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ لِأَنَّ أَحْوَالَهُ تَابِعَةٌ لِأَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُقَاوَمَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَوْمُ لُوطٍ مِنَ الشِّرْكِ اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِ الْفَوَاحِشِ الْفَظِيعَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ سُنَّةً فَإِنَّهَا أَثَرٌ مِنَ الشِّرْكِ. وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ، وَهُوَ النُّبُوءَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] . وَالْعِلْمُ: عِلْمُ الشَّرِيعَة، والتنوين فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ. وَالْقَرْيَةُ (سَدُومُ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَرْيَةِ أَهْلُهَا كَمَا مَرَّ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 82] . وَالْخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ بِتَأْوِيلِ الْفِعْلَةِ، أَيِ الشَّنِيعَةِ. وَالسَّوْءُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- مَصْدَرٌ، أَيِ الْقَبِيحُ الْمَكْرُوهُ. وَأَمَّا بِضَمِّ السِّينِ فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِمَا ذكر وَهُوَ أَعم مِنَ الْمَفْتُوحِ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالِاسْمِ أَضْعَفُ مِنَ الْوَصْف بِالْمَصْدَرِ. [76، 77] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 76 إِلَى 77] وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) لَمَّا ذَكَرَ أَشْهَرَ الرُّسُلِ بِمُنَاسَبَاتٍ أَعْقَبَ بِذِكْرِ أَوَّلِ الرُّسُلِ.

وَعَطَفَ وَنُوحاً على لُوطاً [الْأَنْبِيَاء: 74] ، أَيْ آتَيْنَا نُوحًا حُكْمًا وَعِلْمًا، فَحَذَفَ الْمَفْعُول الثَّانِي لآتينا [الْأَنْبِيَاء: 74] لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ آتَيْنَاهُ النُّبُوءَةَ حِينَ نَادَى، أَيْ نَادَانَا. وَمَعْنَى نَادَى دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَبِنَاءُ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ يَدُلُّ عَلَى مُضَافٍ إِلَيْهِ مُقَدَّرٍ، أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، أَيْ قَبْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَبْلِيَّةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ أَوْلِيَاءَهُ سُنَّتُهُ الْمُرَادَةُ لَهُ تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لِيَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ لَمْ تَشِذَّ عَنْ نَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ شَاذَّةٌ وَلَا فَاذَّةٌ. وَأَهْلُ نُوحٍ: أَهْلُ بَيْتِهِ عَدَا أَحَدِ بَنِيهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ. وَالْكَرْبُ الْعَظِيمُ: هُوَ الطُّوفَانُ. وَالْكَرْبُ: شِدَّةُ حُزْنِ النَّفْسِ بِسَبَبِ خَوْفٍ أَوْ حُزْنٍ. وَوَجْهُ كَوْنِ الطُّوفَانِ كَرْبًا عَظِيمًا أَنَّهُ يَهُولُ النَّاسَ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ وَعِنْدَ مَدِّهِ وَلَا يَزَالُ لَاحِقًا بِمَوَاقِعِ هُرُوبِهِمْ حَتَّى يَعُمَّهُمْ فَيَبْقَوْا زَمَنًا يَذُوقُونَ آلَامَ الْخَوْفِ فَالْغَرَقَ وَهُمْ يَغْرَقُونَ وَيَطْفُونَ حَتَّى يَمُوتُوا بِانْحِبَاسِ التَّنَفُّسِ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَرْبٌ مُتَكَرِّرٌ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْعَظِيمِ. وَعُدِّيَ نَصَرْناهُ بِحَرْفِ (مِنْ) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْمَنْعِ وَالْحِمَايَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 65] ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِ (عَلَى) لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَصْرٍ قَوِيٍّ تَحْصُلُ بِهِ الْمَنَعَةُ وَالْحِمَايَةُ فَلَا يَنَالُهُ الْعَدُوُّ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا نَصْرُهُ عَلَيْهِ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَالْمَعُونَةِ. وَوَصْفُ الْقَوْمِ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْغَرَقِ الَّذِي سَيُذْكَرُ بَعْدُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ عِلَّةٌ لِنَصْرِ نوح عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّ نَصْرَهُ يَتَضَمَّنُ إِضْرَارَ الْقَوْمِ الْمَنْصُورِ عَلَيْهِمْ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 إلى 79]

وَالسَّوْءُ- بِفَتْحِ السِّينِ- تَقَدَّمَ آنِفًا. وَإِضَافَةُ قَوْمٍ إِلَى السَّوْءِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالْعِنَادُ وَالِاسْتِسْخَارُ بِرَسُولِهِمْ. وأَجْمَعِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي فَأَغْرَقْناهُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْغَرَقِ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ نُوحٍ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَغْرَقَ ابْنَ نُوحٍ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى قَرَابَتِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ [سُورَةَ فُصِّلَتْ: 13] حَتَّى بَلَغَ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَزِعَ عُتْبَةُ وَقَالَ لَهُ: نَاشَدْتُكَ الرَّحِمَ. [78، 79] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 78 الى 79] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَدَاوُد وسليمن إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكنّا لحكمهم شهدين (78) ففهّمنا سليمن وكلّا ءاتينا حُكْمًا وَعِلْمًا شُرُوعٌ فِي عِدَادِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا. وَقَدْ رُوعِيَ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْمَزِيَّةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ إيتَاء الْكتاب المماثل لِلْقُرْآنِ وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ. وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَصْرٌ لَهُ مَيْزَةٌ خَاصَّةٌ مثل عصر دَاوُود وَسُلَيْمَانَ إِذْ تَطَوَّرَ أَمْرُ جَامِعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كَوْنِهَا مَسُوسَةً بِالْأَنْبِيَاءِ مِنْ عَهْدِ يُوشَعَ بْنِ نُونَ. ثُمَّ بِمَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوْضَى مِنْ بَعْدِ مَوْتِ (شَمْشُونَ) إِلَى قِيَامِ (شاول) حميّ دَاوُود إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا قَاصِرًا على قيادة الْجنَّة

وَلَمْ يَكُنْ نَبِيئًا، وَأَمَّا تَدْبِيرُ الْأُمُورِ فَكَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْقُضَاةِ مثل (صمويل) . فداوود أَوَّلُ مَنْ جُمِعَتْ لَهُ النُّبُوءَةُ وَالْمُلْكُ فِي أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَبَلَغَ مُلْكُ إِسْرَائِيلَ فِي مُدَّة دَاوُود حَدًّا عَظِيمًا مِنَ الْبَأْسِ وَالْقُوَّة وإخضاع الْأَعْدَاء. وأوتي دَاوُود الزَّبُورَ فِيهِ حِكْمَةٌ وَعِظَةٌ فَكَانَ تَكْمِلَةً لِلتَّوْرَاةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْلِيمَ شَرِيعَةٍ، فاستكمل زمن دَاوُود الْحِكْمَةَ وَرَقَائِقَ الْكَلَامِ. وَأُوتِيَ سُلَيْمَانُ الْحِكْمَةَ وَسُخِّرَ لَهُ أَهْلُ الصَّنَائِعِ وَالْإِبْدَاعِ فَاسْتَكْمَلَتْ دَوْلَةُ إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ عَظَمَةَ النِّظَامِ وَالثَّرْوَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالتِّجَارَةِ فَكَانَ فِي قصَّتهَا مَثَلٌ. وَكَانَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ مُنْتَظِمَةً فِي هَذَا السِّلْكِ الشَّرِيفِ سِلْكِ إِيتَاءِ الْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ. وَكَانَ فِي قصَّة دَاوُود وَسُلَيْمَانَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى فِقْهِ الْقَضَاءِ فَلذَلِك خص دَاوُود وَسُلَيْمَانُ بِشَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ أَخْبَارِهِمَا فَيَكُونُ داوُدَ عَطْفًا عَلَى نُوحاً فِي قَوْله وَنُوحاً [الْأَنْبِيَاء: 76] ، أَي وآتينا دَاوُود وَسُلَيْمَانَ حُكْمًا وَعِلْمًا إِذْ يَحْكُمَانِ ... إِلَى آخِرِهِ. فَ إِذْ يَحْكُمانِ مُتَعَلِّقٌ بِ (آتَيْنَا) الْمَحْذُوفِ، أَيْ كَانَ وَقْتُ حُكْمِهِمَا فِي قَضِيَّةِ الْحَرْثِ مَظْهَرًا مِنْ مظَاهر حكمهمَا وعلمهما. وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ، وَهُوَ النُّبُوءَةُ. وَالْعِلْمُ: أَصَالَةُ الْفَهْمِ. وإِذْ نَفَشَتْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَحْكُمانِ. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَةُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْعَدْلِ وَمَبَالِغِ تَدْقِيقِ فِقْهِ الْقَضَاءِ، وَالْجَمْعُ بَين الْمصَالح والتفاضل بَيْنَ مَرَاتِبِ الِاجْتِهَادِ،

وَاخْتِلَافُ طُرُقِ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ حَاصِلًا لِلْمُحِقِّ، فَمَضْمُونُهَا أَنَّهَا الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ مِنْ قَبْلُ. وخلاصتها أَن دَاوُود جَلَسَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ حِينَئِذٍ يَافِعًا فَكَانَ يَجْلِسُ خَارِجَ بَابِ بَيْتِ الْقَضَاءِ. فاختصم إِلَى دَاوُود رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَامِلٌ فِي حَرْثٍ لِجَمَاعَةٍ فِي زَرْعٍ أَوْ كَرْمٍ، وَالْآخَرُ رَاعِي غَنَمٍ لِجَمَاعَةٍ، فَدَخَلَتِ الْغَنَمُ الْحَرْثَ لَيْلًا فَأَفْسَدَتْ مَا فِيهِ فَقضى دَاوُود أَنْ تُعْطَى الْغَنَمُ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ إِذْ كَانَ ثَمَنُ تِلْكَ الْغَنَمِ يُسَاوِي ثَمَنَ مَا تَلِفَ مِنْ ذَلِكَ الْحَرْثِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِذَلِكَ وَخَرَجَ الْخَصْمَانِ فَقُصَّ أَمْرُهُمَا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا قَاضِيًا لَحَكَمْتُ بِغَيْرِ هَذَا. فَبلغ ذَلِك دَاوُود فَأَحْضَرَهُ وَقَالَ لَهُ: بِمَاذَا كُنْتَ تَقْضِي؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ مَا هُوَ أَرْفَقُ بِالْجَمِيعِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أَنْ يَأْخُذَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ الْحَرْثَ يَقُومُ عَلَيْهِ عَامِلُهُمْ وَيُصْلِحُهُ عَامًا كَامِلًا حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَيَرُدَّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ أَصْحَابُ الْحَرْثِ الْغَنَمَ تُسَلَّمُ لِرَاعِيهِمْ فَيَنْتَفِعُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَنَسْلِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِذَا كَمُلَ الْحَرْثُ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ صَرَفَ إِلَى كُلِّ فَرِيقٍ مَا كَانَ لَهُ. فَقَالَ دَاوُود: وُفِّقَتْ يَا بُنَيَّ. وَقَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ. فَمَعْنَى نَفَشَتْ فِيهِ دَخَلَتْهُ لَيْلًا، قَالُوا: وَالنَّفْشُ الِانْفِلَاتُ لِلرَّعْيِ لَيْلًا. وَأُضِيفَ الْغَنَمُ إِلَى الْقَوْمِ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى غَنَمُ الْقَوْمِ. وَكَذَلِكَ كَانَ الْحَرْثُ شَرِكَةً بَيْنَ أُنَاسٍ. كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا أخرجه ابْن جرير فِي «تَفْسِيره» من كَلَام مُجَاهِد وَمرَّة وَقَتَادَة، وَمَا أخرجه ابْن كثير فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ مَسْرُوقٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ تَقْرِيرِ «الْكَشَّافِ» . وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى مِنْ ذِكْرِ رَجُلَيْنِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ اللَّذَيْنِ حَضَرَا لِلْخُصُومَةِ هُمَا رَاعِي الْغَنَمِ وَعَامِلُ الْحَرْثِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضى عطف دَاوُود وَسُلَيْمَانَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أَيْ عَالِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَمُقْتَضَى وُقُوعِ الْحُكْمَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، إِذْ إِنَّ الْحُكْمَيْنِ لَمْ يَكُونَا عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُمَا إِنَّمَا كَانَا عَنْ علم أوتيه دَاوُود وَسُلَيْمَانُ، فَذَلِكَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالِاجْتِهَادِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَاد للأنبياء ولنبينا عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَوُقُوعِهِ فِي مُخْتَلِفِ الْمَسَائِلِ. وَقَدْ كَانَ قَضَاء دَاوُود حَقًّا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى غُرْمِ الْأَضْرَارِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِينَ فِي إِهْمَالِ الْغَنَمِ، وَأَصْلُ الْغُرْمِ أَنْ يَكُونَ تَعْوِيضًا نَاجِزًا فَكَانَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ حَقًّا. وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي إِفْسَادِ الْمَوَاشِي. وَكَانَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ حَقًّا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى إِعْطَاءِ الْحَقِّ لِذَوِيهِ مَعَ إِرْفَاقِ الْمَحْقُوقِينَ بِاسْتِيفَاءِ مَالِهِمْ إِلَى حِينٍ فَهُوَ يُشْبِهُ الصُّلْحَ. وَلَعَلَّ أَصْحَابَ الْغَنَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِوَاهَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِحُكْمِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّ الْخَصْمَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْإِنْصَافِ لَا مِنْ أَهْلِ الِاعْتِسَافِ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَيَا لَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى حكم دَاوُود إِذْ لَيْسَ الْإِرْفَاقُ بِوَاجِبٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَضَاءُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بِأَنْ يَمُرَّ الْمَاءُ مِنَ (الْعُرَيْضِ) عَلَى أَرْضِهِ إِلَى أَرْضِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ وَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ. وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَأَنَّهُمَا يَرْضَيَانِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ قَضَاءُ سُلَيْمَانَ أَرْجَحَ. وَتُشْبِهُ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ فِي السَّقْيِ مِنْ مَاءِ شِرَاجِ الْحَرَّةِ إِذْ قَضَى أَوَّلَ مَرَّةٍ بِأَنْ

يُمْسِكَ الزُّبَيْرُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى جَارِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَرْضَ الْأَنْصَارِيُّ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِأَنْ يُمْسِكَ الزُّبَيْرُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ ثُمَّ يُرْسِلَ، فَاسْتَوْفَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ. وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَرْفَقِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَرْضَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ قُضِيَ بَيْنَهُمَا بِالْفَصْلِ، فَكَانَ قَضَاءُ النَّبِيءِ مُبْتَدَأً بِأَفْضَلِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى نَحْوِ قَضَاءِ سُلَيْمَانَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَنَّهُ أَلْهَمَهُ وَجْهًا آخَرَ فِي الْقَضَاءِ هُوَ أَرْجَحُ لِمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّفْهِيمِ مِنْ شِدَّةِ حُصُولِ الْفِعْلِ أَكْثَرَ مِنْ صِيغَةِ الْإِفْهَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فَهْمَ سُلَيْمَانَ فِي الْقَضِيَّةِ كَانَ أَعْمَقَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمَا فَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يَتَجَاذَبُهُ دَلِيلَانِ فَيُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالْمُرَجِّحَاتُ لَا تَنْحَصِرُ، وَقَدْ لَا تَبْدُو لِلْمُجْتَهِدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَ سُلَيْمَانَ عِنْدَ أَبِيهِ لِيَزْدَادَ سُرُورُهُ بِهِ، وَلِيَتَعَزَّى عَلَى مَنْ فَقَدَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ قَبْلَ مِيلَادِ سُلَيْمَانَ. وَحَسْبُكَ أَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِقَضَاءِ النَّبِيءِ فِي قَضِيَّةِ الزُّبَيْرِ، وَلِلِاجْتِهَادَاتِ مَجَالٌ فِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ، وَفِي الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ، وَفِي مَرَاتِبِ التَّرْجِيحِ، وَفِي عُذْرِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَخْطَأَ الِاجْتِهَادَ أَوْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْمَعَارِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمَا. وَفِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ أَصْلًا فِي رُجُوعِ الْحَاكِمِ عَنْ حُكْمِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ الْآيَةُ وَلَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَأْصِيلًا وَأَنَّ مَا حَاوَلَاهُ مِنْ ذَلِكَ غَفْلَةٌ. وَإِضَافَةُ (حُكْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ اجْتِمَاعِ الْحَاكِمِينَ وَالْمُتَحَاكِمِينَ. وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَفَهَّمْناها، وَلَمْ يَتَّقَدَّمْ لَفْظٌ مُعَادٌ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، عَلَى تَأْوِيلِ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِحُكْمِهِمْ بِمَعْنَى الْحُكُومَةِ أَوِ الْخُصُومَةِ.

وَجُمْلَةُ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً تَذْيِيلٌ لِلِاحْتِرَاسِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَن حكم دَاوُود كَانَ خَطَأً أَوْ جَوْرًا وَإِنَّمَا كَانَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ أَصْوَبَ. وَتَقَدَّمت تَرْجَمَة دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 163] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 84] . وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 102] . وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ هَذِهِ مَزِيَّةٌ اختصّ بهَا دَاوُود وَهِي تَسْخِيرُ الْجِبَالِ لَهُ وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَتْهُ جُمْلَةُ يُسَبِّحْنَ فَهِيَ إِمَّا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ سَخَّرْنا أَوْ حَالٌ مُبَيِّنَةٌ. وَذِكْرُهَا هُنَا اسْتِطْرَادٌ وَإِدْمَاجٌ. وَالطَّيْرَ عَطْفٌ عَلَى الْجِبالَ أَوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ، أَيْ مَعَ الطَّيْرِ يَعْنِي طَيْرَ الْجِبَالِ. ومَعَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يُسَبِّحْنَ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لإِظْهَار كَرَامَة دَاوُود، فَيَكُونُ الْمَعْنى: أَن دَاوُود كَانَ إِذَا سَبَّحَ بَيْنَ الْجِبَالِ سَمِعَ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مِثْلَ تَسْبِيحِهِ. وَهَذَا مَعْنَى التَّأْوِيبِ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] إِذِ التَّأْوِيبُ التَّرْجِيعُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ. وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ إِذَا سَمِعَتْ تَسْبِيحَهُ تُغَرِّدُ تَغْرِيدًا مِثْلَ تَسْبِيحِهِ وَتِلْكَ كُلُّهَا مُعْجِزَةٌ لَهُ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّسْخِيرُ حَاصِلًا لَهُ بَعْدَ أَنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ تَعْدَادِهِ فِي

[سورة الأنبياء (21) : آية 80]

عِدَادِ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ دَلَائِلِ الْكَرَامَةِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يعرف لداوود بَعْدَ أَنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ مُزَاوَلَةُ صُعُودِ الْجِبَالِ وَلَا الرَّعْيِ فِيهَا وَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِ النُّبُوءَةِ رَاعِيًا. فَلَعَلَّ هَذَا التَّسْخِيرَ كَانَ أَيَّامَ سِيَاحَتِهِ فِي جَبَلِ بَرِّيَّةِ (زَيْفٍ) الَّذِي بِهِ كَهْفٌ كَانَ يأوي إِلَيْهِ دَاوُود مَعَ أَصْحَابِهِ الْمُلْتَفِّينَ حَوْلَهُ فِي تِلْكَ السِّيَاحَةِ أَيَّامَ خُرُوجِهِ فَارًّا مِنَ الْمَلِكِ شَاوَلَ (طَالُوتَ) حِينَ تَنَكَّرَ لَهُ شَاوَلُ بِوِشَايَةِ بعض حساد دَاوُود، كَمَا حُكِيَ فِي الْإِصْحَاحَيْنِ 23- 24 مِنْ سِفْرِ صَمْوِيلَ الْأَوَّلِ. وَهَذَا سِرُّ التَّعْبِيرِ بِ (مَعَ) مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ سَخَّرْنا هُنَا. وَفِي آيَةِ سُورَةِ ص إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَسْخِيرُ مُتَابَعَةٍ لَا تَسْخِيرُ خِدْمَةٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْآتِي وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الْأَنْبِيَاء: 81] إِذْ عُدِّيَ فِعْلُ التَّسْخِيرِ الَّذِي نَابَتْ عَنْهُ وَاوُ الْعَطْفِ بِلَامِ الْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ (مَعَ) فِي آيَةِ [سُورَةِ سَبَأٍ: 10] يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ. وَفِي هَذَا التَّسْخِيرِ لِلْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَهُ كَرَامَةٌ وَعِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ إِذْ آنَسَهُ بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ فِي وَحْدَتِهِ فِي الْجِبَالِ وَبُعْدِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ. وَجُمْلَةُ وَكُنَّا فاعِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَمَّا أوتيه دَاوُود. وَفَاعِلُ هُنَا بِمَعْنَى قَادِرٍ، لِإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَهُ. وَفِي اجْتِلَابِ فِعْلِ الْكَوْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ شَأْنٌ ثَابِتٌ لِلَّهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ وَكُنَّا قَادِرِينَ على ذَلِك. [80] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 80] وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَامْتَنَّ اللَّهُ بصنعة علّمها دَاوُود فَانْتَفَعَ بِهَا النَّاسُ وَهِيَ صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، أَيْ دُرُوعُ السَّرْدِ. قِيلَ كَانَتِ الدُّرُوعُ من قبل دَاوُود ذَاتَ

حَرَاشِفَ مِنَ الْحَدِيدِ، فَكَانَتْ تَثْقُلُ عَلَى الْكُمَاةِ إِذَا لَبِسُوهَا فألهم الله دَاوُود صُنْعَ دُرُوعِ الْحَلَقِ الدَّقِيقَةِ فَهِيَ أَخَفُّ مَحْمَلًا وَأَحْسَنُ وِقَايَةً. وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ صَمْوِيلَ الْأَوَّلِ أَنَّ جَالُوتَ الْفِلَسْطِينِيَّ خرج لمبارزة دَاوُود لَابِسًا دِرْعًا حَرْشَفِيًّا، فَكَانَتِ الدُّرُوعُ الْحَرْشَفِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي وَقت شباب دَاوُود فَاسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ دُرُوعَ السَّرْدِ. وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَقَدْ أَجَادَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ وَصْفَهَا بِقَوْلِهِ: شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ ... من نسج دَاوُود فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ (¬1) وَكَانَتِ الدُّرُوعُ التُّبَّعِيَّةُ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعَرَبِ فَلَعَلَّ تُبَّعًا اقْتَبَسَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل بعد دَاوُود أَوْ لَعَلَّ الدُّرُوعَ التُّبَّعِيَّةَ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْحَرَاشِفِ، وَقَدْ جَمَعَهَا النَّابِغَةُ بِقَوْلِهِ: وَكُلُّ صَمُوتٍ نِثْلَةٌ تُبَّعِيَّةٌ ... وَنَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قَمْصَاءَ ذَائِلِ أَرَادَ بِسُلَيْمٍ تَرْخِيمَ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي سُلَيْمَان بن دَاوُود، فَنَسَبَ عَمَلَ أَبِيهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُدَّخِرًا لَهَا. واللبوس- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَصْلُهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْبَسُ فَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ رَسُولٍ. وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا يُلْبَسُ مِنْ لَامَةِ الْحَرْبِ مِنَ الْحَدِيدِ، وَهُوَ الدِّرْعُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الدِّرْعِ لِبَاسٌ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَبُوسٌ كَمَا يُطْلَقُ لَبُوسٌ عَلَى الثِّيَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّبُوسُ فِي اللُّغَةِ السِّلَاحُ فَمِنْهُ الرُّمْحُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ. وَمَعِي لَبُوسٌ لِلْبَئِيسِ كَأَنَّهُ ... رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعَاجٍ مُجْفِلِ (¬2) ¬

(¬1) القفعاء: بقاف ففاء فعين: بزْرَة صحراء نبت ينبسط على وَجه الأَرْض يشبه حلق الدروع. (¬2) البئيس: الشجاع، وَذُو النعاج: الثور الوحشي مَعَه نعاجه أَي إناثه فَهُوَ مجفل من الصَّائِد.

[سورة الأنبياء (21) : آية 81]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُحْصِنَكُمْ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ إِضْمَارِ لَفْظِ لَبُوسٍ. وَإِسْنَادُ الْإِحْصَانِ إِلَى اللَّبُوسِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- عَلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى لَبُوسٍ بِالدِّرْعِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ لِنُحْصِنَكُمْ بِالنُّونِ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي لَكُمْ، لِيُحْصِنَكُمْ، مِنْ بَأْسِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 50] لِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا شُكْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي مِنْهَا هَذِهِ النِّعْمَةُ إِذْ عَبَدُوا غَيْرَهُ. وَالْإِحْصَانُ: الْوِقَايَةُ وَالْحِمَايَةُ. وَالْبَأْسُ: الْحَرْبُ. وَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي اسْتِبْطَاءِ عَدَمِ الشُّكْرِ وَمُكَنًّى بِهِ عَنِ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ. وَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ إِيلَاءِ (هَلْ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مَعَ أَنَّ لِ (هَلْ) مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِالْفِعْلِ، فَلَمْ يَقُلْ: فَهَلْ تَشْكُرُونَ، وَعَدَلَ إِلَى فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ لِيَدُلَّ الْعُدُولُ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الِاسْمِيَّةُ مِنْ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ، أَيْ فَهَلْ تَقَرَّرَ شُكْرُكُمْ وَثَبت لِأَن تقرر الشُّكْرِ هُوَ الشَّأْنُ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ النِّعْمَةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فِي آيَةِ تَحْرِيم الْخمر [الْمَائِدَة: 91] . [81] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 81] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الْأَنْبِيَاء: 79] بِمُنَاسَبَةِ تَسْخِيرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ فِي كِلْتَا الْقصَّتَيْنِ معْجزَة للنبئين عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

وَالْأَرْضُ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا هِيَ أَرْضُ الشَّامِ. وَتَسْخِيرُ الرِّيحِ: تَسْخِيرُهَا لِمَا تَصْلُحُ لَهُ، وَهُوَ سَيْرُ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَحْرِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَجْرِي إِلَى الشَّامِ رَاجِعَةً عَنِ الْأَقْطَارِ الَّتِي خَرَجَتْ إِلَيْهَا لِمَصَالِحِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ بِقَرِينَةِ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِسُلَيْمَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً لِفَائِدَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي هُوَ مَلِكُهَا. وَعُلِمَ مِنْ أَنَّهَا تَجْرِي إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ حَامِلَةً الْجُنُودَ أَوْ مُصَدِّرَةً الْبَضَائِعَ الَّتِي تُصَدِّرُهَا مَمْلَكَةُ سُلَيْمَانَ إِلَى بِلَادِ الْأَرْضِ وَتُقْفِلُ رَاجِعَةً بِالْبَضَائِعِ وَالْمِيرَةِ وَمَوَادِّ الصِّنَاعَةِ وَأَسْلِحَةِ الْجُنْدِ إِلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَقَعَ فِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِمَا اكْتَفَى عَنْهُ هُنَا فِي آيَةِ سُورَةِ سَبَأٍ [12] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ. وَوَصْفُهَا هُنَا بِ عاصِفَةً بِمَعْنَى قَوِيَّةٍ. وَوَصْفُهَا فِي سُورَةِ ص [36] بِأَنَّهَا رُخاءً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالرُّخَاءُ: اللَّيْلَةُ الْمُنَاسِبَةُ لِسَيْرِ الْفُلْكِ. وَذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِسْرَاعَ فِي السَّيْرِ سَارَتْ عَاصِفَةً وَإِذَا أَرَادَ اللِّينَ سَارَتْ رُخَاءً، وَالْمُقَامُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُوَاتَاةُ لِإِرَادَةِ سُلَيْمَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي بِأَمْرِهِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمُشْعِرُ بِاخْتِلَافِ مَقْصِدِ سُلَيْمَانَ مِنْهَا كَمَا إِذَا كَانَ هُوَ رَاكِبًا فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يُرِيدُهَا رُخَاءً لِئَلَّا تُزْعِجَهُ وَإِذَا أَصْدَرَتْ مَمْلَكَتُهُ بِضَاعَةً أَوِ اجْتَلَبَتْهَا سَارَتْ عَاصِفَةً وَهَذَا بَيِّنٌ بِالتَّأَمُّلِ. وَعَبَّرَ بِأَمْرِهِ عَنْ رَغْبَتِهِ وَمَا يُلَائِمُ أَسْفَارَ سَفَائِنِهِ وَهِيَ رِيَاحٌ مَوْسِمِيَّةٌ مُنْتَظِمَةٌ سَخَّرَهَا اللَّهُ لَهُ. وَأَمْرُ سُلَيْمَانَ دُعَاؤُهُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ الرِّيحَ كَمَا يُرِيدُ سُلَيْمَانُ: إِمَّا دَعْوَةٌ عَامَّةٌ كَقَوْلِهِ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] فَيَشْمَلُ

[سورة الأنبياء (21) : آية 82]

كُلَّ مَا بِهِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ الْمُلْكِ وَتَصَارِيفِهِ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ خَاصَّةٌ عِنْدَ كُلِّ سَفَرٍ لِمَرَاكِبِ سُلَيْمَانَ فَجَعَلَ اللَّهُ الرِّيَاحَ الْمَوْسِمِيَّةَ فِي بِحَارِ فِلَسْطِينَ مُدَّةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ إِكْرَامًا لَهُ وتأييدا إِذا كَانَ هَمُّهُ نَشْرَ دِينِ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا تَجْرِي لِسُفُنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ الرِّيحَ لِكُلِّ السُّفُنِ الَّتِي فِيهَا مَصْلَحَةُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِ سُفُنُ (تَرْشِيشٍ) - يَظُنُّ أَنَّهَا طَرْطُوشَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ أَوْ قَرْطَجَنَّةَ بِإِفْرِيقِيَّةَ- وَسُفُنُ حِيرَامَ مَلِكِ صُورَ حَامِلَةً الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْعَاجَ وَالْقِرَدَةَ وَالطَّوَاوِيسَ وَهَدَايَا الْآنِيَةِ وَالْحُلَلَ وَالسِّلَاحَ وَالطِّيبَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 10 مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ. وَجُمْلَةُ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَسُوقَةِ لِذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِسُلَيْمَانَ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ لِمَصَالِحِ سُلَيْمَانَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ بِمُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْأَقَالِيمِ وَمَا هُوَ مِنْهَا لَائِقٌ بِمَصْلَحَةِ سُلَيْمَانَ فَيُجْرِي الْأُمُورَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أَرَادَهَا سُبْحَانَهُ إِذْ قَالَ: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ [ص: 20] . [82] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 82] وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) هَذَا ذِكْرُ مُعْجِزَةٍ وَكَرَامَةٍ لِسُلَيْمَانَ. وَهِيَ أَنْ سَخَّرَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُوَى الْمُجَرَّدَةِ مِنْ طَوَائِفِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ الَّتِي تَتَأَتَّى لَهَا مَعْرِفَةُ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ مِنْ غَوْصِ الْبِحَارِ لِاسْتِخْرَاجِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَمِنْ أَعْمَالٍ أُخْرَى أُجْمِلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ. وَفُصِّلَ بَعْضُهَا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 إلى 84]

فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ: 13] وَهَذِهِ أَعْمَالٌ مُتَعَارَفَةٌ. وَإِنَّمَا اخْتُصَّ سُلَيْمَانُ بِعَظَمَتِهَا مِثْلَ بِنَاءِ هَيْكَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِسُرْعَةِ إِتْمَامِهَا. وَمَعْنَى وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَنَّ اللَّهَ بِقُدْرَتِهِ سَخَّرَهُمْ لِسُلَيْمَانَ وَمَنَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَنْفَلِتُوا عَنْهُ أَوْ أَنْ يَعْصُوهُ، وَجَعَلَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي خَفَاءٍ وَلَا يُؤْذُوا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَ اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ بَيْنَ تَسْخِيرِهِمْ لِسُلَيْمَانَ وَعِلْمِهِ كَيْفَ يَحْكُمُهُمْ وَيَسْتَخْدِمُهُمْ وَيُطَوِّعُهُمْ، وَجَعَلَهُمْ مُنْقَادِينَ لَهُ وَقَائِمِينَ بِخِدْمَتِهِ دُونَ عَنَاءٍ لَهُ، وَحَالَ دُونَهُمْ وَدُونَ النَّاسِ لِئَلَّا يُؤْذُوهُمْ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ لَمْ يُسَخِّرِ اللَّهُ الْجِنَّ لِغَيْرِهِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ إِذْ قَالَ: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] . وَلَمَّا مَكَّنَ اللَّهُ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِنِّيِّ الَّذِي كَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ وَهَمَّ بِأَنْ يَرْبُطَهُ، ذَكَرَ دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ فَأَطْلَقَهُ فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ التَّمْكِينِ مِنَ الْجِنِّ وَبَيْنَ تَحْقِيقِ رَغْبَةِ سُلَيْمَانَ. وَقَوْلُهُ لَهُمْ يَتَعَلَّقُ بِ حافِظِينَ وَاللَّامُ لَامُ التَّقْوِيَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: حَافِظِينَهُمْ، أَيْ مَانِعِينَهْمُ عَن النَّاس. [83، 84] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 83 إِلَى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) عَطْفٌ عَلَى وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ [الْأَنْبِيَاء: 78] أَيْ وَآتَيْنَا أَيُّوبَ حُكْمًا وَعِلْمًا إِذْ نَادَى رَبَّهُ. وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ مَعَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنَ الصَّبْرِ حَتَّى كَانَ مَثَلًا فِيهِ. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَأَمَّا الْقِصَّةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ الْمُفَصَّلَةُ فِي السِّفْرِ الْخَاصِّ بِأَيُّوبَ مِنْ أَسْفَارِ النَّبِيئِينَ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ. وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ كَانَ نَبِيئًا وَذَا ثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ وَعَائِلَةٍ صَالِحَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ، ثُمَّ ابْتُلِيَ بِإِصَابَاتٍ لَحِقَتْ أَمْوَالَهُ مُتَتَابِعَةً فَأَتَتْ عَلَيْهَا، وَفَقَدَ أَبْنَاءَهُ السَّبْعَةَ وَبَنَاتِهِ الثَّلَاثَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ. ثُمَّ ابْتُلِيَ بِإِصَابَةِ قُرُوحٍ فِي جَسَدِهِ وَتَلَقَّى ذَلِكَ كُلَّهُ بِصَبْرٍ وَحِكْمَةٍ وَهُوَ يَبْتَهِلُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّمْجِيدِ وَالدُّعَاءِ بِكَشْفِ الضُّرِّ. وَتَلَقَّى رِثَاءَ أَصْحَابِهِ لِحَالِهِ بِكَلَامٍ عَزِيزِ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِمَوَاعِظَ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَأَخْلَفَهُ مَالًا أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدَتْ لَهُ زَوْجُهُ أَوْلَادًا وَبَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ هَلَكُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ ذُكِرَتْ قِصَّتُهُ بِأَبْسَطَ مِنْ هُنَا فِي سُورَةِ ص، وَلِأَهْلِ الْقَصَصِ فِيهَا مُبَالَغَاتٌ لَا تَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوءَةِ. وَ (إِذْ) ظَرْفٌ قُيِّدَ بِهِ إِيتَاءُ أَيُّوبَ رِبَاطَةَ الْقَلْبِ وَحِكْمَةَ الصَّبْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ أَجْلَى مَظَاهِرِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْقِصَّةُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ [الْأَنْبِيَاء: 76] فَصَارَ أَيُّوبُ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الصَّبْرِ. وَقَوْلِهِ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ، أَيْ نَادَى ربه بِأَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ. وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ الْخَفِيفَةُ. وَالتَّعْبِيرُ بِهِ حِكَايَةً لِمَا سَلَكَهُ أَيُّوبُ فِي دُعَائِهِ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ الضُّرِّ كَالْمَسِّ الْخَفِيفِ. وَالضُّرُّ- بِضَمِّ الضَّادِ- مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْءُ فِي جَسَدِهِ مِنْ مرض أَو هزال، أَوْ فِي مَالِهِ مِنْ نَقْصٍ وَنَحْوِهِ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ التَّعْرِيضُ بِطَلَبِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِدُونِ سُؤَالٍ فَجَعَلَ وَصْفَ نَفْسِهِ بِمَا يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لَهُ، وَوَصْفَ رَبِّهِ بِالْأَرْحَمِيَّةِ تَعْرِيضًا بِسُؤَالِهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَكَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَكْمَلُ الرَّحَمَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَرْحَمَهُ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعًا لِلرِّقَّةِ الْعَارِضَةِ لِلنَّفْسِ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَنْ تَحِقُّ الرَّحْمَةُ لَهُ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ قَصْدِ نَفْعٍ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ تَعَالَى عِبَادَهُ فَهِيَ خَلِيَّةٌ عَنِ اسْتِجْلَابِ فَائِدَةٍ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ. وَلِكَوْنِ ثَنَاءِ أَيُّوبَ تَعْرِيضًا بِالدُّعَاءِ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، أَيِ اسْتَجَبْنَا دَعْوَتَهُ الْعُرْضِيَّةَ بِإِثْرِ كَلَامِهِ وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، إِشَارَةً إِلَى سُرْعَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ، وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ فِي الْبُرْءِ وَحُصُولِ الرِّزْقِ وَوِلَادَةِ الْأَوْلَادِ. وَالْكَشْفُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِزَالَةِ السَّرِيعَةِ. شُبِّهَتْ إِزَالَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَضْرَارِ الْمُتَمَكِّنَةِ الَّتِي يُعْتَادُ أَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِطُولٍ بِإِزَالَةِ الْغِطَاءِ عَنِ الشَّيْءِ فِي السُّرْعَةِ. وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِبْهَامُ. ثُمَّ تَفْسِيرُهُ بِ (مِنَ) الْبَيَانِيَّةِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ ذَلِكَ الضُّرِّ لِكَثْرَةِ أَنْوَاعِهِ بِحَيْثُ يَطُولُ عَدُّهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: 53] إِشَارَةً إِلَى تَكْثِيرِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مُقَابَلَتِهِ ضِدَّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّحْل: 53] ، لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ يُهْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي أَقَلِّ ضُرٍّ وَيَنْسَوْنَ شُكْرَهُ عَلَى عَظِيمِ النِّعَمِ، أَيْ كَشَفْنَا مَا حَلَّ بِهِ مِنْ ضُرٍّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ فَأُعِيدَتْ صِحَّتُهُ وَثَرْوَتُهُ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 إلى 86]

وَالْإِيتَاءُ: الإعطَاء، أَيْ أَعْطَيْنَاهُ أَهْلَهُ، وَأَهْلُ الرَّجُلِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَقَرَابَتُهُ. وَفُهِمَ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَهْلِ بِالْإِضَافَةِ أَنَّ الْإِيتَاءَ إِرْجَاعُ مَا سُلِبَ مِنْهُ مِنْ أَهْلٍ، يَعْنِي بِمَوْتِ أَوْلَادِهِ وَبَنَاتِهِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيِّنٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ مِثْلَ أَهْلِهِ بِأَنْ رُزِقَ أَوْلَادًا بِعَدَدِ مَا فَقَدَ، وَزَادَهُ مِثْلَهُمْ فَيَكُونُ قَدْ رُزِقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ابْنًا وَسِتَّ بَنَاتٍ مِنْ زَوْجِهِ الَّتِي كَانَتْ بَلَغَتْ سِنَّ الْعُقْمِ. وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَوُصِفَتِ الرَّحْمَةُ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا بِذِكْرِ الْعِنْدِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُرْبِ الْمُرَادِ بِهِ التَّفْضِيلُ. وَالْمُرَادُ رَحْمَةً بِأَيُّوبَ إِذْ قَالَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَالذِّكْرَى: التَّذْكِيرُ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يُنْسَى أَوْ يُغْفَلَ عَنْهُ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى رَحْمَةً فَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ وَتَنْبِيهًا لِلْعَابِدِينَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ عِنَايَتَهُ بِهِمْ. وَبِمَا فِي الْعابِدِينَ مِنَ الْعُمُومِ صَارَتِ الْجُمْلَة تذييلا. [85، 86] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 85 إِلَى 86] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) عَطْفٌ على وَأَيُّوبَ [الْأَنْبِيَاء: 83] أَيْ وَآتَيْنَا إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ حُكْمًا وَعِلْمًا. وَجَمَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي سلك وَاحِد لاشتراكهم فِي خَصِيصِيَّةِ الصَّبْرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. جَرَى ذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَثَلِ الْأَشْهَرِ فِي الصَّبْرِ وَهُوَ أَيُّوبُ.

فَأَمَّا صَبْرُ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَدْ تَقَرَّرَ بِصَبْرِهِ عَلَى الرِّضَى بِالذَّبْحِ حِينَ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَقَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] ، وَتَقَرَّرَ بِسُكْنَاهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ امْتِثَالًا لِأَمْرِ أَبِيهِ الْمُتَلَقِّي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ إِسْمَاعِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا إِدْرِيسُ فَهُوَ اسْمُ (أُخْنُوخَ) عَلَى أَرْجَحِ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ ذُكِرَ أُخْنُوخُ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ جَدًّا لِنُوحٍ. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَوُصِفَ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ صِدِّيقٌ نَبِيءٌ وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا فليعدّ فِي صَفِّ الصَّابِرِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَبْرَهُ كَانَ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِكْمَةِ وَالْعُلُومِ وَمَا لَقِيَ فِي رَحَلَاتِهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ. وَقَدْ عُدَّتْ مِنْ صَبْرِهِ قِصَصٌ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الطَّعَامَ وَالنَّوْمَ مُدَّةً طَوِيلَةً لِتَصْفُوَ نَفْسُهُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ. وَأَمَّا ذُو الْكِفْلِ فَهُوَ نَبِيءٌ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ، فَقِيلَ هُوَ إِلْيَاسُ الْمُسَمَّى فِي كُتُبِ الْيَهُودِ (إِيلِيَا) . وَقِيلَ: هُوَ خَلِيفَةُ اليسع فِي نبوءة بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ (عُوبَدْيَا) الَّذِي لَهُ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ الْيَهُودِ وَهُوَ الْكِتَابُ الرَّابِعُ مِنَ الْكُتُبِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَتُعْرَفُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الصِّغَارِ. وَالْكِفْلُ- بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ-، أَصْلُهُ: النَّصِيبُ مِنْ شَيْءٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ كَفَلَ إِذَا تَعَهَّدَ. لُقِّبَ بِهَذَا لِأَنَّهُ تَعَهَّدَ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْيَسَعَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَسَعَ لَمَّا كَبِرَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ خَلِيفَةً عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَنْ يَتَكَفَّلْ لِي بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفْهُ: أَنْ يَصُومَ النَّهَارَ، وَيَقُومَ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبَ. فَلَمْ يَتَكَفَّلْ لَهُ بِذَلِكَ إِلَّا شَابٌّ اسْمُهُ (عُوبَدْيَا) ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى مَا تَكَفَّلَ بِهِ فَكَانَ لِذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الصَّابِرِينَ. وَقَدْ عُدَّ عُوبَدْيَا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى إِجْمَالٍ فِي خَبَرِهِ (انْظُرْ سِفْرَ الْمُلُوكِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 إلى 88]

الْأَوَّلَ الْإِصْحَاحَ 18. وَرُؤْيَا عُوبَدْيَا صَفْحَةَ 891 مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) . وَرَوَى الْعِبْرِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ إِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ تَعْلِيلٌ لِإِدْخَالِهِمْ فِي الرَّحْمَةِ، وَتَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ جَمِيع الصَّالِحين. [87، 88] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 87 إِلَى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) عَطْفٌ عَلَى وَذَا الْكِفْلِ [الْأَنْبِيَاء: 85] . وَذِكْرُ ذِي النُّونِ فِي جُمْلَةِ مَنْ خُصُّوا بِالذِّكْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَجْلِ مَا فِي قَصَّتْهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْجَزَعِ وَاسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ. وَ (ذُو النُّونِ) وَصْفٌ، أَيْ صَاحِبُ الْحُوتِ. لُقِّبَ بِهِ يُونُسُ بْنُ مَتَّى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَذَهَابُهُ مُغَاضِبًا قِيلَ خُرُوجُهُ غَضْبَانَ مِنْ قَوْمِهِ أَهْلِ (نِينَوَى) إِذْ أَبَوْا أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِهِ وَهُمْ غَاضِبُونَ مِنْ دَعْوَتِهِ، فَالْمُغَاضَبَةُ مُفَاعَلَةٌ. وَهَذَا مُقْتَضَى الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَمَّا أَشْرَفَتِ الْمُدَّةُ عَلَى الِانْقِضَاءِ آمَنُوا فَخَرَجَ غَضْبَانَ مِنْ عَدَمِ تَحَقُّقِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ، فَالْمُغَاضَبَةُ حِينَئِذٍ

لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَضَبِ لِأَنَّهُ غَضَبٌ غَرِيبٌ. وَهَذَا مُقْتَضَى الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مُغاضِباً حَالًا مُرَادًا بِهَا التَّشْبِيهُ، أَيْ خَرَجَ كالمغاضب. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَرَجَ خُرُوجًا غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ مِنَ اللَّهِ. ظَنَّ أَنَّهُ إِذَا ابْتَعَدَ عَنِ الْمَدِينَة الْمُرْسل هُوَ إِلَيْهَا يُرْسِلُ اللَّهُ غَيْرَهُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ (حَزْقِيَالَ) مَلِكَ إِسْرَائِيلَ كَانَ فِي زَمَنِهِ خَمْسَةُ أَنْبِيَاءَ مِنْهُمْ يُونُسُ، فَاخْتَارَهُ الْمَلِكُ لِيَذْهَبَ إِلَى أَهْلِ (نِينَوَى) لِدَعْوَتِهِمْ فَأَبَى وَقَالَ: هَاهُنَا أَنْبِيَاءُ غَيْرِي وَخرج مغاضبا للْملك. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَمِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنَ الْآيَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْيِينِ الْقِصَّةِ. وَمَعْنَى فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قِيلَ نَقْدِرُ مُضَارِعُ قَدَرَ عَلَيْهِ أَمْرًا بِمَعْنَى ضَيَّقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْد: 26] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: 7] ، أَيْ ظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ تَحْتِيمَ الْإِقَامَةِ مَعَ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَوْ تَحْتِيمَ قِيَامِهِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ سَقَطَ تَعَلُّقُ تَكْلِيفِ التَّبْلِيغِ عَنْهُ اجْتِهَادًا مِنْهُ، فَعُوتِبَ بِمَا حَلَّ بِهِ إِذْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْلِمَ رَبَّهُ عَمَّا يُرِيدُ فِعْلَهُ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: «لَقَدْ ضَرَبَتْنِي أَمْوَاجُ الْقُرْآنِ الْبَارِحَةُ فَغَرِقْتُ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي خَلَاصًا إِلَّا بك. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: أَوَ يَظُنُّ نَبِيءُ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مِنَ الْقَدْرِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ» . يَعْنِي التَّضْيِيقَ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ نَقْدِرَ هُنَا بِمَعْنَى نَحُكْمَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُدْرَةِ، أَيْ ظَنَّ أَنْ لَنْ نُؤَاخِذَهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ دُونَ إِذْنٍ. وَنُقِلَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ يُونُسُ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّفْرِيعُ تَفْرِيعُ خُطُورِ هَذَا الظَّنِّ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ بَادِرَةً بدافع الْغَضَب عَن غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي لَوَازِمِهِ وَعَوَاقِبِهِ، قَالُوا: وَكَانَ فِي طَبْعِهِ ضِيقُ الصَّدْرِ. وَقِيلَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟ وَنُسِبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ أَوْ أَبِي الْمُعْتَمِرِ. قَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ فِي «تَفْسِيره» : وَقد قرىء بِهِ. وَعِنْدِي فِيهِ تَأْوِيلَانِ آخَرَانِ وَهُمَا: أَنَّهُ ظَنَّ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُخَلِّصِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا عَادَةً، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْقِيبُ بِحَسَبِ الْوَاقِعَةِ، أَيْ ظَنَّ بَعْدَ أَنِ ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ. وَأَمَّا نِدَاؤُهُ رَبَّهُ فَذَلِكَ تَوْبَةٌ صَدَرَتْ مِنْهُ عَنْ تَقْصِيرِهِ أَوْ عَجَلَتِهِ أَوْ خَطَأِ اجْتِهَادِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُبَالَغَةً فِي اعْتِرَافِهِ بِظُلْمِ نَفْسِهِ، فَأَسْنَدَ إِلَيْهِ فِعْلَ الْكَوْنِ الدَّالَّ عَلَى رُسُوخِ الْوَصْفِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ فَرِيقِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَرْسَخِيَّةِ الْوَصْفِ، أَوْ أَنَّهُ ظَنَّ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ دَارِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ. وأَنِّي مُفَسِّرَةٌ لِفِعْلِ نَادَى. وَتَقْدِيمُهُ الِاعْتِرَافَ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ التَّسْبِيحِ كَنَّى بِهِ عَنِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّدْبِيرِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَالظُّلُمَاتُ: جَمْعُ ظُلْمَةٍ. وَالْمُرَادُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ قَعْرِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ. وَقِيلَ: الظُّلُمَاتُ مُبَالَغَةٌ فِي شِدَّةِ الظُّلْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 257] . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّا نَظُنُّ أَنَّ «الظَّلَمَةَ» لَمْ تَرِدْ مُفْرَدَةً فِي الْقُرْآنِ. وَالِاسْتِجَابَةُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِجَابَةِ. وَهِيَ إِجَابَةُ تَوْبَتِهِ مِمَّا فَرَّطَ مِنْهُ. وَالْإِنْجَاءُ وَقَعَ حِينَ الِاسْتِجَابَةِ إِذِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَقِيَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَّا سَاعَةً قَلِيلَةً، وَعَطَفَ بِالْوَاوِ هُنَا بِخِلَافِ عَطْفِ فَكَشَفْنا عَلَى فَاسْتَجَبْنا وَإِنْجَاؤُهُ هُوَ بِتَقْدِيرٍ وَتَكْوِينٍ فِي مِزَاجِ الْحُوتِ حَتَّى خَرَجَ الْحُوتُ إِلَى قرب الشاطئ فتقاياه فَخَرَجَ يَسْبَحُ إِلَى الشَّاطِئِ. وَهَذَا الْحُوتُ هُوَ مِنْ صِنْفِ الْحُوتِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَبْتَلِعُ الْأَشْيَاءَ الضَّخْمَةَ وَلَا يَقْضِمُهَا بِأَسْنَانِهِ. وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ تَسْمِيَةُ صِنْفٍ مِنَ الْحُوتِ بِحُوتِ يُونُسَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ. وَجُمْلَةُ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِنْجَاءِ الَّذِي أَنْجَى بِهِ يُونُسَ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من غموم بِحَسب مِنْ يَقَعُ فِيهَا أَنَّ نَجَاتَهُ عَسِيرَةٌ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَمِّ وَالنَّكَدِ الَّذِي يُلَاقُونَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ. وَاعْلَمْ أَن كلمة فَنُجِّيَ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ كَمَا كُتِبَتْ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِهِ فِي [سُورَة يُوسُف: 110] فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ. وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ هَذَا الرَّسْمَ بِأَنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ لَمَّا كَانَتْ سَاكِنَةً وَكَانَ وُقُوعُ الْجِيمِ بَعْدَهَا يَقْتَضِي إِخْفَاءَهَا لِأَنَّ النُّونَ السَّاكِنَةَ تُخْفَى مَعَ الْأَحْرُفِ الشَّجَرِيَّةِ وَهِيَ- الْجِيمُ وَالشِّينُ وَالضَّادُ- فَلَمَّا أُخْفِيَتْ حُذِفَتْ فِي النُّطْقِ فَشَابَهَ إِخْفَاؤُهَا حَالَةَ الْإِدْغَامِ فَحَذَفَهَا كَاتِبُ الْمُصْحَفِ فِي الْخَطِّ لِخَفَاءِ

النُّطْقِ بِهَا فِي اللَّفْظِ، أَيْ كَمَا حَذَفُوا نُونَ (إِنْ) مَعَ (لَا) فِي نَحْو «إِلَّا فَعَلُوهُ» مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُدْغَمُ فِي اللَّامِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ بِإِثْبَاتِ النُّونَيْنِ فِي النُّطْقِ فَيَكُونُ حَذْفُ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْخَطِّ مُجَرَّدَ تَنْبِيهٍ عَلَى اعْتِبَارٍ مِنِ اعْتِبَارَاتِ الْأَدَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَبِتَشْدِيدِ الْجِيمِ- عَلَى اعْتِبَارِ إِدْغَامِ النُّونِ فِي الْجِيمِ كَمَا تُدْغَمُ فِي اللَّامِ وَالرَّاءِ. وَأنكر ذَلِك عَلَيْهِمَا أَبُو حَاتِمٍ وَالزَّجَّاجُ وَقَالَا: هُوَ لَحْنٌ. وَوَجَّهَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْفراء وثعلب قراءتهما بِأَن نُنْجِي سُكِّنَتْ يَاؤُهُ وَلَمْ تُحَرَّكْ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ بَقِي وَرَضِي فَيُسَكِّنُ الْيَاءَ كَمَا فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [الْبَقَرَة: 278] بِتَسْكِينِ يَاءِ بَقِيَ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْقُتَبِيِّ أَنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ أُدْغِمَتْ فِي الْجِيمِ. وَوَجَّهَ ابْنُ جِنِّي مُتَابِعًا لِلْأَخْفَشِ الصَّغِيرِ بِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: نُنَجِّي- بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ- فَحُذِفَتِ النُّونُ الثَّانِيَةُ لِتَوَالِي الْمِثْلَيْنِ فَصَارَ نُجِّيَ. وَعَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ نُجِّيَ فِعْلُ مُضِيٍّ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ وَأَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى النِّجَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْفِعْلِ، أَوِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ. وَانْتَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ إِنَابَةَ الْمَصْدَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ. كَمَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ لِيَجْزِيَ- بِفَتْحِ الزَّايِ- قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] بِتَقْدِيرِ لِيُجْزَى الْجَزَاءَ قَوْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ بَارِدُ التَّعَسُّفِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 90]

[89، 90] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 89 الى 90] وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ كَانَ أَمْرُ زَكَرِيَّاءَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي عِنَايَتِهِ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُنْقَطِعِينَ لِعِبَادَتِهِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ. وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ وَزَكَرِيَّاءَ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ السَّابِقَةِ. وَجُمْلَةُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نَادَى رَبَّهُ. وَأُطْلِقَ الْفَرْدُ عَلَى مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُنْفَرِدِ الَّذِي لَا قَرِينَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَم: 95] ، وَيُقَالُ مِثْلَهُ الْوَاحِدُ لِلَّذِي لَا رَفِيقَ لَهُ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا ... أُقْتَلْ وَلَا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدِي فَشُبِّهَ مَنْ لَا ولد بالفرد لِأَنَّ الْوَلَدَ يُصَيِّرُ أَبَاهُ كَالشَّفْعِ لِأَنَّهُ كَجُزْءٍ مِنْهُ. وَلَا يُقَالُ لِذِي الْوَلَدِ زَوْجٌ وَلَا شَفْعٌ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ثَنَاءٌ لِتَمْهِيدِ الْإِجَابَةِ، أَيْ أَنْتَ الْوَارِثُ الْحَقُّ فَاقْضِ عَلَيَّ مِنْ صِفَتِكَ الْعَلِيَّةِ شَيْئًا. وَقَدْ شَاعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ ذِكْرُ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِعْطَاءَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا، كَمَا قَالَ أَيُّوبُ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 83] ، وَدَلَّ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ الْوَلَدَ لِأَجْلِ أَنْ يَرِثَهُ كَمَا فِي آيَةِ [سُورَةِ مَرْيَمَ: 6] يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. حُذِفَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ لِدَلَالَةِ الْمَحْكِيِّ هُنَا عَلَيْهَا. وَالتَّقْدِيرُ: يَرِثُنِي الْإِرْثَ الَّذِي لَا يُدَانِي إِرْثَكَ عِبَادَكَ، أَيْ بَقَاءَ مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا لِتَصَرُّفِ قُدْرَتِكَ، أَوْ يَرِثُنِي مَالِي وَعِلْمِي وَأَنْتَ تَرِثُ نَفْسِي

كُلَّهَا بِالْمَصِيرِ إِلَيْكَ مَصِيرًا أَبَدِيًّا فَإِرْثُكَ خَيْرُ إِرْثٍ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ وَأَبْقَى وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْوَصْفِ. وَإِصْلَاحُ زَوْجِهِ: جَعَلَهَا صَالِحَةً لِلْحَمْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ زَكَرِيَّاءَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَذِكْرُ زَوْجِهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَا أُوتُوهُ مِنَ النَّصْرِ، وَاسْتِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ، وَمَا تَبِعَ ذَلِكَ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاء: 48] . فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مُفِيدٌ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ مَا اسْتَحَقُّوا مَا أُوتُوهُ إِلَّا لِمُبَادَرَتِهِمْ إِلَى مَسَالِكِ الْخَيْرِ وَجِدِّهِمْ فِي تَحْصِيلِهَا. وَأَفَادَ فِعْلُ الْكَوْنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَأْبَهُمْ وَهَجِيرَاهُمْ. وَالْمُسَارَعَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلْحِرْصِ وَصَرْفِ الْهِمَّةِ وَالْجِدِّ لِلْخَيْرَاتِ، أَيْ لِفِعْلِهَا، تَشْبِيهًا لِلْمُدَاوَمَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِمُسَارَعَةِ السَّائِرِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ الْجَادِّ فِي مَسَالِكِهِ. وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَهُوَ جَمْعٌ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مِثْلُ سُرَادِقَاتٍ وَحَمَّامَاتٍ وَاصْطَبْلَاتٍ. وَالْخَيْرُ ضِدُّ الشَّرِّ، فَهُوَ مَا فِيهِ نَفْعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرَّحْمَن: 70]

[سورة الأنبياء (21) : آية 91]

فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِثْلُ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَمْعُ خَيْرَةٍ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- الَّذِي هُوَ مُخَفَّفُ خَيِّرَةٍ الْمُشَدِّدِ الْيَاءِ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ ذَاتُ الْأَخْلَاقِ الْخَيْرِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَيْراتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ فِي [سُورَةِ بَرَاءَةٌ: 88] . وَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ رَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ وَرَهْبَةً مِنْ غَضَبِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9] . وَالرَّغَبُ وَالرَّهَبُ- بِفَتْحِ ثَانِيهِمَا- مَصْدَرَانِ مِنْ رَغِبَ وَرَهِبَ. وَهُمَا وَصْفٌ لِمَصْدَرِ يَدْعُونَنا لِبَيَانِ نَوْعِ الدُّعَاءِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ فِي جِنْسِهِ، أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ، أَيْ ذَوِي. رَغَبٍ وَرَهَبٍ، فَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأَخَذَ إِعْرَابَهُ. وَذُكِرَ فِعْلُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ مِثْلَ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كانُوا يُسارِعُونَ. وَالْخُشُوعُ: خَوْفُ الْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ دُونَ اضْطِرَابِ الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة. [91] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 91] وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) لَمَّا انْتَهَى التَّنْوِيهُ بِفَضْلِ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْقَبَ بِالثَّنَاءِ عَلَى امْرَأَةٍ نَبِيئَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ الْفَضْلِ غَيْرُ مَحْجُورَةٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الْأَحْزَاب: 35] الْآيَةَ. هَذِهِ هِيَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ. وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْمَوْصُولِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا قَدِ اشْتُهِرَتْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّهِ غَالِبًا، وَأَيْضًا لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ مَعْنَى تَسْفِيهِ الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَوَّلُوا عَنْهَا إِفْكًا وَزُورًا، وَلِيُبْنَى عَلَى تِلْكَ الصِّلَةِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ

الصِّلَةِ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّتِي نَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا، لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُوجِبُ ثَنَاءٍ. وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَهَا بِأَنْ تَكُونَ مَظْهَرَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فِي مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْبَشَرِيَّةِ لِحُصُولِ حَمْلِ أُنْثَى دُونَ قُرْبَانِ ذَكَرٍ، لِيَرَى النَّاسُ مِثَالًا مِنَ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمرَان: 59] . وَالنَّفْخُ، حَقِيقَتُهُ: إِخْرَاجُ هَوَاءِ الْفَمِ بِتَضْيِيقِ الشَّفَتَيْنِ. وَأُطْلِقَ هُنَا تَمْثِيلًا لِإِلْقَاءِ رُوحِ التَّكْوِينِ لِلنَّسْلِ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِدُونِ الْوَسَائِلِ الْمُعْتَادَةِ تَشْبِيهًا لِهَيْئَةِ التَّكْوِينِ السَّرِيعِ بِهَيْئَةِ النَّفْخِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَكَ نَفَخَ مِمَّا هُوَ لَهُ كَالْفَمِ. وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ بِ (فِي) كَوْنُ مَرْيَمَ ظَرْفًا لِحُلُولِ الرُّوحِ الْمَنْفُوخِ فِيهَا إِذْ كَانَتْ وِعَاءَهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيها وَلم يقل (فِيهِ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي كُوِّنَ فِي رَحِمِهَا حَمْلٌ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَنَفَخْنَا فِي بَطْنِهَا. وَذَلِكَ أَعْرَقُ فِي مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ تَقْوَى دَلَالَتُهُ بِمِقْدَارِ مَا يَضْمَحِلُّ فِيهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُعْتَادَةِ. وَالرُّوحُ: هُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحجر: 29] ، أَي جعلت فِي آدَمَ رُوحًا فَصَارَ حَيًّا. وَحَرْفُ (مِنْ) تَبْعِيضِيٌّ، وَالْمَنْفُوخُ رُوحٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ بَعْضَ رُوحِ اللَّهِ، أَيْ بَعْضَ جِنْسِ الرُّوحِ الَّذِي بِهِ يَجْعَلُ اللَّهُ الْأَجْسَامَ ذَاتَ حَيَاةٍ. وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ رُوحٌ مَبْعُوثٌ مِنْ لَدُنِ

[سورة الأنبياء (21) : آية 92]

اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ وَسَاطَةِ التَّطَوُّرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ لِلتَّكْوِينِ النَّسْلِيِّ. وَجَعْلُهَا وَابْنِهَا آيَةً هُوَ مِنْ أَسْبَابِ تَشْرِيفِهِمَا وَالتَّنْوِيهِ بِهِمَا إِذْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ وَسِيلَةً لِلْيَقِينِ بِقُدْرَتِهِ وَمُعْجِزَاتِ أَنْبِيَائِهِ كَمَا قَالَ فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَصَلَ تَشْرِيفُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا نَحْوَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْل: 1] ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْس: 1- 2] . وَإِفْرَادُ الْآيَةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْجِنْسُ. وَحَيْثُ كَانَ الْمَذْكُورُ ذَاتَيْنِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا آيَةٌ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ آيَةٌ خَاصَّةٌ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْإِفْرَادِ أَنَّ بَيْنَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا حَالَةً مُشْتَرَكَةً هِيَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا آيَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ بِاخْتِلَافِ حَالِ النَّاظر المتأمل. [92] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، فَهِيَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى رَفْعِ أُمَّتُكُمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْخِطَابُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ مَصُوغًا فِي صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلِينَ لَهُمْ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَالْمَقُولُ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى، أَيْ قَائِلِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُسُلِنَا وَأَنْبِيَائِنَا الْمَذْكُورِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ. فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُرَاد بهَا التَّوْزِيع، وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً عَلَى أُسْلُوبِ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِيهِ مَا يَزِيدُ هَذِهِ تَوْضِيحًا فَإِنَّهُ وَرَدَ هُنَالك ذكر عدَّة مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، كَمَا ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَأَنَّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ

وَبِكَسْرِهَا- هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 52] ، فَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي دُخُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فِي الْكَلَامِ الْمُخَاطَبِ بِهِ الرُّسُل، والتأكيد عَن هَذَا الْوَجْهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِيَتَلَقَّاهُ الْأَنْبِيَاءُ بِقُوَّةِ عَزْمٍ، أَوْ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْأُمَمِ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِاتِّحَادِ الْحَالِ الْمُخْتَلِفَةِ غَرِيبٌ قَدْ يُثِيرُ تَرَدُّدًا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ فَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ فَأُكِّدَ بِرَفْعِ ذَلِكَ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ فَإِنَّ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ تَبْلِيغُ ذَلِكَ لِأَتْبَاعِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى قَبُولِ كُلِّ أُمَّةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهَا لِأَنَّهُ مَعْضُودٌ بِشَهَادَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا وَالْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، هِيَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِسَائِرِ الرُّسُلِ، أَيْ أُصُولُهَا وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الْآيَةَ. وَالتَّأْكِيدُ عَلَى هَذَا لِرَدِّ إِنْكَارِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هذِهِ إِلَى مَا يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُمَّتُكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: 78] . فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا يَعْنِي فِي أُمُورِ الدِّينِ كَمَا هُوَ شَأْنُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. فَمَا أَفَادَتْهُ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّمْيِيزِ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ الرُّسُلُ مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ وَأَصْلُ الْأُمَّةِ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي حَالُهَا وَاحِدٌ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الدِّينِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأُمَمَ لَيْسَتْ وَاحِدَةً.

[سورة الأنبياء (21) : آية 93]

وَ (أُمَّةً واحِدَةً) حَالٌ مِنْ أُمَّتُكُمْ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْإِشَارَةُ الَّتِي هِيَ الْعَامِلُ فِي صَاحِبِ الْحَالِ. وَأَفَادَتِ التَّمْيِيزَ وَالتَّشْخِيصَ لِحَالِ الشَّرَائِعِ الَّتِي عَلَيْهَا الرُّسُلُ أَوِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا وَاحِدَةً أَنَّهَا تُوَحِّدُ اللَّهَ تَعَالَى فَلَيْسَ دُونَهُ إِلَهٌ. وَهَذَا حَالُ شَرَائِعِ التَّوْحِيدِ وَبِخِلَافِهَا أَدْيَانُ الشِّرْكِ فَإِنَّهَا لِتَعَدُّدِ آلِهَتِهَا تَتَشَعَّبُ إِلَى عِدَّةِ أَدْيَانٍ لِأَنَّ لِكُلِّ صَنَمٍ عِبَادَةً وَأَتْبَاعًا وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُهَا وَصْفُ الشِّرْكِ فَذَلِكَ جِنْسٌ عَامٌّ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَا رَبُّكُمْ، أَيْ لَا غَيْرِي. وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي عَرَبِيَّةِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَفَادَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَا رَبُّكُمْ الْحَصْرَ، أَيْ أَنَا لَا غَيْرِي بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْعَطْفِ عَلَى أُمَّةً واحِدَةً، إِذِ الْمَعْنَى: وَأَنَا رَبُّكُمْ رَبًّا وَاحِدًا، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ، أَيْ فَاعْبُدُونِ دُونَ غَيْرِي. وَهَذَا الْأَمْرُ مُرَاعًى فِيهِ ابْتِدَاءُ حَالِ السَّامِعِينَ مِنْ أُمَمِ الرُّسُلِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْعِبَادَةِ التَّوْحِيدُ بِالْعِبَادَةِ والمحافظة عَلَيْهَا. [93] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 93] وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاء: 92] أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِنَا. وتَقَطَّعُوا وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الَّذِينَ مِنَ الشَّأْنِ التَّحَدُّثُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَذَامِّ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الضَّمَائِرِ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمُشْرِكُونَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ عَائِدَةً إِلَى أُمَمِ الرُّسُلِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي ضَمَائِرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الْأَنْبِيَاء: 92] يَكُونُ الْكَلَامُ انْتِقَالًا مِنَ الْحِكَايَةِ عَنِ الرُّسُلِ

إِلَى الْحِكَايَةِ عَنْ حَالِ أُمَمِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ أَوِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُمْ مِثْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذْ نَقَضُوا وَصَايَا أَنْبِيَائِهِمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ لِمُنَاسَبَةٍ وَاضِحَةٍ كَمَا عُطِفَ نَظِيرُهَا بِالْفَاءِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ، أَيْ أَمَرْنَا الرُّسُلَ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْوَاحِدَةُ، فَكَانَ مِنْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَخَالَفُوا الرُّسُلَ وَعَدَلُوا عَنْ دِينِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ أَصْلِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ فِيهِ الْعَطْفُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالتَّقَطُّعُ: مُطَاوِعُ قَطَعَ، أَيْ تَفَرَّقُوا. وَأَسْنَدَ التَّقَطُّعَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِرَقًا فَعَبَدُوا آلِهَةً مُتَعَدِّدَةً وَاتَّخَذَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِنَفْسِهَا إِلَهًا مِنَ الْأَصْنَامِ مَعَ اللَّهِ، فَشَبَّهَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِالتَّقَطُّعِ. وَفِي «جَمْهَرَةِ الْأَنْسَابِ» لِابْنِ حَزْمٍ: «كَانَ الْحُصَيْنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: يَا حُصَيْنُ مَا تَعْبُدُ؟ قَالَ: عَشَرَةَ آلِهَةٍ، قَالَ: مَا هُمْ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: تِسْعَةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَمَنْ لِحَاجَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَنْ لِطِلْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَنْ لِكَذَا؟ فَمَنْ لِكَذَا؟ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَأَلْغِ التِّسْعَةَ» . وَفِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ: مِنْ «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» : «أَنَّهُ قَالَ: سَبْعَةً سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ» . وَالْأَمْرُ: الْحَالُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 159] . وَلَمَّا ضَمِنَ تَقَطَّعُوا مَعْنَى تَوَزَّعُوا عُدِّيَ إِلَى «دِينِهِمْ» فَنَصَبَهُ، وَالْأَصْلُ: تَقَطَّعُوا فِي دِينِهِمْ وَتَوَزَّعُوهُ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 94]

وَزِيَادَةُ بَيْنَهُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ تَعَاوَنُوا وَتَظَاهَرُوا عَلَى تَقَطُّعِ أَمْرِهِمْ. فَرُبَّ قَبِيلَةٍ اتَّخَذَتْ صَنَمًا لَمْ تَكُنْ تَعْبُدُهُ قَبِيلَةٌ أُخْرَى ثُمَّ سَوَّلُوا لِجِيرَتِهِمْ وَأَحْلَافِهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَأَلْحَقُوهُ بِآلِهَتِهِمْ. وَهَكَذَا حَتَّى كَانَ فِي الْكَعْبَةِ عِدَّةُ أَصْنَامٍ وَتَمَاثِيلَ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ مَقْصُودَةٌ لِجَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْمُلَقَّبَ بِخُزَاعَةَ هُوَ الَّذِي نَقَلَ الْأَصْنَامَ إِلَى الْعَرَبِ. وَجُمْلَةُ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالٍ يَجِيشُ فِي نَفْسِ سَامِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَهُوَ مَعْرِفَةُ عَاقِبَةِ هَذَا التَّقَطُّعِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّهُمْ، أَيْ أَصْحَابُ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْكَلَامُ يُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [الْأَنْبِيَاء: 94] إِلَى آخِره. [94] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 94] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) فُرِّعَ عَلَى الْوَعِيدِ الْمُعَرَّضِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 94] تَفْرِيعٌ بَدِيعٌ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء: 97] الْآيَاتِ. وَقَدَّمَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ اهْتِمَامًا بِهِ، وَلِوُقُوعِهِ عَقِبَ الْوَعِيدِ تَعْجِيلًا لِمَسَرَّةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا قَوَارِعَ تَفْصِيلِ الْوَعِيدِ، فَلَيْسَ هُوَ مَقْصُودًا مِنَ التَّفْرِيعِ، وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِطْرَادَ تَنْوِيهًا بِالْمُؤْمِنِينَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 95]

كَمَا سَيُعْتَنَى بِهِمْ عَقِبَ تَفْصِيلِ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 101] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَالْكُفْرَانُ مَصْدَرٌ أَصْلُهُ عَدَمُ الِاعْتِرَافِ بِالْإِحْسَانِ، ضِدُّ الشُّكْرَانِ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي حِرْمَانِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْخَيْرِ يَسْتَلْزِمُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ عُرْفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تكفروه [آل عمرَان: 115] فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ مُؤَكِّدًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَالْكِتَابَةُ كِنَايَةٌ عَنْ تَحَقُّقِهِ وَعَدَمِ إِضَاعَتِهِ لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِإِيقَاعِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْحِفْظَ عَنْ إِهْمَالِهِ وَعَنْ إِنْكَارِهِ، وَمِنْ وَسَائِلِ ذَلِكَ كِتَابَتُهُ لِيُذْكَرَ وَلَوْ طَالَتِ الْمُدَّةُ. وَهَذَا لُزُومٌ عُرْفِيٌّ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِ الْكِتَابَةِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الظَّوَاهِرُ مِنَ الْكتاب وَالسّنة. [95] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 95] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا. وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الْكَهْف: 59] . وَالْحَرَامُ: الشَّيْءُ الْمَمْنُوعُ، قَالَ عَنْتَرَةُ: حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ أَيْ: مُنِعَتْ أَيْ مَنَعَهَا أَهْلُهَا.

أَيْ مَمْنُوعٌ عَلَى قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا أَنْ لَا يَرْجِعُوا، فَ حَرامٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فِي قُوَّةِ مَصْدَرٍ مُبْتَدَأٌ. وَالْخَبَرُ عَنْ (أَنْ) وَصِلَتِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُقَدَّمًا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِعْلُ أَهْلَكْناها مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، أَيْ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا. وَالرُّجُوعُ: الْعَوْدُ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ الْمَرْءُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ رُجُوعُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ (لَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْجِعُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ (حَرَامٌ) فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَ (لَا) نَافِيَةٌ وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى مَنْعَ عَدَمِ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُرَادٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: مُنِعَ عَلَى قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا هَلَاكَهَا أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُ هَلَاكِهَا. وَهَذَا إِعْلَامٌ بِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَصَرُّفِهِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِتَأْيِيسِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَهْدِيدُهُمْ بِالْهَلَاكِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِسُيُوفِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَفْرِيعِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 93] فَتَكُونَ (لَا) نَافِيَةً. وَالْمَعْنَى: مَمْنُوعٌ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ، أَيْ دَعْوَاهُمْ بَاطِلَةٌ، أَيْ فَهُمْ رَاجِعُونَ إِلَيْنَا فَمُجَازَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَيَكُونَ إِثْبَاتًا لِلْبَعْثِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ فَكَأَنَّهُ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِحُجَّةٍ. وَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 93] . وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها إِدْمَاجٌ لِلْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَفِعْلُ أَهْلَكْناها مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ، أَيْ وَقَعَ إِهْلَاكُنَا إِيَّاهَا. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَانْقَرَضَتْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَهُمْ رَاجِعُونَ

إِلَيْنَا بِالْبَعْثِ. وَقِيلَ حَرامٌ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَمْنُوعِ وَالْوَاجِبِ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْخَنْسَاءِ: وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوَةٍ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ وَفِي كِتَابِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» «فِي حَدِيثِ عُمَرَ: فِي الْحَرَامِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: حَرَامُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ، كَمَا يَقُولُ: يَمِينُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ، وَهِيَ لُغَةُ الْعُقَيْلِيِّينَ» اه. وَرَأَيْتُ فِي مَجْمُوعَةٍ أَدَبِيَّةٍ عَتِيقَةٍ (مِنْ كُتُبِ جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ عَدَدُهَا 4561) : أَنَّ بَنِي عُقَيْلٍ يَقُولُونَ حَرَامُ اللَّهِ لَآتِيَنَّكَ كَمَا يُقَالُ يَمِينُ الله لآتينك انْتهى. وَهُوَ يَشْرَحُ كَلَامَ «لِسَانِ الْعَرَبِ» بِأَنَّ هَذَا الْيَمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَلِفِ عَلَى النَّفْيِ كَمَا فِي مِثَالِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» . فَيَتَأَتَّى عَلَى هَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ وَيَمِينٌ مِنَّا عَلَى قَرْيَةٍ، فَحَرْفُ (عَلَى) دَاخِلٌ عَلَى الْمُسَلَّطَةِ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، كَمَا تَقُولُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ، وَكَمَا يُقَالُ: حَلَفْتُ عَلَى فُلَانٍ أَنْ لَا يَنْطِقَ. وكقول الرَّاعِي: إِنِّي حَلَفْتُ عَلَى يَمِينٍ بَرَّةٍ ... لَا أَكْتُمُ الْيَوْمَ الْخَلِيفَةَ قِيلَا وَفَتْحُ هَمْزَةِ «أَنَّ» فِي الْيَمِينِ أَحَدُ وَجْهَيْنِ فِيهَا فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ. وَمَعْنَى لَا يَرْجِعُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدَّرَ إِهْلَاكَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَرامٌ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَبِأَلِفٍ بَعْدِ الرَّاءِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحِرْمٌ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ-، وَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى حَرَامٍ. وَالْكَلِمَةُ مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ وَمَرْوِيَّةٌ فِي رِوَايَاتِ الْقُرَّاءِ بِوَجْهَيْنِ، وَحَذْفُ الْأَلِفِ الْمُشْبَعَةِ مِنَ الْفُتْحَةِ كَثِيرٌ فِي الْمَصَاحِف.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 96 إلى 97]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 96 إِلَى 97] حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَكِنْ (حَتَّى) تُكْسِبُهُ ارْتِبَاطًا بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارق (حتّى) حِينَ تَكُونُ لِلِابْتِدَاءِ، وَلِذَلِكَ عُنِيَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُفَسّرين بتطلب المغيّا بِهَا هَاهُنَا فَجَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» غَايَةً لِقَوْلِهِ وَحَرامٌ فَقَالَ: « (حَتَّى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ حَرامٌ وَهِيَ غَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ رُجُوعِهِمْ لَا يَزُولُ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ» اه. أَيْ: فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَقَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: 40] ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَى كَلَامِهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ تَقَدَّمَا فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] ، أَيْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْعَالَمُ، أَوِ انْتِفَاءُ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا فِي اعْتِقَادِهِمْ يَزُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا. فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ عَنْ دَوَامِ كُفْرِهِمْ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَفَتْحُ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هُوَ فَتْحُ السَّدِّ الَّذِي هُوَ حَائِلٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الِانْتِشَارِ فِي أَنْحَاءِ الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَتَوْقِيتُ وَعْدِ السَّاعَةِ بِخُرُوجِ يَاجُوجِ وَمَاجُوجِ أَنَّ خُرُوجَهُمْ أَوَّلُ عَلَامَاتِ اقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ عَدَّهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الصُّغْرَى لِقِيَامِ السَّاعَةِ.

وَفُسِّرَ اقْتِرَابُ الْوَعْدِ بِاقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَتْ وَعْدًا لِأَنَّ الْبَعْثَ سَمَّاهُ اللَّهُ وَعْدًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا جَعَلُوا ضَمِيرَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ عَائِد إِلَى «يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ» فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ وَصَفَتِ انْتِشَارَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ وَصْفًا بَدِيعًا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ بِخَمْسَةِ قُرُونٍ فَعَدَدْنَا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ. وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ هَذَا الْحَادِثِ بِالتَّوْقِيتِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عَلَامَاتِ قُرْبِ السَّاعَةِ قُصِدَ مِنْهُ مَعَ التَّوْقِيتِ إِدْمَاجُ الْإِنْذَارِ لِلْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ تَحْذِيرًا لِذُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ كَوَارِثِ ظُهُورِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ كَانَ زَوَالُ مُلْكِ الْعَرَبِ الْعَتِيدِ وَتَدَهْوُرُ حَضَارَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى أَيْدِي يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ وَهُمُ الْمَغُولُ وَالتَّتَارُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِنْذَارُ النَّبَوِيُّ فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْوَحْيِ. فَقَدْ رَوَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هَكَذَا» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. وَالِاقْتِرَابُ عَلَى هَذَا اقْتِرَابٌ نِسْبِيٌّ عَلَى نِسْبَةِ مَا بَقِيَ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا بِمَا مَضَى مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرُ: 1] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِفَتْحِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ تَمْثِيلَ إِخْرَاجِ الْأَمْوَاتِ إِلَى الْحَشْرِ، فَالْفَتْحُ مَعْنَى الشَّقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] ، وَيَكُونُ اسْمُ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ تَشْبِيهًا بَلِيغًا. وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ لِشُهْرَةِ كَثْرَةِ عَدَدِهِمَا عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ:

يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ (¬1) ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ (¬2) ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَاجُوجَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ» . أَوْ يَكُونُ اسْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ اسْتُعْمِلَ مَثَلًا لِلْكَثْرَةِ كَمَا فِي قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: لَوْ أَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مَعًا ... وَعَادَ عَادٌ وَاسْتَجَاشُوا تُبَّعًا أَيْ: حَتَّى إِذَا أُخْرِجَتِ الْأَمْوَاتُ كَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَر: 7] ، فَيَكُونُ تَشْبِيهًا بَلِيغًا مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَعْقُولِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ، (جَدَثٍ) بِجِيمٍ وَمُثَلَّثَةٍ، أَيْ مِنْ كُلِّ قَبْرٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار: 4] فَيَكُونُ ضَمِيرَا وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ عَائِدِينَ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْمَقَامِ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الرُّجُوعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] أَيْ أَهْلُ كُلِّ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا. وَالِاقْتِرَابُ، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْقُرْبُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُشَارَفَةُ، أَيِ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الَّذِي وُعِدَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُوَ الْعَذَابُ بِأَنْ رَأَوُا النَّارَ وَالْحِسَابَ. وَعَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِي فِعْلِ فُتِحَتْ لِتَأْوِيلِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ بِالْأُمَّةِ. ثُمَّ يُقَدَّرُ الْمُضَافُ وَهُوَ سَدٌّ فَيُكْتَسَبُ التَّأْنِيثُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَيَاجُوجُ وَمَاجُوجُ هُمْ قَبِيلَتَانِ مِنْ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلَ طسم وَجَدِيسَ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ فُتِحَتْ إِلَى يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فُتِحَ رَدْمُهُمَا أَوْ سَدُّهُمَا. وَفِعْلُ الْفَتْحِ قَرِينَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ. ¬

(¬1) الْبَعْث مصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول، أَي: المبعوثين إِلَى النَّار. (¬2) أَي الَّذِي بَقِي من الْألف.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فُتِحَتْ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَر وَيَعْقُوب بتشديدها. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْحَدَبُ: النَّشَزُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا. ويَنْسِلُونَ يَمْشُونَ النَّسَلَانَ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَأَصْلُهُ: مَشْيُ الذِّئْبِ. وَالْمُرَادُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ. وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ بِهِ هُنَا مِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الْغَيْبِيَّةِ، لِأَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ لَمَّا انْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ انْتَشَرُوا كَالذِّئَابِ جِيَاعًا مُفْسِدِينَ. هَذَا حَاصِلُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَمَا فَرَضُوهُ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهِيَ تَدُورُ حَوْلَ مِحْوَرِ الْتِزَامِ أَنَّ (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةَ تُفِيدُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مَعَ تَقْدِيرِ مَفْعُولِ فُتِحَتْ بِأَنَّهُ سَدُّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ. وَمَعَ حَمْلِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ عَلَى حَقِيقَةِ مَدْلُولِ الِاسْمِ، وَذَلِكَ مَا زَجَّ بِهِمْ فِي مَضِيقٍ تَعَاصَى عَلَيْهِمْ فِيهِ تَبْيِينُ انْتِظَامِ الْكَلَامِ فَأَلْجَئُوا إِلَى تَعْيِينِ الْمُغَيَّا وَإِلَى تَعْيِينِ غَايَةٍ مُنَاسِبَةٍ لَهُ وَلِهَاتِهِ الْمَحَامِلِ كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا سَبَقَ. وَلَا أَرَى مُتَابَعَتَهُمْ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. فَأَمَّا دَلَالَةُ (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عَلَى مَعْنَى الْغَايَةِ، أَيْ كَوْنُ مَا بَعْدَهَا غَايَةً لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، فَلَا أَرَاهُ لَازِمًا. وَلِأَمْرٍ مَا فَرَّقَ الْعَرَبُ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهَا جَارَّةً وَعَاطِفَةً وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِهَا ابْتِدَائِيَّةً، أَلَيْسَ قَدْ صَرَّحَ النُّحَاةُ بِأَنَّ الِابْتِدَائِيَّةَ يَكُونُ الْكَلَامُ بَعْدَهَا جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً تَصْرِيحًا جَرَى مَجْرَى الصَّوَابِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فَمَا رَعَوْهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ فَإِنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي (حَتَّى) الْجَارَّةِ (وَهِيَ الْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ) ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى (إِلَى) . وَفِي (حَتَّى) الْعَاطِفَةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّشْرِيكَ فِي الحكم وَبَين أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ بِهَا نِهَايَةً لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ.

فَأَمَّا (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةُ فَإِنَّ وُجُودَ مَعْنَى الْغَايَةِ مَعَهَا فِي مَوَاقِعِهَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ وَلَا مُطَّرِدٍ، وَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَقِلًّا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَقَدْ نُقِلَتْ مِنْ مَعْنَى تَنْهِيَةِ مَدْلُولِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى تَنْهِيَةِ الْمُتَكَلِّمِ غَرَضَ كَلَامِهِ بِمَا يُورِدُهُ بَعْدَ (حَتَّى) وَلَا يَقْصِدُ تَنْهِيَةَ مَدْلُولِ مَا قَبْلَ (حَتَّى) بِمَا عِنْدَ حُصُولِ مَا بَعْدَهَا (الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلُ لِلْغَايَةِ) . وَانْظُرْ إِلَى اسْتِعْمَالِ (حَتَّى) فِي مَوَاقِعَ مِنْ مُعَلَّقَةِ لَبِيدٍ (¬1) . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 214] فَإِنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَيْسَ غَايَةً للزلزلة وَلكنه ناشىء عَنْهَا، وَقَدْ مُثِّلَتْ حَالَةُ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْحِينِ بِأَبْلَغِ تَمْثِيلٍ وَأَشَدِّهِ وَقْعًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ، إِذْ جُعِلَتْ مُفَرَّعَةً عَلَى فَتْحِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ وَاقْتِرَابِ الْوَعْدِ الْحَقِّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُرْعَةِ حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَةِ لَهُمْ ثُمَّ بِتَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ الَّذِي يُفِيدُ الْحُصُولَ دَفْعَةً بِلَا تَدَرُّجٍ وَلَا مُهْلَةٍ، ثُمَّ بِالْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْقِصَّةِ لِيَحْصُلَ لِلسَّامِعِ عِلْمٌ مُجْمَلٌ يُفَصِّلُهُ مَا يُفَسِّرُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ. وَالشُّخُوصُ: إِحْدَادُ الْبَصَرِ دُونَ تَحَرُّكٍ كَمَا يَقَعُ لِلْمَبْهُوتِ. وَجُمْلَةُ: يَا وَيْلَنا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، أَيْ يَقُولُونَ حِينَئِذٍ: يَا وَيْلَنَا. وَدَلَّتْ (فِي) عَلَى تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، أَيْ كَانَتْ لَنَا غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ غَفْلَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَدِلَّةِ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ. ¬

(¬1) بَيت: حَتَّى إِذا سلخا جمادي سنة ... وَبَيت: حَتَّى إِذا انحسر الظلام وأسفرت ... ومصراع: ... حَتَّى إِذا سخنت وخف عظامها. [.....]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 إلى 100]

وَ (يَا وَيْلَنا) دُعَاءٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ شِدَّةِ مَا لَحِقَهُمْ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، أَيْ مَا كُنَّا فِي غَفْلَةٍ لِأَنَّنَا قَدْ دُعِينَا وَأُنْذِرْنَا وَإِنَّمَا كُنَّا ظَالِمِينَ أَنْفُسَنَا بِمُكَابَرَتِنَا وَإِعْرَاضِنَا. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ (هَذَا) هُوَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنَ الْحَشْرِ والحساب وَالْجَزَاء. [98- 100] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 98 إِلَى 100] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100) جُمْلَةُ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: 97] إِلَى آخِرِهِ. فَهِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. فَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي ثُبُورِهِمْ فَهُمْ قَالُوا: يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: 97] فَأَخْبَرُوا بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ وَهُمْ أَعَزُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَبْعَدُ فِي أَنْظَارِهِمْ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُمْ سُوءٌ صَائِرُونَ إِلَى مَصِيرِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِحَيْثُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَكُونُ فِيهِ صَاحِبُ الصِّلَةِ غَيْرَ عَاقِلٍ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَغْلِيبًا، عَلَى أَنَّ (مَا) تُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَكَانَتْ أَصْنَامُهُمْ وَمَعْبُودَاتُهُمْ حَاضِرَةً فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها. وَالْحَصَبُ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَحْصُوبِ بِهِ، أَيِ الْمَرْمِيِّ بِهِ. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَصْبَاءَ لِأَنَّهَا حِجَارَةٌ يُرْمَى بِهَا، أَيْ يُرْمَوْنَ فِي جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: 24] أَيِ الْكُفَّارُ وَأَصْنَامُهُمْ. وَجُمْلَةُ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: تَقْرِيبُ الْحَصَبِ بِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وارِدُونَ مِنَ الِاتِّصَافِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَبَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ مَجَازٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ زِيدَ فِي نِكَايَتِهِمْ بِإِظْهَارِ خَطَئِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ تِلْكَ الْأَصْنَامَ بِأَنْ أُشْهِدُوا إِيرَادَهَا النَّارَ وَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها. وَذُيِّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أَيْ هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ. وَالزَّفِيرُ: النَّفَسُ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى الرِّئَتَيْنِ لِضَغْطِ الْهَوَاءِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْغَمِّ. وَهُوَ هُنَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ الْأَصْنَامِ. وَقَرِينَةُ مُعَادِ الضَّمَائِرِ وَاضِحَةٌ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ لِأَنَّ شَأْنَ الزَّفِيرِ أَنْ يُسْمَعَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ يَفْقِدُونَ السَّمْعَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ. فَالْآيَةُ وَاضِحَةُ السِّيَاقِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا غَنِيَّةٌ عَنِ التَّلْفِيقِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي «سِيرَتِهِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ فِي مَجْلِسٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَلَا رَسُولُ

اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ (¬1) قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَحَدَّثَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بِمَا جَرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، فَاسْأَلُوا مُحَمَّدًا أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدُوهُمْ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. فَحُكِيَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 101] هـ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ، وَفِي «الْكَشَّافِ» مَعَ زِيَادَاتٍ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى لَقِيَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ هَذَا وَزَادَ فَقَالَ: خُصِمْتَ وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ عُزَيْرًا عَبْدٌ صَالِحٌ، وَهَذِهِ بَنُو مُلَيْحٍ (¬2) يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَهَذِهِ النَّصَارَى يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ، وَهَذِهِ الْيَهُودَ يَعْبُدُونَ عُزَيْرًا، فَضَجَّ أَهْلُ مَكَّةَ (أَيْ فَرَحًا) وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ خُصِمَ. وَرُوِيَتِ الْقِصَّةُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ الزِّبَعْرَى: مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ إِنِّي قُلْتُ وَما تَعْبُدُونَ، وَ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلَمْ أَقُلْ «وَمَنْ تَعْبُدُونَ» . وَإِنَّ الْآيَةَ حَكَتْ مَا يَجْرِي يَوْمَ الْحَشْرِ وَلَيْسَ سِيَاقُهَا إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الْأَنْبِيَاء: 101] تَخْصِيصًا لَهَا، أَوْ تَكُونَ الْقِصَّةُ سَببا لنزوله. [101- 103] ¬

(¬1) بِكَسْر الزَّاي وَفتح الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين وَفتح الرَّاء مَقْصُورا: السيّء الْخلق. (¬2) بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: بطن من خُزَاعَة.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 إلى 103]

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 101 إِلَى 103] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا دَعَا إِلَيْهِ مُقَابَلَةُ حِكَايَةِ حَالِ الْكَافِرِينَ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحِكَايَةِ مَا يَلْقَاهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ. فَالَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْحُسْنَى هُمُ الْفَرِيقُ الْمُقَابِلُ لِفَرِيقِ الْقَرْيَةِ الَّتِي سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِهْلَاكُهَا، وَلَمَّا كَانَ فَرِيقُ الْقَرْيَةِ هُمُ الْمُشْرِكِينَ فَالْفَرِيقُ الْمُقَابِلُ لَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِجُمْلَةِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] وَلَا هِيَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: والَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى عَامٌّ يَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالسَّبْقُ، حَقِيقَتُهُ: تَجَاوُزُ الْغَيْرِ فِي السَّيْرِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، وَمِنْهُ سِبَاقُ الْخَيْلِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي ثُبُوتِ الْأَمْنِ فِي الْمَاضِي، يُقَالُ كَانَ هَذَا فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، أَيِ الَّتِي مَضَتْ أَزْمَانُهَا لِمَا بَيْنَ السَّبْقِ وَبَين التَّقَدُّم من الْمُلَازَمَةِ، أَيِ الَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمُ الْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا، أَيْ حَصَلَ لَهُمُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ اللَّهِ، أَيْ بِتَوْفِيقِهِ وَتَقْدِيرِهِ، كَمَا حَصَلَ الْإِهْلَاكُ لِأَضْدَادِهِمْ بِمَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ. وَالْحُسْنَى: الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ فِي الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: 26] أَوِ الْمَوْعِدَةُ الْحُسْنَى، أَيْ تَقَرَّرَ وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْمُعَامَلَةِ الْحُسْنَى. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ.

وَذُكِرَ الْمَوْصُولُ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَوْزِهِمْ هُوَ سَبْقُ تَقْدِيرِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَذُكِرَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَهُوَ سَبْقُ الْحُسْنَى مِنَ اللَّهِ. وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَالرِّفْعَةُ تُشَبَّهُ بِالْبُعْدِ. وَجُمْلَةُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها بَيَانٌ لِمَعْنَى مُبْعَدُونَ، أَيْ مُبْعَدُونَ عَنْهَا بُعْدًا شَدِيدًا بِحَيْثُ لَا يَلْفَحُهُمْ حَرُّهَا وَلَا يَرُوعُهُمْ مَنْظَرُهَا وَلَا يَسْمَعُونَ صَوْتَهَا، وَالصَّوْتُ يَبْلُغُ إِلَى السَّمْعِ من أبعد مِمَّا يَبْلُغُ مِنْهُ الْمَرْئِيُّ. وَالْحَسِيسُ: الصَّوْتُ الَّذِي يَبْلُغُ الْحِسَّ، أَيِ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ، أَيْ لَا يَقْرُبُونَ مِنَ النَّارِ وَلَا تَبْلُغُ أَسْمَاعَهُمْ أَصْوَاتُهَا، فَهُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْفَزَعِ مِنْ أَصْوَاتِهَا فَلَا يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ مَا يُؤْلِمُهَا. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنَ السَّلَامَةِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْمُلَائِمُ. وَجِيءَ فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَهُوَ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ وَمَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَهُوَ خالِدُونَ. وَالشَّهْوَةُ: تَشَوُّقُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَلَذُّ لَهَا. وَجُمْلَةُ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمَوْصُولِ. وَالْفَزَعُ: نَفْرَةُ النَّفْسِ وَانْقِبَاضُهَا مِمَّا تَتَوَقَّعُ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا مِنَ الْأَلَمِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجَزَعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا فَزَعُ الْحَشْرِ حِينَ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَا سَيَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، فَيَكُونُونَ فِي أَمْنٍ مِنْ ذَلِكَ بِطَمْأَنَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 104]

وَذَلِكَ مُفَادُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْحُسْنَى هُمُ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: 87] . وَالتَّلَقِّي: التَّعَرُّضُ لِلشَّيْءِ عِنْدَ حُلُولِهِ تَعَرُّضَ كَرَامَةٍ. وَالصِّيغَةُ تُشْعِرُ بِتَكَلُّفِ لِقَائِهِ وَهُوَ تَكَلُّفُ تَهَيُّؤٍ وَاسْتِعْدَادٍ. وَجُمْلَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا وُعِدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الثَّوَابِ، لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ يَقَعُ فِي يَوْمٍ آخَرَ. أَيْ هَذَا يَوْمُ تَعْجِيلِ وَعْدِكُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْقَرِيبِ لِتَعْيِينِ الْيَوْمِ وَتَمْيِيزِهِ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ. وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِ بِهِمْ وَكَوْنِ فَائِدَتِهِمْ حَاصِلَةً فِيهِ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي أَيْ هَذَا الزَّمَنُ الْمُخْتَصُّ بِكَ، أَيْ لتتصرف فِيهِ. [104] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 104] يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ قُصِدَ مِنْهَا إِعَادَةُ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُقُوعِهِ وَإِمْكَانِهِ إِبْطَالًا لِإِحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وُقُوعَهُ بِعِلَّةِ أَنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي يُدَّعَى بَعْثُهَا قَدِ انْتَابَهَا الفناء الْعَظِيم وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] .

وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ هُوَ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ الْحَشْرِ وَالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ [الْأَنْبِيَاء: 100] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الْأَنْبِيَاء: 101] الْآيَةَ. وَقَدْ رُتِّبَ نَظْمُ الْجُمْلَةِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِأَغْرَاضٍ بَلِيغَةٍ. وَأَصْلُ الْجُمْلَةِ: نُعِيدُ الْخَلْقَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ وَعْدًا عَلَيْنَا. فَحُوِّلَ النَّظْمُ فَقدم الظّرْف بادىء ذِي بَدْءٍ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ، وَلِمَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ مِنَ الْغَرَابَةِ وَالطِّبَاقِ إِذْ جُعِلَ ابْتِدَاءُ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الْبَعْثُ مُؤَقَّتًا بِوَقْتِ نَقْضِ خَلْقٍ قَدِيمٍ وَهُوَ طَيُّ السَّمَاءِ. وَقُدِّمَ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نُعِيدُهُ لِلتَّعْجِيلِ بِإِيرَادِ الدَّلِيلِ قَبْلَ الدَّعْوَى لِتَتَمَكَّنَ فِي النَّفْسِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ وُجُوهٌ لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاء: 103] . وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا يُفِيد تحقق حُصُولِ الْبَعْثِ مِنْ كَوْنِهِ وَعْدًا عَلَى اللَّهِ بِتَضْمِينِ الْوَعْدِ مَعْنَى الْإِيجَابِ، فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا أَيْ حَقًّا وَاجِبًا. وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوُا الْبَعْثَ بِعِلَّةِ تَعَذُّرِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا فَقَدْ لَزِمَهُمْ إِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فاعِلِينَ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِمَا وَعَدَ بِهِ، أَيِ الْقَادِرُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ إِفَادَةُ أَنَّ قُدْرَتَهُ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلُ قَوْلِهِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.

وَالطَّيُّ: رَدُّ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ اللَّيِّنِ الْمَطْلُوقِ عَلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَضِدُّهُ النَّشْرُ. وَالسِّجِلُّ: بِكَسْرِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ هُنَا، وَفِيهِ لُغَاتٌ. يُطْلَقُ عَلَى الْوَرَقَةِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى كَاتِبِ الصَّحِيفَةِ، وَلَعَلَّهُ تَسْمِيَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صَاحِبُ السِّجِلِّ، وَقِيلَ سِجِلٌّ: اسْمُ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ تُرْفَعُ إِلَيْهِ صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَيَحْفَظُهَا. وَلَا يَحْسُنُ حَمْلُهُ هُنَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ إِضَافَةَ الطَّيِّ إِلَيْهِ وَلَا إردافه لِقَوْلِهِ لِلْكِتَابِ أَوْ لِلْكُتُبِ، وَلَا حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِفِعْلِهِ. فَالْوَجْهُ: أَنْ يُرَادَ بِالسِّجِلِّ الْكَاتِبُ الَّذِي يَكْتُبُ الصَّحِيفَةَ ثُمَّ يَطْوِيهَا عِنْدَ انْتِهَاءِ كِتَابَتِهَا، وَذَلِكَ عَمَلٌ مَعْرُوفٌ. فَالتَّشْبِيهُ بِعَمَلِهِ رَشِيقٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِلْكِتَابِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لِلْكُتُبِ- بِضَمِّ الْكَافِ وَضَمِّ التَّاءِ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَلَمَّا كَانَ تَعْرِيفُ السِّجِلِّ وَتَعْرِيفُ الْكِتَابِ تَعْرِيفَ جِنْسٍ اسْتَوَى فِي الْمُعَرَّفِ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ. فَأَمَّا قِرَاءَتُهُمَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فَفِيهَا مُحَسِّنُ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ فِي الصِّيغَةِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكُتُبِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ كَوْنِ السِّجِلِّ مُفْرَدًا فَفِيهَا حُسْنُ التَّفَنُّنِ بِالتَّضَادِّ. وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ يَحْتَمِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّ الْأَلِفَ قَدْ يُحْذَفُ فِي مِثْلِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْكِتَابِ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مَفْعُولِ طَيِّ. وَمَعْنَى طَيِّ السَّمَاءِ تَغْيِيرُ أَجْرَامِهَا مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ أَوِ اقْتِرَابُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَتَغَيَّرُ أَطْرَافُ الْوَرَقَةِ الْمَنْشُورَةِ حِينَ تُطْوَى لِيَكْتُبَ

الْكَاتِبُ فِي إِحْدَى صَفْحَتَيْهَا، وَهَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ انْقِرَاضِ النِّظَامِ الْحَالِيِّ، وَهُوَ انْقِرَاضٌ لَهُ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ وُصِفَ بَعْضُهَا فِي سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اضْمِحْلَالِ السَّمَاوَاتِ بَلْ عَلَى اخْتِلَالِ نِظَامِهَا، وَفِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: 67] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. وَمَسْأَلَةُ دُثُورِ السَّمَاوَاتِ (أَيِ اضْمِحْلَالُهَا) فَرَضَهَا الْحُكَمَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَمَالَ إِلَى الْقَوْلِ بِاضْمِحْلَالِهَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ (انكسمائس) الْمَلْطِي و (فيثاغورس) و (أفلاطون) . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَطْوِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَنَصْبِ السَّماءَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ تَاءِ مُضَارَعَةِ الْمُؤَنَّثِ وَفَتْحِ الْوَاوِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ وَبِرَفْعِ السَّماءَ. وَالْبَدْءُ: الْفِعْلُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ مُمَاثِلُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَاعِلٍ أَوْ إِلَى زَمَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَبَدْءُ الْخَلْقِ كَوْنُهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ، أَيْ كَمَا جَعَلْنَا خَلْقًا مَبْدُوءًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ فِي نَوْعِهِ. وَخَلْقٌ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَمَعْنَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ: إِعَادَةُ مُمَاثِلِهِ فِي صُورَتِهِ فَإِنَّ الْخَلْقَ أَيِ الْمَخْلُوقَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ جِنْسٍ إِذَا اضْمَحَلَّ فَقِيلَ فَإِنَّمَا يُعَادُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الْأَجْنَاسَ لَا تَحَقُّقَ لَهَا فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي ضِمْنِ أَفْرَادِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أَيْ مِثْلَ سِيرَتِهَا فِي جِنْسِهَا، أَيْ فِي أَنَّهَا عَصًا مِنَ الْعِصِيِّ. وَظَاهِرُ مَا أَفَادَهُ الْكَافُ مِنَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أَنَّ إِعَادَةَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ شُبِّهَتْ بِابْتِدَاءِ خَلْقِهَا. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِمْكَانُ كِلَيْهِمَا وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 إلى 106]

عَلَى أَنَّ التَّشْبِيه صَالح للمماثلة فِي غَيْرِ ذَلِكَ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا أَفَادَهُ التَّشْبِيهُ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ وَاللَّفْظُ لَا يَأْبَاهُ فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعْنًى لِلْكَافِ مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ السِّيَاقِ. وَهَذَا مِنْ تَفَارِيعِ الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ تَفْسِيرِنَا هَذَا. وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ نُعِيدُهُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْإِعَادَةِ فِي مَعْنَى الْوَعْدِ بِذَلِكَ فَانْتَصَبَ عَلَى بَيَانِ النَّوْعِ لِلْإِعَادَةِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ. [105، 106] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 105 إِلَى 106] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضَ الْجَنَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: 73- 74] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا ظَاهِرَةٌ. وَلَهَا ارْتِبَاطٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: افلا ترَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الْأَنْبِيَاء: 44] . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَرْضًا مِنَ الدُّنْيَا، أَيْ مَصِيرَهَا بِيَدِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِمِيرَاثِ الْأَرْضِ الَّتِي لَقُوا فِيهَا الْأَذَى، وَهِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، فَتَكُونُ بِشَارَةً بِصَلَاحِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ بِشَارَتِهِمْ بِحُسْنِ مَآلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . عَلَى أَنَّ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَرْضِ مَا يَصْلُحُ لِإِرَادَةِ أَنَّ سُلْطَانَ الْعَالَمِ سَيَكُونُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي الْحَالَيْنِ وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَفِي حَدِيث أبي دَاوُود وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الزَّبُورِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَهُوَ اسْم للمزبور، أَيِ الْمَكْتُوب، فعول بِمَعْنى مَفْعُولٍ، مِثْلَ: نَاقَةٌ حَلُوبٌ وَرَكُوبٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ زَبُورٌ بِوَزْنِ فَعُولٍ جَمْعُ زِبْرٍ- بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ- أَيْ مَزْبُورٌ، فَوَزْنُهُ مِثْلَ قِشْرٍ وَقُشُورٍ، أَيْ فِي الْكُتُبِ. فَعَلَى قِرَاءَة الْجُمْهُور فو غَالِبٌ فِي الْإِطْلَاقِ على كتاب دَاوُود قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 163] وَفِي [سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: 55] ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُ هَذَا الْوَعْد بِكِتَاب دَاوُود لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ وَعْدٌ عَامٌّ لِلصَّالِحِينَ بِهَذَا الْإِرْثِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ قَبْلَهُ. وَمَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الْأَعْرَاف: 128] فَذَلِكَ خَاصٌّ بِأَرْضِ الْمَقْدِسِ وَبِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالزَّبُور: كتاب دَاوُود وَهُوَ مَبْثُوثٌ فِي الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِالْمَزَامِيرِ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ. وَلَمْ أَذْكُرِ الْآنَ الْجُمْلَةَ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذَا الْوَعْدَ فِي الْمَزَامِيرِ. وَوَجَدُتْ فِي مُحَاضَرَةٍ لِلْإِيطَالِيِّ الْمُسْتَعْرِبِ (فُوِيدُو) أَنَّ نَصَّ هَذَا الْوَعْدِ مِنَ الزَّبُورِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ هَكَذَا: «صَدِّيقِينَ يَرْشُونَ أَرِصْ» بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فِي «يَرْشُونَ» وَبِصَادٍ مُهْمَلَةٍ فِي «أَرِصْ» ، أَيِ الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ. وَالْمَقْصُودُ: الشَّهَادَةُ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ

يَجِيءَ مِثْلُ هَذَا الْوَعْدِ فِي الْقُرْآنِ فِي [سُورَةِ النُّورِ: 55] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ تكَرر فِي الْكتب لِفِرَقٍ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ وَرَدَ فِي الزَّبُورِ عَقِبَ تَذْكِيرٍ وَوَعْظٍ لِلْأُمَّةِ. فَبَعْدَ أَنْ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمُ الْأَوَامِرُ وُعِدُوا بِمِيرَاثِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ الذِّكْرِ كِتَابُ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الْأَنْبِيَاء: 48] فَيَكُونُ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الزَّبُورِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا هُوَ غَيْرُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: 21] ، وَأَنَّهُ غَيْرُ الْإِرْثِ الَّذِي أَوْرَثَهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ كَانَ قبل دَاوُود. فَإِن ملك دَاوُود أَحَدُ مَظَاهِرِهِ. بَلِ الْمُرَادُ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ وَعْدٌ وَعَدَهُ اللَّهُ قَوْمًا صَالِحِينَ بَعْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَيْسُوا إِلَّا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَدَقَهُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ فَمَلَكُوا الْأَرْضَ بِبَرَكَةِ رَسُولِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَاتَّسَعَ مُلْكُهُمْ وَعَظُمَ سُلْطَانُهُمْ حَسْبَ مَا أَنْبَأَ بِهِ نَبِيئُهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ تَذْيِيلٌ لِلْوَعْدِ وَإِعْلَانٌ بِأَنْ قَدْ آنَ أَوَانُهُ وَجَاء إبانه. وفإن لَمْ يَأْتِ بعد دَاوُود قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ ورثوا الأَرْض، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَآمَنَ النَّاسُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ إِلَيْهِمْ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 107]

فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا إِلَى الْوَعْدِ الْمَوْعُودِ فِي الزَّبُورِ وَالْمُبَلَّغِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْعَابِدِينَ مَنْ شَأْنُهُمُ الْعِبَادَةُ لَا يَنْحَرِفُونَ عَنْهَا قَيْدَ أُنْمُلَةٍ كَمَا أَشْعَرَ بِذَلِكَ جَرَيَانُ وَصْفِ الْعَابِدِينَ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ [سُورَةِ يُونُسَ: 101] . فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمُ الْوَعْدَ فَاجْتَهِدُوا فِي نَوَالِهِ. وَالْقَوْمُ الْعَابِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموجودون يَوْمَئِذٍ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. وَالْعِبَادَةُ: الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمرَان: 110] . وَقَدْ وَرِثُوا هَذَا الْمِيرَاثَ الْعَظِيمَ وَتَرَكُوهُ لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ، فَهُمْ فِيهِ أَطْوَارٌ كَشَأْنِ مُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الرُّشْدِ وَالسَّفَهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَوَارِيثِ الْأَسْلَافِ. وَمَا أَشْبَهَ هَذَا الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ هُنَا وَنَوْطَهُ بِالْعِبَادَةِ بِالْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الْقُرْآنِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النُّور: 55- 56] . [107] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 107] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) أُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى عِمَادِ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. فَافْتُتِحَتْ بِإِنْذَارِ الْمُعَانِدِينَ بِاقْتِرَابِ

حِسَابِهِمْ وَوَشْكِ حُلُولِ وَعْدِ اللَّهِ فِيهِمْ وَإِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَذُكِرُوا إِجْمَالًا، ثُمَّ ذُكِرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ بِمَوَاعِظَ وَدَلَائِلَ. وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا حُكْمًا وَعِلْمًا وَذِكْرِ مَا أُوتُوهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى وَصْفٍ جَامِعٍ لِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَزِيَّتُهَا عَلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ مَزِيَّةٌ تُنَاسِبُ عُمُومَهَا وَدَوَامَهَا، وَذَلِكَ كَوْنُهَا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 91] خِتَامًا لِمَنَاقِبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ. وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّصَالٌ بِآيَةِ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 3] . وَوِزَانُهَا فِي وَصْفِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِزَانُ آيَةِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الْأَنْبِيَاء: 48] وَآيَةِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51] والآيات الَّتِي بعدهمَا فِي وَصْفِ مَا أُوتِيَهُ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ. وَصِيغَتْ بِأَبْلَغِ نَظْمٍ إِذِ اشْتَمَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ بِوَجَازَةِ أَلْفَاظِهَا عَلَى مدح الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ومدح مُرْسِلِهِ تَعَالَى، وَمَدْحِ رِسَالَتِهِ بِأَنْ كَانَتْ مَظْهَرَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّاسِ كَافَّةً وَبِأَنَّهَا رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ. فَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي عُطِفَتْ بِهِ، ذكر فِيهِ الرَّسُولُ، وَمُرْسِلُهُ، وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، وَالرِّسَالَةُ، وَأَوْصَافُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، مَعَ إِفَادَةِ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، وَاسْتِغْرَاقِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَخُصُوصِيَّةِ الْحَصْرِ، وَتَنْكِيرُ رَحْمَةً لِلتَّعْظِيمِ، إِذْ لَا مُقْتَضَى

لِإِيثَارِ التَّنْكِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ وَإِلَّا لَقِيلَ: إِلَّا لِنَرْحَمَ الْعَالَمِينَ، أَوْ إِلَّا أَنَّكَ الرَّحْمَةُ لِلْعَالَمِينَ. وَلَيْسَ التَّنْكِيرُ لِلْإِفْرَادِ قَطْعًا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الرَّحْمَةِ وَتَنْكِيرُ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ قَصْدُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى خُصُوصِيًّا، فَقَدْ فَاقَتْ أَجَمْعَ كَلِمَةٍ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَهِيَ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ إِذْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ قُصَارَاهَا كَمَا قَالُوا: «أَنَّهُ وَقَفَ وَاسْتَوْقَفَ وَبَكَى وَاسْتَبْكَى وَذَكَرَ الْحَبِيبَ وَالْمَنْزِلَ» دُونَ خُصُوصِيَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَ سِتَّةَ مَعَانٍ لَا غَيْرَ. وَهِيَ غَيْرُ خُصُوصِيَّةٍ إِنَّمَا هِيَ وَفْرَةُ مَعَانٍ. وَلَيْسَ تَنْكِيرُ «حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ» إِلَّا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ فَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْأَحْبَابِ وَفَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْمَنَازِلِ، وَهُمَا حَبِيبُهُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ، وَمَنْزِلُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِصَابَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ يَجْعَلُهُ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ انْحِصَارُ الْمَوْصُوفِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ لَطِيفٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ اتَّحَدَ بِالرَّحْمَةِ وَانْحَصَرَ فِيهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُنْوَانَ الرَّسُولِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، فَصَارَ وُجُودُهُ رَحْمَةً وَسَائِرُ أَكْوَانِهِ رَحْمَةً. وَوُقُوعُ الْوَصْفِ مَصْدَرًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا الِاتِّحَادِ بِحَيْثُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ صِفَةً مُتَمَكِّنَةً مِنْ إِرْسَالِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَى شَرْحِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» (¬1) . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرَيْنِ: الْأَوَّلُ تَخَلُّقُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَالثَّانِي إِحَاطَةُ الرَّحْمَةِ بِتَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ. فَأَمَّا الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقَيْسِيُّ الإشبيلي أحد تلاميذه أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ وَمِمَّنْ أَجَازَ لَهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ رِجَالِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ: «زَيَّنَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) رَوَاهُ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي كتاب «ذخيرة الْحفاظ» عَن أبي هُرَيْرَة يصفه بالضعف.

بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ فَكَانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً وَجَمِيعُ شَمَائِلِهِ رَحْمَةً وَصِفَاتُهُ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ» اه. وَذكره عَنْهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . قُلْتُ: يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُطِرَ عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ مُعَامَلَتِهِ الْأُمَّةَ لِتَتَكَوَّنَ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ رُوحِهِ الزَّكِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ بِشَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ رَحْمَةٌ حَتَّى يَكُونَ تَلَقِّيهِ الشَّرِيعَةَ عَنِ انْشِرَاحِ نَفْسٍ أَنْ يَجِدَ مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ مُلَائِمًا رَغْبَتَهُ وَخُلُقَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» . وَلِهَذَا خَصَّ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يَصِفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَة: 128] وَقَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: 159] أَيْ بِرَحْمَةٍ جَبَلَكَ عَلَيْهَا وَفَطَرَكَ بِهَا فَكُنْتَ لَهُمْ لَيِّنًا. وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» . وَأَمَّا الْمَظْهَرُ الثَّانِي مِنْ مَظَاهِرِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ مَظْهَرُ تَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ، أَيْ مَا فِيهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لِلْعالَمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ رَحْمَةً. والتعريف فِي لِلْعالَمِينَ لِاسْتِغْرَاقِ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ: الصِّنْفُ مِنْ أَصْنَافِ ذَوِي الْعِلْمِ، أَيِ الْإِنْسَانُ، أَوِ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْحَيَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] . فَإِنْ أُرِيدَ أَصْنَافُ ذَوِي الْعِلْمِ فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُنْحَصِرَةً فِي الرَّحْمَةِ أَنَّهَا أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ رَحْمَةً بِالنَّاسِ فَإِنَّ الشَّرَائِعَ السَّالِفَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً بِرَحْمَةٍ إِلَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ فِيهَا غَيْرُ عَامَّةٍ إِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْحَنِيفِيَّةُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ رَحْمَةً خَاصَّةً بِحَالَةِ الشَّخْصِ

فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِيهَا تَشْرِيعٌ عَامٌّ، وَشَرِيعَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي ذَلِكَ وَإِمَّا لِأَنَّهَا قَدْ تَشْتَمِلُ فِي غَيْرِ الْقَلِيلِ مِنْ أَحْكَامِهَا عَلَى شِدَّةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَمِ الْمَشْرُوعَةِ هِيَ لَهَا مِثْلَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهَا أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِأَكْثَرِ أَحْوَالِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَهِيَ رَحْمَةٌ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 154] ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ عُقُوبَاتِ أُمَّتِهَا جُعِلَتْ فِي فَرْضِ أَعْمَالٍ شَاقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ بِفُرُوضٍ شَاقَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَقَالَ: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ خِطَابًا مِنْهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّي [الْأَعْرَاف: 156- 157] الْآيَةَ. فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَحْمَةٌ هِيَ عَامَّةٌ فَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُلَازِمَةٌ لِلنَّاسِ بِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا لِأُمَّةٍ خَاصَّةٍ. وَحِكْمَةُ تَمْيِيزِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَنَّ أَحْوَالَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَضَتْ عَلَيْهَا عُصُورٌ وَأَطْوَارٌ تَهَيَّأَتْ بِتَطَوُّرَاتِهَا لِأَنْ تُسَاسَ بِالرَّحْمَةِ وَأَنْ تُدْفَعَ عَنْهَا الْمَشَقَّةُ إِلَّا بِمَقَادِيرَ ضَرُورِيَّةٍ لَا تُقَامُ الْمَصَالِحُ بِدُونِهَا، فَمَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ مِنِ اخْتِلَاطِ الرَّحْمَةِ بِالشِّدَّةِ وَمَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَحُّضِ الرَّحْمَةِ لَمْ يَجُرْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْعَدَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ وَالَّذِي جَاءَ بِهَا وَالْأُمَّةَ الْمُتَّبِعَةَ لَهَا بِمُصَادَفَتِهَا لِلزَّمَنِ وَالطَّوْرِ الَّذِي اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي سِيَاسَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهُمْ تَشْرِيعَ رَحْمَةٍ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ.

فَأُقِيمَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى دَعَائِمِ الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ وَالْيُسْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحجّ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنْ شِدَّةٍ فِي نَحْوِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ فَإِنَّمَا هُوَ لِمُرَاعَاةِ تَعَارُضِ الرَّحْمَةِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] فَالْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ شِدَّةٌ عَلَى الْجُنَاةِ وَرَحْمَةٌ بِبَقِيَّةِ النَّاسِ. وَأَمَّا رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْأُمَمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ رَحْمَتَهُ بِالْأُمَمِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَرَحْمَتُهُ بِهِمْ عَدَمُ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ أَدْيَانِهِمْ، وَإِجْرَاءُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ بِحَيْثُ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ. هَذَا وَإِن أُرِيد بالعالمين فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ. إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النَّحْل: 5- 7] . وَقَدْ أَذِنَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِلنَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَلَمْ تَأْذَنْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ كُرِهَ صَيْدُ اللَّهْوِ وَحُرِّمَ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ أَكْلِهِ، وَعَدَّ فُقَهَاؤُنَا سِبَاقَ الْخَيْلِ رُخْصَةً للْحَاجة فِي الغرو وَنَحْوِهِ. وَرَغَّبَتِ الشَّرِيعَةُ فِي رَحْمَةِ الْحَيَوَانِ فَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِرَجُلٍ وَجَدَ كَلْبًا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَلَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 108]

فِي بِئْرٍ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً وَأَمْسَكَهُ بِفَمِهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ» . أَمَّا الْمُؤْذِي وَالْمُضِرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ فَقَدْ أُذِنَ فِي قَتْلِهِ وَطَرْدِهِ لِتَرْجِيحِ رَحْمَةِ النَّاسِ عَلَى رَحْمَة الْبَهَائِم. وَهِي تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثْرَةٌ لَا يُعْوِزُ الْفَقِيه تتبعها. [108] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 108] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) عَقَّبَ الْوَصْفَ الْجَامِعَ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ مَا لَهَا مِنَ الْأَثَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ بِوَصْفٍ جَامِعٍ لِأَصْلِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي ذَاتِهَا الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مُتَّبِعٍ لَهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ مَا سِوَاهُ، لِنَبْذِ الشِّرْكِ الْمَبْثُوثِ بَيْنَ الْأُمَمِ يَوْمَئِذٍ. وَلِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ صُدِّرَتْ جُمْلَتُهُ بِالْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ لِاسْتِصْغَاءِ أَسْمَاعِهِمْ. وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ حَصْرِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ فِي مَضْمُونِهَا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْأَعْظَمُ، وَكُلُّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، فَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ هِيَ مَقَادَةُ الِاجْتِلَابِ إِلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، إِذْ كَانَ أَصْلُ الْخِلَافِ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الرَّسُولِ وَمُعَانِدِيهِ هُوَ قَضِيَّةَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] . وَمَا كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهُ فِي دِينِ شِرْكِهِمْ إِذْ كَانَ الَّذِينَ وَضَعُوا لَهُمُ الشِّرْكَ لَا يُحَدِّثُونَهُمْ إِلَّا عَنْ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَمَا كَانَ تَصَلُّبُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ إِلَّا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاهْتِمَامُ بِتَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ تَضْيِيقًا لِشُقَّةِ الْخِلَافِ بَيْنَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْرِضِينَ الَّذِينَ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِوَصْفِ حَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: 1- 3] . وَأَفَادَتْ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ وَإِتْلَاؤُهَا بِفِعْلِ يُوحى قَصْرَ الْوَحْيِ إِلَى الرَّسُولِ عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. وَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ. وَ (أَنَّمَا) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ هِيَ أُخْتُ «إِنَّمَا» الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فِي إِفَادَةِ الْقَصْرِ لِأَنَّ (أَنَّمَا) الْمَفْتُوحَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَ (مَا) الْكَافَّةِ. كَمَا رُكِّبَتْ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ مِنْ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ وَ (مَا) الْكَافَّةِ. وَإِذْ كَانَتْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ فِي إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ فَكَذَلِكَ كَانَتْ عِنْدَ اتِّصَالِهَا بِ (مَا) الْكَافَّةِ أُخْتًا لَهَا فِي إِفَادَةِ الْقَصْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [92] . وَإِذْ قَدْ أَتُلِيَتْ (أَنَّمَا) الْمَفْتُوحَةُ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِ، وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَقَدْ أَفَادَتْ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مُسْتَأْثِرٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ تَعَدُّدُ أَفْرَادٍ فَأَفَادَتْ قَصْرًا ثَانِيًا، وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ. وَالْقَصْرُ الْأَوَّلُ إِضَافِيٌّ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ فِي شَأْنِ الْإِلَهِ إِلَّا أَنَّ الْإِلَهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَالْقَصْرُ الثَّانِي أَيْضًا إِضَافِيٌّ، أَيْ فِي شَأْنِ الْإِلَهِ مِنْ حَيْثُ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ مِنْ شَأْنِهِ رَدُّ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ لَزِمَ اعْتِبَارُ رَدِّ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقَصْرَيْنِ. فَالْقَصْرُ الْأَوَّلُ لِإِبْطَالِ مَا يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ ثُمَّ يذكر الله والرحمان، وَيُلِّبِسُونَ تَارَةً بِأَنَّهُ سَاحِرٌ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 4- 5] فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9]

[سورة الأنبياء (21) : آية 109]

وَقَوله تَعَالَى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] . ثُمَّ إِنَّ كِلَا الْقَصْرَيْنِ كَانَ كَلِمَةً جَامِعَةً لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ تَقْرِيبًا لِشُقَّةِ الْخِلَافِ وَالتَّشْعِيبِ. وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَفَرَّعَ عَلَيْهَا جُمْلَةُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ، أَيْ فَهَلْ تُسْلِمُونَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا فِي مَعْنًى كِنَائِيٍّ وَهُوَ التَّحْرِيضُ عَلَى نَبْذِ الْإِشْرَاكِ وَعَلَى الدُّخُولِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَالِ عَلَى أَصْلِهِ، أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الْآنَ اسْتِبْطَاءً لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِمْ. وَصِيغَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَهَلْ تُسْلِمُونَ، لِإِفَادَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ ثَابِتٌ. وَكَأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي ريب يَتَرَدَّدُونَ. [109] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 109] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ هَذَا التَّبْيِينِ الْمُفَصَّلِ وَالْجَامِعِ فَأَبْلِغْهُمُ الْإِنْذَارَ بِحُلُولِ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَالْإِيذَانُ: الْإِعْلَامُ، وَهُوَ بِوَزْنِ أَفْعَلَ مِنْ أَذِنَ لِكَذَا بِمَعْنَى سَمِعَ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنِ اسْمِ الْأُذُنِ، وَهِيَ جَارِحَةُ السَّمْعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ بِالسَّمْعِ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِلْمِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا (آذَنَ) فَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِالْهَمْزَةِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الصِّيغَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْإِنْذَارِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ الْمَشُوبُ بِتَحْذِيرٍ. فَمِنِ اسْتِعْمَالِ أَذِنَ قَوْلُهُ

تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْبَقَرَة: 279] ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ (آذَنَ) قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ وَحُذِفَ مَفْعُولُ آذَنْتُكُمْ الثَّانِي لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا تُوعَدُونَ عَلَيْهِ، أَوْ يُقَدَّرُ: آذَنْتُكُمْ مَا يُوحَى إِلَيَّ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ مَا يَشْمَلُ الْمَعْنَيَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ [هود: 57] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى سَواءٍ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ قُوَّةُ الْمُلَابَسَةِ وَتَمَكُّنُ الْوَصْفِ مِنْ مَوْصُوفِهِ. وَ (سَوَاءٍ) اسْمٌ مَعْنَاهُ مُسْتَوٍ. وَالِاسْتِوَاءُ: الْمُمَاثَلَةُ فِي شَيْءٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَسَوَاءٍ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ ثُمَّ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ فَجَمَعُوهُ لِذَلِكَ، وَحَقُّهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى سَواءٍ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آذَنْتُكُمْ أَيْ أَنْذَرْتُكُمْ مُسْتَوِينَ فِي إِعْلَامِكُمْ بِهِ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْإِنْذَارُ. وَهَذَا إِعْذَارٌ لَهُمْ وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ فِي خُطْبَتِهِ «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ آذَنْتُكُمْ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْإِيذَانُ عَلَى السَّوَاءِ: الدُّعَاءُ إِلَى الْحَرْبِ مُجَاهَرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: 58] انْتهى. يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ بِحَالِ النَّذِيرِ بِالْحَرْبِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ دُعَاءٌ إِلَى حَرْبٍ حَقِيقِيَّةٍ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى سَواءٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ آذَنْتُكُمْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ السِّيَاقَ يُؤْذِنُ بِهِ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الْأَنْبِيَاء: 96] الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ فِي [سُورَةِ الْأَنْفَالِ: 58] .

[سورة الأنبياء (21) : آية 110]

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُوعَدُونَهُ مِنْ عِقَابٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ عَاشُوا أَوْ مَاتُوا. وَ (إِنْ) نَافِيَةٌ وَعُلِّقَ فِعْلُ أَدْرِي عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَحُذِفَ الْعَائِدُ. وَتَقْدِيرُهُ: مَا توعدون بِهِ. [110] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 110] إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلُ الْإِنْذَارِ بِتَحْقِيقِ حُلُولِ الْوَعِيدِ بِهِمْ وَتَعْلِيلُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِقُرْبِهِ أَوْ بُعْدِهِ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ جَهْرَهُمْ وَسِرَّهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُؤَاخِذُهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَتَى يَحِلُّ بِهِمْ عَذَابُهُ. وَعَائِدُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَكْتُمُونَ ضمير مَحْذُوف. [111] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 111] وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 109] . وَالضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ اسْمُ (لَعَلَّ) عَائِدٌ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ مُنْتَظَرُ الْوُقُوعِ وَأَنَّهُ تَأَخَّرَ عَنْ وُجُودِ مُوجِبِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَعَلَّ تَأْخِيرَهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ، أَوْ لَعَلَّ تَأْخِيرَ مَا تُوعَدُونَ فِتْنَةٌ لَكُمْ، أَيْ مَا أَدْرِي حِكْمَةَ هَذَا التَّأْخِيرِ فَلَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أَرَادَهَا اللَّهُ لِيُمْلِيَ لَكُمْ إِذْ بِتَأْخِيرِ الْوَعْدِ يَزْدَادُونَ فِي التَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي وَذَلِكَ فِتْنَةٌ. وَالْفِتْنَةُ: اخْتِلَالُ الْأَحْوَالِ الْمُفْضِي إِلَى مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ.

[سورة الأنبياء (21) : آية 112]

وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مُدَّةً قَلِيلَةً، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ فِي [سُورَةِ آل عمرَان: 196- 197] . [112] [سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 112] قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112) اسْتِئْنَاف ابتدائي بعد مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَالِ أَصْلِهَا وَأَمْرِهِ بِإِنْذَارِهِمْ وَتَسْجِيلِ التَّبْلِيغِ. قَصَدَ مِنْ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ التَّلْوِيحَ إِلَى عَاقِبَةِ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ الْمَرْجُوَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِتَكُونَ قِصَّةُ هَذَا الدِّينِ وَصَاحِبِهِ مستوفَاةَ الْمَبْدَأِ وَالْعَاقِبَةِ عَلَى وِزَانِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاء: 48] إِلَى هُنَا. وَفِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: 109] رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُمْ مُتَوَلُّونَ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحُكْمُ فِيهِمْ بِجَزَاءِ جُرْمِهِمْ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ لَا يُغَادِرُهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ فِي إِعَانَتِهِ لِأَن الله إِذا لَقَّنَ عِبَادَهُ دُعَاءً فَقَدْ ضَمِنَ لَهُمْ إِجَابَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: 286] وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَاسْتَجَابَ لِعَبْدِهِ فَحَكَمَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ بِالْحَقِّ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمَعْنَى: قُلْ ذَلِكَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ إِظْهَارًا لِتَحَدِّيهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى رَبِّهِ لِيَحُكْمَ فِيهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ خَضْدُ شَوْكَتِهِمْ وَإِبْطَالُ دِينِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.

الْبَاء فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي لِفِعْلِ احْكُمْ لِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ مَا سَأَلَ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ إِلَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُهُ، أَيِ احْكُمْ لَنَا أَوْ فِيهِمْ أَوْ بَيْنَنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ قالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: قل رَبِّي يعلم القَوْل [الْأَنْبِيَاء: 4] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَمْ يُكْتَبْ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ. عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورَبِّ مُنَادًى مُضَافٌ حُذِفَتْ مِنْهُ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهَا وَبَقِيَتِ الْكَسْرَةُ دَلِيلًا عَلَى الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- مِنْ رَبِّ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِضَمِّ الْبَاءِ- وَهُوَ وَجْهٌ عَرَبِيٌّ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ التَّرْخِيمِ وَهُوَ جَائِزٌ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَرَبُّنَا لِتَضَمُّنِهَا تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُسْلِمِينَ بِالِاعْتِزَازِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ. وَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ لِلنَّبِيءِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ مَرْبُوبِيَّةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ حَسَبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] . والرحمان عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ رَبُّنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الِاسْمُ لَا الْوَصْفُ تَوَرُّكًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا اسْم الرحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الْفرْقَان: 60] . وَتَعْرِيفُ الْمُسْتَعانُ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا أَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا تَصِفُونَ، إِذْ لَا يَنْصُرُنَا غَيْرُ رَبِّنَا وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَة: 5] .

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى مَا تَصِفُونَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ هُوَ مَجْرُورُ (عَلَى) ، أَيْ عَلَى إِبْطَالِ مَا تَصِفُونَ بِإِظْهَارِ بُطْلَانِكُمْ لِلنَّاسِ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَا يَتَّبِعُوكُمْ، أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذَاهُمْ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْلِيبِ الْعَرَبِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى مَا تَصِفُونَ وَمَا تَصَدَّرُ بِهِ أَقْوَالُكُمْ مِنَ الْأَذَى لَنَا. فَالْوَصْفُ هُنَا هُوَ الْأَقْوَالُ الدَّالَّةُ عَنِ الْأَوْصَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَهُمْ وَصَفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِ ذَمٍّ كَقَوْلِهِمْ: مَجْنُونٌ وَسَاحِرٌ، وَوَصَفُوا الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ شِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَشَهَرُوا ذَلِكَ فِي دَهْمَائِهِمْ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ.

22- سورة الحج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 22- سُورَةُ الْحَجِّ سُمِّيَتْ هَذِه السُّورَة سُورَة الْحَجَّ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ . وَلَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ اسْمٌ غَيْرَ هَذَا. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سُورَةَ الْحَجِّ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِيهَا كَيْفَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَذَكَرَ مَا شَرَعَ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ مِنَ النُّسُكِ تَنْوِيهًا بِالْحَجِّ وَمَا فِيهِ مِنْ فَضَائِلَ وَمَنَافِعَ، وَتَقْرِيعًا لِلَّذِينِ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا قبل أَن يفْرض الْحَجُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا فُرِضَ الْحَجُّ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا مَكِّيٌّ وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَدَنِيٌّ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ هذانِ خَصْمانِ إِلَى وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَج: 19- 22] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَدَّ النَّقَّاشُ مَا نَزَلَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ آيَاتٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَاتِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نبيء إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الْحَج: 52- 55] فَهُنَّ مَكِّيَّاتٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَّنِيٌّ وَهِيَ مُخْتَلِطَةٌ، أَيْ لَا يُعْرَفُ الْمَكِّيُّ بِعَيْنِهِ، وَالْمَدَنِيُّ بِعَيْنِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَأَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ مَا يَكْثُرُ أَنْ يَقُولُوهُ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْ عِدَّةِ سُوَرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ أَكْثَرُ السُّورَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا، بَلْ أَرَادُوا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَكِّيٌّ وَأَنَّ مِثْلَهُ أَوْ يُقَارِبُهُ مَدَنِيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَا هُوَ مَكِّيٌّ مِنْهَا وَمَا هُوَ مَدَنِيٌّ وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ: هِيَ مُخْتَلِطَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَ أَوَّلُ السُّورَةِ فِي السَّفَرِ فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ بِهَا فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ الَّذِي سَيَأْتِي. يُرِيدُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ نُزُولَهَا فِي السَّفَرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَإِنَّ افْتِتَاحَهَا بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الْحَج: 1] جَارٍ عَلَى سُنَنِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَفِي أَسَالِيبِ نَظْمِ كَثِيرٍ

مِنْ آيَاتِهَا مَا يُلَائِمُ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ. وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ الِافْتِتَاحُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ بِمُعَيِّنٍ أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةً، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. وَلِذَا فَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ الْخِطَابُ بِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ حُلُولِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْحَج: 25] يُنَاسِبُ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ حَيْثُ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيءَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْبَقَاءِ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْحَج: 39- 40] فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَزَلَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيءُ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيئَهُمْ لِيَهْلِكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الْحَج: 39- 40] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً [الْحَج: 58] فَفِيهِ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ وَذِكْرُ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِجِهَادٍ مُتَوَقَّعٍ كَمَا سَيَجِيءُ هُنَالِكَ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ طَائِفَةٌ مِنْهَا مُتَوَالِيَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَنَزَلَ مَا بَعْدَهَا بِالْمَدِينَةِ بَلْ نَزَلَتْ آيَاتُهَا مُتَفَرِّقَةً. وَلَعَلَّ تَرْتِيبَهَا كَانَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: 19] أَنَّهُ نَزَلَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، لِمَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي ذَرٍّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُبَارَزَةِ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ مَعَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ.

وَلِذَلِكَ فَأَنَا أَحْسُبُ هَذِهِ السُّورَةَ نَازِلًا بَعْضُهَا آخِرَ مُدَّةِ مُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ كَمَا يَقْتَضِيهِ افْتِتَاحُهَا بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَالِبَ فِي أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ، وَأَنَّ بَقِيَّتَهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ مُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الْحَج: 1- 2] ، قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؟ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ ... » وَسَاقَ حَدِيثًا طَوِيلًا. فَاقْتَضَى قَوْلُهُ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؟ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ أَسْفَارَهُ كَانَتْ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ السّفر فِي غروة بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَتِلْكَ الْغَزْوَةُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ «أُنْزِلَتْ وَهُوَ فِي سَفَرٍ» أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ لَمْ يَسْمَعِ الْآيَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَظَنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مَا أَسْلَمَ إِلَّا عَامَ خَيْبَرَ وَهُوَ عَامُ سَبْعَةٍ، أَوْ أَنَّ أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ أَدْرَجَ كَلِمَةَ «أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ» فِي كَلَامِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَقُلْهُ عِمْرَانُ. وَلِذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَذَا اللَّفْظُ فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بن بَشَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيءِ فِي سَفَرٍ فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الْحَج: 1- 2]

إِلَى آخِرِهِ. فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ ابْنَ جُدْعَانَ وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ: سَيِّءُ الْحِفْظِ، وَقَدْ كَانَ اخْتَلَطَ فَيَنْبَغِي عَدَمُ اعْتِمَادِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَرَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْغَزْنَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سُورَةُ الْحَجِّ مِنْ أَعَاجِيبِ السُّوَرِ نَزَلَتْ لَيْلًا وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا، سِلْمِيًّا وَحَرْبِيًّا، نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةَ الْخَامِسَةَ وَالْمِائَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النُّورِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عِنْدَهُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا لِأَنَّ سُورَةَ النُّورِ وَسُورَةَ الْمُنَافِقِينَ مَدَنِيَّتَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّفَ فِي اعْتِمَادِ هَذَا فِيهَا. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ: سَبْعًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ: أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ: خَمْسًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ: ثَمَانًا وَسَبْعِينَ. وَمِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ: - خِطَابُ النَّاسِ بِأَمْرِهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيَخْشَوْا يَوْمَ الْجَزَاءِ وَأَهْوَالَهُ. - وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَفْيِ الشِّرْكِ وَخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الْمُكَابَرَةِ فِي الِاعْتِرَافِ بِانْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَعَنِ الْمُجَادَلَةِ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِوَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. -

وَتَفْظِيعُ جِدَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَنِدُونَ إِلَى عِلْمٍ وَأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْحُجَّةِ لِيُضِلُّوا النَّاسَ. - وَأَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ وَكَيْفَ يَرْتَابُونَ فِيهِ بِعِلَّةِ اسْتِحَالَةِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَلَا يَنْظُرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ طَوَّرَهُ أَطْوَارًا. - وَأَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ فَتَحْيَا وَتُخْرِجُ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، فَاللَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ، فَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. - وَأَنَّ مُجَادَلَتَهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ صَادِرَةٌ عَنْ جَهَالَةٍ وَتَكَبُّرٍ عَنِ الِامْتِثَالِ لقَوْل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. - وَوَصْفُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي اتِّبَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ. - وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ بِتَكَبُّرِهِمْ عَنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حُمَاةُ دِينِهِ وَأُمَنَاءُ بَيْتِهِ وَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ. - وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ مِنَ الْمَنَافِعِ فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ. - وَتَنْظِيرُهُمْ فِي تَلَقِّي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الرُّسُلِ بِالْإِعْرَاضِ وَالْكُفْرِ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ. - وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ بِهَؤُلَاءِ مِثْلُهُ فَلَا يَغُرُّهُمْ تَأْخِيرُ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ إِمْلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ كَمَا أَمْلَى لِلْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تأنيس للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَبِشَارَةٌ لَهُمْ بِعَاقِبَةِ النَّصْرِ عَلَى الَّذِينَ فَتَنُوهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ. -

[سورة الحج (22) : آية 1]

وَأَنَّ اخْتِلَافَ الْأُمَمِ بَيْنَ أَهْلِ هُدًى وَأَهْلِ ضَلَالٍ أَمْرٌ بِهِ افْتَرَقَ النَّاسُ إِلَى مِلَلٍ كَثِيرَةٍ. - وَأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ لِمُشَاهَدَةِ جَزَاءِ أَهْلِ الْهُدَى وَجَزَاءِ أَهْلِ الضَّلَالِ. - وَأَنَّ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي أَمْرِ اللَّهِ فَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ جَزَاؤُهُ. - وَسَلَّى الله رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُفْسِدُ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ آثَارَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحْكِمُ دِينَهُ وَيُبْطِلُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فَلِذَلِكَ تَرَى الْكَافِرِينَ يُعْرِضُونَ وَيُنْكِرُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ. - وَفِيهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْمُتَلَقِّينَ لَهُ بِخَشْيَةٍ وَصَبْرٍ، وَوَصْفُ الْكُفَّارِ بِكَرَاهِيَتِهِمُ الْقُرْآنَ وَبُغْضِ الْمُرْسَلِ بِهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمُ اتِّبَاعَ الْحَنِيفِيَّةِ وَسَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ. - وَالْإِذْنُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ وَضَمَانِ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ لَهُمْ. - وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِتَذْكِيرِ النَّاسِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنَ النَّاسِ فَأَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُم وناصرهم. [1] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) نِدَاءٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمَوُجُودِينَ يَوْمَ نُزُولِهَا وَمَنْ يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِيَتَلَقَّوُا الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، أَيْ خَشْيَةِ مُخَالَفَةِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَتَقْوَى كُلِّ فَرِيقٍ بِحَسَبِ حَالِهِمْ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالتَّفْرِيطِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، لِيَسْتَبْدِلُوا ذَلِكَ بِضِدِّهِ. وَأَوَّلُ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ دُخُولًا فِي خِطَابِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ خَاصٌّ بِهِمْ. وَهَذَا يَشْمَلُ مُشْرِكِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ صَفَائِهَا مِنْهُمْ. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِصِفَةِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِيمَاءً إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يُتَّقَى لِعَظَمَتِهِ بِالْخَالِقِيَّةِ، وَإِلَى جَدَارَةِ النَّاسِ بِأَنْ يَتَّقُوهُ لِأَنَّهُ بِصِفَةِ تَدْبِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَأْمُرُ وَلَا ينْهَى إِلَّا لمرعي مَصَالِحَ النَّاسِ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ لَا يُفِيدُهُ غَيْرُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ نَحْوِ الْخَالِقِ وَالسَّيِّدِ. وَتَعْلِيقُ التَّقْوَى بِذَاتِ الرَّبِّ يَقْتَضِي بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ مَعْنَى اتِّقَاءِ مُخَالَفَتِهِ أَوْ عِقَابِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْوَى لَا تَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ بَلْ بِشَأْنٍ لَهَا مُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ. وَأَوَّلُ تَقْوَاهُ هُوَ تَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ، وَفِي مُقَدِّمَةِ ذَلِكَ تَنْزِيهُهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ بِاعْتِقَادِ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بالتقوى كَمَا يفِيدهُ حَرْفُ التَّوْكِيدِ الْوَاقِعُ فِي مَقَامِ خِطَابٍ لَا تَرَدُّدَ لِلسَّامِعِ فِيهِ. وَالتَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ لِزَلْزَلَةِ السَّاعَةِ أَثَرًا فِي الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَهُوَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِحُصُولِ الْجَزَاءِ عَلَى التَّقْوَى وَعَلَى الْعِصْيَانِ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ الْمُفَصَّلِ بِمَا بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الْحَج: 2] .

وَالزَّلْزَلَةُ حَقِيقَتُهَا: تَحَرُّكٌ عَنِيفٌ فِي جِهَةٍ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ مِنْ أَثَرِ ضَغْطِ مَجَارِي الْهَوَاءِ الْكَائِنِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ. وَهِيَ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْأَرْضِيَّةِ الْمُرْعِبَةِ يَنْشَأُ عَنْهَا تَسَاقُطُ الْبِنَاءِ وَقَدْ يَنْشَأُ عَنْهَا خَسْفُ الْأَشْيَاءِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ. وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى وَقْتِ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَالْخُلُوصِ إِلَى عَالَمِ الْحَشْرِ الْأُخْرَوِيِّ، قَالَ تَعَالَى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: 1- 6] . وَإِضَافَةُ زَلْزَلَةَ إِلَى السَّاعَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) ، أَيِ الزَّلْزَلَةُ الَّتِي تَحْدُثُ وَقْتَ حُلُولِ السَّاعَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزَّلْزَلَةُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي وَقْتِ الْحَشْرِ. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الزَّلْزَلَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ عِنْدَ إِشْرَافِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْفَنَاءِ وَفَسَادِ نِظَامِهِ فَإِضَافَتُهَا إِلَى السَّاعَةِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّة فَيكون فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزَّلْزَلَةُ مَجَازًا عَنِ الْأَهْوَالِ وَالْمُفْزِعَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ تُسْتَعَارُ لَهُ الزَّلْزَلَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 214] أَيْ أُصِيبُوا بِالْكَوَارِثِ وَالْأَضْرَارِ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ [الْبَقَرَة: 214] . وَفِي دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ: «اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» . وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ شَيْءٌ لِلتَّهْوِيلِ بِتَوَغُّلِهِ فِي التَّنْكِيرِ، أَيْ زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ لَا يعرّف كنهها إلّا بِأَنَّهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاقِعِ الَّتِي يَحْسُنُ فِيهَا مَوْقِعُ كَلِمَةٍ شَيْءٌ وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ

[سورة الحج (22) : آية 2]

فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فِي فَصْلٍ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ عَلَى الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 229] . وَالْعَظِيمُ: الضَّخْمُ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَة لِلْقَوِيِّ الشَّدِيدِ، وَالْمَقَامُ يُفِيدُ أَنه شَدِيد فِي الشرّ. [2] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 2] يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) جُمْلَةُ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ إِلَخْ ... بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَج: 1] لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُبَيِّنُ مَعْنَى كَوْنِهَا شَيْئًا عَظِيمًا وَهُوَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الشَّرِّ وَالرُّعْبِ. وَيَتَعَلَّقُ يَوْمَ تَرَوْنَها بِفِعْلِ تَذْهَلُ . وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّوْقِيتِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَوَقُّعِ رُؤْيَتِهِ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُ نَظْمِ الْجُمْلَةِ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضَعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ يَوْمَ تَرَوْنَ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ. فَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ رُؤْيَةُ تِلْكَ الزَّلْزَلَةِ بِالْإِمْكَانِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَرَوْنَها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ على زَلْزَلَةَ [الْحَج: 1] وَأُطْلِقَتِ الرُّؤْيَةُ عَلَى إِدْرَاكِهَا الْوَاضِحِ الَّذِي هُوَ كَرُؤْيَةِ الْمَرْئِيَّاتِ لِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ تُسْمَعُ وَلَا تُرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السَّاعَةِ. وَرُؤْيَتُهَا: رُؤْيَةُ مَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ مِنْ حُضُورِ النَّاسِ لِلْحَشْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ وَمُشَاهَدَةِ أَهْوَالِ الْعَذَابِ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ إِلَخْ.

وَالذُّهُولُ: نِسْيَانُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُنْسَى لِوُجُودِ مُقْتَضَى تَذَكُّرِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ حَاضِرٌ أَوْ لِأَنَّ عِلْمَهُ جَدِيدٌ وَإِنَّمَا يُنْسَى لِشَاغِلٍ عَظِيمٍ عَنْهُ، فَذُكِرَ لَفْظُ الذُّهُولِ هُنَا دُونَ النِّسْيَانِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى شِدَّةِ التَّشَاغُلِ. قَالَهُ شَيْخُنَا الْجِدُّ الْوَزِيرُ قَالَ: وَشَفَقَةُ الْأُمِّ عَلَى الِابْنِ أَشَدُّ مِنْ شَفَقَةِ الْأَبِ، فَشَفَقَتُهَا عَلَى الرَّضِيعِ أَشَدُّ مِنْ شَفَقَتِهَا عَلَى غَيْرِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْأَوْلَى عَلَى ذُهُولِ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْكِنَايَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَمِيعِ لَوَازِمِ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي الْكِنَايَةِ أَنْ يُصَرَّحَ بِجَمِيعِ اللَّوَازِمِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكِنَايَةِ عَقْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ لَفْظِيَّةً. وَالْتَحَقَتْ هَاءُ التَّأْنِيثِ بِوَصْفِ مُرْضِعَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْرِيبِ الْوَصْفِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِحَدَثِهِ غَيْرُ الْمَرْأَةِ تَلْحَقُهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لِيُفَادَ بِهَذَا التَّقْرِيبِ أَنَّهَا فِي حَالَةِ التَّلَبُّسِ بِالْإِرْضَاعِ، كَمَا يُقَالُ: هِيَ تُرْضِعُ. وَلَوْلَا هَذِهِ النُّكْتَةُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُرْضِعٍ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مِنْ خَصَائِصِ الْأُنْثَى فَلَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْهَاءِ الَّتِي أَصْلُ وَضْعِهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكِّرِ خِيفَةَ اللَّبْسِ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ مَسَائِلِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَقَدْ تَلَقَّاهَا الْجَمِيعُ بِالْقَبُولِ وَنَظَّمَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي أُرْجُوزَتِهِ «الْكَافِيَّةِ» بِقَوْلِهِ: وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يُخَصْ ... عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصْ وَحَيْثُ مَعْنَى الْفِعْلِ تَنْوِي التَّاءَ زِدْ ... كَذِي غَدَتْ مُرْضِعَةً طِفْلًا وُلِدْ وَالْمُرَادُ: أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِكُلِّ مُرْضَعَةٍ مَوُجُودَةٍ فِي آخِرِ أَيَّامِ الدُّنْيَا. فَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُرَادٌ، فَلَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ الْإِرْضَاعُ وَاقِعًا، فَأُطْلِقَ ذُهُولُ الْمُرْضِعِ وَذَاتِ الْحَمْلِ وَأُرِيدَ ذُهُولُ كُلِّ ذِي عَلَقٍ نَفِيسٍ عَنْ عَلَقِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ. وَزِيَادَةُ كَلِمَةِ (كُلُّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الذُّهُولَ يَعْتَرِي كُلَّ مُرْضِعٍ وَلَيْسَ هُوَ لِبَعْضِ الْمَرَاضِعِ بِاحْتِمَالِ ضَعْفٍ فِي ذَاكِرَتِهَا. ثُمَِِّ

تَقْتَضِي هَذِهِ الْكِنَايَةُ كِنَايَةً عَنْ تَعْمِيمِ هَذَا الْهَوْلِ لِكُلِّ النَّاسِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَصْوِيرِ حَالَةِ الْفَزَعِ وَالْهَلَعِ بِحَيْثُ يَذْهَلُ فِيهِ مَنْ هُوَ فِي حَالِ شِدَّةِ التَّيَقُّظِ لِوَفْرَةِ دَوَاعِي الْيَقَظَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لِشِدَّةِ شَفَقَتِهَا كَثِيرَةُ الِاسْتِحْضَارِ لِمَا تُشْفِقُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُرْضِعَ أَشَدُّ النِّسَاءِ شَفَقَةً عَلَى رَضِيعِهَا، وَأَنَّهَا فِي حَالِ مُلَابَسَةِ الْإِرْضَاعِ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الذُّهُولِ فَإِذَا ذُهِلَتْ عَنْ رَضِيعِهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهَوْلَ الْعَارِضَ لَهَا هَوْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكِنَايَةِ عَنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْهَوْلِ لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ ذُهُولِ الْمُرْضِعِ عَنْ رَضِيعِهَا لِشِدَّةِ الْهَوْلِ يَسْتَلْزِمُ شِدَّةَ الْهَوْلِ لِغَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَهُوَ لُزُومٌ بِدَرَجَةٍ ثَانِيَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكِنَايَةِ يُسَمَّى الْإِيمَاءَ. وَ (مَا) فِي عَمَّا أَرْضَعَتْ مَوْصُولَة مَا صدقهَا الطِّفْلُ الرَّضِيعُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي تَعْرِيفِ الْمَذْهُولِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يَقُولَ عَنِ ابْنِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا تَذْهَلُ عَنْ شَيْءٍ هُوَ نُصْبَ عَيْنِهَا وَهِيَ فِي عَمَلٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ زِيَادَةً فِي التَّكَنِّي عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ. وَقَوْلُهُ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها هُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ . وَوَضْعُ الْحَمْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِشِدَّةِ اضْطِرَابِ نَفْسِ الْحَامِلِ مِنْ فَرْطِ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. وَالْحَمْلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ تَضَعُ أَيْ تَضَعُ جَنِينَهَا. وَالتَّعْبِيرُ بِ ذاتِ حَمْلٍ دُونَ التَّعْبِيرِ: بِحَامِلٍ، لِأَنَّهُ الْجَارِي فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَكْثَرِ. فَلَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ، بَلْ يُقَالُ: ذَاتُ

حَمْلٍ قَالَ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: 4] ، مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى شِدَّةِ اتِّصَالِ الْحَمْلِ بِالْحَامِلِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَهَا إِيَّاهُ لِسَبَبٍ مُفْظِعٍ. وَالْقَوْلُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَةِ كَالْقَوْلِ فِي تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. وَالْخِطَابُ فِي تَرَى النَّاسَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ مُسَاوٍ فِي الْمَعْنَى لِلْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ يَوْمَ تَرَوْنَها ، وَإِنَّمَا أُوثِرَ الْإِفْرَادُ هُنَا لِلتَّفَنُّنِ كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْجَمْعِ. وَعُدِلَ عَنْ فِعْلِ الْمُضِيِّ إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ وَتَرَى لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْهَا كَقَوْلِهِ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] وَقَوْلِهِ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُكارى - بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْكَافِ-. وَوَصْفُ النَّاسِ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ وَما هُمْ بِسُكارى قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِ التَّشْبِيهِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ سُكارى بِوَزْنِ عَطْشَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَسُكَارَى وَسَكْرَى جَمْعُ سَكْرَانَ. وَهُوَ الَّذِي اخْتَلَّ شُعُورُ عَقْلِهِ مِنْ أَثَرِ شُرْبٍ الْخَمْرِ، وَقِيَاسُ جَمْعِهِ سُكَارَى. وَأَمَّا سَكْرَى فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَوْكَى لِمَا فِي السُّكْرِ مِنِ اضْطِرَابِ الْعَقْلِ. وَلَهُ نَظِيرٌ وَهُوَ جَمْعُ كَسْلَانَ عَلَى كُسَالَى وَكَسْلَى. وَجُمْلَةُ وَما هُمْ بِسُكارى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّاسِ. وعَذابَ اللَّهِ صَادِقٌ بِعَذَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ الْفَزَعِ وَالْوَجَعِ، وَعَذَابُ الرُّعْبِ فِي الْآخِرَةِ بِالْإِحْسَاسِ بِلَفْحِ النَّارِ وَزَبْنِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَجُمْلَةُ وَما هُمْ بِسُكارى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من النَّاسَ.

[سورة الحج (22) : آية 3]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 3] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الْحَج: 1] ، أَيِ النَّاسُ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ فَيَتَّقِي اللَّهَ وَيَخْشَى عَذَابَهُ، وَفَرِيقٌ يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَارِضُهُ بِالْجَدَلِ الْبَاطِلِ فِي شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ وَرِسَالَتِهِ. وَهَذَا الْفَرِيق هم أيمة الشِّرْكِ وَزُعَمَاءُ الْكُفْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَصَدَّوْنَ لِلْمُجَادَلَةِ بِمَا لَهُمْ مِنْ أَغَالِيطَ وَسَفْسَطَةٍ وَمَا لَهُمْ مِنْ فَصَاحَةٍ وَتَمْوِيهٍ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَوْلَا تَضْلِيلُهُمْ قَوْمَهُمْ وَصَدُّهُمْ إِيَّاهُمْ عَنْ مُتَابَعَةِ الَّدِّينِ لَاتَّبَعَ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ الْإِسْلَامَ لِظُهُورِ حُجَّتِهِ وَقَبُولِهَا فِي الْفِطْرَةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي، فَتَكُونُ (مِنَ) الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةً عَلَى مُتَعَدِّدٍ عَامَّةً لِكُلِّ مَنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الصِّلَةُ. وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُحَاجَّةُ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ يُجَادِلُ جَدَلًا وَاقِعًا فِي شَأْنِ اللَّهِ. وَوُصِفَ الْجَدَلُ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَيْ جَدَلًا مُلْتَبِسًا بِمُغَايَرَةِ الْعِلْمِ، وَغَيْرُ الْعِلْمِ هُوَ الْجَهْلُ، أَيْ جَدَلًا نَاشِئًا عَنْ سُوءِ نَظَرٍ وَسُوءِ تَفْكِيرٍ فَلَا يُعْلَمُ مَا تَقْتَضِيهِ الْأُلُوهِيَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَفِعْلِ مَا يَشَاءُ. وَاتِّبَاعُ الشَّيْطَانِ: الِانْقِيَادُ إِلَى وَسْوَسَتِهِ الَّتِي يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ وَالَّتِي تَلَقَّاهَا بِمُعْتَادِهِ وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا عَرْضٍ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ. وَكَلِمَةُ (كُلَّ) فِي قَوْلِهِ كُلَّ شَيْطانٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ. كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الْحَج: 27] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

[سورة الحج (22) : آية 4]

وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 145] . وَالْمَرِيدُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ مَرُدَ- بِضَمِّ الرَّاءِ- عَلَى عَمَلٍ، إِذَا عَتَا فِيهِ وَبَلَغَ الْغَايَةَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَكَأَنَّهُ مُحَوَّلٌ مِنْ مَرَدَ بِفَتْحِ الرَّاءِ- بِمَعْنَى مَرَنَ- إِلَى ضَمِّ الرَّاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ صَارَ لَهُ سَجِيَّةً، فَالْمَرِيدُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، أَيِ الْعَاتِي فِي الشيطنة. [4] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 4] كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) جُمْلَةُ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ إِلَى آخِرِهَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَج: 3] ، فَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى شَيْطانٍ. وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ فِي أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ. وَأَمَّا الضَّمِيرَانِ الْبَارِزَانِ فِي قَوْلِهِ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ فَعَائِدَانِ إِلَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، أَيْ يُضِلُّ الشَّيْطَانُ مُتَوَلِّيَهُ عَنِ الْحَقِّ وَيَهْدِي مُتَوَلِّيَهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَةِ كُتِبَ- بِضَمِّ الْكَافِ- عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ. وَاتَّفَقَتْ أَيْضًا عَلَى- فَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ- مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ. وَالْكِتَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ، أَيْ لَزِمَهُ إِضْلَالُ مُتَوَلِّيهِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، فَأُطْلِقَ عَلَى لُزُومِ ذَلِكَ فِعْلُ كُتِبَ عَلَيْهِ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَقَدْ شَاعَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ الْعَمَلِ بِهِ وَعَدَمُ الْإِخْلَالِ بِهِ كُتِبَ فِي صَحِيفَةٍ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ

وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى شَيْطانٍ [الْحَج: 3] وَلَيْسَ ضَمِيرَ شَأْنٍ لِأَنَّ جَعْلَهُ ضَمِيرَ شَأْنٍ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ نَائِبِ فَاعِلِ كُتِبَ، إِذْ هِيَ حِينَئِذٍ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ يَتَطَلَّبُ بَعْدَهُ جُمْلَةً، وَالْمَصْدَرَانِ الْمُنْسَبِكَانِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ وَقَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ نَائِبُ فِعْلِ كُتِبَ وَمُفَرَّعٌ عَلَيْهِ بِفَاءِ الْجَزَاءِ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْهِ إِضْلَالُ مَنْ تَوَلَّاهُ. وَالتَّوَلِّي: اتِّخَاذُ وَلِيٍّ، أَيْ نَصِيرٍ، أَيْ مَنِ اسْتَنْصَرَ بِهِ. وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطِيَّةً لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِخْبَارِ الثَّابِتِ لَا عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ. وَهِيَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ تَوَلَّاهُ عَائِدٌ إِلَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ الْبَارِزُ عَائِدٌ إِلَى شَيْطانٍ [الْحَج: 3] ، أَيْ أَنَّ الَّذِي يَتَّخِذُ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا فَذَلِكَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ تَشْبِيهًا لِجُمْلَةِ الْخَبَرِ عَنِ الْمَوْصُولِ بِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ لِشَبَهِ الْمَوْصُولِ بِالشَّرْطِ قَصْدًا لِتَقْوِيَةِ الْإِخْبَارِ. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ فِي تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ هُوَ صَدْرٌ لِلْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِضْلَالُهُ إِيَّاهُ وَدَلَالَتُهُ إِيَّاهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. وَخَبَرُ هَذَا الْمُبْتَدَأِ مُقَدَّرٌ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ مَعْنَى إِسْنَادِ فِعْلَيِ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُبْتَدَأِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثَابِتَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ فَاءَ تَفْرِيعٍ وَيُجْعَلَ مَا بَعْدَهَا مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ وَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ. وَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْهِ تَرَتُّبُ الْإِضْلَالِ مِنْهُ لِمُتَوَلِّيهِ وَتَرَتُّبُ إِيصَالِهِ مُتَوَلِّيَهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. هَذَانِ هُمَا الْوَجْهَانِ فِي نَظْمِ الْآيَةِ وَمَا عَدَاهُمَا تَكَلُّفَاتٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا نُظِمَتْ بِهِ الْآيَةُ هُنَا لَا يَجْرِي عَلَى نَظْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ بَرَاءَةٌ: 63] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها

[سورة الحج (22) : آية 5]

لِأَنَّ مُقْتَضَى فِعْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مُقْتَضَى فِعْلِ (كُتِبَ) . فَلِذَلِكَ كَانَتْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ مَنْ يُحادِدِ شَرْطِيَّةً لَا مَحَالَةَ وَكَانَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِيَّةِ وَكَانَ الضَّمِيرُ هُنَالِكَ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ ضَمِيرَ شَأْنٍ. وَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ مُشْتَهِرًا فِي مَعْنَى الْبُعْدِ عَنِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لَمْ يُحْتَجْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ يُضِلُّهُ لِظُهُورِ الْمَعْنَى. وَذُكِرَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ يَهْدِيهِ وَهُوَ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ غَرِيبٌ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ الْهُدَى إِلَى مَا يَنْفَعُ لَا إِلَى مَا يَضُرُّ وَيُعَذِّبُ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ بِالْمُضَادَّةِ. وَقَدْ عُدَّ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ الشَّامِلِ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِيهِ كَانَ كَثِيرَ الْجَدَلِ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَاللَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إِحْيَاءِ أَجْسَادٍ بَلِيَتْ وَصَارَتْ تُرَابًا. وَعُدَّ مِنْهُمْ أَيْضًا أَبُو جَهْلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ مَنْ يُجادِلُ مُعَيَّنًا خَصَّ الْآيَةَ بِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ وَمَا هُوَ إِلَّا تَخْصِيصٌ بِالسَّبَبِ. [5] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 5] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً

أَعَادَ خِطَابَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ بِزَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَعَادَ خِطَابَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَتَنْظِيرِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَهُوَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ. قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] . فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَدَمٍ وَأَخْرَجَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ كَوَّنَهُ مِنْ مَاءٍ. ثُمَّ خَلَقَهُ أَطْوَارًا عَجِيبَةً، إِلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُ فِي أَحْوَالِ جِسْمِهِ وَفِي أَحْوَالِ عَقْلِهِ وَإِدْرَاكِهِ، قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ بَعْدَ فَنَائِهِ. وَدخُول الْمُشْركين بادىء ذِي بَدْءٍ فِي هَذَا الْخِطَابِ أَظْهَرُ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا خَاصٌّ بِهِمْ. وَجُعِلَ رَيْبُهُمْ فِي الْبَعْثِ مَفْرُوضًا بِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ مَعَ أَنَّ رَيْبَهُمْ مُحَقَّقٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ لَمَّا حَفَّ بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُبْطِلَةِ لِرَيْبِهِمْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَقَامِ مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ رَيْبُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5] . وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ بِ (فِي) مَجَازِيَّةٌ. شُبِّهَتْ مُلَابَسَةُ الرَّيْبِ إِيَّاهُمْ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَجُمْلَةُ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهَا لَا يَصْلُحُ لَفْظُهَا لِأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ هِيَ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاعْلَمُوا أَوْ فَنُعْلِمُكُمْ بِأَنَّهُ مُمْكِنٌ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ مِثْلِ الرُّفَاتِ الَّذِي تَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَجْسَادُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَانْظُرُوا فِي بَدْءِ خَلْقِكُمْ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.

وَالَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ هُوَ أَصْلُ النَّوْعِ، وَهُوَ آدَمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحَوَّاءُ، ثُمَّ كُوِّنَتْ فِي آدَمَ وَزَوْجِهِ قُوَّةُ التَّنَاسُلِ، فَصَارَ الْخَلْقُ مِنَ النُّطْفَةِ فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ بِ (ثُمَّ) . وَالنُّطْفَةُ: اسْمٌ لِمَنِيِّ الرَّجُلِ، وَهُوَ بِوَزْنِ فُعْلَةٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَنْطُوفٍ، وَالنَّطْفُ: الْقَطْرُ وَالصَّبُّ. وَالْعَلَقَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ الْجَامِدِ اللِّينِ. وَالْمُضْغَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ بِقَدْرِ مَا يُمْضَغُ مِثْلُهُ، وَهِيَ فِعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ بِتَأْوِيلِ: مِقْدَارٍ مَمْضُوغَةٍ. وَ (ثُمَّ) الَّتِي عُطِفَ بِهَا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ عَاطِفَةُ مُفْرَدَاتٍ فَهِيَ لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ. وَ (مِنْ) الْمُكَرَّرَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَتَكْرِيرُهَا تَوْكِيدٌ. وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقًا مِنَ النُّطْفَةِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الطِّبِّ أَنَّ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ مُدَّةَ الْحَيْضِ جُزْءًا هُوَ مَقَرُّ الْأَجْرَامِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِأَنْ يَتَكَوَّنَ مِنْهَا الْجَنِينُ، وَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الرَّحِمِ يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ الطِّبِّيِّ (الْمَبِيضَ) - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْمَكَانِ- لِأَنَّهُ مَقَرُّ بَيْضَاتٍ دَقِيقَةٍ هِيَ حُبَيْبَاتٌ دَقِيقَةٌ جِدًّا وَهِيَ مِنَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ مِنَ الدَّجَاجَةِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ حُبُوبِ بَيْضِ الْحُوتِ، مُودَعَةٌ فِي كُرَةٍ دَقِيقَةٍ كَالْغِلَافِ لَهَا يُقَالُ لَهَا (الْحُوَيْصِلَةُ) - بِضَمِّ الْحَاءِ بِصِيغَةِ تَصْغِيرِ حَوْصَلَةٍ- تَشْتَمِلُ عَلَى سَائِلٍ تَسْبَحُ فِيهِ الْبَيْضَةُ فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ ازْدَادَتْ كَمِّيَّةُ ذَلِكَ السَّائِلِ الَّذِي تَسْبَحُ فِيهِ الْبَيْضَةُ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ انْفِجَارَ غِلَافِ الْحُوَيْصَلَةِ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ السَّائِلُ فِي الِانْحِدَارِ يَحْمِلُ الْبَيْضَةَ السَّابِحَةَ فِيهِ إِلَى قَنَاةٍ دَقِيقَةٍ تُسَمَّى (بُوقَ فُلُوبْيُوسَ) لِشِبْهِهِ بِالْبُوقِ، وَأُضِيفَ إِلَى (فُلُوبْيُوسَ) اسْمِ مُكْتَشِفِهِ وَهُوَ الْبَرْزَخُ بَيْنَ الْمَبِيضِ وَالرَّحِمِ،

فَإِذَا نَزَلَ فِيهِ مَاءُ الرَّجُلِ وَهُوَ النُّطْفَةُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سِيلَانِ دَمِ الْحَيْضِ لُقِّحَتْ فِيهِ الْبَيْضَةُ وَاخْتَلَطَتْ أَجْزَاؤُهَا بِأَجْزَاءِ النُّطْفَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جُرْثُومَاتٍ ذَاتِ حَيَاةٍ وَتَمْكُثُ مَعَ الْبَيْضَةِ مُتَحَرِّكَةً مِقْدَارَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ تَكُونُ الْبَيْضَةُ فِي أَثْنَائِهَا تتطور بالشكل بِشِبْهِ تَقْسِيمٍ مِنْ أَثَرِ ضَغْطٍ طَبِيعِيٍّ. وَفِي نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ تَصِلُ الْبَيْضَةُ إِلَى الرَّحِمِ وَهُنَالِكَ تَأْخُذُ فِي التَّشَكُّلِ، وَبَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَصِيرُ الْبَيْضَةُ عَلَقَةً فِي حَجْمِ نَمْلَةٍ كَبِيرَةٍ طُولُهَا من 12 إِلَى 14 مليمتر، ثُمَّ يَزْدَادُ تَشَكُّلُهَا فَتَصِيرُ قِطْعَةً صَغِيرَةً مِنْ لَحْمٍ هِيَ الْمُسَمَّاةُ (مُضْغَةً) طُولُهَا ثَلَاثَةُ سَنْتِيمِتْرَ تلوح فِيهَا تشكلات الْوَجْهِ وَالْأَنْفِ خَفِيَّةً جِدًّا كَالْخُطُوطِ، ثُمَّ يَزْدَادُ التَّشَكُّلُ يَوْمًا فَيَوْمًا إِلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْجَنِينُ مُدَّتَهُ فَيَنْدَفِعَ لِلْخُرُوجِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ صِفَةُ مُضْغَةٍ. وَذَلِكَ تَطَوُّرٌ مِنْ تطورات المضغة. أَشَارَ إِلَى أَطْوَارِ تَشَكُّلِ تِلْكَ الْمُضْغَةِ فَإِنَّهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا تَكُونُ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، أَيْ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهَا شَكْلُ الْخِلْقَةِ، ثُمَّ تَكُونُ مُخَلَّقَةً، وَالْمُرَادُ تَشْكِيلُ الْوَجْهِ ثُمَّ الْأَطْرَافِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ، إِذْ لَيْسَ لَهُمَا مِثْلُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِخِلَافِ الْمُضْغَةِ. وَإِذْ قَدْ جُعِلَتِ الْمُضْغَةُ مِنْ مَبَادِئِ الْخَلْقِ تَعَيَّنَ أَنَّ كلا الوصفين لَا زمَان لِلْمُضْغَةِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ غَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ يُكْمِلْ خَلْقُهَا فَسَقَطَتْ. وَالتَّخْلِيقُ: صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، أَيْ شَكْلًا بَعْدَ شَكْلٍ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمُخَلَّقَةِ عَلَى ذِكْرِ غير المخلقة على خِلَافَ التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ غَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ

لِأَنَّهُ إِكْمَالٌ لِلدَّلِيلِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَخْلِيقَهَا نَشَأَ عَنْ عَدَمٍ. فَكِلَا الْحَالَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، أَيْ لِنُظْهِرَ لَكُمْ إِذَا تَأَمَّلْتُمْ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى إِمْكَانِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي تَضْمِينِهِ جَوَاب الشَّرْط الْمُقدر مِنْ فِعْلٍ وَنَحْوِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إِلَخْ، وَهُوَ فِعْلُ: فَاعْلَمُوا، أَوْ فَنُعْلِمُكُمْ، أَوْ فَانْظُرُوا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ لِنُبَيِّنَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، أَيْ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قُدْرَتَنَا وَحِكْمَتَنَا. وَجُمْلَةُ وَنُقِرُّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ. وَعَدَلَ عَنْ فِعْلِ الْمُضِيّ إِلَى الْفِعْل الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مُشَابَهَةِ اسْتِقْرَارِ الْأَجْسَادِ فِي الْأَجْدَاثِ ثُمَّ إِخْرَاجِهَا مِنْهَا بِالْبَعْثِ كَمَا يَخْرُجُ الطِّفْلُ مِنْ قَرَارَةِ الرَّحِمِ، مَعَ تَفَاوُتِ الْقَرَارِ. فَمِنَ الْأَجِنَّةِ مَا يَبْقَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَمِنْهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَفَادَهُ إِجْمَالُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَالِاسْتِدْلَالُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِأَنَّهُ إِيجَادٌ بَعْدَ الْعَدَمِ وَإِعْدَامٌ بَعْدَ الْوُجُودِ لِتَبْيِينِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِالنَّظِيرِ وَبِالضِّدِّ. وَالْأَجَلُ: الْأَمَدُ الْمَجْعُولُ لِإِتْمَامِ عَمَلٍ مَا، وَالْمُرَادُ هُنَا مُدَّةُ الْحَمْلِ. وَالْمُسَمَّى: اسْم مفعول من سَمَّاهُ، إِذَا جَعَلَ لَهُ اسْمًا، وَيُسْتَعَارُ الْمُسَمَّى للمعيّن المضبوط تَشْبِيها لِضَبْطِ الْأُمُورِ غَيْرِ الْمُشَخَّصَةِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ وَقْتٍ مَحْسُوبٍ، بِتَسْمِيَةِ الشَّخْصِ بِوَجْهِ شَبَهٍ يُمَيِّزُهُ عَمَّا شَابَهَهُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، أَيِ الْمُعَيَّنُ مِنْ نَقْدٍ مَعْدُودٍ أَوْ عَرَضٍ مَوْصُوفٍ، وَقَوْلُ الْمُوَثِّقِينَ: وَسَمَّى لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ كَذَا وَكَذَا. وَلِكُلِّ مَوْلُودٍ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِبَقَائِهِ فِي رَحِمِ أُمِّهِ قَبْلَ وَضْعِهِ. وَالْأَكْثَرُ اسْتِكْمَالُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَضْعُ أَسْرَعَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَارِضٍ، وَكُلٌّ مُعَيَّنٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 282] . وَعَطَفَ جُمْلَةَ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا بِحَرْفِ (ثُمَّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ إِخْرَاجَ الْجَنِينِ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَقَوْلُهُ طِفْلًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ نُخْرِجُكُمْ، أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ أَطْفَالًا. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ طِفْلًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْجِنْسُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ارْتِبَاطَ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْمُعَلَّلُ فِعْلُ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. وَإِذ قَدْ كَانَتْ بَيْنَ حَال الطِّفْلِ وَحَالِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ أَطْوَارٌ كَثِيرَةٌ عُلِمَ أَنَّ بُلُوغَ الْأَشُدِّ هُوَ الْعِلَّةُ الْكَامِلَةُ لِحِكْمَةِ إِخْرَاجِ الطِّفْلِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى مَا قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَمَا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَحَرْفُ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ تَأْكِيدٌ لِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَوْجِيهَاتٌ غَيْرُ سَالِمَةٍ مِنَ التَّعَقُّبِ ذَكَرَهَا الْأُلُوسِيُّ. وَإِنَّمَا جُعِلَ بُلُوغُ الْأَشُدِّ عِلَّةً لِأَنَّهُ أَقْوَى أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ وَأَجْلَى مَظَاهِرِ مَوَاهِبِهِ فِي الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَهَمُّ كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً فَجَعَلَ «الْأَشُدَّ» كَأَنَّهُ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ تَطْوِيرِهِ.

وَالْأَشُدُّ: سِنُّ الْفُتُوَّةِ وَاسْتِجْمَاعِ الْقُوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَوَقَعَ فِي [سُورَة الْمُؤمن: 67] ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، فَعَطَفَ طَوْرَ الشَّيْخُوخَةِ عَلَى طَوْرِ الْأَشُدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّيْخُوخَةَ مَقْصِدٌ لِلْأَحْيَاءِ لِحُبِّهِمُ التَّعْمِيرَ، وَتِلْكَ الْآيَةُ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِامْتِنَانِ فَذُكِرَ فِيهَا الطَّوْرُ الَّذِي يَتَمَلَّى الْمَرْءُ فِيهِ بِالْحَيَاةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْعَدَمِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا من الأطوار إِلَّا مَا فِيهِ ازدياد الْقُوَّة ونماء الْحَيَاة دون الشيخوخة الْقَرِيبَة مِنَ الِاضْمِحْلَالِ، وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا فَرِيقٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي طَوْرِ الْأَشُدِّ، وَقَدْ نُبِّهُوا عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ نَفَرًا يُرَدُّونَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَهُوَ طَوْرُ الشَّيْخُوخَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَجِيءَ بِقَوْلِهِ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ اسْتِقْرَاءً لِأَحْوَالِ الْأَطْوَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَخَلُّلِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَطْوَارَ الْإِنْسَانِ بَدْءًا وَنِهَايَةً كَمَا يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْبَعْثِ. وَالْمَعْنَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قَبْلَ بُلُوغِ بَعْضِ الْأَطْوَارِ. وَأَمَّا أَصْلُ الْوَفَاةِ فَهِيَ لَاحِقَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [67] : وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ هُوَ عَدِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى. وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ بَعْدَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِأَنَّهُ مَعْلُوم بطريقة لحسن الْخِطَابِ.

وَجَعَلَ انْتِفَاءَ عِلْمِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ أَرْذَلِ الْعُمر عِلّة لردّه إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ فَكَانَ حُصُولُهُ مَقْصُودًا عِنْدَ رَدِّ الْإِنْسَانِ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، فَإِنَّ ضَعْفَ الْقُوَى الْجِسْمِيَّةِ يَسْتَتْبِعُ ضَعْفَ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] فَالْخَلْقُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا هُوَ مِنَ الْخِلْقَةِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْجِسْمِ. وَقَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ أَيْ بَعْدَ مَا كَانَ عَلِمَهُ فِيمَا قَبْلَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ عَلَى (بَعْدَ) هُنَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ مِنْ عَدَمِ انْحِصَارِ زِيَادَةِ (مِنْ) فِي خُصُوصِ جَرِّ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَفْيٍ وَشِبْهِهِ، أَوْ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ صُورِيٌّ يُسَاوِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِ (مِنْ) فِي قَوْله تَعَالَى: لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 70] . وَالْآيَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَذِكْرُ (مِنْ) هُنَا تَفَنُّنٌ فِي سِيَاقِ الْعِبْرَتَيْنِ. وشَيْئاً وَاقِعٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ مَعْلُومٍ، أَيْ لَا يَسْتَفِيدُ مَعْلُومًا جَدِيدًا. وَلِذَلِكَ مَرَاتِبُ فِي ضَعْفِ الْعَقْلِ بِحَسَبِ تَوَغُّلِهِ فِي أَرْذَلِ الْعُمُرِ تَبْلُغُ إِلَى مَرْتَبَةِ انْعِدَامِ قَبُولِهِ لِعِلْمٍ جَدِيدٍ، وَقَبْلَهَا مَرَاتِبُ مِنَ الضَّعْفِ مُتَفَاوِتَةٌ كَمَرْتَبَةِ نِسْيَانِ الْأَشْيَاءِ وَمَرْتَبَةِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ.

وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِحَالَةٍ مُشَاهَدَةٍ فَلِذَلِكَ افْتُتِحَ بِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ، بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ مَبْدَأَهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ فَقِيلَ فِي شَأْنِهِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الْآيَةَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ قَوْلَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، فَهُمُودُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْإِنْسَانِ وَاهْتِزَازُهَا وَإِنْبَاتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ يُمَاثِلُ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْهُمُودُ: قَرِيبٌ مِنَ الْخُمُودِ، فَهُمُودُ الْأَرْضِ جَفَافُهَا وَزَوَالُ نَبْتِهَا، وَهُمُودُ النَّارِ خُمُودُهَا. وَالِاهْتِزَازُ: التَّحَرُّكُ إِلَى أَعْلَى، فَاهْتِزَازُ الْأَرْضِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ ارْتِفَاعِ تُرَابِهَا بِالْمَاءِ وَحَالِ ارْتِفَاعِ وَجَهِهَا بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُشْبِ بِحَالِ الَّذِي يَهْتَزُّ وَيَتَحَرَّكُ إِلَى أَعْلَى. وَرَبَتْ: حَصَلَ لَهَا رُبُوٌّ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ- وَهُوَ ازْدِيَادُ الشَّيْءِ يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو رُبُوًّا، وَفُسِّرَ هُنَا بِانْتِفَاخِ الْأَرْضِ مِنْ تَفَتُّقِ النَّبْتِ وَالشَّجَرِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ، أَيِ ارْتَفَعَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْ كَذَا، أَيِ ارْتَفَعَ مَجَازًا، وَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الرَّبِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي يَعْلُو رَبْوَةً مِنَ الْأَرْضِ لِيَنْظُرَ هَلْ مِنْ عَدُوٍّ يَسِيرُ إِلَيْهِمْ. وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ مِنَ الْأَشْيَاءِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّوْجِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالزَّوْجِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ صِنْفُ الذَّكَرِ وَصِنْفُ الْأُنْثَى، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ يَقْتَرِنُ بِالْفَرْدِ مِنَ الصِّنْفِ الْآخَرِ فَيَصِيرُ زَوْجًا فَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجًا بِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ وَصِنْفٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى أَنْوَاعِ النَّبَاتِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 6 إلى 7]

وَالْبَهِيجُ: الْحَسَنُ الْمَنْظَرِ السَّارُّ لِلنَّاظِرِ، وَقَدْ سِيقَ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانًا بِجَمَالِ صُورَةِ الْأَرْضِ الْمُنْبِتَةِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ بَهِيجًا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَهُوَ امْتِنَانٌ مَحْضٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: 5] . [6، 7] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 6 إِلَى 7] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) فذلكة لما تَقَدَّمَ، فَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَطْوَارِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَفَنَائِهِ، وَمِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَانْبِثَاقِ النَّبْتِ مِنْهَا. وَإِفْرَادُ حَرْفِ الْخِطَابِ الْمُقْتَرِنِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِرَادَةِ مُخَاطَبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عَلَى نَسَقِ قَوْلِهِ وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً [الْحَج: 5] عَلَى أَنَّ اتِّصَالَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِكَافِ خِطَابِ الْوَاحِدِ هُوَ الْأَصْلُ. وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ ذَلِكَ حَصَلَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إِلَخْ.. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فَالْمَعْنَى: تَكَوَّنَ ذَلِكَ الْخَلْقُ مِنْ تُرَابٍ وَتَطَوَّرَ، وَتَكَوَّنَ إِنْزَالُ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ وَالنَّبَاتِ الْبَهِيجِ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ دُونَ غَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ وَذَلِكَ الْإِنْبَاتُ الْبَهِيجُ مُلَابِسًا لِحَقِّيَّةِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْمُلَابَسَةُ مُلَابَسَةُ الدَّلِيلِ لِمَدْلُولِهِ، وَهَذَا أَرْشَقُ مِنْ حَمْلِ الْبَاءِ عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ أجمع لوجوه الِاسْتِدْلَالِ.

وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ، أَيْ هُوَ الْمَوُجُودُ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ فَإِنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [الْحَج: 23] وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ هُوَ أَصْلُ بَقِيَّةِ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ ضَلَالَاتِ أَهْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 37] . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَهِيَ لِبَيَانِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَعْدُودَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُلَابِسَةً لِأَحْوَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ دَالَّةٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ: إِمَّا بِدَلَالَةِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ اللَّهِ وَإِلَى ثُبُوتِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَإِمَّا بِدَلَالَةِ التَّمْثِيلِ عَلَى الْمُمَثَّلِ وَالْوَاقِعِ عَلَى إِمْكَانِ نَظِيرِهِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى، وَمَجِيءِ السَّاعَةِ، وَالْبَعْثِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ إِمْكَانُ ذَلِكَ حَقَّ التَّصْدِيقُ بِوُقُوعِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِهِ حَائِلٌ إِلَّا ظَنُّهُمُ اسْتِحَالَتَهُ، فَالَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهِ الطَّارِئِ عَلَى وُجُودِهِ الْأَحْرَى، بِطَرِيقَةٍ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَحْيَاءَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا حَيَاةٌ يُمْكِنُهُ فِعْلُ الْحَيَاةِ فِيهَا أَوْ فِي بَقِيَّةِ آثَارِهَا أَوْ خَلْقُ أَجْسَامٍ مُمَاثِلَةٍ لَهَا وَإِيدَاعُ أَرْوَاحِهَا فِيهَا بِالْأَوْلَى. وَإِذا كَانَ كَذَلِك عُلِمَ أَنَّ سَاعَةَ فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَاقِعَةٌ قِيَاسًا عَلَى انْعِدَامِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا، وَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُهَا قِيَاسًا عَلَى إِيجَادِ النَّسْلِ وَانْعِدَامِ أَصْلِهِ

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 10]

الْحَاصِلِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوعِ السَّاعَةِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِانْتِفَاءِ اسْتِنَادِهِ إِلَى دَلِيلٍ. وَصِيغَةُ نَفْيِ الْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ صِيغَةُ تَأْكِيدٍ، لِأَنَّ (لَا) النَّافِيَةَ لِلْجِنْسِ فِي مَقَامِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) فِي مَقَامِ الْإِثْبَاتِ وَلِذَلِكَ حُمِلَتْ عَلَيْهَا فِي الْعَمَل. [8- 10] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 8 إِلَى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الْحَج: 5] كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الْحَج: 1] . وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ وُقُوعِ الْبَعْثِ فَإِنَّا نُزِيلُ رَيْبَكُمْ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ السَّاطِعَةِ، فَالنَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يُوقِنُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَلَا يَبْقَى فِي رَيْبٍ، وَفَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهَؤُلَاء هم أيّمة الشِّرْكِ وَزُعَمَاءُ الْبَاطِلِ. وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها [الْحَج: 7] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، أَيْ لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ يَرْتَابَ فِيهَا، فَلِذَلِكَ نَفَى جِنْسَ الرَّيْبِ فِيهَا، أَيْ فَالرَّيْبُ.

المعنيّ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فِيمَا مَضَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَج: 3] ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ فَرِيقَ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَابِرِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمُ الْإِنْذَارُ مِنْ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، فَهُمْ كَذَلِكَ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَعْدَ أَنْ وُضِّحَتْ لَهُمُ الْأَدِلَّةُ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ. وَدَافِعُهُمْ إِلَى الْجِدَالِ فِي اللَّهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ بِالسَّاعَةِ عَدَمُ عِلْمِهِمْ مَا يُجَادِلُونَ فِيهِ وَاتِّبَاعُهُمْ وَسْوَاسَ الشَّيَاطِينِ. وَدَافِعُهُمْ إِلَى الْجِدَالِ فِي اللَّهِ عِنْدَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ على الْبَعْث علم عِلْمِهِمْ مَا يُجَادِلُونَ فِيهِ، وَانْتِفَاءُ الْهُدَى، وَانْتِفَاء تلقي شَرِيعَة مِنْ قَبْلُ، وَالتَّكَبُّرُ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْحُجَّةِ، وَمَحَبَّةُ إِضْلَالِ النَّاسِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى أَنَّ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ مُخْتَلِفَةٌ وَأَصْحَابَهَا فَرِيقٌ وَاحِدٌ هُوَ فَرِيقُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ. وَمِنْ أَسَاطِينِ هَذَا الْفَرِيقِ مَنْ عُدُّوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِثْلُ: النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. وَقيل: المُرَاد من هَذِهِ الْآيَةِ بِمَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. كَرَّرَ الْحَدِيثَ عَنْهُ تَبْيِينًا لِحَالَتَيْ جِدَالِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِمَنْ يُجَادِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَجُعِلَتِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِسَبَبِ نُزُولِهَا فِي نَظَرِ هَذَا الْقَائِلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَج: 3] الْمُقَلِّدُونَ- بِكَسْرِ اللَّامِ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ سَادَةُ الْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ بِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً الْمُقَلَّدُونَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَئِمَّةُ الْكُفْرِ.

وَالْهُدَى مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الْمُضَافِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ وَلَا هُدًى هُوَ مَهْدِيٌّ بِهِ. وَتِلْكَ مُجَادَلَةُ الْمُقَلِّدِ إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا هَادِيًا لِلْحَقِّ مِثْلَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، فَهَذَا دُونَ مَرْتَبَةِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِعِلْمٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْتَغْنَ بِذِكْرِ السَّابِقِ عَنْ ذِكْرِ هَذَا. وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ: كُتُبُ الشَّرَائِعِ مِثْلُ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا كَمَا يُجَادِلُ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ فَهُوَ جِدَالٌ بِكِتَابٍ مُنِيرٍ. وَالْمُنِيرُ: الْمُبَيِّنُ لِلْحَقِّ. شُبِّهَ بِالْمِصْبَاحِ الْمُضِيءِ فِي اللَّيْلِ. وَيَجِيءُ فِي وَصْفِ كِتابٍ بِصِفَةِ مُنِيرٍ تَعْرِيضٌ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ إِذْ كَانَ يُجَادِلُ فِي شَأْنِ الْإِسْلَامِ بِالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ كِتَابِ الله الْمُنِير وَبَين كتاب أَخْبَارِ رُسْتَمَ، وَكِتَابِ أَخْبَارِ أَسْفِنْدِيَارَ الْمُظْلِمَةِ الْبَاطِلَةِ. وَالثَّنْيُ: لَيُّ الشَّيْءِ. يُقَالُ: ثَنَى عِنَانَ فَرَسِهِ، إِذَا لَوَاهُ لِيُدِيرَ رَأْسَ فَرَسِهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَيْهَا. وَيُطْلَقُ أَيْضًا الثَّنْيُ عَلَى الْإِمَالَةِ. وَالْعِطْفُ: الْمَنْكِبُ وَالْجَانِبُ. وثانِيَ عِطْفِهِ تَمْثِيلٌ لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ. وَيُقَالُ: لَوَى جِيدَهُ، إِذَا أَعْرَضَ تَكَبُّرًا. وَهَذِهِ الصِّفَةُ تنطبق على حَالَة أَبِي جَهْلٍ فَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُضِلَّ لِتَعْلِيلِ الْمُجَادَلَةِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ يُجادِلُ أَيْ غَرَضُهُ مِنَ الْمُجَادَلَةِ الْإِضْلَالُ. وَسَبِيلُ اللَّهِ: الدِّينُ الْحَقُّ.

وَقَوْلُهُ لِيُضِلَّ- بِضَمِّ الْيَاءِ- أَيْ لِيُضَلِّلَ النَّاسَ بِجِدَالِهِ. فَهَذَا الْمُجَادِلُ يُرِيدُ بِجَدَلِهِ أَنْ يُوهِمَ الْعَامَّةَ بُطْلَانَ الْإِسْلَامِ كَيْلَا يَتَّبِعُوهُ. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ عِطْفِهِ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ (مَنْ) وَإِنْ كَانَ مَعْنَى تِلْكَ الضَّمَائِرِ الْجَمْعَ. وَخِزْيُ الدُّنْيَا: الْإِهَانَةُ، وَهُوَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ وَمِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا بَعْدُ. وَيَنْطَبِقُ الْخِزْيُ عَلَى مَا حَصَلَ لِأَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَتْلِهِ بِيَدِ غُلَامَيْنِ مِنْ شَبَابِ الْأَنْصَار وهما ابْنا عَفْرَاءَ. وَبِاعْتِلَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى صَدْرِهِ وَذَبْحِهِ وَكَانَ فِي عَظَمَتِهِ لَا يَخْطُرُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِخَاطِرِهِ. وَيَنْطَبِقُ الْخِزْيُ أَيْضًا عَلَى مَا حَلَّ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَتْلِهِ صَبْرًا فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْأُثَيْلُ قُرْبَ الْمَدِينَة عقب وقْعَة بَدْرٍ كَمَا وَصَفَتْهُ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ فِي رِثَائِهِ مِنْ قَصِيدَةِ: صَبْرًا يُقَادُ إِلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَبَا ... صَبْرَ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ وَإِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظِيرَتُهَا الَّتِي سَبَقَتْ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ لَا مَحَالَةَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ. وإذاقة الْعَذَاب تخييل لِلْمَكْنِيَّةِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَنُذِيقُهُ.

[سورة الحج (22) : آية 11]

وَ (قَدَّمَتْ) بِمَعْنَى: أَسْلَفَتْ. جَعَلَ كُفْرَهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَى دَار الْجَزَاء قبل أَنْ يَصِلَ هُوَ إِلَيْهَا فوحده يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاضِرًا يَنْتَظِرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: 49] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَذَابِ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ. وَعُطِفَ عَلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيل مصدر، أَيْ وَبِانْتِفَاءِ ظُلْمِ اللَّهِ الْعَبِيدَ، أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ مُسَبَّبٌ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَصَاحِبُهُ حَقِيقٌ بِهِ لِأَنَّهُ جَزَاء فَسَاده وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ فِيمَا أَذَاقَهُ. وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا نَفْيَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الظُّلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظُلْمٌ أَمر شَدِيد فيصغت لَهُ زِنَةُ الْمُبَالَغَةِ، وَكَذَلِكَ الْتُزِمَتْ فِي ذِكْرِهِ حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ اعْتَادَ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمُبَالَغَةَ رَاجِعَةً لِلنَّفْيِ لَا لِلْمَنْفِيِّ وَهُوَ بعيد. [11] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) هَذَا وَصْفُ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الَّذِينَ يُقَابِلُونَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالْإِنْذَارَ بِالسَّاعَةِ مُقَابَلَةَ غَيْرِ الْمُطْمَئِنِّ بِصِدْقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا الْمُعْرِضِ عَنْهَا إِعْرَاضًا تَامًّا وَلَكِنَّهُمْ يَضَعُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِضِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ دِينِهِمُ الْقَدِيمِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ. فَهُمْ يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ وَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ

مُتَّبِعِيهِ وَيَرْقُبُونَ مَا يَنْتَابُهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَصَابَهُمُ الْخَيْرُ عَقِبَ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ دِينَهُمُ الْقَدِيمَ لَيْسَ بِحَقٍّ وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّهَا لَوْ قَدَرَتْ لَانْتَقَمَتْ مِنْهُمْ عَلَى نَبْذِ عِبَادَتِهَا وَظَنُّوا أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ شَرٌّ مِنْ شُرُورِ الدُّنْيَا الْعَارِضَةِ فِي الْحَيَاةِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ سَخِطُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَانْخَلَعُوا عَنْهُ. وَتَوَهَّمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ أَصَابَتْهُمْ بِسُوءٍ غَضَبًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ عِبَادَتَهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عَادٍ إِذْ قَالُوا لِرَسُولِهِمْ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] . فَالْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ مُرَادٌ بِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ [الْحَج: 12] . وَالظَّاهِر أَن هَذِه الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنَتَجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتِجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُبْطِنِينَ الْكُفْرَ فَلَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ. وَمِمَّنْ يَصْلُحُ مِثَالًا لِهَذَا الْفَرِيقِ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى يَصِحُّوَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ وَفَرُّوا، فَأَلْحَقَ بِهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَبَ فِي أَثَرِهِمْ حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا.

وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَسْلَمَ وَبَايَعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتِقِيلُهُ بَيْعَتَهُ فَأَبَى أَنْ يُقِيلَهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» فَجَعَلَهُ خَبَثًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ثَابِتًا . وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ لَا يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فَيَنْقَطِعَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَلَا يُمِيرُونَنَا فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ [الْحَج: 15] الْآيَاتِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، مِنْهُمْ: عُيَيْنَةُ بن حِصْنٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ قَالُوا: نَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ فَإِنْ أَصَبْنَا خَيْرًا عَرَفْنَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ أَصَبْنَا غَيْرَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَهَذَا كُله ناشىء عَنِ الْجَهْلِ وَتَخْلِيطِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالْأَسْبَابِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَجَعْلِ الْمُقَارَنَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ كَالْمَعْلُومَاتِ اللُّزُومِيَّةِ. وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الضَّلَالَةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا. وَلَنِعْمَ الْمُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَطَلُّبِ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا. وَحَرْفُ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَجَانِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُرْتَفِعًا كَحَرْفِ الْجَبَلِ وَالْوَادِي أَمْ كَانَ مُسْتَوِيًا كَحَرْفِ الطَّرِيقِ. وَيُطْلَقُ الْحَرْفُ عَلَى طَرَفِ الْجَيْشِ وَيُجْمَعُ عَلَى طِرَفٍ بِوَزْنِ عِنَبٍ قَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَلَا نَظِيرَ لَهُ سِوَى طَلٍّ وَطِلَلٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَرَدِّدِ فِي عَمَلِهِ، يُرِيدُ تَجْرِبَةَ عَاقِبَتِهِ بِحَالِ مَنْ يَمْشِي عَلَى حَرْفِ جَبَلٍ أَوْ حَرْفِ وَاد فَهُوَ متهيّىء لِأَنْ يَزِلَّ عَنْهُ إِلَى أَسْفَلِهِ فَيَنْقَلِبَ، أَيْ يَنْكَبَّ.

وَمَعْنَى اطْمَأَنَّ: اسْتَقَرَّ وَسَكَنَ فِي مَكَانِهِ. وَمَصْدَرُهُ الِاطْمِئْنَانُ وَاسْمُ الْمَصْدَرِ الطُّمَأْنِينَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 260] . وَالْمَعْنَى: اسْتَمَرَّ عَلَى التَّوْحِيدِ فَرِحًا بِالْخَيْرِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَاسْتِقْرَارُ مِثْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَانِ يُصَيِّرُهُ مُؤْمِنًا إِذَا زَالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ. وَحَالُ هَؤُلَاءِ قَرِيبٌ مِنْ حَالِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَالِانْقِلَابُ: مُطَاوِعٌ قَلَبَهُ إِذَا كَبَّهُ، أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ مَا كَانَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ كَمَا يُقْلَبُ الْقَالَبُ- بِفَتْحِ اللَّامِ-. فَالِانْقِلَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ. وَتَفْسِيرُنَا الِانْقِلَابَ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ عَلى وَجْهِهِ أَيْ سَقَطَ وَانْكَبَّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: يَكُبُّ عَلَى الْأَذْقَانِ دَوْحَ الْكَنَهْبَلِ وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ» . وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَيْضًا الْمُلَائِمُ لِتَمْثِيلِ أَوَّلِ حَالِهِ بِحَالِ مَنْ هُوَ عَلَى حَرْفٍ. وَيُطْلَقُ الِانْقِلَابُ كَثِيرًا عَلَى الِانْصِرَافِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَتَاهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ وَبِهِ فَسَّرَ الْمُفَسِّرُونَ. وَلَا يُنَاسِبُ اعْتِبَارُهُ هُنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ فِيهِ: انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَة: 143] إِذِ الرُّجُوعُ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ الْوَجْهِ. وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَالِ وَقَلَقُ الْبَالِ مِنْ حُدُوثِ شَرٍّ لَا مَدْفَعَ لَهُ، وَهِيَ مُقَابِلُ الْخَيْرِ.

وَجُمْلَةُ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وَجُمْلَة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْحَج: 12] الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ انْقَلَبَ أَيْ أُسْقِطَ فِي الشِّرْكِ. وَالْخُسْرَانُ: تَلَفُ جُزْءٍ مِنْ أَصْلِ مَالِ التِّجَارَةِ، فَشَبَّهَ نَفْعَ الدُّنْيَا وَنَفْعَ الْآخِرَةِ بِمَالِ التَّاجِرِ السَّاعِي فِي تَوْفِيرِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ تَحْصِيلَهُ، وَثَنَّى عَلَى ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْخُسْرَانِ لِصَاحِبِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُرَادِفَاتِ مَالِ التِّجَارَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَشَبَّهَ فَوَاتَ النَّفْعِ الْمَطْلُوبِ بخسارة المَال. وَتَعْلِيق الْخُسْرَانِ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ خَسِرَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ. فَخَسَارَةُ الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَا أَصَابَهُ فِيهَا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَخَسَارَةُ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهَا الْمَرْجُوِّ لَهُ. وَالْمُبِينُ: الَّذِي فِيهِ مَا يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ خُسْرَانٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خُسْرَانٌ شَدِيدٌ لَا يَخْفَى. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَتَمَّ تَمْيِيزٍ لِتَقْرِيرِ مَدْلُولِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ. ادُّعِيَ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ انْحَصَرَتْ فِي خُسْرَانِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ وَنَفْيُ الشَّكِّ فِي وُقُوعِهِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَكَّدَ مَعْنَى الْقَصْرِ فَأَفَادَ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ الْمَقْصُورِ

[سورة الحج (22) : آية 12]

[12] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 12] يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) جملَة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ حَالٌ مِنْ ضمير انْقَلَبَ [الْحَج: 11] . وَقَدَّمَ الضَّرَّ عَلَى النَّفْعِ فِي قَوْلِهِ مَا لَا يَضُرُّهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ تَمَلَّصَ مِنَ الْإِسْلَامِ تَجَنُّبًا لِلضُّرِّ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ مَا لَحِقَهُ مِنَ الضُّرِّ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَبِسَبَبِ غَضَبِ الْأَصْنَامِ عَلَيْهِ، فَعَادَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ حَاسِبًا أَنَّهَا لَا تَضُرُّهُ. وَفِي هَذَا الْإِيمَاءِ تَهَكُّمٌ بِهِ يَظْهَرُ بِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَا يَنْفَعُهُ أَيْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي دُعَائِهِ الْأَصْنَامَ لِتُزِيلَ عَنْهُ الضُّرَّ فَيَنْتَفِعَ بِفِعْلِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تَفْعَلُ مَا يجلب ضُرًّا وَلَا مَا يَجْلِبُ نَفْعًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ إِلَى الدُّعَاءِ الْمُسْتَفَاد من يَدْعُوا. وَالْقَوْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَضَمِيرِ الْفَصْلِ وَالْقَصْرِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الْحَج: 11] . وَالْبَعِيدُ: الْمُتَجَاوِزُ الْحَدَّ الْمَعْرُوفَ فِي مَدَى الضَّلَالِ، أَيْ هُوَ الضَّلَالُ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ ضَلَالٌ لِأَنَّهُ يعبد مَا لاغناء لَهُ. [13] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 13] يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ حَالٍ ثَانِيَةٍ، وَمَضْمُونُهَا ارْتِقَاءٌ فِي تَضْلِيلِ عَابِدِي الْأَصْنَامِ. فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا لَا غَنَاءَ لَهُمْ فِيهِ زَادَ

فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا فِيهِ ضَرٌّ. فَمَوْضِعُ الِارْتِقَاءِ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الْحَج: 12] كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَا يَضُرُّهُ بَلْ مَا يَنْجَرُّ لَهُ مِنْهُ ضَرٌّ. وَذَلِكَ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تَضُرُّهُ فِي الدُّنْيَا بِالتَّوَجُّهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهَا فَيَضِيعُ زَمَنُهُ فِي تَطَلُّبِ مَا لَا يَحْصُلُ وَتَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ. وَلَمَّا كَانَ الضُّرُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْأَصْنَامِ لَيْسَ ضُرًّا نَاشِئًا عَنْ فِعْلِهَا بَلْ هُوَ ضُرٌّ مَلَابِسٌ لَهَا أَثْبَتَ الضَّرَّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ لِلضَّمِيرِ دُونَ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ إِذْ قَالَ تَعَالَى: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَلَمْ يَقُلْ: لَمَنْ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِسْنَادِ فَلَمْ يَحْصُلْ تَنَافٍ بَيْنَ قَوْلِهِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الْحَج: 12] وَقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وَكَوْنُهُ أَقْرَبَ مِنَ النَّفْعِ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَحُّضِهِ لِلضَّرِّ وَانْتِفَاءِ النَّفْعِ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْأَقْرَبَ حَاصِلٌ قَبْلَ الْبَعِيدِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ مَعَهُ إِلَّا الضُّرُّ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَمَنْ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهَا، فَلَامُ الِابْتِدَاءِ تُفِيدُ مُفَادَ (إِنَّ) مِنَ التَّأْكِيدِ. وَقُدِّمَتْ مِنْ تَأْخِيرٍ إِذْ حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى صِلَةٍ (مِنَ الْمَوْصُولَةِ. وَالْأَصْلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) . وَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ وَيكون فعل يَدْعُوا مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ لِدُخُولِ لَامِ الِابْتِدَاءِ بِنَاءً عَلَى الْحَقِّ مِنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِ التَّعْلِيقِ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ. وَجُمْلَةُ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنْشَاءُ ذَمٍّ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي يَدْعُونَهَا بِأَنَّهَا شَرُّ الْمَوَالِي وَشَرُّ الْعُشَرَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْلَى جَلْبُ النَّفْعِ لِمَوْلَاهُ، وَشَأْنَ الْعَشِيرِ جَلْبُ الْخَيْرِ لِعَشِيرِهِ فَإِذَا تَخَلَّفَ ذَلِكَ مِنْهُمَا نَادِرًا كَانَ مَذَمَّةً وَغَضَاضَةً، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ مُطَّرِدًا فَذَلِكَ شَرّ الموَالِي.

[سورة الحج (22) : آية 14]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 14] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَج: 9] وَقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَج: 11] . فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَدِ اقْتُصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ دُونَ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ أَهَمِّيَّةِ ذَلِكَ لَدَيْهِمْ وَلَا فِي نَظَرِ الدِّينِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْحَج: 8] إِلَى هُنَا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُلْتَئِمِ مِنْهَا الْغَرَضُ. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِعْلُ اللَّهِ مَا يُرِيدُ هُوَ إِيجَادُ أَسْبَابِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي سُنَّةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَتَبْيِينِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَتَرْتِيبِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَذَلِكَ لَا يُحِيطُ بِتَفَاصِيلِهِ إِلَّا الله تَعَالَى. [15] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 15] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ غَامِضٌ، وَمُفَادُهَا كَذَلِكَ. وَلْنَبْدَأْ بِبَيَانِ مَوْقِعِهَا ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِبَيَانِ مَعْنَاهَا فَإِنَّ بَيْنَ مَوْقِعِهَا وَمَعْنَاهَا اتِّصَالًا.

فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا أُرِيدَ بِهِ ذِكْرُ فَرِيقٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْحَج: 8] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: 11] . وَهَذَا الْفَرِيقُ الثَّالِثُ جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا وَاسَتَبْطَأُوا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَيِسُوا مِنْهُ وَغَاظَهُمْ تَعَجُّلُهُمْ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ لَمْ يَتَرَيَّثُوا فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: 11] الْآيَةَ بَعْدَ أَنِ اعْتُرِضَ بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ هَاتِهِ بِجُمَلٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَج: 11] هُمْ قَوْمٌ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِنْ بَقُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا ظَنُّهُمُ انْتِفَاءَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَيِسُوا مِنَ النَّصْرِ اسْتِبْطَاءً، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عُلِّقَ فِعْلُ لَنْ يَنْصُرَهُ بِالْمَجْرُورِ بِقَوْلِهِ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إِيمَاءً إِلَى كَوْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْخُسْرَانِ فِي قَوْلِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَج: 11] . فَإِنَّ عَدَمَ النَّصْرِ خُسْرَانٌ فِي الدُّنْيَا بِحُصُولِ ضِدِّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ حَسَبَ اعْتِقَادِ كُفْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ مُتَرَدِّدُونَ. وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِتَغْيِيرِ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يُعْطَفْ بِالْوَاوِ كَمَا عُطِفَ قَوْلُهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ [الْحَج: 11] وَلَمْ تُورَدْ فِيهِ جُمْلَةُ وَمِنَ النَّاسِ كَمَا أُورِدَتْ فِي ذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةَ تَهْدِيدُ هَذَا الْفَرِيقِ. فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ بِقَوْلِهِ مَنْ كانَ يَظُنُّ إِلَخْ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَإِنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ فَيُقَالُ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الْحَج: 14] ،

فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ إِلَخْ ... عَائِدًا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ عَلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: 11] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بَعْدَ مُعَادِ الضَّمِيرِ، وَثَانِيهِمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عِبَادَتَهُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ نَاشِئَةٌ عَنْ ظَنِّهِ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ صَمَّمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاثِقٍ بِوَعْدِ النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي يَنْصُرَهُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: 11] عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ. وَاسْمُ السَّماءِ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ أَيْضًا أَخْذًا بِمَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ (يَعْنِي عبد الرحمان بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ قَالَ: هِيَ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ، يَعْنِي الْمُظِلَّةَ. فَالْمَعْنَى: فَلْيَنُطْ حَبْلًا بِالسَّمَاءِ مَرْبُوطًا بِهِ ثُمَّ يَقْطَعْهُ فَيَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَتَمَزَّقُ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَلَا يُغْنِي عَنْهُ فِعْلُهُ شَيْئًا مِنْ إِزَالَةِ غَيْظِهِ. ومفعول لْيَقْطَعْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ لْيَقْطَعْهُ، أَيْ لِيَقْطَعِ السَّبَبَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ لِلتَّعْجِيزِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ لَا يَقَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَن: 33] . وَأَمَّا اسْتِخْرَاجُ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ نَظْمِهَا فَإِنَّهَا نُسِجَتْ عَلَى إِيجَازٍ بَدِيعٍ، شَبَّهَتْ حَالَةَ اسْتِبْطَانِ هَذَا الْفَرِيقِ الْكُفْرَ وَإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ عَلَى حَنَقٍ، أَوْ حَالَةَ تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفَّارِ بِحَالَةِ الْمُغْتَاظِ مِمَّا صَنَعَ فَقِيلَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا

مَا يَفْعَلُهُ أَمْثَالُكُمْ مِمَّنْ مَلَأَهُمُ الْغَيْظُ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سُبُلُ الِانْفِرَاجِ، فَامْدُدُوا حَبْلًا بِأَقْصَى مَا يُمَدُّ إِلَيْهِ حَبْلٌ، وَتَعَلَّقُوا بِهِ فِي أَعْلَى مَكَان ثمَّ قطعوه تَخِرُّوا إِلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ غِنًى فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَإِنْذَارٌ بِاسْتِمْرَارِ فِتْنَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْخُسْرَانِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى فَرِيقٍ آخَرَ أَسْلَمُوا فِي مُدَّةِ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَبْطَأُوا النَّصْرَ فَضَاقَتْ صُدُورُهُمْ فَخَطَرَتْ لَهُمْ خَوَاطِرُ شَيْطَانِيَّةٌ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِسْلَامَ وَيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ فَزَجَرَهُمُ اللَّهُ وَهَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا آيِسِينَ مِنَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَمُرْتَابِينَ فِي نَيْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ ارْتِدَادَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ وَلَا رَسُولَهُ وَلَا يَكِيدُ الدِّينَ وَإِنْ شَاءُوا فَلْيَخْتَنِقُوا فَيَنْظُرُوا هَلْ يُزِيلُ الِاخْتِنَاقُ غَيْظَهُمْ، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. فَمَوْقِعُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ لِذِكْرِ فَرِيقٍ آخَرَ يُشْبِهُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ. وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَائِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ فِي كل الْوُجُوه تعريضا بِالتَّنْبِيهِ لِخُلَّصِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَيْأَسُوا مِنْ نَصْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ. قَالَ تَعَالَى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 23- 24] الْآيَةَ.

[سورة الحج (22) : آية 16]

وَالسَّبَبُ: الْحَبْلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 166] . وَالْقَطْعُ: قِيلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاخْتِنَاقِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْأَنْفَاسَ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ غَيْظَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ إِنْكَارِيٌّ، وَهُوَ مُعَلِّقٌ فِعْلَ فَلْيَنْظُرْ عَنِ الْعَمَلِ، وَالنَّظَرُ قَلْبِيٌّ، وَسُمِّيَ الْفِعْلُ كَيْدًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْكَيْدَ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ لِأَنْ يَكِيدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكِيدُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَضُرُّ بِهِ نَفْسَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ لْيَقْطَعْ- بِسُكُونِ لَامِ- لِيَقْطَعْ وَهُوَ لَامُ الْأَمْرِ. فَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ كَانَ مَكْسُورًا، وَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ عَاطِفٍ غَيْرِ (ثُمَّ) كَانَ سَاكِنًا مِثْلَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمرَان: 104] . فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ (ثُمَّ) جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْر اللَّام-. [16] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 16] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) لَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَبْيِينَ أَحْوَالِ النَّاسِ تُجَاهَ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ الْتِبَاسٌ عُقِّبَتْ بِالتَّنْوِيهِ بِتَبْيِينِهَا، بِأَنْ شُبِّهَ ذَلِكَ التَّبْيِينُ بِنَفْسِهِ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ بِحَيْثُ لَا يُلْحَقُ بِأَوْضَحَ مِنْهُ، أَيْ مِثْلَ هَذَا الْإِنْزَالِ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَعُطِفَ عَلَى التَّنْوِيهِ

[سورة الحج (22) : آية 17]

تَعْلِيلُ إِنْزَالِهِ كَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هَدْيَهُ أَيْ بِالْقُرْآنِ. فَلَامُ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٌ، وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَن) مطّرد. [17] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُتَرَدِّدِينَ فِي قَبُولِ الْإِسْلَامِ كَانَ ذَلِكَ مَثَارًا لِأَنْ يُتَسَاءَلَ عَنْ أَحْوَالِ الْفِرَقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مُخْتَلَفِ الْأَدْيَانِ، وَأَنْ يُسْأَلَ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ وَغَيْرَهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَتُجَادِلُ فِي ذَلِكَ. فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ فِيمَا اخْتَصَمُوا فِيهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لم تفدهم الْحُجَجُ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا الْكَلَامُ بِمَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالٍ هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّفْوِيضِ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تَصْوِيبِ الْمُتَكَلِّمِ طَرِيقَتَهُ وَتَخْطِئَتِهِ طَرِيقَةَ خَصْمِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّفْوِيضِ لِلَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْوَاثِقِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ. وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةِ الْعُقُودِ.

وَزَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرَ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ كَانَتَا فِي مَسَاقِ بَيَانِ فَضْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَزِيدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَالْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَأَمَّا الْمَجُوسُ فَهُمْ أهل دين يثبت إِلَهَيْنِ: إِلَهًا لِلْخَيْرِ، وَإِلَهًا لِلشَّرِّ، وَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ. ثُمَّ هِيَ تَتَشَعَّبُ شُعَبًا تَأْوِي إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. وَأَقْدَمُ النِّحَلِ الْمَجُوسِيَّةِ أَسَّسَهَا (كِيُومَرْث) الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ بِفَارِسَ فِي أَزْمِنَةٍ قَدِيمَةٍ يُظَنُّ أَنَّهَا قَبْلَ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ يُلَقَّبُ أَيْضًا بِلَقَبِ (جَل شَاهْ) (¬1) تَفْسِيرُهُ: مَلِكُ الْأَرْضِ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِوَجْهٍ عِلْمِيٍّ وَكَانَ عَصْرُ (كِيُومَرْث) يُلَقَّبُ (زُرْوَان) أَيِ الْأَزَلَ، فَكَانَ أَصْلُ الْمَجُوسِيَّةِ هُمْ أَهْلُ الدِّيَانَةِ الْمُسَمَّاةِ: الزُّرْوَانِيَّةُ وَهِيَ تُثْبِتُ إِلَهَيْنِ هُمَا (يَزْدَان) وَ (أَهْرُمُن) . قَالُوا: كَانَ يزذان مُنْفَرِدًا بِالْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ، وَأَنَّهُ كَانَ نُورَانِيًّا، وَأَنَّهُ بَقِيَ كَذَلِكَ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ثُمَّ حَدَثَ لَهُ خَاطِرٌ فِي نَفْسِهِ: أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ لَهُ مُنَازِعٌ كَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ فَنَشَأَ مِنْ هَذَا الْخَاطِرِ مَوْجُودٌ جَدِيدٌ ظُلْمَانِيٌّ سُمِّيَ (أَهْرُمُن) وَهُوَ إِلَهُ الظُّلْمَةِ مَطْبُوعًا عَلَى الشَّرِّ وَالضُّرِّ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ فِي لُزُومِيَّاتِهِ: قَالَ أُنَاسٌ بَاطِلٌ زَعْمُهُمْ ... فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَلَا تَزْعُمُنْ فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ ... فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ فَحَدَثَ بَيْنَ (أَهْرُمُن) وَبَيْنَ (يَزْدَان) خِلَافٌ وَمُحَارَبَةٌ إِلَى الْأَبَدِ. ثُمَّ نَشَأَتْ عَلَى هَذَا الدِّينِ نِحَلٌ خُصَّتْ بِأَلْقَابٍ وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ التَّعَالِيمِ ¬

(¬1) لَعَلَّ صَوَاب الْعبارَة «جهان شاه» .

أَشْهَرُهَا نِحْلَةُ (زَرَادَشْت) الَّذِي ظَهَرَ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، وَبِهِ اشْتُهِرَتِ الْمَجُوسِيَّةُ. وَقَدْ سَمَّى إِلَهَ الْخَيْرِ (أَهُورَا مُزْدَا) أَوْ (أَرْمُزْد) أَوْ (هُرْمُزَ) ، وَسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ (أَهْرُمُن) ، وَجَعَلَ إِلَهَ الْخَيْرِ نُورًا، وَإِلَهَ الشَّرِّ ظُلْمَةً. ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا مَظْهَرُ إِلَهِ الْخَيْرِ وَهُوَ النُّورُ. وَوَسَّعَ شَرِيعَةَ الْمَجُوسِيَّةِ، وَوَضَعَ لَهَا كِتَابًا سَمَّاهُ «زَنْدَافِسْتَا» . وَمِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ تَجَنُّبُ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ. ثُمَّ ظَهَرَتْ فِي الْمَجُوسِ نِحْلَةُ «الْمَانَوِيَّةِ» ، وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى (مَانِي) الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ سَابُور بْنِ أَرْدِشِير مَلِكِ الْفُرْسِ بَيْنَ سَنَةِ 238 وَسَنَةِ 271 م. وَظَهَرَتْ فِي الْمَجُوسِ نِحْلَةُ (الْمَزْدَكِيَّةِ) ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى (مَزْدَك) الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ قُبَاذ بَيْنَ سَنَةِ 487 وَسَنَةِ 523 م. وَهِيَ نِحْلَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ (الْمَانَوِيَّةِ) ، وَهِيَ آخِرُ نِحْلَةٍ ظَهَرَتْ فِي تَطَوُّرِ الْمَجُوسِيَّةِ قَبْلَ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ لِبِلَادِ الْفُرْسِ. وَلِلْمَجُوسِيَّةِ شِبْهٌ فِي الْأَصْلِ بِالْإِشْرَاكِ إِلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُهُ بِمَنْعِ عِبَادَةِ الْأَحْجَارِ، وَبَأَنَّ لَهَا كِتَابًا، فَأَشْبَهُوا بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» أَيْ فِي الِاكْتِفَاءِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يُكْرَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 51] . وَأُعِيدَتْ (إِنَّ) فِي صَدْرَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ (إِنَّ) الْأُولَى تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلْخَبَرِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا. وَكَوْنِ

[سورة الحج (22) : آية 18]

خَبَرِهَا جُمْلَةً وَهُوَ تَوْكِيدٌ حَسَنٌ بِسَبَبِ طُولِ الْفَصْلِ. وَتَقَدَّمَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي [سُورَةِ الْكَهْفِ: 30] . وَإِذَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ فَالتَّوْكِيدُ بِإِعَادَةِ (إِنَّ) أَقَلُّ حُسْنًا كَقَوْلِ جَرِيرٍ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مَلَكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ وَلَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مُبْتَدَأُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا ضَمِيرَ اسْمِ (إِنَّ) الْأُولَى كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا إِنَّهُ قَائِم، بل لَا بُد مِنَ الِاخْتِلَافِ لِيَكُونَ الْمُؤَكَّدُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ فَتُقْبَلُ إِعَادَةُ الْمُؤَكَّدِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤَكَّدُ الْأَوَّلُ كَافِيًا. وَالْفَصْلُ: الْحُكْمُ، أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ الدِّيَانَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ وَالصَّحِيحُ من أَقْوَالهم. [18] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 18] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِمَعْنى قَوْله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ إِلَى قَوْلِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الْحَج: 12، 13] ارْتِبَاطَ الدَّلِيلِ بِالْمَطْلُوبِ فَإِنَّ

دَلَائِلَ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عَاقِلِهَا وَجَمَادِهَا شَاهِدَةٌ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَفِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ شَهَادَةٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَةِ مَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ. وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اسْتِطْرَادٌ وَاعْتِرَاضٌ. وَالرُّؤْيَةُ: عِلْمِيَّةٌ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. أَنْكَرَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ عَدَمَ عِلْمِهِمْ بِدَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا، لِأَنَّ حُصُولَ عِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مُتَقَرِّرٌ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ وَسُورَةِ النَّحْلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذَا السُّجُودِ فِي السُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ السُّجُودُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ أَبَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ، لِأَنَّ السُّجُودَ الْمُثْبَتَ لِكَثِيرٍ مِنِ النَّاسِ هُوَ السُّجُودُ الْحَقِيقِيُّ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ ذَلِكَ لَمَا احْتَرَسَ بِإِثْبَاتِهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لَا لِجَمِيعِهِمْ. وَوَجْهُ هَذَا التَّفْكِيكِ أَنَّ سُجُودَ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا دَلَالَةَ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ، فَاسْتُعِيرَ السُّجُودُ لحالة التسخير والانطياع. وَأَمَّا دَلَالَةُ حَالِ الْإِنْسَانِ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا خَالَطَهَا إِعْرَاضُ كَثِيرٍ مِنِ النَّاسِ عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَلَبُّسُهُمْ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ غَطَّى سُجُودُهُمُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى السُّجُودِ الْمَجَازِيِّ الدَّالِّ عَلَى عُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ فَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمُ السُّجُودَ الَّذِي أُثْبِتَ لِبَقِيَّةِ الْمَوْجُودَاتِ وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا فِي حَالِهِمْ كَحَالِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأُخْرَى.

[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 22]

وَجُمْلَةُ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ مُعْتَرِضَةٌ بِالْوَاوِ. وَجُمْلَةُ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ مُكْنًى بِهَا عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ لِلَّهِ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ فِي حُكْمِهِ اسْتِحْقَاقَ الْمُشْرِكِ لِعَذَابِ النَّارِ. فَالَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَأَعْرَضُوا عَنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ وَأَنْذَرَهُمْ بِهِ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ اعْتِرَاضٌ ثَانٍ بِالْوَاوِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَهَانَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُكْرِمُهُمْ بِالنَّصْرِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ فِي مَحَلِّ الْعِلَّةِ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُعْتَرِضَتَيْنِ لِأَنَّ وُجُودَ حَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ مَعَ عَدَمِ الْمُنْكِرِ يُمَحِّضُ حَرْفَ التَّوْكِيدِ إِلَى إِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ، فَتُغْنِي (إِنَّ) غَنَاءَ حَرْفِ التَّعْلِيلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ. وَهَذَا مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء. [19- 22] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 19 إِلَى 22] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) مُقْتَضَى سِيَاقِ السُّورَةِ وَاتِّصَالِ آيِ السُّورَةِ وَتَتَابُعِهَا فِي النُّزُولِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةَ النُّزُولِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ مَوْقِعُ

جُمْلَةِ هذانِ خَصْمانِ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ. لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [الْحَج: 18] يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ بَعْضِ تَفْصِيلِ صِفَةِ الْعَذَابِ الَّذِي حَقَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ تَعَالَى، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُثَنَّى مُشِيرٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [الْحَج: 18] مِنِ انْقِسَامِ الْمَذْكُورِينَ إِلَى فَرِيقَيْنِ أَهْلِ تَوْحِيدٍ وَأَهْلِ شِرْكٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [الْحَج: 18] مِنْ كَوْنِ أُولَئِكَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفَرِيقٍ يَسْجُدُ لِغَيْرِهِ. فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْكَلَامِ بِتَنْزِيلِهِ منزلَة مَا يُشَاهد بِالْعَيْنِ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَالِاخْتِصَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَهِيَ الْجَدَلُ وَالِاخْتِلَافُ بِالْقَوْلِ يُقَالُ: خَاصَمَهُ وَاخْتَصَمَا، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُقْتَضِيَةِ جَانِبَيْنِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الْغَلَبِ فِي الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ فَاعِلُهُ وَاحِدًا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 105] . وَاخْتِصَامُ فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِينَ قَدْ مَلَأَ الْفَضَاءَ جَلَبَتُهُ، فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ بِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ مَسُوقٌ لِغَيْرِ إِفَادَةِ الْخَبَرِ بَلْ تَمْهِيدًا لِلتَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ. فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةَ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمِيعَ مُخَالِفِيهِمْ فِي الدِّينِ. وَوَقَعَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُتْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَين يَدي الرحمان لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ عَلِيٍّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ فَتَكُونُ هذانِ إِشَارَةً إِلَى فَرِيقَيْنِ حَاضِرَيْنِ فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ فَنُزِّلَ حُضُورُ قِصَّتِهِمَا الْعَجِيبَةِ فِي الْأَذْهَانِ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدَةِ حَتَّى أُعِيدَ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُشَاهَدِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: «خَرَجْتُ لِأَنَصُرَ هَذَا الرَّجُلَ» يُرِيدُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي قِصَّةِ صِفِّينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ عُنِيَ بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ السِّتَّةَ هُمْ أَبْرَزُ مِثَالٍ وَأَشْهَرُ فَرْدٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ، فَعَبَّرَ بِالنُّزُولِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ يُقْصَدُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَالِاخْتِصَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ حَقِيقِيٌّ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أُطْلِقَ الِاخْتِصَامُ عَلَى الْمُبَارَزَةِ مَجَازًا مُرْسَلًا لِأَنَّ الِاخْتِصَامَ فِي الدِّينِ هُوَ سَبَبُ تِلْكَ الْمُبَارَزَةِ. وَاسْمُ الْخَصْمِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا اتَّحَدَتْ خُصُومَتُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21] فَلِمُرَاعَاةِ تَثْنِيَةِ اللَّفْظِ أُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُثَنَّى وَلِمُرَاعَاةِ الْعَدَدِ أُتِيَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. وَمَعْنَى فِي رَبِّهِمْ فِي شَأْنِهِ وَصِفَاتِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ظَاهِرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور هاذان- بتَخْفِيف النُّون-. وقرأه ابْنُ كَثِيرٍ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهُمَا لُغَتَانِ.

وَالتَّقْطِيعُ: مُبَالَغَةُ الْقَطْعِ، وَهُوَ فَصْلُ بَعْضِ أَجْزَاءِ شَيْءٍ عَنْ بَقِيَّتِهِ. وَالْمُرَادُ: قَطْعُ شُقَّةِ الثَّوْبِ. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ اتِّخَاذَ قَمِيصٍ أَوْ نَحْوِهِ يَقْطَعُ مِنْ شُقَّةِ الثَّوْبِ مَا يَكْفِي كَمَا يُرِيدُهُ، فَصِيغَتْ صِيغَةَ الشَّدَّةِ فِي الْقَطْعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى السُّرْعَةِ فِي إِعْدَادِ ذَلِكَ لَهُمْ فَيُجْعَلُ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ. وَالثِّيَابُ مِنَ النَّارِ ثِيَابٌ مُحَرِّقَةٌ لِلْجُلُودِ وَذَلِكَ من شؤون الْآخِرَةِ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ. وَالْإِصْهَارُ: الْإِذَابَةُ بِالنَّارِ أَوْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ، يُقَالُ: أَصْهَرَهُ وَصَهَرَهُ. وَمَا فِي بُطُونِهِمْ: أَمْعَاؤُهُمْ، أَيْ هُوَ شَدِيدٌ فِي النَّفَاذِ إِلَى بَاطِنِهِمْ. وَالْمَقَامِعُ: جَمْعُ مِقْمَعَةٍ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- بِصِيغَةِ اسْمِ آلَةِ الْقَمْعِ. وَالْقَمْعُ: الْكَفُّ عَنْ شَيْءٍ بِعُنْفٍ. وَالْمِقْمَعَةُ: السَّوْطُ، أَيْ يُضْرَبُونَ بِسِيَاطٍ مِنْ حَدِيدٍ. وَمَعْنَى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ مَا يَغُمُّهُمْ، أَيْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّنَفُّسِ، يُحَاوِلُونَ الْخُرُوجَ فَيُعَادُونَ فِيهَا فَيَحْصُلُ لَهُمْ أَلَمُ الْخَيْبَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. وَالْحَرِيقُ: النَّارُ الضَّخْمَةُ الْمُنْتَشِرَةُ. وَهَذَا الْقَوْلُ إِهَانَةٌ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنهم يذوقونه.

[سورة الحج (22) : الآيات 23 إلى 24]

[سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 23 إِلَى 24] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ عَلَى جُمْلَةِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الْحَج: 19] لِأَنَّهُ قَسِيمُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: 19] بِأَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ جَنَّاتٍ ... إِلَى آخِرِهِ. فَعُدِلَ عَنْ ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ إِلَى هَذَا النَّظْمِ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَى هَذَا الْكَلَام إِذا جَاءَ مُبْتَدَأً بِهِ مُسْتَقِلًّا مُفْتَتَحًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَمُتَوَّجًا بِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْبَلِيغُ لَا تَفُوتُهُ مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَسِيمٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ فِي تَفْصِيلِ إِجْمَالِ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: 19] لِوَصْفِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقَابِلِ لِحَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْمَكَانِ وَاللِّبَاسِ وَخِطَابِ الْكَرَامَةِ. فَقَوْلُهُ: يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الْحَج: 22] . وَقَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ يُقَابِلُ قَوْلَهُ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الْحَج: 19] . وَقَوْلُهُ: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الْحَج: 19] . وَقَوْلُهُ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَج: 22] فَإِنَّهُ مِنَ الْقَوْلِ النَّكِدِ. وَالتَّحْلِيَةُ وَضْعُ الْحَلْيِ عَلَى أَعْضَاءِ الْجِسْمِ. حَلَّاهُ: أَلْبَسَهُ الْحَلْيَ مِثْلُ جَلْبَبَ. وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ سِوَارٍ. أُشِيرَ بِجَمْعِ الْجَمْعِ إِلَى التَّكْثِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً فِي [سُورَةِ الْكَهْفِ: 31] .

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ أَساوِرَ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْهَدْ تَحْلِيَةُ الرِّجَالِ بِالْأَسَاوِرِ كَانَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُحَلَّوْنَ أَسَاوِرَ مُعَرِّضًا لِلتَّرَدُّدِ فِي إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ فَجِيءَ بِالْمُؤَكِّدِ لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَلِذَلِكَ فَ أَساوِرَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ يُحَلَّوْنَ. وَلُؤْلُؤاً قَرَأَهُ ناقع، وَيَعْقُوبُ، وَعَاصِمٌ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَساوِرَ أَيْ يُحَلَّوْنَ لُؤْلُؤًا أَيْ عُقُودًا وَنَحْوَهَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى اللَّفْظِ- وَالْمَعْنَى: أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَأَسَاوِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ. وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَكَانَتْ قِرَاءَة جر لُؤْلُؤ مُخَالِفَةً لِمَكْتُوبِ الْمُصْحَفِ. وَالْقِرَاءَةُ نَقْلٌ وَرِوَايَةٌ فَلَيْسَ اتِّبَاعُ الْخَطِّ وَاجِبًا عَلَى مَنْ يَرْوِي بِمَا يُخَالِفُهُ. وَكُتِبَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ بِدُونِ ألف، وَالَّذين قرأوه بِالنَّصْبِ خَالَفُوا أَيْضًا خَطَّ الْمُصْحَفِ وَاعْتَمَدُوا رِوَايَتَهُمْ. وَسَرَيَانُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ تَعَلَّقَ بِالْجُمْلَةِ كُلِّهَا لَا بِخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ الْمُؤَكِّدِ مَعَ الْمَعْطُوفِ. وَاللُّؤْلُؤُ: الدُّرُّ. وَيُقَالُ لَهُ الْجُمَانُ وَالْجَوْهَرُ. وَهُوَ حُبُوبٌ بَيْضَاءُ وَصَفْرَاءُ ذَاتُ بَرِيقٍ رَقْرَاقٍ تُسْتَخْرَجُ مِنْ أَجْوَافِ حَيَوَانٍ مَائِيٍّ حَلَزُونِيٍّ مُسْتَقِرٍّ فِي غِلَافٍ ذِي دَفَّتَيْنِ مُغْلَقَتَيْنِ عَلَيْهِ يَفْتَحُهُمَا بِحَرَكَةٍ حَيَوِيَّةٍ مِنْهُ لِامْتِصَاصِ الْمَاءِ الَّذِي يَسْبَحُ فِيهِ وَيُسَمَّى غِلَافُهُ صَدَفًا، فَتُوجَدُ فِي جَوْفِ الْحَيَوَانِ حَبَّةٌ ذَاتُ بَرِيقٍ وَهِيَ تَتَفَاوَتُ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَبِصَفَاءِ اللَّوْنِ وَبَيَاضِهِ. وَهَذَا الْحَيَوَانُ يُوجَدُ فِي عِدَّةِ بِحَارٍ: كَبَحْرِ الْعَجَمِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَحْرَيْنِ، وَبَحْرِ الْجَابُونِ، وَشَطِّ جَزِيرَةِ جَرْبَةَ مِنَ الْبِلَادِ التُّونِسِيَّةِ، وَأَجْوَدُهُ وَأَحْسَنُهُ الَّذِي يُوجَدُ مِنْهُ فِي الْبَحْرَيْنِ حَيْثُ مَصَبُّ نَهْرَيِ الدِّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ، وَيَسْتَخْرِجُهُ غَوَّاصُونَ مُدَرَّبُونَ عَلَى الْتِقَاطِهِ

مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ بِالْغَوْصِ، يَغُوصُ الْغَائِصُ مَشْدُودًا بِحَبْلٍ بِيَدِ مَنْ يُمْسِكُهُ عَلَى السَّفِينَةِ وَيَنْتَشِلُهُ بَعْدَ لَحْظَةٍ تَكْفِيهِ لِلِالْتِقَاطِ. وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْمُسَيَّبِ بْنِ عَلَسٍ أَوِ الْأَعْشَى: لَجُمَانَةُ الْبَحْرِيِّ جَاءَ بِهَا ... غَوَّاصُهَا مِنْ لُجَّةِ الْبَحْرِ نَصَفَ النَّهَارَ الْمَاءُ غَامِرُهُ ... وَرَفِيقُهُ بِالْغَيْبِ لَا يَدْرِي وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ لُؤْلُؤَةً: فَجَاءَ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ... عَلَى وَجْهِهَا مَاءُ الْفُرَاتِ يَمُوجُ وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَةُ [سُورَةِ النَّحْلِ: 14] وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها. وَلَمَّا كَانَتِ التَّحْلِيَةُ غَيْرَ اللِّبَاسِ جِيءَ بِاسْمِ اللِّبَاسِ بَعْدَ يُحَلَّوْنَ بِصِيغَةِ الِاسْمِ دون (يلبسُونَ) لتَحْصِيل الدَّلَالَةُ عَلَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ كَمَا دَلَّتْ صِيغَةُ يُحَلَّوْنَ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيَةَ مُتَجَدِّدَةٌ بِأَصْنَافٍ وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ عُمُومِ الصِّيغَتَيْنِ يُفْهَمُ تَحَقُّقُ مِثْلِهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: يُحَلَّوْنَ بِهَا وَحِلْيَتُهُمْ مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ يَلْبَسُونَهُ. وَالْحَرِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا نُسِجَ مِنْ خُيُوطِ الْحَرِيرِ كَمَا هُنَا. وَأَصْلُ اسْمِ الْحَرِير اسْم لخيوط تُفْرِزُهَا مِنْ لُعَابِهَا دُودَةٌ مَخْصُوصَةٌ تَلُفُّهَا لَفًّا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ مِثْلَ كُبَّةٍ تَلْتَئِمُ مَشْدُودَةً كَصُورَةِ الْفُولِ السُّودَانِيِّ تُحِيطُ بِالدُّودَةِ كَمِثْلِ الْجَوْزَةِ وَتَمْكُثُ فِيهِ الدُّودَةُ مُدَّةً إِلَى أَنْ تَتَحَوَّلَ الدُّودَةُ إِلَى فَرَاشَةٍ ذَاتِ جَنَاحَيْنِ فَتَثْقُبُ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَتَخْرُجُ مِنْهُ. وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْخُيُوطُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ بِوَضْعِهَا فِي مَاءٍ حَارٍّ فِي دَرَجَةِ الْغَلَيَانِ حَتَّى يَزُولَ تَمَاسُكُهَا بِسَبَبِ انْحِلَالِ الْمَادَّةِ الصَّمْغِيَّةِ اللُّعَابِيَّةِ الَّتِي تَشُدُّهَا فَيُطْلِقُونَهَا خَيْطًا وَاحِدًا طَوِيلًا. وَمِنْ تِلْكَ الْخُيُوطِ تُنْسَجُ ثِيَابٌ

تَكُونُ بَالِغَةً فِي اللِّينِ وَاللَّمَعَانِ. وَثِيَابُ الْحَرِيرِ أَجْوَدُ الثِّيَابِ فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَقْدَمُ ظُهُورِهَا فِي بِلَادِ الصِّينِ مُنْذُ خَمْسَةِ آلَافِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا حَيْثُ يَكْثُرُ شَجَرُ التُّوتِ، لِأَنَّ دُودَ الْحَرِيرِ لَا يُفْرِزُ الْحَرِيرَ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَفُهُ وَرَقَ التُّوتِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ يَبْنِي بُيُوتَهُ فِي أَغْصَانِ التُّوتِ. وَكَانَ غَيْرُ أَهْلِ الصِّينِ لَا يَعْرِفُونَ تَرْبِيَةَ دُودِ الْحَرِيرِ فَلَا يُحَصِّلُونَ الْحَرِيرَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ بِلَادِ الْفُرْسِ يَجْلِبُهُ التُّجَّارُ فَلِذَلِكَ يُبَاعُ بِأَثْمَانٍ غَالِيَةٍ. وَكَانَتِ الْأَثْوَابُ الْحَرِيرِيَّةُ تُبَاعُ بِوَزْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ نُقِلَ بِزْرُ دُودِ الْحَرِير الَّذِي يتَوَلَّد مِنْهُ الدُّودُ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي زَمَنِ الْإِمْبِرَاطُورِ (بُوسْتِنْيَانُوسَ) بَيْنَ سَنَةِ 527 وَسَنَةِ 565 م. وَمِنْ أَصْنَافِ ثِيَابِ الْحَرِيرِ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَعُرِفَتِ الْأَثْوَابُ الْحَرِيرِيَّةُ فِي الرُّومَانِ فِي حُدُودِ أَوَائِلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْمَسِيحِيِّ. وَمَعْنَى وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى أَقْوَالٍ، أَيْ يُلْهِمُهُمْ أَقْوَالًا حَسَنَةً يَقُولُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ بَعْضُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُس: 10] وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: 74] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُرْشَدُونَ إِلَى أَمَاكِنَ يَسْمَعُونَ فِيهَا أَقْوَالًا طَيِّبَةً. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 24] . وَهَذَا أَشَدُّ مُنَاسبَة بِمُقَابلَة مِمَّا يَسْمَعُهُ أَهْلُ النَّارِ فِي قَوْلِهِ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَج: 22] . وَجُمْلَةُ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ، هِيَ كَالتَّكْمِلَةِ لِوَصْفِ حُسْنِ حَالِهِمْ لِمُنَاسَبَةِ

[سورة الحج (22) : آية 25]

ذِكْرِ الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مُقَابِلٌ لِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْوَالِ الْكَافِرِينَ وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ مُقَابِلِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْحَج: 25] وَذَلِكَ مِنْ أَفَانِينِ الْمُقَابَلَةِ. وَالْمَعْنَى: وَقَدْ هُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، شُبِّهَ بِالصِّرَاطِ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَى رِضَى اللَّهِ. وَالْحَمِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ الْمَحْمُودُ كَثِيرًا فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَإِضَافَةُ صِراطِ إِلَى اسْمِ «اللَّهِ» لِتَعْرِيفِ أَيِّ صِرَاطٍ هُوَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَمِيدِ صِفَةً لِ صِراطِ، أَيِ الْمَحْمُودُ لِسَالِكِهِ. فَإِضَافَةُ صِرَاطٍ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَالصِّرَاطُ الْمَحْمُودُ هُوَ صِرَاطُ دِينِ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِيمَاءٌ إِلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ النِّعَمِ أَنَّهُ الْهِدَايَةُ السَّابِقَةُ إِلَى دِينِ اللَّهِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. [25] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) هَذَا مُقَابِلٌ قَوْلَهُ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ [الْحَج: 24] بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ مُقَابِلٌ فِي الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الْحَج: 19] كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ. وَالْمَعْنَى: كَمَا كَانَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ النَّعِيمَ اتِّبَاعَهُمْ صِرَاطَ اللَّهِ كَذَلِكَ كَانَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ الْعَذَابَ كُفْرَهُمْ وَصَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

وَفِيهِ مَعَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا قَبْلَهُ تَخَلُّصٌ بَدِيعٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ بَيَانِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَهْوِيلُ أَمْرِ الْإِلْحَادِ فِيهِ، وَالتَّنْوِيهُ بِهِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَأْوًى لِلشِّرْكِ وَرِجْسِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَجَاءَ يَصُدُّونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ دَأْبُهُمْ سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ ظَاهَرُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ الصَّدِّ وَوَافَقُوهُمْ. أَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ صَارَ كَاللَّقَبِ لَهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: 24] . وَسَبِيلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ، فَصَدُّهُمْ عَنْهُ هُوَ الَّذِي حَقَّقَ لَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، كَمَا حَقَّقَ اهْتِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ لَهُمْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ. وَالصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِمَّا شَمِلَهُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذِكْرِ بِنَائِهِ، وَشَرْعِ الْحَجِّ لَهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمُرَادُ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَدٌّ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ. وَلَعَلَّهُ صَدُّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ فَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا وَقَالَ لِصَاحِبِهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: انْتَظِرْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَبَيْنَمَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذْ أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَرَفَهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَتَطَّوَّفُ بِالْكَعْبَةِ آمَنَّا وَقَدْ أُوتِيتُمُ الصُّبَاةَ؟ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَنَعُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَمْ بِالْمَدِينَةِ.

وَوَصْفُ الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ الْآيَةَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ مُؤَاخَذَةِ الْمُشْرِكِينَ بِصَدِّهِمْ عَنْهُ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ يَسْتَوِي فِي أَحَقِّيَّةِ التَّعَبُّدِ بِهِ الْعَاكِفُ فِيهِ، أَيِ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْبَادِي، أَيِ الْبَعِيدُ عَنْهُ إِذَا دَخَلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْعَاكِفِ: الْمُلَازِمُ لَهُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ السَّاكِنِ بِمَكَّةَ لِأَنَّ السَّاكِنَ بِمَكَّةَ يَعْكُفُ كَثِيرًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْبَادِي، فَأُطْلِقَ الْعُكُوفُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى سُكْنَى مَكَّةَ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ. وَفِي ذِكْرِ الْعُكُوفِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ بِسُكْنَى مَكَّةَ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ حِينَ يَمْنَعُونَ الْخَارِجِينَ عَنْ مَكَّةَ مِنَ الدُّخُولِ لِلْكَعْبَةِ قَدْ ظَلَمُوهُمْ بِاسْتِئْثَارِهِمْ بِمَكَّةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَواءً- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ والْعاكِفُ فِيهِ فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ جَعَلْناهُ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ جَعَلْناهُ. وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ. وَالْبَادِي: سَاكِنُ الْبَادِيَةِ. وَقَوْلُهُ سَواءً لَمْ يبيّن الاسْتوَاء فِيمَا ذَا لِظُهُورِ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِيهِ بِصِفَةِ كَوْنِهِ مَسْجِدًا إِنَّمَا هِيَ فِي الْعِبَادَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ وَمِنْ مُلْحَقَاتِهِ وَهِيَ: الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَوُقُوفُ عَرَفَةَ. وَكُتِبَ وَالْبادِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْبَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ، وَالْقِيَاسُ إِثْبَاتُ يَاءِ الِاسْمِ الْمَنْقُوصِ إِذَا كَانَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، وَمَحْمِلُ كِتَابَتِهِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْيَاءَ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْحَرَكَاتِ وَأَلِفَاتِ أَوَاسِطِ الْأَسْمَاءِ فَلَمْ يَكْتُبُوهَا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِغَيْرِ

يَاءٍ فِي الْوَقْفِ وَأَثْبَتَهَا فِي الْوَصْلِ. وَمَحْمِلُ كِتَابَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِدُونِ يَاءٍ أَنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ التَّخْفِيفُ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ لِأَنَّ شَأْنَ الرَّسْمِ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ حَالَةُ الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْحَالَيْنِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَالْوَجْهُ فِيهِ قَصْدُ التَّخْفِيفِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِحُكْمِ امْتِلَاكِ دُورِ مَكَّةَ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا لِأَنَّ سِيَاقَهَا خَاصٌّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ دُونَ غَيْرِهِ. وَيُلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِ مَنَاسِكِهِ: كَالْمَسْعَى، وَالْمَوْقِفِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْجِمَارِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَذْكُرُوا مَسْأَلَةَ امْتِلَاكِ دُورِ مَكَّةَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِطْرَادِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ النَّاسَ سَوَاءٌ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا يَتْبَعُهُ إِلَّا مَا مَنَعَتْهُ الشَّرِيعَةُ كَطَوَافِ الْحَائِضِ بِالْكَعْبَةِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ امْتِلَاكِ دُورِ مَكَّةَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْقَادِمَ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَ مِنْ دِيَارِهَا وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ أَنْ يُؤْوِيَهُ. وَكَانَتْ دُورُ مَكَّةَ تُدْعَى السَّوَائِبَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: دُورُ مَكَّةَ مِلْكٌ لِأَهْلِهَا، وَلَهُم الِامْتِنَاع عَن إِسْكَانِ غَيْرِهِمْ، وَلَهُمْ إِكْرَاؤُهَا لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُوَاسَاةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ عُمَرُ فَهُوَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ. وَقَدِ اشْتَرَى عُمَرُ دَارَ صَفْوَانَ بْنِ أُميَّة وَجعلهَا سجنا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دُورُ مَكَّةَ لَا تُمْلَكُ وَلَيْسَ لِأَهْلِهَا أَنْ يُكْرُوهَا. وَقَدْ ظُنَّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا

بِنَاءَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً قَائِلِينَ بِتَمَلُّكِ دُورِ مَكَّةَ فَهَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَرَاهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَيَرَى صِحَّةَ تَمَلُّكِ دُورِهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ أَهْلَهَا فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَكُونُ قَدْ أَقْطَعَهُمْ إِيَّاهَا كَمَا مَنَّ عَلَى أَهْلِهَا بِالْإِطْلَاقِ مِنَ الْأَسْرِ وَمِنَ السَّبْيِ. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَبَايَعُونَ دُورَهُمْ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَخَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مَحْذُوف تَقْدِيره: نذقهم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذْ كَانَ الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ فَإِنَّ جُمْلَةَ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِمَا فِي (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ مِنَ الْعُمُومِ. وَالْإِلْحَادُ: الِانْحِرَافُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَسَوَاءِ الْأُمُورِ. وَالظُّلْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَعَلَى الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا ظُلْمُ النَّفْسِ. وَالْبَاءُ فِي بِإِلْحادٍ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ مِثْلُهَا فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . أَيْ مَنْ يُرِدْ إِلْحَادًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ وَذَلِكَ صَدُّهُمْ عَنْ زِيَارَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ. فَالظُّلْمُ: الْإِشْرَاكُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمَلَهُمُ الْإِشْرَاكُ عَلَى مُنَاوَأَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْعِهِمْ مِنْ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُونَ لِزِيَادَةِ (مِنْ) وُقُوعَهَا بَعْدَ نَفْيٍ أَوْ نَهْيٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ نُذِقْهُ عَذَابًا مِنْ عَذَاب أَلِيم.

[سورة الحج (22) : آية 26]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 26] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الْحَج: 25] عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَيُعْلَمُ مِنْهَا تَعْلِيلُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا بِأَنَّ الْمُلْحِدَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَدْ خَالَفَ بِإِلْحَادِهِ فِيهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ من تَطْهِيره حَتَّى أَمَرَ بِبِنَائِهِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ ظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرَانِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِقَامَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَشْرِيعِ الحجّ. و (إِذْ) اسْمُ زَمَانٍ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي أَمْثَالِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ بَوَّأْنَا، أَيِ اذْكُرْ زَمَانَ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] ، أَيِ اذْكُرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ الْعَظِيمَ، وَعُرِفَ مَعْنَى تَعْظِيمِهِ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الزَّمَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ دُونَ الْمَصْدَرِ فَصَارَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ التَّجَدُّدِ كَأَنَّهُ زَمَنٌ حَاضِرٌ. وَالتَّبْوِئَةُ: الْإِسْكَانُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها [يُوسُف: 56] . وَالْمَكَانُ: السَّاحَةُ مِنَ الْأَرْضِ وَمَوْضِعٌ لِلْكَوْنِ فِيهِ، فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَوْنِ، فَتَبْوِئَتُهُ الْمَكَانَ: إِذْنُهُ بِأَنْ يَتَّخِذَهُ مَبَاءَةً، أَيْ مَقَرًّا يَبْنِي فِيهِ بَيْتًا، فَوَقَعَ بِذِكْرِ مَكانَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ أَعْطَيْنَاهُ مَكَانًا لِيَتَّخِذَ فِيهِ بَيْتًا، فَقَالَ: مَكَانَ الْبَيْتِ، لِأَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ قِصَّةٍ مَعْرُوفَةٍ لَهُمْ. وَسَبَقَ ذِكْرُهَا فِيمَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَاللَّامُ فِي لِإِبْراهِيمَ لَامُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ بَوَّأْنا الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ أَعْطَى، فَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ

لَكَ، أَيْ شَكَرَتْكَ لِأَجْلِكَ. وَفِي ذِكْرِ اللَّامِ فِي مِثْلِهِ ضَرْبٌ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالتَّكْرِمَةِ. والْبَيْتِ مَعْرُوفٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَلِذَلِكَ عُرِّفَ بِلَامِ الْعَهْدِ وَلَوْلَا هَذِهِ النُّكْتَةُ لَكَانَ ذِكْرُ مَكانَ حَشْوًا. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ مَأْوًى لِلدِّينِ، أَيْ مَعْهَدًا لِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ. فَكَانَ يَتَضَمَّنُ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ أَنه يترقب تَعْلِيما بِالدِّينِ فَلِذَلِكَ أُعْقِبَ بِحِرَفِ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ جُمْلَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَكَانَ أَصْلُ الدِّينِ هُوَ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْبَيْتَ جُعِلَ مَعْلَمًا لِلتَّوْحِيدِ بِحَيْثُ يُشْتَرَطُ عَلَى الدَّاخِلِ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُشْرِكًا، فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ لِذَلِكَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، لِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ كَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 96] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ. وَالْمَعْنَى: وَأَمَرْنَاهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَبَعْدَ أَنْ بَنَاهُ قُلْنَا لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ. وَإِضَافَةُ الْبَيْتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَشْرِيفٌ لِلْبَيْتِ. وَالتَّطْهِيرُ: تَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ خَبِيثٍ مَعْنًى كَالشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ وَظُلْمِ النَّاسِ وَبَثِّ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَحِسًّا مِنَ الْأَقْذَارِ وَنَحْوِهَا، أَيْ أَعْدِدْهُ طَاهِرًا لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ فِيهِ. وَالطَّوَافُ: الْمَشْيُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ قَرَّرَهَا الْإِسْلَامُ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ حَوْلَ أَصْنَامِهِمْ كَمَا يَطُوفُونَ بِالْكَعْبَةِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 27 إلى 28]

وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِينَ: الدَّاعُونَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَكَانُ قِيَامِهِ لِلدُّعَاءِ فَكَانَ الْمُلْتَزَمَ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفَيْل: عذت مِمَّا عاذ بِهِ إِبْرَاهِيم ... مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهْوَ قَائِمْ وَالرُّكَّعُ: جَمْعُ رَاكِعٍ، وَوَزْنُ فُعَّلٍ يَكْثُرُ جَمْعًا لِفَاعِلٍ وَصْفًا إِذَا كَانَ صَحِيحَ اللَّامِ نَحْوَ: عُذَّلٍ وَسُجَّدٍ. وَالسُّجُودُ: جَمْعُ سَاجِدٍ مِثْلُ: الرُّقُودِ، وَالْقُعُودِ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ أَصْحَابِ الْأَوْصَافِ الْمُشَابِهَةِ مصَادر أفعالها. [27، 28] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 27 إِلَى 28] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) وَأَذِّنْ عَطْفٌ عَلَى وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الْحَج: 26] . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ إِكْرَامِ الزَّائِرِ تَنْظِيفَ الْمَنْزِلِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ نُزُولِ الزَّائِرِ بِالْمَكَانِ. وَالتَّأْذِينُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِعْلَامِ بِشَيْءٍ. وَأَصْلُهُ مُضَاعَفُ أَذِنَ إِذَا سَمِعَ ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَجَاءَ مِنْهُ آذَنَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ. وَأَذِّنْ بِمَا فِيهِ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْحُرُوفِ مُشْعِرٌ بِتَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ أَكْثِرِ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ. وَالْكَثْرَةُ تَحْصُلُ بِالتَّكْرَارِ وَبِرَفْعِ الصَّوْتِ الْقَائِمِ مَقَامَ التَّكْرَارِ. وَلِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ. وَالنَّاسُ يَعُمُّ كُلَّ الْبَشَرِ، أَيْ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُبَلِّغَ إِلَيْهِ ذَلِكَ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ: الْقَصْدُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ. وَصَارَ لَفْظُ الْحَجِّ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْحُضُورِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ. وَمِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهِ تَلَقِّي عَقِيدَةِ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الْمُشَاهِدَةِ لِلْهَيْكَلِ الَّذِي أُقِيمَ لِذَلِكَ حَتَّى يَرْسَخَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي النُّفُوسِ لِأَنَّ لِلنُّفُوسِ مَيْلًا إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ لِيَتَقَوَّى الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ بِمُشَاهَدَةِ الْمَحْسُوسِ. فَهَذِهِ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ الْمُؤَثِّرَاتِ لِأَهْلِ الْمَقْصِدِ النَّافِعِ. وَفِي تَعْلِيقِ فِعْلِ يَأْتُوكَ بِضَمِيرِ خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَوْسِمَ الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ يُبْلِغُ لِلنَّاسَ التَّوْحِيدَ وَقَوَاعِدَ الْحَنِيفِيَّةِ. رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ اعْتَلَى جَبَلَ أَبِي قَيْسٍ وَجَعَلَ إِصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَادَى: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» . وَذَلِكَ أَقْصَى اسْتِطَاعَتِهِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالتَّأْذِينِ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ رَحَّالَةً فَلَعَلَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَحِلُّ فِيهِ. وَجُمْلَةُ يَأْتُوكَ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ، جَعَلَ التَّأْذِينَ سَبَبًا لِلْإِتْيَانِ تَحْقِيقًا لتيسير الله الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ. فَدَلَّ جَوَابُ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ اسْتِجَابَةَ نِدَائِهِ. وَقَوْلُهُ رِجالًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ يَأْتُوكَ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ بِوَاوِ التَّقْسِيمِ الَّتِي بِمَعْنَى (أَوْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: 5] إِذْ مَعْنَى الْعَطْفِ هُنَا عَلَى اعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ بَيْنَ رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ، إِذِ الرَّاكِبُ لَا يَكُونُ رَاجِلًا وَلَا الْعَكْسَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِيعَابُ أَحْوَالِ الْآتِينَ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ بِتَيْسِيرِ الْإِتْيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِجَعْلِ إِتْيَانِهِمْ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، أَيْ يَأْتِيكَ مَنْ لَهُمْ رَوَاحِلُ وَمَنْ يَمْشُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ.

وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْحَالِ أَغْرَبَ قُدِّمَ قَوْلُهُ رِجالًا ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ تَكْمِلَةً لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ إِذْ إِتْيَانُ النَّاسِ لَا يَعْدُو أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. ورِجالًا: جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ ضِدُّ الرَّاكِبِ. وَالضَّامِرُ: قَلِيلُ لَحْمِ الْبَطْنِ. يُقَالُ: ضَمُرَ ضُمُورًا فَهُوَ ضَامِرٌ، وَنَاقَةٌ ضَامِرٌ أَيْضًا. وَالضُّمُورُ مِنْ مَحَاسِنِ الرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ لِأَنَّهُ يُعِينُهَا عَلَى السَّيْرِ وَالْحَرَكَةِ. فَالضَّامِرُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى كُلِّ رَاحِلَةٍ. وَكَلِمَةُ (كُلِّ) مِنْ قَوْلِهِ وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ وَعَلَى رَوَاحِلَ كَثِيرَةٍ. وَكَلِمَةُ (كُلِّ) أَصْلُهَا الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِغْرَاقِ جِنْسِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعْنًى كَثِيرٍ مِمَّا تُضَافُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: 23] أَيْ مِنْ أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُؤْتَاهَا أَهْلُ الْمُلْكِ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ أَيْ: بِهَا وَحْشٌ كَثِيرٌ فِي رِمَالٍ كَثِيرَةٍ. وَتَكَرَّرَ هَذَا الْإِطْلَاقُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ سَحًّا وَتَسْكَابًا فَكُلَّ عَشِيَّةٍ ... يَجْرِي عَلَيْهَا الْمَاءُ لَمْ يَتَصَرَّمِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 145] . وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةَ النَّمْلِ.

وَ (يَأْتِينَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِ كُلِّ ضامِرٍ لِأَنَّ لَفْظَ (كُلِّ) صَيَّرَهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَإِذْ هُوَ جَمْعٌ لِمَا لَا يَعْقِلُ فَحَقُّهُ التَّأْنِيثُ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْإِتْيَانُ إِلَى الرَّوَاحِلِ دُونَ النَّاسِ فَلَمْ يَقُلْ: يَأْتُونَ، لِأَنَّ الرَّوَاحِلَ هِيَ سَبَبُ إِتْيَانِ النَّاسِ مِنْ بُعْدٍ لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السَّفَرَ عَلَى رِجْلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ جُمْلَةُ يَأْتِينَ حَالًا ثَانِيَةً مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي يَأْتُوكَ لِأَنَّ الْحَالَ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّنْوِيعِ وَالتَّصْنِيفِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: يَأْتُوكَ جَمَاعَاتٍ، فَلَمَّا تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَاتِ جَرَى عَلَيْهِمُ الْفِعْلُ بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ زِيَادَةَ التَّعْجِيبِ مِنْ تَيْسِيرِ الْحَجِّ حَتَّى عَلَى الْمُشَاةِ. وَقَدْ تُشَاهِدُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ جَمَاعَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يَمْشُونَ رجَالًا بأولادهم وأزوادهم وَكَذَلِكَ يَقْطَعُونَ الْمَسَافَاتِ بَيْنَ مَكَّةَ وَبِلَادِهِمْ. وَالْفَجُّ: الشِّقُّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ تَسِيرُ فِيهِ الرِّكَابُ، فَغَلَبَ الْفَجُّ عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى مَكَّةَ تُسْلَكُ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَالْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ إِلَى أَسْفَلَ لِأَنَّ الْعُمْقَ الْبُعْدُ فِي الْقَعْرِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْبَعِيدِ مُطْلَقًا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ مَكَّةَ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَالنَّاسُ مُصَعِّدُونَ إِلَيْهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى السَّفَرِ مِنْ مَوْطِنِ الْمُسَافِرِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ إِصْعَادٌ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الرُّجُوعِ انْحِدَارٌ وَهُبُوطٌ، فَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى الرَّوَاحِلِ تَشْرِيفٌ لَهَا بِأَنْ جَعَلَهَا مُشَارَكَةً لِلْحَجِيجِ فِي الْإِتْيَانِ إِلَى الْبَيْتِ. وَقَوْلُهُ لِيَشْهَدُوا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَأْتُوكَ فَهُوَ عِلَّةٌ لِإِتْيَانِهِمُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبٌ عَلَى التَّأْذِينِ بِالْحَجِّ فَآلَ إِلَى كَوْنِهِ عِلَّةً فِي التَّأْذِينِ بِالْحَجِّ. وَمَعْنَى لِيَشْهَدُوا لِيَحْضُرُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، أَيْ لِيَحْضُرُوا فَيُحَصِّلُوا مَنَافِعَ لَهُمْ إِذْ يُحَصِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا فِيهِ نَفْعُهُ. وَأَهَمُّ الْمَنَافِعِ

مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الثَّوَابِ. فَكَنَى بِشُهُودِ الْمَنَافِعِ عَنْ نَيْلِهَا. وَلَا يُعْرَفُ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ. وَأَعْظَمُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ لِيَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مَا بِهِ كَمَالُ إِيمَانِهِ. وَتَنْكِيرُ مَنافِعَ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْكَثْرَةُ وَهِيَ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ لِأَنَّ فِي مَجْمَعِ الْحَجِّ فَوَائِدَ جَمَّةً لِلنَّاسِ: لِأَفْرَادِهِمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ حَاجٍّ، وَلِمُجْتَمَعِهِمْ لِأَنَّ فِي الِاجْتِمَاعِ صَلَاحًا فِي الدُّنْيَا بِالتَّعَارُفِ وَالتَّعَامُلِ. وَخَصَّ مِنَ الْمَنَافِعِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَذَلِكَ هُوَ النَّحْرُ وَالذَّبْحُ لِلْهَدَايَا. وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي الْوَاجِبَةِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهَا. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِمَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْنَا، وَبَيَّنَهُ الْإِسْلَامُ بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ. وَحَرْفُ عَلى مُتَعَلِّقٌ بِ يَذْكُرُوا، وَهُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، أَيْ عَلَى الْأَنْعَامِ. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عِنْدِ نَحْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ ذَبْحِهَا. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ومِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بَيَانٌ لِمَدْلُولِ (مَا) . وَالْمَعْنَى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُمْ تِلْكَ الْأَنْعَامَ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الشُّكْرِ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِطْعَامِ الْمَحَاوِيجِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ لُحُومِهَا، وَفِي ذَلِكَ سَدٌّ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ بِتَزْوِيدِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ لِعَامِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ.

فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرَ وُجُوبٍ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ فَكُلُوا لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَدْ عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي ضَمَائِرِ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، إِلَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ إِلَخْ. عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مَأْمُورٍ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي حِكَايَةِ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ الْأَكْلَ مِنَ الْهَدَايَا. ثُمَّ عَادَ الْأُسْلُوبُ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الْحَج: 29] . وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَكُلُوا مِنْها إِلَخْ مُعْتَرِضَةً مُفَرَّعَةً عَلَى خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ تَفْرِيعَ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يُمْنَعَ الْأَكْلُ مِنْ بَعْضِهَا. وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أُجْمِلَتْ هُنَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِهَا إِذْ غَرَضُ الْكَلَامِ ذِكْرُ حَجِّ الْبَيْتِ وَقَدْ بَيَّنْتُ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِأَعْمَالِ الْحَجِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 203] . وَالْبَائِسُ: الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْسُ، وَهُوَ ضِيقُ الْمَالِ، وَهُوَ الْفَقِيرُ، هَذَا قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ أَكْلِ الدَّوَابِّ، قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَنَّ الْبَائِسَ هُوَ الْفَقِيرُ اه. وَقُلْتُ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لَهُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْبَائِسُ مَعَ أَنَّ الْفَقِيرَ مُغْنٍ عَنْهُ لِتَرْقِيقِ أَفْئِدَةِ النَّاسِ عَلَى الْفَقِيرِ بِتَذْكِيرِهِمْ أَنَّهُ فِي بُؤْسٍ لِأَنَّ وَصْفَ فَقِيرٍ لِشُيُوعِ تَدَاوُلِهِ عَلَى الْأَلْسُنِ صَارَ كَاللَّقَبِ

[سورة الحج (22) : آية 29]

غَيْرَ مُشْعِرٍ بِمَعْنَى الْحَاجَةِ وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ التَّأْكِيدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبَائِسُ الَّذِي ظَهَرَ بُؤْسُهُ فِي ثِيَابِهِ وَفِي وَجْهِهِ، وَالْفَقِيرُ: الَّذِي تَكُونُ ثِيَابُهُ نَقِيَّةً وَوَجْهُهُ وَجْهَ غَنِيٍّ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْبَائِسُ هُوَ الْمِسْكِينُ وَيَكُونُ ذِكْرُ الْوَصْفَيْنِ لِقَصْدِ اسْتِيعَابِ أَحْوَالِ الْمُحْتَاجِينَ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ موقع الِامْتِنَاع. [29] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 29] ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِكَسْرِ لَامِ- لْيَقْضُوا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِسُكُونِ اللَّامِ-. وَهُمَا لُغَتَانِ فِي لَامِ الْأَمْرِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (ثُمَّ) ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الْحَج: 15] . وَ (ثُمَّ) هُنَا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ فَهِيَ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا الزَّمَنِيِّ فَتُفِيدُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِهَا أَهَمُّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ فِي الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ظَاهِرٌ إِذْ هُمَا نُسُكَانِ أَهَمُّ مِنْ نَحْرِ الْهَدَايَا، وَقَضَاء التّفث محول عَلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَالتَّفَثُ: كَلِمَةٌ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ وَتَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد مِنْهَا. واضطراب عُلَمَاءُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهَا لَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْثُرُوا عَلَيْهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُحْتَجِّ بِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْلَمُونَ التَّفَثَ إِلَّا مِنَ التَّفْسِير، أَي من أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ. فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ:

التَّفَثُ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: لم صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةَ الْإِحَاطَةِ بِاللُّغَةِ. قُلْتُ: رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا بِأَسَانِيدَ مَقْبُولَةٍ. وَنَسَبَهُ الْجَصَّاصُ إِلَى سَعِيدٍ. وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ وَقُطْرُبٌ: التَّفَثُ: هُوَ الْوَسَخُ وَالدَّرَنُ. وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْت: حفّوا رؤوسهم لَمْ يَحْلِقُوا تفثا ... وَلم يسلّموا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْبَيْتَ مَصْنُوع لِأَن أيمة اللُّغَةِ قَالُوا: لم يجىء فِي مَعْنَى التَّفَثِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَ نِفْطَوَيْهِ: سَأَلْتُ أَعْرَابِيًّا: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، فَقَالَ: مَا أُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَلَكِنْ نَقُولُ لِلرَّجُلِ مَا أَتْفَثَكَ، أَيْ مَا أَدْرَنَكَ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: التَّفَثُ: قَصُّ الْأَظْفَارِ وَالْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمحرم، وَمثله قَوْله عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَرُبَّمَا زَادَ مُجَاهِدٌ مَعَ ذَلِكَ: رَمْيَ الْجِمَارِ. وَعَنْ صَاحِبِ «الْعَيْنِ» وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ: التَّفَثُ الرَّمْيُ، وَالذَّبْحُ، وَالْحَلْقُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبِطِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَنُسِبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَيْضًا. وَعِنْدِي: أَنَّ فِعْلَ لْيَقْضُوا يُنَادِي عَلَى أَنَّ التَّفَثَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَلَيْسَ وَسَخًا وَلَا ظُفْرًا وَلَا شَعْرًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ آنِفًا. وَأَنَّ مَوْقِعَ (ثُمَّ) فِي عَطْفِ جُمْلَةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهَا يُنَادِي عَلَى مَعْنَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِ (ثُمَّ) أَهَمُّ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهَا فَإِنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ هِيَ الْمُهِمُّ فِي الْإِتْيَانِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ التفث هُوَ من مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَهَذَا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْحَرِيرِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَقَامَةِ الْمَكِّيَّةِ: «فَلَمَّا قَضَيْتُ بِعَوْنِ اللَّهِ التَّفَثَ، وَاسْتَبَحْتُ الطِّيبَ وَالرَّفَثَ، صَادَفَ مَوْسِمُ الْخَيْفِ، مَعْمَعَانَ الصَّيْفِ» .

وَقَوْلُهُ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أَيْ إِن كَانُوا نذورا أَعْمَالًا زَائِدَةً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ مِثْلَ نَذْرِ طَوَافٍ زَائِدٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ نُسُكًا أَوْ إِطْعَامَ فَقِيرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَالنَّذْرُ: الْتِزَامُ قُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى مُلْتَزِمِهَا بِتَعْلِيقٍ عَلَى حُصُولِ مَرْغُوبٍ أَوْ بِدُونِ تَعْلِيقٍ، وَبِالنَّذْرِ تَصِيرُ الْقُرْبَةُ الْمُلْتَزَمَةُ وَاجِبَةً عَلَى النَّاذِرِ. وَأَشْهَرُ صِيغَةٍ: لِلَّهِ عَلَيَّ ... وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ نَذَرَ عُمَرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ووفى بِهِ بعد إِسْلَامِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلْيُوفُوا- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا- مُضَارِعِ أَوْفَى، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَلْيُوفُوا- بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ كِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ مِنْ فِعْلِ وَفَى الْمَزِيدِ فِيهِ بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّضْعِيفِ. وَخُتِمَ خِطَابُ إِبْرَاهِيمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ آخِرَ أَعْمَالِ الْحَجِّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْإِسْلَامِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ. وَالْعَتِيقُ: الْمُحَرَّرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ لِلنَّاسِ. شُبِّهَ بِالْعَبْدِ الْعَتِيقِ فِي أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُونَ حَتَّى جَعَلُوا بَابَهُ مُرْتَفِعًا بِدُونِ دَرَجٍ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ إِلَّا مَنْ شَاءُوا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ حِكَايَةٌ عَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهَا أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالْهَدَايَا فِي الْإِسْلَامِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 31]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ لْيَقْضُوا- ولْيُوفُوا- ولْيَطَّوَّفُوا بِإِسْكَانِ لَامِ الْأَمْرِ فِي جَمِيعِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: وَلْيُوفُوا- ولْيَطَّوَّفُوا- بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا-. وَقَرَأَ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقُنْبُلٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: ثُمَّ لْيَقْضُوا- بِكَسْرِ اللَّامِ-. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الْحَج: 15] . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَلْيُوفُوا بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنْ وَفَّى الْمُضَاعَفِ. [30، 31] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 30 الى 31] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ كَلَامَيْنِ أَوْ بَيْنَ وَجْهَيْنِ مِنْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ. فَالْإِشَارَةُ مُرَادٌ بِهَا التَّنْبِيهُ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ خَبَرٍ عَنْهُ فِي مَعْنَى: ذَلِكَ بَيَانٌ، أَوْ ذِكْرٌ، وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الِاقْتِضَابِ فِي الِانْتِقَالِ. وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَفْظُ (هَذَا) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] وَقَوْلِ زُهَيْرٍ: هَذَا وَلَيْسَ كَمَنْ يَعْيَا بِخُطْبَتِهِ ... وَسْطَ النَّدِيِّ إِذَا مَا قَائِلٌ نَطَقَا وَأُوثِرَ فِي الْآيَةِ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُعْدِ الْمَنْزِلَةِ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ لِظُهُورِ تَقْدِيرِهِ، أَيْ ذَلِكَ بَيَانٌ وَنَحْوُهُ. وَهُوَ كَمَا يُقَدِّمُ الْكَاتِبُ جُمْلَةً مِنْ كِتَابِهِ فِي بَعْضِ الْأَغْرَاضِ فَإِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي غَرَضٍ آخَرَ، قَالَ: هَذَا وَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا.

وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُعَظِّمْ إِلَخْ ... مُعْتَرِضَةٌ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الْحَج: 26] عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى أَسَاسِهَا. وَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى التَّعْظِيمِ الْمَأْخُوذِ مَنْ فِعْلِ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ لَمْ يُعَطِّلِ الْإِسْلَامُ حُرْمَتَهَا، فَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ وَمِنْ مُخَاطَبٍ إِلَى مُخَاطَبٍ آخَرَ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَعْتَمِرُونَ وَيَحُجُّونَ قَبْلَ إِيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، أَيْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَالْحُرُمَاتُ: جَمْعُ حُرُمَةٍ- بِضَمَّتَيْنِ-: وَهِيَ مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ. وَالِاحْتِرَامُ: اعْتِبَارُ الشَّيْءِ ذَا حَرَمٍ، كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ فِيهِ. أَيْ عَدَمِ انْتِهَاكِهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِ، وَالْحُرُمَاتُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِ فَتَشْمَلُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كُلَّهَا. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْحُرُمَاتُ خَمْسٌ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمُحْرِمُ مَا دَامَ مُحْرِمًا، فَقَصْرُهُ عَلَى الذَّوَاتِ دُونَ الْأَعْمَالِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحُرُمَاتِ يَشْمَلُ الْهَدَايَا وَالْقَلَائِدَ وَالْمَشْعَرَ الْحَرَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، كَالْغُسْلِ فِي مَوَاقِعِهِ، وَالْحَلْقِ وَمَوَاقِيتِهِ وَمَنَاسِكِهِ. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ آنِفًا بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ وَتَعْظِيمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ مِثْلِ: الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ،

وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِي وَبَعْضِ مَا فِي بُطُونِهَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يُتْلَى تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 145] فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الْآيَاتِ وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَكِلْتَاهُمَا مَكِّيَّتَانِ سَابِقَتَانِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ لِيَشْمَلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ نُزُولَ سُورَةِ الْحَجِّ بِأَنَّهُ تُلِيَ فِيمَا مَضَى وَلَمْ يَزَلْ يُتْلَى، وَيَشْمَلُ مَا عَسَى أَنْ يَنْزِلَ مِنْ بَعْدُ مِثْلَ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ الْآيَةَ فِي [سُورَةِ الْعُقُودِ: 103] . وَالْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّصْرِيحِ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ مَا لَيْسَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَوْثَانُ. وَاجْتِنَابُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ هَذَا حَلالٌ مِثْلِ الدَّمِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَقَوْلِهِمْ لِبَعْضٍ: هَذَا حَرامٌ مِثْلِ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النَّحْل: 116] . وَالرِّجْسُ: حَقِيقَتُهُ الْخُبْثُ وَالْقَذَارَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 145] . وَوَصْفُ الْأَوْثَانِ بِالرِّجْسِ أَنَّهَا رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ لِكَوْنِ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا فِي النُّفُوسِ بِمَنْزِلَةِ تَعَلُّقِ الْخُبْثِ بِالْأَجْسَادِ فَإِطْلَاقُ الرِّجْسِ عَلَيْهَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الرِّجْسِ، فَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَسْمَاءِ التَّمْيِيزِ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنَ الرِّجْسِ هُنَا لَا أَنَّ مَعْنَى

ذَلِكَ أَنَّ الرِّجْسَ هُوَ عَيْنُ الْأَوْثَانِ بَلِ الرِّجْسُ أَعَمُّ أُرِيدَ بِهِ هُنَا بَعْضُ أَنْوَاعِهِ فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى (مِنْ) الْبَيَانِيَّةِ. وحُنَفاءَ لِلَّهِ حَالٌ من ضمير فَاجْتَنِبُوا أَيْ تَكُونُوا إِنِ اجْتَنَبْتُمْ ذَلِكَ حُنَفَاءَ لِلَّهِ، جَمْعُ حَنِيفٍ وَهُوَ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، أَيْ تَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقًّا، وَلِذَلِكَ زَادَ مَعْنَى حُنَفاءَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْل: 120] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ مُشْرِكِينَ بِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمَعِيَّةِ، أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أُعْقِبَ نَهْيُهُمْ عَنِ الْأَوْثَانِ بِتَمْثِيلِ فَظَاعَةِ حَالِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ فِي مَصِيرِهِ بِالشِّرْكِ إِلَى حَالِ انْحِطَاطِ وَتَلَقُّفِ الضَّلَالَاتِ إِيَّاهُ وَيَأْسِهِ مِنَ النَّجَاةِ مَا دَامَ مُشْرِكًا تَمْثِيلًا بَدِيعًا إِذْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الْقَابِلِ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْبِيهُ مِنَ الْمُرَكَّبِ وَالْمُفَرَّقِ بِأَنْ صَوَّرَ حَالَ الْمُشْرِكِ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَتَفَرَّقَ مَزْعًا فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَاوِحِ الْبَعِيدَةِ، وَإِنْ كَانَ مُفَرَّقًا فَقَدْ شُبِّهَ الْإِيمَانُ فِي عُلُوِّهِ بِالسَّمَاءِ، وَالَّذِي تَرَكَ الْإِيمَانَ وَأَشْرَكَ بِاللَّهِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَهْوَاءَ الَّتِي تَتَوَزَّعُ أَفْكَارَهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ، وَالشَّيْطَانَ الَّذِي يُطَوِّحُ

بِهِ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بِمَا عَصَفَتْ بِهِ فِي بَعْضِ المهاوي المتلفة» . أ. هـ. يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكَ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ وَكَانَ فِي مِكْنَتِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ فَسَقَطَ مِنْهَا، فَتَوَزَّعَتْهُ أَنْوَاعُ الْمَهَالِكِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ فِي مَطَاوِي هَذَا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهَاتٍ كَثِيرَةً لَا يَعُوزُكَ اسْتِخْرَاجُهَا. وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ فَلَا نَجَاةَ لِمَنْ حَلَّ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ تَخْيِيرٌ فِي نَتِيجَةِ التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] . أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شِرْكُهُ ذَبْذَبَةٌ وَشَكٌّ، فَهَذَا مُشَبَّهٌ بِمَنِ اخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَلَا يَسْتَوْلِي طَائِرٌ عَلَى مِزْعَةٍ مِنْهُ إِلَّا انْتَهَبَهَا مِنْهُ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْمُذَبْذَبُ مَتَى لَاحَ لَهُ خَيَالٌ اتَّبَعَهُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ مُصَمِّمٌ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ، فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِمَنْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي وَادٍ سَحِيقٍ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ شِرْكُهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَلَاصٌ كَالَّذِي تَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شِرْكُهُ قَدْ يَخْلُصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ تَوْبَتَهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ عَسِيرُ الْحُصُولِ. وَالْخُرُورُ: السُّقُوطُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي [سُورَة النَّحْل: 26] . وفَتَخْطَفُهُ مُضَاعَفُ خَطِفَ لِلْمُبَالِغَةِ، الْخَطْفُ وَالْخَطَفُ: أَخْذُ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ سَوَاءً كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمْ كَانَ فِي الْجَوِّ وَمِنْهُ تَخَطُّفُ الْكُرَةِ. وَالْهُوِيُّ: نُزُولُ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الْأَرْضِ. وَالْبَاءُ فِي تَهْوِي بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مِثْلُهَا فِي: ذَهَبَ بِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ فَتَخْطَفُهُ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ مَفْتُوحَةً- مُضَارِعِ خَطَّفَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً- مُضَارِعِ خطف المجرّد.

[سورة الحج (22) : آية 32]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 32] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) ذلِكَ تَكْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ السَّابِقِ. الشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ: الْمَعْلَمُ الْوَاضِحُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشُّعُورِ. وَشَعَائِرُ اللَّهِ: لَقَبٌ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، جَمْعُ شَعِيرَةٍ بِمَعْنَى: مُشْعِرَةٍ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ مُعْلِمَةٍ بِمَا عَيَّنَهُ اللَّهُ. فَمَضْمُونُ جُمْلَةِ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ إِلَخْ ... أَخَصُّ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ [الْحَج: 30] وَذِكْرُ الْأَخَصِّ بَعْدَ الْأَعَمِّ لِلِاهْتِمَامِ. أَوْ بِمَعْنًى مُشْعَرٍ بِهَا فَتَكُونُ شَعِيرَةٌ فَعِيلَةً بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ لِأَنَّهَا تُجْعَلُ لِيَشْعُرَ بِهَا الرَّائِي. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 158] . فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بِزِيَارَتِهِ أَوْ بِفِعْلٍ يُوقَعُ فِيهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، أَيْ مِمَّا أشعر الله النَّاس وَقَرَّرَهُ وَشَهَرَهُ. وَهِيَ مَعَالِمُ الْحَجِّ: الْكَعْبَةُ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَعَرَفَةُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَنَحْوُهَا مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ. وَتُطْلَقُ الشَّعِيرَةُ أَيْضًا عَلَى بَدَنَةِ الْهَدْيِ. قَالَ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْحَج: 36] لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهَا شِعَارًا، وَالشِّعَارُ الْعَلَّامَةُ بِأَنْ يَطْعَنُوا فِي جِلْدِ جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ طَعْنًا حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ فَتَكُونَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهَا نُذِرَتْ للهدي، فَهِيَ فعلية بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ مَصُوغَةٌ مِنْ أَشْعَرَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ [الْحَج: 30] إِلَخْ. وَشَعَائِرُ اللَّهِ أَخَصُّ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلْعِنَايَةِ بِالشَّعَائِرِ.

[سورة الحج (22) : آية 33]

وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي لِلشَّعَائِرِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الْحَج: 28] تَخْصِيصًا لَهَا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ حُرُمَاتِ اللَّهِ. وَضَمِيرُ فَإِنَّها عَائِدٌ إِلَى شَعَائِرِ اللَّهِ الْمُعَظَّمَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالرَّابِطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ هُوَ الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: الْقُلُوبِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقُلُوبِ قُلُوبَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ شَعَائِرَ اللَّهِ. فَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ حَلَّتِ التَّقْوَى قَلْبَهُ بِتَعْظِيمِ الشَّعَائِرِ لِأَنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. وَإِضَافَةُ تَقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ اعْتِقَادٌ قَلْبِيٌّ يَنْشَأُ عَنهُ الْعَمَل. [33] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 33] لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) جُمْلَةُ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ حَالٌ مِنَ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ [الْحَج: 30] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ أَوْ حَالٌ مِنْ شَعائِرَ اللَّهِ [الْحَج: 32] عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي لِلشَّعَائِرِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ هُنَا: هُوَ صِنْفٌ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ صِنْفُ الْهَدَايَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَنَافِعُ: جَمْعُ مَنْفَعَةٍ، وَهِيَ اسْمُ النَّفْعِ، وَهُوَ حُصُولُ مَا يُلَائِمُ وَيَحُفُّ. وَجَعْلُ الْمَنَافِعِ فِيهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا انْتِفَاعٌ بِخَصَائِصِهَا مِمَّا يُرَادُ مِنْ نَوْعِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا.

وَفِي هَذَا تَشْرِيعٌ لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدَايَا انْتِفَاعًا لَا يُتْلِفُهَا، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْركين إِذْ كَانُوا إِذا قَلَّدُوا الْهَدْيَ وَأَشْعَرُوهُ حَظَرُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ رُكُوبِهِ وَحَمْلٍ عَلَيْهِ وَشُرْبِ لَبَنِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا؟ فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ أَوَ الثَّالِثَةِ» . وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ وَقْتُ نَحْرِهَا، وَهُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ مِنًى. وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ. وَالْمَحِلُّ:- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ إِذَا بَلَغَ الْمَكَانَ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نِهَايَةِ أَمْرِهَا، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ الْغَايَةَ، وَنِهَايَةُ أَمْرِهَا النَّحْرُ أَوِ الذَّبْحُ. وإِلى حَرْفُ انْتِهَاءٍ مَجَازِيٍّ لِأَنَّهَا لَا تُنْحَرُ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ التَّقَرُّبَ بِهَا بِوَاسِطَةِ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْهَدَايَا إِنَّمَا شُرِعَتْ تَكْمِلَةً لِشَرْعِ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ قَصْدُ الْبَيْتِ. قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: 97] ، فَالْهَدَايَا تَابِعَةٌ لِلْكَعْبَةِ، قَالَ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَة: 95] وَإِنْ كَانَتِ الْكَعْبَةُ لَا يُنْحَرُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَنَاحِرُ: مِنًى، وَالْمَرْوَةُ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ أَيْ طُرُقُهَا بِحَسَبِ أَنْوَاعِ الْهَدَايَا، وَتَبْيِينُهُ فِي السُّنَّةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ بِاعْتِبَارِ مَبْدَأِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الْحَج

[سورة الحج (22) : الآيات 34 إلى 35]

: 26] . [34، 35] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 34 الى 35] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَج: 33] . وَالْأُمَّةُ: أَهْلُ الدِّينِ الَّذِينَ اشْتَرَكُوا فِي اتِّبَاعِهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مَنْسَكٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَعَلُوا لِأَصْنَامِهِمْ مَنَاسِكَ تُشَابِهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَجَعَلُوا لَهَا مَوَاقِيتَ وَمَذَابِحَ مِثْلَ الْغَبْغَبِ مَنْحَرِ الْعُزَّى، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَا جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ إِلَّا مَنْسَكًا وَاحِدًا لِلْقُرْبَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي رَزَقَ النَّاسَ الْأَنْعَامَ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا فَلَا يَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنْسَكٌ لِأَنَّ مَا لَا يَخْلُقُ الْأَنْعَامَ الْمُقَرَّبَ بِهَا وَلَا يَرْزُقُهَا النَّاسَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَنْسَكٌ لِقُرْبَانِهَا فَلَا تَتَعَدَّدُ الْمَنَاسِكَ. فَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ مَنْسَكاً للإفراد، أَي وَاحِدًا لَا مُتَعَددًا، ومحلّ الْفَائِدَة هُوَ إِسْنَاد الْجعل إِلَى ضمير الْجَلالَة. وَقد دلّ على ذَلِك قَوْله: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. وَالْكَلَامُ يُفِيدُ الِاقْتِدَاءَ بِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْحَقِّ. وعَلى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ مُتَعَلقَة ب لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَعْدَ عَلى تَقْدِيرُهُ: إِهْدَاءِ مَا رَزَقَهُمْ، أَيْ عِنْدَ إِهْدَاءِ مَا رَزَقَهُمْ، يَعْنِي وَنَحْرَهَا أَوْ ذَبْحَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلى بِمَعْنَى: لَامِ التَّعْلِيلِ. وَالْمَعْنَى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ لِأَجْلِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى هَذَا الِانْفِرَادُ بِالْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أَيْ إِذْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَنْسَكًا وَاحِدًا فَقَدْ نَبَّهَكُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَتْ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ لَكَانَتْ شَرَائِعُهَا مُخْتَلِفَةً. وَهَذَا التَّفْرِيعُ الْأَوَّلُ تَمْهِيدٌ لِلتَّفْرِيعِ الَّذِي عَقِبَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَوَقَعَ فِي النَّظْمِ تَغْيِيرٌ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ. وَأَصْلُ النَّظْمِ: فَلِلَّهِ أَسْلِمُوا، لِأَنَّ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي فَلَهُ أَسْلِمُوا لِلْحَصْرِ، أَيْ أَسْلِمُوا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ. وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ التَّامُّ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي الطَّاعَةِ، أَيْ لَا تُخْلِصُوا إِلَّا الله، أَيْ فَاتْرُكُوا جَمِيعَ الْمَنَاسِكِ الَّتِي أُقِيمَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَنْسُكُوا إِلَّا فِي الْمَنْسَكِ الَّذِي جَعَلَهُ لَكُمْ، تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَنْسَكاً- بِفَتْحِ السِّينِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ السِّينِ-، وَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ اسْمُ مَكَانٍ لِلنُّسُكِ، وَهُوَ الذَّبْحُ. إِلَّا أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ قِيَاسَهُ الْفَتْحُ فِي اسْمِ الْمَكَانِ إِذْ هُوَ مِنْ نَسَكَ يَنْسُكُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- فِي الْمُضَارِعِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَهُوَ سَمَاعِيٌّ مِثْلُ مَسْجِدٍ مِنْ سَجَدَ يَسْجُدُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنَّ الْكِسَائِيَّ سَمِعَهُ مِنَ الْعَرَبِ. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) . اعْتِرَاضٌ بَيْنَ سَوْقِ الْمِنَنِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَالْمُخْبِتُ: الْمُتَوَاضِعُ الَّذِي لَا تَكَبُّرَ عِنْدَهُ. وَأَصْلُ الْمُخْبِتِ مَنْ سَلَكَ الْخَبْتَ. وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ ضِدُّ الْمُصْعِدِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْمُتَوَاضِعِ

كَأَنَّهُ سَلَكَ نَفْسَهُ فِي الِانْخِفَاضِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ شِيَمِهِمْ كَمَا كَانَ التَّكَبُّرُ مِنْ سِمَاتِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غَافِر: 35] . وَالْوَجَلُ: الْخَوْفُ الشَّدِيدُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فِي [سُورَةِ الْحِجْرِ: 52] . وَقَدْ أَتْبَعَ صِفَةَ الْمُخْبِتِينَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ وَهِيَ: وَجَلُ الْقُلُوبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي سَبِيلِهِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقُ. وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ مَظَاهِرُ لِلتَّوَاضُعِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَنْ جَمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ لَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِنْفَاقِ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دَأْبُ الْمُخْبِتِينَ. وَأَمَّا الْإِنْفَاق على الضَّيْف وَالْأَصْحَابِ فَذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُتَكَبِّرُونَ مِنَ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: 180] . وَهُوَ نَظِيرُ الْإِنْفَاقِ عَلَى النُّدَمَاءِ فِي مَجَالِسِ الشَّرَابِ. وَنَظِيرُ إِتْمَامِ الْإِيسَارِ فِي مَوَاقِعِ الميسر، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: إِنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ ... مثنى الأيادي وأكسوا الْجَفْنَةَ الْأُدُمَا وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ: الصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْأَذَى فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ فِي الْحُرُوبِ وَعَلَى فَقْدِ الأحبّة فمما تتشرك فِيهِ النُّفُوسُ الْجَلْدَةُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُخْبِتِينَ. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ فَضِيلَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ إِذَا كَانَ تَخَلُّقًا بِأَدَبِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 155- 156] الْآيَة.

[سورة الحج (22) : آية 36]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 36] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً [الْحَج: 34] أَيْ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِلْقُرْبَانِ وَالْهَدَايَا، وَجَعَلْنَا الْبُدْنَ الَّتِي تُهْدَى وَيُتَقَرَّبُ بِهَا شَعَائِرَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِقُرْبَانِ الْبُدْنِ فِي الْحَجِّ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَهَا جَزَاءً عَمَّا يُتَرَخَّصُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ. وَأَمَرَ بِالتَّطَوُّعِ بِهَا فَوَعَدَ عَلَيْهَا بِالثَّوَابَ الْجَزِيلِ فَنَالَتْ بِذَلِكَ الْجَعْلَ الْإِلَهِيِّ يُمْنًا وَبَرَكَةً وَحُرْمَةً أَلْحَقَتْهَا بِشَعَائِرِ اللَّهِ، وَامْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ بِمَا اقْتَضَتْهُ كَلِمَةُ لَكُمْ. وَالْبُدْنُ: جَمْعُ بَدَنَةٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ الْبَعِيرُ الْعَظِيمُ الْبَدَنِ. وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَدَانَةِ، وَهِيَ عِظَمُ الْجُثَّةِ وَالسِّمَنُ، وَفِعْلُهُ كَكَرُمَ وَنَصَرَ، وَلَيْسَتْ زِنَةُ بَدَنَةٍ وَصْفًا وَلَكِنَّهَا اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ الْوَصْفِ، وَجَمْعُهُ بُدْنٌ. وَقِيَاسُ هَذَا الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومَ الدَّالِ مِثْلَ خُشُبٍ جَمْعِ خَشَبَةٍ، وَثُمُرٍ جَمْعِ ثَمَرَةٍ، فَتَسْكِينُ الدَّالِ تَخْفِيفٌ شَائِعٌ، وَغَلَبَ اسْمُ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَعِيرِ الْمُعَيَّنِ لِلْهَدْيِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ أَوَ الثَّالِثَةِ» فَقَوْلُ الرَّجُلِ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، مُتَعَيَّنٌ لِإِرَادَةِ هَدْيِهِ لِلْحَجِّ.

وَتَقْدِيمُ الْبُدْنَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْبُدْنِ الْخَاصِّ بِالْإِبِلِ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ فِي الْهَدْيِ لِكَثْرَةِ لَحْمِهَا، وَقَدْ أُلْحِقَتْ بِهَا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ بِدَلِيلِ السُّنَّةِ، وَاسْمُ ذَلِكَ هَدْيٌ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا مَعَالِمَ تُؤْذِنُ بِالْحَجِّ وَجَعَلَ لَهَا حُرْمَةً. وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَتِهِمْ وَضْعَ الْعَلَامَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا بَعِيرُ الْهَدْيِ فِي جِلْدِهِ إِشْعَارًا. قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : «كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، يُقَلِّدُهُ قَبْلَ أَنْ يُشْعِرَهُ ... يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ... » بِطَعْنٍ فِي سَنَامِهِ فَالْإِشْعَارُ إِعْدَادٌ لِلنَّحْرِ. وَقَدْ عَدَّهَا فِي جُمْلَةِ الْحُرُمَاتِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [2] . وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِيَتَأَتَّى كَوْنُ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً لِيُفِيدَ تَنْوِينُهُ التَّعْظِيمَ، وَتَقْدِيمُ فِيها عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ خَيْرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تَجْمَعُهُ وَتَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ. وَالْخَيْرُ: النَّفْعُ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِلنَّاسِ مِنَ النَّفْعِ فِي الدُّنْيَا مِنِ انْتِفَاعِ الْفُقَرَاءِ بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَجِلَالِهَا وَنِعَالِهَا وَقَلَائِدِهَا. وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُهْدِينَ وَأَهْلِهِمْ مِنَ الشِّبَعِ مِنْ لَحْمِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَخَيْرُ الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابِ الْمُهْدِينَ، وَثَوَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْمُعْطِينَ لُحُومَهَا لِرَبِّهِمُ الَّذِي أَغْنَاهُمْ بِهَا. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أُمِرَ النَّاسُ بِأَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا حِينَ نَحْرِهَا.

وَصَوَافَّ: جَمْعُ صَافَّةٍ. يُقَالُ: صُفَّ إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ صَفًّا بِأَنِ اتَّصَلَ بِهِ. وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَصُفُّونَهَا فِي الْمَنْحَرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، لِأَنَّهُ كَانَ بِمِنًى مَوْضِعٌ أُعِدَّ لِلنَّحْرِ وَهُوَ الْمَنْحَرُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ فِيهِ: «ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً جَعَلَ يَطْعَنُهَا بِحَرْبَةٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى الْحَرْبَةَ عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، أَيْ مَا بَقِيَ وَكَانَتْ مِائَةَ بَدَنَةٍ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً مُتَقَارِبَةً. وَانْتَصَبَ صَوافَّ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْها. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ ذِكْرُ مَحَاسِنَ مِنْ مَشَاهِدِ الْبُدْنِ فَإِنَّ إِيقَافَ النَّاسِ بُدْنَهُمْ لِلنَّحْرِ مُجْتَمِعَةً وَمُنْتَظِمَةً غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ مِمَّا يَزِيدُ هَيْئَتَهَا جَلَالًا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصَّفّ: 4] . وَمَعْنَى وَجَبَتْ سَقَطَتْ، أَيْ إِلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ زَوَالِ الرُّوحِ الَّتِي بِهَا الِاسْتِقْلَالُ. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا التَّوْقِيتِ الْمُبَادَرَةُ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا إِسْرَاعًا إِلَى الْخَيْرِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ وَأَكْلِ أَصْحَابِهَا مِنْهَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فُطُورُ الْحَاجِّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ هَدْيِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَيْرُ الْحَاصِلُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَكُلُوا مِنْها مُجْمَلٌ، يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَقَرِينَةُ عَدَمِ الْوُجُوبِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ مَا الدَّاعِي إِلَى فِعْلِهِ مِنْ طَبْعِهِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ إِبْطَالَ مَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمُهْدِي مِنْ لُحُومِ هَدْيِهِ فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي أَنَّهُ مُبَاحٌ بَحْتٌ أَوْ هُوَ مَنْدُوبٌ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَكْلِ مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ.

فَقَالَ مَالِكٌ: يُبَاحُ الْأَكْلُ مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ، وَهُوَ عِنْدُهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ فِدْيَةِ الْأَذَى وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ، وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ صَرِيحُ الْآيَةِ. فَإِنَّهَا عَامَّةٌ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَثْنَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْحَاجُّ عِنْدَ إِحْرَامِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا بِحَالٍ مُسْتَنِدًا إِلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُهْدِيَ أَوْجَبَ إِخْرَاجَ الْهَدْيِ مِنْ مَالِهِ فَكَيْفَ يَأْكُلُ مِنْهُ. كَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَإِذَا كَانَ هَذَا قُصَارَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَيْرُ وَجِيهٍ وَلَفْظُ الْقُرْآن يُنَافِيهِ لَا سِيمَا وَقَدْ ثَبَتَ أَكْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُؤْكَلُ مِنَ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ إِلَّا جَزَاءَ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَقُلْتُ: الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ الْمهْدي على نحر هَدْيِهِ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ مِنْهُ مَا كَانَ آثِمًا. وَالْقَانِعُ: الْمُتَّصِفُ بِالْقُنُوعِ، وَهُوَ التَّذَلُّلُ. يُقَالُ: قَنَعَ مِنْ بَابِ سَأَلَ. قُنُوعًا- بِضَمِّ الْقَافِ- إِذَا سَأَلَ بِتَذَلُّلٍ. وَأَمَّا الْقَنَاعَةُ فَفِعْلُهَا مِنْ بَابِ تَعِبَ وَيَسْتَوِي الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُوجَبِ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا جُمِعَ مِنَ النَّظَائِرِ مَا أَنْشَدَهُ الْخَفَاجِيُّ: الْعَبْدُ حُرٌّ إِنْ قَنَعْ (¬1) ... وَالْحُرُّ عَبْدٌ إِنْ قَنِعْ (¬2) فَاقْنَعْ وَلَا تَقْنَعْ فَمَا ... شَيْءٌ يَشِينُ سِوَى الطَّمَعِ ¬

(¬1) بِكَسْر النُّون. (¬2) بِفَتْح النُّون.

وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي «مَقَامَاتِهِ» : «يَا أَبَا الْقَاسِمِ اقْنَعْ مِنَ الْقَنَاعَةِ لَا مِنَ الْقُنُوعِ، تَسْتَغْنِ عَنْ كُلِّ مِعْطَاءٍ وَمَنُوعٍ» . وَفِي «الْمُوَطَّأِ» فِي كِتَابِ الصَّيْدِ قَالَ مَالِكٌ: «وَالْقَانِعُ هُوَ الْفَقِيرُ» . وَالْمُعْتَرُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اعْتَرَّ، إِذَا تَعَرَّضَ لِلْعَطَاءِ، أَيْ دُونَ سُؤَالٍ بَلْ بِالتَّعْرِيضِ وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ مَوْضِعَ الْعَطَاءِ، يُقَالُ: اعْتَرَّ، إِذَا تَعَرَّضَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» فِي كِتَابِ الصَّيْدِ قَالَ مَالِكٌ: «وَسَمِعْتُ أَنَّ الْمُعْتَرَّ هُوَ الزَّائِرُ، أَيْ فَتكون من عرا إِذَا زَارَ» وَالْمُرَادُ زِيَارَةُ التَّعَرُّضِ لِلْعَطَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحْسَنُ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّهُ عَطَفَ الْمُعْتَرَّ عَلَى الْقانِعَ، فَدَلَّ الْعَطْفُ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَلَوْ كَانَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ لَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يُعْطَفْ فِي قَوْلِهِ وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ [الْحَج: 28] . وَجُمْلَةُ وكَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ اسْتِئْنَافٌ لِلِامْتِنَانِ بِمَا خَلَقَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِنَفْعِ النَّاسِ. وَالْأَمَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى إِرَادَتِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَهَا لِلنَّاسِ مَعَ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ وَقُوَّةِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الْعَدَدَ مِنْهَا وَيَسُوقُهَا مُنْقَادَةً وَيُؤْلِمُونَهَا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ بِالطَّعْنِ. وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طِبَاعِهَا هَذَا الِانْقِيَادَ لَمَا كَانَتْ أَعْجَزَ مِنْ بَعْضِ الْوُحُوشِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ مِنْهَا فَتَنْفِرُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَلَا تُسَخَّرُ لَهُ. وَقَوْلُهُ كَذلِكَ هُوَ مِثْلُ نَظَائِرِهِ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ الْعَجِيبِ الَّذِي تَرَوْنَهُ كَانَ تَسْخِيرُهَا لَكُمْ. وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ خَلَقْنَاهَا مُسَخَّرَةً لَكُمُ اسْتِجْلَابًا لِأَنْ تَشْكُرُوا اللَّهَ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا تَعْرِيض بالمشركين إِذا وضعُوا الشُّكْر مَوْضِعَ الشُّكْرِ

[سورة الحج (22) : آية 37]

[37] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 37] لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْحَج: 36] ، أَيْ دَلَّ عَلَى أَنَّا سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لِتَشْكُرُونِي أَنَّهُ لَا انْتِفَاعَ لِلَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ لُحُومِهَا وَلَا دِمَائِهَا حِينَ تَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوهُ. وَالنَّيْلُ: الْإِصَابَةُ. يُقَالُ نَالَهُ، أَيْ أَصَابَهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ أَيْضًا بِمَعْنَى أَحْرَزَ، فَإِنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِصَابَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمرَان: 92] وَقَوْلِهِ: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [التَّوْبَة: 74] . وَالْمَقْصُودُ مَنْ نَفْيِ أَنْ يَصِلَ إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَدِمَاؤُهَا إِبْطَالُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مَنْ نَضْحِ الدِّمَاءِ فِي الْمَذَابِحِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ وَكَانُوا يَذْبَحُونَ بِالْمَرْوَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يُلَطَّخُونَ بِدِمَاءِ الْقَرَابِينِ وَكَانُوا يُشَرِّحُونَ لُحُومَ الْهَدَايَا وَيَنْصِبُونَهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ قُرْبَانًا لِلَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي زِيَادَةً عَلَى مَا يُعْطُونَهُ لِلْمَحَاوِيجِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِرَاقَةَ الدِّمَاءِ وَتَقْطِيعَ اللُّحُومِ لَيْسَا مَقْصُودَيْنِ بِالتَّعَبُّدِ وَلَكِنَّهُمَا وَسِيلَةٌ لِنَفْعِ النَّاسِ بِالْهَدَايَا إِذْ لَا ينْتَفع بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجْزَائِهَا إِلَّا بِالنَّحْرِ أَوِ الذَّبْحِ وَأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ شَرْعِهَا انْتِفَاعُ النَّاسِ الْمُهْدِينَ وَغَيْرُهُمْ. فَأَمَّا الْمُهْدُونَ فَانْتِفَاعُهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهَا فِي يَوْمِ عِيدِهِمْ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ صِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ

: «يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ» فَذَلِكَ نَفْعٌ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهَالِيهِمْ وَلَوْ بِالِادِّخَارِ مِنْهُ إِلَى رُجُوعِهِمْ إِلَى آفَاقِهِمْ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَانْتِفَاعُ مَنْ لَيْسَ لَهُ هَدْيٌ مِنَ الْحَجِيجِ بِالْأَكْلِ مِمَّا يُهْدِيهِ إِلَيْهِمْ أَقَارِبُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ، وَانْتِفَاعُ الْمَحَاوِيجِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ بِالشِّبَعِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا وَالِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا وَجَلَالِهَا وَقَلَائِدِهَا. كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: 97] . وَقَدْ عَرَضَ غَيْرَ مَرَّةٍ سُؤَالٌ عَمَّا إِذَا كَانَتِ الْهَدَايَا أَوْفَرَ مِنْ حَاجَةِ أَهْلِ الْمَوْسِمِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا قَرِيبًا مِنَ الْقَطْعِ كَمَا شُوهِدَ ذَلِكَ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، فَمَا يَبْقَى مِنْهَا حَيًّا يُبَاعُ وَيُنْفَقُ ثَمَنُهُ فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمَحَاوِيجِ أَجْدَى مِنْ نَحْرِهِ أَوْ ذَبْحِهِ حِينَ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَتِ اللُّحُومُ الَّتِي فَاتَ أَنْ قُطِعَتْ وَكَانَتْ فَاضِلَةً عَنْ حَاجَةِ الْمَحَاوِيجِ يُعْمَلُ تَصْبِيرُهَا بِمَا يَمْنَعُ عَنْهَا التعفّن فينتفع بِهَا فِي خِلَالِ الْعَامِ أَجْدَى لِلْمَحَاوِيجِ. وَقَدْ تَرَدَّدَتْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ أَنْظَارُ الْمُتَصَدِّينَ لِلْإِفْتَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ هَذَا الْعَصْرِ، وَكَادُوا أَنْ تَتَّفِقَ كَلِمَاتُ مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَتَاوَى عَلَى أَنَّ تَصْبِيرَهَا مُنَافٍ لِلتَّعَبُّدِ بِهَدْيِهَا. أَمَّا أَنَا فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى كِلَا الْحَالَيْنِ مِنَ الْبَيْعِ وَالتَّصْبِيرِ لِمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ النَّاسِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمُحْتَاجُونَ فِي عَامِهِمْ، أَوْفَقُ بِمَقْصِدِ الشَّارِعِ تَجَنُّبًا لِإِضَاعَةِ مَا فَضَلَ مِنْهَا رَعْيًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ نَفْعِ الْمُحْتَاجِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ مَعَ عَدَمِ تَعْطِيلِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ لِلْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْهَا الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَج: 36] وَقَوْلِهِ: وكَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَتَعْرِضُ صُورَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَوْزِيعُ الْمَقَادِيرِ الْكَافِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى أَيَّامِ النَّحْرِ الثَّلَاثَةِ بِحَيْثُ لَا يُتَعَجَّلُ بِنَحْرِ جَمِيعِ الْهَدَايَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ طَلَبًا لِفَضِيلَةِ الْمُبَادَرَةِ، فَإِنَّ التَّقْوَى الَّتِي تَصِلُ إِلَى اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْهَدَايَا هِيَ تَسْلِيمُهَا لِلنَّفْعِ بِهَا. وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ كَمَا فَرَضُوهُ فِي بَيْعِ الْفَرَسِ الْحُبُسِ إِذَا أَصَابَهُ مَا يُفْضِي بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ عدم النَّفْع، وَهِي الْمُعَاوضَة لربع الْحُبُسِ إِذَا خَرِبَ. وَحُكْمُ الْهَدَايَا مُرَكَّبٌ مِنْ تَعَبُّدٍ وَتَعْلِيلٍ، وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِيهِ أَقْوَى، وَعِلَّتُهُ انْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَسْلَكُ الْعِلَّةِ الْإِيمَاءُ الَّذِي فِي قَوْله تعال: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الْحَج: 36] . وَاعْلَمْ أَنَّ تَوَهُّمَ التَّقَرُّبِ بِتَلْطِيخِ دِمَاءِ الْقَرَابِينِ وَانْتِفَاعِ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الدِّمَاءِ عَقِيدَةٌ وَثَنِيَّةٌ قَدِيمَةٌ فَرُبَّمَا كَانُوا يَطْرَحُونَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنْ لَحْمٍ وَطَعَامٍ فَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَأْكُلُهُ. وَكَانَ الْيُونَانُ يَشْوُونَ لُحُومَ الْقَرَابِينِ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَصِيرَ رَمَادًا وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ رَائِحَةَ الشِّوَاءِ تَسُرُّ الْآلِهَةَ الْمُتَقَرَّبَ إِلَيْهَا بِالْقَرَابِينِ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ يُلْقُونَ الطَّعَامَ لِلتَّمَاسِيحِ الَّتِي فِي النِّيلِ لِأَنَّهَا مُقَدَّسَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنالَ، ويَنالُهُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِمَا. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ عَلَى مُرَاعَاةِ مَا يَجُوزُ فِي ضَمِيرِ جَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَرُبَّمَا كَانُوا يَقْذِفُونَ بِمُزَعٍ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ فَرُبَّمَا أَصَابَهَا مُحْتَاجٌ وَرُبَّمَا لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا فَتَأْكُلُهَا السِّبَاعُ أَوْ تَفْسُدُ. وَيَشْمَلُ التَّقْوَى ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَالتَّصَدُّقَ بِبَعْضِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِينَ. ويَنالُهُ مُشَاكِلَةٌ لِ يَنالَ الْأَوَّلِ، اسْتُعِيرَ النَّيْلُ لِتَعَلُّقَ الْعِلْمِ. شُبِّهَ عِلْمُ اللَّهِ تَقْوَاهُمْ بِوُصُولِ الشَّيْءِ الْمَبْعُوثِ إِلَى اللَّهِ تَشْبِيهًا وَجْهُهُ الْحُصُولُ فِي كُلٍّ وَحَسَّنَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ.

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْكُمْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِلَفْظِ التَّقْوى مِنْكُمْ دُونَ: تَقْوَاكُمْ أَوِ التَّقْوَى. مُجَرَّدًا مَعَ كَوْنِ الْمَعْدُولِ عَنْهُ أَوْجَزَ لِأَنَّ فِي هَذَا الْإِطْنَابِ زِيَادَةَ مَعْنًى مِنَ الْبَلَاغَةِ. كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) . تَكْرِيرٌ لِجُمْلَةِ: كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ [الْحَج: 36] ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ مُسَخِّرِهَا هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَصَارَ مَدْلُولُ الْجُمْلَتَيْنِ مُتَرَادِفًا. فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ. فَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ كَالْقَوْلِ فِي أَشْبَاهِهَا. وَقَوْلُهُ عَلى مَا هَداكُمْ عَلى فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ، أَيْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عِنْدَ تَمَكُّنِكُمْ مِنْ نَحْرِهَا. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ مَعَ جَارِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَالْهِدَايَةُ إِلَيْهَا: هِيَ تشريع الْهَدَايَا فِي تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا النَّاسُ وَيَرْتَزِقَ سُكَّانُ الْحَرَمِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِيَكُونُوا دُعَاةَ التَّوْحِيدِ لَا يُفَارِقُونَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ قَدِ اهْتَدَوْا وَعَمِلُوا بالاهتداء فَأحْسنُوا.

[سورة الحج (22) : آية 38]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 38] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَخْطِرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْشَأُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ تَوَعَّدَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْبِتِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِمَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ ضِدُّ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ. وَطَالَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِمَا تَبِعَهُ لَا جَرَمَ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَلْ يُنْتَصَرُ لَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ أَوْ يُدَّخَرُ لَهُمُ الْخَيْرُ كُلُّهُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ. فَكَانَ الْمَقَامُ خَلِيقًا بِأَنْ يُطَمْئِنَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ بِأَنَّهُ كَمَا أَعَدَّ لَهُمْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ هُوَ أَيْضًا مُدَافِعٌ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَنَاصِرُهُمْ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ يُدافِعُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ فَافْتِتَاحُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ غير المتردد منزلَة الْمُتَرَدَّدِ لِشِدَّةِ انْتِظَارِهِمُ النَّصْرَ وَاسْتِبْطَائِهِمْ إِيَّاهُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِيهِ من الْإِيمَاء إِلَى وَجْهُ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَأَنَّ دِفَاعَ اللَّهِ عَنْهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَفْظَ يُدافِعُ بِأَلْفٍ بَعْدَ الدَّالِ فَيُفِيدُ قُوَّةَ الدَّفْعِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كثير، وَيَعْقُوب يُدافِعُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الدَّالِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تَعْلِيل لتقييد الدِّفَاعِ بِكَوْنِهِ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ الْخَائِنِينَ،

[سورة الحج (22) : آية 39]

فَلِذَلِكَ يَدْفَعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَدِّ أَذَى الْكَافِرِينَ: فَفِي هَذَا إِيذَانٌ بِمَفْعُولِ يُدافِعُ الْمَحْذُوفِ، أَيْ يُدَافِعُ الْكَافِرِينَ الْخَائِنِينَ. وَالْخَوَّانُ: الشَّدِيدُ الْخَوْنِ، وَالْخَوْنُ كَالْخِيَانَةِ، الْغَدْرُ بِالْأَمَانَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَوَّانِ الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ خِيَانَةٌ لِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنْ يُوَحِّدُوهُ فَجَعَلَهُ فِي الْفِطْرَةِ وَأَبْلَغَهُ النَّاسَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فَنَبَّهَ بذلك مَا أودعهم فِي فِطْرَتِهِمْ. وَالْكَفُورُ: الشَّدِيدُ الْكُفْرِ: وَأَفَادَتْ (كُلَّ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُمُومَ نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ الْمَقَامُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ أَنَّهُ يُحِبُّ بَعْضَ الْخَوَّانِينَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (كُلَّ) اسْمٌ جَامِدٌ لَا يُشْعِرُ بِصِفَةٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ تَوَجُّهُ النَّفْيِ إِلَى مَعْنَى الْكُلِّيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَلِمَةِ كُلَّ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] الْمُوهِمِ أَنَّ نَفْيَ قُوَّةِ الظُّلْمِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ قَلِيل الظُّلم. [39] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 39] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) جُمْلَةٌ وَقَعَتْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ [الْحَج: 38] لِأَنَّ دِفَاعَ اللَّهِ عَنِ النَّاسِ يَكُونُ تَارَةً بِالْإِذْنِ لَهُمْ بِمُقَاتَلَةِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ مُدَافَعَتَهُمْ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ إِذَا أُذِنَ لَهُمْ بِمُقَاتِلَتِهِمْ كَانَ مُتَكَفِّلًا لَهُمْ بِالنَّصْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ أُذِنَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ. وَقُرَاهُ الْبَاقُونَ بِالْبِنَاءِ إِلَى الْفَاعِلِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يُقَاتَلُونَ- بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ- مَبْنِيًّا إِلَى الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِكَسْرِ التَّاءِ- مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالَّذِينَ يُقَاتَلُونَ مُرَادٌ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّهُمْ إِذَا قُوتِلُوا فَقَدْ قَاتَلُوا. وَالْقِتَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ إِمَّا بِمَادَّتِهِ، وَإِمَّا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ. فَعَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ التَّاءِ- فَالْمُرَادُ بِالْقِتَالِ فِيهِ الْقَتْلُ الْمُجَازِيُّ، وَهُوَ الْأَذَى. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ يُقَاتِلُونَ- بِكَسْرِ التَّاءِ- فَصِيغَةُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي التَّهَيُّؤِ وَالِاسْتِعْدَادِ، أَيْ أُذِنَ لِلَّذِينَ تَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ وَانْتَظَرُوا إِذْنَ اللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ أَذًى شَدِيدًا فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ مَضْرُوبٍ وَمَشْجُوجٍ يَتَظَلَّمُونَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ لَهُمُ: اصْبِرُوا فَإِنِّي لم أومر بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا هَاجَرَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ إِذْنًا لَهُمْ بِالتَّهَيُّؤِ لِلدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْحَج: 40] . وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أَرَاهَا مُتَعَلِّقَةً بِ أُذِنَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ، أَيْ أَخْبَرْنَاهُمْ بِأَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِذْنِ لِلدِّفَاعِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِأَحَدٍ: إِنَّكَ مَظْلُومٌ، فَكَأَنَّكَ اسْتَعْدَيْتَهُ عَلَى ظَالِمِهِ، وَذَكَّرْتَهُ بِوُجُوبِ الدِّفَاعِ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا نَائِبَ فَاعِلِ أُذِنَ عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْهَمْزَةِ أَوْ مَفْعُولًا عَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْهَمْزَةِ-. وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى أَنَّ الْبَاءَ سَبَبِيَّةٌ وَأَنَّ الْمَأْذُونَ بِهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ يُقاتَلُونَ، أَيْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ.

[سورة الحج (22) : آية 40]

وَهَذَا يَجْرِي عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ يُقاتَلُونَ وَالتَّفْسِيرِ الَّذِي رَأَيْتُهُ أَنْسَبَ وَأَرْشَقَ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أَيْ أُذِنَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَذُكِّرُوا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَارِدٌ عَلَى سُنَنِ كَلَامِ الْعَظِيمِ الْمُقْتَدِرِ بِإِيرَادِ الْوَعْدِ فِي صُورَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَحَلِّ الْعِلْمِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَسَى أَنْ يَكُونَ كَذَا، أَوْ أَنَّ عِنْدَنَا خَيْرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمُتَرَقِّبِ شَكٌّ فِي الْفَوْزِ بِمَطْلُوبِهِ. وَتَوْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِهِ أَوْ تَعْرِيضٌ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْطَأُوا النَّصْرَ. [40] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 40] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ [الْحَج: 39] ، وَفِي إِجْرَاءِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَيْهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ الْأَذَى، وَأَعْظَمُهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 191] . وبِغَيْرِ حَقٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أُخْرِجُوا، أَيْ أُخْرِجُوا مُتَلَبِّسِينَ بِعَدَمِ الْحَقِّ عَلَيْهِمُ الْمُوجِبِ إِخْرَاجَهُمْ، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ حَقًّا فِي وَطَنِهِ وَمُعَاشَرَةِ قَوْمِهِ، وَهَذَا الْحَقُّ ثَابِتٌ بِالْفِطْرَةِ لِأَنَّ مِنَ الْفِطْرَةِ أَنَّ النَّاشِئَ فِي أَرْضٍ وَالْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ قَوْمٍ هُوَ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ فِي حَقِّ الْقَرَارِ فِي وَطَنِهِمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ بِالْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ لِجُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ نَشْأَةٍ مُتَقَادِمَةٍ أَوْ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ لِسُكَّانِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

: «إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ» . وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَّا بِمُوجِبٍ قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعَوَائِدُ قَبْلَ الشَّرْعِ. كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ... يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ فَمِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ التَّغْرِيبُ وَالنَّفْيُ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي قَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَلَاءُ وَالْخَلْعُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِاعْتِدَاءٍ يَعْتَدِيهِ الْمَرْءُ عَلَى قَوْمِهِ لَا يَجِدُونَ لَهُ مَسْلَكًا مِنَ الرَّدْعِ غَيْرَ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ لَا يَنْجَرُّ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى غَيْرِهِمْ إِذْ هُوَ شَيْءٌ قَاصِرٌ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَالْإِعْلَانُ بِهِ بِالْقَوْلِ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ. فَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ ظُلْمٌ بَوَاحٌ وَاسْتِخْدَامٌ لِلْقُوَّةِ فِي تَنْفِيذِ الظُّلْمِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْحَقِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَقِّ حَقًّا يُوجِبُ الْإِخْرَاجَ، أَيِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ، أَيْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ فَهُوَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُ عَدَمِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ اسْتِقْرَاءِ مَا قَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُوهِمُ نَقْضَهُ. وَيُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.

وَلَوْلا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39] إِلَخْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْحَج: 41] إِلَخْ. فَلَمَّا تَضَمَّنَتْ جُمْلَةُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39] إِلَخْ الْإِذْنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِدِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا الْإِذْنِ بِالدِّفَاعِ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِهَذَا الدِّفَاعِ، وَالْمُتَوَلِّينَ لَهُ بِأَنَّهُ دِفَاعٌ عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ يَنْتَفِعُ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ أَدْيَانِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ دِفَاعًا لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ إِلَى آخِرِهِ، اعْتِرَاضِيَّةٌ وَتُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ وَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلُ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39] إِلَخْ. ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهِ، أَيِ انْتِفَائِهِ لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهِ، أَي عِنْد تحقق مَضْمُونِ جُمْلَةِ شَرْطِهِ فَهُوَ حَرْفٌ يَقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ. وَالْمَعْنَى: لَوْلَا دِفَاعُ النَّاسِ عَنْ مَوَاضِعِ عبَادَة الْمُسلمين لصري الْمُشْرِكُونَ وَلَتَجَاوَزُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يُجَاوِرُ بِلَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْملَل الْأُخْرَى المناوية لِمِلَّةِ الشِّرْكِ وَلَهَدَمُوا مَعَابِدَهُمْ مِنْ صَوَامِعَ، وَبِيَعٍ، وصلوات، ومساجد، يذكر فِيهَا اسْم الله كثيرا، قصدا مِنْهُم لمحو دَعْوَة التَّوْحِيد ومحقا لِلْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ لِلشِّرْكِ. فَذِكْرُ الصَّوَامِعِ، وَالْبِيَعِ، إِدْمَاجٌ لِيَنْتَبِهُوا إِلَى تَأْيِيدِ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَقَاتَلُونَ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَمُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْلَا مَا سَبَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ إِذْنِ اللَّهِ لِأُمَمِ التَّوْحِيدِ بِقِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ (كَمَا قَاتل دَاوُود جَالُوتَ، وَكَمَا تَغَلَّبَ سُلَيْمَانُ عَلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ) . لَمَحَقَ الْمُشْرِكُونَ مَعَالِمَ التَّوْحِيدِ (كَمَا مَحَقَ بُخْتَنَصَّرُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ) فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: 39] ، أَيْ أُذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ كَمَا أُذِنَ لِأُمَمٍ قَبْلَهُمْ لِكَيْلَا يَطْغَى عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا طَغَوْا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ حِينَ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَإِضَافَةُ الدِّفَاعِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ مُجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ إِذْنٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ مَعَابِدِهِمْ فَكَانَ إِذْنُ اللَّهِ سَبَبَ الدَّفْعِ. وَهَذَا يُهِيبُ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ إِلَى التَّأَلُّبِ عَلَى مُقَاوَمَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ دِفَاعُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ دَفْعُ- بِفَتْحِ الدَّالِ وَبِدُونِ أَلِفٍ-. وبَعْضَهُمْ بَدَلٌ مِنَ النَّاسَ بَدَلُ بَعْضٍ. وبِبَعْضٍ مُتَعَلِّقٌ بِ دِفَاعُ وَالْبَاءُ لِلْآلَةِ. وَالْهَدْمُ: تَقْوِيضُ الْبِنَاءِ وَتَسْقِيطُهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَهُدِّمَتْ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَشْدِيدِ الدَّالِ- لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْهَدْمِ، أَيْ لَهُدِّمَتْ هَدْمًا نَاشِئًا عَنْ غَيْظٍ بِحَيْثُ لَا يُبْقُونَ لَهَا أَثَرًا. وَالصَّوَامِعُ: جَمْعُ صَوْمَعَةٍ بِوَزْنِ فَوْعَلَةٍ، وَهِيَ بِنَاءٌ مُسْتَطِيلٌ مُرْتَفِعٌ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِدَرَجٍ وَبِأَعْلَاهُ بَيْتٌ، كَانَ الرُّهْبَانُ يَتَّخِذُونَهُ لِلْعِبَادَةِ لِيَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُشَاغَلَةِ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، وَكَانُوا يُوقِدُونَ بِهِ مَصَابِيحَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى السَّهَرِ لِلْعِبَادَةِ وَلِإِضَاءَةِ الطَّرِيقِ لِلْمَارِّينَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الصَّوْمَعَةُ الْمَنَارَةَ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشِيِّ كَأَنَّهَا ... مَنَارَةُ مَمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ

وَالْبِيَعُ: جَمْعُ بِيعَةٍ- بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ- مَكَانُ عِبَادَةِ النَّصَارَى وَلَا يُعْرَفُ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا، وَلَعَلَّهَا مُعَرَّبَةٌ عَنْ لُغَةٍ أُخْرَى. وَالصَّلَوَاتُ: جَمْعُ صَلَاةٍ وَهِيَ هُنَا مُرَادٌ بِهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ مُعَرَّبَةٌ عَنْ كَلِمَةِ (صَلُوثَا) (بِالْمُثَلَّثَةِ فِي آخِرِهِ بَعْدَهَا أَلِفٌ) . فَلَمَّا عُرِّبَتْ جَعَلُوا مَكَانَ الْمُثَلَّثَةِ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً وَجَمَعُوهَا كَذَلِكَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي رَجَاء أَنهم قرأوها هُنَا وَصَلَواتٌ بِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةُ: قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ صِلْوِيثَا- بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَقَصْرِ الْأَلْفِ بَعْدَ الثَّاءِ- (أَيِ الْمُثَلَّثَةِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ) وَهَذِهَ الْمَادَّةُ قَدْ فَاتَتْ أَهْلَ اللُّغَةِ وَهِيَ غَفْلَةٌ عَجِيبَةٌ. وَالْمَسَاجِدُ: اسْمٌ لِمَحَلِّ السُّجُودِ مِنْ كُلِّ مَوْضِعِ عِبَادَةٍ لَيْسَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ابْتِدَاءِ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ حِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ قُبَاءٍ وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ. وَجُمْلَةُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً صِفَةٌ وَالْغَالِبُ فِي الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ فِيهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْجُمَلِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ. فَلِذَلِكَ قِيلَ بِرُجُوعِ صِفَةِ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ إِلَى صَوامِعُ، وَبِيَعٌ، وَصَلَواتٌ، وَمَساجِدُ لِلْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَهَا وَهِيَ مَعَادُ ضَمِيرِ فِيهَا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ هَدْمِهَا أَنَّهَا يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، أَيْ وَلَا تُذْكَرُ أَسْمَاءُ أَصْنَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ بِلَا سَبَبٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ فَيَقُولُونَ رَبُّنَا اللَّهُ، لِمَحْوِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مِنْ بَلَدِهِمْ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ يَهْدِمُونَ الْمَوَاضِعَ الْمَجْعُولَةَ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ كَثِيرًا، أَيْ دُونَ ذِكْرِ الْأَصْنَامِ. فَالْكَثْرَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدَّوَامِ

لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَائِدَةً دِينِيَّةً وَهِيَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ منداد من أيمة الْمَالِكِيَّةِ (مِنْ أَهْلِ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ) «تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَنْعَ مِنْ هَدْمِ كَنَائِسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِيَعِهِمْ وَبُيُوتِ نَارِهِمْ» اه. قُلْتُ: أَمَّا بُيُوتُ النَّارِ فَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْعَ هَدْمِهَا فَإِنَّهَا لَا يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ وَإِنَّمَا مَنْعُ هَدْمِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ الصِّفَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَسَاجِدَ خَاصَّةٍ. وَتَقْدِيمُ الصَّوَامِعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ كَانَتْ أَكْثَرَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَتْ أَشْهَرَ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ بِأَضْوَائِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ وَيَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَتَعْقِيبُهَا بِذِكْرِ الْبِيَعِ لِلْمُنَاسَبَةِ إِذْ هِيَ مَعَابِدُ النَّصَارَى مِثْلُ الصَّوَامِعِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الصَّلَوَاتِ بَعْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِذِكْرِهَا، وَتَأْخِيرُ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَشَأْنُ الْعُمُومِ أَنْ يُعَقَّبَ بِهِ الْخُصُوصُ إِكْمَالًا لِلْفَائِدَةِ. وَقَوْلُهُ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالدِّفَاعِ عَنْ دِينِهِمْ. وَضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ فِي ذَلِكَ الدِّفَاعِ لِأَنَّهُمْ بِدِفَاعِهِمْ يَنْصُرُونَ دِينَ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُمْ نَصَرُوا اللَّهَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، أَيْ كَانَ نَصْرُهُمْ مَضْمُونًا لِأَنَّ نَاصِرَهُمْ قَدِيرٌ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ. وَالْقُوَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْقُدْرَةِ: وَالْعِزَّةُ هُنَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْمَنَعَةُ، أَيْ عَدَمُ تَسَلُّطِ غَيْرِ صَاحِبِهَا عَلَى صَاحِبِهَا.

[سورة الحج (22) : آية 41]

بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْحَج: 41] الْمُهَاجِرُونَ فَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَشَهَادَةٌ لَهُمْ بِكَمَالِ دِينِهِمْ. وَعَنْ عُثْمَانَ: «هَذَا وَاللَّهِ ثَنَاءٌ قَبْلَ بَلَاءٍ» ، أَيْ قَبْلَ اخْتِبَارٍ، أَيْ فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ الَّذِي عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَالِهِمْ. وَمَعْنَى إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْحَج: 41] أَيْ بِالنَّصْرِ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الْحَج: 39] . [41] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 41] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِنْ الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: 40] فَيَكُونُ الْمُرَادُ: كُلَّ مَنْ نَصْرَ الدِّينَ مِنْ أَجْيَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ مَكَّنَّاهُمْ بِالنَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ إِنْ نَصَرُوا دِينَ اللَّهِ: وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ النَّصْرِ بِأَنْ يَأْتُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ بِذَلِكَ دَوَامَ نَصْرِهِمْ، وَانْتِظَامَ عَقْدِ جَمَاعَتِهِمْ، وَالسَّلَامَةَ مِنِ اخْتِلَالِ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ حَادُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّطُوا فِي ضَمَانِ نَصْرِهِمْ وَأَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَأَمَّا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فَلِدَلَالَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ بِالدِّينِ وَتَجْدِيدٍ لِمَفْعُولِهِ فِي النُّفُوسِ، وَأَمَّا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَهُوَ لِيَكُونَ أَفْرَادُ الْأُمَّةِ مُتَقَارِبِينَ فِي نِظَامِ مَعَاشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلِتَنْفِيذِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ سَائِرِ الْأُمَّةِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ. وَالتَّمْكِينُ: التَّوْثِيقُ، وَأَصْلُهُ إِقْرَارُ الشَّيْءِ فِي مَكَانٍ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّسْلِيطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَالْأَرْضُ لِلْجِنْسِ، أَيْ تَسْلِيطُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شَأْنَهُمْ فِيمَا هُوَ من مِلْكُهُمْ وَمَا بُسِطَتْ فِيهِ أَيْدِيهُمْ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: 10] ، وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 56] . وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا هُوَ مقرّر من شؤون الدِّينِ: إِمَّا بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَيَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مِنَ الدِّينِ سَائِرُ الْأُمَّةِ. وَإِمَّا بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَهُوَ دَقَائِقُ الْأَحْكَامِ فَيَأْمُرُ بِهِ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ وَهُمُ الْعلمَاء على تفوت مَرَاتِبِ الْعِلْمِ وَمَرَاتِبِ عُلَمَائِهِ. وَالْمُنْكَرُ: مَا شَأْنَهُ أَنْ يُنْكَرَ فِي الدِّينِ، أَيْ أَنْ لَا يُرْضَى بِأَنَّهُ مِنَ الدِّينِ. وَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ يَدْخُلُ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالشَّرِيعَةِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهَا فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُنْكَرِ الْأَعْمَالُ الَّتِي يُرَادُ إِدْخَالُهَا فِي شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لَهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاس فِي شؤون عَادَاتِهِمْ مِمَّا هُوَ فِي مِنْطَقَةِ الْمُبَاحِ، وَلَا مَا يَفْعَلُونَ فِي شؤون دِينِهِمْ مِمَّا هُوَ مِنْ نَوْعِ الدِّيَانَاتِ كَالْأَعْمَالِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ كُلِّيَّاتٍ دِينِيَّةٍ، وَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَجَالَاتِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ آيِلٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ آيِلٌ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنَّمَا جمعت الْآيَة بَينهمَا بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ نفوس النَّاس عِنْد مُشَاهَدَةِ الْأَعْمَال، ولتكون معرفَة الْمَعْرُوف دَلِيلًا عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَبِالْعَكْسِ إِذْ بِضِدِّهَا تَتَمَايَزُ الْأَشْيَاءُ، وَلَمْ يَزَلْ مِنْ طُرُقِ النَّظَرِ وَالْحِجَاجِ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّقَائِضِ وَالْعُكُوسِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 44]

وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: 40] ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَج: 40] ، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَهُوَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ النَّصْرِ، لِأَنَّ الَّذِي وَعَدَ بِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْقِيقِ وَعْدِهِ مَانِعٌ، وَفِيهِ تَأْنِيسٌ لِلْمُهَاجِرِينَ لِئَلَّا يَسْتَبْطِئُوا النَّصْرَ. وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الشَّيْءِ وَمَا يَعْقُبُ الْحَاضِرَ. وَتَأْنِيثُهَا لِمُلَاحَظَةِ مَعْنَى الْحَالَةِ وَصَارَتْ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ اسْمًا. وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ «ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ» . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ فَهُوَ يُصَرِّفُهُ كَيفَ يَشَاء. [42- 44] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 42 إِلَى 44] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) لَمَّا نَعَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ مساويهم فِي شؤون الدِّينِ بِإِشْرَاكِهِمْ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ فِي غَرَضِهِ مِنْ إِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ، عَطَفَ هُنَا إِلَى ضَلَالِهِمْ بِتَكْذِيبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَدَ مِنْ ذَلِكَ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمْثِيلَهُمْ بِأَمْثَالِ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ، وَتَهْدِيدَهُمْ

بِالْمَصِيرِ إِلَى مَصِيرِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهَا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ إِلَخْ إِذِ التَّقْدِيرُ: فَلَا عَجَبَ فِي تَكْذِيبِهِمْ، أَوْ فَلَا غَضَاضَةَ عَلَيْكَ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِكَ إِيَّاكَ فَإِنَّ تِلْكَ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هُمُ الْكَلْدَانُ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُمْ بِقَوْمِ شُعَيْبٍ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ لَفْظُ قَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ. وَقَالَ: وَكُذِّبَ مُوسى لِأَنَّ مُكَذِّبِيهِ هُمُ الْقِبْطُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ مَعْنَاهُ فَأَمْلَيْتُ لَهُمْ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ ثُمَّ أَخْذِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ تَعْرِيضًا بِالنِّذَارَةِ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَالْأَخْذُ حَقِيقَتُهُ: التَّنَاوُلُ لِمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْيَدِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيطِ الْإِهْلَاكِ بَعْدَ إِمْهَالِهِمْ، وَمُنَاسِبَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الْإِمْلَاءَ لَهُمْ يُشْبِهُ بُعْدَ الشَّيْءِ عَنْ مُتَنَاوِلِهِ فَشُبِّهَ انْتِهَاءَ ذَلِكَ الْإِمْلَاءِ بِالتَّنَاوُلِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِأَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عِنْدَهُ، لِظُهُورِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَعِيدِهِمْ، وَهَذَا الْأَخْذُ مَعْلُومٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَدَا أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِعَذَابِهِمْ أَوْ أَخْذِهِمْ سِوَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: 70] وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ مُشِيرٌ إِلَى سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ مِمَّا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الْكَيْدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ هُنَالِكَ. وَمُنَاسَبَةُ عَدِّ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ هُنَا فِي عِدَادِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ دُونَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا مَنْ أُخِذُوا مِنَ الْأَقْوَامِ، أَنَّ

قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ أَتَمُّ شَبَهًا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رسولهم وآذوه. وألجئوه إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْطِنِهِ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] . فَكَانَ ذِكْرُ إِلْجَاءِ قُرَيْشٍ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْطِنِهِمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْحَج: 40] مُنَاسَبَةً لِذِكْرِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْإِمْلَاءُ: تَرْكُ الْمُتَلَبِّسِ بِالْعِصْيَانِ دُونَ تَعْجِيلِ عُقُوبَتِهِ وَتَأْخِيرِهَا إِلَى وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ حَتَّى يَحْسَبَ أَنَّهُ قَدْ نَجَا ثُمَّ يُؤْخَذَ بِالْعُقُوبَةِ. وَالْفَاءُ فِي فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ لِلتَّعْقِيبِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ هَلَاكِهِمْ حَاصِل من وَقْتِ تَكْذِيبِهِمْ وَإِنَّمَا أُخِّرَ لَهُمْ، وَهُوَ تَعْقِيبٌ مُوَزَّعٌ، فَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تَعْقِيبُ إِمْلَائِهِ، وَالْأَخْذُ حَاصِلٌ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ بِمُهْلَةٍ، فَلِذَلِكَ عُطِفَ فِعْلُهُ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ حَقَّ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْأَخْذِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ، أَيْ فَاعْجَبْ مِنْ نَكِيرِي كَيْفَ حَصَلَ. وَوَجْهُ التَّعْجِيبِ مِنْهُ أَنَّهُمْ أُبْدِلُوا بِالنِّعْمَةِ مِحْنَةً، وَبِالْحَيَاةِ هَلَاكًا، وَبِالْعِمَارَةِ خَرَابًا فَهُوَ عِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ. وَالنَّكِيرُ: الْإِنْكَارُ الزَّجْرِيُّ لِتَغْيِيرِ الْحَالَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الَّذِي يُنْكَرُ عَلَيْهِ: ونَكِيرِ- بِكَسْرَةٍ فِي آخِرِهِ- دَالَّة على يَاء الْمُتَكَلِّمِ الْمَحْذُوفَةِ تَخْفِيفًا. وَكَانَ مُنَاسَبَةُ اخْتِيَارِ النَّكِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الْعَذَابِ وَنَحْوِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ التَّنْوِيهِ بِالنَّهْيِ عَن الْمُنكر لِيُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَبْذُلُوا فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مُنْتَهَى اسْتِطَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَاقَبَ عَلَى الْمُنْكَرِ بِأَشَدِّ الْعِقَابِ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الِائْتِسَاءُ بِصُنْعِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ

[سورة الحج (22) : آية 45]

الْحِكْمَةَ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْخَالِقِ بِقَدْرِ مَا تَبْلُغُهُ الْقُوَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَفِي هَذَا الْمَجَالِ تَتَسَابَقُ جِيَاد الهمم. [45] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 45] فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) تَفَرَّعَ ذِكْرُ جُمْلَةِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الْحَج: 44] فَعُطِفَتْ عَلَيْهَا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ، وَالتَّعْقِيبُ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الْوُجُودِ، لِأَنَّ الْإِمْلَاءَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْقُرَى ثُمَّ أَخْذَهَا بَعْدَ الْإِمْلَاءِ لَهَا يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ نَكِيرِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ عَلَى الْقُرَى الظَّالِمَةِ وَيُفَسِّرُهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ التَّفْسِيرَ عَقِبَ الْمُفَسَّرِ بِحَرْفِ التَّفْرِيعِ، ثُمَّ هُوَ يُفِيدُ بِمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنِ اسْمٍ كَثْرَةَ الْعَدَدِ شُمُولًا لِلْأَقْوَامِ الَّذِينَ ذُكِرُوا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْحَج: 42] إِلَى آخِرِهِ فَيَكُونُ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ بِمَنْزِلَة التذييل. وفَكَأَيِّنْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ. وَمَوْضِعُهَا مِنَ الْجُمْلَةِ مَحَلُّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا، وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ أَهْلَكْناها وَالتَّقْدِيرُ: أَهْلَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا، وَالْأَحْسَنُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ الصَّدَارَةَ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا (كَأَيِّنْ) بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالصَّدَارَةِ الصُّورِيَّةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِ قَرْيَةٍ. وَجُمْلَةُ فَهِيَ خاوِيَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَهْلَكْناها، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ وَكَأَيِّنْ مِنْ نبيء فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 146] .

وَأَهْلُ الْمُدُنِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ لِظُلْمِهِمْ كَثِيرُونَ، مِنْهُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ مِثْلَ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ وَآثَارُهُمْ بَاقِيَةٌ فِي الْيَمَامَةِ. وَمَعْنَى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَنَّهَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا سَقْفٌ وَلَا جِدَارٌ. وَجُمْلَةُ عَلى عُرُوشِها خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ فَهِيَ وَالْمَعْنَى: سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أَيْ سَاقِطَةٌ جُدْرَانُهَا فَوْقَ سُقُفِهَا. وَالْعُرُوشُ: جَمْعُ عَرْشٍ، وَهُوَ السَّقْفُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 259] . وَالْمُعَطَّلَةُ: الَّتِي عُطِّلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ صَلَاحِهَا لِلِانْتِفَاعِ، أَيْ هِيَ نَابِعَةٌ بِالْمَاءِ وَحَوْلَهَا وَسَائِلُ السَّقْيِ وَلَكِنَّهَا لَا يُسْتَقَى مِنْهَا لِأَنَّ أَهْلَهَا هَلَكُوا. وَقَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسِيرِهِمْ إِلَى تَبُوك بئارا فِي دِيَارِ ثَمُودٍ وَنَهَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْهَا إِلَّا بِئْرًا وَاحِدَةً الَّتِي شَرِبَتْ مِنْهَا نَاقَةُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَصْرُ: الْمَسْكَنُ الْمَبْنِيُّ بِالْحِجَارَةِ الْمَجْعُولُ طِبَاقًا. وَالْمَشِيدُ: الْمَبْنِيُّ بِالشِّيدِ- بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَهُوَ الْجِصُّ: وَإِنَّمَا يُبْنَى بِهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْحَجَرِ لِأَنَّ الْجِصَّ أَشَدُّ مِنَ التُّرَابِ فَبِشِدَّةِ مَسْكِهِ يَطُولُ بَقَاءُ الْحَجَرِ الَّذِي رُصَّ بِهِ. وَالْقُصُورُ الْمَشِيدَةُ: وَهِيَ الْمُخَلَّفَةُ عَنِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ: قَصْرِ غُمْدَانَ فِي الْيَمَنِ، وَقُصُورِ ثَمُودٍ فِي الْحِجْرِ، وَقُصُورِ الْفَرَاعِنَةِ فِي صَعِيدِ مِصْرَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» يُقَالُ: «أَنَّ هَذِهِ الْبِئْرَ وَهَذَا الْقصر بحضر موت مَعْرُوفَانِ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا بِئْرُ الرَّسِّ وَكَانَتْ فِي عَدَنٍ وَتُسَمَّى حَضُورٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ-. وَكَانَ أَهْلُهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِصَالِحٍ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ صَالِحٌ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ آلَ أَمْرُهُمْ

[سورة الحج (22) : آية 46]

إِلَى عِبَادَةِ صَنَمٍ وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ رَسُولًا فَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الصَّنَمِ فَقَتَلُوهُ فَغَارَتِ الْبِئْرُ وَهَلَكُوا عَطَشًا» . يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَاحِدَةٌ مِنَ الْقُرَى الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ كَلِمَةَ (كَأَيِّنْ) تُنَافِي إِرَادَةَ قَرْيَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَهْلَكْناها- بِنُونِ الْعَظَمَةِ-: وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ أَهْلَكْتُهَا- بتاء الْمُتَكَلّم-. [46] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 46] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْحَج: 45] وَمَا بَعْدَهَا. وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ حَالِهِمْ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ بِمَصَارِعِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِأَنْبِيَائِهَا، وَالتَّعْجِيبُ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْ سَافَرُوا مِنْهُمْ وَرَأَوْا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ وَبِمَنْ لَمْ يُسَافِرُوا، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُسَافِرِينَ أَنْ يُخْبِرُوا الْقَاعِدِينَ بِعَجَائِبِ مَا شَاهَدُوهُ فِي أَسْفَارِهِمْ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها. فالمقصود بالتعجيب هُوَ حَالُ الَّذِينَ سَارُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ جُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ السَّيْرِ لِأَنَّ سَيْرَ السَّائِرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا لَمْ يُفِدْهُمْ عِبْرَةً وَذِكْرَى جُعِلَ كَالْعدمِ فَكَانَ التعجيب مِنِ انْتِفَائِهِ، فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْفَاءُ فِي فَتَكُونَ سَبَبِيَّةٌ جَوَابِيَّةٌ مُسَبِّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَى السَّيْرِ، أَيْ لَمْ يَسِيرُوا سَيْرًا تَكُونُ لَهُمْ بِهِ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا وَآذَانٌ يَسْمَعُونَ

بِهَا، أَيِ انْتَفَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ وَآذَانٌ بِهَذِهَ الْمَثَابَةِ لِانْتِفَاءِ سَيْرِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا شَأْنُ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى مَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ لَوْ كَانَ ثَابِتًا وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمَعَرِّيِّ: وَقِيلَ أَفَادَ بِالْأَسْفَارِ مَالًا ... فَقُلْنَا هَلْ أَفَادَ بِهَا فُؤَادَا وَهَذَا شَأْنُ الْأَسْفَارِ أَنْ تُفِيدَ الْمُسَافِرَ مَا لَا تُفِيدُهُ الْإِقَامَةُ فِي الْأَوْطَانِ مِنِ اطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ الْأَقْوَامِ وَخَصَائِصِ الْبُلْدَانِ وَاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ، فَهِيَ تُفِيدُ كُلَّ ذِي هِمَّةٍ فِي شَيْءٍ فَوَائِدَ تَزِيدُ هِمَّتَهُ نَفَاذًا فِيمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ فَوَائِدُ الْعبْرَة بِأَسْبَاب النجاج وَالْخَسَارَةِ. وَأُطْلِقَتِ الْقُلُوبُ عَلَى تَقَاسِيمِ الْعَقْلِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مُفِيضُ الدَّمِ- وَهُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ- على الْأَعْضَاء الرئيسية وَأَهَمُّهَا الدِّمَاغُ الَّذِي هُوَ عُضْوُ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَعْقِلُونَ بِها وَإِنَّمَا آلَةُ الْعَقْلِ هِيَ الدِّمَاغُ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ جَرَى أَوَّلُهُ عَلَى مُتَعَارَفِ أَهْلِ اللُّغَةِ ثُمَّ أُجْرِيَ عَقِبَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ فَقَالَ: يَعْقِلُونَ بِها فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقُلُوبَ هِيَ الْعَقْلُ. وَنُزِّلَتْ عُقُولُهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ كَمَا نُزِّلَ سَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الآذان فلأنّ الْأذن آلَةُ السَّمْعِ وَالسَّائِرُ فِي الْأَرْضِ يَنْظُرُ آثَارَ الْأُمَمِ وَيَسْمَعُ أَخْبَارَ فَنَائِهِمْ فَيَسْتَدِلُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَرَتُّبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا عَلَى أَنَّ حَظَّ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَحَدَّثِ إِلَيْهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُسَافِرُوا أَنْ يَتَلَقَّوُا الْأَخْبَارَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فَيَعْلَمُوا مَا عَلِمَهُ الْمُسَافِرُونَ عِلْمًا سَبِيلُهُ سَمَاعُ الْأَخْبَارِ. وَفِي ذِكْرِ الْآذَانِ اكْتِفَاءٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْصَارِ إِذْ يُعْلَمُ أَنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي تَعْقِلُ إِنَّمَا طَرِيقُ عِلْمِهَا مُشَاهَدَةُ آثَارِ الْعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ كَمَا أَشَارَ

إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ نَظْمِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ لَهُمْ آلَاتُ الِاسْتِدْلَالِ وَقَدِ انْعَدَمَتْ مِنْهُمْ آثَارُهَا فَلَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 171] . وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، وَفَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَتَذْيِيلٌ لَهُ بِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعُمُومِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّها ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، أَيْ فَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْقِصَّةَ هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الضَّمِيرِ، أَيْ لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ، أَيْ فَإِنَّ الْأَبْصَارَ وَالْأَسْمَاعَ طُرُقٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُدْرِكَ لِذَلِكَ هُوَ الدِّمَاغُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدِّمَاغِ عَقْلٌ كَانَ الْمُبْصِرُ كَالْأَعْمَى وَالسَّامِعُ كَالْأَصَمِّ، فَآفَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اخْتِلَالُ الْعَقْلِ. وَاسْتُعِيرَ الْعَمَى الثَّانِي لِانْتِفَاءِ إِدْرَاكِ الْمُبْصَرَاتِ بِالْعَقْلِ مَعَ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ لِصَاحِبِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَبْصارُ، والْقُلُوبُ، والصُّدُورِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِقُلُوبَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ، وَالْجَمْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَصْحَابِهَا. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ لِغَرَابَةِ الْحُكْمِ لَا لِأَنَّهُ مِمَّا يُشَكُّ فِيهِ.

[سورة الحج (22) : آية 47]

وَغَالِبُ الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ اقْتِرَانُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ فَقْدِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ الْمُسَمَّى بِالْعَمَى كَأَنَّهُ غَيْرُ عَمًى، وَجَعْلِ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى دَلَالَةِ الْمُبْصَرَاتِ مَعَ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ هُوَ الْعَمَى مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي اسْتُعِيرَ إِلَيْهِ، فَالْقَصْرُ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفَانِينُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ وَبَدَاعَةِ النَّظْمِ. والَّتِي فِي الصُّدُورِ صفة ل الْقُلُوبُ تُفِيدُ تَوْكِيدًا لِلَفْظِ الْقُلُوبُ. فَوِزَانُهُ وِزَانُ الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] . وَوِزَانُ الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمرَان: 167] فَهُوَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّشْخِيصِ. وَيُفِيدُ هَذَا الْوَصْفُ وَرَاءَ التَّوْكِيدِ تَعْرِيضًا بِالْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَفْئِدَتِهِمْ مَعَ شِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِهِمْ إِذْ هِيَ قَارَّةٌ فِي صُدُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَالْآنَ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ» ، فَإِنَّ كَوْنَهَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَحَبَّ الْأَشْيَاء إِلَيْهِ. [47] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 47] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ [الْحَج: 42] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَإِنَّ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْوَعِيدِ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي وَعِيدِهِ لَعَجَّلَ لَنَا وَعِيدَهُ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ التَّعْجِيلَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً،

كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] ، وَقَالَ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: 28] فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ [الْحَج: 44] الْآيَةَ. وَحُكِيَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَكْرِيرِهِمْ ذَلِكَ تَجْدِيدًا مِنْهُمْ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَتَوَرُّكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ إِبْلَاغُهُ إِيَّاهُمْ. وَالْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ بِالْعَذابِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ بِشِدَّتِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ يَحْرِصُونَ عَلَى تَعْجِيلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي أَوَّلِ [سُورَةِ الرَّعْدِ: 6] . وَلَمَّا كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ إِيَّاهُ تَعْرِيضًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، أَيْ فَالْعَذَابُ الْمَوْعُودُ لَهُمْ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَفِيه تأنيس للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَسْتَبْطِئُونَهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ إِنَّمَا اسْتَعْجَلُوا عَذَابَ الدُّنْيَا تَهَكُّمًا وَكِنَايَةً عَنْ إِيقَانِهِمْ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ بِلَازِمٍ وَاحِدٍ، وَإِيمَاءً إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِلَازِمَيْنِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَدًّا عَامًّا بِقَوْلِهِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِإِنْذَارِهِمْ بِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ أَيْضًا وَهُوَ أَشَدُّ الْعَذَابِ. فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ، وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

[سورة الحج (22) : آية 48]

وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [العنكبوت: 53- 54] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ إِلَى آخِرِهِ اسْتِقْصَارَ أَجْلِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ لِعَدَمِ رَشَاقَةِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِقْصَارَ يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ عَقِبَ هَذَا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها [الْحَج: 48] . وَالْخِطَابُ فِي تَعُدُّونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعُدُّونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ مِمَّا يَعُدُّونَ- بِيَاءِ الْغَائِبِينَ-. أَيْ مِمَّا يَعُدُّهُ الْمُشْرِكُونَ المستعجلون بِالْعَذَابِ. [48] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 48] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج: 47] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الْحَج: 47] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنُهُ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ لِتَأَخُّرِ وُقُوعِهِ، فَذُكِّرُوا بِأَنَّ أُمَمًا كَثِيرَةً أُمْهِلَتْ ثُمَّ حَلَّ بِهَا الْعَذَابُ. فَوِزَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وِزَانُ قَوْلِهِ آنِفًا: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الْحَج: 45] إِلَخْ إِلَّا أَنَّ الْأُولَى قُصِدَ مِنْهَا كَثْرَةُ الْأُمَمِ الَّتِي أُهْلِكَتْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ ذِكْرِ قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُمْ وَلِذَلِكَ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ الْإِهْلَاكِ دُونَ الْإِمْهَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ

[سورة الحج (22) : الآيات 49 إلى 51]

الْوَعِيدِ لَا يَقْتَضِي إِبْطَالَهُ، وَلِذَلِكَ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ الْإِمْهَالِ ثُمَّ الْأَخْذِ بَعْدَهُ الْمُنَاسِبِ لِلْإِمْلَاءِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ دُخُولٌ فِي الْقَبْضَةِ بَعْدَ بُعْدِهِ عَنْهَا. وَأَمَّا عَطْفُ جُمْلَةِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْحَج: 45]- بِالْفَاءِ- وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ- بِالْوَاوِ- فَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَقَعَتْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الْحَج: 44] فَقُرِنَتْ- بِالْفَاءِ- الَّتِي دَخَلَتْ نَظِيرَتُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَخَلِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ فَعُطِفَتْ بِالْحَرْفِ الْأَصْلِيِّ لِلْعَطْفِ. وَجُمْلَةُ وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ، أَيْ مَصِيرُ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَيَّ. وَالْمَصِيرُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِ (صَارَ) بِمَعْنَى: رَجَعَ، وَهُوَ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْمِكْنَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْحَصْرِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ لَا يَصِيرُ النَّاسُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمصير إِلَيْهِ كَائِن لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَصْرِ لِأَنَّ الْحصْر يَقْتَضِي حُصُول الْفِعْل بِالْأَحْرَى فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عدم الإفلات. [49- 51] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 49 إِلَى 51] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ الْمَوَاعِظِ السَّالِفَةِ وَالْإِنْذَارَاتِ، وَافْتِتَاحُهُ بِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَافْتِتَاحُ الْمَقُولِ بِنِدَاءِ النَّاسِ لِلَفْتِ أَلْبَابِهِمْ إِلَى الْكَلَامِ. وَالْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.

وَالْغَرَضُ مِنْ خِطَابِهِمْ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ وَاسْتِهْزَاءَهُمْ لَا يَغِيظُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ أَدَاءِ رِسَالَتِهِ، فَفِي ذَلِكَ قمع لَهُم إِذْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ يُمِلُّونَهُ فَيَتْرُكُ دَعْوَتَهُمْ، وَفِيهِ تَثْبِيتٌ للنبيء وتسلية لَهُ فِيمَا يَلْقَاهُ مِنْهُمْ. وَقَصْرُ النَّبِيءِ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَسْتُ طَالِبًا نِكَايَتَكُمْ وَلَا تزلفا إِلَيْكُم فَمَنْ آمَنَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا. وَالنَّذِيرُ: الْمُحَذِّرُ مِنْ شَرٍّ يُتَوَقَّعُ. وَفِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الْمُؤْذِنِ بِالِاهْتِمَامِ بِنِذَارَتِهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ مُشْرِفُونَ عَلَى شَرٍّ عَظِيمٍ فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالنِّذَارَةِ. وَالْمُبِينُ: الْمُفْصِحُ الْمُوَضِّحُ، أَيْ مُبِينٌ لِلْإِنْذَارِ بِمَا لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مُصَانَعَةَ. وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ تَقْسِيمٌ لِلنَّاسِ فِي تَلَقِّي هَذَا الْإِنْذَارِ الْمَأْمُورِ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ لِبَيَانِ حَالِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَرْغِيبًا فِي الْحَالَةِ الْحُسْنَى وَتَحْذِيرًا مِنَ الْحَالَةِ السُّوأَى فَقَالَ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ إِلَى آخِرِهِ ... فَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ فِي آياتِنا. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بِالْفَاءِ. وَالْمَغْفِرَةُ: غُفْرَانُ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ وَضَلَالَاتِهِ وَمَفَاسِدِهِ. وَهَذِهِ الْمَغْفِرَةُ تُفْضِي إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَازُوا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَالرِّزْقُ: الْعَطَاءُ. وَوَصْفُهُ بِالْكَرِيمِ يَجْمَعُ وَفْرَتَهُ وَصَفَاءَهُ مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت: 8] ذَلِكَ هُوَ الْجَنَّةُ.

وَالرِّزْقُ مِنْهُ مَا هُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِانْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَأَعْظَمُهُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالَّذِينَ سَعَوْا هُمُ الْفَرِيقُ الْمُقَابِلُ لِلَّذِينَ آمَنُوا، فَمَعْنَاهُ: وَالَّذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، فَعُبِّرَ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ بِالسَّعْيِ فِي الْآيَاتِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ. وَالسَّعْيُ: الْمَشْيُ الشَّدِيدُ. وَيُطْلَقُ عَلَى شِدَّةِ الْحِرْصِ فِي الْعَمَلِ تَشْبِيهًا لِلْعَامِلِ الْحَرِيصِ بالماشي الشَّديد الْمَشْي فِي كَوْنِهِ يَكِدُّ لِلْوُصُولِ إِلَى غَايَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: 22- 23] فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ يَمْشِي وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ صَرَفَ عِنَايَتَهُ لِإِحْضَارِ السَّحَرَةِ لِإِحْبَاطِ دَعْوَةِ مُوسَى. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [الْمَائِدَة: 64] . وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَتْ هَيْئَةُ تَفَنُّنِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ وَتَطَلُّبِ الْمَعَاذِيرِ لِنَقْضِ دَلَائِلِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ سِحْرٌ، هُوَ شِعْرٌ، هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، هُوَ قَوْلُ مَجْنُونٍ، وَتَعَرُّضُهِمْ بِالْمُجَادَلَاتِ وَالْمُنَاقَضَاتِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ يُسَابِقُ غَيْرَهُ لِيَفُوزَ بِالْوُصُولِ. وَالْمُعَاجِزُ: الْمُسَابِقُ الطَّالِبُ عَجْزَ مُسَايِرِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى غَايَتِهِ وَعَنِ اللِّحَاقِ بِهِ، فَصِيغَ لَهُ الْمُفَاعَلَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ عَجْزَ الْآخَرِ عَنْ لِحَاقِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بِعَمَلِهِمْ يُغَالِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَغْلِبُوا اللَّهَ وَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَالُوا مُرَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُعاجِزِينَ- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو مُعَجِّزِينَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَضْعِيفِ الْجِيمِ-، أَيْ مُحَاوِلِينَ إِعْجَازَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.

[سورة الحج (22) : الآيات 52 إلى 54]

وَالتَّصْدِيرُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُخَبَرَ عَنْهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لِأَنَّهُمْ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ (¬1) فَالنِّجَاءَ النِّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا (¬2) وَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ (¬3) ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ من الحقّ» . [52- 54] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 52 إِلَى 54] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ¬

(¬1) الْعُرْيَان: الْمُجَرّد من الثِّيَاب- والنذير الْعُرْيَان مثل أَصله: أَن أحد الْقَوْم إِذا رأى عدوا يُرِيد غرَّة قومه وَلم يجد شَيْئا يُشِير بِهِ نزع ثَوْبه فألوى بِهِ أَي لوح. (¬2) أدلجوا بِهَمْزَة قطع مَفْتُوحَة وبسكون الدَّال أَي: سَارُوا فِي دلجة اللَّيْل، أَي: ظلامه. (¬3) الْمهل- بِفتْحَتَيْنِ- عدم العجلة، أَي: انْطَلقُوا غير فزعين.

(54) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الْحَج: 49] لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْضَى الْكَلَامُ السَّابِقُ إِلَى تثبيت النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَتَأْنِيسِ نَفْسِهِ فِيمَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِأَنَّ تِلْكَ شَنْشَنَةُ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ فِيمَا جَاءَ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الْحَج: 48] إِلَخْ ... وَأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى النِّذَارَةِ فَمَنْ آمَنَ فَقَدْ نَجَا وَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ هَلَكَ، أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَفْصِيلِ تَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِهِ بِأَنَّهُ لَقِيَ مَا لَقِيَهُ سَلَفُهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنْ مُحَاوَلَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُفْسِدَ بَعْضَ مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ هَدْيِ الْأُمَمِ وَأَنَّهُمْ لَقُوا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مُكَذِّبِينَ وَمُصَدِّقِينَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَقَوْلُهُ: مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيءٍ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، فَأَفَادَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَعْدُ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَعَطْفُ نَبِيءٍ عَلَى رَسُولٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ لِلنَّبِيءِ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الرَّسُولِ: فَالرَّسُولُ: هُوَ الرَّجُلُ الْمَبْعُوثُ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ بِشَرِيعَةٍ. وَالنَّبِيءُ: مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِإِصْلَاحِ أَمْرِ قَوْمٍ بِحَمْلِهِمْ عَلَى شَرِيعَةٍ سَابِقَةٍ أَوْ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا فَالنَّبِيءُ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ. وَالتَّمَنِّي: كَلِمَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَحَقِيقَتُهَا: طَلَبُ الشَّيْءِ الْعَسِيرِ حُصُولُهُ. وَالْأُمْنِيَّةُ: الشَّيْءُ الْمُتَمَنَّى. وَإِنَّمَا يَتَمَنَّى الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُمِِِِْ

كُلُّهُمْ صَالِحِينَ مُهْتَدِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ تَابِعَةٍ لِعُمُومِ أَصْحَابِهَا وَهُوَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيءٍ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَاهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ إِذَا تَمَنَّى أَحَدُهُمْ أُمْنِيَّةً أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِيهَا إِلَخْ، أَيْ فِي حَالِ حُصُولِ الْإِلْقَاءِ عِنْدَ حُصُولِ التَّمَنِّي لِأَنَّ أَمَانِيَّ الْأَنْبِيَاءِ خَيْرٌ مَحْضٌ وَالشَّيْطَانُ دَأْبُهُ الْإِفْسَادُ وَتَعْطِيلُ الْخَيْرِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ أَنْ نُرْسِلَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي حَالِ الْخُلُوِّ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ وَمَكْرِهِ. وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَتُهُ: رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْوَسْوَسَةِ وَتَسْوِيلِ الْفَسَادِ تَشْبِيهًا لِلتَّسْوِيلِ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه: 87] وَقَوْلُهُ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النَّحْل: 86] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها [طه: 96] عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُلْقِي الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، فَإِسْنَادُ التَّمَنِّي إِلَى الْأَنْبِيَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمَنِّي الْهُدَى وَالصَّلَاحِ، وَإِسْنَادُ الْإِلْقَاءِ إِلَى الشَّيْطَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِلْقَاءُ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَدْخَلَ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِ الْأَقْوَامِ ضَلَالَاتٍ تُفْسِدُ مَا قَالَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْإِرْشَادِ. وَمَعْنَى إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّةِ النَّبِيءِ وَالرَّسُولِ إِلْقَاءُ مَا يُضَادُّهَا، كَمَنْ يَمْكُرُ فَيُلْقِي السمّ فِي الدّسم، فَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَسْوَسَتِهِ: أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، وَيُلْقِيَ فِي قُلُوبِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مَطَاعِنَ يَبُثُّونَهَا فِي قَوْمِهِمْ، وَيُرَوِّجُ الشُّبُهَاتِ بِإِلْقَاءِ الشُّكُوكِ الَّتِي تَصْرِفُ نَظَرَ الْعَقْلِ عَنْ تَذَكُّرِ الْبُرْهَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُ الْإِرْشَادَ وَيُكَرِّرُ الْهَدْيَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ، وَيَفْضَحُ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ وَسُوءَ فِعْلِهِِِِِ

بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] . فَاللَّهُ بِهَدْيِهِ وَبَيَانِهِ يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، أَيْ يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ بِبَيَانِ اللَّهِ الْوَاضِحِ، وَيَزِيدُ آيَاتِ دَعْوَةِ رُسُلِهِ بَيَانًا، وَذَلِكَ هُوَ إِحْكَامُ آيَاتِهِ، أَيْ تَحْقِيقُهَا وَتَثْبِيتُ مَدْلُولِهَا وَتَوْضِيحُهَا بِمَا لَا شُبْهَةَ بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَقَدْ فَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَمَنَّى بِمَعْنَى قَرَأَ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ كُتُبِ اللُّغَةِ وَذَكَرُوا بَيْتًا نَسَبُوهُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَذَكَرُوا قِصَّةً بِرِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ سَنَذْكُرُهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْقَوْلُ فِيهِ هُوَ وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ سَوَاءٌ، أَيْ إِذَا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ لِيَهْتَدُوا بِهِ أَلَقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، أَيْ فِي قِرَاءَتِهِ، أَيْ وَسْوَسَ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ بِوَسْوَسَتِهِ لِلنَّاسِ التَّكْذِيبَ وَالْإِعْرَاضَ عَنِ التَّدَبُّرِ. فَشِبْهُ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ بِوَسْوَسَتِهِ لِلْكَافِرِينَ عَدَمُ امْتِثَالِ النَّبِيءِ بِإِلْقَاءِ شَيْء فِي شَيْءٍ لِخَلْطِهِ وَإِفْسَادِهِ. وَعِنْدِي فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأُمْنِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ شَكٌّ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ تَمَنَّى بِمَعْنَى قَرَأَ فِي بَيْتٍ نُسِبَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ إِنْ صَحَّتْ رِوَايَةُ الْبَيْتِ عَنْ حَسَّانَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي مِصْرَاعِهِ الْأَخِيرِ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّي دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى مَهَل فَلَا أَظُنُّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ يُقَالُ لَهَا أُمْنِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءِ إِذَا تَمَنَّى هَدْيَ قَوْمِهِ أَوْ حَرَصَ عَلَى ذَلِك فلقي مِنْهُم الْعِنَادَ، وَتَمَنَّى حُصُولَ هُدَاهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ خَاطِرَ الْيَأْسِ مَنْ هُدَاهُمْ عَسَى أَنْ يُقْصِرَ النَّبِيءَِِِِِِ

مِنْ حِرْصِهِ أَوْ أَنْ يُضْجِرَهُ، وَهِيَ خَوَاطِرُ تَلُوحُ فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ تَعْتَرِضُهَا فَلَا يَلْبَثُ ذَلِكَ الْخَاطِرُ أَنْ يَنْقَشِعَ وَيَرْسَخَ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الدَّأْبِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الرُّشْدِ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُلَوِّحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْأَنْعَام: 35] . وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ إِحْكَامَ الْآيَاتِ وَتَقْرِيرَهَا أَهَمُّ مِنْ نَسْخِ مَا يلقِي الشَّيْطَان إِذْ بِالْإِحْكَامِ يَتَّضِحُ الْهُدَى وَيَزْدَادُ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ نَسْخًا. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ يَرْجُونَ اهْتِدَاءَ قَوْمِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا فَيُبَلِّغُونَهُمْ مَا يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ وَيَعِظُونَهُمْ وَيَدْعُونَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّ أُمْنِيَّتَهُمْ قَدْ نَجَحَتْ وَيَقْتَرِبُ الْقَوْمُ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قَوْلَهُمْ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 41- 42] فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ فَلَا يَزَالُ يُوَسْوِسُ فِي نُفُوسِ الْكُفَّارِ فَيَنْكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَتِلْكَ الْوَسَاوِسُ ضُرُوبٌ شَتَّى مِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِحُبِّ آلِهَتِهِمْ، وَمِنْ تَخْوِيفِهِمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ نَبْذِ دِينِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الضَّلَالَاتِ الَّتِي حُكِيَتْ عَنْهُمْ فِي تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ، فَيَتَمَسَّكُ أَهْلُ الضَّلَالَةِ بِدِينِهِمْ وَيَصُدُّونَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 42] وَقَوْلِهِ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] . وَكُلَّمَا أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ دَعْوَةَ الرُّسُلِ أَمَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ فَعَاوَدُوا الْإِرْشَادَ وَكَرَّرُوهُ وَهُوَ سَبَبُ تَكَرُّرِ مَوَاعِظَ مُتَمَاثِلَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَبِتِلْكَِِِِ

الْمُعَاوَدَةِ يَنْسَخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَتَثْبُتُ الْآيَاتُ السَّالِفَةُ. فَالنَّسْخُ: الْإِزَالَةُ، وَالْإِحْكَامُ: التَّثْبِيتُ. وَفِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ ينْسَخ آثَار مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، وَيُحْكِمُ آثَارَ آيَاتِهِ. وَاللَّامَانِ فِي قَوْلِهِ لِيَجْعَلَ وَفِي قَوْله وَلِيَعْلَمَ متعلقان بِفِعْلِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ فَإِنَّ النَّسْخَ يَقْتَضِي مَنْسُوخًا، وَفِي يَجْعَلُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ. وَالْجَعْلُ هُنَا: جَعْلُ نِظَامِ تَرَتُّبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَتَكْوِينِ تَفَاوُتِ الْمَدَارِكِ وَمَرَاتِبِ دَرَجَاتِهَا. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ الشَّيْطَانَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِأَصْلِ فِطْرَتِهِ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ فِيهِ دَاعِيَةَ الْإِضْلَالِ، وَنَسْخُ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَآيَاتِهِ لِيَكُونَ مِنْ ذَلِكَ فِتْنَةُ ضَلَالِ كُفْرٍ وَهَدْيُ إِيمَانٍ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَابِلِيَّاتِ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 39- 40] . وَلَامُ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّرَتُّبِ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [الْقَصَص: 8] . وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى التَّعْقِيبِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ، أَيْ تَحْصُلُ عَقِبَ النَّسْخِ الَّذِي فَعَلَهُ اللَّهُ فتْنَة من افْتتن مَنْ الْمُشْرِكِينَ بِانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي أَدِلَّةِ نَسْخِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ، وَعَنِ اسْتِمَاعِ مَا أَحْكَمَ اللَّهُ بِهِ آيَاتِهِ، فَيَسْتَمِرُّ كُفْرُهُمْ وَيَقْوَى. وَأَمَّا لَامُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَهِيَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَي ينْسَخ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ لِإِرَادَةِ أَنْ يَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ بِرُسُوخِ مَا تَمَنَّاهُ الرَّسُولُ وَالْأَنْبِيَاءُ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى كَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِمَا يُحْكِمُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ ازْدِيَادُ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ.

ولِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُتَرَدِّدُونَ فِي قَبُولَ الْإِيمَانِ. والْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْكَافِرُونَ الْمُصَمِّمُونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَالْفَرِيقَانِ هُمُ الْمُرَادُ بِ الظَّالِمِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. فَذِكْرُ الظَّالِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِمْ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ هِيَ ظُلْمُهُمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ. وَالشِّقَاقُ: الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ. وَالْبَعِيدُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: الْبَالِغِ حَدًّا قَوِيًّا فِي حَقِيقَتِهِ. تَشْبِيهًا لِانْتِشَارِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ بِانْتِشَارِ الْمَسَافَةِ فِي الْمَكَانِ الْبَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] أَيْ دُعَاءٍ كَثِيرٍ مُلِحٍ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِقَرِينَةِ مُقَابلَته ب لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَبِقَوْلِهِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْوَحْيُ وَالْكُتُبُ الَّتِي أُوتِيهَا أَصْحَابُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ فَإِنَّهُمْ بِهَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِطْلَاقُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على الْمُؤمنِينَ تكَرر فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى أَصْحَابِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَهُوَ عِلْمُ الدِّينِ الَّذِي يُبَلِّغُهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّ نُورَ النُّبُوءَةِ يُشْرِقُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ الرَّسُولَ. وَلِذَلِكَ تَجِدُ مَنْ يَصْحَبُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الْإِيمَانِ جِلْفًا فَإِذَا آمَنَ انْقَلَبَ حَكِيمًا، مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» .

وَضَمِيرُ أَنَّهُ الْحَقُّ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُوتُوهُ، أَيْ لِيَزْدَادُوا يَقِينًا بِأَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ الْحَقُّ لَا غَيْرُهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ مِنَ التَّشْكِيكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّضْلِيلِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَنَّهُ عَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ، أَيْ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَقُّ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَواد وبلق ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ أَي كَانَ كالمذكور. وَقَوْلُهُ فَيُؤْمِنُوا بِهِ مَعْنَاهُ: فَيَزْدَادُوا إِيمَانًا أَوْ فَيُؤْمِنُوا بِالنَّاسِخِ وَالْمُحْكَمِ كَمَا آمَنُوا بِالْأَصْلِ. وَالْإِخْبَاتُ: الِاطْمِئْنَانُ وَالْخُشُوعُ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الْحَج: 34] ، أَيْ فَيَسْتَقِرُّ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: 260] . وَبِمَا تَلَقَّيْتَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِظَامِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ الْمُسْتَقِلِّ بِدَلَالَتِهِ وَالْمُسْتَغْنَى بِنَهْلِهِ عَنْ عُلَالَتِهِ، وَالسَّالِمِ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى ضَمِيمَةِ الْقَصَصِ تَرَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا أَلْصَقَهُ بِهَا الْمُلْصِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ فِي عُلُومِ السُّنَّةِ، وَتَلَقَّاهُ مِنْهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حُبًّا فِي غَرَائِبِ النَّوَادِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، مِنْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَفْسَدُوا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى تَجَاوَزُوا بِهَذَا الْإِلْصَاقِ إِلَى إِفْسَادِ مَعَانِي سُورَةِ النَّجْمِ، فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرْطُبِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكِ وَأَقْرَبُهَا رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ كَثِيرٌ أَهْلُهُ مِنْ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ

النَّجْمِ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: 19، 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ بَيْنَ السَّامِعِينَ عَقِبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقَ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِأَنْ ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ سَجْدَةٌ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَلَمَّا سَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ سَجَدَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِأَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا حَتَّى شَاعَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَجَعَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ نَفَرٌ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّ الشَّيْطَان ألْقى فِي الْقَوْم، فَأَعْلَمَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ تَسْلِيَةً لَهُ. وَهِيَ قِصَّةٌ يَجِدُهَا السَّامِعُ ضِغْثًا عَلَى إِبَّالَةٍ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهَا النِّحْرِيرُ بَالَهُ. وَمَا رُوِيَتْ إِلَّا بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ وَمُنْتَهَاهَا إِلَى ذِكْرِ قِصَّةٍ، وَلَيْسَ فِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا سَمَاعُ صَحَابِيٍّ لِشَيْءٍ فِي مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَدُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَدٌ مَطْعُونٌ. عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ نَزَلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ كَانَ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ تُعَارِضُ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ أَصْلَ عصمَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الْتِبَاسَ عَلَيْهِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ. وَيَكْفِي تَكْذِيبًا لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: 3] وَفِي مَعْرِفَةِ الْملك. فَلَو رووها الثِّقَاتُ لَوَجَبَ رَفْضُهَا وَتَأْوِيلُهَا فَكَيْفَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ. وَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ تَسْفِيهُ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] إِلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: 23] فَيَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَدْحُهَا بِأَنَّهَا «الْغَرَانِيقُ العلى وَأَن شفاعتهن لَتُرْتَجَى» . وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَلَامٌ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَاكُونَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ كُلَّهَا

حَتَّى خَاتِمَتِهَا فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم: 62] لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَجَدُوا حِينَ سَجَدَ الْمُسْلِمُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا السُّورَةَ كُلَّهَا وَمَا بَيْنَ آيَةِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] وَبَيْنَ آخِرِ السُّورَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي إِبْطَالِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَزْيِيفٌ كَثِيرٌ لِعَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَجَدُوا مِنْ أَجْلِ الثَّنَاءِ عَلَى آلِهَتِهِمْ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ مَكْذُوبَةً مِنْ أَصْلِهَا فَإِنَّ تَأْوِيلَهَا: أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ وَجَدُوا ذِكْرَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فُرْصَةً لِلدَّخَلِ لِاخْتِلَاقِ كَلِمَاتٍ فِي مَدْحِهِنَّ، وَهِيَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ وَرَوَّجُوهَا بَيْنَ النَّاسِ تَأْنِيسًا لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِلْقَاءً لِلرَّيْبِ فِي قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. وَفِي «شَرْحِ الطِّيبِيِّ عَلَى الْكَشَّافِ» نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ: أَنَّ كَلِمَاتِ «الْغَرَانِيقِ ... » (أَيْ هَذِهِ الْجُمَلُ) مِنْ مُفْتَرِيَاتِ ابْنِ الزِّبَعْرَى. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ قِصَّةُ آلِهَةِ الْعَرَبِ (أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] إِلَخْ) فَجَعَلَ يَتْلُو: اللَّاتَ وَالْعُزَّى (أَيِ الْآيَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى هَذَا) فَسَمِعَ أَهْلُ مَكَّةَ نَبِيءَ اللَّهِ يَذْكُرُ آلِهَتَهُمْ فَفَرِحُوا ودنوا بستمعون فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْغَرَانِيقَ الْعُلَى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى» فَإِنَّ قَوْلَهُ: «دَنَوْا يَسْتَمِعُونَ فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ» إِلَخْ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا أَوَّلَ السُّورَةِ وَلَا آخِرَهَا وَأَنَّ شَيْطَانَهُمْ أَلْقَى تِلْكَ الْكَلِمَاتِ. وَلَعَلَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى كَانَتْ لَهُ مَقْدِرَةٌ عَلَى مُحَاكَاةِ الْأَصْوَاتِ وَهَذِهِ مَقْدِرَةٌ تُوجَدُ فِي بَعْضِ النَّاسِ. وَكُنْتُ أَعْرِفُ فَتًى مِنْ أَتْرَابِنَا مَا يُحَاكِي صَوْتَ أَحَدٍ إِلَّا ظَنَّهُ السَّامِعُ أَنَّهُ صَوْتُ الْمُحَاكَى. وَأَمَّا تَرْكِيبُ تِلْكَ الْقِصَّةِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَجَدُوا فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ لَمَّا سَجَدَ الْمُسْلِمُونَ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ، فَذَلِكَ مِنْ تَخْلِيطِ الْمُؤَلِّفِينَ.

وَكَذَلِكَ تَرْكِيبُ تِلْكَ الْقِصَّةِ عَلَى آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ. وَكَمْ بَيْنَ نُزُولِ سُورَةِ النَّجْمِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ وَبَيْنَ نُزُولِ سُورَةِ الْحَجِّ الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلْ بِالْمَدِينَةِ وَبَعْضُهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَكَذَلِكَ رَبْطُ تِلْكَ الْقِصَّةِ بِقِصَّةِ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ. وَكَمْ بَيْنَ مُدَّةِ نُزُولِ سُورَةِ النَّجْمِ وَبَيْنَ سَنَةِ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ. فَالْوَجْهُ: أَنَّ هَذِهِ الشَّائِعَةَ الَّتِي أُشِيعَتْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا هِيَ من اختلافات الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ سُفَهَاءِ الْأَحْلَامِ بِمَكَّةَ مِثْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى، وَأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى آيَةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ فَرَكَّبُوا عَلَيْهَا كَلِمَاتٍ أُخْرَى لِإِلْقَاءِ الْفِتْنَةِ فِي النَّاسِ وَإِنَّمَا خَصُّوا سُورَةَ النَّجْمِ بِهَذِهِ الْمُرْجِفَةِ لِأَنَّهُمْ حَضَرُوا قِرَاءَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَعَلَّقَتْ بِأَذْهَانِهِمْ وَتَطَلُّبًا لِإِيجَادِ الْمَعْذِرَةِ لَهُمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ عَلَى سُجُودِهِمْ فِيهَا الَّذِي جَعَلَهُ الله معْجزَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ سَرَى هَذَا التَّعَسُّفُ إِلَى إِثْبَاتِ مَعْنًى فِي اللُّغَةِ، فَزَعَمُوا أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ، وَالْأُمْنِيَّةُ: الْقِرَاءَةُ، وَهُوَ ادِّعَاءٌ لَا يُوثَقُ بِهِ وَلَا يُوجَدُ لَهُ شَاهِدٌ صَرِيحٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَنْشَدُوا بَيْتًا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي رِثَاءِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنَّ مَعْنَاهُ تَمَنَّى أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ عَلَى عَادَتِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ بِتَشْغِيبِ أَهْلِ الْحِصَارِ عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ آخِرَ اللَّيْلِ. وَلِهَذَا جَعَلَهُ تَمَنِّيًا لِأَنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ. وَرُبَّمَا أَنْشَدُوهُ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى فَظُنَّ أَنَّهُ شَاهِدٌ آخَرُ، وَرُبَّمَا تَوَهَّمُوا الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ بَيْتًا آخَرَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي «الْأَسَاسِ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ عِنْدَ

[سورة الحج (22) : آية 55]

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 78] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ جُمِعَ لَهُمُ الْوَصْفَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فِي سُورَةِ [الرُّومِ: 56] . وَكَمَا فِي سُورَةِ [سَبَأٍ: 6] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ. فَإِظْهَارُ لَفْظِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي مَقَامِ ضَمِيرِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لِقَصْدِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ هُوَ سَبَبُ هَدْيِهِمْ. وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3] . فَالْمُرَادُ بِالْهُدَى فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ عِنَايَةُ اللَّهِ بِتَيْسِيرِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ هَدَى الْفَرِيقَيْنِ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ فَمِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَى وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَهادِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ وَاعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْوَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ. وَفِي الْوَقْفِ يُثْبِتُ يَعْقُوبُ الْيَاءَ بِخِلَاف الْبَقِيَّة. [55] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 55] وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) لَمَّا حَكَى عَنِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ إِبْطَالِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً. خَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ عَمَّهُمْ مَعَ جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ بِالرُّسُلِ، فَخَصَّهُمْ بِأَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّ شَكُّهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ

[سورة الحج (22) : الآيات 56 إلى 59]

مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَرَدَّدُونَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِحُلُولَ السَّاعَةِ بَغْتَةً أَوْ بِحُلُولِ عَذَابٍ بِهِمْ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هم مُشْرِكُوا الْعَرَبِ بِقَرِينَةِ الْمُضَارِعِ فِي فِعْلِ لَا يَزالُ وَفِعْلِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الدَّالَّيْنِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ضَمِيرَ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ [الْحَج: 54] . والسَّاعَةُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَالْيَوْمُ: يَوْمُ الْحَرْبِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ عَلَى وَقْتِ الْحَرْبِ. وَمِنْهُ دُعِيَتْ حُرُوبُ الْعَرَبِ الْمَشْهُورَةُ «أَيَّامَ الْعَرَبِ» . وَالْعَقِيمُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ استعير الْعَقِيم للمشؤوم لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا تَلد مشؤومة. فَالْمَعْنَى: يَأْتِيَهُمْ يَوْمٌ يُسْتَأْصَلُونَ فِيهِ قَتْلًا: وَهَذَا إِنْذَارٌ بِيَوْم بدر. [56- 59] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 56 إِلَى 59] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

آذَنَتِ الْغَايَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الْحَج: 55] أَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ زَوَالِ مِرْيَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَانَ ذَلِكَ مَنْشَأَ سُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ صُورَةِ زَوَالِ الْمِرْيَةِ: وَعَنْ مَاذَا يَلْقَوْنَهُ عِنْدَ زَوَالِهَا، فَكَانَ الْمَقَامُ أَنْ يُجَابَ السُّؤَالُ بِجُمْلَةِ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِلَى آخِرِ مَا فِيهَا مِنَ التَّفْصِيلِ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. فَقَوْلُهُ يَوْمَئِذٍ تَقْدِيرُ مُضَافِهِ الَّذِي عَوَّضَ عَنْهُ التَّنْوِينُ: يَوْمَ إِذْ تَزُولُ مِرْيَتُهُمْ بِحُلُولِ السَّاعَةِ وَظُهُورِ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ، أَوْ يَوْمَ إِذْ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً. وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ اشْتِمَالٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ. وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمُ: الْحُكْمُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنِ ادِّعَاءِ كُلِّ فَرِيقٍ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْ ضِدَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [الْحَج: 54] وَقَوْلُهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [الْحَج: 55] فَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُهُورِ آثَارِ الْحَقِّ لِفَرِيقٍ وَظُهُورِ آثَارِ الْبَاطِلِ لِفَرِيقٍ، وَقَدْ فُصِّلَ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِأَثَرِ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى تَفْصِيلِ أَصْلِهِ، أَيْ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَأُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عُمُومُهُ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْهِجْرَةِ، وَلِأَجْلِهَا اسْتَوَى أَصْحَابُهَا فِي دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَدَلَّتْ جُمْلَةُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمُلْكِ مَقْصُورَةٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْكَوْنِ مُلْكًا لِلَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] أَيْ لَا مُلْكَ لِغَيْرِهِ يَوْمَئِذٍ. وَالْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ هُوَ جُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِذْ هم الْبَدَلُ. وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ جُمْلَةُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ تَمْهِيدًا لَهَا وَلِيَقَعَ الْبَيَانُ بِالْبَدَلِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْمُهِينَ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِفَتِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْآيَاتِ. وَالْمُهِينُ: الْمُذِلُّ، أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا فِيهِ مَذَلَّتُهُمْ كَالضَّرْبِ بِالْمَقَامِعِ وَنَحْوِهِ. وَقُرِنَ فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بِالْفَاءِ لِمَا تَضَمَّنَهُ التَّقْسِيمُ مِنْ مَعْنَى حَرْفِ التَّفْصِيلِ وَهُوَ (أَمَّا) ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ثَوَابُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا لِسُؤَالِ مَنْ يَتَرَقَّبُ مُقَابَلَةَ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِعِقَابِ الْكَافِرِينَ وَتِلْكَ الْمُقَابَلَةُ مِنْ مَوَاقِعِ حَرْفِ التَّفْصِيلِ. وَالرِّزْقُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَفَضَّلُ بِهِ مِنْ أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ، وَوَصْفُهُ بِالْحُسْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ يُرْضِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يَتَطَلَّبُونَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً، وَهِيَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ كَرَامَةَ الْمَنْزِلِ مِنْ جُمْلَةِ

[سورة الحج (22) : آية 60]

الْإِحْسَانِ فِي الْعَطَاءِ بَلْ هِيَ أَبْهَجُ لَدَى أَهْلِ الْهِمَمِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ الْمَدْخَلُ بِ يَرْضَوْنَهُ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَصَرِيحُهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ. وَكِنَايَتُهَا التَّعْرِيضُ بِأَنَّ الرِّزْقَ الَّذِي يَرْزُقُهُمَ اللَّهُ هُوَ خَيْرُ الْأَرْزَاقِ لِصُدُورِهِ مِنْ خَيْرِ الرَّازِقِينَ. وَأُكِّدَتَ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِهِ وَضَمِيرِ الْفَصْلِ تَصْوِيرًا لِعَظَمَةِ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ عَلِيمٌ بِمَا تَجَشَّمُوهُ مِنَ الْمَشَاقِّ فِي شَأْنِ هِجْرَتِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهُوَ حَلِيمٌ بهم فِيمَا لَا قوه فَهُوَ يجازيهم بِمَا لقوه مِنْ أَجْلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ مَزِيَّةَ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ مُدْخَلًا- بِفَتْحِ الْمِيم- على أَنه اسْمُ مَكَانٍ مِنْ دَخَلَ الْمُجَرَّدِ لِأَنَّ الْإِدْخَالَ يَقْتَضِي الدُّخُولَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِضَمِّ الْمِيمِ- جَرْيًا عَلَى فِعْلِ لَيُدْخِلَنَّهُمْ الْمَزِيدِ وَهُوَ أَيْضًا اسْمُ مَكَان للإدخال. [60] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 60] ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لَفْتًا لِأَذْهَانِ السَّامِعِينَ إِلَى مَا سَيَجِيءُ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْحَج: 30] . وَجُمْلَةُ وَمَنْ عاقَبَ إِلَخْ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْحَج: 58] الْآيَةَ.

وَالْغَرَضُ مِنْهَا التَّهْيِئَةُ لِلْجِهَادِ وَالْوَعْدُ بِالنَّصْرِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ سَابِقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَج: 39- 40] ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ مُعْتَرِضًا فِي خِلَالِ النَّعْيِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ وَكُفْرِهِمُ النِّعَمَ، فَأُكْمِلَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ بِمَا فِيهِ مِنِ انْتِقَالَاتٍ، ثُمَّ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ لَمْحَةٌ فَعَادَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى الْوَعْدِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْقَوْمَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ كَمَا وَعَدَهُمْ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ. وَجِيءَ بِإِشَارَةِ الْفَصْلِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا بعده. وَمَا صدق (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ الْعُمُومُ لِقَوْلِهِ فِيمَا سَلَفَ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: 39] ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ قِتَالُ جَزَاءٍ عَلَى اعْتِدَاءٍ سَابِقٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: 39] . وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْجَمْعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39] إِلَى أُسْلُوبِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ عاقَبَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِرَادَةِ الْعُمُوم من هَذَا الْكَلَامُ لِيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ. وَلَمَّا أَتَى فِي الصِّلَةِ هُنَا بِفِعْلِ عاقَبَ مَعَ قَصْدِ شُمُولِ عُمُومِ الصِّلَةِ لِلَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْقِتَالَ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِهِ قِتَالُ جَزَاءٍ عَلَى ظُلْمٍ سَابِقٍ. وَفِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ لِقَانُونِ الْعِقَابِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْعُدْوَانِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ، أَيْ أَنْ لَا يَكُونَ أَشَدَّ مِنْهُ. وَسُمِّيَ اعْتِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِقَابًا فِي قَوْلِهِ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِي دَفَعَ الْمُعْتَدِينَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ قَصْدُ الْعِقَابِ عَلَى خُرُوجِهِمْ عَنْ دِينِ الشِّرْكِ وَنَبْذِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ. وَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ

ظُلْمٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا مَضَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الْحَج: 40] . وَمَعْنَى بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْجِنْسِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ آذَوُا الْمُسْلِمِينَ وَأَرْغَمُوهُمْ عَلَى مُغَادَرَةِ مَوْطِنِهِمْ فَيَكُونُ عِقَابُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ مَنْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَطَنِ. وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْجِهَادِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَهْلَ كَثْرَةٍ وَكَانُوا مُسْتَعْصِمِينَ بِبَلَدِهِمْ فَإِلْجَاءُ مَنْ يُمْكِنُ إِلْجَاؤُهُ إِلَى مُفَارَقَةِ وَطَنِهِ، إِمَّا بِالْقِتَالِ فَهُوَ إِخْرَاجٌ كَامِلٌ، أَوْ بِالْأَسْرِ. وثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ، فَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ الْبَغْيَ عَلَيْهِ أَهَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ إِذْ كَانَ مَبْدُوءًا بِالظُّلْمِ كَمَا يُقَالُ «الْبَادِئُ أَظْلَمُ» . فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مَحْقُوقِينَ بِأَنْ يُعَاقَبُوا لِأَنَّهُمْ بَغَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التَّوْبَة: 13] . وَكَانَ هَذَا شَرْعًا لِأَصُولِ الدِّفَاعِ عَنِ الْبَيْضَةِ، وَأَمَّا آيَاتُ التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ فَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ تَنْزِيلِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِي شَرْعِ مُعَامَلَاتِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَقَدْ أَكَّدَ لَهُمُ اللَّهُ نَصْرَهُ إِنْ هُمُ امْتَثَلُوا لِمَا أُذِنُوا بِهِ وَعَاقَبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبُوا بِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْآيَة تكلفات تنبىء عَنْ حَيْرَةٍ فِي تَلْئِيمِ مَعَانِيهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تَعْلِيلٌ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْعِقَابِ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ دُونَ الزِّيَادَةِ فِي الِانْتِقَامِ مَعَ أَنَّ الْبَادِئَ أَظْلَمُ بِأَنَّ عَفْوَ اللَّهِ وَمَغْفِرَتَهُ لِخَلْقِهِ قَضَيَا بِحِكْمَتِهِ أَنْ لَا يَأْذَنَ إِلَّا بِمُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلذَّنْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ بِالْحَقِّ. وَمِمَّا يُؤْثَرُ عَنْ كِسْرَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بِمَ دَامَ مُلْكُكُمْ؟ فَقَالَ:

[سورة الحج (22) : آية 61]

لِأَنَّنَا نُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْغَضَبِ، فَلَيْسَ ذكر وصفي لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِيمَاءً إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ اتِّبَاعًا لِلتَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الْحَج: 59] لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَمِرٌّ فِي شَأْنهمْ. [61] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 61] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) لَيْسَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِثْلَ شَبِيهِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلِ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الدَّالِّ عَلَى تَكَفُّلِ النَّصْرِ، فَإِنَّ النَّصْرَ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى ضِدِّهِ وَإِقْحَامَ الْجَيْشِ فِي الْجَيْشِ الْآخَرِ فِي الْمَلْحَمَةِ، فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِتَغْلِيبِ مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَتَغْلِيبِ مُدَّةِ اللَّيْلِ عَلَى مُدَّةِ النَّهَارِ فِي بَعْضِهَا، لِمَا تَقَرَّرَ مِنِ اشْتِهَارِ التَّضَادِّ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا اسْتِعَارَةُ التَّلْبِيسِ لِلْإِقْحَامِ فِي الْحَرْبِ فِي قَوْلِ الْمَرَّارِ السُّلَمِيِّ: وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ حَتَّى ... إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي فَخَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ: بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَكْرِيرًا لِشَبِيهِهِ السَّابِقِ لِقَصْرِ تَوْكِيدِهِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ لِأَنَّ جُمْلَةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَخْ، مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ إِلَخْ، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ جَعْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الْحَج: 60] . وَالْإِيلَاجُ: الْإِدْخَالُ. مُثِّلَ بِهِ اخْتِفَاءُ ظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ نُورِ النَّهَارِ وَعَكْسِهِ تَشْبِيهًا لِذَلِكَ التَّصْيِيرِ بِإِدْخَالِ جِسْمٍ فِي جِسْمٍ آخَرَ،

فَإِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ: غَشَيَانُ ضَوْءِ النَّهَارِ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِيلَاجُ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ: غَشَيَانُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَوْءِ النَّهَارِ. فَالْمُولَجُ هُوَ الْمُخْتَفِي، فَإِيلَاجُ اللَّيْلِ انْقِضَاؤُهُ. وَاسْتِعَارَةُ الْإِيلَاجِ لِذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ لِأَنَّ تَقَلُّصَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَحْصُلُ تَدْرِيجًا، وَكَذَلِكَ تَقَلُّصُ ضَوْءِ النَّهَارِ يَحْصُلُ تَدْرِيجًا، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ إِيلَاجَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ إِذْ يَبْدُو دَاخِلًا فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لَا عَجَبَ فِي النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَعَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَغْلِيبِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ حِينًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمْرُهُمَا عَلَى الْعَكْسِ حِينًا آخَرَ قَادِرٌ عَلَى تَغْلِيبِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، فَصَارَ حَاصِلُ الْمَعْنَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهِمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَقَلُّبِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ فَقَدْ يَصِيرُ الْمَغْلُوبُ غَالِبًا، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْغَالِبُ مَغْلُوبًا. مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الْمُتَضَادَّةِ وَلَا تَلْزَمُ طَرِيقَةً وَاحِدَةً كَقُدْرَةِ الصُّنَّاعِ مِنَ الْبَشَرِ. وَفِيهِ إِدْمَاجُ التَّنْبِيهِ بِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي اسْتَبْطَأَهُ الْمُشْرِكُونَ مَنُوطٌ بِحُلُولِ أَجَلِهِ، وَمَا الْأَجَلُ إِلَّا إِيلَاجُ لَيْلٍ فِي نَهَارٍ وَنَهَارٍ فِي لَيْلٍ. وَفِي ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِاللَّيْلِ وَالْإِسْلَامِ بِالنَّهَارِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضَلَالَةُ اعْتِقَادٍ، فَصَاحِبُهُ مِثْلُ الَّذِي يَمْشِي فِي ظُلْمَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ نُورٌ يَتَجَلَّى بِهِ الْحَقُّ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ، فَصَاحِبُهُ كَالَّذِي يَمْشِي فِي النَّهَارِ، فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيلَاجَ الْمَقْصُودَ هُوَ ظُهُورُ النَّهَارِ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَيْ ظُهُورُ الدِّينِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُلْمَةِ الْإِشْرَاكِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ فِي الْآيَةِ بِإِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، أَيْ دُخُولِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ تَحْتَ ضَوْءِ النَّهَارِ.

[سورة الحج (22) : آية 62]

وَقَوْلُهُ: وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ تَتْمِيمٌ لِإِظْهَارِ صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 27] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ. وَعَطْفُ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلَى السَّبَبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَهُوَ يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَيَعِدُ بِالنَّصْرِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا عَن حِكْمَة. [62] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 62] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) اسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا تَكْرِيرٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي سَبَقَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الَّذِي إِذَا أَرَادَ فَعَلَ وَقَدَّرَ فَهُوَ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنَّ مَا يَدْعُوهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ الْبَاطِلُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَهَذَا عَلَى حَمْلِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ مَحْمِلُ الْمُفَسِّرِينَ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ فِي نَظِيرِهَا: أَنَّ الْأَظْهَرَ حَمْلُ الْبَاءِ عَلَى الْمُلَابَسَةِ لِيَلْتَئِمَ عَطْفُ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ. وَالْحَقُّ: الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، أَيِ الصِّدْقُ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ: وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الْحَقُّ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَالْقَصْرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبَاطِلٍ غَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَاطِلِ. وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيرِ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّ

[سورة الحج (22) : آية 63]

الْمَقَامَ مَقَامُ مُنَاضَلَةٍ وَتَوَعُّدٍ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَامِ وَأَوْثَانِ غَيْرِ الْعَرَبِ بَاطِلٌ أَيْضًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِسْمَاعُهُمْ وَالتَّعْرِيضُ بِاقْتِرَابِ الِانْتِصَارِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَعُلُوُّ اللَّهِ: مُسْتَعَارٌ لِلْجَلَالِ وَالْكَمَالِ التَّامِّ. وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ، أَيْ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ دُونَ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا إِذْ لَيْسَ لَهَا كَمَالٌ وَلَا قُدْرَةٌ ببرهان الْمُشَاهدَة. [63] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 63] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) انْتِقَالٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِمُنَاسَبَةِ مَا جَرَى مِنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [الْحَج: 62] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ عَقِبَ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الْحَج: 66] ، أَيِ الْإِنْسَانُ الْمُشْرِكُ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِدْمَاجُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَهُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا جَرَى مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَهُ الْبَاطِلُ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ تَصْلُحُ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مَشْهُورٌ.

وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارِيٌّ، نَزَلَتْ غَفْلَةُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ الْعَدَمُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ أَهْمَلُوا الشُّكْرَ وَالِاعْتِبَارَ. وَإِنَّمَا حُكِيَ الْفِعْلُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْإِنْكَارِيُّ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ (لَمْ) الَّذِي يُخَلِّصُهُ إِلَى الْمُضِيِّ، وَحُكِيَ مُتَعَلِّقُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَهُوَ الْإِنْزَالُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي كَذَلِكَ وَلَمْ يُرَاعَ فِيهِمَا مَعْنَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ لِأَنَّ مَوْقِعَ إِنْكَارِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُ أَمْرًا مُتَقَرِّرًا مَاضِيًا لَا يدّعى جَهله. وفَتُصْبِحُ بِمَعْنَى تَصِيرُ فَإِنَّ خَمْسًا مِنْ أَخَوَاتِ (كَانَ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: صَارَ. وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الشُّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَقْوَاتِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ بِذِكْرِ لَوْنِهِ الْأَخْضَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّوْنَ مُمْتِعٌ لِلْأَبْصَارِ فَهُوَ أَيْضًا مُوجِبُ شُكْرٍ عَلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ جَمَالِ الْمَصْنُوعَاتِ فِي الْمَرْأَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] . وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ مَصِيرِ الْأَرْضِ خَضْرَاءَ بِصِيغَةِ تُصْبِحُ مُخْضَرَّةً مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُفَرَّعٌ عَلَى فِعْلِ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ قَصَدَ مِنَ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارَ تِلْكَ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِإِفَادَةِ بَقَاءِ أَثَرِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ كَمَا تَقُولُ: أَنْعَمَ فَلَانٌ عَلَيَّ فَأَرُوحُ وَأَغْدُو شَاكِرًا لَهُ. وَفِعْلُ تُصْبِحُ مُفَرَّعٌ عَلَى فِعْلِ أَنْزَلَ فَهُوَ مُثْبَتٌ فِي الْمَعْنَى. وَلَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَى النَّفْيِ وَلَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبْ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالْفَاءِ جَوَابٌ لِلنَّفْيِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ فَتُصْبِحَ الْأَرْضُ.

[سورة الحج (22) : آية 64]

قَالَ سِيبَوَيْهِ: «وَسَأَلْتُهُ (يَعْنِي الْخَلِيلَ) عَنْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فَقَالَ: هَذَا وَاجِبٌ (أَيِ الرَّفْعُ وَاجِبٌ) وَهُوَ تَنْبِيهٌ كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَتَسْمَعُ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا اه. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «لَوْ نُصِبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ (أَيِ الْكَلَامَ) إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ. مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرُ، إِنْ نَصَبْتَهُ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٍّ تَفْرِيطَهُ فِيهِ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ» اه. وَالْمُخْضَرَّةُ: الَّتِي صَارَ لَوْنُهَا الْخُضْرَةَ. يُقَالُ: اخْضَرَّ الشَّيْءُ، كَمَا يُقَالُ: اصْفَرَّ الثَّمَرُ وَاحْمَرَّ، وَاسْوَدَّ الْأُفُقُ: وَصِيغَةُ افْعَلَّ مِمَّا يُصَاغُ لِلِاتِّصَافِ بِالْأَلْوَانِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْإِنْزَالِ، أَيْ أَنْزَلَ الْمَاءَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَيْهِ الِاخْضِرَارُ لِأَنَّهُ لَطِيفٌ، أَيْ رَفِيقٌ بِمَخْلُوقَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِتَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ على أَسبَابهَا. [64] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 64] لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الْحَج: 63] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْخَالِقِيَّةِ وَالْمُلْكِ الْحَقِّ لِيُعْلَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَعْبُودِيَّةِ فَيُرَدَّ زَعْمُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَصَرْفُ عِبَادَتِهِمْ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ ذِكْرُ إِنْزَالِ

الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الْعُشْبِ فَمَا ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْغَرَضِ لِأَنَّ هَذِهِ تَتَنَزَّلُ مِنَ الْأُولَى مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ بِالْعُمُومِ الشَّامِلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَا تَتَضَمَّنُ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ. أَيْ لَهُ ذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَامِكُمْ، إِنْ جَعَلْتَ الْقَصْرَ إِضَافِيًّا، أَوْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغِنَى غَيْرِهِ وَمَحْمُودِيَّتِهِ إِنْ جَعَلْتَ الْقَصْرَ ادِّعَائِيًّا. وَنُبِّهَ بِوَصْفِ الْغِنَى عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْغِنَى فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ عَدَمُ الِافْتِقَارِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا إِلَى مَحَلٍّ وَلَا إِلَى مُخَصَّصٍ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ وَالْعَكْسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ افْتِقَارَ الْأَصْنَامِ إِلَى مَنْ يَصْنَعُهَا وَمَنْ يَنْقُلُهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَمَنْ يَنْفُضُ عَنْهَا الْقَتَامَ وَالْقَذَرَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا. وَأَمَّا وَصْفُ الْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ كَثِيرًا، فَذِكْرُهُ لِمُزَاوَجَةِ وَصْفِ الْغِنَى لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُفِيضٌ عَلَى النَّاسِ فَهُمْ يَحْمَدُونَهُ. وَفِي ضَمِيرِ الْفَصْلِ إِفَادَةُ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِوَصْفِ الْغِنَى دُونَ الْأَصْنَامِ وَبِأَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَحْمُودِيَّةِ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يُوَجِّهُونَ الْحَمْدَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَكَّدَ الْحَصْرَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ تَحْقِيقًا لِنِسْبَةِ الْقَصْرِ إِلَى الْمَقْصُورِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب: «إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ» . وَهَذَا التَّأْكِيدُ لِتَنْزِيلِ تَحَقُّقِهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِالْغِنَى أَوِ الْمَحْمُودِيَّةِ مَنْزِلَةَ الشَّكِّ أَوِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ حِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ مَنْ وَصفه الْغنى.

[سورة الحج (22) : آية 65]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 65] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) هَذَا مِنْ نَسَقِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ الله وَاقع موقه قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الْحَج: 63] ، فَهُوَ مِنْ عِدَادِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ كالتكرير للغرض، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ تَسْخِيرِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ إِدْمَاجُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالتَّسْخِيرِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مُسْتَأْنَفَةٌ كَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [الْحَج: 63] . وَالْخِطَابُ هُنَا وَالِاسْتِفْهَامُ كِلَاهُمَا كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَالتَّسْخِيرُ: تَسْهِيلُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ مَانِعٍ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِصُعُوبَةِ الِانْتِفَاعِ لَوْلَا ذَلِكَ التَّسْخِيرُ، وَأَصْلُهُ تَسْهِيلُ الِانْتِفَاعِ بِمَا فِيهِ إِرَادَةُ التَّمَنُّعِ مِثْلُ تَسْخِيرِ الْخَادِمِ وَتَسْهِيلِ اسْتِخْدَامِ الْحَيَوَانِ الدَّاجِنِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْبَقْرِ، وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهَا بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا طَبْعَ الْخَوْفِ مِنَ الْإِنْسَانِ مَعَ تَهْيِئَتِهَا لِلْإِلْفِ بِالْإِنْسَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى تَسْهِيلِ الِانْتِفَاعِ بِمَا فِي طَبْعِهِ أَوْ فِي حَالِهِ مَا يُعَذَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَوْلَا مَا أَلْهَمَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانَ مِنْ وَسَائِلِ التَّغَلُّبِ عَلَيْهَا بِتَعَرُّفِ نَوَامِيسِهِ وَأَحْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَوْقَاتِ ظُهُورِهِ، وَبِالِاحْتِيَالِ عَلَى تَمَلُّكِهِ مِثْلِ صَيْدِ الْوَحْشِ وَمَغَاصَاتِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَمِثْلِ آلَاتِ الْحَفْرِ وَالنَّقْرِ لِلْمَعَادِنِ، وَمِثْلِ التَّشْكِيلِ فِي صُنْعِ الْفُلْكِ وَالْعَجَلِ، وَمِثْلِ التَّرْكِيبِ وَالتَّصْهِيرِ فِي صُنْعِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَزْجِيَّاتِ وَالصِّيَاغَةِ، وَمِثْلِ الْإِرْشَادِ إِلَى ضَبْطِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ

الْعَظِيمَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْوَاءِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، بِاعْتِبَارِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي التَّسْخِيرِ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي كَلَامِنَا هُنَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِمَعْنَى التَّسْخِيرِ. وَجُمْلَةُ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفُلْكَ وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَرْيَ فِي الْبَحْرِ هُوَ مَظْهَرُ التَّسْخِيرِ إِذْ لَوْلَا الْإِلْهَامُ إِلَى صُنْعِهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ لَكَانَ حَظُّهَا مِنَ الْبَحْرِ الْغَرَقَ. وَقَوْلُهُ بِأَمْرِهِ هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ إِذْ جَعَلَ الْبَحْرَ صَالِحًا لِحَمْلِهَا، وَأَوْحَى إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْرِفَةَ صُنْعِهَا، ثُمَّ تَتَابَعَ إِلْهَامُ الصُّنَّاعِ لِزِيَادَةِ إِتْقَانِهَا. وَالْإِمْسَاكُ: الشَّدُّ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِلْقَاءِ. وَقَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَنْعِ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] فَيُقَدَّرُ حَرْفُ جَرٍّ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ هَذَا التَّضْمِينِ فَيُقَدَّرُ (عَنْ) أَوْ (مِنْ) . وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ إِمْسَاكِ السَّمَاوَاتِ عَلَى تَسْخِيرِ مَا فِي الْأَرْضِ وَتَسْخِيرِ الْفُلْكِ أَنَّ إِمْسَاكَ السَّمَاءِ عَنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ضَرْبٌ مِنَ التَّسْخِيرِ لِمَا فِي عَظَمَةِ الْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَغَلُّبِهَا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَحَطْمِهَا إِيَّاهَا لَوْلَا مَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا مِنْ سُنَنٍ وَنُظُمٍ تَمْنَعُ مِنْ تَسَلُّطِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] . فَكَمَا سَخَّرَ اللَّهُ لِلنَّاسِ مَا ظهر عل وَجْهِ

الْأَرْضِ مِنْ مَوْجُودَاتٍ مَعَ مَا فِي طَبْعِ كَثِيرٍ مِنْهَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ إِتْلَافِ الْإِنْسَانِ، وَكَمَا سَخَّرَ لَهُمُ الْأَحْوَالَ الَّتِي تَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ مَظَاهِرِ الْأُفُقِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَسِعَتِهَا وَتَبَاعُدِهَا، وَمَعَ مَا فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَعَذُّرِ الضَّبْطِ، كَذَلِكَ سَخَّرَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ بِالْإِمْسَاكِ الْمُنَظَّمِ الْمَنُوطِ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ تَقْدِيرِهِ. وَلَفْظُ السَّماءَ فِي قَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّماءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَا قَابَلَ الْأَرْضَ فِي اصْطِلَاحِ النَّاسِ فَيَكُونُ كُلًّا شَامِلًا لِلْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ كُلِّهَا الَّتِي لَا نُحِيطُ بِهَا عِلْمًا كَالْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَمَا يَكْشِفُهُ لِلنَّاسِ فِي مُتَعَاقَبِ الْأَزْمَانِ. وَيَكُونُ وُقُوعُهَا عَلَى الْأَرْضِ بِمَعْنَى الْخُرُورِ وَالسُّقُوطِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بِتَدْبِيرِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ جَعَلَ لِلسَّمَاءِ نِظَامًا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُورِ عَلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَيُمْسِكُ السَّماءَ امْتِنَانًا عَلَى النَّاسِ بِالسَّلَامَةِ مِمَّا يُفْسِدُ حَيَاتَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ احْتِرَاسًا جَمْعًا بَيْنَ الامتنان والتخويف، ليَكُون النَّاسُ شَاكِرِينَ مُسْتَزِيدِينَ مِنَ النِّعَمِ خَائِفِينَ مِنْ غَضَبِ رَبِّهِمْ أَنْ يَأْذَنَ لِبَعْضِ السَّمَاءِ بِالْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ أَشْكَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَقِيلَ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ: إِنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهَا فِي الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ يَقَعُ سُقُوطُ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا وَرَدَ تَشَقُّقُ السَّمَاءِ وَانْفِطَارُهَا. وَفِيمَا جَعَلْنَا ذَلِك احتراسا دفع لِلْإِشْكَالِ لِأَنَّ الِاحْتِرَاسَ أَمْرٌ فَرَضِيٌّ فَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِثْنَاءُ وُقُوعَ الْمُسْتَثْنَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ السَّماءَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ، كَقَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

وَقَوْلِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» : «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ» ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ بِتَقْدِيرِهِ جَعَلَ لِنُزُولِ الْمَطَرِ عَلَى الْأَرْضِ مَقَادِيرَ قَدَّرَ أَسْبَابَهَا، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَمَرَّ نُزُولُ الْمَطَرِ عَلَى الْأَرْضِ لَتَضَرَّرَ النَّاسُ فَكَانَ فِي إِمْسَاكِ نُزُولِهِ بِاطِّرَادٍ مِنْهُ عَلَى النَّاس، وَكَانَ فِي تَقْدِيرُ نُزُولِهِ عِنْدَ تَكْوِينِ اللَّهِ إِيَّاهُ مِنَّةً أَيْضًا. فَيَكُونُ هَذَا مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ نِعْمَتَيْنِ: نِعْمَةِ الْغَيْثِ، وَنِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِنْ طُغْيَانِ الْمِيَاهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ السَّمَاءِ قَدْ أُطْلِقَ عَلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي يَشْمَلُهَا لَفْظُ السَّماءَ الَّذِي هُوَ مَا عَلَا الْأَرْضَ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَحْوِيهِ، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَرْضِ عَلَى سُكَّانِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: 41] . فَاللَّهُ يُمْسِكَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الشُّهُبِ وَمِنْ كُرَيَّاتِ الْأَثِيرِ وَالزَّمْهَرِيرِ عَنِ اخْتِرَاقِ كُرَةِ الْهَوَاءِ، وَيُمْسِكُ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى كَالْمَطَرِ وَالْبَرَدِ وَالثَّلْجِ وَالصَّوَاعِقِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ وَالتَّحَكُّكِ بِهَا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فِيمَا اعْتَادَ النَّاسُ إِذْنَهُ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالصَّوَاعِقِ وَالشُّهُبِ وَمَا لَمْ يَعْتَادُوهُ مِنْ تَسَاقُطِ الْكَوَاكِبِ. فَيَكُونُ مُوقِعُ وَيُمْسِكُ السَّماءَ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فِي [سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: 12- 13] . وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إدماجا بَيْنَ الِامْتِنَانِ وَالتَّخْوِيفِ: فَإِنَّ مِنَ الْإِذْنِ بِالْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ مَا هُوَ مَرْغُوبٌ لِلنَّاسِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا الْمَحْمَلُ الثَّالِثُ أَجْمَعُ لِمَا فِي الْمَحْمَلَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَأَوْجَزُ، فَهُوَ لِذَلِكَ أَنْسَبُ بِالْإِعْجَازِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ مُتَعَلِّقَاتِ فِعْلِ يُمْسِكُ وَمُلَابَسَاتِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ كَلِمَةُ السَّماءَ عَلَى اخْتِلَافِ مَحَامِلِهِ، أَيْ يَمْنَعُ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِلَّا وُقُوعًا مُلَابِسًا لِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ: هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ عَلَى الْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَقْتَضِي بِغَيْرِ عَمَدٍ (أَيْ يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْد: 2] وَنَحْوِهِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ: إِلَّا بِإِذْنِهِ فَيُمْسِكُهَا» اه. يُرِيدُ أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ قَرِينَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَالْإِذْنُ حَقِيقَتُهُ: قَوْلٌ يُطْلَبُ بِهِ فِعْلُ شَيْءٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَشِيئَةِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُمَا مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَقَدِ اسْتَوْعَبَتِ الْآيَةُ الْعَوَالِمَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَّ، وَالْبَحْرَ، وَالْجَوَّ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّسْخِيرِ وَالْإِمْسَاكِ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رَأْفَةً بِالنَّاسِ بِتَيْسِيرِ مَنَافِعِهِمُ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ دَفْعُ الضّر عَنْهُم. والرؤوف: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الرَّأْفَةِ أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَ الضُّرِّ. وَالرَّحِيمُ: وَصْفٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي النَّفْعَ لِمُحْتَاجِهِ. وَقَدْ تَتَعَاقَبُ الصِّفَتَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ مَا تَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ صِفَةٍ مِنْهُمَا وَيُؤَكِّدُ مَا تجتمعان عَلَيْهِ.

[سورة الحج (22) : آية 66]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 66] وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ أَنْ أُدْمِجَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ بِالْمَوَاعِظِ وَالْمِنَنِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَى الْبَعْثِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ، فَذُكِرَ الْمُلْحِدُونَ بِالْحَيَاةِ الْأُولَى الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا، وَبِالْإِمَاتَةِ الَّتِي لَا يَرْتَابُونَ فِيهَا، وَبَانَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ إِحْيَاءٌ آخَرُ كَمَا أُخِذَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّابِقَةِ. وَهَذَا مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ، فَجُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ [الْحَج: 65] لِأَنَّ صَدْرَ هَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ فَنَاسَبَ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى سَابِقَتِهَا الْمُتَضَمَّنَةِ امْتِنَانًا وَاسْتِدْلَالًا كَذَلِكَ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ تَذْيِيلٌ يَجْمَعُ الْمَقْصِدَ مِنْ تَعْدَادِ نِعَمِ الْمُنْعِمِ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ الْمُقْتَضِيَةِ انْفِرَادَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ وَاعْتِرَافَ الْخَلْقِ لَهُ بِوَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لَتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ أَنَّهُمْ كُفَرَاءُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ الْمُؤْذِنِ بِأَكْثَرِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ، أَيْ صَاغَةَ بَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشُّعَرَاء: 38] . وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] . وَالْكَفُورُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْكَافِرِ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ عَنْ تَعَنُّتٍ وَمُكَابَرَةٍ.

[سورة الحج (22) : آية 67]

وَيَجُوزُ كَوْنُ الْكَفُورِ مَأْخُوذًا مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ بِاعْتِبَارِ آثَارِ الْغَفْلَةِ عَنِ الشُّكْرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِغْرَاق حَقِيقِيًّا. [67] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 67] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) هَذَا مُتَّصِلٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ [الْحَج: 34] الْآيَةَ. وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مَا اقْتَضَى الْحَالُ اسْتِطْرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: 37- 38] إِلَى هُنَا، فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الْحَج: 34] الْآيَةَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ. فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَبَقَ مِنَ الشَّرَائِعِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، بِأَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ سَبَقَتْ إِلَّا مَنْسَكًا وَاحِدًا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْمُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مَنَاسِكَ كَثِيرَةً فَلِكُلِّ صَنَمٍ بَيْتٌ يُذْبَحُ فِيهِ مِثْلُ الْغَبْغَبِ لِلْعُزَّى، قَالَ النَّابِغَةُ: وَمَا هُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدٍ ... (أَيْ دَمٍ) . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الْحَج: 34] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ كَمَا عُطِفَتْ نَظِيرَتُهَا الْمُتَقَدِّمَةُ.

وَالْمَنْسَكُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ-: اسْمُ مَكَانِ النُّسُكِ بِضَمِّهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَصْلُ النُّسُكِ الْعِبَادَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى القربان، فَالْمُرَاد بالنسك هُنَا مَوَاضِعُ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْقُرْبَانِ. وَالضَّمِيرُ فِي ناسِكُوهُ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ نَاسِكُونَ فِيهِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ الْآيَةَ، فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اه. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : «وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا التَّفْسِيرِ يَرَوْنَ الْآيَةَ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ فِي الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ، أَيْ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَالْأَظْهَرُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُمْ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ يُنَازِعُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ شَهَادَةِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا، فَالنَّهْيُ ظَاهِرُهُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْحُجَجِ كَافٍ فِي قَطْعِ مُنَازَعَةِ مُعَارِضِيهِ، فَالْمُعَارِضُونَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبُ نَهْيِهِمْ هُوَ مَا عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُجَجِ وُجِّهَ إِلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ إِيَّاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا تَتْرُكْ لَهُمْ مَا يُنَازِعُونَكَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفْكَ، فَجَعَلَ الْمُتَكَلِّمُ النَّهْيَ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ السَّامِعِ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ نَهْيٌ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ نَهْيٌ لِلرَّسُولِ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي حُصُولَ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْ فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ، فَيَصِحُّ نَهْيُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ هُنَا لِضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ منازعته إيَّاهُم الَّتِي تُفْضِي إِلَى منازعتهم إِيَّاه فَيكون النَّهْي عَن مُنَازَعَتِهِ إِيَّاهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ مَا سِيقَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ. وَاسْمُ الْأَمْرِ هُنَا مُجْمَلٌ مُرَادٌ بِهِ التَّوْحِيدُ بِالْقَرِينَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي كَوْنِهِمْ عَلَى ضَلَالٍ بِأَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّرَ الْحَجَّ الَّذِي هُوَ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ كَشْفًا لَشُبْهَتِهِمْ بِأَنَّ الْحَجَّ مَنْسَكٌ حَقٌّ، وَهُوَ رَمْزُ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ بَاطِلٌ طَارِئٌ عَلَيْهِ فَلَا يُنَازِعُنَّ فِي أَمْرِ الْحَجِّ بَعْدَ هَذَا. وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِمَّا تَقَدَّمَ إِلَى قَوْلِهِ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْحَج: 72] ، وَلِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ فِي آخِرِ مُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَبِالْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُقَامِهِ بِهَا فَلَا مُنَازَعَةَ بَيْنَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ، فَيَبْعُدُ تَفْسِيرُ الْمُنَازَعَةِ بِمُنَازَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ. عَطْفٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُنَازَعَةِ فِي الدِّينِ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْمُكَابَرَةَ تُجَافِي الِاقْتِنَاعَ، وَلِأَنَّ فِي الدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ فَوَائِدَ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَفِي حَذْفِ مَفْعُولِ ادْعُ إِيذَانٌ بِالتَّعْمِيمِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 68 إلى 69]

وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ تَعْلِيلٌ لِلدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ فَاءِ التَّعْلِيلِ لَا لِرَدِّ الشَّكِّ. وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى. وَوَصْفُ الْهُدَى بِالْمُسْتَقِيمِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شُبِّهَ الْهُدَى بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِالْمُسْتَقِيمِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِيمَ أَسْرَعُ إِيصَالًا، فَدِينُ الْإِسْلَامِ أَيْسَرُ الشَّرَائِعِ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْأَدْيَانِ. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْدِيدٌ لِنَشَاطِهِ فِي الِاضْطِلَاعِ بأعباء الدعْوَة. [68، 69] [سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 68 إِلَى 69] وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ [الْحَج: 67] . وَالْمَعْنَى: إِنْ تَبَيَّنَ عَدَمُ اقْتِنَاعِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْطَعُ الْمُنَازَعَةَ وَأَبَوْا إِلَّا دَوَامَ الْمُجَادَلَةِ تَشْغِيبًا وَاسْتِهْزَاءً فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ تَفْوِيضُ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ، وَإِدْمَاجٌ بِتَعْرِيضٍ بِالْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ صَالِحٍ لِمَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ مَنْ تَطَلُّبِ الْحُجَّةِ: وَلِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِبْطَالِ الْعِنَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السَّجْدَة: 30] . وَالْمرَاد بِما تَعْمَلُونَ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ لِيَدْحَضُوا بِهِ الْحَقَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

[سورة الحج (22) : آية 70]

وَجُمْلَةُ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَيْسَ مِنَ الْمَقُولِ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصُودُ تَأْيِيدُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: هُوَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ [الْحَج: 67] . [70] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 70] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ التَّأْيِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْحَج: 69] ، أَيْ فَهُوَ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى حِسَابِ عَمَلِهِ، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ جَزَاءِ كُلٍّ بِمَا يَلِيقُ بِهِ. وَمَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ وَمَا كَانُوا يُخَالِفُونَ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ أَوْ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّسْلِيَةِ أَيْ فَلَا تَضِقْ صَدْرًا مِمَّا تُلَاقِيهِ مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْكِتَابِ أَنْ لَا تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أَوْ إِلَى (مَا) فِي قَوْله: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الْحَج: 69] .

[سورة الحج (22) : آية 71]

وَالْكِتَابُ هُوَ مَا بِهِ حِفْظُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ: إِمَّا عَلَى تَشْبِيهِ تَمَامِ الْحِفْظِ بِالْكِتَابَةِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِذَلِكَ كِتَابًا لَائِقًا بِالْمُغَيَّبَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ الِاسْتِفْهَام من الْكِتَابَة عَنِ الْجَزَاءِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْكِنَايَةِ فَتَأْوِيلُهُ بِالْمَذْكُورِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يَعْلَمُ، أَيْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ حَاصِلٌ دُونَ اكْتِسَابٍ، لِأَنَّ عِلْمَهُ ذَاتِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُطَالَعَةٍ وَبَحْثٍ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ يَسِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِهِ فِي جَانِبِ عِلْمِ الله تَعَالَى. [71] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 71] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ حَرْفَ عَطْفٍ وَتَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْله جادَلُوكَ [الْحَج: 68] ، وَالْمَعْنَى: جَادَلُوكَ فِي الدِّينِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بَعْدَ مَا رَأَوْا مِنَ الدَّلَائِلِ، وَتَتَضَمَّنُ الْحَالُ تَعْجِيبًا مِنْ شَأْنِهِمْ فِي مُكَابَرَتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ.

وَالْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ فِي الدَّلَائِلِ الَّتِي تَحُفُّ بِهِمْ وَالَّتِي ذُكِّرُوا بِبَعْضِهَا فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ مَا هُوَ كَافٍ لِإِقْلَاعِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْحَقَّ. ومِنْ دُونِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ دُونِ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْمُبَاعَدَةِ قَدْ يَصْدُقُ بِالْمُشَارَكَةِ بَيْنَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. فَكَلِمَةُ (دُونِ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا (مِنْ) صَارَتْ تُفِيدُ مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبٍ مُبَاعِدٍ لِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (دُونِ) . فَاقْتَضَى أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ غَيْرُ مُشَارِكٍ فِي الْفِعْلِ. فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُشْرِبَتْ قُلُوبُهُمُ الْإِقْبَالَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وإدخالها فِي شؤون قُرُبَاتِهِمْ حَتَّى الْحَجِّ إِذْ قَدْ وَضَعُوا فِي شَعَائِرِهِ أَصْنَامًا بَعْضُهَا وَضَعُوهَا فِي الْكَعْبَةِ وَبَعْضُهَا فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جُعِلُوا كَالْمُعَطِّلِينَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ أَصْلًا. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَالْحُجَّةُ الْمُنَزَّلَةُ: هِيَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ الْوَارِدُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَفِي شَرَائِعِهِ، أَيْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَجِدُونَ عُذْرًا لِعِبَادَتِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ: وَقُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا بِتَقَدُّمِ آبَائِهِمْ بِعِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ، وَلَمْ يَدَّعُوا أَنَّ نَبِيئًا أَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادَةِ صَنَمٍ وَلَا أَنَّ دِينًا إِلَهِيًّا رَخَّصَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، وَالْبَاطِلُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ أَهَمُّ. وَمَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ نَافِيَةٌ. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ يَعْبُدُونَ مَا ذُكِرَ وَمَا لَهُمْ نَصِيرٌ فَلَا تَنْفَعُهُمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. فَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ، فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى

[سورة الحج (22) : آية 72]

أَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ النَّصِيرِ لَهُمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ. وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ ذَهَابَ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بَاطِلًا لِأَنَّهُمْ عَبَدُوهَا رَجَاءَ النَّصْرِ. وَيُفِيدُ بِعُمُومِهِ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْصُرُهُمْ فَأَغْنَى عَنْ مَوْصُولٍ ثَالِثٍ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَصْنَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا لَا يَنْصُرُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [الْأَعْرَاف: 197] . [72] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 72] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [الْحَج: 71] لِبَيَانِ جُرْمٍ آخَرَ مِنْ أَجْرَامِهِمْ مَعَ جُرْمِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ. وَالْآيَاتُ هِيَ الْقُرْآنُ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لِقَوْلِهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ. وَالْمُنْكَرُ: إِمَّا الشَّيْءُ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْأَنْظَارُ وَالنُّفُوسُ فَيَكُونُ هُنَا اسْمًا، أَيْ دَلَائِلُ كَرَاهِيَتِهِمْ وَغَضَبِهِمْ وَعَزْمِهِمْ عَلَى السُّوءِ، وَإِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ كَالْمُكْرَمِ بِمَعْنَى الْإِكْرَام. والمحملان آئلان إِلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَلُوحُ عَلَى وُجُوهِهِمُ الغيظ وَالْغَضَب عِنْد مَا يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ وَيُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْغَيْظِ حَتَّى تَجَاوَزَ أَثَره بواطنهم فَظهر عَلَى وُجُوهِهِمْ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] كِنَايَةً عَنْ وَفْرَةِ نَعِيمِهِمْ وَفَرْطِ مَسَرَّتِهِمْ بِهِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ عُدِلَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِنَحْوِ: اشْتَدَّ غَيْظُهُمْ، أَوْ يَكَادُونَ يَتَمَيَّزُونَ غَيْظًا، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النَّحْل: 22] .

وَتَقْيِيدُ الْآيَاتِ بِوَصْفِ الْبَينَات لتفظيع إنكارها إِيَّاهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَا يُعْذَرُ بِهِ مُنْكِرُوهَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعْرِفُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا. وَالتَّعْبِيرُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ وُجُوهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ هُوَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ. وَالسَّطْوُ: الْبَطْشُ، أَيْ يُقَارِبُونَ أَنْ يَصُولُوا عَلَى الَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْغَيْظِ مِنْ سَماع الْقُرْآن. وبِالَّذِينَ يَتْلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: 37] ، أَيْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّسُولُ، أَمَّا الَّذِينَ سَطَوْا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَعَلَّهُمْ غير الَّذين قرأوا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، أَوْ لَعَلَّ السَّطْوَ عَلَيْهِمْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا إِشْكَالَ فِي ذِكْرِ فِعْلِ الْمُقَارَبَةِ. وَجُمْلَةُ يَكادُونَ يَسْطُونَ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ لِأَنَّ الْهَمَّ بِالسَّطْوِ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمُنْكَرُ.

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يُفِيدُ زِيَادَةَ إِغَاظَتِهِمْ بِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ. والتفريع بِالْفَاءِ ناشىء مِنْ ظُهُورِ أَثَرِ الْمُنْكَرِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَجُعِلَ دَلَالَةُ مَلَامِحِهِمْ بِمَنْزِلَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ. فَفُرِّعَ عَلَيْهَا مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ فَيَزِيدُهُمْ غَيْظًا. وَيَجُوزُ كَوْنُ التَّفْرِيعِ عَلَى التِّلَاوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، أَيِ اتْلُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمُنْذِرَةَ وَالْمُبَيِّنَةَ لِكُفْرِهِمْ، وَفُرِّعَ عَلَيْهَا وَعِيدُهُمْ بِالنَّارِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَهُوَ اسْتِئْذَانٌ تَهَكُّمِيٌّ لِأَنَّهُ قَدْ نَبَّأَهُمْ بِذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْتَظِرَ جَوَابَهُمْ. وشرّ: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ أَشَرُّ: كَثُرَ حَذْفُ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا، كَمَا حُذِفَتْ فِي خَيْرٍ بِمَعْنَى أَخْيَرَ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمُ إِلَى مَا أثار منكرهم وَحَفِيظَتَهُمْ، أَيْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ شَرًّا عَلَيْكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ مِمَّا سَمِعْتُمُوهُ فَأَغْضَبَكُمْ، أَيْ فَإِنْ كُنْتُمْ غَاضِبِينَ لِمَا تُلِيَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ فَازْدَادُوا غَضَبًا بِهَذَا الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ. وَقَوْلُهُ النَّارُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ. وَالتَّقْدِيرُ: شَرٌّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ.

[سورة الحج (22) : آية 73]

فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ شَرًّا فَاعْلَمُوا أَنَّهُ النَّارُ. وَجُمْلَةُ وَعَدَهَا اللَّهُ حَالٌ مِنَ النَّارِ، أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، أَيْ وَعَدَهَا اللَّهُ إِيَّاكُمْ لِكُفْرِكُمْ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيْ بِئْسَ مَصِيرُهُمْ هِيَ، فَحَرْفُ التَّعْرِيفِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِنْشَاءَ ذَمٍّ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ فَيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ بِئْسَ الْمَصِيرُ هِيَ لِمَنْ صَارَ إِلَيْهَا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ وَتَكُونُ الْوَاوُ اعتراضية تذييلية. [73] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 73] يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) أُعْقِبَتْ تَضَاعِيفُ الْحُجَجِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْإِنْذَارَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِمَّا فِيهِ مُقْنِعٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ إِلَهَ النَّاسِ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ بَاطِلٌ، أُعْقِبَتْ تِلْكَ كُلُّهَا بِمَثَلٍ جَامِعٍ لِوَصْفِ حَالِ تِلْكَ الْمَعْبُودَاتِ وَعَابِدِيهَا. وَالْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ.

فَالْمُرَادُ بِ النَّاسُ هُنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِينَ. وَفِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَتَنْهِيَتِهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ شِبْهٌ بِرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَمِمَّا يَزِيدُهُ حُسْنًا أَنْ يَكُونَ الْعَجُزُ جَامِعًا لِمَا فِي الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالْخُلَاصَةِ لِلْخُطْبَةِ وَالْحَوْصَلَةِ لِلدَّرْسِ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَبَيَانُهُ اسْتُعِيرَ الضَّرْبُ لِلْقَوْلِ وَالذِّكْرِ تَشْبِيهًا بِوَضْعِ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ، أَيْ أُلْقِيَ إِلَيْكُمْ مَثَلٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26] . وَبُنِيَ فِعْلُ ضُرِبَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ فَاعِلٌ بِعَكْسِ مَا فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخْرَى الَّتِي صُرِّحَ فِيهَا بِفَاعِلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 75] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: 29] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 76] . إِذْ أُسْنِدَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَغَيْرِهَا ضَرْبُ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 74] . وضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ فِي [سُورَةِ يس: 78] ، إِذْ أُسْنِدَ الضَّرْبُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا نَسْجُ التَّرْكِيبِ عَلَى إِيجَازٍ صَالِحٍ لِإِفَادَةِ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ تَشْبِيهًا تَمْثِيلِيًّا، أَيْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَمْثِيلًا يُوَضِّحُ حَالَ الْأَصْنَامِ فِي فَرْطِ الْعَجْزِ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمَثَلُ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلُ، أَيْ جَعَلُوا أَصْنَامَهُمْ مُمَاثِلَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ.

وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ ضُرِبَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: 9] ، أَيْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِفِعْلِ ضُرِبَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِي التَّقْدِيرِ، أَيْ بُيِّنَ تَمْثِيلٌ عَجِيبٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلَّفْظِ مَثَلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَى مُفَادِ هَذَا الْمَثَلِ مِمَّا يُبْطِلُ دَعْوَى الشَّرِكَةِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، أَيِ اسْتَمِعُوا اسْتِمَاعَ تَدَبُّرٍ. فَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي فَاسْتَمِعُوا لَهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَفِي التَّعْجِيبِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَثَلَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ، وَعَائِدٌ عَلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ضُرِبَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، أَيِ اسْتَمِعُوا لِلضَّرْبِ، أَيْ لِمَا يَدُلُّ عَلَى الضَّرْبِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَيُقَدَّرُ مُضَاف بِقَرِينَة فَاسْتَمِعُوا لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ لَا يَكُونُ إِلَّا أَلْفَاظًا، أَيِ اسْتَمِعُوا لِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ فِي حَمَاقَةِ ضَارِبِيهِ. وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي ضُرِبَ مَعَ أَنَّهُ لَمَّا يُقَلْ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: 9] ، أَيْ لَوْ قَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ للسامعين بِأَن يتهيأوا لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَى الْبُلَغَاءِ مِنِ اسْتِشْرَافِهِمْ لِلْأَمْثَالِ وَمَوَاقِعِهَا.

وَالْمَثَلُ: شَاعَ فِي تَشْبِيهِ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 17] ، فَالتَّشْبِيهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضمني خفيّ ينبىء عَنْهُ قَوْلُهُ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. فَشُبِّهَتِ الْأَصْنَامُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَفِي مَكَّةَ بِالْخُصُوصِ بِعُظَمَاءَ، أَيْ عِنْدَ عَابِدِيهَا. وَشُبِّهَتْ هَيْئَتُهَا فِي الْعَجْزِ بِهَيْئَةِ نَاسٍ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ خَلْقُ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الذُّبَابُ، بَلْهَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ دَلَّ إِسْنَادُ نَفْيِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ عَلَى تَشْبِيهِهِمْ بِذَوِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّ نفي الْخلق يَقْتَضِي مُحَاوَلَةِ إِيجَادِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 21] . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الذُّبَابَ سَلَبَهُمْ شَيْئًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَخْذَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ عَدَمِ تَحَرُّكِهِمْ، فَكَمَا عَجَزَتْ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْخَلْقِ وَعَنْ دَفْعِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْهَا فَكَيْفَ تُوسَمُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِذِكْرِ لَوَازِمِ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا وَقَوْلِهِ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً إِلَى آخِرِهِ، لَا جَرَمَ حَصَلَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْأَصْنَامِ فِي عَجْزِهَا بِمَا دُونَ هَيْئَةِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَانَتْ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً. وَفَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَثَلَ هُنَا بِالصِّفَةِ الغريبة تَشْبِيها لما بِبَعْضِ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا اسْتِعْمَالَ يُعَضِّدُهُ اقْتِصَادًا مِنْهُ فِي الْغَوْصِ عَنِ الْمَعْنَى لَا ضَعْفًا عَنِ اسْتِخْرَاجِ حَقِيقَةِ الْمَثَلِ فِيهَا وَهُوَ جذيعها الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ وَلَكِنْ أَحْسَبُهُ صَادَفَ مِنْهُ وَقْتَ سُرْعَةٍ فِي التَّفْسِيرِ أَوْ شُغْلًا بِأَمْرٍ خَطِيرٍ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْأَخِيرِ. وَفُرِّعَ عَلَى التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ لِوَعْيِهِ وَتَرَقُّبِ بَيَانِ إِجْمَالِهِ تَوَخِّيًا لِلتَّفَطُّنِ لِمَا يُتْلَى بَعْدُ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ إِلَخْ بَيَانٌ لِ مَثَلٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي مَعْنَى ضُرِبَ مَثَلٌ، فَإِنَّ الْمَثَلَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ فَصَحَّ بَيَانُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ (إِنَّ) ، وَأُكِّدَ مَا فِيهِ مِنَ النَّفْيِ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ (لَنْ) لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ جَعْلَهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُمُ الْخَلْقَ إِلَيْهَا وَقَدْ نُفِيَ عَنْهَا الْخَلْقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِقْحَامِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَهَا الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ تَخْلُقَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقْتَضِي نَفْيَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي بِالْأَحْرَى لِأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا يَكُونُ فِعْلُهُ مِنْ بَعْدُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يُقْصَدَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِحَالِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ هُمْ فَرِيقٌ مِنْكُمْ. وَالذُّبَابُ: اسْمُ جَمْعِ ذُبَابَةٍ، وَهِيَ حَشَرَةٌ طَائِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَتُجْمَعُ عَلَى ذِبَّانٍّ- بِكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- وَلَا يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلْوَاحِدَةِ ذِبَّانَةٌ. وَذِكْرُ الذُّبَابِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْقَرِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَيَاةُ الْمُشَاهَدَةُ. وَأَمَّا مَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْمُصَوِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» فَهُوَ فِي سِيَاقِ التَّعْجِيزِ لِأَنَّ الْحَبَّةَ لَا حَيَاةَ فِيهَا وَالذَّرَّةُ فِيهَا حَيَاةٌ ضَعِيفَةٌ. وَمَوْقِعُ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ مَوْقِعُ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَ (لَوِ) فِيهِ وَصْلِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَتِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:

[سورة الحج (22) : آية 74]

فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 91] . أَيْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ الْخَلْقَ وَهُمْ مُفْتَرِقُونَ، بَلْ وَلَوِ اجْتَمَعُوا مِنْ مُفْتَرَقِ الْقَبَائِلِ وَتَعَاوَنُوا عَلَى خَلْقِ الذُّبَابِ لَنْ يَخْلُقُوهُ. وَالِاسْتِنْقَاذُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْقَاذِ مِثْلُ الِاسْتِحْيَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ. وَجُمْلَةُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِلْغَرَضِ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَيْ ضَعُفَ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً إِلَخْ، أَيْ ضَعُفْتُمْ أَنْتُمْ فِي دَعْوَتِهِمْ آلِهَةً وَضَعُفَتِ الْأَصْنَامُ عَنْ صِفَاتِ الْإِلَهِ. وَهَذِهَ الْجُمْلَةُ كَلَامٌ أُرْسِلَ مَثَلًا، وَذَلِكَ مِنْ بلاغة الْكَلَام. [74] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 74] مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) تَذْيِيلٌ لِلْمَثَلِ بِأَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ إِلَهِيَّتِهِ تَعَالَى إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي أَعْظَمِ الْأَوْصَافِ أَحْقَرَ الْمَوْصُوفِينَ، وَإِذِ اسْتَكْبَرُوا عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَإِذْ هَمُّوا بِالْبَطْشِ بِرَسُولِهِ. وَالْقَدْرُ: الْعَظَمَةُ، وَفِعْلُ قَدَرَ يُفِيدُ أَنَّهُ عَامِلٌ بِقَدْرِهِ. فَالْمَعْنَى: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ الضُّعَفَاءَ الْعُجَّزَ وَهُوَ الْغَالِبُ الْقَوِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 91] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، فَإِنَّ مَا أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ كُلُّ ضَعِيفٍ ذَلِيلٍ فَمَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ لِأَنَّهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ فَكَيْفَ يُشَارِكُهُ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ. وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: مَا قَدَرْتُمُ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ، الْتِفَاتٌ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّهُمْ

[سورة الحج (22) : آية 75]

لَيْسُوا أَهْلًا لِلْمُخَاطَبَةِ توبيخا لَهُمْ، وَبِذَلِكَ يَنْدَمِجُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ. وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مَعَ أَنَّ مَضْمُونَهَا مِمَّا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِتَنْزِيلِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ حِينَ أَشْرَكُوا مَعَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ ضُعَفَاءَ أَذِلَّةً. وَالْقَوِيُّ: مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ مُرَادٍ لَهُ. وَالْعَزِيزُ: مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى: الْغَالِبِ لكلّ معاند. [75] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 75] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) لَمَّا نَفَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ مَزِيَّةٌ فِي نَصْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الْحَج: 71] ، وَقَوْلِهِ: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الْحَج: 73] وَنَعَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ تكذيبهم الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِقَوْلِهِ: يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْحَج: 72] ، وَقَدْ كَانَ مِنْ دَوَاعِي التَّكْذِيبِ أَنَّهُمْ أَحَالُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ رَسُولٌ مِنَ الْبَشَرِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] أَيْ يُصَاحِبُهُ، وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: 21] أُعْقِبَ إِبْطَالُ أَقْوَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَنْ شَاءَ اصْطِفَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنَ النَّاسِ دُونَ الْحِجَارَةِ، وَأَنَّهُ يَصْطَفِيهِمْ لِيُرْسِلَهُمْ إِلَى النَّاسِ، أَيْ لَا لِيَكُونُوا شُرَكَاء، فَلَا جرح أَبْطَلَ قَوْلُهُ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ جَمِيعَ مَزَاعِمِهِمْ فِي أَصْنَامِهِمْ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ.

[سورة الحج (22) : آية 76]

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَصْطَفِي دُونَ أَن يَقُول: نصطفي، لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَصْطَفِي لَا أَنْتُمْ تَصْطَفُونَ وَتَنْسِبُونَ إِلَيْهِ. وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ هُنَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: هُوَ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَصْلُهُ الْإِلَهُ، أَيِ الْإِلَهُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَاشْتِقَاقُهُ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مُسَمَّاهُ جَامِعٌ كُلَّ الصِّفَاتِ الْعُلَى تَقْرِيرًا لِلْقُوَّةِ الْكَامِلَةِ وَالْعِزَّةِ الْقَاهِرَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ اللَّهُ يَصْطَفِي لِأَنَّ الْمُحِيطَ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ هُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالِاصْطِفَاءِ. وَلَيْسَ لأهل الْعُقُول مَا بَلَغَتْ بِهِمْ عُقُولُهُمْ مِنَ الْفِطْنَةِ وَالِاخْتِيَارِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى خَفَايَا الْأُمُورِ فَيُصْطَفَوْا لِلْمَقَامَاتِ الْعُلْيَا مَنْ قَدْ تَخْفَى عَنْهُمْ نَقَائِصُهُمْ بَلْهَ اصْطِفَاءُ الْحِجَارَةِ الصَّمَّاءِ. وَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ: كِنَايَةٌ عَنْ عُمُومِ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ فِي الْمَعْلُومَاتِ أَنَّهَا لَا تَعْدُو المسموعات والمبصرات. [76] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 76] يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الْحَج: 75] وَفَائِدَتُهَا زِيَادَةً عَلَى التَّقْرِيرِ أَنَّهَا تَعْرِيضٌ بِوُجُوبِ مُرَاقَبَتِهِمْ رَبَّهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُسْتَعَارٌ لِمَا يُظْهِرُونَهُ، وَما خَلْفَهُمْ هُوَ مَا يُخْفُونَهُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُظْهِرُهُ صَاحِبُهُ يَجْعَلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالشَّيْءَ الَّذِي يُخْفِيهِ يَجْعَلُهُ وَرَاءَهُ.

[سورة الحج (22) : آية 77]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُسْتَعَارًا لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ تُجَاهَ الشَّخْصِ وَهُوَ يَمْشِي إِلَيْهِ، وَما خَلْفَهُمْ مستعارا لما مضى وَعبر مِنْ أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ مَا تَرَكَهُ السَّائِرُ وَرَاءَهُ وَتَجَاوَزَهُ. وَضَمِيرُ أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ عَائِدَانِ: إِمَّا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ [الْحَج: 67] ، وَإِمَّا إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ. وَإِرْجَاعُ الْأُمُورِ إِرْجَاعُ الْقَضَاءِ فِي جَزَائِهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبُنِيَ فِعْلُ تُرْجَعُ إِلَى النَّائِبِ لِظُهُورِ مَنْ هُوَ فَاعِلُ الْإِرْجَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يُمْهِلُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يَرْجِعُ الْأُمُورَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ يَرْجِعُ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُمُورُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلِّ أَمْرٍ. وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ تَبَعًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. [77] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 77] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) لَمَّا كَانَ خِطَابُ الْمُشْرِكِينَ فَاتِحًا لِهَذِهِ السُّورَةِ وَشَاغِلًا لِمُعْظَمِهَا عَدَا مَا وَقَعَ اعْتِرَاضًا فِي خِلَالِ ذَلِكَ، فَقَدْ خُوطِبَ الْمُشْرِكُونَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَعِنْدَ اسْتِيفَاءِ مَا سِيقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْقَوَارِعِ وَالنِّدَاءِ عَلَى مَسَاوِي أَعْمَالِهِمْ، خُتِمَتِ السُّورَةُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمْ وَيُنَوِّهُ بِشَأْنِهِمْ.

وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِإِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ. وَالْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الصَّلَوَاتُ. وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إِذْ بِهِمَا إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَتَخْصِيصُ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِبَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْمُولَةِ لِقَوْلِهِ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عِمَادُ الدِّينِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَتَعَبَّدُوا بِهِ مِثْلُ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَقَوْلُهُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أَمْرٌ بِإِسْدَاءِ الْخَيْرِ إِلَى النَّاسِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَسَائِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ وَبَيَّنَتْ مَرَاتِبَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى. وَالرَّجَاءُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَقْرِيبِ الْفَلَاحِ لَهُمْ إِذَا بَلَغُوا بِأَعْمَالِهِمُ الْحَدَّ الْمُوجِبَ لِلْفَلَاحِ فِيمَا حَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الرَّجَاءِ. وَأَمَّا مَا يَسْتَلْزِمُهُ الرَّجَاءُ مِنْ تَرَدُّدِ الرَّاجِي فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ فَذَلِكَ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُحِيلُ الشَّكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا إِلَى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأ» و «المدوّنة» ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ. وَذَهَبَ جَمْعٌ غَفِيرٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى مَالِكٍ

[سورة الحج (22) : آية 78]

فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الْكَافِي» : «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَنْ يَرَى السُّجُودَ فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْحَجِّ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ» . وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ أَنَّهَا إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ» ، فَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى مَالِكٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَكَذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : فَمَا نَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ غَرِيبٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحٍ (¬1) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ لِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» اه. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ اه، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: تَرَكَهُ وَكِيعٌ، وَالْقَطَّانُ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَمَنْ رَوَى عَنْهُ قَدِيمًا (أَيْ قَبْلَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ) قُبِلَ. [78] [سُورَة الْحَج (22) : آيَة 78] وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ الْجِهَادُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِلدَّفْعِ عَنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَأَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» ، وَفَسَّرَهُ لَهُمْ بِمُجَاهَدَةِ الْعَبْدِ هَوَاهُ (¬2) ، فَذَلِكَ ¬

(¬1) مشرح- بميم مَكْسُورَة فشين مُعْجمَة سَاكِنة هُوَ ابْن عاهان الْمعَافِرِي تَابِعِيّ توفى سنة 120 هـ. (¬2) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن جَابر بن عبد الله بِسَنَد ضَعِيف.

مَحْمُولٌ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ بِإِطْلَاقِ الْجِهَادِ عَلَى مَنْعِ دَاعِي النَّفْسِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَمَعْنَى (فِي) التَّعْلِيلُ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ نَصْرِ دِينِهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» أَيْ لِأَجْلِ هِرَّةٍ، أَيْ لِعَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِرَّةٍ كَمَا بَيِّنَهُ بِقَوْلِهِ: «حَبَسَتْهَا لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا» . وَانْتَصَبَ حَقَّ جِهادِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ، وَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَأَصْلُهُ: جِهَادَهُ الْحَقَّ، وَإِضَافَةُ جِهَادٍ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ حَقَّ الْجِهَادِ لِأَجْلِهِ، وَقَرِينَةُ الْمُرَادِ تَقَدُّمُ حَرْفِ (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: 102] . وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْخَالِصِ، أَيِ الْجِهَادُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ تَقْصِيرٌ. وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْجِهَادِ، وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ جَاءَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِأَنَّ السُّورَةَ بَعْضَهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضَهَا مَدَنِيٌّ وَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الْحَج: 60] ، فَهَذَا الْآنَ أَمْرٌ بِالْأَخْذِ فِي وَسَائِلِ النَّصْرِ، فَالْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بِدْرٍ لَا مَحَالَةَ.

هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةُ هُوَ اجْتَباكُمْ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَج: 77] إِلَخْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَبَاكُمْ، كَانَ حَقِيقًا بِالشُّكْرِ لَهُ بِتِلْكَ الْخِصَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَالِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، أَيْ هُوَ اخْتَارَكُمْ لِتَلَقِّي دِينِهِ وَنَشْرِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مُعَانِدِيهِ. فَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مُوَجَّهٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَالَةً وَيَشْرِكُهُمْ فِيهِ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ بِحُكْمِ اتِّحَادِ الْوَصْفِ فِي الْأَجْيَالِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي مُخَاطِبَاتِ التَّشْرِيعِ. وَإِنْ حُمِلَ قَوْلُهُ هُوَ اجْتَباكُمْ عَلَى مَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْأُمَمِ كَانَ مَلْحُوظًا فِيهِ تَفْضِيلُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الرَّاجِعِ إِلَى تَفْضِيلِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الطَّبَقَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَيْنِ الْمَحْمَلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 110] . وَأُعْقِبَ ذَلِكَ بِتَفْضِيلِ هَذَا الدِّينِ الْمُسْتَتْبِعِ تَفْضِيلَ أَهْلِهِ بِأَنْ جَعَلَهُ دِينًا لَا حَرَجَ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَهِّلُ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ حُصُولِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْعَمَلِ فَيَسْعَدُ أَهْلُهُ بِسُهُولَةِ امْتِثَالِهِ، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . وَوَصْفُهُ الدِّينَ بِالْحَنِيفِ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ، أُطْلِقَ عَلَى عُسْرِ الْأَفْعَالِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً كَمَا هُنَا. وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ وَالشَّرِيعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 123] . وَقَوْلِهِ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: 38] . وَقَوْلُهُ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِهَذَا الدِّينِ وَتَحْضِيضٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ بِأَنَّهُ اخْتُصَّ بِأَنَّهُ دِينٌ جَاءَ بِهِ رَسُولَانِ إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لَمْ يَسْتَتِبَّ لِدِينٍ آخَرَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» (¬1) أَيْ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129] ، وَإِذ قَدْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَمَحْمَلُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَنَّ الْإِسْلَامَ احْتَوَى عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلْإِسْلَامِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَلَكِنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الشَّرَائِعَ الْأُخْرَى مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، جُعِلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ انْتِصَابُ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الدِّينِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِسْلَامَ حَوَى مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِضَافَةُ أُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ غَالِبَ الْأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعَرَبِ الْمُضَرِيَّةِ وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَإِنَّ نَسَبَهُمْ لَا يَنْتَمِي إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْقَحْطَانِيِّينَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ وِلَادَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ. ¬

(¬1) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن عبَادَة بن الصَّامِت.

وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ إِضَافَةُ أُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ لَهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي الْحُرْمَةِ وَاسْتِحْقَاقِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] ، وَلِأَنَّهُ أَبُو النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَمَّدٌ لَهُ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ للْمُسلمين وَقد قرىء قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] بِزِيَادَةِ وَهُوَ أَبُوهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْظِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: مِلَّةَ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ. وَالضَّمِيرُ فِي هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ عَائِدٌ إِلَى الْجَلَالَةِ كَضَمِيرِ هُوَ اجْتَباكُمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ثَانِيًا، أَيْ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَخَصَّكُمْ بِهَذَا الِاسْمِ الْجَلِيلِ فَلَمْ يُعْطِهِ غَيْرَكُمْ وَلَا يَعُودُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وقَبْلُ إِذَا بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَنَوِيٍّ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَالِاسْمُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ، وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ إِشْعَارًا بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ. وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ وَفِي هَذَا، أَيْ وَفِي هَذَا الْقُرْآنِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَفِي هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَحْقَاف: 4] ، أَيْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: 64] وَقَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَج: 77] أَوْ بِقَوْلِهِ اجْتَباكُمْ أَيْ لِيَكُونَ الرَّسُولُ، أَي مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام شَهِيدًا عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَنَّهَا آمَنَتْ بِهِ، وَتَكُونُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ شَاهِدَةً عَلَى النَّاسِ، أَيْ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّ

رُسُلَهُمْ بَلَّغُوهُمُ الدَّعْوَةَ فَكَفَرَ بِهِمُ الْكَافِرُونَ. وَمِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقُدِّمَتْ شَهَادَةُ الرَّسُولِ لِلْأُمَّةِ هُنَا، وَقُدِّمَتْ شَهَادَةُ الْأُمَّةِ فِي آيَةِ [الْبَقَرَةِ: 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً لِأَنَّ آيَةَ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَقَامِ التَّنْوِيهِ بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فَالرَّسُولُ هُنَا أَسْبَقُ إِلَى الْحُضُورِ فَكَانَ ذِكْرُ شَهَادَتِهِ أَهَمَّ، وَآيَةُ الْبَقَرَةِ صُدِّرَتْ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْأُمَّةِ فَكَانَ ذِكْرُ شَهَادَةِ الْأُمَّةِ أَهَمَّ. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَمَا بَعْدَهَا، أَيْ فَاشْكُرُوا اللَّهَ بِالدَّوَامِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ. وَالِاعْتِصَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْعَصْمِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الضُّرِّ وَالنَّجَاةُ، قَالَ تَعَالَى: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 43] ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحُ مُعْتَصِمًا ... بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ وَالنَّجَدِ وَالْمَعْنَى: اجْعَلُوا اللَّهِ مَلْجَأَكُمْ وَمَنْجَاكُمْ. وَجُمْلَةُ هُوَ مَوْلاكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعَلِّلَةٌ لِلْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُعْتَصَمُ بِهِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ لِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ. وَالْمَوْلَى: السَّيِّدُ الَّذِي يُرَاعِي صَلَاحَ عَبْدِهِ.

وَفُرِّعَ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ مَوْلًى وَأَحْسَنُ نَصِيرٍ. أَيْ نعم الْمُدبر لشؤونكم، وَنعم النَّاصِرُ لَكُمْ. وَنَصِيرٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي النَّصْرِ، أَيْ نِعْمَ الْمَوْلَى لَكُمْ وَنِعْمَ النَّصِيرُ لَكُمْ. وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَلَا يَتَوَلَّاهُمْ تَوَلِّي الْعِنَايَةِ وَلَا يَنْصُرُهُمْ. وَهَذَا الْإِنْشَاءُ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيقَ حُسْنِ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ نَصْرِهِ. وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ حَسُنَ تَفْرِيعُهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ بِهِ. وَهَذَا مِنْ بَرَاعَةِ الْخِتَامِ، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ لِذَوِي الْأَفْهَامِ.

23- سورة المؤمنين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 23- سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَالُ «سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ» . فَالْأَوَّلُ عَلَى اعْتِبَارِ إِضَافَةِ السُّورَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِافْتِتَاحِهَا بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَفْلَحُوا. وَوَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِمِثْلِ هَذَا فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَصَلَّى فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ» . وَالثَّانِي عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْمُؤْمِنُونَ الْوَاقِعِ أَوَّلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] فَجُعِلَ ذَلِكَ اللَّفْظُ تَعْرِيفًا لِلسُّورَةِ. وَقَدْ وَرَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ» فِي السُّنَّةِ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ مُوسَى وَعِيسَى أَخَذَتِ النَّبِيءَ سَعْلَةٌ فَحَذَفَ فَرَكَعَ» . وَمِمَّا جَرَى عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنْ يُسَمُّوهَا سُورَةَ «قَدْ أَفْلَحَ» ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنَ «الْعُتْبِيَّةِ» فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَخْرَجَ لَنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَاشِيَتُهُ مِنْ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَوَجَدْنَا..» إِلَى أَنْ قَالَ: «وَفِي قَدْ أَفْلَحَ كُلِّهَا الثَّلَاثِ لِلَّهِ» أَيْ خِلَافًا لِقِرَاءَةِ: سيقولون الله [الْمُؤْمِنُونَ: 85] . وَيُسَمُّونَهَا أَيْضًا سُورَةَ الْفَلَاحِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا اعْتِدَادَ بِتَوَقُّفِ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 4] تُعَيِّنَ أَنَّهَا

أغراض السورة

مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي الْمَدِينَةِ. فَالزَّكَاةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا هِيَ الصَّدَقَةُ لَا زَكَاةَ النُّصُبِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْأَمْوَالِ. وَإِطْلَاقُ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّدَقَةِ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] وَهِيَ مِنْ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: 54، 55] وَلَمْ تَكُنْ زَكَاةُ النُّصُبِ مَشْرُوعَةً فِي زَمَنِ إِسْمَاعِيلَ. وَهِيَ السُّورَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الطُّورِ وَقَبْلَ سُورَةِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَسَبْعَ عَشْرَةَ فِي عَدِّ الْجُمْهُورِ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ مِائَةً وَثَمَانِ عَشْرَةَ، فَالْجُمْهُورُ عَدُّوا أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 10، 11] آيَةً، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَدُّوا أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ آيَةً وَمَا بَعْدَهَا آيَةً أُخْرَى، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ عَقِبَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ. أغراض السُّورَة هَذِهِ السُّورَةُ تَدُورُ آيُهَا حَوْلَ مِحْوَرِ تَحْقِيقِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَنَقْضِ قَوَاعِدِهِ، وَالتَّنْوِيهِ بِالْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ. فَكَانَ افْتِتَاحُهَا بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَلَاحِ الْعَظِيمِ عَلَى مَا تَحَلَّوْا بِهِ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِل الروحية والعلمية الَّتِي بِهَا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَاسْتِقَامَةُ السُّلُوكِ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَصْلِهِ وَنَسْلِهِ الدَّالِّ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ لِتَفَرُّدِهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَنَشْأَتِهِ لِيَبْتَدِئَ النَّاظِرُ بِالِاعْتِبَارِ فِي تَكْوِينِ ذَاتِهِ ثُمَّ بِعَدَمِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ. وَدَلَالَةِ ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ سُدًى وَلَعِبًا. وَانْتَقَلَ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

[سورة المؤمنون (23) : آية 1]

وَإِلَى الِاعْتِبَارِ وَالِامْتِنَانِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَصْلُهَا الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الصُّنْعِ، وَمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنْهَا الْحَمْلُ. وَمِنْ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ وَمَا أُوتِيَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ آلَاتِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ. وَوَرَدَ ذِكْرُ الْحَمْلِ عَلَى الْفُلْكِ فَكَانَ مِنْهُ تَخَلُّصٌ إِلَى بِعْثَةِ نُوحٍ وَحَدَثِ الطُّوفَانِ. وَانْتَقَلَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَا تَلَقَّاهَا بِهِ أَقْوَامُهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالطَّعْنِ وَالتَّفَرُّقِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِقَابِ الْمُكَذِّبِينَ، وَتِلْكَ أَمْثَالٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوْا. وَبِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ مُمَاثِلٌ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ وَكَلِمَتَهُمْ وَاحِدَةٌ فَهُمْ عُرْضَةٌ لِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ. وَقَدْ أَرَاهُمُ اللَّهُ مَخَائِلَ الْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنِ الْعِنَادِ فَأَصَرُّوا عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي عُقُولِهِمْ. وَذُكِّرُوا بِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ إِذَا سُئِلُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُفْرَدٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَى مُقْتَضَى إِقْرَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ على الْكفْر عِنْد مَا يَحْضُرُهُمُ الْمَوْتُ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَبِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الرَّسُولَ وَخَبَرُوا صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَنُصْحَهُ الْمُجَرَّدَ عَنْ طَلَبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ إِلَّا ثَوَابَ اللَّهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِحَالٍ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرِّسَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ. وَخُتِمَتْ بِأَمْر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغُضَّ عَنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ وَيَدْفَعَهَا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَيَسْأَلَ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَلَاحُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَة. [1] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

(1) افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِأَنَّهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِنَّ الْفَلَاحَ غَايَةُ كُلِّ سَاعٍ إِلَى عَمَلِهِ، فَالْإِخْبَارُ بِفَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلِ الْفَلَاحِ يَقْتَضِي فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ تَعْمِيمَ مَا بِهِ الْفَلَاحُ الْمَطْلُوبُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ مَا رَغِبُوا فِيهِ. وَلَمَّا كَانَتْ هِمَّةُ الْمُؤْمِنِينَ مُنْصَرِفَةً إِلَى تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ نَجَحُوا فِيمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ هِمَمُهُمْ مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَلِلْحَقِّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، وَيَتَضَمَّنُ بِشَارَةً بِرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَوَعْدًا بِأَنَّ اللَّهَ مُكْمِلٌ لَهُمْ مَا يَتَطَلَّبُونَهُ مِنْ خَيْرٍ. وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِحَرْفِ (قَدْ) الَّذِي إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي أَفَادَ التَّحْقِيقَ أَيِ التَّوْكِيدَ، فَحَرْفُ (قَدْ) فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ يُفِيدُ مُفَادَ (إِنَّ وَاللَّامِ) فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، أَيْ يُفِيدُ تَوْكِيدًا قَوِيًّا. وَوَجْهُ التَّوْكِيدِ هُنَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُؤْمِلِينَ مِثْلَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ رَجَاءِ فَلَاحِهِمْ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْحَج: 77] ، فَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَحَقُّقَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا أَرْضَى رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ أَنْ يَكُونُوا فَرَّطُوا فِي أَسْبَابِهِ وَمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ، بَلْهَ أَنْ يَعْرِفُوا اقْتِرَابَ ذَلِكَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِأَنَّ مَا تَرَجُّوهُ قَدْ حَصَلَ حَقَّقَ لَهُمْ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَبِفِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ. فَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ تَرَقُّبِهِمْ إِيَّاهُ لِفَرْطِ الرَّغْبَةِ وَالِانْتِظَارِ مَنْزِلَةَ الشَّكِّ فِي حُصُولِهِ، وَلَعَلَّ مِنْهُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، إِشَارَةً إِلَى رَغْبَةِ الْمُصَلِّينَ فِي حُلُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ» وَشَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ التَّشَوُّقُ إِلَى عِبَادَتِهِمْ كَمَا يُشَاهَدُ فِي تَشَوُّقِ كَثِيرٍ إِلَى قِيَامِ رَمَضَانَ. وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ أَفْلَحُوا فَلَاحًا كَامِلًا. وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَنِيطَ الْفَلَاحُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي الْفَلَاحِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَصْفٌ جَامِعٌ لِلْكَمَالِ لِتَفَرُّعِ جَمِيعِ الكمالات عَلَيْهِ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 2]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 2] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) إِجْرَاءُ الصِّفَاتِ على الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] بِالتَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَبِتَكْرِيرِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ فَلَاحِهِمْ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مَنْ هَاتِهِ الْخِصَالِ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ فَلَاحِهِمْ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ سَبَبَ فَلَاحِهِمْ مَجْمُوعُ الْخِصَالِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا فَإِنَّ الْفَلَاحَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِخِصَالٍ أُخْرَى مِمَّا هُوَ مَرْجِعُ التَّقْوَى، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِه الْخِصَال تنبىء عَنْ رُسُوخِ الْإِيمَانِ مِنْ صَاحِبِهَا اعْتُبِرَتْ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، كَمَا كَانَتْ أَضْدَادُهَا كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 42- 46] عَلَى أَنَّ ذِكْرَ عِدَّةِ أَشْيَاءٍ لَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ. وَالْخُشُوعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [90] . وَهُوَ خَوْفٌ يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُشُوعَ، أَيِ الْخُشُوعَ لِلَّهِ، يَقْتَضِي التَّقْوَى فَهُوَ سَبَبُ فَلَاحٍ. وَتَقْيِيدُهُ هُنَا بِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَبِالْخُشُوعِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْخُشُوعَ لِلَّهِ يَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، إِذِ الْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ صَلَاتِهِ. وَذُكِرَ مَعَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى الْحَالَاتِ بِإِثَارَةِ الْخُشُوعِ وَقُوَّتِهِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ، وَلِأَنَّهُ بِالصَّلَاةِ أَعْلَقُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خُشُوعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعٌ لَهُ، وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ لَمَّا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِهِ حَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَخْشَعُ لَهُ. وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَهِيَ رَأْسُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَصْدَرُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا.

[سورة المؤمنون (23) : آية 3]

وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ قُدِّمَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى بَقِيَّةِ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَجُعِلَ مُوَالِيًا لِلْإِيمَانِ فَقَدْ حَصَلَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِوَصْفَيْنِ. وَتَقْدِيمُ فِي صَلاتِهِمْ عَلَى خاشِعُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالصَّلَاةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ لَهُمْ تَعَلُّقًا شَدِيدًا بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَ شِدَّةَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ. فَلَوْ قِيلَ: الَّذِينَ إِذَا صَلَّوْا خَشَعُوا، فَاتَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَيْضًا لَمْ يَتَأَتَّ وَصْفُهُمْ بِكَوْنِهِمْ خَاشِعِينَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَلِمَةٍ أُخْرَى نَحْوَ: كَانُوا خَاشِعِينَ. وَإِلَّا يَفُتْ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنْ ثَبَاتِ الْخُشُوعِ لَهُمْ وَدَوَامِهِ، أَيْ كَوْنُ الْخُشُوعِ خُلُقًا لَهُمْ بِخِلَافِ نَحْوِ: الَّذِينَ خَشَعُوا، فَحَصَلَ الْإِيجَازُ، وَلَمْ يفت الإعجاز. [3] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 3] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ: إِلَى الْمَلِكِ القرم وَابْن الْهمام ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ وَتَكْرِيرُ الصِّفَاتِ تَقْوِيَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ جُمْلَةِ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ كَالْقَوْلِ فِي هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 2] ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ عَنِ اللَّغْوِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ. وَإِعَادَةُ اسْمُ الْمَوْصُولِ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِعَطْفِ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ مُوجِبَةٌ لِلْفَلَاحِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ حَتَّى يَجْمَعُوا بَيْنَ مَضَامِينِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَلِمَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ زِيَادَةِ تَقْرِيرٍ لِلْخَبَرِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [225] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ

وَالْإِعْرَاضُ: الصَّدُّ أَيْ عَدَمُ الْإِقْبَالِ عَلَى الشَّيْءِ، مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، لِأَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الشَّيْءَ يُوَلِّيهِ جَانِبَهُ وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ فَيَشْمَلُ الْإِعْرَاضُ إِعْرَاضَ السَّمْعِ عَنِ اللَّغْوِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [68] ، وَأَهَمُّهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ لَغْوِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] . وَيَشْمَلُ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ بِالْأَلْسِنَةِ، أَيْ أَنْ يَلْغُوا فِي كَلَامِهِمْ. وَعَقَّبَ ذِكْرَ الْخُشُوعِ بِذِكْرِ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ الدُّعَاءُ، وَهُوَ مِنَ الْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَانَ اللَّغْوُ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ بِجَامِعِ الضِّدِّيَّةِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ بِمَعْنَيَيِ الْإِعْرَاضِ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الصَّلَاةُ وَالْخُشُوعُ لِأَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ تَجَنَّبَ الْقَوْلَ الْبَاطِلَ وَمَنِ اعْتَادَ الْخُشُوعَ لِلَّهِ تَجَنَّبَ قَوْلَ الزُّورِ، وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» . وَالْإِعْرَاضُ عَنْ جِنْسِ اللَّغْوِ مِنْ خُلُقِ الْجِدِّ وَمَنْ تَخَلَّقَ بالجد فِي شؤونه كَمُلَتْ نَفْسُهُ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إِلَّا الْأَعْمَالُ النَّافِعَةُ، فَالْجِدُّ فِي الْأُمُورِ مِنْ خُلُقِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ: وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ يَقْتَضِي بِالْأَوْلَى اجْتِنَابَ قَوْلِ اللَّغْوِ وَيَقْتَضِي تَجَنُّبَ مَجَالِسِ أَهْلِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ وَهُمُ الطَّبَقَةُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ لِأَنَّ أَهْلَ اللَّغْوِ لَيْسُوا بِمَرْتَبَةِ التَّوْقِيرِ، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ لَغْوِهِمْ رَبْءٌ عَنِ التسفل مَعَهم.

[سورة المؤمنون (23) : آية 4]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 4] وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) أَصْلُ الزَّكَاةِ أَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرِ (زَكَّى) الْمُشَدَّدِ، إِذَا طَهَّرَ النَّفْسَ مِنَ الْمَذَمَّاتِ. ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ لِوَجْهِ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ فِي مَالِ الْمُعْطِي. فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: 103] ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ الْمُنْفَقِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِهِ بِ فاعِلُونَ الْمُقْتَضِي أَنَّ الزَّكَاةَ مَفْعُولٌ. وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مِنْ مَادَّةِ (ف. ع. ل) لِأَنَّ صَوْغَ الْفِعْلِ مِنْ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ يُغْنِي عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُبْهَمٍ وَنَصْبِ مَصْدَرِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مَشْيًا، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مَشَيْتُ، كَانَ خَارِجًا عَنْ تَرْكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مِمَّا تُرِيدُهُ، لَصَحَّ التَّرْكِيبُ قَالَ تَعَالَى: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا [الْأَنْبِيَاء: 59] ، أَيْ هَذَا الْمُشَاهَدُ مِنَ الْكَسْرِ وَالْحَطْمِ، أَيْ هَذَا الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّهُ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ غَيْبَةِ فَاعِلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ هُنَا الْفِعْلُ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْإِيتَاءُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الْمَائِدَة: 55] فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ هُنَا الِاسْمُ الْأَعَمُّ وَهُوَ فاعِلُونَ لِأَنَّ مَادَّةَ (ف ع ل) مُشْتَهِرَةٌ فِي إِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَاشْتُقَّ مِنْهَا الْفَعَالُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ الْخَارِجِيُّ: إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تُكَلَّفْ مَسَاعِيَهُ ... يَشْقُقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَاءَ مَا نُسِبَ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزِ ... مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَفِي نَفْسِي مِنْ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ تَرَدُّدٌ لِأَنِّي أَحْسَبُ اسْتِعْمَالَ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى الْمَالِ الْمَبْذُولِ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ،

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 إلى 7]

فَلَعَلَّ الْبَيْتَ مِمَّا نُحِلَ مِنَ الشِّعْرِ عَلَى أَلْسِنَةِ الشُّعَرَاءِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ «الشِّعْرِ وَالشُّعَرَاءِ» «وَعُلَمَاؤُنَا لَا يَرَوْنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ حُجَّةً عَلَى الْكِتَابِ» . وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ بِالْفَرْعِيَّةِ وَبِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالرَّاغِبُ: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَجَعَلَا الزَّكَاةَ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ. وَمَعْنَى فاعِلُونَ فَاعِلُونَ الْأَفْعَالَ الصَّالِحَاتِ فَحُذِفَ مَعْمُولُ فاعِلُونَ بِدَلَالَةِ عِلَّتِهِ عَلَيْهِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ الزَّكَاةَ هُنَا مَصْدَرٌ وَهُوَ فِعْلُ الْمُزَكِّي، أَيْ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ فاعِلُونَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَصْدَرٍ إِلَّا وَيُعَبِّرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِمَادَّةِ فَعَلَ فَيُقَالُ لِلضَّارِبِ: فَاعِلُ الضَّرْبِ، وَلِلْقَاتِلِ: فَاعِلُ الْقَتْلِ. وَإِنَّمَا حَاوَلَ بِذَلِكَ إِقَامَةَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَغَلَبَ جَانِبُ الصِّنَاعَةِ اللَّفْظِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الْمَعْنَى وَجَوَّزَ الْوَجْهَ الْآخَرَ عَلَى شَرْطِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ. وَعَقَّبَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ الزَّكَاةِ لِكَثْرَةِ التَّآخِي بَيْنَهُمَا فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا هُنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي سَمِعْتَ آنِفًا. وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ طَبَقَةِ أَهْلِ الْخَصَاصَةِ وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى آدَابِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ. وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ كَمَا تقدم آنِفا. [5- 7] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 5 إِلَى 7] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) الْحِفْظُ: الصِّيَانَةُ وَالْإِمْسَاكُ. وَحِفْظُ الْفَرْجِ مَعْلُومٌ، أَيْ عَنِ الْوَطْءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ إِلَخْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ مُتَعَلِّقَاتِ الْحِفْظِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَرْفُ عَلى، أَيْ حَافِظُونَهَا عَلَى كُلِّ مَا يُحْفَظُ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُتَعَلَّقَ الَّذِي هُوَ

أَزْوَاجُهُمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، فَضَمَّنَ حافِظُونَ مَعْنَى عَدَمِ الْبَذْلِ، يُقَالُ: احْفَظْ عَلَيَّ عَنَانَ فَرَسِي كَمَا يُقَالُ: أَمْسِكْ عَلَيَّ كَمَا فِي آيَةِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَاب: 37] . وَالْمُرَادُ حِلُّ الصِّنْفَيْنِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَصْنَافِ النِّسَاءِ. وَهَذَا مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ تَفَاصِيلُ الْأَحْكَامِ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ بِمُفْرَدِهِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ. وَتَفَاصِيلُ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالِ حِلِّ الِانْتِفَاعِ أَوْ حَالِ عِدَّةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِمَاءِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِمَاءِ بِاسْمِ مَا الْمَوْصُولَةِ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ جَرَى عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَصْرِيحٌ بِزَائِدٍ عَلَى حُكْمِ مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِ عَدَمِ الْحِفْظِ عَلَى الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ لَا يَمْنَعُ الْفَلَاحَ فَأُرِيدَ زِيَادَةُ بَيَانٍ أَنَّهُ أَيْضًا لَا يُوجِبُ اللَّوْمَ الشَّرْعِيَّ، فَيَدُلُّ هَذَا بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْحِفْظِ عَلَى مَنْ سِوَاهُنَّ يُوجِبُ اللَّوْمَ الشَّرْعِيَّ لِيَحْذَرَهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَفْرِيعٌ لِلتَّصْرِيحِ عَلَى مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ جَوَاب الشَّرْط فقرىء بِالْفَاءِ تَحْقِيقًا لِلِاشْتِرَاطِ. وَزِيدَ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ تَقْرِيرًا بِأَنْ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ لِأَنَّ دَاعِيَةَ غَلَبَةِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ عَلَى حِفْظِ صَاحِبِهِ إِيَّاهُ غَرِيزَةٌ طَبِيعِيَّةٌ يُخْشَى أَنْ تَتَغَلَّبَ عَلَى حَافِظِهَا، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أَيْ وَرَاءَ الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، أَيْ غَيْرَ ذَيْنَكَ الصِّنْفَيْنِ. وَذُكِرَ حِفْظُ الْفَرْجِ هُنَا عَطْفًا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ تَرْكُ اللَّغْوِ بِالْأَحْرَى كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا لِأَنَّ زَلَّةَ الصَّالِحِ قَدْ تَأْتِيهِ مِنَ انْفِلَاتِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مِنْ جِهَةِ مَا أُودِعَ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْ شَهْوَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا

[سورة المؤمنون (23) : آية 8]

فَلِذَلِكَ ضَبَطَتِ الشَّرِيعَةُ اسْتِعْمَالَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا الدِّيَانَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ» . وَاللَّوْمُ: الْإِنْكَارُ عَلَى الْغَيْرِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ لَا يَلِيقُ عِنْدَ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الْعَذْلِ وَأَضْعَفُ مِنَ التَّعْنِيفِ. ووَراءَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَأَصْلُ الْوَرَاءِ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي فِي جِهَةِ الظَّهْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجِ عَنِ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ تَشْبِيهًا لِلْمُتَجَاوِزِ الشَّيْءَ بِشَيْءٍ مَوْضُوعٍ خَلْفَ ظَهْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَاقِ الشَّخْصِ يُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِمَرْأَى مِنْهُ وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ يُنْبَذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَهَذَا التَّخَيُّلُ شَاعَ عَنْهُ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِحَيْثُ يُقَالُ: هُوَ وَرَاءَ الْحَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلَهُ. ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَصَارَ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَوْ (مَا عَدَا) كَمَا هُنَا، أَيْ فَمَنِ ابْتَغَوْا بِفُرُوجِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ. وَأُتِيَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ لِيَكُونَ وَصْفُهُمْ بِالْعُدْوَانِ مَشْهُورًا مُقَرَّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] ، وَالْعَادِي هُوَ الْمُعْتَدِي، أَيِ الظَّالِمُ لِأَنَّهُ عَدَا عَلَى الْأَمْرِ. وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَيْ هُمُ الْبَالِغُونَ غَايَةَ الْعُدْوَانِ عَلَى الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ كَمَا مرّ. [8] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 8] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) هَذِهِ صِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ تَنْحَلُّ إِلَى فَضِيلَتَيْنِ هُمَا فَضِيلَةُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ.

فَالْأَمَانَةُ تَكُونُ غَالِبًا مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي يَخْشَى صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّلَفَ فَيَجْعَلُهَا عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ فِيهِ حِفْظَهَا، وَفِي الْغَالِبِ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادٍ بَيْنَ الْمُؤْتَمِنِ وَالْأَمِينِ، فَهِيَ لِنَفَاسَتِهَا قَدْ تُغْرِي الْأَمِينَ عَلَيْهَا بِأَنْ لَا يَرُدَّهَا وَبِأَنْ يَجْحَدَهَا رَبَّهَا، وَلِكَوْنِ دَفْعِهَا فِي الْغَالِبِ عَرِيًّا عَنِ الْإِشْهَادِ تَبْعَثُ مَحَبَّتُهَا الْأَمِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا وَعَدَمِ رَدِّهَا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ رَدَّهَا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ «حَدَّثَنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» اهـ. الْوَكْتُ: سَوَادٌ يَكُونُ فِي قِشْرِ التَّمْرِ. وَالْمَجْلُ: انْتِفَاخٌ فِي الْجِلْدِ الرَّقِيقِ يَكُونُ شِبْهَ قِشْرِ الْعِنَبَةِ يَنْشَأُ مِنْ مَسِّ النَّارِ الْجِلْدَ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ وَقَوْلُهُ: «مِثْقَالُ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» هُوَ مَصْدَرُ آمَنَهُ، أَيْ وَمَا فِي قرارة نَفسه شَيْء مِنْ إِيمَانِ النَّاسِ إِيَّاهُ فَلَا يَأْتَمِنُهُ إِلَّا مَغْرُورٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [58] . وَجَمَعَ الْأَماناتِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَتَعَدُّدِ الْقَائِمِينَ بِالْحِفْظِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِأَماناتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِأَمَانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 2] .

[سورة المؤمنون (23) : آية 9]

وَالْعَهْدُ: الْتِزَامٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى شَيْءٍ يُعَامِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ الْآخَرَ بِهِ. وَسمي عهدا لِأَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ بعد اللَّهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ رَقِيبًا عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ لَا يُفِيتُهُمُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى تَخَلُّفِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [27] . وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَعْظَمِ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى شَرَفِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَيْنِ قَدْ يَلْتَزِمُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ عَمَلًا عَظِيمًا فَيُصَادِفُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الِالْتِزَامِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ عَمَلًا لِنَفْعِ غَيْرِهِ بِدُونِ مُقَابِلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ فَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الْخَتْرَ بِالْعَهْدِ شُحًّا أَوْ خَوْرًا فِي الْعَزِيمَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ عَلَامَةً عَلَى عِظَمٍ النَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: 34] . وَالرَّعْيُ: مُرَاقَبَةُ شَيْءٍ بِحِفْظِهِ مِنَ التَّلَاشِي وَبِإِصْلَاحِ مَا يَفْسَدُ مِنْهُ، فَمِنْهُ رَعْيُ الْمَاشِيَةِ، وَمِنْهُ رَعْيُ النَّاسِ، وَمِنْهُ أُطْلِقَتِ الْمُرَاعَاةُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ ذُو الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَالْقَائِمُ بِالرَّعْيِ رَاعٍ. فَرَعْيُ الْأَمَانَةِ: حِفْظُهَا، وَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ مَقْصُودًا لِأَجْلِ صَاحِبِهَا كَانَ رَدُّهَا إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهَا. وَرَعْيُ الْعَهْدِ مَجَازٌ، أَيْ مُلَاحَظَتُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ. وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمٍ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ عَلَى راعُونَ كالقول فِي نظايره السَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ إِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ رَعْيِ الْأَمَانَاتِ وَرَعْيِ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَالْأَمَانَةِ لِأَنَّ الَّذِي عَاهَدَكَ قَدِ ائْتَمَنَكَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعَهْدُ. وَذَكَرَهُمَا عَقِبَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ أَمَانَةُ اللَّهِ عِنْدَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ: حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ الْمَالِ، وَحقّ الْمِسْكِين. [9] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 9] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ

(9) ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، أَيْ بِعَدَمِ إِضَاعَتِهَا أَوْ إِضَاعَةِ بَعْضِهَا، وَالْمُحَافَظَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْحِفْظِ إِذْ لَيْسَتِ الْمُفَاعَلَةُ هُنَا حَقِيقِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [الْبَقَرَة: 238] وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْحِفْظِ قَرِيبًا. وَجِيءَ بِالصَّلَوَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَعْدَادِهَا كُلِّهَا تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 2] لِأَنَّ ذِكْرَ الصَّلَاةِ هُنَالِكَ جَاءَ تَبَعًا لِلْخُشُوعِ فَأُرِيدَ خَتْمُ صِفَاتِ مَدْحِهِمْ بِصِفَةِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ لِيَكُونَ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ كَمَالُ الِاسْتِقْرَارِ فِي الذِّهْنِ لِأَنَّهَا آخِرُ مَا قَرَعَ السَّمْعَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيرُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ تَنْوِيهًا بِهَا، وَرَدًّا لِلْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَاتُ لِتَزْدَادَ النَّفْسُ قَبُولًا لِسَمَاعِهَا وَوَعْيِهَا فَتَتَأَسَّى بِهَا. وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ وَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مِثْلَ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ وَنَظَائِرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى صَلَواتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ عَلَى صَلَاتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُصُولَ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ عَلَى أَعْسَرِ مَا تُرَاضُ لَهُ النَّفْسُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. فَجَاءَتْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَسَاسُ التَّقْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 17] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] . ثُمَّ ذُكِرَتِ الصَّلَاةُ وَهِيَ عِمَادُ التَّقْوَى وَالَّتِي تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَكَرُّرِ اسْتِحْضَارِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ.

وَذَكَرَتِ الْخُشُوعَ وَهُوَ تَمَامُ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَعْمَلُ الطَّاعَةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ غَيْرَ مُسْتَحْضِرٍ خُشُوعًا لِرَبِّهِ الَّذِي كَلَّفَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْخُشُوعِ اشْتَدَّتْ مُرَاقَبَتُهُ رَبَّهُ فَامْتَثَلَ وَاجْتَنَبَ. فَهَذَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ. وَذَكَرَتِ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ، وَاللَّغْوُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ الْمُتَعَلِّقِ بِاللِّسَانِ الَّذِي يَعْسُرُ إِمْسَاكُهُ فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ خُلُقٌ لِلسَّمْعِ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ. وَذَكَرَتْ إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ وَفِي ذَلِكَ مُقَاوَمَةُ دَاءِ الشُّحِّ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16] . وَذَكَرَتْ حِفْظَ الْفَرْجِ، وَفِي ذَلِكَ خُلُقُ مُقَاوَمَةِ اطِّرَادِ الشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بِتَعْدِيلِهَا وَضَبْطِهَا وَالتَّرَفُّعِ بِهَا عَنْ حَضِيضِ مُشَابَهَةِ الْبَهَائِمِ فَمَنْ تَخَلَّقَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ كَبْحُ الشَّهْوَةِ مَلَكَةً لَهُ وَخُلُقًا. وَذَكَرَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِلْإِنْصَافِ وَإِعْطَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ وَمُغَالَبَةِ شَهْوَةِ النَّفْسِ لِأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا. وَذَكَرَتِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِخُلُقِ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ بِأَنْ يَبْذُلَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْوَفَاءِ. وَذَكَرَتِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَهُوَ التخلق بالعناية بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالْمَوَاقِيتِ وَذَلِكَ يَجْعَلُ انْتِظَامَ أَمْرِ الْحَيَاتَيْنِ مَلَكَةً وَخُلُقًا رَاسِخًا. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَجَدْتَهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِهْمَالُهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَحِفْظِ الْعَهْدِ، وَإِلَى بَذْلِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِمْسَاكُهُ مِثْلَ الصَّدَقَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ. فَكَانَ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَعْمَالُ مَلَكَتَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهُمَا مَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ لِمَنْ تَتَبَّعَهَا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 10 إلى 11]

رَوَى النَّسَائِيُّ: أَنَّ عَائِشَةَ قِيلَ لَهَا: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. وَقَدْ كَانَ خُلُقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ هَذَا، فِيمَا عَدَا حِفْظَ الْعَهْدِ غَالِبًا، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: 35] ، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكَافِرِينَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: 55] ، وَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] ، وَقَدْ كَانَ الْبِغَاءُ وَالزِّنَى فَاشِيَيْنِ فِي الجاهليّة. [10، 11] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 10 إِلَى 11] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) جِيءَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِيُفِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ أَنَّ جَدَارَتَهُمْ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَصَلَتْ مِنَ اتِّصَافِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِلَى آخِرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] . وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ هُمُ الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونُوا الْوَارِثِينَ بِذَلِكَ. وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَحُذِفَ مَعْمُولُ الْوارِثُونَ لِيَحْصُلَ إِبْهَامٌ وَإِجْمَالٌ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ بَيَانَهُ فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ قَصْدًا لِتَفْخِيمِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ، وَالْإِتْيَانُ فِي الْبَيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ بِمَضْمُونِ صِلَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْوارِثُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ هَذَا الْوَصْفِ الْمَعْرُوفُونَ بِهِ. وَاسْتُعِيرَتِ الْوِرَاثَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِأَنَّ الْإِرْثَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 14]

وَالْفِرْدَوْسُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ أَشْرَفِ جِهَاتِ الْجَنَّاتِ، وَأَصْلُ الْفِرْدَوْسِ: الْبُسْتَانُ الْوَاسِعُ الْجَامِعُ لِأَصْنَافِ الثَّمَرِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلَهُ، وَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ فَقَالَ لَهَا: «وَيحك أهبلت أَو جنّة وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا لَجِنَانٍ كَثِيرَةٍ وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ» . وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِه الْآيَات حَدِيث عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هِيَ الْعَاشِرَةُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ. [12- 14] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 12 إِلَى 14] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ غَرَضًا عَلَى غَرَضٍ وَيُسَمَّى عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِينَافِ لِأَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] الَّتِي هِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَمِنْ عَظِيمِ النِّعْمَةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ الشِّرْكِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ فِي ضَلَالِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ،

وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ امْتِنَانًا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَهَانَةِ الْعَدَمِ إِلَى شَرَفِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَرَوْا فِي إِيمَانِهِمْ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ فَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقًا غَيْرَ بَيِّنَةٍ فَحَادُوا عَنْ مُقْتَضَى الشُّكْرِ بِالشِّرْكِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مُرَاعًى فِيهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُنَزَّلِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذَا الْخَبَرَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ. وَالْخَلْقُ: الْإِنْشَاءُ وَالصُّنْعُ، وَقد تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فِي آلِ عِمْرَانَ [47] . وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ، وَفَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ. وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَالسُّلَالَةُ: الشَّيْءُ الْمَسْلُولُ، أَيِ الْمُنْتَزَعُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، يُقَالُ: سَلَلْتُ السَّيْفَ، إِذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ غِمْدِهِ، فَالسُّلَالَةُ خُلَاصَةٌ مِنْ شَيْءٍ، وَوَزْنُ فُعَالَةٌ يُؤْذِنُ بِالْقِلَّةِ مِثْلَ الْقُلَامَةِ وَالصُّبَابَةِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ خَلَقْنَاهُ مُنْفَصِلًا وَآتِيًا مِنْ سُلَالَةٍ، فَتَكُونُ السُّلَالَةُ عَلَى هَذَا مَجْمُوعَ مَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمَسْلُولِ مِنْ دَمِهِمَا. وَهَذِهِ السُّلَالَةُ هِيَ مَا يُفْرِزُهُ جِهَازُ الْهَضْمِ مِنَ الْغِذَاءِ حِينَ يَصِيرُ دَمًا فَدَمُ الذَّكَرِ حِينَ يَمُرُّ عَلَى غُدَّتَيِ التَّنَاسُلِ (الْأُنْثَيَيْنِ) تُفْرِزُ مِنْهُ الْأُنْثَيَانِ مَادَّةً دُهْنِيَّةً شَحْمِيَّةً تَحْتَفِظُ بِهَا وَهِيَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ إِلَى مَنِيٍّ حِينَ حَرَكَةِ الْجِمَاعِ، فَتِلْكَ السُّلَالَةُ مُخْرَجَةٌ مِنَ الطِّينِ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي أَصْلُهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَدَمُ الْمَرْأَةِ إِذَا مَرَّ عَلَى قَنَاةِ فِي الرَّحِمِ تَرَكَ فِيهَا بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةً هِيَ بَذْرُ الْأَجِنَّةِ. وَمِنَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ الدُّهْنِيَّةِ الَّتِي فِي الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الْبُوَيْضَةِ مِنَ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي فِي قَنَاةِ الرَّحِمِ يَتَكَوَّنُ الْجَنِينُ فَلَا جَرَمَ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ طَوْرٌ آخَرُ لِلْخَلْقِ وَهُوَ طَوْرُ اخْتِلَاطِ السُّلَالَتَيْنِ فِي الرَّحِمِ. سُمِّيَتْ سُلَالَةُ الذَّكَرَ نُطْفَةً لِأَنَّهَا تُنْطَفُ، أَيْ تُقْطَرُ فِي الرَّحِمِ فِي قَنَاةٍ مَعْرُوفَةٍ وَهُوَ الْقَرَارُ الْمَكِينُ.

فَ نُطْفَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ: فِي قَرارٍ مَكِينٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ جَعَلْناهُ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ السُّلَالَةِ. فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ السُّلَالَةِ، فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا السُّلَالَةَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، أَيْ وَضَعْنَاهَا فِيهِ حِفْظًا لَهَا، وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي الْآيَةِ التَّعْبِيرَ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ إِلَى فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي بِ (فِي) بِمَعْنَى الْوَضْعِ. وَالْقَرَارُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ قَرَّ إِذَا ثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ بِهِ هُنَا الْمَكَانُ نَفْسُهُ. وَالْمَكِينُ: الثَّابِتُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ لَا يُقْلِعُ مِنْ مَكَانِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُوصَفَ بِالْمَكِينِ الشَّيْءُ الْحَالُّ فِي الْمَكَانِ الثَّابِتُ فِيهِ. وَقَدْ وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِنَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ النُّطْفَةُ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ، وَحَقِيقَتُهُ مَكِينٌ حَالُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [37] وَقَوْلُهُ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [5] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدَمُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَتَادَةُ فَتَكُونُ السُّلَالَةُ الطِّينَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي كَوَّنَ اللَّهُ مِنْهَا آدَمَ وَهِيَ الصَّلْصَالُ الَّذِي مَيَّزَهُ مِنَ الطِّينِ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ، فَتِلْكَ الطِّينَةُ مَسْلُولَةٌ سَلًّا خَاصًّا مِنَ الطِّينِ لِيَتَكَوَّنَ مِنْهَا حَيٌّ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَسْلًا لِآدَمَ فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، وَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَة: 7، 8] . وَحَرْفُ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ إِذْ كَانَ خَلْقُ النُّطْفَةِ عَلَقَةً أَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ النُّطْفَة إِذْ قد صَيَّرَ الْمَاءَ السَّائِلَ دَمًا جَامِدًا فَتَغَيَّرَ بِالْكَثَافَةِ وَتَبَدَّلَ اللَّوْنُ مِنْ عَوَامِلَ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الرَّحِمِ. وَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكَائِنِ بِاسْمِ الْعَلَقَةِ فَإِنَّهُ وَضْعٌ بَدِيعٌ لِهَذَا الِاسْمِ إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَالَتْ

إِلَيْهِ النُّطْفَةُ هُوَ كَائِنٌ لَهُ قُوَّةُ امْتِصَاصِ الْقُوَّةِ مِنْ دَمِ الْأُمِّ بِسَبَبِ الْتِصَاقِهِ بِعُرُوقٍ فِي الرَّحِمِ تَدْفَعُ إِلَيْهِ قُوَّةَ الدَّمِ، وَالْعَلَقَةُ: قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ عَاقِدٍ. وَالْمُضْغَةُ: الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ اللَّحْمِ مِقْدَارُ اللُّقْمَةِ الَّتِي تُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ كَيْفِيَّةُ تَخَلُّقِ الْجَنِينِ. وَعَطَفَ جَعْلَ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً بِالْفَاءِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ يُشْبِهُ تَعْقِيبَ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ إِذِ اللَّحْمُ وَالدَّمُ الْجَامِدُ مُتَقَارِبَانِ فَتَطَوُّرُهُمَا قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ مُكْثُ كُلِّ طَوْرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَخَلْقُ الْمُضْغَةِ عِظَامًا هُوَ تَكْوِينُ الْعِظَامِ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْمُضْغَةِ وَذَلِكَ ابْتِدَاءُ تَكْوِينِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُرِّرَ فِي عَطْفِ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ بِالْفَاءِ. فَمَعْنَى فَكَسَوْنَا أَنَّ اللَّحْمَ كَانَ كَالْكِسْوَةِ لِلْعِظَامِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِظَامَ بَقِيَتْ حِينًا غَيْرَ مَكْسُوَّةٍ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» الْحَدِيثُ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِلْحَيَاةِ وَالنَّمَاءِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ كَانَ دُونَ حَيَاةٍ ثُمَّ نَشَأَ فِيهِ خَلْقُ الْحَيَاةِ وَهِيَ حَالَةٌ أُخْرَى طَرَأَتْ عَلَيْهِ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِنْشَاءِ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّفَاوُتِ الرُّتْبِيِّ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ عَطَفَ هَذَا الْإِنْشَاءَ بِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بِ (ثُمَّ) . وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا الْآيَةُ سَبْعَةُ أَطْوَارٍ فَإِذَا تَمَّتْ فَقَدْ صَارَ الْمُتَخَلِّقُ حَيًّا، وَفِي «شَرْحِ الْمُوَطَّأِ» : «تَنَاجَى رَجُلَانِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: مَا هَذِهِ الْمُنَاجَاةُ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَزْلَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 15 إلى 16]

تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ لِعَلِيٍّ: صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ» . فَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا بِكَلِمَةِ «أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعِظامَ فِيهِمَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَن عَاصِم عِظاماً.. والْعَظْمُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أَيْ أَحْسَنُ الْمُنْشِئِينَ إِنْشَاءً، لِأَنَّهُ أَنْشَأَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ إِنْشَاءَهُ. وَلَمَّا كَانَتْ دَلَالَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ أَسْبِقَ إِلَى اعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِ كَانَ الثَّنَاءُ الْمُعَقَّبُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى بَدِيعِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ مُشْتَقًّا مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ. وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ صِيغَةُ مُطَاوَعَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَأَصْلُ الْمُطَاوَعَةِ قَبُولُ أَثَرِ الْفِعْلِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي لَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّلَبُّسُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ تَلَبُّسًا مَكِينًا لِأَنَّ شَأْنَ الْمُطَاوَعَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ مُعَالَجَةِ الْفِعْلِ فَتَقْتَضِي ارْتِسَاخَ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمَفْعُولِ الْقَابِلِ لَهُ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ فَاعِلًا فَيُقَالُ: كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَفَاعَلَ إِذَا جَاءَ بِمَعْنَى فَعَلَ دَالًّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الشَّافِيَةِ» ، وَلِذَلِكَ تَتَّفِقُ صِيَغُ الْمُطَاوَعَةِ وَصِيَغُ التَّكَلُّفِ غَالِبًا فِي نَحْوِ: تَثَنَّى. وَتَكَبَّرَ، وَتَشَامَخَ، وتقاعس. فَمَعْنَى فَتَبارَكَ اللَّهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَظَمَةِ فِي الْخَيْرِ، أَيْ عَظَمَةُ مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ خَيْرٍ لِلنَّاسِ وَصَلَاحٍ لَهُمْ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِأَنَّ تَبَارَكَ لَمَّا حُذِفَ مُتَعَلِّقُهُ كَانَ عَامًّا فَيَشْمَلُ عَظَمَةَ الْخَيْرِ فِي الْخَلْقِ وَفِي غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْخالِقِينَ يَعُمُّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَخَلْقَ غَيْرِهِ كالجبال وَالسَّمَاوَات. [15، 16] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 15 إِلَى 16] ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ

[سورة المؤمنون (23) : آية 17]

(16) إِدْمَاجٌ فِي أَثْنَاءِ تَعْدَادِ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ أَهَمِّيَّةَ التَّذْكِيرِ بِالْمَوْتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْوَى مِنْ أَهَمِّيَّةِ ذِكْرِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ مَوْتِهِمْ تَوْطِئَةٌ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْملك: 2] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَهَا حُكْمُ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 17] . وَلِكَوْنِ ثُمَّ لَمْ تُفِدْ مُهْلَةً فِي الزَّمَانِ هُنَا صَرَّحَ بِالْمُهْلَةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْخَلْقِ الْمُبَيَّنِ آنِفًا، أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ وَالنَّمَاءِ الْمُحْكَمِ أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ تَعْطِيلُ أَثَرِ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ ثُمَّ مَصِيرُهُ إِلَى الْفَسَادِ وَالِاضْمِحْلَالِ. وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَرْتَابُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَعرضُوا عَن التَّدْبِير فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ. وَتَوْكِيدُ خَبَرِ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَقْوِيَة التَّأْكِيد بِأَكْثَرِ مِنْ حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ قَوِيًّا. وَنُقِلَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَنُكْتَتُهُ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ بِالتَّخْوِيفِ وَإِنَّمَا يُنَاسِبه الْخطاب. [17] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 17] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ لِأَنَّ أَمْرَهَا أَعْجَبُ، وَإِن كَانَ خلق الْإِنْسَان إِلَى نظره أَقْرَبَ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ

عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 16] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ مَا خَلَقَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يُهْمِلُ ثَوَابَ الصَّالِحِينَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَلَا جَزَاءَ الْمُسِيئِينَ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، وَأَنَّ جَعْلَهُ تِلْكَ الطَّرَائِقَ فَوْقَنَا بِحَيْثُ نَرَاهَا لَيَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ لَهَا صِلَةً بِنَا لِأَنَّ عَالَمَ الْجَزَاءِ كَائِنٌ فِيهَا وَمَخْلُوقَاتِهِ مُسْتَقِرَّةٌ فِيهَا، فَالْإِشَارَةُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ مِثْلَ الْإِشَارَةِ بِعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: 38- 40] . وَالطَّرَائِقُ: جَمْعُ طَرِيقَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِلطَّرِيقِ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا طَرَائِقُ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَهِيَ أَفْلَاكُهَا، أَيِ الْخُطُوطُ الْفَرْضِيَّةُ الَّتِي ضَبَطَ النَّاسُ بِهَا سُمُوتَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، وَقَدْ أطلق على الْكَوَاكِب اسْمُ الطَّارِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: 1] مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي سَمْتٍ يُسَمَّى طَريقَة فَإِن السائر فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهُ: طَارِقٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرَائِقَ تَسْتَلْزِمُ سَائِرَاتٍ فِيهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا سَيَّارَاتٍ وَطَرَائِقَهَا. وَذُكِرَ فَوْقَكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لَهَا تَعَالَى فَإِنَّهَا بِحَالَةِ إِمْكَانِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيهَا. وَلِأَنَّ كَوْنَهَا فَوْقَ النَّاسِ مِمَّا سَهَّلَ انْتِفَاعَهُمْ بِهَا فِي التَّوْقِيتِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ لُطْفًا بِالْخَلْقِ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِم فِي شؤون حَيَاتِهِمْ، وَهَذَا امْتِنَانٌ، فَالْوَاوُ فِي جُمْلَةِ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ لِلْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلنَّظَرِ فِي أَنَّ عَالَمَ الْجَزَاءِ كَائِنٌ بِتِلْكَ الْعَوَالِمِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] . وَالْخَلْقُ مَفْعُولٌ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ مَا كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ حَاجَةِ مَخْلُوقَاتِنَا يَعْنِي الْبَشَرَ، وَنَفْيُ الْغَفْلَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ وَالْمُلَاحَظَةِ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَلْقِ الطَّرَائِقِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا خُلِقَتْ لَهُ لُطْفًا بِالنَّاسِ أَيْضًا إِذْ كَانَ نِظَامُ خَلْقِهَا صَالِحًا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 إلى 20]

لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ فِي مَوَاقِيتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: 97] . وَأَعْظَمُ تِلْكَ الطَّرَائِقِ طَرِيقَةُ الشَّمْسِ مَعَ مَا زَادَتْ بِهِ مِنَ النَّفْعِ بِالْإِنَارَةِ وَإِصْلَاحِ الْأَرْضِ وَالْأَجْسَادِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ لِحِكْمَةٍ لَا تَعْلَمُونَهَا وَمَا أَهْمَلْنَا فِي خَلْقِهَا رَعْيَ مصالحكم أَيْضا. والعدول عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَمَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ، لِمَا يُفِيدُهُ الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ مَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ لِأَنَّكُمْ مَخْلُوقَاتُنَا فَنَحْنُ نُعَامِلُكُمْ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَن الْكفْر. [18- 20] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 18 إِلَى 20] وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) مُنَاسَبَةُ عَطْفِ إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 17] أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يَنْزِلُ مِنْ صَوْبِ السَّمَاءِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ. وَفِي إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ دَلَالَةٌ عَلَى سِعَةِ الْعِلْمِ وَدَقِيقِ الْقُدْرَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنَّةٌ عَلَى الْخَلْقِ فَالْكَلَامُ اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ إِلَى آخِرِهِ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ الرَّعْدِ وَسُورَةِ النَّحْلِ. وَإِنْزَالُ الْمَاءِ هُوَ إِسْقَاطُهُ مِنَ السُّحُبِ مَاءً وَثَلْجًا وَبَرَدًا عَلَى السُّهُولِ وَالْجِبَالِ.

وَالْقَدَرُ هُنَا: التَّقْدِيرُ وَالتَّعْيِينُ لِلْمِقْدَارِ فِي الْكَمِّ وَفِي النَّوْبَةِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِهِ، أَيْ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُنَاسِبٍ لِلْإِنْعَامِ بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا أُنْزِلَ كَذَلِكَ حَصَلَ بِهِ الرِّيُّ وَالتَّعَاقُبُ، وَكَذَلِكَ ذَوَبَانُ الثُّلُوجِ النَّازِلَةِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقْصَدَ مَعَ ذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَدَرِ هُنَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . وَالْإِسْكَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ فِي مَسْكَنٍ، وَالْمَسْكَنُ: مَحَلُّ الْقَرَارِ، وَهُوَ مَفْعَلٌ اسْمُ مَكَانٍ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ. وَأَطْلَقَ الْإِسْكَانَ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَهَذَا الْإِقْرَارُ عَلَى نَوْعَيْنِ: إِقْرَارٌ قَصِيرٌ مِثْلَ إِقْرَارِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي الْقِشْرَةِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْأَرْضِ عَقِبَ نُزُولِ الْأَمْطَارِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ غَزَارَةُ الْمَطَرِ وَرَخَاوَةُ الْأَرْضِ وَشِدَّةُ الْحَرَارَةِ أَوْ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَهُوَ مَا يَنْبُتُ بِهِ النَّبَاتُ فِي الْحَرْثِ وَالْبَقْلُ فِي الرَّبِيعِ وَتَمْتَصُّ مِنْهُ الْأَشْجَارُ بِعُرُوقِهَا فَتُثْمِرُ إِثْمَارَهَا وَتَخْرُجُ بِهِ عُرُوقُ الْأَشْجَارِ وَأُصُولُهَا مِنَ الْبُزُورِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ. وَنَوْعٌ آخَرُ هُوَ إِقْرَارٌ طَوِيلٌ وَهُوَ إِقْرَارُ الْمِيَاهِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ الْمَطَرِ وَعَنْ ذَوْبِ الثُّلُوجِ النَّازِلَةِ فَتَتَسَرَّبُ إِلَى دَوَاخِلِ الْأَرْضِ فَتَنْشَأُ مِنْهَا الْعُيُونُ الَّتِي تَنْبُعُ بِنَفْسِهَا أَوْ تُفَجَّرُ بِالْحَفْرِ آبَارًا. وَجُمْلَةُ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ بِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى صَالِحَةٌ لِلْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَتَنْكِيرُ ذَهابٍ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ. وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ هُنَا تَعَدُّدُ أَحْوَالِ الذَّهَابِ بِهِ مِنْ تَغْوِيرِهِ إِلَى أَعْمَاقِ الْأَرْضِ بِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِزِلْزَالٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ تَجْفِيفِهِ بِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَمِنْ إِمْسَاكِ إِنْزَالِهِ زَمَنًا طَوِيلًا. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْملك: 30] ، وَفِي «الْكَشَّافِ» : «وَهُوَ (أَيْ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ) أَبْلَغُ فِي الْإِيعَادِ

مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْملك: 30] اهـ. فَبَيَّنَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» (¬1) » لِلْأَبْلَغِيَّةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَجْهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَهَذَا عَلَى الْجَزْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ. الثَّانِي: التَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) . الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي الْخَبَرِ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ فِي مُطْلَقِ الْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ وَتِلْكَ فِي مَاءٍ مُضَافٍ إِلَيْهِمْ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْغَائِرَ قَدْ يَكُونُ بَاقِيًا بِخِلَافِ الذَّاهِبِ. السَّادِسُ: مَا فِي تَنْكِيرِ ذَهابٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ. السَّابِعُ: إِسْنَادُهُ هَاهُنَا إِلَى مُذْهِبٍ بِخِلَافِهِ ثَمَّتْ حَيْثُ قيل غَوْراً [الْملك: 30] . الثَّامِنُ: مَا فِي ضَمِيرِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِنَ الرَّوْعَةِ. التَّاسِعُ: مَا فِي لَقادِرُونَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ مِنَ الْقَادِرِ أَبْلَغُ. الْعَاشِرُ: مَا فِي جَمْعِهِ. الْحَادِي عَشَرَ: مَا فِي لَفْظِ بِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا يُمْسِكُهُ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ. الثَّانِي عَشَرَ: إِخْلَاؤُهُ مِنَ التَّعْقِيبِ بِإِطْمَاعٍ وَهُنَالِكَ ذُكِرَ الْإِتْيَانُ الْمَطْمَعُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: تَقْدِيم مَا فِيهِ الْإِيعَادِ وَهُوَ الذَّهَابُ عَلَى مَا هُوَ كَالْمُتَعَلِّقِ لَهُ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْكُوفِيِّ. الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنَ التَّفَاوُتِ ثَبَاتًا وَغَيْرَهُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا فِي لفظ أَصْبَحَ [الْملك: 30] مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ وَالصَّيْرُورَةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْإِذْهَابَ هَاهُنَا مُصَرَّحٌ بِهِ وَهُنَالِكَ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ. ¬

(¬1) هُوَ مُحَمَّد السيرافي القالي الشقار من أهل أَوَاخِر الْقرن السَّابِع.

السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ هُنَالِكَ نَفْيُ مَاءٍ خَاصٍّ أَعْنِي الْمَعِينَ بِخِلَافِهِ هَاهُنَا. الثَّامِنَ عَشَرَ: اعْتِبَارُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفِي كُلٌّ مِنْهَا مُؤَكِّدًا. وَزَادَ الْآلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ: التَّاسِعَ عَشَرَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى نَفْسُهُ بِهِ مِنْ دُونِ أَمْرٍ لِلْغَيْرِ هَاهُنَا بِخِلَافِهِ هُنَالِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. الْعِشْرُونَ: عَدَمُ تَخْصِيصِ مُخَاطَبٍ هَاهُنَا وَتَخْصِيصُ الْكُفَّارِ بِالْخِطَابِ هُنَالِكَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّشْبِيهُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جَعْلِ الْجُمْلَةِ حَالًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الْقُدْرَةِ وَلَا تَشْبِيهَ ثَمَّتَ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إِسْنَادُ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى مَرَّتَيْنِ. وَنَقَلَ الْآلُوسِيُّ عَنْ عَصْرِيِّهِ الْمَوْلَى مُحَمَّدٍ الزَّهَاوِيِّ وُجُوهًا وَهِيَ: الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: تَضْمِينُ الْإِيعَادِ هُنَا إِيعَادُهُمْ بِالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ (ذَهَبَ بِهِ) يَسْتَلْزِمُ مُصَاحَبَةَ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولَ، وَذَهَابَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ مَعَ الْمَاءِ بِمَعْنَى ذَهَابِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ وَلَعْنِهِمْ وَطَرْدِهِمْ عَنْهَا وَلَا كَذَلِكَ مَا هُنَاكَ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَيْسَ الْوَقْتُ لِلذَّهَابِ مُعَيَّنًا هُنَا بِخِلَافِهِ فِي إِنْ أَصْبَحَ [الْملك: 30] فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحَدِ اسْتِعْمَالَيْ (أَصْبَحَ) نَاقِصًا. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ جِهَةَ الذَّهَابِ بِهِ لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً بِأَنَّهَا السُّفْلُ (أَيْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ غَوْرًا) . السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْإِيعَادَ هُنَا بِمَا لَمْ يُبْتَلُوا بِهِ قطّ بِخِلَافِهِ بِمَا هُنَالِكَ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمُوعَدَ بِهِ هُنَا إِنْ وَقَعَ فَهُمْ هَالِكُونَ أَلْبَتَّةَ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ هُنَا لَهُمْ مُتَشَبِّثٌ وَلَوْ ضَعِيفًا فِي تَأْمِيلِ امْتِنَاعِ الْمَوْعِدِ بِهِ وَهُنَاكَ حَيْثُ أَسْنَدَ الْإِصْبَاحَ غَوْرًا إِلَى الْمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ

لَا يُصْبِحُ غَوْرًا بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الْحَكِيمِ، أَيْضًا احْتُمِلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ الشَّرْطِيَّةُ مَعَ صِدْقِهَا مُمْتَنِعَةَ الْمَقْدَمِ فَيَأْمَنُوا وُقُوعَهُ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمُوعَدَ بِهِ هُنَا يحْتَمل فِي بادىء النَّظَرِ وُقُوعُهُ حَالًا بِخِلَافِهِ هُنَاكَ فَإِنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُتَعَيِّنٌ لِوُقُوعِهِ لِمَكَانِ (إِنْ) . وَظَاهِرٌ أَنَّ التَّهْدِيدَ بِمُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ أَهْوَلُ، وَمُتَعَيِّنِ الْوُقُوعِ فِي الِاسْتِقْبَالِ أَهْوَنُ. الثَّلَاثُونَ: أَنَّ مَا هُنَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِيعَادِ بِخِلَافِ مَا هُنَاكَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وَلَوْ عُلِمَ بُعْدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ: إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَلَا يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ سِوَى اللَّهُ تَعَالَى. وَأَنَا أَقُولُ: عُنِيَ هَؤُلَاءِ النَّحَارِيرُ بِبَيَانِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدُهُمْ لِلْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ تَوْفِيرِ الْخَصَائِصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الْآيَةِ الْأُخْرَى مِمَّا يُوَازِنُهَا، وَلَيْسَ ذَلِك لخو الْآيَةِ عَنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ وَلَا عَجْزِ النَّاظِرِينَ عَنِ اسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِهَا، وَلَكِنْ مَا يُبَيَّنُ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ يُرِيدُ مَنْ يُبَيِّنُهُ أَنَّ مَا لَاحَ لَهُ وَوُفِّقَ إِلَيْهِ هُوَ قُصَارَى مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَعَانِي وَلَكِنَّهُ مُبَلِّغٌ مَا صَادَفَ لَوْحُهُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَدَبِّرِ، وَالْعُلَمَاءُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ فَقَدْ يُفَاضُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ إِدْرَاكِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَلَا يُفَاضُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ عَلَى مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَهْلُ الْمَعَانِي بِإِفَاضَةِ الْقَوْلِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنْ تَكُونَ نَمُوذَجًا لِاسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا فَعَلَ السَّكَّاكِيُّ فِي بَيَانِ خَصَائِصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] الْآيَةُ مِنْ مَبْحَثِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» ، وَأَنَّهُ قَالَ فِي مُنْتَهَى كَلَامِهِ «وَلَا تَظُنَّنَّ الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا ذَكَرْتُ فَلَعَلَّ مَا تَرَكْتُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْتُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْإِرْشَادُ لِكَيْفِيَّةِ اجْتِنَاءِ ثَمَرَاتِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ» .

وَقَدْ نَقُولُ: إِنَّ آيَةَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ قُصِدَ مِنْهَا الْإِنْذَارُ وَالتَّهْدِيدُ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْمُلْكِ فَالْقَصْدُ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَلْبِهَا، فَاخْتِلَافُ الْمَقَامَيْنِ لَهُ أَثَرٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُقْتَضَيَاتِ فَكَانَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ آثَرَ بِوَفْرَةِ الْخَصَائِصِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَقَامِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ دُونَ تَعْطِيلٍ لِاسْتِخْرَاجِ خَصَائِصٍ فِيهَا لَعَلَّنَا نُلِمُّ بِهَا حِينَ نَصِلُ إِلَيْهَا. عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمُلْكِ نَزَلَتْ عَقِبَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ يَتَدَاخَلُ نُزُولُ بَعْضِهَا مَعَ نُزُولِ بَعْضِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُشْبِعَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْمَقَامُ اكْتُفِيَ عَنْ مِثْلِهَا فِي نَظِيرَتِهَا مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ فَسَلَكَ فِي الثَّانِيَةِ مَسْلَكَ الْإِيجَازِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِنَظِيرِهَا. وَإِنْشَاءُ الْجَنَّاتِ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلُ إِنْبَاتِ الْجَنَّاتِ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أُنْبِتَتِ الْجَنَّاتُ بِغَرْسِ الْبَشَرِ وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ بِمَا أَوْدَعَ فِي الْعُقُولِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَالسَّقْيِ وَتَفْجِيرِ الْمِيَاهِ وَاجْتِلَابِهَا مِنْ بُعْدٍ فَكُلُّ هَذَا الْإِنْشَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَنَّةُ: الْمَكَانُ ذُو الشَّجَرِ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَكَرْمٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [265] . وَمَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ أَصْنَافِ الشَّجَرِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَكْرَمُ الشَّجَرِ وَأَنْفَعُهُ ثَمَرًا وَهُوَ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ وَالزَّيْتُونُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ [11] . وَالْفَوَاكِهُ: جَمَعُ فَاكِهَةٍ، وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُتَفَكَّهُ بِأَكْلِهِ، أَيْ يُتَلَذَّذُ بِطَعْمِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْقُوتِ، فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْقُوتُ قِيلَ لَهُ طَعَامٌ. فَمِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا هُوَ فَاكِهَةٌ وَطَعَامٌ كَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ فَاكِهَةٌ وَلَيْسَ بِطَعَامٍ كَاللَّوْزِ وَالْكُمَّثْرَى، وَمِنْهَا مَا هُوَ طَعَامٌ غَيْرُ فَاكِهَةٍ كَالزَّيْتُونِ، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ ذِكْرَ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ عَنْ ذِكْرِ أَخَوَيْهَا لِأَنَّهُ أُرِيدَ الِامْتِنَانُ بِمَا فِي ثَمَرَتِهِمَا مِنَ التَّفَكُّهِ وَالْقُوتِ فَتَكُونُ مِنَّةً بِالْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ.

وَوَصَفَ الْفَوَاكِهَ بِ كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ كَالْبُسْرِ وَالرَّطْبِ وَالتَّمْرِ، وَكَالزَّيْتِ وَالْعِنَبِ الرَّطْبِ، وَأَيْضًا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ إِثْمَارِ هَذَيْنِ الشَّجَرَيْنِ. وَشَجَرَةً عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ أَيْ وَأَخْرَجْنَا لَكُمْ بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وَجُمْلَةُ تَخْرُجُ صِفَةٌ لِ شَجَرَةً وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مَعَ طَيِّ كَوْنِ النَّاسِ مِنْهَا يَأْكُلُونَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهَا، وَإِيمَاءٌ إِلَى كَثْرَةِ مَنَافِعِهَا لِأَنَّ مِنْ ثَمَرَتِهَا طَعَامًا وَإِصْلَاحًا ومداواة، وَمن أعودها وَقُودٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» . وَطُورُ سَيْنَاءَ: جَبَلٌ فِي صَحْرَاءِ سَيْنَاءَ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ وَبَيْنَ مِصْرِ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ فِي الْقَدِيمِ وَفِيهِ نَاجَى مُوسَى رَبَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [143] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الطُّورِ بِدُونِ إِضَافَةٍ، وَطُورُ سَيْنَاءَ أَوْ طُورُ سِينِينَ. وَمَعْنَى الطُّورِ الْجَبَلُ. وَسَيْنَاءُ قِيلَ اسْمُ شَجَرٍ يَكْثُرُ هُنَالِكَ. وَقِيلَ اسْمُ حِجَارَةٍ. وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَكَانِ، قِيلَ هُوَ اسْمٌ نَبَطِيٌّ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ حَبَشِيٌّ وَلَا يَصِحُّ. وَإِنَّمَا اغْتَرَّ مَنْ قَالَهُ بِمُشَابَهَةِ هَذَا الِاسْمِ لِوَصْفِ الْحُسْنِ فِي اللُّغَةِ الْحَبَشِيَّةِ وَهُوَ كَلِمَةُ سَنَاهُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّشَابُهِ قَدْ أَثَارَ أَغْلَاطًا. وَسُكِّنَتْ يَاءُ سَيْناءَ سُكُونًا مَيِّتًا وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فِيهَا الْفَتْحُ وَسُكُونُ الْيَاءِ سُكُونًا حَيًّا، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، وَهُوَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَمْدُودٌ، وَهُوَ فِيهِمَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ لِأَنَّ وَزْنَ فَعِلَاءَ إِذَا كَانَ عَيْنُهُ أَصْلًا لَا تَكُونُ أَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ بَلْ لِلْإِلْحَاقِ وَأَلِفُ الْإِلْحَاقِ لَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ فَمَنْعُهُ لِأَجْلِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ وَزْنَ فَعَلَاءَ مِنْ أَوْزَانِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ. وَقَوْلُهُ: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهَا مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِطُورِ سَيْنَاءَ. وَقَدْ غُمِضَ وَجْهُ ذَاكَ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْخُرُوجَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّشْأَةِ

وَالتَّخَلُّقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 53] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الزمر: 21] ، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرُوجِ هُوَ الْبُرُوزُ مِنَ الْمَكَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ يَبْرُزُ بَعْدَ الْعَدَمِ وَكَانَ الْمَكَانُ لَازِمًا لِكُلِّ حَادِثٍ شَبَّهَ ظُهُورَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا بِخُرُوجِ الشَّيْءِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحْجُوبًا فِيهِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ. فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَوَّلَ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَجْنَاسَ وَالْأَنْوَاعَ الْمَوْجُودَةَ عَلَى الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَوَاطِنَ كَانَ فِيهَا ابْتِدَاءُ وَجُودِهَا قَبْلَ وُجُودِهَا فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ تَكُونُ أَسْعَدَ لِنَشْأَةِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ بَعْضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْمَكَانِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِيهِ مِنْ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوِ اعْتِدَالٍ، وَكَذَلِكَ فُصُولُ السَّنَةِ كَالرَّبِيعِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ وَالشِّتَاءِ لِبَعْضٍ آخَرَ وَالصَّيْفِ لِبَعْضٍ غَيْرِهَا فَاللَّهُ تَعَالَى يُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا فَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ جَارٍ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ. ثُمَّ إِنَّ الْبَشَرَ إِذَا نَقَلُوا حَيَوَانًا أَوْ نَبَاتًا مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ أَوْ أَرَادُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي فَصْلٍ غَيْرِ فَصْلِهِ وَرَأَوْا عَدَمَ صَلَاحِيَةِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِمَا يَحْتَالُونَ لَهُ بِمَا يُكْمِلُ نَقْصَهُ مِنْ تَدْفِئَةٍ فِي شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ تَبْرِيدٍ بِسَبْحٍ فِي الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ حَتَّى لَا يَتَعَطَّلَ تَنَاسُلُ ذَلِكَ الْمَنْقُولِ إِلَى غَيْرِ مَكَانِهِ، فَكَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ لَا يَعِيشُ طَوِيلًا فِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ غَيْرِ الْمُلَايِمَةِ لِطِبَاعِهِ كَالْغَزَالِ فِي بِلَادِ الثُّلُوجِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ مِنَ الْمِنْطَقَةِ الْمُلَائِمَةِ لِلْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ أَصْلَحَ بِهِ مِنْ بَعْضِ جِهَاتِ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ، فَلَعَلَّ جَوَّ طُورِ سَيْنَاءَ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ الْمَنَاطِقِ الْمُتَطَرِّفَةِ حَرًّا وَبَرْدًا وَلِتَوَسُّطِ ارْتِفَاعِهِ بَيْنَ النُّجُودِ وَالسُّهُولِ يَكُونُ أَسْعَدَ بِطَبْعِ فَصِيلَةِ الزَّيْتُونِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] ، فَاللَّهُ تَعَالَى هَيَّأَ لِتَكْوِينِهَا حِينَ أَرَادَ تَكْوِينَهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ كَمَا هَيَّأَ لِتَكْوِينِ آدَمَ طِينَةً خَاصَّةً فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرَّحْمَن: 14] ثُمَّ يَكُونُ الزَّيْتُونُ قَدْ نُقِلَ مِنْ أَوَّلِ مَكَانٍ

ظَهَرَ فِيهِ إِلَى أَمْكِنَةٍ أُخْرَى نَقَلَهُ إِلَيْهَا سَاكِنُوهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَنَجَحَ فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَنْجَحْ فِي بَعْضٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الطُّوفَانِ وَبَعْدَهُ. فَفِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ: أَنَّ نُوحًا أَرْسَلَ حَمَامَةً تَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ غِيضَتْ عَنْهُ مِيَاهُ الطُّوفَانِ فَرَجَعَتِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ تَحْمِلُ فِي مِنْقَارِهَا وَرَقَةَ زَيْتُونٍ خَضْرَاءَ فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ أَخَذَ يَغِيضُ عَنِ الْأَرْضِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِدَاءَ غَيْضِ الْمَاءِ إِنَّمَا يَنْكَشِفُ عَنْ أَعَالِي الْجِبَالِ أَوَّلَ الْأَمْرِ فَلَعَلَّ وَرَقَةَ الزَّيْتُونِ الَّتِي حَمَلَتْهَا الْحَمَامَةُ كَانَتْ مِنْ شَجَرَةٍ فِي طُورِ سَيْنَاءَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ عَرَفَ نُوحٌ وَرَقَةَ الزَّيْتُونِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ هَذِه الشَّجَرَة من قَبْلَ الطُّوفَانِ. وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ فِي طَعَامٍ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ إِلَّا فِي عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيَّامَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْنَاءَ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الزَّيْتُ لِإِنَارَةِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ بِوَحْيِ اللَّهِ لِمُوسَى (¬1) ، وَسَكَبَ مُوسَى دُهْنَ الْمَسْحَةِ عَلَى رَأْسِ هَارُونَ أَخِيهِ حِينَ أَقَامَهُ كَاهِنًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (¬2) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَخْرُجُ تَظْهَرُ وَتُعْرَفُ، فَيَكُونُ أَوَّلُ اهْتِدَاءِ النَّاسِ إِلَى مَنَافِعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَانْتِقَالِهِمْ إِيَّاهَا كَانَ مِنَ الزَّيْتُونِ الَّذِي بِطُورِ سَيْنَاءَ. وَهَذَا كَمَا نُسَمِّي الدِّيكَ الرُّومِيَّ فِي بَلَدِنَا بِالدِّيكِ الْهِنْدِيِّ لِأَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَكَمَا تُسَمَّى بَعْضُ السُّيُوفِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ بِالْمَشْرَفِيَّةِ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، وَبَعْضُ الرِّمَاحِ الْخَطِّيَّةِ لِأَنَّهَا تَرِدُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ مَرْفَأٍ يُقَالُ لَهُ: الْخَطُّ، وَبَعْضُ السُّيُوفِ بِالْمُهَنَّدِ لِأَنَّهُ يُجْلَبُ مِنَ الْهِنْدِ، وَقَدْ كَانَ الزَّيْتُ يُجْلَبُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشَّامِ وَمِنْ فِلَسْطِينِ. ¬

(¬1) الإصحاح/ 25/ من سفر الْخُرُوج. [.....] (¬2) الإصحاح/ 9/ من سفر الْخُرُوج.

وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ ذِكْرِ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ إِلَّا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مَنْبَتُهَا الْأَصْلِيُّ وَإِلَّا فَإِنَّ الِامْتِنَانَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا يَوْمَئِذٍ لِسُكَّانِ طُورِ سَيْنَاءَ، وَمَا كَانَ هَذَا التَّنْبِيهُ إِلَّا لِلتَّنْوِيهِ بِشَرَفِ مَنْبَتِهَا وَكَرَمِ الْمَوْطِنِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ، وَلَمْ تَزَلْ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ مَشْهُورَةً بِالْبَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَرَأَيْتُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ: أَنَّ كُلَّ زيتونة بفلسطين فَهِيَ مِنْ غَرْسِ أُمَمٍ يُقَالُ لَهُمُ الْيُونَانِيُّونَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ زَيْتُونَ زَمَانِهِمُ الَّذِي أَخْلَفُوا بِهِ أَشْجَارًا قَدِيمَةً بَادَتْ. وَفِي أَسَاطِيرِ الْيُونَانِ (مِيثُولُوجْيَا) أَنَّ مِنِيرْفَا وَنَبْتُونَ (الرَّبَّيْنِ فِي اعْتِقَادِ الْيُونَانِ) تَنَازَعَا فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا لِيَضَعَ اسْمًا لِمَدِينَةٍ بَنَاهَا (كَكْرَابِيسُ) فَحَكَمَتِ الْأَرْبَابُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا الشَّرَفَ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ يَصْنَعُ أَنْفَعَ الْأَشْيَاءِ. فَأَمَّا (نَبْتُونُ) فَأَوْجَدَ فَرَسًا بَحْرِيًّا عَظِيمَ الْقُوَّةِ، وَأَمًّا (مِينِيرْفَا) فَصَنَعَتْ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ بِثَمَرَتِهَا، فَحَكَمَ الْأَرْبَابُ لَهَا بِأَنَّهَا أَحَقُّ، فَلِذَلِكَ وَضَعُوا لِلْمَدِينَةِ اسْمَ (أَثِينَا) الَّذِي هُوَ اسْمُ مِنِيرْفَا. وَزَعَمُوا أَنَّ (هِيرْكُولْ) لَمَّا رَجَعَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ جَاءَ مَعَهُ بِأَغْصَانٍ مِنَ الزَّيْتُونِ فَغَرَسَهَا فِي جَبَلِ (أُولُمْبُوسَ) وَهُوَ مَسْكَنُ آلِهَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ. فَقَدْ كَانَ زَيْتُ الزَّيْتُونِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْيُونَانِ مِنْ عَهْدِ (هُومِيرُوسَ) إِذْ ذَكَرَ فِي الْإِلْيَاذَةِ أَنَّ (أَخْيُلَ) سَكَبَ زَيْتًا عَلَى شِلْوِ (فِطْرِ قَلْيُوسَ) وَشِلْوِ (هِكْتُورَ) . وَكَانَ الزَّيْتُ نَادِرًا فِي مُعْظَمِ بِلَادِ الْعَرَبِ إِذْ كَانَ يُجْلَبُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشَّامِ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ بِزَيْتِ الزَّيْتُونَةِ مَثَلًا لِنُورِهِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّور: 35] .

وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي كُوِّنَتْ بِهَا تِلْكَ الشَّجَرَةُ فِي أَوَّلِ تَكْوِينِهَا حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُبْصِرُهَا خَارِجَةً بِالنَّبَاتِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَة: 110] ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ. وَمَعْنَى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أَنَّهَا تَنْبُتُ مُلَابِسَةً لِلدُّهْنِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ لِبَاءِ الْمُلَابَسَةِ، وَالْمُلَابَسَةُ مَعْنًى وَاسِعٌ، فَمُلَابَسَةُ نَبَاتِ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ لِلدُّهْنِ وَالصِّبْغِ مُلَابَسَةٌ بِوَاسِطَةِ مُلَابَسَةِ ثَمَرَتِهَا لِلدُّهْنِ وَالصِّبْغِ، فَإِنَّ ثَمَرَتَهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الزَّيْتِ وَهُوَ يُكَوِّنُ دُهْنًا وَصِبْغًا لِلْآكِلِينَ، فَأَمَّا كَوْنُهُ دُهْنًا، فَهُوَ أَنَّهُ يَدْهِنُ بِهِ النَّاسُ أَجْسَادَهُمْ وَيُرَجِّلُونَ بِهِ شُعُورَهُمْ وَيَجْعَلُونَ فِيهِ عُطُورًا فَيُرَجِّلُونَ بِهِ الشُّعُورَ، وَقَدْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْهِنُ بِالزَّيْتِ فِي رَأْسِهِ. وَالدُّهْنُ بِضَمِّ الدَّالِ: اسْمٌ لِمَا يُدْهَنُ بِهِ، أَيْ يُطْلَى بِهِ شَيْءٌ، وَيُطْلَقُ الدُّهْنُ عَلَى الزَّيْتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُطْلَى بِهِ الْجَسَدُ لِلتَّدَاوِي وَالشَّعْرُ لِلتَّرْجِيلِ. وَالصِّبْغُ، بِكَسْرِ الصَّادِ: مَا يُصْبَغُ بِهِ أَيْ يُغَيَّرُ بِهِ اللَّوْنُ. ثُمَّ تُوُسِّعَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى كُلِّ مَائِعٍ يُطْلَى بِهِ ظَاهِرُ جِسْمٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: صِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 138] . وَسُمِّيَ الزَّيْتُ صِبْغًا لِأَنَّهُ يُصْبَغُ بِهِ الْخُبْزُ. وَعَطْفُ صِبْغٍ على بِالدُّهْنِ بِاعْتِبَار الْمُغَايرَة فِي مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّةُ اشْتِقَاقِ الْوَصْفِ فَإِنَّ الصِّبْغَ مَا يُصْبَغُ بِهِ وَالدُّهْنَ مَا يُدْهَنُ بِهِ وَالصِّبْغُ أَخَصُّ فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ، وَكَانُوا يَأْدِمُونَ بِهِ الطَّعَامَ وَذَلِكَ صِبْغٌ لِلطَّعَامِ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ:

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 إلى 22]

أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، أَيْ تُنْبِتُ هِيَ ثَمَرَهَا، أَي تخرجه. [21، 22] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 21 إِلَى 22] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) هَذَا الْعَطْفُ مِثْلَ عَطْفِ جُمْلَةِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ [الْمُؤْمِنُونَ: 18] فَفِيهِ كَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ وَمِنَّةٌ. وَالْعِبْرَةُ: الدَّلِيلُ لِأَنَّهُ يُعْبَرُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي الْأَنْعَامِ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ. وَالْأَنْعَامُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْإِبِلُ فِي غَالِبِ عُرْفِ الْعَرَبِ. وَجُمْلَةُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا فِي مَوْقِعِ الْمَعْطُوفِ عَطْفَ الْبَيَانِ. وَالْعِبْرَةُ حَاصِلَةٌ مِنْ تَكْوِينِ مَا فِي بُطُونِهَا مِنَ الْأَلْبَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ نُسْقِيكُمْ. وَأَمَّا نُسْقِيكُمْ بِمُجَرَّدِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [66] . وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها فَإِنَّ فِيهِ بَقِيَّةَ بَيَانِ الْعِبْرَةِ وَكَذَلِكَ الْجُمَلَ بَعْدَهُ. وَهَذِهِ الْمَنَافِعُ هِيَ الْأَصْوَافُ وَالْأَوْبَارُ وَالْأَشْعَارُ وَالنِّتَاجُ. وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا فَهُوَ عِبْرَةٌ أَيْضًا إِذْ أَعَدَّهَا اللَّهُ صَالِحَةً لِتَغْذِيَةِ الْبَشَرِ بِلُحُومِهَا لَذِيذَةِ الطَّعْمِ، وَأَلْهَمَ إِلَى طَرِيقَةِ شَيِّهَا وَصَلْقِهَا وَطَبْخِهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي معنى عَلَيْها ..حْمَلُونَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً بِإِعْدَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا لِذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَمْلُ صَادِقٌ بِالرُّكُوبِ وَبِحَمْلِ الْأَثْقَالِ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 إلى 25]

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ عَدَا أَبَا جَعْفَرٍ- بِضَمِّ النُّونِ- يُقَالُ: سَقَاهُ وَأَسْقَاهُ بِمَعْنًى، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مَفْتُوحَةً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَنْعَامِ. وَعَطْفُ عَلَى الْفُلْكِ إِدْمَاجٌ وَتَهْيِئَةٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قصَّة نوح. [23- 25] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 23 إِلَى 25] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ وَالِامْتِنَانُ اللَّذَانِ تَقَدَّمَا مُوَجَّهَيْنِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كفرُوا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِرِسَالَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ وَسَأَلُوا إِنْزَالَ مَلَائِكَةٍ وَوَسَمُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْجُنُونِ، فَلَمَّا شَابَهُوا بِذَلِكَ قَوْمَ نُوحٍ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يُضْرَبَ لَهُمْ بِقَوْمِ نُوحٍ مَثَلٌ تَحْذِيرًا مِمَّا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَرَى فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ ذِكْرُ الْحَمْلِ فِي الْفُلْكِ فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً لِلِانْتِقَالِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ حُسْنُ التَّخَلُّصِ، فَيُعْتَبَرُ ذِكْرُ قَصَصِ الرُّسُلِ إِمَّا اسْتِطْرَادًا فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِمَّا انْتِقَالًا كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الْمُؤْمِنُونَ: 78] . وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ تَأْكِيدٌ لِلْمَضْمُونِ التَّهْدِيدِيِّ مِنَ الْقِصَّةِ، فَالْمَعْنَى تَأْكِيدُ الْإِرْسَالِ إِلَى نُوحٍ وَمَا عَقَّبَ بِهِ ذَلِكَ.

وَعَطْفُ مَقَالَةِ نُوحٍ عَلَى جُمْلَةِ إِرْسَالِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ أَدَائِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِالْفَوْرِ مِنْ أَمْرِهِ وَهُوَ شَأْنُ الِامْتِثَالِ. وَأَمْرُهُ قَوْمَهُ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَنْ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ (وَدٍّ، وَسُوَاعَ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ) حَتَّى أَهْمَلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَسُوهَا. وَكَذَلِكَ حُكِيَتْ دَعْوَةُ نُوحٍ قَوْمَهُ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِصِيغَةِ أَمْرٍ بِأَصْلِ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَصْرِ عِبَادَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَهُمْ مُثْبِتُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ أَخَصُّ مِنَ الْمُعَلَّلِ، وَهُوَ أَوْقَعُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ لِاقْتِضَائِهِ مَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَالْمَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ وَهُوَ إِلَهُكُمْ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْعِبَادَةَ فَلَا تَعْبُدُوا أَصْنَامَكُمْ مَعَهُ. وغَيْرُهُ نَعْتٌ لِ إِلهٍ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ الْمَنْعُوتِ بِ (غَيْرِ) لِأَنَّ الْمَنْعُوتَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ زَائِدٍ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ الزَّائِدِ. وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى عَدَمِ اتِّقَائِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ خُولِفَتْ فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ تَرْكُ الْعَطْفِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . فَعُطِفَ هُنَا جَوَابُ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُوَجِّهُوا الْكَلَامَ إِلَيْهِ بَلْ تَرَكُوهُ وَأَقْبَلُوا عَلَى قَوْمِهِمْ يُفَنِّدُونَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ. وَالثَّانِي: لِيُفَادَ أَنهم أَسْرعُوا بتكذيبه وَتَزْيِيفِ دَعْوَتِهِ قَبْلَ النَّظَرِ. وَوَصْفُ الْمَلَأِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَهُمْ

بِهَذَا الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الرَّدِّ لَا نُهُوضَ لَهُ وَلَكِنَّهُمْ رَوَّجُوا بِهِ كُفْرَهُمْ خَشْيَةً عَلَى زَوَالِ سِيَادَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَوْمِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ. وَقَوْلُ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ خَاطَبَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذِ الْمَلَأُ هُمُ الْقَوْمُ ذَوُو السِّيَادَةِ وَالشَّارَةِ، أَيْ فَقَالَ عُظَمَاءُ الْقَوْمِ لِعَامَّتِهِمْ. وَإِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ ذَاتِهِ، أَوْهَمُوهُمْ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ مَانِعَةٌ مِنَ الْوَسَاطَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهَذَا مِنَ الْأَوْهَامِ الَّتِي أَضَلَّتْ أُمَمًا كَثِيرَةً. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُنْصَرِفٌ إِلَى نُوحٍ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ وَقَعَ بِحَضْرَةِ نُوحٍ فِي وَقْتِ دَعْوَتِهِ، فَعَدَلُوا مِنَ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ تَصْغِيرُ أَمْرِهِ وَتَحْقِيرُهُ لَدَى عَامَّتِهِمْ كَيْلَا يَتَقَبَّلُوا قَوْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَزَادَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ سَادَةَ الْقَوْمِ ظَنُّوا أَنَّهُ مَا جَاءَ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ إِلَّا حُبًّا فِي أَنْ يُسَوَّدَ عَلَى قَوْمِهِمْ فَخَشُوا أَنْ تَزُولَ سِيَادَتُهُمْ وَهُمْ بِجَهْلِهِمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ أَحْوَالَ النُّفُوسِ وَلَا يَنْظُرُونَ مَصَالِحَ النَّاسِ وَلَكِنَّهُمْ يَقِيسُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى مِقْيَاسِ أَنْفُسِهِمْ. فَلَمَّا كَانَتْ مَطَامِحُ أَنْفُسِهِمْ حُبَّ الرِّئَاسَةِ وَالتَّوَسُّلَ إِلَيْهَا بِالِانْتِصَابِ لِخِدْمَةِ الْأَصْنَامِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنَّمَا أَرَادَ مُنَازَعَتَهُمْ سُلْطَانَهُمْ. وَالتَّفَضُّلُ: تَكَلُّفُ الْفَضْلِ وَطَلَبُهُ، وَالْفَضْلُ أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ ثُمَّ شَاعَ فِي زِيَادَةِ الشَّرَفِ والرفعة، أَي يُرِيد أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ النَّاسِ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ كُلَّهُمْ إِلَى الضَّلَالِ. وَقَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بَعْدَ أَنْ مَهَّدُوا لَهُ بِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ مَانِعَةٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَسُولًا لِلَّهِ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ لِظُهُورِهِ مِنْ جَوَابِ (لَوْ) ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ إِرْسَالَ

رَسُولٍ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً رُسُلًا، وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ جَائِزٌ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَفْعُولِ الْغَرِيبِ مِثْلَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» : أَلَا تَرَى قَوْلَ الْمَعَرِّي: وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا ... عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا الزَّعْمِ لَوْ كَانَتِ الْغَرَابَةُ مُقْتَضِيَةً ذِكْرَ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ. فَلَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ جَوَابِ الشَّرْطِ حَسُنَ حَذْفُهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ. وَجُمْلَةِ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ قَصَدُوا بِهَا تَكْذِيبَ الدَّعْوَةِ بَعْدَ تَكْذِيبِ الدَّاعِي، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا وَلَيْسَت تَكْمِلَة لَهَا قَبْلَهَا، بِخِلَافِ أُسْلُوبِ عَطْفِ جُمْلَةِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً إِذْ كَانَ مَضْمُونُهَا مِنْ تَمَامِ غَرَضِ مَا قَبْلَهَا. فَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ نُوحٌ، أَيْ مَا سَمِعْنَا بِأَنْ لَيْسَ لَنَا إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ فِي مُدَّةِ أَجْدَادِنَا، فَالْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا نَفْسُهُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ يَقْتَضِي زَمَنًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولُهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ آبَائِنَا لِأَنَّ الْآبَاءَ لَا يَصْلُحُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالْآبَاءُ الْأَوَّلُونَ هُمُ الْأَجْدَادُ. وَلَمَّا كَانَ السَّمَاعُ الْمَنْفِيُّ لَيْسَ سَمَاعًا بِآذَانِهِمْ لِكَلَامٍ فِي زَمَنِ آبَائِهِمْ بَلِ الْمُرَادُ مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي زَمَنِ آبَائِنَا، عُدِّيَ فِعْلُ سَمِعْنا بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاتِّصَالِ. جَعَلُوا انْتِفَاءَ عِلْمِهِمْ بِالشَّيْءِ حُجَّةً عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مجادلة سفسطائيّة إِذْ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ عَنْ تَقْصِيرٍ فِي اكْتِسَابِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَ مِثْلِهِ بِأَنْ كَانَ النَّاسُ عَلَى حَقٍّ فَلَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مِنْ زَمَنِ آدَمَ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى حَدَثَ الشِّرْكُ فِي النَّاسِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ نُوحًا فَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 إلى 27]

وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيُّ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ دَعْوَتِهِ فِي الْبُطْلَانِ وَالزَّيْفِ فَمَاذَا دَعَاهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ أَصَابَهُ خَلَلٌ فِي عَقْلِهِ فَطَلَبَ مَا لَمْ يَكُنْ ليناله مثله من التفضل عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ فَقَدْ طَمِعَ فِيمَا لَا يَطْمَعُ عَاقِلٌ فِي مِثْلِهِ فَدَلَّ طَمَعُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَجْنُونٌ. وَالتَّنْوِينُ فِي جِنَّةٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُنُونِ، وَهَذَا اقْتِصَادٌ مِنْهُمْ فِي حَالِهِ حَيْثُ احْتَرَزُوا مِنْ أَنْ يُوَرِّطُوا أَنْفُسَهَمْ فِي وَصْفِهِ بِالْخَبَالِ مَعَ أَنَّ الْمُشَاهَدَ مِنْ حَالِهِ يُنَافِي ذَلِكَ فَأَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّ بِهِ جُنُونًا خَفِيفا لَا يَبْدُو آثَارُهُ وَاضِحَةً. وَقَصَرُوهُ عَلَى صِفَةِ الْمَجْنُونِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَيْسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللَّهِ. وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ أَمْرًا لِقَوْمِهِمْ بِانْتِظَارِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ أَمْرُهُ بَعْدَ زَمَانٍ: إِمَّا شِفَاءٌ مِنَ الْجِنَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الرُّشْدِ، أَوِ ازْدِيَادُ الْجُنُونِ بِهِ فَيَتَّضِحُ أَمْرُهُ فَتَعْلَمُوا أَنْ لَا اعْتِدَادَ بِكَلَامِهِ. وَالْحِينُ: اسْمٌ لِلزَّمَانِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ. وَالتَّرَبُّصُ: التَّوَقُّفُ عَنْ عَمَلٍ يُرَادُ عَمَلُهُ وَالتَّرَيُّثُ فِيهِ انْتِظَارًا لِمَا قَدْ يُغْنِي عَنِ الْعَمَلِ أَوِ انْتِظَارًا لِفُرْصَةٍ تُمَكِّنُ مِنْ إِيقَاعِهِ عَلَى أَتْقَنِ كَيْفِيَّةٍ لِنَجَاحِهِ، وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ وَمَعْنَاهَا السَّبَبِيَّةُ، أَيْ كَانَ تَرَبُّصُ الْمُتَرَبِّصِ بِسَبَبِ مَدْخُولِ الْبَاءِ. وَالْمُرَادُ: بِسَبَبِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ، فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ حُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [98] فَانْظُرْهُ مَعَ مَا هُنَا. [26، 27] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 26 إِلَى 27] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ

(27) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ نُوحٍ وَمَا لَفَّقُوهُ مِنَ الْبُهْتَانِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ، مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّاذَا صَنَعَ نُوحٌ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي إِلَخْ. وَدُعَاؤُهُ بِطَلَبِ النَّصْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَدَّ فِعْلَهُمْ مَعَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ بِوَصْفِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ. وَالنَّصْرُ: تَغْلِيبُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَدِي، فَقَدْ سَأَلَ نُوحٌ نَصْرًا مُجْمَلًا كَمَا حُكِيَ هُنَا، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيمَانِ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَلَا رَجَاءَ فِي أَنْ يَكُونَ نَصْرُهُ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، فَسَأَلَ نوح حينذاك نَصْرًا خَاصًّا وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ نُوحٍ [26، 27] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ . فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ تَعْقِيبٌ بِتَقْدِيرِ جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَهُوَ إِيجَازٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ إِلَخْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [63] . وَالْبَاءُ فِي بِما كَذَّبُونِ سَبَبِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّصْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ الدُّعَاءِ، أَيْ نَصْرًا كَائِنًا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، فَجَعَلَ حَظَّ نَفْسِهِ فِيمَا اعْتَدَوْا عَلَيْهِ مُلْغًى وَاهْتَمَّ بِحَظِّ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الرَّسُولِ اسْتِخْفَافٌ بِمَنْ أَرْسَلَهُ. وَجُمْلَةُ أَنِ اصْنَعِ جُمْلَةٌ مفسره لجملة فَأَوْحَيْنا لِأَنَّ فِعْلَ أَوْحَيْنَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فِي سُورَةِ هُودٍ

وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ تَفْصِيلُ مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفُلْكِ فَوُقِّتَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ بِوَقْتِ الِاضْطِرَارِ إِلَى إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَيَوَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى فارَ التَّنُّورُ وَمَعْنَى زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي سُورَةِ هُودٍ [40] . وَالزَّوْجُ: اسْمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِهِ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ شَفْعًا فِي حَالَةٍ مَا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَإِنَّمَا عُبِّرَ هُنَالِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: 40] وَهُنَا بِقَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيها لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ هُودٍ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ وَذَلِكَ وَقْتٌ ضَيِّقٌ فَأُمِرَ بِأَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَهُمْ، فَأُسْنِدَ الْحَمْلُ إِلَى نُوحٍ تَمْثِيلًا لِلْإِسْرَاعِ بِإِرْكَابِ مَا عُيِّنَ لَهُ فِي السَّفِينَةِ حَتَّى كَأَنَّ حَالَهُ فِي إِدْخَالِهِ إِيَّاهُمْ حَالُ مَنْ يَحْمِلُ شَيْئًا لِيَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ، وَآيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الطُّوفَانِ إِنْبَاءً بِمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ فَأَمَرَهُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُدْخِلُ فِي السَّفِينَةِ مَنْ عَيَّنَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّة. وَمعنى فَاسْلُكْ أَدْخِلْ، وَفِعْلُ (سَلَكَ) يَكُونُ قَاصِرًا بِمَعْنَى دَخَلَ وَمُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَدْخَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] . وَقَوْلُ الْأَعْشَى: كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [37] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِالتَّنْوِينِ كُلٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ فَاسْلُكْ، وَتَنْوِينُ كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ يُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلٍّ. وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَحْمِلَهُ فِي السَّفِينَة.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 28 إلى 29]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 28 إِلَى 29] فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) الِاسْتِوَاءُ: الِاعْتِلَاءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَإِطْلَاقُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فِي دَاخِلِ السَّفِينَةِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعِلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْفُلْكِ أَنَّهُ دُخُولٌ. وَأُتِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ إِيذَانًا بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْفُلْكِ فَهُوَ تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ. وَالتَّنْجِيَةُ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: الْإِنْجَاءُ مِنْ أَذَاهُمْ وَالْكَوْنِ فِيهِمْ لِأَنَّ فِي الْكَوْنِ بَيْنَهُمْ مُشَاهَدَةَ كُفْرِهِمْ وَمَنَاكِرِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ. وَالظُّلْمُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ نُوحًا وَالْمُؤْمِنِينَ بِشَتَّى الْأَذَى بَاطِلًا وَعُدْوَانًا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِنْجَاءً لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَقَلُّوا بِجَمَاعَتِهِمْ فَسَلِمُوا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِأَعْدَائِهِمْ. وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا سَهَّلَ لَهُ مِنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ وَأَنْ يَسْأَلَهُ نُزُولًا فِي مَنْزِلٍ مُبَارَكٍ عَقِبَ ذَلِكَ الترحل، وَالدُّعَاء بذلك يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ سَلَامَةٍ مِنْ غَرَقِ السَّفِينَةِ. وَهَذَا كَالْمَحَامِدِ الَّتِي يُعَلِّمُهَا الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الشَّفَاعَةِ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَتَقَبَّلُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَفِيهَا مَعْنَى تَعْلِيلِ سُؤَالِهِ ذَلِكَ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 30]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنْزَلًا- بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ- وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ (أَنْزَلَهُ) عَلَى حَذْفِ الْمَجْرُورِ، أَيْ مُنْزَلًا فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ إِنْزَالًا مُبَارَكًا. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَهُوَ اسْمٌ لمَكَان النُّزُول. [30] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 30] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ أَعْقَبَهَا بِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَأَتَى بِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ لِذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ وَمَا فِيهَا. وَالْآيَاتُ: الدَّلَالَاتُ، أَيْ لَآيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا هِيَ دَلَائِلُ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ نُوحٍ وَهِيَ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ وَتَصْدِيقُ رِسَالَتِهِ وَإِهْلَاكُ مُكَذِّبِيهِ، وَمِنْهَا آيَاتٌ لِأَمْثَالِ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِحْدَاثِ الطُّوفَانِ وَإِنْزَالِ مَنْ فِي السَّفِينَةِ مَنْزِلًا مُبَارَكًا، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ إِذْ قَدَّرَ لِتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِيصَالِ الْعَامِّ لِأَهْلِهِ. وَإِذْ قَدَّرَ لِإِبْقَاءِ الْأَنْوَاعِ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي أَنْجَى بِهِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ زَوْجَيْنِ لِيُعَادَ التَّنَاسُلُ. وَعُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ جُمْلَةُ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ لِأَنَّ مَضْمُونَ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يُفِيدُ مَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لِبَلْوَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَابْتِلَاءٍ وَكُنَّا مُبْتَلِينَ، أَيْ وَشَأْنُنَا ابْتِلَاءُ أَوْلِيَائِنَا. فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ مِنْ آثَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِتَرْتَاضَ بِهِ نُفُوسُ أَوْلِيَائِهِ وَتُظْهِرَ مُغَالَبَتَهَا لِلدَّوَاعِي الشَّيْطَانِيَّةِ فَتَحْمَدُ عَوَاقِبَ الْبَلْوَى، وَلِتَتَخَبَّطَ نُفُوسُ الْمُعَانِدِينَ وَيَنْزَوِي بَعْضُ شَرِّهَا زَمَانًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الطُّوفَانِ مِنْ بَعْدِ بَعْثَةِ نُوحٍ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَأَذَاهُمْ إِيَّاهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ إِنَّمَا كَانَ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى لِيُمَيِّزَ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 32]

اللَّهُ لِلنَّاسِ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَآمَنَ بِنُوحٍ قَوْمُهُ ثُمَّ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَهَذِهِ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ «وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ» ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: 83] . وَالِابْتِلَاءُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَة: 124] وَقَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] . وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ تَسْلِيَةٌ للنبيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ مَا يُوَاجِهُونَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَقَاءَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ بَلْوَى تَزُولُ عَنْهُ وَتَحِلُّ بِهِمْ وَلِكُلٍّ حَظٌّ يُنَاسِبُهُ. وَلِكَوْنِ هَذَا مِمَّا قَدْ يَغِيبُ عَنِ الْأَلْبَابِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ فَأُكِّدَ بِ إِنَّ الْمُخَفَّفَةِ وَبِفِعْلِ كُنَّا. وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنَّ) الْمُؤَكِّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ عِنْدَ إِهْمَالِ عَمَلِهَا وَبَيْنَ (إِن) النافية. [31، 32] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 31 إِلَى 32] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) تَعْقِيبُ قِصَّةِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ بِقِصَّةِ رَسُولٍ آخَرَ، أَيْ أُخْرَى، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْقَصَصِ يُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لَهُ لَمْ يَكُنْ صُدْفَةً وَلَكِنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَيِّنِ الْقَرْنَ وَلَا الْقُرُونَ بِأَسْمَائِهِمْ. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا ثَمُودُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ [الْمُؤْمِنُونَ: 41] ، لِأَنَّ ثَمُودَ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 33 إلى 38]

وَلِقَوْلِهِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 40] مَعَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَكَانَ هَلَاكُهُمْ فِي الصَّبَاحِ. وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ هُنَا دُونَ عَادٍ خِلَافًا لِمَا تَكَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِهِمْ أَظْهَرُ لِبَقَاءِ آثَارِ دِيَارِهِمْ بِالْحِجْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] . وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا أَيْ جُعِلَ الرَّسُولُ بَيْنَهُمْ وَهُوَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى قَرْناً لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلٍ (النَّاسِ) كَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] . وعدّي فعل فَأَرْسَلْنا بِ (فِي) دُونَ (إِلَى) لِإِفَادَةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ مِنْهُمْ وَنَشَأَ فِيهِمْ لِأَنَّ الْقَرْنَ لَمَّا لَمْ يُعَيَّنْ بِاسْمٍ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ رَسُولَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ وَارِدًا إِلَيْهِمْ مِثْلَ لُوطٍ لِأَهْلِ (سَدُومَ) ، وَيُونُسَ لِأَهْلِ (نِينَوَى) ، وَمُوسَى لِلْقِبْطِ. وَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَهُمْ مِنْهُمْ مَقْصُودًا إِتْمَامًا لِلْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَلَامُ رَسُولِهِمْ مِثْلُ كَلَامِ نُوحٍ. وَ (أَنْ) تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ أَرْسَلْنَا مِنْ معنى القَوْل. [33- 38] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 33 إِلَى 38] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ

(38) عُطِفَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ قَوْمِهِ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِ وَلَمْ يُؤْتَ بِهَا مَفْصُولَةً كَمَا هُوَ شَأْنُ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِ (قَالَ) وَنَحْوِهَا دُونَ عَطْفٍ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَاهُ، وَخُولِفَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ إِذْ حُكِيَ جَوَابُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رَسُولِهِمْ بِدُونِ عَطْفٍ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ الْمَحْكِيَّ هُنَا غَيْرُ كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ فِي السُّورَتَيْنِ لِأَنَّ مَا هُنَا كَلَامُهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَى خِطَابِ قَوْمِهِمْ إِذْ قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ إِلَى آخِرِهِ خَشْيَةً مِنْهُمْ أَنْ تُؤَثِّرَ دَعْوَةُ رَسُولِهِمْ فِي عَامَّتِهِمْ، فَرَأَوْا الِاعْتِنَاءَ بِأَنْ يَحُولُوا دُونَ تَأَثُّرِ نُفُوسِ قَوْمِهِمْ بِدَعْوَةِ رَسُولِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُجَاوِبُوا رَسُولَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الإعجاز فِي الْمَوَاضِع الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي أَوْرَدَ فِيهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا وَلَمْ يَكُنْ فِي جَوَابِهِ شَافِيًا وَتَحَيَّرَ شُرَّاحُهُ فَكَانُوا عَلَى خِلَافٍ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُ الْمَلَأِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ وَقْتِ مَقَالَةِ رَسُولِهِمُ الَّتِي هِيَ فَاتِحَةُ دَعْوَتِهِ بِأَنْ يَكُونُوا أَجَابُوا كَلَامَهُ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ وَكَرَّرَهَا فِيهِمْ وَجَّهُوا مَقَالَتَهُمُ الْمَحْكِيَّةَ هُنَا إِلَى قَوْمِهِمْ وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ جَوَابِهِمْ وَلَمْ تَأْتِ عَلَى أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَأَيْضًا لِأَنَّ كَلَامَ رَسُولِهِمْ لَمْ يحك بِصِيغَة القَوْل بَلْ حُكِيَ بِ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الْمُؤْمِنُونَ: 32] .

وَقَدْ حَكَى اللَّهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ أَجَابُوا دَعْوَةَ رَسُولِهِمْ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِ قَوْمِ هُودٍ قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 53، 54] ، وَقَوْلِ قَوْمِ صَالِحٍ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود: 62] . وَقَوْلُهُ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ كَفَرُوا نَعْتٌ ثَانٍ لِ الْمَلَأُ فَيَكُونُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] . وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّعْتَ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِهِ الصِّفَتَانِ الْمَعْطُوفَتَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ. وَاللِّقَاءُ: حُضُورُ أَحَدٍ عِنْدَ آخَرَ. وَالْمُرَادُ لِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحِسَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [45] . وَإِضَافَة بِلِقاءِ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) أَيِ اللِّقَاءُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْإِتْرَافُ: جَعْلُهُمْ أَصْحَابَ تَرَفٍ. وَالتَّرَفُ: النِّعْمَةُ الْوَاسِعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [13] . وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمَا الْبَاعِثُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ يَنْفِي عَنْهُمْ تَوَقُّعَ الْمُؤَاخَذَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَثَرْوَتُهُمْ وَنِعْمَتُهُمْ تُغْرِيهِمْ بِالْكِبْرِ وَالصَّلَفِ إِذْ أَلِفُوا أَنْ يَكُونُوا سَادَةً لَا تَبَعًا، قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَقَبَّلُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُهُمْ مِنَ اتِّقَاءِ عَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَطَلَبِهِمُ النَّجَاةَ بِاتِّبَاعِهِمْ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. وَمَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ تُنَافِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَسُولًا مِنَ اللَّهِ فَأَتَوْا بِالْمَلْزُومِ وَأَرَادُوا لَازِمَهُ.

وَجُمْلَةُ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ لِلْبَشَرِيَّةِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مِثْلَهُمْ وَيَشْرَبُ مِثْلَهُمْ وَلَا يَمْتَازُ فِيمَا يَأْكُلُهُ وَمَا يَشْرَبُهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَشْرَبُونَ وَهُوَ عَائِدُ الصِّلَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِنَظِيرِهِ الَّذِي فِي الصِّلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا. وَاللَّامُ فِي وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، فَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَأُقْحِمَ حَرْفُ الْجَزَاءِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ لِمَا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْجَزَاءِ لَا سِيَّمَا مَتَى اقْتَرَنَ الْقَسَمُ بِحَرْفِ شَرْطٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَيَعِدُكُمْ لِلتَّعَجُّبِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِي الْمُرْسَلِ بِهِ. وَقَوْلُهُ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ إِلَى آخِرِهِ مَفْعُولُ يَعِدُكُمْ أَيْ يَعِدُكُمْ إِخْرَاجَ مُخْرَجِ إِيَّاكُمْ. وَالْمَعْنَى: يَعِدُكُمْ إِخْرَاجَكُمْ مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَفَنَاءِ أَجْسَامِكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةً لِكَلِمَةِ (أَنَّكُمْ) الْأُولَى اقْتَضَى إِعَادَتَهَا بَعْدَ مَا بَيَّنَهَا وَبَيَّنَ خَبَرَهَا. وَتُفِيدُ إِعَادَتُهَا تَأْكِيدًا لِلْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ اسْتِفْهَامَ اسْتِبْعَادٍ تَأْكِيدًا لِاسْتِبْعَادِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ الْجَرْمِيِّ وَالْمُبَرِّدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مُبْتَدَأٌ. وَيَكُونَ قَوْلُهُ: إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً خَبَرًا عَنْهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ إِذا مِتُّمْ إِلَى قَوْلِهِ مُخْرَجُونَ خَبَرًا عَنْ (أَنَّ) مِنْ قَوْلِهِ أَنَّكُمْ الْأُولَى. وَجَعَلُوا مُوجَبَ الِاسْتِبْعَادِ هُوَ حُصُولُ أَحْوَالٍ تُنَافِي أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بِحَسَبِ قُصُورِ عُقُولِهِمْ، وَهِيَ حَالُ الْمَوْتِ الْمُنَافِي لِلْحَيَاةِ، وَحَالُ الْكَوْنِ تُرَابًا وَعِظَامًا الْمُنَافِي لِإِقَامَةِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأُرِيدَ بِالْإِخْرَاجِ إِخْرَاجُهُمْ أَحْيَاءً بِهَيْكَلٍ إِنْسَانِيٍّ كَامِلٍ، أَيْ مُخْرَجُونَ لِلْقِيَامَةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.

وَجُمْلَةُ هَيْهاتَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَعِدُكُمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وهَيْهاتَ كَلِمَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى فَتْحِ الْآخِرِ وَعَلَى كَسْرِهِ أَيْضًا. وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ بِالْكَسْرِ. وَتَدُلُّ عَلَى الْبُعْدِ. وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ مُكَرَّرَةً مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ثَلَاثًا كَمَا جَاءَ فِي شِعْرٍ لِحُمَيْدٍ الْأَرْقَطِ وَجَرِيرٍ يَأْتِيَانِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَهِيَ فِعْلٌ أَمِ اسْمٌ فَجُمْهُورُ النُّحَاةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ (هَيْهَاتَ) اسْمُ فِعْلٍ لِلْمَاضِي مِنَ الْبُعْدِ، فَمَعْنَى هَيْهَاتَ كَذَا: بَعُدَ. فَيَكُونُ مَا يَلِي (هَيْهَاتَ) فَاعِلًا. وَقِيلَ هِيَ اسْمٌ لِلْبُعْدِ، أَيْ فَهِيَ مَصْدَرٌ جَامِدٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ» . قَالَ الرَّاغِبُ: وَقَالَ الْبَعْضُ: غَلِطَ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَاسْتَهْوَاهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. وَقِيلَ: هَيْهَاتَ ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ. وَنَسَبَهُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: قَالَ ابْنُ جِنِّي: كَانَ أَبُو عَلِيٍّ يَقُولُ فِي هَيْهَاتَ: أَنَا أُفْتِي مَرَّةً بِكَوْنِهَا اسْمًا سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ مِثْلَ صَهٍ وَمَهْ، وَأُفْتِي مَرَّةً بِكَوْنِهَا ظَرْفًا عَلَى قَدْرِ مَا يَحْضُرُنِي فِي الْحَالِ. وَفِيهَا لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَفْصَحُهَا أَنَّهَا بِهَاءَيْنِ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَتْحَةَ بِنَاءٍ، وَأَنَّ تَاءَهَا تَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ وَقِيلَ يُوقف عَلَيْهَا هَاء، وَأَنَّهَا لَا تُنَوَّنُ تَنْوِينَ تَنْكِيرٍ. وَقَدْ وَرَدَ مَا بَعْدَ (هَيْهَاتَ) مَجْرُورًا بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَرَدَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي قَوْلِ جَرِيرٍ: فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ ... وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُحَاوِلُهُ وَوَرَدَ مَجْرُورًا بِ (مِنْ) فِي قَوْلِ حُمَيْدٍ الْأَرْقَطِ: هَيْهَاتِ مَنْ مُصَبَّحُهَا هَيْهَاتِ ... هَيْهَاتِ حَجَرٌ مِنْ صُنَيْبِعَاتِ فَالَّذِي يَتَّضِحُ فِي اسْتِعْمَالِ (هَيْهَاتَ) أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى تَأْوِيلِ (هَيْهَاتَ) بِمَعْنَى فِعْلٍ مَاضٍ مِنَ الْبُعْدِ كَمَا فِي بَيْتِ جَرِيرٍ،

وَأَنَّ الْأَفْصَحَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مَجْرُورًا بِاللَّامِ فَيَكُونُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ فَاعِلِ اسْمِ الْفِعْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا يَسْبِقُ (هَيْهَاتَ) مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ، وَتُجْعَلُ اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ إِيضَاحِ الْمُرَادِ مِنَ الْفَاعِلِ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ إِجْمَالٌ ثُمَّ تَفْصِيلٌ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ. وَهَذِهِ اللَّامُ تَرْجِعُ إِلَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَإِذَا وَرَدَ مَا بَعْدَهَا مَجْرُورًا بِ (مِنْ) فَ (مِنْ) بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ بَعُدَ عَنْهُ أَوْ بُعْدًا عَنْهُ. عَلَى أَنَّهُ يجوز أَن تؤوّل (هَيْهَاتَ) مَرَّةً بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ وَمَرَّةً بِالْمَصْدَرِ فَتَكُونُ اسْمُ مَصْدَرٍ مَبْنِيًّا جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ. وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي سَلَكَهُ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُشِيرُ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَى اخْتِيَارِهِ. وَجَاءَ هُنَا فِعْلُ تُوعَدُونَ مِنْ (أَوْعَدَ) وَجَاءَ قَبْلَهُ فِعْلُ أَيَعِدُكُمْ وَهُوَ مِنْ (وَعَدَ) مَعَ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ: رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي حَالِ وُجُودِهِمْ فَجُعِلَ وَعْدًا، وَالثَّانِي رَاجِعٌ إِلَى حَالَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالِانْعِدَامِ فَنَاسَبَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْوَعِيدِ اهـ. وَأَقُولُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ عَبَّرَ مَرَّةً بِالْوَعْدِ وَمَرَّةً بِالْوَعِيدِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِبَاكِ، فَإِنَّ إِعْلَامَهُمْ بِالْبَعْثِ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَعْدٍ بِالْخَيْرِ إِنْ صَدَقُوا وَعَلَى وَعِيدٍ إِنْ كَذَبُوا، فَذُكِرَ الْفِعْلَانِ عَلَى التَّوْزِيعِ إِيجَازًا. وَقَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلِاسْتِبْعَادِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ وَاسْتِدْلَالًا وَتَعْلِيلًا لَهُ، وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَضَمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ فِي الْكَلَامِ بَلْ عَائِدٌ عَلَى مَذْكُورٍ بَعْدَهُ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنِ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لَهُ، وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ

الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ الضَّمِيرِ عَطْفَ بَيَانٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» الْمِصْرَاعَ الْأَوَّلِ وَأَثْبَتَهُ الطِّيبِيُّ كَامِلًا: هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ ... وَلِلدَّهْرِ أَيَّامٌ تَجُورُ وَتَعْدِلُ وَقَوْلُ أبي الْعَلَاء [المعري] : هُوَ الْهَجْرُ حَتَّى مَا يُلَمَّ خَيَالٌ ... وَبَعْضُ صُدُودِ الزَّائِرِينَ وِصَالُ وَمُبَيِّنُ الضَّمِيرِ هُنَا قَوْلُهُ إِلَّا حَياتُنَا فَيَكُونُ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ (إِلَّا) عَطْفَ بَيَانٍ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ حَيَاتُنَا إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وَوَصْفُهَا بِالدُّنْيَا وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى الْبَيَانِ فَلَا يُقَدَّرُ مِثْلُهُ فِي الْمُبَيَّنِ. وَلَيْسَ هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْمَقَامِ لَهُ. وَلِأَنَّهُ فِي الْآيَةِ مُفَسَّرٌ بِالْمُفْرَدِ لَا بِالْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ فِي بَيْتِ أَبِي الْعَلَاءِ. وَلِأَنَّ دُخُولَ (لَا) النَّافِيَةِ عَلَيْهِ يَأْبَى مِنْ جَعْلِهِ ضَمِيرَ شَأْنٍ إِذْ لَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ: لَا قِصَّةَ إِلَّا حَيَاتُنَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ (لَا) النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْمِ جِنْسٍ لِتَبْيِينِهِ بِاسْمِ الْجِنْسِ وَهُوَ حَياتُنَا. فَالْمَعْنَى لَيْسَتِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا هَذِهِ، أَيْ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا. وَالدُّنْيَا: مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، أَيِ الْقَرِيبَةُ بِمَعْنَى الْحَاضِرَةُ. وَضَمِيرُ حَياتُنَا مُرَادٌ بِهِ جَمِيعَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُهُمْ. فَقَوْلُهُمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا مَعْنَاهُ: يَمُوتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَيَحْيَا قَوْمٌ بَعْدَهُمْ. وَمَعْنَى نَحْيا: نُولَدُ، أَيْ يَمُوتُ مَنْ يَمُوتُ وَيُولَدُ مَنْ يُولَدُ، أَوِ الْمُرَادُ: يَمُوتُ مَنْ يَمُوتُ فَلَا يَرْجِعُ وَيَحْيَا مَنْ لَمْ يَمُتْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَالْوَاوُ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا بَيْنَ مَعْطُوفِهَا وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَعَقَّبُوهُ بِالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أَيْ لَا نَحْيَا حَيَاةً بَعْدَ الْمَوْتِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ نَمُوتُ وَنَحْيا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى إِثْبَاتِ حَيَاةٍ عَاجِلَةٍ وَمَوْتٍ، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مُفِيدٌ لِلِانْحِصَارِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. وَأَفَادَ صَوْغُ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَقْوِيَةَ مَدْلُولِهِ وَتَحْقِيقَهُ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 39 إلى 40]

ثُمَّ جَاءَتْ جُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نَتِيجَةً عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ، فَجَاءَتْ مُسْتَأْنَفَةً لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهَا فَهِيَ تَصْرِيحٌ بِمَا كُنِيَ عَنْهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ تَكْذِيبِ دَعْوَتِهِ، فَاسْتَخْلَصُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حَالَهُ مُنْحَصِرٌ فِي أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِرْسَالِ. وَضَمِيرُ إِنْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. فَجُمْلَةُ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً صِفَةٌ لِ رَجُلٌ وَهِيَ مُنْصَبُّ الْحَصْرِ فَهُوَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيًّا، أَيْ لَا كَمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا أَجْرَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ رَجُلٌ مُتَابَعَةً لِوَصْفِهِ بِالْبَشَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِدَلِيلِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلرِّسَالَةِ فِي زَعْمِهِمْ، أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا مَثْلَهُمْ فَهُوَ رَجُلٌ كَاذِبٌ. وَالِافْتِرَاءُ: الِاخْتِلَاقُ. وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِلْمُخْبِرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] . وَإِنَّمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ دَلَالَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِعْلَانًا بِالتَّبَرِّي مِنْ أَنْ يَنْخَدِعُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَالِ خِطَابِ الْعَامَّةِ. وَالْقَوْلُ فِي إِفَادَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ التَّقْوِيَةَ كَالْقَوْلِ فِي وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. [39، 40] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 39 إِلَى 40] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ مِنْ صَدِّ الْمَلَأِ النَّاسَ عِنْدَ اتِّبَاعِهِ وَإِشَاعَتِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ وَتَلْفِيقِهِمُ الْحُجَجَ الْبَاطِلَةَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا

[سورة المؤمنون (23) : آية 41]

كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالدُّعَاءِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَجَاءَ جَوَابُ دُعَاءِ هَذَا الرَّسُولِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّذِي بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وعَمَّا قَلِيلٍ أَفَادَ حَرْفُ (عَنْ) الْمُجَاوَزَةَ، أَيْ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا. وَيَكْثُرُ أَنْ تُفِيدَ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا فَيَنْشَأُ مِنْهَا مَعْنَى (بَعْدَ) نَحْوَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] فَيُقَالُ: إِنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى (بَعْدَ) كَمَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ وَهُمْ جَرَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى إِذْ لَا يَكُونُ حَرْفٌ بِمَعْنَى اسْمٍ، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْحُرُوفِ نَاقِصَةٌ وَمَعَانِيَ الْأَسْمَاءِ تَامَّةٌ. فَمَعْنَى عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ: أَنَّ إِصْبَاحَهُمْ نَادِمِينَ يتَجَاوَز زَمنا قَلِيلا: أَيْ مِنْ زَمَانِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ تَجَاوُزٌ مَجَازِيٌّ بِحَرْفِ (عَنْ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى (بَعْدَ) اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وقَلِيلٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ فِعْلُ الْإِصْبَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّمَنِ فَوَعَدَ اللَّهُ هَذَا الرَّسُولَ نَصْرًا عَاجِلًا. وَنَدَمُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَبْدَأِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نَدَمُهُمْ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ. وَالْإِصْبَاحُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الصَّبَاحِ لَا مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. [41] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 41] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

(41) تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْجِيلَ إِجَابَةِ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ. وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ. وَالصَّيْحَةُ: صَوْتُ الصاعقة، وَهَذَا يرجع أَوْ يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَرْنُ هُمْ ثَمُودُ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ سَبَبُ الْأَخْذِ أَوْ مُقَارَنَةُ سَبَبِهِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ مِنْ تَمَزُّقِ كُرَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الصَّاعِقَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخَذَتْهُمْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، أَيْ لَا اعْتِدَاءَ فِيهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ. وَالْغُثَاءُ: مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنَ الْأَعْوَادِ الْيَابِسَةِ وَالْوَرَقِ. وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِلْهَيْئَةِ فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ كَالْغُثَاءِ فِي الْبِلَى وَالتَّكَدُّسِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَلَكُوا هَلْكَةً وَاحِدَةً. وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ دُعَاءَ شَتْمٍ وَتَحْقِيرٍ بِأَنْ يُبْعَدُوا تَحْقِيرًا لَهُمْ وَكَرَاهِيَةً، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الدُّعَاءِ لِأَن هَؤُلَاءِ قد بُعِدُوا بِالْهَلَاكِ. وانتصب فَبُعْداً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ مِثْلَ: تَبًّا وَسُحْقًا، أَيْ أَتَبَّهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ. وَعَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْعَرَبِ لَا تَبْعَدْ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) أَيْ لَا تُفْقَدْ. قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: يَقُولُونَ لَا تَبْعَدُ وَهُمْ يَدْفِنُونِي ... وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَاخْتِيرَ هَذَا الْوَصْفُ هُنَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَظَلَمُوا هُودًا لِأَنَّهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِذْ قَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْمُؤْمِنُونَ: 38] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمَلَهُمْ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 إلى 43]

وَاللَّامُ فِي لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِلتَّبْيِينِ وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ بِالدُّعَاءِ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: سُحْقًا لَكَ وَتَبًّا لَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَبُعْدًا، لَعُلِمَ أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ فَبِزِيَادَةِ اللَّامِ يَزِيدُ بَيَانُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ مُسْتَأْنف للْبَيَان. [42، 43] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 42 إِلَى 43] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) الْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: 38] . وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ وَبَقُوا عَلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ نُوحٍ أَوْ شَرِيعَةِ هُودٍ أَوْ شَرِيعَةِ صَالِحٍ، أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَرْعٍ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأُمَمِ هُنَا دُونَ ذِكْرِ الرُّسُلِ ثُمَّ ذِكْرُ الرُّسُلِ عقب هَذَا يومىء إِلَى أَنَّ هَذِهِ إِمَّا أُمَمٌ لَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَرْكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَهَّلُوا لِقَبُولِ شَرَائِعَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَرَائِعَ سَابِقَةٍ. وَجُمْلَةُ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً مِنْ كَثْرَتِهَا وَلَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُهُمْ بِ آخَرِينَ مَنْ جَهْلِ النَّاسِ بِهِمْ، وَلِمَا يُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ جُمْلَةِ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الْمُؤْمِنُونَ: 44] مِنِ انْقِرَاضِ هَذِهِ الْقُرُونِ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قِصَّتُهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ دُونَ أَنْ تَجِيئَهُمْ رُسُلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مُدَّةِ تَعْمِيرِهِمْ وَوَقْتِ انْقِرَاضِهِمْ. فَيُجَابُ بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ لِكُلِّ قَرْنٍ مِنْهُمْ أَجَلًا عَيَّنَهُ اللَّهُ يَبْقَى إِلَى مِثْلِهِ ثُمَّ يَنْقَرِضُ وَيَخْلُفُهُ قَرْنٌ آخَرُ يَأْتِي بَعْدَهُ، أَوْ يَعْمُرُ بَعْدَهُ قَرْنٌ كَانَ مُعَاصِرًا لَهُ، وَأَنَّ مَا عُيِّنَ لِكُلِّ قَرْنٍ لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يُونُس: 49] .

[سورة المؤمنون (23) : آية 44]

وَالسَّبْقُ: تَجَاوُزُ السَّائِرِ وَتَرْكُهُ مُسَائِرَهُ خَلْفَهُ، وَعَكْسُهُ التَّأَخُّرُ. وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي يَسْتَأْخِرُونَ زَائِدَتَانِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ. وَضَمِيرُ يَسْتَأْخِرُونَ عَائِدٌ إِلَى أُمَّةٍ بِاعْتِبَار النَّاس. [44] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 44] ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الْقُرُونِ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَيُوسُفُ وَشُعَيْبٌ. وَمَنْ أُرْسِلَ قَبْلَ مُوسَى، وَرُسُلٌ لَمْ يَقْصُصْهُمُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ اطِّرَادِ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِئْصَالِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُ الْمُعَانِدِينَ فِي آيَاتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً. وتَتْرا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِأَلِفٍ فِي آخِرِهِ دُونَ تَنْوِينٍ فَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى مِثْلَ دَعْوَى وَسَلْوَى، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ مِثْلَ ذِكْرَى، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ. وَأَصْلُهُ: وَتْرَى بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ، أَيْ فَرْدًا فَرْدًا، أَيْ فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ فَهُوَ نَظِيرُ مَثْنَى. وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً إِبْدَالًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي (تِجَاهٍ) لِلْجِهَةِ الْمُوَاجِهَةِ وَفِي (تَوْلَجُ) لِكِنَاسِ الْوَحْشِ (وَتُرَاثٍ) لِلْمَوْرُوثِ. وَلَا يُقَالُ تَتْرَى إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ تَعَاقُبٌ مَعَ فَتَرَاتٍ وَتَقَطُّعٌ. وَمِنْهُ التَّوَاتُرُ وَهُوَ تَتَابُعُ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَهَا فَجَوَاتٌ. وَالْوَتِيرَةُ: الْفَتْرَةُ عَنِ الْعَمَلِ. وَأَمَّا التَّعَاقُبُ بِدُونِ فَتْرَةٍ فَهُوَ التَّدَارُكُ. يُقَالُ: جَاءُوا مُتَدَارِكِينَ، أَيْ مُتَتَابِعِينَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ مُنَوَّنًا وَهِيَ لُغَةُ كِنَانَةَ. وَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ رُسُلَنا.

وَاعْلَمْ أَن كلمة تَتْرا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا بِصُورَةِ الْأَلِفِ فِي آخِرِهَا عَلَى صُورَةِ الْأَلِفِ الْأَصْلِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَلِفُ تَأْنِيثٍ مَقْصُورَةٍ وَشَأْنُ أَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ أَنْ تُكْتَبَ بِصُورَةِ الْيَاءِ مِثْلَ تَقْوَى وَدَعْوَى، فَلَعَلَّ كُتَّابَ الْمَصَاحِفِ رَاعَوْا كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَكَتَبُوا الْأَلِفَ بِصُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ لِصُلُوحِيَّةِ نُطْقِ الْقَارِئِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ. عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَلِفِ أَنْ تُكْتَبَ بِصُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا كِتَابَتُهَا فِي صُورَةِ الْيَاءِ حَيْثُ تُكْتَبُ كَذَلِكَ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا أَوْ جَوَازِ إِمَالَتِهَا فَخُولِفَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ أَرْسَلْنَا رُسُلًا، أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَى أُمَمٍ أُخْرَى، لِأَنَّ إِرْسَالَ الرَّسُولِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ أُمَّةٍ وَقَدْ صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ. وَالْمَعْنَى: كَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ وَرُبَّمَا كَذَّبَهُ جَمِيعُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيءَ وَمَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيءَ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيءَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ... » الْحَدِيثُ. وَإِتْبَاعُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِلْحَاقُهُمْ بِهِمْ فِي الْهَلَاكِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ، أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أُحْدُوثَاتٍ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِمَا أَصَابَهُمْ. وَإِنَّمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِالشَّيْءِ الْغَرِيبِ النَّادِرِ مِثْلُهُ. وَالْأَحَادِيثُ هُنَا جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَلَهَّى النَّاسُ بِالْحَدِيثِ عَنْهُ. وَوَزْنُ الْأُفْعُولَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُسْطُورَةِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِبَادَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ بَائِدِينَ غَيْرَ مُبْصَرِينَ. وَالْقَوْلُ فِي فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 41] إِلَّا أَنَّ الدُّعَاءَ نِيطَ هُنَا بِوَصْفِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِ الدَّعْوَتَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَذَمَّةِ الْكُفْرِ وَعَلَى مَذَمَّةِ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ تَعْرِيضًا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 إلى 48]

بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِرُسُلِ اللَّهِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ تَعُمُّ كَمَا فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وقيتم ضرا» . [45- 48] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 45 إِلَى 48] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) الْآيَاتُ: الْمُعْجِزَاتُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَا وَتَعْظِيمِهَا. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الَّتِي لَقَّنَهَا اللَّهُ مُوسَى فَانْتَهَضَتْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ بَعَثْنَاهُ مُلَابِسًا لِلْمُعْجِزَاتِ وَالْحُجَّةِ. وَمَلَأُ فِرْعَوْنَ: أَهْلُ مَجْلِسِهِ وَعُلَمَاءُ دِينِهِ وَهُمُ السَّحَرَةُ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ أُمَّةِ الْقِبْطِ لِأَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى وَأَخِيهِ إِنَّمَا كَانَتْ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ الَّذِينَ بِيَدِهِمْ تَصْرِيفُ أُمُورِ الْأُمَّةِ لِتَحْرِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنِ اسْتِعْبَادِهِمْ إِيَّاهُمْ قَالَ تَعَالَى: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه: 47] . وَلَمْ يُرْسَلَا بِشَرِيعَةٍ إِلَى الْقِبْطِ. وَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَمُقَدَّمَةٌ لِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لَهُمْ. وَعَطْفُ فَاسْتَكْبَرُوا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا الدَّعْوَةَ وَالْآيَاتِ وَالْحُجَّةَ وَلَكِنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي الْكِبْرِيَاءِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ تَكَبَّرُوا كِبْرِيَاءً شَدِيدَةً بِحَيْثُ لَمْ يُعِيرُوا آيَاتِ مُوسَى وَحُجَّتَهُ أُذُنًا صَاغِيَةً. وَجُمْلَةُ وَكانُوا قَوْماً عالِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فعل فَاسْتَكْبَرُوا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فَقالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَيْ فَاسْتَكْبَرُوا بِأَنْ أَعْرَضُوا عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ مُوسَى وَهَارُونَ وَشَأْنُهُمُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْعُلُوُّ، أَيْ كَانَ الْكِبْرُ خُلُقَهُمْ وَسَجِيَّتَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] أَنَّ إِجْرَاءَ وَصْفٍ عَلَى لَفْظِ (قَوْمٍ) أَوِ الْإِخْبَارَ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) مَتْبُوعٍ بِاسْمِ فَاعِلٍ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَمَكُّنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) أَوْ تَمَكُّنُهُ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَةِ مُوسَى وَآيَاتِهِ وَحُجَّتِهِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ سَجِيَّتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِ وَتَطَبُّعِهِمْ. فَالْعُلُوُّ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ. وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [4] . وَبُيِّنَ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَاسْتَكْبَرُوا، أَيِ اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَفْصَحُوا عَنْ سَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَكِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَأِ لِبَعْضٍ، وَلَمَّا كَانُوا قد تراوضوا عَلَيْهِ نُسِبَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُصْغِيًا لِرَأْيِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ آخَرُ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: 38] فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مَعْدُودًا فِي دَرَجَةِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَشَرًا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ اكْتَسَبَ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُؤْمِنُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِمَا وَهُمَا مِثْلُنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ وَلَيْسَا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَكُونَا ابْنَيْنِ لِلْآلِهَةِ لِأَنَّهُمَا جَاءَا بِتَكْذِيبِ إِلَهِيَّةِ الْآلِهَةِ، فَكَانَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِضَلَالِهِمْ يَتَطَلَّبُونَ لِصِحَّةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَايِنًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَخَيَّلُونَ آلِهَتَهُمْ أَجْنَاسًا غَرِيبَةً مِثْلَ جَسَدِ آدَمِيٍّ وَرَأْسِ بَقَرَةٍ أَوْ رَأْسِ طَائِرٍ أَوْ رَأْسِ ابْنِ آوَى أَوْ جَسَدِ أَسَدٍ وَرَأْسِ آدَمِيٍّ، وَلَا يُقِيمُونَ وَزْنًا لِتَبَايُنِ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أَجْدَرُ بِظُهُورِ التَّفَاوُتِ لِأَنَّهَا قَرَارَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ سَبَب ضلال أَكْثَرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رُسُلَهُمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبَشَرَيْنِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نُؤْمِنُ. يُقَالُ لِلَّذِي يُصَدِّقُ الْمُخْبِرَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: آمَنَ لَهُ، فَيُعَدَّى فِعْلُ (آمَنَ) بِاللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ

صَدَّقَ بِالْخَبَرِ لِأَجْلِ الْمُخْبِرِ، أَيْ لِأَجْلِ ثِقَتِهِ فِي نَفْسِهِ. فَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ لَامُ الْعِلَّةِ وَالْأَجْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدُّخان: 21] . وَأَمَّا تَعْدِيَةُ فِعْلِ الْإِيمَانِ بِالْبَاءِ فَإِنَّهَا إِذَا عُلِّقَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ تَقُولُ: آمَنْتُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَقَوْلِكَ: آمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ. فَمَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّكَ صَدَّقْتَ شَيْئًا. وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ: آمَنْتُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. وَتَقُولُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَآمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ. وَمَعْنَى الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّكَ صَدَّقْتَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ. ومِثْلِنا وَصْفٌ لِبَشَرَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ الْتِزَامُ إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى مُخَالَفَةِ صِيغَةٍ مَوْصُوفَهٍ كَمَا هُنَا. وَيَصِحُّ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَاف: 194] . وَهَذَا طَعْنٌ فِي رِسَالَتِهِمَا مِنْ جَانِبِ حَالِهِمَا الذَّاتِيِّ ثُمَّ أَعَقَبُوهُ بِطَعْنٍ مِنْ جِهَةِ مَنْشَئِهِمَا وَقَبِيلِهِمَا فَقَالُوا: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ، أَيْ وَهُمْ مِنْ فَرِيقٍ هُمْ عِبَادٌ لَنَا وَأَحَطُّ مِنَّا فَكَيْفَ يَسُودَانِنَا. وَقَوْلُهُ: عابِدُونَ جَمْعُ عَابِدٍ، أَيْ مُطِيعٌ خَاضِعٌ. وَقَدْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَوَلًا لِلْقِبْطِ وَخَدَمًا لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 22] . وَتَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمُ التَّصْمِيمُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمَا الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ فَكَذَّبُوهُما، أَيْ أُرْسِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ كَذَّبُوهُمَا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ أَنْ كَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِذْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْغَرَقِ، أَيْ فَانْتَظَمُوا فِي سِلْكِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: فَأُهْلِكُوا، كَمَا مَرَّ بِنَا غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالتَّعْقِيبُ هُنَا تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ الْإِغْرَاقَ لَمَّا نَشَأَ عَنِ التَّكْذِيبِ فَالتَّكْذِيبُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى حِينِ الْإِهْلَاكِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ عَلَى تكذيبهم رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِهْلَاكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ يكذبُون رسله.

[سورة المؤمنون (23) : آية 49]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 49] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) لَمَّا ذُكِرَتْ دَعْوَةُ مُوسَى وَهَارُونَ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ أُكْمِلَتْ قِصَّةُ بَعْثَةِ مُوسَى بِالْمُهِمِّ مِنْهَا الْجَارِي وَمِنْ بَعْثَةِ مَنْ سَلَفَ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَهُوَ إِيتَاءُ مُوسَى الْكِتَابَ لِهِدَايَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِحُصُولِ اهْتِدَائِهِمْ لِيَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّعَاظَ بِخِلَافِهِمْ عَلَى رُسُلِهِمْ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً [الْمُؤْمِنُونَ: 53] فَإِنَّ مَوْعِظَةَ الْمُكَذِّبِينَ رَسُولَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَهُنَا وَقَعَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَارُونَ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قَدِ انْتَهَتْ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِذْ كَانَتْ مَقَامَ مُحَاجَّةٍ وَاسْتِدْلَالٍ فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ إِشْرَاكَ أَخِيهِ هَارُونَ فِي تَبْلِيغِهَا لِأَنَّهُ أَفْصَحُ مِنْهُ لِسَانًا فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَلِذَلِكَ كَانَ ضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ظَاهِرَ الْعَوْدِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْقَوْمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَانْتِسَاقُ الضَّمَائِرِ ظَاهِرٌ فِي الْمَقَامِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: آتَيْنا مُوسَى بِمَعْنَى: آتَيْنَا قَوْمَ مُوسَى، كَمَا سَلَكَهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَرَقَّبَ مِنْ إِيتَائِهِ اهْتِدَاءُ النَّاس بِهِ. [50] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) لَمَّا كَانَتْ آيَةُ عِيسَى الْعُظْمَى فِي ذَاتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ كَانَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهَا هُنَا، وَلَمْ تُذْكَرْ رِسَالَتُهُ لِأَنَّ مُعْجِزَةَ تَخْلِيقِهِ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأُمَّهُ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِتَسْفِيهِ الْيَهُودِ فِيمَا رَمَوْا بِهِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَإِنَّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ آيَة لَهَا وَلَا بنها جَعَلُوهُ مَطْعَنًا وَمَغْمَزًا فِيهِمَا.

[سورة المؤمنون (23) : آية 51]

وَتَنْكِيرُ آيَةً لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا آيَةٌ تَحْتَوِي عَلَى آيَاتٍ. وَلَمَّا كَانَ مَجْمُوعُهَا دَالًّا عَلَى صِدْقِ عِيسَى فِي رِسَالَتِهِ جُعِلَ مَجْمُوعُهَا آيَةً عَظِيمَةً عَلَى صِدْقِهِ كَمَا عَلِمْتَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ فَهُوَ تَنْوِيهٌ بِهِمَا إِذْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَمَظْهَرَ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِهِ. وَالْإِيوَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ آوِيًا، أَيْ سَاكِنًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [80] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [43] . وَالرُّبْوَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ: الْمُرْتَفَعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ فِي الرَّاءِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فِي الْبَقَرَةِ [265] . وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِيوَاءِ وَحْيُ اللَّهِ لِمَرْيَمَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِرَبْوَةٍ حِينَ اقْتَرَبَ مَخَاضُهَا لِتَلِدَ عِيسَى فِي مُنْعَزَلٍ مِنَ النَّاسِ حِفْظًا لِعِيسَى مِنْ أَذَاهُمْ. وَالْقَرَارُ: الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ هِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ قَرَارًا، فَأُضِيفَتِ الرَّبْوَةُ إِلَى الْمَعْنَى الْحَاصِلِ فِيهَا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَذَلِكَ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّخِيلِ الْمُثْمِرِ فَتَكُونُ فِي ظِلِّهِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ قُوَّتِهَا. وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَصْفٌ جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَاءٌ مَعِينٌ، لِدَلَالَةِ الْوَصْفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] . وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [24- 26] قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. [51] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 51] يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

(51) يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اكْتِفَاءً بِالْمَقُولِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، أَيْ قُلْنَا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا. وَالْمَحْكِيُّ هُنَا حُكِيَ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا لِلرُّسُلِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِضَرُورَةِ اخْتِلَافِ عُصُورِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا لِكُلِّ رَسُولٍ مِمَّنْ مَضَى ذِكْرُهُمْ كُلْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلْ صَالِحًا إِنِّي بِمَا تعْمل عَلَيْهِم. وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْزِيعِ لِمَدْلُولِ الْكَلَامِ وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الرُّسُلِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَزَاهَتِهِمْ فِي أُمُورِهِمُ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، فَالْأَكْلُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ نَزَاهَةٌ جِسْمِيَّةٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ نَزَاهَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ هِيَ قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 50] وَلِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَامِ الْمُعَلِّلِينَ تَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 33] ، وَقَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] ، وَلِيُبْطِلَ بِذَلِكَ مَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَهَذِهِ فَوَائِدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ لَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْوَقْعُ الْعَظِيمُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ أَمْرًا جِبِلِّيًّا لِلْبَشَرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا لَازِمُهُ وَهُوَ إِعْلَامُ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يُنَافِي الرِّسَالَةَ وَأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ. وَتَعْلِيقُ مِنَ الطَّيِّباتِ بِكَسْبِ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْأَمْرِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ طَيِّبًا. وَيَزِيدُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبَائِثَ وَلَا يَجْتَنِبُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 52]

وَعُطِفَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ هِمَّةَ الرُّسُلِ إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْمَائِدَة: 93] المُرَاد بِهِ مَا تَنَاوَلُوهُ مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا. وَقَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِالْجَزَاءِ عَنْهَا وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التحريض. [52] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 52] وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الْمُؤْمِنُونَ: 51] إِلَخْ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا قِيلَ لِلرُّسُلِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَصَصِ الْإِرْسَالِ الْمَبْدُوءَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 23] لِأَنَّ تِلْكَ الْقَصَصَ إِنَّمَا قُصَّتْ عَلَيْهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهَا إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سِيَاقُهَا كَسِيَاقِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَتِلْكَ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) . فَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَأَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلْمَقْصُودِينَ بِالنِّذَارَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَفَتْحُ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ لَامِ كَيْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى وُجُودَ الْفَاءِ فِيهِ مَانِعًا مِنْ تَقْدِيمِ مَعْمُولِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ الْمُقْتَرِنِ بِالْفَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَة النَّحْل

وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَلِكَوْنِ دِينِكُمْ دِينًا وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ فِيهِ الْمَعْبُودُ. وَكَوْنِي رَبَّكُمْ فَاتَّقُونِ وَلَا تُشْرِكُوا بِي غَيْرِي، خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَالْمُرَادُ أُمَمُهُمْ. أَوْ خِطَابًا لِمَنْ خَاطَبَهُمُ الْقُرْآنُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيٌّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَكَسْرُ هَمْزَةِ (إِنَّ) إِمَّا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. وَالْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ سَوَاءً. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُرَادٌ بِهِ شَرِيعَةُ كُلٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (إِنَّ) عَلَى الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أُمَمِ الرُّسُلِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا فَاتَّقُونِ وَهُنَاكَ فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاء: 92] فَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَبِالتَّقْوَى وَلَكِنْ حَكَى فِي كُلِّ سُورَةٍ أَمْرًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ وَقَعَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، فَاقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَذُكِرَ مُعْظَمُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْحِكَايَةِ فِي كِلْتَا السُّورَتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى. قَدْ وَقَعَ فِي خِطَابٍ مُسْتَقِلٍّ تَمَاثَلَ بَعْضُهُ وَزَادَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْخِطَابِ مِنْ قَصْدِ إِبْلَاغِهِ لِلْأُمَمِ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الرُّسُلِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُرَجِّحُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ خِطَابُ الرُّسُلِ بِالصَّرَاحَةِ. وَأَيًّا مَا كَانَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ فَوُجِّهَ ذَلِكَ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تُذْكَرْ فِيهَا رِسَالَاتُ الرُّسُلِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ عَدَا رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51]

ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَطَالَ الْبُعْدُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي اتُّحِدَتْ فِيهِ الْأَدْيَانُ. أَوْلَى هُنَالِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، فَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ أَوْلَى بِالْمَقَامِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ لِأَنَّهُ الَّذِي حَظُّ الْأُمَمِ مِنْهُ أَكْثَرُ. إِذِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ لَمْ يَكُونُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ قَطُّ فَلَا يُقْصَدُ أَمْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ إِذْ يَصِيرُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ بِالدَّوَامِ. وَأَمَّا آيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ فَكَانَ حَظُّ الرُّسُلِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ كَمَا يَقْتَضِيهِ افْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ [الْمُؤْمِنُونَ: 51] فَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ التَّقْوَى لَا حَدَّ لَهَا، فَالرُّسُلُ مَأْمُورُونَ بِهَا وَبِالِازْدِيَادِ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 1- 4] ثُمَّ قَالَ فِي حق الْأمة فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا أَبْسَطُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ فَاتَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [92] أَنْ نُبَيِّنَ عَرَبِيَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ نُشْبِعَ الْقَوْلَ فِيهِ هُنَا. فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هذِهِ إِلَى أَمْرٍ مُسْتَحْضَرٍ فِي الذِّهْنِ بَيَّنَهُ الْخَبَرُ وَالْحَالُ وَلِذَلِكَ أُنِّثَ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَيْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هِيَ شَرِيعَتُكَ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّكَ تَلْتَزِمُهَا وَلَا تُنْقِصُ مِنْهَا وَلَا تُغَيِّرُ مِنْهَا شَيْئًا. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمُرَادِ جُعِلَ الْخَبَرُ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَيَانُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَلْ قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ مَدْلُولَيِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَخَبَرِهِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ هُوَ لَا يُغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ لَطِيفِ النَّحْوِ وَغَامِضِهِ إِذْ لَا تَجُوزُ إِلَّا حَيْثُ يُعْرَفُ الْخَبَرُ. فَفِي قَوْلِكَ: هَذَا زَيْدٌ قَائِمًا، لَا يُقَالُ إِلَّا لِمَنْ يَعْرِفُهُ

[سورة المؤمنون (23) : آية 53]

فَيُفِيدُهُ قِيَامَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونُ زَيْدًا عِنْدَ عَدَمِ الْقِيَامِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَبِهَذَا يعلم أَن لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَقِيقَتَهُ بَلِ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي مَعْنَى التَّحْرِيضِ وَالْمُلَازَمَةِ، وَهُوَ يُشْبِهُ لَازِمَ الْفَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي أَمْثِلَتِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] فَإِنَّ سَارَةَ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَرِفُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَعْلُهَا إِذْ قَدْ بَشَّرُوهَا بِإِسْحَاقَ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَهَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ هُوَ بَعْلِي الَّذِي يُتَرَقَّبُ مِنْهُ النَّسْلُ الْمُبَشَّرُ بِهِ، أَيْ حَالُهُ يُنَافِي الْبِشَارَةَ، وَلِذَلِكَ يُتْبَعُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ بِحَالٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَطِيفَةٍ فِي تِلْكَ الْآيَة. [53] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 53] فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) جِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْأُمَمَ لَمْ يَتَرَيَّثُوا عَقِبَ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 52] أَنْ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فَاتَّخَذُوا آلِهَةً كَثِيرَةً فَصَارَ دِينُهُمْ مُتَقَطِّعًا قِطَعًا لِكُلِّ فَرِيقٍ صَنَمٌ وَعِبَادَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ. فضمير فَتَقَطَّعُوا عَائِدٌ إِلَى الْأُمَمِ الْمَفْهُومُ مِنَ السِّيَاقِ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 52] . وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى أُمَمِ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ الذَّمِّ. وَلِذَلِكَ قَدْ تُفِيدُ الْفَاءُ مَعَ التَّعْقِيبِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَلَى مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِعَكْسِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ فَيُفِيدُ الْكَلَامُ زِيَادَةً عَلَى الذَّمِّ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ. وَمِمَّا يُزِيدُ مَعْنَى الذَّمِّ تَذْيِيلُهُ بِقَوْلِهِ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ وَهُمْ لَيْسُوا بِحَالِ مَنْ يَفْرَحُ. وَالتَّقَطُّعُ أَصْلُهُ مُطَاوِعُ قَطَّعَ. وَاسْتُعْمِلَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى قَطَّعَ بِقَصْدِ إِفَادَةِ الشِّدَّةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ تَخَوَّفَهُ السَّيْرُ، أَيْ تَنَقَّصَهُ، وَتَجَهَّمَهُ اللَّيْلُ وَتَعَرَّفَهُ الزَّمَنُ. فَالْمَعْنَى: قَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَثِيرَةً، أَيْ تَفَرَّقُوا عَلَى

نِحَلٍ كَثِيرَةٍ فَجَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ دِينًا. وَيَجُوزُ أَن يَجْعَل فَتَقَطَّعُوا قَاصِرًا أُسْنِدَ التَّقَطُّعُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ مُيِّزَ بِقَوْلِهِ أَمْرَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: تَقَطَّعُوا أَمْرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ يُجَوِّزُونَ كَوْنَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي معنى تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [93] . وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْحَالِ وَمَا صَدَقُهُ أُمُورُ دِينِهِمْ. وَالزُّبُرُ بِضَمِّ الزَّايِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ. اسْتُعِيرَ اسْمُ الْكِتَابِ لِلدِّينِ لِأَنَّ شَأْنَ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِهِ كِتَابٌ، فَيَظْهَرُ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ فَرِيقٍ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَدْيَانًا وَعَقَائِدَ لَوْ سُجِّلَتْ لَكَانَتْ زُبُرًا. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ زُبُراً بِضَمِّ الزَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ جَمْعُ زُبْرَةٍ بِمَعْنَى قِطْعَةٍ. وَجُمْلَةُ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ التَّقَطُّعَ يَقْتَضِي التَّحَزُّبَ فَذُيِّلَ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَرِحٌ بِدِينِهِ، فَفِي الْكَلَامِ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لِ حِزْبٍ، أَيْ كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ، بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. وَالْفَرَحُ: شِدَّةُ الْمَسَرَّةِ، أَيْ رَاضُونَ جَذِلُونَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا طَرِيقَتَهُمْ فِي الدِّينِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِدِينِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا تَبَصُّرٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْعُكُوفِ عَلَى الْمُعْتَاد. وَذَلِكَ يومىء إِلَيْهِ لَدَيْهِمْ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلُ، أَيْ بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ لَدَيْهِمْ فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَيُعَادُونَهُ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّفْرِيقِ وَالتَّخَاذُلِ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 52] . وَقَدِيمًا كَانَ التَّحَزُّبُ مُسَبِّبًا لِسُقُوطِ الْأَدْيَانِ وَالْأُمَمِ وَهُوَ مِنْ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي يُلْبِسُ فِيهَا الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ. وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوِ المتفقون عَلَيْهِ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 54]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 54] فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) انْتِقَالٌ بِالْكَلَامِ إِلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى مَعْرُوفٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، أَوْ هُمْ عَيْنُهُمْ: فَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ الْعُزَّى. وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ مَنَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ ذَا الْخَلَصَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ ظَاهِرُهُ الْمُتَارَكَةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِمْلَاءُ لَهُمْ وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي وَقْتٍ مَا. وَلِذَلِكَ نُكِّرَ لَفْظُ حِينٍ الْمَجْعُولُ غَايَةً لِاسْتِدْرَاجِهِمْ، أَيْ زَمَنٌ مُبْهَمٌ، كَقَوْلِهِ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] . وَالْغَمْرَةُ حَقِيقَتُهَا: الْمَاءُ الَّذِي يَغْمُرُ قَامَةَ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ يُغْرِقُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [93] . وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِهِمْ بِاعْتِبَارِ مُلَازَمَتِهَا إِيَّاهُمْ حَتَّى قَدْ عُرِفَتْ بِهِمْ، وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ اشْتِغَالِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِازْدِهَارِ وَتَرَفِ الْعَيْشِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ لِيُنَجِّيهِمْ مِنَ الْعِقَابِ بِحَالِ قَوْمٍ غَمَرَهُمُ الْمَاءُ فَأَوْشَكُوا عَلَى الْغَرَقِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهم يسبحون. [55، 56] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 55 إِلَى 56] أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) الْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 54] بِاعْتِبَارِ أَنَّ جُمْلَةَ فَذَرْهُمْ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَلْهَتْهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَغَرَّتْهُمْ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ الْكَرَامَةِ عَلَى اللَّهِ بِمَا خَوَّلَهُمْ مِنَ الْعِزَّةِ وَالتَّرَفِ، وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَعُّدِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ نِهَايَةٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا وَأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مَا هُمْ فِيهِ زَمَنَ النِّعْمَةِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11]

وَقَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196، 197] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيَحْسَبُونَ إِنْكَارِيٌّ وَتَوْبِيخٌ عَلَى هَذَا الْحُسْبَانِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُسْبَانُ حَاصِلًا لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَمْ غَيْرُ حَاصِلٍ لِبَعْضٍ، لِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ هُوَ مَظِنَّةُ هَذَا الْحُسْبَانِ فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُسْبَانُ لِإِزَالَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِدَفْعِ حُصُولِهِ فِيهَا. وأَنَّما هُنَا كَلِمَتَانِ (أَنَّ) الْمُؤَكِّدَةُ (وَمَا) الْمَوْصُولَةُ وَكُتِبَتَا فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَتَيْنِ كَمَا تُكْتَبُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ الَّتِي هِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ لِأَنَّ الرَّسْمَ الْقَدِيمَ لَمْ يَكُنْ مُنْضَبِطًا كُلَّ الضَّبْطِ وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً. وَالْإِمْدَادُ: إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الْعَطَاءُ. ومِنْ مالٍ وَبَنِينَ بَيَانٌ لِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ. وَالْمُسَارَعَةُ: التَّعْجِيلُ، وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِتَوَخِّي الْمَرْغُوبِ وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ» أَيْ يُعْطِيكَ مَا تُحِبُّهُ لِأَنَّ الرَّاغِبَ فِي إِرْضَاءِ شَخْصٍ يَكُونُ مُتَسَارِعًا فِي إِعْطَائِهِ مَرْغُوبَهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَجْرِي فِي حُظُوظِكَ. وَمُتَعَلِّقُ نُسارِعُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ، أَيْ بِمَا نَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ نُمِدُّهُمْ بِهِ عَلَيْهِ. وَظَرْفِيَّةُ (فِي) مَجَازِيَّةٌ. جُعِلَتِ الْخَيْراتِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ يَقَعُ فِيهِ الْمُسَارَعَةُ بِالْمَشْيِ فَتَكُونُ (فِي) قَرِينَةٌ مَكْنِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] وَقَوْلِهِ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ [الْمَائِدَة: 52] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [90] . وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ من الْمَجْمُوع النَّادِرَةِ مِثْلَ سُرَادِقَاتٍ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 إلى 61]

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [88] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [73- 90] . وَ (بَلْ) إِضْرَابٌ عَنِ الْمَظْنُونِ لَا عَلَى الظَّنِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ لَسْنَا نُسَارِعُ لَهُمْ بِالْخَيْرَاتِ كَمَا ظَنُّوا بَلْ لَا يَشْعُرُونَ بِحِكْمَةِ ذَلِكَ الْإِمْدَادِ وَأَنَّهَا لِاسْتِدْرَاجِهِمْ وَفَضْحِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحجَّة عَلَيْهِم. [57- 61] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 57 إِلَى 61] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) هَذَا الْكَلَامُ مُقَابِلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْغَمْرَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 54] مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنِ التَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، وَمِنْ إِشْرَاكِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَمِنْ شُحِّهِمْ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِمْ فِي اللَّذَّاتِ، وَمِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْغَمْرَةُ فَجِيءَ فِي مُقَابِلِهَا بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: 63] . فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ الْغَمْرَةِ مَعَ إِفَادَةِ الْمُقَابَلَةِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ الْمُقَابِلِ لِحُسْنِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَقُبْحِ أَضْدَادِهَا تَنْزِيهًا لِلذِّكْرِ عَنْ تَعْدَادِ رَذَائِلِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَطِبَاقٌ مِنْ أَلْطَفِ الْبَدِيعِ، وَصَوْنٌ لِلْفَصَاحَةِ مِنْ كَرَاهَةِ الْوَصْفِ الشَّنِيعِ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولَاتِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُسَابِقُونَ إِلَيْهَا وَتَكْرِيرُ

أَسْمَاءِ الْمَوصُولَاتِ لِلِاهْتِمَامِ بِكُلِّ صِلَةٍ مِنْ صِلَاتِهَا فَلَا تُذْكَرُ تَبَعًا بِالْعَطْفِ. وَالْمَقْصُودُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ اتُّصِفُوا بِصِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [28] . وَقَدْ حُذِفَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِشْفَاقُ بِسَبَبِ خَشْيَتِهِ، أَيْ يَتَوَقَّعُونَ غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الدَّلَائِلُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ وَمِنْهَا إِعْجَازُ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِخَشْيَةِ رَبِّهِمْ يَخَافُونَ عِقَابَهُ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُشْفِقُونَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى عَوَامِلِهَا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا. وَمَعْنَى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا يُعْطُونَ الْأَمْوَالَ صَدَقَاتٍ وَصِلَاتٍ وَنَفَقَاتٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: 177] الْآيَةَ وَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] . وَاسْتِعْمَالُ الْإِيتَاءِ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا. وَإِنَّمَا عُبِّرَ بِ مَا آتَوْا دُونَ الصَّدَقَاتِ أَوِ الْأَمْوَالِ لِيَعُمَّ كُلَّ أَصْنَافِ الْعَطَاءِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَلِيَعُمَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ يُعْطِي مِمَّا يَكْسِبُ. وَجُمْلَةُ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَحَقُّ الْحَالِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَهُمْ مُضْمِرُونَ وَجَلًا وَخَوْفًا مِنْ رَبِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ فَلَا يَجِدُونَهُ رَاضِيًا عَنْهُمْ، أَوْ لَا يَجِدُونَ مَا يَجِدُهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَفُوتُهُمْ فِي الصَّالِحَاتِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُكْثِرُونَ مِنْهَا مَا اسْتَطَاعُوا وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ أَهْلَ

[سورة المؤمنون (23) : آية 62]

الصُّفَّةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالهم. قَالَ: أَو لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ بِهِ، إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةً» . وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا أمرنَا بِالصَّدَقَةِ كَمَا نُحَامِلُ فَيُصِيبُ أَحَدُنَا الْمُدَّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ. وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: 8- 10] الْآيَاتِ. وَخَبَرُ إِنَّ جُمْلَةُ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ. وَافْتُتِحَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ لِلسَّامِعِينَ لِأَنَّ مِثْلَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يُعْرَفُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ آنِفًا. وَمَعْنَى وَهُمْ لَها سابِقُونَ أَنَّهُمْ يَتَنَافَسُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَالسَّبْقُ تَمْثِيلٌ لِلتَّنَافُسِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرَاتِ بِحَالِ السَّابِقِ إِلَى الْغَايَةِ، أَوِ الْمَعْنَى وَهُمْ مُحْرِزُونَ لِمَا حَرَصُوا عَلَيْهِمْ، فَالسَّبْقُ مُجَازٌ لِإِحْرَازِ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ مِنْ لَوَازِمِ السَّبْقِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَاللَّامُ بِمَعْنَى (إِلَى) . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِعْلَ السَّبْقِ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَمَا يَتَعَدَّى بِ (إِلَى) . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ ولرعاية الفاصلة. [62] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 62] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ مَا اقْتَضَى مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ الدِّينِ، وَذُكِرَ بَعْدَهُ مَا دَلَّ

عَلَى تَقْوَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ وَصِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْبَذْلِ وَمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ، ذُيِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَا طَلَبَ مِنَ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ إِلَّا تَكْلِيفًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ عَذَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ مَنْ يَفُوتُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ عُذْرًا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ أَجْرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ إِذَا بَذَلُوا غَايَةَ وُسْعِهِمْ. قَالَ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: 91] . فَقَوْلُهُ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها خَبَرٌ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ تَسْجِيلُ التَّقْصِيرِ عَلَى الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ. وَقَطْعُ مَعْذِرَتِهِمْ، وَتَيْسِيرُ الِاعْتِذَارِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ الْمُنْكَسِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا غَيْرَهُمْ لِعَجْزٍ أَوْ خَصَاصَةٍ. وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى عُطِفَ قَوْلُهُ: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُوَ مَعْنَى إِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِمْ وَنَوَايَاهُمْ. فَالْكِتَابُ هُنَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْجِيلُ الْأَعْمَالِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ لِإِحَاطَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ لَدَيْنا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَغْيِيرَهُ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَالنُّطْقُ مُسْتَعَارٌ لِلدَّلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُطْقُ الْكِتَابِ حَقِيقَةً بِأَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهِ ذَاتَ أَصْوَاتٍ وَقُدْرَةُ اللَّهِ لَا تُحَدُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَسُوقًا لِمُؤَاخَذَةِ الْمُفَرِّطِينَ وَالْمُعْرِضِينَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 53] وَأَشْبَاهُهُ مِنَ الضَّمَائِرِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَقَوْلُهُ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: 63] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 63]

وَالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ حِرْمَانُ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى عُمُومِ الْأَنْفُسِ فِي قَوْلِهِ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مِنْ بَقِيَّةِ التَّذْيِيلِ، وَالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: 33] فَيَكُونُ وَعِيدًا لِفَرِيقٍ وَوَعْدًا لِفَرِيقٍ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْوَجْهَيْنِ بالإعجاز. [63] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 63] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) إِضْرَابُ انْتِقَالٍ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ مِمَّا سَبَقَ وَهُوَ وَصْفُ غَمْرَةٍ أُخْرَى انْغَمَسَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ غَمَرَتْ قُلُوبَهُمْ وَأَبْعَدَتْهَا عَنْ أَنْ تَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ كَيْفَ وأعمالهم على الضِّدِّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ تُنَاسِبُ كُفْرَهُمْ، فَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ. فَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ هَذَا يُوهِمُ الْبَدَلِيَّةَ، أَيْ فِي غَمْرَةِ تَبَاعُدِهِمْ عَنْ هَذَا. وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 57- 61] . ودُونِ تَدُلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّحَلِّي بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَكَارِمِ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ يُبَيِّنُ (هَذَا) ، أَيْ وَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَيُذَكِّرُنِي هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ فِي مَدْحِ عُرْوَةَ بْنِ زَيْدِ الْخَيْلِ: يَا أَيُّهَا الْمُتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ فَتًى ... مِثْلَ ابْنِ زَيْدٍ لَقَدْ أَخْلَى لَكَ السُّبُلَا أَعْدِدْ فَضَائِلَ أَخْلَاقٍ عُدِدْنَ لَهُ ... هَلْ سَبَّ مِنْ أَحَدٍ أَوْ سُبَّ أَوْ بَخِلَا إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تَكْلَفْ مَسَاعِيَهُ ... يُشْفِقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 64 إلى 67]

وَلَامُ لَهُمْ أَعْمالٌ لِلِاخْتِصَاصِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِهَا عَلَى الْمَبْدَأِ لِقَصْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ لَهُمْ أَعْمَالٌ لَا يَعْمَلُونَ غَيْرَهَا مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرَاتِ. وَوَصْفُ أَعْمالٌ بِجُمْلَةِ هُمْ لَها عامِلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهَا لَا يُقْلِعُونَ عَنْهَا لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهَا لِكَثْرَةِ انْغِمَاسِهِمْ فِيهَا. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَثَبَاتِهِمْ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ لَها عَلَى عامِلُونَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِقَصْرِ الْقَلْبِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ غَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي دُعُوا إِلَيْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ لِأَنَّ الْقَصْرَ قَدْ أُفِيدَ بِتَقْدِيمِ الْمسند إِلَيْهِ. [64- 67] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 64 إِلَى 67] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الْأَنْبِيَاء: 96] . وَ (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةُ. يَكُونُ مَا بَعْدَهَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، فَلَيْسَ الدَّالُّ عَلَى الْغَايَةِ لَفْظًا مُفْرَدًا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ (حَتَّى) الْجَارَّةِ وَ (حَتَّى) الْعَاطِفَةِ، بَلْ هِيَ غَايَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى التَّفْرِيعِ. وَبِهَذِهِ الْغَايَةِ صَارَ الْكَلَامُ تَهْدِيدًا لَهُمْ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ يَجْأَرُونَ مِنْهُ وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 75] .

وَ (إِذا) الْأُولَى ظَرْفِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ فِيهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى ظَرْفٍ مُسْتَقْبَلٍ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ دَاخِلَةٌ عَلَى جَوَابِ شَرْطِ (إِذَا) . وَالْمُتْرَفُونَ: الْمُعْطُونَ تَرَفًا وَهُوَ الرَّفَاهِيَةُ، أَيِ الْمُنَعَّمُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] فَالْمُتْرَفُونَ مِنْهُمْ هُمْ سَادَتُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْغَمْرَةِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَخْذُ وَاقِعًا عَلَى الْمُتْرَفِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوا عَامَّةَ قَوْمِهِمْ وَلَوْلَا نُفُوذُ كَلِمَتِهِمْ على قَومهمْ لَا تبِعت الدَّهْمَاءُ الْحَقَّ لِأَنَّ الْعَامَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْصَافِ إِذَا فَهِمُوا الْحَقَّ بِسَبَبِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ جُلِّ دَوَاعِي الْمُكَابَرَةِ مِنْ تَوَقُّعِ تَقَلُّصِ سُؤْدُدٍ وَزَوَالِ نَعِيمٍ. وَكَذَلِكَ حَقٌّ عَلَى قَادَةِ الْأُمَمِ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِالتَّبِعَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْعَامَّةِ مِنْ جَرَّاءِ أَخْطَائِهِمْ وَمُغَامَرَتِهِمْ عَنْ تَضْلِيلٍ أَوْ سُوءِ تَدَبُّرٍ، وَأَنْ يُسْأَلُوا عَنِ الْخَيْبَةِ أَنْ أَلْقَوْا بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي مَهْوَاةِ الْخَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الْأَحْزَاب: 67، 68] ، وَقَالَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [النَّحْل: 25] . وَتَخْصِيصُ الْمُتْرَفِينَ بِالتَّعْذِيبِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْعَذَابِ الْإِلَهِيِّ إِنْ كَانَ دُنْيَوِيًّا أَنْ يَعُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُتْرَفِينَ هُمْ سَبَبُ نُزُولِ الْعَذَابِ بِالْعَامَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ هُمْ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِالْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا مَسَّ الضَّرَّاءِ وَالْآلَامِ. وَقَدْ عُلِمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي إِذا هُمْ ويَجْأَرُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مُتْرَفِيهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ جَمِيعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُتْرَفِينَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً وَيَكُونَ ذِكْرُ الْمُتْرَفِينَ تَهْوِيلًا فِي التَّهْدِيدِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ

يُزِيلُ عَنْهُمْ تَرَفَهُمْ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي تَرَفٍ وَدَعَةٍ إِذْ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ غَارَاتِ الْأَقْوَامِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ الْآمِنِ وَكَانُوا تُجْبَى إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانُوا مُكَرَّمِينَ لَدَى جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، قَالَ الْأَخْطَلُ: فَأَمَّا النَّاسُ مَا حَاشَا قُرَيْشًا ... فَإِنَّا نَحْنُ أَفْضَلُهُمْ فِعَالَا وَكَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَأْتِيهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْش: 4] ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَاهُمْ وَهُمْ فِي تَرَفِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُلُولَ الْعَذَابِ بِالْمُتْرَفِينَ خَاصَّةً، أَيْ بِسَادَتِهِمْ وَصَنَادِيدِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ. قَالَ شَدَّادُ ابْن الْأَسْوَدِ: وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ يَعْنِي مَا ضُمِّنَهُ الْقَلِيبُ مِنْ رِجَالٍ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْإِطْعَامَ وَالطَّرَبَ وَاللَّذَّاتِ. وَضَمِيرُ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتْرَفِينَ لِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ قَدْ هَلَكُوا فَالْبَقِيَّةُ يَجْأَرُونَ مِنَ التَّلَهُّفِ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُمْ وَالْإِشْفَاقِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْقَتْلُ فِي سَائِرِهِمْ فَهُمْ يَجْأَرُونَ كُلَّمَا صُرِعَ وَاحِدٌ مِنْ سَادَتِهِمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَجِبُوا مِنْ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَرَثُوا أَمْوَاتَهُمْ بِالْمَرَاثِي وَالنِّيَاحَاتِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ عَذَابٌ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا عَذَابٌ مَسْبُوقٌ بِعَذَابٍ حَلَّ بِهِمْ قَبْلَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْله تَعَالَى بعد وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: 76] الْآيَةَ. وَلِذَا فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا عَذَابٌ هُدِّدُوا بِهِ، وَهُوَ إِمَّا عَذَابُ الْجُوعِ الثَّانِي الَّذِي أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ عَقِبَ سَرِيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي كَلْبٍِِ

الَّتِي أَخَذَ فِيهَا ثُمَامَةَ أَسِيرًا وَأَسْلَمَ فَمَنَعَ صُدُورَ الْمِيرَةِ مِنْ أَرْضِ قَوْمِهِ بِالْيَمَامَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْيَمَامَةُ مَصْدَرَ أَقْوَاتِهِمْ حَتَّى سُمِّيَتْ رِيفَ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَصَابَهُمْ جُوعٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ (¬1) وَالْجِيَفَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِمَّا عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْعَذَابَ عَذَابٌ وَقَعَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَتَعَيَّنَ أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي أَصَابَهُمْ أَيَّامَ مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ ثُمَّ كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِبَرَكَةِ نبيه وسلامة للْمُؤْمِنين، وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [12] رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ الْعَذَابُ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَيُبْعِدُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُ سَيُذْكَرُ عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ... الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 99- 114] كَمَا سَتَعْلَمُهُ. وَتَجِيءُ مِنْهُ وُجُوهٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يَخْفَى تَقْرِيرُهَا. وَمَعْنَى يَجْأَرُونَ يَصْرُخُونَ وَمَصْدَرُهُ الْجَأْرُ. وَالِاسْمُ الْجُؤَارُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ أَلَمِ الْعَذَابِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَبْرًا عَلَيْهِ فَيَصْدُرُ مِنْهُمْ صُرَاخُ التَّأَوُّهِ وَالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَجُمْلَةُ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [الْمُؤْمِنُونَ: 68] وَهِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَقُولُ لَهُمْ: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ لِتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَذَابٍ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ حِينَ حُلُولِهِ جُؤَارٌ إِذْ لَا مُجِيبَ لِجُؤَارِهِمْ وَلَا مُغِيثَ لَهُمْ مِنْهُ إِذْ هُوَ عَذَابٌ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ النَّاسِ لَا يَطْمَعُ أَحَدٌ فِي تَوَلِّي كَشْفِهِ. وَهَذَا تَأْيِيسٌ لَهُمْ مِنَ ¬

(¬1) بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَكسر الْهَاء آخِره زَاي: هُوَ الدَّم المجمّد يخلط بالوبر ويشوى على النَّار

النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدُوا بِهِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَالْقَوْلُ لَفْظِيٌّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَطْعُ طَمَاعِيَتِهِمْ فِي النَّجَاةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْجُؤَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ. وَوُرُودُ النَّهْيِ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ مَقِيسٌ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ فِي التَّسْوِيَةِ. وَعَثَرْتُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطّور: 16] . وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّسْوِيَةِ، أَيْ لَا تَجْأَرُوا إِذْ لَا جَدْوَى لِجُؤَارِكُمْ إِذْ لَا يَقْدِرُ مُجِيرٌ أَنْ يُجِيرَكُمْ مِنْ عَذَابِنَا، فَمَوْقِعُ (إِنَّ) إِفَادَةُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا تُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَضُمِّنَ تُنْصَرُونَ مَعْنَى النَّجَاةِ فَعُدِّيَ الْفِعْلُ بِ (مِنْ) ، أَيْ لَا تَنْجُونَ مِنْ عَذَابِنَا. فَثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ بَعْدَ (مِنْ) ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. وَقَوْلُهُ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ اسْتِئْنَافٌ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّلْهِيفِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ لِقَصْدِ إِفَادَةِ مَعْنَى بِهَا غَيْرِ التَّعْلِيلِ إِذْ لَا كَبِيرَ فَائِدَةٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِلَّتَيْنِ. وَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ تُتْلى إِذِ التِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ. وَالنُّكُوصُ: الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ أَتَى، وَهُوَ الْفِرَارُ. وَالْأَعْقَابُ: مُؤَخَّرُ الْأَرْجُلِ. وَالنُّكُوصُ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ وَذِكْرُ الْأَعْقَابِ تَرْشِيحٌ لِلتَّمْثِيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [48] . وَذُكِرَ فِعْلُ (كُنْتُمْ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ. وَذُكِرَ الْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ على التكرر فَلذَلِك خُلُقٌ مِنْهُمْ مُعَادٌ مَكْرُورٌ. وَضَمِيرُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَيَكُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِمَعْنَى مُعْرِضِينَ اسْتِكْبَارًا وَيَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (عَنْ) ، أَوْ ضُمِّنَ مُسْتَكْبِرِينَ مَعْنَى سَاخِرِينَ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَضْمِينِهِ.

وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَلَا يُسْمَعُ ضَمِيرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَعَادٌ إِلَّا وَيُعْلَمُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَتْ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذْ هُوَ مُجْتَمَعُهُمْ. فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَفِيهِ إِنْحَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ. وَفِي كَوْنِ اسْتِكْبَارِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرًا لِلتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَالِاسْتِكْبَارُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي شَأْنُ الْقَائِمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا أَشْنَعُ اسْتِكْبَارٍ. وَعَنْ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ قَاضِي قُرْطُبَةٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بِهِ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْدِيَةِ، وَتَضْمِينُ مُسْتَكْبِرِينَ مَعْنَى مُكَذِّبِينَ لِأَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ هُوَ سَبَبُ التَّكْذِيبِ. وسامِراً حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ سَامِرِينَ. وَالسَّامِرُ: اسْمٌ لِجَمْعِ السَّامِرِينَ، أَيِ الْمُتَحَدِّثِينَ فِي سَمَرِ اللَّيْلِ وَهُوَ ظُلْمَتُهُ، أَوْ ضَوْءُ قَمَرِهِ. وَأُطْلِقَ السَّمَرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي اللَّيْلِ، فَالسَّامِرُ كَالْحَاجِّ وَالْحَاضِرِ وَالْجَامِلِ بِمَعْنَى الْحُجَّاجُ وَالْحَاضِرِينَ وَجَمَاعَةُ الْجُمَّالِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سامِراً مُرَادًا مِنْهُ مَجْلِسُ السَّمَرِ حَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لِلْحَدِيثِ لَيْلًا وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي سَامِرِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] . وتَهْجُرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مُضَارِعُ أَهْجَرَ: إِذَا قَالَ الْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَهُوَ اللَّغْوُ والسب وَالْكَلَام السيء. وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ هَجَرَ إِذَا لَغَا. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ سامِراً، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُتَحَدِّثِينَ هَجْرًا وَكَانَ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ يَسْمُرُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ يَتَحَدَّثُونَ بِالطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 إلى 70]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 68 إِلَى 70] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 63- 67] . وَهَذَا التَّفْرِيعُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَجُمْلَةِ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 75] . وَالْمُفَرَّعُ اسْتِفْهَامَاتٌ عَنْ سَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ وَاسْتِمْرَارِ قُلُوبِهِمْ فِي غَمْرَةٍ إِلَى أَنْ يَحِلَّ بهم الْعَذَاب الْمَوْعُود لَهُ. وَهَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التخطئة على طَريقَة الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ اتِّضَاحَ الْخَطَأِ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ فِي صُدُورِهِ عَنِ الْعُقَلَاءِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الشَّكُّ السُّؤَالَ عَنْ وُقُوعِهِ مِنَ الْعُقَلَاءِ. وَمَآلُ مَعَانِي هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ أَنَّهَا إِحْصَاءٌ لِمَثَارِ ضَلَالِهِمْ وَخَطَئِهِمْ وَلذَلِك خُصَّتْ بِذِكْرِ أُمُورٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَكَذَلِكَ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَقَطْعٌ لِمَعْذِرَتِهِمْ وَإِيقَاظٌ لَهُمْ بِأَنَّ صِفَاتِ الرَّسُولِ كُلَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ. فَالِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَوْلِ أَيِ الْكَلَامُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النِّسَاء: 82] . وَالتَّدَبُّرُ: إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي دَلَالَاتِ الدَّلَائِلِ عَلَى مَا نُصِبَتْ لَهُ. وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مِنَ النَّظَرِ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ فِيمَا لَا يَظْهَرُ مِنْهُ للمتأمل بادىء ذِي بَدْءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَ الْقُرْآنِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ بِدَلَالَةِ إِعْجَازِهِ وَبِصِحَّةِ أَغْرَاضِهِ، فَمَا كَانَ اسْتِمْرَارُ عِنَادِهِمْ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ. وَهَذَا أَحَدُ الْعِلَلِ الَّتِي غَمَرَتْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي: هُوَ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ. فَ (أَمْ) حَرْفُ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ مِنَ اسْتِفْهَامٍ إِلَى غَيْرِهِ وَهِيَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى (بَلْ) وَيَلْزَمُهَا تَقْدِيرُ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا لَا مَحَالَةَ. فَقَوْلُهُ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ تَقْدِيرُهُ: بَلْ أَجَاءَهُمْ. وَالْمَجِيءُ مَجَازٌ فِي الْإِخْبَارِ وَالتَّبْلِيغِ، وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ. وَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى دِينٍ. وَالْمَعْنَى: أَجَاءَهُمْ دِينٌ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الدِّينُ الدَّاعِي إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: 23، 24] . ثُمَّ إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ ظَاهِرَ مَعْنَى الصِّلَةِ وَهِيَ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي جَاءَهُمْ لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ إِذْ قَدْ أَنْكَرُوا دِينًا جَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْبِقْ مَجِيئُهُ لَآبَاءِهُمْ. وَوَجْهُ التَّهَكُّمِ أَنَّ شَأْنَ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بِدِينٍ أَنْ يَكُونَ دِينُهُ أُنُفًا وَلَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ مِثْلُهُ لَكَانَ مَجِيئُهُ تَحْصِيلَ حَاصِلٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصِّلَةِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى: لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ، كَانَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ تَغْلِيطٍ، أَيْ لَا اتِّجَاهَ لِكُفْرِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ إِذْ لَا يَكُونُ الدِّينُ إِلَّا مُخَالِفًا لِلضَّلَالَةِ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 21، 22] .

وَأَمَّا الِاسْتِفْهَامُ الثَّالِثُ: الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمُ الرَّسُولَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ فِي شَأْنِهِمْ إِذْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْرِفُونَهُ فَهُوَ الْمَظْنُونُ بِهِمْ فَكَانَ الْأَجْدَرُ بِالِاسْتِفْهَامِ هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ إِذْ تُفْرَضُ كَمَا يُفْرَضُ الشَّيْءُ الْمَرْجُوحُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّغْلِيطِ فَإِنَّ رَمْيَهُمُ الرَّسُولَ بِالْكَذِبِ وَبِالسِّحْرِ وَالشِّعْرِ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ، إِذِ الْعَارِفُ بِالْمَرْءِ لَا يَصِفُهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ، وَلِذَلِكَ تَفَرَّعَ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ، أَيْ إِنْكَارُهُمْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةَ. فَتَعْلِيقُ ضَمِيرِ ذَاتِ الرَّسُولِ بِ مُنْكِرُونَ هُوَ مِنْ بَابِ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ صِفَاتُهَا مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّدْقُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِدَادِ الشُّعَرَاءِ. وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْزَى لِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ (أَيِ الْقُرْآنُ) أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: 16] . وَلَمَّا كَانَ الْبَشَرُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَسْلُبُ خِصَالَهُ وَهُوَ اخْتِلَالُ عَقْلِهِ عُطِفَ عَلَى أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ قَوْلُهُ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ الرَّابِعُ، أَيْ أَلَعَلَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ رَسُولَهُمُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ قَدْ أُصِيبَ بِجُنُونٍ فَانْقَلَبَ صِدْقُهُ كَذِبًا. وَالْجِنَّةُ: الْجُنُونُ، وَهُوَ الْخَلَلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ مَسِّ الْجِنِّ. وَالْجِنَّةُ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ وَهُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُسْتَتِرَةُ عَنْ أَبْصَارِنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاس: 6] . وَيُطْلَقُ الْجِنَّةُ عَلَى الدَّاءِ اللَّاحِقِ مِنْ إِصَابَةِ الْجِنِّ وَصَاحِبُهُ مَجْنُونٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ

تَعَالَى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [184] . وَهُمْ لَمْ يَظُنُّوا بِهِ الْجُنُونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بُهْتَانًا. وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَلْسِنَتِهِمْ هُوَ مَصَبُّ الِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ قَدْ نُقِضَ مَا تَسَبَّبَ عَلَى مَا اخْتَلَقُوهُ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ فِي الْخَبَرِ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ وَهُوَ (بَلْ) . وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، يَكُونُ فِي الذَّوَاتِ وَأَوْصَافِهَا. وَفِي الْأَجْنَاسِ، وَفِي الْمَعَانِي، وَفِي الْأَخْبَارِ. فَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ وَضِدُّ السِّحْرِ وَضِدُّ الشِّعْرِ، فَمَا جَاءَهُمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كُلُّهُ مَلَابِسٌ لِلْحَقِّ، فَبَطَلَ بِهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَقَالَةُ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَمَنْ لَمْ يُرَاعُوا إِلَّا مُوَافَقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا حَالَ رَسُولِهِمُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَقَالَةُ مَنْ يَرْمِي بِالْبُهْتَانِ فَنَسَبُوا الصَّادِقَ إِلَى التَّلْبِيسِ وَالتَّغْلِيطِ. فَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيءُ أَوَّلُهُ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ، كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلْفَاضِلِ بِفَضْلِهِ. وَزَجْرِ الْخَبِيثِ عَنْ خُبْثِهِ، وَأُخُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِّ. وَمَنْعِ الْفَوَاحِشِ مِنَ الزِّنَى وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَالِاعْتِدَاءِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِهَانَةِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعُدْوَانِ. والخلافة الَّتِي نشأوا عَلَيْهَا مِنْ عَهْدٍ قَدِيمٍ. فَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ يَوْمَئِذٍ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمُقْتَضَى نِظَامِ الْعُمْرَانِ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَالَمَ فَهُوَ الْحَقُّ كَمَا قَالَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 39] . وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْكَاذِبِ وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الَّذِي لَا يُشَارِكُهُمَا فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَالصَّادِقُونَ غَيْرَ جَارِيَيْنِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ كَانَ إِثْبَاتُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول حَقٌّ نَقْضًا لِإِنْكَارِهِمْ صِدْقَهُ. وَلِقَوْلِهِمْ هُوَ مَجْنُونٌ كَانَ مَا بَعْدَ (بَلْ) نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ. وَظَاهِرُ تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ يَقْتَضِي أَنَّ ضَمِيرَ أَكْثَرُهُمْ يَعُودُ إِلَى الْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 54] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَكْثَرُ

[سورة المؤمنون (23) : آية 71]

الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ كَارِهُونَ لِلْحَقِّ. وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ طِبَاعَهُمْ تَأْنَفُ الْحَقَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُمْ لِمَا تَخَلَّقُوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْكِبْرِ وَالْغَصْبِ وَأَفَانِينِ الْفَسَادِ، بَلْهَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ بِالْإِشْرَاكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 63] ، فَلَا جَرَمَ كَانُوا بِذَلِكَ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ لِأَنَّ جِنْسَ الْحَقِّ يُجَافِي هَذِهِ الطِّبَاعَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَبُو جَهْلٍ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: 52، 53] . وَإِنَّمَا أُسْنِدَتْ كَرَاهِيَةُ الْحَقِّ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ إِنْصَافًا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَحْلَامِ الرَّاجِحَةِ الَّذِينَ عَلِمُوا بُطْلَانَ الشِّرْكِ وَكَانُوا يَجْنَحُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ يُشَايِعُونَ طُغَاةَ قَوْمِهِمْ مُصَانَعَةً لَهُمْ وَاسْتِبْقَاءً عَلَى حُرْمَةِ أَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَدَعُوا بِالْحَقِّ لَقُوا مِنْ طُغَاتِهِمُ الْأَذَى وَالِانْتِقَاصَ، وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَبُو طَالِبٍ وَالْعَبَّاسُ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. فَكَانَ الْمَعْنَى: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ فَكَفَرُوا بِهِ كُلُّهُمْ، فَأَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَكَرَاهِيَةً لِلْحَقِّ، وَأَمَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ مُصَانَعَةً لِسَائِرِهِمْ وَقَدْ شَمِلَ الْكفْر جَمِيعهم. وَتقدم الْمَعْمُولِ فِي قَوْلِهِ لِلْحَقِّ كارِهُونَ اهْتِمَامٌ بِذِكْرِ الْحَقِّ حَتَّى يَسْتَوْعِيَ السَّامِعُ مَا بَعْدَهُ فَيَقَعُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنُ سَمَاعِهِ مَوْقِعَ الْعَجَبِ مِنْ كَارِهِيهِ، وَلَمَّا ضُعِّفَ الْعَامِلُ فِيهِ بِالتَّأْخِيرِ قُرِنَ الْمَعْمُولُ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ. [71] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 71] وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ. عُطِفَ هَذَا الشَّرْطُ الِامْتِنَاعِيُّ عَلَى جُمْلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 70] زِيَادَةً فِي التَّشْنِيعِ عَلَى أَهْوَائِهِمْ فَإِنَّهَا مُفْضِيَةٌ إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ وَمَنْ فِيهِ وَكَفَى بِذَلِكَ فَظَاعَةً وَشَنَاعَةً.

وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 70] وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُوَافِقُ لِلْوُجُودِ الْوَاقِعِيِّ وَلِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَنَّ كَرَاهَةَ أَكْثَرِهِمْ لِلْحَقِّ نَاشِئَةٌ عَنْ كَوْنِ الْحَقِّ مُخَالِفًا أَهْوَاءَهُمْ فَسُجِّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ هَوًى وَالْهَوَى شَهْوَةٌ وَمَحَبَّةٌ لِمَا يُلَائِمُ غَرَضَ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَإِنَّمَا يَجْرِي الْهَوَى عَلَى شَهْوَةِ دَوَاعِي النُّفُوسِ أَعْنِي شَهَوَاتِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ، فَشَهْوَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ لَيْسَتْ مِنَ الْهَوَى وَإِنَّمَا الْهَوَى شَهْوَةُ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ كَشَهْوَةِ الظُّلْمِ وَإِهَانَةِ النَّاسِ، أَوْ شَهْوَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ لَكِنْ يُشْتَهَى عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَحَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ فَسَادٍ وَضُرٍّ مِثْلَ شَهْوَةِ الطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ وَشَهْوَةِ الزِّنَا، فَمَرْجِعُ مَعْنَى الْهَوَى إِلَى الْمُشْتَهَى الَّذِي لَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ. وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ شَائِعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ، أَيْ لَوْ وَافَقَ الْحَقُّ مَا يَشْتَهُونَهُ. وَمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ الْأَهْوَاءَ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَةُ الْحَقِّ مُوَافِقَةً لِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ. فَإِنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ لَهَا تَقَرُّرٌ فِي الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا يَشْتَهِيهِ النَّاسُ أَمْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لَهُ فَمِنْهَا الْحَقَائِقُ الْوُجُودِيَّةُ وَهِيَ الْأَصْلُ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا، وَكَوْنِهِ لَا يَلِدُ، وَكَوْنِ الْبَعْثِ وَاقِعًا لِلْجَزَاءِ، فَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ عَيْنُ تَقَرُّرِهَا فِي الْخَارِجِ. وَمِنْهَا الْحَقَائِق المعنوية وَهِي الْمَوْجُودَةُ فِي الِاعْتِبَارِ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي الِاعْتِبَارَاتِ. وَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ كَوْنُهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْعَالَمِ مِثْلَ كَوْنِ الْوَأْدِ ظُلْمًا، وَكَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا، وَكَوْنِ الْقِمَارِ أَخْذَ مَالٍ بِلَا حَقٍّ لِآخِذِهِ فِي أَخْذِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي أَضْدَادِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفَسَدَ مَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ. وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفَسَادِ النَّاسِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَقَائِقِ هُوَ أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ شَتَّى فَمِنْهَا

الْمُتَّفِقُ، وَأَكْثَرُهَا مُخْتَلِفٌ، وَأَكْثَرُ اتِّفَاقِ أَهْوَائِهِمْ حَاصِلٌ بِالشِّرْكِ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ مُوَافِقًا لِمَزَاعِمِهِمْ لَاخْتَلَّتْ أُصُولُ انْتِظَامِ الْعَوَالِمِ. فَإِنَّ مَبْدَأَ الْحَقَائِقِ هُوَ حَقِيقَةُ الْخَالِقِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ هِيَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لَفَسَدَتِ الْعَوَالِمُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَذَلِكَ أَصْلُ الْحَقِّ وَقِوَامُهُ وَانْتِقَاضُهُ انْتِقَاض لنظام السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] الْآيَةَ، فَمِنْ هَوَاهُمُ الْبَاطِلِ أَنْ جَعَلُوا مِنْ كَمَالِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. ثُمَّ نَنْتَقِلُ بِالْبَحْثِ إِلَى بَقِيَّةِ حَقَائِقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَقِّ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ نَقِيضَ ذَلِكَ لَتَسَرَّبَ الْفساد إِلَى السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ. فَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ لَكَانَ الثَّابِتُ أَنْ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ فَلَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ خَيْرًا إِذْ لَا رَجَاءَ فِي ثَوَابٍ. وَلَمْ يَتْرُكْ أحد شرا إِلَّا إِذْ لَا خَوْفَ مِنْ عِقَابٍ فَيَغْمُرُ الشَّرُّ الْخَيْرَ وَالْبَاطِلُ الْحَقَّ وَذَلِكَ فَسَادٌ لمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] . وَكَذَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ حُسْنَ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَاطِلُ قُبْحَ الْعَدْلِ لَارْتَمَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِهْلَاكِ جُهْدَ الْمُسْتَطَاعِ فَهَلَكَ الضَّرْعُ وَالزَّرْعُ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] ، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي أَهْوَائِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ. وَيَزِيدُ أَمْرُهَا فَسَادًا بِأَنْ يَتَّبِعَ الْحَقُّ كُلَّ سَاعَةٍ هَوًى مُخَالِفًا لِلْهَوَى الَّذِي اتَّبَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَقِرُّ نِظَامٌ وَلَا قَانُونٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى نَاظِرٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدُّخان: 38، 39] .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ فِيهِنَّ صَادِقَةٌ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ. فَفَسَادُ الْبَشَرِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ. وَأَمَّا فَسَادُ الْمَلَائِكَةِ فَلِأَنَّ مِنْ أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ زَعْمَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَلَائِكَةِ بُنُوَّةُ اللَّهِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَنهم ءالهة لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ جِنْسٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِمَا تَوَلَّدَ هُوَ مِنْهُ إِذِ الْوَلَدُ نُسْخَةٌ مِنْ أَبِيهِ فَلَزِمَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُصُولِ حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ مُسَخَّرُونَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ لَفَسَدَتْ حَقَائِقُهُمْ فَأَفْسَدُوا مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِإِصْلَاحِهِ وَبِالْعَكْسِ فَتَنْتَقِضُ الْمَصَالِحُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ صَادِقًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ فِي اسْتِعْمَالِ (مَنْ) . وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ يَنْتَظِمُ بِالْأَصَالَةِ مَعَ وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَبَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ يسري إِلَى اختلال مَوَاهِي الْمَوْجُودَاتِ فَتُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِمَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَيَفْسَدُ الْعَالَمُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَرَضَ بَحْثًا فِي إِمْكَانِ فَنَاءِ الْعَالَمِ وَفَرَضَ أَسْبَابًا إِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَعَدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ تَحْدُثَ حَوَادِثُ جَوِّيَّةٌ تُفْسِدُ عُقُولَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ فَيَتَأَلَّبُونَ عَلَى إِهْلَاكِ الْعَالَمِ فَلَوْ أَجْرَى اللَّهُ النِّظَامَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا يَشْتَهُونَ لَعَادَ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ فَكَانُوا مَشْمُولِينَ لِذَلِكَ الْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَنَاهِيكَ بِأَفْنِ آرَاءٍ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّافِعِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَكَفَى بِذَلِكَ شَنَاعَةً لِكَرَاهِيَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِبْطَالًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَصَرُّفَاتُ مَجْنُونٍ. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ. إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَيْ بَلْ لَمْ يَتَّبِعِ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ فَأَبْلَغْنَا إِلَيْهِمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ ذِكْرٌ لَهُمْ

يُوقِظُ عُقُولَهُمْ مِنْ سُبَاتِهَا. كَأَنَّهُ يُذَكِّرُ عُقُولَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي نَسِيَتْهُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ عَلَى ضَلَالَاتِ آبَائِهِمُ الَّتِي سَنُّوهَا لَهُمْ فَصَارَتْ أَهْوَاءً لَهُمْ أَلِفُوهَا فَلَمْ يَقْبَلُوا انْزِيَاحًا عَنْهَا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ بِأَنَّهُ خَالَفَهَا، فَجُعِلَ إِبْلَاغُ الْحَقِّ لَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَذْكِيرِ النَّاسِي شَيْئًا طَالَ عَهْدُهُ بِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ» قَالَ تَعَالَى وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يُونُس: 82] . وَعُدِّيَ فِعْلُ أَتَيْنَاهُمْ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِرْسَالِ وَالتَّوْجِيهِ. وَالذِّكْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْكَلَامِ الَّذِي يذكر سامعه بِمَا غُفِلَ عَنْهُ وَهُوَ شَأْنُ الْكُتُبِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَإِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لَفْظِيَّةٌ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ إِعْرَاضِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالذِّكْرِ إِلَيْهِمْ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَلَى الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ بِالذِّكْرِ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ الْقُرْآنَ لِيُذَكِّرَهُمْ. وَقِيلَ: إِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مَعْنَوِيَّةٌ، أَيِ الذِّكْرُ الَّذِي سَأَلُوهُ حِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 168، 169] فَيَكُونُ الذِّكْرُ عَلَى هَذَا مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا يَتَذَكَّرُونَ بِهِ. وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَيْ فَهَا قَدْ أَعْطَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِمُ الَّذِي سَأَلُوهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (أَيْ مِنْ رُسُلٍ قبل مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ» ، وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: 19] . وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِمْ لِيَكُونَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ مَحل عجب.

[سورة المؤمنون (23) : آية 72]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 72] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) (أَمْ) عَاطِفَةٌ عَلَى أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 70] وَهِيَ لِلِانْتِقَالِ إِلَى اسْتِفْهَامٍ آخَرَ عَنْ دَوَاعِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ وَاسْتِمْرَارِ قُلُوبِهِمْ فِي غَمْرَةٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَيَعْتَذِرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْكَ لِأَجَلِهِ شُحًّا بِأَمْوَالِهِمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: 47] عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُ سَأَلْتُكُمْ أَجْرًا فَقَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكُمْ فَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ اتِّبَاعِي. وَقَوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الْقَلَم: 46] كُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . وَهَذَا الِانْتِقَالُ كَانَ إِلَى غَرَضِ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ جَائِيًا مِنْ قِبَلِهِ وَتَسَبُّبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الِاسْتِفْهَامَاتُ السَّابِقَةُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمُوجِبَاتِ الْإِعْرَاضِ الْجَائِيَةِ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً إِنْكَارِيٌّ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الرَّسُولِ مَا يُوجِبُ إِعْرَاضَ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ دَعْوَتِهِ فَانْحَصَرَتْ تَبِعَةُ الْإِعْرَاضِ فِيهِمْ. وَالْخَرْجُ: الْعَطَاءُ الْمُعَيَّنُ عَلَى الذَّوَاتِ أَوْ عَلَى الْأَرَضِينَ كَالْإِتَاوَةِ، وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَقِيلَ هُوَ مُرَادِفُ الْخَرْجِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جُمْهُورِ اللُّغَوِيِّينَ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْخَرْجَ الْإِتَاوَةُ عَلَى الذَّوَاتِ وَالْخَرَاجَ الْإِتَاوَةُ عَلَى الْأَرَضِينَ. وَقِيلَ الْخَرْجُ: مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْمُعْطِي وَالْخَرَاجُ: مَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَالْوَجْهُ أَنَّ الْخَرْجَ أَخَصُّ مِنَ الْخَرَاجِ (يُرِيدُ أَنَّ الْخَرْجَ أَعَمُّ كَمَا أَصْلَحَ عِبَارَتَهُ صَاحِبُ «الْفَرَائِدِ» فِي نَقْلِ الطِّيبِيِّ) كَقَوْلِكَ خَرَاجُ الْقَرْيَةِ وَخَرْجُ الْكُرْدَةِ (¬1) ¬

(¬1) الكردة- بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء-: الأَرْض ذَات الزَّرْع. قَالَ الهمذاني فِي «حَاشِيَته» : لَا تعرفها الْعَرَب وَإِنَّمَا هِيَ من كَلَام الكرد.

زِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ يَعْنِي أَمْ تَسْأَلُهُمْ عَلَى هِدَايَتِكَ لَهُمْ قَلِيلًا مِنْ عَطَاءِ الْخَلْقِ فَالْكَثِيرُ مِنْ عَطَاءِ الْخَالِقِ خَيْرٌ» اهـ. وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللُّغَةِ عَدَمُ التَّرَادُفِ. هَذَا وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ خَرْجًا فَخَرْجُ رَبِّكَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخلف أم تسئلهم خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَتَوْجِيهُهَا عَلَى اعْتِبَارِ تَرَادُفِ الْكَلِمَتَيْنِ أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَقَامِ الْمُقْتَضِي إِعَادَةَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ قُرْبِ اللَّفْظَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: 47] فَإِنَّ لَفْظَ أَجْرٍ أُعِيدَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ. وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرْقِ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَتَوْجِيهُهَا بِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّفَنُّنِ وَعَلَى مُحَسِّنِ الْمُبَالَغَةِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَخَلَفٍ فَتَوْجِيهُهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَادُفِ أَنَّهُمَا وَرَدَتَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الِاسْتِعْمَال مَعَ محسن الْمُزَاوَجَةِ بِتَمَاثُلِ اللَّفْظَيْنِ. وَلَا تُوَجَّهَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ الْحُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ (أَيْ قَوْلُهُ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [الْمُؤْمِنُونَ: 68] إِلَى هُنَا) وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ وَعِلَلَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ أَمْرُهُ وَحَالُهُ، مَخْبُورٌ سِرُّهُ وَعَلَنُهُ، خَلِيقٌ بِأَنْ يُجْتَبَى مِثْلُهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَضْ (¬1) لَهُ حَتَّى يَدَّعِي بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَظِيمَةِ بِبَاطِلٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ سُلَّمًا إِلَى النَّيْلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَاسْتِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ إِبْرَازِ الْمَكْنُونِ ¬

(¬1) فعل مُلْتَزم بِنَاؤُه للنائب. وَمَعْنَاهُ لم يكن مَجْنُونا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 إلى 74]

مِنْ أَدْوَائِهِمْ وَهُوَ إِخْلَالُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَاسْتِهْتَارُهُمْ بِدِينِ الْآبَاءِ الضُّلَّالِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ، وَتَعَلُّلُهُمْ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ وَثَبَاتِ التَّصْدِيقِ مِنَ اللَّهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ النَّيِّرَةِ، وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَإِعْرَاضُهُمْ عَمَّا فِيهِ حَظُّهُمْ مِنَ الذِّكْرِ» اهـ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مُعْتَرِضَةٌ تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعْرِيفِ بِسِعَةِ فَضْلِهِ. وَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. [73، 74] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 73 إِلَى 74] وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) أُعْقِبَ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ عَمَّا افْتَرُوهُ عَلَيْهِ بِتَنْزِيهِ الْإِسْلَامِ عَمَّا وسموه بِهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّنْزِيهِ بِإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ طَرِيقٌ لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا عَقَبَاتٍ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ اعْتَقَدُوا خِلَافَ ذَلِكَ. وَإِطْلَاقُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوصِّلٌ إِلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنَ النَّجَاةِ وَحُصُولِ الْخَيْرِ، فَكَمَا أَنَّ السَّائِرَ إِلَى طَلْبَتِهِ لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا بِطَرِيقٍ، وَلَا يَكُونُ بُلُوغُهُ مَضْمُونًا مَيْسُورًا إِلَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُسْتَقِيمًا فالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلٍ بِلَا عَنَاءٍ. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنْكِرِينَ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ التَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ. وَالتَّعْبِيرُ فِيهِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتُهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ حَيْثُ عُدِلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا تنبىء بِهِ الصِّلَةُ مِنْ سَبَبِ تَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَنَّ سَبَبَهُ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ

[سورة المؤمنون (23) : آية 75]

وَالتَّعْرِيفُ فِي الصِّرَاط للْجِنْس، أَيْ هُمْ نَاكِبُونَ عَنِ الصِّرَاطِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيْثُ لَمْ يَتَطَلَّبُوا طَرِيقَ نَجَاةٍ فَهُمْ نَاكِبُونَ عَنِ الطَّرِيقِ بَلْهَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ عَنِ الصِّراطِ لِلْعَهْدِ بِالصِّرَاطِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ أَتَمُّ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ فَهُمْ إِذَنْ نَاكِبُونَ عَنْ كُلِّ صِرَاطٍ مُوصِلٍ إِذْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ فِي الْوُصُولِ. وَالنَّاكِبُ: الْعَادِلُ عَنْ شَيْءٍ، الْمُعْرِضُ عَنْهُ، وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَفَرِحَ. وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَنْكَبِ وَهُوَ جَانِبُ الْكَتِفِ لِأَنَّ الْعَادِلَ عَنْ شَيْءٍ يُوَلِّي وَجْهَهُ عَنهُ بجانبه. [75] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 75] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 64] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ بِاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ وَتَنْدِيمٍ وَقَطْعٍ لِمَعَاذِيرِهِمْ، أَيْ لَيْسُوا بِحَيْثُ لَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ جُؤَارَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ لَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَمْرَةِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ سَجِيَّةً لَهُمْ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْهُمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] . ولَوْ هُنَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمُرَادِ مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ إِذِ الْمَقَامُ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّأْيِيسِ مِنَ الْإِغَاثَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَلَيْسَ مَقَامَ اعْتِذَارٍ مِنَ اللَّهِ عَنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ أَوْ عَنْ إِمْسَاكِ رَحْمَتِهِ عَنْهُمْ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وَأَمَّا مَجِيءُ هَذَا الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ فَذَلِكَ مُرَاعَاةً لِمَا شَاعَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مُقَارَنَةِ (لَوْ) لِصِيغَةِ الْحَاضِرِ لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الْمَاضِي وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَزْمِ الْفِعْلِ بَعْدَهَا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 76 إلى 77]

وَاللَّجَاجُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْخِصَامِ وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: لَجَّ يَلِجُّ وَيَلَجُّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى اخْتِلَافِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي. وَالطُّغْيَانُ: أَشَدُّ الْكِبْرِ. وَالْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الضَّلَالَةِ. وفِي طُغْيانِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْمَهُونَ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادُ مِنْهَا مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [15] . [76، 77] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 76 إِلَى 77] وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 75] بِسَابِقِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ جَزَاءُ شِرْكِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ خطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْلَمُ صِدْقَهُ فَلَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّهُ لَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُشْرِكِينَ وَكَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَسْمَاعَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِ، كَانَ الْمَقَامُ مَحْفُوفًا بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا مَضَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَهُ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 54] ، وَوَقَعَ بَعْدَهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 84] . وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ بِالْعَذابِ لِلْعَهْدِ، أَيْ بِالْعَذَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: 64] إِلَخْ. وَمَصَبُّ الْحَالِ هُوَ مَا عُطِفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مِنْ قَوْلِهِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، فَلَا تَتَوَهَّمَنَّ أَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ

الْعَذَابِ هُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَذَابٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَذْكُورِ آنِفًا مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْأَوَّلِ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [13- 15] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ إِلَى قَوْله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ. وَالْمَعْنَى فَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا العويل والجؤار دُونَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقِيلَ: هَذَا عَذَابٌ آخَرُ سَابِقٌ لِلْعَذَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا فَيَتَرَكَّبُ هَذَا عَلَى التَّفَاسِيرِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ الْأَوَّلِ أَوْ عَذَابُ الْجُوعِ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ لِعَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ. وَالِاسْتِكَانَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّ الَّذِي يَخْضَعُ يَقْطَعُ الْحَرَكَةَ أَمَامَ مَنْ خَضَعَ لَهُ، فَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ السُّكُونِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ السُّكُونِ وَقُوَّتِهِ. وَأَلِفُهُ أَلِفُ الِافْتِعَالِ مِثْلُ الِاضْطِرَابِ، وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ كَزِيَادَتِهَا فِي اسْتِعَاذَةٍ. وَقِيلَ الْأَلِفُ لِلْإِشْبَاعِ، أَيْ زِيدَتْ فِي الِاشْتِقَاقِ فَلَازَمَتِ الْكَلِمَةَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْإِشْبَاعِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْمُسْتَعْمِلُونَ شُذُوذًا كَقَوْلِ طَرَفَةَ: يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَيْ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ أَيْ يَنْبُعُ. وَأَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْإِشْبَاعِ فِي نَحْوِهِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ هَرْمَةَ: وَأَنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى ... وَمِنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ أَرَادَ: بِمُنْتَزَحٍ فَأَشْبَعَ الْفَتْحَةَ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اسْتَكانُوا اسْتِفْعَالًا مِنَ الْكَوْنِ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ مَادَّتِهِ فَإِنَّ مَعْنَى الْكَوْنِ فِيهِ غَيْرُ وَجِيهٍ وَجِهَةِ صِيغَتِهِ لِأَنَّ حَمْلَ السِّينِ وَالتَّاءِ فِيهِ عَلَى مَعْنَى الطَّلَبِ غَيْرُ وَاضِحٍ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَتَضَرَّعُونَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ انْتِفَاءِ تَضَرُّعِهِمْ. وَالتَّضَرُّعُ: الدُّعَاءُ بِتَذَلُّلٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي سُورَةِ

الْأَنْعَامِ [42] . وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا كَالْقَوْلِ فِي حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: 64] . وَ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِثْلُ (إِذَا) الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِلَخْ. وَفَتْحُ الْبَابِ تَمْثِيلٌ لِمُفَاجَأَتِهِمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْجُوزًا عَنْهُ حَسَبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: 33] . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها [الْأَحْزَاب: 14] . شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِصَابَتِهِمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي سَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ بِهَيْئَةِ نَاسٍ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِمْ فَفُتِحَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْبَيْتِ مِنْ عَدُوٍّ مَكْرُوهٍ، أَوْ تَقُولُ: شُبِّهَتْ هَيْئَةُ تَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِهَيْئَةِ فَتْحِ بَابٍ اخْتُزِنَ فِيهِ الْعَذَابُ فَلَمَّا فُتِحَ الْبَابُ انْهَالَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَمَا مُثِّلَ بِقَوْلِهِ: وَفارَ التَّنُّورُ [هود: 40] وَقَوْلِهِمْ: طَفَحَتِ الْكَأْسُ بِأَعْمَالِ فُلَانٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الذاريات: 59] وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ: فَحَقٌّ لِشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُتَّابِ: فُتِحَ بَابُ كَذَا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، تَمْثِيلًا لِكَثْرَةِ ذَلِكَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ سِجِلًّا مِنَ الْإِحْسَانِ، وَقَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: مِنْ شَاعِرٍ وَقَفَ الْكَلَامُ بِبَابِهِ ... وَاكْتَنَّ فِي كَنَفَيْ ذَرَاهُ الْمَنْطِقُ وَوَصَفَ بَابًا بِكَوْنِهِ ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ دُونَ أَنْ يُضَافَ بَابٌ إِلَى عَذَابٍ فَيُقَالُ: بَابُ عَذَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: 13] لِأَنَّ ذَا عَذابٍ يُفِيدُ مِنْ شِدَّةِ انْتِسَابِ الْعَذَابِ إِلَى الْبَابِ مَا لَا تُفِيدُهُ إِضَافَةُ بَابٍ إِلَى عَذَابٍ، وَلِيَتَأَتَّى بِذَلِكَ وَصْفُ (عَذَابٍ) بِ (شَدِيدٍ) بِخِلَافِ قَوْلِهِ سَوْطَ عَذابٍ فَقَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِهِ بِ (شَدِيدٍ) بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ (صَبَّ) الدَّالِّ عَلَى الْوَفْرَةِ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 78]

وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَذَابٌ مُسْتَقْبَلٌ. وَالْأَرْجَحُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ. وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ حَقِيقَةً وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71] . وَالْإِبْلَاسُ: شِدَّةُ الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. يُقَالُ: أَبْلَسَ، إِذَا ذَلَّ وَيَئِسَ مِنَ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْهَمْزَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاسِ كَسَحَابٍ وَهُوَ الْمِسْحُ، وَأَنَّ أَصْلَ أَبْلَسَ صَارَ ذَا بَلَاسٍ. وَكَانَ شِعَارَ مَنْ زَهِدُوا فِي النَّعِيمِ. يُقَالُ: لَبِسَ الْمُسُوحَ، إِذَا تَرَهَّبَ. وَهُنَا انْتَهَتِ الْجُمَلُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُبْتَدَأَةُ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 23] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 54] إِلَى قَوْلِهِ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [78] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 78] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (78) هَذَا رُجُوعٌ إِلَى غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا مَنَحَ النَّاسَ مِنْ نِعْمَةٍ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ بِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ قَدِ انْتَقَلَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 22] فَانْتَقَلَ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ فُلْكِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُتْبِعَ بِالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 22] فَالْجُمْلَةُ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 21] وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ وَمَا بَيْنَهُمَا انْتِقَالَاتٌ. وَإِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ رُجُوعًا إِلَى غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 23] . وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الْغَرَضِ تَجْدِيدٌ لِنَشَاطِ الذِّهْنِ وَتَحْرِيكٌ لِلْإِصْغَاءِ إِلَى الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ

[سورة المؤمنون (23) : آية 79]

الْعَرَبِ فِي خُطَبِهِمْ وَطِوَالِهِمْ. وَسَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ: قِرَى الْأَرْوَاحِ. وَجَعَلَهُ مِنْ آثَارِ كَرَمِ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ تَذْكِيرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ مُسْنَدًا وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مُنْشِئًا أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، فَصَاحِبُ الصِّلَةِ هُوَ الْأَوْلَى بِأَنْ يُعْتَبَرَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمْعَ فَأَتَى لَهُمْ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ لِقَصْرِ الْقَلْبِ أَوِ الْإِفْرَادِ، أَيِ اللَّهُ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ دُونَ أَصْنَامِكِمْ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ. وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ، أَيِ الْإِيجَادُ. وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا. وَأَمَّا إِفْرَادُ السَّمْعِ فَجَرَى عَلَى الْأَصْلِ فِي إِفْرَادِ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ أَصْلَ السَّمْعِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَلَمَّا كَانَ الْبَصَرُ يَتَعَلَّقُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَكَانَتِ الْعُقُولُ تُدْرِكُ أَجْنَاسًا وَأَنْوَاعًا جُمِعَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأُفْرِدَ السَّمْعُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَصْوَاتُ. وَانْتُصِبَ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فِي حَالِ كَوْنِكُمْ قَلِيلًا شُكْرُكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ فَالشُّكْرُ مُرَادٌ بِهِ التَّوْحِيدُ، أَيْ فَالشُّكْرُ الصَّادِرُ مِنْكُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَشْرِيكِكُمْ غَيْرَهُ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَالشُّكْرُ عَامٌّ فِي كُلِّ شُكْرِ نِعْمَةٍ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقِلَّةِ عَدَدِ الشَّاكِرِينَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: 17] . وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فَالشُّكْرُ عَامٌّ وَتَقْلِيلُهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ ونبذ الشّرك. [79] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 79] وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

[سورة المؤمنون (23) : آية 80]

(79) هُوَ عَلَى شَاكِلَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الْمُؤْمِنُونَ: 78] . وَالذَّرْءُ: الْبَثُّ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [136] . وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْحَيَاةِ وَتَيْسِيرِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَرْضِ وَإِكْثَارِ النَّوْعِ لِأَنَّ الذَّرْءَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ أَصْنَافًا هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا. وَهُوَ أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْبَعْثِ لِأَنَّ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ عَنْ عَدَمٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ تَقَطُّعِ أَوْصَالِهِمْ. وَقُوبِلَ الذَّرْءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَشْرُ وَالْجَمْعُ، فَإِنَّ الْحَشْرَ يَجْمَعُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ. وَفِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يجازيهم. [80] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 80] وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) هُوَ مِنْ أُسْلُوبِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ [الْمُؤْمِنُونَ: 78] وَأُعْقِبَ ذِكْرُ الْحَشْرِ بِذِكْرِ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ الْبَعْثَ إِحْيَاءٌ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْإِمَاتَةِ فَلِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ، وَلِأَنَّ فِيهَا دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ. وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْإِحْيَاءِ خَلْقُ الْإِيقَاظِ وَمِنَ الْإِمَاتَةِ خَلْقُ النَّوْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] الْآيَةَ عُطِفَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بِقُدْرَتِهِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِأَنَّ فِي تَصْرِيفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الْأَعْرَاف: 29] .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 إلى 83]

وَاللَّامُ فِي لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لِلْمِلْكِ، أَيْ بِقُدْرَتِهِ تَصْرِيفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالنَّهَارُ يُنَاسِبُ الْحَيَاةَ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْهُبُوبُ فِي النَّهَارِ بَعْثًا، وَاللَّيْلُ يُنَاسِبُ الْمَوْتَ وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ النَّوْمَ وَفَاةً فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الْأَنْعَام: 60] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا لِغَيْرِهِ، أَيْ فَغَيْرُهُ لَا تَحِقُّ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تُفِيدُ مَنْ نَظَرَ فِيهَا عِلْمًا بِأَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ وَكَانَ الْمَقْصُودُونَ بِالْخِطَابِ قَدْ أَشْرَكُوا بِهِ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ جُعِلُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعَقْلِ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُفَرَّعِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. وَهَذَا تَذْيِيلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 79] وَمَا بعده. [81- 83] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 81 إِلَى 83] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) هَذَا إِدْمَاجٌ لِذِكْرِ أَصْلٍ آخَرَ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَهُوَ إِحَالَةُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ إِبْطَالًا لِكَوْنِهِمْ يَعْقِلُونَ. وَإِثْبَاتٌ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ بَيَانِ مَا بَعَثَهُمْ عَلَى إِنْكَارِهِ وَهُوَ تَقْلِيد الْآبَاء. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْأَدِلَّةَ لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ آبَائِهِمْ. وَالْكَلَامُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ انْتُقِلَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى حِكَايَةِ ضَلَالِهِمْ فَنَاسَبَ هَذَا الِانْتِقَالَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ لِمَا فِي الْغَيْبَةِ مِنَ الْإِبْعَادِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ.

وَالْقَوْلُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ مَا طَابَقَ الِاعْتِقَادَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ قَائِلِهِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ ظَنُّوا مِثْلَ مَا ظَنَّ الْأَوَّلُونَ. وَالْأَوَّلُونَ: أَسْلَافُهُمْ فِي النَّسَبِ أَوْ أَسْلَافُهُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ قالُوا أَإِذا مِتْنا إِلَخْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنْ جُمْلَةِ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ الْمُمَاثَلَةِ، فَالضَّمِيرُ الَّذِي مَعَ قالُوا الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قالُوا الْأَوَّلُ وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْأَوَّلُونَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ قالُوا الثَّانِي استئنافا بَيَانا لِبَيَانِ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلُونَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِعَادَةُ فِعْلِ (قَالُوا) مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الَّذِي عُمِلَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَنُكْتَتُهُ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِذا مِتْنا بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى تَأْكِيدِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأُولَى بِإِدْخَالِ مِثْلِهَا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَوُجُودُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةً عَلَى الشَّرْطِ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَوَابِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وإِذا ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ لَمَبْعُوثُونَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْكَوْنِ تُرَابًا وَعِظَامًا لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْإِنْكَارِ بِتَفْظِيعِ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ، أَيِ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّلَاشِي الْقَوِيِّ. وَأَمَّا ذِكْرُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي قَوْلهم أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حِكَايَةُ دَعْوَى الْبَعْثِ بِأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي يَدَّعِيهَا بِتَحْقِيقٍ وَتَوْكِيدٍ مَعَ كَوْنِهَا شَدِيدَةَ الِاسْتِحَالَةِ، فَفِي حِكَايَةِ تَوْكِيدِ مُدَّعِيهَا زِيَادَةٌ فِي تَفْظِيعِ الدَّعْوَى فِي وَهْمِهِمْ. وَجُمْلَةُ لَقَدْ وُعِدْنا إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَتَقْوِيَةٌ لَهُ. وَقَدْ جَعَلُوا مُسْتَنَدَ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ الْوَعْدُ بِهِ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَلَمْ يَقَعْ وَلَمْ يُبْعَثْ وَاحِدٌ مِنْ آبَائِهِمْ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 إلى 85]

وَوَجْهُ ذِكْرِ الْآبَاءِ دَفْعُ مَا عَسَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَائِلٌ: إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرُوا تُرَابًا وَعِظَامًا، فَأَعَدُّوا الْجَوَابَ بِأَنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ لَمْ يَكُنْ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِمْ فَيَقَعُوا فِي شَكٍّ بِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ بِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَقَبْلَ فَنَاءِ أَجْسَامِهِمْ بَلْ ذَلِكَ وَعْدٌ قَدِيمٌ وُعِدَ بِهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَقَدْ مَضَتْ أَزْمَانٌ وَشُوهِدَتْ رفاتهم فِي أجدائهم وَمَا بُعِثَ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهِيَ مستأنفة استئنافا بَيَانا لِجَوَابِ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُمْ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ سَائِلٌ: فَكَيْفَ تَمَالَأَ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَدَدُ مِنَ الدُّعَاةِ فِي عُصُورٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ عَدَمَ وُقُوعِهِ، فَيُجِيبُونَ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ تَلَقَّفُوهُ عَنْ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ فَتَنَاقَلُوهُ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِمْ أَإِذا مِتْنا إِلَى آخِرِهِ، أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ مِنَ الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ الثَّانِي إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ بِمَعْنَى: هَذَا مُنْحَصِرٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ حِكَايَاتِ الْأَوَّلِينَ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لَا يَعْدُو كَوْنَهُ مِنَ الْأَسَاطِيرِ إِلَى كَوْنِهِ وَاقِعًا كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعُونَ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الثَّانِي لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ تَشْهِيرًا بِخَطَئِهِ فِي زَعْمِهِمْ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يُكْسَى صِفَةَ الْوَاقِعِ مِثْلُ الْخُرَافَاتِ وَالرِّوَايَاتِ الْوَهْمِيَّةِ لِقَصْدِ التَّلَهِّي بِهَا. وَبِنَاءُ الْأُفْعُولَةِ يَغْلِبُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ التَّلَهِّي مِثْلُ: الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُضْحُوكَةِ وَالْأُرْجُوحَةِ وَالْأُحْدُوثَةِ وَقَدْ مضى قَرِيبا. [84، 85] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 84 إِلَى 85] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 86 إلى 87]

(85) اسْتِئْنَافُ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَادَ بِهِ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 80] . وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ أَجِيبُوا عَنْ هَذَا، وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهَا لِلَّهِ. وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ لَازِمِ جَوَابِهِمْ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَأَجِيبُونِي عَنِ السُّؤَالِ. وَفِي هَذَا الشَّرْطِ تَوْجِيهٌ لِعُقُولِهِمْ أَنْ يَتَأَمَّلُوا فَيَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَأَنَّ مَنْ فِيهَا لِلَّهِ فَإِنَّ كَوْنَ جَمِيعِ ذَلِكَ لِلَّهِ قَدْ يَخْفَى لِأَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا نِسْبَةَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْمُقَارِنَةِ وَالتَّصَرُّفَاتِ إِلَى مُبَاشِرِيهَا فَنُبِّهُوا بِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى التَّأَمُّلِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُجِيبُونَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ جَوَابًا غَيْرَ بَطِيءٍ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] . وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ جَوَابًا لِإِقْرَارِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا لِلَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَار لعدم تذكرهم بِذَلِكَ، أَيْ تَفْطِنُ عُقُولُهُمْ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَخُصَّ بِالتَّذَكُّرِ لِمَا فِي بَعْضِهِ مِنْ خَفَاءِ الدَّلَالَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى النّظر. [86، 87] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 86 إِلَى 87] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مُخْتَلِفًا دُونَ أَنْ تُعْطَفَ جُمْلَةُ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ التَّعْدَادِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعَادَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ دُونَ الِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَالْمَقْصُودُ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مُتَتَابِعَةً دَفْعًا

لَهُمْ بِالْحُجَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدْ فِي السُّؤَالَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 84] اكْتِفَاءً بِالِافْتِتَاحِ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِلَامٍ جَارَّةٍ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِجَوَابِهِمُ الْمُتَوَقَّعِ بِمَعْنَاهُ لَا بِلَفْظِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا بِ (مَنْ) الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَعْيِينِ ذَاتِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كَانَ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ اسْمِ ذَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْعَرْشِ مَمْلُوكَةً لِلَّهِ عُدُولًا إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لُوحِظَ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُلْكَ. وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا أَنْشَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَصَاحِبُ «الْمَطْلَعِ» (¬1) : إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ... وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ؟ قُلْتُ لَخَالِدُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ سَبَقَهُمَا بِذِكْرِ هَذَا الْبَيْتِ وَلَعَلَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ «تَفْسِيرِ الزَّجَّاجِ» وَلَمْ يَعْزُوَاهُ إِلَى قَائِلٍ وَلَعَلَّ قَائِلَهُ حَذَا بِهِ حَذْوَ اسْتِعْمَالِ الْآيَةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَجْدَرَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ صَوْغِ الْآيَةِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ فَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَعَ اللَّهِ أَرْبَابًا فِي السَّمَاوَاتِ إِذْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ عَدَلُوا عَمَّا فِيهِ نَفْيُ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ مَعْبُودَاتِهِمْ وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مِلْكٌ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ أَوْهَامَ شِرْكِهِمْ مِنْ أَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» . فَفِي حِكَايَةِ جَوَابِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ حِكَايَةَ جَوَابِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءَ اتِّقَائِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى. ¬

(¬1) «المطلع» تَفْسِير لِلْقُرْآنِ اسْمه «مطلع الْمعَانِي ومنبع المباني» لحسام الَّذين مُحَمَّد بن عُثْمَان الْعليا بَادِي السَّمرقَنْدِي كَانَ حيّا سنة/ 628/ هـ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 88 إلى 89]

وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ سَيَقُولُونَ اللَّهُ بِدُونِ لَامِ الْجَرِّ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ الْبَصْرَةِ وَبِذَلِكَ كَانَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَلَمْ يُؤْتَ مَعَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِشَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 84] وَنَحْوِهِ كَمَا جَاءَ فِي سَابِقِهِ لِأَنَّ انْفِرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْعَرْشِ لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَزْعُمُوا إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ. وَخُصَّ وَعْظُهُمْ عَقِبَ جَوَابِهِمْ بِالْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ مَالِكُ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا وَعُقِّبَتْ تِلْكَ الْآيَة بحظهم عَلَى التَّذَكُّرِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ لَا عِبَادُ الْأَصْنَامِ. وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِذَلِكَ نَاسَبَ حَثَّهُمْ عَلَى تَقْوَاهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الطَّاعَةَ لَهُ وَحْدَهُ وَأَنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ فَإِنَّ التَّقْوَى تَتَضَمَّنُ طَاعَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ تَتَّقُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ وَهُوَ التَّقْوَى الشَّامِلَةُ لِامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتنَاب المنهيات. [88، 89] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 88 إِلَى 89] قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) قَدْ عَرَفْتَ آنِفًا نُكْتَةَ تَكْرِيرِ الْقَوْلِ. وَالْمَلَكُوتُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ. فَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مُخْتَلَفِ الْأَنْوَاعِ وَالْعَوَالِمِ لِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالْيَدُ: الْقُدْرَةُ. وَمَعْنَى يُجِيرُ يُغِيثُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَذَى. وَمَصْدَرُهُ الْإِجَارَةُ فَيُفِيدُ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، وَإِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ أَفَادَ أَنَّ الْمَجْرُورَ

[سورة المؤمنون (23) : آية 90]

مَغْلُوبٌ عَلَى أَنْ لَا يُنَالَ الْمُجَارُ بِأَذًى فَمَعْنَى لَا يُجارُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ عِقَابِهِ. فَيُفِيدُ مَعْنَى الْعِزَّةِ التَّامَّةِ. وَبُنِيَ فِعْلُ يُجارُ عَلَيْهِ لِلْمَجْهُولِ لِقَصْدِ انْتِفَاءِ الْفِعْلِ عَنْ كُلِّ فَاعِلٍ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ مَعَ الِاخْتِصَارِ. وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ اللَّهِ هَذَا خَفِيًّا يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرِ الْعَقْلِ لِإِدْرَاكِهِ عُقِّبَ الِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَمَا عُقِّبَ الِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ بِمِثْلِهِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى عِلْمِهِ وَالِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ. ثُمَّ عُقِّبَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَدَبَّرُوا عَلِمُوا فَقِيلَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِلَامِ الْجَرِّ دَاخِلَةً عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلِ سَالِفِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِدُونِ لَامٍ وَقَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ. (وَأَنَّى) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (مِنْ أَيْنَ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [37] قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ. وَالسِّحْرُ مُسْتَعَارٌ لِتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ بِجَامِعِ تَخَيُّلِ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ وَاقِعًا. وَالْمَعْنَى: فَمِنْ أَيْنَ اخْتَلَّ شُعُورُكُمْ فَرَاجَ عَلَيْكُمُ الْبَاطِلُ. فَالْمُرَادُ بِالسِّحْرِ تَرْوِيجُ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمُ الْبَاطِلَ حَتَّى جعلوهم كالمسحورين. [90] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 90] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونُوا مَسْحُورِينَ، أَيْ بَلْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا خُيِّلَ إِلَيْهِمْ. فَالَّذِي أَتَيْنَاهُمْ بِهِ الْحَقُّ يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا يُقَالُ: ذَهَبَ بِهِ أَيْ أَذْهَبَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ آنِفًا بَلْ آتَيْنَاهُم بذكرهم [الْمُؤْمِنُونَ: 71] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 89] إِلَى الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْحَقُّ هُنَا: الصِّدْقُ فَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْكَذِبِ فِيمَا رموا بِهِ القرءان مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 83] وَفِي مُقَابَلَةِ الْحق ب لَكاذِبُونَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 إلى 92]

وَتَأْكِيدُ نِسْبَتِهِمْ إِلَى الْكَذِبِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وَقَدْ سُلِكَتْ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ طَرِيقَةُ التَّرَقِّي فَابْتُدِئَ بِالسُّؤَالِ عَنْ مَالِكِ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْعَوَالِمِ لِإِدْرَاكِ الْمُخَاطَبِينَ، ثُمَّ ارْتُقِيَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِرُبُوبِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْعَرْشِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَهُوَ تَصَرُّفُهُ الْمُطْلَقُ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ فِيهِ أَدَاةُ الْعُمُومِ وَهِي (كل) . [91، 92] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 91 إِلَى 92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) أُتْبِعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَقُدِّمَتِ النَّتِيجَةُ عَلَى الْقِيَاسِ لِتُجْعَلَ هِيَ الْمَطْلُوبَ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ وَالْمَطْلُوبَ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ، فَهِيَ بِاعْتِبَارِ حُصُولِهَا عَقِبَ الْقِيَاسِ تُسَمَّى نَتِيجَةً، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا دَعْوَى مُقَامٌ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ وَهُوَ الْقِيَاسُ تُسَمَّى مَطْلُوبًا كَمَا فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ. وَلِتَقْدِيمِهَا نُكْتَةٌ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ وَاضِحُ النُّهُوضِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ إِلَّا لِزِيَادَةِ الِاطْمِئْنَانِ فَقَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَقَوْلُهُ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ هُوَ الدَّلِيلُ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الْمَطْلُوبِ عَلَى الدَّلِيلِ أَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ الدَّلِيلِ. وَذُكِرَ نَفْيُ الْوَلَدِ اسْتِقْصَاءً لِلرَّدِّ عَلَى مُخْتَلَفِ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ ارْتَقَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَقَالُوا: هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ لَا عَبَدَةُ الْمَلَائِكَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ شُبْهَةَ عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ عَبَدَةِ

الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مُشَاهَدِينَ فَلَيْسَتْ دَلَائِلُ الْحُدُوثِ بَادِيَةً عَلَيْهِمْ كَالْأَصْنَامِ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ أَقْرَبُ لِلتَّمْوِيهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا الْحِجَارَة شُرَكَاء الله، وَقد أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: 86] الْآيَةَ. وَ (إِذَنْ) حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا مَلْفُوظٍ أَوْ مُقَدَّرٍ. وَالْكَلَامُ الْمُجَابُ هُنَا هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ فَالْجَوَابُ ضِدُّ ذَلِكَ النَّفْيِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الضِّدُّ أَمْرًا مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ شَرْطٌ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالْحَرْفُ الْمُعَدُّ لِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ (لَوْ) الِامْتِنَاعِيَّةُ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ. وَبَقَاءُ اللَّامِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِذَنْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطُ (لَوْ) لِأَنَّ اللَّامَ تَلْزَمُ جَوَابَ (لَوْ) وَلِأَنَّ غَالِبَ مَوَاقِعِ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ جَوَابَ (لَوْ) فَلِذَلِكَ جَازَ حَذْفُ الشَّرْطِ هُنَا لِظُهُورِ تَقْدِيرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [140] . فَقَوْلُهُ: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَّخِذَ اللَّهُ وَلَدًا لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا بَعْدَهُ مُغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ أَعَمُّ مِنْهُ وَانْتِفَاءُ الْأَعَمِّ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْأَخَصِّ فَإِنَّهُ لَو كَانَ الله وَلَدٌ لَكَانَ الْأَوْلَادُ آلِهَةً لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ مَوْجُودٍ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ عَلَى مِثْلِ مَاهِيَّةِ أَصْلِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] أَيْ لَهُ. وَالذِّهَابُ فِي قَوْلِهِ لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِقْلَالِ بِالْمَذْهُوبِ بِهِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ. وَبَيَانُ انْتِظَامِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الله ءالهة لَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْآلِهَةُ سَوَاءً فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ كَمَالَاتٌ

تَامَّةٌ فَكَانَ كُلُّ إِلَهٍ خَالِقًا لِمَخْلُوقَاتٍ لِثُبُوتِ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، فَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَوَارَدَ الْآلِهَةُ عَلَى مَخْلُوقٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ: إِمَّا لِعَجْزٍ عَنِ الِانْفِرَادِ بِخَلْقِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ، وَإِمَّا تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ إِلَهٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَلْنَفْرِضَ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَاتُ كُلِّ إِلَهٍ مُسَاوِيَةً لِمَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَعْلَمُهَا الْإِلَهُ الْخَالِقُ لَهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا تَكُونَ لِلْإِلَهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ طَائِفَةً مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ رُبُوبِيَّةً عَلَى مَا لَمْ يَخْلُقْهُ وَهَذَا يُفْضِي إِلَى نَقْصٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْآلِهَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْكَمَالَ لَا النَّقْصَ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ سَتَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهَا مُعَرَّضَةً لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ مَا يَحُفُّ بِهَا عَنْ عَوَارِضِ الْوُجُودِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الْمَخْلُوقَاتُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدِ. وَلَا مَنَاصَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَالِقَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْدَعَ فِيهَا خَصَائِصَ مُلَازِمَةً لَهَا كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَتِلْكَ الْمَخْلُوقَاتُ مَظَاهِرٌ لِخَصَائِصِهَا لَا مَحَالَةَ فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَفَوُّقَ مَخْلُوقَاتِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى مَخْلُوقَاتِ بَعْضٍ آخَرَ بِعَوَارِضَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُقَارَنَاتِ لَازِمَةً لِذَلِكَ، لَا جَرَمَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمَيْنِ بَاطِلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ مُخْتَصًّا بِمَخْلُوقَاتِهِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَلَا يَتَصَرَّفُ هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ إِلَهٍ مِنَ الْآلِهَةِ عَاجِزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ. وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْعَجْزَ نَقْصٌ وَالنَّقْص يُنَافِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا دَلِيلٌ بُرْهَانِيٌّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهُ أَدَّى إِلَى اسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ. وَثَانِي: اللَّازِمَيْنِ أَنْ تَصِيرَ مَخْلُوقَاتُ بَعْضِ الْآلِهَةِ أَوْفَرَ أَوْ أَقْوَى مِنْ مَخْلُوقَاتِ إِلَهٍ آخَرَ بِعَوَارِضَ تَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْأَعْمَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَآثَارِ الْأَقْطَارِ وَالْحَوَادِثِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اعْتِزَازِ الْإِلَهِ الَّذِي تَفَوَّقَتْ مَخْلُوقَاتُهُ عَلَى الْإِلَهِ

الَّذِي تَنْحَطُّ مَخْلُوقَاتُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَصِيرَ بَعْضُ تِلْكَ الْآلِهَةِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ. وَهَذَا الثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ فِي أَنْظَارِ الْمُفَكِّرِينَ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ اتِّفَاقُ الْآلِهَةِ عَلَى أَنْ لَا يَخْلُقُوا مَخْلُوقَاتٍ قَابِلَةٍ لِلتَّفَاوُتِ بِأَنْ لَا يَخْلُقُوا إِلَّا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا مَثَلًا إِلَّا أَنَّ هَذَا يُنَافِي الْوَاقِعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَيَجُوزُ اتِّفَاقُ الْآلِهَةِ أَيْضًا عَلَى أَنْ لَا يَعْتَزَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِسَبَبِ تَفَاوُتِ مَلَكُوتِ كُلٍّ عَلَى مَلَكُوتِ الْآخَرِ بِنَاءً عَلَى مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ الَّتِي تَعْصِمُهُمْ عَنْ صُدُورِ مَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَالِ الْمَجْدِ الْإِلَهِيِّ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْلُو مِنَ الْمُصَانَعَةِ وَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِضَعْفِ الْمَقْدِرَةِ. فَبِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بُرْهَانِيًّا، وَهُوَ مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] إِلَّا أَنَّ هَذَا بُنِيَ عَلَى بَعْضِ لُزُومِ النَّقْصِ فِي ذَاتِ الْآلِهَةِ وَهُوَ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ، وَالْآخَرُ بُنِيَ عَلَى لُزُومِ اخْتِلَالِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَهُوَ مَا تُبْطِلُهُ الْمُشَاهَدَةُ. أَمَّا الدَّلِيلُ الْبُرْهَانِيُّ الْخَالِصُ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ بِالذَّاتِ فَلَهُ مُقَدِّمَاتٌ أُخْرَى قَدْ وَفَّى أَيِمَّةُ عِلْمِ الْكَلَامِ بَسْطَهَا بِمَا لَا رَوَاجَ بَعْدَهُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى طَرِيقَةٍ مِنْهَا الْمُحَقِّقُ عُمَرُ الْقَزْوِينِيُّ (¬1) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ «حَاشِيَتِهِ» عَلَى «الْكَشَّافِ» وَلَكِنَّهُ انْفَرد بادعاء أَنه مَأْخُوذٍ مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى. وَقَدْ سَاقَهُ الشِّهَابُ الْآلُوسِيُّ فَإِنْ شِئْتَ فَتَأَمَّلْهُ. وَلَمَّا اقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلُ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ عُقِّبَ الدَّلِيلُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ ¬

(¬1) هُوَ عمر بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي الْفَارِسِي المتوفي/ 745/ هـ. لَهُ حَاشِيَة على «الْكَشَّاف» تدعى بَين أهل الْعلم باسم «الْكَشْف» . وَلم يسمهَا مؤلفها بِهَذَا الِاسْم. أَخذ عَن شرف الدَّين الطَّيِّبِيّ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 إلى 95]

الدَّلِيلِ. وَمَا يَصِفُونَهُ بِهِ هُوَ مَا اخْتَصُّوا بِوَصْفِهِمُ اللَّهَ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَمِنْ تَعَذُّرِ الْبَعْثِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي جَرَى فِيهِ غَرَضُ الْكَلَامِ. وَإِنَّمَا أَتْبَعَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْمُرَادِ بِهِ عُمُومَ الْعِلْمِ وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَفَادَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ عَالِمُ كُلِّ مَغِيبٍ وَكُلِّ ظَاهِرٍ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ قَدْ لَا يُفْضِي إِلَى عُلُوِّ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنَ الْآلِهَةِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَلَكُوتِهِ عَلَى مَلَكُوتِ الْآخَرِ فَلَا يَحْصُلُ عُلُوُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِاشْتِغَالِ كُلِّ إِلَهٍ بِمَلَكُوتِهِ. وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّ الْإِلَهَ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَالِقٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا غَيْرُهُ لِئَلَّا تَتَدَاخَلَ الْقُدَرُ فِي مَقْدُورَاتٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا خَلَقَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ صِفَاتِ الْعِلْمِ لَا تَتَدَاخَلُ، فَإِذَا عَلِمَ أَحَدُ الْآلِهَةِ مِقْدَارَ مَلَكُوتِ شُرَكَائِهِ فَالْعَالِمُ بِأَشَدِّيَّةِ مَلَكُوتِهِ يَعْلُو عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّرَكَاءِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَنْهُ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ عالِمِ الْغَيْبِ بِرَفْعِ عالِمِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مِنَ الْحَذْفِ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ أَوْ صِفَاتٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ بِجَرِّ عالِمِ عَلَى الْوَصْفِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى فَتَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، أَيْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُشَارِكًا فِي وَصْفِهِ الْعَظِيمِ، أَيْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَن ذَلِك. [93- 95] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 93 إِلَى 95] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ

(95) آذَنَتِ الْأَيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَقْصَى ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَانْتِفَاءِ عُذْرِهِمْ فِيمَا دَانُوا بِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَبِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَعَ الْأُمَمِ الَّتِي عَجَّلَ اللَّهُ لَهَا الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَادَّخَرَ لَهَا عَذَابًا آخَرَ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِك نذراة لَهُمْ بِمِثْلِهِ وَتَهْدِيدًا بِمَا سَيَقُولُونَهُ وَكَانَ مَثَارًا لخشية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلَّ الْعَذَابُ بِقَوْمِهِ فِي حَيَاتِهِ وَالْخَوْف من هؤله فلقن الله نبيئه أَنْ يَسْأَلَ النَّجَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا التَّلْقِينِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُنَجِّيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِحِكْمَتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الله يري نبيئه حُلُولَ الْعَذَابِ بِمُكَذِّبِيهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَلْقِينِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: 286] الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيمَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. فَالْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَعِيدٌ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَذُكِرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ لَفْظُ (رَبِّ) مُكَرَّرًا تَمْهِيدًا لِلْإِجَابَةِ لِأَنَّ وَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الرَّأْفَةَ بِالْمَرْبُوبِ. وَأُدْخِلَ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ (مَا) الزَّائِدَةُ لِلتَّوْكِيدِ فَاقْتَرَنَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ رَبْطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ. وَنَظِيرُهُ فِي تَكْرِيرِ الْمُؤَكَّدَاتِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ قَوْلُ الْأَعْشَى: إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا ... إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ أَيْ فَاعْلَمِي حَقًّا أَنَّا نَحْفَى تَارَةً وَنَنْتَعِلُ أُخْرَى لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ إِخْفَاءِ الخطى لَا للأجل وِجْدَانِ نَعْلٍ مَرَّةً وَفُقْدَانِهَا أُخْرَى كَحَالِ أَهْلِ الْخَصَاصَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [200] . وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ مَا يُوعَدُونَ حَاصِلًا فِي حَيَاتِي فَأَنَا أَدْعُوكُمْ أَنْ لَا تَجْعَلُونِي فِيهِمْ حِينَئِذٍ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 96]

وَاسْتِعْمَالُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْأَلَ الْكَوْنَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا حَقِيقِيَّةٌ، أَيْ بَيْنَهُمْ. وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِيجَادِ الرَّجَاءِ بِحُصُولِ وَعِيدِ الْمُكَذِّبِينَ فِي حَيَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعْلَامِ الرَّسُولِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ نُرِيَكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ فِي مَنْجَاةٍ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا يُوعَدُونَ بِهِ وَأَنَّهُ سَيَرَاهُ مَرْأَى عَيْنٍ دُونَ كَوْنٍ فِيهِ. وَقَدْ يَبْدُو أَنَّ هَذَا وَعْدٌ غَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ سَمَاوِيًّا فَإِذَا نَجَّى اللَّهُ مِنْهُ بَعْضَ رُسُلِهِ مِثْلَ لُوطٍ فَإِنَّهُ يُبْعِدُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْعَذَابِ وَلَكِنْ كَانَ عَذَابُ هَؤُلَاءِ غَيْرَ سَمَاوِيٍّ فَتَحَقَّقَ فِي مَصْرَعِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَرْأَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا وَقَالَ لَهُمْ «لَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» . وَبِهَذَا الْقَصْد يظْهر موقع حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ (إِنَّ) وَاللَّامِ مِنْ إِصَابَةِ محزّ الإعجاز. [96] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 96] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) لَمَّا أَنْبَأَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا يُلْمِحُ لَهُ بِأَنَّهُ مُنْجِزٌ وَعِيدَهُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَعَلِمَ الرَّسُولُ وَالْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْفَعَ مُكَذِّبِيهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَأَنْ لَا يَضِيقَ بتكذيبهم صَدره فَذَلِك دَفَعَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَمَا هُوَ أَدَبُ الْإِسْلَامِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [34] عِنْدَ قَوْلِهِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَوْلِهِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ اللَّهِ يُعَامِلُ أَصْحَابَ الْإِسَاءَةِ لِرَسُولِهِ بِمَا هُمْ أَحِقَّاءُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ لِأَنَّ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ يَجْرِي عَمَلُهُ عَلَى مُنَاسِبِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِالْعَدْلِ وَفِي هَذَا تَطْمِينٌ لنَفس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 إلى 98]

وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَصِفُونَ وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا يَصِفُونَكَ، أَيْ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُكَ. وَذَلِكَ تَعَهُّدٌ بِأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يعلم مِنْهُم قرب أَحَدٌ يَبْدُو مِنْهُ السُّوءُ يَنْطَوِي ضَمِيرُهُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْدُبُ عَلَى النَّبِيءِ فِي نَفْسِهِ، وَرُبَّ أَحَدٌ هُوَ بِعَكْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: 204] . وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُرَادٌ بِهَا الْحَسَنَةُ الْكَامِلَةُ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يُوسُف: 33] . وَالتَّخَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يَتَوَلَّى الِانْتِصَارَ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ إِنْ قَابَلَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَانَ انْتِصَارُ اللَّهِ أَشَفَى لِصَدْرِهِ وَأَرْسَخَ فِي نَصْرِهِ، وَمَاذَا تَبْلُغُ قُدْرَةُ الْمَخْلُوقِ تِجَاهَ قُدْرَةِ الْخَالِقِ، وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ الْأَحْزَابَ بِلَا جُيُوشٍ وَلَا فَيَالِقَ. وَهَكَذَا كَانَ خلق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ يَدْعُو رَبَّهُ. وَذُكِرَ فِي «الْمَدَارِكِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَانِمٍ: أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ زُرْعَةَ كَانَ لَهُ جَاهٌ وَرِئَاسَةٌ وَكَانَ ابْنُ غَانِمٍ حَكَمَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ حَقٍّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، فَلَقِيَ ابْنَ غَانِمٍ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ فَشَتَمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ابْنُ غَانِمٍ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَهُ بِالطَّرِيقِ فَسَلَّمَ ابْنُ زُرْعَةَ عَلَى ابْنِ غَانِمٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ غَانِمٍ وَرَحَّبَ بِهِ وَمَضَى مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا فَلَمَّا أَرَادَ مُفَارَقَتَهُ قَالَ لِابْنِ غَانِمٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ مِنْ خِطَابِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ غَانِمٍ: أَمَّا هَذَا فَلَسْتُ أَفْعَلُهُ حَتَّى أُوقِفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا أَنْ يَنَالَكَ مِنِّي فِي الدُّنْيَا مَكْرُوهٌ أَوْ عُقُوبَة فَلَا. [97، 98] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 97 إِلَى 98] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ

(98) الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُوَالِيًا لِلْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 96] فَلَمَّا أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَوِّضَ جَزَاءَهُمْ إِلَى رَبِّهِ أَمَرَهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ حَيْلُولَةِ الشَّيَاطِينِ دُونَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيِ التَّعَوُّذُ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّيْطَانِ دَاعِيَةَ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الشَّياطِينِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ: تَصَرُّفَاتِهِمْ بِتَحْرِيكِ الْقُوَى الَّتِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ (أَيْ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّبْلِيغِ) مِثْلَ تَحْرِيكِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ كَمَا تَأَوَّلَ الْغَزَالِيُّ فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ «وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» . وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مُقْتَضِيًا تَكَفُّلَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِجَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [الْبَقَرَة: 286] ، أَوْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مُرَادًا بِهِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْهُمْ. قَالَ فِي «الشِّفَاءِ» : الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ (أَيْ مُجَمَّعَةٌ) عَلَى عصمَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَا فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا عَلَى خَاطِرِهِ بِالْوَسَاوِسِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 93] بِأَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ بِطَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نبيء عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: 112] وَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاس: 1- 6] فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَوْ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مِنْهُمْ. وَالْهَمْزُ حَقِيقَتُهُ: الضَّغْطُ بِالْيَدِ وَالطَّعْنُ بِالْإِصْبَعِ وَنَحْوُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَم: 11] وَقَوْلُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهمزَة: 1] .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 إلى 100]

وَمَحْمَلُهُ هُنَا عِنْدِي عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَهَمْزُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا هَمْزُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ فَقَدْ كَانَ مِنْ أَذَى الْمُشْركين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْزِهِ وَالتَّغَامُزِ عَلَيْهِ وَالْكَيْدِ لَهُ. وَمَعْنَى التَّعَوُّذِ مِنْ هَمْزِهِمْ: التَّعَوُّذُ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ. فَإِنَّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَغْمِزُوا بَعْضَ سُفَهَائِهِمْ إِغْرَاءً لَهُمْ بِأَذَاهُ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِغْرَائِهِمْ مَنْ أَتَى بِسَلَا جَزُورٍ فَأَلْقَاهُ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الشَّيَاطِينِ هُوَ الْأَلْيَقُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] كَمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ فَهُوَ تَعَوُّذٌ مِنْ قُرْبِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا اقْتَرَبُوا مِنْهُ لحقه أذاهم. [99، 100] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 99 إِلَى 100] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَدْ عَلِمْتَ مُفَادَهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَا تُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهَا مُغَيًّا بِهَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيقِ (حَتَّى) ب يَصِفُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] . وَالْوَجْهُ أَنَّ (حَتَّى) مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 95] . فَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى وَصْفِ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَصْفًا أُنُفًا لِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَهُوَ الَّذِي رَجَّحْنَا بِهِ أَنْ يَكُونَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْعَذَابِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ حَمَلْتَ الْعَذَابَ السَّابِقَ الذِّكْرِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَالًا وَكَانَ قَوْلُهُ

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ إِلَى آخِرِهِ تَفْصِيلًا لَهُ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 82] إِلَى مَا هُنَا وَلَيْسَتْ عَايِدَةً إِلَى الشَّيَاطِينِ. وَلِقَصْدِ إِدْمَاجِ التَّهْدِيدِ بِمَا سَيُشَاهِدُونَ مِنْ عَذَابٍ أُعِدَّ لَهُمْ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي ارْجِعُونِ تَعْظِيمٌ لِلْمُخَاطَبِ. وَالْخِطَابُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَهُوَ يَلْزَمُ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ فَيُقَالُ فِي خِطَابِ الْمَرْأَةِ إِذَا قُصِدَ تَعْظِيمُهَا: أَنْتُمْ. وَلَا يُقَالُ: أَنْتُنَّ. قَالَ الْعَرَجِيُّ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدَا فَقَالَ: سِوَاكُمْ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ الْحَارِثِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ ... لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ فَقَالَ: بَعْدَكُمْ، وَقَدْ حَصَلَ لِي هَذَا بِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِمْ وَلَمْ أَرَ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ التَّرَجِّي فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِمَضْمُونِ ارْجِعُونِ. وَالتَّرْكُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ مَعْنَى التَّخْلِيَةِ وَالْمُفَارَقَةِ. وَمَا صدق فِيما تَرَكْتُ عَالَمُ الدُّنْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّرْكِ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ وَالرَّفْضُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا صَدَقَ الْمَوْصُولُ الْأَيْمَانَ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقَ رَسُولِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي رَفَضَهُ كُلُّ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، فَالْمَعْنَى: لَعَلِّي أُسْلِمُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا فِي حَالَةِ إِسْلَامِي الَّذِي كُنْتُ رَفَضْتُهُ، فَاشْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وَعْدٍ بِالِامْتِثَالِ وَاعْتِرَافٍ بِالْخَطَأِ فِيمَا سَلَفَ. وَرُكِّبَ بِهَذَا النَّظْمِ الْمُوجَزِ قَضَاءً لِحَقِّ الْبَلَاغَةِ. وكَلَّا رَدْعٌ لِلسَّامِعِ لِيَعْلَمَ إِبْطَالَ طِلْبَةِ الْكَافِرِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تَرْكِيبٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ وَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ: أَنَّ قَوْلَ الْمُشْرِكِ رَبِّ ارْجِعُونِ إِلَخْ لَا يَتَجَاوَزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَدَرَ مِنْ لِسَانِهِ لَا جَدْوَى لَهُ فِيهِ، أَيْ لَا يُسْتَجَابُ طَلَبُهُ بِهِ.

فَجُمْلَةُ هُوَ قائِلُها وَصْفٌ لِ كَلِمَةٌ، أَيْ هِيَ كَلِمَةٌ هَذَا وَصْفُهَا. وَإِذْ كَانَ مِنَ الْمُحَقَّقِ أَنَّهُ قَائِلُهَا لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِ كَلِمَةٌ بِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ لِكَلِمَتِهِ غَيْرُ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ فِي صَاحِبِهَا. وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ لَهُ الْوَصْفُ. وَالْكَلِمَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ» وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [74] . وَالْوَرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَرْءَ لَا مَحَالَةَ وَيَنَالُهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّهُ يُصِيبُهُ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِالسَّائِرِ فَهُوَ لَاحِقُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 20] وَقَوْلِهِ ومِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: 10] وَقَوْلِهِ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إِبْرَاهِيم: 17] . وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] . وَقَالَ لَبِيدٌ: أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ وَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ بَيْنَ مَكَانَيْنِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَبْرُ، وَقِيلَ: هُوَ بَقَاءُ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ عَالَمٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَسْتَقِرُّ فِيهِ الْأَرْوَاحُ فَتُكَاشَفُ عَلَى مَقَرِّهَا الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الصُّوفِيَّةُ. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي «التَّعْرِيفَاتِ» : الْبَرْزَخُ الْعَالَمُ الْمَشْهُودُ بَيْنَ عَالَمِ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ وَعَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمَادِّيَّةِ، أَعْنِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَالم الْمِثَال اهـ، أَيْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ. وَمَعْنَى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَنَّهُمْ غَيْرُ رَاجِعِينَ إِلَى الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهِيَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي وُعِدُوهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 إلى 104]

إِلَى الدُّنْيَا فَالَّذِي قَالَ لَهُمْ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَهُمْ بِمَا هُوَ الْبَعْث. [101- 104] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 101 إِلَى 104] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 100] فَإِنَّ زَمَنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ يَبْعَثُونَ، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ تَصْوِيرٌ لِحَالَةِ يَوْمِ الْبَعْثِ. وَالصُّورُ: الْبُوقُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ لِلتَّجَمُّعِ وَالنَّفِيرِ، وَهُوَ مِمَّا يُنَادَى بِهِ لِلْحَرْبِ وَيُنَادَى بِهِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الْيَهُودِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصُّورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] . وَأُسْنِدَ نُفِخَ إِلَى الْمَجْهُول لِأَنَّ الْمُعْتَنَى بِهِ هُوَ حُدُوثُ النَّفْخِ لَا تَعْيِينُ النَّافِخِ. وَإِنَّمَا يُنْفَخُ فِيهِ بِأَمْرِ تَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَنْفُخُ فِيهِ أَحَدُ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ الْمَلَكُ إِسْرَافِيلُ. وَالْمَقْصُودُ التَّفْرِيعُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ مَنَاطُ بَيَانِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِ قَائِلِهِمْ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] الْمَرْدُودِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] فَقُدِّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ كَالتَّمْهِيدِ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ إِلَى آخِرِهِ مُبَادَرَةً بِتَأْيِيسِهِمْ مِنْ أَنْ تَنْفَعَهُمْ أَنْسَابُهُمْ أَوِ اسْتِنْجَادُهُمْ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ (إِذَا) هُوَ قَوْلُهُ الْآتِي قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 112] كَمَا سَيَأْتِي وَمَا بَيْنَهُمَا كُلُّهُ اعْتِرَاضٌ نَشَأَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ قَبْلَهُ وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَمَعْنَى نَفْيِ الْأَنْسَابِ نَفْيُ آثَارِهَا مِنَ النَّجْدَةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ لِأَنَّ تِلْكَ فِي عُرْفِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْقَرَابَةِ. فَقَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ النَّصِيرِ. وَالتَّسَاؤُلُ: سُؤَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ التَّسَاؤُلُ الْمُنَاسِبُ لِحُلُولِ يَوْمِ الْهَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْمَعُونَةَ وَالنَّجْدَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] . وَأَمَّا إِثْبَاتُ التَّسَاؤُلِ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: 27- 33] فَذَلِك بَعُدَ يَأْسُهُمْ مِنْ وُجُودِ نَصِيرٍ أَوْ شَفِيعٍ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ رَجُلًا (هُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْخَارِجِيُّ) قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَقَالَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ اهـ. يُرِيدُ اخْتِلَافَ الزَّمَانِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ. وَذُكِرَ مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَجِدُونَ فِي مَوَازِينِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفرْقَان: 23] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 إلى 107]

وَالْخَسَارَةُ: نُقْصَانُ مَالِ التِّجَارَةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] ، وَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ [9] . وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ خَيْبَتِهِمْ فِيمَا كَانُوا يَأْمَلُونَهُ مِنْ شَفَاعَةِ أَصْنَامِهِمْ وَأَنَّ لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مِنْ أَنَّهُمْ غَيْرُ صَائِرِينَ إِلَى الْبَعْثِ، فَكَذَّبُوا بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ فَوَجَدُوا ضِدَّهُ فَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ مَخْسُورَةً كَأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ نُصِبَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِ خَسِرُوا. وَاسْمَا الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ الْفَرِيقَيْنِ بِصِفَاتِهِمْ. وَجُمْلَةُ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ. وَمَعْنَى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تَحْرِقُ. وَاللَّفْحُ: شِدَّةُ إِصَابَةِ النَّارِ. وَالْكَالِحُ: الَّذِي بِهِ الْكُلُوحُ وَهُوَ تَقَلُّصُ الشَّفَتَيْنِ وَظُهُورُ الْأَسْنَانِ مِنْ أَثَرِ تَقَطُّبِ أَعْصَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ شدَّة الْأَلَم. [105- 107] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 105 إِلَى 107] أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) جُمْلَةُ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَهَذَا تَعَرُّضٌ لِبَعْضِ مَا يَجْرِي يَوْمَئِذٍ. وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تُتْلى عَلَيْكُمْ وَقَوْلِهِ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [102] ، وَقَوْلِهِ: إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [2] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ. وَالْغَلْبُ حَقِيقَتُهُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالْقَهْرُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالشِّقْوَةِ دُونَ التَّلَبُّسِ بِالسَّعَادَةِ. وَمَفْعُولُ غَلَبَتْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ شِقْوَتُنا لِأَنَّ الشِّقْوَةَ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 108 إلى 111]

تُقَابِلُهَا السَّعَادَةُ، أَيْ غَلَبَتْ شِقْوَتُنَا السَّعَادَةَ. وَالْمَجْرُورُ بِ (عَلَى) بَعْدَ مَادَّةِ الْغَلْبِ هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَغَالَبُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «قَالَ النِّسَاءُ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ» . مُثِّلَتْ حَالَةُ اخْتِيَارِهِمْ لِأَسْبَابِ الشِّقْوَةِ بَدَلَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ بِحَالَةٍ غَائِرَةٍ بَيْنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عَلَى نُفُوسِهِمْ. وَإِضَافَةُ الشِّقْوَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِمْ حِينَ صَارَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِمْ. وَالشِّقْوَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَهِيَ زِنَةُ الْهَيْئَةِ مِنَ الشَّقَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ شَقَاوَتُنَا بِفَتْحِ الشِّينِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى صِيغَةِ الْفَعَالَةِ مِثْلَ الْجَزَالَةِ وَالسَّذَاجَةِ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ قَوْماً عَلَى أَنَّ الضَّلَالَةَ مِنْ شِيمَتِهِمْ وَبِهَا قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَعِنْدَ قَوْلِهِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُونُسَ [101] . وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ رَجَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَالْتَزَمُوا لِلَّهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ عُدْنا لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ كَانَ إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ لِأَجْلِ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ. وَالظُّلْمُ فِي فَإِنَّا ظالِمُونَ هُوَ تَجَاوُزُ الْعَدْلِ، وَالْمُرَادُ ظُلْمٌ آخَرُ بَعْدَ ظُلْمِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ سُؤال الْعَفو. [108- 111] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 108 إِلَى 111] قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ

(111) (اخْسَئُوا) زَجْرٌ وَشَتْمٌ بِأَنَّهُمْ خَاسِئُونَ، وَمَعْنَاهُ عَدَمُ اسْتِجَابَةِ طَلَبِهِمْ. وَفِعْلُ خَسَأَ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَمَعْنَاهُ ذَلَّ. وَنُهُوا عَنْ خِطَابِ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ تَأَيِيسُهُمْ مِنَ النَّجَاةِ مِمَّا هُمْ فِيهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ إِغَاظَتُهُمْ بِمُقَابَلَةِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْعَذَابِ بِحَالِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَحْسِيرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُعَامِلُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْإِخْبَارُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي إِلَى قَوْلِهِ: سِخْرِيًّا مُسْتَعْمَلٌ فِي كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ عَالِمًا بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْلَمُ أَحْوَالَ نَفْسِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلتَّعْجِيلِ بِإِرْهَابِهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ خَبَرُ (إِنَّ) الْأُولَى لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [30] . وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَخَلَفٍ، وَبِكَسْرِ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَهُمَا وَجْهَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَكْسُورَ مَأْخُوذًا مِنْ سَخِرَ بِمَعْنَى هَزَأَ، وَالْمَضْمُومُ مَأْخُوذًا مِنَ السُّخْرَةِ بِضَمِّ السِّينِ وَهِيَ الِاسْتِخْدَامُ بِلَا أَجْرِ. فَلَمَّا قُصِدَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي حُصُولِ الْمَصْدَرِ أُدْخِلَتْ يَاءُ النِّسْبَةِ كَمَا يُقَالُ: الْخُصُوصِيَّةُ لِمَصْدَرِ الْخُصُوصِ. وَسُلِّطَ الِاتِّخَاذُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمَعْنَى: اتَّخَذْتُمُوهُمْ مَسْخُورًا بِهِمْ، فَنَصَبَ سِخْرِيًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَان ل فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَعْنَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ مَعْنَى فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. شُبِّهَ التَّسَبُّبُ الْقَوِيُّ بِالْغَايَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ فِيهِ (حَتَّى) . وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَهَوْتُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُمْ سَخِرُوا مِنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَقَدْ سَخِرُوا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ اتِّبَاعُهُمْ إِيَّاهُ سَبَبَ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ فَكَيْفَ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 إلى 114]

يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ التَّذَكُّرُ بِذَلِكَ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي السُّخْرِيَةِ بِأَهْلِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ (سَخِرَ) عِنْدَ قَوْلِهِ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [10] وَقَوْلِهِ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [79] . فَإِسْنَادُ الْإِنْسَاءِ إِلَى الْفَرِيقِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ بِتَقْدِيرِ: حَتَّى أَنْسَاكُمُ السُّخْرِيُّ بِهِمْ ذِكْرِي. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَوِيَّةٌ وَعَلَى الثَّانِي لَفْظِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَالتَّأْكِيدِ، أَيْ جَزَيْتُهُمْ بِأَنَّهُمْ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ فَقَطْ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلْجَزَاءِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هُمُ الْفَائِزُونَ لَا أَنْتُمْ. وَقَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالصَّبْرِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سُخْرِيَّتَهُمْ بِهِمْ كَانَتْ سَبَبًا فِي صَبْرِهِمُ الَّذِي أَكْسَبَهُمُ الْجَزَاءَ. وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ تَلْهِيفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ كَانُوا هُمُ السَّبَبُ فِي ضُرِّ أَنْفُسِهِمْ وَنَفْعِ مَنْ كَانُوا يعدّونهم أعداءهم. [112- 114] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 112 إِلَى 114] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقَعُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَوَابَ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ [الْمُؤْمِنُونَ: 101] . وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ نَشَأَتْ بِالتَّفْرِيعِ وَالْعَطْفِ وَالْحَالِ وَالْمُقَاوَلَاتِ الْعَارِضَةِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَهُ

مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيِ. وَلَيْسَ مِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ حَاصِلًا بَعْدَ دُخُولِ الْكَافِرِينَ النَّارَ، وَالْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلَّفُوا مَا لَا يُنَاسِبُ انْتِظَامَ الْمَعَانِي. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَالْخِطَابُ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِإِحْيَاءِ الْأَمْوَات. وَجُمْلَة: فَسْئَلِ الْعادِّينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَرَدُّدِهِمْ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَأَرَى فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ جَاءُوا فِي كَلَامِهِمْ بِمَا كَانَ مُعْتَادُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَدَمِ ضَبْطِ حِسَابِ السِّنِينَ إِذْ كَانَ عِلْمُ مُوَافَقَةِ السِّنِينَ الْقَمَرِيَّةِ لِلسِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ تَقُومُ بِهِ بَنُو كِنَانَةَ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ النَّسِيءُ وَيُلَقَّبُونَ بِالنَّسَأَةِ، قَالَ الْكِنَانِيُّ: وَنَحْنُ النَّاسِئُونَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا وَالْمُفَسِّرُونَ جَعَلُوا الْمُرَادَ مِنَ الْعَادِّينَ الْمَلَائِكَةَ أَوِ النَّاسَ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ حِسَابَ مُدَّةِ الْمُكْثِ. وَلَكِنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ: أَيْ سَلِ الْحُسَّابَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَسِينَاهُ. وَقَوْلُهُ: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قَرَأَهُ الْجُمْهُور كَمَا قرأوا الَّذِي قَبْلَهُ فَهُوَ حِكَايَةٌ لِلْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ فِعْلُ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا وَهِيَ طَرِيقَةُ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَدَدِ سَنَوَاتِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا دُفِنُوا فِي الْأَرْضِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. وَانْتُصِبَ عَدَدَ سِنِينَ عَلَى التَّمْيِيزِ لِ كَمْ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالتَّمْيِيزُ إِنَّمَا هُوَ سِنِينَ. وَإِضَافَةُ لَفْظِ عَدَدَ إِلَيْهِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ (كَمْ) لِأَنَّ (كَمْ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ فَذِكْرُ لَفْظِ عَدَدَ مَعَهَا تَأْكِيدٌ لِبَعْضِ مَدْلُولِهَا.

وَجَوَابُهُمْ يَقْتَضِي أَنهم تحققوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا طُولَ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ بِنَحْوِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [55] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ. وَلَمْ يَعُرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَبْيِينِ الْمَقْصِدِ مِنْ سُؤَالِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ عَنْهُ وَتَعْقِيبِهِ بِمَا يُقَرِّرُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّ إِيقَافَهُمْ عَلَى ضَلَالِ اعْتِقَادِهِمُ الْمَاضِي جِيءَ بِهِ فِي قَالَبِ السُّؤَالِ عَنْ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةً عَنْ ثُبُوتِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ، وَكِنَايَةً عَنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْثِ بِاسْتِحَالَةِ رُجُوعِ الْحَيَاةِ إِلَى عِظَامٍ وَرُفَاتٍ. وَهِيَ حَالَةٌ لَا تَقْتَضِي مُدَّةَ قَرْنٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَقَدْ أُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ بَقَوْا قُرُونًا كَثِيرَةً، فَذَلِكَ أَدَلُّ وَأُظْهَرُ فِي سِعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَدْخَلُ فِي إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا قَدَّرُوهُ مِنْ عِلَّةِ اسْتِحَالَةِ عَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَقَدْ أَلْجَأَهُمُ اللَّهُ إِلَى إِظْهَارِ اعْتِقَادِهِمْ قِصَرَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقَوْهَا زِيَادَةً فِي تَشْوِيه خطإهم فَإِنَّهُمْ لمّا أحسوا من أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءً كَحَيَاتِهِمُ الْأُولَى وَعَادَ لَهُمْ تَفْكِيرُهُمُ الْقَدِيمُ الَّذِي مَاتُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا فَنِيَتْ أَجْسَادُهُمْ لَا تَعُودُ إِلَيْهِمُ الْحَيَاةُ أَوْهَمَهُمْ كَمَالُ أَجْسَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَا مَكَثُوا فِي الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنًا يَسِيرًا لَا يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهِ الْهَيْكَلُ الْجُثْمَانِيُّ فَبَنَوْا عَلَى أَصْلِ شُبْهَتِهِمُ الْخَاطِئَةِ خَطَأً آخَرَ. وَأما قَوْلهم: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَضْبُطُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فَأَحَالُوا السَّائِلَ عَلَى مَنْ يَضْبُطُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَهُمْ لَمْ يَزَالُوا أَحْيَاءً لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ بُعِثُوا وَالدُّنْيَا بَاقِيَةٌ وَحَسِبُوا أَنَّ السُّؤَالَ على ظَاهره فتبرأوا مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ ضَبْطِ الْجَوَابِ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 115]

وَأَمَّا رَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ يُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ لَبِثُوا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بِكَثِيرٍ فَكَيْفَ يُجْعَلُ قَلِيلًا، فَتعين أَن قَوْله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِكَلَامِهِمْ إِلَّا بِتَقْدِيرِ: قَالَ بَلْ لَبِثْتُمْ قُرُونًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ [الْبَقَرَة: 259] . وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ لَبِثْتُمْ قُرُونًا، وَإِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: 47] . وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مَا تُفِيدُهُ (لَوْ) مِنَ الِامْتِنَاعِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا، فَيَقْتَضِي الِامْتِنَاعُ أَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَبِثُوا قَلِيلًا مَعَ أَنَّ صَرِيحَ جَوَابِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلِمُوا لَبْثًا قَلِيلًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ تَعَارُضِ مُقْتَضَى جَوَابِهِمْ وَمُقْتَضَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِاخْتِلَافِ النِّسْبَةِ فِي قِلَّةِ مُدَّةِ الْمُكْثِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى مَا يُرَاعَى فِيهَا، فَهِيَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى شُبْهَتِهِمْ فِي إِحَالَةِ الْبَعْثِ كَانَتْ طَوِيلَةً وَقَدْ وَقَعَ الْبَعْثُ بَعْدَهَا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى مَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنْ مُدَّةِ الْعَذَابِ كَانَتْ مُدَّةً قَلِيلَةً وَهَذَا إرهاب لَهُم. [115] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 115] أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (115) هَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ المحكي فِي قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ [الْمُؤْمِنُونَ: 112] مُفَرَّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. فُرِّعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لِأَجْلِ الْعَبَثِ عَلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ لِأَنَّ لَازِمَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ النَّاسِ مُشْتَمِلًا عَلَى عَبَثٍ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ حَسِبَ ذَلِكَ فَقَرَّرُوا وَوَبَّخُوا أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ اعْتِقَادِهِمْ. وَأُدْخِلَتْ أَدَاةُ الْحَصْرِ بَعْدَ (حَسِبَ) فَجَعَلَتِ الْفِعْلَ غَيْرَ نَاصِبٍ إِلَّا مَفْعُولًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمُسْتَخْلَصُ مِنْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ

وَالتَّقْدِيرُ: أَفَحَسِبْتُمْ خَلْقَنَا أَيَّاكُمْ لِأَجْلِ الْعَبَثِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ نَصَبَتْ مَفْعُولَيْنِ غَالِبًا لِأَنَّ أَصْلَ مَفْعُولَيْهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيِ اسْمُ ذَاتٍ وَاسْمُ صِفَةٍ فَاحْتِيَاجُهَا إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ احْتِيَاجِ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ لِئَلَّا تَنْعَدِمَ الْفَائِدَةُ فِي الْمُبْتَدَأِ مُجَرَّدًا عَنْ خَبَرِهِ، وَبِذَلِكَ فَارَقَتْ بَقِيَّةَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ بِاحْتِيَاجِهَا إِلَى مَنْصُوبَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ فَقَوْلِكَ: ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا، إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: ظَنَنْتُ قِيَامَ زَيْدٍ، فَمَفْعُولُهَا هُوَ الْمَصْدَرُ وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ مُبْتَدَئِهِ كَمَا قَالَ الرَّضِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلُوهَا بِمَفْعُولَيْنِ كَرَاهِيَةً لِجَعْلِ الْمَصْدَرِ مَفْعُولًا بِهِ كَأَنَّهُمْ تَجَنَّبُوا اللَّبْسَ بَيْنَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا كَمَا اسْتَعْمَلُوا أَفْعَالَ الْكَوْنِ مُسْنَدَةً إِلَى اسْمِ الذَّوَاتِ ثُمَّ أَتَوْا بَعْدَ اسْمِ الذَّاتِ بِاسْمِ وَصْفِهَا وَلَمْ يَأْتُوا بِاسْمِ الْوَصْفِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلِذَلِكَ إِذَا أَوْقَعُوا بَعْدَهَا حَرْفَ الْمَصْدَرِ اكْتَفَوْا بِهِ عَنِ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ نَصَبُوا بِهَا مَصْدَرًا صَرِيحًا. فَإِذَا وَقَعَ مَفْعُولُ أَفْعَالِ الظَّنِّ اسْمَ مَعْنًى وَهُوَ الْمَصْدَرُ الصَّرِيحُ أَوِ الْمُنْسَبِكُ وَحَذَفَ الْفَائِدَةَ فَاجْتَزَأَتْ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] . وَحَيْثُ كَانَتْ (أَنَّمَا) مُرَكَّبَةً مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَمِنْ (مَا) الْكَافَّةِ فَوُقُوعُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْحِسَابِ بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِ الْمَصْدَرِ، وَلَوْلَا (أَنَّ) لَكَانَ الْكَلَامُ: أَحَسِبْتُمُونَا خَالِقِينَكُمْ عَبَثًا. وَانْتَصَبَ عَبَثاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضمير الْجَلالَة مؤولا بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْعَبَثُ: الْعَمَلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَكُلَّمَا تَضَاءَلَتِ الْفَائِدَةُ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْعَدَمِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْقُ الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ مُجَازَاةُ الْفَاعِلِينَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَكَانَ خَالِقُهُ قَدْ أَتَى فِي فِعْلِهِ بِشَيْءٍ عَدِيمِ الْفَائِدَةِ فَكَانَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الْعَبَثِ. وَبَيَانُ كَوْنِهِ عَبَثًا أَنَّهُ لَوْ خُلِقَ الْخَلْقُ فَأَحْسَنَ الْمُحْسِنُ وَأَسَاءَ الْمُسِيءُ وَلَمْ يَلْقَ كُلٌّ جَزَاءَهُ لَكَانَ ذَلِكَ إِضَاعَةً لِحَقِّ الْمُحْسِنِ وَإِغْضَاءً عَمَّا حَصَلَ مِنْ فَسَادِ الْمُسِيءِ فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيطًا لِلْعَبَثِ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَالِ أَنْ يَكُونَ عَامِلُهَا غَيْرَ مُفَارِقٍ لِمَدْلُولِهَا بَلْ يَكْفِي حُصُولُ مَعْنَاهَا فِي بَعْضِ أَكْوَانِ عَامِلِهَا.

[سورة المؤمنون (23) : آية 116]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَهُمْ قَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً بِلَا تَنْزِيلٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِنْكَارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُرْجِعُهُمْ قَهْرًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ يَرْجِعُونَ طَوْعًا أَو كرها. [116] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 116] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) تَفَرَّعَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظُهُورُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي لَيْسَ فِي اتِّصَافِهِ بِالْمُلْكِ شَائِبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْمُلْكِ. فَمُلْكُهُ الْمُلْكُ الْكَامِلُ فِي حَقِيقَتِهِ. الشَّامِلُ فِي نَفَاذِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَلِكُ لِلْجِنْسِ. وَالْحَقُّ: مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، أَيْ فِيهِ شَائِبَةُ الْبَاطِلِ لَا مِنْ جِهَة الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مُلْكٌ لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا ظُلْمٌ كَمُلْكِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُلْكٌ غَيْرُ مُسْتَكْمِلٍ حَقِيقَةَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُلْكُ عَدَا اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَالِكٌ مِنْ جِهَةٍ وَمَمْلُوكٌ مِنْ جِهَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصٍ وَاحْتِيَاجٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ تَسْدِيدِ نَقْصِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَمِنَ اسْتِعَانَةٍ بِالْغَيْرِ لِجَبْرِ احْتِيَاجِهِ فَذَلِكَ مُلْكٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ادِّعَاءُ مُلْكٍ غَيْرِ تَامّ. وَجُمْلَة: فَتَعالَى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا قُصِدَ مِنْهُ التَّذْكِيرُ وَالِاسْتِنْتَاجُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعْنَى تَعَالِيهِ وَأَنْ تَكُونَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُلُوِّ. وَالتَّعَالِي: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ، وَبِأَنَّهُ مَالِكُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْنِي الْعَرْشَ وَذَلِكَ دَلِيلُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ.

[سورة المؤمنون (23) : آية 117]

وَ (الْكَرِيمِ) بِالْجَرِّ صِفَةُ الْعَرْشِ. وَكَرَمُ الْجِنْسِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا فَضَائِلَ جِنْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَة النَّمْل [29] . [117] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 117] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ تَوْحِيدَهُ وَكَانَ أصل ضلال الْمُشْرِكِينَ إِشْرَاكَهُمْ أُعْقِبَ وَصْفُ اللَّهِ بِالْعُلُوِّ الْعَظِيمِ وَالْقُدْرَةِ الْوَاسِعَةِ بِبَيَانِ أَنَّ الْحِسَابَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْبَعْثِ يَنَالُ الَّذِينَ دَعَوْا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً دَعْوَى لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهَا لِأَنَّهَا عَرِيَّةٌ عَنِ الْبُرْهَانِ أَيِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ الْمُلْكَ الْكَامِلَ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً وَلَمْ يُثْبِتُوا مَا يَقْتَضِي لَهُ عَظِيمَ التَّصَرُّفِ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ تَصَرُّفَ آلِهَةٍ. فَقَوْلُهُ: لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ حَالٌ مِنْ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِلَهِ مَعَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَرِيَّةً عَنِ الْبُرْهَانِ وَنَظِيرُ هَذَا الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] . وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْحِسَابِ وَأَنَّهُ لله وَحده مُبَالغَة فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا تطمينا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] وَهَذَا أسعد بقوله بعده وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 118] . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَذْيِيلُهُ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ. وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ إِذِ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] وَخُتِمَتْ بِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَهُوَ نَفْيُ الْفَلَاحِ عَنِ الْكَافِرِينَ ضد الْمُؤمنِينَ. [118] [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 118] وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ

(118) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] إِلَخْ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَفِي حَذْفِ مُتَعَلِّقِ اغْفِرْ وَارْحَمْ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ فِي تَعْيِينِ الْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ، وَالْمُرَادُ مَنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ وَعْدًا بِالْإِجَابَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ.

24- سورة النور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 24- سُورَةُ النُّورِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ النُّورِ» مِنْ عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِسْنَادِهِ. وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَ: «كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ وَالْأَحْزَابِ وَالنُّورِ» . وَهَذِهِ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ فِيهَا آيَةَ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّور: 35] . وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُعْرَفُ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسَخِ «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّور: 58] الْآيَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ كَلِمَةُ «وَهِيَ مَكِّيَّةٌ» يَعْنِي الْآيَةَ. فَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي «حَاشِيَتِهِ» عَلَى «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» وَتَبِعَهُ الْآلُوسِيُّ، إِلَى الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ مَعَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ «مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ» . وَلَعَلَّ تَحْرِيفًا طَرَأَ عَلَى النُّسَخِ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَأَنَّ صَوَابَ الْكَلِمَةِ «وَهِيَ مُحْكَمَةٌ» أَيْ غَيْرُ مَنْسُوخٍ حُكْمُهَا فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ «وَهِيَ مُحْكَمَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَهَا النَّاسُ» . وَسَيَأْتِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] الْآيَةَ قَضِيَّةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ مَعَ عَنَاقَ. وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ اسْتُشْهِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ لِلْهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ، فَيَكُونُ أَوَائِلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى أَوْ أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَيَّامَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَاحَقُونَ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوهُمْ كَالْأَسْرَى.

أغراض هذه السورة

وَمِنْ آيَاتِهَا آيَاتُ قِصَّةِ الْإِفْكِ وَهِيَ نَازِلَةٌ عَقِبَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ فَإِنَّهَا قَبْلَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. وَمِنْ آيَاتِهَا وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النُّور: 6] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَاتِ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً مُتَفَرِّقَةً فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَأُلْحِقَ بَعْضُ آيَاتِهَا بِبَعْضٍ. وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْمِائَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَجِّ، أَيْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مَدَنِيَّةٌ. وَآيُهَا اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ فِي عَدِّ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَأَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فِي عَدِّ الْبَقِيَّةِ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ شَمِلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ مُعَاشَرَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ. وَمِنْ آدَابِ الْخِلْطَةِ وَالزِّيَارَةِ. - وَأَوَّلُ مَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ قَضِيَّةُ التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ اشْتَهَرَتْ بِالزِّنَى وَصُدِّرَ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَدِّ الزِّنَى. - وَعِقَابِ الَّذِينَ يَقْذِفُونَ الْمُحْصَنَاتِ. - وَحُكْمِ اللِّعَانِ. - وَالتَّعَرُّضِ إِلَى بَرَاءَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا أَرْجَفَهُ عَلَيْهَا أَهْلُ النِّفَاقِ، وَعِقَابِهِمْ، وَالَّذِينَ شَارَكُوهُمْ فِي التَّحَدُّثِ بِهِ. - وَالزَّجْرِ عَنْ حُبِّ إِشَاعَةِ الْفَوَاحِشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. - وَالْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنِ الْأَذَى مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى قَضِيَّةِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ. - وَأَحْكَامِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ إِلَى بُيُوتِ النَّاسِ الْمَسْكُونَةِ، وَدُخُولِ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ. -

[سورة النور (24) : آية 1]

وَآدَابِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ فِي الْمُخَالَطَةِ. - وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ. - وَالتَّحْرِيضِ عَلَى تَزْوِيجِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ. - وَالتَّحْرِيضِ عَلَى مُكَاتَبَتِهِمْ، أَيْ إِعْتَاقِهِمْ عَلَى عِوَضٍ يَدْفَعُونَهُ لِمَالِكِيهِمْ. - وَتَحْرِيمِ الْبِغَاءِ الَّذِي كَانَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. - وَالْأَمْرِ بِالْعَفَافِ. - وَذَمِّ أَحْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى سُوءِ طَوِيَّتِهِمْ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. - وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ. - وَضَرْبِ الْمَثَلِ لِهَدْيِ الْإِيمَانِ وَضَلَالِ الْكُفْرِ. - وَالتَّنْوِيهِ بِبُيُوتِ الْعِبَادَةِ وَالْقَائِمِينَ فِيهَا. - وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ وَصْفُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَدَائِعِ مَصْنُوعَاتِهِ وَمَا فِيهَا مِنْ مِنَنٍ عَلَى النَّاسِ. - وَقَدْ أُرْدِفَ ذَلِكَ بِوَصْفِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِمَا يُضْمِرُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَأَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَيْهِ وَالْجَزَاءَ بِيَدِهِ. [1] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُورَةٌ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ، فَيُقَدَّرُ: هَذِهِ سُورَةٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُقَدَّرُ يُشِيرُ إِلَى حَاضِرٍ فِي السَّمْعِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُتَتَالِي، فَكُلُّ مَا يُنَزَّلُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَأُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ فَهُوَ مِنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُقَدَّرِ. وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَلَامِ كَثِيرًا.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُورَةٌ مُبْتَدَأٌ وَيَكُونَ قَوْلُهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: 2] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ خَبَرًا عَنْ سُورَةٌ وَيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِكَلِمَةِ سُورَةٌ ثُمَّ أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ تَشْوِيقًا إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِثْلَ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَلِمَتَانِ حبيبتان إِلَى الرحمان خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَأَحْسَنُ وُجُوهِ التَّقْدِيرِ مَا كَانَ مُنْسَاقًا إِلَيْهِ ذِهْنُ السَّامِعِ دُونَ كُلْفَةٍ، فَدَعْ عَنْكَ التَّقَادِيرَ الْأُخْرَى الَّتِي جَوَّزُوهَا هُنَا. وَمَعْنَى سُورَةٌ جُزْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٌ بِمَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ وَعَدَدِ آيَاتٍ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناها وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ سُورَةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِيُقْبِلَ الْمُسْلِمُونَ بِشَرَاشِرِهِمْ عَلَى تَلَقِّي مَا فِيهَا. وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ على الْأمة بتحديد أَحْكَامِ سِيرَتِهَا فِي أَحْوَالِهَا. فَفِي قَوْلِهِ: أَنْزَلْناها تَنْوِيهٌ بِالسُّورَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ «أَنْزَلْنَا» مِنَ الْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ الدَّالِّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهَا وَتَشْرِيفِهَا. وَعَبَّرَ بِ «أَنْزَلْنَا» عَنِ ابْتِدَاءِ إِنْزَالِ آيَاتِهَا بَعْدَ أَنْ قَدَّرَهَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِسْنَادِ إِنْزَالِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَنْوِيهٌ بِهَا. وَعَبَّرَ عَنْ إِنْزَالِهَا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ إِنْزَالِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَرَدْنَا إِنْزَالَهَا وَإِبْلَاغَهَا، فَجُعِلَ ذَلِكَ الِاعْتِنَاءُ كَالْمَاضِي حِرْصًا عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ. وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: وَفَرَضْناها وَمَعْنَى فَرَضْناها عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: أَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا. وَإِنَّمَا يَلِيقُ هَذَا التَّفْسِيرُ بِالنَّظَرِ إِلَى مُعْظَمِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا إِلَى جَمِيعِهَا فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّور: 35] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّور: 39] .

فَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ هُنَا بِمَعْنَى التَّعْيِينِ وَالتَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاء: 7] وَقَوْلِهِ: مَا كانَ عَلَى النبيء مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الْأَحْزَاب: 38] . وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ «فَرَضْنَا» إِلَى ضَمِيرِ السُّورَةِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْأَعْيَانِ بِإِرَادَةِ أَحْوَالِهَا، مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، أَيْ أَكْلُهَا. فَالْمَعْنَى: وَفَرَضْنَا آيَاتِهَا. وَسَنَذْكُرُ قَرِيبًا مَا يُزِيدُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] وَكَيْفَ قُوبِلَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَالِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَفَرَضْناها بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَفَرَضْناها بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ نَزَّلَ الْمُشَدَّدِ. وَنُقِلِ فِي حَوَاشِي «الْكَشَّافِ» عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْلُهُ: كَأَنَّهُ عَامِلٌ فِي دِينِ سُؤْدُدِهِ ... بِسُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ وَفُرِّضَتْ وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ وَهُمَا الْإِنْزَالُ وَالْفَرْضُ ثَبَتَا لِجَمِيعِ السُّورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ فَهُوَ تَنْوِيهٌ آخَرُ بِهَذِهِ السُّورَةِ تَنْوِيهٌ بِكُلِّ آيَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا السُّورَةُ: مِنَ الْهَدْيِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَحَقِّيَّةُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ حُجَجٍ وَتَمْثِيلٍ، وَمَا فِي دَلَائِلِ صُنْعِ اللَّهِ عَلَى سِعَةِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهِيَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النُّور: 34] وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً إِلَى قَوْلِهِ: صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النُّور: 43- 46] . وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهَا إِطْلَاعُ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَى دَخَائِلِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّا كَتَمُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [النُّور: 48- 53] فَحَصَلَ التَّنْوِيهُ بِمَجْمُوعِ السُّورَةِ ابْتِدَاءً وَالتَّنْوِيهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا ثَانِيًا. فَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْقُرْآنِيِّ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.

فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ لَا آيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ بَيْنِهَا. وَالْمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِآيَاتِهَا بِإِجْرَاءِ وَصْفِ بَيِّناتٍ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي اشْتَمَلَتِ السُّورَةُ عَلَى جَمِيعِهَا هِيَ عَيْنُ السُّورَةِ لَا بَعْضًا مِنْهَا إِذْ لَيْسَ ثَمَّ شَيْءٌ غَيْرُ تِلْكَ الْآيَاتِ حَاوٍ لِتِلْكَ الْآيَاتِ حَقِيقَةً وَلَا مُشَبَّهَ بِمَا يَحْوِي، فَكَانَ حَرْفُ (فِي) الْمَوْضُوعُ لِلظَّرْفِيَّةِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً. فَتَعَيَّنَ أَنَّ كَلِمَةَ فِيها تُؤْذِنُ بِاسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ بِتَشْبِيهِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَعْلَاقٍ نَفْسِيَّةٍ تُكْتَنَزُ وَيُحْرَصُ عَلَى حِفْظِهَا مِنَ الْإِضَاعَةِ وَالتَّلَاشِي كَأَنَّهَا مِمَّا يُجْعَلُ فِي خِزَانَةٍ وَنَحْوِهَا. وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ رَوَادِفِهِ وَهُوَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ فَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) تَخْيِيلًا مُجَرَّدًا وَلَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ تَخَيُّلِيَّةٍ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَا يُشَبَّهُ بِالْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا، فَوِزَانُ هَذَا التَّخْيِيلِ وِزَانُ أَظْفَارِ الْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتُ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ وَهَذِهِ الظَّرْفِيَّةُ شَبِيهَةٌ بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: 1] وَقَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ [الْقَمَر: 43] فَإِنَّ الْكُفَّارَ هُمْ عَيْنُ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا فِيها هُوَ: بِمَعْنَى وَأَنْزَلْنَاهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. وَوَصْفُ آياتٍ بِ بَيِّناتٍ أَيْ وَاضِحَاتٍ، مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْبَيْنَ هُوَ مَعَانِيهَا، وَأُعِيدَ فِعْلُ الْإِنْزَالِ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْهُ لِإِظْهَارِ مَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِهَا. وَالْوَجْهُ أَنَّ جُمْلَةَ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ: أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَظِنَّةُ التَّذَكُّرِ، أَيْ دَلَائِلُ مَظِنَّةٍ لِحُصُولِ تَذَكُّرِكُمْ. فَحَصَلَ بِهَذَا الرَّجَاءِ وَصْفٌ آخَرُ لِلسُّورَةِ هُوَ أَنَّهَا مَبْعَثُ تَذَكُّرٍ وَعِظَةٍ. وَالتَّذَكُّرُ: خُطُورُ مَا كَانَ منسيا بالذهن وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاكْتِسَابِ الْعِلْمِ مِنْ أَدِلَّتِهِ

[سورة النور (24) : آية 2]

الْيَقِينِيَّةِ بِجَعْلِهِ كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَهُ الذِّهْنُ، أَيِ الْعِلْمُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَشُبِّهَ جَهْلُهُ بِالنِّسْيَانِ وَشُبِّهَ عِلْمُهُ بِالتَّذَكُّرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ فَأُدْغِمَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ تَذَكَّرُونَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. [2] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 2] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَهُوَ كَالْعُنْوَانِ وَالتَّرْجَمَةِ فِي التَّبْوِيبِ فَلِذَلِكَ أُتِيَ بَعْدَهُ بِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي قُوَّةِ الْجَوَابِ وَأَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ. فَالتَّقْدِيرُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مِمَّا أُنْزِلَتْ لَهُ هَذِهِ السُّورَةُ وَفُرِضَتْ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَسْتَدْعِي اسْتِشْرَافَ السَّامِعِ كَانَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ: إِنْ أَرَدْتُمْ حُكْمَهُمَا فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَهَكَذَا شَأْنُ هَذِهِ الْفَاءِ كُلَّمَا جَاءَتْ بَعْدَ مَا هُوَ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ فِي مَعْنًى مَا لِلسَّامِعِ رَغْبَةٌ فِي اسْتِعْلَامِ حَالِهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ قَائِلُهَا: وَقَائِلَةٌ: خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خَلُّو كَمَا هِيَا التَّقْدِيرُ: هَذِهِ خَوْلَانُ، أَوْ خَوْلَانُ مِمَّا يُرْغَبُ فِي صِهْرِهَا فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ إِنْ رَغِبْتَ. وَمَنْ صَرَفُوا ذِهْنَهُمْ عَنْ هَذِهِ الدَّقَائِقِ فِي الِاسْتِعْمَالِ قَالُوا الْفَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْخَبَرِ. وَتَقَدَّمَ زِيَادَةُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [38] . وَصِيغَتَا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي صِيغَةُ اسْمِ فَاعِلٍ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ اتِّصَافُ صَاحِبِهِ بِمَعْنَى مَادَّتِهِ فَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْحَدَثِ فِي زَمَنِ الْحَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّتِي تَزْنِي

وَالَّذِي يَزْنِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِجَلْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْجَلْدَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّلَبُّسِ بِسَبَبِهِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ النَّازِلِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] إِلَخْ هِيَ سَبَبَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَتَكُونُ آيَةُ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ تَمْهِيدًا وَمُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] فَإِنَّ تَشْنِيعَ حَالِ الْبَغَايَا جَدِيرٌ بِأَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالتَّشْرِيعِ وَهُوَ عُقُوبَةُ فَاعِلِ الزِّنَى. ذَلِكَ أَنَّ مَرْثَدَ مَا بَعَثَهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي تَزَوُّجِ عَنَاقَ إِلَّا مَا عَرَضَتْهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ مَعَهَا. وَقُدِّمَ ذِكْرُ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي لِلِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْبَاعِثُ عَلَى زِنَى الرَّجُلِ وَبِمُسَاعَفَتِهَا الرَّجُلَ يَحْصُلُ الزِّنَى وَلَوْ مَنَعَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مَا وَجَدَ الرَّجُلُ إِلَى الزِّنَى تَمْكِينًا، فَتَقْدِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي تَحْذِيرِهَا. وَقَوْلُهُ: كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْآخَرِ. وَتَعْرِيفُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ غَالِبًا وَمَقَامُ التَّشْرِيعِ يَقْتَضِيَهُ، وَشَأْنُ (أَلْ) الْجِنْسِيَّةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ تُبْعِدَ الْوَصْفَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مَعَهَا حَقِيقَةً فِي الْحَالِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَقُّقُ الْوَصْفِ فِي صَاحِبِهِ. وَبِهَذَا الْعُمُومِ شَمِلَ الْإِمَاءَ وَالْعَبِيدَ، فَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مَنِ اتَّصَفَتْ بِالزِّنَى وَاتَّصَفَ بِالزِّنَى. وَالزِّنَى: اسْمُ مَصْدَرِ زنى، وَهُوَ جماع بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، يُقَالُ: زَنَى الرَّجُلُ وَزَنَتِ الْمَرْأَةُ، وَيُقَالُ: زَانَى بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ حَاصِلٌ مِنْ فَاعِلَيْنِ وَلِذَلِكَ جَاءَ مَصْدَرُهُ الزِّنَاءُ بِالْمَدِّ أَيْضًا بِوَزْنِ الْفِعَالِ وَيُخَفَّفُ هَمْزُهُ فَيَصِيرُ اسْمًا مَقْصُورًا. وَأَكْثَرُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ

يَكُونَ بِدَاعِي الْمَحَبَّةِ وَالْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ دُونَ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ فَهُوَ الْبِغَاءُ يَكُونُ فِي الْحَرَائِرِ وَيَغْلِبُ فِي الْإِمَاءِ وَكَانُوا يَجْهَرُونَ بِهِ فَكَانَتِ الْبَغَايَا يَجْعَلْنَ رَايَاتٍ عَلَى بُيُوتِهِنَّ مِثْلَ رَايَةَ الْبَيْطَارِ لِيُعْرَفْنَ بِذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ يَشْمَلُهُ اسْمُ الزِّنَى فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَفِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الزِّنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [32] . وَالْجَلْدُ: الضَّرْبُ بِسَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِلْدِ بِكَسْرِ الْجِيمِ لِأَنَّهُ ضَرْبُ الْجِلْدِ. أَيِ الْبَشْرَةِ. كَمَا اشْتُقَّ الْجَبْهُ، وَالْبَطْنُ، وَالرَّأْسُ فِي قَوْلِهِمْ جَبَهَهُ إِذَا ضَرَبَ جَبْهَتَهُ، وَبَطَنَهُ إِذَا ضَرَبَ بَطْنَهُ، وَرَأَسَهُ إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَفِي لَفْظِ الْجَلْدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَلَمُ إِلَى اللَّحْمِ اهـ. أَيْ لَا يَكُونُ الضَّرْبُ يُطَيِّرُ الْجِلْدَ حَتَّى يَظْهَرَ اللَّحْمُ، فَاخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ دُونَ الضَّرْبِ مَقْصُودٌ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى: أَنَّ ضَرْبَ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ. أَيْ بِسَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ. وَالسَّوْطُ: هُوَ مَا يَضْرِبُ بِهِ الرَّاكِبُ الْفَرَسَ وَهُوَ جِلْدٌ مَضْفُورٌ، وَأَنْ يَكُونَ السَّوْطُ مُتَوَسِّطَ اللِّينِ، وَأَنْ يَكُونَ رَفْعُ يَدِ الضَّارِبِ مُتَوَسِّطًا. وَمَحَلُّ الْجَلْدِ هُوَ الظّهْر عِنْد مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُضْرَبُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ مَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الضَّرْبِ عَلَى الْمَقَاتِلِ، وَمِنْهَا الرَّأْسُ فِي الْحَدِّ. رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّ جَارِيَةً أَحْدَثَتْ فَقَالَ لِلْجَالِدِ: اجْلِدْ رِجْلَيْهَا وَأَسْفَلَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَقَالَ فَاقَتْهَا. وَقَوْلُهُ: كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما تَأْكِيدٌ لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْرِيفِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ يُقَالَ: فَاجْلِدُوهُمَا، كَمَا قَالَ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَة: 38] وَتَذْكِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ تَغْلِيبٌ لِلْمُذَكَّرِ مِثْلَ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيم: 12] . وَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَقُومُ بِهِ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَلَا يَتَوَلَّاهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُقِيمُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ حَدَّ الزِّنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقِيمُهُ

إِلَّا الْإِمَامُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقِيمُ السَّيِّدُ حَدَّ الزِّنَى عَلَى أَمَتِهِ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهَا إِلَّا وَلِيُّ الْأَمْرِ. وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُعَاقِبُونَ عَلَى الزِّنَى لِأَنَّهُ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ أَوْ وَلِيٌّ يَذُبُّ عَنْ عِرْضِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا ... عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي وَقَوْلُ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ: وَهُنَّ بَنَاتُ الْقَوْمِ إِنْ يَشْعُرُوا بِنَا ... يَكُنْ فِي بَنَاتِ الْقَوْمِ إِحْدَى الدَّهَارِسِ الدَّهَارِسُ: الدَّوَاهِي. وَلَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَكِنَّهُ حُكْمُ السَّيْفِ أَوِ التَّصَالُحُ عَلَى مَا يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. فَقَالَ: تكلم. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْم فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأَمَرَ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا . قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ اهـ. فَهَذَا الِافْتِدَاءُ أَثَرٌ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ فُرِضَ عِقَابُ الزِّنَى فِي الْإِسْلَامِ بِمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ الْأَذَى لِلرَّجُلِ الزَّانِي، أَيْ بِالْعِقَابِ الْمُوجِعِ، وَحَبْسٌ لِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ مُدَّةَ حَيَّاتِهَا. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّ الْأَذَى صَالِحٌ لِأَنَّ يُبَيَّنَ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالرَّجْمِ وَهُوَ حُكْمٌ مُوَقَّتٌ

بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النِّسَاء: 15] ثُمَّ فُرِضَ حَدُّ الزِّنَى بِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَفَرْضُ حَدِّ الزِّنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَلْدُ مِائَةٍ فَعَمَّ الْمُحْصَنَ وَغَيْرَهُ، وَخَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. فَأَمَّا مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمَا، أَيْ تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَوَقَعَ الدُّخُولُ فَإِنَّ الزَّانِي الْمُحْصَنَ حَدُّهُ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ. وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي زمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُجِمَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ. وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ تَوَاتُرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرٍ أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ فِي الْقُرْآنِ «الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» وَأَنَّهُ كَانَ يُقْرَأُ وَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ. وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: «وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا قَوْمٌ» ، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَيَّنَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا. وَذُكِرَ فِي سُورَةِ النُّورِ أَنَّ الْخَوَارِجَ بِأَجْمَعِهِمْ يَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَرَوْنَ الرَّجْمَ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الرَّجْمُ فَلَا رَجْمَ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِالرَّجْمِ وَقَعَ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ النُّورِ. وَقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى عَنِ الرَّجْمِ: أَكَانَ قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَوْ بَعْدَهَا؟ (يُرِيدُ السَّائِلُ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ آيَةُ سُورَةِ النُّورِ مَنْسُوخَةً بِحَدِيثِ الرَّجْمِ أَوِ الْعَكْسِ، أَيْ أَنَّ الرَّجْمَ مَنْسُوخٌ بِالْجَلْدِ) فَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: لَا أَدْرِي. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ شَهِدَ الرَّجْمَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَ سُورَةِ النُّورِ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسُورَةُ النُّورِ نَزَلَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ كَمَا عَلِمْتَ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا تَغْرِيبُ الزَّانِي بَعْدَ جَلْدِهِ تَغْرِيبُ سَنَةٍ كَامِلَةٍ، وَلَا تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَلَيْسَ التَّغْرِيبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمُتَعَيَّنٍ وَلَكِنَّهُ لِاجْتِهَادِ

الْإِمَامِ إِنْ رَأَى تَغْرِيبَهُ لِدِعَارَتِهِ. وَصِفَةُ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ وَآلَتُهُمَا مُبَيَّنَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِهَا. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَاجْلِدُوا فَلَمَّا كَانَ الْجَلْدُ مُوجِعًا وَكَانَ الْمُبَاشِرُ لَهُ قَدْ يَرِقُّ عَلَى الْمَجْلُودِ مِنْ وَجَعِهِ نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ تَأْخُذَهُمْ رَأْفَةٌ بِالزَّانِيَةِ وَالزَّانِي فَيَتْرُكُوا الْحَدَّ أَوْ يُنْقِصُوهُ. وَالْأَخْذُ: حَقِيقَتُهُ الِاسْتِيلَاءُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِشِدَّةِ تَأْثِيرِ الرَّأْفَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَامْتِلَاكِهَا إِرَادَتَهُمْ بِحَيْثُ يَضْعُفُونَ عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [الْبَقَرَة: 206] فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي قُوَّةِ مُلَابَسَةِ الْوَصْفِ لِلْمَوْصُوفِ. وبِهِما يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ رَأْفَةٌ فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَخْذِ هُنَا حُدُوثُ الْوَصْفِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمَا. وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِ تَأْخُذْكُمْ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أَخْذُ الرَّأْفَةِ بِسَبَبِهِمَا أَيْ بِسَبَبِ جَلْدِهِمَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ. وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ تَأْخُذَهُمْ رَأْفَةٌ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ أَثَرِ ذَلِكَ وَهُوَ تَرْكُ الْحَدِّ أَوْ نَقْصُهُ. وَأَمَّا الرَّأْفَةُ فَتَقَعُ فِي النَّفْسِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا النَّهْيُ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَوِّضَ نَفْسَهُ عَلَى دَفْعِ الرَّأْفَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْمُومَةِ فِيهَا الرَّأْفَةُ. وَالرَّأْفَةُ: رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَنْشَأُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ ضُرِّ بِالْمَرْءُوفِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَيَجُوزُ سُكُونُ الْهَمْزَةِ وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِالْفَتْحِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَعُلِّقَ بِالرَّأْفَةِ قَوْلُهُ: فِي دِينِ اللَّهِ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا رَأْفَةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ لِأَنَّهَا تُعَطِّلُ دِينَ اللَّهِ، أَيْ أَحْكَامَهُ، وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ الْحَدَّ اسْتِصْلَاحًا فَكَانَتِ الرَّأْفَةُ

فِي إِقَامَتِهِ فَسَادًا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي شَرَعَ الْحَدَّ هُوَ أَرْأَفُ بِعِبَادِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَفِي «مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى» عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «يُؤْتَى بِالَّذِي ضَرَبَ فَوْقَ الْحَدِّ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: عَبْدِي لِمَ ضَرَبْتَ فَوْقَ الْحَدِّ؟ فَيَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ فَيَقُولُ اللَّهُ: أَكَانَ غَضَبُكَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِي؟ وَيُؤْتَى بِالَّذِي قَصَّرَ فَيَقُولُ: عَبْدِي لِمَ قَصَّرْتَ؟ فَيَقُولُ: رَحِمْتُهُ. فَيَقُولُ: أَكَانَتْ رَحْمَتُكَ أَشَدَّ مِنْ رَحْمَتِي. وَيُؤْمَرُ بِهِمَا إِلَى النَّارِ» . وَجُمْلَةُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ شَرْطٌ مَحْذُوفُ الْجَوَابِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ، أَيْ لَا تُؤَثِّرْ فِيكُمْ رَأْفَةٌ بِهِمَا. وَالْمَقْصُودُ: شِدَّةُ التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَتَأَثَّرُوا بِالرَّأْفَةِ بِهِمَا بِحَيْثُ يُفْرَضُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا صَادِرٌ مَصْدَرَ التَّلْهِيبِ وَالتَّهْيِيجِ حَتَّى يَقُولَ السَّامِعُ: كَيفَ لَا أَو من بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَعُطِفَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الرَّأْفَةَ بِهِمَا فِي تَعْطِيلِ الْحَدِّ أَوْ نَقْصِهِ نِسْيَانٌ لِلْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّ تِلْكَ الرأفة تقضي بِهِمَا إِلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمَا الْعِقَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ رَأْفَةٌ ضَارَّةٌ كَرَأْفَةِ تَرْكِ الدَّوَاءِ لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ جَوَابِرٌ عَلَى مَا تُؤْذِنُ بِهِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. أَمَرَ أَنْ تَحْضُرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةَ حَدِّ الزِّنَا تَحْقِيقًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَحَذَرًا مِنَ التَّسَاهُلِ فِيهِ فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ ذَرِيعَةٌ لِلْإِنْسَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدْهُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ عَدَمِ إِقَامَتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ إِهْمَالُهُ فَلَا يُعْدَمُ بَيْنَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحُدُودِ. وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْحُدُودِ مَعَ عُقُوبَةِ الْجَانِي أَنْ يَرْتَدِعَ غَيْرُهُ، وَبِحُضُورِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَّعِظُ بِهِ الْحَاضِرُونَ وَيَزْدَجِرُونَ وَيَشِيعُ الْحَدِيثُ فِيهِ بِنَقْلِ الْحَاضِرِ إِلَى الْغَائِبِ.

[سورة النور (24) : آية 3]

وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ [156] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ عَدَدِهَا هُنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَدَدٌ تَحْصُلُ بِخَبَرِهِ الِاسْتِفَاضَةُ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: أَرْبَعَةٌ اعْتِبَارًا بِشَهَادَةِ الزِّنَا. وَقِيلَ عَشْرَةٌ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي وُجُوبَ حُضُورِ طَائِفَةٍ لِلْحَدِّ. وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّدْبِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحٍ بِحُكْمِهِ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ. وَيَظْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أقل مَا يجزىء مِنْ عَدَدِ الطَّائِفَةِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إِذْ هُوَ مَحْمَلُ الْأَمْرِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَيَّا مَا كَانَ حُكْمُهُ فَهُوَ فِي الْكِفَايَةِ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ مَنْ لَهُ بِالْمَحْدُودِ مَزِيدُ صِلَةٍ يُحْزِنُهُ أَنْ يُشَاهِدَ إِقَامَةَ الْحَد عَلَيْهِ. [3] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 3] الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مُسْتَقِلَّةً بِأَوَّلِهَا وَنِهَايَتِهَا كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِهَا، سَوَاءٌ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ الْآيَاتِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا السُّورَةُ أَمْ كَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ. وَقَدْ أَعْضَلَ مَعْنَاهَا فَتَطَلَّبَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ وَبَعْضُ الْوُجُوهِ يَنْحَلُّ إِلَى مُتَعَدِّدٍ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَحَسَّنَهُ: «أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ (الْغَنَوِيُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ يَحْمِلُ الْأَسْرَى (¬1) فَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا: عَنَاقُ. وَكَانَتْ خَلِيلَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسَارَى مَكَّةَ لِيَحْمِلَهُ. قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى ظلّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ. قَالَ: فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَقَالَتْ: مَرْثَدُ؟ قُلْتُ: مَرْثَدُ. قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا هَلُمَّ فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ. قَالَ فَقُلْتُ: حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَى. فَقَالَتْ عَنَاقُ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ، فَتَبِعَنِي ثَمَانِيَةٌ (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .. إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ رَجَعُوا وَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي فَحَملته ففككت عَنهُ كَبْلَهُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: يَا مَرْثَدُ لَا تَنْكِحْهَا» . فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ هَلْ يَتَزَوَّجُ عَنَاقَ. وَمَثَارُ مَا يُشْكِلُ وَيَعْضُلُ مِنْ مَعْنَاهَا: أَنَّ النِّكَاحَ هُنَا عَقْدُ التَّزَوُّجِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ الزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَأَنَا أَرَى لَفْظَ النِّكَاحِ لَمْ يُوضَعْ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ وَمَا انْبَثَقَ زَعَمَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَطْءِ إِلَّا مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَة: 230] بِنَاءً عَلَى اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِزَوْجٍ لَا يُحِلُّهَا لِمَنْ بَتَّهَا إِلَّا إِذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي. وَفِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ، لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. وَأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ تَحْرِيمِ الزِّنَى إِذْ كَانَ تَحْرِيمُ الزِّنَى مِنْ أَوَّلِ مَا شُرِّعَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ، وَحَسْبُكَ أَنَّ الْأَعْشَى عَدَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى فِي عِدَادِ مَا جَاءَ بِهِ ¬

(¬1) أَي الَّذين أوثقهم الْمُشْركُونَ بِمَكَّة لأجل إِيمَانهم وَلم يتركوهم يهاجرون إِلَى الْمَدِينَة فَكَانَ مُرْتَد يحملهم إِلَى الْمَدِينَة سرا.

النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْرِيعِ إِذْ قَالَ فِي قَصِيدَتِهِ لَمَّا جَاءَ مَكَّةَ بِنِيَّةِ الْإِسْلَامِ ومدح النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَّهُ أَبُو جَهْلٍ فَانْصَرَفَ إِلَى الْيَمَامَةِ وَمَاتَ هُنَاكَ قَالَ: أَجِدْكَ لَمْ تَسْمَعْ وصاة مُحَمَّد ... نبيء الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا إِلَى أَنْ قَالَ.... وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا (¬1) وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَإِنَّهُ يلوح فِي بادىء النَّظَرِ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ صَدْرَهَا إِلَى قَوْلِهِ أَوْ مُشْرِكٌ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِتَشْرِيعِ حُكْمِ النِّكَاحِ بَيْنَ الزُّنَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. فَإِذَا كَانَ إِخْبَارًا لَمْ يَسْتَقِمْ مَعْنَى الْآيَةِ إِذِ الزَّانِي قَدْ يَنْكِحُ الْحَصِينَةَ وَالْمُشْرِكُ قَدْ يَنْكِحُ الْحَصِينَةَ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فَلَا يَسْتَقِيمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً مَعْنًى، وَأَيْضًا الزَّانِيَةُ قَدْ يَنْكِحُهَا الْمُسْلِمُ الْعَفِيفُ لِرَغْبَةٍ فِي جَمَالِهَا أَوْ لِيُنْقِذَهَا مِنْ عُهْرِ الزِّنَى وَمَا هُوَ بِزَانٍ وَلَا مُشْرِكٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَإِنَّنَا لَوْ تَنَازَلْنَا وَقَبِلْنَا أَنْ تَكُونَ لِتَشْرِيعِ حُكْمٍ فَالْإِشْكَالُ أَقْوَى إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْرِيعِ حُكْمِ نِكَاحِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ وَالْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِمَا يُفِيدُ مَعْنًى مُعْتَبَرًا. وَالْوَجْهُ فِي تَأْوِيلِهَا: أَنَّ مَجْمُوعَ الْآيَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّشْرِيعُ دُونَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِهَا وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَرْثَدٍ تَزْوِيجَهُ عِنَاقَ وَهِيَ زَانِيَةٌ وَمُشْرِكَةٌ وَمَرْثَدُ مُسْلِمٌ تَقِيٌّ. غَيْرَ أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّشْرِيعِ بَلْ هُوَ تَمْهِيدٌ لِآخِرِهَا مُشِيرٌ إِلَى تَعْلِيلِ مَا شُرِّعَ فِي آخِرِهَا، وَفِيهِ مَا يُفَسِّرُ مَرْجِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ ذلِكَ. ¬

(¬1) أَي تعزب.

وَأَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ لِمَرْثَدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَقِّ عُمُومِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا التَّأْصِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً تَمْهِيدٌ لِلْحُكْمِ الْمَقْصُودِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْإِخْبَارِ دُونَ التَّشْرِيعِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الزَّانِي الْمَعْنَى الِاسْمِيُّ لِاسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مَعْنَى التَّلَبُّسِ بِمَصْدَرِهِ دُونَ مَعْنَى الْحُدُوثِ إِذْ يَجِبُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْ كَوْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ لَهُ شَائِبَتَانِ: شَائِبَةُ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَصْدَرِ فَهُوَ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارع، فضارب بشبه يَضْرِبُ فِي إِفَادَةِ حُصُولِ الْحَدَثِ مِنْ فَاعِلٍ، وَشَائِبَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَاتٍ مُتَلَبِّسَةٍ بِحَدَثٍ فَهُوَ بِتِلْكَ الشَّائِبَةِ يَقْوَى فِيهِ جَانِبُ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّوَاتِ. وَحَمْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الِاسْمِيِّ تَقْتَضِيهِ قَرِينَةُ السِّيَاقِ إِذْ لَا يُفْهَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُحْدِثُ الزِّنَى لَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا زَانِيَةً لِانْتِفَاءِ جَدْوَى تَشْرِيعِ مَنْعِ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ النِّكَاحِ عَنِ الَّذِي أَتَى زنى. وَهَذَا عَلَى عَكْسِ مَحْمَلِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّور: 2] فَإِنَّهُ بِالْمَعْنَى الْوَصْفِيِّ، أَيِ التَّلَبُّسِ بِإِحْدَاثِ الزِّنَى حَسْبَمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ آنِفًا بِقَرِينَةِ سِيَاقٍ تُرَتِّبُ الْجَلْدَ عَلَى الْوَصْفِ إِذِ الْجَلْدُ عُقُوبَةٌ إِنَّمَا تَتَرَتَّبُ عَلَى إِحْدَاثِ جَرِيمَةٍ تُوجِبُهَا. فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إِلَخْ: مَنْ كَانَ الزِّنَى دَأْبًا لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَخَلَّقَ بِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَرَادَ تَزَوُّجَ امْرَأَةٍ مُلَازِمَةٍ لِلزِّنَى مِثْلَ الْبَغَايَا وَمُتَّخِذَاتِ الْأَخْدَانِ (وَلَا يَكُنَّ إِلَّا غَيْرَ مُسْلِمَاتٍ لَا مَحَالَةَ) فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَزَوُّجِ مِثْلِهَا بِقَوْلِهِ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقُدِّمَ لَهُ مَا يُفِيدُ تَشْوِيهَهُ بِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ حَالَ الْمُسْلِمِ وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ أَهْلِ الزِّنَى، أَيْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ الزِّنَى لَهُ دَأْبًا، وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ لَكَانَ عَلَى سَبِيلِ الْفَلْتَةِ كَمَا وَقع لما عز بْنِ مَالِكٍ. فَقَوْلُهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً تَمْهِيدٌ وَلَيْسَ بِتَشْرِيعٍ، لِأَنَّ الزَّانِيَ- بِمَعْنَى مَنِ الزِّنَى لَهُ عَادَةٌ- لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَلَا تُشَرَّعُ لَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ.

وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النُّور: 26] وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَزَوَّجَ زَانِيَةً فَقَدْ وَضَعَ نَفْسَهُ فِي صَفِّ الزُّنَاةِ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: أَوْ مُشْرِكَةً عَلَى زانِيَةً لِزِيَادَةِ التَّفْظِيعِ فَإِنَّ الزَّانِيَةَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُشْرِكَةٍ مِثْلَ زَوَانِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبَغَايَاهُمَا. وَكَذَلِكَ عُطِفَ أَوْ مُشْرِكٌ عَلَى إِلَّا زانٍ لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ بِصَدَدِ التَّشْرِيعِ لِلْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ أَحْكَامَ التَّزَوُّجِ بَيْنَهُمْ إِذْ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. فَتَمَحَّضَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّالِحَ لَا يَتَزَوَّجُ الزَّانِيَةَ. ذَلِكَ لِأَنَّ الدُّرْبَةَ عَلَى الزِّنَى يَتَكَوَّنُ بِهَا خُلُقٌ يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَرْغَبُ فِي مُعَاشَرَةِ الزَّانِيَةِ إِلَّا مَنْ تَرُوقُ لَهُ أَخْلَاقُ أَمْثَالِهَا، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيَّامَئِذٍ قَرِيبِي عَهْدٍ بِشِرْكٍ وَجَاهِلِيَّةٍ فَكَانَ مِنْ مُهِمِّ سِيَاسَةِ الشَّرِيعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ التَّبَاعُدُ بِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا يُسْتَرْوَحُ مِنْهُ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا كَانُوا يَأْلَفُونَهُ قَصْدَ أَنْ تَصِيرَ أَخْلَاقُ الْإِسْلَامِ مَلَكَاتٍ فِيهِمْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَمَّا قَدْ يُجَدِّدُ فِيهِمْ أَخْلَاقًا أَوْشَكُوا أَنْ يَنْسَوْهَا. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ مُسْتَأْنَفَةً كَمَا تَقَعُ النَّتَائِجُ بَعْدَ أَدِلَّتِهَا، وَقُدِّمَ قَبْلَهَا حُكْمُ عُقُوبَةِ الزِّنَى لِإِفَادَةِ حُكْمِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ تَشْنِيعِ فِعْلِهِ. فَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالزَّانِي: مَنْ وَصْفُ الزِّنَى عَادَتُهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ مَهْزُولٍ، وَكَانَتْ مِنْ بَغَايَا الزَّانِيَاتِ وَشَرَطَتْ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ (وَلَعَلَّ أُمَّ مَهْزُولٍ كُنْيَةُ عَنَاقَ وَلَعَلَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ) إِذْ لَمْ يُرْوَ غَيْرُهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً فَأَمَّا الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لَا يُفْسَخُ.

وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الزَّانِي قَبْلَ ذِكْرِ الزَّانِيَةِ عَلَى عَكْسِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّور: 2] فَإِنَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا عَرَفْتَهُ، فَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ رَغْبَةَ رَجُلٍ فِي تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ تَعَوَّدَتِ الزِّنَى فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا الِاهْتِمَامَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مِنْ مَذَمَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَجُمْلَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَكْمِيلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا أُرِيدَ مِنْ تَفْظِيعِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَبِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْقَضِيَّةِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَتَانِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ، أَيْ وَحُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ تَكْمِيلًا لِمَا قَبْلَهَا وَشَأْنُ التَّكْمِيلِ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ وَقَالُوا: هَذَا حُكْمٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ بَعْدَهَا وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّور: 32] فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي الْأَيَامَى، أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَذَهَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ تُعَاوِدَهُمْ أَخْلَاقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ أَحَدًا تَزَوَّجَ زَانِيَةً فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنُزُولِ نَاسِخِهَا، وَلَا أَنَّهُ فُسِخَ نِكَاحُ مُسْلِمٍ امْرَأَةً زَانِيَةً. وَمُقْتَضَى التَّحْرِيمِ الْفَسَادُ وَهُوَ يَقْتَضِي الْفَسْخَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً فَأَمَّا الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لَا يُفْسَخُ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حُكْمَهَا مُسْتَمِرًّا. وَنَسَبَ الْفَخْرُ الْقَوْلَ بِاسْتِمْرَارِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَسَبَهُ غَيْرُهُ إِلَى التَّابِعِينَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ من بعد.

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 5]

[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 4 إِلَى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) كَانَ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ رَمْيُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالزِّنَى إِذَا رَأَوْا بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ تَعَارُفًا أَوْ مُحَادَثَةً. وَكَانَ فَاشِيًا فِيهِمُ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ بُهْتَانًا إِذَا رَأَوْا قِلَّةَ شَبَهٍ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، فَكَانَ مِمَّا يَقْتَرِنُ بِحُكْمِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يُذَيَّلَ بِحُكْمِ الَّذِينَ يرْمونَ الْمُحْصنَات بالزنى إِذَا كَانُوا غَيْرَ أَزْوَاجِهِنَّ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النُّور: 2] الْآيَةَ. وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ: قَذْفُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ. وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نِسْبَةِ فِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ إِلَى شَخْصٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [112] . وَحُذِفَ الْمَرْمِيُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَذِكْرِ الْمُحْصَنَاتِ. وَالْمُحْصَنَاتُ: هُنَّ الْمُتَزَوِّجَاتُ مِنَ الْحَرَائِرِ. وَالْإِحْصَانُ: الدُّخُولُ بِزَوْج بِعقد نِكَاح. وَالْمُحْصَنُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ الشَّيْءَ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْإِضَاعَةِ وَاسْتِيلَاءِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، فَالزَّوْجُ يُحَصِّنُ امْرَأَتَهُ، أَيْ يَمْنَعُهَا مِنَ الْإِهْمَالِ وَاعْتِدَاءِ الرِّجَالِ. وَهَذَا كَتَسْمِيَةِ الْأَبْكَارِ مُخَدَّرَاتٍ وَمَقْصُورَاتٍ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَلَا يُطْلَقُ وَصْفُ الْمُحْصَناتِ إِلَّا عَلَى الْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ دُونَ الْإِمَاءِ لِعَدَمِ صِيَانَتِهِنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الشَّهَادَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ شُهَدَاءٌ عَلَى إِثْبَاتِ مَا رَمَى بِهِ الْقَاذِفُ، أَيْ إِثْبَاتُ وُقُوعِ الزِّنَى بِحَقِيقَتِهِ الْمُعْتَدِّ بِهَا شَرْعًا، وَمِنَ الْبَيِّنِ

أَنَّ الشُّهَدَاءَ الْأَرْبَعَةَ هُمْ غَيْرُ الْقَاذِفِ لِأَنَّ مَعْنَى يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاذِفُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ. وَالْجَلْدُ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَشُرِّعَ هَذَا الْجَلْدُ عِقَابًا لِلرَّامِي بِالْكَذِبِ أَوْ بِدُونِ تَثَبُّتٍ وَلِسَدِّ ذَرِيعَةِ ذَلِكَ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَرْمُونَ إِلَى اسْم مَوْصُول الْمُذَكَّرِ وَضَمَائِرِ تابُوا- وأَصْلَحُوا وَكَذَلِكَ وُصِفَ الْفاسِقُونَ بِصِيَغِ التَّذْكِيرِ، وَعُدِّيَ فِعْلُ الرَّمْيِ إِلَى مَفْعُولٍ بِصِيغَةِ الْإِنَاثِ كُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَوْ عَلَى مُرَاعَاةِ قصَّة كَانَت سبّ نُزُولِ الْآيَةِ وَلَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْجَمِيعِ يَشْمَلُ ضِدَّ أَهْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي مَوَاقِعِهَا كُلِّهَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ. وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ فَارِقِ إِلْصَاقِ الْمَعَرَّةِ بِالْمَرْأَةِ إِذَا رُمِيَتْ بِالزِّنَى دُونَ الرَّجُلِ يُرْمَى بِالزِّنَى لِأَنَّ جَعْلَ الْعَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ تَزْنِي دُونَ الرَّجُلِ يَزْنِي إِنَّمَا هُوَ عَادَةٌ جَاهِلِيَّةٌ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ سَوَّى الْإِسْلَامُ التَّحْرِيمَ وَالْحَدَّ وَالْعِقَابَ الْآجِلَ وَالذَّمَّ الْعَاجِلَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ. وَقَدْ يُعَدُّ اعْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِزِنَاهُ أَشَدَّ مِنَ اعْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ بِزِنَاهَا لِأَنَّ الرَّجُلَ الزَّانِيَ يُضَيِّعُ نَسَبَ نَسْلِهِ فَهُوَ جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فولدها لَا حق بِهَا لَا مَحَالَةَ فَلَا جِنَايَةَ عَلَى نَفْسِهَا فِي شَأْنِهِ، وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ بِإِضَاعَةِ نَسَبِهِ فَهَذَا الْفَارِقُ الْمَوْهُومُ مُلْغًى فِي الْقِيَاسِ. أَمَّا عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَذَفَ بِدُونِ إِثْبَاتٍ قَدْ دَلَّ عَلَى تَسَاهُلِهِ فِي الشَّهَادَةِ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يُؤْخَذَ بِشَهَادَتِهِ. وَالْأَبَدُ: الْزَمْنُ الْمُسْتَقْبَلُ كُلُّهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْإِعْلَانِ بِفِسْقِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ. وَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شَنَاعَةِ فِسْقِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْفُسُوقِ لَا يَعُدُّ فِسْقًا. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا حَقُّهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى خُصُوصِ عَدَمِ

قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَإِثْبَاتِ فِسْقِهِمْ وَغَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ فَالْحَدُّ قَدْ فَاتَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُسْقِطُهَا تَوْبَةُ مُقْتَرِفِ مُوجِبِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ جَرْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ. وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ وَالنَّدَمُ وَظُهُورُ عَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَة فِي سُورَة النِّسَاءِ [17] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ الْآيَاتِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِيمَا قَذَفَ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَصْلُحَ وَيَحْسُنَ حَالُهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تُعْتَبَرُ تَوْبَتُهُ حَتَّى يُكَذِّبَ نَفْسَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالشَّعْبِيِّ، وَلَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ لِأَنَّهُ أَبَى أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِيمَا رَمَى بِهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ. وَقَبِلَ مِنْ بَعْدُ شَهَادَةَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدِ وَنَافِعِ بْنِ كَلَدَةَ لِأَنَّهُمَا أَكْذَبَا أَنْفُسَهُمَا فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ حَدَّ ثَلَاثَتَهُمْ حَدَّ الْقَذْفِ. وَمَعْنَى أَصْلَحُوا فَعَلُوا الصَّلَاحَ، أَيْ صَارُوا صَالِحِينَ. فَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ أَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِاجْتِنَابِ مَا نُهُوا عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 11] ، وَقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [160] . وَفُرِّعَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَعْنَى: فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ وَاغْفِرُوا لَهُمْ مَا سَلَفَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [160] : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَإِنَّمَا صَرَّحَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا قُدِّرَ نَظِيرُهُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ مَقَامُ إِطْنَابٍ لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمْ إِذْ ثَابُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِصْلَاحِ وَبَيَانِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ مَا كَتَمُوهُ وَكَتَمَهُ سَلَفُهُمْ.

[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 9]

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيّ: حق للمقذوف. وَيَتَرَتَّب عَلَى الْخِلَافِ سُقُوطُهُ بِالْعَفْوِ مِنَ الْمَقْذُوفِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي حَدِّ الْفِرْيَةِ وَالْقَذْفِ الَّذِي كَانَ أَوَّلُ ظُهُورِهِ فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَى. فَكُلُّ رَمْيٍ بِمَا فِيهِ مَعَرَّةٌ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالْإِجْمَاعِ الْمُسْتَند للْقِيَاس. [6- 9] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 6 إِلَى 9] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) هَذَا تَخْصِيصٌ للعمومين الَّذين فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّور: 4] فَإِنَّ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ مَنْ هُنَّ أَزْوَاجٌ لِمَنْ يَرْمِيهِنَّ، فَخُصَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ حُكْمِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَخْ إِذْ عُذِرَ الْأَزْوَاجُ خَاصَّةً فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ فِي أَزْوَاجِهِمْ بِالزِّنَى إِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا إِثْبَاتَهُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. وَوَجْهُ عُذْرِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ سَجِيَّةِ الْغَيْرَةِ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَعَدَمِ احْتِمَالِ رُؤْيَةِ الزِّنَى بِهِنَّ فَدَفَعَ عَنْهُمْ حَدَّ الْقَذْفِ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ. وَفِي هَذَا الْحُكْمِ قَبُولٌ لِقَوْلِ الزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ مُتَثَبِّتًا حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ أَيْمَانِ زَوْجِهَا تُكَلَّفُ بِدَفْعِ ذَلِكَ بِأَيْمَانِهَا وَإِلَّا قُبِلَ قَوْلُهُ

فِيهَا مَعَ أَيْمَانِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فَكَانَ مُوجِبًا حَدَّهَا إِذَا لَمْ تَدْفَعْ ذَلِكَ بِأَيْمَانِهَا. وَعِلَّةُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ فِي نُفُوسِ الْأَزْوَاجِ وَازِعًا يَزَعُهُمْ عَنْ أَنْ يَرْمُوا نِسَاءَهُمْ بِالْفَاحِشَةِ كَذِبًا وَهُوَ وازع التعير مِنْ ذَلِكَ وَوَازِعُ الْمَحَبَّةِ فِي الْأَزْوَاجِ غَالِبًا، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ ادِّعَاءَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا باسم الشَّهَادَة بِظَاهِر الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْغَيْرَةِ عَلَيْهِنَّ مَا لَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ السُّكُوتُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ الرَّجُلُ مُصَدَّقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَى امْرَأَتِهِ. وَقَدْ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ «لَوْ وَجَدْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ» . وَلَكِنَّ الْغَيْرَةَ قَدْ تَكُونُ مُفْرِطَةً وَقَدْ يُذَكِّيهَا فِي النُّفُوسِ تَنَافُسُ الرِّجَالِ فِي أَنْ يَشْتَهِرُوا بِهَا، فَمَنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ إِتْلَافُ نَفْسٍ إِلَّا الْحَاكِمَ. وَلَمْ يُقَرِّرْ جَعْلَ أَرْوَاحِ الزَّوْجَاتِ تَحْتَ تَصَرُّفِ مُخْتَلِفِ نَفْسِيَّاتِ أَزْوَاجِهِنَّ. وَلَمَّا تَقَرَّرَ حَدُّ الْقَذْفِ اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ يعثرون على ربية فِي أَزْوَاجِهِمْ. وَنَزَلَتْ قَضِيَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ مَعَ زَوْجِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ وَيُقَالُ بِنْتُ قَيْسٍ وَكِلَاهُمَا مِنْ بَنِي عَمِّ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ. رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ. فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا. فَقَامَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحبَتك فَاذْهَبْ فأت بِهَا. قَالَ سَهْلٌ:

فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَبْدَأَ شَرْعِ الْحُكْمِ فِي رَمْيِ الْأَزْوَاجِ نِسَاءَهُمْ بِالزِّنَى. وَاخْتَلَطَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَسَمَّوْهُ هِلَالَ ابْن أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيَّ. وَزِيدَ فِي الْقِصَّةِ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» . وَالصَّوَابُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ عَقِبَ الْقُفُولِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ حَدَثَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ مُتَقَارِبٍ. وَلَمَّا سمع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْقَذْفِ السَّالِفَةِ قَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» يَعْنِي أَنَّهَا غيرَة غَيْرُ مُعْتَدِلَةِ الْآثَارِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ آثَارِهَا أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَجِدُهُ مَعَ امْرَأَتِهِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَأْذَنَا بِذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَلَمْ يَجْعَلَا لِلزَّوْجِ الَّذِي يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي أَنْ يَقْتُلَ الزَّانِي وَلَا الْمَرْأَةَ وَلِذَلِكَ قَالَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ «مَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ» ؟. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ شُهَداءُ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ شُهَدَاءُ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِمَّا رَمَوْا بِهِ أَزْوَاجَهُمْ. وَشَمِلَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْفُسُهُمْ مَا لَا تَتَأَتَّى فِيهِ الشَّهَادَةُ مِثْلَ الرَّمْيِ بِنَفْيِ حَمْلٍ مِنْهُ ادَّعَى قَبْلَهُ الزَّوْجُ الِاسْتِبْرَاءَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَحَادِيثِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمِنْ عِلَّةِ تَخْصِيصِ الْأَزْوَاجِ فِي حُكْمِ الْقَذْفِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ وَمِنْ لَفْظِ يَرْمُونَ وَمِنْ ذِكْرِ الشُّهَدَاءِ أَنَّ اللِّعَانَ رُخْصَةٌ مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي أَحْوَالِ الضَّرُورَةِ فَلَا تَتَعَدَّاهَا. فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَآخِرُ قَوْلَيْهِ وَجَمَاعَةٌ: لَا يُلَاعَنُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ رُؤْيَةَ امْرَأَتِهِ تَزْنِي أَوْ نَفَى حَمْلَهَا نَفْيًا مُسْتَنِدًا إِلَى حُدُوثِ الْحَمْلِ بَعْدَ تَحَقُّقِ بَرَاءَةِ رَحِمِ زَوْجِهِ وَعَدَمِ قُرْبَانِهِ إِيَّاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ

وَرَمَاهَا بِالزِّنَى. أَيْ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ أَوْ بِرُؤْيَةِ رَجُلٍ فِي الْبَيْتِ فِي غَيْرِ حَالِ الزِّنَى، أَوْ بِقَوْلِهِ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ فَلَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ. وَيُحَدُّ الزَّوْجُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ افْتِرَاءٌ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَلَا عُذْرَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ إِذِ الْعُذْرُ هُوَ عَدَمُ تَحَمُّلِ رُؤْيَةِ امْرَأَتِهِ تَزْنِي وَعَدَمُ تَحَمُّلِ رُؤْيَةِ حَمْلٍ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: إِذَا قَالَ تَحَمَّلَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، وَجَبَ اللّعان، ذَهَابًا مِنْهُم إِلَى أَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَجْرِي فِي مُجَرَّدِ الْقَذْفِ أَيْضًا تَمَسُّكًا بِمُطْلَقِ لَفْظِ يَرْمُونَ. وَيُقْدَحُ فِي قِيَاسِهِمْ أَنَّ بَيْنَ دَعْوَى الزِّنَى عَلَى الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ السَّبِّ بِأَلْفَاظٍ فِيهَا نِسْبَةٌ إِلَى الزِّنَا فَرْقًا بَيِّنًا عِنْدَ الْفَقِيهِ. وَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ أَيْمَانَ اللّعان شَهَادَة يومىء إِلَى أَنَّهَا لِرَدِّ دَعْوَى وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الْآثَارِ عَلَى الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مُحَقَّقَةً فَقَوْلُ مَالِكٍ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ أَغْوَصُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِلَخْ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى الْأَزْوَاجِ إِلْفَاءُ الشَّهَادَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَعَذَّرَهُمُ اللَّهُ فِي الِادِّعَاءِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتْرُكِ الْأَمْرَ سَبَهْلَلًا وَلَا تَرَكَ النِّسَاءَ مُضْغَةً فِي أَفْوَاهِ مَنْ يُرِيدُونَ التَّشْهِيرَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ لِشِقَاقٍ أَوْ غَيْظٍ مُفْرِطٍ أَوْ حَمَاقَةٍ كَلَّفَ الْأَزْوَاجَ شَهَادَةً لَا تَعْسُرُ عَلَيْهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا يَدَّعُونَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِتَقُومَ الْأَيْمَانُ مَقَامَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ الْمَفْرُوضِينَ لِلزِّنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: 4] إِلَخْ. وَسُمِّيَ الْيَمِينُ شَهَادَةً لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهَا فَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ الِاعْتِبَارِيِّ، وَأَنَّ صِيغَةَ الشَّهَادَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَلِفِ كَثِيرًا وَهُنَا جُعِلَتْ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ فَكَأَنَّ الْمُدَّعِي أَخْرَجَ مِنْ نَفْسِهِ أَرْبَعَة شُهُود هِيَ تِلْكَ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْأَيْمَانِ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَهَا لِلْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلَا تَأْخُذُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنْ لَا تُقْبَلَ أَيْمَانُ اللِّعَانِ إِلَّا مِنْ عَدْلٍ فَلَوْ كَانَ فَاسِقًا لَمْ يُلْتَعَنَ وَلَمْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَلْ كُلُّ

مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ صَحَّ لِعَانُهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحُرِيَّةَ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ إِلْحَاقُ اللِّعَانِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ شَهَادَةً. وَلِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى هَذِهِ الْبَدَلِيِّةِ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانُ اللِّعَانِ بِصِيغَةِ: «أَشْهَدُ بِاللَّه» عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا مَا بَعْدَ صِيغَةِ (أَشْهَدُ) فَيَكُونُ كَالْيَمِينِ عَلَى حَسَبِ الدَّعْوَى الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ لَا احْتِمَالَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ أَرْبَعُ عَلَى أَنَّهُ مفعول مُطلق لشهادة فَيكون فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ مَحْذُوفَ الْخَبَرِ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ الَّذِي فِي الْمَوْصُولِ وَاقْتِرَانُ الْفَاءِ بِخَبَرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ لَازِمَةٌ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ: إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: «هِجِّيرَا أَبِي بَكْرٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِرَفْعِ أَرْبَعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إِلَى آخِرِهَا بدل من فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي نَصْبِ أَرْبَعُ شَهاداتٍ الثَّانِي. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ حِكَايَةٌ لِلَفْظِ الْيَمِينِ مَعَ كَوْنِ الضَّمِيرِ مُرَاعًى فِيهِ سِيَاقُ الْغَيْبَةِ، أَيْ يَقُولُ: إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا ادَّعَيْتُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْخامِسَةُ أَيْ فَالشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ، أَيِ الْمُكَمِّلَةُ عَدَدَ خَمْسٍ لِلْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَأَنَّثَ اسْمَ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ صَفَّةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: وَالشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ. وَلَيْسَ لَهَا مُقَابِلٌ فِي عَدَدِ شُهُودِ الزِّنَى. فَلَعَلَّ حِكْمَةَ زِيَادَةِ هَذِهِ الْيَمِينِ مَعَ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهَا لِتَقْوِيَةِ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ بِاسْتِذْكَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَيْمَانِهِ إِنْ كَانَتْ غَمُوسًا مِنَ الْحِرْمَانِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ وَجْهُ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً فِي صِيغَتِهَا لِصِيَغِ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ هِيَ الْمَجْعُولَةُ بَدَلًا عَنِ الشُّهُودِ وَأَنَّ هَذِهِ الْخَامِسَةَ تَذْيِيلٌ لِلشَّهَادَةِ وَتَغْلِيظٌ لَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بِالرَّفْعِ كَقَوْلِهِ: وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ

عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَرْبَعُ شَهاداتٍ الثَّانِي وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بِتَشْدِيدِ نُونِ (أَنَّ) وبلفظ الْمصدر فِي أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وَجَرِّ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِإِضَافَةِ (غَضَبَ) إِلَيْهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تُقَدَّرَ بَاءُ الْجَرِّ دَاخِلَةً عَلَى أَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَعَلقَة ب الْخامِسَةُ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَالشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ، لِيَتَّجِهَ فَتْحُ هَمْزَةِ (أَنَّ) فِيهِمَا. وَالْمَعْنَى: أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ أَوْ تَشْهَدَ الْمَرْأَةُ بِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ أَوْ بِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ، أَيْ بِمَا يُطَابِقُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِ نُونِ (أَنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ وغَضَبَ اللَّهِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ، وَرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي بَعْدَ غَضَبَ. وَخُرِّجَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى جَعْلِ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ مُهْمَلَةَ الْعَمَلِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ أَيْ تَهْوِيلًا لِشَأْنِ الشَّهَادَةِ الْخَامِسَةِ. وَرُدَّ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَدَمِ خُلُوِّ جُمْلَةِ خَبَرِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: قَدْ، وَحَرْفُ النَّفْيِ، وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ، وَلَوْلَا. وَالَّذِي أَرَى أَنْ تُجْعَلَ (أَنْ) عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ الْخَامِسَةَ يَمِينٌ فَفِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَيُنَاسِبُهَا التَّفْسِيرُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بِتَخْفِيفِ (أَن) وَرفع لَعْنَتَ وَجَرِّ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَقَرَأَ وَحْدَهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بِتَخْفِيفِ (أَنْ) وَفَتْحِ ضَادِ غَضَبَ وَرَفْعِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَيُجَرُّ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالْإِضَافَةِ. وَعَلَى كُلِّ الْقِرَاءَاتِ لَا يَذْكُرُ الْمُتَلَاعِنَانِ فِي الْخَامِسَةِ مِنْ يَمِينِ اللِّعَانِ لَفْظَ (أَنَّ) فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي وَصْفِ أَيْمَانِ اللِّعَانِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ. وَالْقَوْلُ فِي صِيغَةِ الْخَامِسَةِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي صِيَغِ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ. وَعَيَّنَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ خُصُوصَ اللَّعْنَةِ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ عَرَّضَ بِامْرَأَتِهِ لِلَعْنَةِ النَّاسِ وَنَبْذِ الْأَزْوَاجِ إِيَّاهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ اللَّعْنَةَ.

وَاللَّعْنَةُ وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ بِتَحْقِيرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [35] . وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ سَمَّى رَجُلًا مُعَيَّنًا زَنَى بِامْرَأَتِهِ صَارَ قَاذِفًا لَهُ زِيَادَةً عَلَى قَذْفِهِ الْمَرْأَةَ، وَأَنَّهُ إِذَا لَاعَنَ وَأَتَمَّ اللِّعَانَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلْمَرْأَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي قَذْفِهِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي نَسَبَ إِلَيْهِ الزِّنَى. وَقد اخْتلف الْأَئِمَّة فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالسُّنَّةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ حَدَّ الْفِرْيَةِ عَلَى عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَلَا عَلَى هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ اللِّعَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُسْقِطُ اللِّعَانُ حَدَّ الْمُلَاعِنِ لِقَذْفِ امْرَأَتِهِ وَلَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ لِرَجُلٍ سَمَّاهُ، وَالْحُجَّةُ لَهُمَا بِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ مُقْتَضِيَةً صِدْقَ دَعْوَى الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمَرْأَةُ زَانِيَةً أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ زِنًى لِأَنَّهَا فِي عِصْمَةٍ فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، فَلَمْ تُهْمِلِ الشَّرِيعَةُ حَقَّ الْمَرْأَةِ وَلَمْ تَجْعَلْهَا مَأْخُوذَةً بِأَيْمَانٍ قَدْ يَكُونُ حَالِفُهَا كَاذِبًا فِيهَا لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ فَجَعَلَ لِلزَّوْجَةِ مُعَارَضَةَ أَيْمَانِ زَوْجِهَا كَمَا جَعَلَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الطَّعْنَ فِي الشَّهَادَةِ بِالتَّجْرِيحِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ أَيْمَانُ الْمَرْأَةِ لِرَدِّ أَيْمَانِ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ أَيْمَانُ الرَّجُلِ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ وَسُمِّيَتْ شَهَادَةً، كَانَتْ أَيْمَانُ الْمَرْأَةِ لِرَدِّهَا يُنَاسِبُ أَنْ تُسَمَّى شَهَادَةً وَلِأَنَّهَا كَالشَّهَادَةِ الْمُعَارِضَةِ، وَلِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُعَارِضَةِ كَانَتْ أَيْمَانُ الْمَرْأَةِ كُلُّهَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَاهُ لَا عَلَى إِثْبَاتِ بَرَاءَتِهَا أَوْ صِدْقِهَا. وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِبْطَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [22] .

[سورة النور (24) : آية 10]

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذابَ ظَاهِرٌ فِي الْعَهْدِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النُّور: 2] . فَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ تَحْلِفْ أَيْمَانَ اللِّعَانِ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ رِوَايَاتُ حَدِيثِ اللِّعَانِ فِي السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا نَكَلَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ أَيْمَانِ اللِّعَانِ لَمْ تُحَدَّ لِأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ أَوْ إِقْرَارٍ. فَعِنْدَهُ يَرْجِعُ بِهَا إِلَى حُكْمِ الْحَبْسِ الْمَنْسُوخِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ إِنَّمَا نُسِخَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَبَقِيَ فِي الْبَعْضِ. وَالْقَوْلُ فِي صِيغَةِ أَيْمَانِ الْمَرْأَةِ كَالْقَوْلِ فِي صِيغَةِ أَيْمَانِ الزَّوْجِ سَوَاءً. وَعُيِّنَ لَهَا فِي الْخَامِسَةِ الدُّعَاءُ بِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ صَدَقَ زَوْجُهَا لِأَنَّهَا أَغْضَبَتْ زَوْجَهَا بِفِعْلِهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهَا عَلَى ذَلِكَ غَضَبَ رَبِّهَا عَلَيْهَا كَمَا أَغْضَبَتْ بَعْلَهَا. وَتَتَفَرَّعُ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ يَتَعَرَّضُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِبَعْضِهَا وَهِيَ مِنْ مَوْضُوعِ كتب الْفُرُوع. [10] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 10] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) تَذْيِيلٌ لِمَا مَرَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّفَضُّلِ مِنَ اللَّهِ وَالرَّحْمَةِ مِنْهُ، وَالْمُؤْذِنَةُ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْمُنْبِئَةُ بِكَمَالِ حِكْمَتِهِ تَعَالَى إِذْ وَضَعَ الشِّدَّةَ مَوْضِعَهَا وَالرِّفْقَ مَوْضِعَهُ وَكَفَّ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا دَخَلَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ تَحْتَ كُلِّيِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ تَذْيِيلًا. وَجَوَابُ (لَوْلَا) مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ مَضْمُونِهِ فَيَدُلُّ تَهْوِيلُهُ عَلَى تَفْخِيمِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي امْتِنَاعِ حُصُولِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَدَفَعَ عَنْكُمْ أَذَى بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بِمَا شَرَعَ مِنَ الزَّوَاجِرِ لَتَكَالَبَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ بِكُمْ فَقَدَّرَ لَكُمْ تَخْفِيضًا مِمَّا شَرَّعَ مِنَ الزَّوَاجِرِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ وَالْعُذْرِ لَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ مَثَارِ الْغَيْرَةِ، فَإِذَا بَاحَ بِذَلِكَ أُخِذَ بِعِقَابٍ وَإِذَا انْتَصَفَ لِنَفْسِهِ

[سورة النور (24) : آية 11]

أَهْلَكَ بَعْضًا أَوْ سَكَتَ عَلَى مَا لَا عَلَى مِثْلِهِ يُغْضَى، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ لَمَا رَدَّ عَلَى مَنْ تَابَ فَأَصْلَحَ مَا سَلَبَهُ مِنْهُ مِنَ الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَفِي ذِكْرِ وَصْفِ «الْحَكِيمِ» هُنَا مَعَ وَصْفِ تَوَّابٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي هَذِهِ التَّوْبَةِ حِكْمَةً وَهِيَ اسْتِصْلَاحُ النَّاسِ. وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْلا لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَحَذْفُهُ طَرِيقَةٌ لِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مِثْلُ حَذْفِ جَوَابِ (لَوْ) ، وَتَقَدَّمَ حَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَو ترى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [165] . وَجَوَابُ (لَوْلَا) لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ شَاهِدٌ لِحَذْفِهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ (لَوْلَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (لَوْ) و (لَا) . [11] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 11] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَشْرَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النُّور: 21] نَزَلَتْ فِي زَمَنٍ بَعِيدٍ عَنْ زَمَنِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ. وَالْإِفْكُ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى كَذِبٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَهُوَ بُهْتَانٌ يَفْجَأُ النَّاسَ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَفْكِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ قَلْبُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَأُدَمَةَ وَصَبُويِيمَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ أَصْحَابَ الْمُؤْتَفِكَةِ لِأَنَّ قُرَاهُمُ ائْتَفَكَتْ، أَيْ قُلِبَتْ وَخُسِفَ بِهَا فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ حَالَتِهِ الْوَاقِعِيَّةِ قَلْبًا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَسُمِّيَ إِفْكًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [117] . وجاؤُ بِالْإِفْكِ مَعْنَاهُ: قَصَدُوا وَاهْتَمُّوا. وَأَصْلُهُ: أَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ بِخَبَرٍ غَرِيبٍ يُقَالُ لَهُ: جَاءَ بِخَبَرٍ كَذَا، لِأَن شَأْنَ الْأَخْبَارِ الْغَرِيبَةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْوَافِدِينَ مِنْ

أَسْفَارٍ أَوِ الْمُبْتَعِدِينَ عَنِ الْحَيِّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: 6] فَشَبَّهَ الْخَبَرَ بِقُدُومِ الْمُسَافِرِ أَوِ الْوَافِدِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ وَجَعَلَ الْمَجِيءَ تَرْشِيحًا وَعُدِّيَ بِبَاءِ الْمُصَاحَبَةِ تَكْمِيلًا لِلتَّرَشُّحِ. وَالْإِفْكُ: حَدِيثٌ اخْتَلَقَهُ الْمُنَافِقُونَ وَرَاجَ عِنْدَ الْمُنَافِقِينَ وَنَفَرٍ مِنْ سُذَّجِ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا لِمُجَرَّدِ اتِّبَاعِ النَّعِيقِ وَإِمَّا لِإِحْدَاثِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَحَاصِلُ هَذَا الْخَبَرِ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَتُسَمَّى غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ وَلَمْ تَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مَرْحَلَةٌ. آذَنَ بِالرَّحِيلِ آخِرَ اللَّيْلِ. فَلَمَّا عَلِمَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ خَرَجَتْ مِنْ هَوْدَجِهَا وَابْتَعَدَتْ عَنِ الْجَيْشِ لِقَضَاءِ شَأْنِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ النِّسَاءِ قَبْلَ التَّرَحُّلِ فَلَمَّا فَرَغَتْ أَقْبَلَتْ إِلَى رَحْلِهَا فَافْتَقَدَتْ عِقْدًا مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ كَانَ فِي صَدْرِهَا فَرَجَعَتْ عَلَى طَرِيقِهَا تَلْتَمِسُهُ فَحَبَسَهَا طَلَبُهُ وَكَانَ لَيْلٌ. فَلَمَّا وَجَدَتْهُ رَجَعَتْ إِلَى حَيْثُ وُضِعَ رَحْلُهَا فَلَمْ تَجِدِ الْجَيْشَ وَلَا رَحْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ الْمُوَكَّلِينَ بِالتَّرَحُّلِ قَصَدُوا الْهَوْدَجَ فَاحْتَمَلُوهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ عَائِشَةَ فِيهِ وَكَانَتْ خَفِيفَةً قَلِيلَةَ اللَّحْمِ فَرَفَعُوا الْهَوْدَجَ وَسَارُوا فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا اضْطَجَعَتْ فِي مَكَانِهَا رَجَاءَ أَنْ يَفْتَقِدُوهَا فَيَرْجِعُوا إِلَيْهَا فَنَامَتْ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ (بِكَسْرِ الطَّاءِ) السُّلَمِيُّ (بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ وَكَانَ مُسْتَوْطِنًا الْمَدِينَةَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْعَرَبِ) قَدْ أَوْكَلَ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِرَاسَةَ سَاقَةِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِابْتِعَادِ الْجَيْشِ وَأَمِنَ عَلَيْهِ مِنْ غَدْرِ الْعَدُوِّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ لِيَلْتَحِقَ بِالْجَيْشِ فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ بِهِ الْجَيْشُ بَصُرَ بِسَوَادِ إِنْسَانٍ فَإِذَا هِيَ عَائِشَةُ وَكَانَ قَدْ رَآهَا قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَرْجَعَ، وَاسْتَيْقَظَتْ عَائِشَةُ بِصَوْتِ اسْتِرْجَاعِهِ وَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَأَدْنَاهَا مِنْهَا وَأَنَاخَهَا فَرَكِبَتْهَا عَائِشَةُ وَأَخَذَ يَقُودُهَا حَتَّى لَحِقَ بِالْجَيْشِ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْجَيْشِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نَجَتْ مِنْهُ وَلَا نَجَا مِنْهَا، فَرَاجَ قَوْلُهُ عَلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ (بِكَسْرِ مِيمِ مِسْطَحٍ وَفَتْحِ طَائِهِ وَضَمِّ هَمْزَةِ أُثَاثَةَ) وَحِمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ أُخْتِ زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ

حَمَلَتْهَا الْغَيْرَةُ لأختها ضرَّة عَائِشَة وَسَاعَدَهُمْ فِي حَدِيثِهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. فَالْإِفْكُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الِاخْتِلَاقِ. وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ كَذَا قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ الْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ «عُصْبَةٌ أَرْبَعَة مِنْكُم» . وهم اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ مِنْ لَفْظِهِ، وَيُقَالُ: عِصَابَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ [8] . وعُصْبَةٌ بَدَلٌ من ضمير جاؤُ. وَجُمْلَةُ: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ خَبَرُ إِنَّ. وَالْمَعْنَى: لَا تَحْسَبُوا إِفْكَهُمْ شَرًّا لَكُمْ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ مِنْ تَحْسَبُوهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْإِفْكِ وَكَانَ الْإِفْكُ مُتَعَلقا بِفعل جاؤُ صَارَ الضَّمِيرُ فِي قُوَّةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ. فَالتَّقْدِيرُ: لَا تَحْسَبُوا الْإِفْكَ الْمَذْكُورَ شَرًّا لَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ قَوْلَهُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ لَا تَحْسَبُوهُ مُعْتَرِضَةً. وَيَجُوزُ جَعْلُ عُصْبَةٌ خَبَرَ إِنَّ وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ مِنَ الْقَوْمِ أَشَدُّ نُكْرًا، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ وَذِكْرُ عُصْبَةٌ تَحْقِيرٌ لَهُمْ وَلِقَوْلِهِمْ، أَيْ لَا يُعْبَأُ بِقَوْلِهِمْ فِي جَانِبِ تَزْكِيَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِمَنْ رَمَوْهُمَا بِالْإِفْكِ. وَوَصْفُ الْعُصْبَةِ بِكَوْنِهِمْ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنْ خُلُقِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ تَصَدَّوْا لِأَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِإِزَالَةِ مَا حَصَلَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَسَفِ مِنِ اجْتِرَاءِ عُصْبَةٍ عَلَى هَذَا الْبُهْتَانِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ فَضَمِيرُ تَحْسَبُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِفْكِ.

وَالشَّرُّ الْمَحْسُوبُ: أَنَّهُ أَحْدَثَ فِي نَفَرٍ مَعْصِيَةَ الْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَوَدُّونَ أَنْ تَكُونَ جَمَاعَتُهُمْ خَالِصَةً مِنَ النَّقَائِصِ (فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ) . فَلَمَّا حدث فيهم هَذَا الِاضْطِرَابُ حَسِبُوهُ شَرًّا نَزَلَ بِهِمْ. وَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرًّا لَهُمْ لِأَنَّهُ يَضِيرُهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْأَسَفِ الزَّائِلِ وَهُوَ دُونَ الشَّرِّ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَيَتَمَحَّضُ إِثْمُهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَهُمْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى لَا يَضُرُّ ضَلَالُهُمُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَقِيقَةُ الْخَيْرِ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ مَا زَادَ ضَرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ. وَإِنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ. فَنَبَّهَ اللَّهُ عَائِشَةَ وَمَنْ مَاثَلَهَا مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ شَرٌّ بَلْ هُوَ خَيْرٌ عَلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ الشَّرِّ اهـ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخَيْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [76] . وَبَعْدَ إِزَالَةِ خَاطِرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرًّا لِلْمُؤْمِنِينَ أَثْبَتَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ فَأَتَى بِالْإِضْرَابِ لِإِبْطَالِ أَنْ يَحْسَبُوهُ شَرًّا، وَإِثْبَاتِ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِأَنَّ فِيهِ مَنَافِعَ كَثِيرَةً إِذْ يُمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَتُشْرَعُ لَهُمْ بِسَبَبِهِ أَحْكَامٌ تَرْدَعُ أَهْلَ الْفِسْقِ عَنْ فِسْقِهِمْ، وَتَتَبَيَّنُ مِنْهُ بَرَاءَةُ فُضَلَائِهِمْ، وَيَزْدَادُ الْمُنَافِقُونَ غَيْظًا وَيُصْبِحُونَ مُحَقَّرِينَ مَذْمُومِينَ، وَلَا يَفْرَحُونَ بِظَنِّهِمْ حُزْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَقُوا هَذَا الْخَبَرَ مَا أَرَادُوا إِلَّا أَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَجِيءُ مِنْهُ مُعْجِزَاتٌ بِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : ... وَفَوَائِدُ دِينِيَّةٌ وَآدَابٌ لَا تَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلِهَا اهـ. وَعدل عَن أَنْ يَعْطِفَ خَيْراً عَلَى شَرًّا بِحَرْفِ (بَلْ) فَيُقَالُ: بَلْ خَيْرًا لَكُمْ، إِيثَارًا لِلْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ.

[سورة النور (24) : آية 12]

وَالْإِثْمُ: الذَّنْبُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [219] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [120] . وَتَوَلِّي الْأَمْرِ: مُبَاشَرَةُ عَمَلِهِ وَالتَّهَمُّمُ بِهِ. وَالْكِبْرُ بِكَسْرِ الْكَافِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الْكَافِ. وَقَرَأَ بِهِ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَشَدُّ الشَّيْءِ وَمُعْظَمُهُ، فَهُمَا لُغَتَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيِّ وَالزَّجَّاجُ: الْمَكْسُورُ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَالْمَضْمُومُ: مُعْظَمُ الشَّيْءِ. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ. وَقِيلَ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ حَسَّانُ ابْن ثَابِتٍ لِمَا وَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : «عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلَ حَسَّانُ عَلَى عَائِشَةَ فَأَنْشَدَ عِنْدَهَا أَبْيَاتًا مِنْهَا: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَكِنْ أَنْتَ لَسْتَ كَذَلِكَ. قَالَ مَسْرُوقٌ فَقُلْتُ: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فَقَالَتْ: أَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى» . وَالْوَعِيدُ بِأَنَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهُ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ. وَفِيهِ إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَذَّبُ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْعُصْبَةِ فَلَهُمْ مِنَ الْإِثْمِ بِمِقْدَارِ ذَنْبِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ تَابُوا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذَا الدَّين. [12] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 12] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) اسْتِئْنَافٌ لِتَوْبِيخِ عُصْبَةِ الْإِفْكِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْنِيفِهِمْ بَعْدَ أَنْ سَمَّاهُ إِفْكًا.

وَ (لَوْلا) هُنَا حَرْفٌ بِمَعْنَى (هَلَّا) لِلتَّوْبِيخِ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا إِذَا وَلِيَهَا الْفِعْلُ الْمَاضِي وَهُوَ هُنَا ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَمَّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ فَهُوَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الظَّنِّ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ وَمَحَلُّ التَّوْبِيخِ جُمْلَةُ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً فَأَسْنَدَ السَّمَاعَ إِلَى جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ وَخَصَّ بِالتَّوْبِيخِ مَنْ سَمِعُوا وَلَمْ يُكَذِّبُوا الْخَبَرَ. وَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى الْإِبْهَامِ فِي التَّوْبِيخِ بِطَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ دُونَ عَدَدِ الْجَمْعِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَظُنَّ خَيْرًا رَجُلَانِ، فَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِالْمُؤْمِنِينَ وَامْرَأَةٌ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْمُؤْمِنَاتِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: 173] . وَقَوْلُهُ: بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ فَيَقْتَضِي التَّوْزِيعَ، أَيْ ظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْآخَرِينَ مِمَّنْ رَمَوْا بِالْإِفْكِ خَيْرًا إِذْ لَا يَظُنُّ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] أَيْ يَلْمِزُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقَوْلِهِ: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] . رُوِيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الْإِفْكِ قَالَ لِزَوْجِهِ: أَلَا تَرَيْنَ مَا يُقَالُ؟ فَقَالَتْ لَهُ: لَوْ كُنْتَ بَدَلَ صَفْوَانَ أَكُنْتَ تَظُنُّ بِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ سُوءًا؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: وَلَوْ كُنْتُ أَنَا بَدَلَ عَائِشَةَ مَا خُنْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَعَائِشَةُ خَيْرٌ مِنِّي وَصَفْوَانُ خَيْرٌ مِنْكَ. قَالَ: نَعَمْ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ وَهُوَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قُلْتُمْ [النُّور: 16] لِلِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِ ذَلِكَ الظَّرْفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ كَانَ مِنْ وَاجِبِهِمْ أَنْ يَطْرُقَ ظَنُّ الْخَيْرِ قُلُوبَهُمْ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ الْخَيْر وَأَن يتبرؤا مِنَ الْخَوْضِ فِيهِ بِفَوْرِ سَمَاعِهِ. وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي إِسْنَادِ فِعْلِ الظَّنِّ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْتِفَات، فَمُقْتَضى الظَّاهِر أَنْ يُقَالَ: ظَنَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّوْبِيخِ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ ضَرْبٌ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَلِيُصَرِّحَ بِلَفْظِ

[سورة النور (24) : آية 13]

الْإِيمَانِ، دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْإِيمَانِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُصَدِّقَ مُؤْمِنٌ عَلَى أَخِيهِ وَأُخْتِهِ فِي الدِّينِ وَلَا مُؤْمِنَةٌ عَلَى أَخِيهَا وَأُخْتِهَا فِي الدِّينِ قَوْلَ عَائِبٍ وَلَا طَاعِنٍ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ إِذَا سَمِعَ قَالَةً فِي مُؤْمِنٍ أَنْ يَبْنِيَ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى الظَّنِّ لَا عَلَى الشَّكِّ ثُمَّ يَنْظُرَ فِي قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَصَلَاحِيَّةِ الْمَقَامِ فَإِذَا نُسِبَ سوء إِلَى من عُرْفٍ بِالْخَيْرِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إِفْكٌ وَبُهْتَانٌ حَتَّى يَتَّضِحَ الْبُرْهَانُ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ ظَنَّ السَّوْءِ الَّذِي وَقَعَ هُوَ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الَّتِي سَرَتْ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ غُرُورٍ وَقِلَّةِ بَصَارَةٍ فَكَفَى بِذَلِكَ تَشْنِيعًا لَهُ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى عَدَمِ إِعْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي تَكْذِيبِ قَوْلٍ يُنَادِي حَالُهُ بِبُهْتَانِهِ وَعَلَى سُكُوتِهِمْ عَلَيْهِ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ. وَعَطْفُ وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ تَشْرِيعٌ لِوُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ بِإِنْكَارِ مَا يَسْمَعُهُ الْمُسْلِمُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْمُسْلِمِ بِالْقَوْلِ كَمَا يُنْكِرُهُ بِالظَّنِّ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَالْبَاءُ فِي بِأَنْفُسِهِمْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الظَّنِّ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ هُنَا إِلَى وَاحِدٍ إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى الِاتِّهَامِ. وَالْمُبِينُ: الْبَالِغُ الْغَايَةَ فِي الْبَيَانِ، أَيِ الْوُضُوحِ كَأَنَّهُ لِقُوَّةِ بَيَانِهِ قَدْ صَارَ يبين غَيره. [13] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 13] لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ لِتَوْبِيخِ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ وَذَمٌّ لَهُمْ. وَ (لَوْلَا) هَذِهِ مِثْلُ (لَوْلَا) السَّابِقَةِ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ خَبَرًا عَنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي خَبَرِهِ إِلَى إِخْبَارِ مُشَاهِدٍ، وَيَجِبُ كَوْنُ الْمُشَاهِدِينَ الْمُخْبِرِينَ عَدَدًا يُفِيدُ خَبَرُهُمُ

[سورة النور (24) : آية 14]

الصِّدْقَ فِي مِثْلِ الْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ فَالَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ اخْتَلَقُوهُ مِنْ سُوءِ ظُنُونِهِمْ فَلَمْ يَسْتَنِدُوا إِلَى مُشَاهَدَةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ وَلَا إِلَى شَهَادَةِ مَنْ شَاهَدُوهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ مِثْلُهُمْ فَكَانَ خَبَرُهُمْ إِفْكًا. وَهَذَا مُسْتَنِدٌ إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَقَرَّرِ مِنْ قَبْلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النُّور: 4] فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةِ النُّورِ نَزَلَ أَوَاخِرَ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَوَائِلَ سَنَةِ ثَلَاثٍ قَبْلَ اسْتِشْهَادِ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ كَذِبَهُمْ لِقُوَّتِهِ وَشَنَاعَتِهِ لَا يُعَدُّ غَيْرُهُمْ مِنَ الْكَاذِبِينَ كَاذِبًا فَكَأَنَّهُمُ انْحَصَرَتْ فِيهِمْ مَاهِيَّةُ الْمَوْصُوفِينَ بِالْكَذِبِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَحْذَرَ النَّاسُ أَمْثَالَهُمْ. وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ كَذِبِهِمْ، أَيْ هُوَ كَذِبٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُوَافِقًا لِنَفْسِ الْأَمْرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُهُ قَيْدًا لِلِاحْتِرَازِ. فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: هُمُ الْكَاذِبُونَ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. وَهَذَا يُنَافِي غَرَضَ الْكَلَامِ وَيُجَافِي مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ تَأْكِيدِ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ هُوَ شَرْعُ اللَّهِ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النُّور: 4] إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. فَمَسْأَلَةُ الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا تُؤْخَذُ مِنْ هَذِه الْآيَة. [14] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 14] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) لَوْلا هَذِهِ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ. وَالْفَضْلُ فِي الدُّنْيَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إِسْقَاطُ عُقُوبَةِ الْحَدِّ عَنْهُمْ بِعَفْوِ عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ عَنْهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ إِسْقَاطُ الْعِقَابِ

[سورة النور (24) : آية 15]

عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَحَدًا مِنَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْإِفْكِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الرِّوَايَاتِ: إِمَّا لِعَفْوِ عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْإِفْكِ كَانَ تَخَافُتًا وَسِرَارًا وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهِ وَلَكِنَّهُمْ أَشَاعُوهُ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْإِفْكِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَكَيْفَ سَمِعَتِ الْخَبَرَ مِنْ أُمِّ مِسْطَحٍ وَقَوْلَهَا: أَوَ قَدْ تُحُدِّثَ بِهَذَا وَبَلَغَ النَّبِيءَ وَأَبَوَيَّ؟!. وَقِيلَ: حَدَّ حَسَّانَ وَمِسْطَحًا وَحِمْنَةَ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ فَرِيقٌ: إِنَّهُ لَمْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُبَيًّا جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ أَيْضًا. وَالْإِفَاضَةُ فِي الْقَوْلِ مُسْتَعَارٌ مِنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، أَيْ كَثْرَتِهِ فِيهِ. فَالْمَعْنَى: مَا أَكْثَرْتُمُ الْقَوْلَ فِيهِ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ بَيْنكُم. [15] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 15] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ ب أَفَضْتُمْ [النُّور: 14] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَمِنَ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهَا اسْتِحْضَارُ صُورَةِ حَدِيثِهِمْ فِي الْإِفْكِ وَبِتَفْظِيعِهَا. وَأَصْلُ تَلَقَّوْنَهُ تَتَلَقَّوْنَهُ بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا. وَأَصْلُ التَّلَقِّي أَنَّهُ التَّكَلُّفُ لِلِقَاءِ الْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 37] أَيْ عَلِمَهَا وَلَقَّنَهَا، ثُمَّ يُطْلَقُ التَّلَقِّي عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ بِالْيَدِ مِنْ يَدِ الْغَيْرِ كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا تَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ..» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ بِتَشْبِيهِ التَّهَيُّؤِ لِأَخْذِ الْمُعْطَى

بِالتَّهَيُّؤِ لِلِقَاءِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ هُوَ إِطْلَاقُهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ. فَفِي قَوْلِهِ: بِأَلْسِنَتِكُمْ تَشْبِيهُ الْخَبَرِ بِشَخْصٍ وَتَشْبِيهُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ بِمَنْ يَتَهَيَّأُ وَيَسْتَعِدُّ لِلِقَائِهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ فَجُعِلَتِ الْأَلْسُنُ آلَةً لِلتَّلَقِّي عَلَى طَرِيقَةٍ تَخْيِيلِيِّةٍ بِتَشْبِيهِ الْأَلْسُنِ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرِ بِالْأَيْدِي فِي تَنَاوُلِ الشَّيْءِ. وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْأَلْسُنُ آلَةً لِلتَّلَقِّي مَعَ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأَخْبَارِ بِالْأَسْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّلَقِّي غَايَتُهُ التَّحَدُّثُ بِالْخَبَرِ جُعِلَتِ الْأَلْسُنُ مَكَانَ الْأَسْمَاعِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَيْلُولَةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحِرْصِهِمْ عَلَى تَلَقِّي هَذَا الْخَبَرِ فَهُمْ حِينَ يَتَلَقَّوْنَهُ يُبَادِرُونَ بِالْإِخْبَارِ بِهِ بِلَا تَرَوٍّ وَلَا تَرَيُّثٍ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ فَوَجْهُ ذِكْرِ بِأَفْواهِكُمْ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْأَفْوَاهِ أَنَّهُ أُرِيدَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ هُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ عَنْ مُجَرَّدِ تَصَوُّرٍ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْعِلْمِ قَائِمَةٌ بِنَقِيضِ مَدْلُولِ هَذَا الْقَوْلِ فَصَارَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ تَجْرِي عَلَى الْأَفْوَاهِ. وَفِي هَذَا مِنَ الْأَدَبِ الْأَخْلَاقِيِّ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ إِلَّا مَا يَعْلَمُهُ وَيَتَحَقَّقُهُ وَإِلَّا فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: أَفِنُ الرَّأْيِ يَقُولُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقُولَ الْكَذِبَ فَيَحْسَبُهُ النَّاسُ كَذَّابًا. وَفِي الْحَدِيثِ: بِ «حَسْبُ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ، أَوْ رَجُلٌ مُمَوِّهٌ مُرَاءٍ يَقُولُ مَا يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: 204] وَقَالَ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 3] . هَذَا فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي الْوَعْدِ فَلَا يَعِدُ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْوَفَاءَ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخلف، وَإِذا ائْتمن خَانَ» . وَزَادَ فِي تَوْبِيخِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، أَيْ تَحْسَبُونَ الْحَدِيثَ بِالْقَذْفِ أَمْرًا هَيِّنًا. وَإِنَّمَا حَسِبُوهُ هَيِّنًا لِأَنَّهُمُ اسْتَخَفُّوا الْغِيبَةَ وَالطَّعْنَ فِي النَّاسِ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ

[سورة النور (24) : آية 16]

لَهُمْ وَازِعٌ من الدَّين يرعهم فَلِذَلِكَ هُمْ يَحْذَرُونَ النَّاسَ فَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ بِالْيَدِ وَبِالسَّبِّ خَشْيَةً مِنْهُمْ فَإِذَا خَلَوْا أَمِنُوا مِنْ ذَلِكَ. فَهَذَا سَبَبُ حُسْبَانِهِمُ الْحَدِيثَ فِي الْإِفْكِ شَيْئًا هَيِّنًا وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِزَالَةِ مَسَاوِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَالْهَيِّنُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَوَانِ، وَهَوَانُ الشَّيْءِ عَدَمُ تَوْقِيرِهِ وَالْمُبَالَاةِ بِشَأْنِهِ، يُقَالُ: هَانَ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَيْ لَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ أَمْرًا مُهِمًّا، وَالْمَعْنَى: شَيْئًا هَيِّنًا. وَإِنَّمَا حَسِبُوهُ هَيِّنًا مَعَ أَنَّ الْحَدَّ ثَابِتٌ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بِحَسَبِ ظَاهر تَرْتِيب الْآي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النُّور: 4] الْآيَةَ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ تَحْدُثْ قَضِيَّةُ قَذْفٍ فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ وَنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ حَدَثَتْ قَضِيَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَصْحَابُ الْإِفْكِ، أَوْ حَسِبُوهُ هَيِّنًا لِغَفْلَتِهِمْ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ الْحَدِّ إِذْ كَانَ الْعَهْدُ بِهِ حَدِيثًا. وَفِيهِ مِنْ أَدَبِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ احْتِرَامَ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءً فِي الْغَيْبَةِ وَالْحَضْرَةِ وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَمَعْنَى: عِنْدَ اللَّهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِمَّا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْحُكْمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّور: 13] . [16] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 16] وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ [النُّور: 12] إِلَخْ. وَأُعِيدَتْ (لَوْلَا) وَشَرْطُهَا وَجَوَابُهَا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْ قُلْتُمْ الَّذِي فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى قُلْتُمْ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِقَصْدِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ وَهُوَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا كَتَقْدِيمِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ [النُّور: 12] إِلَخْ وَهُوَ الِاهْتِمَامُ بِمَدْلُولِ الظَّرْفِ.

وَضَمِيرُ سَمِعْتُمُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِفْكِ مِثْلُ الضَّمَائِرِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْإِفْكِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاقِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا هُوَ حَاضِرٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ سَمَاعِ الْإِفْكِ. وَمَعْنَى قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ يَقُولُوا لِلَّذِينِ أَخْبَرُوهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْآفِكِ. أَيْ قُلْتُمْ لَهُمْ زَجْرًا وَمَوْعِظَةً. وَضَمِيرُ لَنا مُرَادٌ بِهِ الْقَائِلُونَ وَالْمُخَاطَبُونَ. فَأَمَّا الْمُخَاطَبُونَ فَلِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِهِ حِينَ حَدَّثُوهُمْ بِخَبَرِ الْإِفْكِ. وَالْمَعْنَى: مَا يَكُونُ لَكُمْ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِهَذَا، وَأَمَّا المتكلمون فلتنزههم من أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ الْبُهْتَانُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَكَيْنُونَةَ الْخَوْضِ فِيهِ حَقِيقٌ بِالِانْتِفَاءِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَكَ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَفْعَلَ، أَشَدُّ فِي نَفْيِ الْفِعْلِ عَنْكَ مِنْ قَوْلِكَ: لَيْسَ لِي أَنْ أَفْعَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [الْمَائِدَة: 116] . وَهَذَا مَسُوقٌ لِلتَّوْبِيخِ عَلَى تَنَاقُلِهِمُ الْخَبَرَ الْكَاذِبَ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ فِي نَفْسِهِ: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، وَيَقُولُ ذَلِكَ لِمَنْ يُجَالِسُهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْهُ. فَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى التَّوْبِيخِ عَلَى السُّكُوتِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النُّور: 12] . وسُبْحانَكَ جُمْلَةُ إِنْشَاءٍ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا وَجُمْلَةِ: هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ وَقَعَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ نُسَبِّحُ سُبْحَانًا لَكَ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّعَجُّبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاء: 1] وَقَوْلِهِ: وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

[سورة النور (24) : الآيات 17 إلى 18]

فِي سُورَةِ يُوسُفَ [108] . وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ هُنَا لِإِعْلَانِ الْمُتَكَلِّمِ الْبَرَاءَةَ مِنْ شَيْءٍ بِتَمْثِيلِ حَالِ نَفْسِهِ بِحَالِ مَنْ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا يَقُول فيبتدىء بِخِطَابِ اللَّهِ بِتَعْظِيمِهِ ثُمَّ بِقَوْلِ: هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تبرّئا مِنْ لَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي إِنْكَارِ الشَّيْءِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ وُقُوعِهِ. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللَّهَ غَاضِبٌ عَلَى مَنْ يَخُوضُ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَجَّهُوا لِلَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ لِمَنْ خَاضُوا فِيهِ وَبِالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ. وَجُمْلَةُ: هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي تَوْبِيخِ الْمَقُولِ لَهُمْ. وَوَصْفُ الْبُهْتَانِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي وُقُوعِهِ، أَيْ بَالِغٌ فِي كُنْهِ الْبُهْتَانِ مَبْلَغًا قَوِيًّا. وَإِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ: الْكَذِبُ، وَكَون الْكَذِب يطعن فِي سَلَامَةِ الْعَرْضِ، وَكَوْنُهُ يُسَبِّبُ إِحَنًا عَظِيمَةً بَيْنَ الْمُفْتَرِينَ والمفترى عَلَيْهِم بِدُونِ عذر، وَكَون المفترى عَلَيْهِمْ مِنْ خِيرَةِ النَّاسِ وَانْتِمَائِهِمْ إِلَى أَخْيَرِ النَّاسِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَآبَاءٍ وَقُرَابَاتٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اجْتِرَاءٌ عَلَى مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقام أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْكُفْرَانِ وَالْغُفْرَانِ. وَالْبُهْتَانُ: الْخَبَرُ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ السَّامِعَ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً فِي سُورَة النِّسَاء [156] . [17، 18] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 17 إِلَى 18] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي خَبَرِ الْإِفْكِ مِنْ تَبِعَاتٍ لَحِقَ بِسَبَبِهَا لِلَّذِينِ جَاءُوا بِهِ وَالَّذِينَ تَقَبَّلُوهُ عَدِيدُ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ، وَافْتِضَاحٌ لِلَّذِينِ رَوَّجُوهُ

وَخَيْبَةٌ مُخْتَلَقَةٌ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، وَانْتِفَاعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بذلك، وبيّن بادىء ذِي بَدْءٍ أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ شَرًّا لَهُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ مَا اكْتَسَبُوا بِهِ إِلَّا إِثْمًا، وَمَا لَحِقَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ ضُرٌّ، وَنَعَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَهَاوُنَهُمْ وَغَفْلَتَهُمْ عَنْ سُوءِ نِيَّةِ مُخْتَلِقِيهِ، وَكَيْفَ ذَهَلُوا عَنْ ظَنِّ الْخَيْرِ بِمَنْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا إِلَّا خَيْرًا فَلَمْ يُفَنِّدُوا الْخَبَرَ، وَأَنَّهُمُ اقْتَحَمُوا بِذَلِكَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلَحَاقِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَيْفَ حَسِبُوهُ أَمْرًا هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْ تَأَمَّلُوا لَعَلِمُوا عِظَمَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَسُكُوتُهُمْ عَنْ تَغْيِيرِ هَذَا أَعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْمُجَازَفَةِ فِي التَّلَقِّي، وَمِنَ الِانْدِفَاعِ وَرَاءَ كُلِّ سَاعٍ دُونَ تثبت فِي مواطىء الْأَقْدَامِ، وَدُونَ تَبَصُّرٍ فِي عَوَاقِبِ الْإِقْدَامِ. وَالْوَعْظُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ تَجَنُّبُ الْمُخَاطَبِ بِهِ أَمْرًا قَبِيحًا. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [125] . وَفِعْلُ يَعِظُكُمُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِنَفْسِهِ، فَالْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَنْ تَعُودُوا لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِفِعْلِ يَعِظُكُمُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بِتَضْمِينِ فِعْلِ الْوَعْظِ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، أَوْ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ، فَلَكَ أَنْ تُضَمِّنَ فِعْلَ يَعِظُكُمُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ. فَالتَّقْدِيرُ: يُحَذِّرُكُمْ مِنَ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ، أَوْ يُقَدَّرُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ فِي الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ، أَوْ يُقَدَّرُ حَرْفُ نَفْيٍ، أَيْ أَنْ لَا تَعُودُوا لِمِثْلِهِ، وَحَذْفُ حَرْفِ النَّفْيِ كَثِيرٌ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ. وَالْأَبَدُ: الزَّمَانُ الْمُسْتَقْبَلُ كُلُّهُ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلنَّفْيِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَهْيِيجٌ وَإِلْهَابٌ لَهُمْ يَبْعَثُ حِرْصَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهِ لِأَنَّهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى إِثْبَاتِ إِيمَانِهِمْ، فَالشَّرْطُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَقْصِدُ بِالتَّعْلِيقِ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَعُودُوا لِمِثْلِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ احْتِمَالُ حُصُولِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ مُجْتَنَبًا كَانَ فِي ذِكْرِ الشَّرْطِ بَعْثٌ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَلَوْ تَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْإِفْكِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْتَقِدًا وُقُوعَهُ

[سورة النور (24) : آية 19]

فَمُقْتَضَى الشَّرْطِ أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ (¬1) : «سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَمَنْ سَبٍّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ» اهـ. يُرِيدُ بِالْمُخَالَفَةِ إِنْكَارَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ نَصًّا وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ لِمِثْلِهِ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ لِأَنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا بِنُصُوصٍ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَتَوَاتَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ. وَأَمَّا السَّبُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَاوٍ لِسَبِّ غَيْرِهَا مِنْ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ يَجْعَلُهَا لَكُمْ وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ النَّازِلَةُ فِي عُقُوبَةِ الْقَذْفِ وَمَوْعِظَةِ الْغَافِلِينَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمُنَاسَبَةُ التَّذْكِيرِ بِصِفَتَيِ الْعِلْمِ وَالْحكمَة ظَاهِرَة. [19] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 19] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ¬

(¬1) هِشَام بن عمار السّلمِيّ الدِّمَشْقِي الْحَافِظ الْمُقْرِئ الْخَطِيب. سمع مَالِكًا وخالقا. وَثَّقَهُ ابْن معِين. توفّي سنة/ 245/ هـ. وعاش اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة. لم يترجمه عِيَاض فِي «الْمُسْتَدْرك» وَلَا ابْن فَرِحُونَ فِي «الديباج» ، فَالظَّاهِر أَنه لم يكن من أَتبَاع مَالك. وَقد ذكره الذَّهَبِيّ فِي «الكاشف» والمزي فِي «تَهْذِيب الْكَمَال» .

(19) لَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ مَا خَاضُوا بِهِ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى جَمِيعِ أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ أَعْقَبَ تَحْذِيرَهُمْ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا عَسَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَحَبَّةِ شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَاسْمُ الْمَوْصُولِ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْبَارٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَجَعَلَ الْوَعِيدَ عَلَى الْمَحَبَّةِ لِشُيُوعِ الْفَاحِشَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ ذَلِكَ تَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِأَنَّ مَحَبَّةَ ذَلِكَ دَالَّةٌ عَلَى خُبْثِ النِّيَّةِ نَحْوَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ شَأْنِ تِلْكَ الطَّوِيَّةِ أَنْ لَا يَلْبَثَ صَاحِبُهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَصْدُرَ عَنْهُ مَا هُوَ محب لَهُ أَوْ يُسَرَّ بِصُدُورِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَالْمَحَبَّةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّهَيُّؤِ لِإِبْرَازِ مَا يُحِبُّ وُقُوعَهُ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ. وَأَصْلُ الْكِنَايَةِ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ وَلَازَمِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ وَعَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ النَّوَايَا الْخَبِيثَةُ. وَتِلْكَ الْمَحَبَّةُ شَيْءٌ غَيْرُ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ وَغَيْرُ حَدِيثِ النَّفْسِ لِأَنَّهُمَا خَاطِرَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْكُفَ عَنْهُمَا صَاحِبُهُمَا، وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فَهِيَ رَغْبَةٌ فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبِ. وَهَذَا نَظِيرُ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 3] كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَالْوَعِيدُ هُنَا عَلَى مَحَبَّةِ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْ تَشِيعَ لِأَنَّ (أَنْ) تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الْمَاضِيَةُ فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النُّور: 14] . وَمَعْنَى: أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهَا، لِأَنَّ الشُّيُوعَ مِنْ صِفَاتِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ كَالْفُشُوِّ وَهُوَ: اشْتِهَارُ التَّحَدُّثِ بِهَا. فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهَا إِذِ الْفَاحِشَةُ هِيَ الْفَعْلَةُ الْبَالِغَةُ حَدًّا عَظِيمًا فِي الشَّنَاعَةِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الزِّنَى وَنَحْوِهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [15] . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفَاحِشَةِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ

[سورة النور (24) : آية 20]

الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [28] . وَتَقَدَّمَ الْفَحْشَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] . وَمِنْ أَدَبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُحِبَّ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَشِيعَ عَنْ نَفْسِهِ خَبَرُ سوء كَذَلِك يجب عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحِبَّ إِشَاعَةَ السُّوءِ عَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِشُيُوعِ أَخْبَارِ الْفَوَاحِشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصّدقِ أَو بِالْكَذِبِ مَفْسَدَةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ فَإِنَّ مِمَّا يَزَعُ النَّاسَ عَنِ الْمَفَاسِدِ تَهَيُّبُهُمْ وُقُوعَهَا وَتَجَهُّمُهُمْ وَكَرَاهَتُهُمْ سُوءَ سُمْعَتِهَا وَذَلِكَ مِمَّا يَصْرِفُ تَفْكِيرَهُمْ عَنْ تَذَكُّرِهَا بَلْهَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تُنْسَى وَتَنْمَحِيَ صُوَرُهَا مِنَ النُّفُوسِ، فَإِذَا انْتَشَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْحَدِيثُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ تَذَكَّرَتْهَا الْخَوَاطِرُ وَخَفَّ وَقْعُ خَبَرِهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ فَدَبَّ بِذَلِكَ إِلَى النُّفُوسِ التَّهَاوُنُ بِوُقُوعِهَا وَخِفَّةُ وَقْعِهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ فَلَا تَلْبَثُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ أَنْ تُقْدِمَ عَلَى اقْتِرَافِهَا وَبِمِقْدَارِ تَكَرُّرِ وُقُوعِهَا وَتَكَرُّرِ الْحَدِيثِ عَنْهَا تَصِيرُ مُتَدَاوَلَةً. هَذَا إِلَى مَا فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ لِحَاقِ الْأَذَى وَالضُّرِّ بِالنَّاسِ ضُرًّا مُتَفَاوِتَ الْمِقْدَارِ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَخْبَارِ فِي الصِّدْقِ وَالْكذب. وَلِهَذَا ذيل هَذَا الْأَدَبُ الْجَلِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَيَعِظُكُمْ لِتَجْتَنِبُوا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَتَحْسَبُونَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضُرٌّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النُّور: 15] . [20] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 20] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) هَذِهِ ثَالِثُ مَرَّةٍ كَرَّرَ فِيهَا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَحَذَفَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ جَوَابَ (لَوْلَا) لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ بِحَسَبَ الْمَقَامِ.

[سورة النور (24) : آية 21]

وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَصْفَ اللَّهِ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ حَكِيمٌ لِلْمُنَاسَبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَكَرَ هُنَا بِأَنَّهُ رؤوف رَحِيمٌ، لِأَنَّ هَذَا التَّنْبِيهَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّذْيِيلُ فِيهِ انْتِشَالٌ لِلْأُمَّةِ مِنِ اضْطِرَابٍ عَظِيمٍ فِي أَخْلَاقِهَا وَآدَابِهَا وَانْفِصَامِ عُرَى وَحْدَتِهَا فَأَنْقَذَهَا مِنْ ذَلِكَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً لِآحَادِهَا وَجَمَاعَتِهَا وَحِفْظًا لِأَوَاصِرِهَا. وَذَكَرَ وَصْفَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِنْقَاذُهُ إِيَّاهُمْ مِنْ سُوءِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا تِلْكَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي انْطَوَتْ عَلَيْهَا ضَمَائِرُ الْمُنَافِقِينَ كَانَ إِنْقَاذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَا رَأْفَةً بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَرَحْمَةً لَهُمْ بِثَوَابِ الْمَتَابِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مُنْتَهَى الْآيَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَاهَا حِينَ نُزُولِهَا وَهُوَ فِي بَيته. [21] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 21] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَوُقُوعُهُ عَقِبَ الْآيَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الْآيَاتُ مِنَ الْمَنَاهِي وَظُنُونِ السُّوءِ وَمَحَبَّةِ شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ كُلُّهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، فَشَبَّهَ حَالَ فَاعِلِهَا فِي كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بِهَيْئَةِ الشَّيْطَانِ يَمْشِي وَالْعَامِلُ بِأَمْرِهِ يَتَّبِعُ خُطَى ذَلِكَ الشَّيْطَانِ. فَفِي قَوْلِهِ: لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ تَمْثِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ حَالَةٍ محسوسة بِحَالَة معقولة إِذْ لَا يَعْرِفُ السَّامِعُونَ لِلشَّيْطَانِ خُطُوَاتٍ حَتَّى يُنْهَوْا عَلَى اتِّبَاعِهَا.

وَفِيهِ تَشْبِيهُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ بِالْمَشْيِ. وخُطُواتِ جَمْعُ خُطْوَةٍ بِضَمِّ الْخَاءِ. قَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الطَّاءِ كَمَا هِيَ فِي الْمُفْرَدِ فَهُوَ جَمْعُ سَلَامَةٍ. وَقَرَأَهُ مَنْ عَدَاهُمْ بِضَمِّ الطَّاءِ لِأَنَّ تَحْرِيكَ الْعَيْنِ السَّاكِنَةِ أَوْ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ فَاءِ الِاسْمِ الْمَضْمُومَةِ أَوِ الْمَكْسُورَةِ جَائِزٌ كَثِيرٌ. وَالْخُطْوَةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ-: اسْمٌ لِنَقْلِ الْمَاشِي إِحْدَى قَدَمَيْهِ الَّتِي كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْقَدَمِ الْأُخْرَى وَجَعَلَهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [168] . وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِعْلُ يَتَّبِعْ مَجْزُومًا بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ. وَجُمْلَةُ: فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالرَّابِطُ هُوَ مَفْعُولُ يَأْمُرُ الْمَحْذُوفُ لِقَصْدِ الْعُمُومِ فَإِنَّ عُمُومَهُ يَشْمَلُ فَاعِلَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الرَّبْطُ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةِ الْجَوَابِ. وَضَمِيرَا فَإِنَّهُ يَأْمُرُ عَائِدَانِ إِلَى الشَّيْطَانِ. وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَتِّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ يَفْعَلُ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ لِأَنَّ الشَّيْطَان يَأْمر النَّاس بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، أَيْ بِفِعْلِهِمَا: فَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ يَقَعْ فِي الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ. وَالْفَحْشَاءُ: كُلُّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ قَبِيحٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] . وَالْمُنْكَرُ: مَا تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ وينكره أهل الْخَيْر. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [104] . وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ، أَيْ لَوْلَا فَضْلُهُ بِأَنْ هَدَاكُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَرَحْمَتُهُ بِالْمَغْفِرَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ مَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ زَاكِيًا لِأَنَّ فتْنَة الشَّيْطَان فِتْنَةَ عَظِيمَةٌ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهَا النَّاسُ لَوْلَا إِرْشَادُ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] .

[سورة النور (24) : آية 22]

وَ (زَكى) بِتَخْفِيفِ الْكَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. وَقَدْ كُتِبَ زَكى فِي الْمُصْحَفِ بِأَلْفِ فِيٍ صُورَةِ الْيَاءِ. وَكَانَ شَأْنُهُ أَنْ يُكْتَبَ بِالْأَلِفِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَالٍ وَلَا أَصْلُهُ يَاءٌ فَإِنَّهُ وَاوِيُّ اللَّامِ. وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ قَدْ لَا يَجْرِي عَلَى الْقِيَاسِ. وَلَا تُعَدُّ قِرَاءَتُهُ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مُخَالِفَةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ الْمُخَالِفَةَ الْمُضْعِفَةَ لِلْقِرَاءَةِ هِيَ الْمُخَالَفَةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى اخْتِلَافِ النُّطْقِ بِحُرُوفِ الْكَلِمَةِ، وَأَمَّا مِثْلُ هَذَا فَمِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْأَدَاءِ وَالرِّوَايَةُ تَعْصِمُ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ سَمِيعٌ لِمَنْ يُشِيعُ الْفَاحِشَةَ، عَلِيمٌ بِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَتِهَا، وَسَمِيعٌ لِمَنْ يُنْكِرُ عَلَى ذَلِكَ، عَلِيمٌ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى عَمَلِهِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِيهِ لِيَكُونَ التَّذْيِيلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجْرِي مجْرى الْمثل. [22] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [النُّور: 21] عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَسْوَسَةٍ فِي صُورَةِ خَوَاطِرِ الْخَيْرِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُوَسْوَسَ إِلَيْهِ مِنَ الَّذِينَ يَتَوَخَّوْنَ الْبِرَّ وَالطَّاعَةَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَرْوِيجُ وَسْوَسَتِهِ إِذَا كَانَتْ مَكْشُوفَةً. وَإِنَّ مِنْ ذُيُولِ قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ الْمُطَّلِبِيِّ إِذْ كَانَ ابْنَ خَالَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فَلَمَّا عَلِمَ بِخَوْضِهِ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ أَقْسَمَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا تَابَ مِسْطَحٌ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ وَاجِدًا فِي نَفْسِهِ عَلَى مِسْطَحٍ

فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْفَضْلِ ابْتِدَاءً أَبُو بَكْرٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى ابْتِدَاءً مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَتَعُمُّ الْآيَةُ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ شَارَكُوا فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ عُمُومُ لَفْظِهَا فَقَدْ كَانَ لِمِسْطَحٍ عَائِلَةٌ تَنَالُهُمْ نَفَقَةُ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ جمَاعَة من الْمُؤْمِنِينَ قَطَعُوا مَنَافِعَهُمْ عَنْ كُلِّ مَنْ قَالَ فِي الْإِفْكِ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَصِلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِهِمْ. وَلَمَّا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. وَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ وَأَهْلِهِ مَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَفَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَأْتَلِ. وَالْايْتِلَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْحَلِفُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْأَلِيَّةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى امْتِنَاعٍ، يُقَالُ: آلَى وَائْتَلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [226] . وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَلَا يَتَأَلَّ مِنْ تَأَلَّى تَفْعَلُ مِنَ الأَلِيَّةِ. وَالْفَضْلُ: أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ فَهُوَ ضِدُّ النَّقْصِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْخَيْرِ وَالْكَمَالِ الدِّينِيِّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَيُطْلَقُ عَلَى زِيَادَةِ الْمَالِ فَوْقَ حَاجَةِ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ عَطْفَ وَالسَّعَةِ عَلَيْهِ يُبْعِدُ ذَلِكَ. وَالْمَعْنِيُّ مِنْ أُولِي الْفَضْلِ ابْتِدَاءً أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَالسَّعَةُ: الْغِنَى. وَالْأَوْصَافُ فِي قَوْلِهِ: أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُقْتَضِيَةٌ الْمُوَاسَاةَ بِانْفِرَادِهَا، فَالْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ مُوَاسَاةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَدٌّ لِبَابٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَنَاهِيكَ بِمَنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِثْلُ مِسْطَحٍ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ إِنْكَارِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْضِيضِ عَلَى السَّعْيِ فِيمَا بِهِ الْمَغْفِرَةُ وَذَلِكَ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ سَبَبُ

[سورة النور (24) : الآيات 23 إلى 25]

الْمَعْرُوفِ وَسَبَبُ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ وَتَجَهَّمَ الْحِنْثَ وَأَنَّهُ أَخَذَ بِجَانِبِ الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ وَتَرَكَ جَانِبَ مَا يَفُوتُهُ مِنْ ثَوَابِ الْإِنْفَاقِ وَمُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَكَأَنَّهُ قَدَّمَ جَانِبَ التَّأَثُّمِ عَلَى جَانِبِ طَلَبِ الثَّوَابِ فَنَبَّهَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ مَخْرَجًا وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحِنْثِ كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ عَائِشَةَ. أَنْ لَا تُكَلِّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُهُ: إِنَّهُ يَحْجُرُ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ إِنْفَاقِهَا الْمَالَ. وَهُوَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ الْأَدَبِ بَابِ الْهُجْرَانِ. وَعَطْفُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ زِيَادَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَتَطْمِينًا لِنَفْسِ أَبِي بَكْرٍ فِي حِنْثِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّخَلُّقِ بِصِفَاتِ الله تَعَالَى. [23- 25] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 23 إِلَى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ اسْتِئْنَافِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النُّور: 19] وَالْكُلُّ تَفْصِيلٌ لِلْمَوْعِظَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النُّور: 17] فَابْتُدِئَ بِوَعِيدِ الْعود إِلَى محبَّة ذَلِكَ وَثني بوعيد الْعود إِلَى إِشَاعَةِ الْقَالَةِ، فَالْمُضَارِعُ فِي

قَوْلِهِ: يَرْمُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي تُنَاسِبُهَا بِالْآيَاتِ النَّازِلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [النُّور: 21] . وَاسْمُ الْمَوْصُولِ ظَاهِرٌ فِي إِرَادَةِ جَمَاعَةٍ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَمَنْ مَعَهُ. والْغافِلاتِ هُنَّ اللَّاتِي لَا عِلْمَ لَهُنَّ بِمَا رُمِينَ بِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ وُقُوعِهِنَّ فِيمَا رُمِينَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ كَذِبًا عَلَيْهِنَّ، فَلَا تَحْسَبِ الْمُرَادَ الْغَافِلَاتِ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِنَّ. وَذَكَرَ وَصْفَ الْمُؤْمِناتِ لِتَشْنِيعِ قذف الَّذين يقذفونهن كَذِبًا لِأَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ وَازِعٌ لَهُنَّ عَنِ الْخَنَى. وَقَوْلُهُ: لُعِنُوا إِخْبَارٌ عَنْ لَعْنِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِمَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْإِثْمِ وَمَا شُرِعَ لَهُمْ. وَاللَّعْنُ: فِي الدُّنْيَا التَّفْسِيقُ، وَسَلْبُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَاسْتِيحَاشُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَحَدُّ الْقَذْفِ، وَاللَّعْنُ فِي الْآخِرَةِ: الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ: عَذَابُ جَهَنَّمَ فَلَا جَدْوَى فِي الْإِطَالَةِ بِذِكْرِ مَسْأَلَةِ جَوَازِ لَعْنِ الْمُسْلِمِ الْمُعَيَّنِ هُنَا وَلَا فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَنْ كَانَ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ الْمَجْعُولُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَذَكَرَ شَهَادَةَ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ لِلتَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ فَيَتُوبُونَ. وَشَهَادَةُ الْأَعْضَاءِ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ أَحْوَالِ حِسَابِ الْكُفَّارِ. وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصلت: 21] لِأَنَّ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَمَلًا فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ فَهُمْ يَنْطِقُونَ بِالْقَذْفِ وَيُشِيرُونَ بِالْأَيْدِي إِلَى الْمَقْذُوفَاتِ وَيَسْعَوْنَ بِأَرْجُلِهِمْ إِلَى مَجَالِسِ النَّاسِ لِإِبْلَاغِ الْقَذْفِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَذَلِكَ وَجْهٌ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ تَكْسِيرِ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ شَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ يُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ آثَارِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ فَيُجَابُ بِأَنَّ أَثَرَهَا أَنْ يُجَازِيَهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ أَعْضَاؤُهُمْ عَلَيْهِمْ. فَدِينُهُمْ جَزَاؤُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: 4] . والْحَقَّ نَعْتٌ لِلدِّينِ، أَيِ الْجَزَاءُ الْعَادِلُ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَيْ يَنْكَشِفُ لِلنَّاسِ أَنَّ اللَّهَ الْحَقُّ. وَوَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقَّ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ اتِّصَافِهِ بِالْحَقِّ، كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ: تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَصِفَةُ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقَّ بِمَعْنَيَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: بِمَعْنَى الثَّابِتِ الْحَاقِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَاجِبٌ فَذَاتُهُ حَقٌّ مُتَحَقِّقَةٌ لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهَا عَدَمٌ وَلَا انْتِفَاءٌ فَلَا يُقْبَلُ إِمْكَانُ الْعَدَمِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي اسْمِهِ تَعَالَى: الْحَقَّ اقْتَصَرَ الْغَزَالِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» . وَثَانِيهُمَا: مَعْنَى أَنَّهُ ذُو الْحَقِّ، أَيِ الْعَدْلِ وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ وُقُوعَ الْوَصْفِ بَعْدَ قَوْلِهِ: دِينَهُمُ الْحَقَّ. وَبِهِ فَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَعْنَى الْحَقِّ هُنَا، أَيْ وَصْفَ اللَّهِ بِالْمَصْدَرِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ تَفْسِير الِاسْم. وَيحْتَمل إِرَادَة الْإِخْبَار عَن الله بِأَنَّهُ صَاحب هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ بَرَّجَانَ الْإِشْبِيلِيُّ (¬1) فِي كِتَابِهِ «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» وَالْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ» . ¬

(¬1) هُوَ عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن برّجان- بموحدة مَفْتُوحَة فراء مُشَدّدَة مَفْتُوحَة فجيم مَفْتُوحَة فألف مَفْتُوحَة فألف فنون- الإشبيلي الْمُتَوفَّى سنة/ 536/ هـ. ألف «شرح الْأَسْمَاء الْحسنى» وَجمع مائَة وَثَلَاثِينَ اسْما. وَهُوَ شرح على طَريقَة حكماء الصُّوفِيَّة. تُوجد مِنْهُ نُسْخَة وحيدة بتونس.

وَ (الْحَقُّ) مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. وَلَمَّا وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ زِيدَ وَصْفُ الْمَصْدَرِ بِ الْمُبِينُ. وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَظْهَرَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَى إِفَادَةِ الْهَمْزَةِ التَّعْدِيَةَ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَهَرَ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَمْزَةِ زَائِدَةٌ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ وَصْفًا لِ الْحَقَّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ كَمَا صرح بِهِ فِي «الْكَشَّافُ» ، أَيْ الْحَقُّ الْوَاضِحُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُبِينٌ وَهَادٍ. وَإِلَى هَذَا نَحَا الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ بَرَّجَانَ، فَقَدْ أَثْبَتَا فِي عِدَادِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى اسْمَ الْمُبِينُ. فَإِنْ كَانَ وَصْفُ اللَّهِ بِ الْحَقَّ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ ادعائي لعدم الاعداد ب الْحَقَّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْحَاكِمِينَ لِأَنَّهُ وَإِنْ يُصَادِفِ الْمَحَزَّ فَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ وَلِلتَّقْصِيرِ وَلِلْخَطَأِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ أَوْ لَيْسَ بِمُبِينٍ. وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقَّ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَيْسَ اسْمُ الْحَقِّ مُسَمًّى بِهِ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: 65] . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَجْرِي الْكَلَامُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الْمُبِينُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ: أَنَّهُمْ يَتَحَقَّقُونَ ذَلِكَ يَوْمَئِذَ بِعِلْمٍ قَطْعِيٍّ لَا يَقْبَلُ الْخَفَاءَ وَلَا التَّرَدُّدَ وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ فِي مَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ نُزِّلَ عِلْمُهُمُ الْمُحْتَاجُ لِلنَّظَرِ وَالْمُعَرَّضُ لِلْخَفَاءِ وَالْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ خُصُوصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُبْطِنِينَ الْكُفْرَ بَلْهَ الْإِصْرَارَ عَلَى ذَنْبِ الْإِفْكِ إِذْ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ فَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِفْكِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ زُيِّنَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَرُومُوا الْإِقْلَاعَ عَنْهُ فِي بَوَاطِنِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ لِخُبْثِ طَوَايَاهُمْ يَجْعَلُونَ الشَّكَّ الَّذِي خَالَجَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فَهُمْ مَلْعُونُونَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الْآخِرَةِ وَيَعْلَمُونَ أَن الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فِيمَا كَذَّبَهُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ

[سورة النور (24) : آية 26]

مُبْطِنِينَ الشِّرْكَ مَعَ اللَّهِ فَجَاعِلِينَ الْحَقَّ ثَابِتًا لِأَصْنَامِهِمْ، فَالْقَصْرُ حِينَئِذٍ إِضَافِيٌّ، أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَحْدَهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِقَصْدِ إِخْفَاءِ اسْمِهِ تَعْرِيضًا بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمرَان: 173] وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كتاب الله» . [26] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) بَعْدَ أَنْ بَرَّأَ اللَّهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا قَالَ عُصْبَةُ الْإِفْكِ فَفَضَحَهُمْ بِأَنَّهُم مَا جاؤا إِلَّا بسيء الظَّنِّ وَاخْتِلَاقِ الْقَذْفِ وَتَوَعَّدَهُمْ وَهَدَّدَهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَى الَّذِينَ تَابُوا أَنْحَى عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً بِبَرَاءَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَزْوَاجٌ خَبِيثَاتٌ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ عَلَى اللَّهِ يَأْبَى اللَّهُ مَعَهَا أَنْ تَكُونَ أَزْوَاجُهُ غَيْرَ طَيِّبَاتٍ. فمكانة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِيَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ زَوْجِهِ وَطَهَارَةِ أَزْوَاجِهِ كُلِّهِنَّ. وَهَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حَالِ الشَّيْءِ بِحَالِ مُقَارِنِهِ وَمُمَاثِلِهِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ اخْتَلَقُوا الْإِفْكَ بِأَنَّ مَا أَفَكُوهُ لَا يَلِيقُ مِثْلُهُ إِلَّا بِأَزْوَاجِهِمْ، فَقَوْلُهُ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الْمُخْتَلِقِينَ لِلْإِفْكِ. وَالِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْخَبِيثاتُ لِأَنَّ غَرَضَ الْكَلَامِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى بَرَاءَةِ عَائِشَةَ وَبَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْخَبِيثِينَ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ. وَالْخَبِيثَاتُ وَالْخَبِيثُونَ وَالطَّيِّبَاتُ وَالطَّيِّبُونَ أَوْصَافٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفَاتٍ مَحْذُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ فِي الْجَمِيعِ: الْأَزْوَاجُ.

وَعَطْفُ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ إِطْنَابٌ لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْحُكْمِ وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا عَلَى الْحُكْمِ وَلِيَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَالِ الْقَرِينِ بِحَالِ مُقَارِنِهِ حَاصِلًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ ابْتَدَأَهْ السَّامِعُ. وَذِكْرُ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ إِطْنَابٌ أَيْضًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ دَلِيلٌ عَلَى حَالِ الْقَرِينَيْنِ فِي الْخَيْرِ أَيْضًا. وَعَطْفُ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ كَعَطْفِ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [37] وَقَوْلُهُ: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [38] وَقَوْلُهُ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [157] . وَغَلَبَ ضَمِيرُ التَّذْكِيرِ فِي قَوْله: مُبَرَّؤُنَ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَلِذَلِكَ حُقَّ لَهَا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْمَثَلِ وَجُعِلَتْ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ كَالتَّذْيِيلِ. وَالْمُرَادُ بِالْخُبْثِ: خُبْثُ الصِّفَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَالْفَوَاحِشِ. وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ: زَكَاءُ الصِّفَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْبَشَرِ فَلَيْسَ الْكُفْرُ مِنَ الْخُبْثِ وَلَكِنَّهُ مِنْ مْتَمِّمَاتِهِ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الطَّيِّبِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْرُ امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَة لوط نَاقِصا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما [التَّحْرِيم: 10] أَنَّهُمَا خَانَتَا زَوْجَيْهِمَا بِإِبْطَانِ الْكُفْرِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مُقَابَلَةُ حَالِهِمَا بِحَالِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التَّحْرِيم: 11] . وَالْعُدُولُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْإِفْكِ باسمه إِلَى مِمَّا يَقُولُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْدُو كَوْنَهُ قَوْلًا، أَيْ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: 80] لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ فِي الْآخِرَةِ. وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: نَعِيمُ الْجَنَّةِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْكَرِيمَ هُوَ النَّفِيسُ فِي جِنْسِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ

[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 28]

وَبِهَذِهِ الْآيَاتِ انْتَهَتْ زَوَاجِرُ قصَّة الْإِفْك. [27، 28] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 27 إِلَى 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَشْرِيعُ نِظَامِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ الْعَائِلِيَّةِ فِي التَّجَاوُرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَحْكَامِ التَّزَاوُرِ وَتَعْلِيمِ آدَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَتَحْدِيدِ مَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَيْلَا يَكُونَ النَّاسُ مُخْتَلِفِينَ فِي كَيْفِيَّتِهِ عَلَى تَفَاوُتِ اخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَالْمُفِيدِ. وَقَدْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ شَكْلُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ فَكَانَ غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ. وَقَدْ يَتْرُكُهُ أَوْ يُقَصِّرُ فِيهِ مَنْ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا قَضَاءُ وَطْرِهِ وَتَعْجِيلُ حَاجَتِهِ، وَلَا يَبْعُدُ بِأَنْ يَكُونَ وُلُوجُهُ مُحْرِجًا لِلْمَزُورِ أَوْ مُثْقِلًا عَلَيْهِ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ لِتَحْدِيدِ كَيْفِيَّتِهِ وَإِدْخَالِهِ فِي آدَابِ الدِّينِ حَتَّى لَا يُفَرِّطَ النَّاسُ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الِاحْتِشَامِ وَالْأَنَفَةِ وَاخْتِلَافِ أَوْهَامِهِمْ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ أَوْ فِي شِدَّتِهَا. وَشُرِعَ الِاسْتِئْذَانُ لِمَنْ يَزُورُ أَحَدًا فِي بَيْتِهِ لِأَنَّ النَّاسَ اتَّخَذُوا الْبُيُوتَ لِلِاسْتِتَارِ مِمَّا يُؤْذِي الْأَبْدَانَ مِنْ حَرٍّ وَقَرٍّ وَمَطَرٍ وَقَتَامٍ، وَمِمَّا يُؤْذِي الْعِرْضَ وَالنَّفْسَ مِنِ انْكِشَافِ مَا لَا يُحِبُّ السَّاكِنُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ فِي

بَيْتِهِ وَجَاءَهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَا يُدْخِلُهُ حَتَّى يُصْلِحَ مَا فِي بَيْتِهِ وليستر مَا يحب أَنْ يستره ثمَّ بأذن لَهُ أَوْ يَخْرُجُ لَهُ فَيُكَلِّمُهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ. وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا تَطْلُبُوا الْأُنْسَ بِكُمْ، أَيْ تَطْلُبُوا أَنْ يَأْنَسَ بِكُمْ صَاحِبُ الْبَيْتِ، وَأُنْسُهُ بِهِ بِانْتِفَاءِ الْوَحْشَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ لَطِيفَةٌ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ، أَيْ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الدَّاخِلُ، أَيْ يَطْلُبَ إِذْنًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَكُونُ مَعَهُ اسْتِيحَاشُ رَبِّ الْمَنْزِلِ بِالدَّاخِلِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِئْنَاسُ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ الِاسْتِئْذَانُ. يُرِيدُ أَنَّهُ الْمُرَادُ كِنَايَةً أَوْ مُرَادَفَةً فَهُوَ مِنَ الْأُنْسِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ. وَوَقَعَ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي «جَامع العتيبة» أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ التَّسْلِيمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقُلْتُ: أَرَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ السَّلَامَ بِقَصْدِ الِاسْتِئْذَانِ فَيَكُونُ عَطْفُ وَتُسَلِّمُوا عَطْفَ تَفْسِيرٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِئْنَاسِ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ آنَسَ بِمَعْنَى عَلِمَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِطْلَاقٌ آخَرُ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ دَلَّ إِذْنُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ دُخُولَهُ وَإِذَا كَرِهَ دُخُولَهُ لَا يَأْذَنُ لَهُ وَاللَّهُ مُتَوَلِّي عَلَمَ مَا فِي قَلْبِهِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِثْقَالِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الزَّائِرُ وَالْمَزُورُ مُتَوَافِقَيْنِ مُتَآنِسَيْنِ وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى تَوَفُّرِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَعُطِفَ الْأَمْرُ بِالسَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ وَجُعِلَ كِلَاهُمَا غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهِمَا لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِمَا. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَدْخُلُ؟ فَأَمَرَ النَّبِيءُ رَجُلًا عِنْدَهُ أَوْ أَمَةً اسْمُهَا رَوْضَةُ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فَلْيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. فَقَالَ: ادْخُلْ» ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: أَأَلِجُ. فَأَذِنَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: مَا لَكَ وَاسْتِئْذَانُ الْعَرَبِ؟ (يُرِيدُ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ) إِذَا اسْتَأْذَنْتَ

فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَقُلْ: أَأَدْخُلُ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ» . وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ وَأَنَّ السَّلَامَ وَاجِبٌ غَيْرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ الِاسْتِئْذَانِ. وَأَمَّا السَّلَامُ فَتَقَرَّرَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِحَالَةِ دُخُولِ الْبُيُوتِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَامِ اخْتِصَاصٌ هُنَا وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِئَلَّا يُلْهِيَ الِاسْتِئْذَانُ الطَّارِقَ فَيَنْسَى السَّلَامَ أَوْ يَحْسَبَ الِاسْتِئْذَانَ كَافِيًا عَنِ السَّلَامِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ «الْمُعْلِمِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : الِاسْتِئْذَانُ مَشْرُوعٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ جَمَاعَةٌ: الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ. وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِئْذَانِ سِوَى فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ فَلَا تَدْخُلْ بَيْتًا فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَإِنْ أَذِنَ لَكَ وَإِلَّا رَجَعْتَ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ فِي «شَرْحِ الرِّسَالَةِ» الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : الِاسْتِئْذَانُ مَشْرُوعٌ. وَهِيَ كَلِمَةُ الْمَازِرِيِّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» . وَأَقُولُ: لَيْسَ قَرْنُ الِاسْتِئْذَانِ بِالسَّلَامِ فِي الْآيَةِ بِمُقْتَضٍ مُسَاوَاتَهُمَا فِي الحكم إِذا كَانَتْ هُنَالِكَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا وَتِلْكَ أَدِلَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْمَعْنَى فَإِنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِئْذَانِ دَفْعُ مَا يُكْرَهُ عَنِ الْمَطْرُوقِ الْمَزُورِ وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْإِنْكَارِ أَوِ الشَّتْمِ أَوِ الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ مَعَ سَدِّ ذَرَائِعِ الرِّيبِ وَكُلُّهَا أَوْ مَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاسْتِئْذَانِ. وَأَمَّا فَائِدَةُ السَّلَامِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ فَهِيَ تَقْوِيَةُ الْأُلْفَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ فَلَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ. فَالْقُرْآنُ أَمَرَ بِالْحَالَةِ الْكَامِلَةِ وَأَحَالَ تَفْصِيلَ أَجْزَائِهَا عَلَى تَبْيِينِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] . وَقَدْ أُجْمِلَتْ حِكْمَةُ الِاسْتِئْذَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ ذَلِكُمْ الِاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لَكُمْ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ فَإِذَا تَدَبَّرْتُمْ عَلِمْتُمْ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ لَكُمْ كَمَا هُوَ الْمَرْجُوُّ مِنْكُمْ.

وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ الِاسْتِئْذَانَ وَالسَّلَامَ بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُفِيدِ التَّشْرِيكَ فَقَطْ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُدِّمَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السَّلَامِ أَوْ قُدِّمَ السَّلَامُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فَقَدْ جَاءَ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَوَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ الْأَمْرُ بِتَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى وَلَا يُعَارِضُ الْآيَةَ. وَلَيْسَ لِلِاسْتِئْذَانِ صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ. وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ فَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ أَجْمَعُ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْمُرَادِ. وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ يُكَرِّرُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ. وَوَرَدَ فِي هَذَا حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَهُوَ مَا رُوِيَ: «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يَأْذَنْ لي فَرَجَعت (وَفَسرهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مُشْتَغِلًا بِبَعْضِ أَمْرِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ قَالُوا: اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعَ) فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ عُمَرُ: مَا مَنَعَكَ؟ قَالَ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً. قَالَ أَبُو مُوسَى: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمعه من النبيء؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُنَا فَكُنْتُ أَصْغَرَهُمْ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيءَ قَالَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ . وَقَدْ عُلِمَ أَن الاسْتِئْذَان يَقْتَضِي إِذْنًا وَمَنْعًا وَسُكُوتًا فَإِنْ أُذِنَ لَهُ فَذَاكَ وَإِنَّ مُنِعَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرُّجُوعِ الْمَفْهُومِ مِنَ ارْجِعُوا كَقَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] .

وَمَعْنَى أَزْكى لَكُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَأْذَنُوا عَلَى كَرَاهِيَةٍ. وَفِي هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ وَهُوَ تَعْلِيمُ الصَّرَاحَةِ بِالْحَقِّ دُونَ الْمُوَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى. وَتَعْلِيمُ قَبُولِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ أَطْمَنُ لِنَفْسِ قَابِلِهِ مِنْ تَلَقِّي مَا لَا يُدْرَى أَهُوَ حَقٌّ أَمْ مُوَارَبَةٌ، وَلَوِ اعْتَادَ النَّاسُ التَّصَارُحَ بِالْحَقِّ بَيْنَهُمْ لَزَالَتْ عَنْهُمْ ظُنُونُ السُّوءِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا السُّكُوتُ فَهُوَ مَا بَيَّنَ حُكْمَهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى. وَفِعْلُ تُسَلِّمُوا مَعْنَاهُ تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجُمَلِ مِثْلُ: رَحَّبَ وَأَهَّلَ، إِذَا قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَحَيَّا، إِذَا قَالَ: حَيَّاكَ الله، وجزّأ إِذْ قَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَسَهَّلَ، إِذَا قَالَ: سَهْلًا، أَيْ حَلَلْتَ سَهْلًا. قَالَ الْبُعَيْثُ بْنُ حُرَيْثٍ: فَقُلْتُ لَهَا أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا ... فَرَدَّتْ بِتَأْهِيلٍ وَسَهْلٍ وَمَرْحَبِ وَفِي الْحَدِيثِ: «تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» . وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ النَّحْتِ مِثْلُ: بَسْمَلَ، إِذا قَالَ: باسم اللَّهِ، وَحَسْبَلَ، إِذَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ. وعَلى أَهْلِها يَتَعَلَّقُ بِ تُسَلِّمُوا لِأَنَّهُ أَصْلُهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي صِيغَ مِنْهَا الْفِعْلُ الَّتِي أَصْلُهَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، كَمَا يُعَدَّى رَحَّبَ بِهِ، إِذَا قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ، وَكَذَلِكَ أَهَّلَ بِهِ وَسَهَّلَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: 56] . وَصِيغَةُ التَّسْلِيمِ هِيَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ علمهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَنَهَى أَبَا جُزَيٍّ الْهُجَيْمِيَّ عَنْ أَنْ يَقُولَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةَ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا، أَيِ الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الرَّدُّ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ- بِوَاوِ الْعَطْفِ وَبِذَلِكَ فَارَقَتْ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ- وَرَحْمَةُ اللَّهِ. أَخْرَجَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ. وَتَقَدَّمَ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة النور (24) : آية 29]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً إِلَخْ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْمَنَازِلَ غَيْرَ الْمَسْكُونَةِ يَدْخُلُهَا النَّاسُ فِي غَيْبَةِ أَصْحَابِهَا بِدُونِ إِذَنٍ مِنْهُمْ تَوَهُّمًا بِأَنَّ عِلَّةَ شَرْعِ الِاسْتِئْذَانِ مَا يَكْرَهُ أَهْلُ الْمَنَازِلِ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ تَأَهُّبٍ بَلِ الْعِلَّةُ هِيَ كَرَاهَتُهُمْ رُؤْيَةَ مَا يُحِبُّونَ ستره من شؤونهم. فَالشَّرْطُ هُنَا يُشْبِهُ الشَّرْطَ الْوَصْلِيَّ لِأَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ مَا قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ. وَالْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَدْخُلُوها أَيْ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُهَا فَيَأْذَنُوا لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِهَذِهِ الْوَصَايَا بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ لِيُزْدَجَرَ أَهْلُ الْإِلْحَاحِ عَنْ إِلْحَاحِهِمْ بِالتَّثْقِيلِ، وَلِيُزْدَجَرَ أَهْلُ الْحِيَلِ أَوِ التَّطَلُّعِ مِنَ الشُّقُوقِ وَنَحْوِهَا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عِصْيَانًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. فَعِلْمُهُ بِهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِ فَاعِلِيهِ بِمَا يسْتَحقُّونَ. وخطاب فَلا تَدْخُلُوها يَعُمُّ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّور: 58] كَمَا سَيَأْتِي. وَلِذَا فَإِنَّ الْمَمَالِيكَ وَالْأَطْفَالَ مُخَصَّصُونَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُيُوتاً حَيْثُمَا وَقَعَ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آل عمرَان. [29] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 29] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) هَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّور: 27] بِالْبُيُوتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى، فَأَمَّا الْبُيُوتُ الَّتِي لَيْسَتْ مَعْدُودَةً لِلسُّكْنَى إِذَا كَانَ لِأَحَدٍ حَاجَةٌ فِي دُخُولِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا لِأَنَّ كَوْنَهَا غَيْرَ مَعْدُودَةٍ لِلسُّكْنَى تَجْعَلُ الْقَاطِنَ بِهَا غَيْرَ مُحْتَرِزٍ

مِنْ دُخُولِ الْغَيْرِ إِلَيْهَا بَلْ هُوَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِمَنْ يَغْشَاهُ فَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ خَاوِيَةً مِنَ السَّاكِنِ مِثْلَ الْبُيُوتِ الْمُقَامَةِ عَلَى طَرْقِ الْمُسَافِرِينَ لِنُزُولِهِمْ، كَمَا كَانَتْ بُيُوتٌ عَلَى الطَّرِيقِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ فِي طَرِيقِ التُّجَّارِ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَيْهَا وَيَحُطُّونَ فِيهَا مَتَاعَهُمْ لِلِاسْتِرَاحَةِ ثُمَّ يَرْتَحِلُونَ عَنْهَا وَيَسْتَأْنِفُونَ سَيْرَهُمْ، وَتُسَمَّى الْخَانَاتُ جَمْعُ خَانٍ- بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ- فَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ. وَمِثْلُهَا بُيُوتٌ كَانَتْ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَضَعُونَ بِهَا مَتَاعًا وَأَقْتَابًا وَقَدْ بَنَاهَا بَعْضُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَارْتَفَقَ بِهَا غَيْرُهُمْ. وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْبُيُوتُ مَأْهُولَةً بِأُنَاسٍ يَقْطُنُونَهَا يَأْوُونَ الْمُسَافِرِينَ وَرِحَالَهُمْ وَرَوَاحِلَهُمْ وَيَحْفَظُونَ أَمْتِعَتَهُمْ وَيُبَيِّتُونَهُمْ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا الْمَرْحَلَةَ مِثْلَ الْخَانَاتِ الْمَأْهُولَةِ وَالْفَنَادِقِ. وَكَذَلِكَ الْبُيُوتُ الْمَعْدُودَةُ لِبَيْعِ السِّلَعِ، وَالْحَمَّامَاتُ، وَحَوَانِيتُ التُّجَّارِ، وَكَذَلِكَ الْمَكْتَبَاتُ وَبُيُوتُ الْمُطَالَعَةِ فَهَذِهِ مَأْهُولَةٌ وَلَا تُسَمَّى مَسْكُونَةً لِأَنَّ السُّكْنَى هِيَ الْإِقَامَةُ الَّتِي يَسْكُنُ بِهَا الْمَرْءُ وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا وَيُقِيم فِيهَا شؤونه. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ مَأْهُولَةٍ عَلَى حَالَةِ الِاسْتِقْرَارِ أَوْ غَيْرُ مَأْهُولَةٍ أَلْبَتَّةَ. وَأَمَّا الْخَوَانِيقُ (جَمْعُ خَانْقَاهْ وَيُقَالُ الْخَانْكَاتُ جُمَعُ خَانْكَاهْ) وَهِيَ مَنَازِلُ ذَاتُ بُيُوتٍ يَقْطُنُهَا طَلَبَةُ الصُّوفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَدَارِسُ يَقْطُنُهَا طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ الرُّبُطُ جَمْعُ رِبَاطٍ وَهُوَ مَأْوَى الْحُرَّاسِ عَلَى الثُّغُورِ، فَلَا اسْتِئْذَانَ بَيْنَ قُطَّانِهَا لِأَنَّهُمْ قَدْ طَرَحُوا الْكُلْفَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَصَارُوا كَأَهْلِ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ وَلَكِنْ عَلَى الْغَرِيبِ عَنْهُمْ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فَيَأْذَنُ لَهُ نَاظِرُهُمْ أَوْ كَبِيرُهُمْ أَوْ مَنْ يُبَلِّغُ عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: فِيها مَتاعٌ لَكُمْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ بُيُوتاً. وَالْمَتَاعُ: الْجِهَازُ مِنَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ وَالرِّحَالِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِيها مَتاعٌ أَنَّ الْمَتَاعَ مَوْضُوعٌ هُنَاكَ قَبْلَ دُخُولِ الدَّاخِلِ فَلَا مَفْهُومَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْعُذْرِ فِي الدُّخُولِ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَهَا

[سورة النور (24) : آية 30]

لِوَضْعِ مَتَاعِهِ بدَلَالَةِ لَحْنِ الْخَطَابِ. وَكَذَلِكَ يَشْمَلُ دُخُولَ الْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ لَا مَتَاعَ لَهُ لِقَصْدِ التَّظَلُّلِ أَوِ الْمَبِيتِ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ الْقِيَاسِ. وَقَدْ فُسِّرَ الْمَتَاعُ بِالْمَصْدَرِ، أَيِ التَّمَتُّعُ وَالِانْتِفَاعُ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: كُلُّ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: هَذَا شَرْحٌ حَسَنٌ مِنْ قَوْلِ إِمَامٍ مِنْ أَيِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي «الْكَشَّافِ» . وَنَوَّهَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي دُخُولِهَا لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِهَا لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَى أَصْحَابِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى بِقَاعِهَا. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تَجَاوُزِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ الْقُيُودِ وَهِيَ كَوْنُ الْبُيُوتِ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ وَكَون الدَّاخِل مُحْتَاجا إِلَى دُخُولِهَا بَلْهَ أَنْ يَدْخُلَهَا بِقَصْدِ التَّجَسُّسِ عَلَى قُطَّانِهَا أَوْ بِقَصْدِ أَذَاهُمْ أَوْ سَرقَة مَتَاعهمْ. [30] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 30] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) أَعْقَبَ حُكْمَ الِاسْتِئْذَانِ بِبَيَانِ آدَابِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُجَالَسَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاخِلُ إِلَى الْبَيْتِ مُحَدِّقًا بَصَرَهُ إِلَى امْرَأَةٍ فِيهِ بَلْ إِذَا جَالَسَتْهُ الْمَرْأَةُ غَضَّ بَصَرَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا إِلَّا النَّظَرَ الَّذِي يَعْسُرُ صَرْفُهُ. وَلَمَّا كَانَ الْغَضُّ التَّامُّ لَا يُمْكِنُ جِيءَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ مِنْ الَّذِي هُوَ لِلتَّبْعِيضِ إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ إِذْ مِنَ الْمَفْهُومِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْغَضِّ فِيهِ هُوَ مَا لَا يَلِيقُ تَحْدِيقُ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَتَذَكَّرُهُ الْمُسْلِمُ مِنِ اسْتِحْضَارِهِ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَيَعْلَمُ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ مَرَاتِبٌ: مِنْهُ وَاجِبٌ وَمِنْهُ دُونُ ذَلِكَ، فَيَشْمَلُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا اعْتَادَ النَّاسُ كَرَاهِيَةَ التَّحَقُّقِ فِيهِ كَالنَّظَرِ إِلَى خَبَايَا الْمَنَازِلِ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ

دَخَلَ مشربَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَرَفَعْتُ بَصَرِي إِلَى السَّقْفِ فَرَأَيْتُ أُهْبَةً مُعَلَّقَةً» . وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ» . وَفِي هَذَا الْأَمْرِ بِالْغَضِّ أَدَبٌ شَرْعِيٌّ عَظِيمٌ فِي مُبَاعَدَةِ النَّفْسِ عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى مَا عَسَى أَنْ يُوقِعَهَا فِي الْحَرَامِ أَوْ مَا عَسَى أَنْ يُكَلِّفَهَا صَبْرًا شَدِيدًا عَلَيْهَا. وَالْغَضُّ: صَرْفُ الْمَرْءِ بَصَرَهُ عَنِ التَّحْدِيقِ وَتَثْبِيتِ النَّظَرِ. وَيَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: وَأَغُضُّ طَرَفِي حِينَ تَبْدُو جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا وَيَكُونُ مِنْ مَذَلَّةٍ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ وَمَادَّةُ الْغَضِّ تُفِيدُ مَعْنَى الْخَفْضِ وَالنَّقْصِ. وَالْأَمْرُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ النَّظَرَ رَائِدُ الزِّنَى. فَلَمَّا كَانَ ذَرِيعَةً لَهُ قَصَدَ الْمُتَذَرِّعِ إِلَيْهِ بِالْحِفْظِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ فِي مَحَاسِنِ النِّسَاءِ. فَالْمُرَادُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ حِفْظُهَا مِنْ أَنْ تُبَاشِرَ غَيْرَ مَا أَبَاحَهُ الدِّينُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ غَضِّ الْأَبْصَارِ وَحِفْظِ الْفُرُوجِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ بِقَوْلِهِ: أَزْكى مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ. وَالْمُرَادُ تَقْوِيَةُ تِلْكَ التَّزْكِيَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ جُنَّةٌ مِنِ ارْتِكَابِ ذُنُوبٍ عَظِيمَةٍ. وَذُيِّلَ بِجُمْلَةِ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ جَزَاءِ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْأَمْرُ مِنَ الْغَضِّ وَالْحِفْظِ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْأَمْرِ الِامْتِثَالُ

[سورة النور (24) : آية 31]

[31] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 31] وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ. أَرْدَفَ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ الْمُؤْمِنَاتِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْأَمْرَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَتَصْرِيحًا بِمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا الرِّجَالُ مِنْ أَنَّهَا تَشْمَلُ النِّسَاءَ أَيْضًا. وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ ارْتِكَابًا لِضِدِّهِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَى هَذَا الشُّمُولِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ بِذَلِكَ أَيْضًا. وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى نَهْيِ النِّسَاءِ عَنْ أَشْيَاءَ عُرِفَ مِنْهُنَّ التَّسَاهُلُ فِيهَا وَنَهْيِهِنَّ عَنْ إِظْهَارِ أَشْيَاءَ تَعَوَّدْنَ أَنْ يُحْبِبْنَ ظُهُورَهَا وَجَمَعَهَا الْقُرْآنُ فِي لَفْظِ الزِّينَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها. وَالزِّينَةُ: مَا يَحْصُلُ بِهِ الزَّيْنُ. وَالزَّيْنُ: الْحُسْنُ، مَصْدَرُ زَانَهُ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: جَلَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ زَيْنًا يُقَالُ: زَيَّنَ بِمَعْنَى حَسَّنَ، قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] وَقَالَ: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [16] . وَالزِّينَةُ قِسْمَانِ خِلْقِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ. فَالْخِلْقِيَّةُ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ أَوْ نِصْفُ الذِّرَاعَيْنِ، وَالْمُكْتَسَبَةُ: سَبَبُ التَّزَيُّنِ مِنَ اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ

وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ. وَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الزِّينَةِ عَلَى اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [32] ، وَعَلَى اللِّبَاسِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه: 59] . وَالتَّزَيُّنُ يَزِيدُ الْمَرْأَةَ حُسْنًا وَيَلْفِتُ إِلَيْهَا الْأَنْظَارَ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ إِلَّا لِأَجْلِ التَّظَاهُرِ بِالْحُسْنِ فَكَانَتْ لَافِتَةَ أَنْظَارِ الرِّجَالِ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ النِّسَاءُ عَنْ إِظْهَارِ زِينَتِهِنَّ إِلَّا لِلرِّجَالِ الَّذِينَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ تَتَحَرَّكَ مِنْهُمْ شَهْوَةٌ نَحْوَهَا لِحُرْمَةِ قَرَابَةٍ أَوْ صِهْرٍ. وَاسْتُثْنِيَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّينَةِ وَهُوَ مَا فِي سَتْرِهِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ أَوْ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ عَلَى النِّسَاءِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الزِّينَةِ فِي مَوَاضِعِ الْعَمَلِ الَّتِي لَا يَجِبُ سِتْرُهَا مِثْلُ الْكُحْلِ وَالْخِضَابِ وَالْخَوَاتِيمِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الزِّينَةَ نَوْعَانِ: خِلْقِيَّةٌ وَمُصْطَنَعَةٌ. فَأَمَّا الْخِلْقِيَّةُ: فَمُعْظَمُ جَسَدِ الْمَرْأَةِ وَخَاصَّةً: الْوَجْهُ وَالْمِعْصَمَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالشَّعْرُ. وَأَمَّا الْمُصْطَنَعَةُ: فَهِيَ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ النِّسَاءُ عُرْفًا مِثْلَ: الْحُلِيِّ وَتَطْرِيزِ الثِّيَابِ وَتَلْوِينِهَا وَمِثْلَ الْكُحْلِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَالسِّوَاكِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الزِّينَةِ الْخِلْقِيَّةِ مَا فِي إِخْفَائِهِ مَشَقَّةٌ كَالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَضِدُّهَا الْخَفِيِّةُ مِثْلَ أَعَالِي السَّاقَيْنِ وَالْمِعْصَمَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالنَّحْرِ وَالْأُذُنَيْنِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الزِّينَةِ الْمُصْطَنَعَةِ مَا فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ جَانِبِ زَوْجِهَا وَجَانِبِ صُورَتِهَا بَيْنَ أَتْرَابِهَا وَلَا تَسْهُلُ إِزَالَتُهُ عِنْدَ الْبَدْوِ أَمَامَ الرِّجَالِ وَإِرْجَاعُهُ عِنْدَ الْخُلُوِّ فِي الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مَحَلُّ وَضْعِهِ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِسَتْرِهِ كَالْخَوَاتِيمِ بِخِلَاف القرط والدماج. وَاخْتُلِفَ فِي السُّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَقَدْ أَقَرَّ الْقُرْآنُ الْخَلْخَالَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ الْخِضَابُ مِنَ الزِّينَةِ اهـ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِخِضَابِ الْيَدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْخِضَابُ مِنَ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ إِذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ.

فَمَعْنَى مَا ظَهَرَ مِنْها مَا كَانَ مَوْضِعُهُ مِمَّا لَا تَسْتُرُهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالْقَدَمَانِ. وَفَسَّرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الزِّينَةَ بِالْجَسَدِ كُلِّهِ وَفَسَّرَ مَا ظَهَرَ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ قِيلَ وَالْقَدَمَيْنِ وَالشَّعْرِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ هِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ بِحُكْمِ الْفِطْرَةِ بَادِيَةً يَكُونُ سَتْرَهَا مُعَطِّلًا الِانْتِفَاعَ بِهَا أَوْ مُدْخِلًا حَرَجًا عَلَى صَاحِبَتِهَا وَذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَحَالُهُمَا فِي السَّتْرِ لَا يُعَطِّلُ الِانْتِفَاعَ وَلَكِنَّهُ يُعَسِّرُهُ لِأَنَّ الْحَفَاءَ غَالِبُ حَالِ نِسَاءِ الْبَادِيَةِ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَ فِي سَتْرِهِمَا الْفُقَهَاءُ فَفِي مَذْهَبِ مَالك قَولَانِ: أشهر هما أَنَّهَا يَجِبُ سَتْرُ قَدَمَيْهَا، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ سَتْرُ قَدَمَيْهَا، أَمَّا مَا كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ فِي سَتْرِهِ فَلَيْسَ مِمَّا ظَهَرَ مِنَ الزِّينَةِ مِثْلَ النَّحْرِ وَالثَّدْيِ وَالْعَضُدِ وَالْمِعْصَمِ وَأَعْلَى السَّاقَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَرًّى كَالْعَجِيزَةِ وَالْأَعْكَانِ وَالْفَخْذَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا فِي إِرْخَاءِ الثَّوْبِ عَلَيْهِ حَرَجٌ عَلَيْهَا. وَرَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ اللَّوَاتِي يَلْبَسْنَ مِنَ الثِّيَابِ الْخَفِيفَ الَّذِي يَصِفُ وَلَا يَسْتُرُ، أَيْ هُنَّ كَاسِيَاتٌ بِالِاسْمِ عاريات فِي الْحَقِيقَة اهـ. وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ بَشْكُوَالٍ مِنَ «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْقُنَازِعِيِّ قَالَ فَسَّرَ مَالِكٌ: إِنَّهُنَّ يَلْبَسْنَ الثِّيَابَ الرِّقَاقَ الَّتِي لَا تَسْتُرُهُنَّ اهـ. وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ «جَامِعِ الْعَتَبِيِّةِ» قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ لُبْسِ الْقَبَاطِيِّ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : هِيَ ثِيَابٌ ضَيِّقَةٌ تَلْتَصِقُ بِالْجِسْمِ لِضِيقِهَا فَتَبْدُو ثخانة لَا بستها مِنْ نَحَافَتِهَا، وَتُبْدِي مَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها اهـ. وَفِي رِوَايَاتِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ «جَامِعِ الْعَتَبِيِّةِ» قَالَ مَالِكٌ فِي الْإِمَاءِ يَلْبَسْنَ الْأَقْبِيَةَ: مَا يُعْجِبُنِي فَإِذَا شَدَّتْهُ عَلَيْهَا كَانَ إِخْرَاجًا لِعَجْزَتِهَا. وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْدَاءِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ عُمُومِ مَنْعِ إِبْدَاءِ زِينَتِهِنَّ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ إِبْدَاءِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ

الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَثْنَى جَمِيعُ أَحْوَالِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَتَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَنُهِينَ عَنِ التَّسَاهُلِ فِي الْخَمْرَةِ. وَالْخِمَارُ: ثَوْبٌ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا لِسَتْرِ شَعْرِهَا وَجِيدِهَا وَأُذُنَيْهَا وَكَانَ النِّسَاءُ رُبَّمَا يُسْدِلْنَ الْخِمَارَ إِلَى ظُهُورِهِنَّ كَمَا تَفْعَلُ نِسَاءُ الْأَنْبَاطِ فَيَبْقَى الْعُنُقُ وَالنَّحْرُ وَالْأُذُنَانِ غَيْرَ مَسْتُورَةٍ فَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ. وَالضَّرْبُ: تَمْكِينُ الْوَضْعِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْمَعْنَى: لِيَشْدُدْنَ وَضْعَ الْخُمُرِ عَلَى الْجُيُوبِ، أَيْ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ شَيْءٌ من بشرة الْجيد. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِخُمُرِهِنَّ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مُبَالَغَةً فِي إِحْكَامِ وَضْعِ الْخِمَارِ عَلَى الْجَيْبِ زِيَادَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ فِعْلِ يَضْرِبْنَ. وَالْجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ طَوْقُ الْقَمِيصِ مِمَّا يَلِي الرَّقَبَةَ. وَالْمَعْنَى: وَلِيَضَعْنَ خُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِ الْأَقْمِصَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ مُنْتَهَى الْخِمَارِ وَمَبْدَأِ الْجَيْبِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ الْجِيدُ. وَقَوْلُهُ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أُعِيدَ لَفْظُ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الْمُتَقَدِّمِ وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إِلَخْ الَّذِي مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، أَيْ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ غَيْرَ الظَّاهِرَةِ إِلَّا لِمَنْ ذَكَرُوا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لِشِدَّةِ الْحَرَجِ فِي إِخْفَاءِ الزِّينَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْمُلَابَسَةَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهَا وَأَصْهَارِهَا الْمُسْتَثْنَيْنَ مُلَابَسَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا سَتْرُ زِينَتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا كَانَ ذَلِكَ حَرَجًا عَلَيْهَا. وَذَكَرَتِ الْآيَةُ اثْنَيْ عَشَرَ مُسْتَثْنًى كُلُّهُمْ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُمْ. وَسَكَتَتِ الْآيَةُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي حُكْمِهِمْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفَرَاغِ مَنْ ذِكْرِ الْمُصَرَّحِ بِهِمْ فِي الْآيَةِ.

وَالْبُعُولَةُ: جَمْعُ بَعْلٍ. وَهُوَ الزَّوْجُ، وَسَيِّدُ الْأَمَةِ. وَأَصْلُ الْبَعْلِ الرَّبُّ وَالْمَالِكُ (وَسُمِّيَ الصَّنَمُ الْأَكْبَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْقُدَمَاءِ بَعْلًا وَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ نِينَوَى وَرَسُولِهِمْ إِلْيَاسَ) ، فَأُطْلِقَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّ أَصْلَ الزَّوَاجِ مِلْكٌ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فِيهِ الصَّدَاقُ لِأَنَّهُ كَالثَّمَنِ. وَوَزْنُ فُعُولَةٍ فِي الْجُمُوعِ قَلِيلٌ وَغَيْرُ مُطَّرِدٍ وَهُوَ مَزِيدُ التَّاءِ فِي زِنَةِ فُعُولٍ مِنْ جُمُوعِ التَّكْسِيرِ. وَكُلُّ مَنْ عُدَّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ اسْتُثْنَوْا مِنَ النَّهْيِ هُمْ مِنَ الَّذِينَ لَهُمْ بِالْمَرْأَةِ صِلَةٌ شَدِيدَةٌ هِيَ وَازِعٌ مِنْ أَنْ يَهِمُّوا بِهَا. وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ «الْجَامِعِ مِنَ الْعَتَبِيِّةِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ تَضَعُ أُمُّ امْرَأَتِهِ عِنْدَهُ جِلْبَابَهَا قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الْآيَةَ، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عَنْ جَيْبِهَا وَتُبْدِي زِينَتَهَا عِنْدَ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ النَّسَبِ أَوِ الصِّهْرِ اهـ. أَيْ قَاسَ مَالِكٌ زَوْجَ بِنْتِ الْمَرْأَةِ عَلَى ابْنِ زَوْجِ الْمَرْأَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حُرْمَةِ الصِّهْرِ. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: نِسائِهِنَّ إِلَى ضمير لِلْمُؤْمِناتِ: إِنْ حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِ الْإِضَافَةِ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَهُنَّ بِهِنَّ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ فَقِيلَ الْمُرَادُ نِسَاءُ أُمَّتِهِنَّ، أَيِ الْمُؤْمِنَاتُ، مِثْلُ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَة: 282] ، أَيْ مِنْ رِجَالِ دِينِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَوِ النِّسَاءُ. وَإِنَّمَا أَضَافَهُنَّ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ إِتْبَاعًا لِبَقِيَّةِ الْمَعْدُودِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا فَجَاءَ هَذَا لِلْإِتْبَاعِ اهـ. أَيْ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ لِغَيْرِ دَاعٍ مَعْنَوِيٍّ بَلْ لِدَاعٍ لَفْظِيٍّ تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ مِثْلُ الضَّمِيرَيْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشَّمْس: 8] أَيْ أَلْهَمَهَا الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى. فَإِضَافَتُهُمَا إِلَى الضَّمِيرِ إِتْبَاعٌ لِلضَّمَائِرِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: 1] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهَا: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشَّمْس: 11]

أَيْ بِالطَّغْوَى وَهِيَ الطُّغْيَانُ فَذَكَرَ ضَمِيرَ ثَمُودَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ لِمُحَسِّنِ الْمُزَاوَجَةِ (¬1) . وَمِنْ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نَظَرِ النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ إِلَى مَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِظْهَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَسَدِهَا. وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَكَلَامُ فُقَهَائِهِمْ فِي هَذَا غَيْرُ مَضْبُوطٍ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلَامِهِمْ قَوْلُ خَلِيلٍ فِي «التَّوْضِيحِ» عِنْدَ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَعَوْرَةُ الْحُرَّةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ سَيِّدِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ (¬2) : أَمَّا الْكَافِرَةُ فَكَالْأَجْنَبِيَّةِ مَعَ الرِّجَالِ اتِّفَاقًا اهـ. وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ لَا تَرَى مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ «الْمِنْهَاجِ» الْبَيْضَاوِيِّ وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ» . وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ لَا تَتَوَرَّعُ عَنْ أَنْ تَصِفَ لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمَةَ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: «أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ ¬

(¬1) وَقد تقع الْإِضَافَة إِلَى مثل هَذَا الضَّمِير بِدُونِ مزاوجة، فَيكون ذكر الضَّمِير مُسْتَغْنى عَنهُ وَلَا دَاعِي إِلَيْهِ فَيكون بِمَنْزِلَة اعْتِمَاد فِي الْكَلَام كَمَا فِي قَول عَامر بن جُوَيْن الطَّائِي: فَلَا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرض أبقل إبقالها أَي ودقت ودقا وأبقلت إبقالا. وَمِنْه قَول بعض بني نمير: رمى قلبه الْبَرْق الملألئ ... رميه فهيّج أسقاما فَبَاتَ يهيم أنْشدهُ الشَّيْخ الْجد سَيِّدي مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور فِي «شَرحه» على «الْبردَة» نقلا عَن ابْن مَرْزُوق فِي الْبَيْت الثَّانِي من أَبْيَات الْبردَة. (¬2) هُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحَاج الْعَبدَرِي الْمَالِكِي الفاسي الْمُتَوفَّى سنة/ 737/ هـ. لَهُ كتاب «الْمدْخل إِلَى تَتِمَّة الْأَعْمَال» .

الذِّمَّةِ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَامْنَعْ مِنْ ذَلِكَ وَحِلْ دُونَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَرَى الذِّمِّيَّةُ عُرْيَةَ الْمُسْلِمَةِ» . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ كَالْمُسْلِمَةِ وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ كَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا تَرَى مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَقِيلَ: هِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ. وَأَمَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ فَهُوَ رخصَة لِأَن فِي سَتْرَ الْمَرْأَةِ زِينَتَهَا عَنْهُمْ مَشَقَّةٌ عَلَيْهَا. لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِمْ عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لَهَا وَازِعٌ لَهُ وَلَهَا عَنْ حُدُوثِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَهُمَا، وَالْإِسْلَامُ وَازِعٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَصِفَ الْمَرْأَةَ لِلرِّجَالِ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ تَشْتَرِكُ أَفْرَادُهُ فِي الْوَصْفَيْنِ وَهْمَا التَّبَعِيَّةُ وَعَدَمُ الْإِرْبَةِ. فَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ كَوْنُهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ بَيْتِ الْمَرْأَةِ وَلَيْسُوا مِلْكَ يَمِينِهَا وَلَكِنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى بَيْتِهَا لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ أَوْ لِلْخِدْمَةِ. وَالْإِرْبَةُ: الْحَاجَةُ. وَالْمُرَادُ بِهَا الْحَاجَةُ إِلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ. وَانْتِفَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَظْهَرُ فِي الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَرَخَّصَ اللَّهُ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِنَظَرِ هَؤُلَاءِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنِ النِّسَاءِ مَعَ السَّلَامَةِ الْغَالِبَةِ مَنْ تَطَرُّقِ الشَّهْوَةِ وَآثَارِهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْخَصِيِّ غَيْرِ التَّابِعِ هَلْ يُلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ عَنِ السَّلَفِ. وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ: أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ دُخُولِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الشَّرْطَانِ التَّبَعِيَّةُ وَعَدَمُ الْإِرْبَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.

وَأَمَّا قَضِيَّةُ (هِيتٍ) الْمُخَنَّثِ أَوِ الْمَخْصِيِّ (¬1) وَنهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِنَّ فَتِلْكَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ تَعَلَّقَتْ بِحَالَةٍ خَاصَّةٍ فِيهِ. وَهِيَ وَصْفُهُ النِّسَاءَ لِلرِّجَالِ فَتَقَصَّى عَلَى أَمْثَالِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ مَا سَمِعَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ بِخَفْضِ غَيْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ. وَالطِّفْلِ مُفْرَدٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَلِذَلِكَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحجّ: 5] أَيْ أَطْفَالًا. وَمَعْنَى: لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهَا. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ خُلُوِّ بَالِهِمْ مِنْ شَهْوَةِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ مَا قَبْلَ سِنِّ الْمُرَاهَقَةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي عِدَادِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الْعَمُّ وَالْخَالُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُسَاوَاتِهِمَا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: هُمَا مُسَاوِيَانِ لِمَنْ ذُكِرَ مِنَ الْمَحَارِمِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَثَلُ ابْنِ الْفَرَسِ وَابْنِ جُزَيٍّ عَنْهُ الْمَنْعَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ بِالْمَنْعِ وَعَلَّلَ التَّفْرِقَةَ بِأَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ قَدْ يَصِفَانِ الْمَرْأَةَ لِأَبْنَائِهِمَا وَأَبْنَاؤُهُمَا غَيْرُ مَحَارِمَ. وَهَذَا تَعْلِيلٌ وَاهٍ لِأَنَّ وَازِعَ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مَنْ وَصْفِ الْمَرْأَةِ. ¬

(¬1) أخرج حَدِيثه فِي «الْمُوَطَّأ» وَكتب السّنة، وَهُوَ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيت أم سَلمَة فَدخل عَلَيْهَا هيت- بِكَسْر الْهَاء- المخنث فَقَالَ لعبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي أخي أم سَلمَة لأَبِيهَا: يَا عبد الله إِن فتح الله عَلَيْكُم الطَّائِف غَدا فَإِنِّي أدلك على بادية بنت غيلَان فَإِنَّهَا تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان وَزَاد فِي الْوَصْف وَأنْشد شَعِيرًا فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أرى هَذَا يعرف مَا هَاهُنَا: لَا يدْخل عليكن» . وَكَانَ هيت هَذَا مولى لعبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُكُوتَ الْآيَةِ عَنِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لَيْسَ لِمُخَالَفَةِ حُكْمِهِمَا حُكْمَ بَقِيَّةِ الْمَحَارِمِ وَلَكِنَّهُ اقْتِصَارٌ عَلَى الَّذِينَ تَكْثُرُ مُزَاوَلَتُهُمْ بَيْتَ الْمَرْأَةِ، فَالتَّعْدَادُ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ. وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ الْقَرَابَةِ مَنْ كَانَ فِي مَرَاتِبِهِمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» . وَجَزَمَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ قَوْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ فِيهِمْ مِنَ الرُّخْصَةِ مَا فِي مَحَارِمِ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. الضَّرْبُ بِالْأَرْجُلِ إِيقَاعُ الْمَشْيِ بِشِدَّةٍ كَقَوْلِهِ: يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ حَضْرَمِيٍّ: أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ بُرَتَيْنِ (تَثْنِيَةُ بُرَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ ضَرْبٌ مِنَ الْخَلْخَالِ) مِنْ فِضَّةٍ وَاتَّخَذَتْ جَزْعًا فِي رِجْلَيْهَا فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ فَضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا فَوَقَعَ الْخَلْخَالُ عَلَى الْجَزَعِ فَصَوَّتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ إِذَا لَبِسْنَ الْخَلْخَالَ ضَرَبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ فِي الْمَشْيِ بِشِدَّةٍ لِتُسْمَعَ قَعْقَعَةُ الْخَلَاخِلِ غَنَجًا وَتَبَاهِيًا بِالْحُسْنِ فَنَهَيْنَ عَنْ ذَلِكَ مَعَ النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنَ النَّظَرِ لِلزِّينَةِ فَأَمَّا صَوْتُ الْخَلْخَالِ الْمُعْتَادُ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ. وَفِي أَحَادِيثِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ «جَامِعِ الْعَتَبِيِّةِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَرْجُلِ النِّسَاءِ مِنَ الْخَلَاخِلِ قَالَ: «مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ» . قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : أَرَادَ أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقْصِدْنَ فِي مَشْيِهِنَّ إِلَى إِسْمَاعِ قَعْقَعَةِ الْخَلَاخِلِ إِظْهَارًا بِهِنَّ مِنْ زِينَتِهِنَّ. وَهَذَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذَكِّرَ الرَّجُلَ بِلَهْوِ النِّسَاءِ وَيُثِيرَ مِنْهُ إِلَيْهِنَّ مِنْ كُلِّ مَا يَرَى أَوْ يَسْمَعُ مِنْ زِينَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ كَالتَّثَنِّي وَالْغِنَاءِ

وَكَلِمِ الْغَزَلِ. وَمِنْ ذَلِكَ رَقْصُ النِّسَاءِ فِي مَجَالِسِ الرِّجَالِ وَمِنْ ذَلِكَ التَّلَطُّخِ بِالطِّيبِ الَّذِي يَغْلُبُ عَبِيقُهُ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى عِلَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَلعن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ. قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ أَكْثَرَ ضَمَائِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَمَعَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا لِلْمُؤْمِنَاتِ مِنْ مَخْفُوضٍ وَمَرْفُوعٍ وَسَمَّاهَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: آيَةَ الضَّمَائِرِ. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أُعْقِبَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَمْرِ جَمِيعِهِمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ دِفَاعًا لِدَاعٍ تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالشَّهْوَةِ فَيَصْدُرُ ذَلِكَ عَنِ الْإِنْسَانِ عَنْ غَفْلَةٍ ثُمَّ يَتَغَلْغَلُ هُوَ فِيهِ فَأُمِرُوا بِالتَّوْبَةِ لِيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ اللَّمَمِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ [النُّور: 30] . وَوَقَعَ الْتِفَاتٌ مِنْ خطاب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خِطَابِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ هَذَا تَذْكِيرٌ بِوَاجِبِ التَّوْبَةِ الْمُقَرَّرَةِ مِنْ قَبْلُ وَلَيْسَ اسْتِئْنَافَ تَشْرِيعٍ. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ وَرَدَ بِضَمِيرِ التَّذْكِيرِ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَأَنْ يُؤَمِّلُوا الْفَلَاحَ إِنْ هُمْ تَابُوا وَأَنَابُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [17] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ أَيُّهَ بَهَاءٍ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِ الْأَلْفِ فِي حَالِ الْوَصْلِ مَعَ كَلِمَةِ الْمُؤْمِنُونَ. فَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَاءِ بِدُونِ أَلْفٍ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهَا أَبُو عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ (أَيْ) . وَوَقَفَ عَلَيْهَا

[سورة النور (24) : آية 32]

أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِأَلْفٍ فِي آخِرِهَا. وَوَقَفَ الْبَاقُونَ عَلَيْهَا بِسُكُونِ الْهَاءِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا رسمت بِهِ. [32] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 32] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) أُرْدِفَتْ أَوَامِرُ الْعَفَافِ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُعِينُ عَلَيْهِ، وَيَعِفُّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَيَغُضُّ مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فَأَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ بِأَنْ يُزَوِّجُوا أَيَامَاهُمْ وَلَا يَتْرُكُوهُنَّ مُتَأَيِّمَاتٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَفُّ لَهُنَّ وَلِلرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَهُنَّ. وَأَمَرَ السَّادَةَ بِتَزْوِيجِ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ. وَهَذَا وَسِيلَةٌ لِإِبْطَالِ الْبِغَاءِ كَمَا سَيَتْبَعُ بِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَالْأَيَامَى: جَمْعُ أَيِّمٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا كَانَتْ ثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا. وَالشَّائِعُ إِطْلَاقُ الْأَيِّمِ عَلَى الَّتِي كَانَتْ ذَاتِ زَوْجٍ ثُمَّ خَلَتْ عَنْهُ بِفِرَاقٍ أَوْ مَوْتِهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى الْبِكْرِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا فَغَيْرُ شَائِعٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ. وَالْأَيِّمُ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَوْصَاف النِّسَاء قَالَه أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَلِذَلِكَ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ فَلَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمَةٌ. وَإِطْلَاقُ الْأَيِّمِ عَلَى الرَّجُلِ الْخَلِيِّ عَنِ امْرَأَةٍ إِمَّا لِمُشَاكَلَةٍ أَوْ تَشْبِيهٍ، وَبَعْضُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ يَجْعَلُ الْأَيِّمَ مُشْتَرَكًا لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَعَلَيْهِ دُرِجَ فِي «الْكَشَّاف» و «الْقَامُوس» . وَوَزْنُ أَيَامَى عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَفَاعِلُ لِأَنَّهُ جَمْعُ أَيِّمٍ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ، وَفَيْعِلُ لَا يُجْمَعُ عَلَى فَعَالَى. فَأَصْلُ أَيَامَى أَيَائِمُ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ قُدِّمَتِ الْمِيمُ

لِلتَّخَلُّصِ مِنْ ثِقَلِ الْيَاءِ بَعْدَ حَرْفِ الْمَدِّ، وَفُتِحَتِ الْمِيمُ لِلتَّخْفِيفِ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا. وَعِنْدَ ابْنِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ: وَزْنُهُ فَعَالَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. والْأَيامى صِيغَةُ عُمُومٍ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَتَشْمَلُ الْبَغَايَا. أُمِرَ أَوْلِيَاؤُهُنَّ بِتَزْوِيجِهِنَّ فَكَانَ هَذَا الْعُمُومُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: 3] فَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّتِي قبلهَا محكمَة عَن غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ امْرَأَةً مِنْ رَجُلٍ زَنَى بِهَا لَمَّا شَكَاهُ أَبُوهَا. وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ فِي قَوْلِهِ مِنْكُمْ أَنَّهُنَّ مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسَلَّمَاتِ لَا يَخْلُونَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا عَلَاقَةَ لِلْآيَةِ بِهِنَّ، أَوْ أَنْ يَكُنَّ مَمْلُوكَاتٍ فَهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي قَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْآتِيَةِ فِي مَعْنَى الصَّالِحِينَ وَأَمَّا غَيْرُهُنَّ فَوِلَايَتُهُنَّ لِأَهْلِ مِلَّتِهِنَّ. وَالْمَقْصُودُ: الْأَيَامَى الْحَرَائِرُ، خَصَّصَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. وَظَاهِرُ وَصْفِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالصَّالِحِينَ أَنَّ الْمُرَادَ اتِّصَافُهُمْ بِالصَّلَاحِ الدِّينِيِّ. أَيِ الْأَتْقِيَاءُ. وَالْمَعْنَى: لَا يَحْمِلُكُمْ تَحَقُّقُ صَلَاحِهِمْ عَلَى إِهْمَالِ إِنْكَاحِهِمْ لِأَنَّكُمْ آمِنُونَ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الزِّنَى بَلْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُمْ رِفْقًا بِهِمْ وَدَفْعًا لِمَشَقَّةِ الْعَنَتِ عَنْهُمْ. فَيُفِيدُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا صَالِحِينَ كَانَ تَزْوِيجُهُمْ آكَدَ أَمْرًا. وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ الْفَحْوَى فَيَشْمَلُ غَيْرَ الصَّالِحِينَ غَيْرَ الْإِعْفَاءِ وَالْعَفَائِفِ مِنَ الْمَمَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَشْمَلُ الْمَمَالِيكَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْقَشِعُ الْحَيْرَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقِيلَ أُرِيدَ بِالصَّالِحِينَ الصَّلَاحُ لِلتَّزَوُّجِ بِمَعْنى اللياقة لشؤون الزَّوْجِ، أَيْ إِذَا كَانُوا مَظِنَّةَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ.

وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ إِلَى آخِرِهِ مُجْمَلَةٌ تَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ بِحَسَبِ مَا يَعْرِضُ مِنْ حَالِ الْمَأْمُورِ بِإِنْكَاحِهِمْ: فَإِنْ كَانُوا مَظِنَّةَ الْوُقُوعِ فِي مَضَارٍّ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا كَانَ إِنْكَاحُهُمْ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِنْكَاحُهُمْ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُنْدَبُ. وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ ضَعِيفٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَظِنَّةَ تَرَدُّدٍ فِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ إِلَخْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَيَامَى وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ يُثِيرُ سُؤَالَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْمَوَالِي أَنْ يَكُونُ الرَّاغِبُ فِي تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الْأَيِّمِ فَقِيرًا فَهَل يردهُ الْوَلِيّ، وَأَنْ يكون سيد العَبْد فَقِيرًا لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى زَوْجِهِ، وَكَذَلِكَ سَيِّدُ الْأَمَةِ يَخْطُبُهَا رَجُلٌ فَقِيرٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَجَاءَ هَذَا لِبَيَانِ إِرَادَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ. وَوَعَدَ اللَّهُ الْمُتَزَوِّجَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَنْ يُغْنِيَهُ اللَّهُ، وَإِغْنَاؤُهُ تَيْسِيرُ الْغِنَى إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حُرًّا وَتَوْسِعَةُ الْمَالِ عَلَى مَوْلَاهُ إِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا عُذْرَ لِلْوَلِيِّ وَلَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَرَدَّ خِطْبَتَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَإِغْنَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ تَوْفِيقُ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الَّتِي اعْتَادُوهَا مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهِ سَعْيُهُمُ الْخَاص من مُقَارنَة الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُفِيدُ سَعْيَهُمْ نَجَاحًا وَتِجَارَتَهُمْ رَبَاحًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤْنَةَ مَا يَزِيدُهُ التَّزَوُّجُ مِنْ نَفَقَاتِهِمْ. وَصِفَةُ اللَّهِ «الْوَاسِعُ» مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ وَسِعَ بِاعْتِبَار أَنه وصف مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالسَّعَةِ هُوَ إِحْسَانُهُ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: وَالسَّعَةُ تُضَافُ مَرَّةً إِلَى الْعِلْمِ إِذَا اتَّسَعَ وَأَحَاطَ بِالْمَعْلُومَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَتُضَافُ مَرَّةً إِلَى الْإِحْسَانِ وَبَذْلِ النِّعَمِ، وَكَيْفَمَا قُدِّرَ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ نَزَلَ فَالْوَاسِعُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِنْ نَظَرَ إِلَى عِلْمِهِ فَلَا سَاحِلَ لِبَحْرِ مَعْلُومَاتِهِ وَإِنْ نَظَرَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ فَلَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِهِ اهـ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَصْفَ الْوَاسِعِ الْمُطْلَقِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ سَعَةُ الْفَضْلِ وَالنِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ بِوَصْفِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ قَالَ

[سورة النور (24) : آية 33]

تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: 130] . أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ السِّعَةَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَيُرَادُ بِهَا الْإِحَاطَةُ فِيمَا تَمَيَّزَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الْأَعْرَاف: 89] . وَذِكْرُ عَلِيمٌ بَعْدَ واسِعٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي فَضْلَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا عَلِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي مِقْدَارِ الْإِعْطَاءِ. [33] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 33] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أَمَرَ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْكَاحِ بِأَنْ يُلَازِمُوا الْعَفَافَ فِي مُدَّةِ انْتِظَارِهِمْ تَيْسِيرَ النِّكَاحِ لَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِإِذْنِ أَوْلِيَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، أَيْ وَلْيَعِفَّ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا. وَوَجْهُ دِلَالَتِهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْتِعَارَةٌ. جعل طَلَبَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ طَلَبِ السَّعْيِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ. وَمَعْنَى لَا يَجِدُونَ نِكاحاً لَا يَجِدُونَ قُدْرَةً عَلَى النِّكَاحِ فَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ. وَقِيلَ النِّكَاحُ هُنَا اسْمُ مَا هُوَ سَبَبُ تَحْصِيلِ النِّكَاحِ كَاللِّبَاسِ وَاللِّحَافِ. فَالْمُرَادُ الْمَهْرُ الَّذِي يُبْذَلُ لِلْمَرْأَةِ. وَالْإِغْنَاءُ هُنَا هُوَ إِغْنَاؤُهُمْ بِالزَّوَاجِ. وَالْفَضْلُ: زِيَادَةُ الْعَطَاءِ. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ. لَمَّا ذُكِرَ وَعْدُ اللَّهِ مَنْ يُزَوَّجُ مِنَ الْعَبِيدِ الْفُقَرَاءِ بِالْغِنَى وَكَانَ مِنْ وَسَائِلِ غِنَاهُ أَنْ يَذْهَبَ يَكْتَسِبُ بِعَمَلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ

جَعَلَ اللَّهُ لِلْعَبِيدِ حَقًّا فِي الِاكْتِسَابِ لِتَحْرِيرِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الرِّقِّ وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ غِنًى لِلْعَبْدِ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَزْوَاجِ. أَمَرَ اللَّهُ السَّادَةَ بِإِجَابَةِ مَنْ يَبْتَغِي الْكِتَابَةَ مِنْ عَبِيدِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَثِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأُمَّةِ، وَلِمَقْصِدِهَا مِنْ إِكْثَارِ النَّسْلِ فِي الْأُمَّةِ، وَلِمَقْصِدِهَا مِنْ تَزْكِيَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقَامَةِ دِينِهَا. وَالَّذِينَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَكاتِبُوهُمْ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي فَكاتِبُوهُمْ لِتَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنِ ابْتَغَى الْكَتَابَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ، تَأْكِيدًا لترتب الْخَيْر عَلَى تَحَقُّقِ مَضْمُونِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِأَنْ يَكُونَ كَتَرَتُّبِ الشُّرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ. وَالْكِتَابُ: مَصْدَرُ كَاتَبَ إِذَا عَاقَدَ عَلَى تَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ مِنَ الرِّقِّ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ يُدْفَعُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مُنَجَّمًا، أَيْ مُوَزَّعًا عَلَى مَوَاقِيتَ مُعَيَّنَةٍ، كَانُوا فِي الْغَالِبِ يُوَقِّتُونَهَا بِمَطَالِعِ نُجُومِ الْمَنَازِلِ مِثْلَ الثُّرَيَّا فَلِذَلِكَ سَمَّوْا تَوْقِيتَ دَفْعِهَا نَجْمًا وَسَمَّوْا تَوْزِيعَهَا تَنْجِيمًا، ثُمَّ غَلَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَوْقِيتٍ فَيُقَالُ فِيهِ: تَنْجِيمٌ. وَكَذَلِكَ الدِّيَّاتُ وَالْحَمَالَاتُ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا مُوَزَّعَةً عَلَى مَوَاقِيتَ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَنْجِيمًا وَكَانَ تَنْجِيمُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى السَّوَاءِ، قَالَ زُهَيْرٌ: تُعَفَّى الْكُلُومُ بِالْمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ ... يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ وَسَمَّوْا ذَلِكَ كِتَابَةً لِأَنَّ السَّيِّدَ وَعَبْدَهُ كَانَا يُسَجِّلَانِ عَقْدَ تَنْجِيمٍ عِوَضَ الْحُرِّيَّةِ بِصَكٍّ يَكْتُبُهُ كَاتِبٌ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْكُتُبِ حِفْظٌ لَحِقِّ كِلَيْهِمَا أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ التَّسْجِيلِ كِتَابَةٌ لِأَنَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ هُوَ عَقْدٌ مِنْ جَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْكَاتِبُ وَاحِدًا وَالْكُتُبُ وَاحِدًا. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْف: كَاتب أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً إِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُمْ لَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ إِلَّا تَحْرِيرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَمَكُّنًا مِنَ الْإِبَاقِ، وَذَلِكَ الْخَيْرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَبِصِفَةِ الْأَمَانَةِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ دَوَامُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِكْمَالِ مَا عَلَيْهِ رَجَعَ عَبْدًا كَمَا كَانَ.

وَكَانَتِ الْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةً مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ عَلَى خِيَارِ السَّيِّدِ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَأْمُرُ السَّادَةَ بِذَلِكَ إِنْ رَغِبَهُ الْعَبْدُ أَوْ لِحَثِّهِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة فِي مَحْمَلِ الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكاتِبُوهُمْ. فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَسْرُوقٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَالظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا عَلِمَ خَيْرًا فِي عَبْدِهِ وَقَدْ وَكَلَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ حِفْظِ حَقِّ السَّادَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا عَرَضَ الْعَبْدُ اشْتِرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ سَيِّدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ. وَقَدْ هَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَضْرِبَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بِالدُّرَّةِ لَمَّا سَأَلَهُ سِيرِينُ عَبْدُهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى أَنَسٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ حَدِيثُ كِتَابَةِ بَرِيرَةَ مَعَ سَادَتِهَا وَكَيْفَ أَدَّتْ عَنْهَا عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَالَ الْكِتَابَةِ كُلَّهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَّاشِ وَمَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ غُلَامًا لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أَوْ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اسْمُهُ صُبَيْحٌ الْقِبْطِيُّ أَوْ صُبْحٌ سَأَلَ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ يُكَنَّى أَبَا أُميَّة وَهُوَ أَوَّلُ عَبْدٍ كُوتِبَ فِي الْإِسْلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ لِيَتَنَاسَقَ الْخِطَابَانِ وَهُوَ أَمْرٌ لِلسَّادَةِ بِإِعَانَةِ مُكَاتَبِيهِمْ بِالْمَالِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ مِقْدَارِ الْمَالِ الَّذِي وَقَعَ التَّكَاتُبُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: يُوضَعُ عَنِ الْمُكَاتَبِ مِنْ آخَرِ كِتَابَتِهِ مَا تَسْمَحُ بِهِ نَفْسُ السَّيِّدِ. وَحَدَّدَهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِالرُّبْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُشْرِ. وَهَذَا التَّخْفِيفُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ (الْإِيتَاءِ) وَلَيْسَ ثَمَّةَ إِيتَاءٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ إِسْقَاطًا لِمَا وَجَبَ عَلَى الْمُكَاتَبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْطَاءِ كَمَا سُمِّيَ إِكْمَالُ الْمُطْلِقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِمُطَلَّقَتِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ عَفْوًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي

بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَة: 237] فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ فِي مَحْمَلِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ. أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ. وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ الْقَاضِي: وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْكِتَابَةَ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَجَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِعْطَاءِ لِلْوُجُوبِ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ وَالْفَرْعَ وَاجِبًا وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُيَسِّرُ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شُكْرٌ وَالْإِمْسَاكَ جَحْدٌ لِلنِّعْمَةِ قَدْ يَتَعَرَّضُ بِهِ الْمُمْسِكُ لِتَسَلُّبِ النِّعْمَةِ عَنْهُ. وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ الَّذِي آتاكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ مالِ اللَّهِ وَيَكُونُ الْعَائِدُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: آتَاكُمُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى الِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ وَيَكُونَ مَفْعُولُ آتاكُمْ مَحْذُوفًا للْعُمُوم، أَي ءاتاكم عَلَى الِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ. وَيَكُونُ مَفْعُولُ آتاكُمْ مَحْذُوفًا للْعُمُوم، أَي ءاتاكم نِعَمًا كَثِيرَةً كَقَوْلِهِ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إِبْرَاهِيم: 34] . وَأَحْكَامُ الْكِتَابَةِ وَعَجْزُ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِهِ وَرُجُوعِهِ مَمْلُوكًا وَمَوْتُ الْمَكَاتِبِ وَمِيرَاثُ الْكِتَابَةِ وَأَدَاءُ أَبْنَاءِ الْمُكَاتِبِ نُجُومَ كِتَابَتِهِ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

انْتِقَالٌ إِلَى تشريع من شؤون الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ فِي الْأَنْسَاب وَمن شؤون حُقُوقِ الْمَوَالِي وَالْعَبِيدِ، وَهَذَا الِانْتِقَالُ لِمُنَاسَبَةِ مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِ الِاكْتِسَابِ الْمُنْجَرِّ مِنَ الْعَبِيدِ لِمَوَالِيهِمْ وَهُوَ الْكِتَابَةُ فَانْتَقَلَ إِلَى حُكْمِ الْبِغَاءِ. وَالْبِغَاءُ مَصْدَرُ: بَاغَتِ الْجَارِيَةُ، إِذَا تَعَاطَتِ الزِّنَى بِالْأَجْرِ حِرْفَةً لَهَا، فَالْبِغَاءُ الزِّنَى بِأُجْرَةٍ. وَاشْتِقَاقُ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا: بَاغَتِ الْأَمَةُ. وَلَا يُقَالُ: بَغَتْ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَغْيِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْمَشَارِقِ» لِأَنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ بَغَى بِهَا كَسْبًا. وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ المحترفة بِهِ بَغِيًّا بِوَزْنِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَلِذَلِكَ لَا تَقْتَرِنُ بِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ. فَأَصْلُ بَغِيٍّ بَغُويٍ فَاجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْبِغَاءُ مَشْرُوعًا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ 38: «فَخَلَعَتْ عَنْهَا ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا وَتَغَطَّتْ بِبُرْقُعٍ وَتَلَفَّفَتْ وَجَلَسَتْ فِي مَدْخَلِ (عَيْنَائِمَ) الَّتِي عَلَى الطَّرِيقِ» ثُمَّ قَالَ فَنَظَرَهَا يَهُوذَا وَحَسِبَهَا زَانِيَةً لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ غَطَّتْ وَجْهَهَا فَمَالَ إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: هَاتِي أَدْخُلُ عَلَيْكَ. فَقَالَتْ: مَاذَا تُعْطِينِي؟ فَقَالَ: أرسل لَك جدي مِعْزًى مِنَ الْغَنَمِ.. ثُمَّ قَالَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَحَبِلَتْ مِنْهُ» . وَقَدْ كَانَتْ فِي الْمَدِينَةِ إِمَاءٌ بَغَايَا مِنْهُنَّ سِتُّ إِمَاءٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَهُنَّ: مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَأَرْوَى وَقَتِيلَةُ، وَكَانَ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى قُرَيْشٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ قَدْ جُعِلَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَكَانَ هَذَا الْأَسِيرُ يُرِيدُ مُعَاذَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَكَانَتْ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِأَنَّهَا أَسْلَمَتْ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنْهُ رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ (أَيْ مِنَ الْأَسِيرِ الْقُرَشِيِّ) فَيَطْلُبُ فِدَاءَ وَلَدِهِ، أَيْ فِدَاءَ رِقِّهِ مِنِ ابْنِ أُبَيٍّ. وَلَعَلَّ هَذَا الْأَسير كَانَ مؤسرا لَهُ مَالٌ بِمَكَّةَ وَكَانَ الزَّانِي بِالْأَمَةِ يَفْتَدِي وَلَدَهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ يَدْفَعُهَا

لِسَيِّدِ الْأَمَةِ، وَأَنَّهَا شكته إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالُوا إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ قَدْ أَعَدَّ مُعَاذَةَ لِإِكْرَامِ ضُيُوفِهِ فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ ضَيْفٌ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ لِيُوَاقِعَهَا إِرَادَةَ الْكَرَامَةِ لَهُ. فَأَقْبَلَتْ مُعَاذَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيءُ أَبَا بَكْرٍ بِقَبْضِهَا فَصَاحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: مَنْ يَعْذُرُنَا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمَالِيكِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَظَاهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِالْإِسْلَامِ. وَجَمِيعُ هَذِهِ الْآثَارِ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَ بِهَا تَحْرِيمُ الْبِغَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْمَالِكَاتِ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ. وَكَانَ بِمَكَّةَ تِسْعُ بَغَايَا شَهِيرَاتٍ يَجْعَلْنَ عَلَى بُيُوتِهِنَّ رَايَاتٍ مِثْلَ رَايَاتِ الْبَيْطَارِ لِيَعْرِفَهُنَّ الرِّجَالُ، وَهُنَّ كَمَا ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ: أُمُّ مَهْزُولٍ جَارِيَةُ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ، وَأُمُّ غَلِيظٍ جَارِيَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَحَيَّةُ الْقِبْطِيَّةُ جَارِيَةُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، وَمُزْنَةُ جَارِيَةُ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ بْنِ السَّبَّاقِ، وَجُلَالَةُ جَارِيَةُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرَةَ، وَأُمُّ سُوِيدٍ جَارِيَةُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ، وَشَرِيفَةُ جَارِيَةُ رَبِيعَةَ بْنِ أَسْوَدَ. وَقَرِينَةُ أَوْ قَرِيبَةُ جَارِيَةُ هِشَامِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقَرِينَةُ جَارِيَةُ هِلَالِ بْنِ أَنَسٍ. وَكَانَتْ بُيُوتُهُنَّ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْمَوَاخِيرَ. قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْبَغَايَا عِنَاقٌ وَلَعَلَّهَا هِيَ أُمُّ مَهْزُولٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] . وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ بِمَكَّةَ أسلمت وَأما اللائي كُنَّ بِالْمَدِينَةِ فَقَدْ أَسْلَمَتْ مِنْهُنَّ مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَاءِ الثَّلَاثِ الْأُخَرِ فِي الصَّحَابَةِ فَلَعَلَّهُنَّ هَلَكْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ. وَالْبِغَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ أَصْنَافِ النِّكَاحِ. فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا.

وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمَثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا اللَّيَالِي بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ. تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا. وَنِكَاحٌ رَابِعٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ الرَّايَاتِ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ اهـ. فَكَانَ الْبِغَاءُ فِي الْحَرَائِرِ بِاخْتِيَارِهِنَّ إِيَّاهُ لِلِارْتِزَاقِ. وَكَانَتْ عِنَاقُ صَاحِبَةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] . وَكَانَ فِي الْإِمَاءِ مَنْ يُلْزِمُهُنَّ سَادَتُهُنَّ عَلَيْهِ لِاكْتِسَابِ أُجُورِ بِغَائِهِنَّ فَكَمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْإِمَاءَ لِلْخِدْمَةِ وَلِلتَّسَرِّي كَانُوا يَتَّخِذُونَ بَعْضَهُنَّ لِلِاكْتِسَابِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَجْرَهُنَّ مَهْرًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَلِأَجْلِ هَذَا اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى ذِكْرِ الْفَتَيَاتِ جَمْعِ فَتَاةٍ بِمَعْنَى الْأَمَةِ، كَمَا قَالُوا لِلْعَبْدِ: غُلَامٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْضَلٌ وَأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ مَا وَفَّوْهَا حَقَّ الْبَيَانِ وَمَا أَتَوْا إِلَّا إِطْنَابًا فِي تَكْرِيرِ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَسْمَاءِ مَنْ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي قَضِيَّتِهَا دُونَ إِفْصَاحٍ عَمَّا يَسْتَخْلِصُهُ النَّاظِرُ مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسلمين، فَإِن كَانَتْ قِصَّةُ أَمَةِ ابْنِ أُبَيٍّ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ سَيِّدُهَا الْإِسْلَامَ كَانَ هُوَ سَبَبَ النُّزُولِ فَشَمِلَهُ الْعُمُومُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ حَدَثَتْ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْإِسْلَامُ فَهُوَ سَبَبٌ وَلَا يَشْمَلَهُ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا كَانَ تَذَمُّرُ أَمَتِهِ مِنْهُ دَاعِيًا لِنَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِكْرَاهِ فَتَيَاتِهِمْ عَلَى الْبِغَاءِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْفَتَيَاتُ مُسْلِمَاتٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكَاتِ لَا يُخَاطَبْنَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ كَانَ إِظْهَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْإِسْلَامَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ تَرَدَّدَ زَمَنًا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَّا رَأَى قَوْمَهُ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ دَخَلَ فِيهِ كَارِهًا مُصِرًّا عَلَى النِّفَاقِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قِصَّةَ أَمَتِهِ حَدَثَتْ فِي مُدَّةِ صَرَاحَةِ كُفْرِهِ لِمَا عَلِمْتَ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ نَزَلَتْ: مَنْ يَعْذُرُنَا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمَالِيكِنَا، وَنُزُولُ سُورَةِ النُّورِ كَانَ فِي حُدُودِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِغَاءَ الَّذِي هُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ اسْتَمَرَّ زَمَنًا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِغَاءَ يَمُتُّ إِلَى الزِّنَى بِشَبَهٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْأَنْسَابِ لِلِاخْتِلَاطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الزِّنَى فِي خَرْمِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ النَّسَبِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الزِّنَى سِرًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنِ اقْتَرَفَهُ وَكَانَ الْبِغَاءُ عَلَنًا، وَكَانُوا يَرْجِعُونَ فِي إِلْحَاق الْأَبْنَاء الَّذين تَلِدُهُمُ الْبَغَايَا بِآبَائِهِمْ إِلَى إِقْرَارِ الْبَغِيِّ بِأَنَّ الْحَمْلَ مِمَّنْ تُعَيِّنُهُ. وَاصْطَلَحُوا عَلَى الْأَخْذِ بِذَلِكَ فِي النَّسَبِ فَكَانَ شَبِيهًا بِالِاسْتِلْحَاقِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْبَغَايَا مَنْ لَا ضَبْطَ لَهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ فَيُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى عَدَمِ الْتِحَاقِ الْوَلَدِ بِأَحَدٍ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الزِّنَى كَانَ مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا شَدِيدًا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ مَبْدَأِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ فُرِضَتْ فِي حُدُودِ السَّنَةِ الْأَوْلَى بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنُزُولِ سُورَةِ النُّورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِهَا. وَقَدْ أَثْبَتَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هَدَمَ أَنْكِحَةَ الْجَاهِلِيَّةِ الثَّلَاثَةَ وَأَبْقَى النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُعَيِّنْ ضَبْطَ زَمَانِ ذَلِكَ الْهَدْمِ.

وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْبِغَاءُ مُحَرَّمًا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ لَمْ يُعْرَفْ قَبْلَهَا شَيْءٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ حُدُوثُ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إِذْ لَا سَبِيلَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى مُحَرَّمٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالِهِمْ. وَلِذَلِكَ فَالْآيَةُ نَزَلَتْ تَوْطِئَةً لِإِبْطَالِهِ كَمَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: 43] تَوْطِئَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَلْبَتَّةَ. وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِثْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْفَخْرِ بِظَاهِرِ عِبَارَاتِهِمْ دُونَ صَرَاحَةٍ بَلْ بِمَا تَأَوَّلُوا بِهِ مَعَانِي الْآيَةِ إِذْ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُرَادُ بِهِ عَدَمُ النَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبِغَاءِ إِذَا انْتَفَتْ إِرَادَتُهُنَّ التَّحَصُّنَ بَلْ كَانَ الشَّرْطُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لِأَنَّ إِرَادَةَ التَّحَصُّنِ هِيَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْإِمَاءِ الْبَغَايَا الْمُؤْمِنَاتِ إِذْ كُنَّ يُحْبِبْنَ التَّعَفُّفَ، أَوْ لِأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ مَعَهَا إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ. وَالدَّاعِي إِلَى ذِكْرِ الْقَيْدِ تَشْنِيعُ حَالَةِ الْبِغَاءِ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ عَنْ إِكْرَاهٍ وَعَنْ مَنْعٍ مِنَ التَّحَصُّنِ. فَفِي ذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِهِ وَفَسَادِهِ وَخَبَاثَةِ الِاكْتِسَابِ بِهِ. وَذَكَرَ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِحَالَةِ الْإِكْرَاهِ إِذْ إِكْرَاهُهُمْ إِيَّاهُنَّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا وَهُنَّ يَأْبَيْنَ وَغَالِبُ الْإِبَاءِ أَنْ يَكُونَ عَنْ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ. هَذَا تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ وَرَجَعُوا فِي الْحَامِلِ عَلَى التَّأْوِيلِ إِلَى حُصُولِ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى حُرْمَةِ الْبِغَاءِ سَوَاءً كَانَ الْإِجْمَاعُ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَاءِ وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ هَلْ كَانَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْإِكْرَاهِ جَرَى عَلَى النَّظَرِ لِحَالِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَدْ نَحَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبِغَاءِ بِقَيْدِ إِرَادَةِ الْإِمَاءِ التَّحَصُّنَ.

فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ تَوْطِئَةً لِتَحْرِيمِ الْبِغَاءِ تَحْرِيمًا بَاتًّا. فَحَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكْرِهُوا إِمَاءَهُمْ عَلَى الْبِغَاءِ لِأَنَّ الْإِمَاءَ الْمُسْلِمَاتِ يَكْرَهْنَ ذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ لَهُنَّ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِهِ يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْبِغَاءِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَعْضُودًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ كَمَا يَأْتِي. وَفِي «تَفْسِيرِ الْأَصْفَهَانِيِّ» (¬1) : «وَقِيلَ إِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَا عَنِ الْبِغَاءِ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا نَزَلَ بَعْدَ هَذَا» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَجْعَلُ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِ تُكْرِهُوا أَيْ لَا تُكْرِهُوهُنَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْعِلَّةَ لِزِيَادَةِ التَّبْشِيعِ كَذِكْرِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً. وعَرَضَ الْحَياةِ هُوَ الْأَجْرُ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْمَوَالِي مِنْ إِمَائِهِمْ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَهْرِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ إِكْرَاهٍ. وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْخَبَرُ جَانِبَانِ: جَانِبُ الْمُكْرِهِينَ وَجَانِبُ الْمُكْرَهَاتِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) ، فَأَمَّا جَانِبُ الْمُكْرِهِينَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْإِكْرَاهِ إِذْ لَيْسَ لِمِثْلِ هَذَا التَّبْشِيرِ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْإِمَاءُ الْمُكْرَهَاتُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ. وَقَدْ قَرَأَ بِهَذَا الْمُقَدَّرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ¬

(¬1) شمس الدَّين مَحْمُود بن عبد الرَّحْمَن الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة/ 749/ هـ. [.....]

[سورة النور (24) : آية 34]

: «غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ وَاللَّهِ لَهُنَّ وَاللَّهِ» . وَجَعَلُوا فَائِدَةَ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ عَذَرَ الْمُكْرَهَاتِ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْبَقَرَة: 173] . وَعَلَى هَذَا فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلَّذِينِ يُكْرِهُونَ الْإِمَاءَ عَلَى الْبِغَاءِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ ضَمِيرَ (مِنْ) الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُ، وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُقْلِعَ وَيَتُوبَ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بعيد. وَقَوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ إِذْ حُذِفَ الْجَوَابُ إِيجَازًا وَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ بِذِكْرِ عِلَّتِهِ الَّتِي تَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِأَمْثَالِهِنَّ مِمَّنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ جَرِيمَةٍ. وَالْفَاءُ رَابِطَةُ الْجَوَابِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ يُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَيُغْنِي غِنَاءَ لَام التَّعْلِيل. [34] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 34] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) ذُيِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَالْمَوَاعِظُ الَّتِي سَبَقَتْ بِإِثْبَاتِ نَفْعِهَا وَجَدْوَاهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُقِيمُ عَمُودَ جَمَاعَتِهِمْ وَيُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيُزِيلُ مِنَ الْأَذْهَانِ اشْتِبَاهَ الصَّوَابِ بِالْخَطَأِ فَيَعْلَمُ النَّاسُ طُرُقَ النَّظَرِ الصَّائِبِ وَالتَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّدَبُّرِ فِيهَا وَلِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ بِإِنْزَالِهَا لِيَشْكُرُوا اللَّهَ حَقَّ شُكْرِهِ. وَوَصَفَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ كَمَا وَصَفَ السُّورَةَ فِي طَالِعَتِهَا بِثَلَاثِ صِفَاتٍ. وَالْمَقْصِدُ مِنَ الْأَوْصَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الِامْتِنَانُ فَكَانَ هَذَا يُشْبِهُ رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ التَّذْيِيلِ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا تُعْطَفَ لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ وَالِاسْتِئْنَافِ الْفَصْلُ كَمَا فُصِلَتْ أُخْتُهَا الْآتِيَةُ قَرِيبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 46] . وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْفَصْلِ إِلَى الْعَطْفِ لِأَنَّ هَذَا خِتَامُ التَّشْرِيعَاتِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَسْبَابِهَا. وَقَدْ خُلِّلَتْ بِمِثْلِ هَذَا التَّذْيِيلِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: 1] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النُّور: 18] ثُمَّ قَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّذْيِيلَاتِ زَائِدًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ فَالْأَوَّلُ زَائِدٌ بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [النُّور: 18] لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ بَيَانَ الْآيَاتِ لِفَائِدَةِ الْأُمَّةِ، وَمَا هُنَا زَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. فَكَانَتْ كُلُّ زِيَادَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ مُقْتَضِيَةً الْعَطْفَ لِمَا حَصَلَ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا، وَتُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَطْفًا عَلَى نَظِيرَتِهَا، فَوُصِفَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَوُصِفَ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَحْكَامِ الْقَذْفِ وَالْحُدُودِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى مُقَارِبِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ، فَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ يُطَابِقُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: 1] ، وَقَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يُقَابِلُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَة وَفَرَضْناها [النُّور: 1] عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ فِي التَّمْثِيلِ تَقْدِيرًا وَتَصْوِيرًا لِلْمَعَانِي بِنَظَائِرِهَا وَفِي ذَلِكَ كَشْفٌ لِلْحَقَائِقِ، وَقَوْلُهُ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يُقَابِلُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِهَا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النُّور: 1] . وَالْآيَاتُ جُمَلُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا لِكَمَالِ بَلَاغَتِهَا وَإِعْجَازِهَا الْمُعَانَدِينَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا كَانَتْ دَلَائِلَ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ مُبَيِّناتٍ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا وَوَضَّحَهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا أَبَانَتْ الْمَقَاصِدَ الَّتِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهَا. وَمَعْنَيَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَفَاوُتٌ بَيْنَ مُفَادِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمُفَادِ قَوْلِهِ فِي نَظِيرَتِهَا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: 1] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ الْوَاضِحَةُ، أَيِ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ وَالْإِفَادَةِ.

[سورة النور (24) : آية 35]

وَالْمَثَلُ: النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالُ الْعَجِيبَةُ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ مَثَلًا يَنْشَأُ وَيَتَقَوَّمُ مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا. وَالْمُرَادُ نَشْأَةُ الْمُشَابَهَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: مِنْ أَمْثَالِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. وَحَذْفُ الْمُضَافِ فِي مِثْلِ هَذَا طَرِيقَةٌ فَصِيحَةٌ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلُ أَرَادَ عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ. والَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ سَبَقُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ: مِنْ أَمْثَال صالحي الَّذين خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ قِصَّةُ الْإِفْكِ النَّظِيرَةُ لِقِصَّةِ يُوسُفَ وَقِصَّةِ مَرْيَمَ فِي تَقَوُّلِ الْبُهْتَانِ عَلَى الصَّالِحِينَ الْبُرَآءِ. وَالْمَوْعِظَةُ: كَلَامٌ أَوْ حَالَةٌ يَعْرِفُ مِنْهَا الْمَرْءُ مَوَاقِعَ الزَّلَلِ فَيَنْتَهِي عَنِ اقْتِرَافِ أَمْثَالِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] وَقَوْلِهِ: مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] . وَمَوَاعِظُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النُّور: 2] وَقَوْلِهِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النُّور: 12] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً [النُّور: 17] . وَالْمُتَّقُونَ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَيْ يَتَجَنَّبُونَ مَا نُهُوا عَنْهُ. [35] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَتْبَعَ مِنَّةَ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ الْمُفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] الْآيَةَ بِالِامْتِنَانِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مُكَوِّنُ أُصُولِ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْحَقِّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ بِإِرْسَالِ رَسُولِهِ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، مَعَ مَا فِي هَذَا الِامْتِنَانِ مِنَ الْإِعْلَامِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَجْدِهِ وَعُمُومِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ جُمْلَةَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ وَأَنَّ جُمْلَةَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا فَتَكُونُ جُمْلَةُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَمْهِيدًا لِجُمْلَةِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ بَعْدَ جُمْلَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نُورٌ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [174] ، وَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [15] ، فَكَانَ قَوْلُهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلمة جَامِعَة لمعان جَمَّةٍ تَتَّبِعُ مَعَانِي النُّورِ فِي إِطْلَاقِهِ فِي الْكَلَامِ. وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ عَجِيبٌ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ، وَانْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ مِنْ أَغْرَاضِ الْإِرْشَادِ وَأَفَانِينَ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْبُرْهَانِ. وَالنُّورُ: حَقِيقَتُهُ الْإِشْرَاقُ وَالضِّيَاءُ. وَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ لِمَعْنًى، فَهُوَ كَالْمَصْدَرِ لِأَنَّا وَجَدْنَاهُ أَصْلًا لِاشْتِقَاقِ أَفْعَالِ الْإِنَارَةِ فَشَابَهَتِ الْأَفْعَالَ الْمُشْتَقَّةَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ نَحْوَ: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ، فَإِنَّ فِعْلَ أَنَارَ مِثْلُ فِعْلِ أَفْلَسَ، وَفَعَلَ اسْتَنَارَ مِثْلُ فِعْلِ اسْتَحْجَرَ الطِّينُ. وَبِذَلِكَ كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِاسْمِ الْجِنْسِ فِي إِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ اسْمُ مَاهِيَّةٍ مِنَ الْمَوَاهِي فَهُوَ وَالْمَصْدَرُ سَوَاءٌ فِي الِاتِّصَافِ. فَمَعْنَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّ مِنْهُ ظُهُورَهُمَا. وَالنُّورُ هَنَا صَالِحٌ لِعِدَّةِ مَعَانٍ تُشَبَّهُ بِالنُّورِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَيْهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ. فَالْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ نُورٌ إِخْبَارٌ بِمَعْنًى مَجَازِيٍّ لِلنُّورِ لَا مَحَالَةَ بِقَرِينَةِ أَصْلِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا تَخْلُو حَقِيقَةُ مَعْنَى النُّورِ عَنْ كَوْنِهِ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا. وَأَسْعَدُ إِطْلَاقَاتِ النُّورِ فِي اللُّغَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَلَاءُ الْأُمُورِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَخْفَى عَنْ مَدَارِكِ النَّاسِ وَتَلْتَبِسَ فَيَقِلُّ الِاهْتِدَاءُ إِلَيْهَا،

فَإِطْلَاقُهُ عَلَى ذَلِكَ مَجَازٌ بِعَلَامَةِ التَّسَبُّبِ فِي الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ «بِمِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ» (¬1) : النُّورُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي بِهِ كُلُّ ظُهُورٍ، أَيْ الَّذِي تَنْكَشِفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ وَتَنْكَشِفُ لَهُ وَتَنْكَشِفُ مِنْهُ وَهُوَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ وَلَيْسَ فَوْقَهُ نُورٌ. وَجَعْلُ اسْمِهِ تَعَالَى النُّورَ دَالًّا عَلَى التَّنَزُّهِ عَنِ الْعَدَمِ وَعَلَى إِخْرَاجِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عَنْ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ إِلَى ظُهُورِ الْوُجُودِ فَآلَ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ اسْمُ النُّورِ مِنْ مَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالتَّبْيِينِ فِي الْخَلْقِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّشْرِيعِ وَتَبِعَهُ ابْنُ بَرَّجَانَ الْإِشْبِيلِيُّ (¬2) فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» فَقَالَ: إِنَّ اسْمَهُ النُّورَ آلَ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ اهـ. أَمَّا وَصْفُ النُّورِ هُنَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا لِمَا قَبْلَ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] وَمَا بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ إِلَى قَوْلِهِ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَقَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النُّور: 40] . وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى أَنَّ لِلنُّورِ إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ وَإِضَافَاتٌ أُخْرَى صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مُرَادًا مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالنُّورِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَيُحْمَلُ الْإِطْلَاقُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَلَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ حَيْثُمَا وَقَعَ، كَمَا فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» فَإِنَّ عَطْفَ «من فِيهِنَّ» يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ «السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ذَاتُهُمَا لَا الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي فِيهِمَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِالنُّورِ هُنَالِكَ إِفَاضَةُ الْوُجُودِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْفَتْقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الْأَنْبِيَاء: 30] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى استقامت أمورهما. وَالْتزم حُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَصُوفِيَّةِ الْحُكَمَاءِ مَعَانِي مِنْ إِطْلَاقَاتِ النُّور. وأشهرها ثَلَاثَة: الْبُرْهَانُ الْعِلْمِيُّ، وَالْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ، وَمَا بِهِ مُشَاهَدَةُ النُّورَانِيَّاتِ مِنَ الْعَوَالِمِ. وَإِلَى ثَلَاثَتِهَا أَشَارَ شِهَابُ الدِّينِ يَحْيَى ¬

(¬1) الَّتِي جعلهَا فِيمَا يستخلص من آيَة اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. (¬2) برّجان- بِضَم الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة بعْدهَا جِيم-.

السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ «هَيَاكِلِ النُّورِ» بِقَوْلِهِ: «يَا قَيُّومُ أَيِّدْنَا بِالنُّورِ وَثَبِّتْنَا عَلَى النُّورِ وَاحْشُرْنَا إِلَى النُّورِ» كَمَا بَيَّنَهُ جَلَالُ الدِّينِ الدَّوَانِيُّ فِي «شَرحه» . ونلحق بِهَذِهِ الْمَعَانِي إِطْلَاقُ النُّورِ عَلَى الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ الْهُدَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ النُّورِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْهُدَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الْأَنْعَام: 91] فَعَطْفُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مُشْعِرٌ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا. وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِي لَفْظِ النُّورِ الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي جُعِلَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ (نُورٍ) فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ غَيْرُ الْمُرَادِ بِلَفْظِ نُورٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَالنُّورُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنًى وَتَارَةً أُخْرَى فِي مَعْنًى آخَرَ. فَأحْسن مَا يُفَسر بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّ اللَّهَ مُوجِدٌ كُلَّ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ وَخَاصَّةً أَسْبَابُ الْمَعْرِفَةِ الْحَقُّ وَالْحُجَّةُ الْقَائِمَةُ وَالْمُرْشِدُ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي بِهَا حُسْنُ الْعَاقِبَةِ فِي الْعَالَمَيْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَنْ فِيهِمَا من بَاب: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ فِي هَذَا الْحَذف إِيهَام أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَابِلَةٌ لِهَذَا النُّورِ كَمَا أَنَّ الْقَرْيَةَ نَفْسَهَا تَشْهَدُ بِمَا يُسْأَلُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمَقْصُودِ وَأَلْطَفُ دَلَالَةً. فَيَشْمَلُ تَلْقِينَ الْعَقِيدَةِ الْحَقَّ وَالْهِدَايَةَ إِلَى الصَّلَاحِ فَأَمَّا هِدَايَةُ الْبَشَرِ إِلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا هِدَايَةُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى ذَلِكَ فَبِأَنْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى فِطْرَةِ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ. وَبِأَنْ أَمَرَهُمْ بِتَسْخِيرِ الْقُوَى لِلْخَيْرِ، وَبِأَنْ أَمَرَ بَعْضَهُمْ بِإِبْلَاغِ الْهُدَى بِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَإِلْهَامِ الْقُلُوبِ الصَّالِحَةِ إِلَى الصَّلَاحِ وَكَانَتْ تِلْكَ مَظَاهِرَ هُدًى لَهُمْ وَبِهِمْ.

مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ. يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] إِذْ كَانَ يَنْطَوِي فِي مَعْنَى آياتٍ وَوَصْفِهَا بِ مُبَيِّناتٍ مَا يَسْتَشْرِفُ إِلَيْهِ السَّامِعُ مِنْ بَيَانٍ لِمَا هِيَ الْآيَاتُ وَمَا هُوَ تَبْيِينُهَا، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا تَمْهِيدًا لِعَظَمَةِ هَذَا النُّورِ الْمُمَثَّلِ بِالْمِشْكَاةِ. وَجَرَى كَلَامٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَيَكُونُ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ عَطْفِ الْبَيَانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ فَلَمْ تُعْطَفْ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نُورِهِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ مَثَلُ نُورِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِ نُورِهِ كِتَابُهُ أَوِ الدِّينُ الَّذِي اخْتَارَهُ، أَيْ مَثَلُهُ فِي إِنَارَةِ عُقُولِ الْمُهْتَدِينَ. فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ إِرْشَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَيْئَةِ الْمِصْبَاحِ الَّذِي حَفَّتْ بِهِ وَسَائِلُ قُوَّةِ الْإِشْرَاقِ فَهُوَ نُورُ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ تَشْبِيهُهُ بِالْمِصْبَاحِ الْمَوْصُوفِ بِمَا مَعَهُ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ أَنْ يُشَبَّهَ نُورُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لِقَصْدِ إِكْمَالِ مُشَابَهَةِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِأَنَّهَا حَالَةُ ظُهُورِ نُورٍ يَبْدُو فِي خِلَالِ ظُلْمَةٍ فَتَنْقَشِعُ بِهِ تِلْكَ الظُّلْمَةُ فِي مِسَاحَةٍ يُرَادُ تَنْوِيرُهَا. وَدُونَ أَنْ يُشَبَّهَ بِهَيْئَةِ بُزُوغِ الْقَمَرِ فِي خِلَالِ ظُلْمَةِ الْأُفُقِ لِقَصْدِ إِكْمَالِ الْمُشَابَهَةِ

لِأَنَّ الْقَمَرَ يَبْدُو وَيَغِيبُ فِي بَعْضِ اللَّيْلَةِ بِخِلَافِ الْمِصْبَاحِ الْمَوْصُوفِ. وَبَعْدَ هَذَا فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا حَفَّ بِالْمِصْبَاحِ مِنَ الْأَدَوَاتِ لِيَتَسَنَّى كَمَالُ التَّمْثِيلِ بِقَبُولِهِ تَفْرِيقَ التَّشْبِيهَاتِ كَمَا سَيَأْتِي وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْقَمَرِ. وَالْمَثَلُ: تَشْبِيهُ حَالٍ بِحَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَمَعْنَى مَثَلُ نُورِهِ: شَبِيهُ هَدْيِهِ حَالُ مِشْكَاةٍ.. إِلَى آخِرِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: كَنُورِ مِشْكَاةٍ، لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ هُوَ الْمِشْكَاةُ وَمَا يَتْبَعُهَا. وَقَوْلُهُ: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمَقْصُودُ كَمِصْبَاحٍ فِي مِشْكَاةٍ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمِشْكَاةَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ هُوَ مَجْمُوعُ الْهَيْئَةِ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمُرَكَّبِ الْمُبْتَدَئِ بِقَوْلِهِ: كَمِشْكاةٍ وَالْمُنْتَهِي بِقَوْلِهِ: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ فَلِذَلِكَ كَانَ دُخُولُ كَافِ الشَّبَهِ عَلَى كَلِمَةِ مِشْكَاةٍ دُونَ لَفْظِ مِصْباحٌ لَا يَقْتَضِي أَصَالَةَ لَفْظِ مِشْكَاةٍ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا دُونَ لَفْظِ مِصْباحٌ بَلْ مُوجِبُ هَذَا التَّرْتِيبِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ الذِّهْنِيِّ فِي تَصَوُّرِ هَذِه الْهَيْئَة المتخيلة حِينَ يَلْمَحَ النَّاظِرُ إِلَى انْبِثَاقِ النُّورِ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى مَصْدَرِهِ فَيَرَى مِشْكَاةً ثُمَّ يَبْدُو لَهُ مِصْبَاحٌ فِي زُجَاجَةٍ. وَالْمِشْكَاةُ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا فُرْجَةٌ فِي الْجِدَارِ مِثْلُ الْكُوَّةِ لَكِنَّهَا غَيْرُ نَافِذَةٍ فَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَهِيَ الْكُوَّةُ. وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمَوْثُوقِ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ وَصَاحب «الْقَامُوس» و «الْكَشَّاف» وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كَلِمَةٌ حَبَشِيَّةٌ أَدْخَلَهَا الْعَرَبُ فِي كَلَامِهِمْ فَعُدَّتْ فِي الْأَلْفَاظِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِيمَا فَسَّرَهُ مِنْ مُفْرَدَاتِ سُورَةِ النُّورِ. وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمِشْكَاةَ الْعَمُودُ الَّذِي فِيهِ الْقِنْدِيلُ يَكُونُ عَلَى رَأْسِهِ، وَفِي «الطَّبَرِيِّ» عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمِشْكَاةُ الصُّفْرُ (أَيِ النُّحَاسُ أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ شَبِيهُ الْقَصِيبَةِ) الَّذِي فِي جَوْفِ الْقِنْدِيلِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ هُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمِشْكَاةُ مَوْقِعُ الْفَتِيلَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَيْضًا مَا

قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: الْمِشْكَاةُ الْحَدِيدَةُ وَالرَّصَاصَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْفَتِيلُ فِي جَوْفِ الزُّجَاجَةِ. وَقَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ: أَرَادَ قَصَبَةَ الزُّجَاجَةِ الَّتِي يَسْتَصْبِحُ فِيهَا وَهِيَ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْأَزْهَرِيُّ بِأَنَّ قَصَبَةَ الزُّجَاجَةِ شُبِّهَتْ بِالْمِشْكَاةِ وَهِيَ الْكُوَّةُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا مِشْكَاةٌ. وَالْمِصْبَاحُ: اسْمٌ لِلْإِنَاءِ الَّذِي يُوقَدُ فِيهِ بِالزَّيْتِ لِلْإِنَارَةِ، وَهُوَ مِنْ صِيَغِ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ مِثْلُ الْمِفْتَاحِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الصُّبْحِ، أَيِ ابْتِدَاءُ ضَوْءِ النَّهَارِ، فَالْمِصْبَاحُ آلَةُ الْإِصْبَاحِ أَيِ الْإِضَاءَةِ. وَإِذَا كَانَ الْمِشْكَاةُ اسْمًا لِلْقَصِيبَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي جَوْفِ الْقِنْدِيلِ كَانَ الْمِصْبَاحُ مُرَادًا بِهِ الْفَتِيلَةُ الَّتِي تُوضَعُ فِي تِلْكَ الْقَصِيبَةِ. وَإِعَادَةُ لِفَظِ الْمِصْباحُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي زُجَاجَةٍ، كَمَا قَالَ: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الْمِصْبَاحِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ هَذَا التَّمْثِيلِ، وَكَذَلِكَ إِعَادَةُ لِفْظِ الزُّجاجَةُ فِي قَوْلِهِ: الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ التَّمْثِيلِ. وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذِهِ الْإِعَادَةِ تَشَابُهَ الْأَطْرَافِ فِي فَنِّ الْبَدِيعِ، وَأَنْشَدُوا فِيهِ قَوْلَ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ فِي مَدْحِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُف: إِذا أنزل الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا سَقَاهَا فَرَوَاهَا بِشُرْبِ سِجَالِهِ ... دِمَاءَ رِجَالٍ يَحْلِبُونَ صُرَاهَا وَمِمَّا فَاقَتْ بِهِ الْآيَةُ عَدَمُ تَكْرَارِ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ. وَالزُّجَاجَةُ: اسْمُ إِنَاءٍ يُصْنَعُ مِنَ الزُّجَاجِ، سُمِّيَتْ زُجَاجَةً لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مَصْنُوعَةٌ مِنَ الزُّجَاجِ بِضَمِّ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمَيْنِ مُلْحَقَةٌ بِآخَرِ الْكَلِمَةِ هَاءٌ هِيَ عَلَامَةُ الْوَاحِدِ مِنِ اسْمِ الْجَمْعِ كَأَنَّهُمْ عَامَلُوا الزُّجَاجَ مُعَامَلَةَ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ مِثْلُ تَمْرٍ، وَنَمْلٍ، وَنَخْلٍ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنَ الزُّجَاجِ آنِيَةً لِلْخَمْرِ وَقَنَادِيلَِِ

لِلْإِسْرَاجِ بِمَصَابِيحِ الزَّيْتِ لِأَنَّ الزُّجَاجَ شَفَّافٌ لَا يَحْجِبُ نُورَ السِّرَاجِ وَلَا يَحْجُبُ لَوْنَ الْخَمْرِ وَصَفَاءَهَا لِيَعْلَمَهُ الشَّارِبُ. وَالزُّجَاجُ: صِنْفٌ مِنَ الطِّينِ الْمُطَيَّنِ مِنْ عَجِينِ رَمْلٍ مَخْصُوصٍ يُوجَدُ فِي طَبَقَةِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ هُوَ رَمْلَ الشُّطُوطِ. وَهَذَا الْعَجِينُ اسْمُهُ فِي اصْطِلَاحِ الْكِيمْيَاءِ (سِلِيكَا) يُخْلَطُ بِأَجْزَاءَ مِنْ رَمَادِ نَبْتٍ يُسَمَّى فِي الْكِيمْيَاءِ (صُودَا) وَيُسَمَّى عِنْدَ العَرَبِ الْغَاسُولَ وَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُونَ مِنْهُ الصَّابُونَ. وَيُضَافُ إِلَيْهِمَا جُزْءٌ مِنِ الْكِلْسِ (الْجِيرِ) وَمِنَ (الْبُوتَاسِ) أَوْ مِنْ (أُكْسِيدِ الرَّصَاصِ) فَيَصِيرُ ذَلِكَ الطِّينُ رَقِيقًا وَيُدْخَلُ لِلنَّارِ فَيُصْهَرُ فِي أَتُونٍ خَاصٍّ بِهِ شَدِيدِ الْحَرَارَةِ حَتَّى يَتَمَيَّعَ وَتَخْتَلِطَ أَجْزَاؤُهُ ثُمَّ يُخْرَجُ مِنَ الْأَتُونِ قِطَعًا بِقَدْرِ مَا يُرِيدُ الصَّانِعُ أَنْ يَصْنَعَ مِنْهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ رَخْوٌ يُشْبِهُ الْحَلْوَاءَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَابِلًا لِلِامْتِدَادِ وَلِلِانْتِفَاخِ إِذَا نُفِخَ فِيهِ بِقَصَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ يَضَعُهَا الصَّانِعُ فِي فَمِهِ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقِطْعَةِ الطِّينِ الْمَصْهُورَةِ فَيُنْفَخُ فِيهَا فَإِذَا دَاخَلَهَا هَوَاءُ النَّفَسِ تَمَدَّدَتْ وَتَشَكَّلَتْ بِشَكْلٍ كَمَا يَتَّفِقُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الصَّانِعُ بِتَشْكِيلِهِ بِالشَّكْلِ الَّذِي يَبْتَغِيهِ فَيَجْعَلُ مِنْهُ أَوَانِيَ مُخْتَلِفَةَ الأشكال من كؤوس وَبَاطِيَاتٍ وَقِنِّينَاتٍ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ وَقَوَارِيرَ لِلْخَمْرِ وَآنِيَةً لِزَيْتِ الْمَصَابِيحِ تَفْضُلُ مَا عَدَاهَا بِأَنَّهَا لَا تَحْجِبُ ضَوْءَ السِّرَاجِ وَتَزِيدُهُ إِشْعَاعًا. وَقَدْ كَانَ الزُّجَاجُ مَعْرُوفًا عِنْدَ القدماء من الفنيقيين وَعِنْدَ الْقِبْطِ مِنْ نَحْوِ الْقَرْنِ الثَّلَاثِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ ثُمَّ عَرَفَهُ الْعَرَبُ وَهُمْ يُسَمُّونَهُ الزُّجَاجَ وَالْقَوَارِيرَ. قَالَ بَشَّارٌ: ارْفُقْ بِعَمْرٍو إِذَا حَرَّكْتَ نِسْبَتَهُ ... فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ قَوَارِيرِ وَقَدْ عَرَفَهُ الْعِبْرَانِيُّونَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ وَاتَّخَذَ مِنْهُ سُلَيْمَانُ بَلَاطًا فِي سَاحَةِ صَرْحِهِ كَمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى: الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ [النَّمْل: 44] . وَقَدْ عَرَفَهُ الْيُونَانُ قَدِيمًا وَمِنْ أَقْوَالِ الْحَكِيمِ (دِيُوجِينُوسَ الْيُونَانِيِّ) : «تِيجَانُ الْمُلُوكِ كَالزُّجَاجِ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الْعَطَبُ» . وَسَمَّى الْعَرَبُ الزُّجَاجَ بِلَّوْرًا بِوَزْنِ سِنَّوْرٍ وَبِوَزْنِ تَنُّورٍ. وَاشْتُهِرَ بِصِنَاعَتِهِ أَهْلُ الشَّامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : فِي زُجاجَةٍ أَرَادَ قِنْدِيلًا مِنْ زُجَاجٍ شَامي أَزْهَر اهـ. وَاشْتُهِرَ بِدِقَّةِ صُنْعِهِ فِي الْقَرْنِِِ

الثَّالِثِ الْمَسِيحِيِّ أَهْلُ الْبُنْدُقِيَّةِ وَلَوَّنُوهُ وَزَيَّنُوهُ بِالذَّهَبِ وَمَا زَالَتِ الْبُنْدُقِيَّةُ إِلَى الْآنَ مَصْدَرَ دَقَائِقِ صُنْعِ الزُّجَاجِ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ يَتَنَافَسُ فِيهِ أَهْلُ الْأَذْوَاقِ. وَكَذَلِكَ بِلَادُ (بُوهِيمْيَا) مِنْ أَرْضِ (الْمَجَرِ) لِجَوْدَةِ التُّرَابِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْهُ فِي بِلَادِهِمْ. وَمِنْ أَصْلَحِ مَا انْتُفِعَ فِيهِ الزُّجَاجُ اتِّخَاذُ أَطْبَاقٍ مِنْهُ تُوضَعُ عَلَى الْكُوَى النَّافِذَةِ وَالشَّبَابِيكِ لِتَمْنَعَ الرِّيَاحَ وَبَرْدَ الشِّتَاءِ وَالْمَطَرَ عَنْ سُكَّانِ الْبُيُوتِ وَلَا يَحْجِبُ عَنْ سُكَّانِهَا الضَّوْءَ. وَكَانَ ابْتِكَارُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَطْبَاقِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ وَلَكِنْ تَأَخَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ لِعُسْرِ اسْتِعْمَالِهِ وَسُرْعَةِ تَصَدُّعِهِ فِي النَّقْلِ وَوَفْرَةِ ثَمَنِهِ، وَلِذَلِكَ اتُّخِذَ فِي النَّوَافِذِ أَوَّلَ الْأَمْرِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُصْنَعُ فِيهَا فَبَقِيَ زَمَانًا طَوِيلًا خَاصًّا بِمَنَازِلِ الْمُلُوكِ وَالْأَثْرِيَاءِ. وَالْكَوْكَبُ: النَّجْمُ، وَالدُّرِّيُّ- بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَاحِدُ الدَّرَارِيِّ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّاطِعَةُ النُّورِ مِثْلُ الزُّهَرَةِ وَالْمُشْتَرِي مَنْسُوبَةً إِلَى الدُّرِّ فِي صَفَاءِ اللَّوْنِ وَبَيَاضِهِ، وَالْيَاءُ فِيهِ يَاءُ النِّسْبَةِ وَهِيَ نِسْبَةُ الْمُشَابَهَةِ كَمَا فِي قَوْلِ طَرَفَةَ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ: جَمَالِيَّةٌ وَجْنَاءُ ... الْبَيْتُ أَيْ كَالْجَمَلِ فِي عِظَمِ الْجُثَّةِ وَفِي الْقُوَّةِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ «بَاتَ بِلَيْلَةٍ نَابِغِيَّةٍ» أَيْ كَلِيلَةِ النَّابِغَةِ فِي قَوْلِهِ: فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ ... الْأَبْيَاتِ قَالَ الْحَرِيرِيُّ: «فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ نَابِغِيَّةٍ. وَأَحْزَانٍ يَعْقُوبِيَّةٍ» الْمَقَامَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَرْدِيُّ اللَّوْنِ، أَيْ كَلَوْنِ الْوَرْدِ. وَالدُّرُّ يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْإِشْرَاقِ وَالصَّفَاءِ. قَالَ لَبِيَدٌ: وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ الظَّلَامِ مُنِيرَةً ... كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا وَقِيلَ: الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى كَوْكَبِ الزُّهَرَةِ.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ دِرِّيءٌ بِكَسْرِ الدَّالِّ وَمَدِّ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ شِرِّيبٍ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ أَوْ لِأَنَّ بَعْضَ شُعَاعِهِ يَدْفَعُ بَعْضًا فِيمَا يَخَالُهُ الرَّائِي. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الدَّالِّ وَمَدِّ الرَّاءِ مِنَ الدَّرْءِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ فَعِيلٌ وَهُوَ وَزْنٌ نَادِرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ مِنْ أَبْنِيَةِ كَلَامِهِمْ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَمِنْهُ عُلِّيَّةٌ وَسُرِّيَّةٌ وَذَرِّيَّةٌ بِضَمِّ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَتِهَا. وَإِنَّمَا سَلَكَ طَرِيقَ التَّشْبِيهِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ شِدَّةِ صَفَاءِ الزُّجَاجَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَزُ لَفْظًا وَأَبْيَنُ وَصْفًا. وَهَذَا تَشْبِيهٌ مُفْرَدٌ فِي أَثْنَاءِ التَّمْثِيلِ وَلَا حَظَّ لَهُ فِي التَّمْثِيلِ. وَجُمْلَةُ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ مِصْباحٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يُوقَدُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَبِفَتْحِ الْقَافِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، أَيْ يُوقِدُهُ الْمُوقِدُ. فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مِصْباحٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ تَوَقَّدُ بِفَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَفْتُوحَةً وَرَفْعِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ تَوَقَّدَ حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَأَصْلُهُ تَتَوَقَّدُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ مِشْكَاةٍ أَوْ مِنْ زُجاجَةٍ أَوْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ وَهِيَ مِشْكَاةٌ وَمِصْبَاحٌ وَزُجَاجَةٌ، أَيْ تُنِيرُ. وَإِسْنَادُ التَّوَقُّدِ إِلَيْهَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ مِثْلَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَمَنْ مَعَهُ لَكِنْ بِفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلُ مُضِيٍّ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِمِصْبَاحٍ. وَالْإِيقَادُ: وَضْعُ الْوَقُودِ وَهُوَ مَا يُزَادُ فِي النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ لِيَقْوَى لَهَبُهَا، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا يُمَدُّ بِهِ الْمِصْبَاحُ مِنَ الزَّيْتِ. وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِينَ إِفَادَةُ تَجَدُّدِ إِيقَادِهِ، أَيْ لَا يُذْوَى وَلَا يُطْفَأُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ إِفَادَةُ أَنَّ وَقُودَهُ ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ.

وَذُكِرَتِ الشَّجَرَةُ بِاسْمِ جِنْسِهَا ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ زَيْتُونَةٍ وَهُوَ اسْمُ نَوْعِهَا لِلْإِبْهَامِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ اهْتِمَامًا بِتَقَرُّرِ ذَلِكَ فِي الذِّهْنِ. وَوَصَفَ الزَّيْتُونَةَ بِالْمُبَارَكَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ النَّفْعِ فَإِنَّهَا يُنْتَفَعُ بِحَبِّهَا أَكْلًا وَبِزَيْتِهَا كَذَلِكَ وَيُسْتَنَارُ بِزَيْتِهَا وَيَدْخُلُ فِي أَدْوِيَةٍ وَإِصْلَاحِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَيُنْتَفَعُ بِحَطَبِهَا وَهُوَ أَحْسَنُ حَطَبٍ لِأَنَّ فِيهِ الْمَادَّةَ الدُّهْنِيَّةَ قَالَ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] ، وَيُنْتَفَعُ بِجَوْدَةِ هَوَاءِ غَابَاتِهَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ بَرَكَتَهَا لِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ بِلَادِ الشَّامِ وَالشَّامُ بَلَدٌ مُبَارَكٌ مِنْ عَهِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 71] يُرِيدُ أَرْضَ الشَّامِ. وَوَصْفُ الزَّيْتُونَةِ بِ مُبارَكَةٍ عَلَى هَذَا وَصْفٌ كَاشِفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مُخَصِّصًا لِ زَيْتُونَةٍ أَيْ شَجَرَةٍ ذَاتِ بَرَكَةٍ، أَيْ نَمَاءٍ وَوَفْرَةِ ثَمَرٍ مِنْ بَيْنِ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِتَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِيَنْجَرَّ مِنْهُ تَحْسِينٌ لِلْمُشَبَّهِ كَمَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: شَجَّتْ بِذِي شَبْمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَاف بأبطح أصحى وَهُوَ مَشْمُولُ تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ فَإِنَّ قَوْلَهُ، وَأَفْرَطَهُ إِلَخْ لَا يَزِيدُ الْمَاءَ صَفَاءً وَلَكِنَّهُ حَالَةٌ تُحَسِّنُهُ عِنْدَ السَّامِعِ. وَقَوْلُهُ: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ وَصْفٌ لِ زَيْتُونَةٍ. دَخَلَ حَرْفُ (لَا) النَّافِيَةِ فِي كِلَا الْوَصْفَيْنِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ هِجَاءٍ مِنَ الْكَلِمَةِ بَعْدَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ إِعْرَابِ نَظِيرِ (أَلْ) الْمُعَرِّفَةِ الَّتِي أَلْغَزَ فِيهَا الدَّمَامِينِيُّ بِقَوْلِهِ: حَاجَيْتُكُمْ لِتُخْبِرُوا مَا اسْمَانِ ... وَأَوَّلُ إِعْرَابِهِ فِي الثَّانِي وَهْوَ مَبْنِيٌّ بِكُلِّ حَالٍ ... هَا هُوَ لِلنَّاظِرِ كَالْعِيَانِ لِإِفَادَةِ الِاتِّصَافِ بِنَفْيِ كُلِّ وَصْفٍ وَعَطْفٍ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ ضِدِّهِ لِإِرَادَةِ الِاتِّصَافِ بِوَصْفٍ وَسَطٍ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمَنْفِيَّيْنِ لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ ضِدَّانِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: «الرُّمَّانُ حُلْوٌ حَامِضٌ» . وَالْعَطْفُ هُنَا مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النِّسَاء: 143] وَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلُ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ» (¬1) أَيْ وَسَطًا بَيْنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ: حَشْرَجَ فِي الْجَوْفِ قَلِيلًا وَشَهِقْ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهِقْ وَالْمَعْنَى: إِنَّهَا زَيْتُونَةٌ جِهَتُهَا بَيْنَ جِهَةِ الشَّرْقِ وَجِهَةِ الْغَرْبِ، فَنُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ شَرْقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ غَرْبِيَّةً، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ الْمَعْنَى لَا صَرِيحُهُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرَانِ الْمَنْفِيَّانِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِنَّ نَفْيَهُمَا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ وُقُوعِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: 43، 44] وَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الْأُولَى مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَطْفِ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا عَطْفُ الْأَفْعَالِ الْمَنْفِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ نَحْوَ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَة: 31] وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» . وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي النَّفْيِ بِلَا النَّافِيَةِ وَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ لِلْحَرِيرِيِّ أَنْ يُلَقِّبَ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ بِلَقَبِ «لَا وَلَا» بِقَوْلِهِ فِي الْمَقَامَةِ السَّادِسَةِ وَالْأَرْبَعِينَ «بُورِكَ فِيكَ مِنْ طَلَا. كَمَا بُورِكَ فِي لَا وَلَا» أَيْ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أَنَّهَا نَابِتَةٌ فِي مَوْضِعٍ بَيْنَ شَرْقِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَغَرْبِهَا وَذَلِكَ هُوَ الْبِلَادُ الشَّامِيَّةُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَصْلَ مَنْبَتِ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ بِلَادُ الشَّامِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ جِهَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ بَيْنِ مَا يَحُفُّ بِهَا مَنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ مَوْقِعٌ غَيْرُ شَرْقِ الشَّمْسِ وَغَرْبِهَا وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُتَّجِهَةً إِلَى الْجَنُوبِ، أَيْ لَا يَحْجُبُهَا عَنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ حَاجِبٌ وَذَلِكَ ¬

(¬1) تَمام الْقَرِينَة: «وَلَا مَخَافَة وَلَا سآمة» .

أَنْفَعُ لِحَيَاةِ الشَّجَرَةِ وَطِيبِ ثَمَرَتِهَا، فَبِذَلِكَ يَكُونُ زَيْتُهَا أَجْوَدَ زَيْتٍ وَإِذَا كَانَ أَجْوَدَ كَانَ أَشَدَّ وَقُودًا وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِجُمْلَةِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَجُمْلَةُ: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ زَيْتُها. وَالزَّيْتُ: عُصَارَةُ حَبِّ الزَّيْتُونِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ عُصَارَةٍ دُهْنِيَّةٍ، مِثْلَ زَيْتِ السِّمْسِمِ وَالْجُلْجُلَانِ. وَهُوَ غِذَاءٌ. وَلِذَلِكَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي زَيْتِ الزَّيْتُونِ إِذَا كَانَ حَبُّهُ نِصَابًا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ زَيْتِ الْجُلْجُلَانِ وَالسِّمْسِمِ. ولَوْ وَصْلِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: يَكَادُ يُضِيءُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالَةٍ لَمْ تَمْسَسْهُ فِيهَا نَارٌ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَالِغٌ كَمَالَ الْإِفْصَاحِ بِحَيْثُ هُوَ مَعَ أَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ هُوَ أَيْضًا مُفَرِّقُ التَّشْبِيهَاتِ لِأَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ الْمُشَبَّهِ مَعَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَذَلِكَ أَقْصَى كَمَالِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ فِي صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهَ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ وَالْمُرَكَّبِ بِالْمُرَكَّبِ حَسَنُ دُخُولُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُرَكَّبِ لِيُكَوِّنَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّشْبِيهُ الْمُرَكَّبُ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَ الْهُدَى فَقَطْ لَقَالَ: نُورُهُ كَمِصْبَاحٍ فِي مِشْكَاةٍ.. إِلَى آخِرِهِ. فَالنُّورُ هُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. شُبِّهَ بِالْمِصْبَاحِ الْمَحْفُوفِ بِكُلِّ مَا يَزِيدُ نُورُهُ انْتِشَارًا وَإِشْرَاقًا. وَجُمْلَةُ: نُورٌ عَلى نُورٍ مُسْتَأْنَفَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَجْمُوعِ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ هُنَا هُوَ الْبُلُوغُ إِلَى إِيضَاحِ أَنَّ الْهَيْئَةَ الْمُشَبَّهَ بِهَا قَدْ بَلَغَتْ حَدَّ الْمُضَاعَفَةِ لِوَسَائِلِ الْإِنَارَةِ إِذْ تَظَاهَرَتْ فِيهَا الْمِشْكَاةُ وَالْمِصْبَاحُ وَالزُّجَاجُ الْخَالِصُ وَالزَّيْتُ الصَّافِي، فَالْمِصْبَاحُ إِذَا كَانَ فِي مِشْكَاةٍ كَانَ شُعَاعُهُ مُنْحَصِرًا فِيهَا غَيْرَ مُنْتَشِرٍ فَكَانَ أَشَدَّ إِضَاءَةً لَهَا مِمَّا لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ، وَإِذَا كَانَ مَوْضُوعًا فِي زُجَاجَةٍ صَافِيَةٍ تَضَاعَفُ نُورُهُ، وَإِذَا كَانَ زَيْتُهُ نَقِيًّا

صَافِيًا كَانَ أَشَدَّ إِسْرَاجًا، فَحَصَلَ تَمْثِيلُ حَالِ الدِّينِ أَوِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ فِي بَيَانِهِ وَسُرْعَةِ فُشُوِّهِ فِي النَّاسِ بِحَالِ انْبِثَاقِ نُورِ الْمِصْبَاحِ وَانْتِشَارِهِ فِيمَا حَفَّ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ شُعَاعِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الْجِهَةِ الْمُضَاءَةِ بِهِ. فَقَوْلُهُ: نُورُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ الَّذِي مُثِّلَ بِهِ الْحَقُّ هُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّظَاهُرُ وَالتَّعَاوُنُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نُورٌ مُكَرَّرٌ مُضَاعَفٌ. وَقَدْ أَشَرْتُ آنِفًا إِلَى أَنَّ هَذَا التَّمْثِيلَ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ رُكْنَيِ التَّمْثِيلِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ مُشَابِهًا لِجُزْءٍ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَذَلِكَ أَعْلَى التَّمْثِيلِ. فَالْمِشْكَاةُ يُشْبِهُهَا مَا فِي الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ مِنِ انْضِبَاطِ الْيَقِينِ وَإِحَاطَةِ الدَّلَالَةِ بِالْمَدْلُولَاتِ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا انْثِلَامٍ. وَحِفْظُ الْمِصْبَاحِ مِنَ الِانْطِفَاءِ مَعَ مَا يُحِيطُ بِالْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِهِ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . وَمَعَانِي هِدَايَةِ إِرْشَادِ الْإِسْلَامِ تُشْبِهُ الْمِصْبَاحَ فِي التَّبْصِيرِ وَالْإِيضَاحِ، وَتَبْيِينُ الْحَقَائِقِ مِنْ ذَلِكَ الْإِرْشَادِ. وَسَلَامَتُهُ مِنْ أَنْ يَطْرُقَهُ الشَّكُّ وَاللَّبْسُ يُشْبِهُ الزُّجَاجَةَ فِي تَجْلِيَةِ حَالِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] . وَالْوَحْيُ الَّذِي أَبْلَغَ اللَّهُ بِهِ حَقَائِقَ الدِّيَانَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُشْبِهُ الشَّجَرَةَ الْمُبَارَكَةَ الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَةً يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا دَلَائِلُ الْإِرْشَادِ. وَسَمَاحَةُ الْإِسْلَامِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ عَنْهُ يُشْبِهُ تَوَسُّطَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْأُفُقِ فَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ الشِّدَّةِ الْمُحْرِجَةِ وَبَيْنَ اللِّينِ الْمُفْرِطِ. وَدَوَامُ ذَلِكَ الْإِرْشَادِ وَتَجَدُّدُهُ يُشْبِهُ الْإِيقَادَ. وَتَعْلِيم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ وَتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ يُشْبِهُ الزَّيْتَ الصَّافِي الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ الْبَصِيرَةُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ بَيِّنٌ قَرِيبُ التَّنَاوُلِ يَكَادُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِلْحَاحِ الْمُعَلِّمِ.

[سورة النور (24) : الآيات 36 إلى 38]

وَانْتِصَابُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلتَّعْلِيمِ يُشْبِهُ مَسَّ النَّارِ للسراج وَهَذَا يومىء إِلَى اسْتِمْرَارِ هَذَا الْإِرْشَادِ. كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ شَجَرَةٍ يوميء إِلَى الْحَاجَةِ إِلَى اجْتِهَادِ عُلَمَاءِ الدِّينِ فِي اسْتِخْرَاجِ إِرْشَادِهِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّ اسْتِخْرَاجَ الزَّيْتِ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِصَارِ الثَّمَرَةِ وَهُوَ الِاسْتِنْبَاطُ. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. هَذِهِ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ مُعْتَرِضَةٌ أَوْ تَذْيِيلٌ لِلتَّمْثِيلِ. وَالْمَعْنَى: دَفْعُ التَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا لَمْ يَشَأْ هَدْيَ أَحَدٍ خَلَقَهُ وَجَبَلَهُ عَلَى الْعِنَادِ وَالْكُفْرِ. وَأَنَّ اللَّهَ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ مَرْجُوًّا مِنْهُمُ التَّذَكُّرُ بِهَا: فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ بِهَا فَيَهْتَدِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ فَيَسْتَمِرُّ عَلَى ضَلَالِهِ وَلَكِنْ شَأْنُ تِلْكَ الْأَمْثَالِ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا غَيْرُ مَنْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا، أَيْ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُ مَنْ هُوَ قَابِلٌ لِلْهُدَى وَمَنْ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى غَيِّهِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ لِلْأَوَّلِينَ والوعيد للآخرين. [36- 38] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 36 إِلَى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ

(38) تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعَلُّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ إِلَخْ. فَقِيلَ قَوْلُهُ: فِي بُيُوتٍ مِنْ تَمَامِ التَّمْثِيلِ، أَيْ فَيَكُونُ فِي بُيُوتٍ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ مِمَّا قَبْلَهُ. فَقِيلَ يَتَعَلَّقُ بقوله: يُوقَدُ [النُّور: 35] أَيْ يُوقِدُ الْمِصْبَاحَ فِي بُيُوتٍ. وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ لِمِشْكَاةٍ، أَيْ مِشْكَاةٍ فِي بُيُوتٍ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَإِنَّمَا جَاءَ بُيُوتٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّ مشكاة ومِصْباحٌ [النُّور: 35] مُفْرَدَانِ لِأَن المُرَاد بهما الْجِنْسُ فَتَسَاوَى الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ. ثُمَّ قِيلَ: أُرِيدَ بِالْبُيُوتِ الْمَسَاجِدُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ مَصَابِيحُ وَإِنَّمَا أُحْدِثَتِ الْمَصَابِيحُ فِي الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عَلَيٌّ: نَوَّرَ اللَّهُ مَضْجَعَكَ يَا بن الْخَطَّابِ كَمَا نَوَّرَتْ مَسْجِدَنَا . وَرُوِيَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ أَسْرَجَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بِمَصَابِيحَ جَاءَ بِهَا مِنَ الشَّامِ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَسْلَمَ تَمِيمُ سَنَةَ تِسْعٍ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ الْبُيُوتُ مَسَاجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ بِيَعًا لِلنَّصَارَى. وَيَجُوزُ عِنْدِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ وَأَدْيِرَتَهُمْ وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي بِلَادِ الْعَرَبِ فِي طَرِيقِ الشَّامِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَيَنْزِلُونَ عِنْدَهَا فِي ضِيَافَةِ رُهْبَانِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» عَدَدًا مِنَ الْأَدْيِرَةِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا قَوْلُهُ: أَنْ تُرْفَعَ فَإِنَّ الصَّوَامِعَ كَانَتْ مَرْفُوعَةً وَالْأَدْيِرَةَ كَانَتْ تبنى على رُؤُوس الْجِبَالِ. أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: لَوْ أَبْصَرْتَ رُهْبَانَ دَيْرٍ بِالْجَبَلْ ... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيَصِلْ وَالْمُرَادُ بِإِذْنِ اللَّهِ بِرَفْعِهَا أَنَّهُ أَلْهَمَ مُتَّخِذِيهَا أَنْ يَجْعَلُوهَا عَالِيَةً وَكَانُوا صالحين يقرأون الْإِنْجِيلَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ إِلَى قَوْلِهِ: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الْحَج: 40] . وَعَبَّرَ بِالْإِذْنِ دُونَ الْأَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاتِّخَاذِ الْأَدْيِرَةِ

فِي أَصْلِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ أَحْدَثُوهَا لِلْعَوْنِ عَلَى الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَنْهَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَا يُوجَدُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهَا فَكَانَتْ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى إِبَاحَةِ اتِّخَاذِهَا نِيَّةُ الْعَوْنِ عَلَى الْعِبَادَةِ صَارَتْ مُرْضِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 27] . وَقَدْ كَانَ اجْتِهَادُ أَحْبَارِ الدِّينِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَإِلْهَامُهُمْ دَلَائِلَ تَشْرِيعٍ لَهُمْ كَمَا تَقْتَضِيهِ نُصُوصٌ مِنَ الْإِنْجِيلِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ زِيَادَةُ إِيضَاحِ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ: «فَإِذَا لَهَا كَلَالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدَانِ؟» . وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إِلَى تَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: شَجَّتْ بِذِي شَبِمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مَنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ وَصْفِ الْبُيُوتِ وَمَا يَجْرِي فِيهَا مِمَّا يُكْسِبُهَا حُسْنًا فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَخْصِيصُ التَّسْبِيحِ بِالرِّجَالِ لِأَنَّ الرُّهْبَانَ كَانُوا رِجَالًا. وَأُرِيدَ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: الرُّهْبَانُ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ وَتَرَكُوا الشُّغْلَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ مَعْنَى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ: أَنَّهُمْ لَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا بَيْعَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُلْهِيَاهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ. وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ إِذْ لَمْ تبلغهم يَوْمئِذٍ دَعْوَة الْإِسْلَامِ وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ إِلَّا بِفُتُوحِ مَشَارِفِ الشَّامِ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَأَمَّا كِتَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ فَإِنَّهُ لَمْ يُذَعْ فِي الْعَامَّةِ. وَكَانَ الرُّهْبَانُ يَتْرُكُونَ الْكُوَى مَفْتُوحَةً لِيَظْهَرَ ضَوْءُ صَوَامِعِهِمْ وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَعْرِفُونَ صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ وَأَضْوَاءَهَا فِي اللَّيْلِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشِيِّ كَأَنَّهَا ... مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ

وَقَالَ أَيْضًا: يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ ... آمَالَ السَّلِيطِ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ السليط: الزَّيْتُ. أَيْ صَبُّ الزَّيْتِ عَلَى الذُّبَالِ فَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَكْثَرُ إِضَاءَةً. وَكَانُوا يَهْتَدُونَ بِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لَيْلًا. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: سَمَوْتُ إِلَيْهَا وَالنُّجُومُ كَأَنَّهَا ... مَصَابِيحُ رُهْبَانٍ تُشَبُّ لِقُفَّالِ الْقُفَّالُ: جَمْعُ قَافِلٍ وَهُمُ الرَّاجِعُونَ مِنْ أَسْفَارِهِمْ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالرَّفْعِ الرَّفْعُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ التَّعْظِيمُ وَالتَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ. فَالْإِذْنُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ. وَبَعْدُ فَهَذَا يَبْعُدُ عَنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَخَاصَّةً الْمَدَنِيَّ مِنْهُ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ ثَنَاءٌ جَمٌّ وَمُعَقَّبٌ بِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِي بُيُوتٍ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَال من لِنُورِهِ فِي قَوْلِهِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [النُّور: 35] إِلَخْ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ «نُورِ» فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ مُرَادٌ مِنْهُ الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ هَذَا الْحَالُ تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِذِكْرِ مَا يُنَاسِبُ الْهَيْئَةَ الْمُشَبَّهَةَ أَعْنِي هَيْئَةَ تَلَقِّي الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (¬1) ، فَكَانَ هَذَا التَّجْرِيدُ رُجُوعًا إِلَى حَقِيقَةِ التَّرْكِيبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: وَفِي الْحَيِّ أَحَوَى يَنْفُضُ الْمُرْدَ شَادِفٌ ... مَظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ مَعَ مَا فِي الْآيَةُ من بَيَان مَا أجمل فِي لفظ: مَثَلُ نُورِهِ وَبِذَلِك كَانَت الْآيَة أَبْلَغَ مِنْ بَيْتِ طَرَفَةَ لِأَنَّ الْآيَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ تَجْرِيدٍ وَبَيَانٍ وَبَيْتَ طَرَفَةَ تَجْرِيدٌ فَقَطْ. ¬

(¬1) رَوَاهُ مُسلم بِسَنَدِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بُيُوتٍ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِمَا قَبْلَهُ وَأَنَّهُ مَبْدَأُ اسْتِئْنَافٍ ابْتِدَائِيٍّ وَأَنَّ الْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِتِلْكَ الْبُيُوتِ وَلِلتَّشْوِيقِ إِلَى مُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ وَأَصْحَابُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِيهَا تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالْمَسَاجِدِ وَإِيقَاعُ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ فِيهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «صَلَاةُ أَحَدِكُمْ فِي الْمَسْجِدِ (أَيِ الْجَمَاعَةُ) تَفْضُلُ صَلَاتَهُ فِي بَيْتِهِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . وَالْمُرَادُ بِالْغُدُوِّ: وَقْتُ الْغُدُوِّ وَهُوَ الصَّبَاحُ لِأَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِ النَّاسِ فِي قَضَاء شؤونهم. وَالْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ آخِرُ النَّهَارِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [205] وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ [15] . وَالْمُرَادُ بِالرِّجَالِ: أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي التَّعَلُّقِ بِالْمَسَاجِدِ. وَتَخْصِيصُ التَّسْبِيحِ بِالرِّجَالِ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُمُ الْغَالِبُ عَلَى الْمَسَاجِدِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: « ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ ... » . وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ فِي بُيُوتٍ خَبَرًا مُقَدَّمًا ورِجالٌ مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النُّور: 35] فَيَسْأَلُ السَّائِلُ فِي نَفْسِهِ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضٍ مِمَّنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِنُورِهِ فَقِيلَ: رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ. وَالرِّجَالُ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبُيُوتُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهَا مِنْ بُيُوتِ الصَّلَاةِ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ وَمَسْجِدُ قِبَاءَ بِالْمَدِينَةِ وَمَسْجِدُ جُؤَاثَى بِالْبَحْرَيْنِ. وَمَعْنَى لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ أَنَّهُمْ لَا تَشْغَلُهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِهَا فِي الْمَسَاجِدِ. فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَا يَتَّجِرُونَ وَلَا يَبِيعُونَ بِالْمَرَّةِ.

وَالتِّجَارَةُ: جَلْبُ السِّلَعِ لِلرِّبْحِ فِي بَيْعِهَا، وَالْبَيْعُ أَعَمُّ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ مَا يَحْتَاجُ إِلَى ثَمَنِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُسَبِّحُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ورِجالٌ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فَيَكُونُ نَائِبُ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ لَهُ- فِيها- بِالْغُدُوِّ وَيَكُونُ رِجالٌ فَاعِلًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِنْ جُمْلَةٍ هِيَ اسْتِئْنَافٌ. وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: يُسَبِّحُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقِيلَ: يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ. عَلَى نَحْوِ قَوْلِ نَهْشَلِ بْنِ حَرِيٍّ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ: لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ وَجُمْلَةُ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَجُمْلَةُ: يَخافُونَ صِفَتَانِ لِ رِجالٌ، أَيْ لَا يَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ إِلَخْ وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ. وإِقامِ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْإِفْعَالِ. وَهُوَ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ فَاسْتَحَقَّ نَقْلَ حَرَكَةِ عَيْنِهِ إِلَى السَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهُ وَانْقِلَابَ حَرْفِ الْعِلَّةِ أَلِفًا إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ فِي نَظَائِرِهِ أَنْ يَقْتَرِنَ آخِرُهُ بِهَاءِ تَأْنِيثٍ نَحْوَ إِدَامَةٍ وَاسْتِقَامَةٍ. وَجَاءَ مَصْدَرُ إِقامِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِالْهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا هُنَا. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَانْتَصَبَ يَوْماً مِنْ قَوْلِهِ: يَخافُونَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لَا عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ يَخَافُونَ أَهْوَالَهُ. وَتَقَلُّبُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ: اضْطِرَابُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ كَمَا يَتَقَلَّبُ الْمَرْءُ فِي مَكَانِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [110] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ خَوْفِهِ: الْعَمَلُ لِمَا فِيهِ الْفَلَاحُ يَوْمَئِذٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا.

[سورة النور (24) : آية 39]

وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا بِ يَخافُونَ، أَيْ كَانَ خَوْفُهُمْ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ. وَالزِّيَادَةُ: مِنْ فَضْلِهِ هِيَ زِيَادَةُ أَجْرِ الرُّهْبَانِ إِنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَمَا تَبْلُغُهُمْ دَعْوَتُهُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ لَهُمْ أَجْرَيْنَ» ، أَوْ هِيَ زِيَادَةُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ مَسَاجِدَ الْإِسْلَامِ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ حَصَلَ التَّذْيِيلُ لِمَا فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ وَهُمْ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهُمُ الزِّيَادَةَ. وَالْحِسَابُ هُنَا بِمَعْنَى التَّحْدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [37] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ: 36] فَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْيِينِ وَالْإِعْدَادِ للاهتمام بهم. [39] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ إِلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [النُّور: 36- 38] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضِدِّهِ مِنْ حَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ الَّتِي يَحْسُبُونَهَا قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هِيَ بِمُغْنِيَةٍ عَنْهُمْ شَيْئًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ، وَعَكْسِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمرَان: 197، 198] إِلَخْ فَعَطْفُ حَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَلَعَلَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ

يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نُعَمِّرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَطُوفُ وَنُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ وَنُقْرِي الضَّيْفَ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 19] يُعِدُّونَ أَعْمَالًا من أَفعَال الْخَيْر فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَات إبطالا لحسبانهم، قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفرْقَان: 23] وَقَدْ أَعْلَمْنَاكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ أَكْثَرُهَا عَقِبَ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ حِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَقَّبُونَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي مُهَاجِرِهِمْ وَيَتَحَسَّسُونَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ: أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ إِلَخْ. وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَوَاتِ الْكَافِرِينَ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ آخَرُ وَهُوَ أَعْمالُهُمْ. وَلَمْ يُجْعَلِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ أَعْمَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِمَا فِي الِافْتِتَاحِ بِذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيذكرُ من شؤونهم لِيَتَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ كَمَالُ التَّقَرُّرِ وَلِيَظْهَرَ أَنَّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا حَظًّا فِي التَّمْثِيلِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْمُشَبَّهُ أَعْمَالَهُمْ خَاصَّةً. وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ جَزَاءِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عُنْوَانُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَكُونُ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِهَذَا الْوَصْفِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ إِبْطَالٌ لِشَيْءٍ اعْتَقَدَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَتَشْبِيهُ الْكَافِرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ تَشْبِيهٌ تَمْثِيلِيٌّ: شُبِّهَتْ حَالَةُ كَدِّهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهَا تقربهم إِلَى رضى اللَّهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تُجْدِيهِمْ بَلْ يَلْقَوْنَ الْعَذَابَ فِي وَقْتِ ظَنِّهِمُ الْفَوْزَ: شَبَّهَ ذَلِك بِحَالَة ظمئان يَرَى السَّرَابَ فَيَحْسَبُهُ مَاءً فَيَسْعَى إِلَيْهِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَسَافَةَ الَّتِي خَالَ أَنَّهَا مَوْقِعُ الْمَاءِ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَوَجَدَ هُنَالِكَ غَرِيمًا يَأْسِرُهُ وَيُحَاسِبُهُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَعْمَالِهِ السَّيِّئَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُشَبَّهَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَحْسُوسٍ وَمَعْقُولٍ وَالْحَالَةَ الْمُشَبَّهَ بِهَا حَالَةٌ مَحْسُوسَةٌ. أَيْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ.

وَالسَّرَابُ: رُطُوبَةٌ كَثِيفَةٌ تَصْعَدُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا تَعْلُو فِي الْجَوِّ تَنْشَأُ مِنْ بَيْنِ رُطُوبَةِ الْأَرْضِ وَحَرَارَةِ الْجَوِّ فِي الْمَنَاطِقِ الْحَارَّةِ الرَّمْلِيَّةِ فَيَلُوحُ مِنْ بَعِيدٍ كَأَنَّهُ مَاءٌ. وَسَبَبُ حُدُوثِ السَّرَابِ اشْتِدَادُ حَرَارَةِ الرِّمَالِ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ فَتَشْتَدُّ حَرَارَةُ طَبَقَةِ الْهَوَاءِ الْمُلَاصِقَةِ لِلرَّمْلِ وَتَحِرُّ الطَّبَقَةُ الْهَوَائِيَّةُ الَّتِي فَوْقَهَا حَرًّا أَقَلَّ مِنْ حَرَارَةِ الطَّبَقَةِ الْمُلَاصِقَةِ. وَهَكَذَا تَتَنَاقَصُ الْحَرَارَةُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ الْهَوَاءِ عَنْ حَرَارَةِ الطَّبَقَةِ الَّتِي دُونَهَا. وَبِذَلِكَ تَزْدَادُ كَثَافَةُ الْهَوَاءِ بِزِيَادَةِ الِارْتِفَاعِ عَنْ سَطْحِ الْأَرْضِ. وَبِحَرَارَةِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى الَّتِي تَلِي الْأَرْضَ تَحْدُثُ فِيهَا حَرَكَاتٌ تَمْوِجِيَّةٌ فَيَصْعَدُ جُزْءٌ مِنْهَا إِلَى مَا فَوْقَهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ وَهَكَذَا.. فَتَكُونُ كُلُّ طَبَقَةٍ أَكْثَفَ مِنَ الَّتِي تَحْتَهَا. فَإِذَا انْعَكَسَ عَلَى تِلْكَ الْأَشِعَّةِ نُورُ الْجَوِّ مِنْ قُرْبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى بَقِيَّةِ النَّهَارِ تَكَيَّفَتْ تِلْكَ الْأَشِعَّةُ بِلَوْنِ الْمَاءِ. فَفِي أَوَّلِ ظُهُورِ النُّورِ يَلُوحُ السَّرَابُ كَأَنَّهُ الْمَاءُ الرَّاكِدُ أَوِ الْبَحْرُ وَكُلَّمَا اشْتَدَّ الضِّيَاءُ ظَهَرَ فِي السَّرَابِ تَرَقْرُقٌ كَأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ. ثُمَّ قَدْ يُطْلَقُ السَّرَابُ عَلَى هَذَا الْهَوَاءِ الْمُتَمَوِّجِ فِي سَائِرِ النَّهَارِ مِنَ الْغُدْوَةِ إِلَى الْعَصْرِ. وَقَدْ يُخَصُّ مَا بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الضُّحَى بِاسْمِ الْآلِ ثُمَّ سَرَابٌ. وَعَلَى هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِ يَتَسَامَحُونَ فِي إِطْلَاقِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ، وَقَدْ شَاهَدْتُهُ فِي شَهْرِ نُوفَمْبِرَ فِيمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ بِمَقْرُبَةٍ مِنْ مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أُمُّ الْعَرَائِسِ مِنْ جِهَاتِ تَوْزَرَ، وَأَنَا فِي قِطَارِ السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ فخلت فِي أَوَّلَ النَّظَرِ أَنَّا أَشْرَفْنَا عَلَى بَحْرٍ. وَقَوْلُهُ: بِقِيعَةٍ الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي. وَ (قِيعَةٍ) أَرْضٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَصْفٌ لِسَرَابٍ وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ السَّرَابَ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي قِيعَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ لِلذَّلِيلِ «هُوَ فَقْعٌ فِي قَرْقَرٍ» فَإِنَّ الْفَقْعَ لَا يَنْبُتُ إِلَّا فِي قَرْقَرٍ. وَالْقِيعَةُ: الْأَرْضُ الْمُنْبَسِطَةُ لَيْسَ فِيهَا رُبًى وَيُرَادِفُهَا الْقَاعَةُ. وَقِيلَ قِيعَةُ جَمْعُ قَاعٍ مِثْلُ جِيرَةٍ جَمْعُ جَارٍ، وَلَعَلَّهُ غُلِّبَ لَفْظُ الْجَمْعِ فِيهِ حَتَّى سَاوَى الْمُفْرَدَ.

وَقَوْلُهُ: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً يُفِيدُ وَجْهَ الشَّبَهِ وَيَتَضَمَّنُ أَحَدَ أَرْكَانِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الرَّجُلُ الْعَطْشَانُ وَهُوَ مُشَابِهُ الْكَافِرِ صَاحِبِ الْعَمَلِ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ فَهِيَ بِمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَمَجِيءُ الظَّمْآنِ إِلَى السَّرَابِ يَحْصُلُ بِوُصُولِهِ إِلَى مَسَافَةٍ كَانَ يُقَدِّرُهَا مَبْدَأُ الْمَاءِ بِحَسَبِ مَرْأَى تَخَيُّلِهِ، كَأَنْ يُحَدِّدُهُ بِشَجَرَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ. فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ تَوَهَّمَ وُجُودَ الْمَاءِ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَتَحَقَّقَ أَنَّ مَا لَاحَ لَهُ سَرَابٌ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَهُ، أَيْ إِذَا جَاءَ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَخَيَّلَ أَنَّهُ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ يَجِدُ مَاءً. وَإِلَّا فَإِنَّ السَّرَابَ لَا يَزَالُ يلوح لَهُ على بَعْدُ كُلَّمَا تَقَدَّمَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ. فَضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِقُرْبِ زَمَنِ إِفْضَاءِ الْكَافِرِ إِلَى عَمَلِهِ وَقْتَ مَوْتِهِ حِينَ يَرَى مَقْعَدَهُ أَوْ فِي وَقْتِ الْحَشْرِ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ لَمْ يَجِدْ مَا كَانَ يُخَيَّلُ إِلَى عَيْنِهِ أَنَّهُ مَاءٌ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا. وَالشَّيْءُ: هُوَ الْمَوْجُودُ وُجُودًا مَعْلُومًا لِلنَّاسِ، وَالسَّرَابُ مَوْجُودٌ وَمَرْئِيٌّ، فَقَوْلُهُ: شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفرْقَان: 23] . وَ (إِذَا) هُنَا ظَرْفٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: زَمَنُ مَجِيئِهِ إِلَى السَّرَابِ، أَيْ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ هُوَ مِنْ تَمَامِ التَّمْثِيلِ، أَيْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَوَجَدَ فِي مَظِنَّةِ الْمَاءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ وَجَدَ مَنْ إِنْ أَخَذَ بِنَاصِيَتِهِ لَمْ يُفْلِتْهُ، أَيْ هُوَ عِنْدَ ظَنِّهِ الْفَوْزَ بِمَطْلُوبِهِ فَاجَأَهُ مَنْ يَأْخُذُهُ لِلْعَذَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أَيْ أَعْطَاهُ جَزَاءَ كُفْرِهِ وَافِيًا. فَمَعْنَى فَوَفَّاهُ أَنَّهُ لَا تَخْفِيفَ فِيهِ، فَهُوَ قَدْ تَعِبَ وَنَصِبَ فِي الْعَمَلِ فَلَمْ يَجِدْ جَزَاءً إِلَّا الْعَذَابَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَرَدَ الْمَاءَ لِلسَّقْيِ فَوَجَدَ مَنْ لَهُ عِنْدَهُ تِرَةٌ فَأَخَذَهُ.

[سورة النور (24) : آية 40]

وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ. وَالسَّرِيعُ: ضِدُّ الْبَطِيءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُمَاطِلُ الْحِسَابَ وَلَا يُؤَخِّرُهُ عِنْدَ حُلُولِ مُقْتَضِيهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي حِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلِذَلِكَ كَانَ تَذْيِيلًا. وَاعْلَمْ أَن هَذَا التمثل الْعَجِيبَ صَالِحٌ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِأَنْ يَنْحَلَّ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ وَاسْتِعَارَاتٍ. فَأَعْمَالُ الْكَافِرِينَ شَبِيهَةٌ بِالسَّرَابِ فِي أَنَّ لَهَا صُورَةَ الْمَاءِ وَلَيْسَتْ بِمَاءٍ، وَالْكَافِرُ يُشْبِهُ الظَّمْآنَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِعَمَلِهِ. فَفِي قَوْلِهِ: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَخَيْبَةُ الْكَافِرِ عِنْدَ الْحِسَابِ تُشْبِهُ خَيْبَةَ الظَّمْآنِ عِنْدَ مَجِيئِهِ السَّرَابَ فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَمُفَاجَأَةُ الْكَافِرِ بِالْأَخْذِ وَالْعَتْلِ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ أَوْ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تُشْبِهُ مُفَاجَأَةَ مَنْ حَسِبَ أَنَّهُ يَبْلُغُ الْمَاءَ لِلشَّرَابِ فَبَلَغَ إِلَى حَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا مَاءَ فَوَجَدَ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَهُ مَنْ يَتَرَصَّدُ لَهُ لِأَخْذِهِ أَوْ أَسْرِهِ. فَهُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شَبَّهَ أَمْرَ اللَّهِ أَوْ مَلَائِكَتَهُ بِالْعَدُوِّ، وَرَمَزَ إِلَى الْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ: فَوَفَّاهُ حِسابَهُ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ وَجَدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ هِيَ تَعْدِيَةُ الْمجَاز الْعقلِيّ. [40] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 40] أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) شَأْنُ أَوْ إِذَا جَاءَتْ فِي عَطْفِ التَّشْبِيهَاتِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَخْيِيرِ السَّامِعِ أَنْ يُشَبَّهَ بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] ، أَيْ مَعَ اتِّحَادِ وَجْهِ الشَّبَهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ............... ...........

وَقَوْلُ لَبِيَدٍ: أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ... خَذَلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ هُنَا جَارِيًا عَلَى ذَلِكَ الشَّأْنِ كَانَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ بِحَالِ ظُلُمَاتِ لَيْلٍ غَشِيَتْ مَاخِرًا فِي بَحْرٍ شَدِيدِ الْمَوْجِ قَدْ اقْتَحَمَ ذَلِكَ الْبَحْرَ لِيَصِلَ إِلَى غَايَةٍ مَطْلُوبَةٍ، فَحَالُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ تُشْبِهُ حَالَ سَابِحٍ فِي ظُلُمَاتِ لَيْلٍ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ يَغْشَاهُ مَوْجٌ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا لِشِدَّةِ تَعَاقُبِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيَاحِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَرَى يَدَهُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْهِ وَأَوْضَحُهُ فِي رُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ يَرْجُو النَّجَاةَ. وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ مَعَ اخْتِلَاف وَجه الشّبَه كَانَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَهُمْ غير مُؤمنين بِحَال مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ يَرْجُو بُلُوغَ غَايَةٍ فَإِذَا هُوَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يَهْتَدِي مَعَهَا طَرِيقًا. فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ مَا حَفَّ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْ ضَلَالِ الْكُفْرِ الْحَائِلِ دُونَ حُصُولِ مُبْتَغَاهُمْ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْوَجْهَ تَذْيِيلُ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ: كَظُلُماتٍ عَطْفٌ على كَسَرابٍ [النُّور: 39] وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَظُلُمَاتٍ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ مِنْ قَبِيلِ تَشْبِيهِ حَالَةٍ مَعْقُولَةٍ بِحَالَةٍ مَحْسُوسَةٍ كَمَا يُقَالُ: شَاهَدْتُ سَوَادَ الْكُفْرِ فِي وَجْهِ فُلَانٍ. وَالظُّلُمَاتُ: الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ. وَالْجَمْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الشِّدَّةُ، فَالْجَمْعُ كِنَايَةٌ لِأَنَّ شِدَّةَ الظُّلْمَةِ يَحْصُلُ مِنْ تَظَاهُرِ عِدَّةِ ظُلُمَاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ ظُلْمَةَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمَةِ عَقِبِ الْغُرُوبِ وَظُلْمَةُ الْعِشَاءِ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ لَفْظَ ظُلْمَةٍ بِالْإِفْرَادِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ انْظُرْ أَوَّلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا فِي بَحْرٍ أَنَّهَا انْطَبَعَ سَوَادُهَا عَلَى مَاءِ بَحْرٍ

فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي الْبَحْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] إِذْ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ فِي الصَّيِّبِ. وَاللُّجِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى اللُّجَّةِ، وَاللُّجُّ هُوَ مُعْظَمُ الْبَحْرِ، أَيْ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ، فَالنَّسَبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ كَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: وَالدَّهْرُ بِالْإِنْسَانِ دَوَّارِيٌّ. أَيْ دَوَّارٌ، وَكَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ مُشْرِكِيٌّ وَرَجُلٌ غِلَابِيٌّ، أَيْ قَوِيُّ الشِّرْكِ وَكَثِيرُ الْغَلَبِ. وَالْمَوْجُ: اسْمُ جَمْعِ مَوْجَةٍ وَالْمَوْجَةُ: مِقْدَارٌ يَتَصَاعَدُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ عَنْ سَطْحِ مَائِهِ بِسَبَبِ اضْطِرَابٍ فِي سَطْحِهِ بِهُبُوبِ رِيحٍ مِنْ جَانِبِهِ يَدْفَعُهُ إِلَى الشَّاطِئِ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ: مَاجَ الْبَحْر، أَي اضْطِرَاب وَسُمِّي بِهِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ. وَمَعْنَى: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أَنَّ الْمَوْجَ لَا يَتَكَسَّرُ حَتَّى يَلْحَقَهُ مَوْجٌ آخَرُ مِنْ فَوْقِهِ وَذَلِكَ أَبْقَى لِظُلْمَتِهِ. وَالسَّحَابُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [12] . وَالسَّحَابُ يَزِيدُ الظُّلْمَةَ إِظْلَامًا لِأَنَّهُ يَحْجِبُ ضَوْءَ النَّجْمِ وَالْهِلَالِ. وَقَوْلُهُ: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ اسْتِئْنَافٌ. وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ ظُلُمَاتٌ وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ الَّتِي هُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ هُنَا جَمْعُ أَنْوَاعٍ وَهُنَالِكَ جَمْعُ أَفْرَادٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَحابٌ ظُلُماتٌ بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بترك التَّنْوِين فِي سَحابٌ وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى ظُلُماتٌ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِرَفْعِ سَحابٌ مُنَوَّنًا وَبِجَرِّ ظُلُماتٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ قِصَّةِ بَيْتِ ذِي الرُّمَّةِ.

[سورة النور (24) : آية 41]

وَجُمْلَةُ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ تَذْيِيلٌ لِلتَّمْثِيلِ، أَيْ هُمْ بَاءُوا بِالْخَيْبَةِ فِيمَا ابْتَغَوْا مِمَّا عَمِلُوا وَقَدْ حَفَّهُمُ الضَّلَالُ الشَّدِيدُ فِيمَا عَمِلُوا حَتَّى عَدِمُوا فَائِدَتَهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِي قُلُوبِهِمُ الْهُدَى حِينَ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَبَلَهُمْ غَيْرَ قَابِلِينَ لِلْهُدَى فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ قَبُولَهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَا يَحُلُّ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَصَرِّفٌ بِالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَا سَبَقَ مِنْ نِظَامِ تَدْبِيرِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ فِي تَشْبِيهِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَالضَّلَالَاتُ تُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي اقْتَحَمَهَا الْكَافِرُ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا تُشْبِهُ الْبَحْرَ، وَمَا يُخَالِطُ أَعْمَالَهُ الْحَسَنَةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ كَالْبَحَيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ يُشْبِهُ الْمَوْجَ فِي تَخْلِيطِهِ الْعَمَلَ الْحَسَنَ وَتَخَلُّلِهِ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْجُ الْأَوَّلُ. وَمَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ كَالذَّبْحِ لِلْأَصْنَامِ يُشْبِهُ الْمَوْجَ الْغَامِرَ الْآتِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّلِ وَالْإِفْسَادِ وَهُوَ الْمَوْجُ الثَّانِي، وَمَا يَحُفُّ اعْتِقَادَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ فِي تَمْيِيزِ الْحَسَنِ مِنَ الْعَبَثِ وَمِنَ الْقَبِيحِ يُشْبِهُ السَّحَابَ الَّذِي يَغْشَى مَا بَقِيَ فِي السَّمَاءِ مِنْ بَصِيصِ أَنْوَارِ النُّجُومِ، وَتَطَلُّبُهُ الِانْتِفَاعَ مِنْ عَمَلِهِ يُشْبِهُ إِخْرَاجَ الْمَاخِرِ يَدَهُ لِإِصْلَاحِ أَمْرِ سَفِينَتِهِ أَوْ تَنَاوُلِ مَا يَحْتَاجُهُ فَلَا يَرَى يَدَهُ بَلْهَ الشَّيْءَ الَّذِي يُرِيد تنَاوله. [41] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 41] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) أَعْقَبَ تَمْثِيلَ ضَلَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَكَيْفَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النُّور: 39، 40]

بِطَلَبِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ كَيْفَ هَدَى اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ الْمُقْتَضِي الْإِيمَانَ بِهِ وَحْدَهُ، وَبِمَا أَلْهَمَ الطَّيْرَ إِلَى أَصْوَاتِهَا الْمُعْرِبَةِ عَنْ بَهْجَتِهَا بِنِعْمَةِ وَجُودِهَا وَرِزْقِهَا النَّاشِئَيْنِ عَنْ إِمْدَادِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهِمَا فَكَانَتْ أَصْوَاتُهَا دَلَائِلَ حَالٍ عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، فَأَصْوَاتُهَا تَسْبِيحٌ بِلِسَانِ الْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَمُنَاسَبَتُهُ مَا عَلِمْتَ. وَجُمْلَةُ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْعِبْرَةِ إِذْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ أُولَئِكَ مَا بِهِ مُلَازَمَتُهُمْ لِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ. فَتَسْبِيحُ الْعُقَلَاءِ حَقِيقَةٌ، وَتَسْبِيحُ الطَّيْرِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فَعُبِّرَ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ مُرَاعَاةً لِاخْتِلَافِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْعُقَلَاءِ. وَفَرِيقُ الطَّيْرِ وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا كَلِمَةُ كُلٌّ فَأُطْلِقَ عَلَى تَسْبِيحِ الْعُقَلَاءِ اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ. فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي أَحْوَال الطير مَا يَسْتَقِيم إِطْلَاق الدُّعَاء عَلَيْهِ على وَجه الْمجَاز وأبقي لدلَالَة أصوات الطَّيْرِ اسْمُ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الدَّلَالَةِ بِالصَّوْتِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ عَلَى التَّوْزِيعِ وَلَوْلَا إِرَادَةُ ذَلِكَ لَقِيلَ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ تَسْبِيحَهُ، أَوْ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صِلَاتَهُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ مَنْ يَبْلُغُ إِلَيْهِ، أَوِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَمْثَالِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ فَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ حُرِمُوا الْهُدَى لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ فِيهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ الْهُدَى فِي الْعَجْمَاوَاتِ إِذْ جَبَلَهَا عَلَى إِدْرَاكِ أَثَرِ نِعْمَةِ الْوُجُودِ وَالرِّزْقِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 44] .

[سورة النور (24) : آية 42]

وَالصَّافَّاتُ مِنْ صِفَاتِ الطَّيْرِ يُرَادُ بِهِ صَفُّهُنَّ أَجْنِحَتَهُنَّ فِي الْهَوَاءِ حِينَ الطَّيَرَانِ. وَتَخْصِيصُ الطَّيْرِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْمَخْلُوقَاتِ لِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِذِكْرِ مَخْلُوقَاتٍ فِي الْجَوِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِ صَافَّاتٍ. وَفِعْلُ عَلِمَ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ عِلْمِ الْعُقَلَاءِ بِصَلَاتِهِمْ وَعِلْمِ الطَّيْرِ بِتَسْبِيحِهَا فَإِنَّ الثَّانِي مُجَرَّدُ شُعُورٍ وَقَصْدٌ لِلْعَمَلِ. وَضَمَائِرُ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلٌّ لَا مَحَالَةَ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّوْزِيعَ عَلَى مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرِ مِنْ جِهَةٍ وَعَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ جِهَةٍ لَوَقَعَ ضَمِيرُ فَصْلٍ بَعْدَ عَلِمَ فَلَكَانَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لِأَنَّ تَسْبِيحَ الْعُقَلَاءِ مَشَاهَدٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ، وَتَسْبِيحَ الطَّيْرِ مَشَاهِدٌ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ فَمَا عَلَى النَّاظِرِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُسَمَّى جَدِيرٌ بِاسْمِ التَّسْبِيحِ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ مَكِينَ الْوَقْعِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِنْ جُمْلَةَ أَلَمْ تَرَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْثَالِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا إِلَى مَعْنَى الرُّؤْيَةِ. وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ هُنَا قَلْبِيَّةٌ. وَأَغْنَى الْمَصْدَرُ عَنِ الْمَفْعُولَيْنِ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ تَذْيِيلٌ وَهُوَ إِعْلَامٌ بِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّامِلِ لِلتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [243] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي سُورَة الْأَنْعَام [6] . [42] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 42] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ

[سورة النور (24) : آية 43]

(42) تَحْقِيقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ إِعْطَائِهِ الْهُدَى للعجماوات فِي شؤونه وَحِرْمَانِهِ إِيَّاهُ فَرِيقًا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الطَّيْرِ فِي شَأْنِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَوَالِمِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَفِي هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَلِذَلِكَ أعقب بقوله: [43] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 43] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) أَعْقَبَ الدَّلَالَةَ عَلَى إِعْطَاءِ الْهُدَى فِي قَوَانِينِ الْإِلْهَامِ فِي الْعَجْمَاوَاتِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى خَلْقِ الْخَصَائِصِ فِي الْجَمَادِ بِحَيْثُ تَسِيرُ عَلَى السَّيْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا سَيْرًا لَا يَتَغَيَّرُ، فَهِيَ بِذَلِكَ أَهْدَى مِنْ فَرِيقِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ عُقُولٌ وَحَوَاسٌّ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهَا، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَوَحْدَانِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِظَامِ بَعْضِ حَوَادِثِ الْجَوِّ حَتَّى آلَ إِلَى قَوْلِهِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا حُسْنُ التَّخَلُّصِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسُمُوِّ الْحِكْمَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ. ويُزْجِي: يَسُوقُ. يُقَالُ: أَزْجَى الْإِبِلَ إِزْجَاءً. وَأُطْلِقَ الْإِزْجَاءُ عَلَى دُنُوِّ بَعْضِ السَّحَابِ مِنْ بَعْضٍ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّبِيهِ بِالسَّوْقِ حَتَّى يَصِيرَ سَحَابًا كَثِيفًا، فَانْضِمَامُ بَعْضِ السَّحَابِ إِلَى بَعْضٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ أَجْزَائِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ إِلَخْ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّحَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] فِي قَوْلِهِ: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [12] . وَدَخَلَتْ (بَيْنَ) عَلَى ضَمِيرِ السَّحَابِ لِأَنَّ السَّحَابَ ذُو أَجْزَاءٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ أَيْ يُؤَلِّفُ بَيْنَ السَّحَابَاتِ مِنْهُ. وَالرُّكَامُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّكْمِ. وَالرَّكْمُ: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ. وَوَزْنُ فُعَالٍ وَفُعَالَةٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ. فَالرُّكَامُ بِمَعْنَى الْمَرْكُومِ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ فِي سُورَةِ الطُّورِ [44] . فَإِذَا تَرَاكَمَ السَّحَابُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَدَثَ فِيهِ مَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ حَوَادِثِ الْجَوِّ بِالسِّيَالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَهُوَ الْبَرْقُ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْوَدْقُ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْوَدْقَ هُوَ الْمَطَرُ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ دَوَاوِينُ اللُّغَةِ، وَالْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ. وَالْخِلَالُ: الْفُتُوقُ، جَمْعُ خَلَلٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ. وَتَقَدَّمَ خِلالَ الدِّيارِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [5] . وَمَعْنَى يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ يُسْقِطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، أَيْ يُنَزِّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالسَّمَاءُ: الْجَوُّ الَّذِي فَوْقَ جِهَة من الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ جِبالٍ بَدَلٌ مِنَ السَّماءِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِبَالِ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ. وَإِطْلَاقُ الْجِبَالِ فِي تَشْبِيهِ الْكَثْرَةِ مَعْرُوفٌ. يُقَالُ: فُلَانٌ جَبَلُ عِلْمٍ، وَطَوْدُ عِلْمٍ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبَا لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ» أَيْ مَا كَانَ يَسُرُّنِي، فَالْكَلَامُ بِمَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَمَا سَرَّنِي. أَوْ لَمَا كَانَ سَرَّنِي إِلَخْ.

وَحَرْفُ مِنْ الْأَوَّلِ لِلِابْتِدَاءِ ومِنْ الثَّانِي كَذَلِكَ ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَرَدٍ مَزِيدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى رَأْيِ الَّذِينَ جَوَّزُوا زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ. أَوْ تَكُونُ مِنْ اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ. وَمَفْعُولُ يُنَزِّلُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِيها مِنْ بَرَدٍ وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ بَرَدًا. وَوُقُوعُ مِنْ زَائِدَةً لِقَصْدِ مُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: مِنْ جِبالٍ. وَقَوْلُهُ: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ جَعَلَ نُزُولَ الْبَرْدِ إِصَابَةً لِأَنَّ الْإِصَابَةَ إِذَا أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِهِمْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا حُلُولٌ مَكْرُوهٌ. وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْمُصِيبَةُ الْحَادِثَةُ الْمَكْرُوهَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَة: 50] فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَسَنَةٌ قَرِينَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْإِصَابَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْحُدُوثِ إِمَّا مَجَازًا مُرْسَلًا وَإِمَّا مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا أَوْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا فَإِنَّ (أَصَابَ) مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّوْبِ وَهُوَ النُّزُولُ وَمِنْهُ صَوْبُ الْمَطَرِ، فَجَعَلَ نُزُولَ الْبَرَدِ إِصَابَةً لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَةَ، فَضَمِيرُ بِهِ لِلْبَرْدِ. وَجُمْلَةُ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ وَصْفٌ لِ سَحاباً. وَضَمِيرُ بَرْقِهِ عَائِدٌ إِلَى سَحاباً. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ تَنْبِيهُ الْعُقُولِ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ إِذْ كَانَ شُعُورُ النَّاسِ بِحُدُوثِ الْبَرْقِ أَوْضَحَ وَأَكْثَرَ مِنْ شُعُورِهِمْ بِتَكَوُّنِ السَّحَابِ وَتَرَاكُمِهِ وَنُزُولِ الْمَطَرِ وَالْبَرَدِ، إِذْ قَدْ يَغْفَلُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ حُدُوثِهِ وَتَعَوُّدِهِمْ بِهِ بِخِلَافِ اشْتِدَادِ الْبَرْقِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لَهُ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْأَبْصَارِ الَّتِي حَرَّكَهَا خَفْقُ الْبَرْقِ يَتَذَكَّرُونَ تِلْكَ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ خُصِّصَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَرْقِ بِالذِّكْرِ. وَالسَّنَا مَقْصُورًا: ضَوْءُ الْبَرْقِ وَضَوْءُ النَّارِ. وَأَمَّا السَّنَاءُ الْمَمْدُودُ فَهُوَ الرِّفْعَةُ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ فِي مُتَشَابِهِ الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ: زَالَ السنا عَن ناظري ... هـ وَزَالَ عَنْ شَرَفِ السَّنَاءِ

[سورة النور (24) : آية 44]

وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي بِالْأَبْصارِ لَامُ الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ سِوَى أَنْ هَذِهِ الْآيَةَ زِيدَ فِيهَا لَفَظُ سَنا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي مَقَامِ الِاعْتِبَارِ بِتَكْوِينِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذَا الْبَرْقِ وَشِدَّةِ ضِيَائِهِ حَتَّى يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِأَمْرَيْنِ: بِتَكْوِينِ الْبَرْقِ فِي السَّحَابِ. وَبِقُوَّةِ ضِيَائِهِ حَتَّى يَكَادَ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ. وَآيَةُ الْبَقَرَةِ وَارِدَةٌ فِي مَقَامِ التَّهْدِيدِ وَالتَّشْوِيهِ لِحَالِهِمْ حِينَ كَانُوا مُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ وَمُنْطَوِينَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ فَكَانَتْ حَالُهُمْ كَحَالَةِ الْغَيْثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى صَوَاعِقَ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ فَظَاهِرُهُ مَنْفَعَةٌ وَفِي بَاطِنِهِ قَوَارِعُ وَمَصَائِبُ. وَمِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ وُضِعَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ وَهُنَالِكَ بِقَوْلِهِ: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ لِأَنَّ فِي الْخَطْفِ مِنْ مَعْنَى النِّكَايَةِ بِهِمْ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ مَا لَيْسَ فِي يَذْهَبُ إِذْ هُوَ مُجَرَّدُ الِاسْتِلَابِ. وَأَمَّا التَّعْبِير هُنَا بِالْأَبْصارِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْبَرْقَ مُقَارِبٌ أَنْ يُزِيلَ طَائِفَةً مِنْ جِنْسِ الْأَبْصَارِ إِذِ اللَّامُ هُنَا لَامُ الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُف: 13] وَقَوْلُهُمْ: ادْخُلِ السُّوقَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى حَالَةِ الْبَرْقِ الشَّدِيدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ. بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ بِأَنَّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ النَّاسُ بِهِ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الضُّرِّ بِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ لَفْظَ أَبْصَارٍ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ مَعَ مَا فِي هَذَا التَّخَالُفِ مَنْ تَفْنَيْنِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى لَا يَكُونَ الْكَلَامُ مُعَادًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا وَلَا تَجِدُ حَقَّ الْإِيجَازِ فَائِتًا فَإِنَّ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ فِي حَدِّ التَّسَاوِي فِي الْحُرُوف وَالنُّطْقِ. وَهَكَذَا نَرَى بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازَهُ وَحَلَاوَةَ نَظْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَذْهَبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ يُذْهِبُ الْأَبْصَارَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ فَتَكُونُ الْبَاءُ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . [44] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 44] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ

(44) التَّقْلِيبُ تَغْيِيرُ هَيْئَةٍ إِلَى ضِدِّهَا وَمِنْهُ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها [الْكَهْف: 42] أَيْ يُدِيرُ كَفَّيْهِ مِنْ ظَاهِرٍ إِلَى بَاطِنٍ، فَتَقْلِيبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَغْيِيرُ الْأُفُقِ مِنْ حَالَةِ اللَّيْلِ إِلَى حَالَةِ الضِّيَاءِ وَمِنْ حَالَةِ النَّهَارِ إِلَى حَالَةِ الظَّلَامِ، فَالْمُقَلَّبُ هُوَ الْجَوُّ بِمَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ حَالَةُ ظُلْمَةِ الْجَوِّ تُسَمَّى لَيْلًا وَحَالَةُ نُورِهِ تُسَمَّى نَهَارًا عَبَّرَ عَنِ الْجَوِّ فِي حَالَتَيْهِ بِهِمَا، وَعُدِّيَ التَّقْلِيبُ إِلَيْهِمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّقْلِيبِ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَلِرَعْيِ تَكَرُّرِ التَّقَلُّبِ بِمَعْنَيَيْهِ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكَرُّرِ وَالتَّجَدُّدِ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ. وَجِيءَ بِهِ مُسْتَأْنِفًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَى آيَات الِاعْتِبَار الْمَذْكُورَة قَبْلَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْأَبْصَارِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ كُلُّ ذِي بَصَرٍ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ شَهْرٍ فَهُوَ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى ذِي بَصَرٍ. وَهَذَا تَدَرُّجٌ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النُّور: 43] كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَلِذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ جُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ، وَلَكِنْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ بِخِلَافِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي تَقْلِيبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَعِبْرَةً. وَالْإِشَارَةُ الْوَاقِعَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ فِعْلُ يُقَلِّبُ مِنَ الْمَصْدَرِ. أَيْ إِنَّ فِي التَّقْلِيبِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَصْدَ ذِكْرُ الْعِبْرَةِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُنْكَرِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَرْكِهِمْ الِاعْتِبَارَ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً.

[سورة النور (24) : آية 45]

وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ آنِفًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النُّور: 43] فَيَكُونُ الْإِفْرَادُ فِي قَوْلِهِ: لَعِبْرَةً نَاظِرًا إِلَى أَنَّ مَجْمُوعَ ذَلِكَ يُفِيدُ جِنْسَ الْعِبْرَةِ الْجَامِعَةِ لِلْيَقِينِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْكَوْنِ. وَلَمْ تَرِدِ الْعِبْرَةُ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفَةً بِلَامِ الْجِنْسِ وَلَا مَذْكُورَةً بِلَفْظ الْجمع. [45] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 45] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَمَّا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِتَسَاوِي أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ فِي أَصْلِ التَّكْوِينِ مِنْ مَاءِ التَّنَاسُلِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَجْنَاسِ فِي آثَارِ الْخِلْقَةِ وَهُوَ حَالُ الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ النِّظَامِ بِدُونِ تَخَلُّفٍ وَكَانَ ذَلِكَ مُحَقَّقًا كَانَ إِفْرَاغُ هَذَا الْمَعْنَى بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ مُفِيدًا لِأَمْرَيْنِ: التَّحَقُّقُ بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ. وَالتَّجَدُّدُ بِكَوْنِ الْخَبَرِ فِعْلِيًّا. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَاخْتِيرَ فِعْلُ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّقْوَى بِأَنَّ هَذَا شَأْنٌ مُتَقَرَّرٌ مُنْذُ الْقِدَمِ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرِيرِ حَيْثُ عُقِّبَ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ وَنَصْبِ كُلَّ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَجَرِّ كُلَّ بِإِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى مَفْعُولِهِ.

[سورة النور (24) : آية 46]

وَالدَّابَّةُ: مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ مَشَى. وَغُلِّبَ هُنَا الْإِنْسَانُ فَأُتِي بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ مُرَادًا بِهِ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ مَرَّتَيْنِ. وَتَنْكِيرُ ماءٍ لِإِرَادَةِ النَّوْعِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِ الْمَاءِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الدَّوَابِّ إِذِ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى اخْتِلَافِ النُّطَفِ لِلزِّيَادَةِ فِي الِاعْتِبَارِ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاء: 30] إِذْ قَصَدَ ثَمَّةَ إِلَى أَنَّ أَجْنَاسَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِنْسِ الْمَاءِ وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، فَتَعْرِيفُ الْجِنْسِ هُنَاكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ إِجْمَالًا وَيَعْهَدُونَهُ مِنْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطَفِ أُصُولِهِ. وَهَذَا مَنَاطُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّنْكِيرِ كَمَا هُنَا وَبَيْنَ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَمَا فِي آيَةِ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاء: 30] . ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ. وَرُتِّبَ ذِكْرُ الْأَجْنَاسِ فِي حَالِ الْمَشْيِ عَلَى تَرْتِيبِ قُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْمَاشِيَ بِلَا آلَةِ مَشْيٍ مُتَمَكِّنَةٍ أَعْجَبُ مِنَ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَهَذَا الْمَشْيُ زَحْفًا. أَطْلَقَ الْمَشْيَ عَلَى الزَّحْفِ بِالْبَطْنِ لِلْمُشَاكَلَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ الْمُشَاهَدِ. وَجُمْلَةُ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ زِيَادَةٌ فِي الْعِبْرَةِ، أَيْ يَتَجَدَّدُ خَلْقُ اللَّهِ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِمَّا عَلِمْتُمْ وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا. فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيلٌ وَتَذْيِيلٌ. وَوَقَعَ فِيهِ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَار ليَكُون كلَاما مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ أَنْ يكون كالمثل. [46] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 46] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

[سورة النور (24) : الآيات 47 إلى 50]

(46) تَذْيِيلٌ لِلدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ السَّالِفَةِ وَهُوَ نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ وَلِذَلِكَ خُتِمَ بُقُولِهِ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ إِنْ لَمْ يَهْتَدِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ فَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِهِمْ لِأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ كَمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ أَنْزَلْنا وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِعَكْسِ قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] . وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِقَامَةَ الْحُجَّةِ دُونَ الِامْتِنَانِ لَمْ يُقَيِّدْ إِنْزَالَ الْآيَاتِ بِأَنَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَيَّدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: 34] كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ مُبَيِّناتٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ بَيَّنَهَا اللَّهُ وَوَضَّحَهَا بِبَلَاغَتِهَا وَقُوَّةِ حُجَّتِهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْيَاءِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَى الْآيَاتِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ دَلَائِلَ الْحَقِّ ظَاهِرَةٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ لِمَنْ يَشَاء هدايته. [47- 50] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 47 إِلَى 50] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

(50) عَطَفَ جُمْلَةَ: وَيَقُولُونَ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النُّور: 46] لِمَا تَتَضَمَّنُهُ جُمْلَةُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ مِنْ هِدَايَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَحِرْمَانِ بَعْضِهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى: مَنْ يَشاءُ. وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ بَعْضٍ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ هِدَايَتَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ أَبَطَنُوا الْكُفْرَ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ. فَبَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ دَلَائِلُ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَذُكِرَ الْكُفَّارُ الصُّرَحَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّور: 39] الْآيَاتِ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِذِكْرِ صِنْفٍ آخَرَ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِهَا. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى مَعْرُوفِينَ عِنْدَ السَّامِعِينَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ هُوَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ فِي قَوْلِهِ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ [النُّور: 37] . وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ عَامَّةً، ثُمَّ إِلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَظْهَرُوا عَدَمَ الرِّضَى بِحكم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَوْسُومٌ بِالنِّفَاقِ، وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَمَرَّ عَلَى النِّفَاقِ وَالْمُوَارَبَةِ وَفَرِيقًا لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ أَظْهَرُوا الرُّجُوعَ إِلَى الْكُفْرِ بِمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عَلَنًا. فَفِي قَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حَظَّهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] . وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَرُّرِ الْكَذِبِ وَنَحْوِهِ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الَّتِي بَيَّنْتُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَفْعُولُ أَطَعْنا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَطَعْنَا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَما أُولئِكَ إِلَى ضَمِيرِ يَقُولُونَ، أَيْ يَقُولُونَ آمَنَّا وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ. وَإِنَّمَا يظْهر كفرهم عِنْد مَا تَحُلُّ بِهِمُ النَّوَازِلُ

وَالْخُصُومَاتُ فَلَا يَطْمَئِنُّونَ بِحُكْمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ إِشَارَةً إِلَى فَرِيقٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ لِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا دُعُوا عَائِدٌ إِلَى مُعَادِ ضَمِيرِ يَقُولُونَ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ دُعُوا إِلَى جَمِيعِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْمُعْرِضُونَ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَا جَمِيعَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّهَيُّؤِ إِلَى الْإِعْرَاضِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يظهرونه إِلَّا عِنْد مَا تَحُلُّ بِهِمُ النَّوَازِلُ فَالْمُعْرِضُونَ هُمُ الَّذِينَ حَلَّتْ بِهِمُ الْخُصُومَاتُ. وَقَدْ شَمِلَتِ الْآيَةُ نَفَرًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا حَلَّتْ بِهِمْ خُصُومَاتٌ فَأَبَوْا حكم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِم أَو بعد مَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْضِهِمْ حُكْمُهُ، فَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ بِشْرًا أَحَدَ الْأَوْسِ أَوِ الْخَزْرَجِ تَخَاصَمَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ يَهُودِيٍّ فَلَمَّا حَكَمَ النَّبِيءُ لِلْيَهُودِيِّ لَمْ يَرْضَ بِشْرٌ بِحُكْمِهِ وَدَعَاهُ إِلَى الْحُكْمِ عِنْدَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ فَأَبَى الْيَهُودِيُّ وَتَسَاوَقَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَصَّا عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرُ أَنَّ بِشْرًا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ النَّبِيءِ قَالَ لَهُمَا: مَكَانَكُمَا حَتَّى آتِيَكُمَا. وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ وَضَرَبَ بِشْرًا بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ. فَرُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّبَ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ الْفَارُوقَ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْمُشَاهَدَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَحَدَ الْمُنَافِقِينَ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ وَائِلٍ مِنَ الْأَوْسِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَوْسِيِّ تَخَاصَمَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي أَرْضٍ اقْتَسَمَاهَا ثُمَّ كَرِهَ أُمَيَّةُ الْقَسَمَ الَّذِي أَخَذَهُ فَرَامَ نَقْضَ الْقِسْمَةِ وَأَبَى عَلِيٌّ نَقْضَهَا وَدَعَاهُ إِلَى الْحُكُومَة لَدَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَسْتُ آتِيهِ لِأَنَّهُ يُبْغِضُنِي وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَحِيفَ عَلَيَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ وَمِنْ سَمَاجَةِ الْأَخْبَارِ مَا نَقَلَهُ الطُّبَرِسِيُّ الشِّيعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمُسَمَّى «مَجْمَعُ الْبَيَانِ» عَنِ الْبَلْخِيِّ!! أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ مُنَازَعَةٌ فِي أَرْضٍ اشْتَرَاهَا

مِنْ عَلِيٍّ فَخَرَجَتْ فِيهَا أَحْجَارٌ وَأَرَادَ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَأْخُذْهَا فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ إِنْ حَاكَمْتَهُ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ يَحْكُمُ لَهُ فَلَا تُحَاكِمْهُ إِلَيْهِ. فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ. وَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ ثِقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا أَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِمَّا اعْتِيدَ إِلْصَاقُهُ بِبَنِي أُمَيَّةَ مِنْ تِلْقَاءِ الْمُشَوِّهِينَ لِدَوْلَتِهِمْ تَطَلُّعًا لِلْفِتْنَةِ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَسَكَنَ الْمَدِينَةَ وَهَلْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بَيْنَ مُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كِلَيْهِمَا مَعَ أَنَّهُمْ دُعُوا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ حُكْمُ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ الْعَائِدَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَلَمْ يَقُلْ: لِيَحْكُمَا. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ أَي إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي ظَنِّ صَاحِبِ الْحَقِّ وَيَقِينِهِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَقُّ مِنْهُمْ وَهُوَ الْعَالِمُ بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ لَا يَأْتِي إِذَا دُعِيَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْفَرِيقَ الْمُعْرِضِينَ هُمُ الْمُبْطِلُونَ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَقِّ أَنَّهُ لَا يَأْبَى مِنَ الْقَضَاءِ الْعَادِلِ، وَشَأْنُ الْمُبْطِلِ أَنْ يَأْبَى الْعَدْلَ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُلَائِمُ حُبُّهُ الِاعْتِدَاءَ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، فَسَبَبُ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ عِلْمُهُمْ بِأَنَّ فِي جَانِبِهِمُ الْبَاطِلُ وَهُمْ قَدْ تَحَقَّقُوا أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِصُرَاحِ الْحَقِّ. وَهَذَا وَجْهُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إِلَى آخِرِهَا. وَوَقَعَ حَرْفُ إِذا الْمُفَاجَأَةِ فِي جَوَابِ إِذا الشَّرْطِيَّةِ لِإِفَادَةِ مُبَادَرَتِهِمْ بِالْإِعْرَاضِ دُونَ تَرَيُّثٍ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَيْقَنُوا مِنْ قَبْلُ بِعَدَالَةِ الرَّسُولِ وَأَيْقَنُوا بِأَنَّ الْبَاطِلَ فِي جَانِبِهِمْ فَلَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي الْإِعْرَاضِ. وَالْإِذْعَانُ: الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنًا عَجِيبًا اسْتُؤْنِفَ عَقِبَهُ بِالْجُمْلَةِ ذَاتِ الِاسْتِفْهَامَاتِ

الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَخْلَاقِهِمْ وَلَفَتَ الْأَذْهَانَ إِلَى مَا انْطَوَوْا عَلَيْهِ وَالدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَحْوَالٌ خَفِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ خِلَافَهَا. وَأَتْبَعَ بَعْضَ الِاسْتِفْهَامَاتِ بَعْضًا بِحَرْفِ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ الَّتِي هِيَ هُنَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ كَشَأْنِهَا إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ فَإِنَّهَا إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ لَمْ تَكُنْ لِطَلَبِ التَّعْيِينِ كَمَا هِيَ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لِأَنَّ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِهَا حِينَئِذٍ لَيْسَتْ مِمَّا يَطْلُبُ تَعْيِينَ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَمَّا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فَمُلَازِمٌ لَهَا لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بَعْدَ أَمِ. وَالِانْتِقَالُ هُنَا تَدَرُّجٌ فِي عَدِّ أَخْلَاقِهِمْ. فَالْمَعْنى أَنه إِن سَأَلَ سَائِلٌ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِخُلُقٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلِمَ الْمَسْئُولُ أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ، فَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الْمُكَرَّرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّنْبِيهِ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [195] . وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ. وَالْمَرَضُ مُسْتَعَارٌ لِلْفَسَادِ أَوْ لِلْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الْبَقَرَة: 10] أَوْ لِلنِّفَاقِ. وَأُتِيَ فِي جَانِبِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَرَضِ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَأَصُّلِهِ فِيهَا بِحَيْثُ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالِارْتِيَابُ: الشَّكُّ. وَالْمُرَادُ: ارْتَابُوا فِي حَقِيَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ حَدَثَ لَهُمُ ارْتِيَابٌ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا إِيمَانًا غَيْرَ رَاسِخٍ. وَأُتِي فِي جَانِبِهِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، أَيْ حَدَثَ لَهُمُ ارْتِيَابٌ بَعْدَ أَنِ اعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ اعْتِقَادًا مُزَلْزَلًا. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَكَتَمُوا كَفْرَهُمْ، وَفَرِيقٌ آمَنُوا إِيمَانًا ضَعِيفًا ثُمَّ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ. وَالْحَيْفُ: الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ فِي الْحُكُومَةِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ خَوَّفَ فِي الْحَالِ مِنَ الْحَيْفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا

يَقْتَضِيهِ دُخُولُ أَنْ، وَهِيَ حَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ، عَلَى فِعْلِ يَحِيفَ. فَهُمْ خَافُوا مِنْ وُقُوعِ الْحَيْفِ بَعْدَ نَشْرِ الْخُصُومَةِ فَمِنْ ثَمَّةَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُسْنِدَ الْحَيْفُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ حَيْفًا لَا يُظْهِرُ الْحُقُوقَ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّسُولِ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ، فَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْحَاكِمِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ مُنَزَّلَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ إِنْكَارِهِمْ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ إِلَهِيَّةً وَأَنْ يَكُونَ الْآتِي بِهَا صَادِقًا فِيمَا أَتَى بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ اتُّصِفُوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَكُلُّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمُ الرَّسُولَ سَوَاءً فِي ذَلِكَ مِنْ حَلَّتْ بِهِ قَضِيَّةٌ وَمَنْ لَمْ تَحُلَّ. وَفِيمَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا يُثْلِجُ صَدْرَ النَّاظِرِ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ سُكُوتِ السَّاكِتِ وَحَيْرَةِ الْحَائِرِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ التَّنْبِيهِيِّ إِلَى خَبَرٍ آخَرَ. وَلَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا الْإِضْرَابِ بِ أَمِ لِأَنَّ أَمِ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَطْفَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّنْبِيهِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ إِفَادَةُ اتِّصَافِهِمْ بِالظُّلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ حَالُهُمْ فَلَا دَاعِيَ لِإِيرَادِهِ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ التَّنْبِيهِ. وَلَيْسَتْ بَلْ هُنَا لِلْإِبْطَالِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِبْطَالُ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ مِنْهَا مَرَضُ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ ثَابِتٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ إِبْطَالِ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ خَاصَّةً، وَلَا عَلَى إِبْطَالِ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ مستأنفة استئنافا بَيَانا لِأَنَّ السَّامِعَ بعد أَن طَنَّتْ بِأُذُنِهِ تِلْكَ الِاسْتِفْهَامَاتُ الثَّلَاثَةُ ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ يَتَرَقَّبُ مَاذَا سَيُرْسِي عَلَيْهِ تَحْقِيقُ حَالِهِمْ فَكَانَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بَيَانًا لِمَا يَتَرَقَّبُهُ السَّامِعُ.

[سورة النور (24) : آية 51]

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ وَيَظْلِمَهُمْ. وَلَيْسَ الرَّسُولُ بِالَّذِي يَظْلِمُ بَلْ هُمُ الظَّالِمُونَ. فَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ وَمِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ حَصْرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ هُمُ الظَّالِمُونَ لَا شَرْعُ اللَّهِ وَلَا حُكْمُ رَسُولِهِ. وَزَادَ اسْمَ الْإِشَارَةِ تَأْكِيدًا لِلْخَبَرِ فَحَصَلَ فِيهِ أَرْبَعَةُ مُؤَكِّدَاتٍ: اثْنَانِ مِنْ صِيغَةِ الْحَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، وَالثَّالِثُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَالرَّابِعُ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعُ لِلتَّمْيِيزِ اسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا لِتَحْقِيقِ اتِّصَافِهِمْ بِالظُّلْمِ، فَهُمْ يَقِيسُونَ النَّاسَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَلَمَّا كَانُوا أَهْلَ ظُلْمٍ ظَنُّوا بِمَنْ هُوَ أَهْلُ الْإِنْصَافِ أَنَّهُ ظَالِمٌ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِحُكْمِ مَنْ دُعِيَ إِلَى الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ فَامْتَنَعَ لِأَنَّ الذَّمَّ وَالتَّوْبِيخَ فِيهَا كَانَا على امْتنَاع ناشىء عَنْ كفرهم ونفاقهم. [51] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 51] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الَّذين يعرضون عِنْد مَا يُدْعَوْنَ إِلَى الْحُكُومَةِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنِ الْفَاصِلِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الَّذِي يُرَائِي بِإِيمَانِهِ فِي حِينِ يُدْعَى إِلَى الْحُكُومَةِ عِنْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتَضِي أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عِنْدَهُ الْإِيمَانُ الْمُزَوَّرُ بِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ، فَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُمَوِّهُونَ بِأَنَّ إِعْرَاضَ مَنْ أَعْرَضَ مِنْهُمْ عَنِ التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ لِتُزَلْزِلٍ فِي إِيمَانِهِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَلَكِنَّهُ إِعْرَاضٌ

لِمُرَاعَاةِ أَعْرَاضٍ مِنَ الْعَلَائِقِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَقَوْلِ بِشْرٍ: إِنَّ الرَّسُولَ يُبْغِضُنِي. فَبَيَّنَ اللَّهُ بُطْلَانَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَرْتَابُ فِي عَدْلِ الرَّسُولِ وَعَدَمِ مُصَانَعَتِهِ. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ أَيْضًا الثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْأَحِقَّاءِ بِضِدِّ مَا كَانَ ذَمًّا لِلْمُنَافِقِينَ. وَذَلِكَ مِنْ مُنَاسَبَاتِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ التَّوْبِيخِ بِالتَّرْغِيبِ وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَالنِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالذَّمِّ بِالثَّنَاءِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِ إِنَّما لِدَفْعِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفُ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَهَذَا الْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ هَذَا قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ لَا كَقَوْل الَّذين أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ حِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا [النُّور: 47] فَلَمَّا دُعُوا إِلَى حُكْمِ الرَّسُولِ عَصَوْا أَمْرَهُ فَإِنَّ إِعْرَاضَهُمْ نَقِيضُ الطَّاعَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَلَيْسَ قصرا حَقِيقا لِأَنَّ أَقْوَالَ الْمُؤمنِينَ حِين يدعونَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي قَوْلِ: سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَلَا فِي مُرَادِفِهِ، فَلَعَلَّ مِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ (يَعْنِي وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقْضِي لَهُ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ) . وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ (يُرِيدُ لَا تَقْضِ لَهُ عَلَيَّ فَأْذَنْ لِي أَنْ أُبَيِّنَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ تَكَلَّمْ..» إِلَخْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا خُصُوصَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَلِ الْمُرَادُ لَفْظُهُمَا أَوْ مُرَادِفُهُمَا لِلتَّسَامُحِ فِي مَفْعُولِ فِعْلِ الْقَوْلِ أَنْ لَا يُحْكَى بِلَفْظِهِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَانِ اللَّفْظَانِ بِالذِّكْرِ هُنَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا كَلِمَةٌ مَشْهُورَةٌ تُقَالُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا يُقَالُ أَيْضًا «سَمْعٌ وَطَاعَة» بِالرَّفْع و «سمعا وَطَاعَةً» بِالنَّصْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ

[سورة النور (24) : آية 52]

عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [46] . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ النَّبِيءُ لِلْأَنْصَارِ: تَكْفُونَنَا الْمَئُونَةَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. فَقَالَ الْأَنْصَارُ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» . وقَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَرُ كانَ وأَنْ يَقُولُوا هُوَ اسْمُ كانَ وَقُدِّمَ خَبَرُ كَانَ عَلَى اسْمِهَا مُتَابَعَةً لِلِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ لأَنهم إِذا جاؤوا بَعْدَ كانَ بِأَنْ وَالْفِعْلِ لَمْ يَجِيئُوا بِالْخَبَرِ إِلَّا مُقَدَّمًا عَلَى الِاسْمِ نَظَرًا إِلَى كَوْنِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ أَعْرَفُ مِنَ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وَلَمْ يَجِيئُوا بِالْخَبَرِ إِلَّا مُقَدَّمًا كَرَاهِيَةَ تَوَالِيَ أَدَاتَيْنِ وَهُمَا: كانَ وأَنْ. وَنَظَائِرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [147] . وَجِيءَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَلَاحِ بِمِثْلِ التَّرْكِيبِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ بِالظُّلْمِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الْمُؤَكَّدِ لِيَكُونَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ضِدًّا لِمَذَمَّةِ الْمُنَافِقِينَ تَامًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ إِنَّما هُنَا قَصْرُ إِفْرَادٍ لِأَحَدِ نَوْعَيِ الْقَوْلِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرُسُوخِ إِيمَانِهِمْ وَثَبَاتِ طَاعَتِهِمْ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ يَقُولُونَ كَلِمَةَ الطَّاعَةِ ثُمَّ يَنْقُضُونَهَا بِضِدِّهَا مِنْ كَلِمَاتِ الْإِعْرَاضِ وَالِارْتِيَابِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي طَرِيقِ قَصْرٍ بِ (إِلَّا) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فِي سُورَةِ آل عمرَان [147] . [52] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 52] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ أَوْ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النُّور: 51] . وَالتَّقْدِيرُ: وَهُمُ الْفَائِزُونَ. فَجَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْإِطْنَابِ لِيَحْصُلَ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ

[سورة النور (24) : آية 53]

وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَذْيِيلٍ لِأَنَّهَا تَعُمُّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: 51] وَتَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ. ومَنْ شَرْطِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجُمْلَةُ: فَأُولئِكَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالْفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ الصَّالِحِ. وَالطَّاعَةُ: امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي. وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ. وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِالْخُصُوصِ بِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّطَ فِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ التَّقْصِيرَ كُلَّهُ. وَالتَّقْوَى: الْحَذَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ التَّكَالِيفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَجَمَعَتِ الْآيَةُ أَسْبَابَ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ وَأَيْضًا فِي الدُّنْيَا. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ لِلتَّعْرِيضِ بِالَّذِينِ أَعْرَضُوا إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِي على وزن صِيغَةِ الْقَصْرِ الَّتِي تقدمتها. [53] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 53] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ [النُّور: 47] . أُتْبِعَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِحِكَايَةِ قَسَمٍ أَقْسَمُوهُ بِاللَّهِ لِيَتَنَصَّلُوا مِنْ وَصْمَةِ أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْحُكُومَةِ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءُوهُ فَأَقْسَمُوا إِنَّهُمْ لَا يُضْمِرُونَ عِصْيَانَهُ فِيمَا يَقْضِي بِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ بِأَشَقِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ لِلْقِتَالِ لَأَطَاعُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا حِينَ دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا بَيَّنَ كَرَاهَتَهُمْ لِحُكْمِ النَّبِيءِ أَتَوْهُ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا لَخَرَجْنَا وَلَوْ أَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ لَجَاهَدْنَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَكَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ ذَكَرُوا خُرُوجَيْنِ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْإِيجَازِ فِي الْآيَةِ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْخُرُوجِ لِيَشْمَلَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفَظُ الْخُرُوجِ

مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ قِصَّةِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ خُصُومَةٍ فِي مَالٍ فَكَانَ مَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَالِ أَسْبِقُ فِي الْقَصْدِ. وَاقْتَصَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيَخْرُجُنَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِيَارِهِمْ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيَخْرُجُنَّ إِلَى الْجِهَادِ عَلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْإِقْسَامُ: النُّطْقُ بِالْقِسْمِ، أَيِ الْيَمِينِ. وَضَمِيرُ أَقْسَمُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير وَيَقُولُونَ [النُّور: 47] . وَالتَّعْبِير بِفِعْلِ الْمُضِيِّ هُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ وَقَعَ وَانْقَضَى. وَالْجَهْدُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ- مُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَشَقَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ» لِأَنَّ الْأَمْرَ الشَّاقَّ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِمُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَهُوَ مَصْدَرُ «جَهَدَ» كَمَنَعَ مُتَعَدِّيًا إِذَا أَتْعَبَ غَيْرَهُ. وَنَصْبُ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَقْسَمُوا عَلَى تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] ، أَيْ جَاهِدِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: جَاهِدِينَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ بَالِغِينَ بِهَا أَقْصَى الطَّاقَةِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ كَرَّرُوا الْأَيْمَانَ وَعَدَّدُوا عِبَارَاتِهَا حَتَّى أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِيُوهِمُوا أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ. وَإِضَافَةُ جَهْدَ إِلَى أَيْمانِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) ، أَيْ جهدا ناشئا عَن أَيْمَانِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهْدَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْوَاقِعِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: جَهَدُوا أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَالْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَقْسَمُوا. وَالتَّقْدِيرُ: أَقْسَمُوا يُجْهِدُونَ أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَإِضَافَةُ جَهْدَ إِلَى أَيْمانِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ جَعَلَتِ الْأَيْمَانَ كَالشَّخْصِ الَّذِي لَهُ جَهْدٌ، فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَرَمْزٌ إِلَى الْمُشَبَّهِ

بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا يُجْهِدُهُ، أَيْ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ طَاقَتَهُ فَإِنَّ كُلَّ إِعَادَةٍ لِلْيَمِينِ هِيَ كَتَكْلِيفٍ لِلْيَمِينِ بِعَمَلٍ مُتَكَرِّرٍ كَالْجُهْدِ لَهُ، فَهَذَا أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [53] وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [109] . وَجُمْلَةُ: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: أَقْسَمُوا . وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَمَرْتَهُمْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: لَيَخْرُجُنَ . وَالتَّقْدِيرُ: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بِالْخُرُوجِ لَيَخْرُجُنَّ. فَأَمْرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ذَاتِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ وَهِيَ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ . وَذَلِكَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ لِأَنَّ نَهْيَهُمْ عَنْ أَنْ يُقْسِمُوا بَعْدَ أَنْ صَدَرَ الْقَسَمُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ إِعَادَتِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِصَدَدِ إِعَادَتِهِ، بِمَعْنَى: لَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى تَأْكِيدِ الْقَسَمِ، أَيْ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَكَّدِ فِي كَوْنِهِ كَذِبًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ بِالْقَسَمِ، أَيْ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُقْسِمُوا إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَسَمِ لِعَدَمِ الشَّكِّ فِي أَمْرِكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُسْتَعْمِلًا فِي التَّسْوِيَة مثل فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطّور: 16] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَالْمُقْسِمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا تُقْسِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُكُمْ بِذَلِكَ. وَمَقَامُ مُوَاجهَة نفاقهم يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَقْصُودَةً. وَقَوْلُهُ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَلَامٌ أُرْسِلَ مَثَلًا وَتَحْتَهُ مَعَانٍ جَمَّةٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُقْسِمُوا. وَتَنْكِيرُ طاعَةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ نَوْعُ الطَّاعَةِ وَلَيْسَتْ طَاعَةً مُعَيَّنَةً فَهُوَ مِنْ بَابِ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، ومَعْرُوفَةٌ خَبَرُهُ.

[سورة النور (24) : آية 54]

فَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْقَسَمِ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّهْيِ عَنْ تَكْرِيرِهِ يَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ لَا حُرْمَةَ لِلْقَسَمِ فَلَا تُعِيدُوهُ فَطَاعَتُكُمْ مَعْرُوفَةٌ، أَيْ مَعْرُوفٌ وَهَنُهَا وَانْتِفَاؤُهَا. وَعَلَى احْتِمَالِ اسْتِعْمَالِ النَّهْيِ فِي عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ بِالْيَمِينِ يكون الْمَعْنى: لماذَا تُقْسِمُونَ أَفَأَنَا أَشُكُّ فِي حَالِكُمْ فَإِنَّ طَاعَتَكُمْ مَعْرُوفَةٌ عِنْدِي، أَيْ أَعْرِفُ عَدَمَ وُقُوعِهَا، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ أَيْضًا. وَعَلَى احْتِمَالِ اسْتِعْمَالِ النَّهْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فَالْمَعْنَى: قَسَمُكُمْ وَنَفْيُهُ سَوَاءٌ لِأَنَّ أَيْمَانَكُمْ فَاجِرَةٌ وَطَاعَتَكُمْ مَعْرُوفَةٌ. أَوْ يَكُونُ طاعَةٌ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْلَى مِنَ الْأَيْمَانِ، وَيَكُونُ وَصْفُ مَعْرُوفَةٌ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ طَاعَةٌ تُعْلَمُ وَتَتَحَقَّقُ أَوْلَى مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى طَاعَةٍ غَيْرِ وَاقِعَةٍ، وَهُوَ كَالْعِرْفَانِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا. وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ فَالْمَعْنَى: لَا تُقْسِمُوا هَذَا الْقَسَمَ، أَيْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُكُمُ الطَّاعَةَ إِلَّا فِي مَعْرُوفٍ، فَيَكُونُ وَصْفُ مَعْرُوفَةٌ مُشْتَقًّا مِنَ الْعِرْفَانِ، أَيْ عَدَمِ النُّكْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة: 12] . وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ صَالِحَةٌ لِتَذْيِيلِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ تَعْلِيلٌ لما قبلهَا. [54] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 54] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) تَلْقِينٌ آخَرُ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمَا يَرُدُّ بُهْتَانَهُمْ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِمَوَاعِيدِهِمُ الْكَاذِبَةِ وَأَنْ يَقْتَصِرُوا مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ فِيمَا كَلَّفَهُمْ دُونَ مَا تَبَرَّعُوا بِهِ كَذِبًا، وَيَخْتَلِفُ مَعْنَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَمْرِ بِإِيجَادِ الطَّاعَةِ الْمَفْقُودَةِ أَوْ إِيهَامِ طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمْ. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَقَعُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ مَعْطُوفٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ أَطِيعُوا فَيَكُونَ فِعْلُ تَوَلَّوْا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَكُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَأَصْلُهُ: تَتَوَلَّوْا بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ مِنْهُمَا تَاءُ الْخِطَابِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْكَلَامُ تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، فَيكون ضميرا ف عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ عَائِدَيْنِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ قُلْ أَيْ فَإِذَا قُلْتَ ذَلِكَ فَتَوَلَّوْا وَلَمْ يُطِيعُوا إِلَخْ، فَيَكُونُ فِعْلُ تَوَلَّوْا مَاضِيًا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُوَاجِهًا بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا وَلَمْ يُطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ مِنَ التَّبْلِيغِ وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا مِنْ تَبِعَةِ التَّكْلِيفِ. كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [82] فَيَكُونُ فِي ضَمَائِرِ فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ الْتِفَاتٌ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا. وَالِالْتِفَاتُ مُحَسَّنٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نُكْتَةٍ. وَبِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْآيَةُ مُفِيدَةً مَعْنَيَيْنِ: مَعْنًى مِنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، وَمَعْنًى مِنْ موعظة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ وَمُوَادَعَةٍ لَهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ تَبْكِيتٌ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِتَوَلِّيهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [23- 32] : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ (هُمُ الْيَهُودُ) يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ

[سورة النور (24) : آية 55]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ لَا يَتَأَتَّيَانِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الْمُفْتَتَحُ بِتَاءَيْنِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: 4] وَقَوْلِهِ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: 267] وَقَوْلُهُ: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [20] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [38] وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ فَثَبَتَتْ فِيهِ التَّاءَانِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي نَسْجَ نَظْمِهِ بِمَا يَصْلُحُ لِإِفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي سُورَةِ النُّورِ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْبَلَاغُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ كَالْأَدَاءِ بِمَعْنَى التَّأْدِيَةِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُبَيَّنًا أَنَّهُ فَصِيحٌ وَاضِحٌ. وَجُمْلَةُ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إِرْدَافُ التَّرْهِيبِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ اسْتِقْصَاءً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الرُّشْدِ. وَجُمْلَةُ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ قَوْلِهِ: مَا حُمِّلَ. [55] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) الْأَشْبَه أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمُنَاسَبَةِ التَّعَرُّضِ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَبْقَاهُمْ عَلَى النِّفَاقِ تَرَدُّدُهُمْ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَشْيَتُهُمْ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ بِالْمُسْلِمِينَ الْمَقَامُ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَغْزُوَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ

يُخْرِجُهُمُ الْمُنَافِقُونَ حِينَ يَجِدُونَ الْفُرْصَةَ لِذَلِكَ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: 8] ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ اتِّقَاءً مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ مُمَالَاةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى إِذَا ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْمِزُوا الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا دِينَهُمْ، مَعَ مَا لِهَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النُّور: 54] ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَتُنْصَرُوا وَتَأْمَنُوا. وَمَعَ مَا رُوِيَ مِنْ حَوَادِثَ تُخَوِّفَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفَهُمْ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ فَكَانُوا مشفقين عَن غَزْوِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمِنْ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ وَدَلَالَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَقِيلَ كَانَتْ تِلْكَ الْحَوَادِثُ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ بَعْدَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ خَائِفًا هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانُوا فِيهَا خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَا تَغْبُرُونَ (أَيْ لَا تَمْكُثُونَ) إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ» . وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْقِعِهَا هَذَا بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْعُودِ بِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُقْتَصِرًا عَلَى إِبْدَالِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا كَمَا اقْتَضَاهُ أَثَرُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْعُودِ كَمَا كَانَ سَبَبُهُ مِنْ عِدَادِ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَاثِقِينَ بِالْأَمْنِ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدَّمَ عَلَى وَعْدِهِمْ بِالْأَمْنِ أَنْ وَعَدَهُمْ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ وَتَمْكِينِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ فِيهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ أَنَّهُ لَا تَأْمَنُ أُمَّةٌ بَأْسَ غَيْرِهَا حَتَّى تَكُونَ قَوِيَّةً مَكِينَةً مُهَيْمِنَةً عَلَى أَصْقَاعِهَا. فَفِي الْوَعْدِ بِالِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْكِينِ وَتَبْدِيلِ الْخَوْفِ أَمْنًا إِيمَاءٌ إِلَى التَّهَيُّؤِ لِتَحْصِيلِ أَسْبَابِهِ مَعَ ضَمَانِ التَّوْفِيقِ لَهُمْ وَالنَّجَاحِ إِنْ هُمْ أَخَذُوا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مِلَاكَ ذَلِكَ هُوَ طَاعَةُ الله وَالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النُّور: 54] ، وَإِذَا حَلَّ الِاهْتِدَاءُ فِي النُّفُوسِ نَشَأَتِ الصَّالِحَاتُ

فَأَقْبَلَتْ مُسَبَّبَاتُهَا تَنْهَالُ عَلَى الْأُمَّةِ، فَالْأَسْبَابُ هِيَ الْإِيمَانُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ. وَالْمَوْصُولُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، وَعُمُومُهُ عُرْفِيٌّ، أَيْ غَالِبٌ فَلَا يُنَاكِدُهُ مَا يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ مُقَصِّرِينَ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ عَائِدَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ. وَالْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ بِمُشْرِكِيهَا وَمُنَافِقِيهَا بِأَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهَذَا الْوَعْدِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الصَّالِحاتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ عَمِلُوا جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي وَصَفَهَا الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَلَاحٌ، وَتَرَكَ الْأَعْمَالَ الَّتِي وَصَفَهَا الشَّرْعُ بِأَنَّهَا فَسَادٌ لِأَنَّ إِبْطَالَ الْفَسَادِ صَلَاحٌ. فَالصَّالِحَاتُ جَمْعُ صَالِحَةٍ: وَهِيَ الْخَصْلَةُ وَالْفِعْلَةُ ذَاتُ الصَّلَاحِ، أَيْ الَّتِي شَهِدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَالِحَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتِغْرَاقُ الصَّالِحاتِ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ عَمِلَ مُعْظَمَ الصَّالِحَاتِ وَمُهِمَّاتِهَا وَمَرَاجِعَهَا مِمَّا يَعُودُ إِلَى تَحْقِيقِ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيِ حَالَةِ مُجْتَمَعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَسْلَكِ الِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الْخُوَيْصَةِ وَبِحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَلَاقَةِ الْمَدَنِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَ بِهِ الدِّينُ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ كُلٌّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ أَمْثَالِهِ الْخَلِيفَةُ فَمَنْ دُونَهُ، وَذَلِكَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْفَلَتَاتِ الْمُنَاقِضَةِ فَإِنَّهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا إِذَا لَمْ يُسْتَرْسَلْ عَلَيْهَا وَإِذَا مَا وَقَعَ السَّعْيُ فِي تَدَارُكِهَا. وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْخُوَيْصَةِ هِيَ مُوجِبُ هَذَا الْوَعْدِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَقَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ هِيَ الَّتِي بِهَا تَيْسِيرُ سَبَبِ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَصُولَ انْتِظَامِ أُمُورِ الْأُمَّةِ فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النَّحْل: 90] وَقَوْلِهِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] وَقَوْلُهُ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمّد: 22] . وَبَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَصَرُّفَاتِ وُلَاةِ الْأُمُور فِي شؤون الرَّعِيَّةِ وَمَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْغَزْوِ وَالصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ. فَمَتَى اهْتَمَّ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَعُمُومُ الْأُمَّةِ بِاتِّبَاعِ مَا وَضَّحَ لَهُمُ الشَّرْعُ تَحَقَّقَ وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْوَعْدِ الْجَلِيلِ. وَهَذِهِ التَّكَالِيفُ الَّتِي جعلهَا الله قواما لِصَلَاحِ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَوَعَدَ عَلَيْهَا بِإِعْطَاءِ الْخِلَافَةِ وَالتَّمْكِينِ وَالْأَمْنِ صَارَتْ بِتَرْتِيبِ تِلْكَ الْمَوْعِدَةِ عَلَيْهَا أَسْبَابًا لَهَا. وَكَانَتِ الْمَوْعِدَةُ كَالْمُسَبَّبِ عَلَيْهَا فَشَابَهَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ خِطَابَ الْوَضْعِ، وَجُعِلَ الْإِيمَانُ عَمُودَهَا وَشَرْطًا لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا وَتَوْثِيقًا لِحُصُولِ آثَارِهَا بِأَنْ جَعَلَهُ جَالِبَ رِضَاهُ وَعِنَايَتِهِ. فَبِهِ يَتَيَسَّرُ لِلْأُمَّةِ تَنَاوُلُ أَسْبَابِ النَّجَاحِ، وَبِهِ يَحُفُّ اللُّطْفُ الْإِلَهِيُّ بِالْأُمَّةِ فِي أَطْوَارِ مُزَاوَلَتِهَا وَاسْتِجْلَابِهَا بِحَيْثُ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَرَاقِيلَ وَالْمَوَانِعَ، وَرُبَّمَا حَفَّ بِهِمُ اللُّطْفُ وَالْعِنَايَةُ عِنْدَ تَقْصِيرِهِمْ فِي الْقِيَامِ بِهَا. وَعِنْدَ تَخْلِيطِهِمُ الصَّلَاحَ بِالْفَسَادِ فَرَفَقَ بِهِمْ وَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الشَّرَّ وَتَلَوَّمَ لَهُمْ فِي إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 105- 107] يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء وَقَوله: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْحَجِّ [38] . فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا غَيْرَ مُسْلِمِينَ عَمِلُوا فِي سيرتهم وشؤون رَعِيَّتِهِمْ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّالِحَاتِ بِحَيْثُ لَمْ يُعْوِزْهُمْ إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَاجْتَنَوْا مِنْ سِيرَتِهِمْ صُوَرًا تُشْبِهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي يَجْتَنِيهَا الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ

تِلْكَ الْأَعْمَالَ صَارَتْ أَسْبَابًا وَسُنَنًا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُنَنًا وَقَوَانِينَ عُمْرَانِيَّةً سِوَى أَنَّهُمْ لِسُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ بِجُحُودِهِ أَوْ بِالْإِشْرَاكِ بِهِ أَوْ بِعَدَمِ تَصْدِيقِ رَسُولِهِ يَكُونُونَ بِمَنْأَىً عَنْ كَفَالَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُمْ وَدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْهُمْ، بَلْ يَكِلُهُمْ إِلَى أَعْمَالِهِمْ وَجُهُودِهِمْ عَلَى حَسَبِ الْمُعْتَادِ. أَلَا تَرَى أَن القادة الأروبيين بَعْدَ أَنِ اقْتَبَسُوا مِنَ الْإِسْلَامِ قَوَانِينَهُ ونظامه بِمَا مَا رسوه من شؤون الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَالِ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ ثُمَّ بِمَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ مُمَارَسَةِ كُتُبِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْ نَظَّمُوا مَمَالِكَهُمْ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْمُوَاسَاةِ وَكَرَاهَةِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ فَعَظُمَتْ دُوَلُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُمْ. وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّطَ اللَّهُ الْآشُورِيِّينَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِفَسَادِهِمْ فَقَالَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [4، 5] . وَالِاسْتِخْلَافُ: جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ، أَيْ عَنِ اللَّهِ فِي تَدْبِير شؤون عِبَادِهِ كَمَا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ. وَأَصْلُهُ: لَيُخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَتَعْلِيقُ فِعْلِ الِاسْتِخْلَافِ بِمَجْمُوعِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَإِنْ كَانَ تَدْبِير شؤون الْأُمَّةِ مَنُوطًا بِوُلَاةِ الْأُمُورِ لَا بِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ انْتِفَاعًا بِذَلِكَ وَإِعَانَةً عَلَيْهِ كُلٌّ بِحَسَبِ مَقَامِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ، كَمَا حَكَى تَعَالَى قَوْلَ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [20] . وَلِهَذَا فَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْضِ جَمِيعِهَا، وَأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ الْمَدْلُولَةَ بِحَرْفِ (فِي) ظَاهِرَةٌ فِي جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَوْطِنُ حُكُومَةِ الْأُمَّةِ وَحَيْثُ تَنَالُ أَحْكَامُهَا سُكَّانَهُ. وَالْأَصْلُ فِي الظَّرْفِيَّةِ عَدَمُ اسْتِيعَابِ الْمَظْرُوفِ الظَّرْفَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: 61] .

وَإِنَّمَا صِيغَ الْكَلَامُ فِي هَذَا النَّظْمِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ لِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَحْصُلُ فِي مُعْظَمِ الْأَرْضِ. وَذَلِكَ يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ وَالِانْقِبَاضَ كَمَا كَانَ الْحَالُ يَوْمَ خُرُوجِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَلَكِنَّ حُرْمَةَ الْأُمَّةِ وَاتِّقَاءَ بَأْسِهَا يَنْتَشِرُ فِي الْمَعْمُورَةِ كُلِّهَا بِحَيْثُ يَخَافُهُمْ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِهِمْ وَيَسْعَوْنَ الْجَهْدَ فِي مَرْضَاتِهِمْ ومسالمتهم. وَهَذَا اسخلاف كَامِلٌ وَلذَلِك نظّر بتشبيه بِاسْتِخْلَافِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي الْأُمَمَ الَّتِي حَكَمَتْ مُعْظَمَ الْعَالَمِ وَأَخَافَتْ جَمِيعَهُ مِثْلَ الأشوريين والمصريين والفنيقيين وَالْيَهُودَ زَمَنَ سُلَيْمَانَ، وَالْفُرْسَ، وَالْيُونَانَ، وَالرُّومَانَ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيَكُونُ مَوْصُولُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْمُثَنَّى. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ مَالِكٍ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ صُلَحَاءُ الْمُلُوكِ مِثْلُ: يُوسُفَ، وَدَاوُد، وَسليمَان، وأنوشروان، وَأَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ، وَمَلِكَيْ صَادِقٍ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَيُدْعَى حَمُورَابِي، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَإِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ، وَبَعْضِ مَنْ وَلِيَ جُمْهُورِيَّةَ الْيُونَانِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ خُلَفَاءَ الْأُمَّةِ مِثْلَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَمُعَاوِيَةَ كَانُوا بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُمُ اسْتِخْلَافًا كَامِلًا كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَفَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَخَافَ مِنْهُمُ الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ. وَجُمْلَةُ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَعَدَ لِأَنَّهَا عَيْنُ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ جُمْلَةَ قَسَمٍ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بَيَانًا لِلْأُخْرَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَمَا اسْتَخْلَفَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ كَمَا اسْتَخْلَفَ اللَّهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ فَيَكُونُ الَّذِينَ نَائِبَ فَاعِلٍ.

وَتَمْكِينُ الدِّينِ: انْتِشَارُهُ فِي الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَكَثْرَةُ مُتَّبِعِيهِ. اسْتُعِيرَ التَّمْكِينُ الَّذِي حَقِيقَتُهُ التَّثْبِيتُ وَالتَّرْسِيخُ لِمَعْنَى الشُّيُوعِ وَالِانْتِشَارِ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَشَرَ لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الِانْعِدَامُ فَكَانَ كَالشَّيْءِ الْمُثَبَّتِ الْمُرَسَّخِ، وَإِذَا كَانَ مُتَّبِعُوهُ فِي قِلَّةٍ كَانَ كَالشَّيْءِ الْمُضْطَرِبِ الْمُتَزَلْزِلِ. وَهَذَا الْوَعْدُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا حَدِيثُ الْحُدَيْبِيَةِ إِذْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ: «وَإِنْ هُمْ أَبَوْا (أَيْ إِلَّا الْقِتَال) فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي (أَيْ يَنْفَصِلَ مُقَدَّمُ الْعُنُقِ عَنِ الْجَسَدِ) وَلِيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ» . وَقَوْلُهُ: لَهُمْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: دِينَهُمُ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِالْحَرْفِ أَضْعَفُ تَعَلُّقًا مِنْ مَفْعُولِ الْفِعْلِ، فَقَدَّمَ لَهُمْ عَلَيْهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى الْعِنَايَةِ بهم، أَي يكون التَّمْكِينِ لِأَجْلِهِمْ، كَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشَّرْح: 1، 2] . وَإِضَافَةُ الدِّينِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِتَشْرِيفِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، أَيِ الَّذِي اخْتَارَهُ لِيَكُونَ دِينَهُمْ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ اخْتَارَهُمْ أَيْضًا لِيَكُونُوا أَتْبَاعَ هَذَا الدِّينِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ هَذَا الدِّينَ فِي الْأُمَمِ لِأَنَّهُ دِينُهُمْ فَيَكُونُ تَمَكُّنُهُ فِي النَّاسِ بِوَاسِطَتِهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وَلَمْ يَقُلْ: وَلَيُؤَمِّنَنَّهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سَابِقِيهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يطمحون يَوْمئِذٍ إِلَّا إِلَى الْأَمْنِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْعَالِيَةِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، فَكَانُوا فِي حَالَةٍ هِيَ ضِدُّ الْأَمْنِ وَلَوْ أُعْطُوا الْأَمْنَ دُونَ أَنْ يَكُونُوا فِي حَالَةِ خَوْفٍ لَكَانَ الْأَمْنُ مِنَّةً وَاحِدَةً. وَإِضَافَةُ الْخَوْفِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ خَوْفٌ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ. وَتَنْكِيرُ أَمْناً لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مُبْدَلًا مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمِ الْمَعْرُوفِ بِالشِّدَّةِ. وَالْمَقْصُودُ: الْأَمْنُ مِنْ أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُزِيلٌ الشِّرْكَ وَالنِّفَاقَ مِنَ الْأُمَّةِ. وَلَيْسَ هَذَا الْوَعْدُ بِمُقْتَضٍ أَنْ لَا تَحْدُثَ حَوَادِثُ

خَوْفٍ فِي الْأُمَّةِ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ كَالْخَوْفِ الَّذِي اعْتَرَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ ثَوْرَةِ أَهْلِ مِصْرَ الَّذِينَ قَادَهُمُ الضَّالُّ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَمِثْلِ الْخَوْفِ الَّذِي حَدَثَ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ مُسَبَّبَاتٍ عَنْ أَسْبَابٍ بَشَرِيَّةٍ وَإِلَى اللَّهِ إِيَابُهُمْ وَعَلَى اللَّهِ حِسَابُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَجُمْلَةُ: يَعْبُدُونَنِي حَالٌ مِنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ هَذَا الْوَعْدُ جَرَى فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّايَ. وَفِي هَذِهِ الْحَالِ إِيذَانٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ جَزَاءٌ لَهُمْ، أَيْ وَعَدْتُهُمْ هَذَا الْوَعْدَ الشَّامِلَ لَهُمْ وَالْبَاقِي فِي خَلَفِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَنِي عِبَادَةً خَالِصَةً عَنِ الْإِشْرَاكِ. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ. وَجُمْلَةُ: لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَعْبُدُونَنِي تَقْيِيدًا لِلْعِبَادَةِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ هُوَ الشَّرِيطَةُ فِي كَفَالَةِ اللَّهِ لِلْأُمَّةِ هَذَا الْوَعْدَ. وَجُمْلَةُ: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تَحْذِيرٌ بَعْدَ الْبِشَارَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ وَالْعَكْسُ دَفْعًا لِلِاتِّكَالِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ ذلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ هُنَا بِ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْبِشَارَةِ عَلَيْهِ فَهُمُ الْفَاسِقُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ مُسْتَعْمِلَةٌ مُبَالَغَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْفِسْقُ الْكَامِلُ.

[سورة النور (24) : آية 56]

وَوَصْفُ الْفَاسِقِينَ لَهُ رَشِيقُ الْمَوْقِعِ، لِأَنَّ مَادَّةَ الْفِسْقِ تَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَكَانِ مِنْ منفذ ضيق. [56] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 56] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النُّور: 55] لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ بِتَرْكِ الشِّرْكِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اعْبُدُونِي وَلَا تُشْرِكُوا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَمْرِ كَانَ فِي قُوَّةِ فِعْلِ الْأَمْرِ حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يُجْزَمُ جَوَابُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصفّ: 11- 12] بِجَزْمِ يَغْفِرْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تُؤْمِنُونَ فِي قُوَّةِ أَنْ يَقُولَ: آمِنُوا بِاللَّهِ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوَجَّهًا لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] ، فَالطَّاعَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هُنَا غَيْرُ الطَّاعَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا [النُّور: 54] إِلَخْ لِأَنَّ تِلْكَ دَعْوَةٌ لِلْمُعْرِضِينَ وَهَذِهِ ازْدِيَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فَأَهَمُّهَا بِالتَّصْرِيحِ وَسَائِرُهَا بِعُمُومِ حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ. وَرُتِّبَ عَلَى ذَلِكَ رَجَاءُ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ، أَيْ فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ الَّذِي مِنْ رَحْمَتِهِ الْأَمْنُ وَفِي الْآخِرَةِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى. وَالْكَلَامُ عَلَى (لَعَلَّ) تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي سُورَة الْبَقَرَة. [57] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 57] لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ

(57) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَحْقِيقِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: 55] ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَزَالُوا فِي قُوَّةٍ وَكَثْرَةٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَزَالُوا يَخَافُونَ بَأْسَهُمْ فَرُبَّمَا كَانَ الْوَعْدُ بِالْأَمْنِ مِنْ بَأْسِهِمْ مُتَلَقًّى بِالتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْطَاءِ الشَّبِيهِ بِالتَّرَدُّدِ فَجَاءَ قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ تَطْمِينًا وَتَسْلِيَةً. وَالْخِطَابُ لِمَنْ قَدْ يُخَامِرُهُ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِبْطَاءُ دُونَ تَعْيِينٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: تَحْسَبَنَّ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحْدَهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَصَارَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَاعِلَ يَحسبن فَيبقى ليحسبن مَفْعُولٌ وَاحِدٌ هُوَ مُعْجِزِينَ. فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ خَطَأٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْحُسْبَانِ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ جُرْأَةٌ عَلَى قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ وُفِّقَ لِأَنَّ الْحَذْفَ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْكَلَامِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنْ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، أَيْ لَا يَحْسَبُوا نَاسًا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ (يَعْنِي مَا مِنْ كَائِنٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ فِي مُتَنَاوَلِ قُدْرَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، أَيْ فَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا) قَالَ: «وَهَذَا مَعْنًى قَوِيٌّ جَيِّدٌ» . وَالْمُعْجِزُ: الَّذِي يُعْجِزُ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَنْ غَلَبِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] . وَكَذَلِكَ الْمُعَاجِزُ بِمَعْنَى الْمُحَاوِلِ عَجْزَ ضِدِّهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [51] . وَالْأَرْضُ: هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، أَيْ هُمْ غَيْرُ غَالِبِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَسِبُوا أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ عَالَمٌ آخَرُ. وفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِ مُعْجِزِينَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَعَلَى بَعْضِ التَّوْجِيهَاتِ مِنْ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ، أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى بَعْضِ التَّوْجِيهَاتِ كَمَا عَلِمْتَ.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 59]

وَقَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ أَيْ هُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعْلُومٌ أَنَّ مَأْوَاهُمُ النَّارُ فَقَدْ خسروا الدَّاريْنِ. [58، 59] [سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 58 إِلَى 59] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) اسْتِئْنَافٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى غَرَضٍ مِنْ أَحْكَامِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ. وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ وَقُطِعَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النُّور: 34] كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرْعُ الِاسْتِئْذَانِ لِأَتْبَاعِ الْعَائِلَةِ وَمَنْ هُوَ شَدِيدُ الِاخْتِلَاطِ إِذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتٍ، فَهُوَ مَنْ مُتَمِّمَاتِ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النُّور: 27] وَهُوَ بِمَفْهُومِ الزَّمَانِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ قَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الْآيَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَوْقَاتِ فَكَانَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ

إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ تَشْرِيعًا لِاسْتِئْذَانِهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِئْذَانِهِمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَصَارَ الْمَفْهُومُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا. وَأَيْضًا هَذَا الْأَمْرُ مُخَصَّصٌ بِعُمُومِ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ [النُّور: 31] وَعُمُومِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النُّور: 31] إِلَخِ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ مَرْثَدٍ دَخَلَ عَلَيْهَا عَبْدٌ لَهَا كَبِيرٌ فِي وَقْتٍ كَرِهَتْ دُخُولَهُ فِيهِ فَأَتَت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّمَا خَدَمُنَا وَغِلْمَانُنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي حَالَةٍ نَكْرَهُهَا. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، (يَعْنِي أَنَّهَا اشْتَكَتْ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لَهُمْ) . وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخًا لِعُمُومِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَعُمُومِ أَوِ الطِّفْلِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ وَقَعَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْعُمُومِ ثُمَّ خُصِّصَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالتَّخْصِيصُ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْعَامِّ صَارَ نَسْخًا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: هُوَ نَدْبٌ. فَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَلِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنْ لَا يَتَحَرَّجُوا مِنِ اطِّلَاعِ الْمَمَالِيكِ عَلَيْهِمْ إِذْ هُمْ خَوَلٌ وَتَبَعٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ [النُّور: 31] . وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَلِأَنَّهُمْ لَا عِنَايَةَ لَهُمْ بِتَطَلُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: 31] . كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ أَوْقَاتًا يَتَجَرَّدُ فِيهَا أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ ثِيَابِهِمْ كَمَا آذَنَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ فَكَانَ مِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يَرَى مَمَالِيكُهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ عَوْرَاتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْظَرٌ يَخْجَلُ مِنْهُ الْمَمْلُوكُ وَيَنْطَبِعُ فِي نَفْسِ الطِّفْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ رُؤْيَتَهُ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْشَأَ الْأَطْفَالُ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كَالسَّجِيَّةِ فِيهِمْ إِذَا كَبِرُوا. وَوُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَجُعِلَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ عَلَى مَعْنَى: لِتَأْمُرُوا الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ

أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ عَلَى أَرْبَابِ الْبُيُوتِ تَأْدِيبَ أَتْبَاعِهِمْ، فَلَا يُشْكِلُ تَوْجِيهُ الْأَمْرِ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ لِمَالِكِيهِمُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّظَرِ وَتَفْصِيلُهَا فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَهِيَ مِنْ عَلَائِقِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْمُفَصَّلَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها إِلَى قَوْلِهِ: عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: 31] فَلَا يَنْبَغِي التَّصَدِّي بِإِيرَادِ صُوَرِهَا فِي هَذِهِ الْآيَة. وَتَعْيِين الاسْتِئْذَان فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا أَوْقَاتُ خُلْوَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَأَوْقَاتُ التَّعَرِّي مِنَ الثِّيَابِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ نَوْمٍ وَكَانُوا غَالِبًا يَنَامُونَ مُجَرَّدِينَ من الثِّيَاب اجتزاء بِالْغِطَاءِ، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى: عَوْراتِ. وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ هُوَ اللَّيْلُ كُلُّهُ إِلَى حِينِ الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَانْتَصَبَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِيَسْتَأْذِنْكُمْ لِأَنَّ مَرَّاتٍ فِي قُوَّةِ اسْتِئْذَانَاتٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ. وَحَرْفُ (مِنْ) مَزِيدٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ. وَالظَّهِيرَةُ: وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ انْتِصَافُ النَّهَارِ. وَقَوْلُهُ: ثَلاثُ عَوْراتٍ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوف أَي هِيَ ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ، أَيْ أَوْقَاتُ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا مِمَّا اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ فِي كُلِّ إِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ. ولَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ عَوْراتٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.

وَالْعَوْرَةُ فِي الْأَصْلِ: الْخَلَلُ وَالنَّقْصُ. وَفِيهِ قِيلَ لِمَنْ فُقِدَتْ عَيْنُهُ أَعْوَرُ وَعَوِرَتْ عَيْنُهُ، وَمِنْهُ عَوْرَةُ الْحَيِّ وَهِيَ الْجِهَةُ غَيْرُ الْحَصِينَةِ مِنْهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الدُّخُولُ مِنْهَا كَالثَّغْرِ، قَالَ لَبِيدٌ: وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا وَقَالَ تَعَالَى: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: 13] ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُكْرَهُ انْكِشَافُهُ كَمَا هُنَا وَكَمَا سُمِّيَ مَا لَا يُحِبُّ الْإِنْسَانُ كَشْفُهُ مِنْ جَسَدِهِ عَوْرَةً. وَفِي قَوْلِهِ: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ نَصٌّ عَلَى عِلَّةِ إِيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الظُّرُوفِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، أَيْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الْمُحَدَّدَةِ. فَصَلَاةُ الْفَجْرِ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَحَالَةُ وَضْعِ الثِّيَابِ مِنَ الظَّهِيرَةِ تَحْدِيدٌ بِالْعُرْفِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنَ الْحِصَّةِ الَّتِي تَسَعُ فِي الْعُرْفِ تَصَرُّفَ النَّاسِ فِي التَّهَيُّؤِ إِلَى النَّوْمِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (بَعْدَ) بِمَعْنَى (دُونَ) ، أَيْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] ، وَضَمِيرُ بَعْدَهُنَّ عَائِدٌ إِلَى ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، أَيْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْمَمَالِيكِ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ إِيمَاءٌ إِلَى لَحْنِ خِطَابٍ حَاصِلٍ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِاسْتِئْذَانِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَمْرَ أَهْلِ الْبَيْتِ بِالِاسْتِئْذَانِ عَلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ إِذَا دَعَاهُمْ دَاعٍ إِلَى الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ كَمَا يُرْشِدُ السَّامِعَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَمْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِنُدُورِ دُخُولِ السَّادَةِ عَلَى عَبِيدِهِمْ أَوْ عَلَى غِلْمَانِهِمْ إِذِ الشَّأْنُ أَنَّهُمْ إِذَا دَعَتْهُمْ حَاجَةٌ إِلَيْهِمْ أَنْ يُنَادُوهُمْ فَأَمَّا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ سَوَاءٌ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ.

وَقَوْلُهُ: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمْ طَوَّافُونَ، يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ إِنَّمَا رَفَعَ الْجُنَاحَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمْ فِي الدُّخُولِ بِدُونِ اسْتِئْذَانٍ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْقَات الثَّلَاثَة لأَنهم طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ فَلَوْ وَجَبَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا كَانَ ذَلِكَ حَرَجًا عَلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمْ. وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ. تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْهِمْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ وَقَوْلُهُ عَقِبَهُ: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ. وبَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا. وَيُجْعَلُ بَعْضُكُمْ مُبْتَدَأً، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: عَلى بَعْضٍ بحبر مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: طَوَّافٌ عَلَى بَعْضٍ. وَحُذِفَ الْخَبَرُ وَبَقِيَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَهُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ حُذِفَ لِدَلَالَةِ طَوَّافُونَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَعْضُكُمْ طَوَّافٌ عَلَى بَعْضٍ. وَلَا يَحْسُنُ مَنْ جَعَلَ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ فِي طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْبَيَانِ الَّذِي طَرَقَ أَسْمَاعَكُمْ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ، فَبَيَانُهُ بَالِغٌ الْغَايَةَ فِي الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ لَمَا شُبِّهَ إِلَّا بِنَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنُ فَإِنَّ مَا يَقَعُ فِيهِ إِجْمَالٌ مِنْهَا يُبَيَّنُ بِآيَاتٍ أُخْرَى، فَالْآيَاتُ الَّتِي أَوَّلُهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ جَاءَت بَيَانا لآيَات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّور: 27] . وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَعْنَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ بَيَانًا كَامِلًا وَهُوَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَبَيَانُهُ بَالِغٌ غَايَةَ الْكَمَالِ لَا مَحَالَةَ.

[سورة النور (24) : آية 60]

وَوَقَعَ قَوْلُهُ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فِي مَوْقِعِ التَّصْرِيحِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْأَطْفَالَ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ تَغَيَّرَ حُكْمُهُمْ فِي الِاسْتِئْذَانِ إِلَى حُكْمِ اسْتِئْذَانِ الرِّجَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّور: 27] الْآيَاتِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَوِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمْ كَانُوا رِجَالًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أُولَئِكَ الْأَطْفَالُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ بِالتَّكْرِيرِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ وَالِامْتِنَانِ. وَإِنَّمَا أُضِيفَتِ الْآيَاتُ هُنَا لضمير الْجَلالَة تفننا وَلِتَقْوِيَةِ تَأْكِيدِ مَعْنَى كَمَالِ التَّبْيِينِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ. وَتَأْكِيدُ مَعْنَى الْوَصْفَيْنِ «الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» . أَيْ هِيَ آيَاتٌ مِنْ لَدُنْ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ وَمِنْ تِلْكَ صِفَات بَيَانه. [60] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 60] وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: 31] . وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ هُنَا أَنَّهُ وَقَعَ بعد فرض الاستيذان فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَضَعُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهَا ثِيَابَهُمْ عَنْ أَجْسَادِهِمْ، فَعَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ عَنْ لَابِسِهَا وَهُوَ وَضْعُ النِّسَاءِ الْقَوَاعِدِ بَعْضَ ثِيَابِهِنَّ عَنْهُنَّ فَاسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ النِّسَاءُ الْمُتَقَدِّمَاتُ فِي السِّنِّ بِحَيْثُ بَلَغْنَ إِبَّانَ الْإِيَاسِ مِنَ الْمَحِيضِ فَرَخَّصَ لَهُنَّ أَنْ لَا يَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، وَأَنْ لَا يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: الثِّيَابُ الْجِلْبَابُ، أَيْ الرِّدَاءُ وَالْمُقَنَّعَةُ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَجُوزُ لَهُنَّ وَضْعُ الْخِمَارِ أَيْضًا.

وَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدٍ بِدُونِ هَاءِ تَأْنِيثٍ مِثْلَ: حَامِلٍ وَحَائِضٍ لِأَنَّهُ وَصْفٌ نُقِلَ لِمَعْنًى خَاصٍّ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ الْقُعُودُ عَنِ الْوِلَادَةِ وَعَنِ الْمَحِيضِ. اسْتُعِيرَ الْقُعُودُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَمْنَعُ الْوُصُولَ إِلَى الْمَرْغُوبِ وَإِنَّمَا رَغْبَةُ الْمَرْأَةِ فِي الْوَلَدِ وَالْحَيْضُ مِنْ سَبَبِ الْوِلَادَةِ فَلَمَّا اسْتُعِيرَ لِذَلِكَ وَغُلِّبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ صَارَ وَصْفُ قَاعِدٍ بِهَذَا الْمَعْنَى خَاصًّا بِالْمُؤَنَّثِ فَلَمْ تَلْحَقْهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي إِلَى الْهَاءِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً، وَذَلِكَ مِنَ الْكِبَرِ. وَقَوْلُهُ: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً وَصْفٌ كَاشِفٌ لِ الْقَواعِدُ وَلَيْسَ قيدا. واقترن الْخَبَرِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِمَعْنَى التَّسَبُّبِ وَالشَّرْطِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْمُبْتَدَأَ يُشْعِرُ بِتَرَقُّبِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَشَابَهَ الشَّرْطَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَة: 38] . وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّ (أَلْ) فِيهِ مَوْصُولَةٌ إِذْ لَا يَظْهَرُ مَعْنَى الْمَوْصُولِ لِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ. وأَنْ يَضَعْنَ مُتَعَلِّقٌ بِ جُناحٌ بِتَقْدِيرِ (فِي) . وَالْمُرَادُ بِالثِّيَابِ بَعْضُهَا وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِإِدْنَائِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّخْصِيصِ. وَالْوَضْعُ: إِنَاطَةُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ، وَأَصْلُهُ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) وَقَدْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) إِذَا أُرِيدَ أَنَّهُ أُزِيلَ عَنْ مَكَانٍ وَوُضِعَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَفِعْلِ (تَرْغَبُونَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [127] ، أَيْ أَنْ يُزِلْنَ عَنْهُنَّ ثِيَابَهُنَّ فَيَضَعْنَهَا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى الْمِشْجَبِ. وَعِلَّةُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ هِيَ أَنَّ الْغَالِبَ أَنْ تَنْتَفِيَ أَوْ تَقِلَّ رَغْبَةُ الرِّجَالِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لِكِبَرِ السِّنِّ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْخُمُرِ عَلَى الْجُيُوبِ أَوْ إِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ كُلْفَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الْمَأْمُورَاتِ اقْتَضَاهَا سَدُّ الذَّرِيعَةِ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الذَّرِيعَةُ رُفِعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَا جَعَلَتْ فِي حُكْمٍ مَشَقَّةً لِضَرُورَةٍ إِلَّا رَفَعَتْ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا مَعْنَى الرُّخْصَةِ. وَلِذَلِكَ عُقِّبَ هَذَا التَّرْخِيصُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ.

وَالِاسْتِعْفَافُ: التَّعَفُّفُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ، أَيْ تَعَفُّفُهُنَّ عَنْ وَضْعِ الثِّيَابِ عَنْهُنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ وَلِذَلِكَ قَيَّدَ هَذَا الْإِذْنَ بِالْحَالِ وَهُوَ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أَيْ وَضْعًا لَا يُقَارِنُهُ تَبَرُّجٌ بِزِينَةٍ. وَالتَّبَرُّجُ: التَّكَشُّفُ. وَالْبَاءُ فِي بِزِينَةٍ للملابسة فيؤول إِلَى أَنْ لَا يَكُونَ وَضْعُ الثِّيَابِ إِظْهَارًا لِزِينَةٍ كَانَتْ مَسْتُورَةً. وَالْمُرَادُ: إِظْهَارُ مَا عَادَةُ الْمُؤْمِنَاتِ سَتْرُهُ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى [الْأَحْزَاب: 33] ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَجَلَّتْ بِزِينَةٍ مِنْ شَأْنِهَا إِخْفَاؤُهَا إِلَّا عَنِ الزَّوْجِ فَكَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِاسْتِجْلَابِ اسْتِحْسَانِ الرِّجَالِ إِيَّاهَا وَإِثَارَةِ رَغْبَتِهِمْ فِيهَا، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَإِنَّ تَعْرِيضَهَا بِذَلِكَ يُخَالِفُ الْآدَابَ وَيُزِيلُ وَقَارَ سِنِّهَا، وَقَدْ يَرْغَبُ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ لِمَا فِي التَّبَرُّجِ بِالزِّينَةِ مِنَ السَّتْرِ عَلَى عُيُوبِهَا أَوِ الْإِشْغَالِ عَنْ عُيُوبِهَا بِالنَّظَرِ فِي مَحَاسِنِ زِينَتِهَا. فَالتَّبَرُّجُ بِالزِّينَةِ: التَّحَلِّي بِمَا لَيْسَ مِنَ الْعَادَةِ التَّحَلِّي بِهِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ تَحْمِيرٍ وَتَبْيِيضٍ وَكَذَلِكَ الْأَلْوَانُ النَّادِرَةُ، قَالَ بَشَّارٌ: وَإِذَا خَرَجْتِ تَقَنَّعِي ... بِالْحُمْرِ إِنَّ الْحسن أَحْمَر وَسَأَلت عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الخضاب والصباغ والتمائم (أَيْ حِقَاقٌ مِنْ فِضَّةٍ تُوضَعُ فِيهَا تَمَايِمُ وَمُعَاذَاتٌ تُعَلِّقُهَا الْمَرْأَةُ) وَالْقُرْطَيْنِ وَالْخَلْخَالِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَرِقَاقِ الثِّيَابِ فَقَالَتْ: «أَحَلَّ اللَّهُ لَكُنَّ الزِّينَةَ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ لِمَنْ لَا يَحِلُّ لَكُنَّ أَنْ يَرَوْا مِنْكُنَّ مُحَرَّمًا» . فَأَحَالَتِ الْأَمْرَ عَلَى الْمُعْتَادِ وَالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ التَّبَرُّجُ بِظُهُورِ مَا كَانَ يَحْجِبُهُ الثَّوْبُ الْمَطْرُوحُ عَنْهَا كَالْوِشَامِ فِي الْيَدِ أَوِ الصَّدْرِ وَالنَّقْشِ بِالسَّوَادِ فِي الْجِيدِ أَوِ الصَّدْرِ الْمُسَمَّى فِي تُونُسَ بِالْحُرْقُوصِ (غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ) . وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى حَفْصَةَ خِمَارٌ رَقِيقٌ فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا» أَيْ شقته لِئَلَّا تختمر بِهِ فِيمَا بَعْدُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ غير منكشفات مِنْ مَنَازِلِهِنَّ بِالْخُرُوجِ فِي الطَّرِيقِ، أَيْ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، أَيْ فَإِذَا خَرَجَتْ فَلَا

[سورة النور (24) : آية 61]

يَحِلُّ لَهَا ترك جلبابها، فيؤول الْمَعْنَى، إِلَى أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النُّور: 31] أَيْ كَوْنُهُنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ لَا يَقْتَضِي التَّرْخِيصَ لَهُنَّ إِلَّا فِي وَضْعِ ثِيَابِهِنَّ وَضْعًا مُجَرَّدًا عَنْ قَصْدِ تَرْغِيبٍ فِيهِنَّ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّذْيِيلِ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الرُّخْصَةِ أَوْ جَعْلِهَا ذَرِيعَةً لِمَا لَا يُحْمَدُ شَرْعًا، فَوَصْفُ «السَّمِيعِ» تَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ مَا تُحَدِّثُهُنَّ بِهِ أَنْفُسُهُنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَوَصْفُ «الْعَلِيمِ» تَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَحْوَالَ وَضْعِهِنَّ الثِّيَابَ وَتَبَرُّجِهِنَّ وَنَحْوِهَا. [61] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ. اخْتُلِفَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إِلَخْ مُنْفَصِلٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ وَأَنَّهُ فِي غَرَضٍ غَيْرِ غَرَضِ الْأَكْلِ فِي الْبُيُوتِ، أَيْ فَيَكُونُ مِنْ تَمام آيَة الاستيذان، أَو هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ مُخْتَارٌ الْجِبَائِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَأَبِي حَيَّانَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ تَفَادِيًا مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفُوهُمْ لِبَيَانِ اتِّصَالِهِ بِمَا بَعْدَهُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الرُّخْصَةِ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ فِي الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إِلَى آخِرِ الْمَعْدُودَاتِ لَا يَظْهَرُ اتِّصَالُهُ بِالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا تَجُرُّهُ ضِرَارَتُهُمْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْحَرَجِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَا تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ أَعْذَارُهُمْ، فَتَقْتَضِي نِيَّتُهُمْ الْإِتْيَانَ فِيهِ بِالْإِكْمَالِ وَيَقْتَضِي الْعُذْرُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ. فَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ عَنِ الْأَعْمَى فِي التَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ، وَعَنِ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ، وَعَنِ الْمَرِيضِ فِي التَّكْلِيفِ

الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إِسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ وَالْغَزْوِ. وَلَكِنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ عَقِبَ الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الْمَقْصِدَ التَّرْخِيصُ لِلْأَعْمَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ اسْتِئْذَانٌ لِانْتِفَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْرَجَ وَالْمَرِيضَ إِدْمَاجًا وَإِتْمَامًا لِحُكْمِ الرُّخْصَةِ لَهُمَا لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَعْمَى. وَقَالَ بِالثَّانِي جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ تَكَلَّفُوا لِوَجْهِ عَدِّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فِي عِدَادِ الْآكِلِينَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي فِي بُيُوتِ مَنْ ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ. وَالْجُمْلَةُ: عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. مُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذِهِ الرُّخَصِ عَلَى رُخْصَةِ الْأَعْمَى، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، هُوَ تَعَلُّقُ كِلَيْهِمَا بِالِاسْتِئْذَانِ وَالدُّخُولِ لِلْبُيُوتِ سَوَاءً كَانَ لِغَرَضِ الطَّعَامِ فِيهَا أَوْ كَانَ لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوِهَا لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَاقْتِرَانُ الْجَمِيعِ فِي الْحُكْمِ هُوَ الرُّخْصَةُ لِلْجَمِيعِ فِي الْأَكْلِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ أَن يدخلُوا الْبيُوت لِلْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ مَحَاوِيجُ لَا يَسْتَطِيعُونَ التَّكَسُّبَ وَكَانَ التَّكَسُّبُ زَمَانَئِذٍ بِعَمَلِ الْأَبْدَانِ فَرَخَّصَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَدْخُلُوا بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ لِشِبَعِ بُطُونِهِمْ.

هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي تَوْجِيهِ عَدِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مَعَ مَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا أُخَرَ أَنْهَاهَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» إِلَى ثَمَانِيَةٍ لَيْسَ مِنْهَا وَاحِدٌ يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ. وَلَا نُطِيلُ بِهَا. وَأُعِيدَ حَرْفُ (لَا) مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ قَبْلَهُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى النَّفْيِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ. وَالْمَقْصُودُ بِالْأَكْلِ هُنَا الْأَكْلُ بِدُونِ دَعْوَةٍ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الطَّعَامُ مُحْضَرًا دُونَ الْمُخْتَزَنِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ ذَوَاتُ الْمُخَاطَبِينَ بِعَلَامَاتِ الْخِطَابِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا إِلَى آخِرِهِ، فَالْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. وَالْمُرَادُ بِأَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْتِهِ الْأَكْلُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، أَيْ أَنْ يَأْكُلَ أَكْلًا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ بَقِيَّةُ أَهْلِهِ كَأَنْ يَأْكُل الرجل وزوجه غَائِبَةٌ، أَوْ أَنْ تَأْكُلَ هِيَ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ فَهَذِهِ أَثَرَةٌ مُرَخَّصٌ فِيهَا. وَعَطَفَ عَلَى بُيُوتِ أَنْفُسِهِمْ بُيُوتَ آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْآكِلِينَ مِنَ الْآبَاءِ فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ. قِيلَ: لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ كَائِنُونَ مَعَ الْآبَاءِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ، فَقَدْ كَانَ الِابْنُ إِذَا تَزَوَّجَ بَنَى لِنَفْسِهِ بَيْتًا كَمَا فِي خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. فَالْوَجْهُ أَنَّ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ مَعْلُومٌ حُكْمُهَا بِالْأَوْلَى مِنَ الْبَقِيَّةِ لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكُ لِأَبِيكَ» . وَهَؤُلَاءِ الْمَعْدُودُونَ فِي الْآيَةِ بَينهم من الْقَرَابَة أَوِ الْوِلَايَةِ أَوِ الصَّدَاقَةِ مَا يُعْتَادُ بِسَبَبِهِ التَّسَامُحُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُضُورِ لِلْأَكْلِ بِدُونِ دَعْوَةٍ لَا يَتَحَرَّجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ غَالِبًا. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْمَكَانِ أَوِ الطَّعَامِ، عَطَفَ عَلَى بُيُوتِ خالاتِكُمْ لَا عَلَى أَخْوالِكُمْ وَلِهَذَا جِيءَ بِ (مَا) الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ.

وَمِلْكُ الْمَفَاتِيحِ أُرِيدَ بِهِ حِفْظُهَا بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفَاتِيحِ دُونَ الدُّورِ أَوِ الْحَوَائِطِ. وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ وَهُوَ اسْمُ آلَةِ الْفَتْحِ. وَيُقَالُ فِيهَا مِفْتَاحٌ وَيُجْمَعُ عَلَى مَفَاتِيحَ. وَهَذِهِ رُخْصَةٌ لِلْوَكِيلِ وَالْمُخْتَزِنِ لِلطَّعَامِ وَنَاطُورِ الْحَائِطِ ذِي الثَّمَرِ أَنْ يَأْكُلَ كل مِنْهُم مِمَّا تَحْتَ يَدِهِ بِدُونِ إِذْنٍ وَلَا يَتَجَاوَزُ شِبَعَ بَطْنِهِ وَذَلِكَ لِلْعُرْفِ بِأَن ذَلِك كَالْإِجَارَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أُجْرَةٌ عَلَى عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَكْلُ مِمَّا تَحْتَ يَدِهِ. وَ (صديق) هُنَا مُرَاد بِهِ الْجِنْسُ الصَّادِقُ بِالْجَمَاعَةِ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ اسْمٌ تَجُوزُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ لِمَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ إِنْ كَانَ وَصْفًا أَوْ خَبَرًا فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ فِي فَصِيحِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَلْزَمَ حَالَةً وَاحِدَةً قَالَ تَعَالَى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشُّعَرَاء: 100، 101] وَمِثْلُهُ الْخَلِيطُ وَالْقَطِينُ. وَالصَّدِيقُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي الْمَوَدَّةِ. وَقَدْ جُعِلَ فِي مَرْتَبَةِ الْقَرَابَةِ مِمَّا هُوَ مَوْقُورٌ فِي النُّفُوسِ مِنْ مَحَبَّةِ الصِّلَةِ مَعَ الْأَصْدِقَاءِ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَيُّ الرَّجُلَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَبُّ أَخِي إِذَا كَانَ صَدِيقِي. وَأُعِيدَتْ جُمْلَةُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ تَأْكِيدًا لِلْأُولَى فِي قَوْلِهِ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ إِذِ الْجُنَاحُ وَالْحَرَجُ كَالْمُتَرَادِفَيْنِ. وَحَسُنَ هَذَا التَّأْكِيدُ بَعْدَ مَا بَيَّنَ الْحَالَ وَصَاحِبَهَا وَهُوَ وَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَلِأَجْلِ كَوْنِهَا تَأْكِيدًا فُصِلَتْ بِلَا عَطْفٍ. وَالْجَمِيعُ: الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ. وَالْأَشْتَاتُ: الْمُوَزَّعُونَ فِيمَا الشَّأْنُ اجْتِمَاعُهُمْ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الْحَشْر: 14] . وَالْأَشْتَاتُ: جَمْعُ شَتٍّ، وَهُوَ مَصْدَرُ شَتَّ إِذَا تَفَرَّقَ. وَأَمَّا شَتَّى فَجَمْعُ شَتِيتٍ.

وَالْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَأْكُلَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ مَعَ جَمَاعَةٍ جَاءُوا لِلْأَكْلِ مِثْلَهُ أَوْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ مُتَفَرِّقًا عَنْ مُشَارِكٍ، لِئَلَّا يَحْسَبَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَنْ سَبَقَهُ لِلْأَكْلِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ حَتَّى يَخْرُجَ الَّذِي سَبَقَهُ، أَوْ أَنْ يَأْكُلَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ. أَوْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ. وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ بِيُوتٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ لِلْجُمْهُورِ وَبِضَمِّهَا لِوِرَشٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [27] . فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ بِأَدَبِ الدُّخُولِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّور: 27] لِئَلَّا يَجْعَلُوا الْقَرَابَةَ وَالصَّدَاقَةَ وَالْمُخَالَطَةَ مُبِيحَةً لِإِسْقَاطِ الْآدَابِ فَإِنَّ وَاجِبَ الْمَرْءِ أَنْ يُلَازِمَ الْآدَابَ مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَلَا يَغُرَّنَّهُ قَوْلُ النَّاسِ: إِذَا اسْتَوَى الْحُبُّ سَقَطَ الْأَدَبُ. وَمَعْنَى فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] . وَلَقَدْ عَكَفَ قَوْمٌ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَأَهْمَلُوا دَقِيقَتَهُ فَظَنُّوا أَنَّ الدَّاخِلَ يُسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ أَغْرَاضِ التَّكْلِيفِ وَالْآدَابِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي التَّشَهُّد من قَول: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَذَلِكَ سَلَامٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ جعله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عِوَضًا عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَى النَّبِيءِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِكَائِيلَ، السَّلَامُ

عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالَحٍ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ» . وَأَمَّا السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ التَّحِيَّةُ كَمَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً وَلَا يُؤْمَرُ أَحَدٌ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى نَفْسِهِ. وَالتَّحِيَّةُ: أَصْلُهَا مَصْدَرُ حَيَّاهُ تَحِيَّةً ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْيَاءَانِ تَخْفِيفًا وَهِيَ قَوْلُ: حَيَّاكَ اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [86] . فَالتَّحِيَّةُ مَصْدَرُ فِعْلٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى فِعْلِ (حَيَّا) مِثْلُ قَوْلِهِمْ: جَزَاهُ. إِذَا قَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي فِعْلِ وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّور: 27] آنِفًا. وَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ تَحِيَّةَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَحِيَّةَ الْعَامَّةِ قَالَ النَّابِغَةُ: حَيَّاكَ رَبِّي فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا وَكَانَتْ تَحِيَّةُ الْمُلُوكِ «عِمْ صَبَاحًا» فَجَعَلَ الْإِسْلَامُ التَّحِيَّةَ كَلِمَةَ «السَّلَامُ عَلَيْكُم» ، وَهِي جائية من الحنيفية قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69] وسماها تَحِيَّة الْإِسْلَام، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّحِيَّةِ تَأْنِيسُ الدَّاخِلِ بِتَأْمِينِهِ إِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ وَبِاللُّطْفِ لَهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا. وَلَفْظُ «السَّلَامِ» يَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ فَهُوَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَتَأْمِينٌ بِالسَّلَامِ لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا لَهُ بالسلامة فَهُوَ مسالم لَهُ فَكَانَ الْخَبَرُ كِنَايَةً عَنِ التَّأْمِينِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْأَمْرَانِ حَصَلَ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ السَّلَامَةَ لَا تُجَامِعُ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ فِي ذَاتِ السَّالِمِ، وَالْأَمَانُ لَا يُجَامِعُ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَدِي فَكَانَتْ دُعَاءً تُرْجَى إِجَابَتُهُ وَعَهْدًا بِالْأَمْنِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَفِي كَلِمَةِ عَلَيْكُمْ مَعْنَى التَّمَكُّنِ، أَيِ السَّلَامَةُ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْكُمْ. وَلِكَوْنِ كَلِمَةِ (السَّلَامِ) جَامِعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَا بِأَنْ جَعَلَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا رَسُولَهُ بِالْوَحْيِ.

[سورة النور (24) : آية 62]

وَانْتَصَبَ تَحِيَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ التَّسْلِيمِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ فَسَلِّمُوا نَظِيرَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَالْمُبَارَكَةُ: الْمَجْعُولَةُ فِيهَا الْبَرَكَةُ. وَالْبَرَكَةُ: وَفْرَةُ الْخَيْرِ. وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ التَّحِيَّةُ مُبَارَكَةً لِمَا فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْمُسَالَمَةِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ وَالْمُخَالَطَةِ وَذَلِكَ يُوَفِّرُ خَيْرَ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالطَّيِّبَةُ: ذَاتُ الطِّيبِ، وَهُوَ طِيبٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى النَّزَاهَةِ وَالْقَبُولِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَوَجْهُ طِيبِ التَّحِيَّةِ أَنَّهَا دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَإِيذَانٌ بِالْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَافَاةِ. وَوَزَنُ طَيِّبَةً فَيْعِلَةٌ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ مِثْلَ: الْفَيْصَلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فِي آلِ عِمْرَانَ [38] وَفِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] . وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلِمَةَ «السَّلَامِ عَلَيْكُمْ» تَحِيَّةُ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: 10] أَيْ تَحِيَّتُهُمْ هَذَا اللَّفْظُ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تَكْرِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ قَبْلَهَا فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ لِأَنَّ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانًا لِآيَاتِ الْقُرْآنِ اتَّضَحَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا وَهُوَ بَيَانٌ يُرْجَى مَعَهُ أَنْ يَحْصُلَ لَكُمُ الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ بِمَا فِيهِ كَمَال شَأْنكُمْ. [62] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

(62) لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي شَأْنِ الِاسْتِئْذَانِ لِلدُّخُولِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاسْتِئْذَانِ لِلْخُرُوجِ وَمُفَارَقَةِ الْمَجَامِعِ فَاعْتُنِيَ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِئْذَان الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُفَارَقَةِ مَجْلِسِهِ أَوْ مُفَارَقَةِ جَمْعٍ جُمِعَ عَنْ إِذْنِهِ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ كَالشُّورَى وَالْقِتَالِ وَالِاجْتِمَاعِ لِلْوَعْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَحْضُرُوا هَذِهِ الْمَجَامِعَ ثُمَّ يَتَسَلَّلُوا مِنْهَا تَفَادِيًا مِنْ عَمَلٍ يَشُقُّ أَوْ سَآمَةٍ مِنْ سَمَاعِ كَلَامٍ لَا يَهْتَبِلُونَ بِهِ، فَنَعَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ هَذَا وَأَعْلَمَ بِمُنَافَاتِهِ لِلْإِيمَانِ وَأَنَّهُ شِعَارُ النِّفَاقِ. بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْ وَصْفِ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ وَاعْتَنَى بِاتِّصَافِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَحِقَّاءِ بِضِدِّ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [التَّوْبَة: 127] وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً [النُّور: 63] . فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُؤْمِنُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ، أَيْ إِنَّ جِنْسَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ إِنَّ الَّذِينَ عُرِفُوا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَنْصَرِفُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. فَالْخَبَرُ هُوَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ لَا غَيْرَ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَلَا يَسْتَأْذِنُونَ الرَّسُولَ عِنْدَ إِرَادَةِ الِانْصِرَافِ، فَجُعِلَ هَذَا الْوَصْفُ عَلامَة مُمَيزَة للْمُؤْمِنين الْأَحِقَّاءِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَئِذٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْأَحِقَّاءِ يَوْمَئِذٍ مَنْ يَنْصَرِفُ عَنْ مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ إِذْنِهِ، فَالْمَقْصُودُ: إِظْهَارُ عَلَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَمْيِيزُهُمْ عَنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِينَ. فَلَيْسَ سِيَاقُ الْآيَةِ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ لِلْإِيمَانِ حَقِيقَةً مَعْلُومَةً لَيْسَ اسْتِئْذَان النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِرَادَةِ الذَّهَابِ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَعَلِمْتُ أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ سَلْبَ الْإِيمَانِ عَنِ الَّذِي يَنْصَرِفُ دُونَ إِذْنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَحِقَّاءِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ قَصْدِ الخذل للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَذَاهُ، إِذْ لَا يَعْدُو ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ أَحَدُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرًا فِي الْأَدَبِ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى تَجَنُّبِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ كَمَا وَرَدَ التَّحْذِيرُ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ.

وَعَلِمْتَ أَيْضًا أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْرِيفِ فِي الْمُؤْمِنُونَ مَعْنَى الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ قَصْدُ التَّشْهِيرِ بِنِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ. وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْحَالُ الْمُهِمُّ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [59] . وَالْجَامِعُ: الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ لِأَجْلِهِ لِلتَّشَاوُرِ أَوِ التَّعَلُّمِ. وَالْمُرَادُ: مَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ لِأَجْلِهِ حَوْلَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَجْلِسِهِ أَوْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ (مَعَ) وَ (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ: مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لِإِفَادَةِ (مَعَ) مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ وَإِفَادَةِ (عَلَى) مَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ. وَوَصْفُ الْأَمْرِ بِ جامِعٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْجَمْعِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [71] . وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ (وَذَلِكَ سَنَةُ خَمْسٍ) كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْ جَيْشِ الْخَنْدَقِ وَيَعْتَذِرُونَ بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ إِلَى آخِرِهَا تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ مَضْمُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ مَضْمُونُ مَعْنَى جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ تَفَنَّنَ فِي نَظْمِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِتَغْيِيرِ أُسْلُوبِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَجَعَلَ مَضْمُونَ الْمُسْنَدِ فِي الْأُولَى مُسْنَدًا إِلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ وَالْمَسْنَدَ إِلَيْهِ فِي الْأُولَى مُسْنَدًا فِي الثَّانِيَةِ وَمَآلُ الْأُسْلُوبَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَآلَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ عَلَى حَدِّ: وَشِعْرِي شِعْرِي، تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الِاسْتِئْذَانِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا تَفْرِيعٌ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ لِيُعَلِّمَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَعْذَارَ الْمُوجِبَةَ لِلِاسْتِئْذَانِ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الذَّهَابِ إِلَّا لِشَأْنٍ مُهِمّ من شؤونهم. وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْله: يستأذنوك تَشْرِيفًا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْخِطَابِ. وَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الْإِذْنِ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالشَّأْنِ الَّذِي قَضَاؤُهُ أَرْجَحُ مِنْ حُضُورِ الْأَمْرِ الْجَامِعِ لِأَنَّ مَشِيئَةَ النَّبِيءِ لَا تَكُونُ عَنْ هَوًى وَلَكِنْ لِعُذْرٍ وَمَصْلَحَةٍ.

[سورة النور (24) : آية 63]

وَقَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الِانْصِرَافَ خِلَافُ مَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ لِتَرْجِيحِ حَاجَتِهِ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى حَاجَةِ الْأُمَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ نِظَامِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ إِمَامٌ وَرَئِيسٌ يُدِيرُ أَمْرَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ. وَقَدْ أَشَارَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِمَامَةِ إِلَى ذَلِكَ النِّظَامِ. وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ جَمَاعَةٌ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا فَالَّذِي يَتَرَأَّسُ الْجَمْعَ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَنْصَرِفُ أَحَدٌ عَنِ اجْتِمَاعِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ أَمْرَ الِانْسِلَالِ لِشَهْوَةِ الْحَاضِرِ لَكَانَ ذَرِيعَةً لِانْفِضَاضِ الِاجْتِمَاعَاتِ دُونَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ الَّتِي جُمِعَتْ لِأَجْلِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَدَبُ أَيْضًا فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ كَاجْتِمَاعِ الْمَجَالِسِ النِّيَابِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ أَوِ التَّخَلُّفِ عَنْ مِيقَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَّا لعذر واستئذان. [63] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 63] لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) لَمَّا كَانَ الِاجْتِمَاعُ لِلرَّسُولِ فِي الْأُمُورِ يَقَعُ بَعْدَ دَعْوَتِهِ النَّاسَ لِلِاجْتِمَاعِ وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ لَا يَنْصَرِفُوا عَنْ مجامع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِعُذْرٍ بَعْدَ إِذْنِهِ أَنْبَأَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبَ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِذَا دَعَاهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [24] . وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ إِيَّاكُمْ لِلْحُضُورِ لَدَيْهِ مُخَيَّرِينَ فِي اسْتِجَابَتِهَا كَمَا تَتَخَيَّرُونَ فِي اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا،

فَوَجْهُ الشَّبَهِ الْمَنْفِيُّ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ هُوَ الْخِيَارُ فِي الْإِجَابَةِ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الثَّبَاتُ فِي مَجَامِعِ الرَّسُولِ إِذَا حَضَرُوهَا، وَأَنَّهُمْ فِي حُضُورِهَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهَا بِالْخِيَارِ، فَالدُّعَاءُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَصْدَرُ دَعَاهُ إِذَا نَادَاهُ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَيَحْضُرَ. وَإِضَافَةُ دُعاءَ إِلَى الرَّسُولِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةُ دُعاءَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَالْفَاعِلُ الْمُقَدَّرُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَكُمُ الرَّسُولَ، فَالْمَعْنَى نَهْيُهُمْ. وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ حَثًّا عَلَى تَلَقِّي الْجُمْلَةِ بِنَشَاطٍ فَهْمٍ، فَالْخِطَابُ للْمُؤْمِنين الَّذين تَحَدَّثَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النُّور: 62] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ [النُّور: 62] إِلَخْ. نُهُوا عَنْ أَنْ يَدْعُوَا الرَّسُولَ عِنْدَ مُنَادَاتِهِ كَمَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْهَيْئَةِ. فَأَمَّا فِي اللَّفْظِ فَبِأَنْ لَا يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَكِنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ يَا نَبِيءَ الله، أَو بكنيته يَا أَبَا الْقَاسِمِ. وَأَمَّا فِي الْهَيْئَةِ فَبِأَنْ لَا يَدْعُوهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، وَأَنْ لَا يُلِحُّوا فِي دُعَائِهِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ. لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْجَلَافَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِعَظَمَةِ قدر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا أَدَبٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَسَدٌّ لِأَبْوَابِ الْأَذَى عَنِ الْمُنَافِقين. وَإِذ كَانَتِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ أَلْفَاظُهَا هَذَا الْمَعْنَى صَحَّ لِلْمُتَدَبِّرِ أَنْ يَنْتَزِعَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا إِذْ يَكْفِي أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَاحَ لَهُ مَعْنَى مَا لَاحَ لَهُ. وبَيْنَكُمْ ظَرْفٌ إِمَّا لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِ تَجْعَلُوا، أَوْ مُسْتَقِرٌّ صِفَةٌ لِ دُعاءَ، أَي دعاءه فِي كَلَامِكُمْ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ التَّعْرِيضُ بالمنافقين الَّذين تمالؤوا بَيْنَهُمْ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا دَعَاهُمْ كُلَّمَا وَجَدُوا لِذَلِكَ سَبِيلًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 120] . فَالْمَعْنَى. لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَمَا جَعَلَ المُنَافِقُونَ بَينهم وتواطأوا عَلَى ذَلِكَ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النُّور: 62] وَمَا تَبِعَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً. وَجُمْلَةُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً اسْتِئْنَافُ تَهْدِيدٍ لِلَّذِينِ كَانُوا سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النُّور: 62] الْآيَةَ، أَيْ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ وَضِدُّهُمُ الْمُعَرَّضُ بِهِمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ وَاطَّلَعَ عَلَى تَسَلُّلِهِمْ. (وَقد) لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا تَسَلَّلُوا مُتَسَتِّرِينَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِمُ النَّبِيءُ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ عَلِمَهُمْ، أَيْ أَنَّهُ أَعْلَمَ رَسُولَهُ بِذَلِكَ. وَدُخُولُ (قَدْ) عَلَى الْمُضَارِعِ يَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ كَثِيرًا لِأَنَّ (قَدْ) فِيهِ بِمَنْزِلَةِ (رُبَّ) تُسْتَعْمَلُ فِي التَّكْثِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الْأَحْزَاب: 18] وَقَوْلُ زُهَيْرٍ: أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ والَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالتَّسَلُّلُ: الِانْسِلَالُ مِنْ صَبْرَةٍ، أَيِ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِخُفْيَةٍ خُرُوجًا كَأَنَّهُ سَلُّ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. يُقَالُ: تَسَلَّلَ، أَيْ تَكَلَّفَ الِانْسِلَالَ مِثْلَ مَا يُقَالُ: تَدَخَّلَ إِذَا تَكَلَّفَ إِدْخَالَ نَفْسِهِ. وَاللِّوَاذُ: مَصْدَرُ لَاوَذَهُ، إِذَا لَاذَ بِهِ ولاذ بِهِ الْآخَرُ. شُبِّهَ تَسَتُّرُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ عَنِ اتِّفَاقٍ وَتَآمُرٍ عِنْدَ الِانْصِرَافِ خُفْيَةً بِلَوْذِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ لِأَنَّ الَّذِي سَتَرَ الْخَارِجَ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَاذَ بِهِ أَيْضًا فَجَعَلَ حُصُولَ فِعْلِهِ مَعَ فِعْلِ اللَّائِذِ كَأَنَّهُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللَّوْذِ. وَانْتَصَبَ لِواذاً عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ اسْمِ الْفَاعِلِ. ومِنْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَتَسَلَّلُونَ. وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ جَمَاعَتِكُمْ مُتَسَلِّلِينَ مُلَاوِذِينَ. وَفُرِّعَ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً تَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ الْآيَةَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى تَسَلُّلِهِمْ.

[سورة النور (24) : آية 64]

وَالْمُخَالَفَةُ: الْمُغَايِرَةُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَمْشِي فِيهَا بِأَنْ يَمْشِيَ الْوَاحِدُ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي مَشَى فِيهِ الْآخَرُ، فَفِعْلُهَا مُتَعَدٍّ. وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ اللَّهَ، وتعدية فعل الْمُخَالفَة بِحَرْفِ (عَنْ) لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الصُّدُودِ كَمَا عُدِّيَ بِ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ لَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الذَّهَابِ. يُقَالُ خَالَفَهُ إِلَى الْمَاءِ، إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دُونَهُ، وَلَوْ تُرِكَتْ تَعْدِيَتُهُ بِحرف جر لأفاد أَصْلِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ. وَضَمِيرُ عَنْ أَمْرِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ الِامْتِثَالَ فِي الْعَلَانِيَةِ وَالسِّرِّ. وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ. فَقُلْنَ لَهَا سِرًّا فَدَيْنَاكِ لَا يَرُحْ ... صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ فَجَعَلَ قَوْلَهُنَّ: «لَا يَرُحْ صَحِيحًا» وَهُوَ نَهْيٌ فِي مَعْنَى: اقْتُلِيهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: «وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ» . وَالْحَذَرُ: تَجَنُّبُ الشَّيْءِ الْمُخِيفِ. وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ حَالِ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي الْبَقَرَةِ [191] . وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا، وَهُوَ عَذَاب الْقَتْل. [64] [سُورَة النُّور (24) : آيَة 64] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا. وَافْتِتَاحُهُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَتَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ لِيَعُوا مَا يَرِدُ بَعْدَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ

مَالِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ يُجَازِي عِبَادَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الْمُلَابِسِينَ لَهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَعَارٌ لِلتَّمَكُّنِ. وَذَكَّرَهُمْ بِالْمَعَادِ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ مُنْكِرِينَهُ. وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ إِعْلَامَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لَمَا كَانَتْ لَهُ جَدْوَى. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتُرُونَ نِفَاقَهُمْ.

25- سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 25- سُورَةُ الْفُرْقَانِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ الْفُرْقَانِ» فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَسْمَعٍ مِنْهُ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ فَكِدْتُ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سلّم فلبّبته برادئه فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفِ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا..» الْحَدِيثَ. وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ السُّورَةِ اسْمٌ غَيْرُ هَذَا. وَالْمُؤَدِّبُونَ مِنْ أَهْلِ تُونِسَ يُسَمُّونَهَا «تَبَارَكَ الْفُرْقَانُ» كَمَا يُسَمَّوْنَ «سُورَةَ الْمُلْكِ» تَبَارَكَ، وَتَبَارَكَ الْمَلِكُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةُ الْفُرْقَانِ» لِوُقُوعِ لَفْظِ الْفُرْقَانِ فِيهَا. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الْفرْقَان: 68- 70] . وَالصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ مَكِّيَّةٌ كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِير سُورَة الْفُرْقَانِ: «عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْفرْقَان: 68] . فَقَالَ سَعِيدٌ: قَرَأْتَهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ؟ فَقَالَ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ» مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النِّسَاء: 93] الْآيَةَ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَلا نُشُوراً [الْفرْقَان: 3] .

أغراض هذه السورة

وَأُسْلُوبُ السُّورَةِ وَأَغْرَاضُهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يس وَقَبْلَ سُورَةِ فاطر، وَعدد آيها سَبْعٌ وَسَبْعُونَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَدَدِ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ على الِابْتِدَاء بتمجيد اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَجَلَالُ مَنْزِلِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى، وَتَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِهَدْيِهِ وَإِرْشَادِهِ إِلَى اتِّقَاءِ الْمَهَالِكِ، وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَعَائِمَ: الْأُولَى: إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالتَّنْوِيهُ بِالرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَائِلُ صِدْقِهِ، وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ حُظُوظُ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَلَقِّي قَوْمِهِ دَعْوَتَهُ بِالتَّكْذِيبِ. الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْإِنْذَارُ بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّبْشِيرُ بِالثَّوَابِ فِيهَا لِلصَّالِحِينَ، وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ حَظِّهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَتَكُونُ لَهُمُ النَّدَامَةُ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَعَلَى إِشْرَاكِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَيِمَّةِ كُفْرِهِمْ. الدِّعَامَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ، وَإِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، وَإِبْطَالُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ بُنُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَافْتُتِحَتْ فِي آيَاتِ كُلِّ دِعَامَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ بِجُمْلَةِ «تَبَارَكَ الَّذِي» إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَدَارُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً يُنْذِرُهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلِهَذَا جَعَلَ بَرَاعَةَ اسْتِهْلَالِهَا

[سورة الفرقان (25) : آية 1]

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: 1] . وَذَكَرَ بَدَائِعَ مِنْ صُنْعِهِ تَعَالَى جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّذْكِيرِ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَعْوَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ الْكَافِرِينَ. وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِلْحَالَيْنِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ وَمَا لَقَوْا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مِثْلَ قَوْمِ مُوسَى وَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَوْمِ لُوطٍ. وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَمَدْحُ خِصَالِهِمْ وَمَزَايَا أَخْلَاقِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابٍ قَرِيبٍ يحل بالمكذبين. [1] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِنُدْرَةِ أَمْثَالِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ لِأَنَّ غَالِبَ فَوَاتِحِهِمْ أَنْ تَكُونَ بِالْأَسْمَاءِ مُجَرَّدَةً أَوْ مُقْتَرِنَةً بِحَرْفٍ غَيْرِ مُنْفَصِلٍ، مِثْلَ قَوْلِ طَرَفَةَ: لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ أَوْ بِأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قِفَا نَبْكِ الْبَيْتَ أَوْ بِحُرُوفِ التَّأْكِيدِ أَوْ الِاسْتِفْهَامِ أَوِ التَّنْبِيهِ مِثْلَ (إِنَّ) وَ (قَدْ) وَالْهَمْزَةُ وَ (هَلْ) . وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الِافْتِتَاحِ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا ... وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وَظَاهِرَا وَبِهَذِهِ النُّدْرَةِ يَكُونُ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ لِأَنَّ النُّدْرَةَ مِنَِِ

الْعِزَّةِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَلْفَاظِ وَضِدُّهَا الِابْتِذَالُ. وَتَبَارَكَ: تَعَاظَمَ خَيْرُهُ وَتَوَفَّرَ، وَالْمُرَادُ بِخَيْرِهِ كَمَالَاتُهُ وَتَنَزُّهَاتُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [48] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي سُورَةِ النُّورِ [61] . وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَفُّرِ كَمَالَاتِهِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيمُ وَالْإِيقَاظُ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِنْشَاءِ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْشَأَ اللَّهُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1] عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَقَامِ الْفَخْرِ وَالْعَظَمَةِ، أَو إِظْهَار غرايب صَدَرَتْ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ... فِيَا عَجَبًا مِنْ كَوْرِهَا الْمُتَحَمِّلِ وَإِنَّمَا يَتَعَجَّبُ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى أَنْ جَعَلَ كَوْرَ الْمَطِيَّةِ يَحْمِلُهُ هُوَ بَعْدَ عَقْرِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ: أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ ... كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالِي يُرِيدُ طَعْنَةً طَعَنَهَا قِرْنَهُ. وَالَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الصِّلَةُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْفِعْلُ كَالْمُسْنَدِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَبَارَكت. والموصول يومىء إِلَى عِلَّةِ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْفُرْقَانِ وَبَرَكَتِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. فَتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَام. وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ هُنَا لِكَوْنِ الصِّلَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ يُنْكِرُونَهَا لَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَنَهَا فَاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْرِفَةً بِالْوَجْهِ لَا بِالْكُنْهِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ.

[سورة الفرقان (25) : آية 2]

وَالْفُرْقَانُ: الْقُرْآنُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَرَّقَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَال: 41] وَقَوْلِهِ: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الْأَنْفَال: 29] . وَجُعِلَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِمَا بَيَّنَ مَنْ دَلَائِلِ الْحَقِّ وَدَحْضِ الْبَاطِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [4] . وَإِيثَارُ اسْمِ الْفُرْقَانِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ دَلَائِلُ قَيِّمَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَوَصْفُ النَّبِيءِ بِ عَبْدِهِ تَقْرِيبٌ لَهُ وَتَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ طَلَبِهِمْ مِنْهُ فِي قَوْله: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 7] الْآيَةَ. وَالْمرَاد ب لِلْعالَمِينَ جَمِيعُ الْأُمَمِ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْعَالَمَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَعَلَى النَّوْعِ وَعَلَى الصِّنْفِ بِحَسَبِ مَا يَسْمَحُ بِهِ الْمَقَامُ، وَالنِّذَارَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ مِمَّنْ قُصِدُوا بِالتَّكْلِيفِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] . وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِسُوءٍ يَقَعُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ الْحَكِيمِ. وَالِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ الرَّسُولِ هُنَا عَلَى النَّذِيرِ دُونَ الْبَشِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَكَانَ مُقْتَضِيًا لِذِكْرِ النِّذَارَةِ دُونَ الْبِشَارَةِ، وَفِي ذَلِكَ اكْتِفَاءٌ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ عِنْدَ ذِكْرِ النِّذَارَةِ. وَسَيَجِيءُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [56] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمَعَ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُمُوم رسَالَته. [2] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 2] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً

(2) أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ بَعْضَ الصِّلَاتِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهِ وَهُمَا الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةُ وَإِذْ قَدْ كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ كَانَتِ الصِّلَتَانِ الْأُخْرَيَانِ الْمَذْكُورَتَانِ مَعَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُمَا أُجْرِيَتَا عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالصِّلَتَيْنِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [86، 87] ، وَلَكِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَشَرِيكًا فِي الْمُلْكِ. وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ أَنْ جَعَلَ الْوَصْفَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا مَعَهُمْ مُتَوَسِّطَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مِرْيَةَ فِيهِمَا حَتَّى يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْمُسَلَّمَيْنِ كَالدَّلِيلِ أَوَّلًا وَالنَّتِيجَةِ آخِرًا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلَا أَنْ يَتَّخِذَ شَرِيكًا لِأَنَّ مُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَقْتَضِي غِنَاهُ الْمُطْلَقَ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا عَبَثًا إِذْ لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ فَكَيْفَ بِأَفْعَالِ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. فَقَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَدَلٌ مِنَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الْفُرْقَانَ: 1] . وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ لِأَنَّ الصِّلَةَ الْأُولَى فِي غَرَضِ الِامْتِنَانِ بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ لِلْهُدَى، وَالصِّلَةَ الثَّانِيَةَ فِي غَرَضِ اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَفِي الْمُلْكِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُلْكِ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْمُلْكِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهَا. وَالْخَلْقُ: الْإِيجَادُ، أَيْ أَوْجَدَ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ عَظِيمِ الْأَشْيَاءِ وَحَقِيرِهَا. وَفُرِعَ عَلَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِتْقَانِ الْخَلْقِ إِتْقَانًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ.

[سورة الفرقان (25) : آية 3]

وَمَعْنَى (قَدَّرَهُ) جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارٍ وَحَدٍّ مُعَيَّنٍ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ، أَيْ خَلَقَهُ مُقَدَّرًا، أَيْ مُحْكَمًا مَضْبُوطًا صَالِحًا لِمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا خَلَلَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَهُ بِإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أَرَادَهَا وَعَيَّنَهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: 49] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [17] . وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بِقَوْلِهِ: تَقْدِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيرٌ كَامِلٌ فِي نَوْعِ التَّقَادِيرِ. وَمَا جَاءَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ بِأَغْرَاضِهَا وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ خُطْبَةِ الْكِتَابِ أَو الرسَالَة. [3] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 3] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) اسْتِطْرَادٌ لِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ لِوَصْفِ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَسَفَالَةِ تَفْكِيرِهِمْ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: 2] وَمَا تَلَاهَا مِمَّا هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأُرْدِفَتْ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الْفرْقَان: 2] الشَّامِلِ لِكَوْنِ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مَخْلُوقَاتٍ فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مُهَيِّئًا لِلتَّعْجِيبِ مِنَ اتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً دُونَ ذَلِكَ الْإِلَهِ الْمَنْعُوتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. فَالْخَبَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الْإِفَادَةُ بَلْ هُوَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ قَابَلُوا نِعْمَةَ إِنْزَالِ الْفُرْقَانِ بِالْجَحْدِ وَالطُّغْيَانِ وَكَيْفَ أَشْرَكُوا بِالَّذِي تِلْكَ صِفَاتُهُ آلِهَةً أُخْرَى صِفَاتُهُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ صِفَاتِ مَنْ أَشْرَكُوهُمْ بِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُقْصَدُ إِفَادَتُهُمْ لِحُكْمِ الْخَبَرِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفرْقَان: 2] وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَضَمِيرُ: اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا

هُمْ مَعْرُوفُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَخَاصَّةً مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الْفرْقَان: 2] . وَجُمْلَةُ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: 2] . وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفرْقَان: 2] لِأَنَّ وَلَدَ الْخَالِقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ فَلَا يَكُونُ مَخْلُوقًا. وَجُمْلَةُ: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الْفرْقَان: 2] لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمُلْكِ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي التَّصَرُّفِ. وَضَمِيرُ: لِأَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى آلِهَةً أَيْ لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا عَلَى ضُرِّ أَنْفُسِهِمْ وَلَا عَلَى نَفْعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَاتَّخَذُوا أَيْ لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ عَلَى نَفْعِ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ وَلَا عَلَى ضُرِّهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ ضَرًّا وَلا نَفْعاً هُنَا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُقَالَ: شَرْقًا وَغَرْبًا، وَلَيْلًا وَنَهَارًا. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ مَا يشكل فِي بادىء الرَّأْيِ مِنْ وَجْهِ نَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى إِضْرَارِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَةُ أَحَدٍ بِضُرِّ نَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا لَا يُتَطَلَّبُ وَجْهٌ لِتَقْدِيمِ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمُتَكَلِّمُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ وَالْمُخَالِفَةُ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. وَالْمَجْرُورُ فِي لِأَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ. وَالضُّرُّ- بِفَتْحِ الضَّادِ- مَصْدَرُ ضَرَّهُ، إِذَا أَصَابَهُ بِمَكْرُوهٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [49] . وَجُمْلَةُ: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: 2] لِأَنَّ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ تَقْدِيرِ الْخَلْقِ هُوَ مَظْهَرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا نُشُوراً فَهُوَ تَكْمِيلٌ لِقَرْعِ الْمُشْرِكِينَ نُفَاةِ الْبَعْثِ لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ الْآلِهَةُ يَمْلِكُونَ نُشُورًا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ النُّشُورِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ

يَقْتَضِي تحقق مَاهِيَّتِهِ. وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ يُرِيدُ لَا مَنَارَ فِيهِ. وَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ: لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ أَرَادَ: إِنَّهَا لَا أَرْنَبَ فِيهَا وَلَا ضَبَّ. فَهُوَ من قبيل التلميح. ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُقَابَلَةُ لِلْجُمَلِ الْمَوْصُوفِ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ كُفْرِهِمُ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الْكُفْرِ وَمَادَّتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَهُمْ يُصْنَعُونَ، أَيْ يَصْنَعُهُمُ الصَّانِعُونَ لِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ كُلَّهَا حِجَارَةٌ مَنْحُوتَةٌ فَقَدْ قَوَّمَتْهَا الصَّنْعَةُ، فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ عَلَى التَّشْكِيلِ وَالنَّحْتِ مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ شَاعَ فِي الْإِيجَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ إِمَّا اعْتِبَارًا بِأَصْلِ مَادَّةِ الْخَلْقِ وَهُوَ تَقْدِيرُ مِقْدَارِ الْجِلْدِ قَبْل فَرْيِهِ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ عَلَى النَّحْتِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَإِمَّا مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً. وَالْمِلْكُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: 76] ، أَيْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّكُمْ وَلَا نَفْعِكُمْ. فَقَوْلُهُ هُنَا: لِأَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ، وَاللَّامُ فِيهِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لِفَائِدَتِهَا. ثُمَّ إِن المُرَاد بِأَنْفسِهِم يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ عَلَى الْآحَادِ الْمُفَادَةِ بِضَمِيرِ يَمْلِكُونَ، أَيْ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالضُّرِّ دَفْعَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِأَنَّ

[سورة الفرقان (25) : آية 4]

الشَّخْصَ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضُهُ بِضُرِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُقَرَّعَ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ضُرِّ نَفْسِهِ. وَتَنْكِيرُ مَوْتاً- وحَياةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، أَيْ مَوْتُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا حَيَاتُهُ. وَالنُّشُورُ: الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَصْلُهُ نَشْرُ الشَّيْء المطوي. [4] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 4] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) انْتِقَالٌ مَنْ ذِكْرِ كُفْرِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ إِلَى ذِكْرِ كُفْرِهِمْ بِأَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَالْإِظْهَارُ هُنَا لِإِفَادَةِ أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِمْ هَذَا، أَيْ مَا جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا الْبُهْتَانِ إِلَّا إِشْرَاكُهُمْ وَتَصَلُّبُهُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ تَبْعَثُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا حُكِيَ آنِفًا مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنْ آبَائِهِمْ، فَالْوَصْفُ الَّذِي أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ هُنَا مُنَاسِبٌ لِمَقَالَتِهِمْ لِأَنَّهَا أَصْلُ كُفْرِهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] فَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ كَمَا آذَنَتْ بِذَلِكَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي تُقَابِلُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ أَنْ تُذْكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَ جُمْلَةِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الْفرْقَان: 3] اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ الْكُفْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْقَصْرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنِ) النَّافِيَةِ وَ (إِلَّا) قَصْرُ قَلْبٍ زَعَمُوا بِهِ رَدَّ دَعْوَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَمِمَّنْ قَالَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ. فَإِسْنَادُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَكُلُّهُمْ يَتَنَاقَلُونَهُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَأْلُوفَةٌ فِي نِسْبَةِ أَمْرٍ إِلَى الْقَبِيلَةِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو أَسَدٍ قَتَلُوا حُجْرًا.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ حِينَ يَسْمَعُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] . وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ فِي سُورَةِ النُّورِ [11] . وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْأَخْبَارِ، أَيْ ابْتِكَارُهَا وَهُوَ الْكَذِبُ عَنْ عَمْدٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْمٌ آخَرُونَ لَقَّنُوهُ بَعْضَ مَا يَقُولُهُ، وَأَرَادُوا بِالْقَوْمِ الْآخَرِينَ الْيَهُودَ. رُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشَارُوا إِلَى عَبِيدٍ أَرْبَعَةٍ كَانُوا لِلْعَرَبِ مِنَ الْفُرْسِ وَهُمْ: عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَيَسَارٌ أَبُو فَكِيهَةَ الرُّومِيُّ مَوْلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ» أَنَّهُ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ مِمَّنْ دَانُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَكَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى هَؤُلَاءِ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ أَخْبَارَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ لَا يَخْلُو هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، هُمَا: أَنْ يَكُونَ افْتَرَى بَعْضَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَعَانَهُ قَوْمٌ عَلَى بَعْضِهِ. وَفَرَّعَ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ هَذَا ظُهُورَ أَنَّهُمُ ارْتَكَبُوا بِقَوْلِهِمْ ظُلْمًا وَزُورًا لِأَنَّهُمْ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ زُورٌ وَظُلْمٌ لِأَنَّهُ اخْتِلَاق واعتداء. وجاؤُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (عَمِلُوا) وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَنِ اهْتَمَّ بِتَحْصِيلِ شَيْءٍ مَشَى إِلَيْهِ، وَبِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ صَحَّ تَعْدِيَتُهُ إِلَى مَفْعُولٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِقَوْلٍ أَوْ فَعَلٍ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ [ص: 24]

[سورة الفرقان (25) : آية 5]

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [114] . وَالظُّلْمُ الَّذِي أَتَوْهُ هُوَ نِسْبَتُهُمُ الرَّسُولَ إِلَى الِاخْتِلَاقِ فَإِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّهِ الَّذِي هُوَ الصِّدْقُ. وَالزُّورُ: الْكَذِبُ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الزُّورِ: إِنَّهُ الْكَذِبُ الْمُحَسَّنُ الْمُمَوَّهُ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ بِالصِّدْقِ. وَكَوْنُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ كَذِبًا ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْوَاقِعَ فَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِفْكِ، وَالَّذِينَ زَعَمُوهُمْ مُعِينِينَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ بَالِغٍ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ وَمُرْتَقٍ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَإِذَا كَانَ لِبَعْضِهِمْ مَعْرِفَةٌ بِبَعْضِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ فَمَا هِيَ إِلَّا مَعْرِفَةٌ ضَئِيلَةٌ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ كَشَأْنِ مَعْرِفَةِ الْعَامَّة والدهماء. [5] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 5] وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَمَدْلُولُ الصِّلَةِ مُرَاعًى فِي هَذَا الضَّمِيرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ آثَارِ كُفْرِهِمْ. الأساطير: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ كَالْأُحْدُوثَةِ وَالْأَحَادِيثِ، وَالْأُغْلُوطَةِ وَالْأَغَالِيطِ، وَهِيَ الْقِصَّةُ الْمَسْطُورَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] . وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيُّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قِصَصٌ مِنْ قِصَصِ الْمَاضِينَ. وَكَانَ النَّضْرُ هَذَا قَدْ تَعَلَّمَ بِالْحِيرَةِ قِصَصَ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ فَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: أَنَا وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَهَلُمَّ أُحَدِّثْكُمْ وَكَانَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي الْقُرْآنِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ.

[سورة الفرقان (25) : آية 6]

وَجُمْلَةُ: اكْتَتَبَها نَعْتٌ أَوْ حَالٌ لِ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالِاكْتِتَابُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ لِحُصُولِ الْفِعْلِ، أَيْ حُصُولُهُ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ، فَيُفِيدُ قَوْلُهُ: اكْتَتَبَها أَنَّهُ تَكَلَّفَ أَنْ يَكْتُبَهَا. وَمَعْنَى هَذَا التَّكَلُّفِ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ أُمِّيًّا كَانَ إِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مجازيا فيؤول الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَأَلَ مَنْ يَكْتُبُهَا لَهُ، أَيْ يَنْقُلُهَا، فَكَانَ إِسْنَادُ الِاكْتِتَابِ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، وَالْقَرِينَةُ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ لَدَى الْجَمِيعِ مِنْ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَهَا لنَفسِهِ لَكَانَ يَقْرَأها بِنَفْسِهِ. فَالْمَعْنَى: اسْتَنْسَخَهَا. وَهَذَا كُلُّهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ النَّضْرِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، وَمُرَادُ النَّضْرِ بِهَذَا الْوَصْفِ تَرْوِيجُ بُهْتَانِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الزُّورَ مَكْشُوفٌ قَدْ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ النَّاسِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيءَ أُمِّيٌّ فَكَيْفَ يَسْتَمِدُّ قُرْآنَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَهَيَّأَ لِقَبُولِ ذَلِكَ أَنَّهُ كُتِبَتْ لَهُ، فَاتَّخَذَهَا عِنْدَهُ فَهُوَ يُنَاوِلُهَا لِمَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ فَيُمْلِي عَلَيْهِ مَا يَقُصُّهُ الْقُرْآنُ. وَالْإِمْلَاءُ: هُوَ الْإِمْلَالُ وَهُوَ إِلْقَاءُ الْكَلَامِ لِمَنْ يَكْتُبُ أَلْفَاظَهُ أَوْ يَرْوِيهَا أَوْ يَحْفَظُهَا. وَتَفْرِيعُ الْإِمْلَاءِ عَلَى الِاكْتِتَابِ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ إِمْلَاءَهَا عَلَيْهِ لِيَقْرَأَهَا أَوْ لِيَحْفَظَهَا. وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُ الْمَسَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [205] ، أَيْ تُمْلَى عَلَيْهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ لتلقي الأساطير. [6] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 6] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ لِرَدِّ بُهْتَانِ الْقَائِلِينَ إِنْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا إِفْكٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 إلى 9]

وَعَبَّرَ عَنْ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّلَةُ مِنِ اسْتِشْهَادِ الرَّسُولِ اللَّهَ عَلَى مَا فِي سِرِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ فِي كُلِّ مَكَانٍ. فَجُمْلَةُ الصِّلَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ، أَيِ الرَّسُولِ، عَالِمًا بِذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ اللَّهَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ. وَفِي ذَلِكَ إِيقَاظٌ لَهُمْ بِأَنْ يَتَدَبَّرُوا فِي هَذَا الَّذِي زَعَمُوهُ إِفْكًا أَوْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِيَظْهَرَ لَهُمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحَقَائِقِ النَّاصِعَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ، فَيُوقِنُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْزَالِهِ، وَلِيَعْلَمُوا بَرَاءَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ زَعَمُوهُمْ يُعِينُونَهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي السِّرَّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ سِرٍّ، وَمِنْهُ إِسْرَارُ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَبُهْتَانٍ، أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ ظُلْمًا وَزُورًا مِنْهُمْ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ مُوقِعُ جُمْلَةِ: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِقْلَاعِ عَنْ هَذِهِ الْمُكَابَرَةِ وَفِي اتِّبَاعِ دِينِ الْحَقِّ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَرْحَمَهُمْ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا وَيَتُوبُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْغَضَبُ وَالنِّقْمَةُ. [7- 9] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 7 الى 9] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها. انْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَبَيَانِ إِبْطَالِهَا إِلَى حِكَايَةِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَمَدْلُولُ الصِّفَةِ مُرَاعًى كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ أَوْرَدُوا طَعْنَهُمْ فِي نُبُوءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحَالَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ إِذْ أَوْرَدُوا اسْمَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ الَّتِي مَضْمُونُهَا مَثَارُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَعَجِيبِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ بُطْلَانُ كَوْنِهِ رَسُولًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَجُّبَ مِنَ الدَّعْوَى يَقْتَضِي اسْتِحَالَتَهَا أَوْ بُطْلَانَهَا. وَتَرْكِيبُ مَا لِهذَا وَنَحْوُهُ يُفِيدُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَمْرٍ ثَابِتٍ لَهُ، فَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ مُبْتَدَأٌ ولِهذَا خَبَرٌ عَنْهُ فَمَثَارُ الِاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ ثُبُوتُ حَالِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ لِلَّذِي يَدَّعِي الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ. فَجُمْلَةُ: يَأْكُلُ الطَّعامَ جُمْلَةُ حَالٍ. وَقَوْلُهُمْ: لِهذَا الرَّسُولِ أَجْرَوْا عَلَيْهِ وَصْفَ الرِّسَالَةِ مُجَارَاةً مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَيْهِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ التَّعَجُّبُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَالَةُ وَالْإِبْطَالُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِشَارَةَ مَا بَعْدَهَا مِنَ اسْمٍ مُعَرَّفٍ بِلَامِ الْعَهْدِ وَهُوَ الرَّسُولُ. وَكَنَّوْا بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَحْوَالِهِ لِأَحْوَالِ النَّاسِ تَذَرُّعًا مِنْهُمْ إِلَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَنِ اللَّهِ تَكُونُ أَحْوَالُهُ غَيْرَ مُمَاثِلَةٍ لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَخَصُّوا أَكْلَ الطَّعَامِ وَالْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 20] . ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى اقْتِرَاحِ أَشْيَاءَ تُؤَيِّدُ رِسَالَتَهُ فَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. وَخَصُّوا مِنْ أَحْوَالِ الرَّسُولِ حَالَ النِّذَارَةِ لِأَنَّهَا الَّتِي أَنْبَتَتْ حِقْدَهُمْ عَلَيْهِ. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، أَيْ لَوْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ ملك لَا تَبِعْنَاهُ. وَانْتَصَبَ (فَيَكُونَ) عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ. وَ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ فِي دَلَائِلِ الرِّسَالَةِ فِي وَهْمِهِمْ.

وَمَعْنَى يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَيْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كَانَ الْغِنَى فِتْنَةً لِقُلُوبِهِمْ. وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْطَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ. وَالْكَنْزُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [12] . وَجَعَلُوا إِعْطَاءَ جَنَّةٍ لَهُ عَلَامَةً عَلَى النُّبُوءَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْجَنَّةِ فِي مَكَّةَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَأْكُلُ مِنْها بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى هَذَا الرَّسُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ نَأْكُلَ مِنْها بِنُونِ الْجَمَاعَةِ. وَالْمَعْنَى: لِيَتَيَقَّنُوا أَنَّ ثَمَرَهَا حَقِيقَةٌ لَا سِحْرٌ. ذَكَرَ أَصْحَابُ السِّيَرِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي مَجْلِسٍ لَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ عَتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا الْبَخْتَرِيِّ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهِلِ بْنَ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي أُميَّة، والعاصي بْنَ وَائِلٍ، وَنُبَيْهَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرُوهَا تَدَاوَلهَا أَهَّلُ الْمَجْلِسِ إِذْ لَمْ يُعَيِّنْ أَهْلُ السِّيَرِ قَائِلَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَكُتِبَتْ لَام مَا لِهذَا مُنْفَصِلَةً عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَاتَّبَعَتْهُ الْمَصَاحِفُ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ فِيهِ، كَمَا كتب مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [49] ، وكما كتب: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ [36] ، وكما كتب: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [78] . وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الِانْفِصَالِ أَنَّهُ طَرِيقَةُ رَسْمٍ قَدِيمٍ كَانَتِ الْحُرُوفُ تُكْتَبُ مُنْفَصِلًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَا سِيَّمَا حُرُوفُ الْمَعَانِي فَعَامَلُوا

مَا كَانَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مُعَامَلَةَ مَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَبَقِيَتْ عَلَى يَدِ أَحَدِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ أَثَارَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصْلُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ كُلِّهَا الِانْفِصَالُ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْخُطُوطِ الْقَدِيمَةِ لِلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ وَصْلُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ تَحْسِينًا لِلرَّسْمِ وَتَسْهِيلًا لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَوَصْلُهُ اصْطِلَاحٌ. وَأَكْثَرُ مَا وصلوا مِنْهُ هُوَ الْكَلِمَةُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِثْلُ حُرُوفِ الْقَسَمِ أَوْ كَالْوَاحِدِ مِثْلُ (أَلْ) . وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا الظَّالِمُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَغَيَّرَ عُنْوَانَهُمُ الْأَوَّلَ إِلَى عُنْوَانِ الظُّلْمِ وَهُمْ هُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ اعْتِدَاءً عَلَى الرَّسُولِ بِنَبْزِهِ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَظُلْمُهُمْ لَهُ أَشَدُّ ظُلْمٍ، وَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ قَائِلَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى، أَيْ هُوَ مُبْتَكِرُ هَذَا الْبُهْتَانِ وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى جَمِيعِ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوهُ وَلَهَجُوا بِهِ. وَالْمَسْحُورُ: الَّذِي أَصَابَهُ السِّحْرُ، وَهُوَ يُورِثُ اخْتِلَالَ الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ، أَيْ مَا تَتْبَعُونَ إِلَّا رَجُلًا أَصَابَهُ خَلَلُ الْعَقْلِ فَهُوَ يَقُولُ مَا لَا يَقُولُ مِثْلَهُ الْعُقَلَاءُ. وَذَكَرَ رَجُلًا هُنَا لِتَمْهِيدِ اسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِأَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا الْخِطَابُ خَاطَبُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا أَنَّهُمْ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ بِأَنْ مَثَّلُوكَ بِرَجُلٍ مَسْحُورٍ.

[سورة الفرقان (25) : آية 10]

وَقَوْلُهُ: انْظُرْ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ بِالْأَمْرِ الْمَرْئِيِّ لِشِدَّةِ وُضُوحِهِ. وَ (كَيْفَ) اسْمٌ لِلْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالَةِ مُجَرَّدٌ هُنَا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّعْجِيبِ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي تَلْفِيقِ الْمَطَاعِنِ فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تَصِلُ بِهِمْ إِلَى دَلِيلٍ مُقْنِعٍ عَلَى مُرَادِهِمْ، فَفِعْلُ ضَلُّوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ هُمَا: مَعْنَى عَدَمِ التَّوَفُّقِ فِي الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى عَدَمِ الْوُصُولِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ هُنَا تَعْجِيبٌ مِنْ خَطَلِهِمْ وَإِعْرَاضٌ عَن مجاوبتهم. [10] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 10] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ عَلَى أَنْ أَنْزَلَ الْفَرْقَانَ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْمُشْرِكُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ مِنَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ النَّاشِئِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا اتَّخَذُوهُ مِنْ آلِهَةٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ مَا يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ بِمَا هُوَ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ وَمَنْ جَاءَ بِهَا. فَلَمَّا أُرِيدَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَاطِلِهِمْ وَالْإِقْبَالُ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ بِتَثْبِيتِهِ وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيدَ اللَّفْظُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ عَلَى طَرِيقَةِ وَصْلِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ [الْفرْقَان: 8] إِلَخْ، أَيْ إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ، أَيْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَيْ إِنْ شَاءَ عَجَّلَهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ جَنَّاتٍ فِي الدُّنْيَا وَقُصُورًا فِيهَا، أَيْ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِكَ فِي زَعْمِهِمْ بِأَنْ تَكُونَ عِدَّةَ جَنَّاتٍ وَفِيهَا قُصُورٌ. وَبِهَذَا فَسَّرَ

[سورة الفرقان (25) : آية 11]

جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ (لَوْ) ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ وَلَوْ شَاءَهُ لَفَعَلَهُ وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ عَدَمَ الْبَسْطِ لِلرَّسُولِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُدْرِكُونَ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ لَيْسَتِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا، أَيْ هِيَ جَنَّاتُ الْخُلْدِ وَقُصُورُ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ. وَاقْتِرَانُ هَذَا الْوَعْدِ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ جَارٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْوَعْدِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِحُصُولِهِ، فَاللَّهُ شَاءَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، بِأَنْ يُقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ. فَمَوْقِعُ إِنْ شاءَ اعْتِرَاضٌ. وَأَصْلُ الْمَعْنَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ إِلَى آخِرِهِ. وَيُسَاعِدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بِرَفْعِ يَجْعَلْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ دُونَ إِعْمَالِ حَرْفِ الشَّرْطِ، وَقِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ بِالْقَرِينَةِ، وَهَذَا الْمَحْمِلُ أَشَدُّ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَقَطْعًا لِمُجَادَلَتِهِمْ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الْفرْقَان: 11] ، وَهُوَ ضِدٌّ وَمُقَابِلٌ لِمَا أَعَدَّهُ لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالْقُصُورُ: الْمَبَانِي الْعَظِيمَةُ الْوَاسِعَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [74] ، وَقَوْلِهِ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فِي سُورَة الْحَج [45] . [11] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 11] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) بَلْ لِلْإِضْرَابِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ فِي صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ عَلَى تَأْوِيلِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الْفرْقَان: 10] كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 12 إلى 14]

عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ مِنَ الْوَعْدِ بِإِيتَائِهِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ بَلْ هُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِأَنَّ حَظَّ الرَّسُولِ عِنْدَ رَبِّهِ لَيْسَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي الْحَقِيرِ وَلَكِنَّهُ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ الْخَالِدَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، أَيْ أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَمُقْنِعٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ بِالسَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا فَهُمْ مُتَمَادُونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ لَا تُقْنِعُهُمُ الْحُجَجُ. وَالسَّاعَةُ: اسْمٌ غَلَبَ عَلَى عَالَمِ الْخُلُودِ، تَسْمِيَةً بِاسْمِ مَبْدَئِهِ وَهُوَ سَاعَةُ الْبَعْثِ. وَإِنَّمَا قَصَرَ تَكْذِيبَهُمْ عَلَى السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ فَهُمْ بِمَا وَرَاءَهُ أَحْرَى تَكْذِيبًا. وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً مُعْتَرِضَةٌ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ، وَهُوَ لِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَمِنْ غَرَضِهِ مُقَابَلَةُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَاقِبَةِ بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالسَّعِيرُ: الِالْتِهَابُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَسْعُورٌ، أَيْ زِيدَ فِيهَا الْوَقُودُ، وَهُوَ مُعَامَلٌ مُعَامَلَةَ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ اللَّهَبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [97] . وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَات سعير. [12- 14] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 12 إِلَى 14] إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) تَخَلَّصَ مِنَ الْيَأْسِ مِنِ اقْتِنَاعِهِمْ إِلَى وَصْفِ السَّعِيرِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ، وَأُجْرِيَ عَلَى السَّعِيرِ ضَمِيرُ رَأَتْهُمْ بِالتَّأْنِيثِ لِتَأْوِيلِ السَّعِيرِ بِجَهَنَّمَ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى النَّارِ اسْتِعَارَةٌ وَالْمَعْنَى: إِذَا سِيقُوا إِلَيْهَا فَكَانُوا مِنَ النَّارِ بِمَكَانٍ مَا يَرَى الرَّائِي مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا مِنْ مَكَانٍ

بَعِيدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: رَأَتْهُمْ رَآهُمْ مَلَائِكَتُهَا أَطْلَقُوا مَنَافِذَهَا فَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهَا بِأَصْوَاتِ اللَّهِيبِ كَأَصْوَاتِ الْمُتَغَيِّظِ وَزَفِيرِهِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى جَهَنَّمَ مَجَازًا عَقْلِيًّا. وَالتَّغَيُّظُ: شِدَّةُ الْغَيْظِ. وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [119] . فَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ هُنَا الْمَوْضُوعَةُ فِي الْأَصْلِ لِتَكَلُّفِ الْفِعْلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي قُوَّتِهِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّفَ لِفِعْلٍ يَأْتِي بِهِ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا صَوْتُ الْمُتَغَيِّظِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ: سَمِعُوا فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالزَّفِيرُ: امْتِدَادُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَضِيقِ الصَّدْرِ، أَيْ صَوْتًا كَالزَّفِيرِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَلَقَ لِجَهَنَّمَ إِدْرَاكًا لِلْمَرْئِيَّاتِ بِحَيْثُ تَشْتَدُّ أَحْوَالُهَا عِنْدَ انْطِبَاعِ الْمَرْئِيَّاتِ فِيهَا فَتَضْطَرِبُ وَتَفِيضُ وَتَتَهَيَّأُ لِالْتِهَامِ بَعْثِهَا فَتَحْصُلُ مِنْهَا أَصْوَاتُ التَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ حَقِيقَةً، وَأُمُورُ الْعَالَمِ الْأُخْرَى لَا تُقَاسُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الصَّيْفِ وَنَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ» رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» : زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَمَا تَرَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَذَلِكَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا وَمَا تَرَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَهُوَ مِنْ سَمُومِهَا» . وَجُعِلَ إِزْجَاؤُهُمْ إِلَى النَّارِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ زِيَادَة فِي الْكِنَايَة بِهِمْ لِأَنَّ بُعْدَ الْمَكَانِ يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ إِلَى الْوُصُولِ وَيَقْتَضِي طُولَ الرُّعْبِ مِمَّا سَمِعُوا. وَوَصَفَ وُصُولَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَوَضْعَهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً فَصِيغَ نَظْمُهُ فِي صُورَةِ تَوْصِيفِ ضَجِيجِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، وَأَدْمَجَ فِي خِلَالِ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 إلى 16]

ذَلِكَ وَصْفَ دَاخِلِ جَهَنَّمَ وَوَصْفَ وَضْعِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: مَكاناً ضَيِّقاً وَقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ تَفَنُّنًا فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهَانَةِ. وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَيِّقاً بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ضَيِّقاً بِسُكُونِ الْيَاءِ وَكِلَاهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلُ: مَيِّتٍ وَمَيْتٍ، لِأَنَّ الضَّيِّقَ بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، وَالضَّيْقَ بِالسُّكُونِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ. ومُقَرَّنِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أُلْقُوا أَيْ مُقَرَّنًا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَحَالِ الْأَسْرَى وَالْمَسَاجِينِ أَنْ يُقْرَنَ عَدَدٌ مِنْهُمْ فِي وِثَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص: 38] . وَالْمُقَرَّنُ: الْمَقْرُونُ، صِيغَتْ لَهُ مَادَّةُ التَّفْعِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ الْقَرْنِ. وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ بِأَعْلَى الصَّوْتِ، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ، أَيْ نَادَوْا: يَا ثبورنا، أَو وَا ثبوراه بِصِيغَةِ النُّدْبَةِ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالنِّدَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَنِّي، أَيْ تَمَنَّوْا حُلُولَ الْهَلَاكِ فَنَادَوْهُ كَمَا يُنَادَى مَنْ يُطْلَبُ حُضُورُهُ، أَوْ نَدَبُوهُ كَمَا يُنْدَبُ مَنْ يُتَحَسَّرُ عَلَى فَقْدِهِ، أَيْ تَمَنَّوُا الْهَلَاكَ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ فَظِيعِ الْعَذَابِ. وَجُمْلَةُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إِلَى آخِرِهَا مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ، وَوصف الثبور با لكثير إِمَّا لِكَثْرَةِ نِدَائِهِ بِالتَّكْرِيرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الثُّبُورِ لِأَنَّ انْتِهَاءَ النِّدَاءِ يَكُونُ بِحُضُورِ الْمُنَادَى، أَوْ هُوَ يَأْسٌ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ التَّمَنِّي أَو التحسر. [15، 16] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 15 إِلَى 16] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً

(16) الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي مُخَاطَبًا مَقُولًا لَهُ ذَلِكَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ: قُلْ لَهُمْ، أَيْ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ السَّابِقَ: «أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمِ الْجَنَّةُ» ؟ فَالْجُمَلُ مُتَّصِلَةُ السِّيَاقِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّهَكُّمِ إِذْ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِ الْجَنَّةِ الْمَوْصُوفَةِ خَيْرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَاتِ الْوَعِيدِ لِمُنَاسَبَةِ إِبْدَاءِ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمل فِي التلميح وَالتَّلَطُّفِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [62] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَكَانِ الضَّيِّقِ فِي جَهَنَّمَ. وخَيْرٌ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَصْلُهُ (أَخْيَرُ) بِوَزْنِ اسْمِ التَّفْضِيلِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالتَّفْضِيلُ عَلَى الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّهَكُّمِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَعَلَى الْمَحْمِلِ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّمْلِيحِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ. وَوَصْفُ الْمَوْعُودِينَ بِأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ عَلَى الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَعَلَى الْمَحْمِلِ الثَّانِي جَارٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِر أَن يُؤْتى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، فَوَجْهُ الْعُدُولِ إِلَى الْإِظْهَارِ مَا يُفِيدُهُ الْمُتَّقُونَ مِنَ الْعُمُومِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ. وَجُمْلَةُ: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْجَنَّةِ بِتَنْكِيرِ جَزاءً وَمَصِيراً مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا وَعْدَ مُجَازَاةٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الْكَهْف: 31] وَقَوله: بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [31- 29] . وَجُمْلَةُ: لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ، حَالٌ مِنْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ. وَجُمْلَةُ: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا حَالٌ ثَانِيَةٌ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَعْدًا لَهُمْ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً عَائِدٌ إِمَّا إِلَى الْوَعْدِ الْمَفْهُومِ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 18]

مِنْ قَوْلِهِ: الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، أَيْ كَانَ الْوَعْد وَعدا مسؤولا وَأَخْبَرَ عَنِ الْوَعْدِ بِ وَعْداً وَهُوَ عَيْنُهُ ليبنى عَلَيْهِ مَسْؤُلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا يَشاؤُنَ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ وَعْداً مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ وَالْمُرَادُ الْمَفْعُولُ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَيَتَعَلَّقُ: عَلى رَبِّكَ بِ وَعْداً لِتَضْمِينِ وَعْداً مَعْنَى (حَقًّا) لِإِفَادَةِ أَنَّهُ وَعْداً لَا يُخْلَفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَالْمَسْئُولُ: الَّذِي يَسْأَلُهُ مُسْتَحِقُّهُ وَيُطَالِبُ بِهِ، أَيْ حَقًّا لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَتَرَقَّبُوا حُصُولَهُ كَأَنَّهُ أَجْرٌ لَهُمْ عَنْ عَمَلٍ. وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْكَرَمِ كَمَا يَشْكُرُكَ شَاكِرٌ عَلَى إِحْسَانٍ فَتَقُولُ: مَا أَتَيْتُ إِلَّا وَاجِبًا، إِذْ لَا يَتَبَادَرُ هُنَا غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى سِوَى أَنَّهُ تَفَضُّلٌ وَتَعَهُّدٌ بِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي هَذَا أَهْلُ الْمِلَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إخلاف الْوَعْد. [17، 18] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 17 إِلَى 18] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) عُطِفَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ إِمَّا عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ [الْفرْقَان: 15] إِنْ كَانَ الْمُرَادُ: قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الْفرْقَان: 11] عَلَى جَوَازِ أَنَّ الْمُرَادَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَانْتِصَابُ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ

مَعْلُومٍ فِي سِيَاقِ أَمْثَالِهِ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِالسَّعِيرِ وَمَا يُلَاقُونَ مِنْ هَوْلِهَا بَيَّنَ لَهُمْ حَالَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ حَالُهُمْ فِي الْحَشْرِ مَعَ أَصْنَامِهِمْ. وَهَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْهَوْلِ لَهُمْ فِي الْمَحْشَرِ إِذْ يُشَاهِدُونَ خَيْبَةَ آمَالِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ إِذْ يَرَوْنَ حَقَارَتَهَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَتَبَرُّؤَهَا مِنْ عُبَّادِهَا وَشَهَادَتَهَا عَلَيْهِمْ بِكُفْرَانِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِذْ يَسْمَعُونَ تَكْذِيبَ مَنْ عَبَدُوهُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْجِنِّ وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِالضَّلَالَاتِ. وَعُمُومُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما يَعْبُدُونَ شَامِلٌ لِأَصْنَافِ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي عَبَدُوهَا وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ (مَا) الْمَوْصُولَةُ لِأَنَّهَا تَصْدُقُ عَلَى الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ. عَلَى أَنَّ التَّغْلِيبَ هُنَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَالْخِطَابُ فِي أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ لِلْعُقَلَاءِ بِقَرِينَةِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ. فَجُمْلَةُ: قالُوا سُبْحانَكَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَحْشُرُهُمْ بِالنُّونِ وَيَقُول بِالْيَاءِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوب يَحْشُرُهُمْ وفَيَقُولُ لَهما بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ نَحْشُرُهُمْ وَنَقُولُ كِلَيْهِمَا بِالنُّونِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِلِاسْتِنْطَاقِ وَالِاسْتِشْهَادِ. وَالْمَعْنَى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمُوهُمْ أَمْ ضَلُّوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ تَضْلِيلٍ مِنْكُمْ. فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ. وَأَخْبَرَ بِفِعْلِ: أَضْلَلْتُمْ عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُنْفَصِلِ وَبِفِعْلِ ضَلُّوا عَنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِينَ الْمُنْفَصِلِ لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا عَلَى الْخَبَرَيْنِ الْفِعْلِيَّيْنِ تَقَوِّي الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ بِهِ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا مَنَاصَ لَهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا مَحَالَةَ. فَالْمَقْصُودُ بِالتَّقْوِيَةِ هُوَ مُعَادِلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ.

وَالْمُجِيبُونَ هُمُ الْعُقَلَاءُ مِنَ الْمَعْبُودِينَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُمْ: سُبْحانَكَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ كُنِّيَ بِهَا عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلٍ فَظِيعٍ. كَقَوْلِ الْأَعْشَى: قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ [16] : سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ ضَمِيرِ نَحْشُرُهُمْ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَرَّعَتْهُمُ الْآيَةُ بِالْوَعِيدِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ إِلَى قَوْله: مَسْحُوراً [الْفرْقَان: 7، 8] لَكِنْ مَا يَقْتَضِيهِ وَصْفُهُمْ بِ الظَّالِمُونَ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ [الْفرْقَان: 11] مِنْ شُمُولِ كُلِّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ نَحْشُرُهُمْ عَائِدًا إِلَى لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ فَيَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنِ انْقَرَضَ مِنْهُمْ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَمَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَوَصْفُ الْعِبَادِ هُنَا تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِهِمْ حَقَّهَا. وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ لِتَمْيِيزِهِمْ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْعِبَادِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَدَى الْقَاضِي. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِي الْأَصْنَامِ نُطْقًا يَسْمَعُهُ عَبَدَتُهَا، أَمَّا غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ ضَلُّوا فِي قَوْلِهِ: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ لِيَجْرِيَ عَلَى ضَمِيرِهِمْ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ فَيُفِيدُ التَّقَوِّيَ فِي نِسْبَةِ الضَّلَالِ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَمْ هُمْ ضَلُّوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ تَضْلِيلٍ مِنْكُمْ. وَحَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى بِ (عَنْ) وَلَكِنَّهُ عُدِّيَ بِنَفْسِهِ لتَضَمّنه معنى (أخطؤوا) ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وسُبْحانَكَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَقَامِ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ أَنْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.

وَمَعْنَى: مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا مَا يُطَاوِعُنَا طَلَبُ أَنْ نَتَّخِذَ عَبَدَةً لِأَنَّ (انْبَغَى) مُطَاوِعُ (بَغَاهُ) إِذَا طَلَبَهُ. فَالْمَعْنَى: لَا يُمْكِنُ لَنَا اتِّخَاذُنَا أَوْلِيَاءَ، أَيْ عِبَادًا، قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [92] . وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ طَلَبِهِمْ هَذَا الِاتِّخَاذَ انْتِفَاءً شَدِيدًا، أَيْ نَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ نَفْيَ (كَانَ) وَجَعْلَ الْمَطْلُوبِ نَفْيُهُ خَبَرًا عَنْ (كَانَ) أَقْوَى فِي النَّفْيِ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى جُحُودًا. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ، أَيْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا فَكَيْفَ نُحَاوِلُهُ. (وَمن) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِكَ لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يُضَافُ إِلَيْهِ (دُونَ) نَحْوُ: جَلَسْتُ دُونَ، أَيْ دُونَ مَكَانِهِ، فَمَوْقِعُ (مِنْ) هُنَا مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ أَوْلِياءَ. وَأَصْلُهَا صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا. وَالْمَعْنَى: لَا نَتَّخِذُ أَوْلِيَاءَ لَنَا مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبِكَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَكَ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَعَنِ ابْنِ جِنِّيٍّ: أَنَّ (مِنْ) هُنَا زَائِدَةٌ. وَأَجَازَ زِيَادَةَ (مِنْ) فِي الْمَفْعُولِ. و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوْلِياءَ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيِ اسْتِغْرَاقِهِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى التَّابِعِ فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُرَادِفُ الْمَوْلَى فَيَصْدُقُ عَلَى كِلَا طَرَفَيِ الْوَلَاءِ، أَيْ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ، أَوِ النَّاصِرِ وَالْمَنْصُورِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْوَلِيُّ التَّابِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [45] ، أَيْ لَا نَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَتَّخِذَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ نَتَّخِذَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أَنْ يَتَّخِذَنَا النَّاسُ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ دُونِكَ. فَمَوْقِعُ مِنْ دُونِكَ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَتَّخِذَ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنهم يتبرّؤون مِنْ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ لِعِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا تَسْفِيهٌ لِلَّذِينَ عَبَدُوهُمْ

وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ مُوَالَاتَهُمْ. وَالْمَعْنَى لَا نَتَّخِذُ مَنْ يُوَالِينَا دُونَكَ، أَيْ مَنْ يَعْبُدُنَا دُونَكَ. وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ (لَكِن) ناشىء عَن التبري مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُضِلِّينَ لَهُمْ بِتَعْقِيبِهِ بِبَيَانِ سَبَبِ ضَلَالِهِمْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَبْرِئَةَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ يَرْفَعُ تَبِعَةَ الضَّلَالِ عَنِ الضَّالِّينَ. وَالْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْرَاكِ مَا بَعْدَ (حَتَّى) وَهُوَ نَسُوا الذِّكْرَ. وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا فَقَدْ أُدْمِجَ بَيْنَ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ وَمَدْخُولِهِ مَا يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ فَظَاعَةَ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَابَلُوا رَحْمَةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ بِالْكُفْرَانِ، فَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ مَتَّعَ الضَّالِّينَ وَآبَاءَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِسَعَةِ الرَّحْمَةِ، وَفِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُقَابَلَةَ النِّعْمَةِ بِالْكُفْرَانِ غَضَبًا عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَ نِسْيَانَهُمُ الذِّكْرَ غَايَةً لِلتَّمْتِيعِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّمْتِيعَ أَفْضَى إِلَى الْكُفْرَانِ لِخُبْثِ نُفُوسِهِمْ فَهُوَ كَجَوْدٍ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] . وَالتَّعَرُّضُ إِلَى تَمْتِيعِ آبَائِهِمْ هُنَا مَعَ أَنَّ نِسْيَانَ الذِّكْرِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَنَسُوا الذِّكْرَ، أَيْ الْقُرْآنَ، هُوَ زِيَادَةُ تَعْظِيمِ نِعْمَةِ التَّمْتِيعِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا نِعْمَةٌ مُتَأَثِّلَةٌ تَلِيدَةٌ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَدِ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِشَنَاعَةِ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ نَسُوا وَضَمِيرَ كانُوا عَائِدَانِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْإِسْلَامِ دُونَ آبَائِهِمْ لِأَنَّ الْآبَاءَ لَمْ يَسْمَعُوا الذِّكْرَ. وَالنِّسْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ عَمْدٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضٌ يُشْبِهُ النِّسْيَانَ فِي كَوْنِهِ عَنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا بَصِيرَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [41] . وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يَتَذَكَّرُ بِهِ الْحَقَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة الفرقان (25) : آية 19]

وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . وَالْبُورُ: جَمْعُ بَائِرٍ كَالْعُوذِ جَمْعِ عَائِذٍ، وَالْبَائِرُ: هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوَارُ، أَيِ الْهَلَاكُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيم: 28] أَيِ الْمَوْتِ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْبَوْرُ لِشِدَّةِ سُوءِ الْحَالَةِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الَّذِي يَعُدُّ الْهَلَاكَ آخِرَ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْحَيُّ مِنْ سُوءِ الْحَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَة: 42] ، أَيْ سُوءُ حَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَقِيلَ: الْبَوَارُ الْفَسَادُ فِي لُغَةِ الْأَزْدِ وَأَنَّهُ وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لُغَةِ مُضَرَ. وَاجْتِلَابُ فِعْلِ (كَانَ) وَبِنَاءُ بُوراً عَلَى قَوْماً دُونَ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَبَارُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْبَوَارِ مِنْهُمْ بِمَا تَقْتَضِيهِ (كَانَ) مَنْ تَمَكُّنِ مَعْنَى الْخَبَرِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ (قَوْمًا) مِنْ كَوْنِ الْبَوَارِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . [19] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 19] فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً. الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِفْصَاحٌ عَنْ حُجَّةٍ بَعْدَ تَهْيِئَةِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَهُوَ إِفْصَاحٌ رَائِعٌ وَزَادَهُ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبُوكُمْ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ فِعْلِ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ قُلْتُمْ هَؤُلَاءِ آلِهَتُنَا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا أَيْ إِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَ. وَفِي حَذْفِ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِحْضَارٌ لِصُورَةِ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ غَيْرُ مَحْكِيٍّ وَكَأَنَّ السَّامِعَ آخِرَ الْآيَةِ قَدْ سَمِعَ لِهَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مُبَاشَرَةً دُونَ حِكَايَةٍ فَقَرَعَ سَمْعَهُ شَهَادَةُ الْأَصْنَامِ عَلَيْهِمْ

[سورة الفرقان (25) : آية 20]

ثُمَّ قَرَعَ سَمْعَهُ تُوَجُّهُ خِطَابِ التَّكْذِيبِ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْحِكَايَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى تَخْيِيلِ الْمَحْكِيِّ وَاقِعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [الْقَمَر: 48] . فَجُمْلَةُ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ هُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يُوسُف: 29] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما تَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ تَكْذِيبًا وَاقِعًا فِيمَا تَقُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ بِسَبَبِ مَا تَقُولُونَ. و (مَا) مَوْصُولَةٌ. وَالَّذِي قَالُوهُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُمْ دَعَوْهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوهُمْ. وَفُرِّعَ عَلَى الْإِعْلَانِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ تَأْيِيسُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا، أَيْ صَرْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ، وَلَا نَصْرًا، أَيْ إِلْحَاقَ ضُرٍّ بِمَنْ يَغْلِبُهُمْ. وَوَجْهُ التَّفْرِيعِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلهم سُبْحانَكَ [الْفرْقَان: 18] الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَطِيعُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً. تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يَشْمَلُ عُمُومُهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَيَكُونُ خِطَابُ مِنْكُمْ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ مُعَذَّبُونَ عَذَابًا كَبِيرًا: وَالْعَذَابُ الْكَبِيرُ هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ. [20] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 20] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ.

هَذَا رَدٌّ على قَوْلهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] بَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: 8] بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الْفرْقَان: 10] ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ حَالَةً لَمْ تُعْطَ للرسل فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا كَانَ رَدُّ قَوْلِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَأما قَوْلهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ فَقَدْ تَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى إِبْطَالِ رِسَالَتِهِ بِثُبُوتِ صِفَاتِ الْبَشَرِ لَهُ، فَكَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِصِفَاتِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ مُنْكِرِينَ وُجُودَ رُسُلٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ قَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] ، وَإِذ كَانُوا مَوْجُودِينَ فَبِالضَّرُورَةِ كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ إِذْ هُمْ مِنَ الْبَشَرِ وَيَمْشُونَ فِي أَسْوَاقِ الْمُدُنِ وَالْبَادِيَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ تَكُونُ فِي مَجَامِع النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ مُوسَى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] . وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو قُرَيْشًا فِي مَجَامِعِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ وَيَدْعُو سَائِرَ الْعَرَبِ فِي عُكَاظٍ وَفِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ. وَجُمْلَةُ: لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عُمُومُ الْأَحْوَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ. وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْحَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي تَنَاسِيهِمْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ. وَلَمْ تَقْتَرِنْ جُمْلَةُ الْحَالِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ وُجُودَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَافٍ فِي الرَّبْطِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَأَكَّدَ الرَّبْطُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فَلَا يُزَادُ حَرْفٌ آخَرُ فَيَتَوَالَى أَرْبَعَةُ حُرُوفٍ وَهِيَ: إِلَّا، وَإِنَّ، وَاللَّامُ، وَيُزَادُ الْوَاوُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحجر: 4] ، وَقَوْلِهِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاء: 208] . وَإِنَّمَا أَبْقَى اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ لِلْبَشَرِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَسْبَابِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي تَغْيِيرِ حَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُغَيِّرُ اللَّهُ حَيَاتَهُمُ

النَّفْسِيَّةَ لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِهَا إِعْدَادَ نُفُوسِهِمْ لِتَلَقِّي الْفَيُوضَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَلِلَّهِ تَعَالَى حِفَاظٌ عَلَى نَوَامِيسِ نِظَامِ الْخَلَائِقِ وَالْعَوَالِمِ لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهَا عَبَثًا فَهُوَ لَا يُغَيِّرُهَا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ مِنْ تَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً. تَذْيِيلٌ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: بَعْضَكُمْ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَكِلَا الْبَعْضَيْنِ مُبْهَمٌ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ. وَحَالُ الْفِتْنَةِ فِي كِلَا الْبَعْضَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْعَقِيدَةِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَمْنِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَبْدَانِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ فِتْنَةً مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، وَشَمِلَ أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ حَالُ الرَّسُولِ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِلرِّسَالَةِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَعْفِهِمْ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يُسَوِّيهِمْ بِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بن الْمُغيرَة والعاصي بْنُ وَائِلٍ وَأَضْرَابُهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ أَسْلَمْنَا وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ تَرَفَّعُوا عَلَيْنَا إِدْلَالًا بِالسَّابِقَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِ صَنَادِيدِ قَوْمِ نُوحٍ لَا نُؤْمِنُ حَتَّى تَطْرُدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ فَقَالَ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: 29، 30] . وَقَالَ تَعَالَى لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: 52، 53] .

وَالْكَلَامُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: أَتَصْبِرُونَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَالْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: 91] . وَمَوْقِعُ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً مَوْقِعُ الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِالصَّابِرِينَ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ جَزَاءَ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّهُ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي الْإِسْنَادِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ إِلْمَاعٌ إِلَى هَذَا الْوَعْدِ فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يُضَيِّعُ أَوْلِيَاءَهُ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: 97- 99] أَيِ النَّصْر الْمُحَقق.

[سورة الفرقان (25) : آية 21]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 21] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) حِكَايَةُ مُقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ عَنْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَعَنْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَقَالَاتِ السَّابِقَةِ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفرْقَان: 4] وب الظَّالِمُونَ [الْفرْقَان: 8] لِأَنَّ بَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ وَبَين مقالتهم انْتِقَاض، فهم قد كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَطَلَبُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرَادُوا تَلَقِّيَ الدِّينِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنَ اللَّهِ مُبَاشَرَةً، فَكَانَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَذِكْرِ وَصْفِهِمْ تَعْجِيبٌ مِنْ تَنَاقُضِ مَدَارِكِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ شَهِدُوا أَنْفُسُهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِي إِنْكَارِهِ أَقْوَى حُجَّةٍ لَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَيْضًا جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ طَرِيقًا لِتَعْرِيفِهِمْ بِالْمَوْصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [15] . ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ وَالِاسْتِحَالَةِ، أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فَنُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيَسْأَلْ مِنْ رَبِّهِ وَسِيلَةً أُخْرَى لِإِبْلَاغِ الدِّينِ إِلَيْهِمْ. وَمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ لَا يَظُنُّونَ ظَنًّا قَرِيبًا، أَيْ يَعُدُّونَ لِقَاءَ اللَّهِ مُحَالًا. وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ مَقَالِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً عَلَى مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنَ ازْدِهَائِهِمْ وَغُرُورِهِمُ الْبَاطِلِ.

[سورة الفرقان (25) : آية 22]

وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ لِأَنَّ الْقَسَمَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ أَوْ بَنِي نُمَيْرٍ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ فِي «مَجَالِسِهِ» وَالْقَالِيُّ فِي «أَمَالِيهِ» : أَلَا يَا سَنَا بَرْقٍ عَلَى قُلَلِ الْحِمَى ... لَهِنَّكَ مِنْ بَرْقٍ عَلَيَّ كَرِيمُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَرْقٍ، فِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّمْيِيزُ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ. وَالِاسْتِكْبَارُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالظُّرُوفِ فِي تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِ مِنْهَا، أَيْ هُوَ اسْتِكْبَارٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا» الْحَدِيثَ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا لِأَجْلِ عَظَمَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ. وَلَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ حَقِيقِيَّةً لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسِيَّةِ. وَالْعُتُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فِي الْأَعْرَافِ [77] . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا مِقْدَارَ مَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقَابِلِيَّةِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ لَا تَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ إِعْدَادٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] . [22] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 22] يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ جَوَابٌ عَنْ مَقَالَتِهِمْ، فَبَعْدَ إِبْدَاءِ التَّعْجِيبِ مِنْهَا عَقَّبَ بِوَعِيدٍ لَهُمْ، فِيهِ حُصُولُ بَعْضِ مَا طَلَبُوا حُصُولَهُ الْآنَ، أَيْ هُمْ سَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَكِنَّهَا رُؤْيَةٌ تَسُوءُهُمْ حِينَ يَرَوْنَ زَبَانِيَةَ الْعَذَابِ يَسُوقُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَاف تلميح وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ مُطَمِّعٌ بِالِاسْتِجَابَةِ وَآخِرَهُ مُؤَيَّسٌ بِالْوَعِيدِ، فَالْكَلَامُ جَرَى

عَلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ إِبْلَاغُهُ لَهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَهُ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ يَرَوْنَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ لَا بُشْرى. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِإِثَارَةِ الطَّمَعِ وَلِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَعْيِينِ إِبَّانِهِ حَتَّى إِذَا وَرَدَ مَا فِيهِ خَيْبَةُ طَمَعِهِمْ كَانَ لَهُ وَقْعُ الْكَآبَةِ عَلَى نُفُوسِهِمْ حِينَمَا يَسْمَعُونَهُ. وَإِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ تَأْكِيدٌ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْيَأْسِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ. وَانْتِفَاءُ الْبُشْرَى مُسْتَعْمَلٌ فِي إِثْبَاتِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْحُزْنُ. وَ (حِجْرٌ) - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى النُّدْرَةِ- فَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُونَهَا عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُخَافُ مِنْ إِصَابَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَاذَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى الرَّجُلَ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ يَقُولُ لَهُ: حِجْراً مَحْجُوراً، أَيْ حَرَامٌ قَتْلِي، وَهِيَ عُوذَةٌ. وَ (حِجْرٌ) مَصْدَرُ: حَجَرَهُ، إِذَا مَنَعَهُ، قَالَ تَعَالَى وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: 138] ، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَازِمُ النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمَنْصُوبِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مِثْلُ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَأَمَّا رَفْعُهُ فِي قَول الرّاجز: قَالَت فِيهَا حَيْدَةٌ وَذُعْرُ ... عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمُ وَحِجْرُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الرَّفْعَ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذَا الْغَرَضِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الرَّاجِزُ. وَأَمَّا رَفْعُ (حِجْرٌ) فِي غَيْرِ حَالَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِلتَّعَوُّذِ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَنْصُوبًا لَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: 53] ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ جَعَلَ وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا. ومَحْجُوراً وَصَفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَذَيْلٌ ذَائِلٌ، وَشعر شَاعِر.

[سورة الفرقان (25) : آية 23]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 23] وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعُدُّونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَجْلَبَةً لِخَيْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَيُجَازِيهِمْ بِنِعَمٍ فِي الدُّنْيَا إِذَ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَقَدْ قَالَتْ خَدِيجَةُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِ مَا بَدَأَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» ، فَقَالَتْ: «وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» . فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَئِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا لَنَجِدَنَّ أَعْمَالًا عَمِلْنَاهَا مِنَ الْبِرِّ تَكُونُ سَبَبًا لِنَجَاتِنَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَكُونُ كَالْعَدَمِ يَوْمَئِذٍ. وَالْقُدُومُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْعَمْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَأَفْعَالُ الْمَشْيِ وَالْمَجِيءِ تَجِيءُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَعَانِي الْقَصْدِ وَالْعَزْمِ وَالشُّرُوعِ مِثْلُ: قَامَ يَفْعَلُ، وَذَهَبَ يَقُولُ، وَأَقْبَلَ، وَنَحْوِهَا. وأصل ذَلِك ناشىء عَنْ تَمْثِيلِ حَالِ الْعَامِدِ إِلَى فِعْلٍ بِاهْتِمَامٍ بِحَالِ مَنْ يَمْشِي إِلَيْهِ، فَمَوْقِعُهُ فِي الْكَلَامِ أَرْشَقُ مِنْ أَن يَقُول: وعمدنا أَوْ أَرَدْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَمَلٍ بَيَانِيَّةٌ لِإِبْهَامِ مَا وَتَنْكِيرُ عَمَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَمَلُ الْخَيْرِ، أَيْ إِلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْخَيْرِ. وَالْهَبَاءُ: كَائِنَاتٌ جِسْمِيَّةٌ دَقِيقَةٌ لَا تُرَى إِلَّا فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الْمُنْحَصِرَةِ فِي كُوَّةٍ وَنَحْوِهَا، تَلُوحُ كَأَنَّهَا سَابِحَةٌ فِي الْهَوَاءِ وَهِيَ أَدَقُّ مِنَ الْغُبَارِ، أَيْ فَجَعَلْنَاهُ كَهَبَاءٍ مَنْثُورٍ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهِمْ- فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً- بِالْهَبَاءِ فِي عَدَمِ إِمْسَاكِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَهُوَ هُنَا رَشِيقٌ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة: 5، 6] . وَالْمَنْثُورُ: غَيْرُ الْمُنْتَظِمِ، وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ الْهَبَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْثُورًا، فَذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي الْهَبَاءِ مِنَ الْحَقَارَةِ وَمن التَّفَرُّق. [24] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 24] أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جِيءَ بِهِ لِمُقَابَلَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ بِضِدِّهَا مِنْ حَالِ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 26]

أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ عُلِمَ أَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَتَعَيَّنَتِ الْجَنَّةُ لِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، إِذْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ: مُشْرِكُونَ ومُؤْمِنُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَهُمْ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. وَالْخَيْرُ هُنَا: تَفْضِيلٌ، وَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ أَحْسَنُ. وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ. وَالْمَقِيلُ: الْمَكَان الَّذِي يؤوى إِلَيْهِ فِي الْقَيْلُولَةِ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عَادَة المترفين. [25، 26] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ [الْفرْقَان: 22] . وَالْمَقْصُودُ تَأْيِيسِهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِأَعْمَالِهِمْ وَبِآلِهَتِهِمْ وَتَأْكِيدُ وَعِيدِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ وصف بعض شؤون ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ يَوْمُ تَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ. وَأُعِيدَ لَفْظُ يَوْمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَمَكَانِ الضَّمِيرِ. وَالتَّشَقُّقُ: التَّفَتُّحُ بَيْنَ أَجْزَاءٍ مُلْتَئِمَةٍ، وَمِنْهُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] . وَلَعَلَّهُ انْخِرَاقٌ يَحْصُلُ فِي كُوَرِ تِلْكَ الْعَوَالِمِ، وَالَّذين قَالُوا: السَّمَوَات لَا تَقْبَلُ الْخَرْقَ ثُمَّ الِالْتِئَامَ بَنَوْهُ عَلَى تَخَيُّلِهِمْ إِيَّاهَا كَقِبَابٍ مِنْ مَعَادِنَ صُلْبَةٍ، وَالْحُكَمَاءُ لَمْ يَصِلُوا إِلَى حَقِيقَتِهَا حَتَّى الْآنَ. وَتَشَقُّقُ السَّمَاءِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَاهُ زَوَالُ الْحَوَاجِزِ وَالْحُدُودِ الَّتِي كَانَتْ تَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ مُبَارَحَةِ سَمَاوَاتِهِمْ إِلَّا مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِذَلِكَ، فَاللَّامُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ بَيْنَ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: يَوْمَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاء. قَالَ [تَعَالَى] : وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] عَلَى أَنَّ التَّشَقُّقَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى انْجِلَاءِ النُّورِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

فَانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الصُّبْحِ جَافِلَةً ... عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ الْقَانِصَ اللَّحِمَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هُنَالِكَ انْبِثَاقًا وَانْتِفَاقًا يُقَارِنُهُ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِانْشِقَاقَ إِذْنٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِالْحُضُورِ إِلَى مَوْقِعِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالتَّنْزِيلِ يَقْتَضِي أَن السَّمَوَات الَّتِي تَنْشَقُّ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى مِنْ مَكَانِ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَشَقَّقُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ. وَالْغَمَامُ: السَّحَابُ الرَّقِيقُ. وَهُوَ مَا يَغْشَى مَكَانَ الْحِسَابِ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [210] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْغَمامِ قِيلَ بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ تَشَقَّقَ عَنْ غَمَامٍ يَحُفُّ بِالْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ يَكُونُ غَمَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ قُوَّةٌ تَنْشَقُّ بِهَا السَّمَاءُ لِيَنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ مِثْلُ قُوَّةِ الْبَرْقِ الَّتِي تَشُقُّ السَّحَابَ. وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ تَشَقَّقُ مُلَابِسَةً لِغَمَامٍ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ التَّشَقُّقِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مُقَارَنَةَ الْغَمَام الْمَلَائِكَة، فَدَعِ الْفَهْمَ يَذْهَبْ فِي تَرْتِيبِ ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ. وَأَكَّدَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ نُزُولٌ بِالذَّاتِ لَا بِمُجَرَّدِ الِاتِّصَالِ النُّورَانِيِّ مِثْلِ الْخَوَاطِرِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تُشَعْشِعُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكَمَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَرَفْعِ الْمَلائِكَةُ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنُنَزِّلُ بِنُونَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ وَبِضَمِّ اللَّامِ وَنَصْبِ الْمَلائِكَةُ. وَقَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ هُوَ صَدْرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ [الْفرْقَان: 22] وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَكْرِيرِ يَوْمَئِذٍ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 27 إلى 29]

والْحَقُّ: الْخَالِصُ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ذَهَبٌ حَقًّا. وَهُوَ الْمُلْكُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ مُلْكٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا مُتَفَاوِتَةٌ. وَالْمُلْكُ الْكَامِلُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ الْعُقُولَ قَدْ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا فِي الْمُلُوكِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ وَتَبْهَرُهُمْ بَهْرَجَةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ وَعَطَايَاهُمْ فَيَنْسَوْنَ الْحَقَائِقَ، فَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالْحَقَائِقُ مُنْكَشِفَةٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ مِنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» . وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِعَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عَسِيرَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَتَقْدِيمُ عَلَى الْكافِرِينَ لِلْحَصْرِ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دون الْمُؤمنِينَ. [27- 29] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 27 إِلَى 29] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) هَذَا هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْآيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْدَ ظُهُورِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا إِعْلَامًا بِمَا لَا تَخْلُو عَنْهُ مِنْ صُحْبَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الْمَخْصُوصِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الِاعْتِدَاءُ الْخَاصُّ الْمَعْهُودُ مِنْ قِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ قِصَّةُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَا أَغْرَاهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ عُقْبَةُ لَا يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا إِلَيْهِ أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَلَمَّا قَرَّبُوا الطَّعَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : مَا أَنَا بِآكِلٍ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا

إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ طَعَامِهِ. وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أُخْبِرَ بِقَضِيَّتِهِ، فَقَالَ: صَبَأْتَ يَا عُقْبَةُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا صَبَأْتُ وَلَكِنْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي حَتَّى أَشْهَدَ لَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ، فَشَهِدْتُ لَهُ فَطَعِمَ، فَقَالَ أُبَيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَرْضَى عَنْكَ أَبَدًا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَبْصُقَ فِي وَجْهِهِ، فَكَفَرَ عُقْبَةُ وَأَخَذَ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ ، فَيَكُونُ المُرَاد ب (فلَان) الْكِنَايَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فَخُصُوصُهُ يَقْتَضِي لِحَاقَ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَخِلَّتَهُمْ فِي الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الرَّسُولِ، وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ خَلِيلٍ مُشْرِكٍ مِثْلِهِ يَصُدُّهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ إِذا همّ بِهِ وَيُثَبِّتُهُ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَيَتَنَدَّمُ يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُذْكُرُهُ بِاسْمِهِ. وَالْعَضُّ: الشَّدُّ بِالْأَسْنَانِ عَلَى الشَّيْءِ لِيُؤْلِمَهُ أَوْ لِيُمْسِكَهُ، وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِ عَلى لِإِفَادَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَعْضُوضِ إِذَا قَصَدُوا عَضًّا شَدِيدًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْعَضُّ عَلَى الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَامَةِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا فِي بَعْضِ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَنْ يَصْحَبُوهَا بِحَرَكَاتٍ بِالْجَسَدِ مِثْلِ التَّشَذُّرِ، وَهُوَ رفع الْيَد عِنْد كَلَامِ الْغَضَبِ قَالَ، لَبِيدٌ: غُلْبٌ تَشَذَّرُ بِالدَّخُولِ كَأَنَّهُمْ ... جِنُّ الْبَدِيِّ رَوَاسِيًا أَقْدَامُهَا وَمِثْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ. قَالَ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إِبْرَاهِيم: 9] . وَمِنْهُ فِي النَّدَمِ قَرْعُ السِّنِّ بِالْأُصْبُعِ، وَعَضُّ السَّبَّابَةِ، وَعَضُّ الْيَدِ. وَيُقَالُ: حَرَّقَ أَسْنَانَهُ وَحَرَّقَ الْأُرَّمَ (بِوَزْنِ رُكَّعٍ) الْأَضْرَاسَ أَوْ أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ، وَفِي الْغَيْظِ عَضُّ الْأَنَامِلِ قَالَ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [119] ، وَكَانَتْ كِنَايَاتٍ بِنَاءً عَلَى مَا يُلَازِمُهَا فِي الْعُرْفِ مِنْ مَعَانٍ نَفْسِيَّةٍ، وَأَصْلُ نَشْأَتِهَا عَنْ تَهَيُّجِ الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبٍ أَوْ تَلَهُّفٍ. وَالرَّسُولُ: هُوَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ: أَخْذُهُ، وَأَصْلُ الْأَخْذِ: التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى قَصْدِ السَّيْرِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ [الْكَهْف: 63] . ومَعَ الرَّسُولِ أَيْ مُتَابِعًا لِلرَّسُولِ كَمَا يُتَابِعُ الْمُسَافِرُ دَلِيلًا يَسْلُكُ بِهِ أَحْسَنَ الطُّرُقِ وَأَفْضَاهَا إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ الِاتِّبَاعِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ يُقَالَ: يَا لَيْتَنِي اتَّبَعْتُ الرَّسُولَ، إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُطْنَبِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ تَمْثِيلَ هَيْئَةِ الِاقْتِدَاءِ بِهَيْئَةِ مُسَايِرَةِ الدَّلِيلِ تَمْثِيلًا مُحْتَوِيًا عَلَى تَشْبِيهِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ بِالسَّبِيلِ، وَمُتَضَمِّنًا تَشْبِيهَ مَا يَحْصُلُ عَنْ سُلُوكِ ذَلِكَ السَّبِيلِ مِنَ النَّجَاةِ بِبُلُوغِ السَّائِرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ، فَكَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَانِي صَائِرًا بِالْإِطْنَابِ إِلَى إِيجَازٍ، وَأَمَّا لَفْظُ الْمُتَابَعَةِ فَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِهَذَا التَّمْثِيلِ. وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ سَبِيلُ نَجَاحِ مَنْ تَمَنَّاهُ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طلب الْأَمر المحبوب الْعَزِيزِ الْمَنَالِ. وَيَا لَيْتَنِي نِدَاءٌ لِلْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى التَّمَنِّي بِتَنْزِيلِ الْكَلِمَةِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ الَّذِي يُطْلَبُ حُضُورُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ فِي حَالَةِ النَّدَامَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مَقَامُكِ فَاحْضُرِي، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [31] . وَهَذَا النِّدَاءُ يَزِيدُ الْمُتَمَنِّيَ اسْتِبْعَادًا لِلْحُصُولِ. وَكَذَلِكَ قَوْله: يَا وَيْلَتى هُوَ تَحَسُّرٌ بِطْرِيقِ نِدَاءِ الْوَيْلِ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَشْهُورٌ فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَيْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَعَلَى يَا وَيْلَتَنا فِي قَوْلِهِ: يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [49] . وَأَتْبَعَ التَّحَسُّرَ بِتَمَنِّي أَنْ لَا يَكُونَ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. وَجُمْلَةُ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الرَّسُولِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَبْذِ خُلَّةِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ فَتَمَنِّي وُقُوعِ أَوَّلِهِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَمَنِّي وُقُوعِ الثَّانِي.

وَجُمْلَةُ (يَا وَيْلَتَا) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا وَجُمْلَةِ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. وَ (فُلَانٌ) : اسْمٌ يُكَنِّي عَمَّنْ لَا يُذْكَرُ اسْمُهُ الْعَلَمُ، كَمَا يُكَنَّى بِ (فُلَانَةٍ) عَمَّنْ لَا يُرَادُ ذِكْرُ اسْمِهَا الْعَلَمِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِكَايَةِ أَمْ فِي غَيْرِهَا. قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَابْنُ مَالِكٍ خِلَافًا لِابْنِ السَّرَّاجِ وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي اشْتِرَاطِ وُقُوعِهِ فِي حِكَايَةٍ بِالْقَوْلِ، فَيُعَامَلُ (فُلَانٌ) مُعَامَلَةَ الْعَلَمِ الْمَقْرُونِ بِالنُّونِ الزَّائِدَةِ و (فُلَانَةٌ) مُعَامَلَةَ الْعَلَمِ الْمُقْتَرِنِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا قَاتَلَ اللَّهُ الْوُشَاةَ وَقَوْلَهُمْ ... فُلَانَةُ أَضْحَتْ خُلَّةً لِفُلَانِ أَرَادَ نَفْسَهُ وَحَبِيبَتَهُ. وَقَالَ الْمَرَّارُ الْعَبْسِيُّ: وَإِذَا فُلَانٌ مَاتَ عَنْ أُكْرُومَةٍ ... دَفَعُوا مَعَاوِزَ فَقْدِهِ بِفُلَانِ أَرَادَ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ اسْمٌ مِنْهُمْ أَخْلَفُوهُ بِغَيْرِهِ فِي السُّؤْدُدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ: وَحَتَّى سَأَلْتُ الْقَرْضَ مِنْ كُلِّ ذِي ... الْغِنَى وَرَدَّ فُلَانٌ حَاجَتِي وَفُلَانُ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي «نَوَادِرِهِ» : أَنْشَدَنِي الْمُفَضِّلُ لِرَجُلٍ مِنْ ضَبَّةَ هَلَكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، أَيْ فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْهِجْرَةِ: إِنَّ لَسَعِدٍ عِنْدَنَا دِيوَانَا ... يُخْزِي فَلَانًا وَابْنَهُ فُلَانَا وَالدَّاعِي إِلَى الْكِنَايَةِ بِفُلَانٍ إِمَّا قَصْدُ إِخْفَاءِ اسْمِهِ خِيفَةً عَلَيْهِ أَوْ خِيفَةً مِنْ أَهْلِهِمْ أَوْ لِلْجَهْلِ بِهِ، أَوْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِذِكْرِهِ، أَوْ لِقَصْدِ نَوْعِ مَنْ لَهُ اسْمٌ عَلَمٌ. وَهَذَانِ الْأَخِيرَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَجْرِيَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى إِرَادَةِ خُصُوصِ عُقْبَةَ وَأُبَيٍّ أَوْ حُمِلَتْ عَلَى إِرَادَةِ كُلِّ مُشْرِكٍ لَهُ خَلِيلٌ صَدَّهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا تَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا دُونَ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ عَصَاهُ فِيمَا سَوَّلَ لَهُ قَصْدًا لِلِاشْمِئْزَازِ مَنْ خُلَّتِهِ مِنْ أَصِلِهَا إِذْ كَانَ الْإِضْلَالُ مِنْ أَحْوَالِهَا. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْخُلَّةِ الثِّقَةُ بِالْخَلِيلِ وَحَمْلُ مَشُورَتِهِ عَلَى النُّصْحِ فَلَا يَنْبَغِي

أَنْ يَضَعَ الْمَرْءُ خُلَّتَهُ إِلَّا حَيْثُ يُوقِنُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ إِشَارَاتِ السُّوءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: 118] فَعَلَى مَنْ يُرِيدُ اصْطِفَاءَ خَلِيلٍ أَنْ يَسِيرَ سِيرَتَهُ فِي خُوَيِّصَّتِهِ فَإِنَّهُ سَيَحْمِلُ مَنْ يَخَالُّهِ عَلَى مَا يَسِيرُ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمِلُ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غير ربّي لَا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» فَإِنَّ مَقَامَ النُّبُوءَةِ يَسْتَدْعِي مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ فَوْقَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي النَّاسِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ مَا لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالَاتِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ بَعْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيءَ جَعَلَهُ الْمُخَيَّرَ لِخُلَّتِهِ لَوْ كَانَ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي تَعْلِيلِيَّةٌ لِتَمَنِّيهِ أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَ فُلَانًا خَلِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْ خُلَّتِهِ أَعْظَمُ خُسْرَانٍ لِخَلِيلِهِ إِذْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ كَادَ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ مَعْنَاهُ سَوَّلَ لِيَ الِانْصِرَافَ عَنِ الْحَقِّ. وَالضَّلَالُ: إِضَاعَةُ الطَّرِيقِ وَخَطَؤُهُ بِحَيْثُ يَسْلُكُ طَرِيقًا غَيْرَ الْمَقْصُودِ فَيَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ فِي مَسْبَعَةٍ. وَيُسْتَعَارُ الضَّلَالُ لِلْحِيَادِ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالسَّفَهِ كَمَا يُسْتَعَارُ ضِدُهُ وَهُوَ الْهُدَى (الَّذِي هُوَ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ) لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ حَتَّى تَسَاوَى الْمَعْنَيَانِ الْحَقِيقِيَّانِ وَالْمَعْنَيَانِ الْمَجَازِيَّانِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الدَّلِيلَ الَّذِي يَسْلُكُ بِالرَّكْبِ الطَّرِيقَ الْمَقْصُودَ هَادِيًا. وَالْإِضْلَالُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ لِمُنَاسَبَةِ اسْتِعَارَةِ السَّبِيلِ لِهَدْيِ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا هُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ عَنِ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ هُوَ تَسْوِيلَ الضَّلَالِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعْدِيَتِهِ وَلَكِنْ أُرِيدَ هُنَا مُتَابَعَةُ التَّمْثِيلِ السَّابِقِ. فَفِي قَوْلِهِ: أَضَلَّنِي مَكْنِيَّةٌ تَقْتَضِي تَشْبِيهَ الذِّكْرِ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَنْجَى، وَإِثْبَاتُ الْإِضْلَالِ عَنْهُ تَخْيِيلٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، فَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ بَلَاغَةِ نَظْمِ الْآيَةِ.

والذِّكْرِ: هُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ نَهَانِي عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَارَبْتُ فَهْمَهُ. وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي إِسْمَاعِهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءٍ حَلَّ عِنْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، قَالَ النَّابِغَةُ: أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي فَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَمَعْنَى مَجِيءِ الذِّكْرِ إِيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَحَمَلَهُ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَأَذَاتِهِ، وَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ عَلَى الْعُمُومِ فَمَجِيءُ الذِّكْرِ هُوَ شُيُوعُ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمْ، وَإِمْكَانُ اسْتِمَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِضْلَالُ خِلَّانِهِمْ إِيَّاهُمْ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ خَلِيلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَعَاوُنُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: الذِّكْرِ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى تَخْصِيصِ الظَّالِمِ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْتِي فِي ذَلِكَ الْوُجُوهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ النَّجَاةِ مُثِّلَتْ بِسَبِيلِ الرَّسُولِ الْهَادِي، وَمُثِّلَ الصَّرْفُ عَنْهَا بِالْإِضْلَالِ عَنِ السَّبِيلِ. وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ بَعْدَ وَقْتٍ جَاءَنِي فِيهِ الذِّكْرُ، وَالْإِتْيَانُ بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ مَا جَاءَنِي، أَوْ بَعْدَ أَنْ جَاءَنِي، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التَّوْبَة: 115] أَيْ تَمَكَّنَ هَدْيُهُ مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا تَذْيِيلٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الظَّالِمِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذَا الْإِضْلَالِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ الَّذِي يُسَوِّلُ لِخَلِيلِ الظَّالِمِ إِضْلَالَ خَلِيلِهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خَذُولُ الْإِنْسَانِ، أَيْ مَجْبُولٌ عَلَى شِدَّةِ خَذْلِهِ. وَالْخَذْلُ: تَرْكُ نَصْرِ الْمُسْتَنْجِدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [160] . فَإِذَا أَعَانَ عَلَى الْهَزِيمَةِ فَهُوَ أَشَدُّ الْخَذْلِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي

[سورة الفرقان (25) : آية 30]

وَصْفِ الشَّيْطَانِ بِخَذْلِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكِيدُ الْإِنْسَانَ فَيُوَرِّطُهُ فِي الضُّرِّ فَهُوَ خذول. [30] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 30] وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) عَطْفٌ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الْفرْقَان: 29] أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْقُرْآنُ فَحُكِيَتْ شِكَايَةُ الرَّسُولِ إِلَى رَبِّهِ قَوْمَهُ مِنْ نَبْذِهِمُ الْقُرْآنَ بِتَسْوِيلِ زُعَمَائِهِمْ وَسَادَتِهِمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَيْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنَ النَّظَرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا وَالرَّسُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشِّكَايَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الرَّسُولِ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ بِأَنَّ الرَّسُولَ تَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَتَأْكِيدُهُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَكُونَ التَّشَكِّي أَقْوَى. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِ قَوْمِي لِزِيَادَةِ التَّذَمُّرِ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَهُ لِأَنَّ شَأْنَ قَوْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُوَافِقُوهُ. وَفِعْلُ الِاتِّخَاذِ إِذَا قُيِّدَ بِحَالَةٍ يُفِيدُ شِدَّةَ اعْتِنَاءِ الْمُتَّخِذِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ بِحَيْثُ ارْتَكَبَ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا وَجَعَلَهُ لَهَا قَصْدًا. فَهَذَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي هَجْرِهِمُ الْقُرْآنَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمِي هَجَرُوا الْقُرْآنَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هذَا الْقُرْآنَ لِتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَّخَذُ مَهْجُورًا بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَالْمَهْجُورُ: الْمَتْرُوكُ وَالْمُفَارَقُ. وَالْمُرَادُ هَنَا تُرْكُ الِاعْتِنَاءِ بِهِ وسماعه. [31] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 31] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ بَعْضِ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَعْرِضُوا أَحْوَالَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ التَّارِيخِيِّ فَيَعْلَمُوا

[سورة الفرقان (25) : آية 32]

أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ كَذَّبُوا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ. وَوَصَفَ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجْرِمِينَ، فَإِنَّ الْإِجْرَامَ أَعَمُّ مِنْ عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا. وَإِنَّمَا أُرِيدَ هُنَا تَحْقِيقُ انْضِوَاءِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زُمْرَةِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَدُوًّا مُجْرِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَأَعْقَبَ التَّسْلِيَةَ بِالْوَعْدِ بِهِدَايَةِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُمْ يَوْمَئِذٍ مُعْرِضُونَ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» وَبِأَنَّهُ يَنْصُرُهُ عَلَى الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً تَعْرِيضٌ بِأَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ كَافٍ فِي الْهِدَايَةِ وَالنَّصْرِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِرَبِّكَ تَأْكِيدٌ لِاتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ. وَأَصْلُهُ: كَفَى رَبُّكَ فِي هَذِه الْحَالة. [32] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 32] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) عَوْدٌ إِلَى مَعَاذِيرِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ إِذْ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ نُزِّلَ مُنَجَّمًا وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَنَزَلَ كِتَابًا جُمْلَةً وَاحِدَة. وَضمير وَقالَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مِنْهُمْ بِنِسْبَةِ كُتُبِ الرُّسُلِ فَإِنَّهَا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنْهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ وَحْيًا مُفَرَّقًا فَالتَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ هِيَ عَشْرُ كَلِمَاتٍ بِمِقْدَارِ سُورَةِ اللَّيْلِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا كَانَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا أَقْوَالًا يَنْطِقُ بِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَلَأِ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ نَزَلَ قِطَعًا كَثِيرَة، فالمشركون نسوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوا فَقَالُوا: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَنَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَائِلَ هَذَا الْيَهُودُ أَوِ النَّصَارَى، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ بُهْتَانٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَنْزِلِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ إِلَّا مُفَرَّقَةً.

فَخَوْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ رَسُولِنَا مِنَ الْأُمِّيَّةِ وَحَالَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا طَائِلَ فِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ لَمْ تَنْزِلْ أَسْفَارًا تَامَّةً قَطُّ. ونُزِّلَ هُنَا مُرَادِفُ أُنْزِلَ وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْعِيلُ مِنَ التَّكْثِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: جُمْلَةً واحِدَةً. وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ رَدًّا عَلَى طَعْنِهِمْ، فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ رَدٌّ لِمَا أَرَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وَعَدَلَ فِيهِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِعْلَامًا لَهُ بِحِكْمَةِ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا، وَفِي ضِمْنِهِ امْتِنَانٌ عَلَى الرَّسُولِ بِمَا فِيهِ تَثْبِيتُ قَلْبِهِ وَالتَّيْسِيرُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْإِنْزَالِ الْمَفْهُوم من «لَو نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ» وَهُوَ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيِ الْمُنَجَّمِ، أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الَّذِي جَهِلُوا حِكْمَتَهُ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْمُنَجَّمِ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ كَذلِكَ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ فِي الْمُحَاوَرَةِ. وَاللَّامُ فِي لِنُثَبِّتَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَذلِكَ. وَالتَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا. وَالثَّبَاتُ: اسْتِقْرَارُ الشَّيْءِ فِي مَكَانِهِ غَيْرَ مُتَزَلْزِلٍ قَالَ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ [إِبْرَاهِيم: 24] . وَيُسْتَعَارُ الثَّبَاتُ لِلْيَقِينِ وَلِلِاطْمِئْنَانِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ لِصَاحِبِهِ قَالَ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النِّسَاء: 66] ، وَهِيَ اسْتِعَارَاتٌ شَائِعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حُصُولِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النَّفْسِ بِاضْطِرَابِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَالْفُؤَادُ: هُنَا الْعَقْلُ. وَتَثْبِيتُهُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ جَعْلُهُ ثَابِتًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ لَا يَضْطَرِبُ فِيهِ. وَجَاءَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لِأَنَّ تَثْبِيتَ الْفُؤَادِ يَقْتَضِي كُلَّ مَا بِهِ خَيْرٌ لِلنَّفْسِ، فَمِنْهُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي تَفْرِيقِهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ، لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ يلقى إِلَيْهِ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَجُزْءًا

عَقِبَ جُزْءٍ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا: «أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى حَسَبِ الدَّوَاعِي وَالْحَوَادِثِ وَجَوَّابَاتِ السَّائِلِينَ» اه، أَيْ فَيَكُونُونَ أَوْعَى لِمَا يَنْزِلُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلْمِهِ، فَيَكْثُرُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثَبِّتُ فُؤَادَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ. وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا وَتَحَدِّيَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِبَعْضِ تِلْكَ التَّفَارُقِ كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنْهَا، أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ وَأَنْوَرُ لِلْحُجَّةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ كُلُّهُ جُمْلَةً» اه. وَمِنْهُ مَا قَالَهُ الْجَدُّ الْوَزِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ لِمَا ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ مُطَابَقَتُهَا لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَمُنَاسَبَتُهَا لِلْمَقَامِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهَا. وَقُلْتُ: إِنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا أَعُونُ لِحُفَّاظِهِ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عُطِفَ عَلَى قَوْله كَذلِكَ، أَي أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا وَرَتَّلْنَاهُ، وَالتَّرْتِيلُ يُوصَفُ بِهِ الْكَلَامُ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّأْلِيفِ بَيِّنَ الدَّلَالَةِ. وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وَرَتِلٌ، إِذَا كَانَتْ أَسْنَانُهُ مُفَلَّجَةً تُشْبِهُ نُورَ الْأُقْحُوَانِ. وَلَمْ يُورِدُوا شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالتَّرْتِيلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالَةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ مُفَرَّقًا مُنَسَّقًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ غَيْرَ مُتَرَاكِمٍ فَهُوَ مُفَرَّقٌ فِي الزَّمَانِ فَإِذَا كَمُلَ إِنْزَالُ سُورَةٍ جَاءَتْ آيَاتُهَا مَرَتَّبَةً مُتَنَاسِبَةً كَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَمُفَرَّقٌ فِي التَّأْلِيفِ بِأَنَّهُ مُفَصَّلٌ وَاضِحٌ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ شَأْنَ كَلَامِ النَّاسِ إِذَا فُرِّقَ تَأْلِيفُهُ عَلَى أَزْمِنَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ أَنْ يَعْتَوِرَهُ التَّفَكُّكُ وَعَدَمُ تَشَابُهِ الْجُمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ رَتَّلْناهُ أَمَرْنَا بِتَرْتِيلِهِ، أَيْ بِقِرَاءَتِهِ مُرَتَّلًا، أَيْ بِتَمَهُّلٍ بِأَنْ لَا يُعَجَّلَ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَنْ تُبَيَّنَ جَمِيعُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَهَلٍ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [4] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. وتَرْتِيلًا مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ قُصِدَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَصَارَ الْمَصْدَرُ مُبَيِّنًا لنَوْع الترتيل.

[سورة الفرقان (25) : آية 33]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 33] وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) لَمَّا اسْتَقْصَى أَكْثَرَ مَعَاذِيرِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَأَلْقَمَهُمْ أَحْجَارَ الرَّدِّ إِلَى لَهَوَاتِهِمْ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ فَذْلَكَةً جَامِعَةً تَعُمُّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْكَاشِفَةِ لِتُرَّهَاتِهِمْ. وَالْمِثْلُ: الْمُشَابِهُ. وَفِعْلُ الْإِتْيَانِ مَجَازٌ فِي أَقْوَالِهِمْ وَالْمُحَاجَّةِ بِهِ، وَتَنْكِيرُ (مَثَلٍ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ بِكُلِّ مَثَلٍ. وَالْمَقْصُودُ: مَثَلٌ مِنْ نَوْعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله [تَعَالَى] : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفرْقَان: 4] ، وقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْل: 24] بِقَرِينَةِ سَوْقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ اسْتِقْصَاءِ شُبْهَتِهِمْ، وقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 7] وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: 8] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفرْقَان: 21] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] . وَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: بِمَثَلٍ قَوْلُهُ آنِفًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْفرْقَان: 9] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: 8] . وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَأْتُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بالْأَمْثَالِ يَقْصِدُونَ بِهِ أَنْ يُفْحِمُوهُ. وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَأْتُونَكَ بِشَبَهٍ يُشَبِّهُونَ بِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِكَ يَبْتَغُونَ إِظْهَارَ أَنَّ حَالَكَ لَا يُشْبِهُ حَالَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا أَبْطَلْنَا تَشْبِيهَهُمْ وَأَرَيْنَاهُمْ أَنَّ حَالَةَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا تُلَازِمُ مَا زَعَمُوهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَتَوْا بِهِ تَشْبِيهًا صَرِيحًا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: 5] وَقَوْلِهِمْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] ، وَقَوْلِهِمْ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: 8] ، أَمْ كَانَ نَفْيُ مُشَابَهَةِ حَالِهِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ فِي زَعْمِهِمْ فَإِنَّ نَفْيَ مُشَابَهَةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: 21] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] إِذَا كَانُوا قَالُوهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِحَالِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَهَذَا نَفِيُ تَمْثِيلِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ الرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ فِي زَعْمِهِمْ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ تَقْتَضِيهِ النُّبُوءَةُ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ، فَيُجَابَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: 7، 8] .

وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَكَ تَشْمَلُ مَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَقَوْلِهِمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 92] . وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ يَقْتَضِيهَا عُمُومُ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ. وَجُمْلَةُ جِئْناكَ حَالِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 20] . وَقَوْلُهُ جِئْناكَ بِالْحَقِّ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ وَهُوَ مَجِيءٌ مَجَازِيٌّ. وَمُقَابَلَةُ جِئْناكَ بِالْحَقِّ لِقَوْلِهِ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ بَاطِلٌ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] ، أَبْطَلَهُ قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 20] . وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ مَا يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ مِنَ الْحُجَّةِ بِ جِئْناكَ دُونَ: أَتَيْنَاكَ، كَمَا عُبِّرَ عَمَّا يَجِيئُونَ بِهِ بِ يَأْتُونَكَ إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْيَانِ إِذَا اسْتُعْمِلَ مَجَازًا كَثُرَ فِيمَا يَسُوءُ وَمَا يُكْرَهُ، كَالْوَعِيدِ وَالْهِجَاءِ، قَالَ شَقِيقُ بْنُ شَرِيكٍ الْأَسَدِيُّ: أَتَانِي مِنْ أَبِي أَنَسٍ وَعِيدٌ ... فَسُلَّ لِغَيْظَةِ الضَّحَّاكِ جِسْمِي وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي وَقَوْلُهُ: فَلَيَأْتِيَنْكَ قَصَائِدٌ وَلَيَدْفَعَنْ ... جَيْشًا إِلَيْكَ قَوَادِمُ الْأَكْوَارِ يُرِيدُ قَصَائِدَ الْهِجَاءِ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ [الْحجر: 64] أَيْ عَذَابُ قَوْمِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لَهُ فِي الْمَجِيءِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [63] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً [يُونُس: 24] أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: 2] ، بِخِلَافِ فِعْلِ الْمَجِيءِ إِذَا

[سورة الفرقان (25) : آية 34]

اسْتُعْمِلَ فِي مَجَازِهِ فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي وُصُولِ الْخَيْرِ وَالْوَعْدِ وَالنَّصْرِ وَالشَّيْءِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاء: 174] وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: 22] إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: 1] ، وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: « ... مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ» ، وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْفِعْلِ ذَا وَجْهَيْنِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فَيُطْلَقُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ نَحْوَ حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [هود: 40] ، فَإِنَّ الْأَمْرَ هَنَا مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ تَأْيِيدًا نَافِعًا لِنُوحٍ. وَالتَّفْسِيرُ: الْبَيَانُ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُفَصَّلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كَشْفُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ، أَنَّهُ أَحَقُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَالتَّفْضِيلُ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ لَيْسَ فِي حُجَّتِهِمْ حُسْنٌ أَوْ يُرَادُ بِالْحُسْنِ مَا يَبْدُو مِنْ بَهْرَجَةِ سَفْسَطَتِهِمْ وَشُبَهِهِمْ فَيَجِيءُ الْكَشْفُ عَنِ الْحَقِّ أَحْسَنَ وَقْعًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنْ مُغَالَطَاتِهِمْ، فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَهَذِهِ نُكْتَةٌ مِنْ دَقَائِقِ الِاسْتِعْمَالِ ودقائق التَّنْزِيل. [34] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 34] الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ. وَالْمَوْصُولُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَحْصِيلِ فَائِدَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الضَّمِيرِ ثَبَتَ لَهُمْ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، وَلِيَبْنِيَ عَلَى الصِّلَةِ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا، هُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَنَحْشُرُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [97] وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 94] وَيُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَنَّ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْأَمْثَالِ تَكْذِيبًا

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 36]

لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذْ كَانَ قَصْدُهُمْ مِمَّا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ تَنْقِيصَ شَأْنِ النَّبِيءِ ذُكِّرُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ شَرِّ الْمَكَانِ وَضَلَالِ السَّبِيلِ دُونَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [97] عِنْدَ قَوْلِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ. وَتَقدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ فِي السُّؤَالِ عَنْ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَشَرٌّ: اسْمُ تَفْضِيلٍ. وَأَصْلُهُ أَشَرُّ وَصِيغَتَا التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ شَرٌّ، وأَضَلُّ مُسْتَعْمَلَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالشَّرِّ وَالضَّلَالِ كَقَوْلِهِ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يُوسُف: 77] فِي جَوَابِ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُف: 77] . وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهُوَ قَصْرٌ لِلْمُبَالِغَةِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنِ انْحَصَرَ الشَّرُّ وَالضَّلَالُ فِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: هُمْ شَرُّ الْخُلُقِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَيَكُونُ الْقَصْرُ قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ هُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا لَا الْمُسْلِمُونَ، وَصِيغَتَا التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَتَا الْمُفَاضَلَةِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. وَالْمَكَانُ: الْمَقَرُّ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، مَكَانُهُمْ جَهَنَّمُ، وطريقهم الطَّرِيق الْموصل إِلَيْهَا وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُونَ فِيهِ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِالْمَكَانِ الْأَشِرِ وَالسَّبِيلِ الْأَضَلِّ، لِأَجْلِ مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا قَوْلُهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] . وسَبِيلًا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، فَأَصْلُهُ: وَضَلَّ سَبِيلُهُمْ. وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى السَّبِيلِ فِي التَّرْكِيبِ الْمُحَوَّلِ عَنْهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ السَّبِيلَ سَبَب ضلالهم. [35، 36] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 35 إِلَى 36] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) لَمَّا جَرَى الْوَعِيدُ وَالتَّسْلِيَةُ بِذِكْرِ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلَهُمْ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ مَوْعِظَةُ هَؤُلَاءِ وَزِيَادَةُ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ وَالتَّعْرِيضُ بِوَعْدِهِ بِالِانْتِصَارِ لَهُ. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ مُوسَى وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ زَمَنًا مِنَ الَّذِينَ ذُكِرُوا بَعْدَهُ وَلِأَنَّ بَقَايَا شَرْعِهِ وَأُمَّتِهِ لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] الْيَهُودُ، فَوَجْهُ الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَظْهَرُ. وَحَرْفُ التَّحْقِيقِ وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِتَدْمِيرِهِمْ. وَأُرِيدَ بِالْكِتَابِ الْوَحْيُ الَّذِي يُكْتَبُ وَيُحْفَظُ وَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ مَا ابْتُدِئَ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْأَلْوَاحَ لِأَنَّ إِيتَاءَهُ الْأَلْوَاحَ كَانَ بَعْدَ زَمَنِ قَوْلِهِ اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ، فَقَوْلُهُ فَقُلْنَا اذْهَبا مُفَرَّعٌ عَنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ، فَالْإِيتَاءُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ. وَفِي وَصْفِ الْوَحْيِ بِالْكِتَابِ تَعْرِيضٌ بِجَهَالَةِ الْمُشْرِكِينَ الْقَائِلِينَ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] ، فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي أُوتِيَهَا الرُّسُلُ مَا كَانَتْ إِلَّا وَحْيًا نَزَلَ مُنَجَّمًا فَجَمَعَهُ الرُّسُلُ وَكتبه أتباعهم. والتعرض هُنَا إِلَى تَأْيِيدِ مُوسَى بِهَارُونَ تَعْرِيض بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: 7] فَإِنَّ مُوسَى لَمَّا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَأْيِيدَهُ لَمْ يُؤَيَّدْ بِمَلَكٍ وَلَكِنَّهُ أُيِّدَ بِرَسُولٍ مِثْلِهِ. وَالْوَزِيرُ: الْمُؤَازِرُ وَهُوَ الْمُعَاوِنُ الْمُظَاهِرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَأَصْلُ الْأَزْرِ: شَدُّ الظَّهْرِ بِإِزَارٍ عِنْدَ الْإِقْبَالِ عَلَى عَمَلٍ ذِي تَعَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طَهَ. وَكَانَ هَارُونُ رَسُولًا ثَانِيًا وَمُوسَى هُوَ الْأَصْلُ. وَالْقَوْمُ هُمْ قِبْطُ مِصْرَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ. والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَصْفٌ لِلْقَوْمِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْمَقُولِ لِمُوسَى وَهَارُونَ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ حِينَئِذٍ لَمَّا يَقَعْ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ وَصْفٌ لِإِفَادَةِ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ بَلَّغَا الرِّسَالَةَ وَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْهُمَا الْآيَاتِ فَكَذَّبَ بِهَا قَوْمُ فِرْعَوْنَ فَاسْتَحَقُّوا التَّدْمِيرَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَمْهِيدًا لِلتَّفْرِيعِ بِ فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّسْلِيَةِ.

[سورة الفرقان (25) : آية 37]

وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِالتَّدْمِيرِ. وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ عَجِيبٌ اخْتُصِرَتْ بِهِ الْقِصَّةُ فَذُكِرَ مِنْهَا حَاشِيَتَاهَا: أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا لِأَنَّهُمَا الْمَقْصُودُ بِالْقِصَّةِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْأُمَمِ التَّدْمِيرَ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، وَالْهَلَاكُ: دُمُورٌ. وَإِتْبَاعُ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِمَا فِي تَنْكِيرِ الْمَصْدَرِ مِنْ تَعْظِيمِ التَّدْمِيرِ وَهُوَ الْإِغْرَاقُ فِي اليمّ. [37] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 37] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْفرْقَان: 35] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَصْفُ قَوْمِهِ بالتكذيب والإخبار عَنْهُم بِالتَّدْمِيرِ. وَانْتَصَبَ قَوْمَ نُوحٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ أَغْرَقْناهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بِكَلِمَةِ لَمَّا لِأَنَّهَا كَالظَّرْفِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُفَسِّرُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَفِي هَذَا النَّظْمِ اهْتِمَامٌ بِقَوْمِ نُوحٍ لِأَنَّ حَالَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ فَقَدَّمَ ذَكْرَهُمْ ثُمَّ أَكَّدَ بِضَمِيرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقَوْمَ نُوحٍ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْله فَدَمَّرْناهُمْ [الْفرْقَان: 36] أَيْ وَدَمَّرْنَا قَوْمَ نُوحٍ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ مبيّنة لجملة فَدَمَّرْناهُمْ. وَالْآيَةُ: الدَّلِيلُ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ دَلِيلًا عَلَى مَصِيرِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُمْ. وَجَعْلُهُمْ آيَةً: هُوَ تَوَاتُرُ خَبَرِهِمْ بِالْغَرَقِ آيَةٌ. وَجُعِلَ قَوْمُ نُوحٍ مُكَذِّبِينَ الرُّسُلَ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولًا وَاحِدًا لِأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ إِلَى إِحَالَةِ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا لِأَنَّهُمْ قَالُوا:

[سورة الفرقان (25) : الآيات 38 إلى 39]

مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ مُسْتَلْزِمًا تَكْذِيبَ عُمُومِ الرُّسُلِ، وَلِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَ رَسُولَهُمْ، فَكَانُوا قُدْوَةً لِلْمُكَذِّبِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَقِصَّةُ قَوْمِ نُوحٍ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ. وَجُمْلَةُ وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً عَطْفٌ عَلَى أَغْرَقْناهُمْ. وَالْمَعْنَى: عَذَّبْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الْآخِرَةِ. وَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ عِوَضًا عَنْ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ، لِإِفَادَةِ أَنَّ عَذَابَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ بِالشِّرْكِ وَتَكْذيب الرَّسُول. [38، 39] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 38 إِلَى 39] وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) انْتَصَبَتِ الْأَسْمَاءُ الْأَرْبَعَةُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ تَبَّرْنا. وَفِي تَقْدِيمِهَا تَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَنْصُوبَةً بِالْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ النَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ: فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً [الْفرْقَان: 36] . وتنوين عاداً وَثَمُودَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْأُمَّتَانِ. فَأَمَّا تَنْوِينُ عَادًا فَهُوَ وَجْهٌ وَجِيهٌ لِأَنَّهُ اسْمٌ عَرِيَ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَغَيْرُ زَائِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَحَقُّهُ الصَّرْفُ. وَأما صرف ثَمُودَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَعَلَى اعْتِبَارِ اسْمِ الْأَبِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ تَنْوِينَهُ لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ عَادًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الْإِنْسَان: 4] . وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اسْمِ الْأُمَّةِ مِنَ التَّأْنِيثِ الْمَعْنَوِيِّ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَأَمَّا أَصْحابَ الرَّسِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِهِمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّسَّ بِئْرٌ عَظِيمَةٌ أَوْ حَفِيرٌ كَبِيرٌ. وَلَمَّا كَانَ اسْمًا لِنَوْعٍ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ أَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. قَالَ زُهَيْرٌ:

بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ ... فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَسَمَّوْا بِالرَّسِّ مَا عَرَفُوهُ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ، وَإِضَافَةُ أَصْحابَ إِلَى الرَّسِّ إِمَّا لِأَنَّهُمْ أَصَابَهُمُ الْخَسْفُ فِي رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ نَازِلُونَ عَلَى رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمُ احْتَفَرُوا رَسًّا، كَمَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ خَدُّوهُ وَأَضْرَمُوهُ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَامَةِ وَيُسَمَّى «فَلْجًا» (¬1) . وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ مِنْ أَصْحابَ الرَّسِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا فِي عَدَنٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ رَسُولًا. وَكَانَتِ الْعَنْقَاءُ وَهِيَ طَائِرٌ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ (سُمِّيَتِ الْعَنْقَاءَ لِطُولِ عُنُقِهَا) وَكَانَتْ تَسْكُنُ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ «فَتْحٌ» (¬2) ، وَكَانَتْ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطَفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ بِالصَّوَاعِقِ. وَقَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَقَتَلُوا نَبِيئَهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خُسِفَ بِهِمْ وَبِدِيَارِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: قَوْمٌ كَانُوا مَعَ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَأَصْحَابُ الرَّسِّ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ النَّجَّارُ فَقَتَلُوهُ وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ يس [20] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الرَّسُّ وَادٍ فِي «أَذْرَبِيجَانَ» فِي «أَرَّانَ» يَخْرُجُ مِنْ «قَالِيقَلَا» وَيَصُبُّ فِي بُحَيْرَةِ «جُرْجَانَ» وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ تَشَابُهِ الْأَسْمَاءِ يُقَالُ: كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ مَدِينَةٍ هَلَكَتْ بِالْخَسْفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ. وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ فَإِنَّ الْقَرْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [6] . وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ. ¬

(¬1) فلج بِفتْحَتَيْنِ. وَقَالَ ياقوت: بِفَتْح فَسُكُون اسْم بلد، وَيُقَال: بطن فلج من همى ضريّة. (¬2) وَهُوَ أول الدهناء بفاء أُخْت الْقَاف ومثناة فوقية بعْدهَا خاء مُعْجمَة، وَقيل حاء مُهْملَة: جبل أَو قَرْيَة لأهل الرسّ لم يذكرهُ ياقوت، وَذكر فتاح وَقَالَ: جمع فتح وَقَالَ: أَرض بالدهناء ذَات رمال.

[سورة الفرقان (25) : آية 40]

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْأُمَمِ. وَمَعْنَى بَيْنَ ذلِكَ أَنَّ أُمَمًا تَخَلَّلَتْ تِلْكَ الْأَقْوَامَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْمِ نُوحٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِطُولِ مُدَدِ هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَثْرَتِهَا. وَالتَّنْوِينُ فِي كُلًّا تَنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّهُمْ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَانْتَصَبَ كُلًّا الْأَوَّلُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ضَرَبْنا لَهُ تَقْدِيرُهُ: خَاطَبْنَا أَوْ حَذَّرْنَا كُلًّا وَضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ، وَانْتَصَبَ كُلًّا الثَّانِي بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَبَّرْنا وَكِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِغَالِ. وَالتَّتْبِيرُ: التَّفْتِيتُ لِلْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ كَالزُّجَاجِ وَالْحَدِيدِ. أطلق التَّتْبِيرُ عَلَى الْإِهْلَاكِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ تَبَعِيَّةً فِي تَبَّرْنا وَأَصْلِيَّةً فِي تَتْبِيراً، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [139] ، وَقَوْلِهِ: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [7] . وَانْتَصَبَ تَتْبِيراً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ هَذَا الْإِهْلَاكِ. وَمَعْنَى ضَرْبِ الْأَمْثَالِ: قَوْلُهَا وَتَبْيِينُهَا وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْمِثْلُ: النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ، أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِيَعْرِضُوا حَالَ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إِبْرَاهِيم: 45] . [40] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 40] وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) لَمَّا كَانَ سَوْقُ خَبَرِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقُرُونِ مَقْصُودًا لِاعْتِبَارِ قُرَيْشٍ بِمَصَائِرِهِمْ نُقِلَ نَظْمُ الْكَلَامِ هُنَا إِلَى إِضَاعَتِهِمُ الِاعْتِبَارَ بِذَلِكَ وَبِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ لِأَنْظَارِهِمْ، وَهُوَ آثَارُ الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِقَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ. وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الْفرْقَان: 21] . وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَمُرُّونَ بِدِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ فِي أَسْفَارِهِمْ

لِلتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ فَكَانَتْ دِيَارُهُمْ يَمُرُّ بِهَا طَرِيقُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] . وَكَانَ طَرِيقُ تِجَارَتِهِمْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَيَدْخُلُونَ أَرْضَ فِلَسْطِينَ فَيَمُرُّونَ حَذْوَ بُحَيْرَةِ لُوطٍ الَّتِي عَلَى شَافَّتِهَا بَقَايَا مَدِينَةِ «سَدُومَ» وَمُعْظَمُهَا غَمَرَهَا الْمَاءُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [79] . وَالْإِتْيَانُ: الْمَجِيءُ. وَتَعْدِيَتُهُ بِ عَلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: مَرُّوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَجِيءِ الْقَرْيَةِ التَّذْكِيرُ بِمَصِيرِ أَهْلِهَا فَكَأَنَّ مَجِيئَهُمْ إِيَّاهَا مُرُورٌ بِأَهْلِهَا، فَضَمَّنَ الْمَجِيءَ مَعْنَى الْمُرُورِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُرُورَ، فَإِنَّ الْمُرُورَ يَتَعَلَّقُ بِالسُّكَّانِ وَالْمَجِيءَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ فَيُقَالُ: جِئْنَا خُرَاسَانَ، وَلَا يُقَالُ: مَرَرْنَا بِخُرَاسَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] . وَوَصَفَ الْقَرْيَةَ بِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَأهل الْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ «سَدُومَ» بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَكَانَتْ لِقَوْمِ لُوطٍ قُرًى خَمْسٌ أَعْظَمُهَا «سَدُومُ» . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [80] . ومَطَرَ السَّوْءِ هُوَ عَذَابٌ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ وَرَمَادٍ، وَتَسْمِيَتُهُ مَطَرًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَطَرِ مَاءُ السَّمَاءِ. وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ: الضُّرُّ وَالْعَذَابُ، وَأَمَّا بِضَمِّ السِّينِ فَهُوَ مَا يَسُوءُ. وَالْفَتْحُ هُوَ الْأَصْلُ فِي مَصْدَرِ سَاءَهُ، وَأَمَّا السُّوءُ بِالضَّمِّ فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، فَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَصْدَرِ فِي الَّذِي يَسُوءُ بِضُرٍّ، وَاسْتِعْمَالُ اسْمِ الْمَصْدَرِ فِي ضِدِّ الْإِحْسَانِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى تَحْقِيقِ إِتْيَانِهِمْ عَلَى الْقَرْيَةِ مَعَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ عَنِ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا حِينَمَا يَأْتُونَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَتَّعِظُوا بِهَا كَانُوا بِحَالِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُمْ: هَلْ رَأَوْهَا، فَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِإِيقَاظِ الْعُقُولِ لِلْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمْ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ لِمَعْرِفَةِ سَبَبِ عَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ. وَقَوْلُهُ: بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 إلى 42]

انْتِقَالًا مِنْ وَصْفِ تَكْذِيبِهِمْ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ، فَيَكُونُ انْتِهَاءُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الِاسْتِفْهَامِ. وَعَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِعَدَمِ رَجَائِهِ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْبَعْثِ لَا يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا وَلَا يَخْشَى مِنْهُ ضُرًّا، فَعَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِأَحَدِ شِقَّيِ الْإِنْكَارِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ. وَالنُّشُورُ: مَصْدَرُ نَشَرَ الْمَيِّتَ أَحْيَاهُ، فَنَشَرَ، أَيْ حَيِيَ. وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى التَّخَيُّلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَيُرْوَى لِلْمُهَلْهِلِ فِي قِتَالِهِ لِبَنِي بَكْرِ ابْن وَائِلٍ الَّذِينَ قَتَلُوا أَخَاهُ كُلَيْبًا قَوْلُهُ: يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوا لِي كُلَيْبًا ... يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الْفِرَارُ فَإِذَا صَحَّتْ نِسْبَةُ الْبَيْتِ إِلَيْهِ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ تَعْجِيزَهُمْ لِيُتَوَسَّلَ إِلَى قِتَالِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِعْدَادٌ لِلِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَنْشَأُ عَنِ الْمُرَاقَبَةِ وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ لما نشأوا عَلَى إِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ قَصُرَتْ أَفْهَامُهُمْ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ الْعَاجِلِ فَلَمْ يُعْنَوْا إِلَّا بِأَسْبَابِ وَسَائِلِ الْعَاجِلَةِ، فَهُمْ مَعَ زَكَانَتِهِمْ فِي تَفَرُّسِ الذَّوَاتِ وَالشِّيَاتِ وَمُرَاقَبَةِ سَيْرِ النُّجُومِ وَأَنْوَاءِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَرَائِحَةِ أَتْرِبَةِ مَنَازِلِ الْأَحْيَاءِ، هُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّه مُعْرِضُونَ بِأَنْظَارِهِمْ عَنْ تَوَسُّمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَحَيَاةِ الْأَنْفُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ كُلِّهِ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ هُنَا عِلَّةً لِانْتِفَاءِ اعْتِبَارِهِمْ بِمَصِيرِ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولهَا وَعَصَتْ رَبَّهَا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: 75] أَيْ دُونَ مَنْ لَا يتوسمون. [41، 42] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 41 إِلَى 42] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) كَانَ مَا تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ مِنْ صُنُوفِ أَذَاهُمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْوَالًاِِ

فِي مَغِيبِهِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَذًى خَاصٌّ وَهُوَ الْأَذَى حِينَ يَرَوْنَهُ. وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْأَذَى تَبْعَثُهُمْ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الرَّسُولِ فِي غَيْرِ زِيِّ الْكُبَرَاءِ وَالْمُتْرَفِينَ لَا يَجُرُّ الْمَطَارِفَ وَلَا يَرْكَبُ النَّجَائِبَ وَلَا يَمْشِي مَرَحًا وَلَا يَنْظُرُ خُيَلَاءَ وَيُجَالِسُ الصَّالِحِينَ وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَرْفُقُ بِالضُّعَفَاءِ وَيُوَاصِلُ الْفُقَرَاءَ، وَأُولَئِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، لِمَا غَلَبَ عَلَى آرَائِهِمْ مِنْ أَفَنٍ، لِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ إِذَا رَأَوْهُ بِأَنَّ حَالَهُ لَيْسَتْ حَالَ مَنْ يَخْتَارُهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ دُونَهُمْ، وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِقِيَادَتِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ. وَهَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَهْلِ نَادِيهِ. وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ يُجْعَلُ مُتَعَلِّقُهُ جَوَابًا لَهُ. فَجُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً جَوَابُ إِذا. وَالْهُزُؤُ بِضَمَّتَيْنِ: مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: [تَعَالَى] قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَالْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُزُؤِ لِأَنَّهُمْ مَحَّضُوهُ لِذَلِكَ، وَإِسْنَادُ يَتَّخِذُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَمَاعَاتِهِمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ إِذَا رَأَوْهُ وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ يُلَازِمُونَهُ وَيَدْأَبُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْلِطُونَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ تَذَكُّرِ أَقْوَالِهِ وَدَعْوَتِهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ لَا يَتَّخِذُونَكَ فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ فَكَانَ بَيَانُهُ بِمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَمُجَاذَبَتِهِمُ الْأَحَادِيثَ بَيْنَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِصْغَارِ كَمَا عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ رَسُولًا لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مَا يَكْفِي لِلْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [36] ، سِوَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَالِكَ تَعَجُّبِيٌّ فَانْظُرْهُ.

أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفَاخُرُهُمْ بِتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ بِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالْإِلْحَاحِ فَكَانَ تَأَثُّرُ أَسْمَاعِهِمْ بِأَقْوَالِهِ يُوشِكُ بِهِمْ أَنْ يَرْفُضُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لَوْلَا أَنَّهُمْ تَرَيَّثُوا، فَكَانَ فِي الرَّيْثِ أَنْ أَفَاقُوا مِنْ غِشَاوَةِ أَقْوَالِهِ وَخِلَابَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَاسْتَبْصَرُوا مَرْآهُ فَانْجَلَى لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدْ جَمَعُوا مِنْ كَلَامِهِمْ بَيْنَ تَزْيِيفِ حُجَّتِهِ وَتَنْوِيهِ ثَبَاتِهِمْ فِي مَقَامٍ يَسْتَفِزُّ غَيْرَ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَشُوبٌ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَمُؤَلَّفٌ عَلَى طَرَائِقِ الدَّهْمَاءِ إِذْ يَتَكَلَّمُونَ كَمَا يَشْتَهُونَ وَيَسْتَبْلِهُونَ السَّامِعِينَ. وَمِنْ خِلَابَةِ الْمُغَالَطَةِ إِسْنَادُهُمْ مُقَارَبَةَ الْإِضْلَالِ إِلَى الرَّسُولِ دُونَ أَنْفُسِهِمْ تَرَفُّعًا عَلَى أَنْ يَكُونُوا قَارَبُوا الضَّلَالَ عَنْ آلِهَتِهِمْ مَعَ أَنَّ مُقَارَبَتَهُ إِضْلَالَهُمْ تَسْتَلْزِمُ اقْتِرَابَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ. وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ، وَالْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ إِهْمَالُهَا، أَيْ تَرْكُ عَمَلِهَا نَصْبَ الِاسْمِ وَرَفْعَ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُفْتَتَحَةً بِفِعْلٍ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ أَو من أَخَوَاتِ ظَنَّ وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ اسْمَهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ إِذَا خُفِّفَتْ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مَا يَشْهَدُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [164] ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَيُضِلُّنا هِيَ الْفَارِقَةُ بَين (إِن) المحققة وَبَين (إِنْ) النَّافِيَةِ. وَالصَّبْرُ: الِاسْتِمْرَارُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَمَلُهُ عَلَى النَّفْسِ. وَيُعَدَّى فِعْلُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ. ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا فَتَقْتَضِي جَوَابًا لِشَرْطِهَا، وَالْجَوَابُ هُنَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ لَوْلا عَلَيْهِ، وَهُوَ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا. وَفَائِدَةُ نَسْجِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ ابْتِدَاءً مَتْلُوَّةً بِجَوَابِهَا قَصْدُ الْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ حَاصِل ثمَّ يُؤْتى بِالشَّرْطِ بَعْدَهُ تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ فَالصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ تَعْتَبِرُ الْمُقَدَّمَ دَلِيلَ الْجَوَابِ، وَالْجَوَابَ مَحْذُوفًا لِأَنَّ نَظَرَ النَّحْوِيِّ لِإِقَامَةِ أَصْلِ التَّرْكِيبِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَلَاغَةِ فَيَعْتَبِرُونَ

[سورة الفرقان (25) : آية 43]

ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ وَتَقْيِيدُ الْخَبَرِ بَعْدَ إِطْلَاقِهِ، وَلِذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «لَوْلا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةِ» فَهَذَا شَأْنُ الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ كَلَامٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي [الممتحنة: 1] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ قَيْدٌ فِي الْمَعْنَى لِلنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَتَأْخِيرُ الشَّرْطِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا يَعْنِي: لَا تَتَوَلَّوْا أعدائي إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَائِي. وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي مِثْلِهِ هُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةٍ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ» اه. وَكَذَلِكَ مَا قُدِّمَ فِيهِ عَلَى الشَّرْطِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ تَقْدِيمًا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: 93] . وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا. هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها الْمُتَضَمِّنِ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ الْجَوَابُ بِقَطْعِ مُجَادَلَتِهِمْ وَإِحَالَتِهِمْ عَلَى حِينِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ وَعِيدًا بِعَذَابٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ السَّيْفِ النَّازِلِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِمَّنْ رَآهُ أَبُو جَهْلٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، وَزَعِيمُ الْقَالَةِ فِي ذَلِكَ النَّادِي. وَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُحَاجَّةِ ارْتُكِبَ فِيهِ أُسْلُوبُ التَّهَكُّمِ بِجَعْلِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ مَعْرِفَةُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَارَاةِ وإرخاء الْعَنَان للمخطىء إِلَى أَنْ يَقِفَ عَلَى خَطَئِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ فِي حَالَةِ النَّزْعِ لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلِ قَتَلَهُ قَوْمُهُ» . ومَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَوْجَبَتْ تَعْلِيقَ فِعْلِ يَعْلَمُونَ عَن الْعَمَل. [43] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 43] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) اسْتِئْنَافٌ خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَخْطُرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى تَكَرُّرِ

إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ إِذْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ وَالْإِلْحَاحِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُرْجَى اهْتِدَاؤُهُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَوَاهُمْ إِلَهَهُمْ، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِعْلُ اتَّخَذَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ التَّصْيِيرِ الْمُلْحَقَةِ بِأَفْعَالِ الظَّنِّ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ إِلَى بَابِ كَسَا وَأَعْطَى أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى بَابِ ظَنَّ، فَإِنَّ اتَّخَذَ مَعْنَاهُ صَيَّرَ شَيْئًا إِلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ إِلَى صُورَةٍ أُخْرَى. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي أُدْخِلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ إِلَى حَالِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فَكَانَ الْحَقُّ أَنْ لَا يُقَدَّمَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي عَلَى مَفْعُولِهِ الْأَوَّلِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ لَبْسٌ يَلْتَبِسُ فِيهِ الْمَعْنَى فَلَا يُدْرَى أَيُّ الْمَفْعُولَيْنِ وَقَعَ تَغْيِيرُهُ إِلَى مَدْلُولِ الْمَفْعُولِ الْآخَرِ، أَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ التَّقْدِيمِ مُسَاوِيًا لِلْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ التَّرْتِيبِ فِي كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَانَ مَعْنَاهُ جَعَلَ إِلَهَهُ الشَّيْءَ الَّذِي يَهْوَى عِبَادَتَهُ، أَيْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لَهُ، أَيْ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ لَا لِأَنَّ إِلَهَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَالْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذَ رَبًّا لَهُ مَحْبُوبَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ كَانَتْ شَهْوَتُهُمْ فِي أَنْ يَعْبُدُوهَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ. فَإِطْلَاقُ إِلهَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ. وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ قَبْلَهُ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا [الْفرْقَان: 42] ، وَمَعْنَاهُ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَجَزَمَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ جَزْمُهُ بِذَلِكَ بِوَجِيهٍ وَقَدْ بَحَثَ مَعَهُ بَعْضُ طَلَبَتِهِ. وَإِذَا أُجْرِيَ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ قُدْوَةً لَهُ فِي أَعْمَالِهِ لَا يَأْتِي عَمَلًا إِلَّا إِذَا كَانَ وِفَاقًا لِشَهْوَتِهِ فَكَأَنَّ هَوَاهُ إِلَهُهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى إِلهَهُ شَبِيهًا بِإِلَهِهِ فِي إِطَاعَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَشْمَلُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَيَشْمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَنَحَا إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمِلًا لِلْآيَةِ. وَاعْلَم أَنه إِن كَانَ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا كَلَامًا وَاحِدًا مُتَّصِلًا ثَانِيهِ بِأَوَّلِهِ اتِّصَالَ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ، تَعَيَّنَ فِعْلُ

«رَأَيْتَ» لِأَنْ يَكُونَ فِعْلًا قَلْبِيًّا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْكَارِيًّا كَالثَّانِي فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وَكَانَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَكَ تَكُونُ وَكِيلًا عَلَى مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ أَفَأَنْتَ فَاءَ الْجَوَابِ لِلْمَوْصُولِ لِمُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 49] عَلَى قِرَاءَة إِعَادَة همزَة الِاسْتِفْهَامِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا عِوَضًا عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتَ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19] وَعَلَيْهِ لَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ هَواهُ بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ. وَهَذَا النَّظْمُ هُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» . وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةً عَنِ الْأُخْرَى فِي نَظْمِ الْكَلَامِ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمْ تَعْجِيبًا مَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ، وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إِنْكَارِيًّا بِمَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَلْعَهُ عَنْ ضَلَالِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 42] . ومَنْ صَادِقَةٌ عَلَى الْجَمْعِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ [الْفرْقَان: 42] وَرُوعِيَ فِي ضَمَائِرِ الصِّلَةِ لَفْظُ مَنْ فَأُفْرِدَتِ الضَّمَائِرُ. وَالْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذُوا هَوَاهُمْ إِلَهًا لَهُمْ أَوْ مَنِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَجْلِ هَوَاهُمْ. وَ «إِلَهٌ» جِنْسٌ يَصْدُقُ بِعِدَّةِ آلِهَةٍ إِنْ أُرِيدَ مَعْنَى اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَجْلِ هَوَاهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْله فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا لِلتَّقَوِّي إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِ مَا حَمَّلَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِرْصِ وَالْحُزْنِ فِي طَلَبِ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْهَوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس: 99] . وَالْمَعْنَى: تَكُونُ وَكِيلًا عَلَيْهِ فِي حَالِ إِيمَانِهِ بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُ إِعَادَةَ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تلجئه إِلَيْهِ.

[سورة الفرقان (25) : آية 44]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 44] أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) انْتِقَالٌ عَنِ التَّأْيِيسِ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ إِدْرَاكُ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ ثَانٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمُ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 42] ، فَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ إِنْكَارٍ إِلَى إِنْكَارٍ وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِاسْتِفْهَامٍ عَطَفَتْهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي قَبْلَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ أَتَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ. وَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ نَفْيُ أَثَرِ السَّمَاعِ وَهُوَ فَهْمُ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا يلقيه إِلَيْهِم الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إِلَّا مَنْ هُوَ كَالَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النَّمْل: 80] . وَعَطْفُ أَوْ يَعْقِلُونَ عَلَى يَسْمَعُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ غَيْرَ الْمَقَالِيَّةِ وَهِيَ دَلَائِلُ الْكَائِنَاتِ قَالَ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 101] . وَإِنَّمَا نُفِيَ فَهْمُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا حَالُ دَهْمَائِهِمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَفِيهِمْ مَعْشَرٌ عُقَلَاءُ يَفْهَمُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْكَائِنَاتِ وَلَكِنَّهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَأَنِفُوا مِنْ أَنْ يَعُودُوا أَتْبَاعًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَاوِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضُعَفَاءِ قُرَيْشٍ وَعَبِيدِهِمْ مِثْلِ عَمَّارٍ، وَبِلَالٍ. وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِنْكَارِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ نَفْيِ فَهْمِهِمْ لِمَا يَسْمَعُونَ مَعَ سَلَامَةِ حَوَاسِّ السَّمْعِ مِنْهُمْ، فَكَانَ تَشْبِيهُهُمْ بِالْأَنْعَامِ تَبْيِينًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ حُصُولِ اختراق أصوات الدعْوَة آذَانَهُمْ مَعَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا لِعَدَمِ تَهَيُّئِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، فَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ وَالْإِمْكَانُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ: فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى أَكْثَرِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى لَفْظِهِ كَمَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَسْمَعُونَ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 46]

وَانْتُقِلَ فِي صِفَةِ حَالِهِمْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ حَالِ الْأَنْعَامِ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ. وَضَلَالُ السَّبِيلِ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تَفْقَهُ بَعْضَ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ أَصْوَاتِ الزَّجْرِ وَنَحْوِهَا مِنْ رُعَاتِهَا وَسَائِقِيهَا وَهَؤُلَاءِ لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ مُرْشِدِهِمْ وَسَائِسِهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [الْبَقَرَة: 74] الْآيَة. [45، 46] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 45 إِلَى 46] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] الْآيَةَ. وَفِيهِ انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً [الْفرْقَان: 3] الْآيَةَ. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بِنَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: 6] . وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ [الْفرْقَان: 15] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الْفرْقَان: 20] وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً [الْفرْقَان: 31] فَكُلُّهَا مُخَاطَبَاتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جُعِلَ مَدُّ الظِّلِّ وَقَبْضُهُ تَمْثِيلًا لِحِكْمَةِ التَّدْرِيجِ فِي التَّكْوِينَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُدُولِ بِهَا عَنِ الطَّفْرَةِ فِي الْإِيجَادِ لِيَكُونَ هَذَا التَّمْثِيلُ بِمَنْزِلَةِ كُبْرَى الْقِيَاسِ لِلتَّدْلِيلِ عَلَى أَنَّ تَنْزِيلَ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا جَارٍ عَلَى حِكْمَةِ التَّدَرُّجِ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَابِقًا كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: 32] . فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ... الْآيَةَ زِيَادَةٌ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: 32] . وَيَسْتَتْبِعُ هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَمْثِيلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِظُهُورِ شَمْسٍ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَتْ

مُظَلَّلَةً إِذْ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فَإِنَّ حَالَ النَّاسِ فِي الضَّلَالَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ تُشَبَّهُ بِحَالِ امْتِدَادِ ظُلْمَةِ الظِّلِّ، وَصَارَ مَا كَانَ مُظَلَّلًا ضَاحِيًا بِالشَّمْسِ وَكَانَ زَوَالُ ذَلِكَ الظِّلِّ تَدْرِيجًا حَتَّى يَنْعَدِمَ الْفَيْءُ. فَنَظْمُ الْآيَةِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْثِيلِ أَفَادَ تَمْثِيلَ هَيْئَةِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بِهَيْئَةِ مَدِّ الظِّلَّ مُدَرَّجًا وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا. وَكَانَ نَظْمُهَا بِحَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ تَرْكِيبِهِ مُفِيدا الْعبْرَة بعد الظِّلِّ وَقَبْضِهِ فِي إِثْبَاتِ دَقَائِقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَانِ الْمُفَادَانِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ بِمَعْنَى مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْهِدَايَةِ بِنور الشَّمْس، وتقلّص ضلال الْكفْر بانقباض الظل بعد أَن كَانَ مديدا قبل طُلُوع الشَّمْسِ. وَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ عُطِفَ قَوْلُهُ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً إِلَى قَوْلِهِ وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: 47] . والاستفهام تقريري فَهُوَ صَالِحٌ لِطَبَقَاتِ السَّامِعِينَ: مِنْ غَافَلٍ يُسْأَلُ عَنْ غَفْلَتِهِ لِيُقِرَّ بِهَا تَحْرِيضًا عَلَى النَّظَرِ، وَمِنْ جَاحِدٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ إِهْمَالُهُ النَّظَرَ، وَمِنْ مُوَفَّقٍ يُحَثُّ عَلَى زِيَادَةِ النَّظَرِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَقَدْ ضُمِّنَ الْفِعْلُ مَعْنَى النَّظَرِ فَعُدِّيَ إِلَى الْمَرْئِيِّ بِحَرْفِ (إِلَى) . وَالْمَدُّ: بَسْطُ الشَّيْءِ الْمُنْقَبِضِ الْمُتَدَاخِلِ يُقَالُ: مَدَّ الْحَبْلَ وَمَدَّ يَدَهُ، وَيُطْلَقُ الْمَدُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ، وَهُوَ هُنَا الزِّيَادَةُ فِي مِقْدَارِ الظِّلِّ. ثُمَّ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ تَصِحُّ رُؤْيَتُهَا فَلَكَ تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: 1] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح: 15] ، وَصَحَّ تَعْدِيَتُهُ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ مُقَيَّدَةً بِالْحَالَةِ الْمَقْصُودَةِ بِحَالٍ أَوْ ظَرْفٍ أَوْ صِلَةٍ نَحْوِ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَة: 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لنبيء لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً [الْبَقَرَة: 246] . وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى يُقْصَدُ مِنْهَا الْعِنَايَةُ بِالْحَالَةِ لَا بِصَاحِبِهَا، فَالْمَقْصُودُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْفِيلِ: الِامْتِنَانُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالَّذِينَ انْتَهَكُوا حُرْمَتَهَا مِنَ

الِاسْتِئْصَالِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ الْعِبْرَةُ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ الْإِبِلَ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجِيبِ الْمَنَافِعِ، وَكَذَلِكَ الْآيَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى، أُوثِرَ تَعَلُّقُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِاسْمِ الذَّاتِ ابْتِدَاءً ثُمَّ مَجِيءُ الْحَالِ بَعْدَ ذَلِكَ مَجِيئًا كَمَجِيءِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [15] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَلَمْ تَرَوْا رَبَّكُمْ كَيْفَ خَلَقَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا مُتَصَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ وَكَانَ قَدْ جَادَلَهُمْ فِي اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ ابْتَدَأَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا إِلَيْهِ فَبَادَأَهُمْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ. وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ كَيْفَ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ فَهِيَ فِي مَحَلٍّ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ رَبِّكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ إِلَى هَيْئَةِ مَدِّهِ الظِّلَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُرُوجِ (كَيْفَ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانِ [6] ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو النَّهَارُ مِنْ وُجُودِ الظِّلِّ. وَفِي وُجُودِ الظِّلِّ دَقَائِقُ مِنْ أَحْوَالِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ فَإِنَّ الظِّلَّ مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الظُّلْمَةِ يَحْصُلُ مِنْ حَيْلُولَةِ جِسْمٍ بَيْنَ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ فَيَنْطَبِعُ عَلَى الْمَكَانِ مِقْدَارٌ مِنَ الظِّلِّ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ كَيْفِيَّةِ الْجِسْمِ الْحَائِلِ بَيْنَ الشُّعَاعِ وَبَيْنَ مَوْقِعِ الشُّعَاعِ عَلَى حَسَبِ اتِّجَاهِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْحَائِلِ مِنْ جِهَتِهِ الدَّقِيقَةِ أَوِ الضَّخْمَةِ، وَيَكُونُ امْتِدَادُ تِلْكَ الظلمَة المكيّفية بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ مُتَفَاوِتًا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ بُعْدِ اتِّجَاهِ الْأَشِعَةِ مِنْ مَوْقِعِهَا وَمِنَ الْجِسْمِ الْحَائِلِ وَمُخْتَلِفًا بِاسْتِوَاءِ الْمَكَانِ وَتَحَدُّبِهِ، فَذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِي مَقَادِيرِ ظِلِّ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ مِقْدَار الظلمَة المكيّفية لِكَيْفِيَّةِ الْحَائِلِ زَادَ امْتِدَادُ الظِّلِّ. فَتِلْكَ كُلُّهَا دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى كَامِلًا فِعْلُ مَدَّ.

وَهَذَا الِامْتِدَادُ يَكْثُرُ عَلَى حَسَبِ مُقَابَلَةِ الْأَشِعَةِ لِلْحَائِلِ فَكُلَّمَا اتَّجَهَتِ الْأَشِعَةُ إِلَى الْجِسْمِ مِنْ أَخْفَضِ جِهَةٍ كَانَ الظِّلُّ أَوْسَعَ، وَإِذَا اتَّجَهَتْ إِلَيْهِ مُرْتَفِعَةً عَنْهُ تَقَلَّصَ ظِلُّهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْأَشِعَةُ مُسَامِتَةً أَعْلَى الْجِسْمِ سَاقِطَةً عَلَيْهِ فَيَزُولَ ظِلُّهُ تَمَامًا أَوْ يَكَادُ يَزُولُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ غَيْرَ مُتَزَايِدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدُّ الظِّلِّ يُشْبِهُ صُورَةَ التَّحَرُّكِ أُطْلِقَ عَلَى انْتِفَاءِ الِامْتِدَادِ اسْمُ السُّكُونِ بِأَنْ يُلَازِمَ مِقْدَارًا وَاحِدًا لَا يَنْقُصُ وَلَا يَزِيدُ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً فِي سَمْتٍ وَاحِدٍ تِجَاهَ أَشِعَةِ الشَّمْسِ فَلَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ ظَلِّ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَتَلْزَمُ ظِلَالُهَا حَالَةً وَاحِدَةً فَتَنْعَدِمُ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ. وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ بِقَوْلِهِ لَجَعَلَهُ ساكِناً عَلَى حَالَةٍ مَطْوِيَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهِيَ حَالَةُ عُمُومِ الظِّلِّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ حَالَةُ الظُّلْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتِ اتِّجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ التَّوْرَاةِ «وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ ظُلْمَةٌ» ثُمَّ قَالَ «وَقَالَ اللَّهُ لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ ... » وَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ (إِصْحَاحُ وَاحِدٍ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ) ، فَاسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ بِالظِّلِّ أَجْدَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِجَمَالِهَا بِخِلَافِ الظِّلِّ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ فَكِلَا دَلَالَتَيْهِ وَاضِحَةٌ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الظِّلِّ مِنَّةً. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَدَّ الظِّلَّ وَأَفَادَتْ ثُمَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مُتَرَاخٍ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَأْنَ ثُمَّ إِذَا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَنَّهَا أَبْعَدُ اعْتِبَارًا، أَيْ أَنَّهَا أَرْفَعُ فِي التَّأْثِيرِ أَوْ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّمْسِ هُوَ عِلَّةُ وُجُودِ الظِّلِّ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّبَبُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْمُسَبَّبِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ مَدَّ الظِّلَّ بِأَنْ جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَى مَقَادِيرِ امْتِدَادِهِ. وَلَمْ يُفْصِحِ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِفْصَاحًا شَافِيًا. وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَا لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ

أَدْخَلُ فِي الِامْتِنَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الْجَعْلَ نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةُ النُّورِ الَّذِي بِهِ تَمْيِيزُ أَحْوَالِ الْمَرْئِيَّاتِ وَعَلِيهِ فَقَوله [تَعَالَى] : ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ارْتِقَاءٌ فِي الْمِنَّةِ. وَالدَّلِيلُ: الْمُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقِ وَالْهَادِي إِلَيْهِ، فَجُعِلَ امْتِدَادُ الظِّلِّ لِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِ كَامْتِدَادِ الطَّرِيقِ وَعَلَامَاتِ مَقَادِيرَ مِثْلِ صُوَى الطَّرِيقِ، وَجُعِلَتِ الشَّمْسُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ سَبَبًا فِي ظُهُورِ مَقَادِيرِ الظِّلِّ كَالْهَادِي إِلَى مَرَاحِلَ، بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فَكَمَا أَنَّ الْهَادِيَ يُخْبِرُ السَّائِرَ أَيْنَ يَنْزِلُ مِنَ الطَّرِيقِ، كَذَلِكَ الشَّمْسُ بِتَسَبُّبِهَا فِي مَقَادِيرِ امْتِدَادِ الظِّلِّ تُعَرِّفُ الْمُسْتَدِلَّ بِالظِّلِّ بِأَوْقَاتِ أَعْمَالِهِ لِيَشْرَعَ فِيهَا. وَتَعْدِيَةُ دَلِيلًا بِحَرْفِ (عَلَى) تُفِيدُ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلِّ هُنَا دَلَالَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى شَيْءٍ قَدْ يَخْفَى كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: «إِلَّا عَلَيَّ دَلِيلٌ» (¬1) وَشَمِلَ هَذَا حَالَتَيِ الْمَدِّ وَالْقَبْضِ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَدَّ الظِّلَّ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا لِأَنَّ قَبْضَ الظِّلِّ مِنْ آثَارِ جَعْلِ الشَّمْسِ دَلِيلًا عَلَى الظِّلِّ. وثُمَّ الثَّانِيَةُ مِثْلُ الْأُولَى مُفِيدَةٌ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ، لِأَنَّ مَضْمُونَ جُمْلَةِ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أَهَمُّ فِي الِاعْتِبَارِ بِمَضْمُونِهَا مِنْ مَضْمُونِ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا إِذْ فِي قَبْضِ الظِّلِّ دَلَالَةٌ مِنْ دَلَالَةِ الشَّمْسِ هِيَ عَكْسُ دَلَالَتِهَا عَلَى امْتِدَادِهِ فَكَانَتْ أَعْجَبَ إِذْ هِيَ عَمَلٌ ضِدٌّ لِلْعَمَلِ الْأَوَّلِ، وَصُدُورُ الضِّدَّيْنِ مِنَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ أَعْجَبُ مِنْ صُدُورِ أَحَدِهِمَا السَّابِقِ فِي الذِّكْرِ. وَالْقَبْضُ: ضِدُّ الْمَدِّ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ نَقَصْنَا امْتِدَادَهُ، وَالْقَبْضُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلنَّقْصِ. وَتَعْدِيَتُهُ بِقَوْلِهِ: إِلَيْنا تَخْيِيلٌ، شُبِّهَ الظِّلُّ بِحَبْلٍ أَوْ ثَوْبٍ ¬

(¬1) أَوله: إِلَى الله أَشْكُو أنني لست مَاشِيا ... وَلَا جائيا إِلَّا عليّ دَلِيل أَي: رَقِيب يدل عليّ.

طَوَاهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ بَسَطَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَةِ، وَحَرْفُ (إِلَى) وَمَجْرُورُهُ تَخْيِيلٌ. وَمَوْقِعُ وَصْفِ الْقَبْضِ بِيَسِيرٍ هُنَا أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ يَحْصُلُ بِبُطْءٍ دُونَ طَفْرَةٍ، فَإِنَّ فِي التَّرَيُّثِ تَسْهِيلًا لِقَبْضِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُجَزَّأَ أَيْسَرُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْمُجْتَمِعِ غَالِبًا، فَأُطْلِقُ الْيُسْرُ وَأُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ عُرْفًا، وَهُوَ التَّدْرِيجُ بِبُطْءٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ، لِيَكُونَ صَالِحًا لِمَعْنًى آخَرَ سَنَتَعَرَّضُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ كَلَامِنَا. وَتَعْدِيَةُ الْقَبْضِ بِ إِلَيْنا لِأَنَّهُ ضِدُّ الْمَدِّ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَعْنَى قَبَضْناهُ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ وَاقِعٌ بَعْدَ الْمَدِّ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ. وَفِي مَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ نِعْمَةُ مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ لِلصَّلَوَاتِ وَأَعْمَالِ النَّاسِ، وَنِعْمَةُ التَّنَاوُبِ فِي انْتِفَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْطَارِ بِفَوَائِدِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَفَوَائِدِ الْفَيْءِ بِحَيْثُ إِنَّ الْفَرِيقَ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْأَشِعَةِ يَتَبَرَّدُ بِحُلُولِ الظِّلِّ، وَالْفَرِيقَ الَّذِي كَانَ فِي الظِّلِّ يَنْتَفِعُ بِانْقِبَاضِهِ. هَذَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ اللَّتَيْنِ تَتَنَاوَلُهُمَا عُقُولُ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عِلْمِيَّةٌ كُبْرَى تُوَضِّحُهَا قَوَاعِدُ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَحَرَكَةُ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَظُهُورُ الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، فَلَيْسَ الظِّلُّ إِلَّا أَثَرَ الظُّلْمَةِ فَإِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ أَصْلُ كَيْفِيَّاتِ الْأَكْوَانِ ثُمَّ انْبَثَقَ النُّورُ بِالشَّمْسِ وَنَشَأَ عَنْ تَدَاوُلِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَنْ ذَلِكَ نِظَامُ الْفُصُولِ وَخُطُوطِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لِلْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَبِهَا عُرِفَتْ مَنَاطِقُ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ. وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِ الْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِيجَادُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَدَمًا، وَكَيْفَ يَمْتَدُّ وُجُودُهَا فِي طَوْرِ نَمَائِهَا، ثُمَّ كَيْفَ تَعُودُ إِلَى الْعَدَمِ تَدْرِيجًا فِي طَوْرِ انْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ إِلَى الْعَدَمِ، فَذَلِكَ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فَيَكُونُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَحْوَالِ الظِّلِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْمِنَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى نِظَامِ الْقُدْرَةِ تَقْرِيبٌ لِحَالَةِ إِيجَادِ النَّاسِ وَأَحْوَالِ الشَّبَابِ وَتَقَدُّمِ السِّنِّ،

[سورة الفرقان (25) : آية 47]

وَأَنَّهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ صَائِرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ يَوْمَ الْبَعْثِ مَصِيرًا لَا إِحَالَةَ فِيهِ وَلَا بُعْدَ، كَمَا يَزْعُمُونَ، فَلَمَّا صَارَ قَبْضُ الظِّلِّ مَثَلًا لِمَصِيرِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ بِالْبَعْثِ وُصِفَ الْقَبْضُ بِيَسِيرٍ تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] . وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا كَظِلٍّ يَمْتَدُّ وَيَنْقَبِضُ وَمَا هُوَ إِلَّا ظِلٌّ. فَهَذَانِ الْمَحْمِلَانِ فِي الْآيَةِ مِنْ معجزات الْقُرْآن العملية. [47] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 47] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ الظِّلِّ وَالضَّحَاءِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ظَاهِرَةٌ، فَاللَّيْلُ يُشْبِهُ الظِّلَّ فِي أَنَّهُ ظُلْمَةٌ تَعْقُبُ نُورَ الشَّمْسِ. وَمَوْرِدُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ لَا يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي جَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. أَمَّا كَوْنُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ بِخَلْقِ اللَّهِ فَهُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى الْإِجْمَالِ أُبْطِلَتْ شَرِكَتُهُمْ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَزْمَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِذَا بَطُلَ تَصَرُّفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ اخْتَلَّتْ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ إِذِ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ. ولَكُمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقَ لَهُ اللَّيْلُ أَنَّهُ يَكُونُ لِبَاسًا لَكُمْ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّيْلَ خُلِقَ لِذَلِكَ فَقَطْ لِأَنَّ اللَّيْلَ عَوْدُ الظَّلَمَةِ إِلَى جَانِبٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ الْمُحْتَجِبِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِاسْتِدَارَاتِهِ فَتَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ فَوَائِدُ جَمَّةٌ مِنْهَا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ... [الْفرْقَان: 62] إِلَخْ. وَقَدْ رَجَعَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. ولِباساً مُشَبَّهٌ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ سَاتِرًا لَكُمْ يَسْتُرُ بَعْضَكُمْ

عَنْ بَعْضٍ. وَفِي هَذَا السَّتْرِ مِنَنٌ كَثِيرَةٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ الَّتِي يَجِبُ إِخْفَاؤُهَا. وَتَقْدِيمُ الِاعْتِبَارِ بِحَالَةِ سَتْرِ اللَّيْلِ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِحَالَةِ النَّوْمِ لِرَعْيِ مُنَاسِبَةِ اللَّيْلِ بِالظِّلِّ كَمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً فِي سُورَةِ النَّبَأِ [8- 10] ، فَإِنَّ نِعْمَةَ النَّوْمِ أَهَمُّ مِنْ نِعْمَةِ السَّتْرِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِعْمَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ وَبَيْنَ النَّوْمِ أَشَدُّ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ اسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ، وَهِيَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعَمِهِ، فَإِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَاتٍ جَمَّةً لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حُصُولُ الظُّلْمَةِ مِنْ دِقَّةِ نِظَامِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَمِنْ دِقَّةِ نِظَامِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ النَّهَارِ مِنْ تَغَيُّرِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ وَمِنْ فَوَائِدِ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ نِظَامِ النَّوْمِ الْمُنَاسِبِ لِلظُّلْمَةِ حِينَ تَرْتَخِي أَعْصَابُ النَّاسِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِالنَّوْمِ تَجَدُّدُ نَشَاطِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى التَّسَتُّرِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَمِنْ نِظَامِ النَّهَارِ مِنْ تَجَدُّدِ النَّشَاطِ وَانْبِعَاثِ النَّاس لِلْعَمَلِ وَسَآمَتِهِمْ مِنَ الدَّعَةِ، مَعَ مَا هُوَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ مِنَ النُّورِ الَّذِي بِهِ إِبْصَارُ مَا يَقْصِدُهُ الْعَامِلُونَ. وَالسُّبَاتُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فِي اللُّغَةِ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّوَسُّعِ فِي مَادَّةِ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ. وَأَنْسَبُ الْمَعَانِي بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ هُوَ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَإِنْ كَانَ فِي كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ اعْتِبَارٌ بِدَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيّ السبات بِالْمَوْتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ إِلَى مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً. وَإِعَادَةُ فِعْلِ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً دُونَ أَنْ يُعَادَ فِي قَوْلِهِ وَالنَّوْمَ سُباتاً مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ جَعْلٌ مُخَالِفٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ لِبَاسًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ نُشُوراً، وَالنُّشُورُ: بَعْثُ الْأَمْوَاتِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ وَتَعْرِيضٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَنْ أَحَالُوهُ، بِتَقْرِيبِهِ بِالْهُبُوبِ فِي النَّهَارِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ إِذْ أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . وَالنُّشُورُ: الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً [الْفرْقَان: 40] . وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْبُرُوزُ وَالِانْتِشَارُ فَيَكُونُ ضِدَّ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 48 إلى 50]

اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ النَّهَارِ حَقِيقِيًّا، وَالْمِنَّةُ فِي أَنَّ النَّهَارَ يَنْتَشِرُ فِيهِ النَّاسُ لِحَوَائِجِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ بَعْثُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيه البليغ. [48- 50] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 48 إِلَى 50] وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَامْتِنَانٌ بِتَكْوِينِ الرِّيَاحِ وَالْأَسْحِبَةِ وَالْمَطَرِ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ النُّشُورِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَى مَا فِي الرِّيَاحِ مِنَ النُّشُورِ بِذِكْرِ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا نُشُرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ لِكَوْنِهَا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ. وَمَرْدُودُ الِاسْتِدْلَالِ قَصْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِبْطَالًا لِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِنَفْيِ الشَّرِكَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ مَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفرْقَان: 47] إِلَخْ.. وَأُطْلِقَ عَلَى تَكْوِينِ الرِّيَاحِ فِعْلُ أَرْسَلَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْثِ شَيْءٍ وَتَوْجِيهِهِ، لِأَنَّ حَرَكَةَ الرِّيَاحِ تُشْبِهُ السَّيْرَ. وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ الْإِرْسَالِ فِي إِطْلَاقِ الْعَنَانِ لِخَيْلِ السباق. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بدقيق صنع اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الرِّيَاحِ، فَالْعَامَّةُ يَعْتَبِرُونَ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُشَاهَدَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخَاصَّةُ يُدْرِكُونَ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ وَهُبُوبِهَا واختلافها، وَذَلِكَ ناشىء عَنِ الْتِقَاءِ حَرَارَةِ جَانِبٍ مِنَ الْجَوِّ بِبُرُودَةِ جَانِبٍ آخَرَ. ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ بِهُبُوبِهَا حَارَّةً مَرَّةً وَبَارِدَةً أُخْرَى تُكَوِّنُ الْأَسْحِبَةَ وَتُؤْذِنُ بِالْمَطَرِ فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا نُشُرٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرْسَلَ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الرِّيحَ

بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ. وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ غَلَبَ جَمْعُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْخَيْرِ وَإِفْرَادُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْعَذَابِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُشُرًا بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَكُلُّهَا مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ كَمَا يُنْشَرُ الثَّوْبُ الْمَطْوِيُّ لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الشِّينِ جَمْعَ بَشُورٍ مِنَ التَّبْشِيرِ لِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [57] . وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا- لِنُحْيِيَ- ونُسْقِيَهُ- ولَقَدْ صَرَّفْناهُ لِلدَّاعِي الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ آنِفًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا [الْفرْقَان: 45، 46] . وَالْمُرَادُ بِ رَحْمَتِهِ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ بِمَا يُنْبِتُهُ مِنَ الشَّجَرِ وَالْمَرْعَى. وَجُمْلَةُ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ أَرْسَلَ الرِّياحَ إِلَخْ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا. وَضَمِيرُ أَنْزَلْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] . وَالطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ صَبُورٌ. وَمَاءُ الْمَطَرِ بَالِغٌ مُنْتَهَى الطَّهَارَةِ إِذْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ شَيْءٌ يُكَدِّرُهُ أَوْ يُقَذِّرُهُ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْقَى الْمِيَاهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ جَمِيعِ الْجَرَاثِيمِ فَهُوَ الصَّافِي حَقًّا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ بَالِغُ نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْمِيَاهِ وَوَصْفُ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ إِذِ الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى صِيغَةِ فَعُولٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي الْوَصْفِ، فَاقْتِضَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ اقْتِضَاءٌ الْتِزَامِيٌّ

لِيَكُونَ مُسْتَكْمِلًا وَصْفَ الطَّهَارَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَيَكُونَ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ إِدْمَاجًا لِمِنَّةٍ فِي أَثْنَاءِ المنن الْمَقْصُودَة، وَيكون كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَال: 11] وَصَفَ الطَّهَارَةَ الذَّاتِيَّةَ وَتَطْهِيرَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ وَصْفُ الْمَاءِ بِالصَّفَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْبَلْدَةُ: الْأَرْضُ. وَوَصْفُهَا بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَجَازَانِ لِلرَّيِّ وَالْجَفَافِ لِأَنَّ رَيَّ الْأَرْضِ يَنْشَأُ عَنْهُ النَّبَاتُ وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَيَّ، وَجَفَافُ الْأَرْضِ يَجِفُّ بِهِ النَّبَاتُ فَيُشْبِهُ الْمَيِّتَ. وَلِمَاءِ الْمَطَرِ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ لِكُلِّ أَرْضٍ لِأَنَّهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالتُّرَابِيَّةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِيَاهُ الْعُيُونِ وَمِيَاهُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ كَانَ صَالِحًا بِكُلِّ أَرْضٍ وَبِكُلِّ نَبَاتٍ عَلَى اخْتِلَافِ طِبَاعِ الْأَرَضِينَ وَالْمَنَابِتِ. وَالْبَلْدَةُ: الْبَلَدُ. وَالْبَلَدُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْبِقَاعِ كَمَا قَالُوا: دَارٌ وَدَارَةٌ. وَوُصِفَتِ الْبَلْدَةُ بِمَيِّتٍ، وَهُوَ وَصْفٌ مُذَكِّرٌ لِتَأْوِيلِ بَلْدَةً بِمَعْنَى مَكَانٍ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ الْجَامِدِ (أَيْ فَلَمْ يُغَيَّرْ) . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَيِّتِ، وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ وَصْفٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَفِي قَوْلِهِ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً إِيمَاءٌ إِلَى تَقْرِيبِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ. ونُسْقِيَهُ بِضَمِّ النُّونِ مُضَارِعُ أَسْقَى مِثْلَ الَّذِي بِفَتْحِ النُّونِ فَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: أَسْقَى وَسَقَى. قَالَ تَعَالَى: قالَتا لَا نَسْقِي [الْقَصَص: 23] بِفَتْحِ النُّونِ. وَقِيلَ: سَقَى: أَعْطَى الشَّرَابَ، وَأَسْقَى: هَيَّأَ الْمَاءَ لِلشُّرْبِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَسَدُّ لِأَنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مِنْ مَحَاسِنِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَيَّأْنَاهُ لِشُرْبِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ فَكُلُّ مَنِ احْتَاجَ لِلشُّرْبِ شَرِبَ مِنْهُ سَوَاءٌ مَنْ شَرِبَ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ. وأَنْعاماً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ نُسْقِيَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا خَلَقْنا حَالٌ مِنْ أَنْعاماً وَأَناسِيَّ. و (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ بَعْضَ مَا خَلَقْنَاهُ، وَالْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ نُسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ. فَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ الْإِشَارَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّهَا خَلْقُهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعًا أُخْرَى مِنَ

الْخَلَائِقِ تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ لِأَنَّهُمَا مَوْقِعُ الْمِنَّةِ، فَالْأَنْعَامُ بِهَا صَلَاحُ حَالِ الْبَادِينَ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا، وَهِيَ تَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَحْوَاضِ وَالْغُدْرَانِ. وَالْأَنَاسِيُّ: جَمْعُ إِنْسِيٍّ، وَهُوَ مُرَادِفُ إِنْسَانٍ. فَالْيَاءُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ. وَجُمِعَ عَلَى فَعَالِيَّ مِثْلِ كُرْسِيِّ وَكَرَاسِيَّ. وَلَوْ كَانَتْ يَاؤُهُ نَسَبٌ لَجُمِعَ عَلَى أَنَاسِيَةٍ كَمَا قَالُوا: صَيْرَفِيٌّ وَصَيَارِفَةٌ. وَوُصِفَ الْأَنَاسِيُّ بِ كَثِيراً لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنَاسِيِّ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ مِنْ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ، وَالْآبَارِ وَالصَّهَارِيجِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ. فَالْمِنَّةُ أَخَصُّ بِهِمْ، قَالَ زِيَادَةُ الْحَارِثِيُّ (¬1) : وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى ... لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرًا (¬2) وَفِي أَحَادِيثِ ذِكْرِ هَاجَرَ زَوْجِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» يَعْنِي الْعَرَبَ. وَمَاءُ الْمَطَرِ لِنَقَاوَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَالِحٌ بِأَمْعَاءِ كُلِّ النَّاسِ وَكُلِّ الْأَنْعَامِ دُونَ بَعْضِ مِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ. وَوَصَفَ أَنَاسِيَّ وَهُوَ جَمْعٌ بِكَثِيرٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ مِثْلَ رَفِيقٍ وَكَذَلِكَ قَلِيلٌ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: 86] . وَتَقْدِيمُ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ عَلَى الْأَنَاسِيِّ اقْتَضَاهُ نَسْجُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَحْكَامِ فِي تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، وَلَوْ قُدِّمَ ذِكْرُ أَناسِيَّ لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ. وَلَمْ يُقَدَّمْ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [33] لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي لِلتَّقْدِيمِ فَجَاءَ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ. وَضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَاءً طَهُوراً. وَالتَّصْرِيفُ: التَّغْيِيرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَغْيِيرُ أَحْوَالِ الْمَاءِ، أَيْ مَقَادِيرِهِ وَمَوَاقِعِهِ. وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَطَرِ مُحَقَّقٌ لَا ¬

(¬1) هُوَ من قضاعة، إسلامي مَاتَ قَتِيلا فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، قَتله هدبة بن خثرم. (¬2) المملكة: التَّمَلُّك، أَي الْعِزَّة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام، وَالْقصر: الْغَايَة.

يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ هُوَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ تَصْرِيفِهِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَعَ نُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَفِي حَالَةِ إِمْسَاكِهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَقْدُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الْمُخْتَارُ فِي خَلْقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَقَدْ كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ حِكْمَةَ الْخَالِقِ وَيُسْنِدُونَ الْآثَارَ إِلَى مُؤَثِّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ أَوْ صُورِيَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ التَّذَكُّرُ شَامِلًا لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِإِصَابَةِ الْمَطَرِ وَلِتَفَطُّنِ الْمَحْرُومِينَ إِلَى سَبَبِ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهُ لَعَلَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، جِيءَ فِي التَّعْلِيلِ بِفِعْلِ لِيَذَّكَّرُوا لِيَكُونَ عِلَّةً لِحَالَتَيِ التَّصْرِيفِ بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً تَرْكِيبٌ جَرَى بِمَادَّتِهِ وَهَيْئَتِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَصْمِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الصَّارِفِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى، أَيْ فَصَمَّمُوا عَلَى الْكُفُورِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ عُمُومِ أَشْيَاءٍ مُبْهَمَةٍ جُعِلَتْ كُلُّهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِبَاءُ كَأَنَّ الْآبِينَ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ- مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ- أُمُورٌ وَرَاجَعُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهَا إِلَّا الْكُفُورَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَرْضٌ وَلَا إِبَاءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: [32] وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلتَّوْحِيدِ وَفِي سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ. وَشِدَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي كُفْرِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَكْشُوفَةٌ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصّفّ: [8] : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ. وَالْكُفُورُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكُفْرِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، أَيْ أَبَوْا إِلَّا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ وَعَدَمَ التَّذَكُّرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَذَّكَّرُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مُدْغَمَةً فِيهَا التَّاءُ وَأَصْلُهُ لِيَتَذَكَّرُوا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ مَضْمُومَةً، أَيْ لِيَذْكُرُوا مَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ مَقَادِيرُ تَوْزِيعِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْقَطْرِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَامٌ أَقَلُّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 إلى 52]

اللَّهَ قَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مَا شَاءَ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ سَنَةٍ بِأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ الْمَعَاصِيَ صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِيِ وَالْبِحَارِ» اه. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ لَا تَخْتَلِفُ كِمِّيَّتُهُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ تَوْزِيعُهُ. وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ قَرَّرَهَا عُلَمَاءُ حَوَادِثِ الْجَوِّ فِي الْقَرْنِ الْحَاضِرِ، فَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَجَوَّزَ فَرِيقٌ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مَعْلُومٍ فِي الْمَقَامِ مُرَادٍ بِهِ الْقُرْآنُ قَالُوا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِهِ، وَتَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الْفرْقَان: 30] . وَأَصْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَلِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: 52] . وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ، أَيْ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا هَذَا الْكَلَامَ وَكَرَّرْنَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُل ليذّكروا. [51، 52] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 51 إِلَى 52] وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ ذِكْرِ دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَذِكْرِ مِنَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ. وَمُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَفْرِيعِهَا بِمَوْقِعِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا خَفِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً: اقْتِضَابٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ. تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّا أَفْرَدْنَاكَ بِالنِّذَارَةِ وَحَمَّلْنَاكَ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ اه. فَإِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ: اقْتِضَابٌ، مَعْنَى الِاقْتِضَابِ الِاصْطِلَاحِيِّ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَدَبِ وَالْبَيَانِ، وَهُوَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْكَلَامِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، كَانَ عُدُولًا عَنِ الْتِزَامِ تَطَلُّبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ الْخُلُوُّ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ بِبِدَعٍ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» «وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْهُ (أَيْ مِمَّا شُبِّبَ بِهِ الْكَلَامُ) إِلَى مَا لَا يُلَائِمُهُ (أَيْ لَا يُنَاسِبُ الْمُنْتَقَلَ مِنْهُ) وَيُسَمَّى الِاقْتِضَابَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَرَبِ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ» إِلَخْ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنَى

بِالِاقْتِضَابِ مَعْنَى الْقَطْعِ (أَيِ الْحَذْفِ مِنَ الْكَلَامِ) أَيْ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ «يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ تَقْدِيرُهُ إِلَخْ» ، كَانَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي «الْكَشَّافِ» : «وَلَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أعباء نذارة جَمِيع الْقُرَى وَلَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَبِيئًا يُنْذِرُهَا، وَإِنَّمَا قَصَرْنَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَعَظَّمْنَاكَ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ (أَيْ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ) فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالتَّصَبُّرِ» اه. وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: «وَمَدَارُ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِمَا يُثْبِتُ عُمُومَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: 1] . وَلَيْسَ فِي كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَالطِّيبِيِّ إِلَّا بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمُهِمِّ أَغْرَاضِ السُّورَةِ دُونَ بَيَانِ مُنَاسَبَتِهَا لِلَّتِي قَبْلَهَا. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] الْآيَةَ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ إِبْطَالَ طَعْنِهِمْ فَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: 32] انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ الْقُرْآنِ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفَ اسْتَأْصَلَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبُوهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ أُمَمٍ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَارَ إِلَى تَحَرُّجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الْفرْقَان: 43] . وَتَسَلْسُلِ الْكَلَامِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ، وَبِحَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ، أَمَارَةٌ عَلَى رَحْمَةِ غَيْثِهِ الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْمَوَاتُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اشْتِمَالُ التَّفْرِيعِ عَلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَجاهِدْهُمْ بِهِ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ اتِّصَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] أَنَّ فِي بَعْثِ نَذِيرٍ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُجَزَّأً فَلَوْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَقَالَ الَّذين كفرُوا: لَوْلَا أُرْسِلَ رَسُولٌ وَاحِدٌ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا فَإِنَّ مَطَاعِنَهُمْ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فِي سُورَة حم فصلت

[سورة الفرقان (25) : آية 53]

وَتَفْرِيعُ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْكَفَّ عَنْ دَعْوَتِهِمْ وَعَنْ تَنَقُّصِ أَصْنَامِهِمْ. وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّذْكِيرِ، وَفِعْلُ تُطِعِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَدْنَى طَاعَةٍ. وَالطَّاعَةُ: عَمَلُ الْمَرْءِ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ، أَيْ فَلَا تَهِنْ فِي الدَّعْوَةِ رَعْيًا لِرَغْبَتِهِمْ أَنْ تَلِينَ لَهُمْ. وَبَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُ مِنَ الْوَهَنِ فِي الدَّعْوَةِ أَمَرَهُ بِالْحِرْصِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهَا. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِيُفِيدَ مُقَابَلَةَ مَجْهُودِهِمْ بِمَجْهُودِهِ فَلَا يَهِنُ وَلَا يَضْعُفُ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْجِهَادِ الْكَبِيرِ، أَيِ الْجَامِعِ لِكُلِّ مُجَاهَدَةٍ. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ: فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ مَقَامِ النِّذَارَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنْ «لَا تُطِعْ» وَهُوَ الثَّبَاتُ عَلَى دَعْوَتِهِ بِأَنْ يَعْصِيَهُمْ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ: فَقُلْنَ لَهَا سِرًّا فَدِينَاكِ لَا يَرُحْ ... صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ فَقَابَلَ قَوْلَهُ: «لَا يَرُحْ صَحِيحًا» بِقَوْلِهِ: «وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ» كَأَنَّهُ قَالَ: فَدَيْنَاكِ فَاقْتُلِيهِ. وَالْمَعْنَى: قَاوِمْهُمْ بِصَبْرِكَ. وَكِبَرُ الْجِهَادِ تَكْرِيرُهُ وَالْعَزْمُ فِيهِ وَشِدَّةُ مَا يَلْقَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ عِنْدَ قُفُولِهِ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» . قَالُوا: «وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ» ؟ - قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَد ضَعِيف. [53] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 53] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ. جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِدْلَالًا وَتَمْثِيلًا

وَتَثْبِيتًا وَوَعْدًا فَصَرِيحُهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى شَيْءٍ عَظِيمٍ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْتِقَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْأَبْحُرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي ضِمْنِهَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ تَجَاوُزِ الْبَحْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ. وَتَمْثِيلُ الْإِيمَانِ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ وَالشِّرْكِ بِالْمِلْحِ الْأُجَاجِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بَرْزَخًا يَحْفَظُ الْعَذْبَ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الْأُجَاجُ، كَذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدُسُّوا كُفْرَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْجِزُ عَنْهُمْ ضُرَّ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] . وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ كِنَائِيٌّ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الشِّرْكُ. وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّثْبِيتِ وَالْوَعْدِ كَانَ لِمَوْقِعِهَا عَقِبَ جُمْلَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: 52] أَكْمَلُ حُسْنٍ. وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْفرْقَان: 48] . وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ كِلْتَيْهِمَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَمُفَادُ الْقَصْرِ هَنَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَتَيْنِ السابقتين. والمرج: الْخَلْطُ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِشِدَّةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمُسْتَبْحِرُ، أَيْ الْكَثِيرُ الْعَظِيمُ. وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ. وَالْفُرَاتُ: شَدِيدُ الْحَلَاوَةِ. وَالْمِلْحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى الْمَالِحِ، وَلَا يُقَالُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا مِلْحٌ وَأَمَا مَالِحٌ فَقَلِيلٌ. وَأُرِيدَ هُنَا مُلْتَقَى مَاءِ نَهْرَيِ الْفُرَاتِ وَالدَّجْلَةِ مَعَ مَاءِ بَحْرِ خَلِيجِ الْعَجَمِ. وَالْبَرْزَخُ: الْحَائِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَرْزَخِ تَشْبِيهُ مَا فِي تَرْكِيبِ الْمَاءِ الْمِلْحِ مِمَّا يَدْفَعُ تَخَلُّلَ الْمَاءِ الْعَذْبِ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيَبْقَى كِلَاهُمَا حَافِظًا لِطَعْمِهِ عِنْدَ الْمَصَبِّ. وحِجْراً مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على مفعول جعل. وَلَيْسَ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَوُّذِ كَالَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: 22] . ومَحْجُوراً وَصْفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تُكَلُّفٌ بِجَعْلِ حِجْراً مَحْجُوراً هُنَا بِمَعْنَى التَّعَوُّذِ

[سورة الفرقان (25) : آية 54]

كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: 22] وَلَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ حِجْراً مَحْجُوراً فِي التَّعَوُّذِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا كَذَلِك. [54] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 54] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) مُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَعْدَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَقِيقِ آثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ وَجَعْلِهَا سَبَبَ حَيَاةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَوْضَاعِ. وَمِنْ أَعْظَمِهَا دَقَائِقُ الْمَاءِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ نُطْفَةُ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهَا سَبَبُ تَكْوِينِ النَّسْلِ لِلْبَشَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ أَمْرِهِ مَاءً ثُمَّ يَتَخَلَّقُ مِنْهُ الْبَشَرُ الْعَظِيمُ، فَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ بَشَراً لِلتَّعْظِيمِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ من تَعْرِيف الجزءين قَصْرُ إِفْرَادٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى شَرِكَةِ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالْبَشَرُ: الْإِنْسَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [17] . وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي فَجَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْبَشَرِ، أَيْ فَجَعَلَ الْبَشَرَ الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ الْمَاءِ نَسَبًا وَصِهْرًا، أَيْ قَسَّمَ اللَّهُ الْبَشَرَ قِسْمَيْنِ: نَسَبٍ، وَصِهْرٍ. فَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِمَعْنَى (أَوْ) وَالْوَاوُ أَجْوَدُ مِنْ (أَوْ) فِي التَّقْسِيمِ. ونَسَباً وَصِهْراً مَصْدَرَانِ سُمِّيَ بِهِمَا صِنْفَانِ مِنَ الْقَرَابَةِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَا نَسَبٍ وَصِهْرٍ وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ. وَالنَّسَبُ لَا يَخْلُو مِنْ أُبُوَّةٍ وَبُنُوَّةٍ وَأُخُوَّةٍ لِأُولَئِكَ وَبُنُوَّةٍ لِتِلْكَ الْأُخُوَّةِ. وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ قَرَابَةِ زَوْجِهِ وَأَقَارِبِهِ مِنَ الْعَلَاقَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مُصَاهَرَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُوَ آصِرَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَتَقَوَّمُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَصِهْرُ الرَّجُلِ قَرَابَةُ امْرَأَتِهِ، وَصِهْرُ الْمَرْأَةِ قَرَابَةُ زَوْجِهَا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: صَاهَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا تَزَوَّجَ مِنْ قَرَابَتِهِ وَلَوْ قَرَابَةً بَعِيدَةً كَقَرَابَةِ الْقَبِيلَةِ. وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ الْمُتَزَوِّجُ وَغَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ. وَيُطْلَقُ الصِّهْرُ على مَعَ لَهُ مَنْ الْآخَرِ عَلَاقَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ فِي

[سورة الفرقان (25) : آية 55]

مَوْضِعِ الْوَصْفِ فَالْأَكْثَرُ حِينَئِذٍ أَنْ يُخَصَّ بِقَرِيبِ زَوْجِ الرَّجُلِ، وَأَمَا قَرِيبُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ خَتَنٌ لَهَا أَوْ حَمٌ. وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ آصِرَةِ صِهْرٍ وَلَوْ بَعِيدًا. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَا فِي هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ مِنْ دَقَائِقِ نِظَامِ إِيجَادٍ طَبِيعِيٍّ وَاجْتِمَاعِيٍّ بِقَوْلِهِ: وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً، أَيْ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ إِذْ أَوْجَدَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ خَلْقًا عَظِيمًا صَاحِبَ عَقْلٍ وَتَفْكِيرٍ فَاخْتُصَّ بِاتِّصَالِ أَوَاصِرِ النَّسَبِ وَأَوَاصِرِ الصِّهْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلَ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِتَكْوِينِ الْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَتَعَاوُنِهِمْ مِمَّا جَاءَ بِهَذِهِ الْحَضَارَةِ الْمُرْتَقِيَةِ مَعَ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: 13] . وَفِي تَرْكِيبِ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً مِنْ دَقِيقِ الْإِيذَانِ بِأَنَّ قُدْرَتَهُ رَاسِخَةٌ وَاجِبَةٌ لَهُ مُتَّصِفٌ بِهَا فِي الْأَزَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ كانَ، وَمَا فِي صِيغَةِ «قَدِيرٍ» مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْقُدْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تَمَامَ الْإِرَادَة وَالْعلم. [55] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 55] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ فِي الشِّرْكِ، أَعْقَبَ ذِكْرَ مَا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ مِنْ إِلْطَافِهِ بِهِمْ فِي تَصَارِيفِ الْكَائِنَاتِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْمَاءَ فَأَنْبَتَ بِهِ الزَّرْعَ وَسَقَى بِهِ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ، مَعَ مَا قَارَنَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ بِذِكْرِ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَنْفَعُ النَّاسَ عَوْدًا إِلَى حِكَايَةِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَنَفْيُ الضُّرِّ بَعْدَ نَفْيِ النَّفْعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى انْتِفَاءِ شُبْهَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فِي شِرْكِهِمْ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِبَادَةِ إِمَّا رَجَاءُ النَّفْعِ وَإِمَّا اتِّقَاءُ ضُرِّ الْمَعْبُودِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الْأَصْنَامِ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَعَدَمِ إِجْدَاءِ الدَّلَائِلِ الْمُقْلَعَةِ عَنْهَا فِي جَانِبِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَاللَّامُ فِي تَعْرِيفِ الْكافِرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلُّ كَافِرٍ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 إلى 57]

وَجَعَلَ الْخَبَرَ عَنِ الْكَافِرِ خَبَرًا لِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْخَبَرِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ مُعْتَادٌ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ. وَالظَّهِيرُ: الْمُظَاهِرُ، أَيِ الْمُعِينُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [88] وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مَظَاهِرٍ مِثْلَ حَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، وَعَوِينٍ بِمَعْنَى مُعَاوِنٍ. وَقَوْلُ عمر بن معد يكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَمَجِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ غَيْرُ عَزِيزٍ» . وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: ظَاهَرَ عَلَيْهِ، إِذَا أَعَانَ مَنْ يُغَالِبُهُ عَلَى غَلَبِهِ، وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ الظَّهْرِ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمُعَاوِنَ أَحَدًا عَلَى غَلَبِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ يَحْمِلُ الْغَالِبَ عَلَى الْمَغْلُوبِ كَمَا يُحْمَلُ عَلَى ظَهْرِ الْحَامِلِ، جَعَلَ الْمُشْرِكَ فِي إِشْرَاكِهِ مَعَ وُضُوحِ دَلَالَةِ عَدَمِ اسْتِئْهَالِ الْأَصْنَامِ لِلْإِلَهِيَّةِ كَأَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَصْنَامَ عَلَى رَبِّهِ الْحَقِّ. وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ عَاقٌّ لِمَوْلَاهُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: ظَهِيرٌ بِمَعْنَى مَظْهُورٍ، أَيْ كُفْرُ الْكَافِرِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، يَعْنِي أَيْ فَعِيلًا فِيهِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلى مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ كانَ أَيْ كَانَ عَلَى الله هيّنا. [56، 57] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 56 إِلَى 57] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) لَمَّا أَفْضَى الْكَلَامُ بِأَفَانِينِ انْتِقَالَاتِهِ إِلَى التَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ أعقب بِمَا يومىء إِلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ بِنِسْبَةِ مَا بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ إِلَى الْإِفْكِ، وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهُ سِحْرٌ، فَأُبْطِلَتْ دَعَاوِيهِمْ كُلُّهَا بِوَصْفِ النَّبِيءِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَصْرُهُ عَلَى صِفَتَيِ التَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الْوَارِدُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ جَامِعٌ بَيْنَ إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ لِرِسَالَتِهِ وَبَيْنَ تَأْنِيسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضِلٍّ وَلَكِنَّهُ مُبَشِّرٌ وَنَذِيرٌ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَامِعٍ مِنْ دَعْوَتِهِمْ فِي أَنْ يَعْتَزَّ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ

حَتَّى يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَقَدْ بَلَغُوا مِنَ النِّكَايَةِ بِهِ أَمَلَهُمْ، بَلْ مَا عَلَيْهِ إِلَّا التَّبْلِيغُ بِالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ. وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يُقْصَدُ بِهِ الْجَزَاءُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مَحْذُوفٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُجْعَلَ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُسَمَّى تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَبِعِبَارَةٍ أَتْقَنَ تَأْكِيدَ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ مَحْضٌ وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى فِيهِ مُنْقَطِعًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ فَإِنَّ فُلُولَ سُيُوفِهِمْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَيْبِ فِيهِمْ بِحَالٍ وَمِنْهُ مَرْتَبَةُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا الْمُسْتَثْنَى فِيهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ بِالْمُشَابَهَةِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا مِنْ قَبِيلِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ أَجْرًا إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا عَمَلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا إِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ الْأَجْرَ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَةِ فَكَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . وَقَدْ يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وَيُقَدِّرُونَهُ كَالِاسْتِدْرَاكِ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 27] . وَجُعِلَ السَّبِيلُ هُنَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: 39] . وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ السَّيْرَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَّا كَانَ آبقا.

[سورة الفرقان (25) : آية 58]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 58] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الْفرْقَان: 57] أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي دَعْوَتِكَ إِلَى الدِّينِ فَهُوَ الَّذِي يُجَازِيكَ عَلَى ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ. وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَإِسْلَامُ الْأُمُورِ إِلَى الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَكِيلُ، أَيْ الْمُتَوَلِّي مُهِمَّاتِ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [159] . والْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الدَّائِمُ فَيُفِيدُ ذَلِكَ مَعْنَى حَصْرِ التَّوَكُّلِ فِي الْكَوْنِ عَلَيْهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيِّ لِلْكَامِلِ، أَيْ الْكَامِلِ حَيَاتُهُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ وَحَيَاةُ غَيْرِهِ مُعَرِّضَةٌ لِلزَّوَالِ بِالْمَوْتِ وَمُعَرَّضَةٌ لِاخْتِلَالِ أَثَرِهَا بِالذُّهُولِ كَالنَّوْمِ وَنَحْوِهُ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَوْتِ، فَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِهِ مُعَرَّضٌ لِلِاخْتِلَالِ وَلِلِانْخِرَامِ. وَفِي ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ نَاطُوا آمَالَهُمْ بِالْأَصْنَامِ وَهِيَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ الْكَامِلَ لَا يَثِقُ إِلَّا بِاللَّهِ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى الْأَحْيَاءِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفِيدُ أَحْيَانًا لَكِنَّهُ لَا يَدُومُ. وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالتَّسْبِيحِ فَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَوَّلُ ذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، أَيْ إِذَا أَهَمَّكَ أَمْرُ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ فَنَزَّهَ اللَّهَ. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ سَبَّحَهُ تَسْبِيحًا مُصَاحِبًا لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ. فَقَدْ جُمِعَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ التَّخْلِيَةُ وَالتَّحْلِيَةُ مُقَدَّمًا التَّخْلِيَةَ لِأَنَّ شَأْنَ الْإِصْلَاحِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِزَالَةِ النَّقْصِ. وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ مَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَيُفِيدُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِذُنُوبِ الْخَلْقِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحْوَالُ

[سورة الفرقان (25) : آية 59]

الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ غَرَضُ الْكَلَامِ. فَفِي (ذُنُوب عِبَادِهِ) عُمُومَانِ: عُمُومُ ذُنُوبِهِمْ كُلِّهَا لِإِفَادَةِ الْجَمْعِ الْمُضَافِ عُمُومَ إِفْرَادِ الْمُضَافِ، وَعُمُومُ النَّاسِ لِإِضَافَةِ (عِبَادٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، أَيْ جَمِيعُ عِبَادِهِ، مَعَ مَا فِي صِيغَةِ (خَبِيرٍ) مِنْ شِدَّةِ الْعِلْمِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعُمُومَ فَكَانَ كَعُمُومٍ ثَالِثٍ. وَالْكِفَايَةُ: الْإِجْزَاءُ، وَفِي فِعْلِ كَفى إِفَادَةُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالِاكْتِفَاءِ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ. وَالْبَاءُ لِتَأْكِيدِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَقَدْ كَثُرَ دُخُولُ بَاءِ التَّأْكِيدِ بَعْدَ فِعْلِ الْكِفَايَةِ عَلَى فَاعِلِهِ أَوْ مَفْعُولِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [14] . وخَبِيراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ أَيْ كَفَى بِهِ مِنْ حَيْثُ الْخِبْرَةِ. وَالْعِلْمُ بِالذُّنُوبِ كِنَايَةٌ عَنْ لَازمه وَهُوَ أَنه يجازيهم على ذُنُوبِهِمْ، وَالشِّرْكُ جَامِعُ الذُّنُوبِ. وَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ من أذاهم. [59] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 59] الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) أُجْرِيَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ وَصْفًا ثَانِيًا لِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الْفرْقَان: 58] لِاقْتِضَائِهَا سِعَةَ الْعِلْمِ وَسِعَةَ الْقُدْرَةِ وَعَظِيمَ الْمَجْدِ، فَصَاحِبُهَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيُفَوَّضَ أَمْرُ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ. وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَعَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. والرَّحْمنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَي هُوَ الرحمان. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَال عِنْد مَا تَتَقَدَّمُ أَخْبَارٌ أَوْ أَوْصَافٌ لِصَاحِبِهَا، ثُمَّ يُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَا هُوَ إِفْصَاحٌ عَنْ وَصْفٍ جَامِعٍ لِمَا مَضَى أَوْ أَهَمَّ فِي الْغَرَضِ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، فَإِنَّ وَصْفَ الرَّحْمَنِ أَهَمُّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُدَبِّرُ أُمُورَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ بِقَوِيِّ الْإِسْعَافِ.

[سورة الفرقان (25) : آية 60]

وَفُرِّعَ عَلَى وَصْفِهِ بِ الرَّحْمنُ قَوْله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فِي رَحْمَتِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالشُّمُولِ مَا لَا تَفِي فِيهِ الْعِبَارَةُ فَيَعْدِلُ عَنْ زِيَادَةِ التَّوْصِيفِ إِلَى الْحِوَالَة على عليم بِتَصَارِيفِ رَحْمَتِهِ مُجَرِّبٌ لَهَا مُتَلَقٍّ أَحَادِيثَهَا مِمَّنْ عَلِمَهَا وَجَرَّبَهَا. وَتَنْكِيرُ خَبِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا يُظَنُّ خَبِيرًا مُعَيَّنًا، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا تَعَلَّقَ بهَا فعل الْأَمر اقْتَضَتْ عُمُومًا بِدَلِيلِ أَيِّ خَبِيرٍ سَأَلْتَهُ أَعْلَمَكَ. وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ نَظِيرَ قَوْلِ الْعَرَبِ: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» يَقُولُهَا الْعَارِفُ بِالشَّيْءِ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ. وَالْمَثَلَانِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقِ بِهَا فَالْمَثَلُ الْقُرْآنِيُّ أَفْصَحُ لِسَلَامَتِهِ مِنْ ثِقَلِ تَلَاقِي الْقَافِ وَالطَّاءِ وَالتَّاءِ فِي (سَقَطْتَ) . وَهُوَ أَيْضًا أَشْرَفُ لِسَلَامَتِهِ مِنْ مَعْنَى السُّقُوطِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ كُلِّ خَبِيرٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا يَقُولُهَا الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ. وَقَرِيبٌ من معنى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً قَوْلُ النَّابِغَةِ: هَلَّا سَأَلْتَ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسَبِي ... إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الْأَشْمَطَ الْبَرِمَا إِلَى قَوْلِهِ: يُخْبِرُكُ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُمْ ... وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَالْبَاءُ فِي بِهِ بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ فَاسْأَلْ عَنْهُ كَقَوْلِ عَلْقَمَةَ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِ خَبِيراً وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ، فَلهُ سببان. [60] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 60] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) لِمَا جَرَى وَصْفُ الله تَعَالَى بالرحمان مَعَ صِفَاتٍ أُخُرَ اسْتَطْرَدَ ذِكْرُ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقَدْ عَلِمْتَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى باسم (الرحمان) هُوَ مِنْ وَضْعِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لِلْعَرَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ شَاعِرِ الْيَمَامَةِ فِي مَدْحِ مُسَيْلِمَةَ:

سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ أَبًا ... وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا فَذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي مُدَّةِ الرِّدَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْكَرُوهُ قَصْدًا بِالتَّوَرُّكِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ بِمَدْلُولِ هَذَا الْوَصْفِ وَلَا بِكَوْنِهِ جَارِيًا عَلَى مَقَايِيسِ لُغَتِهِمْ وَلَا أَنَّهُ إِذَا وُصِفُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ رَبٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْأَسْمَاءِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الصابىء يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَدْعُو الرَّحْمَنَ. وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [110] وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَالْخَبَرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عِنَادِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ شَأْنِهِمْ. وَالسُّجُودُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ سُجُودُ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَهُوَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَأَمَّا سُجُودُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَلَا فَائِدَةَ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ إِلَخْ. وَمَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا. وَوَاوُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِمْ وَمَا الرَّحْمنُ لِعَطْفِهِمُ الْكَلَامَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي أَمرهم بِالسُّجُود للرحمان، عَلَى طَرِيقَةِ دُخُولِ الْعَطْفِ بَيْنَ كَلَامَيْ مُتَكَلِّمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] . ومَا مِنْ قَوْلِهِ وَمَا الرَّحْمنُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِغْرَابِ، يَعْنُونَ تَجَاهُلَ هَذَا الِاسْمِ، وَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ بِمَا دُونَ (مَنْ) بِاعْتِبَارِ السُّؤَالِ عَنْ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا إِنْكَارٌ وَامْتِنَاعٌ، أَيْ لَا نَسْجُدُ لِشَيْءٍ

[سورة الفرقان (25) : آية 61]

تَأْمُرُنَا بِالسُّجُودِ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَوْ لَا نَسْجُدُ لِلَّذِي تَأْمُرُنَا بِالسُّجُودِ لَهُ إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً، وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّفَةِ أَوِ الصِّلَةِ مَعَ مَا اتَّصَلَ هُوَ بِهِ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِبَاءُ السُّجُودِ لِلَّهِ لِأَنَّ السُّجُودَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ سُجُودٌ لِلَّهِ بِنِيَّةِ انْفِرَاد الله بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُمْ لَا يُجِيبُونَ إِلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ [الْقَلَم: 43] ، أَيْ فَيَأْبَوْنَ، وَقَالَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَزادَهُمْ نُفُوراً فَالنُّفُورُ مِنَ السُّجُودِ سَابِقٌ قَبْلَ سَمَاعِ اسْمِ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُنا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ يَقُولُونَهُ بَيْنَهُمْ وَلَا يُشَافِهُونَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي زادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ. وَالنُّفُورُ: الْفِرَارُ مِنَ الشَّيْءِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْبُعْدُ. وَإسْنَاد زِيَادَة لنفور إِلَى الْقَوْلِ لِأَنَّهُ سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ نُفُورٍ مِنْ سُجُودٍ لِلَّهِ فَلَمَّا أمروا بِالسُّجُود للرحمان زَادُوا بُعْدًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ نُوحٍ [6] فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً. وَهَذَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ بِالِاتِّفَاقِ. وَوَجْهُ السُّجُودِ هُنَا إِظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَبَوا السُّجُود للرحمان، فَلَمَّا حُكِيَ إِبَاؤُهُمْ من السُّجُود للرحمان فِي مَعْرِضِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ عُزِّزَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِهِمْ فَسَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مُخَالِفًا لَهُمْ مُخَالَفَةً بِالْفِعْلِ مُبَالَغَةً فِي مُخَالَفَتِهِ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الْفرْقَان: 58] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَسَنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السُّجُودَ فِي هَذَا الْموضع. [61] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 61] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جُعِلَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفرْقَان: 63] الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مَحْصُولُ الدِّعَامَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الدَّعَائِمِ الثَّلَاثِ الَّتِي أُقِيمَ عَلَيْهَا بِنَاءُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ دِعَامَةٍ مِنْهَا بِ تَبارَكَ الَّذِي ... إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي

[سورة الفرقان (25) : آية 62]

صَدْرِ السُّورَةِ. وَافْتُتِحَ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِالْبِرْكَةِ وَالْخَيْرِ لِمَا جَعَلَهُ لِلْخَلْقِ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَتَقَدَّمَ تَبارَكَ أَوَّلَ السُّورَةِ [1] وَفِي قَوْلِهِ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي الْأَعْرَافِ [54] . وَالْبُرُوجُ: مَنَازِلُ مُرُورِ الشَّمْسِ فِيمَا يَرَى الرَّاصِدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ [16] . وَالِامْتِنَانُ بِهَا لِأَنَّ النَّاسَ يُوَقِّتُونَ بِهَا أَزْمَانَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَالسِّرَاجُ: الشَّمْسُ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فِي سُورَةِ نُوحٍ [16] . وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ... [الْفرْقَان: 62] . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سُرُجًا بِضَمِّ السِّينِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سِرَاجٍ فَيَشْمَلُ مَعَ الشَّمْسِ النُّجُومَ، فَيَكُونُ امْتِنَانًا بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا لِلنَّاسِ كَقَوْلِهِ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: 5] . وَالِامْتِنَانُ بِمَحَاسِنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] . وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السِّرَاجِ: الْمِصْبَاحُ الزَّاهِرُ الضِّيَاءَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ مُزِيلَةً لِلظُّلْمَةِ كَالسِّرَاجِ، أَوْ خَلَقَ النُّجُومَ كَالسِّرَاجِ فِي التَّلَأْلُؤِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ. وَدَلَالَةُ خلق البروج وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَرِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَة دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَاقِلِ، وَكَذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَنِظَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلُّ وَلَا يَخْتَلِفُ حَتَّى تَسَنَّى لِلنَّاسِ رَصْدُ أَحْوَالِهَا وَإِنَاطَةُ حسابهم بهَا. [62] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 62] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) الِاسْتِدْلَالُ هَذَا بِمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالِ بَيْنَ ظُلْمَةٍ وَنُورٍ، وَبَرْدٍ

وَحَرٍّ، مِمَّا يَكُونُ بَعْضُهُ أَلْيَقَ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ بِبَعْضٍ آخَرَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: 47] ، فَهَذِهِ دلَالَة أُخْرَى ونعمة أُخْرَى وَالْحِكَمُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَثِيرَةٌ. وَالْقَصْرُ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ إِضَافِيًّا فَلِذَلِكَ لَا يُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ صِيَغِ الْقَصْرِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الْفرْقَان: 47- 54] . وَالْخِلْفَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ: اسْمٌ لِمَا يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي بَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ. صِيغَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى زِنَةِ فِعْلَةٍ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ ذُو خِلْفَةٍ، أَيْ صَاحِبُ حَالَةٍ خَلَفَ فِيهَا غَيْرَهُ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَصَارَ اسْمًا، قَالَ زُهَيْرٌ: بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ أَيْ يَمْشِي سِرْبٌ وَيَخْلُفُهُ سِرْبٌ آخَرُ ثُمَّ يَتَعَاقَبُ هَكَذَا. فَالْمَعْنَى: جَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً وَالنَّهَارَ خِلْفَةً: أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلْفَةً عَنِ الْآخَرِ، أَيْ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّعَبُّدِ وَالتَّذَكُّرِ. وَاللَّامُ فِي لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ جَعَلَ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ نَافِعٌ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا. وَالتَّذَكُّرُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ، أَيْ تَكَلِّفُ الذِّكْرِ. وَالذِّكْرُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ فِي أَدِلَّةِ الدِّينِ، وَجَاءَ بِمَعْنَى: تَذَكُّرِ فَائِتٍ أَوْ مَنْسِيٍّ، وَيَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ اسْتِظْهَارُ مَا احْتُجِبَ عَنِ الْفِكْرِ. وَالشُّكُورُ: بِضَمِّ الشِّينِ مَصْدَرٌ مُرَادِفُ الشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ: عِرْفَانُ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَتُفِيدُ الْآيَةُ مَعْنَى: لِيَنْظُرَ فِي اخْتِلَافِهِمَا الْمُتَفَكِّرُ فَيَعْلَمَ أَنْ لَا بُدَّ لِانْتِقَالِهِمَا مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مُؤْثَرٍ حَكِيمٍ فَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ فَيُوقِنُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْإِلَهِيَّةَ، وَلِيَشْكُرَ الشَّاكِرَ عَلَى مَا فِي اخْتِلَافِ

[سورة الفرقان (25) : آية 63]

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: 47] فَيَكْثُرُ الشَّاكِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَمُنَاسَبَاتِهِمْ، وَتُفِيدُ مَعْنَى: لِيَتَدَارَكَ النَّاسِي مَا فَاتَهُ فِي اللَّيْلِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ النَّوْمِ أَوِ التَّعَبِ فَيَقْضِيَهُ فِي النَّهَارِ أَوْ مَا شَغَلَهُ عَنْهُ شَوَاغِلُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ فَيَقْضِيَهُ بِاللَّيْلِ عِنْدَ التَّفَرُّغِ فَلَا يَرْزَؤُهُ ذَلِكَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَقْضِيَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ. وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ شُكْرًا لَهُ بِصَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ فَيَكُونَ اللَّيْلُ أَسْعَدَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالنَّهَارُ أَسْعَدَ بِبَعْضٍ، فَهَذَا مُفَادٌ عَظِيمٌ فِي إِيجَازٍ بَدِيعٍ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمُتَذَكِّرِينَ بِقَوْلِهِ أَنْ يَذَّكَّرَ لِدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ. وَاقْتَصَرَ فِي جَانِبِ الشَّاكِرِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِقَوْلِهِ أَوْ أَرادَ شُكُوراً لِأَنَّ الشُّكْرَ يَحْصُلُ دُفْعَةً. وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّظْمَيْنِ أُعِيدَ فِعْلُ أَرادَ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ عَطْفُ شُكُوراً عَلَى أَنْ يَذَّكَّرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَذَّكَّرَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ مَفْتُوحَةً، وَأَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ أَنْ يَذَّكَّرَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُشَدَّدِ إِلَّا أَنَّ الْمُشَدَّدَ أَشَدُّ عَمَلًا، وَكِلَا الْعَمَلَيْنِ يُسْتَدْرَكَانِ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار. [63] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 63] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ هِيَ عِبادُ الرَّحْمنِ إِلَخْ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَخْ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: 75] . وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفرْقَان: 62] إِلَخْ. فَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ تُخُلِّصَ إِلَى خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْإِلْمَامِ بِأَهَمِّ أَغْرَاضِهَا فِي طَالِعَةِ تَفْسِيرِهَا. وَهَذَا مِنْ

أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ إِذْ كَانَ مُفَاجِئًا لِلسَّامِعِ مُطْمِعًا أَنَّهُ اسْتِطْرَادٌ عَارِضٌ كَسَوَابِقِهِ حَتَّى يُفَاجِئَهُ مَا يُؤْذِنُ بِالْخِتَامِ وَهُوَ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي [الْفرْقَان: 77] الْآيَةَ. وَالْمُرَاد بِ عِبادُ الرَّحْمنِ بادىء ذِي بَدْءٍ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصلات الثَّمَانِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةٌ لِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا. وَإِذْ قَدْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْجَنَّةِ عُلِمَ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ مَوْعُودٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَقَدْ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عُنْوَانَهُمْ عِبَادَهُ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِهِ اسْمَ الرَّحْمَنِ لِوُقُوعِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ. قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . فَإِذَا جُعِلَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى آخَرِ الْمَعْطُوفَاتِ وَكَانَ قَوْلُهُ الْآتِي أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: 75] اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ أَحْرِيَاءَ بِمَا بَعَدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الصِّلَاتِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَوْصُولَاتُ وَصِلَاتُهَا نُعُوتًا لِ عِبادُ الرَّحْمنِ وَكَانَ الْخَبَرُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الْفرْقَان: 75] إِلَخْ. وَفِي الْإِطْنَابِ بِصِفَاتِهِمُ الطَّيِّبَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ أَبَوا السُّجُود للرحمان وَزَادَهُمْ نُفُورًا هُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَامِدِ، تَعْرِيضًا تُشْعِرُ بِهِ إِضَافَةُ عِبادُ إِلَى الرَّحْمنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّلَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى عِبادُ الرَّحْمنِ جَاءَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّحَلِّي بِالْكِمَالَاتِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي ابْتُدِئَ بِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى قَوْله سَلاماً [الْفرْقَان: 75] . وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّخَلِّي عَنْ ضَلَالَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: 68] . وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الْفرْقَان: 64] ،

وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا [الْفرْقَان: 67] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ إِلَى قَوْلِهِ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الْفرْقَان: 68- 72] إِلَخْ. وَقِسْمٌ مِنْ تَطَلُّبِ الزِّيَادَةِ مِنْ صَلَاحِ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا إِلَى قَوْلِهِ: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: 74] . وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أَنَّهُ مَدْحٌ لِمِشْيَةٍ بِالْأَرْجُلِ وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يَمْشُونَ عِبَارَةً عَنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِانْتِقَالِ فِي الْأَرْضِ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ ابْن أَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمَشْيِ بِأَنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ لِيَكُونَ فِي وَصْفِهِ بِالْهَوْنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَمْشُونَ كَذَلِكَ اخْتِيَارًا وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَشْيِ فِي الصُّعُدَاتِ أَوْ عَلَى الْجَنَادِلِ. وَالْهَوْنُ: اللِّينُ وَالرِّفْقُ. وَوَقَعَ هُنَا صِفَةً لِمَصْدَرِ الْمَشْيِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (مَشْيًا) فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالْمَشْيُ الْهَوْنُ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ضَرْبٌ بِالْأَقْدَامِ وَخَفْقُ النِّعَالِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَشْيِ الْمُتَجَبِّرِينَ الْمُعْجَبِينَ بِنُفُوسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. وَهَذَا الْهون ناشىء عَنِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ النَّفْسِ الْعَالِيَةِ وَزَوَالِ بَطَرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ مِنْ خِلَالِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الضِّدِّ مِنْ مَشْيِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ «إِنَّ الْبَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَامًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فاقصد فِي مِشْيَتِكَ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَن لُقْمَان قَوْله لِابْنِهِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاء: 37] . وَالتَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ الْمُنَاسب لعباد الرحمان لِأَنَّ الرَّحْمَةَ ضِدُّ الشِّدَّةِ، فَالْهَوْنُ يُنَاسِبُ مَاهِيَّتَهَا وَفِيهِ سَلَامَةٌ مِنْ صَدْمِ الْمَارِّينَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً

فَمَا وَجَدْتُ فِي ذَلِكَ شِفَاءً فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ مَنْ جَاءَنِي فَقَالَ لِي: «هُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» . فَهَذَا رَأْيٌ لِزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أُلْهِمَهُ يَجْعَلُ مَعْنَى يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: 205] وَأَنَّ الْهَوْنَ مُسْتَعَارٌ لِفِعْلِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ هَوَّنَ عَلَى النَّاسِ كَمَا يُسَمَّى بِالْمَعْرُوفِ. وَقُرِنَ وَصَفُهُمْ بِالتَّوَاضُعِ فِي سَمْتِهِمْ وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ التَّوَاضُعَ وَكَرَاهِيَةَ التَّطَاوُلِ وَهُوَ مُتَارَكَةُ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْخِطَابِ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ وَهَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ مُتَارَكَةَ السُّفَهَاءِ، فَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ، وَذَلِكَ أَشْهَرُ إِطْلَاقَاتِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ. وَانْتُصِبَ سَلاماً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَذَكَّرَهُمْ بِصِفَةِ الْجَاهِلِينَ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مَذَمَّةً مِثْلَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ خِطَابُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفْوَةِ. وَ (السَّلَامُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، أَيْ لَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ فَنَحْنُ مُسَلَّمُونَ مِنْكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ لَفْظُ التَّحِيَّةِ فَيَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْمُتَارَكَةُ لِأَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ السَّلَامِ فِي التَّحِيَّةِ أَنَّهُ يُؤْذِنُ بِالتَّأْمِينِ، أَي عدم لإهاجة، وَالتَّأْمِينُ: أَوَّلُ مَا يَلْقَى بِهِ الْمَرْءُ مَنْ يُرِيدُ إِكْرَامَهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: 55] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأُرِيتُ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ مِنَ الْمَائِلِينَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَوْمًا بِحَضْرَةِ الْمَأْمُونِ (¬1) وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ: كُنْتُ أَرَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي النَّوْمِ فَكُنْتُ أَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَكَانَ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَكُنْتُ أَجِيءُ مَعَهُ إِلَى قَنْطَرَةٍ فَيَذْهَبُ فَيَتَقَدَّمُنِي فِي عبورها فَكنت أَقُولُ: إِنَّمَا تَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ بِامْرَأَةٍ وَنَحْنُ أَحَقُّ ¬

(¬1) لِأَن الْمَأْمُون كَانَ متشيعا للعلويين.

[سورة الفرقان (25) : آية 64]

بِهِ مِنْكَ، فَمَا رَأَيْتُ لَهُ فِي الْجَوَابِ بَلَاغَةً كَمَا يُذْكَرُ عَنْهُ، قَالَ الْمَأْمُونُ: وَبِمَاذَا جَاوَبَكَ؟ قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ لِي: سَلَامًا. قَالَ الرَّاوِي: فَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَا يَحْفَظُ الْآيَةَ أَوْ ذَهَبَتْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَنَبَّهَ الْمَأْمُونُ عَلَى الْآيَةِ مَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ يَا عَمِّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ جَاوَبَكَ بِأَبْلَغِ جَوَابٍ، فَخُزِيَ إِبْرَاهِيمُ وَاسْتَحْيَا. وَلِأَجْلِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ عُطِفَتْ هَذِهِ عَلَى الصِّلَةِ الْأُولَى. وَلَمْ يُكَرَّرِ اسْمُ الْمَوْصُولِ كَمَا كُرِّرَ فِي الصِّفَات بعْدهَا. [64] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 64] وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) عَطْفُ صِفَةٍ أُخْرَى عَلَى صِفَتَيْهِمُ السَّابِقَتَيْنِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ لِتَأْكِيدِ أَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوْصُولَاتِ وَصِلَاتِهَا كُلَّهَا أَخْبَارٌ أَوْ أَوْصَاف لعباد الرحمان. رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفرْقَان: 63] قَالَ: هَذَا وَصْفُ نَهَارِهِمْ، ثُمَّ إِذَا قَرَأَ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قَالَ: هَذَا وَصْفُ لَيْلِهِمْ. وَالْقِيَامُ: جَمْعُ قَائِمٍ كَالصِّحَابِ، وَالسُّجُودُ وَالْقِيَامُ رُكْنَا الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى: يَبِيتُونَ يُصَلُّونَ، فَوَقَعَ إِطْنَابٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّلَاةِ بِرُكْنَيْهَا تَنْوِيهًا بِكِلَيْهِمَا. وَتَقْدِيمُ سُجَّداً عَلَى قِياماً لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالسُّجُودِ وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» . وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرِي التَّهَجُّدِ كَمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: 16] . [65، 66] [سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 65 إِلَى 66] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) دُعَاؤُهُمْ هَذَا أَمَارَةٌ عَلَى شِدَّةِ مَخَافَتِهِمُ الذُّنُوبَ فَهُمْ يَسْعَوْنَ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ لِيَنْجُوا مِنَ الْعَذَابِ، فَالْمُرَادُ بِصَرْفِ الْعَذَابِ: إِنْجَاؤُهُمْ مِنْهُ بِتَيْسِيرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَوْفِيرِهِ وَاجْتِنَابِ السَّيِّئَاتِ.

[سورة الفرقان (25) : آية 67]

وَجُمْلَةُ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً مِنْ كَلَامِ الْقَائِلِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَرِضَةً بَيْنَ اسْمَيِ الْمَوْصُولِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهِيَ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ صَرْفِ عَذَابِهَا عَنْهُمْ. وَالْغَرَامُ: الْهَلَاكُ الْمُلِحُّ الدَّائِمُ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الشَّرِّ الْمُسْتَمِرِّ. وَجُمْلَةُ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِكَلَامِ الْقَائِلِينَ فَتَكُونَ تَعْلِيلًا ثَانِيًا مُؤَكِّدًا لِتَعْلِيلِهِمُ الْأَوَّلِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونَ تَأْيِيدًا لِتَعْلِيلِ الْقَائِلِينَ. وَأَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونَ تَكْرِيرًا لِلِاعْتِرَاضِ. وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ. وَالِاسْتِقْرَارُ: قُوَّةُ الْقَرَارِ. وَالْمُقَامُ: اسْمُ مَكَانِ الْإِقَامَةِ، أَيْ سَاءَتْ مَوْضِعًا لِمَنْ يَسْتَقِرُّ فِيهَا بِدُونِ إِقَامَةٍ مِثْلَ عُصَاةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَلِمَنْ يُقِيمُ فِيهَا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ المبعوثين إِلَيْهِم. [67] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 67] وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) أَفَادَ قَوْلُهُ إِذا أَنْفَقُوا أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ خِصَالِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ وَإِذَا أَنْفَقُوا إِلَخْ. وَأُرِيدَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ غَيْرُ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ إِنْفَاقُ الْمَرْءِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لَا يُذَمُّ الْإِسْرَافُ فِيهِ، وَالْإِنْفَاقُ الْحَرَامُ لَا يُحْمَدُ مُطْلَقًا بَلَهْ أَنْ يُذَمَّ الْإِقْتَارُ فِيهِ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ إِذا أَنْفَقُوا إِشْعَارًا بِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا أَنْ يُنْفِقُوا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ. وَالْإِسْرَافُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِنْفَاقُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْفِقِ وَحَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] ، وَقَوْلِهِ: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [141] . وَالْإِقْتَارُ عَكْسُهُ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُسْرِفُونَ فِي النَّفَقَةِ فِي اللَّذَّاتِ وَيُغْلُونَ السِّبَاءَ فِي الْخَمْرِ وَيُتَمِّمُونَ الْأَيْسَارَ فِي الْمَيْسِرِ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي أَشْعَارِهِمْ

وَهِيَ فِي مُعَلَّقَةِ طَرَفَةَ وَفِي مُعَلَّقَةِ لَبِيَدٍ وَفِي مِيمِيَّةِ النَّابِغَةِ، وَيَفْتَخِرُونَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ لِيَتَحَدَّثَ الْعُظَمَاءُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ مَادِحًا: مُفِيدٌ وَمِتْلَافٌ إِذَا مَا أَتَيْتَهُ ... تَهَلَّلَ وَاهْتَزَّ اهْتِزَازَ الْمُهَنَّدِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَر وَلَا يُقْتِرُوا بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنَ الْإِقْتَارِ وَهُوَ مُرَادِفُ التَّقْتِيرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ قَتَرَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُوَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ فِعْلِ قَتَرَ مِنْ بَابِ نَصَرَ. والإقتار والقتر: الإجحاف وَالنَّقْصُ مِمَّا تَسَعُهُ الثَّرْوَةُ وَيَقْتَضِيهِ حَالُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُقْتِرُونَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ثَنَاءَ الْعُظَمَاءِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: 180] . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيِ الْإِسْرَافُ وَالْإِقْتَارُ. وَالْقَوَامُ بِفَتْحِ الْقَافِ: الْعَدْلُ وَالْقَصْدُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَضَعُونَ النَّفَقَاتِ مَوَاضِعَهَا الصَّالِحَةَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ فَيَدُومُ إِنْفَاقُهُمْ وَقَدْ رَغَّبَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلِيَسِيرَ نِظَامُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كِفَايَةٍ دُونَ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْطِيلِ فَإِنَّ الْإِسْرَافَ مِنْ شَأْنِهِ اسْتِنْفَادُ الْمَالِ فَلَا يَدُومُ الْإِنْفَاقُ، وَأَمَّا الْإِقْتَارُ فَمِنْ شَأْنِهِ إِمْسَاكُ الْمَالِ فَيُحْرَمُ مَنْ يَسْتَأْهِلُهُ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ ذلِكَ خَبَرُ كانَ وقَواماً حَال موكّدة لِمَعْنَى بَيْنَ ذلِكَ. وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِمَدْحِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَواماً خَبَرَ كانَ وبَيْنَ ذلِكَ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَقَدْ جَرَتِ الْآيَةُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَحْوَالِ الْغَالِبَةِ فِي إِنْفَاقِ النَّاسِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْقَوَامُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ عِيَالِهِ وَحَالِهِ وَلِهَذَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَمَنَعَ غَيْرَهُ من ذَلِك.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 إلى 69]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 68 إِلَى 69] وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) هَذَا قِسْمٌ آخَرُ مِنْ صِفَات عباد الرحمان، وَهُوَ قِسْمُ التَّخَلِّي عَنِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ مُلَازِمَةً لِقَوْمِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَنَزَّهَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ عَنْهَا بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، وَذُكِرَ هُنَا تَنَزُّهُهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَوَصْفُ النَّفْسِ بِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بَيَان لِحُرْمَةِ النَّفْسِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ من محاورة وَلَدي آدَمَ بِقَوْلِهِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [الْمَائِدَة: 27] الْآيَاتِ، فَتَقَرَّرَ تَحْرِيمُ قَتْلِ النَّفْسِ مِنْ أَقْدَمِ أَزْمَانِ الْبَشَرِ وَلَمْ يَجْهَلْهُ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَذَلِكَ مَعْنَى وَصْفِ النَّفْسِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ. وَكَانَ قَتْلُ النَّفْسِ مُتَفَشِّيًا فِي الْعَرَبِ بِالْعَدَاوَاتِ، وَالْغَارَاتِ، وَبِالْوَأْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ بَنَاتِهِمْ، وَبِالْقَتْلِ لِفَرْطِ الْغَيْرَةِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا ... عَلَيَّ حُرَّاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي وَقَالَ عَنْتَرَةُ: عُلِّقْتُهَا عَرْضًا وَأَقْتُلُ قَوْمَهَا ... زَعْمًا لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بِمَزْعَمِ وَقَوْلُهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الْمُرَادُ بِهِ يَوْمَئِذٍ: قَتْلُ قَاتِلِ أَحَدِهِمْ، وَهُوَ تَهْيِئَةٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ عَقِبَ مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَمْ يَكُنْ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سُلْطَانٌ لِإِقَامَةِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ. وَمَضَى الْكَلَام على الزِّنَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ. وَقَدْ جُمِعَ التَّخَلِّي عَنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الثَّلَاثِ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَرَّرِ اسْمُ الْمَوْصُولِ كَمَا كُرِّرَ فِي ذِكْرِ خِصَالِ تَحَلِّيهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَقَدْ أَقْلَعُوا عَنْ أَشَدِّ الْقَبَائِحِ لُصُوقًا بِالشِّرْكِ وَذَلِكَ قتل النَّفس وَالزِّنَا. فَجَعَلَ ذَلِكَ شَبِيهَ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجُعِلَ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَاحِدٍ.

وَقَدْ يَكُونُ تَكْرِيرُ لَا مُجْزِئًا عَنْ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَكَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ مُوجِبَةٌ لِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيِّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ: قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَهَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِلَى أَثاماً، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَطِيَّةَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ إِلَى قَوْلِهِ غَفُوراً رَحِيماً [الْفرْقَان: 68- 70] قِيلَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَبَائِرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِشَارَةِ أَنَّهَا إِلَى الْمَجْمُوعِ، أَيْ مَنْ يَفْعَلُ مَجْمُوعَ الثَّلَاثِ. وَيُعْلَمُ أَنَّ جَزَاءَ مَنْ يَفْعَلُ بَعْضَهَا وَيَتْرُكُ بَعْضًا عَدَا الْإِشْرَاكِ دُونَ جَزَاءِ مَنْ يَفْعَلُ جَمِيعَهَا، وَأَنَّ الْبَعْضَ أَيْضًا مَرَاتِبُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ يَفْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِمَّا ذُكِرَ يَلِقَ أَثَامًا لِأَنَّ لُقِيَّ الْآثَامِ بُيِّنَ هُنَا بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِيهِ. وَقَدْ نَهَضَتْ أَدِلَّةٌ مُتَظَافِرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْكُفْرَ مِنَ الْمَعَاصِي لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ، مِمَّا يَقْتَضِي تَأْوِيلَ ظَوَاهِرِ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى قُوَّتِهِ، أَيْ يُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَيْسَتْ لِتَكْرِيرِ عَذَابٍ مُقَدَّرٍ. وَالْأَثَامُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَزَاءُ الْإِثْمِ عَلَى زِنَةِ الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْإِثْمِ، أَيْ يُجَازَى عَلَى ذَلِكَ سُوءًا لِأَنَّهَا آثَامٌ. وَجُمْلَةُ: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ يَلْقَ أَثاماً، وَإِبْدَالُ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ إِبْدَالُ جُمْلَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ فِعْلٌ قَابِلٌ لِلْإِعْرَابِ ظَهَرَ إِعْرَابُ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ عِمَادُ الْجُمْلَةِ. وَجُعِلَ الْجَزَاءُ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ وَالْخُلُودُ. فَأَمَّا مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ فَهِيَ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى كُلِّ جُرْمٍ مِمَّا ذُكِرَ عَذَابًا مُنَاسِبًا وَلَا يُكْتَفَى بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ عَنْ أَكْبَرِ الْجَرَائِمِ وَهُوَ الشِّرْكُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا

[سورة الفرقان (25) : آية 70]

يُنْجِي صَاحِبَهُ مِنْ تَبِعَةِ مَا يَقْتَرِفُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِلنَّاسِ جَاءَتْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ يَعْنُونَ خِطَابَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا نُهُوا عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعَمَلُ إِذْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الصَّالِحَاتُ بِدُونِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ رَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ لَا الْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَاتِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ كُلِّهِ. وَأَمَّا الْخُلُودُ فِي الْعَذَابِ فَقَدِ اقْتَضَاهُ الْإِشْرَاكُ. وَقَوْلُهُ: مُهاناً حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا تَشْنِيعُ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ يُعَذَّبُ وَيُهَانُ إِهَانَةً زَائِدَةً عَلَى إِهَانَةِ التَّعْذِيبِ بِأَنْ يُشْتَمَ وَيُحَقَّرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعَفْ بِأَلْفٍ بَعْدِ الضَّادِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوب يُضاعَفْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَبِالْجَزْمِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بكر عَن عَاصِمٍ يُضاعَفْ بِأَلْفٍ بَعْدِ الضَّادِ وَبِرَفْعِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَاف بياني. [70] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 70] إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الْفرْقَان: 68] . وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ تَابَ فَلَا يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ وَلَا يَخْلُدُ فِيهِ، وَهَذَا تَطْمِينٌ لِنُفُوسِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَدْ كَانُوا تَلَبَّسُوا بِخِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ تَابُوا عَنْهَا بِسَبَبِ تَوْبَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي دَعْوَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بَعْدَ الْعُنْوَانِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ ثَنَاءٌ زَائِدٌ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: 68] الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ مِنْ عَذَابِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَابَ مِنْهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ

يُعَذَّبُ عَذَابًا غَيْرَ مُضَاعَفٍ وَغَيْرَ مُخَلَّدٍ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَجَارِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ بَلِ الْأَصْلُ فِي ارْتِفَاعِ الشَّيْءِ الْمُقَيَّدِ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهُ رَفْعُهُ بِأَسْرِهِ لَا رَفْعُ قُيُودِهِ، إِلَّا بِقَرِينَةٍ. وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، وَإِذْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ ذِكْرُ الشِّرْكِ فَالتَّوْبَةُ هُنَا التَّلَبُّسُ بِالْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ الْكُفْرِ يُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا اقْتَرَفَهُ الْمُشْرِكُ فِي مُدَّةِ شَرَكِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» ، وَلِذَلِكَ فَعُطِفَ وَآمَنَ عَلَى مَنْ تابَ لِلتَّنْوِيهِ بِالْإِيمَانِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً وَهُوَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الصَّالِحَاتِ وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَلَدِ [17] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَالَ فِي عَكْسِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] . وَقَتْلُ النَّفْسِ الْوَاقِعُ فِي مُدَّةِ الشِّرْكِ يَجُبُّهُ إِيمَانُ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ مَزِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤْمِنَ الْقَاتِلِ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا. وَلَمَّا كَانَ مِمَّا تَشْمَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّ سِيَاقَهَا فِي الثَّنَاء على الْمُؤمنِينَ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو آثَامَ كُلِّ ذَنْب من هَذِه الذُّنُوبِ الْمَعْدُودَةِ وَمِنْهَا قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ حَقٍّ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [93] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الْآيَةَ. وَفُرِّعَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِينَ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا أَنَّهُمْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ كَلَامٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ فَضْلِ التَّوْبَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ بَعْدَ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ تابَ مُسْتَثْنًى مِنْ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الْفرْقَان: 68] فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَاتِ الْمُضَافَةَ إِلَيْهِمْ هِيَ السَّيِّئَاتُ الْمَعْرُوفَةُ، أَيِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، الْوَاقِعَةُ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ شِرْكِهِمْ. وَالتَّبْدِيلُ: جَعْلُ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [95] ، أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً عِوَضًا عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهَذَا التَّبْدِيلُ جَاءَ مُجْمَلًا وَهُوَ

[سورة الفرقان (25) : آية 71]

تَبْدِيلٌ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ ثَوَابَ حَسَنَاتِ أَضْدَادِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا لِفَضْلِ الْإِيمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلشِّرْكِ وَلِفَضْلِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآثَامِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ الْمُفِيدِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ فَأُولَئِكَ التَّائِبُونَ الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ الصَّالِحَاتِ فِي الْإِيمَانِ يُبَدِّلُ اللَّهُ عِقَابَ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا بِثَوَابٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ عَظِيم الْمَغْفِرَة. [71] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 71] وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) إِذَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ أَوْ تَوْصِيفٌ لَهُ أَوْ حَالَةٌ مِنْهُ بِمُرَادِفٍ لِمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى دُونَ زِيَادَةٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي شَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ، كَقَوْلِ أبي الطّمحان لَقِيَنِي (¬1) : وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمُ هُمُ وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» . فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّائِبِ بِأَنَّهُ تَائِبٌ إِذِ الْمَتَابُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى مَعْنًى مُفِيدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلَهُ: إِلَى اللَّهِ فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَظِيمِ ثَوَابِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مَا فِي الْمُضَارِعِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ فَإِنَّهُِِ ¬

(¬1) الطَّحَّان بطاء مُهْملَة فميم مَفْتُوحَة فحاء مُهْملَة، واسْمه حَنْظَلَة، شَاعِر إسلامي.

[سورة الفرقان (25) : آية 72]

يَسْتَمِرُّ عَلَى تَوْبَتِهِ وَلَا يَرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّابِتِ إِذَا كَانَ قَدْ تَابَ وَأَيَّدَ تَوْبَتَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مَا لِلْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مِنْ مَعْنَى التَّأْكِيدِ، أَيْ مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ هِيَ التَّوْبَةُ الْكَامِلَةُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيم: 8] . وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى بَعِيدَةً. وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) عَلَى التَّقَادِيرِ كُلِّهَا لِتَحْقِيقِ مَضْمُون الْخَبَر. [72] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 72] وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) أَتْبَعَ خِصَالَ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْإِيمَانِ بِخِصَالٍ أُخْرَى مِنْ خِصَالِهِمْ هِيَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالتَّخَلُّقِ بِفَضَائِلِهِ، وَمُجَانَبَةِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَتِلْكَ ثَلَاثُ خِصَالٍ أَوْلَاهَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ هُنَا وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ الْآيَةَ. وَفِعْلُ (شَهِدَ) يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (حَضَرَ) وَهُوَ أَصْلُ إِطْلَاقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَة: 185] ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ شَهِدَهُ وَعَلِمَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يُوسُف: 26] . وَالزُّورُ: الْبَاطِلُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْكَذِبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ مَحَاضِرَ الْبَاطِلِ الَّتِي كَانَ يَحْضُرُهَا الْمُشْرِكُونَ وَهِيَ مَجَالِسُ اللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْغَيْبَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَأَلْعَابُهُمْ، فَيَكُونُ الزُّورُ مَفْعُولًا بِهِ لِ يَشْهَدُونَ. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمُقَاطَعَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَجَنُّبِهِمْ. فَأَمَّا شُهُودُ مَوَاطِنِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَذَلِكَ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: 68] . وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَيَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ فِعْلُ يَشْهَدُونَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ عَمَّا عَلِمُوهُ وَيَكُونَ الزُّورُ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ لَا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ أَوْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِبَيَانِ نَوْعِ الشَّهَادَةِ، أَيْ لَا يَشْهَدُونَ شَهَادَةً هِيَ زُورٌ لَا حَقٌّ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً مُنَاسِبٌ لِكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ. وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْعَبَثُ وَالسَّفَهُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [62] . وَمَعْنَى الْمُرُورِ بِهِ الْمُرُورُ بِأَصْحَابِهِ اللَّاغِينَ فِي حَالِ لَغْوِهِمْ، فَجَعَلَ الْمُرُورَ بِنَفْسِ اللَّغْوِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَصْحَابَ اللَّغْوِ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ وَقْتَ الْمُرُورِ. وَمَعْنَى: مَرُّوا كِراماً أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ وَهُمْ فِي حَالِ كَرَامَةٍ، أَيْ غَيْرَ مُتَلَبِّسِينَ بِالْمُشَارَكَةِ فِي اللَّغْوِ فِيهِ فَإِنَّ السُّفَهَاءَ إِذَا مَرُّوا بِأَصْحَابِ اللَّغْوِ أَنِسُوا بِهِمْ وَوَقَفُوا عَلَيْهِمْ وَشَارَكُوهُمْ فِي لَغْوِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا فِي غَيْرِ حَالِ كَرَامَةٍ. وَالْكَرَامَةُ: النَّزَاهَةُ وَمَحَاسِنُ الْخِلَالِ، وَضِدُّهَا اللُّؤْمُ وَالسَّفَالَةُ. وَأَصْلُ الْكَرَامَةِ أَنَّهَا نَفَاسَةُ الشَّيْءِ فِي نَوْعِهِ قَالَ تَعَالَى: أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشُّعَرَاء: 7] . وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ حِمْيَرَ فِي «الْحَمَاسَةِ» : وَلَا يَخِيمُ اللِّقَاءَ فَارِسُهُمْ ... حَتَّى يَشُقَّ الصُّفُوفَ مِنْ كَرَمِهِ أَيْ شَجَاعَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً [الْأَحْزَاب: 44] . وَإِذَا مَرَّ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ عَلَى أَصْحَابِ اللَّغْوِ تَنَزَّهُوا عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَتَجَاوَزُوا نَادِيَهُمْ فَكَانُوا فِي حَالِ كَرَامَةٍ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَرَفُّعِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً [الْأَنْعَام: 70] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: 55] . وَإِعَادَةُ فِعْلِ مَرُّوا لِبِنَاءِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الِاسْتِعْمَالِ، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ

[سورة الفرقان (25) : آية 73]

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: 7] . [73] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 73] وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَفَةِ حَالَةٍ هِيَ مِنْ حَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَتِلْكَ هِيَ حَالَةُ سَمَاعِهِمْ دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بالصلة منفية لِتَحْصِيلِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ التَّعْرِيضِ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَرُّوا صُمًّا وَعُمْيَانًا كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى شَيْئًا فَيَجْعَلُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَاسْتُعِيرَ الْخُرُورُ لِشِدَّةِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّبَاعُدِ بِحَيْثُ إِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَحَالِ الَّذِي يَخِرُّ إِلَى الْأَرْضِ لِئَلَّا يَرَى مَا يَكْرَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّقَوُّمِ وَالنُّهُوضِ، فَتِلْكَ حَالَةٌ هِيَ غَايَةٌ فِي نَفْيِ إِمْكَانِ الْقَبُولِ. وَمِنْهُ اسْتِعَارَةُ الْقُعُودِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ، وَفِي عَكْسِ ذَلِكَ يُسْتَعَارُ الْإِقْبَالُ وَالتَّلَقِّي وَالْقِيَامُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُرُورُ وَاقِعًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ جُلُوسًا فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ فَإِذَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَام طأطأوا رؤوسهم وَقَرَّبُوهَا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْقَاعِدِ يَقُومُ مَقَامَ الْفِرَارِ، أَوْ سَتْرِ الْوَجْهِ كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ يَهْجُو قوما من طَيء، أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ: إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ ... تشابهت المناكب والرؤوس وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة فِي سُورَةِ نُوحٍ [7] وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. وَتَقَدَّمَ الْخُرُورُ الْحَقِيقِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [107] ، وَقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل: 26] وَقَوْلِهِ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فِي الْأَعْرَافِ

[سورة الفرقان (25) : آية 74]

وَ (صُمًّا وَعُمْياناً) حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ يَخِرُّوا، مُرَادٌ بِهِمَا التَّشْبِيهُ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ، أَيْ يَخِرُّونَ كَالصُّمِّ وَالْعُمْيَانِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُبْصَرِ مِنْهَا مِمَّا يُذَكَّرُونَ بِهِ. فَالنَّفْيُ عَلَى هَذَا مُنْصَبٌّ إِلَى الْفِعْلِ وَإِلَى قَيْدِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْجَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَجُّهُ النَّفْيِ إِلَى الْقَيْدِ كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالٌ غَالِبٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، فَالْمَعْنَى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا فِي حَالَةٍ كَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَلَكِنَّهُمْ يَخِرُّونَ عَلَيْهَا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ فَيَكُونُ الْخُرُورُ مُسْتَعَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى الْعَمَلِ بِشَرَاشِرِ الْقَلْبِ، كَمَا يُقَالُ: أَكَبَّ عَلَى كَذَا، أَيْ صَرَفَ جُهْدَهُ فِيهِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ يُصَمُّونَ وَيُعْمَوْنَ عَنِ الْآيَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ يَخِرُّونَ عَلَى تَلَقِّيهَا تَظَاهُرًا مِنْهُمْ بِالْحِرْصِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلِيقُ لَوْ كَانَ الْمُعَرَّضُ بِهِمْ مُنَافِقِينَ، وَكَيْفَ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَكَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ تَلَقِّي الدَّعْوَةِ عَلَنًا، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] . وَقَالَ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] . [74] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 74] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) هَذِهِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُعْنَوْنَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّاتِ تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ، فَالْأَزْوَاجُ يُطِعْنَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَزْوَاجِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفَاتٍ أَزْوَاجَهُمْ فِي الدِّينِ، والذّريات إِذا نشأوا نشأوا مُؤْمِنِينَ، وَقَدْ جُمِعَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي صِفَةِ قُرَّةَ أَعْيُنٍ. فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِلْكَمَالِ فِي الدِّينِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَحْوَالِ فِي الْحَيَاةِ إِذْ لَا تَقَرُّ عُيُونُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِأَزْوَاجٍ وَأَبْنَاءٍ مُؤْمِنِينَ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِبْقَاءِ النِّسَاءِ الْكَوَافِرِ فِي الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] ، وَقَالَ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [الْأَحْقَاف: 17] الْآيَةَ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ دُعَاؤُهُمْ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ جَزَائِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَإِن كَانَ فِيهِ حَظٌّ لِنُفُوسِهِمْ بِقُرَّةِ أَعْيُنِهِمْ إِذْ لَا يُنَاكِدُ حَظُّ النَّفْسِ حَظَّ الدِّينِ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ابْن رَوَاحَةَ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، فَدَعَا لَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلِمَنْ مَعَهُ أَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ فَقَالَ:

لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولُوا، حَظًّا لِنَفْسِهِ مِنْ حُسْنِ الذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ دُعَاءٌ لَهُ بِالرَّشَدِ وَهُوَ حَظٌّ دِينِيٌّ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَشَدَ، حُسْنُ ذِكْرٍ مَحْضٌ. وَفِي كِتَابِ «الْجَامِعِ» مِنْ «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» مِنْ أَحَادِيثِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أُرَى رَائِحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُحِبَّ أَحَدٌ أَنْ يُرَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي رَسْمِ الْعُقُولِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ أَوَّلُهُ لِلَّهِ (أَيِ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ) . وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ «شَرْحِهِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] ، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: 84] . وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» : «عَدَّ مَالِكٌ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ، أَيْ أَن الشَّيْطَان بَاقِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا سَرَّهُ مَرْأَى النَّاسِ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ فَيَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ لَمُرَاءٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ لَا يُمْلَكُ» اه. وَفِي «الْمِعْيَارِ» عَنْ كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا أَبَا مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيَّ الصُّوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَة: 160] مَا بَيَّنُوا؟ قَالَ: أَظْهَرُوا أَفْعَالَهُمْ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَاتِ. قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْمَذْكُورُ تَابِعًا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ. وَقَدِ الْتَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ. وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَذَهَبَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَكَأَنَّ مَجَالَ النَّظَرِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدِينَ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِانْفِكَاكُ أَوْجَهُ لِمَا جَاءَ من الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، إِلَى آخِرِهِ.

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِنا لِلِابْتِدَاءِ، أَيِ اجْعَلْ لَنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ تَنْشَأُ مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَذُرِّيَّاتِنا جَمْعُ ذُرِّيَّة، وَالْجمع مراعى فِيهِ التَّوْزِيع عَلَى الطَّوَائِفِ مِنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَكُونُ لِأَحَدِ الدَّاعِينَ وَلَدٌ وَاحِدٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وذُرِّيَّتِنا بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ، وَيُسْتَفَادُ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَيْ ذُرِّيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ. وَالْأَعْيُنُ: هِيَ أَعْيُنُ الدَّاعِينَ، أَيْ قُرَّةُ أَعْيُنٍ لَنَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الدُّعَاءُ صَادِرًا مِنْهُمْ جَمِيعًا اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قُرَّةَ أَعْيُنِ جَمِيعِهِمْ. وَكَمَا سَأَلُوا التَّوْفِيقَ وَالْخَيْرَ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ سَأَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ قدوة يَقْتَدِي بهم الْمُتَّقُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بُلُوغَ الدَّرَجَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّ الْقُدْوَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَقْصَى غَايَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَرْغَبُ الْمُهْتَمُّونَ بِهِ الْكَمَالَ فِيهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَهْتَدِيَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَتِهِمْ. وَالْإِمَامُ أَصْلُهُ: الْمِثَالُ وَالْقَالَبُ الَّذِي يُصْنَعُ عَلَى شَكْلِهِ مَصْنُوعٌ مِنْ مِثْلِهِ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَبُوهُ قَبْلَهُ وَأَبُو أَبِيهِ ... بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ وَأُطْلِقَ الْإِمَامُ عَلَى الْقُدْوَةِ تَشْبِيهًا بِالْمِثَالِ وَالْقَالَبِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ فَصَارَ الْإِمَامُ بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ بِ إِماماً وَهُوَ مُفْرد عَن ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ إِمَامٍ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَقِيلَ إِمَامٌ جَمْعٌ، مِثْلُ هِجَانٍ وَصِيَامٍ ومفرده: إمّ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 إلى 76]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 75 إِلَى 76] أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) التَّصْدِيرُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَتِلْكَ مَجْمُوعُ إِحْدَى عَشْرَةَ خَصْلَةً وَهِيَ: التَّوَاضُعُ، وَالْحِلْمُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالْخَوْفُ، وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ، وَتَرْكُ الْإِقْتَارِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَتَرْكُ الزِّنَا، وَتَرْكُ قَتْلِ النَّفْسِ، وَالتَّوْبَةُ، وَتَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَقَبُولُ دَعْوَةِ الْحَقِّ، وَإِظْهَارُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ قَوْلِهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الْفرْقَان: 63] كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَرْجَحِ الْوَجْهَيْنِ. والْغُرْفَةَ: الْبَيْتُ الْمُعْتَلِي يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِدَرَجٍ وَهُوَ أَعَزُّ مَنْزِلًا مِنَ الْبَيْتِ الْأَرْضِيِّ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغُرْفَةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ [الْحَدِيد: 25] فَالْمَعْنَى: يُجْزَوْنَ الْغُرَفَ، أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37] . وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: بِما صَبَرُوا، أَيْ بِصَبْرِهِمْ وَهُوَ صَبْرُهُمْ عَلَى مَا لَقُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى، وَصَبْرُهُمْ عَلَى كَبْحِ شَهَوَاتِهِمْ لِأَجْلِ إِقَامَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَصَبْرُهُمْ عَلَى مَشَقَّةِ الطَّاعَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُلَقَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ مُضَارِعِ لَقَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ لَاقَيًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ وَيُلَقَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ مُضَارِعِ لَقِيَ. وَاللُّقِيُّ وَاللِّقَاءُ: اسْتِقْبَالُ شَيْءٍ وَمُصَادَفَتُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] ، وَفِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [15] ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: 68] . وَقَدِ اسْتُعِيرَ اللُّقِيُّ لِسَمَاعِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى بَأْسٍ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ بِأُسٌ بَلْ هُمْ مُصَادِفُونَ تَحِيَّةَ إِكْرَامٍ وَثَنَاءٍ مِثْلَ تَحِيَّاتِ الْعُظَمَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّتِي يُرَتِّلُهَا الشُّعَرَاءُ وَالْمُنْشِدُونَ.

[سورة الفرقان (25) : آية 77]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللُّقِيِّ لِسَمَاعِ أَلْفَاظِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ لِأَجْلِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ التَّحِيَّةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا، فَهُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [103] . وَقَوْلُهُ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً هُوَ ضِدُّ مَا قِيلَ فِي الْمُشْرِكِينَ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الْفرْقَان: 66] . وَالتَّحِيَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [86] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [10] ، وَقَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي آخر النُّور [61] . [77] [سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 77] قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) لَمَّا اسْتَوْعَبَتِ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَمِنْ صِفَةِ كِبْرِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُقِيمَتِ الْحُجَجُ الدَّامِغَةُ لِلْمُعْرِضِينَ، خُتِمَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُشْرِكِينَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ يُزَالُ بِهَا غُرُورُهُمْ وَإِعْجَابُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ شَفَوْا غَلِيلَهُمْ مِنَ الرَّسُولِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ وَتَوَرُّكِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِ فَبَيَّنَ لَهُمْ حَقَارَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَخَاطَبَهُمْ بِكِتَابِهِ إِلَّا رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ لِإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فَإِذْ كَذَّبُوا فَسَوْفَ يَحِلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَمَا مِنْ قَوْله: مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ نَافِيَةٌ. وَتَرْكِيبُ: مَا يَعْبَأُ بِهِ، يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيرِ، وَضِدُّهُ عَبَأَ بِهِ يُفِيدُ الْحَفَاوَةَ. وَمعنى مَا يَعْبَؤُا: مَا يُبَالِي وَمَا يَهْتَمُّ، وَهُوَ مُضَارِعُ عَبَأَ مِثْلَ: مَلَأَ يَمْلَأُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِبْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، أَيِ الشَّيْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْعِبْءُ عَلَى الْعِدْلِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، ثُمَّ تَشَعَّبَتْ عَنْ هَذَا إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَأصل مَا يَعْبَؤُا: مَا يَحْمِلُ عِبْئًا، تَمْثِيلًا بِحَالَةِ الْمُتْعَبِ مِنَ الشَّيْءِ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ: مَا يَهْتَمُّ وَمَا يَكْتَرِثُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الْعِنَايَةِ.

وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِكُمْ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْكَلَامِ. فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: مَا يَعْبَأُ بِخِطَابِكُمْ. وَالدُّعَاءُ: الدَّعْوَةُ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالْفَاعِلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ رَبِّي أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ يَدْعُوكُمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيِ الدَّاعِيَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الدُّعَاءَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ وَلَا اعْتِزَازٌ بِكُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 56، 57] . وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: دُعاؤُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ فَقَدْ كَذَّبْتُمُ الدَّاعِيَ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدُّعَاءَ بِالْعِبَادَةِ فَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ وَقَدْ أَغْنَى عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهَا اعْتِمَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْهَا بِتَأَمُّلٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا. وَتَفْرِيعُ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا دُعاؤُكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَذَّبْتُمُ الَّذِي دَعَاكُمْ عَلَى لِسَانِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي يَكُونُ عَائِدٌ إِلَى التَّكْذِيبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ سَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ لِزَامًا لَكُمْ، أَيْ لَازِما لكم لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِعَوَاقِبِ التَّكْذِيبِ تَهْدِيدًا مُهَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ كَمَا تَقُولُ لِلْجَانِي: قد فعلت كَذَا فَسَوْفَ تَتَحَمَّلُ مَا فَعَلْتَ. وَدَخَلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَهَزِيمَةٍ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ. وَاللِّزَامُ: مَصْدَرُ لَازَمَ، وَقَدْ صِيغَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِإِفَادَةِ اللُّزُومِ، أَيْ عَدَمِ الْمُفَارَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً فِي سُورَةِ طه [129] . وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) عَائِدٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 127] ، فَالْإِخْبَارُ بِاللِّزَامِ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ

مُبَالَغَتَانِ: مُبَالَغَةٌ فِي صِيغَتِهِ تُفِيدُ قُوَّةَ لُزُومِهِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ تُفِيدُ تَحْقِيقَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: اللِّزَامُ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ. وَمُرَادُهُمَا بِذَلِكَ أَنَّهُ جزئيّ من جزئيات اللِّزَامِ الْمَوْعُودِ لَهُمْ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ شَاعَ حَتَّى صَارَ اللِّزَامُ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ، يَعْنِي أَنَّ اللِّزَامَ غَيْرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ.

26- سورة الشعراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 26- سُورَةُ الشُّعَرَاءِ اشْتُهِرَتْ عِنْدَ السَّلَفِ بِسُورَةِ الشُّعَرَاءِ لِأَنَّهَا تَفَرَّدَتْ مِنْ بَين سُورَة الْقُرْآنِ بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشُّعَرَاءِ. وَكَذَلِكَ جَاءَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كُتُبِ السُّنَّةِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ طسم. وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ» أَنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا الْجَامِعَةَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» إِلَى تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ (¬1) . وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ وَصْفِهَا بِهَذَا الْوَصْفِ. وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ جَمَعَتْ ذِكْرَ الرُّسُلِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْمَعْلُومَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَقِيلَ جَمِيعُهَا مَكِّيٌّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: 224] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِذِكْرِ شُعَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُمُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشُّعَرَاء: 227] الْآيَةَ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الَّتِي أَقْدَمَتْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مَدَنِيَّةٌ. وَعَنِ الدَّانِي قَالَ: نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: 224] فِي شَاعِرَيْنِ تَهَاجَيَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَقُولُ: كَانَ شُعَرَاءُ بِمَكَّةَ يَهْجُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ وَنَحْوُهُمَا، وَهُمُ الْمُرَادُ بِآيَاتِ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. وَكَانَ شُعَرَاءُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي مَكَّةَ شُعَرَاءُ مُسْلِمُونَ مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا سَيَأْتِي. ¬

(¬1) تَفْسِير مَالك بن أنس، ذكره عِيَاض فِي «المدارك» والداودي فِي «طَبَقَات الْمُفَسّرين» .

الأغراض التي اشتملت عليها

وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 197] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُخَالَطَةَ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُجَّةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُقُوعِ مُخَالَطَةِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [43] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [52] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [47] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَشَأْنُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَشْهُورٌ بِمَكَّةَ وَكَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صِلَاتٌ مَعَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَمُرَاجَعَةٌ بَيْنَهُمْ فِي شَأْنِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [85] ، وَلِذَا فَالَّذِي نُوقِنُ بِهِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّمْلِ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] مَا يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ وَتَعَرَّضْنَا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَدَدَ آيِهَا مِائَتَيْنِ وَسِتًّا وَعِشْرِينَ، وَجَعَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِائَتَيْنِ وَسَبْعًا وَعِشْرِينَ. الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا أَوَّلُهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّعْرِيضُ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَتَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ. وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدُهُمْ عَلَى تَعَرُّضِهِمْ لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا وَالْمُعْرِضَةِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهَا نَزَلَتْ إِثْرَ طَلَبِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الرَّسُولُ بِخَوَارِقَ، فَافْتُتِحَتْ بِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتٍ لَهُ وَرِبَاطَةٍ لِجَأْشِهِ بِأَنَّ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةُ

[سورة الشعراء (26) : آية 1]

الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِثْلَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَلِذَلِكَ خُتِمَ كُلُّ اسْتِدْلَالٍ جِيءَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِتَذْيِيلٍ وَاحِدٍ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: 190، 191] تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ آيَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ عَدِيدَةٌ كَافِيَةٌ لِمَنْ يَتَطَلَّبُ الْحَقَّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤَمِنُونَ وَأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِرُسُلِهِ فَنَاصِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كُلُّ قِصَّةٍ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ. وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا فِي غَيْرِهَا، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُدْلِي بِحَقٍّ فِي أَنْ تُخْتَمَ بِمَا اخْتُتِمَتْ بِهِ صَاحِبَتُهَا، وَلِأَنَّ فِي التَّكْرِيرِ تَقْرِيرًا لِلْمَعَانِي فِي الْأَنْفُسِ وَكُلَّمَا زَادَ تَرْدِيدُهُ كَانَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الْقَلْبِ وَأَرْسَخَ فِي الْفَهْمِ وَأَبْعَدَ مِنَ النِّسْيَانِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ طُرِقَتْ بِهَا آذَانٌ وَقَرَتْ عَنِ الْإِنْصَاتِ لِلْحَقِّ فَكُوثِرَتْ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَرُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ أُذُنًا أَوْ يَفْتُقُ ذِهْنًا اه. ثُمَّ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ، وَالرَّدُّ عَلَى مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَجَعْلِهِ عِضِينَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا وَمِنْ أَقْوَالِ الشَّيَاطِينِ، وَأَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ مَا عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ من دَلَائِل. [1] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) يَأْتِي فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فِي مَعَانٍ مُتَمَاثِلَةٍ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيضُ بِإِلْهَابِ نُفُوسِ الْمُنْكِرِينَ لِمُعَارَضَةِ بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَتَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ وَالتَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ طسم قَسَمٌ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً [الشُّعَرَاء: 4] . فَقَالَ الْقُرَظِيُّ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِطُولِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ. وَقِيلَ الْحُرُوفُ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِي الطَّوْلِ، الْقُدُّوسِ، الْمَلِكِ. وَقَدْ عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهَا حُرُوفٌ لِلتَّهَجِّي وَاسْتِقْصَاءٌ فِي

[سورة الشعراء (26) : آية 2]

التَّحَدِّي يُعْجِزُهُمْ عَنْ مُعاَرَضَةِ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِهِ بِآيَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: 2] . وَالْجُمْهُور قرأوا: طسم كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَأَدْغَمُوا النُّونَ مِنْ سِينٍ فِي الْمِيمِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِظْهَارِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ حُرُوفًا مُفَكَّكَةً، قَالُوا وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ حُرُوفًا مُفَكَّكَةً (ط س م) . وَالْقَوْلُ فِي عَدَمِ مَدِّ اسْمِ (طا) مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ مَهْمُوزُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ عَرَضَ لَهُ سُكُونُ السَّكْتِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ كَمَا تحذف للْوَقْف، كَمَا تقدم فِي عَدَمِ مَدِّ (را) فِي (الر) فِي سُورَة يُونُس [1] . [2] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 2] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَبْلُ، وَبَيَّنَهُ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا آيَاتُ الْكِتَابِ. وَمَعْنَى الْإِشَارَةِ إِلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ قَصْدُ التَّحَدِّي بِأَجْزَائِهِ تَفْصِيلًا كَمَا قُصِدَ التَّحَدِّيَ بِجَمِيعِهِ إِجْمَالًا. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَهِيَ بِلُغَتِكُمْ وَحُرُوفِ هِجَائِهَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهَا وَدُونَكُمُوهَا. وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْخِطَابِ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ مُتَأَهِّلٍ لِهَذَا التَّحَدِّي مِنْ بُلَغَائِهِمْ. والْمُبِينِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ مِنْ أَبَانَ مُرَادِفِ بَانَ، أَيْ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْوَاضِحِ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا كَانَتْ آيَاتُهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا آيَاتٍ مُبِينَةً عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينِ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِي الْهُدَى وَالْحَقِّ وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ كَالْمُشْتَرَكِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا بَلَغَكُمْ وَتُلِيَ عَلَيْكُمْ هُوَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ، أَيِ الْبَيِّنِ صِدْقُهُ وَدَلَالَتُهُ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مكابر.

[سورة الشعراء (26) : آية 3]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 3] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) حُوِّلَ الْخِطَابُ مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمُعَانِدِينَ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يُثِيرُهُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: 2] مِنْ تَسَاؤُلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ عَنِ اسْتِمْرَارِ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: 6] ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] . وَ (لَعَلَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي تَرَجِّي الشَّيْءِ الْمَخُوفِ سُمِّيَتْ إِشْفَاقًا وَتَوَقُّعًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ التَّرَجِّيَ مِنْ قَبِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ مِثْلِ التَّمَنِّي. وَالتَّرَجِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَثٌّ عَلَى تَرْكِ الْأَسَفِ مِنْ ضَلَالِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ الْمُتَكَلِّمِ الْحَاثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ بِحَالِ مَنْ يَسْتَقْرِبُ حُصُولَ هَلَاكِ الْمُخَاطَبِ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ. وَالْبَاخِعُ: الْقَاتِلُ. وَحَقِيقَةُ الْبَخْعِ إِعْمَاقُ الذَّبْحِ. يُقَالُ: بَخَعَ الشَّاةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا بَلَغَ بِالسِّكِّينِ الْبِخَاعَ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ الْفَقَارَ، كَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي «الْفَائِقِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [6] . وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ السَّرِيعِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ باخِعٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَفِي باخِعٌ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ هُوَ الْفَاعِلُ. وأَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ بَعْدَ (أَنْ) وَالْخَافِضُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، أَيْ لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ (أَنْ) تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَمَّكَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِيمَا مَضَى يُوشِكُ أَنْ يُوقِعَكَ فِي الْهَلَاكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَكَرُّرِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ، كَقَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ لَمَّا قَالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 84] فَقَالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ [يُوسُف: 85] فَوِزَانُ هَذَا الْمَعْنَى وِزَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [6] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، فَإِنَّ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ

[سورة الشعراء (26) : آية 4]

الْفَاعِلِ لِ باخِعٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ (لَعَلَّ) . وَإِسْنَادُ باخِعٌ إِلَى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ جُعِلَ سَبَبًا لِلْبَخْعِ. وَجِيءَ بِمُضَارِعِ الْكَوْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَأْسَفُ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَلَوِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ فِيمَا مَضَى أَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤْسَفَ لَهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُؤْمِنِينَ إِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ مُؤْمِنِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِمُؤْمِنِينَ الْمَعْنَى اللَّقَبِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْفَرِيقِ الْمَعْرُوفِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ. وَضَمِيرُ أَلَّا يَكُونُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وهم الْمُشْركُونَ الَّذين دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعُدِلَ عَنْ: أَنْ لَا يُؤْمِنُوا، إِلَى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ فِي فِعْلِ الْكَوْنِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَفَادَتْهُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ، فَتَأَكَّدَ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ إِيمَانِهِمُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الْإِقْلَاعِ عَنِ الْحُزْنِ لَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [6] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بِحَرْفِ نَفْيِ الْمَاضِي وَهُوَ (لَمْ) لِأَنَّ سُورَةَ الْكَهْفِ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ قَدْ تَقَرَّرَ حِينَئِذٍ وَبَلَغَ حَدَّ الْمَأْيُوسِ مِنْهُ. وَضَمِيرُ يَكُونُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ التَّحَدِّي الْحَاصِلِ بِقَوْلِهِ: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: 1، 2] لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ هُمُ الْكَافِرُونَ المكذبون. [4] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 4] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] لِأَنَّ التَّسْلِيَةَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ تُثِيرُ فِي النَّفْسِ سُؤَالًا عَنْ إِمْهَالِهِمْ دُونَ عُقُوبَةٍ لِيُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ مُوسَى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 88] ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.

وَمَفْعُولُ نَشَأْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْغَالِبَةِ فِي حذف مفعول فعل الْمَشِيئَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ نَشَأْ تَنْزِيلَ آيَةٍ مُلْجِئَةٍ نُنْزِلْهَا. وَجِيءَ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُشْعِرَ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ لَا يَشَاءَهُ. وَمَعْنَى انْتِفَاءِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ عَنْ نَظَرٍ وَاخْتِيَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْدَى لِانْتِشَارِ سُمْعَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْدَأِ ظُهُورِهِ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْعَلَامَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَهْدِيدِهِمْ بِالْإِهْلَاكِ تَهْدِيدًا مَحْسُوسًا بِأَنْ تَظْهَرَ لَهُمْ بِوَارِقُ تُنْذِرُ بِاقْتِرَابِ عَذَابٍ. وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الْأَنْعَام: 35] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ. وَجَعْلُ تَنْزِيلِ الْآيَةِ مِنَ السَّمَاءِ حِينَئِذٍ أَوْضَحُ وَأَشَدُّ تَخْوِيفًا لِقِلَّةِ الْعَهْدِ بِأَمْثَالِهَا وَلِتَوَقُّعِ كُلِّ مَنْ تَحْتَ السَّمَاءِ أَنْ تُصِيبَهُ. فَإِن قلت: لماذَا لَمْ يُرِهِمْ آيَةً كَمَا أُرِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نَتْقَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ؟ قُلْتُ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى وَمَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِظْهَارُ الْآيَاتِ لَهُمْ لِإِلْجَائِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِزِيَادَةِ تَثْبِيتِهِمْ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَة: 260] . وَفُرِّعَ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لَهَا وَهُوَ جُمْلَةُ فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. وَعُطِفَ فَظَلَّتْ وَهُوَ مَاضٍ عَلَى الْمُضَارِعِ قَوْلُهُ: نُنَزِّلْ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَوَابُ شَرْطٍ، فَلِلْمَعْطُوفِ حُكْمُ جَوَابِ الشَّرْطِ فَاسْتَوَى فِيهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ وَصِيغَةُ الْمَاضِي لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ تُخَلِّصُ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنْ شِئْنَا نَزَّلْنَا أَوْ إِنْ نَشَأْ نَزَّلْنَا، لَكَانَ سَوَاءً إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ اخْتِلَافِ فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِالْمُضَارِعِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَاتِ يُتَّسَعُ فِيهَا مَا لَا يُتَّسَعُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِقَاعِدَةِ: أَنْ يُغْتَفَرَ فِي الثَّوَانِي مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأَوَائِلِ، كَمَا فِي الْقَاعِدَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ خُصُوصِيَّةٍ فِي كَلَامِ الْبَلِيغِ وَخَاصَّةً فِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، وَهِيَ هُنَا أَمْرَانِ:

التَّفَنُّنُ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، وَتَقْرِيبُ زَمَنِ مُضِيِّ الْمُعَقَّبِ بِالْفَاءِ مِنْ زَمَنِ حُصُولِ الْجَزَاءِ بِحَيْثُ يَكُونُ حُصُولُ خُضُوعِهِمْ لِلْآيَةِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ تَنْزِيلِهَا فَيَتِمُّ ذَلِكَ سَرِيعًا حَتَّى يُخَيَّلَ لَهُمْ مِنْ سُرْعَةِ حُصُولِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَضَى فَلِذَلِكَ قَالَ: فَظَلَّتْ وَلَمْ يَقِلْ: فَتَظَلُّ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] وَكِلَاهُمَا لِلتَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَالْخُضُوعُ: التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي الِانْقِيَادِ مَجَازًا لِأَنَّ الِانْقِيَادَ مِنْ أَسْبَابِ الْخُضُوعِ. وَإِسْنَادُ الْخُضُوعِ إِلَى الْأَعْنَاقِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُنْقَادِينَ الْخَائِفِينَ الْأَذِلَّةِ بِحَالِ الْخَاضِعِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنْ تُصِيبَهُمْ قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وَيَنْحَنُونَ اتِّقَاءَ الْمُصِيبَةِ النَّازِلَةِ بِهِمْ. وَالْأَعْنَاقُ: جَمْعُ عُنُقٍ بِضَمَّتَيْنِ وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ. وَقِيلَ: الْمَضْمُومُ النُّونِ مُؤَنَّثٌ، وَالسَّاكِنُ النُّونِ مُذَكَّرٌ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَعْنَاقُ هِيَ مَظْهَرُ الْخُضُوعِ أُسْنِدَ الْخُضُوعُ إِلَيْهَا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُسْنَدُ إِلَى أَصْحَابِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ [طه: 108] أَيْ أَهِلُ الْأَصْوَاتِ بِأَصْوَاتِهِمْ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: (كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا) ... وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ فَأُسْنِدَ الْفَرَقُ إِلَى الْعُيُونِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ سَبَبُ الْفَرَقِ عِنْدَ رُؤْيَة الْأَشْيَاء المخيفة. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: 116] وَإِنَّمَا سَحَرُوا النَّاسَ سِحْرًا نَاشِئًا عَنْ رُؤْيَةِ شَعْوَذَةِ السِّحْرِ بِأَعْيُنِهِمْ، مَعَ مَا يَزِيدُ بِهِ قَوْلُهُ: «ظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِهِمْ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ بِأَعْنَاقِهِمْ. وَفِي إِجْرَاءِ ضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: خاضِعِينَ عَلَى الْأَعْنَاقِ تَجْرِيدٌ لِلْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ فِي إِسْنَادِ خاضِعِينَ إِلَى أَعْناقُهُمْ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْجَرْيِ عَلَى وَتِيرَةِ الْمَجَازِ أَنْ يُقَالَ لَهَا: خَاضِعَةً، وَذَلِكَ خُضُوعٌ مِنْ تَوَقُّعِ لَحَاقِ الْعَذَابِ النَّازِلِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْأَعْنَاقَ هُنَا جَمْعُ عُنُقٍ بِضَمَّتَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى سَيِّدِ الْقَوْمِ وَرَئِيسِهِمْ كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ رَأْسُ الْقَوْمِ وَصَدْرُ الْقَوْمِ، أَيْ فَظَلَّتْ سَادَتُهُمْ، يَعْنِي الَّذِينَ أَغْرَوْهُمْ

[سورة الشعراء (26) : آية 5]

بِالْكُفْرِ خَاضِعِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهْدِيدًا لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ ضَعِيفٌ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشِ: الْأَعْنَاقُ الْجَمَاعَاتُ وَاحِدُهَا عُنُقٌ بِضَمَّتَيْنِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، أَيْ فَظَلُّوا خَاضِعِينَ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ سَابِقِهِ. وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ وَرَكِيكِهَا مَا نَسَبَهُ الثَّعْلَبِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا وَفِي بَنِي أُمَيَّةَ فَتَذِلُّ لَنَا أَعْنَاقُهُمْ بَعْدَ صُعُوبَةٍ وَيَلْحَقُهُمْ هَوَانٌ بَعْدَ عِزَّةٍ، وَهَذَا مِنْ تَحْرِيفِ كَلِمِ الْقُرْآنِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنُحَاشِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَهُ وَهُوَ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ. وَهَذَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ دُعَاةِ الْمُسَوِّدَةِ مِثْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَكَمْ لَهُمْ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنِ اخْتِلَاقٍ، وَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِهَذِهِ السَّفَاسِفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَزِّلْ بِالتَّشْدِيدِ فِي الزَّايِ وَفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِضَم النُّون الثَّانِيَة وَتَخْفِيف الزَّاي. [5] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 5] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] أَيْ هَذِهِ شِنْشَنَتُهُمْ فَلَا تَأْسَفْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَمَا يَجِيئُهُمْ مِنْهَا مِنْ بَعْدُ فَسَيُعْرِضُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْإِعْرَاضِ. وَالْمُضَارِعُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ. فَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ لِلنَّاسِ بِالْأَدِلَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ ذِكْرًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ، أَيْ مَنْ ذِكْرٍ بَعْدَ ذِكْرٍ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِهِ فَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْمُحَدَثِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِسْنَادِ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ. فَأَفَادَ الْأَمْرَانِ أَنَّهُ ذِكْرٌ مُتَجَدِّدٌ مُسْتَمِرٌّ وَأَنْ بَعْضَهُ يُعْقِبُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [2، 3] قَوْلُهُ:

[سورة الشعراء (26) : آية 6]

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ. وَذُكِرَ اسْمُ الرَّحْمَنِ هُنَا دُونَ وَصْفِ الرَّبِّ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا لِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِعْرَاضِ قَوْمِهِ فَكَانَ فِي وَصْفِ مُؤْتِي الذِّكْرِ بِالرَّحْمَنِ تَشْنِيعٌ لِحَالِ الْمُعْرِضِينَ وَتَعْرِيضٌ لِغَبَاوَتِهِمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَمَّا هُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُدْرِكُونَ صَلَاحَهُمْ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ عَلَى قَوْمٍ أَضَاعُوا نَفْعَهُمْ وَأَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَهُمْ إِلَيْهِ وَذَكَّرْتَهُمْ، كَمَا قَالَ الْمَثَلُ: «لَا يَحْزُنْكَ دَمٌ هَرَاقَهُ أَهْلُهُ» وَقَالَ النَّابِغَةُ: فَإِنْ تَغْلِبْ شَقَاوَتُكُمْ عَلَيْكُمْ ... فَإِنِّي فِي صَلَاحِكُمْ سَعَيْتُ وَفِي الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ كانُوا وَخَبَرِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا أَعْرَضُوا، إِفَادَةُ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ رَاسِخٌ فِيهِمْ وَأَنَّهُ قَدِيمٌ مُسْتَمِرٌّ إِذْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] ، فَانْتِفَاءُ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ وَاقِعًا هُوَ إِعْرَاضٌ مِنْهُمْ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ الَّتِي طَرِيقُهَا الذِّكْرُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذِكْرٌ بَعْدَ الذِّكْرِ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنُوا بِسَبَبِهِ وَجَدَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمُ الْقَدِيمِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرٍ مُؤَكِّدَةٌ لِعُمُومِ نَفْيِ الْأَحْوَالِ. ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرَّحْمنِ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، فَجُمْلَةُ: كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ. وَتَقَدَّمَ الْمَجْرُورُ لرعاية الفاصلة. [6] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 6] فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) فَاءُ فَقَدْ كَذَّبُوا فَصِيحَةٌ، أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِعْرَاضُ تَكْذِيبٍ بعد الْإِخْبَار عَنْهُم بِأَنَّ سَنَّتَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الذِّكْرِ الْآتِي بَعْضُهُ عَقِبَ بَعْضٍ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ كَانَ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَأْتِيهِمْ فَلِتَعْقِيبِ الْإِخْبَارِ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِالتَّكْذِيبِ. وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنِ الْحَدَثِ الْعَظِيمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

وَالْأَنْبَاءُ: ظُهُورُ صِدْقِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِتْيَانِ هُنَا الْبُلُوغَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21] لِأَنَّ بُلُوغَ الْأَنْبَاءِ قَدْ وَقَعَ فَلَا يُحْكَى بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَأْتِيهِمْ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً فَيَجُوزُ أَن يكون مَا صدقهَا الْقُرْآنَ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: 231] . وَجِيءَ فِي صلته بِفعل يَسْتَهْزِؤُنَ دُونَ (يُكَذِّبُونَ) لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كذّبوا بِهِ واستهزأوا بِهِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي بِهِ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ، وَأَنْبَاؤُهُ أَخْبَارُهُ بِالْوَعِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَا صدق مَا جِنْسَ مَا عُرِفُوا بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَهُوَ التَّوَعُّدُ، كَانُوا يَقُولُونَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ؟ وَنَحْوُ ذَلِك. وَإِضَافَة أَنْبؤُا إِلَى مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عَلَى هَذَا إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ الَّذِي هُوَ أَنْبَاءُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ. وَجَمْعُ الْأَنْبَاءِ عَلَى هَذَا بِاعْتِبَار أَنهم استهزأوا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْبَعْثُ، وَمِنْهَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهَا نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] ، وَمِنْهَا فَتْحُ مَكَّةَ، وَمِنْهَا عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: زَقُّمُونَا، اسْتِهْزَاءٌ. وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ أَنْبَاءُ كَوْنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، أَيْ حُصُولِهِ، وَضَمِيرِ بِهِ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِأَنْبَاءِ اسْتِهْزَائِهِمْ أَنْبَاءُ جَزَائِهِ وَعَاقِبَتِهِ وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَالْقَوْلُ فِي إِقْحَامِ فِعْلِ كانُوا هُنَا كَالْقَوْلِ فِي إِقْحَامِهِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: 5] وَلَكِنْ أُوثِرَ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارع وَهُوَ يَسْتَهْزِؤُنَ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَتَجَدَّدُ عِنْدَ تَجَدُّدِ وَعِيدِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 7 إلى 9]

وَمَعْنَى (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، أَيْ تَحَقَّقَ، أَيْ سَوْفَ تَتَحَقَّقُ أَخْبَارُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي سَوْفَ تَبْلُغُهُمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ، أَيْ أَخْبَارُ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَأُوثِرَ إِفْرَادُ فِعْلِ «يَأْتِيهِمْ» مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِغَيْرِ مُذَكِّرٍ حَقِيقِيٍّ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَخَفُّ فِي الْكَلَامِ لِكَثْرَة دورانه. [7- 9] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 7 إِلَى 9] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: 5] فَالْهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مِنْهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ لَفْظًا لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا تُغْنِي فِيهِمُ الْآيَاتُ لِأَنَّ الْمُكَابَرَةَ تَصْرِفُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ، وَالْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ قَائِمَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ قَدْ عَمُوا عَنْهَا فَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَضِلُّوا عَنْ آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَوْنُ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُتَطَلِّعِينَ إِلَى الْحَقِّ بَاحِثِينَ عَنْهُ لَكَانَ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا مَقْنَعٌ لَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: 185] ، وَقَالَ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 101] أَيْ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُعِدُّوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِيمَانِ. فَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ دَالَّةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ الْحَكِيمَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَدَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ بَعْدَ الْجَفَافِ مَثِيلٌ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ رُفَاتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] . وَهَذَا دَلِيلٌ تَقْرِيبِيٌّ

لِلْإِمْكَانِ فَكَانَ فِي آيَةِ الْإِنْبَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِبْطَالِ أَصْلَيْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَهَمَا: أَصْلُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَأَصْلُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِنْبَاتِ عَلَى الصَّانِعِ الْوَاحِدِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ نَزَلَتْ رُؤْيَتُهُمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ: إِنْكَارُ عَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ. وَجُمْلَةُ: كَمْ أَنْبَتْنا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَرَوْا فَهِيَ مَصَبُّ الْإِنْكَارِ. وَقَوْلُهُ: إِلَى الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَرَوْا، أَيْ أَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ. وكَمْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَهِيَ هُنَا خَبَرِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِ أَنْبَتْنا. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْبَتْنَا فِيهَا كَثِيرًا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَمَوْرِدُ التَّكْثِيرِ الَّذِي أَفَادَتْهُ كَمْ هُوَ كَثْرَةُ الْإِنْبَاتِ فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ، وَمَوْرِدُ الشُّمُولِ الْمُفَادِ مِنْ كُلِّ هُوَ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَأَصْنَافُهُ وَفِي الْأَمْرَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ. وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ أَبْعَاضِ كُلِّ زَوْجٍ عَنْ ذِكْرِ مُمَيَّزِ كَمْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ التَّبْعِيضِ. وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى النَّوْعِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ عَلَى أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ تَقَدَّمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [3] ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي طه [53] . وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ مِنْ نَوْعِهِ قَالَ تَعَالَى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي الْأَنْفَالِ [4] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [72] . وَهَذَا مِنْ إِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى بَدِيعِ الصُّنْعِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ فِي إِنْبَاتِ الْكَرِيمِ وَغَيْرِهِ. فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِإِنْبَاتِ الْكَرِيمِ مِنْ ذَلِكَ وَفَاءٌ بِغَرَضِ الِامْتِنَانِ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الِاسْتِدْلَالِ. وَأَيْضًا فَنَظَرُ النَّاسِ فِي الْأَنْوَاعِ الْكَرِيمَةِ أَنْفَذُ وَأشهر لِأَنَّهُ يبتدىء بِطَلَبِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا وَالْإِعْجَابِ بِهَا فَإِذَا تَطَلَّبَهَا وَقَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَكُونُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ التَّذْكِيرِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا هُمْ مُمَارِسُونَ لَهُ وَرَاغِبُونَ فِيهِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 11]

وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ ذلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنْبَاتُ اللَّهِ الْأَزْوَاجَ فِيهَا، وَمَا فِي تِلْكَ الْأَزْوَاجِ مِنْ مَنَافِعَ وَبَهْجَةٍ. وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ دَلَالَةَ ذَلِكَ الْإِنْبَاتِ وَصِفَاتِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بَاعِثُ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَإِفْرَادُ (آيَةً) لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ لِأَنَّ فِي الْمَذْكُورِ عِدَّةَ أَشْيَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ فَيَكُونُ عَلَى التَّوْزِيعِ. وَجُمْلَةُ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي قَوْله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] ، وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24] . وَأُسْنِدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ. وكانَ هُنَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ وَالْمُحَقِّقِينَ. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلٌ لِهَذَا الْخَبَرِ: بِوَصْفِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ، أَيْ تَمَامِ الْقُدْرَةِ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعِقَابَ، وَبِوَصْفِ الرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي إِمْهَالِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، وَرَحِيمٌ بِكَ. قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ [الْكَهْف: 58] . وَفِي وَصْفِ الرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ رُسُلَهُ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَمَّا كَانَ عَقْلِيًّا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُكَرَّرْ بِغَيْرِهِ مِنْ نَوْعِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا كُرِّرَتِ الدَّلَائِلُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْعِبْرَةِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى [الشُّعَرَاء: 10] إِلَى آخِرِ قِصَّةِ أَصْحَاب ليكة. [10، 11] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 10 إِلَى 11] وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) شُرُوعٌ فِي عَدِّ آيَاتٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ عَوَاقِبِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِهِمْ

لِيُحَذِّرَ الْمُخَاطِبُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِبَعْضِ مَا نَادَى بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْمَثُلَاتِ قُصِدَ ذِكْرُ كَثِيرٍ اشْتُهِرَ مِنْهَا وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى حَادِثَةٍ وَاحِدَة لِأَن الدّلَالَة غَيْرَ الْعَقْلِيَّةِ يَتَطَّرَقُهَا احْتِمَالُ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ قَوْمًا مِنْ أُولَئِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّدْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ تَكَرُّرُ أَمْثَالِهَا ضَعُفَ احْتِمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةِ، لِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ إِلَّا بِانْضِمَامِ مُقَوِّمَاتٍ لَهُ مِنْ تَوَاتَرٍ وَتَكَرُّرٍ. وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى ثُمَّ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى خِلَافِ تَرْتِيبِ حِكَايَةِ الْقَصَصِ الْغَالِبِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِهَا عَلَى تَرْتِيبِ سَبْقِهَا فِي الزَّمَانِ، لَعَلَّهُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِلْحَاحِهِمْ عَلَى إِظْهَارِ آيَاتٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي الْكَائِنَاتِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ فَضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِمُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي آيَاتِ مُوسَى إِذْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يُونُس: 2] وَعُطِفَ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى عَطْفَ جُمْلَةٍ على جملَة: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ [الشُّعَرَاء: 7] بِتَمَامِهَا. وَيَكُونُ إِذْ اسْمَ زَمَانٍ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشُّعَرَاء: 69] . وَفِي هَذَا الْمُقَدَّرِ تَذْكِيرٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا يُسَلِّيهِ عَمَّا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ. وَنِدَاءُ اللَّهِ مُوسَى الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِكَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ. جملَة: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ: نَادَى، وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: 63- 68] . وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى إِلَخْ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِأَسْبَابِ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ دَعْوَةِ مُوسَى إِلَى مَا أُمِرَ بِإِبْلَاغِهِ وَإِعْرَاضِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى الْخَاتِمَةِ. وَاسْتِحْضَارُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِوَصْفِهِمْ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِرْسَالِ. وَفِي هَذَا الْإِجْمَالِ تَوْجِيهُ نَفْسِ مُوسَى لِتَرَقُّبِ تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِمَا يُبَيِّنُهُ، وَإِثَارَةٌ لِغَضَبِ

مُوسَى عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْضَمَّ دَاعِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى دَاعِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ الْبَاعِثِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ لِكَلَامِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِالظُّلْمِ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ وَصْفِهِمُ الذَّاتِيِّ بِطَرِيقَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ قَوْمَ مَوْقِعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ فَلَمْ يَقُلْ: ائْتِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ: يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدَيٍّ لَا أَبَا لَكُمْ ... لَا يلفينّكم فِي سوأة عُمَرُ وَالظُّلْمُ يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، فَمِنْهَا ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَمِنْهَا ظُلْمُهُمُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ إِذِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاضْطَهَدُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ مِرَارًا فِي ضِدِّ الْعَدْلِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي الْبَقَرَةِ [114] ، وَبِمَعْنَى الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ فِي الْأَنْعَامِ [82] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَدَلَ هُنَا عَنْ ذِكْرِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ نِدَاءُ مُوسَى مِمَّا هُوَ فِي سُورَةِ طه [12- 23] بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا هُوَ شَرْحُ دَعْوَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضُهُمْ لِلِاتِّعَاظِ بِعَاقِبَتِهِمْ. وَأَمَّا مَقَامُ مَا فِي سُورَةِ طه فَلِبَيَانِ كَرَامَةِ مُوسَى عِنْدَ رَبِّهِ وَرِسَالَتِهِ مَعًا فَكَانَ مَقَامَ إِطْنَابٍ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ ذَهَابُهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا إِيجَازٌ يبيّنه قَوْله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 16] إِلَى آخِرِهِ. وَجُمْلَةُ: أَلا يَتَّقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَيْهِمْ لِدَعْوَتِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظَّالِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُثِيرًا لِسُؤَالٍ فِي نَفْسِ مُوسَى عَنْ مَدَى ظُلْمِهِمْ فَجِيءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَغُّلِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَدَوَامِهِمْ عَلَيْهِ تَقْوِيَةً لِلْبَاعِثِ لِمُوسَى عَلَى بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الدَّعْوَةِ وَتَهْيِئَةً لِتَلَقِّيهِ تكذيبهم بِدُونِ مفاجأة، فَيَكُونُ أَلا مِنْ قَوْلِهِ: أَلا يَتَّقُونَ مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ، وَتَعْجِيبِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ فِيهِمْ وَقَدْ عَلِمَ مَظَالِمَهُمْ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ وَقَتْلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ....

[سورة الشعراء (26) : الآيات 12 إلى 14]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلَا كَلِمَةً وَاحِدَةً هِيَ أَدَاةُ الْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَلا يَتَّقُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ ائْتِ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ: أَلَا تَتَّقُونَ. فَحَكَى مَقَالَتَهُ بِمَعْنَاهَا لَا بِلَفْظِهَا. وَذَلِكَ وَاسْعٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] فَإِنَّ جُمْلَةَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مُفَسِّرَةٌ لِجُمْلَةِ أَمَرْتَنِي. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّ مُوسَى وَرَبَّهُمْ، فَحَكَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ بِالْمَعْنَى. وَهَذَا الْعَرْضُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [18] فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَالِاتِّقَاءُ: الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ يَتَّقُونَ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَلَا يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ ظُلْمِهِمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [56] . وَيَعْلَمُ مُوسَى مِنْ إِجْرَاءِ وَصْفِ الظُّلْمِ وَعَدَمِ التَّقْوَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي مَعْرِضِ أَمْرِهِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَعْوَتَهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ وَإِلَى التَّقْوَى. وَذِكْرُ مُوسَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [51] . وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ فِرْعَوْنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي الْأَعْرَاف [103] . [12- 14] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 12 إِلَى 14] قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) افْتِتَاحُ مُرَاجَعَتِهِ بِنِدَاءِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَيْهِ تَحْنِينٌ وَاسْتِسْلَامٌ. وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَلَقَّاهَا الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالتَّكْذِيبِ، وَجَعَلَ نَفْسَهُ خَائِفًا مِنَ التَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ لَمَّا خُلِعَتْ عَلَيْهِ الرِّسَالَةُ عَنِ اللَّهِ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ الْحِرْصُ عَلَى نَجَاحِ رِسَالَتِهِ فَكَانَ تَكْذِيبُهُ فِيهَا مَخُوفًا مِنْهُ. ويَضِيقُ صَدْرِي قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى أَخافُ

أَوْ تَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ فَتَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً، أَيْ وَالْحَالُ يَضِيقُ سَاعَتَئِذٍ صَدْرِي مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ. وَالضِّيقُ: ضِدُّ السِّعَةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْغَضَبِ وَالْكَمَدِ لِأَنَّ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ انْفِعَالٌ وَيَنْشَأُ عَنْهُ انْضِغَاطُ الْأَعْصَابِ فِي الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِدْرَاكِ الْخَاصِّ عَلَى جَمْعِ الْأَعْصَابِ الْكَائِنِ بِالدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ الْمُدْرِكُ فَيُحِسُّ بِشِبْهِ امْتِلَاءٍ فِي الصَّدْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: 125] وَقَوْلِهِ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [12] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْسَفُ وَيَكْمَدُ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَيَجِيشُ فِي نَفْسِهِ رَوْمُ إِقْنَاعِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ إِذَا خَطَرَتْ فِي الْعَقْلِ نَشَأَ مِنْهَا إِعْدَادُ الْبَرَاهِينِ، وَفِي ذَلِكَ الْإِعْدَادِ تَكَلُّفٌ وَتَعَبٌ لِلْفِكْرِ فَإِذَا أَبَانَهَا أَحَسَّ بِارْتِيَاحٍ وَبِشِبْهِ السِّعَةِ فِي الصَّدْرِ فَسَمَّى ذَلِكَ شَرْحًا لِلصَّدْرِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ مُوسَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25] . وَالِانْطِلَاقُ حَقِيقَتُهُ مُطَاوِعُ أَطْلَقَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الذَّهَابِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِفَصَاحَةِ اللِّسَانِ وَبَيَانِهِ فِي الْكَلَامِ، أَيْ يَنْحَبِسُ لِسَانِي فَلَا يُبَيِّنُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَعَطْفُهُ عَلَى يَضِيقُ صَدْرِي ينبىء بِأَنَّهُ أَرَادَ بِضِيقِ الصَّدْرِ تَكَاثُرَ خَوَاطِرِ الِاسْتِدْلَالِ، فِي نَفْسِهِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُ لِيُقْنِعَهُمْ بِصِدْقِهِ حَتَّى يَحُسَّ كَأَنَّ صَدْرَهُ قَدِ امْتَلَأَ، وَالشَّأْنُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمِقْدَارِ مَا يُفْصِحُ عَنْهُ صَاحِبُهُ مِنْ إِبْلَاغِهِ إِلَى السَّامِعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ فِي لِسَانِهِ حَبْسَةٌ وَعِيٌّ بَقِيَتِ الْخَوَاطِرُ مُتَلَجْلِجَةً فِي صَدْرِهِ. وَالْمَعْنَى: وَيَضِيقُ صَدْرِي حِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَضِيقُ ... وَلا يَنْطَلِقُ مَرْفُوعَيْنِ عطفا على فَأَخافُ وَلِذَلِكَ حَقَّقَهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ أَيْقَنَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جِبِلِّيٌّ عِنْدَ تَلَقِّي التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّ أَمَانَةَ الرِّسَالَةِ وَالْحِرْصَ عَلَى تَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ يُحْدِثُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ انْحِبَاسُ لِسَانِهِ يَقِينًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ التَّيَقُّنِ كَانَ فِعْلَا يَضِيقُ ... وَلا يَنْطَلِقُ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مُحَقَّقٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُصُولُ الْخَوْفِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَكُونَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى يُكَذِّبُونِ الْمَخُوفِ مِنْهُ الْمُتَوَقَّعِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُحَقَّقَ الْحُصُولِ يَجْعَلُهُ أَحْرَى مِنَ الْمُتَوَقَّعِ.

وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَيَضِيقُ ... وَلَا يَنْطَلِقُ بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ عَطْفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ، أَيْ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ وَلَا يَنْطَلِقَ لِسَانُهُ. قِيلَ كَانَتْ بِمُوسَى حُبْسَةٌ فِي لِسَانِهِ إِذَا تَكَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنَصُّلَ مِنَ الِاضْطِلَاعِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ الْعَظِيمِ وَلَكِنَّ الْقَصْدَ تَمْهِيدُ مَا فَرَّعَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ تَشْرِيكِ أَخِيهِ هَارُونَ مَعَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالْخَطَابَةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي [الْقَصَص: 34] . فَقَوْلُهُ هُنَا فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ مَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ هُنَا إِيجَازًا. وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ عِوَضًا عَنِّي. وَإِنَّمَا سَأَلَ اللَّهَ الْإِرْسَالَ إِلَى هَارُونَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَنْ يُكَلِّمَ هَارُونَ كَمَا كَلَّمَهُ هُوَ لِأَنَّ هَارُونَ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ الْمُنَاجَاةِ. وَالْمَعْنَى: فَأَرْسِلْ مَلَكًا بِالْوَحْيِ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَكُونَ مَعِي. وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ تَعْرِيضٌ بِسُؤَالِ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَأَنْ يَكْفِيَهُ شَرَّ عَدُوِّهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَصْرَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» . وَالذَّنْبُ: الْجُرْمُ وَمُخَالَفَةُ الْوَاجِبِ فِي قَوَانِينِهِمْ. وَأُطْلِقَ الذَّنْبُ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فَإِنَّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ الَّذِي وَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، وَتَوَعَّدَهُ الْقِبْطُ إِنْ ظَفِرُوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَائِفًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَوَجُّهِهِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ. وَسَمَّاهُ ذَنْبًا بِحَسَبِ مَا فِي شَرْعِ الْقِبْطِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرْعٌ إِلَهِيٌّ فِي أَحْكَامِ قَتْلِ النَّفْسِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ ذَنْبًا لِأَنَّ قَتْلَ أَحَدٍ فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَلَا دِفَاعٍ عَنْ نَفْسِ الْمُدَافِعِ يُعْتَبَرُ جُرْمًا فِي قَوَانِينِ جَمَاعَاتِ الْبَشَرِ مِنْ عَهْدِ قَتْلِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ، وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [15، 16] قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ جَعَلَهُ ذَنْبًا لَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ لَيْسَ هَلَعًا وَفَرَقًا مِنَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ مَا كَانَ بِالَّذِي يُبَالِي أَنْ يَمُوتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ خَشِيَ الْعَائِقَ مِنْ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 15 إلى 17]

إِتْمَامِ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ لَهُ ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَدَرَجَةٌ عُلْيَا. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ يَقْتُلُونِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [40] . وَذِكْرُ هَارُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [248] . [15- 17] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 15 إِلَى 17] قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) كَلَّا حَرْفُ إِبْطَالٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [79] . وَالْإِبْطَالُ لِقَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: 14] ، أَيْ لَا يَقْتُلُونَكَ. وَفِي هَذَا الْإِبْطَالِ اسْتِجَابَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ التَّعْرِيضُ بِالدُّعَاءِ حِينَ قَالَ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: 14] . وَقَوْلُهُ: فَاذْهَبا بِآياتِنا تَفْرِيعٌ عَلَى مُفَادِ كَلِمَةِ كَلَّا. وَالْأَمْرُ لِمُوسَى أَنْ يَذْهَبَ هُوَ وَهَارُونُ يَقْتَضِي أَنَّ مُوسَى مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِ هَارُونَ ذَلِكَ فَكَانَ مُوسَى رَسُولًا إِلَى هَارُونَ بِالنُّبُوءَةِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى أَبْلَغَ أَخَاهُ هَارُون ذَلِك عِنْد مَا تَلَقَّاهُ فِي حُورِيبَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَتَلَقَّاهُ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مُصَاحِبَيْنِ لِآيَاتِنَا، وَهُوَ وَعْدٌ بِالتَّأْيِيدِ بِمُعْجِزَاتٍ تَظْهَرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَمِنَ الْآيَاتِ: الْعَصَا الَّتِي انْقَلَبَتْ حَيَّةً عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، وَكَذَلِكَ بَيَاضُ يَدِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ طه [17] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى الْآيَاتِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ أَمْرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ يُثِيرُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَتَعَامَى فِرْعَوْنُ عَنِ الْآيَاتِ وَلَا يَرْعَوِيَ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا عَنْ إِلْحَاقِ أَذًى بِهِمَا فَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمَا وَمُسْتَمِعٌ لِكَلَامِهِمَا وَمَا يُجِيبُ فِرْعَوْنُ بِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِهْمَالِ تَأْيِيدِهِمَا وَكَفِّ فِرْعَوْنَ عَنْ أَذَاهُمَا. فَضَمِيرُ مَعَكُمْ عَائِدٌِِِِ

إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ عِلْمٍ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا [المجادلة: 7] . ومُسْتَمِعُونَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ (سَامِعُونَ) لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِمَاعِ أَنَّهُ تَكَلُّفُ السَّمَاعِ وَالتَّكَلُّفُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِنَاءِ، فَأُرِيدَ هَنَا عِلْمٌ خَاصٌّ بِمَا يجْرِي بَينهَا وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تُوَافِقُهُ الْعِنَايَةُ وَاللُّطْفُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بِآياتِنا وَقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ تَأْكِيدٌ لِلطَّمْأَنَةِ وَرِبَاطَةٌ لِجَأْشِهِمَا. وَالرَّسُولُ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، أَيْ مُرْسَلٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مُطَابَقَةُ مَوْصُوفِهِ، بِخِلَافِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَحَقُّهُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ سَمَاعًا، وَفَعُولٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ قَلِيلٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمِنْهُ: بَقَرَةٌ ذَلُولٌ، وَقَوْلُهُمْ: صَبُوحٌ، لِمَا يُشْرَبُ فِي الصَّبَاحِ، وَغَبُوقٌ، لِمَا يُشْرَبُ فِي الْعَشِيِّ، وَالنَّشُوقُ، لِمَا يُنَشَّقُ مِنْ دَوَاءٍ وَنَحْوِهِ. وَلَكِنْ رَسُولٌ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ فَلَا يُطَابِقُ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِي تَأْنِيثٍ وَمَا عَدَا الْإِفْرَادَ، وَوَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْوَجْهَيْنِ تَارَةً مُلَازِمًا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَرَدَ مُطَابِقًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِي سُورَةِ طه [47] ، فَذَهَبَ الْجَوْهَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ كَوْنِهِ اسْمًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَبَيْنَ كَوْنِهِ اسْمَ مَصْدَرٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَصْدَرًا إِذْ لَا يُعْرَفُ فَعُولٌ مَصْدَرًا لِغَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِ الْجُعْفِيِّ: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ (الْفُتَاحَةُ: الْحُكْمُ) . وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ: الرَّسُولُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ وَبِمَعْنَى الرِّسَالَةِ فَجُعَلَ ثَمَّ (أَيْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِي سُورَةِ طَه [47] ) بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ، وَجُعَلَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبِ الْهُذَلِيُّ: أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرِ فَهَلْ مِنْ رِيبَةٍ فِي أَنَّ ضَمِيرَ الرَّسُولِ فِي الْبَيْتِ مُرَادٌ بِهِ الْمُرْسَلُونَ. وَتَصْرِيحُ النُّحَاةِ بِأَنَّ فَعُولًا الَّذِي بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى حَالَةِ الْمُتَّصِفِ بِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: نَاقَةٌ رَكُوبَةٌ وَرُكُوبٌ، يَقْتَضِي أَنَّ التَّثْنِيَةَ وَالْجَمْعَ فِيهِِِِِِِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 18 إلى 19]

مِثْلُ التَّأْنِيثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي سُورَةِ طه وَأَحَلْنَا تَحْقِيقَهُ عَلَى مَا هُنَا. وَمُبَادَأَةُ خِطَابِهِمَا فِرْعَوْنَ بِأَنْ وَصَفَا اللَّهَ بِصِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُجَابَهَةٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ وَلَيْسَ بِرَبٍّ، وَإِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ. وَالنَّفْيُ يَقْتَضِي وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمِينَ شَامِلٌ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ فَيَشْمَلُ مَعْبُودَاتِ الْقِبْطِ كَالشَّمْسِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ يَوْمَئِذٍ. وَجُمْلَةُ: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ تَفْسِيرِيَّةٌ لما تضمنه سُولُ مِنَ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ هَذَا قَوْلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَ. وأَرْسِلْ مَعَنا أَطْلِقْ وَلَا تَحْبِسْهُمْ، فَالْإِرْسَالُ هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى التَّوْجِيهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بِلَادِ الْفَرَاعِنَةِ لِقَصْدِ تَحْرِيرِهِمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 22] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ أَسْبَابِ سُكْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَرْضِ مِصْرَ وَمَوَاطِنِهِمْ بِهَا وعملهم لفرعون. [18، 19] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 18 إِلَى 19] قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) طُوِيَ مِنَ الْكَلَامِ ذَهَابُ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَاسْتِئْذَانُهُمَا عَلَيْهِ وَإِبْلَاغُهُمَا مَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ إِيجَازًا لِلْكَلَامِ. وَوَجَّهَ فِرْعَوْنُ خِطَابَهُ إِلَى مُوسَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ تَفْصِيلِ كَلَامِ مُوسَى وَهَارُونَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الرَّسُولُ بِالْأَصَالَةِ وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ عَوْنًا لَهُ عَلَى التَّبْلِيغِ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْكَلَامِ مَعَ هَارُونَ. وَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنِ الِاعْتِنَاءِ بِإِبْطَالِ دَعْوَةِ مُوسَى فَعَدَلَ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِنِعْمَةِ الْفَرَاعِنَةِ أَسْلَافِهِ عَلَى مُوسَى وَتَخْوِيفِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ حُسْبَانَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَلِعُ الدَّعْوَةَ مِنْ جَذْمِهَا وَيَكُفُّ مُوسَى عَنْهَا، وَقَصْدُهُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ إِفْحَامُ مُوسَى كَيْ يَتَلَعْثَمَ مِنْ خَشْيَةِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أَوْجَدَ لَهُ سَبَبًا يَتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ وَيَكُونُ مَعْذُورًا فِيهِ حَيْثُ كَفَرَ نِعْمَةَ الْوِلَايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَاقْتَرَفَ جُرْمَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَنْفُسِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ التَّرْبِيَةِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِقْرَارُ بِوُقُوعِ التَّرْبِيَةِ مُجَارَاةً لِحَالِ مُوسَى فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ إِذْ رَأَى فِي هَذَا الْكَلَامِ جُرْأَةً عَلَيْهِ لَا تُنَاسِبُ حَالَ مَنْ هُوَ مَمْنُونٌ لِأُسْرَتِهِ بِالتَّرْبِيَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ وَالْبِرَّ، فَكَأَنَّهُ يُرْخِي لَهُ الْعِنَان بِتَلْقِينِ أَنْ يَجْحَدَ أَنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ حَتَّى إِذَا أَقَرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَالِمًا مِنَ التَّعَلُّلِ بِخَوْفٍ أَوْ ضَغْطٍ، فَهَذَا وَجْهُ تَسْلِيطِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ عَلَى النَّفْيِ فِي حِينِ أَنَّ الْمُقَرَّرَ بِهِ ثَابِتٌ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي طَالَ عَهْدُكَ بِرُؤْيَتِهِ: أَلَسْتَ فُلَانًا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُهَدِّدُ الْخَوَارِجَ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ» . وَالتَّقْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ الْمُقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالْبِرِّ وَالطَّاعَةِ لَا بِالْجَفَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الِاسْتِفْهَام إِنْكَارِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِسَانَ حَالِ مُوسَى فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ حَالُ مَنْ يَجْحَدُ أَنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ وَمَنْ يُظَنُّ نِسْيَانُهُمْ لِفَعْلَتِهِ فَأَنْكَرَ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكِلَّا الْوَجْهَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ تَنْزِيلِ مُوسَى مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْحَدُ ذَلِكَ. وَالتَّرْبِيَةُ: كَفَالَةُ الصَّبِي وتدبير شؤونه. وَمَعْنَى فِينا فِي عَائِلَتِنَا، أَيْ عَائِلَةِ مَلِكِ مِصْرَ. وَالْوَلِيدُ: الطِّفْلُ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَمَا يُقَارِبُهَا فَإِذَا نَمَى لَمْ يُسَمَّ وَلِيدًا وَسُمِّي طِفْلًا، وَيَعْنِي بِذَلِكَ الْتِقَاطَهُ مِنْ نَهْرِ النِّيلِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى رُبِّيَ عِنْدَ (رَعَمْسِيسَ الثَّانِي) مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عَائِلَاتِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ حَسَبَ تَرْتِيبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ. وَخَرَجَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ وَعُمُرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْنَاهُ حُكْمًا إِلَى قَوْلِهِ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ [الْقَصَص: 14، 15] الْآيَةَ وَبُعِثَ وَعُمُرُهُ ثَمَانُونَ سَنَةً حَسْبَمَا فِي التَّوْرَاةِ (¬1) . وَكَانَ فِرْعَوْنُ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ (مِنْفِتَاحُ الثَّانِي ابْن رَعْمَسِيسَ الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي خَلَفَهُ فِي الْمُلْكِ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوَاسِطَ الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُوسَى مُرَبَّى وَالِدِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا، وَلَعَلَّهُ رُبِّيَ مَعَ فِرْعَوْنَ هَذَا كالأخ. والسنين الَّتِي لَبِثَهَا مُوسَى فِيهِمْ هِيَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ¬

(¬1) انْظُر الإصحاح السَّابِع من سفر الْخُرُوج.

وَالْفَعْلَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَرَادَ بِهَا الْحَاصِلَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، وَأَرَادَ بِالْفَعْلَةِ قَتْلَهُ الْقِبْطِيَّ، قِيلَ هُوَ خَبَّازُ فِرْعَوْنَ. وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْمَوْصُولِ لِعِلْمِ مُوسَى بِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ لِلْفَعْلَةِ يُكَنَّى بِهِ عَنْ تَذْكِيرِهِ بِمَا يُوجِبُ تَوْبِيخَهُ. وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ فَعْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَى ذِكْرِهَا مُبْهَمَةً مُضَافَةً إِلَى ضَمِيرِهِ ثُمَّ وَصْفِهَا بِمَا لَا يَزِيدُ عَلَى مَعْنَى الْمَوْصُوفِ تَهْوِيلٌ مُرَادٌ بِهِ التَّفْظِيعُ وَأَنَّهَا مُشْتَهِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعَ تَحْقِيقِ إِلْصَاقِ تَبِعَتِهَا بِهِ حَتَّى لَا يَجِدَ تَنَصُّلًا مِنْهَا. وَجُمْلَةُ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَعَلْتَ. وَالْمُرَادُ بِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ حَيْثُ اعْتَدَى عَلَى أَحَدِ خَاصَّتِهِ وَمَوَالِي آلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَعُدُّونَهُمْ عَبِيدَ فِرْعَوْنَ وَعَبِيدَ قَوْمِهِ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ انْتِصَارَ مُوسَى لِرَجُلٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ كُفْرَانًا لِنِعْمَةِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ يَرَى وَاجِبَ مُوسَى أَنْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَلَا ينتصر لإسرائيلي، وَفِي هَذَا إِعْمَالُ أَحْكَامِ التَّبَنِّي وَإِهْمَالُ أَحْكَامِ النَّسَبِ وَهُوَ قَلْبُ حَقَائِقَ وَفَسَادُ وَضْعٍ. قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الْأَحْزَاب: 4] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرَ بِدِيَانَةِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ يَوْمَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ مُتَظَاهِرًا بِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ دِينِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي بَاطِنِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ وَبَعْدَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ عَطْفًا عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الَّتِي هِيَ تَوْبِيخٌ وَلَوْمٌ، فَوَبَّخَهُ عَلَى تَقَدُّمِ رَعْيِهِ تَرْبِيَتَهُمْ إِيَّاهُ فِيمَا مَضَى، ثُمَّ وَبَّخَهُ عَلَى كَوْنِهِ كَافِرًا بِدِينِهِمْ فِي الْحَالِ، لِأَن قَوْلَهُ: مِنَ الْكافِرِينَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ إِذْ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ وَاسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَنْتَ حِينَئِذٍ مِنَ الْكَافِرِينَ بِدِينِنَا، اسْتِنَادًا مِنْهُ إِلَى مَا بَدَا مِنْ قَرَائِنَ دَلَّتْهُ عَلَى اسْتِخْفَافِ مُوسَى بِدِينِهِمْ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ دِينَهُمْ يَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ لِفِرْعَوْنَ وَإِهَانَةَ مَنْ يُهِينُهُمْ فِرْعَوْنُ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي عَزْمِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ كَانَ مَصْحُوبًا بِاسْتِخْفَافٍ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 20 إلى 22]

وَيُفِيدُ الْكَلَامُ بِحَذَافِرِهِ تَعَجُّبًا مِنِ انْتِصَابِ مُوسَى مَنْصِبَ الْمُرْشِدِ مَعَ مَا اقْتَرَفَهُ مِنَ النَّقَائِصِ فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ الْمُنَافِيَةِ لِدَعْوَى كَوْنِهِ رَسُولًا من الربّ. [20- 22] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 20 إِلَى 22] قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) كَانَتْ رِبَاطَةُ جَأْشِ مُوسَى وَتَوَكُّلُهُ عَلَى رَبِّهِ بَاعِثَةً لَهُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْفَعْلَةِ وَذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنْهَا مِنْ خَيْرٍ لَهُ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ حَمِدَ أَثَرَهَا وَإِنْ كَانَ قَدِ اقْتَرَفَهَا غَيْرَ مُقَدِّرٍ مَا جَرَّتْهُ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ فَابْتَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِفَعْلَتِهِ لِيَعْلَمَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِكَلَامِهِ مَدْخَلَ تَأْثِيرٍ فِي نَفْسِ مُوسَى. وَأَخَّرَ مُوسَى الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاء: 18] لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِقْصَارُ مِنْ مُوَاجَهَتِهِ بِأَنَّ رَبًّا أَعْلَى مِنْ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَيْهِ. وَابْتَدَأَ بِالْجَوَابِ عَنِ الْأَهَمِّ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ [الشُّعَرَاء: 19] لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَدْخَلُ فِي قَصْدِ الْإِفْحَامِ، وَلِيُظْهِرَ لِفِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَا يَوْجَلُ مِنْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِذَحْلِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ ثِقَةً بِأَنَّ اللَّهَ يُنْجِيهِ مِنْ عُدْوَانِهِمْ. وَكَلِمَةُ إِذاً هُنَا حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، فَنُونُهُ السَّاكِنَةُ لَيْسَتْ تَنْوِينًا بَلْ حَرْفًا أَصْلِيًّا لِلْكَلِمَةِ، وَقَدَّمَ فَعَلْتُها عَلَى (إِذَنْ) مُبَادَرَةً بِالْإِقْرَارِ لِيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ خَشْيَتِهِ مِنْ هَذَا الْإِقْرَارِ. وَمَعْنَى الْمُجَازَاةِ هُنَا مَا بَيَّنَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ [الشُّعَرَاء: 19] يَتَضَمَّنُ مَعْنَى جَازَيْتَ نِعْمَتَنَا بِمَا فَعَلْتَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: نَعَمْ فَعَلْتُهَا مُجَازِيًا لَكَ، تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ، لِأَنَّ نِعْمَتَهُ كَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُجَازَى بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. وَهَذَا أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِذاً ظَرْفٌ مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ مُؤْثَرًا فِيهِ الْفَتْحُ عَلَى الْكَسْرِ لِخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ الدَّوَرَانِ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِبَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ رَضِيَّ الدِّينِ الْإِسْتِرَابَادِيَّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ الْحَاجِبِيَّةِ» فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الظُّرُوفِ: وَالْحَقُّ أَنَّ (إِذْ) إِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مِنْهُ وَأُبَدِلَ مِنْهُ التَّنْوِينُ فِي غَيْرِ نَحْوِ يَوْمِئِذٍ، جَازَ فَتْحُهُ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيْ فَعَلْتُهَا إِذْ رَبَّيْتَنِي،

إِذْ لَا مَعْنَى لِلْجَزَاءِ هَاهُنَا اه. فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ فَعَلْتُها مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا لِدَلَالَةِ الْعَامِلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَعَلْتُهَا زَمَنًا فَعَلْتُهَا، فَتَذْكِيرِي بِهَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا جَدْوَى لَهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي إِذاً فِي الْآيَةِ هُوَ مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ (¬1) وَالرَّضِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ» وَالدَّمَامِينِيِّ فِي «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي» ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَزْوِينِيِّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يَخْتَارُهُ. وَمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشُّعَرَاء: 19] قصد بِهِ إِفْحَامُ مُوسَى وَتَهْدِيدُهُ، فَجَعَلَ مُوسَى الِاعْتِرَافَ بِالْفَعْلَةِ جَزَاءً لِذَلِكَ التَّهْدِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ لَا أَتَهَيَّبُ مَا أَرَدْتَ. وَجَعَلَ مُوسَى نَفْسَهُ مِنَ الضَّالِّينَ إِنْ كَانَ مُرَادُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَتِ الْآيَةُ مَعْنَاهُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورَ لِلضَّلَالِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ ضَلَالُ الْفَسَادِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ: أَنَّ سَوْرَةَ الْغَضَبِ أَغْفَلَتْهُ عَنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرِيعَةٌ (فَإِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ شَرَائِعُ الْبَشَرِ وَتَوَارَثُوهُ فِي الْفِتَرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: 16] ) وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَعْنَى ضَلَالِ الطَّرِيقِ، أَيْ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالْحَقِّ لِعَدَمِ وُجُودِ شَرِيعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَهَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: 7] فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ مُوسَى فِيهِ اعْتِرَافٌ بِظَاهِرِ التَّقْرِيرِ وَإِبْطَالٌ لِمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ جَعْلِهِ حُجَّةً لِتَكْذِيبِهِ بِرِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الشُّعَرَاء: 19] بِقَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ إِبْطَالًا لِأَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا أَهَمَّ بِالْإِبْطَالِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ فَكَانَ فِرَارِي قَدْ عَقِبَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيَّ فَأَصْلَحَ حَالِي وَعَلَّمَنِي وَهَدَانِي وَأَرْسَلَنِي. فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى مُجَرَّدَ إِطْنَابٍ بَلْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ ابْنُ يَوْمِهِ لَا ابْنُ أَمْسِهِ، وَالْأَحْوَالُ بِأَوَاخِرِهَا فَلَا عَجَبَ فِيمَا قَصَدْتُ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ. ¬

(¬1) إِذْ قَالَ: «وَقَوله: إِذاً صلَة فِي الْكَلَام وَكَأَنَّهَا بِمَعْنى حِينَئِذٍ» يُرِيد أَن (إِذن) تَأْكِيد دَالَّة على الزَّمَان وَقد اسْتُفِيدَ الزَّمَان من قَوْله: فَعَلْتُها أَي يَوْمئِذٍ. [.....]

وَقَوْلُهُ: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أَيْ فِرَارًا مُبْتَدِئًا مِنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ سَبَبُ فِرَارِهِ، وَهُوَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ خَوْفِكُمْ. وَالضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ ائْتَمَرُوا عَلَى قَتْلِ مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [الْقَصَص: 20] . وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ، وَأَرَادَ بِهَا النُّبُوءَةَ وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى حِينَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ. ثُمَّ قَالَ: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْمُعْجِزَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الْأَعْرَاف: 144] أَرْسَلَهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] . ثُمَّ عَادَ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَّرَ عَلَى امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ فَأَبْطَلَهُ وَأَبَى أَنْ يُسَمِّيَهُ نِعْمَةً، فَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِامْتِنَانُ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ إِذِ الِامْتِنَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنِعْمَةٍ. ثُمَّ إِنْ جُعِلَتْ جُمْلَةُ أَنْ عَبَّدْتَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ كَانَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ مَقْصُودِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحجر: 66] إِذْ قَوْلُهُ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: ذلِكَ الْأَمْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ عَبَّدْتَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَالتَّقْدِيرِ: لِأَنَّ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَمَعْنَى عَبَّدْتَ ذَلَّلْتَ، يُقَالُ: عَبَّدَ كَمَا يُقَالُ: أَعْبَدَ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. أَنْشَدَ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ: حَتَّامَ يُعْبِدْنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ ... فِيهِمْ آبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ وَكَلَامُ مُوسَى عَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ نَقْضٌ لِامْتِنَانِ فِرْعَوْنَ بِقَلْبِ النِّعْمَةِ نِقْمَةً بِتَذْكِيرِهِ أَنَّ نِعْمَةَ تَرْبِيَتِهِ مَا كَانَتْ إِلَّا بِسَبَبِ إِذْلَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِاسْتِئْصَالِ أَطْفَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ أُمِّ مُوسَى بِطِفْلِهَا فِي الْيَمِّ حَيْثُ عَثَرَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ حَاشِيَتِهَا وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ أَطْفَالِ إِسْرَائِيلَ بِسِمَاتِ وَجْهِهِ وَلَوْنِ جِلْدِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ امْرَأَة فِرْعَوْن قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: 9] . وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ مَعَ الْإِسَاءَةِ إِلَى قَوْمِهِ لَا يَزِيدُ إِحْسَانًا وَلَا منَّة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 24]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 23 إِلَى 24] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) لَمَّا لَمْ يَرُجْ تَهْوِيلُهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقْلِعٍ عَنْ دَعْوَتِهِ- تَنْفِيذًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ- ثَنَى عَنَانَ جِدَالِهِ إِلَى تِلْكَ الدَّعْوَةِ فَاسْتَفْهَمَ عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونُ أَنَّهُمَا مُرْسَلَانِ مِنْهُ إِذْ قَالَا: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 16] وَإِظْهَارُ اسْمِ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّ طَرِيقَةَ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَةِ يُكْتَفَى فِيهَا بِضَمِيرِ الْقَائِلِينَ بِطَرِيقَةِ قَالَ قَالَ، أَوْ قَالَ فَقَالَ، فَعَدَلَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ إِلَى إِظْهَارِ اسْمِهِ لِإِيضَاحِ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ هَذَا وَقَوْلِهِ الْآخَرِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ الَّذِي وَقَعَ كَلَامُ مُوسَى فَاصِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَحَرْفُ مَا الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلسُّؤَالِ عَنْ حَقِيقَةِ الِاسْمِ بَعْدَهُ الَّتِي تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ يُسْأَلُ بِهَا عَنْ تَعْيِينِ الْقَبِيلَةِ، فَفِي حَدِيثِ الْوُفُودِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «مَا أَنْتُمْ» ، فَفِرْعَوْنُ سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْيِينَ حَقِيقَةِ هَذَا الَّذِي وَصفه بِأَنَّهُ بِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 16] ، فَقَدْ كَانَتْ عَقَائِدُ الْقِبْطِ تُثْبِتُ آلِهَةً مُتَفَرِّقَةً قَدِ اقْتَسَمَتِ التَّصَرُّفَ فِي عَنَاصِرِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَتِلْكَ الْعَنَاصِرُ هِيَ الْعَالَمُونَ وَلَا يَدِينُونَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ الْمُتَصَرِّفَةِ يُنَافِي وَحْدَانِيَّةَ التَّصَرُّفِ، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى إِثْبَاتَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُرِعَ سَمْعُهُ بِمَا لَمْ يَأْلَفْهُ مِنْ قَبْلُ لِاقْتِضَائِهِ إِثْبَاتَ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَانْتِفَاءَ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْآلِهَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الْمُجْتَبَى مِنَ الْآلِهَةِ لِيَكُونَ مَلِكَ مِصْرَ. فَهُوَ مُظْهِرُ الْآلِهَةِ الْأُخْرَى فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] . وَبِهَذَا الِانْتِسَابِ إِلَى الْآلِهَةِ وَتَمْثِيلِهِ إِرَادَتِهِمْ فِي الْأَرْضِ كَانَ فِرْعَوْنُ يُدْعَى إِلَهًا. وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا عَدَا أَنْفُسَهَا فَكَانُوا لَا يُفَكِّرُونَ فِي مُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَعَوَائِدِ الْبَشَرِ. وَلَا تَشْعُرُ كُلُّ أُمَّةٍ إِلَّا بِنَفْسِهَا وَخَصَائِصِهَا مِنْ آلِهَتِهَا وَمُلُوكِهَا فَكَانَ الْمَلِكُ لَا يُشِيعُ فِي أُمَّتِهِ غَيْرَ قُوَّتِهِ وَانْتِصَارِهِ عَلَى الثَّائِرِينَ، وَيُخَيِّلُ لِلنَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ مُنْحَصِرٌ فِي تِلْكَ الرُّقْعَةِ مِنَ الْأَرْضِ. فَلَا تَجِدُ فِي آثَارِ الْقِبْطِ

صُوَرًا لِلْأُمَمِ غَيْرَ صُوَرِ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَغْزُوهُمْ فِرْعَوْنُ وَيَأْتِي بِأَسْرَاهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ خَاضِعِينَ عَابِدِينَ حَتَّى يُخَيِّلَ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ أُولَئِكَ فَقَدْ كَانَ قَهَّارَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَيُخْفِي أَخْبَارَ انْكِسَارِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَهُ غَلَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أُمَّةٍ كُبْرَى بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ إِخْفَاءَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ أُسْلُوبُ التَّارِيخِ عِنْدَهُمْ وَتَنْتَحِلُ الدَّوْلَةُ الْجَدِيدَةُ أَسَالِيبَ الدَّوْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَتَنْسَى حَوَادِثَ الْمَاضِي وَتَغْلِبُ عَلَى مُخَيَّلَاتِهِمُ الْحَالَةُ الْحَاضِرَةُ، وَلِلدُّعَاةِ وَالْمُرَوِّجِينَ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ بَاعِثُ فِرْعَوْنَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَشُوبٌ بِتَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ. وَمِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنَّ الِاسْتِفْسَارَ مُقَدَّمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ فِرْعَوْنُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقِيقَةِ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانًا لِحَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا يَصِيرُ وَصْفُهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَأَتَى بِشَرْحِ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَعْنَاهُ، إِذْ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، فبذكر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَبِعُمُومِ مَا بَيْنَهُمَا حَصَلَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِ مَا وَمَرْجِعُ هَذَا الْبَيَانِ إِلَى أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِحَقِيقَةِ الرَّبِّ بِخَصَائِصِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَنْ يُعْرَفَ بِآثَارِ خَلْقِهِ، فَهُوَ تَعْرِيفٌ رَسْمِيٌّ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ. وَانْتَظَمَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ مَا عَنِ الْجِنْسِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَارُ السَّكَّاكِيِّ فِي قَانُونِ الطَّلَبِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ» ، وَطَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ. وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَرَّحَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» بِأَنَّ جَوَابَ مُوسَى بِمَا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ رَبُّ الْعالَمِينَ تَضَمَّنَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ثَبَاتِ الْخَالِقِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا نَظَرًا يُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَلِهَذَا أَتْبَعَ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، أَي إِن كُنْتُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيقَانِ طَالِبِينَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ مُكَابِرِينَ. وَسُمِّيَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إِيقَانًا لِأَنَّ شَأْنَ الْيَقِينِ

[سورة الشعراء (26) : آية 25]

بِأَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ الْإِلَهُ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي كُنْتُمْ مُوقِنِينَ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ حَاضِرِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، أَرَادَ مُوسَى تَشْرِيكَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ تَقَصِّيًا لِكَمَالِ الدَّعْوَةِ وَأَنَّ مُؤَاخَذَةَ الْقَائِلِ لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ اتِّضَاحِ مُرَادِهِ مِنْ مَقَالِهِ إِذْ لَا يُؤَاخذ بالمجملات. وَمِنْ هَذَا قَالَ سَحْنُونٌ فِيمَنْ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَسْتَلْزِمُ كُفْرًا: إِنَّهُ يُحْضَرُ وَيُوقَفُ عَلَى لَازِمِ قَوْلِهِ فَإِنْ فَهِمَهُ وَالْتَزَمَ مَا يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بعد ذَلِك. [25] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 25] قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) أَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنْ خِطَابِ مُوسَى وَاسْتَثَارَ نُفُوسَ الْمَلَأِ مِنْ حَوْلِهِ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِهِ فَاسْتَفْهَمَهُمُ اسْتِفْهَامَ تَعَجُّبٍ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَمِعُوا مَا قَالَهُ مُوسَى فَنَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْهُ تَهْيِيجًا لِنُفُوسِهِمْ كَيْ لَا تَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ حُجَّةُ مُوسَى، فَسَلَّطَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى نَفْيِ اسْتِمَاعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ وَسُكُوتِهِمْ يَقْتَضِي التَّعَجُّبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعَجُّبٍ آخَرَ. وَمَرْجِعُ التعَجُّبَيْنِ أَنَّ إِثْبَاتَ رَبٍّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْكَرٌ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا فَيَرَى تَوْحِيدَ الْإِلَهِ لَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وَلِكَوْنِ خِطَابِ فِرْعَوْنَ لِمَنْ حَوْلُهُ يَتَضَمَّنُ جَوَابًا عَنْ كَلَامِ مُوسَى حُكِيَ كَلَامُ فِرْعَوْنَ بِالصِّيغَةِ الَّتِي اعْتِيدَتْ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةُ الْمُقَاوَلَاتِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، كَأَنَّهُ يُجِيبُ مُوسَى عَن كَلَامه. [26] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 26] قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) كَلَامُ مُوسَى هَذَا فِي مَعْرِضِ الْجَواب عَن تعجب فِرْعَوْنَ مِنْ سُكُوتِ مَنْ حَوْلَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ حِكَايَتُهُ قَوْلَهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي تُحْكَى بِهَا الْمُقَاوَلَاتُ. وَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ إِعْرَاضٌ عَنْ مُخَاطَبَةِ مُوسَى إِذْ تَجَاوَزَهُ إِلَى مُخَاطَبَةِ مَنْ حَوْلَهُ، وَجَّهَ مُوسَى خِطَابَهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَإِذْ رَأَى مُوسَى أَنَّهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الِاقْتِنَاعِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ الْعَوَالِمَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ هُوَ أَوْسَعُ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ إِذْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ

[سورة الشعراء (26) : آية 27]

وَاحِدٌ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْفُسِهِمْ وَبِآبَائِهِمْ إِذْ أَوْجَدَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَدَمِ ثُمَّ أَعْدَمَ آبَاءَهُمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ أَحْوَالَ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ وَأَيْسَرُ اسْتِدْلَالًا عَلَى خَالِقِهِمْ، فَالِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ يَمْتَازُ بِالْعُمُومِ، وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي يَمْتَازُ بِالْقُرْبِ مِنَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقَلَاء توهموا السَّمَوَات قَدِيمَةً وَاجِبَةَ الْوُجُودِ، فَأَمَّا آبَاؤُهُمْ فَكَثِيرٌ مِنَ السَّامِعِينَ شَهِدُوا انْعِدَامَ كَثِيرٍ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِدَمَ الدَّالِّ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ. وَشَمِلَ عُمُومُ الْآبَاءَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ وَبِوَصْفِهِ بِالْأَوَّلِينَ بَعْضَ مَنْ يَزْعُمُونَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْآلِهَةِ مِثْلَ الْفَرَاعِنَةِ الْقُدَمَاءِ الْمُلَقَّبِينَ عِنْدَهُمْ بِأَبْنَاءِ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ مَعْدُودَةٌ فِي الْآلِهَةِ وَيُمَثِّلُهَا الصَّنَمُ «آمُونُ رَعْ» . وَالرَّبُّ: الْخَالِقُ وَالسَّيِّدُ بِمُوجب الخالقية. [27] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 27] قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) احْتَدَّ فِرْعَوْنُ لَمَّا ذَكَرَ مُوسَى مَا يَشْمَلُ آبَاءَهُ الْمُقَدَّسِينَ بِذِكْرٍ يُخْرِجُهُمْ مِنْ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مختل الْإِدْرَاك، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِخَالِقِيَّتِهِمْ وَخَالِقِيَّةِ آبَائِهِمْ عَبَثٌ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ يَرَوْنَ تَكْوِينَ الْآدَمِيِّ بِالتَّوَلُّدِ وَهُمْ لَا يَحْسَبُونَ التَّكْوِينَ الدَّالَّ عَلَى الْخَالِقِيَّةِ إِلَّا التَّكْوِينَ بِالطَّفْرَةِ دُونَ التَّدْرِيجِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَةَ لَا تَتَفَطَّنُ إِلَى دَقَائِقِهَا الْعُقُولُ السَّاذَجَةُ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ تَكْوِينَ الْفَرْخِ مِنَ الْبَيْضَةِ أَقَلَّ مِنْ تَكْوِينِ الرَّعْدِ، وَأَنَّ تَكْوِينَ دُودَةِ الْقَزِّ أَدَلُّ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ تَكْوِينِ الْآدَمِيَّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ زَعَمَ أَنَّ ادِّعَاءَ دَلَالَةِ تَكْوِينِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَدَلَالَةِ فَنَاءِ الْآبَاءِ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ رَبِّ الْأَبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ ضَرْبًا مِنَ الْجُنُونِ إِذْ هُوَ تَكْوِينٌ لَمْ يَشْهَدُوا دَقَائِقَهُ، وَالْمَعْرُوفُ الْمَأْلُوفُ وِلَادَةُ الْأَجِنَّةِ وَمَوْتُ الْأَمْوَاتِ. وَأَكَّدَ كَلَامَهُ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ حَالَةَ مُوسَى لَا تُؤْذِنُ بِجُنُونِهِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْمَجْنُونِ مُعَرَّضًا لِلشَّكِّ فَلِذَلِكَ أَكَّدَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِ مُوسَى مَا عَسَى أَنْ لَا يَعْلَمَهُ السَّامِعُونَ.

[سورة الشعراء (26) : آية 28]

وَقَصَدَ بِإِطْلَاقِ وَصْفِ الرَّسُولِ عَلَى مُوسَى التَّهَكُّمَ بِهِ بِقَرِينَةِ رَمْيِهِ بِالْجُنُونِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ. وَأَضَافَ الرَّسُولَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ رَبْئًا بِنَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْخِطَابِ، وَأَكَّدَ التَّهَكُّمَ وَالرَّبْءَ بِوَصْفِهِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْمَوْصُولِ وَصِلَتَهُ هُوَ مَضْمُونُ رَسُولَكُمُ فَكَانَ ذِكْرُهُ كَالتَّأْكِيدِ، وَتَنْصِيصًا عَلَى الْمَقْصُودِ لِزِيَادَةِ تَهْيِيجِ السَّامِعِينَ كَيْلَا يَتَأَثَّرُوا أَوْ يَتَأَثَّرَ بَعْضُهُمْ بِصِدْقِ مُوسَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ يَتَهَيَّأُ لِإِعْدَادِ الْعُدَّةِ لِمُقَاوَمَةِ مُوسَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّ لَهُ قَوْمًا فِي مِصْرَ رُبَّمَا يستنصر بهم. [28] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 28] قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) لَمَّا رَأَى مُوسَى سُوءَ فَهْمِهِمْ وَعَدَمَ اقْتِنَاعِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِالتَّكْوِينِ الْمُعْتَادِ إِذِ الْتَبَسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ الْمُعْتَادُ بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا صَانِعَ لَهُ انْتَقَلَ مُوسَى إِلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِجَحْدِهِ وَلَا الْتِبَاسِهِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ الْعَجِيبُ الْمُشَاهَدُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، كَمَا انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لَمَّا تَمَوَّهَ عَلَى النَّمْرُودِ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِيمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 258] فَكَانَتْ حُجَّةُ مُوسَى حُجَّةً خَلِيلِيَّةً. وَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا مَكَانُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَمَكَانُ غُرُوبِهَا فِي الْأُفُقِ، فَيَكُونُ تَحْرِيكًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِمَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْأُفُقِ مِنْ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِرَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ خَالِقَ ذَلِكَ النِّظَامِ الْيَوْمِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْمَصْدَرُ الْمِيمِيُّ، أَيْ رَبُّ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرَّبِّ الْخَالِقَ، أَيْ مُكَوِّنَ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا عَلَى

[سورة الشعراء (26) : آية 29]

هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَضَمِيرُ (بَيْنَهُمَا) لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، أَيْ مَا يَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا مَا بَيْنَ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ فَالضُّحَى وَالزَّوَالُ وَالْعَصْرُ وَالِاصْفِرَارُ، وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْغُرُوبِ وَالشُّرُوقِ فَالشَّفَقُ وَالْفَجْرُ وَالْإِسْفَارُ كُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى تَكْوِينِ ذَلِكَ النِّظَامِ الْعَجِيبِ الْمُتْقَنِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِرَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مَالِكُ الْجِهَتَيْنِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُفِيتُ مُنَاسَبَةَ الْكَلَامِ لِمَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَظِيمٍ وَلَا يُلَاقِي التَّذْيِيلَ الْوَاقِعَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. وَتَانِكَ الْجِهَتَانِ هُمَا مُنْتَهَى الْأَرْضِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: رَبُّ طَرَفَيِ الْأَرْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَرْضِ مِلْكًا لِلَّهِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عُرْفِيٌّ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ يَوْمَئِذٍ مَلِكًا يَمْلِكُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَا كَانَ مُلْكُ فِرْعَوْنَ الْمُؤَلَّهِ عِنْدَهُمْ إِلَّا لِبِلَادِ مِصْرَ وَالسُّودَانِ. وَالتَّذْيِيلُ بِجُمْلَةِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تَنْبِيهٌ لِنَظَرِهِمُ الْعَقْلِيِّ لِيُعَاوِدُوا النَّظَرَ فَيُدْرِكُوا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُعْمِلُونَ عُقُولَكُمْ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ جَعْلُ ذَلِكَ مُقَابِلَ قَوْلِ فِرْعَوْن: إِنْ رَسُولَكُمْ لَمَجْنُونٌ، لِأَنَّ الْجُنُونَ يُقَابِلُهُ الْعَقْلُ فَكَانَ مُوسَى يَقُولُ لَهُمْ قَوْلًا لَيِّنًا ابْتِدَاءً، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَوَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ خَاشَنَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَعَارَضَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاء: 27] فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْعُقَلَاءَ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا أَنْتُمُ الْمَجَانِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ لِلَّذَيْنِ قَالَا لَهُ: «لِمَ تَقُولُ مَا لَا يُفْهَمُ» قَالَ: «لِمَ لَا تَفْهَمَانِ مَا يُقَال» . [29] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 29] قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِرْعَوْنُ لِحِجَاجِهِ نَجَاحًا وَرَأَى شِدَّةَ شَكِيمَةِ مُوسَى فِي الْحَقِّ عَدَلَ عَنِ الْحِجَاجِ إِلَى التَّخْوِيفِ لِيَقْطَعَ دَعْوَةَ مُوسَى مِنْ أَصْلِهَا. وَهَذَا شَأْنُ مَنْ قَهَرَتْهُ الْحُجَّةُ، وَفِيهِ كِبْرِيَاءُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنِ الْجَدَلِ إِلَى التَّهْدِيدِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً مُوطِّئَةٌ لِلْقَسْمِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ فِرْعَوْنَ أَكَّدَ وَعِيدَهُ بِمَا يُسَاوِي الْيَمِينَ الْمُجْمَلَةَ الَّتِي تُؤْذِنُ بِهَا اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَأَنْ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 30 إلى 33]

يَكُونَ فِرْعَوْنُ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ بِالْأَيْمَانِ، أَوْ أُقْسِمُ. وَفِعْلُ اتَّخَذْتَ لِلِاسْتِمْرَارِ، أَيْ أَصْرَرْتَ عَلَى أَنَّ لَكَ إِلَهًا أَرْسَلَكَ وَأَنْ تَبْقَى جَاحِدًا لِلْإِلَهِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ مَعْدُودًا إِلَهًا لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ يُمَثِّلُ الْآلِهَةَ وَهُوَ الْقَائِمُ بِإِبْلَاغِ مُرَادِهَا فِي الْأُمَّةِ، فَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُمَّةِ. وَمَعْنَى: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ لَأَسْجُنُنَّكَ، فَسَلَكَ فِيهِ طَرِيقَةَ الْإِطْنَابِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمَقَامِ التَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى لَأَجْعَلَنَّكَ وَاحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ فِي سِجْنِي، فَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ مُوسَى بِهَوْلِ السَّجْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفِيدُ تَمَكُّنَ الْخَبَرِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَقَدْ كَانَ السِّجْنُ عِنْدَهُمْ قَطْعًا لِلْمَسْجُونِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِلَا نِهَايَةٍ، فَكَانَ لَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يُوسُف: 42] . [30- 33] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 30 إِلَى 33] قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) لَمَّا رَأَى مُوسَى مِنْ مُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ النَّظَرِ مَا لَا مَطْمَعَ مَعَهُ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ مُتَعَامٍ عَنِ الْحَقِّ عَدَلَ مُوسَى إِلَى إِظْهَارِ آيَةٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِيَسُدَّ عَلَيْهِ مَنَافِذَ ادِّعَاءِ عَدَمِ الرِّضَى بِهَا. وَاسْتَفْهَمَهُ اسْتِفْهَامًا مَشُوبًا بِإِنْكَارٍ وَاسْتِغْرَابٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ اجْتِزَاءِ فِرْعَوْنَ بِالشَّيْءِ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُ سَاجِنُهُ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِإِلَهِيَّةِ فِرْعَوْنَ، قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِ مِنْ قَبْلِ الْوُقُوعِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَوْ الْوَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ لَفَرْضِ حَالَةٍ خَاصَّةٍ. فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ وَاوُ الْحَالِ، وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِالْهَمْزَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَلَامَ جَوَابُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاء: 29] والتَّقْدِيرُ: أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ وَالْحَالُ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، إِذِ الْقَصْدُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا شَرْطُ لَوْ بِأَنَّهَا أَوْلَى الْحَالَاتِ بِأَنْ لَا يَثْبُتَ مَعَهَا

الْغَرَضُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا وَهُوَ غَرَضُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ حَقِيقِيٌّ. وَلَيْسَتِ الْوَاوُ مُؤَخَّرَةً عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ بَلْ هِيَ لِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ وَصَاحِبُ الْحَالِ مُقَدَّرَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْله: لَأَجْعَلَنَّكَ [الشُّعَرَاء: 29] ، أَيْ أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ. وَوَصْفُ «شَيْءٍ» بِ مُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُظْهِرٍ أَنِّي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. وَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْتِزَامِ الِاعْتِرَاف بِمَا سيجيئ بِهِ مُوسَى فَجَاءَ بِكَلَامٍ مُحْتَمَلٍ إِذْ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فَرْضَ صِدْقِ مُوسَى فَرْضٌ ضَعِيفٌ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي شَرْطِ إِنْ مَعَ إِيهَامِ أَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يُعْتَبَرُ صَادِقًا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَبَقِيَ تَحْقِيقُ أَنَّ مَا سَيَجِيءُ بِهِ مُوسَى مُبِينٌ أَوْ غَيْرُ مُبِينٍ. وَهَذَا قَدِ اسْتَبْقَاهُ كَلَامُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَا بَعْدِ الْوُقُوعِ وَالنُّزُولِ لِيَتَأَتَّى إِنْكَارُهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَالثُّعْبَانُ: الْحَيَّةُ الضَّخْمَةُ الطَّوِيلَةُ. وَوَصْفُ ثُعْبانٌ بِأَنَّهُ مُبِينٌ الَّذِي هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي بِمَعْنَى بَانَ بِمَعْنَى ظَهَرَ، فَ مُبِينٌ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ الظُّهُورِ مِنْ أَجْلِ أَنْ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، أَيْ ثُعْبَانٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ ثُعْبَانٌ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا تَخْيِيلَ. وَبِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ مُبِينٌ الْأَوَّلِ ومُبِينٌ الثَّانِي اخْتَلَفَتِ الْفَاصِلَتَانِ مَعْنًى فَكَانَتَا مِنْ قَبِيلِ الْجِنَاسِ وَلَمْ تَكُونَا مِمَّا يُسَمَّى مِثْلُهُ إِيطَاءً. وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالنَّزْعُ: سَلُّ شَيْءٍ مِمَّا يُحِيطُ بِهِ، وَمِنْهُ نَزْعُ اللِّبَاسِ، وَنَزْعُ الدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ. وَنَزْعُ الْيَدِ: إِخْرَاجُهَا مِنَ الْقَمِيصِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْمَنْزُوعِ مِنْهُ لِظُهُورِهِ، أَيْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 34 إلى 35]

وَدَلَّتْ (إِذَا) الْمُفَاجِئَةُ عَلَى سُرْعَةِ انْقِلَابِ لَوْنِ يَدِهِ بَيَاضًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاظِرِينَ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامَ الَّتِي يُسَمِّيهَا ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ لَامَ التَّعْدِيَةِ، أَيِ اتِّصَالِ مُتَعَلِّقِهَا بِمَجْرُورِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَيَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [108] وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. وَمَعْنَى: لِلنَّاظِرِينَ أَنَّ بَيَاضَهَا مِمَّا يَقْصِدُهُ النَّاظِرُونَ لِأُعْجُوبَتِهِ، وَكَانَ لَوْنُ جِلْدِ مُوسَى السُّمْرَةَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي لِلنَّاظِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاظِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ بَيَاضَهَا كَانَ وَاضِحًا بَيِّنًا مُخَالِفًا لَوْنَ جِلْدِهِ بِصُورَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ لون البرص. [34، 35] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 34 إِلَى 35] قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، سِوَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةً بِسِحْرِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ فِرْعَوْنَ لِلْمَلَأِ، وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [109] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَهُ لِمَنْ حَوْلَهُ فَأَعَادُوهُ بِلَفْظِهِ لِلْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِ: نَعَمْ، بَلْ أَعَادُوا كَلَامَ فِرْعَوْنَ لِيَكَونَ قَوْلُهُمْ عَلَى تَمَامِ قَوْلِهِ. وَانْتَصَبَ حَوْلَهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالظَّرْفُ هُنَا مُسْتَقِرٌّ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَلَأِ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ إِشَارَتِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: تَأْمُرُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [110] . [36، 37] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 36 إِلَى 37] قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ سِوَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَابْعَثْ بدل وَأَرْسِلْ [الْأَعْرَاف: 111] وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سَحَّارٍ وهنالك ساحِرٍ [الْأَعْرَاف: 112]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 إلى 40]

وَالسَّحَّارُ مُرَادِفٌ لِلسَّاحِرِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ هُنَا لِلنَّسَبِ دَلَالَةً عَلَى الصِّنَاعَةِ مثل النجّار والقصّار وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ هُنَا وَهُنَاكَ بِوَصْفِ عَلِيمٍ، أَيْ قَوِيِّ الْعلم بِالسحرِ. [38- 40] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 38 إِلَى 40] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ جَمْعَ السَّحَرَةِ وَقَعَ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ عَقِبَ بَعْثِ الْحَاشِرِينَ حِرْصًا مِنَ الْحَاشِرِينَ وَالْمَحْشُورِينَ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ فِرْعَوْنَ. وَبُنِيَ «جُمِعَ- وَقِيلَ» لِلنَّائِبِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ جَامِعِينَ وَقَائِلِينَ، أَيْ جَمَعَ مَنْ يَجْمَعُ، وَقَالَ الْقَائِلُونَ. وَاللَّامُ فِي لِمِيقاتِ بِمَعْنَى (عِنْدَ) كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] . وَالْيَوْمُ: هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ وَهُوَ يَوْمُ وَفَاءِ النِّيلِ. وَالْوَقْتُ هُوَ الضُّحَى كَمَا فِي سُورَةِ طه. وَالْمِيقَاتُ: الْوَقْتُ، وَأَصْلُهُ اسْمُ آلَةِ التَّوْقِيتِ. سُمِّيَ بِهِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْآلَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي لِلنَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، وَهُمْ نَاسُ بَلْدَةِ فِرْعَوْنَ (مَنْفِيسَ) أَوْ (طِيبَةَ) . وهَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ اسْتِحْثَاثٌ لِلنَّاسِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْإِسْرَاعِ بِالِاجْتِمَاعِ بِحَيْثُ نَزَلُوا مْنِزِلَةَ مَنْ يَسْأَلُ سُؤَالَ تَحْقِيقٍ عَنْ عَزْمِهِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [91] ، وَقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا ... أَوْ عبد ربّ أخاعون بْنِ مِخْرَاقِ (¬1) ¬

(¬1) دِينَار: اسْم رجل وَلَيْسَ المُرَاد المسكوك من الذَّهَب، وَإِلَّا لقَالَ: بِدِينَار رجل أَيْضا، وَعبد رب بِالنّصب عطف على مَحل (دِينَار) لِأَنَّهُ مفعول (باعث) أضيف إِلَيْهِ عَامله، وأخا عون منادى.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 41 إلى 42]

يُرِيدُ ابْعَثْ إِلَيْنَا دِينَارًا أَوْ عَبْدَ رَبٍّ سَرِيعًا لِأَجْلِ حَاجَتِنَا بِأَحَدِهِمَا. وَرَجَوُا اتِّبَاعَ السَّحَرَةِ، أَيِ اتِّبَاعَ مَا يُؤَيِّدُهُ سِحْرُ السَّحَرَةِ وَهُوَ إِبْطَالُ دِينِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَكَانَ قَوْلُهُمْ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ كِنَايَةً عَنْ رَجَاءِ تَأْيِيدِهِمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَةِ مُوسَى فَلَا يَتَّبِعُونَهُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَصِيرَ السَّحَرَةُ أَيِمَّةً لَهُمْ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الْمُتَّبَعُ. وَقَدْ جِيءَ فِي شَرْطِ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَكٌّ فِي أَنَّ السَّحَرَةَ غَالِبُونَ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْرُورِينَ بِهَوَاهُمُ، الْعُمْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي تَقَلُّبَاتِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ لَا يَفْرِضُونَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ إِلَّا مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَلَا يَأْخُذُونَ الْعُدَّةَ لاحْتِمَال نقيضه. [41، 42] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 41 إِلَى 42] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: وَجاءَ السَّحَرَةُ [الْأَعْرَاف: 113] وَبِطَرْحِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِذْ قَالَ هُنَاكَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الْأَعْرَاف: 113] ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ فِي حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ عِنْدَ إِعَادَتِهَا لِئَلَّا تُعَادَ كَمَا هِيَ، وَبِدُونِ كَلِمَةِ إِذاً، فَحَكَى هُنَا مَا فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى جَزَاءِ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [الْأَعْرَاف: 113] زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ حَرْفُ (نَعَمْ) مِنْ تَقْرِيرِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَنِ الْأَجْرِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ كُنْتُمْ غَالِبِينَ إِذًا إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَهَذَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ هُنَا. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الْمَعَادُ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَسُؤَالُهُمْ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ إِدْلَالٌ بِخِبْرَتِهِمْ وَبِالْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ إِذْ عَلِمُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ شَدِيدُ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا غَالِبِينَ وَخَافُوا أَنْ يُسَخِّرَهُمْ فِرْعَوْنُ بِدُونِ أَجْرٍ فَشَرَطُوا أَجْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ليقيدوه بوعده. [43، 44] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 43 إِلَى 44] قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) حُكِيَ كَلَامُ مُوسَى فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ بِإِعَادَةِ فِعْلِ قالَ مَفْصُولًا بِطَرِيقَةِ حِكَايَةِ

الْمُحَاوَرَاتِ لِأَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ بِالْمُحَاوَرَةِ إِذْ هُمْ حَضَرُوا لِأَجْلِهِ. وَوَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [115] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا، وَاخْتُصِرَ هُنَا تَخْيِيرُهُمْ مُوسَى فِي الِابْتِدَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، فَقَوْلُ مُوسَى لَهُمْ أَلْقُوا الْمَحْكِيُّ هُنَا هُوَ أَمْرٌ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْإِلْقَاءِ لِتَعَقُّبِهِ إِبْطَالَ سِحْرِهِمْ بِمَا سَيُلْقِيهِ مُوسَى، كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْجَدَلِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ لِلْمُلْحِدِ: قَرِّرْ شُبْهَتَكَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْحَضَهَا لَهُ. وَهَذَا عَضُدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَوَاقِفِ» يَذْكُرُ شُبَهَ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ قَبْلَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ النَّاقِضَةِ لَهَا. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ آنِفًا. وَذُكِرَ هُنَا مَفْعُولُ أَلْقُوا وَاخْتُصِرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِخْفَافٌ بِمَا سَيُلْقُونَهُ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَة الْعُمُومِ، أَيْ مَا تَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فِي السِّحْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه. وَقُرِنَتْ حِكَايَة قَول السَّحَرَة بِالْوَاوِ خِلَافًا لِلْحِكَايَاتِ الَّتِي سَبَقَتْهَا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمُحَاوَرَةُ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ ابْتَدَءُوا بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي السِّحْرِ اسْتِعَانَةً وَتَيَمُّنًا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ كَالْبَاءِ فِي «بِسْمِ اللَّهِ» أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِقُدْرَةِ فِرْعَوْنَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ: أَقْسَمُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ ثِقَةً مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِ ضَلَالِهِمْ أَنَّ إِرَادَةَ فِرْعَوْنَ لَا يَغْلِبُهَا أَحَدٌ لِأَنَّهَا إِرَادَةُ آلِهَتِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي نَحَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَاهُ تُفِيدَانِ فَائِدَتَيْنِ. وَالْعِزَّةُ: الْقُدْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [206] . وَجُمْلَةُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ عَنْ قَوْلِهِمْ: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ: كَأَنَّ السَّامِعَ وَهُوَ مُوسَى أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا يُؤَثِّرُ قَوْلُهُمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نَفْسِ مُوسَى لِيَكُونَ مَا سَيُلْقِيهِ فِي نَوْبَتِهِ عَنْ خَوَرِ نَفْسٍ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَزِيمَةَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ نَجَاحِ السِّحْرِ وَتَأْثِيرِهِ عَلَى النَّاظِرِينَ. وَقَدْ أَفَادَتْ جُمْلَةُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ مُفَادَ الْقسم.

[سورة الشعراء (26) : آية 45]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 45] فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَة طه. [46- 49] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 46 إِلَى 49] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَصَدَ فِرْعَوْنُ إِرْهَابَهُمْ بِهَذَا الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَنَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَنَظِيرُ آخِرِهَا تَقَدَّمَ فِيهَا وَفِي سُورَةِ طه. وَهُنَالِكَ ذَكَرْنَا عَدَدَ السَّحَرَةِ وَكَيْفَ آمَنُوا. وَاللَّامُ فِي فَلَسَوْفَ لَام الْقسم. [50، 51] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 50 إِلَى 51] قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) الضَّيْرُ: مُرَادِفُ الضُّرِّ، يُقَالُ: ضَارَهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ يَضِيرُهُ، وَمَعْنَى لَا ضَيْرَ لَا يَضُرُّنَا وَعِيدُكَ. وَمَعْنَى نَفْيِ ضُرِّهِ هُنَا: أَنَّهُ ضُرُّ لَحْظَةٍ يَحْصُلُ عَقِبَهُ النَّعِيمُ الدَّائِمُ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَعَقَّبَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي النَّفْيِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهَا قرينَة. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ الضَّيْرِ، وَهِيَ الْقَرِينَةُ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ النَّفْيِ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَالطَّمَعُ: يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَعُرِفَ بِطَلَبِ مَا فِيهِ

[سورة الشعراء (26) : آية 52]

عُسْرٌ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ كَمَا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: 82] ، فَهَذَا الْإِطْلَاقُ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ الطَّمَعَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى رُسُوخِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّه ووعده. [52] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 52] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) هَذِهِ قَصَّةٌ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُوسَى فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ، فَالْوَاوُ لِعَطْفِ الْقِصَّةِ وَلَا تُفِيدُ قُرْبَ الْقِصَّةِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَقَدْ لَبِثَ مُوسَى زَمَنًا يُطَالِبُ فِرْعَوْنَ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَخْرُجُوا مِنْ مِصْرَ، وَفِرْعَوْنُ يُمَاطِلُ فِي ذَلِكَ حَتَّى رَأَى الْآيَاتِ التِّسْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَنَظِيرُ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. وَزَادَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، أَيْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّ فِرْعَوْنَ سَيَتْبَعُهُمْ بِجُنْدِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ طَه. وَالْقَصْدُ مِنْ إِعْلَامِهِ بِذَلِكَ تَشْجِيعُهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَسْرِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فِعْلَ أَمْرٍ مِنْ (سَرَى) وَبِكَسْرِ نُونِ أَنْ. لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ نُونِ (أَنْ) وَفِعْلَا سَرَى وَأَسْرَى مُتَّحِدَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الْإِسْرَاء: 1] . [53- 56] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 53 إِلَى 56] فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى [الشُّعَرَاء: 52] وَأَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَأَسْرَى مُوسَى وَخَرَجَ بِهِمْ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حَاشِرِينَ، أَيْ لَمَّا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَنْتَشِرُوا فِي مَدَائِنِ مِصْرَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ شُرَطًا يَحْشُرُونَ النَّاسَ لِيَلْحَقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَاعِدَةِ الْمُلْكِ. والْمَدائِنِ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، أَيِ الْبَلَدُ الْعَظِيمُ. وَمَدَائِنُ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ يَوْمَئِذٍ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا (مَانُوفِرَى أَوْ مَنْفِيسُ) هِيَ الْيَوْمَ مَيِتْ رَهِينَةٍ بِالْجِيزَةِ وَ (تِيبَةُ أَوْ طِيبَةُ) هِيَ

بِالْأُقْصُرِ وَ (أَبُودُو) وَتُسَمَّى الْيَوْمَ الْعَرَابَةَ الْمَدْفُونَةَ، وَ (أَبُو) وَهِيَ (بُو) وَهِيَ إِدْنُو، وَ (أَوْنُ رَمِيسَي) ، وَ (أَرْمِنْتُ) وَ (سَنَى) وَهِيَ أَسَنَاءُ وَ (سَاوَرَتْ) وَهِيَ السِّيُوطُ، وَ (خَمُونُو) وَهِيَ الْأَشْمُونِيِّينَ، وَ (بَامَازِيتُ) وَهِيَ الْبَهْنَسَا، وَ (خِسْوُو) وَهِيَ سَخَا، وَ (كَارِيَينَا) وَهِيَ سَدُّ أَبِي قَيْرَةَ، وَ (سُودُو) وَهِيَ الْفَيُّومُ، وَ (كُويتي) وَهِيَ قِفْطُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَدائِنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ فِي مَدَائِنِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْمَدَائِنُ الَّتِي لِحُكْمِ فِرْعَوْنَ أَوِ الْمَظْنُونُ وُقُوعُهَا قُرْبَ طَرِيقِهِمْ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ أَيْنَ اتَّجَهَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ يَظُنُّ مُرُورَهُمْ بِهِ. وَكَانَ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُمْ تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشَّامِ، أَوْ صَوْبَ الصَّحْرَاءِ الْغَرْبِيَّةِ، وَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنهم يقصدون شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ بَحْرِ «الْقُلْزُمِ» وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يُسَمَّى بَحْرَ «سُوفَ» . وَجُمْلَةُ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ حاشِرِينَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّدَاءِ، أَيْ يَقُولُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ لِأَنَّ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ شَاعَ فِي أَقْطَارِ مِصْرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ جَمْعِ السَّحَرَةِ وَبَيْنَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ لِلسَّحَرَةِ خَاصَّةً إِذْ لَا يَلْتَئِمُ ذَلِكَ مَعَ الْقِصَّةِ. وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرٍ لِشَأْنِهِمْ أَكَّدَهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَالشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ النَّاسِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَإِتْبَاعُهُ بِوَصْفِ قَلِيلُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ اسْتِعْمَالِهَا فِي تَحْقِيرِ الشَّأْنِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُنُودِ فِرْعَوْنَ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خَرَجُوا سِتَّمِائَةَ أَلْفٍ، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ. وقَلِيلُونَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى لِمَدْلُولِ هؤُلاءِ وَلَيْسَ وَصْفًا لِشِرْذِمَةٍ وَلَكِنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهَا، وَلِهَذَا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ السَّلَامَةِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ.

وَ (قَلِيلٌ) إِذَا وُصِفَ بِهِ يَجُوزُ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا هُنَا، وَيَجُوزُ مُلَازَمَتُهُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا قَالَ السموأل أَوِ الْحَارِثِيُّ: وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ ... الْبَيْتَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ (كَثِيرٌ) وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال: 43] . وَ «غَائِظُونَ» اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ غَاظَهُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَغَاظَهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا غَيْظٍ. وَالْغَيْظُ: أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي آلِ عِمْرَانَ [119] ، وَقَوْلِهِ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [15] ، أَيْ وَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ مَا يُغْضِبُنَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَنا لَامُ التَّقْوِيَةِ وَاللَّامُ فِي لَغائِظُونَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَتَقْدِيمُ لَنا عَلَى لَغائِظُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ حَثٌّ لِأَهْلِ الْمَدَائِنِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا حَذِرِينَ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَجَمِيعٌ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سِيَاسَةِ الْمَمْلَكَةِ، أَيْ إِنَّا كلّنا حذرون، فَجَمِيع وَقَعَ مُبْتَدأ وَخَبره حاذِرُونَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَ (جَمِيعٌ) بِمَعْنَى: (كُلٍّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي سُورَة يُونُس [4] . وحاذِرُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ حَذِرٍ وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهٍ والمحققين. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَخَلَفٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ جَمْعُ (حَاذِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَذَرَ مِنْ شِيمَتِهِ وَعَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ إِنَّا مِنْ عَادَتِنَا التَّيَقُّظُ لِلْحَوَادِثِ وَالْحَذَرُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهَا من سيّىء الْعَوَاقِبِ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ السِّيَاسَةِ وَهُوَ سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ وَلَوْ كَانَ احْتِمَالُ إِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ ضَعِيفًا، فَالذَّرَائِعُ الْمُلْغَاةُ فِي التَّشْرِيعِ فِي حُقُوقِ الْخُصُوصِ غَيْرُ مُلْغَاةٍ فِي سِيَاسَةِ الْعُمُومِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ: إِنَّ نَظَرَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْقُضَاةِ، فَالْحَذَرُ أَوْسَعُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ وَهُوَ الْخَوْفُ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 57 إلى 60]

مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ ضَارٍّ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَالتَّرَصُّدُ لِمَنْعِ وُقُوعِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ فِي بَرَاءَةٌ [64] . وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ هُوَ الْخَوْفُ مِنَ الضَّارِّ عِنْدَ احْتِمَالِ حُدُوثِهِ دُونَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ فَالْحَذَرُ مِنْهُ ضَرْبٌ مِنَ الْهَوَسِ. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُورُ هُوَ الِاغْتِرَارَ بِإِيمَانِ السَّحَرَةِ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقِ مُوسَى وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ وَقَعَ فَلَا يُحْذَرُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ السَّعْيُ فِي الانتقام مِنْهُم. [57- 60] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 57 إِلَى 60] فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) إِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: 53] لَزِمَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْناهُمْ لِتَفْرِيعِ الْخُرُوجِ عَلَى إِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ، أَيْ ابْتَدَأَ بِإِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ، فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ إِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ وَبَين وُصُول الأنباء مِنْ أَطْرَافِ الْمَمْلَكَةِ بِتَعْيِينِ طَرِيقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَا يَخْرُجُ فِرْعَوْنُ بِجُنْدِهِ عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ بِطَرِيقِهِمْ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: 52] . وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ [الشُّعَرَاء: 53] وَلَا أَخَالُكَ إِلَّا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ لِاخْتِيَارِ ذَلِكَ، فَلْتَجْعَلِ الْفَاءَ فِي فَأَخْرَجْناهُمْ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: 52] . وَالتَّقْدِيرُ: فَأَسْرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْرَجْنَا فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ فِي طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعُوا بَنِي إِسْرَائِيل. وَضمير: فَأَخْرَجْناهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَخْرَجْنَا فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ. وَالْجَنَّاتُ: جَنَّاتُ النَّخِيلِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى ضِفَافِ النِّيلِ. وَالْعُيُونُ: مَنَابِعُ تُحْفَرُ عَلَى خِلْجَانِ النِّيلِ. وَالْكُنُوزُ: الْأَمْوَالُ الْمُدَّخَرَةُ. وَالْمَقَامُ: أَصْلُهُ مَحَلُّ الْقِيَامِ أَوْ مَصْدَرُ قَامَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: مَسَاكِنُ كَرِيمَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: قِيَامُهُمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ. وَذَلِكَ مَا

كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْنِ وَالثَّرْوَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ تَرَكَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْهُ لِمُطَارَدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَرَكُوا. كَذلِكَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [91] . فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ. وَجُمْلَةُ: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ مُعْتَرِضَةٌ أَيْضًا وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عَطْفًا لِأَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِمَا سَتَعْلَمُهُ. وَالْإِيرَاثُ: جَعْلُ أَحَدٍ وَارِثًا. وَأَصْلُهُ إِعْطَاءُ مَالِ الْمَيِّتِ وَيُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ مَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ الْمُعْطَى (بِفَتْحِ الطَّاءِ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَاف: 137] ، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ الشَّامِ، وَقَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْزَأَ أَعْدَاءَ مُوسَى مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ إِذْ أَهْلَكَهُمْ وَأَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرَاتٍ مِثْلَهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا كَانَ بِيَدِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَارَقُوا أَرْضَ مِصْرَ حِينَئِذٍ وَمَا رَجَعُوا إِلَيْهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [28] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. وَلَا صِحَّةَ لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ قِصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا فَمَلَكُوا مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمْلِكُوا مِصْرَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا سَائِرَ الدَّهْرِ فَلَا مَحِيصَ مِنْ صَرْفِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى تَأْوِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّارِيخُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. فَضَمِيرُ أَوْرَثْناها هُنَا عَائِدٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ جَنَّاتٍ وَعُيُونًا وَكُنُوزًا، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ هُنَا إِلَى لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ وَأَقْوَى مِنْهُ، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ أَشْيَاءَ مَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ لِلْكَنْعَانِيِّينَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ. وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ [النِّسَاء: 176] ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْءَ الَّذِي هَلَكَ يَرِثُ أُخْتَهُ الَّتِي لَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ بَلِ الْمُرَادُ: وَالْمَرْءُ يَرِثُ أُخْتًا لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ نَصْبُ الضَّمِيرِ لِفِعْلِ «أَوْرَثْنَا» عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ أَوْرَثْنَا أَمْثَالَهَا. وَقِيلَ ضَمِيرُ: أَوْرَثْناها عَائِدٌ إِلَى خُصُوصِ الْكُنُوزِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعَارُوا لَيْلَةَ خُرُوجِهِمْ مِنْ جِيرَانِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ مَصُوغَهُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَخَرَجُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. وَيَجُوزُ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَوْرَثْناها حِكَايَةً لِكَلَامٍ مِنَ اللَّهِ مُعْتَرِضٍ بَيْنَ كَلَامِ فِرْعَوْنَ. وَضَمِيرُ فَأَخْرَجْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمَدائِنِ [الشُّعَرَاء: 53] ، أَيْ فَأَخْرَجْنَا أَهْلَ الْمَدَائِنِ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ أَوْرَثْناها. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْرَثْنَاهَا غَيْرَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَنِي إِسْرائِيلَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ [الشُّعَرَاء: 54] سَلَكَ بِهِ طَرِيقَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ الْبَيَانِ لِيَقَعَ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ أَمْكَنَ وَقْعٍ. وَجُمْلَةُ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَأَخْرَجْناهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ فَأَتْبَعُوهُمْ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْناهُمْ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى بِعِبادِي [الشُّعَرَاء: 52] مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي [الشُّعَرَاء: 52] . وفَأَتْبَعُوهُمْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ التَّاءِ بِمَعْنَى تَبِعَ، أَيْ فَلَحِقُوهُمْ. ومُشْرِقِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ قَاصِدِينَ جِهَةَ الشَّرْقِ يُقَالُ: أَشْرَقَ، إِذَا دَخَلَ فِي أَرْضِ الشَّرْقِ، كَمَا يُقَالُ: أَنْجَدَ وَأَتْهَمَ وَأَعْرَقَ وَأَشْأَمَ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشَّرْقِ وَهُوَ صَوْبُ بَحْرِ (الْقُلْزُمِ) وَهُوَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ وَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ بَحْرُ سُوفٍ وَهُوَ شَرْقِيُّ مِصْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ، أَيْ أَدْرَكُوهُمْ عِنْدَ شُرُوقٍ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا لَيْلَةً أَوْ لَيَالِيَ مَشْيًا فَمَا بَصُرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ إِلَّا عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ بَعْدَ لَيَالِي السَّفَرِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 61 إلى 66]

[61- 66] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 61 الى 66] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) أَيْ لَمَّا بَلَغَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَانِ جُمُوعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْفَرِيقَ الْآخَرَ. فَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ لِأَنَّهُ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بِالتَّأْكِيدِ لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَزَعِ. وكَلَّا رَدْعٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [79] كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ رَدَعَ بِهِ مُوسَى ظَنَّهُمْ أَنَّهُمْ يُدْرِكُهُمْ فِرْعَوْنُ، وَعَلَّلَ رَدْعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ. وَإِسْنَادُ الْمَعِيَّةِ إِلَى الرَّبِّ فِي إِنَّ مَعِي رَبِّي عَلَى مَعْنَى مُصَاحَبَةِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَقْدِيرِ أَسْبَابِ نَجَاتِهِ مِنْ عَدُوِّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى وَاثِقٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء: 15] ، وَقَوْلِهِ: أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: 52] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ وَعْدٌ بِضَمَانِ النَّجَاةِ. وَجُمْلَةُ: سَيَهْدِينِ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ رَبِّي. وَلَا يَضُرُّ وُجُودُ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الْحَالَ مُقَدَّرَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَيُبَيِّنُ لِي سَبِيلَ سَلَامَتِنَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ. وَاقْتَصَرَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ مِنْ مَعِيَّةِ الْعِنَايَةِ فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ هِدَايَتَهُ تَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ قَائِدُهُمْ وَالْمُرْسَلُ لِفَائِدَتِهِمْ. وَوَجْهُ اقْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّ طَرِيقَ نَجَاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِعْلٍ يَقْطَعُ دَابِرَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الْفِعْلُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ. وَهَذَا وَجْهُ اخْتِلَافِ الْمَعِيَّةِ بَيْنَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: 40] لِأَنَّ تِلْكَ مَعِيَّةُ حِفْظِهِمَا كِلَيْهِمَا بِصَرْفِ أَعْيُنِ الْأَعْدَاءِ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 67 إلى 68]

أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ وَانْفَلَقَ الْبَحْرُ طُرُقًا مَرَّتْ مِنْهَا أَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاقْتَحَمَ فِرْعَوْنُ الْبَحْرَ فَمُدَّ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ حِينَ تَوَسَّطُوهُ فَغَرِقَ جَمِيعُهُمْ. وَالْفِرْقُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: الْجُزْءُ الْمَفْرُوقُ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ الْفَلَقِ. وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ. وأَزْلَفْنا قَرَّبْنَا وَأَدْنَيْنَا، مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْقُرْبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِعْلَهُ كَفَرِحَ. وَيُقَالُ: ازْدَلَفْ: اقْتَرَبَ، وَتَزَلَّفَ: تَقَرَّبَ، فَهَمْزَةُ أَزْلَفْنا لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَرَّأَهُمْ حَتَّى أَرَادُوا اقْتِحَامَ طُرُقِ الْبَحْرِ كَمَا رَأَوْا فِعْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَاءٌ غَيْرُ عَمِيقٍ. وَالْآخَرُونَ: هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ فَرِيقِ بني إِسْرَائِيل. [67، 68] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 67 إِلَى 68] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى. وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ آيَةً لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِانْقِلَابَ الْعَظِيمَ فِي أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ الْخَارِجَ عَنْ مُعْتَادِ تَقَلُّبَاتِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ إِلَهِيٌّ خَاصٌّ أَيَّدَ بِهِ رَسُولَهُ وَأُمَّتَهُ وَخَضَّدَ بِهِ شَوْكَةَ أَعْدَائِهِمْ وَمَنْ كَفَرُوا بِهِ، فَهُوَ آيَةٌ عَلَى عَوَاقِبِ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ مَعَ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْقِصَّةُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ. وَوَجْهُ تَذْيِيلِ كُلِّ اسْتِدْلَالٍ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِجُمْلَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ هَذِه السُّورَة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 77]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 69 إِلَى 77] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) عُقِّبَتْ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَومه بِقصَّة رِسَالَة إِبْرَاهِيمَ. وَقُدِّمَتْ هُنَا عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي تَرْتِيبِ قِصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ لِشِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ. وَفِي تَمَسُّكِهِمْ بِضَلَالِ آبَائِهِمْ وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ دَعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْحِطَاطِ الْأَصْنَامِ عَنْ مَرْتَبَةِ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ إِيمَانُ النَّاسِ مُسْتَنِدًا لِدَلِيلِ الْفِطْرَةِ، وَفِي أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا مِثْلُ مَا سُلِّطَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَهْلِ مَدْيَنَ فَأَشْبَهُوا قُرَيْشًا فِي إِمْهَالِهِمْ. فَرِسَالَةُ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا قَائِمَتَانِ عَلَى دِعَامَةِ الْفِطْرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ، أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّشْرِيعِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الْفِطْرَةَ لِيُضَيِّعَهَا وَيُهْمِلَهَا بَلْ لِيُقِيمَهَا وَيُعْمِلَهَا. فَلَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِلْمُشْرِكِينَ لِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْآيَاتُ كَمَا أُوتِيَ مُوسَى، فَإِنَّ آيَاتِ مُوسَى وَهِيَ أَكْثَرُ آيَاتِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ لَمْ تَقْضِ شَيْئًا فِي إِيمَانِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَمَّا كَانَ خُلُقُهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَالْعِنَادَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ الْمُمَاثِلَةِ لِدَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِعْمَالِ دَلِيلِ النَّظَرِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] . وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ فِي الْبَقَرَةِ [102] . ونَبَأَ إِبْراهِيمَ: قِصَّتُهُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، أَيِ اقْرَأْ عَلَيْهِمْ مَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْآنَ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ. وَإِنَّمَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَتِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ آيَةٌ مُعْجِزَةٌ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ

كَأَصْنَامِ الْعَرَبِ آيَةٌ أَيْضًا. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ آيَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ فِي الْبَقَرَةِ [124] . وإِذْ قالَ ظَرْفٌ، أَيْ حِينَ قَالَ. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلنَّبَأِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ قِصَّةٍ مَضَتْ فَنَاسَبَ أَنْ تُبَيَّنَ بِاسْمِ زَمَانٍ مُضَافٍ إِلَى مَا يُفِيدُ الْقِصَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [71] . وَمَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُسْأَلُ بِهِ عَنْ تَعْيِينِ الْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [23] . وَالِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ افْتِتَاحَ الْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ لِيَكُونُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِشَرْحِ حَقِيقَةِ عِبَادَتِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَتَلُوحُ لَهُمْ مِنْ خِلَالِ شَرْحِ ذَلِكَ لَوَائِحُ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَصَدَّى لِشَرْحِ الْبَاطِلِ يُشْعِرُ بِمَا فِيهِ مِنْ بُطْلَانٍ عِنْدَ نَظْمِ مَعَانِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُشْعِرُ بِذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ جَوَابَهُمْ يَنْشَأُ عَنْهُ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمْ وَقَدْ أَجَابُوا اسْتِفْهَامَهُ بِتَعْيِينِ نَوْعِ مَعْبُودَاتِهِمْ. وَأَدْخَلَ أَبَاهُ فِي إِلْقَاءِ السُّؤَالِ عَلَيْهِمْ: إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ إِذْ كَانَ سَادِنَ بَيْتِ الْأَصْنَامِ كَمَا رُوِيَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَلَى انْفِرَادٍ وَسَأَلَ قَوْمَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَجَمَعَتِ الْآيَةُ حِكَايَةَ ذَلِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْتَدَأَ بِمُحَاجَّةِ أَبِيه فِي خاصتهما ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُحَاجَّةُ الْأُولَى فِي مَلَأِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ أَلْقَى فِيهَا دَعْوَتَهُ فِي صُورَةِ سُؤَالِ اسْتِفْسَارٍ غَيْرِ إِنْكَارٍ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُورِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات 85، 86] فَذَلِكَ مَقَامٌ آخَرُ لَهُ فِي قومه كَانَ بعد الدعْوَة الأولى المحكية فِي سُورَة الصافات. وَلأَجل ذَلِك كَانَ الِاسْتِفْهَام مُقْتَرِنًا بِمَا يَقْتَضِي التَّعَجُّبَ مِنْ حَالِهِمْ بِزِيَادَةِ كَلِمَةِ (ذَا) بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء. وَكَلِمَةُ (ذَا) إِذَا وَقَعَتْ بعد (مَا) تؤول إِلَى مَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: مَا هَذَا الَّذِي تَعْبُدُونَهُ، فَصَارَ الْإِنْكَارُ مُسَلَّطًا إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ تُعْبَدُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْهِمُ السُّؤَالَ حِينَ تَلَبُّسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا هُوَ مُنَاسِبُ الْإِتْيَانِ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ وَمَا فَهِمَ قَوْمُهُ مِنْ كَلَامِهِ إِلَّا الِاسْتِفْسَارَ فَأَجَابُوا: بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا. وَالتَّنْوِينُ فِي أَصْناماً لِلتَّعْظِيمِ، وَلذَا عَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعْرِفُهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا. وَاسْمُ الْأَصْنَامِ عِنْدَهُمُ اسْمٌ عَظِيمٌ فَهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِهِ عَلَى عَكْسِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ فِي مَقَامٍ آخَرَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [العنكبوت: 17] عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِمَعْبُودَاتِهِمْ وَالتَّحْمِيقِ لَهُمْ. وَأَتَوْا فِي جَوَابِهِمْ بِفِعْلِ نَعْبُدُ مَعَ أَنَّ الشَّأْنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ التَّصْرِيحِ إِذْ كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالٍ فِيهِ تَعْبُدُونَ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ جِنْسِ الْمَعْبُودَاتِ فَيَقُولُوا أَصْنَامًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الْبَقَرَة: 219] ، مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ [سبأ: 23] مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النَّحْل: 30] فَعَدَلُوا عَنْ سُنَّةِ الْجَوَابِ إِلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي السُّؤَالِ ابْتِهَاجًا بِهَذَا الْفِعْلِ وَافْتِخَارًا بِهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: نَعْبُدُ مَا يَزِيدُ فِعْلَ الْعِبَادَةِ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِمْ: فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. وَفِي فِعْلِ «نَظَلُّ» دَلَالَةُ الِاسْتِمْرَارِ جَمِيعَ النَّهَارِ. وَأَيْضًا فَهُمْ كَانُوا صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَجَعَلُوا الْأَصْنَامَ رُمُوزًا عَلَى الْكَوَاكِبِ تَكُونُ خَلَفًا عَنْهَا فِي النَّهَارِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ الطَّالِعَةَ. وَضُمِّنَ عاكِفِينَ مَعْنَى (عَابِدِينَ) فَعُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِاللَّامِ دُونَ (عَلَى) . وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الرَّبِّ أَنْ يُلْجَأَ إِلَيْهِ فِي الْحَاجَةِ وَأَنْ يَنْفَعَ أَوْ يَضُرَّ أَلْقَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمُ اسْتِفْهَامًا عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هَلْ تَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَهَلْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرَّ تَنْبِيهًا عَلَى دَلِيلِ انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا. وَكَانَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ تَعْبُدُ الْوَثَنَ لِرَجَاءِ نَفْعِهِ أَوْ لِدَفْعِ ضُرِّهِ وَلِذَلِكَ عَبَدَ بَعْضُهُمُ الشَّيَاطِينَ. وَجُعِلَ مَفْعُولُ يَسْمَعُونَكُمْ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ تَوَسُّعًا بِحَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ يسمعُونَ دعاءكم كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَدْعُونَ. وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ فَتْحَ المجادلة ليعجزوا عَن إِثْبَاتِ أَنَّهَا تَسْمَعُ وَتَنْفَعُ.

وَ (بَلْ) فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْقَوْمِ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِمْ إِلَى مَقَامٍ قَاطِعٍ لِلْمُجَادَلَةِ فِي نَظَرِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ وَرِثُوا عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا طَوَوْا بِسَاطَ الْمُجَادَلَةِ فِي صِفَاتِ آلِهَتِهِمْ وَانْتَقَلُوا إِلَى دَلِيلِ التَّقْلِيدِ تَفَادِيًا مِنْ كُلْفَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصِيرِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالسَّلَفِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يَفْعَلُونَ تَشْبِيهُ فِعْلِ الْآبَاءِ بِفِعْلِهِمْ وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَفْعَلُونَ فِعْلًا كَذَلِكَ الْفِعْلِ. وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عَلَى يَفْعَلُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَاقْتَصَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ (الَّذِي رَجَّحْنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَقَامٍ قَامَ فِيهِ لِلدَّعْوَةِ) عَلَى أَنْ أَظْهَرَ قِلَّةَ اكْتِرَاثِهِ بِهَذِهِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لِأَنَّهُ أَيْقَنَ بِأَنَّ سَلَامَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَضُرُّ وَإِلَّا لَضَرَّتْهُ لِأَنَّهُ عَدُوُّهَا. وَضَمِيرُ فَإِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. وَقَوْلُهُ: وَآباؤُكُمُ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ كُنْتُمْ. وَالْعَدُوُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ. وَالْعَدُوُّ: الْمُبْغَضُ، فَعَدُوٌّ: فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَا تَلْحَقُهُ عَلَامَاتُ التَّأْنِيثِ (إِلَّا نَادِرًا كَقَوْلِ عُمَرَ لِنِسَاءٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ) . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : حَمْلًا عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ كَالْقُبُولِ وَالْوُلُوعِ. وَالْأَصْنَامُ لَا إِدْرَاكَ لَهَا فَلَا تُوصَفُ بِالْعَدَاوَةِ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ هُمْ كَالْعَدُوِّ لِي فِي أَنِّي أُبْغِضُهُمْ وَأَضُرُّهُمْ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] أَيْ عَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ الْعَدُوِّ عَدُوَّهُ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَار جمع بني قَوْلِهِ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: 6] وَقَوْلِهِ: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] . وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَصْنَامِ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ دُونَ (فَإِنَّهَا) جَرْيٌ عَلَى غَالِبِ الْعِبَارَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهَا مُدْرِكَةً. وَجُمْلَةُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمَلِ كَلَامِ الْقَوْمِ الْمُتَضَمِّنَةِ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَأَنَّهُمْ مُقْتَدُونَ فِي ذَلِكَ بِآبَائِهِمْ. فَالْفَاءُ فِي أَفَرَأَيْتُمْ لِلتَّفْرِيعِ

وَقَدَّمَ عَلَيْهَا هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ صَدَارَةُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ قَلْبِيٌّ. وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ عَلَى إِرَادَةِ التَّعْجِيبِ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ شَأْنِهِ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِرْدَافُهُ بِكَلَامٍ يُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَجَائِبِ أَحْوَالِ مَفْعُولِ الرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا [النَّجْم: 33، 34] الْآيَةَ، وَمِنْهُ تَعْقِيبُ قَوْلِهِ هُنَا أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَعُطِفَ آباؤُكُمُ عَلَى أَنْتُمْ لِزِيَادَةِ إِظْهَارِ قِلَّةِ اكْتِرَاثِهِ بِتِلْكَ الْأَصْنَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ عَبَدُوهَا فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إِبْطَالَ شُبْهَتِهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ. وَوَصْفُ الْآبَاءِ بِالْأَقْدَمِيَّةِ إِيغَالٌ فِي قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِتَقْلِيدِهِمْ لِأَنَّ عُرْفَ الْأُمَمِ أَنَّ الْآبَاءَ كُلَّمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ آكَدَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا. وَيَجُوزُ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً لَهَا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ وَجَعْلُ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيًّا وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ لِشَيْءٍ يُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ الْحَدِيثَ عَنْهُ لِيَعِيَهُ السَّامِعُ حَقَّ الْوَعْيِ، أَوْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ بِتَقْدِيرِ: إِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ فَاعْلِمُوا أَنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ مُنْقَطِعٌ. وإِلَّا بِمَعْنى (لَكِن) إِذا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرَ مَشْمُولٍ لِعِبَادَتِهِمْ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالْخَالِقِ وَلَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ آلِهَتَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَمَا هُوَ حَالُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: 63] فَهُوَ الصَّنَمُ الْأَعْظَمُ عِنْدَهُمْ، وَإِلَى قَوْلِهِ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الْأَنْعَام: 80] . وَيَظْهَرُ أَنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ (قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ) لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِالْخَالِقِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَكَانَ أَعْظَمُ الْآلِهَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ كَوْكَبَ الشَّمْسِ وَالصَّنَمُ الَّذِي يُمَثِّلُ الشَّمْسَ هُوَ (بَعْلُ) ، فَوَظِيفَةُ الْأَصْنَامِ عِنْدهم تَدْبِير شؤون النَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْإِيجَادُ وَالْإِعْدَامُ فَكَانُوا مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وَأَنَّ الْإِيجَادَ مِنْ أَعْمَالِ التَّنَاسُلِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنْ سِرِّ تَكْوِينِ تِلْكَ النُّظُمِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَإِيدَاعِهَا فِيهَا. وَقَدْ يَكُونُونَ مُعْتَرِفِينَ بِرَبّ عَظِيم خَالق لِلْأَكْوَانِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي

[سورة الشعراء (26) : الآيات 78 إلى 82]

نِظَامِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا كَانَ حَالُ الْإِشْرَاكِ فِي الْعَرَبِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لِأَنَّ اللَّهَ مِنْ جُمْلَةِ مَعْبُودِيهِمْ، أَيْ إِلَّا الرَّبَّ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْنَامِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي سُورَة العنكبوت. [78- 82] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 78 إِلَى 82] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَوْصُولَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِ رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 77] وَأَنَّ فَهُوَ يَهْدِينِ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ الْخَالِقُ فَهُوَ الْأَوْلَى بِتَدْبِيرِ مَخْلُوقَاتِهِ دُونَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا غَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأً مُسْتَأْنَفًا بِهِ وَيَكُونَ فَهُوَ يَهْدِينِ خَبَرًا عَنْ الَّذِي. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِمُشَابَهَةِ الْمَوْصُولِ لِلشَّرْطِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَفِي الْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 77] ، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُخْلِصُ لَهُ لِأَنَّهُ خَلَقَنِي كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: 79] . وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَهْدِينِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَيَهْدِينِ، لِتَخْصِيصِهِ بِأَنَّهُ مُتَوَلِّي الْهِدَايَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ تَصَرُّفَ أَصْنَامَهُمْ بِالْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَلَيْسَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْعَاطِفِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِينِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مُتَجَدِّدَةٌ لَهُ. وَجُعِلَ فِعْلُ الْهِدَايَةِ مُفَرَّعًا بِالْفَاءِ عَلَى فِعْلِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ مُعَاقِبٌ لَهُ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُقْتَضَى الْخَلْقِ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ خَلْقِ الْعَقْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى طُرُقِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: 10] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الَّذِي خَلَقَنِي جَسَدًا وَعَقْلًا. وَمِنَ الْهِدَايَةِ الْمَذْكُورَةِ دَفْعُ وَسَاوِسِ الْبَاطِلِ عَنِ الْعَقْلِ حَتَّى يَكُونَ إِعْمَالُ النَّظَرِ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ.

وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَقَوْلِهِ: فَهُوَ يَشْفِينِ كَالْقَوْلِ فِي سَابِقِهِمَا لِلرَّدِّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُقَدِّرُ لَهُمْ تَيْسِيرَ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَشْرَبُونَ وَبِهَا بُرْؤُهُمْ إِذَا مَرِضُوا، وَلَيْسَا بِضَمِيرَيْ فَصْلٍ أَيْضًا. وَعُطِفَ إِذا مَرِضْتُ عَلَى يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَ قَالَ ذَلِكَ مَرِيضًا فَإِنَّ إِذا تُخَلِّصُ الْفِعْلَ بَعْدَهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ إِذَا طَرَأَ عَلَيَّ مَرَضٌ. وَفِي إِسْنَادِهِ فِعْلَ الْمَرَضِ إِلَى نَفْسِهِ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ رَاعَى فِيهِ الْإِسْنَادَ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فِي مَقَامِ الْأَدَبِ، فَأَسْنَدَ إِحْدَاثَ الْمَرَضِ إِلَى ذَاتِهِ وَلِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُمِيتُ بَلْ عَمَلُ الْأَصْنَامِ قَاصِرٌ عَلَى الْإِعَانَةِ أَوِ الْإِعَاقَةِ فِي أَعْمَالِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ. فَأَمَّا الْمَوْتُ فَهُوَ مِنْ فِعْلِ الدَّهْرِ وَالطَّبِيعَةِ إِنْ كَانُوا دَهْرِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَلْقَ وَالْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ لَيست من شؤون الْأَصْنَامِ وَأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ فَظَاهِرٌ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تُعْطَفَ الصِّلَتَانِ عَلَى الصِّلَةِ الْأُولَى لِلِاهْتِمَامِ بِصَاحِبِ تِلْكَ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا نَعْتٌ عَظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَحَقِيقٌ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَقِلًّا بِدَلَالَتِهِ. وَأَطْلَقَ عَلَى رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ لَفْظَ الطَّمَعِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُبَاعَدَةً لِنَفْسِهِ عَنْ هَاجِسِ اسْتِحْقَاقِهِ الْمَغْفِرَةَ وَإِنَّمَا طَمَعَ فِي ذَلِكَ لِوَعْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ. وَالْخَطِيئَةُ: الذَّنب. يُقَال: خطىء إِذَا أَذْنَبَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [58] . وَالْمَقْصُودُ فِي لِسَانِ الشَّرَائِعِ: مُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ. وَإِذْ قَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَئِذٍ نَبِيئًا وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا فَالْخَطِيئَةُ مِنْهُمْ هِيَ مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الْمَقَامِ النَّبَوِيِّ. وَالْمَغْفِرَةُ: الْعَفْوُ عَنِ الْخَطَايَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِ يَوْمَ الدِّينِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْعَفْوِ، فَأَمَّا صُدُورُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّهِ لِمِثْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِي الدُّنْيَا، وَقَدْ يَغْفِرُ خَطَايَا بَعْضِ الْخَاطِئِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الشَّفَاعَةِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 إلى 89]

وَيَوْمُ الدِّينِ: هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ تَعْرِيضًا بِالدُّعَاءِ. وَقَدْ أَشَارَ فِي هَذِهِ النُّعُوتِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ قَصْدًا لِاقْتِصَاصِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ رَامُوا الِاهْتِدَاءَ. وَفِي تِلْكَ النُّعُوتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مُهَيِّئَاتٌ لِلْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ فَقَدْ جَمَعَتْ كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ أَطْوَارِ الْخَلْقِ الْجُسْمَانِيِّ دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى جَمِيعِ أُصُولِ النِّعَمِ مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ، فَذَكَرَ خَلْقَ الْجَسَدِ وَخَلْقَ الْعَقْلِ وَإِعْطَاءَ مَا بِهِ بَقَاءُ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْغِذَاءُ وَالْمَاءُ، وَمَا يَعْتَرِي الْمَرْءَ مِنَ اخْتِلَالِ الْمِزَاجِ وَشِفَائِهِ، وَذَكَرَ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْحَيَاةِ الْأُولَى، وَأَعْقَبَهُ بِذِكْرِ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ حَالَةٌ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا نِعْمَةً إِلَّا بِغَوْصِ فِكْرٍ وَلَكِنَّ وَرَاءَهُ حَيَاةٌ هِيَ نِعْمَةٌ لَا مَحَالَةَ لِمَنْ شَاءَ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِعْمَةٌ. وَحُذِفَتْ يَاءَاتُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ يَهْدِينِ، ويَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ لِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهَا يُوقَفُ عَلَيْهَا، وَفَوَاصِلُ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرُهَا بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: 14] فِي قِصَّةِ مُوسَى الْمُتَقَدّمَة. [83- 89] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 83 إِلَى 89] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) لَمَّا كَانَ آخِرُ مَقَالِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ مُتَضَمِّنًا دُعَاءً بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى الدُّعَاءِ بِمَا فِيهِ جَمْعُ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ بِالرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا فِي قَوْمِهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَام: 83] فَكَانَ حِينَئِذٍ فِي حَالِ قُرْبٍ مِنَ اللَّهِ. وَجَهَرَ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ عَقِبَ الِانْتِهَاءِ مِنْ أَقْدَسِ وَاجِبٍ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، فَهُوَ

ابْتِهَالٌ أَرْجَى لِلْقَبُولِ كَالدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ إِفْطَارِ الصَّائِمِ وَدُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَكُلُّهَا فَرَاغٌ مِنْ عِبَادَاتٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ بِنَاءِ أَسَاسِ الْكَعْبَةِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ إِلَى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 127- 129] وَابْتَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي أَعْمَالِ هَذَا الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: 143] ، وَكَمَا أُمِرَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] . وَلِلْأَوَّلِيَّاتِ فِي الْفَضَائِلِ مَرْتَبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَبِضِدِّ ذَلِك أوليات المساويء فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» . وَقَدْ قَابَلَ إِبْرَاهِيمُ فِي دُعَائِهِ النِّعَمَ الْخَمْسَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: 78- 82] الرَّاجِعَةَ إِلَى مَوَاهِبَ حِسِّيَّةٍ بِسُؤَالِ خَمْسِ نِعَمٍ رَاجِعَةٍ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأَقْحَمَ بَيْنَ طَلَبَاتِهِ سُؤَالَهُ الْمَغْفِرَةَ لِأَبِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. فَابْتِدَاءُ دُعَائِهِ بِأَنْ يعْطى حكما. وَالْحكم: هُوَ الْحِكْمَةُ وَالنُّبُوءَةُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الْقَصَص: 14] أَيِ النُّبُوءَةَ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ دَعَا نَبِيئًا فَلِذَلِكَ كَانَ السُّؤَالُ طَلَبًا لِلِازْدِيَادِ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا حَدَّ لَهَا بِأَنْ يُعْطَى الرِّسَالَةَ مَعَ النُّبُوءَةِ أَوْ يُعْطَى شَرِيعَةً مَعَ الرِّسَالَةِ، أَوْ سَأَلَ الدَّوَامَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ ارْتَقَى فَطَلَبَ إِلْحَاقَهُ بِالصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الصَّالِحِينَ يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ بُلُوغَ دَرَجَاتِ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَجَعَلَ الصَّالِحِينَ آخِرًا لِأَنَّهُ يَعُمُّ، فَكَانَ تَذْيِيلًا. ثُمَّ سَأَلَ بَقَاءَ ذِكْرٍ لَهُ حَسَنٍ فِي الْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ مِنْ بَعْدِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الدَّوَامِ وَالْخِتَامِ عَلَى الْكَمَالِ وَطَلَبَ نَشْرِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا تَتَغَذَّى بِهِ الرُّوحُ

مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ يَسْتَعْدِي دُعَاءَ النَّاسِ لَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمَ جَزَاءً عَلَى مَا عَرَفُوهُ مِنْ زَكَاءِ نَفْسِهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا يَذْكُرُونَهُ وَتَذْكُرُهُ الْأُمَمُ التَّابِعَةُ لَهُمْ وَيَخْلُدُ ذِكْرُهُ فِي الْكُتُبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ» ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُشْبَعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [74] . وَاللِّسَانُ مُرَادٌ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْآلَةِ عَلَى مَا يَتَقَوَّمُ بِهَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِي تَقْتَضِي أَنَّ الذِّكْرَ الْحَسَنَ لِأَجْلِهِ فَهُوَ ذِكْرُهُ بِخَيْرٍ. وَإِضَافَةُ لِسانَ إِلَى صِدْقٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ لِسَانًا صَادِقًا. وَالصِّدْقُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَحْبُوبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُرْغَبُ فِي تَحَقُّقِهِ وَوُقُوعِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَسَأَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ الْجَنَّةَ خَالِدًا فَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْوَرَثَةِ إِلَى أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِلْكُ الشَّيْءِ الْمَوْرُوثِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمَالِكِ السَّابِقِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْجَنَّةِ مَالِكُونَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُونَ الْمُسْتَحِقِّينَ من وَقت تبوّؤ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 10، 11] . وَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لِأَبِيهِ قَبْلَ سُؤَالِ أَنْ لَا يُخْزِيَهَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ يَوْمَئِذٍ شَيْءٌ يَنْكَسِرُ مِنْهُ خَاطِرُهُ وَقَدِ اجْتَهَدَ فِي الْعَمَلِ الْمُبَلِّغِ لِذَلِكَ وَاسْتَعَانَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَمَا بَقِيَتْ لَهُ حَزَازَةُ إِلَّا حَزَازَةَ كُفْرِ أَبِيهِ فَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا جِيءَ بِأَبِيهِ مَعَ الضَّالِّينَ لَحِقَهُ انْكِسَارٌ وَلَوْ كَانَ قَدِ اسْتُجِيبَ لَهُ بَقِيَّةُ دَعَوَاتِهِ، فَكَانَ هَذَا آخَرَ شَيْءٍ تَخَوَّفَ مِنْهُ لَحَاقَ مَهَانَةٍ نَفْسِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ لَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُؤْتَى بِأَبِي إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ ذِيحٍ (أَيْ ضَبْعٍ ذَكَرٍ) فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ فَذَلِكَ إِجَابَةُ قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أَيْ قَطْعًا لِمَا فِيهِ شَائِبَةُ الْخِزْيِ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْخِزْيِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] . وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [192] . وَضَمِيرُ يُبْعَثُونَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ مَغْفِرَةً خَاصَّةً وَهِيَ مَغْفِرَةُ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ أَعْنِي الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ، وَهُوَ سُؤَالٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْخُلَّةِ وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: 47] . وَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ مِنْ حَالِ أَبِيهِ أَنَّهُ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ ابْنُهُ أَوْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ آيَةُ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: 114] . وَيَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ حِينَئِذٍ حِرْمَانُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: 114] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ لَهُ كِنَايَةً عَنْ سَبَبِ الْغُفْرَانِ وَهُوَ هِدَايَتُهُ إِلَى الْإِيمَانِ. ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ إِلَخْ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يُبْعَثُونَ قَصَدَ بِهِ إِظْهَارَ أَنَّ الِالْتِجَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَلَا عَوْنَ فِيهِ بِمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أَوَّلُهَا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ يُرِيدُ إِلَى قَوْلِهِ: فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 102] مُنْقَطِعَةٌ عَنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةً لِلْيَوْمِ الَّذِي وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ أَنْ لَا يُخْزَى فِيهِ اه. وَهُوَ اسْتِظْهَارٌ رَشِيقٌ فَيَكُونُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ اسْتِئْنَافًا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وَفَتْحَةُ يَوْمَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّ (يَوْمَ) ظَرْفٌ أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُعَرَّبٍ فَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ وَيَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْفَتْحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَة: 119] . وَيَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ الْإِشَارَةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ

بِمِثْلِ هَذَا فِي آيَة سُورَةِ الصَّافَّاتِ [83، 84] فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ (أَيْ شِيعَةِ نُوحٍ) لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وَفِيهِ أَيْضًا تَذْكِيرُ قَوْمِهِ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَنَفْيُ نَفْعِ الْمَالِ صَادِقٌ بِنَفْيِ وُجُودِ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ مِنْ بَابِ «على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ» ، أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ. وَمِنْ عِبَارَاتِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ «السَّالِبَةُ تَصْدُقُ بِنَفْيِ الْمَوْضُوعِ» . وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي نَفْيِ النَّافِعِينَ جَرَى عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ فِي دِفَاعِ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يُدَافِعَ إِمَّا بِفِدْيَةٍ وَإِمَّا بِنَجْدَةٍ (وَهِيَ النَّصْرُ) ، فَالْمَالُ وَسِيلَةُ الْفِدْيَةِ، وَالْبَنُونَ أَحَقُّ مَنْ يُنْصَرُونَ أَبَاهُمْ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ النَّصْرُ عِنْدَهُمْ عَهْدًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. قَالَ قَيْسُ ابْن الْخَطِيمِ: ثَأَرْتُ عَدِيًّا وَالْخَطِيمَ وَلَمْ أُضِعْ ... وِلَايَةَ أَشْيَاخٍ جُعِلَتْ إِزَاءَهَا وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ انْتِفَاءَ نَفْعِ مَا عَدَا الْمَالَ وَالْبَنِينَ مِنْ وَسَائِلِ الدِّفَاعِ حَاصِلٌ بِالْأَوْلَى بِحُكْمِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْعُرْفِ. فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ وَلَا شَيْءٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَفْعُولِ يَنْفَعُ، أَيْ إِلَّا مَنْفُوعًا أَتَى اللَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَهُوَ مَفْهُومٌ لِلسَّامِعِينَ فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ عَدُّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا أَعْضَلَ عَلَى خَلَفِهِمْ طَرِيقُ اسْتِخْلَاصِ هَذَا الْمَعْنَى الْمُجْمَلِ مِنْ تَفَاصِيلِ أَجْزَاءِ تَرْكِيبِ الْكَلَامِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» احْتِمَالَاتٍ لَا يَسْلَمُ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ، فَبِنَا أَنَّ نُفَصِّلَ وَجْهَ اسْتِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ بِوَجْهٍ يَكُونُ أَلْيَقَ بِتَرْكِيبِهَا دُونَ تَكَلُّفٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ يَنْفَعُ رَافِعٌ لِفَاعِلٍ وَمُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ بِحَقِّ تَعَدِّيهِ إِلَى الْمَفْعُولِ يَقْتَضِي مَفْعُولًا، كَمَا يَصْلُحُ لِأَنْ تُعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلَّقَاتٌ بِحُرُوفِ تَعْدِيَةٍ، أَيْ حُرُوفِ جَرٍّ، وَإِنَّ أَوَّلَ مُتَعَلَّقَاتِهِ خُطُورًا بِالذِّهْنِ مُتَعَلَّقُ سَبَبِ الْفِعْلِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يُشِيرُ إِلَى فَاعِلِ

يَنْفَعُ وَمَفْعُولِهِ وَسَبَبِهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ أَتَى اللَّهَ لِأَنَّ فَاعِلَ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْمَنْفُوعُ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولُ فِعْلِ يَنْفَعُ وَالْمُتَعَلِّقُ بِأَحَدِ فِعْلَيْهِ وَهُوَ فِعْلُ أَتَى الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الْمَعْنَى بِفِعْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ يَنْفَعُ الَّذِي مَنْ أَتَى اللَّهَ مَفْعُولُهُ. فَعُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ نَافِعٌ أَوْ شَيْءٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ عُمُومَ نَفْيِ النَّافِعِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مالٌ- وبَنُونَ مِنْ عُمُومِ الْأَشْيَاءِ كَمَا قَرَّرْنَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَنْفَعُ لِقَصْدِ الْعُمُومِ كَحَذْفِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس: 25] أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا شَيْءٌ يَأْتِي بِهِ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْمُسْتَثْنَى وَهُوَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ مَفْعُولِ يَنْفَعُ وَلَيْسَ مُسْتَثْنًى مِنْ فَاعِلِ يَنْفَعُ لِأَنَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَوْمَئِذٍ هُوَ مَنْفُوعٌ لَا نَافِعٌ فَلَيْسَ مُسْتَثْنًى مِنْ صَرِيحِ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَا مِمَّا دلّ عَلَيْهِ الاسمان مِنَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ بِمَعْنَى: «وَلَا غَيْرُهُمَا» ، فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجًا مِنْ عُمُومِ مَفْعُولِ يَنْفَعُ. وَتَقْدِيره: إِلَّا أحدا أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، أَيْ فَهُوَ مَنْفُوعٌ، وَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ مَفْعُولِ فِعْلِ يَنْفَعُ يَضْطَرُّنَا إِلَى وُجُوبِ تَقْدِيرِ نَافِعِهِ فَاعِلَ فِعْلِ يَنْفَعُ، أَي فَإِنَّهُ نَفَعَهُ شَيْءٌ نَافِعٌ. وَيُبَيِّنُ إِجْمَالَهُ مُتَعَلَّقُ فِعْلِ يَنْفَعُ وَهُوَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ كَانَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ سَبَبَ النَّفْعِ فَهُوَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْفَاعِلِ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ بِلَفْظِ «شَيْءٌ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. فَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي اللَّهَ يَوْمَئِذٍ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هُوَ مَنْفُوعٌ بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ نَافِعٌ (أَيْ نَافِعٌ نَفْسَهُ) بِدَلَالَةِ الْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ أَتَى، فَإِنَّ الْقَلْبَ السَّلِيمَ قَلْبُ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمَنْفُوعِ فَصَارَ ذَلِكَ الشَّخْصُ نَافِعًا وَمَنْفُوعًا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّجْرِيدِ. وَقَرِيبٌ مِنْ وُقُوعِ الْفَاعِلِ مَفْعُولًا فِي بَابِ ظَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: خِلْتُنِي وَرَأَيْتُنِي، فَجُعِلَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ سَبَبًا يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، وَلِهَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ مُفَرَّغٌ عَنِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ نَسْجِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ إيجاز مغن أَضْعَاف من الْجمل المطوية. وَجَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 إلى 95]

وَالْقَلْبُ: الْإِدْرَاكُ الْبَاطِنِيُّ. وَالسَّلِيمُ: الْمَوْصُوفُ بِقُوَّةِ السَّلَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا السَّلَامَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ، أَيِ الْخُلُوصُ مِنْ عَقَائِدِ الشِّرْكِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الزُّكَاءِ النَّفْسِيِّ. وَضِدُّهُ الْمَرِيضُ مَرَضًا مَجَازِيًّا قَالَ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: 10] . وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السَّلِيمِ هُنَا لِأَنَّ السَّلَامَةَ بَاعِثُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرِيَّة وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْقُلُوبِ هَذِهِ السَّلَامَةُ فِي الدُّنْيَا بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فَيَأْتُونَ بِهَا سَالِمَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدي ربّهم. [90- 95] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 90 إِلَى 95] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَاوُ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا لَا يَنْفَعُ مالٌ [الشُّعَرَاء: 88] ، أَيْ يَوْمَ عَدَمِ نَفْعِ مَنْ عَدَا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَقَدْ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَالْخُرُوجُ إِلَى تَصْوِيرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ شَيْءٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ الدَّعْوَةَ بِإِلْقَاءِ السُّؤَالِ عَلَى قَوْمِهِ فِيمَا يَعْبُدُونَ إِيقَاظًا لِبَصَائِرِهِمْ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ. وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ اسْتِئْهَالِهَا الْإِلَهِيَّةَ بِدَلِيلِ التَّأَمُّلِ، وَهُوَ أَنَّهَا فَاقِدَةٌ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَعَاجِزَةٌ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، ثُمَّ طَالَ دَلِيلُ التَّقْلِيدِ الَّذِي نَحَا إِلَيْهِ قَوْمُهُ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ تَأْيِيدِ دِينِهِمْ بِالنَّظَرِ. فَلَمَّا نَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمُ انْتَصَبَ لِبَيَانِ الْإِلَهِ الْحَقِّ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَهُ صِفَاتُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ، تَصَرُّفَ الْمُنْعِمِ الْمُتَوَحِّدِ بِشَتَّى التَّصَرُّفِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ تَصَرُّفُهُ بِالْإِحْيَاءِ الْمُؤَبَّدِ وَأَنَّهُ الَّذِي نَطْمَعُ فِي تَجَاوُزِهِ عَنْهُ يَوْمَ الْبَعْثِ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ لَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ يَوْمَ الْبَعْثِ، ثُمَّ صَوَّرَ لَهُمْ عَاقِبَةَ حَالَيِ التَّقْوَى وَالْغَوَايَةِ بِذِكْرِ دَارِ إِجْزَاءِ الْخَيْرِ وَدَارِ إِجْزَاءِ الشَّرِّ. وَلَمَّا كَانَ قَوْمُهُ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ وَغَيْرُ زَوْجِهِ

وَغَيْرُ لُوطٍ ابْنِ أَخِيهِ كَانَ الْمَقَامُ بِذِكْرِ التَّرْهِيبِ أَجْدَرَ، فَلِذَلِكَ أَطْنَبَ فِي وَصْفِ حَالِ الضَّالِّينَ يَوْمَ الْبَعْثِ وَسُوءِ مَصِيرِهِمْ حَيْثُ يَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَدَارَكُوا الْإِيمَانَ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ. وَالْإِزْلَافُ: التَّقْرِيبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [64] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَجِدُونَ الْجَنَّةَ حَاضِرَةً فَلَا يَتَجَشَّمُونَ مَشَقَّةَ السَّوْقِ إِلَيْهَا. وَاللَّامُ فِي لِلْمُتَّقِينَ لَامُ التَّعْدِيَةِ. وبُرِّزَتِ مُبَالَغَةٌ فِي أُبْرِزَتْ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [36] . وَالْمُرَادُ ب لِلْغاوِينَ الْمَوْصُوفُونَ بِالْغِوَايَةِ، أَيْ ضَلَالُ الرَّأْيِ. وَذِكْرُ مَا يُقَالُ لِلْغَاوِينَ لِلْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارِ حَقَارَةِ أَصْنَامِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ هَذَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُخَاطَبُونَ بِهِ يَوْمَئِذٍ مُنَاسَبَةٌ لِمَقَامِ طَلَبِ الْإِقْلَاعِ عَنْ عِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ الْقَوْلِ إِلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَعَلَّقَ بِمَعْرِفَةِ الْقَوْلِ لَا بِمَعْرِفَةِ الْقَائِلِ، فَالْقَائِلُ الْمَلَائِكَةُ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُوَجِّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ خِطَابَهُ مُبَاشَرَةً. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ تَعْيِينِ مَكَانِ الْأَصْنَامِ إِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً، أَوْ عَنْ عَمَلِهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، تَنْزِيلًا لِعَدَمِ جَدْوَاهَا فِيمَا كَانُوا يَأْمُلُونَهُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ تَهَكُّمًا وَتَوْبِيخًا وَتَوْقِيفًا عَلَى الْخَطَأِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ كَذَلِكَ مَعَ الْإِنْكَارِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ نُصَرَاءَ. وَالِانْتِصَارُ طَلَبُ النَّصِيرِ. وَكُتِبَ أَيْنَ مَا فِي الْمَصَاحِف مَوْصُولَة نون (أَيْن) بِمِيمِ (مَا) وَالْمُتَعَارَفُ فِي الرَّسْمِ الْقِيَاسِيِّ أَنَّ مِثْلَهُ يُكْتَبُ مَفْصُولًا لِأَنَّ (مَا) هُنَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَلَيْسَتِ الْمَزِيدَةَ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 96 إلى 102]

بَعْدَ (أَيْنَ) الَّتِي تَصِيرُ (أَيْنَ) بِزِيَادَتِهَا اسْمَ شَرْطٍ لِعُمُومِ الْأَمْكِنَةِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وأَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّخْطِئَةِ، أَيْ هَلْ أَخْطَأْتُمْ فِي رَجَاءِ نَصْرِهَا إِيَّاكُمْ، أَوْ فِي الْأَقَلِّ هَلْ تَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا وَذَلِكَ حِينَ يُلْقَى بِالْأَصْنَامِ فِي النَّارِ بِمَرْأًى مِنْ عَبَدَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ: فَكُبْكِبُوا فِيها، أَيْ كُبْكِبَتِ الْأَصْنَامُ فِي جَهَنَّم. وَمعنى فَكُبْكِبُوا كُبُّوا فِيهَا كَبًّا بَعْدَ كَبٍّ فَإِنَّ كُبْكِبُوا مُضَاعَفُ كُبُّوا بِالتَّكْرِيرِ وَتَكْرِيرُ اللَّفْظِ مُفِيدٌ تَكْرِيرَ الْمَعْنَى مِثْلُ: كَفْكَفَ الدَّمْعَ، وَنَظِيرُهُ فِي الْأَسْمَاءِ: جَيْشٌ لَمْلَمٌ، أَيْ كَثِيرٌ، مُبَالَغَةٌ فِي اللَّمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ فِعْلًا مُرَادِفًا لَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى حُرُوفِهِ وَلَا تَضْعِيف فِيهِ فَكَانَ التَّضْعِيفِ فِي مُرَادِفِهِ لِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي مَعْنَى الْفِعْل. وضمائر يَنْصُرُونَكُمْ- ويَنْتَصِرُونَ- وفَكُبْكِبُوا عَائِدَة إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ: هم أَوْلِيَاؤُهُ وَأَصْنَافُ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْلِيسَ فِي سُورَة الْبَقَرَة. [96- 102] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 96 إِلَى 102] قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) يجوز أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْنَبَ بِهِ الْمَوْعِظَةَ لِتَصْوِيرِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، أَوْ تَكُونُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَمَا سَيَأْتِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةُ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ انْتَهَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشُّعَرَاء: 95] أَوْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: 87] عَلَى مَا اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ مَوْعِظَةً مِنَ اللَّهِ لِلسَّامِعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْلِيمًا مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ ذِكْرِ الْقِصَّةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا وَهُوَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء

عَنْ قَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا فِيها [الشُّعَرَاء: 94] لِأَنَّ السَّامِعَ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَنْ فَائِدَةِ إِيقَاعِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ مَعَ أَنَّهَا لَا تفقه وَلَا تحسّ فَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، فَحِكَايَةُ مُخَاصَمَةِ عَبَدَتِهَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُمْ أَصْنَامَهُمْ هُوَ مَثَارُ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ إِذْ رَأَى الْأَتْبَاعُ كَذِبَ مُضَلِّلِيهِمْ مُعَايَنَةً وَلَا يَجِدُ الْمُضَلَّلُونَ تَنَصُّلًا وَلَا تَفَصِّيًا، فَإِنَّ مَذَلَّةَ الْأَصْنَامِ وَحُضُورِهَا مَعَهُمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ أَقْوَى شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا لَهُمْ وَلَا لِأَنْفُسِهَا. وَأَمَّا جُمْلَةُ: وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَجُمْلَةُ تَاللَّهِ مَقُولُ الْقَوْلِ، وَجُمْلَةُ: إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ جَوَابُ الْقَسَمِ. وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الثَّقِيلَةِ وَقَدْ أُهْمِلَتْ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ مُجَوِّزٌ لِلْإِهْمَالِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا. وَاقْتِرَانُ خَبَرِ (كَانَ) بِاللَّامِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنْ المخففة الْمُؤَكّدَة وَبَين (إِنِ) النَّافِيَةِ، وَالْغَالِبُ أَنْ لَا تَخْلُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ عَنْ فِعْلٍ مِنْ بَابِ (كَانَ) . وَجِيءَ فِي الْقَسَمِ بِالتَّاءِ دون الْوَاو وَالْبَاء لِأَنَّ التَّاءَ تَخْتَصُّ بِالْقَسَمِ فِي شَيْءٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [73] ، وَقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [57] ، فَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْ ضَلَالِهِمْ إِذْ نَاطُوا آمَالَهُمُ الْمَعُونَةَ وَالنَّصْرَ بِحِجَارَةٍ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا. وَلِذَلِكَ أَفَادُوا تَمَكُّنَ الضَّلَالِ مِنْهُمْ بِاجْتِلَابِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الْمُسْتَعَارِ لِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ شَدِيدُ الْمُلَابَسَةِ لِظَرْفِهِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِوَصْفِهِمُ الضَّلَالَ بِالْمُبِينِ، أَيِ الْوَاضِحُ الْبَيِّنُ. وَفِي هَذَا تَسْفِيهٌ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ تَمَشَّى عَلَيْهَا هَذَا الضَّلَالُ الَّذِي مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُوجَ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ. وإِذْ نُسَوِّيكُمْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ كُنَّا أَيْ كُنَّا فِي ضَلَالٍ فِي وَقْتِ إِنَّا نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَيْسَتْ إِذْ بِمَوْضُوعَةٍ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عَلْوَانَ التُّونُسِيُّ الشَّهِيرُ بِالْمِصْرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُقْرِيُّ فِي «نَفْحِ الطِّيبِ» فِي تَرْجَمَةِ أَبِي جَعْفَرٍ اللَّبْلِيِّ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا غُشِيَ عَلَيْهِ حَاصِلُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَتَوَهَّمَهُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي إِذْ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ ... لَا ارْتِجَاعَ لَهُ

أَيْ حِينَ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ. وَالتَّسْوِيَةُ: الْمُعَادَلَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ، أَيْ إِذْ نَجْعَلُكُمْ مِثْلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مِثْلَهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ حَالِ إِشْرَاكِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 77] ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِثْلَهُ فِيمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ إِلَهِيَّتِهِ يَوْمَئِذٍ إِذْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَصْلًا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ تَسْوِيَة بالمئال وَقَدْ آبُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَلِمَةُ إِبْرَاهِيمَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ قَالَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 77] . وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي نُسَوِّيكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَهُوَ مِنْ تَوْجِيهِ الْمُتَنَدِّمِ الْخِطَابَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَكَانَ سَبَبًا فِي الْأَمْرِ الَّذِي جَرَّ إِلَيْهِ النَّدَامَةَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وَيَسْمَعُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَوْبِيخِ نَفْسِهِ. وَمِنْهُ مَا رَوَى الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَوَجَدَهُ مُمْسِكًا بِلِسَانِهِ بِأُصْبُعَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَوْرَدَتْنِي الْمَوَارِدَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُلَبِّي وَيَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي الْكَلَامِ نَثْرًا وَنَظْمًا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: فَيَا دَمْعُ أَنْجِدْنِي عَلَى سَاكِنِي نَجْدٍ وَصِيغَ نُسَوِّيكُمْ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ حِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالدُّعَاءِ وَالنُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ خِطَابُ بَعْضِ الْعَامَّةِ لِبَعْضٍ. وَعَنَوْا بِالْمُجْرِمِينَ أَيِمَّةَ الْكُفْرِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا لَهُمُ الشِّرْكَ وَاخْتَلَقُوا لَهُمْ دِينًا. وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْمُجْرِمُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي كَمَالِ الْإِجْرَامِ فَإِنَّ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ. وَرَتَّبُوا بِالْفَاءِ انْتِفَاءَ الشَّافِعِينَ عَلَى جُمْلَةِ: وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ حَيْثُ أَطْمَعُوهُمْ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّوَجُّعِ.

وَالشَّافِعُ: الَّذِي يَكُونُ وَاسِطَةَ جَلْبِ نَفْعٍ لِغَيْرِهِ أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ فِي الْبَقَرَةِ [123] ، وَالشَّفِيعُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَهُوَ تَتْمِيمٌ أَثَارَهُ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ يَمُرُّونَ بِهِ أَوْ يَتَّصِلُونَ، وَمِنَ الْحِرْمَانِ الَّذِي يُعَامِلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَسْأَلُونَهُ الرِّفْقَ بِهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ تَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فَإِنَّ الصَّدِيقَ هُوَ الَّذِي يُوَاسِيكَ أَوْ يُسَلِّيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ وَيَوْمَئِذٍ حَقَّتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الصَّدِيقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ صَدِيقِكُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [61] . وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ، فَعِيلٌ مِنْ حَمَّ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) إِذَا دَنَا وَقَرُبَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الصَّدِيقِ. وَالْمُرَادُ نَفْيُ جِنْسِ الشَّفِيعِ وَجِنْسِ الصَّدِيقِ لِوُقُوعِ الِاسْمَيْنِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ، وَفِي ذَلِكَ السِّيَاقِ يَسْتَوِي الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْجِنْسِ. وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ اسْمَيْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِذْ جِيءَ بِ شافِعِينَ جَمْعًا، وَبِ صَدِيقٍ مُفْرَدًا، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالشَّافِعِينَ الْآلِهَةَ الْبَاطِلَةَ وَكَانُوا يَعْهَدُونَهُمْ عَدِيدِينَ فَجَرَى عَلَى كَلَامِهِمْ مَا هُوَ مُرْتَسِمٌ فِي تَصَوُّرِهِمْ. وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ جِنْسُهُ دُونَ عَدَدِ أَفْرَادِهِ إِذْ لَمْ يَعْنُوا عَدَدًا مُعَيَّنًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ نَفْيِ الْجِنْسِ، وَعَلَى الْأَصْلِ فِي الْأَلْفَاظِ إِذْ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ لِغَيْرِ الْإِفْرَادِ. وَالَّذِي يَبْدُو لِي أَنَّهُ أُوثِرُ جَمْعُ شافِعِينَ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِصُورَةِ مَا فِي أَذْهَانِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا إِفْرَادُ صَدِيقٍ فَلِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ وَصْفُ حَمِيمٍ فَلَوْ جِيءَ بِالْمَوْصُوفِ جَمْعًا لَاقْتَضَى جَمْعُ وَصْفِهِ، وَجَمْعُ حَمِيمٍ فِيهِ ثِقَلٌ لَا يُنَاسِبُ مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَلَا يَلِيقُ بِصُورَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ مَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ. ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى هَذَا التَّحَسُّرِ وَالنَّدَامَةِ تَمَنِّي أَنْ يُعَادُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَ (لَوْ) هَذِهِ لِلتَّمَنِّي، وَأَصْلُهَا (لَوْ) الشَّرْطِيَّةُ لَكِنَّهَا تُنُوسِيَ مِنْهَا مَعْنَى الشَّرْطِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 103 إلى 104]

وَأَصْلُهَا: لَوْ أُرْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا لَآمَنَّا، لَكِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدُ تَعْلِيقَ الِامْتِنَاعِ عَلَى امْتِنَاعٍ تَمَحَّضَتْ (لَوْ) لِلتَّمَنِّي لِمَا بَيْنَ الشَّيْءِ الْمُمْتَنِعِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُتَمَنًّى مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْكَرَّةُ: مَرَّةٌ مِنَ الْكَرِّ وَهُوَ الرُّجُوع. وانتصب فَنَكُونَ فِي جَوَاب التمنّي. [103، 104] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 103 إِلَى 104] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لَهَاتِهِ الْجُمْلَةِ تَعْدَادًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَسْجِيلًا لِتَصْمِيمِهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، فَكَمَا لَمْ يَهْتَدِ بِهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ فَمَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِمُؤْمِنِينَ بِهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا، وَلَكِنَّ التَّبْلِيغَ حَقٌّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِه الْآيَة. [105- 110] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 105 إِلَى 110] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) اسْتِئْنَافٌ لتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 103] أَيْ لَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْظُمُ عَلَيْكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وَقَدْ عَلِمَ الْعَرَبُ رِسَالَةَ نُوحٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّالَّةِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْأَحْوَالَ وَيَنْسَوْنَ أَسْبَابَهَا. وَأُنِّثَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ لِتَأْوِيلِ قَوْمُ بِمَعْنَى الْأُمَّةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ كَمَا

يُقَالُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ (¬1) ، وَقَالَتْ بَنُو عَامِرٍ (¬2) ، وَذَلِكَ قِيَاسٌ فِي كُلِّ اسْمِ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ إِذَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ مِثْلُ نَفَرٍ وَرَهْطٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّينَ نَحْوُ إِبِلٍ فَمُؤَنَّثٌ لَا غَيْرُ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحب «اللِّسَان» و «الْمِصْبَاح» . وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» هَذِهِ الْعِبَارَةُ «الْقَوْمُ مُؤَنَّثَةٌ وَتَصْغِيرُهَا قُوَيْمَةُ» فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وَسَكَتَ شُرَّاحُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَرِّجِ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ فِي «الْأَسَاسِ» فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنُ سِيدَهْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ تَأْنِيثِ (قَوْمٍ) وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَغَّرَ عَلَى قُوَيْمَةَ فَيُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ، وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ الْمُوَكَّدِ بِقَوْلِهِ: وَتَصْغِيرُهُ قُوَيْمَةُ، لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الْأَسْمَاءَ إِلَى أُصُولِهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَأْنِيثَهُ لَيْسَ بِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى الْأُمَّةِ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ اعْتِبَارٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِجْرَاءِ الصِّيَغِ مِثْلَ التَّصْغِيرِ، فَإِنَّ الصِّيَغَ مِنْ آثَارِ الْوَضْعِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُجْعَلُ لِلْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ بِالْمَجَازِ. وَجُمِعَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا كَذَّبُوا رَسُولًا وَاحِدًا أَوَّلَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَهُمْ أَوَّلُ الْمُكَذِّبِينَ، فَإِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا، وَأَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ أَصْنَامِهِمْ ضَلَالًا فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ مُقْتَضِيًا تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 123] وَمَا بَعْدَهُ. وَقَدْ حُكِيَ تَكْذِيبُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا فِي قَوْلِهِ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ فِي الْأَعْرَافِ [63] . وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ تَكْذِيبِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ لَيْكَةِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ وَقَوْلِهِ: الْمُرْسَلِينَ. ¬

(¬1) أَشرت إِلَى قَول الشَّاعِر: إِذا قتلنَا وَلم يثأر لنا أحد ... قَالَت قُرَيْش أَلا تِلْكَ الْمَقَادِير (¬2) أَشرت إِلَى قَول النَّابِغَة: قَالَت بَنو عَامر خانوا بني أَسد ... يَا بؤس للْجَهْل ضِرَارًا لأقوام

وَ (إِذْ قالَ) ظَرْفٌ، أَيْ كَذَّبُوهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ أَلا تَتَّقُونَ فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشُّعَرَاء: 111] . وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلا تَتَّقُونَ صَدَرَ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ مِنْ قَبْلُ وَكَرَّرَ دَعْوَتَهُمْ إِذْ رَآهُمْ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي مُجَاوَبَتِهِ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاء: 111] . وَخَصَّ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَذَا الْمَوْقِفَ مِنْ مَوَاقِفِهِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِغَرَضِ السُّورَةِ فِي تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مُمَاثِلِ حَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ. وَالْأَخُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقَرِيبِ مِنَ الْقَبِيلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [65] . وَقَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَلا مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى (لَا) النافية، فَهُوَ اسْتِفْهَام عَنِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَهُوَ يَقْتَضِي امْتِنَاعَهُمْ مِنَ الِامْتِثَالِ لِدَعْوَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلَا حَرْفًا وَاحِدًا هُوَ حَرْفُ التَّحْضِيضِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ [التَّوْبَة: 13] وَهُوَ يَقْتَضِي تَبَاطُؤَهُمْ عَنْ تَصْدِيقِهِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى: خَشْيَةُ اللَّهِ مِنْ عِقَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْ جَعَلُوا مَعَهُ شُرَكَاءَ. وَجُمْلَةُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ أَوْ لِلتَّحْضِيضِ، أَيْ كَيْفَ تَسْتَمِرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ وَأَنَا رَسُولٌ لكم أَمِين عنْدكُمْ. وَكَانَ نُوحٌ مَوْسُومًا بِالْأَمَانَةِ لَا يُتَّهَمُ فِي قَوْمِهِ كَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقَّبُ الْأَمِينُ فِي قُرَيْشٍ. قَالَ النَّابِغَةُ: كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ إِنْكَارِهِمْ أَمَانَتَهُ لِأَنَّهُ تَوَقَّعَ حُدُوثَ الْإِنْكَارِ فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِتَجْرِبَةِ أَمَانَتِهِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الْأَمَانَةَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا بَلَّغَهُمْ مِنْ رِسَالَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ سَأَلَهُ: هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ (يَعْنِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَذِبًا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا فَعَلَ فِيهَا. فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ مَا كَانَ لِيَتْرُكَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. فَفِي حِكَايَةِ اسْتِدْلَالِ نُوحٍ بِأَمَانَتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ فِي هَذِهِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 111 إلى 115]

الْقِصَّةِ الْمَسُوقَةِ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ إِذْ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَدْعُونَهُ الْأَمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَمِينٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا. وَالتَّأْكِيدُ أَيْضًا لِتَوَقُّعِ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ. وَجُمْلَة: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أَيْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَمِينٌ لَكُمْ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي لَا أَطْلُبُ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ نَفْعًا لِنَفْسِي. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الدَّعْوَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَكَرَّرَ جُمْلَةَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ فَيَكُونُ قَدِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَرْكِ التَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَ مَا تَقْتَضِيهِ جُمْلَةُ الِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بقوله: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، ثُمَّ أَعَادَ جُمْلَةَ الدَّعْوَةِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إِذْ قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِلدَّعْوَةِ وَلِتَعْلِيلِهَا. وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ أَطِيعُونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: 14] فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [17، 18] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آل عمرَان [33] . [111- 115] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 111 إِلَى 115] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) جُمْلَةُ: قالُوا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ [الشُّعَرَاء: 105] مِنَ اسْتِشْرَافِ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُوحٍ مِنْ حِوَارٍ، وَلِذَلِكَ حُكَيَتْ مُجَادَلَتُهُمْ بِطَرِيقَةِ: قَالُوا، وَقَالَ. وَالْقَائِلُونَ: هُمْ كبراء الْقَوْم الَّذين تَصَدَّوْا لِمُحَاوَرَةِ نُوحٍ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُؤْمِنُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُؤْمِنُ لَكَ وَقَدِ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ فَجُمْلَةُ: وَاتَّبَعَكَ حَالِيَّةٌ. والْأَرْذَلُونَ: سَقَطُ الْقَوْمِ مَوْصُوفُونَ بِالرَّذَالَةِ وَهِيَ الْخِسَّةُ وَالْحَقَارَةُ، أَرَادُوا بِهِمْ ضُعَفَاءَ الْقَوْمِ وَفُقَرَاءَهُمْ فَتَكَبَّرُوا وَتَعَاظَمُوا أَنْ يَكُونُوا وَالضُّعَفَاءُ سَوَاءً فِي اتِّبَاعِ نُوحٍ. وَهَذَا كَمَا قَالَ عُظَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: أَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [52] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاتَّبَعَكَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُضِيٍّ مِنْ صِيغَةِ الِافْتِعَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِ أَوْ كَانُوا أَكْثَرَ أَتْبَاعِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَتْبَاعُكَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَابِعٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ لَا غَيْرُهُمْ فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ قَصْرٍ. وَجَوَابُ نُوحٍ عَنْ كَلَامِ قَوْمِهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَدْقِيقٍ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. فَأَمَّا لَفْظُهُ فَاقْتِرَانُ أَوَّلِهِ بِالْوَاوِ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى كَلَامِ قَوْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّصَالِهِ بِكَلَامِهِمْ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مُبَادَرَتِهِ بِالْجَوَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَة: 124] . وَيُسَمَّى عَطْفُ تَلْقِينٍ مُرَاعَاةً لِوُقُوعِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُسَمَّى عَطْفَ تَكْمِيلٍ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَوْمَهُ فَصَّلُوا إِجْمَالَ وَصْفِهِمْ أَتْبَاعَهُ بِالْأَرْذَلِينَ بِأَنْ بَيَّنُوا أَوْصَافًا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ لَا يَعْبَأُ النَّاسُ بِهِمْ فَأَتَى بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ عِلْمِهِ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِالْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ جَدْوَاهُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الشَّيْءِ يُؤْذِنُ بِالْجَهْلِ بِهِ، وَالْجَهْلُ تُلَازِمُهُ قِلَّةُ الْعِنَايَةِ بِالْمَجْهُولِ وَضَعْفُ شَأْنِهِ، كَمَا يُقَالُ لَكَ: يُهَدِّدُكَ فُلَانٌ، فَتَقُولُ: وَمَا فُلَانُ، أَيْ لَا يَعْبَأُ بِهِ. وَفِي خَبَرِ وَهْبِ بْنِ كِيسَانَ عَنْ جَابِرِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً فَقَالَ وَهْبٌ: قُلْتُ وَمَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ.

وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ حَتَّى أَشْتَغِلَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَعْمَالِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُ مَرَاتِبَهُمْ فَأَنَا لَا أَهْتَمُّ بِمَا قَبْلَ إِيمَانِهِمْ. وَضُمِّنَ عِلْمِي مَعْنَى اشْتِغَالِي وَاهْتِمَامِي فعدّي بِالْبَاء. وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ مَوْصُول مَا صدقه الْحَالَةُ لِأَنَّ الْحَالَةَ لَا تَخْلُو مِنْ عَمَلٍ. فَالْمَعْنَى: وَمَا عِلْمِي بِأَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحَدٍ: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ أَيْ مَا خَبَرُهُ وَمَا حَالُهُ؟ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّبِيِّ الْأَنْصَارِيِّ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» لِطَائِرٍ يُسَمَّى النُّغَرَ (بِوَزْنِ صُرَدٍ) وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبُلْبُلِ كَانَ عِنْدَ الصَّبِيِّ يَلْعَبُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» أَيْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ، فَهُوَ إِمْسَاكٌ عَنِ الْجَوَابِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: مَا بَالُهُ، أَيْ مَا حَالُهُ؟. وَفِعْلُ كانُوا مَزِيدٌ بَيْنَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَصِلَتِهَا لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَيْ تَأْكِيدِ مَدْلُولِ «مَا عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ» . وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا كَانُوا عَمِلُوهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا فَاعِلٌ وَلَيْسَتِ اسْمًا لِ (كَانَ) لِأَنَّ (كَانَ) الزَّائِدَةَ لَا تَنْصُبُ الْخَبَرَ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن. و (الْحساب) حَقِيقَتُهُ: العدّ، وَاسْتعْمل فِي معنى تمحيص الْأَعْمَال وَتَحْقِيق ظواهرها وبواطنها بِحَيْثُ لَا يفوت مِنْهَا شَيْء أَو يشْتَبه. وَالْمعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مُعَامَلَتَهُمْ بِمَا أَسْلَفُوا وَمَا يَعْمَلُونَ وَبِحَقَائِقِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا الْمَقَالُ اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ شُمُولِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي مِنْهَا مَا يُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الرَّسُولِ الْمُشَرِّعِ، فَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْإِرْشَادِ فِي عَدَمِ إِهْمَالِ فُرْصَتِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَالُوهَا (أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ، أَيْ تَحْقِيقُ مُطَابَقَةِ بَاطِنِهِمْ لِظَاهِرِهِمْ عَلَى اللَّهِ.

وَزَادَ نُوحٌ قَوْلَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [31] . وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْمَوْصُوفُ هُوَ حِسابُهُمْ وَالصِّفَةُ هِيَ عَلى رَبِّي، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ الْخَبَرَ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، فَإِنَّ الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفَ الْوَاقِعَةَ أَخْبَارًا تَتَضَمَّنُ مَعْنًى يَتَّصِفُ بِهِ الْمُبْتَدَأُ وَهُوَ الْحُصُولُ وَالثُّبُوتُ الْمُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ بِكَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ. وَالتَّقْدِيرُ: حِسَابُهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِمَدْلُولِ عَلى رَبِّي. وَكَذَلِكَ قَدَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ لَا يَتَجَاوَزُ الْكَوْنُ عَلَى رَبِّي إِلَى الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهِ عَلَيَّ. وَهُوَ رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ قَوْمِهِ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِإِبْعَادِ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَكُونُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي طَلَبَهُ نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ: لَوْ تَشْعُرُونَ تَجْهِيلٌ لَهُمْ وَرَغْمٌ لِغُرُورِهِمْ وَإِعْجَابِهِمُ الْبَاطِلِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ تَشْعُرُونَ لَشَعَرْتُمْ بِأَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَيَّ فَلِمَا سَأَلْتُمُونِيهِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَهَّلَهُمْ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ [29] وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (¬1) . هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي يُطَابِقُ نَظْمَ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى زِيَادَاتٍ وَفُرُوضٍ. وَالْمُفَسِّرُونَ نَحَوْا مَنْحَى تَأْوِيلِ الْأَرْذَلُونَ أَنَّهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالرَّذَالَةِ الدَّنِيَّةِ، أَيِ الطَّعْنُ فِي صِدْقِ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تَبَرُّؤًا مِنَ الْكَشْفِ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ لَفْظُ الْحِسَابِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْحِسَابِ الَّذِي يَقَعُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَذَلِكَ لَا يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ مُقْتَضَى طَرْدِهِمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَنَّ وَصْفِي يَصْرِفُنِي عَنْ مُوَافَقَتِكُمْ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (وَلَكِنَّكُمْ قوم تجهلون) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الصَّوَاب وَالله أعلم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 116 إلى 120]

وَالْمُبِينُ: مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى بَيَّنَ وَوَضَّحَ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ حِكَايَةُ مَوْقِفٍ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ شَبِيهٍ بِمَا حُكِيَ هُنَا وَبَيْنَ الْحِكَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ مَا، فَلَعَلَّهُمَا مَوْقِفَانِ أَوْ هُمَا كَلَامَانِ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ حُكِيَ أَحَدُهُمَا هُنَالِكَ وَالْآخَرُ هُنَا عَلَى عَادَةِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، فَمَا فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِمَا فِي الْأُخْرَى. [116- 120] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 116 إِلَى 120] قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) لَمَّا أَعْيَاهُمُ الِاسْتِدْلَالُ صَارُوا إِلَى سِلَاحِ الْمُبْطِلِينَ وَهُوَ الْمُنَاضَلَةُ بِالْأَذَى. وَالرَّجْمُ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقَتْلِ بِهِ، ومِنَ الْمَرْجُومِينَ يُفِيدُ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ بِالرَّجْمِ، أَيْ مِنْ فِئَةِ الدُّعَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الرَّجْمَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ تَمْهِيدٌ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّحَسُّرِ وَالْيَأْسِ مِنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ التَّكْذِيبِ. وَالْفَتْحُ: الْحُكْمُ، وَتَأْكِيدُهُ بِ فَتْحاً لِإِرَادَةِ حُكْمٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِالِاحْتِرَاسِ بِقَوْلِهِ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. والْمَشْحُونِ: الْمَمْلُوءُ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فِي الْإِخْبَارِ لِأَنَّ إِغْرَاقَ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِنْجَاءِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ. وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَّبُونِ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: 14] .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 121 إلى 122]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 121 إِلَى 122] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) الْآيَةُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، فَفِي هَذِهِ الْقِصِّةِ آيَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قِصَّةَ نوح والطوفان. [123- 127] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 123 إِلَى 127] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَعْدَادٍ لِأَخْبَارِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ وَتَكْرِيرِ الْمَوْعِظَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ جُمْلَةِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 105] . وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي أَوَّلِ قِصَّةِ نُوحٍ سَوَاءٌ، سِوَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ نُوحٍ لِأَنَّ هُودًا وَعَظَهُمْ بِمَصِيرِ قَوْمِ نُوحٍ فِي آيَةِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [69] . واقتران فِعْلُ كَذَّبَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ اسْمَ عَادٍ عَلَمٌ عَلَى أمة فَهُوَ مؤوّل بِمَعْنَى الْأُمَّةِ. وَالْقَوْلُ فِي أَلا تَتَّقُونَ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ هُوَ كَقَوْلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يُبْعَثُ إِلَّا وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. وَيَدُلُّ لِكَوْنِ هُودٍ قَدْ كَانَ كَذَلِكَ فِي قَوْمِهِ قَوْلُ قَوْمِهِ لَهُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [54] الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ تَغَيُّرَ حَالِهِ عَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا بِهِ مِنْ قَبْلُ بِسَبَبِ سُوءِ اعْتِقَادِهِ فِي آلِهَتِهِمْ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 128 إلى 130]

وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَحَذْفُ يَاءِ وَأَطِيعُونِ لِلْفَاصِلَةِ كَحَذْفِهَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ آنِفًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ وَهُودٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَة الْأَعْرَاف [65] . [128- 130] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 128 إِلَى 130] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) رَأَى مِنْ قَوْمِهِ تَمَحُّضًا لِلشُّغْلِ بِأُمُورِ دُنْيَاهُمْ، وإعراضا عَن الْفِكر فِي الْآخِرَةِ وَالْعَمَلِ لَهَا وَالنَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِشْرَاكًا مَعَ اللَّهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَانْصِرَافًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَعْمَرَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَزَادَهُمْ قُوَّةً عَلَى الْأُمَمِ، فَانْصَرَفَتْ هِمَّاتُهُمْ إِلَى التَّعَاظُمِ وَالتَّفَاخُرِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ. وَكَانَتْ عَادٌ قَدْ بَلَغُوا مَبْلَغًا عَظِيمًا مِنَ الْبَأْسِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَى الْبِلَادِ مِمَّا أَثَارَ قَوْلَهُمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] فَقَدْ كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ تَصِفُ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ فِي نَوْعِهِ بِأَنَّهُ «عَادِيٌّ» وَكَانُوا أَهْلَ رَأْيٍ سَدِيدٍ وَرَجَاحَةَ أَحْلَامٍ، قَالَ وَدَّاكُ بْنُ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ: وَأَحْلَامُ عَادٍ لَا يَخَافُ جَلِيسُهُمْ ... وَلَوْ نَطَقَ الْعُوَّارُ غَرْبَ لِسَانِ وَقَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ غَسَّانَ: أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَادٌ مُطَهَّرَةٌ ... مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْأَثَمِ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَتَفَنَّنُوا فِي إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمَلَذَّاتِ وَاشْتَدَّ الْغُرُورُ بِأَنْفُسِهِمْ فَأَضَاعُوا الْجَانِبَ الْأَهَمَّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ جَانِبُ الدِّينِ وَزَكَاءُ النَّفْسِ، وَأَهْمَلُوا أَنْ يَقْصِدُوا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَقَاصِدَ النَّافِعَةَ وَنِيَّةَ إِرْضَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِحُبِّ الرِّئَاسَةِ وَالسُّمْعَةِ، فَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَاسْتَخَفُّوا بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَحْمَقُوا النَّاصِحِينَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا فَفَاتَحَهُمْ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى مَا فُتِنُوا بِالْإِعْجَابِ بِهِ وَبِذَمِّهِ إِذْ أَلْهَاهُمُ التَّنَافُسُ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ فَنَبَذُوا اتِّبَاعَ الشَّرَائِعِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ. فَمِنْ سَابِقِ أَعْمَالِ عَادٍ أَنَّهُمْ كَانُوا بَنَوْا فِي طُرُقِ أَسْفَارِهِمْ أَعْلَامًا وَمَنَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْلَا يَضِلَّ

السَّائِرُونَ فِي تِلْكَ الرِّمَالِ الْمُتَنَقِّلَةِ الَّتِي لَا تَبْقَى فِيهَا آثَارُ السَّائِرِينَ وَاحْتَفَرُوا وَشَيَّدُوا مَصَانِعَ لِلْمِيَاهِ وَهِيَ الصَّهَارِيجُ تَجْمَعُ مَاءَ الْمَطَرِ فِي الشِّتَاءِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا الْمُسَافِرُونَ وَيَنْتَفِعَ بِهَا الْحَاضِرُونَ فِي زَمَنِ قِلَّةِ الْأَمْطَارِ، وَبَنَوْا حُصُونًا وَقُصُورًا عَلَى أَشْرَافٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي ذَاتِهَا لِأَنَّ فِيهَا حِفْظَ النَّاسِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الْفَيَافِي بِضَلَالِ الطُّرُقِ، وَمِنَ الْهَلَكَةِ عَطَشًا إِذَا فَقَدُوا الْمَاءَ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَمَتَى أُرِيدَ بِهَا رِضَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْعِ عَبِيدِهِ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالثَّنَاءِ عَاجِلًا وَالثَّوَابِ آجِلًا. فَأَمَّا إِذَا أُهْمِلَ إِرْضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَاتُّخِذَتْ لِلرِّيَاءِ وَالْغُرُورِ بِالْعَظَمَةِ وَكَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ انْقَلَبَتْ عَظَمَةً دُنْيَوِيَّةً مَحْضَةً لَا يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى جَانِبِ النَّفْعِ وَلَا تَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي تَأْسِيسِ أَمْثَالِهَا وَقُصَارَاهَا التَّمَدُّحُ بِمَا وَجَدُوهُ مِنْهَا. فَصَارَ وُجُودُهَا شَبِيهًا بِالْعَبَثِ لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنْ رُوحِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فَلَا عِبْرَةَ عِنْدَ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرَ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَكَانُوا أَيْضًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّزَوُّدِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا. وَالْأَعْمَالُ إِذَا خَلَتْ عَنْ مُرَاعَاةِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى اخْتَلَفَتْ مَشَارِبُ عَامِلِيهَا طَرَائِقَ قِدَدًا عَلَى اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَاجْتِلَابِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى سُنَّةِ الْمَوَاعِظِ فَإِنَّهَا تُبْنَى عَلَى مُرَاعَاةِ مَا فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الضُّرِّ الرَّاجِحِ عَلَى النَّفْعِ، فَلَا يَلْفِتُ الْوَاعِظُ إِلَى مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ مَرْجُوحٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْعُ مَرْغُوبًا لِلنَّاسِ، فَإِنَّ بَاعِثَ الرَّغْبَةِ الْمُنْبَثَّ فِي النَّاسِ مُغْنٍ عَنْ تَرْغِيبِهِمْ فِيهِ، وَتَصَدِّي الْوَاعِظِ لِذَلِكَ فُضُولٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْمَقْصِدِ بِتَحْذِيرِهِمْ أَوْ تَحْرِيضِهِمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، إِذا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْخَيْرِ مَفْقُودًا أَوْ ضَئِيلًا. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ مَوْعِظَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [الشُّعَرَاء: 136] . وَمَقَامُ الْمَوْعِظَةِ أَوْسَعُ مِنْ مَقَامِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، فَمَوْعِظَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْأَدْوَاءِ الرُّوحِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي مَوْعِظَتِهِ أَمْرٌ بِتَغْيِيرِ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ وَلَا مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْمَصَانِعِ. وَلَمَّا صَارَ أَثَرُ الْبِنَاءِ شَاغِلًا عَنِ الْمَقْصِدِ النَّافِعِ لِلْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ نُزِّلَ فِعْلُهُمْ

الْمُفْضِي إِلَى الْعَبَثِ مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ الْعَبَثُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْبِنَاءَ بِإِدْخَالِ هَمْزَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى فِعْلِ تَبْنُونَ، وَقُيِّدَ بِجُمْلَةِ: تَعْبَثُونَ الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَبْنُونَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمَّا بَنَوْا ذَلِكَ مَا أَرَادُوا بِفِعْلِهِمْ عَبَثًا، فَمَنَاطُ الْإِنْكَارِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ هُوَ الْبِنَاءُ الْمُقَيَّدُ بِالْعَبَثِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ انْصَرَفَ إِلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ. وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَهُوَ جُمْلَةُ: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَار ومقيّد بجملة الْحَال المقيّد بِهَا الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَالَ الْمُتَوَسِّطَةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَرْجِعُ إِلَى كِلْتَيْهِمَا عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ لَا سِيَّمَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الْبِنَاءِ وَالْآيَاتِ وَالْمَصَانِعِ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ مَا هُوَ متمحّض لِلَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَفِي بَعْضِهِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي بَعْضِهِ مَا هُوَ صَلَاحٌ وَنَفْعٌ كَمَا سَيَأْتِي. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: أَتَبْنُونَ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: 124] فَإِنَّ مَضْمُونَهَا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّقْوَى الَّذِي تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ. وَالرِّيعُ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الشَّرَفُ، أَيِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، كَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّرِيقُ وَالْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَالْآيَة: الْعَلامَة الدّلَالَة عَلَى الطَّرِيقِ، وَتُطْلَقُ الْآيَةُ عَلَى الْمَصْنُوعِ الْمُعْجِبِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى إِتْقَانِ صَانِعِهِ أَوْ عَظَمَةِ صَاحِبِهِ. وَ (كُلِّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ فِي الْأَرْيَاعِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ، وَالْعَبَثُ: الْعَمَلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ نَفْعٍ فِيهِ. وَالْمَصَانِعُ: جَمْعُ مَصْنَعٍ وَأَصْلُهُ مَفْعَلٌ مُشْتَقٌّ مِنْ صَنَعَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَقِيلَ: هُوَ الْجَابِيَةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: مَبْنِيَّةٌ بِالْجِيرِ يُخَزَّنُ بِهَا الْمَاءُ وَيُسَمَّى صِهْرِيجًا وَمَاجِلًا، وَقِيلَ: قُصُورٌ وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَكَانَتْ بِلَادُ عَادٍ مَا بَيْنَ عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَمُتَغَلْغِلَةً فِي الشَّمَالِ إِلَى الرِّمَالِ وَهِيَ الْأَحْقَاقُ.

وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ طَلَبُ الْمُتَكَلِّمِ شَيْئًا مُسْتَقْرَبَ الْحُصُولِ، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، أَيْ أَرْجُو لَكُمُ الْخُلُودَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمَصَانِعِ. وَقِيلَ: جَعَلَتْ عَادٌ بِنَايَاتٍ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ عَلَى الطُّرُقِ يَعْبَثُونَ فِيهَا وَيَسْخَرُونَ بِالْمَارَّةِ. وَقَدْ يُفَسَّرُ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي حَالِ انْحِطَاطِهَا حَوَّلَتْ مَا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْمَصَالِحِ إِلَى مَفَاسِدَ فَعَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مَبْنِيًّا لِقَصْدِ تَيْسِيرِ السَّيْرِ وَالْأَمْنِ عَلَى السَّابِلَةِ مِنَ الضَّلَالِ فِي الْفَيَافِي الْمُهْلِكَةِ فَجَعَلُوهُ مَكَامِنَ لَهْوٍ وَسُخْرِيَةٍ، كَمَا اتُّخِذَتْ بَعْضُ أَدْيِرَةِ النَّصَارَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مَجَالِسَ خَمْرٍ، وَكَمَا أَدْرَكْنَا الصَّهَارِيجَ الَّتِي فِي قَرْطَاجَنَّةَ كَانَتْ خَزَّانًا لِمِيَاهِ زَغْوَانَ الْمُنْسَابَةِ إِلَيْهَا عَلَى الْحَنَايَا فَرَأَيْنَاهَا مَكَامِنَ لِلِّصُوصِ وَمَخَازِنَ لِلدَّوَابِّ إِلَى أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ سَنَةَ 1303 هـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصَانِعَ قُصُورٌ عَظِيمَةٌ اتَّخَذُوهَا فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَبْنِيَةٍ رَاسِخَةٍ مَكِينَةٍ كَأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي التَّرَفِ وَالتَّعَاظُمِ. هَذَا مَا اسْتَخْلَصْنَاهُ مِنْ كَلِمَاتٍ انْتَثَرَتْ فِي أَقْوَالٍ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى حِيرَةٍ مِنْ خِلَالِ كَلَامِهِمْ فِي تَوْجِيهِ إِنْكَارِ هُودٍ عَلَى قَوْمِهِ عَمَلَيْنِ كَانَا مَعْدُودَيْنِ فِي النَّافِعِ مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ، وَأَحْسَبُ أَنْ قَدْ أَزَلْنَا تِلْكَ الْحَيْرَةَ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أَعْقَبَ بِهِ مَوْعِظَتَهُمْ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا بِأَنَّ وَعْظَهُمْ عَلَى الشِّدَّةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ عَدَمِ التَّوَازُنِ فِي الْعُقُولِ فَهُمْ يَبْنُونَ الْعَلَامَاتِ لِإِرْشَادِ السَّابِلَةِ وَيَصْطَنِعُونَ الْمَصَانِعَ لِإِغَاثَةِ الْعِطَاشِ فَكَيْفَ يُلَاقِي هَذَا التَّفْكِيرُ تَفْكِيرًا بِالْإِفْرَاطِ فِي الشِّدَّةِ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَطْشِ بِهِمْ، أَيْ عُقُوبَتِهِمْ. وَالْبَطْشُ: الضَّرْبُ عِنْدَ الْغَضَبِ بِسَوْطٍ أَوْ سَيْفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [195] . وجَبَّارِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَطَشْتُمْ وَهُوَ جَمْعُ جَبَّارٍ، وَالْجَبَّارُ: الشَّدِيدُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، فَالْمَعْنَى: إِذَا بَطَشْتُمْ كَانَ بَطْشُكُمْ فِي حَالَةِ التَّجَبُّرِ، أَيِ الْإِفْرَاطُ فِي الْأَذَى وَهُوَ ظُلْمٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [الْقَصَص: 19] . وَشَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ مُنَاسِبٌ لِلذَّنْبِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 131 إلى 135]

الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ بِلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، فالإفراط فِي الْبَطْشِ اسْتِخْفَافٌ بِحُقُوقِ الْخَلْقِ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ....» الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِعْلُ بَطَشْتُمْ الثَّانِي جَوَابًا لِ إِذا وَهُوَ مُرَادِفٌ لِفِعْلِ شَرْطِهَا، لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلِ الْجَوَابِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [72] وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِثْلُ هَذَا النَّظْمِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْفِعْلِ إِذْ يَحْصُلُ مِنْ تَكْرِيرِهِ تَأْكِيد مَدْلُوله. [131- 135] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 131 إِلَى 135] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) لَمَّا أَفَادَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشُّعَرَاء: 128] مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَارَنَ بِنَاءَهُمُ الْآيَاتِ وَاتِّخَاذَهُمُ الْمَصَانِعَ وَعَلَى شِدَّتِهِمْ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الْغَضَبِ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ التَّفْرِيعِ تَكْرِيرُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ. وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَطِيعُونِ كَحَذْفِهَا فِي نَظِيرِهَا الْمُتَقَدِّمِ. وَأُعِيدَ فِعْلُ وَاتَّقُوا وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْصُولِ وَصْفًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لَأَنَّ ظَاهِرَ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَبَنَيَ الْكَلَامَ عَلَى عَطْفِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ تَأْكِيدًا لَهُ وَاهْتِمَامًا بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى مَعَ أَنَّ مَا عُرِضَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِجُمْلَةِ وَأَطِيعُونِ قَضَى بِأَنْ يُعَادَ اتِّصَالُ النَّظْمِ بِإِعَادَةِ فِعْلِ اتَّقُوا. وَإِنَّمَا أُتِيَ بِفِعْلِ اتَّقُوا مَعْطُوفًا وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ مَفْصُولًا لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَعَلَّقَ بِفِعْلِ التَّقْوَى فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى اسْمَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى لِذَاتِهِ، ثُمَّ عَلَّقَ بِفِعْلِ التَّقْوَى فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ اسْمَ الْمَوْصُولِ بِصِلَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى إِنْعَامِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى لِاسْتِحْقَاقِهِ الشُّكْرَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 إلى 140]

وَقَدْ جَاءَ فِي ذِكْرِ النِّعْمَةِ بالإجمال الَّذِي يهيّىء السَّامِعِينَ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَقَالَ: الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ثُمَّ فَصَّلَ بِقَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَأُعِيدَ فِعْلُ أَمَدَّكُمْ فِي جُمْلَةِ التَّفْصِيلِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْإِمْدَادِ فَهُوَ لِلتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنْ جُمْلَةِ أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ فَإِنَّ فِعْلَ أَمَدَّكُمْ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِ أَمَدَّكُمْ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا صَارَ بَدَلًا مِنْهُ بِاعْتِبَار مَا تعلق بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ إِلَخْ الَّذِي هُوَ بَعْضٌ مِمَّا تَعْلَمُونَ. وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ التَّوْكِيدُ وَالْبَدَلُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ، فَلِأَجْلِهِ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ. وَابْتَدَأَ فِي تِعْدَادِ النِّعَمِ بِذِكْرِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا أَجَلُّ نِعْمَةٍ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، لِأَنَّ مِنْهَا أَقْوَاتَهُمْ وَلِبَاسَهُمْ وَعَلَيْهَا أَسْفَارُهُمْ وَكَانُوا أَهْلَ نُجْعَةٍ فَهِيَ سَبَبُ بَقَائِهِمْ، وَعَطَفَ عَلَيْهَا الْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِأَنَّهَا أُنْسُهُمْ وَعَوْنُهُمْ عَلَى أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَبَقَاءِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَهُمْ وَكَثْرَةِ أُمَّتِهِمْ، وَعَطَفَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونَ لِأَنَّهَا بِهَا رَفَاهِيَةُ حَالِهِمْ وَاتِّسَاعُ رِزْقِهِمْ وَعَيْشُ أَنْعَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ عَدَمِ تَقْوَاهُمْ وَلِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، أَيْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابًا إِنْ لَمْ تَتَّقُوا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ. وَالْعَذَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَوَصَفَ يَوْمٍ بِ عَظِيمٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ عَظِيمٌ مَا يَحْصُلُ فِيهِ من الْأَهْوَال. [136- 140] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 136 إِلَى 140] قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) أَجَابُوا بِتَأْيِيسِهِ مِنْ أَنْ يَقْبَلُوا إِرْشَادَهُ فَجَعَلُوا وَعْظَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءً، أَيْ هُمَا سَوَاءٌ فِي انْتِفَاءِ مَا قَصَدَهُ مِنْ وَعْظِهِ وَهُوَ امْتِثَالُهُمْ.

وَالْهَمْزَةُ لِلتَّسْوِيَةِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [6] . وَالْوَعْظُ: التَّخْوِيفُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ ضُرٌّ، وَالِاسْمُ الْمَوْعِظَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [46] . وَمَعْنَى: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أَمْ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَادِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْوَاعِظِينَ، أَيْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي نَفْيِ الصِّفَةِ عَنْهُ مِنْ أَنْ لَوْ قِيلَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] . وَجُمْلَةُ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، أَيْ كَانَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا فَلَا نَتَّبِعُ وَعْظَكَ لِأَنَّ هَذَا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لِلْفَرِيقَيْنِ حَاصِلٌ فِي مَقَامِ دَعْوَةِ هُودٍ إِيَّاهُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ خُلُقُ بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ السَّجِيَّةُ الْمُتَمَكِّنَةُ فِي النَّفْسِ بَاعِثَةٌ عَلَى عَمَلٍ يُنَاسِبُهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَقَدْ فُسِّرَ بِالْقُوَى النَّفْسِيَّةِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ فَيَشْمَلُ طَبَائِعَ الْخَيْرِ وَطَبَائِعَ الشَّرِّ، وَلِذَلِكَ لَا يُعْرَفُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مِنَ اللَّفْظِ إِلَّا بِقَيْدٍ يُضَمُّ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: خُلُقٌ حَسَنٌ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: سُوءُ خُلُقٍ، أَوْ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم: 4] . وَفِي الْحَدِيثِ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . فَإِذَا أُطْلِقَ عَنِ التَّقْيِيدِ انْصَرَفَ إِلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ، كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ التَّاسِعَةِ» «وَخُلُقِي نِعْمَ الْعَوْنُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَ جَارَاتِي بَوْنُ» أَيْ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ.

وَالْخُلُقُ فِي اصْطِلَاحِ الْحُكَمَاءِ: مَلَكَةٌ (أَيْ كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ أَيْ مُتَمَكِّنَةٌ مِنَ الْفِكْرِ) تَصْدُرُ بِهَا عَنِ النَّفْسِ أَفْعَالُ صَاحِبِهَا بِدُونِ تَأَمُّلٍ. فَخُلُقُ الْمَرْءِ مَجْمُوعُ غَرَائِزَ (أَيْ طَبَائِعُ نَفْسِيَّةٌ) مُؤْتَلِفَةٌ مِنَ انْطِبَاعٍ فِكْرِيٍّ: إِمَّا جِبِلِّيٌّ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَإِمَّا كسبي ناشىء عَنْ تَمَرُّنِ الْفِكْرِ عَلَيْهِ وَتَقَلُّدِهِ إِيَّاهُ لِاسْتِحْسَانِهِ إِيَّاهُ عَنْ تَجْرِبَةِ نَفْعِهِ أَوْ عَنْ تَقْلِيدِ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَوَاعِثِ مَحَبَّةِ مَا شَاهَدَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى اخْتِيَارًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لِذَاتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ سِيرَةِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيَقْتَدِي بِهِ وَيُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَمُحَاوَلَتُهُ تُسَمَّى تَخَلُّقًا. قَالَ سَالِمُ بْنُ وَابِصَةَ: عَلَيْكَ بِالْقَصِيدِ فِيمَا أَنْتَ فَاعِلُهُ ... إِنِ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ فَإِذَا اسْتَقَرَّ وَتَمَكَّنَ مِنَ النَّفْسِ صَارَ سَجِيَّةً لَهُ يَجْرِي أَعْمَالُهُ عَلَى مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِ وَتَأْمُرُهُ بِهِ نَفْسُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَلَوْ رَامَ حَمْلَ نَفْسِهِ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِمَا تُمْلِيهِ سَجِيَّتُهُ لَاسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ وَإِرَادَتَهُ وَحَقَّرَ رَأْيَهُ. وَقَدْ يتَغَيَّر الْخلق تغييرا تَدْرِيجِيًّا بِسَبَبِ تَجْرِبَةِ انْجِرَارِ مَضَرَّةٍ مِنْ دَاعِيهِ، أَوْ بِسَبَبِ خَوْفِ عَاقِبَةٍ سَيِّئَةٍ مِنْ جَرَّائِهِ بِتَحْذِيرِ مَنْ هُوَ قُدْوَةٌ عِنْدَهُ لِاعْتِقَادِ نُصْحِهِ أَوْ لِخَوْفِ عِقَابِهِ. وَأَوَّلُ ذَلِكَ هُوَ الْمَوَاعِظُ الدِّينِيَّةُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ أَرَادُوا مَدْحًا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَصَرُّوا عَلَى عَدَمِ تَغْيِيرِهَا فَيَكُونَ أَرَادُوا أَنَّهَا خُلُقُ أَسْلَافِهِمْ وَأُسْوَتِهِمْ فَلَا يَقْبَلُوا فِيهِ عَذْلًا وَلَا مَلَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَمْثَالِهِمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إِبْرَاهِيم: 10] . فَالْإِشَارَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ الَّذِي نَهَاهُمْ عَنْهُ رَسُولُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ رَسُولُهُمْ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ خُلُقِ أُنَاسٍ قَبْلَهُ، أَيْ مِنْ عَقَائِدِهِمْ وَمَا رَاضَوْا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّهُ عَبَرَ عَلَيْهَا وَانْتَحَلَهَا، أَيْ مَا هُوَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي فَالْخَلْقُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ مَصْدَرٌ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَالتَّكْوِينُ، وَالْخَلْقُ أَيْضًا مَصْدَرُ خَلَقَ، إِذَا كَذَبَ فِي خَبَرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: 17] . وَتَقُولُ الْعَرَبُ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ بِأَحَادِيثِ الْخَلْقِ وَهِيَ الْخُرَافَاتُ الْمُفْتَعَلَةُ، وَيُقَالُ لَهُ: اخْتِلَاقٌ بِصِيغَةٍ الِافْتِعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالِاخْتِرَاعِ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ يَخْلُقُ خَبَرًا لَمْ يَقَعْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَن مَا تزعمه مِنَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ كَذِبٌ وَمَا تُخْبِرُنَا مِنَ الْبَعْثِ اخْتِلَاقٌ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ حَيَاتَنَا كَحَيَاةِ الْأَوَّلِينَ نَحْيَا ثُمَّ نَمُوتُ، فَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ الَّذِي حَذَّرَهُمْ جَزَاءَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعَرَاء: 135] يَقُولُونَ: كَمَا مَاتَ الْأَوَّلُونَ وَلَمْ يُبْعَثْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ فَكَذَلِكَ نَحْيَا نَحْنُ ثُمَّ نَمُوتُ وَلَا نُبْعَثُ. وَهَذَا كَقَوْل الْمُشْركين ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجاثية: 25] فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْخُلُقِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَثْنَى. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ وَاحِدٌ مِنْهَا مَدْحٌ، وَاثْنَانِ ذمّ، وَوَاحِد ادِّعَاء. وَجُمْلَةُ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ عَلَى الْمَعَانِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ. وَعَلَى الْمَعْنَى الرَّابِعِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تَصْرِيحًا بَعْدَ الْكِنَايَةِ. وَالْقَصْرُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْمَ صَالِحٍ نَطَقُوا بِلُغَتِهِمْ جُمَلًا كَثِيرَةً تَنْحَلُّ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي فَجَمَعَهَا الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بِاحْتِمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَاخْتِلَافِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ خُلُقٍ فَلِلَّهِ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ. وَالْفَاءُ فِي فَكَذَّبُوهُ فَصِيحَةٌ، أَيْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا ذَلِكَ أَوَعَظْتَ إِلَخْ قَدْ كَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى آخِرِهِ هُوَ مِثْلُ نَظِيرِهِ فِي قصَّة نوح.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 إلى 145]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 141 إِلَى 145] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) موقع هَذِه الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافُ تَعْدَادٍ وَتَكْرِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 123] . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهَا فِي قصَّة قوم نُوحٍ، وَثَمُودَ قَدْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا وَكَذَّبُوا هُودًا لِأَنَّ صَالِحًا وَعَظَهُمْ بِعَادٍ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [74] وَبِتَكْذِيبِهِمْ كَذَّبُوا بِنُوحٍ أَيْضًا، لِأَنَّ هُودًا ذَكَّرَ قَوْمَهُ بِمَصِيرِ قَوْمِ نُوحٍ فِي آيَةِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ وَصَالِحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [73] ، وَكَانَ صَالِحٌ مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ لَا يُرْسَلُ رَسُولٌ إِلَّا وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْفَضَائِلِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاء: 153] الْمُقْتَضِي تَغْيِيرَ حَالِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِهِ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ [62] . وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَطِيعُونِ هُوَ مِثْلُ نَظَائِرِهِ الْمُتَقَدّمَة آنِفا. [146- 152] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 146 إِلَى 152] أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) كَانُوا قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَغَرَّهُمْ أَيِمَّةُ كُفْرِهِمْ فِي ذَلِكَ فَجَاءَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا يُذَكِّرُهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا مَكَّنَ لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتٍ، وَمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالٍ عَظِيمَةٍ، وَنُزِّلَ حَالُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ الْخُلُودَ وَدَوَامَ النِّعْمَةِ فَخَاطَبَهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى إِنْكَارٌ عَلَى

ظَنِّهِمْ ذَلِكَ، وَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى فِعْلِ التَّرْكِ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ لَا يَكُونُ. فَكَانَ إِنْكَارُ حُصُولِهِ مُسْتَلْزِمًا إِنْكَارَ اعْتِقَادِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: 142] لِأَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ دَوَامَ حَالِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَصَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِاسْتِبْقَاءِ تِلْكَ النِّعَمِ بِأَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْحِكَمِ» «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» . وهاهُنا إِشَارَةٌ إِلَى بِلَادِهِمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا تُشَاهِدُونَهُ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وآمِنِينَ حَال مبينَة لِبَعْضِ مَا أجمله قَوْله: فِي مَا هاهُنا. وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا لَا يُشَارُ إِلَيْهَا وَهِيَ نِعْمَةُ الْأَمْنِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَلَا يُتَذَوَّقُ طَعْمُ النِّعَمِ الْأُخْرَى إِلَّا بِهَا. وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّقَ بِ آمِنِينَ لِيَكُونَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا لِإِجْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيِ اجْتَمَعَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. وَالْجَنَّاتُ: الْحَوَائِطُ الَّتِي تُشَجَّرُ بِالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَالطَّلْعُ: وِعَاءٌ يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ ثَمَرُ النَّخْلَةِ فِي أَوَّلِ أَطْوَارِهِ يَخْرُجُ كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي بَاطِنِهِ شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّلْعُ الْكِمُّ (بِكَسْرِ الْكَافِ) وَبَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَيَّامٍ يَنْفَلِقُ ذَلِكَ الْوِعَاءُ عَنِ الشَّمَارِيخِ وَهِيَ الْأَغْصَانُ الَّتِي فِيهَا الثَّمَرُ كَحَبٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ يَغْلُظُ وَيَصِيرُ بُسْرًا ثُمَّ تَمْرًا. وَالْهَضِيمُ: بِمَعْنَى الْمَهْضُومِ، وَأَصْلُ الْهَضْمِ شَدْخُ الشَّيْءِ حَتَّى يَلِينَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلدَّقِيقِ الضَّامِرِ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ. وَتِلْكَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ تَمْرًا جَيِّدًا. وَالنَّخْلُ الَّذِي يُثْمِرُ تَمْرًا جَيِّدًا يُقَالُ لَهُ: النَّخْلُ الْإِنَاثُ وَضِدَّهُ فَحَاحِيلُ، وَهِيَ جُمَعُ فُحَّالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) أَيْ ذَكَرٌ، وَطَلْعُهُ غَلِيظٌ وَتَمْرُهُ كَذَلِكَ. وَخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْجَنَّاتُ لِقَصْدِ بَيَانِ جَوْدَتِهِ بِأَنَّ طَلْعَهُ هَضِيمٌ.

وتَنْحِتُونَ عَطْفٌ عَلَى آمِنِينَ، أَيْ وَنَاحِتِينَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ فِي نَحْتِهِمْ بُيُوتًا مِنَ الْجِبَالِ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وفرهين صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَرَاهَةِ وَهِيَ الْحَذَقُ وَالْكَيَاسَةُ، أَيْ عَارِفِينَ حَذِقِينَ بِنَحْتِ الْبُيُوتِ مِنَ الْجِبَالِ بِحَيْثُ تَصِيرُ بِالنَّحْتِ كَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ فارِهِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مُفَرَّعٌ مِثْلُ نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ. وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْرِفِينَ أَيِمَّةُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ يُغْرُونَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَيُبْقُونَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ اسْتِغْلَالًا لِجَهْلِهِمْ وَلِيُسَخِّرُوهُمْ لِفَائِدَتِهِمْ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ فِي شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فِي الْمَالِ وَفِي الْكُفْرِ، وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَالْإِسْرَافُ مَنُوطٌ بِالْفَسَادِ. وَعَطْفُ وَلا يُصْلِحُونَ عَلَى جُمْلَةِ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] وَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهْنَيِّ: النَّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ يُفِيدُ أَنَّ فَسَادَهُمْ لَا يَشُوبُهُ صَلَاحٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ إِنَّمَا هُمْ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ لِئَلَّا يُحْتَمَلَ أَنَّهُ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِصْلَاحِ عَنْهُمْ يُؤَكِّدُ إِثْبَاتَ الْإِفْسَادِ لَهُمْ، فَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ فِي الذِّهْنِ، وَيَتَأَكَّدُ مَعْنَى إِفْسَادِهِمْ بِنَفْيِ ضِدّه كَقَوْل السموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيف الْعَهْد.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 153 إلى 154]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 153 إِلَى 154] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) أَجَابُوا مَوْعِظَتَهُ بِالْبُهْتَانِ فَزَعَمُوهُ فَقَدَ رُشْدَهُ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ وَاخْتَلَقُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ سِحْرٍ شَدِيدٍ. فَالْمُسَحَّرُ: اسْمُ مَفْعُولٍ سَحَّرَهُ إِذَا سَحَرَهُ سِحْرًا مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، ومِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالتَّسْحِيرِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُسَحَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] . وَلَمَّا تَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ أَيَّدُوا تَكْذِيبَهُ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ فِي زَعْمِهِمْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَخْلُوقًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ كَأَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ جنّيّا. فجملة: إِن مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فِي حُكْمِ التَّأْكِيدِ بِجُمْلَةِ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ بِاعْتِبَارِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَفَرَّعُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ الْمُطَالَبَةَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ عَلَى صِدْقِهِ، أَيْ أَنْ يَأْتِيَ بِخَارِقِ عَادَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ عَنْهُ. وَفَرَضُوا صِدْقَهُ بِحَرْفِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّكِّ. وَمَعْنَى مِنَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْفِئَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ يَعْنُونَ بِذَلِكَ الرُّسُلَ الصَّادِقِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَكُّنِ الصِّدْقِ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] . [155- 159] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 155 إِلَى 159] قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) اسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى نَاقَةٍ جَعَلَهَا لَهُمْ آيَةً. وَتَقَدَّمَ خَبَرُ هَذِهِ النَّاقَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَذَكَرَ أَنَّ صَالِحًا جَعَلَ لَهَا شِرْبًا، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: النَّوْبَةُ فِي الْمَاءِ، لِلنَّاقَةِ يَوْمًا تَشْرَبُ فِيهِ لَا يُزَاحِمُونَهَا فِيهِ بِأَنْعَامِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ نَظِيرُ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَرَسُولِهِمْ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 164]

وَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ لَمَّا رَأَوْا أَشْرَاطَ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ صَالِحٌ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّدَمُ لِأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَلَّ بِهِمْ سَرِيعًا، فَلِذَلِكَ عَطَفَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ عَلَى نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الْآيَة. [160- 164] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 160 إِلَى 164] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِهَا كَالْقَوْلِ فِي سَابِقَتِهَا، وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهَا كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا. وَجعل لوط أَخًا لِقَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نَسَبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ نَزِيلًا فِيهِمْ، إِذْ كَانَ قَوْمُ لُوطٍ مَنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَكَانَ لُوطٌ عِبْرَانِيًّا وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْطَنَ بِلَادَهُمْ وَعَاشَرَ فِيهِمْ وَحَالَفَهُمْ وَظَاهَرَهُمْ جُعِلَ أَخًا لَهُمْ كَقَوْلِ سُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ: أَخُوكُمْ وَمَوْلَى خَيْرِكُمْ وَحَلِيفُكُمْ ... وَمَنْ قَدْ ثَوَى فِيكُمْ وَعَاشَرَكُمْ دَهْرًا يَعْنِي نَفْسَهُ يُخَاطِبُ مَوَالِيَهُ بَنِي الْحَسْحَاسِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَإِخْوانُ لُوطٍ [ق: 13] . وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْأُخُوَّةِ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّيْءِ وَمُمَارَسَتِهِ كَمَا قَالَ: أخور الْحَرْبِ لَبَّاسًا إِلَيْهَا جِلَالَهَا ... إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّكَ عَاقِرُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: 27] . [165، 166] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 165 إِلَى 166] أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) هُوَ فِي الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِه أَتُتْرَكُونَ [الشُّعَرَاء: 146] فِي قِصَّةِ ثَمُودَ. وَالْإِتْيَانُ: كِنَايَةٌ. وَالذُّكْرَانَ: جَمْعُ ذَكَرٍ وَهُوَ ضِدُّ الْأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْعالَمِينَ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنَّهُ فِي

مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي أَتَأْتُونَ. ومِنَ فَصْلِيَّةٌ، أَيْ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ بَيْنَ مُتَخَالِفَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُمَاثِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ. فَالْمَعْنَى: مَفْصُولَيْنِ مِنَ الْعَالَمِينَ لَا يُمَاثِلُكُمْ فِي ذَلِكَ صِنْفٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا وَهُوَ أَوْفَقُ بِمَعْنَى: الْعالَمِينَ الَّذِي الْمُخْتَارُ فِيهِ أَنَّهُ جَمْعُ (عَالَمٍ) بِمَعْنَى النَّوْعِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَإِثْبَاتُ مَعْنَى الْفَصْلِ لِحَرْفِ مِنَ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [الْبَقَرَة: 220] ، وَقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَال: 37] . وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَهُوَ مَعْنًى رَشِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [220] . وَالْمَعْنَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مُخَالِفِينَ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَإِنَّهَا لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَأْتِي الذُّكُورَ. فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْفَظِيعَ مُخَالِفٌ لِلْفِطْرَةِ لَا يَقَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْعَجَمِ فَهُوَ عَمَلٌ ابْتَدَعُوهُ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: 28] . وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ: الْإِنَاثُ مِنْ نَوْعٍ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَزْوَاجِ عَلَيْهِنَّ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، فَفِي هَذَا الْمَجَازِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَرْجُو ارْعِوَاءَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالصَّلَاحِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِعَمَلٍ عَلَى بُطْلَانِ عَمَلٍ يُضَادُّهُ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ. فَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّيْطَانِ وَإِفْسَادِهِ لِسُنَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء: 119] . وبَلْ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى مَقَامِ الذَّمِّ تَغْلِيظًا لِلْإِنْكَارِ بَعْدَ لِينِهِ لِأَنَّ شَرَفَ الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي الْإِعْلَانَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَالْأَخْذِ بِأَصْرَحِ مَرَاتِبِ الْإِعْلَانِ فَإِنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ بِلِسَانِهِ غَلِيظَ الْإِنْكَارِ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ إِلَى ليّنه وَأَنه يبتدىء بِاللِّينِ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ لُوطٌ مِنْ قَوْلِهِ:

[سورة الشعراء (26) : الآيات 167 إلى 173]

أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: بَلْ كُنْتُمْ عَادِينَ، مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ نِسْبَةِ الْعُدْوَانِ إِلَيْهِمْ. وَفِي جَعْلِ الْخَبَرِ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى عادُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالْعَادِي: هُوَ الَّذِي تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، يُقَالُ: عَدَا عَلَيْهِ، أَيْ ظَلَمَهُ، وَعُدْوَانُهُمْ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْحَدِّ الْمَوْضُوعِ بِوَضْعِ الْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ مُنَافٍ لَهَا مَحْفُوفٌ بِمَفَاسِدِ التَّغْيِير للطبع. [167- 173] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 167 إِلَى 173] قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ فَهَدَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ مَدِينَتِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَلْ كَانَ مُهَاجِرًا بَيْنَهُمْ وَلَهُ صِهْرٌ فِيهِمْ. وَصِيغَةُ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَنُخْرِجِنَّكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] . وَكَانَ جَوَابُ لُوطٍ عَلَى وَعِيدِهِمْ جَوَابُ مُسْتَخِفٍّ بِوَعِيدِهِمْ إِذْ أَعَادَ الْإِنْكَارَ قَالَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أَيْ مِنَ الْمُبْغِضِينَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْقالِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ قَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْجِنَاسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جِنَاسًا تَامًّا فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ قالَ وَبَيْنَ الْقالِينَ جِنَاسٌ مُذَيَّلٌ وَيُسَمَّى مُطَرَّفًا.

وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُنْجِيَهُ وَأَهْلَهُ مِمَّا يَعْمَلُ قَوْمُهُ، أَيْ مِنْ عَذَابِ مَا يَعْمَلُونَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَنَجَّيْناهُ. وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُ الْمَعْنَى: نَجِّنِي مِنْ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّهُ يَفُوتُ مَعَهُ التَّعْرِيضُ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي الْأَعْرَافِ وَفِي هُودٍ وَالْحَجَرِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ كَانَتْ نَجَاتُهُ عَقِبَ دُعَائِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ أَسْرَعِ مُدَّةٍ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ بِأَهْلِهِ إِلَى قَرْيَةِ «صُوغَرَ» . وَالْعَجُوزُ: الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ وَهِيَ زَوْجُ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ: فِي الْغابِرِينَ صِفَةُ عَجُوزاً. وَالْغَابِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْغُبُورِ وَهُوَ الْبَقَاءُ بَعْدَ ذَهَابِ الْأَصْحَابِ أَوْ أَهْلِ الْخَيْلِ، أَيْ بَاقِيَةٌ فِي الْعَذَابِ بَعْدَ نَجَاةِ زَوْجِهَا وَأَهْلِهِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهَا لَحِقَهَا الْعَذَابُ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا فَكَانَ صِفَةً لَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ أَجْدَرُ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ مِنْ ذِكْرِ إِنْجَاءِ لُوطٍ الْمُؤمنِينَ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِصَابَةُ بِالدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتُؤْصِلُوا بِالْخَسْفِ وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَطَرُ: الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ السَّحَابِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالْإِمْطَارُ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، يُقَالُ: أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ. وَسُمِّيَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحِجَارَة مَطَرا لِأَن نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوِّ. وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَقْذُوفَاتِ بَرَاكِينٍ فِي بِلَادِهِمْ أَثَارَتْهَا زَلَازِلُ الْخَسْفِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَ (سَاءَ) فِعْلُ ذَمٍّ بِمَعْنَى بِئْسَ. وَفِي قَوْلِهِ: الْمُنْذَرِينَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا فَلم ينتذروا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 174 إلى 175]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 174 إِلَى 175] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) أَيْ فِي قِصَّتِهِمُ الْمَعْلُومَةِ لِلْمُشْرِكِينَ آيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيره آنِفا. [176- 180] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 176 إِلَى 180] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) اسْتِئْنَاف تعداد وتكرير كَمَا تَقَدَّمَ فِي جُمْلَةِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 123] . وَلَمْ يَقْرِنْ فِعْلَ كَذَّبَ هَذَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ أَصْحابُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ مُذَكَّرٌ مَعْنًى وَلَفْظًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ [الشُّعَرَاء: 160] فَإِنَّ (قَوْمَ) فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 105] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيْكَةَ بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ الْأَيْكَةِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَبِجَرِّ آخِرِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعْرِيفُ عَهْدٍ لِأَيْكَةٍ مَعْرُوفَةٍ. وَالْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَهِيَ الْغَيْضَةُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: رَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحِجْرِ وَق الْأَيْكَةِ وَفِي الشُّعَرَاءِ وَص لَيْكَةَ وَاجْتَمَعَتْ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ كُلُّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ. وَأَصْحَابُ لَيْكَةَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ أَوْ قَبِيلَةٌ مِنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ غِيضَتُهُمْ مِنْ شَجَرِ الْمُقْلِ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ النَّبْقُ) وَيُقَالُ لَهُ الدَّوْمُ (بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُون الْوَاو) . وإفرادها بِتَاءِ الْوَحْدَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْبُقْعَةِ وَاسْمُ الْجَمْعِ: أَيْكٌ، وَاشْتَهَرَتْ بِالْأَيْكَةِ فَصَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ مِثْلُ الْعَقَبَةِ. ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِيَكُونَ عَلَمًا شَخْصِيًّا فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَتُنُوسِيَ مَعْنَى التَّعْرِيفِ

بِاللَّامِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا شُعَيْبٌ كَانَ لَيْكَةَ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: وَجَدْنَا فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ لَيْكَةَ اسْمُ الْقَرْيَةِ وَالْأَيْكَةُ الْبِلَادُ كُلُّهَا كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ. وَهَذَا مِنَ التَّغْيِيرِ لِأَجْلِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا سَمَّوْا شُمْسًا بِضَمِّ الشِّينِ لِيَكُونَ عَلَمًا وَأَصْلُهُ الشَّمْسُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ. وَالتَّغْيِيرُ لِأَجْلِ النَّقْلِ إِلَى الْعِلْمِيَّةِ وَارِدٌ بِكَثْرَةٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَلَمَّا صَارَ اسْمُ لَيْكَةَ عَلَمًا عَلَى الْبِلَادِ جَازَ مَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ كَمَا تَوَهَّمَهُ النَّحَّاسُ، وَلَا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ اغْتِرَارٌ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ كَمَا تَعَسَّفَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِتَوْهِيمِ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى الرِّوَايَةِ قَبْلَ نَسْخِ الْمَصَاحِفِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا تَتَّبِعُوا الْأَوْهَامَ الْمُخْطِئَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ أَصْحَابَ لَيْكَةَ هُمْ مَدْيَنُ أَوْ هُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ سَاكِنُونَ فِي لَيْكَةَ جِوَارِ مَدْيَنَ أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ. وَإِلَى هَذَا مَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى أُمَّتَيْنِ: إِلَى قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» : رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قَوْمَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّتَانِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا النَّبِيءَ» ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا غَرِيبٌ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وروى ابْن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ أَهْلُ مَدْيَنَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَهْلَ الْأَيْكَةِ قَبِيلَةٌ غَيْرُ مَدْيَنَ فَإِنَّ مَدْيَنَ هُمْ أَهْلُ نَسَبِ شُعَيْبٍ وَهُمْ ذَرِّيَّةُ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ زَوْجِهِ «قَطُورَةَ» سَكَنَ مَدْيَنُ فِي شَرْقِ بَلَدِ الْخَلِيلِ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ بَلَدًا مَأْهُولًا بِقَوْمٍ فَهُمْ إِذَنْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَبَنَى مَدْيَنُ وَبَنُوهُ الْمَدِينَةَ وَتَرَكُوا الْبَادِيَةَ لِأَهْلِهَا وَهُمْ سُكَّانُ الْغَيْضَةِ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 إلى 183]

وَالَّذِي يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَهْلِ مَدْيَنَ وَصَفَ شُعَيْبًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ، وَلَمَّا ذَكَرَهَا لِأَصْحَابِ لَيْكَةَ لَمْ يَصِفْ شُعَيْبًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ شُعَيْبٌ نَسِيبًا وَلَا صِهْرًا لِأَصْحَابِ لَيْكَةَ، وَهَذَا إِيمَاءٌ دَقِيقٌ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ. وَمِمَّا يُرَجِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [78، 79] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ، فَجَعَلَ ضَمِيرَهُمْ مُثَنًّى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مَجْمُوعُ قَبِيلَتَيْنِ: مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ لَيْكَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَإِنَّمَا تُرْسَلُ الرُّسُلُ مَنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يُوسُف: 109] وَتَكُونُ الرِّسَالَةُ شَامِلَةً لِمَنْ حَوْلَ الْقَرْيَةِ. وَافْتَتَحَ شُعَيْبٌ دَعَوْتَهُ بِمِثْلِ دَعَوَاتِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ النَّهْيَ عَنِ الْإِشْرَاكِ فَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَمَا فِي آيَةِ سُورَة هود. [181- 183] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 181 إِلَى 183] أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) اسْتِئْنَافٌ مِنْ كَلَامِهِ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ غَرَضِ الدَّعْوَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: 177] إِلَى آخِرِهِ إِلَى الدَّعْوَةِ التَّفْصِيلِيَّةِ بِوَضْعِ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمْ، فَقَدْ كَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ يُطَفِّفُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَبْخَسُونَ أَشْيَاءَ النَّاسِ إِذَا ابْتَاعُوهَا مِنْهُمْ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. فَأَمَّا تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ فَظُلْمٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَلَمَّا كَانَ تجارهم قد تمالؤوا عَلَيْهِ اضْطُرَّ النَّاسُ إِلَى التَّبَايُعِ بِالتَّطْفِيفِ. وأَوْفُوا أَمْرٌ بِالْإِيفَاءِ، أَيْ جعل الشَّيْء وافيا، أَي تَامًّا، أَيِ اجْعَلُوا الْكَيْلَ غَيْرَ نَاقِصٍ. وَالْمُخْسِرُ: فَاعِلُ الْخَسَارَةِ لِغَيْرِهِ، أَيِ الْمُنْقِصُ، فَمَعْنَى وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ. وَصَوْغُ مِنَ الْمُخْسِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَا تَكُونُوا مُخْسِرِينَ. لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الصَّنِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] فِي قِصَّةِ نُوحٍ.

[سورة الشعراء (26) : آية 184]

وَالْقِسْطَاسُ: بِضَمِّ الْقَافِ وَبِكَسْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدْلِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمِيزَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [35] ، حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا كَمَا هُنَالِكَ وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ بِ الْمُسْتَقِيمِ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمِيزَانُ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ هَذَا التَّشْرِيعُ فِي قِصَّتِهِ فِي الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْقِسْطاسِ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ. وَبَخْسُ أَشْيَاءِ النَّاسِ: غَبْنُ مَنَافِعِهَا وَذَمُّهَا بِغَيْرِ مَا فِيهَا لِيَضْطَرُّوهُمْ إِلَى بَيْعِهَا بِغَبْنٍ. وَأَمَّا الْفَسَادُ فَيَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ الضَّارَّةِ. وَالْبَخْسُ: النَّقْصُ وَالذَّمُّ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] وَنَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَمِنْ بَخْسِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَقُولُوا لِلَّذِي يَعْرِضُ سِلْعَةً سَلِيمَةً لِلْبَيْعِ: إِنَّ سِلْعَتَكَ رَدِيئَةٌ، لِيَصْرِفَ عَنْهَا الرَّاغِبِينَ فيشتريها برخص. [184] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 184] وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) أَكَّدَ قَوْلَهُ فِي صَدْرِ خِطَابِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ [الشُّعَرَاء: 179] بِقَوْلِهِ هُنَا: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وَزَادَ فِيهِ دَلِيلَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ اتَّقُوا وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لَمْ يَصِحَّ عَطْفُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى نَبْذِ اتِّقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ. والْجِبِلَّةَ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ: الْخِلْقَةُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ اسْمٌ كَالْمَصْدَرِ وَلِهَذَا وُصِفَ بِ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: أَطْلَقَ الْجِبِلَّةَ عَلَى أَهْلِهَا، أَيْ وَذَوِي الْجِبِلَّةِ الْأَوَّلِينَ. وَالْمَعْنَى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأُمَم قبلكُمْ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 185 إلى 188]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 185 إِلَى 188] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) نَفَوْا رِسَالَتَهُ عَنِ اللَّهِ كِنَايَةً وَتَصْرِيحًا فَزَعَمُوهُ مَسْحُورًا، أَيْ مُخْتَلُّ الْإِدْرَاكِ وَالتَّصَوُّرَاتِ مِنْ جَرَّاءِ سِحْرٍ سُلِّطَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ بُطْلَانِ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ رِسَالَةً عَنِ اللَّهِ. وَفِي صِيغَةِ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاء: 153] مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشُّعَرَاء: 167] . وَالْإِتْيَانُ بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يَجْعَلُ كَوْنَهُ بَشَرًا إِبْطَالًا ثَانِيًا لِرِسَالَتِهِ. وَتَرْكُ الْعَطْفِ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ يَجْعَلُ كَوْنُهُ بَشَرًا حُجَّةً عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَيْسَ وَحْيًا عَلَى اللَّهِ بَلْ هُوَ مِنْ تَأْثِيرِ كَوْنِهِ مَسْحُورًا. فَمَآلُ مَعْنَيَيِ الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدٌ وَلَكِنَّ طَرِيقَ إِفَادَتِهِ مُخْتَلِفٌ وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ أُسْلُوبِ الْحِكَايَتَيْنِ. وَأُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى الْيَقِينِ فِي وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 46] ، وَقَرِينَتُهُ هُنَا دُخُولُ اللَّامِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ (ظَنَّ) لِأَنَّ أَصْلَهَا لَامُ قَسَمٍ. وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ الْكاذِبِينَ اللَّامُ الْفَارِقَةُ، وَحَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا أَصْلُهُ الْخَبَرُ فَيُقَالُ هُنَا مَثَلًا: وَإِنْ أَنْتَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، لَكِنَّ الْعَرَبَ تَوَسَّعُوا فِي الْمُخَفَّفَةِ فَكَثِيرًا مَا يُدْخِلُونَهَا عَلَى الْفِعْلِ النَّاسِخِ لِشِدَّةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فَيَجْتَمِعُ فِي الْجُمْلَةِ حِينَئِذٍ نَاسِخَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [الْبَقَرَة: 143] وَكَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فِي مَثَلِهِ: وَنَظُنُّ أَنَّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَوَقَعَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ لِأَجْلِ تَصْدِيرِ حَرْفِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ (إِنَّ) وَأَخَوَاتِهَا لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ مَا عَدَا (أَنِ) الْمَفْتُوحَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ مَا يُخَفِّفُونَ (إِنَّ) إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلٍ مِنَ النَّوَاسِخِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ، فَالَّذِي يَقُولُ: إِنْ أَظُنُّكَ لَخَائِفًا، أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَظُنُّ أَنَّكَ لَخَائِفٌ، فَقَدَّمَ (إِنَّ) وَخَفَّفَهَا وَصَيَّرَ خَبَرَهَا مَفْعُولًا لِفِعْلِ الظَّنِّ، فَصَارَ: إِنْ أَظُنُّكَ لَخَائِفًا، وَالْكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَ إِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ حَرْفَ نَفْيٍ وَيَجْعَلُونَ اللَّامَ بِمَعْنَى (إِلَّا) .

[سورة الشعراء (26) : آية 189]

وَالْأَمْرُ فِي فَأَسْقِطْ أَمْرُ تَعْجِيزٍ. وَالْكِسْفُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ عَدَا حَفْصًا: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هُوَ جَمْعُ كِسْفَةٍ مِثْلُ قِطْعٍ وَسِدْرٍ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً [الطّور: 44] . وَقَرَأَ حَفْصٌ كِسَفاً بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ السِّينِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَسْفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [92] . وَقَوْلُهُمْ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ كَقَوْلِ ثَمُودَ: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاء: 154] إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَيَّنُوا الْآيَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَعْيِينَهَا اقْتِرَاحٌ مِنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ شُعَيْبًا أَنْذَرَهُمْ بِكِسَفٍ يَأْتِي فِيهِ عَذَابٌ. وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الظُّلَّةِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ جَوَابُ شُعَيْبٍ بِإِسْنَادِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَمِقْدَارِهِ. وأَعْلَمُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعَالِمِ وَلَيْسَ هُوَ بتفضيل. [189] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 189] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) الظُّلَّةِ: السَّحَابَةُ، كَانَتْ فِيهَا صَوَاعِقُ مُتَتَابِعَةٌ أَصَابَتْهُمْ فَأَهْلَكَتْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ كَانَ الْعَذَابُ مِنْ جِنْسِ مَا سَأَلُوهُ، وَمِنْ إِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَوْلُهُ: فَكَذَّبُوهُ الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ فَتَبَيَّنَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاء: 185] أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ، أَيْ تَبَيَّنَ التَّكْذِيبُ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَصَدُوهُ مِنْ تَعْجِيزِهِ إِذْ قَالُوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاء: 187] . وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ التَّكْذِيبِ إِيقَاظٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ أَصْحَابِ شُعَيْبٍ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عقابهم كَذَلِك. [190، 191] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 190 إِلَى 191] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) أَيْ فِي ذَلِكَ آيَةٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ إِذْ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ أَصْحَابِ لَيْكَةَ فَقَدْ كَانُوا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 إلى 195]

مِنَ الْمُطَفِّفِينَ مَعَ الْإِشْرَاكِ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ إِلَى قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: 1- 5] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي طَالِعَةِ هَذِهِ السُّورَةِ [8] وَجْهَ تَكْرِيرِ آيَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً. [192- 195] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 192 إِلَى 195] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) عَوْدٌ إِلَى مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ الْآيَةَ الْعُظْمَى بِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: 2] كَمَا تَقَدَّمَ لِتُخْتَتَمَ السُّورَةُ بِإِطْنَابِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ كَمَا ابْتُدِئَتْ بِإِجْمَالِ التَّنْوِيهِ بِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ آيَةٍ اخْتَارَهَا اللَّهُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَةَ أَفْضَلِ الْمُرْسَلِينَ. فَضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ بَعْدَ ذِكْرِ آيَاتِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ. فَبِوَاوِ الْعَطْفِ اتَّصَلَتِ الْجُمْلَةُ بِالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِضَمِيرِ الْقُرْآنِ اتَّصَلَ غَرَضُهَا بِغَرَضِ صَدْرِ السُّورَةِ. فَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَحْكِيَّةِ فِيهَا أَخْبَارُ الرُّسُلِ الْمُمَاثِلَةِ أَحْوَالُ أَقْوَامِهِمْ لِحَالِ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ آيَةُ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَطْفُهَا عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي مَثْلُهَا عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: 2] بِحَيْثُ لَوْلَا مَا فُصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى مِنْ طُولِ الْكَلَامِ لَكَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا. وَوَجْهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ إِعْرَاضِ الْكَافِرِينَ عَنْ قَبُولِهِ وَطَاعَتِهِمْ فِيهِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُنْكِرِينَ. وَالتَّنْزِيلُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُنَزَّلَ نَفْسُ التَّنْزِيلِ. وَجُمْلَةُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ بَيَان لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَيْ كَانَ تَنْزِيلُهُ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَخْفِيفِ زَايِ نَزَلَ وَرَفْعِ الرُّوحُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ نَزَلَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَنَصْبِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، أَيْ نَزَّلَهُ اللَّهُ بِهِ.

وَ (الرُّوحُ الْأَمِينُ) جبرئيل وَهُوَ لَقَبُهُ فِي الْقُرْآنِ، سُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَهِيَ الْمُجَرَّدَاتُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَتَقَدَّمَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي الْبَقَرَةِ [87] . وَنُزُولُ جِبْرِيلَ إِذْنُ اللَّهِ تَعَالَى، فَنُزُولُهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. والْأَمِينُ صِفَةُ جِبْرِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمِنَهُ عَلَى وَحْيِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالْقَلْبُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ قَبُولُ الْمَعْلُومَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] أَيْ إِدْرَاكٌ وَعَقْلٌ. وَقَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ نَزَلَ، وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ النُّزُولَ وُصُولٌ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ فَهُوَ مُقْتَضٍ اسْتِقْرَارَ النَّازِلِ عَلَى مَكَانٍ. وَمَعْنَى نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَى قَلْبِ النَّبِيءِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: اتِّصَالُهُ بِقُوَّةِ إِدْرَاكِ النَّبِيءِ لِإِلْقَاءِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ فِي قُوَّتِهِ الْمُتَلَقِّيَةِ لِلْكَلَامِ الْمُوحَى بِأَلِفَاظِهِ، فَفِعْلُ (نَزَلَ) حَقِيقَةٌ. وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعَارٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ مِمَّا سُمِّيَ بِقَلْبِ النَّبِيءِ مِثْلُ اسْتِعَارَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَقَدْ وَصَفَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك كَمَا فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِيَ مَا يَقُولُ» . وَهَذَانَ الْوَصْفَانِ خَاصَّانِ بِوَحْيِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَثَمَّةَ وَحْيٌ مِنْ قَبِيلِ إِبْلَاغِ الْمَعْنَى وَسَمَّاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ نَفْثًا. فَقَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجَلَهَا» . فَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ وَحْيٌ بِالْمَعْنَى (وَالرُّوعُ: الْعَقْلُ) وَقَدْ يَكُونُ الْوَحْيُ فِي رُؤْيَا النَّوْمِ فَإِنَّ النَّبِيءَ لَا يَنَامُ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 196 إلى 197]

قَلْبُهُ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ النُّكْتَةَ فِي اخْتِصَاصِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ بِأَلِفَاظِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت: 48] . وَمَعْنَى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لِتَكُونَ مِنَ الرُّسُلِ. وَاخْتِيرَ مِنْ أَفْعَالِهِ النِّذَارَةَ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِغَرَضِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ وَبِإِنْذَارِهِمْ. وَفِي: مِنَ الْمُنْذِرِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ وَصْفِ الرِّسَالَةِ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ وَغَيْرِهَا. وبِلِسانٍ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ، أَيْ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مُلَابِسًا لِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُبَيِّنَةٍ أَيْ كَائِنًا الْقُرْآنَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي يَعْنِيهَا الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا لِاحْتِمَالِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الشَّرِيفَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، فَإِنَّ مَا فِي أَسَالِيبِ نَظْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِعْرَابِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ، وَمَا فِي سِعَةِ اللُّغَةِ مِنَ التَّرَادُفِ، وَأَسْمَاءِ الْمَعَانِي الْمُقَيَّدَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ، مَا يَلِجُ بِالْمَعَانِي إِلَى الْعُقُولِ سَهْلَةً مُتَمَكِّنَةً، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللُّغَةَ أَنْ تَكُونَ هِيَ لُغَةُ كِتَابِهِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ كَافَّةَ النَّاس، فَأنْزل بادىء ذِي بَدْءٍ بَيْنَ الْعَرَبِ أَهْلِ ذَلِكَ اللِّسَانِ وَمَقَاوِيلِ الْبَيَانِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْأُمَمِ تُتَرْجِمُ مَعَانِيهِ فَصَاحَتَهُمْ وَبَيَانَهُمْ، وَيَتَلَقَّى أَسَالِيبَهُ الشَّادُونَ مِنْهُمْ وَوِلْدَانُهُمْ، حِينَ أَصْبَحُوا أُمَّةً وَاحِدَةً يَقُومُ بِاتِّحَادِ الدِّينِ واللغة كيانهم. [196، 197] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 196 إِلَى 197] وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) عَطْفٌ عَلَى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 192] ، وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ كَضَمِيرِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَهَذَا تَنْوِيهٌ آخَرُ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تُصَدِّقُهُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ

بِمُوَافَقَتِهَا لِمَا فِيهِ وَخَاصَّةً فِي أَخْبَارِهِ عَنِ الْأُمَمِ وَأَنْبِيَائِهَا. وَقَوْلُهُ: لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَيْ كُتُبِ الرُّسُلِ السَّالِفِينِ، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَائِنٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ مِثْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي نَعْلَمُهَا إِجْمَالًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ضَمِيرَ الْقُرْآنِ لَا يُرَادُ بِهِ ذَاتُ الْقُرْآنِ، أَيْ أَلِفَاظُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَيْسَتْ سُوَرُ الْقُرْآنِ وَآيَاتُهُ مَسْطُورَةً فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ بِلَفْظِهَا كُلِّهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ الْخَاصِّ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ. فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الأوّل فَالضَّمِير مؤول بِالْعَوْدِ إِلَى اسْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَاف: 157] ، أَيْ يَجِدُونَ اسْمَهُ وَوَصْفَهُ الَّذِي يُعَيِّنُهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ وَارِدٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، أَيْ جَاءَتْ بِشَارَاتٌ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَسُولٌ يَجِيءُ بِكِتَابٍ. فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنْ كُتُبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ عَشَرَ قَوْلُ مُوسَى: «قَالَ لِيَ الرَّبُّ: أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ إِخْوَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمُ الْعَرَبُ كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ عَشَرَ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَمْلِ بِإِسْمَاعِيلَ «وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ» أَيْ لَا يَسْكُنُ مَعَهُمْ وَلَكِنْ قُبَالَتُهُمْ. وَلَمْ يَأْتِ نَبِيءٌ بِوَحْيٍ مِثْلِ مُوسَى بِشَرْعٍ كَشَرْعِ مُوسَى غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَجْعُولُ فِي فَمِهِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَتْلُوهُ. وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرًا.... وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى (أَيْ يَدُومُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ أَيْ دِينُهُ إِذْ لَا خُلُودَ لِلْأَشْخَاصِ) فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَكْرَزُ (أَيْ يَدْعُو) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ (أَيِ الْأَرْضِ الْمَأْهُولَةِ) شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ (رِسَالَةً عَامَّةً) ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى (أَيْ نِهَايَةُ الْعَالَمِ) » . فَالْبِشَارَةُ هِيَ الْوَحْيُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي دَعَا جَمِيعَ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيم: 1] وَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الْإِسْرَاء: 89] . وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ الْمَسِيحِ الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ عَشَرَ: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ

فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا (أَيْ رَسُولًا) آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ (هَذَا هُوَ دَوَامُ الشَّرِيعَةِ) رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ (إِشَارَةً إِلَى تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ) لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ» . ثُمَّ قَالَ: «وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ باسمي (أَي بِوَصْف الرِّسَالَةِ) فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ (وَهَذَا التَّعْلِيمُ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْقُرْآنُ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) » . وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي فَالضَّمِير مؤوّل بِمَعْنَى مُسَمَّاهُ كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ مُسَمَّى دِرْهَمٍ فَكَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الشَّيْءِ عَلَى مَعْنَاهُ نَحْوَ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] وَقَوْلَهُ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ [مَرْيَم: 41] أَيْ أَحْوَالُهُ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ ضَمِيرُ الِاسْمِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْإِنْجِيلِ آنِفًا «وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ» ، وَلَا تَجِدُ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسْطُورِ فِي الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْمُحَرَّفِ عَنْهُ إِلَّا وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ بَعْضِهِ كَقَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَلِكَ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ تَنْوِيهٌ ثَالِثٌ بِالْقُرْآنِ وَحَجَّةٌ عَلَى التَّنْوِيهِ الثَّانِي بِهِ الَّذِي هُوَ شَهَادَةُ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ بِالصِّدْقِ، بِأَنَّ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِمْ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَنْوِيهًا آخَرَ بِالْقُرْآنِ عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَى كَوْنِهَا حُجَّةً عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا تُعْطَفَ. وَفِعْلُ: يَعْلَمَهُ شَامِلٌ لِلْعِلْمِ بِصِفَةِ الْقُرْآنِ، أَيْ تَحَقُّقُ صِدْقِ الصِّفَاتِ الْمَوْصُوفِ بِهَا من جَاءَ بِهِ، وَشَامِلٌ لِلْعِلْمِ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ مَا فِي كُتُبِهِمْ. وَضَمِيرُ أَنْ يَعْلَمَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَعْلَمَ ذِكْرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 198 إلى 199]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 198 إِلَى 199] وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: 5] فَدَمَغَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا. وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ بُهْتَانَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ رَسُولٌ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ رَسُولٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ بِأَنْ أَوْحَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى رَسُولٍ لَا يَفْهَمُهَا وَلَا يُحْسِنُ تَأْلِيفَهَا فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي قِرَاءَتِهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ اللُّغَةَ أَيْضًا خَارِقُ عَادَةٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُلْقُونَهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ الْبَحْثَ عَنِ الْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَطَفِقُوا يَتَحَمَّلُونَ أَعْذَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ جُحُودًا لِلْحَقِّ وَتَسَتُّرًا مِنَ اللَّائِمِينَ. وَجُمْلَةُ: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 193- 195] لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلى قَلْبِكَ أَفَادَ أَنَّهُ أُوتِيَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ لَا كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: تَقَوَّلَهُ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَعْجِيزِهِمْ فَضَحَ نِيَّاتَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 96، 97] . والْأَعْجَمِينَ جَمْعُ أَعْجَمٍ. وَالْأَعْجَمُ: الشَّدِيدُ الْعُجْمَةِ، أَيْ لَا يُحْسِنُ كَلِمَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ هُنَا مُرَادِفُ أَعْجَمِيٍّ بِيَاءِ النَّسَبِ فَيَصِحُّ فِي جَمْعِهِ عَلَى أَعْجَمِينَ اعْتِبَارُ أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ أَعْجَمٍ كَمَا قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَصِفُ حَمَامَةً: وَلَمْ أَرَ مِثْلِي شَاقَهُ لَفْظُ مِثْلِهَا ... وَلَا عَرَبِيًّا شَاقَهُ لَفْظُ أَعْجَمَا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 إلى 203]

وَيَصِحُّ اعْتِبَارُ حَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ لِلتَّخْفِيفِ. وَأَصْلُهُ: الْأَعْجَمِيِّينَ كَمَا فِي الشِّعْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ: وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِحَالَهُمْ ... بِمَلْقَى السُّيُولِ بَيْنَ سَافٍ وَنَائِلِ أَيِ الْأَشْعَرِيُّونَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يُحْمَلُ قَول النَّابِغَة: فعودا لَهُ غَسَّانُ يَرْجُونَ أَوْبَهُ ... وَتُرْكٌ وَرَهْطُ الأعجمين وكابل [200- 203] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 200 إِلَى 203] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) تَقَدَّمَ نَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [12] ، إِلَّا أَنَّ آيَةَ الْحِجْرِ قِيلَ فِيهَا: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ سَلَكْناهُ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، فَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْمُضَارِعِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْلَاغٌ مَضَى وَهُوَ الَّذِي أُبْلِغَ لِشِيَعِ الْأَوَّلِينَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا ذِكْرٌ لِغَيْرِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ فَنَاسَبَهَا حِكَايَةُ وُقُوعِ هَذَا الْإِبْلَاغِ مُنْذُ زَمَنٍ مَضَى. وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ. وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ اسْتِمْرَارِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي حِينِ أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَلَا تَعْجَبْ فَكَذَلِكَ السُّلُوكُ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلسُّلُوكِ الْمَأْخُوذِ مِنْ سَلَكْناهُ بِنَفْسِهِ لِغَرَابَتِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، أَيْ هُوَ سُلُوكٌ لَا يُشْبِهُهُ سُلُوكٌ وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ بِإِبَانَتِهِ وَعَرَفُوا دَلَائِلَ صِدْقِهِ مِنْ أَخْبَارِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَمَعْنَى: سَلَكْناهُ أَدْخَلْنَاهُ، قَالَ الْأَعْشَى: كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ

وَعَبَّرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إِجْرَامٌ. وَجُمْلَةُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَالْغَايَةُ فِي حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ، وَحَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَالْعَذَابُ صَادِقٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ لِمَنْ هَلَكُوا قَبْلَ حُلُولِ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَصَادِقٌ بِعَذَابِ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْعَام: 158] . وَقَوْلُهُ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً صَالِحٌ لِلْعَذَابَيْنِ: عَذَابُ الْآخِرَةِ يَأْتِي عَقِبَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ بَغْتَةً، وَعَذَابُ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ يَحْصُلُ بَغْتَةً حِينَ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَأْتِيَهُمْ عاطفة لفعل فَيَأْتِيَهُمْ عَلَى فِعْلِ يَرَوُا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نصب فَيَأْتِيَهُمْ وَذَلِكَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَعْنَى الْعَطْفِ مِنْ إِفَادَةِ التَّعْقِيبِ فَيُثِيرُ إِشْكَالًا بِأَنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ بَلْ هُمَا حَاصِلَانِ مُقْتَرِنَيْنِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَدْ حَاوَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْكَاتِبُونَ عَلَيْهِ تَأْوِيلَهَا بِمَا لَا تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفس. وَالْوَجْه عِنْدِي فِي تَأْوِيلِهَا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِيهَا لِبَيَانِ صُورَةِ الِاشْتِمَالِ، أَيْ إِنَّ رُؤْيَةَ الْعَذَابِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُصُولِهِ بَغْتَةً، أَيْ يَرَوْنَهُ دَفْعَةً دُونَ سَبْقِ أَشْرَاطٍ لَهُ. أَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَقُولُوا فَهِيَ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ فِي الْوُجُودِ وَهُوَ صَادِقٌ بِأَسْرَعِ تَعْذِيبٍ فَتَكُونُ خَطِرَةً فِي نُفُوسِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكُوا فِي الدُّنْيَا، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَيُرَدِّدُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وَحِينَ يُلْقَوْنَ فِيهِ. وهَلْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اسْتِفْهَامٍ مُرَادٍ بِهِ التَّمَنِّي مَجَازًا. وَجِيءَ بَعْدَهَا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ تَمَنَّوْا إِنْظَارًا طَوِيلًا يَتَمَكَّنُونَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَل الصَّالح.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 204 إلى 207]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 204 إِلَى 207] أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الشُّعَرَاء: 202] تَقْدِيرُ جَوَابٍ عَنْ تَكَرُّرِ سُؤَالِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] ، حَيْثُ جَعَلُوا تَأَخُّرَ حُصُولِ الْعَذَابِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ تُفِيدُ تَعْقِيبَ الِاسْتِفْهَامِ عَقِبَ تَكَرُّرِ قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: 48] وَنَحْوِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ غُرُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَيَسْتَعْجِلُونَ بِعَذَابِنَا فَمَا تَأْخِيرُهُ إِلَّا تَمْتِيعٌ لَهُمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ فَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ، وَيَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] . قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَتَى تَعِدُنَا بِالْعَذَابِ وَلَا تَأْتِي بِهِ، فَنَزَلَتْ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. وَتَقْدِيمُ «بِعَذَابِنَا» لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِنْذَارِ، أَيْ لَيْسَ شَأْنُ مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَعْجَلَ لِفَظَاعَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ مُقْتَضِيًا أَنَّهُمْ فِي مُهْلَةٍ مِنْهُ وَمُتْعَةٍ بِالسَّلَامَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي مَنْجَاةٍ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَهُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابَهَهُمْ بِجُمْلَةِ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ لِلتَّقْرِيرِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا. وَالرُّؤْيَةُ فِي أَفَرَأَيْتَ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ أَفَعَلِمْتَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ حَتَّى الْمُجْرِمِينَ. وَجُمْلَةُ: إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (رَأَيْتَ) . وثُمَّ جاءَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشُّرَطِ الْمُعْتَرِضَةِ، وثُمَّ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، أَيْ جَاءَهُمْ بَعْدَ سِنِينَ. وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ

[سورة الشعراء (26) : آية 208]

الْعَذَابَ جَائِيهِمْ وَحَالٌّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَمَا كانُوا يُوعَدُونَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُوعَدُونَهُ. وَجُمْلَةُ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (رَأَيْتَ) لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ. وَمَا كانُوا يُمَتَّعُونَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُمَتَّعُونَهُ. وَالْمَعْنَى: أَعَلِمْتَ أَنَّ تَمْتِيعَهُمْ بِالسَّلَامَةِ وَتَأْخِيرَ الْعَذَابِ إِنْ فُرِضَ امْتِدَادُهُ سِنِينَ عَدِيدَةً غَيْرُ مُغْنٍ عَنْهُمْ شَيْئًا إِنْ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: 8] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ بِالْخَوَاتِيمِ. فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : رَوَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ أَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَرَأَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ: نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمٌ فَلَا أَنْتَ فِي الْإِيقَاظِ يَقْظَانُ حَازِمٌ ... وَلَا أَنْتَ فِي النُّوَّامِ نَاجٍ فَسَالِمُ تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ وَتَسْعَى إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ قِصَّةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رُوِيَ مَثِيلُهُ عَن الْمَنْصُور. [208] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 208] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) تَذْكِيرٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ وَالَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَدْ كَانَ لَهَا رُسُلٌ يُنْذِرُونَهَا عَذَابَ اللَّهِ لِيَقِيسُوا حَالَتَهُمْ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالٍ لَهَا مُنْذِرُونَ. وَعُرِّيَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ عَنِ الْوَاوِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الْوَاوِ

[سورة الشعراء (26) : آية 209]

بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ ذُكِرَتِ الْوَاوُ لَجَازَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [4] إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. وَعَبَّرَ عَنِ الرُّسُلِ بِصِفَةِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ للتهديد بالإهلاك. [209] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 209] ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) أَيْ هَذِهِ ذِكْرَى، فَذِكْرَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [35] بَلاغٌ أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [52] هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَفِي سُورَةِ ص [49] هَذَا ذِكْرٌ. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ ذِكْرَى لَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: ذِكْرى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي الشُّعَرَاءِ وَقْفٌ تَامٌّ إِلَّا قَوْلَهُ: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاء: 208] . وَقَدْ تَرَدَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: ذِكْرى بِوُجُوهٍ جَعَلَهَا جَمِيعًا عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ: ذِكْرى تَكْمِلَةً لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَهِيَ غَيْرُ خَلِيَّةٍ عَنْ تَكَلُّفٍ. وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَّرَ. وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا ظالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً على ذِكْرى أَي نذكّركم وَلَا نظلم، وَأَن تكون حَالا من الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي ذِكْرى لِأَنَّهُ كَالْمَصْدَرِ يَقْتَضِي مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُفَادُ وَما كُنَّا ظالِمِينَ الْإِعْذَارُ لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بِهِمْ هَلَاكٌ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ ظالِمِينَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْف: 49] . [210- 212] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 210 إِلَى 212] وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 192] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ اسْتَدْعَاهُ تَنَاسُبُ الْمَعَانِي وَأَخْذُ بَعْضِهَا بِحُجَزِ بَعْضٍ تَفَنُّنًا فِي الْغَرَضِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى

قَوْلِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ كَاهِنٌ قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: 29] ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيهِ شَيْطَانٌ فَقَدْ قَالَتِ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ لَمَّا تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لَيْلَتَيْنِ لِمَرَضٍ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ. وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَاجَعَهُمْ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حِينَ شَاوَرَهُ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا يَصِفُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: نَقُولُ: كَلَامُهُ كَلَامُ كَاهِنٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ. وَكَلَامُ الْكُهَّانِ فِي مَزَاعِمِهِمْ مِنْ إِلْقَاءِ الْجِنِّ إِلَيْهِم وَإِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ نُفُوسِهِمْ يَنْسُبُونَهَا إِلَى شَيَاطِينِهِمُ الْمَزْعُومَةِ. نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، أَيِ الْكُهَّانُ لَا يَجِيشُ فِي نُفُوسِهِمْ كَلَامٌ مِثْلُ الْقُرْآنِ فَمَا كَانَ لِشَيَاطِينِ الْكُهَّانِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَى نُفُوسِ أَوْلِيَائِهِمْ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ. فَالْكَهَانَةُ مِنْ كَذِبِ الْكُهَّانِ وَتَمْوِيهِهِمْ، وَأَخْبَارُ الْكُهَّانِ كُلُّهَا أَقَاصِيصُ وَسَّعَهَا النَّاقِلُونَ. فَالتَّعْرِيفُ فِي السَّمْعِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ مِنْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، أَيْ تَتَحَيَّلُ عَلَى الِاتِّصَالِ بِعِلْمِ مَا يَجْرِي فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى. ذَلِكَ أَنَّ الْكُهَّانَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَأْتِيهِمْ بِأَخْبَارِ مَا يُقَدَّرُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مِمَّا سَيَظْهَرُ حُدُوثُهُ فِي الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، فَلِذَلِكَ نُفِيَ هُنَا تَنَزُّلُ الشَّيَاطِينِ بِكَلَامِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِأَخْبَارِ مَا سَيَكُونُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَمَعْنَى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ مَا يَسْتَقِيمُ وَمَا يَصِحُّ، أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَلَقِّي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي الشَّأْنُ أَنْ يَتَلَقَّاهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ، وَمَا يَسْتَطِيعُونَ تَلَقِّيهِ لِأَنَّ النُّفُوسَ الشَّيْطَانِيَّةَ ظَلْمَانِيَّةٌ خَبِيثَةٌ بِالذَّاتِ فَلَا تَقْبَلُ الِانْتِقَاشَ بِصُوَرِ مَا يَجْرِي فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، فَإِنَّ قَبُولَ فَيَضَانِ الْحَقِّ مَشْرُوطٌ بِالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَبْدَأِ وَالْقَابِلِ. فَضَمِيرُ يَنْبَغِي عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ بِهِ، أَيْ مَا يَنْبَغِي الْقُرْآنُ لَهُمْ، أَيْ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلُوا بِهِ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَمَفْعُولُ يَسْتَطِيعُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا يَسْتَطِيعُونَهُ. وَأُعِيدَتِ الضَّمَائِرُ بِصِيغَةِ الْعُقَلَاءِ بَعْدَ أَنْ أَضْمَرَ لَهُمْ بِضَمِيرِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ اعْتِبَارًا بِمُلَابَسَةِ ذَلِكَ لِلْكُهَّانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّ صِنْفًا مِنَ الشَّيَاطِينِ يَتَهَيَّأُ لِلتَّلَقِّي بِمَا يُسَمَّى اسْتِرَاقُ السَّمْعِ وَأَنَّهُ يُصْرَفُ عَنْهُ بِالشُّهُبِ. وَاسْتُؤْنِفَ بِ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَكَانَ

[سورة الشعراء (26) : آية 213]

ذَلِكَ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ. وَالْمَعْزُولُ: الْمُبْعَدُ عَنْ أَمْرٍ فَهُوَ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَهَانَةِ مَنْ أَصْلِهَا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْقُوَى الرُّوحِيَّةِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مُنْذُ ظُهُور الْإِسْلَام. [213] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 213] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) لَمَّا وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: 193، 194] إِلَى هُنَا، فِي آيَاتٍ أَشَادَتْ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّقَتْ صِدْقَهُ بِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ وَشَهِدَ بِهِ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْحَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِبْطَالِ مَا أَلْصَقُوهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ بُهْتَانِهِمْ، لَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ الشِّرْكِ الَّذِي تَقَلَّدَتْهُ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهَا وَنَاضَلَتْ عَلَيْهِ بِالْأَكَاذِيبِ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا النَّهْيِ وَقَعَ تَوْجِيهُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مُنْتَهٍ عَنْ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلَّذِينِ هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْإِشْرَاكِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: 65] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ الْخِطَابُ. فَالْمَعْنَى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونُوا مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ غير مُشْرِكين. [214] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 214] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاء: 193، 194] ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقَبُولِ

نُصْحِهِ وَتَعْزِيزِ جَانِبِهِ وَلِئَلَّا يَسْبِقَ إِلَى أَذْهَانِهِمْ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الرَّسُولُ مِنَ الْغِلْظَةِ فِي الْإِنْذَارِ وَأَهْوَالِ الْوَعِيدِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَرَابَةُ هَذَا الْمُنْذِرِ وَخَاصَّتُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِدَائِهِ لَهُمْ: «لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» ، وَأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِقِلَّةِ رَعْيِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْقَرَابَةِ إِذْ آذَاهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَعَصَوْهُ مِثْلُ أَبِي لَهَبٍ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يُكْتَفَى مِنْ مُؤْمِنِهِمْ بِإِيمَانِهِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّذَارَةِ، وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَابَتَهُ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ. فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» يَجْمَعُهَا قَوْلُهُمْ: «لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَعَمَّ وَخَصَّ، يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» وَكَانَتْ صَفِيَّةُ وَفَاطِمَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ إِنْذَارُهُمَا إِعْمَالًا لِفِعْلِ الْأَمْرِ فِي مَعَانِيهِ كُلِّهَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَجَمَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْإِنْذَارِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ أَنْذَرَ صَفِيَّةَ وَفَاطِمَةَ وَكَانَتَا مُسْلِمَتَيْنِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعَدَ النَّبِيءُ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي

[سورة الشعراء (26) : آية 215]

تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ [المسد: 1، 2] . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ مَعَ أَنَّ سُورَةَ أَبِي لَهَبٍ عُدَّتِ السَّادِسَةَ فِي عداد نزُول السُّورِ، وَسُورَةَ الشُّعَرَاءِ عُدَّتِ السَّابِعَةَ وَالْأَرْبَعِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مُفْرَدًا، فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : لَمَّا نَزَلَتْ «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» وَأَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ. فَلَعَلَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا ثُمَّ أُعِيدَ نُزُولُ بَعْضِهَا فِي جملَة بِسُورَة الشُّعَرَاءِ. وَالْعَشِيرَةُ: الْأَدْنُونَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَوَصْفُ الْأَقْرَبِينَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْعَشِيرَةِ وَاجْتِلَابٌ لِقُلُوبِهِمْ إِلَى إِجَابَةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَتَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْإِدَانَةِ مِنْهُمْ. وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أشدّ مُضَافَة عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ. وَإِلَى هَذَا يُشِير قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُم فِي آخِرِ الدَّعْوَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ «غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» أَيْ ذَلِكَ مُنْتَهَى مَا أَمْلِكُ لَكُمْ حِينَ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَيَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبُلُّوا لِي رَحِمِي مِمَّا تَمْلِكُونَ، فَإِنَّكُمْ تَمْلِكُونَ أَنْ تَسْتَجِيبُوا لِي. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَشِيرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ فِي سُورَة بَرَاءَة [24] . [215] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 215] وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ ابْتِدَارًا لِكَرَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ الَّذِي لَا يَخْلُو مِنْ وَقْعٍ أَلِيمٍ فِي النُّفُوسِ. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ: مَثَلٌ لِلْمُعَامَلَةِ بِاللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [88] ، وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ

[سورة الشعراء (26) : آية 216]

فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [24] . وَالْجَنَاحُ لِلطَّائِرِ بِمَنْزِلَةِ الْيَدَيْنِ لِلدَّوَابِّ، وَبِالْجَنَاحَيْنِ يَكُونُ الطَّيَرَانُ. ومِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَيَانٌ لِمَنِ اتَّبَعَكَ فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُتَابَعَةُ فِي الدِّينِ وَهِيَ الْإِيمَانُ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] وَجَبْرٍ لِخَاطِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا نَادَى فِي دُعَائِهِ صَفِيَّةَ قَالَ: «عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ» وَلَمَّا نَادَى فَاطِمَةَ قَالَ: «بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ» تَأْنِيسًا لَهُمَا، فَهَذَا مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَلَمْ يُقَلْ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْعَبَّاسِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ مُشْركًا. [216] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 216] فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] أَي فَإِن عَصَوْا أَمْرَكَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ، أَيْ فَإِنْ عَصَاكَ عَشِيرَتُكَ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَثَارُ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ: «غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» فَالتَّبَرُّؤُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِلَتِهِمْ لِأَجْلِ الرَّحِمِ وَإِعَادَةِ النُّصْحِ لَهُمْ كَمَا قَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِضْمَارِ ذَلِكَ فِي نَفسه. [217- 220] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 217 إِلَى 220] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّوَكُّلِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ فَيَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى: فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: 216] تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْعَوْذِ مِنْ شَرِّ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ وَتَنْصِيصًا عَلَى اتِّصَالِ التَّوَكُّلِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَوَكَّلْ بِالْوَاوِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، أَيْ قُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ وَتَوَكَّلْ، وَعَطْفُهُ عَلَى الْجَوَابِ يَقْتَضِي تَسَبُّبَهُ عَلَى الشَّرْطِ كَتَسَبُّبِ الْجَوَابِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْبِدَارَ بِهِ، فَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ طَرِيقُ انْتِزَاعِهِ.

وَالْمَعْنَى: فَإِنْ عَصَاكَ أَهْلُ عَشِيرَتِكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّبَرُّؤُ يُؤْذِنُ بِحُدُوثِ مُجَافَاةٍ وَعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثَبَّتَ اللَّهُ جَأْشَ رَسُولِهِ بِأَنْ لَا يَعْبَأَ بِهِمْ وَأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فَهُوَ كَافِيهِ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق: 3] . وَعَلَّقَ التَّوَكُّلَ بِالِاسْمَيْنِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وَمَا تَبِعَهُمَا من الْوَصْف بالموصول وَمَا ذَيَّلَ بِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُلَاحِظُ قَوْلَهُ وَيَعْلَمُ نِيَّتَهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ يَأْتِي بِمَا أَوْمَأَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَمُسْتَتْبَعَاتُهَا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بِعِزَّتِهِ قَادِرٌ عَلَى تَغَلُّبِهِ عَلَى عَدُوِّهِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَعْصِمُهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ لُوحِظَ هَذَانِ الِاسْمَانِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ الْمَرْءِ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِ مُهِمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَوَصْفُهُ تَعَالَى: بِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ مَقْصُودٌ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ. وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ تَوَجُّهَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَراكَ رُؤْيَةً خَاصَّةً وَهِيَ رُؤْيَةُ الْإِقْبَالِ وَالتَّقَبُّلِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] . وَالْقِيَامُ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَالتَّقَلُّبُ فِي السَّاجِدِينَ هُوَ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْجِدِهِ. وَهَذَا يَجْمَعُ مَعْنَى الْعِنَايَةِ بِالْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْعِنَايَةِ بِرَسُولِهِمْ، فَهَذَا مِنْ بَرَكَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَمَعَهَا هَذَا التَّرْكِيبُ الْعَجِيبُ الْإِيجَازِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْضُرُنِي فَتَلَا مُقَاتِلٌ هَذِهِ الْآيَةَ. وَمَوْقِعُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: 216] ، وَلِلْأَمْرِ بِ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَصِفَةُ السَّمِيعُ مُنَاسِبَةٌ لِلْقَوْلِ، وَصِفَةُ الْعَلِيمُ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوَكُّلِ، أَيْ إِنَّهُ يَسْمَعُ قَوْلَكَ وَيَعْلَمُ عَزْمَكَ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ للتقوية.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 223]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 221 إِلَى 223] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) لَمَّا سَفَّهَ قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ قَوْلُ كَاهِنٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: 210] وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيَاطِينِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ، وَأَنَّهُمْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَخْبَارِ أَوْلِيَائِهِمْ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى وَصْفِ حَالِ كُهَّانِهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي رَمَوْا بِهِ الْقُرْآنَ لَا يَنْبَغِي أَن يلتبس بِحَالِ أَوْلِيَائِهِمْ. فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنى بجملة: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: 210] ، أَي مَا تنزّلت الشَّيَاطِين بِالْقُرْآنِ على مُحَمَّد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. وَأُلْقِيَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ فِي صُورَة استفهامهم عَنْ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِمَنْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، اسْتِفْهَامًا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ مِمَّا يَسُوءُهُمْ لِذَلِكَ وَيحْتَاج فِيهِ إِلَى إِذْنِهِمْ بِكَشْفِهِ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْخَبَرِ مِمَّا يُسْتَأْذَنُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ. وَاخْتِيرَ لَهُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالُّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ هَلْ لِأَنَّ هَلْ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى (قَدْ) وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ فِيهَا بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، فَالْمَعْنَى: أُنَبِّئُكُمْ إِنْبَاءً ثَابِتًا مُحَقَّقًا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ جَوَابُ الْمُسْتَفْهَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ فَلِذَلِكَ يَعْقُبُهُ الْإِفْضَاءُ بِمَا اسْتَفْهَمَ عَنْهُ قَبْلَ الْإِذْنِ مِنَ السَّامِعِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: 1، 2] وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ فَرْقٌ. وَفِعْلُ أُنَبِّئُكُمْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. وَهُوَ أَيْضًا اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ كِنَايَةً عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ بِحَيْثُ إِنَّهُ مِمَّا يَسْتَفْهِمُ عَنْهُ الْمُتَحَسِّسُونَ وَيَتَطَلَّبُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ مِنْ لَوَازِمِ الِاهْتِمَامِ. وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُتَنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، فَلَمَّا قَدَّمَ الْمَجْرُورَ دَخَلَ حَرْفُ عَلى عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مَنْ لِأَن مَا صدقهَا هُوَ الْمُتَنَزَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الِاسْتِفْهَامِ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ أَصْلُهَا، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَلْ، فَإِذَا لَزِمَ مَجِيءُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ

أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ تَرَجَّحَ فِيهَا جَانِبُ الِاسْمِيَّةِ فَدَخَلَ الْحَرْفُ عَلَيْهَا وَلَمْ تُقَدَّمْ هِيَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ تَقُولُ: أَعَلَى زَيْدٍ مَرَرْتَ؟ وَلَا تَقُولُ: مَنْ عَلَى مَرَرْتَ؟ وَإِنَّمَا تَقُولُ: عَلَى مَنْ مَرَرْتَ؟ وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] ، وَقَوْلُهُمْ: عَلَامَ، وَإِلَامَ، وَحَتَّامَ، وفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النازعات: 43] . وَأُجِيبَ الِاسْتِفْهَامُ هُنَا بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. وكُلِّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّكْثِيرِ، أَيْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَفَّاكِينَ وَهُمُ الْكُهَّانُ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَكُلِّ صَمُوتٍ نَثْلَةٍ تُبَّعِيَّةٍ ... وَنَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قَمْصَاءَ ذَائِلُ وَالْأَفَّاكُ كَثِيرُ الْإِفْكِ، أَيِ الْكَذِبُ، وَالْأَثِيمُ كَثِيرُ الْإِثْمِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْكَاهِنُ أَثِيمًا لِأَنَّهُ يَضُمُّ إِلَى كَذِبِهِ تَضْلِيلَ النَّاسِ بِتَمْوِيهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا صِدْقًا، وَأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْخَبَرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّتِي تَأْتِيهِ بِخَبَرِ السَّمَاءِ. وَجُعِلَ لِلشَّيَاطِينِ تَنَزَّلُ لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِنُفُوسِ الْكُهَّانِ يَكُونُ بِتَسَلْسُلِ تَمَوُّجَاتٍ فِي الْأَجْوَاءِ الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. ويُلْقُونَ السَّمْعَ صِفَةٌ لِ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، أَيْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَ أَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ كَوَاكِبَ لِتَتَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ شَيَاطِينُهُمْ بِالْخَبَرِ، وَذَلِكَ مِنْ إِفْكِهِمْ وَإِثْمِهِمْ. وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ: هُوَ شِدَّةُ الْإِصْغَاءِ حَتَّى كَأَنَّهُ إِلْقَاءٌ لِلسَّمْعِ مِنْ مَوْضِعِهِ، شَبَّهَ تَوْجِيهَ حَاسَّةِ السَّمْعِ إِلَى الْمَسْمُوعِ الْخَفِيِّ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْهَوَاءِ قَالَ تَعَالَى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ، أَيْ أَبْلَغُ فِي الْإِصْغَاءِ لِيَعِيَ مَا يُقَالُ لَهُ. وَهَذَا كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ إِصْغَاءٌ، أَيْ إِمَالَةُ السَّمْعِ إِلَى الْمَسْمُوعِ. وَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أَيْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْأَفَّاكِينَ كَاذِبُونَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَهُمْ لَمْ يَتَلَقَّوْا مِنْهَا شَيْئًا، أَيْ وَبَعْضُهُمْ يَتَلَقَّى شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ فَيَكْذِبُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 224 إلى 227]

فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ» . فَهُمْ أَفَّاكُونَ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْكَذِبِ فَمِنْهُمْ أَفَّاكُونَ فِيمَا يَزِيدُونَهُ عَلَى خَبَرِ الْجِنِّ، وَمِنْهُمْ أَفَّاكُونَ فِي أَصْلِ تَلَقِّي شَيْءٍ مِنَ الْجِنِّ، وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْكُهَّانِ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ النُّبُوءَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ غَيْبٍ، وَأَسْجَاعُهُمْ قَدْ تَلْتَبِسُ بِآيَاتِ الْقُرْآن فِي بادىء النَّظَرِ. أَطْنَبَتِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْكَهَانَةِ وَبَيَّنَتْ أَنَّ قُصَارَاهَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَشْيَاءَ قَلِيلَةٍ قَدْ تَصْدُقُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَدْيِ النَّبِيءِ وَالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالصَّرَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَلَا تَصَدِّي مِنْهُ لِلْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ. كَمَا قَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الْأَنْعَام: 50] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنى. [224- 227] [سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 224 إِلَى 227] وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) كَانَ مِمَّا حَوَتْهُ كِنَانَةُ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ قَالُوا فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَاعِرٌ، فَلَمَّا نَثَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ سِهَامَ كِنَانَتِهِمْ وَكَسَرَتْهَا وَكَانَ مِنْهَا قَوْلُهُمْ: هُوَ كَاهِنٌ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، وَكَانَ بَيْنَ الْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ جَامِعٌ فِي خَيَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلشَّاعِرِ شَيْطَانًا يُمْلِي عَلَيْهِ الشِّعْرَ وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الرَّئِيَّ، فَنَاسَبَ أَنْ يُقَارَنَ بَيْنَ تَزْيِيفِ قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ شِعْرٌ، وَقَوْلِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَاعِرٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: هُوَ قَوْلُ كَاهِنٍ، كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 41، 42] فَعَطَفَ هُنَا قَوْلَهُ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ عَلَى جُمْلَةِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: 222] . وَلَمَّا كَانَ حَالُ الشُّعَرَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخَالِفًا لِحَالِ الْكُهَّانِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِمَلَكَةِ الشِّعْرِ اتِّصَالٌ مَا بِالنُّفُوسِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ ادِّعَاءُ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ أَشَاعُوهُ بَيْنَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ

شَاعِرًا، وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ شِعْرًا. دُونَ تَعَرُّضٍ إِلَى أَنَّهُ تَنْزِيلُ الشَّيَاطِينِ كَمَا جَاءَ فِي ذِكْرِ الْكَهَانَةِ. وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمَكَّةَ يَهْجُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعْنَوْنَ بِمَجَالِسِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِمُ الْأَعْرَابُ خَارِجَ مَكَّةَ يَسْتَمِعُونَ أَشْعَارَهُمْ وَأَهَاجِيَهُمْ، أَدْمَجَتِ الْآيَةُ حَالَ مَنْ يَتَّبِعُ الشُّعَرَاءَ بِحَالِهِمْ تَشْوِيهًا لِلْفَرِيقَيْنِ وَتَنْفِيرًا مِنْهُمَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: النَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ وَمُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ، وَابْنُ الزِّبَعْرَى، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْن الْحَارِثِ، وَأُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ الَّتِي لَقَّبَهَا الْقُرْآنُ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد: 4] وَكَانَتْ شَاعِرَةً وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْيًا لِلشِّعْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَمَّا لِلشُّعَرَاءِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِهِجَائِهِ. فَقَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ذَمٌّ لِأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي ذَمَّ الْمَتْبُوعِينَ بِالْأَحْرَى. وَالْغَاوِي: الْمُتَّصِفُ بِالْغَيِّ وَالْغَوَايَةُ، وَهِيَ الضَّلَالَةُ الشَّدِيدَةُ، أَيْ يَتَّبِعُهُمْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَالْبِطَالَةِ الرَّاغِبُونَ فِي الْفِسْقِ وَالْأَذَى. فَقَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ خَبَرٌ، وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَتْبَاعَهُ خِيرَةُ قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاوِينَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْزِيهِ أَصْحَابِهِ وَعَلَى ذَمِّ الشُّعَرَاءِ وَذَمِّ أَتْبَاعِهِمْ وَتَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ هُنَا يُظْهِرُ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي وَالِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلَفْتِ السَّمْعِ إِلَيْهِ وَالْمَقَامُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانُوا يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ فَقَدِ انْتَفَى أَتْبَاعُهُمْ عَنِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَجَالِسِ أَنْ يَتَّحِدَ أَصْحَابُهَا فِي النَّزْعَةِ كَمَا قِيلَ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» لِلْحَصْرِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُهُمْ إِلَّا الْغَاوُونَ، لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي نَفْيِ اتِّبَاعِ الشُّعَرَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ طَرِيقَتُهُ بِاطِّرَادٍ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ

الْفِعْلِيِّ أَنَّهُ يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِالْخَبَرِ، أَيْ قَصْرُ مَضْمُونِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، أَيْ فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَالرُّؤْيَةُ فِي أَلَمْ تَرَ قَلْبِيَّةٌ لِأَنَّ الْهُيَامَ وَالْوَادِي مُسْتَعَارَانِ لِمَعَانِي اضْطِرَابِ الْقَوْلِ فِي أَغْرَاضِ الشِّعْرِ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ لَا مِمَّا يُرَى. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَأُجْرِيَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا مَحِيدَ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاء: 18] ، وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَضَمَائِرُ أَنَّهُمْ- ويَهِيمُونَ- ويَقُولُونَ- ويَفْعَلُونَ عَائِدَةٌ إِلَى الشُّعَرَاءِ. فَجُمْلَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ مِنْ ذَمِّ الشُّعَرَاءِ بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَمُثِّلَتْ حَالُ الشُّعَرَاءِ بِحَالِ الْهَائِمِينَ فِي أَوْدِيَةٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَقُولُونَ فِي فُنُونٍ مِنَ الشِّعْرِ مِنْ هِجَاءٍ وَاعْتِدَاءٍ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَمِنْ نَسِيبٍ وَتَشْبِيبٍ بِالنِّسَاءِ، وَمَدْحِ مَنْ يَمْدَحُونَهُ رَغْبَةً فِي عَطَائِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، وَذَمِّ مَنْ يَمْنَعُهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَرُبَّمَا ذَمُّوا مَنْ كَانُوا يَمْدَحُونَهُ وَمَدَحُوا مَنْ سَبَقَ لَهُمْ ذَمَّهُ. وَالْهُيَامُ: هُوَ الْحَيْرَةُ وَالتَّرَدُّدُ فِي الْمَرْعَى. وَالْوَادِ: الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ عُدْوَتَيْنِ. وَإِنَّمَا تَرْعَى الْإِبِلُ الْأَوْدِيَةَ إِذَا أَقْحَلَتِ الرُّبَى، وَالرُّبَى أَجْوَدُ كَلَأً، فَمُثِّلَ حَالُ الشُّعَرَاءِ بِحَالِ الْإِبِلِ الرَّاعِيَةِ فِي الْأَوْدِيَةِ مُتَحَيِّرَةً، لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ فِي حِرْصٍ عَلَى الْقَوْلِ لِاخْتِلَابِ النُّفُوسِ. وكُلِّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ. رُوِيَ أَنَّهُ انْدَسَّ بَعْضُ الْمَزَّاحِينَ فِي زُمْرَةِ الشُّعَرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ فَعَرَفَ الْحَاجِبُ الشُّعَرَاءَ، وَأَنْكَرَ هَذَا الَّذِي انْدَسَّ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ الشُّعَرَاءُ وَأَنْتَ مِنَ الشُّعَرَاءِ؟ قَالَ: بَلْ أَنَا مِنَ الْغَاوِينَ، فَاسْتَطْرَفَهَا. وَشَفَّعَ مَذَمَّتَهُمْ هَذِهِ بِمَذَمَّةِ الْكَذِبِ فَقَالَ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَالْعَرَبُ يَتَمَادَحُونَ بِالصِّدْقِ وَيُعَيِّرُونَ بِالْكَذِبِ، وَالشَّاعِرُ يَقُولُ مَا لَا يَعْتَقِدُ وَمَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ حَتَّى قِيلَ: أَحْسَنُ الشَّعْرِ أَكْذَبُهُ، وَالْكَذِبُ مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ فَإِنْ

كَانَ الشِّعْرُ كَذِبًا لَا قَرِينَةَ عَلَى مُرَادِ صَاحِبِهِ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَانَ كَذِبًا مُعْتَذَرًا عَنْهُ فَكَانَ غَيْرَ مَحْمُودٍ. وَفِي هَذَا إِبْدَاءٌ لِلْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ حَالِ الشُّعَرَاءِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُصَانِعُ وَلَا يَأْتِي بِمَا يُضَلِّلُ الْأَفْهَامَ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ أَنْشَدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَوْلَهُ: فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ شِعْرًا: مَنْ مُبْلِغُ الْحَسْنَاءِ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إِلَى أَنْ قَالَ: لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ (¬1) فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللَّهِ إِنِّي لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُكَ فَقَدْ دَرَأَ عَنْكَ الْحَدَّ وَلَكِنْ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ. وَقَدْ كُنِّيَ بِاتِّبَاعِ الْغَاوِينَ إِيَّاهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ غَاوِينَ، وَأُفِيدَ بِتَفْظِيعِ تَمْثِيلِهِمْ بِالْإِبِلِ الْهَائِمَةِ تَشْوِيهُ حَالَتِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الشِّعْرِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ إِنَاطَةُ الْخَبَرِ بِالْمُشْتَقِّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ بِعَيْنِ الْغَضِّ مِنْهُ، وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ ... مِنْ عُمُومِ الشُّعَرَاءِ، أَيْ مِنْ حُكْمِ ذَمِّهِمْ. وَبِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَذْمُومِينَ هُمْ شُعَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الشِّعْرُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. ¬

(¬1) الْجَوْسَقِ: الْقصر، كَانَ أهل البطالة والخلاعة يأوون إِلَى الْقُصُور المتروكة.

وَمَعْنَى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أَيْ كَانَ إِقْبَالُهُمْ على الْقُرْآن وَالْعِبَادَة أَكْثَرَ مِنْ إِقْبَالِهِمْ عَلَى الشِّعْرِ. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَهُمْ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الشُّعَرَاءِ وَقَالُوا الشِّعْرَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْتِصَارِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَقَدْ قَالُوا شِعْرًا كَثِيرًا فِي ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الْأَنْصَارِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدُ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ لَبِيَدٍ، وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَسُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمُقْتَضِي كَوْنَ بَعْضِ السُّورَةِ مَدَنِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ السُّورَةِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلشِّعْرِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَحَالَةٌ مَأْذُونَةٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذَمَّهُ لَيْسَ لِكَوْنِهِ شِعْرًا وَلَكِنْ لِمَا حَفَّ بِهِ مِنْ مَعَانٍ وَأَحْوَالٍ اقْتَضَتِ الْمَذَمَّةَ، فَانْفَتَحَ بِالْآيَةِ لِلشِّعْرِ بَابُ قَبُولٍ وَمَدْحٍ فَحَقٌّ عَلَى أَهْلِ النَّظَرِ ضَبْطُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ قَبُولِهِ أَوْ إِلَى جَانِبِ مَدْحِهِ، وَالَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ رَفْضِهِ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ قَوْلُهُ: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَإِلَى الْحَالَةِ الْمَأْذُونَةِ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَكَيْفَ وَقَدْ أَثْنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الشِّعْرِ مِمَّا فِيهِ مَحَامِدُ الْخِصَالِ واستنصت أَصْحَابه لشعر كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ مِمَّا فِيهِ دِقَّةُ صِفَاتِ الرَّوَاحِلِ الْفَارِهَةِ، عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِحَسَّانَ فِي مُهَاجَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «كَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ..» وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ» . وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ فِي سُورَةِ يس [69] . وَأَجَازَ عَلَيْهِ كَمَا أَجَازَ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَخَلَعَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ، فَتِلْكَ حَالَةٌ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ جَاءَ مُؤْمِنًا. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ، أَوْ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ قَالَتْهَا الْعَرَبُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ» وَكَانَ يَسْتَنْشِدُ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَقَالَ: «كَادَ أُمَيَّةُ أَنْ يسلم» ، وَأمر حسّانا بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ» . وَقَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «لَكَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ» .

رَوَى أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» بِسَنَدِهِ إِلَى خُرَيْمِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ. فَقَالَ: قُلْ لَا يُفَضِّضُ اللَّهُ فَاكَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يَخْصِفُ الْوَرَقُ الْأَبْيَاتِ السَّبْعَةَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُفْضِضِ اللَّهُ فَاكَ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ» . وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ» . وَلِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شِعْرٌ كَثِيرٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ النُّورِ الْقَوْلَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَيِ الشِّعْرِ. وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي مَعَانِي الشِّعْرِ وَحَالِ الشَّاعِرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُعْنَوْنَ بِشِعْرِ الْعَرَبِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ الشِّعْرِ تَحْبِيبٌ لِفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَلَاغَتِهَا وَهُوَ آيِلٌ إِلَى غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالشَّتْمِ وَالْهِجَاءِ.

وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. نَاسَبَ ذِكْرُ الظُّلْمِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى وَعِيدِ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ فَاقْتَضَتِ الْعُمُومَ فِي مُسَمَّى الظُّلْمِ الشَّامِلِ لِلْكُفْرِ وَهُوَ ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَلِلْمَعَاصِي الْقَاصِرَةِ عَلَى النَّفْسِ كَذَلِكَ، وَلِلِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ. وَقَدْ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فِي عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تحذير عَن غَمْصِ الْحُقُوقِ وَحَثٌّ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْجُهْدِ فِي النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِأَهْيَبِ مَوْعِظَةٍ وَأَهْوَلِ وَعِيدٍ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حَرْفِ التَّنْفِيسِ الْمُؤْذِنِ بِالِاقْتِرَابِ، وَمِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ يَتَرَقَّبُ الظَّالِمِينَ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ، وَمِنَ الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ إِذْ تَرَكَ تَبْيِينَهُ بِعِقَابٍ مُعَيَّنٍ لِتَذْهَلَ نُفُوسُ الْمُوعَدِينَ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنْ هَوْلِ الْمُنْقَلَبِ وَهُوَ عَلَى الْإِجْمَالِ مُنْقَلَبُ سُوءٍ. وَالْمُنْقَلَبُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الِانْقِلَابِ وَهُوَ الْمَصِيرُ وَالْمَآلُ، لِأَنَّ الِانْقِلَابَ هُوَ الرُّجُوعُ. وَفِعْلُ الْعِلْمِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُجُودِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ. وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الَّذِي أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاعَظُونَ بِهَا وَيَتَنَاذَرُونَ شِدَّتَهَا.

27- سورة النمل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 27- سُورَةُ النَّمْلِ أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا «سُورَةُ النَّمْلِ» . وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» . وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ سُلَيْمَانَ» ، وَهَذَانِ الِاسْمَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا فِي «الْإِتْقَانِ» وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْهُدْهُدِ» . وَوَجْهُ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ لَفْظَ النَّمْلِ وَلَفْظَ الْهُدْهُدِ لَمْ يُذْكَرَا فِي سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِهَا، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ سُلَيْمَانَ» فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ مُفَصَّلًا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إِلَى مَكِّيَّةِ بَعْضِ آيَاتِهَا (كَذَا وَلَعَلَّهُ سَهْوٌ صَوَابُهُ مَدَنِيَّةُ بَعْضِ آيَاتِهَا) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا لِغَيْرِ الْخَفَاجِيِّ. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ الشُّعَرَاءِ وَقَبْلَ الْقَصَصِ. كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَدْ عُدَّتْ آيَاتُهَا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ خَمْسًا وَتِسْعِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ أَرْبَعًا وَتِسْعِينَ. مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ افْتِتَاحُهَا بِمَا يُشِيرُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَةِ نَظْمِهِ وَعُلُوِّ مَعَانِيهِ، بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ فِي أَوَّلِهَا.

[سورة النمل (27) : آية 1]

وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ هَدًى لِمَنْ يُيَسِّرُ اللَّهُ الِاهْتِدَاءَ بِهِ دُونَ مَنْ جَحَدُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالتَّحَدِّي بِعِلْمِ مَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالِاعْتِبَارُ بِمُلْكِ أَعْظَمِ مُلْكٍ أُوتِيَهُ نَبِيءٌ. وَهُوَ مُلْكُ دَاوُدَ وَمُلْكُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمَا بَلَغَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الطَّيْرِ، وَمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ مِنْ عَظَمَةِ الْحَضَارَةِ. وَأَشْهَرُ أُمَّةٍ فِي الْعَرَبِ أُوتِيَتْ قُوَّةً وَهِيَ أُمَّةُ ثَمُودَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مُلْكٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ مُلْكُ سَبَأٍ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِسَالَةٌ تُقَارِنُهَا سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ ثُمَّ يَعْقُبُهَا مُلْكٌ، وَهُوَ خِلَافَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ سَيُقَامُ بِهَا مُلْكٌ لِلْأُمَّةِ عَتِيدٌ كَمَا أُقِيمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ. وَمُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي بُطْلَانِ دِينِهِمْ وَتَزْيِيفِ آلِهَتِهِمْ وَإِبْطَالِ أَخْبَارِ كُهَّانِهِمْ وَعَرَّافِيهِمْ، وَسَدَنَةِ آلِهَتِهِمْ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا. وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْكُتُبِ السَّابِقَةِ. ثُمَّ مُوَادَعَةُ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْبَاؤُهُمْ بِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَإِنْذَارُهُمْ بِأَنَّ آيَاتِ الصِّدْقِ سَيُشَاهِدُونَهَا وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِحْكَامٌ وَلَا نَسْخٌ. وَنَفْيُهُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِحْكَامٌ وَلَا نَسْخٌ مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى تَشْرِيعٍ قَارٍّ وَلَا عَلَى تَشْرِيعٍ مَنْسُوخٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النَّمْل: 91، 92] الْآيَةَ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ اه، يَعْنِي الْآيَةَ النَّازِلَةَ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْبَرَاءَةِ. وَتُسَمَّى آيَةَ السَّيْفِ، وَالْقُرْطُبِيُّ مُعَاصِرٌ لِابْنِ الْفَرَسِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ وَابْنُ الْفَرَسِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَقَوْلُهُ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْل: 21] وَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا حُكْمَانِ كَمَا سَيَأْتِي. [1] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) طس. تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُؤْتَلِفٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَا فِي أَمْثَالِهَا مِنَ الْمَحَامِلِ الَّتِي حَاوَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَيَجِيءُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ فِي حُرُوفِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ: طس مُقْتَضَبٌ مِنْ طَاءِ اسْمِهِ تَعَالَى اللَّطِيفِ، وَمِنْ سِينِ اسْمِهِ تَعَالَى السَّمِيعِ. وَأَنَّ الْمَقْصُود الْقسم بهاذين الِاسْمَيْنِ، أَيْ وَاللَّطِيفِ وَالسَّمِيعِ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ. الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَخَالَفَتْ آيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ سَابِقَتَهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِذِكْرِ اسْمِ الْقُرْآنِ وَبِعَطْفِ وَكِتابٍ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِتَنْكِيرِ كِتابٍ. فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ الْقُرْآنِ فَلِأَنَّهُ عَلَمٌ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ وَالْهَدْيِ. وَهَذَا الْعَلَمُ يُرَادِفُ الْكِتَابَ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْعَهْدِ الْمَجْعُولِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ أَدْخَلُ فِي التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ مَنْقُولٌ. وَأَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَكِتابٍ مُبِينٍ الْقُرْآنُ أَيْضًا وَلَا وَجْهَ لِتَفْسِيرِهِ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِلتَّفَصِّي مِنْ إِشْكَالِ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ التَّفَصِّيَ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِأَنَّ عَطْفَ إِحْدَى صِفَتَيْنِ عَلَى أُخْرَى كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَلِمَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنَ الْقُرْآنِ وكِتابٍ مُبِينٍ شَائِبَةُ الْوَصْفِ فَالْأَوَّلُ بِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَالثَّانِي بِوَصْفِهِ بِ مُبِينٍ، كَانَ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ رَاجِعًا إِلَى عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِالثَّانِي بَدَلًا، لِأَنَّ الْعَطْفَ أَعْلَقُ بِاسْتِقْلَالِ كِلَا الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي الْكَلَامِ بِخِلَافِ الْبَدَلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ الْحِجْرِ [1] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فَإِنَّ قُرْآنٍ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فِي مَعْنَى عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتابِ وَلَكِنَّهُ عَطْفٌ لِقَصْدِ جَمْعِهِمَا بِإِضَافَةِ آياتُ إِلَيْهِمَا.

[سورة النمل (27) : الآيات 2 إلى 3]

وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ كِتابٍ مُبِينٍ عَلَى عَكْسِ مَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمُتَّبِعِيهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: 2] أَيْ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي الْحَالِ وَمُبَشَّرُونَ بِحُسْنِ الِاسْتِقْبَالِ فَكَانَ الْأَهَمُّ هُنَا لِلَوْحِي الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْآيَاتِ هُوَ اسْتِحْضَارُهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الْمَنْقُولِ مِنْ مَصْدَرِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تُنَاسِبُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُتَقَبِّلِينَ لِآيَاتِهِ فَهُمْ يَدْرُسُونَهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُدْخِلَتِ اللَّامُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ، تَذْكِيرًا بِأَنَّهُ مَقْرُوءٌ مَدْرُوسٌ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ كِتابٍ مُبِينٍ لِيَكُونَ التَّنْوِيهُ بِهِ جَامِعًا لِعُنْوَانَيْهِ وَمُسْتَكْمِلًا لِلدَّلَالَةِ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي نَوْعِهِ مِنَ الْمَقْرُوءَاتِ، وَالدَّلَالَةِ بِالتَّنْكِيرِ عَلَى مَعْنَى تَفْخِيمِهِ بَيْنَ الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] . وَأَمَّا مَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ فَهُوَ مَقَامُ التَّحْسِيرِ لِلْكَافِرِينَ مِنْ جَرَّاءَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَنَاسَبَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِاسْمِ الْكِتَابِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكِتَابَةِ دُونَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ قِرَاءَتِهِ وَلَكِنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هُنَا ذِكْرَ كِتابٍ مُبِينٍ بِالْحَالِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: 2] . ومُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ إِمَّا مِنْ (أَبَانَ) الْقَاصِرِ بِمَعْنَى (بَانَ) لِأَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ مَا لَيْسَ مِنَ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ مُوَضِّحٌ مُبَيِّنٌ. فَالْمُبِينُ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدَهُمَا: أَنَّ شَوَاهِدَ صِدْقِهِ وَإِعْجَازِهِ وَهَدْيِهِ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مرشد ومفصّل. [2، 3] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 2 إِلَى 3] هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) هُدىً وَبُشْرى حَالَانِ مِنْ كِتابٍ بَعْدَ وَصْفِهِ ب مُبِينٍ [النَّمْل: 1] . وَجُعِلَ الْحَالُ مَصْدَرًا لِلْمُبَالَغَةِ بِقُوَّةِ تَسَبُّبِهِ فِي الْهُدَى وَتَبْلِيغِهِ الْبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْهُدَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْبُشْرَى حَاصِلَانِ مِنْهُ وَمُسْتَمِرَّانِ مِنْ آيَاتِهِ.

وَالْبُشْرَى: اسْمٌ لِلتَّبْشِيرِ، وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْهُدَى وَالْبُشْرَى جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْهَادِي وَالْمُبَشِّرُ اللَّهُ أَوِ الرَّسُولُ بِسَبَبِ الْكِتَابِ. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى: أُشِيرُ، كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. ولِلْمُؤْمِنِينَ يَتَنَازَعُهُ هُدىً وَبُشْرى لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَدْيِهِ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] . وَوَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَوْصُولِ لِتَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا يَوْمَئِذٍ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] ، وَلِأَنَّ فِي الصِّلَةِ إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَمُفْلِحُونَ. والزَّكاةَ: الصَّدَقَةُ لِأَنَّهَا تُزَكِّي النَّفْسَ أَوْ تُزَكِّي الْمَالَ، أَيْ تَزِيدُهُ بَرَكَةً. وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هُنَا الصَّدَقَةُ مُطْلَقًا أَوْ صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مُوَاسَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُشْرِكِينَ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: 17، 18] . وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمُقَدَّرَةُ بِالنُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَة فَلَيْسَتْ مرَادا هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الصِّلَةِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ أُسْلُوبِهَا وَأُسْلُوبِ الصِّلَةِ فَأُتِيَ لَهُ بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا لِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، على أَنَّ ضَمِيرَ هُمْ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ ضَمِيرَ فَصْلٍ دَالًّا عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ مَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هَؤُلَاءِ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجَاوَرِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودٍ حَالُهُمْ لِلْمُخَاطِبِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وللاهتمام بهَا.

[سورة النمل (27) : آية 4]

[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 4] إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) لَا مَحَالَةَ يُثِيرُ كَوْنُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ هُدًى وَبُشْرَى لِلَّذِينِ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ عَنْ حَالِ أَضْدَادِهِمُ الَّذِينَ لَا يوقنون بِالآخِرَة لماذَا لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِ هَذَا الْكِتَابِ الْبَالِغِ حَدًّا عَظِيمًا فِي التَّبَيُّنِ وَالْوُضُوحِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَصْلُحَ الْمَقَامُ لِلْإِخْبَارِ عَمَّا صَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَضْدَادَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَوَقَعَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِبَيَانِ سَبَبِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يعلم خبث طواياهم فَحَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ وَلَمْ يَصْرِفْ إِلَيْهِمْ عِنَايَةً تَنْشُلُهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ مَنْ حَال مَا جبلت عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، فَوَقَعَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ بِتَوَابِعِهِ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ أَخْبَارِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ بِمَا سَبَقَ، وَالتَّنْوِيهِ بِهِ بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النَّمْل: 6] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَلْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ سَبَبُ افْتِرَاقِ النَّاسِ فِي تَلَقِّي الْهُدَى بَيْنَ مُبَادِرٍ وَمُتَقَاعِسٍ وَمُصِرٍّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولا يومىء إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي الْمُسْنَدِ. وَتَزْيِينُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ لَهُمْ: تَصَوُّرُهُمْ إِيَّاهَا فِي نُفُوسِهِمْ زَيْنًا، وَإِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ خُلِقَتْ نُفُوسُهُمْ وَعُقُولُهُمْ قَابِلَةً لِلِانْفِعَالِ وَقَبُولِ مَا ترَاهُ من مساوئ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي اعْتَادُوهَا، فَإِضَافَةُ أَعْمَالٍ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ هِيَ أَعْمَالُ الْإِشْرَاكِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فَهُمْ لِإِلْفِهِمْ إِيَّاهَا وَتَصَلُّبِهِمْ فِيهَا صَارُوا غَيْرَ قَابِلِينَ لِهَدْيِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَتْهُمْ آيَاتُهُ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَعْنًى دَقِيقٍ جِدًّا وَهُوَ أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْخَيْرِ كَائِنٌ بِمِقْدَارِ رُسُوخِ ضِدِّ الْخَيْرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَتَعَلُّقِ فِطْرَتِهِمْ بِهِ. وَذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ مَا طَرَأَ عَلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنَ التَّطَوُّرِ إِلَى الْفَسَادِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 5، 6] الْآيَةَ. فَمُبَادَرَةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُ بِنَفْسٍ وَعَقْلٍ بَرِيئَيْنِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالشَّرِّ مُشْتَاقَيْنِ

إِلَى الْخَيْرِ حَتَّى إِذَا لَاحَ لَهُمَا تَقَبَّلَاهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ «مَا زَالَ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَى مِنَ الرَّحْمَنِ» . وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ مُضَارِعًا إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَأَوْمَأَ جَعْلُ الْخَبَرِ مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: زَيَّنَّا إِلَى أَنَّ هَذَا التَّزْيِينَ حُكْمٌ سَبَقَ وَتَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ التَّكْوِينِ بِحَسَبِ مَا طَرَأَ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْأَطْوَارِ. فَإِسْنَادُ تَزْيِينِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ قَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] لَا يُنَافِي إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النَّمْل: 24] فَإِنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ تَجِدُ فِي نُفُوسِ أُولَئِكَ مَرْتَعًا خِصْبًا وَمَنْبَتًا لَا يَقْحَلُ فَاللَّهُ تَعَالَى مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ تَطَوُّرِ جِبِلَّةِ نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرِ ضَعْفِ سَلَامَةِ الْفِطَرِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّيْطَانُ مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَجِدُ قُبُولًا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَفُرِّعَ عَلَى تَزْيِينِ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَمَهٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُمْ بِصَوْغِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ أَنَّ الْعَمَهَ متجدد مُسْتَمر فيهم، أَيْ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اهْتِدَاءٍ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ. وَالْعَمَهُ: الضَّلَالُ عَنِ الطَّرِيقِ بِدُونِ اهْتِدَاءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ وَفَرِحَ. فَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْعُنْوَانِ لَا بِذَوَاتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ مُتَفَاوِتُ الِامْتِدَادِ فَمِنْهُ أَشَدُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَمْتَدُّ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْمَوْتِ، وَمِنْهُ دُونُ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ تَزْيِينِ الْكُفْرِ فِي نُفُوسِهِمْ تَزْيِينًا

[سورة النمل (27) : آية 5]

خَالِصًا أَوْ مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي مَفَاسِدِهِ، وَتِلْكَ مَرَاتِبُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تخفي الصُّدُور. [5] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 5] أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) قَصَدَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ زِيَادَةَ تَمْيِيزِهِمْ فَضْحًا لِسُوءِ حَالِهِمْ مَعَ مَا يُنَبِّهُ إِلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُم ناشىء عَمَّا تَقَدَّمَ اسْمَ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَعَزَّزَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فَأَعْقَبَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَجِيءَ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي حَالَتِهِمْ هَذِه قد هيّىء لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ وَخِزْيُ الْغَلَبِ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ بِقَرِينَةِ عَطْفِ: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى جَزَاءَيْنِ: جَزَاءٌ فِي الدُّنْيَا مَعْدُودٌ لَهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِكُفْرِهِمْ، فَهُمْ مَا دَامُوا كَافِرِينَ مُتَهَيِّئُونَ لِلْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ إِنْ جَاءَ إِبَّانَهُ وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَجَزَاءٌ فِي الْآخِرَةِ يَنَالُ مَنْ صَارَ إِلَى الْآخِرَةِ وَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الْمَصِيرُ يُسَمَّى بِالْمُوَافَاةِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ. وَلِكَوْنِ نَوَالِ الْعَذَابِ الْأَوَّلِ إيَّاهُم قَابلا للتفصّي مِنْهُ بِالْإِيمَانِ قُبَيْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ الْمُفِيدَةِ كَوْنَهُ مُهَيَّأً تَهْيِئَةً، أَمَّا أَصَالَةُ جَزَاءِ الْآخِرَةِ إِيَّاهُمْ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنهُ إِن جاؤوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُفْرِهِمْ. فَالضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ وَقَوْلِهِ: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [النَّمْل: 4] بِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْعُنْوَانِ الَّذِي أَفَادَتْهُ الصِّلَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِي الضَّمِيرِ عَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ وَلَكِنْ عَلَى مَوْصُوفِينَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَمَنْ تَنْقَشِعُ عَنْهُ

[سورة النمل (27) : آية 6]

الضَّلَالَةُ وَيَثُوبُ إِلَى الْإِيمَانِ يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ. وَصِيغَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ بِالْخُسْرَانِ فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَقُرِنَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَعَلَى انْحِصَارِ مَضْمُونِهَا فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النَّمْل: 3] . وَجَاءَ الْمُسْنَدُ اسْمَ تَفْضِيلٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَوْحَدُونَ فِي الْخُسْرَانِ لَا يُشْبِهُهُ خُسْرَانُ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ فِي الْآخِرَةِ مُتَفَاوِتُ الْمِقْدَارِ وَالْمُدَّةِ وَأَعْظَمُهُ فِيهِمَا خسران الْمُشْركين. [6] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 6] وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ [النَّمْل: 1] انْتِقَالٌ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كِتَابٌ مُبِينٌ. وَذَلِكَ آيَةُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ بِأَنَّهُ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِذْ أَنْبَأَهُ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْمَاضِينَ الَّتِي مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَمَا كَانَ يَعْلَمُ خَاصَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهَا أَكْثَره مُحَرَّفٌ. وَأَيْضًا فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَذْكُرُ بَعْدَهُ مِنَ الْقِصَصِ. وتلقى مُضَارِعُ لَقَّاهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ جَعَلَهُ لَاقَيًا. وَاللُّقِيُّ وَاللِّقَاءُ: وُصُولُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ قَصْدًا أَوْ مُصَادَفَةً. وَالتَّلْقِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ لَاقِيًا غَيْرَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان: 11] ، وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ التَّلْقِيَةِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ سَعَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا بُنِيَ الْفِعْلُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ للْعلم بِأَنَّهُ الله أَوْ جِبْرِيلَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ: وَهُوَ أَنَّك مؤتى الْوَحْي من لدن حَكِيم عليم. وتأكيد الْخَبَر لمُجَرّد الاهتمام لِأَن الْمُخَاطب هُوَ النبيء وَهُوَ لَا يتَرَدَّد فِي ذَلِك، أَو يَكُونُ التَّأْكِيدُ مُوَجَّهًا إِلَى السَّامِعِينَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ. وَفِي إِقْحَامِ اسْمِ لَدُنْ بَيْنَ مِنْ وحَكِيمٍ تَنْبِيهٌ عَلَى شِدَّةِ انْتِسَابِ الْقُرْآنِ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَصْلَ لَدُنْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَكَانِ مِثْلُ (عِنْدَ) ثُمَّ شَاعَ

[سورة النمل (27) : آية 7]

إِطْلَاقُهَا عَلَى مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ مَا تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْف: 65] . وَالْحَكِيمُ: الْقَوِيُّ الْحِكْمَةِ، وَالْعَلِيمُ: الْوَاسِعُ الْعِلْمِ. وَفِي التَّنْكِيرِ إِيذَانٌ بِتَعْظِيمِ هَذَا الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ حَكِيمٍ أَيُّ حَكِيمٍ، وَعَلِيمٍ أَيُّ عَلِيمٍ. وَفِي الْوَصْفَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مُنَاسَبَةٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلِلْمُمَهَّدِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى حِكْمَةِ وَعِلْمِ مَنْ أَوْحَى بِهِ، وَأَنَّ مَا يُذْكَرُ هُنَا مِنَ الْقَصَصِ وَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْهَا مِنَ الْمَغَازِي وَالْأَمْثَالِ وَالْمَوْعِظَةِ، مِنْ آثَارِ حِكْمَةِ وَعَلْمِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، وَكَذَلِكَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَثْبِيتِ فؤاد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [7] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 7] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) قَالَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: انْتَصَبَ إِذْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، أَيْ أَنَّ إِذْ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيِ اذْكُرْ قِصَّةَ زَمَنِ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] . فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا إِفَادَةُ تَنْظِيرِ تَلَقِّي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِتَلَقِّي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ اللَّهِ إِذْ نُودِيَ يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النَّمْل: 9] . وَذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ قِصَصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَقِبَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا فِيهِ مَثَلٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَمَا يُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. وَفِي ذَلِكَ انْتِقَالٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ فِي الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ جِهَاتِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ.

وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِلَى آخِرِهَا تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النَّمْل: 8] إِلَخْ. وَزَمَانُ قَوْلِ مُوسَى لِأَهْلِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ وَقْتُ اجْتِلَابِهِ لِلْمُبَادَرَةِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِحَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ، ابْتُدِئَتْ بِمَا تَقَدَّمَ رِسَالَةَ مُوسَى مِنَ الْأَحْوَالِ إِدْمَاجًا لِلْقِصَّةِ فِي الْمَوْعِظَةِ. وَالْأَهْلُ: مُرَادٌ بِهِ زَوْجُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا زَوْجُهُ وَابْنَانِ صَغِيرَانِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْقَوْلِ زَوْجُهُ، وَيُكَنَّى عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْأَهْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا» . وَلَمْ تَظْهَرِ النَّارُ إِلَّا لِمُوسَى دُونَ غَيْرِهِ مَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَارًا مُعْتَادَةً، لَكِنَّهَا مِنْ أَنْوَارِ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ جَلَّاهُ اللَّهُ لِمُوسَى فَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَأْكِيدُهُ الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ زَوْجَهُ تَرَدَّدَتْ فِي ظُهُورِ نَارٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهَا. وَالْإِينَاسُ: الْإِحْسَاسُ وَالشُّعُورُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، فَيَكُونُ فِي الْمَرْئِيَّاتِ وَفِي الْأَصْوَاتِ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ ... اصُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ خَبَرُ الْمَكَانِ الَّذِي تَلُوحُ مِنْهُ النَّارُ. وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ هُنَالِكَ بَيْتًا يَرْجُو اسْتِضَافَتَهُمْ إِيَّاهُ وَأَهْلَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ بَيْتٍ يَسْتَضِيفُونَ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا مُقْوِينَ يَأْتِ مِنْهُمْ بِجَمْرَةِ نَارٍ لِيُوقِدَ أَهْلَهُ نَارًا مِنْ حَطَبِ الطَّرِيقِ لِلتَّدَفُّؤِ بِهَا. وَالشِّهَابُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ. وَالْقَبَسُ: جَمْرَةٌ أَوْ شُعْلَةُ نَارٍ تُقْبَسُ، أَيْ يُؤْخَذُ اشْتِعَالُهَا مِنْ نَارٍ أُخْرَى لِيُشْعَلَ بِهَا حَطَبٌ أَوْ ذُبَالَةُ نَارٍ أَوْ غَيْرُهُمَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِإِضَافَة بِشِهابٍ إِلَى قَبَسٍ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ مِثْلُ: خَاتَمُ حَدِيدٍ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِتَنْوِينِ شِهَابٍ، فَيَكُونُ قَبَسٍ بَدَلًا مِنْ شِهَابٍ أَوْ نَعْتًا لَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ طَهَ. وَالِاصْطِلَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الصَّلْيِ وَهُوَ الشَّيُّ بِالنَّارِ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الِافْتِعَالِ أَنَّهُ مُحَاوَلَةُ الصَّلْيِ فَصَارَ بِمَعْنَى التَّدَفُّؤِ بوهج النَّار.

[سورة النمل (27) : الآيات 8 إلى 11]

[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 8 إِلَى 11] فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) أُنِّثَ ضَمِيرُ جاءَها جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْمِيَةِ النُّورِ نَارًا بِحَسَبِ مَا لَاحَ لِمُوسَى. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ، فَبِنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ هُنَا لِمَا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالتَّرَاكِيبِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها هُوَ بَعْضُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ فِي طَهَ [12] : فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً لِأَنَّ مَعْنَى بُورِكَ قُدِّسَ وَزُكِّيَ. وَفِعْلُ (بَارَكَ) يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، أَيْ جَعَلَ لَكَ بَرَكَةً وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْبَرَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي آلِ عِمْرَانَ [96] ، وَقَوْلُهُ وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [48] . وَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ نُودِيَ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، أَيْ نُودِيَ بِهَذَا الْكَلَامِ. ومَنْ فِي النَّارِ مُرَادٌ بِهِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمَّا حَلَّ فِي مَوْضِعِ النُّورِ صَارَ مُحِيطًا بِهِ فَتِلْكَ الْإِحَاطَةُ تُشْبِهُ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِ مَنْ فِي النَّارِ وَهُوَ نَفْسُهُ. وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِهِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، أَوْ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ إِنْ أُرِيدَ الْعُدُولُ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ إِينَاسًا لَهُ وَتَلَطُّفًا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ «قُمْ أَبَا تُرَابٍ» وَكَثِيرٌ التَّلَطُّفُ بِذِكْرِ بَعْضِ مَا الْتَبَسَ بِهِ الْمُتَلَطَّفُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ هُوَ بِشَارَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَرَكَةِ النُّبُوءَةِ. وَمَنْ حَوْلَ النَّارِ: هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِمَا نُودِيَ بِهِ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ إِنَارَةُ الْمَكَانِ وَتَقْدِيسِهِ إِنْ كَانَ النِّدَاءُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ بَلْ كَانَ مِنْ لَدُنْ

اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا التَّبْرِيكُ تَبْرِيكُ ذَوَاتٍ لَا تَبْرِيكَ مَكَانٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ تَبْرِيكُ الِاصْطِفَاءِ الْإِلَهِيِّ بِالْكَرَامَةِ. وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إِنْشَاءُ تَحِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَة لإِبْرَاهِيم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] أَيْ أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَطْفٌ عَلَى مَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ إِخْبَارًا بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُحْدَثَاتِ لِيَعْلَمَ مُوسَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّدَاءَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ جَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُبْحانَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلًا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ يَقْتَضِي تَذَكُّرَ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ. وَفِي حَذْفِ مُتَعَلَّقٍ التَّنْزِيهِ إِيذَانٌ بِالْعُمُومِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْدَرِ التَّنْزِيهِ وَهُوَ عُمُومُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَلِيقُ إِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ. فَالْمَعْنَى: وَنَزِّهِ اللَّهَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمِنْ أَوَّلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَإِرْدَافُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ للتنزيه عَن شؤون الْمُحْدَثَاتِ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَلَا يُشْبِهُ شَأْنه تَعَالَى شؤونهم. وَضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ. وَالْمَعْنَى: إِعْلَامُهُ بِأَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، أَيْ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، لَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ تَكْوِينٌ. وَتَقْدِيمُ هَذَا بَيْنَ يَدَيْ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ لِإِحْدَاثِ رِبَاطَةِ جَأْشٍ لِمُوسَى لِيَعْلَمَ أَنَّهُ خُلِعَتْ عَلَيْهِ النُّبُوءَةُ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَتَعَرَّضُ إِلَى أَذًى وَتَأَلُّبٍ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ سَيَصِيرُ رَسُولًا، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ قَوِيٍّ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ مَا شَاهَدَ مِنَ النَّارِ وَمَا تَلَقَّاهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا سَيُشَاهِدُهُ مِنْ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لَيْسَ بِعَجِيبٍ فِي جَانِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتِلْكَ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ، فَلِذَلِكَ

أَتْبَعَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَأَلْقِ عَصاكَ. وَالْمَعْنَى: وَقُلْنَا أَلْقِ عَصَاكَ. وَالِاهْتِزَازُ: الِاضْطِرَابُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْهَزِّ وَهُوَ الرَّفْعُ كَأَنَّهَا تُطَاوِعُ فِعْلَ هَازٍّ يَهُزُّهَا. وَالْجَانُّ: ذَكَرُ الْحَيَّاتِ، وَهُوَ شَدِيدُ الِاهْتِزَازِ وَجَمْعُهُ جِنَّانٌ (وَأَمَّا الْجَانُّ بِمَعْنَى وَاحِدِ الْجِنِّ فَاسْمُ جَمْعِهِ جِنٌّ) . وَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الِاضْطِرَابِ لِأَنَّ الْحَيَّاتِ خَفِيفَةُ التَّحَرُّكِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ الْعَصَا بِالثُّعْبَانِ فِي آيَةِ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: 107] فَذَلِكَ لِضَخَامَةِ الْجِرْمِ. وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ عَنِ السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ. وَفِعْلُ (تَوَلَّى) مُرَادِفُ فِعْلِ وَلَّى كَمَا هُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ «الْقَامُوسِ» وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى مَا فِي فِعْلِ (تَوَلَّى) مِنْ زِيَادَةِ الْمَبْنَى أَنْ يُفِيدَ (تَوَلَّى) زِيَادَةً فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [24] . وَلَعَلَّ قَصْدَ إِفَادَةِ قُوَّةِ تَوَلِّيهِ لَمَّا رَأَى عَصَاهُ تَهْتَزُّ هُوَ الدَّاعِي لِتَأْكِيدِ فِعْلِ وَلَّى بِقَوْلِهِ: مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ فَتَأَمَّلْ. وَالْإِدْبَارُ: التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ الْخَلْفِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّوَلِّي فَقَوْلُهُ: مُدْبِراً حَالٌ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ وَلَّى. وَالتَّعَقُّبُ: الرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى جِهَةِ الْعَقِبِ، أَيِ الْخَلْفِ، فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَقِّبْ تَأْكِيدٌ لِشِدَّةِ تَوَلِّيهِ، أَيْ وَلَّى تَوَلِّيًا قَوِيًّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَكَانَ ذَلِكَ التَّوَلِّي مِنْهُ لِتَغَلُّبِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّتِي فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ عَلَى قُوَّةِ الْعَقْلِ الْبَاعِثَةِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ إِعْطَائِهِ النُّبُوءَةَ وَالتَّأْيِيدَ، إِذْ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْوَاهِمَةُ مُتَأَصِّلَةً فِي الْجِبِلَّةِ سَابِقَةً عَلَى مَا تَلَقَّاهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالرِّسَالَةِ، وَتَأَصُّلُ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ يَزُولُ بِالتَّخَلُّقِ وَبِمُحَارَبَةِ الْعَقْلِ لِلْوَهْمِ فَلَا يَزَالَانِ يَتَدَافَعَانِ وَيَضْعُفُ سُلْطَانُ الْوَهْمِ بِتَعَاقُبِ الْأَيَّامِ. وَقَوْلُهُ: يَا مُوسى لَا تَخَفْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْنَا لَهُ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِمْرَارِ الْخَوْفِ. لِأَنَّ خَوْفَهُ قَدْ حَصَلَ. وَالْخَوْفُ الْحَاصِلُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوْفُ رَغَبٍ مِنِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَلَيْسَ خَوْفَ ذَنْبٍ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْبُنُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لِأَنِّي أَحْفَظُهُمْ. وإِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ وَتَحْقِيقٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ

نَهْيُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَشْرِيفِهِ بِمَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ إِذْ عُلِّلَ بِأَنَّ الْمُرْسَلِينَ لَا يَخَافُونَ لَدَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى لَدَيَّ فِي حَضْرَتِي، أَيْ حِينَ تَلَقِّي رِسَالَتِي. وَحَقِيقَةُ لَدَيَّ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَكَانُ. وَإِذَا قَدْ كَانَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً حَصَلَ حِينَ الْوَحْيُ كَانَ تَابِعًا لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ رَبَاطَةِ الْجَأْشِ. وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ حَطٌّ لِمَرْتَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَرَاتِبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَعَنْ كُلِّ خَوْفٍ يَخَافُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: 77] . وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا إِلَى مُقَاتِلٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ فَيَكُونُ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ الْوَاقِعِ فِعْلُهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْخَوْفَ بِمَعْنَى الرُّعْبِ وَالْخَوْفَ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى الذَّنْبِ، أَيْ إِلَّا رَسُولًا ظَلَمَ، أَيْ فَرَطَ مِنْهُ ظُلْمٌ، أَيْ ذَنْبٌ قَبْلَ اصْطِفَائِهِ لِلرِّسَالَةِ، أَيْ صَدَرَ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ بِفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي مُتَعَارَفِ شَرَائِعِ الْبَشَرِ الْمُتَقَرَّرِ أَنَّهَا عَدْلٌ، بِأَنِ ارْتَكَبَ مَا يُخَالِفُ الْمُتَقَرَّرَ بَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ أَنَّهُ عَدْلٌ (قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ) فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهِ وَيُجَازِيَهُ عَلَى ارْتِكَابِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ كَيْدِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَخِيهِمْ، وَاعْتِدَاءِ مُوسَى عَلَى الْقِبْطِيِّ بِالْقَتْلِ دُونَ مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَذَلِكَ الَّذِي ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، أَيْ تَابَ عَنْ فِعْلِهِ وَأَصْلَحَ حَالَهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَسْكِينُ خَاطِرِ مُوسَى وَتَبْشِيرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ مَا كَانَ فَرَطَ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُ مِمَّا قَالَهُ يَوْمَ الِاعْتِدَاءِ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَص: 15، 16] ، فَأُفْرِغَ هَذَا التَّطْمِينُ لِمُوسَى فِي قَالَبِ الْعُمُومِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ. وَاسْتِقَامَةُ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ بِتَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ

فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْ قَبْلِ الْإِرْسَالِ وَتَابَ مَنْ ظُلْمِهِ فَخَافَ عِقَابِي فَلَا يَخَافُ لِأَنِّي غَافِرٌ لَهُ وَقَابِلٌ لِتَوْبَتِهِ لِأَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ عَلَى إِيجَازٍ بَدِيعٍ اقْتَضَاهُ مَقَامُ تَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ، وَنُسِجَ عَلَى مَنْسَجِ التَّذْكِرَةِ الرَّمْزِيَّةِ لِعِلْمِ الْمُتَخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أُهْمِلْ تَوْبَتَكَ يَوْمَ اعْتَدَيْتَ وَقَوْلَكَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَص: 15، 16] ، وَعَزْمَكَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ يَوْمَ قُلْتَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَص: 17] . وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خُصُوصِ مَنْ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرَّسُولِ الْإِصْرَارُ عَلَى الظُّلْمِ. وَمِنْ أَلْطَفِ الْإِيمَاءِ الْإِتْيَانُ بِفعل ظَلَمَ ليومىء إِلَى قَوْلِ مُوسَى يَوْم ارْتكب الاعتداءبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [الْقَصَص: 16] وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ مُوسَى نَفْسَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الضَّحَّاكِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ فَالْكَلَامُ اسْتِطْرَادٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَلَمَ وَبَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ مِنَ النَّاسِ يُغْفَرُ لَهُ. وَعَلَيْهِ تَكُونُ مَنْ صَادِقَةً عَلَى شَخْصٍ ظَلَمَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مُخَالَفَاتِ بَعْضِ الرُّسُلِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ دَعَا إِلَيْهِ أَنَّ الرِّسَالَةَ تُنَافِي سَبْقَ ظُلْمِ النَّفْسِ. وَالَّذِي حَدَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ إِثْبَاتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ للمستثنى، ونقيض انْتِفَاء الْخَوْف حُصُول الْخَوْف. وَالْمَوْجُود بعد أَدَاة الِاسْتِثْنَاء أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَلَا خِلَافَ عَلَيْهِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ ظَلَمَ وَلَمْ يُبَدِّلْ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ. أَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَزَادَ عَلَى مَا سَلَكَهُ الْفَرَّاءُ والزجاج فَجعل مَا صدق مَنْ ظَلَمَ رَسُولًا ظَلَمَ. وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا هُوَ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ اللَّذَيْنِ دَعَيَا الْفَرَّاءَ وَالزَّجَّاجَ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضًا لِحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلذَلِك جعل مَا صدق مَنْ ظَلَمَ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ ظَلَمَ بِمَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ صَغَائِرَ لِيَشْمَلَ مُوسَى وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَحَصَّلَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الرُّسُلَ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ (أَيْ حِينَ

[سورة النمل (27) : آية 12]

الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الرِّسَالَةِ) لَا يَخَافُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَفَّلَ لَهُمُ السَّلَامَةَ، وَلَا يَخَافُونَ الذُّنُوبَ لِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمُ الْعِصْمَةَ. وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى الذُّنُوبِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَهَا، وَأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ إِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ أَمِنَ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عِقَابِ الذُّنُوبِ لِأَنَّهُ تَدَارَكَ ظُلْمَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَتُبْ يَخَفْ عِقَابَ الذَّنْبِ فَإِنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ مَعَانٍ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِاحْتِمَالَيْهِ، وَذَلِكَ إِيجَازٌ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَلَا) وَتَخْفِيفِ اللَّامِ فَتَكُونُ حَرْفَ تَنْبِيهٍ، وَلَا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَا رَأَيْنَا مِنْ كُتُبِ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فَلَعَلَّهَا رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَفِعْلُ بَدَّلَ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: مَأْخُوذًا، وَمُعْطًى، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الشَّيْئَيْنِ تَارَةً بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْفُرْقَانِ [70] فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَيَتَعَدَّى تَارَةً إِلَى الْمَأْخُوذِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُعْطَى بِالْبَاءِ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى عَاوَضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: 2] ، أَيْ لَا تَأْخُذُوا خَبِيثَ الْمَالِ وَتُضَيِّعُوا طَيِّبَهُ، فَإِذَا ذُكِرَ الْمَفْعُولَانِ مَنْصُوبَيْنِ تَعَيَّنَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَبْذُولُ بِالْقَرِينَةِ وَإِلَّا فَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ هُوَ الْمَبْذُولُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَبُدِّلْتُ قَرْحًا دَامِيًا بَعْدَ صِحَّةٍ ... فَيَا لَكِ مِنْ نُعْمَى تَبَدَّلْنَ أَبْؤُسًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أَيْ أَخَذَ حُسْنًا بِسُوءٍ، فَإِنَّ كَلِمَةَ بَعْدَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ زَالَ وَخَلَفَهُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَا يُفِيدُ مَعْنَى (بَعْدَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [الْأَعْرَاف: 95] فَالْحَالَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الْمَأْخُوذَةُ مَجْعُولَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالة السَّيئَة. [12] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 12] وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقِ عَصاكَ [النَّمْل: 10] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ آيَةَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا أَرَاهُ آيَةً أُخْرَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِالتَّأْيِيدِ، وَقَدْ مَضَى فِي «طَهَ» التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ

[سورة النمل (27) : الآيات 13 إلى 14]

أَرَاهُ آيَةً أُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِك أَن يَجْعَل لَهُ مَا تَطْمَئِنُّ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عِنْدَ لِقَاءِ فِرْعَوْنَ. وَقَوْلُهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ حَالٌ مِنْ تَخْرُجْ بَيْضاءَ أَيْ حَالَةَ كَوْنِهَا آيَةً مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ، وإِلى فِرْعَوْنَ صِفَةٌ لِآيَاتٍ، أَيْ آيَاتٌ مَسُوقَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ. وَفِي هَذَا إِيذَانٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ إِيجَازًا وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ مُوسَى بِأَنْ يَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ كَمَا بُيِّنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَالْآيَاتُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْقَحْطُ، وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَقَدْ عُدَّ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَجَمَعَهَا الْفَيْرُوزْآبَادِي فِي بَيْتٍ ذَكَرَهُ فِي مَادَّةِ (تِسْعٍ) مِنَ «الْقَامُوسِ» وَهُوَ: عَصًا سَنَةٌ بَحْرٌ جَرَادٌ وَقُمَّلٌ ... يَدٌ وَدَمٌ بَعْدَ الضفادع طوفان [13، 14] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 13 إِلَى 14] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) أوجز بَقِيَّة الْقِصَّة وَانْتَقَلَ إِلَى الْعِبْرَةِ بِتَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْآيَاتِ، لِيَعْتَبِرَ بِذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَصَدَ مِنْ هَذَا الْإِيجَازِ طَيَّ بِسَاطِ الْقِصَّةِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى قِصَّةِ دَاوُدَ ثُمَّ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الْمَبْسُوطَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْآيَاتِ حُصُولُهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَهِيَ الْآيَاتُ الثَّمَانِ الَّتِي قَبْلَ الْغَرَقِ. وَالْمُبْصِرَةُ: الظَّاهِرَةُ. صِيغَ لَهَا وَزْنُ اسْمِ فَاعِلِ الْإِبْصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْمُبْصِرُ النَّاظِرُ إِلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [59] . وَالْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ. واسْتَيْقَنَتْها بِمَعْنَى أَيْقَنَتْ بِهَا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَجْرُورِ عَلَى التَّوَسُّعِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ تَحَقَّقَتْهَا عُقُولُهُمْ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ

[سورة النمل (27) : آية 15]

لِلْمُبَالَغَةِ. وَالظُّلْمُ فِي تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ لِأَنَّهُمْ أَلْصَقُوا بِهِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ فَظَلَمُوهُ حَقَّهُ. وَالْعُلُوُّ: الْكِبَرُ وَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَاسْتَيْقَنَتْها حَالِيَّةً، فَقَوْلُهُ: ظُلْماً وَعُلُوًّا نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. فَالظُّلْمُ فِي الْجَحْدِ بِهَا وَالْعُلُوُّ فِي كَوْنِهِمْ مُوقِنِينَ بِهَا. وَانْتَصَبَ ظُلْماً وَعُلُوًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ جَحَدُوا وَجُعِلَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ فِيمَا لَحِقَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لِلسَّامِعِينَ فَأَمَرَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ. وكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مُعَلِّقًا فِعْلَ النَّظَرِ عَنِ الْعَمَلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ للتعجيب. [15] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 15] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَإِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ آيَاتُ عِبْرَةٍ وَمَثَلٌ لِلَّذِينِ جَحَدُوا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ وَمَلِكَةِ سَبَأٍ وَمَا رَأَتْهُ مِنْ آيَاتِهِ وَإِيمَانِهَا بِهِ مَثَلٌ لِعِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارٌ لِفَضِيلَةِ مَلِكَةِ سَبَأٍ إِذْ لَمْ يَصُدَّهَا مُلْكُهَا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِآيَاتِ سُلَيْمَانَ فَآمَنَتْ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَثَلٌ لِلَّذِينِ اهْتَدَوْا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ دَاوُدَ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ذِكْرَ سُلَيْمَانَ إِذْ كَانَ مُلْكُهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ. وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ دَاوُدَ مَثَلٌ لِإِفَاضَةِ الْحِكْمَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَدِّيًا لَهَا. وَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ أَيَّامَ كَانَ فِيهِمْ أَحْبَارٌ وَعُلَمَاءُ فَقَدْ كَانَ دَاوُدُ رَاعِيًا غَنَمَ أَبِيهِ (يَسِّي) فِي بَيْتِ لَحْمٍ فَأَمَرَ اللَّهُ شَمْوِيلَ النَّبِيءَ أَنْ يَجْعَلَ دَاوُدَ نَبِيئًا فِي مُدَّةِ مُلْكِ

طَالُوتَ (شَاوِلَ) . فَمَا كَانَ عَجَبٌ فِي نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْحِكْمَةَ وَالنُّبُوءَةَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنْ فِي قَوْمِهِ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النَّمْل: 6] . فَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مَعْطُوفًا عَلَى إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ [النَّمْل: 7] إِذَا جَعَلْنَا (إِذْ) مَفْعُولًا لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَمُنَاسَبَةُ الذِّكْرِ ظَاهِرَةٌ. وَبَعْدُ فَفِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ عِلْمٌ وَعِبْرَةٌ وَأُسْوَةٌ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا نُبُوءَةَ مِثْلِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] . وَتَنْكِيرُ عِلْماً لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِنُبُوءَةٍ وَحِكْمَةٌ كَقَوْلِهِ فِي صَاحِبِ مُوسَى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْف: 65] . وَفِي فِعْلِ آتَيْنا مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عِلْمٌ مُفَاضٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ أَخَصُّ مِنْ عَلَّمْنَاهُ فَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ هُنَا عَنْ كَلِمَةِ (مَنْ لَدُنَّا) . وَحِكَايَةُ قَوْلِهِمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا كِنَايَةً عَنْ تَفْضِيلِهِمَا بِفَضَائِلَ غَيْرِ الْعِلْمِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَغَيْرُهُمْ، وَتَنْوِيهٌ بِأَنَّهُمَا شَاكِرَانِ نِعْمَتَهُ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُمَا هَذَا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَمْدًا لِمُجَرَّدِ الشُّكْرِ عَلَى إِيتَاءِ الْعِلْمِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكَايَةَ قَوْلَيْهِمَا وَقَعَتْ بِالْمَعْنَى، بِأَنْ قَالَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنِي، فَلَمَّا حُكِيَ الْقَوْلَانِ جُمِعَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى مِنَحِهِ وَمِنَحِ قَرِيبِهِ، عَلَى أَنَّهُ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ

[سورة النمل (27) : آية 16]

الْمُشَارَكِ لَا لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ بَلْ لِإِخْفَاءِ الْمُتَكَلِّمِ نَفْسَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ تَوَاضُعًا كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَقِبَ هَذَا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: 16] . وَجَعَلَا تَفْضِيلَهُمَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا لِأَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ مِنَ الْمَاضِينَ وَفِيهِمْ مُوسَى وَهَارُونُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَفْضَلِ وَالْمُسَاوِي، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا اقْتَصَدَا فِي الْعِبَارَةِ إِذْ لَمْ يُحِيطَا بِمَنْ نَالَهُ التَّفْضِيلُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْعِبَادِ أَهْلَ عَصْرِهِمَا فَعَبَّرَا بِ كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا هَذَا جَهْرًا وَهُوَ الظَّاهِرُ كَانَ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَذْكُرَ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعِلْمِ لِفَوَائِدَ شَرْعِيَّةٍ تَرْجِعُ إِلَى أَنْ يُحَذِّرَ النَّاسَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِمَنْ لَيْسَتْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَالْجَعْجَعَةِ الْجَالِبَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَإِنْ قَالَاهُ فِي سِرِّهِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ. [16] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 16] وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ. طَوَى خَبَرَ مُلْكِ دَاوُدَ وَبَعْضَ أَحْوَالِهِ إِلَى وَفَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدَامَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً. فَخَلَفَهُ سُلَيْمَانُ فَهُوَ وَارِثُ مُلْكِهِ والقائم فِي مَقَامِهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَظُهُورِ الْحِكْمَةِ وَنُبُوءَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالسُّمْعَةِ الْعَظِيمَةِ بَيْنَهُمْ. فَالْإِرْثُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْأَحْوَالِ الْجَلِيلَةِ بِالْمَالِ وَتَشْبِيهُ الْخِلْفَةِ بِانْتِقَالِ مُلْكِ الْأَمْوَالِ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ غَرَضُ الْآيَةِ إِفَادَةَ مَنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُ دَاوُدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النَّمْل: 15] فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِرْثَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَإِنَّهُ غَرَضٌ تَافِهٌ. وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا فَلَا يَخْتَصُّ إِرْثُ مَالِهِ بِسُلَيْمَانَ وَلَيْسَ هُوَ أَكْبَرَهُمْ، وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ أَقَامَ سُلَيْمَانَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يحْتَج بِهِ لجَوَاز أَنْ يُورِثَ مَالُ النَّبِيءِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الضَّمِيرِ جَمَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَشَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّا أَوْ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، وَلَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِي شَأْنِ صَدَقَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ: «أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ» وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ، فَإِذَا أَخَذْنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ كَانَ هَذَا حُكْمًا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَيُنْسَخُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَخَذْنَا بِالتَّأْوِيلِ فَظَاهِرٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، خِلَافًا لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، ثُمَّ رَجَعَا حِينَ حَاجَّهُمَا عُمَرُ. وَالْعِلَّةُ هِيَ سَدُّ ذَرِيعَةِ خُطُورِ تَمَنِّي مَوْتِ النَّبِيءِ فِي نَفْسِ بَعْضِ وَرَثَتِهِ. وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. قَالَ سُلَيْمَانُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مَجْمَعٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ لَهْجَةَ هَذَا الْكَلَامِ لَهْجَةُ خُطْبَتِهِ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ مَجْلِسَهُ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالسَّامِعِينَ مِنَ الْعَامَّةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَا مَنَحَهُ مِنْ عِلْمٍ وَمُلْكٍ، وَلِيُقَدِّرَ النَّاسُ قَدْرَهُ وَيَعْلَمُوا وَاجِبَ طَاعَتِهِ إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ لِذَلِكَ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى نَوَايَا أَنْفَرِ الْحَيَوَانِ وَأَبْعَدِهِ عَنْ إِلْفِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الطَّيْرُ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَعْرِفَةِ نَوَايَا النَّاسِ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ فَإِنَّ تَخْطِيطَ رُسُومِ الْمُلْكِ وَوَاجِبَاتِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ لِصَلَاحِ الْمَمْلَكَةِ بِالْتِفَافِ النَّاسِ حَوْلَ مَلِكِهِمْ وَصَفَاءِ النِّيَّاتِ نَحْوِهِ، وَبِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ جَانِبِهِمْ يَكُونُ التَّعَاوُنُ عَلَى الْخَيْرِ وَتَنْزِلُ السِّكِّينَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَلَمَّا حَصَلَ مِنْ جَانِبِ سُلَيْمَانَ الِاعْتِرَافَ بِهَذَا الْفَضْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَدَّى وَاجِبَهُ نَحْوَ أُمَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُؤَدِّيَ الْأُمَّةُ وَاجِبَهَا نَحْوَ مَلِكِهَا، كَمَا كَانَ تَعْلِيمُ فَضَائِلِ النُّبُوَّةِ من مَقَاصِد الشَّارِع، فَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» أَيْ أَقُولُهُ لِقَصْدِ الْإِعْلَامِ بِوَاجِبِ التَّقَادِيرِ لَا لِقَصْدِ الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ، وَيَعْلَمُوا وَاجِبَ طَاعَتِهِ. وَعِلْمُ مَنْطِقِ الطَّيْرِ أُوتِيَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ بِأَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي تَقَاطِيعِ وَتَخَالِيفِ صَفِيرِ الطُّيُورِ أَوْ نَعِيقِهَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا فِي إِدْرَاكِهَا وَإِرَادَتِهَا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ سَبِيلًا لَهُ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى تَعَرُّفِ أَحْوَالِ عَالَمِيَّةٍ يَسْبِقُ الطَّيْرُ إِلَى إِدْرَاكِهَا بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْقُوَى الْكَثِيرَةِ، وَلِلطَّيْرِ دَلَالَةٌ فِي تَخَاطُبِ أَجْنَاسِهَا وَاسْتِدْعَاءِ أَصْنَافِهَا وَالْإِنْبَاءِ بِمَا حَوْلَهَا مَا فِيهِ عَوْنٌ عَلَى تَدْبِيرِ مُلْكِهِ

وَسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ، مِثْلُ اسْتِخْدَامِ نَوْعِ الْهُدْهُدِ فِي إِبْلَاغِ الْأَخْبَارِ وَرَدِّهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ بالحكمة والمعرفة لكثير مِنْ طَبَائِعِ الْمَوْجُودَاتِ وَخَصَائِصِهَا. وَدَلَالَةُ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهَا: بَعْضُهَا مَشْهُورٌ كَدَلَالَةِ بَعْضِ أَصْوَاتِهِ عَلَى نِدَاءِ الذُّكُورِ لِإِنَاثِهَا، وَدَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى اضْطِرَابِ الْخَوْفِ حِينَ يُمْسِكُهُ مُمْسِكٌ أَوْ يُهَاجِمُهُ كَاسِرٌ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ دَلَالَاتٌ فِيهَا تَفْصِيلٌ، فَكُلُّ كَيْفِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَاتِ الْإِجْمَالِيَّةِ تَنْطَوِي عَلَى تَقَاطِيعَ خَفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتٍ صَوْتِيَّةٍ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِيهَا دَلَالَاتٌ عَلَى أَحْوَالٍ فِيهَا تَفْضِيلٌ لِمَا أَجْمَلَتْهُ الْأَحْوَالُ الْمُجْمَلَةُ، فَتِلْكَ التَّقَاطِيعُ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّاسُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا خَالِقُهَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ دَلَالَةِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَصِفَاتِهَا فِي لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ وَفَكِّهَا وَإِدْغَامِهَا وَاخْتِلَافِ حَرَكَاتِهَا عَلَى مَعَانٍ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ اللُّغَةَ مَعْرِفَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُتْقِنْ دَقَائِقَهَا. مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ ضَلَلْتُ وَظَلِلْتُ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَ سُلَيْمَانَ بِوَحْيٍ عَلَى مُخْتَلَفِ التَّقَاطِيعِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي فِي صَفِيرِ الطَّيْرِ وَأَعْلَمَهُ بِأَحْوَالِ نفوس الطير عِنْد مَا تَصْفُرُ بِتِلْكَ التَّقَاطِيعِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي حِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَعَرِّي: أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّ ... تْ عَلَى غُصْنِ دَوْحِهَا الْمَيَّادِ وَقَالَ صَاحِبُنَا الشَّاعِرُ الْبَلِيغُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَسْعُودِيُّ مِنْ أَبْيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: فَمَنْ كَانَ مَسْرُورًا يَرَاهُ تَغَنِّيًا ... وَمَنْ كَانَ مَحْزُونًا يَقُولُ يَنُوحُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْطِقِ الطَّيْرِ إِيجَازٌ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَهِيَ أَبْعَدُ الْحَيَوَانِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَسْرَعُهَا نُفُورًا مِنْهُ، عَلِمَ أَنَّ مَنْطِقَ مَا هُوَ أَكْثَرُ اخْتِلَاطًا بِالْإِنْسَانِ حَاصِلٌ لَهُ بِالْأَحْرَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها [النَّمْل: 19] ، فَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مَنْطِقَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا الْعِلْمُ سَمَّاهُ الْعَرَبُ عَلِمَ الْحُكْلِ (بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَاف) قَالَ العجاج وَقِيلَ ابْنُهُ رُؤْبَةُ: لَوْ أَنَّنِي أُوتِيتُ عِلْمَ الْحُكْلِ ... عِلْمَ سُلَيْمَانَ كَلَامَ النَّمْلِ

أَوْ أَنَّنِي عُمِّرْتُ عُمْرَ الْحِسْلِ ... أَوْ عُمْرَ نُوحٍ زَمَنَ الْفِطَحْلِ كُنْتُ رَهِينَ هَرَمٍ أَوْ قَتْلِ وَعَبَّرَ عَنْ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ بِلَفْظِ مَنْطِقَ تَشْبِيهًا لَهُ بِنُطْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذُو دَلَالَةٍ لِسُلَيْمَانَ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِ الطَّيْرِ، فَحَقِيقَةُ الْمَنْطِقِ الصَّوْتُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ. وَضمير عُلِّمْنا- أُوتِينا مُرَادٌ بِهِ نَفْسُهُ، جَاءَ بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارَكِ إِمَّا لِقَصْدِ التَّوَاضُعِ كَأَنَّ جَمَاعَةً عُلِّمُوا وَأُوتُوا وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ احْتِمَالَاتِ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النَّمْل: 15] ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِإِظْهَارِ عَظَمَةِ الْمُلْكَ، وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ السُّلْطَانِ عِنْدَ الرَّعِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى السِّيَاسَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا أَجَابَ مُعَاوِيَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ لَقِيَهُ فِي جُنْدٍ (وَأُبَّهَةٍ) بِبِلَادِ الشَّامِ فَقَالَ عُمَرُ لِمُعَاوِيَةَ «أَكِسْرَوِيَّةً يَا مُعَاوِيَةُ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّا فِي بِلَادٍ مِنْ ثُغُورِ الْعَدُوِّ فَلَا يَرْهَبُونَ إِلَّا مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: خُدْعَةُ أَرِيبٍ أَوِ اجْتِهَادُ مُصِيبٍ لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ» فَتَرَكَ الْأَمْرَ لِعُهْدَةِ مُعَاوِيَةَ وَمَا يَتَوَسَّمُهُ مِنْ أَسَالِيبِ سِيَاسَةِ الْأَقْوَامِ. وَالْمُرَادُ بِ كُلِّ شَيْءٍ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُهِمَّةِ فَفِي كُلِّ شَيْءٍ عُمُومَانِ عُمُومُ كُلِّ وَعُمُومُ النَّكِرَةِ وَكِلَاهُمَا هُنَا عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، فَ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ وشَيْءٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُهِمَّةِ مِمَّا لَهُ عَلَاقَةٌ بِمَقَامِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَكَى عَنْ أَخْبَارِ الْهُدْهُدِ. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: 23] ، أَي كثيرا مِنَ النَّفَائِسِ وَالْأَمْوَالِ. وَفِي كُلِّ مَقَامٍ يُحْمَلُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ. وَالتَّأْكِيدُ فِي إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِهِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ لَامُ قَسَمٍ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْظِيمُ النِّعْمَةِ أَدَاءً لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا بِالْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْعِبَارَةِ. والْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ. والْمُبِينُ: الظَّاهِر الْوَاضِح.

[سورة النمل (27) : آية 17]

[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 17] وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) وَهَبَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ قُوَّةً مِنْ قُوَى النُّبُوءَةِ يُدْرِكُ بِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ كَمَا يُدْرِكُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَدَلَالَةَ النَّمْلِ وَنَحْوَهَا. وَيَزَعُ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ بِهَا فَيُوزَعُونَ تَسْخِيرًا كَمَا سَخَّرَ بَعْضَ الْعَنَاصِرِ لِبَعْضٍ فِي الْكِيمْيَاءِ وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ. وَقَدْ وَهَبَ اللَّهُ هَذِهِ الْقُوَّةَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، وَيُخَاطِبُونَهُ. وَإِنَّمَا أَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا وَيَزَعَهَا كَرَامَةً لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ إِذْ سَأَلَ اللَّهَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ مَحَّضَهُ لِمَا هُوَ أَهَمُّ وَأَعْلَى فَنَالَ بِذَلِكَ فَضْلًا مِثْلَ فَضْلِ سُلَيْمَانَ، وَرَجَّحَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ تَبْرِيرًا لِدَعْوَةِ أَخِيهِ فِي النُّبُوءَةِ لِأَنَّ جَانِبَ النُّبُوءَةِ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَقْوَى مِنْ جَانِبِ الْمُلْكِ، كَمَا قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي رُعِدَ حِينَ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ: «إِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلَا جَبَّارٍ» . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيئًا عَبْدًا أَوْ نَبِيئًا مَلِكًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيئًا عَبْدًا» ، فَرُتْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُتْبَةُ التَّشْرِيعِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ رُتْبَةِ الْمُلْكِ، وَسُلَيْمَانُ لَمْ يَكُنْ مُشَرِّعًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، فَوَهَبَهُ اللَّهُ مُلْكًا يَتَصَرَّفُ بِهِ فِي السِّيَاسَةِ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ يَنْدَرِجُ بَعْضُهَا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَهُوَ لَيْسَ بِمَلِكٍ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي الْأُمَّةِ تَصَرُّفَ الْمُلُوكِ تَصَرُّفًا بَرِيئًا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمُلْكُ مِنَ الزُّخْرُفِ وَالْأُبَّهَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «النَّقْدِ» عَلَى كِتَابِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ عَبْدِ الرَّازِقِ الْمِصْرِيِّ الَّذِي سَمَّاهُ «الْإِسْلَامَ وَأُصُولَ الْحُكْمِ» (¬1) . وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جُنُودَهُ كَانَتْ مُحْضَرَةً فِي حَضْرَتِهِ مسخّرة لأَمره حَيْثُ هُوَ. وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَهَا عَمَلٌ مُتَّحِدٌ تُسَخَّرُ لَهُ. وَغَلَبَ إِطْلَاقُ الْجُنْدِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ يُعِدُّهَا الْمَلِكُ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ وَلِحِرَاسَةِ الْبِلَادِ. ¬

(¬1) انْظُر صفحة 76 من كتاب «الْإِسْلَام وأصول الحكم» طبع مطبعة مصر سنة 1343 هـ، وصفحة 13، 14 من كتاب «النَّقْد العلمي» طبع المطبعة السلفية بِالْقَاهِرَةِ سنة 1344 هـ.

[سورة النمل (27) : الآيات 18 إلى 19]

وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بَيَانٌ لِلْجُنُودِ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفُ الْجِنِّ وَهُوَ لِتَوْجِيهِ الْقُوَى الْخَفِيَّةِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْأُمُور الروحية. وَصِنْفُ الْإِنْسِ وَهُوَ جُنُودُ تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ وَمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَحِرَاسَةِ الْمَمْلَكَةِ، وَصِنْفُ الطَّيْرِ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْجُنْدِ لِتَوْجِيهِ الْأَخْبَارِ وَتَلَقِّيهَا وَتَوْجِيهِ الرَّسَائِلِ إِلَى قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْجِنِّ وَالطَّيْرِ لِغَرَابَةِ كَوْنِهِمَا مِنَ الْجُنُودِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْخَيْلَ وَهِيَ مِنَ الْجَيْشِ. وَالْوَزْعُ: الْكَفُّ عَمَّا لَا يُرَادُ، فَشَمَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، أَيْ فَهُمْ يُؤْمَرُونَ فَيَأْتَمِرُونَ وَيُنْهَوْنَ فَيَنْتَهُونَ، فَقَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الرَّعِيَّةَ كُلَّهَا. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْنَى حُشِرَ لِأَنَّ الْحَشْرَ إِنَّمَا يُرَادُ لِذَلِكَ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمْعَ الْجُنُودِ وَتَدْرِيبِهَا مِنْ وَاجِبَاتِ الْمُلُوكِ لِيَكُونَ الْجُنُودُ مُتَعَهِّدِينَ لِأَحْوَالِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ لِيَشْعُرُوا بِمَا يَنْقُصُهُمْ وَيَتَذَكَّرُوا مَا قَدْ يَنْسَوْنَهُ عِنْدَ تَشَوُّشِ الْأَذْهَانِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعند النفير. [18، 19] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 18 إِلَى 19] حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارِقُهَا، وَلَكِنَّهَا مَعَ الِابْتِدَائِيَّةِ غَايَةٌ غَيْرُ نِهَايَةٍ. وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، وَهُوَ يَقْتَضِي فِعْلَيْنِ بَعْدَهُ يُشْبِهَانِ فَعَلَيِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ لِأَنَّ إِذا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وإِذا مَعْمُولٌ لِفِعْلِ جَوَابِهِ، وَأَمَّا فِعْلُ شَرْطِهِ فَهُوَ جُمْلَةٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا إِذا. وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى قَالَتْ نَمْلَةٌ حِينَ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ. وَوَادِ النَّمْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْجِنْسُ لِأَنَّ لِلنَّمْلِ شُقُوقًا وَمَسَالِكَ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالْأَوْدِيَةِ لِلسَّاكِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانٌ مُشْتَهِرٌ بِالنَّمْلِ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُضَافُ كَمَا سُمِّيَ وَادِي السِّبَاعِ مَوْضِعٌ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَمَكَّةَ. قِيلَ:

وَادِ النَّمْلِ فِي جِهَةِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ. والنَّمْلِ: اسْمُ جِنْسٍ لِحَشَرَاتٍ صَغِيرَة ذَات سِتّ أَرْجُلٍ تَسْكُنُ فِي شُقُوقٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَهِيَ أَصْنَافٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْحَجْمِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ نَمْلَةٌ بِتَاءِ الْوَحْدَةِ، فَكَلِمَةُ نَمْلَةٍ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ دُونَ دَلَالَةٍ عَلَى تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ فَقَوْلُهُ: نَمْلَةٌ مَفَادُهُ: قَالَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَاقْتِرَانُ فِعْلِهِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ جَرَى عَلَى مُرَاعَاةِ صُورَةِ لَفْظِهِ لِشِبْهِ هَائِهِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَةُ الْوَحْدَةِ، وَالْعَرَبُ لَا يَقُولُونَ: مَشَى شَاةٌ، إِذَا كَانَ الْمَاشِي فَحْلًا مِنَ الْغَنَمِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: مَشَتْ شَاةٌ، وَطَارَتْ حَمَامَةٌ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَرْدُ ذَكَرًا وَكَانَ مِمَّا يُفَرَّقُ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ فِي أَغْرَاضِ النَّاسِ وَأَرَادُوا بَيَانَ كَوْنِهِ ذَكَرًا قَالُوا: طَارَتْ حَمَامَةٌ ذَكَرٌ، وَلَا يَقُولُونَ طَارَ حَمَامَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ التَّفْرِقَةَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْفَاعِلِ أُنْثَى، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ: مَاذَا رُزِئْنَا بِهِ مِنْ حَيَّةٍ ذَكَرٍ ... نَضْنَاضَةٍ بِالرَّزَايَا صِلِّ أَصْلَالِ فَجَاءَ بَاسِمِ (حَيَّةٍ) وَهُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ مُقْتَرِنٌ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِوَصْفِ ذَكَرٍ ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ التَّأْنِيثَ فِي قَوْلِهِ: نَضْنَاضَةٍ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِ (حَيَّةٍ) . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ» فَوَصَفَ (حِمَارٍ) الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ بِاسْمٍ خَاصٍّ بِأُنْثَاهُ. وَلِذَلِكَ فَاقْتِرَانُ فِعْلِ قالَتْ هُنَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ فَقَطْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ أُنْثَى النَّمْلِ وَذَكَرِهِ بَلْهَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقَصْدَ وُقُوعُ هَذَا الْحَادِثِ وَبَيَانُ عِلْمِ سُلَيْمَانَ لَا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ السَّفَاسِفِ. وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنْ قَتَادَةَ دَخَلَ الْكُوفَةَ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حَاضِرًا وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ: أَكَانَتْ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى؟ فَسَأَلُوهُ، فَأُفْحِمَ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَانَتْ أُنْثَى. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ عَرَفْتَ؟ قَالَ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ وَلَو كَانَت ذَكَرًا لَقَالَ: قَالَ نَمْلَةٌ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَذَلِكَ أَنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِعَلَامَةٍ نَحْوُ

قَوْلِهِمْ: حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، وَقَوْلِهِمْ: وَهُوَ وَهِيَ. اه. وَلَعَلَّ مُرَادَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِنْ كَانَ قَصَدَ تَأْيِيدَ قَوْلَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْوَصْفِ بِالتَّذْكِيرِ مَا يَقُومُ مَقَامُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَتُقَاسُ حَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى حَالَةِ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ جَاءَ بِكَلَامٍ غَيْرِ صَرِيحٍ لَا يُدْرَى أَهْوَ تَأْيِيدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَمْ خُرُوجٌ مِنَ الْمضيق. فَلم يقدم عَلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَقْتَرِنُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ إِذَا أُرِيدَ التَّفْرِقَةُ فِي حَالَةِ فَاعِلِهِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي «الِانْتِصَافِ» وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» وَالْقَزْوِينِيُّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» . وَرَأَوْا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ذُهِلَ فِيمَا قَالَهُ بِأَنَّهُ لَا يساعد قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِعْمَالٌ وَلَا سِيَّمَا نحاة الْكُوفَة بِبَلَدِهِ فَإِنَّهُمْ زَادُوا فَجَوَّزُوا تَأْنِيثَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ عَلَمًا مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ مِثْلُ: طَلْحَةُ وَحَمْزَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِمَامَةَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ لَا تُنَافِي أَنْ تَكُونَ مَقَالَتُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ غَيْرَ ضَلِيعَةٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذُهُولِ أَبِي حَنِيفَةَ انْفِحَامُ قَتَادَةَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ. وَغَالِبُ ظَنِّي أَن الْقِصَّة مُخْتَلفَة اخْتِلَاقًا غَيْرَ مُتْقَنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهَا دَلَالَةً وَلِلنَّمْلِ الَّذِي مَعَهَا فَهْمًا لَهَا وَأَنْ يَخْلُقَ فِيهَا إِلْهَامًا بِأَنَّ الْجَيْشَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ لَهُ. وَالْحَطْمُ: حَقِيقَتُهُ الْكَسْرُ لِشَيْءٍ صُلْبٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلرَّفْسِ بِجَامِعِ الْإِهْلَاكِ. وَلَا يَحْطِمَنَّكُمْ إِنْ جُعِلَتْ لَا فِيهِ نَاهِيَةً كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تَكْرِيرًا لِلتَّحْذِيرِ وَدَلَالَةً عَلَى الْفَزَعِ لِأَنَّ الْمُحَذِّرَ مِنْ شَيْءٍ مُفْزِعٌ يَأْتِي بِجُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ فَرْطِ الْمَخَافَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ حَطْمِ سُلَيْمَانَ إِيَّاهُنَّ كِنَايَةً عَنْ نَهْيِهِنَّ عَنِ التَّسَبُّبِ فِيهِ وَإِهْمَالِ الْحَذَرِ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْهُ فَأَعْرِفْكَ بِفِعْلِهِ، وَالنُّونُ تَوْكِيدٌ لِلنَّهْيِ وَإِنْ جُعِلَتْ لَا نَافِيَةً كَانَتِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً فِي جَوَابِ الْأَمْرِ فَكَانَ لَهَا حُكْمُ جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ. فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ، أَيْ يَنْتَفِ حَطْمُ سُلَيْمَانَ إِيَّاكُنَّ، وَإِلَّا حَطَّمَكُمْ. وَهَذَا مِمَّا جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَفِي هَذَا الْوَجْهِ كَوْنُ الْفِعْلِ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِ لَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ إِلَّا أَنَّهُ قَلِيلٌ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهُ مِنَ النُّحَاةِ فَيَمْنَعُ أَنْ تُجْعَلَ لَا نَافِيَةً هُنَا. وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُ مِنَ اقْتِرَانِ جَوَابِ الشَّرْطِ بِنُونِ

التَّوْكِيدِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ فِي الْحُكْمِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ عِنْدُهُ أَخَفُّ مِنْ دُخُولِهَا فِي الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفْيَ يُضَادُّ التَّوْكِيدَ. وَتَسْمِيَةُ سُلَيْمَانَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ النَّمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا دَلَّتْ دَلَالَةُ النَّمْلَةِ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ حَطْمِ ذَلِكَ الْمُحَاذِي لِوَادِيهَا، فَلَمَّا حُكِيَتْ دَلَالَتُهَا حُكِيَتْ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ اللَّهُ عِلْمًا فِي النَّمْلَةِ عَلِمَتْ بِهِ أَنَّ الْمَارَّ بِهَا يُدْعَى سُلَيْمَانُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ. وَتَبَسُّمُ سُلَيْمَانَ مِنْ قَوْلِهَا تَبَسُّمُ تَعَجُّبٍ. وَالتَّبَسُّمُ أَضْعَفُ حَالَاتِ الضَّحِكِ فَقَوْلُهُ: ضاحِكاً حَال موكدة ل فَتَبَسَّمَ وَضَحِكُ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ، كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ ضَحِكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ التَّبَسُّمِ مِثْلَ بُدُوِّ النَّوَاجِذِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ صِفَاتِ ضَحِكِهِ. وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فَلَا تَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ «كَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبِ» . وَإِنَّمَا تَعَجَّبَ مِنْ أَنَّهَا عَرَفَتِ اسْمَهُ وَأَنَّهَا قَالَتْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَوَسَمَتْهُ وَجُنْدَهُ بِالصَّلَاحِ وَالرَّأْفَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَ مَا فِيهِ رُوحٌ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِرَأْفَتِهِ وعدله الشَّامِل لكل مَخْلُوقٍ لَا فَسَادَ مِنْهُ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى نَمْلَةٍ لِيَعْلَمَ شَرَفَ الْعَدْلِ وَلَا يَحْتَقِرَ مَوَاضِعَهُ، وَأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ إِذَا عَدَلَ سَرَى عَدْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَظَهَرَتْ آثَارُهُ فِيهَا حَتَّى كَأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَا لَا إِدْرَاكَ لَهُ، فتسير جَمِيع أُمُورُ الْأُمَّةِ عَلَى عَدْلٍ. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ، فَضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِنَبِيئِهِ سُلَيْمَانَ بِالْوَحْيِ مِنْ دَلَالَةِ نَمْلَةٍ، وَذَلِكَ سِرٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ جَعَلَهُ تَنْبِيهًا لَهُ وَدَاعِيَةً لِشُكْرِ رَبِّهِ فَقَالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ. وَأَوْزَعَ: مَزِيدٌ (وَزَعَ) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى كَفَّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِزَالَةِ، أَيْ أَزَالَ الْوَزْعَ، أَيِ الْكَفِّ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهُ كَافًّا عَنْ عَمَلٍ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الْكِنَايَةَ عَنْ ضِدِّ مَعْنَاهُ، أَيْ كِنَايَةً عَنِ الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ. وَشَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَصَارَ مَعْنَى أَوْزَعَ أَغْرَى بِالْعَمَلِ. فَالْمَعْنَى: وَفِّقْنِي لِلشُّكْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْزِعْنِي أَلْهِمْنِي وَأَغْرِنِي. وأَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ مَنْصُوبٌ

بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ. وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنِي مُلَازِمًا شُكْرَ نِعْمَتَكَ. وَإِنَّمَا سَأَلَ اللَّهَ الدَّوَامَ عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ لِمَا فِي الشُّكْرِ مِنَ الثَّوَابِ وَمِنَ ازْدِيَادِ النِّعَمِ، فَقَدْ وَرَدَ: النِّعْمَةُ وَحْشِيَّةٌ قَيَّدُوهَا بِالشُّكْرِ فَإِنَّهَا إِذَا شُكِرَتْ قَرَّتْ. وَإِذَا كُفِرَتْ فَرَّتْ (¬1) . وَمِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعْمَةَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» . وَفِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لُقْمَان: 12] وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ «أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ بَوَارٌ، وَقَلَّمَا أَقْشَعَتْ نَافِرَةً فَرَجَعَتْ فِي نِصَابِهَا فَاسْتَدْعِ شَارِدَهَا بِالشُّكْرِ، وَاسْتَدْمِ رَاهِنَهَا بِكَرَمِ الْجِوَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ سُبُوغَ سِتْرِ اللَّهِ مُتَقَلِّصٌ عَمَّا قَرِيبٍ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْجُ لِلَّهِ وَقَارًا» (¬2) . وَأَدْرَجَ سُلَيْمَانُ ذِكْرَ وَالِديهِ عِنْد ذكره إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّ صَلَاحَ الْوَلَدِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَسَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَنَالُهُمَا مِنْ دُعَائِهِ وَصَدَقَاتِهِ عَنْهُمَا مِنَ الثَّوَابِ. وَوَالِدَاهُ هُمَا أَبُوهُ دَاوُدُ بْنُ يَسِّي وَأُمُّهُ (بَثْشَبَعَ) بِنْتُ (الْيَعَامَ) وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ (أُورِيَا) الْحِثِّيِّ فَاصْطَفَاهَا دَاوُدُ لِنَفْسِهِ (¬3) ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا قِصَّةُ نَبَأِ الْخَصْمِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ ص. وأَنْ أَعْمَلَ عَطْفٌ عَلَى أَنْ أَشْكُرَ. وَالْإِدْخَالُ فِي الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ مُسْتَعَارٌ لِجَعْلِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَشَبَّهَ إِلْحَاقَهُ بِهِمْ فِي الصَّلَاحِ بِإِدْخَالِهِ عَلَيْهِمْ فِي زُمْرَتِهِمْ، وَسُؤَالُهُ ذَلِكَ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ وَالزِّيَادَةُ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّ لِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ مَرَاتِب كَثِيرَة. [20، 21] ¬

(¬1) ذكره الطَّيِّبِيّ فِي حَاشِيَة «الْكَشَّاف» وَلم أَقف عَلَيْهِ. (¬2) لم يذكر شرَّاح «الْكَشَّاف» اسْم هَذَا الْمُتَقَدّم المعزو إِلَيْهِ الْكَلَام وأقشعت: تَفَرَّقت. والراهن: الدَّائِم. وَرجعت فِي نصابها أَي فِي أَصْلهَا وقرارها. وَالْوَقار الْحلم، أَي مالكم لَا تظنون أَن تَأْثِير الْعَذَاب حلم من الله عَلَيْكُم يُوشك أَن يَزُول. (¬3) الإصحاح 11 والإصحاح 12، من سفر صمويل الثَّانِي، والإصحاح 2 من سفر الْمُلُوك الأول.

[سورة النمل (27) : الآيات 20 إلى 21]

[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 20 إِلَى 21] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) صِيغَةُ التَّفَعُّلِ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ، وَالتَّكَلُّفُ: الطَّلَبُ. وَاشْتِقَاقُ تَفَقَّدَ مِنَ الْفَقْدِ يَقْتَضِي أَنَّ تَفَقَّدَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْفَقْدِ. وَلَكِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَأَطْلَقُوهُ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْفَقْدِ، أَيْ مَعْرِفَةُ مَا أَحْدَثَهُ الْفَقْدُ فِي شَيْءٍ، فَالتَّفَقُّدُ: الْبَحْثُ عَنِ الْفَقْدِ لَيَعْرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ لَمْ يَنْقُصْ وَكَانَ الطَّيْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْجُنْدِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الطَّيْرِ صَالِحٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي أُمُورِ الْجُنْدِ فَمِنْهُ الْحَمَامُ الزَّاجِلُ، وَمِنْهُ الْهُدْهُدُ أَيْضًا لِمَعْرِفَةِ الْمَاءِ، وَمِنْهُ الْبُزَاةُ وَالصُّقُورُ لِصَيْدِ الْمَلِكِ وَجُنْدِهِ وَلِجَلْبِ الطَّعَامِ لِلْجُنْدِ مِنَ الصَّيْدِ إِذَا حَلَّ الْجُنْدُ فِي الْقِفَارِ أَوْ نَفَدَ الزَّادُ. وَلِلطَّيْرِ جنود يقومُونَ بشؤونها. وَتَفَقُّدُ الْجُنْدِ مِنْ شِعَارِ الْمَلِكِ وَالْأُمَرَاءِ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ حَشْرِ الْجُنُودِ وَتَسْيِيرِهَا. وَالْمَعْنَى: تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فِي جُمْلَةِ مَا تَفَقَّدَهُ، فَقَالَ لِمَنْ يَلُونَ أَمْرَ الطَّيْرِ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ. وَمِنْ وَاجِبَاتِ وُلَاةِ الْأُمُورِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَتَفَقُّدُ الْعُمَّالِ وَنَحْوِهِمْ بِنَفْسِهِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ هِجْرِيَّةً، أَوْ بِمَنْ يَكِلُ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ يَتَفَقَّدُ الْعُمَّالَ. والْهُدْهُدَ: نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ وَهُوَ مَا يُقَرْقِرُ، وَفِي رَائِحَتِهِ نَتَنٌ وَفَوْقَ رَأْسِهِ قَزَعَةٌ سَوْدَاءُ، وَهُوَ أَسْوَدُ الْبَرَاثِنِ، أَصْفَرُ الْأَجْفَانِ، يَقْتَاتُ الْحُبُوبَ وَالدُّودَ، يَرَى الْمَاءَ مِنْ بُعْدٍ وَيُحِسُّ بِهِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، فَإِذَا رَفْرَفَ عَلَى مَوْضِعٍ عُلِمَ أَنَّ بِهِ مَاءً، وَهَذَا سَبَبُ اتِّخَاذِهِ فِي جُنْدِ سُلَيْمَانَ. قَالَ الْجَاحِظُ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَاءِ فِي قَعُورِ الْأَرَضِينَ إِذَا أَرَادَ اسْتِنْبَاطَ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ شَيْءٍ حَصَلَ لَهُ فِي حَالِ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ الْهُدْهُدَ، فَ مَا اسْتِفْهَامٌ. وَاللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَجْرُورُ

بِاللَّامِ خَبَرٌ عَنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ لِي. وَجُمْلَةُ: لَا أَرَى الْهُدْهُدَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ يَاء الْمُتَكَلّم المجرورة بِاللَّامِ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَمَّا حَصَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَيْ عَنِ الْمَانِعِ لِرُؤْيَةِ الْهُدْهُدِ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى خُفَرَائِهِ، يَعْنِي: أَكَانَ انْتِفَاءُ رُؤْيَتِي الْهُدْهُدَ مِنْ عَدَمِ إِحَاطَةِ نَظَرِي أَمْ مِنَ اخْتِفَاءِ الْهُدْهُدِ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ ظُهُورِ الْهُدْهُدِ. وأَمْ مُنْقَطِعَة لِأَنَّهَا لم تَقَعُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا تَعْيِينُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. وأَمْ لَا يُفَارِقُهَا تَقْدِيرُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، فَأَفَادَتْ هُنَا إِضْرَابَ الِانْتِقَالِ مِنَ اسْتِفْهَامٍ إِلَى اسْتِفْهَامٍ آخَرَ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَكَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ؟ وَلَيْسَتْ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ خَاصَّةً بِالْوُقُوعِ بَعْدَ الْخَبَرِ بَلْ كَمَا تَقَعُ بَعْدَ الْخَبَرِ تَقَعُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ. وَصَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» مَثَّلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِاسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعَجُّبِ وَالْمِثَالُ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ هَذَا صَادِرًا بَعْدَ تَقَصِّيهِ أَحْوَالَ الطَّيْرِ وَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَابَ فَقَالَ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لِأَنَّ تَغَيُّبَهُ مِنْ دُونِ إِذْنٍ عِصْيَانٌ يَقْتَضِي عِقَابَهُ، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ لِاجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَرَاهُ اسْتِصْلَاحًا لَهُ إِنْ كَانَ يُرْجَى صَلَاحُهُ، أَوْ إِعْدَامًا لَهُ لِئَلَّا يُلَقِّنَ بِالْفَسَادِ غَيْرَهُ فَيَدْخُلُ الْفَسَادُ فِي الْجند وليكون عِقَابُهُ نَكَالًا لِغَيْرِهِ. فَصَمَّمَ سُلَيْمَانُ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ عُقُوبَةً جَزَاءً عَلَى عَدَمِ حُضُورِهِ فِي الْجُنُودِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ عِقَابِ الْجُنْدِيِّ إِذَا خَالَفَ مَا عُيِّنَ لَهُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ تَغَيَّبَ عَنْهُ. وَأَمَّا عُقُوبَةُ الْحَيَوَانِ فَإِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ تَجَاوُزِهِ الْمُعْتَادَ فِي أَحْوَالِهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي «تَنْقِيحِ الْفُصُولِ» فِي آخِرِ فُصُولِهِ: سُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ قَتْلِ الْهِرِّ الْمَوْذِي هَلْ يَجُوزُ؟ فَكَتَبَ وَأَنَا حَاضِرٌ: إِذَا خَرَجَتْ أَذِيَّتُهُ عَنْ عَادَةِ الْقِطَطِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ قُتِلَ اه. قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَاحْتَرَزَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ عَمَّا هُوَ فِي طَبْعِ الْهِرِّ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ إِذَا تُرِكَ فَإِذَا أَكَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّهُ طَبْعُهُ، وَاحْتَرَزَ بِالْقَيْدِ الثَّانِي عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْقِلَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ قَتْلَهُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا آذَتِ الْهِرَّةُ وَقَصَدَ قَتْلَهَا لَا تُعَذَّبُ وَلَا تُخْنَقُ بَلْ تُذْبَحُ بِمُوسَى حَادَّةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» اه.

وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : وَلَا بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَتْلِ النَّمْلِ إِذَا آذَتْ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَرْكِهَا. فَقَوْلُ سُلَيْمَانَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ. أَمَّا الْعِقَابُ الْخَفِيفُ لِلْحَيَوَانِ لِتَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ كَضَرْبِ الْخَيْلِ لِتَعْلِيمِ السَّيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ لِمَصْلَحَةِ السَّيْرِ، وَكَذَلِكَ السَّبَقُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِهَا لِمَصْلَحَةِ السَّيْرِ عَلَيْهَا فِي الْجُيُوشِ. وأَوْ تُفِيدُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ فَقَوْلُهُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ جَعَلَهُ ثَالِثَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَهَا جَزَاءً لِغَيْبَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الْعِقَابَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ عُذْرٍ فِي التَّخَلُّفِ مَقْبُولٍ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. والمبين: الْمظهر لحق الْمُحْتَجُّ بِهَا. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ اسْتِقْصَاءٌ لِلْهُدْهُدِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الْغَائِبَ حُجَّتُهُ مَعَهُ. وَأَكَّدَ عَزْمَهُ عَلَى عِقَابِهِ بِتَأْكِيدِ الْجُمْلَتَيْنِ لَأُعَذِّبَنَّهُ- لَأَذْبَحَنَّهُ بِاللَّامِ الموكدة الَّتِي تُسَمَّى لَامُ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ لِيَعْلَمَ الْجُنْدُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا فُقِدَ الْهُدْهُدُ وَلَمْ يَرْجِعْ يَكُونُ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ زَاجِرًا لِبَاقِي الْجُنْدِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ فِعْلَتِهِ فَيَنَالُهُمُ الْعِقَابُ. وَأَمَّا تَأْكِيدُ جُمْلَةِ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَلِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّهُ لَا مَنْجَى لَهُ مِنَ الْعِقَابِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِحُجَّةٍ تُبَرِّرُ تَغَيُّبَهُ، لِأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَهَا عَدِيلُ الْعُقُوبَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْعِقَابُ مُؤَكَّدًا مُحَقَّقًا فَقَدِ اقْتَضَى تَأْكِيدَ الْمُخْرِجِ مِنْهُ لِئَلَّا يُبَرِّئَهُ مِنْهُ إِلَّا تَحَقُّقُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِئَلَّا تُتَوَهَّمَ هَوَادَةٌ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ فَكَانَ تَأْكِيدُ الْعَدِيلِ كَتَأْكِيدِ مُعَادِلِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَوْ الْأُولَى لِلتَّخْيِيرِ وأَوْ الثَّانِيَةَ لِلتَّقْسِيمِ. وَقِيلَ جِيءَ بِتَوْكِيدِ جُمْلَةِ: لَيَأْتِيَنِّي مُشَاكَلَةً لِلْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَتَغْلِيبًا. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَلَيْسَ مِنَ التَّحْقِيقِ. وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِف لَأَذْبَحَنَّهُ بِلَامِ أَلِفٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ حَتَّى يُخَالَ أَنَّهُ نَفْيُ الذَّبْحِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ، لِأَنَّ وُقُوعَ نُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ إِذْ لَا يُؤَكَّدُ الْمَنْفِيُّ بِنُونِ التَّأْكِيدِ إِلَّا نَادِرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى حَارِسٌ مِنْ تَطَرُّقِ

[سورة النمل (27) : الآيات 22 إلى 26]

احْتِمَالِ النَّفْيِ، وَلِأَنَّ اعْتِمَادَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحِفْظِ لَا عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْمَصَاحِفَ مَا كتبت حَتَّى قرىء الْقُرْآنُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَدْ تَقَعُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَشْيَاءُ مُخَالِفَةٌ لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الرَّاسِمُونَ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ الرَّسْمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَمَامِ الضَّبْطِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ اعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى حَوَافِظِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّني بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ، وَالثَّانِيَةُ نُونُ الْوِقَايَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِحَذْفِ نُونِ الْوِقَايَةِ لِتَلَاقِي النُّونَاتِ. [22- 26] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 22 الى 26] فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْحِكَايَةِ عُطِفَتْ جُمْلَةٌ عَلَى جملَة وَضمير فَمَكَثَ لِلْهُدْهُدِ. وَالْمُكْثُ: الْبَقَاءُ فِي الْمَكَانِ وَمُلَازَمَتُهُ زَمَنًا مَا، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ كَرَمَ وَنَصَرَ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُور بِالْأولِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالثَّانِي. وَأُطْلِقَ الْمُكْثُ هُنَا عَلَى الْبُطْءِ لِأَنَّ الْهُدْهُدَ لَمْ يَكُنْ مَاكِثًا بِمَكَانٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يطير وينتقل، فَأطلق الْمُكْثِ عَلَى الْبُطْءِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْمُكْثَ يَسْتَلْزِمُ زَمَنًا. وغَيْرَ بَعِيدٍ صِفَةٌ لِاسْمِ زَمَنٍ أَوِ اسْمِ مَكَانٍ مَحْذُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ مَكَثَ زَمَنًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أَوْ فِي مَكَانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ. وغَيْرَ بَعِيدٍ قَرِيبٌ قُرْبًا يُوصَفُ بِضِدِّ الْبُعْدِ، أَيْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا. وَهَذَا وَجْهُ إِيثَارِ التَّعْبِيرِ بِ غَيْرَ بَعِيدٍ لِأَنَّ غَيْرَ تُفِيدُ دَفْعَ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقُرْبُ يُشْبِهُ الْبُعْدَ. وَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ حَقِيقَتُهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْمَكَانِ وَيُسْتَعَارَانِ لِقِلَّةِ الْحِصَّةِ بِتَشْبِيهِ

الزَّمَنِ الْقَصِيرِ بِالْمَكَانِ الْقَرِيبِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ قَالَ تَعَالَى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] . وَالْفَاءُ فِي فَقالَ عَاطِفَةٌ عَلَى «مَكَثَ» وَجُعِلَ الْقَوْلُ عَقِيبَ الْمُكْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَضَرَ صَدَرَ الْقَوْلُ مِنْ جِهَتِهِ فَالتَّعْقِيبُ حَقِيقِيٌّ. وَالْقَوْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْهُدْهُدِ إِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَوْلِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ النَّاسُ، فَقَوْلُ الْهُدْهُدِ هَذَا لَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ مَنْطِقِ الطَّيْرِ الَّذِي عَلِمَهُ سُلَيْمَانُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْطِقُ الدَّالُّ عَلَى مَا فِي نُفُوسِ الطَّيْرِ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ وَهِيَ مَحْدُودَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْل: 16] . وَلَيْسَ لِلْهُدْهُدِ قِبَلٌ بِإِدْرَاكِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَلَا بِاسْتِفَادَةِ الْأَحْوَالِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْأَقْوَامِ وَالْبُلْدَانِ حَتَّى تَخْطُرَ فِي نَفْسِهِ وَحَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِمَنْطِقِهِ الَّذِي عُلِّمَ سُلَيْمَانُ دَلَالَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. فَهَذَا وَحْيٌ لِسُلَيْمَانَ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الْهُدْهُدِ. وَأَمَّا قَوْلُ سُلَيْمَانَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: 27] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ الْهُدْهُدِ كَلَامًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ جَانِبِ الْهُدْهُدِ لِيُضَلِّلَ سُلَيْمَانَ وَيَفْتِنَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ مَمْلَكَةٍ مَوْهُومَةٍ لِيَسْخَرَ بِهِ كَمَا يَسْخَرُ بِالْمُتَثَائِبِ، فَعَزَمَ سُلَيْمَانُ عَلَى اسْتِثْبَاتِ الْخَبَرِ بِالْبَحْثِ الَّذِي لَا يَتْرُكُ رِيبَةً فِي صِحَّتِهِ خِزْيًا لِلشَّيْطَانِ. وَلْنَشْتَغِلِ الْآنَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَابْتِدَاؤُهُ بِ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ تَنْبِيهٌ لِسُلَيْمَانَ بِأَنَّ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَمَالِكَ وَمُلُوكًا تُدَانِي مُلْكَهُ أَوْ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُلْكِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَلًا لَهُ، كَمَا جَعَلَ عِلْمَ الْخَضِرِ مَثَلًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِانْتِهَاءِ الْأَمْرِ إِلَى مَا بَلَغَهُ هُوَ. وَفِيهِ اسْتِدْعَاءٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَطْلَعِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْمَمَالِكِ وَالْأُمَمِ مِنْ أَهَمِّ مَا يُعْنَى بِهِ مُلُوكُ الصَّلَاحِ لِيَكُونُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ بِمَا يُفَاجِئُهُمْ مِنْ تِلْقَائِهَا، وَلِتَكُونَ مِنْ دَوَاعِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلْمَمْلَكَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالنَّافِعِ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهَا وَالِانْقِبَاضِ عَمَّا فِي أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَلَلِ بِمُشَاهَدَةِ آثَارِ مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا.

وَمِنْ فَقَرَاتِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْخَطِيبِ الْأَنْدَلُسِيِّ (¬1) : فَأَخْبَارُ الْأَقْطَارِ مِمَّا تُنْفِقُ فِيهِ الْمُلُوكُ أَسْمَارَهَا، وَتُرَقِّمُ بِبَدِيعِ هَالَاتِهِ أَقْمَارَهَا، وَتَسْتَفِيدُ مِنْهُ حُسْنَ السِّيَرِ، وَالْأَمْنَ مِنَ الْغِيَرِ، فَتَسْتَعِينُ عَلَى الدَّهْرِ بِالتَّجَارِبِ.. وَتَسْتَدِلُّ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ اه. وَالْإِحَاطَةُ: الِاشْتِمَالُ عَلَى الشَّيْءِ وَجَعْلُهُ فِي حَوْزَةِ الْمُحِيطِ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِاسْتِيعَابِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الْكَهْف: 68] فَمَا صدق بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ مَعْلُومَاتٌ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ. وسَبَإٍ: بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَقَدْ يُخَفَّفُ اسْمُ رَجُلٍ هُوَ عَبَّشَمْسُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ ابْن قَحْطَانَ. لُقِّبَ بِسَبَأٍ. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَى فِي غَزْوِهِ. وَكَانَ الْهَمْزُ فِيهِ لِتَغْيِيرِهِ الْعِلْمِيَّةَ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَهُوَ جَدُّ جِذِمَ عَظِيمٍ مِنْ أَجْذَامِ الْعَرَبِ. وَذُرِّيَّتُهُ كَانُوا بِالْيَمَنِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَأُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ هُنَا عَلَى دِيَارِهِمْ لِأَنَّ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْأَمْكِنَةِ غَالِبًا. فَاسْمُ سَبَإٍ غَلَبَ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْمُتَنَاسِلَةِ مِنْ سَبَأٍ الْمَذْكُورِ وَهُمْ مِنَ الْجِذْمِ الْقَحْطَانِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَيْ الَّذين لم ينشأوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُمْ نَزَحُوا مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَوَّلُ نَازِحٍ مِنْهُمْ هُوَ يَعْرُبُ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الرَّاءِ) بن قَحْطَانَ (وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ يَقْطَانَ) بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخَشْدَ (وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ أَرْفَكْشَادَ) بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَهَذَا النَّسَبُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ سَامٍ إِلَى عَابِرٍ، فَمِنْ عَابِرٍ يَفْتَرِقُ نَسَبُ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنْ نَسَبِ الْعِبْرَانِيِّينَ فَأَمَّا أَهْلُ أَنْسَابِ الْعَرَبِ فَيَجْعَلُونَ لِعَابِرٍ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ قَحْطَانُ وَالْآخَرُ اسْمُهُ (فَالْغُ) . وَأَمَّا سِفْرُ التَّكْوِينِ فَيَجْعَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمُهُ (يَقْطُنُ) وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ قَحْطَانُ، وَالْآخَرُ اسْمُهُ (فَالِجُ) بِفَاءٍ فِي أَوَّلِهِ وَجِيمٍ فِي آخِرِهِ، فَوَقَعَ تَغْيِيرٌ فِي بَعْضِ حُرُوفِ الِاسْمَيْنِ لِاخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ. وَلَمَّا انْتَقَلَ يَعْرُبُ سَكَنَ جَنُوبَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ (الْيَمَنَ) فَاسْتَقَرَّ بِمَوْضِعٍ بَنَى فِيهِ مَدِينَةَ ظَفَارِ (بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ) فَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ ¬

(¬1) فِي رِسَالَة من مراسلاته فِي كتاب «ريحَان الكتّاب» .

وَانْتَشَرَ أَبْنَاؤُهُ فِي بِلَادِ الْجَنُوبِ الَّذِي عَلَى الْبَحْرِ وَهُوَ بِلَادُ (حَضْرَمَوْتَ) ثُمَّ بَنَى ابْنُهُ يَشْجُبُ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْجِيمِ) مَدِينَةُ صَنْعَاءَ وَسَمَّى الْبِلَادَ بِالْيَمَنِ، ثُمَّ خَلَفَهُ ابْنُهُ عَبَّشَمْسُ (بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَاهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ) وَسَادَ قَوْمَهُ وَلُقِّبِ سَبَأٌ (بِفَتْحَتَيْنِ وَهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ) وَاسْتَقَلَّ بِأَهْلِهِ فَبَنَى مَدِينَةَ مَأْرِبَ حَاضِرَةَ سَبَأٍ، قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا وَبَيْنَ مَأْرِبَ وَصَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ خَفِيفَةٍ. ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ سَبَأٍ ابْنُهُ حِمْيَرُ وَيُلَقَّبُ الْعَرَنْجَحَ (أَيِ الْعَتِيقُ) ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ جَعَلَ بِلَادَهُ ظَفَارِ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَ أَبْنَاءُ يَشْجُبَ مِنْهَا إِلَى صَنْعَاءَ. وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ ظَفَرَ حَمَّرَ، أَيْ مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، وَلِهَذَا الْمَثَلِ قِصَّةٌ. فَكَانَتِ الْبِلَادُ الْيَمَنِيَّةُ أَوِ الْقَحْطَانِيَّةُ مُنْقَسِمَةً إِلَى ثَلَاثِ قَبَائِلَ: الْيَمَنِيَّةِ، وَالسَّبَئِيَّةِ، وَالْحِمْيَرِيَّةِ. وَكَانَ على كل قبية مَلِكٌ مِنْهَا، وَاسْتَقَلَّتْ أَفْخَاذُهُمْ بِمَوَاقِعَ أَطْلَقُوا عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهَا اسْمَ مِخْلَافٍ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) وَكَانَ لِكُلِّ مِخْلَافٍ رَئِيسٌ يُلَقَّبُ بِالْقِيلِ وَيُقَالُ لَهُ: ذُو كَذَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ مِخْلَافِهِ، مِثْلُ ذُو رُعَيْنٍ. وَالْمَلِكُ الَّذِي تَتْبَعُهُ الْأَقْيَالُ كُلُّهَا وَيَحْكُمُ الْيَمَنَ كُلَّهَا يُلَقَّبُ تُبَّعَ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ بِأُمَرَاءَ كَثِيرِينَ. وَقَدِ انْفَرَدَتْ سَبَأٌ بِالْمُلْكِ فِي حُدُودِ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَشْهَرُ مُلُوكِهِمْ أَوْ أَوَّلُهُمُ الْهِدْهَادُ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَيُلَقَّبُ الْيَشَرَّحَ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فِي آخِرِهِ) . ثُمَّ وَلِيَتْ بَعْدَهُ بِلْقِيسُ ابْنَةُ شُرَحْبِيلَ أَيْضًا أَوْ شَرَاحِيلَ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً شَدَدَ بْنَ زَرْعَةَ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فَمَاتَ. وَكَانَ أَهْلُ سَبَأٍ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَبَقِيَّةُ ذِكْرِ حَضَارَتِهِمْ تَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ. وأَحَطْتُ يُقْرَأُ بِطَاءٍ مُشَدَّدَةٍ لِأَنَّهُ الْتِقَاءُ طَاءِ الْكَلِمَةِ وَتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَقُلِبَتْ هَذِهِ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَتَا.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَبَإٍ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّ النَّبَأَ كَانَ مُصَاحِبًا لِلْهُدْهُدِ حِينَ مَجِيئِهِ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ المهم. وَبَين ب سَبَإٍ وبِنَبَإٍ الْجِنَاسُ الْمُزْدَوَجُ. وَفِيهِ أَيْضًا جِنَاسُ الْخَطِّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدَةً فِي الْخَطِّ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفَانِ فِي النُّطْقِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: 79، 80] . وَوَصْفُهُ بِ يَقِينٍ تَحْقِيقٌ لَكَوْنِ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ شَيْءٌ مُحَقَّقٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَجُمْلَةُ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً بَيَان لنبأ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ. وَإِدْخَالُ (إِنَّ) فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكًا. وَفِعْلُ تَمْلِكُهُمْ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفِعْلُهُ كَفِعْلِ مِلْكِ الْأَشْيَاءِ. وَرَوِيَ حَدِيثُ هِرَقْلَ «هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلَكٍ» بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بِالْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ هَذَا مُلْكٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْآخَرُ بِكَسْرِهَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى سَبَأٍ. وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ أُرِيدَ بِهَا بِلْقِيسُ (بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْقَافِ) ابْنَةُ شَرَاحِيلَ وَفِي تَرْتِيبِهَا مَعَ مُلُوكِ سَبَأٍ وَتَعْيِينِ اسْمِهَا وَاسْمِ أَبِيهَا اضْطِرَابٌ لِلْمُؤَرِّخِينَ. وَالْمَوْثُوقُ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُعَاصِرَةً سُلَيْمَانَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتِ امْرَأَةً عَاقِلَةً. وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي بَنَتْ سَدَّ مَأْرِبَ. وَكَانَتْ حَاضِرَةُ مُلْكِهَا مَأْرِبَ مَدِينَةً عَظِيمَةً بِالْيَمَنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَتَنْكِيرُ امْرَأَةً وَهُوَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ وَجَدْتُ لَهُ حُكْمُ الْمُبْتَدَأِ فَهُوَ كَالِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ إِذَا أُرِيدَ بِالنَّكِرَةِ التَّعَجُّبُ مِنْ جِنْسِهَا كَقَوْلِهِمْ: بَقَرَةٌ تَكَلَّمَتْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ حِكَايَةُ أَمْرٍ عَجِيبٍ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ مَلِكَةً عَلَى قَوْمٍ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَجَدْتُهُمْ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُعْطَى مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازَمِهِ وَهُوَ النَّوْلُ.

وَمَعْنَى أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَالَتْ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ حسن من شؤون الْمُلْكِ. فَعُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مِنْ جِهَتَيْنِ يُفَسِّرُهُ الْمَقَامُ كَمَا فَسَّرَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: 16] ، أَيْ أُوتِيتُ مِنْ خِصَالِ الْمُلُوكِ وَمِنْ ذَخَائِرِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَجُيُوشِهِمْ وَثَرَاءِ مَمْلَكَتِهِمْ وَزُخْرُفِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَامِدِ وَالْمَحَاسِنِ. وَبِنَاءُ فِعْلِ أُوتِيَتْ إِلَى الْمَجْهُولِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِتَعْيِينِ أَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ بَلِ الْمَقْصُودُ مَا نَالَتْهُ عَلَى أَنَّ الْوَسَائِلَ وَالْأَسْبَابَ شَتَّى، فَمِنْهُ مَا كَانَ إِرْثًا مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ سَلَفُوهَا، وَمِنْهُ مَا كَانَ كَسْبًا مِنْ كَسْبِهَا وَاقْتِنَائِهَا، وَمِنْهُ مَا وَهَبَهَا اللَّهُ مِنْ عَقْلٍ وَحِكْمَةٍ، وَمَا مُنِحَ بِلَادُهَا مِنْ خِصْبٍ وَوَفْرَةِ مِيَاهٍ. وَقَدْ كَانَ الْيُونَانُ يُلَقِّبُونَ مَمْلَكَةَ الْيَمَنِ بِالْعَرَبِيَّةِ السَّعِيدَةِ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى الْيُمْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] . وَأَمَّا رَجَاحَةُ الْعُقُولِ فَفِي الْحَدِيثِ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» فَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ مَا آتَاهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا وَخِلْقَةِ أُمَّتِهَا وَبِلَادِهَا، وَلِذَا فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْفَاعِلُ عُرْفًا. وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَخَصَّ مِنْ نَفَائِسَ الْأَشْيَاءِ عَرْشَهَا إِذْ كَانَ عَرْشًا بَدِيعًا وَلَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمَانَ عَرْشٌ مِثْلُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ سُلَيْمَانَ صَنَعَ كُرْسِيَّهُ الْبَدِيعَ بَعْدَ أَنْ زَارَتْهُ مَلِكَةُ سَبَأٍ. وَسَنُشِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها [النَّمْل: 38] . وَالْعَظِيمُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي عَظَمَةِ الْقَدْرِ وَالنَّفَاسَةِ فِي ضَخَامَةِ الْهَيْكَلِ وَالذَّاتِ. وَأَعْقَبَ التَّنْوِيهَ بِشَأْنِهَا بِالْحَطِّ مِنْ حَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِذْ هُمْ يَسْجُدُونَ، أَيْ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ أُعِيدَ فِعْلُ وَجَدْتُهَا إِنْكَارًا لِكَوْنِهِمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ، فَذَلِكَ مِنْ انْحِطَاطِ الْعَقْلِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَكَانَ انْحِطَاطُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْغَيْبِيِّ مِنَ التَّفْكِيرِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ تَفَاوَتُ عِوَضِ الْعُقُولِ عَلَى الْحَقَائِقِ لِأَنَّهُ جَانِبٌ مُتَمَحِّضٌ لِعَمَلِ الْفِكْرِ لَا يُسْتَعَانُ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَضِلَّ فِيهِ عُقُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَة فِي الشؤون الْخَاضِعَةِ لِلْحَوَاسِّ. قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الرّوم: 7، 8]

وَكَانَ عَرَبُ الْيَمَنِ أَيَّامَئِذٍ مِنْ عَبَدَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ دَخَلَتْ فِيهِمُ الدِّيَانَةُ الْيَهُودِيَّةُ فِي زَمَنِ تُبَّعَ أَسْعَدَ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَلِكَوْنِهِمْ عَبَدَةَ شَمْسٍ كَانُوا يُسَمَّوْنَ عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ سَبَأٍ. وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَى سُلَيْمَانَ أُصُولَ الْجُغْرَافِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ مِنْ صِفَةِ الْمَكَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَصِبْغَةِ الدَّوْلَةِ وَثَرْوَتِهَا، وَوَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِأَخْبَارِ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ إِذْ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِمَمْلَكَتِهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ، فَأُمُورُ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ أَجْدَى بِعَمَلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ سَبَإٍ بِالصَّرْفِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحَةٍ غَيْرَ مَصْرُوفٍ عَلَى تَأْوِيلِ الْبِلَادِ أَوِ الْقَبِيلَةِ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَقْفِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِ الْهُدْهُدِ، فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْآنِ ذُيِّلَ بِهِ الْكَلَامُ الْمُلْقَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُلْقَى لِسُلَيْمَانَ وَبَيْنَ جَوَابِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِي الْخَطِّ مِنْ (أَنْ) وَ (لَا) النَّافِيَةِ كُتِبَتَا كَلِمَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا عَلَى كُلِّ الْمَعَانِي الْمُرَادَّةِ مِنْهَا. ويَسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ. وَيُقَدَّرُ لَامُ جَرٍّ يتَعَلَّق ب فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ صَدَّهُمْ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ فَسَجَدُوا لِلشَّمْسِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ الْمَسْبُوكُ مِنْ أَلَّا يَسْجُدُوا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ أَعْمالَهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً بِمَعْنَى (هَلَّا) فَإِنَّ هَاءَهَا تُبْدَلُ هَمْزَةً. وَجَعْلُ يَسْجُدُوا مُرَكَّبًا مِنْ يَاءِ النِّدَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ تَأْكِيدًا لِلتَّنْبِيهِ وَفِعْلِ أَمَرَ مِنَ السُّجُودِ كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَى وَهُوَ لَا يُلَائِمُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رُسِمَ كَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا (أَلَا) حَرْفُ الِاسْتِفْتَاحِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ يَسْجُدُوا مُرَكَّبًا مِنْ يَاءِ النِّدَاءِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْوَقْفُ فِي هَذِهِ عَلَى (أَلَا) . وَتَزْيِينُ الْأَعْمَالِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النَّمْل: 4] . وَإِسْنَادُهُ هُنَا لِلشَّيْطَانِ حَقِيقِيٌّ والسَّبِيلِ مُسْتَعَارٌ لِلدِّينِ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ تَكُونُ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَبُلُوغُ دَارِ الثَّوَابِ. والْخَبْءَ: مَصْدَرُ خَبَّأَ الشَّيْءَ إِذَا أَخْفَاهُ. أُطْلِقَ هُنَا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَخْبُوءُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخَفَاءِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ لِحَالَةِ خَبَرِ الْهُدْهُدِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ فِيهَا اطِّلَاعًا عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ. وَإِخْرَاجُ الْخَبْءِ: إِبْرَازُهُ لِلنَّاسِ، أَيْ إِعْطَاؤُهُ، أَيْ إِعْطَاءُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ مِنَ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَإِعْطَاءِ الْأَرْزَاقِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيعلم مَا يخَافُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مُؤْذِنٌ بِعُمُومِ صِفَةِ الْعِلْمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُخْفُونَ ... وَيُعْلِنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ. وَمَجِيءُ جُمْلَةِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَقِبَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ

[سورة النمل (27) : آية 27]

لِلصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ، أَيْ لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ شُبْهَةٌ إِلَهِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَيْ مَالِكُ الْفُلْكِ الْأَعْظَمِ الْمُحِيطِ بِالْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ عَظَمَةَ مُلْكِ بِلْقِيسَ وَعِظَمِ عَرْشِهَا مَا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَغُرَّهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ الْمُلْكِ الْأَعْظَمِ، فَتَعْرِيفُ الْعَرْشِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ. وَوَصْفُهُ بِ الْعَظِيمِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْعِظَمِ فِي تَجَسُّمِ النَّفَاسَةِ. وَفِي مُنْتَهَى هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعُ سُجُودِ تِلَاوَةٍ تَحْقِيقًا لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ . وَسَوَاء قرىء بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا أَمْ بِتَخْفِيفِهَا لِأَنَّ مَآلَ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ إِنْكَارُ سُجُودِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحقيق بِالسُّجُود. [27] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 27] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النَّمْل: 22] بَيَانُ وَجْهِ تَطَلُّبِ سُلَيْمَانَ تَحْقِيقَ صِدْقِ خَبَرِ الْهُدْهُدِ. وَالنَّظَرُ هُنَا نَظَرُ الْعَقْلِ وَهُوَ التَّأَمُّلُ، لَا سِيَّمَا وَإِقْحَامُ كُنْتَ أَدْخَلَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْكَذِبِ مِنْ صِيغَةِ أَصَدَقْتَ لِأَنَّ فِعْلَ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ يُفِيدُ الرُّسُوخَ فِي الْوَصْفِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: مِنَ الْكاذِبِينَ أَشَدُّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى الْكَذِبِ بِالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الْكَاذِبِينَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ عَادَةً لَهُ. وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِتَوْضِيحِ تُهْمَتِهِ بِالْكَذِبِ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ، وَإِيذَانٌ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَيْهِ بِأَنَّ كَذِبَهُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْمَلِكِ لِيَكُونَ الْهُدْهُدُ مُغَلِّبًا الْخَوْفَ عَلَى الرَّجَاءِ، وَذَلِكَ أَدْخُلُ فِي التَّأْدِيبِ عَلَى مِثْلِ فِعْلَتِهِ وَفِي حِرْصِهِ عَلَى تَصْدِيقِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُبَلِّغَ الْكِتَابَ الَّذِي يُرْسِلهُ مَعَه. [28] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 28] اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: 27] لِأَنَّ فِيمَا

سَيَنْكَشِفُ بَعْدَ تَوْجِيهِ كِتَابِهِ إِلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ مَا يُصَدِّقُ خَبَرَ الْهُدْهُدِ إِنْ جَاءَ مِنَ الْمَلِكَةِ جَوَابٌ عَنْ كِتَابِهِ، أَوْ يُكَذِّبُ خَبَرَ الْهُدْهُدِ إِن لم يجىء مِنْهَا جَوَابٌ. أَلْهَمَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ لِاتِّصَالِهِ بِبِلَادِ الْيَمَنِ طَرِيقَ الْمُرَاسَلَةِ لِإِدْخَالِ الْمَمْلَكَةِ فِي حَيِّزِ نُفُوذِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِاجْتِلَابِ خَيْرَاتِهَا وَجَعْلِهَا طَرِيقَ تِجَارَةٍ مَعَ شَرْقِ مَمْلَكَتِهِ فَكَتَبَ إِلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ كِتَابًا لِتَأْتِيَ إِلَيْهِ وَتَدْخُلَ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَتُصْلِحَ دِيَانَةَ قَوْمِهَا، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي نُفُوسِ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ رَهْبَةً مِنْ مُلْكِهِ وَجَلْبًا لِمَرْضَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلَكَتُهُ أَصْغَرَ مِنْ مَمَالِكِ جِيرَانِهِ مِثْلِ مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ وَمَمْلَكَةِ مِصْرَ. وَكَانَتْ مَمْلَكَةُ سُلَيْمَانَ يَوْمَئِذٍ مَحْدُودَةً بِالْأُرْدُنِّ وَتُخُومِ مِصْرَ وَبَحْرِ الرُّومِ (¬1) . وَلَمْ يَزَلْ تَبَادُلُ الرَّسَائِلِ بَيْنَ الْمُلُوكِ مِنْ سُنَّةِ الدُّوَلِ وَمِنْ سُنَّةِ الدُّعَاةِ إِلَى الْخَيْرِ. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ. وَقَدْ عَظُمَ شَأْنُ الْكِتَابَةِ فِي دُوَلِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرين» : «والمنشئ جهنية الْأَخْبَارِ، وَحَقِيبَةُ الْأَسْرَارِ، وَقَلَمُهُ لِسَانُ الدَّوْلَةِ، وَفَارِسُ الْجَوْلَةِ ... » إِلَخْ. وَاتُّخِذَ لِلْمُرَاسَلَةِ وَسِيلَةُ الطَّيْرِ الزَّاجِلِ مِنْ حَمَامٍ وَنَحْوِهِ، فَالْهُدْهُدُ مِنْ فَصِيلَةِ الْحَمَامِ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّدْجِينِ، فَقَوْلُهُ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا يَقْتَضِي كَلَامًا مَحْذُوفًا وَهُوَ أَنَّ سُلَيْمَانَ فَكَّرَ فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَمْلَكَتِهِ وَبَيْنَ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ فَأَحْضَرَ كِتَابًا وَحَمَّلَهُ الْهُدْهُدَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى (مَاذَا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [24] . وَفِعْلُ انْظُرْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ. وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ إِلَى الْأَرْضِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقُوهُ فِي غيابات الْجُبِّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [10] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ إِمَّا فِي حَقِيقَتِهِ إِنْ كَانَ شَأْنُ الْهُدْهُدِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَكَانِ فَيَرْمِيَ الْكِتَابَ مِنْ مِنْقَارِهِ، وَإِمَّا فِي مَجَازِهِ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ الْمَكَانَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ فَيَتَنَاوَلُ أَصْحَابُهُ الرِّسَالَةَ مِنْ رِجْلِهِ الَّتِي تُرْبَطُ فِيهَا الرِّسَالَةُ فَيَكُونُ الْإِلْقَاءُ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [86] . وَالْمُرَادُ بِالرَّجْعِ: رَجْعُ الْجَوَابِ عَنِ الْكِتَابِ، أَيْ مِنْ قَبُولٍ أَوْ رَفْضٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ الْآتِي: فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النَّمْل: 33] . [29- 31] ¬

(¬1) انْظُر الإصحاح 4 من سفر الْمُلُوك الأولى.

[سورة النمل (27) : الآيات 29 إلى 31]

[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 29 إِلَى 31] قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) طُوِيَتْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا بَيْنَ الْخَبِرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنِ اقْتِضَاءِ عِدَّةِ أَحْدَاثٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الْهُدْهُدُ إِلَى سَبَأٍ فَرَمَى بِالْكِتَابِ فَأَبْلَغَ الْكِتَابَ إِلَى الْمَلِكَةِ وَهِيَ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهَا فَقَرَأَتْهُ، قَالَتْ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ: قالَتْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ غَرَابَةَ قِصَّةِ إِلْقَاءِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا يُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ شَأْنِهَا حِينَ بَلَغَهَا الْكِتَابُ. والْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهَا: أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْكِتَابَ سُلِّمَ إِلَيْهَا دُونَ حُضُورِ أَهْلِ مَجْلِسِهَا. وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نِظَامُ بَلَاطِهَا أَنْ تُسَلَّمَ الرَّسَائِلُ إِلَيْهَا رَأْسًا. وَالْإِلْقَاءُ تَقَدَّمَ آنِفًا. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْكَرِيمِ يَنْصَرِفُ إِلَى نَفَاسَتِهِ فِي جِنْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [74] بِأَنْ كَانَ نَفِيسَ الصَّحِيفَةِ نَفِيسَ التَّخْطِيطِ بَهِيجَ الشَّكْلِ مُسْتَوْفِيًا كُلَّ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ بِالتَّأَنُّقِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، وَقَدْ قِيلَ: كَرَمُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ، لِيَكُونَ مَا فِي ضِمْنِهِ خَاصًّا بِاطِّلَاعِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَكْتُمُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «الْوَصْفُ بِالْكَرَمِ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الْوَاقِعَة: 77] وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ، وَالْأَثِيرِ، وَالْمَبْرُورِ، فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا: الْعَزِيزُ، وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً» . وَأَمَّا مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عِنْدَهَا لِأَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النَّمْل: 34] . ثُمَّ قَصَّتْ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ حِينَ قَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ إِلَى آخِرِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تُرْجِمَ لَهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى مَجْلِسِ مَشُورَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ

تَكُونَ عَارِفَةً بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ الْقَحْطَانِيَّةِ، فَإِنَّ عَظَمَةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ لَا تَخْلُو مِنْ كُتَّابٍ عَارِفِينَ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لِمَمْلَكَتِهِ، وَكَوْنُهُ بَلُغَتِهِ أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ بِشِعَارِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلُوكِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. أَمَّا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ تَرْجَمَةُ الْكِتَابِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى بِتَضْمِينِ دَقَائِقِهِ وَخُصُوصِيَّاتِ اللُّغَةِ الَّتِي أُنْشِئَ بِهَا. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلِكَةِ ابْتَدَأَتْ بِهِ مُخَاطَبَةَ أَهْلِ مَشُورَتِهَا لِإِيقَاظِ أَفْهَامِهِمْ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي مَغْزَاهُ لِأَنَّ اللَّائِقَ بِسُلَيْمَانَ أَنْ لَا يُقَدِّمَ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا قَبْلَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَعْرِفَةَ اسْمِ سُلَيْمَانَ تُؤْخَذُ مِنْ خَتْمِهِ وَهُوَ خَارِجُ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَتْ بِهِ أَيْضًا. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُتَرْجِمُ عَمَّا فِي كَلَامِهِمَا بِاللُّغَةِ السَّبَائِيَّةِ مِنْ عِبَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى اهْتِمَامِهَا بِمُرْسِلِ الْكِتَابِ وَبِمَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ اهْتِمَامًا يُؤَدَّى مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ فِي مَقَامٍ لَا شَكَّ فِيهِ. وَتَكْرِيرُ حَرْفِ (إِنَّ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ إِيمَاءٌ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ذَات الْكتاب، وَالْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ مَعْنَاهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فَلَانًا لَحَسَنُ الطَّلْعَةِ وَإِنَّهُ لَزَكِيٌّ. وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ ذِكْرِ الْعَامِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاء: 59] ، أُعِيدَ أَطِيعُوا لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الطَّاعَتَيْنِ، لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ مُرَادٌ بِهَا طَاعَتُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الرَّسُولِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ حِكَايَةٌ لِمَقَالِهَا، وَعَرَفَتْ هِيَ ذَلِكَ مِنْ عُنْوَانِ الْكِتَابِ بِأَعْلَاهُ أَوْ بِظَاهِرِهِ عَلَى حَسَبِ طَرِيقَةِ الرَّسَائِلِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِثْلُ افْتِتَاحِ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلُوكِ بِجُمْلَةِ: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ» .

وَافْتِتَاحُ الْكِتَابِ بِجُمْلَةِ الْبَسْمَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادِفَهَا كَانَ خَاصًّا بِكُتُبِ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ أَنْ يُتْبِعَ اسْمَ الْجَلالَة بوصفي: الرحمان الرَّحِيمِ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً لِافْتِتَاحِ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ فِي الْإِسْلَامِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَقَايَا سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ أَنْ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَتَحُوا كُتُبَهُمْ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ «الْمَرَاسِيلِ» : أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارَ يَكْتُبُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، أَيْ صَارَ يَكْتُبُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُتُبِهِ. وَأَمَّا جَعْلُهَا فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ أَوْ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى. وَكَانَ كِتَابُ سُلَيْمَانَ وَجِيزًا لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِمُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ لُغَةَ الْمُخَاطِبِ فَيَقْتَصِرُ لَهُ عَلَى الْمَقْصُودِ لِإِمْكَانِ تَرْجَمَتِهِ وَحُصُولِ فَهْمِهِ فَأَحَاطَ كِتَابُهُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَحْذِيرُ مَلِكَةِ سَبَأٍ مِنْ أَنْ تُحَاوِلَ التَّرَفُّعَ عَلَى الْخُضُوعِ إِلَى سُلَيْمَانَ وَالطَّاعَةِ لَهُ كَمَا كَانَ شَأْنُ الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ بِمِصْرَ وَصُورَ وَالْعِرَاقِ. فَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ هُوَ إِتْيَانٌ مَجَازِيٌّ مِثْلُ مَا يُقَالُ: اتَّبِعْ سَبِيلِي. ومُسْلِمِينَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَسْلَمَ إِذَا تَقَلَّدَ الْإِسْلَامَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا دَعَا مَلِكَةَ سَبَأٍ وَقَوْمَهَا إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَا وَأَمَّا دَعْوَتُهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَذَلِكَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [132] ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] . جَمَعَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ دَعْوَتِهَا إِلَى مُسَالَمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِصِفَةِ الْمُلْكِ، وَبَيْنَ دَعْوَةِ قَوْمِهَا إِلَى اتِّبَاعِ دِينِ التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِالنُّبُوءَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ يُلْقِي الْإِرْشَادَ إِلَى الْهُدَى حَيْثُمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ يُوسُفَ لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: 39] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرْسَلْ

إِلَيْهِمْ، فَالْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ أَمْرًا عَامًّا بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ دُعَاءُ سُلَيْمَانَ هُنَا، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَهَذِهِ سُنَّةُ الشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُهِمَّةَ عِنْدَهَا هُوَ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ دُونَ التَّشَفِّي وَحُبِّ الْغَلَبَةِ. وَحَرْفُ (أَنْ) مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى فِي مَوْقِعِهِ غُمُوضٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِمَّا شَمَلَهُ كِتَابُ سُلَيْمَانَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْحَرْفُ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ، أَوِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَوِ التَّفْسِيرِيَّةَ. فَأَمَّا مَعْنَى (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ فَلَا يَتَّضِحُ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي عَامِلًا يَكُونُ مَصْدَرُهَا الْمُنْسَبِكُ بِهَا مَعْمُولًا لَهُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لَفْظًا مُطْلَقًا وَلَا مَعْنًى إِلَّا بِتَعَسُّفٍ، وَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي بَحْثِ (أَلَّا) الَّذِي هُوَ حَرْفُ تَحْضِيضٍ وَهُوَ وُجْهَةُ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَنْ لَا تَعْلُوا إِلَخْ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ كِتابٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فَحَيْثُ كَانَ مَضْمُونُ الْكِتَابِ النَّهْيَ عَنِ الْعُلُوّ جعل أَلَّا تَعْلُوا نَفْسَ الْكِتَابِ كَمَا يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَأَمَّا مَعْنَى الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَكَذَلِكَ لِوُجُوبِ سَدِّ مَصْدَرٍ مَسَدَّهَا وَكَوْنِهَا مَعْمُولَةً لِعَامِلٍ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَيْضًا. وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهًا ثَالِثًا فِي الْآيَةِ فِي بَعْضِ نُسَخِ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي بَحْثِ (أَلَّا) أَيْضًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنَ «الْمُغْنِي» وَلَا مِنْ «شُرُوحِهِ» وَلَعَلَّهُ مِنْ زِيَادَاتِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِيَّةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَضَ. وَأَعْقَبَهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ نُسْخَةِ كِتَابِ سُلَيْمَانَ لِيَظْهَرَ أَنَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ سُلَيْمَانَ مَا يُقَابِلُ حَرْفَ (أَنْ) فَلِذَلِكَ تَتَعَيَّنُ (أَنْ) لِمَعْنَى التَّفْسِيرِيَّةِ لِضَمِيرِ وَإِنَّهُ الْعَائِدِ إِلَى كِتابٌ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ كَانَ بِمَعْنَى مُعَادِهِ فَكَانَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَصَحَّ وَقْعُ (أَنْ) بَعْدَهُ فَيَكُونُ (أَنْ) مِنْ كَلَامِ

[سورة النمل (27) : آية 32]

مَلِكَةِ سَبَأٍ فَسَّرَتْ بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا مَضْمُونَ كِتابٌ فِي قَوْلِهَا: أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ. وأَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يَكُونُ هُوَ أَوَّلَ كِتَابِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهَا حِكَايَةٌ لِكَلَامِ بِلْقِيسَ. قَالَ فِي «الْكَشْفِ» يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ بَيَانٌ لِعُنْوَانِ الْكِتَابِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَخْ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ الْكِتَابِ فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ كَيْفَ قَدَّمَ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ عَلَى إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَلَمْ تَزَلْ نَفْسِي غَيْرَ مُنْثَلِجَةٍ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ مَوْقِعَ (أَنْ) هَذِهِ اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ. وَأَنَّهَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ خُطَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِافْتِتَاحَ بِ (أَنْ) فِي ثَانِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ فِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» . وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: أَنِ الْحَمْدُ، مَضْبُوطٌ بِضَمَّةٍ عَلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ. وَلَكِنَّ كَلَامَهُ جَرَى عَلَى أَنَّ حَرْفَ (إِنَّ) مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ مُشَدَّدُ النُّونِ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْهَمْزَةَ مَفْتُوحَةٌ وَأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِ (أَنِ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِي افْتِتَاحِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَأَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُس: 10] . وأَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ نَهْيٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَتْهُ مَلِكَةُ سَبَأٍ بِقَوْلِهَا: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النَّمْل: 32] . [32] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 32] قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) سَأَلَتْهُمْ إِبْدَاءَ آرَائِهِمْ مَاذَا تَعْمَلُ تُجَاهَ دَعْوَةِ سُلَيْمَانَ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا مِثْلُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْإِفْتَاءُ: الْإِخْبَارُ بِالْفَتْوَى وَهِيَ إِزَالَةُ مُشْكِلٍ يَعْرِضُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [41] . وَالْأَمْرُ: الْحَالُ الْمُهِمُّ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهَا لِأَنَّهَا الْمُخَاطَبَةُ بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ وَلِأَنَّهَا الْمُضْطَلِعَةُ بِمَا يَجِبُ إجراؤه من شؤون الْمَمْلَكَةِ وَعَلَيْهَا تَبِعَةُ الْخَطَأِ فِي الْمَنْهَجِ

الَّذِي تَسْلُكُهُ مِنَ السِّيَاسَةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْخَلِيفَةِ وَلِلْمَلِكِ وَلِلْأَمِيرِ وَلِعَالِمِ الدِّينِ: وَلِيُّ الْأَمْرِ. وَبِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاء: 59] . وَقَالَ الرَّاعِي يُخَاطِبُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ: أَوَلِيَّ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّا مَعْشَرٌ ... حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَهَا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ [النَّمْل: 33] . وَقَدْ أَفَادَتْ إِضَافَةُ أَمْرِي تَعْرِيفًا، أَيْ فِي الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ. وَمَعْنَى قاطِعَةً أَمْراً عَامِلَةً عَمَلًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ بِالْعَزْمِ عَلَى مَا تُجِيبُ بِهِ سُلَيْمَانَ. وَصِيغَةُ كُنْتُ قاطِعَةً تُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهَا وَعَادَتُهَا مَعَهُمْ، فَكَانَتْ عَاقِلَةً حَكِيمَةً مُسْتَشِيرَةً لَا تُخَاطِرُ بِالِاسْتِبْدَادِ بِمَصَالِحِ قَوْمِهَا وَلَا تُعَرِّضُ مُلْكَهَا لِمَهَاوِي أَخْطَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ. وَالْأَمْرُ فِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً هُوَ أَيْضًا الْحَالُ الْمُهِمُّ، أَيْ أَنَّهَا لَا تَقْضِي فِي الْمُهِمَّاتِ إِلَّا عَنِ اسْتِشَارَتِهِمْ. وتَشْهَدُونِ مُضَارِعُ شَهِدَ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى حَضَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [الْبَقَرَة: 185] ، أَيْ حَتَّى تَحْضُرُونِ. وَشَهِدَ هَذَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى كُلِّ مَا يَحْضُرُ فَاعِلُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَاسْمِ ذَاتٍ، وَذَلِكَ تَعَدٍّ عَلَى التَّوَسُّعِ لِكَثْرَتِهِ، وَحَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ أَوْ يُعَلَّقَ بِهِ ظَرْفٌ. يُقَالُ: شَهِدَ عِنْدَ فُلَانٍ وَشَهِدَ مَجْلِسَ فُلَانٍ. وَيُقَالُ: شَهِدَ الْجُمُعَةَ. وَفِعْلُ تَشْهَدُونِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْمُشَاوَرَةِ لِأَنَّهَا يَلْزَمُهَا الْحُضُورُ غَالِبًا إِذْ لَا تَقَعُ مُشَاوَرَةٌ مَعَ غَائِبٍ. وَالنُّونُ فِي تَشْهَدُونِ نُونُ الْوِقَايَةِ وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا وَأُلْقِيَتْ كَسْرَةُ النُّونِ الْمُجْتَلَبَةُ لِوِقَايَةِ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْفِعْلِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَكْسُورًا، وَنُونُ الْوِقَايَةِ دَالَّةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا.

[سورة النمل (27) : آية 33]

وَفِي قَوْلِهَا: حَتَّى تَشْهَدُونِ كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى: تُوَافِقُونِي فِيمَا أَقْطَعُهُ، أَيْ يَصْدُرُ مِنْهَا فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ وَالسِّيَاسَةِ: إِمَّا بِالْقَوْلِ كَمَا جَرَى فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ، وَإِمَّا بِالسُّكُوتِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ حُضُورَ الْمَعْدُودِ لِلشُّورَى فِي مَكَانِ الِاسْتِشَارَةِ مُغْنٍ عَنِ اسْتِشَارَتِهِ إِذْ سُكُوتُهُ مُوَافَقَةٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: إِنَّ عَلَى الْقَاضِي إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَحْضَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ مُشَاوَرَتِهِمْ. وَكَانَ عُثْمَانُ يَقْضِي بِمَحْضَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ سُكُوتَهُمْ مَعَ حُضُورِهِمْ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِهِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الشُّورَى لِأَنَّهَا لَمْ تحك شرعا إِلَيْهَا وَلَا سِيقَ مَسَاقَ الْمَدْحِ، وَلَكِنَّهُ حِكَايَةُ مَا جَرَى عِنْدَ أُمَّةٍ غَيْرِ مُتَدَيِّنَةٍ بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ غَيْرَ أَنَّ شَأْنَ الْقُرْآنِ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْقَصَصِ أَنْ يَذْكُرَ الْمُهِمَّ مِنْهَا لِلْمَوْعِظَةِ أَوْ لِلْأُسْوَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ. فَلِذَلِكَ يُسْتَرْوَحُ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ حُسْنُ الشُّورَى. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الشُّورَى فِي سُورَةِ آل عمرَان. [33] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 33] قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) جَوَابٌ بِأُسْلُوبِ الْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَ وَلَمْ يُعْطَفْ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْمُحَاوَرَاتِ. أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ، جَمَاعَةُ الْمَمْلِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَهُوَ من أخيار عُرَفَاءِ الْقَوْمِ عَن حَال جماعاتهم وَمَنْ يُفَوَّضُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِمْ. وَالْقُوَّةُ: حَقِيقَتُهَا وَمَجَازُهَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] . وَأُطْلِقَتْ عَلَى وَسَائِلِ الْقُوَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [60] ، أَيْ وَسَائِلِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةِ، وَمِنَ الْقُوَّةِ كَثْرَةُ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْعَارِفِينَ بِأَسَالِيبِهِ. وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ عَلَى الْعَدُوِّ، قَالَ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَة: 177] أَيْ فِي مَوَاقِعِ الْقِتَالِ، وَقَالَ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الْحَشْر: 14] ، وَهَذَا الْجَوَابُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِلْحَرْبِ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُلْكِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الدَّفْعِ

[سورة النمل (27) : الآيات 34 إلى 35]

بِالْقُوَّةِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَتِهِ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُهُ عَلَى مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى هَذَا. وَمَعَ إِظْهَارِ هَذَا الرَّأْيِ فَوَّضُوا الْأَمْرَ إِلَى الْمَلِكَةِ لِثِقَتِهِمْ بِأَصَالَةِ رَأْيِهَا لِتَنْظُرَ مَا تَأْمُرُهُمْ فَيَمْتَثِلُونَهُ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ تَأْمُرِينَ وَمُتَعَلَّقَهُ لِظُهُورِهِمَا مِنَ الْمَقَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا تَأْمُرِينَنَا بِهِ، أَيْ إِنْ كَانَ رَأْيُكِ غَيْرَ الْحَرْبِ فَمُرِي بِهِ نطعك. وَفعل فَانْظُرِي مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مَاذَا تَأْمُرِينَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَاذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ فِي سُورَة النَّحْل [24] . [34، 35] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 34 إِلَى 35] قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) قالَتْ جَوَابُ مُحَاوَرَةٍ فَلِذَلِكَ فُصِلَ. أَبْدَتْ لَهُمْ رَأْيَهَا مُفَضِّلَةً جَانِبَ السِّلْمِ عَلَى جَانِبِ الْحَرْبِ، وَحَاذِرَةً مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ اخْتِيَارًا لِأَنَّ نِهَايَةَ الْحَرْبِ فِيهَا احْتِمَالُ أَنْ يَنْتَصِرَ سُلَيْمَانُ فَتَصِيرُ مَمْلَكَةُ سَبَأٍ إِلَيْهِ، وَفِي الدُّخُولِ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ إِلْقَاءٌ لِلْمَمْلَكَةِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ يَحْصُلُ تَصَرُّفُ مَلِكٍ جَدِيدٍ فِي مَدِينَتِهَا فَعَلِمَتْ بِقِيَاسِ شَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَبِخِبْرَةِ طَبَائِعِ الْمُلُوكِ إِذَا تَصَرَّفُوا فِي مَمْلَكَةِ غَيْرِهِمْ أَنْ يَقْلِبُوا نِظَامَهَا إِلَى مَا يُسَايِرُ مَصَالِحَهُمْ وَاطْمِئْنَانَ نُفُوسِهِمْ مِنَ انْقِلَابِ الْأُمَّةِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَيْهِمْ فِي فُرَصِ الضَّعْفِ أَوْ لَوَائِحِ الِاشْتِغَالِ بِحَوَادِثَ مُهِمَّةٍ، فَأَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ إِقْصَاءُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الْخَطَرَ يُتَوَقَّعُ مِنْ جَانِبِهِمْ حَيْثُ زَالَ سُلْطَانُهُمْ بِالسُّلْطَانِ الْجَدِيدِ، ثُمَّ يُبَدِّلُونَ الْقَوَانِينَ وَالنُّظُمَ الَّتِي كَانَتْ تَسِيرُ عَلَيْهَا الدَّوْلَةُ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذُوهَا عُنْوَةً فَلَا يَخْلُو الْأَخْذُ مِنْ تَخْرِيبٍ وَسَبْيٍ وَمَغَانِمَ، وَذَلِكَ أَشَدُّ فَسَادًا. وَقَدِ انْدَرَجَ الْحَالَانِ فِي قَوْلِهَا إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً.

وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ: إِنَّ الْمُلُوكَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ، فَقَوْلُهَا إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها اسْتِدْلَالٌ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الْمَاضِي وَلِهَذَا تَكُونُ إِذا ظَرْفًا لِلْمَاضِي بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: 11] وَقَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا [التَّوْبَة: 92] . وَجُمْلَةُ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بِحُكْمِ الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِصْحَابِ وَهُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَجَعْلِ الْأَعِزَّةِ أَذِلَّةً، أَيْ فَكَيْفَ نُلْقِي بِأَيْدِينَا إِلَى مَنْ لَا يَأْلُو إِفْسَادًا فِي حَالِنَا. فَدَبَّرَتْ أَنْ تَتَفَادَى مِنَ الْحَرْبِ وَمِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ، بِطَرِيقَةِ الْمُصَانَعَةِ وَالتَّزَلُّفِ إِلَى سُلَيْمَانَ بِإِرْسَالِ هَدِيَّةٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَطْلِعْ رَأْيَ أَهْلِ مَشُورَتِهَا لِأَنَّهُمْ فَوَّضُوا الرَّأْيَ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ سُكُوتَهُمْ عَلَى مَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ يُعَدُّ مُوَافَقَةً وَرِضًى. وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَدِّمَةٌ لِمَا سَتُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ عَزْمِهَا، وَيَتَضَمَّنُ تَعْلِيلًا لِمَا عَزَمَتْ عَلَيْهِ. وَالْبَاءُ فِي بِهَدِيَّةٍ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ. وَمَفْعُولُ مُرْسِلَةٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ مُرْسِلَةٌ وَكَوْنُ التَّشَاوُرِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ سُلَيْمَانَ. فَالتَّقْدِيرُ: مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَوَفْدًا مَصْحُوبًا بِهَدِيَّةٍ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَفْدُ مَصْحُوبًا بِكِتَابٍ تُجِيبُ بِهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنِ الْكِتَابِ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ، وَهُوَ مَنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُدَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمُ عَلَى الْمُسْلِمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وَرَدَ عَلَى إِنْسَانٍ فِي كِتَابٍ بِالتَّحِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْجَوَابَ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالسَّلَامِ مِنَ الْحَاضِرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَدَّ الْكِتَابِ وَاجِبًا كَرَدِّ السَّلَامِ اه. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حُكْمٍ فِيهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَوَابَ إِنْ كَانَ عَنْ كِتَابٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى صِيغَةِ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْجَوَابِ وَاجِبًا وَأَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْكِتَابَةِ يُقَاسُ عَلَى الرَّدِّ بِالْكَلَامِ مَعَ إِلْغَاءِ فَارِقِ مَا فِي الْمُكَالَمَةِ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ الَّتِي يَكُونُ تَرْكُ الرَّدِّ مَعَهَا أَقْرَبَ لِإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ. وَلَمْ أَرَ فِي كُتُبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا عَنْ كِتَابٍ إِلَّا جَوَابَهُ عَنْ كِتَابِ مُسَيْلَمَةَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.

[سورة النمل (27) : الآيات 36 إلى 37]

وَالْهَدِيَّةُ: فَعِيلَةُ مِنْ أَهْدَى: فَالْهَدِيَّةُ مَا يُعْطَى لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالتَّحَبُّبِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَهِيَ لُغَةٌ سُفْلَى مَعَدٍّ. وَأَصْلُ هَدَايَا: هِدَائِي بِهَمْزَةٍ بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ ثُمَّ يَاءٍ لِأَنَّ فَعِيلَةَ يُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ بِإِبْدَالِ يَاءِ فَعِيلَةَ هَمْزَةً لِأَنَّهَا حَرْفٌ وَقَعَ فِي الْجَمْعِ بَعْدَ حَرْفِ مَدٍّ فَلَمَّا وَجَدُوا الضَّمَّةَ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ ثَقِيلَةً عَلَى الْيَاءِ سَكَّنُوا الْيَاءَ طَرْدًا لِلْبَابِ ثُمَّ قَلَبُوا الْيَاءَ السَّاكِنَةَ أَلِفًا لِلْخِفَّةِ فَوَقَعَتِ الْهَمْزَةُ بَيْنَ أَلِفَيْنِ فَثَقُلَتْ فَقَلَبُوهَا يَاءً لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ أَخَفُّ، وَأَمَّا لُغَةُ سُفْلَى مَعَدٍّ فَيَقُولُونَ: هَدَاوَى بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَلِفَيْنِ وَاوًا لِأَنَّهَا أُخْتُ الْيَاءِ وَكِلْتَاهُمَا أُخْت الْهمزَة. وفَناظِرَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، أَيْ مُتَرَقِّبَةٌ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ مُبَيِّنَةً لِجُمْلَةِ فَناظِرَةٌ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً. وَأَصْلُ النَّظْمِ: فَنَاظِرَةٌ مَا يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ بِهِ، فَغَيَّرَ النَّظْمَ لَمَّا أُرِيدَ أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْمُرْسَلُونَ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يَرْجِعُ قُدِّمَتْ عَلَى مُتَعَلَّقِهَا لِاقْتِرَانِهَا بِحَرْفِ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون فَناظِرَةٌ مِنَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ عَالِمَةٌ، وَتَعَلُّقُ الْبَاءِ بِفِعْلِ يَرْجِعُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَناظِرَةٌ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولِهِ أَوْ مَفْعُولَيْهِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا يَجُوزُ تعلق الْبَاء بناظرة لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهُ فَمِنْ ثَمَّ غَلَّطُوا الْحُوفِيَّ فِي «تَفْسِيرِهِ» لتعليقه الْبَاء بناظرة كَمَا فِي الْجِهَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ «مُغنِي اللبيب» . [36، 37] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 36 إِلَى 37] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) أَيْ فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [النَّمْل: 35] ، فَالْإِرْسَالُ يَقْتَضِي رَسُولًا، وَالرَّسُولُ لَفْظُهُ مُفْرَدٌ وَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَدَايَا الْمُلُوكِ يَحْمِلُهَا رَكْبٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ جاءَ الرَّكْبَ الْمَعْهُودَ فِي إِرْسَالِ هَدَايَا أَمْثَالِ الْمُلُوكِ.

وَقَدْ أَبَى سُلَيْمَانُ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ لِأَنَّ الْمَلِكَةَ أَرْسَلَتْهَا بَعْدَ بُلُوغِ كِتَابِهِ وَلَعَلَّهَا سَكَتَتْ عَنِ الْجَوَابِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ كِتَابُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31] فَتَبَيَّنَ لَهُ قَصْدُهَا مِنَ الْهَدِيَّةِ أَنْ تَصْرِفَهُ عَنْ مُحَاوَلَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ رِشْوَةً لِتَصْرِفَهُ عَنْ بَثِّ سُلْطَانِهِ عَلَى مَمْلَكَةِ سَبَأٍ. وَالْخطاب فِي أَتُمِدُّونَنِ لِوَفْدِ الْهَدِيَّةِ لِقَصْدِ تَبْلِيغِهِ إِلَى الْمَلِكَةِ لِأَنَّ خِطَابَ الرُّسُلِ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَنْ أَرْسَلَهُمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَرَضِ الْمُرْسَلِ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِأَنَّ حَالَ إِرْسَالِ الْهَدِيَّةِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الْجَوَابِ يَقْتَضِي مُحَاوَلَةَ صَرْفِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَلَبِ مَا طَلَبَهُ بِمَا بُذِلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ مُحْتَاجًا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ فَيَقْتَنِعُ بِمَا وُجِّهَ إِلَيْهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْهَدِيَّةَ كَانَتْ ذَهَبًا وَمَالًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: أَتُمِدُّونَنِ بِنُونَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِالْإِدْغَامِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْإِنْكَارِ السَّابِقِ، أَيْ أَنْكَرْتُ عَلَيْكُمْ ظَنَّكُمْ فَرَحِي بِمَا وجهتم إليّ لِأَنَّ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَاكُم، أَي هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي صِفَاتِ الْأَمْوَالِ مِنْ نَفَاسَةٍ وَوَفْرَةٍ. وَسَوْقُ التَّعْلِيلِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَلِكَةَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَدَى سُلَيْمَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا لَدَيْهَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّفْرِيعِ. وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْفَرْقِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَلَوْ قَالَ: وَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ، لَكَانَ مُشْعِرًا بِأَنَّهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ تَكُونُ وَاوَ الْحَالِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ إِمْدَادَهُ بِمَالٍ إِلَى رَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِم. وَإِضَافَة بِهَدِيَّتِكُمْ تَشْبِيهٌ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَي بِمَا تُهْدُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَبِيهَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ بِمَا يُهْدَى إِلَيْكُمْ. وَالْخَبَرُ اسْتُعْمِلَ كِنَايَةً عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ لِلْمَهْدِيِّ.

وَمَعْنَى: تَفْرَحُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُسَرُّونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْتَخِرُونَ، أَيْ أَنْتُمْ تَعْظُمُ عِنْدَكُمْ تِلْكَ الْهَدِيَّةُ لَا أَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي خَيْرًا مِنْهَا. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي «أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ» لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ أَنْتُمْ. وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ. وَتَوَعَّدَهُمْ وَهَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُ مُرْسِلٌ إِلَيْهِمْ جَيْشًا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِحَرْبِهِ. وَضَمَائِرُ جَمْعِ الذُّكُورِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ ولَنُخْرِجَنَّهُمْ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَوْمِ، أَيْ لَنُخْرِجَنَّ مَنْ نُخْرِجُ مِنَ الْأَسْرَى. وَقَوْلُهُ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ غَزْوَ بَلَدِهَا بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِرْسَالَ جُنُودٍ لِغَزْوِهَا فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] أَيْ أَذْهَبَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَلْنُؤْتِيَنَّهُمْ جُنُودًا، أَيْ نَجْعَلُهَا آتِيَةً إِيَّاهُمْ. وَالْقِبَلُ: الطَّاقَةُ. وَأَصْلُهُ الْمُقَابَلَةُ فَأُطْلِقَ عَلَى الطَّاقَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُطِيقُ شَيْئًا يَثْبُتُ لِلِقَائِهِ وَيُقَابِلُهُ. فَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ تَقَهْقَرَ عَنْ لِقَائِهِ. وَلَعَلَّ أَصْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ نَاظِرٌ إِلَى الْمُقَابَلَةِ فِي الْقِتَالِ. وَالْبَاءُ فِي بِها لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيِ انْتَفَى قِبَلَهُمْ بِسَبَبِهَا، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيِ انْتَفَى قِبَلَهُمُ الْمُصَاحِبُ لَهَا، أَيْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى لِقَائِهَا. وَضَمِيرُ بِها لِلْجُنُودِ وَضَمِيرُ مِنْها لِلْمَدِينَةِ، وَهِيَ مَأْرِبَ، أَيْ يُخْرِجُهُمْ أَسْرَى وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى مَدِينَتِهِ. وَالصَّاغِرُ: الذَّلِيلُ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى ذَلَّ وَمَصْدَرُهُ الصَّغَارُ. وَالْمُرَادُ: ذُلُّ الْهَزِيمَة والأسر.

[سورة النمل (27) : الآيات 38 إلى 40]

[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 38 إِلَى 40] قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ طُوِيَ خَبَرُ رُجُوعِ الرُّسُلِ وَالْهَدِيَّةِ، وَعَلِمَ سُلَيْمَانُ أَنَّ مَلِكَةَ سَبَأٍ لَا يَسَعُهَا إِلَّا طَاعَتُهُ وَمَجِيئُهَا إِلَيْهِ، أَوْ وَرَدَ لَهُ مِنْهَا أَنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31] . ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَطَّتْ رِحَالُ الْمَلِكَةِ فِي مَدِينَةِ أُورْشَلِيمَ وَقَبْلَ أَنْ تَتَهَيَّأَ لِلدُّخُولِ عَلَى الْمَلِكِ، أَوْ حِينَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهَا شَارَفَتِ الْمَدِينَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُحْضِرَ لَهَا عَرْشَهَا قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ لِيُرِيَهَا مَقْدِرَةَ أَهْلِ دَوْلَتِهِ. وَقَدْ يَكُونُ عَرْشُهَا مَحْمُولًا مَعَهَا فِي رِحَالِهَا جَاءَتْ بِهِ مَعَهَا لِتَجْلِسَ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَن لَا يهيىء لَهَا سُلَيْمَانُ عَرْشًا، فَإِنَّ لِلْمُلُوكِ تَقَادِيرَ وَظُنُونًا يَحْتَرِزُونَ مِنْهَا خَشْيَةَ الْغَضَاضَةِ. وَقَوْلُهُ: آتِيكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا مِنْ أَتَى، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْهُ، وَالْبَاءُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَلَمَّا عَلِمَ سُلَيْمَانُ بِأَنَّهَا سَتَحْضُرُ عِنْدَهُ أَرَادَ أَنْ يَبْهَتَهَا بِإِحْضَارِ عَرْشِهَا الَّذِي تَفْتَخِرُ بِهِ وَتَعُدُّهُ نَادِرَةَ الدُّنْيَا، فَخَاطَبَ مَلَأَهُ لِيَظْهَرَ مِنْهُمْ مُنْتَهَى عِلْمِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. فَالْبَاءُ فِي بِعَرْشِها كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ [النَّمْل: 37] تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَجُمْلَةُ: قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَاءً لِجُزْءٍ مِنْ قِصَّةٍ. وَجُمْلَةُ: قالَ عِفْرِيتٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ جَوَابِ الْمُحَاوَرَةِ فَفُصِلَتْ عَلَى أُسْلُوبِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَجُمْلَةُ: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَيْضًا جَوَابُ مُحَاوَرَةٍ. وَمَعْنَى عِفْرِيتٌ حَسْبَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلَفِ كَلِمَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ اسْمٌ

لِلشَّدِيدِ الَّذِي لَا يُصَابُ وَلَا يُنَالُ، فَهُوَ يُتَّقَى لِشَرِّهِ. وَأَصْلُهُ اسْمٌ لِعُتَاةِ الْجِنِّ، وَيُوصَفُ بِهِ النَّاسُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ. والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ مِنْ حَاشِيَةِ سُلَيْمَانَ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْكِتابِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ مِنَ الْكُتُبِ، أَيْ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةَ. وَقَدْ عَدَّ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا أَهْلَ خَاصَّةِ سُلَيْمَانَ بِأَسْمَائِهِمْ وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْقَصَصِ أَنَّ: الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ هُوَ «آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا» وَأَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ سُلَيْمَانَ. وَارْتِدَادُ الطَّرْفِ حَقِيقَتُهُ: رُجُوعُ تَحْدِيقِ الْعَيْنِ مِنْ جِهَةٍ مَنْظُورَةٍ تَحَوَّلَ عَنْهَا لَحْظَةً. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِارْتِدَادِ لِأَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنِ النَّظَرِ بِإِرْسَالِ الطَّرْفِ وَإِرْسَالِ النَّظَرِ فَكَانَ الِارْتِدَادُ اسْتِعَارَةً مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْعِفْرِيتِ مِنَ الْجِنِّ وَالَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ تَرْمُزُ إِلَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى بِالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مَا لَا يَتَأَتَّى بِالْقُوَّةِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ مُكْتَسَبَةٌ لِقَوْلِهِ: عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، وَأَنَّ قُوَّةَ الْعَنَاصِرِ طَبِيعَةٌ فِيهَا، وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ بِالْعِلْمِ طَرِيقٌ لِاسْتِخْدَامِ الْقُوَى الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ اسْتِخْدَامَ بَعْضِهَا بَعْضًا. فَذُكِرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَثَلًا لِتَغَلُّبِ الْعِلْمِ عَلَى الْقُوَّةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مُسَخَّرَيْنِ لِسُلَيْمَانَ كَانَ مَا اخْتُصَّا بِهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَزِيَّةً لَهُمَا تَرْجِعُ إِلَى فَضْلِ سُلَيْمَانَ وَكَرَامَتِهِ أَنْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ هَذِهِ الْقُوَى. وَمَقَامُ نُبُوَّتِهِ يَتَرَفَّعُ عَنْ أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ الْإِتْيَانَ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَقَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ مَثَلَانِ فِي السُّرْعَةِ وَالْأَسْرَعِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي رَآهُ يَعُودُ إِلَى الْعَرْشِ. وَالِاسْتِقْرَارُ: التَّمَكُّنُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَرَارِ. وَهَذَا اسْتِقْرَارٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ الِاسْتِقْرَارِ الْعَامِّ الْمُرَادِفِ لِلْكَوْنِ، وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ الَّذِي يُقَدَّرُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِمَا إِذَا وَقَعَا خَبَرًا أَوْ وَقَعَا حَالًا، إِذْ يُقَدَّرُ

[سورة النمل (27) : آية 41]

(كَائِنٌ) أَوْ (مُسْتَقِرٌّ) فَإِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَارَ لَيْسَ شَأْنُهُ أَنْ يُصَرَّحَ بِهِ. وَابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ فِي الْآيَةِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْفَضْلَ إِضَافَةً إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّهُ لِإِظْهَارِ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ إِذْ هُوَ عَبْدُ رَبِّهِ. فَلَيْسَ إِحْسَانُ اللَّهِ إِلَيْهِ إِلَّا فَضْلًا مَحْضًا، وَلَمْ يَشْتَغِلْ سُلَيْمَانُ حِينَ أُحْضِرَ لَهُ الْعَرْشُ بِأَنْ يَبْتَهِجَ بِسُلْطَانِهِ وَلَا بِمَقْدِرَةِ رِجَالِهِ وَلَكِنَّهُ انْصَرَفَ إِلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَحَهُ مِنْ فَضْلٍ وَأَعْطَاهُ مِنْ جُنْدٍ مُسَخَّرِينَ بِالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ، فَمَزَايَا جَمِيعِهِمْ وَفَضْلِهِمْ رَاجِعٌ إِلَى تَفْضِيلِهِ. وَضَرَبَ حِكْمَةً خُلُقِيَّةً دِينِيَّةً وَهِيَ: مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ فَكُلٌّ مُتَقَرِّبٌ إِلَى اللَّهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ عَمَلَهُ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ يَرْجُو بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ وَرِضَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَيَرْجُو دَوَامَ التَّفَضُّلِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَالنَّفْعُ حَاصِلٌ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَلَا يَنْتَفِعُ اللَّهُ بِشَيْءٍ من ذَلِك. فَالْكَلَام فِي قَوْلِهِ: يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لَامُ الْأَجْلِ وَلَيْسَتِ اللَّامَ الَّتِي يُعَدَّى بِهَا فِعْلُ الشُّكْرِ فِي نَحْوِ وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: 152] . وَالْمُرَادُ بِ مَنْ كَفَرَ مَنْ كَفَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ وَهُوَ كَرِيمٌ فِي إِمْهَالِهِ وَرِزْقِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النَّمْل: 19] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَإِنَّهُ غَنِيٌّ كَرِيمٌ، تَأْكِيدٌ لِلِاعْتِرَافِ بِتَمَحُّضِ الْفَضْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَضْلِ رَبِّي. [41] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 41] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ مَلَئِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ. وَالتَّنْكِيرُ: التَّغْيِيرُ لِلْحَالَةِ. قَالَ جَمِيلٌ: وَقَالُوا نَرَاهَا يَا جَمِيلُ تَنَكَّرَتْ ... وَغَيَّرَهَا الْوَاشِي فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا

[سورة النمل (27) : الآيات 42 إلى 43]

أَرَادَ: تَنَكَّرَتْ حَالَةَ مُعَاشَرَتِهَا بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الْوَاشِينَ، بِأَنْ يُغَيِّرَ بَعْضَ أَوْصَافِهِ، قَالُوا: أَرَادَ مُفَاجَأَتَهَا وَاخْتِبَارَ مَظَنَّتِهَا. وَالْمَأْمُورُ بِالتَّنْكِيرِ أَهْلُ الْمَقْدِرَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَلَئِهِ. ومِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَبْلَغُ فِي انْتِفَاءِ الِاهْتِدَاءِ مِنْ: لَا تَهْتَدِي، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ. [42، 43] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 42 الى 43] فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ. دلّ قَوْله: فَلَمَّا جاءَتْ أَنَّ الْمَلِكَةَ لَمَّا بَلَغَهَا مَا أَجَابَ بِهِ سُلَيْمَانُ رُسُلَهَا أَزْمَعَتِ الْحُضُورَ بِنَفْسِهَا لَدَى سُلَيْمَانَ دَاخِلَةً تَحْتَ نُفُوذِ مَمْلَكَتِهِ، وَأَنَّهَا تَجَهَّزَتْ لِلسَّفَرِ إِلَى أُورْشَلِيمَ بِمَا يَلِيقُ بِمِثْلِهَا. وَقَدْ طُوِيَ خَبَرُ ارْتِحَالِهَا إِذْ لَا غَرَضَ مُهِمًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا خَضَعَتْ لِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَجَاءَتْهُ رَاغِبَةً فِي الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ. وَبُنِيَ فِعْلُ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِالْقَائِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ هُوَ سُلَيْمَانُ. وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النَّمْل: 40] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، أَيْ هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي [النَّمْل: 41] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى أَهكَذا عَرْشُكِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا بِهِ جَوَابُهَا، أَيْ وَقِيلَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا، أَيْ قَالَ الْقَائِلُ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ، أَيْ قَالَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ فِي مَلَئِهِ عَقِبَ اخْتِيَارِ رَأْيِهَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا لَدَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ قَالَ بَعْضُ مَلَأِ سُلَيْمَانَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَلَعَلَّهُمْ تَخَافَتُوا بِهِ أَوْ رَطَنُوهُ بِلُغَتِهِمُ الْعِبْرِيَّةِ

بِحَيْثُ لَا تَفْهَمُهُمْ. وَقَالُوا ذَلِكَ بَهِجِينَ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ لِمَلَأِ مَلِكَةِ سَبَأٍ، أَيْ لَا نَنْسَى بِمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ بَهْرَجَاتِ هَذِهِ الْمَلِكَةِ أَنَّنَا فِي حَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ أَفْضَلُ. وَأَرَادُوا بِالْعِلْمِ عِلْمَ الْحِكْمَةِ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ سُلَيْمَانَ وَرِجَالَ مَمْلَكَتِهِ وَتَشَارَكَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ سَبَأٍ فِي بَعْضِهِ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ مَعْرِفَةٍ أَنْشَئُوا بِهَا حَضَارَةً مُبْهِتَةً. فَمَعْنَى: مِنْ قَبْلِها إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ قَوْمَهُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَسْبَقَ فِي مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَحَضَارَةِ الْمُلْكِ مِنْ أَهْلِ سَبَأٍ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ ظَهَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَهْدِ مُوسَى، فَقَدْ سَنَّ لَهُمُ الشَّرِيعَةَ، وَأَقَامَ لَهُمْ نِظَامَ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَّمَهُمْ أُسْلُوبَ الْحَضَارَةِ بِتَخْطِيطِ رُسُومِ مَسَاكِنِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ وَنِظَامِ الْجَيْشِ وَالْحَرْبِ وَالْمَوَاسِمِ وَالْمَحَافِلِ. ثُمَّ أَخَذَ ذَلِكَ يَرْتَقِي إِلَى أَنْ بَلَغَ غَايَةً بَعِيدَةً فِي مُدَّةِ سُلَيْمَانَ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَسْبَقَ إِلَى عِلْمِ الْحِكْمَةِ قَبْلَ أَهْلِ سَبَأٍ، وَإِنْ أُرِيدَ بِ مِنْ قَبْلِها الْقَبْلِيَّةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ وَهِيَ الْفَضْلُ وَالتَّفَوُّقُ فِي الْمَزَايَا وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِالْمَعْنَى كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّا أَوْسَعُ وَأَقْوَى مِنْهَا عِلْمًا، كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْأَوَّلُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا» أَيْ نَحْنُ الْأَوَّلُونَ فِي غَايَاتِ الْهُدَى، وَجَعَلَ مَثَلًا لِذَلِكَ اهْتِدَاءُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «وَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ» . فَكَانَ الْأَرْجَحُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مِنْ قَبْلِها أَنَّا فَائِتُونَهَا فِي الْعِلْمِ وَبَالِغُونَ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ. وَزَادُوا فِي إِظْهَارِ فَضْلِهِمْ عَلَيْهَا بِذِكْرِ النَّاحِيَةِ الدِّينِيَّةِ، أَيْ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ دُونَهَا. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ مُنْذُ الْقِدَمِ. وَصَدَّهَا هِيَ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ صَدَّهَا مَعْبُودُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمُتَعَلِّقُ الصَّدِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَكُنَّا مُسْلِمِينَ. وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ هُوَ الشَّمْسُ. وَإِسْنَادُ الصَّدِّ إِلَى الْمَعْبُودِ مَجَازٌ عَقْلِي لِأَنَّهُ سَبَب صَدِّهَا عَنِ التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] وَقَوْلِهِ: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [الْأَنْفَال: 49] . وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ مَرَّتَيْنِ فِي مَا كانَتْ تَعْبُدُ. وإِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَكُّنِهَا مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَكَانَ ذَلِكَ التَّمَكُّنُ بِسَبَبِ الِانْحِدَارِ مِنْ سُلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَالشِّرْكُ مُنْطَبِعٌ فِي نَفْسِهَا بِالْوِرَاثَةِ، فَالْكُفْرُ قَدْ أَحَاطَ بِهَا

[سورة النمل (27) : آية 44]

بِتَغَلْغُلِهِ فِي نَفْسِهَا وَبِنَشْأَتِهَا عَلَيْهِ وَبِكَوْنِهَا بَيْنَ قَوْمٍ كَافِرِينَ، فَمِنْ أَيْنَ يَخْلُصُ إِلَيْهَا الْهدى وَالْإِيمَان. [44] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 44] قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) جُمْلَةُ: قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِجُزْءٍ مِنَ الْقِصَّةِ. وَطُوِيَ ذِكْرُ تَرَحُّلِهَا إِلَى وُصُولِهَا فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حُلُولِهَا أَمَامَ صَرْحِ سُلَيْمَانَ لِلدُّخُولِ مَعَهُ إِلَيْهِ أَوِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ. لَمَّا أَرَاهَا سُلَيْمَانُ عَظَمَةَ حَضَارَتِهِ انْتَقَلَ بِهَا حَيْثُ تُشَاهِدُ أَثَرًا بَدِيعًا مِنْ آثَارِ الصِّنَاعَةِ الْحَكِيمَةِ وَهُوَ الصَّرْحُ. وَالصَّرْحُ يُطْلَقُ عَلَى صَحْنِ الدَّارِ وَعَرْصَتِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَرْحَ الْقَصْرِ الَّذِي ذُكِرَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ وَهُوَ بَيْتٌ وَعْرٌ لَهُ بَابَانِ كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ سُلَيْمَانُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْقَائِل لَهَا: ْخُلِي الصَّرْحَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي رفقتها. وَالْقَائِل نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ هُوَ سُلَيْمَانُ كَانَ مُصَاحِبًا لَهَا أَوْ كَانَ يَتَرَقَّبُهَا وَزُجَاجُ الصَّرْحِ الْمُبَلَّطُ بِهِ الصَّرْحُ بَيْنَهُمَا. وَذِكْرُ الدُّخُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّرْحَ مَكَانٌ لَهُ بَابٌ. وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ: فَلَمَّا رَأَتِ الْبَيْتَ الَّذِي بَنَاهُ. وَحِكَايَةُ أَنَّهَا حسبته لجة عِنْد مَا رَأَتْهُ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ بَدَا لَهَا فِي حِينِ دُخُولِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّرْحَ هُوَ أَوَّلُ مَا بَدَا لَهَا مِنَ الْمَدْخَلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ سَاحَةٌ مَعْنِيَّةٌ لِلنُّزْهَةِ فُرِشَتْ بِزُجَاجٍ شَفَّافٍ وَأَجْرِيَ تَحْتَهُ الْمَاءُ حَتَّى يَخَالَهُ النَّاظِرُ لُجَّةَ مَاءٍ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي اخْتُصَّتْ بِهَا قُصُورُ سُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْيَمَنِ عَلَى مَا بَلَغَتْهُ مِنْ حَضَارَةٍ وَعَظَمَةَ بِنَاءٍ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَن ابْن كثيرنْ ساقَيْها بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ عِوَضًا عَنِ الْأَلِفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَهْمِزُ حَرْفَ الْمَدِّ إِذَا وَقَعَ وَسَطَ الْكَلِمَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

لَحَبُّ الْمُؤْقِدَانِ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ فَهَمَزَ الْمُؤْقِدَانِ وَمُؤْسَى. وَكَشْفُ سَاقَيْهَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا شَمَّرَتْ ثِيَابَهَا كَرَاهِيَةَ ابْتِلَالِهَا بِمَا حَسِبَتْهُ مَاءً. فَالْكَشْفُ عَنْ سَاقَيْهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخَلْعِ خُفَّيْهَا أَوْ نَعْلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَشْمِيرِ ثَوْبِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَا تَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ. وَالْمُمَرَّدُ: الْمُمَلَّسُ. وَالْقَوَارِيرُ: جَمْعُ قَارُورَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِإِنَاءٍ مِنَ الزُّجَاجِ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلْخَمْرِ لِيَظْهَرَ لِلرَّائِي مَا قَرَّ فِي قَعْرِ الْإِنَاءِ مَنْ تَفَثِ الْخَمْرِ فَيَظْهَرُ الْمِقْدَارُ الصَّافِي مِنْهَا. فَسَمَّى ذَلِكَ الْإِنَاءَ قَارُورَةً لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ مَا يَقَرُّ فِي قَعْرِهِ، وَجُمِعَتْ عَلَى قَوَارِيرَ، ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى الطِّينِ الَّذِي تُتَّخَذُ مِنْهُ الْقَارُورَةُ وَهُوَ الزُّجَاجُ، فَالْقَوَارِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ الزُّجَاجِ، قَالَ بَشَّارٌ: ارْفُقْ بِعَمْرٍو إِذَا حَرَّكْتَ نِسْبَتَهُ ... فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ قَوَارِيرَ يُرِيدُ أَنَّ نِسْبَتَهُ فِي الْعَرَبِ ضَعِيفَةٌ إِذَا حُرِّكَتْ تَكَسَّرَتْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الزُّجَاجِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ فِي سُورَة النُّور [35] . لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. بَهَرَهَا مَا رَأَتْ مِنْ آيَاتٍ عَلِمَتْ مِنْهَا أَنَّ سُلَيْمَانَ صَادِقٌ فِيمَا دَعَاهَا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلِمَتْ أَنَّ دِينَهَا وَدِينَ قَوْمِهَا بَاطِلٌ فَاعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا فِي اتِّبَاعِ الضَّلَالِ بِعِبَادَةِ الشَّمْسِ. وَهَذَا دَرَجَةٌ أُولَى فِي الِاعْتِقَادِ وَهُوَ دَرَجَةُ التَّخْلِيَةِ، ثُمَّ صَعَدَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي فَوْقَهَا وَهِيَ دَرَجَةُ التَّحَلِّي بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ فَقَالَتْ: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَاعْتَرَفَتْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهَذَا مَقَامُ التَّوْحِيدِ. وَفِي قَوْلهَا: عَ سُلَيْمانَ إِيمَانٌ بِالدِّينِ الَّذِي تَقَلَّدَهُ سُلَيْمَانُ وَهُوَ دِينُ

[سورة النمل (27) : آية 45]

الْيَهُودِيَّةِ، وَقَدْ أَرَادَتْ جَمْعَ مَعَانِي الدِّينِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِيَكُونَ تَفْصِيلُهَا فِيمَا تَتَلَقَّاهُ مِنْ سُلَيْمَانَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَام. وَجُمْلَة: الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي جَوَابٌ عَنْ قَول سُلَيْمَان نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ. وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَلُّدُ بِلْقِيسَ لِلتَّوْحِيدِ كَانَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا دَانَتْ لِلَّهِ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَ سَبَأٍ انْخَلَعُوا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَأَمَّا دُخُولُ الْيَهُودِيَّةِ بِلَادَ الْيَمَنِ فَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ. وَسَكَتَ الْقُرْآنُ عَنْ بَقِيَّةِ خَبَرِهَا وَرُجُوعِهَا إِلَى بِلَادِهَا، وَلِلْقَصَّاصِينَ أَخْبَارٌ لَا تَصِحُّ فَهَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ. وَمَكَانُ الْعِبْرَةِ مِنْهَا الِاتِّعَاظُ بِحَالِ هَذِهِ الْمَلِكَةِ، إِذْ لَمْ يَصُدَّهَا عُلُوُّ شَأْنِهَا وَعَظَمَةُ سُلْطَانِهَا مَعَ مَا أُوتِيَتْهُ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَذَكَاءِ الْعَقْلِ عَنْ أَنْ تَنْظُرَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الدَّاعِي إِلَى التَّوْحِيدِ وَتُوقِنَ بِفَسَادِ الشِّرْكِ وَتَعْتَرِفَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ، فَمَا يَكُونُ إِصْرَارُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمُ الْهَدْيُ الْإِسْلَامِيُّ إِلَّا لِسَخَافَةِ أَحْلَامِهِمْ أَوْ لِعَمَايَتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَتَصَلُّبِهِمْ فِيهِ. وَلَا أَصْلَ لِمَا يَذْكُرُهُ الْقَصَّاصُونَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ سُلَيْمَانَ تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ، وَلَا أَنَّ لَهُ وَلَدًا مِنْهَا. فَإِنَّ رَحْبَعَامَ ابْنَهُ الَّذِي خَلَفَهُ فِي الْمُلْكِ كَانَ مِنْ زَوْجَة عمّونيّة. [45] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) هَذَا مَثَلٌ ثَالِثٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ. وَالِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَقِصَّةِ مَلِكَةِ سَبَأٍ إِلَى ذِكْرِ ثَمُودَ وَرَسُولِهِمْ دُونَ ذِكْرِ عَادٍ لِمُنَاسَبَةِ جِوَارِ الْبِلَادِ، لِأَنَّ دِيَارَ ثَمُودَ كَانَتْ عَلَى تُخُومِ مَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ وَكَانَتْ فِي طَرِيقِ السَّائِرِ مِنْ سَبَأٍ إِلَى فِلَسْطِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعْقَبَ ذِكْرَ ثَمُودَ بِذِكْرِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُمْ أَدْنَى إِلَى بِلَادِ فِلَسْطِينَ، فَكَانَ

[سورة النمل (27) : آية 46]

سِيَاقُ هَذِهِ الْقِصَصِ مُنَاسِبًا لِسِيَاقِ السَّائِرِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى فِلَسْطِينَ. وَلَمَّا كَانَ مَا حَلَّ بِالْقَوْمِ أَهَمَّ ذِكْرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ، وَأَمَّا الْمَفْعُولُ فَهُوَ مَحَلُّ التَّسْلِيَةِ، وَالتَّسْلِيَةُ غَرَضٌ تَبَعِيٌّ. وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْإِرْسَالِ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَإِمَّا أَنْ يُبْنَى عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِوَعِيدِ رَبِّهِمْ عَلَى لِسَانِهِ. وَحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي عَدَمِ الْعِظَةِ بِمَا جَرَى لِلْمُمَاثِلِينَ فِي حَالِهِمْ جَعَلَهُمْ كَمَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَرْسَلْنا مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَفُرِّعَ عَلَى أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً إِلَخْ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ. فَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا لِإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ فَفَاجَأَ مِنْ حَالِهِمْ أَنْ أَعْرَضَ فَرِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَآمَنَ فَرِيقٌ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ انْقِسَامِهِمْ غَيْرَ مَرْضِيٍّ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَقَّبٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ لِإِنْكَارِ كَوْنِ أَكْثَرِهِمْ كَافِرِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ بَقَاءِ الْكُفْرِ فِيهِمْ كَافٍ فِي قُبْحِ فِعْلِهِمْ. وَحَالُهُمْ هَذَا مُسَاوٍ لِحَالِ قُرَيْشٍ تِجَاهَ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَأُعِيدَ ضَمِيرُ يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْمُثَنَّى وَهُوَ فَرِيقانِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] وَلَمْ يَقُلْ: اقْتَتَلَتَا. وَالْفَرِيقَانِ هُمَا: فَرِيقُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وَفَرِيقُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَفِيهِمْ صَالِحٌ. وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَهُوَ تَعْقِيبٌ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَةِ. وَالِاخْتِصَامُ وَاقِعٌ مَعَ صَالِحٍ ابْتِدَاءً، وَمَعَ أَتْبَاعه تبعا. [46] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 46] قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) لَمَّا كَانَ الِاخْتِصَامُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَأْنِ صَالِحٍ ابْتِدَاءً جِيءَ بِجَوَابِ صَالِحٍ عَمَّا

تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ مِنْ مُحَاوَلَتِهِمْ إِفْحَامَهُ بِطَلَبِ نُزُولِ الْعَذَابِ. فَمَقُولُ صَالِحٍ هَذَا لَيْسَ هُوَ ابْتِدَاءَ دَعْوَتِهِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النَّمْل: 45] وَلَكِنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ جُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ مَفْصُولَةً جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ لِأَنَّهَا حِكَايَةُ جَوَابٍ عَمَّا تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ. وَاقْتَصَرَ عَلَى مُرَاجَعَةِ صَالِحٍ قَوْمَهُ فِي شَأْنِ غُرُورِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنَّ تَأَخُّرَ الْعَذَابِ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فَأْتِنَا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْأَعْرَاف: 70] كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا مَوْعِظَةُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] بِحَالِ ثَمُودَ الْمُسَاوِي لِحَالِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ مُمَاثِلَةٌ لِعَاقِبَةِ ثَمُودَ لِتَمَاثُلِ الْحَالَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ إِنْكَارٌ لِأَخْذِهِمْ بِجَانِبِ الْعَذَابِ دُونَ جَانب الرَّحْمَة. فالسيئة: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِالْحَالَةِ السَّيِّئَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاهُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ ضِدَّ ذَلِكَ، أَيْ تَصْدِيقُهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، فَالِاسْتِعْجَالُ: الْمُبَادَرَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَسْتَعْجِلُونَنِي مُتَلَبِّسِينَ بِسَيِّئَةِ التَّكْذِيبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُمْ بِطَرَفِ التَّكْذِيبِ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَرَدِّدِينَ فِي أَمْرِي فَافْرِضُوا صِدْقِي ثُمَّ انْظُرُوا. وَهَذَا اسْتِنْزَالٌ بِهِمْ إِلَى النَّظَرِ بَدَلًا عَنِ الْإِعْرَاضِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ الَّتِي يَتَرَقَّبُونَ حُلُولَهَا، وَهِيَ مَا سَأَلُوا مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَبِ الْحَسَنَةِ ضِدَّ ذَلِكَ أَيْ حَالَةُ سَلَامَتِهِمْ مِنْ حُلُول الْعَذَاب فالسيئة مَفْعُولُ تَسْتَعْجِلُونَ وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] .

[سورة النمل (27) : آية 47]

وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ جَعْلِهِمْ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ الْوَعِيدِ بِهِ وَأَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا امْتِدَادَ السَّلَامَةِ أَمَارَةً عَلَى إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَيَتَّقُوا حُلُولَ الْعَذَابِ، أَيْ لِمَ تَبْقَوْنَ عَلَى التَّكْذِيبِ مُنْتَظَرِينَ حُلُولَ الْعَذَابِ، وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِكُمْ أَنْ تُبَادِرُوا بِالتَّصْدِيقِ مُنْتَظَرِينَ عَدَمَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْمَرَّةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ صَالِحٍ إِيَّاهُمْ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِجَعْلِ يَقِينِهِمْ بِكَذِبِهِ مَحْمُولًا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ. وَقَوْلُهُ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ حَالٌ مِنَ السَّيِّئَةِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَالِحٌ صَادِقًا فِيمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ لَعَجَّلَ لَهُمْ بِهِ، فَمَا تَأْخِيرُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَعِيدٍ حَقٍّ، لِأَنَّ الْعَذَابَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ تَحْتَ احْتِمَالِهِ فِي مَجَارِي الْعُقُولِ. فَالْقَبْلِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ مَجَازٌ فِي اخْتِيَارِ الْأَخْذِ بِجَانِبِ احْتِمَالِ السَّيِّئَةِ وَتَرْجِيحِهِ عَلَى الْأَخْذِ بِجَانِبِ الْحَسَنَةِ، فَكَأَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا الْحَسَنَةَ. وَظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عِلَّةِ اسْتِعْجَالِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَعْلُولِ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِعِلَّتِهِ. ثُمَّ أُعْقِبَ الْإِنْكَارُ الْمُقْتَضِي طَلَبَ التَّخْلِيَةِ عَنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا مَضَى مِنْهُمْ وَيَرْجُونَ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فَلَا يُعَذِّبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ جَعَلَ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لم يُذنب. [47] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 47] قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) هَذَا مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ مَعَ صَالِحٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ فِعْلَا الْقَوْلِ وَجَاءَ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَصْلُ اطَّيَّرْنا تَطَيَّرْنَا فَقُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَسُكِّنَتْ لِتَخْفِيفِ

الْإِدْغَامِ وَأُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِابْتِدَاءِ الْكَلِمَةِ بِسَاكِنٍ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَمَعْنَى التَّطَيُّرِ: التَّشَاؤُمُ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ التَّطَيُّرُ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ يَنْشَأُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِحَرَكَاتِ الطَّيْرِ مِنْ سَانِحٍ وَبَارِحٍ. وَكَانَ التَّطَيُّرُ مِنْ أَوْهَامِ الْعَرَبِ وَثَمُودُ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَوْلُهُمُ الْمَحْكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكِيَ بِهِ مُمَاثَلَةً مِنْ كَلَامِهِمْ وَلَا يُرِيدُونَ التَّطَيُّرَ الْحَاصِلَ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وَقد تقدم مثله عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [131] . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشُّؤْمِ هُنَالِكَ. وَأَجَابَ صَالِحٌ كَلَامَهُمْ بِأَنَّهُ وَمَنْ مَعَهُ لَيْسُوا سَبَبَ شُؤْمٍ وَلَكِنَّ سَبَبَ شُؤْمِهِمْ وَحُلُولِ الْمَضَارِّ بِهِمْ هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ. وَاسْتُعِيرَ لِمَا حَلَّ بِهِمُ اسْمُ الطَّائِرِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، وَمُخَاطَبَةً لَهُمْ بِمَا يَفْهَمُونَ لِإِصْلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ اطَّيَّرْنا بِكَ. وعِنْدَ لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ مُسْتَعَارًا لِتَحَقُّقِ شَأْن من شؤون اللَّهِ بِهِ يُقَدِّرُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَهُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَأَضْرَبَ بِ بَلْ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ بِأَنْ لَا شُؤْمَ بِسَبَبِهِ هُوَ وَسبب مَنْ مَعَهُ وَلَكِنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا ذَلِكَ قَوْمٌ فَتَنَهُمُ الشَّيْطَانُ فِتْنَةً مُتَجَدِّدَةً بِإِلْقَاءِ الِاعْتِقَادِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَصِيغَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ بِذَلِكَ. وَصِيغَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ الْفِتُونِ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَغَلَبَ جَانِبُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: تُفْتَنُونَ عَلَى جَانِبِ الْغَيْبَةِ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْخِطَابِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ من الْغَيْبَة.

[سورة النمل (27) : الآيات 48 إلى 49]

[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 48 إِلَى 49] وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) عَطَفَ جُزْءَ الْقِصَّةِ عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا. والْمَدِينَةِ: هِيَ حِجْرُ ثَمُودَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ الْمَعْرُوفُ مَكَانُهَا الْيَوْمَ بِدِيَارِ ثَمُودَ وَمَدَائِنَ صَالِحٍ، وَهِيَ بَقَايَا تِلْكَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَطْلَالٍ وَبُيُوتٍ مَنْحُوتَةٍ فِي الْجِبَالِ. وَهِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَتَبُوكَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ وَقَدْ مَرَّ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَسِيرِهِمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَأَوْا فِيهَا آبَارًا نَهَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ مِنْهَا إِلَّا بِئْرًا وَاحِدَةً أَمَرَهُمْ بِالشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ بِهَا وَقَالَ: «إِنَّهَا الْبِئْرُ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا نَاقَةُ صَالِحٍ» . وَالرَّهْطُ: الْعَدَدُ مِنَ النَّاسِ حَوَالَيِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ مِثْلُ النَّفَرِ. وَإِضَافَةُ تِسْعَةٍ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْجُزْءِ إِلَى اسْمِ الْكُلِّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَهُوَ إِضَافَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِثْلَ: خَمْسُ ذَوْدٍ. وَاخْتَلَفَ أَيِمَّةُ النَّحْوِ فِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ أَنَّهَا سَمَاعِيَّةٌ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ مِنْ عُتَاةِ الْقَوْمِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَسْمَائِهِمْ عَلَى رِوَايَاتٍ هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ الْقَصَّاصِينَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ مَا يُعْتَمَدُ. وَاشْتُهِرَ أَنَّ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ اسْمُهُ «قدار» بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَدْ تَشَاءَمَ بَعْضُ النَّاسِ بِعَدَدِ التِّسْعَةِ بِسَبَبِ قِصَّةِ ثَمُودَ وَهُوَ مِنَ التَّشَاؤُمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. والْأَرْضِ: أَرْضُ ثَمُودَ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَعَطْفُ لَا يُصْلِحُونَ عَلَى يُفْسِدُونَ احْتِرَاسٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا لِلْإِفْسَادِ وَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ خَلَطُوا إِفْسَادًا بِإِصْلَاحٍ. وَجُمْلَةُ: قالُوا صِفَةٌ لِ تِسْعَةُ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِ كانَ، أَوْ هُوَ الْخَبَرُ لِ كانَ. وَفِي الْمَدِينَةِ مُتَعَلِّقٌ بِ كانَ ظَرْفًا لَغْوًا وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافًا لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ وَالْمَعْنَى: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وتَقاسَمُوا فِعْلُ أَمْرٍ، أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَقَاسَمُوا، أَيِ ابْتَدَأَ بَعْضُهُمْ

فَقَالَ: تَقَاسَمُوا. وَهُوَ يُرِيدُ شُمُولَ نَفْسِهِ إِذْ لَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ تَوَافَقُوا عَلَيْهِ وَأَعَادُوهُ فَصَارَ جَمِيعُهُمْ قَائِلًا ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى التِّسْعَةِ. وَالْقَسَمُ بِاللَّهِ يَدُلُّ على أَنهم كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ الْآلِهَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَصِهِمْ فِيمَا مَرَّ مِنَ السُّورِ. ولَنُبَيِّتَنَّهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى صَالِحٍ. وَالتَّبْيِيتُ وَالْبَيَاتُ: مُبَاغَتَةُ الْعَدُوِّ لَيْلًا. وَعَكْسُهُ التَّصْبِيحُ: الْغَارَةُ فِي الصَّبَاحِ، وَكَانَ شَأْنُ الْغَارَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ تَكُونَ فِي الصَّبَاحِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ مَنْ يُنْذِرُ قَوْمًا بِحُلُولِ الْعَدُوِّ: «يَا صَبَاحَاهُ» ، فَالتَّبْيِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِقَصْدِ غَدْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى بَيْتِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُونَهُ وَأَهْلَهُ غَدْرًا مِنْ حَيْثُ لَا يُعْرُفُ قَاتِلُهُ ثُمَّ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ قَتَلُوهُمْ وَلَا شَهِدُوا مَقْتَلَهُمْ. وَالْمَهْلِكُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَهْلَكَ الرُّبَاعِيِّ، أَيْ شَهِدْنَا إِهْلَاكَ مَنْ أَهْلَكَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ هُوَ مِنْ جملَة مَا هيّأوا أَنْ يَقُولُوهُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَيْ وَنُؤَكِّدُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ عَلَى أَنَّهُمْ صَادِقُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الَّتِي قَبْلَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمِّ التَّاءِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَمْرُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَهَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنَقُولَنَّ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ فِي أَوَّلِهِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبِضَمِّ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: مُهْلَكَ بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام وَهُوَ مصدر الإهلاك أَو مَكَانَهُ أَو زَمَانه. وقرأه حَفْص بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام وَيحْتَمل الْمصدر وَالْمَكَان وَالزَّمَان. وَقَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم بِفَتْح الْمِيم وَفتح اللَّام فَهُوَ مصدر لَا غير. وَوَلِيُّ صَالِحٍ هُمْ أقرب الْقَوْم لَهُ إِذَا رَامُوا الْأَخْذَ بِثَأْرِهِ. وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ سَبَبَ

[سورة النمل (27) : الآيات 50 إلى 53]

ذِكْرِهِ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ فِي وَقْتٍ تَآمَرَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْإِيقَاعِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ التَّآمُرُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الْأَنْفَال: 30] فَضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِتَآمُرِ الرَّهْطِ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَمَكْرِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَرَى بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تُشَابُهًا وَتَرَى تَكْرِيرَ ذِكْرِ مَكْرِهِمْ وَمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، وَذِكْرِ أَنَّ فِي قِصَّتِهِمْ آيَةً لقوم يعلمُونَ. [50- 53] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 50 إِلَى 53] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) سَمَّى اللَّهُ تَآمُرَهُمْ مَكْرًا لِأَنَّهُ كَانَ تَدْبِيرَ ضُرٍّ فِي خَفَاءٍ. وَأَكَّدَ مَكْرَهُمْ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّتِهِ فِي جِنْسِ الْمَكْرِ، وَتَنْوِينِهِ لِلتَّعْظِيمِ. وَالْمَكْرُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَكْرٌ مَجَازِيٌّ. اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَكْرِ لِمُبَادَرَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَبْيِيتِ صَالِحٍ وَأَهْلِهِ، وتأخيره استئصالهم إِلَى الْوَقْتُ الَّذِي تَآمَرُوا فِيهِ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ لِشَبَهِ فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمَاكِرِ فِي تَأْجِيلِ فِعْلٍ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، مَعَ عَدَمِ إِشْعَارِ مَنْ يُفْعَلُ بِهِ. وَأُكِّدَ مَكْرُ اللَّهِ وَعُظِّمَ كَمَا أُكِّدَ مَكْرُهُمْ وَعُظِّمَ، وَذَلِكَ بِمَا يُنَاسِبُ جِنْسَهُ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا يُدَانِيهِ عَذَابُ النَّاسِ فَعَظِيمُهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ النَّاسُ. وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْجَلَالَةِ هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَأْكِيدٌ لِاسْتِعَارَةِ الْمَكْرِ لِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْصَالِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَلَا تَجْرِيدٌ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاقْتِرَانُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ

الِاعْتِبَارَ بِمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ مَعَ قُرَيْشٍ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَالنَّظَرُ: نَظَرٌ قَلْبِيٌّ، وَقد علق عَن الْمَفْعُولَيْنِ بِالِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا يُثِيرُهُ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ مِنْ سُؤَالٍ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ. وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ بَدَلًا مِنْ عاقِبَةُ. وَالتَّأْكِيدُ أَيْضًا لِلِاهْتِمَامِ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي دَمَّرْناهُمْ لِلرَّهْطِ. وَعُطِفَ قَوْمَهُمْ عَلَيْهِمْ لِمُوَافَقَةِ الْجَزَاءِ لِلْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ مَكَرُوا بِصَالِحٍ وَأَهْلِهِ فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَقَوْمَهُمْ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ. وَتَقَدَّمَ إِنْجَاءُ صَالِحٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ حِينَ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِتَمَتُّعٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً عَلَى جُمْلَةِ: دَمَّرْناهُمْ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ. وَالْإِشَارَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مُشَاهَدٍ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَقُومُ مَقَامَ حُضُورِهِ فَإِنَّ دِيَارَ ثَمُودَ مَعْلُومَةٌ لِجَمِيعِ قُرَيْشٍ وَهِيَ فِي طَرِيقِهِمْ فِي مَمَرِّهِمْ إِلَى الشَّامِ. وَانْتَصَبَ خاوِيَةً عَلَى الْحَالِ. وَعَامِلُهَا مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ [72] . وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، وَمَصْدَرُهُ الْخَوَاءُ، أَيْ فَالْبُيُوتُ بَاقٍ بَعْضُهَا فِي الْجِبَالِ لَا سَاكِنَ بِهَا. وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَانَ خَوَاؤُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ رَسُولِهِمْ، فَذَلِكَ ظُلْمٌ فِي جَانِبِ اللَّهِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَظُلْمٌ لِلرَّسُولِ بِتَكْذِيبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ. وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ عَمَلَهُمْ بِوَصْفِ الظُّلْمِ مِنْ بَيْنِ عِدَّةِ أَحْوَالٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كُفْرُهُمْ

كَالْفَسَادِ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي خَرَابِ بِلَادِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الظُّلْمَ يُخَرِّبُ الْبُيُوتَ وَتَلَا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ أَخْذِ كُلِّ مَا يُحْتَمَلُ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَنَزِيدُهُ هُنَا مَا لَمْ يَسْبِقْ لَنَا فِي نَظَائِرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ لَمَّا كَانَ قِوَامَ مَاهِيَّاتِهَا حَاصِلًا فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ كَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْهَا انْتِسَابٌ وَتَقَارُبٌ يُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ. فَالشِّرْكُ مَثَلًا حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَكُونُ بِهَا جِنْسًا عَقْلِيًّا وَهُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ يَنْتَسِبُ إِلَى حَقَائِقَ أُخْرَى مِثْلُ الظُّلْمِ، أَيْ الِاعْتِدَاءُ عَلَى النَّاسِ بِأَخْذِ حُقُوقِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمِثْلُ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ مِنْ آثَارِهِ، وَكَذَلِكَ التَّكْذِيبُ فَإِنَّهُ مِنْ آثَارِهِ أَيْضًا: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ، وَمِثْلُ الْكِبْرِ وَمِثْلُ الْإِسْرَافِ فَإِنَّهُمَا مِنْ آثَارِهِ أَيْضًا: فَمِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الشِّرْكِ بِأَلْفَاظِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ جَامِعٌ عِدَّةَ فَظَائِعَ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى انْتِسَابِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ فَسَادَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُنَا بِالظُّلْمِ وَهُوَ كَثِيرٌ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّ جِنْسَ الظُّلْمِ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ، نَاهِيكَ أَنَّ الشِّرْكَ مِنْ أَنْوَاعِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غَافِر: 28] أَيْ هُوَ مُتَأَصِّلٌ فِي الشِّرْكِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَالْكَاذِبِينَ بِالتَّوْبَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ. وَالْآيَةُ: الدَّلِيلُ عَلَى انْتِصَارِ اللَّهِ لِرُسُلِهِ. وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ يَعْنِي آيَةً لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةُ إِنْ لَمْ يَتَّعِظُوا بِهَا فَهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ. وَفِي ذِكْرِ كَلِمَةِ (قَوْمٍ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعَقْلِ حَتَّى كَانَ الْعَقْلُ مِنْ صِفَتِهِ الْقَوْمِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة النمل (27) : الآيات 54 إلى 55]

وَفِي تَأْخِيرِ جُمْلَةِ: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ عَنْ جُمْلَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ طَمْأَنَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُنْجِيهِمْ مِمَّا تَوَعَّدَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا نَجَّى الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مِنْ ثَمُودَ وَهُمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ صَالِحٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ ثَمُودَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَالِحٍ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَخَرَجُوا وَنَزَلُوا فِي مَوْضِعِ الرَّسِّ فَكَانَ أَصْحَابُ الرَّسِّ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. وَقيل: نزلُوا شاطىء الْيَمَنِ وَبَنَوْا مَدِينَةَ حَضْرَمَوْتَ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ صَالِحًا نَزَلَ بِفِلَسْطِينَ. وَكُلُّهَا أَخْبَارٌ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا. وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي وَكانُوا يَتَّقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ من التَّقْوَى. [54، 55] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 54 إِلَى 55] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) عَطَفَ لُوطاً عَلَى صالِحاً فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [النَّمْل: 45] . وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَطْفِ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمَعْطُوفِ تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: إِلى ثَمُودَ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ لَيْسَ قَيْدًا لِمُتَعَلَّقِهِ، وَلَكِنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمَفَاعِيلِ فَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولٍ آخَرَ. فَإِنَّ الْإِتْبَاعَ فِي الْإِعْرَابِ يُمَيِّزُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَلَمْ يُذْكَرِ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُنَا كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ لِعَدَمِ تَمَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ قَوْمِ لُوطٍ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِيمَا عَدَا التَّكْذِيبَ وَالشِّرْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ وَلُوطاً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ لُوطًا، لِأَنَّ وُجُودَ إِذْ بَعْدَهُ يُقَرِّبُهُ مِنْ نَحْوِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَة: 30] . وَتَعْقِيبُ قِصَّةِ ثَمُودَ بِقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ جَارٍ عَلَى مُعْتَادِ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ قِصَصِ هَذِهِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانُوا مُتَأَخِّرِينَ فِي الزَّمَنِ عَنْ ثَمُودَ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَثِيرُ سُؤَالًا هُنَا هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ دُونَ قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ. وَقَدْ بَيَّنْتُهُ آنِفًا أَنَّهُ لِمُنَاسَبَةٍ مُجَاوِرَةِ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ لِمَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ وَوُقُوعِهَا بَيْنَ دِيَارِ ثَمُودَ وَبَيْنَ فِلَسْطِينَ وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ مَمَرَّ قُرَيْشٍ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، قَالَ

تَعَالَى وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: 76] وَقَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] . وَظَرْفُ إِذْ يَتَعَلَّقُ بِ (أَرْسَلْنَا) أَوْ بِ (اذْكُرْ) الْمُقَدَّرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْتُونَ إِنْكَارِيٌّ. وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ حَالٌ زِيَادَةٌ فِي التَّشْنِيعِ، أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَنًا يُبْصِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ التَّجَاهُرَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا وَذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بالنواهي. وَقَوله: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ [81] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ، فَهُنَا جِيءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَمَا فِي الْأَعْرَافِ جَاءَ الْخَبَرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ لُوطٌ قَدْ قَالَ لَهُمُ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ تَفَنُّنًا مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَكِلَا الْأُسْلُوبَيْنِ يَقَعُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَأَبَا عَمْرٍو وَابْنَ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَأَبَا بَكْرٍ عَن عَاصِم قرأوا مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِهَمْزَتَيْنِ فَاسْتَوَتِ الْآيَتَانِ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وُجُوهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ [80] أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْقِصَّةِ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ ذِكْرِ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ ذِكْرِهِ هُنَا. وَنَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهَالَةِ وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ أُفْنِ الرَّأْيِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ. وَفِي الْأَعْرَافِ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ. وَفِي إِقْحَامِ لَفْظِ قَوْمٌ فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النَّمْل: 52] .

وَرُجِّحَ فِي قَوْلِهِ: تَجْهَلُونَ جَانِبُ الْخِطَابِ عَلَى جَانِبِ الْغَيْبَةِ فَلَمْ يَقُلْ: يَجْهَلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَكِلَاهُمَا مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَقْوَى دلَالَة كَمَا قرىء فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النَّمْل: 47] .

[سورة النمل (27) : الآيات 56 إلى 58]

[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 56 إِلَى 58] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَاتِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [82] ، وَخَالَفَتْهَا هَذِهِ بِوُقُوعِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ دُونَ الْوَاوِ، وَبِقَوْلِهِ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ عوض أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: 82] وَبِقَوْلِهِ قَدَّرْناها عوض كانَتْ [الْأَعْرَاف: 83] ، وَبِقَوْلِهِ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ عِوَضَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَعْرَاف: 84] . فَأَمَّا مَوْقِعُ الْفَاءِ هُنَا فَهُوَ لِتَعْقِيبِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْفَاءِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَعْقِيبَ جُزْءِ الْقِصَّةِ عَلَى أَوَّلِهِ فَلَا تُفِيدُ إِلَّا تَعْقِيبَ الْإِخْبَارِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ مُسَاوِيَةٌ لِلْوَاوِ. وَلَكِنْ أُوثِرَ حَرْفُ التَّعْقِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَوْنِهَا عَلَى نَسْجِ مَا حُكِيَتْ بِهِ قِصَّةُ ثَمُودَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ [النَّمْل: 45] ، فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَعْرَافِ تَفَنُّنٌ فِي الْحِكَايَةِ، وَمُرَاعَاةٌ لِلنَّظِيرِ فِي النَّسْجِ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ قِصَصِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَة من مُقَدمَات هَذَا التَّفْسِيرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ دون أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: 82] لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ هُوَ تَآمُرُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ آلِ لُوطٍ فَمَا هُنَا حِكَايَةٌ بِمُرَادِفِ كَلَامِهِمْ وَمَا فِي الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى وَالْغَرَضُ هُوَ التَّفَنُّنُ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ قَدَّرْناها هُنَا وَبَيْنَ كانَتْ فِي الْأَعْرَافِ [83] . وَأَمَّا

[سورة النمل (27) : آية 59]

الِاخْتِلَافُ بَيْنَ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ وَبَيْنَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَعْرَاف: 84] فَهُمَا عِبْرَتَانِ بِحَالِهِمْ تَفَرَّعَتَا عَلَى وَصْفِ مَا حَلَّ بِهِمْ فَوُزِّعَتِ الْعِبْرَتَانِ عَلَى الْآيَتَيْنِ لِئَلَّا يَخْلُوَ تَكْرِيرُ الْقِصَّةِ مِنْ فَائِدَةٍ. وَالْمُرَادُ بِآلِ لُوطٍ لُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ مُلَاحَظٌ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] ، أَرَادَ فِرْعَوْن وَآله. [59] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 59] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى لَمَّا اسْتَوْفَى غَرَضُ الِاعْتِبَارِ وَالْإِنْذَارِ حَقَّهُ بِذِكْرِ عَوَاقِبِ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ وَهِيَ أَشْبَهُ أَحْوَالًا بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ وَحَفَافَيْهِ تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ بِالْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقِّنُهُ مَاذَا يَقُولُهُ عَقِبَ الْقِصَصِ وَالْمَوَاعِظِ السَّالِفَةِ اسْتِخْلَاصًا وَاسْتِنْتَاجًا مِنْهَا، وَشُكْرُ اللَّهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا. فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ. أُمِرَ الرَّسُولُ بِالْحَمْدِ عَلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْقَصَصُ السَّابِقَةُ مِنْ نَجَاةِ الرُّسُلِ مِنَ الْعَذَابِ الْحَالِّ بِقَوْمِهِمْ وَعَلَى مَا أَعْقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى صَبْرِهِمْ مِنَ النَّصْرِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ. وَعَلَى أَنْ أَهْلَكَ الْأَعْدَاءَ الظَّالِمِينَ كَقَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: 45] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [63] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ [93] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ الْآيَةَ. فَأُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَهُ سَوْقُ تِلْكَ الْقِصَصِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ. فَقَوْلُهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْشَاءِ حَمْدِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِيغَةُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَعُطِفَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ مِنَ الْحَمْدِ أَمْرٌ بِأَنْ يُتْبِعَهُ بِالسَّلَامِ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ قَدْرًا لِقَدْرِ مَا تَجَشَّمُوهُ فِي نَشْرِ الدِّينِ الْحَقِّ. وَأَصْلُ سَلامٌ سَلَّمْتُ سَلَامًا، مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ فَحُذِفَ الْفِعْلُ وَأُقِيمَ

مَفْعُولُهُ الْمُطْلَقُ بَدَلًا عَنْهُ. وَعَدَلَ عَنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِلَى تَصْيِيرِهِ مُبْتَدَأً مَرْفُوعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] . وَالسَّلَامُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ يَقُولُهُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُلَاقِيهِ بِلَفْظِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكَ. وَمَعْنَاهُ سَلَامَةٌ وَأَمْنٌ ثَابِتٌ لَكَ لَا نُكُولَ فِيهِ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ (عَلَى) مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَكُّنُ كَمَا فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَأَصْلُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ هُوَ التَّأْمِينُ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِذْ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَلَاقَيْنِ إِحَنٌ أَوْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِغْرَاءٌ بِالْآخَرِ، فَكَانَ لَفْظُ (السَّلَامُ عَلَيْكَ) كَالْعَهْدِ بِالْأَمَانِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْمُفَاتَحَةُ بِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّلَطُّفِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَنِيَّةِ الْإِعَانَةِ وَالْقِرَى، شَاعَ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَنَحْوِهَا عِنْدَ قَصْدِ الْإِعْرَابِ عَنِ التَّلَطُّفِ وَالتَّكْرِيمِ وَتُنُوسِيَ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى بَذْلِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، فَصَارَ النَّاسُ يَتَقَاوَلُونَهَا فِي غَيْرِ مَظَانِّ الرِّيبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَشَاعَتْ فِي الْعَرَبِ فِي أَحْيَائِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ إِعْرَابٌ عَنْ إِضْمَارِ الْخَيْرِ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ بِالسَّلَامَةِ فِي حَيَاتِهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ [61] وَصَارَ قَوْلُ: السَّلَامُ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ: حَيَّاكَ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوا كَلِمَةَ: (حَيَّاكَ اللَّهُ) بِمُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فَانْتَقَلَتْ كَلِمَةُ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) بِهَذَا إِلَى طَوْرٍ آخَرَ مِنْ أَطْوَارِ اسْتِعْمَالِهَا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ تَحِيَّةً لِلْبَشَرِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْآنُ السَّلَامَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى كَوْنِهِ مُعَامَلَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِكَرَامَةِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ لِلَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى إِذْ أَنْطَقَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ [مَرْيَم: 33] . وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ عَنْ عِيسَى وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَم: 33] ، وَقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:

57، 58] . وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ السَّلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَأَيْضًا أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهَا فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: 56] أَيْ قُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيءُ لِأَنَّ مَادَّةَ التَّفْعِيلِ قَدْ يُؤْتَى بِهَا لِلدَّلَالَةِ على قَول منحوب من صِيغَةِ التَّفْعِيلِ، فَقَوْلُهُ: سَلِّمُوا تَسْلِيماً مَعْنَاهُ: قُولُوا كَلِمَةَ السَّلَامِ. مِثْلَ بَسْمَلَ، إِذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَكَبَّرَ، إِذَا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَفِي الْحَدِيثِ «تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» . وَمَعْنَى وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى إِنْشَاءُ طَلَبٍ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَحَدِ الْمُصْطَفَيْنَ، أَيْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ ذِكْرًا حَسَنًا فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ غَائِبٌ أَوْ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الدُّعَاءُ لَهُ بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَقَدْ أُزِيلَ مِنْهُ مَعْنَى التَّحِيَّةِ لَا مَحَالَةَ وَتَعَيَّنَ لِلدُّعَاءِ، وَلِهَذَا نَهَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسلمين. عَن أَنْ يَقُولُوا فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيءِ السَّلَامُ عَلَى فلَان وَفُلَان. فَقَالَ لَهُمْ «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ» أَيْ لَا مَعْنَى لِلسَّلَامِ عَلَى اللَّهِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَدْعُوُّ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يُطْلَبُ لَهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فَقَدْ عَيَّنَ لَهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لِيَقُولَهَا يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ عِبَادَهُ الَّذِينَ اصْطَفَى بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَحُسْنِ الذِّكْرِ، إِذْ قُصَارَى مَا يَسْتَطِيعُهُ الْحَاضِرُ مِنْ جَزَاءِ الْغَائِبِ عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِ أَنْ يَبْتَهِلَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَنْفَحَهُ بِالْكَرَامَةِ. وَالْعِبَادُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ فِي مُقَدِّمَتِهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا فِي صِيغَةِ التَّشَهُّدِ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ هَذَا مِمَّا أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام أَن يَقُوله فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ

لِأَنَّ الْعِبَادَ الَّذِينَ اصطفاهم الله جاؤوا كُلُّهُمْ بِحَاصِلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَأُمِرَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَمَّا تُشْرِكُونَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَلَا يُفِيضُ النِّعَمَ وَلَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ، فَلَيْسَ هَذَا لِقَصْدِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِلْجَاءِ وَإِلْزَامِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى خَطَئِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ ابْتِدَاءُ النَّظَرِ فِي التَّحْقِيقِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ. فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ فُورَكَ إِنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ أَوَّلُ النَّظَرِ أَوِ الْقَصْدِ إِلَى النَّظَرِ ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَهُ الْأَدِلَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَقَدْ نَاسَبَ إِجْمَالَهُ أَنَّهُ دَلِيلٌ جَامِعٌ لِمَا يَأْتِي مِنَ التَّفَاصِيلِ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ. فَقِيلَ: آللَّهُ خَيْرٌ. وَجِيءَ فِيمَا بَعْدُ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي صِلَاتِهِ مِنَ الصِّفَاتِ. وَجَاءَ خَيْرٌ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِقَصْدِ مُجَارَاةِ مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِحَيْثُ كَانَ لَهُمْ حَظٌّ وَافِرٌ مِنَ الْخَيْرِ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَبَّرَ بِ خَيْرٌ لِإِيهَامِ أَنَّ الْمَقَامَ لِإِظْهَارِ رُجْحَانِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَصْنَامِهِمِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَإِ مَعَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ آثَرُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. وَالْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ إِلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إِلَى إِيثَارِهِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْأَفْضَلِ فِي الْخَيْرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى الْخَطَإِ الْمُفْرِطِ وَالْجَهْلِ الْمُوَرِّطِ لِتَنْفَتِحَ بَصَائِرُهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِنْ أَرَادُوا اهتداء. وَالْمعْنَى: ءَاللَّه الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ أم مَا تشركونهم مَعَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِقَرِينَةِ وُجُودِ أَمِ الْمُعَادِلَةِ لِلْهَمْزَةِ فَإِنَّ التَّهَكُّمَ يُبْنَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ جَمِيعِهَا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ كَمَا سَتَعْلَمُهُ.. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُشْرِكُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ

[سورة النمل (27) : آية 60]

بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى رُوعِيَ فِيهِ غَيْبَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَقَامِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يُشْرِكُونَهَا إِيَّاهُ، أَي أصنامكم. [60] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 60] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ أَوْ لَفْظِهِ بَعْدَهَا لِأَنَّ (أَمْ) لَا تُفَارِقُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. انْتَقَلَ بِهَذَا الْإِضْرَابِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ التَّهَكُّمِيِّ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَمِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ آللَّهُ خَيْرٌ أما تشركون [النَّمْل: 59] ، إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ. عَدَّدَ اللَّهُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَمِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ. فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ لِأَنَّهُ ذكرهم بِخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ فَشَمِلَ ذَلِكَ كُلَّ الْخَلَائِقِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ مِنَ النَّاسِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، فَهُوَ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ إِيجَادِهِمْ وَإِيجَادِ مَا بِهِ قوام شؤونهم فِي الْحَيَاةِ، وَبِسَابِقِ رَحْمَتِهِ، كَمَا عَدَّدَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الرّوم: 40] . وَمن لِلِاسْتِفْهَامِ. وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ جُمْلَةٌ خَلَقَ السَّماواتِ.. إِلَخْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَقْدِيرَ فِي الْكَلَامِ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَمِيعُ مُتَابِعِيهِ إِلَى أَنَّ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ آللَّهُ خَيْرٌ [النَّمْل: 59] وَأَنَّ بَعْدَ (أَمْ) هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةً، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أمّن خلق السَّمَوَات إِلَخْ خَيْرٌ أَمْ مَا تُشْرِكُونَ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ وَلَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ لِأَنَّهُ يكون من جُمْلَةِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» فَلَا يَجْدُرُ بِهِ إِضْرَابُ الِانْتِقَالِ. فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نِهَايَتِهِ فِي أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، فَهُوَ تَقْرِيرٌ

لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْخَالِقَ وَالْمُنْبِتَ وَالرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ كَمَا سَيَأْتِي، أَيْ مِنْ غَرَضِ الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ إِلَى التَّفْصِيلِ. وَالْخِطَابُ بِ لَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْركين للتعريض بِأَنَّهُمْ مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. وَذَكَرَ إِنْزَالَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ، وَلِقَطْعِ شُبْهَةِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمُنْبِتَ لِلشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ رِزْقُنَا هُوَ الْمَاءُ، اغْتِرَارًا بِالسَّبَبِ فَبُودِرُوا بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَهُوَ خَالِقُ الْمُسَبَّبَاتِ بِإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَارِضِ الْعَارِضَةِ لِتَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ وَبِتَوْفِيرِ الْقُوَى الْحَاصِلَةِ فِي الْأَسْبَابِ، وَتَقْدِيرِ الْمَقَادِيرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَسْبَابِ، فَقَدْ يُنْزِلُ الْمَاءَ بِإِفْرَاطٍ فَيَجْرُفُ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ أَوْ يَقْتُلُهُمَا، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَين قَوْله وَأَنْزَلَ وَقَوله فَأَنْبَتْنا تَنْبِيهًا عَلَى إِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. وَنُونُ الْجمع فِي فَأَنْبَتْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ هُنَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْنَادُ الْإِنْبَاتِ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَنْصَرِفَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ إِلَى الْمَاءِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْمُنْبِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ التَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ رِعَايَتِهِمْ نِعَمَهُ. وَالْإِنْبَاتُ: تَكْوِينُ النَّبَاتِ. وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْبُسْتَانُ وَالْجَنَّةُ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ وَعِنَبٌ. سُمِّيَتْ حَدِيقَةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْدِقُونَ بِهَا حَائِطًا يَمْنَعُ الدَّاخِلَ إِلَيْهَا صَوْنًا لِلْعِنَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالنَّخْلِ الَّذِي يَعْسُرُ اجْتِنَاءُ ثَمَرِهِ لِارْتِفَاعِ شَجَرِهِ فَهِيَ بِمَعْنَى: مُحْدَقٌ بِهَا. وَلَا تُطْلَقُ الْحَدِيقَةُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ. وَالْبَهْجَةُ: حُسْنُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّ النَّاظِرَ يَبْتَهِجُ بِهِ. وَمَعْنَى مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَيْسَ فِي مُلْكِكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَ تِلْكَ الْحَدَائِقِ، فَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِلْمِلْكِ وأَنْ تُنْبِتُوا اسْمُ كانَ ولَكُمْ خَبَرُهَا. وَقَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى الِاسْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ مِلْكِ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ هُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَلْقِ

[سورة النمل (27) : آية 61]

وَالرِّزْقِ وَالْإِنْعَامِ لِلَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلٍ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ يَنْتِجُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ مَعَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ تُفِيدُ مَعْنَى (لَكِنَّ) بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْكَارُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ فَكَانَ حَقُّ النَّاسِ أَنْ لَا يُشْرِكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَجِيءَ بِالِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ وَقَوْلُهُ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالدَّلِيلِ مَعَ أَنَّهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، فَهُمْ مُكَابِرُونَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الدَّلِيلِ، فَهُمْ يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ غَيْرَهُ عَدِيلًا مَثِيلًا لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ يَعْدِلُونَ مِنْ عَدَلَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، أَوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ عَدَلَ الَّذِي يُعَدَّى بِ (عَنْ) . وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَنِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: «قَاسِطٌ عَادِلٌ» ، فَظَنُّوهُ أَثْنَى عَلَيْهِ فَبَلَغَتْ كَلِمَتُهُ لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ: أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الْجِنّ: 15] أَيْ وَذَلِكَ قَرِينَةٌ على أَن المرار بِ (عَادِلٌ) أَنَّهُ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ مَعَ وضوح دلَالَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ أَوْضَحَ الدَّلَالَاتِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَصَفَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِأَنَّهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ مُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ مُكَابَرَةٍ عُدُولًا عَنِ الْحَقِّ الْوَاضِحِ قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] . وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِمْ لَمْ يَسْتَنِيرُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَلَا أَقْلَعُوا بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالدَّلَائِلِ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ إِيمَاءٌ إِلَى تَمَكُّنِ صِفَةِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ غير مرّة. [61] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 61] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِثْلُ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ

الْمَشُوبِ بِالِامْتِنَانِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُجَرَّدِ بِدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ وَبِتَدْبِيرِهِ نِظَامَهَا حَتَّى لَا يَطْغَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَيَخْتَلَّ نِظَامُ الْجَمِيعِ. وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِثْبَاتَ عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَحِكْمَةِ الصنع لم يَجِيء خِلَالَهُ بِخِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاء [النَّمْل: 60] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ لَا يَخْلُو مَنْ لُطْفٍ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَرَادَهُ خَالِقُهَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ سَوْقِ الدَّلِيلِ هُنَا. وَالْقَرَارُ: مَصْدَرُ قَرَّ، إِذَا ثَبَتَ وَسَكَنَ. وَوَصَفَ الأَرْض بِهِ للْمُبَالَغَة، أَيْ ذَاتُ قَرَارٍ. وَالْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً قَارَّةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ. وَهَذَا تَدْبِيرٌ عَجِيبٌ وَلَا يُدْرَكُ تَمَامُ هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ سَابِحَةٌ فِي الْهَوَاءِ مُتَحَرِّكَةٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ قَارَّةٌ فِيمَا يَبْدُو لِسُكَّانِهَا فَهَذَا تَدْبِيرٌ أَعْجَبُ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ. وَلَوْلَا قَرَارُهَا لَكَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُتَزَلْزِلِينَ مُضْطَرِبِينَ وَلَكَانَتْ أَشْغَالُهُمْ مُعَنِّتَةً لَهُمْ. وَمَعَ جَعْلِهَا قَرَارًا شَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ فَجَعَلَهَا خِلَالَهَا. وَخِلَالُ الشَّيْءِ: مُنْفَرَجُ مَا بَيْنَ أَجْزَائِهِ. وَالْأَنْهَارُ تَشُقُّ الْأَرْضَ فِي أخاديد فتجري خلال الْأَرْضُ. وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، جَمْعُ رَاسٍ وَهُوَ الثَّابِتُ. وَاللَّامُ فِي لَها لَامُ الْعِلَّةِ، أَيِ الرَّوَاسِي لِأَجْلِهَا أَيْ لِفَائِدَتِهَا، فَإِنَّ فِي تَكْوِينِ الْجِبَالِ حِكْمَة لدفع الملاسة عَنِ الْأَرْضِ لِيَكُونَ سَيْرُهَا فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ مُعَدَّلًا غَيْرَ شَدِيدِ السُّرْعَةِ وَبِذَلِكَ دَوَامُ سَيْرِهَا. وَجَعَلَ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْ بَدِيعِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ حَاجِزٌ مَعْنَوِيٌّ حَاصِلٌ مَنْ دَفْعِ كِلَا الْمَاءَيْنِ: أَحَدِهِمَا الْآخَرَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِهِ، بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الثِّقْلِ النِّسْبِيِّ لِاخْتِلَافِ الْأَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا الْمَاءُ الْمِلْحُ وَالْمَاء العذب. فالحاحز حَاجِزٌ مِنْ طَبَعِهِمَا وَلَيْسَ جِسْمًا آخَرَ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا، وَتقدم فِي سُورَة النَّحْلِ. وَهَذَا الْجَعْلُ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِ الْبَحْرَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَجْزَ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي خَلْقَهُمَا وَخَلْقَ الْمُلُوحَةِ وَالْعُذُوبَةِ فِيهِمَا. ثُمَّ ذَيَّلَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِالِاسْتِدْرَاكِ بِجُمْلَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِمَا ذُيِّلَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ

[سورة النمل (27) : آية 62]

الَّذِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ تَعْدِيدًا لِلْإِنْكَارِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَأُوثِرَ هُنَا نَفْيُ صِفَةِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ لِقِلَّةِ مَنْ يَنْظُرُ فِي دَقَائِقِ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ وَخَصَائِصِهَا مِنْهُمْ فَإِنَّ اعْتِيَادَ مُشَاهَدَتِهَا مَنْ أَوَّلِ نَشْأَةِ النَّاظِرِ يُذْهِلُهُ عَمَّا فِيهَا مِنْ دَلَائِلِ بَدِيعِ الصُّنْعِ. فَأَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي بِمَا فِيهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ نَبَّهَهُمُ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِك فهم يقرأون آيَاتِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِيهَا الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ. وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا تَخْلُو عَنْ نِعْمَةٍ مِنْ وَرَائِهَا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَلَكِنَّهَا سِيقَتْ هُنَا لِإِرَادَةِ الِاسْتِدْلَالِ لَا للامتنان. [62] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 62] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) ارْتَقَى الِاسْتِدْلَالُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالتَّصَرُّفِ الرَّبَّانِيِّ فِي ذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَصَرُّفِهِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الَّتِي لَا يَخْلُو عَنْهَا أَحَدٌ فِي بعض شؤون الْحَيَاةِ وَذَلِكَ حَالُ الِاضْطِرَارِ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ، وَحَالُ انْتِيَابِ السُّوءِ، وَحَالُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ الْأَنْوَاعِ لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَهِيَ: حَالَةُ الِاحْتِيَاجِ، وَحَالَةُ الْبُؤْسِ، وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ. فَالْأُولَى: هِيَ الْمُضَمَّنَةُ فِي قَوْلِهِ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ فَالْمُضْطَرُّ هُوَ ذُو الضَّرُورَةِ أَيِ الْحَالَةِ الْمُحْوِجَةِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْعَسِرَةِ الْحُصُولِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْحَاجِيَّاتِ فَالْمَرْءُ مُحْتَاجٌ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ بِهَا قِوَامُ أَوَدِهِ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِذَاتِهِ مِثْلَ الْأَقْوَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْمَلَابِسِ اللَّازِمَةِ فالمرء يتطلبها بِوُجُوه مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، وَقَدْ يَتَعَسَّرُ بَعْضُهَا وَهِيَ تَتَعَسَّرُ بِقَدْرِ وَفْرَةِ مَنَافِعِهَا وَعِزَّةِ حُصُولِهَا فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهَا. وَالِاضْطِرَارُ: افْتِعَالٌ مِنَ الضَّرُورَةِ لَا مِنَ الضُّرِّ. وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ نَالَتْهُ الضَّرُورَةُ فَطَاوَعَهَا. وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: اضْطَرَّهُ كَذَا إِلَى كَذَا. وَاللَّامُ فِي الْمُضْطَرَّ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ الْمُسَمَّى بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ يُجِيبُ فَرْدًا مَعْهُودًا فِي الذِّهْنِ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ.

وَالْإِجَابَةُ: إِعْطَاءُ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَا لِتَحْصِيلِ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُهُ إِلَّا اللَّهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ يُجِيبُ بَعْضًا وَيُؤَخِّرُ بَعْضًا. وَحَالَةُ الْبُؤْسِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَكْشِفُ السُّوءَ. وَالْكَشْفُ: أَصْلُهُ رَفْعُ الْغِشَاءِ، فَشُبِّهَ السُّوءُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمَضْرُورَ بِغِشَاءٍ يَحُولُ دُونَ الْمَرْءِ وَدُونَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَلَاصِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِالْكَشْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْغِشَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى السُّوءِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يُزِيلُ السُّوءَ. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا أَوْ جَمِيعَهَا حِفْظٌ مِنْ تَطَرُّقِ السُّوءِ إِلَى مُهِمِّ أَحْوَالِ النَّاسِ مِثْلِ الْكُلِّيَّاتِ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعقل، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعِرْضِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمَسُوءِ إِذَا دَعَاهُ أَيْضًا فَحُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، أَيْ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمُسْتَاءِ إِذَا دَعَاهُ. وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ يَقْتَضِي ضَمَانَ الْإِجَابَةِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَنُوطَةٌ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الدَّاعِي وَمَا يَقْتَضِيهِ مُعَارِضُهُ مِنْ أُصُولٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَعْمُرُونَ الْأَرْضَ وَتَجْتَنُونَ مَنَافِعَهَا، فَضَمَّنَ الْخُلَفَاءَ مَعْنَى الْمَالِكِينَ فَأُضِيفَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى تَقْدِيرِ: مَالِكِينَ لَهَا، وَالْمِلْكُ يَسْتَلْزِمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. وَأَفَادَ خُلَفَاءَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ مَعْنَى الْوِرَاثَةِ لِمَنْ سَبَقَ، فَكُلُّ حَيٍّ هُوَ خَلَفٌ عَنْ سَلَفِهِ. وَالْأُمَّةُ خَلَفٌ عَنْ أُمَّةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ نُوحٍ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: 61] . وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ التَّحْسِينِيِّ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ مَا يَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَهُوَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلِمَا اقْتَضَتْهُ الْخِلَافَةُ مِنْ تُجَدِّدِ الْأَبْنَاءِ عَقِبَ الْآبَاءِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَ الْأَجْيَالِ، وَمَا

[سورة النمل (27) : آية 63]

اقْتَضَتْهُ الِاسْتِجَابَةُ وَكَشْفُ السُّوءِ مِنْ كَثْرَةِ الدَّاعِينَ وَالْمُسْتَائِينَ عُبِّرَ فِي أَفْعَالِ الْجَعْلِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْجَعْلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ عَقِبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ تَكْرِيرًا لِمَا تَقَدَّمَ عَقِبَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ زِيَادَةً فِي تَعْدَادِ خَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي حَالِ قِلَّةِ تَذَكُّرِكُمْ، فَتُفِيدُ الْحَالُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ فَهُوَ اسْتِحْضَارُ الْمَعْلُومِ، أَيْ قَلِيلًا اسْتِحْضَارُكُمُ الِافْتِقَارَ إِلَى اللَّهِ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ إِنْعَامِهِ فَتَهْتَدُوا بِأَنَّهُ الْحَقِيقُ بِأَنْ لَا تُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّذَكُّرِ التَّذَكُّرُ الْمُفِيدُ اسْتِدْلَالًا. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ فَاعِلُ قَلِيلًا. وَالْقَلِيلُ هُنَا مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْمَعْدُومِ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ الْمَقْصُودَ مَعْدُومٌ مِنْهُمْ، وَالْكِنَايَةُ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ تَلْمِيحٌ وَتَعْرِيضٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ فَإِنَّ تَذَكُّرَكُمْ قَلِيلٌ. وَأَصْلُ تَذَكَّرُونَ تَتَذَكَّرُونَ فأدغمت تَاء التفعل فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا تَخْفِيفًا وَهُوَ إِدْغَامٌ سَمَاعِيٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نُكْتَةُ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُكَافَحَةً لَهُمْ، وَفِي قِرَاءَةِ رَوْحٍ وَهُشَامٍ نُكْتَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَأْهَلُوا الْإِعْرَاضَ بعد تذكرهم. [63] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 63] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) (بَلْ) لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعِ دَلَائِلِ التَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ إِلَى

[سورة النمل (27) : آية 64]

دَلَائِلِ التَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ الْمُسَافِرِينَ مِنْهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَأَقْدَرُ لِمَا فِي خِلَالِهَا مِنَ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ. ذِكْرُ الْهِدَايَةِ فِي ظُلُمَاتِ اللَّيْلِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَإِضَافَةُ الظُّلُمَاتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى مَعْنَى (فِي) . وَالْهُدَى فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ بِسَيْرِ النُّجُومِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: 97] . فَاللَّهُ الْهَادِي لِلسَّيْرِ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ بِأَنْ خَلَقَ النُّجُومَ عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ لِلْهِدَايَةِ فِي ذَلِكَ، وَبِأَنْ رَكَّبَ فِي النَّاسِ مَدَارِكَ لِلْمَعْرِفَةِ بِإِرْصَادِ سَيْرِهَا وَصُعُودِهَا وَهُبُوطِهَا، وَهَدَاهُمْ أَيْضًا بِمَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَخَوَّلَهُمْ مَعْرِفَةَ اخْتِلَافِهَا بِإِحْسَاسِ جَفَافِهَا وَرُطُوبَتِهَا، وَحَرَارَتِهَا وَبَرْدِهَا. وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أُدْمِجَ الِامْتِنَانُ بِفَوَائِدِ الرِّيَاحِ فِي إِثَارَةِ السَّحَابِ الَّذِي بِهِ الْمَطَرُ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَإِرْسَالُهُ الرِّيَاحَ هُوَ خَلْقُ أَسْبَابِ تَكَوُّنِهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو نَشْراً بِضَمَّتَيْنِ وَبِالنُّونِ. وَقَرَأَهُ ابْن عَامر بالنُّون بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بُشْراً بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِسُكُونِ الشِّينِ مَعَ التَّنْوِينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [48] وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [57] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ هُنَالِكَ. وَذُيِّلَ هَذَا الدَّلِيلُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً لِأَنَّ هَذَا خَاتِمَةُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ فَجِيءَ بَعْدَهُ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ الشِّرْكِ كُلِّهِ وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ التذييلات السَّابِقَة. [64] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 64] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَيَاةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَبِإِعْطَاءِ

الْمَدَدِ لِدَوَامِ الْحَيَاةِ الْأُولَى مُدَّةً مُقَدَّرَةً. وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْإِمْدَادِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ وَأَنَّهُ يَرْزُقُهُمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ الِاسْتِفْهَامِ قَوْلُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ بَدْئِهِ الْخَلْقَ يُلْجِئُهُمْ إِلَى فَهْمِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي أَحَالُوهَا. وَلَمَّا كَانَ إِعَادَةُ الْخَلْقِ مَحَلَّ جَدَلٍ وَكَانَ إِدْمَاجُهَا إِيقَاظًا وَتَذْكِيرًا أُعِيدَ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلِأَنَّ الرِّزْقَ مُقَارَنٌ لِبَدْءِ الْخَلْقِ فَلَوْ عُطِفَ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يَرْزُقُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْإِعَادَةِ فَيَحْسَبُوا أَنَّ رِزْقَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ نِعَمِ آلِهَتِهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ ذُيِّلَتِ الْآيَةُ بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ بِالْإِتْيَانِ بِبُرْهَانٍ عَلَى عَدَمِ الْبَعْثِ. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [174] . وَإِضَافَةُ الْبُرْهَانِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْبُرْهَانَ الْمُعَجَّزِينَ عَلَيْهِ هُوَ بُرْهَانُ عَدَمِ الْبَعْثِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَهَاتُوهُ لِأَنَّ الصَّادِقَ هُوَ الَّذِي قَوْلُهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ. وَالشَّيْءُ الْوَاقِعُ لَا يَعْدِمُ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَجُمَّاعُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ آللَّهُ خَيْرٌ أما تشركون [النَّمْل: 59] أَنَّهَا أَجْمَلَتِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَحْدَهُ ثُمَّ فَصَّلَتْ ذَلِكَ بِآيَاتٍ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَى قَوْلِهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: 60- 64] فَابْتَدَأَتْ بِدَلِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ بُرْهَانِ الْمُشَاهِدَةِ وَهُوَ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا يَأْتِي مِنْهُمَا مِنْ خَيْرٍ لِلنَّاسِ. وَدَلِيلُ كَيْفِيَّةِ خَلْقِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَمَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْهَا، وَهَذَا مُلْحَقٌ بِالْمُشَاهَدَاتِ. وَانْتَقَلَتْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ مِنْ قَبِيلِ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ وَهُوَ مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ اللَّجَإِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. وَانْتَقَلَتْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمَا مَكَّنَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ إِذْ جَعَلَ الْبَشَرَ

[سورة النمل (27) : الآيات 65 إلى 66]

خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ التَّصَرُّفَ بِوُجُوهِ التَّصَارِيفِ الْمُعِينَةِ عَلَى هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَهِيَ تَكْوِينُ هِدَايَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَصُولَ تَصَرُّفَاتِ الْخِلَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الِارْتِحَالِ وَالتِّجَارَة والغزو. وَختم ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِنِعْمَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ وَفِي مَطَاوِيهَا جَوَامِعُ التَّمَكُّنِ فِي الأَرْض. [65- 66] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 65 إِلَى 66] قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) لَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَظَاهِرَةِ فَانْقَطَعَ دَابِرُ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ ثُنِّيَ عِنَانُ الْإِبْطَالِ إِلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ وَهُوَ ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ بِالْكَهَانَةِ وَإِخْبَارِ الْجِنِّ، كَمَا كَانَ يَزْعُمُهُ الْكُهَّانُ وَالْعَرَّافُونَ وَسَدَنَةُ الْأَصْنَامِ. وَيُؤْمِنُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي «مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ» وَغَيْرِهِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ فَمَا كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا لِظَنِّهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ بِوَقْتِهَا من شَأْن النبوءة توصلا لجحد النبوءة إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُمْ وَقْتَ السَّاعَةِ فَأَبْطَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ إِبْطَالًا عَامًّا مِعْيَارُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ أَعْنِي خُصُوصَ الْكُهَّانِ وَسَدَنَةِ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ. وَإِنَّمَا سَلَكَ مَسْلَكَ الْعُمُومِ لِإِبْطَالِ مَا عَسَى أَنْ يُزْعَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعُمُومَ أَكْثَرُ فَائِدَةً وَأَوْجَزُ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ بَيْنِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَالْقَصْدُ هُنَا تَزْيِيفُ آثَارِ الشِّرْكِ وَهُوَ الْكِهَانَةُ وَنَحْوُهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا من أهل السَّمَوَات أَوْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِانْحِصَارِ عَوَالِمِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ فِي قُوَّةِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْغَيْبَ، وَلَكِنْ أُطْنِبَ الْكَلَامُ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَعْمِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ مَقَامَ عِلْمِ الْعَقِيدَةِ مَقَامُ بَيَانٍ يُنَاسِبُهُ الْإِطْنَابُ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا اللَّهُ مِنْهُ لِتَأْوِيلِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى: أَحَدٌ،

فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ. فَحَقَّ الْمُسْتَثْنَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَلِذَلِكَ جَاءَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لَكَانَتِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى تَنْصِبُ الْمُسْتَثْنَى. وَبَعْدُ فَإِنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ وَعَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَوَافِرَةٌ فَلِذَلِكَ يَجْرِي اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى سَنَنِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَوَهَّمُ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا وُقُوفًا عِنْدَ ظَاهِرِ صِلَةِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ اللَّهَ يُنَزَّهُ عَنِ الْحُلُولِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَأَمَّا مَنْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الْغَيْبِ فَذَلِكَ دَاخَلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: 26، 27] . فَأَضَافَ (غَيْبِ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَأَرْدَفَ هَذَا الْخَبَرَ بِإِدْمَاجِ انْتِفَاءِ عِلْمِ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ بَلْ جَحَدُوا وُقُوعَهُ إِثَارَةً لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ لِشِدَّةِ عِنَايَةِ الْقُرْآنِ بِإِثْبَاتِهِ وَتَسْفِيهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ. فَذَلِكَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، أَيْ إِنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ مَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ. وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ وَهُوَ مُعَلَّقُ فِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ وَتَعْيِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَلْهَ شُعُورُهُمْ بِوَقْتِهِ. وبَلِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ وَأَشَدُّ ارْتِقَاءً مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ إِلَى وَصْفِ عِلْمِهِمْ بِالْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْثُ مِنْ أَوَّلِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ عِلْمٌ مُتَدَارَكٌ أَوْ مُدْرَكٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ادَّارَكَ بِهَمْزِ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَدَارَكَ) فَأُدْغِمَتْ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي الدَّال لقرب مخرجيها بَعْدَ أَنْ سَكَنَتْ وَاجْتُلِبَ

هَمْزُ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَشَمِرٌ: وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرَكِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اللَّحَاقُ. وَقَدِ امْتَلَكَتِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ حَيْرَةٌ فِي تَصْوِيرِ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تُثَارُ مِنْهُ حَيْرَةٌ لِلنَّاظِرِ فِي تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْإِضْرَابِ وَكَيْفَ يَكُونَانِ ارْتِقَاءً عَلَى مَضْمُونِ هَذَا الِانْتِقَالِ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا مُثْقَلَةً بِالتَّكَلُّفِ. وَالَّذِي أَرَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ اللُّغَوِيِّ أَنَّ مَعْنَى التَّدَارُكِ هُوَ أَنَّ عِلْمَ بَعْضِهِمْ لَحِقَ عِلْمَ بَعْضٍ آخَرَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ، وَهُوَ جِنْسٌ، لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ مِنْ مَعْنَاهُ عُلُومٌ عَدِيدَةٌ بِعَدَدِ أَصْنَافِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الضَّمِيرِ فَصَارَ الْمَعْنَى: تَدَارَكَتْ عُلُومُهُمْ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَذَلِكَ صَالِحٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ وَهُوَ التَّلَاحُقُ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ، أَيْ تَدَارَكَتْ عُلُومُ الْحَاضِرِينَ مَعَ عُلُومِ أَسْلَافِهِمْ، أَيْ تَلَاحَقَتْ وَتَتَابَعَتْ فَتَلَقَّى الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ عِلْمَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَقَلَّدُوهَا عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا نَظَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَيُشْعِرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّمْل: 67- 68] . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [81] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الِاخْتِلَاطِ وَالِاضْطِرَابِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ وَالتَّلَاحُقَ يَلْزَمُهُ التَّدَاخُلُ كَمَا إِذَا لَحِقَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى أَيْ لَمْ يُرْسُوا عَلَى أَمْرٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمُ اخْتِلَافًا يُؤْذِنُ بِتَنَاقُضِهَا، فَهُمْ يَنْفُونَ الْبَعْثَ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْبَعْثِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَتَزَوَّدُونَ تَارَةً لِلْآخِرَةِ بِبَعْضِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَ الرَّاحِلَةَ عَلَى قَبْرِ صَاحِبِهَا وَيَتْرُكُونَهَا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْبَلِيَّةَ، فَذَلِكَ مِنِ اضْطِرَابِ أَمْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَفِعْلُ الْمُضِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ. وَحَرْفُ (فِي) على هاذين الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ادَّارَكَ مُبَالَغَةً فِي (أَدْرَكَ) وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا

تَقْدِيرُهُ: إِدْرَاكُهُمْ، أَيْ حَصَلَ لَهُمْ عِلْمُهُمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُبْعَثُونَ فِيهِ، أَيْ يَوْمَئِذٍ يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ.. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بَلْ أَدْرَكَ بِهَمْزِ قَطْعٍ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَمَعْنَاهُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. يُقَالُ: أَدْرَكَ، إِذَا فَنِيَ. وَفِي ثُبُوتِ مَعْنَى فَنِيَ لِفِعْلِ أَدْرَكَ خِلَافٌ بَيْنِ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ، فَقَدْ أَثْبَتَهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ فِي رِوَايَةِ شَمِرٍ عَنْهُ قَالَ شَمِرٌ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ لِغَيْرِهِ، وَأَثْبَتَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» . وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَ: أَدْرَكَ الشَّيْءُ إِذَا فَنِيَ. وَأَقُولُ قَدْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ: أَدْرَكَتِ الثِّمَارُ، إِذَا انْتَهَى نُضْجُهَا، وَنَسَبَهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» لِلَّيْثِ وَلِابْنِ جِنِّي وَحَسْبُكَ بِإِثْبَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَثْبَاتِ. قَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «تَبْصِرَةِ الْمُتَذَكِّرِ» : الْمَعْنَى فَنِيَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَدْرَكَتِ الْفَاكِهَةُ، إِذَا بَلَغَتِ النُّضْجَ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِفَنَائِهَا وَزَوَالِهَا. فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَقَدْ تَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مَا يَعْلَمُونَ فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، أَوْ قَدِ اضْطَرَبَ مَا يَعْلَمُونَهُ فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فِي يَوْمِ الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَأَبِي جَعْفَرٍ: مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، أَيْ جَهِلُوا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ. أَمَّا عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَبَلَغَتْ عَشْرًا. وَأَمَّا جُمْلَةٌ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها فَهُوَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ لِلِارْتِقَاءِ مِنْ كَوْنِهِمُ اضْطَرَبَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَقَلَّدَ خَلَفُهُمْ مَا لَقَّنَهُ سَلَفُهُمْ، أَوْ مِنْ أَنهم انْتَفَى عَمَلهم فِي الْآخِرَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاضْطِرَابَ فِي الْعِلْمِ قَدْ أَثَارَ فِيهِمْ شَكًّا مِنْ وُقُوعِ الْآخِرَةِ. وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ فِي شكّ ناشىء عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ وَدَوَامِهِ، وَالظَّرْفِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الشَّكِّ بِهِمْ.

وَجُمْلَةُ بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ارْتِقَاءٌ ثَالِثٌ وَهُوَ آخِرُ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ فِي إِثْبَاتِ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عُمْيَانٌ عَنْ شَأْنِ الْآخِرَةِ. وعَمُونَ: جَمْعُ عَمٍ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ فَعِلٌ مِنَ الْعَمَى، صَاغُوا لَهُ مِثَالَ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعَمَى، وَهُوَ تَشْبِيهُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعَمَى، وَعَادِمُ الْعِلْمِ بِالْأَعْمَى. وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ فَشَبَّهَ ضَلَالَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ بِالْعَمَى فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها عَمُونَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، جَعَلَ عَمَاهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْآخِرَة كَأَنَّهُ ناشىء لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ إِذْ هِيَ سَبَبُ عَمَاهُمْ، أَيْ إِنْكَارُهَا سَبَبُ ضَلَالِهِمْ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهَا عَمُونِ، فَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ عَمُونَ. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْإِضْرَابَاتِ الثَّلَاثَةِ تَرْتِيبٌ لِتَنْزِيلِ أَحْوَالِهِمْ فَوُصِفُوا أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ الْبَعْثِ ثُمَّ بِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوا فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْث من شؤونها عِلْمًا مُضْطَرِبًا أَوْ جَهْلًا فَخَبَطُوا فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ، فَأَعْقَبَهُمْ عَمًى وَضَلَالَةٌ بِحَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الِانْتِقَالَاتِ مُنْدَرِجَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا فَهُمْ مِنْهَا عَمُونَ لَحَصَلَ الْمُرَادُ. وَلَكِنْ جَاءَتْ طَرِيقَةُ التَّدَرُّجِ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ أَجْزَلَ وَأَبْهَجَ وَأَرْوَعَ وَأَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِه الْأَحْوَال المترتبة جَدِيرٌ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمُعْتَبِرُ بِاسْتِقْلَالِهِ لَا بِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ادَّارَكَ مِنْ خَفَاءِ تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ الْإِضْرَابِ الْأَوَّلِ. وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ يَشْعُرُونَ، ويُبْعَثُونَ، عِلْمُهُمْ، هُمْ فِي شَكٍّ، هُمْ مِنْها عَمُونَ عَائِدَةٌ إِلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.

[سورة النمل (27) : الآيات 67 إلى 68]

وَ (مَنْ) هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَالضَّمَائِرُ الْمَذْكُورَةُ عَائِدَةٌ إِلَيْهَا بِتَخْصِيصِ عُمُومِهَا بِبَعْضِ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُمُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مِنَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَسَدَنَةِ الْأَصْنَامِ الَّذِينَ يَسْتَقْسِمُونَ لِلنَّاسِ بِالْأَزْلَامِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَفْظِيٌّ مِنْ دَلَالَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُخَصَّصِ الْمُنْفَصِلِ اللَّفْظِيِّ. وَالْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي اعْتِبَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا لَفْظِيًّا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّ ضَمِيرَ بُعُولَتُهُنَّ عَائِدٌ إِلَى الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: 228] الَّذِي هُوَ عَامُّ لِلرَّجْعِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا [النَّمْل: 67] هُنَا لَيْسَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعم من مَا صدق (مِنْ) فِي قَوْلِهِ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ. [67- 68] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 67 إِلَى 68] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) أَعْقَبَ وَصْفَ عَمَايَةِ الزَّاعِمِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ بِذِكْرِ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي أَرَتْهُمُ الْبَعْثَ مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ، وَلِذَلِكَ أَسْنَدَ الْقَوْلَ هُنَا إِلَى جَمِيعِ الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ خُصُوصِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ الْغَيْب، وَلذَلِك عطفت الْجُمْلَةَ لِأَنَّهَا غَايَرَتِ الَّتِي قَبْلَهَا بِأَنَّهَا أَعَمُّ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ قَوْلِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهِيَ مَا أَفَادَتْهُ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَقَالُوا بكفرهم أإذا كُنَّا تُرَابًا.. إِلَى آخِرِهِ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. أَتَوْا بِالْإِنْكَارِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِتَجْهِيلِ مُعْتَقِدِ ذَلِكَ وَتَعْجِيزِهِ عَنِ الْجَوَابِ بِزَعْمِهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنْ لِمُجَارَاةِ كَلَامِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ. وَالتَّأْكِيدُ تَهَكُّمٌ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِذا كُنَّا تُراباً بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ هَمْزَةِ (إِذَا) عَلَى تَقْدِيرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ لِلتَّخْفِيفِ مِنِ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ، أَوْ بِجَعْلِ (إِذَا) ظَرْفًا مُقَدَّمًا عَلَى عَامِلِهِ وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بهمزتين فِي أَإِذا- وأَ إِنَّا عَلَى اعْتِبَارِ تَكْرِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الثَّانِيَةِ لِتَأْكِيدِ الْأُولَى، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو خَفَّفَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْهَمْزَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَعَاصِمًا وَحَمْزَةَ حَقَّقَاهُمَا. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ حَذَفُوا نون الْمُتَكَلّم المشارك تَخْفِيفًا من الثّقل النَّاشِئ من وُقُوع نُونَ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ (إِنَّ) . وَقَرَأَ ابْنُ عَامر وَالْكسَائِيّ أَإِذا بِهَمْزَتَيْنِ وإننا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِنُونَيْنِ اكْتِفَاءً بِالْهَمْزَةِ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ، وَكُلُّهَا اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ حِكَايَةُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْأَوَّلَ وَقَعَ مُؤَخَّرًا عَنْ نَحْنُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [83] وَوَقَعَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ هُنَا، وَتَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ وُعِدْنا وَقَعَ بَعْدَ نَائِبِ الْفَاعِلِ فِي الْآيَتَيْنِ. وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَقْدِيمِهِ عَلَى تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْوَاقِعِ نَائِبًا عَلَى الْفَاعِلِ. وَقَدْ نَاطَهَا فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ التَّقْدِيمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّمَ هُوَ الْغَرَضُ الْمُعْتَمَدُ بِالذِّكْرِ وَبِسَوْقِ الْكَلَامِ لِأَجْلِهِ. وَبَيَّنَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ بِوَضْعِ الْمَنْصُوبِ بَعْدَ الْمَرْفُوعِ وَذَلِكَ مَوْضِعُهُ. وَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَرْفُوعِ لِكَوْنِهِ فِيهَا أَهَمَّ، يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا وَالَّذِي قَبْلَ آيَةِ سُورَة الْمُؤمنِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً [الْمُؤْمِنُونَ: 82] فَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَاكَ (فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ) هِيَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ تُرَابًا وَعِظَامًا، وَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ هِيَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ وَكَوْنُ آبَائِهِمْ تُرَابًا لَا جُزْءَ هُنَاكَ مِنْ بِنَاهُمْ (جَمْعُ بِنْيَةٍ) عَلَى- أَيْ بَاقِيًا- صُورَةِ نَفْسِهِ (أَيْ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَهُوَ حَيٌّ) . وَلَا شُبْهَةَ أَنَّهَا أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي تَبْعِيدِ الْبَعْثِ فَاسْتَلْزَمَ زِيَادَةَ الِاعْتِنَاءِ بِالْقَصْدِ إِلَى ذِكْرِهِ فَصَيَّرَهُ هَذَا الْعَارِضُ أَهَمَّ اه. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ حَكَتْ أُسْلُوبًا مِنْ مَقَالِهِمْ بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ ... قالُوا أَإِذا مِتْنا [الْمُؤْمِنُونَ: 81، 82] لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا.

[سورة النمل (27) : آية 69]

وَبَعْدُ فَقَدْ حَصَلَ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ، وَهِيَ الْقِصَّةُ وَالْحِكَايَةُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [24] . وَالْمَعْنَى: مَا هَذَا إِلَّا كَلَامٌ مُعَادٌ قَالَهُ الْأَوَّلُونَ وَسَطَرُوهُ وَتَلَقَّفَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَقَعْ شَيْء مِنْهُ. [69] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 69] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَلِذَلِكَ فَصَلَ فِعْلَ قُلْ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [11] . وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هِيَ الْمَوْعِظَةُ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ تَكْذِيبٌ لِلرَّسُولِ وَإِجْرَامٌ. وَالْوَعِيدُ بِأَن يصيبهم مثل مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنَّهَا هُنَالِكَ عُطِفَتْ بِ ثُمَّ انْظُرُوا وَهُنَا بِالْفَاءِ فَانْظُرُوا وَهُمَا مُتَئَايِلَانِ. وَذَكَرَ هُنَالِكَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الْأَنْعَام: 11] وَذَكَرَ هُنَا عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ: وَالْمُكَذِّبُونَ مُجْرِمُونَ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحِكَايَتَيْنِ لِلتَّفَنُّنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقدمَة السَّابِعَة. [70] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 70] وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) كَانَتِ الرَّحْمَةُ غَالِبَةً عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّفَقَةُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ خِلَالِهِ، فَلَمَّا أُنْذِرَ الْمُكَذِّبُونَ بِهَذَا الْوَعِيدِ تَحَرَّكَتِ الشَّفَقَةُ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَبَطَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِهَذَا التَّشْجِيعِ أَنْ لَا يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ إِذَا أَصَابَهُمْ مَا أُنْذِرُوا بِهِ. وَكَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِرْصُهُ عَلَى إِقْلَاعِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِهِ وَالْمَكْرِ بِهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي رُوعِهِ رِبَاطَةَ جَاشٍ بِقَوْلِهِ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. وَالضَّيْقُ: بِفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْكَسْرِ. وَحَقِيقَتُهُ: عَدَمُ كِفَايَةِ الْمَكَانِ أَوِ الْوِعَاءِ لِمَا يُرَادُ حُلُولُهُ فِيهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْحَالَةِ

[سورة النمل (27) : الآيات 71 إلى 72]

الْحَرِجَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ كَرَاهِيَةِ شَيْءٍ فَيُحِسُّ الْمَرْءُ فِي مَجَارِي نَفَسِهِ بِمِثْلِ ضَيْقٍ عَرَضَ لَهَا. وَإِنَّمَا هُوَ انْضِغَاطٌ فِي أَعْصَابِ صَدْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [127] . وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ لَا تَكُنْ مُلْتَبِسًا وَمَحُوطًا بِشَيْءٍ مِنَ الضَّيْقِ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ. وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [54] . وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ من مَكْرهمْ. [71- 72] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 71 إِلَى 72] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) عَطْفٌ عَلَى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً [النَّمْل: 67] . وَالتَّعْبِيرُ هُنَا بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْعِقَابِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ زَمَانِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَهَكُّمٍ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ أَطْلَعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ. وَالْجَوَابُ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيم بِحمْل استفهامهم عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَن وَقت الْوَعيد ليتقدموه بِالْإِيمَانِ. وعَسى لِلرَّجَاءِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيبِ مَعَ التَّحْقِيقِ. ورَدِفَ تَبِعَ بِقُرْبٍ. وَعُدِّيَ بِاللَّامِ هُنَا مَعَ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّعْدِيَةِ بِنَفْسِهِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى (اقْتَرَبَ) أَوِ اللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ مِثْلَ شَكَرَ لَهُ. وَالْمَعْنَى: رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَرِيبَ الزَّمَنِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.

[سورة النمل (27) : آية 73]

وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَسْتَعْجِلُونَ أَيْ تَسْتَعْجِلُون بِهِ. [73] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 73] وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) مَوْقِعُ هَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النَّمْل: 72] أَيْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا خَبَرٌ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَعِيدِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ أَزْمِنَةَ التَّأْخِيرِ أَزْمِنَةُ إِمْهَالٍ فَهُمْ فِيهَا بِنِعْمَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَدْ كُنَّا قَدَّمْنَا مَسْأَلَةَ أَنَّ نِعْمَةَ الْكَافِرِ نِعْمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَيْسَتْ نِعْمَةً وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ. وَالتَّعْبِير ب لَذُو فَضْلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفضل من شؤونه. وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَاللَّامِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ النَّاسِ لَا إِلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالتَّأْكِيدُ وَاقع موقع التَّعْرِيض بِهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ. ولَكِنَّ اسْتِدْرَاك ناشىء عَنْ عُمُومِ الْفَضْلِ مِنْهُ تَعَالَى فَإِنَّ عُمُومَهُ وَتَكَرُّرَهُ يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ فَيَشْكُرُوهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ كَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مَتى هذَا الْوَعْدُ [النَّمْل: 71] فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ تَهَكُّمًا وَتَعْجِيزًا فِي زَعْمِهِمْ غَيْرَ قَادِرِينَ قدر نعْمَة الْإِمْهَال. [74] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 74] وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) مَوْقِعُ هَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النَّمْل: 73] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ أَضْمَرُوا الْمَكْرَ وَأَعْلَنُوا الِاسْتِهْزَاءَ فَحَالُهُمْ لَا يَقْتَضِي إِمْهَالَهُمْ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي صُدُورِهِمْ وَمَا أَعْلَنُوهُ وَأَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا.

[سورة النمل (27) : آية 75]

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُكِنُّونَ أَشْيَاءَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، مِنْهَا: أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَأَنَّهُمْ تُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ خَوَاطِرُ إِخْرَاجِهِ وَإِخْرَاجِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ لَمَّا كَانَ ذَا جِهَةٍ مِنْ مَعْنَى وَصْفِ اللَّهِ بإحاطة الْعلم عطفت جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ اللَّهِ بِالْفَضْلِ، فَحَصَلَ بِالْعَطْفِ غَرَض ثَان مِنْهُم، وَحَصَلَ مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا التَّوْكِيدُ بِ إِنَّ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ لِتَنْزِيلِ السَّائِلِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ وَذَلِكَ تَلْوِيحٌ بِالْعِتَابِ. وتُكِنُّ تُخْفِي وَهُوَ مِنْ (أَكَنَّ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا كَانًّا، أَيْ حَاصِلًا فِي كِنٍّ. وَالَكِنَّ: الْمَسْكَنُ. وَإِسْنَادُ تُكِنُّ إِلَى الصُّدُورِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصُّدُورَ مَكَانَهُ. والإعلان: الْإِظْهَار. [75] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 75] وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [النَّمْل: 74] . وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهَا ذُكِرَ مِنْهَا عِلْمُ اللَّهِ بِضَمَائِرِهِمْ فَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَإِنَّمَا جَاءَ مَعْطُوفًا لِأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالِاسْتِقْلَالِ بِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْلِيمٌ لِصِفَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ لِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَالْغَائِبَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْغَائِبِ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ كَالتَّاءِ فِي الْعَافِيَةِ، وَالْعَاقِبَةِ، وَالْفَاتِحَةِ. وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَيْبِ وَهُوَ ضِدُّ الْحُضُورِ، وَالْمُرَادُ: الْغَائِبَةُ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ. اسْتَعْمَلَ الْغَيْبَ فِي الْخَفَاءِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَالْكِتَابُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْكِتَابُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحَقُّقِ وَعَدَمِ قَبُولِ التَّغْيِيرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا غَيْبِيًّا يُسَجَّلُ فِيهِ مَا سَيَحْدُثُ. وَالْمُبِينُ: الْمُفَصَّلُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُفَصَّلَ يَكُونُ بَيِّنًا وَاضِحًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ حَقِيقَةُ شَيْءٍ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا

[سورة النمل (27) : آية 76]

يَتَلَقَّاهُ الرُّسُلُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ الْحَدِيثُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَكَذَّبُوا بِمَا جَاءَ فِيهِ. [76] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 76] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّمْل: 68] . وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ بِقَوْلِهِ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النَّمْل: 75] ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّ مَا فِيهِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقُّ إِذَا بَلَغَتِ الْأَفْهَامُ إِلَى إِدْرَاكِ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الدَّلَالَةِ الَّتِي أُصُولُهَا فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْقِيقِ أُمُورِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْغَابِرَةِ مِمَّا خَبَطَتْ فِيهِ كُتُبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَبْطًا مِنْ جَرَّاءِ مَا طَرَأَ عَلَى كُتُبِهِمْ مِنَ التَّشَتُّتِ وَالتَّلَاشِي وَسُوءِ النَّقْلِ مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ فِي عُصُورِ انْحِطَاطِ الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَلِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأُصُولِ الصَّرِيحَةِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِمَّا يَكْشِفُ سُوءَ تَأْوِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَلِمَاتِ كِتَابِهِمْ فِي مُتَشَابِهِ التَّجْسِيمِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ مَا يُسَاوِي قَوْلَهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . فَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْلِيمٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا قَصَّ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مَا اخْتَلَفُوا وَهُوَ مَا فِي بَيَانِ الْحَقِّ مِنْهُ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْرَضَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِكْمَالُ نَوَاحِي هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلْأُمَمِ فَإِنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِأَنَّهُ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يَعْمَهُونَ فِي ضَلَالِهِمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَدْيِهِ. فَاسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَدْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَا يُهِمُّ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ. وَأَكْثَرُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هُوَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِيمَا يَقْتَضِي إِرْشَادُهُمْ إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُبَيَّنَ لَهُمْ، وَغَيْرُ

[سورة النمل (27) : آية 77]

الْأَكْثَرِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِي بَيَانِهِ لَهُمْ. وَمِنْ مُنَاسَبَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ مَا هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، أَنَّ مَا قَصَّهُ مِمَّا جَرَى بَيْنَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مَعَ سُلَيْمَانَ كَانَ فِيهِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا فِي كِتَابِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ وَكِتَابِ الْأَيَّامِ الثَّانِي فَفِي ذَيْنِكَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ مَلِكَةَ سَبَأٍ تَحَمَّلَتْ وَجَاءَتْ إِلَى أُورَشْلِيمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا مَحَبَّةً مِنْهَا فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا بَلَغَ مَسَامِعَهَا مِنْ عَظَمَةِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهَا بَعْدَ ضِيَافَتِهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ قَفَلَتْ إِلَى مَمْلَكَتِهَا. وَلَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ وَشَوَاهِدِ التَّارِيخِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ أَنَّ مَلِكَةً عَظِيمَةً كَمَلِكَةِ سَبَأٍ تَعْمِدُ إِلَى الِارْتِحَالِ عَنْ بَلَدِهَا وَتَدْخُلُ بَلَدَ مَلِكٍ آخَرَ غَيْرَ هَائِبَةٍ، لَوْلَا أَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً إِلَى ذَلِكَ بِسِيَاسَةِ ارْتِكَاب أخف الضررين إِذْ كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَلْزَمَهَا بِالدُّخُولِ فِي دَائِرَةِ نُفُوذِ مُلْكِهِ، فَكَانَ حُضُورهَا لَدَيْهِ استسلاما وَاعْتِرَافًا لَهُ بِالسِّيَادَةِ بَعْدَ أَنْ تَنَصَّلَتْ مِنْ ذَلِكَ بِتَوْجِيهِ الْهَدِيَّةِ وَبَعْدَ أَنْ رَأَتِ الْعَزْمَ مِنْ سُلَيْمَان على وجوب امْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ إِهْمَالُ كِتَابِ الْيَهُودِ دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ بِلْقِيسَ إِلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَهل يظنّ بِنَبِي أَنْ يُقِرَّ الشِّرْكَ على منتحليه. [77] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 77] وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي طَالِعِ السُّورَةِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: 2] ذُكِرَ هُنَا لِاسْتِيعَابِ جِهَاتِ هَدْيِ الْقُرْآنِ. أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا اهْتَدَوْا بِهِ قَدْ نَالُوا الْفَوْزَ فِي الدُّنْيَا بِصَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ أَعْمَالِهِمْ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ. وَالرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فِي سُورَة [الْأَنْبِيَاء: 107] فَرَحْمَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أخص. والتأكيد بإن مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمَعْرِضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النَّمْل: 73] .

[سورة النمل (27) : آية 78]

[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 78] إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) لَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ بِطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ، وَذِكْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا يَقْتَضِي طَعْنَهُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ لِمُخَالَفَةٍ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً فَهُمْ مُوقِنُونَ بِمَا فِيهِ، تَمَخَّضَ الْكَلَامُ عَنْ خُلَاصَةٍ هِيَ افْتِرَاقُ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ طَاعِنٍ، وَفَرِيقٍ مُوقِنٍ، فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ حُدُوثَ تَدَافُعٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهُوَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ مَدَى هَذَا التَّدَافُعِ، وَالتَّخَالُفِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَمَتَى يَنْكَشِفُ الْحَقُّ، فَجَاءَ قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْتَضِي مُخْتَلِفِينَ. وَأَنَّ كَلِمَةَ (بَيْنَ) تَقْتَضِي مُتَعَدِّدًا، فَأَفَادَ أَنَّ اللَّهَ يَقْضِي بَين الْمُؤمنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالطَّاعِنِينَ فِيهِ قَضَاءً يُبَيِّنُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِبْطَائِهِمُ النَّصْرَ فَإِنَّ النَّبِيءَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ فَالْقَضَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَضَاء لَهُ بادىء ذِي بَدْءٍ. وَفِيهِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى جَنَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْنَادُ الْقَضَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي شَأْنِهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبٌّ لَهُ إِيمَاءٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ مُرْضِيًا لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَجُعِلَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَقَامِ الْمُبَلِّغِ وَجُعِلَ الْقَضَاءُ بَيْنَ أُمَّتِهِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَتَعْجِيلٌ لِمَسَرَّةِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْإِيمَاء. وَإِذا قَدْ أُسْنِدَ الْقَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ غَيْرَ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ وَذَلِكَ يلجيء: إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ بِمَا يُخَالِفُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْقَضَاءِ إِذَا اعْتبر اللفظان مترادين لَفْظًا وَمَعْنًى، فَيَكُونُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقْصُودًا بِهِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ الْمُضَافُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُلَّ يَعْلَمُونَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْعَدْلُ وَلِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ رَبَّكَ. يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْمَعْرُوفِ الْمُشْتَهَرِ اللَّائِقِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ وَاطِّرَادِ عَدْلِهِ. وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاء: 79] وَقَالَ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى حَاكِمًا وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا نَبِيئًا فَيَكُونُ

[سورة النمل (27) : آية 79]

الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحِكْمَتِهِ، أَيْ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، أَيْ مِنْ نَصْرِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ. وَمَآلُ التَّأْوِيلَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَبِهِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ فِي تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، فَإِنَّ الْعَزِيزَ لَا يُصَانِعُ، وَالْعَلِيمَ لَا يَفُوتُهُ الْحَقُّ، وَيَظْهَرُ حسن موقع التفريغ بقوله: [79] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 79] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) فُرِّعَتِ الْفَاءُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ رَبَّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْضِي بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ أَمْرًا لِلرَّسُولِ بِأَنْ يَطْمَئِنَّ بَالًا وَيَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِيمَا يَقْضِي بِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِحَقِّهِ، وَعَلَى مُعَانِدِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، فَالْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي كِنَايَتِهِ وَصَرِيحِهِ فَإِنَّ مِنْ لَازِمِهِ أَنَّهُ أَدَّى رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ تَقْصِيرًا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ مَعْنًى تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآن كَقَوْلِه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الْكَهْف: 6] وَقَوْلِهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: 70] . وَالتَّوَكُّلُ: تَفَعَّلٌ مِنْ وَكَّلَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، إِذَا أَسْنَدَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَهُ وَمُبَاشَرَتَهُ، فَالتَّفَعُّلُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [159] ، وَقَوْلِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا فِي الْمَائِدَةِ [23] وَقَوْلِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [11] . وَقَدْ وَقَعَتْ جُمْلَةُ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ مَوْقِعًا لَمْ يُخَاطِبِ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ بِمِثْلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِرَسُولِهِ بِالْعَظَمَةِ الْكَامِلَةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ عَلَى مِنَ التَّمَكُّنِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَقِّ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ مُبِينٍ مِنَ الْوُضُوحِ وَالنُّهُوضِ. وَجَاءَتْ جُمْلَةُ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ مَجِيءَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَلَا يَتَرَقَّبُ مِنْ تَوَكُّلِهِ عَلَى الْحَكَمِ الْعَدْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ

[سورة النمل (27) : آية 80]

فِي تَأْيِيدِهِ وَنَفْعِهِ. وَشَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاءِ فَلَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا وَلَكِنَّهَا لِلِاهْتِمَامِ. وَجِيءَ فِي فِعْلِ التَّوَكُّلِ بِعُنْوَانِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ يَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ الْكَمَالِ كُلَّهَا، وَمِنْ أَعْلَاهَا الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ وَنَصْرُ الْمُحِقِّ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَجَّلَتْ مَسَرَّةُ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِسْنَادِهِ الْقَضَاءَ إِلَى عُنْوَانِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ اقْتَضَاهُ وُجُودُ مُقْتَضِي جَلْبِ حَرْفِ التَّوْكِيدِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ فَلَا يُفِيدُ التَّقْدِيمُ تَخْصِيصًا وَلَا تَقَوِّيًا. والْمُبِينِ: الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِامْتِرَاءُ فِيهِ وَلَا الْمُصَانَعَةُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يَثِقَ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ حَقَّهُ وَلَوْ بعد حِين. [80] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 80] إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يَخْطُرُ فِي بَالِ السَّامِعِ عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] مِنَ التَّسَاؤُلِ عَنْ إِعْرَاضِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَهُوَ أَيْضًا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَدْلُولِهِ الْكِنَائِيِّ، فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ فِيهِ كَمَوْقِعِهِ فِي التَّعْلِيلِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَهَذَا عُذْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ، وَلِكَوْنِهِ تَعْلِيلًا لِجَانِبٍ مِنَ التَّرْكِيبِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْكِنَائِيُّ غَيْرَ الَّذِي عُلِّلَ بِجُمْلَةِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِالتَّعْلِيلِ. وَالْإِسْمَاعُ: إِبْلَاغُ الْكَلَامِ إِلَى الْمَسَامِعِ. والْمَوْتى والصُّمَّ: مُسْتَعَارَانِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ الْقَوْلَ الْحَقَّ وَيُكَابِرُونَ مَنْ يَقُولُهُ لَهُمْ. شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ فِي انْتِفَاءِ فَهْمِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ،

وَشُبِّهُوا بِالصُّمِّ كَذَلِكَ فِي انْتِفَاءِ أَثَرِ بَلَاغَةِ أَلْفَاظِهِ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَلِلْقُرْآنِ أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَقْبُولَةِ لَدَى أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَهِيَ الْمَعَانِي الَّتِي يُدْرِكُهَا وَيُسَلِّمُ لَهَا مَنْ تَبْلُغُ إِلَيْهِ وَلَو بطرِيق التَّرْجَمَةِ بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهَا الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ وَهَذَا أَثَرٌ عَقْلِيٌّ. وَالْأَثَرُ الثَّانِي: دَلَالَةُ نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَن مقدرَة بلغاء الْعَرَبِ. وَهَذَا أَثَرٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ دَلِيلُ الْإِعْجَازِ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْعَرَبِ مُبَاشَرَةً، وَحَاصِلٌ لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إِذَا تَدَبَّرُوا فِي عَجْزِ الْبُلَغَاءِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَهَؤُلَاءِ يُوقِنُونَ بِأَنَّ عَجْزَ بُلَغَاءِ أَهْلِ ذَلِك اللِّسَان عَن مُعَارَضَتِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ مَقْدِرَتِهِمْ فَالْمُشْرِكُونَ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَثَرِ الْأَوَّلِ، وَشُبِّهُوا بِالصُّمِّ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَثَرِ الثَّانِي، فَحَصَلَتِ اسْتِعَارَتَانِ. وَنَفْيُ الْإِسْمَاعِ فِيهِمَا تَرْشِيحَانِ لِلِاسْتِعَارَتَيْنِ وَهُمَا مُسْتَعَارَانِ لِانْتِفَاءِ مُعَالَجَةِ إِبْلَاغِهِمْ. وَلِأَجْلِ اعْتِبَارِ كِلَا الْأَثَرَيْنِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ وُرُودُ تَشْبِيهَيْنِ كُرِّرَ ذِكْرُ التَّرْشِيحَيْنِ فَعُطِفَ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ عَلَى لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا الصُّمَّ. وَتَقْيِيدُ الصُّمِّ بِزَمَانِ تَوَلِّيهِمْ مُدْبِرِينَ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَوْغَلُ فِي انْتِفَاءِ إِسْمَاعِهِمْ لِأَنَّ الْأَصَمَّ إِذَا كَانَ مُوَاجِهًا لِلْمُتَكَلِّمِ قَدْ يَسْمَعُ بَعْضَ الْكَلَامِ بِالصُّرَاخِ وَيَسْتَفِيدُ بَقِيَّتَهُ بحركة الشفتين، فَأَما إِذا ولى مُدبرا فقد ابتعد عَن الصَّوْت وَلم يُلَاحظ حَرَكَة الشَّفَتَيْنِ فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُ عَنِ السَّمْعِ. وَاسْتَدَلَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ ظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ وَفِيهِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَالَ: هَلْ وجدْتُم مَا وعد رَبُّكُمْ حَقًّا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله أتنادي أمواتنا فَقَالَ: إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ» . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ ثُمَّ قَرَأَتْ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ.

[سورة النمل (27) : آية 81]

وَهَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الدَّلَالَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ مَرْجُوحٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَوْتَى هُنَا اسْتِعَارَةٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَضَمِيرَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ عَائِدَانِ إِلَى الصُّمِّ، وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِلتَّشْبِيهِ حَيْثُ شُبِّهُوا فِي عَدَمِ بُلُوغِ الْأَقْوَالِ إِلَى عُقُولِهِمْ بِصُمٍّ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ يَبْعُدُ عَنْ مَكَانِ مَنْ يُكَلِّمُهُ فَكَانَ أَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ كَمَا تقدم آنِفا. [81] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 81] وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ. كَرَّرَ تَشْبِيهَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بِأَنْ شُبِّهُوا فِي ذَلِكَ بِالْعُمْيِ بَعْدَ أَنْ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى وَبِالصُّمِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ إِطْنَابًا فِي تَشْنِيعِ حَالِهِمُ الْمَوْصُوفَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ فِي تَكْرِيرِ التَّشْبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] . وَحَسَّنَ هَذَا التَّكْرِيرَ هُنَا مَا بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ مِنَ الْفُرُوقِ مَعَ اتِّحَادِ الْغَايَةِ فَإِنَّهُمْ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى فِي انْتِفَاءِ إِدْرَاكِ الْمَعَانِي الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ الْعُقَلَاءُ، وَبِالصُّمِّ فِي انْتِفَاءِ إِدْرَاكِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ الَّذِي يَضْطَلِعُ بِهِ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ. وَشُبِّهُوا ثَالِثًا بِالْعُمْيِ فِي انْتِفَاءِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ طَرِيقِ الْهُدَى وَطَرِيقِ الضَّلَالِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا هَدْيَ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ انْتِفَاءُ اتِّبَاعِهِمُ الْإِسْلَامَ فَفِي تَشْبِيهِهِمْ بِالْعُمْيِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَنَفْيُ إِنْقَاذِهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَبْلُغُ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ بِوَصْفِ الْوَاصِفِ. وَالْهُدَى: الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقِ السَّائِرِ بِأَنْ يَصِفَهُ لَهُ فَيَقُولُ مَثَلًا: إِذَا بَلَغْتَ الْوَادِيَ فَخُذِ الطَّرِيقَ الْأَيْمَنَ. وَالَّذِي يَسْلُكُ بالقوافل مسالك الطّرق يُسَمَّى هَادِيًا. وَالتَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ يُسَمَّى اهْتِدَاءً. وَهَذَا التَّرْشِيحُ هُوَ أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ لِلنَّاسِ، وَالْأَعْمَى غَيْرُ قَابِلٍ لِلْهِدَايَةِ بِالْحَالَتَيْنِ حَالَةِ الْوَصْفِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ، وَحَالَةِ الِاقْتِيَادِ فَإِنَّ الْعَرَبَ لم يَكُونُوا يَأْخُذُونَ الْعُمْيَ مَعَهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُعَرْقِلُونَ عَلَى الْقَافِلَةِ سَيْرَهَا.

وَقَوْلُهُ عَنْ ضَلالَتِهِمْ يَتَضَمَّنُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً قَرِينَتُهَا حَالِيَّةٌ. شَبَّهَ الدِّينَ الْحَقَّ بِالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ، وَإِسْنَادُ الضَّلَالَةِ إِلَى سَالِكِيهِ تَرْشِيحٌ لَهَا وَتَخْيِيلٌ، وَالضَّلَالَةُ أَيْضًا مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ تَبَعًا لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ، وَضَمِيرُ ضَلالَتِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْعُمْيِ، وَلِتَأَتِّي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الرَّشِيقَةِ عُدِلَ عَنْ تَعْلِيقِ مَا حَقُّهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِالْهَدْيِ فَعُلِّقَ بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ نَفْيُ الْهَدْيِ من معنى الصَّرْفِ وَالْمُبَاعَدَةِ. فَقِيلَ عَنْ ضَلالَتِهِمْ بِتَضْمِينِ هَادِي مَعْنَى صَارِفٍ. فَصَارَ: مَا أَنْت بهاد، بِمَعْنَى: مَا أَنْتَ بِصَارِفِهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ كَمَا يُقَالُ: سَقَاهُ عَنِ الْعَيْمَةِ، أَيْ سَقَاهُ صَارِفًا لَهُ عَنِ الْعَيْمَةِ، وَهِيَ شَهْوَةُ اللَّبَنِ. وَعدل فِي هَذِه الْجُمْلَةِ عَنْ صِيغَتَيِ النَّفْيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ [النَّمْل: 80] الْوَاقِعَيْنِ عَلَى مُسْنَدَيْنِ فِعْلِيَّيْنِ، إِلَى تَسْلِيطِ النَّفْيِ هُنَا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ النَّفْيِ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ الثَّبَاتُ بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَوَجْهُ إِيثَارِ هَذِه الْجُمْلَة بهاذين التَّحْقِيقَيْنِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْضَى الْكَلَامُ إِلَى نَفْيِ اهْتِدَائِهِمْ وَكَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ غَايَةَ مَطْمَحِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمَقَامُ مُشْعِرًا بِبَقِيَّةٍ مِنْ طَمَعِهِ فِي اهْتِدَائِهِمْ حِرْصًا عَلَيْهِمْ فَأُكِّدَ لَهُ مَا يُقْلِعُ طَمَعَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [الْقَصَص: 56] وَقَوْلِهِ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] . وَسَيَجِيءُ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ تَوْجِيهٌ لِتَعْدَادِ التَّشَابِيهِ الثَّلَاثَةِ زَائِدًا عَلَى مَا هُنَا فَانْظُرْهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَمَا أَنْتَ تَهْدِي بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي مَوْضِعِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ. إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِتَرَقُّبِ السَّامِعِ مَعْرِفَةَ مَنْ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ. وَالْإِسْمَاعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

[سورة النمل (27) : آية 82]

وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ لِيَشْمَلَ مَنْ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ فَيُفِيدُ الْمُضَارِعُ اسْتِمْرَارَ إِيمَانِهِمْ وَمَنْ سَيُؤْمِنُونَ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ التَّقْسِيمِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: 80] إِلَى هُنَا، أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يُعَاجِلَهُ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ السَّعَادَةَ فَيُؤْمِنُ سَرِيعًا أَوْ بَطِيئًا قَبْلَ الْوَفَاةِ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ الْمُفِيدُ لِلدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ لِأَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا فَقَدْ صَارَ الْإِسْلَامُ رَاسِخًا فِيهِمْ وَمُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بشاشته الْقُلُوب. [82] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 82] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (82) هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْقِيَامَةِ وَمَا ادُّخِرَ لَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَمُنَاسِبَةُ ذِكْرِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [النَّمْل: 80، 81] . وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَوْتَى وَالصُّمِّ وَالْعُمْيِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. والْقَوْلُ أُرِيدَ بِهِ أَخْبَارُ الْوَعِيدِ الَّتِي كَذَّبُوهَا مُتَهَكِّمِينَ بِاسْتِبْطَاءِ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: 71] ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ يُفَسِّرُهُ الْمَقَامُ. وَالْوُقُوعُ مُسْتَعَارٌ لِحُلُولِ وَقَتِهِ وَذَلِكَ مِنْ وَقْتِ تَهَيُّؤِ الْعَالَمِ لِلْفَنَاءِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةَ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَشْرَاطِ حُلُولِ الْوَعِيدِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ وَهُوَ الْوَعِيدُ الْأَكْبَرُ يَعْنِي وَعِيدَ الْبَعْثِ، فَتُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ وُقُوعِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنَ الْمُضِيِّ، أَيْ أَشْرَفَ وُقُوعُهُ، عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمُضِيِّ مَعَ (إِذَا) يَنْقَلِبُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ. وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ لِلْحَيِّ مِنْ غَيْرِ الْإِنْسَانِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الدَّبِيبِ، وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى

[سورة النمل (27) : الآيات 83 إلى 84]

الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَحْيَاءِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ دَابَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [38] . وَقَدْ رُوِيَتْ فِي وَصْفِ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَوقت خُرُوجهَا ومكانه أَخْبَارٌ مُضْطَرِبَةٌ ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ فَانْظُرْهَا فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَغَيْرِهِ إِذْ لَا طَائِلَ فِي جَلْبِهَا وَنَقْدِهَا. وَإِخْرَاجُ الدَّابَّةِ مِنَ الْأَرْضِ لِيُرِيَهُمْ كَيفَ يحي اللَّهُ الْمَوْتَى إِذْ كَانُوا قَدْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَهَا لَهُمْ خِطَابٌ لَهُمْ بِحُلُولِ الْحَشْرِ. وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ الْكَلَامَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَابَّةٍ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَنْدِيمًا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ أَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَوْقَعِهِ مِنْ أَشْرَفِ إِنْسَانٍ وَأَفْصَحِهِ، لِيَكُونَ لَهُمْ خِزْيًا فِي آخِرِ الدَّهْرِ يُعَيَّرُونَ بِهِ فِي الْمَحْشَرِ. فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ كَلَامِ رَسُولٍ كَرِيمٍ فَخُوطِبُوا عَلَى لِسَانِ حَيَوَانٍ بَهِيمٍ. عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ: اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَإِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا. وَجُمْلَةُ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ تَعْلِيلٌ لِإِظْهَارِ هَذَا الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يُوقِنِ الْمُشْرِكُونَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ ذَلِكَ إِلْجَاءً لَهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّ النَّاسَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) ، وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيلُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَنَّ النَّاسَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ فَتْحَ هَمْزَةِ (أَنَّ) يُؤْذِنُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرِّ وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُكَلِّمُهُمْ بِحَاصِلِ هَذَا وَهُوَ الْمَصْدَرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُسَجِّلُ عَلَى النَّاسِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَدَمَ تَصْدِيقِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَهُوَ تَسْجِيلُ تَوْبِيخٍ وَتَنْدِيمٍ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَدْ وَقَعَ القَوْل عَلَيْهِم ف لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْعَام: 158] . وَحَمْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِمَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ الدَّابَّة بعيد. [83- 84] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 83 إِلَى 84] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) انْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى تَقْدِيرِ (اذْكُرْ) فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قالَ أَكَذَّبْتُمْ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَهَذَا حَشْرٌ خَاصٌّ بَعْدَ حَشْرِ جَمِيعِ

الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: 87] وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] فَيُحْشَرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مُكَذِّبُو رَسُولِهَا. وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ تَبْعِيضِيَّةٌ وَأَمَّا (مِنَ) الدَّاخِلَة على مِمَّنْ يُكَذِّبُ فَيَجُوزُ جَعْلُهَا بَيَانِيَّةً فَيَكُونُ فَوْجُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ جمَاعَة المكذبين مِنْهَا، أَي يحْشر من الْأمة كفارها وَيبقى صالحوها. وَيجوز جعل (من) هَذِه تبعيضية أَيْضا بِأَن يكون الْمَعْنى إِخْرَاج فَوْج من المكذبين من كل أمة. وَهَذَا الْفَوْجُ هُوَ زُعَمَاءُ الْمُكَذِّبِينَ وَأَئِمَّتُهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْعَذَابِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ: مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يُسَاقُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ يُسَاقُ أَمَامَ كُلِّ طَائِفَةٍ زُعَمَاؤُهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَهُمْ يُوزَعُونَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [17] . وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ يُزْجَرُونَ إِغْلَاظًا عَلَيْهِمْ كَمَا يُفْعَلُ بِالْأَسْرَى. وَالْقَوْلُ فِي حَتَّى إِذا جاؤُ كَالْقَوْلِ فِي حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ [النَّمْلِ: 18] وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَوْضِعُ الَّذِي جَاءُوهُ لِظُهُورِهِ وَهُوَ مَكَانُ الْعَذَابِ، أَيْ جَهَنَّمُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ حَتَّى إِذا مَا جاؤُها [فُصِّلَتْ: 20] . وحَتَّى فِي حَتَّى إِذا جاؤُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وإِذا الْوَاقِعَةُ بَعْدَ حَتَّى ظَرْفِيَّةٌ وَالْمَعْنَى: حَتَّى حِينَ جَاءُوا. وَفِعْلُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي هُوَ صَدْرُ الْجُمْلَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَمَا قَبْلَهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا وَحِينَ جَاءُوا. وَفِي قالَ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَقَوْلُهُ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي قَوْلٌ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْمَعُونَهُ أَوْ يُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهُ الْمَلَائِكَةُ. وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَن يكون توبيخيا مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ تَبْكِيتًا لَهُمْ، وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ

تَعْمَلُونَ. فَحَرْفُ أَمْ فِيهِ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلِانْتِقَالِ وَمُعَادِلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تُوقِنُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي مُدَّةِ تَكْرِيرِ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا. وَمِنْ لَطَائِفَ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْمُعَادِلِ الْأَوَّلِ مُصَرَّحًا بِهِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْهُمْ فَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَحَذَفَ مُعَادِلَهُ الْآخَرَ تَنْبِيهًا عَلَى انْتِفَائِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ مَا عُهِدَ مِنْكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ أَمْ حَدَثَ حَادِثٌ آخَرُ، فَجُعِلَ هَذَا الْمُعَادِلُ مُتَرَدَّدًا فِيهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى اسْتِفْهَامٍ. وَهَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ» : «وَمِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِرَاعِيكَ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ رَاعِي سُوءٍ: أَتَأْكُلُ نَعَمِي أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، فَتَجْعَلُ مَا ابْتَدَأْتَ بِهِ وَجَعَلْتَهُ أَسَاسَ كَلَامِكَ هُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ أَكْلِهِ وَفَسَادِهِ وَتَرْمِي بِقَوْلِكَ: أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، مَعَ عِلْمِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا إِلَّا الْأَكْلَ لِتَبْهَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون الِاسْتِفْهَام تقريريا وَتَكُونُ أَمْ مُتَّصِلَةً وَمَا بَعْدَهَا هُوَ مُعَادِلُ الِاسْتِفْهَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: أَكَذَّبْتُمْ أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تَتَّبِعُوا آيَاتِي» . وَجُمْلَةُ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَذَّبْتُمْ دُونَ أَنْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ. وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ تُحِيطُوا، أَيْ لَمْ يُحِطْ عِلْمُكُمْ بِهَا، فَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ الْإِحَاطَةِ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى إِسْنَادِهَا إِلَى ذَوَاتِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَقَعَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِالْإِجْمَالِ فِي الْإِسْنَادِ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بِالتَّمْيِيزِ. وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْآيَاتِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّهُ ظَرْفٌ مُحِيطٌ بهَا وَهَذَا تعيير لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ قَبْلَ التدبر فِيهَا. وأَمَّا ذَا اسْتِفْهَامٌ وَاسْمُ إِشَارَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا) . وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلِكَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْجُمْلَةَ صَارَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قُوَّةِ مَوْصُولٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) وَ (مِنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ يَكُونُ بِمَعْنَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فَهُوَ بَيَانُ مَعْنًى لَا بَيَان وضع.

[سورة النمل (27) : آية 85]

[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 85] وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى: يُقَالُ لَهُمْ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَقَدْ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ السَّابِقُ فِي آيَةِ وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: 82] فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَوَادِثَ كَثِيرَةٍ فَكُلَّمَا تَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْهَا فَقَدْ وَقَعَ الْقَوْلُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ وَقَعَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأُعِيدَ ذِكْرُهُ تَعْظِيمًا لِهَوْلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَالْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا لِيُبْنَى عَلَيْهَا سَبَبُ وُقُوعِ الْقَوْلِ وَهُوَ أَنَّهُ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَلِيُفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ حصل وَمضى. وبِما ظَلَمُوا بِمَعْنَى الْمصدر، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة، أَيْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ ظُلْمُهُمْ سَبَبَ حُلُولِ الْوَعِيدِ بِهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَكُلُّ مَنْ ظَلَمَ سَيَقَعُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الْمَوْعُودُ بِهِ الظَّالِمُونَ لِأَنَّ الظُّلْمَ يَنْتَسِبُ إِلَى الشِّرْكِ وَيَنْتَسِبُ هَذَا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [52] . وَجُمْلَةُ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى وَقَعَ الْقَوْلُ أَيْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ وُقُوعًا يَمْنَعُهُمُ الْكَلَامَ، أَيْ كَلَامَ الِاعْتِذَارِ أَوِ الْإِنْكَارِ، أَيْ فَوَجَمُوا لِوُقُوعِ مَا وُعِدُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35، 36] . [86] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 86] أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: 85] أَيْ بِمَا أَشْرَكُوا،

فَذَكَّرَهُمْ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِذِكْرِ أظهر الْآيَات وأكثرها تَكْرَارًا عَلَى حَوَاسِّهِمْ وَأَجْدَرِهَا بِأَنْ تَكُونَ مُقْنِعَةً فِي ارْعِوَائِهِمْ عَنْ شِرْكِهِمْ. وَهِيَ آيَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ تَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مَرَّتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْأَقَلِّ. وَتِلْكَ هِيَ آيَةُ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الدَّالَّةُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَأَصْنَامُهُمْ تَخْضَعُ لِمَفْعُولِهَا فَتَظْلِمُ ذَوَاتِهِمْ فِي اللَّيْلِ وَتُنِيرُ فِي النَّهَارِ، وَفِيهَا تَذْكِيرٌ بِتَمْثِيلِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ بَعْدَهُ بِسُكُونِ اللَّيْلِ وَانْبِثَاقِ النَّهَارِ عَقِبَهُ. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: 85] وَجُمْلَةِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] لِيُتَخَلَّلَ الْوَعِيدُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَكُونَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ بِالْإِرْهَابِ تَارَةً وَاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ تَارَةً أُخْرَى. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ لِأَنَّهَا لِغَرَابَتِهَا تَسْتَلْزِمُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ فَهَذِهِ عَلَاقَةُ أَوْ مُسَوِّغُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ، وَهِيَ عَلَاقَةٌ خَفِيَّةٌ أَشَارَ سَعْدُ الدِّينِ فِي «الْمُطَوَّلِ» إِلَى عَدَمِ ظُهُورِهَا وَتَصَدَّى السَّيِّدُ الشَّرِيفُ إِلَى بَيَانِهَا غَايَةَ الْبَيَانِ وَأَرْجَعَهَا إِلَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فَتَأَمَّلْهُ. وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً وَجُمْلَةُ أَنَّا جَعَلْنَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، أَيْ كَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ. وَاخْتِيرَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ لِشَبَهِ هَذَا الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْمُبْصَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَفْعُولَ الرُّؤْيَةِ وَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَمْ يُبْصِرُوا جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ وَالنَّهَارِ لِلْإِبْصَارِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بِمَرْأَى مِنْ أَبْصَارِهِمْ. وَالْجَعْلُ مُرَادٌ مِنْهُ أَثَرُهُ وَهُوَ اضْطِرَارُ النَّاسِ إِلَى السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ وَإِلَى الِانْتِشَارِ فِي النَّهَارِ. فَجُعِلَتْ رُؤْيَةُ أَثَرِ الْجَعْلِ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجَعْلِ وَهَذَا وَاسِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُجْعَلَ الْأَثَرُ مَحَلَّ الْمُؤَثِّرِ، وَالدَّالُّ مَحَلَّ الْمَدْلُولِ. قَالَ النَّابِغَةُ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ. وَالْمُبْصِرُ: اسْمُ فَاعِلِ أَبْصَرَ بِمَعْنَى رَأَى. وَوَصْفُ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مُبْصِرٌ مِنْ قَبِيلِ

الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ نُورَ النَّهَارِ سَبَبُ الْإِبْصَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ مِنْ أَبْصَرَهُ، إِذَا جَعَلَهُ بَاصِرًا. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ تَعْلِيل للتعجيب مِنْ حَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَا عَلَى الْبَعْثِ. وَوَجْهُ كَوْنِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً كَمَا اقْتَضَاهُ الْجَمْعُ هُوَ أَنَّ فِي نِظَامِ اللَّيْلِ آيَاتٍ عَلَى الِانْفِرَادِ بِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ نُورِهَا الْخَارِقِ لِلظُّلُمَاتِ، وَخَلْقِ الْأَرْضِ، وَخَلْقِ نِظَامِ دَوَرَانِهَا الْيَوْمِيِّ تُجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَهِيَ الدَّوْرَةُ الَّتِي تُكَوِّنُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَفِي خَلْقِ طَبْعِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَتَلَقَّى الظُّلْمَةَ بِطَلَبِ السُّكُونِ لِمَا يَعْتَرِي الْأَعْصَابَ مِنَ الْفُتُورِ دُونَ بَعْضِ الدَّوَابِّ الَّتِي تَنْشَطُ فِي اللَّيْلِ كَالْهَوَامِّ وَالْخَفَافِيشِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى تَعَاقُبِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَتِلْكَ آيَاتٌ وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا دَقَائِقُ وَنُظُمٌ عَظِيمَةٌ لَوْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِيهَا لَأَوْعَبَ مُجَلَّدَاتٍ مِنَ الْعُلُومِ. وَفِي جَعْلِ النَّهَارِ مُبْصِرًا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الوحدانية ودقة صنع تُقَابِلُ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَاتِ جَعْلِ اللَّيْلِ سَكَنًا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا إِحَالَةَ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ نَظِيرُ بَعْثِ الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَفِي جَلِيلِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَدَقِيقِهَا عِدَّةُ آيَاتٍ فَهَذَا وَجْهُ جَعْلِ ذَلِكَ آيَاتٍ وَلَمْ يُجْعَلْ آيَتَيْنِ. وَمَعْنَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِنَاسٍ شَأْنُهُمُ الْإِيمَانُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْحُجَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِيمَانُ صِفَةً جَارِيَةً عَلَى قَوْمٍ لِمَا قُلْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّ إِنَاطَةَ الْحُكْمِ بِلَفْظ (قوم) يومىء إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة: 56] ، أَيِ الْفَرَقُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَفْرَقُونَ، أَيْ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ مَنْ شِعَارُهُمُ التَّدَبُّرُ وَالِاتِّصَافُ، أَيْ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ. وَلِكَوْنِ الْإِيمَانِ مَقْصُودًا بِهِ أَنَّهُ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ جِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْفَحْوَى وَالْأَوْلَوِيَّةِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِمَنْ يُرْجَى مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ

[سورة النمل (27) : آية 87]

مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: 27، 28] . وَلِهَذَا خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ مَا فِي سُورَةِ يُونُسَ [67] إِذْ قَالَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لِأَنَّ آيَةَ يُونُسَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ فَخَاطَبَ بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَجَاءَتْ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَجُعِلَتْ دَلَالَتُهَا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَضَالٌّ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهَا بِفعل يَسْمَعُونَ [يُونُس: 67] الْمُؤْذِنِ بِالِامْتِثَالِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَلَبِ الْهُدَى. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ فَجُعِلَ مَا فِيهَا آيَاتٍ لِمَنِ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنهمْ ليُفِيد بمفهومه أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ دَلَالَةٌ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْإِنْصَافُ وَالِاعْتِرَافُ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ فِيهِ فِعْلُ يُؤْمِنُونَ. وَجَاءَ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيلِ بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وَمَا فِي النَّهَارِ بِصِيغَةِ مَفْعُولِ الْجَعْلِ بِقَوْلِهِ مُبْصِراً تَفَنُّنًا، وَلِمَا يُفِيدُهُ مُبْصِراً مِنَ الْمُبَالَغَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى التَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ فِي الْمَآلِ. وَبِهَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «التَّقَابُلُ مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهَكَذَا النَّظْمُ الْمَطْبُوعُ غَيْرُ الْمُتَكَلَّفِ» أَيْ فَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ الْمَعْنَى: جَعَلْنَا اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا لِيَنْتَشِرُوا فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا قُرِّرَ هُنَا يَأْتِي فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ عَدَا مَا هُوَ مِنْ وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْبَلَاغِيَّةِ فَارْجِعْ إِلَيْهَا هُنَالك. [87] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 87] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) عَطْفٌ عَلَى وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [النَّمْل: 83] ، عَادَ بِهِ السِّيَاقُ إِلَى الْمَوْعِظَةِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّهُمْ لما ذكرُوا ب «يَوْم يحشرون إِلَى النَّارِ» ذُكِّرُوا أَيْضًا بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ وُقُوع الْبَعْث وإنذارا بِمَا يَعْقُبُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ آتُوهُ داخِرِينَ وَقَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.

وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَهُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. وَأَمَّا النَّفْخَةُ الْأُولَى فَهِيَ نَفْخَةٌ يَعْنِي بِهَا الْإِحْيَاءَ، أَيْ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَامِهَا وَهِيَ سَاعَةُ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُمْ يُصْعَقُونَ، وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ عَقِبَهُ حُصُولُ الْفَزَعِ وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِسَابِ وَمُشَاهَدَةِ مُعَدَّاتِ الْعَذَابِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا، فَالْفَزَعُ حَاصِلٌ مِمَّا بَعْدَ النَّفْخَةِ وَلَيْسَ هُوَ فَزَعًا مِنَ النَّفْخَةِ لِأَنَّ النَّاسَ حِينَ النَّفْخَةِ أَمْوَاتٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: 89] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إِلَى قَوْلِهِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاء: 101- 103] وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَادِرَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ. قَالَ تَعَالَى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 103] وَقَالَ هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يُونُس: 64] . وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَعَ أَنَّ النفخ مُسْتَقْبل، للإشعار بِتَحَقُّقِ الْفَزَعِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] لِأَنَّ الْمُضِيَّ يَسْتَلْزِمُ التَّحَقُّقَ فَصِيغَةُ الْمَاضِي كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَقُّقِ، وَقَرِينَةُ الِاسْتِقْبَالِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ يُنْفَخُ. وَالدَّاخِرُونَ: الصَّاغِرُونَ. أَيِ الْأَذِلَّاءُ، يُقَالُ: دَخَرَ بِوَزْنِ مَنَعَ وَفَرِحَ وَالْمَصْدَرُ الدَّخَرُ بِالتَّحْرِيكِ وَالدُّخُورُ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الظَّاهِرُ فِي آتَوْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْإِتْيَانُ إِلَى اللَّهِ الْإِحْضَارُ فِي مَكَانِ قَضَائِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ على تَقْدِير: ءاتون فِيهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (كُلٌّ) الْمُعَوَّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ فَزِعَ مِمَّن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ آتُوهُ دَاخِرِينَ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ بِأَنَّهُ شَاءَ أَنْ لَا يَفْزَعُوا فَهُمْ لَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتَوْهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَتَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ

[سورة النمل (27) : آية 88]

أَتَوْهُ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي فَهُوَ كَقَوْلِه فَفَزِعَ. [88] [سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 88] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ حَكَتْ حَادِثًا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً عَطْفًا عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] أَيْ وَيَوْمَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً إِلَخْ.. وَجَعَلُوا الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةً، وَمَرَّ السَّحَابِ تَشْبِيهًا لِتَنَقُّلِهَا بِمَرِّ السَّحَابِ فِي السُّرْعَةِ، وَجَعَلُوا اخْتِيَارَ التَّشْبِيهِ بِمُرُورِ السَّحَابِ مَقْصُودًا مِنْهُ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ حَالِ الْجِبَالِ حِينَ ذَلِكَ الْمُرُورِ بِحَالِ السَّحَابِ فِي تَخَلْخُلِ الْأَجْزَاءِ وَانْتِفَاشِهَا فَيَكُونُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] ، وَجَعَلُوا الْخَطَابَ فِي قَوْلِهِ تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَرَى، وَجَعَلُوا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: 47] . فَلَمَّا أَشْكَلَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ تَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ دَكِّ الْجِبَالِ وَنَسْفِهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَارِعَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى أَوْ قُبَيْلَهَا، فَأَجَابُوا بِأَنَّهَا تَنْدَكُّ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُسَيَّرُ يَوْمَ الْحَشْرِ لِقَوْلِهِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً إِلَى أَنْ قَالَ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [طه: 105- 108] لِأَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ إِسْرَافِيلُ (وَفِيهِ أَنَّ لِلِاتِّبَاعِ أَحْوَالًا كَثِيرَةً، وَلِلدَّاعِي مَعَانِيَ أَيْضًا) . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا نَسْفُ الْجِبَالِ وَدَكُّهَا وَبَسُّهَا. وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا عَطْفَ وَتَرَى الْجِبالَ عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] حَتَّى يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ عَمَلُ لَفْظِ (يَوْمَ) بَلْ يَجْعَلُوهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الْمَذْكُورَةُ أُولَى حَاصِلَةً ثَانِيًا. وَجَعَلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ صُنْعَ اللَّهِ إِلَخْ مُرَادًا بِهِ تَهْوِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ وَتَسْيِيرَ الْجِبَالِ مِنْ عَجِيبِ قُدْرَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الصُّنْعَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَا فِي مَادَّة صنع مِنْ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنَّ الْإِتْقَانَ إِجَادَةٌ، وَالْهَدْمَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِتْقَانٍ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قِيلَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، أَيْ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ. وَفِيمَا ضُرِبَ فِيهِ الْمَثَلُ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلدُّنْيَا يَظُنُّ النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ كَالْجِبَالِ وَهِيَ آخِذَةٌ بِحَظِّهَا مِنَ الزَّوَالِ كَالسَّحَابِ، قَالَهُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْإِيمَانِ تَحْسَبُهُ ثَابِتًا فِي الْقَلْبِ، وَعَمَلُهُ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ تَسِيرُ إِلَى الْعَرْشِ. وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّمْثِيلِ التَّشْبِيهَ وَالِاسْتِعَارَةَ. وَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاقِدِ الْبَصِيرِ بُعْدُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْجِبالَ مُشَبَّهًا بِهَا فَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجِبالَ مُسْتَعَارًا لِشَيْءٍ وَكَانَ مَرُّ السَّحَابِ كَذَلِكَ كَانَ الْمُسْتَعَارُ لَهُ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ وَلَا ضِمْنِيًّا. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ شِفَاءٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الرَّائِيَ يَحْسَبُ الْجِبَالَ جَامِدَةً، وَلَا بَيَانِ وَجْهِ تَشْبِيهِ سَيْرِهَا بِسَيْرِ السَّحَابِ، وَلَا تَوْجِيه التذليل بِقَوْلِهِ تَعَالَى صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَلِذَلِكَ كَانَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَضْعٌ دَقِيقٌ، وَمَعْنًى بِالتَّأَمُّلِ خَلِيقٌ، فَوَضْعُهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَبَيَانِهِ مِنْ قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: 87- 89] بِأَنْ يَكُونَ مِنْ تُخَلِّلِ دَلِيلٍ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ إِدْمَاجًا وَجَمْعًا بَيْنَ اسْتِدْعَاءٍ لِلنَّظَرِ، وَبَيْنَ الزَّوَاجِرِ وَالنُّذُرِ، كَمَا صُنِعَ فِي جُمْلَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] الْآيَةَ. أَوْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لِتَتَوَجَّهَ أَنْظَارُهُمْ إِلَى مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكْمَةِ وَبَدِيعِ الصَّنْعَةِ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ مُعْجِزَةً مِنَ الْجَانِبِ الْعِلْمِيِّ يُدْرِكُهَا

أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا كَانَ مُعْجِزَةً لِلْبُلَغَاءِ مِنْ جَانِبِهِ النَّظْمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَدُورُ حَوْلَ الْأَرْضِ فَيَنْشَأُ مِنْ دَوَرَانِهَا نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَحْسُبُونَ الْأَرْضَ سَاكِنَةً. وَاهْتَدَى بَعْضُ عُلَمَاء اليونان إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَتَكَوَّنُ مِنْهَا ظُلْمَةُ نصف الكرة الأرضي تَقْرِيبًا وَضِيَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ وَذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ نَظَرِيَّةً مَرْمُوقَةً بِالنَّقْدِ وَإِنَّمَا كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهَا قَاعِدَةَ أَنَّ الْجِرْمَ الْأَصْغَرَ أَوْلَى بِالتَّحَرُّكِ حَوْلَ الْجِرْمِ الْأَكْبَرِ الْمُرْتَبِطِ بِسَيْرِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ إِقْنَاعِيَّةٌ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مُخْتَلِفَةُ الْمَدَارَاتِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ الْأَصْغَرُ حَوْلَ الْأَكْبَرِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ وَضَبْطِ الْحِسَابِ وَمَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ النَّظَرِيَّةُ إِلَّا فِي الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضِيِّ (غَالِيلِي) الْإِيطَالِيِّ. وَالْقُرْآنُ يُدْمِجُ فِي ضِمْنِ دَلَائِلِهِ الْجَمَّةِ وَعَقِبَ دَلِيلِ تَكْوِينِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ دَلِيلًا رَمَزَ إِلَيْهِ رَمْزًا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْمُفَسِّرُونَ أَوْ تَسْمَعْ لَهُمْ رِكْزًا. وَإِنَّمَا نَاطَ دَلَالَةَ تَحَرُّكِ الْأَرْضِ بِتَحَرُّكِ الْجِبَالِ مِنْهَا لِأَنَّ الْجِبَالَ هِيَ الْأَجْزَاءُ النَّاتِئَةُ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَظُهُورُ تَحَرُّكِ ظِلَالِهَا مُتَنَاقِصَةً قَبْلَ الزَّوَالِ إِلَى مُنْتَهَى نَقْصِهَا، ثُمَّ آخِذَةً فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَمُشَاهَدَةُ تَحَرُّكِ تِلْكَ الظِّلَالِ تَحَرُّكًا يُحَاكِي دَبِيبَ النَّمْلِ أَشَدُّ وُضُوحًا لِلرَّاصِدِ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ تَحَرُّكِ قِمَمِهَا أَمَامَ قُرْصِ الشَّمْسِ فِي الصَّباح وَالْمَاء أَظْهَرُ مَعَ كَوْنِ الشَّمْسِ ثَابِتَةً فِي مَقَرِّهَا بِحَسَبِ أرصاد البروج والأنواء. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] فَجُعِلَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ وَتَرَى الْجِبالَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهُ لِمَعْنًى يُدْرِكُ هُوَ كُنْهَهُ وَلِذَلِكَ خُصَّ الْخِطَابُ بِهِ وَلَمْ يُعَمَّمْ كَمَا عُمِّمَ قَوْلُهُ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] فِي هَذَا الْخطاب، وادخارا لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ فِي وَقْتِ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدَّقِيقَةِ. فَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي نِظَامِ الْأَرْضِ كَمَا أَطْلَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، اخْتَصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِهَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي قُرْآنِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِهِ للنَّاس مصلحَة حنيئذ

حَتَّى إِذَا كَشَفَ الْعِلْمُ عَنْهُ مِنْ نِقَابِهِ وَجَدَ أَهْلُ الْقُرْآنِ ذَلِكَ حَقًّا فِي كِتَابِهِ فَاسْتَلُّوا سَيْفَ الْحُجَّةِ بِهِ وَكَانَ فِي قِرَابِهِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ لِلْآيَةِ هُوَ الَّذِي يساعد قَوْلُهُ وَتَرَى الْجِبالَ الْمُقْتَضِيَ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهَا فِي هَيْئَةِ السَّاكِنَةِ، وَقَوْلَهُ تَحْسَبُها جامِدَةً إِذْ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى الْجَامِدَةِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالَةَ الْجِبَالِ إِذْ لَا تَكُونُ الْجِبَالُ ذَائِبَةً. وَقَوْلُهُ وَهِيَ تَمُرُّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السَّيْرِ مَرَّ السَّحابِ أَيْ مَرًّا وَاضِحًا لَكِنَّهُ لَا يَبِينُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ اعْتِبَارٌ بِحَالَةِ نِظَامِهَا الْمَأْلُوفِ لَا بِحَالَةِ انْخِرَامِ النِّظَامِ لِأَنَّ خَرْمَ النِّظَامِ لَا يُنَاسِبُ وَصْفَهُ بِالصُّنْعِ الْمُتْقَنِ وَلَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّصَوُّرِ. ومَرَّ السَّحابِ مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ مُرُورِ الْجِبَالِ، أَيْ مُرُورًا تَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ مَعَ أَنَّ الرَّائِيَ يَخَالُهَا ثَابِتَةً فِي مَكَانِهَا كَمَا يَخَالُ نَاظِرُ السَّحَابِ الَّذِي يَعُمُّ الْأُفُقَ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ صوب إِلَى صَوْبٍ وَيُمْطِرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاظِرُ إِلَّا وَقَدْ غَابَ عَنْهُ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَرَّ غَيْرُ السَّيْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْف: 47] فَإِنَّ ذَلِكَ فِي وَقْتِ اخْتِلَالِ نِظَامِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ صُنْعَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ بِتَقْدِيرِ: صَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ صُنْعًا. وَهَذَا تَمْجِيدٌ لِهَذَا النِّظَامِ الْعَجِيبِ إِذْ تَتَحَرَّكُ الْأَجْسَامُ الْعَظِيمَةُ مَسَافَاتٍ شَاسِعَةً وَالنَّاسُ يَحْسَبُونَهَا قَارَّةً ثَابِتَةً وَهِيَ تَتَحَرَّكُ بِهِمْ وَلَا يَشْعُرُونَ. وَالْجَامِدَةُ: السَّاكِنَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : الْجَامِدَةُ مِنْ جَمَدَ فِي مَكَانِهِ إِذَا لَمْ يَبْرَحْ، يَعْنِي أَنَّهُ جُمُودٌ مَجَازِيٌّ، كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْمَجَازِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَالصُّنْعُ. قَالَ الرَّاغِبُ: إِجَادَةُ الْفِعْلِ فَكُلُّ صُنْعٍ فِعْلٌ وَلَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ صُنْعًا قَالَ تَعَالَى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 80] يُقَالُ لِلْحَاذِقِ الْمُجِيدِ: صَنَعٌ، وَلِلْحَاذِقَةِ الْمُجِيدَةِ: صَنَاعٌ. اه. وَقَصَّرَ فِي تَفْسِيرِ الصُّنْعِ الْجَوْهَرِيُّ وَصَاحِبُ «اللِّسَانِ»

[سورة النمل (27) : الآيات 89 إلى 90]

وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» وَاسْتَدْرَكَهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» . قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُهُم: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّخْطِئَةِ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا. حَسَنًا وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِقُبْحِهِ. فَالصُّنْعُ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ لِلْعَمَلِ الْجَيِّدِ النَّافِعِ وَإِذَا أُرِيدَ غَيْرُ ذَلِكَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ عَلَى أَنَّهُ قَلِيلٌ أَوْ تَهَكُّمٌ أَوْ مُشَاكَلَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصُّنْعَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُتْقَنِ فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ [طه: 69] ، وَوَصْفُ اللَّهِ بِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ تَعْمِيمٌ قصد بِهِ التذييل، أَيْ مَا هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ إِلَّا مُمَاثِلًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الدَّقِيقَةِ الصُّنْعِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ نِظَامٌ مُتْقَنٌ، وَأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ وَاسْتِدَامَةِ النِّظَامِ وَلَيْسَ من نوع الْخَرْمِ وَالتَّفْكِيكِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ تَذْيِيلٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ، عَقِبَ قَوْلِهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّ إِتْقَانَ الصُّنْعِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ سَعَةِ الْعِلْمِ فَالَّذِي بِعِلْمِهِ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُ الْخَلْقُ فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يُخَالِفُوا عَنْ أَمْرِهِ. ثُمَّ جِيءَ لِتَفْصِيلِ هَذَا بِقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [النَّمْل: 89] الْآيَةَ فَكَانَ مِنَ التَّخَلُّصِ وَالْعَوْدِ إِلَى مَا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَمَنْ جَعَلُوا أَمْرَ الْجِبَالِ مِنْ أَحْدَاثِ يَوْمِ الْحَشْرِ جَعَلُوا جُمْلَةَ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سَائِلٍ: فَمَاذَا يَكُونُ بَعْدَ النَّفْخِ وَالْفَزَعِ وَالْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَتَسْيِيرِ الْجِبَالِ، فَأُجِيبَ جَوَابًا إِجْمَالِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِ النَّاسِ ثُمَّ فُصِّلَ بِقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.. [النَّمْل: 89] الْآيَةَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَفْعَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يَفْعَلُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِينَ عَائِدًا ضَمِيرُهُ عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: 87] . [89- 90] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 89 الى 90] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. هَذِهِ الْجُمْلَة بَيَان ناشىء عَنْ قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا

مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: 87] لِأَنَّ الْفَزَعَ مُقْتَضٍ الْحَشْرَ وَالْحُضُورَ لِلْحِسَابِ. وَ (مَنْ) فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ شَرْطِيَّةٌ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَسَنَةِ وبِالسَّيِّئَةِ لِلْمُصَاحَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا: أَنَّهُ ذُو الْحَسَنَةِ أَوْ ذُو السَّيِّئَةِ. وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ [160] . فَالْمَعْنَى هُنَا: مَنْ يَجِيءُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مِنْ فَاعِلِي الْحَسَنَةِ وَمَنْ جَاءَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السَّيِّئَةِ، فَالْمَجِيءُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النَّمْل: 87] وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هُنَا لِلْجِنْسِ وَهُوَ يُحْمَلُ عَلَى أَكْمَلِ أَفْرَادِهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ، أَيْ مَنْ تَمَحَّضَتْ حَالَتُهُ لِلْحَسَنَاتِ أَوْ كَانَتْ غَالِبَ أَحْوَالِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ حَالَتُهُ مُتَمَحِّضَةً لِلسَّيِّئَاتِ أَوْ غَالِبَةً عَلَيْهِ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. وخَيْرٌ مِنْها اسْمُ تَفْضِيلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ (مِنَ) التَّفْضِيلِيَّةُ، أَيْ فَلَهُ جَزَاءٌ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: 160] أَوْ خَيْرٌ مِنْهَا شَرَفًا لِأَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهَا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ تَبْيِينُ قَوْلِهِ آنِفًا إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: 87] . وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَهْلَ الْحَسَنَاتِ، أَيْ تَمَحَّضُوا لَهَا أَوْ غَلَبَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ غَلَبَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُمْ مِنَ النَّوْعِ الْمَغْفُورِ بِالْحَسَنَاتِ أَوِ الْمَدْحُوضِ بِالتَّوْبَةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، أَيْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمْ وَغَطَّتْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ أَوْ تَمَحَّضُوا لِلسَّيِّئَاتِ بِأَنْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ أَوْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ وَالشَّقَاءِ. وَبَيْنَ أَهْلِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ فِي دَرَجَات الثَّوَاب ودركات الْعِقَابِ. وَجُمَّاعُ أَمْرِهَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أَثَرُهَا يَوْمَئِذَ عَاجلا أَو بِالآخِرَة، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أَثَرهَا السيء بِمِقْدَارِهَا وَمِقْدَارِ مَا مَعَهَا مِنْ أَمْثَالِهَا وَمَا يُكَافِئُهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ أَضْدَادِهَا فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الْأَنْبِيَاء: 47] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى (يَوْمَ) مِنْ يَوْمَئِذٍ وَإِضَافَةِ (يَوْمَ) إِلَى إِذْ فَفُتْحَةُ (يَوْمَ) فُتْحَةُ بِنَاءٍ، لِأَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ

غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ فَ فَزَعٍ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى (يَوْمَ) وَ (يَوْمَ) مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى (إِذْ) وَ (إِذْ) مُضَافَةٌ إِلَى جُمْلَتِهَا الْمُعَوِّضِ عَنْهَا تَنْوِينُ الْعِوَضِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ فَزَعِ يَوْمَ إِذْ يَأْتُونَ رَبَّهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَنْوِينِ فَزَعٍ، ويَوْمَئِذٍ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُول فِيهِ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِ آمِنُونَ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ إِذِ الْمُرَادُ الْفَزَعُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: 87] فَلَمَّا كَانَ مُعَيَّنًا اسْتَوَى تَعْرِيفُهُ وَتَنْكِيرُهُ. فَاتَّحَدَتِ الْقِرَاءَتَانِ مَعْنًى لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ وَتَنْكِيرَهُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ إِفَادَةِ الْعُمُومِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ فَزَعٌ وَاحِدٌ. وَالْكَبُّ: جَعْلُ ظَاهِرِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَعُدِّيَ الْكَبُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْوُجُوهِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ وَإِنْ كَانَ الْكَبُّ لِجَمِيعِ الْجِسْمِ لِأَنَّ الْوُجُوهَ أَوَّلُ مَا يُقْلَبُ إِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْكَبِّ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: يَكُبُّ عَلَى الْأَذْقَانِ دَوْحَ الْكَنَهْبَلِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: 116] وَقَوْلِهِ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: 149] وَقَوْلِ الْأَعْشَى: وَأُقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. تَذْيِيلٌ لِلزَّوَاجِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ بِذِكْرِ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْغَائِبِ. وَذِكْرُ ضَمَائِرِهَا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: 80] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى هُنَا. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَال: هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّلْخِيصِ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا الْعَقِيدَةُ إِلَّا عَمَلُ الْقَلْبِ فَلِذَلِكَ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ بِالْمُوَاجَهَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُوَجَّهُ إِلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، أَيْ لَا يُقَالُ لِكُلِّ فَرِيقٍ: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 92]

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَوُرُودُ هَلْ لِمَعْنَى النَّفْيِ أَثْبَتَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» اسْتِعْمَالًا تَاسِعًا قَالَ: «أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَا النَّفْيُ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى الْخَبَرِ بَعْدَهَا (إِلَّا) نَحْوُ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: 60] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَلَا هَلْ أَخُو عَيْشٍ لَذِيذٍ بِدَائِمِ وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الْإِنْكَارِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَهُوَ مَعْنَى النَّفْيِ. وَهَذَا تَنْفَرِدُ بِهِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ فِي «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ» قَوْلُهُ: يُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ هَلْ النَّفْيُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ثَمَّةَ اسْتِفْهَامًا لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ» اه. وَأَقُولُ: هَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: وَهل أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: وَهَلْ عَلَيَّ بِأَنْ أَخْشَاكَ مِنْ عَارِ حَيْثُ جَاءَ بِ (مِنْ) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَلَعَلَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّقْرِيرِ بِالنَّفْيِ. وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ غَالِبًا وَالْحَرْفُ الزَّائِدُ فِي النَّفْيِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حَذَفُوا النَّافِيَ وَأَشْرَبُوا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى النَّفْيِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ فَصَارَ مُفَادُ الْكَلَامِ نَفْيًا وَانْسَلَخَتْ (هَلْ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فَصَارَتْ مُفِيدَةً النَّفْيَ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَعْرَاف [147] . [91- 92] [سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 91 إِلَى 92] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) أَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مُطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ

أُصُولِ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْوَعِيدِ بِأَفَانِينَ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّضَمُّنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ السَّالِفِينَ مُفَصَّلًا ذَلِكَ تَفْصِيلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: 1، 2] إِلَى هُنَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ إِلْحَافُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَجَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: 71] . وَأَتَتْ عَلَى دَحْضِ مَطَاعِنِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَتَوَرُّكِهِمْ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا، وَثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّثْبِيتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارا [النَّمْل: 7] وَقَوْلِهِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] ، وَمَا صَاحَبَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ. بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فَذْلَكَةَ الْحِسَابِ، وَخِتَامًا لِلسُّورَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، أَفْسَدَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ازْدِهَاءَهُمْ بِمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَفْحَمُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ وَيَطِيرُ غُرَابُ غُرُورِهِمْ بِمَا نَظَمُوهُ مِنْ سَفْسَطَةٍ، وَجَاءُوا بِهِ مِنْ خَلْبَطَةٍ، وَيَزِيدُ الرَّسُولَ تَثْبِيتًا وَتَطْمِينًا بِأَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ التَّبْلِيغِ وَذَلِكَ بِأَنَّ أُمِرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها فَهَذَا تَلْقِينٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النَّمْل: 92، 93] فَإِنَّ الْأَوَّلَ: مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ. وَالثَّانِي: مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ لِإِفَادَةِ حَصْرٍ إِضَافِيٍّ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مُحَاوَرَاتُهُمُ السَّابِقَةُ مِنْ طَلَبِ تَعْجِيبِ الْوَعِيدِ، وَمَا تَطَاوَلُوا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ الْحَشْرِ. وَالْمَعْنَى: مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَبْتَغُونَ مِنْ تَعْيِينِ أَجَلِ الْوَعِيدِ وَلَا مِنِ اقْتِلَاعِ إِحَالَةِ الْبَعْثِ مِنْ نُفُوسِكُمْ وَلَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ أَثْبُتَ عَلَى عِبَادَةِ رَبٍّ وَاحِدٍ وَأَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ الْبَرَاهِينُ السَّاطِعَةُ وَالدَّلَالَاتُ الْقَاطِعَةُ فَمَنِ اهْتَدَى فَلَا يَمُنُّ عَلَيَّ اهْتِدَاءَهُ وَإِنَّمَا نَفَعَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَنْ ضَلَّ فَمَا أَنَا بِقَادِرٍ عَلَى اهْتِدَائِهِ، وَلَكِنِّي مُنْذِرُهُ كَمَا أَنْذَرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهَا فَلَمْ يَمْلِكُوا لَهُمْ هَدْيًا حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الضَّالِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] .

وَقَدْ أُدْمِجَ فِي خِلَالِ هَذَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ مَكَّةَ وَتَعْرِيضًا بِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالَّذِي أَسْكَنَهُمْ بِهَا وَحَرَّمَهَا فَانْتَفَعُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَأَشْعَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ فَكَاشَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ مِنْ خَوَاطِرِ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [النَّمْل: 74] . فَلِهَذِهِ النُّكَتِ أَجْرَى عَلَى اللَّهِ صِلَةَ حَرَّمَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ لِلْبَلْدَةِ فَلِذَا لَمْ يَقُلْ: الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الصِّلَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِضَلَالِهِمْ إِذْ عَبَدُوا أَصْنَامًا لَا تَمْلِكُ مِنَ الْبَلْدَةِ شَيْئًا وَلَا أَكْسَبَتْهَا فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَهَذَا كَقَوْلِه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ [قُرَيْش: 3] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي هُمْ بِهَا لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِمْ بِحُضُورِ مَا هُوَ بَادٍ مِنْهَا لِلْأَنْظَارِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبِقَاعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاشِيَةٌ قَالَ تَعَالَى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [هود: 60] وَقَالَ إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: 31] . وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ مَكَّةَ بِاسْمِهَا الْعَلَمِ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِشَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَتَبْيِينُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِالْبَلْدَةِ لِأَنَّ الْبَلْدَةَ بَهَاءِ التَّأْنِيثِ اسْمٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٍ مَعْرُوفَةٍ مَحُوزَةٍ فَيَشْمَلُ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى نِهَايَةِ حُدُودِ الْحَرَمِ. وَمَعْنَى حَرَّمَها جَعَلَهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ. وَيَعْلَمُ مُتَعَلِّقُ الْمَنْعِ بِسِيَاقِ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْءَ الْمَمْنُوعَ. فَالْمُرَادُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَلْدَةِ تَحْرِيمُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا يُضَادُّ صَلَاحَهَا وَصَلَاحَ مَا بِهَا مِنْ سَاكِنٍ وَدَابَّةٍ وَشَجَرٍ. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْعُ غَزْوِ أَهْلِهَا وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَإِخَافَتِهِمْ وَمَنْعُ صَيْدِهَا وَقَطْعِ شَجَرِهَا عَلَى حُدُودٍ مَعْلُومَةٍ. وَهَذَا التَّحْرِيمُ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لِتَوْحِيدِهِ وَبِاسْتِجَابَتِهِ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: 126] . فَالتَّحْرِيمُ يَكُونُ كَمَالًا لِلْمُحَرَّمِ وَيَكُونُ نَقْصًا عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِبَارِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ وَصَفْتِهِ، فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ مَزِيَّةٌ وَتَفْضِيلٌ، وَتَحْرِيمُ الْفَوَاحِشِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ تَحْقِيرٌ لَهَا، وَالْمُحَرَّمَاتُ لِلنَّسْلِ وَالرَّضَّاعِ وَالصِّهْرِ زِيَادَةٌ فِي الْحُرْمَةِ.

فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ: مَنْعُ مَا يَضُرُّ بِالْحَالِّ فِيهِ. وَتَحْرِيمُ الزَّمَانِ، كَتَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: مَنْعُ مَا فِيهِ ضُرٌّ لِلْمَوْجُودِينَ فِيهِ. وَتَعْقِيبُ هَذَا بِجُمْلَةِ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ إِضَافَةِ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى الْبَلْدَةِ اقْتِصَارُ مُلْكِهِ عَلَيْهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا لِتَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِتَعْيِينِ مَظْهَرِ مُلْكِهِ. وَتَكْرِيرُ (أُمِرْتُ) فِي قَوْلِهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ يَعْمَلُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَهُوَ أَمْرُ إِلْهَامٍ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ قَبْلِ الرِّسَالَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَمْرٌ يَقْتَضِي الرِّسَالَةَ وَقَدْ شَمِلَ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُكَرِّرْ (أُمِرْتُ) فِي قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِسْلَامِ والتلاوة من شؤون الرِّسَالَةِ. وَفِي قَوْلِهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جَعَلَ الله رَسُوله من آحَادَهَا، وَذَلِكَ نُكْتَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا. وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [الْبَقَرَة: 121] ، وَقَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ التِّلَاوَةِ لِظُهُورِهِ، أَي أَن أتلوا الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ. وَفُرِّعَ عَلَى التِّلَاوَةِ مَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى مُهْتَدٍ وَضَالٍّ، أَيْ مُنْتَفِعٍ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ مُنْتَفِعٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا كَانَ اهْتِدَاؤُهُ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ. وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَحْرِيضِ السَّامِعِينَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَهُ كَمَا آذَنَتْ بِهِ اللَّامُ. وَإِظْهَارُ فِعْلِ الْقَوْلِ هُنَا لِتَأْكِيدٍ أَنَّ حَظَّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَعْوَةِ الْمُعْرِضِينَ الضَّالِّينَ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ الْإِنْذَارَ فَلَا يَطْمَعُوا أَنْ يَحْمِلَهُ إِعْرَاضُهُمْ عَلَى أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ قَبُولَ دَعْوَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذِرِينَ: الرُّسُلُ، أَيْ إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ مِنَ الرُّسُلِ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَسُنَّتِي سُنَّةُ من أرسل من الرُّسُل قَبْلِي وَهِيَ التَّبْلِيغُ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: 35] .

[سورة النمل (27) : آية 93]

[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 93] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) كَانَ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُعَانِدِينَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ لِلدِّينِ الْحَقِّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بِهِ النَّاسَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي عِدَادِ الرُّسُلِ الْمُنْذِرِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأَبْشَرِهَا بِأَعْظَمِ دَرَجَةٍ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُمِرَ بِأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي حَمِدَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ وَهِيَ كَلِمَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَامِعَةُ لِمَعَانٍ مِنَ الْمَحَامِدِ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [59] . ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُعَانِدُونَ حِينَ يَسْمَعُونَ آيَاتِ التَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَقَصْرِ مَقَامِ الرِّسَالَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نَقْضٌ لِلْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ فَخَتَمَ الْكَلَامَ بِتَحْقِيقِ أَنَّ الْوَعِيدَ قَرِيبٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ فَتَظْهَرُ لَهُمْ دَلَائِلُ صِدْقِ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ الْوَعيد بِالْآيَاتِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بِهِمْ مَا فِيهِ تَصْدِيقٌ لِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُوقِنُونَ أَنَّ مَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ، فَمَعْنَى فَتَعْرِفُونَها تَعْرِفُونَ دَلَالَتَهَا عَلَى مَا بَلَّغَكُمُ الرَّسُولُ مِنَ النِّذَارَةِ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَمَّا عُلِّقَتْ بِهَا بِعُنْوَانِ أَنَّهَا آيَاتُ اللَّهِ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ مَا فِي عُنْوَانِ الْآيَاتِ مِنْ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالْعَلَامَةِ. وَالسِّينُ تُؤْذِنُ بِأَنَّهَا إِرَاءَةٌ قَرِيبَةٌ، فَالْآيَاتُ حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ الدُّخَانِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَاسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهَا تَحْصُلُ عَقِبَ حُصُولِهَا وَلَوْ فِي وَقْتِ النَّزْعِ وَالْغَرْغَرَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا. وَقَالَ تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] . فَمِنَ الْآيَاتِ فِي أَنْفُسِهِمْ إِعْمَالُ سُيُوفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَضْعِفُونَهُمْ فِي أَعْنَاقِ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَرُوحُهُ فِي الْغَلْصَمَةِ يَوْمَ بَدْرٍ «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتْلَهُ قَوْمُهُ» يَعْنِي نَفْسَهُ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ.

وَقَوْلُهُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَفِيهِ زِيَادَةُ إِنْذَارٍ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَسْتَوْجِبُ مَا سَيَرَوْنَهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ: مَا يَعْمَلُونَهُ فِي جَانِبِ تَلَقِّي دَعْوَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرْآنِهِ لِأَنَّ نَفْيَ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِالْمِرْصَادِ لَا يُغَادِرُ لَهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ شَيْئًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَعْمَلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قُلِ، وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَام بعد مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ أَحْصَى أَعْمَالَهُمْ وَأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَنْهَا فَلَا يَيْأَسُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَتْ خَاتِمَةً جَامِعَة بَالِغَة أقصد حَدٍّ مِنْ بَلَاغَةِ حُسْنِ الْخِتَامِ

28- سورة القصص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 28- سُورَةُ الْقَصَصِ سُمِّيَتْ سُورَةَ الْقَصَصِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ وُقُوعُ لَفْظِ الْقَصَصَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ [الْقَصَصَ: 25] . فَالْقَصَصُ الَّذِي أُضِيفَتِ إِلَيْهِ السُّورَةُ هُوَ قَصَصُ مُوسَى الَّذِي قَصَّهُ عَلَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِيمَا لَقِيَهُ فِي مِصْرَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا. فَلَمَّا حُكِيَ فِي السُّورَةِ مَا قَصَّهُ مُوسَى كَانَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ ذَاتَ قَصَصٍ لِحِكَايَةِ قَصَصٍ، فَكَانَ الْقَصَصُ مُتَوَغِّلًا فِيهَا. وَجَاءَ لَفْظُ الْقَصَصِ فِي سُورَةِ [3] يُوسُفَ وَلَكِنَّ سُورَةَ يُوسُفَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ. وَفِيهَا آيَةُ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الْقَصَص: 85] . قِيلَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُحْفَةِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ. وَهَذَا لَا يُنَاكِدُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلْ قَبْلَ حُلُولِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَدَنِيِّ مَا نَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ بِمَكَّةَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: 52- 55] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَهِيَ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّمْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الطَّوَاسِينُ الثَّلَاثُ مُتَتَابِعَةً فِي النُّزُولِ كَمَا هُوَ تَرْتِيبُهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي افْتِتَاحِ ثَلَاثَتِهَا بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ كُتَّابَ الْمُصْحَفِ عَلَى جَعْلِهَا مُتَلَاحِقَةً. وَهِيَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّ بُلَغَاءَ الْمُشْرِكِينَ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَعَلَى تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [18، 19] مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إِلَى قَوْلِهِ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ فَفَصَّلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ كَيْفَ كَانَتْ تَرْبِيَةُ مُوسَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ. وَبَيَّنَ فِيهَا سَبَبَ زَوَالِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ. وَفِيهَا تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [7] مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا فَفَصَّلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ كَيْفَ سَارَ مُوسَى وَأَهْلُهُ وَأَيْنَ آنَسَ النَّارَ وَوَصْفَ الْمَكَانِ الَّذِي نُودِيَ فِيهِ بِالْوَحْيِ إِلَى أَنْ ذَكَرَتْ دَعْوَةَ مُوسَى فِرْعَوْنَ فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوْعَبَ لِأَحْوَالِ نَشْأَةِ مُوسَى إِلَى وَقْتِ إِبْلَاغِهِ الدَّعْوَةَ ثُمَّ أَجْمَلَتْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَفْصِيلَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْصِيلِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ سَوْقُ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي بِعْثَةِ الرُّسُلَ وَمُعَامَلَتِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِهَا. وَتَحَدَّى الْمُشْرِكِينَ بِعِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا خَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ، ذَيَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الشِّرْكِ وَأَنْذَرَهُمْ إِنْذَارًا بَلِيغًا. وَفَنَّدَ قَوْلَهُمْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] مِنَ الْخَوَارِقِ كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً ثُمَّ انْتِقَاضِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا مُوسَى أَيْضًا. وَتَحَدَّاهُمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ مَعَ هَدْيِ التَّوْرَاةِ. وَأَبْطَلَ مَعَاذِيرَهُمْ ثُمَّ أَنْذَرَهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَ اللَّهِ. وَسَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا كُلُّهَا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ.

[سورة القصص (28) : آية 1]

وَأَنْحَى عَلَيْهِمْ فِي اعْتِزَازِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ وَمَالِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَتَاعُ الدُّنْيَا وَأَنَّ مَا ادُّخِرَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَأَعْقَبَهُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِحَالِ قَارُونَ فِي قَوْمِ مُوسَى. وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ أَمْثَالَ أُولَئِكَ لَا يَحْظَوْنَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اقْتِرَابِ مُهَاجَرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 5] الْآيَةَ. وَخَتَمَ الْكَلَام بتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتِهِ وَوَعْدِهِ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ بَلَدَهُ فِي قَبْضَتِهِ وَيُمَكِّنُهُ مِنْ نَوَاصِي الضَّالِّينَ. وَيَقْرُبُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وَدُّوا أَنْ تُفَصَّلَ لَهُمْ قِصَّةُ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ الْمَقْصُودُ انْتِفَاعُهُمْ بِمَا فِي تفاصيلها مِنْ مَعْرِفَةٍ نَافِعَةٍ لَهُمْ تَنْظِيرًا لِحَالِهِمْ وَحَالِ أَعْدَائِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي أَولهَا نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْقَصَص: 3] أَيْ للْمُؤْمِنين. [1] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي فَاتِحَةِ سُورَة الشُّعَرَاء. [2، 3] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 2 إِلَى 3] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ عَلَى نَحْوِ الْإِشَارَةِ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [2] . فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا هُوَ مَقْرُوءٌ يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ شَأْنٌ عَظِيم. وَجُمْلَة نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.

وَمُهِّدَ لِنَبَإِ مُوسَى وَفرْعَوْن بقوله نَتْلُوا عَلَيْكَ لِلتَّشْوِيقِ لِهَذَا النَّبَإِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَتَّى الْعِبَرِ بِعَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ لِكَلَامٍ مَكْتُوبٍ أَوْ مَحْفُوظٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ [النَّمْل: 92] ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ تَبْلُغُ إِلَيْهِ التِّلَاوَةُ بِحَرْفِ (عَلَى) وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ فِي الْبَقَرَةِ [102] ، وَقَوْلِهِ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [2] . وَإِسْنَادُ التِّلَاوَةِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِتِلَاوَةِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ وَالَّذِي يَتْلُو حَقِيقَةً هُوَ جِبْرِيلُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [252] . وَجُعِلَتِ التِّلَاوَةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَلَقَّى ذَلِكَ الْمَتْلُوَّ. وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ بِالنَّبَإِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ ذُو شَأْنٍ وَأَهَمِّيَّةٍ. وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ نَتْلُو عَلَيْكَ لِأَجْلِ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ تِلَاوَةِ النَّبَإِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ فَالنَّبِيءُ يُبَلِّغُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كَانَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُوا أَوْ تَشَوَّفُوا إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَاءَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَسُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَتَخْصِيصُهُمْ بِالتَّعْلِيلِ وَاضِحٌ وَانْتِفَاعُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَعَهُمْ أَجْدَرُ وَأَقْوَى، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالذِّكْرِ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِفَادَةِ مَنْ سَأَلَ وَغَيْرُهُمْ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُزُولُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ تَشَوُّفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَخْصِيصُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتِّلَاوَةِ لِأَجْلِهِمْ تَنْوِيهٌ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ أَصْبَحُوا مُتَطَلِّبِيَنَ لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُتَشَوِّفِينَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْقِصَصِ النَّافِعَةِ لِيَزْدَادُوا بِذَلِكَ يَقِينًا. وَحُصُولُ ازْدِيَادِ الْعِلْمِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي وَالْمُبَلِّغُ لِيَتَذَكَّرَ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ وَيَزْدَادَ عِلْمًا بِمَا عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتُ فُؤَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا

نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120] . فَالْمُرَادُ بِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قَوْمٌ الْإِيمَانُ شَأْنُهُمْ وَسَجِيَّتُهُمْ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَعْنَى تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْ نُفُوسِهِمْ أُجْرِيَ وَصْفُ الْإِيمَانِ عَلَى كَلِمَةِ (قَوْمٍ) لِيُفِيدَ أَنَّ كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. فَالْمُرَادُ: الْمُتَلَبِّسُونَ بِالْإِيمَانِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ وَمُسْتَمِرٌّ مُتَجَدِّدٌ. وَفِي هَذَا إِعْرَاضٌ عَنِ الْعِبْءِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا يُقْصَدُ فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا انْتَفَعَ بِهَا مَنْ آمَنَ وَمَنْ سَيُؤْمِنُ بَعْدَ سَمَاعِهَا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهُوَ حَالٌ من ضمير نَتْلُوا، أَوْ صِفَةٌ لِلتِّلَاوَةِ المستفادة من نَتْلُوا. وَالْحَقُّ: الصِّدْقُ لِأَنَّ الصِّدْقَ حَقٌّ إِذِ الْحَقُّ هُوَ مَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْأَدْيَانِ القويمة. ومفعول نَتْلُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ صِفَتُهُ وَهِيَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ فَالتَّقْدِيرُ: نَتْلُو عَلَيْكَ كَلَامًا مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فَإِنَّ الْمَتْلُوَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضُ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي الْوَاقِعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى لَمْ تُذْكَرْ هُنَا مِثْلُ ذِكْرِ آيَةِ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ اسْمًا بِمَعْنَى (بَعْضَ) فَجَعلهَا مفعول نَتْلُوا. وَجَعَلَ الْأَخْفَشُ مِنْ زَائِدَةً لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ مِنْ تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ، فَجَعَلَ نَبَإِ مُوسى هُوَ الْمَفْعُولَ جُرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ المهم الْعَظِيم.

[سورة القصص (28) : آية 4]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 4] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَان لجملة نَتْلُوا [الْقَصَص: 3] أَوْ بَيَانٌ لِ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ [الْقَصَص: 3] فَقُدِّمَ لَهُ الْإِجْمَالُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ نَبَأٌ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ بِمَا فِيهِ مِنْ شَتَّى الْعِبَرِ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَابْتُدِئَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِ أَسْبَابِهَا لِتَكُونَ عِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْهَا سُنَنًا يَعْلَمُونَ بِهَا عِلَلَ الْأَشْيَاءِ وَمَعْلُولَاتِهَا، ويسيرون فِي شؤونهم عَلَى طَرَائِقِهَا، فَلَوْلَا تَجَبُّرُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مِنْ قَبِيحِ الْخلال من حَلَّ بِهِ وَبِقَوْمِهِ الِاسْتِئْصَالُ، وَلَمَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَذَا مِصْدَاقُ الْمَثَلِ: مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] . وَصُوِّرَتْ عَظَمَةُ فِرْعَوْنَ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ عَلا فِي الْأَرْضِ لِتَكُونَ الْعِبْرَةُ بِهَلَاكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُلُوِّ أَكْبَرَ الْعِبَرِ. وَمَعْنَى الْعُلُوِّ هُنَا الْكِبْرُ، وَهُوَ الْمَذْمُومُ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 83] . وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَسْتَشْعِرَ نَفْسَهُ عَالِيًا عَلَى مَوْضِعِ غَيْرِهِ لَيْسَ يُسَاوِيهِ أَحَدٌ، فَالْعُلُوُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّفَوُّقِ عَلَى غَيْرِهِ، غَيْرُ مَحْقُوقٍ لِحَقٍّ مِنْ دِينٍ أَوْ شَرِيعَةٍ أَوْ رَعْيِ حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَهُ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ لَمْ يَعْبَأْ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِرَعْيِ صَلَاحٍ وَتَجَنُّبِ فَسَادٍ وَضُرٍّ وَإِنَّمَا يَتْبَعُ مَا تَحْدُوهُ إِلَيْهِ شَهْوَتُهُ وَإِرْضَاءُ هَوَاهُ، وَحَسْبُكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ إِلَهًا وَأَنَّهُ ابْنُ الشَّمْسِ. فَلَيْسَ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَذْمُومِ رُجْحَانُ أَحَدٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لِأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالرُّجْحَانِ فِيهِ جَرْيًا عَلَى سَبَبِ رُجْحَانٍ عَقْلِيٍّ كَرُجْحَانِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ وَالصَّالِحِ عَلَى الطَّالِحِ وَالذَّكِيِّ عَلَى الْغَبِيِّ، أَوْ سَبَبِ رُجْحَانٍ عَادِيٍّ وَيَشْمَلُ الْقَانُونِيَّ وَهُوَ كُلُّ رُجْحَانٍ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا بِمُرَاعَاتِهِ كَرُجْحَانِ أَمِيرِ الْجَيْشِ عَلَى جُنُودِهِ وَرُجْحَانِ الْقَاضِي عَلَى الْمُتَخَاصِمِينَ. وَأَعْدَلُ الرُّجْحَانِ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ كَرُجْحَانِ الْمُؤْمِنِ عَلَى

الْكَافِرِ، وَالتَّقِيِّ عَلَى الْفَاسِقِ، قَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] وَيَتَرَجَّحُ فِي كُلِّ عَمَلٍ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ وَالْإِجَادَةِ فِيهِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمُسَاوَاةُ. وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ (رَعْمَسِيسُ) الثَّانِي وَهُوَ الْمَلِكُ الثَّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُؤَرِّخِينَ لِلْفَرَاعِنَةِ، وَكَانَ فَاتِحًا كَبِيرًا شَدِيدَ السَّطْوَةِ وَهُوَ الَّذِي وُلِدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي زَمَانِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ. والْأَرْضِ: هِيَ أَرْضُ مِصْرَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ ذِكْرَ فِرْعَوْنَ يَجْعَلُهَا مَعْهُودَةً عِنْدَ السَّامِعِ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ اسْمُ مَلِكِ مِصْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ جَمِيعَ الْأَرْضِ يَعْنِي الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ مِنْهَا، فَإِطْلَاقُ الْأَرْضِ كَإِطْلَاقِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ فَقَدْ كَانَ مُلْكُ فِرْعَوْنَ (رَعْمَسِيسَ) الثَّانِي مُمْتَدًّا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ مِنْ حُدُودِ نَهْرِ (الْكَنْكِ) فِي الْهِنْدِ إِلَى نَهْرِ (الطونة) فِي أوروبا، فَالْمَعْنَى أَرْضُ مَمْلَكَتِهِ، وَكَانَ عُلُوُّهُ أَقْوَى مِنْ عُلُوِّ مُلُوكِ الْأَرْضِ وِسَادَةِ الْأَقْوَامِ. وَالشِّيَعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ. وَالشِّيعَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُشَايِعُ غَيْرَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ، أَيْ تُتَابِعُهُ وَتُطِيعُهُ وَتَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَص: 15] ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْفِرْقَةِ مِنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ قَالَ تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم: 32] . وَمِنَ الْبَلَاغَةِ اخْتِيَارُهُ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ بِلَادِ الْقِبْطِ فِرَقًا ذَاتَ نَزَعَاتٍ تَتَشَيَّعُ كُلُّ فِرْقَةٍ إِلَيْهِ وَتُعَادِي الْفُرْقَةَ الْأُخْرَى لِيَتَمَّ لَهُمْ ضَرْبُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَقَدْ أَغْرَى بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ لِيَأْمَنَ تَأَلُّبَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ «فَرِّقْ تَحْكُمْ» وَهِيَ سِيَاسَةٌ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمَكْرِ بِالضِّدِّ وَالْعَدُوِّ وَلَا تَلِيقُ بِسِيَاسَةِ وَلِيِّ أَمْرِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَكَانَ (رَعْمَسِيسُ) الثَّانِي قَسَّمَ بِلَادَ مِصْرَ إِلَى سِتٍّ وَثَلَاثِينَ إِيَالَةً وَأَقَامَ عَلَى كُلِّ إِيَالَةٍ أُمَرَاءَ نُوَّابًا عَنْهُ لِيَتَسَنَّى لَهُ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ جَعَلَ وَأُبْدِلَتْ مِنْهَا بَدَلَ اشْتِمَالِ جُمْلَةُ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَّا

لِأَنَّهُ عَدَّهُمْ ضُعَفَاءَ، أَيْ أَذِلَّةً فَكَانَ يَسُومُهُمُ الْعَذَابَ وَيُسَخِّرُهُمْ لِضَرْبِ اللَّبِنِ وَلِلْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَالطَّائِفَةُ الْمُسْتَضْعَفَةُ هِيَ طَائِفَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَهْلَها لَا إِلَى شِيَعاً. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَبْحِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [67] أَنَّ الْخَبَرَ بِتِلْكَ الصِّيغَةِ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِمَّا لَوْ قِيلَ: أَنْ أَكُونَ جَاهِلًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الْإِفْسَادِ مِنْ خُلُقِهِ وَلِفِعْلِ الْكَوْنِ إِفَادَةُ تُمَكُّنِ خَبَرِ الْفِعْلِ مِنِ اسْمِهِ. فَحَصَلَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى تَمَكُّنِ الْإِفْسَادِ مِنْ فِرْعَوْنَ، ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ. الْمَفْسَدَةُ الْأُولَى: التَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ فَإِنَّهُ مَفْسَدَةٌ نَفْسِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَفَاسِدُ جَمَّةٌ مِنِ احْتِقَارِ النَّاسِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ وَسُوءِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَبَثِّ عَدَاوَتِهِ فِيهِمْ، وَسُوءِ ظَنِّهِ بِهِمْ وَأَنْ لَا يَرْقُبَ فِيهِمْ مُوجِبَاتِ فَضْلٍ سِوَى مَا يُرْضِي شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَلِيُّ أَمْرِهِمْ وَرَاعِيهِمْ كَانَتْ صِفَةُ الْكِبَرِ مُقْتَضِيَةً سُوءَ رِعَايَتِهِ لَهُمْ وَالِاجْتِرَاءَ عَلَى دَحْضِ حُقُوقِهِمْ، وَأَنْ يَرْمُقَهُمْ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَلَا يَعْبَأَ بِجَلْبِ الصَّالِحِ لَهُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَبْتَزَّ مَنَافِعَهُمْ لِنَفْسِهِ وَيُسَخِّرَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ لِخِدْمَةِ أَغْرَاضِهِ وَأَنْ لَا يَلِينَ لَهُمْ فِي سِيَاسَةٍ فَيُعَامِلَهُمْ بِالْغِلْظَةِ وَفِي ذَلِكَ بَثُّ الرُّعْبِ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ بَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ، فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ أَمُّ الْمَفَاسِدِ وَجِمَاعُهَا وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِأَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. الْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ الْمَمْلَكَةِ شِيَعًا وَفَرَّقَهُمْ أَقْسَامًا وَجَعَلَ مِنْهُمْ شِيَعًا مُقَرَّبِينَ مِنْهُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ وَذَلِكَ فَسَادٌ فِي الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ يثير بَينهَا التَّحَاسُدَ وَالتَّبَاغُضَ، وَيَجْعَلُ بَعْضَهَا يَتَرَبَّصُ الدَّوَائِرَ بِبَعْضٍ، فَتَكُونُ الْفِرَقُ الْمَحْظُوظَةُ عِنْدَهُ مُتَطَاوِلَةً عَلَى الْفِرَقِ الْأُخْرَى، وَتَكْدَحُ الْفِرَقُ الْأُخْرَى لِتُزَحْزِحَ الْمَحْظُوظِينَ عَنْ حُظْوَتِهِمْ بِإِلْقَاءِ النَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَاتِ الْكَاذِبَةِ فَيَحُلُّوا مَحَلَّ الْآخَرِينَ. وَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ فِي مَكَائِدِ بَعضهم لبَعض فَيكون بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً،

وَشَأْنُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّعِيَّةَ مِنْهُ كُلَّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْأَبِ يُحِبُّ لَهُمُ الْخَيْرَ وَيُقَوِّمُهُمْ بِالْعَدْلِ وَاللِّينِ، لَا مِيزَةَ لِفِرْقَةٍ عَلَى فِرْقَةٍ، وَيَكُونُ اقْتِرَابُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مِنْهُ بِمِقْدَارِ الْمَزَايَا النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. الْمَفْسَدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَيَجْعَلُهَا مُحَقَّرَةً مَهْضُومَةَ الْجَانِبِ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ فِرَقٍ أُخْرَى وَلَا عَدْلَ فِي مُعَامَلَتِهَا بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْفِرَقَ الْأُخْرَى، فِي حِينِ أَنَّ لَهَا مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ مَا لِغَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا الَّذين استوطنوها ونشأوا فِيهَا. وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَدْ كَانُوا قَطَنُوا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِرِضَى مَلِكِهَا فِي زَمَنِ يُوسُفَ وَأُعْطُوا أَرْضَ (جَاسَانَ) وَعَمَرُوهَا وَتَكَاثَرُوا فِيهَا وَمَضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، فَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ فِي أَرْضِ الْمَمْلَكَةِ مَا لِسَائِرِ سُكَّانِهَا فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَدْلِ جَعْلُهُمْ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَنَازِلِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى طائِفَةً مِنْهُمْ إِذْ جَعَلَهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ فِرْعَوْنُ شِيَعًا. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ طائِفَةً إِلَى أَنَّهُ اسْتَضْعَفَ فَرِيقًا كَامِلًا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِضْعَافَ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى أَشْخَاصٍ معيّنين لأسباب تَقْتَضِي اسْتِضْعَافَهُمْ كَكَوْنِهِمْ سَاعِينَ بِالْفَسَادِ أَوْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاعْتِدَادِ بِهِمْ لِانْحِطَاطٍ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بَلْ جَرَى اسْتِضْعَافُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَالْقَبَلِيَّةِ وَذَلِكَ فَسَادٌ لِأَنَّهُ يَقْرِنُ الْفَاضِلَ بِالْمَفْضُولِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الِاسْتِضْعَافِ الْمَنُوطِ بِالْعُنْصُرِيَّةِ أَجْرَى شِدَّتَهُ عَلَى أَفْرَادِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ دُونَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مُسْتَحِقٍّ وَغَيْرِهِ وَلم يراع غير النَّوْعِيَّةَ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ وَهِيَ: الْمَفْسَدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ أَيْ يَأْمُرُ بِذَبْحِهِمْ، فَإِسْنَادُ الذَّبْحِ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمُرَادُ بِالْأَبْنَاءِ: الذُّكُورُ مِنَ الْأَطْفَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قُوَّةٌ مِنْ رِجَالِ قَبِيلَتِهِمْ حَتَّى يَكُونَ النُّفُوذُ فِي الْأَرْضِ لِقَوْمِهِ خَاصَّةً. الْمَفْسَدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يَسْتَحْيِي النِّسَاءَ، أَيْ يَسْتَبْقِي حَيَاةَ الْإِنَاثِ مِنَ الْأَطْفَال، فَأطلق عَلَيْهِم اسْمَ النِّسَاءِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحْيِيهِنَّ لِيَصِرْنَ نِسَاءً

[سورة القصص (28) : الآيات 5 إلى 6]

فَتَصْلُحْنَ لِمَا تَصْلُحُ لَهُ النِّسَاءُ وَهُوَ أَنْ يَصِرْنَ بَغَايَا إِذْ لَيْسَ لَهُنَّ أَزوَاج. وَإِذ كَانَ احْتِقَارُهُنَّ بِصَدِّ قَوْمِهِ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ حَظٌّ مِنْ رِجَالِ الْقَوْمِ إِلَّا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَقْصِدِ انْقَلَبَ الِاسْتِحْيَاءُ مَفْسَدَةً بِمَنْزِلَةِ تَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. [5- 6] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 5 إِلَى 6] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (6) عطفت جُمْلَةَ وَنُرِيدُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 4] لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ نَبَإِ تَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، فَذَلِكَ مِنْ عُلُوِّ فِرْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ بَيَانٌ لِنَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ الْخَيْرَ بِالَّذِينَ اسْتَضْعَفَهُمْ فِرْعَوْنُ مِنْ تَمَامِ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَهُوَ مَوْقِعُ عِبْرَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ عِبَرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي حِكَايَةِ إِرَادَةٍ مَضَتْ لِاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَنَّهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ فِرْعَوْنَ يَطْغَى عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِبْطَالَ عَمَلِهِ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً عَظِيمَةً، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنُرِيدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير يَسْتَضْعِفُ [الْقَصَص: 4] بِاعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ مُقَارَنَةٌ لِوَقْتِ اسْتِضْعَافِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ. فَالْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ: وَنَحْنُ حِينَئِذٍ مُرِيدُونَ أَنْ نُنْعِمَ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. وَالْمَنُّ: الْإِنْعَامُ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ مَضْمُومَ الْعَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. والَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ هُمُ الطَّائِفَةُ الَّتِي اسْتَضْعَفَهَا فِرْعَوْنُ. والْأَرْضِ هِي الْأَرْضُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 4] . وَنُكْتَةُ إِظْهَارِ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا دُونَ إِيرَادِ ضَمِيرِ الطَّائِفَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ لِعِبَادِهِ، وَيَنْصُرُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.

وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْمَنِّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ عُطِفَتْ عَلَى فِعْلِ نَمُنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَهِيَ: جَعْلُهُمْ أَيِمَّةً، وَجَعْلُهُمُ الْوَارِثِينَ، وَالتَّمْكِينُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ يَكُونَ زَوَالُ مُلْكِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي نِعَمٍ أُخْرَى جَمَّةٍ، ذُكِرَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَأَمَّا جَعْلُهُمْ أَيِمَّةً فَذَلِكَ بِأَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حُرَّةً مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا لَهَا شَرِيعَةٌ عَادِلَةٌ وَقَانُونُ مُعَامَلَاتِهَا وَقُوَّةٌ تَدْفَعُ بِهَا أَعْدَاءَهَا وَمَمْلَكَةٌ خَالِصَةٌ لَهَا وَحَضَارَةٌ كَامِلَةٌ تَفُوقُ حَضَارَةَ جِيرَتِهَا بِحَيْثُ تَصِيرُ قُدْوَةً للأمم فِي شؤون الْكَمَالِ وَطَلَبِ الْهَنَاءِ، فَهَذَا مَعْنَى جَعْلِهِمْ أَيِمَّةً، أَيْ يَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُهُمْ وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْخَيْرِ وَنَاهِيكَ بِمَا بَلَغَهُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا جَعْلُهُمُ الْوَارِثِينَ فَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ دِيَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ وَيُحَكِّمَهُمْ فِيهِمْ، فَالْإِرْثُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي خِلَافَةِ أُمَمٍ أُخْرَى. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْوارِثِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِرْثِ الْخَاصِّ وَهُوَ إِرْثُ السُّلْطَةِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مَنْ أَهْلِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْرَثَهُمْ أَرض الكنعانيين والحثيين وَالْأَمُورِيِّينَ وَالْآرَامِيِّينَ، وَأَحَلَّهُمْ مَحَلَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَظَمَةِ حَتَّى كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْجَبَابِرَةِ قَالَ تَعَالَى قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ [الْمَائِدَة: 22] . وَالتَّمْكِينُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ تَثْبِيتُ سُلْطَانِهِمْ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْهَا وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَقْوِيَتَهُمْ بَيْنَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِنْ حُمِلَ التَّعْرِيفُ عَلَى جِنْسِ الْأَرْضِ الْمُنْحَصِرِ فِي فَرْدٍ، أَوْ عَلَى الْعَهْدِ، أَيِ الْأَرْضِ الْمَعْهُودَةِ لِلنَّاسِ. وَأَصْلُ التَّمْكِينِ: الْجَعْلُ فِي الْمَكَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [84] ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اشْتِقَاقِ التَّمْكِينِ وَتَصَارِيفِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [6] . وَمَا كانُوا يَحْذَرُونَ هُوَ زَوَالُ مُلْكِهِمْ بِسَبَبِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَسْبَمَا أَنْذَرَهُ بِذَلِكَ الْكُهَّانُ.

وَمَعْنَى إِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ إِرَاءَتُهُمْ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَسْبَابَهُ. وَفِرْعَوْنُ الَّذِي أُرِيَ ذَلِكَ هُوَ مَلِكُ مِصْرَ (مِنْفَتَاحُ) الثَّالِثُ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ مِصْرَ بَعْدَ (رَعْمَسِيسَ) الثَّانِي الَّذِي كَانَتْ وِلَادَةُ مُوسَى فِي زَمَانِهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَحْذَرُ ظُهُورَ رَجُلٍ مِنْ إِسْرَائِيلَ يَكُونُ لَهُ شَأْنٌ. وهامانَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ وَزِيرُ فِرْعَوْنَ. وَظَاهِرُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ وَزِيرُ فِرْعَوْنَ وَأَحْسَبُ أَنْ هَامَانَ لَيْسَ بَاسِمِ عَلَمٍ وَلَكِنَّهُ لَقَبُ خِطَّةٍ مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ وَنَجَاشِيٍّ. فَالظَّاهِرُ أَنْ هَامَانَ لَقَبُ وَزِيرِ الْمَلِكِ فِي مِصْرَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَجَاءَ فِي كِتَابِ «أَسْتِيرَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُلْحَقَةِ بِالتَّوْرَاةِ تَسْمِيَة وَزِير (أحشويروش) مِلْكِ الْفُرْسِ (هَامَانُ) فَظَنُّوهُ عَلَمًا فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ وَزِيرٌ اسْمُهُ هَامَانُ وَاتَّخَذُوا هَذَا الظَّنَّ مَطْعَنًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا اشْتِبَاهٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْأَعْلَامَ لَا تَنْحَصِرُ وَكَذَلِكَ أَلْقَابُ الْوِلَايَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ بَيْنَ أُمَمٍ وَخَاصَّةً الْأُمَمَ الْمُتَجَاوِرَةَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هامانَ عَلَمًا مِنَ الْأَمَانِ فَإِنَّ الْأَعْلَامَ تَتَكَرَّرُ فِي الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَقَبَ خِطَّةٍ فِي مِصْرَ فَنَقَلَ الْيَهُودُ هَذَا اللَّقَبَ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ فِي مُدَّةِ أَسْرِهِمْ. وَيُشْبِهُ هَذَا الطَّعْنَ طَعْنُ بَعْضِ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنْ نَصَارَى الْعَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَرْيَمَ حِينَ حَكَى قَوْلَ أَهْلِهَا لَهَا يَا أُخْتَ هارُونَ [مَرْيَم: 28] فَقَالُوا: هَذَا وَهَمٌ انْجَرَّ مِنْ كَوْنِ أَبِي مَرْيَمَ اسْمُهُ عِمْرَانُ فَتَوَهَّمَ أَنَّ عِمْرَانَ هُوَ أَبُو مُوسَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَبِعَ ذَلِكَ تَوَهُّمُ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ وَهُوَ مُجَازَفَةٌ فَإِنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ اسْمَ أَبِي مَرْيَمَ وَهَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى عَلَى اسْمِ أَبِي مُوسَى وَهَارُونَ وَهَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِمَرْيَمَ أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَالْجُنُودُ جَمْعُ الْجُنْدِ. وَيُطْلِقُ الْجُنْدُ عَلَى الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج: 17، 18] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُرِيَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ وَنَصْبِ فِرْعَوْنَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَرَى بِيَاءِ الْغَائِبِ مَفْتُوحَةً وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ رَأَى وَرَفْعِ فِرْعَوْنَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَمَآلُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.

[سورة القصص (28) : آية 7]

وَالْجُنْدُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ: هُوَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى أَمْرٍ تَتَّبِعُهُ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَسْكَرِ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ خِدْمَةُ أَمِيرهمْ وطاعته. [7] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 7] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الْقَصَص: 5] ، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَإِ. وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْصِيلًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الذُّلِّ خَلَقَ اللَّهُ الْمُنْقِذَ لَهُمْ. وَالْوَحْيُ هُنَا وَحْيُ إِلْهَامٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ مِنِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ مَا يُحَقِّقُ عِنْدَهَا أَنَّهُ خَاطِرٌ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّ الْإِلْهَامَ الصَّادِقَ يَعْرِضُ لِلصَّالِحِينَ فَيُوقِعُ فِي نُفُوسهم يَقِينا ينبعثون بِهِ إِلَى عَمَلِ مَا أُلْهِمُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ بِرُؤْيَا صَادِقَةٍ رَأَتْهَا. وَأَمُّ مُوسَى لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لَهَا أَسْمَاءً لَا يُوثَقُ بِصِحَّتِهَا. وَقَوْلُهُ أَنْ أَرْضِعِيهِ تَفْسِيرٌ لِ أَوْحَيْنا. وَالْأَمْرُ بِإِرْضَاعِهِ يُؤْذِنُ بِجُمَلٍ طُوِيَتْ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرُ مَا أَرَادَهُ هُوَ الْجَنِينَ الَّذِي فِي بَطْنِ أَمِّ مُوسَى وَوَضَعَتْهُ أُمُّهُ، وَخَافَتْ عَلَيْهِ اعْتِدَاءَ أَنْصَارِ فِرْعَوْنَ عَلَى وَلِيدِهَا وَتَحَيَّرَتْ فِي أَمْرِهَا فَأُلْهِمَتْ أَوْ أُرِيَتْ مَا قَصَّهُ اللَّهُ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَالْإِرْضَاعُ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ يَتَضَمَّنُ أَنْ: أخفيه مُدَّة ترْضِعه فِيهَا فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْرَفَ خَبَرُهُ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. وَإِنَّمَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِإِرْضَاعِهِ لِتَقْوَى بُنْيَتُهُ بِلِبَانِ أُمِّهِ فَإِنَّهُ أَسْعَدُ بِالطِّفْلِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ مِنْ لِبَانِ غَيْرِهَا، وَلِيَكُونَ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ قُوتٌ يَشُدُّ بُنْيَتَهُ فِيمَا بَيْنَ قَذْفِهِ فِي الْيَمِّ وَبَيْنَ الْتِقَاطِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَإِيصَالِهِ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ

وَابْتِغَاءِ الْمَرَاضِعِ وَدَلَالَةِ أُخْتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أُمِّهِ إِلَى أَنْ أُحْضِرَتْ لِإِرْضَاعِهِ فَأُرْجِعَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا بَعْضَ يَوْمٍ. وَحَكَتْ كُتُبُ الْيَهُودِ أَنَّ أُمَّ مُوسَى خَبَّأَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ خَافَتْ أَنْ يَفْشُوَ أَمْرُهُ فَوَضَعَتْهُ فِي سَفَطٍ مُقَيَّرٍ وَقَذَفَتْهُ فِي النَّهْرِ. وَقَدْ بَشَّرَهَا اللَّهُ بِمَا يُزِيلُ هَمَّهَا بِأَنَّهُ رَادُّهُ إِلَيْهَا وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا بَشَّرَهَا بِمَا سَيَكُونُ لَهُ مِنْ مَقَامٍ كَرِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ إِلَيْهَا كَانَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَأَنَّهَا أُمِرَتْ بِأَنْ تُلْقِيَهُ فِي اليم عِنْد مَا ترى دَلَائِل المخافة من جواسيس فِرْعَوْن وَذَلِكَ ليَكُون إلقاؤه فِي الْيَمِّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلضُّرِّ الْمُحَقَّقِ بِالضُّرِّ الْمَشْكُوكِ فِيهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي يَقِينِهَا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ. والْيَمِّ: الْبَحْرُ وَهُوَ هُنَا نَهْرُ النِّيلِ الَّذِي كَانَ يَشُقُّ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ مَنَازِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْيَمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَادِفُ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِهِمْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَبْحَرِ، فَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ يُسَمَّى بَحْرًا قَالَ تَعَالَى وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فاطر: 12] ، فَإِنَّ الْيَمَّ مِنَ الْأَنْهَارِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِثَالًا مِنْ أَمْثِلَةِ دَقَائِقِ الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ فَذَكَرَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَالْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ» يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ جَارِيَةً أَعْرَابِيَّةً تُنْشِدُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِأَمْرِي كُلِّهِ ... قَتَلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ مِثْلَ غَزَالٍ نَاعِمًا فِي دَلِّهِ ... انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهِ وَهِيَ تُرِيدُ التَّوْرِيَةَ بِالْقُرْآنِ. فَقَالَ لَهَا: قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ يُرِيدُ مَا أَبْلَغَكِ (وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْبَلَاغَةَ فَصَاحَةً) فَقَالَت لَهُ: أَو يعد هَذَا فَصَاحَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ خَبَرَيْنِ، وَأَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ.

[سورة القصص (28) : آية 8]

فَالْخَبَرَانِ هُمَا وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وَقَوْلُهُ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يشْعر بِأَنَّهَا سَتَخَافُ عَلَيْهِ. وَالْأَمْرَانِ هُمَا: أَرْضِعِيهِ وَ (أَلْقِيهِ) . وَالنَّهْيَانِ: وَلا تَخافِي وَلَا تَحْزَنِي. وَالْبِشَارَتَانِ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، وَالْحُزْنُ: حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَنْشَأُ مِنْ حَادِثٍ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ كَفَوَاتِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ بُعْدِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الْهَلَاكَ مِنَ الْإِلْقَاءِ فِي الْيَمِّ، وَلَا تَحْزَنِي عَلَى فِرَاقِهِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ وَعَنِ الْحُزْنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبَيْهِمَا وَهُمَا تُوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَالتَّفَكُّرُ فِي وَحْشَةِ الْفِرَاقِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيَيْنِ لِأَنَّ ضَمَانَ رَدِّهِ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ وَأَنَّهَا لَا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ بِطُولِ الْمَغِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَإِدْخَالٌ للمسرة عَلَيْهَا. [8] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 8] فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) الِالْتِقَاطُ افْتِعَالٌ مِنَ اللَّقْطِ، وَهُوَ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا بِقَصْدٍ أَوْ ذُهُولٍ. أَسْنَدَ الِالْتِقَاطَ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ اسْتِخْرَاجَ تَابُوتِ مُوسَى مِنَ النَّهْرِ كَانَ مِنْ إِحْدَى النِّسَاءِ الْحَافَّاتِ بِابْنَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ كَانَتْ مَعَ أَتْرَابِهَا وَدَايَاتِهَا عَلَى سَاحِلِ النِّيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ بِلَامِ كَيْ وَهِيَ لَامٌ جَارَّةٌ مِثْلُ كي، وَهِي هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِ (الْتَقَطَهُ) . وَحَقُّ لَامِ كَيْ أَنْ تَكُونَ جَارَّةً لِمَصْدَرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ (أَنِ) الْمَقَدَّرَةِ بَعْدَ اللَّامِ وَمِنَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا فَذَلِكَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ فَاعِلِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي

الْآيَةِ اسْتِعْمَالًا وَارِدًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيهِمْ إِلَى الْتِقَاطِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وَلَكِنَّهُمُ الْتَقَطُوهُ رَأْفَةً بِهِ وَحُبًّا لَهُ لِمَا أُلْقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ شَفَقَةٍ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ كَانَ لَهُمْ عَدُوًّا فِي اللَّهِ وَمُوجِبَ حَزَنٍ لَهُمْ، شُبِّهَتِ الْعَاقِبَةُ بِالْعِلَّةِ فِي كَوْنِهَا نَتِيجَةً لِلْفِعْلِ كشأن الْعلَّة غَالِبا فاستعير لترتب الْعَاقِبَة المشبهة الْحَرْف الَّذِي يدل على تَرْتِيب الْعِلَّةِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ مَعْنَى الْحَرْفِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، أَيِ اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ تَبَعًا لاستعارة مَعْنَاهُ لِأَن الْحُرُوف بمعزل عَن الِاسْتِعَارَة لِأَن الْحَرْف لَا يَقع مَوْصُوفا، فالاستعارة تكون فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ تَسْرِي مِنَ الْمَعْنَى إِلَى الْحَرْفِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي خِلَافًا لِلسَّكَّاكِيِّ. وَضَمِيرُ لَهُمْ يَعُودُ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْعُنْوَانِيِّ لِأَنَّ مُوسَى كَانَ عَدُوًّا لِفِرْعَوْنٍ آخَرَ بَعْدَ هَذَا، أَيْ لِيَكُونَ لِدَوْلَتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا فَقَدْ كَانَتْ بَعْثَةُ مُوسَى فِي مُدَّةِ ابْنِ فِرْعَوْنَ هَذَا. وَوَصْفُهُ بِالْحَزَنِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ حَزَنًا لَهُمْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لَهُمُ السَّابِقِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلِ قَوْلِكَ: فُلَانٌ عَدْلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ وَاقِعًا مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ فَكَانَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ قَائِمًا بِالْمَوْصُوفِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: لِيَكُونَ لَهُمْ حَزَنًا. وَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَزَنِ وَلَيْسَ هُوَ حَزَنًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَزَناً بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْعَدَمِ وَالْعُدْمِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَالْخَاطِئُ: اسْمُ فَاعل من خطىء كَفَرِحَ إِذَا فَعَلَ الْخَطِيئَةَ وَهِيَ الْإِثْمُ وَالذَّنْبُ، قَالَ تَعَالَى ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: 16] . وَمَصْدَرُهُ الْخِطْءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً فِي الْإِسْرَاءِ [31] . وَأَمَّا

[سورة القصص (28) : آية 9]

الْخَطَأُ وَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ فَفِعْلُهُ أَخْطَأَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: 5] ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفُصَحَاءَ فَرَّقُوا الِاسْتِعْمَالَ بَيْنَ مُرْتَكِبِ الْخَطِيئَةِ وَمُرْتَكِبِ الْخَطَإِ، وَعَلَى التَّفْرِقَةِ بَين أَخطَأ وخطىء دَرَجَ نَفْطَوَيْهِ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْحَرِيرِيُّ. وَذَهَبَ أَبُو عَبِيدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَرَادِفَانِ وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا أَنَّهُ جَارٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ قُتَيْبَةَ فَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَقَالَ فِي «الْأَسَاسِ» : «أَخْطَأَ فِي الرَّأْي وخطىء إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبَ. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ» . وَيَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَهُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ أَوْ عَنْ عَمْدٍ، ثُمَّ غَلَبَ الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ عَلَى تَخْصِيصِ أَخْطَأَ بِفِعْلٍ عَلَى غير عمد وخطىء بِالْإِجْرَامِ وَالذَّنْبِ وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ. وَإِنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَحْسَنِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ. فَأَمَّا مَحْمَلُ الْآيَةِ هُنَا فَلَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خاطِئِينَ مِنَ الْخَطِيئَةِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ تَعْلِيلًا لِتَكْوِينِ حزنهمْ مِنْهُ بالأخرة. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هامان آنِفا [الْقَصَص: 6] . [9] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 9] وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ انْتَشَلُوهُ جَعَلُوهُ بَيْنَ أَيْدِي فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ فَرَقَّتْ لَهُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَصَرَفَتْ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِهِ بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الطِّفْلَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ بِلَوْنِ جَلْوَتِهِ وَمَلَامِحِ وَجْهِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمَلَهُ النَّيْلُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لِظُهُورِهِ أَنَّهُ لَمْ يَطُلْ مَكْثُ تَابُوتِهِ فِي الْمَاءِ وَلَا اضْطِرَابُهُ بِكَثْرَةِ التَّنَقُّلِ، فَعَلِمَ أَنَّ وَقْعَهُ فِي التَّابُوتِ لِقَصْدِ إِنْجَائِهِ مِنَ الذَّبْحِ. وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَ انْتِشَالِهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ التَّابُوتِ. وَكَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ امْرَأَةً مُلْهَمَةً لِلْخَيْرِ وَقَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى بِسَبَبِهَا. وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْنِهَا وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التَّحْرِيم: 11] ،

وَهِيَ لَمْ تَرَ عَدَاوَةَ مُوسَى لِآلِ فِرْعَوْنَ وَلَا حَزِنَتْ مِنْهُ لِأَنَّهَا انْقَرَضَتْ قَبْلَ بعثة مُوسَى. وامْرَأَتُ فِرْعَوْنَ سُمِّيَتْ آسِيَةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَم ابْنة عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» وَيُفِيدُ قَوْلُهَا ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ حِينَ رَآهُ اسْتَحْسَنَهُ ثُمَّ خَالَجَهُ الْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فَلِذَلِكَ أَنْذَرَتْهُ امْرَأَته بقولِهَا قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ. وارتفع قُرَّتُ عَيْنٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا الطِّفْلُ. وَحَذَفَهُ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ حُضُورُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ هُوَ سَبَبُ قُرَّةِ عَيْنٍ لي وَلَك. و (قُرَّة الْعَيْنِ) كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ وَهِيَ كِنَايَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ ضِدِّهَا وَهُوَ سُخْنَةُ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْبُكَاءِ اللَّازِمِ لِلْأَسَفِ وَالْحُزْنِ، فَلَمَّا كُنِّيَ عَنِ الْحُزْنِ بِسُخْنَةِ الْعَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ فِي الدُّعَاءِ بِالسُّوءِ: أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ. وَقَوْلِ الرَّاجِزِ: أَوْهِ أَدِيمَ عِرْضِهِ وَأَسْخِنِ ... بِعَيْنِهِ بَعْدَ هُجُوعِ الْأَعْيُنِ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِأَنْ كَنَّوْا عَنِ السُّرُورِ بِضِدِّ هَذِهِ الْكِنَايَةِ فَقَالُوا: قُرَّةُ عَيْنٍ، وَأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، فَحَكَى الْقُرْآنُ مَا فِي لُغَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى مَعْنَى الْمَسَرَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلنَّفْسِ بِبَلِيغِ مَا كَنَّى بِهِ الْعَرَبُ عَنْ ذَلِك وَهُوَ قُرَّتُ عَيْنٍ، وَمِنْ لَطَائِفِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَسَرَّةَ الْمَعْنِيَّةَ هِيَ مَسَرَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ مَرْأَى مَحَاسِنِ الطِّفْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] . وَيَجُوزُ أَنْ يكون قَوْله قُرَّتُ عَيْنٍ قَسَمًا كَمَا يُقَالُ: أَيْمُنُ اللَّهِ. فَإِنَّ الْعَرَبَ يُقْسِمُونَ بِذَلِكَ، أَيْ أُقْسِمُ بِمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ اسْتَضَافَ نَفَرًا وَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ عَشَائِهِمْ ثُمَّ حَضَرَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ إِلَى أَنْ قَالَ الرَّاوِي: فَجَعَلُوا لَا يَأْكُلُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الْآنَ أَكْثَرُ مِنْ قَبْلُ. فَتَكُونُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَقْسَمْتَ عَلَى فِرْعَوْنَ بِمَا فِيهِ قُرَّةُ عَيْنِهَا، وَقُرَّةُ عَيْنِهِ أَنْ لَا يَقْتُلَ مُوسَى، وَيكون رفع قُرَّتُ عَيْنٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ حَذْفٌ

كَثِيرٌ فِي نَصِّ الْيَمِينِ مِثْلُ: لَعَمْرُكَ. وَابْتَدَأَتْ بِنَفسِهَا فِي قُرَّتُ عَيْنٍ لِي قَبْلَ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ إِدْلَالًا عَلَيْهِ لِمَكَانَتِهَا عِنْدَهُ أَرَادَتْ أَنْ تَبْتَدِرَهُ بِذَلِكَ حَتَّى لَا يَصْدُرَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الطِّفْلِ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهَا لَا تَقْتُلُوهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فِرْعَوْنُ نَزَّلَتْهُ مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خِطَابُ فِرْعَوْنَ دَاخِلًا فِيهِ أَهْلُ دَوْلَتِهِ هَامَانُ وَالْكَهَنَةُ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ أَنَّ فَتًى مِنْ إِسْرَائِيلَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ مَمْلَكَتَهُ. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهِ تَمْهِيدًا لِإِجَابَةِ سُؤْلِهَا حِينَ أَسْنَدَتْ مُعْظَمَ الْقَتْلِ لِأَهْلِ الدَّوْلَةِ وَجَعَلَتْ لِفِرْعَوْنَ مِنْهُ حَظَّ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَمَاعَةِ فَكَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ رَأْيِهِ فَتُهَوِّنَ عَلَيْهِ عُدُولَهُ فِي هَذَا الطِّفْلِ عَمَّا تَقَرَّرَ مِنْ قَتْلِ الْأَطْفَالِ. وَقِيلَ لَا تَقْتُلُوهُ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ إِلَى خِطَابِ الْمُوَكِّلِينَ بِقَتْلِ أَطْفَالِ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِهِ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] . فموقع جملَة قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ مَوْقِعُ التَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لِلْعَرْضِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تَقْتُلُوهُ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ عَنِ الْمُقَدِّمَةِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا. وَأَمَّا جُمْلَةُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَا تَقْتُلُوهُ فَاتِّصَالُهَا بِهَا كاتصال جملَة قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ بِهَا، وَلَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ قَضَى بِهَذَا التَّرْتِيبِ الْبَلِيغِ بِأَنْ جَعَلَ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ عَنِ الْقَتْلِ وَهُوَ وَازِعُ الْمَحَبَّةِ هُوَ الْمُقَدِّمَةَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالنَّفْسِ فَهُوَ يُشْبِهُ الْمَعْلُومَ الْبَدِيهِيَّ. وَجُعِلَ الْوَازِعُ الْعَقْلِيُّ بَعْدَ النَّهْيِ عِلَّةً لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْفِكْرِ، فَتَكُونُ مُهْلَةُ التَّفْكِيرِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ الْمُمَهَّدِ بِالْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فَلَا يُخْشَى جِمَاحُ السَّامِعِ مِنَ النَّهْيِ وَرَفْضُهُ إِيَّاهُ. وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهَا عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً إِزَالَةَ مَا خَامَرَ نَفْسَ فِرْعَوْنَ مِنْ خَشْيَةِ فَسَادِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ فَتًى إِسْرَائِيلِيٍّ بِأَنَّ هَذَا الطِّفْلَ لَا يَكُونُ هُوَ الْمَخُوفَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا انْضَمَّ فِي أَهْلِهِمْ وَسَيَكُونُ رَبِيَّهُمْ فَإِنَّهُ يُرْجَى مِنْهُ نَفْعُهُمْ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَلَدِ. فَأَقْنَعَتْ فِرْعَوْنَ بِقِيَاسٍ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُجَرَّبَةِ فِي عَلَاقَةِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالتَّبَنِّي وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي بِالشَّرِّ. وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ الِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ خَفِيَّ إِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ

[سورة القصص (28) : آية 10]

الِانْتِقَامِ مِنْ أُمَّةِ الْقِبْطِ بِسَبَبِ مُوسَى. وَلَعَلَّ اللَّهَ حَقَّقَ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ رَجَاءَهَا فَكَانَ مُوسَى قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا وَلِزَوْجِهَا، فَلَمَّا هَلَكَا وَجَاءَ فِرْعَوْنٌ آخَرُ بَعْدَهُمَا كَانَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ نَصْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَاخْتِيرَ يَشْعُرُونَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الْخَفِيِّ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا الْأَمر الْخَفي. [10] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 10] وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) أَصْبَحَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (صَارَ) فَاقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، أَيْ كَانَ فُؤَادُهَا غَيْرَ فَارِغٍ فَأَصْبَحَ فَارِغًا. وَالْفُؤَادُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْعَقْلِ وَاللُّبِّ. وَالْفَرَاغُ مَجَازِيٌّ. وَمَعْنَى فَرَاغِ الْعَقْلِ مِنْ أَمْرٍ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ احْتِوَاءِ الْعَقْلِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ احْتِوَاءً مَجَازِيًّا، أَيْ عَدَمِ جَوَلَانِ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي الْعَقْلِ، أَيْ تَرْكِ التَّفْكِيرِ فِيهِ. وَإِذْ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ فُؤَادَ أم مُوسَى لماذَا أَصْبَحَ فَارِغًا احْتَمَلَتِ الْآيَةُ مَعَانِيَ تَرْجِعُ إِلَى مُحْتَمَلَاتِ مُتَعَلِّقِ الْفَرَاغِ مَا هُوَ. فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا، وَمَرْجِعُ أَقْوَالِهِمْ إِلَى نَاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةٍ تُؤْذِنُ بِثَبَاتِ أُمِّ مُوسَى وَرِبَاطَةِ جَاشِهَا، وَنَاحِيَةٍ تُؤْذِنُ بِتَطَرُّقِ الضَّعْفِ وَالشَّكِّ إِلَى نَفْسِهَا. فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ فَارِغٌ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَأَصْبَحَتْ وَاثِقَةً بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ تَبَعًا لِمَا أَلْهَمَهَا مِنْ أَنْ لَا تَخَافَ وَلَا تَحْزَنَ فَيَرْجِعُ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَسْعَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدُ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّبْطَ مِنْ تَوَابِعِ مَا أَلْهَمَهَا اللَّهُ مِنْ أَنْ لَا تَخَافَ وَلَا تَحْزَنَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ كَمَا أَلْهَمَهَا اللَّهُ زَالَ عَنْهَا مَا كَانَتْ تَخَافُهُ عَلَيْهِ مِنَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ عِنْدَهَا وَقَتْلِهِ لِأَنَّهَا لَمَّا تَمَكَّنَتْ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا أَحَدٌ قَدْ

عَلِمَتْ أَنَّهُ نَجَا. وَهَذَا الْمَحْمَلُ يُسَاعِدُهُ أَيْضًا مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ خَلِيُّ الْبَالِ: إِذَا كَانَ لَا هَمَّ بِقَلْبِهِ. وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الثَّنَاءِ عَلَيْهَا بِثَبَاتِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى أَنَّهُ قَالَ: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا ذِكْرَ مُوسَى. وَفِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ رِبَاطَةِ جَاشِهَا إِذْ فَرَغَ لُبُّهَا مِنْ كُلِّ خَاطِرٍ يَخْطُرُ فِي شَأْنِ مُوسَى. وَأَمَّا زِيَادَةُ مَا أَدَّاهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا ذِكْرَ مُوسَى، فَلَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهَا بِحُسْنِ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى ضَعْفِ الْأُمُومَةِ بِالتَّشَوُّقِ إِلَى وَلَدِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي أَحْوَالٍ صَالِحَةٍ بِهِ وَبِهَا. وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الرَّاجِعَةُ إِلَى النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْفَرَاغُ هُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إِبْرَاهِيم: 43] أَيْ لَا عُقُولَ فِيهَا. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَيْ لَمَّا سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ طَارَ عَقْلُهَا لِمَا دَهَمَهَا مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ: أَصْبَحَ فَارِغًا مِنْ تَذَكُّرِ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَهَا اللَّهُ إِذْ خَامَرَهَا خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: إِنِّي خِفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ فَأَلْقَيْتُهُ بِيَدِي فِي يَدِ الْعَدُوِّ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فَارِغًا مِنَ الصَّبْرِ. وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مِنَ الصَّبْرِ عَلَى فَقْدِهِ. وَكُلُّ الْأَقْوَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ تَرْمِي إِلَى أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمْ تَكُنْ جَلِدَةً عَلَى تَنْفِيذِ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَهَا بِوَضْعِ الْيَقِينِ فِي نَفْسِهَا. وَجُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها تَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ أَصْبَحَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ حَالَةِ فَرَاغٍ فَبُيِّنَتْ بِأَنَّهَا كَانَتْ تُقَارِبُ أَنْ تُظْهِرَ أَمْرَ ابْنِهَا مِنْ شِدَّةِ الِاضْطِرَابِ فَإِنَّ الِاضْطِرَابَ يَنِمُّ بِهَا. فَالْمَعْنَى: أَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا، وَكَادَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ تُبْدِيَ خَبَرَ مُوسَى فِي مُدَّةِ إِرْضَاعِهِ مِنْ شِدَّةِ الْهَلَعِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ أَنْ يُقْتَلَ. وَعَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَكُونُ جُمْلَةُ إِنْ كادَتْ بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ عَلَى مَعْنَى فارِغاً. وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْذُوفِ. فَالتَّقْدِيرُ: فَارِغًا إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى فَكَادَتْ

[سورة القصص (28) : آية 11]

تُظْهِرُ ذِكْرَ مُوسَى وَتَنْطِقُ بِاسْمِهِ مِنْ كَثْرَةِ تَرَدُّدِ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِهَا. وَأَمَّا عَلَى الْأَقْوَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ فَجُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، أَيْ كَادَتْ لَتُبْدِي أَمْرَ مُوسَى مِنْ قِلَّةِ ثَبَاتِ فُؤَادِهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَمَّا رَأَتِ الْأَمْوَاجَ حَمَلَتِ التَّابُوتَ كَادَتِ أَنْ تَصِيحَ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ إِمَّا لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ وَالْأَصْلُ: لَتُبْدِيهُ، وَإِمَّا لِتَضْمِينِ (تُبْدِي) مَعْنَى (تَبُوحُ) وَهُوَ أَحْسَنُ وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَاللَّامُ فِي لَتُبْدِي فَارِقَةٌ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِنِ) النَّافِيَةِ. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: تَوْثِيقُهُ عَنْ أَنْ يَضْعُفَ كَمَا يُشَدُّ الْعُضْوُ الْوَهِنُ، أَيْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بِخَلْقِ الصَّبْرِ فِيهِ. وَجَوَابُ لَوْلا هُوَ جُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ ذَكَّرْنَاهَا مَا وَعَدْنَاهَا فَاطْمَأَنَّ فُؤَادُهَا. فَالْإِيمَانُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ كَامِلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِتُحْرِزَ رُتْبَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَتَطَرَّقُهُمُ الشَّكُّ فِيمَا يَأْتِيهِمْ مِنَ الواردات الإلهية. [11] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 11] وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا عَلَى وَفْقِ تَرْتِيبِ مَضَامِينِهَا فِي الْحُصُولِ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ مَضْمُونِ وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الْقَصَص: 10] سَابِقًا عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ، أَيْ قَالَتْ لِأُخْتِهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهَا لِمَا أُلْهِمَتْهُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ، أَيْ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ قَالَتْ لِأُخْتِهِ: انْظُرِي أَيْنَ يُلْقِيهِ الْيَمُّ وَمَتَى يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الْيَمَّ لَا يُلْقِيهِ بَعِيدًا عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا.

[سورة القصص (28) : آية 12]

وَأُخْتُ مُوسَى اسْمُهَا مَرْيَمُ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه. وَالْقَصُّ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، اسْتُعْمِلَ فِي تَتَبُّعِ الذَّاتِ بِالنَّظَرِ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى دُونَ ذِكْرِ الْأَثَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [64] عِنْدَ قَوْلِهِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. وَبَصُرَ بِالشَّيْءِ صَارَ ذَا بَصَرٍ بِهِ، أَيْ بَاصِرًا لَهُ فَهُوَ يُفِيدُ قُوَّةَ الْإِبْصَارِ، أَيْ قُوَّةَ اسْتِعْمَالِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ وَهُوَ التَّحْدِيقُ إِلَى الْمُبْصَرِ، فَ (بَصُرَ) أَشَدُّ مِنْ (أَبْصَرَ) . فَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَفْعُولِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِرُؤْيَةِ الْمَرْئِيِّ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ بَاصِرًا بِسَبَبِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فَتُفِيدَ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فِي سُورَةِ طه [96] . وَالْجُنُبُ: بِضَمَّتَيْنِ الْبَعِيدُ. وَهُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ يُعْرَفُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ عَنْ مَكَانِ جُنُبٍ. وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ (بَصُرَتْ) لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ هُنَا مِنْ أَحْوَالِ أُخْتِهِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْمَكَانِ. وهُمْ أَيْ آلُ فِرْعَوْنَ حِينَ الْتَقَطُوهُ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ أُخْتَهُ تُرَاقِبُ أَحْوَالَهُ وَذَلِكَ مِنْ حَذَقِ أُخْتِهِ فِي كَيْفيَّة مراقبته. [12] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 12] وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ ضمير لِأُخْتِهِ [الْقَصَص: 11] . وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ، وَهُوَ تَحْرِيمٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ قَدَّرْنَا فِي نَفْسِ الطِّفْلِ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْتِقَامِ أَثْدَاءِ الْمَرَاضِعِ وَكَرَاهَتَهَا لِيَضْطَرَّ آلُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ مُرْضِعٍ يَتَقَبَّلُ ثَدْيَهَا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتَهُ حَرِيصَانِ عَلَى حَيَاةِ الطِّفْلِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ إِرْضَاعَهُ مِنْ أُمِّهِ مُدَّةً تَعَوَّدَ فِيهَا بِثَدْيِهَا.

وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ مِنْ قَبْلِ الْتِقَاطِهِ وَهُوَ إِيذَانٌ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَإِرَادَتُهُ فِي الْأَزَلِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَقالَتْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ تُؤْذِنُ بِجُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ فَأَظْهَرَتْ أُخْتُهُ نَفْسَهَا كَأَنَّهَا مَرَّتْ بِهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَإِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَشَا فِي النَّاسِ طَلَبُ الْمَرَاضِعِ لَهُ وَتَبْدِيلُ مُرْضِعَةٍ عَقِبَ أُخْرَى حَتَّى عُرِضَ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ فِي حِصَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَذَلِكَ بِسُرْعَةِ مَقْدِرَةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَثْرَةِ تَفْتِيشِهِمْ عَلَى الْمَرَاضِعِ حَتَّى أَلْفَوْا عَدَدًا كَثِيرًا فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، وَأَيْضًا لِعَرْضِ الْمَرَاضِعِ أَنْفُسَهُنَّ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا شَاعَ أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مُرْضِعًا. وَعَرَضَتْ سَعْيَهَا فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْعَرْضِ تَلَطُّفًا مَعَ آل فِرْعَوْن وإبعادا لِلظِّنَّةِ عَنْ نَفْسِهَا. وَمَعْنَى يَكْفُلُونَهُ يَتَعَهَّدُونَ بِحِفْظِهِ وَإِرْضَاعِهِ. فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ عَادَتَهُمْ فِي الْإِرْضَاعِ أَنْ يسلم الطِّفْل الرَّضِيع إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تُرْضِعُهُ يَكُونُ عِنْدَهَا كَمَا كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ لَمْ يَكُنَّ يَرْضَيْنَ بِتَرْكِ بُيُوتِهِنَّ وَالِانْتِقَالِ إِلَى بُيُوتِ آلِ الْأَطْفَالِ الرُّضَعَاءِ. كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ إِرْضَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ حَلِيمَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فِي حَيِّ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَدَفَعَهُ فِرْعَوْنُ إِلَيْهَا وَأَجْرَى لَهَا وَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا. وَالْعُدُولُ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ أَنَّ النُّصْحَ مِنْ سَجَايَاهُمْ وَمِمَّا ثَبَتَ لَهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَيَنْصَحُونَ لَهُ كَمَا قِيلَ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ أَمْرٌ سَهْلٌ بِخِلَافِ النُّصْحِ وَالْعِنَايَةِ. وَتَعْلِيقُ لَهُ بِ ناصِحُونَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى التَّقْيِيدِ بَلْ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الْوَاقِعِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ النُّصْحَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُ كَمَا يَحْصُلُ لِأَمْثَالِهِ حَسَبَ سَجِيَّتِهِمْ. وَالنُّصْحُ: الْعَمَلُ الْخَالِصُ الْخَلِيُّ مِنَ التَّقْصِير وَالْفساد.

[سورة القصص (28) : آية 13]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 13] فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) تَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فِي سُورَةِ طه [40] . وَقَوْلُهُ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِنَّمَا تَأْكِيدُ حَرْفِ كَيْ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ لِلتَّنْصِيصِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ لَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ. وَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ إِلَى رَعِيَّةِ فِرْعَوْنَ، وَمِنَ النَّاسِ بَنُو إِسْرَائِيل. والاستدراك ناشىء عَنْ نَصْبِ الدَّلِيلِ لَهَا عَلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، أَيْ فَعَلِمَتْ ذَلِكَ وَحْدَهَا وَأَكْثَرُ الْقَوْمِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ مُشْرِكِينَ وَبَيْنَ مُؤْمِنِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَخَلَتْ أَقْوَامُهُمْ مِنْ عُلَمَاءَ يُلَقِّنُونَهُمْ مَعَانِيَ الدِّينِ فَأَصْبَحَ إِيمَانُهُمْ قَرِيبًا مِنَ الْكُفْرِ. وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أُمُورًا ذَاتَ شَأْنٍ فِيهَا ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ وَأَعْظَمُهُ: إِظْهَارُ أَنَّ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْله يَحْذَرُونَ [الْقَصَص: 5، 6] وَأَنَّ الْحَذَرَ لَا يُنَجِّي مِنَ الْقَدَرِ. وَثَانِيهِ: إِظْهَارُ أَنَّ الْعُلُوَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ عُلُوَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا فِي دَفْعِ عَوَاقِبِ الْجَبَرُوتِ وَالْفَسَادِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِجَبَابِرَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَثَالِثُهُ: أَنَّ تَمْهِيدَ الْقِصَّةِ بِعُلُوِّ فِرْعَوْنَ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الِانْتِقَامِ مِنْهُ وَالْأَخْذُ بِنَاصِرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِيَحْذَرَ الْجَبَابِرَةُ سُوءَ عَاقِبَةِ ظُلْمِهِمْ وَلِيَرْجُوَ الصَّابِرُونَ عَلَى الظُّلْمِ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ. وَرَابِعُهُ: الْإِشَارَةُ إِلَى حِكْمَةِ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] فِي

جَانِبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 216] فِي جَانِبِ فِرْعَوْنَ إِذْ كَانُوا فَرِحِينَ بِاسْتِخْدَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَدْبِيرِ قَطْعِ نَسْلِهِمْ. وَخَامِسُهُ: أَنَّ إِصَابَةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَغْتَةً مِنْ قِبَلِ مَنْ أَمَّلُوا مِنْهُ النَّفْعَ أَشَدُّ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِ وَأَوْقَعُ حَسْرَةً عَلَى الْمُسْتَبْصِرِ، وَأَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِقَامَ اللَّهِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنِ انْتِقَامِ الْعَدُوِّ كَمَا قَالَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] مَعَ قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: 9] . وَسَادِسُهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ التَّعَقُّلِ أَنْ تُسْتَأْصَلَ أُمَّةٌ كَامِلَةٌ لِتَوَقُّعِ مُفْسِدٍ فِيهَا لِعَدَمِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِأَفْرَادِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَذِّرَةٌ فَلَا يَكُونُ الْمُتَوَقَّعُ فَسَادُهُ إِلَّا فِي الْجَانِبِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ مِنَ الْأَفْرَادِ فَتَحْصُلُ مَفْسَدَتَانِ هُمَا أَخْذُ الْبَرِيءِ وَانْفِلَاتُ الْمُجْرِمِ. وَسَابِعُهُ: تَعْلِيمُ أَنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ بِتَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ وَلَمَا قَدَّرَ لِإِهْلَاكِهِمْ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُرَتَّبَةَ وَلَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْجَاءً أَسْرَعَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ تَنَقُّلَاتِ الْأَحْوَالِ ابْتِدَاءً مِنْ إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ إِلَى أَنْ رَدَّهُ إِلَى أُمِّهِ فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] وَلِيَتَوَسَّمُوا مِنْ بِوَارِقِ ظُهُورِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِقَالِ أَحْوَالِ دَعْوَتِهِ فِي مَدَارِجِ الْقُوَّةِ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ وَاقِعٌ بِأَخَرَةٍ. وَثَامِنُهُ: الْعِبْرَةُ بِأَنَّ وُجُودَ الصَّالِحِينَ مِنْ بَيْنِ الْمُفْسِدِينَ يُخَفِّفُ مِنْ لَأْوَاءِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ وُجُودَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ كَانَ سَبَبًا فِي صَدِّ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ الطِّفْلِ مَعَ أَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: 9] كَمَا قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ. وَتَاسِعُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ نَصْرَهُمْ حَاصِلٌ بَعْدَ حِينٍ، وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ وَعِيدَهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ. وَعَاشِرُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْتَى مِنْ جَهْلِهِ النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ.

[سورة القصص (28) : آية 14]

وَلِمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ اكْتَفَى مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِطَالِعِهَا عَنِ الْخُطْبَةِ الَّتِي حَقُّهُ أَنْ يَخْطُبَ بِهَا فِي النَّاسِ حِينَ حُلُولِهِ بِالْعِرَاقِ مِنْ قِبَلِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مُكْتَفِيًا بِالْإِشَارَةِ مَعَ التِّلَاوَةِ فَقَالَ طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ يُرِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْحِجَازِ، يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَأَنْصَارَهُ وَنَجْعَلَهُمْ أَيِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا وَأَشَارَ إِلَى الْعِرَاقِ يَعْنِي الْحَجَّاجَ مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَص: 1- 6] . [14] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 14] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) هَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى حَسَبِ ظُهُورِهَا فِي الْخَارِجِ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ نَشَأَ عَنْ جُمْلَةِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الْقَصَص: 13] فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَهَا قَدْ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: 7] . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حِكَايَةِ رَدِّهِ إِلَى أُمِّهِ بِقَوْلِهِ فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها [الْقَصَص: 13] إِلَى آخِرِهِ كَمَّلَ مَا فِيهِ وَفَاءُ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهَذَا الِاسْتِطْرَادِ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَإِنَّمَا أُوتِيَ الحكم أَعنِي النبوءة بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَرْضِ مَدْيَنَ كَمَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: 29] . وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، إِلَّا قَوْلَهُ وَاسْتَوى فَقِيلَ: إِنَّ اسْتَوى بِمَعْنَى بَلَغَ أَشُدَّهُ، فَيَكُونُ تَأْكِيدًا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَشُدَّ كَمَالُ الْقُوَّةِ لِأَنَّ أَصْلَهُ جَمْعُ شِدَّةٍ بِكَسْرِ الشِّينِ بِوَزْنِ نِعْمَةٍ وأنعم وَهِي اسْم هَيْئَةٌ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ ثُمَّ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ. وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ: كَمَالُ الْبِنْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الزَّرْعِ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الْفَتْح: 29] ، وَلِهَذَا أُرِيدَ لِمُوسَى الْوَصْفُ بِالِاسْتِوَاءِ وَلَمْ يُوصَفْ يُوسُفُ إِلَّا بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ خَاصَّةً لِأَنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا طُوَالًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «كَأَنَّهُ من رجال شنؤة» فَكَانَ كَامِلَ الْأَعْضَاءِ وَلِذَلِكَ كَانَ وَكْزُهُ الْقِبْطِيَّ قَاضِيًا عَلَى الْمَوْكُوزِ. وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ، وَالْعِلْمُ: الْمعرفَة بِاللَّه.

[سورة القصص (28) : آية 15]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 15] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) طُوِيَتْ أَخْبَار كَثِيرَة تنبىء عَنْهَا الْقِصَّةُ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى يَفَعَ وَشَبَّ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: كَانَ يُدْعَى مُوسَى ابْنَ فِرْعَوْنَ. وَجُمْلَةُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [الْقَصَص: 7] عَطَفَ جُزْءَ الْقِصَّةِ عَلَى جُزْءٍ آخَرَ مِنْهَا، وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَعَلَّهُ بِأَنَّ أَمَّهُ كَانَتْ تَتَّصِلُ بِهِ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ تَقُصُّ عَلَيْهِ نَبَأَهُ كُلَّهُ. وَالْمَدِينَةُ هِيَ (مَنْفِيسُ) قَاعِدَةُ مِصْرَ الشَّمَالِيَّةُ. وَيَتَعَلَّقُ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ بِ دَخَلَ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْ حِينِ غَفْلَةٍ. وَحِينُ الْغَفْلَةِ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْفُلُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَمَّا يَجْرِي فِيهَا وَهُوَ وَقْتُ اسْتِرَاحَةِ النَّاسِ وَتُفَرِّقِهِمْ وَخُلُوِّ الطَّرِيقِ مِنْهُمْ. قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ وَكَانَ مُوسَى مُجْتَازًا بِالْمَدِينَةِ وَحْدَهُ، قِيلَ لِيَلْحَقَ بِفِرْعَوْنَ إِذْ كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ مَرَّ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْوَقْتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَتْلَهُ الْقِبْطِيَّ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ بَعْدُ قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ [الْقَصَص: 19] الْآيَاتِ وَمُقَدِّمَةً لِذِكْرِ خُرُوجِهِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَالْإِشَارَتَانِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ بُعْدٌ وَلَا قُرْبٌ، فَلِذَلِكَ قَدْ تَكُونُ الْإِشَارَتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ كَمَا هُنَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَا إِلى هؤُلاءِ [النِّسَاء: 143] . وَيَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا كَقَوْلِ الْمُتَلَمِّسِ:

وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلَّا الأذلان غير الْحَيِّ وَالْوَتِدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ وَالشِّيعَةُ: الْجَمَاعَةُ الْمُنْتَمِيَةُ إِلَى أَحَدٍ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً [الْقَصَص: 4] . وَالْعَدُوُّ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي يُعَادِيهَا مُوسَى، أَيْ يُبْغِضُهَا. فَالْمُرَادُ بِالَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبِالَّذِي مِنْ عَدُّوِهِ رَجُلٌ مِنَ الْقِبْطِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْعَدُوُّ وَصْفٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [77] . وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِخْبَارِ قِصَّةِ الْتِقَاطِهِ مِنَ الْيَمِّ وَأَنْ تَكُونَ أُمُّهُ قَدْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ بِخَبَرِهَا وَخَبَرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَشَأَ مُوسَى عَلَى عَدَاوَةِ الْقِبْطِ وَعَلَى إِضْمَارِ الْمَحَبَّةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَمَّا وَكْزُهُ الْقِبْطِيَّ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا انْتِصَارًا لِلْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تَكَرَّرَتِ الْخُصُومَة بَين ذَلِك الْإِسْرَائِيلِيِّ وَبَيْنَ قِبْطِيٍّ آخَرَ وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْقِبْطِيُّ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَنْصُرَ قَوْمَكَ وَإِنَّمَا قَالَ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 19] . قِيلَ: كَانَ الْقِبْطِيُّ مِنْ عَمَلَةِ مَخْبِزِ فِرْعَوْنَ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ حَطَبًا إِلَى الْفُرْنِ فَدَعَا إِسْرَائِيلِيًّا لِيَحْمِلَهُ فَأَبَى فَأَرَادَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى حَمْلِهِ وَأَنْ يَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَاخْتَصَمَا وَتَضَارَبَا ضَرْبًا شَدِيدًا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقَاتُلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ وَهُوَ التَّخْلِيصُ مِنْ شِدَّةٍ أَوِ الْعَوْنُ عَلَى دَفْعِ مَشَقَّةٍ. وَإِنَّمَا يكون هَذَا الطَّلَبُ بِالنِّدَاءِ فَذِكْرُ الِاسْتِغَاثَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ كَانَ مَغْلُوبًا وَأَنَّ الْقِبْطِيَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ ظَالِمًا إِذْ لَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ. وَالْوَكْزُ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ بِجُمْعِ أَصَابِعِهَا كَصُورَةِ عَقْدِ ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ، وَيُسَمَّى الْجُمْعَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ. وفَقَضى عَلَيْهِ جُمْلَةٌ تُقَالُ بِمَعْنَى مَاتَ لَا تُغَيَّرُ. فَفَاعِلُ (قَضَى) مَحْذُوفٌ أَبَدًا عَلَى مَعْنَى قَضَى عَلَيْهِ قَاضٍ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى

الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ لَا يَقْضِي بِالْمَوْتِ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: 14] . وَقِيلَ ضَمِيرُ فَقَضى عَائِدٌ إِلَى مُوسَى وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ. فَالْمَعْنَى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَمَاتَ الْقِبْطِيُّ. وَكَانَ هَذَا قَتْلَ خَطَأٍ صَادَفَ الْوَكْزُ مَقَاتِلَ الْقِبْطِيِّ وَلَمْ يُرِدْ مُوسَى قَتْلَهُ. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَأَى الْمِصْرِيَّ يَضْرِبُ الْعِبْرَانِيَّ الْتَفَتَ هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ. وَجُمْلَةُ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى حِين فوجىء بِمَوْتِ الْقِبْطِيِّ. وَحِكَايَةُ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ حِينَئِذٍ إِلَّا النَّظَرُ فِي الْعَاقِبَةِ الدِّينِيَّةِ. وَقَوْلُهُ هُوَ كَلَامُهُ فِي نَفْسِهِ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الضَّرْبَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ أَوْ إِلَى الْمَوْتِ الْمُشَاهَدِ مِنْ ضَرْبَتِهِ، أَوْ إِلَى الْغَضَبِ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ مَوْتُ الْقِبْطِيِّ. وَالْمَعْنَى: أَن الشَّيْطَان أَو قد غَضَبَهُ حَتَّى بَالَغَ فِي شِدَّةِ الْوَكْزِ. وَإِنَّمَا قَالَ مُوسَى ذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الشَّرَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّ حِفْظَ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ مِنْ أُصُولِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَكَانَ مُوسَى يَعْلَمُ دِينَ آبَائِهِ لَعَلَّهُ بِمَا تَلَقَّاهُ مِنْ أُمِّهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ فِي مُدَّةِ رَضَاعِهِ وَفِي مُدَّةِ زِيَارَتِهِ إِيَّاهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ لَوْلَا الْخَاطِرُ الشَّيْطَانِيُّ لاقتصر على زجر الْقِبْطِيِّ أَوْ كَفَّهُ عَنِ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لِلْإِنْسَانِ وَكَانَتْ لَهُ مَسَالِكُ إِلَى النُّفُوسِ اسْتَدَلَّ مُوسَى بِفِعْلِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ نَفْسٍ أَنه فعل ناشىء عَنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَلَو لَاها لَكَانَ عَمَلُهُ جَارِيًا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمَأْذُونَةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ هُوَ الْخَيْرُ وَأَنَّهُ الْفِطْرَةُ وَأَنَّ الِانْحِرَافَ عَنْهَا يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ فِطْرِيٍّ وَهُوَ تَخَلُّلُ نَزْغِ الشَّيْطَانِ فِي النَّفْسِ. وَمُتَعَلِّقُ عَدُوٌّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ أَيْ عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّةِ آدَمَ.

[سورة القصص (28) : آية 16]

وَرَتَّبَ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْعَدَاوَةِ وَصْفَهُ بِالْإِضْلَالِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَعْمَلُ لِإِلْحَاقِ الضُّرِّ بِعَدُوِّهِ ومُبِينٌ وَصْفٌ لِ مُضِلٌّ لَا خَبَرٌ ثَانٍ وَلَا ثَالِث. [16] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 16] قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْقَصَص: 15] لِأَنَّ الْجَزْمَ بِكَوْنِ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَمَلًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَتَغْرِيرِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ بِالِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ وَيُفَرَّعُ عَلَيْهِ طَلَبُ غُفْرَانِهِ. وَسَمَّى فِعْلَهُ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ فَرْطِ الْغَضَبِ لِأَجْلِ رَجُلٍ مِنْ شِيعَتِهِ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ غَضَبِهِ فَكَانَ تَعْجِيلُهُ بِوَكْزِ الْقِبْطِيِّ وَكْزَةً قَاتِلَةً ظُلْمًا جَرَّهُ لِنَفْسِهِ. وَسَمَّاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [20] ضَلَالًا قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. وَأَرَادَ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ تَسَبَّبَ لِنَفْسِهِ فِي مَضَرَّةِ إِضْمَارِ الْقِبْطِ قَتْلَهُ، وَأَنَّهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عِقَابِ الْقِبْطِيِّ عَلَى مُضَارَبَتِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّ. وَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَذَلِكَ انْتِصَارٌ جَاهِلِيٌّ كَمَا قَالَ وَدَّاكُ بْنُ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ يَمْدَحُ قَوْمَهُ: إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ ... لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ وَقَدِ اهْتَدَى مُوسَى إِلَى هَذَا كُلِّهِ بِالْإِلْهَامِ إِذْ لَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ فِي الْقِبْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ مِمَّا تَلَقَّاهُ مَنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهَا مَنْ تَدَيُّنٍ بِبَقَايَا دِينِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَلَا الْتِفَاتَ فِي هَذَا إِلَى جَوَازِ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ النَّبِيءِ لِأَنَّهُ لَمْ يكن يَوْمئِذٍ نبيئا، وَلَا مَسْأَلَةِ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ النبيء قبل النبوءة، لِأَنَّ تِلْكَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا تَقَرَّرَ حُكْمُهُ مِنَ الذُّنُوبِ بِحَسَبِ شَرْعِ ذَلِكَ النَّبِيءِ أَو شرع نبيء هُوَ مُتَّبِعُهُ مِثْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُبُوءَتِهِ لِوُجُودِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِهَا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيِ اسْتَجَابَ اسْتِغْفَارَهُ فَعَجَّلَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ.

[سورة القصص (28) : آية 17]

وَجُمْلَةُ فَغَفَرَ لَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجُمْلَةِ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الْقَصَص: 17] كَانَ اعْتِرَاضُهَا إِعْلَامًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ بِكَرَامَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَغَفَرَ لَهُ عَلَّلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغُفْرَانِ وَرَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، مَعَ تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ مِنْ ظُلْمِ نَفْسِهِ وَمَا حَفَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكرنَاهَا. [17] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 17] قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) إِعَادَةُ قالَ أَفَادَ تَأْكِيدًا لَفِعْلِ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [الْقَصَص: 16] . أُعِيدَ الْقَوْلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّصَالِ كَلَامِ مُوسَى حَيْثُ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُ بِجُمْلَتَيْ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الْقَصَص: 16] . وَنَظْمُ الْكَلَامِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مُسْتَأْنَفًا عَنْ قَوْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: 16] لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُوحَى إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ بِمِثْلِ مَا جُرَّ بِهِ الْمَوْصُولُ، وَالْحَذْفُ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: بِالَّذِي أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّة وَمَا صدق الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، هُوَ مَا أُوتِيَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ فَتَمَيَّزَتْ عِنْدَهُ الْحَقَائِقُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَوَائِدِ وَالتَّقَالِيدِ تَأْثِيرٌ عَلَى شُعُورِهِ. فَأَصْبَحَ لَا يَنْظُرُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ظَهِيرًا وَعَوْنًا للمجرمين. وَأَرَادَ بالمجرمين مَنْ يُتَوَسَّمُ مِنْهُمُ الْإِجْرَامُ، وَأَرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يَسْتَذِلُّونَ النَّاسَ وَيَظْلِمُونَهُمْ لِأَنَّ الْقِبْطِيَّ أَذَلَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ بِغَصْبِهِ عَلَى تَحْمِيلِهِ الْحَطَبَ دُونَ رِضَاهُ. وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقَهُ مَسَاقَ الِاعْتِبَارِ عَنْ قَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ وُثُوقًا بِأَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً. وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ كَثِيرًا مَا

[سورة القصص (28) : الآيات 18 إلى 19]

يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ اسْمِ الشَّرْطِ فَيَقْتَرِنُ خَبَرُهُ وَمُتَعَلِّقُهُ بِالْفَاءِ تَشْبِيهًا لَهُ بِجَزَاءِ الشَّرْطِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْمَوْصُولُ مَجْرُورًا مُقَدَّمًا فَإِنَّ الْمَجْرُورَ الْمُقَدَّمَ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ (كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ) بِجَزْمِ (تَكُونُوا) وَإِعْطَائِهِ جَوَابًا مَجْزُومًا. وَالظَّهِيرُ: النَّصِيرُ. وَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّظْمُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ عَدَمَ مُظَاهَرَتِهِ لِلْمُجْرِمِينَ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ بِأَنْ جَعَلَ شُكْرَ تِلْكَ النِّعْمَةِ الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ وَتَغْيِيرَ الْبَاطِلِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُغَيِّرِ الْبَاطِلَ وَالْمُنْكَرَ وَأَقَرَّهُمَا فَقَدْ صَانَعَ فَاعِلَهُمَا، وَالْمُصَانَعَةُ مُظَاهَرَةٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ فَوَجَدَ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَصْرَخَهُ فِي أَمْسِهِ يَسْتَصْرِخُهُ عَلَى قِبْطِيٍّ آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ وَفَاءً بِوَعْدِهِ رَبَّهُ إِذْ قَالَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ الْقِبْطِيَّ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّ مُوَحِّدٌ. وَقَدْ جَعَلَ جُمْهُورٌ مِنَ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَنْعِ إِعَانَةِ أَهْلِ الْجَوْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ. وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ حَكَاهَا عَنْ مُوسَى فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ القَوْل الْحق. [18، 19] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 18 إِلَى 19] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) أَيْ أَصْبَحَ خَائِفًا مِنْ أَنْ يُطَالب بِدَم القبطي الَّذِي قَتَلَهُ وَهُوَ يَتَرَقَّبُ، أَيْ يُرَاقِبُ مَا يُقَالُ فِي شَأْنِهِ لِيَكُونَ مُتَحَفِّزًا لِلِاخْتِفَاءِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ خَبَرَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَفْشُ أَمْرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ تَخْلُو فِيهِ أَزِقَّةُ الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُوسَى يَتَرَقَّبُ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْقِبْطِيِّ الْمَقْتُولِ. وَ (إِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ، أَيْ فَفَاجَأَهُ أَنَّ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَنْصِرُهُ الْيَوْمَ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْأَمْسِ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِأَمْسِهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ أَمْسًا لِوَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالِاسْتِصْرَاخُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الصُّرَاخِ، أَيِ النِّدَاءِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ بِالِاسْتِغَاثَةِ فَخُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ لِلتَّفَنُّنِ. وَقَوْلُ مُوسَى لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ تَذَمُّرٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ إِذْ كَانَ اسْتِصْرَاخُهُ السَّالِفُ سَبَبًا فِي قَتْلِ نَفْسٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ إِجَابَةِ اسْتِصْرَاخِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّشَاؤُمِ وَاللَّوْمِ عَلَيْهِ فِي كَثْرَةِ خُصُومَاتِهِ. وَالْغَوِيُّ: الشَّدِيدُ الْغَوَايَةِ وَهِيَ الضَّلَالُ وَسُوءُ النَّظَرِ، أَيْ أَنَّكَ تُشَادُّ مَنْ لَا تُطِيقُهُ ثُمَّ تَرُومُ الْغَوْثَ مِنِّي يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ظَالِمٌ أَوْ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِعَدُوِّهِ. وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الضَّرْبُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَدُوٌّ لَهُما أَنَّهُ قِبْطِيٌّ. وَرُبَّمَا جُعِلَ عَدُوًّا لَهُمَا لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ مَعْرُوفَةٌ فَاشِيَةٌ بَيْنَ الْقِبْطِ وَأَمَّا عَدَاوَتُهُ لِمُوسَى فَلِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ رَجُلًا وَالظُّلْمُ عَدُوٌّ لِنَفْسِ مُوسَى لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى زَكَاءِ نَفْسٍ هَيَّأَهَا اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْجَبَّارُ: الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِمَّا يُضِرُّ بِالنَّاسِ وَيُؤَاخِذُ النَّاسَ بِالشِّدَّةِ دُونَ الرِّفْقِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة إِبْرَاهِيم [15] قَوْلُهُ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ [32] قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ مُتَصَرِّفًا بِالِانْتِقَامِ وَبِالشِّدَّةِ وَلَا تُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَنْ تَسْعَى فِي التَّرَاضِي بَيْنَهُمَا. وَيَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَ الْقِبْطِيِّ زَجْرٌ لِمُوسَى عَنِ الْبَطْشِ بِهِ وَصَارَ بَيْنَهُمَا حِوَارًا أَعْقَبَهُ مَجِيءُ رَجُلٍ مِنْ أقْصَى الْمَدِينَة.

[سورة القصص (28) : الآيات 20 إلى 21]

[سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 20 إِلَى 21] وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) ظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الرَّجُلَ جَاءَ عَلَى حِينِ مُحَاوَرَةِ الْقِبْطِيِّ مَعَ مُوسَى فَلِذَلِكَ انْطَوَى أَمْرُ مُحَاوَرَتِهِمَا إِذْ حَدَثَ فِي خِلَالِهِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ وَأَجْدَى فِي الْقِصَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَقْصَى الْمَدِينَةِ هُوَ نَاحِيَةُ قُصُورِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَإِنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ السُّكْنَى فِي أَطْرَافِ الْمُدُنِ تَوَقِّيًا مِنَ الثَّوْرَاتِ وَالْغَارَاتِ لِتَكُونَ مَسَاكِنُهُمْ أَسْعَدَ بِخُرُوجِهِمْ عِنْدَ الْخَوْفِ. وَقَدْ قِيلَ: الْأَطْرَافُ مَنَازِلُ الْأَشْرَافِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا فَذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ رَاجِعٌ إِلَى انْتِقَاصِ الْعُمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: 13] . وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ ذِكْرِ الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الرَّجُلُ وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَعْرِفُ مُوسَى. والْمَلَأَ: الْجَمَاعَةُ أُولُو الشَّأْنِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أَيْ نُوحٍ فِي الْأَعْرَافِ [60] ، وَأَرَادَ بِهِمْ أَهْلَ دَوْلَةِ فِرْعَوْنَ: فَالْمَعْنَى: أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ يَأْتَمِرُونَ بِكَ، أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي قَتْلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَضِيَّةَ رُفِعَتْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي: «فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْأَمْرَ فَطَلَبَ أَنْ يُقْتَلَ مُوسَى» . وَلَمَّا عَلِمَ هَذَا الرَّجُلُ بِذَلِكَ أَسْرَعَ بِالْخَبَرِ لِمُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مُعْجَبًا بِمُوسَى وَاسْتِقَامَتِهِ. وَقَدْ قِيلَ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الْقِبْطِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُ مَعْرِفَةَ فَسَادِ الشِّرْكِ بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِ وَهَيَّأَهُ لِإِنْقَاذِ مُوسَى مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ. وَالسَّعْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فِي سُورَةِ طه [20] . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [19] . وَجُمْلَةُ يَسْعى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رَجُلٌ

الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. ويَأْتَمِرُونَ بِكَ يَتَشَاوَرُونَ. وَضُمِّنَ مَعْنَى (يَهُمُّونَ) فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْتَمِرُونَ وَيَهُمُّونَ بِقَتْلِكَ. وَأَصْلُ الِائْتِمَارِ: قَبُولُ أَمْرِ الْآمِرِ فَهُوَ مُطَاوِعٌ أَمْرَهُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَيَعْدُو عَلَى الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ أَيْ يَضُرُّهُ مَا يُطِيعُ فِيهِ أَمْرَ نَفْسِهِ. ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ الِائْتِمَارِ عَلَى التَّشَاوُرِ لِأَنَّ الْمُتَشَاوِرِينَ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ أَمْرَ بَعْضٍ فَيَأْتَمِرُ بِهِ الْجَمِيعُ، قَالَ تَعَالَى وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: 6] . وَجُمْلَةُ قالَ يَا مُوسى بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ جاءَ رَجُلٌ لِأَنَّ مَجِيئَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ. وَمُتَعَلِّقُ الْخُرُوجِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فَاخْرُجْ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ تَعْلِيلٌ لِأَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ صِلَةٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ النُّصْحِ مُعَدًّى بِاللَّامِ. يُقَالُ: نَصَحْتُ لَكَ قَالَ تَعَالَى إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي السُّورَة التَّوْبَةِ [91] وَوَهَمًا قَالُوا: نَصَحْتُكَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالتَّرَقُّبُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِظَارُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ رَقَبَ إِذَا نَظَرَ أَحْوَالَ شَيْءٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ: مَرْقَبَةً وَمُرْتَقَبًا، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْحَذَرِ. وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَرَقَّبُ لِأَنَّ تَرَقُّبَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْ يُنَجِّيَهُ. وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ. وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَلِأَنَّهُمْ رَامُوا قَتْلَهُ قِصَاصًا عَنْ قَتْلٍ خَطَأٍ وَذَلِكَ ظُلْمٌ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْقَتْلِ لَا يَقْتَضِي الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْقِبْطِيِّ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ [الْقَصَص: 14] إِلَى هُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِشَيْءٍ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ بِقُدْرَتِهِ فَأَبْرَزَهُ عَلَى أَتْقَنِ

[سورة القصص (28) : آية 22]

تَدْبِيرٍ، وَأَنَّ النَّاظِرَ الْبَصِيرَ فِي آثَارِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ يَقْتَبِسُ مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِي دَعْوَتِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: 16] . وَإِنَّ أَوْضَحَ تِلْكَ الْمظَاهر هُوَ مظهر اسْتِقَامَةُ السِّيرَةِ وَمَحَبَّةُ الْحَقِّ، وَأَنَّ دَلِيلَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِمَنِ اصْطَفَاهُ لِذَلِكَ هُوَ نَصْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَنَجَاتُهُ مِمَّا لَهُ مَنِ الْمَكَائِدِ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَثَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ لَوْ نَظَرُوا فِي حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَاتِهِ وَفِي حَالِهِمْ مَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ الْآيَةَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ من ظالميه. [22] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 22] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) هَذِهِ هِجْرَةٌ نَبَوِيَّةٌ تُشْبِهُ هِجْرَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت: 26] . وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقْصِدَ بِلَادَ مَدْيَنَ إِذْ يَجِدُ فِيهَا نَبِيئًا يبصره بآداب النبوءة وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَتَوَجَّهُ وَلَا مَنْ سَيَجِدُ فِي وُجْهَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ عَطْفٌ عَلَى جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ مَسِيرُهُ فِي طَرِيقٍ يُؤَدِّي إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ حِينَئِذٍ قَالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ مُوسَى وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالطَّرِيقِ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِرَبِّهِ. وتَوَجَّهَ: وَلَّى وَجْهَهُ، أَيِ اسْتَقْبَلَ بِسَيْرِهِ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ. وتِلْقاءَ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ التِّفْعَالِ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَسْرِ التَّاءِ إِلَّا تِمْثَالٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ وَالْمُقَارَبَةِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَصْدَرِ عَلَى جِهَتِهِ فَصَارَ مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ الَّتِي تُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا تَوَجَّهَ جِهَةَ تَلَاقِي مَدْيَنَ، أَيْ جِهَةَ تَلَاقِي بِلَادِ مَدْيَنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

[سورة القصص (28) : الآيات 23 إلى 24]

ومَدْيَنَ: قَوْمٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [85] . وَأَرْضُ مَدْيَنَ وَاقِعَةٌ عَلَى الشَّاطِئِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَكَانَ مُوسَى قَدْ سَلَكَ إِلَيْهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِ (رَعْمَسِيسَ) أَوْ (مَنْفِيسَ) طَرِيقًا غَرْبِيَّةً جَنُوبِيَّةً فَسَلَكَ بَرِّيَّةً تَمُرُّ بِهِ عَلَى أَرْضِ الْعَمَالِقَةِ وَأَرْضِ الْأَدُومِيِّينَ ثُمَّ بِلَادِ النَّبَطِ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ. تِلْكَ مَسَافَةُ ثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِيلًا تَقْرِيبًا. وَإِذْ قَدْ كَانَ مُوسَى فِي سَيْرِهِ ذَلِكَ رَاجِلًا فَتِلْكَ الْمَسَافَةُ تَسْتَدْعِي مِنَ الْمُدَّةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَكَانَ يَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ. وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ سَوَاءَ السَّبِيلِ فَلَمْ يَضِلَّ فِي سَيْرِهِ. وَالسَّوَاءُ: الْمُسْتَقِيمُ النَّهْجِ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ. وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الَّتِي فِي طَيِّهَا تَوْفِيقُهُ إِلَى الدَّين الْحق. [23، 24] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 23 إِلَى 24] وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) يَدُلُّ قَوْلُهُ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أَنَّهُ بَلَغَ أَرْضَ مَدْيَنَ، وَذَلِكَ حِينَ وَرَدَ مَاءَهُمْ. وَالْوُرُودُ هُنَا مَعْنَاهُ الْوُصُولُ وَالْبُلُوغُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: 71] . وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَوْضِعُ الْمَاءِ. وَمَاءُ الْقَوْمِ هُوَ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ دِيَارُهُمْ لِأَنَّ الْقَبَائِلَ كَانَتْ تَقْطُنُ عِنْدَ الْمِيَاهِ وَكَانُوا يُكَنُّونَ عَنْ أَرْضِ الْقَبِيلَةِ بِمَاءِ بَنِي فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى: وَلَمَّا ورد، أَي عِنْد مَا بَلَغَ بِلَادَ مَدْيَنَ. وَيُنَاسِبُ الْغَرِيبَ إِذَا جَاءَ دِيَارَ قَوْمٍ أَنْ يَقْصِدَ الْمَاءَ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ فَهُنَالِكَ يَتَعَرَّفُ لِمَنْ يُصَاحِبُهُ وَيُضِيفُهُ. ولَمَّا حَرْفُ تَوْقِيتِ وُجُودِ شَيْءٍ بِوُجُودِ غَيره، أَي عِنْد مَا حَلَّ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَجَدَ أُمَّةً.

وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ الْعَدَدِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي الْبَقَرَةِ [213] . وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْقُونَ لِتَعْمِيمِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْقَى وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالنَّاسُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْمَسْقِيِّ وَلَكِنْ بِمَا بَعْدَهُ مِنِ انْزِوَاءِ الْمَرْأَتَيْنِ عَنِ السَّقْيِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» تَبَعًا «لِدَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، فَيَكُونُ مِنْ تَنْزِيلِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَوِ الْحَذْفُ هُنَا لِلِاخْتِصَارِ كَمَا اخْتَارَهُ السَّكَّاكِيُّ وَأَيَّدَهُ شَارِحَاهُ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ. وَأَمَّا حَذْفُ مَفَاعِيلِ تَذُودانِ- لَا نَسْقِي- فَسَقى لَهُما فَيَتَعَيَّنُ فِيهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخَانِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَشَارِحَاهُ فَشَيْءٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ وَإِنَّمَا اسْتِفَادَةُ كَوْنِهِمَا تَذُودَانِ غَنَمًا مَرْجِعُهَا إِلَى كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِمُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي حَوْلَ الْمَاءِ، أَيْ فِي جَانِبٍ مُبَاعِدٍ لِلْأُمَّةِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلِمَةِ (دُونَ) أَنَّهَا وَصْفٌ لِلشَّيْءِ الْأَسْفَلِ مِنْ غَيْرِهِ. وَتَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ مُخْتَلِفَةُ الْعَلَاقَاتِ، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَ (دُونَ) بِمَعْنَى جِهَةٍ يَصِلُ إِلَيْهَا الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ السَّاقُونَ. شَبَّهَ الْمَكَانَ الَّذِي يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَ بَعْدَ مَكَانٍ آخَرَ بِالْمَكَانِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْآخَرِ كَأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْمَاشِي لِأَنَّ الْمَشْيَ يُشَبَّهُ بِالصُّعُودِ وَبِالْهُبُوطِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ. وَيُحْذَفُ الْمَوْصُوفُ بِ (دُونَ) لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَيَصِيرُ (دُونَ) بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْمَحْذُوفِ. وَحَرْفُ مِنَ مَعَ (دُونَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: 9] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَهُوَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: 10] . وَالْمَعْنَى: وَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ فِي جِهَةٍ مُبْتَعِدَةٍ عَنْ جِهَةِ السَّاقِينَ. وتَذُودانِ تَطْرُدَانِ. وَحَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الْأَنْعَامِ عَنِ الْمَاءِ وَلِذَلِكَ سَمُّوا الْقَطِيعَ مِنَ الْإِبِلِ الذَّوْدَ فَلَا يُقَالُ: ذُدْتُ النَّاسَ، إِلَّا مَجَازًا مُرْسَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «فَلَيُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي» الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: تَمْنَعَانِ إِبِلًا عَنِ الْمَاءِ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ صَاحِبَ

غَنَمٍ وَأَنَّ مُوسَى رَعَى غَنَمَهُ. فَيَكُونُ إِطْلَاقُ تَذُودانِ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا، أَوْ تَكُونُ حَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا عَنْ حَوْضِ الْمَاءِ. وَكَلَامُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمَا غَنَمٌ، وَالذَّوْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَاشِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حُضُورِ الْمَاءِ بِالْأَنْعَامِ سَقْيُهَا. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى الْمَرْأَتَيْنِ تَمْنَعَانِ أَنْعَامَهُمَا مِنَ الشُّرْبِ سَأَلَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ قِصَّتِهِمَا وَشَأْنِهِمَا إِذْ حَضَرَا الْمَاءَ وَلَمْ يَقْتَحِمَا عَلَيْهِ لِسَقْيِ غَنَمِهِمَا. وَجُمْلَةُ قالَ مَا خَطْبُكُما بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ. وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ وَالْحَدَثُ الْمُهِمُّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يُوسُف: 51] ، فَأَجَابَتَا بِأَنَّهُمَا كَرِهَتَا أَنْ تَسْقِيَا فِي حِينِ اكْتِظَاظِ الْمَكَانِ بِالرِّعَاءِ وَأَنَّهُمَا تَسْتَمِرَّانِ عَلَى عَدَمِ السَّقْيِ كَمَا اقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ الرِّعَاءُ. والرِّعاءُ: جَمْعُ رَاعٍ. وَالْإِصْدَارُ: الْإِرْجَاعُ عَنِ السَّقْيِ، أَيْ حَتَّى يَسْقِيَ الرِّعَاءُ وَيُصْدِرُوا مَوَاشِيَهُمْ، فَالْإِصْدَارُ جَعْلُ الْغَيْرِ صَادِرًا، أَيْ حَتَّى يَذْهَبَ رِعَاءُ الْإِبِلِ بِأَنْعَامِهِمْ فَلَا يَبْقَى الزِّحَامُ. وَصَدُّهُمَا عَنِ الْمُزَاحمَة عَادَتهمَا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا ذَوَاتَيْ مُرُوءَةٍ وَتَرْبِيَةٍ زَكِيَّةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُصْدِرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ يُصْدِرَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الدَّالِّ عَلَى إِسْنَادِ الصَّدْرِ إِلَى الرِّعَاءِ، أَيْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنِ الْمَاءِ، أَيْ بِمَوَاشِيهِمْ لِأَنَّ وَصْفَ الرِّعَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ مَوَاشِيَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمَا كُلَّ يَوْمِ سَقْيٍ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَةٌ. وَكَانَ قَوْلُهُمَا وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ اعْتِذَارًا عَنْ حُضُورِهِمَا لِلسَّقْيِ مَعَ الرِّجَالِ لِعَدَمِ وِجْدَانِهِمَا رَجُلًا يَسْتَقِي لَهُمَا لِأَنَّ الرَّجُلَ الْوَحِيدَ لَهُمَا هُوَ أَبُوهُمَا وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ وُرُودَ الْمَاءِ لِضَعْفِهِ عَنِ الْمُزَاحَمَةِ.

وَاسْمُ الْمَرْأَتَيْنِ (لَيَّا) وَ (صَفُّورَةُ) . وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّ أَبَاهُمَا كَاهِنُ مَدْيَنَ. وَسَمَّاهُ فِي ذَلِكَ السِّفْرِ أَوَّلَ مَرَّةٍ رَعْوِيلَ ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ يَثْرُونَ وَوَصَفَهُ بِحَمِيِّ مُوسَى، فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعِبْرِيِّ فِي «تَارِيخِهِ» : يَثْرُونُ بْنُ رَعْوِيلَ لَهُ سَبْعُ بَنَاتٍ خَرَجَ لِلسَّقْيِ مِنْهُمَا اثْنَتَانِ، فَيَكُونُ شُعَيْبٌ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْيَهُودِ يَثْرُونَ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ النَّبِيءِ بِالْكَاهِنِ اصْطِلَاحٌ. لِأَنَّ الْكَاهِنَ يُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ وَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَائِمِ بِأُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ الْيَهُودِ. وَلِلْجَزْمِ بِأَنَّهُ شُعَيْبٌ الرَّسُولُ جَعَلَ عُلَمَاؤُنَا مَا صَدَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةَ شَرْعًا سَابِقًا فَفَرَّعُوا عَلَيْهِ مَسَائِلَ مَبْنِيَّةً عَلَى أَصْلِ: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الرُّسُلِ الْإِلَهِيِّينَ شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ. وَمِنْهَا مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ الْأَعْمَالَ وَالسَّعْيُ فِي طُرُقِ الْمَعِيشَةِ، وَوُجُوبُ اسْتِحْيَائِهَا، وَوِلَايَةُ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ، وَجَعْلُ الْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ مَهْرًا، وَجَمْعُ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْإِجَارَةِ. وَقَدِ اسْتَوْفَى الْكَلَامَ عَلَيْهَا الْقُرْطُبِيُّ. وَفِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ غُنْيَةٌ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا يُوجَدُ دَلِيلُهُ فِي الْقُرْآنِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لَهَا مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا. وَفِي إِذْنه لَا بنتيه بِالسَّقْيِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَالَجَةِ الْمَرْأَةِ أُمُورَ مَالِهَا وَظُهُورِهَا فِي مَجَامِعِ النَّاسِ إِذَا كَانَتْ تَسْتُرُ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ فَإِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا حَكَاهُ شَرْعُنَا وَلَمْ يَأْتِ مِنْ شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ. وَأَمَّا تَحَاشِي النَّاسِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُرُوءَةِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ وَالْعَادَاتُ مُتَبَايِنَةٌ فِيهِ وَأَحْوَالُ الْأُمَمِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَخَاصَّةً مَا بَيْنَ أَخْلَاقِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَدُخُولُ لِما التَّوْقِيتِيَّةُ يُؤْذِنُ بِاقْتِرَانِ وُصُولِهِ بِوُجُودِ السَّاقِينَ. وَاقْتِرَانُ فِعْلِ (سَقَى) بِالْفَاءِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ بَادَرَ فَسَقَى لَهُنَّ، وَذَلِكَ بِفَوْرِ وُرُودِهِ. وَمَعْنَى فَسَقى لَهُما أَنَّهُ سَقَى مَا جِئْنَ لِيَسْقِينَهُ لِأَجْلِهِمَا، فَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ لَا يَدْفَعُهُ لِذَلِكَ إِلَّا هُمَا، أَيْ رَأْفَةً بِهِمَا وَغَوْثًا لَهُمَا. وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ مُرُوءَتِهِ أَنِ اقْتَحَمَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الشَّاقَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْيَاءِ عِنْدَ الْوُصُولِ. وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ عَلَى طَرِيقِهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مِنْ قَبْلُ فِي ظِلٍّ فَرَجَعَ إِلَيْهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ تَوَلَّى مُرَادِفُ (وَلَّى) وَلَكِنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَضِيَ

زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَيَكُونُ تَوَلَّى أَشَدَّ مِنْ (وَلَّى) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَّى مُدْبِراً فِي سُورَةِ النَّمْلِ [10] . وَقَدْ أَعْقَبَ إِيوَاءَهُ إِلَى الظِّلِّ بِمُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ إِذْ قَالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. لَمَّا اسْتَرَاحَ مِنْ مَشَقَّةِ الْمَتْحِ وَالسَّقْيِ لِمَاشِيَةِ الْمَرْأَتَيْنِ وَالِاقْتِحَامِ بِهَا فِي عَدَدِ الرِّعَاءِ الْعَدِيدِ، وَوَجَدَ بَرْدَ الظِّلِّ تَذَكَّرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ نِعَمًا سَابِقَةً أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ نَجَاتِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَإِيتَائِهِ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ تَبِعَةِ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَإِيصَالِهِ إِلَى أَرْضٍ مَعْمُورَةٍ بِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ فَيَافِيَ وَمُفَازَاتٍ، تَذَكَّرَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي نِعْمَةِ بَرْدِ الظِّلِّ وَالرَّاحَةِ مِنَ التَّعَبِ فَجَاءَ بِجُمْلَةٍ جَامِعَةٍ لِلشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَهِيَ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ . وَالْفَقِيرُ: الْمُحْتَاجُ فَقَوْلُهُ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ شُكْرٌ عَلَى نِعَمٍ سَلَفَتْ. وَقَوْلُهُ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ مُعْطِي الْخَيْرِ. وَالْخَيْرُ: مَا فِيهِ نَفْعٌ وَمُلَاءَمَةٌ لِمَنْ يَتَعَلَّقُ هُوَ بِهِ فَمِنْهُ خَيْرُ الدُّنْيَا وَمِنْهُ خَيْرُ الْآخِرَةِ الَّذِي قَدْ يُرَى فِي صُورَةِ مَشَقَّةٍ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَوَاقِبِ، قَالَ تَعَالَى وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التَّوْبَة: 85] . وَقَدْ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ كَمَا يَرْمُزُ إِلَى ذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَائِهِ الْخَيْرَ بِفِعْلِ أَنْزَلْتَ الْمُشْعِرِ بِرِفْعَةِ الْمُعْطَى. فَأَوَّلُ ذَلِكَ إِيتَاءُ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ. وَمِنَ الْخَيْرِ إِنْجَاؤُهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَرْبِيَتُهُ الْكَامِلَةُ فِي بِذْخَةِ الْمُلْكِ وَعِزَّتِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْعَائِلَةِ الَّتِي رُبِّيَ فِيهَا فَكَانَ مُنْتَفِعًا بِمَنَافِعِهَا مُجَنَّبًا رَذَائِلَهَا وَأَضْرَارَهَا. وَمِنَ الْخَيْرِ أَنْ جَعَلَ نَصْرَ قَوْمِهِ عَلَى يَدِهِ، وَأَنْ أَنْجَاهُ مِنَ الْقَتْلِ الثَّانِي ظُلْمًا، وَأَنْ هَدَاهُ إِلَى مَنْجًى مِنَ الْأَرْضِ، وَيسر لَهُ التعرف بِبَيْتِ نُبُوءَةٍ، وَأَنْ آوَاهُ إِلَى ظِلٍّ. وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مَوْصُولَةٌ كَمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ أَنْزَلْتَ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيمَا مَضَى صَارَ مَعْرُوفًا غَيْرَ نَكِرَةٍ، فَقَوْلُهُ (مَا

[سورة القصص (28) : آية 25]

أَنْزَلْتَ إِلَيَّ) بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِتُلَائِمَ قَوْلَهُ فَقِيرٌ أَيْ فَقِيرٌ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ لِأَمْثَالِهِ. وَأَحْسَنُ خَيْرٍ لِلْغَرِيبِ وُجُودُ مَأْوًى لَهُ يَطْعَمُ فِيهِ وَيَبِيتُ وَزَوْجَةٌ يَأْنَسُ إِلَيْهَا وَيَسْكُنُ. فَكَانَ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأَنْ أَلْهَمَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَهُ لِيُنْزِلَهُ عِنْدَهُ وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، كَمَا أَشْعَرَتْ بِذَلِكَ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ فَجاءَتْهُ إِحْداهُما [الْقَصَص: 25] . [25] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 25] فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) عَرَفْتَ أَنَّ الْفَاءَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَيَّضَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَ مُوسَى لِيُضَيِّفَهُ وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، فَذَلِكَ يَضْمَنُ لَهُ أُنْسًا فِي دَارِ غُرْبَةٍ وَمَأْوًى وَعَشِيرًا صَالِحًا. وَتُؤْذِنُ الْفَاءُ أَيْضًا بِأَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَتَرَيَّثْ فِي الْإِرْسَالِ وَرَاءَهُ فَأَرْسَلَ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا وَهِيَ (صَفُّورَةُ) فَجَاءَتْهُ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ عَنْ مَكَانِهِ فِي الظِّلِّ. وَذَكَرَ تَمْشِي لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ عَلَى اسْتِحْياءٍ وَإِلَّا فَإِنَّ فِعْلَ (جَاءَتْهُ) مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ تَمْشِي. وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُسْتَحْيِيَةٌ فِي مَشْيِهَا، أَيْ تَمْشِي غَيْرَ مُتَبَخْتِرَةٍ وَلَا مُتَثَنِّيَةٍ وَلَا مُظْهِرَةٍ زِينَةً. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهَا كَانَتْ سَاتِرَةً وَجْهَهَا بِثَوْبِهَا، أَيْ لِأَنَّ سَتْرَ الْوَجْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاءِ. وَالِاسْتِحْيَاءُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاءِ مِثْلُ الِاسْتِجَابَةِ قَالَ تَعَالَى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النُّور: 31] . وَجُمْلَةُ قالَتْ بَدَلٌ مِنْ (جَاءَتْهُ) . وَإِنَّمَا بَيَّنَتْ لَهُ الْغَرَضَ مِنْ دَعْوَتِهِ مُبَادَرَةً بِالْإِكْرَامِ. وَالْجَزَاءُ: الْمُكَافَأَةُ عَلَى عَمَلٍ حسن أَو سيّىء بِشَيْءٍ مِثْلِهِ فِي الْحُسْنِ أَوِ الْإِسَاءَةِ،

قَالَ تَعَالَى هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: 60] وَقَالَ تَعَالَى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [سبأ: 17] . وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ حِكَايَةٌ لِمَا فِي كَلَامِهَا مِنْ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى الْمُخْبَرِ بِهِ. وَالْأَجْرُ: التَّعْوِيضُ عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ لِلْمُعَوَّضِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ ثَوَابُ الطَّاعَاتِ أَجْرًا، قَالَ تَعَالَى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [مُحَمَّد: 36] . وَانْتَصَبَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الْجَزَاءِ أَنَّهُ جَزَاءُ خَيْرٍ، وَهُوَ أَنْ أَرَادَ ضِيَافَتَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى إِجَارَةِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقَاوُلٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا عَادَةٍ. وَالْجَزَاءُ: إِكْرَامٌ، وَالْإِجَارَةُ: تَعَاقُدٌ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [الْقَصَص: 26] فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ عَزْمٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مُوسَى. وَكَانَ فِعْلُ مُوسَى مَعْرُوفًا مَحْضًا لَا يَطْلَبُ عَلَيْهِ جَزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَا بَيْتَهُمَا، وَكَانَ فِعْلُ شُعَيْبٍ كَرَمًا مَحْضًا وَمَحَبَّةً لِقِرَى كُلِّ غَرِيبٍ، وَتَضْيِيفُ الْغَرِيبِ مِنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا غَرْوَ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا رَجُلَانِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَا فِي قَوْلِهِ مَا سَقَيْتَ لَنا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ سَقْيِكَ، وَلَامُ لَنا لَامُ الْعِلَّةِ. فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. كَانَتِ الْعَوَائِدُ أَنْ يُفَاتَحَ الضَّيْفُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ وَمَقْدِمِهِ فَلِذَلِكَ قَصَّ مُوسَى قِصَّةَ خُرُوجِهِ وَمَجِيئِهِ عَلَى شُعَيْبٍ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ شُعَيْبًا سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ، والْقَصَصَ: الْخَبَرُ. وقَصَّ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَصَصَ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصَصَهُ، أَوْ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْقَصَصَ الْمَذْكُورَ آنِفًا. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ. فَطَمْأَنَهُ شُعَيْبٌ بِأَنَّهُ يُزِيلُ عَنْ نَفْسِهِ الْخَوْفَ لِأَنَّهُ أَصْبَحَ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ حُكْمُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ بِلَادَ مَدْيَنَ تَابِعَةٌ لِمُلْكِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَهُمْ أَهْلُ بَأْسٍ وَنَجْدَةٍ. وَمَعْنَى نَهْيِهِ عَنِ الْخَوْفِ نَهْيُهُ عَنْ ظَنِّ أَنْ تَنَالَهُ يَدُ فِرْعَوْنَ.

[سورة القصص (28) : الآيات 26 إلى 28]

وَجُمْلَةُ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ. وَوَصْفُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِالظَّالِمِينَ تَصْدِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مُوسَى مِنْ رَوْمِهِمْ قَتْلَهُ قِصَاصًا عَنْ قَتْلٍ خَطَأٍ. وَمَا سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِ عَدَاوَتِهِمْ عَلَى بني إِسْرَائِيل. [26- 28] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 26 إِلَى 28] قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) حَذَفَ مَا لَقِيَهُ مُوسَى مِنْ شُعَيْبٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِإِضَافَتِهِ وَإِطْعَامِهِ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى عَرْضِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَبِيهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مَاشِيَتِهِ إِذْ لَمْ يكن لَهُم بَيتهمْ رَجُلٌ يَقُومُ بِذَلِكَ وَقَدْ كَبُرَ أَبُوهُمَا فَلَمَّا رَأَتْ أَمَانَتَهُ وَوَرَعَهُ رَأَتْ أَنَّهُ خَيْرُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِلْعَمَلِ عِنْدَهُمْ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْعَمَلِ وَأَمَانَتِهِ. وَالتَّاءُ فِي أَبَتِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً وَهِيَ يَجُوزُ كَسْرُهَا وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ عِلَّةٌ لِلْإِشَارَةِ عَلَيْهِ بِاسْتِئْجَارِهِ، أَيْ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ. وَجَاءَتْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ مُرْسَلَةٍ مَثَلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ وَمُطَابَقَةِ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ تَخَلُّفٍ، فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ. وَالْخِطَابُ فِي مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُوَجَّهٌ إِلَى شُعَيْبٍ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ لِتَتِمَّ صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنْ يُرْسَلَ مَثَلًا. فَالتَّقْدِيرُ: مَنِ اسْتَأْجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ. ومَنِ مَوْصُولَةٌ فِي مَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ إِذْ لَا يُرَادُ بِالصِّلَةِ هُنَا وَصْفُ خَاصٍّ بِمُعَيَّنٍ. وَجَعْلُ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ بِجَعْلِهِ اسْمًا لِأَنَّ جَعْلَ الْقَوِيُّ

الْأَمِينُ خَبَرًا مَعَ صِحَّةِ جَعْلِ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَوْصُولِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ خَيْرَ، وَفِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ هُنَا الْعُمُومُ فِي كِلَيْهِمَا، فَأُوثِرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَأَوْلَى بِالْعِنَايَةِ وَهُوَ خَيْرُ أَجِيرٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ اسْتَأْجِرْهُ فَوَصْفُ الْأَجِيرِ أَهَمُّ فِي مَقَامِ تَعْلِيلِهَا وَنَفْسُ السَّامِعِ أَشَدُّ تَرَقُّبًا لِحَالِهِ. وَمَجِيءُ هَذَا الْعُمُومِ عَقِبَ الْحَدِيثِ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْعُمُومُ فَكَانَ ذَلِكَ مُصَادِفًا الْمَحَزَّ مِنَ الْبَلَاغَةِ إِذْ صَارَ إِثْبَاتُ الْأَمَانَةِ وَالْقُوَّةِ لِهَذَا الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِدَلِيلٍ. فَتَقْدِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: اسْتَأْجِرْهُ فَهُوَ قَوِيٌّ أَمِينٌ وَإِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرَ مُسْتَأْجِرٌ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى خُصُوصِيَّةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ وَعَلَى إِيجَازِ الْحَذْفِ وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْفَتْ غَايَةَ مُقْتَضَى الْحَالِ فَكَانَتْ بَالِغَةً حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ «أَشْكُو إِلَى اللَّهِ ضَعْفَ الْأَمِينِ وَخِيَانَةَ الْقَوِيِّ» . يُرِيدُ: أَسْأَلُهُ أَنْ يُؤَيِّدَنِي بِقَوِيٍّ أَمِينٍ أَسْتَعِينُ بِهِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ هاتَيْنِ إِلَى الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا إِنْ كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ مَعًا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ بَنَاتِ شُعَيْبٍ لِتَعَلُّقِ الْقَضِيَّةِ بِشَأْنِهِمَا، أَوْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا لِحُضُورِهِمَا فِي ذِهْنِ مُوسَى بِاعْتِبَارِ قُرْبِ عَهْدِهِ بِالسَّقْيِ لَهُمَا إِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى غَائِبَةً حِينَئِذٍ. وَفِيهِ جَوَازُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَوْلَاتِهِ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا رَغْبَةً فِي صَلَاحِهِ. وَجَعَلَ لِمُوسَى اخْتِيَارَ إِحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَهَا وَكَانَتِ الَّتِي اخْتَارَهَا مُوسَى (صَفُّورَةَ) وَهِيَ الصُّغْرَى كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا اخْتَارَهَا دُونَ أُخْتِهَا لِأَنَّهَا الَّتِي عَرَفَ أَخْلَاقَهَا بِاسْتِحْيَائِهَا وَكَلَامِهَا فَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لَهَا عِنْدَهُ. وَكَانَ هَذَا التَّخْيِيرُ قَبْلَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ فِيهِ جَهْلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ حَرْفُ عَلى مَنْ صِيَغِ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ. وتَأْجُرَنِي مُضَارِعُ أَجَرَهُ مِثْلُ نَصَرَهُ إِذَا كَانَ أَجِيرًا لَهُ. وَالْحِجَجُ: اسْمٌ

جَمْعُ حِجَّةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ السَّنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ كُلَّ سَنَةٍ وَمَوْسِمُ الْحَجِّ يَقَعُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالْتِزَامُ جَعْلِ تَزْوِيجِهِ مَشْرُوطًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُمَا عَرْضٌ مِنْهُ عَلَى مُوسَى وَلَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ وَلَا إِجَارَةٍ حَتَّى يَرْضَى مُوسَى. وَفِي هَذَا الْعَرْضِ دَلِيلٌ لِمَسْأَلَةِ جَمْعِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ أَصْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُصْدِقُهَا فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا إِيَّاهُ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُقَارِنَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُنَافِي عَقْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنَافِي لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَجْلِهِ وَلَكِنْ يُلْغَى الشَّرْطُ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: تُكْرَهُ الشُّرُوطُ كُلُّهَا ابْتِدَاءً فَإِنْ وَقَعَ مَضَى. وَقَالَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ لِلْآيَةِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ عَلَيْهِ الْفُرُوجَ» . وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ جُعِلَتْ مَهْرًا لِلْبِنْتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ الْتِزَامُ الْإِجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَتَابِعٌ لِمَا يُعْتَبَرُ فِي شَرْعِهِمْ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، وَالشَّرَائِعُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي مَعَانِي الْمَاهِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِذَا أَخَذْنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمَا جَعَلَا الْمَهْرَ مَنَافِعَ إِجَارَةِ الزَّوْجِ لِشُعَيْبٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا لِأَنَّهَا سَمِعَتْ وَسَكَتَتْ بِنَاءً عَلَى عَوَائِدَ مَرْعِيَّةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ أَبُوهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ بِالْأَصَالَةِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْمَهْرِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ عَوَائِدَ الْأُمَمِ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَزْوِيجِ وَلَايَاهُمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْآيَةِ إِجْمَالٌ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ مَنَافِعَ مِنْ إِجَارَةِ زَوْجِهَا فَيَرْجِعُ النَّظَرُ فِي صِحَّةِ جَعْلِ الْمَهْرِ إِجَارَةً إِلَى التَّخْرِيجِ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنَى الْمَهْرِ، فَإِنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ ذَاتُ قِيمَةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَهْرًا. وَالتَّحْقِيقُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَيَمْضِي. وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ

حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَهْرِ مَنَافِعَ حُرٍّ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَنَافِعَ عَبْدٍ. وَلَمْ يَرَ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهُ فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَإِذْ قَدْ كَانَ حُكْمُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مُخْتَلِفًا فِي جَعْلِهِ شَرْعًا لَنَا كَانَ حُجَّةً مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَزَادَهَا ضَعْفًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِجْمَالُ الَّذِي تَطَرَّقَهَا فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَدَلِيلُ الْجَوَازِ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنَى الْمَهْرِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ الْمَجْعُولَةُ مَهْرًا حَاصِلَةً قَبْلَ الْبِنَاءِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَجَعَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى النِّكَاحِ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ وَهُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ بَاطِلٍ. وَإِلَى الْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ غَيْرِ قَابِلٍ لِلتَّبْعِيضِ بِتَبْعِيضِ الْعَمَلِ فَإِذَا لَمْ يُتِمَّ الْأَجِيرُ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ رَجَعَتْ إِلَى مَسْأَلَةِ عَجْزِ الْعَامِلِ عَنِ الْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْأَجْرَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ وَفِي حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَهَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مَا تُصْدِقُهَا؟ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْتَمَسَ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» قَالَ: مَا عِنْدِي وَلَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا. قَالَ لَهُ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيءَ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا عِشْرِينَ آيَةً مِمَّا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَتَكُونُ امْرَأَتَهُ. فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ كَانَ الْحَدِيثُ جَارِيًا عَلَى وَفْقِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَانَ حُجَّةً لِصِحَّةِ جَعْلِ الصَّدَاقِ إِجَارَةً عَلَى عَمَلٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ فَالْقِصَّةُ خُصُوصِيَّةٌ يُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهَا. وَلَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ فِي الْآيَةِ لِلْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهِ. وَوَرَدَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ رَعَى غَنَمَ يَثْرُونَ (وَهُوَ شُعَيْبٌ) ، وَلَا غَرَضَ لِلْقُرْآنِ فِي بَيَانِ ذَلِكَ. وَلَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ إِلَى الْأَجْرِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنْكَاحُهُ الْبِنْتَ فَإِذَا لَمْ نَأْخُذْ بِهَذَا الظَّاهِرِ كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ مُتَعَرِّضَةٍ لِلْأَجْرِ إِذْ لَا غَرَضَ فِيهِ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ فَيَكُونُ جَارِيًا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ فِي أُجُورِ الْأَعْمَالِ وَكَانَتْ لِلْقَبَائِلِ عَوَائِدُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَدْرَكْتُ

مُنْذُ أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ رَاعِيَ الْغَنَمِ لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ قَمِيصٌ وَحِذَاءٌ يُسَمَّى (بَلْغَةً) وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا أَضْبُطُهُ الْآنَ. وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى تَفَضُّلًا مِنْهُ أَنِ اخْتَارَهُ وَوَكَّلَهُ إِلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي مُنْتَهَى الْحِجَجِ الثَّمَانِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الزِّيَادَةِ. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَ (عِنْدَ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الذَّاتِ وَالنَّفْسِ مَجَازًا، وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِتْمَامُ الْعَشْرِ مِنْ نَفْسِكَ، أَيْ لَا مِنِّي، يَعْنِي: أَنَّ الْإِتْمَامَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْعُقْدَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مَفْهُومُ الظَّرْفِ مُعْتَبَرًا هُنَا. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ إِنْكَاحَ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِدُونِ إِذْنِهَا وَهُوَ أَخْذٌ بِظَاهِرِهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِاسْتِئْذَانِهَا. وَلِمَنْ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ. وَقَوْلُهُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يُرِيدُ الصَّالِحِينَ بِالنَّاسِ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ. قَصَدَ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ خُلُقِهِ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ قَائِلُهُ الْفَخْرَ وَالتَّمَدُّحَ، فَأَمَّا مَا كَانَ لغَرَض فِي الدِّينِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ لِدَاعٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ يُوسُفُ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: 55] . وأَشُقَّ عَلَيْكَ مَعْنَاهُ: أَكُونَ شَاقًّا عَلَيْكَ، أَيْ مُكَلِّفَكَ مَشَقَّةً، وَالْمَشَقَّةُ: الْعُسْرُ وَالتَّعَبُ وَالصُّعُوبَةُ فِي الْعَمَلِ. وَالْأَصْلُ أَنْ يُوصَفَ بِالشَّاقِّ الْعَمَلُ الْمُتْعِبُ فَإِسْنَادُ أَشُقَّ إِلَى ذَاتِهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ، أَيْ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِطَ عَلَيْكَ مَا فِيهِ مَشَقَّتُكَ. وَهَذَا مِنَ السَّمَاحَةِ الْوَارِدِ فِيهَا حَدِيثُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمَحًا إِذَا اشْتَرَى..» . وَجُمْلَةُ قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِكَايَةٌ لِجَوَابِ مُوسَى عَنْ كَلَامِ شُعَيْبٍ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ إِلَى آخِرِهِ. وَهَذَا قَبُولُ مُوسَى لِمَا أَوْجَبَهُ شُعَيْبٌ وَبِهِ تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى الْإِجَارَةِ، أَيِ الْأَمْرُ عَلَى مَا شَرَطْتَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ. وَأَطْلَقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ وَالِارْتِبَاطِ، أَيْ كُلٌّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِهِ.

وَ (أَيَّمَا) مَنْصُوبٌ بِ قَضَيْتُ. وَ (أَيَّ) اسْمٌ مَوْصُولٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ (مَا) . وَزِيدَتْ بَعْدَهَا (مَا) لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِيرَ الْمَوْصُولُ شَبِيهًا بِأَسْمَاءِ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَأْكِيدَ مَا فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِبْهَامِ يُكْسِبُهُ عُمُومًا فَيُشْبِهُ الشَّرْطَ فَلِذَلِكَ جُعِلَ لَهُ جَوَابٌ كَجَوَابِ الشَّرْطِ. وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي مُنْتَهَى الْأَجَلِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ الْمُفَادُ بِجُمْلَةِ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَالْعُدْوَانُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ فَلَا تَعْتَدِي عَلَيَّ. فَنَفَى جِنْسَ الْعُدْوَانِ الَّذِي مِنْهُ عُدْوَانُ مُسْتَأْجِرِهِ. وَاسْتَشْهَدَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى شُعَيْبٍ بِشَهَادَةِ اللَّهِ. وَأَصْلُ الْوَكِيلِ: الَّذِي وُكِّلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَرَادَ هُنَا أَنَّهُ وُكِّلَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا أَخَلَّ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ كَانَ اللَّهُ مُؤَاخِذَهُ. وَلَمَّا ضُمِّنَ الْوَكِيلُ مَعْنَى الشَّاهِدِ عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلَيَّ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) . وَالْعِبْرَةُ مِنْ سِيَاقَةِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [الْقَصَص: 22- 28] هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ الْكَمَالِ وَكَيْفَ هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى لِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَلَّبَهُ فِي أَطْوَارِ الْفَضَائِلِ، وَأَعْظَمُهَا مُعَاشَرَةُ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ وَمُصَاهَرَتُهُ، وَمَا تَتَضَمَّنَهُ مِنْ خِصَالِ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ الَّتِي اسْتَكَنَّتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَالرَّأْفَةِ بِالضَّعِيفِ، وَالزُّهْدِ، وَالْقَنَاعَةِ، وَشُكْرِ رَبِّهِ عَلَى مَا أَسْدَى إِلَيْهِ، وَمِنَ الْعَفَافِ وَالرَّغْبَةِ فِي عِشْرَةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعَمَلِ لَهُمْ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الْعَهْدِ حَتَّى كَانَ خَاتِمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ من خِصَال النبوءة الَّتِي أَبْدَاهَا شُعَيْبٌ مِنْ حُبِّ الْقِرَى، وَتَأْمِينِ الْخَائِفِ، وَالرِّفْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، لِيَعْتَبِرَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُمُ اعْتِبَارٌ فِي مُقَايَسَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِأَجْنَاسِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ مَا عَرَفُوهُ بِهِ مِنْ زَكِيِّ الْخِصَالِ قَبْلَ رِسَالَتِهِ وتقويم سيرته، وزكاء سَرِيرَته، وَإِعَانَتِهِ عَلَى نَوَائِبِ الْحق، وتزوجه بِأَفْضَل امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ، إِنْ هِيَ إِلَّا خِصَالٌ فَاذَّةٌ فِيهِ بَيْنَ قَوْمِهِ وَإِنْ هِيَ إِلَّا

[سورة القصص (28) : آية 29]

بِوَارِقُ لِانْهِطَالِ سَحَابِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته وَلِيَأْتَسِيَ الْمُسْلِمُونَ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النبوءة وَالصَّلَاح. [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 29] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) لَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِهِ غَرَضٌ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَضَى أَوْفَاهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ» أَيْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَصْدُرُ مِنْ مِثْلِهِ إِلَّا الْوَفَاءُ التَّامُّ، وَوَرَدَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةِ الْأَسَانِيدِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْأَهْلُ مِنْ إِطْلَاقِهِ الزَّوْجَةُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا» . وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ صِهْرَهُ فِي الذَّهَابِ إِلَى مِصْرَ لِافْتِقَادِ أُخْتِهِ وَآلِهِ. وَبَقِيَّةُ الْقِصَّةِ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [7] إِلَّا زِيَادَةَ قَوْلِهِ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا وَذَلِكَ مُسَاوٍ لِقَوْلِهِ هُنَا (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) . وَالْجِذْوَةُ مثلث الْجِيم، وقرىء بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِضَمِّهَا، وَهِي الْعود الغيظ. قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ الْمُشْتَعِلُ وَهُوَ الَّذِي فِي «الْقَامُوسِ» . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَصْفُ الْجِذْوَةِ بِأَنَّهَا مِنَ النَّارِ وَصْفٌ مُخَصَّصٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ، ومِنْ عَلَى الْأَوَّلِ بَيَانِيَّةٌ وَعَلَى الثَّانِي تَبْعِيضِيَّةٌ

[سورة القصص (28) : الآيات 30 إلى 32]

[30- 32] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 30 الى 32] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ إِلَّا مُخَالَفَةَ أَلْفَاظٍ مِثْلِ أَتاها هُنَا وجاءَها هُنَاكَ [النَّمْل: 8] وإِنِّي أَنَا اللَّهُ هُنَا، وإِنَّهُ أَنَا اللَّهُ هُنَاكَ [النَّمْل: 9] بِضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى الْجَلَالَةِ هُنَالِكَ، وَضَمِيرِ الشَّأْنِ هُنَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَوْقِعِ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ شَأْنُهُ عَظِيمٌ. وَقَوْلُهُ هُنَا رَبُّ الْعالَمِينَ وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النَّمْل: 9] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ قِيلَتْ لَهُ حِينَئِذٍ. وَالْقَوْلُ فِي نُكْتَةِ تَقْدِيمِ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ إِصْدَارِ أَمْرِهِ لَهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا كَالْقَوْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ لِأَنَّ وَصْفَ رَبُّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مُسَخَّرَةٌ لَهُ لِيُثَبِّتَ بِذَلِكَ قَلْبَ مُوسَى مِنْ هَوْلِ تَلَقِّي الرِّسَالَةِ. وأَنْ أَلْقِ هُنَا وأَلْقِ هُنَاكَ [النَّمْل: 10] ، واسْلُكْ هُنَا وَأَدْخِلْ هُنَاكَ [النَّمْل: 12] . وَتِلْكَ الْمُخَالَفَةُ تَفَنُّنٌ فِي تَكْرِيرِ الْقِصَّةِ لِتَجَدُّدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لَهَا، وَإِلَّا زِيَادَةَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهَذَا وَادٍ فِي سَفْحِ الطُّورِ. وَشَاطِئُهُ: جَانِبُهُ وَضَفَّتُهُ. وَوَصْفُ الشَّاطِئِ بِالْأَيْمَنِ إِنْ حُمِلَ الْأَيْمَنُ عَلَى أَنَّهُ ضِدُّ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أَيْمَنُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مِنْ جَعْلِ الْقِبْلَةِ هِيَ الْجِهَةَ الْأَصْلِيَّةَ لِضَبْطِ الْوَاقِعِ وَهُمْ يَنْعَتُونَ الْجِهَاتِ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارِ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمُنُ صَوْبِهِ ... وَأَيْسَرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُلِ وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى اصْطِلَاحُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَحْدِيدِ الْمَوَاقِعِ الْجُغْرَافِيَّةِ وَمَوَاقِعِ الْأَرَضِينَ، فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ يَعْنِي الْغَرْبِيَّ لِلْجَبَلِ، أَيْ جِهَةَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ الطُّورِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوُا الْيَمَنَ يَمَنًا لِأَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ بَابَ الْكَعْبَةِ وَسَمَّوُا الشَّامَ شَامًا لِأَنَّهُ عَلَى شَامِ الْمُسْتَقْبِلِ لِبَابِهَا، أَيْ عَلَى شَمَالِهِ، فَاعْتَبَرُوا اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ الْآتِي وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَص: 44] . وَأَمَّا جَعْلُهُ بِمَعْنَى الْأَيْمَنِ لِمُوسَى فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 80] فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرٌ لِمُوسَى هُنَاكَ. وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَفْضِيلٌ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ فَهُوَ كَوَصْفِهِ بِ الْمُقَدَّسِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [16] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. والْبُقْعَةِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا. والْمُبارَكَةِ لِمَا فِيهَا مِنِ اخْتِيَارِهَا لِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى. وَقَوْلُهُ مِنَ الشَّجَرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ نُودِيَ فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ مَصْدَرَ هَذَا النِّدَاءِ وَتَكُونُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ سَمِعَ كَلَامًا خَارِجًا مِنَ الشَّجَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا نَعْتًا ثَانِيًا لِلْوَادِ أَوْ حَالًا فَتَكُونُ مِنْ اتِّصَالِيَّةً، أَيْ مُتَّصِلًا بِالشَّجَرَةِ، أَيْ عِنْدَهَا، أَيِ الْبُقْعَةِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالشَّجَرَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّجَرَةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَعَدَلَ عَنِ التَّنْكِيرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ مَقْصُودَةٌ وَلَيْسَ التَّعْرِيف للْعهد إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمُ ذِكْرُ الشَّجَرَةِ، وَالَّذِي فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ كَانَتْ مِنْ شَجَرِ الْعُلَّيْقِ (وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ) وَقِيلَ: هِيَ عَوْسَجَةٌ وَالْعَوْسَجُ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ أَيْضًا. وَزِيَادَةُ أَقْبِلْ وَهِيَ تَصْرِيحٌ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ لَا تَخَفْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [10] لِأَنَّهُ لَمَّا أَدْبَرَ خَوْفًا مِنَ الْحَيَّةِ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ إِقْبَالِهِ فَكَانَ الْكَلَامُ هُنَالِكَ إِيجَازًا وَكَانَ هُنَا مُسَاوَاةً تَفَنُّنًا فِي حِكَايَةِ الْقِصَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ هُنَا وَلَمْ يُحْكَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمُفَادِ وَلا تَخَفْ. وَفِيهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقِ أَمْنِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَجَعْلِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْآمِنِينَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ آمِنٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ خَفِيَ فِيهِ مُحَصَّلُ الْمَعْنَى الْمُنْتَزَعِ مِنْ تَرْكِيبِهِ فَكَانَ مَجَالَ تَرَدُّدِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَبْيِينِهِ، وَاعْتَكَرَتْ مَحَامِلُ كَلِمَاتِهِ فَمَا

اسْتَقَامَ مَحْمَلُ إِحْدَاهَا إِلَّا وَنَاكَدَهُ مَحْمَلُ أُخْرَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ: جَنَاحٍ، وَرَهَبٍ، وَحَرْفِ مِنَ. فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تُوَصِّلُ إِلَى مُسْتَقَرٍّ. وَقَدِ اسْتُوعِبَتْ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَإِنَّ قَوْلَهُ مِنَ الرَّهْبِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَّى مُدْبِراً عَلَى أَنَّ مِنَ حَرْفٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَدْبَرَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ مَا زَعَمُوهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ فِعْلِ وَلَّى وَبَيْنَ مِنَ الرَّهْبِ. وَقِيلَ الْجَنَاحُ: الْيَدُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْيَدِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِمَّا إِلَى تَكْرِيرِ مُفَادِ قَوْلِهِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وَحَرْفُ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ. وَادِّعَاءُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» بَعِيدٌ، أَوْ يُؤَوَّلُ بِأَنْ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الصَّدْرِ يُذْهِبُ الْخَوْفَ كَمَا عُزِيَ إِلَى الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَى مُجَاهِدٍ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وَهَذَا مَيْلٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَاحَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَادٌ بِهِ يَدُ الْإِنْسَانِ. وَلِلْجَنَاحِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازَاتٌ بَيْنَ مُرْسَلٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِي تَصَارِيفِ مَعَانِيهِ وَلَيْسَ وُرُودُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنًى بِقَاضٍ بِحَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ. وَلِذَا فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذا سكن عَن الطيران أَو عَن الدفاع جعل كِنَايَة عَن سُكُون اضْطِرَاب الْخَوْف. وَيكون من هُنَا للبدلية، أَي اسكن سُكُون الطَّائِر بَدَلًا مِنْ أَنْ تَطِيرَ خَوْفًا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ قِيلَ: وَأَصْلُهُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. والرَّهْبِ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ الْخَوْفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الْأَنْبِيَاء: 90] . وَالْمَعْنَى: انْكَفِفْ عَنِ التَّخَوُّفِ مِنْ أَمْرِ الرِّسَالَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الْقَصَص: 33] فَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَص: 35] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرَّهْبِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ.

[سورة القصص (28) : آية 33]

فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَصَا وَبَيَاضِ الْيَدِ. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ. ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ، وإِلى لِلِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ حُجَّتَانِ عَلَى أَنْ أُرْسِلَ بِهِمَا إِلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ لِتَضَمُّنِهَا أَنَّهُمْ بِحَيْثُ يُقْرَعُونَ بِالْبَرَاهِينِ فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَمَكَّنُ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ حَتَّى كَانَ كَالْجِبِلَّةِ فِيهِمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ كانُوا. وَقَوله قَوْماً كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالْفِسْقُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَذانِكَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ (ذَانِكَ) عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَشْدِيدِ نُونِ فَذانِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ. وَعَلَّلَهَا النَّحْوِيُّونَ بِأَنَّ تَضْعِيفَ النُّونِ تَعْوِيضٌ عَلَى الْأَلْفِ مِنْ (ذَا) وَ (تَا) الْمَحْذُوفَةِ لِأَجْلِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ التَّشْدِيدَ عِوَضٌ عَنْ لَامِ الْبُعْدِ الَّتِي تَلْحَقُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ «فَالْمُخَفَّفُ مُثَنَّى ذَاكَ وَالْمُشَدَّدُ مُثَنَّى ذَلِكَ» . وَهَذَا أحسن. [33] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 33] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) جَرَى التَّأْكِيدُ عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَرِيبَةِ لِيَتَحَقَّقَ السَّامِعُ وُقُوعَهَا وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الْقَصَص: 32] . وَالْمَعْنَى: فَأَخَافَ أَنْ يَذْكُرُوا قَتْلِيَ الْقِبْطِيَّ فَيَقْتُلُونِي. فَهَذَا كَالِاعْتِذَارِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ رِسَالَةَ اللَّهِ لَا يُتَخَلَّصُ مِنْهَا بِعُذْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْنٍ إِلَهِيٍّ مِنْ أَعْدَائِهِ. فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالدُّعَاءِ، وَمُقَدِّمَةٌ لِطَلَبِ تَأْيِيدِهِ بهَارُون أَخِيه.

[سورة القصص (28) : آية 34]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 34] وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) هَذَا سُؤَالٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى لَا يُرِيدُ بِالْأَوَّلِ التَّنَصُّلَ مِنَ التَّبْلِيغِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ تَأْيِيدَهُ بِأَخِيهِ. وَإِنَّمَا عَيَنَّهُ وَلَمْ يسْأَل مؤيدا مَا لِعِلْمِهِ بِأَمَانَتِهِ وَإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَلِأَخِيهِ وَعِلْمِهِ بفصاحة لِسَانه. وردى بِالتَّخْفِيفِ مِثْلُ (رِدْءٍ) بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ: الْعَوْنُ. قَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَر ردى مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ رِدْءاً بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ. ويُصَدِّقُنِي قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مَجْزُومًا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِ فَأَرْسِلْهُ مَعِي. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الْهَاء من فَأَرْسِلْهُ. وَمَعْنَى تَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي تَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِيَّاهُ بِإِبَانَتِهِ عَنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُلْقِيهَا مُوسَى فِي مَقَامِ مُجَادِلَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي. فَإِنَّهُ فَرَّعَ طَلَبَ إِرْسَالِهِ مَعَهُ عَلَى كَوْنِهِ أَفْصَحَ لِسَانًا وَجَعَلَ تَصْدِيقَهُ جَوَابَ ذَلِكَ الطَّلَبِ أَوْ حَالًا مِنَ الْمَطْلُوبِ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَفْرِيعٍ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى الْمُفَرَّعِ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَفْصَحُ لِسَانًا. وَلَيْسَ لِلْفَصَاحَةِ أَثَرٌ فِي التَّصْدِيقِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَيْسَ التَّصْدِيقُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: صَدَقَ مُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَصِيحُ وَذُو الْفَهَاهَةِ. فَإِسْنَادُ التَّصْدِيقِ إِلَى هَارُونَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، وَالْمُصَدِّقُونَ حَقِيقَةً هُمُ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ مُوسَى صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ تَأْيِيدِهِ بِهَارُونَ، فَهَذِهِ مَخَافَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَالْأُولَى مَخَافَةٌ من الْقَتْل.

[سورة القصص (28) : آية 35]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 35] قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَيْهِ وَزَادَهُ تَفَضُّلًا بِمَا لَمْ يَسْأَلْهُ فَاسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، وَاسْتِجَابَةُ الْأُولَى بِقَوْلِهِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما، وَالتَّفَضُّلُ بِقَوْلِهِ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً، فَأَعْطَى مُوسَى مَا يُمَاثِلُ مَا لِهَارُونَ مِنَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ إِذْ قَالَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُجَجٍ فِي مُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَهُنَا وَمَا خَاطَبَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّا حُكِيَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَلَمْ يُحْكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ هَارُونَ تَكَلَّمَ بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَحْلُلَ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ كَمَا فِي سُورَةِ طه، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ. وَالشَّدُّ: الرَّبْطُ، وَشَأْنُ الْعَامِلِ بِعُضْوٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا مُتْعِبًا لِلْعُضْوِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَفَكَّكَ أَوْ يَعْتَرِيَهُ كَسْرٌ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: 149] وَقَوْلُهُمْ: فَتَّ فِي عَضُدِهِ، وَجُعِلَ الْأَخُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الرِّبَاطِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِفَصَاحَتِهِ، فَتَعْلِيقُهُ بِالشَّدِّ مُلْحَقٌ بِبَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَهَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِيضَاحِ حُجَّتِهِ بِحَالِ تَقْوِيَةِ مَنْ يُرِيدُ عَمَلًا عَظِيمًا أَنْ يُشَدَّ عَلَى يَدِهِ وَهُوَ التَّأْيِيدُ الَّذِي شَاعَ فِي مَعْنَى الْإِعَانَةِ وَالْإِمْدَادِ، وَإِلَّا فَالتَّأْيِيدُ أَيْضًا مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَدِ. فَأَصْلُ مَعْنَى (أَيَّدَ) جَعَلَ يَدًا، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِإِيجَادِ الْإِعَانَةِ. وَالسُّلْطَانُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسَلُّطِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ، أَيْ مَهَابَةً فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ وَرُعْبًا مِنْكُمَا كَمَا أَلْقَى عَلَى مُوسَى مُحِبَّةً حِينَ الْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السُّلْطَانِ حَقِيقَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [33] . وَفَرَّعَ عَلَى جَعْلِ السُّلْطَانِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أَيْ لَا يُؤْذُونَكُمَا بِسُوءٍ وَهُوَ الْقَتْلُ وَنَحْوُهُ. فَالْوُصُولُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِصَابَةِ. وَالْمُرَادُ: الْإِصَابَةُ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَقَوْلُهُ بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِآياتِنا مُتَعَلِّقًا

[سورة القصص (28) : آية 36]

بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الْقَصَص: 32] تَقْدِيرُهُ: إذْهَبَا بِآيَاتِنَا عَلَى نَحْوِ مَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ [النَّمْلِ: 12] وَقَوله فِي سُورَة النَّمْل بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ [النَّمْل: 12] أَيِ اذْهَبَا فِي تِسْعِ آيَاتٍ. وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [15] قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً، أَيْ سُلْطَانًا عَلَيْهِمْ بِآيَاتِنَا حَتَّى تَكُونَ رَهْبَتُهُمْ مِنْكُمَا آيَةً مِنْ آيَاتِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أَيْ يُصْرَفُونَ عَنْ أَذَاكُمْ بِآيَاتٍ مِنَّا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ الْغالِبُونَ أَيْ تَغْلِبُونَهُمْ وَتَقْهَرُونَهُمْ بِآيَاتِنَا الَّتِي نُؤَيِّدُكُمَا بِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِعَظَمَةِ الْآيَاتِ الَّتِي سَيُعْطَيَانِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ حَرْفَ قَسَمٍ تَأْكِيدًا لَهُمَا بِأَنَّهُمَا الْغَالِبُونَ وَتَثْبِيتًا لِقُلُوبِهِمَا. وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالْآيَاتُ تَشْمَلُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ الْمُشَاهَدَةَ مِثْلَ الْآيَاتِ التِّسْعِ، وَتَشْمَلُ الْمُعْجِزَاتِ الْخَفِيَّةَ كَصَرْفِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَذَاهُمَا مَعَ مَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ بِحَيْثُ لَوْلَا الصَّرَفَةُ مِنَ اللَّهِ لَأَهْلَكُوا مُوسَى وَأَخَاهُ. وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ فَيْضٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ وَأَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِسَالَةِ مُوسَى جَاءَتْهُ بَغْتَةً فَنُودِيَ مُحَمَّدٌ فِي غَارِ جَبَلِ حِرَاءٍ كَمَا نُودِيَ مُوسَى فِي جَانِبِ جَبَلِ الطُّورِ، وَأَنَّهُ اعْتَرَاهُ مِنَ الْخَوْفِ مِثْلَ مَا اعْتَرَى مُوسَى، وَأَنَّ اللَّهَ ثَبَّتَهُ كَمَا ثَبَّتَ مُوسَى، وَأَنَّ اللَّهَ يَكْفِيهِ أَعْدَاءَهُ كَمَا كَفَى مُوسَى أعداءه. [36] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 36] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) طُوِيَ مَا بَيْنَ نِدَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَبَيْنَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْأَحْدَاثِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْعِبْرَةِ بِهِ. وَأُسْنِدَ الْمَجِيءُ بِالْآيَاتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ دُونَ هَارُونَ لِأَنَّهُ

[سورة القصص (28) : آية 37]

الرَّسُولُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي تَأْتِي الْمُعْجِزَاتُ عَلَى يَدَيْهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَاذْهَبا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [15] ، وَقَوْلِهِ بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَص: 35] إِذْ جَعَلَ تَعَلُّقَ الْآيَاتِ بِضَمِيرَيْهَا لِأَنَّ مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ مَعْنًى مُتَّسِعٌ فَالْمُصَاحِبُ لِصَاحِبِ الْآيَاتِ هُوَ مَلَابِسٌ لَهُ. وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ هِيَ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا، أَيْ جَاءَهُمْ بِهَا آيَةً بَعْدَ آيَةٍ فِي مَوَاقِعَ مُخْتَلِفَةٍ، قَالُوا عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. وَالْمُفْتَرَى: الْمَكْذُوبُ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا سِحْرًا مَكْذُوبًا أَنَّهُ مَكْذُوبٌ ادِّعَاءُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِخْفَاءُ كَوْنِهِ سِحْرًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَما سَمِعْنا بِهذا إِلَى ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُسْمَعُ وَأَمَّا الْآيَاتُ فَلَا تُسْمَعُ. فَمَرْجِعُ اسْمَيِ الْإِشَارَةِ مُخْتَلِفٌ، أَيْ مَا سَمِعْنَا مَنْ يَدْعُو آبَاءَنَا إِلَى مِثْلِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِي زَمَنِ آبَائِنَا. وَقَدْ جَعَلُوا انْتِفَاءَ بُلُوغِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى آبَائِهِمْ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِهَا وَذَلِكَ آخِرُ مَلْجَأٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْمَحْجُوجُ الْمَغْلُوبُ حِينَ لَا يَجِدُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْحَقَّ بِدَلِيلٍ مَقْبُولٍ فَيَفْزَعُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ التلفيقات والمباهتات. [37] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 37] وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) لَمَّا قَالُوا قولا صَرِيحًا فِي تَكْذِيبِهِ وَاسْتَظْهَرُوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى شَيْء من عَلِمَهُ آبَاؤُهُمْ أَجَابَ مُوسَى كَلَامَهُمْ بِمِثْلِهِ فِي تَأْيِيدِ صِدْقِهِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَمَا عِلْمُ آبَائِهِمْ فِي جَانِبِ عِلْمِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، فَلَمَّا تَمَسَّكُوا بِعِلْمِ آبَائِهِمْ تَمَسَّكَ مُوسَى بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدِ احْتَجَّ مُوسَى بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكِلْ ذَلِكَ إِلَى هَارُونَ. وَكَانَ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُحْكَى كَلَامُ مُوسَى بِفِعْلِ الْقَوْلِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ شَأْنَ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَخُولِفَ ذَلِكَ هُنَا بِمَجِيءِ حَرْفِ

الْعَطْفِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا التَّوَازُنَ بَيْنَ حُجَّةِ مَلَإِ فِرْعَوْنَ وَحُجَّةِ مُوسَى، لِيَظْهَرَ لِلسَّامِعِ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَيَتَبَصَّرَ فَسَادَ أَحَدِهِمَا وَصِحَّةَ الْآخَرِ، وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، فَلِهَذَا عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ غَيْرِ الْغَالِبِ للتّنْبِيه على أَن فِيهِ خُصُوصِيَّة غير الْمَعْهُودَة فِي مثله فَتكون معرفَة التَّفَاوُت بَين المحتجين محَالة عَلَى النَّظَرِ فِي مَعْنَاهُمَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ قالَ مُوسى بِدُونِ وَاوٍ وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي مُصْحَفِ أَهِلِ مَكَّةَ بِدُونِ وَاوٍ عَلَى أَصْلِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْقِرَاءَتَيْنِ الْوَفَاءُ بِحَقِّ الْخُصُوصِيَّتَيْنِ مِنْ مُقْتَضَى حَالَيِ الْحِكَايَةِ. وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ الْحَقَّ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا آلِهَتُهُمُ الْمَزْعُومَةُ. وَيُظْهِرُ أَنَّ الْقِبْطَ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَتِهِمُ اسْمٌ عَلَى الرَّبِّ وَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ وَلَكِنْ أَسْمَاءُ آلِهَةٍ مَزْعُومَةً. وَعَبَّرَ فِي جَانب بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى بِفِعْلِ الْمُضِيِّ وَفِي جَانِبِ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْمَجِيءَ بِالْهُدَى الْمُحَقِّقِ وَالْمَزْعُومِ أَمْرٌ قَدْ تَحَقَّقَ وَمَضَى سَوَاءٌ كَانَ الْجَائِي بِهِ مُوسَى أَمْ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَعُلَمَاؤُهُمْ. وَأَمَّا كِيَانُ عَاقِبَةِ الدَّارِ لِمَنْ فَمَرْجُوٌّ لِمَا يَظْهَرُ بَعْدُ. فَفِي قَوْلِهِ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى إِشْهَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَلَامٌ مُنْصِفٌ، أَيْ رَبِّي أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ الْجَائِي بِالْهُدَى أَنْحَنِ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] . وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ تَفْوِيضٌ إِلَى مَا سَيَظْهَرُ مِنْ نَصْرِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الآخر وَهُوَ تَعْرِيض بِالْوَعِيدِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ. وعاقِبَةُ الدَّارِ كَلِمَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي خَاتِمَةِ الْخَيْرِ بَعْدَ الْمَشَقَّةِ تَشْبِيهًا لِعَامِلِ الْعَمَلِ بِالسَّائِرِ الْمُنْتَجِعِ إِذَا صَادَفَ دَارَ خِصْبٍ وَاسْتَقَرَّ بِهَا وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ. فَأَصْلُ عَاقِبَةُ الدَّارِ: الدَّارُ الْعَاقِبَةُ. فَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِلَى مَوْصُوفِهَا. وَالْعَاقِبَةُ: هِيَ الْحَالَةُ الْعَاقِبَةُ، أَيِ الَّتِي تَعْقُبُ، أَيْ تَجِيءُ عَقِبَ غَيْرِهَا، فَيُؤْذِنُ هَذَا اللَّفْظ بتبدل حَالٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ، فَلِذَلِكَ لَا تطلق إِلَّا عَلَى الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ. وَقَدْ

[سورة القصص (28) : آية 38]

تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [135] قَوْلُهُ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ [22] قَوْلُهُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ وَقَوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 42] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَكُونُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَصْلِ تَأْنِيثِ لَفْظِ عاقِبَةُ الدَّارِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخِيَارِ فِي فِعْلِ الْفَاعِلِ الْمَجَازِيِّ التَّأْنِيثِ. وَأَيَّدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، دَلَالَةً عَلَى ثِقَتِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ يَفُتُّ مِنْ أَعَضَادِهِمْ، وَيُلْقِي رُعْبَ الشَّكِّ فِي النَّجَاةِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهُ ذَاتُ مَعْنًى لَهُ شَأْن وخطر. [38] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 38] وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) كَلَامُ فِرْعَوْنَ الْمَحْكِيُّ هُنَا وَاقِعٌ فِي مَقَامٍ غَيْرِ مُقَامِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ مُوسَى فَهُوَ كَلَام أقبل بِهِ على خطاب أهل مَجْلِسه إِثْر المحاورة مَعَ مُوسَى فَلِذَلِكَ حُكِيَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. فَهَذِهِ قِصَّةُ مُحَاوَرَةٍ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُوسَى فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا لَا يَخْفَى. أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِخِطَابِهِ مَعَ مَلَئِهِ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى عَقِيدَةِ إِلَهِيَّتِهِ فَقَالَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي إِبْطَالًا لِقَوْلِ مُوسَى الْمَحْكِيِّ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [26] قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وَقَوْلُهُ هُنَاكَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (¬1) [الشُّعَرَاء: 24] . فَأَظْهَرَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى لَمْ تَرُجْ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا فَقَالَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي. وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ نَفْيُ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ يُرِيهِمْ أَنَّهُ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَقٍّ فَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَعَلِمَهُ. وَالْمَقْصُودُ بِنَفْيِ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِهِ نَفْيُ وُجُودِ الْإِلَهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ مُوسَى وَهُوَ خَالِقُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (إِن كُنْتُم تعقلون) .

الْجَمِيعِ. وَأَمَّا آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا فَإِنَّهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ إِلَهِيَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَظْهَرُ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِمُ ابْنُ الْآلِهَةِ وَخُلَاصَةُ سِرِّهِمْ، وَكُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا. وَحَيْثُ قَالَ مُوسَى إِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ هُوَ رب السَّمَوَات فَقَدْ حَسِبَ فِرْعَوْنُ أَنَّ مَمْلَكَةَ هَذَا الرَّبِّ السَّمَاءُ تَصَوُّرًا مُخْتَلًّا فَفَرَّعَ عَلَى نَفْيِ إِلَهٍ غَيْرِهِ وَعَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الرَّبَّ الْمَزْعُومَ مَقَرُّهُ السَّمَاءُ أَنْ أَمَرَ هامانُ وَزِيرَهُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ صَرْحًا يَبْلُغُ بِهِ عَنَانَ السَّمَاءِ لِيَرَى الْإِلَهَ الَّذِي زَعَمَهُ مُوسَى حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدْهُ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَثَبْتَ لَهُمْ عَدَمَ إِلَهٍ فِي السَّمَاءِ إِثْبَاتَ مُعَايَنَةٍ، أَرَادَ أَنْ يَظْهَرَ لِقَوْمِهِ فِي مَظْهَرِ الْمُتَطَلِّبِ لِلْحَقِّ الْمُسْتَقْصِي لِلْعَوَالِمِ حَتَّى إِذَا أَخْبَرَ قَوْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ نَتِيجَةَ بَحْثِهِ أَسْفَرَتْ عَنْ كَذِبِ مُوسَى ازْدَادُوا ثِقَةً بِبُطْلَانِ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي هَذَا الضِّغْثِ مِنَ الْجَدَلِ السُّفِسْطَائِيِّ مَبْلَغٌ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى سُوءِ انْتِظَامِ تَفْكِيرِهِ وَتَفْكِيرِ مَلْئِهِ، أَوْ مَبْلَغُ تَحَيُّلِهِ وَضَعْفِ آرَاءِ قَوْمِهِ. وهامانُ لَقَبٌ أَوِ اسْمٌ لِوَزِيرِ فِرْعَوْنَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ أَنْ يَأْمُرَ هامانُ الْعَمَلَةَ أَنْ يَطْبُخُوا الطِّينَ لِيَكُونَ آجُرًّا وَيَبْنُوا بِهِ فَكُنِّيَ عَنِ الْبِنَاءِ بِمُقَدَّمَاتِهِ وَهِيَ إِيقَادُ الْأَفْرَانِ لِتَجْفِيفِ الطِّينِ الْمُتَّخَذِ آجُرًّا. وَالْآجُرُّ كَانُوا يَبْنُونَ بِهِ بُيُوتَهُمْ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ قَوَالِبَ مِنْ طِينٍ يَتَصَلَّبُ إِذَا طُبِخَ وَكَانُوا يَخْلِطُونَهُ بِالتِّبْنِ لِيَتَمَاسَكَ قَبْلَ إِدْخَالِهِ التَّنُّورَ كَمَا وَرَدَ وَصْفُ صُنْعِ الطِّينِ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَابْتَدَأَ بِأَمْرِهِ بِأَوَّلِ أَشْغَالِ الْبِنَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالشُّرُوعِ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْبَنَاءِ يَتَأَخَّرُ إِلَى مَا بَعْدَ إِحْضَارِ مَوَادِّهِ فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ فِي إِحْضَارِ تِلْكَ الْمَوَادِّ الَّتِي أَوَّلُهَا الْإِيقَادُ، أَيْ إِشْعَالُ التَّنَانِيرِ لِطَبْخِ الْآجُرِّ. وَعَبَّرَ عَنِ الْآجُرِّ بِالطِّينِ لِأَنَّهُ قِوَامُ صُنْعِ الْآجُرِّ وَهُوَ طِينٌ مَعْرُوفٌ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِبِنَاءٍ مِنْ حَجَرٍ وَكِلْسٍ قَصْدًا لِلتَّعْجِيلِ بِإِقَامَةِ هَذَا الصَّرْحِ الْمُرْتَفِعِ إِذْ لَيْسَ مَطْلُوبًا طُولُ بَقَائِهِ بِإِحْكَامِ بِنَائِهِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ بَلِ الْمُرَادُ سُرْعَةُ الْوُصُولِ إِلَى ارْتِفَاعِهِ كَيْ يَشْهَدَهُ النَّاسُ، وَيَحْصُلَ الْيَأْسُ ثُمَّ يُنْقَضُ مِنَ الْأَسَاسِ.

وَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْآجُرِّ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْمَثَلِ السَّائِرِ» : لِأَنَّ كَلِمَةَ الْآجُرِّ وَنَحْوِهَا كَالْقَرْمَدِ وَالطُّوبِ كَلِمَاتٌ مُبْتَذَلَةٌ فَذُكِرَ بِلَفْظِ الطِّينِ اه. وَأُظْهِرَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْأَثِيرِ: أَنَّ الْعُدُولَ إِلَى الطِّينِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ وَأَفْصَحُ. وَإِسْنَادُ الْإِيقَادِ عَلَى الطِّينِ إِلَى هَامَانَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِذَلِكَ كَمَا يَقُولُونَ: بَنَى السُّلْطَانُ قَنْطَرَةً وَبَنَى الْمَنْصُورُ بَغْدَادَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَامَانَ آنِفًا وَأَنَّهُ وَزِيرُ فِرْعَوْنَ. وَكَانَتْ أَوَامِرُ الْمُلُوكِ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ تُصْدَرُ بِوَاسِطَةِ الْوَزِيرِ فَكَانَ الْوَزِيرُ هُوَ الْمُنَفِّذَ لِأَوَامِرَ الْمَلِكِ بِوَاسِطَةِ أَعْوَانِهِ مِنْ كِتَّابٍ وَأُمَرَاءَ وَوُكَلَاءَ وَنَحْوِهِمْ، كُلٌّ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ. وَالصَّرْحُ: الْقَصْرُ الْمُرْتَفِعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [44] . وَرَجَا أَنْ يَصِلَ بِهَذَا الصَّرْحِ إِلَى السَّمَاءِ حَيْثُ مَقَرُّ إِلَهِ مُوسَى. وَهَذَا مِنْ فَسَادِ تَفْكِيرِهِ إِذْ حَسِبَ أَنَّ السَّمَاءَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِمِثْلِ هَذَا الصَّرْحِ مَا طَالَ بِنَاؤُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَقِرٌّ فِي مَكَانٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَالِاطِّلَاعُ: الطُّلُوعُ الْقَوِيُّ الْمُتَكَلَّفُ لِصُعُوبَتِهِ. وَقَوْلُهُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ فَكَانَتْ مُحَاوَلَتُهُ الْوُصُولَ إِلَى السَّمَاءِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ ظَنِّهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقْنِعَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهَذَا تَمْوِيهَ الْأَمْرِ عَلَى قَوْمِهِ لِيُلْقِيَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُوسَى ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ يَبْلُغُ إِلَيْهِ ارْتِفَاعُ صَرْحِهِ. ثُمَّ يَجْعَلَ عَدَمَ الْعُثُورِ عَلَى الْإِلَهِ فِي ذَلِكَ الِارْتِفَاعِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْإِلَهِ الَّذِي ادَّعَاهُ مُوسَى. وَكَانَتْ عَقَائِدُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ قَائِمَةً عَلَى التَّخَيُّلِ الْفَاسِدِ، وَكَانَتْ دَلَائِلُهَا قَائِمَةً عَلَى تَمْوِيهِ الدَّجَّالِينَ مِنْ زُعَمَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعُدُّهُ مِنَ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْكَذِبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: 67] . وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَنَّ هَذَا الصَّرْحَ بُنِيَ، وَلَيْسَ هُوَ أَحَدَ الْأَهْرَامِ لِأَنَّ الْأَهْرَامَ بُنِيَتْ

[سورة القصص (28) : آية 39]

مِنْ حِجَارَةٍ لَا مِنْ آجُرٍّ، وَلِأَنَّهَا جُعِلَتْ مَدَافِنَ لِلَّذِينَ بَنَوْهَا مِنَ الْفَرَاعِنَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ وَقَعَ بِنَاءُ هَذَا الصَّرْحِ وَتَمَّ أَوْ لَمْ يَقَعْ فَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَمَّ وَصَعِدَ فِرْعَوْنُ إِلَى أَعْلَاهُ وَنَزَلَ وَزَعَمَ أَنَّهُ قَتَلَ رَبَّ مُوسَى. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّرْحَ سَقَطَ قَبْلَ إِتْمَامِ بِنَائِهِ فَأَهْلَكَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ عَمَلَةِ الْبِنَاءِ وَالْجُنْدِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي بِنَائِهِ. وَقَدْ لَاحَ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ سَأَذْكُرُهُ فِي سُورَة الْمُؤمن. [39] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 39] وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) الِاسْتِكْبَارُ: أَشَدُّ مِنَ الْكِبْرِ، أَيْ تَكَبَّرَ تَكَبُّرًا شَدِيدًا إِذْ طَمِعَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ وُصُولَ الْغَالِبِ أَوِ الْقَرِينِ. وجُنُودُهُ: أَتْبَاعُهُ. فَاسْتِكْبَارُهُ هُوَ الْأَصْلُ وَاسْتِكْبَارُ جُنُودِهِ تَبَعٌ لِاسْتِكْبَارِهِ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ وَيَتَلَقَّوْنَ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ. والْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَعْهُودَةُ، أَيْ أَرْضُ مِصْرَ وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ، أَيْ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ أَعْظَمَ أُمَمِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ حَال لَازِمَةٌ لِعَامِلِهَا إِذْ لَا يَكُونُ الِاسْتِكْبَارُ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ مَعْلُومٌ بِالْفَحْوَى مِنْ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِهِ لِأَهَمِّيَّةِ إِبْطَالِهِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْفَحْوَى، وَلِأَنَّ فِي التَّصْرِيحِ بِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ فَلْيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَيِّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتٍ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ يُلَقَّبُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْذًا مِنْ تَعْرِيضَاتِ الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: ظَنُّوا أَنْ لَا بَعْثَ وَلَا رُجُوعَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ. فَذِكْرُ إِلَيْنا لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَلَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ اللَّهِ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْنا عَلَى عَامِلِهِ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِنَا كَمَا

[سورة القصص (28) : آية 40]

دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [24، 25] قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ اسْتِعْجَابًا مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ فَقَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: 32] . قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لَا يُرْجَعُونَ بِفَتْحِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ (رَجَعَ) . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مِنْ (أُرْجِعَ) إِذَا فُعِلَ بِهِ الرُّجُوع. [40] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 40] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) أَيْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْنَا فَعَجَّلْنَا بِهَلَاكِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى حُكْمِهِ وَعِقَابِهِ، وَيَعْقُبُهُ رُجُوعُ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى عِقَابِهِ، فَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى ظَنِّهِمْ ذَلِكَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ أُخِذَ وَجُنُودُهُ. وَجَعَلَ هَذَا التَّفْرِيعَ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْفَخْمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظَمَةِ شَأْنِ اللَّهِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ يتَضَمَّن اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً: شُبِّهَ هُوَ وَجُنُودُهُ بِحَصَيَاتٍ أَخَذَهُنَّ فِي كَفِّهِ فَطَرَحَهُنَّ فِي الْبَحْرِ. وَإِذَا حُمِلَ الْأَخْذُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ فِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ تَشْبِيهًا بِقَبْضَةٍ تُؤْخَذُ بِالْيَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة: 14] وَقَوْلِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ اعْتِبَارٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ بِالِاسْتِكْبَارِ عَن سَماع دَعوته. وَهَذَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ فَيَقِيسُوا حَالَ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ دَعْوَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقِيسُوا حَالَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْن وَقَومه، فَيُوقِنُوا بِأَنَّ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنْ عِقَابٍ سَيُصِيبُهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَحَلِّ الْعِبْرَةِ بِهَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا

[سورة القصص (28) : آية 41]

بَيِّناتٍ [الْقَصَص: 36] لِيَعْتَبِرَ النَّاسُ بِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَاحِدٌ فَإِنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ دُعَاةَ الْخَيْرِ بِالْإِعْرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَاخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ فَكَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] قَالَتْ قُرَيْشٌ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: 5] ، وَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [ص: 7] أَيِ الَّتِي أَدْرَكْنَاهَا. وَكَمَا طَمِعَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى اللَّهِ اسْتِكْبَارًا مِنْهُ فِي الْأَرْضِ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: 21] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ كَمَا ظَنَّ أُولَئِكَ فَيُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ مَا أصَاب أُولَئِكَ. [41] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 41] وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ [الْقَصَص: 39] أَيِ اسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَنْصُرُونَ الضَّلَالَ وَيَبُثُّونَهُ، أَيْ جَعَلْنَاهُ وَجُنُودَهُ أَيِمَّةً لِلضَّلَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى النَّارِ فَكَأَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَكُلٌّ يَدْعُو بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُهُ فَدَعْوَةُ فِرْعَوْنَ أَمْرُهُ، وَدَعْوَةُ كَهَنَتِهِ بِاخْتِرَاعِ قَوَاعِدِ الضَّلَالَةِ وَأَوْهَامِهَا، وَدَعْوَةُ جُنُودِهِ بِتَنْفِيذِ ذَلِكَ والانتصار لَهُ. وَالْأَئِمَّة: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي عَمَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ قَالَ تَعَالَى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاء: 73] . وَمَعْنَى جَعْلِهِمْ أَيِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ: خَلْقُ نُفُوسِهِمْ مُنْصَرِفَةً إِلَى الشَّرِّ وَمُعْرِضَةً عَنِ الْإِصْغَاءِ لِلرُّشْدِ وَكَانَ وُجُودُهُمْ بَيْنَ نَاسٍ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ. فَالْجَعْلُ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ بِجَعْلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ لِإِرْشَادِهِمْ فَلَمْ يَنْفَعْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ. وَالدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُوقِعُ فِي النَّارِ فَهِيَ دَعْوَةٌ إِلَى النَّار بالمئال. وَإِذَا كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالْأَحْرَى فَلِذَلِكَ قَالَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُهُمْ فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ النَّارِ. وَمُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ هِيَ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي جُنْدًا وَأَتْبَاعًا يَعْتَزُّونَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْدُونَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [الْبَقَرَة: 167] .

[سورة القصص (28) : آية 42]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 42] وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) إِتْبَاعُهُمْ بِاللَّعْنَةِ فِي الدُّنْيَا جَعْلُ اللَّعْنَةِ مُلَازِمَةً لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدَّرَ لَهُمْ هَلَاكًا لَا رَحْمَةَ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ بِالْإِتْبَاعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يُفَارِقُ مَتْبُوعَهُ، وَكَانَت تِلْكَ عَاقِبَةُ تِلْكَ اللَّعْنَةِ إِلْقَاءَهُمْ فِي الْيَمِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّعْنَةِ لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَلْعَنُونَهُمْ. وَجَزَاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَالْمَقْبُوحُ الْمَشْتُومُ بِكَلِمَةِ (قُبِّحَ) ، أَيْ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَوِ النَّاسُ، أَيْ جَعَلَهُ قَبِيحًا بَيْنَ النَّاسِ فِي أَعْمَالِهِ أَيْ مَذْمُومًا، يُقَالُ: قَبَحَهُ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ فَهُوَ مَقْبُوحٌ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَالُ: قَبَّحَهُ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْقَبِيحِ فَهُوَ مُقَبَّحٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ مِمَّا قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: «فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ» أَيْ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلِي قَبِيحًا عِنْدَهُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الدُّنْيَا بِ هذِهِ لِتَهْوِينِ أَمْرِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ. وَالتَّخَالُفُ بَيْنَ صِيغَتَيْ قَوْلِهِ وَأَتْبَعْناهُمْ وَقَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا قَدِ انْتَهَى أَمْرُهَا بِإِغْرَاقِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ لَعْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ فِي أَحْيَانِ يَذْكُرُونَهُمْ، فَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ فَجِيءَ مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَأَمَّا تَقْبِيحُ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ دَائِمٌ مَعَهُمْ مُلَازِمٌ لَهُمْ فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ. وَضَمِيرُ هُمْ فِي قَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ لَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ وَلَكِنَّهُ ضَمِيرُ مُبْتَدَأٍ وَبِهِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً دَالَّةً عَلَى ثَبَاتِ التَّقْبِيحِ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة. [43] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 43] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ [الْقَصَص: 30] إِلَى هُنَا الِاعْتِبَارُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ الْقَائِلِينَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] لِيُقَاسَ النَّظِيرُ

عَلَى النَّظِيرِ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَهُ حَقًّا لَكَانَ أُرْسِلَ إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ قَبْلِهِ، وَلَمَا كَانَ اللَّهُ يَتْرُكُ الْأَجْيَالَ الَّتِي قَبْلَهُمْ بِدُونِ رِسَالَةِ رَسُولٍ ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الْجِيلِ الْأَخِيرِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِتْمَامًا لِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ لَا رِسَالَةَ فِيهَا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبْقَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ شَيْءٌ وَاقِعٌ بِشَهَادَةِ التَّوَاتُرِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهُمْ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ الْأُولَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مُتَعَاقِبِينَ بَلْ كَانُوا يَجِيئُونَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ بِقَوْلِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] إِبْطَالَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلَّةِ تَأَخُّرِ زَمَانِهَا سَفْسَطَةً وَوَهَمًا فَإِنَّ دَلِيلَهُمْ مَقْدُوحٌ فِيهِ بِقَادِحِ الْقَلْبِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءُوا إِلَى الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ جَاءَ مُوسَى بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا بَهَرَهُمْ أَمْرُ الْإِسْلَامِ لَاذُوا بِالْيَهُودِ يَسْتَرْشِدُونَهُمْ فِي طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ الدِّينِيَّةِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَخْلِطُونَ مَا يُلَقِّنُهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ أَيِمَّةِ الشِّرْكِ فَيَأْتُونَ بِكَلَامٍ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] وَهُوَ مِنْ مُجَادَلَاتِ الْأُمِّيِّينَ، وَمرَّة يَقُولُونَ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] وَهُوَ من تلقين الْيَهُود، وَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] ، فَكَانَ الْقُرْآنُ يَدْمَغُ بَاطِلَهُمْ بِحُجَّةِ الْحَقِّ بِإِلْزَامِهِمْ تَنَاقُضَ مَقَالَاتِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ حُجَّةٌ بِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ذِكْرُ الْقُرُونِ الْأُولَى. وَأَمَّا ذِكْرُ إِهْلَاكِهِمْ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلنِّذَارَةِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى تَخَلُّصٌ مِنْ قِصَّةِ بِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَأْيِيدِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ (مِنْ بَعْدِ الْقُرُونَ الْأُولَى) . ثُمَّ إِنَّ الْقُرْآنَ أَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ حِكْمَةِ الْفِتَرِ الَّتِي تَسْبِقُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي الْإِرْسَالِ عَقِبَهَا لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فِي مَقَامِ نَقْضِ حُجَّةِ الْمُبْطِلِينَ

[سورة القصص (28) : آية 44]

لِلرِّسَالَةِ أَوِ اكْتِفَاءً بِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْفَصْلِ بِالْفِتَرِ فَشَيْءٌ فَوْقَ مَرَاتِبِ عُقُولِهِمْ. فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إِلَى بَيَانِ حِكْمَةِ الْإِرْسَالِ عَقِبَ الْفَتْرَةِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ لِتَكْذِيبِهَا رُسُلَ اللَّهِ. فَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِوُقُوعِ ذَلِكَ حَتَّى يُحْتَاجَ مَعَهُمْ إِلَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ، فَمَوْقِعُ التَّأْكِيدِ هُوَ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى. والْكِتابَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ. سُمِّيَ بَصِيرَةً اشْتِقَاقًا مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ، وَجُعِلَ الْكِتَابُ بَصَائِرَ بِاعْتِبَارِ عِدَّةِ دَلَائِلِهِ وَكَثْرَةِ بَيِّنَاتِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاء: 102] . والْقُرُونَ الْأُولى: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ، قَالَ تَعَالَى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَام: 6] . وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . وَالنَّاسُ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَدْيِهِ مِثْلِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، وهُدىً وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَلِمَنْ يَقْتَبِسُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] . وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ تَحْذِيرُهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْرَاةِ، أَيْ فَكَذَلِكَ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ لَكُمْ هُدًى وَرَحْمَةٌ لَعَلَّكُمْ تتذكرون. [44] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 44] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) لَمَّا بَطَلَتْ شُبْهَتُهُمُ الَّتِي حَاوَلُوا بِهَا إِحَالَةَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ وَذَلِكَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ رِسَالَةِ

[سورة القصص (28) : آية 45]

مُوسَى مِمَّا لَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِهِ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا تَخَلُّصٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فِي قِصَّةِ مُوسَى إِلَى الصَّرِيحِ من إِثْبَات نبوءة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجِيءَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ حَيْثُ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاء كَون النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَوْجُودًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَضَى اللَّهُ فِيهِ أَمْرَ الْوَحْيِ إِلَى مُوسَى، لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مِثْلَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ مُشَاهَدَةٍ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُ مَفْقُودٌ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمِهِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَعْرِفَةٍ بِأَخْبَارِ الرُّسُلِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا انْتَفَى طَرِيقُ الْعِلْمِ الْمُتَعَارَفِ لِأَمْثَالِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ عِلْمِهِ هُوَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِخَبَرِ مُوسَى. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ نَفْيًا لِوُجُودِهِ هُنَاكَ وَحُضُورِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَهْلُ الشَّهَادَةِ، أَيِ الْخَبَرِ الْيَقِينِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَمَّهُمْ بِكَتْمِهِمْ بَعْضَ مَا تَتَضَمَّنُهُ التَّوْرَاةُ من الْبشَارَة بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 140] . وَالْمَعْنَى مَا كُنْتَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَلَا مِمَّنْ تَلَقَّى أَخْبَارَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ كُتُبِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ عِلْمِكَ بِذَلِكَ وَحْيُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ: هُوَ أَمْرُ النُّبُوءَةِ لِمُوسَى إِذْ تَلَقَّاهَا مُوسَى. وَقَوْلُهُ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَأَصْلُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَإِنْ أَنْكَرَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ وَأَكْثَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْحَقُّ جَوَازُهُ. وَالْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا بِوَصْفِ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [الْقَصَص: 30] أَيْ عَلَى بَيْتِ الْقِبْلَةِ. [45] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 45] وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. خَفِيَ اتِّصَالُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا وَتَعْقِيبًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ.

فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [الْقَصَص: 43] مَسُوقٌ مَسَاقَ إِبْطَالِ تَعْجَبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَمْ يَسْبِقْهَا رِسَالَةُ رَسُولٍ إِلَى آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى كَذَلِكَ بَعْدَ فَتْرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى أَثَارُوا مِثْلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] فَكَمَا كَانَتْ رِسَالَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ كَذَلِكَ كَانَتْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَعْنَى: فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ حَقِيقِينَ بِأَنْ يُنَظِّرُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْشَأَ قُرُونًا أَيْ أُمَمًا بَيْنَ زَمَنِ مُوسَى وَزَمَنِهِمْ فَتَطَاوَلَ الزَّمَنُ فَنَسِيَ الْمُشْرِكُونَ رِسَالَةَ مُوسَى فَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [ص: 7] . وَحَذْفُ بَقِيَّةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ تَقْدِيرُ: فَنَسُوا، لِلْإِيجَازِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ حِينَ صَارُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [الْمَائِدَة: 13] ، وَقَالَ عَنِ النَّصَارَى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [الْمَائِدَة: 14] وَقَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَدِيد: 16] ، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا إِلَى الْقُرُونِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [الْقَصَص: 43] وَأَنَّ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ هَذَا اسْتِطْرَادٌ. وَهَذَا أَحْسَنُ فِي بَيَانِ اتِّصَالِ الِاسْتِدْرَاكِ مِمَّا احْتَفَلَ بِهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي اسْتِشْعَارِهِ، وَشَكَرَ اللَّهُ مَبْلَغَ جُهْدِهِ. وَهُوَ بِهَذَا مُخَالِفٌ لِمَوْقِعِ الِاسْتِدْرَاكَيْنِ الْآتِيَيْنِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَقَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْقَصَص: 46] . والْعُمُرُ الْأَمَدُ كَقَوْلِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يُونُس: 16] . وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. هَذَا تَكْرِيرٌ لِلدَّلِيلِ بِمَثَلٍ آخَرَ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَص: 44] أَيَّ مَا كُنْتَ مَعَ مُوسَى فِي وَقْتِ التَّكْلِيمِ وَلَا كُنْتَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ إِذْ جَاءَهُمْ مُوسَى وَحَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعَيْبٍ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ.

[سورة القصص (28) : آية 46]

وَالثَّوَاءُ: الْإِقَامَةُ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو آيَاتِ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، الْآيَاتُ الْمُتَضَمِّنَةُ قِصَّةَ مُوسَى فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: 22- 29] . وَبِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُقَاتِلٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لَكَانَ أَنْ يُقَالَ: تَشْهَدُ فِيهِمْ آيَاتنَا. وَجُمْلَة تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا عَلَى حَسَبِ تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كُنْتَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِاخْتِلَافِ زَمَنِهَا مَعَ زَمَنِ عَامِلِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كَمَا يُقِيمُ الْمُسَافِرُونَ فَإِذَا قَفَلُوا مِنْ أَسْفَارِهِمْ أَخَذُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا شَاهَدُوا فِي الْبِلَادِ الْأُخْرَى. وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ظَاهِرٌ، أَيْ مَا كُنْتَ حَاضِرًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فَتَعْلَمَ خَبَرَ مُوسَى عَنْ مُعَايَنَةٍ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَكَ بِوَحْيِنَا فَعَلَّمْنَاكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَا بِذَلِكَ، إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَهَمَّ هُوَ إِثْبَاتُ وُقُوعِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ أَمْثَالِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] وَتُعْلَمَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ مَعَ مَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً [الْقَصَص: 46] الْآيَةَ فَالِاحْتِجَاجُ وَالتَّحَدِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا تَحَدٍّ بِمَا علمه النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ خَبَرِ الْقِصَّة الْمَاضِيَة. [46] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 46] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) جَانِبُ الطُّورِ: هُوَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ، وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ الْمُتَقَدِّمُ وَصَفَهُ بِذَيْنِكَ

الْوَصْفَيْنِ، فَعُرِّيَ عَنِ الْوَصْفِ هُنَا لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرُوفًا، وَقُيِّدَ الْكَوْنُ الْمَنْفِيُّ بِظَرْفِ نادَيْنا أَيْ بِزَمَنِ نِدَائِنَا. وَحَذْفُ مَفْعُولِ النِّدَاءِ لِظُهُورِ أَنَّهُ نِدَاءُ مُوسَى مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ النِّدَاءُ لِمِيقَاتِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَإِنْزَالُ أَلْوَاحِ التَّوْرَاةِ عَقِبَ تِلْكَ الْمُنَاجَاةِ كَمَا حُكِيَ فِي الْأَعْرَافِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الطُّورِ إِذْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ الطُّورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 80] وَهُوَ نَفْسُ الْمَكَانِ الَّذِي نُودِيَ فِيهِ مُوسَى لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فِي رُجُوعِهِ مِنْ دِيَارِ مَدْيَنَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالنِّدَاءُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ هُنَا إِذْ نادَيْنا غَيْرُ النِّدَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [الْقَصَص: 30] الْآيَةَ لِئَلَّا يكون تَكْرَارا مَعَ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [الْقَصَص: 44] . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ بِمَا علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَبَرِ اسْتِدْعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُنَاجَاةِ. وَتِلْكَ الْقِصَّةُ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِثْلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَوْلُهُ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ كَلِمَةُ لكِنْ بِسُكُونِ النُّونِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ فَهِيَ حَرْفٌ لَا عَمَلَ لَهُ فَلَيْسَ حَرْفَ عَطْفٍ لِفِقْدَانِ شَرْطَيْهِ: تَقَدُّمِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ، وَعَدَمِ الْوُقُوعِ بَعْدَ وَاوِ عَطْفٍ. وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ لكِنْ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاسْتِدْرَاكِ لَا عَمَلَ لَهُ وَهُوَ مُعْتَرِضٌ. وَالْوَاوُ الَّتِي قَبْلَ لكِنْ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ناشىء عَنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ عَلَى مَعْنَى: مَا كَانَ عِلْمُكَ بِذَلِكَ لِحُضُورِكَ، وَلَكِنْ كَانَ عِلْمُكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ. فَانْتِصَابُ رَحْمَةً مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلِ نَصْبٍ مَأْخُوذٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفِيُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ كَانَ عَلَمُكَ رَحْمَةً مِنَّا وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ رَحِمْنَاكَ رَحْمَةً بِأَنْ عَلَّمْنَاكَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ رَحْمَةً، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَعْمُولًا لِفِعْلِ لِتُنْذِرَ فَيَكُونُ فِعْلُ لِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقًا بِكَوْنِ مَحْذُوفٍ هُوَ مَصَبُّ الِاسْتِدْرَاكِ. وَفِي هَذِهِ التَّقَادِيرِ تَوْفِيرُ مَعَانٍ وَذَلِكَ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ. وَعُدِلَ عَنْ: رَحْمَةً مِنَّا، إِلَى رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مَعْنَى الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْعِنَايَةِ بِهِ عِنَايَةَ الرَّبِّ بِالْمَرْبُوبِ. وَيَتَعَلَّقُ لِتُنْذِرَ قَوْماً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَصْدَرُ رَحْمَةً عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْقَوْمُ: قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ، فَهُمُ الْمُخَاطِبُونَ ابْتِدَاءً بِالدِّينِ وَكُلُّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَكَانَا نَذِيرَيْنِ حِينَ لَمْ تَكُنْ قَبِيلَةُ قُرَيْشٍ مَوْجُودَةً يَوْمَئِذَ وَلَا قَبَائِلُ الْعَرَبِ الْعَدْنَانِيَّةُ، وَأَمَّا الْقَحْطَانِيَّةُ فَلَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ نَسَبِ قُرَيْشٍ كَانَ مِنْ عَدْنَانَ وَعَدْنَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى قُرَيْشٍ أَوْ عَلَى الْعَرَبِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي بُعِثَ إِلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ أَوْفَى إِذْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ شَرِيعَةٌ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ نِظَامُهُمْ مُخْتَلًّا غَيْرَ مَشُوبٍ بِإِثَارَةٍ مِنْ شَرِيعَةٍ مَعْصُومَةٍ، فَكَانُوا فِي ضَرُورَةٍ إِلَى إِرْسَالِ نَذِيرٍ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِكُفْرَانِهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ النِّذَارَةِ بِهِمْ وَلَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ أَنْذَرَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِهِ مِثْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ مَدْيَنَ. وَفِي قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ مَعَ قَوْلِهِ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا بِالْكُفْرِ حَدًّا لَا يَتَجَاوَزُهُ حِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّذَكُّرُ: هُوَ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي دَعَتْ إِلَى حِكْمَةِ إِنْذَارِهِمْ وَهِيَ تَنَاهِي ضَلَالِهِمْ فَوْقَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ إِذْ جَمَعُوا إِلَى الْإِشْرَاكِ مَفَاسِدَ جَمَّةً مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَارْتِزَاقٍ بِالْغَارَاتِ وَبِالْمُقَامَرَةِ، وَاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَانْتِهَاكِ الْأَعْرَاضِ. فَوَجَبَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ حَالِهِمْ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا نَظِيرُ قَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

[سورة القصص (28) : آية 47]

[47] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 47] وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَص: 46] ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ. ولَوْلا الْأُولَى حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ حَرْفٌ يَلْزَمُ الِابْتِدَاءَ فَالْوَاقِعُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَإِ الْوَاقِعِ بَعْدَ لَوْلا وَاجِبُ الْحَذْفِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِكَوْنٍ عَامٍّ. وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَفِعْلِ تُصِيبَهُمْ وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ، وَقَدْ عُقِبَ الْفِعْلُ الْمَسْبُوكُ بِمَصْدَرٍ بِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ فَيَقُولُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ فِي الِانْسِبَاكِ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. فَهَذَا الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [الْبَقَرَة: 282] فَالْمَقْصُودُ هُوَ «أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» . وَإِنَّمَا حِيكَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا إِلَخْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ إِلَى آخِرِهِ، لِنُكْتَةِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ إِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ فَوُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَإِ دُونَ مَوْضِعِ الظَّرْفِ لِتُسَاوِيَ الْمُبْتَدَأَ الْمَقْصُودَ مِنْ جُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا فَيُصْبِحَ هُوَ وَظَرْفُهُ عُمْدَتَيْنِ فِي الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: وَلَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ يَعْقُبُهَا قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَخْ لَمَا عَبَأْنَا بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ عِنَادٍ وتصميم على الْكفْر. فَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: 44- 46] ، أَيْ وَلَكِنَّا أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِكَ لِنَقْطَعَ مَعْذِرَتَهُمْ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ لَوْلَا الرَّحْمَةُ بِهِمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ حُلُولَ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ. ولَوْلا الثَّانِيَةُ حَرْفُ تحضيض، أَي هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَنَا بِعَذَابٍ فَتُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا. وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ (بِأَنْ) مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا فِي جَوَابِ التَّحْضِيضِ.

وَضَمِيرُ تُصِيبَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَا سَلَفَ مِنَ الشِّرْكِ. وَالْمُصِيبَةُ: مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، أَيْ يَحِلُّ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَغَلَبَ اخْتِصَاصُهَا بِمَا يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى. وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ عُقُوبَةٌ كَانَ سَبَبُهَا مَا سَبَقَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [62] . وَهِي مَا يجترجونه مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاحِشَةِ. وَ (مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَمَا عَمِلُوهُ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ. وَالْأَيْدِي مُسْتَعَارٌ لِلْعُقُولِ الْمُكْتَسِبَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفْرِ. فَشُبِّهَ الِاعْتِقَادُ الْقَلْبِيُّ بِفِعْلِ الْيَدِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُمْ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَا بَيَّنَهُ أَصْحَابُ طَرِيقَتِهِ مِثْلُ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: أَنَّ ذَنْبَ الْإِشْرَاكِ لَا عُذْرَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الله قد دعِي إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ عَهْدِ آدَمَ بِحَيْثُ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ عَاقِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَهُ فِي الْفِطْرَةِ إِذْ أَخَذَ عَهْدَهُ بِهِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] . وَلَكِنَّ اللَّهَ يَرْأَفُ بِعِبَادِهِ إِذَا طَالَتِ السُّنُونَ وَانْقَرَضَتِ الْقُرُونُ وَصَارَ النَّاسُ مَظِنَّةَ الْغَفْلَةِ فَيَتَعَهَّدُهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا فِي الْفِطْرَةِ وَلِيُشَرِّعُوا لَهُمْ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ. فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ انْقَرَضُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُؤَاخَذُونَ بِشِرْكِهِمْ وَمُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ،

[سورة القصص (28) : آية 48]

وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ مُسْتَحِقُّونَ عَذَابَ الدُّنْيَا زِيَادَةً عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: 21] . وَأَمَّا الْفِرَقُ الَّذِينَ يُعِدُّونَ دَلِيلَ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ عَقْلِيًّا مِثْلَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ بِبَعِيد. [48] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 48] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ مَعْذِرَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِالْحَقِّ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ لَفَّقُوا الْمَعَاذِيرَ وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى. والْحَقُّ: هُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى. وَإِثْبَاتُ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْحَقِّ بِشَخْصٍ وَتَشْبِيهِ سَمَاعِهِ بِمَجِيءِ الشَّخْصِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا الْجَائِي الرَّسُولُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَقِّ لِإِدْمَاجِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ. وَلَمَّا بَهَرَتْهُمْ آيَاتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجِدُوا مِنَ الْمَعَاذِيرِ إِلَّا مَا لَقَّنَهُمُ الْيَهُودُ وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى، أَيْ بِأَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ مِثْلَ آيَاتِ مُوسَى الَّتِي يَقُصُّهَا عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ وَقَصَّ بَعْضَهَا الْقُرْآنُ. وَضَمِيرُ يَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً [الْقَصَص: 46] لِتَتَنَاسَقَ الضَّمَائِرُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ [الْقَصَص: 47] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ أَمْثَالُهُ. فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى هُوَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ

فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا مِنْ إِلْزَامِ الْمُمَاثِلِ بِفِعْلٍ مَثِيلِهِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَجْمَعُ الْفَرِيقَيْنِ فَتَكُونُ أُصُولُ تَفْكِيرِهِمْ وَاحِدَةً وَيِتَّحِدُ بُهْتَانُهُمْ، فَإِنَّ الْقِبْطَ أَقْدَمُ مِنْهُمْ فِي دِينِ الشِّرْكِ فَهُمْ أُصُولُهُمْ فِيهِ وَالْفَرْعُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَيَقُولُ بُقُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 52، 53] أَيْ مُتَمَاثِلُونَ فِي سَبَبِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ فَلَا يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَصِيَّةِ بَعْضٍ بِأُصُولِ الْكُفْرِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرّوم: 2- 3 ثُمَّ قَالَ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: 4- 5] أَيْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِذْ نَصَرَ الْمُمَاثِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الرُّومُ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ. فَقَوْلُهُمْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَوْ مِنِ اضْطِرَابِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَمَرَّةً يَكُونُونَ مُعَطِّلِينَ وَمَرَّةً يَكُونُونَ مُشْتَرِطِينَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ قَاطِبَةً. وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا مِنْ قَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا سَمِعُوا قِصَّتَهُمَا أَوْ فِي مُوسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَهُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما [الْقَصَص: 48- 49] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاحِرَانِ تَثْنِيَةَ سَاحِرٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ قالُوا سِحْرانِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ قَالُوا: هُمَا ذَوَا سِحْرٍ. وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ. وَالتَّنْوِينُ فِي بِكُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيُقَدَّرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِمَّا بِكُلٍّ مِنَ السَّاحِرَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بِكُلِّ مَنِ ادَّعَى رِسَالَةً وَهُوَ أَنْسَبُ بُقُولِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] .

[سورة القصص (28) : الآيات 49 إلى 50]

[سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 49 إِلَى 50] قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) أَيْ أَجِبْ كَلَامَهُمُ الْمَحْكِيَّ مِنْ قَوْلهم ساحران [الْقَصَص: 48] وَقَوْلهمْ إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ [الْقَصَص: 48] . وَوَصْفُ (كِتَابٍ) بِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِدْمَاجٌ لِمَدْحِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ بِأَنَّهُمَا كِتَابَانِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْرَاةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَسْفَارُ الْأَرْبَعَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُوسَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى مُوسَى أَوْ مِنْ إِسْنَادِ مُوسَى أَمْرًا إِلَى اللَّهِ لَا كُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَسْفَارُ فَإِنَّ فِيهَا قَصَصًا وَحَوَادِثَ مَا هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لِلْمُصْحَفِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِالتَّحْقِيقِ وَلَا يُقَالُ لِأَسْفَارِ الْعَهْدَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ إِلَّا عَلَى التَّغْلِيبِ إِذْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمُرْسَلَانِ بِكِتَابَيِ الْعَهْد. وَقد تحداهم الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْهُدَى بِبَلَاغَةِ نَظْمِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقِ هُوَ مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. فَمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِكَ، أَيْ إِلَى الدِّينِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا التَّحَدِّي، فَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ إِلَّا إِتْبَاعٌ لِلْهَوَى وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِعْلَ الِاسْتِجَابَةِ يَقْتَضِي دُعَاءً وَلَا دُعَاءَ فِي قَوْلِهِ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما بَلْ هُوَ تَعْجِيزٌ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ عَجَزُوا وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، أَي لَا غير. وَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الِاسْتِجَابَةِ بِزِيَادَةِ السِّينِ وَالتَّاءِ يَتَعَدَّى إِلَى الدُّعَاءِ بِنَفْسِهِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الدَّاعِي بِاللَّامِ، وَحِينَئِذٍ يُحْذَفُ لَفْظُ الدُّعَاءِ غَالِبًا فَقَلَّمَا قِيلَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ، بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى: اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَإِذَا قَالُوا: دَعَاهُ فَاسْتَجَابَهُ كَانَ الْمَعْنَى فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِه فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فِي سُورَةِ هُودٍ

وَ (أَنَّما) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تُفِيدُ الْحَصْرَ مِثْلَ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ فَرْعٌ عَنِ الْمَكْسُورَتِهَا لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا محيص من إفادتها مُفَادِهَا، فَالتَّقْدِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا أَهْوَاءَهُمْ. وَجِيءَ بِحَرْفِ (إِنَّ) الْغَالِبِ فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ أَوْ لِأَنَّهَا الْحَرْفُ الْأَصْلِيُّ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ فَاعْلَمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ الَّذِي بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [24] . وَقَوْلِهِ أَتَّبِعْهُ جَوَابُ فَأْتُوا أَيْ إِنْ تَأْتُوا بِهِ أَتَّبِعْهُ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّعْجِيزِ لِأَنَّهُ إِذَا وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعَ مَا يَأْتُونَ بِهِ فَهُوَ يَتَّبِعُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُوَفِّرُ دَوَاعِيَهُمْ عَلَى مُحَاوَلَةِ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ أَهْدَى مِنْ كِتَابِهِ لَوِ اسْتَطَاعُوهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَغْلُوبِيَّةُ فَكَانَ ذَلِكَ أَدُلَّ عَلَى عَجْزِهِمْ وَأَثْبُتَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى مَا تَحَقَّقَ عَدَمُ وُقُوعِهِ، فَالْمُعَلَّقُ حِينَئِذٍ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] . وَلِكَوْنِهِ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ. وَقَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا وَمِنْ إِقْحَامِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ الْبَتَّةَ وَهَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ. وَجَاءَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَذْيِيلٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنْ أَحَدٍ اتَّبَعَ هَوَاهُ الْمُنَافِيَ لِهُدَى اللَّهِ. ومَنْ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ فَأَفَادَ الِانْتِفَاءَ فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ الَّذِي فِيهِ فِي مَعْنَى نَكِرَةٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَتِ الْعُمُومَ فَشَمِلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَبِهَذَا الْعُمُومِ صَارَ تَذْيِيلًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [140] . وَأَطْلَقَ الِاتِّبَاعَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تُمْلِيهِ إِرَادَةُ الْمَرْءِ النَّاشِئَةُ عَنْ مَيْلِهِ إِلَى الْمَفَاسِدِ وَالْأَضْرَارِ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِالْمَشْيِ وَرَاءَ السَّائِرِ، وَفِيهِ تَشْبِيهُ الْهَوَى بِسَائِرٍ، وَالْهَوَى مَصْدَرٌ لِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ

وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ الْبَاءُ فِيهِ للملابسة وَهُوَ فِي مَوْضِعُ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ اتَّبَعَ هَواهُ وَهُوَ حَالٌ كَاشِفَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْهَوَى لِأَنَّ الْهَوَى لَا يَكُونُ مُلَابِسًا لِلْهُدَى الرَّبَّانِيِّ وَلَا صَاحِبُهُ مُلَابِسًا لَهُ لِأَنَّ الْهُدَى يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى إِصَابَةِ الْمَقْصِدِ الصَّالِحِ. وَجَعَلَ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْهُدَى لِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنَ الْعَالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ مَعْصُومًا مِنَ الْخَلَلِ وَالْخَطَإِ. وَوَجْهُ كَوْنِهِ لَا أَضَلَّ مِنْهُ أَنَّ الضَّلَالَ فِي الْأَصْلِ خَطَأُ الطَّرِيقِ وَأَنَّهُ يَقَعُ فِي أَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي عَوَاقِبِ الْمَشَقَّةِ أَوِ الْخَطَرِ أَوِ الْهَلَاكِ بِالْكُلِّيَّةِ، عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ شِدَّةِ الضَّلَالِ. وَاتِّبَاعُ الْهَوَى مَعَ إِلْغَاءِ إِعْمَالِ النَّظَرِ وَمُرَاجَعَتِهِ فِي النَّجَاةِ يُلْقِي بِصَاحِبِهِ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الضُّرِّ بِدُونِ تَحْدِيدٍ وَلَا انْحِصَارٍ. فَلَا جَرَمَ يَكُونُ هَذَا الِاتِّبَاعُ الْمُفَارِقُ لِجِنْسِ الْهُدَى أَشَدَّ الضَّلَالِ فَصَاحِبُهُ أَشَدُّ الضَّالِّينَ ضَلَالًا. ثُمَّ ذيل هَذَا التدييل بِمَا هُوَ تَمَامُهُ إِذْ فِيهِ تَعْيِينُ هَذَا الْفَرِيقِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الضَّالِّينَ ضَلَالًا فَإِنَّهُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ كَانُوا قَوْمًا ظَالِمِينَ، أَيْ كَانَ الظُّلْمُ شَأْنَهُمْ وَقِوَامَ قَوْمِيَّتِهِمْ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْقَوْمِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْكَامِلُونَ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ ظُلْمُ الْأَنْفُسِ وَظُلْمُ النَّاسِ، وَأَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ وَإِتْيَانُ الْفَوَاحِشِ وَالْعُدْوَانُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ فِي نُفُوسِهِمُ الِاهْتِدَاءَ عِقَابًا مِنْهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُمْ بَاقُونَ فِي الضَّلَالِ يَتَخَبَّطُونَ فِيهِ، فَهُمْ أَضَلُّ الضَّالِّينَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ فِي انْتِفَاءِ هُدَى اللَّهِ عَنْهُمْ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي التَّصَلُّبِ فِي ظُلْمِهِمْ فَقَدْ يَسْتَمِرُّ أَحَدُهُمْ زَمَانًا عَلَى ضَلَالِهِ ثُمَّ يُقَدِّرُ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى فَيَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ. وَلِأَجْلِ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي قَابِلِيَّةِ الْإِقْلَاعِ عَنِ الضَّلَالِ استمرت دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمُ لِلْإِيمَانِ فِي عُمُومِ الْمَدْعُوِّينَ إِذْ لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللَّهُ مَدَى تفَاوت النَّاس فِي الاستعداد لِقَبُولِ الْهُدَى، فَالْهُدَى الْمَنْفِيُّ عَنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمْ هُنَا هُوَ الْهُدَى التَّكْوِينِيُّ. وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ. وَهَذَا معنى قَول الْأَئِمَّة مِنَ

[سورة القصص (28) : آية 51]

الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ بِالْإِيمَانِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ التَّكْوِينِيَّ غَيْرُ التَّعَلُّقِ التَّشْرِيعِيِّ. وَبَين هَواهُ وهُدىً جِنَاسٌ مُحَرَّفٌ وجناس خطّ. [51] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 51] وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الْقَصَص: 47] الْآيَةَ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] . وَالتَّوْصِيلُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْلِ، وَهُوَ ضَمُّ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى بَعْضٍ يُقَالُ: وَصَلَ الْحَبْلَ إِذَا ضَمَّ قِطَعَهُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَ حَبْلًا. وَالْقَوْلُ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] وَقَالَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْقَوْلُ الْمَعْهُودُ. وَلِلتَّوْصِيلِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَلْفَاظِهِ وُصِّلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَبِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ وُصِّلَ أَصْنَافًا مِنَ الْكَلَامِ: وَعْدًا، وَوَعِيدًا، وَتَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا، وَقَصَصًا وَمَوَاعِظَ وَعِبَرًا، وَنَصَائِحَ يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَنْتَقِلُ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى نَشَاطِ الذِّهْنِ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ. وَاللَّامُ وَ (قَدْ) كِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ رَدًّا عَلَيْهِ إِذْ جَهِلُوا حِكْمَةَ تَنْجِيمِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَذُكِرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ تَنْجِيمِهِ هُنَا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى فَائِدَتِهِمْ بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَذُكِرَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [32] حِكْمَةٌ أُخْرَى رَاجِعَةٌ إِلَى فَائِدَةِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬1) لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا. وَضَمِيرُ لَهُمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْركين. [52- 53] ¬

(¬1) فِي المطبوعة وَقَالُوا لَوْلَا.

[سورة القصص (28) : الآيات 52 إلى 53]

[سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 52 إِلَى 53] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) لَمَّا أَفْهَمَ قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَص: 51] أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَكُونُوا عِنْدَ رَجَاءِ الرَّاجِي عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ هَلْ تَذَكَّرَ غَيْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ أَوِ اسْتَوَى النَّاسُ فِي عَدَمِ التَّذَكُّرِ بِهِ. فَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانًا ثَابِتًا. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ طَائِفَةٌ مَعْهُودَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَهِدَ اللَّهُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَتَدَبَّرُونَهُ وَهُمْ بَعْضُ النَّصَارَى مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِثْلَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبَعْضِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامً وَرِفَاعَةَ بْنِ رَفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيءُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ أَظْهَرُوا إِسْلَامَهُمْ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ وَفْدٌ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا بَعْثَهُمُ النَّجَاشِيُّ لاستعلام أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فجلسوا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنُوا بِهِ وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ قَرِيبًا مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُولُونَ فَلَمَّا قَامُوا من عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ وَقَبَّحَكُمْ مِنْ وَفْدٍ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ صَدَّقْتُمُوهُ، فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا رُشْدًا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْضُ نَصَارَى الْحَبَشَةِ لَمَّا وَفَدَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة وقرأوا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَأَفْهَمُوهُمُ الدِّينَ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ مِنْ وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ [الْقَصَص: 51] ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ لِتُقَوِّيَ الْخَبَرَ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُقَيِّدٌ لِلْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ هُمْ يُوقِنُونَ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ.

[سورة القصص (28) : الآيات 54 إلى 55]

وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ إِيمَانِهِمْ وَتَجَدُّدِهِ. وَحِكَايَةُ إِيمَانِهِمْ بِالْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ آمَنَّا بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ: إِمَّا لِأَنَّ الْمُضِيَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْإِيمَانِ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ، أَيْ آمَنُوا بِأَنَّهُ سَيَجِيءُ رَسُولٌ بِكِتَابٍ مُصَدِّقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَعْنِي إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا يَعْقُبُهُ إِيمَانٌ تَفْصِيلِيٌّ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِهِ. وَيُنْظَرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَجِيءِ رَسُولِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ مُصَدِّقِينَ بِالرُّسُلِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْإِسْلَامُ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ آمَنَّا بِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بَيَانٌ لِمَعْنَى آمَنَّا بِهِ. [54- 55 [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 54 إِلَى 55] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . عدّ اللَّهُ لَهُمْ سَبْعَ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكَمَالِ: إِحْدَاهَا: أُخْرَوِيَّةٌ، وَهِيَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَيْ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ أَجْرَيْنِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الثَّوَابُ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِكِتَابِهِمْ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ، فَعَبَّرَ عَنْ مُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ ضِعْفَيْنِ بِالْمَرَّتَيْنِ تَشْبِيهًا لِلْمُضَاعَفَةِ بِتَكْرِيرِ الْإِيتَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ إِيتَاءٌ وَاحِدٌ.

وَفَائِدَةُ هَذَا الْمَجَازِ إِظْهَارُ الْعِنَايَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعْطِي ثُمَّ يُكَرِّرُ عَطَاءَهُ فَفِي يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ تَمْثِيلَةٌ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكتاب آمن بنبيئه وَأَدْرَكَنِي فَآمَنَ بِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أُمَّةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ» . رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ لِعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: خُذْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالثَّانِيَةُ: الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْبِرِّ وَأَجْمَعِهَا لِلْمَبَرَّاتِ، وَأَعْوَنِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ صَبْرُهُمْ عَلَى أَذَى أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ صَبْرُهُمْ عَلَى أَذَى قُرَيْشٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي مِثْلِ الْوَفْدِ الْحَبَشِيِّ. وَلَعَلَّهُمُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلِذَلِكَ أتبع بقوله وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَقَوْلِهِ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: دَرْؤُهُمُ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْخَيْرِ وَأَدْعَاهَا إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ قَالَ تَعَالَى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فَائِدَةُ دَفْعِ مَضَرَّةِ الْمُسِيءِ. عَنِ النَّفْسِ، وَإِسْدَاءُ الْخَيْرِ إِلَى نَفْسٍ أُخْرَى، فَهُمْ لَمْ يَرُدُّوا جَلَافَةَ أَبِي جَهْلٍ بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِالْإِعْرَاضِ مَعَ كَلِمَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ وَلَا يَخْفَى مَكَانُهَا مِنَ الْبَرِّ. وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ، وَهُوَ الْكَلَامُ الْعَبَثُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْخُلُقُ مِنْ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَشْغَلَ سَمْعَهُ وَلُبَّهُ بِمَا لَا جَدْوَى لَهُ وَبِالْأَوْلَى يَتَنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَالْخَصْلَةُ السَّادِسَةُ: الْكَلَامُ الْفَصْلُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يُجَاب بِهِ السُّفَهَاءُ وَهُوَ أَقْرَبُ لِإِصْلَاحِهِمْ وَأَسْلَمُ مِنْ تَزَايُدِ سَفَهِهِمْ.

وَلَقَدْ أَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِحِكْمَةٍ جَعَلَهَا مُسْتَأْهِلَةً لِأَنْ تُنْظَمَ فِي سِلْكِ الْإِعْجَازِ فَأَلْهَمَهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ شرّفها بِأَن حيكت فِي نَسْجِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَلْهَمَ عُمَرَ قَوْلَهُ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ [التَّحْرِيم: 5] الْآيَةَ. وَمَعْنَى لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَنَّ أَعْمَالَنَا مُسْتَحَقَّةٌ لَنَا كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَتِهِمْ إِيَّاهَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فَهُوَ تَتْمِيمٌ عَلَى حَدِّ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] . وَالْمَقْصُودُ مِنَ السَّلَامِ أَنَّهُ سَلَامُ الْمُتَارَكَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمُوَادَعَةِ أَنْ لَا نَعُودَ لِمُخَاطَبَتِكُمْ قَالَ الْحَسَنُ: كَلِمَةُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، تَحِيَّةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَامَةُ الِاحْتِمَالِ مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَلَعَلَّ الْقُرْآنَ غَيَّرَ مَقَالَتَهُمْ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِتَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْإِعْجَازِ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ الْمُتَارَكَةُ إِلَى آخِرِ الِخِطَابِ أَوْلَى لِيَكُونَ فِيهِ بَرَاعَةُ الْمَقْطَعِ. وَحَذَفَ الْقُرْآنُ قَوْلَهُمْ: لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا رُشْدًا، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. السَّابِعَةُ: مَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خُلُقُهُمْ أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ الْعِلْمَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْمُتَارَكَةِ، أَيْ لِأَنَّا لَا نُحِبُّ مُخَالَطَةَ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِاللَّهِ وَبِدِينِ الْحَقِّ وَأَهْلِ خُلُقِ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحُلْمِ، فَاسْتَعْمَلَ الْجَهْلَ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمُشْتَرَك فِيهَا وَلَعَلَّهُ تَعْرِيضٌ بِكُنْيَةِ أَبِي جَهْلٍ الَّذِي بَذَا عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُونَهَا بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهَا لِأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ بِقَرِينَة قَوْله وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَقَوْلِهِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ قَوْلَيْنِ: قَوْلٌ وَجَّهُوهُ لِأَبِي جَهْلٍ وَصَحْبِهِ، وَقَوْلٌ دَارَ بَيْنَ أهل الْوَفْد.

[سورة القصص (28) : آية 56]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 56] إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) لَمَّا ذَكَرَ مَعَاذِيرَ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَأَعْلَمَ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُجَرَّدُونَ عَنْ هُدَى اللَّهِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ ذَلِك يحزن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرِضَ قُرَيْشٌ وَهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ على خطاب نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُسَلِّي نَفْسَهُ وَيُزِيلُ كَمَدَهُ بِأَنْ ذَكَرَّهُ بِأَنَّ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالتَّفْوِيضِ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ اهْتِمَامٌ باستدعاء إقبال النبيء عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عِلْمِ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ [الْقَصَص: 50] . وَمَفْعُولُ أَحْبَبْتَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَا تَهْدِي. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ أَحْبَبْتَ هَدْيَهُ أَو اهتداءه. وَمَا صدق مَنْ الْمَوْصُولَةِ كُلُّ مَنْ دَعَاهُ النَّبِيءُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اهْتِدَاءَهُ. وَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَوَّلِ الْمُرَادِ بِذَلِكَ أَبَا طَالب عَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اغْتَمَّ لِمَوْتِهِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ امْتِنَاعِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّهِ مِنْ إِجَابَتِهِ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٌ. وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ النَّازِلِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَيَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، أَوْ كَانَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ. وَمَعْنَى وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَنْ يَشَاءُ قَابِلًا لِلِاهْتِدَاءِ فِي مَدًى مُعَيَّنٍ وَبَعْدَ دَعَوَاتٍ مَحْدُودَةٍ حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ فَإِذَا تَدَبَّرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَدَّدَهُ كَثُرَ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ جَعَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءَ، فَالْمُرَادُ الْهِدَايَةُ بِالْفِعْلِ. وَأَمَّا

[سورة القصص (28) : آية 57]

قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] فَهِيَ الْهِدَايَةُ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ فَاخْتَلَفَ الْإِطْلَاقَانِ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ مَنْ يَشَاءُ اهْتِدَاءَهُ، وَالْمَشِيئَةُ تُعْرَفُ بِحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ وَتَتَوَقَّفُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ. وَفِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِالْمُهْتَدِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَقَادِيرِ اسْتِعْدَادِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا تَهَيَّأَتْ إِلَيْهِ فِطَرُهُمْ مِنْ صَحِيحِ النَّظَرِ وَقَبُولِ الْخَيْرِ وَاتِّقَاءِ الْعَاقِبَةِ وَالِانْفِعَالِ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهَا مِنَ الدَّعْوَةِ وَدَلَائِلِهَا. وَلِكُلِّ ذَلِكَ حَالٌ وَمَدًى وَلِكِلَيْهِمَا أَسْبَابٌ تَكْوِينِيَّةٌ فِي الشَّخْصِ وَأَسْلَافِهِ وَأَسْبَابُ نَمَائِهِ أَوْ ضَعْفِهِ مِنَ الْكِيَانِ وَالْوَسَطِ وَالْعصر والتعقل. [57] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 57] وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) هَذِهِ بَعْضُ مَعَاذِيرِهِمْ قَالَهَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ غَلَبَهُ الْحَيَاءُ عَلَى أَنْ يُكَابِرَ وَيُجَاهِرَ بِالتَّكْذِيبِ، وَغَلَبَهُ إِلْفُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْكُفْرِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، فَاعْتَذَرُوا بِهَذِهِ الْمَعْذِرَةِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ جَاءُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَارِثُ «إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكَ حَقٌّ وَلَكِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَا الْهُدَى مَعَكَ وَنُؤْمِنْ بِكَ أَنْ يَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ وَإِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةٌ رَأَسٍ» (أَيْ أَنَّ جَمْعَنَا يُشْبِعُهُ الرَّأْسُ الْوَاحِدُ مِنَ الْإِبِلِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ) فَهَؤُلَاءِ اعْتَرَفُوا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الْهُدَى. وَالتَّخَطُّفُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْخَطْفِ، وَهُوَ انْتِزَاعُ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [26] . وَالْمُرَادُ: يَأْسِرُنَا الْأَعْدَاءُ مَعَهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قُرَيْشًا مَعَ قِلَّتِهِمْ عَدًّا وَعُدَّةً أَتَاحَ اللَّهُ لَهُمْ بَلَدًا هُوَ حَرَمٌ آمِنٌ يَكُونُونَ فِيهِ آمَنِينَ مِنَ الْعَدُوِّ عَلَى كَثْرَةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِالْغَارَةِ عَلَى

جِيرَتِهِمْ وَجَبَى إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتٍ كَثِيرَةً قُرُونًا طَوِيلَةً، فَلَوِ اعْتَبَرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ مَنَعَةً رَبَّانِيَّةً وَأَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَمَّنَهُمْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ يُؤَمِّنُهُمْ إِنِ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالتَّمْكِينُ: الْجَعْلُ فِي مَكَانٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [6] ، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [6] وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي الْإِعْدَادِ وَالتَّيْسِيرِ. وَالْجَبْيُ: الْجَمْعُ وَالْجَلْبُ وَمِنْهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا. وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْفِي أَنَّ ذَلِكَ الْحَرَمَ مِنْ تَمْكِينِ اللَّهِ فَاسْتَفْهَمُوا عَلَى هَذَا النَّفْيِ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ يَقْتَضِي تَوْبِيخًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي نَزَلُوا لِأَجْلِهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْفِي أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ لَهُمْ حَرَمًا. وَالْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا. وَالتَّقْدِيرُ: وَنَحْنُ مَكَّنَّا لَهُمْ حَرَمًا. وكُلِّ شَيْءٍ عَامٌّ فِي كُلِّ ذِي ثَمَرَةٍ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ ثَمَرِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُثْمِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بِلَادِهِمْ وَالْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ أَوِ اسْتُعْمِلَ كُلِّ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ. ورِزْقاً حَالٌ مِنْ ثَمَراتُ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَمَعْنَى مِنْ لَدُنَّا مِنْ عِنْدِنَا، وَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ فِي التَّكْرِيمِ وَالْبَرَكَةِ، أَيْ رِزْقًا قَدَّرْنَاهُ لَهُمْ إِكْرَامًا فَكَأَنَّهُ رِزْقٌ خَاصٌّ مِنْ مَكَانٍ شَدِيدِ الِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَصَلَ فِي خِلَالِ الرَّدِّ لِقَوْلِهِمْ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ وَازِعَانِ عَن الْكفْر بالمنعم: وَازِعُ إِبْطَالِ مَعْذِرَتِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَوَازِعُ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ الْمَكْفُورِ بِهِ. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ الْمَسُوقِ مَسَاقَ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّ تِلْكَ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى

[سورة القصص (28) : آية 58]

كُنْهِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَحَسِبُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ مُفْضٍ إِلَى اعْتِدَاءِ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ ظَنًّا بِأَنَّ حُرْمَتَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ مَزِيَّةٌ وَنِعْمَةٌ أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ. وَفِعْلُ لَا يَعْلَمُونَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيْ لَيْسُوا ذَوِي عِلْمٍ وَنَظَرٍ بَلْ هُمْ جَهَلَةٌ لَا يَتَدَبَّرُونَ الْأَحْوَالَ. وَنُفِيَ الْعِلْمُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَصْحَابُ رَأْيٍ فَلَوْ نَظَرُوا وَتَدَبَّرُوا لَمَا قَالُوا مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ. وَلَوْ قُدِّرَ لِفِعْلِ يَعْلَمُونَ مَفْعُولٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ تَمْكِينَ الْحَرَمِ لَهُمْ وَأَنَّ جَلْبَ الثَّمَرَاتِ إِلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِنَا لَمَا اسْتَقَامَ إِسْنَادُ نَفْيِ الْعِلْمِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ بَلْ كَانَ يُسْنَدُ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِإِطْبَاقِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى مَقَالَةِ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ تُجْبَى بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ كُلِّ شَيْءٍ فأكسب الْمُضَاف تأنيثا. [58] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 58] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [الْقَصَص: 57] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعَرُّضَ لِلِانْتِقَامِ شَأْنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللَّهِ فَهُوَ تَخْوِيفٌ لِقُرَيْشٍ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَقْوَامٍ كَانُوا فِي مِثْلِ حَالِهِمْ مِنَ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ فَغَمِطُوا النِّعْمَةَ وَقَابَلُوهَا بِالْبَطَرِ. وَالْبَطَرُ: التَّكَبُّرُ. وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ مِنْ بَابِ فَرِحَ، فَانْتِصَابُ مَعِيشَتَها بَعْدَ بَطِرَتْ عَلَى تَضْمِينِ بَطِرَتْ مَعْنَى (كَفَرَتْ) لِأَنَّ الْبَطَرَ وَهُوَ التَّكَبُّرُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الِاعْتِرَافِ بِمَا يُسْدَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْمُرَادُ: بَطِرَتْ حَالَةَ مَعِيشَتِهَا، أَيْ نِعْمَةَ عَيْشِهَا. وَالْمَعِيشَةُ هُنَا اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْعَيْشِ وَالْمُرَادُ حَالَتُهُ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَيُعْلَمُ أَنَّهَا حَالَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: بَطِرَتْ وَهِيَ حَالَةُ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ (تِلْكَ) إِلَى مَساكِنُهُمْ الَّذِي بُيِّنَ بِهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ. وَبِذَلِكَ صَارَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ بِمَرْأَى السَّامِعِ، وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَسَاكِنُهُمْ لَمْ تَسْكُنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا. وَالسُّكْنَى: الْحُلُولُ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ بِقَصْدِ الِاسْتِمْرَارِ زَمَنًا طَوِيلًا. وَمَعْنَى لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا فِيهَا خَلَفًا لَهُمْ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْقِرَاضِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ. وَقَوْلُهُ إِلَّا قَلِيلًا احْتِرَاسٌ أَيْ إِلَّا إِقَامَةَ الْمَارِّينَ بِهَا الْمُعْتَبِرِينَ بِهَلَاكِ أَهْلِهَا. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عُمُومِ أَزْمَانٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالتَّقْدِير: إِلَّا زَمَانا قَلِيلًا، أَوْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَمْ تُسْكَنْ سَكَنًا إِلَّا سَكَنًا قَلِيلًا، وَالسَّكَنُ الْقَلِيلُ: هُوَ مُطْلَقُ الْحُلُولِ بِغَيْرِ نِيَّةِ إِطَالَةٍ فَهِيَ إِلْمَامٌ لَا سُكْنَى. فَإِطْلَاقُ السُّكْنَى عَلَى ذَلِكَ مُشَاكَلَةٌ لِيَتَأَتَّى الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ لَمْ تُسْكَنْ إِلَّا حُلُولَ الْمُسَافِرِينَ أَوْ إِنَاخَةَ الْمُنْتَجَعَيْنِ مِثْلَ نُزُولِ جَيْشِ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِحِجْرِ ثَمُودَ وَاسْتِقَائِهِمْ مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ. وَالْمَعْنَى: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً خَلَاءً لَا يَعْمُرُهَا عَامِرٌ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ بَقَاءَهَا خَالِيَةً لِتَبْقَى عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً بِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَبِهَذِهِ الْآيَةِ يَظْهَرُ تَأْوِيلُ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ بِحِجْرِ ثَمُودَ فَقَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَن يصيبك مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» أَيْ خَائِفِينَ أَيِ اقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَةِ الْمُرُورِ لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا إِلَى تَحَقُّقِ حَقِيقَةِ السُّكْنَى الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ انْتِفَاءَهَا بَعْدَ قَوْمِهَا فَرُبَّمَا قُدِّرَ إِهْلَاكُ مَنْ يَسْكُنُهَا تَحْقِيقًا لِقَدَرِهِ. وَجُمْلَةُ وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّهَا لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ فَلَا يَحِلُّ فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ بَعْدَهُمْ فَعَبَّرَ عَنْ تَدَاوُلِ السُّكْنَى بِالْإِرْثِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَصْرُ إِرْثِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقِيٌّ، أَيْ لَا يَرِثُهَا غَيْرُنَا. وَهُوَ كِنَايَةٌ

[سورة القصص (28) : آية 59]

عَنْ حِرْمَانِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ مِنَ السَّاكِنِ. وَتِلْكَ الْكِنَايَةُ رَمْزٌ إِلَى شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِهَا الْأَوَّلِينَ بِحَيْثُ تَجَاوَزَ غَضَبُهُ السَّاكِنِينَ إِلَى نَفْسِ الْمَسَاكِنِ فَعَاقَبَهَا بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَهْجَةِ الْمَسَاكِنِ لِأَنَّ بَهْجَةَ الْمَسَاكِنِ سُكَّانُهَا، فَإِنَّ كَمَالَ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ بِهِ قوام حقائقها. [59] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 59] وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) أُعْقِبَ الِاعْتِبَارُ بِالْقُرَى الْمُهْلِكَةِ بِبَيَانِ أَشْرَاطِ هَلَاكِهَا وَسَبَبِهِ، اسْتِقْصَاءً لِلْإِعْذَارِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنْ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى الْمُسْتَأْهِلَةَ الْإِهْلَاكَ حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا فِي الْقَرْيَةِ الْكُبْرَى مِنْهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ الْكُبْرَى هِيَ مَهْبِطُ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي الْمُجَاوِرَةِ لَهَا فَلَا تَخْفَى دَعْوَةُ الرَّسُولِ فِيهَا وَلِأَنَّ أَهْلَهَا قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُمْ أَكْثَرُ اسْتِعْدَادًا لِإِدْرَاكِ الْأُمُورِ عَلَى وَجْهِهَا فَهَذَا بَيَانُ أَشْرَاطِ الْإِهْلَاكِ. والْقُرى: هِيَ الْمَنَازِلُ لِجَمَاعَاتٍ مِنَ النَّاسِ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فِي الْبَقَرَةِ [58] . وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَظْهَرُ لِأَنَّهَا إِذَا أُهْلِكَتْ بَقِيَتْ آثَارُهَا وَأَطْلَالُهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهَا مِنَ الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحِلَلَ وَالْخِيَامَ مِثْلُهَا بِحُكْمِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَإِفْرَاغُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ مَا كَانَ فَاعِلًا وَنَحْوِهِ مِنْ صِيَغِ الْجُحُودِ يُفِيدُ رسوخ هَذِه الْعَادة وَاطِّرَادَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] وَقَوْلِهِ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [37] . وَقُرَى بِلَادِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَمِنًى وَالطَّائِفِ وَيَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى وَكَذَلِكَ قُرَى الْيَمَنِ وَقُرَى الْبَحْرَيْنِ. وَأُمُّ الْقُرَى هِيَ الْقَرْيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْهَا وَكَانَتْ مَكَّةُ أَعْظَمَ بِلَادِ الْعَرَبِ شُهْرَةً وَأَذْكَرَهَا بَيْنَهُمْ وَأَكْثَرَهَا مَارَّةً وَزُوَّارًا لِمَكَانِ الْكَعْبَةِ فِيهَا وَالْحَجِّ لَهَا.

[سورة القصص (28) : آية 60]

وَالْمُرَادُ بِإِهْلَاكِ الْقُرَى إِهْلَاكُ أَهْلِهَا. وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْإِهْلَاكَ بِالْقُرَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ شِدَّةَ الْإِهْلَاكِ بِحَيْثُ يَأْتِي عَلَى الْأُمَّةِ وَأَهْلِهَا وَهُوَ الْإِهْلَاكُ بِالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ مَعَهَا الدِّيَارُ بِخِلَافِ إِهْلَاكِ الْأُمَّةِ فَقَدْ يَكُونُ بِطَاعُونٍ وَنَحْوِهِ فَلَا يَتْرُكُ أَثَرًا فِي الْقُرَى. وَإِسْنَادُ الْخَبَرِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْإِنْذَارِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِهَذَا الْمَقْصِدِ. وَلِهَذَا وَقَعَ الِالْتِفَاتُ عَنْهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ آياتِنا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الدِّينَ دِينُ اللَّهِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرَى وَهُوَ أَهلهَا كَقَوْلِه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: 82] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [العلق: 17] . وَقَدْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفَنَّنٌ فِي الْأَسَالِيبِ إِذْ جَمَعَتِ الِاسْمَ الظَّاهِرَ وَضَمَائِرَ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ وَالتَّكَلُّمِ. ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ بِقَوْلِهِ وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أَيْ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِنَا فِي عِبَادِنَا أَنْ نُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى فِي حَالَة إِلَّا فِي حَالَةِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ، فَالْإِشْرَاكُ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ وَإِرْسَالُ رَسُولٍ شَرْطُهُ، فَيَتِمُّ ظُلْمُهُمْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولِ. وَجُمْلَةُ وَأَهْلُها ظالِمُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ اقْتَضَاهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ، أَيْ مَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ ظلم أَهلهَا. [60] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 60] وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) لَمَّا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ تَذْكِيرًا أُدْمِجَ فِي خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: 57] بِقَوْلِهِ تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [الْقَصَص: 57] أَعْقَبَهُ بِأَنَّ كُلَّ مَا أُوتُوهُ مِنْ نِعْمَةٍ هُوَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ، وَمِنْ زِينَتِهَا كَاللِّبَاسِ وَالْأَنْعَامِ وَالْمَالِ، وَأَمَّا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ من ذَلِك وَأبقى لِئَلَّا

[سورة القصص (28) : آية 61]

يَحْسَبُوا أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ هُوَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ فَلَا يَتَطَلَّبُوا مَا بِهِ تَحْصِيلُ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْأَبَدِيِّ، وَتَحْصِيلُهُ بِالْإِيمَانِ. وَلَا يَجْعَلُوا ذَلِكَ مُوَازِنًا لِاتِّبَاعِ الْهُدَى وَإِنْ كَانَ فِي اتِّبَاع الْهدى تقويت مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَرْضِهِمْ وَخَيْرَاتِهَا لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ. هَذَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا. ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِ مَا أُوتِيتُمْ وَالْمُرَادُ مِنْ أَشْيَاءِ الْمَنَافِعِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ شَائِعٌ فِي إِعْطَاءِ مَا يَنْفَعُ. وَقَدِ الْتَفَتَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً [الْقَصَص: 57] إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ أُوتِيتُمْ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ أَوْجَبَ تَوْجِيهَ التَّوْبِيخِ مُوَاجَهَةً إِلَيْهِمْ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا ثُمَّ يَزُولُ. وَالزِّينَةُ: مَا يُحَسِّنُ الْأَجْسَامَ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، أَنَّ أَجْنَاسَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا أُوتُوهُ فِي كَمَالِ أَجْنَاسِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَبْقَى فَهُوَ بِمَعْنَى الْخُلُودِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ اسْتِفْهَامٌ تَوْبِيخِيٌّ وَتَقْرِيرِيٌّ عَلَى عَدَمِ عَقْلِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ أَفْسَدَ عَقْلَهُ فَسُئِلُوا: أَهُمْ كَذَلِكَ؟. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَعْقِلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ عَنْ خِطَابِهِمْ لِتَعَجُّبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مقَام الْخطاب. [61] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 61] أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) أَحْسَبُ أَنَّ مَوْقِعَ فَاءِ التَّفْرِيعِ هُنَا أَنَّ مِمَّا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْقَصَص: 60] مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَبَجَّحُونَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ ونعيم الترف فِي حِينَ كَانَ مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ ضُعَفَاءَ قَالَ تَعَالَى وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى

أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فاكهين [المطففين: 31] أَيْ مُنَعَّمِينَ، وَقَالَ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] فَيَظْهَرُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمُ التَّفَاخُرُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ قَالَ تَعَالَى وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ [هود: 116] وَقَالَ وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الْأَنْبِيَاء: 13] فَلَمَّا أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّرَفِ إِنْ هُوَ إِلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، قَابَلَ ذَلِكَ بِالنَّعِيمِ الْفَائِقِ الْخَالِدِ الَّذِي أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ تُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ زَادَتِ الْأُولَى بَيَانًا بِأَنَّ مَا أُوتُوهُ زَائِلٌ زَوَالًا مُعَوَّضًا بِضِدِّ الْمَتَاعِ وَالزِّينَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. فَمَا صدق مِنَ الْأُولَى هُمُ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْوَعْدَ الْحَسَنَ وهم الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا صدق مِنَ الثَّانِيَةِ جَمْعٌ هُمُ الْكَافِرُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ الَّتِي أَفَادَهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَيْسُوا سَوَاءً إِذْ لَا يَسْتَوِي أَهْلُ نَعِيمٍ عَاجِلٍ زَائِلٍ وَأَهْلُ نَعِيمٍ آجِلٍ خَالِدٍ. وَجُمْلَةُ فَهُوَ لاقِيهِ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ وَعْدٌ مُحَقَّقٌ، وَالْفَاءُ لِلتَّسَبُّبِ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ هُوَ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَهِيَ مِنْ تَمَامِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِبَيَانِ أَنَّ رُتْبَةَ مَضْمُونِهَا فِي الْخَسَارَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَضْمُونِ الَّتِي قَبِلَهَا، أَيْ لَمْ تَقْتَصِرْ خَسَارَتُهُمْ عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بَلْ تَجَاوَزَتْ إِلَى التَّعْوِيضِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَمَعْنَى مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَنَّهُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ لِلْجَزَاءِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّوْبِيخُ فِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْقَصَص: 60] . وَالْمُقَابَلَةُ فِي قَوْلِهِ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ الْفَرِيقَ الْمُعَيَّنَ مَوْعُودُونَ بِضِدِّ الْحَسَنِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقَ الْمُحْضَرِينَ اخْتِصَارًا كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات: 57] وَقَوْلِهِ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 127، 128] .

[سورة القصص (28) : الآيات 62 إلى 63]

[سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 62 إِلَى 63] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) تَخَلُّصٌ مِنْ إِثْبَاتِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً [الْقَصَص: 61] مُفِيدَةٌ سَبَبَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَيْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فَإِذَا هُمْ لَا يَجِدُونَهُمْ يَوْمَ يُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يُنادِيهِمْ فَيَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: 61] أَيْ يُحْضَرُونَ ويُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفَ مُفْرَدَاتٍ فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَطْفًا عَلَى يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: 61] فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَيْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْإِبْدَالِ إِلَى الْعَطْفِ لِاخْتِلَافِ حَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِاخْتِلَافِ الْعُنْوَانِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ يَوْمٍ مُغَايِرٍ زِيَادَةً فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ، أَوْ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى النِّدَاءِ. وَاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِ مِنْ حُصُول أَمر فضيع، تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ يُنَادِيهِمْ يَكُونُ مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الرُّعْبِ. وَضَمِيرُ يُنادِيهِمْ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: 57] فَالْمُنَادَوْنَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِكَلِمَةِ أَيْنَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الشُّرَكَاءُ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ وُجُودِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ يَوْمَئِذٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِفَاءِ. وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِيَ، وَهَذَا الْحَذْفُ اخْتِصَارٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي مَفْعُولَيْ (ظَنَّ) .

وَجُرِّدَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ فَهِيَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. وَالَّذِينَ تَصَدَّوْا لِلْجَوَابِ هُمْ بَعْضُ الْمُنَادَيْنَ بِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ عَلِمُوا أَنَّهُمُ الْأَحْرِيَاءُ بِالْجَوَابِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَيِمَّةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَأُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَسَدَنَةِ أَصْنَامِهِمْ كَسَادِنِ الْعُزَّى. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُمْ بِ (قَالُوا) . وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَثَبَتَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلًا مَعْهُودًا وَهُوَ مَا عُهِدَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي (¬1) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة: 13] وَقَوْلِهِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 19 فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الَّذِينَ حَلَّ الْإِبَّانُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَلْجَأَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوا الضَّالِّينَ وَأَغْوَوْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى وَجَبَ وَتَعَيَّنَ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْجَوَابُ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ إِجَابَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ جِنْسَ الْقَوْلِ، أَيِ الْكَلَامُ الَّذِي يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا ... إِلَخْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قالَ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا، أَيِ الَّذِينَ كَانُوا أَحْرَى بِأَنْ يُجِيبُوا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ تَبِعَةَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِّهَ التَّوْبِيخُ إِلَى جُمْلَتِهِمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ ثَبَّتُوا الْعَامَّةَ عَلَى الشِّرْكِ وأضلوا الدهماء. وابتدأوا جَوَابَهُمْ بِتَوْجِيهِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، نِدَاءً أُرِيدَ مِنْهُ الِاسْتِعْطَافُ بِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمُ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخْتَرِعِينَ لِدِينِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: «حقّت كلمة رَبك لأملان ... » . [.....]

بِ هؤُلاءِ إِلَى بَقِيَّةِ الْمُنَادَيْنَ مَعَهُمْ قَصْدًا لِأَنْ يَتَمَيَّزُوا عَمَّنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِيَزْدَادُوا رُعْبًا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَطْمَعٌ فِي التَّخْلِيصِ. والَّذِينَ أَغْوَيْنا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ. وَجُمْلَةُ أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ مُتَعَجِّبٍ كَيْفَ يَعْتَرِفُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْجُرْمِ فَأَرَادُوا بَيَانَ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى إِغْوَاءِ إِخْوَانِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ بَثُّوا فِي عَامَّةِ أَتْبَاعِهِمُ الْغَوَايَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى جُمْلَةِ أَغْوَيْناهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ هَذَا الْإِغْوَاءِ بِتَأْكِيدِهِ اللَّفْظِيِّ، وَبِإِجْمَالِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَتَفْصِيلِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَتْ إِعَادَةُ فِعْلِ أَغْوَيْنا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ» عَلَى إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تَخْشَى بَوَادِرَهُ عَلَى الْأَقْرَانِ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ، لَمَّا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادِ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ، وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَامُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ» اه. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَلَامِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [7] ، وَقَوْلِهِ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [130] ، وَقَوْلِهِ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [72] ، فَإِنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تُطَابِقُ بَيْتَ الْأَحْوَصِ لِاشْتِمَالِهِنَّ عَلَى (إِذَا) . وكَما غَوَيْنا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ إِغْوَاءً يُوقِعُ فِي نُفُوسِهِمْ غَيًّا مِثْلَ الْغَيِّ الَّذِي فِي قُلُوبِنَا. وَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي أَنَّهُمْ تَلَقَّوُا الْغَوَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَفَادَ التَّشْبِيهُ أَنَّ الْمُجِيبِينَ أَغْوَاهُمْ مُغْوُونَ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ هَذَا الْجَوَابَ يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنْهُمْ وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ

السَّيْرَ عَلَى قَدَمِ الْغَاوِينَ يُبَرِّرُ الْغَوَايَةَ، وَهَذَا كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [96، 99] : قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فِعْلِ أَغْوَيْنا الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِكَثْرَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ عَائِدٍ صِلَةٍ هُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُتَّصِلٌ وَنَاصُبُهُ فِعْلٌ أَوْ وَصْفٌ شَبِيهٌ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهِ وَدَالٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ حَذْفُ الْعَائِدِ اخْتِصَارًا. وَذَكَرَ مَفْعُولَ فِعْلِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِي اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَجُمْلَةُ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ اسْتِئْنَافٌ. وَالتَّبَرُّؤُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَهِيَ انْتِفَاءُ مَا يَصِمُ، فَالتَّبَرُّؤُ: مُعَالَجَةُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ وَتَحْقِيقُهَا. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ يُحَاوِلُ إِثْبَاتَ الْبَرَاءَةِ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (إِلَى) الدَّالِّ عَلَى الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ يُقَالُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا، أَيْ أُوَجِّهُ بَرَاءَتِي إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَصِمُ بِحِرَفِ (مِنِ) الِاتِّصَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ قَالَ تَعَالَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الْأَحْزَاب: 69] . وَقَدْ تَدْخُلُ (مِنْ) عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ مُقَدَّرٍ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الْأَنْفَال: 48] أَيْ مِنْ كُفْرِكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: من أَعمالكُم وشؤونكم إِمَّا مِنْ أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ أَوْ مِنْ عِدَّةِ أَعْمَالٍ. فَالْمَعْنَى هُنَا تَحَقُّقُ التَّبَرُّؤِ لَدَيْكَ وَالْمُتَبَرَّأُ مِنْهُ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فَهِيَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ التَّبَرُّؤِ. وَالْمَقْصُود: أَنهم يتبرؤون مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَزْعُومَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ وَإِنَّمَا قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ مُضِلُّونَ وَكَانَ هَذَا الْمَقْصِدُ إِلْجَاءً مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِيُعْلِنُوا تَنَصُّلَهُمْ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ شُرَكَاء على رُؤُوس الْمَلَإِ، أَوْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ فَظَاعَةِ عَذَابِ كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْمُشْرِكُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ بَاطِلًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] . هَذَا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي. وَتَقْدِيمُ إِيَّانا عَلَى يَعْبُدُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ يَعْبُدُونَنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّبَرُّؤِ مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.

[سورة القصص (28) : آية 64]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 64] وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الَّذِينَ نُودُوا بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: 62] فَإِنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا شَعَرُوا بِالْمَقْصِدِ مِنْ نِدَائِهِمْ وَتَصَدَّى كُبَرَاؤُهُمْ لِلِاعْتِذَارِ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَأَسْنَدَ فِعْلَ الْقَوْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، أَيْ وَقَالَ اللَّهُ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِطْمَاعِ لِتَعَقُّبِ الْإِطْمَاعِ بِالْيَأْسِ. وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَهُمُ الشَّرِكَةَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ [94] الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. وَالدُّعَاءُ دُعَاءُ الِاسْتِغَاثَةِ حَسَبَ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ التَّأْيِيسِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فَيَحْتَمِلُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً فَرَضَهَا الْمُفَسِّرُونَ: وَجُمَّاعُ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا أَخْذًا وَرَدًّا أَنْ نَجْمَعَهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَالْعَذَابُ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ أَحْضَرَ لَهُمْ آلَةَ الْعَذَابِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ جُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً مُسْتَقِلَّةً عَنْ جُمْلَةِ وَرَأَوُا الْعَذابَ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالرُّؤْيَةُ أَيْضًا بَصَرِيَّةً وَالْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، أَيْ وَقَدْ رَأَوُا الْعَذَابَ فَارْتَبَكُوا فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى سَبِيلِ الْخَلَاصِ فَقِيلَ لَهُمْ: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ لِخَلَاصِكُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ كَذَلِكَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي اخْتِصَارًا، وَالْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَعَلِمُوا الْعَذَابَ حَائِقًا بِهِمْ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوِ الْحَالِ. وَجُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا

[سورة القصص (28) : الآيات 65 إلى 66]

صَنَعُوا حِينَ تَحَقَّقُوا أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لَسَلَكُوهُ وَلَكِنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى النَّجَاةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَكُونُ لَوْ حَرْفَ شَرْطٍ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُ مَفْعُولِ يَهْتَدُونَ أَيْ يَهْتَدُونَ خَلَاصًا أَوْ سَبِيلًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَتَخَلَّصُوا مِنْهُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَفِعْلُ كانُوا مَزِيدٌ فِي الْكَلَامِ لِتَوْكِيدِ خَبَرِ (أَنَّ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مُتَمَكِّنًا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا قَرَارَةَ لِنُفُوسِهِمْ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَهْتَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى التَّجَدُّدِ فالاهتداء مُنْقَطع عَنْهُم وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَصْلِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ اهْتِدَاؤُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا كَيْلَا يَقَعُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ، وَفِعْلُ كانُوا حِينَئِذٍ فِي مَوْقِعِهِ الدَّالِّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْخَبَرِ فِي الْمَاضِي، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَهْتَدُونَ لِقَصْدِ تَجَدُّدِ الْهُدَى الْمُتَحَسَّرِ عَلَى فَوَاتِهِ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْهُدَى لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَّا إِذَا اسْتَمَرَّ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ. وَوَجْهٌ خَامِسٌ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: وَرَأَوْا آثَارَ الْعَذَابِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، أَيْ وَهُمْ رَأَوُا الْعَذَابَ فِي حَيَاتِهِمْ أَيْ رَأَوْا آثَارَ عَذَابِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [45 وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَجُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أَيْ بِالِاتِّعَاظِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِحُلُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنَّ وَرَاءَهُ عَذَابًا أَعْظَمَ مِنْهُ لَاهْتَدَوْا فَأَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَصَدَّقُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ. فَهَذِهِ عِدَّةُ مَعَانٍ يُفِيدُهَا لَفْظُ الْآيَةِ، وَكُلُّهَا مَقْصُودَةٌ، فَالْآيَةُ مِنْ جَوَامِع الْكَلم. [65- 66] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 65 إِلَى 66] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (66) هُوَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: 62] . كَرَّرَ الْحَدِيثَ عَنْهُ

بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا يَقَعُ فِيهِ لِأَنَّ مَقَامَ الْمَوْعِظَةِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فِي تَعْدَادِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّوْبِيخَ. وَكُرِّرَتْ جُمْلَةُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ لِأَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَالْمُرَادُ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ. وَالْمُرَادُ بِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ [45] فَكَذَّبُوا رُسُلِي. وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [103] وَقَوْلُهُ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [105] ، وَإِنَّمَا كَذَّبَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أُولَئِكَ رَسُولًا وَاحِدًا. وَالَّذِي اقْتَضَى صِيغَةَ الْجَمْعِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ إِنَّمَا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ اسْتِحَالَةِ رِسَالَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْبَشَرِ فَهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوا بِجِنْسِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَامُ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى (جَمِيعِ) أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ مَاذَا صُورِيٌّ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِظْهَارُ بَلْبَلَتِهِمْ. وَ (ذَا) بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَوْصُولِ، أَيْ مَا الَّذِي أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ مَا جَوَابُكُمْ. والْأَنْباءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ إِخْبَارٌ عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: عَمِيَتِ الْأَنْبَاءُ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْئُولِينَ فَسَكَتُوا كُلُّهُمْ وَلَمْ يُنْتَدَبْ زُعَمَاؤُهُمْ لِلْجَوَابِ كَفِعْلِهِمْ فِي تَلَقِّي السُّؤَالِ السَّابِقِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: 62] . وَمعنى فَعَمِيَتْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ لَا يَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءَ، فَتَصَرَّفَتْ مِنَ الْعَمَى مَعَانٍ كَثِيرَةٌ مُتَشَابِهَةٌ يُبَيِّنُهَا تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ كَمَا عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُنَاسِبِ لِلْخَفَاءِ. وَيُقَالُ: عَمِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ. إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَا يُوَصِّلُ مِنْهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ وَالْمَعْنَى: خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى جَوَابٍ وَذَلِكَ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالْوَهَلِ

[سورة القصص (28) : آية 67]

فَإِنَّهُمْ لَمَّا نُودُوا أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: 62] انْبَرَى رُؤَسَاؤُهُمْ فَلَفَّقُوا جَوَابًا عَدَلُوا بِهِ عَنْ جَادَّةِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ سَنُّوا لِقَوْمِهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا سُئِلُوا عَنْ جَوَابِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيُوا عَنِ الْجَوَابِ فَلَمْ يَجِدُوا مُغَالَطَةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَسْبُوقِينَ مِنْ سَلَفِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ. وَلِهَذَا تفرع على (عميت عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ) قَوْلُهُ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ أَيْ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِاسْتِخْرَاجِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْبَهْتِ وَالْبَغْتِ عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّهُمْ لَا مُتَنَصَّلَ لَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ فَوَجِمُوا. وَإِذْ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِتَمْهِيدِ أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِالْعَذَابِ عُلِمَ مِنْ عَجْزِهِمْ عَنِ الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّهُمْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِم الْعَذَاب. [67] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 67] فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) تَخَلَّلَ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ ذِكْرُ حَالِ الْفَرِيقِ الْمُقَابِلِ وَهُوَ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَزْدَادُ تَمَيُّزًا بِذِكْرِ أَضْدَادِهَا، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [الْقَصَص: 66] مِنْ أَنَّهُمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. وَلَمَّا كَانَتْ (أَمَّا) تُفِيدُ التَّفْصِيلَ وَهُوَ التَّفْكِيكُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ فِي حُكْمٍ فَهِيَ مُفِيدَةٌ هُنَا أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ خَاسِرُونَ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ مَا وَقَعَ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ [الْقَصَص: 66] فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِتَفْصِيلِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَنْ ذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النِّسَاء: 175] أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ كفرُوا بِاللَّه فيضد ذَلِكَ. وَالتَّوْبَةُ هُنَا: الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَالنَّدَمُ عَلَى تَقَلُّدِهِ. وَعَطْفُ الْإِيمَانِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ إِقْلَاعٍ عَنْ عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَإِحْلَالِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ مَحَلَّهَا وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَعَمِلَ صالِحاً لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا شَاعِرِينَ بِفَسَادِ دِينِهِمْ

[سورة القصص (28) : آية 68]

وَكَانَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَقَلُّدِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَسْبَابٌ مُغْرِيَةٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا. وَ (عَسَى) تَرَجٍّ لِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى مِنْهُ الْفَلَاحُ. وأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الْفَلَاحِ مِنْ: أَنْ يُفْلِحَ، كَمَا تَقَدَّمَ غير مرّة. [68] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 68] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ. هَذَا مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ وَهِيَ جُمْلَةُ فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْقَصَص: 67] وَظَاهِرُ عَطْفِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ مَعْنَاهُ آيِلٌ إِلَى التَّفْوِيضِ إِلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ قُلُوبٍ مُنْفَتِحَةٍ لِلِاهْتِدَاءِ وَلَوْ بِمَرَاحِلَ، وَقُلُوبٍ غَيْرِ مُنْفَتِحَةٍ لَهُ فَهِيَ قَاسِيَةٌ صَمَّاءُ، وَأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَ فَرِيقًا عَلَى فَرِيقٍ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ «قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حِينَ قَالَ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] اه. يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَهُمَا الْمُرَادُ بِالْقَرْيَتَيْنِ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ اتِّصَالُ مَعْنَاهَا بِقَوْلِهِ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: 65] ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَجَابُوا بِهِ دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ وَيَخْتَارُ مِنْ بَيْنِ مَخْلُوقَاتِهِ لِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَصْلُحُ لَهُ جِنْسُ مَا مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُهُ لِلرِّسَالَةِ مَنْ يَشَاءُ إِرْسَالَهُ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] ، وَأَنْ لَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِيَارِ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَالْوَجْهَانِ لَا يَتَزَاحَمَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ وَيَخْتارُ فَذَكَرَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَخْلُوقَاتِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنْ لُوحِظَ سَبَبُ النُّزُولِ أَيْ رَبُّكَ وَحْدُهُ لَا أَنْتُمْ تَخْتَارُونَ مَنْ يُرْسَلُ إِلَيْكُمْ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مَوْصُولَةً مَفْعُولًا لِفِعْلِ

يَخْتارُ وَأَنَّ عَائِدَ الْمَوْصُولِ مَجْرُورٌ بِ (فِي) مَحْذُوفَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَخْتَارُ مَا لَهُمْ فِيهِ الْخَيْرُ، أَيْ يَخْتَارُ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَالِحٌ بِهِمْ لَا مَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ رِجَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ اسْتِئْنَافٌ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ قَبْلَهُ مُفِيدَةُ مُجَرَّدِ التَّقَوِّي. وَصِيغَةُ مَا كانَ تَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ لِلْكَوْنِ يُفِيدُ أَشَدَّ مِمَّا يُفِيدُ لَوْ قِيلَ: مَا لَهُمُ الْخِيَرَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [64] . وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أَيْ كَمَا أَنَّ الْخَلْقَ مِنْ خَصَائِصِهِ فَكَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ. والْخِيَرَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ: اسْمٌ لِمَصْدَرِ الِاخْتِيَارِ مِثْلَ الطِّيَرَةِ اسْمٌ لِمَصْدَرِ التَّطَيُّرِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا. وَفِي «اللِّسَانِ» مَا يُوهِمُ أَنَّ نَظِيرَهُمَا: سَبْيٌ طِيَبَةٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ وَلَا نَقْضُ عَهْدٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّنْظِيرَ فِي الزِّنَةِ لَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهَا زِنَةٌ نَادِرَةٌ. وَاللَّامُ فِي لَهُمُ لِلْمِلْكِ، أَيْ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَ اخْتِيَارًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى يَقُولُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وَنَفْيُ الْمِلْكِ عَنْهُمْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ مَا يَشاءُ لِأَنَّ مَا يَشاءُ يُفِيدُ مَعْنَى مَلْكِ الِاخْتِيَارِ. وَفِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبًّا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتَارَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ فَهُوَ قَدْ عَلِمَ اسْتِعْدَادَهُ لِقَبُولِ رِسَالَتِهِ. سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَعُلُوِّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِتَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وسُبْحانَ مَصْدَرٌ نَائِبٌ مَنَابَ فِعْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . وَأُضِيفَ سُبْحانَ إِلَى اسْمِهِ الْعَلَمِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَسُبْحَانَهُ، بَعْدَ أَنْ قَالَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ [الْقَصَص: 69] لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّنْزِيهِ بِذَاتِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ

[سورة القصص (28) : آية 69]

جَمِيعِ الْمَحَامِدِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ قَبْلَ نَقْلِهِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ. وَالْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ. وَوَجْهُ تَقْيِيدِ التَّنْزِيهِ وَالتَّرْفِيعِ بِ (مَا يُشْرِكُونَ) أَنه لم يجترىء أَحَدٌ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الشِّرْكِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ كَمَالٌ مِثْلَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَوْ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: 28] . وَزَعَمُوا أَنَّ الْآلِهَةَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالُوا فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِالْكَمَالِ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] . وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن إشراكهم. [69] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 69] وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) عَطْفٌ عَلَى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ [الْقَصَص: 68] أَيْ هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُرَكِّبُهُمْ عَلَى النِّظَامِ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَفْعَالُ وَالِاعْتِقَادَاتُ فَيَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَتَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ صُدُورُهُمْ، أَيْ نُفُوسُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. فَضَمِيرُ صُدُورُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الْقَصَص: 68] بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، أَيْ مَا تُكِنُّ صُدُورُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَحَيْثُ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ ضَمَائِرُ الْعُقَلَاءِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْبَشَرُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعُمُومِ فِي مَا يَشاءُ [الْقَصَص: 68] فَبِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ يَخْتَارُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ فَحَصَلَ بِهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الِاخْتِيَارِ وَإِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَهَذَا مُنْتَهَى الْإِيجَازِ. وَفِي إِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ وَرَبُّكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِمَّا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ بُغْضُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ آخر النَّمْل [74] . [70] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 70] وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ [الْقَصَص: 68] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ

وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِنَّمَا قَدَّمُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ مَعَ إِدْمَاجِ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ افْتِقَارَ الْكُلِّ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ لِيَعُودَ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَص: 58] إِلَى هُنَا، أَيِ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَاعِلُ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْجَلِيلَةِ. وَالْمَذْكُورُ بعنوان رَبُّكَ [الْقَصَص: 69] هُوَ الْمُسَمَّى اللَّهَ اسْمًا جَامِعًا لِجَمِيعِ مَعَانِي الْكَمَالِ. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مُبْتَدَأٌ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرُهُ، أَيْ فَلَا تَلْتَبِسُوا فِيهِ وَلَا تُخْطِئُوا بِادِّعَاءِ مَا لَا يَلِيقُ بِاسْمِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْله فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [يُونُس: 32] . وَقَوْلُهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الثَّانِي زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَدْلُولِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ اخْتُصَّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِلَهِ الْحَقِّ إِلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَرَّفُوا أَوْ أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِلْأَصْنَامِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ دُونَ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مِنْ حَقِّ النَّظَرِ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِلشِّرْكِ بَعْدَ إِبْطَالِهِ بِحِكَايَةِ تَلَاشِيهِ عَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الْقَصَص: 64] . وَأَخْبَرَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ خَبَرًا ثَانِيًا بِقَوْلِهِ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّاسَ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ لَا يَحْمَدُونَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا اللَّهَ فَلَا تَسْمَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلْعُزَّى، مَثَلًا. فَاللَّامُ فِي لَهُ لِلْمِلْكِ، أَيْ لَا يَمْلِكُ الْحَمْدَ غَيْرُهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ اخْتِصَاصٌ حَقِيقِيٌّ. وَتَعْرِيفُ الْحَمْدُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَهُ كُلُّ حَمْدٍ. والْأُولى هِيَ الدُّنْيَا وَتَخْصِيصُ الْحَمْدِ بِهِ فِي الدُّنْيَا اخْتِصَاصٌ لِجِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ لِأَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ مَجَازٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَأَمَّا الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاء: 52] . وَاخْتِصَاصُ الْجِنْسِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ.

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 72]

وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْحُكْمُ اللَّامُ فِيهِ أَيْضًا لِلْمِلْكِ. وَالتَّقْدِيمُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْضًا. والْحُكْمُ: الْقَضَاءُ وَهُوَ تَعْيِينُ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ لِلْغَيْرِ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْحُكْمِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ عَلَيْهِ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ فِي الدَّارَيْنِ. وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْآخِرَة فمقصور عَلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِتَصَرُّفِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهَا وَإِبْطَالٌ لِشَفَاعَتِهَا الَّتِي يَزْعُمُونَهَا فِي قَوْلِهِمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] أَيْ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مَا زَعَمْتُمْ مِنَ الْبَعْثِ. وَأَمَّا جُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَمَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، فَبَعْدَ أَنْ أُثْبِتَ لِلَّهِ كُلُّ حَمْدٍ وَكُلُّ حُكْمٍ، أَيْ أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَتُمَجِّدُونَهُ وَيُجْرِي عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا إِلْزَامُهُمْ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى حكمه. [71- 72] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 71 إِلَى 72] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِبَدِيعِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي ضِمْنِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ وَلِلتَّعْرِيضِ بِكُفْرِ الْمُشْرِكِينَ جَلَائِلَ نِعَمِهِ. وَمِنْ أَبْدَعَ الِاسْتِدْلَالِ أَنِ اخْتِيرَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ الْمُتَكَرِّرُ كَلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهِ كُلُّ مُمَيِّزٍ، وَالَّذِي هُوَ أَجْلَى مَظَاهِرِ التَّغَيُّرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَهُوَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي التَّكَيُّفِ بِهِ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى الْأَصْنَامَ فَهِيَ تُظْلِمُ وَتَسْوَدُّ أَجْسَامُهَا بِظَلَامِ اللَّيْلِ وَتُشْرِقُ وَتُضِيءُ بِضِيَاءِ النَّهَارِ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَعَاقُبِ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ عَلَى

النَّاسِ أَقْوَى وَأَوْضَحَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَكْوِينِ أَحَدِهِمَا لَوْ كَانَ دَائِمًا، لِأَنَّ قُدْرَةَ خَالِقِ الضِّدَّيْنِ وَجَاعِلِ أَحَدِهِمَا يَنْسَخُ الْآخَرَ كُلَّ يَوْمٍ أَظْهَرُ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَخْلُقْ إِلَّا أَقْوَاهُمَا وَأَنْفَعَهُمَا، وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِتَعَاقُبِهِمَا دَوْمًا أَشَدُّ مِنَ الْإِنْعَامِ بِأَفْضَلِهِمَا وَأَنْفَعِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِما لَكَانَ مسؤوما وَلَحَصَلَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفُقِدَتْ مَنَافِعُ ضِدِّهِ. فَالتَّنَقُّلُ فِي النِّعَمِ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ تَنَقُّلًا إِلَى مَا هُوَ دُونَ. وَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ تَلْقِينِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّذْكِيرِ لهَذَا الِاسْتِدْلَال ولاشتماله عَلَى ضِدَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ قَاصِرَةً عَنْ إِدْرَاكِ دَلَالَةِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لَكَانَ فِي الضِّدِّ الْآخَرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ، وَلَوْ قَصَّرُوا عَنْ حِكْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي تَعَاقُبِهِمَا مَا يَكْفِي لِلِاسْتِدْلَالِ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطَيْنِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَفْرُوضٌ فَرْضًا مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبْرَةِ خَلْقِ النُّورِ، فَلِذَلِكَ فَرَضَ اسْتِمْرَارَ اللَّيْلِ، وَالْمَقْصُودُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ. وَالسَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مِنَ السَّرْدِ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. وَالْمِيمُ مَزِيدَةٌ وَوَزْنُهُ فَعْمَلَ، وَنَظِيرُهُ دُلَامِصٌ مِنَ الدِّلَاصِ اه. دُلَامِصٌ (بِضَمِّ الدَّالِّ وَكَسْرِ الْمِيمِ) مِنْ صِفَاتِ الدِّرْعِ وَأَصْلُهَا دِلَاصٌ (بِدَالٍ مَكْسُورَةٍ) أَيْ بَرَّاقَةٌ. وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» وَبَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ مِيمَ سَرْمَدٍ أَصْلِيَّةً وَأَنَّ وَزْنَهُ فَعْلَلْ. وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ اللَّيْلِ سَرْمَدًا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ الشَّمْسَ وَيَكُونَ خَلَقَ الْأَرْضَ فَكَانَتِ الْأَرْضُ مُظْلِمَةً. وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ إِنْكَارِيٌّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا الِانْتِفَاءِ وَأَنَّ خَالِقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِحَاطَةُ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءُ جَعْلِهِ سَرْمَدًا. وَالْإِتْيَانُ بِالضِّيَاءِ وَبِاللَّيْلِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيجَادِ شُبِّهَ إِيجَادُ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ

مَوْجُودًا بِالْإِجَاءَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْمُثُولُ وَالظُّهُورُ. وَالضِّيَاءُ: النُّورُ. وَهُوَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [5] . وَعَبَّرَ بِالضِّيَاءِ دُونَ النَّهَارِ لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ قَدْ تَخِفُّ قَلِيلًا بِنُورِ الْقَمَرِ فَكَانَ ذِكْرُ الضِّيَاءِ إِيمَاءً إِلَى ذَلِكَ. وَفِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ يَأْتِيكُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِيجَادَ الضِّيَاءِ وَإِيجَادَ اللَّيْلِ نِعْمَةٌ عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِذْ قَدِ اسْتَمَرَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ سُطُوعِ هَذَا الدَّلِيلِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الضِّيَاءِ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَقَامَتِ الْحُجَّةَ الْوَاضِحَةَ عَلَى فَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ، فَفَرَّعَ عَلَى تِلْكَ الْحُجَّةِ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَنِ انْتِفَاءِ سَمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ أَفَلا تَسْمَعُونَ أَيْ أَفَلَا تَسْمَعُونَ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ اللَّيْلِ وَالضِّيَاءِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَفَلا تَسْمَعُونَ تَذْيِيلًا. وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ فِي مَقَامِ التَّقْرِيرِ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ يُنَاسِبُهُ التَّكْرِيرُ مِثْلَ مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَمَقَامِ التَّهْوِيلِ. وَعُكِسَ الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي بِفَرْضِ أَنْ يَكُونَ النَّهَارُ وَهُوَ انْتِشَارُ نُورِ الشَّمْسِ، سَرْمَدًا بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ غَيْرَ كُرَوِيَّةِ الشَّكْلِ بِحَيْثُ يَكُونُ شُعَاعُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جَمِيعِ سَطْحِ الْأَرْضِ دَوْمًا. وَوَصْفُ اللَّيْلِ بِ تَسْكُنُونَ فِيهِ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ لِلتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نِعَمٍ كَثِيرَةٍ وَتِلْكَ هِيَ نِعْمَةُ السُّكُونِ فِيهِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ لَذَّةَ الرَّاحَةِ، وَلَذَّةَ الْخَلَاصِ مِنَ الْحَرِّ، وَلَذَّةَ اسْتِعَادَةِ نَشَاطِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي بِهِ التَّفْكِيرُ وَالْعَمَلُ، وَلَذَّةَ الْأَمْنِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَلَمْ يُوصَفِ الضِّيَاءُ بِشَيْءٍ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا. وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَيْضًا تَنْزِيلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُبْصِرُونَ الْأَشْيَاءَ الدَّالَّةَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِصُنْعِهَا وَهِيَ مِنْهُمْ بِمَرْأَى الْأَعْيُنِ.

[سورة القصص (28) : آية 73]

وَنَاسَبَ السَّمْعُ دَلِيلَ فَرْضِ سَرْمَدَةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَوْ كَانَ دَائِمًا لَمْ تَكُنْ لِلنَّاسِ رُؤْيَةٌ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِشَارِ شَيْءٍ مِنَ النُّورِ عَلَى سَطْحِ الْجِسْمِ الْمَرْئِيِّ، فَالظُّلْمَةُ الْخَالِصَةُ لَا تُرَى فِيهَا الْمَرْئِيَّاتُ. وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ فَرْضِ دَوَامِ اللَّيْلِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهِمْ، وَجِيءَ فِي جَانِبِ فَرْضِ دَوَامِ النَّهَارِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى عَدَمِ إِبْصَارِهِمْ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَفَلا تُبْصِرُونَ تذييلا. [73] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 73] وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) تَصْرِيحٌ بِنِعْمَةِ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى النَّاسِ بِقَوْلِهِ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ بِطَرِيقِ الْإِدْمَاجِ بقوله يَأْتِيكُمْ [الْقَصَص: 71 وَبِقَوْلِهِ تَسْكُنُونَ فِيهِ [الْقَصَص: 72] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً [الْقَصَص: 71] . ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ بِالنَّاسِ حَقِيقَةٌ كُلِّيَّةٌ لَهَا تَحَقُّقٌ فِي وُجُودِ أَنْوَاعِهَا وَآحَادِهَا الْعَدِيدَةِ، وَالْمَجْرُورُ بِ مِنْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ، وَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكُمُ، وَالْمَقْصُودُ إِظْهَارُ أَنَّ هَذَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ لِيَتَذَكَّرُوا بِهِمَا نِعَمًا أُخْرَى. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ بِ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمِنَّةِ الرَّحْمَةِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي قَوْلِهِ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ طَرِيقَةُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ فَيَعُودُ لِتَسْكُنُوا فِيهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَيَعُودُ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِلَى النَّهَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِيهِ، فَحَذَفَ الضَّمِيرَ وَجَارَّهُ إِيجَازًا اعْتِمَادًا عَلَى الْمُقَابَلَةِ. وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَمَلِ وَالطَّلَبِ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] . وَالرِّزْقُ: فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.

[سورة القصص (28) : الآيات 74 إلى 75]

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [198] . وَلَامُ لِتَسْكُنُوا وَلَامُ وَلِتَبْتَغُوا لِلتَّعْلِيلِ، وَمَدْخُولَاهُمَا عِلَّتَانِ لِلْجَعْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فِعْلِ جَعَلَ. وَعُطِفَ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ رَجَاءَ شُكْرِهِمْ عَلَى هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ جُمْلَةِ رَحْمَتِهِ بِالنَّاسِ فَالشَّأْنُ أَنْ يَتَذَكَّرُوا بِذَلِكَ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَجَلَائِلَ النِّعَمِ فَيَشْكُرُوهُ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَمْ يَشْكُرُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُور أَرَأَيْتُمْ [الْقَصَص: 71] بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ تَخْفِيفًا لِهَمْزَةِ رَأَى. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ زِيَادَةً فِي التَّخْفِيفِ وَهِي لُغَة. [74- 75] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 74 إِلَى 75] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (75) كُرِّرَتْ جُمْلَةُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ التَّكْرِيرَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مَقَامِ التَّوْبِيخِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَيَوْمَ نَنْزِعُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا، فَأُعِيدَ ذِكْرُ أَنَّ اللَّهَ يُنَادِيهِمْ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيعِيِّ وَيَنْزِعُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا، فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ يُكَرَّرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا كُرِّرَتْ حِكَايَتُهُ وَأَنَّهُ نِدَاءٌ وَاحِدٌ يَقَعُ عَقِبَهُ جَوَابُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَيَقَعُ نَزْعُ شَهِيدٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَيْهِمْ فَهُوَ شَامِلٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فِي نَزَعْنا: إِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَهِيَ يَعْقُبُهَا الْمَاضِي بِ (قَدْ) وَبِدُونِ (قَدْ) أَيْ يَوْمَ يَكُونُ ذَلِكَ النِّدَاءُ وَقَدْ أَخْرَجْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ وَأَخْرَجْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ [النَّحْل: 89] . وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولُهَا. وَالنَّزْعُ: جَذْبُ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ مَا هُوَ مُخْتَلِطٌ بِهِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِخْرَاجِ بَعْضٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ

عِتِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [69] . وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ تَأْتِي إِلَى الْمَحْشَرِ تَتْبَعُ أَنْبِيَاءَهَا، وَهَذَا الْمَجِيءُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ آمَنُوا بِهِ كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيث «يَأْتِي النبيء مَعَه الرَّهْط والنبيء وَحْدَهُ مَا مَعَهُ أَحَدٌ» . وَالْتُفِتَ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي وَنَزَعْنا لإِظْهَار عَظمَة التَّكَلُّم، وَعُطِفَ فَقُلْنا عَلَى وَنَزَعْنا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَالْمُخَاطَبُ بِ هاتُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، أَيْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِكُمْ. وهاتُوا اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ نَاوِلُوا، وهات مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [111] ، وَاسْتُعِيرَتِ الْمُنَاوَلَةُ لِلْإِظْهَارِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَلَمَّا عَلِمُوا عَجْزَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ بُرْهَانٍ لَهُمْ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ أَيْقَنُوا أَنَّ الْحَقَّ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ إِذْ كَانَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ إِذْ نَادَاهُمْ بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ فِي قَوْلِهِ هاتُوا بُرْهانَكُمْ. وَمَا كانُوا يَفْتَرُونَ يَشْمَلُ مَا كَانُوا يَكْذِبُونَهُ مِنَ الْمَزَاعِمِ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ مِنَ الْأَصْنَامِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. وَالضَّلَالُ: أَصْلُهُ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِعَدَمِ خُطُورِ الشَّيْءِ فِي الْبَالِ وَلِعَدَمِ حُضُورِهِ فِي الْمَحْضَرِ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِيهِ. وعَنْهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ ضَلَّ. وَالْمُرَادُ: ضَلَّ عَنْ عُقُولِهِمْ وَعَنْ مَقَامِهِمْ مُثِّلُوا بِالْمَقْصُودِ لِلسَّائِرِ فِي طَرِيق حِين يخطىء الطَّرِيقَ فَلَا يَبْلُغُ الْمَكَانَ الْمَقْصُودَ. وَعُلِّقَ بِالضَّلَالِ ضَمِيرُ ذَوَاتِهِمْ لِيَشْمَلَ ضَلَالَ الْأَمْرَيْنِ فَيُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً يُرَوِّجُونَ بِهَا زَعْمَهُمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ، وَلَمْ يَجِدُوا الْأَصْنَامَ حَاضِرَةً لِلشَّفَاعَةِ فِيهِمْ فَوَجِمُوا عَنِ الْجَوَابِ وَأَيْقَنُوا بِالْمُؤَاخَذَةِ

[سورة القصص (28) : الآيات 76 إلى 77]

[76، 77] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 76 الى 77] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. كَانَ مِنْ صُنُوفِ أَذَى أَيِمَّةِ الْكُفْرِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ دَوَاعِيَ تَصَلُّبِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ اعْتِزَازُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] أَيْ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ سَبَبُ الْعَظَمَةِ وَنَبْزِهِمُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: 35] وَقَوْلِهِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] الْآيَةَ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ بِأَسَانِيدَ: أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَادَتِهِمْ مِنْهُمْ عَتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ. قَالُوا: «أَيُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَكُونَ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ (يَعْنُونَ خَبَّابًا، وَبِلَالًا، وَعمَّارًا، وصهيبا) فَلَو طَرَدَ مُحَمَّدٌ عَنْهُ مَوَالِيَنَا وَعَبِيدَنَا كَانَ أَعْظَمَ لَهُ فِي صُدُورِنَا وَأَطْمَعَ لَهُ عِنْدَنَا وَأَرْجَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِنَا لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إِلَى قَوْله بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: 52، 53] . وَكَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: 60، 61] كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بِأَمْثَالِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَضَرَبَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِحَالِ تَعَاظُمِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ مَثَلًا بِحَالِ قَارُونَ مَعَ مُوسَى وَإِنَّ مَثَلَ قَارُونَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونُ مَثَلًا لِأَبِي لَهَبٍ وَلِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فِي قَرَابَتِهِمَا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَاهُمَا إِيَّاهُ، وَلِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ فِي أَذَاهُ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَغَيْرِهِ، وَلِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنَ التَّعَاظُمِ بِمَالِهِ وَذَوِيِهِ. قَالَ تَعَالَى ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً [المدثر: 11، 12] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. فَقَوْلُهُ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ قِصَّةٍ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِحَالِ بَعْضِ كُفَّارِ مَكَّةَ وَهُمْ سَادَتُهُمْ مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَلَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِجُمْلَةِ وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: 60، 61] .

وَلِهَذِهِ الْقِصَّةِ اتِّصَالٌ بِانْتِهَاءِ قِصَّةِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ الْمُنْتَهِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [الْقَصَص: 46] الْآيَةَ. وقارُونَ اسْمٌ مُعَرَبٌ أَصْلُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (قُورَحُ) بِضَمِّ الْقَافِ مُشْبَعَةً وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِ تَغْيِيرُ بَعْضِ حُرُوفِهِ لِلتَّخْفِيفِ، وَأُجْرِيَ وَزْنُهُ عَلَى مُتَعَارَفِ الْأَوْزَانِ الْعَرَبِيَّةِ مِثْلَ طَالُوتَ، وَجَالُوتَ، فَلَيْسَتْ حُرُوفُهُ حُرُوفُ اشْتِقَاقٍ مِنْ مَادَّةِ قَرَنَ. وَ (قُورَحُ هَذَا ابْنُ عَمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دِنْيَا) ، فَهُوَ قُورَحُ بْنُ يَصْهَارَ بْنِ قَهَاتِ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عِمْرَمَ الْمُسَمَّى عِمْرَانَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ابْنِ قَاهِتَ فَيَكُونُ يَصَاهَرُ أَخَا عِمْرَمَ، وَوَرَدَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ أَنَّ (قُورَحَ) هَذَا تَأَلَّبَ مَعَ بَعْضِ زُعَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ جَعَلَ اللَّهُ الْكِهَانَةَ فِي بَنِي هَارُونَ مِنْ سِبْطِ (لَاوِي) فَحَسَدَهُمْ قُورَحُ إِذْ كَانَ ابْنَ عَمِّهِمْ وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: مَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ إِنَّ الْجَمَاعَةَ مُقَدَّسَةٌ وَالرَّبَّ مَعَهَا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَى قُورَحَ وَأَتْبَاعِهِ وَخَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ وَذَهَبَتْ أَمْوَالُ (قُورَحَ) كُلُّهَا، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى أَبْوَابِ (أَرِيحَا) قَبْلَ فَتْحِهَا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَعْلَ (قُورَحَ) رَئِيسًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ وَأَنَّهُ جَمَعَ ثَرْوَةً عَظِيمَةً. وَمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ سَبَبَ نُشُوءِ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ لِمُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِالرِّسَالَةِ وَخَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ زَالَ تَأَمُّرُ قارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَحَقَدَ عَلَى مُوسَى. وَقَدْ أَكْثَرَ الْقُصَّاصُ مِنْ وَصْفِ بَذْخَةِ قَارُونَ وَعَظْمَتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ بُرْهَانٍ. وَتَلَقَّفَهُ الْمُفَسِّرُونَ حَاشَا ابْنَ عَطِيَّةَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ خَبَرِ إِنَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ وَهُوَ سُوءُ عَاقِبَةِ الَّذِينَ تَغُرُّهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَتَزْدَهِيهِمْ فَلَا يَكْتَرِثُونَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَيَسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ، وَيَكْفُرُونَ بِشَرَائِعِ اللَّهِ لِظُهُورِ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ قَارُونَ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ السَّامِعُ حَتَّى يُؤَكَّدَ لَهُ، فَمَصَبُّ التَّأْكِيدِ هُوَ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمُنْتَهِيَةِ بِالْخَسْفِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنَّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَمَنَاطِ الِاهْتِمَامِ هُوَ مَجْمُوعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ مِنَ الْعِبَرِ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَصَارَ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، فَأَمْرُهُ أَغْرَبُ مِنْ أَمَرِ فِرْعَوْنَ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِمَا فِي إِضَافَةِ قَوْمِ إِلَى مُوسى مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَ لِقَارُونَ اتِّصَالًا خَاصًّا بِمُوسَى فَهُوَ اتِّصَالُ الْقَرَابَةِ. وَجُمْلَةُ فَبَغى عَلَيْهِمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى وَجُمْلَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ، وَالْفَاءُ فِيهَا لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ، أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَطِرَ النِّعْمَةَ وَاجْتَرَأَ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ، لِلتَّعْجِيبِ مِنْ بَغْيِ أَحَدٍ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقَعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ وَالْبَغْيُ: الِاعْتِدَاءُ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاسْتِخْفَافُ بِحُقُوقِهَا، وَأَوَّلُ ذَلِكَ خَرْقُ شَرِيعَتِهَا. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسى تَمْهِيدٌ لِلْكِنَايَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ عَنْ إِرَادَةِ التَّنْظِيرِ بِمَا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَغْيِ بَعْضِ قَرَابَتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ. وَفِي قَوْلِهِ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ مَا يُسَمَّى النَّثْرُ الْمُتَّزِنُ، أَيِ النَّثْرُ الَّذِي يَجِيءُ بِمِيزَانِ بَعْضِ بُحُورِ الشِّعْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَاءَتْ عَلَى مِيزَانِ مِصْرَاعٍ مِنْ بَحْرِ الْخَفِيفِ، وَوَجْهُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَالَ الْبَلَاغِيَّ يَقْتَضِي التَّعْبِيرَ بِأَلْفَاظٍ وَتَرْكِيبٍ يَكُونُ مَجْمُوعُهُ فِي مِيزَانِ مِصْرَاعٍ مِنْ أَحَدِ بُحُورِ الشِّعْرِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ صِلَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ عِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ الَّذِينَ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ تَقَعَ إِنَّ فِي افْتِتَاحِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَمَنَعَ الْكُوفِيُّونَ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتُذِرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا مَا هُنَا بِأَنَّهَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ. وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مِفْتَحٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ آلَةُ الْفَتْحِ، وَيُسَمَّى الْمِفْتَاحُ أَيْضًا. وَجَمْعُهُ مَفَاتِيحُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

والْكُنُوزِ: جَمْعُ كَنْزٍ وَهُوَ مُخْتَزَنُ الْمَالِ مِنْ صُنْدُوقٍ أَوْ خِزَانَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [12] ، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ: بَدْرَةُ مَالٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يُجْعَلُ لِذَلِكَ الْمِقْدَارِ خِزَانَةٌ أَوْ صُنْدُوقٌ يَسَعُهُ وَلِكُلِّ صُنْدُوقٍ أَوْ خِزَانَةٍ مِفْتَاحُهُ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ «يَكْفِي الْكُوفَةَ مِفْتَاحٌ» أَيْ مِفْتَاحٌ وَاحِدٌ، أَيْ كَنْزٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَالِ لَهُ مِفْتَاحٌ، فَتَكُونُ كَثْرَةُ الْمَفَاتِيحِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الْخَزَائِنِ وَتِلْكَ كِنَايَةٌ عَنْ وَفْرَةِ الْمَالِ فَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ مِثْلَ: جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ (وَتَنُوءُ) : تَثْقُلُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْعُصْبَةِ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ أَنْ تَثْقُلَ مَعَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهَا فَهِيَ لِشِدَّةِ ثِقَلِهَا تَثْقُلُ مَعَ أَنَّ حَمَلَتَهَا عُصْبَةٌ أُولُو قُوَّةٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَاءُ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ وَلَا كَمِثَالِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : نَاءَ بِهِ الْحِمْلُ، إِذَا أَثْقَلَهُ الْحِمْلُ حَتَّى أَمَالَهُ. وَأَمَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّ تَرْكِيبَ الْآيَةِ فِيهِ قَلْبٌ، فَلَا يَقْبَلُهُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ. وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي مِقْدَارِهَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَانَ اكْتَسَبَ الْأَمْوَالَ فِي مِصْرَ وَخَرَجَ بِهَا. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. إِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ (بَغَى عَلَيْهِمْ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ الْقِصَّةُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ تَوْقِيتَ الْبَغْيِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مُتَعَلِّقًا بِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفًا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقَصَصِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ بَعْضُهُمْ إِمَّا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَوْعِظَةِ وَإِمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَوْمِ لِأَنَّ أَقْوَالَهُ قُدْوَةٌ لِلْقَوْمِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلَهُ.

وَالْفَرَحُ يُطْلَقُ عَلَى السُّرُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِحُوا بِها فِي يُونُسَ [22] . وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَطَرِ وَالِازْدِهَاءِ، وَهُوَ الْفَرَحُ الْمُفْرِطُ الْمَذْمُومُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] وَهُوَ التَّمَحُّضُ لِلْفَرَحِ. وَالْفَرَحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْمُفْرِطُ مِنْهُ، أَيِ الَّذِي تَمْحَضَّ للتعلق بمتاع الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ النَّفْسِ بِهِ لِأَنَّ الِانْكِبَابَ عَلَى ذَلِكَ يُمِيتُ مِنَ النَّفْسِ الِاهْتِمَامَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمُنَافَسَةِ لِاكْتِسَابِهَا فَيَنْحَدِرُ بِهِ التَّوَغُّلُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّذَّاتِ إِلَى حَضِيضِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، فَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَفْرَحْ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا مُعْرِضًا عَنِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْفَرَحَ إِذَا لَمْ يَعْلَقْ بِهِ شَيْءٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ سَجِيَّةَ الْمَوْصُوفِ فَصَارَ مُرَادًا بِهِ الْعُجْبُ وَالْبَطَرُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ تَعْضِيدًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، أَيِ الْمُفْرِطِينَ فِي الْفَرَحِ فَإِنَّ صِيغَةَ (فَعِلٍ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فَالْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْفَرَحِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا يُفْرَحُ بِهِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ غَيْرِهِ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ رَمْزًا إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجِدِّ وَالْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ. وَابْتِغَاءُ الدَّارِ الْآخِرَةِ طَلَبُهَا، أَيْ طَلَبُ نَعِيمِهَا وَثَوَابِهَا. وَعَلِقَ بِفِعْلِ الِابْتِغَاءِ قَوْلُهُ فِيما آتاكَ اللَّهُ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، أَيِ اطْلُبْ بِمُعْظَمِهِ وَأَكْثَرِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَغَلْغُلِ ابْتِغَاءِ الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي مَا آتَاهُ اللَّهُ وَمَا آتَاهُ هُوَ كُنُوزُ الْمَالِ، فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ [النِّسَاء: 5] أَيْ مِنْهَا وَمُعْظَمِهَا، وَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ أَيِ اطْلُبْ بِكُنُوزِكَ أَسْبَابَ حُصُولِ الثَّوَابِ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا أَوْجَبَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقُرْبَانِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ. وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَافَّتَيْنِ بِهَا، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.

وَالنَّهْيُ فِي وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ. وَالنِّسْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّرْكِ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا» ، أَيْ لَا نَلُومُكَ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا أَيِ الَّذِي لَا يَأْتِي عَلَى نَصِيبِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا احْتِرَاسٌ فِي الْمَوْعِظَةِ خَشْيَةَ نُفُورِ الْمَوْعُوظِ مِنْ مَوْعِظَةِ الْوَاعِظِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِقَارُونَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أَوْهَمُوا أَنْ يَتْرُكَ حُظُوظَ الدُّنْيَا فَلَا يَسْتَعْمِلَ مَالَهُ إِلَّا فِي الْقُرُبَاتِ، فَأُفِيدَ أَنَّ لَهُ اسْتِعْمَالَ بَعْضِهِ فِي مَا هُوَ مُتِمِحِّضٌ لِنَعِيمِ الدُّنْيَا إِذَا آتَى حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِ. فَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْقِسْطُ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ النَّصْبِ لِأَنَّ مَا يُعْطَى لِأَحَدٍ يُنَصِّبُ لَهُ وَيُمَيِّزُ، وَإِضَافَةُ النَّصِيبِ إِلَى ضَمِيرِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ وَأَنَّ لِلْمَرْءِ الِانْتِفَاعَ بِمَالِهِ فِي مَا يُلَائِمُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْقُرُبَاتِ وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا. قَالَ مَالِكٌ: فِي رَأْيِي مَعْنَى وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبُ الدُّنْيَا هُوَ الْحَلَالُ كُلُّهُ. وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثَالًا لِاسْتِعْمَالِ صِيغَةِ النَّهْيِ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا نَعِيمُهَا. فَالْمَعْنَى: نَصِيبَكَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ نَعِيمِ الدُّنْيَا. وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. الْإِحْسَانُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ ابْتِغَاءِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ هُنَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ. وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَحْسِنْ أَيْ إِحْسَانًا شَبِيهًا بِإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَمَعْنَى الشَّبَهِ: أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ مِنْ جِنْسِهَا. وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النُّحَاةِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْكَافِ كَافَ التَّعْلِيلِ، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّعْلِيلَ حَاصِلٌ مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَلَيْسَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ مَعَانِي الْكَافِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْإِحْسَانِ لِتَعْمِيمِ مَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ فَيَشْمَلُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ وَدَوَابَّهُ وَمَخْلُوقَاتِ اللَّهِ الدَّاخِلَةَ فِي دَائِرَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ

[سورة القصص (28) : آية 78]

اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» فَالْإِحْسَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْإِحْسَانُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ حَتَّى الْأَذَى الْمَأْذُونُ فِيهِ فَبِقَدَرِهِ وَيَكُونُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ. وَعَطْفُ لَا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ خَلْطِ الْإِحْسَانِ بِالْفَسَادِ فَإِنَّ الْفَسَادَ ضِدُّ الْإِحْسَانِ، فَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّدَتْ مَوَارِدُ الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ فَقَدْ يَغِيبُ عَنِ الذِّهْنِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَى شَيْءٍ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَشْيَاءَ يُعْتَبَرُ غَيْرَ إِحْسَانٍ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُهُمُ الَّتِي هُمْ حَالُّونَ بِهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَالْإِفْسَادُ فِيهَا إِفْسَادٌ مَظْرُوفٌ فِي عُمُومِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [205] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِعِبَادِهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ كَانَ قارُونَ مُوَحِّدًا عَلَى دِينِ إِسْرَائِيلَ وَلَكِنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي صِدْقِ مَوَاعِيدِ مُوسَى وَفِي تشريعاته. [78] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 78] قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) جَوَابٌ عَنْ مَوْعِظَةِ وَاعِظِيهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فَلَمْ يُعْطَفْ وَهُوَ جَوَابٌ مُتَصَلِّفٌ حَاوَلَ بِهِ إِفْحَامَهُمْ وَأَنْ يَقْطَعُوا مَوْعِظَتَهُمْ لِأَنَّهَا أَمَرَّتْ بَطَرَهُ وَازْدِهَاءَهُ. وإِنَّما هَذِهِ هِيَ أَدَاةُ الْحَصْرِ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الْكَافَّةِ مُصَيَّرَتَيْنِ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الَّتِي حَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَوْصُولَةَ النُّونِ بِمِيمِ (مَا) . وَالْمَعْنَى: مَا أُوتِيتُ هَذَا الْمَالَ إِلَّا عَلَى عِلْمٍ عَلِمْتُهُ. وَضَمِيرُ أُوتِيتُهُ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِمْ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [الْقَصَص: 77] . وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ كَلَامِ وَاعِظِيهِ.

وَ (عَلى عِلْمٍ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ وَالتَّحَقُّقِ، أَيْ مَا أُوتِيتُ الْمَالَ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ تَمَكُّنِي مِنْ عِلْمٍ رَاسِخٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ عِلْمَ أَحْكَامِ إِنْتَاجِ الْمَالِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَيْ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا تَعِظُونَنِي بِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ لَهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 76، 77] . وَقَدْ كَانَ قَارُونُ مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ بِالتَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ فَأَرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ قَطْعَ مَوْعِظَتَهُمْ نَظِيرَ جَوَابِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَشْدَقِ لِأَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ حِينَ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ سِتِّينَ فَجَعَلَ يُجَهِّزُ الْجُيُوشَ وَيَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِقِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ لَهُ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يحل لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمَ اكْتِسَابِ الْمَالِ مِنَ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، فَأَرَادَ بِجَوَابِهِ إِنْكَارَ قَوْلِهِمْ: آتَاكَ اللَّهُ صَلَفًا مِنْهُ وَطُغْيَانًا. وَقَوْلُهُ عِنْدِي صِفَةٌ لِ عِلْمٍ تَأْكِيدًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَشُهْرَتِهِ بِهِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَهُ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ الْآيَةَ، كَمَا سَتَعْرِفُهُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا تُسْفِرُ عَنْ أَشْكَالٍ أُخْرَى مِنْ تَرْكِيبِ نَظْمِ الْآيَةِ فِي مَحْمِلِ مَعْنَى عَلى وَمَحْمِلِ الْمُرَادِ مِنَ (الْعِلْمِ) وَمَحْمِلِ عِنْدِي فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا فَهِيَ مِنْكَ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ. وَقَوْلُهُ أَوَلَمْ يَعْلَمْ الْآيَةَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ.

[سورة القصص (28) : آية 79]

وَالْهَمْزَةُ فِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ تَعْجِيبًا مِنْ عَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ أُمَمًا عَلَى بَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ وَإِعْجَابِهِمْ لِقُوَّتِهِمْ وَنِسْيَانِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ تَعْجِيبًا مِنْ فَوَاتِ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ بَابِ «حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ» . وَعُطِفَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى جُمْلَةِ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ. وَالْقُوَّةُ: مَا بِهِ يُسْتَعَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّعْبَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِقُوَّةِ الْجِسْمِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا حَمْلَ الْأَثْقَالِ وَنَحْوِهَا قَالَ تَعَالَى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الْأَنْفَال: 60] . وَالْجَمْعُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: كَانَ أَشْيَاعُ قَارُونَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُؤَسَاءَ جَمَاعَاتٍ. وَجُمْلَة وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُ. وَالسُّؤَالُ الْمَنْفِيُّ السُّؤَالُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ سُؤَالَ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِقَابِهِمْ عَلَى إِجْرَامِهِمْ فَهِيَ كِنَايَةٌ بِوَسَائِطَ. وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُجْرِمِينَ لِيَكُونُوا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْ يُؤْخَذُوا بَغْتَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ لَا يُسْأَلُ الْمُجْرِمُ عَنْ جُرْمِهِ قَبْلَ عِقَابِهِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ بِحَدَّيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَمْهَلَ الْمُجْرِمَ فَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بَغْتَةً وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: 44] وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يفلته» . [79] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 79] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ [الْقَصَص: 76] إِلَى آخِرِهَا مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا، فَدَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مِنْ أَجْلِ

أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ وَلَمْ يَتَّعِظْ بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ وَلَا زَمَنًا قَصِيرًا بَلْ أَعْقَبَهَا بِخُرُوجِهِ هَذِهِ الْخِرْجَةَ الْمَلِيئَةَ صَلَفًا وَازْدِهَاءً. فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي فَخَرَجَ، أَيْ رَفَضَ الْمَوْعِظَةَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَتَعْدِيَةُ (خَرَجَ) بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى النُّزُولِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ خُرُوجٌ مُتَعَالٍ مُتَرَفِّعٌ، وفِي زِينَتِهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (خَرَجَ) . وَالزِّينَةُ: مَا بِهِ جَمَالُ الشَّيْءِ وَالتَّبَاهِي بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَالطِّيبِ وَالْمَرَاكِبِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فِي سُورَةِ النُّورِ [31] . وَإِنَّمَا فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الزِّينَةُ مِنْ أَنَّهَا مِمَّا يَتَمَنَّاهُ الرَّاغِبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الرَّفَاهِيَةِ وَعَلَى أَخْصَرِ وَجْهٍ لِأَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَهُمْ أَمْيَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَرَغَبَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فَكُلٌّ يَتَمَنَّى أُمْنِيَةً مِمَّا تَلَبَّسَ بِهِ قَارُونُ مِنَ الزِّينَةِ، فَحَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْإِخْبَارِ عَنِ انْقِسَامِ قَوْمِهِ إِلَى مُغْتَرِّينَ بِالزَّخَارِفِ الْعَاجِلَةِ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَإِلَى عُلَمَاءَ يُؤْثِرُونَ الْآجِلَ عَلَى الْعَاجِلِ، وَلَوْ عُطِفَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالْوَاو وبالفاء لَفَاتَتْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ الْبَلِيغَةُ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ إِمَّا خَبَرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، أَوْ جُزْءَ خَبَرٍ مِنْ قِصَّتِهِ. والَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا لما قوبلوا ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [الْقَصَص: 80] كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمْ عَامَّةَ النَّاسِ وَضُعَفَاءَ الْيَقِينِ الَّذِينَ تُلْهِيهِمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا عَمَّا يَكُونُ فِي مَطَاوِيهَا مِنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ فَتَقْصُرُ بَصَائِرُهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ إِذَا رَأَوْا زِينَةَ الدُّنْيَا فَيَتَلَهَّفُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَمَنَّوْنَ غَيْرَ حُصُولِهَا فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّ إِيمَانَهُمْ ضَعِيفٌ فَلِذَلِكَ عَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ مَا عَلَيْهِ قَارُونُ مِنَ الْبَذَخِ فَقَالُوا إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ إنَّهُ لَذُو بَخْتٍ وَسَعَادَةٍ. وَأَصْلُ الْحَظِّ: الْقِسْمُ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمَقْسُومُ لَهُ عِنْدَ الْعَطَاءِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا. وَالتَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَجُّبِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُنْكِرُ حَظَّهُ فَيُؤَكِّدُهُ الْمُتَكَلِّمُ

[سورة القصص (28) : آية 80]

[80] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 80] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الْقَصَص: 79] فَهِيَ مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي مَعْنَاهَا لِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ خِرْجَةُ قَارُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَلَامِحُهُ مِنْ فِتْنَةٍ بِبَهْرَجَتِهِ وَبِزَّتِهِ دَالَّةٌ عَلَى قِلَّةِ اعْتِدَادِهِ بِثَوَابِ اللَّهِ وَعَلَى تَمَحُّضِهِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى لَذَائِذِ الدُّنْيَا وَمَفَاخِرِهَا الْبَاطِلَةِ فَفِي كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِزَالَةٌ لِمَا تَسْتَجْلِبُهُ حَالَةُ قَارُونَ مِنْ نُفُوسِ الْمُبْتَلِينَ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا. وَ (وَيْلٌ) اسْمٌ لِلْهَلَاكِ وَسُوءِ الْحَالِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ (وَيْلٌ) فِي التَّعَجُّبِ الْمَشُوبِ بِالزَّجْرِ، فَلَيْسَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَاعِينَ بِالْوَيْلِ عَلَى الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِمَقَامِ الْمَوْعِظَةِ لِينُ الْخِطَابِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ عَلَى الِاتِّعَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ تَعَلُّقِ نُفُوسِ أُولَئِكَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاغْتِبَاطِهِمْ بِحَالِ قَارُونَ دُونَ اهْتِمَامٍ بِثَوَابِ اللَّهِ الَّذِي يَسْتَطِيعُونَ تَحْصِيلَهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ بِالدِّينِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَارُونَ غَيْرُ مُتَخَلِّقٍ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ الْمُضَافِ إِلَى أَوْسَعِ الْكُرَمَاءِ كَرَمًا مِمَّا تَسْتَشْرِفُ إِلَيْهِ النَّفْسُ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً دُونَ: خَيْرٌ لَكُمْ، لِمَا فِي الْإِظْهَارِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ إِنَّمَا يَنَالُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وَأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَوَفْرَةِ الْعَمَلِ، مَعَ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الشُّمُولِ لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَقَامَ. وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، أَمَرُوا الَّذِينَ فَتَنَهُمْ حَالُ قَارُونَ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِمَّا فِيهِ قَارُونُ.

[سورة القصص (28) : آية 81]

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَّمَ بِهَا عِبَادَهُ فَضِيلَةَ الصَّبْرِ. وَضَمِيرُ يُلَقَّاها عَائِدٌ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ يَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ، أَيِ الْخَصْلَةَ وَهِيَ ثَوَابُ اللَّهِ أَوِ السِّيرَةُ الْقَوِيمَةُ، وَهِيَ سِيرَةُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالتَّلْقِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ لَاقِيًا، أَيْ مُجْتَمِعًا مَعَ شَيْءٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [75] . وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، أَيْ لَا يُعْطِي تِلْكَ الْخَصْلَةَ أَوِ السِّيرَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَسِيلَةٌ لِنَوَالِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ لِاحْتِيَاجِ السَّعْيِ لَهَا إِلَى تَجَلُّدٍ لِمَا يَعْرِضُ فِي خِلَالِهِ مِنْ مَصَاعِبَ وَعَقَبَاتٍ كَأْدَاءٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْءُ مُتَخَلِّقًا بِالصَّبْرِ خَارَتْ عَزِيمَتُهُ فَتَرَكَ ذَاك لذاك. [81] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 81] فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى تعقيب سَاعَة خُرُوج قَارُونَ فِي ازْدِهَائِهِ وَمَا جَرَى فِيهَا مِنْ تَمَنِّي قَوْمٍ أَنْ يَكُونُوا مَثْلَهُ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ علماؤهم من غفلتهم عَنِ التَّنَافُسِ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ عِقَابِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَرْأًى مِنَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَثْلَهُ. وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ بَعْضِ ظَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى بَاطِنِهَا، وَعَكْسُهُ. يُقَالُ: خَسَفَتِ الْأَرْضُ وَخَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَانْخَسَفَتْ، فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَسْفُ بِقُوَّةِ الزِّلْزَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ فَخَسَفْنا بِهِ بَاءُ الْمُصَاحِبَةِ، أَيْ خَسَفْنَا الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لَهُ وَلِدَارِهِ، فَهُوَ وَدَارُهُ مَخْسُوفَانِ مَعَ الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [45] . وَهَذَا الْخَسْفُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ قَارُونَ وَمَنْ ظَاهَرَهُ، وَهُمَا رَجُلَانِ مِنْ سِبْطِ (رُوبِينَ) وَغَيْرَ دَارِ قَارُونَ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

[سورة القصص (28) : آية 82]

جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ أَنَّ قُورَحَ (وَهُوَ قَارُونُ) وَمَنْ مَعَهُ لَمَّا آذَوْا مُوسَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَّرَهُمْ مُوسَى بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مَزِيَّةَ خِدْمَةِ خَيْمَتِهِ وَلَكِنَّهُ أَعْطَى الْكِهَانَةَ بَنِي هَارُونَ وَلَمْ تُجْدِ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ غَضِبَ مُوسَى عَلَيْهِمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِأَنْ يَبْتَعِدُوا مِنْ حَوَالَيْ دَارِ قُورَحَ (قَارُونَ) وَخِيَامِ جَمَاعَتِهِ. وَقَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ هَؤُلَاءِ كَمَوْتِ عَامَّةِ النَّاسِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْنِي إِلَيْكُمْ وَإِنِ ابْتَدَعَ اللَّهُ بِدْعَةً فَفَتَحَتِ الْأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَكُلَّ مَالَهُمْ فَهَبَطُوا أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ ازْدَرَوْا بِالرَّبِّ. فَلَمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنْ كَلَامِهِ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَكُلَّ مَا كَانَ لَقُورَحَ مَعَ كُلِّ أَمْوَالِهِ وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنَ الْأَرْضِ أَهْلَكَتِ الْمِائَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ رَجُلًا. وَقَدْ كَانَ قَارُونُ مُعْتَزًّا عَلَى مُوسَى بِالطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ شَايَعَتْهُ عَلَى مُوسَى وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ رُؤَسَاءِ جَمَاعَةِ اللَّاوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَعَدَّهُمْ لِلنَّصْرِ عَلَى مُوسَى رَسُولِ اللَّهِ فَخُسِفَ بِهِمْ مَعَهُ وَهُوَ يَرَاهُمْ، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ كَمَا كَانَ يَحْسَبُ. يُقَالُ: انْتَصَرَ فُلَانٌ، إِذَا حَصَلَ لَهُ النَّصْرُ، أَيْ فَمَا نَصَرَهُ أَنْصَارُهُ وَلَا حَصَلَ لَهُ النَّصْر بِنَفسِهِ. [82] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 82] وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) أَصْبَحَ هُنَا بِمَعْنَى صَارَ. وَ (الْأَمْسُ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ زَمَنٍ مَضَى قَرِيبًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَ (مَكَانُ) مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْحَالَةِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا صَاحِبُهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْحَالَةِ أَيْضًا بِالْمَنْزِلَةِ. وَمَعْنَى يَقُولُونَ أَنَّهُمْ يَجْهَرُونَ بِذَلِكَ نَدَامَةً عَلَى مَا تَمَنَّوْهُ وَرُجُوعًا إِلَى التَّفْوِيضِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا يَخْتَارُهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَحُكِيَ مَضْمُونُ مَقَالَاتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ الْآيَةَ.

وَكَلِمَةُ وَيْكَأَنَّ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ مركبة من ثَلَاث كَلِمَاتٍ: (وَيْ) وَكَافُ الْخِطَابِ وَ (أَنَّ) . فَأَمَّا (وَيْ) فَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: أَعْجَبُ، وَأَمَّا الْكَافُ فَهِيَ لِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ مِثْلَ الْكَافِ اللَّاحِقَةِ لِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، وَأَمَّا (أَنَّ) فَهِيَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ هُوَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَيُقَدَّرُ لَهَا حَرْفُ جَرٍّ مُلْتَزَمٌ حَذْفُهُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَكَانَ حَذْفُهُ مَعَ (أَنَّ) جَائِزًا فَصَارَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ وَاجِبًا وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ اللَّامُ أَوْ (مِنْ) فَالتَّقْدِيرُ: أَعْجَبُ يَا هَذَا مِنْ بَسْطِ اللَّهِ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ. وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ تُسْتَعْمَلُ بِدُونِ الْأُخْرَى فَيُقَالُ: وَيْ بِمَعْنَى أَعْجَبُ، وَيُقَالُ (وَيْكَ) بِمَعْنَاهُ أَيْضًا قَالَ عَنْتَرَةُ: وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الْفَوَارِسُ وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ وَيُقَالُ: وَيْكَأَنَّ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَوْ نَبِيهِ بْنِ الْحَجَّاجِ السَّهْمِيِّ: وَيْكَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ فَخَفَّفَ (أَنَّ) وَكَتَبُوهَا مُتَّصِلَةً لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى الْأَلْسُنِ كَذَلِكَ فِي كَثِيرِ الْكَلَامِ فَلَمْ يَتَحَقَّقُوا أَصْلَ تَرْكِيبِهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ (وَيْكَ) مَفْصُولَةً عَنْ (أَنْ) وَقَدْ وَجَدُوهَا مَكْتُوبَةً مَفْصُولَةً فِي بَيْتِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَذَهَبَ الْخَلِيلُ وَيُونُسُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْجَوْهَرِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ (وَيْ) وَ (كَأَنَّ) الَّتِي لِلتَّشْبِيهِ. وَالْمَعْنَى: التَّعَجُّبُ مِنَ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَالتَّشْبِيهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الظَّنِّ وَالْيَقِينِ. وَالْمَعْنَى: أَمَا تَعْجَبُ كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ. وَذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيُّ وَاللَّيْثُ وَثَعْلَبُ وَنَسَبَهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى الْكُوفِيِّينَ (وَأَبُو عَمْرٍو بَصَرِيٌّ) أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ كَلِمَةِ (وَيْلٌ) وَكَافِ الْخِطَابِ وَفِعْلُ (اعْلَمْ) وَ (أَنَّ) . وَأَصْلُهُ: وَيْلَكَ اعْلَمْ أَنَّهُ كَذَا، فَحَذَفَ لَامَ الْوَيْلِ وَحَذَفَ فِعْلَ (اعْلَمْ) فَصَارَ (وَيْكَأَنَّهُ) . وَكِتَابَتُهَا مُتَّصِلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَمْزًا لِمَجْمُوعِ كَلِمَاتِهِ فَكَانَتْ مِثْلَ النَّحْتِ.

وَلِاخْتِلَافِ هَذِهِ التَّقَادِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْفِ فَالْجُمْهُورُ يَقِفُونَ عَلَى وَيْكَأَنَّهُ بِتَمَامِهِ وَالْبَعْضُ يَقِفُ عَلَى (وَيْ) وَالْبَعْضُ يَقِفُ عَلَى (وَيْكَ) . وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَنْزِلَةَ قَارُونَ نَدِمُوا عَلَى تَمَنِّيهِمْ لَمَّا رَأَوْا سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَامْتَلَكَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ وَمِنْ خَفِيِّ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَعَلِمُوا وُجُوبَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَ لِلنَّاسِ مِنَ الرِّزْقِ فَخَاطَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ وَأَعْلَنُوهُ. وَالْبَسْطُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي السَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ. ويَقْدِرُ مُضَارِعُ قَدَرَ الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ بِمَعْنَى: أَعْدَى بِمِقْدَارٍ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْقِلَّةِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَسْتَلْزِمُ قِلَّةَ الْمُقَدَّرِ لِعُسْرِ تَقْدِيرِ الشَّيْءِ الْكَثِيرِ قَالَ تَعَالَى وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتاها [الطَّلَاق: 7] . وَفَائِدَةُ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ مِنْ عِبادِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ فِي بَسْطَةِ الْأَرْزَاقِ وَقَدْرِهَا مُتَصَرِّفٌ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ إِذِ الْمَبْسُوطُ لَهُمْ وَالْمَقْدُورُ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ فَحَقُّهُمُ الرِّضَى بِمَا قَسَمَ لَهُمْ مَوْلَاهُمْ. وَمَعْنَى لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فَحَفِظَنَا مِنْ رِزْقٍ كَرِزْقِ قَارُونَ لَخَسَفَ بِنَا، أَيْ لَكُنَّا طَغَيْنَا مِثْلَ طُغْيَانِ قَارُونَ فَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ، أَوْ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ شِيعَةِ قَارُونَ لَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ وَبِصَاحِبَيْهِ، أَوْ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِثَبَاتِ الْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَخَسَفَ بِنا عَلَى بِنَاءِ فِعْلِ «خُسِفَ» لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالسِّينِ، أَيْ لَخَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِنَا. وَجُمْلَةُ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ تَكْرِير للتعجيب، أَيْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ قَارُونَ هُوَ كُفْرُهُ برَسُول الله.

[سورة القصص (28) : آية 83]

[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 83] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) انتهب قِصَّةُ قَارُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأُعْقِبَتْ بِاسْتِئْنَافِ كَلَامٍ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ وَضِدِّهِ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ وَأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلَّذِينَ حَالُهُمْ بِضِدِّ حَالِ قَارُونَ، مَعَ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْجَنَّةِ بِعُنْوَانِ الدَّارِ لِذِكْرِ الْخَسْفِ بِدَارِ قَارُونَ لِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ دَارٍ زَائِلَةٍ وَدَارٍ خَالِدَةٍ. وَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِابْتِدَاءٍ مُشَوِّقٍ وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مِنْ قَبْلُ لِيَسْتَشْرِفَ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَيَعْقُبَهُ بَيَانُهُ بِالِاسْمِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ الْوَاقِعِ بَيَانًا أَوْ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَول عُبَيْدَة بْنِ الْأَبْرَصِ: تِلْكَ عِرْسِي غَضْبَى تُرِيدُ زِيَالِي ... أَلِبَيْنٍ تُرِيدُ أَمْ لِدَلَالِ.. الْأَبْيَاتِ. وَجُمْلَةُ نَجْعَلُها هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَكَافُ الْخِطَابِ الَّذِي فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ مُوَجَّهٌ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ تَبْلِيغُهُ إِلَى الْأُمَّةِ شَأْنَ جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ. والدَّارُ: مَحَلُّ السُّكْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي الْأَنْعَامِ [127] . وَأَمَّا إِطْلَاقُ الدَّارِ عَلَى جَهَنَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيم: 28] فَهُوَ تَهَكُّمٌ كَقَوْلِ أَبِي الْغُولِ الطُّهَوِيِّ: وَلَا يَرْعَوْنَ أَكْنَافَ الْهُوَيْنَا ... إِذَا نَزَلُوا وَلَا رَوْضَ الْهُدُونِ فَاسْتِعْمَالُ الرَّوْضِ لِلْهُدُونِ تَهَكُّمٌ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَعْرِيضٍ. والْآخِرَةُ: مُرَادٌ بِهِ الدَّائِمَةُ، أَيِ الَّتِي لَا دَارَ بَعْدَهَا، فَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ وَكِنَايَتِهِ. وَمَعْنَى جَعْلِهَا لَهُمْ أَنَّهَا مُحْضَرَةٌ لِأَجْلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهَا. وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَلَهُمْ أَحْوَالٌ ذَاتُ مَرَاتِبَ أَفْصَحَتْ عَنْهَا آيَاتٌ أُخْرَى وَأَخْبَارٌ نَبَوِيَّةٌ فَإِنَّ أَحْكَامَ الدِّينِ لَا يُقْتَصَرُ فِي اسْتِنْبَاطِهَا عَلَى لَوْكِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

[سورة القصص (28) : آية 84]

وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَتِ الْأَمَانِيُّ هَاهُنَا، أَيْ أَمَانِيُّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَالَ قَائِلُهُمْ: كُنْ مُسْلِمًا وَمِنَ الذُّنُوبِ فَلَا تَخَفْ ... حَاشَا الْمُهَيْمِنَ أَنْ يُرِي تَنْكِيدَا لَوْ شَاءَ أَنْ يُصْلِيَكَ نَارَ جَهَنَّمٍ ... مَا كَانَ أَلْهَمَ قَلْبَكَ التَّوْحِيدَا وَمَعْنَى لَا يُرِيدُونَ كِنَايَةٌ عَنْ: لَا يَفْعَلُونَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ الْفِعْلَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مُكْرَهًا. وَهَذَا مِنْ بَابِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [5] . وَالْعُلُوُّ: التَّكَبُّرُ عَنِ الْحَقِّ وَعَلَى الْخَلْقِ، وَالطُّغْيَانُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ مَذْمُومٍ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لَدَى أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ. وَقَوْلُهُ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تَذْيِيلٌ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ الدَّارُ وَبِهِ صَارَتْ جُمْلَةُ تِلْكَ الدَّارُ كُلُّهَا تَذْيِيلًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكَمِ لِلْعَامِّ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ. والْعاقِبَةُ: وَصْفٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ لِكَثْرَةِ الْوَصْفِ بِهِ وَهِيَ الْحَالَةُ الْآخِرَةُ بَعْدَ حَالَةٍ سَابِقَةٍ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى عَاقِبَةِ الْخَيْرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي أول الْأَنْعَام [11] . [84] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 84] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84) تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: 83] لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ ذَاتُ أَحْوَالٍ مِنَ الْخَيْرِ وَدَرَجَاتٍ مِنَ النَّعِيمِ وَهِيَ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ بِهِ الْمُتَّقُونَ من الْحَسَنَات فتفاوت دَرَجَاتُهُمْ بِتَفَاوُتِهَا. وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ جاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ حَضَرَ بِالْحَسَنَةِ

[سورة القصص (28) : آية 85]

وَمَنْ حَضَرَ بِالسَّيِّئَةِ يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَى الْحِسَابِ. فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخَاتِمَةِ الْأَمْرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَافَاةِ. وَأَمَّا اخْتِيَارُ فِعْلِ عَمِلُوا فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُمْ هُوَ عِلَّةُ جَزَائِهِمْ زِيَادَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ تَحْتَوِي عَلَى خَيْرٍ لَا مَحَالَةَ يَصِلُ إِلَى نَفْسِ الْمُحْسِنِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ فَلِلْجَائِي بِالْحَسَنَةِ خَيْرٌ أَفْضَلُ مِمَّا فِي حَسَنَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ فَلَهُ مِنَ اللَّهِ إِحْسَانٌ عَلَيْهَا خَيْرٌ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي فِي الْحَسَنَةِ قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: 160] أَيْ فَلَهُ مِنَ الْجَزَاءِ حَسَنَاتٌ أَمْثَالُهَا وَهُوَ تَقْدِيرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَلَمَّا ذُكِرَ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ أُعْقِبَ بِضِدِّ ذَلِك مَعَ مُقَابَلَةُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُحْسِنِ بِعَدْلِهِ مَعَ الْمُسِيءِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَرْنِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ. ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ مَا صَدَقُهُ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ الثَّانِي هُوَ عَيْنُ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَوْنَ إِلَخْ وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي التَّصْرِيحِ بِوَصْفِهِمْ بِ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ تَكْرِيرًا لِإِسْنَادِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ إِلَيْهِمْ لِقَصْدِ تَهْجِينِ هَذَا الْعَمَلِ الذَّمِيمِ وَتَبْغِيضِ السَّيِّئَةِ إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي قَوْلِهِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ عَنْ فِعْلِ يُجْزَى الْمَنْفِيِّ الْمُفِيدِ بِالنَّفْيِ عُمُومَ أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ، وَالْمُسْتَثْنَى تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ جَزَاءُ شَبَهِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ. وَالْمُرَادُ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي عُرْفِ الدِّينِ، أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَجَارِيًا عَلَى مِقْدَارِهِ لَا حَيْفَ فِيهِ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى الْعلم الإلهي. [85] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 85] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتِ فُؤَادِهِ وَوَعْدِهِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّ إِنْكَارَ أَهْلِ الضَّلَالِ رِسَالَتَهُ لَا يَضِيرُهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَنَّهُ عَلَى

هُدًى وَأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لِذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَالَيِ الرَّسُولَيْنِ وَمَا لَقِيَاهُ مِنَ الْمُعْرِضِينِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ دُونَ اسْمِهِ تَعَالَى الْعَلَمِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَأَنَّهُ خَبَرُ الْكَرَامَةِ وَالتَّأْيِيدِ أَيْ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاكَ الْقُرْآنَ مَا كَانَ إِلَّا مُقَدِّرًا نَصْرَكَ وَكَرَامَتَكَ لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُعْطَى. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ اخْتَارَهُ لَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَضَ لَهُ كَذَا، إِذَا عَيَّنَ لَهُ فَرْضًا، أَيْ نَصِيبًا. وَلَمَّا ضُمِّنَ فَرَضَ مَعْنَى (أَنْزَلَ) لِأَنَّ فَرْضَ الْقُرْآنِ هُوَ إِنْزَالُهُ، عُدِّيَ فَرَضَ بِحَرْفِ (عَلَى) . وَالرَّدُّ: إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى حَالِهِ أَوْ مَكَانِهِ. وَالْمَعَادُ: اسْمُ مَكَانِ الْعَوْدِ، أَيِ الْأَوْلِ كَمَا يَقْتَضِيهُ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي مَعادٍ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهُ مَقَامُ الْوَعْدِ وَالْبِشَارَةِ، وَمَوْقِعُهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (¬1) [الْقَصَص: 84] ، أَيْ إِلَى مَعَادٍ أَيِّ مَعَادٍ. وَالْمَعَادُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى آخِرِ أَحْوَالِ الشَّيْءِ وَقَرَارِهِ الَّذِي لَا انْتِقَالَ مِنْهُ تَشْبِيهًا بِالْمَكَانِ الْعَائِدِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَدَرَ مِنْهُ أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْأَخَارَةِ فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدِ اشْتَهَرَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالْمَعَادِ لِأَنَّهُ مَعَادُ الْكُلِّ اه. أَيْ فَأَبْشِرْ بِمَا تَلْقَى فِي مَعَادِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا كَرَامَةٌ وَالَّتِي لَا تُعْطَى لِأَحَدٍ غَيْرِكَ. فَتَنْكِيرُ مَعادٍ أَفَادَ أَنَّهُ عَظِيمُ الشَّأْنِ، وَتَرَتُّبُهُ عَلَى الصِّلَةِ أَفَادَ أَنَّهُ لَا يُعْطَى لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَى أَحَدٍ مِثْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَعَادِ مَعْنَاهُ الْمَشْهُودُ الْقَرِيبُ مِنَ الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ إِنْ غَابَ عَنْهُ، فيراد بِهِ هُنَا بَلَدُهُ الَّذِي كَانَ بِهِ وَهُوَ مَكَّةُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُ ثُمَّ عَوْدِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الرَّدَّ يَسْتَلْزِمُ الْمُفَارَقَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ السُّورَةُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (عشر أَمْثَالهَا) .

مَكِّيَّةً وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ فَالْوَعْدُ بِالرَّدِّ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ فِي النَّوْمِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ ابْن نَوْفَلَ: يَا لَيْتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، فَمَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِيَغِيبَ عَنْ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْجُحْفَةِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَوُعِدَ بِالرَّدِّ عَلَيْهَا وَهُوَ دُخُولُهُ إِلَيْهَا فَاتِحًا لَهَا وَمُتَمَكِّنًا مِنْهَا. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْمَعَادِ بِذَلِكَ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. ثُمَّ تَكُونُ جُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ التَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، أَيْ رَادُّكَ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ فَمُظْهِرٌ الْمُهْتَدِيَ وَالضَّالِّينَ، فَيَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ بِالْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ مُكَنًّى بِهِ عَنِ اتِّضَاحِ الْأَمْرِ بِلَا رَيْبٍ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْتَرِيهِ تَلْبِيسٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الْكِنَايَةُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ الضَّالُّونَ. وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُهْتَدِي. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَبَّرَ عَنْ جَانِبِ الْمُهْتَدِي بِفِعْلِ مَنْ جاءَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهَدْيٍ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا مِنْ قَبْلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ: جَاءَ بِكَذَا. وَعَبَّرَ عَنْ جَانِبِ الضَّالِّينَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ ثَبَاتَ الضَّلَالِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الضَّلَالَ هُوَ أَمْرُهُمُ الْقَدِيمُ الرَّاسِخُ فِيهِمْ مَعَ مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنِ انْغِمَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] لِظُهُورِ أَنَّ الْمُبَلِّغَ لِهَذَا الْكَلَامِ لَا يُفْرَضُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشِّقَّ الضَّالَّ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الضَّالَّ مَنْ خَالَفَهُ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ الْمُجَادَلَةِ. فَالْمَعْنَى: عُدْ عَنْ إِثْبَاتِ هُدَاكَ وَضَلَالِهِمْ وَكِلْهُمْ إِلَى يَوْمِ رَدِّكَ إِلَى مَعَادِكَ يَوْمِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَكَ وَخَذَلَهُمْ. وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَجُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ.

[سورة القصص (28) : الآيات 86 إلى 87]

وَفِي تَقْدِيمِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى إِعْدَادٌ لِصَلَاحِيَةِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورِينَ. فَهَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ بِمَوَاقِعِهِ وَتَرْتِيبِ نِظَامِهِ وَتَقْدِيمِ الْجُمَلِ عَنْ مَوَاضِعِ تَأْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ الْمَعَانِي. [86، 87] [سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 86 الى 87] وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَص: 85] إِلْخَ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ أَوْ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ، أَيْ كَمَا حَمَّلَكَ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَّامَةً عَلَى أَنَّهُ أَعَدَّ لَكَ الْجَزَاءَ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. كَذَلِكَ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاكَ الْكِتَابَ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْكَ بَلْ بِمَحْضِ رَحْمَةِ رَبِّكَ، أَيْ هُوَ كَذَلِكَ فِي أَنَّهُ عَلَامَةٌ لَكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ نَصْرَكَ عَلَى أَعْدَائِكَ فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَكَ لِذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ أَعَدَّ لَكَ نَصْرًا مُبِينًا وَثَوَابًا جَزِيلًا. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَالَةِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُصَرَّحٍ بِهِ بَلْ عَلَى مَعْنًى تَعْرِيضِيٍّ بِدَلَالَةِ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ. وَإِلْقَاءُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَحْيُهُ بِهِ إِلَيْهِ. أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْإِلْقَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [86، 87] . وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَامِرْ نَفْسَهُ رَجَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِهِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَاصْطِفَاءٍ لَهُ. فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَص: 85] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَمَا تَخَلَّلَ

بَيْنَهُمَا مِمَّا اقْتَضَى جَمِيعُهُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَظُهُورِ أَمْرِهِ وَفَوْزِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ جَاءَ مِنَ اللَّهِ إِلَى قَوْمٍ هُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَأَنَّ الَّذِي رَحِمَهُ فَآتَاهُ الْكِتَابَ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْهُ لَا يَجْعَلُ أَمْرَهُ سُدًى فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِ مِنْ أَدْنَى مُظَاهَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ لَمَّا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَكَانَ سِيَاقُ النَّهْيِ مِثْلَ سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ أَخُو النَّفْيِ فِي سَائِرِ تَصَارِيفِ الْكَلَامِ كَانَ وُقُوعُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي سِيَاقِهِ مُفِيدًا تَعْمِيمَ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ كَوْنٍ مِنْ أَكْوَانِ الْمُظَاهَرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ. وَالْمُظَاهَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ، وَهِيَ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا النُّصْرَةُ وَأَدْنَاهَا الْمُصَانَعَةُ وَالتَّسَامُحُ، لِأَنَّ فِي الْمُصَانَعَةِ عَلَى الْمَرْغُوبِ إِعَانَةً لِرَاغِبِهِ. فَلَمَّا شَمِلَ النَّهْيُ جَمِيعَ أَكْوَانِ الْمُظَاهَرَةِ لَهُمُ اقْتَضَى النَّهْيُ عَنْ مُصَانَعَتِهِمْ وَالتَّسَامُحِ مَعَهُمْ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّ الْمُظَاهَرَةِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرِ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ كَصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] . وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسب كَون هَذِه الْآيَاتِ آخَرَ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَ مُتَارَكَتِهِ الْمُشْرِكِينَ وَمُغَادَرَتِهِ الْبَلَدَ الَّذِي يَعْمُرُونَهُ. وَقِيلَ النَّهْيُ لِلتَّهْيِيجِ لِإِثَارَةِ غَضَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَاعِي شِدَّتِهِ مَعَهُمْ. وَوَجْهُ تَأْوِيلِ النَّهْيِ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ عَنْ بَعْضِ ظَاهِرِهِ هُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا يُفْرَضُ وُقُوعُهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَنْهَى عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً على أَنه مؤوّل. وَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَيْهِ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ مَا فِيهِ صَدٌّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كَنَّوْا بِهِ عَنْ: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. فَيَعْرِفَ الْمُتَكَلِّمُ النَّاهِي فِعْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْكَافِرِينَ فِي شَيْء من شؤون الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُحَاوِلُونَ صَرْفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] . وَقِيلَ هُوَ لِلتَّهْيِيجِ أَيْضًا، وَتَأْوِيلُ هَذَا النَّهْيِ آكَدُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ فِي لَا يَصُدُّنَّكَ نَهْيَ صِرْفَةٍ كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ

[سورة القصص (28) : آية 88]

فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [الْبَقَرَة: 243] أَمْرَ تَكْوِينٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِرَسُولِهِ صَرْفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ إِذْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَيَسَّرَهَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَعْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لتعليل النَّهْي أَيَّامًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ مَا أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِهَا وَدَوَامِ تِلَاوَتِهَا، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْهَا لَذَهَبَ إِنْزَالُهَا إِلَيْكَ بُطْلًا وَعَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ [الْبَقَرَة: 213] . وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى إِيجَادِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ، أَيْ لَا يَصْرِفُكَ إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِعَادَةِ دَعْوَتِهِمْ إِعْذَارًا لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَكْمَلِ مِنْ أَنْوَاعِهِ، أَيْ أَنَّكَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ تَشْغِيبَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ كَانَ يُرَنِّقُ صَفَاءَ تَفَرُّغِهِ لِلدَّعْوَةِ. وَجَمِيعُ هَذِهِ النَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ حُمِلَتْ مِنَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ كَانَ النَّهْي مؤوّلا يُمَثِّلُ مَا أَوَّلُوا بِهِ النَّهْيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أَنَّهُ لِلتَّهْيِيجِ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسلمُونَ. [88] [سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 88] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) هَذَا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْطَالُ الشِّرْكِ وَإِظْهَارُ ضَلَالِ أَهْلِهِ إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِإِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَقْضِي

بِبُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَلَوْ أَضْعَفَ إِشْرَاكٍ، فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وَجُمْلَةُ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِلنَّهْيِ لِأَنَّ هَلَاكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا الْأَصْنَامُ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مَعَ اللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَنَافِي الْهَلَاكَ وَهُوَ الْعَدَمُ. وَالْوَجْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَعْنَى: كُلُّ مَوْجُودٍ هَالِكٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَالْهَلَاكُ: الزَّوَالُ وَالِانْعِدَامُ. وَجُمْلَةُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَذْيِيلٌ فَلِذَلِكَ كَانَتْ مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَالْمَحْصُورُ فِيهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَتَمُّ، أَيِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ. وَالرُّجُوعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: آخِرِ الْكَوْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ الِانْصِرَافُ إِلَى مَكَانٍ قَدْ فَارَقَهُ فَاسْتُعْمِلَ فِي مَصِيرِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ شُبِّهَ بِرُجُوعِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالْخُلُودُ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْهُ طُولُ الْإِقَامَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِ (إِلَى) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَفَوُا الرُّجُوعَ مِنْ أَصْلِهِ وَلَمْ يَقُولُوا بِالشَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِلتَّخْصِيصِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تعدد هَذِه الْجُمْلَة إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مَدْلُولُ جُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْقِدَمِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى جِنْسُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِدْهُ غَيْرُهُ فَثَبَتَ لَهُ الْقِدَمُ الْأَزَلِيُّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاقٍ لَا يَعْتَرِيهِ الْعَدَمُ لِاسْتِحَالَةِ عَدَمِ الْقَدِيمِ، وَذَلِكَ مَدْلُولُ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ فِي أَفْعَالِهِ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَفِي كُلِّ هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَوَّزُوا شَرِكَتَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَتَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ بِالشَّفَاعَةِ وَالْغَوْثِ. ثُمَّ أَبْطَلَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ بِقَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

29- سورة العنكبوت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 29- سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ اشْتَهَرَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِسُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا تَسْمِيَة سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة الْعَنْكَبُوتِ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمَا، أَيْ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: 95] يَعْنِي الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهَذَا وَمِثْلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَوَجْهُ إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا اخْتُصَّتْ بِذِكْرِ مَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَمَدَنِيَّةٌّ كُلُّهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، وَقِيلَ بَعْضُهَا مَدَنِيٌّ. رَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا (أَيْ إِلَى قَوْلِهِ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 3] نَزَلَتَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ حَتَّى يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَرَدُّوهُمْ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: 10، 11] نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ وَذَكَرَ قَرِيبًا مِمَّا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ عَنْ مُقَاتِلٍ: نَزَلَتِ الْآيَتَانِ الْأُولَيَانِ فِي مِهْجَعٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَرَجَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَدْرٍ فَرَمَاهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ مِنَ

أغراض هذه السورة

الْمُشْرِكِينَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَجَزِعَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَامْرَأَتُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ . وَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [العنكبوت: 10] نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا إِذَا مَسَّهُمْ أَذًى مِنَ الْكُفَّارِ وَافَقُوهُمْ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَأَظْهَرُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِهَا. وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَيُضَمُّ إِلَى مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الْمَكِّيِّ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت: 60] لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ بِالْمُهَاجَرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالُوا كَيْفَ نَقْدَمُ بَلَدًا لَيْسَتْ لَنَا فِيهِ مَعِيشَةٌ فَنَزَلَتْ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت: 60] . وَقِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَهُوَ يُنَاكِدُ بِظَاهِرِهِ جَعْلَهُمْ هَذِهِ السُّورَةَ نَازِلَةً قَبْلَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ. وَسُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ آخِرُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ كُلُّهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَنْزِلُ فِيهَا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ ثُمَّ تَمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ السُّورَة الْخَامِسَة والثامنون فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الرُّومِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ سُورَةِ الرُّومِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَنْكَبُوتَ نَزَلَتْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ إِحْدَى قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَتَكُونُ مِنْ أُخْرَيَاتِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا بِمَكَّةَ إِلَّا سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ. وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَسِتُّونَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَدَدِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مِنْ أَغْرَاضِهَا تَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَجِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا حَدَثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ هُنَا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] . فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ أَغْرَاضِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 1]

هَذِهِ السُّورَةِ تَثْبِيتُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَصَدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعَ مَنْ هَاجَرُوا. وَوَعْدُ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَذْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنْصَارِهِمْ وَمُلَقِّنِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْأَمْرُ بِمُجَافَاةِ الْمُشْركين والابتعاد مِنْهُم وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَ الْقَرَابَةِ. وَوُجُوبُ صَبْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ لَهُمْ فِي سَعَةِ الْأَرْضِ مَا يُنْجِيهِمْ مِنْ أَذَى أَهْلِ الشِّرْكِ. وَمُجَادَلَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَا عَدَا الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّأَسِّي فِي ذَلِكَ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي جَاءَتْهَا الرُّسُلُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِمثل مَا جاؤوا بِهِ. وَمَا تَخَلَّلَ أَخْبَارَ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْعِبَرِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِدَلِيلِ أُمِّيَّةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيُقْلِعُوا عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. وَإِلْزَامُهُمْ بِإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الْأَرْضِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ بِالنَّظَرِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَتَوَعُّدُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ يَتَهَكَّمُونَ بِاسْتِعْجَالِهِ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِاتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِمَثَلٍ وَهِيَ بَيْتُ العنكبوت. [1] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 2]

الم (1) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعَانِي أَمْثَالِهَا مُسْتَوْفًى عِنْدَ مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّهَجِّيَ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّعْجِيزُ يَأْتِي فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَقَعَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ أَوِ الْكِتَابِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبَ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مَا عَدَا ثَلَاثَ سُوَرٍ وَهِيَ فَاتِحَةُ سُورَةِ مَرْيَمَ وَفَاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ وَفَاتِحَةُ سُورَةِ الرُّومِ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَمْ تَخْلُ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] . [2] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 2] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) الِاسْتِفْهَامُ فِي أَحَسِبَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ إِنْكَارِ حُسْبَانِ ذَلِكَ. وَحسب بِمَعْنَى ظَنَّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [214] . وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُلُّ الَّذِينَ آمَنُوا، فَالْقَوْلُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْمَقُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ أَحَسِبَ النَّاسُ وُقُوعَ تَرَكِهِمْ لِأَنْ يَقُولُوا آمَنَّا، فَقَوْلُهُ أَنْ يُتْرَكُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ حَسِبَ. وَقَوْلُهُ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا شِبْهُ جُمْلَةٍ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ مَجْرُورٌ بِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفٌ مَعَ (أَنْ) حَذْفًا مُطَّرِدًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَحَسِبَ النَّاسُ تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا، فَإِنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ وَإِنَّمَا تَتَعَدَّى إِلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَعَانِي وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُهَا وَاحِدًا دَالًّا عَلَى حَالَةٍ، وَلَكِنْ جَرَى اسْتِعْمَالُ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهَا اسْمَ ذَاتٍ مَفْعُولًا، ثُمَّ يَجْعَلُوا مَا يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ لِلذَّاتِ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَفْعُولَيْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ (أَيِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ) أَصْلُهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَالتَّرْكُ: عَدَمُ تَعَهُّدِ الشَّيْءِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ بِهِ. وَالتَّرْكُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ كَانُوا مُخَالِطِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَمِنْ زُمْرَتِهِمْ، فَلَمَّا آمَنُوا اخْتَصُّوا بِأَنْفُسِهِمْ وَخَالَفُوا أَحْوَالَ قَوْمِهِمْ وَذَلِكَ مَظِنَّةُ أَنْ يَتْرُكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَشَأْنَهُمْ، فَلَمَّا أَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا مُنَازَعَتَهُمْ طَمَعًا فِي إِقْلَاعِهِمْ عَنِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 3]

الْإِيمَانِ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْمُبَاغَتَةِ وَالتَّعَجُّبِ، وَتَقَدَّمَ التَّرْكُ الْمَجَازِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ أَوَائِلَ الْبَقَرَةِ [17] . وأَنْ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الَّذِي هُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ حَالٌ، أَي لَا يحسبوا أَنَّهُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ إِذَا آمَنُوا. وَالْفِتَنُ وَالْفُتُونُ: فَسَادُ حَالِ النَّاسِ بِالْعُدْوَانِ وَالْأَذَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِينَ. وَالِاسْمُ: الْفِتْنَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَبِنَاءُ فِعْلَيْ يُتْرَكُوا ... ويُفْتَنُونَ لِلْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ أَنَّ الْفَاعِلَ قَوْمٌ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَنْ يُتْرَكُوا خَالِينَ عَنْ فُتُونِ الْكَافِرِينَ إِيَّاهُمْ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ قُبَيْلَ نُزُولِهَا، وَلِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دَأْبِ النَّاسِ أَنْ يُنَاصِبُوا الْعَدَاءَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَمَنْ تَرَفَّعَ عَنْ رَذَائِلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَحَسِبَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ دُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ. وَمَنْ فَسَّرُوا الْفُتُونَ هُنَا بِمَا شَمِلَ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ مِثْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْ مَهْيَعِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَنَاكَدُوا مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 3] . وَإِنَّمَا لَمْ نُقَدِّرْ فَاعِلَ يُتْرَكُوا ويُفْتَنُونَ أَنَّهُ الله تَعَالَى تحاشا مَعَ التَّشَابُهِ مَعَ وُجُودِ مَنْدُوحَةٍ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مَرَاتِبُ أَعْظَمُهَا التَّعْذِيبُ كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسر وأبويه. [3] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 3] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) انْتِقَالٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْفُتُونِ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي سَالِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَعْظَمُوا مَا نَالَهُمْ

مِنَ الْفِتْنَةِ من الْمُشْركين واستبطأوا النَّصْرَ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَذُهُولِهِمْ عَنْ سُنَّةِ الْكَوْنِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُ الدَّهْمَاءَ فِي ضَلَالِهِمْ وَيَتَجَافَى عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَرَذَالَتِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ تَلْحَقَهُ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّنَنُ مِنْ آثَارِ مَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ عُقُولَ غَالِبِ الْبَشَرِ وَتَفْكِيرَهُمْ غَيْرَ الْمَعْصُومِ بِالدَّلَائِلِ وَكَانَ حَاصِلًا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كُلِّهَا أَسْنَدَ فُتُونَ تِلْكَ الْأُمَمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهُ خَالِقُ أَسْبَابِهِ كَمَا خَلَقَ أَسْبَابَ الْعِصْمَةِ مِنْهُ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْعِصْمَةِ مِنْ مِثْلِهِ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ تِلْكَ الْفِتَنِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا قَادِرٌ عَلَى صَرْفِهَا بِأَسْبَابٍ تُضَادُّهَا. وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ دُعَاءُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [88] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَخْلُقَ ضِدَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي غَرَّتْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَغَشِيَتْ عَلَى قَلْبِهِ بِالضَّلَالِ. وَالْمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِمَا لَحِقَ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ كَمَا لَقِيَ صَالِحُو النَّصَارَى مِنْ مُشْرِكِي الرُّومَانِ فِي عُصُورِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ قَصَّ الْقُرْآنُ بَعْضَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ. وَحُكْمُهَا سَارٍ فِي حَالِ كُلِّ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْحَقِّ بَيْنَ قَوْمٍ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ نُكْرَانَ الْحَقِّ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. وَالْوَاوُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: 2] ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ قَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا. فَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَ تِلْكَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً. وَإِسْنَادُ فِعْلِ فَتَنَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذِهِ الْفُتُونِ بِأَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] ، أَيْ يُفْتَنُونَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا مِنْهُمْ وَالْكَاذِبِينَ. وَالْمُفَرَّعُ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ الْحَاصِلُ فِي

الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَوْكِيدُ فِعْلِ الْعِلْمِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الَّتِي لَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا. وَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْمَعْلُومِ شَبِيهٌ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِصِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ هُنَا ثَبَاتُ الشَّيْءِ وَرُسُوخُهُ، وَبِالْكَذِبِ ارْتِفَاعُهُ وَتَزَلْزُلُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قَالُوا آمَنَّا [العنكبوت: 2] لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتَقَدَ عَقِيدَةَ الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، فَإِذَا لَحِقَهُمُ الْفُتُونُ مِنْ أَجْلِ دُخُولِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتْرُكِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فَقَدْ تَبَيَّنَ رُسُوخُ إِيمَانِهِ وَرِبَاطَةُ عَزْمِهِ فَكَانَ إِيمَانُهُ حَقًّا وَصِدْقًا، وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ خَوْفَ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اسْتَبَانَ مِنْ حَالِهِ عَدَمُ رُسُوخِ إِيمَانِهِ وَتَزَلْزُلُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كَاذِبٍ وَقَوْلِ الْأَعْشَى فِي ضِدِّهِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ: جُمَالِيَّةٍ تَغْتَلِي بِالرِّدَا ... فِ إِذَا كَذَّبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [2] . وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ صَادِقًا عِنْدَ الْفُتُونِ وَمَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ كَاذِبًا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَقَرِّرًا فِي الْأَزَلِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْفُتُونُ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ فِعْلِ فَلَيَعْلَمَنَّ بِمَعْنَى: فَلَيَعْلَمَنَّ بِكَذِبِ إِيمَانِهِمْ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِحُصُولِ أَمْرٍ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِثْبَاتِ تَعَلُّقَيْنِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ، وَالْآخَرُ تَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ. وَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفٍ حَادِثٍ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الصِّفَةِ تَحَقُّقُ مُقْتَضَاهَا فِي الْخَارِجِ لَا فِي ذَاتِ مَوْصُوفِهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، وَقَوْلِهِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فِي آلِ عِمْرَانَ [140] . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْعِلْمَ هُنَا مُكَنًّى بِهِ عَنْ وَعْدِ الصَّادِقِينَ وَوَعِيدِ الْكَاذِبِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ سَبَبٌ لِلْجَزَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ فَكَانَتِ الْكِنَايَةُ مَقْصُودَةً وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَهَمُّ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 4]

وَقَدْ عَدَلَ فِي قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ التَّكَلُّمِ إِلَى طَرِيقِ الْغَيْبَةِ بِإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ لِمَا فِي هَذَا الْإِظْهَارِ مِنَ الْجَلَالَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ جَزَاءُ مَالِكِ الْمُلْكِ. وَتَعْرِيفُ الْمُتَّصِفِينَ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِحِدْثَانِ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَأَنَّ صِدْقَهُمْ مُحَقَّقٌ. وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْمُتَّصِفِينَ بِالْكَذِبِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَبِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَلِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ عُهِدُوا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَمَيَّزُوا بِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ وَالرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا إِلَى قَوْلِهِ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 1- 3] فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ إِذْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي الله، أَي وَأَمْثَالِهِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ مِمَّنْ كَانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُمُ اللَّهَ بِالنَّجَاةِ لَهُمْ وَلِلْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ. [4] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 4] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) أُعْقِبَ تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ فُتُونِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِزَجْرِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْظَمُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فُتُونُهُمُ الْمُسْلِمِينَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ الْفَاتِنُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا وَوَعِيدُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُفْلِتُهُمْ. وَفِي هَذَا أَيْضًا زِيَادَةُ تَثْبِيتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. فَ أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَيُقَدَّرُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيُّ. والسَّيِّئاتِ: الْأَعْمَالُ السُّوءُ. وَهِيَ التَّنْكِيلُ وَالتَّعْذِيبُ وَفُتُونُ الْمُسْلِمِينَ. وَالسَّبْقُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي النَّجَاةِ وَالِانْفِلَاتِ كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:

[سورة العنكبوت (29) : آية 5]

كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ [الْوَاقِعَة: 60، 61] وَقَوْلِهِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 39، 40] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [59] . وَالْمَعْنَى: أَمْ حَسِبُوا أَنْ قَدْ شَفَوْا غَيْظَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ بِذَلِكَ غَلَبُوا أَوْلِيَاءَنَا فَغَلَبُونَا. وَجُمْلَةُ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ ذَمٌّ لِحُسْبَانِهِمْ ذَلِكَ وَإِبْطَالٌ لَهُ. فَهِيَ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ فِي جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَلَهَا حُكْمُ التَّوْكِيدِ فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُسْبَانُ وَاقِعًا مِنْهُمْ. وَمَعْنَى وُقُوعِهِ: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا مَا يُسَاوِي هَذَا الْحُسْبَانَ لِأَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُؤْمِنُونَ رد فتنتهم قَدِ اغْتَرُّوا بِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ دُونَ الْأَصْنَامِ فَمَنْ غَلَبَهُمْ فَقَدْ حَسِبَ أَنَّهُ غَلَبَ مَنْ يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذَا الْحُسْبَانِ، فَافْهَمْهُ. وَالْحُكْمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ تَهَكُّمًا بِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ الَّذِي يَحْكُمُ فَيُطَاعُ وَمَا يَحْكُمُونَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ، أَيْ سَاءَ الْحُكْمُ الَّذِي يَحْكُمُونَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْذِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ فِي اقْتِرَافِ السَّيِّئَاتِ اسْتِخْفَافًا بِوَعِيدِ اللَّهِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ يَأْخُذُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مُشَابَهَةِ حُسْبَانِ الِانْفِلَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ لَا يَظُنُّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْوَعِيدِ حِينَ يقترف السَّيئَة. [5] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 5] مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) هَذَا مَسُوقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ، فَالْجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ التَّصْرِيحَ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: 4] مِنَ الْوَعْدِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ

مُبَيِّنَةٌ لَهَا وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ. وَلَوْلَا هَذَا الْوَقْعُ لَكَانَ حَقُّ الْإِخْبَارِ بِهَا أَنْ يَجِيءَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَرَجَاءُ لِقَاءِ اللَّهِ: ظَنُّ وُقُوعِ الْحُضُورِ لِحِسَابِ اللَّهِ. ولِقاءَ اللَّهِ: الْحَشْرُ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَلَقَّوْنَ خِطَابَ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمْ، لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، مُبَاشَرَةً بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 46] وَقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وأَجَلَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَيَكُونُ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ لَآتٍ فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ كَمَا فِي إِضَافَةِ أَجَلَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخْلَفُ. وَالْمَقْصُودُ الِاهْتِمَامُ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَجَلَ اللَّهِ الْأَجَلَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَانْتِهَاءِ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِ مَسَاعِيرِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَهُمْ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ وَذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَثْبِيتًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنُونَ النَّصْرَ لِلْخَلَاصِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَعْبُدُوا اللَّهَ لَا يَفْتِنُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ إِيقَانًا يَنْبَعِثُ مِنْ تَصْدِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِهِ فَإِنَّ تَصْدِيقَكُمْ بِمَجِيءِ النَّصْرِ أَجْدَرُ لِأَنَّهُ وَعَدَكُمْ بِهِ، فَ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجُعِلَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِعْلَ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ على تمكن هَذ الرَّجَاءِ مِنْ فَاعِلِ فِعْلِ الشَّرْطِ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِيَلْتَئِمَ الرَّبْطُ بَيْنَ مَدْلُولِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَمَدْلُولِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَلَّ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِذْ يُفْضِي إِلَى مَعْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ غَيْرُ آتٍ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي مَجَارِي الْكَلَامِ فَلَزِمَ تَقْدِيرُ شَيْءٍ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ اللَّهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِقَصْدِ تَحْقِيقِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَنْزِيلًا لِاسْتِبْطَائِهِ مَنْزِلَةَ التَّرَدُّدِ لِقَصْدِ إِذْكَاءِ يَقِينِهِمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ وَلَا يُوهِنُهُمْ طُولُ الْمُدَّةِ الَّذِي يُضَخِّمُهُ الِانْتِظَارُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ التَّذْيِيلِ بِوَصْفَيِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ دُونَ غَيْرِهِمَا من الصِّفَات العلى لِلْإِيمَاءِ بِوَصْفِ السَّمِيعُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِعَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 6]

مَقَالَةَ بَعْضِهِمْ مِنَ الدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ النَّصْرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 214] . وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ» . وَالْإِيمَاءُ بِوَصْفِ الْعَلِيمُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنِ اسْتِعْجَالِ النَّصْرِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَجَلَ اللَّهِ الْمَوْتَ لَمَا كَانَ وَجْهٌ لِلْإِعْلَامِ بِإِتْيَانِهِ بَلْهَ تَأْكِيدَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْثَ لَكَانَ قَوْلُهُ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ كَافِيًا، فَهَذَا وَجْهُ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَاتُ بِالْمَنْطُوقِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْعُدُولُ بِهَا عَنْ هَذَا الْمَهْيَعِ وَإِلَى مَا فِي «الْكَشَّافِ» وَ «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» أَخْذًا مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ تَحْوِيلٌ لَهَا عَنْ مجْراهَا وَصرف كلمة الرَّجَاءِ عَنْ مَعْنَاهَا وَتَفْكِيكٌ لِنَظْمِ الْكَلَامِ عَنْ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بَعْضُهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي جُمْلَةِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ مَعَ كَوْنِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارَ لِتَقَدُّمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ مُعَادُ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُعَادَ إِلَى مَنْ إِذِ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِأَجَلٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ وَقْتُ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29، 30] . وَعَبَّرَ بِفِعْلِ الرَّجَاءِ عَنْ تَرَقُّبِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مِمَّنْ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ الْبَعْثَ لِمَا يَأْمُلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ فِيهِ. قَالَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ احْتِضَارِهِ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ بَعْضِ الْأَشْعَرِيِّينَ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ ... مُحَمَّدًا وَصَحبه [6] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 6] وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) أَيْ وَمَنْ جَاهَدَ مِمَّنْ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ، فَلَيْسَتِ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، وَلَيْسَ مَنْ

جاهَدَ بِقَسِيمٍ لِمَنْ كَانُوا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ بَلِ الْجِهَادُ مِنْ عَوَارِضِ مَنْ كَانُوا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ. وَالْجِهَادُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ جَهَدَ كَمَنَعَ، إِذَا جَدَّ فِي عَمَلِهِ وَتَكَلَّفَ فِيهِ تَعَبًا، وَلِذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي نَصْرِ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشَاقِّ وَالْأَذَى اللَّاحِقَةِ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَنَبْذِ دِينِ الشِّرْكِ حَيْثُ تَصَدَّى الْمُشْرِكُونَ لِأَذَاهُمْ. فَإِطْلَاقُ الْجِهَادِ هُنَا هُوَ مِثْلُ إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي [العنكبوت: 8] ، وَمِثْلُ إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَفَلَ من إِحْدَى غزاوته «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» . وَهَذَا الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جِهَادُ الْقِتَالِ فِي مَكَّةَ. وَمَعْنَى فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ أَنَّ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْمَشَاقِّ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لِيَتَأَتَّى لَهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ يَنْجُو مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْجِهَادِ الْمَعْنَى الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ قِتَالُ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ، وَيَكُونُ ذكره هُنَا لإعداد نُفُوسِ الْمُسلمين لما سيلجأون إِلَيْهِ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرُّوا إِلَيْهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الْفَتْح: 16] ومناسبة التَّعَرُّض لَهُ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت: 5] تَضَمَّنَ تَرَقُّبًا لِوَعْدِ نَصْرِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ جِهَادٍ شَدِيدٍ وَهُوَ مَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمَعْنَى فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ يُدَافِعُ صَدَّ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ دِفَاعًا عَنْ دِينِ اللَّهِ فَهُوَ أَيْضًا بِهِ نَصْرُهُمْ وَسَلَامَةُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَسَاسُ سُلْطَانِهِمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ

[سورة العنكبوت (29) : آية 7]

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: 55] . وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ شَيْبَانَ التَّمِيمِيُّ: وَنُقَاتِلُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا ... وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرْ وَالْأَوْفَقُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمِلَانِ مُرَادَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) هُوَ قَصْرُ الْجِهَادِ عَلَى الْكَوْنِ لِنَفْسِ الْمُجَاهِدِ، أَيِ الصَّالِحِ نَفْسِهِ إِذِ الْعِلَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ بَلْ بِأَحْوَالِهَا، أَيْ جِهَادٍ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لَا لِنَفْعٍ يَنْجَرُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ بِأَدَاةٍ (إِنَّمَا) قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ- حِينَ يُجَاهِدُونَ الْجِهَادَ بِمَعْنَيَيْهِ- مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُنْجَرَّةِ إِلَى أَنْفُسِ الْمُجَاهِدِينَ وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الرَّدُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقَصْرِ بِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ من الْجِهَاد نَافِعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ نَفْعَهُ لِلْأُمَّةِ. فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا هُوَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَتَقَدَّمَ غير مرّة. [7] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 7] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: 4] لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا مَا هُوَ وَعْدٌ وَبِشَارَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ مَا أَفْضَى إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْوَعْدِ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: 6] فَإِنَّ مَضْمُونَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ يُفِيدُ بَيَانَ كَوْنِ جِهَادِ مَنْ جَاهَدَ لِنَفْسِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: 6 وَسُلِكَ بِهَا طَرِيقُ الْعَطْفِ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْجَزَاءِ الْحَسَنِ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 إلى 9]

هُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِنُكْتَةِ هَذَا الْإِيمَاءِ. فَالْجَزَاءُ فَضْلٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تَبِعَةَ الْعِصْيَانِ فَأَمَّا الْجَزَاءُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ الْمَوْلَى، وَغُفْرَانُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِأَنْ يُؤَاخَذُوا بِمَا عَمِلُوهُ وَبِأَنَّ إِقْلَاعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَقْتَضِي التَّجَاوُزَ عَنِ الْمَاضِي لَكِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْفَضْلِ. وَانْتَصَبَ أَحْسَنَ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ فِعْلِ لَنَجْزِيَنَّهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ جَزَاءً أَحْسَنَ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ عِظَمِ الْجَزَاءِ كُلِّهِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ عَنْ جَمِيعِ صَالِحَاتِهِمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ صَالِحَاتِهِمْ. وَشَمِلَ هَذَا مَنْ يَكُونُونَ مُشْرِكِينَ فَيُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِه الْآيَة. [8- 9] [سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 8 إِلَى 9] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) لَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنُ فَاذَّةً مِنْ أَحْوَالِ عَلَائِقِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَيَّنَ وَاجِبَهُمْ فِيهَا الْمُنَاسِبَ لِإِيمَانِهِمْ، وَمِنْ أَشَدِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ عَلَاقَةُ النَّسَبِ فَالنَّسَبُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُؤْمِنِ يَسْتَدْعِي الْإِحْسَانَ وَطِيبَ الْمُعَاشَرَةِ وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَسْتَدْعِي الْمُنَاوَاةَ وَالْمُغَاضَبَةَ وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ وَمُشْفِقِينَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَسَاسِ دِينِهِمْ فَهُمْ يُلْحِقُونَ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ لِيُقْلِعُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مُعَامَلَةِ أَنْسِبَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْهَا نَسَبَ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ نَسَبٍ فَيَكُونُ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ الَّذِي يُشْرَعُ لَهُ. وَحَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضِيَّتَانِ دَعَتَا إِلَى تَفْصِيلِ هَذَا الْحُكْمِ. رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ

أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ أَسْلَمَ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ يَا سَعْدُ بَلَغَنِي أَنَّك صَبَأت، فو الله لَا يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ، وَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَشَكَا سَعْدٌ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدَارِيَهَا وَيَتَرَضَّاهَا بِالْإِحْسَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ وَهَاجَرَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ وَكَانَا أَخَوَيْ عَيَّاشٍ لِأُمِّهِ فَنَزَلَا بِعَيَّاشٍ وَقَالَا لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ تَرَكْتَ أُمَّكَ وَأَقْسَمَتْ أَنْ لَا تَطْعَمَ وَلَا تَشْرَبَ وَلَا تَأْوِي بَيْتًا حَتَّى تَرَاكَ وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لَكَ مِنْهَا لَنَا، فَاخْرُجْ مَعَنَا. فَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ: هُمَا يَخْدَعَانِكَ، فَلَمْ يَزَالَا بِهِ حَتَّى عَصَى نَصِيحَةَ عُمَرَ وَخَرَجَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَيْدَاءِ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّ نَاقَتِي كَلَّتْ فَاحْمِلْنِي مَعَكَ. قَالَ عَيَّاشٌ: نَعَمْ، وَنَزَلَ لِيُوَطِّئَ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي جَهْلٍ. فَأَخَذَاهُ وَشَدَّاهُ وِثَاقًا وَذَهَبَا بِهِ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ لَهُ: لَا تَزَالُ بِعَذَابٍ حَتَّى تَرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَوْثَقَتْهُ عِنْدَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا افْتُتِحَتْ بِ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً لِأَنَّهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْمَقْصُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوِصَايَةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ لَا تَقْتَضِي طَاعَتَهُمَا فِي السُّوءِ وَنَحْوِهِ لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» (¬1) . وَلِقَصْدِ تَقْرِيرِ حُكْمِ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِعِصْيَانِهِمَا إِذَا أَمَرَا بِالشِّرْكِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: أَلَيْسَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ الْبَرُّ بِالْوَالِدَيْنِ وَنَحْوِهِ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْجَدَلِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: 10، 11] فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ ¬

(¬1) رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم بِهَذَا اللَّفْظ. وَمَعْنَاهُ ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِلَفْظ أطول.

الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ إِلْغَاءِ أَمْرِهِمَا بِمَا لَا يَرْجِعُ إِلَى شَأْنِهِمَا. وَالتَّوْصِيَةُ: كَالْإِيصَاءِ، يُقَالُ: أَوْصَى وَوَصَّى، وَهِيَ أَمْرٌ بِفِعْلِ شَيْءٍ فِي مَغِيبِ الْآمِرِ بِهِ فَفِي الْإِيصَاءِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: 180] وَقَوله وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ فِي الْبَقَرَةِ [132] . وَفِعْلُ الْوِصَايَةِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْبَاءِ، تَقُولُ: أَوْصَى بِأَبْنَائِهِ إِلَى فُلَانٍ، عَلَى معنى أوصى بشؤونهم، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْبَاءِ أَيْضًا وَهُوَ الأَصْل مثل وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: 132] . فَإِذَا جُمع بَيْنَ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَالْمُوصى بِهِ تَقول: أوصى بِهِ خيرا وَأَصله: أوصى بِهِ بِخَير لَهُ فَكَانَ أصل التَّرْكِيب بدل اشْتِمَال، وَغَلَبَ حَذْفُ الْبَاءِ مِنَ الْبَدَلِ اكْتِفَاءً بِوُجُودِهَا فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً تَقْدِيرُهُ: وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ بِحُسْنٍ، بِنَزْعِ الْخَافِضِ. وَالْحُسْنُ: اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ بِإِحْسَانٍ. وَالْجُمْلَةُ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَصَّيْنَا وَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَالْمُجَاهَدَةُ: الْإِفْرَاطُ فِي بَذْلِ الْجُهْدِ فِي الْعَمَلِ، أَيْ أَلَحَّا لِأَجْلِ أَنْ تُشْرِكَ بِي. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْعِلْمُ الْحَقُّ الْمُسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنْ تُشْرِكَ بِي أَشْيَاءَ لَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: 46] ، أَيْ عِلْمٌ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، أَيْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ [30] كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ (¬1) . وَجُمْلَةُ: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَمَّا آذَنَتْ بِفَظَاعَةِ أَمْرِ الشِّرْكِ وَحَذَّرَتْ مِنْ طَاعَةِ الْمَرْءِ وَالِدَيْهِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (من شَيْء) .

[سورة العنكبوت (29) : آية 10]

سُؤَالًا فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ أَنَّهُمْ هَلْ يُعَامِلُونَ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِسَاءَةِ لِأَجْلِ إِشْرَاكِهِمَا فَأُنْبِئُوا أَنَّ عِقَابَهُمَا عَلَى الشِّرْكِ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يُجَازِي الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ. وَالْمَرْجِعُ: الْبَعْثُ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفِيِّهَا، أَيْ مَا يُخْفُونَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يُكِنُّونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَفِي قَوْلِهِ فَأُنَبِّئُكُمْ كِنَايَتَانِ: أُولَاهُمَا إِيمَاءٌ، وَثَانِيَتُهُمَا تَلْوِيحٌ، أَيْ فَأُجَازِيكُمْ ثَوَابًا عَلَى عِصْيَانِهِمَا فِيمَا يَأْمُرَانِ، وَأُجَازِيهِمَا عَذَابًا عَلَى إِشْرَاكِهِمَا. فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ تَصْرِيحٌ بِبَعْضِ مَا أَفَادَتْهُ الْكِنَايَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، اهْتِمَامًا بِجَانِبِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى شَرَفِ هَذَا الْجَزَاءِ بِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّالِحِينَ الْكَامِلِينَ كَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاء: 69] أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ سُلَيْمَانَ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النَّمْل: 19] . وَمِنْ لَطِيفِ مُنَاسَبَةِ هَذَا الظَّرْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا أُمِرَ بِعِصْيَانِ وَالِدَيْهِ إِذَا أَمَرَاهُ بِالشِّرْكِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ جَفَاءً وَتَفْرِقَةً فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءً عَنْ وَحْشَةِ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ أُنْسًا بِجَعْلِهِ فِي عِدَادِ الصَّالِحِينَ يأنس بهم. [10] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) هَذَا فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ كَانَ حَالُهُمْ فِي عَلَاقَاتِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ حَالَ مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى فَإِذَا لَحِقَهُمْ أَذًى رَجَعُوا إِلَى الشِّرْكِ بِقُلُوبِهِمْ وَكَتَمُوا ذَلِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانُوا مُنَافِقِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَارِثَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبَا قَيْسٍ بْنَ الْوَلِيدِ ابْن الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنَ

مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ. فَهَؤُلَاءِ اسْتَنْزَلَهُمُ الشَّيْطَانُ فَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ بِقُلُوبِهِمْ لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَكَانَ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْأَذَى سَبَبًا لِارْتِدَادِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ مَعَهم. وَلَعَلَّ هَذَا التَّظَاهُرَ كَانَ بِتَمَالُؤٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَرَضُوا مِنْهُمْ بِأَنْ يَخْتَلِطُوا بِالْمُسْلِمِينَ لِيَأْتُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: فَعَدَّهُمُ اللَّهُ مُنَافِقِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَرْسَخْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مُعَذَّبُونَ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: 11] إِلَى أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النَّحْل: 106] ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْفَرِيقِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: 106] . فَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَاتِ أَوَاخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ اخْتِلَافٌ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ سُكُوتِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ ذِكْرِهِمُ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ آيَاتِ سُورَةِ النَّحْلِ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ أُوذِيَ فِي اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ، أَيْ أُوذِيَ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِ مَا دَعَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ يُرِيدُ جَعْلَهَا مُسَاوِيَةً لِعَذَابِ اللَّهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى أَصْلِ التَّشْبِيهِ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَقَدُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ: أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّشْبِيهِ فَتَوَقَّوْا فِتْنَةَ النَّاسِ وَأَهْمَلُوا جَانِبَ عَذَابِ اللَّهِ فَلَمْ يَكْتَرِثُوا بِهِ إِعْمَالًا لِمَا هُوَ عَاجِلٌ وَنَبْذًا لِلْآجِلِ وَكَانَ الْأَحَقُّ بِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَذَابَ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ أَذَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا نَبَذُوا اعْتِقَادَ الْبَعْثِ تَبَعًا لِنَبْذِهِمُ الْإِيمَانَ، فَمَعْنَى الْجَعْلِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَعَذَابِ اللَّهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ. فَالْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ كَعَذابِ اللَّهِ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الذَّمِّ وَالِاسْتِحْمَاقِ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الذَّمُّ مُتَفَاوِتًا.

وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نِيَّتَهِمْ فِي إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ بِأَخَارَةٍ فَيَجِدُونَ أَنَفْسَهُمْ مُتَعَرِّضِينَ لِفَوَائِدِ ذَلِكَ النَّصْرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِقُرْبِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ أَمْرُهُ فِي ازْدِيَادٍ. وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَحْقِيقَ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ. فَفِيهِ وَعْدٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاصِرُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَائِلُونَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ حَصَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ ذَلِكَ مِنْ كَانَ حَيًّا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَهُوَ قَوْلٌ يُرِيدُونَ بِهِ نَيْلَ رُتْبَةِ السَّابِقِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَسُهَيْلَ ابْن عَمْرٍو، وَجَمَاعَةً مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى بَابِ عُمَرَ يَنْتَظِرُونَ الْإِذْنَ لَهُمْ، وَكَانَ عَلَى الْبَابِ بِلَالٌ وَسَلْمَانُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَخَرَجَ إِذْنُ عُمَرَ أَنْ يَدْخُلَ سَلْمَانُ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ فَتَمَعَّرَتْ وُجُوهُ الْبَقِيَّةِ فَقَالَ لَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: «لَمْ تَتَمَعَّرْ وُجُوهُكُمْ، دُعُوا وَدُعِينَا فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأَنَا وَلَئِنْ حَسَدْتُمُوهُمْ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ» . وَقَوْلُهُ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَقَوْلَهُمْ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، لأَنهم قَالُوا قَوْلهم ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنْ يَرُوجَ كَذِبُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مُتَضَمِّنًا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلَيْهِمُ الْمَذْكُورَيْنِ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ إِسْمَاعِهِمْ هَذَا الْخِطَابَ فَإِنَّهُمْ يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ النَّبِيءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَمِعُونَ مَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يُتْلَى مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهِ، فَيَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا وَجَّهَ اللَّهُ بِهِ الْخِطَابَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ التَّقْرِيرِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ إِنْبَائِهِ بِأَحْوَالِ الْمُلْتَبِسِينَ بِالنِّفَاقِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ شَائِعٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَكَثِيرًا مَا يَلْتَبِسُ بِالْإِنْكَارِيِّ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا الْمَقَامُ، أَيْ فَلَا تُصَدِّقْ مَقَالَهُمْ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 11]

وَالتَّفْضِيلُ فِي قَوْلِهِ بِأَعْلَمَ مُرَاعًى فِيهِ عِلْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ مَا فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ أُوتُوا فِرَاسَةً وَصِدْقَ نَظَرٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اسْمَ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَيْ أَلَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافية. [11] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 11] وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) خُصَّ بِالذِّكْرِ فَرِيقَانِ هُمَا مِمَّنْ شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْله الْعالَمِينَ [العنكبوت: 10] اهْتِمَامًا بِهَاذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَحَالَيْهِمَا: فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَفَرِيقُ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْفَرِيقَيْنِ من إِيمَان وَنِفَاقٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمُنَاسِبُ لِحَالَيْهِمَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَذَلِكَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ. وَوَجْهُ تَأْكِيدِ كِلَا الْفِعْلَيْنِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ رَدُّ اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ رَسُولَهُ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ هُوَ ثَانِيهُمَا أَعْنِي قَوْلَهُ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ وَتَنْصِيصٌ عَلَى عَدَمِ الْتِبَاسِ الْإِيمَانِ الْمَكْذُوبِ بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ. وَفِي هَذَا أَيْضًا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ مُجَازَاةُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ هَاذَيْنِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ نُونُ التَّوْكِيدِ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْخَبَرُ الْمُثْبَتُ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ إِمَّا لِأَنَّ الْعِلْمَ مُكَنًّى بِهِ عَنْ لَازِمِهُ وَهُوَ مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ وَالْمُجَازَاةُ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ عِلْمٌ بِمُسْتَقْبَلٍ وَهُوَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَ يَجِيءُ النَّصْرُ، فَلَعَلَّ مَنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ يَوْمَ النَّصْرِ وَيَبْقَى قَوْمٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَوَّلِينَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ وَعَنِ الْآخَرِينَ بِطَرِيقِ اللَّامِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنِ اشْتِهَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْفِعْلُ الْمَاضِي مِنْ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَسَابِقِيَّتِهِ، وَمَا يُؤْذِنُ بِهِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 12]

التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ مِنْ كَوْنِهِمْ عَهِدُوا بِالنِّفَاقِ وَطَرَيَانِهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَفِيهِ تَعْرِيفٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ ورعاية الفاصلة. [12] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 12] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) هَذَا غَرَضٌ آخَرُ مِنْ أَغْرَاضِ مُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمُحَاوَلَاتِ فِتْنَةٍ بِالشَّكِّ وَالْمُغَالَطَةِ لِلَّذِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فِتْنَتِهِمْ بِالْأَذَى وَالْعَذَابِ: إِمَّا لِعِزَّتِهِمْ وَخَشْيَةِ بَأْسِهِمْ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قِيلَتْ لَهُ، وَإِمَّا لِكَثْرَتِهِمْ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَعْيَتِ الْمُشْرِكِينَ حِيَلُ الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ (قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ) قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا نُبْعَثُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ فَإِنْ عَسَى كَانَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَحْمِلُ عَنْكُمْ آثَامَكُمْ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جَهْلًا وَغُرُورًا حَاوَلُوا بِهِمَا أَنْ يَحِجُّوا الْمُسْلِمِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ وَاقِعًا فَسَيَكُونُونَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَهْلَ ذِمَامٍ وَحَمَالَةٍ وَنَقْضٍ وَإِبْرَامٍ شَأْنَ سَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا شَفَعُوا شُفِّعُوا وَإِنْ تَحَمَّلُوا حُمِّلُوا. وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ: لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ لِيَكُونَنَّ لِي مَالٌ فَأَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] . وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ طَرِيقَةٌ جَدَلِيَّةٌ إِنْ بُنِيَتْ عَلَى الْحَقِّ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ضِدِّ هَذَا: زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا ... لَا تُحْشَرُ الْأَجْسَادُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِلَامِ الْأَمْرِ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ لِبَلَاغَتِهِمْ، وَإِمَّا لِإِفَادَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مَقَالَتُهُمْ مِنْ تَأْكِيدِ تَحَمُّلِهِمْ

بِذَلِكَ. فَصِيغَةُ أَمْرِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْحَمْلِ آكَدُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ، وَمِنَ الشَّرْطِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَدْعِي الِامْتِثَالَ فَكَانَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ دَالَّةً عَلَى تَحْقِيقِ الْوَفَاءِ بِالْحَمَالَةِ. وَوَاوُ الْعَطْفِ لِجُمْلَةِ وَلْنَحْمِلْ عَلَى جُمْلَةِ اتَّبِعُوا سَبِيلَنا مُرَادٌ مِنْهَا الْمَعِيَّةُ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْأَمْرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمْعَ فِي الْحُصُولِ فَالْجُمْلَتَانِ فِي قُوَّةِ جُمْلَتَيْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرِينَةِ. فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَدَلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الِالْتِزَامِ بِالْحَالَةِ إِنِ اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ سَبِيلَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، أَوْ أَنْ يُقَالَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا فَنَحْمِلُ خَطَايَاكُمْ، بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ. وَالْحَمْلُ: مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ لِحَالِ الْمُلْتَزِمِ بِمَشَقَّةِ غَيْرِهِ بِحَالِ مَنْ يَحْمِلُ مَتَاع غَيره فيؤول إِلَى مَعْنَى الْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ خَطاياكُمْ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَقَوْلُهُ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ، نَقْضُ الْعُمُومِ فِي الْإِثْبَاتِ بِعُمُومٍ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَزِيَادَةُ حَرْفُ مِنْ تَنْصِيصٌ عَلَى الْعُمُومِ. وَالْحَمْلُ الْمَنْفِيُّ هُوَ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ دَفْعَ التَّبِعَةِ عَنِ الْغَيْرِ وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ جِنَايَاتِهِ، فَلَا يُنَافِيهِ إِثْبَاتُ حَمْلٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ هُوَ حَمْلُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى التَّضْلِيلِ فِي قَوْلِهِ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] . وَالْكَذِبُ الْمُخْبَرُ بِهِ عَنْهُمْ هُوَ الْكَذِبُ فِيمَا اقْتَضَاهُ أَمْرُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ يَحْمِلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَطَايَاهُمْ حَسَبَ زَعْمِهِمْ وَالْوَفَاءِ بِذَلِكَ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَذِبٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ وَلِاعْتِقَادِهِمْ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ جُمْلَةَ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ تَضَمَّنَتْ عُرُوَّ قَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ عَنْ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 13]

يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ، فَكَانَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَما هُمْ بِحامِلِينَ. وَلَيْسَ مَضْمُونُ الثَّانِيَةِ عَيْنَ مَضْمُونِ الْأُولَى بَلِ الثَّانِيةُ أَوْفَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَذِبَهُمْ مُحَقَّقٌ وَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُمْ فِي خَبَرِهُمْ هَذَا وَفِي غَيْرِهِ، وَوِزَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وِزَانُ بَيْتِ عِلْمِ الْمَعَانِي: أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا إِذْ جعل الْأَئِمَّة جُمْلَةَ (لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا) بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ (ارْحَلْ) لِأَنَّ جُمْلَةَ (لَا تُقِيمَنَّ) أَوْفَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَطَلَبِ ارْتِحَالِهِ، وَلِهَذَا لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لِكَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ. [13] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 13] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) بَعْدَ أَنْ كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] وَكَشَفَ كَيْدَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا أَفَادَ أَنَّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ حَمْلِ تَبِعَاتٍ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ وَهُمُ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَسَوَّلُوا لَهُمُ الشِّرْكَ وَالْبُهْتَانَ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ بِحَمْلِهِمْ ذَلِكَ. فَذِكْرُ الْحَمْلِ تَمْثِيلٌ. وَالْأَثْقَالُ مَجَازٌ عَنِ الذُّنُوبِ وَالتَّبِعَاتِ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلشَّقَاءِ وَالْعَنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَالِ الَّذِي يَحْمِلُ مَتَاعَهُ وَهُوَ مُوقَرٌ بِهِ فَيُزَادُ حَمْلُ أَمْتِعَةِ أُنَاسٍ آخَرِينَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَقَامِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ هَذَا حَمْلُ تَثْقِيلٍ وَزِيَادَةٍ فِي الْعَذَابِ وَلَيْسَ حَمْلًا يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنِ الْمَحْمُولِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْأَثْقَالَ الْمَحْمُولَةَ مَعَ أَثْقَالِهِمْ هِيَ ذُنُوبُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَلَيْسَ مَنْ بَيْنِهَا شَيْءٌ مِنْ ذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَالِمُونَ مِنْ تَضْلِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بهتانهم. وَجُمْلَة وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِجَمِيعِ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالتَّضْلِيلِ سَوَاءٌ مَا أَضَلُّوا بِهِ أَتْبَاعَهُمْ وَمَا حَاوَلُوا بِهِ بِتَضْلِيلِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَقَعُوا فِي أَشْرَاكِهِمْ، وَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَفْظُ الِافْتِرَاءِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْ مُحَاوَلَتِهِمْ تَغْرِيرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ فِيهِ كاذبون.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 إلى 15]

[سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 14 إِلَى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) سِيقَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَاللَّاتِي بَعْدَهَا شَوَاهِدَ عَلَى مَا لَقِيَ الرُّسُلُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَ الْقِصَّتَيْنِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: 18] عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْآتِيَيْنِ. وَابْتُدِئَتِ الْقِصَصُ بِقِصَّةِ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْثَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّ لِأَوَّلِيَّاتِ الْحَوَادِثِ وَقْعًا فِي نُفُوسِ الْمُتَأَمِّلِينَ فِي التَّارِيخِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَزَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّهُ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ مُدَّةُ رِسَالَتِهِ إِلَى قَوْمِهِ وَلَا غَرَضَ فِي مَعْرِفَةِ عُمُرِهِ يَوْمَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ مُصَابَرَتِهِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَدَوَامِهِ عَلَى إِبْلَاغِ الدَّعْوَةِ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُوثِرَ تَمْيِيزُ أَلْفَ بِ سَنَةٍ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ بِلَفْظِ سَنَةٍ، وَمُيِّزَ خَمْسِينَ بِلَفْظِ عَامًا لِئَلَّا يُكَرَّرَ لَفْظُ سَنَةٍ. وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلْنا كَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَلَبِثَ وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَخْذُهُمْ بِالطُّوفَانِ وَهُوَ اسْتِمْرَارُ تَكْذِيبِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ ظالِمُونَ حَالٌ، أَيْ أَخَذَهُمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالظُّلْمِ، أَيِ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، تَلَبُّسًا ثَابِتًا لَهُمْ مُتَقَرِّرًا وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَأْخُذُهُمْ عَذَابٌ. وَفَاءُ فَأَنْجَيْناهُ عَطْفٌ عَلَى فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ الضَّمِيرُ لِلسَّفِينَةِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطُّوفَانِ عَذَابًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُكَذِّبِينَ الرُّسُلَ، فَكَانَتِ السَّفِينَةُ آيَةً مَاثِلَةً فِي

عُصُورِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بَعْدَ نُوحٍ مَوْعِظَةً لِلْمُكَذِّبِينَ وَحُجَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَبْقَى اللَّهُ بَقِيَّةَ السَّفِينَةِ إِلَى صَدْرِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : «قَالَ قَتَادَةُ: بَقِيَتْ بَقَايَا السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ حَتَّى نَظْرَتْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . وَيُقَالُ إِنَّهَا دَامَتْ إِلَى أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ثُمَّ غَمَرَتْهَا الثُّلُوجُ. وَكَانَ الْجُودِيُّ قُرْبَ (بَاقِرْدَى) وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ بِالْمَوْصِلِ شَرْقِيِّ دِجْلَةَ (وَبَاقِرْدَى بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ ثُمَّ قَافٌ مَكْسُورَةٌ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَدَالٌّ فَأَلِفٌ مَقْصُورَةٌ) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [15] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَإِنَّمَا قَالَ لِلْعالَمِينَ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ سُكَّانِ الْأَرْضِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ بَقَايَا سَفِينَةِ نُوحٍ يُشَاهِدُ السُّفُنَ فَيَتَذَكَّرُ سَفِينَةَ نُوحٍ وَكَيْفَ كَانَ صُنْعُهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ نَجَاتَهُ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهَا يُخْبِرُونَ عَنْهَا وتنقل أَخْبَارُهُمْ فَتَصِيرُ مُتَوَاتِرَةً. هَذَا وَقَدْ وَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ «وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ» ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْبَاحِثُونَ فِي تَعْيِينِ جِبَالِ أَرَارَاطَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمُ الْجُودِيِّ وَعَيَّنُوا أَنَّهُ مِنْ جِبَالِ بِلَادِ الْأَكْرَادِ فِي الْحَدِّ الْجَنُوبِيِّ لِأَرْمِينْيَا فِي سُهُولِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَوَصَفُوهُ بِأَنَّ نَهْرَ دِجْلَةَ يَجْرِي بَيْنَ مُرْتَفَعَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ بَيْنَ الْجَبَلِ وَنَهْرِ دِجْلَةَ إِلَّا فِي الصَّيْفِ، وَأَيَّدُوا قَوْلهم بِوُجُود بِقَيْد سَفِينَةٍ عَلَى قِمَّةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ. وَبَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنْ (أَرَارَاطَ) فِي بِلَادِ أَرْمِينْيَا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِتَجَاوُرِ مُوَاطِنِ الْكُرْدِسْتَانِ وَأَرْمِينْيَا وَقَدْ تَخْتَلِفُ حُدُودُ الْمُوَاطِنِ بِاخْتِلَافِ الدُّوَلِ وَالْفُتُوحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي وَجَعَلْناها عَائِدًا إِلَى الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ بِتَأْوِيلِ الْقِصَّةِ أَو الْحَادِثَة.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 إلى 17]

[سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 16 إِلَى 17] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) انْتَقَلَ مِنْ خَبَرِ نُوحٍ إِلَى خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ لِمُنَاسَبَةِ إِنْجَاءِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ كَإِنْجَاءِ نُوحٍ مِنَ الْمَاءِ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ إِذْ أَنْجَتْ مِنَ الْمَاءِ وَمِنَ النَّارِ. وإِبْراهِيمَ عطف على نُوحاً [العنكبوت: 14] . وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ. وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَرْسَلْنَا) الْمُقَدَّرِ، أَيْ فِي وَقْتِ قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَخْ وَهُوَ أَوَّلُ زَمَنِ دَعْوَتِهِ. وَاقْتَضَى قَوْلُهُ اعْبُدُوا اللَّهَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لِلَّهِ أَصْلًا. وَجُمْلَةُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْخَبَرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَفُصِّلَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً الْآيَةَ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَدِلَّةَ اخْتِصَاصِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَمَفْعُولُ الْعِلْمِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ فِعْلِ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ عِلْمٍ وَنَظَرٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ. وَقَصْرُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، أَيْ دُونَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ إِذْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَالْقَصْرُ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَالًا مِنْ أَوْثاناً، أَيْ حَالَ كَوْنِهَا مَعْبُودَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ دُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لَكِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ وُصِفُوا بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [78] قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَهُمْ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَالْقَصْرُ مُنْصَبٌّ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْمَوْصُوفَةِ بِالْوَثَنِيَّةِ، أَيْ مَا

تَعْبُدُونَ إِلَّا صُوَرًا لَا إِدْرَاكَ لَهَا، فَيَكُونُ قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةَ تِلْكَ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] . وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَخَرَّجُ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ دُونِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (غَيْرِ) فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا غَيْرَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ دُونِ اسْمًا لِلْمَكَانِ الْمُبَاعِدِ فَهِيَ إِذَنْ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُخَالَفَةِ فَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِصِفَاتِ اللَّهِ. وَالْأَوْثَانُ: جَمْعُ وَثَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ مُجَسَّمَةٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ. وَالْوَثَنُ أَخَصُّ مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّ الصَّنَمَ يُطْلَقُ عَلَى حِجَارَةٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ مَثْلَ أَكْثَرِ أَصْنَامِ الْعَرَبِ كَصَنَمِ ذِي الْخَلَصَةِ لَخَثْعَمَ، وَكَانَتْ أَصْنَامُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صُوَرًا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] . وَتَقَدَّمَ وَصْفُ أَصْنَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وتَخْلُقُونَ مُضَارِعُ خَلَقَ الْخَبَرِ، أَيِ اخْتَلَقَهُ، أَيْ كَذَبَهُ وَوَضَعَهُ، أَيْ وَتَضَعُونَ لَهَا أَخْبَارًا وَمَنَاقِبَ وَأَعْمَالًا مَكْذُوبَةً مَوْهُومَةً. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [11] . وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إِنْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ كَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ شُكْرٌ عَلَى نِعَمِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يُثْبِتُونَ إِلَهِيَّةً لِغَيْرِ أَصْنَامِهِمْ كَانَتْ جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً إِبْطَالًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَرْزُقُهُمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الِاحْتِمَالَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ التَّرَدُّدُ فِي حَالِ إِشْرَاكِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَتَنْكِيرُ رِزْقاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ نَفْيِ قُدْرَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى كُلِّ رِزْقٍ وَلَوْ قَلِيلًا. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ إِبْطَالٌ لِظَنِّهِمُ الرِّزْقَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ

[سورة العنكبوت (29) : آية 18]

أَوْ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ، فَابْتِغَاءُ الرِّزْقِ مِنْهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْعِبَادَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ. وَقَدْ سَلَكَ إِبْرَاهِيمُ مَسْلَكَ الِاسْتِدْلَالِ بِالنِّعَمِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ الْعُمُومِ. وعِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَهُوَ مُجَازٌ. شَبَّهَ طَلَبَ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ بِالْبَحْثِ عَنْ شَيْءٍ فِي مَكَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ عِنْدَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُخْتَصِّ بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الظَّرْفُ. وَعُدِّيَ الشُّكْرُ بِاللَّامِ جَرْيًا عَلَى أَكْثَرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِقَصْدِ إِفَادَةِ مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ أَيِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الرِّزْقَ لَامُ الْجِنْسِ الْمُفِيدَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فَاطْلُبُوا كُلَّ رِزْقٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنَ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ رِزْقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ إِعَادَةُ لَفْظِ الرِّزْقِ بِالتَّعْرِيفِ مُقْتَضِيَةً كَوْنَهُ غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَلَا تَنْطَبِقُ هُنَا قَاعِدَةُ النَّكِرَةِ إِذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى. وَجُمْلَةُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، أَيْ لِأَنَّهُ الَّذِي يُجَازِي عَلَى ذَلِكَ ثَوَابًا وَعَلَى ضِدِّهِ عِقَابًا إِذْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَرْجِعُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَفِي هَذَا إدماج تَعْلِيل بِالْعبَادَة بِإِثْبَات الْبَعْث. [18] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 18] وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ بَقِيَّةِ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَكُونَ رَأَى مِنْهُمْ مَخَائِلَ التَّكْذِيبِ فَفَرَضَ وُقُوعَهُ، أَوْ يَكُونَ سَبَقَ تَكْذِيبُهِمْ إِيَّاهُ مَقَالَتَهُ هَذِهِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَازِمَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ لَيْسَ بِعَجِيبٍ فَلَا يَضِيرُهُ وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ يَضِيرُونَهُ بِهِ وَيَتَشَفَّوْنَ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدِ انْتَابَ الرُّسُلَ قَبْلَهُ مِنْ أُمَمِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ فِعْلِ تُكَذِّبُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ اخْتِلَافَهُمْ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ [العنكبوت: 19] إِلَخْ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 19]

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاو اعتراضية وَاعْترض هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَجَوَابِ قَوْمِهِ، فَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْتَفَتَ بِهِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ فَائِدَةِ سَوْقِ قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةً بِرُسُلِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُ وَخَاصَّةً إِبْرَاهِيمُ جَدُّ الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَجُمْلَةُ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إِعْلَامٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَا يَلْحَقُهُ مِنْهُ مَا فِيهِ تَشَفٍّ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ إِبْرَاهِيمُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِيذَانِ عُنْوَانِ الرَّسُولِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ إِبْلَاغُ مَا أُرْسِلَ بِهِ بَيِّنًا وَاضِحًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْقُرْآنِ مَعَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ عُنْوَانَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي إِلَّا التَّبْلِيغ الْوَاضِح. [19] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 19] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) يَجْرِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: 18] . وَيَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَن الْجُمْهُور قرأوا أَوَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَلَمْ يَجْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: 18] . وَمُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا هُوَ مَا جَرَى مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] تَنْظِيرًا لِحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِحَالِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [العنكبوت: 12] فِي قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا [العنكبوت: 12] ، أَوْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَعَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: 18] إِلَخْ خَارِجًا عَنْ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ يَكُونُ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا الْتِفَاتًا. وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِنُكْتَةِ إِبْعَادِهِمْ عَنْ شَرَفِ الْحُضُورِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ أَوَلَمْ تَرَوْا بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى

طَرِيقَةِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: 18] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ. وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً (¬1) ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ تَجَدُّدِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حِينٍ بِالْوِلَادَةِ وَبُرُوزِ النَّبَاتِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ. وَإِبْدَاءُ الْخَلْقِ: بَدْؤُهُ وَإِيجَادُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. يُقَالُ: أَبْدَأَ بِهَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبَدَأَ بِدُونِهَا وَقَدْ وَرَدَا مَعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ قَالَ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت: 20] وَلم يجىء فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى إِلَّا الْمُبْدِئُ دُونَ الْبَادِئِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ (أَبْدَأَ) بِهَمْزٍ فِي أَوَّلِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ (يُعِيدُ) وَلَمْ أَرَ مَنْ قَيَّدَهُ بِهَذَا. والْخَلْقَ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَخْلُوقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: 11] . وَجِيءَ يُبْدِئُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ بَدْءِ الْخَلْقِ كُلَّمَا وَجَّهَ النَّاظِرُ بَصَرَهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْجُمْلَةُ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ. وَأَمَّا جُمْلَةُ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ فَلَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِفِعْلِ يَرَوْا لِأَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ لَيْسَتْ مَرْئِيَّةً لَهُمْ وَلَا هُمْ يَظُنُّونَهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ثُمَّ يُعِيدُهُ مُسْتَقِلَّةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا وَجُمْلَةِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ أَمْرَ إِعَادَةِ الْخَلْقِ أَهَمُّ وَأَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ بَدْئِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَ بَدْءَ الْخَلْقِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هُوَ كَقَوْلِك: مَا زلت أُوثِرُ فُلَانًا وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَى مَنْ أُخَلِّفُهُ» يَعْنِي فَجُمْلَةُ: وَأَسْتَخْلِفُهُ، لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: أُوثِرُ، وَلَا دَاخِلَةً فِي خبر: مَا زلت، لِأَنَّكَ تَقُولُهُ قَبْلَ أَنْ تَسْتَخْلِفَهُ فَضْلًا ¬

(¬1) سَيَجِيءُ مُقَابل هَذَا بعد بضعَة وَعشْرين سطرا.

عَنْ تَكَرُّرِ الِاسْتِخْلَافِ مِنْكَ. هَذِهِ طَرِيقَةُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ يَجْعَلُ مَوْقِعَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَوْقِعِ التَّفْرِيعِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هذَيْن الْفِعْلَيْنِ (يبدىء وَيُعِيدُ) وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِمَّا جَرَى اسْتِعْمَالُهُمَا مُتَزَاوِجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [49] . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ سَبَأٍ: فَجَعَلُوا قَوْلهم: لَا يبدىء وَلَا يُعِيدُ، مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبِيدٍ: فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ وَيُقَالُ: أَبْدَأَ وَأَعَادَ بِمَعْنَى تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا وَاسِعًا، قَالَ بِشَارٌ: فَهُمُومِي مِظَلَّةٌ ... بَادِئَاتٍ وَعُوَّدَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُمُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ الْمُوَصِّلَ إِلَى علم كَيفَ يبدىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِأَنَّ أَدِلَّةَ بَدْءِ الْخَلْقِ تُفْضِي بِالنَّاظِرِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ الْخَلْقَ فَتَكُونُ ثُمَّ عَاطِفَةً فِعْلَ يُعِيدُهُ عَلَى فِعْلِ يُبْدِئُ وَالْجَمِيعُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ. وكَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ وَهِيَ مُعَلِّقَةُ فِعْلِ يَرَوْا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَعْمُولِهِ أَوْ مَعْمُولَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ، أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنهُ. والاستفهام ب كَيْفَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَلَفْتِ النَّظَرِ لَا فِي طَلَبِ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ إِنْكَارِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ الْإِعَادَةِ، إِذْ أَحَالُوهَا مَعَ أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَيْسَرَ مِنَ الْإِعَادَةِ فِي الْعُرْفِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهَا مُسَاوِيَةً لَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُفَادِ مِنْ يُعِيدُهُ مِثْلَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . وَوَجَهُ تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ رَدُّ دَعْوَاهُمْ أَنه مُسْتَحِيل.

[سورة العنكبوت (29) : آية 20]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 20] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) اعْتِرَاضٌ انْتِقَالِيٌّ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ، إِلَى إِرْشَادِهِمْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَعَاقُبِ الْأُمَمِ وَخَلْفِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ تَعَوُّدَ النَّاسِ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُ عُقُولَهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ دَقَائِقِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِيُشَاهِدُوا آثَارَ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ عَدَمٍ فَيُوقِنُوا أَنَّ إِعَادَتَهَا بَعْدَ زَوَالِهَا لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنِ ابْتِدَاءِ صُنْعِهَا. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ السَّيْرَ يُدْنِي إِلَى الرَّائِي مُشَاهَدَاتٍ جَمَّةً مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَرَضِينَ بجبالها وأنهارها ومحويّاتها وَيَمُرُّ بِهِ عَلَى مَنَازِلِ الْأُمَمِ حَاضِرِهَا وَبَائِدِهَا فَيَرَى كَثِيرًا مِنْ أَشْيَاءَ وَأَحْوَالٍ لَمْ يَعْتَدْ رُؤْيَةَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَا شَاهَدَ ذَلِكَ جَالَ نَظَرُ فِكْرِهِ فِي تَكْوِينِهَا بَعْدَ الْعَدَمِ جَوَلَانًا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ حِينَمَا كَانَ يُشَاهِدُ أَمْثَالَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي دِيَارِ قَوْمِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَشَأَ فِيهَا مِنْ زَمَنِ الطُّفُولَةِ فَمَا بَعْدَهُ قَبْلَ حُدُوثِ التَّفْكِيرِ فِي عَقْلِهِ اعْتَادَ أَنْ يَمُرَّ بِبَصَرِهِ عَلَيْهَا دُونَ اسْتِنْتَاجٍ مِنْ دَلَائِلِهَا حَتَّى إِذَا شَاهَدَ أَمْثَالَهَا مِمَّا كَانَ غَائِبًا عَنْ بَصَرِهِ جَالَتْ فِي نَفْسِهِ فِكْرَةُ الِاسْتِدْلَالِ، فَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَسِيلَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الدَّلَائِلِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ مِنْ جَوَامِعِ الْحِكْمَةِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّ السَّائِرَ لَيْسَ لَهُ مِنْ قَرَارٍ فِي طَرِيقِهِ فَنَدَرَ أَنْ يَشْهَدَ حُدُوثَ بَدْءِ مَخْلُوقَاتٍ، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ مَخْلُوقَاتٍ مَبْدُوءَةً مِنْ قَبْلُ فَيَفْطِنُ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهَا إِنَّمَا أَوْجَدَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ أَمْثَالِهَا فَهُوَ بِالْأَحْرَى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي مَضَتْ أَمْكَنُ لِأَنَّ لِلشَّيْءِ الْمُتَقَرِّرِ تَحَقُّقًا مَحْسُوسًا. وَجِيءَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِ النَّظَرِ لِأَنَّ إِدْرَاكَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ الْبَصَرِ وَهُوَ بِفِعْلِ النَّظَرِ أَوْلَى وَأَشْهَرُ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى إِدْرَاكِ أَنَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 21]

وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِجُمْلَةِ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. (وَثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت: 19] . وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ضَمِيرِهِ فِي قَوْلِهِ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُول: ثمَّ ينشىء. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ وَاقِعًا فِي الْإِعَادَةِ فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ فِي الْإِبْدَاءِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ إِنْشَاءٌ مِثْلَ الْإِبْدَاءِ، فَالَّذِي لَمْ يُعْجِزْهُ الْإِبْدَاءُ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ أَنْ لَا تُعْجِزَهُ الْإِعَادَةُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ ذَاكَ الَّذِي أَنْشَأَ النَّشْأَةَ الْأُولَى هُوَ الَّذِي ينشىء النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَبْرَزَ اسْمَهُ وَأَوْقَعَهُ مُبْتَدَأً اه. يُرِيدُ أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِتَسْجِيلِ وُقُوعِ هَذَا الْإِنْشَاءِ الثَّانِي، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً حَتَّى تَكُونَ عُنْوَانَ اعْتِقَادٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ لِأَنَّ فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ إِحْضَارًا لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي بِهَا التَّكْوِينُ، وَلِيُفِيدَ وُقُوعُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِمُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ مَعْنَى التَّقَوِّي. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ قَدِيرٌ عَلَى الْبَعْثِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَكُونَ جُمْلَةُ التَّذْيِيلِ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ. والنَّشْأَةَ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ: الْمَرَّةُ مِنَ النَّشْءِ وَهُوَ الْإِيجَادُ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ، عُبِّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ لِأَنَّهَا نَشْأَةٌ دَفْعِيَّةٌ تُخَالِفُ النَّشْءَ الْأَوَّلَ وَيُقَالُ: النِّشَاءَةُ بِمَدٍّ بَعْدَ الشِّينِ بِوَزْنِ الْكَآبَةِ وَمِثْلُهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّءَافَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو النَّشَاءَةُ بِالْمَدِّ. وَوَصْفُهَا بِ الْآخِرَةَ إِيمَاءٌ بِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلنَّشْأَةِ الْأُولَى فَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي إِحَالَةِ وُقُوعِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى [الْوَاقِعَة: 62] فَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 61] يَتَضَمَّنُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فَعبر عَن مقابلتها بالنشأة. [21] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 21] يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) لَمَّا ذَكَرَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِذِكْرِ أَهَمِّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَمَا أُوجِدَتْ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 22]

وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَارٍ مَعَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ حَظُّهُمْ فِيهِ هُوَ التَّعْذِيبُ. وَمَفْعُولَا فِعْلَيِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفَانِ جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِمَا. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَشَاءُ تَعْذِيبَهُ وَمَنْ يَشَاءُ رَحْمَتَهُ. وَالْفَرِيقَانِ مَعْلُومَانِ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَأَصْحَابُ الْوَعْدِ شَاءَ اللَّهُ رَحْمَتَهُمْ وَأَصْحَابُ الْوَعِيدِ شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ، فَمِنَ الَّذِينَ شَاءَ تَعْذِيبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَمِنَ الَّذِينَ شَاءَ رَحْمَتَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُمُ الْفَرِيقَانِ مَعًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ فِي قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. وَالْقَلْبُ: الرُّجُوعُ، أَيْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ لِلْحَصْرِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ اعْتِقَادٌ مَرْدُودٌ. وَفِي هَذَا إِعَادَةُ إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وتعريض بالوعيد. [22] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 22] وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت: 21] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ. وَالْمُعْجِزُ حَقِيقَتُهُ: هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ عَاجِزًا عَنْ فِعْلٍ مَا، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْغَلَبَةِ وَالِانْفِلَاتِ مِنَ الْمُكْنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] . فَالْمَعْنَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلَتِينَ مِنَ الْعَذَابِ. وَمَفْعُولُ (مُعْجِزِينِ) مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ بِمُعْجِزِينَ اللَّهَ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ بِمُعْجِزِينَ، أَيْ لَيْسَ لَكُمُ انْفِلَاتٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَا تَجِدُونَ مَوْئِلًا يُنْجِيكُمْ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَيْكُمْ فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجَبَلِهَا، وَبَدْوِهَا وَحَضَرِهَا. وَعَطْفُ وَلا فِي السَّماءِ عَلَى فِي الْأَرْضِ احْتِرَاسٌ وَتَأْيِيسٌ مِنَ الطَّمَعِ فِي النَّجَاةِ وَإِنْ كَانُوا لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الِالْتِحَاقِ بِالسَّمَاءِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْأَعْشَى:

[سورة العنكبوت (29) : آية 23]

فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 22] ، وَلَمْ تَقَعْ مِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي آيَةِ سُورَة الشورى [30، 31] وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ جَمَعَتْ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] إِذِ الْعَفْوُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا هُنَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَهِيَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمَقْبُولَةِ كَمَا فِي قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلَمِيٍّ الضَّبِّيِّ: وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ وَهِيَ أَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَن: 33] . وَفِي هَذِه إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ اغْتِرَارِهِمْ بِتَأْخِيرِ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدُوهُ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا آيَسَهُمْ مِنَ الِانْفِلَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ أَعْقَبَهُ بِتَأْيِيسِهِمْ مِنَ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْوَعِيدِ بِسَعْيِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَتَوَسَّطُونَ فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بِنَحْوِ السِّعَايَةِ أَوِ الشَّفَاعَةِ، أَوْ مِنْ نُصَرَاءٍ يُدَافِعُونَ عَنْهُمْ بالمغالبة وَالْقُوَّة. [23] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 23] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ [العنكبوت: 21] وَإِنَّمَا عُطِفَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وَأَنَّهُ يُصِيبُهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَالْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ: هُوَ كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ. وَالْكُفْرُ بِلِقَائِهِ: إِنْكَارُ الْبَعْثِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفِيدُ أَنَّ مَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدَهُ نَالَهُمْ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَوْصَافٍ، أَيْ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْيَأْسَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَإِصَابَتَهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ عَلَى أُسْلُوبِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] .

[سورة العنكبوت (29) : آية 24]

وَأَخْبَرَ عَنْ يَأْسِهِمْ مِنْ رَحْمَة الله بِالْفِعْلِ الْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ سَيَيْأَسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ بِآياتِ اللَّهِ دُونَ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْآيَاتِ حَيْثُ أُضِيفَتْ إِلَى الِاسْمِ الْجَلِيلِ لِمَا فِي الِاسْمِ الْجَلِيلِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ. وَالْعُدُولُ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ رَحْمَتِي الْتِفَاتٌ عَادَ بِهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْكِيدِ التَّنْبِيهِ عَلَى استحقاقهم ذَلِك. [24] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 24] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) لَمَّا تَمَّ الِاعْتِرَاضُ الْوَاقِعُ فِي خِلَالِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ مَا أَجَابَهُ بِهِ قَوْمُهُ. وَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ [العنكبوت: 16] . وَجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرِ الْجَواب فِي قَوْلهم اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي جَوَابِهِ وَكَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً فِي تَكْذِيبِهِ وَإِتْلَافِهِ وَهَذَا مِنْ تَصَلُّبِهُمْ فِي كُفْرِهِمْ. ثُمَّ تَرَدَّدُوا فِي طَرِيقِ إِهْلَاكِهِ بَيْنَ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَالْإِتْلَافِ بِالْإِحْرَاقِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى إِحْرَاقِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وجَوابَ قَوْمِهِ خَبَرُ كانَ وَاسْمُهَا أَنْ قالُوا. وَغَالِبُ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُؤَخَّرَ اسْمُهَا إِذَا كَانَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةُ وَصِلَتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي آخِرِ سُورَةِ النُّورِ [51] ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَأْ الِاسْمُ الْمُوَالِي لِفِعْلِ الْكَوْنِ فِي أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ إِلَّا مَنْصُوبًا. وَقَدْ أُجْمِلَ إِنْجَاؤُهُ مِنَ النَّارِ هُنَا وَهُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الإنجاء الْمَأْخُوذ مِنْ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَجُعِلَ ذَلِكَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 25]

الْإِنْجَاءُ آيَاتٍ وَلَمْ يُجْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ آيَةٌ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَكَرَامَةِ رَسُولِهِ، وَتَصْدِيقِ وَعْدِهِ، وَإِهَانَةِ عَدُّوِهِ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا جَلِيلَهَا وَحَقِيرَهَا مُسَخَّرَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجِيء بِلَفْظ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . فَذَلِكَ آيَاتٌ عَلَى عَظِيمِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرُسُلِهِ فَصَدَّقَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ. فَفِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لِشِدَّةِ مُكَابَرَتِهِمْ وَكَوْنِ الْإِيمَانِ لَا يخالط عُقُولهمْ. [25] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 25] وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقَالَتُهُ هَذِهِ سَابِقَةً عَلَى إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ وَأَنْ تَكُونَ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. وَالْأَظْهَرُ مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، أَرَادَ بِهِ إِعْلَانَ مُكَابَرَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمُعْجِزَةِ سَلَامَتِهِ مِنْ حَرْقِ النَّارِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَوْثَانِ قَرِيبًا. وَمَحَطُّ الْقَصْرِ بِ إِنَّمَا هُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ أَمَّا قَصْرُ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى كَوْنِهَا أَوْثَانًا فَقَدْ سَبَقَ فِي قَوْلِهِ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [العنكبوت: 17] أَيْ مَا اتَّخَذْتُمْ أَوْثَانًا إِلَّا لِأَجْلِ مَوَدَّةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ دَلَالَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِإِبْطَالِهَا فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ بَقَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ هُوَ مَوَدَّةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الدَّاعِيَةَ لِإِبَايَةِ الْمُخَالَفَةِ. وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ وَالْإِلْفُ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بَيْنِكُمْ شَامِلًا لِلْأَوْثَانِ. وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَا يُخَالِفُهُ وَإِنْ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ، وَيُحِبُّونَ الْأَوْثَانَ فَلَا يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهَا وَإِنْ ظَهَرَتْ لِبَعْضِهِمْ دَلَالَةُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا قَالَ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] .

قَالَ الْفَخْرُ: أَيْ مَوَدَّةً بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا فَإِنَّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ اللَّذَّاتُ الْجِسْمِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْمَجْنُونِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ إِرَاقَةِ مَاءٍ وَهُوَ بَيْنَ مَجْمَعٍ مِنَ الْأَكَابِرِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مِنَ الْحَيَاءِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ بَلْ يُحَصِّلُ مَا فِيهِ لَذَّةُ جِسْمِهِ. فَهُمْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُقُولِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ اللَّذَّاتُ الْجِسْمِيَّةُ فَلَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُمْ لِمَعْبُودٍ غَيْرِ جُسْمَانِيٍّ وَرَأَوْا تِلْكَ الْأَصْنَامَ مُزَيَّنَةً بِأَلْوَانٍ وَجَوَاهِرَ فَأَحَبُّوهَا. وَفِعْلُ اتَّخَذْتُمْ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ وَالْبَقَاءُ عَلَى اتِّخَاذِهَا بَعْدَ وُضُوحِ حُجَّةِ بُطْلَانِ اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ مَوَدَّةَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا بِدُونِ إِضَافَةٍ، وبَيْنِكُمْ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَوَدَّةَ مَنْصُوبًا غَيْرَ مُنَوَّنٍ بَلْ مُضَافًا إِلَى بَيْنِكُمْ، وبَيْنِكُمْ مَجْرُورٌ أَوْ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَرْفُوعًا مُضَافًا عَلَى أَنْ تَكُونَ (مَا) فِي إِنَّمَا مَوْصُولَةً وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبُ مَفْصُولَةً، ومَوَدَّةَ خَبَرُ (إِنَّ) تَكُونُ كِتَابَةُ إِنَّمَا مُتَّصِلَةً مِنْ قَبِيلِ الرَّسْمِ غَيْرِ الْقِيَاسِيِّ فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِأَنَّهَا مَوَدَّةٌ إِخْبَارًا مَجَازِيًّا عَقْلِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاتِّخَاذَ سَبَبٌ عَنِ الْمَوَدَّةِ. وَلِمَا فِي الْمَجَازِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ كَانَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْخَبَرِ بَعْدَ تَأْكِيدِهِ بِ (إِنَّ) فَيَقُومُ التَّأْكِيدَانِ مَقَامَ الْحَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَمَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ، أَيْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ الْخَبَرِ حَيْثُ يُثْبِتُ ثُمَّ يُؤَكِّدُ بِنَفْيِ مَا عَدَاهُ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ إِفَادَةِ الْحُكْمِ بَلْ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وَنَظِيرُهُ جُمْلَةُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ (¬1) : إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا ¬

(¬1) لطبيب لقب أبي عَبدة واسْمه يزِيد بن عَمْرو. وَتب فِي أَكثر النّسخ من كتب الْأَدَب مخطوطه ومطبوعها: الطَّبِيب بموحدتين بَينهمَا تحتية وَفِي قَلِيل من كتب الْأَدَب بتحتية بعد الطَّاء وَلم أَقف على من حقق ضَبطه بِوَجْه لَا التباس فِيهِ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 26]

وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ شَائِبَةُ ثُبُوتِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِذْ يَكْتَسِبُونَ بِذَلِكَ مَوَدَّةً بَيْنَهُمْ تَلَذُّ لِنُفُوسِهِمْ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ إِلَخْ تَنْبِيهًا لِسُوءِ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ وَإِزَالَةٍ لِلْغُرُورِ وَالْغَفْلَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا إِنْ كَانَتْ تُعْقِبُ نَدَامَةً آجِلَةً. وَمَعْنَى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَكْفُرُونَ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا إِذْ يَجْحَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَمَعْنَى وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَلْعَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْآخَرِينَ إِمَّا لِأَنَّ الْمَلْعُونِينَ غَرُّوا اللَّاعِنِينَ فَسَوَّلُوا لَهُمُ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذِهِ مَخَازٍ تَلْحَقُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّهُمْ مِنْ عَذَابِ الْخِزْيِ بِقَوْلِهِ وَمَأْواكُمُ النَّارُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّهُمْ جَمِيعًا مِنِ انْعِدَامِ النَّصِيرِ فَقَالَ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ فَنَفَى عَنْهُمْ جِنْسَ النَّاصِرِ. وَهُوَ مَنْ يُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْخِزْيَ. وَجِيءَ فِي نَفْيِ النَّاصِرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ هُنَا خِلَافًا لِقَوْلِهِ آنِفًا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَأَلَّبُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَتَجَمَّعُوا لِنُصْرَةِ أَصْنَامِهِمْ كَانَ جَزَاؤُهُمْ حِرْمَانَهُمْ مِنَ النُّصَرَاءِ مُطَابَقَةً بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْحَالَةِ الَّتِي جُوزُوا عَلَيْهَا. عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ سَوَاءٌ فِي إِفَادَةِ نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ من الْجِنْس. [26] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 26] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اعْتِرَاضَ التَّفْرِيعِ، وَأَفَادَتِ الْفَاءُ مُبَادَرَةَ لُوطٍ بِتَصْدِيقِ إِبْرَاهِيمَ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ لُوطٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِلَّا لُوطٌ لِأَنَّهُ الرَّجُلُ الْفَرْدُ الَّذِي آمَنَ بِهِ وَأَمَّا امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَةُ لُوطٍ فَلَا يَشْمَلُهُمَا اسْمُ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: 16] الْآيَةَ لِأَنَّ الْقَوْمَ خَاصٌّ بِرِجَالِ الْقَبِيلَةِ قَالَ زُهَيْرٌ: أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ

وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ زَوْجُهُ (سَارَّةٌ) وَزَوْجُ لُوطٍ وَاسْمُهَا (مَلِكَةٌ) . وَلُوطٌ هُوَ ابْن (هاران) أَخِي إِبْرَاهِيمَ، فَلُوطٌ يَوْمَئِذٍ مِنْ أُمَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [العنكبوت: 24] . فَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَعْلَنَ أَنَّهُ مُهَاجِرٌ دِيَارَ قَوْمِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أمره بمفارقة ديار أَهْلِ الْكُفْرِ. وَهَذِهِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ لِأَجْلِ الدِّينِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا هِجْرَةً إِلَى رَبِّهِ. وَالْمُهَاجَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهَجْرِ: وَهُوَ تَرْكُ شَيْءٍ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ، وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِأَنَّ الَّذِي يَهْجُرُ قَوْمَهُ يَكُونُونَ هُمْ قَدْ هَجَرُوهُ أَيْضًا. وَحَرْفُ إِلى فِي قَوْلِهِ إِلى رَبِّي لِلِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ إِذْ جَعَلَ هِجْرَتَهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهَا كَأَنَّهَا هِجْرَةٌ إِلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ إِلى تَخْيِيلًا لِاسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ أَوْ جَعَلَ هِجْرَتَهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَعْبُدُ أَهْلُهُ اللَّهَ لِطَلَبِ مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَأَنَّهُ هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَتَكُونُ إِلى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارَةً لِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. وَرُشِّحَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَهِيَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي، لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَزِيزًا يَعْتَزُّ بِهِ جَارُهُ وَنَزِيلُهُ. وَإِتْبَاعُ وَصْفِ الْعَزِيزُ بِ الْحَكِيمُ لِإِفَادَةِ أَنَّ عِزَّتَهُ مُحْكَمَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا الْمَحْمُودَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِثْلَ نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَصْرِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ فَيَكُونُ زِيَادَةَ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْعَزِيزُ. وَقَدْ مَضَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ وَبِلَادِهِمْ مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 27]

[27] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 27] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ. هَذَا الْكَلَامُ عُقِّبَتْ بِهِ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ تِبْيَانًا لِفَضْلِهِ إِذْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ وَهَبْنا، وجَعَلْنا الْإِعْلَامَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ الْقِصَّةِ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ. والْكِتابَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَالتَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَالزَّبُورُ، وَالْقُرْآنُ كُتُبٌ نَزَلَتْ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَيْنِ: أَجْرًا فِي الدُّنْيَا بِنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَبِحُسْنِ السُّمْعَةِ وَبَثِّ التَّوْحِيدِ وَوَفْرَةِ النَّسْلِ، وَأَجْرًا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْكَمَالِ، أَيْ مِنْ كُمْلِ الصَّالِحِينَ. [28- 30] [سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 28 الى 30] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ الِانْتِقَالُ مِنْ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى قَوْمِهِ إِلَى رِسَالَةِ لُوطٍ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ شَابَهَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الرِّجْزِ. وَالْقَوْلُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْقَوْلِ فِي آيَةِ وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: 16] الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَمَا بَيْنَ الْآيَاتِ مِنْ تَفَاوُتٍ هُوَ تَفَنُّنٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ، إِلَّا قَوْلَهُ هُنَا إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ نَظِيرٌ فِيمَا مَضَى. وَقَوْمُ لُوطٍ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ تَوْكِيدٌ لِتَعَلُّقِ النِّسْبَةِ بِالْمَفْعُولِ لَا تَأْكِيدٌ لِلنِّسْبَةِ، فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فَاحِشَةٌ، أَيْ عَمَلٌ قَبِيحٌ بَالِغُ الْغَايَةِ فِي الْقُبْحِ، لِأَنَّ الْفُحْشَ بُلُوغُ الْغَايَةِ فِي شَيْءٍ قَبِيحٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ شَاعِرِينَ بِشَنَاعَةِ عَمَلِهِمْ وَقُبْحِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْإِخْبَارِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّوْبِيخِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِهَمْزَتَيْنِ: هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهَمْزَةِ (إِنَّ) . وَقَرَأَ الْجَمِيع أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بِهَمْزَتَيْنِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَدْتُ الْأَوَّلَ أَيْ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فِي الْإِمَامِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ يَاءٍ، أَيْ بِغَيْرِ الْيَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ الْهَمْزَةُ الْمَكْسُورَةُ عَلَى صُورَتِهَا وَرَأَيْتُ الثَّانِي (أَي إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) بِحَرْفَيِ الْيَاءِ وَالنُّونِ اه. (يَعْنِي الْيَاءَ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالنُّونُ نُونُ إِنَّ) . وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِالْإِمَامِ مُصْحَفَ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ فَتَكُونُ قِرَاءَةُ قُرَّائِهِمَا رِوَايَةً مُخَالِفَةً لِصُورَةِ الرَّسْم. وَجُمْلَة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ إِلَخْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ، بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ على جملَة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ مِنْ قَوْلِهِ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ إِلَخْ لِأَنَّ قَطْعَ السَّبِيلِ وَإِتْيَانَ الْمُنْكَرِ فِي نَادِيهِمْ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ إِتْيَانُ الْفَاحِشَةِ. وَأُدْخِلَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ عَلَى جَمِيعِ التَّفْصِيلِ وَأُعِيدَ حَرْفُ التَّأْكِيدِ لِتَتَطَابَقَ جُمْلَةِ الْبَدَلِ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا لِأَنَّهَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلَةِ عِنْدَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا تَكُونُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وَقَطْعُ السَّبِيلِ: قَطْعُ الطَّرِيقِ، أَيِ التَّصَدِّي لِلْمَارِّينَ فِيهِ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ. وَكَانَ قَوْمُ لُوطٍ يَقْعُدُونَ بِالطُّرُقِ لِيَأْخُذُوا مِنَ الْمَارَّةِ مَنْ يَخْتَارُونَهُ. فَقَطْعُ السَّبِيلِ فَسَادٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ أَفْسَدُ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ. وَأَمَّا إِتْيَانُ الْمُنْكَرِ فِي نَادِيهِمْ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا نَادِيَهُمْ لِلْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا

وَمُقَدِّمَاتِهَا كَالتَّغَازُلِ بِرَمْيِ الْحَصَى اقْتِرَاعًا بَيْنَهُمْ على من يرومونه، وَالتَّظَاهُرِ بِتَزْيِينِ الْفَاحِشَةِ زِيَادَةً فِي فَسَادِهَا وَقُبْحِهَا لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى نَبْذِ التَّسَتُّرِ مِنْهَا وَمُعِينٌ عَلَى شُيُوعِهَا فِي النَّاسِ. وَفِي قَوْلِهِ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ تَشْدِيدٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ الْفَاحِشَةَ السَّيِّئَةَ لِلنَّاسِ وَكَانَتْ لَا تَخْطِرُ لِأَحَدٍ بِبَالٍ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَفَاسِدِ تَكُونُ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنِ ارْتِكَابِهَا لِعَدَمِ الِاعْتِيَادِ بِهَا حَتَّى إِذَا أَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى فِعْلِهَا وَشُوهِدَ ذَلِكَ مِنْهُ تَنَبَّهَتِ الْأَذْهَانُ إِلَيْهَا وَتَعَلَّقَتِ الشَّهَوَاتُ بِهَا. وَالنَّادِي: الْمَكَانُ الَّذِي يَنْتَدِي فِيهِ النَّاسُ، أَيْ يَجْتَمِعُونَ نَهَارًا لِلْمُحَادَثَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدْوِ بِوَزْنِ الْعَفْوِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ نَهَارًا. وَأَمَّا مَكَانُ الِاجْتِمَاعِ لَيْلًا فَهُوَ السَّامِرُ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَجْلِسِ نَادٍ إِلَّا مَا دَامَ فِيهِ أَهْلُهُ فَإِذَا قَامُوا عَنْهُ لَمْ يُسَمَّ نَادِيًا. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. الْكَلَامُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ [العنكبوت: 24] الْآيَةَ، وَالْأَمْرُ فِي ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ لِلتَّعْجِيزِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ فِي أَثْنَاءِ دَعْوَتِهِ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ لُوطٍ فِيمَا مَضَى لَكِنَّ الْإِنْذَار من شؤون دَعْوَةِ الرُّسُلِ. وَأَرَادَ بِالنَّصْرِ عِقَابَ الْمُكَذِّبِينَ لِيُرِيَهُمْ صِدْقَ مَا أَبْلَغَهُمْ مِنْ رِسَالَةِ اللَّهِ. وَوَصَفَهُمْ بِ الْمُفْسِدِينَ لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِشَنَاعَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَيُفْسِدُونَ النَّاسَ بِحَمْلِهِمْ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَتَدْرِيبِهِمْ بِهَا، وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَمْهِيدٌ لِلْإِجَابَةِ بِالنَّصْرِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يحب المفسدين.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 إلى 32]

[سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 31 إِلَى 32] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) لَمَّا أَدَاةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهَا ظَرْفٌ مُلَازِمٌ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ. وَمَدْلُولُهَا وُجُودٌ لِوُجُودٍ، أَيْ وُجُودُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُ جُمْلَتَيْنِ: أُولَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ مَاضَوِيَّةٌ وَتُضَافُ إِلَيْهَا لَمَّا، وَالثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةٌ أَوِ اسْمِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ مِنْ فِعْلٍ أَوِ اسْمٍ مُشْتَقٍّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ لَمَّا اسْمُ الْجَزَاءِ تَسَامُحًا. وَلَمَّا كَانَتْ لَمَّا ظَرْفًا مُبْهَمًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا لَمَّا مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ، إِذِ التَّوْقِيتُ الْإِعْلَامُ بِمُقَارَنَةِ زَمَنٍ مَجْهُولٍ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ. فَوُجُودُ لَمَّا هُنَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ بِالْبُشْرَى أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِلْبُشْرَى، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْبُشْرَى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِاقْتِضَاءِ لَمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، فَالْبُشْرَى هِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى آنِفًا وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوءة وَالْكتاب [العنكبوت: 27] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْبُشْرَى: اسْمٌ لِلْبِشَارَةِ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ مَسَرَّةٌ لِلْمُخْبَرِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبِشَارَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] . وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِإِبْرَاهِيمَ أَنْ قَدَّمَ لَهُ الْبُشْرَى قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِحِلْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: قَالُوا لإِبْرَاهِيم إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِلَخْ. وَالْقَرْيَةُ هِيَ (سَدُومُ) قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْإِهْلَاكِ وَقُصِدَ بِهِ اسْتِئْنَاسُ إِبْرَاهِيمَ لِقَبُولِ هَذَا الْخَبَرِ الْمُحْزِنِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الْعَدْلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْعِقَابُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ يَقْتَضِيهِ.

وَالظُّلْمُ: ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَظُلْمُهُمُ النَّاسَ بِالْغَصْبِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالتَّدَرُّبِ بِهَا. وَقَوْلُهُ إِنَّ فِيها لُوطاً خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِسُنَّةِ اللَّهِ مَعَ رُسُلِهِ مِنَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحِلُّ بِأَقْوَامِهِمْ. فَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمَلَائِكَةِ بِتَخْصِيصِ لُوطٍ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمُ الْقَرْيَةُ فِي حُكْمِ الْإِهْلَاكِ، وَلُوطٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَشْمَلَهُ الْإِهْلَاكُ. وَلِهَذَا قَالَ إِنَّ فِيها لُوطاً بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ يَقِلْ: إِنَّ مِنْهَا. وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا يُرِيدُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَحْوَالِ مَنْ فِي الْقَرْيَةِ، فَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا اقْتَضَاهُ تَعْرِيضُهُ بِالتَّذْكِيرِ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْكَ بِاسْتِحْقَاقِ لُوطٍ النَّجَاةَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ الْعَذَابَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَسْبِقُونَ اللَّهَ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَكَانَ جَوَابُهُمْ مُطَمْئِنًا إِبْرَاهِيمَ. فَالْمُرَادُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِمَنْ فِي الْقَرْيَةِ عِلْمُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ، أَوِ الْكَرَامَةِ بِالنَّجَاةِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ أَعْلَمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ سَابِقٌ عَلَى عِلْمِهِ وَلِأَنَّهُ عِلْمُ يَقِينٍ مُلْقًى مِنْ وَحْيِ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ إِذْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ لَا إِجْمَالِيٌّ، وَعُمُومِيٌّ لَا خُصُوصِيٌّ. فَلِأَجْلِ هَذَا الْأَخِيرِ أَجَابُوا بِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها. وَلَمْ يَقُولُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِلُوطٍ، وَكَوْنُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ لِإِبْرَاهِيمَ عِلْمَ النُّبُوءَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مَتَى سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِعَمَلٍ. وَبِالْأَوْلَى لَا يَقْتَضِي كَوْنُهُمْ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْحَقِّ إِنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ، وَلِكُلِّ فَرِيقٍ عِلْمٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَخَصَّهُ بِهِ كَمَا خَصَّ الْخَضِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُوسَى، وَخَصَّ مُوسَى بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْخَضِرُ، وَلِذَلِكَ عَتَبَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى لَمَّا سُئِلَ: هَلْ يُوجَدُ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: لَا، لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْجَواب أَن يفكر فِي أَنْوَاعِ الْعِلْمِ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 33]

وَجُمْلَةُ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفُ عَلَيْهَا وَفُصِّلَتْ، فَقَدْ عَلِمُوا بِإِذْنِ اللَّهِ أَنْ لَا يَنْجُوَ إِلَّا لُوطٌ وَأَهْلُهُ، أَيْ بِنْتَاهُ لَا غَيْرَ وَيَهْلِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى امْرَأَةُ لُوطٍ. وَفِعْلُ كانَتْ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَكُونُ، فَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَشْبِيهًا لِلْفِعْلِ الْمُحَقَّقِ وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ الَّذِي مَضَى مِثْلَ قَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْكَوْنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، كَمَا فِي آيَة النَّمْل [57] قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمَاضِي حَقِيقَةً. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ فِي سُورَة النَّمْل. [33] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 33] وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) قَدْ أَشْعَرَ قَوْله إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: 31] أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَحِلُّونَ بِالْقَرْيَةِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرُوا لُوطًا بِحُلُولِهِمْ بِالْقَرْيَةِ، وَأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اسْتِجَابَةً لِطَلَبِ لُوطٍ النَّصْرَ عَلَى قَوْمِهِ، فَكَانَ هَذَا الْمَجِيءُ مُقَدَّرًا حُصُولُهُ، فَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ شَرْطًا لِحِرَفِ لَمَّا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [العنكبوت: 31] . وأَنْ حَرْفٌ مَزِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ وَأَكْثَرُ مَا يُزَادُ بَعْدَ لَمَّا وَهُوَ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الرَّبْطِ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ لَمَّا، فَهِيَ هُنَا لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَمَسَاءَةِ لُوطٍ بِهِمْ. وَمَعْنَى تَحْقِيقِهِ هُنَا سُرْعَةُ الِاقْتِرَانِ وَالتَّوْقِيتِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا على أَن الْإِسَاءَة عَقَّبَتْ مَجِيئَهُمْ وَفَاجَأَتْهُ مِنْ غَيْرِ رَيْثٍ، وَذَلِكَ لِمَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَةِ مُعَامَلَةِ قَوْمِهِ مَعَ الْوَافِدِينَ عَلَى قريتهم فَلم يكون لُوطٌ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا فِي صُورَةِ رِجَالٍ فَأُرِيدَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْمَسَاءَةِ وَضِيقِ الذَّرْعِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ جَاءُوا لِإِهْلَاكِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَقُولُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 34]

وَلَمْ تَقَعْ أَنْ الْمُؤَكِّدَةُ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ لِأَنَّ فِي تِلْكَ السُّورَةِ تَفْصِيلًا لِسَبَبِ إِسَاءَتِهِ وَضِيقِ ذَرْعِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَانَ التَّأْكِيدُ هُنَا ضَرْبًا مِنَ الْإِطْنَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ وَتَفْسِيرِهَا هُنَاكَ. وَبِنَاءُ فِعْلِ سِيءَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْمَفْعُولِ دُونَ فَاعِلِهِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَقالُوا لَا تَخَفْ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ عَقِبَ مَجِيءِ الرُّسُلِ لُوطًا. وَقَدْ طُوِيَتْ جُمَلٌ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَهِيَ الْجُمَلُ الَّتِي ذُكِرَتْ مَعَانِيهَا فِي قَوْلِهِ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [78- 81] . وَقَدَّمُوا تَأْمِينَهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُمْ مُنْزِلُونَ الْعَذَابَ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ تَعْجِيلًا بِتَطْمِينِهِ. وَعَطْفُ وَلا تَحْزَنْ عَلَى لَا تَخَفْ جَمْعٌ بَيْنَ تَأْمِينِهِ مِنْ ضُرِّ الْعَذَابِ وَبَيْنَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّ الَّذِينَ سَيَهْلِكُونَ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أُولَئِكَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْزَنُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا مُنَجُّوكَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَمْرَيْنِ. وَاسْتِثْنَاءُ امْرَأَتِهِ مِنْ عُمُومِ أَهْلِهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ التَّعْلِيلِ لَا مِنَ النَّهْيِ، فَفِي ذَلِكَ مَعْذِرَةٌ لَهُ بِمَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى هَلَاكِ امْرَأَتِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَحْسَبُهَا مُخْلِصَةً لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُنَجُّوكَ بِسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْديد الْجِيم. [34] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 34] إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَعَتْ بَيَانًا لِمَا فِي جُمْلَةِ لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت: 33] مِنَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ ثَمَّةَ حَادِثًا يَخَافُ مِنْهُ وَيَحْزَنُ لَهُ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 35]

وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُفُقِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَة هود. [35] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 35] وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: 28] إِلَخْ عَطْفُ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ لِأَنَّ قِصَّةَ لُوطٍ آيَةٌ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْخَبَرِ، وَآثَارَ قَرْيَةِ قَوْمِهِ آيَةٌ أُخْرَى بِمَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهُ لِأَهْلِ الْبَصَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْقِصَّةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَنُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَتْ ضَمِيرَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَمْرٍ. وَمَفْعُولُ تَرَكْنا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آيَةً فَيُجْعَلُ (مِنْ) حَرْفَ جَرٍّ وَهُوَ مَجْرُورٌ وَصْفًا لِ آيَةً قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ لِلِاهْتِمَامِ فَيُجْعَلُ حَالًا مِنْ آيَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ تَرَكْنَا آيَةً صَادِرَةً مِنْ آثَارِهَا وَمُعَرِّفَةً خَبَرَهَا، وَهِيَ آيَةٌ وَاضِحَةٌ دَائِمَةٌ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إِلَى الْآنِ وَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِ بَيِّنَةً، وَلَمْ تُوصَفْ آيَةُ السَّفِينَةِ بِ بَيِّنَةً فِي قَوْلِهِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] ، لِأَنَّ السَّفِينَةَ قَدْ بَلِيَتْ أَلْوَاحُهَا وَحَدِيدُهَا أَوْ بَقِيَ مِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ إِلَّا بَعْدَ تَفْتِيشٍ إِنْ كَانَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، فَتَكُونُ (مِنْ) مَفْعُولًا مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ (قَرْيَةٍ) . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنَ الْقَرْيَةِ آثَارًا دَالَّةً لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهَا. وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ هِيَ بَقَايَا قَرْيَتِهِمْ مَغْمُورَةٌ بِمَاءِ بُحَيْرَةِ لُوطٍ تَلُوحُ مِنْ تَحْتِ الْمِيَاهِ شَوَاهِدُ الْقَرْيَةِ، وَبَقَايَا لَوْنِ الْكِبْرِيتِ وَالْمَعَادِنِ الَّتِي رُجِمَتْ بِهَا قَرْيَتُهُمْ وَفِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ بِاخْتِلَافِ مَدَارِكِ الْمُسْتَدِلِّينَ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بِقَوْلِهِ تَرَكْنا، أَوْ يُجْعَلُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةً ل آيَةً.

[سورة العنكبوت (29) : آية 36]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَةً 36] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) عَطْفٌ على وَلُوطاً [العنكبوت: 28] الْمَعْطُوفِ على نُوحاً [العنكبوت: 14] الْمَعْمُولِ ل أَرْسَلْنا [العنكبوت: 14] . فَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ إِلَى قِصَّةِ مَدْيَنَ وَرَسُولِهِمْ أَنَّ مَدْيَنَ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْجَاهُ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا أَنْجَى لُوطًا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ إِلى مَدْيَنَ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ فِي وَصْفِ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى كَوْنِهِ أَخًا لَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَوْلُهُ فَقالَ عَطْفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ فَعُقِّبَ إِرْسَالُهُ بِأَنْ قَالَ. وَالرَّجَاءُ: التَّرَقُّبُ وَاعْتِقَادُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِتَرَقُّبِ الْيَوْمِ الْآخِرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [60] . وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ شُعَيْبٍ فِي سُورَة هود. [37] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 37] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) الْأَخْذُ: الْإِعْدَامُ وَالْإِهْلَاكُ شَبَّهُ الْإِعْدَامَ بِالْأَخْذِ بِجَامِعِ الْإِزَالَةِ. والرَّجْفَةُ: الزِّلْزَالُ الشَّدِيدُ الَّذِي تَرْتَجِفُ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ سُمِّيَتْ بِالصَّيْحَةِ لِأَنَّ لِتِلْكَ الرَّجْفَةِ صَوْتًا شَدِيدًا كَالصَّيْحَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ. وَقَدْ أُشِيرَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ إِلَى مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ فِيهِ، وَهُوَ الْمُصَابَرَةُ عَلَى إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكَافِرِينَ، وَنصر الله إيَّاهُمَا، وَتَعْذِيبُ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 38]

[38] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 38] وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ وَقَوْمِ لُوطٍ أُكْمِلَتِ الْقَصَصُ بِالْإِشَارَةِ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ قَدْ عُرِفَ فِي الْقُرْآنِ اقْتِرَانُ هَذِهِ الْأُمَمِ فِي نَسَقِ الْقَصَصِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ. وَانْتِصَابُ عَادًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: وَأَهْلَكْنَا عَادًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى آنِفًا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [العنكبوت: 37] يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْإِهْلَاكِ، قَالَهُ الزَّجَاجُ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِهْلَاكٌ خَاصٌّ مِنْ بَطْشِ اللَّهِ تَعَالَى، فَظَهَرَ تَقْدِيرُ: وَأَهْلَكْنَا عَادًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرُ فِعْلُ (وَاذْكُرْ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَمُقَدَّرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى ضَمِيرِ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [العنكبوت: 37] وَالتَّقْدِيرُ: وَأَخَذَتْ عَادًا وَثَمُودًا. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 3] . وَهَذَا بَعِيدٌ لِطُولِ بُعْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ نَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ (وَأَخَذْنَا) يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] لِأَنَّ (كُلًّا) اسْمٌ يَعُمُّ الْمَذْكُورِينَ فَلَمَّا جَاءَ مُنْتَصِبًا بِ أَخَذْنا تَعَيَّنَ أَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ بِمِثْلِهِ وَتَنْوِينُ الْعِوَضِ الَّذِي لَحِقَ (كُلًّا) هُوَ الرَّابِطُ وَأَصْلُ نَسْجِ الْكَلَامِ: وَعَادًا وَثَمُودًا وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ إِلَخْ ... كُلُّهُمْ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَعْنَى: تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَسَاكِنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا فَأُهْلِكُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ. وَمَسَاكِنُ عَادٍ وَثَمُودَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَمَنْقُولَةٌ بَيْنَهُمْ أَخْبَارُهَا وَأَحْوَالُهَا وَيَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الشَّامِ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 39]

وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي تَبَيَّنَ عَائِد إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ يَتَبَيَّنُ لَكُمْ إِهْلَاكُهُمْ أَوْ أَخْذُنَا إِيَّاهُمْ. وَجُمْلَةُ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملَة وَعاداً وَثَمُودَ. وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ. وَالْمُرَادُ: زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ الشَّنِيعَةَ فَأَوْهَمَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّهَا حَسَنَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] . وَالصَّدُّ: الْمَنْعُ عَنْ عَمَلٍ. والسَّبِيلِ هُنَا: مَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ الْحَقِّ وَهُوَ السَّعَادَةُ الدَّائِمَةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِتَسْوِيلِهِ لَهُمْ كُفْرَهُمْ قَدْ حَرَمَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَكَأَنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ يُبَلِّغُهُمْ إِلَى الْمَقَرِّ النَّافِعِ. وَالِاسْتِبْصَارُ: الْبَصَارَةُ بِالْأُمُورِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ وَاسْتَمْسَكَ وَاسْتَكْبَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ بَصَائِرَ، أَيْ عُقُولٍ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي صَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ اقْتِضَاءٌ أَنَّ ضَلَالَ عَادٍ كَانَ ضَلَالًا نَاشِئًا عَنْ فَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الْمُتَأَصِّلِ فِيهِمْ وَالْمَوْرُوثِ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْجُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصدق رسلهم. [39] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 39] وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) كَمَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِقُرَيْشٍ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهَا، كَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبِي لَهَبٍ، بِصَنَادِيدِ بَعْضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَانُوا سَبَبَ مُصَابِ أَنْفُسِهِمْ وَمُصَابِ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، إِنْذَارًا لِقُرَيْشٍ بِمَا عَسَى أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ تَغْرِيرِ قَادَتِهِمْ بِهِمْ وَإِلْقَائِهِمْ فِي خَطَرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ. وَتَقَدَّمَتْ قَصَصُهُمْ وَقِصَّةُ قَارُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.

فَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ لِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ فَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي تَحَدَّاهُمْ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ فَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنْهَا وَاتَّبَعَهُ هَامَانُ وَقَوْمُهُ. وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لِقَارُونَ فَنَهْيُهُ عَنِ الْبَطَرِ. وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا عَنْ عِنَادٍ وَكِبْرِيَاءَ لَا عَنْ جَهْلٍ وَغُلَوَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: 23] فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ لَا يُظَنُّ أَنَّ فِطْنَتَهُمْ لَمْ تَبْلُغْ بِهِمْ إِلَى تَحَقُّقِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقٌ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ حَقٌّ وَلَكِنْ غَلَبَتِ الْأَنَفَةُ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ [العنكبوت: 38] . وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت: 38] . وَتَعْلِيقُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ ب فَاسْتَكْبَرُوا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اسْتِكْبَارَ كُلٍّ مِنْهُمْ كَانَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، فيومىء ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا فِي الْأَرْضِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ هُوَ أَرْضُ كُلٍّ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ مُبَالَغَةً فِي انْتِشَارِ اسْتِكْبَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَعُمُّ الدُّنْيَا كُلَّهَا. وَمَعْنَى السَّبْقِ فِي قَوْلِهِ وَما كانُوا سابِقِينَ الِانْفِلَاتُ مِنْ تَصْرِيفِ الْحُكْمِ فِيهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [59] ، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُفِدْهُمِ اسْتِكْبَارُهُمْ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ الْكَوْنِ بَعْدَ النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ مَا حَسَبُوهُ نَتِيجَةَ اسْتِكْبَارِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمْ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِمْ. وَمَثَلُ هَذَا الْحَالِ مَثَلُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ وَجَدَهُ مُحْتَضَرًا: أَنْتَ أَبُو جَهِلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ لَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي (أَيْ زَرَّاعٍ يَعْنِي رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ أَهْلُ حرث وَزرع) .

[سورة العنكبوت (29) : آية 40]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 40] فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) أَفَادَتِ الْفَاءُ التَّفْرِيعَ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَمِنِ اسْتِكْبَارِ الْآخَرِينَ، أَيْ فَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ أَنْ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمُ الْعَظِيمَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَعَنِ اسْتِكْبَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ الْمُفَرَّعُ هُوَ أَخْذُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَشْعَرَ بِهِ مَا قَبْلَ التَّفْرِيعِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ لِيُفْضَى بِذِكْرِهِ إِلَى تَفْصِيلِ أَنْوَاعِ أَخْذِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً إِلَى آخِرِهِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ إِلَخْ لِتَفْرِيعِ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عَلَى الْإِجْمَالِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فَتَحْصُلُ خُصُوصِيَّةُ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ. فَأَمَّا الَّذِينَ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حَاصِبٌ فَهُمْ عَادٌ. وَالْحَاصِبُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ، سُمِّيَتْ حَاصِبًا لِأَنَّهَا تَقْلَعُ الْحَصْبَاءَ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو وجرة السَّعْدِيُّ: صَبَبْتُ عَلَيْكُمْ حَاصِبِي فَتَرَكْتُكُمْ ... كَأَصْرَامِ عَادٍ حِينَ جَلَّلَهَا الرَّمْدُ فَجَعَلَ الْحَاصِبَ مِمَّا أَصَابَ عَادًا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ قَوْمُ لُوطٍ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ [الْقَمَر: 34] لِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ مَرَّ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى عَذَابِهِمْ مُفَصَّلًا فَلَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ. وَالَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ هُمْ ثَمُودُ. وَالَّذِينَ خَسَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ هُوَ قَارُونُ وَأَهْلُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخَسْفِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [81، 82] . وَالَّذِينَ أَغْرَقَهُمْ: فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا. وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. وَالْأَخْذُ: الْإِتْلَافُ وَالْإِهْلَاكُ شَبَّهَ الْإِعْدَامَ بِالْأَخْذِ بِجَامِعِ إِزَالَةِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ أَخَذْنا. وَقَدْ نُفِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ظُلْمُ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ إِيلَامَهُمْ كَانَ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الْجَزَاءِ يُوصَفُ بِالْعَدْلِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِالظُّلْمِ فَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ سَمْعًا لَا عَقْلًا فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا فِي

[سورة العنكبوت (29) : آية 41]

مَقَامِ التَّكْوِينِ فَلَا. وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ هُوَ تَسَبُّبُهُمْ فِي عَذَابِ أَنْفُسِهِمْ فَجَرُّوا إِلَيْهَا الْعِقَابَ لِأَنَّ النَّفْسَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِرَأْفَةِ صَاحِبِهَا بِهَا وَتَفْكِيرِهِ فِي أَسْبَابِ خَيرهَا. والاستدراك ناشىء عَنْ نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ فِي عِقَابِهِمْ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ مُوجِبِ الْعِقَابِ فَالِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ هَذَا التَّوَهُّم. [41] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 41] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) لَمَّا بُيِّنَتْ لَهُمُ الْأَشْبَاهُ وَالْأَمْثَالُ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي اتَّخَذَتِ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ أَصْنَامُهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لِحَالِ جَمِيعِ أُولَئِكَ وَحَالِ مَنْ مَاثَلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي اتِّخَاذِهِمْ مَا يَحْسَبُونَهُ دَافِعًا عَنْهُمْ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ تَتَّخِذُ لِنَفْسِهَا بَيْتًا تَحْسَبُ أَنَّهَا تَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْمُعْتَدِي عَلَيْهَا فَإِذَا هُوَ لَا يَصْمُدُ وَلَا يَثْبُتُ لِأَضْعَفِ تَحْرِيكٍ فَيَسْقُطُ وَيَتَمَزَّقُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وَتُعْلَمُ مُسَاوَاةُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: 42] فَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. وَجُمْلَةُ اتَّخَذَتْ بَيْتاً حَالٌ مِنَ الْعَنْكَبُوتِ وَهِيَ قَيْدٌ فِي التَّشْبِيهِ. وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا مَعَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ قَابِلَةٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَائِهَا فَالْمُشْرِكُونَ أَشْبَهُوا الْعَنْكَبُوتَ فِي الْغُرُورِ بِمَا أَعَدُّوهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ أَشْبَهُوا بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ فِي عَدَمِ الْغَنَاءِ عَمَّنِ اتَّخَذُوهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَتَزُولُ بِأَقَلِّ تَحْرِيكٍ، وَأَقْصَى مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْهَا نَفْعٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ السُّكْنَى فِيهَا وَتَوَهُّمُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ كَمَا يَنْتَفِعُ الْمُشْرِكُونَ بِأَوْهَامِهِمْ فِي أَصْنَامِهِمْ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [43] . والْعَنْكَبُوتِ: صِنْفٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ ذَاتُ بُطُونٍ وَأَرْجُلٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، مِنْهَا صِنْفٌ يُسَمَّى لَيْثَ الْعَنَاكِبِ وَهُوَ الَّذِي يَفْتَرِسُ الذُّبَابَ، وَكُلُّهَا تَتَّخِذُ لِأَنْفُسِهَا نَسِيجًا تَنْسِجُهُ مِنْ لُعَابِهَا يَكُونُ خُيُوطًا مَشْدُودَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 42]

الْجُدْرَانِ، وَتَتَّخِذُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْخُيُوطِ جَانِبًا أَغْلَظَ وَأَكْثَرَ اتِّصَالَ خُيُوطٍ تَحْتَجِبُ فِيهِ وَتُفَرِّخُ فِيهِ. وَسُمِّيَ بَيْتًا لِشَبَهِهِ بِالْخَيْمَةِ فِي أَنَّهُ مَنْسُوجٌ وَمَشْدُودٌ مِنْ أَطْرَافِهِ فَهُوَ كَبَيْتِ الشِّعْرِ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مُعْتَرِضَةٌ مُبِيِّنَةٌ وَجْهَ الشَّبَهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْمِثْلِ فَيُضْرَبُ لِقِلَّةِ جَدْوَى شَيْءٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الَّتِي يَعْبُدُ أَهْلُهَا غَيْرَ اللَّهِ هِيَ أَحْقَرُ الدِّيَانَاتِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الضَّلَالَاتِ كَمَا تَتَفَاوَتُ بُيُوتُ الْعَنْكَبُوتِ فِي غِلَظِهَا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الدُّوَيْبَّاتِ الَّتِي تَنْسِجُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. وَجُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ لَا بِجُمْلَةِ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ. فَتَقْدِيرُ جَوَابِ لَوْ هَكَذَا: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ، أَيْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انْعِدَامَ غَنَاءِ مَا اتَّخَذُوهُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا أَوْهَنِيَّةُ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَلَا يجهلها أحد. [42] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 42] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) لَمَّا نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ التَّمْثِيلُ مِنْ حَقَارَةِ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَقِلَّةِ جَدْوَاهَا بِقَوْلِهِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 41] الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَعْقَبَهُ بِإِعْلَامِهِمْ بِعِلْمِهِ بِدَقَائِقِ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاخْتِلَافِ مُعْتَقَدَاتِ الْقَبَائِلِ الَّتِي عَبَدَتْهَا، وَأَنَّ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ بِهَا ضَرْبَ ذَلِكَ الْمَثَلِ لِحَالِ مَنْ عَبَدُوهَا وَحَالِهَا أَيْضًا دَفْعًا بِهِمْ إِلَى أَنْ يَتَّهِمُوا عُقُولَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِم النّظر من حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ تَعْرِيضًا بِقُصُورِ عِلْمِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 216] ، فَهَذَا تَوْقِيفٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي عِلْمِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الَّتِي عَلِمَهَا اللَّهُ وَأَبْلَغَهُمْ دَلَائِلَهَا النَّظَرِيَّةَ وَنَظَائِرَهَا التَّارِيخِيَّةَ، وَقَرَّبَهَا إِلَيْهِمْ بِالتَّمْثِيلَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَعَمُوا وَصَمُّوا عَنْ هَذَا وَذَاكَ. وَمَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً مُعَلِّقَةً فِعْلَ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ، وَتَكُونَ مِنْ زَائِدَةً لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ، وَمَجْرُورُهَا مَفْعُولٌ فِي الْمَعْنى لتدعون

ظَهَرَتْ عَلَيْهِ حَرَكَةُ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّكُمْ تَدْعُونَ أُمُورًا عَدَمِيَّةً، فَفِيهِ تَحْقِيرٌ لِأَصْنَامِهِمْ بِجَعْلِهَا كَالْعَدَمِ لِأَنَّهَا خُلُوٌّ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَهِيَ فِي بَابِهَا كَالْعَدَمِ فَلَمَّا شَابَهَتِ الْمَعْدُومَاتِ فِي انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ الْمَزْعُومَةِ لَهَا اسْتُعْمِلَ لَهَا التَّرْكِيبُ الدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَلَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَعَوْا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ سَابِقَهُ وَلَاحِقَهُ يَأْبَاهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [113] ، ولَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [68] ، وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، أَيْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ كَالْعَدَمِ ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَلِعَبَدَتِهَا مَثَلًا بِالْعَنْكَبُوتِ الَّذِي اتَّخَذَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَنَّهَا كَالْعَدَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً مُعَلِّقَةً فِعْلَ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ، أَيْ عَلِمْتُ جَوَابَهُ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مِنَ الْإِبْهَامِ، أَيْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَدْعُوَّاتِ الْعَدِيدَةِ فِي الْأُمَمِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ جَوَابَ سُؤَالِ السَّائِلِ «مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَمِنْ عِلْمِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ بِالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَلِلْمَعْبُودَاتِ مَثَلًا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَنْتُمْ لَوْ سُئِلْتُمْ: مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَتَلَعْثَمْتُمْ وَلَمْ تُحِيرُوا جَوَابًا فَإِنَّ شَأْنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْهَامِ السَّقِيمَةِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ صَاحِبُهَا بَيَانَهَا بِالْقَوْلِ وَشَرْحَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَتَأَلَّفُ مِنْ تَصْدِيقَاتٍ غَيْرِ مُتَلَائِمَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا تَقْرِيرَهَا فَلَا يَلْبَثُ قَلِيلًا حَتَّى يَفْتَضِحَ فَاسِدُ مُعْتَقَدِهِ مِنْ تَعَذُّرِ إِفْصَاحِهِ عَنْهُ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَعْلَمُ هُنَا مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ بِمَعْنَى (يَعْرِفُ) وَجَعَلَ مَا مَوْصُولَة مفعول يَدْعُونَ والعائذ مَحْذُوفًا، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ إِسْنَادَ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِلَى الله يؤول إِلَى إِسْنَادِ فِعْلِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ فِعْلِ (عَلِمَ) وَفِعْلِ (عَرَفَ) عِنْدَ مَنْ

[سورة العنكبوت (29) : آية 43]

فَسَّرَ الْمَعْرِفَةَ بِإِدْرَاكِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ آثَارِهِ وَخَصَائِصِهِ الْمَحْسُوسَةِ، وَأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ شَاعَ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَنَسَبِهَا. وَعَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ (¬1) «الْعلم معرفتان مجتمعان، فَفِي قَوْلِكَ: عَرَفْتُ زَيْدًا قَائِمًا، يَكُونُ (قَائِمًا) حَالًا مِنْ (زَيْدًا) ، وَفِي قَوْلِكَ: عَلِمْتُ زَيْدًا قَائِمًا، يَكُونُ (قَائِمًا) مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ (عَلِمْتُ) اه. يُرِيدُ أَنَّ فِعْلَ (عَرَفَ) يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إِدْرَاكُ الذَّاتِ، وَفِعْلُ (عَلِمَ) يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكَيْنِ هُمَا إِدْرَاكُ الذَّاتِ وَإِدْرَاكُ ثُبُوتِ حُكْمٍ لَهَا، عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِسْنَادُ فِعْلِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا يؤوّل بِمَعْنَاهَا. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فِي مَعَانِي مَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَيَّنَ حَقَارَةَ حَالِ الْأَصْنَامِ وَاخْتِلَالِ عُقُولِ عَابِدِيهَا فَلَمْ يَعْبَأْ بِفَضْحِهَا وَكَشْفِهَا بِمَا يَسُوءُهَا مَعَ وَفْرَةِ أَتْبَاعِهَا وَمَعَ أَوْهَامِ أَنَّهَا لَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلَّا كَانَتْ أَلْبًا عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ لِلْأَصْنَامِ حَظٌّ فِي الْإِلَهِيَّةِ لَمَا سَلِمَ مَنْ ضُرِّهَا مَنْ يُحَقِّرُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما تَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 42] كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا فَضَحَ عُقُولَ عُبَّادِهَا لَمْ يَخْشَهُمْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بَلْهَ ذَاتَهُ، فَهُوَ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ، وَحَكِيمٌ لَا تَنْطَلِي عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ وَالسَّفَاسِطُ بِخِلَافِ حَالِ هَاتِيكَ وَأُولَئِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوب بالتحتية. [43] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 43] وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ فَسَادَ مُعْتَقَدِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِذَلِكَ، نَعَى عَلَيْهِمْ هُنَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِتَفَهُّمِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي قُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُبَيِّنُهُ الِاسْمُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ وَهُوَ الْأَمْثالُ. ¬

(¬1) نَقله عَنهُ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي كتاب «العواصم من القواصم» .

[سورة العنكبوت (29) : آية 44]

وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الْأَذْهَانِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ حَصَلَ فِي ذِهْنِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْأَمْثَالِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي مِنْهَا هَذَا الْمَثَلُ بِالْعَنْكَبُوتِ. وَجُمْلَةُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِامْتِنَانِ وَالطَّوْلِ لِأَنَّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَقْرِيبًا لِفَهْمِ الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيئَاتِ الْمَعَانِي وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُتَحَقِّقِ وَالْغَائِبَ كَالْمَشَاهَدِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَزِيَّةِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَلِهَذَا أُتْبِعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِجُمْلَةِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. وَالْعَقْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْفَهْمِ، أَيْ لَا يَفْهَمُ مَغْزَاهَا إِلَّا الَّذِينَ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ فَكَانُوا عُلَمَاءَ غَيْرَ سُفَهَاءِ الْأَحْلَامِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا جُهَلَاءُ الْعُقُولِ، فَمَا بَالُكَ بِالَّذِينَ اعْتَاضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَتِهَا بِاتِّخَاذِهَا هُزُءًا وَسُخْرِيَةً، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الْحَج: 73] ، وَقَوْلَهُ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] قَالُوا: مَا يَسْتَحْيِي مُحَمَّدٌ أَنْ يُمَثِّلَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْبَعُوضِ. وَهَذَا مِنْ بُهْتَانِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ الْبُلَغَاءُ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صاحبتها مقَام. [44] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 44] خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُجَّةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا وَنَتَائِجِهَا الْمُوَصِّلَةِ إِلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ مُسْتَوْفَاةً مُغْنِيَةً لِمَنْ يُرِيدُ التَّأَمُّلَ وَالتَّدَبُّرَ فِي صِحَّةِ مُقَدَّمَاتِهَا بِإِنْصَافٍ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذِ انْتَفَعُوا بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ حَالَةُ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِي دَلَالَةِ الْكَائِنَاتِ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 45]

اللَّهُ، وَأَنْ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ حَقِيقًا بِمُشَارَكَتِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اهْتَدَوْا إِلَى الْعِلْمِ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِذَلِكَ. فَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْقِلُوهَا لَيْسُوا بِعَالِمِينَ أَخْذًا مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا اعْتُبِرَ الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ مِنْ قَوْلِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ أَخْذًا مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا اعْتُبِرَ عُنْوَانُ الْمُؤْمِنِينَ لَقَبًا. وَالِاقْتِصَارُ عِنْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ الْمُفِيدِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَهُمَا عَلَى أَحْوَالِهِمَا كُلِّهَا بِمَا لَيْسَ بِبَاطِلٍ. وَالْبَاطِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا وَفَاءَ فِيهِ بِمَا جُعِلَ هُوَ لَهُ. وَضِدُّ الْبَاطِلِ الْحَقُّ، فَالْحَقُّ فِي كُلِّ عَمَلٍ هُوَ إِتْقَانُهُ وَحُصُولُ الْمُرَادِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] . وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا يَشْمَلُ ذَاتَهُمَا وَالْمَوْجُودَاتِ الْمَظْرُوفَةُ فِيهِمَا. وَهَذَا الْخَلْقُ الْمُتْقَنُ الَّذِي لَا تَقْصِيرَ فِيهِ عَمَّا أُرِيدَ مِنْهُ هُوَ آيَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ وَعَلَى صِفَاتِ ذَاته وأفعاله. [45] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 45] اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) بَعْدَ أَنْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الْمَثَلَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ جَاءَ بِالْحُجَّةِ الْمُبَيِّنَةِ فَسَادَ مُعْتَقَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَنَوَّهَ بِصِحَّةِ عَقَائِدِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُنْتَهَى الْبَيَانِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ مَطْلَبٌ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْخِطَابِ الَّذِي يَزِيدُ تَثْبِيتَهُ عَلَى نَشْرِ الدَّعْوَةِ وَمُلَازِمَةِ الشَّرَائِعِ وَإِعْلَانِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَمَا فِيهِ زِيَادَةُ صَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَمَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا قُدْوَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدُهُمْ فَأَمْرُهُ أَمْرٌ لَهُمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ [هود: 112] قُرْآن إِذْ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْإِرْشَادِ.

وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ اتْلُ لِيَعُمَّ التِّلَاوَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها إِلَى قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (¬1) [النَّمْل: 91، 92] . وَأَمَرَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ فَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ النَّفْسَانِيِّ فَقَالَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَمَوْقِعُ إِنَّ هُنَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّعْلِيلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَاقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ دُونَ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِمَا فِي هَذَا الصَّلَاحِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ سِرٍّ إِلَهِيٍّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ النَّاسُ إِلَّا بِإِرْشَادٍ مِنْهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا تَنْهَى الْمُصَلِّيَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ حَقِيقَةُ النَّهْيِ غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالصَّلَاةِ تَعَيَّنَ أَنَّ فِعْلَ تَنْهى مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ بِعَلَاقَةٍ أَوْ مُشَابَهَةٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تُيَسِّرُ لِلْمُصَلِّي تَرْكَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَاةَ صَارِفَةُ الْمُصَلِّي عَنْ أَنْ يَرْتَكِبَ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ فَإِنَّ الْمُشَاهَدَ يُخَالِفُهُ إِذْ كَمْ مِنْ مُصَلٍّ يُقِيمُ صَلَاتَهُ وَيَقْتَرِفُ بَعْضَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَصْرِفُ الْمُصَلِّيَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مَا دَامَ مُتَلَبِّسًا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِقِلَّةِ جَدْوَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ يَصْرِفُ الْمُشْتَغِلَ بِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ. وَإِذْ كَانَتِ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِلتَّنْوِيهِ بِالصَّلَاةِ وَبَيَانِ مَزِيَّتِهَا فِي الدِّينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُحَذِّرُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ تَحْذِيرًا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَلِلْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ مِنْهَا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لِلصَّلَاةِ مِنْ ثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ وَلَيْسَ مُنْصَبًّا إِلَى تَرْكِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَكِنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَوْفِيرِ الْحَسَنَاتِ لَعَلَّهَا أَنْ تَغْمُرَ السَّيِّئَاتِ، فَيَتَعَيَّنَ لِتَفْسِيرِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا) .

هَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرًا مَقْبُولًا أَنْ نَعْتَبِرَ حُكْمَهَا عَامًّا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِصَلَوَاتِ الْأَبْرَارِ، وَبِذَلِكَ تَسْقُطُ عِدَّةُ وُجُوهٍ مِمَّا فَسَّرُوا بِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَذَلِكَ عِنْدِي بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْبَاتِ صَلُحَتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ وَخَامَرَهَا ارْتِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَاطَّرَدَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَانْتَهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» اه. وَفِيهِ اعْتِبَارُ قُيُودٍ فِي الصَّلَاةِ لَا تُنَاسِبُ التَّعْمِيمَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَحِقُّ أَنْ يُلَقَّنَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي ابْتِدَاءِ تَلْقِينِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُ تَنْهى عَلَى الْمَجَازِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ تَشْبِيهُ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِالنَّهْيِ، وَتَشْبِيهُ الصَّلَاةِ فِي اشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ بِالنَّاهِي، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مُذَكِّرَاتٍ بِاللَّهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَلِّي كَالْوَاعِظِ الْمُذَكِّرِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ يَنْهَى سَامِعَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: صَدِيقُكَ مِرْآةٌ تَرَى فِيهَا عُيُوبَكَ. فَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الْأَقْوَالِ تَكْبِيرٌ لِلَّهِ وتحميده وتسبيحه والتوجيه إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَطَلَبِ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ مِنْهُ وَاجْتِنَابِ مَا يُغْضِبُهُ وَمَا هُوَ ضَلَالٌ، وَكُلُّهَا تُذَكِّرُ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ عِصْيَانِهِ وَمَا يُفْضِي إِلَى غَضَبِهِ فَذَلِكَ صَدٌّ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَفِي الصَّلَاةِ أَفْعَالٌ هِيَ خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِلُزُومِ اجْتِلَابِ مَرْضَاتِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ سَخَطِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَصُدُّ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَفِي الصَّلَاةِ أَعْمَالٌ قَلْبِيَّةٌ مِنْ نِيَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأَنَّ الْمَعْبُودَ جَدِيرٌ بِأَنْ تُمْتَثَلَ أَوَامِرُهُ وَتُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ. فَكَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَجْمُوعِهَا كَالْوَاعِظِ النَّاهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَمْ يَقِلْ تَصُدُّ وَتَحُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي صَرْفَ الْمُصَلِّي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.

ثُمَّ النَّاسُ فِي الِانْتِهَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ هُوَ مِنْ حِكْمَةِ جَعْلِ الصَّلَوَاتِ مُوَزَّعَةً عَلَى أَوْقَاتٍ مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ لِيَتَجَدَّدَ التَّذْكِيرُ وَتَتَعَاقَبَ الْمَوَاعِظُ، وَبِمِقْدَارِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ تَزْدَادُ خَوَاطِرُ التَّقْوَى فِي النُّفُوسِ وَتَتَبَاعَدُ النَّفْسُ مِنَ الْعِصْيَانِ حَتَّى تَصِيرَ التَّقْوَى مَلِكَةً لَهَا. وَوَرَاءَ ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ بِهَا تَيْسِيرُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ: سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ» أَيْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَكُلَّمَا تَذَكَّرَ الْمُصَلِّي عِنْدَ صَلَاتِهِ عَظَمَةَ رَبِّهِ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ وَذَكَرَ مَا قَدْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَانَتْ صَلَاتُهُ حِينَئِذٍ قَدْ نَهَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. والْفَحْشاءِ: اسْمٌ لِلْفَاحِشَةِ، وَالْفُحْشُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَقْبُولِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْفَاحِشَةِ: الْفَعْلَةُ الْمُتَجَاوِزَةُ مَا يُقْبَلُ بَيْنَ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] . وَالْمَقْصُودُ هُنَا مِنَ الْفَاحِشَةِ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبِالْمُنْكَرِ: مَا يُنكره الشَّرْع وَلَا يَرْضَى بِوُقُوعِهِ. وَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَالْمُنْكَرِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى اخْتِلَافِ جِهَةِ ذَمِّهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فَيَكُونُ عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى عِلَّةٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ هُوَ الصَّلَاةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: 9] أَيْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الصَّلَاةِ الَّذِي هُوَ كَالِاسْمِ لَهَا إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّمَا كَانَتْ نَاهِيَةً عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ اللَّهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبٌ الْمُفَاضَلَةَ مَقْصُودٌ بِهِ قُوَّةُ الْوَصْفِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا تُرِيدُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كَبِيرٍ آخَرَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرِ اللَّهَ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ تَذَكُّرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ لِيَعُمَّ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ أَيْضًا مَسْلُوبٌ الْمُفَاضَلَةَ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ تَذَكُّرَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، أَيْ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَذَرَ غَضَبِهِ، فَالتَّفْضِيلُ عَلَى بَابِهِ، أَيْ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ النَّهْيِ، وَذَلِكَ لِإِمْكَانِ تَكْرَارِ هَذَا الذِّكْرِ أَكْثَرَ مِنْ تَكَرُّرِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ. فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَمَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْبِرِّ أَرْدَفَهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] . وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ عَادَ بِهِ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَتَفْظِيعِ الشِّرْكِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: 42] إِلَى هُنَا. وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ وَقَوْلُهُ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَالصُّنْعُ: الْعَمَلُ

[سورة العنكبوت (29) : آية 46]

[46] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 46] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [العنكبوت: 45] الْآيَةَ، بِاعْتِبَارِ مَا تَسْتَلْزِمُهُ تِلْكَ مِنْ مُتَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَفِّ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ تَوْطِئَةٌ لِمَا سَيَحَدُثُ مِنَ الدَّعْوَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تَعْرِضُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِبَّانِ نُزُولِ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى وَشْكِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مُجَادِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ غَلِيظَةً عَلَيْهِمْ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ، وَقَوْلُهُ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ هَيَّأَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرِيقَةَ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: 47] الْآيَاتِ. وَجِيءَ فِي النَّهْيِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَعُمَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ إِذْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِينَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَبْلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ. وَالْمُجَادَلَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى رَأْيٍ اخْتَلَفَ فِيهِ صَاحِبُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِحُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى

يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهَا هَلْ نُسِخَتْ أَمْ بَقِيَ حُكْمُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ خُرُوجٌ بِهَا عَنْ مَهْيَعِهَا. وَالْمُجَادَلَةُ تَعْرِضُ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ وَأَوْقَاتِ الْقِتَالِ. وأَهْلَ الْكِتابِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْيَهُودُ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْقُرَى حَوْلَهَا. وَيَشْمَلُ النَّصَارَى إِنْ عَرَضَتْ مُجَادَلَتُهُمْ مِثْلَ مَا عَرَضَ مَعَ نَصَارَى نَجْرَان. وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُسْتَثْنًى مِنْ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَثْنَى، تَقْدِيرُهُ: لَا تُجَادِلُوهُمْ بِجِدَالٍ إِلَّا بِجِدَالٍ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وأَحْسَنُ اسْمُ تَفْضِيلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ فَيُقَدَّرُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ بِأَحْسَنَ مِنْ مُجَادَلَتِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكُمْ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ كَوْنُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْنِ، أَيْ إِلَّا بِالْمُجَادَلَةِ الْحُسْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [125] . فَاللَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالْحُسْنَى كَمَا اقْتَضَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ، وَبَيْنَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالشِّدَّةِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] ، فَإِنَّ الْإِغْلَاظَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ وَمِنْهَا الْمُجَادَلَاتُ وَلَا يَخْتَصُّ بِخُصُوصِ الْجِهَادِ فَإِنَّ الْجِهَادَ كُلَّهُ إِغْلَاظٌ فَلَا يَكُونُ عَطْفُ الْإِغْلَاظِ عَلَى الْجِهَادِ إِلَّا إِغْلَاظًا غَيْرَ الْجِهَادِ. وَوَجْهُ الْوِصَايَةِ بِالْحُسْنَى فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ غَيْرُ مُشْرِكِينَ بِهِ فَهُمْ مُتَأَهِّلُونَ لِقَبُولِ الْحُجَّةِ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَلِأَنَّ آدَابَ دِينِهِمْ وَكِتَابِهِمْ أَكْسَبَتْهُمْ مَعْرِفَةَ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ فَيَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ فِي مُجَادَلَتِهِمْ عَلَى بَيَانِ الْحُجَّةِ دُونَ إِغْلَاظٍ حَذَرًا مِنْ تَنْفِيرِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ تَصَلُّبِهِمْ وَصَلَفِهِمْ وَجَلَافَتِهِمْ مَا أَيْأَسَ مِنْ إِقْنَاعِهِمْ بِالْحُجَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَعَيَّنَ أَنْ يُعَامَلُوا بِالْغِلْظَةِ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي تَهْجِينِ دِينِهِمْ وَتَفْظِيعِ طَرِيقَتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ نُجُوعًا لَهُمْ.

وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي ابْتِدَاءِ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِقَدْرِ مَا يُسْمَحُ بِهِ رَجَاءُ الِاهْتِدَاءِ مِنْ طَرِيقِ اللِّينِ، فَإِنْ هُمْ قَابَلُوا الْحُسْنَى بِضِدِّهَا انْتَقَلَ الْحُكْمُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. والَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَابَرُوا وَأَظْهَرُوا الْعَدَاءَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَوْا أَنْ يَتَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ فَهَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمَيْنِ حَسَدًا وَبُغْضًا عَلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ، وَجَعَلُوا يَكِيدُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشَأَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَكُلُّ هَذَا ظُلْمٌ وَاعْتِدَاءٌ. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ قَبْلَ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسَالِمِينَ الْإِسْلَامَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ كَمَا قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ» . فَلَمَّا جَاءَ الْمَدِينَةَ دَعَاهُمْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ فِيهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَأَخَذُوا مِنْ يَوْمِئِذٍ يَتَنَكَّرُونَ لِلْإِسْلَامِ. وَعَطْفُ وَقُولُوا آمَنَّا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَعْلِيمٌ لِمُقَدِّمَةِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَهَذَا مِمَّا يُسَمَّى تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَتَقْرِيبُ شُقَّةِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ تَأْصِيلُ طُرُقِ الْإِلْزَامِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى كَذَا وَكَذَا فَلْنَحْتَجَّ عَلَى مَا عَدَا ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا أُمِرُوا بِقَوْلِهِ هُنَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبِيلَ إِلَى الْوِفَاقِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْمُجَادَلَةِ لِأَنَّ الْمُجَادَلَةَ تَقَعُ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ وَلِأَنَّ مَا أُمِرُوا بِقَوْلِهِ هُنَا هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُجَادَلَةُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّا يُخَالِفُ عَقَائِدَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. [آل عمرَان: 65- 67] . وَلِأَجْلِ أَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمُجَادَلَةِ عُطِفَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْمُجَادَلَةُ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا فَصْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ. وَمَعْنَى بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا الْقُرْآنُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَأِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ جَحَدُوا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ

[سورة العنكبوت (29) : آية 47]

كِتَابًا عَلَى غَيْرِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ عَطْفُ صِلَةِ اسْمٍ مَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، أَيِ الْكِتَابُ وَهُوَ «التَّوْرَاةُ» بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ إِلَيْكُمْ. وَالْمَعْنَى: إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْحَرِفُوا عَنَّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: 59] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودَ يُؤْمِنُونَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. فَهَذَانِ أَصْلَانِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُرَادٌ بِهِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَفَرِيقُ الْمُخَاطَبِينَ. فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِوَصْفِ مُسْلِمُونَ أَحَدَ إِطْلَاقَيْهِ وَهُوَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ عَدَمُ الْإِشْرَاكِ بِهِ، أَيْ وَكِلَانَا مُسْلِمُونَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا نُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ مُسْلِمُونَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفْرِدُوا الله بالإلهية. [47] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 47] وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) هَذَا عَوْدٌ إِلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّنْزِيلِ الْبَدِيعِ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ، فَهُوَ بَدِيعٌ فِي فَصَاحَتِهِ، وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، وَعُذُوبَةِ تَرَاكِيبِهِ، وَارْتِفَاعِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَفِي تَنْجِيمِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى بَدَاعَةِ تَنْزِيلِهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الَّذِينَ عَلَّمَهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ يُصَدِّقُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَدْرَى بِأَسَالِيبِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَعْلَمُ بِسِمَاتِ الرُّسُلِ وَشَمَائِلِهِمْ.

وَإِنَّمَا قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَأَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّ فِي آتَيْناهُمُ الْكِتابَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 44] . وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ إِيمَانِ هَذَا الْفَرِيقِ بِهِ، أَيْ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مُسْتَمِرٌّ يَزْدَادُ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا. وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ فِي الذِّهْنِ بِكَثْرَةِ مُمَارَسَةِ أَحْوَالِهِمْ وَجِدَالِهِمْ. وَهَكَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ حَيْثُ يُذَكِّرُ هؤُلاءِ بِدُونِ سَبْقٍ مَا يَصْلُحُ لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ أَلْهَمَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [89] . وَالْمَعْنَى: وَمِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أَيْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَالَّذِينَ يُسَلِمُونَ مِنْ بَعْدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي بَاطِنِهِ وَلَا يُظْهِرُ ذَلِكَ عِنَادًا وَكِبَرًا مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ إِلَى أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ مَكَّةَ مَنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ جُحُودًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ تَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْوَصْفِ الْمُعَرَّفِ، أَيْ إِلَّا الْمُتَوَغِّلُونَ فِي الْكُفْرِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ، لِيَظْهَرَ وَجْهُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَا يَجْحَدُ وَبَيْنَ الْكافِرُونَ إِذْ لَوْلَا الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يَجْحَدُ إِلَّا الْجَاحِدُونَ. وَعَبَّرَ عَن الْكِتابَ ب (الْآيَات) لِأَنَّهُ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِعْجَازِهِ وَتَحَدِّيهِ وَعَجْزِ الْمُعَانِدِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ ابْتِدَاءً إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ جُحُودَهُمْ وَاقِعٌ، وَفِيهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَجْحَدَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دُونِ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْآنَ فَإِنْ فَعَلُوهُ فَقَدْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ على أنفسهم.

[سورة العنكبوت (29) : آية 48]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 48] وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ الْمَعْرُوفِ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ دَلَالَةٍ وَقَدْ وَرَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وَقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. [يُونُس: 16] . وَمَعْنَى: مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ كِتَابًا حَتَّى يَقُولَ أَحَدٌ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ. وَلَا تَخُطُّهُ أَيْ لَا تَكْتُبُ كِتَابًا وَلَوْ كُنْتَ لَا تَتْلُوهُ، فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ حَالَتَيِ التَّعَلُّمِ، وَهَمَا التَّعَلُّمُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّعَلُّمُ بِالْكِتَابَةِ اسْتِقْصَاءً فِي تَحْقِيقِ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يَحْفَظُ كِتَابًا وَلَا يَعْرِفُ يَكْتُبُ لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا كَالْعُلَمَاءِ الْعُمْيِ، وَالَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَلَا يَحْفَظُ عِلْمًا لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا مِثْلَ النُّسَّاخِ فَبِانْتِفَاءِ التِّلَاوَةِ وَالْخَطِّ تَحَقَّقَ وصف الأمية. وإِذاً جَوَابٌ وَجَزَاءٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِ (لَوْ) لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا وَلا تَخُطُّهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كُنْتَ تَتْلُو قَبْلَهُ كِتَابًا أَوْ تَخُطُّهُ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. ومجيء جَوَاب إِذاً مُقْتَرِنًا بِاللَّامِ الَّتِي يَغْلِبُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْ) بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطٌ بِ (لَوْ) كَمَا فِي قَول قريظ الْعَنْبَرِيِّ: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مَنْ ذُهْلِ ابْنِ شَيْبَانَا إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لَانَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» : (إِذَنْ) هُوَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَخْرَجَ جَوَابِ قَائِلٍ قَالَ لَهُ: وَلَوِ اسْتَبَاحُوا إِبِلَكَ مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ بَنُو مَازِنٍ؟ فَقَالَ: إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا: إِذَنْ لَقَامَ، جَوَابَ (لَوْ) كَأَنَّهُ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ. وَهَذَا كَمَا

[سورة العنكبوت (29) : آية 49]

تَقُولُ: لَوْ كُنْتَ حُرًّا لَاسْتَقْبَحْتَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبِيدُ إِذَنْ لَاسْتَحْسَنْتَ مَا يَفْعَلُهُ الْأَحْرَارُ اه. يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: إِذَنْ لَقَامَ، بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: لَمْ تَسْتَبِحْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [91] . وَالِارْتِيَابُ: حُصُولُ الرَّيْبِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الشَّكُّ. وَوَجْهُ التَّلَازُمِ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عَلَى نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَبَيْنَ حُصُولِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا لَاحْتَمَلَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ كُتُبٍ سَالِفَةٍ وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا خَطَّهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ كَلَامٍ تَلَقَّاهُ فَقَامَ الْيَوْمَ بِنَشْرِهِ وَيَدْعُو بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ مُوجِبَ رَيْبٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبَ جَزْمٍ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتَهُ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَصَصِ وَالْخُطَبِ وَالشِّعْرِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُسْتَدْعِيًا تَأَمُّلًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ خُطُورِ خَاطِرِ الِارْتِيَابِ عَلَى الْإِجْمَالِ قَبْلَ إِتْمَامِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بِحَيْثُ يَكُونُ دَوَامُ الِارْتِيَابِ بُهْتَانًا وَمُكَابَرَةً. وَتَقْيِيدُ تَخُطُّهُ بِقَيْدِ بِيَمِينِكَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَمِينِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] . وَوَصْفُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُبْطِلِينَ مَنْظُورٌ فِيهِ لِحَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا مَعَ انْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْكَذِبِ فَكَانَ تَكْذِيبُهُمُ الْآنَ بَاطِلًا، فَهُمْ مُبْطِلُونَ مُتَوَغِّلُونَ فِي الْبَاطِلِ، فَالْقَوْلُ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُبْطِلِينَ كَالْقَوْلِ فِي وَصفهم بالكافرين. [49] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 49] بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) بَلْ إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ من قَوْله: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] ، أَيْ بَلِ الْقُرْآنُ لَا رَيْبَ يَتَطَرَّقُهُ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ كُلُّهُ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى صدق

الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَلِمَا أَيَّدَ ذَلِكَ الْإِعْجَازَ مِنْ كَوْنِ الْآتِي بِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ كِتَابًا وَلَا يَخُطُّ، أَيْ بَلِ الْقُرْآنُ آيَاتٌ لَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُتْلَى قَبْلَ نُزُولِهِ بَلْ هُوَ آيَاتٌ فِي صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمُرَادُ مِنْ: صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صدر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ. والْعِلْمَ الَّذِي أُوتِيَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النبوءة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً [النَّمْل: 15] . وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ كَوْنَهُ فِي صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ شَأْنُ كُلِّ مَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِهِ، فَإِذَا أُنْزِلَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخُطَّهُ الْكَاتِبُونَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ كِتَابًا لِلْوَحْيِ فَكَانُوا رُبَّمَا كَتَبُوا الْآيَةَ فِي حِينِ نُزُولِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: 95] وَكَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ نُزُولِهِ مَتْلُوًّا، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَتْلُوًّا قَبْلَ نُزُولِهِ. هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْإِضْرَابِ عَنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو كِتَابًا قَبْلَ هَذَا الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ تَلَقِّي الْقُرْآنِ، فَذَلِكَ هُوَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ كَمَا قَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: 193، 194] وَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: 32] . وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِلْغَرَضِ وَإِكْمَالٌ لِمُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ الضَّمِيرِ. وَيَلْتَئِمُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ بَلْ هُوَ أُلْقِيَ فِي صَدْرِكَ وَهُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صُدُورَ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُفَّاظِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَتْمِيمًا لِلثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ صِفَةً لِ آياتٌ وَالْإِبْطَالُ مُقْتَصِرٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 50]

وَجُمْلَةُ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَحَدُوا آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لَا إِنْصَافَ لَهُمْ وَشَأْنُ الظَّالِمِينَ جَحْدُ الْحَقِّ، يَحْمِلُهُمْ عَلَى جَحْدِهِ هَوَى نُفُوسِهِمْ لِلظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: 14] فَهُمْ مُتَوَغِّلُونَ فِي الظُّلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَصْفِهِمْ بالكافرين والمبطلين. [50] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 50] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) لَمَّا ذَكَرَ الْجَاحِدِينَ لِآيَةِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَوَصَفَهُمْ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُبْطِلِينَ وَالظَّالِمِينَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَقَالَتِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنْ جُحُودِهِمْ، وَذَلِكَ طَلَبُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَاتٍ مَرْئِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ كَمَا خَلَقَ نَاقَةَ صَالِحٍ وَعَصَا مُوسَى، وَهَذَا مِنْ جَلَافَتِهِمْ أَنْ لَا يَتَأَثَّرُوا إِلَّا لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْتَصِبُ لِلْمُعَانَدَةِ مَعَهُمْ فَهُمْ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ مَا يَرْغَبُونَهُ لِيَجْعَلُوا مَا يَسْأَلُونَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ حَدِيثَ النَّوَادِي حَتَّى يَكُونَ مَحْضَرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمْ كَمَحْضَرِ الْمُشَعْوِذِينَ وَأَصْحَابِ الْخَنْقَطَرَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَ هَذَا الْوَهْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَات مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [37] . وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقُدْرَةِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى فَلِكَوْنِهَا مَنُوطَةً بِإِرَادَتِهِ شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَ مَالِكِهِ. وَأَفَادَتْ إِنَّمَا قَصْرَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ، أَيِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى خَلْقِ الْآيَاتِ أَوِ اقْتِرَاحِهَا عَلَى رَبِّهِ، فَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ رَدًّا عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَوْصُوفِ بِالرِّسَالَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَوَارِقِ الْمُشَاهَدَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ أَنَّ التَّبْلِيغَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْخَوَارِقِ عَلَى حَسَبِ رَغْبَةِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 51]

النَّاسِ وَاقْتِرَاحِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مَعْذُورِينَ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ إِذَا لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةٍ حَسَبَ اقْتِرَاحِهِمْ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِ الرِّسَالَةِ وَصْفُ النَّذِيرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ وَهُوَ تَوَقُّعُ الشَّرِّ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ لِلْإِنْذَارِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا يُخْبِرُ بِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: آياتٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ: آيَةٌ. وَالْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْجِنْسِ، فَالْآيَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ فِي التَّصْدِيق. [51] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 51] أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت: 50] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْمُجَادَلَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: وَهَلْ لَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ مِنْ مَقَادِيرِ إِعْجَازِهِ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ زُهَاءُ سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ. وَمِقْدَارُ كَلِّ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِقْدَارٌ مُعْجِزٌ، فَيَحْصُلُ مِنَ الْقُرْآنِ مِقْدَارُ أَلْفَيْ مُعْجِزَةٍ وَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. والْكِتابَ: الْقُرْآنُ، وَعُدِلَ عَنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَالْعَلَمِ عَلَيْهِ إِلَى لَفْظِ الْكِتَابِ الْمَعْهُودِ لِإِيمَائِهِ إِلَى مَعْنَى تَعْظِيمِهِ بِأَنَّهُ الْمُشْتَهَرُ مِنْ بَيْنِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَجُمْلَةُ: يُتْلى عَلَيْهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ، لِأَنَّ الْكِتَابَ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لِلْوَصْفِ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مَادَّةُ التِّلَاوَةِ مِنَ الِانْتِشَارِ وَالشُّيُوعِ. وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ دُونَ الْوَصْفِ بِأَنْ يُقَالَ: مَتْلُوًّا عَلَيْهِمْ، لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمُضَارِعُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ، فَحَصَلَ مِنْ مَادَّةِ يُتْلى وَمِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ.

وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ: يُتْلى عَلَيْهِمْ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى خَمْسِ مَزَايَا لِلْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. الْمَزِيَّةُ الْأُولَى: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ يُتْلى عَلَيْهِمْ مِنِ انْتِشَارِ إِعْجَازِهِ وَعُمُومِهِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْآفَاقِ وَالْأَزْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ فَرِيقٌ خَاصٌّ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ شَأْنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمَشْهُودَةِ مِثْلَ عَصَا مُوسَى وَنَاقَةِ صَالِحٍ وَبُرْءِ الْأَكْمَهِ، فَهُوَ يُتْلَى، وَمِنْ ضِمْنِ تِلَاوَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تُحَدِّتُ النَّاسَ بِمُعَارَضَتِهِ وَسَجَّلَتْ عَلَيْهِمْ عَجْزَهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ قَبْلِ مُحَاوَلَتِهِمْ إِيَّاهَا فَكَانَ كَمَا قَالَ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ وَالْمُعْجِزَاتُ الْأُخْرَى مُعْجِزَاتٌ زَائِلَةٌ. الْمَزِيَّةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مِمَّا يُتْلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَعُ مِنْ كَوْنِ الْمُعْجِزَاتِ الْأُخْرَى أَحْوَالًا مَرْئِيَّةً لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمَتْلُوِّ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ فِكْرِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَكَانَتْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ أَلْيَقُ بِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ عُصُورِ الْعِلْمِ الَّتِي تَهَيَّأَتْ إِلَيْهَا الْإِنْسَانِيَّةُ. الْمَزِيَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً فَإِنَّهَا وَارِدَةٌ مَوْرِدَ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اكْتِفَائِهِمْ بِالْكِتَابِ وَفِي التَّعْلِيلِ تَتْمِيمٌ لِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ بِالْكِتَابِ وَبِ يُتْلى عَلَيْهِمْ، فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْكِتابَ لِيَسْتَحْضِرَ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا وَلِلتَّنْوِيهِ بِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَتَنْكِيرُ (رَحْمَةً) لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا. فَالْكِتَابُ الْمَتْلُوُّ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ رَحْمَةٌ لَهُمُ اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ رَحْمَةٌ وَصَلَاحٌ لِلنَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ، فَالْقُرْآنُ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرْشِدَةً إِلَى تَصْدِيقِهِ مِثْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَهُوَ أَيْضًا وَسِيلَةُ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ وَآدَابٍ لِلْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إِلَّا تَصْدِيقَ الرَّسُولِ الْآتِي بِهَا. الْمَزِيَّةُ الرَّابِعَةُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَذِكْرى فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَوَاعِظَ وَنُذُرٍ وَتَعْرِيفٍ بِعَوَاقِبِ الْأَعْمَالِ، وَإِعْدَادٍ إِلَى الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَذْكِيرٌ بِمَا فِي تَذَكُّرِهِ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الصَّامِتَةِ الَّتِي لَا تُفِيدُ أَزْيَدَ مِنْ كَوْنِ الْآتِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ صَادِقًا.

[سورة العنكبوت (29) : آية 52]

الْمَزِيَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا مَتْلُوًّا مُسْتَطَاعًا إِدْرَاكُ خَصَائِصِهِ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَلِكُلِّ مَنْ حَذَقَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ أَيِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، يُبْعِدُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ نَفَثَاتِ السَّحَرَةِ وَالطَّلَاسِمِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ طَاعِنٌ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ تَخَيُّلَاتٌ كَمَا قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف: 49] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ رَأَوْا مُعْجِزَةَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] ، فَأَشَارَ قَوْلُهُ: يُعْرِضُوا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْهُمْ فِي مُعْجِزَةٍ مَرْئِيَّةٍ. وَعُلِّقَ بِالرَّحْمَةِ وَالذِّكْرَى قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ مَنَافِعُ مِنَ الْقُرْآنِ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْمُعْجِزَاتِ الْأُخْرَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ مَنْفَعَةُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذِهِ مَزَايَا عَظِيمَةٌ لِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ حَاصِلَةٌ فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْبَتِهِ وَمُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ وَتَكْمِيلِهِ بِالدَّعْوَةِ وَبِتَكْرِيرِهَا. وَاسْتِحْضَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِ: (قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) دُونَ أَنْ يُقَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، لِمَا فِي لَفْظِ قَوْمٍ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، أَيْ لِقَوْمٍ شِعَارُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، يَعْنِي لِقَوْمٍ شِعَارُهُمُ النَّظَرُ وَالْإِنْصَافُ فَإِذَا قَامَتْ لَهُمْ دَلَائِلُ الْإِيمَانِ آمَنُوا وَلَمْ يُكَابِرُوا ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَالْفِعْلُ مُرَادٌ بِهِ الْحَالُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمُعْجِزَتِهِ وَاقْتَرَحُوا آيَاتٍ أُخْرَى لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. [52] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 52] قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. بَعْدَ أَنْ أَلْقَمَهُمْ حَجَرَ الْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ أُمِرَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَمَّا اسْتَمَرَّ تَكْذِيبُهُمْ بَعْدَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ. وكَفى بِاللَّهِ بِمَعْنَى هُوَ كَافٍ لِي فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الْحَاكِمِ عُدِّيَ بِظَرْفِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْمَلِكِ: وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ وَجُمْلَةُ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ شَهِيدًا فَهِيَ تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. بَعْدَ أَنْ أَنْصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً اسْتَمَرَّ فِي الِانْتِصَافِ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْبَاطِلَ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الْحُكُومَةِ وَالْقَضِيَّةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ إِنْ تَأَمَّلُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِإِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ مَا لَيْسَ حَقِيقًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ، وَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَيَّامَ جَاهِلِيَّتِهِ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ آمَنُوا وكَفَرُوا مُحَسِّنُ الْمُضَادَّةِ وَهُوَ الطِّبَاقُ. وَالْبَاطِلُ: ضِدُّ الْحَقِّ، أَيْ مَا لَيْسَ بِحَقِيقٍ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، أَيْ مَا لَيْسَ بِإِلَهٍ حَقٍّ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ وَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. وَأَمَّا كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ فَلِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَكَفَرُوا بِأَعْظَمِ صِفَاتِهِ وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ لَهُمْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيْ جُمْلَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ فِي جَانِبِ خُسْرَانِهِمْ كَالْعَدَمِ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 إلى 55]

فَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِالْخُسْرَانِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الْمُرَكَّبُ الْمُفِيدُ قَصْرَ الْخُسْرَانِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ الْعُظْمَى الْأَبَدِيَّةُ. وَاسْتُعِيرَ الْخُسْرَانُ لِانْعِكَاسِ الْمَأْمُولِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُكِدِّ تَشْبِيهًا بِحَالِ مَنْ كَدَّ فِي التِّجَارَةِ لِيَنَالَ مَالًا فَأَفْنَى رَأْسَ مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] . [53- 55] [سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 53 إِلَى 55] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ [العنكبوت: 50] اسْتِقْصَاءً فِي الرَّدِّ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ وَإِبْطَالًا لِتَعِلَّاتِ إِعْرَاضِهِمُ النَّاشِئِ عَنِ الْمُكَابَرَةِ، وَهُمْ يُخَيِّلُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْرَضُوا لِعَدَمِ اقْتِنَاعِهِمْ بِآيَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومناسبة وُقُوعه هَذَا أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَكَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُنْذِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ وَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ ذَكَرَ تَوَرُّكَهُمْ عَلَيْهِ عَقِبَ ذِكْرِ الْكُفْرِ. وَاسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ: طَلَبُ تَعْجِيلِهِ وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ. وَقَصْدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِخْفَافُ بِالْوَعِيدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: 11] ، وَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي سُورَةِ [الرَّعْدِ: 6] . وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَذَابِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَحُكِيَ اسْتِعْجَالُهُمِ الْعَذَابَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالِ اسْتِعْجَالِهِمْ لِإِفَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَقَدْ أَبْطَلَ مَا قَصَدُوهُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَذَلِكَ أَنَّ حُلُولَ الْعَذَابِ لَيْسَ بِيَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا جَارِيًا عَلَى طَلَبِهِمْ وَاسْتِبْطَائِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقَدِّرُ لِوَقْتِ حُلُولِهِ بِهِمْ فِي أَجَلٍ قَدَّرَهُ بِعِلْمِهِ.

وَالْمُسَمَّى أُرِيدَ بِهِ الْمُعَيَّنُ الْمَحْدُودُ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [5] . وَالْمَعْنَى: لَوْلَا الْأَجَلُ الْمُعَيَّنُ لِحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ يَسْتَحِقُّ تَعْجِيلَ عِقَابِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَأْخِيرَهُ لِحِكَمٍ عَلِمَهَا، مِنْهَا إِمْهَالُهُمْ لِيُؤْمِنَ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بَعْدَ الْوَعِيدِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَفِزُّهُ اسْتِعْجَالُهُمُ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ حَكِيمٌ لَا يُخَالِفُ مَا قَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ، حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبَادَهُ. فَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ فِي وَقْتِ طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَهُ، ثُمَّ أَنْذَرَهُمْ بِأَنَّهُ آتِيهِمْ بَغْتَةً وَأَنَّ إِتْيَانَهُ مُحَقَّقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ وَذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ. وَقَدْ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ بَغْتَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ [الْأَنْفَال: 42] فَاسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَعْظَمَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ أَعْقَبَ إِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ بِإِنْذَارِهِمْ بِالْعَذَابِ الْأَعْظَمِ. وَأُعِيدَ لِأَجْلِهِ ذِكْرُ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْعَذَابِ مُعْتَرَضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ اسْتِعْجَالِهِمْ فَإِنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ فَأُنْذِرُوا بِعَذَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْجَلُ مِنَ الْآخَرِ. وَفِي إِعَادَةِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تَهْدِيدٌ وَإِنْذَارٌ بِأَخْذِهِمْ، فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فَهُمَا عَذَابَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ. وَالْإِحَاطَةُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِهِمْ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالْكافِرِينَ الْمُسْتَعْجِلُونَ، وَاسْتُحْضِرُوا بِوَصْفِ الْكَافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبُ إِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَاسْتُعْمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي الْإِحَاطَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ يُفِيدَ الِاتِّصَافَ فِي زَمَنِ الْحَالِ، تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ زَمَانِ الْحَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ. وَيَتَعَلَّقُ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ بِ (مُحِيطَةٌ) ، أَيْ تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ. وَفِي قَوْلِهِ: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ تَصْوِيرٌ لِلْإِحَاطَةِ. وَالْغَشَيَانُ: التَّغْطِيَةُ وَالْحَجْبُ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ فَوْقِهِمْ بَيَانٌ لِلْغَشَيَانِ لِتَصْوِيرِهِ تَفْظِيعًا لِحَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] وَتَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْغَشَيَانِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْعَذابُ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ احْتِرَاسٌ عَمَّا قَدْ يُوهِمُهُ الْغَشَيَانُ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ خَاصَّةً، أَيْ تُصِيبُهُمْ نَارٌ مِنْ تَحْتِهِمْ تَتَوَهَّجُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فَوْقَهَا، وَلَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَالِ بِالْوَاوِ وَكَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِ يَغْشاهُمُ لِأَنَّ الْغَشَيَانَ هُوَ التَّغْطِيَةُ فَتَقْتَضِي الْعُلُوَّ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلٌ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ عُدَّ هَذَا الْعَمَلُ مِنْ خَصَائِصِ الْوَاوِ فِي الْعَطْفِ أَنْ تَعْطِفَ عَامِلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْمُولُهُ- كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى: يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا يُرِيدُ: وَمُمْسِكًا رُمْحًا لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ- يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْجُرْمِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ صَالِحٍ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَذْكُورِ فَيُقَدَّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَضْمِينُ فِعْلِ يَغْشاهُمُ معنى (يصيبهم) و (يَأْخُذُهُمْ) . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكِنَايَةُ عَنْ أَنَّ الْعَذَابَ مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْجَانِبَانِ الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكِنَايَةِ قَدْ حَصَلَ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ إِيجَازٍ لِأَنَّهُ مَقَامُ غَضَبٍ وَتَهْدِيدٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: 17] لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ لِإِلْحَاحِ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَيَقُولُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ اللَّهُ. وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَيِمَّةِ الْبَلَاغَةِ، أَوْ يُقَدَّرُ: وَيَقُولُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِجَهَنَّمَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ الْعَذَابُ، بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلنَّارِ أَصْوَاتًا كَأَنَّهَا قَوْلُ الْقَائِلِ: ذُوقُوا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ الْعَظَمَةِ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 56]

وَمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا كَانَ بِقَدْرِ الْمَجْزِيِّ أُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ مجَازًا بالحذف. [56] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 56] يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: 52] ، وَجُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: 58] الْآيَةَ. وَهَذَا أَمْرٌ بِالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ عِنَادَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ آذَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى دَارِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ مَا بَيْنَ مُسْلِمِينَ وَبَيْنَ يَهُودٍ فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِي جِوَارِهِمْ آمَنِينَ مِنَ الْفِتَنِ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُسْتَضْعَفِينَ قَدْ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا إِظْهَارَ إِيمَانِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي أَوَّلِ هَذِه السُّورَة [العنكبوت: 10] ، وَكَانَ لَهُمُ الْعُذْرُ حِينَ كَانُوا لَا يَجِدُونَ مَلْجَأً سَالِمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَطَاعُوا الْهِجْرَةَ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمَّا أَسَلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ زَالَ عُذْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ إِذْ أَصْبَحَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ . فَقَوْلُهُ: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرَكَّبًا فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الْأَرْضِ بِلَادًا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَقْطُنَهَا آمِنًا، فَهُوَ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ فَرَّعَ عَلَى كَوْنِهَا رَحْبًا قَوْلَهُ: فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ. وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ فَرَّعَ عَلَى كَوْنِهَا وَاسِعَةً الْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لِلْخُرُوجِ مِمَّا كَانَ يُفْتَنُ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُكْرَهُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: 106] .

[سورة العنكبوت (29) : آية 57]

فَالْمَعْنَى: أَنَّ أَرْضِي الَّتِي تَأْمَنُونَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَاسِعَةٌ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ وَالْقُرَى الْمُجَاوِرَةُ لَهَا مِثْلَ خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَقَيْنُقَاعَ، وَمَا صَارَتْ كُلُّهَا مَأْمَنًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْقُرَى أَحْلَافٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أَنَّ عِلَّةَ الْأَمْرِ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ هِيَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ إِظْهَارِ التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ. وَهَذَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُفْتَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دِينِهِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أَحْكَامٌ غَيْرُ إِسْلَامِيَّةٍ. وَالنِّدَاءُ بِعُنْوَانِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ. وَمُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ أَنَّ (عِبَادَ) إِذَا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ غَالِبًا إِلَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ كَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] ، وَعَلِيهِ فالوصف بِ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُمْ فُتِنُوا إِلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ فَاءُ التَّفْرِيعِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُونِ إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ لِلْفَاءِ الْأُولَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ التَّفْرِيعِ فِي الْفِعْلِ وَفِي مَعْمُولِهِ، أَيْ فَلَا تَعْبُدُوا غَيْرِي فَاعْبُدُونِ وَإِمَّا مُؤْذِنَةٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ نَاصِبُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَأْكِيدًا لِلْعِبَادَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِيَّايَ اعْبُدُوا فَاعْبُدُونِ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِدَلَالَةِ التَّقْدِيمِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفَادَ الْأَمْرَ بِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ كَانَ ذِكْرُ الْفَاءِ عَلَامَةَ تَقْدِيرٍ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ قُصِدَ مِنْ تَقْدِيرِهِ التَّأْكِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [40] . وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ تَخْفِيفًا، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. ونظائره كَثِيرَة. [57] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 57] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) اعْتِرَاضٌ ثَانٍ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ قُصِدَ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ [العنكبوت: 52] إِلَى آخِرِهَا، وَالْوَعْدُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: 58] أَيِ الْمَوْتُ مُدْرِكٌ جَمِيعَ الْأَنْفُسِ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 58 إلى 59]

ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَقُصِدَ مِنْهَا أَيْضًا تَهْوِينُ مَا يُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَذَى فِي اللَّهِ وَلَوْ بَلَغَ إِلَى الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ الْخَالِدِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا [العنكبوت: 56] . وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت: 55] . [58- 59] [سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 58 إِلَى 59] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ [العنكبوت: 52] . وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَر، أَي نبوّئنهم غُرَفًا لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ. وَالتَّبْوِئَةُ: الْإِنْزَالُ وَالْإِسْكَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [93] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ نُونِ الْعَظَمَةِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: لَنُثَوِّيَنَّهُمْ بِمُثَلَّثَةٍ بَعْدَ النُّونِ وَتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ أَثْوَاهُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ إِذَا جَعَلَهُ ثَاوِيًا، أَيْ مُقِيمًا فِي مَكَانٍ. وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْمُعْتَلَى عَلَى غَيْرِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [75] . وَجُمْلَةُ: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ إِلَخْ ... إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ وَتَعْجِيبٍ عَلَى الْأَجْرِ الَّذِي أُعْطُوهُ، فَلِذَلِكَ قُطِعَتْ عَنِ الْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ صَبَرُوا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ

[سورة العنكبوت (29) : آية 60]

الَّذِينَ صَبَرُوا. وَالْمُرَادُ: صَبْرُهُمْ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَتَحَمُّلِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَاقُوهُ فَتَوَكَّلُوا عَلَى ربّهم وَلم يعبأوا بِقَطِيعَةِ قَوْمِهِمْ وَلَا بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ مُقَابَلَةُ غشيان الْعَذَاب للْكفَّار مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بغشيان النَّعيم للْمُؤْمِنين مِنْ فَوْقِهِمْ بِالْغُرَفِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ بِالْأَنْهَارِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لِلِاهْتِمَامِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آل عمرَان [159] [60] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 60] وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت: 57] فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا هَوَّنَ بِهَا أَمْرَ الْمَوْتِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَكَانُوا مِمَّنْ لَا يَعْبَأُ بِالْمَوْتِ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّا لَا نَخَافُ الْمَوْتَ وَلَكِنَّا نَخَافُ الْفَقْرَ وَالضَّيْعَةَ. وَاسْتِخْفَافُ الْعَرَبِ بِالْمَوْتِ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ كَمَا أَنَّ خَشْيَةَ الْمَعَرَّةِ مِنْ سَجَايَاهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] فَأَعَقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ رِزْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُمْ. وَضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ بِرِزْقِ الدَّوَابِّ، وَلِلْمُنَاسَبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ [العنكبوت: 56] مِنْ تَوَقُّعِ الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ لَا يَجِدُوا رِزْقًا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُهَاجِرُونَ إِلَيْهَا، وَهُوَ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ ذِكْرِ التَّوَكُّلِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت: 59] ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» . وَلَعَلَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي الْحَدِيثِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَوَّلُونَ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ رِزْقَهُمْ لِتُوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِمْ أَمْوَالِهِمْ بِمَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَتَوَكُّلِهِمْ هُوَ حَقُّ التَّوَكُّلِ، أَيْ أَكْمَلُهُ وَأَحْزَمُهُ فَلَا يَضَعُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَأَيِّنْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وكأين من نبيء قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] . وَقَوْلُهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا خَبَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهُ إِفَادَةُ الْحُكْمِ، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرَكَّبًا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَمَانِ رِزْقِ الْمُتَوَكِّلِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَمْثِيلُهُ لِلتَّقْرِيبِ بِضَمَانِ رِزْقِ الدَّوَابِّ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْأَرْضِ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، وَهِيَ السَّوَائِمُ الْوَحْشِيَّةُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ هُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ الَّذِي هُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ وَجْهِ سَوْقِ قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وَلِذَلِكَ عَطَفَ وَإِيَّاكُمْ عَلَى ضَمِيرِ دَابَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ: التَّمْثِيلُ فِي التَّيْسِيرِ وَالْإِلْهَامِ لِلْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَسَائِلُ الرِّزْقِ مُخْتَلِفَةٌ. وَالْحَمْلُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسِيرُ غَيْرَ حَامِلَةٍ رِزْقَهَا لَا كَمَا تَسِيرُ دَوَابُّ الْقَوَافِلِ حَامِلَةً رِزْقَهَا، وَهُوَ عَلَفُهَا فَوْقَ ظُهُورِهَا بَلْ تَسِيرُ تَأْكُلُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي التَّكَلُّفِ لَهُ، مِثْلَ قَوْلِ جَرِيرٍ: حُمِّلْتَ أَمْرًا عَظِيمًا فَاصْطَبَرْتَ لَهُ أَيْ لَا تَتَكَلَّفُ لِرِزْقِهَا. وَهَذَا حَالُ مُعْظَمِ الدَّوَابِّ عَدَا النَّمْلَةِ وَالْفَارَةِ، قِيلَ وَبَعْضُ الطَّيْرِ كَالْعَقْعَقِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَرْزُقُها دُونَ أَنْ يَقُولَ: يَرْزُقُهَا اللَّهُ، لِيُفِيدَ بِالتَّقْدِيمِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ يَرْزُقُهَا لَا غَيره، فَلَمَّا ذَا تَعْبُدُونَ أَصْنَامًا لَيْسَ بِيَدِهَا رِزْقٌ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ. فَالْمَعْنَى: اللَّهُ يَرْزُقُكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ لِدُعَائِكُمُ الْعَلِيمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِكُمْ وَتَوَكُّلِكُمْ وَرَجَائِكُمْ مِنْهُ الرزق.

[سورة العنكبوت (29) : آية 61]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 61] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) هَذَا الْكَلَامُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: 52] تَعْجِيبًا مِنْ نَقَائِضِ كُفْرِهِمْ، أَيْ هُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَإِنْ سَأَلَهُمْ سَائِلٌ عَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ ذَلِكَ وَلَا يُثْبِتُونَ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ فَكَيْفَ يَلْتَقِي هَذَا مَعَ ادِّعَائِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْطَالِ إِشْرَاكِهِمْ بِهِ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا. وَهَذَا الْإِلْزَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِذَا سُئِلُوا إِلَّا الِاعْتِرَافَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ كُلَّمَا نَزَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَتْلُوهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَسَامِعِهِمْ فَلَوِ اسْتَطَاعُوا إِنْكَارَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ لَصَدَعُوا بِهِ. وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَاسْتَعْجَلُوا بِالْعَذَابِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ. وَتَخْصِيصُ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَظَاهِرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمَا فِي حَرَكَتِهِمَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ نَاطَ بِحَرَكَتِهِمَا أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار وَضبط الْمَشْهُور وَالْفُصُولِ. وَتَسْخِيرُ الشَّيْءِ: إِلْجَاؤُهُ لِعَمَلٍ شَدِيدٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَخَّرُ- بِالْفَتْحِ- ذَا إِرَادَةٍ أَمْ كَانَ جَمَادًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [54] .

[سورة العنكبوت (29) : آية 62]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 62] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) هَذَا إِلْزَامٌ آخَرُ لَهُمْ بِإِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَافْتِضَاحِ تَنَاقِضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ إِلَى قَوْلِهِ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [31] . وَإِنَّمَا جَاءَ أُسْلُوبُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مُخَالِفًا لِأُسْلُوبِ الَّذِي قَبْلَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ فَعَدَلَ عَنْ تَرْكِيبِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [العنكبوت: 61] تَفَنُّنًا فِي الْأَسَالِيبِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ. وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالرِّزْقِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ عِبَادَهُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَارُ فِي تَصَرُّفِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَقَادِيرِ حَاجَاتِهِمْ وَلَا عَلَى مَا يَبْدُو مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُرْزَقُونَهُ. وَبَسْطُ الرِّزْقِ: إِكْثَارُهُ، وَقدره: تقليله وتقتيره. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ الرَّازِقُ لِأَحْوَالِ الرِّزْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] . فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [37] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَجَمَعَ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِهَا وَبَيْنَ كَوْنِ الْآيَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي آخِرِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ الْبَسْطِ وَالْقَدْرِ. وَزِيَادَةُ لَهُ بَعْدَ وَيَقْدِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ آيَةِ سُورَةِ الرَّعْدِ وَآيَةِ الْقَصَصِ لِلتَّعْرِيضِ بِتَبْصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنِ اعْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت: 60] بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي الرِّزْقِ هُوَ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ لِمَا يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْهُ مِنَ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَغُلِّبَ فِي هَذَا الْغَرَضِ جَانِبُ الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ يَقْدِرُ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الْقَدْرِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 63]

كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: 7] . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنْ هَاجَرْنَا لَمْ نَجِدْ مَا نُنْفِقُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى (مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ (مَنْ يَشَاءُ) عَامٌّ لَيْسَ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ عُمُومَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ عِبادِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِفَرِيقٍ وَيَقْدِرُ لِفَرِيقٍ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَارٍ عَلَى حِكْمَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ صَبْرَ الصَّابِرِينَ وَجَزَعَ الْجَازِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 3] ، قَالَ تَعَالَى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: 186] . [63] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 63] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. أُعِيدَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَّصِلَ رَبْطُ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى قُرْبٍ. فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُنْزِلُ الْمَطَرَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ فَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهَا وَهِيَ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ. وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْعَادِيَةِ كَمَا تَبَيَّنَ فِي بَحْثِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، أَنَّهُ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْسُبُونَ الْإِنْبَاتَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ سَبَبَ الْإِنْبَاتِ وَهُوَ الْمَطَرُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الْإِنْبَاتَ مِنَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَفِي هَذَا الْإِدْمَاجِ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ

اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: 50] وَقَالَ: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الرّوم: 19] . وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [5] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها. وَقد أَشَارَ قَوْله مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلَى مَوْتِ الْأَرْضِ، أَيْ مَوْتِ نَبَاتِهَا يَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْهَا فِي فُصُولِ الْجَفَافِ أَو فِي سِنِين الْجَدْبِ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِكَوْنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ لِإِرَادَتِهِ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ حَيَاةٍ سَبَقَتْ مِنْ نَوْعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِمَاتَتِهَا، وَيعلم مِنْهُ أَن مُحْيِيَ الْحَيَوَانِ وَمُمِيتَهُ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. فَانْتَظَمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] إِلَى هُنَا أُصُولُ صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ: الْخَلْقُ، وَالرِّزْقُ، وَالْإِحْيَاءُ، وَالْإِمَاتَةُ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُقِّبَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْمَدَهُ بِكَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ لِأَصْنَامِهِمْ شِرْكٌ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ نِظَامِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِإِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ وَلَا تَأْوِيلَهُ بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْ أَسْمَاعَهُمْ دَلَائِلُهُ وَهُمْ وَاجِمُونَ لَا يُبْدُونَ تَكْذِيبًا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَكَذِبُهُمْ فِيمَا تَطَاوَلُوا بِهِ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى أَنْ نَصَرَهُ بِالْحُجَّةِ نَصْرًا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ بِالْقُوَّةِ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهَا إِذْ

[سورة العنكبوت (29) : آية 64]

هُوَ الَّذِي لَقَّنَهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ وَمَا كَانَ يَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ. فَهَذَا الْحَمْدُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ الْحُجَجُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِحُجَّةِ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُيُودِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِهَا، وَكَذَلِكَ تَرْجِعُ مَعَهَا مُتَعَلِّقَاتُهَا- بِكَسْرِ اللَّامِ- وَقَرِينَةُ الْمَقَامِ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ حُجَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْحُجَجِ تَسْتَأْهِلُ أَنْ يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَى إِقَامَتِهَا فَلَا تَخْتَصُّ بِالْحَمْدِ حُجَّةُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [25] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَلِذَلِكَ لَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اعْتِرَاضًا. وبَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ عَلَى وُضُوحِ الْحُجَجِ إِلَى ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَتَفَطَّنُونَ لِنُهُوضِ تِلْكَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ فَكَأَنَّهُمْ لَا عَقْلَ لَهُمْ لِأَنَّ وُضُوحَ الْحُجَجِ يَقْتَضِي أَنْ يَفْطِنَ لِنَتَائِجِهَا كُلُّ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ عَدَمُ الْعَقْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَأَهْلِ الْفِطَنِ مِنْهُمْ مَنْ وَضُحَتْ لَهُ تِلْكَ الْحُجَجُ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكفْر عنادا. [64] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 64] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) هَذَا الْكَلَامُ مُبَلَّغٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63] فَإِنَّ عُقَلَاءَهُمْ آثَرُوا بَاطِلَ الدُّنْيَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي وَضَحَ لَهُمْ، وَدَهْمَاءَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِغَيْرِ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَجَمِيعَهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَأَعْقَبَ اللَّهُ مَا أَوْضَحَهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ بِأَنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كَالْخَيَالِ وَأَنَّ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقُّ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ يَسْرِي إِلَى الْحَيَاةِ نَفْسِهَا.

وَاللَّهْوُ: مَا يَلْهُو بِهِ النَّاسُ، أَيْ يَشْتَغِلُونَ بِهِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُكَدِّرَةِ أَوْ يَعْمُرُونَ بِهِ أَوْقَاتُهُمُ الْخَلِيَّةُ عَنِ الْأَعْمَالِ. وَاللَّعِبُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ الْهَزْلُ وَالِانْبِسَاطُ. وَتَقَدَّمُ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَوَجْهُ حَصْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِيهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [32] . وَالْحَصْرُ: ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَوْجِيهِ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَيَاةِ وَهِيَ إِشَارَةُ تَحْقِيرٍ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ مُشِيرًا إِلَى الْمَوْتِ: مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا وَلَمْ تُوَجَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَيَاةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَحْقِيرُ الْحَيَاةِ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيرِهَا، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: 31 فَذَكَرَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مَا سَيَظْهَرُ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ مِنْ ذَهَابِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا سدى. وَأمر تَقْدِيمُ ذِكْرِ اللَّهْوِ هُنَا وَذِكْرِ اللَّعِبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَلِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى اسْمِ إِشَارَةٍ يُقْصَدُ مِنْهُ تَحْقِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِأَنَّهَا لَعِبٌ مُشِيرًا إِلَى تَحْقِيرِهَا لِأَنَّ اللَّعِبَ أَعْرَقُ فِي قِلَّةِ الْجَدْوَى مِنَ اللَّهْوِ. وَلَمَّا أُشِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [العنكبوت: 63] زَادَهُ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقُّ فَصِيغَ لَهَا وَزْنُ الْفِعْلَانِ الَّذِي هُوَ صِيغَة تنبىء عَنْ مَعْنَى التَّحَرُّكِ تَوْضِيحًا لِمَعْنَى كَمَالِ الْحَيَاةِ بِقَدْرِ الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ التَّحَرُّكَ وَالِاضْطِرَابَ أَمَارَةٌ عَلَى قُوَّةِ الْحَيَوِيَّةِ فِي الشَّيْءِ مِثْلَ الْغَلَيَانِ وَاللَّهَبَانِ. وَهُمْ قَدْ جَهِلُوا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ مِنْ أَصْلهَا فَلذَلِك قَالُوا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلِيلُهُ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ هُوَ الْجَواب مقدّما.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 إلى 66]

[سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 65 إِلَى 66] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَفَادَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لَيْسَ هُوَ وَاحِد مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِخُصُوصِهِ وَلَكِنَّهُ مَجْمُوعُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْفَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ أَيِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِلْغَائِهِمْ مَا فِي أَحْوَالِهِمْ مِنْ دَلَائِلِ الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِهَا لَا يَضْرَعُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ، فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى إِلْزَامِهِمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ دُعَاؤُهُمْ حِينَ لَا يُشْرِكُونَ فِيهِ إِلَهًا آخَرَ مَعَ اللَّهِ بَعْدَ إِلْزَامِهِمْ بِمُوجِبَاتِ اعْتِرَافَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ أصنامهم فِي شؤون مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَسْتَنْصِرُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ هَوْلٌ تَوَجَّهُوا بِتَضَرُّعِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ حَالَ خَوْفِهِمْ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا فِي سُورَةِ يُونُسَ وَمَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ لِأَنَّ أَسْفَارَهُمْ فِي الْبَرِّ كَانُوا لَا يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا خَوْفٌ يَعُمُّ جَمِيعَ السَّفَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ قَوَافِلَ، مَعَهُمْ سِلَاحُهُمْ، وَيَمُرُّونَ بِسُبُلٍ يَأْلَفُونَهَا فَلَا يَعْتَرِضُهُمْ خَوْفٌ عَامٌّ، فَأَمَّا سَفَرُهُمْ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمْ يَفْرَقُونَ مِنْ هَوْلِهِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَفْرَةُ عَدَدٍ وَلَا قُوَّةُ عُدَدٍ، فَهُمْ يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ النَّجَاةِ وَلَعَلَّهُمْ لَا يَدْعُونَ أَصْنَامَهُمْ حِينَئِذٍ. فَأَمَّا تَسْخِيرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا كَانُوا يَطْمَعُونَ بِهِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا كَانَ يُخَامِرُهُمُ الْخَوْفُ عِنْدَ رُكُوبِهِمْ فِي الْبَحْرِ لِقِلَّةِ الْفَهْمِ بِرُكُوبِهِ إِذْ كَانَ مُعْظَمُ أَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرَارِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْدِيَةُ الرُّكُوبِ بِحَرْفِ (فِي) عِنْدَ قَوْلِهِ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [41] . وَالْإِخْلَاصُ: التَّمْحِيضُ وَالْإِفْرَادُ. والدِّينَ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاء، أَي ادعوا اللَّهَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ أَصْنَامُهُمْ. وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 67]

فَجِيءَ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا إِلَى الْإِشْرَاكِ فِي حِينِ حُصُولِهِمْ فِي الْبَرِّ، أَيْ أَسْرَعُوا إِلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ زِيَارَةِ أَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا. وَالْمُفَاجَأَةُ عُرْفِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِرْسَاءُ فِي الْبَرِّ وَالْوُصُولُ إِلَى مَوَاطِنِهِمْ فَكَانُوا يُبَادِرُونَ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ. وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ لَامُ كَيْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يُشْرِكُونَ. وَالْكُفْرُ هُنَا لَيْسَ هُوَ الشِّرْكُ وَلَكِنَّهُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بِما آتَيْناهُمْ فَإِنَّ الْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ وَبِقَرِينَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَى يُشْرِكُونَ فَالْعِلَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْمَعْلُولِ وَكُفْرَانُ النِّعْمَةِ مُسَبَّبٌ عَنِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَادرُوا إِلَى شؤون الْإِشْرَاكِ فَقَدْ أَخَذُوا يَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ، فَاللَّامُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ الْمُسَبَّبَ بِالْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ حَرْفُ التَّعْلِيلِ عِوَضًا عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلِيَتَمَتَّعُوا بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قِرَاءَةِ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ. وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِسُكُونِهَا فَهِيَ لَامُ الْأَمْرِ، وَهِيَ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ تُسَكَّنُ وَتُكْسَرُ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ نَظِيرَ قَوْلِهِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] وَهُوَ عَطْفُ جُمْلَةِ التَّهْدِيدِ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِلَخْ ... نَظِيرَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [34] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْقَصِيرُ زَمَنُهُ. وَجُمْلَةُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى التهديد بالوعيد. [67] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 67] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) هَذَا تَذْكِيرٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِنَّمَا خُصُّوا مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قُدْوَةٌ لِجَمِيعِ الْقَبَائِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَقْبَلَتْ وُفُودُ الْقَبَائِلِ مُعْلِنَةً إِسْلَامَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] بِاعْتِبَارِ مَا

[سورة العنكبوت (29) : آية 68]

اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مِنْ تَقْرِيعِهِمْ عَلَى كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَجُعِلَتْ نِعْمَةُ أَمْنِ بَلَدِهِمْ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ، فَقَوْلُهُ أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً مَفْعُولُ يَرَوْا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [57] ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْأَمْنِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ مَكَّةَ وَمَا بَعُدَ مِنْهَا يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَغَاوَرُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ لَا يَعْدُو عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مَعَ قِلَّتِهِمْ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ عَلَيْهِمْ. وَالْبَاطِلُ: هُوَ الشِّرْكُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ فِي هَذِه السُّورَة العنكبوت [52] . و (نعْمَة اللَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ الَّذِي مِنْهُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَمَا عَدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمِنَ النِّعَمِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوا لَأَدْرَكُوا عِظَمَهَا، وَمِنْهَا نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالْمُضَارِعُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ دَالٌّ عَلَى تجدّد الْفِعْل. [68] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 68] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) لَمَّا أَوْفَاهُمْ مَا يَسْتَأْهِلُونَهُ مِنْ تَشْنِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَسُوء انتظام شؤونهم جَاءَ فِي عَقِبِهِ بِتَذْيِيلٍ يَجْمَعُهَا فِي أَنَّهَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، ثُمَّ جَزَاهُمُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى اللَّائِقَ بِحَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّ النَّارَ مَثْوَاهُمْ. وَافْتَتَحَ تَشْخِيصُ حَالِهِمْ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ وُجُودِ فَرِيقٍ هُمْ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ تَوْجِيهًا لِأَذْهَانِ السَّامِعِينَ نَحْوَ الْبَحْثِ هَلْ يَجِدُونَ أَظْلَمَ مِنْهُمْ حَتَّى إِذَا أَجَادُوا التَّأَمُّلَ وَاسْتَقْرَوْا مَظَانَّ الظُّلْمَةِ وَاسْتَعْرَضُوا أَصْنَافَهُمْ تَيَقَّنُوا أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ ظُلْمٌ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ هَؤُلَاءِ.

وَإِنَّمَا كَانُوا أَشَدَّ الظَّالِمِينَ ظُلْمًا لِأَنَّ الظُّلْمَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى أَحَدٍ بِمَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ وَأَشَدُّ مِنَ الْمَنْعِ أَنْ يَمْنَعَهُ مُسْتَحِقَّهُ وَيُعْطِيَهُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَأَنْ يُلْصِقَ بِأَحَدٍ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ وَعَدَمَهُ قَدْ يَثْبُتَانِ بِحُكْمِ الْعَوَائِدِ وَقَدْ يَثْبُتَانِ بِأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَقَدْ يَثْبُتَانِ بِقَضَايَا الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الثُّبُوتِ وَمَدَارُ أُمُورِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ سَلَبُوا عَنْهُ مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِدَلَالَةِ الْعُقُولِ، وَأَثْبَتُوا لَهُ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِدَلَالَةِ الْعُقُولِ، وَعَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُكْرَانِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعَقْلُ، وَعَلَى رَمْيِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِشَهَادَةِ الْعَقْلِ وَالْعَادَةِ الَّتِي عَرَفُوهَا مِنْهُ بُهْتَانًا وَكَذِبًا فَكَانُوا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَضَعُوا أَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوَاضِعَهَا فَكَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِمْكَانِ أَقْوَى مِنْ عَدَمِ الْحُصُولِ. وَتَقْيِيدُ الافتراء بِالْحَال الموكّدة فِي قَوْلِهِ كَذِباً لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ الِافْتِرَاءِ لِأَنَّ اسْمَ الْكَذِبِ مُشْتَهَرٌ الْقُبْحَ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ الِافْتِرَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ الِاخْتِلَاقَ تَعَمُّدًا لَا تُخَالِطُهُ شُبْهَةٌ. وَتَقْيِيدُ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ بِقَوْلِهِ لَمَّا جاءَهُ لِإِدْمَاجِ ذَمِّ الْمُكَذِّبِينَ بِنُكْرَانِ نِعْمَةِ إِرْسَالِ الْحَقِّ إِلَيْهِمُ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوهَا قَدْرَهَا، وَكَانَ شَأْنُ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الْحَقَّ وَيَرْحَلُوا فِي طَلَبِهِ، وَهَؤُلَاءِ جَاءَهُمُ الْحَقُّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَكَذَّبُوا بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ حَصَلَ بِدَارًا عِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ، أَيْ دُونَ أَنْ يَتْرُكُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُهْلَةَ النَّظَرِ. وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَتَقْرِيرٌ لَهَا لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا إِيذَانًا إِجْمَالِيًّا بِجَزَاءٍ فَظِيعٍ يَتَرَقَّبُهُمْ، فَكَانَ بَيَانُهُ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وَهُوَ بِأَلْفَاظِهِ وَنَظْمِهِ يُفِيدُ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ إِذْ جُعِلَتْ مَثْوَاهُمْ. فَالْمَثْوَى: مَكَانُ الثَّوَاءِ. وَالثَّوَاءُ: الْإِقَامَةُ الطَّوِيلَةُ وَالسُّكْنَى.

[سورة العنكبوت (29) : آية 69]

وَعَلَّقَ ذَلِكَ بِعُنْوَانِ الْكَافِرِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكَافِرِينَ) تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِهِمْ فَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِإِحْضَارِهِمْ بِوَصْفِ الْكُفْرِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَأَصْلُهَا: إِمَّا الْإِنْكَارُ بِتَنْزِيلِ الْمُقِرِّ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِيَكُونَ إِقْرَارُهُ أَشَدَّ لُزُومًا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَتِ التَّقْرِيرَ لِأَنَّ إِنْكَارَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ لِلْمَنْفِيِّ وَهُوَ إِثْبَاتٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ بِالْهَمْزَةِ هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ النَّفْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَى التَّقْرِيرِ بِشَهَادَةِ الذَّوْقِ وَلِيَاقَةِ مَقَامِ مَدْحِ الْخَلِيفَةِ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِمَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ. جُعِلَ كَوْنُ جَهَنَّمَ مَثْوَاهُمْ أَمْرًا مُسَلَّمًا مَعْرُوفًا بِحَيْثُ يُقِرُّ بِهِ كُلُّ مَنْ يُسْأَلُ عَنْهُ كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِ الْمَغَبَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ إِيمَاء الْكِنَايَة. [69] [سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 69] وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) خُتِمَ تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ وَذَمُّهُمْ بِالتَّنْوِيهِ بِالْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارًا لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِهِمْ فَلَا يَخْلُو مَقَامُ ذَمِّ أَعْدَائِهِمْ عَنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ الْأَعْدَاءَ غَيْظًا وَتَحْقِيرًا. والَّذِينَ جاهَدُوا فِي اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَوَّلُونَ فَالْمَوْصُولُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ. وَهَذَا الْجِهَادُ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْفِتَنِ وَالْأَذَى وَمُدَافَعَةِ كَيْدِ الْعَدُوِّ وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ أول السُّورَة [العنكبوت: 6] وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ جِهَادُ الْقِتَالِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ قَبْلُ. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ سَبَبُ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى جاهَدُوا فِينا

جَاهَدُوا فِي مَرْضَاتِنَا، وَالدِّينِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لَهُمْ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، يُقَالُ: هِيَ ظَرْفِيَّةُ تَعْلِيلٍ تُفِيدُ مُبَالَغَةً فِي التَّعْلِيلِ. وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ وَالتَّوْفِيقُ بِالتَّيْسِيرِ الْقَلْبِيِّ وَالْإِرْشَادِ الشَّرْعِيِّ، أَيْ لَنَزِيدَنَّهُمْ هُدًى. وَسُبُلُ اللَّهِ: الْأَعْمَالُ الْمُوصِلَةُ إِلَى رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، شُبِّهَتْ بِالطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَنْزِلِ الْكَرِيمِ الْمُكْرِمِ للضيف. وَالْمرَاد ب الْمُحْسِنِينَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُحْسِنِينَ، أَيْ كَانَ عَمَلُ الْحَسَنَاتِ شِعَارَهُمْ وَهُوَ عَامٌّ. وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ فِي عِدَادِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَهَذَا أَوْقَعُ فِي إِثْبَاتِ الْفَوْزِ لَهُمْ مِمَّا لَوْ قِيلَ: فَأُولَئِكَ الْمُحْسِنُونَ لِأَنَّ فِي التَّمْثِيلِ بِالْأُمُورِ الْمُقَرَّرَةِ الْمَشْهُورَةِ تَقْرِيرًا لِلْمَعَانِي وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» . وَالْمَعِيَّةُ: هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَا مَعْطُوفَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُهِمَّ مِنْ سَوْقِهَا هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَعُطِفَتْ عَلَى حَالَتِهِمُ الْأُخْرَى وَأَفَادَتِ التَّذْيِيلَ بِعُمُومِ حُكْمِهَا. وَفِي قَوْلِهِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا إِيمَاءٌ إِلَى تَيْسِيرِ طَرِيقِ الْهِجْرَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَأَهَّبُونَ لَهَا أَيَّامَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.

30- سورة الروم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 30- سُورَة الرّوم بِسم الله الرّحمن الرّحيم هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى سُورَةُ الرُّومِ فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ اسْمِ الرُّومِ وَلَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِالِاتِّفَاقِ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي مَكِّيَّتِهَا وَلَا فِي بَعْضِ آيِهَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَتَكُونُ عِنْدَهُ مَدَنِيَّةً. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ إِلَى قَوْلِهِ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: 1- 5] وَكَانَ يَقْرَؤُهَا غُلِبَتِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ، وَأَنَّهُ قَرَأَ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرّوم: 3] بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، وَنَسَبَ مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَتَأَوَّلَهَا أَبُو السُّعُودِ فِي «تَفْسِيرِهِ» آخِذًا مِنَ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى غَلَبِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ: وَغَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الرّوم: 17] الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّ الَّذِي كَانَ فَرْضًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ هُوَ رَكْعَتَانِ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَيَسَّرِ لِلْمُسْلِمِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى شُذُوذٍ. وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ

أغراض هذه السورة

وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ غَلَبَ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ كَانَ فِي عَامِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَلِذَلِكَ اسْتَفَاضَتِ الرِّوَايَاتُ وَكَانَ بَعْدَ قَتْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ أُحُدٍ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ غَلَبَ الرُّومِ لِلْفُرْسِ وَقَعَ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِ سِنِينَ مِنْ غَلَبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ الَّذِي نَزَلَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ السُّورَةُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَقَدْ حُمِلَ عَلَى التَّصْحِيفِ كَمَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ نُزُولَ سُورَةِ الرُّومِ كَانَ فِي سنة إِحْدَى قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يُوَافِقُ يَوْمُهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ. وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ سِتُّونَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهُ لَمَّا تَحَارَبَ الْفُرْسُ وَالرُّومُ الْحَرْبَ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الرّوم: 2، 3] وَتَغَلَّبَ الْفُرْسُ عَلَى الرُّومِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرِحِينَ بِغَلَبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّ الْفُرْسَ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَكَانَ حَالُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى حَالِ قُرَيْشٍ وَلِأَنَّ عَرَبَ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ كَانُوا مِنْ أَنْصَارِ الْفُرْسِ وَكَانَ عَرَبُ الشَّامِ مِنْ أَنْصَارِ الرُّومِ فَأَظْهَرَتْ قُرَيْشٌ التَّطَاوُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ مَقْتًا لَهُمْ وَإِبْطَالًا لِتَطَاوُلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَ سِنِينَ. فَلِذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: 1- 4] ، وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبُ نُزُولِهَا عَلَى مَا سَرَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَغَلُّبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ، فَقَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى تَطَاوُلَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلرُّومِ فِي الْغَلَبِ عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَ سِنِينَ قَلِيلَةٍ.

[سورة الروم (30) : آية 1]

ثُمَّ تَطَرَّقَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَجْهِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا تَغُوصُ أَفْهَامُهُمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِالْأَحْدَاثِ وَلَا فِي أَسْبَابِ نُهُوضِ وَانْحِدَارِ الْأُمَمِ مِنَ الْجَانِبِ الرَّبَّانِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ إِهْمَالُهُمِ النَّظَرَ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِهَلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ الْبَعْثِ. وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ وَلِوَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى بِدَلَائِلَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَنِظَامِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ حَضَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدِّينِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَنَظَّرَ بَيْنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ وَبَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَرَذَائِلِهِمْ، وَضَرَبَ أَمْثَالًا لِإِحْيَاءِ مُخْتَلَفِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَنْهَا وَلِإِحْيَاءِ الْأُمَمِ بَعْدَ يَأْسِ النَّاسِ مِنْهَا، وَأَمْثَالًا لِحُدُوثِ الْقُوَّةِ بَعْدَ الضَّعْفِ وَبِعَكْسِ ذَلِكَ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِالْعَوْدِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ ثُمَّ بِتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدِهِ بِالنَّصْرِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَأَنَّ مَنِ ابْتَغَى غَيْرَهُ دِينًا فَقَدْ حَاوَلَ تَبْدِيلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَنَّى لَهُ ذَلِك. [1] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَخَاصَّةً فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إِحْدَى ثَلَاثِ سُوَرٍ مِمَّا افْتُتِحَ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي الْمُقَطَّعَةِ غَيْرِ مُعَقَّبَةٍ بِمَا يُشِيرُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ مَرْيَمَ. [2- 5] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 2 الى 5] غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ. قَوْلُهُ غُلِبَتِ الرُّومُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ، أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ بِأَنَّ الرُّومَ غُلِبَتْ، فَلَا يَهِنْكُمْ ذَلِكَ وَلَا تَطَاوَلُوا بِهِ عَلَى رَسُولِنَا وَأَوْلِيَائِنَا فَإِنَّا

نَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ مَنْ غَلَبُوهُمْ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ الْغَلَبُ فِي مِثْلِهِ غَلَبًا. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ جُمْلَةُ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ وَكَانَ مَا قَبْلَهُ تَمْهِيدًا لَهُ. وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الحَدِيث على الْمَغْلُوبِ لَا عَلَى الْغَالِبِ وَلِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّ الَّذِينَ غَلَبُوا الرُّومَ هُمُ الْفُرْسُ. والرُّومُ: اسْمٌ غَلَبَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أُمَّةٍ مُخْتَلِطَةٍ مِنَ الْيُونَانِ وَالصَّقَالِبَةِ وَمِنَ الرُّومَانِيِّينَ الَّذِينَ أَصْلُهُمْ مِنَ اللاطينيين سكان بِلَاد إِيطَالْيَا نَزَحُوا إِلَى أَطْرَاف شَرق أوروبا. تَقَوَّمَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُسَمَّاةُ الرُّومَ عَلَى هَذَا الْمَزِيجِ فَجَاءَتْ مِنْهَا مَمْلَكَةٌ تَحْتَلُّ قِطْعَة من أوروبا وَقطعَة مِنْ آسْيَا الصُّغْرَى وَهِي بِلَاد الأناضول. وَقَدْ أَطْلَقَ الْعَرَبُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ اسْمَ الرُّومِ تَفْرِقَةً بَيْنَهِمْ وَبَيْنَ الرُّومَانِ اللَّاطِينِيِّينِ، وَسَمَّوُا الرُّومَ أَيْضًا بِبَنِي الْأَصْفَرِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ كِتَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْعُوثِ إِلَى هِرَقْلَ سُلْطَانِ الرُّومِ وَهُوَ فِي حِمْصَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِذْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِهِ «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ» . وَسَبَبُ اتِّصَالِ الْأُمَّةِ الرُّومَانِيَّةِ بِالْأُمَّةِ الْيُونَانِيَّةِ وَتَكَوُّنِ أُمَّةِ الرُّومِ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ، هُوَ أَنَّ الْيُونَانَ كَانَ لَهُمُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى صِقِلِّيَةَ وَبَعْضِ بِلَادِ إِيطَالْيَا وَكَانُوا بِذَلِكَ فِي اتِّصَالَاتٍ وَحُرُوبٍ سِجَالٍ مَعَ الرُّومَانِ رُبَّمَا عَظُمَتْ وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ الرُّومَانِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ الْفُتُوحَاتِ وَتَسَرَّبَتْ سُلْطَتُهُمْ إِلَى إِفْرِيقِيَا وَأَدَانِي آسْيَا الصُّغْرَى بِفُتُوحَاتِ يُولْيُوسْ قَيْصَرْ لِمِصْرَ وَشَمَالِ أَفْرِيقْيَا وَبِلَادِ الْيُونَانِ وَبِتَوَالِي الْفُتُوحَاتِ لِلْقَيَاصِرَةِ مِنْ بَعْدِهِ فَصَارَتْ تَبْلُغُ مِنْ رُومَةَ إِلَى أَرْمِينْيَا وَالْعِرَاقِ، وَدَخَلَتْ فِيهَا بِلَادُ الْيُونَانِ وَمَدَائِنُ رُودِسَ وَسَاقِسَ وَكَارْيَا وَالصَّقَالِبَةِ الَّذِينَ عَلَى نَهْرِ الطُّونَةِ وَلحق بهَا البيزنطيون المنسبون إِلَى مَدِينَةِ بِيزَنْطَةَ الْوَاقِعَةِ فِي مَوْقِعِ اسْتَانْبُولَ عَلَى الْبُسْفُورِ. وَهُمْ أَصْنَافٌ مِنَ الْيُونَانِ وَالْإِسْبَرْطِيِّينَ. وَكَانُوا أَهْلَ تِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ ثُمَّ أَلَّفُوا اتِّحَادًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ رُودِسَ وَسَاقِسَ وَكَانَتْ بِيزَنْطَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَمْلَكَةِ إِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ. وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَاقْتِسَامِ قُوَّادِهِ الْمَمْلَكَةَ مِنْ بَعْدِهِ صَارَتْ بِيزَنْطَةُ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً وَانْضَوَتْ تَحْتَ سُلْطَةِ رُومَةَ فَحَكَمَهَا قَيَاصِرَةُ الرُّومَانِ إِلَى أَنْ صَارَ قُسْطَنْطِينُ قَيْصَرًا

لِرُومَةَ وَانْفَرَدَ بِالسُّلْطَةِ فِي حُدُودِ سَنَةِ 322 مَسِيحِيَّةً، وَجَمَعَ شَتَاتَ الْمَمْلَكَةِ فَجَعَلَ لِلْمَمْلَكَةِ عَاصِمَتَيْنِ عَاصِمَةً غَرْبِيَّةً هِيَ رُومَةُ وَعَاصِمَةً شَرْقِيَّةً اخْتَطَّهَا مَدِينَةً عَظِيمَةً عَلَى بَقَايَا مَدِينَةِ بِيزَنْطَةَ وَسَمَّاهَا قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ إِلَى سُكْنَاهَا فَنَالَتْ شُهْرَةً تَفُوقُ رُومَةَ. وَبَعْدَ مَوْتِهِ سَنَةَ 337 قُسِّمَتِ الْمَمْلَكَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ الْقِسْمُ الشَّرْقِيُّ الَّذِي هُوَ بِلَادُ الرُّومِ وَعَاصِمَتُهُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ لِابْنِهِ قُسْطَنْطِينْيُوسَ، فَمُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ صَارَتْ مَمْلَكَةُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ هِيَ مَمْلَكَةُ الرُّومِ وَبَقِيَتْ مَمْلَكَةُ رُومَةَ مَمْلَكَةَ الرُّومَانِ. وَزَادَ انْفِصَالُ الْمَمْلَكَتَيْنِ فِي سَنَةِ 395 حِينَ قَسَّمَ طُيُودِسْيُوسُ بُلْدَانَ السَّلْطَنَةِ الرُّومَانِيَّةِ بَيْنَ وَلَدَيْهِ فَجَعَلَهَا قِسْمَيْنِ مَمْلَكَةً شَرْقِيَّةً وَمَمْلَكَةً غَرْبِيَّةً، فَاشْتَهَرَتِ الْمَمْلَكَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِاسْمِ بِلَادِ الرُّومِ وَعَاصِمَتُهَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ. وَيُعْرَفُ الرُّومُ عِنْد الإفرنج بالبيزنطيين نِسْبَةً إِلَى بِيزَنْطَةَ اسْمُ مَدِينَةٍ يُونَانِيَّةٍ قَدِيمَةٍ وَاقعَة على شاطىء الْبُوسْفُورِ الَّذِي هُوَ قِسْمٌ مِنْ مَوْقِعِ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ صَارَتْ ذَاتَ تِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمَسِيح وسمّي ميناءها بِالْقَرْنِ الذَّهَبِيِّ. وَفِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ خَلَعَتْ طَاعَةَ أَثِينَا. وَفِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَعْدَ الْمَسِيحِ جُعِلَ قُسْطَنْطِينُ سُلْطَانَ مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَهَذَا الْغَلَبُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ انْهِزَامُ الرُّومِ فِي الْحَرْبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُرْسِ سَنَةَ 615 مَسِيحِيَّةً. وَذَلِكَ أَنَّ خُسْرُو بْنَ هُرْمُزَ مَلِكَ الْفُرْسِ غَزَا الرُّومَ فِي بِلَادِ الشَّامِ وَفِلَسْطِينَ وَهِيَ مِنَ الْبِلَادِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَ حُكْمِ هِرَقْلَ قَيْصَرِ الرُّومِ، فَنَازَلَ أَنْطَاكِيَةَ ثُمَّ دِمَشْقَ وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى الرُّومِ فِي أَطْرَافِ بِلَاد الشَّام المحاداة بِلَادِ الْعَرَبِ بَيْنَ بُصْرَى وَأَذْرُعَاتَ. وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَة فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أَي أدنى بِلَاد الرّوم إِلَى بِلَاد الْعَرَب. فالتعريف فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ أَرْضِ الرُّومِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، أَوِ اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فِي أَدْنَى أَرْضِهِمْ، أَوْ أَدْنَى أَرْضِ اللَّهِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَدْنَى لِظُهُورِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: مِنْ أَرْضِكُمْ، أَيْ أَقْرَبِ بِلَادِ الرُّومِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ بِلَادَ الشَّامِ تَابِعَةٌ يَوْمَئِذٍ لِلرُّومِ وَهِيَ أَقْرَبُ مَمْلَكَةِ للروم مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْهَزِيمَةُ هَزِيمَةً كُبْرَى لِلرُّومِ. وَقَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ إِخْبَارٌ بِوَعْدٍ مَعْطُوفٍ

عَلَى الْإِخْبَارِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى الرُّومِ. وغَلَبِهِمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ سَيَغْلِبُونَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَيَغْلِبُونَ الَّذِينَ غَلَبُوهُمْ، أَيِ الْفُرْسَ إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ سَيَغْلِبُونَ قَوْمًا آخَرِينَ لِأَنَّ غَلَبَهُمْ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَإِنْ كَانَ يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَعَرَّةَ غَلَبِ الْفُرْسِ إِيَّاهُمْ، لَكِنِ الْقِصَّةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَلِأَنَّ تَمَامَ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَغْلِبَ الرُّومُ الْفُرْسَ الَّذِينَ ابْتَهَجَ الْمُشْرِكُونَ بِغَلَبِهِمْ وَشَمِتُوا لِأَجْلِهِ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ تِلْكَ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهَا بِحَيْثُ لَا يُظَنُّ نَصْرٌ لَهُمْ بَعْدَهَا، فَابْتَهَجَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فَالْوَعْدُ بِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْهِزَامِ فِي أَمَدٍ غَيْرِ طَوِيلٍ تَحَدٍّ بِهِ الْقُرْآنُ الْمُشْرِكِينَ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ الْغَلَبَ عَلَى الْفُرْسِ تَقْدِيرًا خَارِقًا للْعَادَة معْجزَة لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَفْظُ بِضْعِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَدٍ قَلِيلٍ لَا يَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [42] . وَهَذَا أَجَلٌ لِرَدِّ الْكَرَّةِ لَهُمْ عَلَى الْفُرْسِ. وَحِكْمَةُ إِبْهَامِ عَدَدِ السِّنِينَ أَنَّهُ مُقْتَضَى حَالِ كَلَامِ الْعَظِيمِ الْحَكِيمِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَقْصُودِ إِجْمَالًا وَأَنْ لَا يَتَنَازَلَ إِلَى التَّفْصِيلِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْحَشْوِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَلِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ رَجَاءٌ فِي مُدَّةٍ أَقْرَبَ مِمَّا ظَهَرَ فَفِي ذَلِكَ تَفْرِيجٌ عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ وَصَحِيحَةٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ مِثْلَهُمْ فَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(أَمَّا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ) وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نُوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: 1- 3] فَقَالَ نَاسٌ مَنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: بَلَى- وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ- وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ الْبِضْعَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ. فَسَمَّى أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ سِتَّ سِنِينَ فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ فَمَضَتْ سِتُّ السِّنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَلَا أَخْفَضْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونِ الْعَشْرِ فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ» . وَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الَّذِي رَاهَنَ أَبَا بَكْرٍ هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الرِّهَانَ خَمْسَ قَلَائِصَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلُوا الْأَجَلَ سِتَّةَ أَعْوَامٍ غَيَّرُوهُ فَجَعَلُوهُ تِسْعَةَ أَعْوَامٍ وَازْدَادُوا فِي عَدَدِ الْقَلَائِصِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَفِيلًا بِالْخَطَرِ إِنْ غُلِبْتَ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنه عبد الرحمان، وَكَانَ عبد الرحمان أَيَّامَئِذٍ مُشْرِكًا بَاقِيًا بِمَكَّةَ. وَأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ طلبه عبد الرحمان بِكَفِيلٍ فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا. ثُمَّ مَاتَ أُبَيُّ بِمَكَّةَ مِنْ جُرْحٍ جَرَحَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا غَلَبَ الرُّومُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطَرَ مِنْ وَرَثَةِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. وَقَدْ كَانَ تَغَلُّبُ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْمُدَّةَ بَيْنَ انْهِزَامِ الرُّومِ وَانْهِزَامِ الْفُرْسِ سَبْعُ سِنِينَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا تِسْعٌ هُوَ تَصْحِيفٌ. وَقَدْ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ فِي سَلْطَنَةِ هِرَقْلَ قَيْصَرِ الرُّومِ، وَبِإِثْرِهِ جَاءَ هِرَقْلُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَنَزَلَ حِمْصَ وَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ جَاءُوا تُجَّارًا إِلَى الشَّامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي مُخَاطَرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَتَقْرِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا احْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الْعُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ

فَهَذَا يَرَوْنَهُ مَنْسُوخًا بِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقِمَارِ نَهْيًا مُطْلَقًا لَمْ يُقَيَّدْ بِغَيْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُرَاهَنَةَ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ جَرَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَرْعٌ بِمَكَّةَ أَيَّامَئِذٍ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى إِبَاحَةِ الْمُرَاهِنَةِ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُرَاهَنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَشْرِيعٌ أُنُفٌ وَلَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرُ التَّقْدِيرِ وَالتَّكْوِينِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْغَلَبَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَا، أَيْ مِنْ قَبْلِ غَلَبِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ وَهُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي مِنْ يَوْمِ غَلَبِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ بَعْدِ غَلَبِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ. فَهُنَالِكَ مُضَافَانِ إِلَيْهِمَا مَحْذُوفَانِ. فَبُنِيَتْ قَبْلُ وبَعْدُ عَلَى الضَّمِّ لِحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِافْتِقَارِ مَعْنَاهُمَا إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِمَا فَأَشْبَهَتَا الْحَرْفَ فِي افْتِقَارِ مَعْنَاهُ إِلَى الِاتِّصَالِ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ هُوَ الْأَفْصَحُ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وبَعْدُ وَقُدِّرَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُقْصَدُ إِضَافَتُهُمَا بَلْ أُرِيدَ بِهِمَا الزَّمَنُ السَّابِقُ وَالزَّمَنُ اللَّاحِقُ فَإِنَّهُمَا يُعْرَبَانِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَوْ يَزِيدُ بْنُ الصَّعْقِ: فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا ... أَكَادُ أَغَصُّ بِالْمَاءِ الْحَمِيمِ أَيْ وَكُنْتُ فِي زَمَنٍ سَبَقَ لَا يَقْصِدُ تَعْيِينَهُ، وَجَوَّزَ الْفَرَّاءُ فِيهِمَا مَعَ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَنْ تَبْقَى فِيهِمَا حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ بِدُونِ تَنْوِينٍ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ وَأَنْكَرَهُ الزَّجَاجُ وَجَعَلَ مِنَ الْخَطَإِ رِوَايَةَ قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ: وَمِنْ قَبْلِ نَادَى كُلُّ مَوْلًى قَرَابَةً ... فَمَا عَطَفَتْ مَوْلًى عَلَيْهِ الْعَوَاطِفُ بِكَسْرِ لَامِ «قَبْلِ» رَادًّا قَوْلَ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرٍ دُونَ تَنْوِينٍ يُرِيدُ الزَّجَاجُ، أَيِ الْوَاجِبُ أَنْ يُرْوَى بِالضَّمِّ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ الْأَمْرُ لِإِبْطَالِ تَطَاوُلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَهَجَهُمْ غَلَبُ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ مِثْلَهُمْ لِاسْتِلْزَامِهِ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْغَلَبَ مِنْ نَصْرِ الْأَصْنَامِ عُبَّادَهَا، فَبَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ ذَلِكَ وَأَنَّ التَّصَرُّفَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي

الْحَالَيْنِ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ. فِيهِ أَدَبٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِكَيْ لَا يُعَلِّلُوا الْحَوَادِثَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا وَيَنْتَحِلُوا لَهَا عِلَلًا تُوَافِقُ الْأَهْوَاءَ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الدَّجَاجِلَةُ مِنَ الْكُهَّانِ وَأَضْرَابِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِنُهُ فِي خُطَبِهِ فَقَدْ كُسِفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّاسُ: كُسِفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَخَطَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ» . وَكَانَ مِنْ صِنَاعَةِ الدَّجَلِ أَنْ يَتَلَقَّنَ أَصْحَابُ الدَّجَلِ الْحَوَادِثَ الْمُقَارِنَةَ لِبَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَزْعُمُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تَنْفَعُ أَقْوَامًا وَتَضُرُّ بِآخَرِينَ، وَلِهَذَا كَانَ التَّأْيِيدُ بِنَصْرِ الرُّومِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعُودًا بِهِ مِنْ قَبْلُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَنَّهُ مُتَحَدًّى بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا مُدَّعًى بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْوُعُودِ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ إِلَخْ أَيْ: وَيَوْمَ إِذْ يَغْلِبُونَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أَيْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا غَلَبُوهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَكَانَ غَلَبُهُمُ السَّابِقُ أَيْضًا بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الرُّومِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ هَذَا التَّعَاقُبَ وَهِيَ تَهْيِئَةُ أَسْبَابِ انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ إِذَا حَارَبُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَشْرِ دِينِ اللَّهِ فِي بِلَادَيْهِمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَالْجُمْلَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى إِذْ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَئِذٍ مَحْذُوفَةٌ عُوِّضَ عَنْهَا التَّنْوِينُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ إِذْ يَغْلِبُونَ يفرح الْمُؤْمِنُونَ، فَيوم مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَعَامِلُهُ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأُضِيفَ النَّصْرُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ النَّصْرِ وَأَنَّهُ عِنَايَةٌ لِأَجْلِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ النَّصْرَ الْمَذْكُورَ فِيهَا عَامٌّ بِعُمُومِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ مَنْ يَشاءُ فَكُلُّ مَنْصُورٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ، أَيْ مَنْ يَشَاءُ نَصْرَهُ لِحِكَمٍ

[سورة الروم (30) : الآيات 6 إلى 7]

يَعْلَمُهَا، فَالْمَشِيئَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ، أَيْ: يَنْصُرُ مَنْ يُرِيدُ نَصْرَهُ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ فَإِنَّ الْعَزِيزَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ مُغَالِبٍ لَهُ، وَعَقَّبَهُ بِ الرَّحِيمُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ عِزَّتَهُ تَعَالَى لَا تَخْلُو مِنْ رَحْمَةٍ بِعِبَادِهِ وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ لَمَا أَدَالَ لِلْمَغْلُوبِ دَوْلَةً عَلَى غَالِبِهِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ غَلَبَةَ الْغَالِبِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِعِزَّتِهِ وَالْأَمْرُ الثَّانِي بِرَحْمَتِهِ لِلْمَغْلُوبِ الْمَنْكُوبِ وَتَرْتِيبُ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ مَنْظُورٌ فِيهِ لِمُقَابَلَةِ كُلِّ صِفَةٍ مِنْهُمَا بِالَّذِي يُنَاسِبُ ذكره من الغالبين، فَالْمُرَادُ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا. [6- 7] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 6 إِلَى 7] وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) انْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَهَذَا مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِمَعْنَى جُمْلَةٍ قَبْلَهُ هِيَ بِمَعْنَاهُ وَيُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ تَسْمِيَةً غَرِيبَةً يُرِيدُونَ بِنَفْسِهِ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَمَثْلُهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلُوهُ بِنَحْوِ «لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ عُرْفًا» لِأَنَّ عُرْفًا بِمَعْنَى اعْتِرَافًا، أَكَّدَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ: لَكَ عَلِيَّ أَلْفٌ، وَكَذَلِكَ وَعْدَ اللَّهِ أَكَّدَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: 3، 4] . وَإِضَافَةُ الْوَعْدِ إِلَى اللَّهِ تَلْوِيحٌ بِأَنَّهُ وَعْدٌ مُحَقَّقٌ الْإِيفَاءَ لِأَنَّ وَعْدَ الصَّادِقِ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ لَا مُوجِبَ لِإِخْلَافِهِ. وَجُمْلَةُ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ وَعْدَ اللَّهِ فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ وَعْدٌ مُحَقَّقٌ بِطَرِيقِ التَّلْوِيحِ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالصَّرِيحِ بِجُمْلَةِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَلِكَوْنِهَا فِي مَوْقِعِ الْبَيَانِ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَفَائِدَةُ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ لِتَأْكِيدِهِ، وَلِمَا فِي جُمْلَةِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ مِنْ إِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا التَّأْكِيدِ. وَسَمَّاهُ وَعْدًا نَظَرًا لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ هُنَا. وَهُوَ أَيْضًا وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِخِذْلَانِ أَشْيَاعِهِمْ وَمَنْ يَفْتَخِرُونَ بِمُمَاثَلَةِ دِينِهِمْ. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ

الْإِجْمَالُ. وَتَفْصِيلُهُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ أَمْرًا لَا ارْتِيَابَ فِيهِ وَأَنَّهُ وَعْدُ اللَّهِ الصَّادِقِ الْوَعْدِ الْقَادِرِ عَلَى نَصْرِ الْمَغْلُوبِ فَيَجْعَلُهُ غَالِبًا، فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ مُرَاهَنَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ نَشَأَتْ عَنْ قُصُورِ عُقُولِهِمْ فَأَحَالُوا أَنْ تَكُونَ لِلرُّومِ بَعْدَ ضَعْفِهِمْ دَوْلَةٌ عَلَى الْفُرْسِ الَّذِينَ قَهَرُوهُمْ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ هُوَ بِضْعُ سِنِينَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ أَعْظَمُ. فَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ ابْتِدَاءً الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الْوَعْدَ وَرَاهَنُوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. وَيَشْمَلُ الْمُرَادُ أَيْضًا كُلَّ مَنْ كَانَ يَعُدُّ انْتِصَارَ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُسْتَحِيلًا، مِنْ رِجَالِ الدَّوْلَةِ وَرِجَالِ الْحَرْبِ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا مُزْدَهِينَ بِانْتِصَارِهِمْ، وَمِنْ أَهْلِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، وَمِنَ الرُّومِ أَنْفُسِهِمْ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْجَمْهَرَةِ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: 3، 4] . فَالتَّقْدِيرُ: لَا يَعْلَمُونَ هَذَا الْغَلَبَ الْقَرِيبَ الْعَجِيبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيلَ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ بِأَنْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَصِلُوا إِلَى إِدْرَاكِ الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَفَهْمِ الدَّلَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ كَانَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْعِلْمِ شَبِيهًا بِالْعَدَمِ إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ الْكَمَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّاسِخُونَ أَهْلُ النَّظَرِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَجْهِيلِهِمْ وَهُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ. وَلَمَّا كَانَ فِي أَسْبَابِ تَكْذِيبِهِمُ الْوَعْدَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَكَانَ عَدُّهُمْ إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ مِنِ الْتِبَاسِ الِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ بِالْمُحَالِ، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَقَادِيرِ النَّادِرَةِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيُقَدِّرُ لَهَا أَسْبَابًا لَيْسَتْ فِي الْحُسْبَانِ فَتَأْتِي عَلَى حَسَبِ مَا جَرَى بِهِ قَدَرُهُ لَا عَلَى حَسَبِ مَا يُقَدِّرُهُ النَّاسُ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يَفْرِضَ الِاحْتِمَالَاتِ كُلَّهَا وَيَنْظُرَ فِيهَا بِالسَّبْرِ وَالتَّقْيِيمِ، أَنْحَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَعْقَبَ إِخْبَارَهُ عَنِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ صِدْقَ وَعْدِ الْقُرْآنِ، بِأَنْ وَصَفَ حَالَةَ عِلْمِهِمْ كُلِّهَا بِأَنَّ قُصَارَى تَفْكِيرِهِمْ مُنْحَصِرٌ فِي ظَوَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَهِي المحسوسات والمجريات

وَالْأَمَارَاتُ، وَلَا يَعْلَمُونَ بَوَاطِنَ الدَّلَالَاتِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى إِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ. وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ مِنَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ يَعْلَمُونَ ظَوَاهِرَ مَا فِي الدُّنْيَا، أَيْ وَلَا يَعْلَمُونَ دَقَائِقَهَا وَهِيَ الْعُلُومُ الْحَقِيقِيَّةُ وَكُلُّهَا حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتِ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ. وَالْكَلَامُ يُشْعِرُ بِذَمِّ حَالِهِمْ، وَمَحَطُّ الذَّمِّ هُوَ جُمْلَةُ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ. فَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَلَيْسَتْ بِمَذَمَّةٍ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا أَيْضًا يَعْلَمُونَ ظَاهِرَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ عَالَمًا آخَرَ هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي تَجْهِيلِهِمْ بِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى تَجْهِيلِهِمْ بِوُجُودِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ اقْتِصَارًا بَدِيعًا حَصَلَ بِهِ التَّخَلُّصُ مِنْ غَرَضِ الْوَعْدِ بِنَصْرِ الرُّومِ إِلَى غَرَضٍ أَهَمَّ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ مَعَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَيَكُونُ مِثَالًا لِجَهْلِهِمْ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَذَمًّا لِجَهْلِهِمْ بِهِ بِأَنَّهُ أَوْقَعَهُمْ فِي وَرْطَةِ إِهْمَالِ رَجَاءِ الْآخِرَةِ وَإِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الرَّجَاءُ، فَذَلِكَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ فَجُمْلَةُ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَا يَعْلَمُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ عِلْمٍ بِمَغِيبَاتِ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ظَوَاهِرَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَجُمْلَةُ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَحَصَلَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِعِلْمِ أَشْيَاءٍ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَشْيَاءَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ إِلَخْ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. وَعُبِّرَ عَنْ جَهْلِهِمُ الْآخِرَةَ بِالْغَفْلَةِ كِنَايَةً عَنْ نُهُوضِ دَلَائِلِ وُجُودِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ لَوْ نَظَرُوا فِي الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ وُجُودَ حَيَاةٍ آخِرَةٍ فَكَانَ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ شَبِيهًا بِالْغَفْلَةِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ لَوِ اهْتَمُّوا بِالنَّظَرِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ غافِلُونَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. وَهُمْ الْأُولَى فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ وهُمْ الثَّانِيَةُ ضَمِيرُ فَصْلٍ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ وَثَبَاتِهِمْ فِي تِلْكَ الْغَفْلَةِ، وَضَمِيرُ

[سورة الروم (30) : آية 8]

الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ، أَيْ هُمُ الْغَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنَ الْبَدِيعِ الْجَمْعُ بَيْنَ لَا يَعْلَمُونَ ويَعْلَمُونَ. وَفِيهِ الطِّبَاقُ مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظَانِ لَا مِنْ جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِمَا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 102] . [8] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 8] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: 7] لِأَنَّهُمْ نَفَوُا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ فَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ. فَضَمِيرُ يَتَفَكَّرُوا عَائِدٌ إِلَى الْغَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ غَافِلُونَ وَعَجِيبٌ عَدَمُ تَفَكُّرِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ أَنَّ لِإِحَالَتِهِمْ رُجُوعَ الدَّالَّةِ إِلَى الرُّومِ بَعْدَ انْكِسَارِهِمْ سَبَبَيْنَ: أَحَدُهُمَا: اعْتِيَادُهُمْ قَصْرَ أَفْكَارِهِمْ عَلَى الْجَوَلَانِ فِي الْمَأْلُوفَاتِ دُونَ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أَنْكَرُوهُ لِهَذَا السَّبَبِ. وَثَانِيهُمَا: تَمَرُّدُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا مُعْجِزَتَهُ فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَقْضِ آرَائِهِمْ فِي هَذَيْنِ السَّبَبَيْنَ. وَالتَّفَكُّرُ: إِعْمَالُ الْفِكْرِ، أَيِ الْخَاطِرِ الْعَقْلِيِّ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [50] . وَالْأَنْفُسُ: جَمَعُ نَفْسٍ. وَالنَّفْسُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى بَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: 116]

كَقَوْلِ عُمَرَ يَوْمَ السَّقِيفَة: «وَكنت زوّقت فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ» أَيْ فِي عَقْلِي وَبَاطِنِي. وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْلِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ فَيَكُونُ ظَرْفًا لِمَصْدَرِ يَتَفَكَّرُوا، أَيْ تَفَكُّرًا مُسْتَقِرًّا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَمَوْقِعُ هَذَا الظَّرْفِ مِمَّا قَبْلَهُ مَوْقِعُ مَعْنَى الصِّفَةِ لِلتَّفَكُّرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّفَكُّرُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ فَذُكِرَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِتَقْوِيَةِ تَصْوِيرِ التَّفَكُّرِ وَهُوَ كَالصِّفَةِ الْكَاشِفَةِ لِتُقَرِّرَ مَعْنَى التَّفَكُّرِ عِنْدَ السَّامِعِ، كَقَوْلِهِ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] وَقَوْلِهِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ عَلَى هَذَا مُبَيِّنَةً لِجُمْلَةِ يَتَفَكَّرُوا إِذْ مَدْلُولُهَا هُوَ مَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَاف: 184] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَتَفَكَّرُوا تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ، أَيْ يَتَدَبَّرُوا وَيَتَأَمَّلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ الذَّوَاتُ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] فَإِنَّ حَقَّ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَحَقُّقَ الْبَعْثِ أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 185] أَيْ فِي دَلَالَةِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ أَنْفُسِهِمْ إِذِ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: فِي دَلَالَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَةَ أَنْفُسِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَى دَلَالَةِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ لِأَنَّ أَنْفُسِهِمْ مَشْمُولَةٌ لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْخَلْقِ وَدَالَّةٌ عَلَى مَا فِي الأَرْض، وَكَذَلِكَ يُطلق مَا فِي الْأَرْضِ دَالٌّ عَلَى خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَ تَعْلِيقُ فَعْلِ يَتَفَكَّرُوا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ لِوُجُودِ النَّفْيِ بَعْدَهُ. وَمعنى خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ: أَنَّ خَلْقَهُمْ مُلَابِسٌ لِلْحَقِّ. وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ مَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ حِكْمَةً لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعِلَّةً لَهُ، وَحَقُّ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَنَوْعٍ هُوَ مَا يَحِقُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ مِنَ الْكَمَالِ فِي خَصَائِصِهِ وَأَنَّهُ بِهِ

حَقِيقٌ كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ الْقَائِمِ بِبِرِّهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا تَعْرِيفَ النَّكِرَةِ بِلَامِ الْجِنْسِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي نَحْوِ: أَنْتَ الْحَبِيبُ، لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ يُؤْذِنُ بِكَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ حَقُّ كُلِّ نَوْعٍ بِالصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا قَابِلِيَّتُهُ، وَمَنْ يَنْظُرْ فِي الْقَابِلِيَّاتِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ يَجِدْ كُلَّ الْأَنْوَاعِ مَخْلُوقَةً عَلَى حُدُودٍ خَاصَّةٍ بِهَا إِذَا هِيَ بَلَغَتْهَا لَا تَقْبَلُ أَكْثَرَ مِنْهَا فَالْفَرَسُ وَالْبَقَرَةُ وَالْكَلْبُ الْكَائِنَاتُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ وَإِلَى زَمَنِ آدَمَ لَا تَتَجَاوَزُ الْمُتَأَخِّرَةُ مِنْ أَمْثَالِهَا حُدُودَهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فَهِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ تَجَارِبُ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ لِأَجْيَالِهَا الْحَاضِرَةِ، وَأَخْبَارُ النَّاسِ الْمَاضِينَ عَنِ الْأَجْيَالِ الْمُعَاصِرَةِ لَهَا، وَقِيَاسُ مَا كَانَ قَبْلَ أَزْمَانِ التَّارِيخِ عَلَى الْأَجْيَالِ الَّتِي انْقَرَضَتْ قَبْلَهَا حَاشَا نَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَهُ بِقَابِلِيَّةٍ لِلزِّيَادَةِ فِي كَمَالَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ تَجَدُّدِ الْأَجْيَالِ فِي الْكَمَالِ وَالِارْتِقَاءِ وَجَعَلَهُ السُّلْطَانَ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ وَالْمُتَصَرِّفَ فِي أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِ عَالَمِهِ كَمَا قَالَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] وَذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْعَقْلِ. وَدَلَّتِ الْمُشَاهَدَةُ عَلَى تَفَاوُتِ أَفْرَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي كَمَالِ مَا يَصْلُحُ لَهُ تَفَاوُتًا مُتَرَامِيَ الْأَطْرَافِ، كَمَا قَالَ الْبُحْتُرِيُّ: وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا ... لَدَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ فَدَلَّتِ التَّجْرِبَةُ فِي الْمُشَاهَدَةِ كَمَا دَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَنِ الْمَاضِي وَقِيَاسُ مَا قَبْلَ التَّارِيخِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، كُلُّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّفَاوُتِ كَلَّفَ الْإِنْسَانَ خَالِقُهُ بِقَوَانِينَ لِيَبْلُغَ مُرْتَقَى الْكَمَالِ الْقَابِلَ لَهُ فِي زَمَانِهِ، مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ زَمَانِهِ، وَلِيَتَجَنَّبَ إِفْسَادَ نَفْسِهِ وَإِفْسَادَ بَنِي نَوْعِهِ، وَقَدْ كَانَ مَا أُعْطِيَهُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ شُعَبِ الْعَقْلِ مُخَوِّلًا إِيَّاهُ أَنْ يَفْعَلَ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَأَنْ يَتَوَخَّى الصَّوَابَ أَوْ أَنْ لَا يَتَوَخَّاهُ، فَلَمَّا كَلَّفَهُ خَالِقُهُ بِاتِّبَاعِ قَوَانِينِ شَرَائِعِهِ ارْتَكَبَ وَاجْتَنَبَ فَالْتَحَقَ تَارَةً بِمَرَاقِي كَمَالِهِ، وَقَصَّرَ تَارَةً عَنْهَا قُصُورًا مُتَفَاوِتًا، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يُهْمَلَ مُسْتَرْسِلًا فِي خُطُوَاتِ الْقُصُورِ وَالْفَسَادِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِتَسْلِيطِ قُوَّةٍ مُلْجِئَةٍ عَلَيْهِ تَسْتَأْصِلُ الْمُفْسِدَ وَتَسْتَبْقِي الْمُصْلِحَ، وَإِمَّا بِإِرَاضَتِهِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاحِ حَتَّى يَصِيرَ مُنْسَاقًا إِلَى الصَّلَاحِ بِاخْتِيَارِهِ الْمَحْمُودِ، إِلَّا أَنَّ حِكْمَةً أُخْرَى رَبَّانِيَّةً اقْتَضَتْ بَقَاءَ عُمْرَانِ الْعَالَمِ وَعَدَمَ اسْتِئْصَالِهِ، وَبِذَلِكَ تَعَطَّلَ اسْتِعْمَالُ الْقُوَّةِ

الْمُسْتَأْصِلَةِ، فَتَعَيَّنَ اسْتِعْمَالُ إِرَاضَتِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْحِكْمَتَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ ثَوَابًا لِلصَّالِحِينَ عَلَى قَدْرِ صَلَاحِهِمْ وَعِقَابًا لِلْمُفْسِدِينَ بِمِقْدَارِ عَمَلِهِمْ، وَاقِعًا ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عَالَمٍ غَيْرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَبْلَغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ إِزَالَةً لِلْوَصْمَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحِكْمَةِ، فَخَافَ فَرِيقٌ وَرَجَا فَارْتَكَبَ وَاجْتَنَبَ، وَأَعْرَضَ فَرِيقٌ وَنَأَى فَاجْتَرَحَ وَاكْتَسَبَ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ آثَارِ هَاتِهِ الْحِكَمِ أَنْ لَا يُحْرَمَ الصَّالِحُ مِنْ ثَوَابِهِ، وَأَنْ لَا يَفُوتَ الْمُفْسِدُ بِمَا بِهِ لِيَظْهَرَ حَقُّ أَهْلِ الْكَمَالِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمَرَاتِبِ، فَجَعَلَ اللَّهُ بَقَاءَ أَفْرَادِ النَّوْعِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مَحْدُودًا بِآجَالٍ مُعَيَّنَةٍ وَجَعَلَ لِبَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ أَجَلًا مُعَيَّنًا، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ جَمِيعُ الْآجَالِ جَاءَ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَتَمَيَّزَ أَهْلُ النَّقْصِ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ. فَكَانَ جَعْلُ الْآجَالِ لِبَقَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتْ مُلَابِسَةً لَهُ، وَلِذَلِكَ نُبِّهَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِ، وَإِظْهَارًا أَنَّهُ الْمَقْصِدُ بِكِيَانِهِ، فَعَطَفَهُ عَلَى الْحَقِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَمَا عَطَفَ ضِدَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، فِي قَوْلِهِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] فَقَالَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ الْآيَةَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ هُنَا أَنَّ فِي أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ مِنْ شَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَمَلَائِكَتِهَا مَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتْ مُلَابِسَةً لَهُ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهَا الَّتِي لَا نَعْرِفُ نِسْبَةَ تَعَلُّقِهَا بِهَذَا الْعَالَمِ، فَنَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَنَقِيسُ غَائِبَهُ عَلَى الشَّاهِدِ، فَنُوقِنُ بِأَنَّهُ مَا خُلِقَ إِلَّا بِالْحَقِّ كَذَلِكَ. فَشَوَاهِدُ حَقِّيَّةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَادِيَةٌ فِي دَقَائِقِ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] . وَالْمُسَمَّى: الْمُقَدَّرُ. أُطْلِقَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [5] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى

[سورة الروم (30) : آية 9]

وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [53] . وَجُمْلَةُ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ تَذْيِيلٌ. وَتَأْكِيدُهُ بِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي وُجُودِ مَنْ يَجْحَدُ لِقَاءَ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي مَضَى بَلْهُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُونَ بِهِ كَثِيرًا. وَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ هُنَا: مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَبَقِيَّةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَمَنْ مَاثَلَهُمْ مِنَ الدَّهْرِيِّينَ. وَلَمْ يعبر هُنَا بِأَكْثَرَ النَّاس [العنكبوت: 60] لِأَنَّ الْمُثْبِتِينَ لِلْبَعْثِ كَثِيرُونَ مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ وَالْقِبْطِ. [9] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 9] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الرّوم: 8] وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ مُتَّصِلٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: 6] أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ عِلْمِهِمْ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي أَنْبَأَهُمْ بِالْبَعْثِ، فَلَمَّا سِيقَ إِلَيْهِمْ دَلِيلُ حِكْمَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِالْحَقِّ أَعْقَبَ بِإِنْذَارِهِمْ مَوْعِظَةً لَهُمْ بِعَوَاقِبِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَاقِبَةُ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ الْآيَةَ. وَالْأَمْرُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [11] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [20] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَسِيرُوا تَقْرِيرِيٌّ. وَجَاءَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ [الْأَعْرَاف: 148] وَقَوله لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فِي الْأَنْعَام [130] ، وَقَوْلِهِ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ فِي آخِرِ الْعَنْكَبُوتِ [68] . والْأَرْضِ: اسْمٌ لِلْكُرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ.

وَالنَّظَرُ: هُنَا نَظَرُ الْعَيْنِ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَمُرُّونَ فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الشَّامِ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَفِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ عَلَى دِيَارِ عَادٍ. وَكَيْفِيَّةُ الْعَاقِبَةِ هِيَ حَالَةُ آخِرِ أَمْرِهِمْ مِنْ خَرَابِ بِلَادِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَعْقَابِهِمْ فَعَاضَدَ دَلَالَةَ التَّفَكُّرِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الرّوم: 8] الْآيَةَ بِدَلَالَةِ الْحِسِّ بِقَوْلِهِ: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ مُعَلِّقُ فعل فَيَنْظُرُوا عَنْ مَفْعُولِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَنْظُرُوا ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ فَقِيلَ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بِخِلَافِ الْعُقْبَى فَهِيَ لِلْخَيْرِ خَاصَّةً إِلَّا فِي مَقَامِ الْمُشَاكَلَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَاقِبَةِ فِي قَوْلِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْأَعْرَافِ [128] . وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَعِيدًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْهِيلًا لِإِحَالَتِهِمُ الْمُمْكِنَ، حَيْثُ أَيْقَنُوا بِأَنَّ الْفُرْسَ لَا يُغْلَبُونَ بَعْدَ انْتِصَارِهِمْ. فَهَذِهِ آثَارُ أُمَمٍ عَظِيمَةٍ كَانَتْ سَائِدَةً عَلَى الْأَرْضِ فَزَالَ مُلْكُهُمْ وَخَلَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ سَبَبِ تَغَلُّبِ أُمَمٍ أُخْرَى عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَمْثَالُهُمُ الَّذِينَ شَاهَدَ الْعَرَبُ آثَارَهَمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مِثْلِ حَالَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً الْآيَةَ. كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. كُلُّ أُولَئِكَ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ وَأَكْثَرَ تَعْمِيرًا فِي الْأَرْضِ، وَكُلُّهُمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلٌ، وَكُلُّهُمْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الِاسْتِئْصَالَ، كُلُّ هَذِهِ مَا تُقِرُّ بِهِ قُرَيْشٌ.

وَجُمْلَةُ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالشِّدَّةُ: صَلَابَةُ جِسْمٍ، وَتُسْتَعَارُ بِكَثْرَةٍ لِقُوَّةِ صِفَةٍ مِنَ الْأَوْصَافِ فِي شَيْءٍ تَشْبِيهًا لِكَمَالِ الْوَصْفِ وَتَمَامِهِ بِالصَّلَابَةِ فِي عُسْرِ التَّحَوُّلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [33] . وَالْقُوَّةُ: حَالَةٌ بِهَا يُقَاوِمُ صَاحِبُهَا مَا يُوجِبُ انْخِرَامَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قُوَّةُ الْبَدَنِ، وَقُوَّةُ الْخَشَبِ، وَتُسْتَعَارُ الْقُوَّةُ لِمَا بِهِ تُدْفَعُ الْعَادِيَةُ وَتَسْتَقِيمُ الْحَالَةُ فَهِيَ مَجْمُوعُ صِفَاتٍ يَكُونُ بِهَا بَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ كَمَا فِي قَوْله: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ [النَّمْل: 33] فَقُوَّةُ الْأُمَّةِ مَجْمُوعُ مَا بِهِ تَدْفَعُ الْعَوَادِيَ عَنْ كِيَانِهَا وَتَسْتَبْقِي صَلَاحَ أَحْوَالِهَا مِنْ عُدَدٍ حَرْبِيَّةٍ وَأَمْوَالٍ وَأَبْنَاءٍ وَأَزْوَاجٍ. وَحَالَةُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَا تُدَانِي أَحْوَالَ تِلْكَ الْأُمَمِ فِي الْقُوَّةِ، وَنَاهِيكَ بِعَادٍ فَقَدْ كَانُوا مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ فِي الْقُوَّةِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ فِي جِنْسِهِ بِأَنَّهُ عَادِيٌّ نِسْبَةً إِلَى عَادٍ. وَعَطْفُ أَثارُوا عَلَى كانُوا فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِثَارَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ تَحْرِيكُ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ، فَالْإِثَارَةُ: رَفْعُ الشَّيْءِ الْمُسْتَقِرِّ وَقَلْبُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] أَيْ: تَسُوقُهُ وَتَدْفَعُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَأُطْلِقَتِ الْإِثَارَةُ هُنَا عَلَى قَلْبِ تُرَابِ الْأَرْضِ بِجَعْلِ مَا كَانَ بَاطِنًا ظَاهِرًا وَهُوَ الْحَرْثُ، قَالَ تَعَالَى: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [الْبَقَرَة: 71] ، وَقَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ بَقَرَ الْوَحْشِ إِذَا حَفَرَتِ التُّرَابَ: يُثِرْنَ الْحَصَى حَتَّى يُبَاشِرْنَ بَرْدَهُ ... إِذَا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَهَا بِالْكَلَاكِلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَثارُوا هُنَا تَمْثِيلًا لِحَالِ شِدَّةِ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَغَلُّبِهِمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ بِحَالِ مَنْ يُثِيرُ سَاكِنًا وَيُهَيِّجُهُ، وَمِنْهُ أُطْلِقَتِ الثَّوْرَةُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْأُمَمِ بِالْقُوَّةِ وَالْمَقْدِرَةِ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْإِثَارَةُ بِمَعْنَى حَرْثِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْعِمَارَةِ. وَضَمِيرُ أَثارُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا أَشَدَّ. وَمَعْنَى عِمَارَةِ الْأَرْضِ: جَعْلُهَا عَامِرَةً غَيْرَ خَلَاءٍ وَذَلِكَ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ.

يُقَالُ: ضَيْعَةٌ عَامِرَةٌ، أَيْ: مَعْمُورَةٌ بِمَا تَعْمُرُ بِهِ الضِّيَاعُ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: ضَيْعَةٌ غَامِرَةٌ. وَلِكَوْنِ قُرَيْشٍ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِثَارَةٌ فِي الْأَرْضِ بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ إِذْ كَانُوا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لَمْ يُقَلْ فِي هَذَا الْجَانِبِ: أَكْثَرَ مِمَّا أَثَارُوهَا. وَضَمِيرَا جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها رَاجِعٌ أَوَّلُهُمَا إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَثارُوا وَثَانِيهِمَا إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وَيُعْرَفُ تَوْزِيعُ الضَّمِيرَيْنِ بِالْقَرِينَةِ مِثْلُ تَوْزِيعِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فِي سُورَةِ [الْقَصَصِ: 15] كَالضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قِتَالَ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [58] ، أَيْ عَمَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الْأَرْضَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ لِقُرَيْشٍ عِمَارَةً فِي الْأَرْضِ مِنْ غَرْسٍ قَلِيلٍ وَبِنَاءٍ وَتَفْجِيرٍ وَلَكِنَّهُ يَتَضَاءَلُ أَمَامَ عِمَارَةِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ. وَتَفْرِيعُ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِيجَازُ حَذْفٍ بَدِيعٌ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ يَقْتَضِي تَصْدِيقًا وَتَكْذِيبًا فَلَمَّا فَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَأَنَّ اللَّهَ جَازَاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ بِأَنْ عَاقَبَهُمْ عِقَابًا لَوْ كَانَ لِغَيْرِ جُرْمٍ لَشَابَهَ الظُّلْمَ، فَجُعِلَ مِنْ مَجْمُوعِ نَفْيِ ظُلْمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمِنْ إِثْبَاتِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَعْرِفَةُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَعَانَدُوهُمْ وَحَلَّ بِهِمْ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ دِيَارِهِمْ وَتَنَاقُلِ أخبارهم. والاستدراك ناشىء عَلَى مَا يَقْتَضِيهُ نَفْيُ ظُلْمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةً سَيِّئَةً لَوْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا لَكَانَتْ مُعَامَلَةَ ظُلْمٍ. وَعُبِّرَ عَنْ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ظُلْمِهِمْ وَتَكَرُّرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ فَلَمْ يُقْلِعُوا حَتَّى أَخَذَهُمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْعَاقِبَةُ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ كانُوا.

[سورة الروم (30) : آية 10]

وَتَقْدِيمُ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ مَفْعُولُ يَظْلِمُونَ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَنْفُسِهِمْ فِي تَسْلِيطِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ ظُلْمٌ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا لِلْحَصْرِ لِأَنَّ الْحَصْرَ حَاصِلٌ مِنْ جُمْلَتَيِ النَّفْي وَالْإِثْبَات. [10] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 10] ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ أَعْظَمُ رُتْبَةً فِي السُّوءِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ تَذْيِيلًا لِحِكَايَةِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ قَوْلِهِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرّوم: 9] . وَالْمَعْنَى: ثُمَّ عَاقِبَةُ كُلِّ من أساءوا السوأى مِثْلُهُمْ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] ، فَالْمُرَادُ ب الَّذِينَ أَساؤُا كل مسيىء مَنْ جِنْسِ تِلْكَ الْإِسَاءَةِ وَهِيَ الشِّرْكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْذَارًا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: 6] فَيَكُونُوا الْمُرَادَ ب الَّذِينَ أَساؤُا، وَيَكُونُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ الْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ، أَيْ أَنَّ سَبَب عاقبتهم السوأى هُوَ إِسَاءَتُهُمْ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: ثُمَّ كَانَ عاقبتهم السوأى. وَهَذَا إِنْذَارٌ بَعْدَ الْمَوْعِظَةِ وَنَصٌّ بَعْدَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ وَعَظَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوَاقِبِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا لِيَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ بِحُكْمِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، ثُمَّ أَعْقَبَ تِلْكَ الْمَوْعِظَةَ بِالنِّذَارَةِ بِأَنَّهُمْ سَتَكُونُ لَهُمْ مِثْلُ تِلْكَ الْعَاقِبَة بِحكم قِيَاس التَّمْثِيل، ثمَّ أعقب تِلْكَ الموعظة بالنذارة بِأَنَّهُم سَتَكُون لَهُم مثل تِلْكَ الْعَاقِبَةِ، وَأَوْقَعَ فِعْلَ كانَ الْمَاضِي فِي مَوْقِعِ الْمُضَارِعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] إِتْمَامًا لِلنِّذَارَةِ. وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي تَعْقُبُ حَالَةً قَبْلَهَا. وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [11] ، وَقَوْلِهِ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فِي طه

[سورة الروم (30) : آية 11]

وَ (الَّذِينَ أَسَاءُوا) هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَالْمُرَادُ بِآياتِ اللَّهِ الْقُرْآنُ ومعجزات الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والسُّواى: تَأْنِيثُ الْأَسْوَأِ، أَيِ الْحَالَةُ الزَّائِدَةُ فِي الِاتِّصَافِ بِالسُّوءِ وَهُوَ أَشَدُّ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْحُسْنَى مُؤَنَّثُ الْأَحْسَنِ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُس: 26] . وتعريف السُّواى تَعْرِيف الْجِنْسِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ عَاقِبَةٍ مَعْهُودَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ ب الَّذِينَ أَساؤُا الْأُمَمُ الَّذِينَ أَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا فَتَكُونُ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَوَسُّلًا إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أساءوا واستحقوا السوأى وَهِيَ جَهَنَّمُ. وَفِعْلُ كانَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ عاقِبَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ اسْمِ كانَ وَخَبَرِهَا. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانَ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ. وَالْفَصْلُ بَيْنَ كانَ وَمَرْفُوعِهَا بِالْخَبَرِ سَوَّغَ حَذْفَ تَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ فِعْلِ كانَ. وأَنْ كَذَّبُوا تَعْلِيلٌ لكَون عاقبتهم السوأى بِحَذْفِ اللَّامِ مَعَ أَنْ وبِآياتِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ وَالْمُعْجِزَاتُ. وَالْبَاءُ فِي بِها يَسْتَهْزِؤُنَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْآيَاتِ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [11] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 11] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ شُرُوعٌ فِيمَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ بَسْطِ دَلَائِلِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي النَّاسِ بِإِيجَادِهِمْ وَإِعْدَامِهِمْ وَبِإِمْدَادِهِمْ وَأَطْوَارِ حَيَاتِهِمْ، لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ لِشُرَكَائِهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ. فَهِيَ دَلَائِلُ سَاطِعَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي عَمُوا عَنْهَا.

وَإِذْ كَانَ نُزُولُ أَوَّلِ السُّورَةِ عَلَى سَبَبِ ابْتِهَاجِ الْمُشْرِكِينَ لِتَغَلُّبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ فَقَطَعَ اللَّهُ تَطَاوُلَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّ عَاقِبَةَ النَّصْرِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ نَصْرًا بَاقِيًا، وَكَانَ مَثَارُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَيْلَ كُلِّ فَرِيقٍ إِلَى مُقَارِبِهِ فِي الدِّينِ جُعِلَ ذَلِكَ الْحَدَثُ مُنَاسَبَةً لِإِفَاضَةِ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى إِبْطَالِ دِينِ الشِّرْكِ. وَقَدْ فُصِّلَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ اسْتِئْنَافَاتٍ مُتَمَاثِلَةِ الْأُسْلُوبِ، ابْتُدِئَ كل وَاحِد مِنْهَا بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُجْرًى عَلَيْهِ أَخْبَارٌ عَنْ حَقَائِقَ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِدَحْضِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِبَعْضِهَا أَوِ الْعَجْزُ عَنْ نَقْضِ دَلِيلِهَا. فَالِاسْتِئْنَافُ الْأَوَّلُ الْمَبْدُوءُ بقوله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَالثَّانِي الْمَبْدُوءُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الرّوم: 40] ، وَالثَّالِثُ الْمَبْدُوءُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الرّوم: 48] ، وَالرَّابِعُ الْمَبْدُوءُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الرّوم: 54] . فَأَمَّا قَوْله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَاسْتِدْلَالٌ بِمَا لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ إِذْ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الرَّعْد: 16] الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِأَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ لَهُ بَدْءُ الْخَلْقِ كَانَ تَسْلِيمُ إِعَادَتِهِ أَوْلَى وَأَجْدَرَ. وَحَسَّنَ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ وُرُودُهُ بَعْدَ ذِكْرِ أُمَمٍ غَابِرَةٍ وَأُمَمٍ حَاضِرَةٍ خَلَفَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مِثَالًا لِإِعَادَةِ الْأَشْخَاصِ بَعْدَ فَنَائِهَا وَذِكْرِ عَاقِبَةِ مَصِيرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ فِي الْعَاجِلَةِ، نَاسَبَ فِي مَقَامِ الِاعْتِبَارِ أَنْ يُقَامَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ لِيَقَعَ ذِكْرُ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْجَزَاءِ مَوْقِعَ الْإِقْنَاعِ لَهُمْ. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي. وثُمَّ هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْإِرْجَاعِ إِلَى اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ إِذْ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنَ الْإِعَادَةِ وَمِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ. فَالْخِطَابُ فِي تُرْجَعُونَ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.

[سورة الروم (30) : الآيات 12 إلى 13]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ مَا قبله. [12- 13] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 12 إِلَى 13] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: 11] تَبْيِينًا لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْإِرْجَاعِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَئِذٍ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ. وَلَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِجُمْلَةِ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى [الرّوم: 10] ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَيَوْمَئِذٍ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أَوْ يَوْمئِذٍ تُبْلِسُونَ، أَيْ وَيَوْمَ تُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، فَعَدَلَ عَنْ تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا يَوْمَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: 11] بِذِكْرِ جُمْلَةٍ أُخْرَى هِيَ فِي مَعْنَاهَا لِتُزِيدَ الْإِرْجَاعَ بَيَانًا أَنَّهُ إِرْجَاعُ النَّاسِ إِلَيْهِ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَهُوَ إِطْنَابٌ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَزِيَادَةُ التَّهْوِيلِ لِمَا يَقْتَضِيهِ إِسْنَادُ الْقِيَامِ إِلَى السَّاعَةِ مِنَ الْمُبَاغَتَةِ وَالرُّعْبِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَصْدِ تَكْرِيرُ هَذَا الظَّرْفِ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِهَذَا الْإِطْنَابِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ السَّاعَةُ عَلَى وَقْتِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ. وَأَصْلُ السَّاعَةِ: الْمِقْدَارُ مِنَ الزَّمَنِ، وَيَتَعَيَّنُ تَحْدِيدُهُ بِالْإِضَافَةِ أَوِ التَّعْرِيفِ. وَالْإِبْلَاسُ: سُكُونٌ بِحَيْرَةٍ. يُقَالُ: أَبْلَسَ، إِذَا لَمْ يَجِدْ مَخْرَجًا مِنْ شِدَّةٍ هُوَ فِيهَا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [77] . والْمُجْرِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ. وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِجْرَاءِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنَّهُ يُقَالُ: تُبْلِسُونَ، بِالْخِطَابِ أَوْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَوُصِفُوا بِالْإِجْرَامِ لِتَحْقِيرِ دِينِ الشِّرْكِ وَأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى إِجْرَامٍ كَبِيرٍ. وَقَدْ ذُكِرَ أَحَدُ أَسْبَابِ الْإِبْلَاسِ وَأَعْظُمُهَا حِينَئِذٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شُفَعَاءَ مِنْ

[سورة الروم (30) : الآيات 14 إلى 16]

آلِهَتِهِمُ الَّتِي أَشْرَكُوا بِهَا وَكَانُوا يَحْسَبُونَهَا شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ، فَلَمَّا نَظَرُوا وَقَلَّبُوا النَّظَرَ فَلَمْ يَجِدُوا شُفَعَاءَ خَابُوا وَخَسِئُوا وَأُبْلِسُوا، وَلَهُمْ أَسْبَابُ خَيْبَةٍ أُخْرَى لَمْ يَتَعَلَّقِ الْغَرَضُ بِذِكْرِهَا. وَأَمَّا مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَذَلِكَ حَالَةُ يَأْسٍ لَا حَالَةُ إِبْلَاسٍ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ. وَنَفْيُ فِعْلِ يَكُنْ بِ لَمْ الَّتِي تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْمُضِيِّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَحْقِيقِ حُصُولِ هَذَا النَّفْيِ مِثْلَ قَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَمُقَابَلَةُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الشُّرَكَاءِ مِنْ بَابِ التَّوْزِيعِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْرِمِينَ أَحَدٌ شَفِيعٌ فَضْلًا عَنْ عِدَّةِ شُفَعَاءَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِمْ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] . وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ شُفَعَؤُا بِوَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ، أَرَادُوا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَضْمُومَةٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ شُفَعاءُ اسْمُ (كَانَ) وَأَنْ لَيْسَ اسْمُهَا قَوْلَهُ مِنْ شُرَكائِهِمْ بِتَوَهُّمِ أَنَّ مِنْ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَوْ أَنَّهَا مَزِيدَةٌ فِي النَّفْيِ، فَأَثْبَتُوا الْوَاوَ تَحْقِيقًا لِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَأَثْبَتُوا الْأَلِفَ لِأَنَّ الْأَلِفَ صُورَة للهمزة. [14- 16] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 14 إِلَى 16] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) أُعِيدَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا. وَكَرَّرَ يَوْمَئِذٍ لِتَأْكِيدِ حَقِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ. وَلَمَّا ذُكِرَ إِبْلَاسُ الْمُشْرِكِينَ الْمُشْعِرُ بِتَوَقُّعِهِمُ السُّوءَ وَالْعَذَابَ أَعْقَبَ بِتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ يَوْمئِذٍ مَعَ بَيَانِ مَغَبَّةِ إِبْلَاسِ الْفَرِيقِ الْكَافِرِينَ. وَالضَّمِيرُ فِي يَتَفَرَّقُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْمُجْرِمِينَ فَعُلِمَ

أَنَّ فَرِيقًا آخَرَ ضِدَّهُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ إِبْلَاسِ الْمُجْرِمِينَ يَوْمئِذٍ يُفْهِمُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَالتَّفَرُّقُ: انْقِسَامُ الْجَمْعِ وَتَشَتُّتُ أَجْزَاءِ الْكُلِّ. وَقَدْ كُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنِ التَّبَاعُدِ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ يُلَازِمُهُ التَّبَاعُدُ عُرْفًا. وَقَدْ فُصِلَ التَّفَرُّقُ هُنَا بِقَوْلِهِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِهِ. وَالرَّوْضَةُ: كُلُّ أَرْضٍ ذَاتِ أَشْجَارٍ وَمَاءٍ وَأَزْهَارٍ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْجِنَانِ. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ «أَحْسَنُ مِنْ بَيْضَةٍ فِي رَوْضَةٍ» يُرِيدُونَ بَيْضَةَ النَّعَامَةِ. وَقَدْ جَمَعَ مَحَاسِنَ الرَّوْضَةِ قَوْلُ الْأَعْشَى: مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشَبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ (¬1) شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ ويُحْبَرُونَ: يُسَرُّونَ مِنَ الْحُبُورِ، وَهُوَ السُّرُورُ الشَّدِيدُ. يُقَالُ: حَبَّرَهُ، إِذَا سَرَّهُ سُرُورًا تَهَلَّلَ لَهُ وَجْهُهُ وَظَهَرَ فِيهِ أَثَرُهُ. ومُحْضَرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِحْضَارِ، أَيْ: جَعْلِ الشَّيْءِ حَاضِرًا، أَيْ: لَا يَغِيبُونَ عَنْهُ، أَيْ: لَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَهُوَ يُفِيدُ التَّأْيِيدَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْعَذابِ نَاسَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِهِمُ الْمُحْضَرِينَ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي الْعَذَابِ لِئَلَّا يَكُونَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ بِمَدْلُولٍ فِي الظَّرْفِيَّةِ فَإِنَّ التَّأْسِيسَ أَوْقَعُ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْضَرُونَ بِمَعْنَى مَأْتِيٌّ بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ فَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ مُحْضَرٍ وَنَحْوِهِ بِمَعْنَى مُعَاقَبٍ، قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 158] ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَكُتِبَ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِقَائِي بِهَمْزَةٍ عَلَى يَاءٍ تَحْتِيَّةٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَكْسُورَةٌ وَذَلِكَ من الرَّسْم التوقيفي، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تُكْتَبَ الْهَمْزَةُ فِي السَّطْرِ بعد الْألف. [17- 18] ¬

(¬1) أَرَادَ بالكوكب النّور تَشْبِيها لَهُ بكوكب نُجُوم السَّمَاء فِي الْبيَاض والاستدارة.

[سورة الروم (30) : الآيات 17 إلى 18]

[سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 17 إِلَى 18] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) الْفَاءُ تَقْتَضِي اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَهِيَ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَوْ عَطْفَ تَفْرِيعٍ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ الْكَلَامِ قَوْلَهُ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الرّوم: 8] ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: 6] وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْكُفَّارُ فَالتَّفْرِيعُ أَو الإفصاح ناشىء عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَقْصُود من فَسُبْحانَ اللَّهِ إِنْشَاءَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَجْزِ عَنْ إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَإِنْشَاءَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ. وَالْخِطَابُ فِي تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ تَابِعٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: 11] ، وَهُوَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الْمُبْتَدِئَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الرّوم: 8] إِلَى آخِرِهَا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِاسْتِعْمَالِ مَصْدَرِ (سُبْحَانَ) فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] وَهُوَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ مَصْدَرِ سُبْحَانَ فِي الْكَلَامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ كَمَا تَقْتَضِيهِ أَقْوَالُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ. وَهَذَا غَيْرُ اسْتِعْمَالِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطّور: 48] وَقَوْلِ الْأَعْشَى فِي دَالِيِّتِهِ: وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِّيَاتِ وَالضُّحَى وَقَوْلُهُ حِينَ تُمْسُونَ، وحِينَ تُصْبِحُونَ [النُّور: 58] ، وعَشِيًّا، وحِينَ تُظْهِرُونَ ظُرُوفٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ يُنْشَأُ تَنْزِيهُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَهِيَ الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَتَجَزَّأُ الزَّمَانُ إِلَيْهَا، وَالْمَقْصُود التَّأْبِيد كَمَا تَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ دَوْمًا. وَسَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَقَامِ الثَّنَاءِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَن يكون فَسُبْحانَ هُنَا مَصْدَرًا وَاقِعًا بَدَلًا عَنْ فِعْلِ أَمْرٍ بِالتَّسْبِيحِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَسَبِّحُوا اللَّهَ سُبْحَانًا. وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ مَا رُوِيَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إِلَى قَوْلِهِ وَحِينَ

تُظْهِرُونَ فَإِذَا صَحَّ مَا رُوِيَ عَنْهُ فَتَأْوِيلُهُ: أَنَّ سُبْحَانَ أَمْرٌ بِأَنْ يَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ. وَقَوْلُهُ حِينَ تُمْسُونَ إِلَى آخِرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَعَ سَابِقِهِ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِحُسْنِ مَصِيرِهِمْ لَقَّنَهُمْ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي أَجْزَاءِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ الْوَاقِعَيْنِ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ كِنَايَةً عَنِ الشُّكْرِ عَنِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ التَّصَدِّي لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَقِبَ حُصُولِ الْإِنْعَامِ أَوِ الْوَعْدِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَادِحَ مَا بَعَثَهُ عَلَى الْمَدْحِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَّا قَصْدُ الْجَزَاءِ عَلَى النِّعْمَةِ بِمَا فِي طَوْقِهِ، كَمَا وَرَدَ (فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى مُكَافَأَتِهِ فَادْعُوا لَهُ) . وَلَيْسَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَأَوْقَاتُهَا هِيَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَلَكِنْ نُسِجَتْ عَلَى نَسْجٍ صَالِحٍ لِشُمُولِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأَوْقَاتَهَا وَذَلِكَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَسْبِيحٌ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا السُّبْحَةَ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَأُضِيفَ الْحِينُ إِلَى جُمْلَتَيْ تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ. وَقُدِّمَ فِعْلُ الْإِمْسَاءِ عَلَى فِعْلِ الْإِصْبَاحِ: إِمَّا لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ يَعْتَبِرُونَ فِيهِ اللَّيَالِي مَبْدَأُ عَدَدِ الْأَيَّامِ كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ: 18] ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا وَقَعَ عَقِبَ ذِكْرِ الْحَشْرِ مِنْ قَوْله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: 11] وَذِكْرُ قِيَامِ السَّاعَةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاءُ وَهُوَ آخِرُ الْيَوْمِ خَاطِرًا فِي الذِّهْنِ فَقُدِّمَ لَهُمْ ذِكْرُهُ. وعَشِيًّا عَطْفٌ عَلَى حِينَ تُمْسُونَ. وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الظُّرُوفِ تُفِيدُ أَنَّ تَسْبِيحَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ لَيْسَ لِمَنْفَعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لِمَنْفَعَةِ الْمُسَبِّحِينَ لِأَنَّ اللَّهَ مَحْمُودٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ حَمْدِنَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَلَهُ الْحَمْدُ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ لِجِنْسِ الْحَمْدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حَمْدَهُ هُوَ الْحَمْدُ الْكَامِلُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ الشُّجَاعُ، كَمَا تَقَدَّمَ

[سورة الروم (30) : آية 19]

فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَالْإِمْسَاءُ: حُلُولُ الْمَسَاءِ. وَالْإِصْبَاحُ: حُلُولُ الصَّبَاحِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فالِقُ الْإِصْباحِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [96] . وَالْإِمْسَاءُ: اقْتِرَابُ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَالصَّبَاحُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْإِظْهَارُ: حُلُولُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْإِفْعَالُ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلدُّخُولِ فِي الْمَكَانِ مِثْلَ: أَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ، وَأَيْمَنَ، وَأَشْأَمَ فِي حُلُولِ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ وَالظُّهْرِ تَشْبِيهًا لِذَلِكَ الْحُلُولِ بِالْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ، فَيَكْثُرُ أَنْ يُقَالَ: أَصْبَحَ وَأَضْحَى وَأَمْسَى وَأَعْتَمَ وَأَشْرَقَ، قَالَ تَعَالَى فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشُّعَرَاء: 60] . وَالْعَشِيُّ: مَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي سُورَة الْأَنْعَام [52] . [19] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 19] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ جملَة اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: 11] . وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مُوقِعَ الْعلَّة لجملة فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الرّوم: 17] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، أَيْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ لِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْإِيجَادِ الْعَجِيبِ وَبِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاخْتِيرَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ الْعَظِيمَةِ تَصَرُّفُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ لِأَنَّهُ تَخَلَّصٌ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ رَدًّا لِلْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: 11] . فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَسْبِيحِهِ وَحَمْدِهِ مَعْلُولٌ بِأَمْرَيْنِ: إِيفَاءُ حَقِّ شُكْرِهِ الْمُفَادِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَسُبْحانَ اللَّهِ [الرّوم: 17] ، وَإِيفَاءُ حَقِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا عَطْفُ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فَلِلِاحْتِرَاسِ مِنِ اقْتِصَارِ قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِإِظْهَارِ عَجِيبِ قُدْرَتِهِ أَنَّهَا تَفْعَلُ الضِّدَّيْنِ. وَفِي الْآيَةِ الطِّبَاقُ. وَهَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَالْإِخْرَاجُ: فَصْلُ شَيْءٍ مَحْوِيٍّ عَنْ حَاوِيهِ. يُقَالُ: أَخْرَجَهُ مِنَ الدَّارِ، وَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ لِإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُخْرِجُ ويُحْيِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الرّوم: 48] . فَهَذَا الْإِخْرَاجُ وَالْإِحْيَاءُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّعْظِيمَ وَالْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ إِذْ أَوْدَعَ هَذَا النِّظَامَ الْعَجِيبَ فِي الْمَوْجُودَاتِ فَجَعَلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لَهُ قُوَّةً وَخَصَائِصَ تَجْعَلُهُ يَنْتِجُ الْأَشْيَاءَ الْحَيَّةَ الثَّابِتَةَ الْمُتَصَرِّفَةَ وَيَجْعَلُ فِي تُرَابِ الْأَرْضِ قُوًى تُخْرِجُ الزَّرْعَ وَالنَّبَاتَ حَيًّا نَامِيًا. وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ يَظْهَرُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: إِنْشَاءُ الْأَجِنَّةِ مِنَ النُّطَفِ، وَإِنْشَاءُ الْفِرَاخِ مِنَ الْبَيْضِ وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ يَظْهَرُ فِي الْعَكْسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ غُلَاةِ الْمُشْرِكِينَ أَفَاضِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ إِخْرَاجِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَإِخْرَاجِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ أَبِيهَا أَحَدِ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ وَقَدْ قَالَتْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مَنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ مَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مَنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْضًا» (أَيْ سَتَزِيدِينَ حُبًّا لَنَا بِسَبَبِ نُورِ الْإِسْلَامِ) . وَإِخْرَاجُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ أَبِيهَا. وَلَمَّا كَلَّمَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ إِسْلَامِهَا وَهِجْرَتِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ حِينَ جَاءَ أَخَوَاهَا يَرُومَانِ رَدَّهَا إِلَى مَكَّةَ حَسَبِ شُرُوطِ الْهُدْنَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا امْرَأَةٌ وَحَالُ النِّسَاءِ إِلَى الضَّعْفِ فَأَخْشَى أَنْ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي وَلَا صَبْرَ لِي، فَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الِامْتِحَانِ فَلَمْ يَرُّدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا وَكَانَتْ أَوَّلَ النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَهُوَ مَا فِيهِ إِنْشَاءُ حَيَاةِ شَيْءٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لَيْسَ مَقْصُودًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ احْتِرَاسٌ وَتَكْمِلَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ رَاجِعًا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، أَيْ وَكَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيهَا يَكُونُ إِخْرَاجُكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ

[سورة الروم (30) : آية 20]

إِخْراجاً [نوح: 17، 18] . وَلَا وَجْهَ لِاقْتِصَارِ التَّشْبِيهِ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِبْدَاءَ وَالْإِعَادَةَ مُتَسَاوِيَانِ فَلَيْسَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَعْجَبَ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَكَّمُوا الْإِلْفَ فِي مَوْضِعِ تَحْكِيمِ الْعَقْلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ الْمَيِّتِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُخْرَجُونَ بِضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ بِفَتْحِهَا. [20] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 20] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ مُتَضَمِّنًا آيَاتٍ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ إِلَى آيَاتٍ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الْعَظِيمِ غَيْرَ مَا فِيهِ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِعْذَارًا لِمَنْ أَشْرَكُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَقَدْ سَبَقَتْ سِتُّ آيَاتٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَابْتُدِئَتْ بِكَلِمَةٍ وَمِنْ آياتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّحَادِ غَرَضِهَا، فَهَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْأُولَى وَلَهَا شَبَهٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْبَعْثِ لِأَنَّ خَلْقَ النَّاسِ مِنْ تُرَابٍ وَبَثَّ الْحَيَاةِ وَالِانْتِشَارَ فِيهِمْ هُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ هِيَ الْأَوْلَى فِي الذِّكْرِ لِمُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا فَجُعِلَتْ تَخَلُّصًا مِنْ دَلَائِلِ الْبَعْثِ إِلَى دَلَائِلِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَائِنَةٌ فِي خَلْقِ جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ وَتَقْوِيمِ بَشَرِيَّتِهِ. وَتَقَدَّمَ كَيْفَ كَانَ الْخَلْقُ مِنْ تُرَابٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [12، 13] . فَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [5] فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ الْآيَةَ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِلنَّاسِ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَشْعَرُ بِهَا مِمَّا سِوَاهَا، وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ النُّطَفَ أَصَّلُ الْخِلْقَةِ، وَهُمْ إِذَا تَأَمَّلُوا عَلِمُوا أَنَّ النُّطْفَةَ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَأَنَّ الْغِذَاءَ يَتَكَوَّنُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنَّ نَبَاتَ الْأَرْضِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ الَّتِي أَنْبَتَتْهُ

[سورة الروم (30) : آية 21]

فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ تُرَابٍ، فَبِذَلِكَ اسْتَقَامَ جَعْلُ التَّكْوِينِ مِنَ التُّرَابِ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ عَلَامَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مَعَ كَوْنِهِ أَمْرًا خَفِيًّا. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَ الْبَشَرِ أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِ تُرَابٌ حَسْبَمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الْأَدْيَانُ كُلُّهَا. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ، وَأَوَّلُ الْوُجُوهِ أَظْهَرُهَا. فَالتُّرَابُ مَوَاتٌ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَطَبْعُهُ مُنَافٍ لِطَبْعِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ التُّرَابَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَذَلِكَ طَبْعُ الْمَوْتِ، وَالْحَيَاةُ تَقْتَضِي حَرَارَةً وَرُطُوبَةً فَمِنْ ذَلِكَ الْبَارِدِ الْيَابِسِ يَنْشَأُ الْمَخْلُوقُ الْحَيُّ الْمُدْرِكُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ، وَإِلَى التَّصَرُّفِ وَالْحَرَكَةِ بِقَوْلِهِ تَنْتَشِرُونَ، وَلَمَّا كَانَ تَمَامُ الْبَشَرِيَّةِ يَنْشَأُ عَنْ تَطَوُّرِ التُّرَابِ إِلَى نَبَاتٍ ثُمَّ إِلَى نُطْفَةٍ ثُمَّ إِلَى أَطْوَارِ التَّخَلُّقِ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَتَالِيَةٍ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ الدَّالِّ عَلَى تَرَاخِي الزَّمَنِ مَعَ تَرَاخِي الرُّتْبَةِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بِحَرْفِ ثُمَّ. وَصُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِأَنَّ الْكَوْنَ بَشَرًا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَجْأَةً بِوَضْعِ الْأَجِنَّةِ أَوْ خُرُوجِ الْفِرَاخِ مِنَ الْبَيْضِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي اقْتَضَاهَا حَرْفُ الْمُهْلَةِ هِيَ أَطْوَارٌ خَفِيَّةٌ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَرْفِ الْمُهْلَةِ وَحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ التَّطَوُّرِ الْعَجِيبِ. وَحَصَلَ مِنَ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَرْفِ الْمُهْلَةِ وَحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ شِبْهُ الطِّبَاقِ وَإِنْ كَانَ مَرْجِعُ كُلٍّ مِنَ الْحَرْفَيْنِ غَيْرَ مَرْجِعِ الْآخَرِ. وَالِانْتِشَارُ: الظُّهُورُ عَلَى الْأَرْضِ وَالتَّبَاعُدُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَعْمَالِ قَالَ تَعَالَى فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَة: 10] . [21] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 21] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) هَذِهِ آيَةٌ ثَانِيَةٌ فِيهَا عِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ بِنِظَامِ النَّاسِ الْعَامِّ وَهُوَ نِظَامُ الِازْدِوَاجِ وَكَيْنُونَةِ

الْعَائِلَةِ وَأَسَاسِ التَّنَاسُلِ، وَهُوَ نِظَامٌ عَجِيبٌ جَعَلَهُ اللَّهُ مُرْتَكِزًا فِي الْجِبِلَّةِ لَا يَشِذُّ عَنْهُ إِلَّا الشُّذَّاذُ. وَهِيَ آيَةٌ تَنْطَوِي عَلَى عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْهَا: أَنْ جُعِلَ لِلْإِنْسَانِ نَامُوسُ التَّنَاسُلِ، وَأَنْ جُعِلَ تَنَاسُلُهُ بِالتَّزَاوُجِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ كَتَنَاسُلِ النَّبَاتِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَ الْإِنْسَانِ مِنْ صِنْفِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ صِنْفٍ آخَرَ لِأَنَّ التَّآنُسَ لَا يَحْصُلُ بِصِنْفٍ مُخَالِفٍ، وَأَنْ جَعَلَ فِي ذَلِكَ التَّزَاوُجِ أُنْسًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَزَاوُجًا عَنِيفًا أَوْ مُهْلِكًا كَتَزَاوُجِ الضَّفَادِعِ، وَأَنْ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَمُحَبَّةً فَالزَّوْجَانِ يَكُونَانِ مِنْ قبل التزاوج مُتَجَاهِلَيْنِ فَيُصْبِحَانِ بعد التزاوج مُتَحَابَّيْنِ، وَأَنْ جَعَلَ بَيْنَهُمَا رَحْمَةً فَهُمَا قَبْلَ التِّزَاوُجِ لَا عَاطِفَةَ بَينهمَا فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وَأَن جعل بَينهمَا رَحْمَة فهما قبل التزاوج لَا عاطفة بَيْنَهُمَا فَيُصْبِحَانِ بَعْدَهُ مُتَرَاحِمَيْنِ كَرَحْمَةِ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ، وَلِأَجَلِّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ هَذَا الدَّلِيلُ وَيَتْبَعَهُ مِنَ النِّعَمِ وَالدَّلَائِلِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَاتٍ عِدَّةً فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَائِنَةٌ فِي خَلْقِ جَوْهَرِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ: صِنْفُ الذَّكَرِ، وصنف الْأُنْثَى، وإبداع نِظَامِ الْإِقْبَالِ بَيْنَهُمَا فِي جِبِلَّتِهِمَا. وَذَلِكَ مِنَ الذَّاتِيَّاتِ النِّسْبِيَّةِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ. وَقَدْ أُدْمِجَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ لَكُمْ أَيْ لِأَجْلِ نَفْعِكُمْ. ولِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُتَعَلق ب لَآياتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الدَّلَالَةِ. وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي يُجَلِّي كُنْهَهَا وَيَزِيدُ النَّاظِرَ بَصَارَةً بِمَنَافِعَ أُخْرَى فِي ضِمْنِهَا. وَالَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ: الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ لِجَمِيعِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَالزَّوْجُ: هُوَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ لِلْوَاحِدِ ثَانٍ فَيُطْلَقُ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَرَجُلِ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ فَرْدِ زَوْجَهُ.

[سورة الروم (30) : آية 22]

وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَنْ نَوْعِكُمْ، فَجَمِيعُ الْأَزْوَاجِ مِنْ نَوْعِ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: وَتَزَوَّجْتُ فِي الشبيبة غولا ... يغزال وَصَدْقَتِي زِقُّ خَمْرِ فَمِنْ تَكَاذِيبِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ الْمُشَعْوِذُونَ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْجِنِّيَّاتِ وَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ الْخُرَافَاتِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ وُجُودِ بَنَاتٍ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّهَا قَدْ يَتَزَوَّجُ بَعْضُ الْإِنْسِ بِبَعْضِهَا. وَالسُّكُونُ: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّأَنُسِ وَفَرِحِ النَّفْسِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زَوَالَ اضْطِرَابِ الوحشة والكمد بِالسُّكُونِ الَّذِي هُوَ زَوَالُ اضْطِرَابِ الْجِسْمِ كَمَا قَالُوا: اطْمَأَنَّ إِلَى كَذَا وَانْقَطَعَ إِلَى كَذَا. وَضَمِنَ لِتَسْكُنُوا مَعْنَى لِتَمِيلُوا فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِ (عِنْدَ) وَنَحْوِهَا مِنَ الظُّرُوفِ. وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ، وَالرَّحْمَةُ: صِفَةٌ تَبْعَثُ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ كَثِيرَةً بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِ ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى دَقَائِقِ كَثِيرَةٍ مُتَوَلِّدٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ يُظْهِرُهَا التَّأَمُّلُ وَالتَّدَبُّرُ بِحَيْثُ يَتَجَمَّعُ مِنْهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مَعْنَاهُ شِبْهُ التَّمْلِيكِ وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَيَظْهَرُ أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَمَثَّلَهُ فِي «الْمُغْنِي» بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النَّحْل: 72] وَذُكِرَ فِي الْمَعْنَى الْعِشْرِينَ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ فِي «كَافِيَّتِهِ» سَمَّاهُ لَامَ التَّعْدِيَةِ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ تَعْدِيَةً خَاصَّةً، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: 5] . [22] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 22] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ آيَةُ النِّظَامِ الْأَرْضِيِّ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ بِمَجْمُوعِهَا وَسُكَّانِهَا فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ مَشْهُودَةٌ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصَارِيفِ الْأَجْرَامِ

السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَمَا هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ من أحوالهما المتقاربة الْمُتَلَازِمَةِ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُصُولِ، وَالْمُتَضَادَّةِ كَالْعُلُوِّ وَالِانْخِفَاضِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ أَشْرَفُ مَا عَلَى الْأَرْضِ نَوْعَ الْإِنْسَانِ قُرِنَ مَا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا فِي خَلْقِ الْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ، وَخُصَّ مِنْ أَحْوَالِهِ الْمُتَخَالِفَةِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ عِبْرَةً إِذْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَّحِدَةٍ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَلِأَنَّ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِهَذَا النَّوْعِ الْوَاحِدِ نَجْدُ أَسْبَابَ اخْتِلَافِهَا مِنْ آثَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَاخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ سَبَّبَهُ الْقَرَارُ بِأَوْطَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ سَبَّبَهُ اخْتِلَافُ الْجِهَاتِ الْمَسْكُونَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَاخْتِلَافُ مُسَامَتَةِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ لَهَا فَهِيَ مِنْ آثَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ آيَةُ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض تمهيد لَهُ وَإِيمَاءً إِلَى انْطِوَاءِ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي أَسْرَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِأَحْوَالٍ عَرَضِيَّةٍ فِي الْإِنْسَانِ مُلَازِمَةٍ لَهُ فَبِتِلْكَ الْمُلَازَمَةِ أَشْبَهَتِ الْأَحْوَالَ الذَّاتِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ ثُمَّ النِّسْبِيَّةَ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ حَسَبِ التَّرْتِيبِ السَّابِقِ. وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِ أَلْسُنِ الْبَشَرِ وَأَلْوَانِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [190] قَوْلُهُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. وَالْأَلْسِنَةُ: جَمْعُ لِسَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللُّغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: 4] وَقَوْلِهِ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النَّحْل: 103] . وَاخْتِلَافُ لُغَاتِ الْبَشَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِمْ فِي النَّوْعِ كَانَ اخْتِلَافُ لُغَاتِهِمْ آيَةً دَالَّةً عَلَى مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّفْكِيرِ وَتَنْوِيعِ التَّصَرُّفِ فِي وَضْعِ اللُّغَاتِ، وَتَبَدُّلِ كَيْفِيَّاتِهَا بِاللَّهَجَاتِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ الْأُصُولُ الْمُتَّحِدَةُ إِلَى لُغَاتٍ كَثِيرَةٍ.

فَلَا شَكَّ أَنَّ اللُّغَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً لِلْبَشَرِ حِينَ كَانُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَمَا اخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ إِلَّا بِانْتِشَارِ قَبَائِلِ الْبَشَرِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمُتَبَاعِدَةِ، وَتَطَرَّقَ التَّغَيُّرُ إِلَى لُغَاتِهِمْ تَطَرُّقًا تَدْرِيجِيًّا عَلَى أَنَّ تَوَسُّعَ اللُّغَاتِ بِتَوَسُّعِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهَا حَاجَةٌ قَدْ أَوْجَبَ اخْتِلَافًا فِي وَضْعِ الْأَسْمَاءِ لَهَا فَاخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ بِذَلِكَ فِي جَوْهَرِهَا كَمَا اخْتَلَفَتْ فِيمَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَهَا بِاخْتِلَافِ لَهَجَاتِ النُّطْقِ، وَاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ لِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ مُوجِبَانِ. فَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ هُوَ اخْتِلَاف اللُّغَات مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: 4] وَلِمَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُقْتَضِيَةِ إِيَّاهُ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مَا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْسُنِ حَصَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَعْدَ الطُّوفَانِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَأَنَّ الْبَشَرَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْعِبَارَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَأَنَّ التَّفَرُّقَ وَقَعَ قَبْلَ تَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ. وَقَدْ عُلِّلَ فِي ذَلِكَ «الْإِصْحَاحِ» بِمَا يُنَزِّهُ اللَّهُ عَنْ مَدْلُولِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ اخْتِلَافَ الْأَصْوَاتِ بِحَيْثُ تَتَمَايَزُ أَصْوَاتُ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَعْرِفُ صَاحِبَ الصَّوْتِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ فَهُوَ آيَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَشَرَ مُنْحَدِرٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ، وَلَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَعَلَّهُ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِحُمْرَةٍ، فَلَمَّا تَعَدَّدَ نَسْلُهُ جَاءَتِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي بَشَرَاتِهِمْ وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ مَعْلُولٌ لِعِدَّةِ عِلَلٍ أَهَمُّهَا الْمَوَاطِنُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْهَا التَّوَالُدُ مِنْ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ اللَّوْنِ مِثْلَ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ أُمٍّ سَوْدَاءَ وَأَبٍ أَبْيَضَ، وَمِنْهَا الْعِلَلُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي تُؤَثِّرُ تَلْوِينًا فِي الْجِلْدِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْأَغْذِيَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ بل هُوَ نواع وَاحِدٌ، فَلِلْبَشَرِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ أَصْلَاهَا الْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو عَلِيِّ ابْن سِينَا فِي «أُرْجُوزَتِهِ» فِي الطِّبِّ بِقَوْلِهِ: بِالنَّزْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَ ... حَتَّى كَسَا بَيَاضَهَا سَوَادَا وَالصَّقْلَبُ اكْتَسَبَتِ الْبَيَاضَا ... حَتَّى غَدَتْ جُلُودُهَا بِضَاضَا وَكَانَ أَصْلُ اللَّوْنِ الْبَيَاضَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عِلَّةٍ وَلِأَنَّ التَّشْرِيحَ أَثْبَتَ أَنَّ أَلْوَانَ

[سورة الروم (30) : آية 23]

لُحُومِ الْبَشَرِ الَّتِي تَحْتَ الطَّبَقَةِ الْجِلْدِيَّةِ مُتَّحِدَةُ اللَّوْنِ. وَمِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ انْشَقَّتْ أَلْوَانُ قَبَائِلِ الْبَشَرِ فَجَاءَ مِنْهَا اللَّوْنُ الْأَصْفَرُ وَاللَّوْنُ الْأَسْمَرُ وَاللَّوْنُ الْأَحْمَرُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كُوقْيَيْ (¬1) جَعَلَ أُصُولَ أَلْوَانِ الْبَشَرِ ثَلَاثَةً: الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ، وَهُوَ لَوْنُ أَهْلِ الصِّينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْأَحْمَرَ وَهُوَ لَوْنُ سُكَّانِ قَارَّةِ أَمْرِيكَا الْأَصْلِيِّينَ الْمَدْعُوِّينَ هُنُودَ أَمْرِيكَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ مَجْمُوعِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ تَمَايَزَتِ الْأَجْذَامُ الْبَشَرِيَّةُ وَاتَّحَدَتْ مُخْتَلِطَاتُ أَنْسَابِهَا. وَقَدْ قَسَّمُوا أَجْذَامَ الْبَشَرِ الْآنَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْذَامٍ أَصْلِيَّةٍ وَهِيَ الْجَذْمُ الْقُوقَاسِيُّ الْأَبْيَضُ، وَالْجَذْمُ الْمَغُولِيُّ الْأَصْفَرُ، وَالْجَذْمُ الْحَبَشِيُّ الْأَسْوَدُ، وَفَرَّعُوهَا إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَبَشِيُّ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَصْفَرُ وَالسَّامِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَالْمَلَايِيُّ نِسْبَةً إِلَى بِلَادِ الْمَلَايُو. وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَاتٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لِمَا عُلِمَتْ مِنْ تَفَاصِيلِ دَلَائِلِهِ وَعِلَلِهِ، أَيْ آيَاتٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم: 21] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْعالِمِينَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ يُمَكِّنُهُمُ الشُّعُورَ بِآيَاتِهِ بِمُجَرَّدِ الْتِفَاتِ الذِّهْنِ دُونَ إِمْعَانِ نَظَرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِلْعالِمِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لأولي الْعلم. [23] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 23] وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) هَذِهِ آيَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ كَائِنَةٌ فِي أَعْرَاضٍ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ لَا يَخْلُو عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ ¬

(¬1) كوقيي: عَالم طبيعي فرنسي ولد سنة 1769 وَتوفى سنة 1832.

أَفْرَادِهِمْ، إِلَّا أَنَّهَا أَعْرَاضٌ مُفَارِقَةٌ غَيْرُ مُلَازِمَةٍ فَكَانَتْ دُونَ الْأَعْرَاضِ الَّتِي أُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَهَا. وَحَالَةُ النَّوْمِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي نِظَامِ أَعْصَابِ دِمَاغِهِ قَانُونًا يَسْتَرِدُّ بِهِ قُوَّةَ مَجْمُوعِهِ الْعَصَبِيِّ بَعْدَ أَنْ يَعْتَرِيَهُ فَشَلُ الْإِعْيَاءِ مِنْ إِعْمَالِ عَقْلِهِ وَجَسَدِهِ فَيَعْتَرِيَهُ شِبْهُ مَوْتٍ يُخَدِّرُ إِدْرَاكَهُ وَلَا يُعَطِّلُ حَرَكَاتِ أَعْضَائِهِ الرَّئِيسِيَّةَ وَلَكِنَّهُ يُثَبِّطُهَا حَتَّى يَبْلُغَ مِنَ الزَّمَنِ مِقْدَارًا كَافِيًا لِاسْتِرْجَاعِ قُوَّتِهِ فَيُفِيقُ مِنْ نَوْمَتِهِ وَتَعُودُ إِلَيْهِ حَيَاتُهُ كَامِلَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] . وَالْمَنَامُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلنَّوْمِ أَوْ هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ. وَقَوْلُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مُتَعَلِّقٌ بِ مَنامُكُمْ. وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى (فِي) فَالنَّاسُ يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ بِالنَّهَارِ فِي الْقَائِلَةِ وَبِخَاصَّةٍ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الْمُضْنِيَةِ إِذَا اسْتَرَاحُوا مِنْهَا فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ خُصُوصًا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَوْ فِي فَصْلِ الْحَرِّ. وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: طَلَبُ الرِّزْقِ بِالْعَمَلِ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ الرِّزْقُ، وَجُعِلَ هَذَا كِنَايَةً عَنِ الْهُبُوبِ إِلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْهُبُوبَ مِنَ النَّوْمِ، وَذَلِكَ آيَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ نَشَاطُ الْقُوَّةِ بَعْدَ أَنْ خَارَتْ وَفَشِلَتْ. وَلِكَوْنِ ابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنْ خَصَائِصِ النَّهَارِ أُطْلِقَ هُنَا فَلَمْ يُقَيَّدْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَدَمَ تَقْيِيدِهِ بِمِثْلِ مَا قَيَّدَ بِهِ مَنامُكُمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِدَلَالَةِ الْقَيْدِ الَّذِي قَبْلَهُ بِتَقْدِيرِ: وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فِيهِمَا، وَقَدْ تَكَلَّفَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ عَلَى أَنَّ اللَّفَّ وَقَعَ فِيهِ تَفْرِيقٌ، وَوَجَّهَهُ مُحَشِّيهِ الْقَزْوِينِيُّ بِأَنَّ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ بِآيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَدْ جُعِلَتْ دَلَالَاتُ الْمَنَامِ وَالِابْتِغَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَيْنِ حَالَتَانِ مُتَعَاوِرَتَانِ عَلَى النَّاسِ قَدِ اعْتَادُوهُمَا فَقَلَّ مَنْ يَتَدَبَّرُ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَمُعْظَمُ النَّاسِ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُوقِفُهُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَيْهَا. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ فِي مَا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْ أَحْوَالِ النَّوْمِ مَا هُوَ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ

[سورة الروم (30) : آية 24]

صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُ النَّوْمِ مِنْ أَحْوَالِ نَوْمِهِ، لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَعْرِفُ مِنْ نَوْمِهِ إِلَّا الِاسْتِعْدَادَ لَهُ وَإِلَّا أَنَّهُ حِينَ يَهُبُّ مَنْ نَوْمِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فَأَمَّا حَالَةُ النَّائِمِ فِي حِينِ نَوْمِهِ وَمِقْدَارُ تَنَبُّهِهِ لِمَنْ يُوقِظُهُ، وَشُعُورُهُ بِالْأَصْوَاتِ الَّتِي تَقَعُ بِقُرْبِهِ، وَالْأَضْوَاءِ الَّتِي تَنْتَشِرُ عَلَى بَصَرِهِ فَتُنَبِّهُهُ أَوْ لَا تُنَبِّهُهُ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَلَقَّاهُ النَّائِمُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْخَبَرِ مِنَ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَيْقَاظًا فِي وَقْتِ نَوْمِهِ. فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ النَّائِمِينَ وَاخْتِلَافِهَا السَّمْعُ، وَقَدْ يُشَاهِدُ الْمَرْءُ حَالَ نَوْمِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّ عِبْرَتَهُ بِنَوْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ أَشَدُّ، فَطَرِيقُ السَّمْعِ هُوَ أَعَمُّ الطُّرُقِ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ النَّوْمِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَأَيْضًا لِأَنَّ النَّوْمَ يَحُولُ دُونَ الشُّعُور بالمسموعات بادىء ذِي بَدْءٍ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ دُونَ الشُّعُورِ بِالْمُبْصَرَاتِ. وَأُجْرِيَتْ صِفَةُ يَسْمَعُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّمْعَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَوَجْهُ جَعْلِ ذَلِكَ آيَاتٍ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ تَعَدُّدِ الدَّلَالَاتِ بِتَعَدُّدِ الْمُسْتَدِلِّينَ وَتَوَلُّدِ دَقَائِقِ تِلْكَ الْآيَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم: 21] . [24] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 24] وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) تِلْكَ آيَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِنْسَانِ وَلَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، فَإِنَّ الْبَرْقَ آيَةٌ مِنْ آيَاتٍ صُنْعِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْ خَلْقِ الْقُوَى الْكَهْرَبَائِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ فِي الْأَسْحِبَةِ وَجَعْلِهَا آثَارًا مُشَاهَدَةً، وَكَمْ مِنْ قُوًى أَمْثَالِهَا مُنْبَثَّةٍ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ لَا تُشَاهَدُ آثَارُهَا.

وَمِنَ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ فِي كَوْنِ الْبَرْقِ مَرْئِيًّا أَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَلَّطَهُ عِقَابًا وَطَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا لِلنَّاسِ فَيَطْمَعُونَ فِي نُزُولِ الْمَطَرِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَإِنَّ نُزُولَ الْمَطَرِ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَرْقِ. وَقَوْلُهُ مِنْ آياتِهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ كَوْنٍ إِنْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أَوْ إِلَى مُتَعَلَّقٍ إِنْ كَانَ ظَرْفًا لَغْوًا. وَمُوقِعُ هَذَا الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَارِدٌ عَلَى مِثْلِ مَوَاقِعِ أَمْثَالِهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ الشَّبِيهَةِ بِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى اعْتِبَارِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي مَعْنَى مُبْتَدَأٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ حَمْلًا عَلَى نَظَائِرِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنى: وَمن ءاياته إِرَاءَتُهُ إِيَّاكُمُ الْبَرْقَ إِلَخْ. فَلِذَلِكَ قَالَ أَيِمَّةُ النَّحْوِ: يَجُوزُ هُنَا جَعْلُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ (أَنْ) وَلَا تَقْدِيرِهَا، أَيْ مِنْ غَيْرِ نَصْبِ الْمُضَارِعِ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) مَحْذُوفَةٍ، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ: وَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ أَلْهُو ... إِلَى الْإِصْبَاحِ آثَرُ ذِي آثَارِ وَقَوْلَ طَرَفَةَ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] بِرَفْعِ أَعْبُدُ فِي مَشْهُورِ الْقِرَاءَاتِ، وَقَوْلَهُمْ فِي الْمَثَلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَقَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةً، وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةً» وَقَوْلَهَ فِيهِ: «وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعْمَالِ تَفَنُّنُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مَعَانِي الْمَصْدَرِ بِأَنْوَاعِ صِيَغِهِ الْوَارِدَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، مِنْ تَعْبِيرٍ بِصِيغَةِ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ تَارَةً كَقَوْلِهِ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرّوم: 22] وَقَوْلِهِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الرّوم: 23] ، وَبِالْمَصْدَرِ الَّذِي يَنْسَبِكُ مِنِ اقْتِرَانِ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الرّوم: 21] وَاقْتِرَانِهَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرّوم: 25] ،

[سورة الروم (30) : آية 25]

وَبِاسِمِ الْمَصْدَرِ تَارَةً وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الرّوم: 23] وَمَرَّةً بِالْفِعْلِ الْمُجَرّد المؤوّل بِالْمَصْدَرِ وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقًا بِ يُرِيكُمُ وَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْبَرْقِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الرّوم: 23] إِلَخْ. فَيَكُونُ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ لِأَنَّ مَنَاطَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ تَقْرِيرُ النَّاسِ بِهَا إِذْ هِيَ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِذَوَاتِهِمْ فَلَيْسَ حَظُّهُمْ مِنْهَا سِوَى مُشَاهَدَتِهَا وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهَا آيَةٌ بَيِّنَةٌ. فَهَذَا التَّقْرِيرُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْد: 2] ، وَلِيَتَأَتَّى عَطْفُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ خَوْفاً وَطَمَعاً مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ: خَوْفًا تَخَافُونَهُ وَطَمَعًا تطمعونه. فالمصدران مؤولان بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، أَيْ إِرَادَةَ أَنْ تَخَافُوا خَوْفًا وَتَطْمَعُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْبَرْقِ فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [12] . وَتَقَدَّمَ هُنَالِكَ أَنَّ خَوْفاً مَفْعُولٌ لَهُ وطَمَعاً كَذَلِكَ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ. وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَة آيَات لَا نطوائها عَلَى دَقَائِقَ عَظِيمَةٍ فِي خَلْقِ الْقُوَى الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ الْبَرْقِ وَنُزُولِ الْمَطَرِ وَخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ جَفَافِهَا وَمَوْتِهَا. وَنِيطَ الِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بِأَصْحَابِ صِفَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمُسْتَقِيمَ غَيْرَ الْمَشُوبِ بِعَاهَةِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ كَافٍ فِي فَهْمِ مَا فِي تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْحِكَمِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي نَظَائِرِهِ آنِفًا. وَإِجْرَاءُ يَعْقِلُونَ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ لِلْإِيمَاءِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا فِي مِثْلِهِ. وَمَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مِثْلَ مَعْنَى أُخْتِهَا فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم: 21] . [25] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 25] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) خُتِمَتِ الْآيَاتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَهِيَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ عَلَى

حِفْظِ نِظَامِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ بَعْدَ خَلْقِهَا فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَقَدَّمَتْ، وَبَقَاءُ نِظَامِهِمَا عَلَى مَمَرِّ الْقُرُونِ آيَةٌ أُخْرَى. وَمَوْقِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ هُوَ أَوَّلُهَا وَهُوَ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَذَا الْقِيَامَ الْمُتْقَنَ بِأَمْرِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَمَعْنَى الْقِيَامِ هُنَا: الْبَقَاءُ الْكَامِلُ الَّذِي يُشْبِهُ بَقَاءَ الْقَائِمِ غَيْرِ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِ الْقَاعِدِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَتِ السُّوقُ، إِذَا عَظُمَ فِيهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] وَقَوْلِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْحَج: 65] . وَالْأَمْرُ الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ وَهُوَ مَجْمُوعُ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، ذَلِكَ النِّظَامُ الْحَارِسُ لَهُمَا مِنْ تَطَرُّقِ الِاخْتِلَالِ بِإِيجَادِ ذَلِكَ النِّظَامِ. وبِأَمْرِهِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ تَقُومَ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وثُمَّ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ الِاحْتِرَاسُ عَمًّا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ مِنْ أَبَدِيَّةِ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْأَرْضِيَّ يَعْتَوِرُهُ الِاخْتِلَالُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ انْقِضَاءَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَإِحْضَارَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَشْرِ تَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. فَمَضْمُونُ جُمْلَةِ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ لَيْسَ مِنْ تَمَامِ هَذِهِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَلَكِنَّهُ تَكْمِلَةٌ وَإِدْمَاجٌ مُوَجَّهٌ إِلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ. وَفِي مُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَرْضِ اضْطِرَابٌ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ دَعاكُمْ لِأَنَّ دَعاكُمْ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى فَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يكون من شؤون الْفَاعِلِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون من شؤون الْمَفْعُولِ عَلَى حَسَبِ الْقَرِينَةِ، كَمَا تَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَانًا مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ فَنَزَلَ إِلَيَّ، أَيْ دَعْوَتُهُ وَهُوَ فِي أَعْلَى الْجَبَلِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ خِلَافُ الْغَالِبِ وَلَكِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ مَعَ التَّفَصِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِ تَخْرُجُونَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْمَنْعِ نَظَرًا. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ

[سورة الروم (30) : آية 26]

بِ دَعْوَةً لِعَدَمِ اشْتِمَالِ الْمَصْدَرِ عَلَى فَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ، وَهُوَ وَجِيهٌ وَكَفَاكَ بِذَوْقِ قَائِلِهِ. وَأَقُولُ: قَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] . ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْمَكَانِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفُ لَغْوٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي دَعاكُمْ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَرْضِ مُتَعَلِّقًا بِ تَخْرُجُونَ قُدِّمَ عَلَيْهِ. وَهَذَا ذُكِرَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ «الْوَقْفِ» ، وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّكَلُّفِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ تَعْرِيضًا بِخَطَئِهِمْ إِذْ أَحَالُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ خُرُوجٌ مِنَ الْأَرْضِ عَنْ بُعْدِ صَيْرُورَتِهِمْ فِيهَا فِي قَوْلِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] وَقَوْلِهِمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ [النَّمْل: 67] . وَأَمَّا قَضِيَّةُ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى إِذا الْفُجَائِيَّةِ فَإِذَا سَلِمَ عَدَمُ جَوَازِهِ فَإِنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْمَجْرُورِ وَالْمَظْرُوفِ مِنْ حَدِيثِ الْبَحْرِ، فَمِنَ الْعَجَبِ كَيْفَ سَدَّ بَابَ التَّوَسُّعِ فِيهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ فِي قَوْلِهِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ لِإِفَادَةِ سُرْعَةِ خُرُوجِهِمْ إِلَى الْحَشْرِ كَقَوْلِهِ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14] وإِذا الْفُجَائِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأً. وَجِيءَ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي الْحَاصِلِ مِنْ تَحَمُّلِ الْفِعْلِ ضَمِيرَ الْمُبْتَدَأِ فَكَأَنَّهُ أُعِيدَ ذِكْرُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ فِي ذَلِكَ الْخُرُوجِ كَقَوْلِهِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] . [26] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 26] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) أَتْبَعَ ذِكْرَ إِقَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ كُلَّ الْعُقَلَاءِ فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرّوم: 25] فَعُطِفَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ زِيَادَةً لِبَيَانِ مَعْنَى إِقَامَتِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَامُ الْمُلْكِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ لَامُ التَّقْوِيَةِ، أَيْ تَقْوِيَةِ تَعْدِيَةِ الْعَامِلِ إِلَى مَعْمُولِهِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ بِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ، وَبِتَأْخِيرِهِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وَعَلَيْهِ تَكُونُ مَنْ صَادِقَةً عَلَى الْعُقَلَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِهَا. وَظَاهِرُ مَعْنَى الْقُنُوتِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْعُقَلَاءِ عُصَاةٌ كَثِيرُونَ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْقُنُوتِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ، أَوْ فِي الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أُورِدَ بَعْدَ ذِكْرِ الْآيَاتِ السِّتِّ إِيرَادَ الْفَذْلَكَةِ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَلَا يَحْمِلُ قُنُوتَهُمْ عَلَى امْتِثَالِهِمْ لِمَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِامْتِثَالِ لِلتَّكْلِيفِ فَالشَّيْطَانُ أَمْرَهُ اللَّهُ مُبَاشَرَةً بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَآدَمُ أَمَرَهُ اللَّهُ مُبَاشَرَةً أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ. وَالْمَخْلُوقَاتُ السَّمَاوِيَّةُ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِهِ سَاعُونَ فِي مَرْضَاتِهِ قَالَ تَعَالَى وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 27] . وَأَمَّا الْمَخْلُوقَاتُ الْأَرْضِيَّةُ الْعُقَلَاءُ فَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلطَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ، فَزَيْغُ الزَّائِغِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْحِرَافٌ مِنْهُمْ عَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، وَهُمْ فِي انْحِرَافِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ فَالضَّالُّونَ الَّذين أشركوا با لله فَجَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، وَالْعُصَاةُ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّهُمْ رُبَّمَا خَالَفُوا بَعْضَ أَوَامِرِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، هُمْ فِي ذَلِكَ آخِذُونَ بِجَانِبٍ مِنَ الْإِبَاقِ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ. فَجُمْلَةُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرّوم: 25] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ تَكْمِلَةً

[سورة الروم (30) : آية 27]

لِجُمْلَةِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: 25] عَلَى مَعْنَى: وَلَهُ يَوْمئِذٍ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، فَالْقُنُوتُ بِمَعْنَى الِامْتِثَالِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ امْتِثَالُ الْخُضُوعِ لِأَنَّ امْتِثَالَ التَّكْلِيفِ قَدِ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الخضوع فِيهَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ مِنْ شَأْنِهِمْ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّور: 24] ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: 25] . وَالْقُنُوتُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً فِي سُورَة النَّحْل [120] . [27] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 27] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) تَقَدَّمَ نَظِيرُ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأُعِيدَ هُنَا لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ تَكْمِلَةً لِلدَّلِيلِ إِذْ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ التَّكْمِلَةُ هُنَاكَ. فَهَذَا ابْتِدَاءٌ بِتَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِرُجُوعِهِ إِلَى نَظِيرِهِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فِي الْمُنَاظَرَةِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الله هُوَ بادىء خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَأَنْكَرُوا إِعَادَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ هُنَالِكَ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَمَّا كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْإِعَادَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَضَمِّنًا تَحْدِيدَ مَفْعُولِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَاءَ التَّنَازُلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ مَفْعُولِ الْقُدْرَةِ لَوْ سَلَمَ لَهُمْ لَكَانَ يَقْتَضِي إِمْكَانَ الْبَعْثِ بِقِيَاسِ الْأَحْرَى فَإِنَّ إِعَادَةَ الْمَصْنُوعِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَهْوَنُ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ صَنْعَتِهِ الْأُولَى وَأُدْخِلَ تَحْتَ تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِيمَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي مَقْدُورَاتِهِمْ. فَقَوْلُهُ أَهْوَنُ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَمَوْقِعُهُ مَوْقِعَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ أَهْوَنُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُفَاضَلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانَ وَالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَيِ الْخَلْقُ الثَّانِي أَسْهَلُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] . وَمُرَادُهُ: أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ مَرَّةً ثَانِيَةً مُسَاوِيَةٌ لِبَدْءِ الْخَلْقِ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَتَحْمِلُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ عَلَى مَعْنَى قُوَّةِ الْفِعْلِ الْمَصُوغَةِ لَهُ كَقَوْلِهِ قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] .

وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ تَقْرِيبٍ لِأَفْهَامِهِمْ عَقَّبَ بِقَولِهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ ثَبُتَ لَهُ وَاسْتَحَقَّ الشَّأْنَ الْأَتَمَّ الَّذِي لَا يُقَاس بشؤون النَّاسِ الْمُتَعَارَفَةِ وَإِنَّمَا لِقَصْدِ التَّقْرِيبِ لِأَفْهَامِكُمْ. والْأَعْلى: مَعْنَاهُ الْأَعْظَمُ الْبَالِغُ نِهَايَةَ حَقِيقَةِ الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي «الْإِحْيَاءِ» : «لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ أَنْ يَنْفُذُوا غَوْرَ الْحِكْمَةِ كَمَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ أَنْ يَنْفُذُوا بِأَبْصَارِهِمْ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُمْ يَنَالُونَ مِنْهَا مَا تَحْيَا بِهِ أَبْصَارُهُمْ وَقَدْ تَأَنَّقَ بَعْضُهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ وَجْهِ اللُّطْفِ فِي إِيصَالِ مَعَانِي الْكَلَامِ الْمَجِيدِ إِلَى فَهْمِ الْإِنْسَانِ لِعُلُوِّ دَرَجَةِ الْكَلَامِ الْمَجِيدِ وَقُصُورِ رُتْبَةِ الْأَفْهَامِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُفْهِمُوا الدَّوَابَّ مَا يُرِيدُونَ مِنْ تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا وَنَحْوِهِ وَرَأَوْهَا تُقَصِّرُ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الصَّادِرِ عَنِ الْعُقُولِ مَعَ حُسْنِهِ وَتَرْتِيبِهِ نَزَلُوا إِلَى دَرَجَةِ تَمْيِيزِ الْبَهَائِمِ وَأَوْصَلُوا مَقَاصِدَهُمْ إِلَيْهَا بِأَصْوَاتٍ يَضَعُونَهَا لَائِقَةً بِهَا مِنَ الصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْ أَصْوَاتِهَا» اهـ. وَقَوْلُهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صِفَةٌ لِلْمَثَلِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، أَيْ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مُسْتَقِرًّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ فِي كَائِنَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالْمُرَادُ: أَهْلُهَا، على حدّ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] ، أَيْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِأَشْرَفِ الصِّفَات وَأعظم الشؤون عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُقَلَاءِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ وَالْبَشَرُ الْمُعْتَدُّ بِعُقُولِهِمْ وَلَا اعْتِدَادَ بِالْمُعَطَّلِينَ مِنْهُمْ لِسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ وَفِي دَلَائِلِ الْأَدِلَّةِ الْكَائِنَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، فَكُلُّ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ لِلَّهِ الْمَثَلَ الْأَعْلَى. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى عِزَّتُهُ وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى فَخُصَّا بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُمَا الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ تَظْهَرُ آثَارُهُمَا فِي الْغَرَضِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ وَإِعَادَتُهُ فَالْعِزَّةُ تَقْتَضِي الْغِنَى الْمُطْلَقَ فَهِيَ تَقْتَضِي تَمَامَ الْقُدْرَةِ. وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي عُمُومَ الْعِلْمِ. وَمِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ وَهُوَ من حكمته.

[سورة الروم (30) : آية 28]

[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 28] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) أُتْبِعَ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِإِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ عَقِبَ دَلِيلِ بَدْئِهِ بِضَرْبِ مَثَلٍ لِإِبْطَالِ الشِّرْكِ عَقِبَ دَلِيلَيْهِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الرّوم: 19] وَقَوله وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرّوم: 19] لِيَنْتَظِمَ الدَّلِيلُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُهِمَّيْنِ: أَصْلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَصْلِ الْبَعْثِ، وَيَنْكَشِفَ بِالتَّمْثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ بَعْدَ نُهُوضِهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِيقَاعُهُ وَوَضْعُهُ، وَعَلَيْهِ فَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَوْ يُرَادُ بِضَرْبِهِ جَعْلُهُ ضَرْبًا، أَيْ مَثَلًا وَنَظِيرًا، وَعَلَيْهِ فَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّ مَثَلًا حِينَئِذٍ يُرَادِفُ ضَرْبًا مَصْدَرَ ضَرَبَ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ ضَرَبَ مَثَلًا لِأَجْلِكُمْ، أَيْ لِأَجْلِ إِفْهَامِكُمْ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ضَرَبَ أَيْ جَعَلَ لَكُمْ مَثَلًا مُنْتَزَعًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وَالْأَنْفُسُ هُنَا جِنْسُ النَّاسِ كَقَوْلِهِ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] أَيْ مَثَلًا مِنْ أَحْوَالِ جَمَاعَتِكُمْ إِذْ لَا تَخْلُو الْجَمَاعَةُ عَنْ نَاسٍ لَهُمْ عَبِيدٌ وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَحْوَالَ الْعَبِيدِ مَعَ سَادَتِهِمْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ يَمْلِكُ عَبِيدًا وَمَنْ لَا عَبِيدَ لَهُ. فَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ فَرِيقٍ فِيهِمْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَثَلُ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَمَنَاطُ الْإِنْكَارِ قَوْله فِي مَا رَزَقْناكُمْ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ مِنْ شُرَكَاءَ لَهُمْ هَذَا الشَّأْنُ. ومِنْ فِي قَوْله مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تَبْعِيضِيَّةٌ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ شُرَكاءَ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مِنْ قَبِيلِ الْجِنَاسِ التَّامِّ.

وَالشُّرَكَاءُ: جَمْعُ شَرِيكٍ، وَهُوَ الْمُشَارِكُ فِي المَال لقَوْله فِي مَا رَزَقْناكُمْ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الشَّرِكَةِ، أَيْ فَتَكُونُوا مُتَسَاوِينَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ. وَجُمْلَةُ تَخافُونَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي سَواءٌ. وَالْخَوْفُ: انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ يَنْشَأُ مِنْ تَوَقُّعِ إِصَابَةِ مَكْرُوهٍ يَبْقَى، وَهُوَ هُنَا التَّوَقِّي مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حُظُوظِهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَلَيْسَ هُوَ الرُّعْبَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ كَمَا تَتَوَقُّونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ إِضَاعَةِ حُقُوقِكُمْ عِنْدَهُمْ. وَالْأَنْفُسُ الثَّانِي بِمَعْنَى: أَنْفُسُ الَّذِينَ لَهُمْ شُرَكَاءُ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ. وَهَذَا الْمَثَلُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ بِهَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ شُبِّهَتِ الْهَيْئَةُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنْ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي التَّصَرُّفِ وَدَافِعُونَ عَنْ أَوْلِيَائِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْ تَسَلُّطِ عِقَابٍ أَوْ نَحْوِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ. هَذِهِ الْهَيْئَةُ شُبِّهَتْ بِهَيْئَةِ نَاسٍ لَهُمْ عَبِيدٌ صَارُوا شُرَكَاءَ فِي أَرْزَاقِ سَادَتِهِمْ شَرِكَةً عَلَى السَّوَاءِ فَصَارَ سَادَتُهُمْ يَحْذَرُونَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي تِلْكَ الْأَرْزَاقِ أَنْ يَكُونَ تصرفهم غير مرضِي لِعَبِيدِهِمْ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ وَإِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا لِمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْهَيْئَتَيْنِ قَدْ بَلَغَ غَايَةَ كَمَالِ نَظَائِرِهِ إِذْ هُوَ قَابِلٌ لِلتَّفْرِيقِ فِي أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ بِتَشْبِيهِ مَالِكِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالَّذِينَ يَمْلِكُونَ عَبِيدًا، وَتَشْبِيهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَمَالِيكِ النَّاسِ، وَتَشْبِيهِ تَشْرِيكِ الْأَصْنَامِ فِي التَّصَرُّفِ مَعَ الْخَالِقِ فِي مُلْكِهِ بِتَشْرِيكِ الْعَبِيدِ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَرْزَاقِ سَادَتِهِمْ، وَتَشْبِيهِ زَعْمِهِمْ عُدُولَ اللَّهِ عَنْ بَعْضِ مَا يُرِيدُهُ فِي الْخَلْقِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَشَفَاعَتِهَا بِحَذَرِ أَصْحَابِ الْأَرْزَاقِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حُظُوظِ عَبِيدِهِمُ الشُّرَكَاءِ تَصَرُّفًا يَأْبَوْنَهُ. فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا هَيْئَةٌ قَبِيحَةٌ مُشَوَّهَةٌ فِي الْعَادَةِ لَا وُجُودَ لِأَمْثَالِهَا فِي عُرْفِهِمْ فَكَانَتِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مَنْفِيَّةً مُنْكَرَةً، وَلِذَلِكَ أُدْخِلَ عَلَيْهَا اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ لِيَنْتُجَ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَزْعُومَةَ لِلْأَصْنَامِ صُورَةٌ بَاطِلَةٌ بِطَرِيقِ التَّصْوِيرِ وَالتَّشْكِيلِ إِبْرَازًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى الِاعْتِقَادِيِّ الْبَاطِلِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ الْمُشَوَّهَةِ الْبَاطِلَةِ.

[سورة الروم (30) : آية 29]

وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، أَيْ نُفَصِّلُ الدَّلَائِلَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ تَفْصِيلًا كَهَذَا التَّفْصِيلِ وُضُوحًا بَيِّنًا، وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرّوم: 24] اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَالْقَوْمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ هُمُ الْمُتَنَزِّهُونَ عَنِ الْمُكَابَرَةِ وَالْإِعْرَاضِ، وَالطَّالِبُونَ لِلْحَقِّ وَالْحَقَائِقِ لِوَفْرَةِ عُقُولِهِمْ، فَيَزْدَادُ الْمُؤْمِنُونَ يَقِينًا وَيُؤْمِنُ الْغَافِلُونَ وَالَّذِينَ تُرَوَّجُ عَلَيْهِمْ ضَلَالَاتُ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَنْكَشِفُ عَنْهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ. وَفِي ذِكْرِ لَفْظِ قَوْمٍ وَإِجْرَاءِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ الْعَقْلُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] ، وَتَقَدَّمَتْ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. وَالْقَوْلُ فِي إِيثَارِ وَصْفِ الْعَقْلِ هُنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَوْصَافِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً إِلَى قَوْله يَعْقِلُونَ [الرّوم: 24] . وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ يَنْتَفِعُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] وَقَوْلِهِ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 171] . وَقَوْلُهُ كَذلِكَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . [29] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 29] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) إِضْرَابٌ إِبْطَالِيٌّ لِمَا تَضَمَّنَهُ التَّعْرِيضُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرّوم: 28] إِذِ اقْتَضَى أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَنْتَفِعَ النَّاسُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَثَلِ فَيُقْلِعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَيَلِجُوا حَظِيرَةَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَمَا تُسَوِّلُهُ لَهُمْ نُفُوسُهُمْ وَلَمْ يَطْلُبُوا الْحَقَّ وَيَتَفَهَّمُوا دَلَائِلَهُ فَهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِمَنْأَى. فَالتَّقْدِيرُ: فَمَا نَفَعَتْهُمُ الْآيَاتُ الْمُفَصَّلَةُ بَلِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ.

[سورة الروم (30) : آية 30]

والَّذِينَ ظَلَمُوا: الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَتَقْيِيدُ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِأَنَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَشْنِيعٌ لِهَذَا الِاتِّبَاعِ فَإِنَّهُ اتِّبَاعُ شَهْوَةٍ مَعَ جَهَالَةٍ، فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا اتَّبَعَ الْهَوَى كَانَ مُتَحَرِّزًا مِنَ التَّوَغُّلِ فِي هَوَاهُ لِعِلْمِهِ بِفَسَادِهِ، وَلَيْسَ مَا هُنَا مُمَاثِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] فِي أَنَّهُ قَيْدٌ كَاشِفٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا مُلْتَبِسًا بِمُغَايَرَةِ هُدَى اللَّهِ. وَالْفَاءُ فِي فَمَنْ يَهْدِي لِلتَّفْرِيعِ، أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ انْتِفَاءُ الْهُدَى عَنْهُمْ أَبَدًا. وَمن اسْمُ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ بِمَعْنَى النَّفْيِ فَيُفِيدُ عُمُومَ نَفْيِ الْهَادِي لَهُمْ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا أَحَدَ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ لَا غَيْرُهُمْ وَلَا أَنْفُسُهُمْ، فَإِنَّهُمْ من عُمُوم مَا صدق فَمَنْ يَهْدِي. وَمَعْنَى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: مَنْ قَدَّرَ لَهُ الضَّلَالَ وَطَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ، فَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ لِتَكْوِينِهِ عَلَى ذَلِكَ لَا لِلْأَمْرِ بِهِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ. وَمَعْنَى انْتِفَاءُ هَادِيهِمْ: أَنَّ مَنْ يُحَاوِلُهُ لَا يَجِدُ لَهُ فِي نُفُوسِهِمْ مَسْلَكًا. ثُمَّ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ نَفْيِ هُدَاهُمْ خَبَرٌ آخَرُ عَنْ حَالِهِمْ وَهُوَ مَا لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابُوا خَطِيئَةً عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْد الله. [30] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 30] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا عَلِمْتَ أَحْوَالَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْحَقِّ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنْ لَا تَهْتَمَّ بِإِعْرَاضِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] وَقَوْلِهِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ [هود

: 112] (أَيْ مَنْ آمن) وَقَوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يُوسُف: 108] . فَالْمَعْنَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ [الرّوم: 31] بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ: تَقْوِيمُهُ وَتَعْدِيلُهُ بِاتِّجَاهِهِ قُبَالَةَ نَظَرِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَحُّضِ لِلشُّغْلِ بِهِ بِحَالِ قِصَرِ النَّظَرِ إِلَى صَوْبِ قُبَالَتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ [الْأَعْرَاف: 29] وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: 79] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: 20] ، أَيْ أَعْطَيْتُهُ لِلَّهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى التَّمْحِيضِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى مَعْبُودٍ غَيْرِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ دِينُهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وحَنِيفاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ أَقِمْ فَيَكُونُ حَالًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ وَصْفًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [النَّحْل: 120] ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِهِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ حَالًا مِنَ الدِّينِ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الزَّجَّاجُ فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً بِتَشْبِيهِ الدِّينِ بِرَجُلٍ حَنِيفٍ فِي خُلُوِّهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، فَيَكُونُ الْحَنِيفُ تَمْثِيلِيَّةً وَفِي إِثْبَاتِهِ لِلدِّينِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ. وَحَنِيفٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الِاتِّصَافِ بِالْحَنَفِ وَهُوَ الْمَيْلُ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْمَيْلِ عَنِ الْبَاطِلِ، أَيِ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ عَادِلًا وَمُنْقَطِعًا عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة الْبَقَرَة [135] . وفِطْرَتَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ حَنِيفاً بَدَلُ اشْتِمَالٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الدِّينُ أَيْضًا وَهُوَ حَالٌ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ الْحَالَ كَالْخَبَرِ تَتَعَدَّدُ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى التَّحْقِيقِ عِنْدَ النُّحَاةِ. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي إِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ مُخْتَصٌّ بِوَصْفَيْنِ هُمَا: التَّبَرُّؤُ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَمُوَافَقَتُهُ الْفِطْرَةَ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ دِينٌ سَمْحٌ سَهْلٌ لَا عَنَتَ فِيهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: 1، 2] أَيِ الدِّينُ الَّذِي هُوَ فِطْرَةُ اللَّهِ لِأَنَّ

التَّوْحِيدَ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَالْإِشْرَاكُ تَبْدِيلٌ لِلْفِطْرَةِ. وَالْفِطْرَةُ أَصْلُهُ اسْمُ هَيْئَةٍ مِنَ الْفَطْرِ وَهُوَ الْخَلْقُ مِثْلَ الْخِلْقَةِ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أَيْ جَبَلَ النَّاسَ وَخَلَقَهُمْ عَلَيْهَا، أَيْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْهَا. فَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَعَارٌ لِتَمَكُّنِ مُلَابَسَةِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ تَمَكُّنًا يُشْبِهُ تَمَكُّنَ الْمُعْتَلِي عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ بِهَا. وَمَعْنَى فَطَرَ النَّاسَ عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ قَابِلَيْنِ لِأَحْكَامِ هَذَا الدِّينِ وَجَعَلَ تَعَالِيمَهُ مُنَاسِبَةً لِخِلْقَتِهِمْ غَيْرَ مُجَافِيَةٍ لَهَا، غَيْرَ نَائِينَ عَنْهُ وَلَا مُنْكِرِينَ لَهُ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الَّذِي يُسَاوِقُ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ الصَّحِيحَ حَتَّى لَوْ تُرِكَ الْإِنْسَانُ وَتَفْكِيرُهُ وَلَمْ يُلَقَّنِ اعْتِقَادًا ضَالًّا لَاهْتَدَى إِلَى التَّوْحِيدِ بِفِطْرَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَيِ الْفِطْرَةِ أَنَّهَا الْخِلْقَةُ وَالْهَيْئَةُ الَّتِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ مُعَدَّةٌ وَمُهَيَّئَةٌ لِأَنْ يُمَيِّزَ بِهَا مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى رَبِّهِ وَيَعْرِفُ شَرَائِعَهُ. اهـ. وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ أَتْقَنَ الْإِفْصَاحَ عَنْ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْفِطْرَةُ فَأُبَيِّنُهُ: بِأَنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ النِّظَامُ الَّذِي أَوْجَدَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَالْفِطْرَةُ الَّتِي تَخُصُّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ هِيَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ جَسَدًا وَعَقْلًا، فَمَشْيُ الْإِنْسَانِ بِرِجْلَيْهِ فِطْرَةٌ جَسَدِيَّةٌ، وَمُحَاوَلَتُهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأَشْيَاءَ بِرِجْلَيْهِ خِلَافَ الْفِطْرَةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَاسْتِنْتَاجُ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا وَالنَّتَائِجِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا فِطْرَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَمُحَاوَلَةُ اسْتِنْتَاجِ أَمْرٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ خِلَافُ الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ بِفَسَادِ الْوَضْعِ، وَجَزْمُنَا بِأَنَّ مَا نُبْصِرُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ هُوَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ فِي الْوُجُودِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فِطْرَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَإِنْكَارُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ ثُبُوتَ الْمَحْسُوسَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خِلَافَ الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو عَلِيِّ ابْن سِينَا حَقِيقَةَ الْفِطْرَةِ فِي كِتَابِهِ «النَّجَاةِ» فَقَالَ: «وَمَعْنَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا دَفْعَةً وَهُوَ عَاقِلٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ رَأْيًا وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا وَلَمْ يُعَاشِرْ أُمَّةً وَلَمْ يَعْرِفْ سِيَاسَةً، وَلَكِنَّهُ شَاهَدَ الْمَحْسُوسَاتِ وَأَخَذَ مِنْهَا

الْحَالَاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَى ذِهْنِهِ شَيْئًا وَيَتَشَكَّكُ فِيهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الشَّكُّ فَالْفِطْرَةُ لَا تَشْهَدُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فَهُوَ مَا تُوجِبُهُ الْفِطْرَةُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا تُوجِبُهُ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ بِصَادِقٍ إِنَّمَا الصَّادِقُ فِطْرَةُ الْقُوَّةِ الَّتِي تُسَمَّى عَقْلًا، وَأَمَّا فِطْرَةُ الذِّهْنِ بِالْجُمْلَةِ فَرُبَّمَا كَانَتْ كَاذِبَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْكَذِبُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحْسُوسَةً بِالذَّاتِ بَلْ هِيَ مَبَادِئُ لِلْمَحْسُوسَاتِ. فَالْفِطْرَةُ الصَّادِقَةُ هِيَ مُقَدِّمَاتٌ وَآرَاءٌ مَشْهُورَةٌ مَحْمُودَةٌ أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِهَا: إِمَّا شَهَادَةُ الْكُلِّ مِثْلَ: أَنَّ الْعَدْلَ جَمِيلٌ، وَإِمَّا شَهَادَةُ الْأَكْثَرِ وَإِمَّا شَهَادَةُ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْأَفَاضِلِ مِنْهُمْ. وَلَيْسَتِ الذَّائِعَاتُ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ ذَائِعَاتٌ مِمَّا يَقَعُ التَّصْدِيقُ بِهَا فِي الْفِطْرَةِ فَمَا كَانَ مِنَ الذَّائِعَاتِ لَيْسَ بِأَوَّلِيٍّ عَقْلِيٍّ وَلَا وَهْمِيٍّ فَإِنَّهَا غَيْرُ فِطْرِيَّةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتَقَرِّرَةٌ عِنْدَ الْأَنْفُسِ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَيْهَا مُنْذُ الصِّبَا وَرُبَّمَا دَعَا إِلَيْهَا مَحَبَّةُ التَّسَالُمِ وَالِاصْطِنَاعُ الْمُضْطَرُّ إِلَيْهِمَا الْإِنْسَانُ (¬1) ، أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِثْلَ الْحَيَاءِ وَالِاسْتِئْنَاسِ (¬2) أَوِ الِاسْتِقْرَاءِ الْكَثِيرِ، أَوْ كَوْنِ الْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ذَا شَرْطٍ دَقِيقٍ لِأَنْ يَكُونَ حَقًّا صِرْفًا فَلَا يُفْطَنُ لِذَلِكَ الشَّرْطِ وَيُؤْخَذُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، اهـ. فَوَصْفُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ فِطْرَةُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَ الِاعْتِقَادِ فِيهِ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَمَّا تَشْرِيعَاتُهُ وَتَفَارِيعُهُ فَهِيَ: إِمَّا أُمُورٌ فِطْرِيَّةٌ أَيْضًا، أَيْ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ مَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَيَشْهَدُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِصَلَاحِهِ مِمَّا لَا يُنَافِي فِطْرَتَهُ. وَقَوَانِينُ الْمُعَامَلَاتِ فِيهِ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ الْفِطْرَةُ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَصَالِحِ مِنَ الْفِطْرَةِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ شَوَاهِدَ الْفِطْرَةِ قَدْ تَكُونُ وَاضِحَةً بَيِّنَةً وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا، فَإِذَا خَفِيَتِ الْمَعَانِي الْفِطْرِيَّةُ أَوِ الْتَبَسَتْ بِغَيْرِهَا فَالْمُضْطَلِعُونَ بِتَمْيِيزِهَا وَكَشْفِهَا هُمُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ تَمَرَّسُوا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ¬

(¬1) وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [العنكبوت: 25] . (¬2) قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن قوم كذبُوا الرُّسُل: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إِبْرَاهِيم: 10] ، وَقَالَ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: 36] .

وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ مُتَشَابِهَاتِهَا، وَسَبَرُوا أَحْوَالَ الْبَشَرِ، وَتَعَرَّضَتْ أَفْهَامُهُمْ زَمَانًا لِتَصَارِيفِ الشَّرِيعَةِ، وَتَوَسَّمُوا مَرَامِيهَا، وَغَايَاتِهَا وَعَصَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَازِعِ الْحَقِّ عَنْ أَنْ يَمِيلُوا مَعَ الْأَهْوَاءِ. إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الْإِنْسَانِيَّ قَدْ مُنِيَ عُصُورًا طَوِيلَةً بِأَوْهَامٍ وَعَوَائِدَ وَمَأْلُوفَاتٍ أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّضْلِيلِ، فَاخْتَلَطَتْ عِنْدَهُ بِالْعُلُومِ الْحَقِّ فَتَقَاوَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَارْتَاضُوا عَلَى قَبُولِهَا، فَالْتَصَقَتْ بِعُقُولِهِمِ الْتِصَاقَ الْعَنْكَبُوتِ بِبَيْتِهِ، فَتِلْكَ يُخَافُ مِنْهَا أَنْ تُتْلَقَّى بِالتَّسْلِيمِ عَلَى مُرُورِ الْعُصُورِ فَيَعْسُرُ إِقْلَاعُهُمْ عَنْهَا وَإِدْرَاكُهُمْ مَا فِيهَا مِنْ تَحْرِيفٍ عَنِ الْحَقِّ، فَلَيْسَ لِتَمْيِيزِهَا إِلَّا أَهْلُ الرُّسُوخِ أَصْحَابُ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقَائِقِ كُلَّ سَبِيلٍ، وَاسْتَوْضَحُوا خَطِيرَهَا وَسَلِيمَهَا فَكَانُوا لِلسَّابِلَةِ خَيْرَ دَلِيلٍ. وَكَوْنُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَمُلَازَمَةُ أَحْكَامِهِ لِمُقْتَضَيَاتِ الْفِطْرَةِ صِفَةٌ اخْتَصَّ بِهَا الْإِسْلَامُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ فِي تَفَارِيعِهِ، أَمَّا أُصُولُهُ فَاشْتَرَكَتْ فِيهَا الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ، وَهَذَا مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. فَالْإِسْلَامُ عَامٌّ خَالِدٌ مُنَاسِبٌ لِجَمِيعِ العصور وَصَالح بِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَا يَسْتَتِبُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا بُنِيَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى أُصُولِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِيَكُونَ صَالِحًا لِلنَّاسِ كَافَّةً وَلِلْعُصُورِ عَامَّةً وَقَدِ اقْتَضَى وَصْفُ الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ سَمْحًا يُسْرًا لِأَنَّ السَّمَاحَةَ وَالْيُسْرَ مُبْتَغَى الْفِطْرَةِ. وَفِي قَوْلِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها بَيَانٌ لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي قَوْله فِطْرَتَ اللَّهِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ سَالِمَةٌ عُقُولُهُمْ مِمَّا يُنَافِي الْفِطْرَةَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ التَّلَقِّي وَالتَّعَوُّدِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُولَدُ الْوَلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ، أَيْ كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ كَامِلَةً جَمْعَاءَ أَيْ بِذَيْلِهَا، أَيْ تُوَلَدُ كَامِلَةً وَيَعْمِدُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى قَطْعِ ذَيْلِهَا وَجَدْعِهِ وَهِيَ الْجَدْعَاءُ، وَ (تُحِسُّونَ) تُدْرِكُونَ بِالْحِسِّ، أَيْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ. فَجَعَلَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مُخَالِفَةً الْفِطْرَةَ، أَي

فِي تفاريعهما. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ- أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ- وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَجَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» الْحَدِيثَ (¬1) . وَجُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مبيّنة لِمَعْنى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى حَالٍ ثَالِثَةٍ مِنَ الدِّينُ عَلَى تَقْدِيرِ رَابِطٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِيهِ، أَيْ فِي هَذَا الدِّينِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فِي قَوْلِ الرَّابِعَةِ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ أَيْ فِي ذَلِكَ اللَّيْلِ. فَمَعْنَى لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَنِيفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَبْدِيلٌ لِخَلْقِ اللَّهِ خِلَافَ دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ، قَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء: 119] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مُعْتَرِضَةً لِإِفَادَةِ النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَوْدَعَهُ الْفِطْرَةَ. فَتَكُونُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ كَقَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] . فَنَفْيُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ جِنْسٌ مِنَ التَّبْدِيلِ خَاصٌّ بِالْوَصْفِ لَا نَفْيَ وُقُوعِ جِنْسِ التَّبْدِيلِ فَهُوَ مِنَ الْعَامِ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ بِالْقَرِينَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ هَذَا الدِّينِ مَعَ تَعْظِيمِهِ. والْقَيِّمُ: وَصْفٌ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ مِثْلَ هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ يُفِيدُ قُوَّةَ الِاتِّصَافِ بِمَصْدَرِهِ، أَيِ الْبَالِغُ قُوَّةَ الْقِيَامِ مِثْلَ اسْتَقَامَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي قَامَ كَاسْتَجَابَ. وَالْقِيَامُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِصَابُ ضِدَّ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى انْتِفَاءِ الِاعْوِجَاجِ يُقَالُ: عُودٌ مُسْتَقِيمٌ وَقَيِّمٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَيِّمِ عَلَى الدِّينِ تَشْبِيهُ انْتِفَاءِ الْخَطَأِ عَنْهُ بِاسْتِقَامَةِ الْعُودِ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: 1، 2] وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ ¬

(¬1) أخرجه مُسلم فِي صفة أهل الْجنَّة من كتاب «الْجنَّة وَالنَّار» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل.

وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الرِّعَايَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْكَفَالَةِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْقِيَامَ وَالتَّعَهُّدَ قَالَ تَعَالَى أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْد: 33] ، وَمِنْهُ قُلْنَا لِرَاعِي التَّلَامِذَةِ وَمُرَاقِبِ أَحْوَالِهِمْ: قَيَّمٌ. وَيُطْلَقُ الْقَيِّمُ عَلَى الْمُهَيْمِنِ وَالْحَافِظِ. وَالْمَعَانِي كُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا هُنَا، فَإِنَّ هَذَا الْكُتَّابَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ وَمُتَكَفِّلٌ بِمَصَالِحِ النَّاسِ، وَشَاهِدٌ عَلَى الْكُتُبِ السَّالِفَةِ تَصْحِيحًا وَنَسْخًا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِي طالع سُورَة الْمَائِدَة [48] . فَهَذَا الدِّينُ بِهِ قِوَامُ أَمْرِ الْأُمَّةِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: يَا مُعَاذُ مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ: الْإِخْلَاصُ وَهُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الدِّينُ، وَالطَّاعَةُ وَهِيَ الْعِصْمَةُ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ. يُرِيدُ مُعَاذٌ بِالْإِخْلَاصِ التَّوْحِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [الْبَيِّنَة: 5] . وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ وَاهِمٍ يَقُولُ إِذا كَانَ هُوَ دين الْفطْرَة وَهُوَ القيّم فَكيف أعرض كثير من النَّاس عَنهُ بعد تبليغه، فَاسْتُدْرِكَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ فَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ فَإِنَّهُمْ جَهِلُوا مَعَانِيَهُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَلَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا لَا يُفِيدُهُمْ مُهِمُّهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَنْ يَبْلُغَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَفِعْلُ لَا يَعْلَمُونَ غَيْرُ مُتَطَلَّبٍ مَفْعُولًا بَلْ هُوَ مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ إِذْ أَبَوُا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَارَقَةَ أَدْيَانِهِمْ بَعْدَ إِبْطَالِهَا لِانْتِهَاءِ صَلَاحِيَّةِ تَفَارِيعِهَا بِانْقِضَاءِ الْأَحْوَالِ الَّتِي شَرَعَتْ لَهَا انْقِضَاءً لَا مَطْمَعَ بَعْدَهُ لِأَنْ تَعُودَ. وَمُقَابِلُ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَشِرْذِمَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلِمُوا أَحَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ وَبَقُوا عَلَى أَدْيَانِهِمْ عِنَادًا: فَهُمْ يَعْلَمُونَ وَيُكَابِرُونَ، أَوْ تَحَيُّرًا: فَهُمْ فِي شَكٍّ بَيْنَ علم وَجَهل.

[سورة الروم (30) : الآيات 31 إلى 32]

[سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 31 إِلَى 32] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) مُنِيبِينَ حَالٌ مِنْ ضمير فَأَقِمْ [الرّوم: 30] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ الْمُوَجَّهَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادٌ مِنْهُ نَفْسُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُنِيبُ: الْمُلَازِمُ لِلطَّاعَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى أَنَابَ صَارَ ذَا نَوْبَةٍ، أَيْ ذَا رُجُوعٍ مُتَكَرِّرٍ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلصَّيْرُورَةِ، وَالنَّوْبَةُ: حِصَّةٌ مِنْ عَمَلٍ يَتَوَزَّعُهُ عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ وَأَصْلُهَا: فَعْلَةٌ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ لِأَنَّهَا مَرَّةٌ مِنَ النَّوْبِ وَهُوَ قِيَامُ أَحَدٍ مَقَامَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ النِّيَابَةُ، وَيُقَالُ: تَنَاوَبُوا عَمَلَ كَذَا. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٍ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا» الْحَدِيثَ، فَإِطْلَاقُ الْمُنِيبِ عَلَى الْمُطِيعِ اسْتِعَارَةٌ لِتَعَهُّدِ الطَّاعَةِ تَعَهُّدًا مُتَكَرِّرًا، وَجُعِلَتْ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةُ كِنَايَةً عَنْ مُوَاصَلَةِ الطَّاعَةِ وَمُلَازَمَتِهَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [75] . وَفُسِّرَتِ الْإِنَابَةُ أَيْضًا بِالتَّوْبَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نَابَ مُرَادِفُ تَابَ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الرّوم: 33] . وَالْأَمْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ. والَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِدَّةَ آلِهَةٍ. وَإِنَّمَا كُرِّرَتْ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ لِاعْتِبَارِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَدَلًا مُطَابِقًا أَوْ بَيَانًا، فَإِظْهَارُ حَرْفِ الْجَرِّ ثَانِيَةً مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْبَدَلِيَّةِ تَأْكِيدٌ بِإِظْهَارِ الْعَامِلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: 114] وَشَأْنُ الْبَدَلِ وَالْبَيَانِ أَنْ يَجُوزَ مَعَهُمَا إِظْهَارُ الْعَامِلِ الْمُقَدَّرِ فَيَخْرُجَانِ عَنْ إِعْرَابِ التَّوَابِعِ إِلَى الْإِعْرَابِ الْمُسْتَقِلِّ وَيَكُونَانِ فِي الْمَعْنَى بَدَلًا أَوْ بَيَانًا وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تِكْرَارِ الْعَامِلِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ الْبَدَلَ مُعْرَبٌ بِالْعَامِلِ الْمُقَدَّرِ، وَمِثْلُهُ الْبَيَانُ وَهُمَا سِيَّانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة الروم (30) : الآيات 33 إلى 34]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَارَقُوا دِينَهُمْ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى مُفَارَقَتِهِمْ إِيَّاهُ ابْتِعَادُهُمْ مِنْهُ، فَاسْتُعِيرَتِ الْمُفَارَقَةُ لِلنَّبْذِ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَلَمَّا لَمْ يَتْبَعُوهُ جَعَلَ إِعْرَاضَهَمْ عَنْهُ كَالْمُفَارَقَةِ لِشَيْءٍ كَانَ مُجْتَمِعًا مَعَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَالشِّيَعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُشَايِعُ، أَيْ تُوَافِقُ رَأْيًا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [69] . وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ رَأْيُهُمْ ونزعتهم وَاحِدَة. وبِما لَدَيْهِمْ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَالْفَرَحُ: الرِّضَا وَالِابْتِهَاجُ. وَهَذِهِ حَالَةٌ ذَمِيمَةٌ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ يُرَادُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي أُمُورِ الدِّينِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ الِاجْتِهَادِ أَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْآرَاءِ وَالسِّيَاسَاتِ لِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يَجُرَّهُمْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ إِلَى أَنْ يَكُونُوا شِيَعًا مُتَعَادِينَ مُتَفَرِّقِينَ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. وَتَقَدَّمَ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [53] . [33- 34] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 33 إِلَى 34] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الرّوم: 32] أَيْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، وَإِذَا مَسَّهُمْ ضُرٌّ فَدَعَوُا اللَّهَ وَحْدَهُ فَرَحِمَهُمْ عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ نِعْمَةَ الَّذِي رَحِمَهُمْ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، فَمَحَلُّ انْتِظَامِهِ فِي مَذَامِّ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم إِذا أَذَاقَهُمُ اللَّهُ رَحْمَةً بَعْدَ ضُرٍّ شَكَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ مِنْ إِنَابَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَنُسِجَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ بِمَا فِي لَفْظِ

النَّاسَ مِنَ الْعُمُومِ وَإِدْمَاجًا لِفَضِيلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ نِعْمَةَ الرَّحِيمِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالضُّرُّ، بِضَمِّ الضَّادِ: سُوءُ الْحَالِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الْعَيْشِ أَوِ الْمَالِ، وَهَذَا نَحْوَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقَحْطِ حَتَّى كَانُوا يُرَوْنَ فِي الْجَوِّ مِثْلَ الدُّخَّانِ مِنْ شِدَّةِ الْجَفَافِ، وَحَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ، وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ مُشْرِكِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَكَانَتْ شِدَّتُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي رَفَاهِيَةٍ، فَالشِّدَّةُ أَقْوَى عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ فَدَعَا فَأُمْطِرُوا فَعَادُوا إِلَى تَرَفِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: 10] الْآيَاتِ، فَدُعَاؤُهُمْ رَبَّهُمْ يَشْمَلُ طَلَبَهُمْ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومُنِيبِينَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَيِ اسْتَوُوا فِي الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ بَعْدُ، وَاشْتَغَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُ بِدُعَاءِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] . وَتَقَدَّمَ مُنِيبِينَ آنِفًا. وَالْمَسُّ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ. وَحَقِيقَةٌ الْمَسُ: أَنَّهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ لِيَعْرِفَ وُجُودَهُ أَوْ يَخْتَبِرَ حَالَهَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الْعُقُود [73] . واختبر هُنَا لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ خِفَّةِ الْإِصَابَةِ، أَيْ يَدْعُونَ اللَّهَ إِذَا أَصَابَهُمْ خَفِيفُ ضُرٍّ بَلْهَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ. وَالْإِذَاقَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِصَابَةِ أَيْضًا. وَحَقِيقَتُهَا: إِصَابَةُ الْمَطْعُومِ بِطَرَفِ اللِّسَانِ وَهِيَ أَضْعَفُ إِصَابَاتِ الْأَعْضَاءِ لِلْأَجْسَامِ فَهِيَ أَقَلُّ مِنَ الْمَضْغِ وَالْبَلْعِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] ، وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ فِي سُورَة يُونُس [21] . واختبر فِعْلُ الْإِذَاقَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْإِشْرَاكِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ. وَالرَّحْمَةُ: تَخْلِيصُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ.

وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ أَعْجَبُ مِنْ إِشْرَاكِهِمُ السَّابِقِ، فَفِي التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَجَدُّدِ إِشْرَاكِهِمْ، وَحَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ إِذا يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ أَسْرَعُوا الْعَوْدَةَ إِلَى الشِّرْكِ بِحِدْثَانِ ذَوْقِ الرَّحْمَةِ لِتَأَصُّلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَكُمُونِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلقَة ب أَذاقَهُمْ. ورَحْمَةً فَاعل أَذاقَهُمْ وَلَمْ يُؤَنِّثْ لَهَا الْفِعْلُ لِأَنَّ تَأْنِيثَ مُسَمَّى الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِأَجِلِّ الْفَصْلِ بِالْمَجْرُورِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيُظْهِرَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَكْفُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى التَّسَبُّبِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُفَادَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَشْرَكُوا لَمْ يُرِيدُوا بِشِرْكِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ عِلَّةً لِلْكُفْرِ بِالنِّعْمَةِ وَلَكِنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَحَبَّةً لِلشِّرْكِ فَكَانَ الشِّرْكُ مُفْضِيًا إِلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ خَشْيَةَ الْإِفْضَاءِ وَالتَّسَبُّبِ بِالْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ. وَالْإِيتَاءُ: إِعْطَاءُ النَّافِعِ، أَيْ بِمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ فَتَمَتَّعُوا تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا، وَجِيءَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَتَمَتَّعُوا لِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّوْبِيخَ مُفَرَّعَانِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالْأَمْرُ فِي (تَمَتَّعُوا) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمُلَائِمِ وَبِالنِّعْمَةِ مُدَّةً تَنْقَضِي. وَالْفَاءُ فِي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَفْرِيعٌ لِلْإِنْذَارِ عَلَى التَّوْبِيخِ، وَهُوَ رَشِيقٌ. وَ (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا عَظِيمًا، وَالْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْأَمْرِ الَّذِي يُعْلَمُ، أَيْ عَنْ حُلُولِ مَصَائِبَ بِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَهَا الْآنَ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى عَظَمَتِهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَرَقَّبَةٍ لَهُمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيُصَابُونَ بِهِ

[سورة الروم (30) : آية 35]

يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ وَالْخِزْيِ وَهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِعَذَابٍ مِنْ جِنْسِ مَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ، وَكَانَتِ الْغَايَةُ وَاحِدَةً، فَإِنَّ إِصَابَتَهُمْ بِعَذَابِ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ فِي كَوْنِ اسْتِئْصَالِهِمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُبَاشَرَةً، وَأَظْهَرُ فِي إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَذَابٍ لَا يُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا خَاصَّةً وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 15، 16] . وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى: بَطْشَةُ يَوْم بدر. [35] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 35] أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ، فَهِيَ مِثْلُ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ هُوَ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ. وَإِذْ كَانَ حَرْفُ أَمْ حَرْفَ عَطْفٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا إِضْرَابًا عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَهُوَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءٍ، وَالْكَلَامُ تَوْبِيخٌ وَلَوْمٌ مُتَّصِلٌ بِالتَّوْبِيخِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الرّوم: 34] . وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْ مُخَاطَبَتِكُمْ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بَقَوْلِهِ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الرّوم: 29] فَهُوَ عَطْفُ ذَمٍّ عَلَى ذَمٍّ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَحَيْثُمَا وَقَعَتْ أَمْ فَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَنَّهُ تَقْرِيرٌ عَلَى الْإِنْكَارِ كَأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ الْمَسْئُولَ لِيُقِرَّ بِنَفْيِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَلَمَّا جُعِلَ السُّلْطَانُ مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كِتَابٌ كَمَا قَالُوا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] . وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكَلُّمِ الدَّلَالَةُ بِالْكِتَابَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] ، أَيْ تَدُلُّ كِتَابَتُهُ، أَيْ كُتِبَ فِيهِ بِقَلَمِ الْقُدْرَةِ أَنَّ الشِّرْكَ حَقٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ آتَيْناهُمْ

[سورة الروم (30) : الآيات 36 إلى 37]

كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: 21] . وَقَدَّمَ بِهِ على يُشْرِكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ إِشْرَاكِهِمُ الدَّاخِلِ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [36- 37] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 36 إِلَى 37] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ زِيَادَةً فِي بَسْطِ الْحَالَةِ الَّتِي يَتَلَقَّوْنَ بِهَا الرَّحْمَةَ وَضِدَّهَا تَلَقِّيًا يَسْتَوُونَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ مُيِّزَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالُ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلرَّحْمَةِ بِالْكُفْرَانِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَلَقُّونَهَا بِالْكُفْرَانِ. فَأُرِيدَ تَنْبِيهُهُمْ هُنَا إِلَى حَالَةِ تَلَقِّيهِمْ ضِدَّ الرَّحْمَةِ بِالْقُنُوطِ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ وَيَرْتَاضُوا بِرَجَاءِ الْفَرَجِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَالْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ انْكِشَافِهَا. وَالرَّحْمَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى أَثَرِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ وَالْأَحْوَالُ الْحَسَنَةُ الملائمة كَمَا يَنْبَنِي عَنْهُ مُقَابَلَتُهَا بِالسَّيِّئَةِ وَهِيَ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَيُحْزِنُهُ فَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَخَلُّقُ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُلِقِ الْكَامِلِ، فَ النَّاسَ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْآيَةَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَقُدِّمَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِصَابَةُ الرَّحْمَةِ عَلَى إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ عَكْسَ الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْحَالَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مَبْدَأَ الْعِبْرَةِ وَأَصْلَ الِاسْتِدْلَالِ، فَقَوْلُهُ فَرِحُوا بِها وَصْفٌ لحَال النَّاس عِنْد مَا تُصِيبُهُمُ الرَّحْمَةُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ ضِدُّهُ فِي قَوْلِهِ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْقُنُوطُ مِنَ التَّذَمُّرِ وَالْغَضَبِ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِإِنْكَارِ الْفَرَحِ حَتَّى نَضْطَرَّ إِلَى تَفْسِيرِ الْفَرَحِ بِالْبَطَرِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا دَاعٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَمَا يَفْرَحُونَ عِنْدَ الرَّحْمَةِ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ زَوَالُهَا وَلَا يَحْزَنُونَ مِنْ خَشْيَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَن يصبروا عِنْد مَا يَمَسُّهُمُ الضُّرُّ وَلَا يَقْنَطُوا مِنْ زَوَالِهِ لِأَنَّ قُنُوطَهُمْ مِنْ زَوَالِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاس حَالهم عِنْد مَا تُصِيبُهُمْ رَحْمَةٌ حِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ زَوَالَهَا، فَالْقُنُوطُ هُوَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ [فصلت: 49] فِي أَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ هُوَ

الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِذَاقَةِ آنِفًا. وَالْقُنُوطُ: الْيَأْسُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [55] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ حَالَةٍ سَيِّئَةٍ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا سَبَّبُهَا أَفْعَالُهُمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لِمُسَبِّبَاتٍ مُؤَثِّرَةٍ لَا يُحِيطُ بِأَسْرَارِهَا وَدَقَائِقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُجْرُوا أَسْبَابَ إِصَابَةِ السَّيِّئَاتِ، وَيَتَدَارَكُوا مَا فَاتَ، فَذَلِكَ أَنْجَى لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَأَجْدَرُ مِنَ الْقُنُوطِ. وَهَذَا أَدَبٌ جَلِيلٌ مِنْ آدَابِ التَّنْزِيلِ قَالَ تَعَالَى مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 79] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَقْنَطُونَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ قَنِطَ مِنْ بَابِ حَسِبَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو الْكسَائي بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ قَنَطَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إِهْمَالَ التَّأَمُّلِ فِي سُنَّةِ اللَّهِ الشَّائِعَةِ فِي النَّاسِ: مِنْ لَحَاقِ الضُّرِّ وَانْفِرَاجِهِ، وَمِنْ قِسْمَةِ الْحُظُوظِ فِي الرِّزْقِ بَيْنَ بَسْطٍ وَتَقْتِيرٍ فَإِنَّهُ كَثِيرُ الْوُقُوعِ كُلَّ حِينٍ فَكَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْنَطُوا مِنْ بَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ فِي حِينِ تَقْتِيرِهِ فَكَدَحُوا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ بِالْأَسْبَابِ وَالدُّعَاءِ فَكَذَلِكَ كَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَتَلَقَّوُا السُّوءَ النَّادِرَ بِمِثْلِ مَا يَتَلَقَّوْنَ بِهِ ضِيقَ الرِّزْقِ، فَيَسْعَوْا فِي كَشْفِ السَّيِّئَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ وَبِتَعَاطِي أَسْبَابِ زَوَالِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ تَنْزِيلًا لِرُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِإِهْمَالِ آثَارِهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَا. فَالتَّقْدِيرُ: إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ كَيْفَ لَمْ يَرَوْا بَسْطَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَتَقْتِيرَهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ حَاصِلَةٌ كَثْرَتُهَا مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ حَالَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَلَى أَسْبَابٍ

[سورة الروم (30) : آية 38]

خَفِيَّةٍ وَظَاهِرَةٍ، وَمُسَبِّبَاتِهَا كَذَلِكَ، وَمِنْ تَعَدُّدِ أَحْوَالِ النَّاسِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَا وَالْأَخْذِ مِنْهَا، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ. وَخُصَّ الْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَعْمَقُ بَصَائِرَ بِمَا ارْتَاضَتْ عَلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنْ آدَابِ الْإِيمَانِ وَمِنْ نَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ وَحِكْمَة النبوءة. [38] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 38] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) فَاءُ التَّفْرِيعِ تُفِيدُ أَنَّ الْكَلَامَ بَعْدَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا عَلَى لَحَاقِ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِالنَّاسِ، وَإِصَابَةِ السُّوءِ إِيَّاهُمْ، وَعَلَى أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السُّوءِ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي النَّاسِ، وَذَكَرَ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرَهُ. وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَحَ يُلْهِيهِمْ عَنِ الشُّكْرِ، وَأَنَّ الْقُنُوطَ يُلْهِيهِمْ عَنِ الْمُحَاسَبَةِ فِي الْأَسْبَابِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِإِيتَاءِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَنْكُوبِينَ إِرْشَادًا إِلَى وَسَائِلَ شُكْرِ النِّعْمَةِ عِنْدَ حُصُولِهَا شُكْرًا مِنْ نَوْعِهَا وَاسْتِكْشَافِ الضُّرِّ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَإِلَى أَنَّ مِنَ الْحَقِّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْمُضَيَّقِ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ وَهُوَ الَّذِي بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ، أَيْ فَآتُوا ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الرّوم: 38] الْآيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُعْطَى مَالٌ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ وُقُوعُ الْآيَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [الرّوم: 37] . وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ فَآتِ مُجْمَلٌ. وَالْأَصْلُ فِي مَحْمَلِهَا الْوُجُوبُ مَعَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِيتَائِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْأَصْلُ فِي الْحَقِّ الْوُجُوبُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ حَقٌّ فِي مَالِ الْمُؤْتِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: صِلَةُ الرَّحِمِ- أَيْ بِالْمَالِ- فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا

تُقْبَلْ صَدَقَةُ أَحَدٍ وَرَحِمُهُ مُحْتَاجَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَقُّ ذِي الْقُرْبَى الْمُوَاسَاةُ فِي الْيُسْرِ، وَقَوْلٌ مَيْسُورٌ فِي الْعُسْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُعْظَمُ مَا قُصِدَ أَمْرُ الْمَعُونَةِ بِالْمَالِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» ، وَلِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَقٌّ، وَبَيِّنٌ أَنَّ حَقَّ هَذَيْنِ فِي الْمَالِ اهـ. أَقُولُ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ كَثِيرٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ فَرِيقٌ: لَمْ تُنْسَخْ بَلْ لِلْقَرِيبِ حَقٌّ فِي الْبِرِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَيْ لَا نَسْخَ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَلْ نَسَخَ بَعْضَهَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ. قُلْتُ: وَمَا بَقِيَ غَيْرَ مَنْسُوخٍ مُخْتَلِفَةٌ أَحْكَامُهُ، وَهُوَ مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ. والْقُرْبى: قُرْبُ النَّسَبِ وَالرَّحِمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [36] . والْمِسْكِينَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [60] . وابْنَ السَّبِيلِ: الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ بِالْقَرْيَةِ أَوْ بِالْحَيِّ. وَوَقَعَ الْحَقُّ مُجْمَلًا وَالْحَوَالَةُ فِي بَيَانِهِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَعَلَى مَا يُبَيِّنُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْجُمْلَةِ مَوْكُولَةً إِلَى حِرْصِ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّكَاةِ فِي آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ بِهَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ وَكَانَتْ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِنُصُبٍ ثُمَّ ضُبِطَتْ بِأَصْنَافٍ وَنُصُبٍ وَمَقَادِيرَ مُخْرَجَةٍ عَنْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ» . وَإِنَّمَا ضُبِطَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَصَارَ مَا عَدَاهَا مِنَ الصَّدَقَةِ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَقُصِرَ اسْمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْوَاجِبَةِ وَأُطْلِقَ عَلَى مَا عَدَاهَا اسْمُ الصَّدَقَةِ أَوِ الْبِرِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَجِمَاعُ حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لَهُمْ. وَكَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ حَقًّا فَحَقُّ ذِي الْقُرْبَى يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ حَاجَتِهِ فَلِلْغَنِيِّ حَقُّهُ فِي الْإِهْدَاءِ تَوَدُّدًا، وَلِلْمُحْتَاجِ حَقٌّ أَقْوَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ ذُو الْقُرَابَةِ الضَّعِيفُ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ضَعْفُهُ مَبْلَغَ الْمَسْكَنَةِ بِقَرِينَةِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْحَقِّ، وَبِقَرِينَةِ مُقَابلَته بقوله لتربوا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الرّوم: 39] عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَمَّا إِعْطَاءُ

الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ فَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا وَلَيْسَ مِمَّا يَشْمَلُهُ لَفْظُ حَقَّهُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا. وَحَقُّ الْمِسْكِينِ: سَدُّ خَلَّتِهِ. وَحَقُّ ابْنِ السَّبِيلِ: الضِّيَافَةُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يُؤْثِرُونَ الْبَعِيدَ عَلَى الْقَرِيبِ فِي الْإِهْدَاءِ وَالْإِيصَاءِ حُبًّا لِلْمِدْحَةِ، وَيُؤْثِرُونَ بِعَطَايَاهُمُ السَّادَةَ وَأَهْلَ السُّمْعَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ، فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَجَنَّبُوا ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [180] . وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ هُنَا ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيِ الَّذِينَ يَتَوَخَّوْنَ بِعَطَايَاهُمْ إِرْضَاءَ اللَّهِ وَتَحْصِيلَ ثَوَابِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ إِلَى الْإِيتَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَةَ. وَذِكْرُ الْوَجْهِ هُنَا تَمْثِيلٌ كَأَنَّ الْمُعْطِي أَعْطَى الْمَالَ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ. وَفِيهِ أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِعْطَاءِ لِوَجْهِ الْمُعْطَى مِنْ أَهْلِ الْوَجَاهَةِ فِي الْقَوْمِ فَجَعَلَ هُنَا الْإِعْطَاءَ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ يُعْطُونَ الْأَغْنِيَاءَ الْبُعَدَاءَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوِ الْمُرَادُ ذَلِكَ خَيْرٌ مَنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي الْمُرَابَاةِ الَّتِي تُذْكَرُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الْآيَة [الرّوم: 39] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ مَا قَابَلَ الشَّرَّ، أَيْ ذَلِكَ فِيهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ ثَوَابُ اللَّهِ. وَفِي قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَفَرِّدُونَ بِالْفَلَاحِ، وَهُوَ نَجَاحُ عَمَلِهِمْ فِي إِيتَاءٍ مِنْ ذِكْرٍ

[سورة الروم (30) : آية 39]

لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ. فَمَنْ آتَى لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ فَلَا فَلَاحَ لَهُ من إيتائه. [39] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 39] وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) لَمَّا جَرَى التَّرْغِيب وَالْأَمر ببذلك الْمَالِ لِذَوِي الْحَاجَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَلَاحِ أَعْقَبَ بِالتَّزْهِيدِ فِي ضَرْبٍ آخَرَ مِنْ إِعْطَاءِ الْمَالِ لَا يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَكَانَ الرِّبَا فَاشِيًّا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ وَخَاصَّةً فِي ثَقِيفٍ وَقُرَيْشٍ. فَلَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُوَاسَاةِ أَغْنِيَائِهِمْ فُقَرَاءَهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَهْيِئَةِ نُفُوسِهِمْ لِلْكَفِّ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا لِلْمُقْتَرِضِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِالرِّبَا تُنَافِي الْمُوَاسَاةَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُقْتَرِضِ أَنَّهُ ذُو خَلَّةٍ، وَشَأْنُ الْمُقْرِضِ أَنَّهُ ذُو جِدَةٍ فَمُعَامَلَتُهُ الْمُقْتَرِضَ مِنْهُ بالربا افتراض لِحَاجَتِهِ وَاسْتِغْلَالٌ لِاضْطِرَارِهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَمَا شُرْطِيَّةٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَعْدَ جُمْلَةٍ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الرّوم: 38] إِلَخْ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِيتَاءِ مَالٍ هُوَ ذَمِيمٌ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ شَرْطِيَّةً لِأَنَّهَا أَنْسَبُ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ. فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِضُونَ بِالرِّبَا قَبْلَ تَحْرِيمِهِ. وَمَعْنَى آتَيْتُمْ: آتَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا لِأَنَّ الْإِيتَاءَ يَقْتَضِي مُعْطِيًا وَآخِذًا. وَقَوْلُهُ لِتُرْبُوا فِي أَمْوالِ النَّاسِ خِطَابٌ لِلْفَرِيقِ الْآخِذِ. ولتربوا لِتَزِيدُوا، أَيْ لِأَنْفُسِكُمْ أَمْوَالًا عَلَى أَمْوَالِكُمْ. وَقَوْلُهُ: فِي أَمْوالِ النَّاسِ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِمَعْنَى (مِنِ) الِابْتِدَائِيَّةِ، أَيْ لِتَنَالُوا زِيَادَةً وَأَرْبَاحًا تَحْصُلُ لَكُمْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَحَرْفُ فِي هُنَا كَالَّذِي فِي قَوْلِ سَبْرَةَ الْفَقْعَسِيِّ: وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ (¬1) ¬

(¬1) أَوله: نحابي أكفاءنا ونهينها. وَهُوَ من شعر الحماسة يذكر فِيهِ إبل الدِّيَة. قَالَ ذَلِك من أَبْيَات يذكر أَن أحد بني أَسد عيّره بِأخذ الدِّيَة عَن قَتِيل.

أَيْ نَشْرَبُ وَنُقَامِرُ مِنْ أَثْمَانِ إِبِلِنَا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [5] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ رِباً وَقَوْلُهُ مِنْ زَكاةٍ بَيَانِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ مَا الشَّرْطِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَتَقَدَّمَ الرِّبَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَمعنى فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ عَمَلٌ نَاقِصٌ عِنْدَ الله غير زاك عِنْدَهُ، وَالنَّقْصُ يُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمَذَمَّةِ وَالتَّحْقِيرِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَحْمَلِ لَفْظِ الرِّبَا عَلَى حَقِيقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِمُوَافَقَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: 276] ، وَلِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِضْعَافِ فِي قَوْلِهِ هُنَا فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ وَقَوْلِهِ لَا تَأْكُلُوا «الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [130] . وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ. وَقَدِ اسْتَقَامَ بِتَوْجِيهِهِ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى فِي مِنْ قَوْلِهِ فِي أَمْوالِ النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ رِباً فِي الْآيَةِ أَطُلِقَ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي مَالٍ لِغَيْرِهِ، أَيْ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِذَوِي الْأَمْوَالِ قَصْدَ الزِّيَادَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ، فَيَشْمَلُ هِبَةَ الثَّوَابِ وَالْهِبَةَ لِلزُّلْفَى وَالْمَلْقَ. وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعُهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَدَرَجَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَمَا أَعْطَيْتُمْ مِنْ زِيَادَةٍ لِتَزِيدُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَصِيرُ كَلِمَةُ لِتُرْبُوا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِيَعْلَقَ بِهِ قَوْلُهُ فِي أَمْوالِ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ إِلَخْ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِهِ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الرّوم: 38] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ هُوَ الْمُسَمَّى بِالزَّكَاةِ. وَجُمْلَةُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ جَوَابٌ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ، أَيْ فَمُؤْتَوْهُ الْمُضْعِفُونَ، أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْإِضْعَافُ وَهُوَ إِضْعَافُ الثَّوَابِ. وَضمير الْفَصْل لقصر جِنْسُ الْمُضْعِفِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِضْعَافِ مَنْ عَدَاهُمْ لِأَنَّ إِضْعَافَ مَنْ عَدَاهُمْ إِضْعَافٌ دُنْيَوِيٌّ زَائِلٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ لِلتَّنْوِيهِ بِهَؤُلَاءِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى

[سورة الروم (30) : آية 40]

أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْفَلَاحِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ اجْتِلَابِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتَيْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، أَيْ أَعْطَيْتُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ آتَيْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ قَصَدْتُمْ، أَيْ فَعَلْتُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور لِيَرْبُوَا بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَتْحَةِ إِعْرَابٍ على وَاو لِيَرْبُوَا. وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ وَلَيْسَ وَاوَ جَمَاعَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ لِتُرْبُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ مَضْمُومَةً وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ هِيَ وَاو الْجَمَاعَة. [40] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 40] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الثَّانِي مِنَ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أُقِيمَتْ عَلَيْهَا دَلَائِلُ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي النَّاسِ وَإِبْطَالِ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَإِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: 34] وَاطَّرَدَ الِافْتِتَاحُ بِمِثْلِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي أُرِيدَ بِهَا إِثْبَاتُ الْبَعْثِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ. وثُمَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ وَالرُّتْبِيِّ. وهَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ زِيدَتْ مِنْ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْقِيقِ نَفْيِ الْجِنْسِ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ مِنْ شَيْءٍ. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكُمْ. فَ مِنْ الْأُولَى بَيَانِيَّةٌ هِيَ بَيَان الْإِبْهَام الَّذِي فِي مَنْ يَفْعَلُ، فَيَكُونُ مَنْ

يَفْعَلُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ، تَقْدِيرُهُ: حَصَلَ، أَوْ وَجَدَ، أَوْ هِيَ تَبْعِيضِيَّةٌ صِفَةٌ لِمُقَدَّرٍ، أَيْ هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمْ. ومِنْ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ ذلِكُمْ تَبْعِيضِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ شَيْءٍ. ومِنْ الثَّالِثَةُ زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْي. وَإِضَافَةُ (شُرَكَاءَ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الَّذِينَ خَلَعُوا عَلَى الْأَصْنَامِ وَصْفَ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ فَكَانُوا شُرَكَاءَ بِزَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ وَلَيْسُوا شُرَكَاءَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى التَّهَكُّمِ، كَقَوْلِ خَالِدِ بْنِ الصَّعْقِ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ فِي مَجْمَعٍ مِنْ مَجَامِعِ الْعَرَبِ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ فَجُعِلَ عَمْرٌو يُحَدِّثُهُمْ عَنْ غَارَاتِهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ أَغَارَ عَلَى نَهْدٍ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ يَقْدُمُهُمْ خَالِدُ بْنُ الصَّعْقِ وَأَنَّهُ قَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ الصَّعْقِ: «مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكَ يَسْمَعُ» أَيِ الْقَتِيلُ بِزَعْمِكَ. وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ «يَسْمَعُ» كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ جُمْلَةُ التَّنْزِيهِ عَنِ الشَّرِيكِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَالْإِمَاتَةِ، وَالْإِحْيَاءِ، وَهِيَ مَصَادِرُ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَأُفْرِدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَمَوْقِعُهَا بَعْدَ الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ حَاصِلَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ وَهُوَ مُسَمَّى اسْمِ الْجَلَالَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، فَهَذَا فِي قُوَّةِ مُقَدِّمَةٍ هِيَ صُغْرَى قِيَاسٍ، وَحَاصِلُ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ لَا أَحَدَ مِنَ الْأَصْنَامِ بِفَاعِلٍ ذَلِكَ، وَهَذِهِ فِي قُوَّةِ مُقَدِّمَةٍ هِيَ كُبْرَى قِيَاسٍ وَهُوَ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي، وَحَاصِلُ مَعْنَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ أَنْ لَا شَيْءَ مِنَ الْأَصْنَامِ بِإِلَهِ. وَهَذِهِ نَتِيجَةُ قِيَاسٍ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي. وَدَلِيلُ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى إِقْرَارُ الْخَصْمِ، وَدَلِيلُ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى الْعَقْلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُشْرِكُونَ بِفَوْقِيَّةٍ عَلَى الْخِطَابِ تَبَعًا لِلْخِطَابِ فِي آتَيْتُمْ [الرّوم: 39] . وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَة.

[سورة الروم (30) : آية 41]

[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 41] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا صَالِحٌ لِعِدَّةِ وُجُوهٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِالْحَوَادِثِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَعَنْ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَوْقِعُهَا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَات [الرّوم: 9] ، فَلَمَّا طُولِبُوا بِالْإِقْرَارِ عَلَى مَا رَأَوْهُ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ طَرِيقُ الْمَوْعِظَةِ من قَوْله هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: 27] ، وَمِنْ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْرِيعِ اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الشُّكْرَ لِذَاتِهِ وَلِأَجْلِ إِنْعَامِهِ اسْتِحْقَاقًا مُسْتَقِرًّا إِدْرَاكُهُ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ مَا كَانَ إِلَّا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَسَبَتْ أَيْدِيهُمْ مِثْلَ مَا كَسَبَتْ أَيْدِي أُولَئِكَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَنْ سَبَبِ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْقِعَ التَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرّوم: 33] الْآيَةَ، فَهِيَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ عَلَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقْلِعُوا عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ الْمَقْصُودِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ «بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ» . فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَصَائِبَ نَزَلَتْ بِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ وَعَطَّلَتْ مَنَافِعَهَا، وَلَعَلَّهَا مِمَّا نَشَأَ عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَ الرُّومِ وَفَارِسَ، وَكَانَ الْعَرَبُ مُنْقَسِمِينَ بَيْنَ أَنْصَارِ هَؤُلَاءِ وَأَنْصَارِ أُولَئِكَ، فَكَانَ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ أَنِ انْقَطَعَتْ سُبُلَ الْأَسْفَارِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَقَلَّتِ

الْأَقْوَاتُ بِمَكَّةَ وَالْحِجَازِ كَمَا يَقْتَضِيهِ سَوْقُ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: 2] . فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِسَبَبِ مَسِّ الضُّرِّ إيَّاهُم حَتَّى لجأوا إِلَى الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ [الرّوم: 33] إِلَى آخِرِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ تَخَلَّلَ فِي الِاعْتِرَاضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ ذِكْرِ ابْتِهَالِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ إِذَا أَحَاطَ بِهِمْ ضُرٌّ ثُمَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وَبَيْنَ ذِكْرِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ اعْتِرَاضًا يُنْبِئُ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءَ اكْتِسَابِ النَّاسِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا لَكَانَ حَالُهُمْ عَلَى صَلَاحٍ. والْفَسادُ: سُوءُ الْحَالِ، وَهُوَ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى أَنَّهُ سُوءُ الْأَحْوَالِ فِي مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا. ثُمَّ التَّعْرِيفُ فِي الْفَسادُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِفَسَادٍ مَعْهُودٍ لَدَى الْمُخَاطَبِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِكُلِّ فَسَادٍ ظَهَرَ فِي الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا أَنَّهُ فَسَادٌ فِي أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَا فِي أَعْمَالِ النَّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَفَسَادُ الْبَرِّ يَكُونُ بِفِقْدَانِ مَنَافِعِهِ وَحُدُوثِ مَضَارِّهِ، مِثْلَ حَبْسِ الْأَقْوَاتِ مِنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْكَلَأِ، وَفِي مَوَتَانِ الْحَيَوَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَفِي انْتِقَالِ الْوُحُوشِ الَّتِي تُصَادُ مِنْ جَرَّاءَ قَحْطِ الْأَرْضِ إِلَى أَرَضِينَ أُخْرَى، وَفِي حُدُوثِ الْجَوَائِحِ مِنْ جَرَادٍ وَحَشَرَاتٍ وَأَمْرَاضٍ. وَفَسَادُ الْبَحْرِ كَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي تَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ مِنْ قِلَّةِ الْحِيتَانِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَقَدْ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ مَوَارِدِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَكَثْرَةِ الزَّوَابِعِ الْحَائِلَةِ عَنِ الْأَسْفَارِ فِي الْبَحْرِ، وَنُضُوبِ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَانْحِبَاسِ فَيَضَانِهَا الَّذِي بِهِ يَسْتَقِي النَّاسَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْبَرِّ الْبَوَادِي وَأَهْلُ الْغُمُورِ وَبِالْبَحْرِ الْمُدُنُ وَالْقُرَى، وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ بَحْرًا. قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ: «وَلَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ» .

يَعْنِي بِالْبَحْرَةِ: مَدِينَةَ يَثْرِبَ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَا إِلَى سُلُوكِ هَذَا الْوَجْهِ فِي إِطْلَاقِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ حَدَثَ اخْتِلَالٌ فِي سَيْرِ النَّاسِ فِي الْبَحْرِ وَقِلَّةٌ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ السَّيْرِ أَنْ قُرَيْشًا أُصِيبُوا بِقَحْطٍ وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ تَعَطَّلَتْ أَسْفَارُهُمْ فِي الْبَحْرِ وَلَا انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ حِيتَانُ الْبَحْرِ، عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ بِالِاقْتِيَاتِ مِنَ الْحِيتَانِ. وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِلْعِوَضِ، أَيْ جَزَاءً لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: الشِّرْكَ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسَّدِّيُّ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: 40] ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِتْمَامًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَالَمَ سَالِمًا مِنَ الْإِشْرَاكِ وَأَنَّ الْإِشْرَاكَ ظَهَرَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ مِنْ صَنِيعِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَجَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي» الْحَدِيثَ. فَذَكَرَ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ لِتَعْمِيمِ الْجِهَاتِ بِمَعْنَى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْوَاقِعَةِ فِي الْبَرِّ وَالْوَاقِعَةِ فِي الْجَزَائِرِ وَالشُّطُوطِ، وَيَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَالْمَعْنَى: فَأَذَقْنَاهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا، فَجُعِلَتْ لَامُ الْعَاقِبَةِ فِي مَوْضِعِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] ، أَيْ فَأَذَقْنَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْضَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْعَذَابِ لِشِرْكِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ مُلَائِمٍ صَالِحٍ لِلنَّاسِ فَأَحْدَثَ الْإِنْسَانُ فِيهِ أَعْمَالًا سَيِّئَةً مُفْسِدَةً، فَكَانَتْ وَشَائِجَ لِأَمْثَالِهَا: وَهَلْ يُنْبِتُ الْخَطِّيَّ إِلَّا وَشِيجُهُ

فَأَخَذَ الِاخْتِلَالُ يَتَطَرَّقُ إِلَى نِظَامِ الْعَالَمِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَحْمَلُ الْبَاءِ وَمَحْمَلُ اللَّامِ مِثْلُ مَحْمَلِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ. وَأُطْلِقَ الظُّهُورُ عَلَى حُدُوثِ حَادِثٍ لَمْ يَكُنْ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْحُدُوثَ بَعْدَ الْعَدَمِ بِظُهُورِ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مُخْتَفِيًا. وَمَحْمَلُ صِيغَةِ فِعْلِ ظَهَرَ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنَ الْمُضِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى فَسَادٍ مُشَاهَدٍ أَوْ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقَدْ تُحْمَلُ صِيغَةُ الْمَاضِي عَلَى مَعْنَى تَوَقُّعِ حُصُولِ الْفَسَادِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ عَلَى طَرِيقَةِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَأَيًّا مَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ مَعْهُودٍ أَوْ شَامِلٍ، فَالْمَقْصُودُ أَنَّ حُلُولَهُ بِالنَّاسِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا، وَأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ أَسْبَابَهُ تَقْدِيرًا خَاصًّا لِيُجَازِيَ مَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ عَلَى سُوءِ أَفْعَالِهِمْ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ إِسْنَادَ الْكَسْبِ إِلَى الْأَيْدِي جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي فِعْلِ الشَّرِّ وَالسُّوءِ مِنَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، دُونَ خُصُوصِ مَا يَعْمَلُ مِنْهَا بِالْأَيْدِي لِأَنَّ مَا يَكْسِبُهُ النَّاسُ يَكُونُ بِالْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا، وَبِالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ وَالْأَدْوَاءِ النفسية. وبِما مَوْصُولَةٌ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا كَسَبَتْهُ أَيْدِي النَّاسِ، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعَظْمُ مَا كَسَبَتْهُ أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الْإِشْرَاكُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًا. وَيَعْلَمُ أَنَّ مَرَاتِبَ ظُهُورِ الْفَسَادِ حَاصِلَةٌ عَلَى مَقَادِيرَ مَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وَقَالَ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: 16] . وَيَجْرِي حُكْمُ تَعْرِيفِ النَّاسِ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْرِي فِي تَعْرِيفِ الْفَسادُ مِنْ عَهْدٍ أَوْ عُمُومٍ، فَالْمَعْهُودُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَدْ شَاعَ فِي الْقُرْآنِ تَغْلِيبُ اسْمِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ.

وَالْإِذَاقَةُ: اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْآلَامِ فَيُحِسُّونَ بِهَا بِإِصَابَةِ الطَّعَامِ حَاسَّةَ الْمَطْعَمِ. وَلَمَّا كَانَ مَا عَمِلُوهُ لَا يُصِيبُهُمْ بِعَيْنِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أُطْلِقَ عَلَى جَزَاءِ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ فَالْبَعْضِيَّةُ تَبْعِيضٌ لِلْجَزَاءِ، فَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْعَمَلِ لَا الْجَزَاءُ عَلَى بَعْضِ الْعَمَلِ، أَيْ أَنَّ مَا يُذِيقُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ بَعْضُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ. وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] ، ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 127] . وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: بَعْضُ أَعْمَالِهِمْ إِلَى بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ قُوَّةِ التَّعْرِيفِ، أَيْ أَعْمَالُهُمُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمُ الْمُتَقَرَّرُ صُدُورُهَا مِنْهُمْ. وَالرَّجَاءُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادٍ كَافٍ لِإِقْلَاعِهِمْ عَمَّا هُمُ اكْتَسَبُوهُ، وَأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ يُرْجَى رُجُوعُهُ فَإِنْ هُمْ لَمْ يَرْجِعُوا فَقَدْ تَبَيَّنَ تَمَرُّدُهُمْ وَعَدَمُ إِجْدَاءِ الْمَوْعِظَةِ فِيهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التَّوْبَة: 126] . وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي كَأَنَّ الَّذِي عَصَى رَبَّهُ عَبْدٌ أَبَقَ عَنْ سَيِّدِهِ، أَوْ دَابَّةٌ قَدْ أَبَدَتْ، ثُمَّ رَجَعَ. وَفِي الحَدِيث «الله أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلِ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا دَابَّتُهُ عِنْدَهُ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُذِيقَهُمْ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ لِيُذِيقَهُمُ اللَّهُ. وَمَعَادُ الضَّمِيرِ قَوْلُهُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الرّوم: 40] . وَقَرَأَهُ قَنْبَلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَرَوْحٌ عَنْ عَاصِمٍ بنُون العظمة.

[سورة الروم (30) : آية 42]

[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 42] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) لَمَّا وَعَظَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ فَسَادِ الْأَحْوَالِ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّهَا بَعْضُ الْجَزَاءِ عَلَى مَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ عَرَضَ لَهُمْ بِالْإِنْذَارِ بِفَسَادٍ أَعَظَمَ قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُهُ وَهُوَ مَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نَظِيرِ حَالِ هَؤُلَاءِ فِي الْإِشْرَاكِ فَأَمَرَهُمْ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالنَّظَرِ فِي مَصِيرِ الْأُمَمِ الَّتِي أَشْرَكَتْ وَكَذَّبَتْ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اجْتَازُوا فِي أَسْفَارِهِمْ بِدِيَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137- 138] . فَهَذَا تَكْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ السَّابِقِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرّوم: 9] ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ اهْتِمَامًا بِهَذِهِ الْعِبْرَةِ مَعَ مُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الرّوم: 41] . وَالْعَاقِبَةُ: نِهَايَةُ الْأَمْرِ. وَالْمرَاد بِالْعَاقِبَةِ الْجِنْسُ، وَهُوَ مُتَعَدِّدُ الْأَفْرَادِ بِتَعَدُّدِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ عَاقِبَةٌ. وَجُمْلَةُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، أَيْ سَبَبُ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ الْمَنْظُورَةِ هُوَ إِشْرَاكُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ أَنَّ أَكْثَرَ تِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي شُوهِدَتْ عَاقِبَتُهَا الْفَظِيعَةُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ سَبَبَ حُلُولِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ بِهِمْ هُوَ شِرْكُهُمْ، وَبَعْضُ تِلْكَ الْأُمَمِ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا أَصَابَهُمْ لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلِهِمْ مِثْلَ أَهْلِ مَدْيَنَ قَالَ تَعَالَى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] . [43] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 43] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) تَفَرَّعَ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عَوَاقِبِ الشِّرْكِ تَثْبِيتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى

شَرِيعَتِهِ، وَوَعَدَ بِأَنْ يَأْتِيَهُ النَّصْرُ كَقَوْلِهِ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: 99] ، مَعَ التَّعْرِيضِ بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَيِّمِ، أَيِ الْحَقِّ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ لِلدِّينِ فِي قَوْلِهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الرّوم: 30] ، فَإِنَّ ذَلِكَ لما فرع على قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرّوم: 9] ، وَمَا اتَّصَلَ مَنْ تَسَلْسُلِ الْحُجَجِ وَالْمَوَاعِظِ فُرِّعَ أَيْضًا نَظِيرُهُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ [الرّوم: 42] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ وَعَلَى مَعْنَى إِقَامَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الرّوم: 30] . والْقَيِّمِ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ، وَهِيَ زِنَةٌ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مَا تُصَاغُ مِنْهُ، أَيِ: الشَّدِيدُ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ لِأَنَّ الصَّوَابَ يُشَبَّهُ بِالْقِيَامِ، وَضِدَّهُ يُشَبَّهُ بِالْعِوَجِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: 1، 2] فَوُصِفَ الْإِسْلَامُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْحَنِيفِ وَالْفِطْرَةِ وَوُصِفَ هُنَا بِالْقَيِّمِ. وَبَيْنَ أَقِمْ والْقَيِّمِ مُحْسِنٌ الْجِنَاسُ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْأَمْرِ إِعْرَاضٌ عَنْ صَرِيحِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاةُ. يُؤْخَذُ هَذَا التَّعْرِيضُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدَّوَامِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ الْآيَةَ. وَالْمَرَدُّ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الرَّدِّ وَهُوَ الدَّفْعُ، ولَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ، ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ يَأْتِيَ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ (بِالْيَوْمِ) يَوْمُ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ لَا يَرُدُّهُ عَنِ الْمُجَازَيْنِ بِهِ رَادٌّ لِأَنَّهُ آتٍ مِنَ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمُ بَدْرٍ. ويَصَّدَّعُونَ أَصْلُهُ يَتَصَدَّعُونَ فَقُلِبَتِ التَّاءُ صَادًا لِتُقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِتَأْتِيَ التَّخْفِيفَ بِالْإِدْغَامِ. وَالتَّصَدُّعُ: مُطَاوِعُ الصَّدْعِ، وَحَقِيقَةُ الصَّدْعِ: الْكَسْرُ وَالشَّقُّ، وَمِنْهُ تَصَدَّعَ الْقَدَحُ. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ: يَوْمُ الْحَشْرِ. وَالتَّصَدُّعُ: التَّفَرُّقُ وَالتَّمَايُزُ. وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، أَيْ يَوْمئِذٍ يَفْتَرِقُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الرّوم: 14- 16] .

[سورة الروم (30) : الآيات 44 إلى 45]

[سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 44 إِلَى 45] مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِإِجْمَالِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الرّوم: 43] ، إِذِ التَّثْبِيتُ عَلَى الدِّينِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْفَسَادِ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِكُفْرِهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهَمْ، وَالَّذِي يَكْشِفُ هَذَا الْمَعْنَى تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ، أَيْ فَكُفْرُهُ عَلَيْهِ لَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ حَالِ مَنْ كَفَرَ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ مَنْ عَمِلَ صالِحاً. وَاقْتَضَى حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ أَنَّ فِي الْكُفْرِ تَبِعَةً وَشَدَّةً وَضُرًّا عَلَى الْكَافِرِ، لِأَنَّ (عَلَى) تَقْتَضِي ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا اقْتَضَى اللَّامُ فِي قَوْلِهِ فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أَنَّ لِمَجْرُورِهَا نَفَعًا وَغَنْمًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: 286] . وَقَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ: وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا وَأَفْرَدَ ضَمِيرَ كُفْرُهُ رَعْيًا لِلَّفْظِ مَنْ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَضَارِّ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْكَافِرِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، مَعَ تَمَامِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: مَنْ كَفَرَ فَجَزَاؤُهُ عِقَابُ اللَّهِ، فَاكْتُفِيَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَبِمُقَابَلَةِ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا بِقَوْلِهِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ فَهُوَ بَيَانٌ أَيْضًا لِمَا فِي جُمْلَةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الرّوم: 43] مِنَ الْأَمْرِ بِمُلَازَمَةِ التَّحَلِّي بِالْإِسْلَامِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَعَ مَا تَقْتَضِيهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ فَهُوَ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْبَيَانِ. وَإِنَّمَا قُوبِلَ مَنْ كَفَرَ ب مَنْ عَمِلَ صالِحاً وَلم يُقَابل ب (من ءامن) لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ دُونَ الْكَافِرِينَ. فَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ الْعَمَلِ

الصَّالِحِ عَنْ ذِكْرِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ، وَلِتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَحْدَهُ فَتَفُوتُهُمُ النَّجَاةُ التَّامَّةُ. وَهَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَقْرِنَ الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الرّوم: 14- 16] حَتَّى تَوَهَّمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ. وَتَقْدِيمُ فَلِأَنْفُسِهِمْ عَلَى يَمْهَدُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ. ويَمْهَدُونَ يَجْعَلُونَ مِهَادًا، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ. مُثِّلَتْ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَمَلِهِمُ الصَّالِحِ بِحَالِ مَنْ يَتَطَلَّبُ رَاحَة رقاده فيوطىء فِرَاشَهُ وَيُسَوِّيهُ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُ فِي مَضْجَعِهِ مِنَ النُّتُوءِ أَوِ الْيَبْسِ مَا يَسْتَفِزُّ مَنَامه. وَتَقْدِيم فَلِأَنْفُسِهِمْ عَلَى يَمْهَدُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ قَرِينَةَ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ وَاضِحَةٌ. وَرَوْعِيَ فِي جَمْعِ ضَمِيرِ يَمْهَدُونَ مَعْنَى مَنْ دُونَ لَفْظِهَا مَعَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفَاصِلَةُ مِنْ تَرْجِيحِ تِلْكَ الْمُرَاعَاةِ. وَيَتَعَلَّقُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بِ يَمْهَدُونَ أَيْ يُمَهِّدُونَ لِعِلَّةٍ أَنْ يَجْزِيَ اللَّهُ إِيَّاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ صِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَنَّ جَزَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ لِتَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي الْأَذْهَانِ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِوَصْفِهِمْ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِهِ وَتَقْرِيرِهِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وَقَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ أَضْعَافًا لِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ كَمَا اقْتَضَاهُ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَحَصَلَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تَقْرِيرٌ بَعْدَ تَقْرِيرٍ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا دَلَّ بِصَرِيحِهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَزَاءِ بِالْفَضْلِ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْوِلَايَةِ.

[سورة الروم (30) : آية 46]

وَقَوْلُهُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يَدُلُّ بِتَعْلِيلِهِ لِمَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ مَحْرُومُونَ مِنَ الْفَضْلِ، وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مَوْفُورٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا وَأَنَّ الْعِقَابَ مُعَيَّنٌ للْكَافِرِينَ عدلا. [46] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 46] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) عَوْدٌ إِلَى تَعْدَادِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرّوم: 25] وَمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مِنْ أَفَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَمِنْ طرائق الموعظة كَانَ لِتَطْرِيَةِ نَشَاطِ السَّامِعِينَ لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْمُوَضِّحَةِ الْمُبَيِّنَةِ. وَالْإِرْسَالُ مُسْتَعَارٌ لِتَقْدِيرِ الْوُصُولِ، أَيْ يُقَدِّرُ تَكْوِينَ الرِّيَاحِ وَنِظَامَهَا الَّذِي يُوَجِّهُهَا إِلَى بلد مُحْتَاج إِلَى الْمَطَرَ. وَالْمُبَشِّرَاتُ: الْمُؤْذِنَةُ بِالْخَيْرِ وَهُوَ الْمَطَرُ. وَأَصْلُ الْبِشَارَةِ: الْخَبَرُ السَّارُّ. شُبِّهَتِ الرِّيَاحُ بِرُسُلٍ مُوَجَّهَةٍ بِأَخْبَارِ الْمَسَرَّةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبِشَارَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] ، وَقَوْلِهِ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى فِي سُورَةِ النَّحْلِ [58] ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَسُوقُ سَحَابَ الْمَطَرِ إِلَى حَيْثُ يُمْطِرُ. وَتَقَدَّمُ الْكَلَامُ عَلَى الرِّيَاحِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَعَلَى كَوْنِهَا لَوَاقِحَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [22] . وَقَوْلُهُ وَلِيُذِيقَكُمْ عَطْفٌ عَلَى مُبَشِّراتٍ لِأَنَّ مُبَشِّراتٍ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلَ لِلْإِرْسَالِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِذَاقَةِ آنِفًا. ومِنْ رَحْمَتِهِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ لِيُذِيقَكُمْ أَيْ: مَذُوقًا. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ: هِيَ الْمَطَرُ.

[سورة الروم (30) : آية 47]

وَجَرَيَانُ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ الرِّيَاحِ وَمَنْ نِعَمِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ بِأَمْرِهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَحْقِيقٌ لِلْمِنَّةِ، أَيْ: لَوْلَا تَقْدِيرُ اللَّهِ ذَلِكَ وَجَعْلُهُ أَسْبَابَ حُصُولِهِ لَمَا جَرَتِ الْفُلْكُ، وَتَحْتَ هَذَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ يَجْمَعُهَا إِلْهَامُ اللَّهِ الْبَشَرَ لِصُنْعِ الْفُلْكِ وَتَهْذِيبِ أَسْبَابِ سَيْرِهَا. وَخَلَقَ نِظَامَ الرِّيحِ وَالْبَحْرِ لِتَسْخِيرِ سَيْرِهَا كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [36] ، وَتَقَدَّمَ هُنَالِكَ مَعْنَى لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. [47] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُسْتَطَرَدَةٌ آثَارُهَا ذِكْرُ سَيْرِ الْفُلْكِ فِي عِدَادِ النِّعَمِ فَعُقِبَ ذَلِكَ بِمَا كَانَ سَيْرُ الْفُلْكِ فِيهِ تَذْكِيرٌ بِنِقْمَةِ الطُّوفَانِ لِقَوْمِ نُوحٍ، وَبِجَعْلِ اللَّهِ الْفُلْكَ لِنَجَاةِ نُوحٍ وَصَالِحِي قَوْمِهِ مِنْ نِقْمَةِ الطُّوفَانِ، فَأُرِيدَ تَحْذِيرُ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، وَكَانَ فِي تِلْكَ النِّقْمَةِ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ نَصْرُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ أَلَا تَرَى إِلَى حِكَايَةِ قَوْلِ نُوحٍ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَلَيْسَتْ لِلْعَطْفِ. وَالِانْتِقَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ وَالْغَضَبُ، وَفِعْلُهُ كَضَرَبَ وَعَلَمَ قَالَ تَعَالَى وَما تَنْقِمُ مِنَّا [الْأَعْرَاف: 126] . وَفِي الْمَثَلِ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْأَرْقَمِ إِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَإِنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ. وَالِانْتِقَامُ: الْعُقُوبَةُ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا لَا يُرْضِي كَأَنَّهُ صِيغَ مِنْهُ الِافْتِعَالُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ أَثَرِ النَّقْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا وَقَوْلِهِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [136] . وكلمةقًّا عَلَيْنا مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: 105] ، وَهُوَ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، أَيْ: لَازِمٌ لَهُ، قَالَ الْأَعْشَى:

[سورة الروم (30) : الآيات 48 إلى 49]

لَمَحْقُوقَهٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ فَإِنَّ وَعْدَ الصَّادِقِ حَقٌّ. قَالَ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَقَدِ اخْتَصَرَ طَرِيقَ الْإِفْصَاحِ عَنْ هَذَا الْغَرَضِ أَعْنِي غَرَضِ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَالْوَعِيدِ لَهُ فَأُدْرِجَ تَحْتَ ذِكْرِ النَّصْرِ مَعْنَى الِانْتِصَارِ، وَأُدْرِجَ ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْمُصَدِّقِينَ الْمَوْعُودُ، وَفَرِيقُ الْمُكَذِّبِينَ الْمُتَوَعَّدُ، وَقَدْ أُخْلِيَ الْكَلَامُ أَوَّلًا عَنْ ذِكْرِهِمَا. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ شُعْبَةَ رَاوِي عَاصِمٍ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ على قَوْله قًّا فَيكون فِي انَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الِانْتِقَامِ، أَيْ وَكَانَ الِانْتِقَامُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ حَقًّا، أَيْ: عَدْلًا، ثُمَّ يسْتَأْنف بقوله لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ إِيهَامِ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ إِيجَابًا فِرَارًا مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ كَمَا عَلِمْتَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةٍ: وَهُوَ وَقْفٌ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْكَوَاشِيُّ عَنْ أبي حَاتِم. [48- 49] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 48 إِلَى 49] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى أُسْلُوبِ أَمْثَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: 27] ، وَجَاءَتِ الْمُنَاسَبَةُ هُنَا لِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الرّوم: 46] اسْتِدْلَالًا عَلَى التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ وَتَصْوِيرِ الصُّنْعِ الْحَكِيمِ الدَّالِّ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ تَوَسُّلًا إِلَى ذِكْرِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمُسْتَدَلِّ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ، فَقَدْ أَفَادَتْ صِيغَةُ الْحَصْرِ بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أَنه هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي هَذَا الشَّأْنِ الْعَجِيبِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَفَى بِهَذَا إِبْطَالًا لِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ التَّصَرُّفَات فِي شؤون نَفْعِ الْبَشَرِ. وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي: يُرْسِلُ، وفَتُثِيرُ، وفَيَبْسُطُهُ، ويَجْعَلُهُ

لِاسْتِحْضَارِ الصُّوَرِ الْعَجِيبَةِ فِي تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُشَاهِدُ تَكْوِينَهَا مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ. وَجُمِعَ الرِّياحَ لِمَا شَاعَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ مِنْ إِطْلَاقِهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى رِيحِ الْبِشَارَةِ بِالْمَطَرِ لِأَنَّ الرِّيَاحَ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ هِيَ الرِّيَاحُ الْمُخْتَلِفَةُ جِهَاتُ هُبُوبِهَا بَيْنَ: جَنُوبٍ وَشَمَالٍ وَصَبًا وَدَبُورٍ، بِخِلَافِ اسْمِ الرِّيحِ الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّهُ غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُهُ عَلَى رِيحِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لِأَنَّهَا تَتَّصِلُ وَارِدَةً مِنْ صَوْبٍ وَاحِدٍ فَلَا تَزَالُ تَشْتَدُّ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا لَا رِيحًا» (¬1) . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالْإِثَارَةُ: تَحْرِيكُ الْقَارِّ تَحْرِيكًا يَضْطَرِبُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ. وَإِثَارَةُ السَّحَابِ إِنْشَاؤُهُ بِمَا تُحْدِثُهُ الرِّيَاحُ فِي الْأَجْوَاءِ مِنْ رُطُوبَةٍ تَحْصُلُ مِنْ تَفَاعُلِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ. وَالْبَسْطُ: النَّشْرُ. وَالسَّمَاءُ: الْجَوُّ الْأَعْلَى وَهُوَ جَوُّ الْأَسْحِبَةِ. وكَيْفَ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَمَوْقِعُهَا الْمَفْعُولِيَّةُ الْمُطلقَة من فَيَبْسُطُهُ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: يَبْسُطُهُ بَسْطًا كَيْفِيَّتُهُ يَشَاؤُهَا اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [6] . وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا شَرْطٌ لَمْ يُصَادِفِ الصَّوَابَ. وكِسَفاً بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ جَمْعُ كِسْفٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَيُقَالُ: كِسْفَةٌ بَهَاءِ تَأْنِيثِ وَهُوَ الْقِطْعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [92] . وَتَقَدَّمَ الْكِسَفُ فِي قَوْلِهِ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء [187] . وَالْمعْنَى: أَنه يَبْسُطُ السَّحَابَ فِي السَّمَاءِ تَارَةً، أَيْ يَجْعَلُهُ مُمْتَدًّا عَامًّا فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمُدَجَّنُ الَّذِي يُظْلِمُ بِهِ الْجَوُّ وَيُقَالُ الْمُغْلَقُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفَا أَيْ تَارَةً أُخْرَى كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ، أَيْ: يَجْعَلُهُ غَمَامَاتٍ لِأَنَّ حَالَةَ جَعْلِهِ كِسَفًا غَيْرُ حَالَةِ بَسْطِهِ فِي ¬

(¬1) عَن الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد ضَعِيف. [.....]

السَّمَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ مُرَادًا مِنْهُ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ السَّحَابِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ آيَةٌ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ. وَالْخِطَابُ فِي فَتَرَى الْوَدْقَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ سَمَاعُ هَذَا وَتَتَأَتَّى مِنْهُ رُؤْيَةُ الْوَدْقِ. وَالْوَدْقُ: الْمَطَرُ. وَضَمِيرُ خِلالِهِ لِلسَّحَابِ بِحَالَتَيْهِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَهُمَا حَالَةُ بَسْطِهِ فِي السَّمَاءِ وَحَالَةُ جَعْلِهِ كِسَفًا فَإِنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ الْمُغْلَقِ وَالْغَمَامَاتِ. وَالْخِلَالُ: جَمْعُ خَلَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ [43] . وَذِكْرُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْمَطَرِ وَفِي وَقْتِ انْحِبَاسِهِ بَيْنَ اسْتِبْشَارٍ وَإِبْلَاسٍ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَلِلِاعْتِبَارِ بِاخْتِلَافِ تَأَثُّرَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى عَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ إِذْ جَعَلَهُ قَابِلًا لِاخْتِلَافِ الِانْفِعَالِ مَعَ اتِّحَادِ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ كَمَا جَعَلَ السَّحَابَ مُخْتَلِفَ الِانْفِعَالِ مِنْ بَسْطٍ وَتَقْطُعٍ مَعَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ وَهُوَ خُرُوجُ الْوَدْقِ مِنْ خِلَالِهِ. وإِنْ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كانُوا مُخَفِّفَةٌ مُهْمَلَةٌ عَنِ الْعَمَلِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَمُبْلِسِينَ اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ وَإِنِ الشَّرْطِيَّةِ. وَالْإِبْلَاسُ: يَأْسٌ مَعَ انْكِسَارٍ. وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلِهِ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ [الرّوم: 49] لِتَوْكِيدِ مَعْنَى قَبْلِيَّةِ نُزُولِ الْمَطَرِ وَتَقْرِيرِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفَادَ التَّأْكِيدُ الْإِعْلَامَ بِسُرْعَةِ تَقَلُّبِ قُلُوبِ الْبَشَرِ مِنَ الْإِبْلَاسِ إِلَى الِاسْتِبْشَارِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ إِعَادَةَ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِ زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْمَطَرِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَهْدَهُمْ بِالْمَطَرِ قَدْ تَطَاوَلَ فَاسْتَحْكَمَ إِبْلَاسَهُمْ فَكَانَ الِاسْتِبْشَارُ عَلَى قَدْرِ اغْتِمَامِهِمْ» اهـ.

[سورة الروم (30) : آية 50]

يَعْنِي أَنَّ فَائِدَةَ إِعَادَةِ مِنْ قَبْلِهِ أَنَّ مُدَّةَ مَا قَبْلَ نُزُولِ الْمَطَرِ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ فَأُشِيرَ إِلَى قُوَّتِهَا بِالتَّوْكِيدِ. وَضَمِيرُ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أَي تَنْزِيله. [50] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 50] فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) رُتِّبَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَة تكوين أَسبَاب الْمَطَرِ وَاسْتِبْشَارِ النَّاسِ بِنُزُولِهِ بَعْدَ الْإِبْلَاسِ، أَنِ اعْتُرِضَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ إِلَى أَثَرِ الرَّحْمَةِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يُحْيِي لَهُمُ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْجَفَافِ. وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ لِلِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالنَّظَرُ: رُؤْيَةُ الْعَيْنِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْجَفَافِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ قِوَامَ الْحَيَاةِ الرُّطُوبَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ ضِدِّهِ بِالْإِحْيَاءِ. وَالْخطاب بانظر لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّظَرُ مِثْلَ قَوْلِهِ فَتَرَى الْوَدْقَ [الرّوم: 48] . ورَحْمَةِ اللَّهِ: هِيَ صِفَتُهُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِإِمْدَادِ مَخْلُوقَاتِهِ ذَوَاتِ الْإِدْرَاكِ بِمَا يُلَائِمُهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا مَا يُؤْلِمُهَا وَذَلِكَ هُوَ الْإِنْعَامُ. وَأَثَرُ الشَّيْءِ: مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْآثَارُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِهِ وَتَصَرُّفِهِ بِمَا فِيهِ رَحْمَةٌ لِلْخَلْقِ. وكَيْفَ بَدَلٌ مِنْ أَثَرِ أَو مفعول لانظر أَيِ: انْظُرْ هَيْئَةَ إِحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، تِلْكَ الْحَالَةُ الَّتِي هِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ النَّاسَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] إِذْ جَعَلُوا كَيْفَ بَدَلًا مِنَ الْإِبِلِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [45] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الرّوم: 48] . وَأُطْلِقَ عَلَى إِنْبَاتِ الْأَرْضِ إِحْيَاءٌ وَعَلَى قُحُولَتِهَا الْمَوْتُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى اسْتِئْنَافٌ وَهُوَ إدماج أدمج دَلِيلِ الْبَعْثِ عَقِبَ

[سورة الروم (30) : آية 51]

الِاعْتِبَارِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ يُفِيدُ مَعَ تَقْرِيرِ الْخَبَرِ زِيَادَةَ مَعْنَى فَاءِ التَّسَبُّبِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ إِذِ التَّقْدِيرُ: فَالنَّجَاحُ فِي التَّبْكِيرِ، كَمَا تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيُفِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَعْنَى أَنَّهُ جَدِيرٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى، تَقْرِيبًا لِتَصَوُّرِ الْبَعْثِ. وَعَدَلَ عَنِ الْمَوْصُولِ إِلَى الْإِشَارَةِ لِلْإِيجَازِ، وَلِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَذُيِّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ وَالْبَعْثُ مِنْ جُمْلَتِهَا إِذْ لَيْسَ هُوَ إِلَّا إِيجَادُ خَلْقٍ وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنْشَأَ الْخَلْقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالشَّبَهُ تَامٌّ، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ إِيجَادُ أَمْثَالِ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ فَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى إِيجَادُ أَمْثَالِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كثير وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ إِلَى أَثَرِ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ إِلى آثارِ بِصِيغَة الْجمع. [51] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 51] وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الرّوم: 49] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ لِغَرَضٍ قَدْ عَلِمْتَهُ آنِفًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ سِيقَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَانَ مَطْبُوعٌ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يُعَاوِدُهُمْ بِأَدْنَى سَبَبٍ فَهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمُ النِّعْمَةُ اسْتَبْشَرُوا وَلَمْ يَشْكُرُوا وَإِذَا أَصَابَتْهُمُ الْبَأْسَاءُ أَسْرَعُوا إِلَى الْكُفْرَانِ فَصُوَّرَ لِكُفْرِهِمْ أَعْجَبَ صُورَةٍ وَهِيَ إِظْهَارُهُمْ إِيَّاهُ بِحِدْثَانِ مَا كَانُوا مُسْتَبْشِرِينَ مِنْهُ إِذْ يَكُونُ الزَّرْعُ أَخْضَرَ وَالْأَمَلُ فِي الِارْتِزَاقِ مِنْهُ قَرِيبًا فَيُصِيبُهُ إِعْصَارٌ فَيَحْتَرِقُ فَيَضِجُّونَ مِنْ

[سورة الروم (30) : الآيات 52 إلى 53]

ذَلِكَ وَتَكُونُ حَالُهُمْ حَالَةَ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَتَجْرِي عَلَى أَقْوَالِهِمْ عِبَارَاتُ السُّخْطِ وَالْقُنُوطِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ رُجَّازِ الْأَعْرَابِ إِذْ أَصَابَ قَوْمَهُ قَحْطٌ: رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَ ... قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَ فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوب فِي فَرَأَوْهُ عَائِدٌ إِلَى أَثَرِ رَحْمَة الله [الرّوم: 50] وَهُوَ الزَّرْعُ وَالْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَالِاصْفِرَارُ فِي الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ مُؤْذِنٌ بِيُبْسِهِ، وَسُمُّوا صفارا بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ: دَاءٌ يُصِيبُ الزَّرْعَ. وَالْمُصْفَرُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مُقْتَضٍ الْوَصْفَ بِمَعْنَاهُ فِي الْحَالِ، أَيْ فَرَأَوْهُ يَصِيرُ أَصْفَرَ، فَالتَّعْبِيرُ بِ مُصْفَرًّا لِتَصْوِيرِ حِدَثَانِ الِاصْفِرَارِ عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَرَأَوْهُ أَصْفَرَ. وَظَلَّ: بِمَعْنَى صَارَ، والإتيان بِفعل التصيير مَعَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ ثُمَّ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَغْلِبُ الْكُفْرُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ مَاضِيَةً لِأَنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَمْحَضُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ، فَأُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُضِيِّ لِأَنَّهَا أَخَفُّ وَالْمُتَكَلِّمُ مُخَيَّرٌ فِي اجْتِلَابِ أَيِّ الصِّيغَتَيْنِ مَعَ الشَّرْطِ، مِثْلَ قَوْلِهِ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الْإِسْرَاء: 88] بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلنَّفْي بِ لَا وَهِيَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي الْمُسْنَدِ إِلَى مُفْرَدٍ إِلَّا فِي الدُّعَاء. [52- 53] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 52 إِلَى 53] فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى قَوْلِهِ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [الرّوم: 51] الْمُفِيدُ أَنَّ الْكُفْرَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ كُفْرٍ بِاللَّهِ وَبَيْنَ إِعْرَاضٍ عَنْ شُكْرِهِ، أَوِ الْفَاءُ فَصِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنْ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ وَسَاءَكَ اسْتِرْسَالُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُمِِِِْ

كَالْمَوْتَى وَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى. وَهَذَا مَعْذِرَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِدَاءٌ عَلَى أَنَّهُ بَذَلَ الْجُهْدَ فِي التَّبْلِيغِ. وَفِيمَا عَدَا الْفَاءِ فَالْآيَةُ نَظِيرُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ وَنَزِيدُ هُنَا فَنَقُولُ: إِنَّ تَعْدَادَ التَّشَابِيهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ تَشْبِيهٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّوَغُّلُ فِي الشِّرْكِ فَلَا يُصَدِّقُونَ بِمَا يُخَالِفُهُ وَلَا يَتَأَثَّرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ أَشْبَاحٌ بِلَا إِدْرَاكٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ دَهْمَاؤُهُمْ وَأَغْلَبُهُمْ وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: فِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] وَيَقُولُونَ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] وَهَؤُلَاءِ هم ساداتهم ومدبّرو أَمْرَهُمْ يَخَافُونَ إِنْ أَصْغَوْا إِلَى الْقُرْآنِ أَنْ يَمْلِكَ مَشَاعِرَهُمْ فَلِذَلِكَ يَتَبَاعَدُونَ عَنْ سَمَاعِهِ، وَلِهَذَا قُيِّدَ الَّذِي شَبَّهَوَا بِهِ بِوَقْتِ تَوَلِّيهِمْ مُدْبِرِينَ إِعْرَاضًا عَنِ الدَّعْوَةِ، فَهُوَ تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكُوا مَسْلَكَ سَادَاتِهِمْ وَاقْتَفُوا خُطَاهُمْ فَانْحَرَفَتْ أَفْهَامُهُمْ عَنِ الصَّوَابِ فَهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اعْتَادُوا مُتَابَعَةَ أَهْوَائِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] وَيَحْصُلُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَشْبِيهُ جَمَاعَتِهِمْ بِجَمَاعَةٍ تَجْمَعُ أَمْوَاتًا وَصُمًّا وَعُمْيًا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعَدُّدِ التَّشَبُّهِ لِمُشَبَّهٍ وَاحِدٍ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ مِيمٍ تُسْمِعُ وَنَصْبِ الصُّمَّ، عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِفَتْحِ مِيمٍ يَسْمَعُ وَرَفَعَ الصُّمُّ على الفاعلية ليسمع. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِهَادِي بِمُوَحَّدَةٍ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ وَبِإِضَافَةِ هَادِي إِلَى

[سورة الروم (30) : آية 54]

الْعُمْيِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ تَهْدِي بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ وَبِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَبِنَصْبِ الْعُمْيَ على المفعولية. [54] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) هَذَا رَابِعُ اسْتِئْنَافٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ رُجُوعٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَصْنُوعَاتِ مِنَ الْعَوَالِمِ لِتَقْرِيرِ إِمْكَانِيَّةِ الْبَعْثِ وَتَقْرِيبِ حُصُولِهِ إِلَى عُقُولِ مُنْكِرِيهِ لِأَنَّ تَعَدُّدَ صُوَرِ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَيْفِيَّاتِهِ مِنِ ابْتِدَائِهَا عَنْ عَدَمٍ أَوْ مِنْ إِعَادَتِهَا بعد انعدامها وبتطور وَبِدُونِهِ مِمَّا يَزِيدُ إِمْكَانَ الْبَعْثِ وُضُوحًا عِنْدَ مُنْكِرِيهِ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] وَنَظَائِرُهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ فَاتِحَتُهَا عَلَى أُسْلُوبِ فَوَاتِحِ نَظَائِرِهَا وَهَذَا مَا يُؤْذِنُ بِهِ تَعْقِيبُهَا بِقَولِهِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ [الرّوم: 55] الْآيَةَ. ثُمَّ قَوْلُهُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مُبْتَدَأٌ وَصِفَةٌ، وَقَوْلُهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ هُوَ الْخَبَرُ، أَيْ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ. وَالضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَهُوَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَيَجُوزُ فِي ضَادِهِ الْفَتْحُ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْن عُمَرَ قَالَ: قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ- يَعْنِي بِفَتْح الضَّادِ- فَأَقْرَأَنِي: مِنْ ضُعْفٍ يَعْنِي بِضَمِّ الضَّادِ-. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلْفَاظَ ضَعْفٍ الثَّلَاثَةَ- بِضَمِّ الضَّادِ- فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَهَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ الضَّادِ، فَلَهُمَا سَنَدٌ لَا مَحَالَةَ يُعَارِضُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَطَقَ بِلُغَةِ الضَّمِّ لِأَنَّهَا لُغَةُ قَوْمِهِ، وَأَنَّ الْفَتْحَ رُخْصَةٌ لِمَنْ يَقْرَأُ بِلُغَةِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لُغَةٌ تَخُصُّهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالضَّعْفُ: الْوَهْنُ وَاللِّينُ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ: مُبْتَدَأُ خَلْقِهِ مِنْ ضَعْفٍ، أَيْ: مِنْ حَالَةِ ضَعْفٍ، وَهِيَ حَالَةُ كَوْنِهِ جَنِينًا ثُمَّ صَبِيًّا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشَدَّهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ

[سورة الروم (30) : آية 55]

عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: 37] يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء: 28] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ أَطْوَارًا تَبْتَدِئُ مِنَ الْوَهْنِ وَتَنْتَهِي إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنَ الْإِنْشَاءِ الْأَوَّلِ وَمَا لَحِقَهُ مِنَ الْأَطْوَارِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ. وَذَكَرَ وَصْفَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ التَّطَوُّرَ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَهِي من شؤون الْعِلْمِ، وَإِبْرَازِهِ عَلَى أَحْكَمِ وَجْهٍ هُوَ مِنْ أَثَرِ الْقُدْرَةِ. وَتَنْكِيرُ ضَعْفٍ وقُوَّةً لِلنَّوْعِيَّةِ فَ ضَعْفٍ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا هُوَ عَيْنُ ضَعْفٍ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وقُوَّةً الْمَذْكُورَةِ ثَانِيًا عَيْنُ قُوَّةً الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا. وَقَوْلُهُمُ: النَّكِرَةُ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأَوْلَى، يُرِيدُونَ بِهِ التَّنْكِيرَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفَرْدُ الشَّائِعُ لَا التَّنْكِيرُ الْمُرَادُ بِهِ النَّوْعِيَّةُ. وَعَطْفُ وَشَيْبَةً لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الضَّعْفَ لَا قُوَّةَ بَعْدَهُ وَأَنَّ بَعْدَهُ الْعَدَمَ بِمَا شَاعَ مِنْ أَنَّ الشَّيْبَ نَذِيرُ الْمَوْتِ. وَالشَّيْبَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الشَّيْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فِي سُورَة مَرْيَم [4] . [55] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 55] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) لَمَّا ذَكَرَ عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَشُبِّهُوا بِالْأَمْوَاتِ وَالصُّمِّ وَالْعُمْيِ فَظَهَرَتْ فَظَاعَةُ حَالِهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ حَالِهِمْ حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ فِي اسْتِصْحَابِ مُكَابَرَتِهِمُ الَّتِي عَاشُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّ اللَّهَ حِينَ يُعِيد خلقهمْ وينشىء لَهُمْ أَجْسَامًا كَأَجْسَامِهِمْ وَيُعِيدُ إِلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ يَكُونُ تَفْكِيرُهُمْ يَوْمئِذٍ عَلَى وِفَاقِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّفْسَطَةِ وَالْمُغَالَطَةِ وَالْغُرُورِ، فَإِذَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ وَشَعَرُوا بِصِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا فِي آخِرِ أَوْقَاتِ حَيَاتِهِمْ

أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ خَامَرَتْهُمْ حِينَئِذٍ عَقِيدَةُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَحُجَّتُهُمُ السُّفِسْطَائِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] ، هُنَالِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِصِحَّةِ دَلِيلِهِمُ الْقَدِيمِ وَيَلْتَمِسُونَ اعْتِلَالًا لِتَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ بِعِلَّةِ أَنَّ بَعْثَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بعد سَاعَة قَليلَة من وَقت الدّفن قبل أَن تنعدم أَجزَاء أجسامهم فيخيل إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي إِنْكَارِهِ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا قَدْ أُخْبِرُوا أَنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَامِ، فَهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ حِينَ تَحَقَّقُوهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الْحُلُولِ فِي الْقَبْرِ لَأَقَرُّوا بِهِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ هَذَا تَسْمِيَةُ كَلَامِهِمْ هَذَا مَعْذِرَةً بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ [الرّوم: 57] . وَهَذِهِ فِتْنَةٌ أُصِيبُوا بِهَا حِينَ الْبَعْثِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ لِيَكُونُوا هُزْأَةً لِأَهْلِ النُّشُورِ. وَيَتَّضِحُ غَلَطُهُمْ وَسُوءُ فَهْمِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ الْآيَة [الرّوم: 56] وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أَيْ كَهَذَا الْخَطَأِ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بِمِثْلِ هَذِهِ التُّرَّهَاتِ. وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فِي سُورَةِ طه [103، 104] . وَبَلَغَ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَعْدَ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِدَالِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً، وَقَوْلُ آخَرِينَ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْف: 19] وَبَعض الْيَوْمِ يُصْدَقُ بِالسَّاعَةِ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَسَمَ يَتَخَاطَبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ آيَةُ سُورَةِ طه، أَوْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ أَعْلَنُوا بِهِ حِينَ اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الْحَلِفِ يُؤْذِنُ بِمُشَادَّةٍ وَلَجَاجٍ فِي الْخِلَافِ. وَفِي قَوْلِهِ: السَّاعَةُ وساعَةٍ الْجِنَاسُ التَّامُّ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ غَرَابَةَ حَالِهِمْ مِنْ فَسَادِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْقَسَمُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ تَوَهُّمًا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مَثَارِ هَذَا الْوَهْمِ فِي نُفُوسِهِمْ فَكَانَ قَوْلُهُ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ بَيَانًا لِذَلِكَ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا

[سورة الروم (30) : آية 56]

عَجَبَ فِي صُدُورٍ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجِيئُونَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْهَامِ مُدَّةَ كَوْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَصْرِفُهُمْ أَوْهَامُهُمْ عَنِ الْيَقِينِ، وَكَانُوا يُقْسِمُونَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْل: 38] اسْتِخْفَافًا بِالْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى انْصِرَافِهِمْ عَنِ الْحَقِّ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَالْمُشَبَّهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِفْكًا مِثْلَ إِفْكِهِمْ هَذَا كَانُوا يُؤْفَكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ. وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الصَّرْفُ وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَصْرُوفِ عَنْهُ بِحَرْفِ (عَنْ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [60] . وَلَمْ يُسْنَدْ إِفْكُهُمْ إِلَى آفِكٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ بَعْضَ صَرْفِهِمْ يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَأَيِمَّةِ دِينِهِمْ، وَبَعْضَهُ مِنْ طَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي زَمَانٍ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَنِ، أَيْ فِي زَمَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ تَخَلَّقُوا بِهِ وَصَارَ لَهُمْ كَالسَّجِيَّةِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَعَادَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ صَدَرَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا تَخَلَّقُوا بِهِ وَقَالَ تَعَالَى: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ الْآيَة [طه: 125- 127] وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَدَبٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَحَامَوُا الرَّذَائِلَ وَالْكَبَائِرَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ لَهُمْ خُلُقًا فيحشروا عَلَيْهَا. [56] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 56] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) جَعَلَ اللَّهُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ هدفا لسهام التَّغْلِيظ وَالِافْتِضَاحِ فِي وَقْتِ النُّشُورِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا عِلْمَ الْقُرْآنِ وَأَشْرَقَتْ عُقُولُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْعَقَائِدِ

الصَّحِيحَةِ وَآثَارِ الْحِكْمَةِ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ لَا يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ غَلَطَهُمْ رَدًّا يَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ أَنْ لَا يَكُونُوا قَبِلُوا دَعْوَةَ الْحَقِّ كَمَا قَبِلَهَا الْمُؤْمِنُونَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَعَطَفَ الْإِيمَانَ على الْعلم للاهتمام بِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِدُونِ إِيمَانٍ لَا يُرْشِدُ إِلَى الْعَقَائِدِ الْحَقِّ الَّتِي بِهَا الْفَوْزُ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَقَالَ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَتَحْسِيرًا لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْمَعُونَ تَحَاجَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فَيُبَادِرُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ سَجِيَّتَهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا أَدَبٌ إِسْلَامِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ الْخَطَأَ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ لَا يُقِرُّهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ صَرْفٌ لَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعْذِرَةِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: دَعُوا عَنْكُمْ هَذَا فَلَا جَدْوَى فِيهِ وَاشْتَغِلُوا بِالْمَقْصُودِ وَمَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَفِعْلُ لَبِثْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَكَثْتُمْ، أَيِ اسْتَقْرَرْتُمْ فِي الْقُبُورِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْزِينِ وَالتَّرْوِيعِ بِاعْتِبَارِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حُضُورِ وَقْتِ عَذَابِهِمْ. وفِي مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتابِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لَبِثْتُمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ وَلَمْ يُعَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ لِأَجْلِ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ بِهَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، أَيْ: لَقَدْ بَلَغَكُمْ ذَلِكَ وَسَمِعْتُمُوهُ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَا تَعْتَذِرُوا بِقَوْلِكُمْ مَا لَبِثْنَا غَيْرَ سَاعَةٍ. وَالْفَاءُ فِي فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ فَاءُ الْفَصِيحَةِ أَفْصَحَتْ عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَتُفِيدُ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فِي سُورَةِ الْفرْقَان [19] ، أَي إِذا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خَرَاسَانَا وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَهْدِيدٌ وَتَعْجِيلٌ لِإِسَاءَتِهِمْ بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ لِيَتَوَقَّعُوا كُلَّ سُوءٍ وَعَذَابٍ.

[سورة الروم (30) : آية 57]

وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أَيْ لَقَدْ بَلَغَكُمْ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ تَسْتَعِدُّوا لَهُ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، أَيْ: لَا تَتَصَدَّوْنَ لِلْعِلْمِ بِمَا فِيهِ النَّفْعُ بَلْ كَانَ دَأْبَكُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الْعِلْمِ وَقَصْدِ نَفْيِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَالْعِنَايَةِ بِتَلَقِّيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّصَدِّيَ لِلتَّعَلُّمِ وَسِيلَة لحصوله. [57] [سُورَة الرّوم (30) : آيَة 57] فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ [الرّوم: 55] . وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِغَرَضِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الظُّلْمِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِفُنُونِ الظُّلْمِ، فَفِيهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَظُلْمُ الْمُشْرِكِ نَفْسَهُ بِتَعْرِيضِهَا لِلْعَذَابِ، وَظُلْمُهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ، وَظُلْمُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ. وَالْمَعْذِرَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ اعْتَذَرَ، إِذَا أَبْدَى عِلَّةً أَوْ حُجَّةً لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مُؤَاخَذَةً عَلَى ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ عَذَرَهُ، إِذَا لَمْ يُؤَاخِذْهُ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لِأَجْلِ ظُهُورِ سَبَبٍ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِمَا فَعَلَهُ. وَإِضَافَةُ (مَعْذِرَةٍ) إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْذِرَةَ وَاقِعَةٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ بِمَعْذِرَةٍ مَعْهُودَةً فَتَكُونُ هِيَ قَوْلُهُمْ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: 55] كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعُمُومِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ، أَيْ: لَا تَنْفَعُهُمْ مَعْذِرَةٌ يَعْتَذِرُونَ بِهَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [الْمُؤْمِنُونَ: 106] وَقَوْلِهِمْ هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: 38] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] الْمُقْتَضِي نَفْيَ وُقُوعِ الِاعْتِذَارِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الِاعْتِذَارَ الْمَنْفِيَّ هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، أَيِ: الْمَقْبُولُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ

[سورة الروم (30) : الآيات 58 إلى 59]

أَذِنَ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ لَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَبُولِهِ اعْتِذَارَهُمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] . وَالْمُثْبَتُ هُنَا مَعْذِرَةٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِهَا فَهِيَ غَيْرُ نَافِعَةٍ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 106- 108] وَقَوْلُهُ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 65] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْفَعُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ جَائِزٌ لِأَنَّ (مَعْذِرَةً) مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَلِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالْمَفْعُولِ. ويُسْتَعْتَبُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَبْنِيُّ مِنْهُ لِلْفَاعِلِ اسْتَعْتَبَ، إِذَا سَأَلَ الْعُتْبَى- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالْقَصْرِ- وَهِيَ اسْمٌ لِلْإِعْتَابِ، أَيْ إِزَالَةُ الْعَتَبِ، فَهَمْزَةُ الْإِعْتَابِ لِلْإِزَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 24] ، فَصَارَ اسْتُعْتِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ جَارِيًا عَلَى اسْتَعْتَبَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَعْلُومِ فَلَمَّا قِيلَ: اسْتَعْتَبَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْعُتْبَى صَارَ اسْتُعْتِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ بِمَعْنَى أُعْتِبُ، فَمَعْنَى وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ: وَلَا هُمْ بِمُزَالٍ عَنْهُمُ الْمُؤَاخَذَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَجِيبٌ جَارٍ عَلَى تَصَارِيفَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْفَصِيحِ مِنَ الْكَلَامِ، وَبَعْضُ اشْتِقَاقِهَا غَيْرُ قِيَاسِيٍّ وَمَنْ حَاوَلُوا إِجْرَاءَهُ عَلَى الْقِيَاسِ اضْطُرُّوا إِلَى تَكْلِفَاتٍ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْضَى بِهَا الذَّوْقُ السَّلِيمُ، وَالْعَجَبُ وُقُوعُهَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَاسْتَعْتَبَهُ: أَعْطَاهُ الْعُتْبَى كَأَعْتَبَهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ الْعُتْبَى ضِدٌّ. وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُهُمُ اعْتِذَارٌ بِعُذْرٍ وَلَا إِقْرَارٌ بِالذَّنْبِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فِي سُورَة النَّحْل [84] . [58- 59] [سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 58 إِلَى 59] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) لَمَّا انْتَهَى مَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ

ذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَبُلُوغِهِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْبَيَانِ وَالْهُدَى. وَالضَّرْبُ حَقِيقَتُهُ: الْوَضْعُ وَالْإِلْصَاقُ، وَاسْتُعِيرَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِلذِّكْرِ وَالتَّبْيِينِ لِأَنَّهُ كَوَضْعِ الدَّالِّ بِلَصْقِ الْمَدْلُولِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: 26] وَتَقَدَّمَ أَيْضًا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: 28] ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ الْمُتَقَدَّمِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [89] ، وَ (النَّاسِ) أُرِيدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَكْرِيرِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ إِلَخْ فَهُوَ وَصْفٌ لِتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ أَمْثَالَ الْقُرْآنِ فَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا إِرْشَادُهُمْ تَلَقَّوْهَا بِالِاعْتِبَاطِ وَالْإِنْكَارِ الْبَحْتِ فَقَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ. وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطِبِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتَ إِلَّا مُبْطِلٌ، فَحُكِيَ كَلَامُهُمْ بِالْمَعْنَى لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ حِكَايَةٌ بِاللَّفْظِ. وَهَذَا تأنيس للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنْ إِيمَانِ مُعَانَدِيهِ، أَيْ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ بَعْدَهُ بِجُمْلَةِ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تَمْهِيدًا لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى غَلْوَائِهِمْ، أَيْ تِلْكَ سُنَّةُ أَمْثَالِهِمْ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ الَّذِي عَلِمْتَهُ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالطَّبْعُ عَلَى الْقَلْبِ: تَصْيِيرُهُ غَيْرَ قَابِلٍ لِفَهْمِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهُوَ الْخَتْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . والَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مُرَادٌ بِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسُهُمْ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ وَصْفِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا: بِالْمُجْرِمِينَ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالَّذين كفرُوا.

[سورة الروم (30) : آية 60]

[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 60] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) الْأَمْرُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ تَفَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الرّوم: 58] لِتَضَمُّنِهَا تَأْيِيسَهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ وَهُوَ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَمِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْحَقُّ: مَصْدَرُ حَقَّ يُحِقُّ بِمَعْنَى ثَبَتَ، فَالْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا مُبَالَغَةَ. وَالِاسْتِخْفَافُ: مُبَالَغَةٌ فِي جَعْلِهِ خَفِيفًا فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّقْوِيَةِ مِثْلُهَا فِي نَحْو: اسْتَجَابَ وَاسْتَمْسَكَ، وَهُوَ ضِدُّ الصَّبْرِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى تَرْكِ الصَّبْرِ. وَالْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِحَالَةِ الْجَزَعِ وَظُهُورِ آثَارِ الْغَضَبِ. وَهِيَ مِثْلُ الْقَلَقِ الْمُسْتَعَارِ مِنِ اضْطِرَابِ الشَّيْءِ لِأَنَّ آثَارَ الْجَزَعِ وَالْغَضَبِ تُشْبِهُ تَقَلْقُلَ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ، فَالشَّيْءُ الْخَفِيفُ يَتَقَلْقَلُ بِأَدْنَى تَحْرِيكٍ، وَفِي ضِدِّهِ يُسْتَعَارُ الرُّسُوخُ وَالتَّثَاقُلُ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَنَهْيُ الرَّسُولِ عَنْ أَنْ يَسْتَخِفَّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ نَهْيٌ عَنِ الْخِفَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْدُثَ لِلْعَاقِلِ إِذَا رَأَى عِنَادَ مَنْ هُوَ يُرْشِدُهُ إِلَى الصَّلَاحِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَفِزُّ غَضَبَ الْحَلِيمِ، فَالِاسْتِخْفَافُ هُنَا هُوَ أَنْ يُؤَثِّرُوا فِي نَفْسِهِ ضِدَّ الصَّبْرِ، وَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [54] ، فَانْظُرْهُ إِكْمَالًا لِمَا هُنَا. وَأَسْنَدَ الِاسْتِخْفَافَ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ عِنَادِهِمْ. والَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنَ

الْإِجْرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَالْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّصْرِيحِ بِمَسَاوِيهِمْ. قِيلَ: كَانَ مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَمَعْنَى لَا يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْأُمُورِ الْيَقِينِيَّةِ، أَيِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ فَهُمْ مُكَابِرُونَ.

31- سورة لقمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 31- سُورَةُ لُقْمَانَ سَمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى لُقْمَانَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ لُقْمَانَ وَحِكْمَتِهِ وَجُمَلًا مِنْ حِكْمَتِهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا ابْنَهُ. وَلَيْسَ لَهَا اسْمٌ غَيْرَ هَذَا الِاسْمِ، وَبِهَذَا الِاسْمِ عُرِفَتْ بَيْنَ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحٍ بِهِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَدٍ مَقْبُولٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ لُقْمَانَ بِمَكَّةَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَعَلَيْهِ إِطْلَاقُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّحَاسِ اسْتِثْنَاءُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إِلَى قَوْلِهِ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [لُقْمَان: 27- 29] . وَعَنْ قَتَادَةَ إِلَّا آيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لُقْمَان: 28] . وَفِي «تَفْسِيرِ الْكَوَاشِيِّ» حِكَايَةُ قَوْلِ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ عَدَا آيَةً نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لُقْمَان: 4] قَائِلًا لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَرَدَّهُ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ بِأَنَّ فَرْضَهَا بِالْمَدِينَةِ لَا يُنَافِي تَشْرِيعَهَا بِمَكَّةَ عَلَى غير إِيجَاب. والمحققون يَمْنَعُونَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة ففرضتا بِالْمَدِينَةِ فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَفُرِضَتْ بِمَكَّةَ دُونَ تَعْيِينِ أَنْصِبَاءٍ وَمَقَادِيرَ، ثُمَّ عُيِّنَتِ الْأَنْصِبَاءُ وَالْمَقَادِيرُ بِالْمَدِينَةِ. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ هَذَا بِأَن الْقَائِلَ بِأَنَّ آيَةَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ إِلَى آخِرِهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ قَالَهُ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ وَلَيْسَ لَهُ سَنَدٌ يُعْتَمَدُ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إِلَخْ. ثُمَّ هُوَ يَقْتَضِي أَنْ يكون صدر السُّورَة النَّازِلِ بِمَكَّةَ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لُقْمَان: 3] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [لُقْمَان: 5] إِلَخْ ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لُقْمَان: 4] .

أغراض هذه السورة

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِاسْتِثْنَاءِ آيَتَيْنِ وَثَلَاثٍ فَمُسْتَنِدٌ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَعَنْ سَعِيدِ ابْن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَان: 27] إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُجَادَلَةٍ كَانَتْ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 85] إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلًّا أَرَدْتُ. قَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الْآيَاتِ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَعَلَى تَسْلِيمِهَا فَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّ الْيَهُودَ جَادَلُوا فِي ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِأَنْ لَقَّنُوا ذَلِكَ وَفْدًا مِنْ قُرَيْشٍ وَفَدَ إِلَيْهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ثَابِتَةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَقْبُولِ فِي الْجُمْلَةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ مَعَ ابْنِهِ، أَيْ سَأَلُوهُ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ وَاخْتِبَارٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّان يُؤَيّدهُ تَصْدِيرَ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لُقْمَان: 6] . وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الصَّافَّاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ سَبَأٍ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فِي عَدِّ أَهَّلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ السُّورَةُ تَتَّصِلُ بِسَبَبِ نُزُولِهَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا عَنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ وَابْنِهِ، وَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لُقْمَان: 6] مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ إِذْ كَانَ يُسَافِرُ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ فَيَقْتَنِي كُتُبَ قِصَّةِ إِسْفِنْدِيَارَ وَرُسْتَمَ وَبَهْرَامَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يُخْبِرُكُمْ مُحَمَّدٌ عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ وَأُحَدِّثُكُمْ أَنَا عَنْ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ فَصُدِّرَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا

[سورة لقمان (31) : آية 1]

يَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ هُدًى وَإِرْشَادٌ لِلْخَيْرِ وَمِثْلَ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ، فَلَا الْتِفَاتَ فِيهِ إِلَى أَخْبَارِ الْجَبَابِرَةِ وَأَهْلِ الضَّلَالِ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَمِنْ عَوَاقِبِهِ، فَكَانَ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ تَمْهِيدًا لِقِصَّةِ لُقْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ [3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي الْمُقدمَة السَّابِعَة لهَذَا التَّفْسِيرِ. وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَسْفِيهِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَقِصَصِهِ الْبَاطِلَةِ. وَابْتُدِئَ ذِكْرُ لُقْمَانَ بِالتَّنْوِيهِ بِأَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَأَمَرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ. وَأُطِيلَ الْكَلَامُ فِي وَصَايَا لُقْمَانَ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ: مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَمِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَالْأَمْرِ بِالِاتِّسَامِ بِسِمَاتِ الْمُتَوَاضِعِينَ فِي الْمَشْيِ وَالْكَلَامِ. وَسَلَكَتِ السُّورَةُ أَفَانِينَ ذَاتَ مُنَاسَبَاتٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ وَصِيَّةُ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِدَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ أَعْرَضُوا عَنْ هَدْيِهِ وَتَمَسَّكُوا بِمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ. وَذَكَرَتْ مَزِيَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَتَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمَسُّكِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ كُفْرُ مَنْ كَفَرُوا. وَانْتَظَمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعَارِضِينَ لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَان: 27] وَمَا بَعْدَهَا. وَخُتِمَتْ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى بطلَان ادِّعَاء الْكُهَّان عِلْمِ الْغَيْب. [1] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِهَا فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة.

[سورة لقمان (31) : الآيات 2 إلى 5]

[سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 2 إِلَى 5] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِذَا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ قُرَيْشٍ عَنْ لُقْمَانَ وَابْنِهِ فَهَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: 12] بِمَنْزِلَةِ مُقَدِّمَةٍ لِبَيَانِ أَنَّ مَرْمَى الْقُرْآنِ مِنْ قَصِّ الْقِصَّةِ مَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَهَدًى وَأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلَّذِينَ سَأَلُوا عَنْهَا فَكَانَ سُؤَالُهُمْ نَفْعًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ مُتَرَقَّبُ الذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [2] وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [2] وَالنَّمْلِ [1] وَالْقَصَصِ [2] . وآياتُ الْكِتابِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْظِيمِ قَدْرِ تِلْكَ الْآيَاتِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنَ الْبُعْدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي رِفْعَةِ الْقَدْرِ، وَبِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ الْحَكِيمُ وَأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ وَسَبَبٌ فلاح. والْحَكِيمِ: وَصْفٌ لِلْكِتَابِ بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ، أَيْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحِكْمَةِ. فَوَصْفُ الْكِتابِ بِ الْحَكِيمِ كَوَصْفِ الرَّجُلِ بِالْحَكِيمِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْحَكِيمَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَرْشَقُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ بِالرَّجُلِ الْحَكِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَصَفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَقَوْلِهِمْ: عَسَلٌ عَقِيدٌ، لِأَنَّهُ أَحْكَمُ وَأَتْقَنُ فَلَيْسَ فِيهِ فضول وَلَا مَالا يُفِيدُ كَمَالًا نَفْسَانِيًّا. وَفِي وَصْفِ الْكِتابِ بِهَذَا الْوَصْفِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْغَرَضِ مِنْ ذِكْرِ حِكْمَةِ لُقْمَانَ. وَتَقَدَّمَ وَصْفُ الْكِتَابِ بِ الْحَكِيمِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [1] . وَانْتَصَبَ هُدىً وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتابِ وَهِيَ قِرَاءَة الْجُمْهُور. وَإِذ كَانَ الْكِتابِ مُضَافًا إِلَيْهِ فَمُسَوِّغُ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَنَّ الْكِتابِ

[سورة لقمان (31) : الآيات 6 إلى 7]

أُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ اسْمُ جُزْئِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ آيَاتُ. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِرَفْعِ رَحْمَةٌ عَلَى جَعْلِ هُدىً خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَمَعْنَى الْمُحْسِنِينَ: الْفَاعِلُونَ لِلْحَسَنَاتِ، وَأَعْلَاهَا الْإِيمَانُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ خُصِّتْ هَذِهِ الثَّلَاثُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُحْسِنُونَ يَأْتُونَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا. وَزِيَادَةُ وَصْفِ الْكِتَابِ بِ رَحْمَةً بَعْدَ هُدىً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ لُقْمَانَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْقِصَّةِ رَحْمَةٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْحِكْمَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْهُدَى أَنَّهُ تَخَلَّقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ: رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. والزَّكاةَ هُنَا الصَّدَقَةُ وَكَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِوَقْتٍ وَلَا بِمِقْدَارٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِلَى هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة [4- 5] . [6- 7] [سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 6 إِلَى 7] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [لُقْمَان: 2] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مُعْرِضِينَ عَنْهُ يُؤْثِرُونَ لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ الْكِتَابُ. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الثَّنَاءِ عَلَى آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ بِضِدِّ ذَلِكَ فِي ذَمِّ مَا يَأْتِي بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ إِلَى مَدْخَلٍ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ تَفْظِيعُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَمُشَايِعُوهُ مِنَ اللَّهْوِ بِأَخْبَارِ الْمُلُوكِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ صَاحِبَهَا كَمَالًا وَلَا حِكْمَةً.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّي خَبَرِهِ الْعَجِيبِ. وَالِاشْتِرَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ وَالِاغْتِبَاطِ بِهِ وَلَيْسَ هُنَا اسْتِعَارَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] فَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ: فَالصَّرِيحُ تَشْوِيهٌ لِاقْتِنَاءِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ قِصَصَ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ، وَالْكِنَايَةُ تَقْبِيحٌ لِلَّذِينَ الْتَفُّوا حَوْلَهُ وَتَلَقَّوْا أَخْبَارَهُ، أَيْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْغَلُهُ لَهْوُ الْحَدِيثِ وَالْوَلَعُ بِهِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ. وَاللَّهْوُ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَشْغِيلُ الْبَالِ وَتَقْصِيرُ طُولِ وَقْتِ الْبِطَالَةِ دُونَ نَفْعٍ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللَّهْوَ بَلْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ. ولَهْوَ الْحَدِيثِ مَا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مُرَادًا لِلَّهْوِ فَإِضَافَةُ لَهْوَ إِلَى الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُثْبِتُ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى مَعْنَى اللَّامِ. وَتَقَدَّمَ اللَّهْوُ فِي قَوْلِهِ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [32] . وَالْأَصَحُّ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَيَتَلَقَّى أَكَاذِيبَ الْأَخْبَارِ عَنْ أَبْطَالِهِمْ فِي الْحُرُوبِ الْمَمْلُوءَةِ أُكْذُوبَاتٍ فَيَقُصُّهَا عَلَى قُرَيْشٍ فِي أَسْمَارِهِمْ وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّضْرَ كَانَ يَشْتَرِي مِنْ بِلَادِ فَارِسَ كُتُبَ أَخْبَارِ مُلُوكِهِمْ فَيُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، أَيْ بِوَاسِطَةِ مَنْ يُتَرْجِمُهَا لَهُمْ. وَيَشْمَلُ لَفْظُ النَّاسِ أَهْلَ سَامِرِهِ الَّذِينَ يُنْصِتُونَ لِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِثْرَهُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ مَنْ يَقْتَنِي الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ بن عبد الرحمان عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» ، فِي مِثْلِ ذَلِكَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا

يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- يَقُولُ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يَضْعُفُ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. الثَّانِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قِيلَ هُوَ ابْنُ خَطَلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً فَشُغِلَ النَّاسُ بِهَا عَنِ اسْتِمَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ أَنْسَبُ انْطِبَاقًا عَلَى قِصَّةِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَمَعْنَى لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُلْهِيَ قُرَيْشًا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ سَبِيلٌ مُوَصِّلٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أَرَادَهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ اللَّهْوِ بَلْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَفْظِيعِ عَمَلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور لِيُضِلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ لِيَزْدَادَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالَةٍ إِذْ لَمْ يَكْتَفِ لِنَفْسِهِ بِالْكُفْرِ حَتَّى أَخَذَ يَبُثُّ ضَلَالَهُ لِلنَّاسِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّحِدَ الْمَعْنَى. وَيَتَعَلَّقُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِفِعْلِ يَشْتَرِي وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِأَنَّ أَصْلَ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورَاتِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَالْمَعْنَى: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَيْ عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ فِي صَالِحِ نَفْسِهِ حَيْثُ يَسْتَبْدِلُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَتَّخِذَها عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ تُؤَنَّثُ. وَقَرأَ الْجُمْهُورُ وَيَتَّخِذَها بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَشْتَرِي، أَيْ يَشْغَلُ النَّاسَ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ لِيَصْرِفَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ الله هزؤا. وقرأه حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُضِلَّ، أَيْ يُلْهِيهِمْ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّهُمْ وَلِيَتَّخِذَ دِينَ الْإِسْلَامِ هُزْءًا. وَمَآلُ الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنْ غَرَضِهِ. وَأَمَّا الْإِضْلَالُ فَقَدْ رُجِّحَ فِيهِ جَانِبُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ لَهُ عَلَى مَا يَفْعَلُ.

وَالْهُزْؤُ: مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ إِذَا سَخِرَ بِهِ كَقَوْلِه وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: 231] وَلَمَّا كَانَ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ صَادِقًا عَلَى النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَى قِصَصِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جِيءَ فِي وَعِيدِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. واختبر اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ لِأَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ مِنَ الْوَصْفِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةِ مَنْ يَشْتَرِي وَجُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَشْتَرِي إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي إِلَخْ وإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً فَالْمَوْصُولُ وَاحِدٌ وَلَهُ صِلَتَانِ: اشْتِرَاءُ لَهْوِ الْحَدِيثِ للضلال، والاستكبار عِنْد مَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ تُتْلى عَلَيْهِ أَنَّهُ يُوَاجَهُ بِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَإِسْمَاعِهِ. وَقَوْلُهُ وَلَّى تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: 22] . ومُسْتَكْبِراً حَالٌ، أَيْ هُوَ إِعْرَاضُ اسْتِكْبَارٍ لَا إِعْرَاضُ تَفْرِيطٍ فِي الْخَيْرِ فَحَسْبُ. وَشُبِّهَ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي لَا يَسْمَعُ الْآيَاتِ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ عَدَمُ التَّأَثُّرِ وَلَوْ تَأَثُّرًا يَعْقُبُهُ إِعْرَاضٌ كَتَأَثُّرِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وكَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (كَأَنَّ) وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مُسْتَكْبِراً. وَكَرَّرَ التَّشْبِيهَ لِتَقْوِيَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الْكَيْفِيَّةِ فِي أَنَّ عَدَمَ السَّمْعِ مَرَّةً مَعَ تَمَكُّنِ آلَةِ السَّمْعَ وَمَرَّةً مَعَ انْعِدَامِ قُوَّةِ آلَتِهِ فَشُبِّهَ ثَانِيًا بِمَنْ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرٌ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها. وَمِثْلُ هَذَا التَّشْبِيهِ الثَّانِي قَوْلُ لَبِيَدٍ: فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ... كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا وَالْوَقْرُ: أَصْلُهُ الثِّقَلُ، وَشَاعَ فِي الصَّمَمِ مَجَازًا مَشْهُورًا سَاوَى الْحَقِيقَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة لقمان (31) : الآيات 8 إلى 9]

وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي أُذُنَيْهِ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ ثِقَلِ الْمُثَنَّى، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا أَنْ أَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوعِدَهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِطْلَاقُ الْبِشَارَةِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومَ: فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَقَدْ عُذِّبَ النَّضْرُ بِالسَّيْفِ إِذْ قُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَة أَشد. [8- 9] [سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 8 إِلَى 9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) لَمَّا ذَكَرَ عَذَابَ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَتْبَعَ بِبِشَارَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ وَصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لُقْمَان: 5] . وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلِهِ، وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى عَامِلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَإِجْرَاءُ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ عَلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِتَحْقِيقِ وَعْدِهِ لِأَنَّهُ لِعِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ الْوَفَاءُ بِمَا وَعَدَ، ولحكمته لَا يخطىء وَلَا يَذْهَلُ عَمَّا وَعَدَ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مَوْقِعُ التذييل بالأعم. [10- 11] [سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 10 إِلَى 11] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) اسْتِئْنَافٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الَّذِينَ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ تُثْبَتَ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ فَكَانَ ادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ

هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، فَهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِمَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا كَانُوا كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصْنَام مماثلة الله تَعَالَى فِي أَوْصَافه فَذَلِك يَقْتَضِي انْتِفَاءُ وَصْفِ الْحِكْمَةِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْهَا. وَلِذَا فَإِنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَاتِ مُوقِعُ دَلِيلِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّدْقِيقِ، وَهُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَدَلِيلِ دَلِيلِهِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَرَوْنَها وبِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [2] قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ [15] قَوْلُهُ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَالْمَعْنَى خَوَفَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَوْ لِئَلَّا تُمِيدَكُمْ كَمَا بَيَّنَ هُنَالِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] قَوْلُهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ. وَقَوْلُهُ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [17] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ. وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ دَوَرَانًا عِنْدَ النَّاسِ. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ. وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي طه [53] وَقَوْلِهِ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [5] . وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَقَدْ أُدْمِجَ فِي أَثْنَاءِ دَلَائِلِ صِفَةِ الْحِكْمَةِ الِامْتِنَانُ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعٍ لِلْخَلْقِ بِقَوْلِهِ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ فَإِنَّ مِنَ الدَّوَابِّ الْمَبْثُوثَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مَنْ أَكْلِ لُحُومِ أَوَانِسِهَا وَوُحُوشِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَجُلُودِهَا وَقُرُونِهَا وَأَسْنَانِهَا وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي مُرَابِطِهَا وَغُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا، ثُمَّ مِنْ نِعْمَةِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ. وَإِذْ كَانَتِ الْبِحَارُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ فَقَدْ شَمِلَ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابَّ الْبَحْرِ فَاللَّهُ كَمَا أَبْدَعَ الصُّنْعَ أَسْبَغَ النِّعْمَةَ فَأَرَانَا آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ.

وَجُمْلَةُ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالدَّوَابِّ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. وَالْإِتْيَانُ بِهِ مُفْرَدًا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ الْتِفَاتًا لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الْتِفَاتًا لِمُرَاعَاةِ الْعَوْدِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَرُونِي عَلَمِيَّةً، أَيْ فَأَنْبِئُونِي، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ مَاذَا. فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَأَرُونِي تَهَكُّمًا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُكَافِحُوا اللَّهَ زِيَادَةً عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ، لَكِنَّ التَّهَكُّمَ أَسْبَقُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُكَافَحَةِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعُوا بِعَجْزِهِمْ عَنْ تَعْيِينِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَطْعًا نَظَرِيًّا. وَصَوْغُ أَمْرِ التَّعْجِيزِ مِنْ مَادَّةِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَشَدُّ فِي التَّعْجِيزِ لِاقْتِضَائِهَا الِاقْتِنَاعَ مِنْهُمْ بِأَنْ يُحْضِرُوا شَيْئًا يَدَّعُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقَتْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ حُطَائِطِ بْنِ يَعْفُرَ النَّهْشَلِيِّ (¬1) وَقِيلِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا (¬2) لَعَلَّنِي ... أَرَى مَا تُزَيِّنُ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا أَيْ: أَحْضِرْنِي جَوَادًا مَاتَ مِنَ الْهُزَالِ وَأَرِينِيهِ لَعَلِّي أَرَى مِثْلَ مَا رَأَيْتِيهِ. وَالْعَرَبُ يَقْصِدُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ: مَا رَأَتْ عَيْنِي، وَانْظُرْ هَلْ تَرَى. وَقَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ: فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ ... أَشَتَّ وَأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ الْمُحَصَّبِ وَإِجْرَاءُ اسْمِ مَوْصُولِ الْعُقَلَاءِ على الْأَصْنَام مجاراة للْمُشْرِكين إِذْ يعدّونهم عُقَلَاءَ. ¬

(¬1) حطائط بِضَم الْحَاء: الْقصير. (¬2) هزلا بِفَتْح الْهَاء: الهزال.

[سورة لقمان (31) : آية 12]

وَ (مِنْ دُونِهِ) صِلَةُ الْمَوْصُولِ. وَ (دُونَ) كِنَايَةٌ عَنِ الْغَيْرِ، ومِنْ جَارَّةٌ لِاسْمِ الْمَكَانِ عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ لِتَأْكِيدِ الِاتِّصَالِ بِالظَّرْفِ. وبَلِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضِ الْمُجَادَلَةِ إِلَى غَرَضِ تَسْجِيلِ ضَلَالِهِمْ، أَيْ فِي اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْمُنَاظَرَةِ: دَعْ عَنْكَ هَذَا وَانْتَقَلَ إِلَى كَذَا. والظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ. وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ: الْكُفْرُ الْفَظِيعُ، لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لِلْحَقِّ، وَذَلِكَ ضَلَالٌ، وَأَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَذَلِكَ كُفْرٌ فَظِيعٌ. وَجِيءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ اكْتِنَافِ الضَّلَالِ بِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ: شِدَّةِ ملابسته إيَّاهُم. [12] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ قِصَّةَ لُقْمَانَ عَلَى قِصَّةِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لُقْمَان: 6] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا تَضَمَّنَتْ عَجِيبَ حَالِهِ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ عِنَايَتِهِ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَّخِذَ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُؤًا، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ قِصَّةِ لُقْمَانَ مُتَضَمِّنَةً عَجِيبَ حَالِ لُقْمَانَ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالْحِكْمَةِ، فَهُمَا حَالَانِ مُتَضَادَّانِ فَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْ كَوْنِ قِصَّةِ النَّضْرِ سِيقَتْ مَسَاقَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْمَدْخَلِ إِلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا طَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ خَرَجَتْ عَنْ سُنَنِ الْمُقْدِمَاتِ إِلَى الْمَقْصُودَاتِ بِالذَّاتِ فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَطْفَ الْقَصَصِ وَلَمْ تُفْصَلْ فَصْلَ النَّتَائِجِ عَقِبَ مُقَدِّمَاتِهَا. وَقَدْ تَتَعَدَّدُ الِاعْتِبَارَاتُ لِلْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ فَيَتَخَيَّرُ الْبَلِيغُ فِي رَعْيِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [6] . وَافْتِتَاحُ الْقِصَّةِ بِحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ: لَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِلْإِنْبَاءِ بِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَاقِعٍ. ولُقْمانَ اسْمُ رَجُلٍ حَكِيمٍ صَالِحٍ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فِي شَأْنِهِ الَّتِي يُعَضِّدُ

بَعْضُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةً تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مِنَ السُّودِ، فَقِيلَ هُوَ مِنْ بِلَادِ النُّوبَةِ، وَقِيلَ مِنَ الْحَبَشَةِ. وَلَيْسَ هُوَ لُقْمَان بِهِ عَادٍ الَّذِي قَالَ الْمَثَلَ الْمَشْهُورَ: إِحْدَى حَظِيَّاتِ لُقْمَانَ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْمُهَوَّشِ الْأَسَدِيُّ أَوْ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ يُصْعَقُ فِي قَوْلِهِ: تَرَاهُ يُطَوِّفُ الْآفَاقَ حِرْصًا ... لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادٍ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِلُقْمَانَ صَاحِبِ النُّسُورِ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ ابْنٌ اسْمُهُ لُقَيْمٌ (¬1) وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ بَاعُورَاءُ، فَسَبَقَ إِلَى أَوْهَامِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ (¬2) أَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي كُتُبِ الْيَهُودِ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ الْمَذْكُورُ خَبَرُهُ فِي «الْإِصْحَاحَيْنِ» (22 وَ23) مِنْ «سِفْرِ الْعَدَدِ» ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَهْمٌ لِأَنَّ بَلْعَامَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ كَانَ نَبِيئًا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَعَلَّ التَّوَهُّمَ جَاءَ مِنَ اتِّحَادِ اسْمِ الْأَبِ، أَوْ مِنْ ظَنِّ أَنَّ بَلْعَامَ يُرَادِفُ مَعْنَى لُقْمَانَ لِأَنَّ بَلْعَامَ مِنَ الْبَلْعِ وَلُقْمَانَ مِنَ اللَّقْمِ فَيَكُونُ الْعَرَبُ سَمَّوْهُ بِمَا يُرَادِفُ اسْمَهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ لُقْمَانَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ حَكِيمًا أَوْ نَبِيئًا. فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: كَانَ حَكِيمًا صَالِحًا. وَاعْتَمَدَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَلَى الثَّانِي، فَذَكَرَهُ فِي «جَامِعِ الْمُوَطَّأِ» مَرَّتَيْنِ بِوَصْفِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ اشْتُهِرَ بِذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبِيئًا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا كَثِيرَ التَّفَكُّرِ حَسَنَ الْيَقِينِ أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى فَأَحَبَّهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ» وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْتَنَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَلَا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَة يومىء إِلَى أَنَّهُ أُلْهِمَ الْحِكْمَةَ وَنَطَقَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ تَعْلِيمُهُ لِابْنِهِ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ يَعِظُهُ [لُقْمَان: 13] وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَا تَبْلِيغَ تَشْرِيعٍ. وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: أَنَّ لُقْمَانَ نَبِيءٌ وَلَفْظُ الْحِكْمَةِ يَسْمَحُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ ¬

(¬1) وَهُوَ المعني فِي الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ ابْن بري: لقيم بن لُقْمَان من أُخْته ... فَكَانَ ابْن أُخْت لَهُ وَابْنه. (¬2) هُوَ لاروس صَاحب دوائر المعارف الفرنسية.

الْحِكْمَةَ أُطْلِقَتْ عَلَى النُّبُوءَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي دَاوُدَ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] . وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: 269] بِمَا يَشْمَلُ النُّبُوءَةَ. وَإِنَّ الْحِكْمَةَ «مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ» وَأَعْلَاهَا النُّبُوءَةُ لِأَنَّهَا عِلْمٌ بِالْحَقَائِقِ مَأْمُونٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ النُّبُوءَةُ مُتَلَقَّاةٌ مِنَ اللَّهِ الَّذِي لَا يعزب عَن عمله شَيْءٌ. وَسَيَأْتِي أَنَّ إِيرَادَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: 14] فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ لُقْمَانَ يُسَاعِدُ هَذَا الْقَوْلَ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ أُخْتِ أَيُّوبَ أَوِ ابْنَ خَالَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ عَاشَ فِي بِلَادِ إِسْرَائِيلَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يُوجَدُ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. قِيلَ كَانَ رَاعِيًا لِغَنَمٍ وَقِيلَ كَانَ نَجَّارًا وَقِيلَ خَيَّاطًا. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْدًا لِبَنِي الْحِسْحَاسِ وَبَنُو الْحَسْحَاسِ مِنَ الْعَرَبِ وَكَانَ مِنْ عَبِيدِهِمْ سُحَيْمٌ الْعَبْدُ الشَّاعِرُ الْمُخَضْرَمُ الَّذِي قُتِلَ فِي مُدَّةِ عُثْمَانَ. وَحِكْمَةُ لُقْمَانَ مَأْثُورَةٌ فِي أَقْوَالِهِ النَّاطِقَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَالْمُقَرِّبَةِ لِلْخَفِيَّاتِ بِأَحْسَنِ الْأَمْثَالِ. وَقَدْ عُنِيَ بِهَا أَهْلُ التَّرْبِيَةِ وَأَهْلُ الْخَيْرِ، وَذَكَرَ الْقُرْآنُ مِنْهَا مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَلَاغَيْنِ فِي كِتَابِ «الْجَامِعِ» وَذَكَرَ حِكْمَةً لَهُ فِي كِتَابِ «جَامِعِ الْعَتَبِيَّةِ» وَذَكَرَ مِنْهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي «مُسْنَدِهِ» وَلَا نَعْرِفُ كِتَابًا جَمَعَ حِكْمَةَ لُقْمَانَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ أَرْجَحَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ بَابٍ. وَلَعَلَّ هَذَا إِنْ صَحَّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الْكَثْرَةِ. وَكَانَ لُقْمَانُ مَعْرُوفًا عِنْدَ خَاصَّةِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» : قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلَ الَّذِي مَعِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ: مَجَلَّةُ لُقْمَانَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ وَالَّذِي

مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ وَكَانَ قَتله قبل يَوْمَ بُعَاثٍ. وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَاهُ قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَكَانَ قَوْمُهُ يَدْعُونَهُ الْكَامِلَ اهـ. وَفِي «الِاسْتِيعَابِ» لِابْنِ عَبْدِ الْبِرِّ: أَنَا شَاكٌّ فِي إِسْلَامِهِ كَمَا شَكَّ غَيْرِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ قُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُقْمَانَ وَابْنِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا لِلْعَرَبِ. وَقَدِ انْتَهَى إِلَيَّ حِينَ كِتَابَةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ حِكَمِ لُقْمَانَ الْمَأْثُورَةِ ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ حِكْمَةً غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَذْكُرُهَا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْإِلْهَامِ أَوِ الْوَحْيِ. ولُقْمانَ: اسْمُ عَلَمٍ مَادَّتُهُ مَادَّةٌ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّقْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَرَبَ عَرَّبُوهُ بِلَفْظٍ قَرِيبٍ مِنْ أَلْفَاظِ لُغَتِهِمْ عَلَى عَادَتِهِمْ كَمَا عَرَّبُوا شَاوُلَ بِاسْمِ طَالُوتَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لَا لِلْعُجْمَةِ. وَتَقَدَّمُ تَعْرِيفُ الْحِكْمَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [269] ، وَقَوْلِهِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [125] . وأَنِ فِي قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ تَفْسِيرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ تَفْسِيرًا لِفِعْلِ آتَيْنا لِأَنَّهُ نَصَبَ مَفْعُولَهُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ، فَتَكُونُ أَنِ مُفَسِّرَةً لِلْحِكْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحِكْمَةَ هُنَا أَقْوَالٌ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ أَوْ أُلْهِمَهَا فَيَكُونُ فِي الْحِكْمَةِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ تُفَسِّرَ بِ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ، كَمَا فُسِّرَتْ حَاجَةً فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا ... تَسْتَوْجِبَا مِنَّةً عِنْدِي بِهَا ويدا أَن تقرءان عَلَيْ أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُخْبِرَا أَحَدَا وَالصُّوفِيَّةُ وَحُكَمَاءُ الْإِشْرَاقِ يَرَوْنَ خَوَاطِرَ الْأَصْفِيَاءِ حُجَّةً وَيُسَمُّونَهَا إِلْهَامًا. وَمَالَ إِلَيْهِ جَمٌّ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَدْ قَالَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «دِيبَاجَةِ شَرْحِهِ عَلَى الْمِفْتَاحِ» : أَمَّا بَعْدُ إِنِّي قَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ، مِنْ حَضْرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ،

بِلِسَانِ الْإِلْهَامِ، إِلَّا كَوَهْمٍ مِنَ الْأَوْهَامِ، مَا أَوْرَثَنِي التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةَ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، إِلَخْ. وَكَانَ أَوَّلُ مَا لُقِّنَهُ لُقْمَانُ مِنَ الْحِكْمَةِ هُوَ الْحِكْمَةُ فِي نَفْسِهِ بِأَنْ أَمْرَهُ اللَّهُ بِشُكْرِهِ عَلَى مَا هُوَ مَحْفُوفٌ بِهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي مِنْهَا نِعْمَةُ الِاصْطِفَاءِ لِإِعْطَائِهِ الْحِكْمَةَ وَإِعْدَادِهِ لِذَلِكَ بِقَابِلِيَّتِهِ لَهَا. وَهَذَا رَأْسُ الْحِكْمَةِ لِتَضَمُّنِهِ النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَقَبْلَ التَّصَدِّيِ لِإِرْشَادِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ أَهَمَّ النَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ هُوَ الشُّعُورُ بِوُجُودِهِ عَلَى حَالَةٍ كَامِلَةٍ وَالشُّعُورُ بِمُوجِدِهِ وَمَفِيضِ الْكَمَالِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُقْتَضٍ لِشُكْرِ مُوجِدِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ شُكْرَ اللَّهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، إِذِ الْحِكْمَةُ تَدْعُو إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِقَصْدِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ، فَالْحَكِيمُ يَبُثُّ فِي النَّاسِ تِلْكَ الْحَقَائِقَ عَلَى حَسَبِ قَابِلِيَّاتِهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّشْرِيعِ تَارَةً وَالْمَوْعِظَةِ أُخْرَى، وَالتَّعْلِيمُ لِقَابِلِيهِ مَعَ حَمْلِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنَ الشُّكْرِ إِذِ الشُّكْرُ قَدْ عُرِفَ بِأَنَّهُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَوَاهِبَ وَنِعَمٍ فِيمَا خَلَقَ لِأَجْلِهِ فَكَانَ شُكْرُ اللَّهِ هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْأَعْمَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ رَأْسَ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ تَقْدِيمَ الْعِلْمِ بِالْأَنْفَعِ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فَالشُّكْرُ هُوَ مَبْدَأُ الْكَمَالَاتِ عِلْمًا، وَغَايَتُهَا عَمَلًا. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَعْقَبَ اللَّهُ الشُّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ بِبَيَانِ أَنَّ فَائِدَتَهُ لِنَفْسِ الشَّاكِرِ لَا لِلْمَشْكُورِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ آثَارَ شُكْرِ اللَّهِ كَمَالَاتٌ حَاصِلَةٌ لِلشَّاكِرِ وَلَا تَنْفَعُ الْمَشْكُورَ شَيْئًا لِغِنَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ التَّعَلُّقِ بَيْنَ مَضْمُونِ الشَّرْطِ وَمَضْمُونِ الْجَزَاءِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرِ نَفْعِ الشُّكْرِ فِي الثُّبُوتِ لِلشَّاكِرِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أَيْ مَا يَشْكُرُ إِلَّا لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ مُؤْذِنَةٌ بِالْفَائِدَةِ. وَزِيدَ ذَلِكَ تَبَيُّنًا بِعَطْفِ ضِدِّهِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الشُّكْرِ بَعْدَ اسْتِشْعَارِهِ كُفْرٌ لِلنِّعْمَةِ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ بِخِلَافِ شَأْنِ الْمَخْلُوقَاتِ إِذْ يُكْسِبُهُمُ الشُّكْرُ فَوَائِدَ بَيْنَ بَنِي جِنْسِهِمْ تَجُرُّ إِلَيْهِمْ مَنَافِعَ الطَّاعَةِ أَوِ

[سورة لقمان (31) : آية 13]

الْإِعَانَةِ أَوِ الْإِغْنَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِ الشُّكْرِ لِلْمَشْكُورِينَ عَلَى تَفَاوُتِ مَقَامَاتِهِمْ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ حَمِيدٌ، أَيْ: كَثِيرُ الْمَحْمُودِيَّةِ بِلِسَانِ حَالِ الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا حَتَّى حَالِ الْكَافِرِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً سُورَة الرَّعْد [15] . وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ إِيجَازِهِ أَنْ كَانَ قَوْلُهُ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ جَامِعًا لِمَبْدَأِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لُقْمَانُ، وَلِأَمْرِهِ بِالشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ الْإِرْشَادَ إِلَى الشُّكْرِ، مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْأَمْرِ الْمَشْكُورِ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالشُّكْرِ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ. وَإِنَّمَا قُوبِلَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الشُّكْرِ بِوَصْفِ اللَّهِ بِأَنَّهُ حَمِيدٌ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ مُتَقَارِبَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ» ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمٌ مِنْ مَادَّةِ الشُّكْرِ إِلَّا اسْمَهُ الشَّكُورَ وَهُوَ بِمَعْنَى شَاكِرٍ، أَيْ: شَاكِرٌ لِعِبَادِهِ عِبَادَتَهَمْ إِيَّاهُ عُبِّرَ هُنَا بِاسْمِهِ حَمِيدٌ. وَجِيءَ فِي فِعْلِ يَشْكُرْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى جَدَارَةِ الشُّكْرِ بِالتَّجْدِيدِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِي [لُقْمَان: 14] دَاخِلَةٌ عَلَى مَفْعُولِ الشُّكْرِ وَهِيَ لَامٌ مُلْتَزِمٌ زِيَادَتُهَا مَعَ مَادَّةِ الشُّكْرِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَاشْكُرُوا لِي فِي سُورَة الْبَقَرَة [152] . [13] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 13] وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَان: 12] لِأَنَّ الْوَاوَ نَائِبَةٌ مَنَابَ الْفِعْلِ فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُفَسِّرُ بَعْضَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لُقْمَانُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ إِذْ قَالَ لِابْنِهِ فَهُوَ فِي وَقْتِ قَوْلِهِ ذَلِكَ لِابْنِهِ قَدْ أُوتِيَ حِكْمَةً فَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَ الْحِكْمَةِ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ حَالَةٍ تَصْدُرُ عَنْهُ فِيهَا حِكْمَةٌ هُوَ فِيهَا قَدْ أُوتِيَ حِكْمَةً. وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ وَاوُ الْعَطْفِ، أَيْ وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ إِذْ قَالَ لِابْنِهِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مَنْ وَصْفِهِ بِحِكْمَةِ الِاهْتِدَاءِ

إِلَى وَصْفِهِ بِحِكْمَةِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ قالَ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفًا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَانَ لِتَلَبُّسِ ابْنِهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ مُشْرِكًا فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُ حَتَّى آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْوَعْظَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ قَالَ تَعَالَى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً [النِّسَاء: 63] وَيُعْرَفُ الْمَزْجُورُ عَنْهُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْمَوْعِظَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الزَّجْرَ هُنَا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ يَدِينُ بِدِينِ قَوْمِهِ مِنَ السُّودَانِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى لُقْمَانَ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَبَى ابْنُهُ مُتَابَعَتَهُ فَأَخَذَ يَعِظُهُ حَتَّى دَانَ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ اسْتِيطَانُ لُقْمَانَ بِمَدِينَةِ دَاوُدَ مُقْتَضِيًا أَنْ تَكُونَ عَائِلَتُهُ تَدِينُ بِدِينِ الْيَهُودِيَّةِ. وَأَصْلُ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ عِنْدَ مُقَارَبَةِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَنْهِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ اخْتِلَافًا فِي اسْمِ ابْنِ لُقْمَانَ فَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَ لُقْمَانُ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ: الِاعْتِقَادَاتُ، وَالْأَعْمَالُ، وَأَدَبُ الْمُعَامَلَةِ، وَأَدَبُ النَّفْسِ. وَافْتِتَاحُ الْمَوْعِظَةِ بِنِدَاءِ الْمُخَاطَبِ الْمَوْعُوظِ مَعَ أَنَّ تَوْجِيهَ الْخِطَابَ مُغْنٍ عَنْ نِدَائِهِ لِحُضُورِهِ بِالْخِطَابِ، فَالنِّدَاءُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي طَلَبِ حُضُورِ الذِّهْنِ لِوَعْيِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [يُوسُفَ: 4] وَقَوله يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ فِي سُورَة يُوسُف [5] وَقَوْلِهِ إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [112] وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [42] . وبُنَيَّ تَصْغِيرُ (ابْنٍ) مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَلِذَلِكَ كُسِرَتِ الْيَاءُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ يَاءِ بُنَيَّ مُشَدَّدَةً. وَأَصْلُهُ: يَا بنييي بِثَلَاث يَاءَاتٍ إِذْ أَصْلُهُ الْأَصِيلُ يَا بُنَيْوِي لِأَنَّ كَلِمَةَ ابْنٍ وَاوِيَّةُ اللَّامِ الْمُلْتَزِمَةِ حَذْفُهَا فَلَمَّا صُغِرَّ رُدَّ إِلَى

أَصْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا الْتَقَتْ يَاءُ التَّصْغِيرِ سَاكِنَةً قَبْلَ وَاوِ الْكَلِمَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ بِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتَقَارُبِهِمَا وَأُدْغِمَتَا، وَلَمَّا نُودِيَ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لِجَوَازِ حَذْفِهَا فِي النِّدَاءِ وَكَرَاهِيَةِ تَكَرُّرِ الْأَمْثَالِ، وَأُشِيرَ إِلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ بِإِلْزَامِهِ الْكَسْرَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْكَسْرَةَ دَلِيلٌ عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالتَّصْغِيرُ فِيهِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ الْكَبِيرِ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرِ كِنَايَةً عَنِ الشَّفَقَةِ بِهِ وَالتَّحَبُّبِ لَهُ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ إِيمَاءٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ إِمْحَاضِ النُّصْحِ وَحُبِّ الْخَيْرِ، فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِامْتِثَالِ لِلْمَوْعِظَةِ. ابْتَدَأَ لُقْمَانُ مَوْعِظَةَ ابْنِهِ بِطَلَبِ إِقْلَاعِهِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ لِأَنَّ النَّفْسَ الْمُعَرَّضَةَ لِلتَّزْكِيَةِ وَالْكَمَالِ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ تَخَلِّيَتُهَا عَنْ مَبَادِئِ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّ إِصْلَاحَ الِاعْتِقَادِ أَصْلٌ لِإِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَانَ أَصْلُ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ هُمَا الدَّهْرِيَّةُ وَالْإِشْرَاكُ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ يُفِيدُ إِثْبَاتَ وُجُودِ إِلَهٍ وَإِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي إِلَهِيَّتِهِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً عَلَى تَقْدِيرِ: يَا بُنَيَّا بِالْأَلِفِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَاكْتُفِيَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا، وَهَذَا سَمَاعٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَتَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِحُقُوقِ الْخَالِقِ، وَظُلْمُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ إِذْ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَخَسِّ الْجَمَادَاتِ، وَظُلْمٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ إِذْ يَبْعَثُ عَلَى اضْطِهَادِهِمْ وَأَذَاهُمْ، وَظُلْمٌ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِ تَعَلُّقِهَا. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ لُقْمَانَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ .

[سورة لقمان (31) : الآيات 14 إلى 15]

وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة أَن تكون جُمْلَةُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلِمِ لُقْمَانَ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَانْظُرْ مَنْ رَوَى هَذَا وَمِقْدَار صِحَّته. [14- 15] [سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 14 إِلَى 15] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) إِذَا دَرَجْنَا عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا مُرْشِدًا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ كَلَامَيْ لُقْمَانَ لِأَنَّ صِيغَةَ هَذَا الْكَلَامِ مَصُوغَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِبْلَاغِ وَالْحِكَايَةِ لِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ اللَّهِ. وَالضَّمَائِرُ ضَمَائِرُ الْعَظَمَةِ جَرَّتْهُ مُنَاسِبَةُ حِكَايَةِ نَهْيِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وتفظيعه بِأَنَّهُ ظلم عَظِيمٌ. فَذَكَرَ اللَّهُ هَذَا لِتَأْكِيدِ مَا فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِتَعْمِيمِ النَّهْيِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِابْنِ لُقْمَانَ أَوْ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ فَحَكَى اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَى بِذَلِكَ كُلَّ إِنْسَانٍ وَأَنْ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَوْ فِي أَحْرَجِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالُ مُجَاهَدَةِ الْوَالِدَيْنِ أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنْ تَجْعَلَ مُنَاسَبَةَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى وِصَايَةَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ بِمَا هُوَ شُكْرُ اللَّهِ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْبَقُ مِنَّةً عَلَى عِبَادِهِ إِذْ أَوْصَى الْأَبْنَاءَ بِبَرِّ الْآبَاءِ فَدَخَلَ فِي الْعُمُومِ الْمِنَّةُ عَلَى لُقْمَانَ جَزَاءً عَلَى رَعْيِهِ لِحَقِّ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ مَوْعِظَةِ ابْنِهِ فَاللَّهُ أَسْبَقُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِرَعْيِ حَقِّهِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّفْسِيرَ اقْتِرَانُ شُكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْأَمْرِ. وَإِذَا دَرَجْنَا عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ نَبِيئًا فَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا أَبْلَغَهُ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ مِمَّا أُوتِيَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَيَكُونَ قَدْ حُكِيَ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لُقْمَان: 12] وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَيُرَجِّحُهُ اخْتِلَافُ

الْأُسْلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيَتَيْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْأَحْقَافِ لِأَنَّ مَا هُنَا حِكَايَةُ مَا سَبَقَ فِي أُمَّةٍ أُخْرَى وَالْأُخْرَيَيْنِ خِطَابٌ أَنِفَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ لُقْمَانَ لَمَّا أَبْلَغَ ابْنَهَ هَذَا قَالَ لَهُ: إِنِ اللَّهَ رَضِيَنِي لَكَ فَلَمْ يُوصِنِي بِكَ وَلَمْ يَرْضَكَ لِي فَأَوْصَاكَ بِي. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ ... وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَقْرِيرٌ لِوَاجِبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذًا أَمَرًا بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ نَهْيًا عَنْهُ فِي أَوْلَى الْحَالَاتِ بِالطَّاعَةِ حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَفْهُومًا بِفَحْوَى الْخِطَابِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْإِدْمَاجِ الْمُنَاسِبِ لِحِكْمَةِ لُقْمَانَ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ أَوْ كَانَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لَا يَحْسُنُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَامْتِعَاضِ أُمِّهِ، لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ السِّيَاقَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ نَزَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِسَبَبِ النُّزُولِ فَإِنَّهَا أُخْلِيَتْ عَنِ الْأَوْصَافِ الَّتِي فِيهَا تَرْقِيقٌ عَلَى الْأُمِّ بِخِلَافِ هَذِهِ، وَلَا وَجْهَ لِنُزُولِ آيَتَيْنِ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ وَوَقْتٍ مُخْتَلِفٍ وَسَيَجِيءُ بَيَانُ الْمُوصَى بِهِ. وَالْوَهْنُ- بِسُكُونِ الْهَاءِ- مَصْدَرُ وَهَنَ يَهِنُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَيُقَالُ: وَهَنٌ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ وَهَنَ يُوهِنُ كَوَجِلَ يَوْجَلُ. وَهُوَ الضَّعْفُ وَقِلَّةُ الطَّاقَةِ عَلَى تَحَمُّلِ شَيْءٍ. وَانْتَصَبَ وَهْناً عَلَى الْحَالِ مِنْ أُمُّهُ مُبَالَغَةً فِي ضَعْفِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا نَفْسُ الْوَهْنِ، أَيْ وَاهِنَةً فِي حَمْلِهِ، وعَلى وَهْنٍ صِفَةٌ لِ وَهْناً أَيْ وَهْنًا وَاقِعًا عَلَى وَهْنٍ، كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، إِذَا اسْتَأْنَفَ عَمَلًا فَرَغَ مِنْهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، أَيْ: بَعْدَ بَدْءٍ، أَوْ عَلى بِمَعْنَى (مَعَ) كَمَا فِي قَوْلِ الْأَحْوَصِ: إِنِّي عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ مُحَسَّدٌ ... أَنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ فَإِنَّ حَمْلَ الْمَرْأَةِ يُقَارِنُهُ التَّعَبُ مَنْ ثِقَلِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، وَالضُّعْفُ مِنِ انْعِكَاسِ

دَمِّهَا إِلَى تَغْذِيَةِ الْجَنِينِ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الضَّعْفُ يَتَزَايَدُ بِامْتِدَادِ زَمَنِ الْحَمْلِ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ وَهْنٌ عَلَى وَهْنٍ. وَجُمْلَةُ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْوِصَايَةِ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ يُفِيدُهُ تَأْكِيدًا، وَلِأَنَّ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يُثِيرُ الْبَاعِثَ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ عَلَى أَنْ يَبَرَّ بِأُمِّهِ وَيَسْتَتْبِعَ الْبِرَّ بِأَبِيهِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ تَعْلِيلُ الْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ بِذِكْرِ أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ بِأَحَدِهِمَا وَهِيَ الْأُمُّ اكْتِفَاءً بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تَقْتَضِي الْوِصَايَةَ بِالْأَبِ أَيْضًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَبَ يُلَاقِي مَشَاقَّ وَتَعَبًا فِي الْقِيَامِ عَلَى الْأُمِّ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الشُّغْلِ بِالطِّفْلِ فِي مُدَّةِ حَضَانَتِهِ ثُمَّ هُوَ يَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْإِسْعَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: 24] ، فَجَمَعَهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ فِي حَالِ الصِّغَرِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِهِ وَإِكْمَالِ نَشْأَتِهِ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ هُنَا الْحَالَةُ الَّتِي تَقْتَضِي الْبِرَّ بِالْأُمِّ مِنَ الْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ كَانَتْ مُنَبِّهَةً إِلَى مَا لِلْأَبِ مِنْ حَالَةٍ تَقْتَضِي الْبِرَّ بِهِ عَلَى حِسَابِ مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي كِلَيْهِمَا قُوَّةً وَضَعْفًا. وَلَا يَقْدَحُ فِي الْقِيَاسِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْإِلْحَاقِ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَشْرِيكُهُمَا فِي التَّحَكُّمِ عَقِبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ وَقَوْلِهِ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً. وَحَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِيجَازِ. وَأَمَّا رُجْحَانُ الْأُمِّ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْبُرُورِ تَعَارُضًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَمْعُ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» : شَرَكَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُمَّ وَالْأَبَ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا ثُمَّ خَصَّصَ الْأُمَّ بِذِكْرِ دَرَجَةِ الْحَمْلِ وَدَرَجَةِ الرَّضَاعِ فَتَحْصُلُ لِلْأُمِّ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ وَلِلْأَبِ وَاحِدَةٌ، وَأَشْبَهَ ذَلِكَ قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ. فَجُعِلَ لَهُ الرُّبْعُ مِنَ الْمَبَرَّةِ. وَهَذَا كَلَامٌ مَنْسُوبٌ مِثْلُهُ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسَاقَ الْحَدِيثِ لِتَأْكِيدِ الْبِرِّ بِالْأُمِّ إِذْ قَدْ يَقَعُ التَّفْرِيطُ فِي الْوَفَاءِ بِالْوَاجِبِ لِلْأُمِّ مِنَ الِابْنِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ اللِّينِ مِنْهَا بِخِلَافِ جَانِبِ الْأَبِ فَإِنَّهُ قَوِيٌّ وَلِأَبْنَائِهِ تَوَقٍّ مِنْ شِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا

هُوَ مَسَاقُ الْحَدِيثِ وَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى نَذْهَبَ إِلَى تَجْزِئَةِ الْبِرِّ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَبِ أَثْلَاثًا أَوْ أَرْبَاعًا وَهُوَ مَا اسْتَشْكَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي «فَائِدَةٍ مِنَ الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ» ، وَحَسْبُنَا نَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَدِيعِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ فَهُوَ مَسُوقٌ لِتَأْكِيدِ الْبِرِّ بِالْأُمِّ خَشْيَةَ التَّفْرِيطِ فِيهِ. وَلَيْسَ مَعْنَى «ثُمَّ» فِيهِ إِلَّا مُحَاكَاةَ قَوْلِ السَّائِلِ «ثُمَّ مَنْ» بِقَرِينَةِ أَنَّهُ عَطَفَ بِهَا لَفْظَ الْأُمِّ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَلَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى نَفْسِهَا فِي الْبِرِّ. وَإِذْ كَانَ السِّيَاقُ مَسُوقًا لِلِاهْتِمَامِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَطْفَ الْأَبِ عَلَى الْأُمِّ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ عَطْفٌ فِي الِاهْتِمَامِ فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ تَرْجِيحٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَلَعَلَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ إِرَادَةَ التَّرْخِيصِ لَهُ فِي عَدَمِ الْبِرِّ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ: أَنَّ أَبَاهُ فِي بَلَدِ السُّودَانِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَأَنَّ أُمَّهُ مَنَعَتْهُ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصِ أُمَّكَ (¬1) . وَهَذَا يَقْتَضِي إِعْرَاضَهُ عَنْ تَرْجِيحِ جَانِبِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي هَذَا التَّعَارُضِ لِيَحْمِلَ الِابْنَ عَلَى تَرْضِيَةِ كِلَيْهِمَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُرَجَّحُ جَانِبُ الْأُمِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَجَّحُ جَانِبُ الْأَبِ. وَجُمْلَةُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَخْ، فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَقْدِيرُ ضَمِيرٍ رَابِطٍ إِيَّاهَا بِصَاحِبِهَا، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَفِصَالُهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أُضِيفَ الْفِصَالُ إِلَى مَفْعُولِهِ عُلِمَ أَنَّ فَاعِلَهُ هُوَ الْأُمُّ. وَالْفِصَالُ: اسْمٌ لِلْفِطَامِ، فَهُوَ فَصْلٌ عَنِ الرَّضَاعَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ أَرادا فِصالًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [233] . وَذُكِرَ الْفِصَالُ فِي معرض تَعْلِيل حقية الْأُمِّ بِالْبَرِّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِرْضَاعَ مِنْ قَبْلِ الْفِصَالِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَتَحَمَّلُهُ الْأُمُّ مِنْ كَدَرِ الشَّفَقَةِ عَلَى الرَّضِيعِ حِينَ فِصَالِهِ، وَمَا تُشَاهِدُهُ مِنْ حُزْنِهِ وَأَلَمِهِ فِي مَبْدَأِ فِطَامِهِ. وَذُكِرَ لِمُدَّةِ فِطَامِهِ أَقْصَاهَا وَهُوَ عَامَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِالتَّرْقِيقِ عَلَى الْأُمِّ، وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْعَامَيْنِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَصْدُقُ مَعَ اسْتِيعَابِ الْمَظْرُوفِ جَمِيعَ الظَّرْفِ، وَلِذَلِكَ فَمُوقِعُ فِي أَبْلَغُ مِنْ مَوْقِعِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: ¬

(¬1) نَقله الْقَرَافِيّ فِي الْمَسْأَلَة الأولى من الْفرق الثَّالِث وَالْعِشْرين عَن «مُخْتَصر» الْجَامِع.

وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الشَّرَابُ وَالْمُقَامَرَةُ كَامِلَ أَثْمَانِ إِبِلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [5] . وَقَدْ حَمَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَجُمْلَةُ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ وَصَّيْنَا. وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُسِّرَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوَالِدَيْنِ بِمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِشُكْرِ اللَّهِ مَعَ شُكْرِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَخْ. وَجُمْلَةُ إِلَيَّ الْمَصِيرُ اسْتِئْنَافٌ لِلْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ لَهُ. وَتَعْرِيفُ الْمَصِيرُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، أَيْ مَصِيرُ النَّاسِ كُلُّهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَلْ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْحَصْرِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ مَصِيرٌ فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي إِلَى فَلا تُطِعْهُما فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [8] ، سِوَى أَنَّهُ قَالَ هُنَا عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي وَقَالَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ لِتُشْرِكَ بِي فَأَمَّا حَرْفُ عَلى فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْمُجَاهَدَةِ، أَيْ مُجَاهَدَةٌ قَوِيَّةٌ لِلْإِشْرَاكِ، وَالْمُجَاهَدَةُ: شِدَّةُ السَّعْيِ وَالْإِلْحَاحِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ أَلَحَّا وَبَالَغَا فِي دَعْوَتِكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ بِي فَلَا تُطِعْهُمَا. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِمَا إِذَا دَعَوْا إِلَى الْإِشْرَاكِ. وَأَمَّا آيَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَجِيءَ فِيهَا بِلَامِ الْعِلَّةِ لِظُهُورِ أَنَّ سَعْدًا كَانَ غَنِيًّا عَنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ أُمِّهِ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ امْرَأَةَ لُقْمَانَ وَابْنَهَ كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُمَا حَتَّى آمَنَا، وَبِهِ يَزِيدُ ذِكْرُ مُجَاهَدَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الشِّرْكِ اتِّضَاحًا. وَالْمُصَاحَبَةُ: الْمُعَاشَرَةُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ «أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أَمُّكَ» إِلَخْ.

وَالْمَعْرُوفُ: الشَّيْءُ الْمُتَعَارَفُ الْمَأْلُوفُ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَهُوَ الشَّيْءُ الْحَسَنُ، أَيْ صَاحِبْ وَالِدَيْكَ صُحْبَةً حَسَنَةً، وَانْتَصَبَ مَعْرُوفاً عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِ صاحِبْهُما، أَيْ صِحَابًا مَعْرُوفًا لِأَمْثَالِهِمَا. وَفُهِمَ مِنْهُ اجْتِنَابُ مَا يُنْكَرُ فِي مُصَاحَبَتِهِمَا، فَشَمَلَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الِابْنِ أَبَوَيْهِ بِالْمُنْكَرِ، وَشَمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَدْعُوَ الْوَالِدُ إِلَى مَا يُنْكِرُهُ اللَّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلِذَلِكَ لَا يُطَاعَانِ إِذَا أَمَرَا بِمَعْصِيَةٍ. وَفُهِمَ مِنْ ذِكْرِ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أَثَرَ قَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَخْ ... أَنَّ الْأَمْرَ بِمُعَاشَرَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ شَامِلٌ لِحَالَةِ كَوْنِ الْأَبَوَيْنِ مُشْرِكَيْنِ فَإِنَّ عَلَى الِابْنِ مُعَاشَرَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ كَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَصِلَتِهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي جَاءَتْ رَاغِبَةً أَفَأَصِلُهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ، وَكَانَتْ مُشْرِكَةً وَهِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَشَمَلَ الْمَعْرُوفُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَاهُ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا لِلْمُسْلِمِ فَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: إِذَا أَنْفَقَ الْوَلَدُ عَلَى أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَكَانَ عَادَتُهُمَا شُرْبَ الْخَمْرِ اشْتَرَى لَهُمَا الْخَمْرَ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ لِلْكَافِرِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُنْكَرًا فِي الدِّينَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَايِعَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ عَلَيْهِ. وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ مَنْ أَنَابَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِسِيرَةِ الْمُنِيبِينَ لِلَّهِ، أَيِ الرَّاجِعِينَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِنَابَةِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [33] عِنْدَ قَوْلِهِ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ [88] . فَالْمُرَادُ بِمَنْ أَنَابَ: الْمُقْلِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ الْمُفِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَهَا، أَيْ وَعِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنْبِئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِلْإِنْسَانِ وَالْوَالِدَيْنِ، أَيْ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الرُّجُوعِ أَوْ هُوَ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَأْمَلُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا فَأُنَبِّئُكُمْ إِلَخْ ... وَالْإِنْبَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ إِظْهَارِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِهِ ظَاهِرَةٌ.

[سورة لقمان (31) : آية 16]

وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. وَفِي هَذِهِ الضَّمَائِرِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَهَمُّ لِأَنَّهُ أعرف. [16] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 16] يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) تَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لِوَعْيِ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنْ تَكُ مِثْقالَ بِرَفْعِ مِثْقالَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ تَكُ مِنْ (كَانَ) التَّامَّةِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِفِعْلِهِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ لِلْمُؤَنَّثَةِ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّ مِثْقالَ لَفْظٌ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى حَبَّةٍ فَاكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ لَوْ حُذِفَ لَمَا اخْتَلَّ الْكَلَامُ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنِ الْمُضَافِ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ إِنَّها لِلْقِصَّةِ وَالْحَادِثَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَقَعُ بِصُورَةِ ضَمِيرِ الْمُفْرَدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ بِتَأْوِيلِ الْقِصَّةِ، وَيُخْتَارُ تَأْنِيثُ هَذَا الضَّمِيرِ إِذَا كَانَ فِي الْقِصَّةِ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَج: 46] ، وَيَكْثُرُ وُقُوعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ بَعْدَ (إِنَّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: 74] ، وَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ اسْمًا لِحَرْفِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِإِقْبَالِ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ: النِّدَاءُ، وَإِنَّ، وَضَمِيرُ الْقِصَّةِ، لِعَظَمِ خَطَرِ مَا بعده الْمُفِيد تَقْرِيرِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَوَصْفِهِ بِالْقُدْرَةِ الْمُحِيطَةِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. وَقَدْ أُفِيدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى فَذُكِرَ أَدَقُّ الْكَائِنَاتِ حَالًا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِهِ، وَذَلِكَ أَدَقُّ الْأَجْسَامِ الْمُخْتَفِي فِي أَصْلَبِ مَكَانٍ أَوْ أَقْصَاهُ وَأَعَزِّهِ مَنَالًا، أَوْ أَوْسَعِهِ وَأَشَدِّهِ انْتِشَارًا، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الظُّهُورِ وَالدُّنُوِّ مِنَ التَّنَاوُلِ أَوْلَى بِأَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ.

وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِنَصْبِ مِثْقالَ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ مِنْ (كَانَ) النَّاقِصَةِ، وَتَقْدِيرِ اسْمٍ لَهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ مُسْنَدًا لِمُؤَنَّثٍ، أَيْ إِنْ تَكُ الْكَائِنَةُ، فَضَمِيرُ إِنَّها مُرَادٌ مِنْهُ الْخَصْلَةُ مِنْ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ أَخْذًا مِنَ الْمَقَامِ. وَالْمِثْقَالُ بِكَسْرِ الْمِيمِ: مَا يُقَدَّرُ بِهِ الثِّقَلُ وَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْآلَةِ. وَالْحَبَّةُ: وَاحِدَةُ الْحَبِّ وَهُوَ بِذْرُ النَّبَاتِ مِنْ سَنَابِلَ أَوْ قُطْنِيَّةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ زَرِيعَةً لِنَوْعِهَا مِنَ النَّبَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [261] قَوْلُهُ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [95] . وَالْخَرْدَلُ: نَبْتٌ لَهُ جِذْرٌ وَسَاقٌ قَائِمَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ أُسْطُوَانِيَّةٌ أَوْرَاقُهَا كَبِيرَةٌ يُخْرِجُ أَزْهَارًا صَغِيرَةً صُفْرًا سُنْبُلِيَّةً تَتَحَوَّلُ إِلَى قُرُونٍ دَقِيقَةٍ مُرَبَّعَةِ الزَّوَايَا تُخْرِجُ بُزُورًا دَقِيقَةً تُسَمَّى الْخَرْدَلَ أَيْضًا، وَلُبُّ تِلْكَ الْبُزُورِ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ يَلْدَغُ اللِّسَانَ وَالْجِلْدَ، وَهِيَ سَرِيعَةُ التَّفَتُّقِ يَنْفَتِقُ عَنْهَا قِشْرُهَا بِدَقٍّ أَوْ إِذَا بُلَّتْ بِمَائِعٍ، فَتُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ ضِمَادَاتٍ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْتِهَابٌ دَاخِلِيٌّ مِنْ نَزْلَةٍ أَوْ ذَاتِ جَنْبٍ وَهُوَ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الطِّبِّ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَقَدْ أَخَذَ الْأَطِبَّاءُ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ بِعَقَاقِيرَ أُخْرَى. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [47] فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها. وَقَوْلُهُ أَوْ فِي السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى فِي صَخْرَةٍ لِأَنَّ الصَّخْرَةَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَذَكَرَ بَعْدَهَا أَوْ فِي السَّماواتِ عَلَى مَعْنَى: أَوْ كَانَتْ فِي أَعَزِّ مَنَالًا مِنَ الصَّخْرَةِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ أَوْ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا الصَّخْرَةُ جُزْءٌ مِنَ الْأَرْضِ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الْأَمْكِنَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَإِنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَصْدُقُ بِهِمَا، أَيْ: ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ فِي جَانِبِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ حَيْثُ كَانَتْ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يُونُس: 61] . وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِأَدَقِّ الْأَجْسَامِ مِنْ أَقْصَى الْأَمْكِنَةِ وَأَعْمَقِهَا وَأَصْلَبِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِكَوْنِهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعِلْمٍ بِوَسَائِلِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهُ.

[سورة لقمان (31) : آية 17]

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ: - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ فَهِيَ كَالْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ أَوْ كَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ كَبَدَلِ الِاشْتِمَالِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالنَّتِيجَةِ كُلِّيَّةً بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِجُزْئِيَّةٍ. وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْهَا تَعْلِيلًا لِأَنَّ مَقَامَ تَعْلِيمِ لُقْمَانَ ابْنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْنَ جَاهِلٌ بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَشَرْطُ التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مَعْلُومًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمُعَلَّلِ لِيَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. - وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ لُقْمَانَ تَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَاللَّطِيفُ: مَنْ يَعْلَمُ دَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَيَسْلُكُ فِي إِيصَالِهَا إِلَى مَنْ تَصْلُحُ بِهِ مَسْلَكَ الرِّفْقِ، فَهُوَ وَصْفٌ مُؤْذِنٌ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ الْكَامِلَيْنِ، أَيْ يَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ وَيُنَفِّذُ قُدْرَتَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي سُورَة الْأَنْعَامِ [103] . فَفِي تَعْقِيبِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ بِوَصْفِهِ بِ (اللَّطِيفُ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْهَا وَامْتِلَاكَهَا بِكَيْفِيَّةٍ دَقِيقَةٍ تُنَاسِبُ فَلْقَ الصَّخْرَةِ وَاسْتِخْرَاجَ الْخَرْدَلَةِ مِنْهَا مَعَ سلامتهما وَسَلَامَةِ مَا اتَّصَلَ بِهِمَا مِنِ اخْتِلَالِ نِظَامِ صُنْعِهِ. وَهُنَا قَدِ اسْتَوْفَى أُصُولَ الِاعْتِقَاد الصَّحِيح. [17] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 17] يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) انْتَقَلَ مِنْ تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ إِلَى تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَابْتَدَأَهَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ بِالْخُضُوعِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا لُقْمَانُ، وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الْأَعْمَالِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِدَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَشَمِلَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ الْإِتْيَانَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ لِيَتَطَلَّبَ

بَيَانُهُ فِي تَضَاعِيفِ وَصَايَا أَبِيهِ كَمَا شَمِلَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ اجْتِنَابَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَذَلِكَ. وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنكر يَقْتَضِي إتْيَان الْأَمْرِ وَانْتِهَاءَهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَصَالِحَ وَمَفَاسِدَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَتَوَقَّاهَا فِي نَفْسِهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ أَمْرِهِ النَّاسَ وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ. فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّقْوَى، إِذْ جَمَعَ لِابْنِهِ الْإِرْشَادَ إِلَى فِعْلِهِ الْخَيْرَ وَبَثِّهِ فِي النَّاسِ وَكَفِّهِ عَنِ الشَّرِّ وَزَجْرِهِ النَّاسَ عَنِ ارْتِكَابِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ. وُوجْهُ تَعْقِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمُلَازَمَةِ الصَّبْرِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ يَجُرَّانِ لِلْقَائِمِ بِهِمَا مُعَادَاةً مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ أَذًى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ جَرَّاءِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنكر أَو شكّ أَنْ يَتْرُكَهُمَا. وَلَمَّا كَانَتْ فَائِدَةُ الصَّبْرِ عَائِدَةً عَلَى الصَّابِرِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ عُدَّ الصَّبْرُ هُنَا فِي عِدَادِ الْأَعْمَالِ الْقَاصِرَةِ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا فِي تَحَمُّلِ أَذَى النَّاسِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ حَتَّى يَذْكُرَ الصَّبْرَ مَعَ قَوْله وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لُقْمَان: 18] لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ. وَالصَّبْرُ: هُوَ تَحَمُّلُ مَا يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِمَّا يُؤْلِمُ أَوْ يُحْزِنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مَوْقِعُهَا كَمُوقِعِ جُمْلَةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ وَأَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

[سورة لقمان (31) : آية 18]

وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَ. وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ. وَالْعَزْمُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: الْجَزْمِ وَالْإِلْزَامِ. وَالْعَزِيمَةُ: الْإِرَادَةُ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا. وعَزْمِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مِنْ مَعْزُومِ الْأُمُورِ، أَيِ الَّتِي عَزَمَهَا الله وأوجبها. [18] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 18] وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) انْتَقَلَ لُقْمَانُ بِابْنِهِ إِلَى الْآدَابِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَنَهَاهُ عَنِ احْتِقَارِ النَّاسَ وَعَنِ التَّفَخُّرِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَهُ بِإِظْهَارِ مُسَاوَاتِهِ مَعَ النَّاسِ وَعَدِّ نَفْسِهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَا تُصَاعِرْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَلا تُصَعِّرْ. يُقَالُ: صَاعَرَ وَصَعَّرَ، إِذَا أَمَالَ عُنُقَهُ إِلَى جَانِبٍ لِيُعْرِضَ عَنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّعَرِ بِالتَّحْرِيكِ لِدَاءٍ يُصِيبُ الْبَعِيرَ فَيَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ فَكَأَنَّهُ صِيغَ لَهُ صِيغَةَ تَكَلُّفٍ بِمَعْنَى تَكَلُّفِ إِظْهَارِ الصَّعَرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلِاحْتِقَارِ لِأَنَّ مُصَاعَرَةَ الْخَدِّ هَيْئَةُ الْمُحْتَقِرِ الْمُسْتَخِفِّ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيُّ يُخَاطِبُ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ وَالْمَعْنَى: لَا تَحْتَقِرِ النَّاسَ فَالنَّهْيُ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمُ احْتِقَارًا لَهُمْ لَا عَنْ خُصُوصِ مُصَاعَرَةِ الْخَدِّ فَيَشْمَلُ الِاحْتِقَارَ بِالْقَوْلِ وَالشَّتْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: 23] إِلَّا أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ كَنَائِيٌّ وَالْآخَرُ كِنَايَةٌ لَا تَمْثِيلَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً تَمْثِيلٌ كَنَائِيٌّ عَنِ النَّهْيِ عَنِ التَّكَبُّرِ

وَالتَّفَاخُرُ لَا عَنْ خُصُوصِ الْمَشْيِ فِي حَالِ الْمَرَحِ فَيَشْمَلُ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ بِالْكَلَامِ وَغَيْرِهِ. وَالْمَرَحُ: فَرْطُ النَّشَاطِ مِنْ فَرَحٍ وَازْدِهَاءٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمَشْيِ تَبَخْتُرًا وَاخْتِيَالًا فَلِذَلِكَ يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَشْيُ مَرَحًا كَمَا فِي الْآيَةِ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى الصِّفَةِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ مَشْيًا مَرَحًا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [37] . وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ لَا تَمْشِ مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي مَكَانٍ يَمْشِي فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ قَوِيُّهُمْ وَضَعِيفُهُمْ، فَفِي ذَلِكَ مَوْعِظَةٌ لِلْمَاشِي مَرَحًا أَنَّهُ مُسَاوٍ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَمَوْقِعُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ مُوقِعُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: 16] كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُخْتَالُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اخْتَالَ بِوَزْنِ الِافْتِعَالِ مِنْ فِعْلِ خَالَ إِذَا كَانَ ذَا خُيَلَاءَ، فَهُوَ خَائِلٌ. وَالْخُيَلَاءُ: الْكِبْرُ وَالِازْدِهَاءُ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ فَوَزْنُ الْمُخْتَالِ مُخْتِيلٌ فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهُ قُلِبَ أَلِفًا، فَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَلَا تُصَاعِرْ خَدَّكَ للنَّاس، وَقَوله فَخُورٍ مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. وَالْفَخُورُ: شَدِيدُ الْفَخْرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [36] . وَمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُخْتَالِينَ الْفَخُورِينَ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ مُفَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَجْمُوعَ الْمُخْتَالِينَ الْفَخُورِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ مِنْ أَنَّ كُلَّ إِذَا وَقَعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ مُؤَخَّرًا عَنْ أَدَاتِهِ يَنْصَبُّ النَّفْيُ عَلَى الشُّمُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي كُلَّ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْإِحَاطَةِ لَا فِي كُلَّ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا الْأَفْرَادُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرَائِنِ. عَلَى أَنَّا نَرَى مَا ذكره الشَّيْخ أَمر أغلبي غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلِذَلِكَ نَرَى صِحَّةَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِي لَفْظِ (كُلَّ) فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِيِّ: قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي تَعْلِيقَاتِي عَلَى دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.

[سورة لقمان (31) : آية 19]

وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ يَجُوزُ فِيهِ مَا مَضَى فِي جُمْلَةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: 16] ، وَجُمْلَةِ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: 17] . [19] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 19] وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُ آدَابَ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ قَفَّاهَا بِحُسْنِ الْآدَابِ فِي حَالَتِهِ الْخَاصَّةِ، وَتِلْكَ حَالَتَا الْمَشْيِ وَالتَّكَلُّمِ، وَهَمَا أَظْهَرُ مَا يَلُوحُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ آدَابِهِ. وَالْقَصْدُ: الْوَسَطُ الْعَدْلُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَالْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَرَفِ التَّبَخْتُرِ وَطَرَفِ الدَّبِيبِ وَيُقَالُ: قَصَدَ فِي مَشْيِهِ. فَمَعْنَى اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: ارْتَكِبِ الْقَصْدَ. وَالْغَضُّ: نَقْصُ قُوَّةِ اسْتِعْمَالِ الشَّيْءِ. يُقَالُ: غَضَّ بَصَرَهُ، إِذَا خَفَضَ نَظَرَهُ فَلَمْ يُحَدِّقْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [30] . فَغَضُّ الصَّوْتِ: جَعْلُهُ دُونَ الْجَهْرِ. وَجِيءَ بِ مِنْ الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ يَغُضُّ بَعْضَهُ، أَيْ بَعْضَ جَهْرِهِ، أَيْ يَنْقُصُ مِنْ جُهُوَرَتِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى التَّخَافُتِ وَالسِّرَارِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تَعْلِيلٌ عَلَّلَ بِهِ الْأَمْرَ بِالْغَضِّ مِنْ صَوْتِهِ بِاعْتِبَارِهَا مُتَضَمِّنَةً تَشْبِيهًا بَلِيغًا، أَيْ لِأَنَّ صَوْتَ الْحَمِيرِ أَنْكَرُ الْأَصْوَاتِ. وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْكَلَامِ يُشْبِهُ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَلَهُ حَظٌّ مِنَ النَّكَارَةِ. وأَنْكَرَ: اسْمُ تَفْضِيلٍ فِي كَوْنِ الصَّوْتِ مَنْكُورًا، فَهُوَ تَفْضِيلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَمِثْلُهُ سَمَاعِيٌّ وَغَيْرُ شَاذٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النَّحْيَيْنِ» أَيْ أَشَدُّ مَشْغُولِيَّةً مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ فِي هَذَا الْمَثَلِ. وَإِنَّمَا جَمَعَ الْحَمِيرِ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ مَعَ أَن صَوت مُفردا وَلَمْ يَقُلِ الْحِمَارَ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ يَسْتَوِي مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ لَامَ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ

عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ الْجَمْعِ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْحَمِيرِ أَسْعَدُ بِالْفَوَاصِلِ لِأَنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الْفَوَاصِلِ وَالْأَسْجَاعِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى أَحْكَامِ الْقَوَافِي، وَالْقَافِيَةُ الْمُؤَسَّسَةُ بِالْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ مَعَهَا أَلِفُ تَأْسِيسٍ فَإِنَّ الْفَوَاصِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: 12] هِيَ: حَمِيدٌ، عَظِيمٌ، الْمَصِيرُ، خَبِيرٌ، الْأُمُورِ، فَخُورٍ، الْحَمِيرِ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ تَعْتَمِدُ كَثِيرًا عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالْمُدُودِ وَالصِّيَغِ دُونَ تَمَاثُلِ الْحُرُوفِ وَبِذَلِكَ تُخَالِفُ قَوَافِيَ الْقَصَائِدِ. وَهَذَا وَفَاءٌ بِمَا وَعَدْتُ بِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذِكْرِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ تَتَبُّعِي لِمَا أُثِرَ مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ غَيْرَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْهَا ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ حِكْمَةً وَهِيَ: قَوْلُهُ لِابْنِهِ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ، وَقَدْ غَرِقَ فِيهَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ فَاجْعَلْ سَفِينَتَكَ فِيهَا تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَشَوْهَا الْإِيمَانُ، وَشِرَاعَهَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَلَّكَ أَنْ تَنْجُوَ وَلَا أَرَاكَ نَاجِيًا. وَقَوْلُهُ: مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَافِظٌ، وَمَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عِزًّا، وَالذُّلُّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ مِنَ التَّعَزُّزِ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلُهُ: ضَرْبُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ كَالسَّمَادِ لِلزَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالدَّيْنَ فَإِنَّهُ ذُلُّ النَّهَارِ وَهَمُّ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ ارْجُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَجَاء لَا يجرّئك عَلَى مَعْصِيَتِهِ تَعَالَى، وَخَفِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَوْفًا لَا يُؤَيِّسُكَ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى شَأْنُهُ. وَقَوْلُهُ: مَنْ كَذَبَ ذَهَبَ مَاءُ وَجْهِهِ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ كَثُرَ غَمُّهُ، وَنَقْلُ الصُّخُورِ مِنْ مَوَاضِعِهَا أَيْسَرُ مِنْ إِفْهَامِ مَنْ لَا يَفْهَمُ. وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ حَمَلْتُ الْجَنْدَلَ وَالْحَدِيدَ وَكُلَّ شَيْءٍ ثَقِيلٍ فَلَمْ أَحْمِلْ شَيْئًا هُوَ أَثْقَلُ مِنْ جَارِ السُّوءِ، وَذُقْتُ الْمَرَارَ فَلَمْ أَذُقْ شَيْئًا هُوَ أَمَرُّ مِنَ الْفَقْرِ. يَا بُنَيَّ لَا تُرْسِلْ رَسُولَكَ جَاهِلًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ حَكِيمًا فَكُنْ رَسُولَ نَفْسِكَ.

يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّهُ شَهِيٌّ كَلَحْمِ الْعُصْفُورِ عَمَّا قَلِيلٍ يُغْلَى صَاحِبُهُ. يَا بُنَيَّ، احْضُرِ الْجَنَائِزَ وَلَا تَحْضُرِ الْعُرْسَ فَإِنَّ الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكَ الْآخِرَةَ وَالْعُرْسَ يُشَهِّيكَ الدُّنْيَا. يَا بُنَيَّ، لَا تَأْكُلْ شِبَعًا عَلَى شِبَعٍ فَإِنَّ إِلْقَاءَكَ إِيَّاهُ لِلْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ. يَا بُنَيَّ، لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُبْلَعْ وَلَا تَكُنْ مُرًّا فَتُلْفَظْ. وَقَوْلُهُ لِابْنِهِ: لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا الْأَتْقِيَاءُ، وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الْعُلَمَاءَ. وَقَوْلُهُ: لَا خَيْرَ لَكَ فِي أَنْ تَتَعَلَّمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ وَلَمَّا تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا فَحَمَلَ حُزْمَةً وَذَهَبَ يَحْمِلُهَا فَعَجَزَ عَنْهَا فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ، إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُوَاخِيَ رَجُلًا فَأَغْضِبْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ أَنْصَفَكَ عِنْدَ غَضَبِهِ وَإِلَّا فَاحْذَرْهُ. وَقَوْلُهُ: لِتَكُنْ كَلِمَتُكَ طَيِّبَةً، وَلْيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا تَكُنْ أَحَبَّ إِلَى النَّاسِ مِمَّنْ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ. وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ، أَنْزِلْ نَفْسَكَ مِنْ صَاحِبِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ بِكَ وَلَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ. يَا بُنَيَّ، كُنْ كَمَنْ لَا يَبْتَغِي مَحْمَدَةَ النَّاسِ وَلَا يَكْسِبُ ذَمَّهُمْ فَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ، امْتَنِعْ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيكَ فَإِنَّكَ مَا سَكَتَّ سَالِمٌ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَنْفَعُكَ. وَأَنَا أُقَفِّي عَلَيْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآلُوسِيُّ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» فِيمَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ «الْجَامِعِ» : مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ أَوْصَى ابْنَهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْعِلْمِ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ بِوَابِلِ السَّمَاءِ.

وَفِيهِ فِيمَا جَاءَ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ من كتاب وَفِيه فِيمَا جَاءَ فِي الصدْق وَالْكذب مِنْ كِتَابِ «الْجَامِعِ» أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى- يُرِيدُونَ الْفَضْلَ؟ فَقَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي. وَفِي «جَامِعِ الْمُسْتَخْرَجَةِ» لِلْعُتْبِيِّ قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا تُفِيدُ مِنَ الدُّنْيَا بَعْدَ خَلِيلٍ صَالِحٍ امْرَأَةً صَالِحَةً. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ وَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّكَ قَدِ اسْتَدْبَرْتَ الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْتَ وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا. وَقَالَ: لَيْسَ غِنًي كَصِحَّةٍ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ. وَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسِ الْفُجَّارَ وَلَا تُمَاشِهِمْ اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، جَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَمَاشِهِمْ عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَكَ مَعَهُمْ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ: إِنْ كُنْتَ تَرَانِي غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا كَلَامٌ رَقِيقٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَرَانِي أَسْوَدَ فَقَلْبِي أَبْيَضُ. وَأَنَّ مَوْلَاهُ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِأَطْيَبِ مُضْغَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ أُخْرَى وَأَنْ أَلْقِ مِنْهَا أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: هُمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا إِذَا طَابَا وَأَخْبَثُ مَا فِيهَا إِذَا خَبُثَا. وَدَخَلَ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ يَسْرُدُ الدُّرُوعَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّاذَا يَصْنَعُ، فَأَدْرَكَتْهُ الْحِكْمَةُ فَسَكَتَ، فَلَمَّا أَتَمَّهَا دَاوُدُ لَبِسَهَا وَقَالَ: نِعْمَ لَبُوسُ الْحَرْبِ أَنْتِ. فَقَالَ لُقْمَانُ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّة» : قيل لُقْمَان: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ سَيِّئًا أَوْ مُسِيئًا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : كَانَ لُقْمَانُ يُفْتِي قَبْلَ مَبْعَثِ دَاوُدَ فَلَمَّا بُعِثَ دَاوُدُ قَطَعَ الْفَتْوَى. فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَا أَكْتَفِي إِذَا كُفِيتُ. وَفِيهِ: إِنَّ الْحَاكِمَ بِأَشَدِّ الْمَنَازِلِ وَكَدَرِهَا يَغْشَاهُ الْمَظْلُومُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِنْ يُصِبْ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْجُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ أَخْطَأَ

طَرِيقَ الْجَنَّةِ. وَمَنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيفًا. وَمَنْ يَخْتَرِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ تَفُتْهُ الدُّنْيَا وَلَا يُصِبِ الْآخِرَةَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» : أَنَّ دَاوُدَ سَأَلَ لُقْمَانُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ فِي يَدِي غَيْرِي. وَفِي «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» الْمَنْسُوبِ لِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِنَّ اللَّهَ رَضِيَنِي لَكَ فَلَمْ يُوصِنِي بِكَ وَلَمْ يَرْضَكَ لِي فَأَوْصَاكَ بِي. وَفِي «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِذَا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَتِ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتِ الْحِكْمَةُ وَقَعَدَتِ الْأَعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ. وَفِي كِتَابِ «آدَابِ النِّكَاحِ» لِقَاسِمِ بْنِ يَأْمُونَ التَّلِيدِيِّ الْأَخْمَاسِيِّ (¬1) : أَنَّ مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: يَا بُنَيَّ إِنَّمَا مَثَلُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ كَمَثَلِ الدُّهْنِ فِي الرَّأْسِ يُلِينُ الْعُرُوقَ وَيُحَسِّنُ الشَّعْرَ، وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ الْمَلِكِ، وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا قِيمَتُهُ. وَمَثَلُ الْمَرْأَةِ السُّوءِ كَمَثَلِ السَّيْلِ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يَبْلُغَ مُنْتَهَاهُ: إِذَا تَكَلَّمَتْ أَسْمَعَتْ، وَإِذَا مَشَتْ أَسْرَعَتْ، وَإِذَا قَعَدَتْ رَفَعَتْ، وَإِذَا غَضِبَتْ أَسْمَعَتْ. وَكُلُّ دَاءٍ يَبْرَأُ إِلَّا دَاءَ امْرَأَةِ السُّوءِ. يَا بُنَيَّ، لَأَنْ تُسَاكِنَ الْأَسَدَ وَالْأُسُودَ (¬2) خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُسَاكِنَهَا: تَبْكِي وَهِيَ الظَّالِمَةُ، وَتَحْكُمُ وَهِيَ الْجَائِرَةُ، وَتَنْطِقُ وَهِيَ الْجَاهِلَةُ وَهِيَ أَفْعَى بِلَدْغِهَا. وَفِي «مَجْمَعِ الْبَيَانِ» لِلطَّبَرَسِيِّ: يَا بُنَيَّ، سَافِرْ بِسَيْفِكَ وَخُفِّكَ وَعِمَامَتِكَ وَخِبَائِكَ وَسِقَائِكَ وَخُيُوطِكَ وَمِخْرَزِكَ، وَتَزَوَّدْ مَعَكَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ مَا تَنْتَفِعُ بِهِ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَكُنْ لِأَصْحَابِكَ مُوَافِقًا إِلَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. يَا بُنَيَّ، إِذَا سَافَرْتَ مَعَ قَوْمٍ فَأَكْثِرِ اسْتِشَارَتَهُمْ فِي أَمْرِكَ وَأُمُورِهِمْ، وَأَكْثِرِ التَّبَسُّمَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَكُنْ كَرِيمًا عَلَى زَادِكَ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا دَعَوْكَ فَأَجِبْهُمْ، وَإِذَا اسْتَعَانُوا بِكَ فَأَعْنِهِمْ، وَاسْتَعْمِلْ طُولَ الصَّمْتِ ¬

(¬1) بالمكتبة الأحمدية عدد 2128 وطبع فِي فاس سنة 1317. (¬2) يُرِيد ذكر الحيّات.

[سورة لقمان (31) : الآيات 20 إلى 21]

وَكَثْرَةَ الصَّلَاةِ، وَسَخَاءَ النَّفْسِ بِمَا مَعَكَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ زَادٍ، وَإِذَا اسْتَشْهَدُوكَ عَلَى الْحَقِّ فَاشْهَدْ لَهُمْ، وَاجْهَدْ رَأْيَكَ لَهُمْ إِذَا اسْتَشَارُوكَ، ثُمَّ لَا تَعْزِمْ حَتَّى تَثْبُتَ وَتَنْظُرَ، وَلَا تُجِبْ فِي مشورته حَتَّى تَقُومَ فِيهَا وَتَقْعُدَ وَتَنَامَ وَتَأْكُلَ وَتُصَلِّي وَأَنْتَ مُسْتَعْمِلٌ فِكْرَتَكَ وَحِكْمَتَكَ فِي مَشُورَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَمْحَضِ النَّصِيحَةَ مَنِ اسْتَشَارَهُ سَلَبَهُ اللَّهُ رَأْيَهُ، وَإِذَا رَأَيْتَ أَصْحَابَكَ يَمْشُونَ فَامْشِ مَعَهُمْ، فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ يَعْمَلُونَ فَاعْمَلْ مَعَهُمْ، وَاسْمَعْ لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا. وَإِذَا أَمَرُوكَ بِأَمْرٍ وَسَأَلُوكَ شَيْئًا فَقُلْ نَعَمْ وَلَا تَقُلْ (لَا) فَإِنَّ (لَا) عِيٌّ وَلُؤْمٌ، وَإِذَا تَحَيَّرْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَانْزِلُوا، وَإِذَا شَكَكْتُمْ فِي الْقَصْدِ فَقِفُوا وَتَآمَرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمْ شَخْصًا وَاحِدًا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ طَرِيقِكُمْ وَلَا تَسْتَرْشِدُوهُ فَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي الْفَلَاةِ مُرِيبٌ لَعَلَّهُ يَكُونُ عَيْنَ اللُّصُوصِ أَوْ يَكُونُ هُوَ الشَّيْطَانَ الَّذِي حَيَّرَكُمْ. وَاحْذَرُوا الشَّخْصَيْنِ أَيْضًا إِلَّا أَنْ تَرَوْا مَا لَا أَرَى لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا أَبْصَرَ بِعَيْنِهِ شَيْئًا عَرَفَ الْحَقَّ مِنْهُ وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. يَا بُنَيَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَخِّرْهَا لِشَيْءٍ، صَلِّهَا وَاسْتَرِحْ مِنْهَا فَإِنَّهَا دَيْنٌ، وَصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ وَلَوْ عَلَى رَأْسِ زَجٍّ. وَإِذَا أَرَدْتُمُ النُّزُولَ فَعَلَيْكُمْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ بِأَحْسَنِهَا لَوْنًا وَأَلْيَنِهَا تُرْبَةً وَأَكْثَرِهَا عُشْبًا. وَإِذَا نَزَلْتَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ، وَإِذَا أَرَدْتَ قَضَاءَ حَاجَتِكَ فَأَبْعِدِ الْمَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا ارْتَحَلْتَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ وَدِّعِ الْأَرْضَ الَّتِي حَلَلْتَ بِهَا وَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لِكُلِّ بُقْعَةٍ أَهْلًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَأْكُلَ طَعَامًا حَتَّى تَبْتَدِئَ فَتَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَافْعَلْ. وَعَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ اللَّهِ- لَعَلَّهُ يَعْنِي الزَّبُورَ- مَا دُمْتَ رَاكِبًا، وَعَلَيْكَ بِالتَّسْبِيحِ مَا دُمْتَ عَامِلًا عَمَلًا، وَعَلَيْكَ بِالدُّعَاءِ مَا دُمْتَ خَالِيًا. وَإِيَّاكَ وَالسَّيْرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ. وَإِيَّاكَ وَرَفْعَ الصَّوْتِ فِي مَسِيرِكَ. فَقَدَ اسْتَقْصَيْنَا مَا وَجَدْنَا مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ مِمَّا يُقَارِبُ سَبْعِينَ حِكْمَةً. [20] [سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 20 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً. رُجُوعٌ إِلَى تَعْدَادِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا صَحِبَ ذَلِكَ مِنْ مِنَّةٍ عَلَى الْخَلْقِ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَرُجُوعٌ إِلَى مَا سَلَفَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [لُقْمَان: 10] فَإِنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْأَمْطَارِ عَادَ هُنَا الِاسْتِدْلَالُ وَالِامْتِنَانُ بِأَنْ سَخَّرَ لَنَا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّسْخِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [32] ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [3] . وَمَعْنَى سَخَّرَ لَكُمْ لِأَجْلِكُمْ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ مَا هُوَ مَنَافِعُ لَنَا مِنَ الْأَمْطَارِ وَالرِّيَاحِ وَنُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَوَاقِيتِ الْبُرُوجِ وَالْمَنَازِلِ وَالِاتِّجَاهِ بِهَا. وَالْخِطَابُ فِي أَلَمْ تَرَوْا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَمُشْرِكِهِمْ لِأَنَّهُ امْتِنَانٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِخُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَوْا تَقْرِيرٌ أَوْ إِنْكَارٌ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَوْا آثَارَ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ. وَرُؤْيَةُ التَّسْخِيرِ رُؤْيَةُ آثَارِهِ وَدَلَائِلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً كَذَلِكَ، وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها. وَإِسْبَاغُ النِّعَمِ: إِكْثَارُهَا. وَأَصْلُ الْإِسْبَاغِ: جَعْلُ مَا يُلْبَسُ سَابِغًا، أَيْ وَافِيًا فِي السِّتْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دِرْعٌ سَابِغَةٌ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْإِكْثَارِ لِأَنَّ الشَّيْءَ السَّابِغَ كَثِيرٌ فِيهِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مِنْ سَرْدٍ أَوْ شُقَقِ أَثْوَابٍ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَة فَقِيلَ: سَوَابِغُ النِّعَمِ. وَالنِّعْمَةُ: الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا فَاعِلُهَا الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ نِعَمَهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ نِعْمَةٍ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ النِّعَمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نِعْمَةٌ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَالتَّنْكِيرُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ فَاسْتَوَى الْقِرَاءَتَانِ فِي إِفَادَةِ التَّنْوِيهِ بِمَا أَسْبَغَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

وَانْتَصَبَ ظاهِرَةً وَباطِنَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَعَلَى الصِّفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَقِيَّةِ. وَالظَّاهِرَةُ: الْوَاضِحَةُ. وَالْبَاطِنَةُ: الْخَفِيَّةُ وَمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا. وَأَصْلُ الْبَاطِنَةِ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي بَاطِنِ الشَّيْءِ أَيْ دَاخِلِهِ، قَالَ تَعَالَى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الْحَدِيد: 13] فَكَمْ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ مِنْ نِعَمٍ يَعْلَمُهَا النَّاسُ أَوْ لَا يَعْلَمُهَا بَعْضُهُمْ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا أَهْلُ عَصْرٍ ثُمَّ تَنْكَشِفُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكِلَا النَّوْعَيْنِ أَصْنَافٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) . الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: قَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ نِعَمًا ضَافِيَةً فِي حَالِ أَنَّ بَعْضَكُمْ يُجَادِلُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَيَتَعَامَى عَنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِهِ. وَجُمْلَةُ الْحَالِ هُنَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً وَالْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [لُقْمَان: 25] . وَقَوْلُهُ وَمِنَ النَّاسِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْكُمْ، ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ: هُمُ الْمُتَصَدُّونَ لِمُحَاجَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى قَوْمِهِمْ مِثْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى. وَشَمِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ مَرَاتِبَ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ إِمَّا: الِاجْتِهَادُ وَالِاكْتِسَابُ، أَوِ التَّلَقِّي مِنَ الْعَالِمِ، أَوْ مُطَالَعَةُ الْكُتُبِ الصَّائِبَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ

[سورة لقمان (31) : آية 22]

وَجُمْلَةُ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مِنَ، أَيْ: مِنْ حَالِهِمْ هَذَا وَذَاكَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [170] . وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ يَدْعُوهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْآبَاءِ، أَيْ أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُو الْآبَاءَ إِلَى الْعَذَابِ فَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ إِلَى الْعَذَابِ وَلَا يَهْتَدُونَ. ولَوْ وصلية، وَالْوَاو مَعهَا لِلْحَالِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ فظاعة ضلالهم وَعَما هم بِحَيْثُ يَتَّبِعُونَ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ. وَهُوَ وَزَانُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [170] : أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً. وَالدُّعَاءُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ: الدُّعَاءُ إِلَى أَسْبَابِهِ. وَالسَّعِيرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَة الْإِسْرَاء [97] . [22] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 22] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لُقْمَان: 20] إِلَى قَوْلِهِ: يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [لُقْمَان: 21] ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا وجدوا ءاباءهم عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ فَوَقَعُوا فِي الْعَذَابِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَمُوا لِلَّهِ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَصُدَّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ إِلْفٌ وَلَا تَقْدِيسُ آبَاءٍ فَأُولَئِكَ تَعَلَّقُوا بِالْأَوْهَامِ وَاسْتَمْسَكُوا بِهَا لِإِرْضَاءِ أَهْوَائِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ اسْتَمْسَكُوا بِالْحَقِّ إِرْضَاءً لِلدَّلِيلِ وَأُولَئِكَ أَرْضَوُا الشَّيْطَانَ وَهَؤُلَاءِ اتَّبَعُوا رِضَى اللَّهِ. وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِإِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ كَأَنَّهُ لَا يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [112] ، وَقَوْلِهِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [20] . وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يُسْلِمْ بِحَرْفٍ إِلَى هُنَا دُونَ اللَّامِ كَمَا فِي آيَتَيْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [112] وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [20] عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ بِتَشْبِيهِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِالْمَتَاعِ الَّذِي يَدْفَعُهُ صَاحِبُهُ إِلَى آخَرَ وَيَكِلُهُ إِلَيْهِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ، أَيْ وَجْهَهُ وَهُوَ ذَاتُهُ سَالِمًا

[سورة لقمان (31) : آية 23]

لِلَّهِ، أَيْ خَالِصًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [20] . وَالْإِحْسَانُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُسْلِمْ إِسْلَامًا لَا نِفَاقَ فِيهِ وَلَا شَكَّ فَقَدْ أَخَذَ بِمَا يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْهُوِيِّ أَوِ التَّزَلْزُلِ. وَقَوْلُهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى مَضَى الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَتَذْيِيلُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إِيمَاءٌ إِلَى وَعْدِهِمْ بِلِقَاءِ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ وَهُوَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُمُورِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ مِنْ مَشْمُولَاتِ عُمُومِ الْأُمُورِ صَائِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَجَزَاؤُهُمْ بِالْخَيْرِ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ اللَّهِ. وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الْخَاتِمَةُ وَالنِّهَايَةُ. والْأُمُورِ: جَمْعٌ أَمْرٍ وَهُوَ الشَّأْنُ. وَتَقْدِيمُ إِلَى اللَّهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ يُلَاقِي جزاءه وافيا. [23] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 23] وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) لَمَّا خَلَا ذَمُّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَنِ الْوَعِيدِ وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَدْحِ الْمُسْلِمِينَ وَوَعْدِهِمْ عَطَفَ عِنَانَ الْكَلَامِ إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَهْوِينِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَعْرِيضًا بِقِلَّةِ الْعِبْءِ بِهِمْ لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيُرِيهِمُ الْجَزَاءَ الْمُنَاسِبَ لِكُفْرِهِمْ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ. وَأُسْنِدَ النَّهْيُ إِلَى كُفْرِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْزِنًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَازًا عَقْلِيًّا فِي نَهْيِ

[سورة لقمان (31) : آية 24]

الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْفِكْرِ بِالْحُزْنِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ انْتَفَى إِحْزَانُ كُفْرِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الزَّايِ- مُضَارِعُ أَحْزَنَهُ إِذَا جَعَلَهُ حَزِينًا. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ يَحْزُنْكَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الزَّايِ- مُضَارِعُ حَزَنَهُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُمَا لُغَتَانِ: الْأُولَى لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْأُولَى أَقْيَسُ وَكِلْتَاهُمَا فُصْحَى وَلُغَةُ تَمِيمٍ مِنَ اللُّغَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ لُغَةُ عُلْيَا تَمِيمٍ وَهُمْ بَنُو دَارِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ. وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ أَحْزَنَ فِي الْمَاضِي وَيُحْزِنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، يُرِيدَانِ الشَّائِعَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ وَسُنَّةٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [13] إِنِّي لَيَحْزُنُنِي وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [33] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. وَجُمْلَةُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، وَهِيَ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى الِانْتِقَامَ مِنْهُمُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَنُنَبِّئُهُمْ مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةِ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ كِنَايَةً عَنِ الْمُجَازَاةِ اسْتُعْمِلَ الْإِنْبَاءُ وَأُرِيدَ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِظْهَارُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، فَمَوْقِعُ حَرْفِ إِنَّ هُنَا مُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ كَمَا فِي قَوْلِ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحِ فِي التبكير وبِذاتِ الصُّدُورِ: هِيَ النَّوَايَا وَأَعْرَاضُ النَّفْسِ مِنْ نَحْوِ الْحِقْدِ وَتَدْبِيرِ الْمَكْرِ وَالْكُفْرِ. وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُهُ إِعْلَانٌ وَبَعْضُهُ إِسْرَارٌ قَالَ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الْملك: 13] ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَة الْأَنْفَال [43] . [24] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 24] نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: 23] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ زَمَنًا ثُمَّ يُوقِعُهُمْ

[سورة لقمان (31) : آية 25]

فِي عَذَابٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ مَنْجًى. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالتَّمْتِيعُ: الْعَطَاءُ الْمُوَقَّتُ فَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ. وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَصْدَرِ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِقِلَّةِ مُدَّتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّةِ الْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي الْأَعْرَافِ [24] . وَالِاضْطِرَارُ: الْإِلْجَاءُ، وَهُوَ جَعْلُ الْغَيْرِ ذَا ضَرُورَةٍ، أَيْ: لُزُومٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [126] . وَالْغَلِيظُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْخَشِنُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّدِيدِ مِنَ الْأَحْوَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِجَامِعِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَدَمِ الطَّاقَةِ عَلَى احْتِمَالِهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [58] كَمَا أُطْلِقَ الْكَثِيرُ على الْقوي. [25] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 25] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَان: 21] بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ هُوَ الْإِشْرَاكُ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ سَأَلَهُمْ سَائِلٌ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقُولُوا خَلْقَهُنَّ اللَّهُ، وَذَلِكَ تَسْخِيفٌ لِعُقُولِهِمُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا يَشْمَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ بَيْنِ ذَلِكَ حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَعَبَّرَ هُنَا بِ لَا يَعْلَمُونَ وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [63] بِ لَا يَعْقِلُونَ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مَعَ اتِّحَاد الْمَعْنى.

[سورة لقمان (31) : آية 26]

[سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 26] لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مُوقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: 16] فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ إِقْرَارُهُمْ لِلَّهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَزِمَهُمْ إِنْتَاجُ أَنَّ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَصْنَامُهُمْ. وَالتَّصْرِيحُ بِهَذِهِ النَّتِيجَةِ لِقَصْدِ التَّهَاوُنِ بِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُهُمْ وَيَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ مَحْمُودٌ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ مُفَادُهُ اخْتِصَاصُ الْغِنَى وَالْحَمْدِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَيْسَ لِآلِهَتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ غِنًى وَلَا تَسْتَحِقُّ حَمْدًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فِي أول السُّورَة لُقْمَان [12] . [27] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 27] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) تَكَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً فَقَالَ فِيمَا حَكَى مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى قَوْلِهِ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: 16] ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [لُقْمَان: 23] فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ أَنَّ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَظَاهِرَ يُبَلِّغُ بَعْضَهَا إِلَى مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ بِالْوَحْيِ مِمَّا تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ إِبْلَاغَهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ مَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ عَدَمَ إِبْلَاغِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يُبَلِّغَ مَا فِي عِلْمِهِ لَمَا وَفَتْ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ الصَّالِحَةُ لتسجيل كَلَامه بِالْكِتَابَةِ فَضْلًا عَلَى الْوَفَاءِ بِإِبْلَاغِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا مَسْلَكَ التَّقْرِيبِ بِضَرْبِ هَذَا

الْمَثَلِ وَقَدْ كَانَ مَا قَصَّ مِنْ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مُوَطِّئًا لِهَذَا فَقَدْ جَرَتْ قِصَّةُ لُقْمَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا جَرَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [109] فَعُقِّبَتَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً وَهِيَ مُشَابِهَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ. وَلِمَا فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَفَاءِ أَخَذَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ مِنَ السَّلَفِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ إِيقَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ. فَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ بِرِوَايَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ أَغْرَوْا قُرَيْشًا بِسُؤَالِهِ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَأْنهمْ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 85] فَقَالُوا: كَيْفَ وَأَنْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلُوهُ: هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الْآيَتَيْنِ أَوِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَكْثَرَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ! فَنَزَلَتْ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: سَيَتِمُّ هَذَا الْكَلَامُ لِمُحَمَّدٍ وَيَنْحَسِرُ- أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقُولُ بَعْدَهُ كَلَامًا-. وَفِي رِوَايَةٍ: سَيَنْفَدُ هَذَا الْكَلَامُ. وَهَذِهِ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْموضع من السُّورَةِ بِتَوْقِيفٍ نَبَوِيٍّ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ سُورَةِ لُقْمَانَ عَلَى أَنْ تُوضَعَ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا. وكَلِماتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ بِمَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] أَيِ: الْكَلَامُ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُخَاطِبُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْعَنَاصِرِ الْمَعْدُودَةِ لِلتَّكَوُّنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: كُنْ فَتَكُونُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ مِنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا سَيُنْزِلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ فَرَضَ إِرَادَةَ اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ كُلَّهُ صُحُفًا

فَفُرِضَتِ الْأَشْجَارُ كُلُّهَا مُقَسَّمَةً أَقْلَامًا، وَفُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِدَادًا فَكُتِبَ بِتِلْكَ الْأَقْلَامِ وَذَلِكَ الْمِدَادِ لَنَفِدَ الْبَحْرُ وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَام: 115] فَالتَّمَامُ هُنَالِكَ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ وَالنُّفُوذِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [7] . وَقَدْ نُظِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِإِيجَازٍ بَدِيعٍ إِذِ ابْتُدِئَتْ بِحَرْفِ لَوْ فَعُلِمَ أَنَّ مَضْمُونَهَا أَمْرٌ مَفْرُوضٌ، وَأَنَّ لِ لَوْ اسْتِعْمَالَاتٍ كَمَا حَقَّقَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» عَنْ عِبَارَةِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [23] . ومِنْ شَجَرَةٍ بَيَان لما الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ فَحَقُّهُ الْإِفْرَادُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: مِنْ أَشْجَارٍ. وَالْأَقْلَامُ: جَمْعُ قَلَمٍ وَهُوَ الْعُودُ الْمَشْقُوقُ لِيَرْفَعَ بِهِ الْمِدَادَ وَيَكْتُبَ بِهِ، أَيْ: لَوْ تَصِيرُ كُلُّ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ أَغْصَانٍ صَالِحَةٍ لِذَلِكَ. وَالْأَقْلَامُ هُوَ الْجَمْعُ الشَّائِعُ لِقَلَمٍ فَيَرِدُ لِلْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. ويَمُدُّهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: يَزِيدُهُ مِدَادًا. وَالْمِدَادُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- الْحِبْرُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ. يُقَالُ: مَدَّ الدَّوَاةَ يَمُدُّهَا. فَكَانَ قَوْلُهُ يَمُدُّهُ مُتَضَمِّنًا فَرْضَ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِدَادًا ثُمَّ يُزَادُ فِيهِ إِذَا نَشَفَ مِدَادُهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَلَوْ قِيلَ: يُمِدُّهُ، بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَمَدَّ لَفَاتَ هَذَا الْإِيجَازُ. وَالسَّبْعَةُ: تُسْتَعْمَلُ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْكَثْرَةِ كَثِيرًا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» فَلَيْسَ لِهَذَا الْعَدَدِ مَفْهُومٌ، أَيْ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ أَبْحُرٌ كَثِيرَةٌ. وَمَعْنَى مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ مَا انْتَهَتْ، أَيْ: فَكَيْفَ تَحْسَبُ الْيَهُودُ مَا فِي التَّوْرَاةِ هُوَ مُنْتَهَى كَلِمَاتِ اللَّهِ، أَوْ كَيْفَ يَحْسَبُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمَثَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْآخَرِ وَارِدًا مَوْرِدَ الْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مَا سَيَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ، فَتَكُونُ كَلِماتُ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْرِفُونَ كَلِمَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِهَا.

[سورة لقمان (31) : آية 28]

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ، فَهُوَ لِعِزَّتِهِ لَا يَغْلِبُهُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى الْقُرْآنِ يَنْتَظِرُونَ انْفِحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لِحِكْمَتِهِ لَا تَنْحَصِرُ كَلِمَاتُهُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْحَقَّ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ وَالْبَحْرُ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَهِيَ حَال من مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ، أَيْ: تِلْكَ الْأَشْجَارُ كَائِنَةٌ فِي حَالِ كَوْنِ الْبَحْرِ مِدَادًا لَهَا، وَالْوَاوُ يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الرَّبْطِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنِ الضَّمِيرِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُقَارَنَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْبَحْرُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْم (إنّ) . [28] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 28] مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: 23] لِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ أَمْرَ الْبَعْثِ هَجَسَ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِحَالَةُ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهَا فَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى إِمْكَانِهِ وَتَقْرِيبِهِ. وَكَانُوا أَيْضًا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنَا أَطْوَارًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا وَعَظْمًا فَكَيْفَ يَبْعَثُنَا خَلْقًا جَدِيدًا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَيْفَ يُحْيِي جَمِيعَ الْأُمَمِ والأجيال الَّتِي تضمنتها الْأَرْضُ فِي الْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو الْأَسَدِ- أَوْ أَبُو الْأَسَدَيْنِ- وَنُبَيْهٌ، وَمُنَبِّهٌ، ابْنَا الْحَجَّاجِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ وَرُبَّمَا أَسَرَّ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَضَمِيرَا الْمُخَاطَبِينَ مُرَادٌ بِهِمَا جَمِيعُ الْخَلْقِ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ، أَيْ مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا بَعْثُهُمْ، أَيْ خَلْقُهُمْ ثَانِيَ مَرَّةٍ إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ خَلْقَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ دَالٌّ عَلَى تَمَامِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ كَامِلُ الْقُدْرَةِ اسْتَوَى فِي جَانِبِ قُدْرَتِهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ. وَفِي قَوْلِهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ مُجَابَهَتِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُفْحِمِ.

[سورة لقمان (31) : آية 29]

وَفِي قَوْلِهِ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ حَذْفُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَخَلْقِ وَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَذَلِكَ إِيجَازٌ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ التَّقْدِيرُ: عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ. وَالْمَقْصُودُ: إِنَّ الْخَلْقَ الثَّانِيَ كَالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ: إِمَّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالًا بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَالْأَسْبَابِ وَتَفَاصِيلِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا وَمِنْ شَأْنِ الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَعْلُومَاتِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيجَادِ بَعْضِ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِرَادَة إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ خَفَاءِ السَّبَبِ الْمُوصِلِ إِلَى إِيجَادِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَوْ عُقَلَاؤُهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ جَعَلَ تَسْلِيمَهُمْ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى إِقْنَاعِهِمْ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَإِمَّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِمَا يَنْشَأُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ بَعْثَهُمْ كَنَفْسٍ مِنْ تَعَجُّبِ فَرِيقٍ مِمَّنْ أَسَرُّوا إِنْكَارَ الْبَعْثِ فِي نُفُوسِهِمُ الَّذِينَ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ آنِفًا: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [لُقْمَان: 23] ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ عليم قدير. [29] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 29] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ فِي مُتَنَاوَلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِ مَا هُوَ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ بِتَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ وَأُفُقِهَا بَيْنَ لَيْلٍ وَنَهَارٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَغْيِيرًا يُشْبِهُ طُرُوَّ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ فِي دُخُولِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَطُرُوَّ الْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ فِي دُخُولِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، وَبِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا سَخَّرَهُ مِنْ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِإِمْكَانِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ من شؤون الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ الْكُلِّيِّ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ

سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لُقْمَان: 28] مِنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْمَعْلُومَاتِ الْمُقْتَضِي إِحَاطَةَ قُدْرَتِهِ بِالْمُمْكِنَاتِ لِأَنَّهَا جُزْئِيَّاتُ الْمَعْلُومَاتِ وَفَرْعٌ عَنْهَا. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِتَنْزِيلِ الْعَالِمِينَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ عَالِمِينَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعِلْمِهِمْ. وَالْإِيلَاجُ: الْإِدْخَالُ. وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِتَعَاقُبِ الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ بِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَقَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أول سُورَة آلِ عِمْرَانَ [27] ، وَقَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [61] مَعَ اخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ. وَالِابْتِدَاءُ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَعْجَبُ كَيْفَ تَغْشَى ظُلْمَتُهُ تِلْكَ الْأَنْوَارَ النَّهَارِيَّةَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ لِتَشْخِيصِ تَمَامِ الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ لَا تُلَازِمُ عَمَلًا مُتَمَاثِلًا. وَالْكَلَامُ عَلَى تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ هُوَ الْمُسَمَّى تَنْوِينَ الْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ. وَالْجَرْيُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ اسْتُعِيرَ لِانْتِقَالِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا وَانْتِقَالِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَانْتِقَالِ الْقَمَرِ حَوْلَ الْأَرْضِ، تَشْبِيهًا بِالْمَشْيِ السَّرِيعِ لِأَجْلِ شُسُوعِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي تُقْطَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِهَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ أَمَدًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَمَدُ بَطَلَ ذَلِكَ التَّحَرُّكُ وَالتَّنَقُّلُ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِانْقِرَاضِ الْعَالِمِ فَهَذَا تَذْكِيرٌ بِوَقْتِ الْبَعْثِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلى أَجَلٍ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ يَجْرِي، أَيْ: يَنْتَهِي جَرْيُهُ، أَيْ سَيْرُهُ عِنْدَ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ لِانْتِهَاءِ سَيْرِهِمَا.

[سورة لقمان (31) : آية 30]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلى أَجَلٍ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ سَخَّرَ أَيْ: جَعَلَ نِظَامَ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُنْتَهِيًا عِنْدَ أَجَلٍ مُقَدَّرٍ. وَحَرْفُ إِلى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِلِانْتِهَاءِ. وَلَيْسَتْ إِلى بِمَعْنَى اللَّامِ عِنْدَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ وَابْنِ هِشَامٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [13] . وأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِتَنْزِيلِ الْعَالِمِ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَلَا يَجْرُونَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْعِلْمُ فِي شَيْءٍ من أَحْوَالهم. [30] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 30] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) كَافُ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَذْكُورُ آنِفًا وَهُوَ الْإِيلَاجُ وَالتَّسْخِيرُ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ فَلَهَا حُكْمُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ فَإِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ ذَلِكَ فَلَزِمَهُمُ الدَّلِيلُ وَنَتِيجَتُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَعَكْسَهُ وَتَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُسَبَّبٌ عَنِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُفِيدٌ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: هُوَ الْحَقُّ لَا أَصْنَامُكُمْ وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا يُدَّعَى إِلَهِيَّةً غَيْرَهُ تَعَالَى.

والْحَقُّ: هُنَا بِمَعْنَى الثَّابِتِ، وَيُفْهَمُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِّيَّةُ ثُبُوتِ إِلَهِيَّتِهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَلِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَالْمَعْنَى: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الصُّنْعُ الْبَدِيعُ مُسَبَّبًا عَنِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقُّ والْباطِلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي الشِّقِّ الثَّانِي لِأَنَّ مَا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ يَشْتَرِكُ مَعَهَا فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَذُكِرَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ [73] لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْبَاءَ فِي بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ مَجْمُوعٌ بِأَنَّ اللَّهَ. فَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ. وَيُقَدَّرُ حَرْفُ جَرٍّ مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى حُذِفَ قَبْلَ أَنَّ وَهُوَ حَرْفٌ (عَلَى) أَيِّ: ذَلِكَ دَالٌّ. وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ حَرْفُ (عَنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: 127] وَلَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى مَدْخُولِ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ إِذْ لَيْسَ لِبُطْلَانِ آلِهَتِهِمْ أَثَرٌ فِي إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ تُقَدَّرُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا تَدْعُونَهُ بَاطِلٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَظٌّ فِي إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِاعْتِرَافِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ دَلَالَةِ إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ أَنَّ مَا ذُكِرَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَدَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا يَدْعُونَهُ بَاطِلٌ، ثَبَتَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ. وَقَدِ اجْتُلِبَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَسَلْبِ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ نَجْعَلَ الْبَاءَ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْبَاءِ الَّتِي لِلْمُلَابَسَةِ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا بَلْ قَالَ الرَّضِيُّ: إِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، أَيْ أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِنَحْوِ الْخَبَرِ أَوِ الْحَالِ كَمَا قَالَ: وَمَا لِي بِحَمْدِ اللَّهِ لَحْمٌ وَلَا دَمٌ

[سورة لقمان (31) : الآيات 31 إلى 32]

أَيْ: حَالَةَ كَوْنِي مُلَابِسًا حَمْدَ اللَّهِ، أَيْ: غَيْرَ سَاخِطٍ مِنْ قَضَائِهِ، وَيُقَالُ: أَنْتَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، أَيْ: مُسْتِقَرٌّ. فَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْإِيلَاجِ وَالتَّسْخِيرِ مُلَابِسٌ لِحَقِّيَّةِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْطُوفَانِ مَعْطُوفَيْنِ على الْمَجْرُور بِالْبَاء، أَيْ مُلَابِسٌ لِكَوْنِ اللَّهِ إِلَهًا حَقًّا، وَلِكَوْنِ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ بَاطِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَلِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَالْمُلَابَسَةُ الْمُفَادَةُ بِالْبَاءِ هِيَ مُلَابَسَةُ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ وَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ بِدُونِ تَكَلُّفٍ، وَيَزْدَادُ وُقُوعُ جُمْلَةِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْقِعِ النَّتِيجَةِ وُضُوحًا. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ لِلِاخْتِصَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لُقْمَان: 26] . والْعَلِيُّ: صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الْقُدْسِيَّةُ وَالشَّرَفُ. والْكَبِيرُ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكِبَرِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ عَظَمَةُ الشَّأْنِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [63] مَعَ زِيَادَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ. [31- 32] [سُورَة لُقْمَان (31) : الْآيَات 31 إِلَى 32] أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) اسْتِئْنَافٌ جَاءَ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِئْنَافَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لُقْمَان: 20] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [لُقْمَان: 29] ، وَجِيءَ بِهَا غَيْرَ مُتَعَاطِفَةٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى مَا تخَلّل بَينهَا، وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الثَّالِثُ دَلِيلًا ثَالِثًا عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالِمِ وَتَوْفِيقِ الْبَشَرِ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا هَيَّأَهُ اللَّهُ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ. فَلَمَّا أَتَى الِاسْتِئْنَافَانِ الْأَوَّلَانِ عَلَى دَلَائِلِ صُنْعِ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاءَ فِي هَذَا الثَّالِثِ دَلِيلٌ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ بِخَلْقِ الْبَحْرِ وَتَيْسِيرِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي إِقَامَةِ نِظَامِ

الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ. وَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى اتِّخَاذِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ مُوجِبَاتِ الشُّكْرِ دَوَاعِيَ كُفْرٍ. فَكَانَ خَلْقُ الْبَحْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ مُيَسِّرًا لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَسْفَارِ فِيهِ حِينَ لَا تُغْنِي طُرُقُ الْبَرِّ فِي التَّنَقُّلِ غَنَاءً فَجَعَلَهُ قَابِلًا لِحَمْلِ الْمَرَاكِبِ الْعَظِيمَةِ، وَأَلْهَمَ الْإِنْسَانَ لِصُنْعِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ تَحْفَظُهَا مِنَ الْغَرَقِ فِي عُبَابِ الْبَحْرِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ تَوَالِي الرِّيَاحِ وَالْمَوْجِ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحِيلَةِ فِي مُصَانَعَتِهَا إِذَا طَرَأَتْ حَتَّى تَنْجَلِيَ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ هَذَا الْجَرْيَ بِمُلَابَسَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّمَا مَخَرَتْ بِهِمُ الْفُلْكُ فِي الْبَحْرِ كَانُوا مُلَابِسِينَ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالسَّلَامَةِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ نَادِرَةٍ، وَقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ أَمْرًا فِي قَوْلِهِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [65] ، أَيْ: بِتَقْدِيرِهِ وَنِظَامِ خَلْقِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [65] ، وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ [22] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [65] . وَيَتَعَلَّقُ لِيُرِيَكُمْ بِ تَجْرِي أَيْ: تَجْرِي فِي الْبَحْرِ جَرْيًا، عِلَّةُ خَلْقِهِ أَنْ يُرِيَكُمُ اللَّهُ بَعْضَ آيَاتِهِ، أَيْ: آيَاتِهِ لَكُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْآيَاتِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِيُرِيَكُمْ وَجَرْيُ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُدْرَةِ فِي بَدِيعِ الصُّنْعِ أَنْ خَلَقَ مَاءَ الْبَحْرِ بِنِظَامٍ، وَخَلَقَ الْخَشَبَ بِنِظَامٍ، وَجَعَلَ لِعُقُولِ النَّاسِ نِظَامًا فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِمْكَانُ سَيْرِ الْفُلْكِ فَوْقَ عُبَابِ الْبَحْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَرْيَ السُّفُنِ فِيهِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ تَسْخِيرِهِ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ آيَةً لِلنَّاسِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ انْحِصَارُ الْغَرَضِ مِنَ الْمُعَلَّلِ فِي مَدْخُولِهَا لِأَنَّ الْعِلَلَ جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيل لجملة لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ. وَلَهَا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ إِذْ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: كَيْفَ لَمْ يَهْتَدِ الْمُشْرِكُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ؟ فَأُفِيدَ أَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِدَلَالَتِهَا عَلَى

مَدْلُولِهَا هُوَ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، ثَنَاءً عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ صَرِيحًا، وَتَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدَلَالَتِهَا. وَاقْتِرَانُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ أَنَّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ معنى التَّعْلِيل والتسبب. وَجَعَلَ ذَلِكَ عِدَّةَ آيَاتٍ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَائِلَ كَثِيرَةً، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُفَارِقُهُمُ الْوَصْفَانِ. وَالصَّبَّارُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَوْصُوفِ بِالصَّبْرِ، وَالشَّكُورُ كَذَلِكَ، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُفَارِقُهُمُ الْوَصْفَانِ. وَهَذَانِ وَصْفَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي الصَّبْرِ لِلضَّرَّاءِ وَالشُّكْرِ لِلسَّرَّاءِ إِذْ يرجون بهما رِضَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ وَالزِّيَادَةِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ تَخَلَّقُوا بِذَلِكَ بِمَا سَمِعُوا مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْوَصْفَيْنِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدَّيْهِمَا قَالَ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَة: 177] ، وَقَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: 7] فَهُمْ بَيْنَ رَجَاءِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْحَيَاةِ الْخَالِدَةِ ذَاتِ الْجَزَاءِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ وَنَهَى، فَصَارَا لَهُمْ خُلُقًا تَطَبَّعُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفَارِقَاهُمُ الْبَتَّةَ أَوْ إِلَّا نَادِرًا فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَنَظَرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَى الْحَيَاةِ الْحَاضِرَةِ فَهُمْ أُسَرَاءُ الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ فَإِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ ضَجِرُوا وَإِذَا أَصَابَهُمْ نَفْعٌ بَطَرُوا، فَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا رَمْزِيًّا بِالْمُشْرِكِينَ. وَوَجْهُ إِيثَارِ خُلُقَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ هُنَا لِلْكِنَايَةِ بِهِمَا، من بَين شُعَبِ الْإِيمَانِ، أَنَّهُمَا أَنْسَبُ بِمَقَامِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ إِذْ رَاكِبُ الْبَحْرِ بَيْنَ خَطَرٍ وَسَلَامَةٍ وَهُمَا مَظْهَرُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] . وَفِي قَوْلِهِ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ حُسْنُ التَّخَلُّصِ إِلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي عَقَّبَهُ فِي قَوْلِهِ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ الْآيَةَ، فَعُطِفَ عَلَى آيَاتِ سَيْرِ الْفُلْكِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عِنْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا فِي حَالِ السَّلَامَةِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [65] : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ

دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [22] : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ الْآيَاتِ. وَالْغِشْيَانُ: مستعار للمجيء المفاجئ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْطِيَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَالظُّلَلُ: بِضَمِّ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ: جَمْعُ ظُلَّةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ: مَا أَظَلَّ مِنْ سَحَابٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ تَدُلُّ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمُ انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي. وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ الْفَاءَ دَاخِلَةً عَلَى جَوَابِ لَمَّا أَيْ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ وَمُخَالِفُوهُ يَمْنَعُونَ اقتران جَوَاب فَلَمَّا بِالْفَاءِ كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَالْمُقْتَصِدُ: الْفَاعِلُ لِلْقَصْدِ وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَالْمَقَامُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِصَادُ فِي الْكُفْرِ لِوُقُوعِ تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ وَلِقَوْلِهِ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [65] فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُقْتَصِدُ عَلَى الَّذِي يَتَوَسَّطُ حَالُهُ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَضِدِّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ [الْمَائِدَة: 66] . وَالْجَاحِدُ الْكَفُورُ: هُوَ الْمُفْرِطُ فِي الْكُفْرِ وَالْجَحْدُ. وَالْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ وَالنَّفْيُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [33] . وَعُلِمَ أَنَّ هُنَالِكَ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ الْمُوقِنُ بِالْآيَاتِ الشَّاكِرُ لِلنِّعْمَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرَ [32] فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ، وَهَذَا الِاقْتِصَارُ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا أَيْ: وَالثُّلْثُ الْآخَرُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَالْخَتَّارُ: الشَّدِيدُ الْخَتْرِ، وَالْخَتْرُ: أَشَدُّ الْغَدْرِ. وَجُمْلَةُ وَما يَجْحَدُ إِلَى آخِرِهَا تَذْيِيلٌ لِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ جَاحِدٍ سَوَاءٌ مَنْ جَحَدَ آيَةَ

[سورة لقمان (31) : آية 33]

سَيْرِ الْفُلْكِ وَهَوْلِ الْبَحْرِ وَيَجْحَدُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ وَمَنْ يَجْحَدُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ. وَالْمَعْنَى: وَمِنْهُمْ جَاحِدٌ بِآيَاتِنَا. وَفِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ بِآياتِنا الْتِفَاتٌ. وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِتَأْكِيدِ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ قَوْله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: 59] . [33] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 33] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنْ لَمْ يَكُنْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابًا خَاصًّا بِالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْمُشْرِكَ وَالْمُعَطِّلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ إِذِ الْجَمِيعُ مَأْمُورُونَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَنَّ الْخُطُوَاتِ الْمُوصِلَةَ إِلَى التَّقْوَى مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ بُعْدِ السَّائِرِينَ عَنْهَا، وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ السُّورَةِ حُظُوظٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحُظُوظٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُعَقَّبَ بِمَا يَصْلُحُ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ خَاصًّا بِالْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى: الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْآيَاتِ مَوْقِعُ مَقْصِدِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ مُقَدِّمَاتِهَا إِذْ كَانَتِ الْمُقَدِّمَاتُ الْمَاضِيَةُ قَدْ هَيَّأَتِ النُّفُوسَ إِلَى قَبُولِ الْهِدَايَةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَإِنَّ لِاصْطِيَادِ الْحُكَمَاءِ فُرَصًا يَحْرِصُونَ عَلَى عَدَمِ إِضَاعَتِهَا، وَأَحْسَنُ مُثُلِهَا قَوْلُ الْحَرِيرِيِّ فِي «الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ» : «فَلَمَّا أَلْحَدُوا الْمَيْتَ، وَفَاتَ قَوْلُ لَيْتَ، أَشْرَفَ شَيْخٌ من رباوة، متحضر بِهَرَاوَةٍ، فَقَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، فَاذْكُرُوا أَيُّهَا الْغَافِلُونَ، وَشَمِّرُوا أَيُّهَا الْمُقَصِّرُونَ» إِلَخْ ... فَأَمَّا الْقُلُوبُ الْقَاسِيَةُ، وَالنُّفُوسُ الْمُتَعَاصِيَةُ، فَلَنْ تَأْسُوَهَا آسِيَةٌ.

وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْقِعِ جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ. وَالتَّقْوَى تَبْتَدِئُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْتَهِي إِلَى اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ [32] . وَخَشْيَةُ الْيَوْمِ: الْخَوْفُ مِنْ أَهْوَالِ مَا يَقَعُ فِيهِ إِذِ الزَّمَانُ لَا يُخْشَى لِذَاتِهِ، فَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَالْأَمْرُ بِخَشْيَتِهِ تَتَضَمَّنُ وُقُوعَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ حَظُّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى صَارَ سِمَةً عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الْفرْقَان: 21] . وَجُمْلَةُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ إِلَخْ صِفَةُ يَوْمٍ وَحُذِفَ مِنْهَا الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِ (فِي) تَوَسُّعًا بِمُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ كَقَوْلِهِ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] . وَجَزَى إِذَا عُدِّيَ بِ عَنْ فَهُوَ بِمَعْنَى قَضَى عَنْهُ وَدَفَعَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُتَقَاضِي: الْمُتَجَازِي. وَجُمْلَةُ وَلا مَوْلُودٌ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى الصِّفَةِ ومَوْلُودٌ مُبْتَدَأٌ. وهُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ. وجازٍ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَذِكْرُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ هُنَا لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَحَبَّةً وحمية من غَيرهم فَيُعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُمَا أَوْلَى بِهَذَا النَّفْيِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَة [عبس: 34- 35] . وابتدئ بالوالد لِأَنَّهُ أَشَدُّ شَفَقَةً عَلَى ابْنِهِ فَلَا يَجِدُ لَهُ مَخْلَصًا مِنْ سُوءٍ إِلَّا فِعْلَهُ. وَوَجْهُ اخْتِيَارِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ هُنَا دُونَ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [123] ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَأَهْلُهَا يَوْمَئِذٍ خَلِيطٌ مِنْ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا وَالْوَلَدُ كَافِرًا وَرُبَّمَا كَانَ الْعَكْسُ، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْكَافِرِينَ حِينَ تُدَاخِلُهُمُ الظُّنُونُ فِي مَصِيرِهِمْ

بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ صِدْقُ وَعِيدِ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ مَنْ لَهُ أَبٌ مُسْلِمٌ أَوِ ابْنٌ مُسْلِمٌ يَدْفَعُ عَنْهُ هُنَالِكَ بِمَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى رَبِّ هَذَا الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ قَارًّا فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ التَّعْوِيلُ عَلَى الْمَوْلَى وَالنَّصِيرِ تَعْوِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَمِيَّةَ وَالْأَنَفَةَ تَدْفَعُهُمْ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُخْتَلِفِينَ لَهُمْ لِضِيقِ عَطَنِ أَفْهَامِهِمْ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ عَلَى مُعْتَادِهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ جَزَاءِ الْوَالِدِ عَنْ وَلَدِهِ وَبَيْنَ نفي جَزَاء الْوَالِد عَنْ وَالِدِهِ لِيَشْمَلَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَالَتَيْنِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَرْجَى فِي الْمَقْصُودِ. ثُمَّ أُوثِرَتْ جُمْلَةُ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً بِطُرُقٍ مِنَ التَّوْكِيدِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى مِثْلِهَا جُمْلَةُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّهَا نُظِمَتْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَوُسِّطَ فِيهَا ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَجُعِلَ النَّفْيُ فِيهَا مُنْصَبًّا إِلَى الْجِنْسِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِيثَارِ مُبَالَغَةُ تَحْقِيقِ عَدَمِ جُزْءِ هَذَا الْفَرِيقِ عَنِ الْآخَرِ إِذْ كَانَ مُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالشَّبَابِ، وَكَانَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ فِي الْغَالِبِ عَلَى الشِّرْكِ مِثْلُ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي طَالِبٍ وَالِدِ عَلِيٍّ، وَأُمِّ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأُرِيدَ حَسْمُ أَطْمَاعِ آبَائِهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَطْمَاعِهِمْ أَنْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِشَيْءٍ. وَعُبِّرَ فِيهَا بِ مَوْلُودٌ دُونَ (وَلَدٍ) لِإِشْعَارِ مَوْلُودٌ بِالْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيِّ دُونَ (وَلَدٍ) الَّذِي هُوَ اسْمٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَامِدِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّلَةَ الرَّقِيقَةَ لَا تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا التَّعَرُّضَ لِنَفْعِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ فِي الْآخِرَةِ وَفَاءً لَهُ بِمَا تومىء إِلَيْهِ الْمَوْلُودِيَّةُ مِنْ تَجَشُّمِ الْمَشَقَّةِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ، فَلَعَلَّهُ يَتَجَشَّمُ الْإِلْحَاحَ فِي الْجَزَاءِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ حَسْمًا لِطَمَعِهِ فِي الْجَزَاءِ عَنْهُ، فَهَذَا تَعْكِيسٌ لِلتَّرْقِيقِ الدُّنْيَوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: 24] وَقَوْلِهِ: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَان: 15] . وَجُمْلَةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عِلَّةٌ لِجُمْلَتَيِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً. وَوَعْدُ اللَّهِ: هُوَ الْبَعْثُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29- 30] . وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ مُرَاعَاةً لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِنْكَارِهِ

مُشَاهَدَةَ النَّاسِ يَمُوتُونَ وَيَخْلُفُهُمْ أَجْيَالٌ آخَرُونَ وَلَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِمَّنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام: 29] . فُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ إِبْطَالُ شُبْهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، أَيْ لَا تَغُرَّنَّكُمْ حَالَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنْ تَتَوَهَّمُوا الْبَاطِلَ حَقًّا وَالضُّرَّ نَفْعًا، فَإِسْنَادُ التَّغْرِيرِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الدُّنْيَا ظَرْفُ الْغَرُورِ أَوْ شُبْهَتُهُ، وَفَاعِلُ التَّغْرِيرِ حَقِيقَةً هُمُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِالْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ فَيُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ إِبْطَاءَ الشَّيْءِ بِاسْتِحَالَتِهِ فَذُكِرَتْ هُنَا وَسِيلَةُ التَّغْرِيرِ وَشُبْهَتُهُ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِلتَّغْرِيرِ وَهُوَ الْغَرُورُ. والْغَرُورُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ-: مَنْ يَكْثُرُ مِنْهُ التَّغْرِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ وَمَا يَلِيهِ فِي نُفُوسِ دُعَاةِ الضَّلَالَةِ مِنْ شُبَهِ التَّمْوِيهِ لِلْبَاطِلِ فِي صُورَةٍ وَمَا يُلْقِيهِ فِي نُفُوسِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ تَغْرِيرِهِمْ. وَعُطِفَ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِمَّنْ يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الشُّبَهَ أَوْ مِنْ أَوْهَامِ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي تُخَيِّلُ لَهُمُ الْبَاطِلَ حَقًّا لِيَهِمُوا آرَاءَهُمْ. وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغُرُورِ الشَّيْطَانُ أَوْ مَا يَشْمَلُهُ فَذَلِكَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] ، فَفِي التَّحْذِيرِ شَوْبٌ مِنَ التَّنْفِيرِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ هِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] . وَقَرَّرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ مَعْنَى الْبَاءِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ السَّبَبُ شَأْنًا من شؤون اللَّهِ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ لَا ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالَّذِي يُنَاسِبُ هُنَا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُسَوِّلُهُ الْغَرُورُ لِلْمُشْرِكِينَ كَتَوَهُّمِ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَاقْتِنَاعِهِمْ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبت الْبَعْث على احْتِمَالٍ مَرْجُوحٍ عِنْدَهُمْ شَفَعَتْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَصْنَامُهُمْ، أَوْ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ الْبَعْثَ كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَعَثَ آبَاءَهُمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، أَوْ أَنْ يَغُرَّهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ بَعْثَ النَّاسِ لَعَجَّلَ لَهُمْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] فَذَلِكَ كُلُّهُ غُرُورٌ لَهُم مسبب بشؤون اللَّهِ تَعَالَى. فَفِي

[سورة لقمان (31) : آية 34]

هَذَا مَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْبَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [14] . وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْغَرُورِ بِالْبَاءِ قَرِيبٌ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي أَيْ: لَا يَغُرَّنَّكِ مِنْ مُعَامَلَتِي مَعَكِ أَنَّ حبك قاتلي. [34] [سُورَة لُقْمَان (31) : آيَة 34] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) كَانَ مِنْ جُمْلَةِ غَرُورِهِمْ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ عَدَمَ إِعْلَامِ النَّاسِ بِتَعْيِينِ وَقْتِهِ أَمَارَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] وَقَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 17، 18] ، فَلَمَّا جَرَى فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُعْقِبَتْ بِأَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِوُقُوعِهَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. وَالْجُمَلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي بَعْدَهَا إِدْمَاجٌ لِجَمْعِ نَظَائِرِهَا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ سَمَّاهُ فِي «الْكَشَّافِ» الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو وَوَقع فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ تَسْمِيَتُهُ الْوَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ وَقَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُنَا فَمَتَى تُخْصِبُ؟ وَتَرَكْتُ امْرَأَتِي حُبْلَى فَمَا تَلِدُ؟ وَمَاذَا أَكْسِبُ غَدًا؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ أَمُوتُ؟، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا يُدْرَى سَنَدُ هَذَا. وَنُسِبَ إِلَى عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُ مُقْتَضَى السِّيَاقِ. وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ تَحْقِيقَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ وُقُوعِهَا. وَفِي كَلِمَةٍ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الْعِلْمِ لِأَنَّ

الْعِنْدِيَّةَ شَأْنُهَا الِاسْتِئْثَارُ. وَتَقْدِيمُ عِنْدَ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْنَدٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادٌ بِهِ مُجَرَّدَ التَّقْوَى. وَجُمْلَةُ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، فَيُفِيدُ التَّخْصِيصَ بِتَنْزِيلِ الْغَيْثِ. وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا عِنْدَهُ عِلْمُ وَقْتِ نُزُولِ الْغَيْثِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ وَلَكِنْ نُظِمَتِ الْجُمْلَةُ بِأُسْلُوبِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِيَحْصُلَ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِئْثَارِ بِالْعِلْمِ بِهِ الِامْتِنَانُ بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ. وَفِي اخْتِيَارِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِفَادَةُ أَنَّهُ يُجَدِّدُ إِنْزَالَ الْغَيْثِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ عِنْدَ احْتِيَاجِ الْأَرْضِ. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ قَدَّرُوا: يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، بِتَقْدِيرِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ طَرَفَةَ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى لِلْبَوْنِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ وَتَفَاوُتِ الدَّرَجَتَيْنِ فِي الْبَلَاغَةِ. وَإِذْ قَدْ جَاءَ هَذَا نَسَقًا فِي عِدَادِ الْحَصْرِ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا خَبَرًا عَنْ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ مُقَدَّمٍ مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ بِالْقَرِينَةِ فَالْمَعْنَى: وَيَنْفَرِدُ بِعِلْمِ وَقْتِ نُزُولِ الْغَيْثِ مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ وَضَبْطِ وَقْتٍ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ أَيْ: يَنْفَرِدُ بِعِلْمِ جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ ثُمَّ مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِبَّانَ وَضْعِهِ بِالتَّدْقِيقِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ الْعِلْمِ بِتَبَدُّلِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ وَالْأَحْوَالِ. وَالْمَعْنَى: يَنْفَرِدُ بِعِلْمِ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا النَّاسُ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا قَصَدَ مِنْهُ الْحَصْرَ فَكَانَ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فَقَدْ نُسِجَ عَلَى مِنْوَالٍ آخَرَ مِنَ النَّظْمِ فَجُعِلَ سُدَاهُ نَفْيَ عِلْمِ أَيَّةِ نَفْسٍ بِأَخَصِّ أَحْوَالِهَا وَهُوَ حَالُ اكْتِسَابِهَا الْقَرِيبُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي يَوْمَ تَأَمُّلِهَا وَنَظَرِهَا، وَكَذَلِكَ مَكَانُ انْقِضَاءِ حَيَاتِهَا لِلنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي

قِلَّةِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى عِلْمِ أَعْظَمِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ حَادِثُ فَنَائِهِ وَانْقِرَاضِهِ وَاعْتِيَاضِهِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ. وَهَذَا النَّفْيُ لِلدِّرَايَةِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِمَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَالْعِلْمُ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَحَصَلَتْ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ فَكَانَا فِي ضميمة مَا انْتَظَمَ مَعَهُمَا مِمَّا تَقَدَّمَهُمَا. وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ نَفْيِ مَعْرِفَةِ النَّاسِ بِفِعْلِ الدِّرَايَةِ لِأَنَّ الدِّرَايَةَ عِلْمٌ فِيهِ مُعَالَجَةٌ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَلِذَلِكَ لَا يُعَبَّرُ بِالدِّرَايَةِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَالُ: اللَّهُ يَدْرِي كَذَا، فَيُفِيدُ: انْتِفَاءَ عِلْمِ النَّاسِ بَعْدَ الْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِمَا بِقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ. وَقَدْ عَلَّقَ فِعْلَ الدِّرَايَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ بَعْدَهُمَا، أَيْ مَا تَدْرِي هَذَا السُّؤَالَ، أَيْ جَوَابَهُ. وَقَدْ حَصَلَ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ بِأَفَانِينَ بَدِيعَةٍ مِنْ أَفَانِينِ الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَام: 59] . فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: « ... فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السَّاعَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ ... » . وَمَعْنَى حَصْرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْمَفَاتِحِ أَنَّهَا تَكُونُ مَجْهُولَةً لِلنَّاسِ فَإِذَا وَقَعَتْ فَكَأَنَّ وُقُوعَهَا فَتْحٌ لِمَا كَانَ مُغْلَقًا وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فَخَفَاؤُهَا عَنْهُمْ مُتَفَاوِتٌ وَيُمْكِنُ لِبَعْضِهِمْ تَعْيِينُهَا مِثْلُ تَعْيِيِنِ يَوْمِ كَذَا لِلزِّفَافِ وَيَوْمِ كَذَا لِلْغَزْوِ وَهَكَذَا مَوَاقِيتُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ مُقَارَنَاتُ الْأَزْمِنَةِ مِثْلَ: يَوْمِ كَذَا مَدْخَلُ الرَّبِيعِ فَلَا تَجِدُ مُغَيَّبَاتٍ لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِمَعْرِفَةِ وُقُوعِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ غَيْرَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَأَمَّا فِي الْعَوَالِمِ الْأُخْرَى وَفِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَالْمُغَيَّبَاتُ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَتْ لَهَا مَفَاتِحُ عِلْمٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [لُقْمَان: 33] كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ [لُقْمَانَ: 16] : إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ عَقِبَ قَوْلِهِ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ الْآيَة [لُقْمَان: 16] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَدَى وَعْدِهِ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِكُمْ مِمَّا جَمَعَهُ قَوْلُهُ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً إِلَخْ وَلِذَا جَمَعَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ: صِفَةِ عَلِيمٌ وَصِفَةِ خَبِيرٌ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَخَصُّ.

32- سورة السجدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 32- سُورَةُ السَّجْدَةِ أَشْهَرُ أَسْمَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ سُورَةُ السَّجْدَةِ، وَهُوَ أَخْصَرُ أَسْمَائِهَا، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي السَّطْرِ الْمَجْعُولِ لِاسْمِ السُّورَةِ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمُتَدَاوَلَةِ. وَبِهَذَا الِاسْمِ تَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ كَلِمَةِ سُورَةٍ إِلَى كَلِمَةِ السَّجْدَةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ كَلِمَةِ الم مَحْذُوفَةً لِلِاخْتِصَارِ إِذْ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى السَّجْدَةِ فِي تَعْرِيفِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ سَجْدَةٌ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا الم تَنْزِيلُ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ [السَّجْدَة: 1، 2] وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكُ: 1] . وَتُسَمَّى الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِنْسَانِ: 1] . قَالَ شَارِحُو «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ضَبْطُ اللَّامِ مِنْ كَلِمَةِ تَنْزِيلُ بِضَمَّةٍ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ السَّجْدَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِالنَّصْبِ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ وَالْقَسْطَلَانِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ- يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِلَفْظِ الم تَنْزِيلُ-، وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّجْدَةِ لَيْسَ اسْمًا لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا بِإِضَافَةِ (سُورَةٍ) إِلَى (السَّجْدَةِ) ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ (السَّجْدَةِ) فِي كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَجْرُورًا بِإِضَافَةِ مَجْمُوعِ الم تَنْزِيلُ إِلَى لَفْظِ (السَّجْدَةِ) ، وَسَأُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ. وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» : «سُورَةُ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ» . وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُ مَضْمُومًا عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، فَتَمَيَّزَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِوُقُوعِ سَجْدَةِ تِلَاوَةٍ فِيهَا مِنْ

بَيْنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ الم، فَلِذَلِكَ فَمَنْ سَمَّاهَا سُورَةَ السَّجْدَةِ عَنَى تَقْدِيرَ مُضَافٍ أَيْ سُورَةُ الم السَّجْدَةِ. وَمَنْ سَمَّاهَا تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ «الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ» بِجَعْلِ الم تَنْزِيلُ اسْمًا مُرَكَّبًا ثُمَّ إِضَافَتِهِ إِلَى السَّجْدَةِ، أَيْ ذَاتِ السَّجْدَةِ، لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ وَالْإِيضَاحِ، وَإِلَّا فَإِنَّ ذِكْرَ كَلِمَةِ تَنْزِيلُ كَافٍ فِي تَمْيِيزِهَا عَمَّا عَدَاهَا مِنْ ذَوَاتِ الم ثُمَّ اخْتَصَرَ بِحَذْفِ الم وَإِبْقَاءِ تَنْزِيلُ، وَأُضِيفَ تَنْزِيلُ إِلَى السَّجْدَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي تَوْجِيهِ تَسْمِيَتِهَا الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ. وَمَنْ سَمَّاهَا الم السَّجْدَةِ فَهُوَ عَلَى إِضَافَةِ الم إِلَى السَّجْدَةِ إِضَافَةً عَلَى مَعْنَى اللَّامِ وَجَعْلِ الم اسْمًا لِلسُّورَةِ. وَمَنْ سَمَّوْهَا الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِهَا فِي «شُرُوحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَلَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنَ «الْجَامِعِ الصَّحِيحِ» ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الم مُضَافًا إِلَى تَنْزِيلُ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ اسْمٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ مَحْكِيٌّ لَفْظُهُ، فَتَكُونُ كَلِمَةُ تَنْزِيلُ مَضْمُومَةً عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِهَا الْقُرْآنِيِّ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ هَذَا الْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ اعْتِبَارَ الْعَلَمِ مِثْلُ: عَبْدِ اللَّهِ، وَيُعْتَبَرُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ مُضَافًا إِلَى السَّجْدَةِ إِضَافَةَ الْمُفْرَدَاتِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مَالِكٍ إِذْ أَضَافَ مَجْمُوعَ (ابْنِ عَمِّ) إِلَى (الصِّدْقِ) ، وَلَمْ يُرِدْ إِضَافَةَ عَمِّ إِلَى الصِّدْقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَحَدِ الطَّائِيِّينَ فِي «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ» : دَاوِ ابْنَ عَمِّ السُّوءِ بِالنَّأْيِ وَالْغِنَى ... كَفَى بِالْغِنَى وَالنَّأْيِ عَنْهُ مُدَاوِيَا فَإِنَّهُ مَا أَرَادَ وَصْفَ عَمِّهِ بِالسُّوءِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ وَصْفَ ابْنِ عَمِّهِ بِالسُّوءِ. فَأَضَافَ مَجْمُوعَ ابْنِ عَمٍّ إِلَى السُّوءِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ كَلْبٍ فِي «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ» : هَنِيئًا لِابْنِ عَمِّ السُّوءِ أَنِّي ... مُجَاوِرَةٌ بَنِي ثُعَلٍ لَبُونِي وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي «الْحَمَاسَةِ» :

فَلَمَّا عَرَفْتُ الْيَأْسَ مِنْهُ وَقَدْ بَدَتْ ... أَيَادِي سَبَا الْحَاجَاتِ لِلْمُتَذَكِّرِ فَأَضَافَ مَجْمُوعَ (أَيَادِي سَبَا) وَهُوَ كَالْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ إِلَى الْحَاجَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ رُجَّازِهِمْ: أَنَا ابْنُ عَمِّ اللَّيْلِ وَابْنُ خَالِهِ ... إِذَا دُجًى دَخَلْتُ فِي سِرْبَالِهِ فَأَضَافَ (ابْنُ عَمِّ) إِلَى لَفْظِ (اللَّيْلِ) ، وَأَضَافَ (ابْنُ خَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ (اللَّيْلِ) عَلَى مَعْنَى أَنَا مُخَالِطُ اللَّيْلِ، وَلَا يُرِيدُ إِضَافَةَ عَمٍّ وَلَا خَالٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَمِنْ هَذَا اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، فَالْمُضَافُ إِلَى (الرُّقَيَّاتِ) هُوَ مَجْمُوعُ الْمُرَكَّبِ إِمَّا (عَبْدُ اللَّهِ) ، أَوِ (ابْنُ قَيْسٍ) لَا أَحَدُ مُفْرَدَاتِهِ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ إِضَافَةِ الْعَدَدِ الْمُرَكَّبِ إِلَى مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْعَدَدِ عَلَى بِنَائِهِ كَمَا تَقُولُ: أَعْطِهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ. وَتُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ أَيْضًا سُورَةَ الْمَضَاجِعِ لِوُقُوعِ لَفْظِ الْمَضاجِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: 16] . وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ «مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ» أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ (¬1) سَمَّاهَا: الْمُنْجِيَةَ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا يَقْرَؤُهَا مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنَشَرَتْ جَنَاحَهَا وَقَالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ قِرَاءَتِي فَشَفَّعَهَا الرَّبُّ فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ حَسَنَةً وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً اهـ. وَقَالَ الطَّبَرَسِيُّ: تُسَمَّى (سُورَةَ سَجْدَةِ لُقْمَانَ) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِسُورَةِ (حم السَّجْدَةِ) ، أَيْ كَمَا سَمَّوْا سُورَةَ (حم السَّجْدَةِ) وَهِيَ سُورَةُ فُصِّلَتْ (سُورَةَ سَجْدَةِ الْمُؤْمِنِ) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي إِطْلَاقِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ اسْتِثْنَاءُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ وَهِيَ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ ¬

(¬1) خَالِد بن معدان الكلَاعِي الْحِمصِي أَبُو عبد الله من فُقَهَاء التَّابِعين. توفّي سنة ثَلَاث أَو أَربع أَو ثَمَان وَمِائَة، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مُرْسلا.

من أغراض هذه السورة

فاسِقاً إِلَى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: 18- 21] . قِيلَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَسَيَأْتِي إِبْطَالُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ آيَتَيْنِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ إِلَى بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السَّجْدَة: 16- 17] لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالَّذِي نُعَوِّلُ عَلَيْهِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ إِنْ هُوَ إِلَّا تَأْوِيلٌ أَوْ إِلْحَاقُ خَاصٍّ بِعَامٍّ كَمَا أَصَّلْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّحْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ نُوحٍ، وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةَ وَالسَبْعِينَ فِي النُّزُولِ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَادِّينَ ثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا الْبَصْرِيُّونَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ. مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ مُفْتَرًى بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمُ التَّشَرُّفُ بِنُزُولِ كِتَابٍ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ بِإِثْبَاتِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِأَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمَا. وَذِكْرُ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى كَيْفِيَّةِ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَنَسْلِهِ، وَتَنْظِيرِهِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ، وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِمُسْدِيهَا. وَالْإِنْحَاءُ عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ وَوَعِيدُهُمْ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَوَعْدُهُمْ، وَمُقَابَلَةُ إِيمَانِهِمْ بِكُفْرِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِثْبَاتُ رِسَالَةِ رَسُولٍ عَظِيمٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَى بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً. وَالتَّذْكِيرُ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِظَةً لِلْحَاضِرِينَ، وَتَهْدِيدُهُمْ بِالنَّصْرِ الْحَاصِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِانْتِظَارِ النَّصْرِ. وَأَمَرَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُم تَحْقِيرًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُ بِانْتِظَارِ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ.

[سورة السجده (32) : آية 1]

وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ السُّورَةِ وَفَضَائِلِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ [السَّجْدَةِ: 1- 2] وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْملك: 1] . [1] [سُورَة السجده (32) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَقَدَّمَ مَا فِي نَظَائِره. [2] [سُورَة السجده (32) : آيَة 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ جَامِعُ الْهُدَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ وَغَيْرُهَا وَلِأَنَّ جِمَاعَ ضَلَالِ الضَّالِّينَ هُوَ التَّكْذِيبُ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَاللَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ وخصّ الْعَرَب أَن شَرَّفَهُمْ بِجَعْلِهِمْ أَوَّلَ مَنْ يَتَلَقَّى هَذَا الْكِتَابَ، وَبِأَنْ أَنْزَلَهُ بِلُغَتِهِمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ أَشَدُّ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، لَا جَرَمَ أَنَّ تَكْذِيبَ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ أَعْرَقُ فِي الضَّلَالَةِ وَأَوْغَلُ فِي أَفْنِ الرَّأْيِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ لِإِطَالَتِهِ لِيَحْصُلَ بِتَطْوِيلِهِ ثُمَّ تَعْقِيبِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ التَّشْوِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ: قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [1، 2] لِأَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ نَازِلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [الْبَقَرَة: 4] وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَقَدْ جَابَهَ اللَّهُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَلَا يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَهُمْ أَصْلَبُ عُودًا، وَأَشَدُّ كُفْرًا وَصُدُودًا. فَقَوْلُهُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ جُمْلَةٌ هِيَ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ أَوْ حَالٌ أَوْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ.

[سورة السجده (32) : آية 3]

وَقَوْلُهُ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: مِنْ عِنْدِهِ وَوَحْيُهُ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ بِأُسْلُوبِ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ فَلَمْ تُجْعَلْ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ لِزِيَادَةِ التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ لِيُقَرِّرَ كَوْنَهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يَرْتَابَ أَحَدٌ فِي تَنْزِيلِهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِمَا حَفَّ بِتَنْزِيلِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ بِسَبَبِ إِعْجَازِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ مَجْمُوعِهِ، وَمَا عَضَّدَهُ مِنْ حَالِ الْمُرْسَلِ بِهِ مِنْ شُهْرَةِ الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَمَجِيءِ مِثْلِهِ مِنْ مِثْلِهِ مَعَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ. فَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّيْبُ مَظْرُوفًا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُثِيرُ الرَّيْبَ، فَالَّذِينَ ارْتَابُوا بَلْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَنِّتِينَ عَلَى عِلْمٍ، أَوْ جُهَّالًا يَقُولُونَ قَبْلَ أَن يتأملوا وينظروا وَالْأَوَّلُونَ زُعَمَاؤُهُمْ وَالْأَخْيَرُونَ دَهْمَاؤُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عُمُومِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِ كِتَابِهَا مُنَزَّلًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمْ بِهِ أَنَّهُ كَيْفَ خَصَّ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ بَشَرًا مِنْهُمْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ رُبُوبِيَّةَ الله للْعَالمين تنبىء عَنْ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته. [3] [سُورَة السجده (32) : آيَة 3] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) جَاءَتْ أَمْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ، وَهِيَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بل الَّتِي للإضراب.

وَحَيْثُمَا وَقَعَتْ أَمْ فَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِاسْتِفْهَامٍ بِالْهَمْزَةِ بَعْدَهَا الْمُلْتَزِمُ حَذْفُهَا بَعْدَ أَمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَهَا هُنَا تَعْجِيبِيٌّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ الشَّنِيعَ وَعَلِمَهُ النَّاسُ عَنْهُمْ فَلَا جَرَمَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَبْدَوْا بِهِ أَمْرًا غَرِيبًا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ لَدَى الْعُقَلَاءِ ذَوي الْأَحْلَامِ الرَّاجِحَةِ وَالنُّفُوسِ الْمُنْصِفَةِ، إِذْ دَلَائِلُ انْتِفَاءِ الرَّيْبِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاضِحَةٌ بَلْهَ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَصِيَغُ الْخَبَرِ عَنْ قَوْلِهِمُ الْعَجِيبِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ تَحْقِيقًا لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُ حَتَّى لَا تَغْفَلَ عَنْ حَالِ قَوْلِهِمْ أَذْهَانُ السَّامِعِينَ كَلَفْظِ (تَقُولُ) فِي بَيْتِ هُذْلُولٍ الْعَنْبَرِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: تَقُولُ وَصَكَّتْ صَدْرَهَا بِيَمِينِهَا ... أَبَعْلِيَ هَذَا بِالرَّحَى الْمُتَقَاعِسِ وَفِي الْمُضَارِعِ مَعَ ذَلِكَ إِيذَانٌ بِتَجَدُّدِ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهَا عَلَى الرَّغْمِ مِمَّا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ رغم افْتِضَاحِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَقَامِ حِكَايَةِ مَقَالِهِمُ الْمُشْتَهَرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ [السَّجْدَة: 2] . وَأُضْرِبَ عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَراهُ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ بِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَمَعْنَى الْحَقِّ: الصِّدْقُ، أَيْ: فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْهُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ تَحْقِيقَ الْجِنْسِيَّةِ فِيهِ. أَيْ: هُوَ حَقٌّ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَعْرُوفَةُ مَاهِيَّتُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ وَالْمُفَارِقُ لِجِنْسِ الْبَاطِلِ. وَفِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ ذَرِيعَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ كَمَالِ هَذَا الْجِنْسِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِي لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: أَنْتَ الْحَبِيبُ وَعَمْرٌو الْفَارِسُ. ومِنْ رَبِّكَ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ أَكْمَلُ جِنْسِ الْحَقِّ. وَكَافُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ هُنَا بِعُنْوَانِ رَبِّكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَاءَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَراهُ، يَعْنُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مَقَامُ الرَّدِّ مُقْتَضِيًا تَأْيِيدَ مَنْ أَلْصَقُوا بِهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْكِتَابَ حَقٌّ مِنْ رَبِّ مَنْ أَلْصَقُوا بِهِ الِافْتِرَاءَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

وَتَخَلُّصًا إِلَى تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعِ الْإِحْكَامِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ يَحِقُّ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ مُرْتَابٌ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنَ الَّذِينَ جَزَمُوا بِأَنَّ الْجَائِيَ بِهِ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْحَقُّ الْكَامِلُ مِنْ رَبِّ الَّذِي نَسَبُوا إِلَيْهِ افْتِرَاءَهُ فَلَوْ كَانَ افْتَرَاهُ لَقَدِرَ اللَّهُ عَلَى إِظْهَارِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 44- 47] . ثُمَّ جَاءَ بِمَا هُوَ أَنْكَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَبْلَغُ فِي تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَأَوْغَلُ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي دَقَائِقِ الْمَعَانِي، فَبَيَّنَ مَا فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَهُمْ بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَاءَ لِأَجْلِهَا هَذَا الْكِتَابُ بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فَقَدْ جَمَعُوا مِنَ الْجَهَالَةِ مَا هُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ، عَلَى أَنَّ حَقِّيَّتَهُ مُقْتَضِيَةُ الْمُنَافَسَةِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْفِتُوا إِلَى تَقَلُّدِهِ وَعَلَى أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى الْأَخْذِ بِهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجب التَّأَمُّلُ فِي حَقِّيَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُمْ كَانُوا أَحْوَجَ إِلَى اتِّبَاعِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ فَكَانُوا أَبْعَدَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى بِمَا تَعَاقَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرُونِ دُونَ دَعْوَةِ رَسُولٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي حِرْصِهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ وَشُعُورِهِمْ بِمَزِيدِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ رَجَاءً مِنْهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا، قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: 155- 157] ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ كَمَثَلِ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ: هَلْ تَزْجُرَنَّكُمُ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ ... أَمْ لَيْسَ يَنْفَعُ فِي أُولَاكِ أُلُوكُ وَالْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ هُوَ كَالْقِوَامِ لَهُمْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَوْطِنٍ أَوْ غَرَضٍ تَجَمَّعُوا بِسَبَبِهِ. وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ فِي

النَّسَبِ إِلَى جَدٍّ اخْتَصُّوا بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ. وَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي جَدٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَقُرَيْشٌ مَثَلًا قَوْمٌ اخْتَصُّوا بِالِانْتِسَابِ إِلَى فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَتَمَيَّزُوا عَمَّنْ عَدَاهُمْ مِنْ عَقِبِ كِنَانَةَ فَيُقَالُ: فُلَانٌ قُرَشِيٌّ وَفُلَانٌ كِنَانِيٌّ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَبْنَاءِ قُرَيْشٍ كِنَانِيٌّ. وَوُصِفَ الْقَوْمُ بِأَنَّهُمْ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ قبل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنبيء حِينَئِذٍ يَدْعُو أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَرُبَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ شَمِلَتْ أَهْلَ يَثْرِبَ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرَيْشًا خَاصَّةً، أَوْ عَرَبَ الْحِجَازِ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقَبَائِلُ الْحِجَازِ، وَعَرَبُ الْحِجَازِ جِذْمَانٌ: عَدْنَانِيُّونَ وَقَحْطَانِيُّونَ فَأَمَّا الْعَدْنَانِيُّونَ فَهُمْ أَبْنَاءُ عَدْنَانَ وَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا تَقَوَّمَتْ قَوْمِيَّتُهُمْ فِي أَبْنَاءِ عَدْنَانَ: وَهُمْ مُضَرُ وَرَبِيعَةُ وَأَنْمَارٌ، وَإِيَادٌ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ مُنْذُ تَقَوَّمَتْ قَوْمِيَّتُهُمْ. وَأَمَّا جَدُّهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا نَبِيئًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَتُهُ خَاصَّةً بِأَهْلِهِ وَأَصْهَارِهِ مِنْ جُرْهُمٍ وَلَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَهُ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ لَمْ تَكُنْ دَائِمَةً وَلَا مُنْتَشِرَةً، قَالَ تَعَالَى: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: 55] . وَأَمَّا الْقَحْطَانِيُّونَ الْقَاطِنُونَ بِالْحِجَازِ مِثْلُ الْأَوْس والخزرج وطيء فَإِنَّهُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ فِرَقُهُمْ وَمَوَاطِنُهُمْ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ وَانْقَسَمُوا أَقْوَامًا جُدُدًا وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْذِرُونَ قَدْ جَاءُوا أَسْلَافَهُمْ مِثْلَ هُودٍ وَصَالِحٍ وَتُبَّعٍ، فَذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَقَوُّمِ قَوْمِيَّتِهِمُ الْجَدِيدَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ بِمَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَكُلُّهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى ذَيْنِكَ الْجِذْمَيْنِ، وَقَدْ كَانَ انْقِسَامُهُمْ أَقْوَامًا وَمَوَاطِنَ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَالِ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبِ أَهْلِ الرَّسِّ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ صَاحِبِ بَنِي عَبْسَ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمَا رَسُولَانِ وَاخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَةَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ وَفَدَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَهِيَ عَجُوزٌ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: «مرْحَبًا بابنة نبيء ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ» . وَلَيْسَ لِذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْعَرَبُ كُلُّهُمْ أَوِ الَّذِينَ شَمِلَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ وَقْتِ تَحَقُّقِ قَوْمِيَّتِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ بِهِ: تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ الْأَقْوَامِ إِلَى نَذِيرٍ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ هُدًى وَأَثَارَةُ هِمَمِهِمْ لِاغْتِبَاطِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَتَقَبَّلُوا الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَيَسْبِقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى اتِّبَاعِهِ فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ السَّبْقُ فِي الشَّرْعِ الْأَخِيرِ كَمَا كَانَ لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّبْقُ بِبَعْضِ الِاهْتِدَاءِ وَمُمَارَسَةِ الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَقَدِ اهْتَمَّ بَعْضُ أَهْلِ الْأَحْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ بِتَطَلُّبِ الدِّينِ الْحَقِّ فَتَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنْ عَرَبِ الْيمن، وتنصّرت طَيء وَكَلْبٌ وَتَغْلِبُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَتَتَّبَعَ الْحَنِيفِيَّةَ نَفَرٌ مِثْلُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَطَلُّبًا لِلْكَمَالِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ بِذَلِكَ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَ الرِّسَالَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَلَا يُنَافِي عُمُومَ الرِّسَالَةِ لِمَنْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، لِأَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا كَوْنَ مَا بَعْدَهَا بَاعِثًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ دُونَ انْحِصَارِ بَاعِثِ الْفِعْلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِد قد تكون لَهُ بَوَاعِثُ كَثِيرَةٌ، وَأَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ عَدِيدَةٍ، وَدَلَائِلُ عُمُومِ الرِّسَالَةِ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ صَرِيحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ جَمِيعُ الْأُمَمِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ أَنْ ضَلُّوا، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ فِي شَرْعِهِ مِثْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ ضَلَّ بِالْخُلُوِّ عَنْ شَرْعٍ كَالْعَرَبِ. وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ عَنْ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَعَنْ فِعْلِ أَتاهُمْ وَمُفِيتٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ عُمُومِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَدَلَائِلُهَا كَثِيرَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذِه الْآيَة. و (لعلّ) مُسْتَعَارَةٌ تَمْثِيلًا لِإِرَادَةِ اهْتِدَائِهِمْ وَالْحِرْصِ على حُصُوله.

[سورة السجده (32) : آية 4]

[سُورَة السجده (32) : آيَة 4] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) لَمَّا كَانَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَرْكَانِ هُدَى الْكِتَابِ هُوَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلْإِلَهِ وَإِبْطَالُ الشِّرْكِ عَقِبَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ بِإِثْبَاتِ هَذَا الرُّكْنِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ قَطْعًا لِدَابِرِ عَقِيدَةِ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ جُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَأَنَّهُ الِانْفِرَادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْمَعْنِيُّونَ بِالْخَبَرِ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْوَلِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَاءِ، بِمَعْنَى: الْعَهْدِ وَالْحَلِفِ وَالْقَرَابَةِ. وَمِنْ لَوَازِمِ حَقِيقَةِ الْوَلَاءِ النَّصْرُ وَالدِّفَاعُ عَنِ الْمَوْلَى. وَأُرِيدَ بِالْوَلِيِّ: الْمُشَارِكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ. وَالشَّفِيعُ: الْوَسِيطُ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ. وَالْمُشْرِكُونَ زَعَمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ ثُمَّ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضمير لَكُمْ، و (دون) بِمَعْنَى غَيْرُ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَلِيٍّ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَا وَلِيَّ لَكُمْ وَلَا شَفِيعَ لَكُمْ غَيْرُ اللَّهِ فَلَا وِلَايَةَ لِلْأَصْنَامِ وَلَا شَفَاعَةَ لَهَا إِبْطَالًا لِمَا زَعَمُوهُ لِأَصْنَامِهِمْ مِنَ الْوَصْفَيْنِ إِبْطَالًا رَاجِعًا إِلَى إِبْطَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] . وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

[سورة السجده (32) : آية 5]

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَبَيَانُ تَأْوِيلِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ إِنْكَارٌ عَلَى عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَإِهْمَالُهُمُ النَّظَرَ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَالتَّذَكُّرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ الَّذِي هُوَ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَر بِالْعقلِ. [5] [سُورَة السجده (32) : آيَة 5] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) جُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [السَّجْدَة: 4] ، أَيْ: خَلَقَ تِلْكَ الْخَلَائِقِ مُدَبِّرًا أَمْرَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، وَقَوْلُهُ مِنَ السَّماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ يُدَبِّرُ أَوْ صِفَةٌ لِلْأَمْرِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَرْفَيِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ شُمُولُ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الْأُمُورَ كُلَّهَا فِي الْعَالَمَيْنَ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ تَدْبِيرًا شَامِلًا لَهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَفَادَ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ شُمُولَ التَّدْبِيرِ لِأُمُورِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا. وَالتَّدْبِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّفْكِيرُ فِي إِصْدَارِ فِعْلٍ مُتْقَنٍ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ: آخِرِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ النَّظَرُ فِي اسْتِقَامَةِ الْفِعْلِ ابْتِدَاءً وَنِهَايَةً. وَهُوَ إِذَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ لَازِمِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ تَمَامُ الْإِتْقَانِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وَأَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ. والْأَمْرَ: الشَّأْنُ لِلْأَشْيَاءِ وَنِظَامِهَا وَمَا بِهِ تَقَوُّمُهَا. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمُورِ كُلِّهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَجَمِيعُ مَا نُقِلَ عَنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرَ يَرْجِعُ إِلَى بَعْضِ هَذَا الْعُمُومِ. وَالْعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وَضَمِيرُ يَعْرُجُ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرَ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ مُفِيدَةٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُدَبَّرَةَ تَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْعُرُوجُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَصِيرِ إِلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ دُونَ شَائِبَةِ تَأْثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ كَمَا فِي أَحْوَالٍ

الدُّنْيَا مِنْ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْجَلَالُ يُشَبَّهُ بِالرِّفْعَةِ فِي مُسْتَعْمَلِ الْكَلَامِ شُبِّهَ الْمَصِيرُ إِلَى ذِي الْجَلَالِ بِانْتِقَالِ الذَّوَاتِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ بِالْعُرُوجِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ، أَيْ: يَرْفَعُهُ إِلَيْهِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْأَشْيَاءِ إِلَى تَصَرُّفِهِ بَعْدَ صُدُورِهَا مِنْ لَدُنْهُ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ. وَقَدْ أَفَادَ التَّرْكِيبُ أَنَّ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِمَا وَخَلْقِ مَا بَيْنَهُمَا يَسْتَقِرُّ عَلَى مَا دُبِّرَ عَلَيْهِ كُلٌّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ تَدْبِيرِهِ مِنِ اسْتِقْرَارِهِ، وَيَزُولُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، ثُمَّ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَصِيرُ إِلَى اللَّهِ مَصِيرًا مُنَاسِبًا لِحَقَائِقِهِ فَالذَّوَاتُ تَصِيرُ مَصِيرَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْرَاضُ وَالْأَعْمَالُ تَصِيرُ مَصِيرَ أَمْثَالِهَا، أَيْ: يَصِيرُ وَصْفُهَا وَوَصْفُ أَصْحَابِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، فَذَلِكَ الْمَصِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعُرُوجِ إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ الْحِسَابُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ يَوْمَئِذٍ. وَالْيَوْمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ [47] بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَمَعْنَى تَقْدِيرِهِ بِأَلْفِ سَنَةٍ: أَنَّهُ تَحْصُلُ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي كَائِنَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا لَوْ كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ لَكَانَ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي أَلْفِ سَنَةٍ، فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ بِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ، وَقَدْ فُرِضَتْ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ احْتِمَالَاتٍ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ السَّاعَةِ، أَيْ سَاعَةُ اضْمِحْلَالِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلَيْسَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرَّاءِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ وَلَكِنْ حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَهْوَالِهِمَا. وَقَوْلُهُ فِي يَوْمٍ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلَيْ يُدَبِّرُ ويَعْرُجُ أَيْ يَحْصُلُ الْأَمْرَانِ فِي يَوْمٍ.

[سورة السجده (32) : آية 6]

وَ (أَلْفَ) عِنْدَ الْعَرَبِ مُنْتَهَى أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَعْدَادٍ أُخْرَى مَعَ عَدَدِ الْأَلْفِ كَمَا يَقُولُونَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَلْفُ أَلْفٍ. وأَلْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ كَمَا يُقَالُ: زُرْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: 96] ، وَهُوَ هُنَا بِتَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ أَوْ كَلِمَةِ نَحْوَ، أَيْ كَانَ مِقْدَارُهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: 47] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَعُدُّونَ، أَيْ: مِمَّا تَحْسُبُونَ فِي أَعْدَادِكُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولِيَّةٌ وَهُوَ وَصْفٌ لِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ اسْمِ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيضَاحًا لِلتَّشْبِيهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ مَعَ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِمَدْلُولِهِ فَكَانَ رَافِعًا لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْعدَد. [6] [سُورَة السجده (32) : آيَة 6] ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) جِيءَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى اسْم الْجَلالَة بعد مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] ، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ ومحيط بِجَمِيعِ شؤونها فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، أَيْ: مَا غَابَ عَنْ حَوَاسِّ الْخَلْقِ، وَعَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ، فَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ: كُلُّ غَائِبٍ وَكُلُّ مَشْهُودٍ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِحَالَتِهِ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَامِ تَفَرَّقَتْ وَتَخَلَّلَتِ الْأَرْضَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] . وَأَمَّا عَطْفُ وَالشَّهادَةِ فَهُوَ تَكْمِيلٌ وَاحْتِرَاسٌ.

[سورة السجده (32) : الآيات 7 إلى 9]

وَمُنَاسَبَةُ وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ بِدُونِ مُعِينٍ، فَالْعِزَّةُ وَهِيَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْغَيْرِ ظَاهِرَةٌ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى أَحْوَالٍ فِيهَا لُطْفٌ بِهِمْ فَهُوَ رَحِيمٌ بِهِمْ فِيمَا خَلَقَهُمْ إِذْ جَعَلَ أُمُورَ حَيَاتِهِمْ مُلَائِمَةً لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ لَهُمْ وَجَنَّبَهُمُ الْآلَامَ فِيهَا. فَهَذَا سَبَبُ الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْعَزِيزُ والرَّحِيمُ هُنَا عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ مِنْ ذِكْرِ الْحَكِيمِ مَعَ الْعَزِيزِ. والْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا خَبَرَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفَيْنِ لِ عالِمُ الْغَيْبِ. [7- 9] [سُورَة السجده (32) : الْآيَات 7 إِلَى 9] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9) خَبَرٌ آخَرُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفٌ آخَرُ لِ عالِمُ الْغَيْبِ [السَّجْدَة: 6] ، وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ عَلَى النَّاسِ أَنْ أَحْسَنَ خَلْقَهُمْ فِي جُمْلَةِ إِحْسَانِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ وَبِتَخْصِيصِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَاصَّةً الْإِنْسَانَ خَلْقًا بَعْدُ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَأَخْرَجَ أَصْلَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ كَوَّنَ فِيهِ نِظَامَ النَّسْلِ مِنْ مَاءٍ، فَكَيْفَ تُعْجِزُهُ إِعَادَةُ أَجْزَائِهِ. وَالْإِحْسَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَسَنًا، أَيْ مَحْمُودًا غَيْرَ مَعِيبٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْأَشْيَاءَ رَأَيْتَهَا مَصْنُوعَةً عَلَى مَا يَنْبَغِي فَصَلَابَةُ الْأَرْضِ مَثَلًا لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، وَرِقَّةُ الْهَوَاءِ لِيَسْهُلَ انْتِشَاقُهُ لِلتَّنَفُّسِ، وَتَوَجُّهُ لَهِيبِ النَّارِ إِلَى فَوْقُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَلْتَهِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَكَثُرَتِ الْحَرَائِقُ فَأَمَّا الْهَوَاءُ فَلَا يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ. وَقَوْلُهُ خَلَقَهُ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِ شَيْءٍ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كُلَّ شَيْءٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.

وَتَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الْعَامِّ إِلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ دَقَائِقُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَأَعْظَمُهَا الْعَقْلُ. والْإِنْسانِ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، وَبَدْءُ خَلْقِهِ هُوَ خَلْقُ أَصْلِهِ آدَمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: 11] ، أَيْ: خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ فَإِن ذَلِك بدىء مِنْ أَوَّلِ نَسْلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ آدَمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ طِينٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالنَّسْلُ: الْأَبْنَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ. سُمِّيَ نَسْلًا لِأَنَّهُ يَنْسَلُّ، أَيْ: يَنْفَصِلُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَلَ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مِنْ بَابَيْ كَتَبَ وَضَرَبَ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَسُمِّيَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي يَتَقَوَّمُ مِنْهَا تَكْوِينُ الْجَنِينِ سُلَالَةً كَمَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَقَوْلُهُ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ بَيَانٌ لِ سُلالَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ فَالسُّلَالَةُ هِيَ الْمَاءُ الْمَهِينُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ عِلْمِيٌّ لَمْ يُدْرِكْهُ النَّاسُ إِلَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ وَهُوَ أَنَّ النُّطْفَةَ يَتَوَقَّفُ تَكَوُّنُ الْجَنِينِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَرَّاتٍ فِيهَا تَخْتَلِطُ مَعَ سُلَالَةٍ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ فَضْلُهُ، فَالسُّلَالَةُ الَّتِي تَنْفَرِزُ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ هِيَ النَّسْلُ لَا جَمِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ، فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ. وَالْمَهِينُ: الشَّيْءُ الْمُمْتَهَنُ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالْغَرَضُ مِنْ إِجْرَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِنِظَامِ التَّكْوِينِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ تَكْوِينَ هَذَا الْجِنْسِ الْمُكْتَمِلِ التَّرْكِيبِ الْعَجِيبِ الْآثَارِ مِنْ نَوْعِ مَاءٍ مِهْرَاقٍ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَلَا يُصَانُ. وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] . وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي سَوَّاهُ عَائِدٌ إِلَى نَسْلَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ بِ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ سُوِّيَ وَنُفِخَ فِيهِ مِنَ الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى:

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: 72] . وَذِكْرُ التَّسْوِيَةِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِي جَانِبِ النَّسْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَصْلَهُ كَذَلِكَ، فَالْكَلَامُ إِيجَازٌ. وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ السِّرِّ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَكْوِينَهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَالْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْمَخْلُوقَاتِ اخْتِصَاصًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ. وَالنَّفْخُ: تَمْثِيلٌ لِسَرَيَانِ اللَّطِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ مَعَ سُرْعَةِ الْإِيدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [29] . وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمُ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَجَعْلَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُخَاطَبِينَ فَلَمَّا انْتَهَضَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ المتحدث عَنْهُم بطرِيق الْغَيْبَةِ الشَّامِلِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ نَاسَبَ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى الْحَاضِرِينَ بِنَقْلِ الْكَلَامِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ آثَرُ بِالِامْتِنَانِ وَأَسْعَدُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ. وَالِامْتِنَانُ بِقُوَى الْحَوَاسِّ وَقُوَى الْعَقْلِ أَقْوَى مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْخَلْقِ وَتَسْوِيَتِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَوَاسِّ وَالْإِدْرَاكِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَهُوَ مَحْسُوسٌ بِخِلَافِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْوِيمِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ فِي آثَارِهِ. وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَجَعَلَكُمْ سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ عَالِمِينَ إِلَى جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْرَقُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ زِيَادَةِ الْمِنَّةِ فِي هَذَا الْجَعْلِ إِذْ كَانَ جَعْلًا لِفَائِدَتِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ، وَلِمَا فِي تَعْلِيقِ الْأَجْنَاسِ مِنَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ بِفِعْلِ الْجَعْلِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالْجَلَالِ فِي تَمَكُّنِ التَّصَرُّفِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَفْئِدَةَ أَجْمَعُ مِنْ كَلِمَةِ عَاقِلِينَ لِأَنَّ الْفُؤَادَ يَشْمَلُ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ كُلَّهَا وَالْعَقْلُ بَعْضٌ مِنْهَا. وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ، وَجَمَعَ الْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّاسِ. وَتَقْدِيمُ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ

[سورة السجده (32) : آية 10]

فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَتَقْدِيمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ على الْأَفْئِدَةَ هُنَا عَكْسَ آيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُ رُوعِيَ هُنَا تَرْتِيبُ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ قَبْلَ اكْتِسَابِ التَّعَقُّلِ. وقَلِيلًا اسْمُ فَاعِلٍ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ، وَمَا تَشْكُرُونَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِ قَلِيلًا، أَيْ: أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَحَالُكُمْ قِلَّةُ الشُّكْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ حَاصِلًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَثِيرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: 46] . وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْصُلُ التَّوْبِيخُ لِأَنَّ النِّعَمَ الْمُسْتَحِقَّةَ لِلشُّكْرِ وَافِرَةٌ دَائِمَةٌ فَالتَّقْصِيرُ فِي شُكْرِهَا وَعَدَمُ الشُّكْر سَوَاء. [10] [سُورَة السجده (32) : آيَة 10] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْحَالُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيْفَ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ بِأَعْجَبَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَخَاصَّةً بَدْءَ خَلْقِ آدَمَ عَنْ عَدَمٍ، وَخُلُوُّ الْجُمْلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ عَنْ حَرْفِ (قَدْ) لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا حَالًا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا ضَلَلْنا لِلتَّعَجُّبِ وَالْإِحَالَةِ، أَيْ أَظْهَرُوا فِي كَلَامِهِمُ اسْتِبْعَادَ الْبَعْثِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ وَاخْتِلَاطِهَا بِالتُّرَابِ، مُغَالَطَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ. وَالضَّلَالُ: الْغِيَابُ، وَمِنْهُ: ضَلَالُ الطَّرِيقِ، وَالضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ الَّتِي ابْتَعَدَتْ عَنْ أَهْلِهَا فَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهَا. وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ أَجْسَادِنَا فِي خِلَالِ الْأَرْضِ وَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الضَّلَالُ فِي الْأَرْضِ: الدُّخُولُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَضَلَّ النَّاسُ الْمَيِّتَ، أَيْ: دَفَنُوهُ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ: فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكسَائِيّ وَيَعْقُوب: إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى

الْإِخْبَارِ اكْتِفَاءً بِدُخُولِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَمُتَعَلِّقِهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا للاستفهام وَالثَّانيَِة تَأْكِيد لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَرْكِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ. وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَنَّهُمْ حَكَوُا الْقَوْلَ الَّذِي تَعَجَّبُوا مِنْهُ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَأْكِيدِ تَجْدِيدِ الْخَلْقِ فَحَكَوْهُ بِالْمَعْنَى كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] ، أَيْ: يُحَقِّقُ لَكُمْ ذَلِكَ. وإِذا ظَرْفٌ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مِنْ مَعْنَى الْكَوْنِ. وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَمَعْنَاهَا الْمُصَاحَبَةُ. وَالْجَدِيدُ: الْمُحْدَثُ، أَيْ غَيْرِ خَلْقِنَا الَّذِي كُنَّا فِيهِ. وبَلْ مِنْ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إِضْرَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، أَيْ لَيْسَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِلِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّ دَلَائِلَ إِمْكَانِهِ وَاضِحَةٌ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ وَلَكِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ كُفْرُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ كُفْرُهُمُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَالْمَعْنَى: بَلْ هُمْ قَدْ أَيْقَنُوا بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ فَهُمْ مُتَعَنِّتُونَ فِي الْكُفْرِ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالْأَدِلَّةُ. فَالْكُفْرُ الْمُثْبَتُ هُنَا كُفْرٌ خَاصٌّ وَهُوَ غَيْرُ الْكُفْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِبْعَادِ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى كافِرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ والثبات عَلَيْهِ.

[سورة السجده (32) : آية 11]

[سُورَة السجده (32) : آيَة 11] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) اسْتِئْنَافُّ ابْتِدَائِيٌّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ لِأَنَّ جُمْلَةَ قُلْ فِي مَعْنَى جَوَابٍ لِقَوْلِهِمْ أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُعِيدَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ إِذْ هُوَ مَنَاطُ إِنْكَارِهِمْ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ يَتَوَفَّاهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ فَذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْمَوْتِ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ أَلْهَتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَنِ النَّظَرِ فِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ فَذُكِّرُوا بِهِ ثُمَّ أُدْمِجَ فِيهِ ذِكْرُ مَلَكِ الْمَوْتِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ مِنَ الْمَوْتِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ فَإِنَّهُ مُوَكَّلٌ بِكُلِّ مَيِّتٍ بِمَا يُنَاسِبُ مُعَامَلَتَهُ عِنْدَ قَبْضِ رُوحِهِ. وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ كَمَا خَلَقَهُمْ يُمِيتُهُمْ وَكَمَا يُمِيتُهُمْ يُحْيِيهِمْ، وَأَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ بِإِذْنِهِ وَتَسْخِيرِ مَلَائِكَتِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَذَلِكَ إبِْطَال لقَولهم مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا [الجاثية: 24] فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَةِ تَصَرُّفِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا فِي حَالِ الْمَمَاتِ. وَإِذَا كَانَ مَوْتُهُمْ بِفِعْلِ مَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ مِنَ اللَّهِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ مَرْدُودَةٌ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ مَتَى شَاءَ اللَّهُ. وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [60] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ فِي سُورَة الْأَنْفَالِ [50] . وَمَلَكُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدًا كَمَا هُنَا وَوَرَدَ مَجْمُوعًا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [50] ، وَقَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [61] ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَلَائِكَةً كَثِيرِينَ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَجَعَلَ مُبَلِّغَ أَمْرِ اللَّهِ بِذَلِكَ عِزْرَائِيلَ فَإِسْنَادُ التَّوَفِّي إِلَيْهِ كَإِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] ، وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ أَعْوَانًا لَهُ وَأُولَئِكَ يُسَلِّمُونَ الْأَرْوَاحَ إِلَى عِزْرَائِيلَ فَهُوَ يَقْبِضُهَا وَيُودِعُهَا فِي مَقَارِّهَا الَّتِي أَعَدَّهَا

[سورة السجده (32) : آية 12]

اللَّهُ لَهَا، وَلَمْ يَرِدِ اسْمُ عِزْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَتَكُونُ كَقَوْلِهِ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَام: 61] . [12] [سُورَة السجده (32) : آيَة 12] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) أَرْدَفَ ذِكْرَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِتَصْوِيرِ حَالِ الْمُنْكِرِينَ أَثَرَ الْبَعْثِ وَذَلِكَ عِنْدَ حَشْرِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ، وَجِيءَ فِي تَصْوِيرِ حَالِهِمْ بِطَرِيقَةِ حَذْفِ جَوَابِ لَوْ حَذْفًا يُرَادِفُهُ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ تَصْوِيرِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ وَهَوْلِ مَوْقِفِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ، وَبِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِإِفَادَةِ تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهِ مُخَاطَبٌ. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا. والْمُجْرِمُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] ، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ مُجْرِمُونَ، أَيْ آتُونَ بِجُرْمٍ وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْطِيلِ الدَّلِيلِ. وَالنَّاكِسُ: الَّذِي يَجْعَلُ أَعْلَى شَيْءٍ إِلَى أَسْفَلَ، يُقَالُ: نَكَّسَ رَأْسَهُ، إِذَا طَأْطَأَهُ لِأَنَّهُ كَمَنْ جَعَلَ أَعْلَى الشَّيْءِ إِلَى أَسْفَل. ونكس الرؤوس عَلَامَةُ الذُّلِّ وَالنَّدَامَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُلَاقُونَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالْإِهَانَةِ. وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ السُّلْطَةِ، أَيْ وَهُمْ فِي حُكْمِ رَبِّهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ مَحِيدًا عَنْهُ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُخْتَصٍّ بِرَبِّهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَي ناكسو رؤوسهم يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ: أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ نَدَامَةً وَإِقْرَارًا بِأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ حَقٌّ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ أَبْصَرْنا وَمَفْعُولِ سَمِعْنا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ أَبْصَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبْصَرَةِ مَا يُصَدِّقُ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ- فَقَدْ رَأَوُا الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ وَرَأَوْا مَا يُعَامَلُ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ-، وَسَمِعْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَائِكَةِ مَا فِيهِ تَصْدِيقُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَنَا

[سورة السجده (32) : آية 13]

بِهِ، أَيْ: فَعَلِمْنَا أَنَّ مَا دَعَانَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ فَارْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا نَعْمَلْ صَالِحًا كَمَا قَالُوا فِي مَوْطِنٍ آخَرَ رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إِبْرَاهِيم: 44] . وَقَوْلُهُ إِنَّا مُوقِنُونَ تَعْلِيلٌ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِأَنَّهُمْ صَارُوا مُوقِنِينَ بِحَقِيَّةِ مَا يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَكَانَتْ إِنَّ مُغَنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مَا يَمْنَعُنَا مِنْ تَحْقِيقِ مَا وُعِدْنَا بِهِ شَكٌ وَلَا تَكْذِيبٌ، إِنَّا أَيْقَنَّا الْآنَ أَنَّ مَا دُعِينَا إِلَيْهِ حَقٌّ. فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ مُوقِنُونَ وَاقِعٌ زَمَانَ الْحَالِ كَمَا هُوَ أَصله. [13] [سُورَة السجده (32) : آيَة 13] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: 12] وَبَيْنَ الْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ [السَّجْدَة: 14] فَالْوَاوُ الَّتِي فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ وَاوِ الْحَالِ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا اسْتِغْنَاءً عَنِ الْمَفْعُولِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَجَبَلْنَا كُلَّ نَفْسٍ عَلَى الِانْسِيَاقِ إِلَى الْهُدَى بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا جُبِلَتِ الْعَجْمَاوَاتُ عَلَى مَا أُلْهِمَتْ إِلَيْهِ مِنْ نِظَامِ حَيَاةِ أَنْوَاعِهَا فَلَكَانَتِ النُّفُوسُ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى النَّظَرِ فِي الْهُدَى وَضِدِّهِ، وَلَا إِلَى دَعْوَةٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكِلَ إِلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ تَعْمِيرَ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ عُنْوَانًا لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ الْعَامِرَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَى لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْإِنْسَانِ عَقْلًا يُدْرِكُ بِهِ النَّفْعَ وَالضُّرَّ، وَالْكَمَالَ وَالنَّقْصَ، وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ، وَالتَّعْمِيرَ وَالتَّخْرِيبَ، وَتَنْكَشِفُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ عَوَاقِبُ الْأَعْمَالِ الْمُشْتَبِهَةِ وَالْمُمَوَّهَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَجْنَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ فِي مُكْنَتِهِ بِإِرَادَةٍ تَتَوَجَّهُ إِلَى الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَخَلَقَ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ

الْعَمَلِ وَآلَاتِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً فَكَانَ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا لِأَنْ يَعْمَلَ وَأَنْ لَا يَعْمَلَ عَلَى وِفَاقِ مَيْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَكَسْبِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكَسْبِ وَبِالِاسْتِطَاعَةِ وَتَكَفَّلَ لَهُ بِإِعَانَتِهِ عَلَى مَا خَلَقَ لَهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ يَدْعُوهُ إِلَى مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنَ الْهُدَى وَالصَّلَاحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِوَاسِطَةِ رُسُلٍ مِنْ نَوْعِهِ يُبَلِّغُونَ إِلَيْهِ مُرَادَ رَبِّهِمْ فَطَرَهُمْ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فِي إِبْلَاغِ مُرَادِ رَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ. وَوَعْدُهُ النَّاسَ بِالْجَزَاءِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَفِعْلِ الشَّرِّ بِمَا فِيهِ بَاعِثٌ عَلَى الْخَيْرِ وَرَادِعٌ عَنِ الشَّرِّ. وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَضِّلَ هَذَا النَّوْعَ بِأَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ عُمَّارًا لِعَالَمِ الْكَمَالِ الْخَالِدِ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَجَعَلَ لِأَهْلِ الْكَمَالِ الدِّينِيِّ مَرَاتِبَ سَامِيَةً مُتَفَاوِتَةً فِي عَالَمِ الْخُلْدِ عَلَى تَفَاوُتِ نُفُوسِهِمْ فِي مَيْدَانِ السَّبْقِ إِلَى الْكَمَالَاتِ، وَجَعَلَ أَضْدَادَ هَؤُلَاءِ عُمَّارًا لِهُوَّةِ النَّقَائِصِ فَمَلَأَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْهُوَّةَ الْمُسَمَّاةَ جَهَنَّمَ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْبَالِغِ مِنَ الْإِيجَازِ مَبْلَغَ الْإِعْجَازِ، إِذْ حَذَفَ مُعْظَمَ مَا أُرِيدَ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ الْوَارِدِ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها فَإِنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يُقَّدَّرَ: وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ بَلْ شِئْنَا أَنْ نَخْلُقَ النَّاسَ مُخْتَارِينَ بَيْنَ طَرِيقَيِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَوَضَعْنَا لَهُمْ دَوَاعِيَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَأَرَيْنَاهُمْ وَسَائِلَ النَّجَاةِ وَالِارْتِبَاكِ بِالشَّرَائِعِ قَالَ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: 10] أَيِ: الطَّرِيقَيْنِ، وَحَقَّقْنَا الْأَخْبَارَ عَنِ الْجَزَاءَيْنِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْجَنَّةِ وَجَهَنَّمَ فَلْأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَدَخَلَ هَذَا فِي قَوْله [تَعَالَى] : حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بِمَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا مِلْأَهَا وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا مِلْأَهَا» . وَإِنَّمَا اخْتِيرَ الِاقْتِصَارُ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ عَلَى شِقِّ مَصِيرِ أَهْلِ الضَّلَالِ لِأَنَّهُ الْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الِاعْتِرَاضِ إِثْرَ كَلَامِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَلِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَعَلُّقِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ بِمَضْمُونِ اقْتِرَاحِهِمْ، أَيْ لَوْ كَانَ

[سورة السجده (32) : آية 14]

إِرْجَاعُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ مُقْتَضًى لِحِكْمَتِنَا لَكُنَّا جَبَلْنَاهُمْ عَلَى الْهُدَى فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا فَكَانُوا يَأْتُونَ الصَّالِحَاتِ بِالْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ. فَالْمُرَادُ الْقَوْلُ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ. والْجِنَّةِ: الجنّ وهم الشَّيَاطِين. وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها إِلَى آخِرِهِ جَوَابًا مُوَجَّهًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُجْرِمِينَ عَنْ قَوْلِهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا [السَّجْدَة: 12] إِلَخْ. وَوُجُودُ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكَلَامِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُجْعَلُوا أَهْلًا لِتَلَقِّي هَذِهِ الْحِكْمَةِ بَلْ حَقُّهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ جَوَابِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي آيَة سُورَة الْمُؤمنِينَ [106- 108] : قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُلَاقِي سُؤَالَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا الرُّجُوعَ لِيَعْمَلُوا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُمُ اعْتِذَارًا عَنْ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُؤْتِهِمُ الْهُدَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سَاقَهُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيُحِيطُوا عِلْمًا بِدَقَائِقِ الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فَلَمْ يَقُلْ: حَقَّ قَوْلِي، لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ مَا فِي سُورَةِ ص [85] : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ حَقَّ الْقَوْلُ الْمَعْهُودُ. وَاجْتُلِبَتْ مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ. وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ لِإِفَادَةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ، مَعَ مَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ من التفنن. [14] [سُورَة السجده (32) : آيَة 14] فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: 12] الَّذِي هُوَ إِقْرَارٌ بِصِدْقِ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، الْمُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ جَوَابٍ

عَنْ إِقْرَارِهِمْ إِلْزَامًا لَهُمْ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِمْ، أَيْ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ بِحَقِيَّةِ مَا كَانَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَلْحَقَكُمْ عَذَابُ النَّارِ. وَمَجِيءُ التَّفْرِيعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ إِلْزَامٌ بِالْحُجَّةِ كَالْفَاءَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الْحجر: 34] وَقَوْلِهِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 79- 82] ، وَقَوْلِهِ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84- 85] فَهَذِهِ خَمْسُ فَاءَاتٍ كُلُّ فَاءٍ مِنْهَا هِيَ تَفْرِيعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَاسْتِعْمَالُ الذَّوْقِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] . وَمَفْعُولُ (ذُوقُوا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ فَذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ تَسْأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. وَالنِّسْيَانُ الْأَوَّلُ: الْإِهْمَالُ وَالْإِضَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَنَسِيَ فِي سُورَةِ طه [88] . وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ إِهْمَالِكُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِهَذَا الْيَوْمِ. وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ نَسِيناكُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْكَرَامَةِ مَعَ الْمُشَاكَلَةِ. وَاللِّقَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعُثُورِ عَلَى ذَاتٍ، فَمِنْهُ لِقَاءُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ وَتَجِيءُ مِنْهُ الْمُلَاقَاةُ، وَمِنْهُ: لِقَاءُ الْمَرْءِ ضَالَّةً أَوْ نَحْوَهَا. وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ: شَيْءٌ لَقًى، أَيْ مَطْرُوحٌ. وَلِقَاءُ الْيَوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَجَازٌ فِي حُلُولِ الْيَوْمِ وَوُجُودِهِ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَأَنَّهُ عُثِرَ عَلَيْهِ. وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَلَمَّا تَحَقَّقُوهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ لِأَنَّ الْيَوْمَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَ يَوْمَ انْتِصَارٍ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَالَ السَّمَوْأَلُ: وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا ... لَهَا غُرَرٌ مَعْلُومَةٌ وَحُجُولُ

وَيَقُولُونَ: أَيَّامُ بَنِي فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، أَيْ أَيَّامُ انْتِصَارِهِمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ وَهِيَ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ الْمُنْتَزَعَ مِنَ الْمِلْكِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [النبأ: 39] ، أَيْ: يَوْمُ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ نَصْرًا مُؤَبَّدًا، أَيْ لَيْسَ كَأَيَّامِكُمْ فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ أَيَّامُ نَصْرٍ زَائِلٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى الْيَوْمِ تَهْوِيلًا لَهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّا نَسِيناكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا سَمِعُوا مَا عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الْعَذَابِ مِنْ قَوْلِهِ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا تَطَلَّعُوا إِلَى مَعْرِفَةِ مَدَى هَذَا الْعَذَابِ الْمَذُوقِ وَهَلْ لَهُمْ مِنْهُ مَخْلَصٌ وَهَلْ يُجَابُونَ إِلَى مَا سَأَلُوا مِنَ الرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَدَارَكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ، فَأُعْلِمُوا بِأَن الله مهمل شَأْنَهُمْ، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِهِمْ فِيمَا أُذِيقُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طَهَ [126] قَوْلُهُ: قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى فَشُبِّهَ بِالنِّسْيَانِ إِظْهَارًا لِلْعَدْلِ فِي الْجَزَاءِ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ الْمُجَازَى عَنْهُ. وَقَدْ حُقِّقَ هَذَا الْخَبَرُ بِمُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ حَرْفُ التَّوْكِيدِ. وَإِخْرَاجُ الْكَلَامِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ الْفِعْلِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَضَى وَوَقَعَ. وَقَوْلُهُ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عَطْفٌ عَلَى فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ، وَهُوَ وَإِنْ أَفَادَ تَأْكِيدَ تَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ عَطْفَهُ مُرَاعًى فِيهِ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ وَالْقُيُودِ مُغَايَرَةً اقْتَضَتْ أَنْ تُعْتَبَرَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُفِيدَةً فَائِدَةً أُخْرَى فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ أَنَّ مِنْ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الْإِذَاقَةِ إِهْمَالَهُمُ التَّدَبُّرَ فِي حُلُولِ هَذَا الْيَوْمِ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مُسْتَمِرٌّ وَأَنَّ سَبَبَ اسْتِمْرَارِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ تَخْفِيفِهِ أَعْمَالُهُمُ الْخَاطِئَةُ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ نِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يومهم ذَلِك.

[سورة السجده (32) : الآيات 15 إلى 17]

[سُورَة السجده (32) : الْآيَات 15 إِلَى 17] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الْآيَة [السَّجْدَة: 3] ، تَفَرَّغَ الْمَقَامُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَنْحَى بِالتَّقْرِيعِ وَالْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، بِمَا أَفَادَتِ اسْمِيَّةُ جُمْلَةِ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ [السَّجْدَة: 10] مِنْ أَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الْكُفْرِ بِلِقَاءِ اللَّهِ دَائِمُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا أَنْذَرَتْهُمْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَالتَّكْذِيبُ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَكْذِيبٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَوْصَافُهُمْ هُنَا. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، أَيْ أُعِيدَ ذِكْرُهَا عَلَيْهِمْ وَتَكَرَّرَتْ تِلَاوَتُهَا عَلَى مَسَامِعِهِمْ. وَمُفَادُ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا تَذْكِيرًا بِمَا سَبَقَ لَهُمْ سَمَاعُهُ لَمْ يَتَرَيَّثُوا عَنْ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ دُونَ الَّذِينَ قَالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] ، وَهَذَا تأييس للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَتَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ الْمُسْلِمِينَ بِإِيمَانِهِمْ وَلَا يَغِيظُونَهُمْ بِالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ. وَأُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي إِنَّما يُؤْمِنُ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَجَدَّدُونَ فِي الْإِيمَانِ وَيَزْدَادُونَ يَقِينًا وَقْتًا فَوَقْتًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ فِيمَا مَضَى فَفِعْلُ الْمُضِيِّ آثَرُ بِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي الْكَلَامِ الْمُتَدَاوَلِ لَوْلَا هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ، وَلِهَذَا عُرِّفُوا بِالْمَوْصُولِيَّةِ وَالصِّلَةِ الدَّالِّ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّهُمْ رَاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ إِبْلَاغِهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهَا عَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِالتَّذْكِيرِ الْمُقْتَضِي أَنَّ مَا تَتَضَمَّنَهُ الْآيَاتُ حَقَائِقُ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَهُمْ لَا يُفَادُونَ بِهَا فَائِدَةً لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً فِي نُفُوسِهِمْ وَلَكِنَّهَا تُكْسِبُهُمْ تَذْكِيرًا فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] . وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الصِّلَةُ هِيَ حَالُهُمُ الَّتِي عُرِفُوا بِهَا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَتَمَيَّزُوا بِهَا عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَيْسَتْ تَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْجُدُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَلَمْ يُسَبِّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ يُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ

حَالَةُ أَكْمَلِ الْإِيمَانِ وَهِيَ حَالَةُ الْمُؤمنِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عُرِفُوا بِهَا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلسَّائِلِ عَنْ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ: هُمُ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ عَمَائِمَ صِفَتُهَا كَذَا. جَاءَ فِي تَرْجَمَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ مَا أَفْتَى حَتَّى أَجَازَهُ سَبْعُونَ مُحَنَّكًا، أَيْ عَالِمًا يَجْعَلُ شُقَّةً مِنْ عِمَامَتِهِ تَحْتَ حَنَكِهِ وَهِيَ لُبْسَةُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُلْتُ لِأُمِّي: أَذْهَبُ فَأَكْتُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَتْ: تَعَالَ فَالْبَسْ ثِيَابَ الْعِلْمِ. فَأَلْبَسَتْنِي ثِيَابًا مُشَمَّرَةً وَوَضَعَتِ الطَّوِيلَةَ عَلَى رَأْسِي وَعَمَّمَتْنِي فَوْقَهَا. وَالْخُرُورُ: الْهُوِيُّ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ. وَالسُّجُودُ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ إِرَادَةَ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ. وَانْتَصَبَ سُجَّداً عَلَى الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْقَصْدِ مِنْ خَرُّوا، أَيْ: سُجَّدًا لِلَّهِ وَشُكْرًا لَهُ عَلَى مَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَرْنُهُ بِقَوْلِهِ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [107] : إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً. وَدَلَّتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى اتِّصَالِ تَعَلُّقِ حُصُولِ الْجَوَابِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ وَتَلَازُمِهِمَا. وَجِيءَ فِي نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُمْ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ، أَيْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكِبْرُ خُلُقُهُمْ فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِانْقِيَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: 21] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سَجَدَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ التَّالِي مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ الله سجدوا، فالقارىء يَقْتَدِي بِهِمْ. وَجُمْلَةُ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ حَالٌ مِنَ الْمَوْصُولِ، أَيِ: الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا وَمِنْ حَالِهِمْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ. وَجِيءَ فِيهَا بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَتُجَدُّدِهِ مِنْهُمْ فِي أَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَوْقَات الْمعدة لاضطجاع وَهِيَ الْأَوْقَاتُ الَّتِي الشَّأْنُ فِيهَا النَّوْمُ.

وَالتَّجَافِي: التَّبَاعُدُ وَالْمُتَارَكَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَجَافِيَ جُنُوبِهِمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَتَكَرَّرُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، أَيْ: يُكْثِرُونَ السَّهَرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاةِ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. والْمَضاجِعِ: الْفُرُشُ جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهُوَ مَكَانُ الضَّجْعِ، أَيِ: الِاسْتِلْقَاءِ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ. وأل فِيهِ عِوَضٌ عَنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] . وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ يُمْضُونَ لَيْلَهُمْ بِالنَّوْمِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُمْ تَفَكُّرٌ بَلْ يَسْقُطُونَ كَمَا تَسْقُطُ الْأَنْعَامُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِقَوْلِهِ يَصِفُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَيِّدُ أَصْحَابِ هَذَا الشَّأْنِ: يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ وَجُمْلَةُ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ جُنُوبُهُمْ وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ. وَانْتَصَبَ خَوْفاً وَطَمَعاً عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ، أَيْ: مِنْ غَضَبِهِ وَطَمَعًا فِي رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، أَيْ هَاتَانِ صِفَتَانِ لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِمْ وَالطَّمَعِ فِي رَحْمَتِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِيثَارَهُمُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ عَلَى حُظُوظِ لَذَّاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ ذَكَرَ مَعَهُ إِيثَارَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا بِهِ نَوَالُ لَذَّاتٍ أُخْرَى وَهُوَ الْمَالُ إِذْ يُنْفِقُونَ مِنْهُ مَا لَوْ أَبْقَوْهُ لَكَانَ مَجْلَبَةَ رَاحَةٍ لَهُمْ فَقَالَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يَتَصَدَّقُونَ بِهِ وَلَوْ أَيْسَرَ أَغْنِيَاؤُهُمْ فُقَرَاءَهُمْ. ثُمَّ عَظَّمَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ إِذْ قَالَ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، أَيْ: لَا تَبْلُغُ نَفْسٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مُعَرِفَةَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ نَفْسٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ.

فَإِنَّ مُدْرَكَاتِ الْعُقُولِ مُنْتَهِيَةٌ إِلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ مِنَ الْجَمَالِ وَالزِّينَةِ، وَمَا تُدْرِكُهُ الْأَسْمَاعُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَقْوَالِ وَمَحَامِدِهَا وَمَحَاسِنِ النَّغَمَاتِ، وَإِلَى مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْمُتَخَيَّلَاتُ مِنْ هَيْئَاتٍ يَرْكَبُهَا الْخَيَالُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا يَعْهَدُهُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ مِثْلَ الْأَنْهَارِ مِنْ عَسَلٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ، وَمِثْلَ الْقُصُورِ وَالْقِبَابِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَمِثْلَ الْأَشْجَارِ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَالْأَزْهَارِ مِنْ يَاقُوتٍ، وَتُرَابٍ مِنْ مِسْكٍ وَعَنْبَرٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي جَانِبِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْصُوفَاتِ وَلَا تَبْلُغُهُ صِفَاتُ الْوَاصِفِينَ لِأَنَّ مُنْتَهَى الصِّفَةِ مَحْصُورٌ فِيمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ دَلَالَاتُ اللُّغَاتِ مِمَّا يَخْطُرُ عَلَى قُلُوبِ الْبَشَرِ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي تَعْظِيمِ شَيْءٍ: هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمْ يَدْرِ إِلَّا اللَّهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا ... عَشِيَّةَ آنَاءِ الدِّيَارِ وِشَامُهَا وَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ النعم ب مَا أُخْفِيَ لِأَنَّهَا مُغَيَّبَةٌ لَا تُدْرَكُ إِلَّا فِي عَالَمِ الْخُلُودِ. وَقُرَّةُ الْأَعْيُنِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمَسَرَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَرِّي عَيْناً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [26] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْفِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ أُخْفِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُفْتَتَحِ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْيَاءِ سَاكِنَةً، وجَزاءً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فِي حَدِيثٍ أَغَرَّ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «قَلَتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ. قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ» ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ تَلَا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ ... » الحَدِيث.

[سورة السجده (32) : الآيات 18 إلى 20]

[سُورَة السجده (32) : الْآيَات 18 إِلَى 20] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) فُرِّعَ بِالْفَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ اسْتِفْهَامٌ بِالْهَمْزَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهُوَ إِنْكَارٌ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَجِّبِ مِنَ الْبَوْنِ بَيْنَ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَانَ الْإِنْكَارُ مُوَجَّهًا إِلَى ذَلِكَ التَّعَجُّبِ فِي مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ. وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي الْجَزَاءِ. وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَوُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْفَاسِقُ هُنَا هُوَ: مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. فَالْمُرَادُ: الْفِسْقُ عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. ثُمَّ أَكَّدَ كِلَا الْجَزَاءَيْنِ بِذِكْرٍ مُرَادِفٍ لِمَدْلُولِهِ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، فَجُمْلَةُ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى إِلَى آخِرِهَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ [السَّجْدَة: 17] إِلَى آخِرِهَا. وَجُمْلَةُ فَمَأْواهُمُ النَّارُ إِلَى آخِرِهَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السَّجْدَة: 14] . وَمن الْمَوْصُولَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَامَّةٌ بِقَرِينَةِ التَّفْصِيلِ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إِلْخَ. وأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا. فَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي مُعَيَّنٍ كَمَا قِيلَ. والْمَأْوى: الْمَكَانُ الَّذِي يُؤْوَى إِلَيْهِ، أَيْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ. وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَيْ مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [النَّجْم: 15] . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مَأْوَاهُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي

[سورة السجده (32) : آية 21]

مُقَابِله فَمَأْواهُمُ النَّارُ. وَإِضَافَةُ جَنَّاتُ إِلَى الْمَأْوى مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي الْكَلَامِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْبَصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ فِي تَأْوِيلِهَا خِلَافًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَص: 44] ، وَقَوْلِهِمْ: عِشَاءُ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: فَلَهُمُ الْجَنَّاتُ الْمَأْوَى لَهُمْ، أَيِ الْمَوْعُودُونَ بِهَا. وَانْتَصَبَ نُزُلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتُ الْمَأْوى. وَالنُّزُلُ بِضَمَّتَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّزُولِ فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُعَدُّ لِلنَّزِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ وَالْقِرَى قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : النُّزُلُ: عَطَاءُ النَّازِلِ، ثُمَّ صَارَ عَامًّا، أَيْ: يُطْلَقُ عَلَى الْعَطَاءِ وَلَوْ بِدُونِ ضِيَافَةٍ مَجَازًا مُرْسَلًا. قُلْتُ: وَيُطْلَقُ عَلَى مَحَلِّ نُزُولِ الضَّيْفِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ يَخْتَلِفُ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ رَعْيًا لِمَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْكَلَامِ. وَفَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا بِالْمَنْزِلِ، وَفَسَّرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: 62] فَقَالَ: «يَقُولُ أَذَلِكَ خَيْرٌ فِي بَابِ الْأَنْزَالِ الَّتِي تُمْكِنُ مَعَهَا الْإِقَامَةُ أَمْ نُزُلُ أَهْلِ النَّارِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [163] ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [22] . وَيَتَّجِهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَن يُقَال: لماذَا أَظْهَرَ اسْمَ النَّارِ فِي قَوْلِهِ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ مَعَ أَنَّ اسْمَ النَّارِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَمَأْواهُمُ النَّارُ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارَ بِأَنْ يُقَالَ: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَهَا. وَهَذَا السُّؤَالُ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» وَأَجَابَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ التَّهْدِيدُ وَفِي إِظْهَارِ لَفْظِ النَّارِ مِنَ التَّخْوِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْإِضْمَارِ، الثَّانِي: أَنَّ الْجُمْلَةَ حِكَايَةٌ لِمَا يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُحْكَى كَمَا قِيلَ لَهُمْ وَلَيْسَ فِيمَا يُقَالُ لَهُمْ تَقَدُّمُ ذكر النَّار. [21] [سُورَة السجده (32) : آيَة 21] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) إِخْبَارٌ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا آخَرَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ عَذَابِ النَّارِ الْمَوْعُودِينَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ

[سورة السجده (32) : آية 22]

فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَدْنَى عَذَابُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: التَّعْرِيضُ بِتَهْدِيدِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ هَذَا الْكَلَامَ أَوْ يُبَلَّغُ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا إِنْذَارٌ بِمَا لَحِقَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ مَا مُحِنُوا بِهِ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَكَانُوا فِي أَمْنٍ مِنْهُمَا وَمَا يُصِيبُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَيَوْمَ الْفَتْحِ مِنَ الذُّلِّ. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِحِكْمَةِ إِذَاقَتِهِمُ الْعَذَابَ الْأَدْنَى فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهُ لِرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ، أَيْ رُجُوعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ. وَالْمُرَادُ: رُجُوعُ مَنْ يُمْكِنُ رُجُوعُهُ وَهُمُ الْأَحْيَاءُ مِنْهُمْ. وَإِسْنَادُ الرُّجُوعِ إِلَى ضَمِيرِ جَمِيعِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَيْ لَعَلَّ جَمَاعَتَهُمْ تَرْجِعُ. وَكَذَلِكَ كَانَ فَقَدْ آمَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ وَبِخَاصَّةٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَصَارَ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الرُّجُوعُ الْمَرْجُوُّ مَخْصُوصِينَ مِنْ عُمُومِ الَّذِينَ فَسَقُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها الْآيَة [السَّجْدَة: 20] ، فَبَقِيَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ لِلَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَافَاةِ عِنْد الْأَشْعَرِيّ. [22] [سُورَة السجده (32) : آيَة 22] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها [السَّجْدَة: 15] إِلَى آخِرِهَا حَيْثُ اقْتَضَتْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] لَيْسُوا كَأُولَئِكَ فَانْتَقَلَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ يُذَكَّرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ حِينَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيُعْرِضُونَ عَنْ تَدَبُّرِهَا وَيَلْغُونَ فِيهَا، فَآيَاتُ اللَّهِ مُرَادٌ بِهَا الْقُرْآنُ. وَجِيءَ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ أَعْرَضَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِهَا تَرَاخِيَ اسْتِبْعَادٍ وَتَعْجِيبٍ مِنْ حَالِهِمْ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ: لَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا

[سورة السجده (32) : آية 23]

أَيْ: عَجِيبٌ إِقْدَامُهُ عَلَى مَوَاقِعِ الْهَلَاكِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ تَغْمُرُ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْمَوَاقِعِ. ومَنْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَقَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الْبَقَرَة: 114] أَيْ: لَا أَظْلَمَ مِنْهُ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمَ مِنْهُ لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِحِرْمَانِهَا مِنَ التَّأَمُّل فِيمَا فِيهِ نَفَعَهُ، وَظَلَمَ الْآيَاتِ بِتَعْطِيلِ نَفْعِهَا فِي بَعْضِ مَنْ أُرِيدَ انْتِفَاعُهُمْ بِهَا، وَظَلَمَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَكْذِيبِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَظَلَمَ حَقَّ رَبِّهِ إِذْ لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَرَادَ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَفْظِيعِ ظُلْمِ الَّذِي ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ جَزَاءَ ذَلِكَ الظَّالِمِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ، عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ ضَمِيرِهِمْ لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ مَعَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أَعَمُّ مِنَ الظَّالِمين فَيكون دُخُولهمْ فِي الِانْتِقَامِ من الْمُجْرمين أخرويّا وَتَصِيرُ جُمْلَةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ تذييلا. [23] [سُورَة السجده (32) : آيَة 23] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [السَّجْدَة: 22] ، اسْتَطْرَدَ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ نَظِيرُ مَا لَقِيَهُ مُوسَى مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْلِيَةِ بِالتَّنْظِيرِ وَالتَّمْثِيلِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [السَّجْدَة: 25] مُعْتَرِضَاتٌ. وَمَوْقِعُ التَّأْكِيدِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ هُوَ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ التَّسْلِيَةِ لَا لِأَصْلِ الْأَخْبَارِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ، وَبِهِ تَظْهَرُ رَشَاقَةُ الِاعْتِرَاضِ بِتَفْرِيعِ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ.

وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَرْسَلْنَا مُوسَى، فَذِكْرُ إِيتَائِهِ الْكِتَابَ كِنَايَةً عَنْ إِرْسَالِهِ، وَإِدْمَاجُ ذِكْرِ الْكِتابَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ مُوسَى وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي تَنْظِيرِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يُكَذِّبْهُ قَوْمُهُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ الْآيَاتِ، وَلِيَتَأَتَّى مِنْ وَفْرَةِ الْمَعَانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِ ذِكْرِ الْكِتابَ. وَجُمْلَةُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ مُعْتَرِضَةٌ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالْفَاءِ، وَمِثْلُهُ وَارِدٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [135] . وَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فِي سُورَةِ ص [57] . وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ، أَيْ لَا يَكُنِ الشَّكُّ مُحِيطًا بِكَ وَمُتَمَكِّنًا مِنْكَ، أَيْ لَا تَكُنْ مُمْتَرِيًا فِي أَنَّكَ مِثْلَهُ سَيَنَالُكَ مَا نَالَهُ مِنْ قَوْمِهِ. وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّكِّ فَهُوَ نَهْيٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّثْبِيتُ كَقَوْلِهِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: 109] ، وَلَيْسَ لِطَلَبِ إِحْدَاثِ انْكِفَافٍ عَنِ الْمِرْيَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ مِنْ قَبْلُ. وَاللِّقَاءُ: اسْمُ مَصْدَرِ لَقِيَ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ دُونَ لِقًى الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ الْقِيَاسِيُّ. وَاللِّقَاءُ: مُصَادَفَةُ فَاعِلِ هَذَا الْفِعْلِ مَفْعُولَهُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْإِصَابَةِ كَمَا يُقَالُ: لَقِيتُ عَنَاءً، وَلَقِيتُ عَرَقَ الْقِرْبَةِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، أَيْ لَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ فِي أَنْ يُصِيبَكَ مَا أَصَابَهُ، وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى. وَاللِّقَاءُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مِمَّا لَقِيَ مُوسَى مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْ تَكْذِيبٍ، أَيْ مِنْ مِثْلِ مَا لَقِيَ مُوسَى، وَهَذَا الْمُضَافُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ أَوْ يَكُونُ جَارِيًا عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الْبَدْرُ، أَيْ: مِنْ لِقَاءٍ كَلِقَائِهِ، فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْأَنْعَام: 10] فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [الْأَنْعَام: 34] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا [الْإِسْرَاء: 76، 77] .

هَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرٍ لِلْآيَةِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَأْثُورٌ عَنِ الْحَسَنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لِقائِهِ عَائِدًا إِلَى مُوسَى عَلَى مَعْنَى: مِنْ مِثْلِ مَا لَقِيَ مُوسَى مِنْ إِرْسَالِهِ وَهُوَ أَنْ كَانَتْ عَاقِبَةُ النَّصْرِ لَهُ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَحُصُولُ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ، وَتَأْيِيدُهُ بِاهْتِدَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى بِشَارَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ هَذَا الدِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لِقائِهِ عَائِدًا إِلَى الْكِتَابِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» لَكِنْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ الْكِتَابِ، أَيْ مِنْ أَنْ تَلْقَى مِنْ إِيتَائِكَ الْكِتَابَ مَا هُوَ شِنْشِنَةُ تَلَّقِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا تَلَقَّاهَا مُوسَى. فَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْذِيرِ مِمَّنْ ظَنَّ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ فِي إِيتَاءِ الْكِتَابِ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ جَانِبِ أَذَى قَوْمِهِ وَإِعْرَاضِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ فَلا تَكُنْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينَ امْتَرَوْا فِي أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءً كَانُوا الْمُشْرِكِينَ أَوِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ لَا تَمْتَرُوا فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى بَشَرٍ فَقَدْ أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى مُوسَى فَلَا تَكُونُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الْأَنْعَام: 91] . فَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْكَفِّ عَنِ الْمِرْيَةِ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ احْتِمَالَاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ لَا تُسْفِرُ عَنْ مَعْنًى بَيِّنٍ، وَمِنْ أَبْعَدِهَا حَمْلُ اللِّقَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَعَوْدُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ لِمُوسَى وَأَنَّ الْمُرَادَ لِقَاؤُهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ وَحَقَّقَهُ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ الْمُبَرِّدُ حِينَ امْتَحَنَ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (¬1) . وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي وَجَعَلْناهُ هُدىً يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ عَلَى مُوسَى وَكِلَاهُمَا سَبَبُ هُدًى، فَوُصِفَ بِأَنَّهُ هُدًى لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ ¬

(¬1) لَعَلَّه امتحنه بذلك حِين جَاءَهُ ليلازمه للأخذ عَنهُ وَلم أعثر على تَفْصِيل ذَلِك.

[سورة السجده (32) : آية 24]

بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ بِالْقُرْآنِ لِيَهْتَدُوا فَأَعْرَضُوا وَكَانُوا أَحَقَّ بِأَنْ يَحْرِصُوا عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ وبهدي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [24] [سُورَة السجده (32) : آيَة 24] وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) أُشِيرَ إِلَى مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَعَلَ مِنْهُمْ أَيِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَالْأَمْرُ يَشْمَلُ الْوَحْيَ بِالشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِهَا، وَيَشْمَلُ الِانْتِصَابَ لِلْإِرْشَادِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعُلَمَاءَ أَنْ يُبَيِّنُوا الْكِتَابَ وَيُرْشِدُوا إِلَيْهِ فَإِذَا هَدَوْا فَإِنَّمَا هَدَوْا بِأَمْرِهِ وَبِالْعِلْمِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لَمَّا صَبَرُوا وَأَيْقَنُوا لِمَا جَاءَهُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمُعْجِزَاتِ رَسُولِهِمْ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِآياتِنا يُوقِنُونَ دَلَائِلَ صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَالْخُرُوجِ بِهِمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَمَا لَقُوهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالِاضْطِهَادِ وَتِيهِهِمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَتَدَبَّرُوا فِي الْآيَاتِ وَنَظَرُوا حَتَّى أَيْقَنُوا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْآيَاتِ عَلَيْهَا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَسْمِيَةِ جُمَلِ الْقُرْآنِ آيَاتٍ لِأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ فِي بَلَاغَتِهَا خَارِجَةٌ عَنْ طَوْقِ تَعْبِيرِ الْبَشَرِ. فَكَانَتْ دَلَالَاتٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا نَحْوُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي: فَوَضَعَ الْيَهُودِيُّ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، أَيِ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ حُكْمُ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ فَسَمَّاهُ الرَّاوِي آيَةً مُشَاكَلَةً لِكَلَامِ الْقُرْآنِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْبِشَارَةِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَيِمَّةً لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَهُدَاةً لِلْمُسْلِمِينَ إِذْ صَبَرُوا عَلَى مَا لَحِقَهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ مِنْ أَذَى قَوْمِهِمْ وَصَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَمُعَادَاةِ أَهْلِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَتَقْدِيمُ بِآياتِنا عَلَى يُوقِنُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا صَبَرُوا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهِيَ لَمَّا الَّتِي هِيَ حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ وَتُسَمَّى التَّوْقِيتِيَّةَ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ أَيِمَّةً حِينَ صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ. وَقَرَأَ

[سورة السجده (32) : آية 25]

حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ وَ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أَيِمَّةً لِأَجْلِ صبرهم وإيقانهم. [25] [سُورَة السجده (32) : آيَة 25] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السَّجْدَة: 24] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَمِعُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَصْفِ اخْتِلَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ وَشَاهَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ غَيْرَ مُتَحَلِّينَ بِمَا يُنَاسِبُ مَا قَامَت بِهِ أئمتهم مِنَ الْهِدَايَةِ فَيَوَدُّ أَنْ يَعْلَمَ سَبَبَ ذَلِكَ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَابُ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ تَحْذِيرًا مِنْ ذَلِكَ وَإِيمَاءً إِلَى وُجُوبِ تَجَنُّبِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يَدْعُو إِلَيْهِ دَاعٍ فِي مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَفَهْمِ الدِّينِ. وَالْفَصْلُ: الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ أَوْقَعَهُمْ فِي إِبْطَالِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْهُدَى فَهُوَ اخْتِلَافٌ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى أَدِلَّةٍ وَلَا جَارٍ فِي مَهْيَعِ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ وَلَكِنَّهُ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى وَمَيْلٌ لِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا كَمَا وَصَفَهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمرَان: 105] . وَلَيْسَ مِنْهُ اخْتِلَافُ أَيِمَّةِ الدِّينِ فِي تَفَارِيعِ الْأَحْكَامِ وَفِي فَهْمِ الدِّينِ مِمَّا لَا يُنْقِضُ أُصُولَهُ وَلَا يُخَالِفُ نُصُوصَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إِعْمَالٌ لِأُصُولِهِ وَلِأَدِلَّتِهِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا وَحَمْلُ مُتَعَارِضِهَا بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يُعَنِّفْ أَحَدًا، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ يُعَنِّفْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَيَشْمَلُ مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مَا كَانَ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ مِنْهُمْ وَمَا كَانَ اتِّفَاقًا مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِمْ عَلَى الضَّلَالَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْمُجْمِعِينَ وَبَيْنَ مَا

[سورة السجده (32) : آية 26]

نَطَقَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُمْ وَسَنَّتْهُ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ كِتْمَانُهُمُ الشَّهَادَةَ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَحْدِهِمْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ. وَضَمِيرُ هُوَ فِي قَوْلِهِ هُوَ يَفْصِلُ ضَمِيرُ فَصْلٍ لِقَصْرِ الْفَصْلِ عَلَيْهِ تَعَالَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ بَعْضِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ لَيْسَ مَطْمُوعًا مِنْهُ أَنْ يَرْتَدِعُوا عَنِ اخْتِلَافِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ وَقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الْحُجَّةَ فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ إِلَّا يَوْم الْقِيَامَة. [26] [سُورَة السجده (32) : آيَة 26] أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [السَّجْدَة: 22] ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ مُتَّصِلًا كَقَوْلِهِ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ [السَّجْدَة: 10] كَانَ الْهَدْيُ، أَيِ الْعِلْمُ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ شَامِلًا لِلْهَدْيِ إِلَى دَلِيلِ الْبَعْثِ وَإِلَى دَلِيلِ الْعِقَابِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِيرِ فَأَفَادَ قَوْلُهُ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ معنين: أَحَدُهُمَا: إِهْلَاكُ أُمَمٍ كَانُوا قَبْلَهُمْ فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَهُمْ، وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِلْبَعْثِ وَتَقْرِيبٌ لِإِمْكَانِهِ. وَثَانِيهِمَا: إِهْلَاكُ أُمَمٍ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَفِيهِمْ عِبْرَةٌ لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ هُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِدَلَائِلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ فَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَلَا اتَّعَظُوا بِمَصَارِعِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَفِي مَهْلِكِهِمْ آيَاتٌ تَزْجُرُ أَمْثَالَهُمْ عَنِ السُّلُوكِ فِيمَا سَلَكُوهُ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُجْرِمِينَ أَوْ إِلَى مَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ. ويَهْدِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ، يُقَالُ: هَدَاهُ إِلَى كَذَا. وَضُمِّنَ فِعْلُ يَهْدِ مَعْنَى يُبَيِّنُ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ فَأَفَادَ هِدَايَةً وَاضِحَةً بَيِّنَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ [الْأَعْرَافِ: 100] . وَاخْتِيرَ فِعْلُ الْهِدَايَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِإِرَادَةِ الدَّلَالَةِ الْجَامِعَةِ لِلْمُشَاهَدَةِ وَلِسَمَاعِ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا أَفَلا يَسْمَعُونَ، وَلِأَنَّ كَثْرَةَ

ذَلِكَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ كَمْ الْخَبَرِيَّةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْتِيبِ الِاسْتِدْلَالِ فِي تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَلَا تَحْصُلُ دُفْعَةً كَمَا تَحْصُلُ دَلَالَةُ الْمُشَاهَدَاتِ. وَفَاعِلُ يَهْدِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَمْ الْخَبَرِيَّةُ مِنْ مَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ جَعْلُ كَمْ فَاعِلَ يَهْدِ لِأَنَّ كَمْ الْخَبَرِيَّةَ اسْمٌ لَهُ الصَّدَارَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذْ أَصْلُهُ اسْتِفْهَامٌ فَتُوُسِّعَ فِيهِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ كَمْ فَاعِلًا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ تَكُونَ كَمْ الْخَبَرِيَّةُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. وَجُوِّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ جُمْلَةَ كَمْ أَهْلَكْنا عَلَى مَعْنَى الْحِكَايَةِ لِهَذَا الْقَوْلِ، كَمَا يُقَالُ: تَعْصِمُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَيِ النُّطْقُ بِهَا لِتَقَلُّدِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ دَالًّا عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَذَكَّرَهُمْ بِمَصَارِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ كَمْ أَهْلَكْنا عَلَى هَذَا اسْتِئْنَافًا، وَتَقَدَّمَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [6] . وَنِيطَ الِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِالْكَثْرَةِ الَّتِي أَفَادَتْهَا كَمْ الْخَبَرِيَّةُ لِأَنَّ تَكَرُّرَ حُدُوثِ الْقُرُونِ وَزَوَالِهَا أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ. ويَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَوَلَمْ يَرَوْا [السَّجْدَة: 27] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا بَقَايَا مَسَاكِنِهِمْ مِثْلَ حِجْرِ ثَمُودَ وَدِيَارِ مَدْيَنَ فَتُعَضِّدُ مُشَاهَدَةُ مَسَاكِنِهِمُ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ وَهِيَ دَلَائِلُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 60، 61] ، وَدَلَائِلُ مَا يَحِيقُ بِالْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَفِي كُلِّ أُمَّةٍ وَمَوْطِنٍ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ مُتَمَاثِلَةٌ أَوْ مُتَخَالِفَةٌ. وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِنْ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ وَتَقَلُّبَاتِ أَحْوَالِهَا وَزَوَالِ قُوَّتِهَا وَرَفَاهِيَتِهَا أَشَدَّ دَلَالَةً وَمَوْعِظَةً لِلْمُشْرِكِينَ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَفَلا يَسْمَعُونَ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا مَشُوبًا بِتَوْبِيخٍ لِأَنَّ اجْتِلَابَ الْمُضَارِعِ وَهُوَ يَسْمَعُونَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ أَوْقَعَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَفَلا يُبْصِرُونَ [السَّجْدَة: 27] . وَقَدْ شَاعَ تَوْجِيهُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ إِلَى الْمَنْفِيِّ، وَتَقَدَّمَ

[سورة السجده (32) : آية 27]

عِنْدَ قَوْله تَعَالَى لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [148] . [27] [سُورَة السجده (32) : آيَة 27] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) عطف على أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [السَّجْدَة: 26] . وَنِيطَ الِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِالرُّؤْيَةِ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا ثُمَّ إِخْرَاجَ النَّبْتِ مِنْهَا دَلَالَةٌ مُشَاهَدَةٌ. وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ نَسُوقُ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ. وَالسَّوْقُ: إِزْجَاءُ الْمَاشِي مِنْ وَرَائِهِ. والْماءَ: مَاءُ الْمُزْنِ، وَسَوْقُهُ إِلَى الْأَرْضِ هُوَ سَوْقُ السَّحَابِ الْحَامِلَةِ إِيَّاهُ بِالرِّيَاحِ الَّتِي تَنْقِلُ السَّحَابَ مِنْ جَوٍّ إِلَى جَوٍّ فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ بِهَيْئَةِ السَّائِقِ لِلدَّابَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. والْجُرُزِ: اسْمٌ لِلْأَرْضِ الَّتِي انْقَطَعَ نَبْتُهَا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَرْزِ، وَهُوَ: انْقِطَاعُ النَّبْتِ وَالْحَشِيشِ، إِمَّا بِسَبَبِ يُبْسِ الْأَرْضِ أَوْ بِالرَّعْيِ، وَالْجَرْزُ: الْقَطْعُ. وَسُمِّيَ السَّيْفُ الْقَاطِعُ جُرَازًا، قَالَ الرَّاجِزُ يَصِفُ أَسْنَانَ نَاقَةٍ: تُنْحِي عَلَى الشَّوْكِ جُرَازًا مِقْضَبًا ... والهرم تذريه إِذْ دراء عجبا ف الْأَرْضِ الْجُرُزِ: الَّتِي انْقَطَعَ نَبْتُهَا. وَلَا يُقَالُ لِلْأَرْضِ الَّتِي لَا تُنْبِتُ كَالسِّبَاخِ جُرُزٌ. وَالزَّرْعُ: مَا نَبَتَ بِسَبَبِ بَذْرِ حُبُوبِهِ فِي الْأَرْضِ كَالشَّعِيرِ وَالْبُرِّ وَالْفِصْفِصَةِ وَأَكْلُ الْأَنْعَامِ غَالِبُهُ مِنَ الْكَلَأِ لَا مِنَ الزَّرْعِ فَذِكْرُ الزَّرْعِ بِلَفْظِهِ، ثُمَّ ذِكْرُ أَكْلِ الْأَنْعَامِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ: وَكَلَأَ. فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا وَكَلَأً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ وَتَقْرِيبِهِ وَإِمْكَانِهِ بِإِخْرَاجِ النَّبْتِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ زَالَ فَوُجِّهَ الْأَوَّلُ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ بِقَوْلِهِ تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ. ثُمَّ فُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ بِجُمْلَةِ أَفَلا يُبْصِرُونَ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِهِ آنِفًا

[سورة السجده (32) : الآيات 28 إلى 30]

فِي قَوْلِهِ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السَّجْدَة: 21] . وَنِيطَ الْحُكْمُ بِالْإِبْصَارِ هُنَا لِأَنَّ دَلَالَةَ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا دلَالَة مُشَاهدَة. [28- 30] [سُورَة السجده (32) : الْآيَات 28 إِلَى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [السَّجْدَة: 22] ، أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهَا وَتَجَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى التَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ بِهَا. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُ وَقَعَ عَقِبَ الْإِشَارَةِ إِلَى دَلِيلِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ وَكَذَّبُوا بِوَعِيدِ عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَة: 21] . والْفَتْحُ: النَّصْرُ وَالْقَضَاءُ. وَالْمُرَادُ بِهِ: نَصْرُ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِظُهُورِ فَوْزِهِمْ وَخَيْبَةِ أَعْدَائِهِمْ فَإِنَّ خَيْبَةَ الْعَدُوِّ نَصْرٌ لِضِدِّهِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَحَدَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ بَيْنَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَتَظْهَرُ حُجَّتُهُمْ، فَكَانَ الْكَافِرُونَ يُكَرِّرُونَ التَّهَكُّمَ بِالْمُسْلِمِينَ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ هَذَا الْفَتْحِ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّكْذِيبِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ. وَحِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] مَعَ إِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُ. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّهُ وَاقِعٌ فَبَيِّنُوا لَنَا وَقْتَهُ فَإِنَّكُمْ إِذْ عَلِمْتُمْ بِهِ دُونَ غَيْرِكُمْ فَلْتَعْلَمُوا وَقْتَهُ. وَهَذَا مِنَ السَّفْسَطَةِ الْبَاطِلَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ إِجْمَالًا لَا يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِتَفْصِيلِ أَحْوَالِهِ حَتَّى يُنْسَبَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَى الْكَذِبِ فِي إِجْمَالِهِ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هذَا الْفَتْحُ مَعَ إِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِذِكْرِ مُبَيِّنِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّحْقِيرُ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا إِنْبَاءً بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِ بِالْمَوْتِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 36] فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِأَنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ الْحَقِّ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ أَمَلُ الْكُفَّارِ فِي النَّجَاةِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ النَّدَامَةِ وَالتَّوْبَةِ وَلَا يَجِدُونَ إِنْظَارًا لِتَدَارُكِ مَا فَاتَهُمْ، أَيْ إِفَادَتُهُمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ خَيْرٌ لَهُمْ مَنْ تَطَلُّبِهِمْ مَعْرِفَةَ وَقْتِ حُلُولِ يَوْمِ الْفَتْحِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَئِذٍ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السَّجْدَة: 12] مَعَ مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ زَمَنَ حُلُولِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلنَّاسِ وَأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ فَعَلَى مَنْ يَحْتَاطُ لِنَجَاةِ نَفْسِهِ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ مِنَ الْآنِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يَحِلُّ بِهِ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: 158] . فَفِي هَذَا الْجَوَابِ سُلُوكُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ وَجْهِ الْعُدُولِ عَنْ تَعْيِينِ يَوْمِ الْفَتْحِ، وَمِنْ وَجْهِ الْعُدُولِ بِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ الْحَقِّ، وَهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا بِالْفَتْحِ نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَإِظْهَارُ وَصْفِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مَعَ أَنَّهُمْ هُمُ الْقَائِلُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ سَبَبُ خَيْبَتِهِمْ. ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ وَالدَّلَالَاتِ تَوْجِيهُ اللَّهِ خِطَابَهَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعْرِضَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ الْمُكَذِّبِينَ وَأَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ تَأْيِيسًا مِنْ إِيمَانِ الْمُجَادِلِينَ مِنْهُمُ الْمُتَصَدِّينَ لِلتَّمْوِيهِ عَلَى دَهْمَائِهِمْ. وَهَذَا إِعْرَاضُ مُتَارَكَةٍ عَنِ الْجِدَالِ وَقْتِيًّا لَا إِعْرَاضٌ مُسْتَمِرٌّ، وَلَا عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْكَامِ الْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالِانْتِظَارُ: التَّرَقُّبُ. وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّظَرِ فَكَأَنَّهُ مُطَاوِعُ: أَنْظَرَهُ، أَيْ أَرَاهُ فَانْتَظَرَ، أَيْ: تَكَلَّفَ أَنْ يَنْظُرَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ انْتَظِرْ لِلتَّهْوِيلِ، أَيِ: انْتَظِرْ أَيَّامًا يَكُونُ لَكَ فِيهَا النَّصْرُ،

وَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا الْخُسْرَانُ مِثْلَ سِنِي الْجُوعِ إِنْ كَانَ حَصَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُمَّا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا مَحَالَةَ، فَفِي الْأَمْرِ بِالِانْتِظَارِ تَعْرِيضٌ بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّظَرِ، وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا تُضَمَّنَهُ الْأَمْرُ بِالِانْتِظَارِ مِنْ إِضْمَارِ الْعَذَابِ لَهُمْ. وَمَفْعُولُ مُنْتَظِرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ مُنْتَظِرُونَ لَكُمُ الْفُرْصَةَ لِحَرْبِكُمْ أَوْ لِإِخْرَاجِكُمْ قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] وَقَالَ: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [التَّوْبَة: 98] أَيْ لَمْ نَكُنْ ظَالِمِينَ فِي تَقْدِيرِ الْعَذَابِ لَهُم لأَنهم بدأوا بِالظُّلْمِ.

33- سورة الأحزاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 33- سُورَةُ الْأَحْزَابِ هَكَذَا سُمِّيَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَتْ تَسْمِيَتُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأَسَانِيدَ مَقْبُولَةٍ. وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُهُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ أَحْزَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ تَحَزَّبَ مَعَهُمْ، أَرَادُوا غَزْوَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ فَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهُمْ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آيَةَ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ [الْأَحْزَاب: 36] إِلَخْ نَزَلَتْ فِي تَزْوِيجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي مَكَّةَ. وَهِيَ التِّسْعُونَ فِي عِدَادِ السُّوَرِ النَّازِلَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَبْلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَكَانَ نُزُولُهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَوَاخِرَ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» . وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَهِيَ سَنَةُ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَتُسَمَّى غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ حِينَ أَحَاطَ جَمَاعَاتٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهِمْ (¬1) وَكِنَانَةَ وَغَطَفَانَ وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَعَقِبَتْهَا غَزْوَةُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَعَدَدُ آيِهَا ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَدَدِ. وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ السُّورَةِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَيِّنْ تَعُدُّونَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قَالَ: ¬

(¬1) أحابيش قُرَيْش: هم بَنو المصطلق وَبَنُو الْهون اجْتَمعُوا عِنْد جبل بِمَكَّة يُقَال لَهُ: حبشيّ- بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْبَاء- فَحَالَفُوا قُريْشًا أَنهم يَد على غَيرهم.

قُلْتُ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً. قَالَ: أَقَطْ- بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى قَطْ، أَي: حسب- فو الَّذِي يَحْلِفُ بِهِ أُبَيٌّ: إِنْ كَانَتْ لَتَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ. وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتِّيَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فَرُفِعَ فِيمَا رُفِعَ، أَيْ: نُسِخَ فِيمَا نُسِخَ من تِلَاوَة ءاياتها. وَمَا رَوَاهُ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ بِسَنَدِهِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُقْرَأُ فِي زَمَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ آيَةٍ فَلَمَّا كَتَبَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ لَمْ يَقْدِرْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْآنَ. وَكَلَامُ الْخَبَرَيْنِ ضَعِيفُ السَّنَدِ. وَمَحْمَلُ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أُبَيًّا حَدَّثَ عَنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ مِنْهَا مَا نُسِخَ. فَمِنْهُ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ وَمِنْهُ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ خَاصَّةً مِثْلَ آيَةِ الرَّجْمِ. وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ صَحَّ عَنْ أُبَيٍّ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ أُبَيٌّ يُلْحِقُهُ بِسُورَةِ الْأَحْزَابِ وَهُوَ مِنْ سُوَرٍ أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ الشَّبِيهِ بِبَعْضِ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَغْرَاضًا وَلَهْجَةً مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ وَلَا فِي عدّة سور وَتَقْسِيمِ سُوَرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ وَلَا فِي ضَبْطِ الْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ. كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعَ حُفَّاظُ الْقُرْآنِ وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَكَافَّةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الَّذِينَ شَذُّوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَأَجْمَعُوا فِي عَدَدِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى عَدَدٍ قَرِيبٍ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ عَائِشَةَ فَهُوَ أَضْعَفُ سَنَدًا وَأَقْرَبُ تَأْوِيلًا فَإِنْ صَحَّ عَنْهَا، وَلَا إِخَالَهُ، فَقَدْ تَحَدَّثَتْ عَنْ شَيْءٍ نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَلَيْسَ بَعْدَ إِجْمَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ مَطْلَبٌ لِطَالِبٍ. وَلَمْ يَكُنْ تَعْوِيلُهُمْ فِي مِقْدَارِ الْقُرْآنِ وَسُوَرِهِ إِلَّا عَلَى حِفْظِ الْحُفَّاظِ. وَقَدِ افْتَقَدَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ لَمْ يَجِدْهَا فِيمَا دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ صُحُفِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى وَجَدَهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ كَانَ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا، فَلَمَّا وَجَدَهَا مَعَ خُزَيْمَةَ لَمْ يَشُكَّ فِي لَفْظِهَا الَّذِي كَانَ عَرَفَهُ، وَهِيَ آيَةُ

أغراض هذه السورة

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَى قَوْله تَبْدِيلًا [الْأَحْزَاب: 23] . وَافْتَقَدَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَوَجَدَهُمَا عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ أَوْسٍ- الْمُشْتَهِرِ بِكُنْيَتِهِ-. وَبَعْدُ فَخَبَرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ خَبَرٌ غَرِيبٌ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَنُوقِنُ بِأَنَّهُ دَخَلَهُ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ. وَهُوَ أَيْضًا خَبَرُ آحَادٍ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَوْجُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَوَاتِرًا. وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَأَمَّا مَا يُحْكَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ عَائِشَةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي صَحِيفَةٍ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَكَلَتْهَا الدَّاجِنُ، أَيِ الشَّاةُ، فَمِنْ تَأْلِيفَاتِ الْمَلَاحِدَةِ وَالرَّوَافِضِ اهـ. وَوَضْعُ هَذَا الْخَبَرِ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ فَإِنَّهُ لَوْ صَدَقَ هَذَا لَكَانَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ قَدْ هَلَكَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَهُ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ وَحُفَّاظُ الْقُرْآنِ كَثِيرُونَ فَلَوْ تَلِفَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ لَمْ يُتْلَفْ مَا فِيهَا مِنْ صُدُورِ الْحُفَّاظِ. وَكَوْنُ الْقُرْآنِ قَدْ تَلَاشَى مِنْهُ كَثِيرٌ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الرَّوَافِضِ لِيَطْعَنُوا بِهِ فِي الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَوْدَعٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْقُرْآنِ وِقْرَ بَعِيرٍ. وَقَدِ اسْتَوْعَبَ قَوْلُهُمْ وَاسْتَوْفَى إِبْطَالَهَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» . أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ لِكَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ أَسْبَابٌ لِنُزُولِهَا، وَأَكْثَرُهَا نَزَلَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَقْوَالًا قَصَدُوا بِهَا أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَهَمُّ أَغْرَاضِهَا: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالُوا: تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأَةَ ابْنِهِ وَهُوَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْطَالَ التَّبَنِّي. وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْخَبِيرُ بِالْأَعْمَالِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ الْحَقَّ.

وَأَنَّ وِلَايَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَقْوَى وِلَايَةً، وَلِأَزْوَاجِهِ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ لَهُمْ، وَتِلْكَ وِلَايَةٌ مَنْ جَعْلِ اللَّهِ فَهِيَ أَقْوَى وَأَشَدُّ مِنْ وِلَايَةِ الْأَرْحَامِ. وَتَحْرِيضُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعَهْدَ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيئِينَ. وَالِاعْتِبَارُ بِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ مِنْ عِنَايَتِهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَحْزَابِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ وَدَفْعِ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ. وَالثَّنَاءُ عَلَى صِدْقِ الْمُؤْمِنِينَ وَثَبَاتِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَعْطَاهُمْ بِلَادَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ ظَاهَرُوا الْأَحْزَابَ. وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَحْكَامٍ فِي مُعَاشَرَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ فَضْلَهُنَّ وَفَضْلَ آلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضَائِلَ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. وَتَشْرِيعٌ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ. وَمَا يَسُوغُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَحُكْمُ حِجَابِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَلُبْسَةِ الْمُؤْمِنَاتِ إِذَا خَرَجْنَ. وَتَهْدِيدُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْإِرْجَافِ بِالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ. وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ فَكَانَ خِتَامُهَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا: وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْأَحْزَاب: 2] ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ مُسْتَطْرَدَاتٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالِائْتِسَاءِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَحْرِيضُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى هَدْيِهِ. وَتَعْظِيمُ قَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ. وَوَعِيدُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِمَا يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالتَّحْذِيرُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي ذَلِكَ كَيْلَا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الَّذِينَ آذَوْا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 1]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِدَائِهِ بِوَصْفِهِ مُؤَذِنٌ بِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ السُّورَةِ يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ نُودِيَ فِيهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي افْتِتَاحِ أَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ التَّشْرِيعِ بَعْضُهَا خَاصٌّ بِهِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ وَله مُلَابسَة لَهُ. فَالنِّدَاءُ الْأَوَّلُ: لِافْتِتَاحِ غَرَضِ تَحْدِيدِ وَاجِبَاتِ رِسَالَتِهِ نَحْوَ رَبِّهِ. وَالنِّدَاءُ الثَّانِي: لِافْتِتَاحِ غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِمَقَامِ أَزْوَاجِهِ وَاقْتِرَابِهِ مِنْ مَقَامِهِ. وَالنِّدَاءُ الثَّالِثُ: لِافْتِتَاحِ بَيَانِ تَحْدِيد تقلبات شؤون رِسَالَتِهِ فِي مُعَامَلَةِ الْأُمَّةِ. وَالنِّدَاءُ الرَّابِعُ: فِي طَالِعَةِ غَرَضِ أَحْكَامِ تَزَوُّجِهِ وَسِيرَتِهِ مَعَ نِسَائِهِ. وَالنِّدَاءُ الْخَامِسُ: فِي غَرَضِ تَبْلِيغِهِ آدَابَ النِّسَاءِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنَ الْمُؤْمِنَاتِ. فَهَذَا النِّدَاءُ الْأَوَّلُ افْتُتِحَ بِهِ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ لِبَقِيَّةِ الْأَغْرَاضِ وَهُوَ تَحْدِيدُ وَاجِبَاتِ رِسَالَتِهِ فِي تَأْدِيَةِ مُرَادِ رَبِّهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ دُونَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ أَعْدَاءُ الدِّينِ أَعْمَالَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ النِّدَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: 67] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] الْآيَاتِ. وَنِدَاءُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَصْفِ النُّبُوءَةِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ تَشْرِيفٌ لَهُ بِفَضْلِ هَذَا الْوَصْفِ لِيَرْبَأَ بِمَقَامِهِ عَنْ أَنْ يُخَاطَبَ بِمِثْلِ مَا يُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَادِ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ يَا أَيهَا النبيء أَوْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [الْمَائِدَة: 67] بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ فَقَدْ يَجِيءُ بِهَذَا الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النبيء [التَّحْرِيم: 8] وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ [الْفرْقَان: 30] قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 1] النَّبِيءُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الْأَحْزَاب: 6] ، وَيَجِيءُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ كَقَوْلِهِ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الْأَحْزَاب: 40] . وَقَدْ يَتَعَيَّنُ إِجْرَاءُ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِيُوصَفَ بَعْدَهُ بِالرِّسَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الْفَتْح: 29] وَقَوْلِهِ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمرَان: 144] . وَتِلْكَ مَقَامَاتٌ يُقْصَدُ فِيهَا تَعْلِيمُ النَّاسِ بِأَنَّ صَاحِبَ ذَلِكَ الِاسْمِ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ تَلْقِينٌ لَهُمْ بِأَنْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ

وَيَدْعُوهُ بِهِ، فَإِنَّ عِلْمَ أَسْمَائِهِ مِنَ الْإِيمَانِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ» تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ أَنْهَى أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ أَسْمَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ وَأَنْهَاهَا السُّيُوطِيُّ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ: أَسْمَاءُ النَّبِيءِ أَلْفَا اسْمٍ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: 45] . وَالْأَمْرُ لِلنَّبِيءِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَوْطِئَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِيَحْصُلَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرُ تَقْوَاهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى لَا تُطِعِ مُرَادِفُ مَعْنَى: لَا تَتَّقِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَقْوَى فَصَارَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ مُفِيدًا مَعْنَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ لَا تَتَّقِ إِلَّا اللَّهَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ وَهِيَ أَشْهَرُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَأَوْجَزُ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَتَيْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لِقَصْدِ النَّصِّ عَلَى أَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ أُرِيدَ بِهِ أَنْ لَا يُطِيعَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يُقَالَ: لَا تَتَّقِ إِلَّا اللَّهَ لَمَا أَصَاخَتْ إِلَيْهِ الْأَسْمَاعُ إِصَاخَةً خَاصَّةً لِأَنَّ تَقْوَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، فَسَلَكَ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ لِهَذَا، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ فَجَاءَ بِجُمْلَتَيْ إِثْبَات السيلان يُقيد وَنَفْيِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ سَيَلَانَ دِمَائِهِمْ عَلَى السُّيُوفِ وَلَكِنَّهُمْ لَا تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ عَلَى غَيْرِ السُّيُوفِ. فَإِنَّ أَصْلَ صِيغَةِ الْقَصْرِ أَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ جُمْلَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَتَكْمِلَةٍ لِلَّتِي قَبْلَهَا عُطِفَتْ عَلَيْهَا لِاتِّحَادِ الْغَرَضِ مِنْهُمَا. وَقَدْ تَعَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ اتَّقِ اللَّهَ وَالنَّهْيَ فِي قَوْلِهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ مُسْتَعْمَلَانِ فِي طَلَبِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ مُلَازِمٌ لَهُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ، فَأَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ تَشْرِيعًا عَظِيمًا سَيُلْقَى إِلَيْهِ لَا يَخْلُو مَنْ حَرَجٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَعَلَى بَعْضِ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى مَطَاعِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ التَّشْهِيرُ لَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْبَلُ أَقْوَالَهُمْ لِيَيْأَسُوا

مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُدَبِّرُونَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ الْمَكَايِدَ وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَنْصَحُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُلِحُّونَ عَلَيْهِ بِالطَّلَبَاتِ نُصْحًا تَظَاهُرًا بِالْإِسْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُجَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ قُوبِلَ بِالْمُنَافِقِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ غَالِبُ إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَنْسَبُ بِمَا سَيَعْقُبُهُ مِنْ قَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الْأَحْزَاب: 4] إِلَى آخَرِ أَحْكَامِ التَّبَنِّي، وَالْمُوَافِقُ لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ضَعْفٍ فِيهِ سَنُبَيِّنُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا الْيَهُودَ كَمَا يَقْتَضِيهِ مَا يُرْوَى فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَا يَعُمُّ نَوْعَيِ الْكَافِرِينَ الْمُجَاهِرِينَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا. وَالطَّاعَةُ: الْعَمَلُ عَلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ الْغَيْرُ أَوْ يُشِيرُ بِهِ لِأَجْلِ إِجَابَةٍ مَرْغُوبَةٍ. وَمَاهِيَّتُهَا مُتَفَاوِتَةٌ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ، وَوُقُوعُ اسْمِهَا فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَدْنَى مَاهِيَّتِهَا، مِثْلَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ تَزَوُّجِ مُطَلَّقَةِ مَتْبَنَّاهُ لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَنْهَى عَنْ تَزَوُّجِ نِسَاءِ الْأَبْنَاءِ وَتَزَوَّجَ زَوْجَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَاب: 37] ، وَقَوْلُهُ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ [الْأَحْزَاب: 48] عَقِبَ قَضِيَّةِ امْرَأَةِ زَيْدٍ. وَمِثْلَ نَقْضِ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ جَعْلِ الظِّهَارِ مُوجِبًا مَصِيرَ الْمُظَاهَرَةِ أُمًّا لِلْمُظَاهِرِ حَرَامًا عَلَيْهِ قُرْبَانُهَا أَبَدًا، وَلِذَلِكَ أُرْدِفَتِ الْجُمْلَةُ بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالطَّاعَةِ لَهُ دُونَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا فِيهِ الصَّلَاحُ. وَدُخُولُ إِنَّ عَلَى الْجُمْلَةِ قَائِمٌ مَقَامَ فَاءِ التَّعْلِيلِ وَمُغْنٍ غَنَاءَهَا عَلَى مَا بُيِّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَشَاهِدُهُ الْمَشْهُورُ قَوْلُ بِشَارٍ: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحُ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَالثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي «تَفَاسِيرِهِمْ» : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّهُ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَأَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمَانِ فِي الْمَدِينَةِ

[سورة الأحزاب (33) : آية 2]

وَأَنْ يَنْزِلُوا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ثُمَّ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيَّ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بن قيس، وطمعة بْنِ أُبَيْرِقٍ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ آلِهَةِ قُرَيْشٍ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَهَمَّ عُمَرُ بقتل النَّفر القرشيين، فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيِ:- اتَّقِ اللَّهَ فِي حِفْظِ الْأَمَانِ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ- وَهُمُ النَّفَرُ الْقُرَشِيُّونَ- وَالْمُنَافِقِينَ- وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ-. وَهَذَا الْخَبَرُ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّقْدِ مِثْلَ الطَّبَرِيِّ وَابْن كثير. [2] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 2] وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ مِنَ الْوَحْيِ فِي شَأْنِ أَحْكَامِ التَّبَنِّي وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الصَّالِحِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَجُرِّدَ مِنْ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاع خَاص تَأْكِيد لِلْأَمْرِ الْعَامِّ بِاتِّبَاعِ الْوَحْيِ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَا سَيُوحَى إِلَيْهِ قَرِيبًا هُوَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِبْطَالِ حُكْمِ التَّبَنِّي لِأَنَّهُمْ أَلِفُوهُ وَاسْتَقَرَّ فِي عَوَائِدِهِمْ وَعَامَلُوا الْمُتَبَنِّينَ مُعَامَلَةَ الْأَبْنَاءِ الْحَقِّ. وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ جُمْلَةُ وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَأْنِيسًا بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا فِي عَوَائِدِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ فَإِذَا أَبْطَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ إِبْطَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِلُزُومِ تَغْيِيرِهِ فَلَا تَتَرَيَّثُوا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ، فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّ حَرْفَ التَّوْكِيدِ مُغْنٍ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا. وَفِي إِفْرَادِ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَاتَّبِعْ وَجَمْعِهِ بِمَا يَشْمَلُهُ وَأُمَّتَهُ فِي قَوْلِهِ بِما تَعْمَلُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِيمَا سَيَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَكْلِيفٍ يَشْمَلُ تَغْيِيرَ حَالَةٍ كَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُشَارِكًا لِبَعْضِ الْأُمَّةِ فِي التَّلَبُّسِ بِهَا وَهُوَ حُكْمُ التَّبَنِّي إِذْ كَانَ النَّبِيءُ مُتَبَنِّيًا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 3]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَعْلَقُ بِالْأُمَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِيُفِيدَ مَعَ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِمُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يُبَيِّتُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ، وَكِنَايَةً عَنْ إِطْلَاعِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ كَمَا سَيَجِيءُ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الْأَحْزَاب: 60] ، أَيْ: لَنُطْلِعَنَّكَ عَلَى مَا يَكِيدُونَ بِهِ وَنَأْذَنُكَ بِافْتِضَاحَ شَأْنِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يَفُوتُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْخِطَابِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَأْخُذُ حَظه مِنْهُ. [3] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 3] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) زِيَادَةُ تَمْهِيدٍ وَتَوْطِئَةٍ لِتَلَقِّي تَكْلِيفٍ يَتَرَقَّبُ مِنْهُ أَذًى مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا نَهَى عَنْ تَزَوُّجِ نِسَاءِ الْأَبْنَاءِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الْأَحْزَاب: 48] فَأَمَرَهُ بِتَقْوَى رَبِّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ وَحْيِهِ، وَعَزَّزَهُ بِالْأَمْرِ بِمَا فِيهِ تَأْيِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يُفَوِّضَ أُمُورَهُ إِلَى اللَّهِ. وَالتَّوَكُّلُ: إِسْنَادُ الْمَرْءِ مَهَمَّهُ وَشَأْنَهُ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى عَمَلَهُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَالْوَكِيلُ: الَّذِي يُسْنِدُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ أَمْرَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [173] . وَقَوْلُهُ وَكِيلًا تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ، أَيْ: كَفَى اللَّهُ وَكَيْلًا، أَيْ وِكَالَتُهُ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [81] . [4] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 4] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ابْتِدَاءَ الْمُقَدِّمَةِ لِلْغَرَضِ بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِمَا قلبه، وَالْمُقَدِّمَةُ أَخَصُّ

مِنَ التَّمْهِيدِ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُوَضِّحُ الْمَقْصِدَ بِخِلَافِ التَّمْهِيدِ، فَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِهِ مِمَّا يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ تَشْرِيعُ الِاعْتِبَارِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَعَانِيهَا، وَأَنَّ مَوَاهِيَ الْأُمُورِ لَا تَتَغَيَّرُ بِمَا يُلْصَقُ بِهَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحَقَائِقِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمُلْصَقَاتِ بِالْحَقَائِقِ هِيَ الَّتِي تَحْجُبُ الْعُقُولَ عَنِ التَّفَهُّمِ فِي الْحَقَائِقِ الْحَقِّ، وَهِيَ الَّتِي تَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ بتلبيس الْأَشْيَاء. وَذكرهَا هُنَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَقَائِقِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَقَائِقِ الْمُعْتَقَدَاتِ لِأَجْلِ إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَنَبْذِ الْحَقَائِقِ الْمَصْنُوعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ هُوَ مِفْتَاحُ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَهَذَا مَا جَعَلَ تَأْصِيلَهُ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَ فِي خَلْقِ بَعْضِ النَّاسِ نِظَامًا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي خَلْقِ غَيْرِهِمْ. وَثَانِي النَّوْعَيْنِ: مِنْ حَقَائِقِ الْأَعْمَالِ لِتَقُومَ الشَّرِيعَةُ عَلَى اعْتِبَارِ مَوَاهِي الْأَعْمَالِ بِمَا هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَّا بِالتَّوَهُّمِ وَالِادِّعَاءِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ وَهُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، أَيْ: لَا يَقُولُ الْبَاطِلَ مِثْلَ بَعْضِ أَقْوَالِكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ إِلَى بُطْلَانِ أُمُورٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ زَعَمُوهَا وَادَّعَوْهَا. وَابْتُدِئَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا دَلِيلُ بُطْلَانِهِ الْحِسُّ وَالِاخْتِبَارُ لِيُعْلَمَ مِنْ ذَلِكَ أَن الَّذين اخْتلفُوا مَزَاعِمَ يَشْهَدُ الْحِسُّ بِكَذِبِهَا يَهُونُ عَلَيْهِمِ اخْتِلَاقُ مَزَاعِمَ فِيهَا شُبَهٌ وَتَلْبِيسٌ لِلْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَيَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ إِلَى أُكْذُوبَةٍ مِنْ تَكَاذِيبِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ جَمِيلَ بْنَ مَعْمَرِ- وَيُقَالُ: ابْنُ أَسَدٍ- بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيَّ الْفِهْرِيَّ- وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيَةً قَوِيَّ الْحِفْظِ- أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ يَعْمَلَانِ وَيَتَعَاوَنَانِ وَكَانُوا يَدْعُونَهُ ذَا الْقَلْبَيْنِ يُرِيدُونَ الْعَقْلَيْنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْقَلْبِ وَأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعَقْلِ. وَقَدْ غَرَّهُ ذَلِك أَو تغارر بِهِ فَكَانَ لِشِدَّةِ كُفْرِهِ يَقُولُ: «إِنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ» . وَسَمَّوْا بِذِي

الْقَلْبَيْنِ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ التَّيْمِيَّ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ الْعُزَّى وَأَسْلَمَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرَ وَقُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ، فَنَفَتِ الْآيَةُ زَعْمَهُمْ نَفْيًا عَامًّا، أَيْ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَيِّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ قَلْبَيْنِ لَا لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ وَلَا لِابْنِ خَطَلٍ، فَوُقُوعُ رَجُلٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَوُقُوعُ فِعْلِ جَعَلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِثْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَدُخُولُ مِنْ عَلَى قَلْبَيْنِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِ رَجُلٍ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْعُمُومَاتُ الثَّلَاثَةُ عَلَى انْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَعْلِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَلْبَانِ، عَنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلَ فِي الْعُمُومِ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ وَغَيْرُهُ بِحَيْثُ لَا يُدَّعَى ذَلِكَ لِأَحَدٍ أَيًّا كَانَ. وَلَفظ لِرَجُلٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْسَانُ بِنَاءً عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ مِنْ نَوْطِ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالرِّجَالِ جَرْيَا عَلَى الْغَالِبِ فِي الْكَلَامِ مَا عَدَا الْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ بِالنِّسَاءِ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُدَّعَى لِامْرَأَةٍ أَنَّ لَهَا قَلْبَيْنِ بِحُكْمِ فَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَالْجَعْلُ الْمَنْفِيُّ هُنَا هُوَ الْجَعْلُ الْجِبِلِّيُّ، أَيْ: مَا خَلَقَ الله رجلا قلبين فِي جَوْفِهِ وَقَدْ جَعَلَ إِبْطَالَ هَذَا الزَّعْمِ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ مَا تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ أَحَدٍ ابْنًا لِمَنْ لَيْسَ هُوَ بِابْنِهِ، وَمِنْ جَعْلِ امْرَأَةٍ أُمًّا لِمَنْ هِيَ لَيْسَتْ أُمَّهُ بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِقُونَ مَا لَيْسَ فِي الْخِلْقَةِ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنِ اخْتِلَاقِ مَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ مِنَ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ، وَتَفْرِيعِهِمْ كُلَّ اخْتِلَاقِهِمْ جَمِيعَ آثَارِ الِاخْتِلَاقِ، فَإِنَّ الْبُنُوَّةَ وَالْأُمُومَةَ صِفَتَانِ مِنْ أَحْوَالِ الْخِلْقَةِ وَلَيْسَتَا مِمَّا يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالتَّعَاقُدِ مِثْلَ الْوَلَاءِ وَالْحِلْفِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي أَحْكَامِ الْبُرُورِ وَحُرْمَةِ التَّزْوِيجِ أَلَا تَرَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا خَطَبَ عَائِشَةَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَنْتَ أَخِي وَهِيَ لِي حَلَالٌ» ، أَيْ أَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَتَجَاوَزُ حَالَةَ الْمُشَابَهَةِ فِي النَّصِيحَةِ وَحُسْنِ

الْمُعَاشَرَةِ وَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُ الْأُخُوَّةِ الْجِبِلِّيَّةِ لِأَنَّ تِلْكَ آثَارٌ مَرْجِعُهَا إِلَى الْخِلْقَةِ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ «أَنْتَ أَخِي وَهِيَ لِي حَلَالٌ» . وَالْجَوْفُ: بَاطِنُ الْإِنْسَانِ صَدْرُهُ وَبَطْنُهُ وَهُوَ مَقَرُّ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ عَدَا الدِّمَاغَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الظَّرْفِ زِيَادَةُ تَصْوِيرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ وَتَجَلِّيهِ لِلسَّامِعِ فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ كَانَ أَسْرَعَ إِلَى الِاقْتِنَاعِ بِإِنْكَارِ احْتِوَاءِ الْجَوْفِ عَلَى قَلْبَيْنِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَج: 46] وَنَحْوَهُ مِنَ الْقُيُودِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّصْرِيحُ بِهَا تَذْكِيرًا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَتَجْدِيدًا لِتَصَوُّرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [38] . وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. عَطْفُ إِبْطَالٍ ثَانٍ لِبَعْضِ مَزَاعِمِهِمْ وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ فِرَاقَ زَوْجِهِ فِرَاقًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بِحَالٍ يَقُولُ لَهَا: «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» هَذِهِ صِيغَتُهُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ وَحُرْمَةَ تَزَوُّجِهَا مِنْ بَعْدُ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا لَهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا تَشْرِيعَ إِبْطَالِ آثَارِ التَّحْرِيمِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أُبْطِلَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ وَهِيَ مِمَّا نَزَلَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كَمَا سَيَأْتِي وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ تَمْهِيدًا لِتَشْرِيعِ إِبْطَالِ التَّبَنِّي تَنْظِيرًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْهَامِ إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّمْهِيدَ الثَّانِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ. واللاَّءِ: اسْمُ مَوْصُولٍ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَهُوَ اسْمُ جَمْعِ (الَّتِي) ، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ صِيَغِ الْجَمْعِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ: اللاَّءِ- مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ أَبَدًا- بِوَزْنِ الْبَابِ، وَاللَّائِي بِوَزْن الدَّاعِي، واللّاء بِوَزْنِ بَابٍ دَاخِلَةً عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ اللاَّءِ- بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ- غَيْرِ مُشْبَعَةٍ وَهُوَ لُغَةٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ واللَّائِي- بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ- بِوَزْنِ الدَّاعِي، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ واللاي بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بَدَلًا عَنِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ بَدَلٌ سَمَاعِيٌّ، قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ وَرْشٌ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ مَعَ الْمَدِّ وَالْقَصْرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالبَزِّيِّ أَيْضًا.

وَذَكَرَ الظَّهْرَ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، تَخْيِيلٌ لِلتَّشْبِيهِ الْمُضْمَرِ فِي النَّفْسِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ إِذْ شَبَّهَ زَوْجَهُ حِينَ يَغْشَاهَا بِالدَّابَّةِ حِينَ يَرْكَبُهَا راكبها، وَذكر الظّهْر تَخْيِيلًا كَمَا ذُكِرَ أَظْفَارُ الْمَنِيَّةِ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ الْمَعْرُوفِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. وَقَوْلُهُمْ: أَنْتِ عَلَيَّ، فِيهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي الْمُخَاطَبَةِ مِنْ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: غِشْيَانُكَ، وَكَلِمَةُ «عَلَيَّ» تُؤْذِنُ بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ، أَيْ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ عَلَامَةً عَلَى مَعْنَى التَّحْرِيمِ الْأَبَدِيِّ. وَيُعَدَّى إِلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ الْمُرَادِ تَحْرِيمُهَا بِحَرْفِ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِانْفِصَالِ مِنْهَا. فَلَمَّا قَالَ الله تَعَالَى اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَالْمُرَادُ بِالْجَعْلِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ الْجَعْلُ الْخَلْقِيُّ أَيْضًا كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، أَيْ: مَا خَلَقَهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ إِذْ لَسْنَ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الْأَثَرِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْجَعْلِ الْخُلُقِيِّ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّاءِ وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] وَقَدْ بَسَطَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ هِيَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا إِبْطَالُ الظِّهَارِ وَأَحْكَامُ كَفَّارَتِهِ فَنَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَرَدَتْ بَعْدَ تَقْرِيرِ إِبْطَالِ الظِّهَارِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ فِيهَا تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ التَّبَنِّي بِشُبَهِ أَنَّ كِلَيْهِمَا تَرْتِيبُ آثَارٍ تَرْتِيبًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى جَعْلٍ إِلَهِيٍّ. وَهَذَا يُوَقِنُنَا بِأَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ خِلَافًا لِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ الْحَصَّارِ وَمَا أَسْنَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَبْيَضَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي نَوْعِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ فِي نَوْعِ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ مِنْ كِتَابِ «الْإِتْقَانِ» . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو تُظْهِرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ مَفْتُوحَةً دُونَ أَلِفٍ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تُظاهِرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ

وَفَتْحِ الظَّاءِ مُخَفَّفَةً وَأَلِفٍ وَهَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ: تُظاهِرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَفَتْحِ الظَّاءِ مُخَفَّفَةً بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ الْهَاءِ. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي ووطّئ بِالْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ أُسْهِبُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ بِتَفَاصِيلِ التَّشْرِيعِ فِيهِ. وَعُطِفَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا لِاشْتِرَاكِ ثَلَاثَتُهَا فِي أَنَّهَا نَفَتْ مَزَاعِمَ لَا حَقَائِقَ لَهَا. وَالْقَوْلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاء تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَنْسِبُونَ الْأَدْعِيَاءَ أَبْنَاءً فَتَقُولُونَ لِلدَّعِيِّ: هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، لِلَّذِي تَبَنَّاهُ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ جَمِيعَ مَا لِلْأَبْنَاءِ. وَالْأَدْعِيَاءُ: جَمْعُ دَعِيٍّ بِوَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مُشْتَقًّا مِنْ مَادَّةِ الِادِّعَاءِ، وَالِادِّعَاءُ: زَعْمُ الزَّاعِمِ الشَّيْءَ حَقًّا لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ، وَغَلَبَ وَصْفُ الدَّعِيِّ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ ابْنٌ لِمَنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ أَبًا لَهُ فَمَنِ ادَّعَي أَنَّهُ ابْنٌ لِمَنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبٌ لَهُ فَذَلِكَ هُوَ اللَّحِيقُ أَوِ الْمُسْتَلْحِقُ، فَالدَّعِيُّ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ ابْنًا لِمَنِ ادَّعَاهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَبًا لَهُ، وَأَمَّا الْمُسْتَلْحِقُ فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ ابْنًا لِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ بِحُكْمِ اسْتِلْحَاقِهِ مَعَ إِمْكَانِ أُبُوَّتِهِ لَهُ. وَجُمِعَ عَلَى أَفْعِلَاءَ لِأَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ فَلَا يُجْمَعُ عَلَى فَعْلَى، وَالْأَصَحُّ أَنْ أَفْعِلَاءَ يَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْطَالِ التَّبَنِّي، أَيْ: إِبْطَالِ تَرْتِيبِ آثَار الْبُنُوَّة الْحَقِيقِيَّة مِنَ الْإِرْثِ، وَتَحْرِيمِ الْقَرَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الصِّهْرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ لِلْمُتَبَنَّى أَحْكَامَ الْبُنُوَّةِ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ الْمُتَبَنَّيْنَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ تَبَنَّاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ تَبَنَّاهُ الْخَطَّابُ أَبُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَسَالِمٌ تَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو تَبَنَّاهُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُدْعَى ابْنًا لِلَّذِي تَبَنَّاهُ.

وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِ كَانَ غَرِيبًا مِنْ بَنِي كَلْبٍ مِنْ وَبَرَةَ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَيْهِ جَبَلَةً وَزَيْدًا فَبَقِيَا فِي حِجْرِ جَدِّهِمَا، ثُمَّ جَاءَ عَمَّاهُمَا فَطَلَبَا مِنَ الْجَدِّ كَفَالَتَهُمَا فَأَعْطَاهُمَا جَبَلَةَ وَبَقِيَ زَيْدٌ عِنْدَهُ فَأَغَارَتْ عَلَى الْحَيِّ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَابَتْ زَيْدًا فَأَخَذَ جَدُّهُ يَبْحَثُ عَنْ مَصِيرِهِ، وَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْهَا: بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ ... أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ وَأَنَّهُ عَلِمَ أَنْ زَيْدًا بِمَكَّةَ وَأَنِ الَّذِينَ سَبَوْهُ بَاعُوهُ بِمَكَّةَ فَابْتَاعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ زَوْجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ زَمَنًا ثُمَّ جَاءَ جَدُّهُ وَعَمُّهُ يَرْغَبَانِ فِي فِدَائِهِ فَأَبَى الْفِدَاءَ وَاخْتَارَ الْبَقَاءَ عَلَى الرِّقِّ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحِينَئِذٍ أَشْهَدَ النَّبِيءُ قُرَيْشًا أَنَّ زَيْدًا ابْنُهُ يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَرَضِيَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ وَانْصَرَفَا فَأَصْبَحَ يُدْعَى: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَقُتِلَ زَيْدٌ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. اسْتِئْنَافٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ التَّمْهِيدِ وَالْمَقْصُودِ مِنَ التَّشْرِيعِ وَهُوَ فَذْلَكَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي نَفَتْ جَعْلَهُمْ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ وَاقِعًا، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ بِالتَّحْصِيلِ لِمَا قَبْلَهَا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَذْكُورٍ ضِمْنًا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ مَا نُفِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَهُ مِنْ وُجُودِ قَلْبَيْنِ لِرَجُلٍ، وَمَنْ كَوْنَ الزَّوْجَةِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا أُمًّا لِمَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، وَمِنْ كَوْنِ الْأَدْعِيَاءِ أَبْنَاءً لِلَّذِينَ تَبَنَّوْهُمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَنْفِيَّاتُ الثَّلَاثَةُ نَاشِئَةً عَنْ أَقْوَالٍ قَالُوهَا صَحَّ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِأَنَّهَا أَقْوَالٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا أَقْوَالٌ فَحَسْبُ لَيْسَ لِمَدْلُولَاتِهَا حَقَائِقُ خَارِجِيَّةٌ تُطَابِقُهَا كَمَا تُطَابِقُ النِّسَبُ الْكَلَامِيَّةُ الصَّادِقَةُ النِّسَبَ الْخَارِجِيَّةَ، وَإِلَّا فَلَا جَدْوَى فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ بِأَنَّهَا قَوْلٌ بِالْأَفْوَاهِ.

وَلِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى قُيَّدَ بِقَوْلِهِ بِأَفْواهِكُمْ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْوَاهِ فَكَانَ ذِكْرُ بِأَفْواهِكُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا تَتَجَاوَزُ دَلَالَتُهُ الْأَفْوَاهَ إِلَى الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوُجُودِ إِلَّا الْوُجُودُ فِي اللِّسَانِ وَالْوُجُودُ فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْوُجُودِ فِي الْعِيَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الْحَدَّ، أَيْ: لَا يَتَحَقَّقُ مَضْمُونُهَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ الْإِرْجَاعُ إِلَى الدُّنْيَا فِي قَوْلِ الْكَافِرِ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99- 100] ، فَعُلِمَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَفْواهِكُمْ أَنَّهُ قَوْلٌ كَاذِبٌ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ وَزَادَهُ تَصْرِيحًا بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَوْلٌ كَاذِبٌ. وَلِهَذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ إِلَخْ. فَمَعْنَى كَوْنِهَا أَقْوَالًا: أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: جَمِيلٌ لَهُ قَلْبَانِ، وَنَاسًا يَقُولُونَ لِأَزْوَاجِهِمْ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، وَنَاسًا يَقُولُونَ لِلدَّعِيِّ: فُلَانُ ابْن فُلَانٍ، يُرِيدُونَ مَنْ تَبَنَّاهُ. وَانْتَصَبَ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَفْعُولٍ بِهِ لِ يَقُولُ. تَقْدِيرُهُ: الْكَلَامُ الْحَقُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الْقَوْلِ لَا يَنْصِبُ إِلَّا الْجُمَلَ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ نَحْوَ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، فَالْهَاءُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (قَائِلُ) عَائِدَةٌ إِلَى كَلِمَةٌ وَهِيَ مَفْعُولٌ أُضِيفَ إِلَيْهَا. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَضَمِيرِهِ بِالْمَسْنَدَيْنِ الْفِعْلِيَّيْنِ إِفَادَةُ قَصْرِ الْقَلْبِ، أَيْ: هُوَ يَقُولُ الْحَقَّ لَا الَّذِينَ وَضَعُوا لَكُمْ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ لَا الَّذِينَ أَضَلُّوا النَّاسَ بِالْأَوْهَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلَانِ مُتَعَدِّيَيْنِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَصْرِهِمَا قَصْرُ مَعْمُولَيْهِمَا بِالْقَرِينَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ قَوْلُ اللَّهِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْحَقُّ وَالسَّبِيلُ كَانَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ ضِدِّهِ بَاطِلًا وَمَجْهَلَةً. فَالْمَعْنَى: وَهُمْ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ وَلَا يَهْدُونَ السَّبِيلَ. والسَّبِيلَ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ الْوَاضِحَةُ، أَيِ: الْوَاضِحُ أَنَّهَا مَطْرُوقَةٌ فَهِيَ مَأْمُونَةُ الْإِبْلَاغِ إِلَى غَايَةِ السَّائِرِ فِيهَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ الثَّلَاثَةَ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظًا سَاذَجَةً لَا تَحَقُّقَ لِمَدْلُولَاتِهَا فِي الْخَارِجِ اقْتَضَى ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُعِلَا تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا

[سورة الأحزاب (33) : آية 5]

لِلْمَقْصُودِ وَانْتِفَاءِ الْأَمْرِ الثَّالِثِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّبَنِّي، فَاشْتَرَكَ التَّمْهِيدُ وَالْمَقْصُودُ فِي انْتِفَاءِ الْحَقِّيَّةِ، وَهُوَ أَتَمُّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَالتَّمْهِيدِ. وَهَذَا كُلُّهُ زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ عَلَى تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ وَنَبْذِ مَا خَالَفَهُ. [5] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 5] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ. اسْتِئْنَافٌ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ التَّشْرِيعِ لِإِبْطَالِ التَّبَنِّي وَتَفْصِيلٌ لِمَا يَحِقُّ أَنْ يُجْرِيَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي شَأْنِهِ. وَهَذَا الْأَمْرُ إِيجَابٌ أُبْطِلَ بِهِ ادِّعَاءُ الْمُتَبَنِّي مُتَبَنَّاهُ ابْنًا لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ النَّسَبُ. وَالْمُرَادُ مِنْ دَعَوْتِهِمْ بِآبَائِهِمْ تُرَتُّبُ آثَارِ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ آبَائِهِمْ لَا أَبْنَاءُ مَنْ تَبَنَّاهُمْ. وَاللَّامُ فِي لِآبائِهِمْ لَامُ الِانْتِسَابِ، وَأَصْلُهَا لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ. يُقَالُ: فُلَانٌ لِفُلَانٍ، أَيْ: هُوَ ابْنُهُ، أَيْ: يَنْتَسِبُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لِرِشْدَةٍ وَفُلَانٌ لِغَيَّةٍ، أَيْ: نَسَبَهُ لَهَا، أَيْ: مِنْ نِكَاحٍ أَو من زنا، وَقَالَ النَّابِغَةُ: لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٌ بِجِلِّقٍ ... وَقَبْرٌ بِصَيْدَاءَ الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ أَيْ: مِنْ أَبْنَاءِ صَاحِبَيِ الْقَبْرَيْنِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدٍ يَمْدَحُ الْمَلِكَ الْحَارِثَ: فَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّبُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلًا أُمَامَةَ ابْنَةَ بِنْتِهِ زَيْنَبَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ» فَكَانَتِ اللَّامُ مُغْنِيَةً عَنْ أَنْ يَقُولَ وَابْنَةَ أَبِي الْعَاصِ. وَضَمِيرُ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فِعْلِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أَيِ: الدُّعَاءَ لِلْآبَاءِ. وَجُمْلَةُ هُوَ أَقْسَطُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: لماذَا لَا نَدْعُوهُمْ

لِلَّذِينَ تَبَنَّوْهُمْ؟ فَأُجِيبَ بِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْقِسْطُ فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَيْ: هُوَ قِسْطٌ كَامِلٌ وَغَيْرُهُ جَوْرٌ عَلَى الْآبَاءِ الْحَقِّ وَالْأَدْعِيَاءِ، لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ أَنْسَابِهِمُ الْحَقِّ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ تَقْرِيرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الْأَحْزَاب: 4] لِتَعْلَمَ عِنَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي التَّبَنِّي، وَلِتَطْمَئِنَ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَبَنِّينَ وَالْأَدْعِيَاءِ وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ بِقَبُولِ هَذَا التَّشْرِيعِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِمْ إِذْ يَنْزِعُ مِنْهُمْ إِلْفًا أَلِفُوهُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى الدَّقِيقِ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ، فَجَمَعَ فِيهِ تَأْكِيدًا لِلتَّشْرِيعِ بِعَدَمِ التَّسَاهُلِ فِي بَقَاءِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بِعُذْرِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ آبَاءَ بَعْضِ الْأَدْعِيَاءِ، وَتَأْنِيسًا لِلنَّاسِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَنْ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ الْمَكْذُوبِ اتِّصَالًا حَقًّا لَا يَفُوتُ بِهِ مَا فِي الِانْتِسَابِ الْقَدِيمِ مِنَ الصِّلَةِ، وَيَتَجَافَى بِهِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ فَصَارُوا يَدْعُونَ سَالِمًا مُتَبَنَّى أَبِي حُذَيْفَةَ: سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُ النَّاسِ لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو: الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، نِسْبَةً لِلْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمِقْدَادُ: أَنَا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَعَ ذَلِكَ بَقِيَ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْمَعْ فِيمَنْ مَضَى مَنْ عَصَّى مُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُتَعَمِّدًا اهـ. وَفِي قَوْلِ الْقُرْطُبِيِّ: وَلَوْ كَانَ مُتَعَمِّدًا، نَظَرٌ، إِذْ لَا تُمْكِنُ مُعْرِفَةُ تَعَمُّدِ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَعَلَّهُ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَكَانَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ لِأَنَّ مَا جَرَى عَلَى الْأَلْسِنَةِ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالنِّسْيَانِ مَرْفُوعَة. وارتفاع فَإِخْوانُكُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ الْأَدْعِيَاءِ، أَيْ: فَهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يُوصَفُوا بِالْإِخْوَانِ فِي الْإِسْلَامِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مَوَالِيَ أَوْ يُوصَفُوا بِالْمَوَالِي إِنْ كَانُوا مَوَالِيَ بِالْحِلْفِ أَوْ بِوِلَايَةِ الْعَتَاقَةِ وَهَذَا اسْتِقْرَاءٌ تَامٌّ. وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ إِخْوَانٌ وَمَوَالٍ كِنَايَةً عَنِ الْإِرْشَادِ إِلَى دَعْوَتِهِمْ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ وَهِيَ بِمَعْنَى (أَوْ) فَتَصْلُحُ لِمَعْنَى التَّخْيِيرِ، أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا

آبَاءَهُمْ فَادْعُوهُمْ إِنْ شِئْتُمْ بِإِخْوَانٍ وَإِنْ شِئْتُمُ ادْعُوهُمْ مَوَالِيَ إِنْ كَانُوا كَذَلِكَ. وَهَذَا تَوْسِعَةٌ عَلَى النَّاسِ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ: إِخْوَانُكُمْ أُخُوَّةً حَاصِلَةً بِسَبَبِ الدِّينِ كَمَا يَجْمَعُ الظَّرْفُ مُحْتَوَيَاتِهِ، أَوْ تُجْعَلُ فِي لِلتَّعْلِيلِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ: إِخْوَانُكُمْ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت: 10] ، أَيْ: لِأَجْلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] . وَلَيْسَ فِي دَعْوَتِهِمْ بِوَصْفِ الْأُخُوَّةِ رِيبَةٌ أَوِ الْتِبَاسٌ مِثْلَ الدَّعْوَةِ بِالْبُنُوَّةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بِالْأُخُوَّةِ فِي أَمْثَالِهِمْ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ لِوَصْفِ الْأُخُوَّةِ فِيهِمْ تَأْوِيلًا بِإِرَادَةِ الِاتِّصَالِ الدِّينِيِّ بِخِلَافِ وَصْفِ الْبُنُوَّةِ فَإِنَّمَا هُوَ وَلَاءٌ وَتَحَالُفٌ فَالْحَقُّ أَنْ يُدْعَوْا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَفِي ذَلِكَ جَبْرٌ لِخَوَاطِرِ الْأَدْعِيَاءِ من تَبَنَّوْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْوَلَاءِ فِي قَوْلِهِ وَمَوالِيكُمْ وَلَاءُ الْمُحَالَفَةِ لَا وَلَاءُ الْعِتْقِ، فَالْمُحَالَفَةُ مِثْلَ الْأُخُوَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ جَارِيًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَعْوَةِ الْمُتَبَنِّينَ إِلَى الَّذِينَ تَبَنَّوْهُمْ فَهُوَ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ وَالتَّقْرِيرِيَّةِ بِالْقُرْآنِ. وَذَلِكَ مُرَادُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ حُكْمَ التَّبَنِّي. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَفِي فَصْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ وَوَصْلِهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَصَاحَةِ مَا لَا يَغْبَى عَنْ عَالَمٍ بِطُرُقِ النَّظْمِ» . وَبَيَّنَهُ الطَّيْبِيُّ فَقَالَ: يَعْنِي فِي إِخْلَاءِ الْعَاطِفِ وَإِثْبَاتِهِ مِنَ الْجُمَلِ مِنْ مُفْتَتَحِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّهْيَ فِي اتَّقِ [الْأَحْزَاب: 1] وَلا تُطِعِ [الْأَحْزَاب: 1] وَاتَّبِعْ [الْأَحْزَاب: 2] وَتَوَكَّلْ [الْأَحْزَاب: 3] ، فَإِنَّ الِاسْتِهْلَالَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ [الْأَحْزَاب: 1] دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرٍ مَعْنِيٍّ شَأْنُهُ لَائِحٌ مِنْهُ الْإِلْهَابُ، وَمِنْ ثَمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَلا تُطِعِ كَمَا يُعْطَفُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِ، وَأَرْدَفَ بِهِ النَّهْيَ، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّوَكُّلِ تَشْجِيعًا عَلَى مُخَالَفَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، ثُمَّ عَقَّبَ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَوَامِرِ بِمَا يُطَابِقُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّتْمِيمِ، وَعَلَّلَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْأَحْزَاب: 1] تَتْمِيمًا لِلِارْتِدَاعِ، وَعَلَّلَ قَوْلَهُ وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الْأَحْزَاب: 2] تَتْمِيمًا، وَذَيَّلَ قَوْلَهُ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الْأَحْزَاب: 3] تَقْرِيرًا

وَتَوْكِيدًا عَلَى مِنْوَالِ: فُلَانٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَالْحَقُّ أَبْلَجُ، وَفَصَّلَ قَوْلَهُ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الْأَحْزَاب: 4] عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْضٍ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] فَذْلَكَةٌ لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ آذَنَتْ بِأَنَّهَا مِنَ الْبُطْلَانِ وَحَقِيقٌ بِأَنْ يُذَمَّ قَائِلُهُ. وَوَصَلَ قَوْلَهُ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الْأَحْزَاب: 4] عَلَى هَذِهِ الْفَذْلَكَةِ بِجَامِعِ التَّضَادِّ عَلَى مِنْوَالِ مَا سبق فِي الْمُجْمل فِي وَلا تُطِعِ واتَّبِعْ، وَفَصَّلَ قَوْلَهُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَقَوله النبيء أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ [الْأَحْزَاب: 6] ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ تَفْصِيلًا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى السَّبِيلِ الْقَوِيمِ اهـ. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ لِتَحْرِيمِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَدْعُوهُمْ لِلَّذِينَ تَبَنَّوْهُمْ إِلَّا خَطَأً. وَالْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أَمْرُ وُجُوبٍ. وَمَعْنَى فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ مَا يَجْرِي عَلَى الْأَلْسِنَةِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِيمَا اعْتَادُوهُ أَنْ يَقُولُوا: فُلَانُ ابْن فُلَانٍ لِلدَّعِيِّ وَمُتَبَنِّيهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ: مَا تَعَمَّدَتْهُ عَقَائِدُكُمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ إِلَيْهِ. وَبِهَذَا تَقَرَّرَ إِبْطَالُ حُكْمِ التَّبَنِّي وَأَنْ لَا يَقُولَ أَحَدٌ لِدَعِيِّهِ: هُوَ ابْنِي، وَلَا يَقُولَ: تَبَنَّيْتُ فُلَانًا، وَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ أَثَرٌ وَلَا يُعْتَبَرُ وَصِيَّةً وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الرَّجُلِ: أَنْزَلْتُ فُلَانًا مَنْزِلَةَ ابْنٍ لِي يَرِثُ مَا يَرِثُهُ ابْنِي. وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّنْزِيلِ وَهُوَ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ بِمَنَابِ وَارِثٍ إِذَا حَمَّلَهُ ثُلُثَ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ لِمَنْ لَيْسَ بِابْنِهِ: هُوَ ابْنِي، عَلَى مَعْنَى الِاسْتِلْحَاقِ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ إِنْ كَانَ الْمَنْسُوبُ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَلَمْ يَكُنِ الناسب مرِيدا التلطف وَالتَّقْرِيبَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هُوَ ابْنِي، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنَ الْقَائِلِ وَكَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ سِنًّا ثَبَتَ

نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَبْدُهُ عَتَقَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ وَلَكِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ فَقَالَا: لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَعْرُوفُ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِالْقَائِلِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مَمْنُوعٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: هُوَ أَخِي، لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ إِذَا قَالَ: لَمْ أُرِدْ بِهِ أُخُوَّةَ النَّسَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ لِدَعِيِّهِ: يَا بُنَيَّ، عَلَى وَجْهِ التَّلَطُّفِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْخَطَأِ وَلَا يَنْبَغِي التَّسَاهُلُ فِيهِ إِذَا كَانَتْ فِيهِ رِيبَةٌ. وَقَوْلُهُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ يَعُودُ ضَمِيرُ أَمْرِهِ إِلَى الْأَدْعِيَاءِ فَلَا يَشْمَلُ الْأَمْرُ دُعَاءَ الْحَفَدَةِ أَبْنَاءً لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» وَقَالَ: «لَا تُزْرِمُوا ابْنِي» - أَيْ: لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ-. وَكَذَلِكَ لَا يَشْمَلُ مَا يَقُولُهُ أَحَدٌ لِآخَرَ غَيْرِ دَعِيٍّ لَهُ: يَا ابْنِي، تَلَطُّفًا وَتَقَرُّبًا، فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَعِيًّا لِلْقَائِلِ وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَدْعُونَ لِدَاتِهِمْ بِالْأَخِ أَوِ الْأُخْتِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَنْتِ أُخْتِي وَأَنْتِ حُرْمَةُ جَارِي ... وَحَرَامٌ عَلَيَّ خَوْنُ الْجِوَارِ وَيَدْعُونَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ بَاسِمِ الْعَمِّ كَثِيرًا، قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ: دَعَانِي الْغَوَانِي عَمَّهُنَّ وَخِلْتُنِي ... لِيَ اسْمٌ فَلَا أُدْعَى بِهِ وَهْوَ أَوَّلُ يُرِيدُ: أَنَّهُنَّ كُنَّ يَدْعُونَهُ: يَا أَخِي. وَوُقُوعُ جُناحٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِ لَيْسَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ انْتِفَاءِ الْإِثْمِ عَنِ الْعَمَلِ الْخَطَأِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِخُصُوصِ سَبَبِهِ الَّذِي وَرَدَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ أَيْضًا مَعْضُودٌ بِتَصَرُّفَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: 286] ، وَقَوُلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُنْسَبَ أَحَدٌ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» .

[سورة الأحزاب (33) : آية 6]

وَيَخْرُجُ مِنَ النَّهْيِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِآخَرَ: أَنْتَ أَبِي وَأَنَا ابْنُكَ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقْرِيبِ وَذَلِكَ عِنْدَ انْتِفَاءِ اللَّبْسِ، كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ يُرَقِّقُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ: إِنَّمَا أَنْتَ وَالِدٌ وَالْأَبُ الْقَا ... طِعُ أَحَنَى مِنْ وَاصَلِ الْأَوْلَادِ وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الْأَحْزَاب: 24] تَعْلِيلُ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ الْخَطَأِ بِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ مِنْ آثَارِ اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بِخَلْقِهِ. [6] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] وَقَوْلَهُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: 5] كَانَ قَدْ شَمِلَ فِي أَوَّلِ مَا شَمله فِي أول مَا شَمِلَهُ إِبْطَالَ بُنُوَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بِحَيْثُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ النَّاسِ عَنْ مَدَى صِلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِنَبِيئِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهل هِيَ علاقَة الْأَجَانِبِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ سَوَاءٌ فَلِأَجَلِ تَعْلِيمِ الْمُؤْمِنِينَ حُقُوقَ النَّبِيءِ وَحُرْمَتَهُ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ النَّبِيءَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمن تَفْضِيلِيَّةٌ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَنْفُسَ مُرَادٌ بِهَا جَمْعُ النَّفْسِ وَهِيَ اللَّطِيفَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: 116] ، وَأَنَّ الْجَمْعَ لِلتَّوْزِيعِ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ آيِلٍ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَنْفُسِ، أَيْ: أَنَّ النَّبِيءَ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ، أَيْ: هُوَ أَشَدُّ وِلَايَةً، أَيْ: قُرْبًا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ قُرْبِ نَفْسِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قُرْبٌ مَعْنَوِيٌّ يُرَادُ بِهِ آثَارُ الْقُرْبِ مِنْ مَحَبَّةٍ وَنُصْرَةٍ. فَ أَوْلى اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، أَيْ: أَشَدُّ قُرْبًا. وَهَذَا الِاسْمُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَحَقِّيَّةِ بِالشَّيْءِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ متعلّقه بِبِنَاء الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: أَوْلَى بِمَنَافِعِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِمَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا الْمُضَافُ حُذِفَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ كُلِّ شَأْن من شؤون الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحَةِ.

وَالْأَنْفُسُ: الذَّوَاتُ، أَيْ: هُوَ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي شؤونهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي تصرفهم فِي شؤونهم. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ» فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ مَجْمُوعَ نَوْعِهِمْ كَقَوْلِهِ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ النَّاسَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ وِلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ: مِنْ وِلَايَةِ جَمِيعِهِمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 85] ، أَيْ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: 29] . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَعَمُّ فِي اعْتِبَارِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُفِيدُ أَوْلَوِيَّتَهُ بِمَنْ عَدَا الْأَنْفُسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ أَنَّهُ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ إِلَّا بِدَلَالَةِ قِيَاسِ الْأَدْوَنِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى عُمَرُ بن الْخطاب بادىء الْأَمْرِ نَفْسَهُ فَقَالَ: لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ إِلَّا مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالنَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فَكَانَتْ وِلَايَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إِبْطَالِ التَّبَنِّي سَوَاءً عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيءُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ، وَلَمَّا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى حُرْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَتَعَدَّى ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ النَّاسِ وَحُقُوقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، مِثْلَ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَقَدْ

بَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيَّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ وَرَثَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ» . وَهَذَا مَلَاكُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ. عَطَفَ عَلَى حُقُوقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُقُوقَ أَزْوَاجِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمُنَاسَبَةِ جَرَيَانِ ذِكْرِ حَقِّ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ مَا لِلْأُمَّهَاتِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاء تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] . وَأَمَّا مَا عَدَا حُكْمَ التَّزَوُّجِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ بِهِنَّ وَمُوَاسَاتِهِنَّ فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَسْبَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُرُمَاتِهِ وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ النَّبِيءِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَتَوَخَّوْنَ حَسَنَ مُعَامَلَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُؤْثِرُونَهُنَّ بِالْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ حَمْلِ جِنَازَةِ مَيْمُونَةَ: «هَذِه زوج نبيئكم فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلَا تُزَعْزِعُوا وَلَا تُزَلْزِلُوا وَارْفُقُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَكَذَلِكَ مَا عَدَا حُكْمَ الزَّوَاجِ مِنْ وُجُوهِ الْمُعَامَلَةِ غَيْرَ مَا يَرْجِعُ إِلَى التَّعْظِيمِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ جِيءَ بِالتَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شَبَهِهِنَّ بِالْأُمَّهَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ الْإِرْثِ وَتَزَوُّجِ بَنَاتِهِنَّ، فَلَا يُحْسَبُ أَنَّ تَرِكَاتِهِنَّ يَرِثُهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنَّ بَنَاتِهِنَّ أَخَوَاتٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ وَصْفِ خَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ لِأَنَّهُ أَخُو أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّعْظِيمِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ أَخْوَالُ فُلَانٍ، إِذَا كَانُوا قَبِيلَةَ أُمِّهِ. وَالْمرَاد بأزواجه اللَّاتِي تَزَوَّجَهُنَّ بِنِكَاحٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ حِينَ تَزَوَّجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ: أَهِيَ إِحْدَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ أَمْ هِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالُوا: نَنْظُرُ، فَإِذَا حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا لَمْ يحجبها فَهِيَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا بَنَى بِهَا ضَرَبَ عَلَيْهَا

الْحِجَابَ، فَعَلِمُوا أَنَّهَا إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُشْتَرَطُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُومَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِالْمَرْأَةِ، فَأَمَّا الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ مِثْلَ الْجَوْنِيَّةِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَان الكندية فَلَا تعْتَبر من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ عَقَدَ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا. فَقَالَتْ: لِمَ وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ النَّبِيءُ حِجَابًا وَلَا دُعِيتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَكَفَّ عَنْهَا. وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ ابْنَةُ الْجَوْنِ الْكِنْدِيَّةُ تَزَوَّجَهَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: يَحْرُمُ تَزَوُّجُ كُلِّ امْرَأَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَبْنِ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ فِي «الرَّوْضَةِ» ، واللاَّءِ طَلَّقَهُنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْبِنَاءِ بِهِنَّ فَاخْتُلِفَ فِيهِنَّ عَلَى قَوْلَيْنِ، قِيلَ: تَثْبُتُ حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ حِفْظًا لِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ لَهُنَّ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَقَدْ أُكِّدَ حُكْمُ أُمُومَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الْأَحْزَاب: 53] ، وَبِتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْمُؤمنِينَ بقوله [تَعَالَى] : وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الْأَحْزَاب: 53] . وَسَيَجِيءُ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ بَعْدَهَا: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَ فِي الْحَرْفِ الأول «وَهُوَ أبوهم» . وَمَحْمَلُهَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ وَإِيضَاحٌ وَإِلَّا فَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيءُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ مفَاد هَذِه الْقُرَّاء. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً. أَعْقَبَ نَسْخَ أَحْكَامِ التَّبَنِّي الَّتِي مِنْهَا مِيرَاثُ الْمُتَبَنِّي مَنْ تَبَنَّاهُ وَالْعَكْسُ بِإِبْطَالِ

نَظِيرِهِ وَهُوَ الْمُوَاخَاةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ، جَعَلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا أَخًا لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ فَآخَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبَيْنَ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَبَيْنَ الزُّبَيْرِ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَبَين عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَبَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ فَتَوَارَثَ الْمُتَآخُونَ مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْمُؤَاخَاةِ زَمَانًا كَمَا يَرِثُ الْإِخْوَةُ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالتَّبَنِّي بِآيَةِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: 5] ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْقَرَابَةَ هِيَ سَبَبُ الْإِرْثِ إِلَّا الِانْتِسَابَ الْجَعْلِيَّ. فَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَرْحَامِ: الْإِخْوَةُ الْحَقِيقِيُّونَ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِأُولِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ الشَّقِيقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَهُمُ الْغَالِبُ، فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ مِنْ وِلَايَةِ الْمُتَآخِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَعَمَّ هَذَا جَمِيعَ أُولِي الْأَرْحَامِ وَخَصَّصَ بِقَوْلِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ فِي مَعْنَى مِنْ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَيَانٌ فَمَحْمَلُ إِطْلَاقِهِ مَحْمَلُ الْعُمُومِ، لِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ أُولِي الْأَرْحَامِ وَعُمُومِ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ أَوْ قَيَّدَهُ الدَّلِيلُ. وَالْآيَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي أَنَّ الْقَرَابَةَ الْحَقِيقِيَّةَ أَرْجَحُ مِنَ الْأُخُوَّةِ الْجَعْلِيَّةِ، وَهِيَ مُجْمَلَةٌ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ أُولُوا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [197] . وَمَعْنَى فِي كِتابِ اللَّهِ فِيمَا كَتَبَهُ، أَيْ: فَرَضَهُ وَحَكَمَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ مَعْلُومٌ سَهْمُهُ.

وأُولُو الْأَرْحامِ مُبْتَدَأٌ، وبَعْضُهُمْ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وأَوْلى خَبَرُ الثَّانِي وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وفِي كِتابِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَوْلى. وَقَوْلُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ وَهُوَ أَوْلى فَتَكُونَ مِنْ تَفْضِيلِيَّةً. وَالْمَعْنَى: أُولُوا الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِإِرْثِ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ مِنْ إِرْثِ أَصْحَابِ وِلَايَةِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ، أَيِ: الْوِلَايَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ. وَأُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِينَ خُصُوصُ الْأَنْصَارِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِعَطْفِ وَالْمُهاجِرِينَ عَلَى مَعْنَى أَصْحَابِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ تَنْوِيهًا بِإِيمَانِ الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا بِإِيمَانِهِمْ قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَهُمْ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ آمَنُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمَّا أَبْلَغَهُمْ نُقَبَاؤُهُمْ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْحَشْر: 9] أَيْ: مِنْ قَبْلِ كَثِيرٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ عَدَا الَّذِينَ سَبَقَ إِيمَانُهُمْ. فَالْمَعْنَى: كُلُّ ذِي رَحِمٍ أَوْلَى بِإِرْثِ قَرِيبِهِ مِنْ أَنْ يَرِثَهُ أَنْصَارِيٌّ إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُهَاجِرًا، أَوْ أَنْ يَرِثَهُ مُهَاجِرٌ إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَيَكُونُ هَذَا نَاسِخًا لِلتَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ الَّذِي شُرِعَ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ [72] : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ فَكَانَ الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ قَرِيبَهُ الْمُهَاجِرَ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ الْكَائِنُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ، بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، أَيْ: لَا يَرِثُ ذُو الرَّحِمِ ذَا رَحِمَهُ إِلَّا إِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ وَمُهَاجِرَيْنِ، فَتَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلتَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّذِي شُرِعَ عِنْدَ قُدُومِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَجَعُوا إِلَى مَوَارِيثِهِمْ فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْلَى مِنَ الْحِلْفِ وَالْمُوَاخَاةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ هَذَا كُلَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً، أَيْ: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُهَاجِرُونَ، أَيْ: فَلَا يَرِثْ أُولُوا الْأَرْحَامِ الْكَافِرُونَ وَلَا يَرِثْ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْأَنْفَال: 73] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: 72] .

وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً مُنْقَطِعٌ، وإِلَّا بِمَعْنَى (لَكِنْ) لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِلَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ الَّتِي أُثْبِتَتْ لِأُولِي الْأَرْحَامِ أَوْلَوِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ أَوْلَوِيَّةُ الْمِيرَاثِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ دُونَ أَوْلَوِيَّةِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ. وَهَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَطْعِ الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَةِ بِالْإِخَاءِ وَالْحِلْفِ فَبَيَّنَ أَنِ الَّذِي أُبْطِلَ وَنُسِخَ هُوَ انْتِفَاعُ الْإِرْثِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْمُوَاسَاةِ وَإِسْدَاءُ الْمَعْرُوفِ بِمِثْلِ الْإِنْفَاقِ وَالْإِهْدَاءِ وَالْإِيصَاءِ. وَجُمْلَةُ كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً تَذْيِيلٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَخَاتِمَةٌ لَهَا مُؤْذِنَةٌ بِانْتِهَاءِ الْغَرَضِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شُرِعَتْ مِنْ قَوْلِهِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: 5] إِلَى هُنَا، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ فَكَانَ هَذَا التَّذْيِيلُ أَعَمَّ مِمَّا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرًا لَهُ وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ وَيَتَضَمَّنُ غَيْرَهُ فَيُفِيدُ تَقْرِيرَهُ وَتَوْكِيدَهُ تَبَعًا وَهَذَا شَأْنُ التَّذْيِيلَاتِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ لِلْعَهْدِ، أَيْ: كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ: مَا كَتَبَهُ عَلَى النَّاسِ وَفَرَضَهُ كَقَوْلِهِ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: 24] ، فَاسْتُعِيرَ الْكِتَابُ لِلتَّشْرِيعِ بِجَامِعِ ثُبُوتِهِ وَضَبْطِهِ التَّغْيِيرَ وَالتَّنَاسِيَ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ ... قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَمَعْنَى هَذَا مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [75] . فَالْكِتَابُ: اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ تَرْسِيخٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ فِي سُطُورٍ، وَهُوَ تَرْشِيحٌ أَيْضًا لِلِاسْتِعَارَةِ وَفِيهِ تَخْيِيلٌ لِلْمَكْنِيَّةِ. وَفِعْلُ كانَ فِي قَوْلِهِ كانَ ذلِكَ لِتَقْوِيَةِ ثُبُوتِهِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، لِأَنَّ كانَ إِذَا لَمْ يُقْصَدُ بِهَا أَنَّ اسْمَهَا اتَّصَفَ بِخَبَرِهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي كَانَتْ لِلتَّأْكِيدِ غَالِبًا مِثْلَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الْأَحْزَاب: 4] أَيْ: لَمْ يزل كَذَلِك.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 إلى 8]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 7 إِلَى 8] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَا أَيهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الْأَحْزَاب: 1- 3] فَلِذَلِكَ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى نَبْذِ سُنَنِ الْكَافِرِينَ الصُّرَحَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَحْكَامِ الْهَوَى وَالْأَوْهَامِ. فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ وَعَقَّبَ بِمِثْلِ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَحْكَامِ جَاهِلِيَّتِهِمُ الضَّالَّةِ بِمَا طَالَ مِنَ الْكَلَامِ إِلَى هُنَا ثُنِيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ هُوَ مِنْ عُهُودٍ أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى النَّبِيئِينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَوَّلِ عُهُودِ الشَّرَائِعِ. وَتَرْبُطُ هَذَا الْكَلَامَ بِالْكَلَامِ الَّذِي عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الْأَحْزَاب: 6] . وَبِهَذَا الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى بَيَانِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيئِينَ، فَعُلِمَ أَن الْمَعْنى: وَإِذا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيئِينَ مِيثَاقَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِنَبْذِ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَبِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْأَحْزَاب: 1] لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً فَلَمَّا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أُعْلِمَ بِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ النَّبِيئِينَ مِنْ قَبْلِهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُ وَمِنْكَ عَقِبَ ذِكْرِ النَّبِيئِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ وَاحِدٌ وَأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِيهِمْ مُتَّحِدَةٌ، فَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِآيَةِ يَا أَيهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 1] الْآيَاتُ الثَّلَاثُ وَلَكِنَّهَا جَاءَتْ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهَا وَمَا بَيْنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَوْلُهُ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الْآيَتَيْنِ لَهُمَا مَوْقِعُ الْمُقَدِّمَةِ لِقِصَّةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ مِمَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ أَنْ يَنْصُرُوا الدِّينَ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنْ يَنْصُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ لَمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالنُّصْرَةِ لِدِينِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ فِي هَذِه الْآيَة: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً. وَقَالَ فِي

الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ الْآيَة [الْأَحْزَاب: 24] . وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيئِينَ مِيثَاقَهُمْ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ ابْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهَا بِ إِذْ عَلَى إِضْمَارِ (اذْكُرْ) . وإِذْ اسْمٌ لِلزَّمَانِ مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ وَقْتًا، وَبِإِضَافَةِ إِذْ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: اذْكُرْ وَقْتَ أَخْذِنَا مِيثَاقًا عَلَى النَّبِيئِينَ. وَهَذَا الْمِيثَاقُ مُجْمَلٌ هُنَا بَيَّنَتْهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَجِمَاعُهَا أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ وَيُبَلِّغُوا مَا أُمِرُوا بِهِ دُونَ مُلَايَنَةٍ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلَا خَشْيَةٍ مِنْهُمْ، وَلَا مُجَارَاةٍ لِلْأَهْوَاءِ، وَلَا مُشَاطَرَةٍ مَعَ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي الْإِبْقَاءِ عَلَى بَعْضِ ضَلَالِهِمْ. وَأَنَّ اللَّهَ وَاثَقَهُمْ وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصْرِ. وَلِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ مَزِيدُ التَّأَثُّرِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَدِيدُ الْمُشَابَهَةِ بِمَا أُخِذَ مِنَ الْمَوَاثِيقِ عَلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الْأَحْزَاب: 4] وَقَوْلُهُ فِي مِيثَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [169] . وَفِي تَعْقِيبِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّقْوَى وَمُخَالَفَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالتَّثْبِيتِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا يُوحِي إِلَيْهِ، وَأَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَجَعْلِهَا قَبْلَ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الْأَحْزَاب: 9] إِلَخْ.. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْيِيدَ الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ إِذْ رَدَّ عَنْهُمْ أَحْزَابَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا مَا هُوَ إِلَّا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ حِينَ بَعَثَهُ. وَالْمِيثَاقُ: اسْمُ الْعَهْدِ وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ وَثِقَ، إِذَا أَيْقَنَ وَتَحَقَّقَ، فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنِ اسْمِ آلَةٍ مَجَازًا غَلَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [27] . وَإِضَافَةُ مِيثَاقٍ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيئِينَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ عَلَى مَعْنَى اخْتِصَاصِ الْمِيثَاقِ بِهِمْ فِيمَا أُلْزِمُوا بِهِ وَمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ. وَيُضَافُ أَيْضًا

إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: 7] . وَقَوْلُهُ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ إِلَخْ هُوَ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَقَدْ ذُكِرَ ضَمِيرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَهُمْ إِيمَاءً إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِهِمْ، ثُمَّ جُعِلَ تَرْتِيبُ ذِكْرِ الْبَقِيَّةِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ خُصَّ ضَمِيرُ النَّبِيءِ بِإِدْخَالِ حَرْفِ (مِنْ) عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ حَرْفُ (مِنْ) عَلَى مَجْمُوعِ الْبَاقِينَ فَكَانَ قَدْ خُصَّ بِاهْتِمَامَيْنِ: اهْتِمَامِ التَّقْدِيمِ، وَاهْتِمَامِ إِظْهَارِ اقْتِرَانِ الِابْتِدَاءِ بِضَمِيرٍ بِخُصُوصِهِ غَيْرَ مُنْدَمِجٍ فِي بَقِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَسَيَجِيءُ أَنَّ مَا فِي سُورَةِ الشُّورَى [13] مِنْ تَقْدِيمِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً عَلَى وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 13] طَرِيقٌ آخَرُ هُوَ آثَرُ بِالْغَرَضِ الَّذِي فِي تِلْكَ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ الْآيَة [الشورى: 13] . وَجُمْلَةُ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَعَادَتْ مَضْمُونَ جُمْلَةِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيئِينَ مِيثَاقَهُمْ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهَا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا وَصْفُ الْمِيثَاقِ بِالْغَلِيظِ، أَيْ: عَظِيمًا جَلِيلَ الشَّأْنِ فِي جِنْسِهِ فَإِنَّ كُلَّ مِيثَاقٍ لَهُ عِظَمٌ فَلَمَّا وُصِفَ هَذَا بِ غَلِيظاً أَفَادَ أَنَّ لَهُ عِظَمًا خَاصًّا، وَلِيُعَلِّقَ بِهِ لَامَ التَّعْلِيلِ من قَوْله لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ. وَحَقِيقَةُ الْغَلِيظِ: الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الْفَتْح: 29] . وَاسْتُعِيرَ الْغَلِيظُ لِلْعَظِيمِ الرَّفِيعِ فِي جِنْسِهِ لِأَنَّ الْغَلِيظَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ هُوَ أَمْكَنُهُ فِي صِفَاتِ جِنْسِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْله لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ لَامُ كَيْ، أَيْ: أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِنُعْظِمَ جَزَاءً لِلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَلِنُشَدِّدَ الْعَذَابَ جَزَاءً لِلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ، فَيَكُونُ مِنْ دَوَاعِي ذِكْرِ هَذَا الْمِيثَاقِ هُنَا أَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِ جَزَاءِ الصَّادِقِينَ وَعَذَابِ الْكَافِرِينَ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَوَاعِي ذَلِكَ آنِفًا. وَهَذِهِ عِلَّةٌ مِنْ عِلَلِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنَ النَّبِيئِينَ وَهِيَ آخِرُ الْعِلَلِ حُصُولًا فَأَشْعَرَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 9]

ذِكْرُهَا بِأَنَّ لِهَذَا الْمِيثَاقِ عِلَلًا تَحْصُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ الصَّادِقُونَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَهِيَ مَا فِي الْأَعْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِيثَاقُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يُسْأَلُ الْعَامِلُونَ عَنْ عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشر. وَضمير لِيَسْئَلَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَالْمُرَادُ بِالصَّادِقِينَ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ مَا أُخِذَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَيُقَابِلُهُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ أَوِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ ثُمَّ نَقَضُوا الْمِيثَاقَ مِنْ بَعْدِ، فَيَشْمَلُهُمُ اسْمُ الْكَافِرِينَ. وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ لِأَنَّهَا مِنْ ثَوَابِ جَوَابِ السُّؤَال أَعنِي إسداء الثَّوَابِ لِلصَّادِقِينَ وَعَذَابَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: 23] ، أَيْ: لَا يَتَعَقَّبُ أَحَدٌ فِعْلَهُ وَلَا يُؤَاخِذُهُ عَلَى مَا لَا يُلَائِمُهُ، وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَقِيلَ: إِنَّك مَنْسُوب ومسؤول وَجُمْلَةُ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَطْفٌ على جملَة لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ وَغُيِّرَ فِيهَا الْأُسْلُوبُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ عَذَابِ الْكَافِرِينَ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ سُؤَالَ مَنْ يُسْمَعُ جَوَابُهُمْ أَوْ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ إِعْدَادَ عَذَابِهِمْ أَمْرٌ مَضَى وَتَقَرَّرَ فِي علم الله. [9] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 9] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) ابْتِدَاءٌ لِغَرَضٍ عَظِيمٍ مِنْ أَغْرَاضِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّذِي حُفَّ بِآيَاتٍ وَعِبَرٍ مِنِ ابْتِدَائِهِ وَمِنْ عَوَاقِبِهِ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَذْكِيرًا لِيَزِيدَهُمْ يَقِينًا وَتَبْصِيرًا. فَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُهُ وَأَحِقَّاءُ بِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيدَ كَرَامَتِهِمْ وَيَقِينِهِمْ وَعِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَلُطْفَهُ لَهُمْ وَتَحْقِيرًا لِعَدُوِّهِمْ وَمَنْ يَكِيدُ لَهُمْ، وَأُمِرُوا أَنْ يَذْكُرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ

وَلَا يَنْسَوْهَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِهَا تَجْدِيدًا لِلِاعْتِزَازِ بِدِينِهِمْ وَالثِّقَةِ برَبهمْ والتصديق لنبيئهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتِيرَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْيَوْمِ مُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِعَدَمِ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي حَفَّتْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ أَنَّ اللَّهَ رَدَّ كَيْدَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُونَ بِسَابِقِ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ فِي تِلْكَ الْأَزْمَةِ لِيَحْذَرُوا مَكَائِدَهُمْ وَأَرَاجِيفَهُمْ فِي قَضِيَّةِ التَّبَنِّي وَتَزَوُّجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطَلَّقَةَ مُتَبَنَّاهُ، وَلِذَلِكَ خُصَّ الْمُنَافِقُونَ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْأَحْزَاب: 12] الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ إِبْطَالِ التَّبَنِّي وَإِبَاحَةِ تَزَوُّجِ مُطَلَقِ الْأَدْعِيَاءِ كَانَ بِقُرْبِ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ. وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي مُتَعَلِّقٌ بِ نِعْمَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْعَامِ، أَيِ: اذْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ زَمَانَ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا تُشِيرُ إِلَى مَا جَرَى مِنْ عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ فَلْنَأْتِ عَلَى خُلَاصَةِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ وَالتَّفْسِيرِ لِيَكُونَ مِنْهُ بَيَانٌ لِمَطَاوِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَنَّ قُرَيْشًا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ تَهَادَنُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِمُدَّةِ عَامٍ عَلَى أَنْ يَلْتَقُوا بِبَدْرٍ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فَلَمْ يَقَعْ قِتَالٌ بِبَدْرٍ لِتَخَلُّفِ أَبِي سُفْيَانَ عَنِ الْمِيعَادِ، فَلَمْ يُنَاوِشْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْفَرِيقَ الْآخَرَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَادِثَةِ غَدْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُسْلِمِينَ وَهِيَ حَادِثَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ حِينَ غَدَرَتْ قَبَائِلُ عُصَيَّةَ، وَرِعْلٍ، وَذَكْوَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ بِأَرْبَعِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ سَأَلَ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَجِّهَهُمْ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَكَانَ ذَلِكَ كَيْدًا كَادَهُ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ وَذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنِ انْقِضَاءِ غَزْوَةِ أُحُدٍ. فَلَمَّا أَجْلَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ غَدْرِهِمْ بِهِ وَخَيْسِهِمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، هُنَالِكَ اغْتَاظَ كَبَرَاءُ يَهُودِ قُرَيْظَةَ بَعْدَ الْجَلَاءِ وَبَعْدَ أَنْ نَزَلُوا بِدِيَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبِخَيْبَرَ فَخَرَجَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ- بِتَشْدِيدِ لَامِ سَلَّامِ وَضَمِّ حَاءِ الْحُقَيْقِ وَفَتْحِ قَافِهِ- وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ- بِضَمِّ حَاءِ حُيَيٍّ وَفَتْحِ هَمْزَةِ وَطَاءِ أَخْطَبَ- وَغَيْرُهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ فَقَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ لِذَلِكَ

وَتَآمَرُوا مَعَ غَطَفَانَ عَلَى أَنْ يَغْزُوا الْمَدِينَةَ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَأَحَابِيشُهَا وَبَنُو كِنَانَةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ فِي أَلْفٍ قَائِدُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمْ هَوَازِنُ وَقَائِدُهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزْمُهُمْ عَلَى مُنَازَلَةِ الْمَدِينَةِ أَبْلَغَتْهُ إِيَّاهُ خُزَاعَةُ وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ كَثْرَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَشَارَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ أَنْ يُحْفَرَ خَنْدَقٌ يُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ تَحْصِينًا لَهَا مِنْ دُخُولِ الْعَدُوِّ فَاحْتَفَرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ يَحْفُرُ وَيَنْقُلُ التُّرَابَ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَنَةَ خَمْسٍ. وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ فِي «جَامِعِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» اتِّبَاعًا لِمَا اشْتُهِرَ، وَقَوْلُ مَالك أصحّ. وَعند مَا تَمَّ حَفْرُ الْخَنْدَقِ أَقْبَلَتْ جُنُودُ الْمُشْرِكِينَ وَتَسَمَّوْا بِالْأَحْزَابِ لِأَنَّهُمْ عِدَّةُ قَبَائِلَ تَحَزَّبُوا، أَيْ: صَارُوا حِزْبًا وَاحِدًا، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَكَانَ وُرُودُ قُرَيْشٍ مِنْ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَوُرُودُ غَطَفَانَ وَهَوَازِنَ مِنْ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، فَنَزَلَ جَيْشُ قُرَيْشٍ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ بَيْنَ الْجُرْفِ وَزُغَابَةَ- بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ- وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: وَالْغَابَةُ، وَالتَّحْقِيقُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» ، وَنَزَلَ جَيْشُ غَطَفَانَ وَهَوَازِنَ بِذَنَبِ نَقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، وَكَانَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ فَعَسْكَرُوا تَحْتَ جَبَلِ سَلْعٍ وَجَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى الْجَبَلِ وَالْخَنْدَقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيهِمْ فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَدَامَ الْحَالُ كَذَلِكَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ فِيهَا حَرْبٌ إِلَّا مُصَارَعَةٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ فُرْسَانٍ اقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ مِنْ جِهَةٍ ضَيِّقَةٍ عَلَى أَفَرَاسِهِمْ فَتَقَاتَلُوا فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ وَقُتِلَ أَحَدُهُمْ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَفَرَّ صَاحِبَاهُ، وَأَصَابَ سَهْمٌ غَرْبٌ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحُلِهِ فَكَانَ مِنْهُ مَوْتُهُ فِي الْمَدِينَةِ. وَلَحِقَتِ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةٌ مِنَ الْحِصَارِ وَخَوْفٌ مِنْ كَثْرَةِ جَيْشِ عَدُوِّهِمْ حَتَّى هَمَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُصَالِحَ الْأَحْزَابَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ نِصْفَ ثَمَرِ الْمَدِينَةِ فِي عَامِهِمْ ذَلِكَ يَأْخُذُونَهُ عِنْدَ طِيبِهِ وَكَادَ أَنْ يَكْتُبَ مَعَهُمْ كِتَابًا فِي ذَلِكَ، فَاسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:

قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَلَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إِلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَأَعَزَّنَا بِكَ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! وَاللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ رِيحًا شَدِيدَةً فَأَزَالَتْ خِيَامَهُمْ وَأَكْفَأَتْ قُدُورَهُمْ وَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ، وَاخْتَلَّ أَمْرُهُمْ، وَهَلَكَ كُرَاعُهُمْ وَخُفُّهُمْ، وَحَدَثَ تَخَاذُلٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ وَظَنَّتْ قُرَيْشٌ أَنَّ قُرَيْظَةَ صَالَحَتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِ الْأَحْزَابِ، فَرَأَى أَهْلُ الْأَحْزَابِ الرَّأْيَ فِي أَنْ يَرْتَحِلُوا فَارْتَحَلُوا عَنِ الْمَدِينَةِ وَانْصَرَفَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ذكر تَوْطِئَة لِقَوْلِهِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً إِلَخْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ. وَالرِّيحُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا هِيَ رِيحُ الصَّبَا وَكَانَتْ بَارِدَةً وَقَلَعَتِ الْأَوْتَادَ وَالْأَطْنَابَ وَسَفَّتِ التُّرَابَ فِي عُيُونِهِمْ وَمَاجَتِ الْخَيْلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ خَيْلِهِمْ وَإِبِلِهِمْ وَشَائِهِمْ. وَفِيهَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» . وَالْجُنُودُ الَّتِي لَمْ يَرَوْهَا هِيَ جُنُودُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَرْسَلُوا الرِّيحَ وَأَلْقَوُا التَّخَاذُلَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ وَكَانُوا وَسِيلَةَ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ وَهِيَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْمُصَابَرَةِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَبَذْلِهِمُ النُّفُوسَ فِي نَصْرِ دِينِ اللَّهِ فَجَازَاهُمُ اللَّهُ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ كَمَا قَالَ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: 40] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَمَحْمَلُهَا عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَالْجُنُودُ الْأُوَّلُ جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُتَّحِدُ الْمُتَنَاصِرُ وَلِذَلِكَ غَلَبَ عَلَى الْجَمْعِ الْمُجْتَمِعِ لِأَجْلِ الْقِتَالِ فَشَاعَ الْجُنْدُ بِمَعْنَى الْجَيْشِ. وَذَكَرَ جُنُودَ هُنَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ مَعَ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 إلى 11]

أَنَّ مُفْرَدَهُ مُؤْذِنٌ بِالْجَمَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] فَجَمَعَهُ هُنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَجَمِّعِينَ مِنْ عِدَّةِ قَبَائِلَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ جَيْشٌ خَرَجُوا مُتَسَانِدِينَ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] . وَالْجُنُودُ الثَّانِي جَمْعُ جُنْدٍ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةٌ أُرْسِلُوا لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوب الْمُشْركين. [10- 11] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 10 إِلَى 11] إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) إِذْ جاؤُكُمْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الْأَحْزَاب: 9] بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ. وَالْمُرَادُ بِ (فَوْقِ) وأَسْفَلَ فَوْقُ جِهَةِ الْمَدِينَةِ وأسفلها. ووَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ عَطْفٌ عَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَبْصارُ والْقُلُوبُ والْحَناجِرَ لِلْعَهْدِ، أَيْ: أَبْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَقُلُوبُهُمْ وَحَنَاجِرَهُمْ، أَوْ تُجْعَلُ اللَّامُ فِيهَا عِوَضًا عَنِ الْمُضَافَاتِ إِلَيْهَا، أَيْ: زَاغَتْ أَبْصَارُكُمْ وَبَلَغَتْ قُلُوبُكُمْ حَنَاجِرَكُمْ. وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْاسْتِوَاءِ إِلَى الِانْحِرَافِ. فَزَيْغُ الْبَصَرِ أَنْ لَا يَرَى مَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ أَنْ يُرِيدَ التَّوَجُّهَ إِلَى صَوْبٍ فَيَقَعَ إِلَى صَوْبٍ آخَرَ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ وَالِانْذِعَارِ. والْحَناجِرَ: جَمَعُ حَنْجَرَةٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ-: مُنْتَهَى الْحُلْقُومِ وَهِيَ رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ. وَبُلُوغُ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ اضْطِرَابِ الْقُلُوبِ مِنَ الْفَزَعِ وَالْهَلَعِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِاضْطِرَابِهَا تَتَجَاوَزُ مَقَارَّهَا وَتَرْتَفِعُ طَالِبَةً الْخُرُوجَ مِنَ الصُّدُورِ فَإِذَا بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ لَمْ تَسْتَطِعْ تُجَاوُزَهَا مِنَ الضِّيقِ فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ قَلْبِ الْهُلُوعِ الْمَرْعُودِ بِهَيْئَةِ قَلْبٍ تَجَاوَزَ مَوْضِعَهُ وَذَهَبَ مُتَصَاعِدًا طَالِبًا الْخُرُوجَ، فَالْمُشَبَّهُ الْقَلْبُ نَفْسُهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْهَيْئَتَيْنِ.

وَلَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَا تَتَجَاوَزُ مَكَانَهَا، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَبَلَغَتِ الرُّوحُ التَّرَاقِيَ. وَجُمْلَةُ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ تِلْكَ الظُّنُونِ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِهَا كِنَايَةً عَنْ طُولِ مُدَّةِ هَذَا الْبَلَاءِ. وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ ظُنُونِهِمْ لِإِدْمَاجِ الْعِتَابِ بِالِامْتِنَانِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْهَلَعِ الَّذِي أَزَاغَ الْأَبْصَارَ وَجَعَلَ الْقُلُوبَ بِمِثْلِ حَالَةِ أَنْ تَبْلُغَ الْحَنَاجِرَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشْفَقُوا مِنْ أَنْ يُهْزَمُوا لِمَا رَأَوْا مِنْ قُوَّةِ الْأَحْزَابِ وَضِيقِ الْحِصَارِ أَوْ خَافُوا طُولَ مُدَّةِ الْحَرْبِ وَفَنَاءَ الْأَنْفُسِ، أَوْ أَشْفَقُوا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهَزِيمَةِ جَرَاءَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّنُونِ وَتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ أَهْلِهَا. وَالْمُؤْمِنُ وَإِنْ كَانَ يَثِقُ بِوَعْدِ رَبِّهِ لَكِنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَضَبَهُ مِنْ جَرَّاءِ تَقْصِيرِهِ، وَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ النَّصْرُ مُرْجَأً إِلَى زَمَنٍ آخَرَ، فَإِنَّ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ. وَحُذِفَ مَفْعُولَا تَظُنُّونَ بِدُونِ وُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهِمَا فَهُوَ حَذْفٌ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْحَذْفُ عِنْدَ النُّحَاةِ الْحَذْفَ اقْتِصَارًا، أَيْ: لِلِاقْتِصَارِ عَلَى نِسْبَةِ فِعْلِ الظَّنِّ لِفَاعِلِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ، وَهُوَ حَذْفٌ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَعَلَى جَوَازِهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النَّجْم: 35] وَقَوْلُهُ: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْح: 12] ، وَقَوْلُ الْمَثَلِ: مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ، وَمَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ. وَضُمِّنَ تَظُنُّونَ مَعْنَى تَلْحَقُونَ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَوْلُهُمْ: ظَنَنْتُ بِهِ، مَعْنَاهُ: جَعَلْتُهُ مَوْضِعَ ظَنِّي. وَلَيْسَتِ الْبَاءُ هُنَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء: 6] ، أَيْ: لَيْسَتْ زَائِدَةً، وَمَجْرُورُهَا مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ قَبْلَهَا كَأَنَّكَ قُلْتَ: ظَنَنْتُ فِي الدَّارِ، وَمِثْلُهُ: شَكَكْتُ فِيهِ، أَيْ: فَالْبَاءَ عِنْدَهُ بِمَعْنَى (فِي) . وَالْوَجْهُ أَنَّهَا لِلْمُلَابَسَةِ كَقَوْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمَسَرَّدِ

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [87] . وَانْتَصَبَ الظُّنُونَا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلْعَدَدِ، وَهُوَ جَمْعُ ظَنٍّ. وَتَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَجَمْعُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الظَّنِّ كَمَا فِي قَول النَّابِغَة: أبيتك عَارِيًا خَلَقًا ثِيَابِي ... عَلَى خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ وَكُتِبَ الظُّنُونَا فِي الإِمَام بِأَلف بَعْدَ النُّونِ، زِيدَتْ هَذِهِ الْأَلِفُ فِي النُّطْقِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ فِي الْوُقُوفِ، لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ مِثْلَ الْأَسْجَاعِ تُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَهَا كَذَلِكَ. فَهَذِهِ السُّورَةُ بُنِيَتْ عَلَى فَاصِلَةِ الْأَلِفِ مِثْلَ الْقَصَائِدِ الْمَقْصُورَةِ، كَمَا زِيدَتِ الْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الْأَحْزَاب: 66] وَقَوْلِهِ: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَاب: 67] . وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ فِي «الْحُجَّةِ» : مَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ وَهُوَ رَأس آيَة ورؤوس الْآيَاتِ تُشَبَّهُ بِالْقَوَافِي مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَقَاطِعَ، فَأَما فِي طَرَحَ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي القوافي وَلَيْسَ رُؤُوس الْآيِ بِقَوَافٍ. فَأَمَّا الْقُرَّاءُ فَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَ خَلَفٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ النُّونِ فِي الْوَقْفِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ لَا فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ كُلُّهَا فَصِيحَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ كَالْأَسْجَاعِ وَالْأَسْجَاعَ كَالْقَوَافِي. وَالْإِشَارَةُ بِ هُنالِكَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الْأَحْزَاب: 9] وَقَوله إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الزَّمَانِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ. وَكَثِيرًا مَا يُنَزَّلُ أَحَدُ الظَّرْفَيْنِ مَنْزِلَةَ الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنالِكَ: ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 إلى 13]

ابْتُلِيَ اهـ. قُلْتُ: وَمِنْهُ دُخُولُ (لَاتَ) عَلَى (هَنَّا) فِي قَوْلِ حَجْلِ بْنِ نَضْلَةَ: خَنَّتْ نَوَارُ وَلَاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أَجَنَّتِ فَإِنَّ (لَاتَ) خَاصَّةٌ بِنَفْيِ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ فَكَانَ (هَنَّا) إِشَارَةً إِلَى زَمَانٍ مُنْكَرٍ وَهُوَ لُغَةٌ فِي (هُنَا) . وَيَقُولُونَ: يَوْمُ هُنَا، أَيْ يَوْمُ أَوَّلَ، فَيُشِيرُونَ إِلَى زَمَنٍ قَرِيبٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ تُوُسِّعَ فِيهِ وَشَاعَ. وَالِابْتِلَاءُ: أَصْلُهُ الِاخْتِبَارُ، وَيُطْلَقُ كِنَايَةً عَنْ إِصَابَةِ الشِّدَّةِ لِأَنَّ اخْتِبَارَ حَالِ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ لَازِمٌ لَهَا، وَسَمَّى اللَّهُ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِلَاءً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُزَعْزِعْ إِيمَانَهُمْ. وَالزِّلْزَالُ: اضْطِرَابُ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُضَاعَفُ زَلَّ تَضْعِيفًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِاخْتِلَالِ الْحَالِ اخْتِلَالًا شَدِيدًا بِحَيْثُ تُخَيَّلُ مُضْطَرِبَةً اضْطِرَابًا شَدِيدًا كَاضْطِرَابِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَشَدُّ اضْطِرَابًا لِلِحَاقِهِ أَعْظَمَ جِسْمٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَيُقَالُ: زُلْزِلَ فُلَانٌ، مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ تَبَعًا لِقَوْلِهِمْ: زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ عُرْفًا. وَهَذَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ قَالَ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ الْآيَة [الْبَقَرَة: 214] . وَالْمُرَادُ بِزَلْزَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ شِدَّةُ الِانْزِعَاجِ وَالذُّعْرِ لِأَنَّ أَحْزَابَ الْعَدُوِّ تَفُوقُهُمْ عددا وعدة. [12- 13] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 12 إِلَى 13] وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ [الْأَحْزَاب: 10] فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أُلْحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ ابْتِلَاءً فَبَعْضُهُ مِنْ حَالِ الْحَرْبِ وَبَعْضُهُ مِنْ أَذَى الْمُنَافِقِينَ، لِيَحْذَرُوا الْمُنَافِقِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ، وَلِئَلَّا يَخْشَوْا كَيْدَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُ كَمَا صَرَفَ أَشَدَّهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ.

وَقَوْلُ الْمُنَافِقِينَ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ عَلَنًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدُوا بِهِ إِدْخَالَ الشَّكِّ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَرُدُّونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَأَوْهَمُوا بِقَوْلِهِمْ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَخْ ... أَنَّهُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَنِسْبَةُ الْغُرُورِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِمَّا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ بِجَهْلِهِمْ يُجَوِّزُونَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغُرَّ عِبَادَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ فَيَكُونُ نِسْبَةُ الْوَعْدِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَهَكُّمًا كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاء: 27] . وَالْغُرُورُ: ظُهُورُ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ فِي صُورَةِ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [112] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ فَكَانَ الْأَمْرُ هَزِيمَةً وَهُمْ يَعْنُونَ الْوَعْدَ الْعَامَّ وَإِلَّا فَإِنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ جَاءَتْ بَغْتَةً وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُمْ وُعِدُوا فِيهَا بِنَصْرٍ. والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَأَخْلَصُوا يَوْمَئِذٍ النِّفَاقَ وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَأَصْحَابُهُ. كَذَا قَالَ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: هُوَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ، وَهُوَ وَالِدُ عَرَابَةَ بْنِ أَوْسٍ الْمَمْدُوحِ بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ: رَأَيْتُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسْمُو ... إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مُنَافِقِي قَوْمِهِ. وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، فَهُوَ الَّذِي يَدْعُو أَهْلَ يَثْرِبَ كُلَّهُمْ. وَقَوْلُهُ لَا مُقامَ لَكُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَكَانِ الْقِيَامِ، أَيِ: الْوُجُودِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: مَحَلُّ الْإِقَامَةِ. وَالنَّفْيُ هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمَّا رَأَى هَذَا الْفَرِيقُ قِلَّةَ جَدْوَى وُجُودِهِمْ جَعَلَهَا كَالْعَدَمِ، أَيْ لَا فَائِدَةَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يروم تخذيل النَّاسِ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ أُحُدٍ. ويَثْرِبَ: اسْمُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَثْرِبُ: اسْمُ أَرْضٍ وَالْمَدِينَةُ

فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، أَيِ: اسْمُ أَرْضٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَوَائِطِ وَالنَّخْلِ وَالْمَدِينَةُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ. سُمِّيتْ بَاسِمِ يَثْرِبَ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، وَهُوَ يثرب بن قَانِيَةَ الْحَفِيدِ الْخَامِسِ لِإِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَسْمِيَتِهَا يَثْرِبَ وَسَمَّاهَا طَابَةَ. وَفِي قَوْلِهِ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ، وَهُوَ الِاتِّزَانُ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ مِنْهُ مِصْرَاعٌ مِنْ بَحْرِ السَّرِيعِ مِنْ عَرُوضِهِ الثَّانِيَةِ الْمَخْبُولَةِ الْمَكْشُوفَةِ إِذْ صَارَتْ مَفْعُولَاتُ بِمَجْمُوعِ الْخَبْلِ وَالْكَشْفِ إِلَى فَعِلُنْ فَوَزْنُهُ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَرِيقٌ مِنْهُمُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَلَيْسُوا فَرِيقًا مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، بَلْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وَجَمْعٌ مِنْ عَشِيرَتِهِ بَنِي حَارِثَةَ وَكَانَ بَنُو حَارِثَةَ أَكْثَرُهُمْ مُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ مُنَافِقُونَ، فَجَاءَ مُنَافِقُوهُمْ يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ مَنَازِلَهُمْ عَوْرَةٌ، أَيْ: غَيْرُ حَصِينَةٍ. وَجُمْلَةُ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَتْ طائِفَةٌ، وَجِيءَ فِيهَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَلِحُّونَ فِي الِاسْتِئْذَانِ وَيُكَرِّرُونَهُ وَيُجَدِّدُونَهُ. وَالْعَوْرَةُ: الثَّغْرُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الْعَدُوُّ أَنْ يَتَسَرَّبَ مِنْهُ إِلَى الْحَيِّ، قَالَ لَبِيدٌ: وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا وَالِاسْتِئْذَانُ: طَلَبُ الْإِذْنِ وَهَؤُلَاء راموا الانخذال وَاسْتَحْيَوْا. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَهُمْ. وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ ثَمَانِينَ مِنْهُمْ رَجَعُوا دُونَ إِذْنِهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ وَإِلَّا لَمَا ظَهَرَ تَمَيُّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ مِنْ قَوْلِهِ يَسْتَأْذِنُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ وَسَتَعْلَمُ ذَلِكَ، وَمَنَازِلُ بَنِي حَارِثَةَ كَانَتْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ قُرْبَ مَنَازِلِ بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُمَا كَانَا حَيَّيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ قَالَ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمرَان: 122] هُمَا بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ بَنِي سَلَمَةَ رَامُوا أَنْ يَنْقُلُوا مَنَازِلَهُمْ قُرْبَ الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي سَلَمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ» أَيْ خُطَاكُمْ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 14]

فَهَذَا الْفَرِيقُ مِنْهُمْ يَعْتَلُّونَ بِأَنَّ مَنَازِلَهُمْ بَعِيدَةٌ عَنِ الْمَدِينَةِ وَآطَامِهَا. وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ تَمْوِيهٌ لِإِظْهَارِ قَوْلِهِمْ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ فِي صُورَةِ الصِّدْقِ. وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ جَعَلُوا تَكْذِيبَهُ إِيَّاهُمْ فِي صُورَةِ أَنَّهُ يَشُكُّ فِي صِدْقِهِمْ فَأَكَّدُوا الْخَبَرَ. وَجُمْلَةُ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِلَى قَوْله مَسْؤُلًا [الْأَحْزَاب: 15] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ إِلَخْ وَجُمْلَةِ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ [الْأَحْزَاب: 16] . فَقَوْلُهُ: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ مُحَصَّنَةً يَوْمَئِذٍ بِخَنْدَقٍ وَكَانَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ حَارِسَهَا. وَلَمْ يُقْرَنْ هَذَا التَّكْذِيبُ بِمُؤَكِّدٍ لِإِظْهَارِ أَنَّ كَذِبَهُمْ وَاضِحٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَأْكِيد. [14] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 14] وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الْأَحْزَاب: 13] فَإِنَّهَا لِتَكْذِيبِهِمْ فِي إِظْهَارِهِمُ التَّخَوُّفَ عَلَى بُيُوتِهِمْ، وَمُرَادُهُمْ خَذْلُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمْ أَجِدْ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ أَفْصَحَ عَنْ مَعْنَى (الدُّخُولِ) فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ذَكَرُوا إِلَّا مَعْنَى الْوُلُوجِ إِلَى الْمَكَانِ مِثْلَ وُلُوجِ الْبُيُوتِ أَوِ الْمُدُنِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الدُّخُولَ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى دُخُولٍ خَاصٍّ وَهُوَ اقْتِحَامُ الْجَيْشِ أَوِ الْمُغِيرِينَ أَرْضًا أَوْ بَلَدًا لِغَزْوِ أَهْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً إِلَى قَوْلِهِ: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [الْمَائِدَة: 21] ، وَأَنَّهُ يُعَدَّى غَالِبًا إِلَى الْمَغْزُوِّينَ بِحَرْفِ عَلَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَة: 24] فَإِنَّهُ مَا يَصْلُحُ إِلَّا مَعْنَى دُخُولِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يُرَادُ: إِذَا دَخَلْتُمْ دُخُولَ ضِيَافَةٍ أَوْ تَجَوُّلٍ أَوْ تَجَسُّسٍ،

فَيُفْهَمُ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مَعْنَى الْغَزْوِ وَالْفَتْحِ كَمَا نَقُولُ: عَامُ دُخُولِ التَّتَارِ بَغْدَادَ، وَلِذَلِكَ فَالدُّخُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ هُوَ دُخُولُ الْغَزْوِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ دُخِلَتْ عَائِدًا إِلَى مَدِينَةِ يَثْرِبَ لَا إِلَى الْبُيُوتِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: 13] ، وَالْمَعْنَى: لَوْ غُزِيَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا إِلَخْ ... وَقَوْلُهُ عَلَيْهِمْ يَتَعَلَّقُ بِ دُخِلَتْ لِأَنَّ بِنَاءَ دُخِلَتْ لِلنَّائِبِ مُقْتَضٍ فَاعِلًا مَحْذُوفًا. فَالْمُرَادُ: دُخُولُ الدَّاخِلِينَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ فِي قَوْلِهِ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [23] . وَالْأَقْطَارُ: جَمْعُ قُطْرٍ- بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ- وَهُوَ النَّاحِيَةُ مِنَ الْمَكَانِ. وَإِضَافَةُ (أَقْطَارِ) وَهُوَ جَمْعٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ: مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ أَشَدُّ هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَى الْمَدِينَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الْأَحْزَاب: 10] . وَأَسْنَدَ فِعْلَ دُخِلَتْ إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ فَاعِلَ الدُّخُولِ قَوْمٌ غُزَاةٌ. وَقَدْ أَبْدَى الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ احْتِمَالَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي مَعَانِي الْكَلِمَاتِ وَفِي حَاصِلِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَأَقْرَبُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى غُمُوضٍ فِيهِ، وَيَلِيهِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّفْسِيرُ بِهِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير يُرِيدُونَ [الْأَحْزَاب: 13] أَوْ مِنْ ضَمِيرِ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ زِيَادَةً فِي تَكْذِيبِ قَوْلِهِمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: 13] . وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي دُخِلَتْ عَائِدٌ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْأَقْطَارِ يُنَاسِبُ الْمُدُنَ وَالْمُوَاطِنَ وَلَا يُنَاسِبُ الْبُيُوتَ. فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: لَوْ دَخَلَ الْغُزَاةُ عَلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ وَهُمْ قَاطِنُونَ فِيهَا. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِي، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْوَاوِ لَا بِ ثُمَّ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَ ثُمَّ هُنَا دَاخِلٌ فِي فِعْلِ شَرْطِ لَوْ وَوَارِدٌ عَلَيْهِ جَوَابُهَا، فَعَدَلَ عَنِ الْوَاوِ إِلَى ثُمَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ ثُمَّ أَهَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهَا كَشَأْنِ ثُمَّ فِي عَطْفِ

الْجُمَلِ، أَيْ: أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَأْتُونَ الْفِتْنَةَ، والْفِتْنَةَ هِيَ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ، أَيِ: الْكَيْدُ لَهُمْ وَإِلْقَاءُ التَّخَاذُلِ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفِتْنَةَ بِالشِّرْكِ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْقِتَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالْإِتْيَانُ: الْقُدُومُ إِلَى مَكَانٍ. وَقَدْ أَشْعَرَ هَذَا الْفِعْلُ بِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا لِيَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي أَتَوْهَا عَائِدٌ إِلَى الْفِتْنَةَ وَالْمُرَادُ مَكَانُهَا وَهُوَ مَكَانُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَأَتَوْا مَكَانَهَا وَمَظِنَّتِهَا. وَضَمِيرُ بِها لِلْفِتْنَةِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَجُمْلَةُ وَما تَلَبَّثُوا بِها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَآتَوْها. وَالتَّلَبُّثُ: اللُّبْثُ، أَيِ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِبْطَاءِ، أَي مَا أبطأوا بِالسَّعْيِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَا خَافُوا أَنْ تُؤْخَذَ بُيُوتُهُمْ. وَالْمَعْنَى: لَوْ دَخَلَتْ جُيُوشُ الْأَحْزَابِ الْمَدِينَةَ وَبَقِيَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَهَا- أَيْ مَثَلًا لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ- وَسَأَلَ الْجَيْشُ الدَّاخِلُ الْفَرِيقَ الْمُسْتَأْذِنِينَ أَنْ يُلْقُوا الْفِتْنَةَ فِي الْمُسلمين بِالتَّفْرِيقِ والتخذيل لَخَرَجُوا لِذَلِكَ الْقَصْدِ مُسْرِعِينَ وَلَمْ يُثَبِّطْهُمُ الْخَوْفُ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَنْ يَدْخُلَهَا اللُّصُوصُ أَوْ يَنْهَبَهَا الْجَيْشُ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَلْقَوْا سُوءًا مِنَ الْجَيْشِ الدَّاخِلِ لِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لَهُ وَمُعَاوِنُونَ، فَهُمْ مِنْهُمْ وَإِلَيْهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ كَرَاهَتَهُمُ الْإِسْلَامَ تَجْعَلُهُمْ لَا يَكْتَرِثُونَ بِنَهْبِ بُيُوتِهِمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا يَسِيراً يُظْهِرُ أَنَّهُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ إِلَّا رَيْثَمَا يَتَأَمَّلُونَ فَلَا يُطِيلُونَ التَّأَمُّلَ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ تَأْكِيدَ قِلَّةِ التَّلَبُّثِ، فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُنْسَجِمُ مَعَ نَظْمِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ انْسِجَامٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَأَتَوْهَا بِهَمْزَةٍ تَلِيهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ لَآتَوْها بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى: لَأَعْطَوْهَا، أَيْ: لَأَعْطَوُا الْفِتْنَةَ سَائِلِيهَا، فَإِطْلَاقُ فِعْلِ أَتَوْهَا مُشَاكَلَةٌ لفعل سُئِلُوا.

[سورة الأحزاب (33) : آية 15]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 15] وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) هَؤُلَاءِ هُمْ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: 13] وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ كَانُوا يَوْمَ أُحُدٍ جَبُنُوا ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ فِي غَزْوَةٍ بَعْدَهَا، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمرَان: 122] فَطَرَأَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ نِفَاقٌ وَضَعْفٌ فِي الْإِيمَانِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَرَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقًا قُلَّبًا لَا يَرْعَى عَهْدًا وَلَا يَسْتَقِرُّ لَهُمُ اعْتِقَادٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ وَغَلَبَةِ الْجُبْنِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى نَبْذِ عَهْدِ اللَّهِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِلْقَبِيلَيْنِ لِيَزْجُرُوا مَنْ نَكَثَ مِنْهُمْ. وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَفِعْلِ كَانَ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ تَنْزِيلًا لِلسَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّهُمْ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الثَّبَاتِ. وَزِيَادَةُ مِنْ قَبْلُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَهْدَ قَدِيمٌ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ عَهْدُ يَوْمِ أُحُدٍ. وَجُمْلَةُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ عاهَدُوا. وَالتَّوْلِيَةُ: التَّوَجُّهُ بِالشَّيْءِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، قَالَ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 144] . والْأَدْبارَ: الظُّهُورُ. وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ فَإِنَّ الَّذِي اسْتَأْذَنُوا لِأَجْلِهِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ أَرَادُوا مِنْهُ الْفِرَارَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الْأَحْزَاب: 13] ، وَالْفِرَارُ مِمَّا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى تَرْكِهِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا إِلَخْ ... وَالْمُرَادُ بِعَهْدِ اللَّهِ: كُلُّ عَهْدٍ يُوَثِّقُهُ الْإِنْسَانُ مَعَ رَبِّهِ. وَالْمَسْئُولُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُحَاسَبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ» ، وَكَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْد قَوْله تَعَالَى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الْأَحْزَاب: 8] وَهَذَا تهديد.

[سورة الأحزاب (33) : آية 16]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 16] قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: 13] وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى أُسْلُوبِ التَّقَاوُلِ وَالتَّجَاوُبِ، وَمَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْله مَسْؤُلًا [الْأَحْزَاب: 14- 15] اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِلَّا الْفِرَارَ جُبْنًا وَالْفِرَارُ لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَوْتَ أَوِ الْقَتْلَ، فَمَعْنَى نَفْيِ نَفْعِهِ: نَفْيُ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ لِأَنَّ نَفْعَ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ مَا يُقْصَدُ لَهُ. فَقَوْلُهُ مِنَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِ الْفِرارُ وفَرَرْتُمْ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ يَنْفَعَكُمُ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ يَنْفَعَكُمُ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْفَائِدَةُ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ الْمُتَعَلِّقِ، أَيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمْ بِالنَّجَاةِ. وَمَعْنَى نَفْيِ نَفْعِ الْفِرَارِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعَاطِي سَبَبِ النَّجَاةِ، هَذَا السَّبَبُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لِوُجُوبِ الثَّبَاتِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَمَحَّضُ فِي هَذَا الْفِرَارِ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَا قُدِّرَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْفِرَارُ مَأْذُونًا فِيهِ لِجَازَ مُرَاعَاةُ مَا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورِينَ بِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فَكَانَ حِينَئِذٍ الْفِرَارُ مِنْ وَجْهِ عَشَرَةِ أَضْعَافِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَأُذِنَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ الْمُسْلِمُونَ لِضِعْفِ عَدَدِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ فَالْفِرَارُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمُسْلِمُونَ زَحْفًا فَإِنَّ الْفِرَارَ حَرَامٌ سَاعَتَئِذٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ النَّسَخِ فَلِذَلِكَ وَبَّخَ اللَّهُ الَّذِينَ أَضْمَرُوا الْفِرَارَ فَإِنَّ عَدَدَ جَيْشِ الْأَحْزَابِ يَوْمَئِذٍ كَانَ بِمِقْدَارِ أَرْبَعَةِ أَمْثَالِ جَيش الْمُسلمُونَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ زَحْفًا فَإِنَّ الْحَالَةَ حَالَةُ حِصَارٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْضًا: أَنَّكُمْ إِنْ فَرَرْتُمْ فَنَجَوْتُمْ مِنَ الْقَتْلِ لَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ مِنَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ وَعَسَى أَنْ تَكُونَ آجَالُكُمْ قَرِيبَةً.

[سورة الأحزاب (33) : آية 17]

والْمَوْتِ، أُرِيدَ بِهِ: الْمَوْتُ الزُّؤَامُ وَهُوَ الْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ لِأَنَّهُ قُوبِلَ بِالْقَتْلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْفِرَارَ لَا يَدْفَعُ الْمَوْتَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقَعُ بِالْفَارِّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ الْفَارَّ يَمُوتُ فِيهِ وَيُقْتَلُ فَإِذَا خُيِّلَ إِلَى الْفَارِّ أَنَّ الْفِرَارَ قَدْ دَفَعَ عَنْهُ خَطَرًا فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا لَا يُصِيبُ الْفَارَّ فِيهَا أَذًى وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْتٍ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ قَتْلٍ فِي الْإِبَّانِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ أَوْ يُقْتَلُ. وَلِهَذَا عَقَّبَ بِجُمْلَةِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا جَوَابًا عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَيْ إِنْ خُيِّلَ إِلَيْكُمْ أَنَّ الْفِرَارَ نَفَعَ الَّذِي فَرَّ فِي وَقْتٍ مَا فَمَا هُوَ إِلَّا نَفْعٌ زَهِيدٌ لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ فِي أَجَلِ الْحَيَاةِ وَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَيْ: إِعْطَاءُ الْحَيَاةِ مُدَّةً منتهية، فَإِن إِذاً قَدْ تَكُونُ جَوَابًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ، كَقَوْلِ الْعَنْبَرِيِّ: لَوْ كُنْتَ مِنْ مَأْزِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لَوْثَةٍ لَانَا فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي، جَوَابٌ وَجَزَاءٌ عَنْ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ: لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنِ اسْتَبَاحُوا إِبِلِي إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ، وَهُوَ الَّذِي أَشْعَرَ كَلَامُ الْمَرْزُوقِيِّ بِاخْتِيَارِهِ خِلَافًا لِمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَالْأَكْثَر أَن إِذاً أَنَّ وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ الْعَاطِفَتَيْنِ أَنْ لَا يُنْصَبَ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا، وَوَرَدَ نَصْبُهُ نَادِرًا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَخْلِيقُ الْمُسْلِمِينَ بِخُلُقِ اسْتِضْعَافِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَصَرْفُ هِمَمِهِمْ إِلَى السَّعْيِ نَحْوَ الْكَمَالِ الَّذِي بِهِ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ سَيْرًا وَرَاءَ تَعَالِيمِ الدِّينِ الَّتِي تَقُودُ النُّفُوسَ إِلَى أَوْجِ الْمَلَكِيَّةِ. [71] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 17] قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً. يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ الْآيَة [الْأَحْزَاب: 16] ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَيْ: فَلَا عَاصِمَ

لَكُمْ مِنْ نُفُوذِ مُرَادِهِ فِيكُمْ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ وَإِرَادَتَهُ مُحِيطَةٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَمَتَى شَاءَ عَطَّلَ تَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ أَوْ عَرْقَلَهَا بِالْمَوَانِعِ فَإِنْ يَشَأْ شَرًّا حَرَمَ الِانْتِفَاعَ بِالْأَسْبَابِ أَوِ الِاتِّقَاءَ بِالْمَوَانِعِ فَرُبَّمَا أَتَتِ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْفَوَائِدِ، وَمَتَى شَاءَ خَيْرًا خَاصًّا بِأَحَدٍ لَطَفَ لَهُ بِتَمْهِيدِ الْأَسْبَابِ وَتَيْسِيرِهَا حَتَّى يُلَاقِيَ مِنَ التَّيْسِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا، وَمَتَى لَمْ تَتَعَلَّقْ مَشِيئَتُهُ بِخُصُوصٍ أَرْسَلَ الْأَحْوَالَ فِي مَهْيَعِهَا وَخَلَّى بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا سَبَّبَهُ فِي أَحْوَالِ الْكَائِنَاتِ فَنَالَ كُلُّ أَحَدٍ نَصِيبًا عَلَى حَسَبِ فِطْنَتِهِ وَمَقْدِرَتِهِ وَاهْتِدَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي النُّفُوسِ مَرَاتِبَ التَّفْكِيرِ وَالتَّقْدِيرِ فَأَنْتُمْ إِذَا عَصَيْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَذَلْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ تَتَعَرَّضُونَ لِإِرَادَتِهِ بِكُمُ السُّوءَ فَلَا عَاصِمَ لَكُمْ مِنْ مُرَادِهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْحِيلَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْفَعُهُمْ وَأَنَّ الْفِرَارَ يَعْصِمُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ إِنْ كَانَ قِتَالٌ. وَجُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ إِلَخْ جَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً إِلَخ، أَو دَلِيلُ الْجَوَابِ عِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ. وَالْعِصْمَةُ: الْوِقَايَةُ وَالْمَنْعُ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمَعْصُومُ. وَقُوبِلَ السُّوءُ بِالرَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ سُوءٌ خَاصٌّ وَهُوَ السُّوءُ الْمَجْعُولُ عَذَابًا لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سُوءُ النِّقْمَةِ فَهُوَ سُوءٌ خَاصٌّ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ لِأَجْلِ تَعْذِيبِهِمْ إِنْ أَرَادَهُ، فَيَجْرِي عَلَى خِلَافِ الْقَوَانِينِ الْمُعْتَادَةِ. وَعَطْفُ أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً عَلَى أَرادَ بِكُمْ الْمَجْعُولِ شَرْطًا يَقْتَضِي كَلَامًا مُقَدَّرًا فِي الْجَوَابِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ إِرَادَتَهُ الرَّحْمَةَ تُنَاسِبُ فِعْلَ يَعْصِمُكُمْ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مَرْغُوبَةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: أَوْ يَحْرِمُكُمْ مِنْهُ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً، فَهُوَ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ إِيجَازًا لِلْكَلَامِ، كَقَوْلِ الرَّاعِي: إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا تَقْدِيرُهُ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ، لِأَنَّ الْعُيُونَ لَا تُزَجَّجُ وَلَكِنَّهَا تُكَحَّلُ حِينَ تُزَجَّجُ الْحَوَاجِبُ وَذَلِكَ مِنَ التَّزَيُّنِ.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 إلى 19]

وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ، أَوْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرَانِ مُتَقَارِبَانِ لِأَنَّ الْوَاوَ الِاعْتِرَاضِيَّةَ تَرْجِعُ إِلَى الْعَاطِفَةِ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَالْمَقْصُودُ لَازِمُ الْخَبَرِ وَهُوَ إِعْلَامُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبُطْلَانِ تَحَيُّلَاتِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَصِيرًا غَيْرَ اللَّهِ وَقَدْ حَرَمَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِدُوا ضَمَائِرَهُمْ عَلَى نَصْرِ دِينِهِ وَرَسُولِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ: الَّذِي يَتَوَلَّى نَفْعَهُمْ، وَبِالنَّصِيرِ: النَّصِيرُ فِي الْحَرْبِ فَهُوَ أَخَصُّ. [18- 19] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 18 الى 19] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ. اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 17] لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالًا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهُمْ يُخْفُونَ مَقَاصِدَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَشْعُرُ بِمُرَادِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ، فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أَي: فَالله ينبىء رَسُولَهُ بِكُمْ بِأَنَّ فِعْلَ أُولَئِكَ تَعْوِيقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جُعِلَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ تَخَلُّصًا لِذِكْرِ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْمُعَوِّقِينَ. وقَدْ مُفِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّهُمْ لِنِفَاقِهِمْ وَمَرَضِ قُلُوبِهِمْ يَشُكُّونَ فِي لَازِمِ هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ إِنْبَاءُ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمُ النَّاشِئِ عَنِ الْكُفْرِ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ خَفَايَا الْقُلُوبِ. وَذَلِكَ لَيْسَ بِعَجِيبٍ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ الْكُفْرِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيُّ كَثِيرَةُ شَحْمِ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةُ فِقْهِ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» [فصلت: 22]

فَلِلتَّوْكِيدِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ مَوْقِعٌ. وَدُخُولُ قَدْ عَلَّى الْمُضَارِعِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ التَّقْلِيلِ إِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا مِنْ دَلَالَةِ قَدْ، وَمِثْلُهُ إِفَادَةُ التَّكْثِيرِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [144] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النُّورِ [64] . وَالْمُعَوِّقُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ عَوَّقَ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ حُصُولِ الْعَوْقِ. يُقَالُ: عَاقَهُ عَنْ كَذَا، إِذَا مَنَعَهُ وَثَبَّطَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلشِّدَّةِ وَالتَّكْثِيرِ مِثْلَ: قَطَّعَ الْحَبْلَ، إِذَا قَطَعَهُ قِطَعًا كَبِيرَةً، وغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [يُوسُف: 23] ، أَيْ: أَحْكَمَتْ غَلْقَهَا. وَيَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ مِثْلَ: موّت المَال، إِذْ كَثُرَ الْمَوْتُ فِي الْإِبِلِ، وَطَوَّفَ فُلَانٌ، إِذَا أَكْثَرَ الطَّوَافَ، وَالْمَعْنَى: يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى تَثْبِيطِ النَّاسِ عَنِ الْقِتَالِ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ مِنْكُمْ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ [الْأَحْزَاب: 16] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا هُمُ الْمُعَوِّقِينَ أَنْفُسُهُمْ فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ صِفَاتِ الْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا طَائِفَةً أُخْرَى وَإِخْوَانُهُمْ هُمُ الْمُوَافِقُونَ لَهُمْ فِي النِّفَاقِ، فَالْمُرَادُ: الْأُخُوَّةُ فِي الرَّأْيِ وَالدِّينِ. وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، وَمُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ، وَمَنْ مَعَهُمَا من الَّذين انخذلوا عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أَيِ: ارْجِعُوا إِلَيْنَا. قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ: مَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا أَكَلَةُ رَأْسٍ- أَيْ نَفَرٌ قَلِيلٌ يَأْكُلُونَ رَأْسَ بَعِيرٍ- وَلَوْ كَانُوا لَحْمًا لَالْتَهَمَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَمِنْ مَعَهُ- تَمْثِيلًا بِأَنَّهُمْ سَهْلٌ تَغَلُّبُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ-. وهَلُمَّ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى أَقْبِلْ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَهِيَ الْفُصْحَى، فَلِذَلِكَ تَلْزَمُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ حَالَةً وَاحِدَةً عِنْدَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْهَا، يَقُولُونَ: هَلُمَّ، لِلْوَاحِدِ

وَالْمُتَعَدِّدِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَهِيَ فِعْلٌ عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ فَلِذَلِكَ يُلْحِقُونَهَا الْعَلَامَاتِ يَقُولُونَ: هَلُمَّ وَهَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا وَهَلْمُمْنَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَام [150] . وَالْمعْنَى: انخذلوا عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْبِلُوا إِلَيْنَا. وَجُمْلَةُ وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمُعَوِّقِينَ وَالْقَائِلِينَ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُعْطَفُ عَلَى الْمُشْتَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ [العاديات: 3، 4] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ [الْحَدِيد: 18] ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوَّقِينَ وَالْقَائِلِينَ وَغَيْرَ الْآتِينَ الْبَأْسَ، أَوْ وَالَّذِينَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ. وَلَيْسَ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْعِلْمِ إِلَى لَا يَأْتُونَ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ عَلَى تَأْوِيلٍ كَمَا أَنَّ عَمَلَ النَّاسِخِ فِي قَوْله وَأَقْرَضُوا [الْحَدِيد: 18] عَلَى تَأْوِيلِ، أَيْ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ: يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِجَمْعِ إِخْوَانِهِمْ مَعَهُمُ الِاعْتِضَادَ بِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَلَكِنْ عَزْلَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ. وَمَعْنَى إِلَّا قَلِيلًا إِلَّا زَمَانًا قَلِيلًا، وَهُوَ زَمَانُ حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرَابِطِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: 46] ، أَيْ: إِيمَانًا ظَاهِرًا، وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ [الرَّعْد: 33] . وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِتْيَانًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ تَظْهَرُ فِي قِلَّةِ زَمَانِهِ وَفِي قِلَّةِ غَنَائِهِ. والْبَأْسَ: الْحَرْبُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [80] . وَإِتْيَانُ الْحَرْبِ مُرَادٌ بِهِ إِتْيَانُ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مَوْضِعِهَا. وَالْمُرَادُ: الْبَأْسُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ: مَكْرًا بِالْمُسْلِمِينَ لَا جُبْنًا. وأَشِحَّةً جَمْعُ شَحِيحٍ بِوَزْنِ أَفْعِلَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ فَصِيحٌ وَقِيَاسُهُ أَشِحَّاءُ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ إِلَى كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ بِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ. وَتَقَدَّمَ الشُّحُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَ (أَشِحَّةً) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَأْتُونَ. وَالشُّحُّ: الْبُخْلُ بِمَا فِي الْوُسْعِ مِمَّا يَنْفَعُ الْغَيْرَ. وَأَصْلُهُ: عَدَمُ بَذْلِ الْمَالِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مَنْعِ الْمَقْدُورِ مِنَ النَّصْرِ أَوِ الْإِعَانَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَبْخُولِ بِهِ بِالْبَاءِ وب عَلَى قَالَ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الشَّخْصِ الْمَمْنُوعِ بِ عَلَى أَيْضًا لِمَا فِي الشُّحِّ مِنْ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فَتَعْدِيَتُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ مِنَ التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَمْنُوعِ. وَالْمَعْنَى: يَمْنَعُونَكُمْ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنَ الْمَالِ أَوِ الْمَعُونَةِ، أَيْ: إِذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ مَنَعُوا فَائِدَتَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَاعُوا وَمِنْ ذَلِكَ شُحُّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَكُلِّ مَا يُشَحُّ بِهِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ عَلَى هُنَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى الْمُضْنُونِ بِهِ، أَيْ كَمَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي قَوْمٍ عَلَيْكَ أَشِحَّةً ... بِنَفْسِكَ إِلَّا أَنَّ مَا طَاحَ طَائِحُ وَجَعَلَ الْمَعْنَى: أَشِحَّةً فِي الظَّاهِرِ، أَيْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَيْكُمُ الْهَلَاكَ فَيَصُدُّونَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَيُحَسِّنُونَ إِلَيْكُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الْقِتَالِ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» . وَفُرِّعَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالشُّحِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ إِلَى آخِرِهِ. وَالْمَجِيءُ: مَجَازٌ مَشْهُورٌ مِنْ حُدُوثِ الشَّيْءِ وَحُصُولِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الْإِسْرَاء: 7] . والْخَوْفُ: تَوَقُّعُ الْقِتَالِ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ. وَالْمَقْصُودُ: وَصْفُهُمْ بِالْجُبْنِ، أَيْ: إِذَا رَأَوْا جُيُوشَ الْعَدُوِّ مُقْبِلَةً رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا حَصَلَ فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ مِنَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْفُرْسَانِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ مِنْ أَضْيَقِ جِهَاتِهِ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخطاب فِي رَأَيْتَهُمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ حَالَةٍ وَقَعَتْ لَا فَرْضُ وُقُوعِهَا وَلِهَذَا أُتِيَ بِفِعْلِ رَأَيْتَهُمْ وَلَمْ يَقُل: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ يَنْظُرُونَ

إِلَيْكَ. وَنَظَرُهُمْ إِلَيْهِ نظر المتفرس فِيمَا ذَا يَصْنَعُ وَلِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ: أَلَسْنَا قَدْ قُلْنَا لَكُمْ إِنَّكُمْ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِقِتَالِ الْأَحْزَابِ فَارْجِعُوا، وَهُمْ يَرَوْنَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ حِينَ يُحَذِّرُونَهُ قِتَالَ الْأَحْزَابِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ نَظَرَهُمْ بِأَنَّهُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ: يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى تَكَرُّرِ هَذَا النَّظَرِ وَتَجَدُّدِهِ. وَجُمْلَةُ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَنْظُرُونَ لِتَصْوِيرِ هَيْئَةِ نَظَرِهِمْ نَظَرَ الْخَائِفِ الْمَذْعُورِ الَّذِي يُحْدِقُ بِعَيْنَيْهِ إِلَى جِهَاتٍ يَحْذَرُ أَنْ تَأْتِيَهُ الْمَصَائِبُ مِنْ إِحْدَاهَا. وَالدَّوْرُ وَالدَّوْرَانُ: حَرَكَةُ جِسْمٍ رَحَوِيَّةٌ- أَيْ كَحَرَكَةِ الرَّحَى- مُنْتَقِلٌ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ فَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَمَا تَصَّرَفَ مِنْهُ مُشْتَقَّاتٌ مِنِ اسْمِ الدَّارِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمَحْدُودُ الْمُحِيطُ بِسُكَّانِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ حَوْلَهُمْ. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الدَّارَةُ لِكُلِّ أَرْضٍ تُحِيطُ بِهَا جِبَالٌ. وَقَالُوا: دَارَتِ الرَّحَى حَوْلَ قُطْبِهَا. وَسَمَّوُا الصَّنَمَ: دُوَارًا- بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا- لِأَنَّهُ يَدُورُ بِهِ زَائِرُوهُ كَالطَّوَافِ. وَسُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ دُوَارًا أَيْضًا، وَسَمَّوْا مَا يُحِيطُ بِالْقَمَرِ دَارَةً. وَسُمِّيَتْ مُصِيبَةُ الْحَرْبِ دَائِرَةً لِأَنَّهُمْ تَخَيَّلُوهَا مُحِيطَةً بِالَّذِي نَزَلَتْ بِهِ لَا يَجِدُ مِنْهَا مَفَرًّا، قَالَ عَنْتَرَةُ: وَلَقَدْ خَشِيتُ بِأَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَدُرْ ... فِي الْحَرْبِ دَائِرَةٌ عَلَى ابْنَيْ ضَمْضَمِ فَمَعْنَى تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أَنَّهَا تَضْطَرِبُ فِي أَجْفَانِهَا كَحَرَكَةِ الْجِسْمِ الدَّائِرَةِ مِنْ سُرْعَةٍ تَنْقُلُهَا مُحَمْلِقَةٍ إِلَى الْجِهَاتِ الْمُحِيطَةِ. وَشَبَّهَ نَظَرَهَمْ بِنَظَرِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ النَّزْعِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ عَيْنَيْهِ تَضْطَرِبَانِ. وَذَهَابُ الْخَوْفِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الِانْقِضَاءِ، أَيْ: زَوَالِ أَسْبَابِهِ بِأَنْ يُتْرَكَ الْقِتَالُ أَوْ يَتَبَيَّنَ أَنْ لَا يَقَعَ قِتَالٌ. وَذَلِكَ عِنْدَ انْصِرَافِ الْأَحْزَابِ عَنْ مُحَاصَرَةِ الْمَدِينَةِ كَمَا سَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الْأَحْزَاب: 20] .

وَالسَّلْقُ: قُوَّةُ الصَّوْتِ وَالصِّيَاحِ. وَالْمَعْنَى: رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْمَلَامَةِ عَلَى التَّعَرُّضِ لِخَطَرِ الْعَدُوِّ الشَّدِيدِ وَعَدَمِ الِانْصِيَاعِ إِلَى إِشَارَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمُسَالَمَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَفُسِّرَ السَّلْقُ بِأَذَى اللِّسَانِ. قِيلَ: سَأَلَ نَافِع بن الأرزق عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ سَلَقُوكُمْ فَقَالَ: الطَّعْنُ بِاللِّسَانِ. فَقَالَ نَافِعٌ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْأَعْشَى: فِيهِمِ الْخِصْبُ وَالسَّمَاحَةُ وَالنَّجْ ... دَةُ فِيهِمْ وَالْخَاطِبُ الْمِسْلَاقُ وحِدادٍ: جَمْعُ حَدِيدٍ، وَحَدِيدٌ: كُلُّ شَيْءٍ نَافِذٌ فِعْلُ أَمْثَالِهِ قَالَ تَعَالَى فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] . وَانْتَصَبَ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي سَلَقُوكُمْ، أَيْ: خَاصَمُوكُمْ وَلَامُوكُمْ وَهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ أَشِحَّةً عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَنَّ خِصَامَهُمْ إِيَّاهُمْ لَيْسَ كَمَا يَبْدُو خَوْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ عَنْ بُغْضٍ وَحِقْدٍ فَإِنَّ بَعْضَ اللَّوْمِ وَالْخِصَامِ يَكُونُ الدَّافِعُ إِلَيْهِ حُبُّ الْمَلُومِ وَإِبْدَاءُ النَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْوَالُ الْحُكَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ هُنَا هُوَ الْمَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 180] . وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] ، أَيْ: هُمْ فِي حَالَةِ السِّلْمِ يُسْرِعُونَ إِلَى مَلَامِكُمْ وَلَا يُوَاسُونَكُمْ بِأَمْوَالِهِمْ لِلتَّجْهِيزِ لِلْعَدُوِّ إِنْ عَادَ إِلَيْكُمْ. وَدَخَلَتْ عَلَى هُنَا عَلَى الْمَبْخُولِ بِهِ. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ تَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ مِنَ الْحُكْمِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا كَشْفًا لِدَخَائِلِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوهِمُونَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَرُتِّبَ عَلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ. وَالْإِحْبَاطُ: جَعْلُ شَيْءٍ حَابِطًا، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ مِثْلَ الْإِذْهَابِ. وَالْحَبْطُ حَقِيقَتُهُ: أَنَّهُ فَسَادُ مَا يُرَادُ بِهِ الصَّلَاحُ وَالنَّفْعُ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى إِفْسَادِ مَا كَانَ نَافِعًا أَوْ عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ فَاسِدًا وَيُظَنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ يُقَالُ: حَبِطَ حَقُّ فُلَانٍ، إِذَا بَطَلَ. وَالْإِطْلَاقُ الْمَجَازِيُّ وَرَدَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابَيْ سَمِعَ وَضَرَبَ. وَمَصْدَرُهُ: الْحَبْطُ، وَاسْمُ الْمَصْدَرِ: الْحُبُوطُ. وَيُقَالُ: أَحْبَطَ فُلَانٌ الشَّيْءَ، إِذَا أَبْطَلَهُ، وَمِنْهُ إِحْبَاطُ دَمِ الْقَتِيلِ، أَيْ: إِبْطَالُ حَقِّ الْقَوَدِ بِهِ. فَإِحْبَاطُ الْأَعْمَالِ: إِبْطَالُ الِاعْتِدَادِ بِالْأَعْمَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا الْقُرْبَةُ وَالْمَظْنُونِ بِهَا أَنَّهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الدِّينِ. وَقَدْ صَارَ لَفْظُ الْحَبْطِ وَالْحُبُوطِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، فَأُطْلِقَ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، أَيِ: الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ السَّيِّئَاتِ عَلَى الْحَسَنَاتِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْأَعْمَالِ الْعَذَابَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ سَيِّئَاتِهِ عَلَى حَسَنَاتِهِ بِحَسَبِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ لِذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عُدَّتْ مَسْأَلَةُ الْحُبُوطِ مَعَ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ، أَوْ بِحَيْثُ يُنْظُرُ فِي انْتِفَاعِهِ بِمَا فَعَلَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ تُعَدُّ مَسْأَلَةُ الْحُبُوطِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الرِّدَّةُ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهَا فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ قَدْ حَجَّ مَثَلًا قَبْلَ رِدَّتِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ نَاطَتِ الْحُبُوطَ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَرَيَا أَنَّ هَذَا مِمَّا يُحْمَلُ فِيهِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ رَاجِعٌ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ وَلَا يَكْفِي فِيهَا الظَّنُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ رَجَعَتْ إِلَيْهِ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَغْلِيبًا لِلْجَانِبِ الْفُرُوعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْجَانِبِ الِاعْتِقَادِيِّ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 20]

وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ الْمُوَافَاةِ، أَيِ: اسْتِمْرَارُ الْمُرْتَدِّ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَى انْقِضَاءِ حَيَاتِهِ فَيُوَافِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُرْتَدًّا. فَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَرَيَا شَرْطَ الْمُوَافَاةِ وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ الْمُوَافَاةَ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَائِلُونَ بِمِثْلِ مَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَحَكَى الْفَخْرُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ اعْتِبَارَ الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ قُرُبَاتُهُمْ وَلَا جِهَادُهُمْ. وَجُمْلَةُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ تَحْقِيرُهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْرَجَهُمْ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ لَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ وَلَا عَدَّ ذَلِكَ ثُلْمَةً فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يُدْلُونَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَزُّونَ بِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] . [20] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 20] يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَمَّا ذُكِرَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِنْ فِتْنَتِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا هُمْ حِينَ مَجِيءِ جُنُودِ الْأَحْزَابِ وَحِينَ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ثُنِيَ عَنَانُ الْكَلَامِ الْآنَ إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِانْكِشَافِ جُنُودِ الْأَحْزَابِ عَنْهُمْ، فَأَفَادَ بِأَنَّ انْكِشَافَ الْأَحْزَابِ حَصَلَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَلِذَلِكَ كَانُوا يَشْتَدُّونَ فِي مَلَامِ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْلُقُونَهُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ عَلَى أَنْ تَعَرَّضُوا لِلْعَدُوِّ الْكَثِيرِ، وَكَانَ اللَّهُ سَاعَتَئِذٍ قَدْ هَزَمَ الْأَحْزَابَ فَانْصَرَفُوا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُمْ، وَلَيْسَ لِلْمُنَافِقِينَ وَسَاطَةٌ فِي ذَلِكَ. وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يَوَدُّونَ رُجُوعَ الْأَحْزَابِ دُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَدِينَةَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ

يَحْسَبُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [الْأَحْزَاب: 9] إِلَخْ ... جَاءَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا يُؤْذِنُ بِانْهِزَامِ الْأَحْزَابِ وَرُجُوعِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، أَيْ: وَقَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْمُنَافِقُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْلُقُونَ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِزَازًا بِالْأَحْزَابِ لِأَنَّ الْأَحْزَابَ حُلَفَاءُ لِقُرَيْظَةَ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ أَخِلَّاءَ لِلْيَهُودِ فَكَانَ سَلْقُهُمُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِ ذَهَابِ الْأَحْزَابِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمُوهُ لَخَفَّضُوا مِنْ شِدَّتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ يَحْسَبُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي سَلَقُوكُمْ [الْأَحْزَاب: 19] أَيْ: فَعَلُوا ذَلِكَ حَاسِبِينَ الْأَحْزَابَ مُحِيطِينَ بِالْمَدِينَةِ وَمُعْتَزِّينَ بِهِمْ فَظَهَرَتْ خَيْبَتُهُمْ فِيمَا قَدَّرُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ فَهُوَ وَصْفٌ لِجُبْنِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: لَوْ جَاءَ الْأَحْزَابُ كَرَّةً أُخْرَى لَأَخَذَ الْمُنَافِقُونَ حِيطَتَهُمْ فَخَرَجُوا إِلَى الْبَادِيَةِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ الْقَاطِنِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ غِفَارُ وَأَسْلَمُ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [التَّوْبَة: 120] الْآيَةَ. وَالْوُدُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ السَّعْيِ لِحُصُولِ الشَّيْءِ الْمَوْدُودِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْبُوبَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْصِيلِهِ إِلَّا مَانِعٌ قَاهِرٌ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْوُدِّ. وَالْبَادِي: سَاكِنُ الْبَادِيَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [25] . والْأَعْرابِ: هُمْ سُكَّانُ الْبَوَادِي بِالْأَصَالَةِ، أَيْ: يَوَدُّوا الِالْتِحَاقَ بِمَنَازِلِ الْأَعْرَابِ مَا لَمْ يَعْجِزُوا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ: فَلَوْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ فَكَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. ولَوْ حَرْفٌ يُفِيدُ التَّمَنِّيَ بَعْدَ فِعْلِ وُدٍّ وَنَحْوِهِ. أَنْشَدَ الْجَاحِظُ وَعَبْدُ الْقَاهِرِ: يَوَدُّونَ لَوْ خَاطُوا عَلَيْكَ جُلُودَهُمْ ... وَلَا تَمْنَعُ الْمَوْتَ النُّفُوسُ الشَّحَائِحُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [96] . وَالسُّؤَالُ عَنِ الْأَنْبَاءِ لِقَصْدِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَلِيَسُرَّهُمْ مَا عَسَى أَنْ يَلْحَقَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْهَزِيمَةِ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 21]

وَمَعْنَى وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أَنَّهُمْ إِذَا فُرِضَ أَنْ لَا يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبَادِيَةِ وَبَقُوا فِي الْمَدِينَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا قِتَالًا قَلِيلًا، أَيْ: ضَعِيفًا لَا يُؤْبَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعِلَّةٌ وَرِيَاءٌ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا. وَالْأَنْبَاءُ: جَمَعُ نَبَأٍ وَهُوَ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] . وَقَرَأَ الْجُمْهُور يَسْئَلُونَ- بِسُكُونِ السِّينِ فَهَمْزَةٌ- مُضَارِعُ سَأَلَ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ يَسَّاءَلُونَ- بِفَتْحِ السِّينِ مُشَدَّدَةً وَأَلِفٍ بَعْدَهَا الْهَمْزَةُ- مُضَارِعُ تَسَاءَلَ، وَأَصْلُهُ: يَتَسَاءَلُونَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّين. [21] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 21] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) بَعْدَ تَوْبِيخِ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَقْبَلَ الْكَلَامُ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُمُومِ جَمَاعَتِهِمْ ثَنَاءً عَلَى ثَبَاتِهِمْ وَتَأَسِّيهِمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ الِائْتِسَاءِ، فَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَلَكِنَّ اقْتِرَانَهُ بِحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ فِي لَقَدْ يومىء إِلَى تَعْرِيضٍ بِالتَّوْبِيخِ لِلَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْإِسْوَةِ الْحَسَنَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالضَّمِيرِ مُجْمَلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ، ثُمَّ فُصِّلَ بِالْبَدَلِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً، أَيْ: بِخِلَافٍ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ كَأُولَئِكَ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ تَوْكِيدٌ لِلَّامِ الَّتِي فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: 114] ، فَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ [التَّوْبَة: 87، 88] الْآيَةَ. وَالْإِسْوَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا اسْمٌ لِمَا يُؤْتَسَى بِهِ، أَيْ: يُقْتَدَى بِهِ وَيُعْمَلُ مِثْلُ عَمَلِهِ. وَحَقُّ الْأُسْوَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْتَسَى بِهِ هُوَ الْقُدْوَةُ وَلِذَلِكَ فَحَرْفُ فِي جَاءَ عَلَى

أُسْلُوبِ مَا يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ الْمُفِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ يُجَرَّدُ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِصِفَةِ مَوْصُوفٍ مِثْلِهِ لِيَكُونَ كَذَاتَيْنِ، كَقَوْلِ أَبِي خَالِدٍ الْخَارِجِي: وَفِي الرحمان لِلضُّعَفَاءِ كَاف أَي الرحمان كَافِ. فَالْأَصْلُ: رَسُولُ اللَّهِ إِسْوَةٌ، فَقِيلَ: فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ. وَجُعِلَ مُتَعَلِّقُ الِائْتِسَاءِ ذَاتَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِيَشْمَلَ الِائْتِسَاءَ بِهِ فِي أَقْوَالِهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَالِائْتِسَاءَ بِأَفْعَالِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُمَا لُغَتَانِ. ولِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكُمْ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَوْ شِبْهَ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ لَكُمْ يَشْتَمِلُونَ عَلَى مَنْ يَرْجُونَ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِضَمِيرِ لَكُمْ خُصُوصُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي إِعَادَةِ اللَّامِ فِي الْبَدَلِ تَكْثِيرٌ لِلْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ بِكَثْرَةِ الِاحْتِمَالَاتِ وَكُلٌّ يَأْخُذُ حَظَّهُ مِنْهَا. فَالَّذِينَ ائْتَسَوْا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثَبَتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ يَرْجُونَ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِفَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ صَدَّهُمْ عَنِ الِائْتِسَاءِ بِهِ مِمَّنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَوْ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِنَ الشَّكِّ فِي الدِّينِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ الْإِسْوَةُ الْحَسَنَةُ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَتَحْدِيدٌ لِمَرَاتِبِ الِائْتِسَاءِ وَالْوَاجِبِ مِنْهُ وَالْمُسْتَحَبِّ وَتَفْصِيلُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَاصْطِلَاحُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى جَعْلِ التَّأَسِّي لَقَبًا لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي لَمْ يُطَالِبْ بِهَا الْأُمَّةَ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيعِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حَسَّانَ الْهَجَرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَ: فِي جُوعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 22]

[22] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 22] وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) لَمَّا ذُكِرَتْ أَقْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُؤْذِنَةُ بِمَا يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ وَقِلَّةِ الْإِيمَانِ وَالشَّكِّ فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْأَحْزَاب: 12] قُوبِلَتْ أَقْوَالُ أُولَئِكَ بِأَقْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَمَا نَزَلَتْ بِهِمُ الْأَحْزَابُ وَرَأَوْا كَثْرَتَهُمْ وَعَدَدَهَمْ وَكَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ تَفَوُّقِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ أَضْعَافًا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدِ ابْتُلُوا وَزُلْزِلُوا، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُخِرْ عَزَائِمَهُمْ وَلَا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَكًّا فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ. وَكَانَ الله وعدهم بالنصر غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الْبَقَرَة: 214] . فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْأَحْزَابَ وَابْتُلُوا وَزُلْزِلُوا وَرَأَوْا مِثْلَ الْحَالَةِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ بِعَامٍ، كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ الْأَحْزَابَ سَائِرُونَ إِلَيْكُمْ بَعْدَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ وَزُلْزِلُوا رَاجَعَهُمُ الثَّبَاتُ النَّاشِئُ عَنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَقَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَيْ: مِنَ النَّظَرِ وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِمَسِيرِ الْأَحْزَابِ وَصَدَّقُوا وَعْدَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ وَإِخْبَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِ الْأَحْزَاب، فالإشارة ب هَذَا إِلَى مَا شَاهَدُوهُ مِنْ جُيُوشِ الْأَحْزَابِ وَإِلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الشِّدَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ وَعْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أُخْبِرُوا عَنْ صِدْقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ وَصَدَّقُوا اللَّهَ فِيمَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الْأَحْزَاب: 12] فَالْوَعْدُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرَيْنِ وَالصِّدْقُ كَذَلِكَ. وَالْوَعْدُ: إِخْبَارُ مُخْبِرٍ بِأَنَّهُ سَيَعْمَلُ عَمَلًا لِلْمُخْبَرِ- بِالْفَتْحِ-. فَفِعْلُ صَدَقَ فِيمَا حُكِيَ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ

مُسْتَعْمَلٌ فِي الْخَبَرِ عَنْ صِدْقٍ مَضَى وَعَنْ صِدْقٍ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُحَقَّقٍ وُقُوعُهُ بِحَيْثُ يُجْعَلُ اسْتِقْبَالُهُ كَالْمُضِيِّ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ. أَوْ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَحْمَلَ الْفِعْلِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْسَبُ بِمَقَامِ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْلَقُ بِإِنَاطَةِ قَوْلهم بِفعل رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَلَمَّا جَاءَتِ الْأَحْزَابُ. فَإِنْ أَبَيْتَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَاقْصُرْهُ عَلَى الْمَجَازِ وَاطْرَحِ احْتِمَالَ الْإِخْبَارِ عَنَ الصِّدْقِ الْمَاضِي. وَضَمِيرُ زادَهُمْ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَيْ: وَمَا زَادَهُمْ مَا رَأَوْا إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، أَيْ: بِعَكْسِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ إِذْ زَادَهُمْ شَكًّا فِي تَحَقُّقِ الْوَعْدِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا زَادَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا إِيمَانًا، أَيْ: مَا زَادَ فِي خَوَاطِرِ نُفُوسِهِمْ إِلَّا إِيمَانًا، أَيْ: لَمْ يَزِدْهُمْ خَوْفًا عَلَى الْخَوْفِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْصُلَ لِكُلِّ مُتَرَقِّبٍ أَنْ يُنَازِلَهُ الْعَدُوُّ الشَّدِيدُ، بَلْ شَغَلَهُمْ عَنِ الْخَوْفِ وَالْهَلَعِ شَاغِلُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَفِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ النَّصْرِ فَأَعْرَضَتْ نُفُوسُهُمْ عَنْ خَوَاطِرِ الْخَوْفِ إِلَى الِاسْتِبْشَارِ بِالنَّصْرِ الْمُتَرَقَّبِ. وَالتَّسْلِيمُ: الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ لِلْمُنْقَادِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [65] . وَمِنَ التَّسْلِيمِ هُنَا تَسْلِيمُ أَنْفُسِهِمْ لِمُلَاقَاةِ عَدُوٍّ شَدِيدٍ دُونَ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الْإِلْقَاءَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ وَأَنْ يُصَالِحُوهُ بِأَمْوَالِهِمْ. فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعْدَيْنِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَنْ يُعْطِيَ ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ تِلْكَ السَّنَةِ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا عَنِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْوَ أَمْرٌ تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْءٌ أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَن قَوس وَاحِد وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إِلَى أَمَرٍ مَا. فَقَالَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 23]

سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً وَاحِدَةً إِلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا إِلَيْهِ وَأَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا؟ مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنْتَ وَذَاكَ. فَهَذَا مَوْقِفُ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الشِّدَّةِ وَهَذَا تَسْلِيمُ أَنْفُسِهِمْ لِلْقِتَالِ. وَمِنَ التَّسْلِيمِ الرِّضَى بِمَا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الثَّبَاتِ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النِّسَاء: 65] . وَإِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ لقَوْله وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ إِلَى آخِرِهِ ... فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي زَادَهُمْ ذَلِكَ هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى إِيمَانِهِمْ، أَيْ: إِيمَانٌ مَعَ إِيمَانِهِمْ. وَالْإِيمَانُ الَّذِي زَادَهُمُوهُ أُرِيدَ بِهِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ إِيمَانِهِمُ الْقَوِيِّ، فَجَعَلَ تَكَرُّرَ مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ كَالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّ تَكَرُّرَ الْأَعْمَالِ يُقَوِّي الْبَاعِثَ عَلَيْهَا فِي النَّفْسِ يباعد بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ الشَّكِّ وَالِارْتِدَادِ فَكَأَنَّهُ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ الْبَاعِثِ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: 4] وَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [124] ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي ضِدِّ الزِّيَادَةِ وَهُوَ النَّقْصُ، وَإِلَّا فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالشَّيْءِ إِذَا حَصَلَتْ بِمُقَوِّمَاتِهَا فَهِيَ وَاقِعَةٌ، فَزِيَادَتُهَا تَحْصِيلُ حَاصِل ونقصها نقض لَهَا وَانْتِفَاءٌ لِأَصْلِهَا. وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إِضَافَةِ الزِّيَادَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ مَا يُضَافُ إِلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مِنَ الزِّيَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التَّوْبَة: 97] وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التَّوْبَة: 125] . وَإِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ يرجع خلاف الْأَئِمَّة فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ الزِّيَادَة وَالنَّقْص فيؤول إِلَى خلاف لَفْظِي. [23] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 23] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) أَعْقَبَ الثَّنَاءَ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ عَلَى ثَبَاتِهِمْ وَيَقِينِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلِقَاءِ

الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ يَوْمَئِذٍ وَعَزْمِهِمْ عَلَى بَذْلِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُمْ لِقَاؤُهُ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الْأَحْزَاب: 25] بِالثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَانُوا وَفَّوْا بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَفَاءً بِالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ، لِيَحْصُلَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ يَوْمَئِذٍ لِيَعْلَمَ أَنَّ صِدْقَ أُولَئِكَ يُؤْذِنُ بِصِدْقِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدٌ وَاحِدَةٌ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِرِجَالٍ زِيَادَةٌ فِي الثَّنَاءِ لِأَنَّ الرِّجْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّجْلِ وَهِيَ قُوَّةُ اعْتِمَادِ الْإِنْسَانِ كَمَا اشتق الْأَبَد مِنَ الْيَدِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مَعَ بَقِيَّةِ آيِ السُّورَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَهِيَ تَذْكِيرٌ بِمَا حَصَلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ فَمَوْضِعُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا هُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَأَيًّا مَا كَانَ وَقْتُ نُزُولِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثَبَتُوا فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَحَمْزَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ. فَأَمَّا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَحَمْزَةُ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقَدِ اسْتَشْهَدُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يُدَافِعُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَقَدْ قَاتَلُوا وَنَجَوْا. وَسِيَاقُ الْآيَةِ وَمَوْقِعُهَا يَقْتَضِيَانِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ مَقْتُولٌ عَلَى طَرِيقِهِ فَوَقَفَ وَدَعَا لَهُ ثُمَّ تَلَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ الْآيَةَ. وَمَعْنَى صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ حَقَّقُوا مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ الْعَهْدَ وَعْدٌ وَهُوَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذَا فَعَلَهُ فَقَدْ صَدَقَ. وَفِعْلُ الصِّدْقِ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى الْمُخْبَرِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- يُقَالُ: صَدَقَهُ الْخَبَرُ، أَيْ قَالَ لَهُ الصِّدْقَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ تَعْدِيَتَهُ هُنَا إِلَى مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: صَدَقُوا فِيمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ، أَيْ: فِي سِنِّ بَكْرِهِ. وَالنَّحْبُ: النَّذْرُ وَمَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ مَنْ عَهْدٍ وَنَحْوِهِ، أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ وَفَّى

[سورة الأحزاب (33) : آية 24]

بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ كَقَوْلِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ حِينَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ غِبْتُ عَنْهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَعْدُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَشَهِدَ أُحُدًا وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَمِثْلُ الَّذِينَ شَهِدُوا أَيَّامَ الْخَنْدَقِ فَإِنَّهُمْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَضى نَحْبَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الْمَوْتِ فِي الْجِهَادِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ الْمَوْتِ بِالنَّذْرِ فِي لُزُومِ الْوُقُوعِ، وَرُبَّمَا ارْتَقَى بِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِ النَّحْبِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: «إِنَّهُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» ، وَهُوَ لَمْ يَمُتْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا فَهُوَ فِي مَعْنَى صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَاهَدُوا اللَّهَ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ثُمَّ وَلَّوْا يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَرَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ. وَانْتَصَبَ تَبْدِيلًا عَلَى أَنَّهُ مفعول مُطلق موكّد لِ بَدَّلُوا الْمَنْفِيِّ. وَلَعَلَّ هَذَا التَّوْكِيدَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْرِيضِ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بَدَّلُوا عَهْدَ الْإِيمَانِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْغَلَبَةَ تكون للْمُشْرِكين. [24] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 24] لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) لَامُ التَّعْلِيلِ يَتَنَازَعُهُ مِنَ التَّعَلُّقِ كُلٌّ مِنْ صَدَقُوا وَمَا بَدَّلُوا [الْأَحْزَاب: 23] أَيْ: صَدَقَ الْمُؤْمِنُونَ عَهْدَهُمْ وَبَدَّلَهُ الْمُنَافِقُونَ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ. وَلَامُ التَّعْلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ وَيُعَذِّبَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى فَاءِ الْعَاقِبَةِ تَشْبِيهًا لِعَاقِبَةِ فِعْلِهِمْ بِالْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالْخَيْسِ بِالْعَهْدِ تَشْبِيهًا يُفِيدُ عِنَايَتَهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ مِنَ التَّبْدِيلِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ سَاعُونَ إِلَى طَلَبِ مَا حَقَّ عَلَيْهِمْ مِنَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 25]

الْعَذَابِ عَلَى فِعْلِهِمْ، أَوْ تَشْبِيهًا إِيَّاهُمْ فِي عِنَادِهِمْ وَكَيْدِهِمْ بِالْعَالَمِ بِالْجَزَاءِ السَّاعِي إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُ. وَالْجَزَاءُ: الثَّوَابُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ جَزَى أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ سَبَبِ الْجَزَاءِ وَهُوَ بِصِدْقِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَزَاءُ إِحْسَانٍ، وَقَدْ جَاءَ الْجَزَاءُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [93] . وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَظَمَةِ الْجَزَاءِ. وَتَعْلِيقُ التَّعْذِيبِ عَلَى الْمَشِيئَةِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ رَجَاءَهُمْ فِي السَّعْيِ إِلَى مَغْفِرَةِ مَا أَتَوْهُ بِأَنْ يَتُوبُوا فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَابَلَ تَعْذِيبَهُ إِيَّاهُمْ بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بَاقٍ عِنْدَ عَدَمِ تَوْبَتِهِمْ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاء: 48] . وَالتَّوْبَةُ هُنَا هِيَ التَّوْبَةُ مِنَ النِّفَاقِ، أَيْ: هِيَ إِخْلَاصُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَابَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، مِنْهُمْ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيٌرٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَعْلِيلٌ لِلْجَزَاءِ وَالتَّعْذِيبِ كِلَيْهِمَا عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ غَفُورٌ لِلْمُذْنِبِ إِذَا أَنَابَ إِلَيْهِ، رَحِيمٌ بِالْمُحْسِنِ أَنْ يُجَازِيَهُ عَلَى قَدْرِ نَصَبِهِ. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ كانَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا فِي أَوَّلِ سُورَة يُونُس [2] . [25] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 25] وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [الْأَحْزَاب: 9] وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْآيَاتِ بَعْدَهَا، أَي أرسل الله عَلَيْهِمْ رِيحًا وَرَدَّهُمْ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الْأَحْزَاب: 20] ، أَيْ: يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ الْأَحْزَابَ فَذَهَبُوا.

وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ فَإِنَّ رَدَّهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نِعْمَةِ إِرْسَالِ الرِّيحِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ أَعْمَلُ فِي اطْمِئْنَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَبَّرَ عَنِ الْأَحْزَابِ بِالَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ سَبَبُ خَيْبَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِغَيْظِهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: رَدَّهُمْ مَغِيظِينَ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا الرَّدِّ الْعَجِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الْأَحْزَاب: 24] . وَالْغَيْظُ: الْحَنْقُ وَالْغَضَبُ، وَكَانَ غَضَبُهُمْ عَظِيمًا يُنَاسِبُ حَالَ خَيْبَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَجَشَّمُوا كُلْفَةَ التَّجَمُّعِ وَالْإِنْفَاقِ وَطُولِ الْمُكْثِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بِلَا طَائِلٍ وَخَابَتْ آمَالُهُمْ فِي فَتْحِ الْمَدِينَةِ وَأَكْلِ ثِمَارِهَا وَإِفْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهَا مُنَازَلَةُ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، ثُمَّ غَاظَهُمْ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ النَّكْبَةِ بِالرِّيحِ وَالِانْهِزَامِ الَّذِي لَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَهُ. وَجُمْلَةُ لَمْ يَنالُوا خَيْراً حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ لَمْ يَنالُوا خَيْراً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ مُوجِبِ غَيْظِهِمْ. وكَفَى بِمَعْنَى أَغْنَى، أَيْ: أَرَاحَهُمْ مِنْ كُلْفَةِ الْقِتَالِ بِأَنْ صَرَفَ الْأَحْزَابَ. وكَفَى بِهَذَا الْمَعْنَى تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُقَالُ: كَفَيْتُكَ مُهِمَّكَ وَلَيْسَتْ هِيَ الَّتِي تُزَادُ الْبَاءُ فِي مَفْعُولِهَا فَتِلْكَ بِمَعْنَى: حَسْبُ. وَفِي قَوْلِهِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ كُلْفَةَ الْقِتَالِ، أَوْ أَرْزَاءَ الْقِتَالِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ بِحَاجَةٍ إِلَى تَوْفِيرِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ بَعْدَ مُصِيبَةِ يَوْمِ أُحُدٍ وَلَوِ الْتَقَوْا مَعَ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ لَكَانَتْ أَرْزَاؤُهُمْ كَثِيرَةً وَلَوِ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَالْقَوْلُ فِي إِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ كَالْقَوْلِ فِي وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 إلى 27]

وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهَا. وَالْقُوَّةُ: الْقُدْرَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً فِي سُورَةِ [هُودٍ: 80] . وَالْعِزَّةُ: الْعَظَمَةُ وَالْمَنَعَةُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 206] . وَذُكِرَ فِعْلُ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعِزَّةَ وَالْقُوَّةَ وَصْفَانِ ثَابِتَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ تَعَلُّقَاتِ قُوَّتِهِ وَعِزَّتِهِ أَنْ صَرَفَ ذَلِكَ الْجَيْشَ الْعَظِيمَ خَائِبِينَ مُفْتَضِحِينَ وَأَلْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحْلَافِهِ مِنْ قُرَيْظَةَ الشَّكَّ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ والقرّ، وَهدى نعيما بْنَ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيَّ إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ قَوْمُهُ فَاسْتَطَاعَ النُّصْحَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْكَيْدِ لِلْمُشْرِكِينَ. ذَلِكَ كُلُّهُ معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [26- 27] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 26 إِلَى 27] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) كَانَ يَهُودُ قُرَيْظَةَ قَدْ أَعَانُوا الْأَحْزَابَ وَحَاصَرُوا الْمَدِينَةَ مَعَهُمْ وَكَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ مُنْضَمًّا إِلَيْهِمْ وَهُوَ الَّذِي حَرَّضَ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى غَزْوِ الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا صَرَفَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْزُوَ قُرَيْظَةَ وَهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْيَهُودِ يُعْرَفُونَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ وَحُصُونُهُمْ بِالْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْمَدِينَةِ تُعَرَفُ قَرْيَتُهُمْ بِاسْمِهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْخَنْدَقِ ظُهْرًا وَكَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَسْتَقِرَّ فَلَمَّا جَاءَهُ الْوَحْيُ بِأَنْ يَغْزُوَ قُرَيْظَةَ نَادَى فِي النَّاسِ أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. وَخَرَجَ الْجَيْشُ الَّذِي كَانَ بِالْخَنْدَقِ مَعَهُ فَنَزَلُوا عَلَى قَرْيَةِ قُرَيْظَةَ وَاسْتَعْصَمَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ بِحُصُونِهِمْ فَحَاصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ وَخَامَرَهُمُ الرُّعْبُ مِنْ أَنْ يَفْتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَهُمْ فَيَسْتَأْصِلُوهُمْ طَمِعُوا أَنْ يَطْلُبُوا أَنْ يُسَلِّمُوا بِلَادَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ حَكَمٌ فِي

صِفَةِ ذَلِكَ التَّسْلِيمِ. وَيُقَالُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ: النُّزُولُ عَلَى حُكم حَكم، فَأَرْسَلُوا شَاسَ بْنَ قَيْسٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُونَ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى مِثْلِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْجَلَاءِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبُولَ ذَلِكَ وَبَعْدَ مُدَاوَلَاتٍ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَأَنْ تَكُونَ دِيَارُهُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَكَمَ بِهِ سَعْدٌ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي السِّيرَةِ. وَمَعْنَى ظاهَرُوهُمْ نَاصَرُوهُمْ وَأَعَانُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [4] . وَالْإِنْزَالُ: الْإِهْبَاطُ، أَيْ: مِنَ الْحُصُونِ أَوْ مِنَ الْمُعْتَصَمَاتِ كَالْجِبَالِ. وَالصَّيَاصِي: الْحُصُونُ، وَأَصْلُهَا أَنَّهَا جَمْعُ صِيصَيَةٍ وَهِيَ الْقَرْنُ لِلثَّوْرِ وَنَحْوِهِ. قَالَ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ: فَأَصْبَحَتِ الثِّيرَانُ غَرْقَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَلْتَقِطْنَ الصَّيَاصِيَا أَيِ: الْقُرُونَ لِبَيْعِهَا. كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقُرُونَ فِي مَنَاسِجِ الصُّوفِ وَيَتَّخِذُونَ أَيْضًا مِنْهَا أَوْعِيَةً لِلْكُحْلِ وَنَحْوِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْقَرْنُ يُدَافِعُ بِهِ الثَّوْرُ عَنْ نَفْسِهِ سُمِّيَ الْمَعْقِلُ الَّذِي يَعْتَصِمُ بِهِ الْجَيْشُ صِيصَيَةً وَالْحُصُونُ صَيَاصِيَ. وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ السَّرِيعُ، أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ بِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ فَاسْتَسْلَمُوا وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْفَرِيقُ الَّذِينَ قُتِلُوا هُمُ الرِّجَالُ وَكَانُوا زُهَاءَ سَبْعِمِائَةٍ وَالْفَرِيقُ الَّذِينَ أُسِرُوا هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. وَالْخِطَابُ مِنْ قَوْلِهِ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ إِلَى آخِرِهِ ... لِلْمُؤْمِنِينَ تَكْمِلَةً لِلنِّعْمَةِ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [الْأَحْزَاب: 9] الْآيَةَ، أَيْ: فَأَهْلَكَنَا الْجُنُودَ وَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِغَيْظِهِنَّ وَسَلَّطَكُمْ عَلَى أَحْلَافِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ.

وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي فَرِيقاً تَقْتُلُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ هُمْ رِجَالُ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ بِقَتْلِهِمْ يَتِمُّ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَى، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَدَّمْ مَفْعُولُ تَأْسِرُونَ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى تَقْدِيمِهِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ. وَقَوْلُهُ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أَيْ: تَنْزِلُوا بِهَا غُزَاةً وَهِيَ أَرْضٌ أُخْرَى غَيْرَ أَرْضِ قُرَيْظَةَ وُصِفَتْ بجملة لَمْ تَطَؤُها أَيْ: لَمْ تَمْشُوا فِيهَا. فَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَهُمْ بِأَرْضٍ أُخْرَى يَرِثُونَهَا مِنْ بَعْدُ. قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ رُومَانَ: هِيَ خَيْبَرُ، وَقِيلَ: أَرْضُ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَعَلَى هَذِهِ التَّفَاسِيرِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ أَوْرَثَكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَأَمَّا فِي حَقِيقَتِهِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَهُوَ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي مَجَازِهِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعْدِيَتِهِ إِلَى أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، أَيْ: أَنْ يُورِثَكُمْ أَرْضًا أُخْرَى لم تطؤوها، مِنْ بَابِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] أَو يؤوّل فِعْلُ أَوْرَثَكُمْ بِمَعْنَى: قَدَّرَ أَنْ يُورِثَكُمْ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا أَرْضُ خَيْبَرَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فَتَحُوهَا بَعْدَ غَزْوَةِ قُرَيْظَةَ بِعَامٍ وَشَهْرٍ. وَلَعَلَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ أَوْرَثَكُمْ هُمُ الَّذِينَ فَتَحُوا خَيْبَرَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَوْ فُقِدَ مِنْهُ الْقَلِيلُ وَلِأَنَّ خَيْبَرَ مِنْ أَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ مِمَّنْ ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ قَصْدُهَا مِنْ قَوْلِهِ وَأَرْضاً مُنَاسِبًا تَمَامَ الْمُنَاسَبَةِ. وَفِي التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً إِيمَاءً إِلَى الْبِشَارَةِ بِفَتْحٍ عَظِيمٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ. وَعِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ الَّتِي لم يطؤوها أَرْضُ بَنِي النَّضِيرِ وَأَنَّ معنى لَمْ تَطَؤُها لَمْ تَفْتَحُوهَا عَنْوَةً، فَإِنَّ الْوَطْءَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى الْأَخْذِ الشَّدِيدِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ وَعلة الذهلي: ووطأتنا وَطْئًا عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتِ الْهَرْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ [الْفَتْح: 25] ، فَإِنَّ أَرْضَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافٍ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 29]

[28- 29] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 28 الى 29] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يُسْتَخْلَصُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرْضُ قُرَيْظَةَ وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ وَكَانَتْ أَرْضُ النَّضِيرِ قُبَيْلَ ذَلِكَ فَيْئًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسِبَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ مِثْلَهُ مِثْلُ أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ إِذَا وُسِّعَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ تَوَسَّعُوا فِيهِ هُمْ وَعِيَالُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْأَلْنَهُ تَوْسِعَةً قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ النَّضِيرِ وَقَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخُمْسُ مِنَ الْغَنَائِمِ، فَلَمَّا رَأَيْنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِنَفْسِهِ وَلِأَزْوَاجِهِ أَقْوَاتَهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَأَيْنَ وَفْرَةَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ حَسِبْنَ أَنَّهُ يُوَسِّعُ فِي الْإِنْفَاقِ فَصَارَ بَعْضُهُنَّ يَسْتَكْثِرْنَهُ مِنَ النَّفَقَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ ابْنَتِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: «لَا تَسْتَكْثِرِي النَّبِيءَ وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ» . وَلَكِنَّ اللَّهَ أَقَامَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَامًا عَظِيمًا فَلَا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا إِلَّا بِمَا يَقْتَضِيهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَقَدْ كَانَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا» وَقَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» . وَقَدْ بَيَّنْتُ وَجْهَ اسْتِثْنَاءِ هَذَيْنِ فِي رِسَالَةٍ كَتَبْتُهَا فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ رِيَاضَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسَهُ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ. وَقَالَ عُمَرُ: «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ خَالِصَةً يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ» . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَرْضَ قُرَيْظَةَ قُسِّمَتْ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَلَعَلَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا اتَّسَعَتْ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَمَّلَ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُنَّ كَالْمُهَاجِرِينَ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَعَلِّمَهُنَّ سِيرَةَ الصَّالِحَاتِ فِي الْعَيْشِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ سَأَلْنَهُ أَشْيَاءَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا فَأَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَتَابِعَاتِ. وَهَذَا مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ

وَقْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ ذِكْرِ وَقْعَةِ قُرَيْظَةَ وَذِكْرِ الْأَرْضِ الَّتِي لم يطؤوها وَهِيَ أَرْضُ بَنِي النَّضِيرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ شَأْنُ هَذِهِ السِّيرَةِ أَنْ يَشُقَّ عَلَى غَالِبِ النَّاسِ وَخَاصَّةً النِّسَاءَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن ينبىء أَزْوَاجَهُ بِهَا وَيُخَيِّرَهُنَّ عَنِ السَّيْرِ عَلَيْهَا تَبَعًا لِحَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ. لِذَا فَافْتِتَاحُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِنِدَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ النِّدَاءِ لَهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهِ وَهُوَ غَرَضُ تَحْدِيدِ سِيرَةِ أَزْوَاجِهِ مَعَهُ سِيرَةً تُنَاسِبُ مَرْتَبَةَ النُّبُوءَةِ، وَتَحْدِيدِ تَزَوُّجِهِ وَهُوَ الْغَرَضُ الثَّانِي مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ [الْأَحْزَاب: 1] . وَالْأَزْوَاجُ الْمَعْنِيَّاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُنَّ أَزْوَاجُهُ التِّسْعُ اللَّاتِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِنَّ. وَهُنَّ: عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الْعَامِرِيَّةُ الْقُرَشِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسْدِيَةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ النَّضِيرِيَّةُ. وَأَمَّا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ الْمُلَقَّبَةُ أُمَّ الْمَسَاكِينِ فَكَانَتْ مُتَوَفَّاةً وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها: إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنَ التَّرَفِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّاعَاتِ وَالزُّهْدِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُقَدَّرُ صَالِحًا لِلْعُمُومِ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى إِرَادَةِ شَأْنٍ خَاص من شؤون الدُّنْيَا. وَهَذِهِ نُكْتَةُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ تُرِدْنَ إِلَى اسْمِ ذَاتِ الْحَياةَ دُونَ حَال من شؤونها. وَعَطْفُ زِينَتَها عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، وَفِي عَطْفِهِ زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى أَنَّ الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ عَامٌّ، وَأَيْضًا فَفِعْلُ تُرِدْنَ يُؤْذِنُ بِاخْتِيَارِ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمَعْنَى: إِنَّ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الانغماس فِي شؤون الدُّنْيَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَمَا سَيَأْتِي.

وَ (تَعالَيْنَ) : اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى: أَقْبِلْنَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ تَمْثِيلًا لِحَالِ تَهَيُّؤِ الْأَزْوَاجِ لِأَخْذِ التَّمْتِيعِ وَسَمَاعِ التَّسْرِيحِ بِحَالِ مَنْ يَحْضُرُ إِلَى مَكَانِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَلَى (تَعَالَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [61] . وَالتَّمْتِيعُ: أَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ حِينَ يُطَلِّقُهَا عَطِيَّةً جَبْرًا لِخَاطِرِهَا لِمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الِانْكِسَارِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [236] . وَجُزِمَ أُمَتِّعْكُنَّ فِي جَوَاب فَتَعالَيْنَ وَهُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ وَلَيْسَ أَمْرًا صَرِيحًا فَجَزْمُ جَوَابِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَجِيءَ بِهِ مَجْزُومًا لِيَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ فَيُفِيدَ حُصُولَ التَّمْتِيعِ بِمُجَرَّدِ إِرَادَةِ إِحْدَاهُنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالسَّرَاحُ: الطَّلَاقُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِيَغِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَة: 231] . وَالْجَمِيلُ: الْحَسَنُ حُسْنًا بِمَعْنَى الْقَبُولِ عِنْدَ النَّفْسِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ دُونَ غَضَبٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُرَاعًى فِيهِ اجْتِنَابُ تَكْلِيفِ الزَّوْجَةِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنَّمَا هَذَا تَخْيِيرُ الْمَرْأَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَكُونُ اخْتِيَارُهَا أَحَدَهُمَا دَاعِيًا زَوْجَهَا لِأَنْ يُطَلِّقَهَا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ اللَّهَ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ: تُؤْثِرْنَ رِضَى اللَّهِ لِمَا يُرِيدُهُ لِرَسُولِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَإِرْضَاءُ اللَّهِ: فِعْلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تُرِدْنَ إِلَى اسْمِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَقْدِيرٍ تَقْتَضِيهِ صِحَّةُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِاسْمِ ذَاتٍ لِأَنَّ الذَّاتَ لَا تُرَادُ حَقِيقَةً فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ وَلَزِمَ أَنْ يُقَدَّرَ عَامًّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِرَادَةُ رِضَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرٍ، أَيْ: كُلَّ مَا يُرْضِي الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَبْقَيْنَ فِي عِشْرَتِهِ طَيِّبَاتِ الْأَنْفُسِ.

وَإِرَادَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ: إِرَادَةُ فَوْزِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَيْضًا، فَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ وَهُوَ أُسْلُوبٌ يَقْتَضِي تَقْدِيرًا فِي الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَفِي حَذْفِ الْمُضَافَاتِ وَتَعْلِيقِ الْإِرَادَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ مَقْصِدُ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَة مُتَعَلقَة بشؤون الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَاتِهِ مَعَ قَضَاءِ حَقِّ الْإِيجَازِ بَعْدَ قَضَاءِ حَقِّ الْإِعْجَازِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيُحِبُّهُ رَسُولُهُ وَخَيْرَ الدَّارِ الْآخِرَةِ فَتَخْتَرْنَ ذَلِكَ عَلَى مَا يُشْغِلُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ إِرَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِرَادَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ تَقْتَضِي إِرَادَتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَ إِحْدَاهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى، فَإِنَّ التَّعَلُّقَ بِالدُّنْيَا يَسْتَدْعِي الِاشْتِغَالَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَة من شؤون الدُّنْيَا لَا مَحِيصَ مِنْ أَنْ تُلْهِيَ صَاحِبَهَا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ عَظِيمَة من شؤون مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا يُرْضِي رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنِ التَّمَلِّي مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا يُكْسِبُ الْفَوْزَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تَرْتَقِيَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَكِيَّةِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَغِي أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ النَّاس إِلَيْهِ وأعلقهم بِهِ سَائِرًا عَلَى طَرِيقَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لَهُ. وَبِمِقْدَارِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ يَكْثُرُ الْفَوْزُ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالنَّاسُ مُتَسَابِقُونَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ وَأَوْلَاهُمْ بِقَصَبِ السَّبْقِ فِيهِ أَشَدُّهُمْ تَعَلُّقًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِمَمُ أَفَاضِلِ السَّلَفِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَزْوَاجُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ وَقَدْ ذَكَّرَهُنَّ اللَّهُ تَذْكِيرًا بَدِيعًا بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَاب: 34] كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا كَانَتْ إِرَادَتُهُنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ مُقْتَضِيَةً عَمَلَهُنَّ الصَّالِحَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُتَفَاوِتًا، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً لِيَعْلَمْنَ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ حَاصِلٌ لَهُنَّ عَلَى قَدْرِ إِحْسَانِهِنَّ فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُحْسِنَاتِ وَلَيْسَ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ. وَفِي ذِكْرِ الْإِعْدَادِ إِفَادَةُ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْأَجْرِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ. وَتَوْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي لَيْسَ هُوَ لِإِزَالَةِ التَّرَدُّدِ إِظْهَارٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا

[سورة الأحزاب (33) : آية 30]

الْأَجْرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتَدَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَقَالَ لِسَائِرِ أَزْوَاجِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ» . وَلَا طَائِلَ تَحْتَ الِاشْتِغَالِ بِأَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَنْدُوبًا، فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَدِ انْقَضَى وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُجُوبِ أَو النّدب. [30] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 30] يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) تَوَلَّى اللَّهُ خِطَابَهُنَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ رَسُولَهُ بِتَخْيِيرِهِنَّ فَخَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَخَاطَبَهُنَّ رَبُّهُنَّ خِطَابًا لِأَنَّهُنَّ أَصْبَحْنَ عَلَى عَهْدٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَهُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا. وَقَدْ سَمَّاهُ عُمَرُ عَهْدًا فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُورَةَ الْأَحْزَابِ فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أُذَكِّرُهُنَّ الْعَهْدَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَجْرُ الْمَوْعُودُ مَنُوطًا بِالْإِحْسَانِ أُرِيدَ تَحْذِيرُهُنَّ مِنَ الْمَعَاصِي بُلُوغًا بِهِنَّ إِلَى مَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ إِذْ جُعِلَ عَذَابُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى فَرْضِ أَنْ تَأْتِيَهَا إِحْدَاهُنَّ عَذَابًا مُضَاعَفًا. وَنِدَاؤُهُنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَيْهِنَّ. وَنَادَاهُنَّ بِوَصْفِ نِسَاءَ النَّبِيءِ لِيَعْلَمْنَ أَنَّ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِنَّ خَبَرٌ يُنَاسِبُ عُلُوَّ أَقْدَارِهِنَّ. وَالنِّسَاءُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْحَلَائِلُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [61] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْتِ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِمَدْلُولِ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّ مَدْلُولَهَا شَيْءٌ فَأَصْلُهُ عَدَمُ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَنْ تَأْتِ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوله مُرَاعَاة لما صدق مَنْ أَيْ: إِحْدَى النِّسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعَفْ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ لِلْغَائِبِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ

وَرَفْعُ الْعَذابُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ نُضَعِّفْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مَكْسُورَةً وَنُصِبَ الْعَذابُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ فَيَكُونُ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب يُضاعَفْ بِتَحْتِيَّةٍ لِلْغَائِبِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مَفْتُوحَةً. وَمُفَادُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَّحِدُ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ. وَرَوَى الطَّبَرَيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى: أَنَّ بَيْنَ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ فَرْقًا، فَأَمَّا ضَاعَفَ فَيُفِيدُ جَعْلَ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ أَعْذِبَةٍ. وَأَمَّا ضَعَّفَ الْمُشَدَّدُ فَيُفِيدُ جَعْلَ الشَّيْءِ مِثْلَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ادَّعَاهُ غَيْرُهُمَا. وَصِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ ضِعْفَيْنِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: 4] لِظُهُورِ أَنَّ الْبَصَرَ لَا يَرْجِعُ خَاسِئًا وَحَسِيرًا مِنْ تَكَرُّرِ النَّظَرِ مَرَّتَيْنِ، وَالتَّثْنِيَةُ تَرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كِنَايَةً عَنِ التَّكْرِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَقَوْلِهِمْ: دَوَالَيْكَ، وَلِذَلِكَ لَا نَشْتَغِلُ بِتَحْدِيدِ الْمُضَاعَفَةِ الْمُرَادَةِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَضْعِيفٌ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَيْثُ يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ لِأَمْثَالِ الْفَاحِشَةِ مَرَّتَيْنِ أَوْ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَا إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ إِلَّا لِأَنَّ أَفْهَامَهُمْ سَبَقَتْ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ فِي الْكَلَامِ، فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأَبِي عُبَيْدَةَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَالْفَاحِشَةُ: الْمَعْصِيَةُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الْأَعْرَاف: 33] وَكُلَّمَا وَرَدَتِ الْفَاحِشَةُ فِي الْقُرْآنِ نَكِرَةً فَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَإِذَا وَرَدَتْ مَعْرِفَةً فَهِيَ الزِّنَا وَنَحْوُهُ. وَالْمُبَيِّنَةُ: بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا فَاحِشَةً وَوُضُوحِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا تُبَيِّنُ نَفْسَهَا وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: يُبَيِّنُهَا فَاعِلُهَا. وَالْمُضَاعَفَةُ: تَكْرِيرُ شَيْءٍ ذِي مِقْدَارٍ بِمِثْلِ مِقْدَارِهِ.

وَالضِّعْفُ: مُمَاثِلُ عَدَدٍ مَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [38] . وَمَعْنَى مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ: أَنَّهُ يَكُونُ ضِعْفَ عَذَابِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَهُوَ ضِعْفٌ فِي الْقُوَّةِ وَفِي الْمُدَّةِ، وَأُرِيدَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً مُعْتَرِضَةٌ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهَا آنِفًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ وَعِيدَهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيءٍ، قَالَ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [التَّحْرِيم: 10] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذابُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ: الْعَذَابُ الَّذِي جَعَلَهُ الله للفاحشة.

[سورة الأحزاب (33) : آية 31]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 31] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) أَعْقَبَ الْوَعِيدَ بِالْوَعْدِ جَرْيًا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ، وَالْقُنُوتُ لِلرَّسُولِ: الدَّوَامُ عَلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِلَابُ رِضَاهُ لِأَنَّ فِي رِضَاهُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاء: 80] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَقْنُتْ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِمَدْلُولِ مَنْ الْشَرْطِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ [الْأَحْزَاب: 30] . وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوله مُرَاعَاة لما صدق مَنْ، أَيْ إِحْدَى النِّسَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ إِيتَاءِ أَجْرِهِنَّ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ بِوَجْهٍ صَرِيحٍ تَشْرِيفًا لِإِيتَائِهِنَّ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ الْمَأْمُولُ بِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ وَأَعْتَدْنا. وَمَعْنَى مَرَّتَيْنِ تَوْفِيرُ الْأَجْرِ وَتَضْعِيفُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: 30] . وَضَمِيرُ أَجْرَها عَائِدٌ إِلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي إِضَافَةِ الْأَجْرِ إِلَى ضَمِيرِهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِأَنَّهُ يُنَاسِبُ مَقَامَهَا وَإِلَى تَشْرِيفِهَا بِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ ذَلِكَ الْأَجْرَ. وَمُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ لَهُنَّ عَلَى الطَّاعَاتِ كَرَامَةٌ لِقَدْرِهِنَّ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ فِي الْحَالَيْنِ

[سورة الأحزاب (33) : آية 32]

مِنْ خَصَائِص أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِظَمِ قَدْرِهِنَّ، لَأَنَّ زِيَادَةَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ تَتْبَعُ زِيَادَةَ فَضْلِ الْآتِي بِهَا. ودرجة أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَعْمَلْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ المُرَاد بهَا إِحْدَى النِّسَاءِ وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلِ يَقْنُتْ بَعْدَ أَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ وَهُوَ ضَمِيرُ نِسْوَةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَعْمَلْ بِالتَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِمَدْلُولِ مَنْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُؤْتِها بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ ضَمِيرِ الْغَائِبِ عَائِدًا إِلَى اسْم الْجَلالَة من قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الْأَحْزَاب: 30] . وَالْقَوْلُ فِي أَعْتَدْنا لَها كَالْقَوْلِ فِي فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الْأَحْزَاب: 29] . وَالتَّاءُ فِي أَعْتَدْنا بَدَلٌ عَنْ أَحَدِ الدَّالَيْنِ مِنْ (أَعَدَّ) لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهَا وَقَصْدِ التَّخْفِيفِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى فِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَعْتَدْنا لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: هُوَ رِزْقُ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً [الْبَقَرَة: 25] الْآيَةَ. وَوَصَفَهُ بِالْكَرِيمِ لَأَنَّهُ أَفْضَلُ جِنْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . [32] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 32] يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. أُعِيدَ خِطَابُهُنَّ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِنَّ وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامًا يَخُصُّهُ. وَأَحَدٌ: اسْمٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِثْلَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: 1] وَهَمْزَتُهُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ. وَأَصْلُهُ: وَحَدَ بِوَزْنِ فَعَلَ، أَيْ مُتَوَحِّدٌ، كَمَا قَالُوا: فَرَدَ بِمَعْنَى مُنْفَرِدٌ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ رُكُوبَهُ رَاحِلَتَهُ: كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ يُرِيدُ عَلَى ثَوْرٍ وَحْشِيٍّ مُنْفَرِدٍ. فَلَمَّا ثَقُلَ الِابْتِدَاءُ بِالْوَاوِ شَاعَ أَنْ يَقُولُوا: أَحَدٌ،

وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، قَالَ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] فَإِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ دَلَّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ. وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ هُنَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِثْلُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 95] ، فَلَوْلَا قَصْدُ التَّفْضِيلِ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَجْدٌ وَلَا لِسَبَبِ نُزُولِهَا دَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [95] . فَالْمَعْنَى: أَنْتُنَّ أَفْضَلُ النِّسَاءِ، وَظَاهِرُهُ تَفْضِيلٌ لِجُمْلَتِهِنَّ عَلَى نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُنَّ اتَّصَلْنَ بِالنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام اتِّصَالًا أقرب مِنْ كُلِّ اتِّصَالٍ وَصِرْنَ أنيساته ملازمات شؤونه فَيَخْتَصِصْنَ بِاطِّلَاعِ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ أَحْوَالِهِ وَخُلُقِهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَيَتَخَلَّقْنَ بِخُلُقِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْتَبِسُ مِنْهُ غَيْرُهُنَّ، وَلَأَنَّ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِنَّ إِقْبَالٌ خَاصٌّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حبّب إِلَيْكُم مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النُّور: 26] . ثُمَّ إِنَّ نِسَاءَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يتفاضلن بَينهُنَّ. وَالتَّقْيِيد بِقَوْلِهِ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ لَيْسَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ إلهاب وتحريض على الِازْدِيَادِ مِنَ التَّقْوَى، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَفْصَةَ: «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ- يَعْنِي أَخَاهَا- رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يقوم من اللَّيْل» ، فَلَمَّا أَبْلَغَتْ حَفْصَةُ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر لم يَتْرُكْ قِيَامَ اللَّيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِيَامِ. وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ إِنْ دُمْتُنَّ عَلَى التَّقْوَى فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّقِيَاتٌ مِنْ قَبْلُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ تَفْضِيلُ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَبَيْنَ بَنَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلِاخْتِلَافِ جِهَاتِ أُصُولِ التَّفْضِيلِ الدِّينِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ ضَبْطُهَا بِضَوَابِطَ.

أَشَارَ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ» فِي حَدِيثِ رُؤْيَا رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ رَأَى مِيزَانًا نُزِّلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَحَ عُمَرُ، ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ. وَالْجِهَاتُ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَكْثَرهَا من شؤون الرِّجَالِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ بَنَاتُ النَّبِيءِ وَلَا نِسَاؤُهُ سَوَاءٌ فِي الْفَضْلِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَزَمُوا بِتَفْضِيلِ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَزْوَاجِهِ وَبِخَاصَّةٍ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ ظَاهر كَلَام التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» . وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَدْقِيقِهَا عَمَلٌ فَلَا يَنْبَغِي تَطْوِيلُ الْبَحْثِ فِيهَا. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عَلَى إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، وَقَوْلُهُ فَلا تَخْضَعْنَ ابْتِدَاءُ تَفْرِيعٍ وَلَيْسَ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. فُرِّعَ عَلَى تَفْضِيلِهِنَّ وَتَرْفِيعِ قَدْرِهِنَّ إِرْشَادُهُنَّ إِلَى دَقَائِقَ مِنَ الْأَخْلَاقِ قَدْ تَقَعُ الْغَفْلَةُ عَنْ مُرَاعَاتِهَا لِخَفَاءِ الشُّعُورِ بِآثَارِهَا، وَلِأَنَّهَا ذَرَائِعُ خَفِيَّةٌ نَادِرَةٌ تُفْضِي إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِحُرْمَتِهِنَّ فِي نُفُوسِ بَعْضٍ مِمَّنِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَفِيهَا مُنَافِقُوهَا. وَابْتُدِئَ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ هَيْئَةِ الْكَلَامِ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي لِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي كَلَامِهِنَّ رِقَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِهِنَّ مِنَ اللَّطَافَةِ وَلِينِ النَّفْسِ مَا إِذَا انْضَمَّ إِلَى لِينِهَا الْجِبِلِّيِّ قُرَّبَتْ هَيْئَتُهُ مِنْ هَيْئَةِ التَّدَلُّلِ لِقِلَّةِ اعْتِيَادِ مِثْلِهِ إِلَّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. فَإِذَا بَدَا ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النِّسَاءِ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ يُشَافِهُهَا مِنَ الرِّجَالِ أَنَّهَا تَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا اجْتَرَأَتْ نَفْسُهُ عَلَى الطَّمَعِ فِي الْمُغَازَلَةِ فَبَدَرَتْ مِنْهُ بَادِرَةٌ تَكُونُ مُنَافِيَةً لِحُرْمَةِ الْمَرْأَةِ، بَلْهَ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي هُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْخُضُوعُ: حَقِيقَتُةُ التَّذَلُّلُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الرِّقَّةِ لِمُشَابَهَتِهَا التَّذَلُّلِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ لَا

تُخْضِعْنَ الْقَوْلَ، أَيْ تَجْعَلْنَهُ خَاضِعًا ذَلِيلًا، أَيْ رَقِيقًا مُتَفَكِّكًا. وَمَوْقِعُ الْبَاءِ هُنَا أَحْسَنُ مِنْ مَوْقِعِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ لِأَنَّ بَاءَ التَّعْدِيَةِ جَاءَتْ مِنْ بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّ أَصْلَ قَوْلِكَ: ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، أَنَّكَ ذَهَبْتَ مُصَاحِبًا لَهُ فَأَنْتَ أَذْهَبْتَهُ مَعَكَ، ثُمَّ تُنُوسِيَ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ فِي نَحْوِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] ، فَلَمَّا كَانَ التَّفَكُّكُ وَالتَّزْيِينُ لِلْقَوْلِ يُتْبِعُ تَفَكُّكَ الْقَائِلِ أَسْنَدَ الْخُضُوعَ إِلَيْهِنَّ فِي صُورَةٍ، وَأُفِيدَتِ التَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) ، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكُنَّ لِينٌ فِي الْقَوْلِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِمَّا هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ النِّسَاءِ مِنَ الرِّقَّةِ وَذَلِكَ تَرْخِيمُ الصَّوْتِ، أَيْ لِيَكُنْ كَلَامُكُنَّ جَزْلًا. وَالْمَرَضُ: حَقِيقَتُهُ اخْتِلَالُ نِظَامِ الْمَزَاجِ الْبَدَنِيِّ مَنْ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاخْتِلَالِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ لَمْ تَرْسَخْ فِيهِ أَخْلَاقُ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَخَلَّقُوا بِسُوءِ الظَّنِّ فَيَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَضِيَّةُ إِفْكِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَاهِدٌ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [10] . وانتصب فَيَطْمَعَ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ سَبَبٌ فِي هَذَا الطَّمَعِ. وَحذف مُتَعَلق فَيَطْمَعَ تَنَزُّهًا وَتَعْظِيمًا لشأن نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ. وَعَطْفُ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً على فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ لِئَلَّا يَحْسَبْنَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُنَّ بِخَفْضِ أَصْوَاتِهِنَّ كَحَدِيثِ السِّرَارِ. وَالْقَوْلُ: الْكَلَامُ. وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ الَّذِي يَأْلَفُهُ النَّاسُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَيَشْمَلُ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هَيْئَةَ الْكَلَامِ وَهِيَ الَّتِي سِيقَ لَهَا الْمَقَامُ، وَيَشْمَلُ مَدْلُولَاتُهُ أَنْ لَا يَنْتَهِرْنَ مَنْ يُكَلِّمُهُنَّ أَوْ يُسْمِعْنَهُ قَوْلًا بَذِيئًا مِنْ بَابِ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ

[سورة الأحزاب (33) : آية 33]

[33] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 33] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ. هَذَا أَمْرٌ خُصِّصْنَ بِهِ وَهُوَ وُجُوبُ مُلَازَمَتِهِنَّ بُيُوتَهُنَّ تَوْقِيرًا لَهُنَّ، وَتَقْوِيَةً فِي حُرْمَتِهِنَّ، فَقَرَارُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ عِبَادَةٌ، وَأَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ فِيهَا وَتَرَدُّدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَالِهَا يُكْسِبُهَا حُرْمَةً. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا ضَاقَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ فِي بيُوت أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» . وَهَذَا الْحُكْمُ وُجُوبٌ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ كَمَالٌ لِسَائِرِ النِّسَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْقَافِ. وَوَجَّهَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ بِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي قَرَّ بِمَعْنَى: أَقَامَ وَاسْتَقَرَّ، يَقُولُونَ: قَرِرْتُ فِي الْمَكَانِ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ بَابِ عَلِمَ فَيَجِيءُ مُضَارِعُهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَأَصْلُ قَرْنَ اقْرَرْنَ فَحُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى لِلتَّخْفِيفِ مِنَ التَّضْعِيفِ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْقَافِ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: أَحَسْنَ بِمَعْنى أحسن فِي قَوْلِ أَبِي زُبَيْدٍ: سِوَى أَنَّ الْجِيَادَ مِنَ الْمَطَايَا ... أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ وَأَنْكَرَ الْمَازِنِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ لُغَةً، وَزَعَمَ أَنَّ قَرِرْتُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الْمَاضِي لَا يَرِدُ إِلَّا فِي مَعْنَى قُرَّةِ الْعَيْنِ، وَالْقِرَاءَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَالْتَزَمَ النَّحَّاسُ قَوْلَهُمَا وَزَعَمَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهَا مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاقْرَرْنَ عُيُونًا فِي بُيُوتِكُنَّ، أَيْ لَكُنَّ فِي بيوتكن قرّة عين فَلَا تَتَطَلَّعْنَ إِلَى مَا جَاوَزَ ذَلِكَ، أَيْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ. وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ وَقَرْنَ بِكَسْرِ الْقَافِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْقَرَارِ، أَصْلُهُ: اقْرِرْنَ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى فَحُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْقَافِ كَمَا قَالُوا: ظَلْتَ وَمَسْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قِرْنَ، أَيْ بِكَسْرِ الْقَافِ أَمْرًا مِنَ الْوَقَارِ، يُقَالُ: وَقِرَ فُلَانٌ يَقِرُّ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ قِرْ لِلْوَاحِدِ، وَلِلنِّسَاءِ قِرْنَ مِثْلَ عِدْنَ، أَيْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَقَارٌ لَهُنَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بُيُوتِكُنَّ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهُ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ.

وَإِضَافَةُ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ سَاكِنَاتٌ بِهَا أَسْكَنَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَت بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى سَاكِنَةِ الْبَيْتِ، يَقُولُونَ: حُجْرَةُ عَائِشَةَ، وَبَيْتُ حَفْصَةَ، فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ كَالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] . وَذَلِكَ أَنَّ زَوْجَ الرَّجُلِ هِيَ رَبَّةُ بَيْتِهِ، وَالْعَرَبُ تَدْعُو الزَّوْجَةَ الْبَيْتَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْبُيُوتَ بَنَاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِبَاعًا تَبَعًا لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تُوُفِّيَتِ الْأَزْوَاجُ كُلُّهُنَّ أُدْخِلَتْ سَاحَةُ بُيُوتِهِنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي التَّوْسِعَةِ الَّتِي وَسَّعَهَا الْخَلِيفَةُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يُعْطِ عِوَضًا لِوَرَثَتِهِنَّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَ مُكْثِ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَأَنْ لَا يَخْرُجْنَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ» يُرِيدُ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ. وَمَحْمَلُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ فِيمَا عَدَا مَا يُضْطَرُّ فِيهِ الْخُرُوجُ مِثْلَ مَوْتِ الْأَبَوَيْنِ. وَقَدْ خَرَجَتْ عَائِشَةُ إِلَى بَيت أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهُ مَعَهَا فِي عَطِيَّتِهِ الَّتِي كَانَ أَعْطَاهَا مِنْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ وَقَوْلُهُ لَهَا: «وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ» رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَكُنَّ يَخْرُجْنَ لِلْحَجِّ وَفِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَن مقرّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ قَائِمٌ مَقَامَ بُيُوتِهِ فِي الْحَضَرِ، وَأَبَتْ سَوْدَةُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ. وَلِذَلِكَ لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَمَرَتْ عَائِشَةُ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِجِنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِتَدْعُوَ لَهُ، أَيْ لِتُصَلِّيَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى النَّاسِ خُرُوجُ عَائِشَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي تُدْعَى: وَقْعَةُ الْجَمَلِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ جِلَّةِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَعْضُهُمْ مِثْلَ: عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلِكُلٍّ نَظَرٌ فِي الِاجْتِهَادِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِثْلَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهَا عَنِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهَا رَأَتْ أَنَّ فِي خُرُوجِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِتَسْعَى بَيْنَ فَرِيقَيِ الْفِتْنَةِ

بِالصُّلْحِ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَلَّقُوا بِهَا وَشَكَوْا إِلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عِظَيمِ الْفِتْنَةِ وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَتُصْلِحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَظَنُّوا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَحْيُونَ مِنْهَا فَتَأَوَّلَتْ لِخُرُوجِهَا مَصْلَحَةً تُفِيدُ إِطْلَاقَ الْقَرَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يكافىء الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ. وَأَخَذَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] وَرَأَتْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ يَشْمَلُهَا وَأَمْثَالَهَا مِمَّنْ يَرْجُونَ سَمَاعَ الْكَلِمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا عَنِ اجْتِهَادٍ. وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَخَرَجُوا مَعَهَا مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَاهِيكَ بِهِمَا. وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا حَمْلُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْمَخَارِجِ وَنَظُنُّ بِهَا أَحْسَنَ الْمَذَاهِبِ، كَقَوْلِنَا فِي تَقَاتُلِهِمْ فِي صِفِّينَ وَكَادَ أَنْ يَصْلُحَ الْأَمْرُ وَلَكِنْ أَفْسَدَهُ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ وَلَمْ تَشْعُرْ عَائِشَةُ إِلَّا وَالْمُقَاتَلَةُ قَدْ جَرَتْ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ. وَلَا يَنْبَغِي تَقَلُّدُ كَلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى عِلَّاتِهِ فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمَنْ تَلَقَّفُوا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ تَبْكِي حَتَّى يَبْتَلَّ خِمَارُهَا، فَلَا ثِقَةَ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمَلُهُ أَنَّهَا أَسِفَتْ لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَلْجَأَتْهَا إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى. التَّبَرُّجُ: إِظْهَارُ الْمَرْأَةِ مَحَاسِنَ ذَاتِهَا وَثِيَابِهَا وَحُلِيِّهَا بِمَرْأَى الرِّجَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ فِي سُورَةِ النُّورِ [60] . وَانْتَصَبَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ الْكَاشِفِ أُرِيدَ بِهِ التَّنْفِيرُ مِنَ التَّبَرُّجِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ الدَّوَامُ عَلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّبَرُّجِ وَأَنَّهُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهُ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِنَهْيِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ عَنِ التَّبَرُّجِ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ أَيَّامَئِذٍ قَدْ بَقِيَ فِيهَا نِسَاءُ الْمُنَافِقِينَ وَرُبَّمَا كُنَّ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ سِيرَتِهِنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُرِيدَ النِّدَاءُ عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ الْمُسْلِمَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْهِيَّاتٌ عَنِ التَّبَرُّجِ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ التَّبَرُّجُ فِيهَا فِي سُورَةِ النُّورِ فِي بُيُوتِهِنَّ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبَرُّجِ كَمَالٌ وَتَنَزُّهٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّفَاسِفِ. فَنُسِبَ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْقِيرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ

الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ. والْجاهِلِيَّةِ: الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَتَأْنِيثُهَا لِتَأْوِيلِهَا بِالْمُدَّةِ. وَالْجَاهِلِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَاهِلِ لِأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ عَاشُوا فِيهَا كَانُوا جَاهِلِينَ بِاللَّهِ وَبِالشَّرَائِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عمرَان [154] . ووصفها ب الْأُولى وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّهَا أُولَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بَعْدَهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: 50] ، وَكَقَوْلِهِمْ: الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ جَاهِلِيَّتَانِ أُولَى وَثَانِيَةٌ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلُوهُ وَصْفًا مُقَيَّدًا وَجَعَلُوا الْجَاهِلِيَّةَ جَاهِلِيَّتَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأُولَى هِيَ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وستكون الْجَاهِلِيَّة أُخْرَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ يَعْنِي حِينَ تَرْتَفِعُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى هِيَ الْقَدِيمَةُ مِنْ عَهْدِ مَا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنِّسَاءِ وَازِعٌ وَلَا لِلرِّجَالِ، وَوَضَعُوا حِكَايَاتٍ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةً أَوْ مُبَالَغًا فِيهَا أَوْ فِي عُمُومِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ حَمْلُ الْوَصْفِ عَلَى قَصْدِ التَّقْيِيدِ. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الدَّوَامُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُنَّ مُتَلَبِّسَاتٌ بِمَضْمُونِهَا مِنْ قَبْلُ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ وَالصَّالِحِينَ لَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ حق توجه التَّكْلِيف عَلَيْهِمْ. وَفِي هَذَا مَقْمَعٌ لِبَعْضِ الْمُتَصَوِّفِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِذَا بَلَغُوا الْمَرَاتِبَ الْعُلْيَا مِنِ الْوِلَايَةِ سَقَطَتْ عَنْهُمُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ. وَخَصَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ بِالْأَمْرِ ثُمَّ جَاءَ الْأَمْرُ عَامًا بِالطَّاعَةِ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الطَّاعَتَيْنِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ هُمَا أَصْلُ سَائِرِ الطَّاعَاتِ فَمَنِ اعْتَنَى بِهِمَا حَقَّ الْعِنَايَةِ جَرَّتَاهُ إِلَى مَا وَرَاءَهُمَا، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ إِذْ هُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مَنْ أُمِرٍ وَنَهْيٍ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا نِسَاءَ النَّبِيءِ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ [الْأَحْزَاب: 30] الْآيَةَ. فَإِنَّ مَوْقِعَ إِنَّما يُفِيدُ رَبْطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ حَرْفَ (إِنَّ) جُزْءٌ مِنْ إِنَّما وَحَرْفُ (إِنَّ) مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُغَنِيَ غِنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ عَبَدُ الْقَاهِرِ، فَالْمَعْنَى أَمَرَكُنَّ اللَّهُ بِمَا أَمَرَ وَنَهَاكُنَّ عَمَّا نَهَى لِأَنَّهُ أَرَادَ لَكُنَّ تَخْلِيَةً عَنِ النَّقَائِصِ وَالتَّحْلِيَةَ بِالْكَمَالَاتِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ وَقَعَ مُعْتَرَضًا بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَيْتِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ بَيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيوت النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَثِيرَةٌ فَالْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هُنَا بَيْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ من أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ تِلْكَ الْبيُوت أَهله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجُهُ صَاحِبَةُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الْأَحْزَاب: 34] ، وَضَمِيرَا الْخِطَابِ مُوَجَّهَانِ إِلَى نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَنَنِ الضَّمَائِرِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالضَّمِيرَيْنِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكِّرِ عَلَى طَرِيقَةِ التغليب لاعْتِبَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخِطَابِ لِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَهُوَ حَاضر هَذَا الْخِطَابِ إِذْ هُوَ مُبَلِّغُهُ. وَفِي هَذَا التَّغْلِيبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّطْهِيرَ لَهُنَّ لأجل مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكَونَ قَرِينَاتُهُ مُشَابِهَاتٍ لَهُ فِي الزَّكَاة وَالْكَمَالِ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النُّور: 26] يَعْنِي أَزوَاج النبيء للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] وَالْمُخَاطَبُ زَوْجُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مَعَهَا. والرِّجْسَ فِي الْأَصْلِ: الْقَذَرُ الَّذِي يُلَوِّثُ الْأَبْدَانَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلذُّنُوبِ وَالنَّقَائِصِ الدِّينِيَّةِ لِأَنَّهَا تَجْعَلُ عِرْضَ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَرْذُولًا مَكْرُوهًا كَالْجِسْمِ الْمُلَوَّثِ بِالْقَذَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [90] . وَاسْتُعِيرَ التَّطْهِيرُ لِضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ تَجْنِيبُ الذُّنُوبِ وَالنَّقَائِصِ كَمَا يَكُونُ الْجِسْمُ أَوِ الثَّوْبُ طَاهِرًا. وَاسْتُعِيرَ الْإِذْهَابُ لِلْإِنْجَاءِ وَالْإِبْعَادِ.

وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا قَدَّرَهُ إِذْ لَا رَادَّ لِإِرَادَتِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لَكُنَّ مِمَّا أَمَرَكُنَّ وَنَهَاكُنَّ إِلَّا عِصْمَتَكُنَّ مِنَ النَّقَائِصِ وتَحْلِيَتَكُنَّ بِالْكَمَالَاتِ وَدَوَامَ ذَلِكَ، أَيْ لَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ مَقْتًا لَكُنَّ وَلَا نِكَايَةً. فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَهَذَا وَجْهُ مَجِيءِ صِيغَة الْقصر ب إِنَّما. وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ عَصَمَ أَزْوَاجَ نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَزَكَّى نُفُوسَهُنَّ. وأَهْلَ الْبَيْتِ: أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِنَّ وَكَذَلِكَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا شَكٌّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهَا أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعون إِلَّا أَن أَزوَاج النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَأَنَّ النُّزُولَ فِي شَأْنِهِنَّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُمَرَ بن أبي سملة قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» . وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَلَمْ يُسَمِّهِ التِّرْمِذِيُّ بِصِحَّةٍ وَلَا حُسْنٍ، وَوَسَمَهُ بِالْغَرَابَةِ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَهَذَا أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ. فمحمله أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ أَهْلَ الْكِسَاءِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلَهُمْ أَهْلَ بَيْتِهِ كَمَا أَلْحَقَ الْمَدِينَةَ بِمَكَّةَ فِي حُكْمِ الْحَرَمِيَّةِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» . وَتَأَوُّلُ الْبَيْتِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ يَصْدُقُ بِبَيْتِ النَّسَبِ كَمَا يَقُولُونَ: فِيهِمُ الْبَيْتُ وَالْعَدَدُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ حَمْلِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ غَيْرِ الْمُتَعَارِضَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَأَنَّ حِكْمَةَ

تَجْلِيلِهِمْ مَعَهُ بِالْكِسَاءِ تَقْوِيَةُ اسْتِعَارَةِ الْبَيْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ تَقْرِيبًا لِصُورَةِ الْبَيْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَكُونَ الْكِسَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْت وَوُجُود النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ فِي الْكِسَاءِ كَمَا هُوَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكِسَاءُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَن أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ آلُ بَيْتِهِ بِصَرِيحِ الْآيَةِ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ وَابْنَيْهَا وَزَوْجَهَا مَجْعُولُونَ أَهْلَ بَيْتِهِ بِدُعَائِهِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى مَحَامِلِهَا. وَلِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ بِدَلِيلِ السُّنَةِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، بَعْضُهُ بِالْجَعْلِ الْإِلَهِيِّ، وَبَعْضُهُ بِالْجَعْلِ النَّبَوِيّ، وَمثله قَوْله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» . وَقَدِ اسْتَوْعَبَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا الْخَبَرِ مُقْتَضِيَةً أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَشْمَلُ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا. وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا نَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى الطَّبَرِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا ذُكِرَ عِنْدَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ: فِيهِ نَزَلَتْ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَذَكَرَتْ خَبَرَ تَجْلِيلِهِ مَعَ فَاطِمَةَ وَابْنَيْهِ بِكِسَاءٍ (وَذَكَرَ مُصَحِّحُ طَبْعَةِ «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» أَنَّ فِي متن ذَلِك الحَدِيث اخْتِلَافًا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَلَمْ يُفَصِّلْهُ الْمُصَحِّحُ) . وَقَدْ تَلَقَّفَ الشِّيعَةُ حَدِيثَ الْكِسَاءِ فَغَصَبُوا وَصْفَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَصَرُوهُ عَلَى فَاطِمَةَ وَزَوْجِهَا وَابْنَيْهِمَا عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانَ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَهَذِهِ مُصَادَمَةٌ لِلْقُرْآنِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ حَشْوًا بَيْنَ مَا خُوطِبَ بِهِ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ. وَلَيْسَ فِي لَفْظِ حَدِيثِ الْكِسَاءِ مَا يَقْتَضِي قَصَرَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى أَهْلِ الْكِسَاءِ إِذْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» صِيغَةُ قَصْرٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي [الْحجر: 68] لَيْسَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لِي ضَيْفٌ غَيْرُهُمْ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مَبْتُورَةً عَمَّا قَبِلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّوَهُّمَ مِنْ زَمَنِ عَصْرِ التَّابِعين، وَأَن منشأه قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْأَلْسُنِ دُونَ اتِّصَالٍ بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ بِأَهْلِيَّةٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: لَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ يَصْرُخُ بِذَلِكَ فِي السُّوقِ. وَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ أَن يَدْعُو النبيء الدَّعْوَةَ لِأَهْلِ الْكِسَاءِ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيْتِ أَمِّ سَلَمَةَ.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ... فَقَالَ: «أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ» . فَقَدْ وَهَمَ فِيهِ الشِّيعَةُ فَظَنُّوا أَنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذِهِ جَهَالَة لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادَ أَن مَا سَأَلَتْهُ مِنَ الْحَاصِلِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا وَفِي ضَرَائِرِهَا، فَلَيْسَتْ هِيَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِلْحَاقِهَا بِهِمْ، فَالدُّعَاءُ لَهَا بِأَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنْهَا الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَهَا دُعَاءٌ بِتَحْصِيلِ أَمْرٍ حَصَلَ وَهُوَ مُنَافٍ بِآدَابِ الدُّعَاءِ كَمَا حَرَّرَهُ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَالدُّعَاءِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ، فَكَانَ جَوَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: «إِنَّكِ من أَزوَاج النبيء» . وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ» . وَلَمَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ دعاءه كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْلِقُ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَابْنَيْهِمَا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُذْهِبَ لَامُ جَرٍّ تُزَادُ لِلتَّأْكِيدِ غَالِبًا بَعْدَ مَادَّتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ، وَيَنْتَصِبُ الْفِعْلُ الْمُضَارع بعْدهَا ب (أَن) مُضْمَرَةً إِضْمَارًا وَاجِبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: 71] ، وَقَوْلُ كُثَيْرٌ: أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ مَكَانِ وَعَنِ النَّحَاسِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ سَمَّاهَا (لَامَ أَنْ) وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] . وَقَوْلُهُ: أَهْلَ الْبَيْتِ نِدَاءٌ لِلْمُخَاطَبِينَ من نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حَضْرَة النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ شَمِلَ كُلَّ من ألحق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِنَّ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُمْ: فَاطِمَةُ وَابْنَاهَا وَزَوْجُهَا وَسَلْمَانُ لَا يعدو هَؤُلَاءِ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 34]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 34] وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) لَمَّا ضَمِنَ اللَّهُ لَهُنَّ الْعَظَمَةَ أَمَرَهُنَّ بِالتَّحَلِّي بِأَسْبَابِهَا وَالتَّمَلِّي مِنْ آثَارِهَا وَالتَّزَوُّدِ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بِدِرَاسَةِ الْقُرْآنِ لِيَجْمَعَ ذَلِكَ اهْتِدَاءَهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ ازْدِيَادًا فِي الْكَمَالِ وَالْعِلْمِ، وَإِرْشَادَهُنَّ الْأُمَّةَ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحٌ لَهَا من علم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِعْلُ اذْكُرْنَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ تَشْمَلُ الْمَعْنَى الصَّرِيحَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَنْسَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَغْفَلْنَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْكِنَائِيَّ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ مُرَاعَاةُ الْعَمَلِ بِمَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ مِمَّا يَنْزِلُ فِيهَا وَمَا يقرأه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَمَا يُبَيِّنُ فِيهَا مِنَ الدِّينِ، وَيَشْمَلُ مَعْنًى كِنَائِيًّا ثَانِيًا وَهُوَ تَذَكُّرُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ كَانَتْ بُيُوتُهُنَّ مَوْقِعَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَهُوَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى اللِّسَانِ، أَيْ بَلِّغْنَهُ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَقْرَأْنَ الْقُرْآنَ وَيُبَلِّغْنَ أَقْوَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتَهُ. وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، أَيْ إِعَادَةُ كَلَامٍ مَكْتُوبٍ أَوْ مَحْفُوظٍ، أَيْ مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ بَيَانٌ لِمَا يُتْلَى فَكُلُّ ذَلِكَ مَتْلُوٌّ، وَذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَتْلُوَّ بِشَيْئَيْنِ: هَمَّا آيَاتُ اللَّهِ، وَالْحِكْمَةُ، فَآيَاتُ اللَّهِ يَعُمُّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَكَانَ آيَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَعَطْفُ وَالْحِكْمَةِ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ مَوَاعِظَ وَأَحْكَامًا شَرْعِيَّةً، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [39] ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، أَيْ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ عِنْدَ نُزُولِهِ، أَو بِقِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرَاسَتِهِنَّ الْقُرْآنَ، لِيَتَجَدَّدَ مَا عَلِمْنَهُ وَيَلْمَعَ لَهُنَّ مِنْ أَنْوَارِهِ مَا هُوَ مَكْنُونٌ لَا يَنْضُبُ مَعِينُهُ، وَلِيَكُنَّ مُشَارِكَاتٍ فِي تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَتَوَاتُرِهِ، وَلَمْ يزل أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَمِنْ أَحْكَامِ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يُوسُف: 42] ، أَيْ بَلِّغْ خَبَرَ سَجْنِي وَبَقَائِي فِيهِ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

وَمَوْقِعُ مَادَّةِ الذِّكْرِ هُنَا مُوَقِعٌ شَرِيفٌ لِتَحَمُّلِهَا هَذِهِ الْمَحَامِلَ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُهَا إِلَّا بِإِطْنَابٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِن الله تَعَالَى أَمَرَ نَبِيئَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزَلَ إِلَيْهِ فَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ مَا اتَّفَقَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَكَانَ عَلَى مَنْ تَبِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَبَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي كَسْرِ بَاءِ (بِيُوتٍ) أَوْ ضَمِّهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ وَتَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ السَّابِقَةِ. وَالتَّعْلِيلُ صَالِحٌ لِمَحَامِلِ الْأَمْرِ كُلِّهَا لِأَنَّ اللُّطْفَ يَقْتَضِي إِسْدَاءَ النَّفْعِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُسْدَى إِلَيْهِ. وَفِيمَا وُجِّهَ إِلَى نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُنَّ وَإِجْرَاءٌ لِلْخَيْرِ بِوَاسِطَتِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِي تَيْسِيرِهِ إِيَّاهُنَّ لِمُعَاشَرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَعْلِهِنَّ أَهْلَ بُيُوتِهِ، وَفِي إِعْدَادِهِنَّ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ، وَمُشَاهَدَةِ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ لُطْفٌ لَهُنَّ هُوَ الْبَاعِث على مَا وَجَّهَهُ إِلَيْهِنَّ مِنَ الْخِطَابِ لِيَتَلَقَّيْنَ الْخَبَرَ وَيُبَلِّغْنَهُ، وَلِأَنَّ الْخَبِيرَ، أَيِ الْعَلِيمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُنَّ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرُهُنَّ حَصَلَ مُرَادُهُ تَامًّا لَا خَلَلَ وَلَا غَفْلَةَ. فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِاللُّطْفِ وَالْعِلْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كانَ فَيَشْمَلُ عُمُومُ لُطْفِهِ وَعِلْمِهِ لُطْفَهُ بِهِنَّ وَعِلْمَهُ بِمَا فِيهِ نفعهن. [35] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الْأَحْزَاب: 31] بَعْدَ قَوْلِهِ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: 32]

يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمَاتِ أَنْ يَسْأَلْنَ: أَهُنَّ مَأْجُورَاتٌ عَلَى مَا يَعْمَلْنَ من الْحَسَنَات، وأ هنّ مَأْمُورَاتٌ بِمِثْلِ مَا أُمِرَتْ بِهِ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ تِلْكَ خَصَائِص لِنسَاء النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ جَوَابٌ لِهَذَا السُّؤَالِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ مَأْمُورَاتٍ يُعْقِبُهَا بِالتَّذْكِيرِ بِحَالِ أَمْثَالِهَا أَوْ بِحَالِ أَضْدَادِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَرَدَ بِمُنَاسَبَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ فَضَائِل أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ نِسَاءً دَخَلْنَ على أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: قَدْ ذَكَرَكُنَّ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْنَا بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ فِينَا خَيْرٌ لَذَكَرَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وروى النَّسَائِيّ وَأحمد: أَن أم سَلمَة قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لنا لَا نذْكر فِي الْقُرْآن كَمَا يذكر الرِّجَال فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ: «أَنَّ أُمَّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّة أَتَت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: مَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: «قَالَ مُقَاتِلٌ: بَلَغَنِي أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لَمَّا رَجَعَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَتْ على نسَاء النبيء فَقَالَتْ: هَلْ نَزَلَ فِينَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قِيلَ: لَا، فَأَتَت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ لَفِي خَيْبَةٍ وَخَسَارٍ. قَالَ: وَمِمَّ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُنَّ لَا يُذْكَرْنَ بِالْخَيرِ كَمَا يذكر الرِّجَالُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ» . فَالْمَقْصُودُ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ النِّسَاءُ، وَأَمَّا ذِكْرُ الرِّجَالِ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الصِّنْفَيْنِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِعِ سَوَاءٌ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ لَا كَمَا كَانَ مُعْظَمُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ خَاصًّا بِالرِّجَالِ إِلَّا الْأَحْكَامَ الَّتِي لَا تُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ، فَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِعَكْسِ ذَلِكَ الْأَصْلُ فِي شَرَائِعِهَا أَنْ تَعُمَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَّا مَا نُصَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَلَعَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا تَقَرَّرَ أَصْلُ التَّسْوِيَةِ فَأَغْنَى عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ أَقْوَالِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ

وَجْهُ تِعْدَادِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ التَّسْوِيَةُ فِي خُصُوصِ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَسُلِكَ مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ فِي تِعْدَادِ الْأَوْصَافِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ لِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا التِّعْدَادِ إِيمَاءً إِلَى أُصُولِ التَّشْرِيعِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَبِهَذِهِ الْآثَارِ يَظْهَرُ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَأْكِيدِ هَذَا الْخَبَرِ بِحَرْفِ إِنَّ لِدَفْعِ شَكِّ مَنْ شَكَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنَ النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ شَرَعًا. وَالْإِسْلَامُ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحِجُّ الْبَيْتِ، وَلَا يَعْتَبِرُ إِسْلَامًا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ. وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بَعْدَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي الْبَقَرَةِ [132] . وَالْمرَاد ب الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الَّذين آمنُوا. وَالْإِيمَان: أَن يُؤمن بالله وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر ويؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره. وَتقدم الْكَلَام على الْإِيمَان فِي أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَة. و (الْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) : أَصْحَابُ الْقُنُوتِ وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَعِبَادَتُهُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [الْأَحْزَاب: 31] والصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ مَنْ حَصَلَ مِنْهُمْ صِدْقُ الْقَوْلِ وَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَالصِّدْقُ كُلُّهُ حَسَنٌ، وَالْكَذِبُ لَا خَيْرَ فِيهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. وَشَمَلَ ذَلِكَ الْوَفَاءَ بِمَا يُلْتَزَمُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ كَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِالنذرِ، وَتقدم عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وب الصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ: أَهْلُ الصَّبْرِ وَالصَّبْرُ مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَتَحَمُّلُ الْمَكَارِهِ فِي

الذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا آخِرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [200] . وَبِ الْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ: أَهْلُ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَالْخَوْفُ مِنْهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْمُكَلَّفُ، وَمُطَابَقَةُ ذَلِكَ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ آثَارِهِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَالْمُرَادُ: الْخُشُوعُ لِلَّهِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَبِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ: مَنْ يَبْذُلُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [114] . وَفَائِدَةُ ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ عَظِيمَةٌ. وَأَمَّا (الصَّائِمُونَ وَالصَّائِمَاتُ) فَظَاهَرٌ مَا فِي الصِّيَامِ مِنْ تَخَلُّقٍ بِرِيَاضَةِ النَّفْسِ لِطَاعَةِ اللَّهِ، إِذْ يَتْرُكُ الْمَرْءُ مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ مِنَ الشَّهْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ، أَيْ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّ رِضَى اللَّهِ عَنهُ ألذّ عِنْده مِنْ أَشَدِّ اللَّذَّاتِ مُلَازَمَةً لَهُ. وَأَمَّا حِفْظُ الْفُرُوجِ فَلِأَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ شَهْوَةٌ جِبِلِّيَّةٌ، وَهِيَ فِي الرَّجُلِ أَشَدُّ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ فَقَالَ فِي يحيى وَحَصُوراً [آل عمرَان: 39] وَقَالَ فِي مَرْيَمَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الْأَنْبِيَاء: 91] ، وَهَذَا الْحِفْظُ لَهُ حُدُودٌ سَنَّتْهَا الشَّرِيعَةُ، فَالْمُرَادُ: حِفْظُ الْفروج عَن أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ شَرْعًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ: حِفْظَهَا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ أَصْلًا وَهُوَ الرَّهْبَنَةُ، فَإِنَّ الرَّهْبَنَةَ مَدْحُوضَةٌ فِي الْإِسْلَامِ بِأَدِلَّةٍ مُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَى. وَأَمَّا (الذَّاكِرُونَ وَالذَّاكِرَاتُ) فَهُوَ وَصْفٌ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ وَهُوَ ذِكْرُ اللِّسَانِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَة: 152] وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي» ، وَمِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الْأَحْزَاب: 34] ، وَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: 135] . وَمَفْعُولُ والْحافِظاتِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَفْعُولُ والذَّاكِراتِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْعَشْرُ عَلَى جَوَامِعِ فُصُولِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.

فَالْإِسْلَامُ: يَجْمَعُ قَوَاعِدَ الدِّينِ الْخَمْسَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي هِيَ أَعْمَالٌ، وَالْإِيمَانُ يَجْمَعُ الِاعْتِقَادَاتِ الْقَلْبِيَّةَ الْمَفْرُوضَةَ وَهُوَ شَرْطُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 17] . وَالْقُنُوتُ: يَجْمَعُ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا مَفْرُوضَهَا وَمَسْنُونَهَا، وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْإِقْلَاعَ عَنْهَا مِمَّنْ هُوَ مُرْتَكِبُهَا، وَهُوَ مَعْنَى التَّوْبَةِ، فَالْقُنُوتُ هُوَ تَمَامُ الطَّاعَةِ، فَهُوَ مُسَاوٍ لِلتَّقْوَى. فَهَذِهِ جَوَامِعُ شَرَائِعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالصِّدْقُ: يَجْمَعُ كُلَّ عَمَلٍ هُوَ مِنْ مُوَافَقَةِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِلْوَاقِعِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْعُقُودِ وَالِالْتِزَامَاتِ وَفِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْوَفَاءِ بِهَا وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، وَمُطَابَقَةِ الظَّاهِرِ لِلْبَاطِنِ فِي الْمَرَاتِبِ كُلِّهَا. وَمِنَ الصِّدْقِ صِدْقُ الْأَفْعَالِ. وَالصَّبْرُ: جَامِعٌ لِمَا يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالْجِهَادِ وَالْحِسْبَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمُنَاصَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحَمُّلِ الْأَذَى فِي اللَّهِ، وَهُوَ خُلُقٌ عَظِيمٌ هُوَ مِفْتَاحُ أَبْوَابِ مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ. وَالْخُشُوعُ: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ وَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَتَجَنُّبُ الْمعاصِي، وَيدخل فِيهِ الْإِحْسَانِ وَهُوَ الْمُفَسَّرُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ جَمِيعُ الْقُرَبِ النَّوَافِل فَإِنَّهَا مِنْ آثَارِ الْخُشُوعِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِمَّا اقْتَرَفَهُ الْمَرْءُ مِنَ الْكَبَائِرِ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْخُشُوعُ بِدُونِهَا. وَالتَّصَدُّقُ: يَحْتَوِي جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ والْعَطِيَّاتِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِرْفَاقِ. وَالصَّوْمُ: عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلِذَلِكَ خُصِّصَتْ بِالذِّكْرِ مِعَ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ مَشْمُولٌ لِلْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَيَفِي صَوْمَ النَّافِلَةِ، فَالتَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الصَّوْمِ تَنْوِيهٌ بِهِ. وَفِي الحَدِيث «قَالَ الله تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» . وَحِفْظُ الْفُرُوجِ: أُرِيدَ بِهِ حِفْظُهَا عَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِحِفْظِهَا عَنْهُ، وَقَدِ انْدَرَجَ فِي هَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا وَمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لَهَا. وَذِكْرُ اللَّهِ كَمَا عَلِمْتَ لَهُ مُحَمَلَانِ:

أَحَدُهُمَا: ذِكْرُهُ اللِّسَانِيُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَطَلَبُ الْعِلْمِ ودراسته. قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» ، فَفِي قَوْلِهِ: «وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ» إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جَنْسِ عَمَلِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَة: 152] وَقَالَ فِيمَا أخبر عَنهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . وَشَمَلَ مَا يُذْكَرُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ. وَالْمَحْمَلُ الثَّانِي: الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: 135] فَدَخَلَ فِيهِ التَّوْبَةُ وَدَخَلَ فِيهَا الِارْتِدَاعُ عَنِ الْمَظَالِمِ كُلِّهَا مِنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالْحِرَابَةِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَمِمَّا يُوضح شُمُوله لهَذِهِ الشَّرَائِع كُلِّهَا تَقْيِيدُهُ بِ كَثِيراً لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فَقَدِ اسْتَغْرَقَ ذِكْرُهُ عَلَى الْمَحْمَلَينِ جَمِيعَ مَا يُذْكَرُ اللَّهُ عِنْدَهُ. وَيُرَاعَى فِي الِاتِّصَافِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً عَلَى مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ فِي تَفَاصِيلِهَا. وَالْمَغْفِرَةُ: عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا فَرَّطَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [23] . وَاعْلَمْ أَنَّ عَطْفَ الصِّفَاتِ بِالْوَاوِ الْمُفِيدِ مُجَرَّدَ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ دُونَ حَرْفَيِ التَّرْتِيبِ: الْفَاءِ وَثُمَّ، شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ مَعَهُ ثَابِتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ اتَّصَفَ بِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا مَوْصُوفُهُ لَأَنَّ أَصْلَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي الذَّاتِ، فَإِذَا قُلْتَ: وُجَدْتُ فِيهِمُ الْكَرِيمَ وَالشُّجَاعَ وَالشَّاعِرَ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّكَ وَجَدْتَ فِيهِمْ ثَلَاثَةَ أُنَاسٍ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِنَّ مِنْهُمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ» أَيْ أَصْحَابَ الْمَرَضِ وَالضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، بِخِلَافِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصافات: 1- 3] فَإِنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ

لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا فَحَقُّ جُمْلَةِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أَنْ تَكُونَ خَبَرًا فِي الْمَعْنَى عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعَدَ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، إِنَّ الْمُسْلِمَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُنَّ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَهَكَذَا. وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ فِعْلُ أَعَدَّ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَمَعْطُوفٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ المتعاطفات بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولِهِ وَاضِحَةٌ لَأَنَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ يَصْلُحُ لِأَنْ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ وَيَقْبَلُ التَّفَاوُتَ فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنْ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ أَجْرُهُ عَلَى اتِّصَافِهِ بِهِ وَيَكُونُ أَجْرُ بَعْضِهِمْ أَوْفَرَ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ آخَرَ. وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِخْبَارِ بِفِعْلِ أَعَدَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِاعْتِبَار الْمَفْعُول وَهُوَ مَغْفِرَةً فَيَمْنَعُ مِنْهُ مَا جَاءَ مِنْ دَلَائِلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ الْكَبِيرَةَ الَّتِي فَرَطَتْ لَا يُضْمَنُ غُفْرَانُهَا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَّا بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ وَعَدًا مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْأَنْعَام: 54] . وَأَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِمُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ الْحَجَّ الْمَبْرُورَ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى. وَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ عِنْدِي: أَنْ تُحْمَلَ كُلُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى عَدَمِ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا يُوجِبُ التَّبِعَةَ، أَيْ سَلَامَتُهُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالْكَبَائِرِ حَمَلًا أُرَاعِي فِيهِ الْجَرْيَ عَلَى سَنَنِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ مَقَامِ الثَّنَاءِ وَالتَّنْوِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ كَمَالِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: 4] فَإِنَّا لَا نَجِدُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ. وَالْمَرْجِعُ فِي هَذَا الْمَحْمَلِ إِلَى بَيَانِ الْإِجْمَالِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ سَكَتَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ التَّصَدِّي لِبَيَانِ مُفَادِ هَذَا الْوَعْدِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ فِيمَا رَأَيْتُ سِوَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً: أَنَّ الْجَامِعِينَ وَالْجَامِعَاتِ لِهَذِهِ الطَّاعَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَجَعَلَ وَاوَ الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ، وَجَعَلَ الْعَطْفَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي الْأَوْصَافِ لَا الْمُغَايَرَةِ بِالذَّوَاتِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَصُنْعٌ بِالْيَدِ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَكَثِيرٌ. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ جَمْعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُسْقِطُهَا عَنْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 36]

صَاحِبِهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، إِلَّا أَنْ يَضُمَّ إِلَى كَلَامِهِ ضَمِيمَةً وَهِيَ حَمْلُ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ والذَّاكِراتِ عَلَى مَعْنَى الْمُتَّصِفِينَ بِالذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَالْقَلْبِيِّ، فَيَكُونَ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ شَامِلًا لِلتَّوْبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: 135] فَيَكُونُ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْخِصَالَ الْعَشْرَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمُ التَّوْبَةُ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَا يَتَجَاوَزُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُهَا يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ هَذَا الِاعْتِذَارِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى قَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا الْآيَةَ فِي سُورَة الْفرْقَان [63- 75] . [36] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 36] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) مُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ خِطْبَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عَلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَاسْتَنْكَفَتْ وَأَبَتْ وَأَبَى أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الْآيَةَ، فَتَابَعَتْهُ وَرَضِيَتْ لِأَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ بِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَيَكُونُ مَوْقِعُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلْحَاقًا لَهَا بِهَا لِمُنَاسِبَةِ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً لِذِكْرِ تَزَوُّجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فَقَدَّرَ لَهُ الْأَحْوَالَ الَّتِي حَصَلَتْ مِنْ بَعْدُ. وَوُجُودُ وَاوِ الْعَطْفِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى كَلَامٍ نَزَلَ قَبْلَهَا مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى لَمْ نَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ وَلَا تَعْيِينِ السُّورَةِ الَّتِي كَانَتِ الْآيَةُ فِيهَا، وَهُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بَنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرْنَ مِنَ النِّسَاءِ وَأَنَّهَا وهبت نَفسهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ زَيْدٌ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا،

فَكَرِهَتْ هِيَ وَأَخُوهَا ذَلِكَ وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَرَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَزَوَّجَنِي عَبْدَهُ ثُمَّ رَضِيَتْ هِيَ وَأَخُوهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ تَعْقِيبُ الثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِ خِصَالٍ هِيَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، بِإِيجَابِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا فِي الِاتِّصَافِ بِمَا هُوَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مِمَّا يُكْسِبُ مَوْعُودَهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ، وَسَوَّى فِي ذَلِكَ بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَعْتَزِمُ الْأَمْرَ هِيَ طَاعَةٌ وَاجِبَةٌ وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَنَّ صِنْفَيِ النَّاسِ الذُّكُورَ وَالنِّسَاءَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَمَا كَانَا سَوَاءً فِي الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ. وَإِقْحَامُ كانَ فِي النَّفْيِ أَقْوَى دِلَالَةٍ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِأَنَّ فِعْلَ كانَ لِدِلَالَتِهِ عَلَى الْكَوْنِ، أَيِ الْوُجُودِ يَقْتَضِي نَفْيُهُ انْتِفَاءَ الْكَوْنِ الْخَاصِّ بِرُمَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْمَصْدَرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعِ اسْمِ كانَ الْمَنْفِيَّةِ وَهِيَ كانَ التَّامَّةُ. وَقَضَاءُ الْأَمْرِ تَبْيِينُهُ وَالْإِعْلَامُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحجر: 66] . وَمَعْنَى إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِذَا عَزَمَ أَمْرُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَأْمُورِ خِيَارًا فِي الِامْتِثَالِ، فَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ امْتِثَالُهُ احْتِرَازًا مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ لِلَّذِينِ وَجَدَهُمْ يَأْبِرُونَ نَخْلَهُمْ: «لَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَصَلَحَتْ ثُمَّ قَالُوا تَرَكْنَاهَا فَلَمْ تَصْلُحْ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» . وَمِنْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي أول هَذِه السُّورَةِ مِنْ هَمِّهِ بِمُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ عَلَى نِصْفِ ثَمَرِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ رُجُوعِهِ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا اسْتَشَارَ السَّعْدَيْنِ، وَمِنْ نَحْوِ أَمْرِهِ يَوْمِ بَدْرٍ، بِالنُّزُولِ بِأَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ» . قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حوضا فنملأه مَاءً فنشرب وَلَا يشْربُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ» ، فَنَهَضَ بِالنَّاسِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ

وَكَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِبِلَالٍ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا ثُمَّ قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ» ، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَشَرِبَ. فَمُرَاجَعَةُ بِلَالٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ عَزْمٍ. وَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاء: 80] . فَالْمَقْصُودُ إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَمْرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [41] إِذِ الْمَقْصُودُ: فَإِنَّ لِلرَّسُولِ خُمُسَهُ. والْخِيَرَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَخَيَّرَ، كَالطِّيَرَةِ اسْمُ مَصْدَرِ تَطَيَّرَ. قِيلَ وَلَمْ يُسْمَعْ فِي هَذَا الْوَزْنِ غَيْرُهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [68] . ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ وأَمْرِهِمْ بِمَعْنَى شَأْنِهِمْ وَهُوَ جِنْسٌ، أَيْ أُمُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ اخْتِيَار بعض شؤونهم مِلْكًا يَمْلِكُونَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا خَيرَةَ لَهُمْ. وَ (مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ) لَمَّا وَقَعَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمَّانِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَلِذَلِكَ جَاءَ ضميرها ضَمِيرُهَا جَمْعٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِجَمْعِهِمْ وَلَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْخَيَرَةُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُمُومِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ تَكُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مُؤَنَّثٌ لَفْظًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَهِشَام وَابْن عَامر بِتَحْتِيَّةٍ لِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُؤَنَّثَ غَيْرَ الْحَقِيقِيِّ يَجُوزُ فِي فِعْلِهِ التَّذْكِيرُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً تَذْيِيلُ تَعْمِيمٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَوَاءٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ الْخِيَرَةُ أَمْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ لِلْهَوَى فِي الْمُخَالَفَةِ

[سورة الأحزاب (33) : آية 37]

[37] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 37] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. وَهُوَ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ اللَّهُ بِأَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ إِذْ لَا جَدْوَى فِي ذَلِكَ وَلكنه ذَكَّرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الِاعْتِبَارُ بِتَقْدِير الله تَعَالَى الْأَسْبَابَ لِمُسَبَّبَاتِهَا لِتَحْقِيقِ مُرَادِهِ سُبْحَانَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا وَقَوْلُهُ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الْأَحْزَاب: 38] . وَهَذَا مَبْدَأُ الْمَقْصُودِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى حُكْمِ إِبْطَالِ التَّبَنِّي وَدَحْضِ مَا بَنَاهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى أَسَاسِهِ الْبَاطِلِ بِنَاءً عَلَى كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ غَمَزُوا مَغَامِزَ فِي قَضِيَّةِ تَزَوَّجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالُوا: تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ وَقَدْ نَهَى عَنْ تَزَوُّجِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ. وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَتَوَابِعُهَا بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [الْأَحْزَاب: 43] الْآيَةَ. وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَنْ أَذَاهُمْ. وَزَيْدٌ هُوَ المعنيّ من قَوْله تَعَالَى: لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْخَلَاصِ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَسَّرَ دُخُولَهُ فِي ملك رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَالتَّبَنِّي وَالْمَحَبَّةِ، وَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ إِثْرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْكَلْبِيُّ مِنْ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ وَبَنُو كَلْبٍ مِنْ تَغْلِبَ. كَانَتْ خَيْلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ أَغَارُوا عَلَى أَبْيَاتٍ مِنْ بَنِي مَعْنٍ مِنْ طَيْءٍ، وَكَانَتْ أُمُّ زَيْدٍ وَهَيَ سُعْدَى بَنْتُ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي مَعْنٍ خَرَجَتْ بِهِ إِلَى قَوْمِهَا تَزُورُهُمْ فَسَبَقَتْهُ الْخَيْلُ الْمُغِيرَةُ وَبَاعُوهُ فِي سُوقِ حُبَاشَةَ (بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ زَوْجِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أَن يتزوّجها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَتْهُ خَدِيجَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَزَيْدٌ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ) وَذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَحَجَّ نَاسٌ مِنْ كَلْبٍ فَرَأَوْا زَيْدًا

بِمَكَّةَ فَعَرَفُوهُ وَعَرَفَهُمْ فَأَعْلَمُوا أَبَاهُ وَوَصَفُوا مَوْضِعَهُ وَعِنْدَ مَنْ هُوَ، فَخَرَجَ أَبُوهُ حَارِثَةُ وَعَمُّهُ كَعْبٌ لِفِدَائِهِ فَدَخَلَا مَكَّة وكلّما النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَائِهِ، فَأتى بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا فَعَرَفَهُمَا، فَقَالَ لَهُ النبيء عَلَيْهِ الْصَلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا» . قَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي اخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا، فَانْصَرَفَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُمَا بِبَقَائِهِ، فَلَمَّا رأى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ وَقَالَ: «يَا مَنْ حَضَرَ اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ» ، فَصَارَ ابْنا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حكم التبني فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ يُدْعَى: زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَهَ أُمَّ أَيْمَنٍ مَوْلَاتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَطَلَّقَهَا. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيِّ حَلِيفِ آلِ عَبْدِ شَمْسٍ وَهِيَ ابْنَةُ عَمَّتِهِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ. ثُمَّ بَعْدَ الْهِجْرَة آخى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَمَّا بَطَلَ حُكْمُ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] صَارَ يُدْعَى: حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ. وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ طَلَّقَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمُّهَا الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ وَوَلَدَتْ لَهُ زَيْدَ بْنَ زَيْدٍ وَرُقَيَّةَ ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي لَهَبٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ هِنْدَ بِنْتَ الْعَوَّامِ أُخْتَ الزُّبَيْرِ. وَشَهِدَ زَيْدٌ بَدْرًا وَالْمَغَازِي كُلَّهَا. وَقُتِلَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْجَيْشِ وَهُوَ ابْن خمس وَخمسين سَنَةً. وَزَوْجُ زَيْدٍ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسْدِيَةُ وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا زَيْنَبَ، وَأَبُوهَا جَحْشٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَكَانَ أَبُوهَا حَلِيفًا لِآلِ عَبْدِ شَمْسٍ بِمَكَّةَ وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبَدِ الْمَطَّلَبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَتَزَوجهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ عِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَعُمُرُهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، فَتَكُونُ مَوْلُودَةً سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، أَيْ سَنَةَ عِشْرِينَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْقَوْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْقَوْلِ وَتَكْرِيرِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] وَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] ، وَفِي ذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِحَثِّ

النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا على إِمْسَاكِ زَوْجِهِ وَأَنْ لَا يُطَلِّقَهَا، وَمُعَاوَدَتِهِ عَلَيْهِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ هُنَا بِالْمَوْصُولِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ الصِّلَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَهِيَ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَنَزُّهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اسْتِعْمَالِ وَلَائِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى تَطْلِيقِ زَوْجِهِ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ الصِّلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنَّ زَيْدًا أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْرَصُ عَلَى صَلَاحِهِ وَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ لِصَلَاحِهَا بِهِ، وَأَمَّا صِلَةُ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهِيَ تَوْطِئَةٌ لِلثَّانِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْثُورَ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بَقِيَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ سِنِينَ فَلَمْ تَلِدْ لَهُ، فَكَانَ إِذَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَارَةً مِنْ خِلَافٍ أَدْلَتْ عَلَيْهِ بِسُؤْدُدِهَا وَغَضَّتْ مِنْهُ بِوِلَايَتِهِ فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَاءَ يُعْلِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مِنْ عِنْدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَنْكِحُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَذَلِكَ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ مُخْتَارُ بَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيِّ (¬1) وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الرُّؤْيَا كَمَا أُرِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: «أَتَانِي بِكِ الْمَلَكُ فِي الْمَنَامِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ يَقُولُ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يمضه» . فَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» تَوْفِيَةً بِحَقِّ النَّصِيحَةِ وَهُوَ أَمْرُ نُصْحٍ وَإِشَارَةٍ بِخَيْرٍ لَا أَمْرُ تَشْرِيعٍ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَصَرِّفٌ بِحَقِّ الْوَلَاءِ وَالصُّحْبَةِ لَا بِصِفَةِ التَّشْرِيعِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَدَاءُ هَذِهِ الْأَمَانَةِ لَا يَتَأَكَّدُ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْنَبَ صَائِرَةٌ زَوْجًا لَهُ لِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيءِ بِمَا سَيَكُونُ لَا يَقْتَضِي إِجْرَاءَهُ إرشاده أَوْ تَشْرِيعَهُ بِخِلَافِ عِلْمِهِ أَوْ ظَنّه فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَبَا ¬

(¬1) هُوَ من الْمَالِكِيَّة، توفّي سنة 344. تَرْجمهُ فِي «المدارك» .

جَهْلٍ مَثَلًا لَا يُؤْمِنُ وَلَمْ يمنعهُ ذَلِك من أَنْ يُبَلِّغَهُ الرِّسَالَةَ وَيُعَاوِدَهُ الدَّعْوَةَ، وَلِأَنَّ رَغْبَتَهُ فِي حُصُولِ شَيْءٍ لَا تَقْتَضِي إِجْرَاءَ أَمْرِهِ عَلَى حَسَبِ رَغْبَتِهِ إِنْ كَانَتْ رَغْبَتُهُ تُخَالِفُ مَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يَرْغَبُ أَنْ يقوم أحد بقتل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قَبْلَ أَن يسمع مِنْهُ إِعْلَانَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنِ ارْتِدَادِهِ حِينَ جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمَ الْفَتْحِ تَائِبًا. وَلِذَلِكَ كُلِّهِ لَا يُعَدُّ تَصْمِيمُ زَيْدٍ عَلَى طَلَاقِ زَيْنَب عصيانا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ. وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا الْمَصِيرُ إِلَى إِشَارَةِ الْمُشِيرِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ مَعَ زَوْجِهَا مُغِيثٍ إِذْ قَالَ لَهَا: «لَوْ رَاجَعْتِهِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» . وَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْ زَيْدٍ بِأَنْ جَاءَ زَيْدٌ مُسْتَشِيرًا فِي فِرَاقِ زَوْجِهِ، أَوْ مُعْلِمًا بِعَزْمِهِ عَلَى فِرَاقِهَا. وأَمْسِكْ عَلَيْكَ مَعْنَاهُ: لَازِمْ عِشْرَتَهَا، فَالْإِمْسَاكُ مُسْتَعَارٌ لِبَقَاءِ الصُّحْبَةِ تَشْبِيهًا لِلصَّاحِبِ بِالشَّيْءِ الْمُمْسَكِ بِالْيَدِ. وَزِيَادَةُ عَلَيْكَ لِدِلَالَةِ (عَلَى) عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] أَوْ لِتَضَمُّنِ أَمْسِكْ مَعْنَى احْبِسْ، أَيِ ابْقِ فِي بَيْتِكَ زَوْجِكِ، وَأَمْرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَابِعٌ لِلْإِشَارَةِ بِإِمْسَاكِهَا، أَيِ اتَّقِ اللَّهَ فِي عِشْرَتِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَلَا تَحِدْ عَنْ وَاجِبِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، أَيِ اتَّقِ اللَّهَ بِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَة: 229] . وَجُمْلَةُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَقُولُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَتُخْفِي لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ إِخْفَاءِ ذَلِكَ وَعَدَمِ ذِكْرِهِ وَالَّذِي فِي نَفْسِهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُ زَيْنَبَ وَأَنَّ زَيْدًا يُطَلِّقُهَا وَذَلِكَ سِرٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ وَلَا مِمَّا للنَّاس فَائِدَة فِي عِلْمِهِ حَتَّى يُبَلِّغُوهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلِمْ عَائِشَةَ وَلَا أَبَاهَا بِرُؤْيَا إِتْيَانِ الْمَلَكِ بِهَا فِي سَرقَة من حَرِيرٍ إِلَّا بَعْدَ أَن تزَوجهَا. فَمَا صدق «مَا فِي نَفْسِكَ» هُوَ التَّزَوُّجُ بِزَيْنَبَ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي سَيُبْدِيهِ اللَّهُ

لِأَنَّ اللَّهَ أَبْدَى ذَلِك فِي تزوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا وَلَمْ يُبِدِ اللَّهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَخَفَاهُ فِي نَفسه أمرا يَصْلُحُ لِلْإِظْهَارِ فِي الْخَارِج، أَي أَن يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ. وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَقُولُ كَمَا جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْعِتَابِ عَلَى أَنْ يَقُولَ كَلَامًا يُخَالِفُ مَا هُوَ مَخْفِيٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ مَعْنًى، إِذْ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ اللَّائِقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ يُنَافِي مُقْتَضَى الِاسْتِشَارَةِ، وَيُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي صَلَاحِيَةِ زَيْنَبَ لِلْبَقَاءِ فِي عِصْمَةِ زَيْدٍ، وَقَدِ اسْتَشْعَرَ هَذَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ فَمَاذَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ أَن يَقُوله حِينَ قَالَ لَهُ زَيْدٌ: أُرِيدُ مُفَارَقَتَهَا، وَكَانَ مِنَ الْهُجْنَةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: افْعَلْ فَإِنِّي أُرِيدُ نِكَاحَهَا. قُلْتُ: كَانَ الَّذِي أَرَادَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْمُتَ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ يَقُولَ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِشَأْنِكَ حَتَّى لَا يُخَالِفُ سِرَّهُ فِي ذَلِكَ عَلَانِيَتَهُ» اهـ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَسَاسِ كَوْنِهِ عِتَابًا وَفِيهِ وَهَنٌ. وَجُمْلَةُ وَتَخْشَى النَّاسَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ، أَيْ تُخَفِي مَا سَيُبْدِيهِ اللَّهُ وَتَخْشَى النَّاسَ مِنْ إِبْدَائِهِ. وَالْخَشْيَةُ هُنَا كَرَاهِيَةُ مَا يُرْجِفُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَالْكَرَاهَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْخَشْيَةِ إِذِ الْخَشْيَةُ جِنْسٌ مَقُولٌ عَلَى أَفْرَادِهِ بِالتَّشْكِيكِ فَلَيْسَتْ هِيَ خَشْيَةُ خوف، إِذْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَخَافُ أَحَدًا مِنْ ظُهُورِ تَزَوُّجِهِ بِزَيْنَبَ، وَلَمْ تَكُنْ قَدْ ظَهَرَتْ أَرَاجِيفُ الْمُنَافِقِينَ بعد، وَلَكِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَسَّمُ مِنْ خُبْثِهِمْ وَسُوءِ طَوِيَّتِهِمْ مَا يَبْعَثهُم على القالة فِي النَّاس لفتنة الْأمة، فَكَانَ يعلم مَا سيقولونه ويمتعض مِنْهُ، كَمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ، وَلَمْ تَكُنْ خَشْيَةً تَبْلُغُ بِهِ مَبْلَغَ صَرْفِهِ عَمَّا يَرْغَبُهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَزَوُّجِ زَيْنَبَ بَعْدَ طَلَاقِ زَيْدٍ، وَلَكِنَّهَا اسْتِشْعَارٌ فِي النَّفْسِ وَتَقْدِيرٌ لِمَا سَيُرْجِفُهُ الْمُنَافِقُونَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ لِلْعَهْدِ، أَيْ تَخْشَى الْمُنَافِقِينَ، أَيْ يُؤْذُوكَ بِأَقْوَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ مُعْتَرَضَةٌ لِمُنَاسَبَةِ جَرَيَانِ ذِكْرِ خَشْيَةِ النَّاسِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاوَ الْحَالِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ

وَاخْشَوْنِ [الْمَائِدَة: 44] . وَحَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْحَالِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى جَعْلِ الْكَلَام عتابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَحَقُّ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ فَهُوَ بِمَعْنَى حَقِيقٍ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مَا يُفِيدُ وُقُوعَ إِيثَارِ خَشْيَةِ النَّاسِ عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، وَلَا مَا يُفِيدُ تَعَارُضًا بَيْنَ الْخَشْيَتَيْنِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَرْجِيحِ خَشْيَةِ اللَّهِ عَلَى خَشْيَةِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تَخْشَاهُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ قَدَّمَ خَشْيَةَ النَّاسِ عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ شَيْئًا فَعَمِلَ بِخِلَافِهِ. وَبِهَذَا تعلم أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَقَدْ قَامَ بِعَمَلِ الصَّاحِبِ النَّاصِحِ حِينَ أَمَرَ زَيْدًا بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ وَانْطَوَى عَلَى عِلْمٍ صَالِحٍ حِينَ خشِي مَا سيفترصه الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْقَالَةِ إِذَا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ خُفْيَةً أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ فِتْنَةً لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيَاهُ فِي اللَّيْلِ مَعَ زَيْنَبَ فَأَسْرَعَا خُطَاهُمَا فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ زَيْنَبُ. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مجْرى الدَّم وَإِنِّي خَشِيَتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبكُمَا» . فمقام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامُ الطَّبِيبِ النَّاصِحِ فِي بِيمَارِسْتَانَ يَحْوِي أَصْنَافًا مِنَ الْمَرْضَى إِذَا رَأَى طَعَامًا يُجْلَبُ لِمَا لَا يَصْلُحُ بِبَعْضِ مَرْضَاهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ إِدْخَالِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ بِمَرَضِهِ وَيَزِيدُ فِي عِلَّتِهِ أَوْ يُفْضِي إِلَى انْتِكَاسِهِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ عِتَابٌ وَلَا لَوْمٌ، وَلَكِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ تَوَقِّيهِ قَالَةَ الْمُنَافِقِينَ. وَحَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى العتاب وَلَيْسَ من سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَحْسَبُهُمْ مُخْطِئِينَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ تَشْجِيعٌ لَهُ وَتَحْقِيرٌ لِأَعْدَاءِ الدِّينِ وَتَعْلِيمٌ لَهُ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي سَبِيلِهِ وَيَتَنَاوَلَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ وَلِرُسُلِهِ مِنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ مَرْغُوبَاتِهِمُ وَمَحَبَّاتِهِمْ إِذَا لَمْ يَصُدُّهُمْ شَيْء من ذَلِك عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ عَلَى النَّبِيءِ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْزَاب: 38، 39] ،

وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] ، فَهَذَا جَوْهَرُ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُشِيرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَخْبَارٌ مَخْلُوطَةٌ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَى نَفْسِكَ مِنْهَا أُغْلُوطَةٌ، فَلَا تُصْغِ ذِهْنَكَ إِلَى مَا أَلْصَقَهُ أَهْلُ الْقِصَصِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَبْسِيطٍ فِي حَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَ زَيْدًا بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُخْتَلَقَاتِ الْقَصَّاصِينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا من الْقصاص لِتَزْيِينِ الْقِصَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مِنْ أَرَاجِيفِ الْمُنَافِقِينَ وَبُهْتَانِهِمْ فَتَلَقَّفَهُ الْقَصَّاصُ وَهُوَ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ فِيمَا يُؤْثَرُ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَثَرًا مُسْندًا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِلَى زَيْدٍ أَوْ إِلَى زَيْنَبَ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَة رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ، وَلكنهَا كلهَا قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَقِيلَ وَقَالَ. وَلِسُوءِ فَهْمِ الْآيَةِ كَبُرَ أَمْرُهَا عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَفَزَّتْ كَثِيرًا مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ تَصَدَّى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» لِوَهْنِ أَسَانِيدِهَا وَكَذَلِكَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَالْآنَ نُرِيدُ أَنْ نَنْقُلَ مَجْرَى الْكَلَامِ إِلَى التَّسْلِيمِ بِوُقُوعِ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَاهِيَةِ السَّنَدِ لِكَيْ لَا نَتْرُكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُهْوَاةً لِأَحَدٍ. وَمَجْمُوعُ الْقِصَّةِ مِنْ ذَلِك: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بَيْتَ زَيْدٍ يَسْأَلُ عَنْهُ فَرَأى زَيْنَب متفضلة، وَقِيلَ رَفَعَتِ الرِّيحُ سِتَارَ الْبَيْت فَرَأى النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَيْنَبَ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ فَأَعْجَبَهُ حَسْنُهَا وَسَبَّحَ لِلَّهِ، وَأَنَّ زَيْنَبَ عَلِمَتْ أَنَّهُ وَقَعَتْ مِنْهُ مَوْقِعَ الِاسْتِحْسَانِ وَأَنَّ زَيْدًا عَلِمَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِيُؤْثِرَ بهَا مَوْلَاهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لما أخبر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ (وَهُوَ يَوَدُّ طَلَاقَهَا فِي قَلْبِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا صَائِرَةٌ زَوْجًا لَهُ) . وَعَلَى تَفَاوُتِ أَسَانِيدِهِ فِي الْوَهْنِ أُلْقِيَ إِلَى النَّاسِ فِي الْقِصَّةِ فَانْتُقِلَ غَثُّهُ وَسَمِينُهُ، وَتُحُمِّلَ خِفُّهُ وَرَزِينُهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ كُلٌّ مَا وَسِعَهُ فَهْمُهُ وَدِينُهُ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ وَاقِعًا لَمَا كَانَ فِيهِ مَغْمَزٌ فِي مقَام النبوءة.

فَأَمَّا رُؤْيَتُةُ زَيْنَبَ فِي بَيْتِ زَيْدٍ إِنْ كَانَتْ عَنْ عَمْدٍ فَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ فِي بَيْتِ زَيْدٍ، فَإِنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَأَى وَجْهَهَا وَأَعْجَبَتْهُ وَلَا أَحْسَبُ ذَلِكَ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَكُنَّ يَسْتُرْنَ وُجُوهَهُنَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها [النُّور: 31] (أَيِ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ) وَزَيْدٌ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاس اتِّصَالًا بالنبيء، وَزَيْنَبُ كَانَتِ ابْنَةَ عَمَّتِهِ وَزَوْجَ مَوْلَاهُ وَمَتْبَنَاهُ، فَكَانَتْ مُخْتَلِطَةً بِأَهْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا زَيْدًا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَا رَآهَا إِلَّا حِينَ جَاءَ بَيْتَ زَيْدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ رَفَعَتِ السِّتْرَ فَرَأَى مِنْ مَحَاسِنِهَا وَزِينَتِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَذَلِكَ لَا عَجَبَ فِيهِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْفَجْأَةِ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا، وَحُصُولَ الِاسْتِحْسَانِ عَقِبَ النَّظَرِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ أَمْرٌ قَهْرِيٌّ لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَلِ اسْتِحْسَانُ ذَاتِ الْمَرْأَةِ إِلَّا كَاسْتِحْسَانِ الرِّيَاضِ وَالْجَنَّاتِ وَالزُّهُورِ وَالْخَيْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا سَمَّاهُ اللَّهُ زِينَةً إِذَا لَمْ يُتْبِعُهُ النُّظَّارُ نَظْرَةً. وَأَمَّا مَا خَطَرَ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَوَدَّةِ تَزَوُّجِهَا فَإِنْ وَقَعَ فَمَا هُوَ بِخَطْبٍ جَلِيلٍ لِأَنَّهُ خَاطِرٌ لَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَتَخْشَى النَّاسَ لَيْسَ بِلَوْمٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لَيْسَ فِيهِ لَوْمٌ وَلَا تَوْبِيخٌ عَلَى عَدَمِ خَشْيَةِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِخَشْيَةِ النَّاسِ. وَإِنَّمَا تَظْهَرُ مَجَالَاتُ النُّفُوسِ فِي مَيَادِينِ الْفُتُوَّةِ بِمِقْدَارِ مُصَابَرَتِهَا عَلَى الْكَمَالِ فِي مُقَاوَمَةِ مَا يَنْشَأُ عَنْ تِلْكَ الْمَرَائِي مِنْ ضَعْفٍ فِي النُّفُوسِ وَخَوْرِ الْعَزَائِمِ وَكَفَاكَ دَلِيلًا عَلَى تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَنْ تَرْسُخُ قَدَمُهُ فِي أَمْثَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ زَيْدًا فِي إِمْسَاكِ زَوْجِهِ مُشِيرًا عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُ وَزَيْدٌ يَرَى ذَلِكَ إِشَارَةً وَنُصْحًا لَا أَمْرًا وَشَرْعًا. وَلَوْ صَحَّ أَنَّ زَيْدًا علم مَوَدَّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوُّجَ زَيْنَبَ فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ لِذَلِكَ دُونَ أَمر من النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا التَّمَاسٍ لَمَا كَانَ عَجَبًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يؤثرون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ تَنَازَلَ لَهُ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ لَهُ فِي سَهْمِهِ مِنْ مَغَانِمِ خَيْبَرَ، وَقَدْ عَرَضَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ على عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ أَن يتنازل لَهُ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ يَخْتَارُهَا لِلْمُؤَاخَاةِ الَّتِي آخى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بَيْنَهُمَا. وَأما إِشَارَة النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى زَيْدٍ بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا سَتَصِيرُ زَوْجَةً لَهُ فَهُوَ أَدَاءٌ لِوَاجِبِ أَمَانَةِ الِاسْتِنْصَاحِ وَالِاسْتِشَارَةِ، وَقَدْ يُشِيرُ الْمَرْءُ بِالشَّيْءِ يَعْلَمُهُ مَصْلَحَةً وَهُوَ يُوقِنُ أَنَّ إِشَارَتَهُ لَا تُمْتَثَلُ. والتخليط بَين الْحَالين تَخْلِيطٌ بَيْنَ التَّصَرُّفِ الْمُسْتَنِدِ لِمَا تَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَحْوَالِ وَبَيْنَ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ، وَأَشْبَهُ مَقَامٍ بِهِ مَقَامُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ فِي الْقَضَايَا الثَّلَاثِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُ، لِأَنَّ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ الْمَذْمُومَةِ مَا كَانَتْ مِنِ الْخِيَانَةِ وَالْكَيْدِ. وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا مِنَ الْكَذِبِ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِزَيْدٍ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ لَا يُنَاقِضُ رَغْبَتَهُ فِي تَزَوُّجِهَا وَإِنَّمَا يُنَاقِضُهُ لَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُمْسِكَ زَوْجَكَ، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشَارَةَ طَلَبُ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ صَلَاحٌ لِلْمُسْتَشِيرِ لَا مَا هُوَ صَلَاحٌ لِلْمُسْتَشَارِ. وَمِنْ حَقِّ الْمُسْتَشَارِ إِعْلَامُ الْمُسْتَشِيرِ بِمَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُ فِي نَظَرِ الْمُشِيرِ، وَإِنْ كَانَ صَلَاحُ الْمُشِيرِ فِي خِلَافِهِ، فَضْلًا عَلَى كَوْنِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِنَّمَا هُوَ تَخَالُفٌ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَبَيْنَ مَا عَلِمَهُ النَّاصِحُ مِنْ أَنَّ نُصْحَهُ لَا يُؤَثِّرُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ الْآيَةَ. قُلْتُ: أَرَادَتْ أَنَّ رَغْبَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَزَوُّجِ زَيْنَبَ أَوْ إِعْلَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِذْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى أَحَدٍ. وَعَلَى ذَلِكَ السِّرِّ انْبَنَى مَا صَدَرَ مِنْهُ لزيد من قَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ. فَلَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ وَرَامَ تَزَوُّجَهَا عَلِمَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَرْجُفُونَ بِالسُّوءِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِ ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ وَتَبْلِيغِ خَبَرَهُ بَلَّغَهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَتْمِهِ تَعْطِيلُ شَرْعٍ وَلَا نَقْصُ مَصْلَحَةٍ، فَلَوْ كَانَ كَاتِمًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ حِكَايَةُ سِرٍّ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ وَحْيًا بَلَّغَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ كُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَقَائِقِ نِصَابَهَا، وَلِلتَّصَرُّفَاتِ مَوَانِعَهَا وَأَسْبَابَهَا، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ تَمْتَلِكُهُمُ الْعَوَائِدُ، فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْفَوَائِدِ، فَإِذَا تَفَشَّتْ أَحْوَالٌ فِي

عَادَاتِهِمُ اسْتَحْسَنُوهَا وَلَوْ سَاءَتْ، وَإِذَا نَدَرَتِ الْمَحَامِدُ دَافَعُوهَا إِذَا رَامَتْ مُدَاخَلَةَ عُقُولِهِمْ وَشَاءَتْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِ الْفِطْرَةِ عَنْ وَضْعِهَا، وَالْمُبَاعَدَةِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَشَرْعِهَا. وَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَخَذَ يَغْزُو تِلْكَ الْجُيُوشَ لِيَقْلَعَهَا مِنْ أَقَاصِيهَا، وَيُنْزِلُهَا مِنْ صَيَاصِيهَا، فَالْحَسَنُ الْمَشْرُوعُ مَا تَشْهَدُ الْفِطْرَةُ لِحُسْنِهِ، وَالْقَبِيحُ الْمَمْنُوعُ الَّذِي أَمَاتَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَأَمَرَتْ بِدَفْنِهِ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ الْآيَةَ، وَقَدْ طُوِيَ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَتَقْدِيرُهُ: فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ مَا أَشَرْتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْسِكْهَا. وَمَعْنَى قَضى اسْتَوْفَى وَأَتَمَّ. وَاسْمُ زَيْدٌ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَلَمَّا قَضَى مِنْهَا وَطَرًا، أَيْ قَضَى الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ وَأَنْعَمَتَ عَلَيْهِ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ زَيْدٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا نُزِعَ عَنْهُ هَذَا الشَّرَفُ حِينَ نَزَلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: 5] وَعَلِمَ اللَّهُ وَحَشَتَهُ مِنْ ذَلِكَ شَرَّفَهُ بِخَصِيصَةٍ لَمْ يَكُنْ يَخُصُّ بِهَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِي أَنه سَمَّاهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ نُوِّهَ غَايَةَ التَّنْوِيهِ اهـ. وَالْوَطَرُ: الْحَاجَةُ الْمُهِمَّةُ، وَالنَّهْمَةُ قَالَ النَّابِغَةُ: فَمَنْ يَكُنْ قَدْ قَضَى مِنْ خَلَّةٍ وَطَرًا ... فَإِنَّنِي مِنْكِ مَا قَضَّيتُ أَوْطَارِي وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا اسْتَتَمَّ زَيْدٌ مُدَّةَ مُعَاشَرَةِ زَيْنَبَ فَطَلَّقَهَا، أَيْ فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ لَهُ وَطَرٌ مِنْهَا.

وَمَعْنَى زَوَّجْناكَها إِذْنًا لَكَ بِأَنْ تَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ زَيْنَبُ أَيِّمًا فَتَزَوَّجَهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرِضَاهَا. وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ: أَنَّهَا زَوَّجَهَا إِيَّاهُ أَخُوهَا أَبُو أَحْمَدَ الضَّرِيرِ وَاسْمُهُ عَبْدُ بْنُ جَحْشٍ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَزَوُّجِهَا قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي أَوْثَقَ مِنْكَ فَاخْطُبْ زَيْنَبَ عَلَيَّ، قَالَ زَيْدٌ: فَجِئْتُهَا فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي تَوْقِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَذْكُرُكِ. فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَصَلَّتْ صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ فَرَضِيَتْ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ فَبَنَى بِهَا. وَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ على نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ وَزَوَّجَنِي رَبِّي. وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْ لَمْ يَتَوَلَّ أَخُوهَا أَبُو أَحْمَدَ تَزْوِيجَهَا فَتَكُونُ هَذِه خُصُوصِيَّة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ كَالْمَالِكِيَّةِ دُونَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَات أنّ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْدَقَهَا فَعَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ السَّيَرِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ فِي تَزَوُّجِهَا خُصُوصِيَّتَانِ نَبَوِيَّتَانِ. وَأَشَارَ إِلَى حِكْمَةِ هَذَا التَّزْوِيجِ فِي إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ إِبْطَالُ الْحَرَجِ الَّذِي كَانَ يَتَحَرَّجُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ زَوْجَةَ دَعِيِّهِ، فَلَمَّا أَبْطَلَهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ إِذْ قَالَ: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] أَكَّدَ إِبْطَالَهُ بِالْفِعْلِ حَتَّى لَا يَبْقَى أَدْنَى أَثَرٍ مِنَ الْحَرَجِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ ذَاكَ وَإِنْ صَارَ حَلَالًا فَيَنْبَغِي التَّنَزُّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الْكَمَالِ، فَاحْتِيطَ لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةِ الدَّعِيِّ مِنْ أَفْضَلِ النَّاس وَهُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ اللَّامِ وَكَيْ تَوْكِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَتِ الْعِلَّةُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ سَوَاء بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ زَوَّجْناكَها. وَأَمْرُ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ من أَمر بِهِ مِنْ إِبَاحَةِ تَزَوُّجِ مَنْ كُنَّ حَلَائِلَ الأدعياء، فَهُوَ بِمَعْنى الْأَمْرِ التَّشْرِيعِيِّ فِيهِ. وَمَعْنَى مَفْعُولًا أَنَّهُ مُتَّبَعٌ ممتثل فَلَا يتنزه أَحَدٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: 32] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْأَمْرُ التَّكْوِينِيُّ وَهُوَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ وَقَدَّرَ أَسْبَابَ كَوْنِهِ،

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 إلى 39]

فَيَكُونُ مَعْنَى مَفْعُولًا وَاقِعًا، وَالْأَمْرُ مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَالْمَفْعُولُ هُوَ الْمُسَبَّبُ. وَتَزَوُّجُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ مِنْ أَمْرِ الله بالمعنيين. [38، 39] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 38 إِلَى 39] مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ بَيَان مُسَاوَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأُمَّةِ فِي إِبَاحَةِ تَزَوُّجِ مُطَلَّقَةِ دَعِيِّهِ وَبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يخل بِصفة النبوءة لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [الْمُؤْمِنُونَ: 51] ، وَأَن النبيء إِذَا رَامَ الِانْتِفَاعَ بِمُبَاحٍ لِمَيْلِ نَفْسِهِ إِلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ لِئَلَّا يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَلْيَقَ بِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ عَزِيمَتَهُ وَمُجَاهَدَتَهُ لِدَفْعِ مَا أُمِرَ بِتَجَنُّبِهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءٌ لِنَقْضِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقين أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ. وَمَعْنَى: فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قَدَّرَهُ، إِذْ أَذِنَهُ بِفِعْلِهِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ فَرَضَ بِاللَّامِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنى بِخِلَاف تعديته بِحَرْفِ (عَلَى) كَقَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ [الْأَحْزَاب: 50] . وَالسُّنَّةُ: السِّيرَةُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ خُلُقٍ يُلَازِمُهُ صَاحِبُهُ. وَمَضَى الْقَوْلُ فِي هَلِ السُّنَّةُ اسْمٌ جامد أَو اسْم مَصْدَرٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [137] ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَانْتِصَابُ سُنَّةَ اللَّهِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ وَمَصْدَرٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» كَقَوْلِهِمْ: تُرْبًا وَجَنْدَلًا، أَيْ فِي الدُّعَاءِ، أَيْ تَرِبَ تُرْبًا. وَأَصْلُهُ: تُرْبٌ لَهُ وَجَنْدَلٌ لَهُ. وَجَاءَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَصْلِ قَوْلُ الْمَعَرِّي: تَمَنَّتْ قُوَيْقًا وَالسَّرَاةُ حِيَالَهَا ... تُرَابٌ لَهَا مِنْ أَيَنُقٍ وَجِمَالٍ

سَاقَهُ مَسَاقَ التَّعَجُّبِ الْمَشُوبِ بِغَضَبٍ. وَعَلَى الثَّانِي فَانْتِصَابُ سُنَّةَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْفِعْلُ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ أَوْ نَائِبُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: سَنَّ اللَّهُ سُنَّتَهُ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعٌ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ اتِّبَاعًا لِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ كَمَا فَرَضَ لَهُمْ، أَيْ أَبَاحَ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ خَلَوْا: الْأَنْبِيَاءُ بِقَرِينَةِ سِيَاق لفظ النبيء، أَيِ الَّذِينَ خَلَوْا من قبل النبوءة، وَقَدْ زَادَهُ بَيَانًا قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ، فَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا مُتَزَوِّجِينَ وَكَانَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ عِدَّةُ أَزْوَاجٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِمْ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِهِنَّ. فَإِنْ وَقْفَنَا عِنْدَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَيَّنَتْهُ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ فَالْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِنْ تَلَقَّيْنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْإِغْضَاءِ بَعْضَ الْآثَارِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي أُلْصِقَتْ بِقِصَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِبْرَةً بِالْخُصُوصِ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَاتٌ وَكَانَ قَدْ أَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَوْجَةَ (أُورْيَا) وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ لَهَا مَثَلًا بِالْخَصْمِ الَّذِينَ تُسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ وَتَشَاكَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَسَتَأْتِي فِي سُورَةِ ص، وَقَدْ ذُكِرَتِ الْقِصَّةُ فِي «سِفْرِ الْمُلُوكِ» . وَمَحَلُّ التَّمْثِيلِ بِدَاوْدَ فِي أَصْلِ انْصِرَافِ رَغْبَتِهِ إِلَى امْرَأَةٍ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا لَهُ فَصَارَتْ حَلَالًا لَهُ، وَلَيْسَ مَحِلُّ التَّمْثِيلِ فِيمَا حَفَّ بِقِصَّةِ دَاوُدَ مِنْ لَوْمِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص: 24] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي قِصَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ. وَجُمْلَةُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً مُعْتَرضَة بَين الْمَوْصُول وَالصِّفَةِ إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ صِفَةً لِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أَوْ تَذْيِيلٌ مِثْلَ جُمْلَةِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الْأَحْزَاب: 37] إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ مُسْتَأْنَفَةً كَمَا سَيَأْتِي، وَالْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.

وَالْقَدَرُ بِفَتْحِ الدَّالِ: إِيجَادُ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَدْرِ بِسُكُونِ الدَّالِ وَهُوَ الْكِمِّيَّةُ الْمُحَدَّدَةُ الْمَضْبُوطَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [17] وَقَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [21] . وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا مُحْكَمًا كَثُرَتِ الْكِنَايَةُ بِالْقَدَرِ عَنِ الْإِتْقَانِ وَالصُّدُورِ عَنِ الْعِلْمِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ» ، أَيْ مِنَ اللَّهِ. وَاصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْقَدَرَ اسْمٌ لِلْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَيُطْلِقُونَهُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْقَدَرُ وَهُوَ الْمَقْدُورُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْمَعْنَى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مُقَدَّرًا عَلَى حِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَاللَّهُ لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ الَّتِي فَارَقَهَا زَيْدٌ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَائِقٌ بِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا قَدَّرَ لِأَسْلَافِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ جِيءَ بِالْمَوْصُولِ دُونَ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوِ الضَّمِيرِ لِمَا فِي هَذِهِ الصِّلَةِ مِنْ إِيمَاءٍ إِلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُمْ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ بِتَجَنُّبِ مَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِشْقَاقَ نُفُوسِهِمْ بِتَرْكِ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا، وَلَا حَجْبَ وِجْدَانِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الْحَسَنِ وَقُبْحِ الْقَبِيحِ، وَلَا عَنِ انْصِرَافِ الرَّغْبَةِ إِلَى تَنَاوُلِ مَا حَسُنَ لَدَيْهِمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا كلّفهم مُرَاعَاة ميول النَّاسِ وَمُصْطَلَحَاتِهِمْ وَعَوَائِدِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْحَيْدَةِ بِالْأُمُورِ عَنْ مَنَاهِجِهَا فَإِنَّ فِي تَنَاوُلِهِمْ رَغَبَاتِهِمُ الْمُبَاحَةَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى النَّشَاطِ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، أَيْ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا خَشْيَةً تَقْتَضِي فِعْلَ شَيْءٍ أَوْ تَرْكَهُ. ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلَّذِينِ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أَيِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِذْ قَدْ علم أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعٌ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ اتِّبَاعَهُ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَشْيَةَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ [الْأَحْزَاب: 37] لَيْسَتْ خَشْيَةَ خَوْفٍ تُوجِبُ تَرْكَ مَا يَكْرَهُهُ النَّاسُ أَوْ فِعْلَ مَا يَرْغَبُونَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ النَّاسُ محتسبين على النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

[سورة الأحزاب (33) : آية 40]

وَالسَّلَامُ وَلَكِنَّهَا تَوَقُّعُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ مَا يكرههُ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً، أَيِ اللَّهُ حَسِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لَا غَيْرُهُ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَا تَسْلُكْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَسْلَكًا يُفْضِي بِكَ إِلَى تَوَهُّمِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَتْ مِنْهُ خَشْيَةُ النَّاسِ وَأَنَّ اللَّهَ عَرَّضَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تَصْرِيحًا بَعْدَ أَنْ عَرَّضَ بِهِ تَلْمِيحًا فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ [الْأَحْزَاب: 37] بَلِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكْتَرِثْ بِهِمْ وَأَقَدَمَ عَلَى تَزَوُّجِ زَيْنَبَ، فَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي مَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْله: زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَاب: 37] وَلَمْ يَتَأَخَّرْ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حَيْثُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةً مَجْرَى الْمَثَلِ وَالْحِكْمَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا وَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَيْسَ فِي الْآيَة مجَال للاستدراك عَلَيْهَا بِمَسْأَلَةِ التُّقْيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: 28] . [40] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 40] مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) اسْتِئْنَافٌ لِلتَّصْرِيحِ بِإِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَمَا يُلْقِيهِ الْيَهُودُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الشَّكِّ. وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: 4] . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ قَطْعُ تَوَهُّمِ أَن يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدٌ مِنَ الرِّجَالِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام البنوّة حَتَّى لَا يَتَطَرَّقَ الْإِرْجَافُ وَالِاخْتِلَاقُ إِلَى مَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابِهِ مِثْلَ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ. ومِنْ رِجالِكُمْ وَصْفٌ لِ أَحَدٍ، وَهُوَ احْتِرَاسٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَنَاتٍ. وَالْمَقْصُودُ: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ أَبًا لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ أَوْ وَلَدَانِ بِمَكَّةَ مِنْ خَدِيجَةَ وَهُمُ الطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ (أَوْ هُمَا اسْمَانِ

لِوَاحِدٍ) وَالْقَاسِمُ، وَوُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَكُلُّهُمْ مَاتُوا صِبْيَانًا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَوْجُودٌ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْمَنْفِيُّ هُوَ وَصْفُ الْأُبُوَّةِ الْمُبَاشِرَةِ لِأَنَّهَا الْغَرَضُ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ وَالَّذِي وَهِمَ فِيهِ مَنْ وَهِمَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَوْنِهِ جَدًّا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَمُحْسِنٍ أَبْنَاءِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُودٍ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ نَفْيُ أُبُوَّتِهِ لَهُمْ بِمَعْنَى الْأُبُوَّةِ الْعُلْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أُبُوَّةُ الصُّلْبِ دُونَ أُبُوَّةِ الرَّحِمِ. وَإِضَافَةُ (رِجَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَالْعُدُولُ عَنْ تَعْرِيفِهِ بِاللَّامِ لِقَصْدِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْخَائِضِينَ فِي قَضِيَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ إِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ فِي صِيغَةِ التَّغْلِيطِ وَالتَّغْلِيظِ. وَأَمَّا تَوْجِيهُهُ بِأَنَّهُ كَالِاحْتِرَازِ عَنْ أَحْفَادِهِ وَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ رِجالِكُمْ وَأَمَّا الْأَحْفَادُ فَهُمْ مِنْ رِجَالِهِ فَفِيهِ سَمَاجَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الصِّلَةُ الشَّبِيهَةُ بِصِلَةِ الْأُبُوَّةِ الثَّابِتَةِ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ لِرَفْعِ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَفْيِ أُبُوَّتِهِ، مِنِ انْفِصَالِ صِلَةِ التَّرَاحُمِ وَالْبِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ فَذُكِّرُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَالْأَبِ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ فِي شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَفِي بِرِّهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ إِيَّاهُ، شَأْن كل نبيء مَعَ أُمَّتِهِ. وَالْوَاوُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لكِنْ زَائِدَةٌ ولكِنْ عَاطِفَةٌ وَلَمْ تَرِدْ لكِنْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَاطِفَةً إِلَّا مُقْتَرِنَةٌ بِالْوَاوِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» . وَحَرْفُ لكِنْ مُفِيدٌ الِاسْتِدْرَاكَ. وَعَطْفُ صِفَةِ وَخَاتم النَّبِيئِينَ عَلَى صِفَةِ رَسُولَ اللَّهِ تَكْمِيلٌ وَزِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِمَقَامِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي انْتِفَاءِ أُبُوَّتهِ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ حِكْمَةً قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ إِرَادَةُ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا مِثْلَ الرُّسُلِ أَوْ أَفْضَلَ فِي جَمِيع خَصَائِصه. وَإِذ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ لَمْ يَخْلُ عَمُودُ أَبْنَائِهِمْ مِنْ نَبِيءٍ كَانَ كَوْنُهُ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ مُقْتَضِيًا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَبْنَاءٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَمْ تُخْلَعْ

عَلَيْهِمْ خُلْعَةُ النبوءة لِأَجْلِ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ غَضًّا فِيهِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ وَذَلِكَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ قَطْعَ النُّبُوءَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَفَ عِيسَى عَنِ التَّزَوُّجِ. فَلَا تَجْعَلْ قَوْلَهُ: وَخَاتِمَ النَّبِيئِينَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْرَاكِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ تَكْمِيلٌ وَاسْتِطْرَادٌ بِمُنَاسَبَةِ إِجْرَاءِ وَصْفِ الرِّسَالَةِ عَلَيْهِ. وببيان هَذِه الْحِكْمَةِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ بِجُمْلَةِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إِذْ أَظْهَرَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِيمَا قَدَّرَهُ مِنَ الْأَقْدَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْمَائِدَة: 97] . وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ وَأَنه لَا نبيء بَعْدَهُ فِي الْبَشَرِ لِأَنَّ النَّبِيئِينَ عَامٌّ فَخَاتَمُ النَّبِيئِينَ هُوَ خَاتَمُهُمْ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى نَصِّيَّةِ الْآيَةِ أَنَّ الْعُمُومَ دِلَالَتُهُ عَلَى الْأَفْرَادِ ظَنِّيَّةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ مُخَصَّصٍ. وَقَدْ تَحَقَّقْنَا عَدَمَ الْمُخَصَّصِ بِالِاسْتِقْرَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَعُرِفَ ذَلِكَ وَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ وَفِي الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي تَكْفِيرِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ فَصَارَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَهَذَا النَّوْع من الْإِجْمَاع مُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَمِيع عُلَمَائِنَا وَلَا يدْخل هَذَا النَّوْعُ فِي اخْتِلَافِ بَعْضِهِمْ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ إِذِ الْمُخْتَلِفُ فِي حُجِّيَّتِهِ هُوَ الْإِجْمَاعُ الْمُسْتَنِدُ لِنَظَرٍ وَأَدِلَّةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي خَاتِمَةِ كِتَابِ «الِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِقَادِ» مُخَالَفَةً لِهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ تَحْرِيرٍ. وَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ حَمْلَةً غَيْرَ مُنْصِفَةٍ وَأَلْزَمَهُ إِلْزَامًا فَاحِشًا يُنَزَّهُ عَنْهُ عِلْمُهُ وَدِينُهُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَلِذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ مُسْلِمٌ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُثْبِتُ نُبُوءَةً لِأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِخْرَاجِهِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تُعْرَفُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا

الْبَابِيَّةُ وَالْبَهَائِيَّةُ وَهُمَا نِحْلَتَانِ مُشْتَقَّةٌ ثَانِيَتُهُمَا مِنَ الْأُولَى. وَكَانَ ظُهُورُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى فِي بِلَادِ فَارِسَ فِي حُدُودِ سَنَةِ مِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ وَتَسَرَّبَتْ إِلَى الْعِرَاقِ وَكَانَ الْقَائِمُ بِهَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ شِيرَازٍ يَدْعُوهُ أَتْبَاعُهُ السَّيِّدَ عَلِي مُحَمَّد، كَذَا اشْتُهِرَ اسْمُهُ، كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ. أَخَذَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُتَصَوِّفِينَ اسْمُهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَيْنُ الدِّينِ الْأَحْسَائِيُّ الَّذِي كَانَ يَنْتَحِلُ التَّصَوُّفَ بِالطَّرِيقَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُتَلَقَّاةُ عَنِ الْحَلَّاجِ. وَكَانَتْ طَرِيقَتُهُ تُعْرَفُ بِالشَّيْخِيَّةِ، وَلَمَّا أَظْهَرَ نِحْلَتَهُ عَلِيُّ مُحَمَّد هَذَا لَقَّبَ نَفْسَهُ بَابَ الْعِلْمِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَابِ. وَعُرِفَتْ نِحْلَتُهُ بِالْبَابِيَّةِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ النُّبُوءَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ اسْمُهُ «الْبَيَانُ» وَأَنَّ الْقُرْآنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: 3- 4] . وَكِتَابُ «الْبَيَانِ» مُؤَلَّفٌ بِالْعَرَبِيَّةِ الضَّعِيفَةِ وَمَخْلُوطٌ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَقتل سَنَةَ 1266 فِي تَبْرِيزَ. وَأَمَّا الْبَهَائِيَّةُ فَهِيَ شُعْبَة بن الْبَابِيَّةِ تُنْسَبُ إِلَى مُؤَسِّسِهَا الْمُلَقَّبِ بِبَهَاءِ اللَّهِ وَاسْمُهُ مِيرْزَا حُسَيْن عَلَي مِنْ أَهْلِ طَهْرَانَ تَتَلْمَذَ لِلْبَابِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَأَخْرَجَتْهُ حُكُومَةُ شَاهِ الْعَجَمِ إِلَى بَغْدَادٍ بَعْدَ قَتْلِ الْبَابِ. ثُمَّ نَقَلَتْهُ الدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ مِنْ بَغْدَادٍ إِلَى أَدِرْنَةَ ثُمَّ إِلَى عَكَّا، وَفِيهَا ظَهَرَتْ نِحْلَتُهُ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ نُبُوءَةَ الْبَابِ وَقَدِ الْتَفَّ حَوْلَهُ أَصْحَابُ نِحْلَةِ الْبَابِيَّةِ وَجَعَلُوهُ خَلِيفَةَ الْبَابِ فَقَامَ اسْمُ الْبَهَائِيَّةِ مَقَامَ اسْمُ الْبَابِيَّةِ فَالْبَهَائِيَّةُ هُمُ الْبَابِيَّةُ. وَقَدْ كَانَ الْبَهَاءُ بَنَى بِنَاءً فِي جَبَلِ الْكَرْمَلِ لِيَجْعَلَهُ مَدْفَنًا لِرُفَاتِ (الْبَابِ) وَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ سَجَنَتْهُ السَّلْطَنَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ فِي سِجْنِ عَكَّا فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ سَبْعَ سَنَوَاتٍ وَلَمْ يُطْلَقْ مِنَ السجْن إِلَّا عِنْد مَا أُعْلِنَ الدُّسْتُورُ التُّرْكِيُّ فَكَانَ فِي عِدَادِ الْمَسَاجِينِ السِّيَاسِيِّينَ الَّذِينَ أُطْلِقُوا يَوْمَئِذٍ فَرَحَلَ منتقلا فِي أوروبا وأَمِيرِكَا مُدَّةَ عَامَيْنِ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَيْفَا فَاسْتَقَرَّ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ 1340 وَبَعْدَ مَوْتِهِ نَشَأَ شِقَاقٌ بَيْنَ أَبْنَائِهِ وَإِخْوَتِهِ فَتَفَرَّقُوا فِي الزِّعَامَةِ وَتَضَاءَلَتْ نِحْلَتُهُمْ. فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّبِعًا لِلْبَهَائِيَّةِ أَوِ الْبَابِيَّةِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِهِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ. وَلَا يَرِثُ مُسْلِمًا وَيَرِثُهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ: إِنَّا مُسْلِمُونَ وَلَا نُطْقُهُمْ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الرِّسَالَةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا بِمَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ بَعْدِهِ. وَنَحْنُ كَفَّرْنَا الْغُرَابِيَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 إلى 42]

لِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ جِبْرِيلَ أُرْسِلَ إِلَى عَلِيٍّ وَلَكِنَّهُ شُبِّهَ لَهُ مُحَمَّدٌ بِعَلِيٍّ إِذْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهُ بِالْآخَرِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ (وَكَذَبُوا) فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أَثْبَتُوا الرِّسَالَةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوهُ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتُشْبِهُ طُقُوسُ الْبَهَائِيَّةِ طُقُوسَ الْمَاسُونِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْبَهَائِيَّةَ تَنْتَسِبُ إِلَى التَّلَقِّي مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَبِذَلِكَ فَارَقَتِ الْمَاسُونِيَّةِ وَعُدَّتْ فِي الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ وَلَمْ تُعَدَّ فِي الْأَحْزَابِ. وَانْتَصَبَ رَسُولَ اللَّهِ مَعْطُوفًا عَلَى أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ عَطْفًا بِالْوَاوِ الْمُقْتَرِنَةِ بِ لكِنْ لِتُفِيدَ رَفْعَ النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى عَامِلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخَاتِمَ النَّبِيئِينَ بِكَسْرِ تَاءِ خاتَمَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خَتَمَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالْخَاتَمِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فِي أَنَّ ظُهُوَرَهُ كَانَ غلقا للنبوءة. [41، 42] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 41 إِلَى 42] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) إِقْبَالٌ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَشْغَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ، أَيْ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْ مُمَارَاةِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ عَنْ سَبِّهِمْ فِيمَا يُرْجِفُونَ بِهِ فِي قَضِيَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْتَاضُوا عَنْ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ خَيْرًا لَهُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَة: 200] ، أَي خير مِنَ التَّفَاخُرِ بِذِكْرِ آبَائِكُمْ وَأَحْسَابِكُمْ، فَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَأَبْعَدُ عَنْ أَنْ تَثُورَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ثَائِرَةُ فِتْنَةٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَهَذَا مِنْ نَحْو قَوْله لنبيّئه وَدَعْ أَذاهُمْ [الْأَحْزَاب: 48] وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَام: 108] ، فَأُمِرُوا بِتَشْغِيلِ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ بِمَا يَعُودُ بِنَفْعِهِمْ وَتَجَنُّبِ مَا عَسَى أَنْ يُوقِعَ فِي مُضِرَّةٍ. وَفِيهِ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ خَوْضَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَامَةٌ عَلَى النِّفَاقِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخَالِفُونَ أَمْرَ رَبِّهِمْ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا.

وَالذِّكْرُ: ذِكْرُ اللِّسَانِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَوْقِعِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا. وَالتَّسْبِيحُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصَّلَوَاتُ النَّوَافِلُ فَلَيْسَ عَطْفُ وَسَبِّحُوهُ عَلَى اذْكُرُوا اللَّهَ مَنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ قَوْلَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَيَكُونُ عَطَفُ وَسَبِّحُوهُ عَلَى اذْكُرُوا اللَّهَ مَنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ اهْتِمَامًا بِالْخَاصِّ لِأَنَّ مَعْنَى التَّسْبِيحِ التَّنْزِيهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِنَ النَّقَائِصِ فَهُوَ مَنْ أَكْمَلِ الذِّكْرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَوَامِع الثَّنَاء والتمجيد، وَلِأَنَّ فِي التَّسْبِيحِ إِيمَاءً إِلَى التَّبَرُّؤِ مِمَّا يَقُولُهُ الْمُنَافِقُونَ فِي حقّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّور: 16] فَإِنَّ كَلِمَةَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَكْثُرُ أَنْ تُقَالَ فِي مَقَامِ التَّبَرُّؤِ مِنْ نِسْبَةِ مَا لَا يَلِيقُ إِلَى أحد كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ! الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» . وَقَوْلِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ الْبَيْعَةَ «أَنْ لَا يَزْنِينَ» : سُبْحَانَ اللَّهِ أَتَزْنِي الْحُرَّةُ. وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: الْعَشِيُّ الْوَقْتُ الَّذِي بَعْدَ الْعَصْرِ. وَانْتَصَبَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الَّتِي يَتَنَازَعُهَا الْفِعْلَانِ اذْكُرُوا اللَّهَ.. وسَبِّحُوهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ إِعْمَارُ أَجْزَاءِ النَّهَارِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ بِقَدْرِ الْمُكْنَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ طَرَفَيِ الشَّيْءِ يَكُونُ كِنَايَة عَن اسْتِيعَابِهِ كَقَوْلِ طَرْفَةَ: لَكَالطِّوَلِ الْمُرَخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، كِنَايَةً عَنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَالرَّأْسُ والعقب كِنَايَة عَن الْجَسَدِ كُلِّهِ، وَالظَّهْرُ وَالْبَطْنُ كَذَلِكَ. وَقَدَّمَ الْبُكْرَةَ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْبُكْرَةَ أَسْبَقُ مِنَ الْأَصِيلِ لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَ الْأَصِيل جَدِيدا بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ كَمَا قُدِّمَ لَفْظُ تُمْسُونَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرّوم: 17] لِأَنَّ كَلِمَةَ الْمَسَاءِ تَشْمَلُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَقَدَّمَ لَفْظَ تُمْسُونَ هُنَالك رعّيا لَا عتبار اللَّيْلِ أَسْبَقَ فِي حِسَابِ أَيَّامِ الشَّهْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَفِي الْإِسْلَامِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ كلمة الْأَصِيل.

[سورة الأحزاب (33) : آية 43]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 43] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَجْلَبَةٌ لِانْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَزَاءِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَلَائِكَتِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذِكْرًا بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ على الْخَيْر الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي وَتَحْقِيقِ الْحُكْمِ. وَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ يُصَلِّي مِنْ قَوْلِ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالصَّلَاةُ: الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ بِخَيْرٍ، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ الثَّنَاءُ. وَأَمَرَهُ بِتَوْجِيهِ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيِ اُذْكُرُوهُ ليذكركم كَقَوْلِه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَة: 152] وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: دُعَاؤُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ مُسْتَجَابًا عِنْدَ اللَّهِ فَيَزِيدُ الذَّاكِرِينَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ بِصَلَاتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. فَفِعْلُ يُصَلِّي مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَلَائِكَتِهِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُفِيدُ تَشْرِيكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْعَامِلِ، فَهُوَ عَامِلٌ وَاحِدٌ لَهُ معمولان فَهُوَ مُسْتَعْمل فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ الصَّالِحِ لِصَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ الصَّادِقِ فِي كُلٍّ بِمَا يَلِيقُ بِهِ بِحَسَبِ لَوَازِمِ مَعْنَى الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَكَيَّفُ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَنْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا إِلَى دَعْوَى عُمُومِ الْمَجَازِ. وَاجْتِلَابُ يُصَلِّي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَتَجَدُّدِهَا كُلَّمَا تَجَدَّدَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ، أَوْ إِفَادَةِ تَجَدُّدِهَا بِحَسَبِ أَسْبَابٍ أُخْرَى مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُلَاحَظَةِ إِيمَانِهِمْ. وَفِي إِيرَادِ الْمَوْصُولِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بِحَسَبِ غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ: فَإِمَّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ أَنَّهُمْ لَا يَأْتِيهِمْ خَيْرٌ إِلَّا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلُّ تَفْصِيلٍ لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ دَخَلَ فِي عِلْمِهِمْ، وَمِنْهُ

[سورة الأحزاب (33) : آية 44]

أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَأْمُرُ مَلَائِكَتَهُ بِذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ لَهُمْ عِلْمٌ بِذَلِكَ تَفْصِيلًا مِنْ قَبْلُ: فَبَعْضُ آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يُونُس: 3] ، وَالدُّعَاءُ لِأَحَدٍ مِنَ الشَّفَاعَةِ لَهُ، عَلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنَّ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِك بِإِخْبَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ بَعْدَهُ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُخْرِجَكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُصَلِّي. فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ جَزَاءٌ عَاجِلٌ حَاصِلٌ وَقْتَ ذِكْرِهِمْ وتسبيحهم. وَالْمرَاد ب الظُّلُماتِ: الضَّلَالَة، وب النُّورِ: الْهُدَى، وَبِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ: دَوَامُ ذَلِكَ وَالِاسْتِزَادَةُ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَم: 76] . وَجُمْلَةُ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تذييل. ودلّ الْإِخْبَار عَنْ رَحْمَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِإِقْحَامِ فِعْلِ كانَ وَخَبَرِهَا لِمَا تَقْتَضِيهِ كانَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْخَبَرِ لَهُ تَعَالَى وتحققه وَأَنَّهُ شَأْن من شؤونه الْمَعْرُوفِ بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَرَحْمَتُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَعَمُّ مِنْ صَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ إِسْدَاءَ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ وَإِيصَالَ الْخَيْرِ لَهُمْ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَال والألطاف. [44] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 44] تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) أَعْقَبَ الْجَزَاءَ الْعَاجِلَ الَّذِي أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الْأَحْزَاب: 43] بِذِكْرِ جَزَاءٍ آجِلٍ وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا وَأَثَرِ الْجَزَاءِ الَّذِي عَجَّلَ لَهُمْ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ فِي كَرَامَتِهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ.

فَالْجُمْلَةُ تَكْمِلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَاقِعَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَالتَّحِيَّةُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُلَاقَاةِ إِعْرَابًا عَنِ السُّرُورِ بِاللِّقَاءِ مِنْ دُعَاءٍ وَنَحْوِهِ. وَهَذَا الِاسْمُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَيَّاهُ، إِذَا قَالَ لَهُ: أَحْيَاكَ اللَّهُ، أَيْ أَطَالَ حَيَاتَكَ. فَسَمَّى بِهِ الْكَلَامَ الْمُعْرِبَ عَنِ ابْتِغَاءِ الْخَيْرِ لِلْمُلَاقَى أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَلَبَ أَنْ يَقُولُوا: أَحْيَاكَ اللَّهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُلَاقَاةِ فَأَطْلَقَ اسْمَهَا عَلَى كُلِّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ يُقَالُ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ وَتَحِيَّةُ الْإِسْلَامِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ، أَيْ مِنَ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَحْسَنُ مَا يُبْتَغَى فِي الْحَيَاةِ. فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ كَانَتِ الْحَيَاةُ أَلَمًا وَشَرًّا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ السَّلَامَ بِشَارَةً بِالسَّلَامَةِ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ مِنَ الْأَهْوَالِ الْمُنْتَظَرَةِ. وَكَذَلِكَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ تَلَذُّذًا بِاسْمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّلَامَةِ مِنْ أَهْوَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [10] . وَإِضَافَةُ التَّحِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ تَحِيَّةٌ يَحْيَوْنَ بِهَا. وَلِقَاءُ اللَّهِ: الْحُضُورُ مِنْ حَضْرَةِ قُدْسِهِ لِلْحِسَابِ فِي الْمَحْشَرِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وَهَذَا اللِّقَاءُ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التَّوْبَة: 77] فَمَيَّزَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِالتَّحِيَّةِ كَرَامَةً لَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، أَيْ يُحَيِّيهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا. وَالْمَعْنَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ بَدَأَهُمْ بِمَا فِيهِ بِشَارَةٌ بِالسَّلَامَةِ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا إِتْمَامًا لِرَحْمَتِهِ بِهِمْ. وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ. وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ: نَعَيْمُ الْجَنَّةِ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 إلى 46]

[45- 46] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 45 الى 46] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) هَذَا النداء الثَّالِث للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَبْلَغَهُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَاتِهِ، وَبِالْنِدَاءِ الثَّانِي مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَزْوَاجِهِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالتَّذْكِيرِ، نَادَاهُ بِأَوْصَافٍ أَوْدَعَهَا سُبْحَانَهُ فِيهِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَزِيَادَةِ رِفْعَةِ مِقْدَارِهِ وَبَيَّنَ لَهُ أَرْكَانَ رِسَالَتِهِ، فَهَذَا الْغَرَضُ هُوَ وَصْفُ تَعَلُّقَاتِ رِسَالَتِهِ بِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَذُكِرَ لَهُ هُنَا خَمْسَةُ أَوْصَافٍ هِيَ: شَاهَدٌ. وَمُبَشِّرٌ. وَنَذِيرٌ. وَدَاعٍ إِلَى اللَّهِ. وَسِرَاجٌ مُنِيرٌ. فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَنْطَوِي إِلَيْهَا وَتَنْطَوِي عَلَى مَجَامِعِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنِ أَوْصَافِهِ الْكَثِيرَةِ. وَالشَّاهِدُ: الْمُخْبِرُ عَنْ حُجَّةِ الْمُدَّعِي الْمُحِقِّ وَدَفْعِ دَعْوَى الْمُبْطِلِ، فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ بِصِحَّةِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنَ الشَّرَائِعِ وَبَقَاءِ مَا هُوَ صَالِحٌ لِلْبَقَاءِ مِنْهَا وَيَشْهَدُ بِبُطْلَانِ مَا أُلْصِقَ بِهَا وَبِنَسْخِ مَا لَا يَنْبَغِي بَقَاؤُهُ مِنْ أَحْكَامِهَا بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] . وَفِي حَدِيثِ الْحَشْرِ: «يَسْأَلُ كل رَسُول هَل بَلَّغَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ اللَّهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ» ... الْحَدِيثَ. وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ أَيْضًا عَلَى أُمَّتِهِ بِمُرَاقَبَةِ جَرْيِهِمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي حَيَاتِهِ وَشَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى الْمُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ وَعَلَى الْمَعْرِضِينَ عَنْهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَجَابَ لِلدَّعْوَةِ ثُمَّ بَدَّلَ. وَفِي حَدِيثِ الْحَوْضِ: «لِيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَعَرَفْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ تَبًّا وَسُحْقًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي» يَعْنِي: أَحْدَثُوا الْكُفْرَ وَهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ كَمَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» . فَلَا جَرَمَ كَانَ وَصْفُ الشَّاهِدِ أَشْمَلَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِهَذِهِ الْأَمَةِ، وَبِوَصْفِ كَوْنِهِ خَاتَمًا لِلشَّرَائِعِ وَمُتَمِّمًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ.

وَالْمُبَشِّرُ: الْمُخْبِرُ بِالْبُشْرَى وَالْبِشَارَةِ. وَهِيَ الْحَادِثُ الْمُسِرُّ لِمَنْ يُخْبَرُ بِهِ والوعد بِالْعَطِيَّةِ، والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْمُطِيعِينَ بِمَرَاتِبِ فَوْزِهِمْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْوَصْفُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَهُوَ قِسْمُ الِامْتِثَالِ مِنْ قِسْمَيِ التَّقْوَى، فَإِنَّ التَّقْوَى امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمَأْمُورَاتُ مُتَضَمِّنَةٌ الْمَصَالِحَ فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ بِشَارَةَ فَاعِلِيهَا بِحُسْنِ الْحَالِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَقُدِّمَتِ الْبِشَارَةُ عَلَى النذارة لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّبْشِيرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُمَّتِهِ. وَالنَّذِيرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِنْذَارِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِحُلُولِ حَادِثٍ مُسِيءٍ أَوْ قرب حُلُوله، والنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنْذِرٌ لِلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ دِينِهِ مِنْ كَافِرِينَ بِهِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ بِمُتَفَاوِتِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى عَمَلِهِمْ. وَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى الْحَالِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ مُقَدَّرًا أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا عَلَى الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَثَّلَ سِيبَوَيْهِ لِلْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ بِقَوْلِهِ: مُرِرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ النِّذَارَةِ بِصِيغَةِ فَعِيلٍ دُونَ اسْم الْفَاعِل لإِرَادَة الِاسْمِ فَإِنَّ النَّذِيرَ فِي كَلَامِهِمُ اسْمٌ لِلْمُخْبِرِ بِحُلُولِ الْعَدُوِّ بِدِيَارِ الْقَوْمِ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ: أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، أَيِ الْآتِي بِخَبَرِ حُلُولِ العدوّ بديار قوم. وَالْمُرَادُ بِالْعُرْيَانِ أَنَّهُ يَنْزِعُ عَنْهُ قَمِيصَهُ لِيُشِيرَ بِهِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَيَرَاهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُ، فَالْوَصْفُ بِنَذِيرٍ تَمْثِيلٌ بِحَالِ نَذِيرِ الْقَوْمِ كَمَا قَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَحْقِيقِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِهِمْ وَكَأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ مُخْبِرٌ عَنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ، وَهَذَا لَا يُؤَدِّيهِ إِلَّا اسْمُ النَّذِيرِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْوَصْفُ بِالنَّذِيرِ وَقَلَّ الْوَصْفُ بِمُنْذِرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] خَرَجَ حَتَّى صَعَدَ الصَّفَا، فَنَادَى: يَا صَبَاحَاهْ (كَلِمَةٌ يُنَادِي بِهَا مَنْ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ) فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنَّ أَخْبَرَتْكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» . فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَالَةِ الَّتِي اسْتَخْلَصَهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ

لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . وَمَا فِي بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ مِنْ مَعْنَى التَّقْرِيبِ. وَشَمَلَ اسْمُ النَّذِيرِ جَوَامِعَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ النَّوَاهِي وَالْعُقُوبَاتِ وَهُوَ قِسْمُ الِاجْتِنَابِ مِنْ قِسْمَيِ التَّقْوَى فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ مُتَضَمِّنَةٌ مَفَاسِدَ فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ تَخْوِيفَ الْمُقْدِمِينَ عَلَى فِعْلِهَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ. وَأَصْلُ دَعَاهُ إِلَى فُلَانٍ: أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: ادْعُ فَلَانًا إليَّ. وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ جِهَةٍ يَحْضُرُهَا النَّاسُ عِنْدَهُ تَعَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَيْهِ الدُّعَاءُ إِلَى تَرْكِ الِاعْتِرَافِ بِغَيْرِهِ (كَمَا يَقُولُونَ: أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي يَدْعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ الْبَيْتِ) فَشَمَلَ هَذَا الْوَصْفُ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ دَعْوَةَ اللَّهِ دَعْوَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الدُّعَاةِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ. وَزِيَادَةُ بِإِذْنِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ دَاعِيًا إِلَيْهِ وَيَسَّرَ لَهُ الدُّعَاءَ إِلَيْهِ مَعَ ثِقْلِ أَمْرِ هَذَا الدُّعَاءِ وَعِظَمِ خَطَرِهِ وَهُوَ مَا كَانَ استشعره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَبْدَأِ الْوَحْيِ مِنَ الْخَشْيَةِ إِلَى أَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1، 2] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] ، فَهَذَا إِذْنٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْإِذْنُ بَعْدَ الْإِحْجَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّيْسِيرِ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْإِذْنِ عَلَى التَّيْسِيرِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى خِطَابًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي [الْمَائِدَة: 110] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طائرا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 49] . وَقَوْلُهُ وَسِراجاً مُنِيراً تَشْبِيه بليغ بطرِيق الْحَالِيَّةِ وَهُوَ طَرِيقٌ جَمِيلٌ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ كَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ فِي الْهِدَايَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا وَالَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ شُبْهَةً إِلَّا فَضَحَتْهَا وَأَوْقَفَتِ النَّاسَ عَلَى دَخَائِلِهَا، كَمَا يُضِيءُ السِّرَاجُ الْوَقَّادُ ظُلْمَةَ الْمَكَانِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يَشْمَلُ مَا جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَيَانِ وَإِيضَاحِ الِاسْتِدْلَالِ وَانْقِشَاعِ مَا كَانَ قبله فِي الْأَدْيَانِ مِنْ مَسَالِكٍ لِلتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ فَشَمَلَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أُصُولِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُشَبَّهُ

بِالنُّورِ فَنَاسَبَهُ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ. وَهَذَا وَصْفٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا آنِفًا فَهُوَ كَالْفَذْلَكَةِ وَكَالتَّذْيِيلِ. وَوُصِفَ السِّرَاجُ بِ مُنِيراً مَعَ أَنَّ الْإِنَارَةَ مِنْ لَوَازِمِ السِّرَاجِ هُوَ كَوَصْفِ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ مِنْ لَفْظِهِ فِي قَوْلِهِ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَلَيْلٌ أَلْيَلُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ مَعْنَى الِاسْمِ فِي الْمَوْصُوفِ بِهِ الْخَاصِّ فَإِن هدى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوْضَحُ الْهُدَى. وَإِرْشَادُهُ أَبْلَغُ إِرْشَادٍ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ «التَّفْسِيرِ» مِنْ صَحِيحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْفَتْحِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (أَوْ وَيَغْفِرُ) وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ (أَوْ فَيَفْتَحُ) بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غَلْفَاءَ» اهـ. وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «فِي التَّوْرَاةِ» يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ: أَسْفَارُ التَّوْرَاةِ وَمَا مَعَهَا مِنْ أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ إِذْ لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنَ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ الْأَصْلِيَّةِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَهَذَا الَّذِي حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَرَأَيْتُ مُقَارِبَهُ فِي سِفْرِ النَّبِيءِ أَشْعِيَاءَ مِنَ الْكُتُبِ الْمعبر عَنْهَا بِالتَّوْرَاةِ تَغْلِيبًا وَهِيَ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَذَلِكَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ بِتَغْيِيرٍ قَلِيلٍ (أَحْسَبُ أَنَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ التَّرْجَمَةِ أَوْ مِنْ تَفْسِيرَاتِ بَعْضِ الْأَحْبَارِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ) ، فَفِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ «هُوَ ذَا عَبْدَيِ الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ للأمم، لَا يَصِيح ولَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمَعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتُهُ، قَصَبَةٌ مرضوضة لَا تقصف، وَفَتِيلَةٌ خَامِدَةٌ لَا تُطْفَأُ، إِلَى الْأَمَانِ يَخْرُجُ الْحَقُّ، لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الْأَرْضِ وَتَنْتَظِرَ الْجَزَائِرُ (¬1) شَرِيعَتَهُ ¬

(¬1) الجزائر: جَزِيرَة الْعَرَب، لقَوْله فِي هَذَا السّفر فِي هَذَا «الإصحاح» : «والجزائر وسكانها لترفع الْبَريَّة ومدنها صَوتهَا الديار الَّتِي سكنها (قيدار) » فَإِن قيدار اسْم ابْن إِسْمَاعِيل كَمَا فِي سفر التكوين. فَأَرَادَ: نسل قيدار وهم الإسماعيليون وهم الأميون.

أَنَا الرَّبُّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلْأُمَمِ لِنَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ، الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ، أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي وَمَجْدِي لَا أُعْطِيهِ لِآخَرَ» . وَإِلَيْكَ نَظَائِرُ صِفَتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً نَظِيرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ [2] ) أَنْتِ عَبْدِي وَرَسُولِي (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ سُورَةُ الْكَهْفِ [1] ) سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ سُورَةُ الْأَحْزَابِ [3] ) لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانِ [159] ) وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ سُورَةُ لُقْمَانَ [19] ) وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ (وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ سُورَةُ فُصِّلَتْ [34] ) وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ سُورَةُ الْعُقُودِ [13] ) وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً سُورَةُ الْمَائِدَةِ [3] ) وَيَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] فِي ذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُقَابِلًا لِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْآيَةَ [2] ) . وَلْنُذَكِّرْ هُنَا مَا فِي سِفْرِ أَشْعِيَاءَ وَنُقْحِمُ فِيهِ بَيَانَ مُقَابَلَةِ كَلِمَاتِهِ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. جَاءَ فِي «الْإِصْحَاحِ» الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ أَشْعِيَاءَ: هُوَ ذَا عَبْدَيْ (أَنْتَ عَبْدِي) «الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي (وَرَسُولَيِ) الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعَتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلْأُمَمِ لَا يَصِيحُ (لَيْسَ بِفَظٍّ) وَلَا يَرْفَعُ (وَلَا غَلِيظٍ) وَلَا يُسْمَعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتُهُ (وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ) قَصَبَةٌ مَرْضُوضَةٌ لَا يُقْصَفُ (وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ) وَفَتِيلَةٌ خامدة لَا يطفا (يَعْفُو وَيَصْفَحُ) إِلَى الْأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ (وَحِرْزًا) لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الْأَرْضِ (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ (لِلْأُمِّيِّينَ) أَنَا الرَّبُّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ (سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلُ) وَأَحْفَظُكَ (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ) وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا

[سورة الأحزاب (33) : آية 47]

لِلشَّعْبِ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا (وَنُورًا لِلْأُمَمِ) (مُبَشِّرًا) لِنَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ (وَنَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا) لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ (وَآذَانًا صُمًّا) الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ (وَقُلُوبًا غُلْفًا) . أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي وَمَجْدِي لَا أُعْطِيهِ لِآخَرَ» (بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله) . [47] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 47] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَرْسَلْناكَ [الْأَحْزَاب: 45] عَطَفَ الْإِنْشَاءَ عَلَى الْخَبَرِ لَا مَحَالَةَ وَهِيَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ إِذْ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا تَأْوِيلٌ مِمَّا تَأَوَّلَهُ الْمَانِعُونَ لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَهُمُ الْجُمْهُور والزمخشري والتفتازانيّ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [11- 13] ، فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ مُتَلَبِّسًا بِتِلْكَ الصِّفَات الْخمس. وَهَذَا أَمَرٌ لَهُ بِالْعَمَلِ بِصِفَةِ الْمُبَشِّرِ، فَلِاخْتِلَافِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ عُطِفَتْ هَذِهِ عَلَى الْأُولَى. وَالْفَضْلُ: الْعَطَاءُ الَّذِي يَزِيدُهُ الْمُعْطِي زِيَادَةً عَلَى الْعَطِيَّةِ. فَالْفَضْلُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَطِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَضْلًا إِلَّا إِذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْعَطِيَّةِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الْمَوْعُودَ بِهَا وَزِيَادَةً مِنْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: 26] . وَوصف كَبِيراً مُسْتَعَارٌ لِلْفَائِقِ فِي نَوْعِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ لِي أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬1) : هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ عِنْدِي فِي كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ قد أَمر نبيئه أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ فَضْلًا كَبِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَضْلَ الْكَبِيرَ مَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22] فَالْآيَةُ الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَبَرٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي حم عسق تَفْسِيرٌ لَهَا اهـ. [48] ¬

(¬1) هُوَ أَبُو بكر بن غَالب بن عَطِيَّة الْقَيْسِي الغرناطي الْمَالِكِي مفتي غرناطة، توفّي بهَا سنة 518.

[سورة الأحزاب (33) : آية 48]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 48] وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَحْزَاب: 47] بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ تَحْذِيرًا لَهُ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا يَسْأَلُونَ مِنْهُ وَتَأْيِيدًا لِفِعْلِهِ مَعَهُمْ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ الْمُنَافِقُونَ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْأَحْزَابِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ، فَنُهِيَ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى مَا يَرْغَبُونَهُ فَيَتْرُكَ مَا أُحِلَّ لَهُ مِنَ التَّزَوُّجِ، أَوْ فَيُعْطِي الْكَافِرِينَ مِنَ الْأَحْزَابِ ثَمَرَ النَّخْلِ صُلْحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الِانْتِهَاءِ. وَعُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ أَمْرِ التَّبْشِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَنَّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ هُمْ مُتَعَلَّقُ الْإِنْذَارِ مِنْ قَوْله: وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: 45] لِأَنَّ وَصْفَ «بَشِيرًا» قَدْ أَخَذَ مُتَعَلَّقَهُ فَقَدْ صَارَ هَذَا نَاظِرًا إِلَى قَوْله: وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: 45] . وَقَوله: وَدَعْ أَذاهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ دَعْ مُرَادًا بِهِ أَنْ لَا يُعَاقِبَهُمْ فَيَكُونُ دَعْ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَتَكُونُ إِضَافَةُ أَذَاهُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ دَعْ أَذَاكَ إِيَّاهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَعْ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ وَعدم الاغتمام، فَمَا يَقُولُونَهُ مِمَّا يُؤْذِي وَيَكُونُ إِضَافَةُ أَذَاهُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ لَا تَكْتَرِثْ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى إِلَيْكَ فَإِنَّكَ أَجَلُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ اقْتَصَرُوا عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ. وَالْوَجْهُ: الْحَمْلُ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِتَرْكِ أَذَاهُمْ صَادِقًا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا يُؤْذُونَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَصَادِقًا بِالْكَفِّ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ، أَيْ أَنْ يَتَرَفَّعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي شَأْنِهِ، وَهَذَا إِعْرَاضٌ عَنْ أَذًى خَاصٍّ لَا عُمُومَ لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَيْسَتْ آيَاتُ الْقِتَالِ بِنَاسِخَةٍ لَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتْرُكُ أَذَاهُمْ وَيَكِلُهُمْ إِلَى عِقَابٍ آجِلٍ وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْله: شاهِداً [الْأَحْزَاب: 45] لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ [الصافات: 174- 175] . وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ التَّدْبِيرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] وَقَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]

فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [23] ، أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَفِي كِفَايَتِهِ إِيَّاكَ شَرَّ عَدُوِّكَ، فَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 46] . وَقَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْوَكِيلُ الْكَافِي فِي الْوِكَالَةِ، أَيِ الْمُجْزِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ مَا وَكَّلَهُ عَلَيْهِ فَالْبَاءُ تَأْكِيدٌ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [81] . وَالتَّقْدِيرُ: كَفَى اللَّهُ ووَكِيلًا تَمْيِيزٌ. فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ الطَّلَبِيَّةُ مُقَابِلَةٌ وَنَاظِرَةٌ لِلْجُمَلِ الْإِخْبَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً إِلَى وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَاب: 45، 46] فَقَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَحْزَاب: 47] نَاظِرًا إِلَى قَوْله: وَمُبَشِّراً [الْأَحْزَاب: 45] . وَقَوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْله: وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: 45] لِأَنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَدَعْ أَذاهُمْ نَاظِرٌ إِلَى قَوْله: شاهِداً [الْأَحْزَاب: 45] كَمَا عَلِمْتَ. وَقَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 46] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَاب: 46] فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُقَابِلٌ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَالتَّذْيِيلِ لِلصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ نَاسَبَ أَنْ يُقَابِلَهُ مَا هُوَ تَذْيِيلٌ لِلْمَطَالَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» مِنْ وُجُوهِ الْمُقَابَلَةِ وَمِنْ بَعْضِ مَا لِلْآلُوسِيِّ فانظرهما واحكم. [49] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 49] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَشْرِيعًا لِحُكْمِ الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِهِنَّ أَنْ لَا تَلْزَمَهُنَّ عِدَّةٌ بِمُنَاسَبَةِ حُدُوثِ طَلَاقِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ زَوْجَهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِتَكُونَ الْآيَةُ مُخَصِّصَةً لِآيَاتِ الْعِدَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ الْأَحْزَابَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، وَلِيُخَصِّصَ بِهَا أَيْضًا آيَةَ الْعِدَّةِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ النَّازِلَةِ بَعْدَهَا لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ

آثَارِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يَدَخُلْ بِهَا زَوْجُهَا لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالنِّكَاحُ: هُوَ الْعَقْدُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِتَكُونَ زَوْجًا بِوَاسِطَةِ وَلِيِّهَا. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ حَقِيقَةً هُوَ الضَّمُّ وَالْإِلْصَاقُ فَشُبِّهَ عَقْدُ الزَّوَاجِ بِالِالْتِصَاقِ وَالضَّمِّ بِمَا فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ انْضِمَامِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَصَارَا كَشَيْئَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ. وَهَذَا كَمَا سُمِّيَ كِلَاهُمَا زَوْجًا، وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْعَقْدِ دُونَ مَعْنَى الْوَطْءِ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ فُلَانًا، أَيْ تَزَوَّجَتْهُ، كَمَا يَقُولُونَ: نَكَحَ فُلَانٌ امْرَأَةً. وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ مُدَوِّنِي اللُّغَةِ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي إِدْخَالِ شَيْءٍ فِي آخَرَ. فَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، وَدَرَجَ عَلَى ذَلِكَ الْأَزْهَرِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَعَلَى مَا بَنَوْهُ أَخْطَأَ الْمُتَنَبِّي فِي اسْتِعْمَالِهِ إِذْ قَالَ: أَنْكَحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلَةٍ ... تَغَشْمَرَتْ بِي إِلَيْكَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا وَلَا حُجَّةَ فِي كَلَامِهِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ فِي مُعْجِزِ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ أَرَادَ جَمَعْتُ بَيْنَ صُمِّ الْحَصَى وَخُفِّ الْيَعْمَلَةِ. وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الْعِدَّةِ بِالْمُؤْمِنَاتِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لم يكنّ إِلَّا مُؤْمِنَاتٍ وَلَيْسَ فِيهِنَّ كِتَابِيَّاتٍ فَيَنْسَحِبُ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ كَمَا شَمَلَهَا حُكْمُ الِاعْتِدَادِ إِذَا وَقَعَ مَسِيسُهَا بِطُرُقِ الْقِيَاسِ. وَالْمَسُّ وَالْمَسِيسُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، كَمَا سُمِّيَ مُلَامَسَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاءَ: 43] . وَالْعِدَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: هِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ هَيْئَةٍ مِنَ الْعَدِّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِسَابُ فَأُطْلِقَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَعْدُودِ، يُقَالُ: جَاءَ عِدَّةُ رِجَالٍ، وَقَالَ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الْبَقَرَة [184] . وَغَلَبَ إِطْلَاقُ هَذَا اللَّفْظِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لِانْتِظَارِ الْمَرْأَةِ زَوَاجًا ثَانِيًا، لِأَنَّ انْتِظَارَهَا مُدَّةٌ مَعْدُودَةُ الْأَزْمَانِ إِمَّا بِالتَّعْيِينِ وَإِمَّا بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ طُهْرٍ أَوْ وَضْعِ حَمْلٍ فَصَارَ اسْمَ جِنْسٍ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ

مِنْ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ فَمَا لَكَمَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِنْسِ الْعِدَّةِ. وَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِلْأَزْوَاجِ الَّذِينَ نَكَحُوا الْمُؤْمِنَاتِ. وَجُعِلَتِ الْعِدَّةُ لَهُمْ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا رَاجِعٌ إِلَى نَفْعِ الْأَزْوَاجِ بِحِفْظِ أَنْسَابِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مُرَاجعَة الْأزْوَاج مَا دمن فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] . وَقَوْلُهُ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الْبَقَرَة: 228] . وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، فَلَوْ رَامَ الزَّوْجُ إِسْقَاطَ الْعِدَّةِ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْعِدَّةُ مِنْ حِفْظِ النَّسَبِ مَقْصِدٌ مِنْ أُصُولِ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ. وَمَعْنَى: تَعْتَدُّونَها تَعُدُّونَهَا عَلَيْهِنَّ، أَيْ تَعُدُّونَ أَيَّامَهَا عَلَيْهِنَّ، كَمَا يُقَالُ: اعْتَدَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا قَضَتْ أَيَّامَ عِدَّتِهَا. فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ لَيْسَتْ لِلْمُطَاوَعَةِ وَلَكِنَّهَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ مَثَلَ: اضْطُرَّ إِلَى كَذَا. وَمُحَاوَلَةُ حَمْلِ صِيغَةِ الْمُطَاوَعَةِ عَلَى مَعْرُوفِ مَعْنَاهَا تَكَلُّفٌ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَنْ رَاجَعَ الْمُعْتَدَّةَ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَإِنَّ الْمُرَاجَعَةَ تُشْبِهُ النِّكَاحَ وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ إِذْ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِدَادِهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّلَاقِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا تُنْشِئُ عِدَّةً مُسْتَقْبَلَةً مِنْ يَوْم طَلقهَا بعد الْمُرَاجَعَة وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ نَقَضَ تِلْكَ الْعِدَّةَ بِالْمُرَاجَعَةِ. وَلَعَلَّ مَالِكًا نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمَسِيسَ بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ قَدْ يَخْفَى أَمْرُهُ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ بِالزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ احْتِيَاطًا لِلْأَنْسَابِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو قِلَابَةَ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الْأَوْلَى الَّتِي رَاجَعَهَا فِيهَا لِأَنَّ طَلَاقَهُ بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ وَدون أَنْ يَمَسَّهَا بِمَنْزِلَةِ إِرْدَافِ طَلَاقٍ ثَانٍ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُرْدَفَ لَا اعْتِدَادَ لَهُ بِخُصُوصِهِ. وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّتَهَا وَلَا عِدَّةً مُسْتَقْبَلَةً لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا اهـ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 50]

وَهُوَ غَرِيبٌ، وَكَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ فِي «الْمُحَلَّى» صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا تَبْتَدِئُ الْعِدَّةَ فَلَعَلَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ وَلَيْسَ مَذْهَبَ دَاوُدَ، وَكَيْفَ لَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ من تطليقها فبمَاذَا تَعْرِفُ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا. وَفَاءُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَمَتِّعُوهُنَّ لِأَنَّ حُكْمَ التَّمْتِيعِ مُقَرَّرٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [236] فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ الَخْ. وَالْمُتْعَةُ: عَطِيَّةٌ يُعْطِيهَا الزَّوْجُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلَّقَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [الْبَقَرَة: 236] فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْأَمْرِ بِالتَّمْتِيعِ مُفَرَّعًا عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ التَّمْتِيعَ جَبْرًا لِخَاطِرِ الْمَرْأَةِ الْمُنْكَسِرِ بِالطَّلَاقِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُتْعَةَ حَقٌّ لِلْمُطَلَّقَةِ سَوَاءٌ سُمِّيَ لَهَا صَدَاقٌ أَمْ لَمْ يُسَمَّ بِحُكْمِ آيَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالتَّمْتِيعِ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مُطْلَقًا فَكَانَ عُمُومُهَا فِي الْأَحْوَالِ كَعُمُومِهَا فِي الذَّوَاتِ، وَلَيْسَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بِمُعَارِضَةٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا تَقْيِيدٌ بِشَرْطٍ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمُتْعَةِ بِالَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا صَدَاقٌ لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ أَمَرَتْ بِالْمُتْعَةِ لِتَينِكَ الْمُطَلَّقَتَيْنِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُمْكِنٌ. وَالسَّرَاحُ الْجَمِيلُ: هُوَ الْخَلِيُّ عَنِ الْأَذَى وَالْإِضْرَارِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ. [50] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 50] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. نِدَاءٌ رَابِعٌ خُوطِبَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنٍ خَاصٍّ بِهِ هُوَ بَيَانُ مَا أُحِلَّ لَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالسَّرَارِي وَمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَزِيدُ مِمَّا بَعْضُهُ تَقْرِيرٌ لِتَشْرِيعٍ لَهُ سَابِقٍ وَبَعْضُهُ تَشْرِيعٌ لَهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَمِمَّا بَعْضُهُ يَتَسَاوَى فِيهِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

مَعَ الْأُمَّةِ وَبَعْضُهُ خَاصٌّ بِهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِخُصُوصِيَّتِهِ مِمَّا هُوَ تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ مِمَّا رُوعِيَ فِي تَخْصِيصِهِ بِهِ عُلُوُّ دَرَجَتِهِ. وَلَعَلَّ الْمُنَاسِبَةَ لِوُرُودِهَا عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا خَاضَ الْمُنَافِقُونَ فِي تزوّج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَقَالُوا: تَزَوَّجَ مَنْ كَانَتْ حَلِيلَةَ مُتَبَنَّاهُ، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ من يحل للنبيء تَزَوُّجُهُنَّ حَتَّى لَا يَقَعَ النَّاسُ فِي تَرَدُّدٍ وَلَا يَفْتِنَهُمُ الْمُرْجِفُونَ. وَلَعَلَّ مَا حَدَثَ مِنَ اسْتِنْكَارِ بَعْضِ النِّسَاءِ أَنْ تَهْدِيَ الْمَرْأَةُ نَفْسهَا لِرَجُلٍ كَانَ مِنْ مُنَاسَبَاتِ اشْتِمَالِهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنبيء الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ جَمَعَتِ الْآيَةُ تَقْرِيرَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ وَتَشْرِيعُ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِتَكَوْنَ جَامِعَةً لِلْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ أَوْعَبُ وَأَقْطَعُ لِلتَّرَدُّدِ وَالِاحْتِمَالِ. فَأَمَّا تَقْرِيرُ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَناتِ خالاتِكَ، وَأَمَّا تَشْرِيعُ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الْأَحْزَاب: 52] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّشْرِيعُ. وَدُخُولُ حِرَفِ (إِنَّ) عَلَيْهِ لَا يُنَافِي إِرَادَةَ التَّشْرِيعِ إِذْ مَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا مُجَرَّدُ الِاهْتِمَامِ، وَالِاهْتِمَامُ يُنَاسِبُ كُلًّا مِنْ قَصْدِ الْإِخْبَارِ وَقَصْدِ الْإِنْشَاءِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَى مَفْعُولِ أَحْلَلْنا مَعْطُوفَاتٍ قُيَّدَتْ بِأَوْصَافٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعُهَا مَعْلُومًا مِنْ قَبْلُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَبَناتِ عَمِّكَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِنَّ بِوَصْفِ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها بِاعْتِبَار تقييدها بِوَصْفِ الْإِيمَانِ وَتَقْيِيدِهَا بِ «إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء وَأَرَادَ النبيء أَن يستنكحها» . هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَلِيلٍ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ. وَعِنْدِي: أَنَّ الْآيَةَ امْتِنَانٌ وَتَذْكِيرٌ بِنِعْمَة على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَتُؤْخَذُ مِنَ الِامْتِنَانِ الْإِبَاحَةُ وَيُؤْخَذُ مَنْ ظَاهَرِ قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الْأَحْزَاب: 52] الِاقْتِصَارُ عَلَى اللَّاتِي فِي عِصْمَتِهِ مِنْهُنَّ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الَخْ.

وَسَيَجِيءُ مَا لَنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدُ وَمَا لنا فِي مَوضِع قَوْلِهِ إِن أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَها. وَمَعْنَى أَحْلَلْنا لَكَ الْإِبَاحَةُ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ عَقِبَ تَعْدَادِ الْمُحَلَّلَاتِ لَهُ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ. وَإِضَافَةُ أَزْوَاجٍ إِلَى ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ أَنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ اللَّاتِي فِي عِصْمَتِهِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِخْبَارًا لِتَقْرِيرِ تَشْرِيعٍ سَابِقٍ وَمَسُوقًا مَسَاقَ الِامْتِنَانِ، ثُمَّ هُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيَتْلُوهُ مِنَ التشريع الْخَاص بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الْأَحْزَاب: 52] . وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَحَكَى ابْنُ الْفَرَسِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أَنَّ اللَّهَ أحلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلَّ امْرَأَةٍ يُصْدِقُهَا مَهْرهَا فَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ النِّسَاءِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ مُقْتَضَى إِضَافَةِ أَزْوَاجٍ إِلَى ضَمِيرِهِ. وَعَنِ التَّعْبِيرِ بِ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَحْمَلِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فَقَالَ قوم: هَذِه ناسخة لقَوْله: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلَو تقدّمت عَلَيْهَا فِي التِّلَاوَة. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَة بقوله: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ. و (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) صِفَةٌ لِ أَزْواجَكَ، أَيْ وَهُنَّ النِّسْوَةُ اللَّاتِي تَزَوَّجْتَهُنَّ عَلَى حُكْمِ النِّكَاحِ الَّذِي يَعُمُّ الْأُمَّةَ، فَالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَهَؤُلَاءِ فِيهِنَّ مَنْ هُنَّ مِنْ قِرَابَاتِهِ وَهُنَّ الْقُرَشِيَّاتُ مِنْهُنَّ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَسَوْدَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَفِيهِنَّ مَنْ لَسْنَ كَذَلِكَ وَهُنَّ: جُوَيْرِيَةُ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينَ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَفَّاةٌ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ. وَعَطَفَ عَلَى هَؤُلَاءِ نِسْوَةٌ أخر وهنّ ثَلَاثَة أَصْنَافٍ: «الصِّنْفُ الْأَوَّلُ» : مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْفَيْءِ، وَهُوَ مَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَدُوِّ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَكِنْ تَرَكَهُ الْعَدُوُّ، أَوْ مِمَّا أُعْطِيَ

للنبيء - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ أُمِّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ وَهَبَهَا إِلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ مِصْرَ، وَإِنَّمَا وَهَبَهَا إِلَيْهِ هَدِيَّة لمَكَان نبوءته فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ لِأَنَّهَا مَا لُوحِظَ فِيهَا إِلَّا قَصْدُ الْمُسَالِمَةِ مِنْ جِهَةِ الْجِوَارِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقُ صُحْبَةٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ، وَالْمَعْرُوف أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَسَرَّ غَيْرَ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَسَرَّى جَارِيَةً أُخْرَى وَهَبَتْهَا لَهُ زَوْجُهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ وَلَمْ يَثْبُتْ. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّهُ تَسَرَّى رَيْحَانَةَ مِنْ سَبْيِ قُرَيْظَةَ اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ وَلَا تَشْمَلُهَا هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَيْءِ وَلَكِنْ مِنَ الْمَغْنَمِ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ لِلْفَيْءِ وَهُوَ مَا يَشْمَلُ الْغَنِيمَةَ. وَهَذَا الْحُكْمُ يُشْرِكُهُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ مَنْ أَعْطَاهُ أَمِيرُهُ شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الْحَشْر: 7] فَمَنْ أَعْطَاهُ الْأَمِيرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ أَمَةً مِنَ الْفَيْءِ حَلَّتْ لَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَصْفٌ لِمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَهُوَ هُنَا وَصْفُ كَاشِفٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَارِيَة الْقبْطِيَّة، أَوْ هِيَ وَرَيْحَانَةُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَسَرَّاهَا. «الصِّنْفُ الثَّانِي» : نِسَاءٌ مِنْ قَرِيبِ قَرَابَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ أَبِيه أَو من جِهَةِ أُمِّهِ مُؤْمِنَاتٍ مُهَاجِرَاتٍ. وَأَغْنَى قَوْلُهُ: هاجَرْنَ مَعَكَ عَنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ يَتَزَوَّجَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ نِسَاءِ هَذَا الصِّنْفِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الصِّنْفِ الْمَشْرُوطِ بِشَرْطِ الْقَرَابَةِ بِالْعُمُومَةِ أَوِ الْخُئُولَةِ وَشَرْطِ الْهِجْرَةِ. وَعِنْدِي: أَنَّ الْوَصْفَيْنِ بِبَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ وَبَنَاتِ خَالِهِ وَخَالَاتِهِ، وَبِأَنَّهُنَّ هَاجَرْنَ مَعَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِمَا الِاحْتِرَازُ عَمَّنْ لَسْنَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ وَصَفٌ كَاشِفٌ مَسُوقٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِنَّ. وَخَصَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مِنْ عُمُومِ الْمَنْعِ تَكْرِيمًا لِشَأْنِ الْقَرَابَةِ وَالْهِجْرَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقَرَابَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: 72] . وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ انْقَضَى بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَهَذَا الْحُكْمُ يَتَجَاذَبُهُ الْخُصُوصِيَّةُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعْمِيمُ لِأُمَّتِهِ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَسْتَوْفِي هَذَا الْوَصْفَ يَجُوزُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأُمَّتِهِ الَّذِينَ تَكُونُ لَهُمْ قُرَابَةٌ بِالْمَرْأَةِ كَهَذِهِ الْقَرَابَةِ

تَزَوُّجُ أَمْثَالِهَا، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تَسْتَوْفِ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَزَوُّجُهَا، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرٌ رُوِيَ عَن أمّ هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِرِجَالِ أُمَّتِهِ نِكَاحُ أَمْثَالِهَا. وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَقْيِيدِ نِسَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَدَدٍ يكون هَذَا الْإِطْلَاق خَاصًّا بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ إِذْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَزَوُّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. وَبَنَات عمّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ بَنَاتُ إِخْوَةِ أَبِيهِ مِثْلُ: بَنَاتِ الْعَبَّاسِ وَبَنَاتِ أَبِي طَالِبٍ وَبَنَاتِ أَبِي لَهَبٍ. وَأَمَّا بَنَاتُ حَمْزَةَ فَإِنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَا يَحْلِلْنَ لَهُ، وَبَنَاتُ عَمَّاتِهِ هُنَّ بَنَاتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ مِثْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الَّتِي هِيَ بِنْتُ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَبَنَاتُ خَالِهِ هُنَّ بَنَاتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَهن أخوال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَدُ يَغُوثَ بْنُ وَهْبٍ أَخُو آمِنَةَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ لَهُ بَنَاتٍ، كَمَا أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى ذِكْرِ خَالَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ فِيمَا رَأَيْتُ مَنْ كُتُبِ الْأَنْسَابِ وَالسَّيَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي «الْإِصَابَةِ» فُرَيْعَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَذَكَرُوا هَالَةَ بِنْتَ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةَ إِلَّا أَنَّهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنَتُهَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَدْ دَخَلَتْ مِنْ قَبْلُ فِي بَنَاتِ عَمِّهِ. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ لَفْظَ (عَمٍّ) وَجَمَعَ لَفْظَ (عَمَّاتٍ) لِأَنَّ الْعَمَّ فِي اسْتِعْمَالِ كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى أَخِي الْأَبِ وَيُطْلَقُ عَلَى أَخِي الْجَدِّ وَأَخِي جَدِّ الْأَبِ وَهَكَذَا فَهِمَ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ بَنُو عَمٍّ أَوْ بَنَاتُ عَمِّ، إِذَا كَانُوا لِعَمٍّ وَاحِدٍ أَوْ لِعِدَّةِ أَعْمَامٍ، وَيُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنَ الْقَرَائِنِ. قَالَ الرَّاجِزُ أَنْشَدَهُ الْأَخْفَشُ: مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمٍّ ... فِي حَرْبِنَا إِلَّا بَنَاتُ الْعَمِّ وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ فَأَمَّا لَفْظُ (الْعَمَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ فِي كَلَامِهِمْ، فَإِذَا قَالُوا: هَؤُلَاءِ بَنُو عَمَّةٍ، أَرَادُوا أَنَّهُمْ بَنو عمَّة معيّنة، فَجِيءَ فِي الْآيَة: عَمَّاتِكَ جمعا لِئَلَّا يفهم مِنْهُ بَنَات عمَّة مُعينَة. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي إِفْرَاد لفظ (الْخَال) مِنْ قَوْلِهِ: بَناتِ خالِكَ وَجَمْعُ الْخَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَبَناتِ خالاتِكَ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِبَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّاتِ: نِسَاءُ قُرَيْشٍ، وَالْمُرَادُ بِبَنَاتِ الْخَالِ: النِّسَاءُ الزُّهْرِيَّاتِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ نَظَرِيٌّ مَحْضٌ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عمل لِأَن النبيء قَدْ عُرِفَتْ أَزْوَاجُهُ. وَقَوْلُهُ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ صِفَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ كَشَأْنِ الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ، وَهُوَ شَرْطُ تَشْرِيعٍ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا مِنْ قَبْلُ. وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ مَعِيَّةُ الْمُقَارِنَةِ فِي الْوَصْف الْمَأْخُوذ من فِعْلِ هاجَرْنَ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُنَّ قَدْ خَرَجْنَ مُصَاحِبَاتٍ لَهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْهِجْرَةِ. «الصِّنْفُ الثَّالِثُ» : امْرَأَةٌ تهب نَفسهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَجْعَلُ نَفْسَهَا هِبَةً لَهُ دُونَ مَهْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَفْعَلْنَ مَعَ عُظَمَاءِ الْعَرَبِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ أَنْ يَتَّخِذَهَا زَوْجَةً لَهُ بِدُونِ مَهْرٍ إِذَا شَاءَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك، فَهَذَا حَقِيقَةُ لَفْظِ وَهَبَتْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْهِبَةِ: تَزْوِيجُ نَفْسِهَا بِدُونِ عِوَضٍ، أَيْ بِدُونِ مَهْرٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنَ الْهِبَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي صِيَغِ النِّكَاحِ إِذَا قَارَنَهَا ذِكْرُ صَدَاقٍ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مَجَازٌ فِي النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الصَدَاق وَيصِح عقد النِّكَاحِ بِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا للشَّافِعِيّ. فَقَوله: وَامْرَأَتَ عَطْفٌ عَلَى أَزْواجَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً. وَالتَّنْكِيرُ فِي امْرَأَةً لِلنَّوْعِيَّةِ: وَالْمَعْنَى: وَنُعْلِمُكَ أَنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً بِقَيْدِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لَكَ وَأَنْ تُرِيدَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا فَقَوْلُهُ: لِلنَّبِيءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَأَرَدْتَ أَنْ تَنْكِحَهَا. وَهَذَا تَخْصِيصٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فَإِذَا وَهَبَتِ امْرَأَة نَفسهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ نِكَاحَهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ ذَيْنِكَ الشَّرْطَيْنِ وَلِأَجْلِ هَذَا وُصِفَتْ امْرَأَةً بِ مُؤْمِنَةً لِيُعْلَمَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ. وَقَدْ عُدَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ وَكَانَتْ تُدْعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ أُمَّ الْمَسَاكِينِ فِي اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ، وَلَمْ تَلْبَثْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ

هَذِهِ إِلَّا قَلِيلًا فَتُوُفِّيَتْ وَكَانَ تَزَوُّجُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنِ الْهِجْرَةِ فَلَيْسَتْ مِمَّا شَمَلَتْهُ الْآيَةُ. وَلَمْ يثبت أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ وَهُنَّ: أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ الدَّوْسِيَّةُ وَاسْمُهَا عِزِّيَّةُ، وَخَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحْيِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسهَا لِلرَّجُلِ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى عَرَضَتْ نَفسهَا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى ثَابِتٌ الْبَنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ حَاجَةٌ بِي؟ فَقَالَتِ ابْنَةُ أَنَسٍ- وَهِيَ تَسْمَعُ إِلَى رِوَايَةِ أَبِيهَا-: مَا أقل حياءها ووا سوأتاه وَا سوأتاه. فَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النبيء فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا» . وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهَا. فَقَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا، إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ، مَلَّكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» فَهَذَا الصِّنْفُ حُكْمُهُ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ نِكَاحٌ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ بِدُونِ مَهْرٍ وَبِدُونِ وَلِيٍّ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النِّسْوَةَ اللَّاتِي وهبْنَ أَنْفسهنَّ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ هُنَّ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ الْمُلَقَّبَةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، وَأُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ الْأَسَدِيَّةُ أَوِ الْعَامِرِيَّةُ، وَخَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ بِنْتِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ. فَأَمَّا الْأُولَيَانِ فَتَزَوَّجَهُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا مِنْ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ والأخريان لم يتزوجهما. وَمَعْنَى وَهَبَتْ نَفْسَها للنبيء أَنَّهَا مَلَّكَتْهُ نَفْسَهَا تَمْلِيكًا شَبِيهًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلِهَذَا عُطِفَتْ عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وأردفت بِقَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ خَاصَّةً لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهَا زَوْجَةً بِتِلْكَ الْهِبَةِ، أَيْ دُونَ مَهْرٍ وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ امْرَأَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ الرَّجُلُ الْحَاضِرُ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا حَاجَةَ لَهُ بهَا سَأَلَ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ تِلْكَ الْهِبَةَ لَا مَهْرَ مَعَهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ مَا يَصْدُقُهَا إِيَّاهُ، وَقد علم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنَّ هَذَا إِزَارِي فَلَهَا نِصْفُهُ. قَالَ سَهْلٌ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ، فَقَالَ النَّبِيءُ: «وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ- ثُمَّ قَالَ لَهُ- مَاذَا

مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَلَّكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» . وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيءِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لَكَ. وَالْغَرَضُ مِنَ هَذَا الْإِظْهَارِ مَا فِي لَفْظِ النَّبِيءِ مِنْ تَزْكِيَةِ فِعْلِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَهَبُ نَفْسَهَا بِأَنَّهَا رَاغِبَةٌ لِكَرَامَةِ النُّبُوءَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرَادَ النَّبِيءُ أَنْ يَسْتَنْكِحَها جُمْلَةٌ مُعْتَرَضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنْ وَهَبَتْ وَبَيْنَ خالِصَةً وَلَيْسَ مَسُوقًا لِلتَّقْيِيدِ إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذكر إِرَادَته نِكَاحِهَا فَإِنَّ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَذَا الشَّرْطِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ هِبَتَهَا نَفْسَهَا لَهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ عُرْفُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، فَهَذَا شَرْطٌ مُسْتَقِلٌّ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي الشَّرْطِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَرادَ النَّبِيءُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا لِمَا فِي إِظْهَارِ لَفْظِ النَّبِيءِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّكْرِيمِ. وَفَائِدَةُ الِاحْتِرَازِ بِهَذَا الشَّرْطِ الثَّانِي إِبْطَالُ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَهَبَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ نِكَاحَهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ رَدُّهَا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ هَذَا الِالْتِزَام بِتَخْيِير النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَبُولِ هِبَةِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا لَهُ وَعَدَمِهِ، وَلِيَرْفَعَ التَّعْيِيرَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاهِبَةِ بِأَنَّ الرَّدَّ مَأْذُونٌ بِهِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي يَسْتَنْكِحَها لَيْسَتَا لِلطَّلَبِ بَلْ هُمَا لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْحَجَرِ عَنْوَةً ... أَبَا جَابِرٍ فَاسْتَنْكَحُوا أُمَّ جَابر أَي بَنو حُنٍّ قَتَلُوا أَبَا جَابِرٍ الطَّائِيَّ فَصَارَتْ أُمُّ جَابِرٍ الْمُزَوَّجَةُ بِأَبِي جَابِرٍ زَوْجَةَ بَنِي حُنٍّ، أَي زَوْجَةَ رَجُلٍ مِنْهُمْ. وَهِيَ مِثْلُ السِّينِ وَالتَّاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمرَان: 195] . فَتَبَيَّنَ مِنْ جَعْلِ جُمْلَةِ إِنْ أَرَادَ النَّبِيءُ أَنْ يَسْتَنْكِحَها مُعْتَرِضَةً أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهَا لِمَسْأَلَةِ اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا وَقَعَ فِي رِسَالَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ

الدِّينِ السُّبْكِيِّ الْمَجْعُولَةِ لِاعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، وَتَبِعَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْفَنِّ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ «الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ النَّحْوِيَّةِ» ، وَيَلُوحُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» اسْتِشْعَارُ عَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْآيَةِ لِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ فِي الشَّرْطِ فَأَخَذَ يَتَكَلَّفُ لِتَصْوِيرِ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ خالِصَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ امْرَأَةً، أَيْ خَالِصَةً لَكَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ، أَيْ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْخُلُوصُ مَعْنِيٌّ بِهِ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ، أَيْ مُشَارَكَةِ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ إِذْ مَادَّةُ الْخُلُوصِ تَجْمَعُ مَعَاني التجرّد عَن الْمُخَالَطَةِ. فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِبَيَانِ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَكَ مَا فِي الْخُلُوصِ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي نِسْبَتِهِ. وَقَدْ دَلَّ وَصْفُ امْرَأَةً بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةً أَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرَ الْمُؤْمِنَةِ لَا تَحِلُّ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِبَةِ نَفْسِهَا. وَدَلَّ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَا يحلّ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوُّجُ الْكِتَابِيَّاتِ بَلْهَ الْمُشْرِكَاتِ، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ. وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَةِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ وَإِذَا كَانَ لَا تَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ لِنُقْصَانِهَا فَضْلَ الْهِجْرَةِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ. قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أَوْ هِيَ حَالٌ سَبَبِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ قَدْ عَلِمْنَا مَا نَفْرِضُ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَمِرٌّ مَا شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي أَحْكَام الْأزْوَاج وَمَا مَلَكَتْ إِيمَانُهُمْ، فَلَا يَشْمَلُهُمْ مَا عُيِّنَ لَكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا فَرَضْنَاهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ عُمُومِ الْأُمَّةِ دُونَ مَا فَرَضْنَاهُ لَكَ خَاصَّةً. وَمَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ مَوْصُول وَصِلَتُهُ، وَتَعْدِيَةُ فَرَضْنا بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُقْتَضِي لِلتَّكْلِيفِ وَالْإِيجَابِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِعِ أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ إِيمَانُهُمْ

مَا يَوَدُّونَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمُ مِثْلَ عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَإِيجَابِ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ، فَإِذَا سَمِعُوا مَا خص بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْسِعَةِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَدُّوا أَنْ يَلْحَقُوا بِهِ فِي ذَلِكَ، فَسَجَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى مَا سَبَقَ شَرْعُهُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ بَقَاءِ تِلْكَ الْإِحْكَامِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّا لَمْ نَغْفُلْ عَنْ ذَلِكَ، أَيْ لَمْ نُبْطِلْهُ بَلْ عَنْ علم خصصنا نبيئنا بِمَا خَصَصْنَاهُ بِهِ فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ، فَلَا يَشْمَلُ مَا أَحْلَلْنَاهُ لَهُ بَقِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ. وَظَرْفِيَّةُ فِي مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ هُوَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ لَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَذَوَاتُ مَا مَلَكَتْهُ الْأَيْمَانُ. لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. تَعْلِيلٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حق نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّوْسِعَةِ بِالِازْدِيَادِ مِنْ عَدَدِ الْأَزْوَاجِ وَتَزَوُّجِ الْوَاهِبَاتِ أَنْفُسِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ، وَجَعَلَ قَبُولَ هِبَتِهَا مَوْكُولًا لِإِرَادَتِهِ، وَبِمَا أَبْقَى لَهُ مِنْ مُسَاوَاتِهِ أُمَّتَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ وَامْتِنَانٌ. وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَدْنَى الْحَرَجِ، وَهُوَ مَا فِي التَّكْلِيفِ مِنْ بَعْضِ الْحَرَجِ الَّذِي لَا تَخْلُو عَنْهُ التَّكَالِيفُ، وَأَمَّا الْحَرَجُ الْقَوِيُّ فَمَنْفِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ. وَمَرَاتِبُ الْحَرَجِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَمَنَاطُ مَا يُنْفَى عَنِ الْأُمَّةِ مِنْهَا وَمَا لَا يُنْفَى، وَتَقْدِيرَاتُ أَحْوَالِ انْتِفَاءِ بَعْضِهَا لِلضَّرُورَةِ هُوَ مِيزَانُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَرَاتِبِهَا وَأَعْلَمُ بِمِقْدَارِ تَحَرُّجِ عِبَادِهِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَقَدْ حَرَّرَ مِلَاكَهُ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِهِ «أَنْوَاءِ الْبُرُوقِ» . وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى «مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» . وَأعلم أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَكَ فِي الْأَخْذِ بِهَذِهِ التَّوَسُّعَاتِ الَّتِي رَفَعَ اللَّهُ بِهَا قدره مَسْلَك الكمّل مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ أَكْمَلُهُمْ فَلَمْ يَنْتَفِعْ لِنَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَكَانَ عَبْدًا شَكُورًا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ اسْتِغْفَارِهِ رَبَّهُ فِي الْيَوْمِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا. وَالتَّذْيِيلُ بِجُمْلَةِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تَذْيِيلٌ لِمَا شَرَعَهُ من الْأَحْكَام للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِلْجُمْلَةِ الْمُعَتَرِضَةِ، أَيْ أَنَّ مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْكَ هُوَ مِنْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 51]

مُتَعَلِّقَاتِ صِفَتَيْ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ اللَّتَيْنِ هما من تعلقات الْإِرَادَةِ وَالْعلم فهما ناشئتان عَنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهِمَا أَمْرًا مُتَمَكِّنًا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كانَ الْمُشِيرُ إِلَى السَّابِقِيَّةِ وَالرُّسُوخِ كَمَا عَلِمْتَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. [51] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 51] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ. اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الْأَحْزَاب: 50] فَإِنَّهُ يُثِيرُ فِي النَّفْسِ تَطَلُّبًا لِبَيَانِ مَدَى هَذَا التَّحْلِيلِ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ تَحْلِيلِ الْإِرْجَاءِ وَالْإِيوَاءِ لمن يَشَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِرْجَاءُ حَقِيقَتُهُ: التَّأْخِيرُ إِلَى وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ. يُقَالُ: أَرْجَأَتُ الْأَمْرَ وَأَرْجَيْتُهُ مَهْمُوزًا وَمُخَفَّفًا، إِذَا أَخَّرْتُهُ. وَفِعْلُهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْأَحْوَالِ لَا الذَّوَاتِ، فَإِذَا عُدِّيَ فِعْلُهُ إِلَى اسْمِ ذَاتٍ تَعَيَّنَ انْصِرَافُهُ إِلَى وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ وَالَّتِي تُرَادُ مِنْهَا، فَإِذَا قُلْتَ: أَرْجَأْتُ غَرِيمِي، كَانَ الْمُرَادُ: أَنَّكَ أَخَّرْتَ قَضَاءَ دَيْنِهِ إِلَى وَقْتٍ يَأْتِي. وَالْإِيوَاءُ: حَقِيقَتُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ آوِيًا، أَيْ رَاجِعًا إِلَى مَكَانِهِ. يُقَالُ: آوَى، إِذا رَجَعَ إِلَى حَيْثُ فَارَقَ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الِاسْتِقْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ إِبْعَادٍ أَمْ بِدُونِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ سَبْقِ اسْتِقْرَارٍ بِالْمَكَانِ أَمْ لَمْ يَكُنْ. وَمُقَابَلَةُ الْإِرْجَاءِ بِالْإِيوَاءِ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِرْجَاءَ مُرَادٌ مِنْهُ ضِدُّ الْإِيوَاءِ أَوْ أَنَّ الْإِيوَاءَ ضد الإرجاء وَبِذَلِك تنشأ احتمالات فِي المُرَاد من الْإِرْجَاءِ وَالْإِيوَاءِ صَرِيحِهِمَا وَكِنَايَتِهِمَا. فَضَمِيرُ مِنْهُنَّ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ مِمَّنْ هُنَّ فِي عِصْمَتِهِ وَمَنْ أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ نِكَاحَهُنَّ غَيْرَهُنَّ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالِهِ وَخَالَاتِهِ، وَالْوَاهِبَاتِ أَنْفُسَهُنَّ، فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: وَهُنَّ اللَّاءِ فِي عِصْمَةِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُنَّ مُتَّصِلْنَ بِهِ فَإِرْجَاءُ هَذَا الصِّنْفِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَأْخِيرِ الِاسْتِمْتَاعِ إِلَى وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ يُرِيدُهُ،

وَالْإِيوَاءُ ضِدُّهُ. فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْإِرْجَاءُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْقَسَمِ فَوَسَّعَ الله على نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ مَعَهُنَّ فَصَارَ حَقُّ الْمَبِيتِ حَقًّا لَهُ لَا لَهُنَّ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي رَزِينٍ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَى نِسَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَتْ عَنْهُ حَقَّهَا فِي الْمَبِيتِ وَهِيَ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعَائِشَة فَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة صَار النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَيَّرًا فِي الْقَسْمِ لِأَزْوَاجِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَهَذَا تَخْيِير للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِهِ تَكَرُّمًا مِنْهُ عَلَى أَزْوَاجِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ. مَا عَلِمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْجَأَ أَحَدًا مِنْ أَزْوَاجِهِ بَلْ آوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ (¬1) : أَرْجَأَ مَيْمُونَةَ وَسَوْدَةَ وَجُوَيْرِيَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ وَصَفِيَّةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ، أَيْ دُونَ مُسَاوَاةٍ لِبَقِيَّةِ أَزْوَاجِهِ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَفُسِّرَ الْإِرْجَاءُ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ، وَالْإِيوَاءُ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ فِي الْعِصْمَةِ، فَيَكُونُ إِذْنًا لَهُ بِتَطْلِيقِ مَنْ يَشَاءُ تَطْلِيقَهَا وَإِطْلَاقُ الْإِرْجَاءِ عَلَى التَّطْلِيقِ غَرِيبٌ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَقْوَالًا أُخَرَ وَأَخْبَارًا فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَمْ تَصِحَّ أَسَانِيدُهَا فَهِيَ آرَاءٌ لَا يُوثَقُ بِهَا. وَيَشْمَلُ الْإِرْجَاءُ الصِّنْفَ الثَّانِي وَهُنَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ وَهُوَ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ إِذْ لَا يَجِبُ لِلْإِمَاءِ عَدَلٌ فِي الْمُعَاشَرَةِ وَلَا فِي الْمَبِيتِ. وَيَشْمَلُ الْإِرْجَاءُ الصِّنْفَ الثَّالِثَ وَهُنَّ: بَنَاتُ عَمِّهِ وَبَنَاتُ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتُ خَالِهِ وَبَنَاتُ خَالَاتِهِ، فَالْإِرْجَاءُ تَأْخِيرُ تَزَوُّجِ مَنْ يَحِلُّ مِنْهُنَّ، وَالْإِيوَاءُ الْعَقْدُ عَلَى إِحْدَاهِنَّ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ إِرْجَاءُ الْعَمَلِ بِالْإِذْنِ فِيهِنَّ إِلَى غَيْرِ أَجْلٍ مُعَيَّنٍ. وَكَذَلِكَ إِرْجَاءُ الصِّنْفِ الرَّابِعِ اللَّاءِ وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا بَعْدَ ¬

(¬1) أَبُو رزين بِفَتْح الرَّاء اسْمه: لَقِيط. وَيُقَال لَهُ الْعقيلِيّ أَو العامري وَهُوَ من بني المنتفق. وَله صُحْبَة. [.....]

نُزُولِ الْآيَةِ أَمْ كَانَ بَعْضُهُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَإِرْجَاؤُهُنَّ عَدَمُ قَبُولِ نِكَاحِ الْوَاهِبَةِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِرْجَاءِ إِبْقَاءً عَلَى أَمَلِهَا أَنْ يَقْبَلَهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وإيواؤهن قَبُولُ هِبَتِهِنَّ. قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ تُرْجِي بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي آخِره مخّفف (ترجىء) الْمَهْمُوزُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِم وَيَعْقُوب ترجىء بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْهَمْزُ أَجْوَدُ وَأَكْثَرُ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ على أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَعَ أَزْوَاجِهِ مَا أُبِيحَ لَهُ أَخْذًا مِنْهُ بِأَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ، فَكَانَ يَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ، إِلَّا أَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ طَلَبًا لِمَسَرَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فَهَذَا لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ لَا يُوجِبُ اسْتِمْرَارَ مَا أُخِذَ بِهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا، أَيْ لَا يَكُونُ عَمَلُهُ بِالْعَزْلِ لَازِمَ الدَّوَامِ بِمَنْزِلَةِ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ، بَلْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْ يَعْزِلُهَا مِنْهُنَّ، فَصَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْإِرْجَاءَ شَامِلٌ لِلْعَزْلِ. فَفِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ مُقَدَّرَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: ابْتَغَيْتَ إِذْ هُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ ابْتَغَى إِبْطَالَ عَزْلِهَا، فَمَفْعُولُ ابْتَغَيْتَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ، فَإِنَّ الْعَزْلَ وَالْإِرْجَاءَ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ عَزَلْتَ بِالْإِرْجَاءِ إِحْدَاهُنَّ فَلَيْسَ الْعَزْلُ بِوَاجِبٍ اسْتِمْرَارُهُ بَلْ لَكَ أَنْ تُعِيدَهَا إِنِ ابْتَغَيْتَ الْعُودَ إِلَيْهَا، أَيْ فَلَيْسَ هَذَا كَتَخْيِيرِ الرَّجُلِ زَوْجَهُ فَتَخْتَارُ نَفْسَهَا الْمُقْتَضِي أَنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ. وَمُتَعَلِّقُ الْجُنَاحِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ابْتَغَيْتَ أَي ابْتَغَيْت إيواءها فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ مِنْ إِيوَائِهَا. ومَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَجُمْلَةُ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَيجوز أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً فَإِنَّ الْمَوْصُولَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فِي كَلَامِهِمْ بِكَثْرَةٍ إِذَا قَصَدَ مِنْهُ الْعُمُومَ فَلِذَلِكَ يَقْتَرِنُ خَبَرُ الْمَوْصُولِ الْعَامِ بِالْفَاءِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: 203] ، وَعَلِيهِ فَجُمْلَةُ فَلا جُناحَ

عَلَيْكَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ اقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ وَمَفْعُولُ عَزَلْتَ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَيِ الَّتِي ابْتَغَيْتَهَا مِمَّنْ عَزَلْتَهُنَّ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً. الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُهُ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْنَى التَّفْوِيضِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِابْتِغَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ فِعْلُ ابْتَغَيْتَ أَيْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي ابْتِغَائِهِنَّ بَعْدَ عَزْلِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى لِأَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ. وَالِابْتِغَاءُ: الرَّغْبَةُ وَالطَّلَبُ، وَالْمُرَادُ هُنَا ابْتِغَاءُ مُعَاشَرَةِ مَنْ عَزَلَهُنَّ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ فِي هَذَا التَّفْوِيضِ جَعَلَ الْحَقَّ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِيَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبْقِ حَقًّا لَهُنَّ فَإِذَا عَيَّنَ لِإِحْدَاهِنَّ حَالَةً مِنَ الْحَالَيْنِ رَضِيَتْهُ بِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حُكْمِ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن تكون لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَاب: 36] فَقَرَّتْ أَعْيُنُ جَمِيعِهِنَّ بِمَا عَيَّنَتَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا حَسِبَ أَنَّ مَا يُؤْتَاهُ أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ وَبَالَغَ فِي اسْتِيفَائِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: وَيَرْضَيْنَ وَلَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ لِأَنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَقَوْلَهُ: وَلا يَحْزَنَّ لِأَنَّ الْحُزْنَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُكَدَّرِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِيٍّ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: ذَلِكَ الِابْتِغَاءُ بَعْدَ الْعَزْلِ أَقْرَبُ لِأَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُ اللَّاتِي كُنْتَ عَزَلْتَهُنَّ. فَفِي هَذَا الْوَجْه ترغيب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اخْتِيَارِ عَدَمِ عَزْلِهِنَّ عَنِ الْقَسْمِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَلقَوْله: «ويرضين كلّهن» ، وَلِمَا فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْوَافِرَةِ الَّتِي يرغب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْصِيلِهَا لَا مَحَالَةَ وَهِيَ إِدْخَالُ الْمَسَرَّةِ عَلَى الْمُسلم وَحُصُول الرضى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ

مِمَّا يُعَزِّزُ الْأُخُوَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمُرَغَّبَ فِيهَا. وَنُقِلَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجِبَّائِيِّ وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِأَنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ لَا تَحْصُلُ عَلَى مَضَضٍ وَلِأَنَّ الْحَطَّ فِي الْحَقِّ يُوجِبُ الْكَدَرَ. وَيُؤَيِّدهُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا بِهِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ آثَرَ إِحْدَى أَزْوَاجِهِ بِلَيْلَةٍ سِوَى لَيْلَةِ سَوْدَةَ الَّتِي وَهَبَتْهَا لِعَائِشَةَ، اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ يُطَافُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ، وَكَانَ مَبْدَأُ شَكْوَاهُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ إِلَى أَنْ جَاءَتْ نَوْبَةُ لَيْلَةِ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا رِفْقًا بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ قَسَمَ لَهُنَّ «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَن المُرَاد الرضى الَّذِي يَتَسَاوَيْنَ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْكِيدِ بِ كُلُّهُنَّ نُكْتَةٌ زَائِدَةٌ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ ضَمِيرِهِنَّ فِي قَوْله: كُلُّهُنَّ يومىء إِلَى رضى مُتَسَاوٍ بَيْنَهُنَّ. وَضَمِيرَا أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ عَائِدَانِ إِلَى (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ عَزَلْتَ. وَذِكْرُ وَلا يَحْزَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ مَعَ مَا فِي قُرَّةِ الْعَيْنِ مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى انْتِفَاءِ الْحُزْنِ بِالْإِيمَاءِ إِلَى تَرْغِيبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِغَاءِ بَقَاءِ جَمِيعِ نِسَائِهِ فِي مُوَاصَلَتِهِ لِأَنَّ فِي عَزْلِ بَعْضِهِنَّ حُزْنًا لِلْمَعْزُولَاتِ وَهُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف لَا يُحِبُّ أَنْ يُحْزِنَ أَحَدًا. وكُلُّهُنَّ تَوْكِيدٌ لِضَمِيرِ يَرْضَيْنَ أَوْ يَتَنَازَعُهُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ وَغَلَبَ عَلَى إِعْطَاءِ الْخَيْرِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، أَوْ ذُكِرَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: 144] ، فَإِذَا ذَكَرَ مَفْعُولَهُ الثَّانِيَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُوءٍ. وَلَمْ أَرَهُ يُسْتَعْمَلُ فِي إِعْطَاءِ السُّوءِ فَلَا تَقُولُ: آتَاهُ سِجْنًا وَآتَاهُ ضَرْبًا، إِلَّا فِي مَقَامِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْمُشَاكَلَةِ، فَمَا هُنَا مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا يَبْعُدُ تَفْسِيره بأنهن يرضين بِمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ مِنْ عَزْلِهِنَّ وَإِرْجَائِهِنَّ. وَتَوْجِيهُهُ فِي «الْكَشَّافِ» تَكَلُّفٌ. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً كَلَامٌ جَامِعٌ لِمَعْنَى التَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ فَفِيهِ ترغيب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِحْسَانِ بِأَزْوَاجِهِ وَإِمَائِهِ

[سورة الأحزاب (33) : آية 52]

وَالْمُتَعَرِّضَاتِ لِلتَّزَوُّجِ بِهِ، وَتَحْذِيرٌ لَهُنَّ مِنْ إِضْمَار عدم الرضى بِمَا يَلْقَيْنَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي إِجْرَاءِ صِفَتي عَلِيماً حَلِيماً عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ، فَمُنَاسَبَةُ صِفَةِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ظَاهِرَةٌ، وَمُنَاسَبَةُ صِفَةُ الْحَلِيمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْغِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلْيَقِ الْأَحْوَالِ بِصِفَةِ الْحَلِيمِ لِأَنَّ هَمَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّخَلُّقُ بِخُلُقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاته مثل رؤوف رَحِيم وَمثل شَاهد. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ رَسُولُ الله بِهَذَا التَّخْيِير فِي النِّسَاءِ اللَّاتِي كُنَّ فِي مُعَاشَرَتِهِ، وَأَخَذَ بِهِ فِي الْوَاهِبَاتِ أَنْفُسِهِنَّ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ بِالْقَوْلِ وَالْبَذْلِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَخَذَ بِهِ فِي تَرْكِ التَّزَوُّجِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالِهِ وَخَالَاتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِنَّ. [52] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 52] لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُصْحَفِ عَقِبَ الَّتِي قَبِلَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَذَلِكَ نَزَلَتْ وَأَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمُنْتَظِمٌ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ، عَلَى أَنَّ حَذْفَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ بَعْدُ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ حَذْفُ مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ فَتَأَخُّرُهَا فِي النُّزُولِ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَكَوْنُهَا مُتَّصِلَةً بِهَا وَتَتِمَّةً لَهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذِكْرِ الْأَصْنَافِ قَبْلَهُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [الْأَحْزَاب: 50] الْخَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ مِنَ الزَّمَانِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَقْتِ، وَالْأَوَّلُ الرَّاجِحُ. وبَعْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (غَيْرٍ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ فَلَا نَاسِخَ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا هِيَ نَاسِخَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأَزْوَاجِ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ

بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أَيْ غَيْرِهِنَّ، وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ حَمَلَ الْآيَةَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ: «نُهِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ» فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ فَأَحَلَّ اللَّهُ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنبيء [الْأَحْزَاب: 50] . وَمِثْلُ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدُ مُرَادًا بِهِ الشَّيْءَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْبُعْدِيَّةِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ سَابِقٍ. وَبِنَاءُ بَعْدُ عَلَى الضَّمِّ يَقْتَضِي تَقْدِيرَ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ عَلَى مَا دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ وَحَقَّقَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «شَرْحِهِ عَلَى قَطْرِ النَّدَى» ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرْنَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْبُعْدِيَّةِ فَيُقَدَّرُ: مِنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرْنَ، أَوْ يُقَدَّرُ مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرْنَ، فَتَنْشَأُ احْتِمَالَاتُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَصْنَافَ مَنْ ذُكِرْنَ أَوْ أَعْدَادَ مَنْ ذُكِرْنَ (وَكُنَّ تِسْعًا) ، أَوْ مَنِ اخْتَرْتَهُنَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَقْتًا، أَيْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَوِ السَّاعَةِ، أَيِ الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ فَيَكُونَ نَسْخًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ [الْأَحْزَاب: 50] . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ النِّسَاءَ» . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. (وَهُوَ مُقْتَضٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ) فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ نَاسِخَهَا مِنَ السُّنَّةِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ قَوْلَهَا: مَا مَاتَ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ آخِرَ حَيَاتِهِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ مَعَ سُورَتِهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ نَاسِخَةً لِلْإِبَاحَةِ الَّتِي عنتها عَائِشَة وَلذَلِك فَالْإِبَاحَةُ إِبَاحَةُ تَكْرِيمٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. والنِّساءُ إِذْا أُطْلِقَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ غَلَبَ فِي مَعْنَى الْأَزْوَاجِ، أَيِ الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالُ مَقَادَتَيْ ... وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرًا أَيْ لَا تَحِلُّ لَكَ الْأَزْوَاجُ مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرْنَ.

وَقَوْلُهُ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ أَصْلُهُ: تَتَبَدَّلُ بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا، يُقَالُ: بدّل وتبدّل بِمَعْنى وَاحِد، وَمَادَّةُ الْبَدَلِ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: يُعْطَى أَحَدُهُمَا عِوَضًا عَنْ أَخْذِ الْآخَرِ، فَالتَّبْدِيلُ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَأْخُوذِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى بِالْبَاءِ أَوْ بِحَرْفِ مِنْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [108] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ فِي عِصْمَتِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُطَلِّقَهَا، فَكُنِّيَ بِالتَّبَدُّلِ عَنِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ فِي الْعُرْفِ الْغَالِبِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُطَلِّقُ إِلَّا وَهُوَ يَعْتَاضُ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ امْرَأَةً أُخْرَى، وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ مُتَعَيِّنَةٌ هُنَا لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ صَرِيحُ التَّبَدُّلِ لَخَالَفَ آخِرُ الْآيَةِ أَوَّلَهَا وَسَابِقَتَهَا، فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحِلَّتْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي عِنْدَهُ إِذَا كَانَتِ الْمَزِيدَةُ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ مَا عَدَاهُنَّ، فَإِذَا كَانَتِ الْمُسْتَبْدَلَةُ إِحْدَى نِسَاءٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا لِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ يُنَافِي إِبَاحَةَ الْأَصْنَافِ وَلَا قَائِلٌ بِالنَّسْخِ فِي الْآيَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُسْتَبْدَلَةُ مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ كَانَ تَحْرِيمُهَا عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ فَلَا مَحْصُولَ لِتَحْرِيمِهَا فِي خُصُوصِ حَال إبدالها بغَيْرهَا فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْدَالُ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الطَّلَاقِ وَمُلَاحَظًا فِيهِ نِيَّةُ الِاسْتِبْدَالِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبِيحَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي حَصَلْنَ فِي عِصْمَتِهِ أَوْ يَحْصُلْنَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يُبَحْ لَهُ تَعْوِيضُ قَدِيمَةٍ بِحَادِثَةٍ. وَالْمعْنَى: وَلَا أَن تطلق امْرَأَة مِنْهُنَّ تُرِيدُ بِطَلَاقِهَا أَن تتبدل بهَا زوجا أُخْرَى. وَضمير بِهِنَّ عَائِد إِلَى مَا أضيف إِلَيْهِ بَعْدُ المقدّر وَهن الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة. وَالْمَعْنَى: وَلَا أَنْ تُبَدِّلَ بِامْرَأَةٍ حَصَلَتْ فِي عِصْمَتِكَ أَوْ سَتَحْصُلُ امْرَأَةً غَيْرَهَا. فَالْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُفَارَقَةِ. ومِنْ مَزِيدَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ تَبَدَّلَ لِقَصْدِ إِفَادَةِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ أَزْوَاجًا أُخَرَ، فَاخْتَصَّ هَذَا الْحُكْمُ بِالْأَزْوَاجِ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَبَقِيَتِ السَّرَارِي خَارِجَةً بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَأَمَّا الَّتِي تَهَبُ نَفْسَهَا

فَهِيَ إِنْ أَرَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْكِحَهَا فَقَدِ انْتَظَمَتْ فِي سلك الْأزْوَاج، فَشَمَلَهَا حَكْمُهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَنْكِحَهَا فَقَدْ بَقِيَتْ أَجْنَبِيَّةً لَا تَدْخُلُ فِي تِلْكَ الْأَصْنَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يَحِلُّ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ عَلَى اعْتِبَارِ التَّذْكِيرِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَيَجُوزُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الْجَمْعِ غَيْرِ السَّالِمِ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُهُ، وَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَبَدَّلَ. ولَوْ لِلشَّرْطِ الْمَقْطُوعِ بِانْتِفَائِهِ وَهِيَ لِلْفَرْضِ وَالتَّقْدِير وَتسَمى وصيلة، فَتَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مَا هُوَ دُونَ الْمَشْرُوطِ بِالْأَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [91] . وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ بِزِيَادَةٍ عَلَى نِسَائِكَ وَبِتَعْوِيضِ إِحْدَاهِنَّ بِجَدِيدَةٍ فِي كُلِّ حَالَةٍ حَتَّى فِي حَالَةِ إِعْجَابِ حُسْنِهِنَّ إِيَّاكَ. وَفِي هَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَبَاحَ لِرَسُولِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةِ أَرَادَ اللُّطْفَ لَهُ وَأَنْ لَا يُنَاكِدَ رَغْبَتَهُ إِذَا أَعْجَبَتْهُ امْرَأَةً لَكِنَّهُ حَدَّدَ لَهُ أَصْنَافًا مُعَيَّنَةً وَفِيهِنَّ غِنَاءٌ. وَقَدْ عَبَّرَتْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ شَيِّقَةٍ، إِذْ قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. وَأُكِّدَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ بِالتَّذْيِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أَيْ عَالِمًا بِجَرْيِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى نَحْوِ مَا حَدَّدَهُ أَوْ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ يُجَازِي عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. وَهَذَا وعد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوَابٍ عَظِيمٍ عَلَى مَا حَدَّدَ لَهُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مُنْقَطِعٌ. وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ حَلَالٌ فِي كُلِّ حَالٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ النِّساءُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مَا يُرَادِفُ لَفْظَ الْإِنَاثِ دُونَ اسْتِعْمَالِهِ الْعُرْفِيِّ بِمَعْنَى الْأَزْوَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 53]

[53] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 53] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ آدَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَزوَاجه قفّاه فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآدَابِ الْأمة مَعَهُنَّ، وصدره بِالْإِشَارَةِ إِلَى قِصَّةٍ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهِيَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ صَنَعَ طَعَامًا بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ وَدَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيءُ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ ... فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقَتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرَتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ وَراءِ حِجابٍ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرَتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. وَلَيْسَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ تَعَارُضٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ كَانَ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِزَيْنَبَ بِقَلِيلٍ ثُمَّ عَقِبَتْهُ قِصَّةُ وَلِيمَةِ زَيْنَبَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِإِثْرِهَا. وَابْتُدِئَ شَرْعُ الْحِجَابِ بِالنَّهْيِ عَنْ دُخُول بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِطَعَامٍ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، لِأَن النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ مَجْلِسٌ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ فَمَنْ كَانَ لَهُ مُهِمٌّ عِنْدَهُ يَأْتِيهِ هُنَالِكَ. وَلَيْسَ ذِكْرُ الدَّعْوَةِ إِلَى طَعَامٍ تَقْيِيدًا لِإِبَاحَةِ دُخُول بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمَدْعُوُّ إِلَى طَعَامٍ وَلَكِنَّهُ مِثَالٌ لِلدَّعْوَةِ وَتَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ كَمَا جَرَى فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النُّزُولِ فَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ دَعْوَةٍ تكون من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ إِذْنٍ مِنْهُ بِالدُّخُولِ إِلَى بَيْتِهِ لِغَيْرِ قَصْدِ أَنْ يُطْعَمَ مَعَهُ كَمَا كَانَ يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ أَبِي هُرَيْرَةَ

حِينَ اسْتَقْرَأَ مِنْ عُمَرَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَدْعُوَهُ عُمَرُ إِلَى الْغَدَاءِ فَفَتَحَ عَلَيْهِ الْآيَة وَدخل فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَرِفَ مَا بِهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ وَأَمَرَ لَهُ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ ثُمَّ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّعَامَ إِدْمَاجًا لِتَبْيِينِ آدَابِهِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَثْلُهُ فِي قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِيُوتَ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا. وإِناهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِالْقَصْرِ: إِمَّا مَصْدَرُ أَنَى الشَّيْءُ إِذَا حَانَ، يُقَالُ: أَنَى يَأْنِي، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 16] . وَمَقْلُوبُهُ: آنْ. وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَالْمَعْنَى: غَيْرُ مُنْتَظِرِينَ حُضُورَ الطَّعَامِ، أَيْ غَيْرُ سَابِقِينَ إِلَى الْبُيُوتِ وَقَبْلَ تَهْيِئَتِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الدُّخُولُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، أَيْ إِلَّا حَالَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. وَضُمِّنَ يُؤْذَنَ مَعْنَى تَدْعُونَ فَعُدِّيَ بِ إِلى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا أَنْ تُدْعَوْا إِلَى طَعَامٍ فَيُؤْذَنُ لَكُمْ لِأَنَّ الطُّفَيْلِيَّ قَدْ يُؤْذَنُ لَهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ وَهُوَ غَيْرُ مَدْعُوٍّ فَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنَ الْكَلَامِ. فَالْكَلَامُ مُتَضَمِّنُ شَرْطَيْنِ هُمَا: الدَّعْوَةُ، وَالْإِذْنُ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِذْنِ وَقَدْ يَقْتَرِنَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وغَيْرَ ناظِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ فَهُوَ قَيْدٌ فِي مُتَعَلِّقِ الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ قَيْدًا فِي قَيْدٍ فَصَارَتِ الْقُيُودُ الْمَشْرُوطَةُ ثَلَاثَةٌ. وناظِرِينَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس: 102] الْآيَةَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَحْضُرُوا الْبُيُوتَ لِلطَّعَامِ قَبْلَ تَهْيِئَةِ الطَّعَامِ لِلتَّنَاوُلِ فَتَقْعُدُوا تَنْتَظِرُونَ نُضْجَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَ

النبيء فَيَدْخُلُونَ قَبْلَ أَنْ يُدْرَكَ الطَّعَامُ فَيَقْعُدُونَ إِلَى أَنْ يُدْرَكَ ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ اهـ. وَقَدْ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ قَبْلَ قَضِيَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ حَضَرُوا وَلِيمَةَ الْبِنَاءِ بِزَيْنَبَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ خَاتِمَةَ الْقَضَايَا، فَكُنِّيَ بِالِانْتِظَارِ عَنْ مُبَادَرَةِ الْحُضُورِ قَبْلَ إِبَانِ الْأَكْلِ. وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ تَشْوِيهُ السَّبْقِ بِالْحُضُورِ بِجَعْلِهِ نَهَمًا وَجَشَعًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَحْضُرُونَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى صَرِيحِ الِانْتِظَارِ. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ التَّأَخُّرَ عَنْ إِبَانِ الطَّعَامِ أَفْضَلُ فَأَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى أَنَّ تَأَخُّرَ الْحُضُورِ عَنْ إِبَانِ الطَّعَامِ لَا يَنْبَغِي بَلِ التَّأَخُّرُ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ صَاحِبَ الطَّعَامِ فِي انْتِظَارٍ، وَكَذَلِكَ الْبَقَاءُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ تَجَاوْزٌ لِحَدِّ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لِحُضُورِ شَيْءٍ تَقْتَضِي مُفَارَقَةَ الْمَكَانِ عِنْدَ انتهائه لِأَن تقيد الدَّعْوَةِ بِالْغَرَضِ الْمَخْصُوصِ يَتَضَمَّنُ تَحْدِيدَهَا بِانْتِهَاءِ مَا دُعِيَ لِأَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ دُخُولٍ لِغَرَضٍ مِنْ مُشَاوَرَةٍ أَوْ مُحَادَثَةٍ أَوْ سَمَرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَحَدَّدُ بِالْعُرْفِ وَمَا لَا يَثْقُلُ عَلَى صَاحِبِ الْمَحَلِّ، فَإِنْ كَانَ مَحَلٌّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ كَدَارِ الشُّورَى وَالنَّادِي فَلَا تَحْدِيدَ فِيهِ. وطَعِمْتُمْ مَعْنَاهُ أَكَلْتُمْ، يُقَالُ: طَعِمَ فُلَانٌ فَهُوَ طَاعِمٌ، إِذَا أَكَلَ. وَالِانْتِشَارُ: افْتِعَالٌ مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ إِبْدَاءُ مَا كَانَ مَطْوِيًّا، أُطْلِقَ عَلَى الْخُرُوجِ مَجَازًا وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [47] . وَالْوَاوُ فِي وَلا مُسْتَأْنِسِينَ عَطَفٌ عَلَى ناظِرِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَزِيَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ مُسْتَأْنِسِينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَطْفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَفِي تَصْدِيرِ الْمَنْفِيِّ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَة [النِّسَاء: 65] وَقَوْلِهِ: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: 11] . وَالِاسْتِئْنَاسُ: طَلَبُ الْأُنْسِ مَعَ الْغَيْرِ. وَاللَّامُ فِي لِحَدِيثٍ لِلْعِلَّةِ، أَيْ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِأَجْلِ حَدِيثٍ يَجْرِي بَيْنَكُمْ. وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ حُذِفَ مَوْصُوفُهُا ثُمَّ

غَلَبَتْ عَلَى مَعْنَى الْمَوْصُوفِ فَصَارَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ، وَتُوسِّعَ فِيهِ فَصَارَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا قَدْ مَضَى. وَمِنْهُ سُمِّي مَا يرْوى عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا كَمَا يُسَمَّى خَبَرًا، ثُمَّ تُوسِّعَ فِيهِ فَصَارَ يُطلق على كل كَلَامٍ يَجْرِي بَيْنَ الْجُلَسَاءِ فِي جِدٍّ أَوْ فُكَاهَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَدِيثُ خُرَافَةٍ، وَقَوْلُ كَثِيرٍ: أَخَذَنَا بِاكْتِرَاثِ الْأَحَادِيثِ تَبْيِينًا ... ... الْبَيْتَ وَاسْتِئْنَاسُ الْحَدِيثِ: تَسَمُّعُهُ وَالْعِنَايَةُ بِالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ: كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ أَيْ كَأَنِّي رَاكِبٌ ثَوْرًا وَحْشِيًّا مُنْفَرِدًا تَسَمَّعَ صَوْتَ الصَّائِدِ فَأَسْرَعَ الْهُرُوبَ. وَإِضَافَةُ بُيُوتَ النَّبِيِّ عَلَى مَعْنَى لَامِ الْمِلْكِ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُيُوتَ مِلْكٌ لَهُ مَلَكَهَا بِالْعَطِيَّةِ مِنَ الَّذِينَ كَانَتْ سَاحَةُ الْمَسْجِدِ مِلْكًا لَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبِالْفَيْءِ لِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي كَانَتْ ثَمَّةَ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ فُتِحَتْ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فَأَصْبَحَتْ دَارًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَمَصِيرُ تِلْكَ الْبُيُوتِ بعد وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصِيرُ تَرِكَتِهِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ وَمَا تَرَكَهُ يَنْتَفِعُ مِنْهُ أَزْوَاجُهُ وَآلُهُ بِكِفَايَتِهِمْ حَيَاتَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ فِيمَا كَانَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَدَكِ وَنَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ، فَكَانَ لِأَزْوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقُّ السُّكْنَى فِي بُيُوتِهِنَّ بَعْدَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُنَّ اللَّهُ مِنْ عِنْدِ آخِرَتِهِنَّ، فَلِذَلِكَ أَدْخَلَهَا الْخُلَفَاءُ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ تَوْسِعَتِهِ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَمِيرُ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْطَ وَرَثَتُهُنَّ شَيْئًا وَلَا سَأَلُوهُ. وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِهِنَّ فِي قَوْلِهِ: مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الْأَحْزَاب: 34] عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ لَا لَامِ الْمِلْكِ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ: هَذِهِ الْآيَةُ أَدَبٌ أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ الثُّقَلَاءَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَائِشَةَ: حَسْبُكَ مِنَ الثُّقَلَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَحْتَمِلْهُمْ. وَمَعْنَى الثِّقَلِ فِيهِ هُوَ إِدْخَالُ أَحَدٍ الْقَلَقَ وَالْغَمَّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ جَرَّاءِ عَمَلٍ لِفَائِدَةِ الْعَامِلِ أَوْ لِعَدَمِ الشُّعُورِ بِمَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ مِنَ الْحَرَجِ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَهُوَ من مساوئ الْخُلُقِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ كَانَ ضُرًّا بِالنَّاسِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَذَى وَهُوَ ذَرِيعَةٌ للتباغض عِنْد نفاد صَبْرِ الْمَضْرُورِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مِقْدَارِ

تَحَمُّلِ الْأَذَى، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ إِذَا أَحَسَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ أَو فعله يخدل الْغَمَّ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ يَجْتَنِي مِنْهُ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ إِذْ لَا يُضِرُّ بِأَحَدٍ لِيَنْتَفِعَ غَيْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَنْ يَأْتِي بِالْعَمَلِ حَقٌّ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ لَهُ طَلَبَهُ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ التَّقَاضِي، وَإِنْ كَانَ إِدْخَالُهُ الْغَمَّ عَلَى غَيْرِهِ عَنْ غَبَاوَةٍ وَقِلَّةِ تَفَطُّنٍ لَهُ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ يَصِلُ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ الشُّعُورُ بِهِ بَدِيهِيًّا. وَلِلْحُكَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي الثُّقَلَاءِ طَفَحَتْ بِهَا كُتُبُ أَدَبِ الْأَخْلَاقِ. ومعاملة النَّاس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْخُلُقِ أَشَدُّ بُعْدًا عَنِ الْأَدَبِ لِأَنَّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَاتًا لَا تَخْلُو سَاعَةٌ مِنْهَا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِصَلَاحِ الْأُمَّةِ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَشْغِلَ أَحَدٌ أَوْقَاتَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَادْخُلُوا لِلنَّدْبِ لِأَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ سُنَّةٌ، وَتَقْيِيدُ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لِلتَّنْزِيهِ لِأَنَّ الْحُضُورَ قَبْلَ تَهَيُّؤِ الطَّعَامِ غَيْرُ مُقْتَضِي لِلدَّعْوَةِ وَلَا يَتَضَمَّنُهُ الْإِذْنُ فَهُوَ تَطَفُّلٌ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَانْتَشِرُوا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَنْزِلِ بِغَيْرِ إِذَنٍ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا جَازَ بِمُقْتَضَى الدَّعْوَةِ لِلْأَكْلِ فَهُوَ إِذَنٌ مُقَيِّدُ الْمَعْنَى بِالْغَرَضِ الْمَأْذُونِ لِأَجْلِهِ فَإِذَا انْقَضَى السَّبَبُ الْمُبِيحُ لِلدُّخُولِ عَادَ تَحْرِيمُ الدُّخُولِ إِلَى أَصْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ نَظَرِيٌّ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَأْذُونٌ فِيهِ وَالْمَأْذُونُ فِيهِ شَرْعًا لَا يَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ إِلَّا إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمَعْرُوفَ تَجَاوُزًا بَيِّنًا. وَعَطْفُ وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: فَانْتَشِرُوا فَلِذَلِكَ ذُكِرَ عَقِبَهُ فَإِنَّ اسْتِدَامَةَ الْمُكْثِ فِي مَعْنَى الدُّخُولِ، فَذُكِرَ بِإِثْرِهِ وَحَصَلَ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْوَلِيمَةِ وَطَعَامَ الضِّيَافَةِ مِلْكٌ لِلْمُتَضَيِّفِ وَلَيْسَ مِلْكًا لِلْمَدْعُوِّينَ وَلَا لِلْأَضْيَافِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ خَاصَّةً وَلَمْ يَمْلِكُوهُ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ رَفْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ مَعَهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيءَ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّحْذِيرِ وَدَفْعِ الاغترار بسكوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْسَبُوهُ رَضِيَ بِمَا فَعَلُوا. فَمَنَاطُ التَّحْذِيرِ قَوْلُهُ: ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النبيء فَإِن أَذَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَرَّرٌ فِي نُفُوسِهِمْ

أَنَّهُ عَمَلٌ مَذْمُوم لِأَن النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعَزُّ خَلْقٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّحَرُّزَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَدْنَى أَذًى. وَمَنَاطُ دَفْعِ الِاغْتِرَارِ قَوْلُهُ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ فَإِنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَظُنُّهُ النَّاسُ رِضًى وَإِذْنًا وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ إِلَى أَذْهَانِ بَعْضِهِمْ أَنَّ جُلُوسَهُمْ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا سكت عَلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْشَدَهُمْ اللَّهُ إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ النَّاشِئَ عَنْ سَبَبٍ هُوَ سُكُوتٌ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الرِّضَى وَأَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ حَيَاءً مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ بِالْإِخْرَاجِ فَهُوَ اسْتِحْيَاءٌ خَاصٌّ مِنْ عَمَلٍ خَاصٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك مُؤْذِيًا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِيهِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَين التفرغ لشؤون النُّبُوءَةِ مِنْ تَلَقِّي الْوَحْيِ أَوِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ أَوِ التَّأَخُّرِ عَنِ الْجُلُوسِ فِي مَجْلِسِهِ لنفع الْمُسلمين ولشؤون ذَاتِهِ وَبَيْتِهِ وَأَهْلِهِ. وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ أَنْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ تَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزَلَةَ الْمُتَرَدِّدِ لِأَنَّ حَالَ النَّفَرِ الَّذِينَ أَطَالُوا الْجُلُوسَ وَالْحَدِيثَ فِي بَيْتِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَدَمَ شُعُورِهِمْ بِكَرَاهِيَّتِهِ ذَلِكَ مِنْهُمْ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمَّا وَجَدَهُمْ خَرَجَ، فَغَفَلُوا عَمَّا فِي خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَيْتِ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى كَرَاهِيَّتِهِ بَقَاءَهُمْ، تِلْكَ حَالَةُ مَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ فَخُوطِبُوا بِهَذَا الْخِطَابِ تَشْدِيدًا فِي التَّحْذِيرِ وَاسْتِفَاقَةً مِنَ التَّغْرِيرِ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وَصِيغَ يُؤْذِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ إِفَادَةِ أَذًى مُتَكَرِّرٍ، وَالتَّكْرِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ الشِّدَّةِ. وَالْأَذَى: مَا يُكَدِّرُ مَفْعُولُهُ وَيُسِيءُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فِي آلِ عِمْرَانَ [111] ، وَهُوَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي أَنْوَاعِهِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَيَهِمُّ بِإِخْرَاجِكُمْ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ إِذْ لَيْسَ الِاسْتِحْيَاءُ مُفَرَّعًا عَلَى الْإِيذَاءِ وَلَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَدُخُولُ مِنَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِ يَسْتَحْيِي عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ يَسْتَحْيِي مِنْ إِعْلَامِكُمْ بِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ. وَتَعْدَيَةُ الْمُشْتَقَّاتِ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاءِ إِلَى الذَّوَاتِ شَائِعٌ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ

الِاسْتِحْيَاءُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّوَاتِ، فَقَوْلُكَ: أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا فَاسْتَحَيْتُ مِنْ فُلَانٍ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ هِيَ التَّعْلِيقَ بِذَاتِ فُلَانٍ وَأَنْ تَكُونَ هِيَ التَّعْلِيقَ بِالْأَحْوَالِ الْمُلَابَسَةِ لَهُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الِاسْتِحْيَاءِ لِأَجْلِ مُلَابَسَتِهَا لَهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: اسْتَحْيَيْتُ من أَنْ أَفْعَلَ كَذَا بِمَرْأَى من فُلَانٍ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مِنَ لِلتَّعْلِيلِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي تَكُونُ مِنَ لِلِابْتِدَاءِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» يَقْتَضِي أَنَّ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ فُلَانٍ مَجَازٌ أَوْ تَوَسُّعٌ، وَأَنَّ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ فِعْلِ كَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَظَاهِرُ كَلَام صَاحب «الْكَشَّاف» عَكْسُ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ هَيِّنٌ. وصيغ فعل فَيَسْتَحْيِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى يُؤْذِي النَّبِيءَ لِيَدُلَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُفَرَّعُ هُوَ عَلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَن سكُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِحَضْرَتِهِ إِذَا كَانَ تَعَدِّيًا عَلَى حَقٍّ لِذَاتِهِ لَا يَدُلُّ سُكُوتُهُ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْحَظْرُ أَوِ الْإِبَاحَةُ فِي مَثَلِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيءَ وَلِذَلِكَ جَزَمَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ من آذَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّرَاحَةِ أَوِ الِالْتِزَامِ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ مَرْتَبَةِ الْأَذَى وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ بَعْدَ تَوْقِيفِهِ عَلَى الْخَفِيِّ مِنْهُ وَعَدَمِ التَّوْبَةِ مِمَّا تُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ. وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي إِعْرَاض النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُؤَاخَذَةِ مَنْ آذَاهُ فِي حَيَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَسَامُحِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ [الْمَائِدَة: 13] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمرَان: 159] . فَهَذَا مِلَاكُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيذَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءِ وَالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدَ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الذَّبَّ عَنْ حَقِّ رَسُوله وَكَفاهُ مؤونة الْمَضَضِ الدَّاعِي إِلَيْهِ حَيَاؤُهُ. وَقَدْ حَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يَحْفُ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ فِي تَضَاعِيفِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ «الشِّفَاءِ» . فَإِنْ قُلْتَ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أنس أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ لِيَقُومَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ قعدوا يتحدثون، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْخُرُوجِ بَدَلًا مِنْ خُرُوجِهِ هُوَ. قُلْتُ: لِأَنَّ خُرُوجَهُ غَيْرُ صَرِيح فِي كَرَاهِيَة جُلُوسَهُمْ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ انْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ مِنْ وَاجِبِ الْأَلْمَعِيَّةِ أَنْ يَخْطُرَ

بِبَالِهِمْ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَتَحَفَّزُوا لِلْخُرُوجِ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ عَنْهُمْ بِمُنَافٍ لِوَصْفِ حَيَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَسْتَحْيِي مِنْكُمْ فَلَا يُبَاشِرُكُمْ بِالْإِنْكَارِ تَرْجِيحًا مِنْهُ لِلْعَفْوِ عَنْ حَقِّهِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَيَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الْأَحْزَاب: 4] . وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى بِنَاءِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مُخَالِفَةً لِلْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقُلْ: وَلَا يَسْتَحْيِي اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ ثَابِتٌ دَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِهِ، فَانْتِفَاءُ مَا يَمْنَعُ تَبْلِيغَهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِهِ لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ يَجِبُ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهَا فَإِنَّ ضِدَّهَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقِّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُرَادِ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ مِثْلَ التَّعْرِيفِ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] . وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ جِنْسِ الْحَقِّ. والْحَقِّ: ضِدُّ الْبَاطِلِ. فَمِنْهُ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْأُمَّةِ جَمْعَاءَ فِي مَصَالِحِهَا وَإِقَامَةِ آدَابِهَا، وَحَقُّ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مَنَافِعِهِ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ. وَيَشْتَمِلُ حَقُّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ فِي الْحَقِّ صَارَتِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْحَقِّ لَيْسَتْ مِثْلَ مِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ لِأَنَّ مِنَ هَذِهِ مُتَعَيِّنَةٌ لِكَوْنِهَا لِلتَّعْلِيلِ إِذِ الْحَقُّ لَا يُسْتَحْيَى مِنْ ذَاتِهِ فَمَعْنَى «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي لِبَيَانِهِ وَإِعْلَانِهِ. وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أَنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ لَا يَسْتَحْيِي أَحَدٌ مِنَ الْحَقِّ الْإِسْلَامِيِّ فِي إِقَامَتِهِ، وَفِي مَعْرِفَتِهِ إِذَا حَلَّ بِهِ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ، وَفِي إِبْلَاغِهِ وَهُوَ تَعْلِيمُهُ، وَفِي الْأَخْذِ بِهِ، إِلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يَرْغَبُ أَصْحَابُهَا فِي إِسْقَاطِهَا أَوِ التَّسَامُحِ فِيهَا مِمَّا لَا يَغْمِصُ

حَقًّا رَاجِعًا إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِالتَّخَلُّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّائِقَةِ بِأَمْثَالِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا الْمَعْنَى فَهِمَتْهُ أُمُّ سليم وأقرها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَهْمِهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سليم إِلَى النبيء فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ» . فَهِيَ لَمْ تَسْتَحِ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْحَقِّ الْمُتَعَلّق بهَا، والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَحِ فِي إِخْبَارِهَا بِذَلِكَ. وَلَعَلَّهَا لَمْ تَجِدْ مَنْ يَسْأَلُ لَهَا أَوْ لَمْ تَرَ لِزَامًا أَنْ تَسْتَنِيبَ عَنْهَا مَنْ يَسْأَلُ لَهَا عَنْ حُكْمٍ يَخُصُّ ذَاتَهَا. وَقَدْ رَأَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْجَمْعَ بَيْنَ طَلَبِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الِاسْتِحْيَاءِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مَنْ أَهْلِهِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ عِنْدِي ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَهُ» الْحَدِيثَ. عَلَى أَنَّ بَيْنَ قَضِيَّةِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَقَضِيَّةِ عَلِيٍّ تَفَاوُتًا مِنْ جِهَاتٍ فِي مُقْتَضَى الِاسْتِحْيَاءِ لَا تَخْفَى عَلَى الْمُتَبَصِّرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي وُرُودِ يُؤْذِي هُنَا مَا يُبْطِلُ الْمِثَالَ الَّذِي أُورَدَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ «الْمَثَلِ السَّائِرِ» شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَرُوقُ السَّامِعَ فِي كَلَامٍ ثُمَّ تَكُونُ هِيَ بِعَيْنِهَا مَكْرُوهَةً لِلسَّامِعِ. وَجَاءَ بِكَلِمَةِ يُؤْذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَظِيرُهَا (تُؤْذِي) فِي قَوْلِ الْمُتَنَبِّي: تلذ لَهُ الْمُرُوءَة وَهِيَ تُوذِي وَزَعَمَ أَنَّ وَجُودَهَا فِي الْبَيْتِ يَحُطُّ مِنْ قَدْرِ الْمَعْنَى الشَّرِيفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْبَيْتُ وَأَحَالَ فِي الْجَزْمِ بِذَلِكَ عَلَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحُكْمَ إِلَّا غَضَبًا مِنِ ابْنِ الْأَثِيرِ لَا تُسَوِّغُهُ صِنَاعَةٌ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ ذَوْقٌ، وَلَقَدْ صَرَفَ أَيِمَّةُ الْأَدَبِ هَمَّهُمْ إِلَى بَحْثِ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي وَنَقْدِهِ فَلَمْ يَعُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا مُنْتَقَدًا، مَعَ اعْتِرَافِ ابْنِ الْأَثِيرِ بِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ شَرِيفٌ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ كَرَاهَةَ هَذَا اللَّفْظِ فِيهِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرٍ لَفْظِيٍّ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْفَصَاحَةِ

وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَفِّيَ عَلَى قَدَمِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِيمَا ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي جَعَلَهُ ثَانِيًا مِنْ كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فَإِنَّ مَا انْتَقَدَهُ الشَّيْخُ فِي ذَلِكَ الْفَصْلِ مِنْ مَوَاقِعِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ لَا يَخْلُو مِنْ رُجُوع نَقده إِيَّاهَا إِلَى أُصُولِ الْفَصَاحَةِ أَوْ أُصُولِ تَنَاسُبِ مَعَانِيَ الْكَلِمَاتِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الصَّنِيعَيْنِ. وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء فَهِيَ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِلنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ النَّبَوِيَّةِ وَتَحْدِيدٌ لِمِقْدَارِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى دُخُولِهَا أَوِ الْوُقُوفِ بِأَبْوَابِهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ شَارِعَةُ حُكْمِ حِجَابِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ. وَضَمِيرُ سَأَلْتُمُوهُنَّ عَائِدٌ إِلَى الْأَزْوَاجِ الْمَفْهُومِ مَنْ ذِكْرِ الْبُيُوتِ فِي قَوْلِهِ: بِيُوتَ النَّبِيءِ فَإِنَّ لِلْبُيُوتِ رَبَّاتَهُنَّ وَزَوْجُ الرَّجُلِ هِيَ رَبَّةُ الْبَيْتِ، قَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانِ التَّمِيمِيُّ: يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالَ الْحَيِّ وَالْغُرْبَا وَقَدْ كَانُوا لَا يَبْنِي الرَّجُلُ بَيْتًا إِلَّا إِذَا أَرَادَ التَّزَوُّجَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُنْتُ عَزَبًا أَبَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ. وَمِنْ أجل ذَلِك سموا الزِّفَافَ بِنَاءً. فَلَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالْبَيْتُ مُتَلَازِمَيْنِ فَدَلَّتِ الْبُيُوتُ عَلَى الْأَزْوَاجِ بِالِالْتِزَامِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: 34- 38] فَإِنَّ ذِكْرَ الْفُرُشِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ لِلْفِرَاشِ امْرَأَةً، فَلَمَّا ذَكَرَ الْبُيُوتَ هُنَا تَبَادَرَ أَنَّ لِلْبُيُوتِ رَبَّاتٍ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُحْتَاجُ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ عَارِيَةِ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا، وَمِثْلَ سُؤَالِ الْعُفَاةِ وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ سُؤَالٍ عَنِ الدِّينِ أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَائِشَةَ عَنْ مَسَائِلِ الدِّينِ.

وَالْحِجَابُ: السِّتْرُ الْمُرَخَى عَلَى بَابِ الْبَيْتِ. وَكَانَتِ السُّتُورُ مُرَخَاةً عَلَى أَبْوَاب بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ. وَقَدْ وَرَدَ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْوَفَاةِ حِين خرج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ ثُمَّ أَرْخَى السِّتْرَ. ومِنْ وَراءِ حِجابٍ مُتَعَلق ب فَسْئَلُوهُنَّ فَهُوَ قَيْدٌ فِي السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ الْمُتَعَلِّقِ ضَمِيرَاهُمَا بِالْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْمَجْرُورُ. ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْوَرَاءُ: مَكَانُ الْخَلْفِ وَهُوَ مَكَانٌ نِسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمُتَّجِهِ إِلَى جِهَةٍ، فَوَرَاءَ الْحِجَابِ بِالنِّسْبَةِ للمتجهين إِلَيْهِ فالمسؤولة مُسْتَقْبِلَةٌ حِجَابَهَا وَالسَّائِلُ مِنْ وَرَاء حجابها وَبِالْعَكْسِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيِ السُّؤَالُ الْمُقَيَّدُ بِكَوْنِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: أَطْهَرُ مُسْتَعْمَلٌ لِلزِّيَادَةِ دُونَ التَّفْضِيلِ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ أَقْوَى طَهَارَةً لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ فَإِنَّ قُلُوبَ الْفَرِيقَيْنِ طَاهِرَةٌ بِالتَّقْوَى وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِ الله وَحُرْمَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى لَا تَصِلُ بِهِمْ إِلَى دَرَجَةِ الْعِصْمَةِ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَزِيدَهُمْ مِنْهَا بِمَا يُكْسِبُ الْمُؤْمِنِينَ مَرَاتِبَ مِنَ الْحِفْظِ الْإِلَهِيِّ مِنَ الْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِقَطْعِ أَضْعَفِ أَسْبَابِهَا وَمَا يُقَرِّبُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَرْتَبَةِ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ لِزَوْجِهِنَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الطَّيِّبَاتِ لِلطَّيِّبِينَ بِقَطْعِ الخواطر الشيطانية عَنْهُن بِقَطْعِ دَابِرِهَا وَلَوْ بِالْفَرْضِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ لِلنَّاسِ أَوْهَامًا وَظُنُونًا سُوأَى تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ نُفُوسِ النَّاسِ فِيهَا صرامة ووهنا، ونفاقا وَضَعْفًا، كَمَا وَقَعَ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ فَكَانَ شَرْعُ حِجَابِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ قَاطِعًا لِكُلِّ تَقول وإرجاف بعمد أَوْ بِغَيْرِ عَمْدٍ. وَوَرَاءَ هَذِهِ الْحِكَمِ كُلِّهَا حِكْمَةٌ أُخْرَى سَامِيَةٌ وَهِيَ زِيَادَة تَقْرِير معنى أُمُومَتِهِنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي هِيَ أُمُومَةٌ جَعْلِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْجَعْلِيَّ الرُّوحِيَّ وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أُمَّهُاتِ يَرْتَدُّ وَيَنْعَكِسُ إِلَى بَاطِنِ النَّفْسِ وَتَنْقَطِعُ عَنْهُ الصُّوَرُ الذَّاتِيَّةُ وَهَيَ كُونُهُنَّ فُلَانَةً أَوْ فُلَانَةً فَيُصْبِحْنَ غَيْرَ مُتَصَوِّرَاتٍ إِلَّا بِعُنْوَانِ الْأُمُومَةِ فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الرُّوحِيُّ يُنْمِي فِي النُّفُوسِ، وَلَا تزَال الصُّور الْحِسِّيَّةُ

تَتَضَاءَلُ مِنَ الْقُوَّةِ الْمُدْرَكَةِ حَتَّى يُصْبِحَ مَعْنَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى قَرِيبًا فِي النُّفُوسِ مِنْ حَقَائِقِ الْمُجَرَّدَاتِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ الْحِجَابِ الَّذِي سَنَّهُ النَّاسُ لِمُلُوكِهِمْ فِي الْقِدَمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْخَلَ لِطَاعَتِهِمْ فِي نُفُوسِ الرَّعِيَّةِ. وَبِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَة الَّتِي تقدمتها مِنْ قَوْلِهِ: يَا نسَاء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: 32] تَحَقَّقَ مَعْنَى الْحِجَابِ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرَكَّبِ مِنْ مُلَازَمَتِهِنَّ بُيُوتَهُنَّ وَعَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ ذَوَاتِهِنَّ حَتَّى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ حِجَابٌ خَاصٌّ بِهِنَّ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِنَّ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتَدُونَ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَعًا وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْعَادَاتِ، وَلَمَّا أَنْشَدَ النُّمَيْرِيُّ عِنْدَ الْحَجَّاجِ قَوْلَهُ: يُخَمِّرْنَ أَطْرَافَ الْبَنَانِ مِنَ التُّقَى ... وَيَخْرُجْنَ جُنْحَ اللَّيْلِ مُعْتَجِرَاتٍ قَالَ الْحَجَّاجُ: وَهَكَذَا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ لِرِجَالِ الْأمة ولنساء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّوَاءِ. وَقَدْ ألحق بِأَزْوَاج النبيء عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنْتُهُ فَاطِمَةُ فَلِذَلِكَ لَمَّا خَرَجُوا بِجِنَازَتِهَا جَعَلُوا عَلَيْهَا قُبَّةً حَتَّى دفنت، وَكَذَلِكَ جعلت قُبَّةٌ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. لَمَّا جِيءَ فِي بَيَانِ النَّهْيِ عَنِ الْمُكْثِ فِي بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يُؤْذِيِهِ أُتْبِعَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيًا عَامًا، فَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُفْتَتَحِ بِخِطَابِهِمْ آيَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الْآيَةَ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ أَوْ هِيَ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً وَجُمْلَةِ لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الْأَحْزَاب: 55] . وَدَلَّتْ جُمْلَةُ مَا كانَ لَكُمْ عَلَى الْحَظْرِ الْمُؤَكَّدِ لِأَنَّ مَا كانَ لَكُمْ نَفْيٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ، وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِتَأْكِيدِ انْتِفَاءِ الْإِذْنِ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْ صِيَغِ شِدَّةِ التَّحْرِيمِ.

وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَذَى: قَوْلٌ يُقَالُ لَهُ، أَوْ فِعْلٌ يُعَامَلُ بِهِ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُغْضِبَهُ أَوْ يَسُوءُهُ لِذَاتِهِ. وَالْأَذَى تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَاتِ آنِفًا. وَالْمَعْنَى: أَن أَذَى النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَحْظُورٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَانْظُرِ الْبَابَ الثَّالِثَ مِنَ الْقَسْمِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: تَحْرِيمُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاس بقوله تَعَالَى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِ أُمُومَةِ أَزْوَاجِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ السَّالِفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] . وَقَدْ حُكِيَتْ أَقْوَالٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ تَزَوَّجْتُ عَائِشَة، أَي قَالَه بِمَسْمَعٍ مِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقِيلَ: هَذَا الرَّجُلُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا هُوَ الْمَظْنُونُ بِقَائِلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَي خطر لَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَذَكَرُوا رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ هَفْوَةٌ مِنْهُ وَتَابَ وَكَفَّرَ بِالْحَجِّ مَاشِيًا وَبِإِعْتَاقِ رِقَابٍ كَثِيرَةٍ وَحَمَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى عَشَرَةِ أَفْرَاسٍ أَوْ أَبْعِرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَلَى طَلْحَةَ وَاللَّهُ عَاصِمُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنْهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ أَرَادَ تَطْهِيرَ قَلْبَهُ فِيهِ بِالْكَفَّارَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ مَوْضُوعَاتِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَاهِيَةُ الْأَسَانِيدِ وَدَلَائِلُ الْوَضْعِ وَاضِحَةٌ فَإِنَّ طَلْحَةَ إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ لِيَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهِ مَنِ انْفَرَدَ. وَإِنْ كَانَ خَطَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ أَنْ يَكُونَ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبٌ. فَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْأَحْزَاب: 60] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا شَرَعَتِ الْآيَةُ أَنَّ حُكْمَ أمومة أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ حُكْمٌ دَائِمٌ فِي حَيَاة النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ مِنْ بَعْدِهِ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ مِنْ بَعْدُ،

لِأَنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] . وَإِضَافَةُ الْبَعْدِيَّةِ إِلَى ضمير ذَات النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعِيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ حَيَاتِهِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي اسْتِعْمَالِ مِثْلِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بَعْدَ عِصْمَتِهِ مِنْ نَحْوِ الطَّلَاقِ لِأَن طَلَاق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ شَرْعًا لِقَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الْأَحْزَاب: 52] . وَأُكِّدَ ظَرْفُ (بَعْدُ) بِإِدْخَالِ مِنَ الزَّائِدَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُكِّدَ عُمُومُهُ بِظَرْفِ أَبَداً لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَطَرَّقُهُ النُّسَخُ ثُمَّ زِيدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَحْذِيرًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ من إِيذَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوُّجِ أَزْوَاجِهِ، أَيْ ذَلِكُمُ الْمَذْكُورُ. وَالْعَظِيمُ هُنَا فِي الْإِثْمِ وَالْجَرِيمَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَتَقْيِيدُ الْعَظِيمِ بِكَوْنِهِ عِنْدَ اللَّهِ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّخْوِيفِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الشَّنَاعَةِ. وَعِلَّةُ كَوْنِ تَزَوَّجِ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ إِحْدَى نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْمًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، أَنَّ اللَّهَ جعل نسَاء النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ تَزَوُّجَ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ إِحْدَاهُنَّ لَهُ حُكْمُ تَزَوُّجِ الْمَرْءِ أُمَّهُ، وَذَلِكَ إِثْمٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ هَلِ التَّحْرِيمُ الَّذِي فِي الْآيَةِ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ اللَّاتِي بَنَى بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ يَعُمُّ كُلَّ امْرَأَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا مِثْلَ الْكِنْدِيَّةِ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَقَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَتَزَوَّجَهَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِثْلَ قُتَيْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْكَلْبِيَّةِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَخُوهَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَمَلَهَا مَعَهُ إِلَى حَضْرَمَوْتَ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ قَبْلَ قُفُولِهِمَا فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هَمَّ بِعِقَابِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَالْمَرْوِيَّاتُ فِي هَذَا الْبَابِ ضَعِيفَةٌ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْعَقْدَ كَانَا يَكُونَانِ مُقْتَرَنَيْنِ وَأَنَّ مَا يَسْبِقُ الْبِنَاءَ مِمَّا يُسَمُّونَهُ تَزْوِيجًا فَإِنَّمَا هُوَ مُرَاكَنَةٌ وَوَعْدٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أُحْضِرَتْ إِلَيْهِ الْكِنْدِيَّةُ وَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 54]

لَهَا: هَبِي لِي نَفْسَكِ (أَيْ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا رَضِيَتْ بِمَا عَقَدَ لَهَا وَلِيُّهَا) فَقَالَتْ: مَا كَانَ لِمَلِكَةٍ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِسُوقَةٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهَا: لَقَدِ اسْتَعَذْتِ بِمُعَاذٍ . فَذَلِكَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَكِنَّهُ رُجُوعٌ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ وَأَنَّ قَوْلَ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ لِعُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَقْدِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمُ تَزَوُّجِ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَجَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَاصِرٌ عَلَى الَّتِي دَخَلَ بِهَا. عَلَى أَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِهِ: أَزْواجَهُ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ، أَيِ الْأزْوَاج اللائي جَاءَت فِي شَأْنِهِنَّ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الْأَحْزَاب: 52] فَهُنَّ اللَّاءِ ثَبَتَ لَهُنَّ حُكْمُ الْأُمَّهَاتِ. وَبَعْدُ فَإِنَّ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُجَرَّدُ تَفَقُّهٍ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ عمل. [54] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 54] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) كَلَامٌ جَامِعٌ تحريضا وتحذيرا ومنبىء عَن وعد ووعيد، فَإِنَّ مَا قَبْلَهُ قَدْ حَوَى أمرا ونهيا، وَإِذ كَانَ الِامْتِثَالُ مُتَفَاوِتًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَبِخَاصَّةٍ فِي النَّوَايَا وَالْمُضْمَرَاتِ كَانَ الْمَقَامُ مناسبا لتنبيههم وتذكيرهم بِأَنَّ اللَّهَ مَطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَالْمُرَادُ مِنْ شَيْئاً الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِمَّا يُبْدُونَهُ أَوْ يُخْفُونَهُ وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَبْدُو وَمَا يَخْفَى لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ. وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ شَيْءٍ. وَإِظْهَارُ لَفْظِ شَيْءٍ هُنَا دُونَ إِضْمَارِ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَذْكُورَ ثَانِيًا هُوَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، إِذِ الْمُرَادُ بِالثَّانِي جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ خُصُوصُ أَحْوَالِ النَّاسِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَاللَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ كَائِنٍ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يُبْدُونَهُ وَيُخْفُونَهُ من أَحْوَالهم. [55] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 55] لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) تَخْصِيصٌ مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِالْحِجَابِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْله: فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الْأَحْزَاب: 53] .

وَإِنَّمَا رَفَعَ الْجُنَاحَ عَن نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُنَّ مَأْمُورَاتٌ بِالْحِجَابِ كَمَا أُمِرَ رِجَالُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ مَعَهُنَّ فَكَانَ الْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ وَلَا عَلَيْكُمْ، كَمَا أَن معنى فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَنَّهُنَّ أَيْضًا يُجِبْنَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَة إِلَيْهِ يَقُوله: ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الْأَحْزَاب: 53] . وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ مِنْ حَرْفِ فِي مَجَازِيَّةٌ شَائِعَةٌ فِي مِثْلِهِ، يُقَالُ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي كَذَا، فَهُوَ كَالْحَقِيقَةِ فَلَا تُلَاحِظُ فِيهِ الِاسْتِعَارَةَ، وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّرٌ فِيهِ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: فِي رُؤْيَةِ آبَائِهِنَّ إِيَّاهُنَّ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ جَانِبَهُنَّ هُنَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِذْنِ، لِأَنَّ الرِّجَالَ مَأْمُورُونَ بِالِاسْتِئْذَانِ كَمَا اقْتَضَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النُّورِ، وَالْإِذْنُ يَصْدُرُ مِنْهُنَّ فَلِذَلِكَ رَجَّحَ هُنَا جَانِبَهُنَّ فَأُضِيفَ الْحُكْمُ إِلَيْهِنَّ. وَالنِّسَاءُ: اسْمُ جَمْعِ امْرَأَةٍ لَا مُفْرِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَهُنَّ الْإِنَاثُ الْبَالِغَاتُ أَوِ الْمُرَاهِقَاتُ. وَالْمُرَادُ بِ نِسائِهِنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأَزْوَاجِ اعْتِبَارٌ بِالْغَالِبِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ اللَّاتِي يدخلن على أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ نِسَاءٌ اعْتَدْنَ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِنَّ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ النِّسَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَصْنَافِ الْأَقْرِبَاءِ الْأَعْمَام وَلَا الْأَخْوَالِ لِأَنَّ ذِكْرَ أَبْنَاءِ الْإِخْوَانِ وَأَبْنَاءِ الْأَخَوَاتِ يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْحُكْمِ، مِنْ أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ الْحَرج عَنْهُن فِيمَن هن عمات لَهُنَّ أَو خالات كَانَ رفع الْحَرَجَ عَنْهُنَّ فِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَرَابَةُ الرَّضَاعَةِ فَمَعْلُومَةٌ مِنَ السُّنَّةِ، فَأُرِيدَ الِاخْتِصَارُ هُنَا إِذِ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ الْحِجَابِ لِيُفْضِيَ إِلَى قَوْلِهِ: وَاتَّقِينَ اللَّهَ. وَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى خطابهن فِي قَوْله: وَاتَّقِينَ اللَّهَ لتشريف نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِلَيْهِنَّ. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ مُبَالَغَةً فِي الْفِعْل.

[سورة الأحزاب (33) : آية 56]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 56] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) أُعْقِبَتْ أَحْكَامُ مُعَاملَة أَزوَاج النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَشْرِيفِ مَقَامِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ جَارِيَةٌ عَلَى مُنَاسَبَةِ عَظمَة مقَام النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنَّ لِأَزْوَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّشْرِيفِ حَظًّا عَظِيمًا. وَلِذَلِكَ كَانَتْ صِيغَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ الَّتِي عَلَّمَهَا لِلْمُسْلِمِينَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذِكْرِ أَزْوَاجِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَلِيُجْعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بتكرير ذكر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَذُكِرَ صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ صَلَاةِ اللَّهِ ليَكُون مِثَالا من صَلَاة أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الرَّسُولِ لِتَقْرِيبِ دَرَجَةِ صَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا عَقِبَ ذَلِكَ، وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَافْتِتَاحُهَا بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِإِدْخَالِ الْمَهَابَةِ وَالتَّعْظِيمِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ فِي هَذِه السُّورَة [43] . وَهَذِه صَلَاة خَاصَّة هِيَ أرفع صَلَاة مِمَّا شَمله قَوْله هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِأَنَّ عَظمَة مقَام النبيء يَقْتَضِي عَظَمَةَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَمَا قَبْلَهَا تَوْطِئَةٌ لَهَا وَتَمْهِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِي الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ أَقْصَى حَظِّهِمْ مِنْ مُعَامَلَةِ رَسُولِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا أَذَاهُ بَلْ حَظُّهُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُوا، وَذَلِكَ هُوَ إكرامهم الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِكْرَامِهِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ بِحَضْرَتِهِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَجُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ الْوَاقِعَةِ بعد التَّمْهِيد. وَجِيء فِي صَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ لِيَكُونَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَقِبَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى تَكْرِيرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ أُسْوَةً بِصَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ. وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ: إِيجَادُ الصَّلَاةِ، وَهِيَ الدُّعَاء، فَالْأَمْر يؤول إِلَى إِيجَادِ أَقْوَالٍ فِيهَا دُعَاءٌ وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ. وَالصَّلَاةُ: ذِكْرٌ بِخَيْرٍ، وَأَقْوَالٌ تَجْلِبُ الْخَيْرَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ أَشْهَرَ

مُسَمَّيَاتِ الصَّلَاةِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ: كَلَامُهُ الَّذِي يُقَدِّرُ بِهِ خَيْرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فِي جَانِبِ اللَّهِ مُعَطَّلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَدْعُوهُ النَّاسُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ: اسْتِغْفَارٌ وَدُعَاءٌ بِالرَّحَمَاتِ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْوَاجِبَ كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ دُعَاء للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَلِمْنَاهُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟» يَعْنُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ صِيغَةِ بَثِّ السَّلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي التَّشَهُّدِ فَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صِيغَتُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَالسَّلَامُ فِي التَّشَهُّد هُوَ «السَّلَام عيك أَيهَا النبيء وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» أَوِ «السَّلَام على النبيء وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قُولُوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكَتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . هَذِهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ بِلَفْظِ «وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» (عَنْ أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ) وَبِزِيَادَةٍ «فِي الْعَالَمِينَ» ، قَبْلَ: «إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ» . وَهُمَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ خَمْسٌ أُخْرَى مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» . وَمَرْجِعُ صيغها إِلَى تَوَجُّهٌ إِلَى اللَّهِ بِأَنْ يُفِيضَ خَيْرَاتٍ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّلَاة الدُّعَاء، وَالدُّعَاء من حسن الْأَقْوَال، وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَظَاهِرُ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ قَرِينَةِ السِّيَاقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤمن على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُجْمَلًا فِي الْعَدَدِ فَمَحْمَلُهُ مَحْمَلُ الْأَمْرِ الْمُجْمَلِ أَنْ يُفِيدَ الْمَرَّةَ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَلِمُقْتَضَى الْأَمْرِ. وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُصَلِّي على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، فَجَعَلُوا وَقْتَهَا الْعُمُرَ كَالْحَجِّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِي حُكْمِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَخَاصَّةً عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ

الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَلَوْ كَانَ نَاسِيا. وَظَاهر حكايتهم عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَرْكَهَا إِنَّمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إِذَا كَانَ عَمْدًا وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ بَيَانًا لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي الْأَمْرِ مِنْ جِهَةِ الْوَقْتِ وَالْعَدَدِ، فَجَعَلُوا الْوَقْتَ هُوَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ لِلْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالتَّسْلِيمُ وَارِدٌ فِي التَّشَهُّدِ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ مَعَهُ عَلَى نَحْوِ مَا اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَرِدْ فِي مَقَامِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مُجْمَلًا بِلَا دَلِيلٍ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ فِي الصَّلَاةِ مُسْتَحَبَّةٌ وَهِيَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قُدْوَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ السَّلَفِ قَبْلَهُ، وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جِدًّا. وَهَذَا تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ فِيهِ الصَّلَاة على النبيء، كَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا تُعَلِّمُونَ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ، وَعَلَّمَهُ أَيْضًا عَلَى الْمِنْبَرِ عُمَرُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الصَّلَاة على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا سَنَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسْتَحَبَّ. وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ. وَمِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ مَنْ جَرَى ذِكْرُهُ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ فِي افْتِتَاحِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْآذَانِ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُؤَذِّنِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. وَفِي التَّوْطِئَةِ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي يُصَلُّونَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَسِّيًا بِصَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّا لَمْ نَقِفْ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى النبيء كلما جرى ذُكِرَ اسْمُهُ وَلَا أَنْ يَكْتُبُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إِذَا كَتَبُوا اسْمَهُ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَبْدَأِ كِتَابَةِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّهُمْ كَانُوا يصلونَ على النبيء إِذَا تَذكرُوا بعض شؤونه كَمَا كَانُوا يَتَرَحَّمُونَ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا ذَكَرُوا بَعْضَ مَحَاسِنِهِ. وَفِي «السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ» : «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَرَى عُمَرُ مِنَ الدَّهَشِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَالَ عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ وَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ رَسُولَهُ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: مَتَى يُحِلُّ الْمُعْتَمِرُ: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ «صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ» إِلَى آخِرِهِ. وَفِي بَابِ مَا يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مِنْ «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «التَّارِيخِ الْكَامِلِ» فِي حَوَادِثِ سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ رَثَى مُحَمَّدًا النَّفْسَ الزَّكِيَّةَ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا: وَاللَّهِ لَوْ شهد النبيء مُحَمَّدٌ ... صَلَّى الْإِلَهُ على النبيء وَسَلَّمَا ثُمَّ أُحْدِثَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ فِي زَمَنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْكَامِلِ» فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» ، وَلَمْ يَذْكُرَا صِيغَةَ التَّصْلِيَةِ. وَفِي «الْمُخَصَّصِ» لِابْنِ سِيدَهْ فِي ذِكْرِ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ: أَنَّ أَبَا مُحَلِّمٍ بَعَثَ إِلَى حَذَّاءٍ بِنَعْلٍ لِيَحْذُوَهَا وَقَالَ لَهُ: «ثُمَّ سُنَّ شَفْرَتَكَ وَسُنَّ رَأْسَ الْإِزْمِيلِ ثُمَّ سَمِّ بِاسْمِ اللَّهِ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ثُمَّ انْحُهَا» إِلَى آخِرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ إِتْبَاعَ اسْمَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى قِطْعَةٍ عَتِيقَةٍ مِنْ تَفْسِيرِ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ الْبَصْرِيِّ مُؤَرَّخٍ نَسْخُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَإِذَا فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيءِ عَقِبَ ذِكْرِهِ اسْمَهُ.

وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِينَ سَنُّوا ذَلِكَ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ عَلَى «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «يُسْتَحَبُّ لِكَاتِبِ الْحَدِيثِ إِذا مر بِذكر اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ تَعَالَى، أَوْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَوْ جَلَّ ذِكْرُهُ، أَوْ تَبَارَكَ اسْمُهُ، أَوْ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَكْتُبُ عِنْدَ ذكر النبيء «صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بكمالها لَا رَامِزًا إِلَيْهَا وَلَا مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهَا، وَيَكْتُبُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا فِي الْأَصْلِ الَّذِي يُنْقَلُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ رِوَايَةً وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاء. وَيَنْبَغِي للقارىء أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَقْرَأُ مِنْهُ وَلَا يَسْأَمُ مِنْ تَكَرُّرِ ذَلِكَ، وَمَنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ حُرِمَ خَيْرًا عَظِيمًا» اهـ. وَقَوْلُهُ: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي صَلُّوا عَلَيْهِ حُكْمًا وَمَكَانًا وَصِفَةً فَإِنَّ صِفَتَهُ حُدِّدَتْ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ» فَإِنَّ الْمَعْلُومَ هُوَ صِيغَتُهُ الَّتِي فِي التَّشَهُّدِ «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيءُ وَرَحِمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِيهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «السَّلَامُ عَلَى النَّبِيءِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» . وَالْجُمْهُورُ أَبْقَوْا لَفْظَهُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي كَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَعْيًا لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ حَيٌّ يَبْلُغُهُ تَسْلِيمَ أُمَّتِهِ عَلَيْهِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أُبْقِيَتْ لَهُ صِيغَةُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْأَحْيَاءِ وَهِيَ الصِّيغَةُ الَّتِي يَتَقَدَّمُ فِيهَا لَفَظُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِهِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى الْأَمْوَاتِ يَكُونُ بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى لَفْظِ السَّلَامِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للَّذي سلم عَلَيْهِ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ» . وَالتَّسْلِيمُ مَشْهُورٌ فِي أَنَّهُ التَّحِيَّةُ بِالسَّلَامِ، وَالسَّلَامُ فِيهِ بِمَعْنَى الْأَمَانِ وَالسَّلَامَةِ، وَجُعِلَ تَحِيَّةً فِي الْأَوَّلِينَ عِنْدَ اللِّقَاءِ مُبَادَأَةً بِالتَّأْمِينِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالثَّأْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذْ كَانُوا إِذْ اتَّقَوْا أَحَدًا تَوَجَّسُوا خِيفَةً أَنْ يَكُونَ مُضْمِرًا شَرًّا لِمُلَاقِيهِ، فَكِلَاهُمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْخَوْفَ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مُلْقٍ عَلَى مُلَاقِيهِ سَلَامَةً وَأَمْنًا. ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى الْكَرَامَةِ وَالتَّلَطُّفِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

أَتَارِكَةٌ تَدَلُّلَهَا قَطَامِ ... وَضِنًّا بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَلِّمُوا غَيْرَ مُجْمَلٍ وَلَا مُحْتَاجٍ إِلَى بَيَانٍ فَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ الصَّحَابَةُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: هَذَا السَّلَامُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، وَقَالَ لَهُمْ: وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ، أَيْ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ مِنْ صِيغَةِ السَّلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ صِيغَةُ السَّلَامِ مَعْرُوفَةً كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ مَا يُمَاثِلُ تِلْكَ الصِّيغَةَ أَعْنِي أَنْ نَقُولَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيءِ أَوْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِتَوَجُّهٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيءِ بِخِلَافِ التَّصْلِيَةِ لِمَا عَلِمْتَ مِمَّا اقْتَضَى ذَلِكَ فِيهَا. وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِشَيْئَيْنِ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّسْلِيمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَقْتَضِ جَمْعَهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَهُمَا مُفَرَّقَانِ فِي كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ فَالْمُسْلِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنْ يَقُولَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتِي فِي جَانِبِ التَّصْلِيَةِ بِصِيغَةِ طَلَبِ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، وَفِي جَانِبِ التَّسْلِيمِ بِصِيغَةِ إِنْشَاءِ السَّلَامِ بِمَنْزِلَةِ التَّحِيَّةِ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْرِدَ الصَّلَاةَ وَيُفْرِدَ التَّسْلِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ لِي: أُبَشِّرُكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ. وَعَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ بِكَرَاهَةِ إِفْرَادِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَعَلَّهُ أَرَادَ خِلَافَ الْأَوْلَى. وَفِي الِاعْتِذَارِ وَالْمُعْتَذَرِ عَنْهُ نَظَرٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَيْسَ بِوَارِدٍ فِيهِ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ إِلَّا بِصِيغَةِ إِنْشَاءِ السَّلَامِ مِثْلَ مَا فِي التَّحِيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي حَالَةِ الِاقْتِرَانِ بَيْنَ التَّصْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَقَالُوا: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ فِيمَا نَرَى. وَقَدِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ. وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهَا قَالَتْ: «صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ» . وَمَعْنَى تَسْلِيمِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِكْرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ فَإِنَّ السَّلَامَ كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 57]

وَقَدِ اسْتَحْسَنَ أَيِمَّةُ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ الدُّعَاءُ بِالصَّلَاةِ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ نَبِيئِنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. يُرِيدُ أَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ الصَّلَاةَ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيئِينَ كُلِّهِمْ. وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فِي الْغَيْبَةِ فَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 79] ، وَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: 130] ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ [الصافات: 120] ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 109] . وَأَنَّهُ يَجُوزُ إِتْبَاعُ آلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينِ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ دُونَ اسْتِقْلَالٍ. هَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ تَحْرِيمًا وَلَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ وَتَمْيِيزٌ لِمَرَاتِبِ رِجَالِ الدِّينِ، كَمَا قَصَرُوا الرِّضَى عَلَى الْأَصْحَابِ وَأَيِمَّةِ الدِّينِ، وَقَصَرُوا كَلِمَاتِ الْإِجْلَالِ نَحْوَ: تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجَلَّ جَلَالُهُ، عَلَى الْخَالِقِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ التَّسْلِيمَ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَآلِهِمَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ السَّلَفِ فَلَا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ الْغَضَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالصَّحَابَةِ. وَانْتَصَبَ تَسْلِيماً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ سَلِّمُوا وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدِ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِمَصْدَرٍ فَيُقَالُ: صَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ دُونَ الْمَصْدَرِ، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ التَّصْلِيَةُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي الْإِحْرَاقِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الْوَاقِعَة: 94] ، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ تَأْكِيدُهُ بِالْمَعْنَى لَا بِالتَّأْكِيدِ الِاصْطِلَاحِيِّ فَإِنَّ التَّمْهِيدَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيءِ مُشِيرٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِشَأْنِ الله وَمَلَائِكَته. [57] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 57] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَنَاهِي مَرَاتِبِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيمِهِ وَحَذَّرَهُمْ

مِمَّا قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ خَفِيِّ الْأَذَى فِي جَانِبِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النبيء [الْأَحْزَاب: 53] وَقَوْلِهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 53] وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ التَّوْقِيرِ وَالتَّكْرِيمِ بِقَوْلِهِ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الْأَحْزَاب: 53] وَقَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الْأَحْزَاب: 53] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النبيء [الْأَحْزَاب: 56] الْآيَةَ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ قَدِ امْتَثَلُوا أَوْ تَعَلَّمُوا أَرْدَفَ ذَلِكَ بِوَعِيدِ قَوْمٍ اتَّسَمُوا بِسِمَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ مِنْ دَأْبِهِمُ السَّعْيُ فِيمَا يُؤْذِي الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَعْلَمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ أُولَئِكَ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ليعلم الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ أُولَئِكَ لَيْسُوا مِنَ الْإِيمَانِ فِي شَيْءٍ وَأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يُعْهَدُ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ يَخْطُرُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَسْمَعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ حَالِ قَوْمٍ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمْ قِلَّةُ التَّحَرُّزِ مِنْ أَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِتَوْقِيرِهِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا بِأَنَّ إِيذَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ، وَلِدَلَالَةِ الصِّلَةِ عَلَى أَنَّ أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عِلَّةُ لَعْنِهِمْ وَعَذَابِهِمْ. وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَتَحْقِيرِ الْمَلْعُونِ. فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُحَقَّرُونَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَمَحْرُومُونَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ وَعِنَايَتِهِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مُحَقَّرُونَ بِالْإِهَانَةِ فِي الْحَشْرِ وَفِي الدُّخُولِ فِي النَّارِ. وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مُهِينٌ لِأَنَّهُ عَذَابٌ مَشُوبٌ بِتَحْقِيرٍ وَخِزْيٍ. وَالْقَرْنُ بَيْنَ أَذَى اللَّهِ وَرَسُوِلِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ أَذًى لِلَّهِ. وَفِعْلُ يُؤْذُونَ مُعَدًّى إِلَى اسْمِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فِي اجْتِلَابِ غَضَبِ اللَّهِ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الرَّسُولِ حَقِيقَةٌ. فَاسْتُعْمِلَ يُؤْذُونَ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 58]

وَمَعْنَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ» وَأَذَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْصُلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَبِالْكَيْدِ لَهُ، وَبِأَذَى أَهْلِهِ مِثْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْإِفْكِ، وَالطَّاعِنِينَ أَعْمَالَهُ، كَالطَّعْنِ فِي إِمَارَةِ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَالطَّعْنِ فِي أَخْذِهِ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا فِي اتِّخَاذِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حييّ لنَفسِهِ» . [58] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 58] وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) أُلْحِقَتْ حُرْمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِحُرْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ، وَذُكِرُوا عَلَى حِدَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى نُزُولِ رُتْبَتِهِمْ عَنْ رُتْبَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا مِنَ الِاسْتِطْرَادِ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ أَحْكَامِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآدَابِ أَزْوَاجِهِ وَبَنَاتِهِ وَالْمُؤْمِنَات. وَعَطْفُ الْمُؤْمِناتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّصْرِيحِ بِمُسَاوَاةِ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنَ الشَّرِيعَةِ، لِوَزْعِ الْمُؤْذِينَ عَنْ أَذَى الْمُؤْمِنَاتِ لِأَنَّهُنَّ جَانِبٌ ضَعِيفٌ بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَقَدْ يَزَعُهُمْ عَنْهُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِمْ وَثَأْرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأَذَى: أَذَى الْقَوْلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً لِأَنَّ الْبُهْتَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْوَالِ وَذَلِكَ تَحْقِيرٌ لِأَقْوَالِهِمْ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ التَّحْقِيرَ بِأَنَّهُ إِثْمٌ مُبِينٌ. وَالْمُرَادُ بِالْمُبِينِ الْعَظِيمُ الْقَوِيُّ، أَيْ جُرْمًا مِنْ أَشَدِّ الْجُرْمِ، وَهُوَ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ. وَضَمِيرُ اكْتَسَبُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَهَذَا الْحَالُ لِزِيَادَةِ تَشْنِيعِ ذَلِكَ الْأَذَى بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَكَذِبٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَالِ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهُ جَوَازَ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِمَا اكْتَسَبُوا، أَيْ أَنْ يُسَبُّوا بِعَمَلٍ ذَمِيمٍ اكْتَسَبُوهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ مَوْكُولًا لِعُمُومِ النَّاسِ وَلَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: 16] . وَقَدْ نَهَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغِيبَةِ وَقَالَ: «هِيَ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. فَقِيلَ: وَإِنْ كَانَ حَقًّا. قَالَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ» فَأَمَّا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ فَلَا يَصْحَبُهُ أَذًى.

[سورة الأحزاب (33) : آية 59]

وَمَا صدق الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا اكْتَسَبُوا سَيِّئًا، أَيْ بِغَيْرِ مَا اكتسبوا من سيّىء. وَمَعْنَى احْتَمَلُوا كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ حِمْلًا، وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِلْبُهْتَانِ بِحِمْلٍ ثَقِيلٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً فِي سُورَة النِّسَاء [112] . [59] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 59] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) أُتْبِعَ النَّهْيُ عَنْ أَذَى الْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْ أُمِرْنَ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْأَذَى لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَطَالِبِ السَّعْيَ فِي تَذْلِيلِ وَسَائِلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء: 19] وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَإِمَاتَةِ الْمَفَاسِدِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ السَّنَدِ لَكِنَّهُ صَحِيحُ الْمَعْنَى لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَطْلُوبٌ، فَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ إِعَانَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ. وَابْتُدِئَ بِأَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنَاتِهِ لِأَنَّهُنَّ أَكْمَلُ النِّسَاءِ، فَذِكْرُهُنَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَالنِّسَاءُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْمَرْأَةِ لَا مُفْرَدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا نِسائِهِنَّ [الْأَحْزَاب: 55] . فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ هُنَا أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ بَلِ الْمُرَادُ الْإِنَاثُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) أَيِ النِّسَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْجَلَابِيبُ: جَمْعُ جِلْبَابٍ وَهُوَ ثَوْبٌ أَصْغَرُ مِنَ الرِّدَاءِ وَأَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ وَالْقِنَاعِ، تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا فَيَتَدَلَّى جَانِبَاهُ عَلَى عِذَارَيْهَا وَيَنْسَدِلُ سائره على كتفها وَظَهْرِهَا، تَلْبَسُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 إلى 61]

وَهَيْئَاتُ لِبْسِ الْجَلَابِيبِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ تُبَيِّنُهَا الْعَادَاتُ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ. وَالْإِدْنَاءُ: التَّقْرِيبُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللِّبْسِ وَالْوَضْعِ، أَيْ يَضَعْنَ عَلَيْهِنَّ جَلَابِيبَهُنَّ، قَالَ بِشَّارٌ: لَيْلَةٌ تَلْبَسُ الْبَيَاضَ مِنَ الشَّهْرِ ... وَأُخْرَى تُدْنِي جَلَابِيبَ سُودًا فَقَابَلَ بِ (تُدْنِي) (تَلْبَسُ) فَالْإِدْنَاءُ هُنَا اللِّبْسُ. وَكَانَ لِبْسُ الْجِلْبَابِ مِنْ شِعَارِ الْحَرَائِرِ فَكَانَتِ الْإِمَاءُ لَا يَلْبَسْنَ الْجَلَابِيبَ. وَكَانَتِ الْحَرَائِرُ يَلْبَسْنَ الْجَلَابِيبَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الزِّيَارَاتِ وَنَحْوِهَا فَكُنَّ لَا يَلْبَسْنَهَا فِي اللَّيْلِ وَعِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَنَاصِعِ، وَمَا كُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَيْهَا إِلَّا لَيْلًا فَأُمِرْنَ بِلَبْسِ الْجَلَابِيبِ فِي كل خُرُوج لِيُعْرَفَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِنَّ شَبَابُ الدُّعَّارِ يَحْسَبُهُنَّ إِمَاءً أَوْ يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِنَّ الْمُنَافِقُونَ اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي تُخْجِلُهُنَّ فَيَتَأَذَّيْنَ مِنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَسْبُبْنَ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُنَّ فَيَحْصُلُ أَذًى مِنَ الْجَانِبَيْنِ. فَهَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْإِدْنَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُدْنِينَ، أَيْ ذَلِكَ اللِّبَاسُ أقرب إِلَى أَن يُعْرَفُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرٌ بِشِعَارِ الْحَرَائِرِ فَيَتَجَنَّبُ الرِّجَالُ إِيذَاءَهُنَّ فَيَسْلَمُوا وَتَسْلَمْنَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ يَمْنَعُ الْإِمَاءَ مِنَ التَّقَنُّعِ كَيْ لَا يَلْتَبِسْنَ بِالْحَرَائِرِ وَيَضْرِبُ مَنْ تَتَقَنَّعُ مِنْهُنَّ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ بَعْدَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ كُثَيْرٍ: هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتَ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً صَفْحٌ عَمَّا سَبَقَ مِنْ أَذَى الْحَرَائِرِ قَبْلَ تَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْأَدَبِ الْإِسْلَامِيِّ، والتذييل يَقْتَضِي انْتِهَاء الْغَرَض. [60، 61] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 60 إِلَى 61] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) انْتِقَالٌ مِنْ زَجْرِ قَوْمٍ عُرِفُوا بِأَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْ تَوَعُّدِهِمْ

بِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا يَشْرَعُهُ اللَّهُ لَهُمْ إِنْ هُمْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِأَنْ لَا يَنْفَعَ فِي أُولَئِكَ وَعِيدُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ ابْتُدِئَ التَّعْرِيضُ بِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: عَظِيماً [الْأَحْزَاب: 53] ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الْأَحْزَاب: 57- 59] . وَصَرَّحَ هُنَا بِمَا كُنِّيَ عَنْهُ فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ إِذْ عبر عَنْهُم بِالْمُنَافِقِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ لُفَّ لِفَّهُمْ. والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُمُ الْمُنْطَوُونَ عَلَى النِّفَاقِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِي الْإِيمَانِ. والْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، قَالَهُ أَبُو رَزِينٍ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَنْتَهِ لِظُهُورِهِ، أَيْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ أَذَى الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِرْجَافُ: إِشَاعَةُ الْأَخْبَارِ. وَفِيهِ مَعْنَى كَوْنِ الْأَخْبَارِ كَاذِبَةً أَوْ مُسِيئَةً لِأَصْحَابِهَا يُعِيدُونَهَا فِي الْمَجَالِسِ لِيَطْمَئِنَّ السَّامِعُونَ لَهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِأَنَّهَا صَادِقَةٌ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ إِنَّمَا تُقْصَدُ لِلتَّرْوِيجِ بِشَيْءٍ غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ بِهِ لِاشْتِقَاقِ ذَلِكَ مِنَ الرَّجْفِ وَالرَّجَفَانِ وَهُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّزَلْزُلُ. فَالْمُرْجِفُونَ قَوْمٌ يَتَلَقَّوْنَ الْأَخْبَارَ فَيُحَدِّثُونَ بهَا فِي مجَالِس وَنَوَادٍ وَيُخْبِرُونَ بِهَا مَنْ يَسْأَلُ وَمَنْ لَا يَسْأَلُ. وَمَعْنَى الْإِرْجَافُ هُنَا: أَنَّهُمْ يُرْجِفُونَ بِمَا يُؤْذِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَيَتَحَدَّثُونَ عَنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: هُزِمُوا أَوْ أَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِإِيقَاعِ الشَّكَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَالْخَوْفِ وَسُوءِ ظَنِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرِضٌ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [83] . فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ لِأَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ أَكْثَرُ الْمُرْجِفِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَلَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَقِبَهُ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لَا يُسَاعِدُ أَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنِينَ.

وَاللَّامُ فِي لَئِنْ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، فَالْكَلَامُ بَعْدَهَا قَسَمٌ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ. وَاللَّامُ فِي لَنُغْرِيَنَّكَ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالْإِغْرَاءُ: الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى فِعْلٍ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ بِحرف (على) وبالباء، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِ (عَلَى) تُفِيدُ حَثًّا عَلَى الْفِعْلِ مُطْلَقًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَأَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِالْبَاءِ تُفِيدُ حَثًّا عَلَى الْإِيقَاعِ بِشَخْصٍ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُلَابَسَةِ. فَالْمُغْرَى عَلَيْهِ مُلَابِسٌ لِذَاتِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، أَيْ وَاقِعًا عَلَيْهَا. فَلَا يُقَالُ: أَغْرَيْتُهُ بِهِ، إِذَا حَرَّضَهُ عَلَى إِحْسَانٍ إِلَيْهِ. فَالْمَعْنَى: لَنُغْرِيَنَّكَ بِعُقُوبَتِهِمْ، أَيْ بِأَنْ تُغْرِيَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فَإِذَا حَلَّ ذَلِكَ بِهِمُ انْجَلُوا عَنِ الْمَدِينَةِ فَائِزِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ. وَاخْتِيرَ عَطْفُ جُمْلَةِ لَا يُجاوِرُونَكَ بِ ثُمَّ دُونَ الْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي انْتِفَاءِ الْمُجَاوَرَةِ عَنِ الْإِغْرَاءِ بِهِمْ تَرَاخِي رُتْبَةٍ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْأَوْطَانِ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ مِمَّا يَلْحَقُهَا مِنْ ضُرٍّ فِي الْأَبْدَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 191] أَيْ وَفِتْنَةُ الْإِخْرَاجِ مِنْ بَلَدِهِمْ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَتْلِ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا قَلِيلًا لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْمُجَاوِرَةِ وَأَنه لَيْسَ جَارِيا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ لَا يَبْقُونَ مَعَكَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً، وَهِيَ مَا بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ. وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يُجاوِرُونَكَ أَيْ جِوَارًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ بِاعْتِبَارِ مُدَّةِ زَمَنِهِ. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» صِفَةً لِزَمَنٍ مَحْذُوفٍ فَإِنَّ وُقُوعَ ضَمِيرِهِمْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَقْتَضِي إِفْرَادَهُمْ، وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَقْتَضِي عُمُومَ أَزْمَانِهَا فَيَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْوَصْفِ لِاسْمِ الزَّمَانِ وَلَيْسَ هُوَ ظَرْفًا. ومَلْعُونِينَ حَالٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَلِيلًا مِنْ مَعْنَى الْجِوَارِ. فَالْجِوَارُ مَصْدَرُ يَتَحَمَّلُ ضَمِيرَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَصْدَرِ أَنْ يُضَافَ إِلَى فَاعِلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا جِوَارَهُمْ مَلْعُونِينَ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَلْعُونِينَ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ بِأَنْ

يَكُونَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: 53] . وَبَوْنٌ مَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا نَظَّرَهُ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يَصْلُحُ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ هُنَا هُوَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي تَقْدِيرِ نَظْمِهِ. وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [35] ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْإِهَانَةِ وَالتَّجَنُّبِ فِي الْمَدِينَةِ، أَيْ يُعَامِلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِتَجَنُّبِهِمْ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَيَبْتَعِدُونَ هُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اتِّقَاءً وَوَجَلًا فَتَضْمَنُ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَارِينَ مُخْتَفِينَ خَوْفًا مِنْ بَطْشِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ حَيْثُ أَغْرَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي قَوْلِهِ: مَلْعُونِينَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَقَوْلُهُ: أَيْنَما ثُقِفُوا ظَرْفٌ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ مَلْعُونِينَ لِأَنَّ مَلْعُونِينَ حَالٌ مِنْهُمْ بَعْدَ صِفَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَأَفَادَ عُمُومَ أَمْكِنَةِ الْمَدِينَةِ. وأَيْنَما: اسْمُ زَمَانٍ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالثَّقَفُ: الظَّفَرُ وَالْعُثُورُ عَلَى الْعَدُوِّ بِدُونِ قَصْدٍ. وَقَدْ مَهَّدَ لِهَذَا الْفِعْلِ قَوْلُهُ: مَلْعُونِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَى أُخِذُوا أُمْسِكُوا. وَالْأَخْذُ: الْإِمْسَاكُ وَالْقَبْضُ، أَيْ أُسِرُوا، وَالْمُرَادُ: أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ إِذْ أَغْرَى اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ. وَالتَّقْتِيلُ: قُوَّةُ الْقَتْلِ. وَالْقُوَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ قَوِيٌّ فِي أَصْنَافِ نَوْعِهِ وَأَيْضًا هُوَ شَدِيدٌ فِي كَوْنِهِ سَرِيعًا لَا إِمْهَالَ لَهُمْ فِيهِ. وتَقْتِيلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ، أَيْ قُتِّلُوا قَتْلًا شَدِيدًا شَامِلًا. فَالتَّأْكِيدُ هُنَا تَأْكِيدٌ لِتَسَلُّطِ الْقَتْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ الْمَدْلُولَةِ لِضَمِيرِ قُتِّلُوا، لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي عُمُومِ الْقَتْلِ، فَالْمَعْنَى: قُتِّلُوا قَتْلًا شَدِيدًا لَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ. وَبِهَذَا الْوَعِيدِ انْكَفَّ الْمُنَافِقُونَ عَنْ أَذَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنِ الْإِرْجَافِ فَلَمْ يَقَعِ التَّقْتِيلُ فِيهِمْ إِذْ لَمْ يُحْفَظْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا أَنَّهُمْ خَرَجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُرْشِدُ إِلَى تَقْدِيمِ إِصْلَاحِ الْفَاسِدِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى قَطْعِةٍ مِنْهَا لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْفَاسِدِ يُكْسِبُ الْأُمَّةَ فَرْدًا صَالِحًا أَوْ طَائِفَةً صَالِحَةً تَنْتَفِعُ الْأُمَّةُ مِنْهَا كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» . وَلِهَذَا شُرِعَتْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 62]

اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ قَتْلِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِ فِيهَا التَّوْبَةُ، وَشُرِعَتْ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَغْزُوهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي غَزْوِهِمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا عَرَضَ عَلَيْهِمُ الدُّخُولَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ فِي دُخُولهمْ فِي الذِّمَّةَ انْتِفَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ بِجِزْيَتِهِمْ وَالِاعْتِضَادِ بِهِمْ. وَأَمَّا قَتْلُ الْقَاتِلِ عَمْدًا فَشُرِعَ فِيهِ مُجَارَاةً لِقَطْعِ الْأَحْقَادِ مِنْ قُلُوبِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِئَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُ الْأُمَّةِ بَعْضًا، إِذْ لَا دَوَاءَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَّا الْقِصَاصُ. وَلِذَلِكَ رَغَّبَ الشَّرْعُ فِي الْعَفْوِ وَفِي قَبُولِهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي آيَةِ جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَاربُونَ الله وَرُسُله: أَنَّ (أَوْ) فِيهَا لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ فَقَالَ: يَكُونُ الْجَزَاءُ بِقَدْرِ جُرْمِ الْمُحَارِبِ وَكَثْرَةِ مَقَامِهِ فِي فَسَادِهِ. وَكَانَ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ آخَرَ أَصْنَافِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِبْقَاءَهُ رَجَاءَ تَوْبَتِهِ وَصَلَاح حَاله. [62] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 62] سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) انْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَنَّ اللَّهُ إِغْرَاءَكَ بِهِمْ سُنَّتَهُ فِي أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ وَفِي الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا وَأُخِذُوا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا. وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، شُبِّهَتِ السُّنَّةُ الَّتِي عُومِلُوا بِهَا بِشَيْءٍ فِي وَسَطِهِمْ كِنَايَةً عَنْ تَغَلْغُلِهِ فِيهِمْ وتناوله جَمِيعَهُمْ وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِ الْمَجَازِ لَقِيلَ: سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الَّذيِنَ خَلَوْا. والَّذِينَ خَلَوْا الَّذِينَ مَضَوْا وَتَقَدَّمُوا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَنْ سَبَقُوا مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَذِنَهُ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ مِثْلَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِثْلَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ يَهُودِ قُرَيْظَةَ. وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ أَوْقَعُ فِي الْمَوْعِظَةِ إِذْ كَانَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ عَلَى ذِكْرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ شَهِدُوا بَعْضَهُمْ وَبَلَغَهُمْ خَبَرُ بَعْضٍ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَشْمَلَ الَّذِينَ خَلَوْا الْأُمَمَ السَّالِفَةَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِأَذَاهُمْ رُسُلَهُمْ فَاسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَأَضْرَابِهِمْ.

[سورة الأحزاب (33) : آية 63]

وَذَيَّلَ بِجُمْلَةِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّ الْعَذَابَ حَائِقٌ بِالْمُنَافِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُخَالِفُ سَنَّتَهُ لِأَنَّهَا مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ فَلَا تَجْرِي مُتَعَلِّقَاتُهَا إِلَّا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ. وَالْمَعْنَى: لَنْ تَجِدَ لِسُنَنِ اللَّهِ مَعَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَا مَعَ الْحَاضِرِينَ وَلَا مَعَ الْآتِينَ تَبْدِيلًا. وَبِهَذَا الْعُمُومِ الَّذِي أَفَادَهُ وُقُوعُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَأَهَّلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنْ تكون تذييلا. [63] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 63] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) لَمَّا كَانَ تَهْدِيدُ الْمُنَافِقِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يُذَكِّرُ بِالْخَوْضِ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ: خَوْضِ الْمُكَذِّبِينَ السَّاخِرِينَ، وَخَوْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَائِفِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَذَا. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَاب: 60] وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً [الْأَحْزَاب: 64] لِتَكُونَ تَمْهِيدًا لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ. وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ سُؤَالِ النَّاسِ عَنِ السَّاعَةِ، وَالسَّائِلُونَ أَصْنَافٌ: مِنْهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِهَا وَهُمْ أَكْثَرُ السَّائِلِينَ وَسُؤَالُهُمْ تَهَكُّمٌ وَاسْتِدْلَالٌ بِإِبْطَائِهَا عَلَى عَدَمِ وُجُودِهَا فِي أَنْظَارِهِمُ السَّقِيمَةِ قَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] وَهَؤُلَاء هم الَّذين كثر فِي الْقُرْآن إِسْنَاد السُّؤَال إِلَيْهِم معبّرا عَنْهُم بضمير الْغَيْبَة كَقَوْلِه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الْأَعْرَاف: 187] . وصنف مُؤمنُونَ مصدقون بِأَنَّهَا وَاقعَة لكِنهمْ يسْأَلُون عَن أحوالها وأهوالها، وَهَؤُلَاء هم الَّذين فِي قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى: 18] . وَصِنْفٌ مُؤْمِنُونَ يَسْأَلُونَ عَنْهَا مَحَبَّةً لِمَعْرِفَةِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَهَؤُلَاءِ نُهُوا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا

كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ سِوَى أَنَّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» . وَصِنْفٌ يَسْأَلُ اخْتِبَارًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ يُجِيبُ بِمَا يُخَالِفُ مَا فِي عِلْمِهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ حُجَّةً بَيْنَهُمْ عَلَى انْتِفَاء نبوءته ويعلنونه فِي دَهْمَائِهِمْ لِيَقْتَلِعُوا مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا عَسَى أَنْ يُخَالِطَهَا مِنَ النَّظَرِ فِي صِدْقِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْيَهُودُ نَظِيرُ سُؤَالِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنِ الرُّوحِ. فَ النَّاسُ هُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الِاشْتِغَالُ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا إِذْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَهْلُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ مَوْجُودُونَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [187] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا اسْتِفْهَام مَا صدقهَا شَيْءٌ. ويُدْرِيكَ مِنْ أَدْرَاهُ، إِذَا أَعْلَمَهُ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُ لَكَ دِرَايَةً. ولَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ رَجَاءٍ. ولَعَلَّ مُعَلِّقَةٌ فِعْلَ الْإِدْرَاءِ عَنِ الْعَمَلِ، أَيْ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَأَمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كَافُ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُدْرِيكَ السَّاعَةَ بَعِيدَةً أَوْ قَرِيبَةً لَعَلَّهَا تَكُونُ قَرِيبًا وَلَعَلَّهَا تَكُونُ بَعِيدًا، فَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَرِيباً خَبَرُ تَكُونُ وَأَنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ نَاقِصٌ وَجِيءَ بِالْخَبَرِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنه مُحْتَمل لِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ لَفَظًا (فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ كَالْفِعْلِ فِي اقْتِرَانِهِ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ إِنْ كَانَ مُتَحَمِّلًا لِضَمِيرٍ مُؤَنَّثٍ لَفْظِيٍّ) فَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَلَاقَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ ضَمِيرَ السَّاعَةِ جَرَى عَلَيْهَا بَعْدَ تَأْوِيلِهَا بِالشَّيْءِ أَوِ الْيَوْمِ. وَالَّذِي اخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِثْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 إلى 65]

قَرِيباً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ الْكَوْنِ وَلَكِنَّهُ ظَرْفٌ لَهُ وَهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ تَامٌّ وَأَنَّ قَرِيباً ظَرْفُ زَمَانٍ لِوُقُوعِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: تَقَعُ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، فَيَلْزَمُ لَفْظَ (قَرِيبٍ) الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ عَلَى نِيَّةِ زَمَانٍ أَوْ وَقْتٍ، وَقَدْ يكون ظرف مَكَان كَمَا وَرَدَ فِي ضِدِّهِ وَهُوَ لَفْظٌ (بَعِيدٌ) فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُمْسِ ابْنَةُ السَّهْمِيِّ مِنَّا ... بَعِيدًا لَا تُكَلِّمُنَا كَلَامًا وَقَدْ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ فِي «الْكَشَّافِ» . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ وَإِنْ تَأَتَّيَا هُنَا لَا يَتَأَتَّيَانِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] . وَيَقْتَرِنُ (قَرِيبٌ) وَ (بَعِيدٌ) بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعَلَامَاتِ الْفَرْعِيَّةِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّوْصِيفِ. وَكُلُّ هَذِهِ اعْتِبَارَاتٌ مِنْ تَوَسُّعِهِمْ فِي الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْأَعْرَافِ فَضُمَّهُ إِلَى مَا هُنَا. [64، 65] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 64 إِلَى 65] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) هَذَا حَظُّ الْكَافِرِينَ مِنْ وَعِيدِ السَّاعَةِ، وَهَذِهِ لَعْنَةُ الْآخِرَةِ قُفِّيَتْ بِهَا لَعْنَةُ الدُّنْيَا فِي قَوْله: مَلْعُونِينَ [الْأَحْزَاب: 61] ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً فَكَانَتْ لَعْنَةُ الدُّنْيَا مُقْتَرِنَةً بِالْأَخْذِ وَالتَّقْتِيلِ وَلَعْنَةُ الْآخِرَةِ مُقْتَرِنَةً بِالسَّعِيرِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الْأَحْزَاب: 60- 62] تُثِيرُ فِي نفوس السامعين التساؤل عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَى لَعْنِهِمْ وَتَقْتِيلِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَلْ ذَلِكَ مُنْتَهَى مَا عُوقِبُوا بِهِ أَوْ لَهُمْ مِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ إِلَخْ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ أَوْ مَنْظُورٍ بِهِ إِلَى السَّامِعِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا شَاقُّوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآذَوْهُ وَأَرْجَفُوا فِي الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ نَاصَرَهُمْ مِنَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 66]

الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ وَمِنَ الْيَهُودِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلَّ كَافِرٍ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فصيغة الْمَاضِي فِي فِعْلِ لَعَنَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْوُقُوعِ، شِبْهِ الْمُحَقَّقِ حُصُولُهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَ فَاسْتُعِيرَ لَهُ صِيغَةُ الْمَاضِي مَثَلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] لِأَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ. وَأَمَّا حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمِثْلُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَمَتَّعُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيَاةٍ وَرِزْقٍ وَمَلَاذٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196، 197] . وَقَدْ يَكُونُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ مُتَمَسَّكٌ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ بِانْتِفَاءِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنِ الْكَافِرِينَ خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُ مُتَمَسَّكٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ تَرْجِعُ إِلَى مَا لَا يُعْقِبُ أَلَمًا. وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْإِيقَادِ. وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، أَيْ مَسْعُورَةٌ. وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى السَّعِيرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها مُؤَنَّثًا لِأَنَّ سَعِيراً مِنْ صِفَاتِ النَّارِ وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَجُمْلَةُ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خالِدِينَ أَيْ خَالِدِينَ فِي حَالَةِ انْتِفَاءِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ عَنْهُمْ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هم ينْصرُونَ. [66] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 66] يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) يَوْمَ ظَرْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ لَا يَجِدُونَ [الْأَحْزَاب: 65] أَيْ إِنْ وَجَدُوا أَوْلِيَاءَ وَنُصَرَاءَ فِي الدُّنْيَا مِنْ يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ فَيَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَرْثِي لَهُمْ وَلَا نَصِيرًا يُخَلِّصُهُمْ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الظَّرْفُ بِفعل يَقُولُونَ على أَن تكون جملَة يَقُولُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَا يَجِدُونَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ مِنْ ظُرُوفٍ كَثِيرَةٍ وَارِدَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُجُوهُهُمْ. وَالتَّقْلِيبُ: شِدَّةُ الْقَلْبِ. وَالْقَلْبُ: تَغْيِيرُ وَضَعِ الشَّيْء على جِهَة غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تُقَلِّبُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ وُجُوهَهُمْ فِي النَّارِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ، أَوْ يَجْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ التَّقَلُّبَ فِي وُجُوهِهِمْ لِتَنَالَ النَّارُ جَمِيعَ الْوَجْهِ كَمَا يُقَلَّبُ الشِّوَاءُ عَلَى الْمَشْوَى لِيَنْضَجَ عَلَى سَوَاءٍ، وَلَوْ كَانَ لَفْحُ النَّارِ مُقْتَصِرًا عَلَى أَحَدِ جَانِبَيِ الْوَجْهِ لَكَانَ لِلْجَانِبِ الْآخَرِ بَعْضُ الرَّاحَةِ. وَتَخْصِيصُ الْوُجُوهِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ حَرَّ النَّارِ يُؤْذِي الْوُجُوهَ أَشَدَّ مِمَّا يُؤْذِي بَقِيَّةَ الْجِلْدِ لِأَنَّ الْوُجُوهَ مَقَرُّ الْحَوَاسِّ الرَّقِيقَةِ: الْعُيُونِ وَالْأَفْوَاهِ وَالْآذَانِ وَالْمَنَافِسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 24] . وَحَرْفُ يَا فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنا لِلتَّنْبِيهِ لِقَصْدِ إِسْمَاعِ مَنْ يُرْثَى لِحَالِهِمْ مِثْلَ يَا حَسْرَتَنا [الْأَنْعَام: 31] . وَالتَّمَنِّي هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّنَدُّمِ عَلَى مَا فَاتَ، وَكَذَلِكَ نَحْوُ يَا حَسْرَتَنا أَيْ أَنَّ الْحَسْرَةَ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ. وَقَدْ عَلِمُوا يَوْمَئِذٍ أَنَّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ تَبْلِيغٌ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ إِذْ عَصَوْهُ فَقَدْ عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى فَتَمَنَّوْا يَوْمَئِذَ أَنْ لَا يَكُونُوا عَصَوُا الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَلِفُ فِي آخِرِ قَوْلِهِ: الرَّسُولَا لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا السُّورَةُ فَإِنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى فَاصِلَةِ الْأَلِفِ وَهِيَ أَلِفُ الْإِطْلَاقِ إِجْرَاءً لِلْفَوَاصِلِ مَجْرَى الْقَوَافِي الَّتِي تَلْحَقُهَا أَلْفُ الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [10] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَتْ وُجُوهُ الْقِرَاءَاتِ فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ أَو حذفهَا.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 إلى 68]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 67 إِلَى 68] وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) عَطْفٌ عَلَى جملَة يَقُولُونَ [الْأَحْزَاب: 66] فَهِيَ حَالٌ. وَجِيءَ بِهَا فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى قَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ [الْأَحْزَاب: 66] ، فَذَلِكَ التَّمَنِّي نَشَأَ لَهُمْ وَقْتَ أَنْ مَسَّهُمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا التَّنَصُّلُ وَالدُّعَاءُ اعْتَذَرُوا بِهِ حِينَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ وَحَشْرِهِمْ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: 38] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهُمُ الْعَذَابُ بَلْ حِينَ رُصِفُوا وَنُسِقُوا قَبْلَ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَيُطْلَقُ إِلَيْهِمْ حَرُّ النَّارِ. وَالِابْتِدَاءُ بِالنِّدَاءِ وَوَصْفُ الرُّبُوبِيَّةِ إِظْهَارٌ لِلتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ. وَالسَّادَةُ: جَمْعُ سَيِّدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَزْنُهُ فَعَلَةٌ، أَيْ مِثْلُ كَمَلَةٍ لَكِنْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَلَةٍ تَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ لَا فِي جَمْعِ فَيْعِلٍ، فَقُلِبَتِ الْوَاو ألفا لَا نفتاحها وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا السَّادَاتُ فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَتَاءٍ بِزِنَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ. وَالسَّادَةُ: عُظَمَاءُ الْقَوْمِ وَالْقَبَائِلِ مِثْلُ الْمُلُوكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سادَتَنا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ سَادَاتِنَا بِأَلْفٍ بَعْدَ الدَّالِّ وَبِكَسْرِ التَّاءِ لِأَنَّهُ جُمِعَ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ مَزِيدَتَيْنِ عَلَى بِنَاءِ مُفْرَدِهِ. وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ سَادَةٌ. وَالْكُبَرَاءُ: جَمْعُ كَبِيرٍ وَهُوَ عَظِيمُ الْعَشِيرَةِ، وَهُمْ دُونَ السَّادَةِ فَإِنَّ كَبِيرًا يُطْلَقُ عَلَى رَأْسِ الْعَائِلَةِ فَيَقُولُ الْمَرْءُ لِأَبِيهِ: كَبِيرِي، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ قَوْلُهُمْ: يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الْأَحْزَاب: 66] بِقَوْلِهِمْ: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا. وَجُمْلَةُ إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشِّكَايَةِ وَالتَّذَمُّرِ، وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِطَلَبِ الِانْتِصَافِ مِنْ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ الْإِفْضَاءُ إِلَى جُمْلَةِ رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ. وَمَقْصُودٌ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا الِاعْتِذَارُ وَالتَّنَصُّلُ مِنْ تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مَخْدُوعُونَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا

فَيَتَّجِهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَال لَهُم: لماذَا أَطَعْتُمُوهُمْ حَتَّى يَغُرُّوكُمْ، وَهَذَا شَأْنُ الدَّهْمَاءِ أَنْ يُسَوِّدُوا عَلَيْهِمْ مَنْ يُعْجَبُونَ بِأَضْغَاثِ أَحْلَامِهِ، وَيُغَرَّوُنَ بِمَعْسُولِ كَلَامِهِ، وَيَسِيرُونَ عَلَى وَقْعِ أَقْدَامِهِ، حَتَّى إِذَا اجْتَنَوْا ثِمَارَ أَكْمَامِهِ، وَذَاقُوا مَرَارَةَ طَعْمِهِ وَحَرَارَةَ أُوَامِهِ، عَادُوا عَلَيْهِ بِالْلَائِمَةِ وَهُمُ الْأَحِقَّاءُ بِمَلَامِهِ. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا لِرَدِّ إِنْكَارٍ، وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا اهْتِمَامٌ بِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيلٍ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا لِأَنَّ كُبَرَاءَهُمْ مَا تَأَتَّى لَهُمْ إِضْلَالُهُمْ إِلَّا بِتَسَبُّبِ طَاعَتِهِمُ الْعَمْيَاءِ إِيَّاهُمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِطَاعَتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ من فَسَاد وو خامة مَغَبَّةٍ. وَبِتَسَبُّبِ وَضْعِهِمْ أَقْوَال سادتهم وكبرائهم مَوْضِعَ التَّرْجِيحِ عَلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَانْتَصَبَ السَّبِيلَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ لِأَنَّ أَضَلَّ لَا يَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الْفرْقَان: 29] . وَظَاهِرُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَيَكُونُ (ضَلَّ) الْمُجَرَّدُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. تَقُولُ: ضَلَلْتُ الطَّرِيقَ، و (أضلّ) يتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَالْقَوْلُ فِي أَلِفِ السَّبِيلَا كَالْقَوْلِ فِي ألف الرَّسُولَا [الْأَحْزَاب: 66] . وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ تَأْكِيدٌ للضراعة والابتهال وتمهيد لِقَبُولِ سُؤْلِهِمْ حَتَّى إِذَا قُبِلَ سُؤَلُهُمْ طَمِعُوا فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أَلْقَوْهُ عَلَى كَاهِلِ كُبَرَائِهِمْ. وَالضِّعْفُ بِكَسْرِ الضَّادِ: الْعَدَدُ الْمُمَاثِلُ لِلْمَعْدُودِ، فَالْأَرْبَعَةُ ضِعْفُ الِاثْنَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَذَابُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا ذَاتًا كَانَ مَعْنَى تَكْرِيرِ الْعَدَدِ فِيهِ مَجَازًا فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ. وَتَثْنِيَةُ ضِعْفَيْنِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: 4] فَإِنَّ الْبَصَرَ لَا يَخْسَأُ فِي نَظْرَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هُنَا: آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [38] . وَهَذَا تَعْرِيضٌ

[سورة الأحزاب (33) : آية 69]

بِإِلْقَاءِ تَبِعَةِ الضَّلَالِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ يُسَلَّطُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. وَوُصِفَ اللَّعْنُ بِالْكَثْرَةِ كَمَا وُصِفَ الْعَذَابُ بِالضِّعْفَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْكُبَرَاءَ اسْتَحَقُّوا عَذَابًا لِكُفْرِهِمْ وَعَذَابًا لِتَسَبُّبِهِمْ فِي كُفْرِ أَتْبَاعِهِمْ. فَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ الشَّدِيدِ الْقَوِيِّ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْكَثِيرِ لِمُشَاكَلَةِ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: ضِعْفَيْنِ الْمُرَادِ بِهِ الْكَثْرَةَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ جَوَابُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الْأَعْرَاف: 38] يَعْنِي أَنَّ الْكُبَرَاءَ اسْتَحَقُّوا مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَأَنَّ أَتْبَاعَهُمْ أَيْضا استحقوا مضاعفة الْعَذَابَ لِضَلَالِهِمْ وَلِتَسْوِيدِ سَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ العمياء إيَّاهُم. [69] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 69] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) لَمَّا تَقَضَّى وَعِيدُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّكْذِيبِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَذَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ كُفْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَاب: 57] حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا يُؤْذِي الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ قَوْمٍ نَسَبُوا إِلَى رَسُولِهِمْ مَا هُوَ أَذًى لَهُ وهم لَا يعبأون بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْضَابِهِ الَّذِي فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَذَى قَدْ يَحْصُلُ عَنْ غَفْلَةِ أَصْحَابه عَمَّا يُوجِبهُ فَيَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا تَجِيشُ بِهِ خَوَاطِرُهُمْ قَبْلَ التَّدَبُّرِ فِيمَا يَحِفُّ بِذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تُقْلِعُهُ وَتَنْفِيهِ وَدُونَ التَّأَمُّلِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ من إخلال بالواجبات. وَكَذَلِكَ يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ وَرْطَةٌ لَهُمْ قَبْلَ التَّأَمُّلِ فِي مَغَبَّةِ عَمَلِهِمْ، نَبَّهَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ كَيْ لَا يَقَعُوا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعَنْجَهِيَّةِ لِأَنَّ مَدَارِكَ الْعُقَلَاءِ فِي التَّنْبِيهِ إِلَى مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَمُلَازِمَاتِهَا مُتَفَاوِتَةُ الْمَقَادِيرِ، فَكَانَتْ حَرِيَّةً بِالْإِيقَاظِ وَالتَّحْذِيرِ. وَفَائِدَةُ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ قُبْحُ مَا أُوذِيَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفّ: 5] الْآيَةَ.

وَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى هُمْ طَوَائِفُ مِنْ قَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ أَذَاهُ وَلَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا وَاجِبَ كَمَالِ الْأَدَبِ وَالرِّعَايَةِ مَعَ أَعْظَمِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الْآيَةَ (فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَذَى مِنْ قَبِيلِ التَّكْذِيبِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُؤْذُونَنِي إِنْكَارِيٌّ) . فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراعى فِيهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فِي حُصُولِ الْإِذَايَةِ. فَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى قَالُوا مَرَّةً فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَة: 24] فَآذَوْهُ بِالْعِصْيَانِ وَبِضَرْبٍ مِنَ التَّهَكُّمِ. وَقَالُوا مرّة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَة: 67] فَنَسَبُوهُ إِلَى الطَّيْشِ وَالسُّخْرِيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: 67] . وَفِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْخُرُوجِ «وَقَالُوا لِمُوسَى فَإِذَا صَنَعْتَ بِنَا حَتَّى أَخْرَجْتَنَا مِنْ مِصْرَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ نَخْدُمَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَنْ نَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ «وَقَالُوا لِمُوسَى وَهَارُونَ إِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هَذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هَذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ» . وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِهِ: مَا نَرَاهُ يَسْتَتِرُ إِلَّا مِنْ عَاهَةٍ فِيهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: بِهِ بَرَصٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ آدَرُ» وَنَحْوَ هَذَا، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ تَوْقِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَنُّبِ مَا يُؤْذِيهِ وَتِلْكَ سُنُّةُ الصَّحَابَةِ وَالْمُسْلِمِينَ وَقَدْ عَرَضَتْ فَلَتَاتٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا قَبْلَهَا كَمَالَ التَّخَلُّقِ بِالْقُرْآنِ مِثْلَ الَّذِي قَالَ لَهُ لَمَّا حَكَمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّبَيْرِ فِي مَاءِ شِرَاحِ الْحَرَّةِ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَمِثْلَ التَّمِيمِيِّ خَرْفُوصٍ الَّذِي قَالَ فِي قِسْمَةِ مَغَانِمِ حُنَيْنٍ: «هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ التَّشْبِيهِ هُوَ قَوْلُهُ: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى دُونَ مَا فَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِدْمَاجٌ وَانْتِهَازٌ لِلْمَقَامِ بِذِكْرِ بَرَاءَةِ مُوسَى مِمَّا قَالُوا، وَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِوَجْهِ التَّشْبِيه لِأَن نبيئنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوذ إِيذَاءً يَقْتَضِي ظُهُورَ بَرَاءَتِهِ مِمَّا أُوذِيَ بِهِ.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 إلى 71]

وَمَعْنَى «بَرَّأَهُ» أَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ عَيَانًا لِأَنَّ مُوسَى كَانَ بَرِيئًا مِمَّا قَالُوهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْذُوهُ بِأَقْوَالِهِمْ فَلَيْسَ وُجُودُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ مُتَفَرِّعَةً عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهَا عَقِبَ أَقْوَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ أَرِيحَا فَثَبَّتَ قُلُوبَهُمْ وَافْتَتَحُوهَا وَأَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ إِذْ أَظْهَرَ مُعْجِزَتَهُ حِينَ ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِذَبْحِهَا فَتَبَيَّنَ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ الَّتِي ادَّارَأُوا فِيهَا. وَأَظْهَرَ سَلَامَتَهُ مِنَ الْبَرَصِ وَالْأُدْرَةِ حِينَ بَدَا لَهُمْ عُرْيَانًا لَمَّا انْتَقَلَ الْحَجْرُ الَّذِي عَلَيْهِ ثِيَابُهُ. وَمَعْنَى: «بَرَّأَهُ مِمَّا قَالُوا» بَرَّأَهُ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ لَا مِنْ نَفْسِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ قَدْ حَصَلَ وَأُوذِيَ بِهِ وَهَذَا كَمَا سَمَّوُا السُّبَّةَ الْقَالَةَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: 80] ، أَيْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَقَالُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] أَيْ نَرِثُهُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ. وَجُمْلَةُ وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَمُفِيدَةٌ سَبَبَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِتَبْرِئَتِهِ. والوجيه صفة مشبهة، أَيْ ذُو الْوَجَاهَةِ. وَهِيَ الْجَاهُ وَحُسْنُ الْقَبُولِ عِنْدَ النَّاسِ. يُقَالُ: وَجُهَ الرَّجُلُ، بِضَمِّ الْجِيمِ، وَجَاهَةً فَهُوَ وَجِيهٌ. وَهَذَا الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي لِلْإِنْسَانِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ مَرْضِيٌّ عَنهُ مَقْبُول مغْفُور لَهُ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [45] ، فَضُمَّهُ إِلَى هُنَا. وَذِكْرُ فِعْلِ كانَ دَالٌّ عَلَى تَمَكُّنِ وَجَاهَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا تَسْفِيهٌ لِلَّذِينِ آذَوْهُ بِأَنَّهُمْ آذَوْهُ بِمَا هُوَ مبرأ مِنْهُ، وتنويه وَتَوْجِيهٌ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ مُسْتَأْهِلٌ لِتِلْكَ التَّبْرِئَةِ لِأَنَّهُ وَجِيهٌ عِنْدَ اللَّهِ وَلَيْسَ بخامل. [70، 71] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 70 إِلَى 71] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) بَعْدَ أَنْ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا يُؤْذِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبَأَ بِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ

الَّذِينَ آذَوْا رَسُولَهُمْ، وَجَّهَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ نِدَاءً بِأَنْ يَتَّسِمُوا بِالتَّقْوَى وَسَدَادِ الْقَوْلِ لِأَنَّ فَائِدَةَ النَّهْيِ عَنِ الْمَنَاكِرِ التَّلَبُّسُ بِالْمَحَامِدِ، وَالتَّقْوَى جِمَاعُ الْخَيْرِ فِي الْعَمَلِ وَالْقَوْلِ. وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مُبِثُّ الْفَضَائِلِ. وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِنِدَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَاسْتِجْلَابِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ. وَنِدَاؤُهُمْ بِالَّذِينِ آمَنُوا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي مَا سَيُؤْمَرُونَ بِهِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَا يُؤْذِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَتَقْدِيمُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَا سَيُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ سَدِيدِ الْقَوْلِ هُوَ مِنْ شُعَبِ التَّقْوَى كَمَا هُوَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَالْقَوْلُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ فَمِ الْإِنْسَانِ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ. وَالسَّدِيدُ: الَّذِي يُوَافِقُ السَّدَادَ. وَالسَّدَادُ: الصَّوَابُ وَالْحَقُّ وَمِنْهُ تَسْدِيدُ السَّهْمِ نَحْوَ الرَّمْيَةِ، أَيْ عَدَمُ الْعُدُولِ بِهِ عَنْ سِمَتِهَا بِحَيْثُ إِذَا انْدَفَعَ أَصَابَهَا، فَشَمَلَ الْقَوْلُ السَّدِيدُ الْأَقْوَالَ الْوَاجِبَةَ وَالْأَقْوَالَ الصَّالِحَةَ النَّافِعَةَ مِثْلَ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ وَقَوْلِ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يُحِبُّهُ: إِنِّي أُحِبُّكَ. وَالْقَوْلُ يَكُونُ بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَيَكُونُ كَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَيَشْمَلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ مَا هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ إِرْشَادٍ مِنْ أَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَمَا هُوَ تَبْلِيغٌ لِإِرْشَادِ غَيْرِهِ مِنْ مَأْثُورِ أَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْقَوْلِ السَّدِيدِ، وَرِوَايَةُ حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْلِ السَّدِيدِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» وَكَذَلِكَ نَشْرُ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْحُكَمَاءِ وَأَيِمَّةِ الْفِقْهِ. وَمِنَ الْقَوْلِ السَّدِيدِ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ مِثْلَ التَّسْبِيحِ. وَمِنَ الْقَوْلِ السَّدِيدِ الْآذَانُ وَالْإِقَامَةُ قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [10] . فَبِالْقَوْلِ السَّدِيدِ تَشِيعُ الْفَضَائِلُ وَالْحَقَائِقُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَرْغَبُونَ فِي التَّخَلُّقِ بهَا، وبالقول السيّء تَشِيعُ الضَّلَالَاتُ وَالتَّمْوِيهَاتُ

فَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِهَا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ يَشْمَلُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلِمَا فِي التَّقْوَى وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ مِنْ وَسَائِلِ الصَّلَاحِ جَعَلَ لِلْآتِي بِهِمَا جَزَاءً بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ. وَهُوَ نَشْرٌ عَلَى عَكْسِ اللَّفِّ، فَإِصْلَاحُ الْأَعْمَالِ جَزَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُفِيدُهُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ إِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاحِ أَوِ اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِصَاحِبِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ. وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ جَزَاءٌ عَلَى التَّقْوَى لِأَنَّ عَمُودَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَغَفَرَ لَهُمُ الْكَبَائِرَ بِالتَّوْبَةِ، وَالتَّحَوُّلُ عَنِ الْمَعَاصِي بَعْدَ الْهَمِّ بِهَا ضَرْبٌ مِنْ مَغْفِرَتِهَا. ثُمَّ إِنَّ ضَمِيرَيْ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ لَمَّا كَانَا عَائِدَيْنَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا كَانَا عَامَّيْنِ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُمُومِ الْأَزْمَانِ سَوَاءً كَانَتِ الْأَعْمَالُ أَعْمَالَ الْقَائِلِينَ قَوْلًا سَدِيدًا أَوْ أَعْمَالَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ فَرِيقٍ يَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ فَيَعْمَلُونَ بِمَا يَقْتَضِيهِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ الْعَامِلِينَ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ يَتَفَاوَتُ صَلَاحُ أَعْمَالِ الْقَائِلِينَ قَوْلًا سَدِيدًا وَالْعَامِلِينَ بِهِ مِنَ سَامِعِيهِ، وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الَّذِي قَالَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ فِي وَقْتِ سَمَاعِهِ قَوْلَ غَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ، فَظَهَرَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَعْمَالِ مُتَفَاوِتٌ وَكَيْفَمَا كَانَ فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعْمُولِ مِنْ آثَارِ سِدَادِ الْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ التَّقْوَى تَكُونُ سَبَبًا لِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِ الْمُتَّقِي وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِ غَيْرِهِ لِأَنَّ مِنَ التَّقْوَى الِانْكِفَافَ عَنْ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْمَعَاصِي فِي مَعَاصِيهِمْ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ انْكِفَافُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ مَعَاصِيهِمْ تَأَسِّيًا أَوْ حَيَاءً فَتَتَعَطَّلُ بَعْضُ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْغُفْرَانِ فَإِنِ اقْتَدَى فَاهْتَدَى فَالْأَمْرُ أَجْدَرُ. وَذِكْرُ لَكُمْ مَعَ فِعْلَيْ يُصْلِحْ- ويَغْفِرْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالْمُتَّقِينَ أَصْحَابِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] . وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ وَتَفُوزُوا فَوْزًا عَظِيمًا إِذَا أَطَعْتُمْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 72]

اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَإِنَّمَا صِيغَتِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ فِي الْمُطِيعِينَ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ بِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. وَهَذَا نسج بديع مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَهُوَ إِفَادَةُ غَرَضَيْنِ بجملة وَاحِدَة. [72] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 72] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفَادَ الْإِنْبَاءَ عَلَى سُنَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانَ لِيَرْقُبَ النَّاسُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ مَعَ رَبِّهِمْ وَمُعَامَلَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ بِمِقْدَارِ جَرْيِهِمْ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَرَعْيِهِمْ تَطْبِيقَهَا فَيَكُونُ عَرْضُهُمْ أَعْمَالَهُمْ عَلَى مِعْيَارِهَا مُشْعِرًا لَهُمْ بِمَصِيرِهِمْ وَمُبَيِّنًا سَبَبَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَاصْطِفَاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَيْنِ بَعْضٍ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ مَا قَبْلَهَا، وَفِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِمَضْمُونِهَا ارْتِبَاطًا بِمَضْمُونِ مَا قَبِلَهَا، وَيَصْلُحُ عَوْنًا لِاكْتِشَافِ دَقِيقِ مَعْنَاهَا وَإِزَالَةِ سُتُورِ الرَّمْزِ عَنِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَوْ بِتَقْلِيلِ الِاحْتِمَالِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى الْمَآلِ. وَالِافْتِتَاحُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ أَوْ تَنْزِيِلِهِ لِغَرَابَةِ شَأْنِهِ مَنْزِلَةَ مَا قَدْ يُنْكِرُهُ السَّامِعُ. وَافْتِتَاحُ الْآيَةِ بِمَادَّةِ الْعَرْضِ، وَصَوْغُهَا فِي صِيغَة الْمَاضِي، وَجَعْلُ مُتَعَلِّقِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَال وَالْإِنْسَان يومىء إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ هَذَا الْعَرْضِ كَانَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ عَرْضٌ أَزَلِيٌّ فِي مَبْدَأِ التَّكْوِينِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَإِيدَاعِهَا فُصُولَهَا الْمُقَوِّمَةَ لِمَوَاهِيهَا وَخَصَائِصِهَا وَمُمَيِّزَاتِهَا الْمُلَائِمَةِ لِوَفَائِهَا بِمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ كَمَا حُمِلَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: 172] الْآيَةَ. وَاخْتِتَامُ الْآيَةِ بِالْعِلَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الْأَحْزَاب: 73] إِلَى نِهَايَةِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِلْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِالْعِبْرَةِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ بَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي رَعْيِ الْأَمَانَةِ وَإِضَاعَتِهَا.

فَحَقِيقٌ بِنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْعَرْضَ كَانَ فِي مَبْدَأِ تَكْوِينِ الْعَالَمِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَتْ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ مَعَ الْإِنْسَانِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ نَوْعُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَلَوْ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ لَمَا كَانَ فِي تَحَمُّلِ ذَلِكَ الْفَرْدِ الْأَمَانَةَ ارْتِبَاطٌ بِتَعْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَمَا كَانَ فِي تَحَمُّلِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ دُونَ بَعْضٍ الْأَمَانَةَ حِكْمَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِتَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. فَتَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ نَوْعُ الْإِنْسَانِ. وَالْعَرْضُ: حَقِيقَتُهُ إِحْضَارُ شَيْءٍ لِآخَرَ لِيَخْتَارَهُ أَوْ يَقْبَلَهُ وَمِنْهُ عَرْضُ الْحَوْضِ عَلَى النَّاقَةِ، أَيْ عَرْضُهُ عَلَيْهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ، وَعَرْضُ الْمُجَنَّدِينَ عَلَى الْأَمِيرِ لِقَبُولِ مَنْ تَأَهَّلَ مِنْهُمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَرَدَّنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي» . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [18] ، وَقَوْلِهِ: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [48] . فَقَوْلُهُ: عَرَضْنَا هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِوَضْعِ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لَهُ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَشْيَاءِ، وَعَدَمُ وَضْعِهِ فِي بَقِيَّةِ الْأَشْيَاءِ لِعَدَمِ تَأَهُّلِهَا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَشُبِّهَتْ حَالَةُ صَرْفِ تَحْمِيلِ الْأَمَانَةِ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَوَضْعِهَا فِي الْإِنْسَانِ بِحَالَةِ مَنْ يَعْرِضُ شَيْئًا عَلَى أُنَاسٍ فَيَرْفُضُهُ بَعْضُهُمْ وَيَقْبَلُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، أَوْ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِإِنَاطَةِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمَانَةِ بِهَا وَصَلَاحِيَةِ الْإِنْسَان لذَلِك، فشبهت حَالَةُ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ قَابِلِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِحَمْلِ الْأَمَانَةِ لِقَابِلِيَّةِ الْإِنْسَانِ ذَلِكَ بِعَرْضِ شَيْءٍ عَلَى أَشْيَاءَ لِاسْتِظْهَارِ مِقْدَارِ صَلَاحِيَّةِ أَحَدِ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ لِلتَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَعْرُوضِ عَلَيْهَا. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّمْثِيلِ تَعْظِيمُ أَمْرِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ إِذْ بَلَغَتْ أَنْ لَا يُطِيقَ تَحَمُّلَهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مَا يُبْصِرُهُ النَّاسُ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ. فَتَخْصِيصُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ لِلنَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَعَطَفُ الْجِبالِ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مِنْهَا لِأَنَّ الْجِبَالَ أَعْظَمُ الْأَجْزَاءِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَهِيَ الَّتِي تُشَاهِدُ الْأَبْصَارُ عَظَمَتَهَا إِذِ الْأَبْصَارُ

لَا تَرَى الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْر: 21] . وَقَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ حَالِيَّةٌ وَهِيَ عَدَمُ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِانْتِفَاءِ إِدْرَاكِهَا فَأَنَّى لَهَا أَنْ تَخْتَارَ وَتَرْفُضَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْهُ جِنْسَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ لَا تُفَاوِضُ وَلَا تَخْتَارُ كَمَا يُقَالُ: الطَّبِيعَةُ عَمْيَاءُ، أَيْ لَا اخْتِيَارَ لَهَا، أَيْ لِلْجِبِلَّةِ وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْهَا آثَارُهَا قَسْرًا. وَلِذَلِكَ فأفعال عَرَضْنَا، فَأَبَيْنَ، يَحْمِلْنَها، وأَشْفَقْنَ مِنْها، وحَمَلَهَا أَجْزَاءٌ لِلْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ. وَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ صَالِحَةٌ لِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا اسْتِعَارَةً مُفْرَدَةً بِأَنْ يُشَبِّهَ إِيدَاعَ الْأَمَانَةِ فِي الْإِنْسَانِ وَصَرْفَهَا عَنْ غَيْرِهِ بِالْعَرْضِ، وَيُشَبِّهَ عَدَمَ مُصَحِّحِ مَوَاهِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِإِيدَاعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا بِالْإِبَاءِ، وَيُشَبِّهَ الْإِيدَاعَ بِالتَّحْمِيلِ وَالْحَمْلِ، وَيُشَبِّهَ عَدَمَ التَّلَاؤُمِ بَيْنَ مَوَاهِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِالْعَجْزِ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ إِيَّاهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِشْفَاقِ، وَيُشَبِّهَ التَّلَاؤُمَ وَمُصَحِّحَ الْقَبُولِ لِإِيدَاعِ وَصْفِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِنْسَانِ بِالْحَمْلِ لِلثِّقْلِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَصَلُوحِيَّةُ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ لِلِانْحِلَالِ بِأَجْزَائِهِ إِلَى اسْتِعَارَاتِ مَعْدُودٍ مِنْ كَمَالِ بَلَاغَةِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ. وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَتَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا تَرَدُّدًا دَلَّ عَلَى الْحَيْرَةِ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَاهَا. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى تَقْوِيمِ مَعْنَى الْعَرْضِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ، وَمَعْرِفَةِ مَعْنَى الْإِبَاءِ وَالْإِشْفَاقِ. فَأَمَّا الْعَرْضُ فَقَدِ اسْتَبَانَتْ مَعَانِيهِ بِمَا عَلِمْتَ مِنْ طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ وَيُطَالَبُ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ دُونَ إِضَاعَةٍ وَلَا إِجْحَافٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى عِشْرِينَ قَوْلًا وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ فِي بعض، ولنبتدىء بِالْإِلْمَامِ بِهَا ثُمَّ نَعْطِفُ إِلَى تَمْحِيصِهَا وَبَيَانِهَا. فَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: مَجْمُوعُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاغْتِسَالِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: الِانْقِيَادُ إِلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: حِفْظُ الْفَرْجِ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ التَّوْحِيدُ، أَوْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ تَجَلِّيَاتُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ،

وَقِيلَ: مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَمِنْهُ انْتِفَاء الْغِشّ فِي الْعَمَل، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ، وَقِيلَ: الْخِلَافَةُ، أَيْ خِلَافَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْإِنْسَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] الْآيَةَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى أَصْنَافٍ: صِنْفُ الطَّاعَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَصِنْفُ الْعَقَائِدِ، وَصِنْفٌ ضِدَّ الْخِيَانَةِ، وَصِنْفُ الْعَقْلِ، وَصِنْفُ خِلَافَةِ الْأَرْضِ. وَيَجِبُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْهَا صِنْفُ الشَّرَائِعَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ فَطَالَمَا خَلَتْ أُمَمٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرَائِعِ وهم أهل الفتر فَتَسْقُطُ سِتَّةُ أَقْوَالِ وَهِيَ مَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ. وَيَبْقَى سَائِرُ الْأَصْنَافِ لِأَنَّهَا مُرْتَكِزَةٌ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَفِطْرَتِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ أَمَانَةَ الْإِيمَانِ، أَيْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ فَكَأَنَّهَا عهد عَهْدُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ وَكَأَنَّهُ أَمَانَةٌ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَوْدَعَهَا فِي الْجِبِلَّةِ مُلَازِمَةً لَهَا، وَهَذِهِ الْأَمَانَةُ لَمْ تُودَعْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَانَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمَعَارِفِ وَالْمَعَارِفُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةُ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا مُصَحِّحَةُ الْإِدْرَاكِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الْأَحْزَاب: 73] ، فَإِنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ خَالُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ هِيَ الْعَقْلَ وَتَسْمِيَتُهُ أَمَانَةً تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَن الْأَشْيَاء النفيسة تُوَدَعُ عِنْدَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَوْدَعَ الْعَقْلِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ خِلْقَتَهُ مُلَائِمَةٌ لِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَبْعَثُ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ فِي سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي جَبَلٍ مِنِ الْجِبَالِ أَوْ جَمِيعِهَا لَكَانَ سَبَبًا فِي

اضْطِرَابِ الْعَوَالِمِ وَانْدِكَاكِهَا. وَأَقْرَبُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَحْمِلُ الْعَقْلَ أَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ مَا عَدَا الْإِنْسَانَ فَلَوْ أُودِعَ فِيهَا الْعَقْلُ لَمَا سَمَحَتْ هَيْئَاتُ أَجْسَامِهَا بِمُطَاوَعَةِ مَا يَأْمُرُهَا الْعَقْلُ بِهِ. فَلْنَفْرِضْ أَنَّ الْعَقْلَ يُسَوِّلُ لِلْفَرَسِ أَنْ لَا يَنْتَظِرُ عَلَفَهُ أَوْ سَوْمَهُ وَأَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَنَّاطٍ يَشْتَرِي مِنْهُ عَلَفًا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع إفصاحا ويضيع فِي الْإِفْهَامِ ثُمَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِيَدِهِ إِلَى فَرَسٍ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ. وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 73] الْآيَةَ لِهَذَا الْمَحْمَلِ نَظِيرُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ مَخَالِطٌ لِبَنِي جِنْسِهِ فَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ ائْتِمَانٍ أَوْ أَمَانَةٍ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُتَحَمِّلًا لِصِفَةِ الْأَمَانَةِ بِفِطْرَتِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْوَفَاءِ لِمَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا ضُيَّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» أَيْ إِذَا انْقَرَضَتِ الْأَمَانَةُ كَانَ انْقِرَاضُهَا عَلَامَةً عَلَى اخْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ الِاخْتِلَالَاتِ الْمُنْذِرَةِ بِدُنُوِّ السَّاعَةِ مِثْلَ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَانْكِدَارِ النُّجُومِ وَدَكِّ الْجِبَالِ. وَالَّذِي بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ حُذَيْفَةَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْأَخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ (¬1) ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ (¬2) كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفَطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمينا، وَيُقَال للرِّجَال: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَيْ مِنْ أَمَانَةٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ عَهْدُ اللَّهِ. ¬

(¬1) الوكت: الشية فِي الشَّيْء من غير لَونه. (¬2) المجل: نفاخة فِي الْجلد مُرْتَفعَة يكون مَا تحتهَا فَارغًا مثل مَا يَقع فِي أكف العملة بالفؤوس من ارتفاعات فِي الْجلد.

وَمعنى عرض هَذِه الْأَمَانَةِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ يَنْدَرِجُ فِي مَعْنَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَجْمَعُهَا الْعَقْلُ وَيُصَرِّفُهَا، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي أَخْلَاقِ الْعَقْلِ. وَالْقَوْلُ فِي حَمْلِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ عَلَى خِلَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ لِأَنَّ تِلْكَ الْخِلَافَةَ مَا هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لَهَا إِلَّا الْعَقْلُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] فَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ الْقِيَامُ بِحِفْظِ عُمْرَانِهَا وَوَضْعِ الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا اسْتَعَدَّتْ إِلَيْهِ غَرَائِزُهَا. وَبَقِيَّةُ الْأُمُورِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَمَانَةَ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهَا مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ حَقِيقَتَهَا الْمَعْلُومَةَ وَهِيَ الْحِفَاظُ عَلَى مَا عُهِدَ بِهِ وَرَعْيُهُ وَالْحِذَارُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهِ سَهْوًا أَوْ تَقْصِيرًا فَيُسَمَّى تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، أَوْ عَمْدًا فَيُسَمَّى خِيَانَةً وَخَيْسًا لِأَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِتَامِ السُّورَةِ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِوَصْفِ خِيَانَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَإِخْلَالِهِمْ بِالْعُهُودِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَاب: 15] وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: 23] . وَهَذَا الْمَحْمَلُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا أَقْرَبَ الْمَحَامِلِ بَعْدَهُ وَهُوَ أَن يكون هُوَ الْعَقْلَ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَخْلَاق فرع عَنهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مَحَلُّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وَالْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِهَا وَهُوَ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 73] الْخَ. وَمَعْنَاهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ السَّامِعَ خَبَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تحمل الْأَمَانَة يترقب مَعْرِفَةَ مَا كَانَ مِنْ حُسْنِ قِيَامِ الْإِنْسَانِ بِمَا حُمِّلَهُ وَتَحَمَّلَهُ وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ حَمْلَهُ الْأَمَانَةَ مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ. فَمَعْنَى كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أَنَّهُ قَصَّرَ فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا تَحَمَّلَهُ تقصيرا: بعضه عَن عَمْدٍ وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِوَصْفِ ظَلُومٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ تَفْرِيطٍ فِي الْأَخْذِ

بِأَسْبَابِ الْوَفَاءِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ جَهُولًا، فَظَلُومٌ مُبَالَغَةٌ فِي الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ جَهُولٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْلِ. وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ وَأُرِيدُ بِهِ هُنَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِتَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، وَهُوَ حَقُّ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ. وَالْجَهْلُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عِلْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِفَاءُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَوَاقِعِ الصَّوَابِ فِيمَا تَحَمَّلَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ هُوَ عَلَيْهِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ فَلَمْ يَفِ بِهَا إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ ظَلُومًا، أَيْ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ إِجْحَافٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْأَمَانَةِ أَيًّا كَانَ، وَجَهُولًا فِي عدم تَقْدِيره قَدْرِ إِضَاعَةِ الْأَمَانَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْمَرَاتِبِ فِي التَّبِعَةِ بِهَا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَلْتَئِمِ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُحَمَّلِ الْأَمَانَةَ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ فُطِرَ عَلَى تَحَمُّلِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي فِطْرَتِهِ، أَيْ فِي طَبْعِ الظُّلْمِ، وَالْجَهْلِ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَهُمَا مَا لَمْ يَعْصِمْهُ وَازِعُ الدِّينِ، فَكَانَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ أَنْ أَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَلَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ ضَمِيرَ إِنَّهُ عَائِدًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَتَجْعَلَ عُمُومَهُ مَخْصُوصًا بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرِ تَخْصِيصًا بِالْعَقْلِ لِظُهُورِ أَنَّ الظَّلُومَ الْجَهُولَ هُوَ الْكَافِرُ. أَوْ تَجْعَلُ فِي ضَمِيرِ إِنَّهُ اسْتِخْدَامًا بِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُ وَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] الْآيَةَ قَوْله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] الْآيَاتِ. وَفِي ذِكْرِ فَعْلِ كانَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ظُلْمَهُ وَجَهْلَهُ وَصْفَانِ مُتَأَصِّلَانِ فِيهِ لِأَنَّهُمَا الْغَالِبَانِ عَلَى أَفْرَادِهِ الْمُلَازِمَانِ لَهَا كَثْرَةً أَوْ قِلَّةً. فَصِيغَتَا الْمُبَالَغَةِ مَنْظُورٌ فِيهِمَا إِلَى الْكَثْرَةِ وَالشِّدَّةِ فِي أَكْثَرِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْحُكْمُ الَّذِي يُسَلَّطُ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْقَبَائِلِ يُرَاعَى فِيهِ الْغَالِبُ وَخَاصَّةً فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 73]

إِلَى قَوْلِهِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَاب: 73] فَقَدْ جَاءَ تَفْصِيلُهُ بِذِكْرِ فَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مضيع للأمانة وَالْآخر مُرَاعٍ لَهَا. وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ وَفَّوْا بِالْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا [الْأَحْزَاب: 15] وَقَالَ فِيهَا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: 23] وَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم: 54] وَقَالَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَة: 26، 27] . [73] [سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 73] لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَاب: 72] لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْنَافِ الْإِنْسَانِ. وَهَذِهِ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ الْمُسَمَّاةُ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا غَيْرَ مَرَّةٍ إِحْدَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فِي آلِ عِمْرَانَ [178] . وَالشَّاهِدُ الشَّائِعُ فِيهَا هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] وَعَادَةُ النُّحَاةِ وَعُلَمَاءِ الْبَيَانِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا فِي مَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ: وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا عَاقِبَةً لِحَمْلِ الْإِنْسَانِ الْأَمَانَةَ وَكَانَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَامُ التَّعْلِيلِ إِجْمَالٌ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الْأَحْزَاب: 72] كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، أَيْ فَكَانَ الْإِنْسَانُ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا ظَالِمًا جَاهِلًا، وَفَرِيقًا رَاشِدًا عَالِمًا. وَالْمَعْنَى: فَعَذَّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ وَبِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ، وَتَابَ عَلَى الْمُؤمنِينَ فغفر لَهُم مِنْ ذُنُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَفَّوْا بِالْأَمَانَةِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الْأَحْزَاب: 24] أَيْ كَمَا تَابَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَنْدَمُوا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْ نِفَاقِهِمْ فَيُخْلِصُوا الْإِيمَانَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَتُوبَ اللَّهُ وَكَانَ الظَّاهِرُ إِضْمَارَهُ لِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ

بِتِلْكَ التَّوْبَةِ لِمَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنَ الْعِنَايَةِ. وَذَكَرَ الْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الَّتِي شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شُمُولُهُ لِلنِّسَاءِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: حَلَّ بِبَنِي فُلَانٍ مَرَضٌ يُرِيدُونَ وَبِنِسَائِهِمْ. فَذِكْرُ النِّسَاءِ فِي الْآيَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَهُنَّ شَأْنًا كَانَ فِي حَوَادِثِ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ إِعَانَةٍ لِرِجَالِهِنَّ عَلَى كَيْدِ الْمُسْلِمِينَ وَبِعَكْسِ ذَلِكَ حَالُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِالْغُفْرَانِ وَمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الرَّحْمَةِ.

34- سورة سبأ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 34- سُورَةُ سَبَأٍ هَذَا اسْمُهَا الَّذِي اشْتُهِرَتْ بِهِ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَبَيْنَ الْقُرَّاءِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهَا فِي عَصْرِ النُّبُوءَةِ. وُوجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهِ أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ أَهْلِ سَبَأٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَحُكِيَ اتِّفَاقُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ آيَةَ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَلَعَلَّهُ بِنَاءٌ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُزِيَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا بِالْقُرْآنِ عِلْمًا كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ الْتِزَامِ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِهِمُ الَّذِي أَنْبَأَ عَنْهُ إِسْلَامُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ كَمَا نُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إلْخَ. وَلِابْنِ الْحِصَارِ أَنَّ سُورَةَ سَبَأٍ مَدَنِيَّةٌ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَرْوَةَ بن مسيّك الغطيفي الْمُرَادِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا سَبَأٌ؟» الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْحِصَارِ: هَاجَرَ فَرْوَةُ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ. وَقَالَ ابْنُ الْحِصَارِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «وَأُنْزِلَ» حِكَايَةً عَمَّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ قَبْلَ هِجْرَةِ فَرْوَةَ، أَيْ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي عِدَادِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ وَقَبْلَ سُورَةِ الزُّمَرِ كَمَا فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْجَعْبَرِيُّ كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيهَا: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا

أغراض هذه السورة

مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 90- 92] إِنَّهُمْ عَنَوْا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: 9] فَاقْتَضَى أَنَّ سُورَةَ سَبَأٍ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ خِلَافُ تَرْتِيبِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي يَعُدُّ الْإِسْرَاءَ مُتَمِّمَةَ الْخَمْسِينَ. وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً مَعْنِيًّا بِهِ هَذِهِ الْآيَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَّدَهُمْ بِذَلِكَ فِي مَوْعِظَةٍ أُخْرَى. وَعَدَدُ آيِهَا أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ فِي عَدِّ الْجُمْهُورِ، وَخَمْسٌ وَخَمْسُونَ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ إِبْطَالُ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَأَعْظَمُهَا إِشْرَاكُهُمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ فَابْتُدِئَ بِدَلِيلٍ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بالإلهية وَنفي الإلهية عَنْ أَصْنَامِهِمْ وَنَفْيِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ شُفَعَاءَ لِعُبَّادِهَا. ثُمَّ مَوْضُوعُ الْبَعْثِ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الْأَحْزَاب: 73] (الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ) قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَأَنَّ مُحَمَّدًا يَتَوَعَّدُنَا بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: 3] الْآيَةَ. وَعَلَيْهِ فَمَا قَبْلَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ: 1، 2] تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. وَإِثْبَاتُ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَمَا يُخْبِرُ بِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ وَمِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَإِثْبَاتُ صِدْقِ النَّبِيءِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَن الْقُرْآن شهد بِهِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ بِضُرُوبٍ مِنْ تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَتِهِمْ بِمَا حَلَّ بِبَعْضِ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلُ. وَعُرِّضَ بِأَنَّ جَعْلَهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ كُفْرَانٌ لِنِعْمَةِ الْخَالِقِ فَضَرَبَ لَهُمْ

[سورة سبإ (34) : آية 1]

الْمَثَلَ بِمَنْ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَاتَّقَوْهُ فَأُوتُوا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسُخِّرَتْ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ مِثْلُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَبِمَنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ الْأَرْزَاءُ فِي الدُّنْيَا وَأُعِدَّ لَهُمُ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ مَثْلُ سَبَأٍ، وَحُذِّرُوا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذُكِّرُوا بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأُنْذِرُوا بِمَا سَيَلْقَوْنَ يَوْمَ الْجَزَاءِ مِنْ خِزْيٍ وَتَكْذِيبٍ وَنَدَامَةٍ وَعَدَمِ النَّصِيرِ وَخُلُودٍ فِي الْعَذَابِ، وَبُشِّرَ الْمُؤْمِنُونَ بالنعيم الْمُقِيم. [سُورَة سبإ (34) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) أُفْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ تَتَضَمَّنُ مِنْ دَلَائِلِ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ مَا يَقْتَضِي إِنْشَاءَ الْحَمْدِ لَهُ وَالْإِخْبَارَ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ. فَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ هُنَا يَجُوزُ كَوْنُهَا إِخْبَارًا بِأَنَّ جِنْسَ الْحَمْدِ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لَامَ الْمِلْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ تَعْلِيمِ النَّاسِ أَنْ يَخُصُّوهُ بِالْحَمْدِ فَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَحْمَدُ اللَّهَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْقِيبِهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَهَذِهِ إِحْدَى سُوَرٍ خَمْسٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُنَّ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَدْ وُضِعَتْ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِهِ وَوَسَطِهِ، وَالرُّبُعِ الْأَخِيرِ، فَكَانَتْ أَرْبَاعُ الْقُرْآنِ مُفْتَتَحَةً بِالْحَمْدِ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ تَوْقِيفٍ. وَاقْتِضَاءُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذِهِ الصِّلَةَ صَالِحَةً لِتَكَوُنَ عِلَّةً لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ سَبَبَهُ إِيجَادُ تِلْكَ الْمَمْلُوكَاتِ وَذَلِكَ الْإِيجَادُ عَمَلٌ جَمِيلٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدُ، وَأَيْضًا هُوَ يَتَضَمَّنُ نِعَمًا جَمَّةً. وَهِيَ أَيْضًا تَقْتَضِي حَمْدَ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّ الْحَمْدَ يكون للفضائل وللفواضل فَمَا فِي السَّمَوَات فَإِنَّ مِنْهُ مَهَابِطَ أَنْوَارٍ حَقِيقِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ، فِيهَا هُدًى حِسِّيٌّ وَنَفْسَانِيٌّ، وَإِلَيْهِ مَعَارِجَ لِلنُّفُوسِ فِي مَرَاتِبِ

الْكَمَالَاتِ الَّتِي بِهَا اسْتِقَامَةُ السِّيَرِ، وَإِزَالَةُ الْغِيَرِ، وَنُزُولُ الْغُيُوثِ بِالْمَطَرِ. وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْهُ مَسَارِحُ أَنْظَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَمَنَابِتُ أَرْزَاقِ الْمُرْتَزَقِينَ، وَمَيَادِينُ نُفُوسِ السَّائِرِينَ. وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمِدُوا أَشْيَاءَ لَيْسَ لَهَا فِي هَذِهِ الْعَوَالِمِ أَدْنَى تَأْثِيرٍ وَلَا لَهَا بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ أَدْنَى شُعُورٍ، وَنَسُوا حَمْدَ مَالِكِهَا وَسَائِرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجُمْلَةُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ وَالَّذِي لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي هَذَا التَّحْمِيدِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ الْغَرَضِ مِنَ السُّورَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ لَا حَمْدَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لَهُ، فَلَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى حَمْدِ غَيْرِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ فِي عَالَمِ الْحَقِّ فَلَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الصُّوَرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنِ اقْتَضَتْ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرًا مَجَازِيًا لِلْمُبَالِغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَوَّرَةِ الْفَاتِحَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَمْدَ غَيْرِ اللَّهِ لِلِاعْتِدَادِ بِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأُرِيدَ إِفَادَةُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةً غُيَّرَتْ صِيغَةُ الْحَمْدِ الْمَأْلُوفَةِ إِلَى صِيغَةِ لَهُ الْحَمْدُ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِر: 16] ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ أَحَقُّ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ يَوْمَئِذٍ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ لَا يَلْتَبِسُ فِيهَا تَصَرُّفُ غَيْرِهِ بِتَصَرُّفِهِ. وَلَمَّا نِيطَ حَمْدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا اقْتَضَى مَرْجِعَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَدَ أَحْوَالَ النَّشْأَتَيْنِ هُوَ الْعَظِيمُ الْحِكْمَةِ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَأَسْرَارِهَا. فَالْحِكْمَةُ: إِتْقَانُ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَادِ وَضِدِّهِ، وَالْخِبْرَةُ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِأَوَائِلِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا. وَالْقَرْنُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَصْلِيٍّ وَمَعْنًى لُزُومِيٍّ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِلْحَكِيمِ أَنَّهُ مُتْقِنُ التَّصَرُّفِ وَالصُّنْعِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الْعَلِيمُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَظَوَاهِرِهَا بِالْأَوْلَى بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ

[سورة سبإ (34) : آية 2]

مِنْهَا، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّمَكُّنَ مِنْ تَصْرِيفِهَا، فَفِي التَّتْمِيمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ اسْتِحْمَاقُ الَّذِينَ أَقبلُوا فِي شؤونهم عَلَى آلِهَة بَاطِلَة. [2] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 2] يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ: 1] لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا ذَكَرَ هُنَا هُوَ الْعِلْمُ بِذَوَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا وَأَسْبَابِهَا وَعِلَلِهَا وَذَلِكَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَقْتَضِي الْعَمَلَ، وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ فِي مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَلِجُ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ دُونَ مَا يَدِبُّ عَلَى سَطْحِهَا، وَمَا يَنْزِلُ وَمَا يَعْرُجُ إِلَى السَّمَاءِ دُونَ مَا يَجُولُ فِي أَرْجَائِهَا لِأَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ دَابًّا وَجَائِلًا فِيهِمَا، وَالَّذِي يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا يَعْلَمُ مَا يَدِبُّ عَلَيْهَا وَمَا يَزْحَفُ فَوْقَهَا، وَالَّذِي يَعْلَمُ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَجْوَاءِ وَالْفَضَاءِ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَيَعْلَمُ سَيْرَ الْكَوَاكِبِ وَنِظَامَهَا. وَالْوُلُوجُ: الدُّخُولُ وَالسُّلُوكُ مثل ولوج مَاء الْمَطَرِ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ وَوُلُوجِ الزَّرِيعَةِ. وَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، النَّبَاتُ وَالْمَعَادِنُ وَالدَّوَابُّ الْمُسْتَكِنَّةُ فِي بُيُوتِهَا وَمَغَارَاتِهَا، وَشَمِلَ ذَلِكَ مَنْ يُقْبَرُونَ فِي الْأَرْضِ وَأَحْوَالَهُمْ. وَالَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ: الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ وَالرِّيَاحُ، وَالَّذِي يَعْرُجُ فِيهَا مَا يَتَصَاعَدُ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْبَحَرِيَّةِ وَمِنَ الْعَوَاصِفِ التُّرَابِيَّةِ، وَمِنَ الْعَنَاصِرِ الَّتِي تَتَبَخَّرُ فِي الطَّبَقَاتِ الْجَوِّيَّةِ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَمَا يَسْبَحُ فِي الْفَضَاءِ وَمَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، وَعُرُوجِ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْأَجْسَادِ قَالَ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4] . وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَتَيْ يَلِجُ ويَخْرُجُ أَوْضَحُ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ أَحْوَالِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ، وَأَنَّ كَلِمَتَيْ يَنْزِلُ ويَعْرُجُ أَوْضَحُ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ السَّمَاوِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اتِّصَالِهَا بِالسَّمَاءِ، مِنْ كَلِمَاتِ اللُّغَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الْمَوْضُوعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا دَلَالَةً مُطَابِقِيَّةً عَلَى

[سورة سبإ (34) : آية 3]

الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ وَدُونَ الْكِنَايَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفِ السَّمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى. وَقَدْ لَاحَ لِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ مِنَ الْإِنْشَاءِ مِثْلَ مَا اصْطَلَحَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِصَرَاحَةِ اللَّفْظِ. وَلِذَلِكَ أَلْحَقْتُهَا بِكِتَابِي «أَصُولُ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ» بَعْدَ تَفَرُّقِ نُسَخِهِ بِالطَّبْعِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ مَا فِي الْأَرْضِ أَعْمَالُ النَّاسِ وَأَحْوَالُهُمْ مِنْ عَقَائِدَ وَسِيَرٍ، وَمِمَّا يَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أَيِ الْوَاسِعُ الرَّحْمَةِ وَالْوَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ. وَهَذَا إِجْمَالٌ قُصِدَ مِنْهُ حَثُّ النَّاسِ عَلَى طَلَبِ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ الْمَرْغُوبِ فِيهِمَا، فَإِنَّ مَنْ رَغِبَ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ بَحَثَ عَنْ وَسَائِلِ تَحْصِيلِهِ وَسَعَى إِلَيْهَا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ يَتُوبُوا عَنِ الشِّرْكِ فَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا قَدَّمُوهُ. [3] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 3] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ. كَانَ ذِكْرُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُشْعِرًا بِحَالِ الْمَوْتَى عِنْدَ وُلُوجِهِمُ الْقُبُورَ وَعِنْدَ نَشْرِهِمْ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: 25، 26] وَقَالَ: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] ، وَكَانَ ذِكْرُ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا مُومِيًا إِلَى عُرُوجِ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْأَجْسَادِ وَنُزُولِ الْأَرْوَاحِ لِتُرَدَّ إِلَى الْأَجْسَادِ الَّتِي تُعَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [سبأ: 1] مُنَاسِبَةٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْحَشْرَ لِأَنَّ إِبْطَالَ زَعْمِهِمْ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ التَّخَلُّصُ بُقُولِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قَالُوا واعتراضية لِلِاسْتِطْرَادِ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ وَاوُ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ. وَلَمَّا لَمْ تُفِدْ إِلَّا التَّشْرِيكَ فِي الذِّكْرِ دُونَ الْحُكْمِ دَعَوْهَا بِالْوَاوِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ وَلَيْسَتْ هُنَا لِلْعَطْفِ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْمُنَاسَبَةُ مِنْ أَجْزَاءِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَكَانَتِ الثَّانِيَةُ اسْتِطْرَادًا وَاعْتِرَاضًا، وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَا قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ السُّورَةِ.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْمَوْصُولَ صَارَ كَالْعَلَمِ بالغلبة عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَتَعَارُفِ الْمُسْلِمِينَ. والسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَاعَةِ الْحَشْرِ. وَعَبَّرَ عَنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهَا بِانْتِفَاءِ إِتْيَانِهَا عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاقِعَةً لَأَتَتْ، لَأَنَّ وُقُوعَهَا هُوَ إِتْيَانُهَا. وَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ. وَلَقَدْ لَقَّنَ اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ الْكَافِرِينَ بِالْإِبْطَالِ الْمُؤَكَّدِ عَلَى عَادَةِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ لِتَبْلِيغِ الْعَقَائِدِ. وبَلى حَرْفُ جَوَابٍ مُخْتَصٌّ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ فَهُوَ حَرْفُ إِيجَابٍ لِمَا نَفَاهُ كَلَامٌ قَبْلَهُ وَهُوَ نَظِيرُ (بَلْ) أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْ (بَلْ) وَأَلِفٍ زَائِدَةٍ، أَوْ هِيَ أَلِفُ تَأْنِيثٍ لِمُجَرَّدِ تَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ مِثْلَ زِيَادَةِ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي ثَمَّةَ وَرُبَّةَ، لَكِنَّ بَلى حَرْفٌ يَخْتَصُّ بِإِيجَابِ النَّفْيِ فَلَا يَكُونُ عَاطِفًا وَ (بَلْ) يُجَابُ بِهِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ وَهُوَ عَاطِفٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَلى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [81] . وَأَكَّدَ مَا اقْتَضَاهُ بَلى مِنْ إِثْبَاتِ إِتْيَانِ السَّاعَةِ بِالْقَسَمِ عَلَى ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهَا آتِيَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِإِقْنَاعِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ يُرَوِّعُ السَّامِعِينَ الْمُكَذِّبِينَ. وَعُدِّيَ إِتْيَانُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ النَّاسِ دُونَ: لَتَأْتِيَنَّا، وَدُونَ أَنْ يُجَرَّدَ عَنِ التَّعْدِيَةِ لِمَفْعُولٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ إِتْيَانُ السَّاعَةِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ عِقَابُهُمْ كَمَا يُقَالُ: أَتَاكُم الْعَدُوُّ، وَأَتَاكَ أَتَاكَ اللَّاحِقُونَ، فَتَعَلُّقُهُ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ إِتْيَانِ مَكْرُوهٍ فِيهِ عَذَابٌ. وَفِعْلُ (أَتَى) يَرِدُ كَثِيرًا فِي مَعْنَى حُلُولِ الْمَكْرُوهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] وفَأَتاهُمُ الْعَذابُ [الزمر: 25] ويَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ [الْأَنْعَام: 158] ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فلتأتينك قصائد وليدفعن ... جَيْشًا إِلَيْكَ قَوَادِمُ الْأَكْوَارِ

وَقَوْلِهِ: أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَمِنْ هَذَا يَنْتَقِلُونَ إِلَى تَعْدِيَةِ فِعْلِ (أَتَى) بِحَرْفِ (عَلَى) فَيَقُولُونَ: أَتَى عَلَى كَذَا، إِذَا اسْتَأْصَلَهُ. وَيَكْثُرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ (جَاءَ) ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَكْرُوهِ نَحْوُ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يُونُس: 22] . عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. عالِمِ الْغَيْبِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ: 1] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالرَّفْعِ، وَصِفَةٌ لِ رَبِّي الْمُقْسَمِ بِهِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْجَرِّ وَقَدِ اقْتَضَتْ ذِكْرَهُ مُنَاسَبَةُ تَحْقِيقِ إِتْيَانِ السَّاعَةِ فَإِنَّ وَقْتَهَا وَأَحْوَالَهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ فِي عِلْمِ النَّاسِ. وَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ إِتْمَامٌ لِتُبَيِّنَ سَعَةَ عِلْمِهِ تَعَالَى فَبَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِالْكَائِنَاتِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا جَلِيلِهَا وَدَقِيقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أُتْبِعَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِمَا سَيَكُونُ أَنَّهُ يَكُونُ وَمَتَى يَكُونُ. وَالْغَيْبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] عَلَى مَعَانٍ ذُكِرَتْ هُنَالِكَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عالِمِ الْغَيْبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَبِرَفْعِ عالِمِ عَلَى الْقَطْعِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَخَلَفٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْضًا وَمَجْرُورًا عَلَى الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّي. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَلَّامِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَبِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ إِتْبَاعُ ذِكْرِ السَّاعَةِ بِذِكْرِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِعِلْمِهَا لِأَنَّ الْكَافِرِينَ بِهَا جَعَلُوا مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا دَلِيلًا سُفُسْطَائِيًّا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا الْقُرْآنُ الْوَاقِعَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: 1، 2] .

وَالْعُزُوبُ: الْخَفَاءُ. وَمَادَّتُهُ تَحُومُ حَوْلَ مَعَانِي الْبُعْدِ عَنِ النَّظَرِ وَفِي مُضَارِعِهِ ضَمُّ الْعَيْنِ وَكَسْرُهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الزَّايِ وَمَعْنَى لَا يَعْزُبُ عَنْهُ: لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [61] . وَتَقَدَّمَ مِثْقَالُ الْحَبَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [47] . وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: مِثْقالُ ذَرَّةٍ إِلَى تَقْرِيبِ إِمْكَانِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ أَحَالُوهُ بِعِلَّةِ أَنَّ الْأَجْسَادَ تَصِيرُ رُفَاتًا وَتُرَابًا فَلَا تُمْكِنُ إِعَادَتُهَا فَنُبِّهُوا إِلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِأَجْزَائِهَا. وَمَوَاقِعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَعِلْمُهُ بِهَا تَفْصِيلًا يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ عَلَى تسخيرها للتجمع وَإِلَّا تحاق كُلٍّ مِنْهَا بِعَدِيلِهِ حَتَّى تَلْتَئِمَ الْأَجْسَامُ مِنَ الذَّرَّاتِ الَّتِي كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْهَا فِي آخِرِ لَحَظَاتِ حَيَاتِهَا الَّتِي عَقِبَهَا الْمَوْتُ وَتَوَقَّفَ الْجَسَدُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ عَنِ اكْتِسَابِ أَجزَاء جَدِيدَة. فَإِن عَدَتِ الْأَرْضُ عَلَى أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْجَسَدِ وَمَزَّقَتْهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ كَانَ الله عَالما بمصير كل جُزْءٍ، فَإِنَّ الْكَائِنَاتِ لَا تَضْمَحِلُّ ذَرَّاتُهَا فَتُمْكِنُ إِعَادَةُ أَجْسَامٍ جَدِيدَةٍ تَنْبَثِقُ مِنْ ذَرَّاتِ الْأَجْسَامِ الْأُولَى وَتُنْفَخُ فِيهَا أَرْوَاحُهَا. فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْخِيرِهَا لِلِاجْتِمَاعِ بِقُوًى يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِجَمْعِ المتفرقات أَو بتسخير مَلَائِكَةٍ لِجَمْعِهَا مَنْ أَقَاصِي الْجِهَاتِ فِي الْأَرْضِ وَالْجَوِّ أَوِ السَّمَاءِ عَلَى حَسَبِ تَفَرُّقِهَا، أَوْ تَكُونُ ذَرَّاتٌ مِنْهَا صَالِحَةً لِأَنْ تَتَفَتَّقَ عَنْ أَجْسَامٍ كَمَا تَتَفَتَّقُ الْحَبَّةُ عَنْ عِرْقِ الشَّجَرَةِ، أَوْ بِخَلْقِ جَاذِبِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِجَذْبِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ يُصَوِّرُ مِنْهَا جَسَدَهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] ثُمَّ تَنْمُو تِلْكَ الْأَجْسَامُ سَرِيعًا فَتُصْبِحُ فِي صُوَرِ أُصُولِهَا الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ فِي سُورَة الْقَمَر [6، 7] ، وَقَوْلَهُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ فِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ [4] فَإِنَّ الْفَرَاشَ وَهُوَ فِرَاخُ الْجَرَادِ تَنْشَأُ مِنَ الْبَيْضِ مِثْلَ الدُّودِ ثُمَّ لَا تَلْبَثُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَصِيرَ جَرَادًا وَتَطِيرُ. وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ الْبَعْثَ نَشْأَةً لِأَنَّ فِيهِ إِنْشَاءً جَدِيدًا وَخَلْقًا مُعَادًا وَهُوَ تَصْوِيرُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ

[سورة سبإ (34) : آية 4]

بِالصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ مُلْتَئَمَةً بِهَا حِينَ الْمَوْتِ ثُمَّ إِرْجَاعُ رُوحِ كُلِّ جَسَدٍ إِلَيْهِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ بِمَا سُمِّيَ بِالنَّفْخِ فَقَالَ: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: 47] وَقَالَ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ [ق: 15، 16] الْآيَةَ. أَيْ فَذَلِكَ يُشْبِهُ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ وَتَسْوِيَتِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَذَلِكَ بَيَانٌ مُقْنِعٌ لِلْمُتَأَمِّلِ لَوْ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلتَّأَمُّلِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْعَنَاصِرِ وَالْقُوَى الدَّقِيقَةِ أَجْزَاؤُهَا الْجَلِيلَةِ آثَارُهَا، وَتَسْيِيرُهَا بِمَا يَشْمَلُ الْأَرْوَاحَ الَّتِي تَحِلُّ فِي الْأَجْسَامِ وَالْقُوَى الَّتِي تودعها فِيهَا. [4، 5] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 4] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) ، [سُورَة سبإ (34) : آيَة 5] وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) لَامُ التَّعْلِيلِ تَتَعَلَّقُ بِفعل لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] دُونَ تَقْيِيدِ الْإِتْيَانِ بِخُصُوصِ الْمُخَاطَبِينَ بل المُرَاد من شَمَلَهُمْ وَغَيْرَهُمْ لِأَنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْمُخَاطَبِينَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَتَأْتِيَنَّ السَّاعَةُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَضَمِيرُ «يَجْزِيَ» عَائِدٌ إِلَى عالِمِ الْغَيْبِ [سبأ: 3] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِيجَادِ السَّاعَةِ لِلْبَعْثِ وَالْحَشْرِ هِيَ جَزَاءُ الصَّالِحِينَ عَلَى صَلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَيْ جَزَاءً صَالِحًا مُمَاثِلًا، وَجَزَاءُ الْمُفْسِدِينَ جَزَاءً سَيِّئًا، وَعُلِمَ نَوْعُ الْجَزَاءِ مِنْ وَصْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِكُلِّ فَرِيقٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ. فَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ سَعَوْا عَطَفٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِيُجْزَى الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ سَعَوْا بِمَا يَلِيقُ بِكُلِّ فَرِيقٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَالَمَ الْإِنْسَانِ يَحْتَوِي عَلَى صَالِحِينَ مُتَفَاوِتٍ صَلَاحُهُمْ، وَفَاسِدِينَ مُتَفَاوِتٍ فَسَادُهُمْ، وَقَدِ انْتَفَعَ النَّاسُ بِصَلَاحِ الصَّالِحِينَ وَاسْتَضَرُّوا بِفَسَادِ الْمُفْسِدِينَ، وَرُبَّمَا عَطَّلَ هَؤُلَاءِ مَنَافِعَ أُولَئِكَ وَهَذَّبَ أُولَئِكَ مِنْ إِفْسَادِ هَؤُلَاءِ وَانْقَضَى كُلُّ فَرِيقٍ بِمَا عَمِلَ لَمْ يَلْقَ الْمُحْسِنُ جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ وَلَا الْمُفْسد جَزَاء على إِفْسَادِهِ، فَكَانَتْ حِكْمَةُ خَالِقِ النَّاسِ مُقْتَضِيَةً إِعْلَامَهُمْ بِمَا أَرَادَ مِنْهُمْ وَتَكْلِيفَهُمْ أَنْ يَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ صَلَاحًا، وَمُقْتَضِيَةً ادِّخَارَ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَاهَا إِحْضَارُ الْفَرِيقَيْنِ لِلْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَإِذْ قَدْ شُوهِدَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً يُقَارِنُهَا الْجَزَاءُ الْعَادِلُ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِحِكْمَةِ مُرْشِدِ الْحُكَمَاءِ تَعَالَى، فَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ السَّلِيمُ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا خَالق الْخلق بذلك على لِسَان رَسُولِهِ وَرُسُلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَافَقَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، وَبَطَلَ الدَّجْلُ وَالدَّخْلُ. وَجُعِلَ جَزَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا مَغْفِرَةً، أَيْ تَجَاوَزُوا عَنْ آثَامِهِمْ، وَرِزْقًا كَرِيمًا وَهُوَ مَا يُرْزَقُونَ مِنَ النَّعِيمِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي النَّعِيمِ وَابْتِدَاءِ مدَّته فَإِنَّهُم آئلون إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ. وَوُصِفَ بِالْكَرِيمِ، أَيِ النَّفِيسِ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَقُوبِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا لِأَنَّ السَّعْيَ فِي آيَاتِ اللَّهِ يُسَاوِي مَعْنَى كَفَرُوا بِهَا، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ عَمَلَ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ سَيِّئَةٌ مِنَ السَّيِّئَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ [سبأ: 7] الْخَ. وَمَعْنَى سَعَوْا فِي آياتِنا اجْتَهَدُوا بِالصَّدِّ عَنْهَا وَمُحَاوَلَةِ إِبْطَالِهَا، فَالسَّعْيُ مُسْتَعَارٌ لِلْجِدِّ فِي فِعْلٍ مَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [51] . وَآيَاتُ اللَّهِ هُنَا: الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ: 6] .

[سورة سبإ (34) : آية 6]

وَ (مُعاجِزِينَ) مُبَالَغَةٌ فِي مُعْجِزِينَ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ: شُبَّهَتْ حَالُهُمْ فِي مَكْرِهِمْ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا سَرِيعًا لِيَسْبِقَ غَيْرَهُ وَيُعْجِزَهُ. وَالْعَذَابُ: عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَالرِّجْزُ: أَسْوَأُ الْعَذَابِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [59] . ومِنْ بَيَانِيَّةٌ فَإِنَّ الْعَذَابَ نَفْسَهُ رِجْزٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُعاجِزِينَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ تَمْثِيلًا لِحَالِ ظَنِّهِمُ النَّجَاةَ وَالِانْفِلَاتَ مِنْ تَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالرِّسَالَةَ بِحَالِ مَنْ يُسَابِقُ غَيْرَهُ وَيُعَاجِزُهُ، أَيْ يُحَاوِلُ عَجْزَهُ عَنْ لِحَاقِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ مُعَجِّزِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ عَجَّزَ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَمَعْنَاهُ: مُثَبِّطِينَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ، أَوْ مُعَجِّزِينَ مَنْ آمَنَ بِآيَاتِ اللَّهِ بِالطَّعْنِ وَالْجِدَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلِيمٌ بِالْجَرِّ صِفَةً لِ رِجْزٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِ عَذابٌ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنى. [6] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 6] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) عَطْفٌ عَلَى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سبأ: 4] وَهُوَ مُقَابِلُ جَزَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ سَعَوْا فِي الْآيَاتِ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَدَلَ عَن جعل صلَة اسْمِ الْمَوْصُول كَفَرُوا [سبأ: 3] لِتَصْلُحَ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ بُطْلَانِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُمَهَّدَ لِإِبْطَالِهِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ بَاطِلِ أَهْلِ الشِّرْكِ الْجَاهِلِينَ، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ عَطْفِ الْأَغْرَاضِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي إِبْطَالِ شُبَهِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ بِأَنْ يُقَدِّمَ قبل ذكر الشُّبْهَة مَا يُقَابِلُهَا مِنْ إِبْطَالِهَا، وَرُبَّمَا سَلَكَ أَهْلُ الْجَدَلِ طَرِيقَةً أُخْرَى هِيَ تَقْدِيم الشُّبْهَة ثُمَّ الْكُرُورِ عَلَيْهَا

بِالْإِبْطَالِ وَهِيَ طَرِيقَةُ عَضُدِ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَوَاقِفُ» ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا يَحْكِي انْتِقَادَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ طَرِيقَتَهُ فَلذَلِك خالفها التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدُ» . وَالْحَقُّ أَنَّ الطَّرِيقَتَيْنِ جَادَّتَانِ وَقَدْ سُلِكَتَا فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ [سبأ: 5] فَبَعْدَ أَنْ أُورِدَتْ جُمْلَةُ وَالَّذِينَ سَعَوْا لِمُقَابَلَةِ جُمْلَةِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سبأ: 4] الَخْ اعْتُبِرَتْ مَقْصُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَكَانَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى رَدِّ مَضْمُونِهَا بِجُمْلَةِ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ سَعَوْا فِي الْآيَاتِ أَهْلُ جَهَالَةٍ فَيَكُونُ ذِكْرُهَا بَعْدَهَا تَعْقِيبًا لِلشُّبْهَةِ بِمَا يُبْطِلُهَا وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ. وَاخْتِيرَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ هُنَا دُونَ (وَيَعْلَمُ) لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالْمَرْئِيَّاتِ الَّتِي عِلْمُهَا ضَرُورِيٌّ، وَمَفْعُولَا (يَرَى) الَّذِي أُنْزِلَ والْحَقَّ. وَضَمِيرُ هُوَ فَصْلٌ يُفِيدُ حَصْرَ الْحَقِّ فِي الْقُرْآنِ حَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ لَا مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِمَّا يُعَارِضُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا، أَيْ قَصْرُ الْحَقِّيَةِ الْمَحْضِ عَلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ خُلِطَ حَقُّهَا بِبَاطِلٍ. والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الرُّهْبَانِ وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَة: 83] ، فَهَذَا تَحَدٍّ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ احتجاجا بِأَهْل الْكتاب لأَنهم لم يعلنوا بِهِ وَلَا آمن أَكْثَرهم، أَو هُوَ احْتِجَاجٌ بِسُكُوتِهِمْ عَلَى إِبْطَالِهِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِبَشَائِرِ رُسُلِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ بِهِ فَعَانَدَ أَكْثَرُهُمْ حِينَئِذٍ تَبَعًا لِعَامَّتِهِمْ. وَبِهَذَا تَتَبَيَّنُ أَنَّ إِرَادَةَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ مَكِّيَّاتِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَنْ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْقُرْآنَ. وَفِيهِ عِلْمٌ عَظِيمٌ هُمْ عَالِمُوهُ عَلَى تَفَاضُلِهِمْ فِي فَهْمِهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ، فَقَدْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَكُونُ فَظًّا غَلِيظًا حَتَّى إِذَا أَسْلَمَ رَقَّ قَلْبُهُ وَامْتَلَأَ صَدْرُهُ بِالْحِكْمَةِ وَانْشَرَحَ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَاهْتَدَى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَأَوَّلُ مِثَالٍ لِهَؤُلَاءِ وَأَشْهُرُهُ وَأَفْضَلُهُ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْبَوْنِ الْبَعِيدِ بَيْنَ حَالَتَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَهَذَا مَا أَعْرَبَ عَنْهُ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ خَالِطًا فِيهِ الْجَدَّ بِالْهَزْلِ: وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا لَقُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْوَارُ النُّبُوءَةِ فَمَلَأَتْهُمْ حِكْمَةً وَتَقْوَى. وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ: «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا» . وَبِفَضْلِ ذَلِكَ سَاسُوا الْأُمَّةَ وَافْتَتَحُوا الْمَمَالِكَ وَأَقَامُوا الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ مُسْلِمِهِمْ وَذِمِّيِّهِمْ وَمُعَاهِدِهِمْ وَمَلَأُوا أَعْيُنَ مُلُوكِ الْأَرْضِ مَهَابَةً. وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ حُمِلَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [54] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [56] . وَجُمْلَةُ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فِي مَوْضِعِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ يَرَى. وَالْمَعْنَى: يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هَادِيًا إِلَى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي فِيهِ مَادَّةُ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِمَّا مُشْتَقٌّ أَوْ هُوَ أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْوَصْفِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِشْعَارِهَا بِتَجَدُّدِ الْهِدَايَةِ وَتَكَرُّرِهَا. وَإِيثَارُ وَصْفَيْ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هُنَا دُونَ بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَقُّ وَالْهِدَايَةُ اسْتَشْعَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ أَنَّهُ صِرَاطٌ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْعِزَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: 8] ، وَيَبْلُغُ إِلَى الْحَمْدِ، أَيِ الْخِصَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَمْدِ، وَهِيَ الْكَمَالَاتُ مِنَ الْفَضَائِل والفواضل.

[سورة سبإ (34) : الآيات 7 إلى 8]

[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 7 إِلَى 8] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) انْتِقَالٌ إِلَى قَوْلَةٍ أُخْرَى مِنْ شَنَاعَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ مَعْطُوفَةٍ عَلَى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: 3] . وَهَذَا الْقَوْلُ قَائِمٌ مَقَامَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ دَعْوَى وَقَوْلُهُمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مُسْتَنَدُ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَلِذَلِكَ حُكِيَ بِمِثْلِ الْأُسْلُوبِ الَّذِي حُكِيَتْ بِهِ الدَّعْوَى فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَأَدْمَجُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ التَّعْجِيبَ مِنَ الَّذِي يَأْتِي بِنَقِيضِ دَلِيلِهِمْ، ثُمَّ إِرْدَافُ ذَلِكَ التَّعْجِيبِ بِالطَّعْنِ فِي الْمُتَعَجَّبِ بِهِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ الِاعْتِبَارُ بِشَنَاعَةِ الْقَوْلِ، وَلَا غَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَقُولِ لَهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ هَذَا تَقَاوُلًا بَيْنَهُمْ، أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لبَعض، أَو يَقُوله كُبَرَاؤُهُمْ لِعَامَّتِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ لِلْوَارِدِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ. وَهَذَا الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ نَدُلُّكُمْ مِنْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] وَهُوَ عَرْضٌ مكنّى بِهِ عَن التَّعْجِيبِ، أَيْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى أُعْجُوبَةٍ مِنْ رَجُلٍ يُنْبِئُكُمْ بِهَذَا النَّبَأِ الْمُحَالِ. وَالْمَعْنَى: تَسْمَعُونَ مِنْهُ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ فَتَعْرِفُوا عُذْرَنَا فِي مُنَاصَبَتِهِ الْعَدَاءَ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ هَيَّأُوا مَا يَكُونُ جَوَابًا لِلَّذِينَ يَرِدُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ خَبَرِ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِيهِمْ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ، وَعَنِ الْوَحْيِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِذْ قَالَ لِقُرَيْشٍ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَأَنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأَيًا نَقُولُ بِهِ. قَالَ:

بَلْ أَنْتُمْ قُولُوا أَسْمَعْ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا بِسَجْعِهِ. قَالُوا: فَنَقُولُ مَجْنُونٌ؟ قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنَقِهِ وَلَا تَخَلُّجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ؟ قَالَ: لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ، فَقَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ؟ قَالَ: مَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عَقْدِهِ، قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: إِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ، جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ. فَلَعَلَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْوَارِدِينَ عَلَى مَكَّةَ بِهَاتِهِ الْمَقَالَةِ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ طَمَعًا مِنْهُمْ بِأَنَّهَا تَصْرِفُ النَّاسَ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّعْوَةِ تَلَبُّسًا بِاسْتِحَالَةِ هَذَا الْخَلْقِ الْجَدِيدِ. وَيُرَجِّحُ ذَلِكَ إِتْمَامُهَا بِالِاسْتِفْهَامِ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ التَّقَاوُلُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِ رَجُلٍ مُنَكَّرٍ مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ وَعَنْ أَهْلِ بَلَدِهِمْ، قَصَدُوا مِنْ تَنْكِيرِهِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ تَجَاهُلًا مِنْهُمْ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ «كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ مَا» . وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ مُوَجَّهًا إِلَى الْوَارِدِينَ مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، كَانَ التَّعْبِيرُ بِ رَجُلٍ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْوَارِدِينَ لَا يَعْرِفُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا دَعْوَتَهُ فَيَكُونُ كَقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ (قَبْلَ إِسْلَامِهِ) لِأَخِيهِ «اذْهَبْ فَاسْتَعْلِمْ لَنَا خَبَرَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيءٌ» . وَمَعْنَى: نَدُلُّكُمْ نُعَرِّفُكُمْ وَنُرْشِدُكُمْ. وَأَصْلُ الدَّلَالَةِ الْإِرْشَادُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى مَكَانٍ مَطْلُوبٍ. وَغَالِبُ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ إِرْشَادُ مَنْ يَطْلُبُ مَعْرِفَةً، وَبِذَلِكَ فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُونَهُ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ خَبَرِ رَجُلٍ ظَهَرَ بَيْنَهُمْ يَدَّعِي النُّبُوءَةَ فَيَقُولُونَ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَزْعُمُ كَذَا، أَيْ لَيْسَ بِنَبِيءٍ بَلْ مُفْتَرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، فَمَوْرِدُ الِاسْتِفْهَامِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ: إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أَيْ هَلْ

تُرِيدُونَ أَنْ نَدُلَّكُمْ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، أَيْ وَلَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ نَبِيءٌ بَلْ هُوَ: إِمَّا كَاذِبٌ أَوْ غَيْرُ عَاقِلٍ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَعَظَمَةُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَهُمْ عَظَمَةُ إِقْدَامِ قَائِلِهِ عَلَى ادِّعَاءِ وُقُوعِ مَا يَرَوْنَهُ مُحَالَ الْوُقُوعِ. وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هِيَ الْمُنَبَّأُ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْبَاءُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ صَحَّ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا هُوَ من قَول المنبّىء. فَالتَّقْدِيرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: يَقُولُ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ دُونَ الْمَفْتُوحَةِ لِمُرَاعَاةِ حِكَايَة القَوْل. وَهَذَا حِكَايَةِ مَا نَبَّأَ بِهِ لِأَنَّ الْمُنَبِّئَ إِنَّمَا نَبَّأَ بِأَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَأَمَّا شِبْهُ الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَلَيْسَ مِمَّا نَبَّأَ بِهِ الرَّجُلُ وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِرَاضٌ فِي كَلَامِ الْحَاكِينَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا يَقُولُهُ هَذَا الرَّجُلُ عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ لِإِثْبَاتِ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ لِكُلِّ الْأَمْوَاتِ. وَلَيْسَ إِذا بِمُفِيدٍ شَرْطًا لِلْخَلْقِ الْجَدِيدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ لِلْخَلْقِ الْجَدِيدِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الْبِلَى، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَكُونُ الْبِلَى حَائِلًا دُونَ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ الْمُنَبَّأِ بِهِ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَتَقَرَّرَ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ لِأَنَّهُ مَنَاطُ الْإِحَالَةِ فِي زَعْمِهِمْ، فَإِنَّ إِعَادَةَ الْحَيَاةِ لِلْأَمْوَاتِ تَكُونُ بَعْدَ انْعِدَامِ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ، وَتَكون بعد تفرقها تَفَرُّقًا قَرِيبًا مِنَ الْعَدَمِ، وَتَكُونُ بَعْدَ تَفَرُّقٍ مَا، وَتَكُونُ مَعَ بَقَاءِ الْأَجْسَادِ عَلَى حَالِهَا بَقَاءً مُتَفَاوِتًا فِي الصَّلَابَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَهُمْ أَنْكَرُوا إِعَادَةَ الْحَيَاةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوا فِي كَلَامِهِمِ الْإِعَادَةَ بَعْدَ التَّمَزُّقِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، أَيْ بَعْدَ اضْمِحْلَالِ الْأَجْسَادِ أَوْ تَفَرُّقِهَا الشَّدِيدِ، لِقُوَّةِ اسْتِحَالَةِ إِرْجَاعِ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا بَعْدَئِذٍ. وَالتَّمْزِيقُ: تَفْكِيكُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَلَاصِقَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بِحَيْثُ تَصِيرُ قِطَعًا مُتَبَاعِدَةً. وَالْمُمَزَّقُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِمَزَّقَهُ مِثْلَ الْمُسَرَّحِ لِلتَّسْرِيحِ. وكُلَّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 97] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ........ وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْخَلْقُ الْجَدِيدُ: الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْوُجُودِ، أَيْ فِي خَلْقٍ غَيْرِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَبْلَاهُ الزَّمَانُ، فَجَدِيدٌ فَعِيلٌ مِنْ جَدَّ بِمَعْنَى قَطَعَ. فَأَصْلُ مَعْنَى جَدِيدٍ مَقْطُوعٌ، وَأَصْلُهُ وَصْفٌ لِلثَّوْبِ الَّذِي يَنْسِجُهُ النَّاسِجُ فَإِذَا أَتَمَّهُ قَطَعَهُ مِنَ الْمِنْوَالِ. أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ بِحِدْثَانِ قَطْعِهِ فَصَارَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ لِبْسِهِ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ الْجَدِيدُ وَصْفًا بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْعَهْدِ، وَتُنُوسِيَ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ مِنْهُ فَصَارَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَيُقَالُ: جَدَّ الثَّوْبُ بِالرَّقْعِ، بِمَعْنَى: كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِنَسْجٍ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ (جَدَّ) اللَّازِمِ مُطَاوِعًا لِ (جَدَّهُ) الْمُتَعَدِّي كَمَا كَانَ (جَبَرَ الْعَظْمُ) مُطَاوِعًا لِ (جَبَرَ) كَمَا فِي قَوْلِ الْعَجَّاجِ: قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجَبَرَ وَبِهَذَا يَحِقُّ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا جَدِيدًا فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ بِأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَعْتِبَارَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَلْحَفَةٌ جَدِيدٌ كَمَا قَالَ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الْأَعْرَاف: 56] . وَوَصْفُ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْجِنْسِ يَكُونُ قَدِيمًا فَهُوَ إِذَنْ بِمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ جَدِيدًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَوُصِفَ بِالْجَدِيدِ لِيَتَمَحَّضَ لِأَحَدِ احْتِمَالَيْهِ، وَالظَّرْفِيَّةُ من قَوْله: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مَجَازِيَّةٌ فِي قُوَّةِ التَّلَبُّسِ بِالْخَلْقِ الْجَدِيدِ تَلَبُّسًا كَتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ. وَجُمْلَةُ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ ثَانِيَةٍ لِ رَجُلٍ أَتَوْا بِهَا اسْتِفْهَامِيَّةً لِتَشْرِيَكِ الْمُخَاطَبِينَ مَعَهُمْ فِي تَرْدِيدِ الرَّجُلِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. وَحُذِفَتْ هَمْزَةُ فِعْلِ أَفْتَرى لِأَنَّهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ فَسَقَطَتْ لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وُصِلَتْ بِالْفِعْلِ فَسَقَطَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ فِي الدَّرَجِ. وَجَعَلُوا حَالَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِرًا بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْجُنُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا قَالَهُ مِنَ الْبَعْثِ قَالَهُ عَنْ عَمْدٍ وَسَلَامَةِ عَقْلٍ فَهُوَ فِي زَعْمِهِمْ مُفْتَرٍ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ

ذَلِكَ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ لِأَنَّهُ مُحَالٌ فِي نَظَرِهِمُ الْقَاصِرِ، وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بِلِسَانِهِ لِإِمْلَاءِ عَقْلٍ مُخْتَلٍّ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَكَلَامُ الْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالِافْتِرَاءِ. وَإِنَّمَا رَدَّدُوا حَالَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ تَلَقِّي وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِقِسْمٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَهِّمًا أَوْ غَالِطًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجَاحِظُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِرَأْيِهِ فِي أَنَّ الْكَلَامَ يَصِفُهُ الْعَرَبُ بِالصِّدْقِ إِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ لِذَلِكَ، وَبِالْكَذِبِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ وَلَا لِلِاعْتِقَادِ، وَمَا سِوَى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ لَا يُوصَفُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ بَلْ هُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُ الْوَاقِعَ وَيُوَافِقُ اعْتِقَادَ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ يُخَالِفُ الِاعْتِقَادَ الْوَاقِعَ أَوْ يُخَالِفُهُمَا مَعًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ اعْتِقَادٌ، وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ الْأَخِيرِ كَلَامُ الْمَجْنُونِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا لَهُ لِأَنَّهَا حَكَتْ كَلَامَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَقَامِ تَمْوِيهِهِمْ وَضَلَالِهِمْ أَوْ تَضْلِيلِهِمْ فَهُوَ من السفسطة، ثُمَّ إِنَّ الِافْتِرَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْكَذِبِ لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ كَانَ عَنْ عَمْدٍ فَمُقَابَلَتُهُ بِالْجُنُونِ لَا تَقْتَضِي أَنَّ كَلَامَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ مِنَ الْكَذِبِ بَلْ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الِافْتِرَاءِ. وَالِافْتِرَاءُ: الِاخْتِلَاقُ وَإِيجَادُ خَبَرٍ لَا مُخْبِرَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] . وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ اسْتِدْلَالَهُمْ بِمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ أَوْ مُضِلُّونَ، وَوَاهِمُونَ أَوْ مُوهِمُونَ فَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِحَذَافِرِهِ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ، ثُمَّ بِجُمْلَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ. فَقَابَلَ مَا وَصَفُوا بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفَيْنِ: أَنَّهُمْ فِي الْعَذَابِ وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِأَنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ فِي الضَّلالِ الْبَعِيدِ وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ: بِهِ جِنَّةٌ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إِدْمَاجًا لِتَهْدِيدِهِمْ. والضَّلالِ: خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوصِّلِ إِلَى الْمَقْصُودِ. والْبَعِيدِ وُصِفَ بِهِ الضَّلَالُ

[سورة سبإ (34) : آية 9]

بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَصْفًا لِطَرِيقِ الضَّالِّ، فَإِسْنَادُ وَصْفِهِ إِلَى الضَّلَالِ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ صِفَةُ مَكَانِ الضَّلَالِ وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي حَادَ عَنِ الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، لِأَنَّ الضَّالَّ كُلَّمَا تَوَغَّلَ مَسَافَةً فِي الطَّرِيقِ الْمَضْلُولِ فِيهِ ازْدَادَ بُعْدًا عَنِ الْمَقْصُودِ فَاشْتَدَّ ضَلَالُهُ، وَعَسُرَ خَلَاصُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ. وَقَوْلُهُ: فِي الْعَذابِ إِدْمَاجٌ يَصِفُ بِهِ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ وَصْفِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَالظَّرْفِيَّةُ بِمَعْنَى الْإِعْدَادِ لَهُمْ فَحَصَلَ فِي حَرْفِ الظَّرْفِيَّة مجازان إِذا جُعِلَ الْعَذَابُ وَالضَّلَالُ لِتَلَازُمِهِمَا كَأَنَّهُمَا حَاصِلَانِ مَعًا، فَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَوْضُوعِ لِلْوَاقِعِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيق وُقُوعه. [9] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 9] أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى قَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ [سبأ: 8] الَخْ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَهْدِيَهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا حَقَّ التَّأَمُّل. والاستفهام للتعجيب الَّذِي يُخَالِطُهُ إِنْكَارٌ عَلَى انْتِفَاءِ تَأَمُّلِهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ عَدَمٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَجْدِيدِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْعَدَمِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ إِلى. فَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ انْتِفَائِهَا مِنْهُمُ انْتِفَاءُ آثَارِهَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْكَائِنَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، فَشَبَّهَ وُجُودَ الرُّؤْيَةِ بِعَدَمِهَا وَاسْتُعِيرَ لَهُ حَرْفُ النَّفْيِ. وَالْمَقْصُودُ: حَثُّهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ لِيَتَدَارَكُوا عِلْمَهُمْ بِمَا أَهْمَلُوهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ [الرّوم: 8] .

وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا يَسْتَقْبِلُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْكَائِنَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَبِ مَا خَلْفَهُمْ مَا هُوَ وَرَاءُ كل أحد مِنْهُم، فَإِنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَنَظَرُوا إِلَيْهِ بِأَنْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا وَرَاءَهُمْ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَنْظُرُوا النِّصْفَ الشَّمَالِيَّ مِنَ الْكُرَةِ السَّمَاوِيَّةِ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ يَنْظُرُوا النِّصْفَ الْجَنُوبِيَّ مِنْهَا فَيَرَوْا كَوَاكِبَ سَاطِعَةً بَعْضُهَا طَالِعٌ مِنْ مَشْرِقِهِ وَبَعْضُهَا هَاوٍ إِلَى مَغْرِبِهِ وَقَمَرًا مُخْتَلِفَ الْأَشْكَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَيَّامِ، وَفِي النَّهَارِ بِأَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الشَّمْسِ بَازِغَةً وَآفِلَةً، وَمَا يُقَارِنُ ذَلِكَ مِنْ إِسْفَارٍ وَأَصِيلٍ وَشَفَقٍ. وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى جِبَالِ الْأَرْضِ وَبِحَارِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالسَّمَاء وَالْأَرْضِ أُطْلِقَتَا عَلَى مَحْوِيَّاتِهِمَا كَمَا أُطْلِقَتِ الْقَرْيَةُ عَلَى أَهْلِهَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] . وَجُمْلَةُ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ اعْتِرَاضٌ بِالتَّهْدِيدِ فَمُنَاسَبَةُ التَّعَجِيبِ الْإِنْكَارِيِّ بِمَا يُذَكِّرُهُمْ بِقُدْرَةِ صَانِعِ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ الْعَظِيمَةِ عَلَى عِقَابِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ وَالَّذِينَ ضَيَّقُوا وَاسِعَ قُدْرَتِهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَخْطُرُ فِي عُقُولِهِمْ ذِكْرُ الْأُمَمِ الَّتِي أَصَابَهَا عِقَابٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْأَرْضِيَّةِ كَالْخَسْفِ أَوِ السَّمَاوِيَّةِ كَإِسْقَاطِ كِسَفٍ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ مِثْلَ مَا أَصَابَ قَارُونَ مِنَ الْخَسْفِ وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الْأَيْكَةِ مِنْ سُقُوطِ الْكِسَفِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ «نَخْسِبِّهِمُ» بِإِدْغَامِ الْفَاءِ فِي الْبَاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَاءَ أَضْعَفُ فِي الصَّوْتِ مِنَ الْفَاءِ فَلَا تُدْغَمُ الْفَاءُ فِي الْبَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ تُدْغَمُ فِي الْفَاءِ كَقَوْلِكَ: اضْرِبْ فُلَانًا، وَهَذَا كَمَا تُدْغَمُ الْبَاءُ فِي الْمِيمِ كَقَوْلِكَ: اضْرِبْ مَالِكًا، وَلَا تُدْغَمُ الْمِيمُ فِي الْبَاءِ كَقَوْلِكَ: اضْمُمْ بَكْرًا، لِأَنَّ الْبَاءَ انْحَطَّتْ عَنِ الْمِيم بفقد الغثة الَّتِي فِي الْمِيمِ، وَهَذَا رَدٌّ لِلرِّوَايَةِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ غَصْبٌ. وَالْكِسْفُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 11]

الشَّيْءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [92] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَخْسِفْ ونُسْقِطْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ مَقَامِ التَّكَلُّمِ إِلَى مَقَامِ الْغَيْبَةِ، وَمُعَادُ الضَّمِيرَيْنِ مَعْرُوفٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ تَعْلِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ الْإِنْكَارِيِّ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِ بِشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَذْيِيلًا. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مِنَ الْكَائِنَاتِ فِيهِمَا. وَالْآيَةُ: الدَّلِيلُ وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، فَالْمُفْرَدُ الْمُعَرَّفُ مُسَاوٍ لِلْجَمْعِ، أَيْ لَآيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَالْمُنِيبُ: الرَّاجِعُ بِفِكْرِهِ إِلَى الْبَحْثِ عَمَّا فِيهِ كَمَالُهُ النَّفْسَانِيُّ وَحُسْنُ مَصِيرِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ يُقَدِّرُ الْمَوَاعِظَ حَقَّ قَدْرِهَا وَيَتَلَقَّاهَا بِالشَّكِّ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وُعِظَ مِنْ أَجْلِهَا فَيُعَاوِدُ النَّظَرَ حَتَّى يَهْتَدِيَ وَلَا يَرْفُضَ نُصْحَ النَّاصِحِينَ وإرشاد المرشدين مرتديا بِرِدَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ فَهُوَ لَا يَخْلُو مِنَ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الْمُنِيبِينَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَ رسولهم. [10، 11] [سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 10 إِلَى 11] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِلَى ذِكْرِ دَاوُدَ خَفِيَّةٌ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ احْتِجَاجًا عَلَى مَا مَنَحَ مُحَمَّدًا، أَيْ لَا تَسْتَبْعِدُوا هَذَا فَقَدَ تَفَضَّلْنَا عَلَى عَبِيدِنَا قَدِيمًا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [سبأ: 9] لِأَنَّ الْمُنِيبَ لَا يَخْلُو مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعْثِ وَمِنْ عِقَابِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ اهـ. فَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا لِأَنَّهُ كَالتَّخَلُّصِ مِنْهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُنِيبِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17] هـ. يُرِيدُ الطِّيبِيُّ أَنَّ دَاوُدَ مِنْ أَشْهَرِ الْمُثُلِ فِي الْمُنِيبِينَ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ مِنِ انْقِلَابِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاعِيًا غَلِيظًا إِلَى أَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ نَبِيئًا وَمَلِكًا صَالِحًا مُصْلِحًا لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَهُوَ مَثَلُ الْمُنِيبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَقَالَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] ، فَلِإِنَابَتِهِ وَتَأْوِيبِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَارَكَهُ وَبَارَكَ نَسْلَهُ. وَفِي ذِكْرِ فَضْلِهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُنِيبِينَ تَعْرِيضًا بِضِدِّ ذَلِكَ لِلَّذِينِ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ بَعْدَ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَضِيقِ حَاله مِنْهُم سيؤول شَأْنُهُ إِلَى عِزَّةٍ عَظِيمَةٍ وَتَأْسِيسِ مُلْكِ أُمَّةٍ عَظِيمَةٍ كَمَا آلَتْ حَالُ دَاوُدَ، وَذَلِكَ الْإِيمَاءُ أَوْضَحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ ص [17] . وَسَمَّى الطِّيبِيُّ هَذَا الِانْتِقَالَ إِلَى ذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ تَخَلُّصًا، وَالْوَجْهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اسْتِطْرَادًا أَوِ اعْتِرَاضًا وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَسَبَأٍ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ إِبْطَالَ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] . وَتَقْدِيم التَّعْرِيفُ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [163] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [84] . وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَّا ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ آتَيْنا، أَيْ مِنْ لَدُنَّا وَمِنْ عِنْدِنَا، وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ لِلْفَضْلِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [الْقَصَص: 57] . وَتَنْكِيرُ فَضْلًا لِتَعْظِيمِهِ وَهُوَ فَضْلُ النُّبُوءَةِ وَفَضْلُ الْمُلْكِ، وَفَضْلُ الْعِنَايَةِ بِإِصْلَاحِ الْأُمَّةِ، وَفَضْلُ الْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ، وَفَضْلُ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ، وَفَضْلُ سَعَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَفَضْلُ إِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ بِمَا أُلْهِمَهُ مِنْ صُنْعِ دُرُوعِ

الْحَدِيدِ، وَفَضْلُ إِيتَائِهِ الزَّبُورَ، وَإِيتَائِهِ حُسْنَ الصَّوْتِ، وَطُولَ الْعُمْرِ فِي الصَّلَاحِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٌ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ، وَفِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجُمْلَةِ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا. وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نُظِمَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ الْفَخَامَةِ وَجَلَالَةِ الْخَالِقِ وَعِظَمِ شَأْنِ دَاوُدَ مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي وَإِيجَازِ الْأَلْفَاظِ وَإِفَادَةِ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ بِالْوَاوِ دُونَ مَا لَوْ كَانَتْ حَرْفَ عَطْفٍ. وَالْأَمْرُ فِي أَوِّبِي مَعَهُ أَمْرُ تَكْوِينٍ وَتَسْخِيرٍ. وَالتَّأْوِيبُ: التَّرْجِيعُ، أَيْ تَرْجِيعُ الصَّوْتِ، وَقِيلَ: التَّأْوِيبُ بِمَعْنَى التَّسْبِيحِ لُغَةٌ حَبَشِيَّةٌ فَهُوَ مِنَ المعرب فِي اللُّغَة الْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ مَعَ دَاوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. والطَّيْرَ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُنَادَى لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ الْمُعَرَّفَ عَلَى الْمُنَادَى يَجُوزُ نَصْبُهُ وَرَفْعُهُ، وَالنَّصْبُ أَرْجَحُ عِنْدَ يُونُسَ وَأَبِي عَمْرٍو وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ وَالْجَرْمِيِّ وَهُوَ أوجه، وَيجوز أَنْ يَكُونَ وَالطَّيْرَ مَفْعُولًا مَعَهُ لِ أَوِّبِي. وَالتَّقْدِيرُ: أَوِّبِي مَعَهُ وَمَعَ الطَّيْرِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الطَّيْرَ تَأَوَّبَ مَعَهُ أَيْضًا. وَإِلَانَةُ الْحَدِيدِ: تَسْخِيرُهُ لِأَصَابِعِهِ حِينَمَا يَلْوِي حَلَقِ الدُّرُوعِ وَيَغْمِزُ الْمَسَامِيرَ. وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي أَلَنَّا لَهُ مِنْ مَعْنَى: أَشْعَرْنَاهُ بِتَسْخِيرِ الْحَدِيدِ لِيُقْدِمَ عَلَى صُنْعِهِ فَكَانَ فِي أَلَنَّا مَعْنَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ. والْحَدِيدَ تُرَابٌ مَعْدِنِيٌّ إِذَا صُهِرَ بِالنَّارِ امْتَزَجَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَانَ وَأُمْكِنَ تَطْرِيقُهُ وَتَشْكِيلُهُ فَإِذَا برد تصلب. وَقد تقدم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [50] . وسابِغاتٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ شَاعَ وَصْفُ

[سورة سبإ (34) : آية 12]

الدُّرُوعِ بِالسَّابِغَاتِ وَالسَّوَابِغِ حَتَّى اسْتَغْنَوْا عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ. وَمَعْنَى قَدِّرْ اجْعَلْهُ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ. والسَّرْدِ صُنْعُ دِرْعِ الْحَدِيدِ، أَيْ تَرْكِيبُ حَلَقِهَا وَمَسَامِيرِهَا الَّتِي تَشُدُّ شُقَقَ الدِّرْعِ بَعْضهَا بِبَعْض فَهِيَ للحديد كَالْخِيَاطَةِ لِلثَّوْبِ، وَالدِّرْعُ تُوصَفُ بِالْمَسْرُودَةِ كَمَا تُوصَفُ بِالسَّابِغَةِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذَلِيُّ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغِ تُبَّعُ وَيُقَالُ لِنَاسِجِ الدروع: سرّاد وزرّاد بِالسِّينِ وَالزَّايِ، وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ يَصِفُ دِرْعًا: وَدَاوُدُ قَيْنَ السَّابِغَاتِ أَذَالَهَا ... وَتِلْكَ أَضَاةٌ صَانَهَا الْمَرْءُ تُبَّعُ فَلَمَّا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا اسْتَصْعَبَ عَلَى غَيْرِهِ أَتْبَعَهُ بِأَمْرِهِ بِالشُّكْرِ بِأَنْ يَعْمَلَ صَالِحًا لِأَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِي المشك والمنعم. وَضَمِيرُ اعْمَلُوا لِدَاوُدَ وَآلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] أَوْ لَهُ وَحْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مَوُقِعُ «إِنَّ» فِيهِ مَوُقِعَ فَاءِ التَّسَبُّبِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ: إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْبَصِيرُ: الْمُطَّلِعُ الْعَلِيمُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَل الصَّالح. [12] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 12] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) عَطْفُ فَضِيلَةِ سُلَيْمَانَ عَلَى فَضِيلَةِ دَاوُدَ لِلِاعْتِبَارِ بِمَا أُوتِيَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ فَضْلٍ

كَرَامَةً لِأَبِيهِ عَلَى إِنَابَتِهِ وَلِسُلَيْمَانَ عَلَى نَشْأَتِهِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ أَبِيهِ، فَالْعَطْفُ عَلَى لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10] وَالْمُنَاسَبَةُ مِثْلُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ دَاوُدَ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْإِنَابَةِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنابَ فِي سُورَةِ ص [34] . والرِّيحَ عَطْفٌ عَلَى الْحَدِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10] بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَلَنَّا. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَخَّرَنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا (¬1) أَيْ وَحَامِلًا رُمْحًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِسُلَيْمانَ لَامُ التَّقْوِيَةِ أَنَّهُ لَمَّا حَذَفَ الْفِعْلَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قرن مَفْعُوله الْأَوَّلِ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى لَامِ التَّقْوِيَةِ عِنْدَ حَذْفِ الْفِعْلِ أَشَدُّ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا عِنْدَ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ. والرِّيحَ مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَمَعْنَى تَسْخِيرِهِ الرِّيحَ: خَلْقُ رِيحٍ تُلَائِمُ سَيْرَ سَفَائِنِهِ لِلْغَزْوِ أَوِ التِّجَارَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لِمَرَاسِيهِ فِي شُطُوطِ فِلَسْطِينَ رِيَاحًا مَوْسِمِيَّةً تَهُبُّ شَهْرًا مُشْرِقَةً لِتَذْهَبَ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ سُفُنُهُ، وَتَهُبُّ شَهْرًا مُغْرِبَةً لِتَرْجِعَ سفنه إِلَى شواطىء فِلَسْطِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [81] . فَأَطْلَقَ الْغُدُوَّ عَلَى الِانْصِرَافِ وَالِانْطِلَاقِ مِنَ الْمَكَانِ تَشْبِيهًا بِخُرُوجِ الْمَاشِيَةِ لِلرَّعْيِ فِي الصَّبَاحِ وَهُوَ وَقْتُ خُرُوجِهَا، أَوْ تَشْبِيهًا بِغُدُوِّ النَّاسِ فِي الصَّبَاحِ. وَأَطْلَقَ الرَّوَاحَ عَلَى الرُّجُوعِ مِنَ النَّهْمَةِ الَّتِي يَخْرُجُ لَهَا كَقَوْل ابْن أَبِي رَبِيعَةَ: أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ ... غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُؤَخِّرُ لِأَنَّ عُرْفَهُمْ أَنَّ رَوَاحَ الْمَاشِيَةِ يَكُونُ فِي الْمَسَاءِ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ رَاحَ إِذَا رَجَعَ إِلَى مَقَرِّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ بِلَفْظِ إِفْرَادِ الرِّيحَ وَبِنَصْبِ الرِّيحَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَدِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10] . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ ¬

(¬1) أَوله وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى.

عَاصِمٍ بِرَفْعِ الرِّيحُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ والرِّيحَ مُبْتَدَأٌ ولِسُلَيْمانَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَنْصُوبًا. والْقِطْرِ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ- النُّحَاسُ الْمُذَابُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [96] . وَالْإِسَالَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَائِلًا، أَي سَائِلًا، أَي مَائِعا مُنْبَطِحًا فِي الْأَرْضِ كَمَسِيلِ الْوَادِي. وعَيْنَ الْقِطْرِ لَيست عينا حَقِيقَة وَلَكِنَّهَا مُسْتَعَارَةٌ لِمَصَبِّ مَا يُصْهَرُ فِي مَصَانِعِهِ مِنَ النُّحَاسِ حَتَّى يَكُونَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ سَائِلًا خَارِجًا مِنْ فَسَاقِيَّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَنَابِيبِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ لِشِدَّةِ إِصْهَارِ النُّحَاسِ وَتَوَالِي إِصْهَارِهِ فَلَا يَزَالُ يَسِيلُ لِيَصْنَعَ لَهُ آنِيَةً وَأَسْلِحَةً وَدَرَقًا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِإِذَابَةٍ وَإِصْهَارٍ خَارِقَيْنِ للمعتاد بِقُوَّة إلهية، شَبَّهَ الْإِصْهَارَ بِالْكَهْرُبَاءِ أَوْ بِالْأَلْسِنَةِ النَّارِيَّةِ الزَّرْقَاءِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يُؤْتَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ زَمَانِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّيَلَانُ مُسْتَعَارًا لِكَثْرَةِ الْقِطْرِ كَثْرَةً تُشْبِهُ كَثْرَةَ مَاءِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ كَقَوْلِ كُثَيِّرٍ: وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الْأَبَاطِحُ وَيَكُونُ أَسَلْنا أَيْضًا تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْعَيْنِ لِمَعْنَى مُذَابِ الْقِطْرِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْكَثْرَةُ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ فَقَوْلُهُ: مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ خَبَرٌ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مِنَ قُدِّمَ عَلَى الْمُبَيَّنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِغَرَابَتِهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَنْ يَعْمَلُ عَطْفًا عَلَى الرِّيحَ فِي قَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أَيْ سَخَّرَنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْجِنِّ، وَتَجْعَلَ جُمْلَةَ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَخْدُمُهُ وَيُطِيعُهُ. يُقَالُ: أَنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، أَيْ مُطِيعٌ،

[سورة سبإ (34) : آية 13]

وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ عَمَلَتُهُ الْجِنُّ وَحْدَهُمْ بَلْ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْهُمْ عَمَلَةً، وَفِي آيَةِ النَّمْلِ [17] مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ. وَالزَّيْغُ: تَجَاوَزُ الْحَدِّ وَالطَّرِيقِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَعْصِ أَمْرَنَا الْجَارِي عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ. وَذِكْرُ الْجِنِّ فِي جُنْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وعَذابِ السَّعِيرِ: عَذَابُ النَّارِ تَشْبِيه، أَي عذَابا كعذاب السعير، أَيْ كَعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا عَذَابُ جَهَنَّمَ فَإِنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً يَوْم الْحساب. [13] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 13] يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) ويَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 12] . ومِنْ مَحارِيبَ بَيَانٌ لِ مَا يَشاءُ. وَالْمَحَارِيبُ: جَمْعُ مِحْرَابٍ، وَهُوَ الْحِصْنُ الَّذِي يُحَارَبُ مِنْهُ الْعَدُوُّ وَالْمُهَاجِمُ لِلْمَدِينَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُرْمَى مِنْ شُرُفَاتِهِ بِالْحِرَابِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَصْرِ الْحَصِينِ. وَقَدْ سَمَّوْا قُصُورَ غُمْدَانَ فِي الْيَمَنِ مَحَارِيبَ غُمْدَانَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ أُطْلِقَ الْمِحْرَابُ عَلَى الَّذِي يُخْتَلَى فِيهِ لِلْعِبَادَةِ فَهْوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ الْخَاصِّ، قَالَ تَعَالَى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [39] . وَكَانَ لِدَاوُدَ مِحْرَابٌ يَجْلِسُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ قَالَ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ فِي سُورَةِ ص [21] . وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْمِحْرَابِ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الإِمَام الَّذِي يؤمّ النَّاسَ، يُجْعَلُ مِثْلَ كُوَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ فِي حَائِطِ الْقِبْلَةِ يَقِفُ الْإِمَامُ تَحْتَهُ، فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ مِحْرَابًا تَسْمِيَةٌ حَدِيثَةٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الزَّمَنِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمِحْرَابِ عَلَى هَذَا الْمَوْقِفِ. وَاتِّخَاذُ الْمَحَارِيبِ فِي الْمَسَاجِدِ حَدَثَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَظْنُونُ أَنَّهُ حَدَثَ فِي أَوَّلِهَا فِي حَيَاةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لِأَنَّهُ

رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَنَزَّهَ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَحَارِيبِ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الطَّاقَ أَوِ الطَّاقَةَ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْمَذْبَحَ، وَلَمْ أَرَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ أَيَّامَئِذٍ مِحْرَابًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْمِحْرَابِ مَوْضِعَ ذَبْحِ الْقُرْبَانِ فِي الْكَنِيسَةِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ ... صَوَّرُوهَا فِي مَذَابِحِ الْمِحْرَابِ وَالْمَذْبَحُ وَالْمِحْرَابُ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لِمَا لَا يَخْفَى مِنْ تَفَرُّعِ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ. وَمَا حُكِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ بَيْتٌ لِلصَّلَاةِ خَاصٌّ. وَرَأَيْتُ إِطْلَاقَ الْمِحْرَابِ عَلَى الطَّاقَةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ، أَيْ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي، نَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَحَارِيبُ صُدُورُ الْمَجَالِسِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مُطْلَقًا عَلَى مَكَانِ الْعِبَادَةِ. وَمِنَ الْغَلَطِ أَنْ جَعَلُوا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ صُورَةَ مِحْرَابٍ مُنْفَصِلٍ يُسَمُّونَهُ مِحْرَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى تَحَرِّي مَوْقِفِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ابْتَدَأُوا فَجَعَلُوا طاقات صَغِيرَة عَلامَة عَلَى الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يَضِلَّ الدَّاخِلُ إِلَى الْمَسْجِدِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا، ثُمَّ وَسَّعُوهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى صَيَّرُوهَا فِي صُورَةِ نِصْفِ دِهْلِيزٍ صَغِيرٍ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ يَسَعُ مَوْقِفَ الْإِمَامِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَوَّلَ وَضْعِهِ كَانَ عِنْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْأُمَوِيِّ فِي دِمَشْقَ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ بِجَعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ حِينَ وَسَّعَهُ وَأَعَادَ بِنَاءَهُ، وَذَلِكَ فِي مُدَّةِ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ حَسْبَمَا ذَكَرَ السَّمْهُودِيُّ فِي كِتَابِ «خُلَاصَةِ الْوَفَا بِأَخْبَارِ دَارِ الْمُصْطَفَى» . وَالتَّمَاثِيلُ: جَمْعُ تِمْثَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَوَزْنُهُ تِفْعَالٌ لِأَنَّ التَّاءَ مَزِيدَةٌ وَهُوَ أَحَدُ أَسْمَاءٍ مَعْدُودَةٍ جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ تِفْعَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا الْبَابِ وَأَكْثَرُهُ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ. وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مِنْهَا مَصَادِرُ وَمِنْهَا أَسْمَاءٌ، فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَأَكْثَرُهَا بِفَتْحِ التَّاءِ إِلَّا مَصْدَرَيْنِ: تِبْيَانٌ، وَتِلْقَاءٌ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فورد مِنْهَا عَلَى الْكَسْرِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِنْهَا: تِمْثَالٌ، أَحْصَاهَا ابْنُ

دُرَيْدٍ، وَزَادَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عَنْ شَيْخِهِ الْخَطِيبِ التَّبْرِيزِيِّ تِسْعَةً فَصَارَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ. وَالتِّمْثَالُ هُوَ الصُّورَةُ الْمُمَثَّلَةُ، أَيِ الْمُجَسَّمَةُ مِثْلَ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ فَكَانَ النَّحَّاتُونَ يَعْمَلُونَ لِسُلَيْمَانَ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً كَصُوَرٍ مَوْهُومَةٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلْحَيَوَانِ مِثْلَ الْأُسُودِ، فَقَدْ كَانَ كُرْسِيُّ سُلَيْمَانَ مَحْفُوفًا بِتَمَاثِيلِ أُسُودٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ كَمَا وُصِفَ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ. وَكَانَ قَدْ جَعَلَ فِي الْهَيْكَلِ جَابِيَةً عَظِيمَةً مِنْ نُحَاسٍ مَصْقُولٍ مَرْفُوعَةً عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ صُورَةَ ثَوْرٍ مِنْ نُحَاسٍ. وَلَمْ تَكُنْ التَّمَاثِيلُ الْمُجَسَّمَةُ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَمْعَنَ فِي قَطْعِ دابر الْإِشْرَاك لشدَّة تمكن الْإِشْرَاكِ مِنْ نُفُوسِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ مُعْظَمُ الْأَصْنَامِ تَمَاثِيلَ فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ اتِّخَاذَهَا لِذَلِكَ، وَلم يكن تَحْرِيمهَا لِأَجْلِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَفْسَدَةٍ فِي ذَاتِهَا وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا كَانَتْ ذَرِيعَةً لِلْإِشْرَاكِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ مَا لَهُ ظِلٌّ مِنْ تَمَاثِيلِ ذَوَاتِ الرُّوحِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَكْمِلَةَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا يَعِيشُ ذُو الرُّوحِ بِدُونِهَا وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِثْلَ التَّمَاثِيلِ الْمُنَصَّفَةِ وَمِثْلَ الصُّوَرِ الَّتِي عَلَى الْجُدْرَانِ وَعَلَى الْأَوْرَاقِ وَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ وَلَا مَا يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ. وَحُكْمُ صُنْعِهَا يَتْبَعُ اتِّخَاذَهَا. وَوَقَعَتِ الرُّخْصَةُ فِي اتِّخَاذِ صُوَرٍ تَلْعَبُ بِهَا الْبَنَاتُ لِفَائِدَةِ اعْتِيَادِهِنَّ الْعَمَلَ بِأُمُورِ الْبَيْتِ. وَالْجِفَانُ: جَمْعُ جَفْنَةٍ، وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يُجْفَنُ فِيهَا الْمَاءُ. وَقُدِّرَتِ الْجَفْنَةُ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّهَا تَسَعُ أَرْبَعِينَ بَثًّا (بِالْمُثَلَّثَةِ) وَلَمْ نَعْرِفْ مِقْدَارَ الْبَثِّ عِنْدَهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِكْيَالٌ. وَشُبِّهَتِ الْجِفَانُ فِي عَظَمَتِهَا وَسِعَتِهَا بِالْجَوَابِي. وَهِيَ جَمْعُ: جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْوَاسِعُ الْعَمِيقُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ، قَالَ الْأَعْشَى: نَفَى الذَّمَّ عَنْ رَهْطِ الْمُحَلَّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ أَيِ الْجَفْنَةُ فِي سِعَتِهَا كَجَابِيَةِ الرَّجُلِ الْعِرَاقِيِّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَهْلُ كُرُومٍ وَغُرُوسٍ فَكَانُوا يَجْمَعُونَ الْمَاءَ لِلسَّقْيِ. وَكَانَتِ الْجِفَانُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْهَيْكَلِ الْمَعْرُوف عندنَا بَيت الْمَقْدِسِ لِأَجْلِ وضع المَاء ليغلسوا فِيهَا مَا يُقَرِّبُونَهُ مِنَ الْمُحْرَقَاتِ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْأَيَّامِ الثَّانِي.

وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْجَوابِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ يَاءٍ فِي حَالَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي حَالِ الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي حَالِ الْوَقْفِ. وَالْقُدُورُ: جَمْعُ قِدْرٍ وَهِيَ إِنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الطَّعَامُ لِيُطْبَخَ مِنْ لَحْمٍ وَزَيْتٍ وَأَدْهَانٍ وَتَوَابِلَ. قَالَ النَّابِغَةُ فِي النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْجُلَاحِيِّ: لَهُ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ سَوْدَاءُ فَخْمَةٌ ... تُلَقَّمُ أَوْصَالَ الْجَزُورِ الْعُرَاعِرِ بَقِيَّةُ قِدْرٍ مِنْ قُدُورٍ تُوُرِّثَتْ ... لِآلِ الْجُلَاحِ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرِ أَيْ تَسَعُ قَوَائِمَ الْبَعِيرِ إِذَا وُضِعَتْ فِيهِ لِتُطْبَخَ مَرَقًا وَنَحْوَهُ. وَهَذِهِ الْقُدُورُ هِيَ الَّتِي يُطْبَخُ فِيهَا لِجُنْدِ سُلَيْمَانَ وَلِسَدَنَةِ الْهَيْكَلِ وَلِخَدَمِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْقُدُورِ إِجْمَالًا فِي الْفِقْرَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْأَيَّامِ الثَّانِي. وَالرَّاسِيَاتُ: الثَّابِتَاتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُنْزَلُ مِنْ فَوْقِ أَثَافِيِّهَا لِتَدَاوُلِ الطَّبْخِ فِيهَا صَبَاحَ مَسَاءَ. وَجُمْلَةُ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْنَا: اعْمَلُوا يَا آلَ دَاوُدَ، وَمَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: شُكْراً. وَتَقْدِيرُهُ: اعْمَلُوا صَالِحًا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، عَمَلًا لَشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَانْتَصَبَ شُكْراً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَالْخِطَابُ لِسُلَيْمَانَ وَآلِهِ. وَذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْمَقُولِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّذْيِيلُ كَلَامًا جَدِيدًا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ قُلْنَا ذَلِكَ لِآلِ دَاوُدَ فَعَمِلَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَعْمَلْ كَثِيرٌ وَكَانَ سُلَيْمَانُ مِنْ أَوَّلِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ. والشَّكُورُ: الْكَثِيرُ الشُّكْرِ. وَإِذْ كَانَ الْعَمَلُ شُكْرًا أَفَادَ أَنَّ العاملين قَلِيل.

[سورة سبإ (34) : آية 14]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 14] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ: 12، 13] أَيْ دَامَ عَمَلُهُمْ لَهُ حَتَّى مَاتَ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ إِلَى آخِرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَطُلْ وَقْتُهُ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي عَظَمَةِ مُلْكِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتَقِدَهُ أَتْبَاعُهُ، فَجُمْلَةُ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ الَخْ جَوَابُ «لَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ» . وَضَمِيرُ دَلَّهُمْ يَعُودُ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَهْلَ بَلَاطِهِ. وَالدَّلَالَةُ: الْإِشْعَارُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ [سبأ: 7] . ودَابَّةُ الْأَرْضِ هِيَ الْأَرَضَةُ (بِفَتَحَاتٍ ثَلَاثٍ) وَهِيَ السُّرْفَةُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لَا مَحَالَةَ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ: سُوسٌ يَنْخُرُ الْخَشَبَ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ مَصْدَرُ أَرَضَتِ السُّرْفَةُ الْخَشَبَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَقَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لِمِنْسَأَةِ سُلَيْمَانَ كَثِيرًا مِنَ السُّرَفِ فَتَعَجَّلَ لَهَا النَّخْرُ. وَجُمْلَةُ فَلَمَّا خَرَّ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ. وَجُمْلَةُ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ جَوَاب «لمّا خَرَّ» . وَالْمِنْسَأَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَبِهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ، وَتُخَفَّفُ الْهَمْزَةُ فَتَصِيرُ أَلِفًا هِيَ الْعَصَا الْعَظِيمَةُ، قِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ مِنْ لُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِأَلِفٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ تَخْفِيفًا وَهُوَ تَخْفِيفٌ نَادِرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ تَبَيَّنَ النَّاسُ الْجِنَّ. وأَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ إِسْنَادٌ مُبْهَمٌ فَصَّلَهُ قَوْلُهُ: أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ

[سورة سبإ (34) : آية 15]

فَ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا بَدَلٌ مِنَ الْجِنُّ بَدَلُ اشْتِمَال، أَي تبينت الجنّ للنَّاس، أَيْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، أَيْ تَبَيَّنَ عَدَمُ عِلْمِهِمُ الْغَيْبَ، وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ هُوَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ. والْعَذابِ الْمُهِينِ: الْمُذِلُّ، أَيِ الْمُؤْلِمُ الْمُتْعِبُ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَكَانَ عِلْمُهُمْ بِالْحَاصِلِ أَزَلِيًّا، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاعْتِقَادِ الْعَامَّةِ يَوْمَئِذٍ وَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَعْلِمُونَ الْمُغَيَّبَاتِ مِنَ الْكُهَّانِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ كَاهِنٍ جِنِّيًّا يَأْتِيهِ بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَيُسَمُّونَهُ رَئِيًّا إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ لَكَانَ أَنْ يَعْلَمُوا وَفَاةَ سُلَيْمَانَ أَهْون عَلَيْهِم. [15] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 15] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) جَرَّ خَبَرُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذِكْرِ سَبَأٍ لِمَا بَيْنَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ مِنَ الِاتِّصَالِ بِسَبَبِ قِصَّةِ «بِلْقِيسٍ» ، وَلِأَنَّ فِي حَالِ أَهْلِ سَبَأٍ مُضَادَّةً لِأَحْوَالِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، إِذْ كَانَ هَذَانِ مَثَلًا فِي إِسْبَاغِ النِّعْمَةِ عَلَى الشَّاكِرِينَ، وَكَانَ أُولَئِكَ مَثَلًا لِسَلْبِ النِّعْمَةِ عَنِ الْكَافِرِينَ، وَفِيهِمْ مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ النِّعْمَةِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ بِرَبِّهِمْ وَيُوقِظُهُمْ بِأَنَّهُمْ خَاطِئُونَ إِذْ عَبَدُوا غَيْرَهُ، كَذَّبُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعِمِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10] «لَمَّا فَرَغَ التَّمْثِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ التَّمْثِيلُ لَهُم (أَي للْمُشْرِكين أَي لحالهم) بِسَبَأٍ وَمَا كَانَ مِنْ هَلَاكِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ» اهـ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَمْثِيلُ أُمَّةٍ بِأُمَّةٍ، وَبِلَادٍ بِأُخْرَى، وَذَلِكَ مِنْ قِيَاسٍ وَعِبْرَةٍ. وَهِيَ فَائِدَةُ تَدْوِينِ التَّارِيخِ وَتَقَلُّبَاتِ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النَّحْل: 112، 113] فَسَوْقُ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَشْبَاهِ سَبَأٍ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي حَالِ مَسَاكِنِهِمْ وَنِظَامِ بِلَادِهِمْ آيَةٌ.

وَالْآيَةُ هُنَا: الْأَمَارَةُ وَالدَّلَالَةُ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ وَتَقَلُّبِ الْأَزْمَانِ، فَهِيَ آيَةٌ عَلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الْآيَةِ فَأَشْرَكُوا بِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ ثُمَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّعْرِيضِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ بِحَالِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِمْ، وَتَجْرِيدُ كانَ مِنْ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ لِأَنَّ اسْمَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِلتَّأْنِيثِ ولوقوع الْفَصْل بالمجرور. وَاللَّامُ فِي لِسَبَإٍ مُتَعَلِّقٌ بِ آيَةٌ. وَالْمَسَاكِنُ: الْبِلَادُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ وَالْمَسَاكِنُ: دِيَارُ السُّكْنَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَبَأٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [22] . وَاسْمُ سَبَأٍ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا هُنَا وَعَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ النَّمْلِ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي مَسَاكِنِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ مَسْكَنٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ فِي مَسْكَنِهِمْ إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ وَحَفْصًا فَتَحَا الْكَاف، وَالْكسَائِيّ وَخلف كَسَرَا الْكَافَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ غَيْرُ مَكْسُورِ الْعَيْنِ فَحَقُّ اسْمِ الْمَكَانِ مِنْهُ فَتْحُ الْعَيْنِ. وَشَذَّ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَسْجِدٌ لِبَيْتِ الصَّلَاةِ. وجَنَّتانِ بَدَلٌ مِنْ آيَةٌ بِاعْتِبَارِ تَكْمِلَتِهِ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ وَالْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ. وجَنَّتانِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ فِي مَسَاكِنِهِمْ شَبِيهُ جَنَّتَيْنِ فِي أَنه مغترس أشجارا ذَاتِ ثَمَر مُتَّصِل بَعْضهَا بِبَعْضٍ مِثْلَ مَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْجَنَّاتِ، وَتَثْنِيَةُ جَنَّتَيْنِ بِاعْتِبَارٍ أَنَّ مَا عَلَى يَمِينِ السَّائِرِ كَجَنَّةٍ، وَمَا عَلَى يَسَارِهِ كَجَنَّةٍ. وَقِيلَ: كَانَ لكل رجل مِنْهُم فِي مَسْكَنِهِ، أَيْ دَارِهِ جَنَّتَانِ جَنَّةٌ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكَنِ وَجَنَّةٌ عَنْ شِمَاله فَكَانُوا يتفيؤون ظِلَالَهُمَا فِي الصَّبَاحِ والمساء ويجتنون ثمارهما مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَغَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّرْكِيبِ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ: لِكُلِّ مَسْكَنٍ جَنَّتَانِ، كَقَوْلِهِمْ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: فِي مَسَاكِنِهِمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ فِي بِلَادِهِمْ، أَوْ دِيَارِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَدِينَتَهُمْ وَهِيَ مَأْرِبُ كَانَتْ مَحْفُوفَةً

عَلَى يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا بِغَابَةٍ مِنَ الْجَنَّاتِ يصطافون فِيهَا ويستثمروها مِثْلَ غُوطَةِ دِمَشْقَ، وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمُبَدَّلَ بِهِ جَنَّتَانِ اثْنَتَانِ، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى التَّوْزِيعِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُتَعَدِّدِ بِالْمُتَعَدِّدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ جَنَّاتٍ مَغْرُوسَةٍ أَشْجَارًا مُثْمِرَةً وَأَعْنَابًا. وَكَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَأْرِبُ (بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ) وَهِيَ بَيْنَ صنعاء وحضرموت، قبل، كَانَ السَّائِرُ فِي طَرَائِقِهَا لَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا لوجده قد ملىء ثِمَارًا مِمَّا يَسْقُطُ مِنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي يَسِيرُ تَحْتَهَا. وَلَعَلَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا مِنَ الْمُبَالَغَةِ إِلَّا أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِوَفْرَةٍ. وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَدْبِيرٍ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي اخْتِزَانِ الْمِيَاهِ النَّازِلَةِ فِي مَوَاسِمِ الْمَطَرِ بِمَا بَنَوْا مِنَ السَّدِّ الْعَظِيمِ فِي مَأْرِبَ. وَجُمْلَةُ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ إِمَّا مِنْ دَلَالَةِ لِسَانِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَإِمَّا أَبْلَغُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مِنْهُمْ، قِيلَ: بُعِثَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا، أَيْ مِثْلُ تُبَّعِ أَسْعَدَ، فَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيئًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق: 14] أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: 78] ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّا قَالَهُ سُلَيْمَانُ بَلْقِيسَ أَوْ مِمَّا قَالَهُ الصَّالِحُونَ مِنْ رُسُلِ سُلَيْمَانَ إِلَى سَبَأٍ، وَفِي جَعْلِ جَنَّتانِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ بَدَلًا عَنْ آيَةٍ كِنَايَةٌ عَنْ طِيبِ تُرْبَةِ بِلَادِهِمْ. قِيلَ: كَانُوا يَزْرَعُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ عَامٍ. وَالطَّيِّبَةُ: الْحَسَنَةُ فِي جِنْسِهَا الْمُلَائِمَةُ لِمُزَاوِلِهَا وَمُسْتَثْمِرِهَا قَالَ تَعَالَى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [يُونُس: 22] وَقَالَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] وَقَالَ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَاف: 58] وَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمرَان: 38] . وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فِي صدقته بحائط (بئرحاء) : «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ» . وَالطَّيِّبُ ضِدُّ الْخَبِيثِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: 2] وَقَالَ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: 157] .

[سورة سبإ (34) : آية 16]

وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الطِّيبِ- بِكَسْرِ الطَّاءِ بِوَزْنِ فِعْلٍ- وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي تَعْبَقُ مِنْهُ رَائِحَةٌ لَذِيذَةٌ. وَجُمْلَةُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ فِي الْكَلَامِ الْمَقُولِ، أَيْ بَلْدَةٌ لَكُمْ طَيِّبَةٌ، وَتَنْكِيرُ بَلْدَةٌ لِلتَّعْظِيمِ. وبَلْدَةٌ مُبْتَدَأٌ وطَيِّبَةٌ نَعْتٌ لِ بَلْدَةٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ، وَعَدَلَ عَنْ إِضَافَةِ بَلْدَةٌ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ خَفِيفَةً عَلَى اللِّسَانِ فَتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ. وَجُمْلَةُ وَرَبٌّ غَفُورٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ. وَتَنْكِيرُ رَبٌّ لِلتَّعْظِيمِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ عَلَى وِزَانِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَبٌّ لَكُمْ، أَيْ رَبُّكُمْ غَفُورٌ. وَالْعُدُولُ عَنْ إِضَافَةِ رَبٌّ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى تَنْكِيرِ رَبٌّ وَتَقْدِيرُ لَامِ الِاخْتِصَاصِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ عَلَى وِزَانِ الَّتِي قَبْلَهَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَلِتَحْصُلَ الْمُزَاوَجَةُ بَيْنَ الْفِقْرَتَيْنِ فَتُسَيَّرَا مَسِيرَ الْمَثَلِ. وَمَعْنَى غَفُورٌ: مُتَجَاوِزٌ عَنْكُمْ، أَيْ عَنْ كُفْرِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِيمَانِ (بِلْقِيسَ) بِدِينِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ مُدَّةِ بَقَائِهِمْ على الْإِيمَان. [16] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 16] فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ: 15] وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ الَّتِي بَقِيَّتُهَا قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى [سبأ: 18] الَخْ. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالْفَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [14] . وَالْإِعْرَاضُ يَقْتَضِي سَبْقَ دَعْوَةِ رَسُول أَو نبيء، وَالْمَعْنَى: أَعْرَضُوا عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لدَعْوَة التَّوْحِيد بِالْعودِ إِلَى عِبَادَةِ الشَّمْسِ بَعْدَ أَنْ أَقْلَعُوا فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ وَبِلْقِيسَ، فَلَعَلَّ بِلْقِيسَ كَانَتْ حَوَّلَتْهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ تَتَّبِعُ أَدْيَانَ مُلُوكِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ بِلْقِيسَ لَمْ تُعَمِّرْ بَعْدَ زِيَارَةِ سُلَيْمَانَ إِلَّا بضع سِنِين. و

(الْإِرْسَال) : الْإِطْلَاق وَهُوَ ضِدُّ الْحَبْسِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ إِرْسَالُ نِقْمَةٍ فَإِنَّ سَيْلَ الْعَرِمِ كَانَ مَحْبُوسًا بِالسَّدِّ فِي مَأْرِبَ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا يَسْقُونَ جَنَّاتِهِمْ، فَلَمَّا كَفَرُوا بِاللَّهِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ لِلتَّوْحِيدِ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمْ عِقَابًا بِأَنْ قَدَّرَ أَسْبَابَ انْهِدَامِ السَّدِّ فَانْدَفَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ فَكَانَ لَهُم غرقا وَإِتْلَافًا لِلْأَنْعَامِ وَالْأَشْجَارِ، ثُمَّ أعقبه جفاف باختلال نِظَامِ تَسَاقُطِ الْأَمْطَارِ وَانْعِدَامِ الْمَاءِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا جَزَاءٌ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَشِرْكِهِمْ. والْعَرِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنَ الْعَرَامَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ وَالْكَثْرَةُ فَتَكُونُ إِضَافَةُ «السَّيْلِ» إِلَى الْعَرِمِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرِمِ اسْمًا لِلسَّيْلِ الَّذِي كَانَ يَنْصَبُّ فِي السَّدِّ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، أَيِ السَّيْلُ الْعَرِمُ. وَكَانَتْ لِلسُّيُولِ وَالْأَوْدِيَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَسْمَاءٌ كَقَوْلِهِمْ: سَيْلُ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ الَّذِي كَانَتْ تُسْقَى بِهِ حَدَائِقُ الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْأَعْشَى: وَمَأْرِبُ عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمُ وَقِيلَ: الْعَرِمِ اسْمُ جَمْعِ عَرَمَةٍ بِوَزْنِ شَجَرَةٍ، وَقِيلَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَهُوَ مَا بُنِيَ لِيُمْسِكَ الْمَاءَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ وَحَبَشِيَّةٌ. وَهِيَ الْمَسْنَاةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمَسْنَاةُ بِوَزْنِ مَفْعَلَةٍ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْآلَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ سَنَيْتُ بِمَعْنَى سَقَيْتُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ السَّاقِيَةُ سَانِيَةً وَهِيَ الدَّلْوُ الْمُسْتَقَى بِهِ وَالْإِضَافَةُ عَلَى هَذَيْنِ أَصِيلَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا السَّيْلَ الَّذِي كَانَ مخزونا فِي السدّ. وَكَانَ لِأَهْلِ سَبَأٍ سَدٌّ عَظِيمٌ قُرْبَ بِلَاد مأرب يعرف بسد مَأْرِبَ (وَمَأْرِبُ مِنْ كُوَرِ الْيَمَنِ) وَكَانَ أَعْظَمَ السِّدَادِ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا سِدَادٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَكَانُوا جَعَلُوا هَذِهِ السِّدَادَ لِخَزْنِ الْمَاءِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ السُّيُولُ فِي وَقْتِ نُزُولِ الأمطار فِي الشتَاء وَالربيع ليسقوا مِنْهَا الْمزَارِع والجنات فِي وَقت انحباس الْأَمْطَارِ فِي الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ فَكَانُوا يَعْمِدُونَ إِلَى مَمَرَّاتِ السُّيُولِ مِنْ بَيْنِ الْجِبَالِ فَيَبْنُونَ فِي مَمَرِّ الْمَاءِ سُورًا مِنْ صُخُورٍ يَبْنُونَهَا بِنَاءً مُحْكَمًا يَصُبُّونَ فِي الشُّقُوقِ الَّتِي بَيْنَ الصُّخُورِ الْقَارَ حَتَّى تَلْتَئِمَ فَيَنْحَبِسَ الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُطُ هُنَالِكَ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَ الْخَزَّانُ جَعَلُوا بِجَانِبَيْهِ

جَوَابِيَ عَظِيمَةً يَصُبُّ فِيهَا المَاء الَّذِي يَفِيضُ مِنْ أَعْلَى السَّدِّ فَيُقِيمُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَاءِ الْمُخْتَزَنِ. وَكَانَ سَدُّ مَأْرِبَ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ سَيْلَ الْعَرِمِ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ سَبَأُ أَوَّلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُتِمَّهُ فَأَتَمَّهُ ابْنُهُ حِمْيَرُ. وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ بِلْقِيسَ بَنَتْهُ فَذَلِكَ اشْتِبَاهٌ إِذْ لَعَلَّ بِلْقِيسَ بَنَتْ حَوْلَهُ خَزَّانَاتٍ أُخْرَى فَرْعِيَّةً أَوْ رَمَّمَتْ بِنَاءَهُ تَرْمِيمًا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبِنَاءِ، فَقَدْ كَانُوا يَتَعَهَّدُونَ تِلْكَ السِّدَادَ بِالْإِصْلَاحِ وَالتَّرْمِيمِ كُلَّ سَنَةٍ حَتَّى تَبْقَى تُجَاهَ قُوَّةِ السُّيُولِ السَّاقِطَةِ فِيهَا. وَكَانُوا يَجْعَلُونَ لِلسَّدِّ مَنَافِذَ مُغْلَقَةً يُزِيلُونَ عَنْهَا السَّكْرَ إِذَا أَرَادُوا إِرْسَالَ المَاء إِلَى الجنات على نوبات يُرْسل عِنْدهَا الْمَاءِ إِلَى الْجِهَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ الَّتِي تُسْقَى مِنْهُ إِذْ جَعَلُوا جَنَّاتِهِمْ حَوْلَ السَّدِّ مُجْتَمِعَةً. وَكَانَ يَصُبُّ فِي سَدِّ مَأْرِبَ سَبْعُونَ وَادِيًا. وَجَعَلُوا هَذَا السَّدَّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ يُعْرَفُ كِلَاهُمَا بِالْبَلَقِ فَهُمَا الْبَلَقُ الْأَيْمَنُ وَالْبَلَقُ الْأَيْسَرُ. وَأَعْظَمُ الْأَوْدِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَصُبُّ فِيهِ اسْمُهُ «إِذْنَهْ» فَقَالُوا: إِنَّ الْأَوْدِيَةَ كَانَتْ تَأْتِي إِلَى سبأ من الشحر وَأَوْدِيَةِ الْيَمَنِ. وَهَذَا السَّدُّ حَائِطٌ طُولُهُ مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ ثَمَانُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَارْتِفَاعُهُ بِضْعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا. وَقَدْ شَاهَدَهُ الْحَسَنُ الْهَمَدَانِيُّ وَوَصَفَهُ فِي كِتَابه الْمُسَمّى ب «الإكليل» وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَوَائِلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ بِمَا سَمِعْتُ حَاصِلَهُ. وَوَصَفَهُ الرَّحَّالَةُ (أَرْنُو) الْفَرَنْسِيُّ سَنَةَ 1883 وَالرَّحَّالَةُ (غِلَازُرُ) الْفَرَنْسِيُّ. وَلَا يُعْرَفُ وَقْتُ انْهِدَامِ هَذَا السَّدِّ وَلَا أَسْبَابُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ انْهِدَامِهِ اشْتِغَالُ مُلُوكِهِمْ بِحُرُوبٍ دَاخِلِيَّةٍ بَيْنَهُمْ أَلْهَتْهُمْ عَنْ تَفَقُّدِ تَرْمِيمِهِ حَتَّى تَخَرَّبَ، أَوْ يَكُونُ قَدْ خَرَّبَهُ بَعْضُ مَنْ حَارَبَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ فِي الْقَصَصِ مِنْ أَنَّ السَّدَّ خَرَّبَتْهُ الْجُرْذَانُ فَذَلِكَ مِنَ الْخُرَافَاتِ. وَفِي الْعَرِمِ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا

وَالتَّبْدِيلُ: تَعْوِيضُ شَيْءٍ بِآخَرَ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْخُوذِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَبْذُولِ بِالْبَاءِ وَهِيَ بَاءُ الْعِوَضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [2] . فَالْمَعْنَى: أَعْطَيْنَاهُمْ أَشْجَارَ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَسِدْرٍ عِوَضًا عَنْ جَنَّتَيْهِمْ، أَيْ صَارَت بِلَادهمْ شعراء قَاحِلَةً لَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَجَرُ الْعِضَاةِ وَالْبَادِيَةِ، وَفِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ أَحْوَالٌ عَظِيمَةٌ انْتَابَتْهُمْ فَقَاسَوُا الْعَطَشَ وَفِقْدَانَ الثِّمَارِ حَتَّى اضْطُرُّوا إِلَى مُفَارَقَةِ تِلْكَ الدِّيَارِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّهَايَةُ دَالَّةً عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ طُوِيَ ذِكْرُ مَا قَبْلَهَا وَاقْتُصِرَ عَلَى وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ إِلَى آخِرِهِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْجَنَّتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الْمَنَابِتِ مُشَاكَلَةٌ لِلتَّهَكُّمِ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمُ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرَادَةً طَحُونَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] . وَقَدْ وَصَفَ الْأَعْشَى هَذِهِ الْحَالَةَ بَدْءًا وَنِهَايَةً بِقَوْلِهِ: وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْنِسِي عِبْرَةٌ ... ومأرب عفى عَلَيْهَا الْعَرِمْ رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ ... إِذَا جَاءَ مَوَّارُهُ لَمْ يَرِمْ فَأَرْوَى الزُّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا ... عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إِذَا قُسِمْ فَعَاشُوا بِذَلِكَ فِي غِبْطَةٍ ... فَحَارَبَهُمْ جَارِفٌ مُنْهَزِمْ فَطَارَ الْقُيُولَ وَقِيلَاتِهَا ... بِبَهْمَاءَ فِيهَا سَرَابٌ يَطُمْ فَطَارُوا سِرَاعًا وَمَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ لِشُرْبِ صَبِيٍّ فُطِمْ وَالْخَمْطُ: شَجَرُ الْأَرَاكِ. وَيُطْلَقُ الْخَمْطُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرِّ. وَالْأَثْلُ: شَجَرٌ عَظِيمٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ. وَالسِّدْرُ: شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ أَيْضًا لَهُ شَوْكٌ يُشْبِهُ شَجَرَ الْعُنَّابِ. وَكُلُّهَا تَنْبُتُ فِي الْفَيَافِي. وَالسِّدْرُ: أَكْثَرُهَا ظِلًّا وَأَنْفَعُهَا لِأَنَّهُ يُغْسَلُ بِوَرَقِهِ مَعَ الْمَاءِ فَيَنْظُفُ وَفِيهِ رَائِحَةٌ حَسَنَةٌ وَلِذَلِكَ وُصِفَ هُنَا بِالْقَلِيلِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مُعْظَمَ شَجَرِهِمْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، وَزِيدَ

تَقْلِيلُهُ قِلَّةً بِذِكْرِ كَلِمَةِ شَيْءٍ الْمُؤْذِنَةِ فِي ذَاتِهَا بِالْقِلَّةِ. يُقَالُ: شَيْءٌ مِنْ كَذَا، إِذَا كَانَ قَلِيلًا. وَفِي الْقُرْآنِ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 67] . وَالْأُكْلُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَبِضَمِّ الْكَافِ-: الْمَأْكُول. قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَقَرَأَهُ بَاقِي الْعَشَرَةِ بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُكُلٍ بِالتَّنْوِينِ مَجْرُورًا فَإِذَا كَانَ خَمْطٍ مُرَادًا بِهِ الشَّجَرُ الْمُسَمَّى بِالْخَمْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَمْطٍ صِفَةً لِ أُكُلٍ لِأَنَّ الْخَمْطَ شَجَرٌ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أُكُلٍ كَذَلِكَ، وَلَا عَطْفَ بَيَانٍ كَمَا قَدَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ كَالْبَدَلِ الْمُطَابِقِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ خَمْطٍ هُنَا صِفَةً يُقَالُ: شَيْءٌ خَامِطٌ إِذَا كَانَ مُرًّا. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ أُكُلٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى خَمْطٍ، فَالْخَمْطُ إِذَنْ مُرَادٌ بِهِ شَجَرُ الْأَرَاكِ، وَأُكْلُهُ ثَمَرُهُ وَهُوَ الْبَرِيرُ وَهُوَ مُرُّ الطَّعْمِ. وَمَعْنَى ذَواتَيْ أُكُلٍ صَاحِبَتَيْ أُكُلٍ فَ (ذَوَاتُ) جَمْعُ (ذَاتٍ) الَّتِي بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَأَصْلُ ذَاتٍ ذَوَاةٌ بَهَاءِ التَّأْنِيثِ مِثْلُ نَوَاةٍ وَوَزْنُهَا فَعَلَةٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَلَامُهَا وَاوٌ، فَأَصْلُهَا ذَوَوَةٌ فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ إِثْرَ فَتْحَةٍ قُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ خَفَّفُوهَا فِي حَالِ الْإِفْرَادِ بِحَذْفِ الْعَيْنِ فَقَالُوا: ذَاتٌ فَوَزْنُهَا فَلَتْ أَوْ فَلَهْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُ التَّاءِ فِي ذَاتِ هَاءٌ مِثْلَ نَوَاةٍ لِأَنَّكَ إِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهَا فِي الْوَاحِدِ قُلْتَ: ذَاهْ بِالْهَاءِ، وَلَكنهُمْ لما وصلوها بِمَا بَعْدَهَا بِالْإِضَافَةِ صَارَتْ تَاءً. وَيَدُلُّ لِكَوْنِ أَصْلِهَا هَاءً أَنَّهُ إِذَا صُغِّرَ يُقَالُ ذُوَيْهِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ اهـ. وَلم يبين أيمة اللُّغَةِ وَجْهَ هَذَا الْإِبْدَالِ وَلَعَلَّهُ لِكَوْنِ الْكَلِمَةِ بُنِيَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَأَلِفٍ هِيَ مَدَّةُ الْفَتْحَةِ فَكَانَ النُّطْقُ بِالْهَاءِ بِعْدَهُمَا ثَقِيلًا فِي حَالِ الْوَقْفِ، ثُمَّ لَمَّا ثَنَّوْهَا رَدُّوهَا إِلَى أَصْلِهَا لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ تَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا فَقَالُوا: ذَوَاتَا كَذَا، وَحُذِفَتِ النُّونُ لِلُزُومِ إِضَافَتِهِ، وَأَصْلُهُ: ذُوَيَّاتٌ. فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَوَزْنُهُ فَعَلَتَانِ وَصَارَ وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْبِ فَعَاتَانِ وَإِذَا جَمَعُوهَا عَادُوا إِلَى الْحَذْفِ فَقَالُوا ذَوَاتُ كَذَا بِمَعْنى صاحبتات، وَأَصله ذويات فقلبت الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا،

[سورة سبإ (34) : آية 17]

فَأَصْلُ وَزْنِ ذَوَات فَعلَات ثُمَّ صَارَ وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْبِ فَعَاتٍ، وَهُوَ مِمَّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ لِأَنَّ تَاءَهُ فِي الْمُفْرَدِ أَصْلُهَا هَاءٌ، وَأَمَّا تَاؤُهُ فِي الْجَمْعِ فَهِيَ تَاءٌ صَارَتْ عِوَضًا عَنِ الْهَاءِ الَّتِي فِي الْمُفْرَدِ عَلَى سُنَّةِ الْجَمْعِ بِأَلف وتاء. [17] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 17] ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 16] فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مِنَ الْبَيَانِ بِطْرِيقِ الْإِشَارَةِ، أَيْ جَزَيْنَاهُمُ الْجَزَاءَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّبْدِيلِ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِشِدَّةِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. وَاسْتِحْضَارُهُ بِاسْمِ الْإِشَارَة لما فِيهَا مِنْ عَظَمَةِ هَوْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَتَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ: 16] وَيَكُونُ جُمْلَةُ جَزَيْناهُمْ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ وَالرَّابِطُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: جَزَيْنَاهُمُوهُ. وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا للسبيبة و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. وَالْكُفْرُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، أَيْ إِنْكَارُ إِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّهُمْ عَبْدَةُ الشَّمْسِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي وَهَلْ يُجَازَى إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ. والْكَفُورَ: الشَّدِيدُ الْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ الشَّمْسَ فَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَالْمَعْنَى: مَا يُجَازَى ذَلِكَ الْجَزَاءُ إِلَّا الْكَفُورُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ عَظِيمٌ فِي نَوْعِهِ، أَيْ نَوْعِ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ مِنْ جِنْسِ الْجَزَاءِ. وَالْمَثُوبَةَ مِنْ جِنْسِ الْجَزَاءِ فَلَمَّا قِيلَ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ: وَهَلْ يُجَازَى مِثْلَ جَزَائِهِمْ إِلَّا الْكَفُورُ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الْكَفُورِ لَا يُجَازَى عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا أَنَّ الثَّوَابَ لَا يُسَمَّى جَزَاءً وَلَا أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُؤْمِنَ لَا يُجَازَى عَلَى مَعْصِيَتِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ التَّوَهُّمَاتِ

[سورة سبإ (34) : آية 18]

كُلَّهَا مُنْدَفِعَةٌ بِمَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ بَيَانِ نَوْعِ الْجَزَاءِ، فَإِنَّ الِاسْتِئْصَالَ وَنَحْوَهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُجَازَى بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْكَفُورَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنصب الْكَفُورَ. [18] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 18] وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) تَكْمِلَةُ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نِعْمَةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ لِنِعْمَةِ الرَّخَاءِ وَالْبَهْجَةِ وَطِيبِ الْإِقَامَةِ، وَمَا هُنَا لِنِعْمَةِ الْأَمْنِ وَتَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ وَعُمْرَانِ بِلَادِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الَّتِي بُورِكَتْ قُرَى بِلَادِ الشَّامِ فَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا مِنْ مَأْرِبَ إِلَى الْبِلَاد الشامية قوافل لِلتِّجَارَةِ وَبَيْعِ الطَّعَامِ سَلَكُوا طَرِيقَ تِهَامَةَ ثُمَّ الْحِجَازِ ثُمَّ مَشَارِفِ الشَّامِ ثُمَّ بِلَادِ الشَّامِ، فَكَانُوا كُلَّمَا سَارُوا مَرْحَلَةً وَجَدُوا قَرْيَةً أَوْ بَلَدًا أَوْ دَارًا لِلِاسْتِرَاحَةِ واستراحوا وَتَزَوَّدُوا. فَكَانُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يَحْمِلُونَ مَعَهُمْ أَزْوَادًا إِذَا خَرَجُوا مِنْ مَأْرِبَ. وَهَذِهِ الْقُرَى الظَّاهِرَةُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَكَوَّنَتْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ الْقَاطِنِينَ حَفَافِي الطَّرِيقِ السَّابِلَةِ بَيْنَ مَأْرِبَ وَجِلَّقَ قَصْدَ اسْتِجْلَابِ الِانْتِفَاعِ بِنُزُولِ الْقَوَافِلِ بَيْنَهُمْ وَابْتِيَاعِ الْأَزْوَادِ مِنْهُمْ وَإِيصَالِ مَا تَحْتَاجُهُ تِلْكَ الْقُرَى مِنَ السِّلَعِ وَالثِّمَارِ وَهَذِهِ طَبِيعَةُ الْعُمْرَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ سَبَأً أَقَامُوا مَبَانِيَ يَأْوُونَ إِلَيْهَا عِنْدَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ أَسْفَارِهِمْ وَاسْتَنْبَطُوا فِيهَا الْآبَارَ وَالْمَصَانِعَ وَأَوْكَلُوا بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا وَيَكُونُ لَائِذًا بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِهِمْ. فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَطَّدَ لَهُمْ مُلُوكُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْحَضَارَةِ وَالْأَمْنِ عَلَى الْقَوَافِلِ، وَقَدْ تَكُونُ إِقَامَةُ هَاتِهِ الْمَنَازِلِ مَجْلَبَةً لِمَنْ يَقْطُنُونَ حَوْلَهَا مِمَّنْ يَرْغَبُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْقَافِلَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَإِسْنَادُ جَعْلِ تِلْكَ الْقُرَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُلْهِمُ النَّاسَ وَالْمُلُوكَ

أَوْ لِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ لَهُمْ تُرْبَةً طَيِّبَةً تَتَوَفَّرُ مَحَاصِيلُهَا عَلَى حَاجَةِ السُّكَّانِ فَتَسْمَحُ لَهُمْ بِتَطَلُّبِ تَرْوِيجِهَا فِي بِلَادٍ أُخْرَى. وَوَصْفُ ظاهِرَةً أَنَّهَا مُتَقَارِبَةٌ بِحَيْثُ يَظْهَرُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَيَتَرَاءَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ الَّتِي تَظْهَرُ لِلسَّائِرِ مِنْ بُعْدٍ بِأَنْ كَانَتِ الْقُرَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ يُشَاهِدُهَا الْمُسَافِرُ فَلَا يَضِلُّ طَرِيقَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَعْنَى ظاهِرَةً أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُدُنِ فَهِيَ فِي ظَوَاهِرِ الْمُدُنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَزَلْنَا بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّةِ، أَيْ خَارِجًا عَنْهَا. فَقَوْلُهُ: ظاهِرَةً كَتَسْمِيَةِ النَّاسِ إِيَّاهَا بِالْبَادِيَةِ وَبِالضَّاحِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَأَنْشَدَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ: فَلَوْ شَهِدَتْنِي مِنْ قُرَيْشٍ عِصَابَةٌ ... قُرَيْشُ الْبِطَاحِ لَا قُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: «وَجَاءَ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ يَشْتَكُونَ الْغَرَقَ» اهـ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ جَمِيلٌ. وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: ظاهِرَةً عَلَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ وَفْرَةِ الْمُدُنِ حَتَّى إِنَّ الْقُرَى كُلَّهَا ظَاهِرَةٌ مِنْهَا. وَمَعْنَى تَقْدِيرِ السَّيْرِ فِي الْقُرَى: أَنَّ أَبْعَادَهَا عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَعَادُلٍ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاوَزُ مِقْدَارٌ مَرْحَلَةً. فَكَانَ الغادي يقبل فِي قَرْيَةٍ وَالرَّائِحُ يَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ. فَالْمَعْنَى: قَدَّرْنَا مَسَافَاتِ السَّيْرِ فِي الْقُرَى، أَيْ فِي أَبْعَادِهَا. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِيها بِفِعْلِ قَدَّرْنا لَا بِالسَّيْرِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْقُرَى وَأَبْعَادِهَا لَا فِي السَّيْرِ إِذْ تَقْدِيرُ السَّيْرِ تَبَعٌ لِتَقْدِيرِ الْأَبْعَادِ. وَجُمْلَةُ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدَّرْنا أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ التَّكْوِينِ وَهُوَ جَعْلُهَا يَسِيرُونَ فِيهَا. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّكْوِينِ. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى، وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَرْفِ الظَّرْفِ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شَبِهَتِ الْقُرَى لِشِدَّةِ تَقَارُبِهَا بِالظَّرْفِ وَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: سِيرُوا بَيْنَهَا. وَكَانُوا يَسِيرُونَ غُدُوًّا وَعَشِيًّا فَيَسِيرُونَ الصَّبَاحَ ثُمَّ تَعْتَرِضُهُمْ قَرْيَةٌ فَيُرِيحُونَ فِيهَا

[سورة سبإ (34) : آية 19]

وَيُقِيلُونَ، ويسيرون الْمسَاء فتعترضهم قَرْيَةٌ يَبِيتُونَ بِهَا. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً: سِيرُوا كَيْفَ شِئْتُمْ. وَتَقْدِيمُ اللَّيَالِي على الْأَيَّام للاهتمام بِهَا فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ لِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ أَحْوَجُ إِلَى الْأَمْنِ فِي اللَّيْلِ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فِي النَّهَارِ لِأَنَّ اللَّيْلَ تَعْتَرِضُهُمْ فِيهِ القطاع وَالسِّبَاع. [19] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 19] فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقالُوا رَبَّنا لِتَعْقِيبِ قَوْلِهِمْ هَذَا إِثْرَ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ بِاقْتِرَابِ الْمُدُنِ وَتَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ، وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَلَمَّا تَمَّتِ النِّعْمَةُ بَطَرُوهَا فَحَلَّتْ بِهِمْ أَسْبَابُ سَلْبِهَا عَنْهُمْ. وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ زَوَالِ النِّعْمَةِ كُفْرَانُهَا. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» . وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ قَالُوهُ جَوَابًا عَنْ مَوَاعِظِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ حِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَهُمْ يَعِظُونَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الرَّفَاهِيَة وهم يُجِيبُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِفْحَامًا لِدُعَاةِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] ، قَبْلَ هَذَا «فَأَعْرَضُوا فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ يَقْتَضِي دَعْوَةً لِشَيْءٍ» وَيُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى قُوَّةً وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّهُ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقالُوا، أَيْ فَأَعْقَبُوا ذَلِكَ بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَبِالْإِشْرَاكِ، فَإِنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ أُطْلِقَ كَثِيرًا عَلَى الْإِشْرَاكِ فِي الْقُرْآنِ وَمَا الْإِشْرَاكُ إِلَّا أَعْظَمُ كُفْرَانِ نِعْمَةِ الْخَالِقِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ وَقَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُقَارِنًا لِلْإِشْرَاكِ. وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فَإِنَّ الْعِقَابَ إِنَّمَا كَانَ مُسَبَّبًا بِسَبَبَيْنِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ:

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 16، 17] . فَالْمُسَبَّبُ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ اسْتِئْصَالُهُمْ وَهُوَ مَدْلُولُ قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ كَمَا سَتَعْرِفُهُ، وَالْمُسَبَّبُ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ تَقَارُبِ الْبِلَادِ هُوَ تَمْزِيقُهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، أَيْ تَفْرِيقُهُمْ، فَنَظْمُ الْكَلَامِ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ اللف والنشر المشوّش. وَدَرَجَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ دَعَوُا اللَّهَ بِذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنْ دَرَجْنَا عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ وَدَعَوْهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدُرُوا نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ قَدْرَهَا فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ تَزُولَ تِلْكَ الْقُرَى الْعَامِرَةُ لِيَسِيرُوا فِي الْفَيَافِي وَيَحْمِلُوا الْأَزْوَادَ مِنَ الْمِيرَةِ وَالشَّرَابِ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِمَّنْ كَانُوا أَدْرَكُوا حَالَةَ تَبَاعُدِ الْأَسْفَارِ فِي بِلَادِهِمْ قبل أَن تؤول إِلَى تِلْكَ الْحَضَارَةِ، أَوْ مِمَّنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَحْوَالَ الْأَسْفَارِ الْمَاضِيَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ أَسْفَارَ الْأُمَمِ الْبَادِيَةِ فَتَرُوقُ لَهُمْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، وَهَذَا مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ النَّاشِئِ عَنْ فَسَادِ الذَّوْقِ فِي إِدْرَاكِ الْمَنَافِعِ وَأَضْدَادِهَا. وَالْمُبَاعَدَةُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَالتَّضْعِيفِ. فَالْمَعْنَى: رَبَّنَا أَبْعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا. وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ باعِدْ. وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرٍو بَعِّدْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ رَبَّنا بِالرَّفْعِ وباعِدْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَذَمَّرُوا مِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَانِ وَاسْتَقَلُّوهُ وَطَلَبُوا أَنْ تَزْدَادَ الْبِلَادُ قُرْبًا وَذَلِكَ مِنْ بطر النِّعْمَة وَطلب مَا يُتَعَذَّرُ حِينَئِذٍ. وَالتَّرْكِيبُ يُعْطِي مَعْنَى «اجْعَلِ الْبُعْدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا» . وَلَمَّا كَانَتْ بَيْنَ تَقْتَضِي أَشْيَاءَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: بَاعِدْ بَيْنَ السَّفَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَسْفَارِنَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ إِبْعَادُ الْمَرَاحِلِ لِأَنَّ كُلَّ مَرْحَلَةٍ تُعْتَبَرُ سَفَرًا، أَيْ بَاعِدْ بَيْنَ مَرَاحِلِ أَسْفَارِنَا. وَمَعْنَى فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جَعَلْنَا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْجَنَّاتِ

وَفِي بُحْبُوحَةِ الْعَيْشِ أَحَادِيثَ، أَيْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَصَارَ وُجُودُهُمْ فِي الْأَخْبَارِ وَالْقِصَصِ وَأَبَادَهُمُ اللَّهُ حِينَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْرِعًا فِيهِمْ بِالْفَنَاءِ بِالتَّغَرُّبِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَاقَةِ وَتَسَلُّطِ الْعَوَادِي عَلَيْهِمْ فِي الطرقات كَمَا ستعلمه. وَفِعْلُ الْجَعْلِ يَقْتَضِي تَغْيِيرًا وَلَمَّا عَلَقَ بِذَوَاتِهِمُ انْقَلَبَتْ مِنْ ذَوَاتٍ مُشَاهَدَةٍ إِلَى كَوْنِهَا أَخْبَارًا مَسْمُوعَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِمْ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: دَخَلُوا فِي خَبَرِ كَانَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَحَادِيث لَا يَخْلُو مِنْهَا أَحَدٌ وَلَا جَمَاعَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَدْحِ كَقَوْلِهِ: هَاذِي قُبُورُهُمْ وَتِلْكَ قُصُورُهُمْ ... وَحَدِيثُهُمْ مُسْتَوْدَعُ الْأَوْرَاقِ أَوْ أُرِيدَ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ اعْتِبَارٍ وَمَوْعِظَةٍ، أَيْ فَأَصَبْنَاهُمْ بِأَمْرٍ غَرِيبٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ فَيَكُونُ أَحادِيثَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الْكَهْف: 79] . وَالتَّمْزِيقُ: تَقْطِيعُ الثَّوْبِ قِطَعًا، اسْتُعِيرَ هُنَا لِلتَّفْرِيقِ تَشْبِيهًا لِتَفْرِيقِ جَامِعَةِ الْقَوْمِ شَذَرَ مَذَرَ بِتَمْزِيقِ الثَّوْبِ قِطَعًا. وكُلَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُمَزَّقِ كُلِّهِ، فَاكْتَسَبَ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ. وَمَعْنَى كُلَّ كَثِيرَةُ التَّمْزِيقِ لِأَنَّ (كُلًّا) تَرِدُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْكَثِيرِ لَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 97] وَقَالَ النَّابِغَةُ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى التَّفَرُّقِ الشَّهِيرِ الَّذِي أُصِيبَتْ بِهِ قَبِيلَةُ سَبَأٍ إِذْ حَمَلَهُمْ خَرَابُ السَّدِّ وَقُحُولَةُ الْأَرْضِ إِلَى مُفَارَقَةِ تِلْكَ الْأَوْطَانِ مُفَارَقَةً وَتَفْرِيقًا ضَرَبَتْ بِهِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِمْ: ذَهَبُوا، أَوْ تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا، أَوْ آيَادِيَ سَبَا، بِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ سَبَأٍ لِتَخْفِيفِ الْمَثَلِ. وَفِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي مَادَّةِ (يَدي) قَالَ الْعمريّ: لَمْ يَهْمِزُوا سَبَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ. هَكَذَا وَلَعَلَّهُ الْتِبَاسٌ أَوْ تَحْرِيفٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَعَرِّيُّ عَدَمَ إِظْهَارِ الْفَتْحَةِ عَلَى يَاءِ «أَيَادِي» أَوْ «أَيْدِي»

كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ فَتْحِ هَمْزَةِ سَبَأٍ كَشَأْنِ الْمُرَكَّبِ الْمَزْجِيِّ. قَالَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» : وَبَعْضُهُمْ يُنَوِّنُهُ إِذَا خَفَّفَهُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: فَيَا لَكِ مِنْ دَارٍ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا ... أَيَادِي سَبَا عَنْهَا وَطَالَ انْتِقَالُهَا وَالْأَكْثَرُ عَدَمُ تَنْوِينِهِ قَالَ كُثَيِّرٌ: أَيَادِي سَبَا يَا عَزُّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ ... فَلَمْ يَحْلُ بِالْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ وَالْأَيَادِي وَالْأَيْدِي فِيهِ جَمْعُ يَدٍ. وَالْيَدُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَهَبُوا فِي مَذَاهِبَ شَتَّى يَسْلُكُونَ مِنْهَا إِلَى أَقْطَارٍ عِدَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الْجِنّ: 11] . وَقِيلَ: الْأَيَادِي جَمْعُ يَدٍ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ لِأَنَّ سَبَأً تَلِفَتْ أَمْوَالُهُمْ. وَكَانَتْ سَبَأٌ قَبِيلَةً عَظِيمَةً تَنْقَسِم إِلَى عشر أَفْخَاذٍ وَهُمُ: الْأَزْدُ، وَكِنْدَةُ، وَمَذْحِجُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارُ، وَبَجِيلَةُ، وَعَامِلَةُ، وَهُمْ خُزَاعَةُ، وَغَسَّانُ، وَلَخْمٌ، وَجُذَامُ. فَلَمَّا فَارَقُوا مَوَاطِنَهُمْ فَالسِّتَّةُ الْأَوَّلُونَ تَفَرَّقُوا فِي الْيَمَنِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْيَرُونَ خَرَجُوا إِلَى جِهَاتٍ قَاصِيَةٍ فَلَحِقَتِ الْأَزْدُ بِعُمَانَ، وَلَحِقَتْ خُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ فِي مَكَّةَ، وَلَحِقَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِيَثْرِبَ، وَلَعَلَّهُمْ مَعْدُودُونَ فِي لَخْمٍ، وَلَحِقَتْ غَسَّانُ بِبُصْرَى وَالْغُوَيْرِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَلَحِقَتْ لَخْمٌ بِالْعِرَاقِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْقَصَصِ لِهَذَا التَّفَرُّقِ سَبَبًا هُوَ أَشْبَهُ بِالْخُرَافَاتِ فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ. وَعِنْدِي أَن ذَلِك لَا يَخْلُو مِنْ خِذْلَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَلَبَهُمُ التَّفَكُّرَ فِي العواقب فاستخفّ الشَّيْطَانُ أَحْلَامَهُمْ فَجَزِعُوا مِنِ انْقِلَابِ حَالِهِمْ وَلِمَ يَتَدَرَّعُوا بِالصَّبْرِ حِينَ سُلِبَتْ عَنْهُمُ النِّعْمَةُ وَلَمْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ فَبَعَثَهُمُ الْجَزَعُ وَالطُّغْيَانُ وَالْعِنَادُ وَسُوءُ التَّدْبِيرِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَنْ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَنْ يَلُمُّوا شَعْثَهُمْ وَيُرْقِعُوا خَرْقَهُمْ فَتَشَتَّتُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَخْفَى مَا يُلَاقُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَصَبٍ وَجُوعٍ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْحَمُولَةِ وَالْأَزْوَادِ وَالْحُلُولِ فِي دِيَارِ أَقْوَامٍ لَا يَرْثُونَ لِحَالِهِمْ وَلَا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِمُقَاسَمَةِ أَمْوَالِهِمْ فَيَكُونُونَ بَيْنَهُمْ عَافِينَ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تَذْيِيلٌ فَلِذَلِكَ قُطِعَتْ، وَافْتِتَاحُهَا بِأَدَاةِ التوكيد للاهتمام بالْخبر. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مساكنهم آيَة [سبأ: 15] . وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّذْيِيلَ تَنْهِيَةٌ لِلْقِصَّةِ وَأَنَّ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْغَرَضِ الْأَوَّلِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنْتَقَلِ مِنْهُ إِلَى الْعِبْرَةِ بِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالْمُمَثَّلِ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ بِحَالِ أَهْلِ سَبَأٍ. وَجُمِعَ «الْآيَاتُ» لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ عِدَّةُ آيَاتٍ وَعِبَرٍ فَحَالَةُ مَسَاكِنِهِمْ آيَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَفِيهِ آيَةٌ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِي إِرْسَالِ سير العرم عَلَيْهِم آيَةٌ على انْفِرَاده تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ، وَعَلَى أَنَّهُ الْمُنْتَقِمُ وَعَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، فَلِذَلِكَ عَاقَبَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَفِي انْعِكَاسِ حَالِهِمْ مِنَ الرَّفَاهَةِ إِلَى الشَّظَفِ آيَةٌ عَلَى تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْعَالَمِ وَآيَةٌ على صِفَات الْأَفْعَال لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ مِنْ عَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ لِدَوَامِ حَالٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَفِيمَا كَانَ مِنْ عُمْرَانِ إِقْلِيمِهِمْ وَاتِّسَاعِ قُرَاهُمْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ آيَةٌ عَلَى مَبْلَغِ الْعُمْرَانِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ مِنْ آيَاتِ التَّصَرُّفَاتِ، وَآيَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ أَسَاسُ الْعُمْرَانِ. وَفِي تَمَنِّيهِمْ زَوَالَ ذَلِكَ آيَةٌ عَلَى مَا قَدْ تَبْلُغُهُ الْعُقُولُ مِنَ الِانْحِطَاطِ الْمُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَذَهَابِ عَظَمَتِهَا، وَفِيمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ النُّزُوحِ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالتَّشَتُّتِ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ على مَا يلجىء الِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ النَّاسَ مِنِ ارْتِكَابِ الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ كَمَا يَقُولُ الْمثل: الْحمى أضرعتني إِلَيْكَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَبَّارٍ وشَكُورٍ فِي الْوَصْفِ لِإِفَادَةِ أَنَّ وَاجِبَ الْمُؤْمِنِ التَّخَلُّقُ بِالْخُلُقَيْنِ وَهُمَا: الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ لَمْ يشكروا النِّعْمَة فيطروها، وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنْ زَوَالِهَا فَاضْطَرَبَتْ نُفُوسُهُمْ وَعَمَّهُمُ الْجَزَعُ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَا تسْأَل عَمَّا لَا قوه فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَتَالِفِ وَالْمَذَلَّاتِ. فَالصَّبَّارُ يَعْتَبِرُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ خَيْرٌ مِنَ الْجَزَعِ وَيَرْتَكِبُ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الْجَزَعُ فَيُلْقِي بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَخْطَارِ وَلَا يَنْظُرُ فِي الْعَوَاقِبِ.

وَالشَّكُورُ يَعْتَبِرُ بِمَا أُعْطِيَ مِنَ النِّعَمِ فَيَزْدَادُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَبْطَرُ النِّعْمَةَ وَلَا يَطْغَى فَيُعَاقَبَ بِسَلْبِهَا كَمَا سُلِبَتْ عَنْهُمْ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَحْرِمَهُمُ اللَّهُ التَّوْفِيقَ. وَأَنْ يُقْذَفَ بِهِمُ الْخِذْلَانُ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ تَأْمِينَ الطَّرِيقِ وَتَيْسِيرَ الْمُوَاصَلَاتِ وَتَقْرِيبَ الْبُلْدَانِ لِتَيْسِيرِ تَبَادُلِ الْمَنَافِعِ وَاجْتِلَابِ الْأَرْزَاقِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ نِعْمَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَمَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ يُحِبُّهُ اللَّهُ لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يَرْحَمَهُ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَة: 125] وَقَالَ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [الْبَقَرَة: 126] وَقَالَ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْش: 4] فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ: 18] . وَعَلَى أَنَّ الْإِجْحَافَ فِي إِيفَاءِ النِّعْمَةِ حَقَّهَا مِنَ الشُّكْرِ يُعَرِّضُ بِهَا لِلزَّوَالِ وَانْقِلَابِ الْأَحْوَالِ قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النَّحْل: 112] . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ حَقًّا عَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْعَوْا جُهْدَهُمْ فِي تَأْمِينِ الْبِلَادِ وَحِرَاسَةِ السُّبُلِ وَتَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ وَتَقْرِيرِ الْأَمْنِ فِي سَائِرِ نَوَاحِي الْبِلَادِ جَلِيلِهَا وَصَغِيرِهَا بِمُخْتَلِفِ الْوَسَائِلِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَا تُنْفَقُ فِيهِ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَبْذُلُ فِيهِ أَهْلُ الْخَيْرِ مِنَ الْمُوسِرِينَ أَمْوَالَهُمْ عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ الْمَشْمُولَةِ لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . وَكَانَ حَقًّا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يُرْشِدُوا الْأَئِمَّةَ وَالْأُمَّةَ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَأَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى مَعَالِمِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَمَسَالِكِهِ بِالتَّفْصِيلِ دُونَ الْإِجْمَالِ، فَقَدِ افْتَقَرَتِ الْأُمَّةُ إِلَى الْعَمَلِ وسئمت الْأَقْوَال.

[سورة سبإ (34) : الآيات 20 إلى 21]

[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 20 إِلَى 21] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ [سبأ: 7] الْآيَةَ وَأَن مَا بَينهمَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَسُوقَةِ لِلِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ الَخْ. وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى سَبَأٍ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ. وَلَكِنْ لَا مَفَرَّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ: 22] الْآيَاتِ هُوَ عَوْدٌ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهَا بِذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَهْلِ سَبَأٍ. وَصَلُوحَيَّةُ الْآيَة للمحملين ناشئة مِنْ مَوْقِعِهَا، وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ تَرْتِيبِ مَوَاقِعِ الْآيَةِ. فَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ أَتْبَاعِهِ لِيَحْذَرُوهُ وَيَسْتَيْقِظُوا لِكَيْدِهِ فَلَا يَقَعُوا فِي شَرَكِ وَسْوَسَتِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لِلْمُشْرِكِينَ أَوْ سَوَّلَ لِلْمُمَثَّلِ بِهِمْ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْإِشْرَاكَ بِالْمُنْعِمِ وَحَسَّنَ لَهُمْ ضِدَّ النِّعْمَةِ حَتَّى تَمَنَّوْهُ وَتَوَسَّمَ فِيهِمُ الِانْخِدَاعَ لَهُ فَأَلْقَى إِلَيْهِمْ وَسْوَسَتَهُ وَكَرَّهَ إِلَيْهِمْ نَصَائِحَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ فَصَدَقَ تَوَسُّمُهُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِدَعْوَتِهِ فَقَبِلُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْ خِلَافِهَا فَاتَّبَعُوهُ. فَفِي قَوْلِهِ: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ إِيجَازُ حَذْفٍ لِأَنَّ صِدْقَ الظَّنِّ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ اتِّبَاعُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى شَيْءٍ ظَانًّا اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدَّقَ بِتَخَفِيفِ الدَّالِ فَ إِبْلِيسُ فَاعِلٌ وظَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي ظَنِّهِ. وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ صَدَّقَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَوْقَعَ أَوْ أَلْقَى، أَيْ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ فَصَدَقَ فِيهِ. وَالصِّدْقُ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ فِي الظَّنِّ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الصِّدْقِ. قَالَ أَبُو الْغُولِ الطُّهَوِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي ... فَوَارِسَ صَدَقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي

وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ صَدَّقَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ بِمَعْنَى حَقَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ انْخَدَعُوا لِوَسْوَسَتِهِ فَهُوَ لَمَّا وَسْوَسَ لَهُمْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ فَجَدَّ فِي الْوَسْوَسَةِ حَتَّى اسْتَهْوَاهُمْ فَحَقَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي (عَلَى) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّغَلُّبِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَاتَّبَعُوهُ تَفْرِيعٌ وَتَعْقِيبٌ عَلَى فِعْلِ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أَيْ تَحَقَّقَ ظَنُّهُ حِينَ انْفَعَلُوا لِفِعْلِ وَسْوَسَتِهِ فَبَادَرُوا إِلَى الْعَمَلِ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْكُفْرَانِ. وإِلَّا فَرِيقاً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي فَاتَّبَعُوهُ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ ضَمِيرُ «اتَّبَعُوهُ» عَائِدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى أَهْلِ سَبَإٍ فَيُحْتَمَلُ الِاتِّصَالُ إِنْ كَانَ فيهم مُؤمنين وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَمْ يَعْصِهِ فِي ذَلِكَ إِلَّا فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَوِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ سَبَإٍ. فَلَعَلَّ فِيهِمْ طَائِفَةً مُؤْمِنِينَ مِمَّنْ نَجَوْا قَبْلَ إِرْسَالِ سَيْلِ الْعَرِمِ. وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ مُطْلَقًا، وَاسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَقِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْفَرِيقَ يَصْدُقُ بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَاف: 30] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ إِلَّا فَرِيقًا هُمْ بَعْضُ جَمَاعَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ مَا كَانَ لِلشَّيْطَانِ مِنْ سُلْطَانٍ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. وَفِعْلُ كانَ فِي النَّفْيِ مَعَ مِنْ الَّتِي تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فِي النَّفْيِ يُفِيدُ انْتِفَاءَ السُّلْطَانِ، أَيِ الْمُلْكِ وَالتَّصْرِيفِ لِلشَّيْطَانِ، أَيْ لَيْسَتْ لَهُ قُدْرَةٌ ذَاتِيَّةٌ هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِهَا يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي الْعَالَمِ كَيْفَ يَشَاءُ لِأَنَّ تِلْكَ الْقُدْرَةَ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ. فَيُفِيدُ أَنَّ تَأْثِيرَ وَسْوَسَتِهِ فِيهِمْ كَانَ بِتَمْكِينٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ لَكِنْ جَعَلْنَا الشَّيْطَانَ سَبَبًا يَتَوَجَّهُ إِلَى عُقُولِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ فَتُخَامِرُهَا وَسْوَسَتُهُ فَيَتَأَثَّرُ مِنْهَا فَرِيقٌ وَيَنْجُو مِنْهَا فَرِيقٌ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ

وَهَؤُلَاءِ مِنْ قُوَّة الانفعال أَو الممانعة عَلَى حَسَبِ السُّنَنِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ سُلْطَانٍ، وَحُذِفَ الْمُسْتَثْنَى وَدَلَّ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا سُلْطَانًا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ. فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُلْطَانٌ مَجْعُولٌ لَهُ بِجَعْلِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ أَنَّ تَعْلِيلَهُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَانْظُرْ مَا قُلْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [42] وَضُمَّهُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ هُنَا. وَاقْتُصِرَ مَنْ عَلَّلَ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى تَمْيِيزِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ الَّذِينَ سَبَقَتْ إِلَيْهِمُ الْمَوْعِظَةُ بِأَهْلِ سَبَإٍ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِأَن جحودهم الْآخِرَة قَرِينٌ لِلشِّرْكِ وَمُسَاوٍ لَهُ فَإِنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِالْآخِرَةِ لَآمَنُوا بِرَبِّهَا وَهُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ عِلَلَ جَعْلِ الشَّيْطَانِ لِلْوَسْوَسَةِ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى تَمْيِيزِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُعْرِضِينَ. وَكُنِّيَ بِ «نَعْلَمَ» عَنْ إِظْهَارِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الظُّهُورَ يُلَازِمُ الْعِلْمَ فِي الْعرف. قَالَ قبيضة الطَّائِيُّ مِنْ رِجَالِ حَرْبِ ذِي قَارٍ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَرَادَ لِيَتَمَيَّزَ الْجَبَانُ مِنَ الشُّجَاعِ فَيَعْلَمُهُ النَّاسُ، فَإِنَّ غَرَضَهُ الْأَهَمَّ إِظْهَارُ شَجَاعَةِ نَفْسِهِ لِثِقَتِهِ بِهَا لَا اخْتِبَارُ شَجَاعَةِ أَقْرَانِهِ وَإِلَّا لَكَانَ مُتَرَدِّدًا فِي إِقْدَامِهِ. فَالْمَعْنَى: لِيَظْهَرَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَيَتَمَيَّزَ عَمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ فَيَعْلَمُهُ مَنْ يَعْلَمُهُ وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُنَا بِهِ تَعَلُّقًا جُزْئِيًّا عِنْدَ حُصُولِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ تَعَلُّقٍ تَنْجِيزِيٍّ لِعِلْمِ اللَّهِ. وَرَأَيْتُ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» لِعَبْدِ الْحَكِيمِ السَّلَكُوتِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَثْبَتَ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ. وَخُولِفَ فِي النَّظْمِ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ فَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ فِعْلِيَّةً، وَجَاءَتْ جُمْلَةُ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ اسْمِيَّةً لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ طَارِئٌ عَلَى كُفْرِهِمُ السَّابِقِ وَمُتَجَدِّدٌ وَمُتَزَايِدٌ آنًا فَآنًا. فَكَانَ مُقْتَضَى الْحَالِ إِيرَادُ الْفِعْلِ فِي صِلَةِ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا شَكُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ هُوَ أَمْرٌ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ فَاجْتُلِبَتْ لِأَصْحَابِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ.

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 إلى 23]

وَجِيءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الشَّكِّ بِنُفُوسِهِمْ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْها بقوله: «بشك» . وَجُمْلَةُ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تَذْيِيلٌ. وَالْحَفِيظُ: الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدِرَتِهِ مَا هُوَ فِي حِفْظِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَة إِذْ بمجموعهما تَتَقَوَّمُ مَاهِيَّةُ الْحِفْظِ وَلِذَلِكَ يُتْبَعُ الْحِفْظُ بِالْعِلْمِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: 55] . وَصِيغَةُ فَعِيلٍ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ وَأَفَادَ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ فَتَنَزَّلَ هَذَا التَّذْيِيلُ مَنْزِلَةَ الِاحْتِرَاسِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، أَيْ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ فَتَقُومَ الْحُجَّةُ لَهُم وَعَلَيْهِم. [22، 23] [سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 22 إِلَى 23] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) كَانَتْ قِصَّةُ سَبَأٍ قَدْ ضُرِبَتْ مَثَلًا وَعِبْرَةً لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ فِي أَحْوَالِهِمْ مَثِيلٌ لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْنِ بِلَادِهِمْ وَتَيْسِيرِ أَرْزَاقِهِمْ وَتَأْمِينِ سُبُلِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْقَصَص: 57] وَقَوْلُهُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ فِيمَا قَابَلُوا بِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ بِهِ وَكُفْرَانِ نِعْمَتِهِ وَإِفْحَامِهِمْ دُعَاةَ الْخَيْرِ الْمُلْهَمِينَ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى دَعْوَتِهِمْ، فَلَمَّا تَقَضَّى خَبَرُهُمْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى تَطْبِيقِ الْعِبْرَةِ عَلَى مَنْ قَصَدَ اعْتِبَارَهُمُ انْتِقَالًا مُنَاسَبَتُهُ بَيِّنَةٌ وَهُوَ أَيْضًا عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَسِيقَ لَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ مَا هُوَ فِيهِ تَوْقِيفٌ عَلَى أَخْطَائِهِمْ، وَأَيْضًا فَلَمَّا جَرَى مِنِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيْطَانِ أَهْلَ سَبَأٍ فَاتَّبَعُوهُ وَكَانَ الشَّيْطَانُ مَصْدَرَ الضَّلَالِ وَعُنْصُرَ الْإِشْرَاكِ أَعْقَبَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ فُرُوعِهِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِأَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا هُوَ مُتَتَابِعٌ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَتَابِعَةِ بِكَلِمَةِ قُلِ فَأَمَرَ بِالْقَوْلِ تَجْدِيدًا لِمَعْنَى التَّبْلِيغِ الَّذِي هُوَ مُهِمَّةُ كُلِّ الْقُرْآنِ.

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ادْعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيِ اسْتَمِرُّوا عَلَى دُعَائِكُمْ. والَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْنَاهُ زَعَمْتُمُوهُمْ أَرْبَابًا، فَحُذِفَ مَفْعُولَا الزَّعْمِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَحُذِفَ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ قَصْدًا لِتَخْفِيفِ الصِّلَةِ بِمُتَعَلِّقَاتِهَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَحَذْفُهُ لِدَلَالَةِ صِفَتِهِ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: زَعَمْتُمْ أَوْلِيَاءَ. وَمَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنهم مبتدأون مِنْ جَانِبٍ غَيْرِ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً مُبْتَدِئِينَ إِيَّاهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ حِينَ يَعْبُدُونَهُمْ قَدْ شُغِلُوا بِعِبَادَتِهِمْ فَفَرَّطُوا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَتَجَاوَزُوا حَقَّ إِلَهِيَّتِهِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْقَاتٍ وَفِيرَةٍ. وَجُمْلَةُ لَا يَمْلِكُونَ مُبَيِّنَةٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنَ التَّخْطِئَةِ. وَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ مِلْكُ أَحْقَرِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ مَا يُسَاوِي ذَرَّةً مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَالذَّرَّةُ: بَيْضَةُ النَّمْل الَّتِي تبدو حُبَيْبَةً صَغِيرَةً بَيْضَاءَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [61] . وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَوْهَرُهُمَا وعينهما لَا مَا تَشْتَمِلَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّ جَوْهَرَهُمَا لَا يَدَّعِي الْمُشْرِكُونَ فِيهِ مُلْكًا لِآلِهَتِهِمْ، فَالْمِثْقَالُ: إِمَّا آلَةُ الثِّقَلِ فَهُوَ اسْمٌ لِلصُّنُوجِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا فَأُطْلِقَ عَلَى الْعَدِيلِ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَإِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي بِهِ التَّثْقِيلُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعَدِيلِ مَجَازًا، وَتَقَدَّمَ الْمِثْقَالُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [47] . وَمِثْقَالُ الذَّرَّةِ: مَا يَعْدِلُ الذَّرَّةَ فَيُثْقَلُ بِهِ الْمِيزَانُ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ تَأْكِيدٌ لَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَقَدْ نُفِيَ أَنْ يَكُونَ لِآلِهَتِهِمْ مُلْكٌ مُسْتَقِلٌّ، وَأُتْبِعَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لَهُم شرك فِي شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ كَمَا هُوَ السِّيَاقُ فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الشِّرْكِ إِيجَازًا لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوِفَاقِ.

ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ظَهِيرٌ، أَيْ مُعِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ الظَّهِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [88] . وَهُنَا تعين التَّصْرِيح بالمتعلق رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ تُقَرِّبُ إِلَيْهِ وَتُبَعِّدُ عَنْهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ شَفِيعٌ عِنْدَ اللَّهِ يَضْطَرُّهُ إِلَى قَبُولِ الشَّفَاعَةِ فِيمَنْ يَشْفَعُ لَهُ لِتَعْظِيمٍ أَوْ حَيَاءٍ. وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمُتَعَلِّقِ هُنَا أَيْضًا رَدًّا عَلَى قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] فَنُفِيَتْ شَفَاعَتُهُمْ فِي عُمُومِ نَفْيِ كُلِّ شَفَاعَةٍ نَافِعَةٍ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ. وَفِي هَذَا إِبْطَالُ شَفَاعَةِ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا لَهُمْ شَفَاعَةً لَازِمَةً مِنْ صِفَاتِ آلِهَتِهِمْ لِأَنَّ أَوْصَافَ الْإِلَهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ذَاتِيَّةً فَلَمَّا نَفَى اللَّهُ كُلَّ شَفَاعَةٍ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا لِلشَّافِعِ انْتَفَتِ الشَّفَاعَةُ الْمَزْعُومَةُ لِأَصْنَامِهِمْ. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ لَا يُبْطِلُ شَفَاعَةَ الْأَصْنَامِ فَافْهَمْ. وَجَاءَ نَظْمُ قَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ نَظْمًا بَدِيعًا مِنْ وَفْرَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ النَّفْعَ يَجِيءُ بِمَعْنَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعَمَلِ وَنَجَاحِهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا حَلِفِي عَلَى الْبَرَاءَةِ نَافِعٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْعَام: 158] ، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْمُسَاعِدِ الْمُلَائِمِ وَهُوَ ضِدُّ الضَّارِّ وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ. وَمِنْهُ: دَوَاءٌ نَافِعٌ، وَنَفَعَنِي فُلَانٌ. فَالنَّفْعُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْآيَةِ يُفِيدُ الْقَبُولَ مِنَ الشَّافِعِ لِشَفَاعَتِهِ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يُفِيد انْتِفَاع الْمَشْفُوع لَهُ بالشفاعة، أَي حُصُول النَّفْعِ لَهُ بِانْقِشَاعِ ضُرِّ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] . فَلَمَّا عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِلَفْظِ الشَّفَاعَةِ الصَّالِحِ لِأَنْ يُعْتَبَرَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ احْتَمَلَ النَّفْعُ أَنْ يَكُونَ نَفْعَ الْفَاعِلِ، أَيْ قَبُولُ شَفَاعَتِهِ، وَنَفْعَ الْمَفْعُولِ، أَيْ قَبُولَ شَفَاعَةِ مَنْ شَفَعَ فِيهِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الشَّفَاعَةِ بِاللَّامِ دُونَ (فِي) وَدُونَ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ زَادَ صَلُوحِيَّتَهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ تَقْتَضِي شَافِعًا وَمَشْفُوعًا فِيهِ فَكَانَ بِذَلِكَ أَوْفَرَ مَعْنًى. فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جِنْسِ الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيِّ بِقَرِينَةِ وُجُودِ اللَّامِ وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً مِنْ مُتَعَلِّقِ تَنْفَعُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولِهِ بِاللَّامِ إِلَّا إِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْهُ فَضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ فَلِذَلِكَ احْتَمَلَتْ

اللَّامُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً عَلَى الشَّافِعِ، وَأَنَّ (مَنِ) الْمَجْرُورَةَ بِاللَّامِ صَادِقَةٌ عَلَى الشَّافِعِ، أَيْ لَا تُقْبَلُ شَفَاعَةٌ إِلَّا شَفَاعَةٌ كَائِنَةٌ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ، أَيْ أَذِنَ لَهُ بِأَنْ يَشْفَعَ فَاللَّام للْملك كَقَوْلِك: الْكَرَمُ لِزَيْدٍ، أَيْ هُوَ كَرِيمٌ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السَّجْدَة: 4] . وَأَنْ تَكُونَ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى الْمَشْفُوعِ فِيهِ، وَ (مَنْ) صَادِقَةً عَلَى مَشْفُوعٍ فِيهِ، أَيْ إِلَّا شَفَاعَةً لِمَشْفُوعٍ أَذِنَ اللَّهُ الشَّافِعِينَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ أَيْ لِأَجْلِهِ فَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ كَقَوْلِكَ: قُمْتُ لِزَيْدٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] . وَإِنَّمَا جِيءَ بِنَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ مَا نُظِمَتْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إِبْطَالُ رَجَائِهِمْ أَنْ تَشْفَعَ لَهُمْ آلِهَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَيَنْتَفِعُوا بِشَفَاعَتِهَا، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ تَوْبِيخٌ وَتَعْجِيزٌ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِمُ الْآلِهَةَ الْمَزْعُومَةَ فَاقْتَضَتْ إِبْطَالَ الدَّعْوَةِ وَالْمَدْعُوِّ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ نَفْيَ جَمِيعِ أَصْنَافِ التَّصَرُّفِ عَنْ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا جَمَعَتْ نَفْيَ أَصْنَافِ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، لِأَنَّ مِنَ الْعَرَبِ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَهِيَ فِي زَعْمِهِمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي السَّمَاوَاتِ تُدَبِّرُ أُمُورَ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبْطَلَ هَذَا الزَّعْمَ قَوْلُهُ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فَأَمَّا فِي السَّمَاوَاتِ فَبِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَصَرَّفُ فِي السَّمَاوَاتِ وَإِنَّمَا تَصَرُّفُهَا فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا فِي الْأَرْضِ فَبِقَوْلِهِ: وَلا فِي الْأَرْضِ. وَمِنَ الْعَرَبِ عَبْدَةُ أَصْنَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَنَفَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَمِنْهُم من يَزْعمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ جَعَلَهَا اللَّهُ شُفَعَاءَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَنَفَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذِنَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلَ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ. وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ فِي مَوْضِعِ نَائِبِ الْفَاعِلِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ تُفِيدُ ارْتِبَاطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا لَا مَحَالَةَ فَالضَّمَائِرُ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ حَتَّى عَائِدَةٌ عَلَى مَا يَصْلُحُ لَهَا فِي الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ أَفَادَتْ حَتَّى الْغَايَةَ بِأَصْلِ وَضْعِهَا وَهِيَ هُنَا غَايَةٌ لِمَا أَفْهَمَهُ قَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ أَنَّ هُنَالِكَ إِذْنًا يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ

الْقُدْسِ يَأْذَنُ اللَّهُ بِهِ نَاسًا مِنَ الْأَخْيَارِ بِأَنْ يَشْفَعُوا كَمَا جَاءَ تَفْصِيلُ بَعْضِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ يَرْجُونَ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِمْ يَنْتَظِرُونَ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِأَنْ يَشْفَعَ وَهُمْ فِي فَزَعٍ مِنَ الْإِشْفَاقِ أَنْ لَا يُؤْذَنَ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَشْفَعَ زَالَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَاسْتَبْشَرُوا إِذْ أَنَّهُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِ الَّذِينَ قُبِلَتِ الشَّفَاعَةُ فِيهِمْ، أَي وأيس المحرومون مِنْ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ فِيهِمْ. وَهَذَا مِنَ الْحَذْفِ الْمُسَمَّى بِالِاكْتِفَاءِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الشَّيْءِ عَنْ ذِكْرِ نَظِيرِهِ أَوْ ضِدِّهِ، وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّهُ اقْتِصَارٌ عَلَى مَا يَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ. وَقَدْ طُوِيَتْ جُمَلٌ مِنْ وَرَاءِ حَتَّى، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ وَيَوْمَئِذٍ يَبْقَى النَّاسُ مُرْتَقِبِينَ الْإِذْنَ لِمَنْ يَشْفَعُ، فَزِعِينَ مِنْ أَنْ لَا يُؤْذَنَ لِأَحَدٍ زَمَنًا يَنْتَهِي بِوَقْتِ زَوَالِ الْفَزَعِ عَنْ قُلُوبِهِمْ حِينَ يُؤْذَنُ لِلشَّافِعِينَ بِأَنْ يَشْفَعُوا، وَهُوَ إِيجَازُ حَذْفٍ. وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ومتعلق ب قالُوا. وفُزِّعَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مُشَدَّدَةً، وَهُوَ مُضَاعَفُ فُزِعَ. وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ مِثْلَ: قُشِّرَ الْعُودُ، وَمَرِضَ الْمَرِيضُ إِذَا بَاشَرَ عِلَاجَهُ، وَبُنِيَ لِلْمَجْهُولِ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ التَّفْزِيعِ بِأَنَّهُ صَادِرٌ مِنْ جَانِبٍ عَظِيمٍ، فَفِيهِ جَانِبُ الْآذِنِ فِيهِ، وَجَانِبُ الْمُبَلِّغِ لَهُ وَهُوَ الْمَلَكُ. وَالتَّفْزِيعُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِانْكِشَافٍ إِجْمَالِيٍّ يُلْهَمُونَهُ فَيَعْلَمُونَ بِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِالشَّفَاعَةِ ثُمَّ يَتَطَلَّبُونَ التَّفْصِيلَ بِقَوْلِهِمْ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ لِيَعْلَمُوا مَنْ أَذِنَ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَهَذَا كَمَا يُكَرِّرُ النَّظَرَ وَيُعَاوِدُ الْمُطَالَعَةَ مَنْ يَنْتَظِرُ الْقَبُولَ، أَوْ هُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْخَشْيَةِ فَإِنَّهُمْ إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ تساءلوا لمزيد التحقق بِمَا اسْتَبْشَرُوا بِهِ فَيُجَابُونَ أَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ. فَضَمِيرُ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ عَائِدٌ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولِ قَوْلِهِ: لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. وَهُمُ الَّذِينَ أذن للشفعاء بِقبُول شَفَاعَتِهِمْ مِنْهُمْ وَهُمْ يُوَجِّهُونَ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ، وَضَمِيرُ قالُوا الْحَقَّ عَائِدٌ إِلَى الْمَسْئُولِينَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ الْحَقَّ وَقَعَتْ حِكَايَةً لِمَقُولِ اللَّهِ بِوَصْفٍ يَجْمَعُ مُتَنَوَّعَ

أَقْوَالِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَئِذٍ مِنْ قَبُولِ شَفَاعَةٍ فِي بَعْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهِمْ وَمِنْ حِرْمَانٍ لِغَيْرِهِمْ كَمَا يُقَالُ: مَاذَا قَالَ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ؟ فَيُقَالُ: قَالَ الْفَصْلَ. فَهَذَا حِكَايَةٌ لِمَقُولِ اللَّهِ بِالْمَعْنَى. وَانْتِصَابُ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قالُوا يَتَضَمَّنُ معنى الْكَلَام، أَيْ قَالَ الْكَلَامَ الْحَقَّ، كَقَوْلِهِ: وَقَصِيدَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ غَرِيبَةً ... قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْآيَةِ وَيَلْتَئِمُ مَعَ مَعَانِيهَا. وَقَدْ ذَهَبَتْ فِي تَفْسِيرِهَا أَقْوَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَتَفَرَّقُوا بَدَدًا بَدَدًا. وَ (ذَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَاذَا إِشَارَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ أَصْلَ: مَاذَا قالَ: مَا هَذَا الَّذِي قَالَ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِ الْمَوْصُولِ قِيلَ أَنَّ (ذَا) بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ تَصِيرُ اسْمَ مَوْصُولٍ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْمَوْصُولُ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: 255] . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ فُزِّعَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ مُشَدَّدَةً بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ فَزَّعَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِآدَمَ: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ» ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي شَفَاعَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ كُلِّهِمْ «لِيَدْخُلْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ» . وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَبَوْا أَنْ يَشْفَعُوا وَأَنَّ أَهْلَ الْمَحْشَرِ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: «سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ» . وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ تَتِمَّة جَوَابَ الْمُجِيبِينَ، عَطَفُوا تَعْظِيمَ اللَّهِ بِذِكْرِ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ، وَهُمَا صِفَةُ الْعَلِيُّ وَصِفَةُ الْكَبِيرُ. وَالْعُلُوُّ: عُلُوُّ الشَّأْنِ الشَّامِلُ لِمُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْعِلْمِ. وَالْكِبْرُ: الْعَظَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَخْصِيصُ هَاتَيْنِ

[سورة سبإ (34) : آية 24]

الصِّفَتَيْنِ لِمُنَاسَبَةِ مَقَامِ الْجَوَابِ، أَيْ قَدْ قَضَى بِالْحَقِّ لِكُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ أَحَدٍ وَلَا يَعُوقُهُ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى حَقِّهِ عَائِقٌ وَلَا يَجُوزُ دُونَهُ حَائِلٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [62] . وَاعْلَم أَنه قد وَرَدَ فِي صِفَةِ تَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ الْوَحْيَ أَنَّ مَنْ يَتَلَقَّى مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْوَحْيَ يَسْأَلُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ: أَنَّ نَبِيءَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» اهـ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: قَضَى صَدَرَ مِنْهُ أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي تَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةُ تَنْفِيذَهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «فِي السَّمَاءِ» يَتَعَلَّقُ بِ «قَضَى» بِمَعْنَى أَوْصَلَ قَضَاءَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَيْثُ مَقَرُّ الْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلُهُ: «خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ» أَيْ خَوْفًا وَخَشْيَةً، وَقَوْلُهُ: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ أُزِيلَ الْخَوْفُ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْن عَبَّاس عِنْد التِّرْمِذِيِّ «إِذَا قَضَى رَبُّنَا أَمْرًا سَبَّحَ لَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ» قَالَ: «ثُمَّ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ» الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي آيَةِ سُورَةِ سَبَأٍ وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ تَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ أَمْرَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَتْ أَقْوَالُهُمْ عَلَى سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَيْسَ تَخْرِيجُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ مُرَادًا بِهِ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ مِنْ صُوَرِ مَعْنَاهُ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَهَذَا يُغْنِيكَ عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى تَكَلُّفَاتٍ تَعَسَّفُوهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَتَعَلُّقِهَا بِمَا قبلهَا. [24] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 24] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) انْتِقَالٌ مِنْ دَمْغِ الْمُشْرِكِينَ بِضَعْفِ آلِهَتِهِمْ وَانْتِفَاءِ جَدْوَاهَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى إِلْزَامِهِمْ بُطْلَانَ عِبَادَتِهَا بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْعِبَادَةِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ عِبَادَهُ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ شُكْرٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ إِلَّا الْمُنْعِمُ،

وَهَذَا احْتِجَاجٌ بِالدَّلِيلِ النظري لِأَن الِاعْتِرَاف بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ يَسْتَلْزِمُ انْفِرَادَهُ بِإِلَهِيَّتِهِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَيُشَارَكَ فِي بَعْضٍ آخَرَ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ حَقِيقَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ وَالتَّبْعِيضَ. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمَقُولِ فَإِنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ فِي مَقَامِ التَّصَدِّي لِلتَّبْلِيغِ دَالٌّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَإِعَادَةُ ذَلِكَ الْأَمْرِ زِيَادَةٌ فِي الِاهْتِمَامِ. ومَنْ اسْتِفْهَامٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْجَوَابِ مِنْ طَرَفِ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ لِتَحَقُّقِ أَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ الْجَوَابَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [31] . وَتَقَدَّمَ نَظِير صدر هَذِه الْآيَةِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وَعَطْفٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ إِبْرَازُ الْمَقْصِدِ بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ تُوقِعُ الْخَصْمَ فِي شَرَكِ الْمَغْلُوبِيَّةِ وَذَلِكَ بِتَرْدِيدِ حَالَتَيِ الْفَرِيقَيْنِ بَيْنَ حَالَةِ هُدًى وَحَالَةِ ضَلَالٍ لِأَنَّ حَالَةَ كُلِّ فَرِيقٍ لَمَّا كَانَتْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ حَالِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ بَيْنَ مُوَافَقَةِ الْحَقِّ وَعَدَمِهَا، تَعَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ الضَّلَالِ وَالْهُدَى دَائِرٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ لَا يَعْدُوَانِهِمَا. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِحَرْفِ أَوْ الْمُفِيدِ لِلتَّرْدِيدِ الْمُنْتَزَعِ مِنَ وَهَذَا اللَّوْنُ مِنَ الْكَلَامِ يُسَمَّى الْكَلَامَ الْمُنْصِفَ وَهُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمُجَادِلُ لِخَصْمِهِ مُوجِبَ تَغَيُّظٍ وَاحْتِدَادٍ فِي الْجِدَالِ، وَيُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ إِرْخَاءَ الْعِنَانِ لِلْمُنَاظِرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَرِينَةُ إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ هُنَا أَنِ اشْتَمَلَ عَلَى إِيمَاءٍ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فِي أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ بِطَرِيقِ مُقَابَلَةِ الْجَانِبَيْنِ فِي تَرْتِيبِ الْحَالَتَيْنِ بِاللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ وَهُوَ أَصْلُ اللَّفِّ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ ضَمِيرَ جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ وَجَمَاعَتِهِ وَجَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْهُدَى وَحَالَ الضَّلَالِ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْجَانِبَيْنِ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلِينَ مُوَجَّهُونَ إِلَى الْهُدَى وَالْآخِرِينَ مُوَجَّهُونَ إِلَى الضَّلَالِ الْمُبِينِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ قَرِينَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّعْرِيضِ وَهُوَ أَوْقَعُ مِنَ التَّصْرِيحِ لَا سِيَّمَا فِي اسْتِنْزَالِ طَائِرِ الْخَصْمِ. وَفِيهِ أَيْضًا تَجَاهُلُ الْعَارِفِ فَقَدِ الْتَأَمَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ مُحَسِّنَاتٍ مِنَ الْبَدِيعِ وَنُكْتَةٌ مِنَ الْبَيَانِ فَاشْتَمَلَتْ عَلَى أَرْبَعِ خُصُوصِيَّاتٍ.

[سورة سبإ (34) : آية 25]

وَجِيءَ فِي جَانِبِ أَصْحَابِ الْهُدَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الْمُسْتَعَارِ لِلتَّمَكُّنِ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُهْتَدِي بِحَالِ مُتَصَرِّفٍ فِي فَرَسِهِ يُرْكِضُهُ حَيْثُ شَاءَ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ من شَيْء يبلغ بِهِ مَقْصِدَهُ. وَهِيَ حَالَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِحَالِ الْمُهْتَدِي عَلَى بَصِيرَةٍ فَهُوَ يَسْتَرْجِعُ مَنَاهِجَ الْحَقِّ فِي كُلِّ صَوْبٍ، مُتَّسِعَ النَّظَرِ، مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ: فَفِيهِ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ الضَّالِّينَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الْمُسْتَعَار لشدَّة التَّلَبُّس بِالْوَصْفِ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي إِحَاطَةِ الضَّلَالِ بِهِمْ بِحَالِ الشَّيْءِ فِي ظَرْفٍ مُحِيطٍ بِهِ لَا يَتْرُكُهُ يُفَارِقُهُ وَلَا يَتَطَلَّعُ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقٍ يُلَازِمُهُ. وَفِيهِ أَيْضًا تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: 125] . فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ أَرْبَعُ اسْتِعَارَاتٍ وَثَلَاثَةُ مُحَسِّنَاتٍ مِنَ الْبَدِيعِ وَأُسْلُوبٌ بَيَانِيٌّ، وَحُجَّةٌ قَائِمَةٌ، وَهَذَا إِعْجَازٌ بَدِيعٌ. وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْمُبِينِ دُونَ وَصْفِ الْهُدَى بِالْمُبِينِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهُدَى مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْأَشَاعِرَةِ: الْإِيمَانُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا زِيَادَتُهُ بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيَكُونُ بِإِنْكَارِ بَعْضِ الْمُعْتَقَدَاتِ وَبِإِنْكَارِ جَمِيعِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ. وَلِذَلِكَ قِيلَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، فَوَصَفَ كُفْرَهُمْ بِأَنَّهُ أَشَدُّ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمُبِينَ هُوَ الْوَاضِحُ فِي جِنْسِهِ الْبَالِغُ غَايَة حَده. [25] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 25] قُلْ لَا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَقَالًا آخَرَ إِعَادَةً لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَاسْتِدْعَاءً لِأَسْمَاءِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ بَيَانًا لِلْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ فُصِلَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَنْ أُخْتِهَا إِذْ لَا يُعْطَفُ الْبَيَانُ عَلَى الْمُبِينِ بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَدَّدَ أَمْرَ الْفَرِيقَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى هُدًى وَالْآخَرُ فِي ضَلَالٍ وَكَانَ الضَّلَالُ يَأْتِي بِالْإِجْرَامِ

اتَّسَعَ فِي الْمُحَاجَّةِ فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا نَحْنُ أَجْرَمْنَا فَأَنْتُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِجُرْمِنَا وَإِذَا عَمِلْتُمْ عَمَلًا فَنَحْنُ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مُؤَاخَذٌ وَحْدَهُ بِعَمَلِهِ فَالْأَجْدَى بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ كُلٌّ فِي أَعْمَالِهِ وَأَعْمَالِ ضِدِّهِ لِيَعْلَمَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَيْضًا فُصِلَتْ لِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لِيَخُصَّهَا السَّامِعُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَدْلُولِهَا فَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ أَثْنَاءَ الِاحْتِجَاجِ. فَمَعْنَى: لَا تُسْئَلُونَ وَلا نُسْئَلُ، أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ خُوَيِّصَتُهُ. وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنْ أَثَرِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِجْرَامِ بِمِثْلِهِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْله كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوب ومسؤول أَرَادَ وَمُؤَاخَذٌ بِمَا سَبَقَ مِنْكَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَإِسْنَادُ الْإِجْرَامِ إِلَى جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: 32] كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤَنِّبُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ خَاطِئُونَ فِي تَجَنُّبِ عِبَادَةِ أَصْنَامِ قَوْمِهِمْ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ صَوْغِهِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ. وَصِيغَ مَا يَعْمَلُ الْمُشْرِكُونَ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ مِنْهُمْ عَمَلًا تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ عَمَلًا غَيْرَ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُوَادَعَةِ لِيَخْلُوَا بِأَنْفُسِهِمْ فَيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَلَا يُلْهِيَهِمْ جِدَالُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِعْرَاضِ ومحاسبة أنفسهم. وَفِيه زِيَادَة إنصاف إِذْ فرض الْمُؤْمِنُونَ الإجرام فِي جَانب أَنْفُسِهِمْ وَأَسْنَدُوا الْعَمَلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ عَنْ كُنْهِ كِلَا الْعَمَلَيْنِ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمُشَارَكَةِ الْقِتَالِ فَلَا تُجْعَلُ مَنْسُوخَةً بآيَات الْقِتَال.

[سورة سبإ (34) : آية 26]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 26] قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِمَا عَرَفْتَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ زِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُحَاجَّاتِ لِتَكُونَ كُلُّ مُجَادَلَةٍ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَأَيْضًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ نَفْيَ سُؤَالِ كُلِّ فَرِيقٍ عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ هُنَالِكَ سُؤَالًا عَنْ عَمَلِ نَفْسِهِ فَبَيَّنَ بِأَنَّ الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْحَقِّ حِينَ يَجْمَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُمْ مُنْكِرُوهُ فَمَا ظَنُّكَ بِحَالِهِمْ يَوْمَ تَحَقُّقِ مَا أَنْكَرُوهُ. وَهُنَا تَدَرَّجَ الْجَدَلُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْإِشَارَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ لِمَا فِي إِثْبَاتِ يَوْمِ الْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ مِنَ الْمُصَارَحَةِ بِأَنَّهُمُ الضَّالُّونَ. وَيُسَمَّى هَذَا التَّدَرُّجُ عِنْدَ أَهْلِ الْجَدَلِ بِالتَّرَقِّي. وَالْفَتْحُ: الْحُكْمُ وَالْفَصْلُ بِالْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الْأَعْرَاف: 89] وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ فَتْحِ الْكُوَّةِ لِإِظْهَارِ مَا خَلْفَهَا. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ تَذْيِيلٌ بِوَصْفِهِ تَعَالَى بِكَثْرَةِ الْحُكْمِ وَقُوَّتِهِ وَإِحَاطَةِ الْعِلْمِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ الْمُتَضَمِّنَةِ حُكْمًا جُزْئِيًّا فَذَيَّلَ بِوَصْفٍ كُلِّيٍّ. وَإِنَّمَا أَتْبَعَ الْفَتَّاحُ بِ الْعَلِيمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ لَا تَحُفُّ بِحُكْمِهِ أَسْبَابُ الْخَطَأ والجور الناشئة عَنِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَاتِّبَاعِ الضَّعْفِ النَّفْسَانِيِّ النَّاشِئِ عَنِ الْجَهْلِ بالأحوال والعواقب.

[سورة سبإ (34) : آية 27]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 27] قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) أُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ رَابِعَ مَرَّةٍ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ وَهُوَ رُجُوع إِلَى مهيع الِاحْتِجَاجَ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ فَهُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِجُمْلَةِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سبأ: 24] . وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: أَرُونِيَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، وَهُوَ تَعْجِيزٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ إِبْدَاءِ حُجَّةٍ لِإِشْرَاكِهِمْ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ بِدَلِيلِ النَّظِيرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ إِلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْبَدَاهَةِ. وَقَدْ سَلَكَ مِنْ طُرُقِ الْجَدَلِ طَرِيقَ الِاسْتِفْسَارِ، وَالْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْسَارُ مُقَدَّمًا عَلَى طَرَائِقِ الْمُنَاظَرَةِ وَإِنَّمَا أُخِّرَ هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ مُفْضِيًا إِلَى إِبْطَالِ دَعْوَى الْخصم بحذافيرها فَأُرِيدَ تَأْخِيرُهُ لِئَلَّا يَفُوتَ افْتِضَاحُ الْخَصْمِ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ تَبْسِيطًا لِبِسَاطِ الْمُجَادَلَةِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ دَلِيلٍ مُنَادِيًا عَلَى غَلَطِ الْخُصُومِ وَبَاطِلِهِمْ. وَافْتِضَاحُ الْخَطَأِ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُنَاظِرِ الَّذِي قَامَتْ حُجَّتُهُ. وَالْإِرَاءَةُ هُنَا مِنْ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْأَصَالَةِ، وَالثَّانِي بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ: أَرُونِي شُخُوصَهُمْ لِنُبْصِرَ هَلْ عَلَيْهَا مَا يُنَاسِبُ صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاهد الْأَصْنَام بادىء مَرَّةٍ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ يَرَى حِجَارَةً لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَفْقَهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْأَصْنَامِ بَدِيهِيٌّ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ رُؤْيَةِ حَالِهَا كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ: أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعٍ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمَرْئِيِّ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي جَعْلِهِمْ إِيَّاهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّيِّبِ: إِنَّ الَّذِينَ تَرُونَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَفِي جَعْلِ الصِّلَةِ أَلْحَقْتُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ لَمْ تَكُنْ مَوْصُوفَةً بِالْإِلَهِيَّةِ وَصْفًا ذَاتِيًّا حَقًّا وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَلْحَقُوهَا بِاللَّهِ تَعَالَى، فَتِلْكَ خُلْعَةٌ خَلَعَهَا عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ. وَتِلْكَ حَالَةٌ تُخَالِفُ صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَهَذَا الْإِلْحَاقُ اخْتَرَعَهُ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ جُمْلَةِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [سبأ: 24] . وَانْتَصَبَ شُرَكاءَ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَالْمَعْنَى: شُرَكَاءَ لَهُ.

[سورة سبإ (34) : آية 28]

وَلَمَّا أَعْرَضَ عَنِ الْخَوْضِ فِي آثَارِ هَذِهِ الْإِرَاءَةِ عُلِمَ أَنَّهُمْ مُفْتَضَحُونَ عِنْدَ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَقُدِّرَتْ حَاصِلَةٌ، وَأُعْقِبَ طَلَبُ تَحْصِيلِهَا بِإِثْبَاتِ أَثَرِهَا وَهُوَ الرَّدْعُ عَنِ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا، وَإِبْطَالُهَا عَنْهُمْ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ حَرْفَيِ الرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ ثُمَّ الِانْتِقَالِ إِلَى تَعْيِينِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الْفجْر: 17] . وَضَمِيرُ هُوَ اللَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الشَّأْنِ والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرَانِ، أَيْ بَلِ الشَّأْنُ الْمُهِمُّ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا آلِهَتُكُمْ فَفِي الْجُمْلَةِ قَصْرُ الْعِزَّةِ وَالْحُكْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ قَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرَ إِفْرَادٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْإِلَهِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمُسْتَحْضَرِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ اللَّهُ. وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: اللَّهُ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ عَطْفُ بَيَانٍ. والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرَانِ عَنِ الضَّمِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَظْهَرُ فِي اخْتِلَافِ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ وَاخْتِلَافِ مَوْقِعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَهُ، وَاخْتِلَافِ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْعِزَّةُ: الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْغَيْرِ. والْحَكِيمُ: وَصْفٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ إِتْقَانُ الصُّنْعِ، شَاعَ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِافْتِقَارِ أَصْنَامِهِمْ وَانْتِفَاءِ الْعِلْمِ عَنْهَا. وَهَذَا مَضْمُون قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَم: 42] . [28] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 28] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) انْتِقَالٌ مِنْ إِبْطَالِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالِهِمْ فِي شَأْنِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ مِنَ الْأَمْرِ بِمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِرِسَالَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْإِخْبَارِ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ إِلَيْهِ، وَيَحْصُلُ إِبْطَالُ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى منكريها من الْعَرَب وَإِثْبَات عمومها على مُنْكِرِيهَا مِنَ الْيَهُودِ. فَإِنَّ كَافَّةً مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَوَقَعَتْ هُنَا حَالًا مِنَ «النَّاسِ» مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [208] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [36] . وَذَكَرْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ كَافَّةً يُوصَفُ بِهِ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ وَأَنَّهُ تَعْتَوِرُهُ وُجُوهُ الْإِعْرَابِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَشَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ وَالِاسْتِعْمَالُ خِلَافًا لِابْنِ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، وَأَنَّ مَا شُدِّدَ بِهِ التَّنْكِيرُ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَهْوِيلٌ وَتَضْيِيقٌ فِي الْجَوَازِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ إِلَّا كَافَّةً. وَقَدَّمَ الْحَالَ عَلَى صَاحِبِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرِسَالَتِهِ كُلِّهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الْمَجْرُورِ جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ أَبَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ فَجَعَلَ كَافَّةً نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالَهُ كَافَّةً، أَيْ عَامَّةً. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَقَالَ: قَدْ جَوَّزَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ. وَقُلْتُ: وَجَوَّزَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالرَّضِيُّ. وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ كَافَّةً هُنَا حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ وَفَسَّرَهُ بِمَعْنَى جَامِعٍ لِلنَّاسِ فِي الْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقُّ التَّاءِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ تَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَتَاءِ الْعَلَّامَةِ وَالرَّاوِيَةِ وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى لِلْغَرَضِ أَيْضًا. وَقَدِ اشْتَرَكَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فِي إِخْرَاجِ كَافَّةً عَنْ مَعْنَى الْوَصْفِ بِإِفَادَةِ الشُّمُولِ الَّذِي هُوَ شُمُولٌ جُزْئِيٌّ فِي غَرَضٍ مُعَيَّنٍ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ الْكُلِّيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَنْ يَعْمِدُ إِلَى (كُلٍّ) فَيَقُولُ: إِنَّكَ كُلٌّ لِلنَّاسِ، أَيْ جَامِعٌ لِلنَّاسِ أَوْ يَعْمِدُ إِلَى (عَلَى) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْجُزْئِيِّ فَيَسْتَعْمِلُهَا بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْكُلِّيِّ فَيَقُولُ: إِيَّاكَ وَعَلَى، يُرِيدُ إِيَّاكَ وَالِاسْتِعْلَاءَ. والبشير النَّذِيرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَة الْبَقَرَةِ

[سورة سبإ (34) : الآيات 29 إلى 30]

وَأَفَادَ تَرْكِيبُ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ قَصْرَ حَالَةِ عُمُومِ الرِّسَالَةِ عَلَى كَافِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَرْسَلْناكَ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ تَخْصِيصِ إِرْسَالِكَ بِأَهْلِ مَكَّةَ أَوْ بِالْعَرَبِ أَوْ بِمَنْ يَجِيئُكَ يَطْلُبُ الْإِيمَانَ وَالْإِرْشَادَ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ مَجْلِسًا هُوَ فِيهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: «لَا أُحْسِنَ مِمَّا تَقُولُ أَيُّهَا الْمَرْءُ وَلَكِنِ اقْعُدْ فِي رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَ فَاقْرَأْ عَلَيْهِ» ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِثْبَاتَ رِسَالَتِهِ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ إِذْ لَا يَصْدُقُ ذَلِكَ الْقَصْرُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَصْلُ رِسَالَتِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ كُلِّهِمْ سَوَاءً مَنْ أَنْكَرَ رِسَالَتَهُ مِنْ أَصْلِهَا وَمَنْ أَنْكَرَ عُمُومَهَا وَزَعَمَ تَخْصِيصَهَا. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنِ اغْتِرَارِ الْمُغْتَرِّينَ بِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُنْكِرِينَ رِسَالَتَهُ بِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ تَغُرُّ الْمُتَأَمِّلَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ مَا بَشَّرْتَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا أَنْذَرْتَ بِهِ الْكَافِرِينَ، أَيْ يَحْسَبُونَ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ غَيْرَ صَادِقَتَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فعل يَعْلَمُونَ منزّل مَنْزِلَةَ اللَّامِ مَقْصُودًا مِنْهُ نَفْيُ صِفَةِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] أَيْ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ جَاهِلُونَ قَدْرَ الْبشَارَة والنذارة. [29، 30] [سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 29 إِلَى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِيَامَةُ وَالْبَعْثُ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الرِّسَالَةِ بِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خبر لكِنَّ [سبأ: 28] . وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ حَقَّ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَيَتَهَكَّمُونَ فَيَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَضَمِيرُ يَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُحَاجِّينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ هَذِهِ

الْمَقَالَةُ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَقُولُونَ تُفِيدُ التَّعْجِيبَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] مَعَ إِفَادَتِهَا تَكَرُّرَ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ وَتَجَدُّدَهُ. وَجُمْلَةُ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ إِلَى آخِرِهَا مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْجَوَابِ عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجَوَابُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ أَنَّ الْأَهَمَّ لِلْعُقَلَاءِ أَنْ تَتَوَجَّهَ هِمَمُهُمْ إِلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الْوَعْدِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُ وَإِنَّهُ لَا يُؤَخِّرُهُ شَيْءٌ وَلَا يُقَدِّمُهُ، وَحَسَّنَ هَذَا الْأُسْلُوبَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْكِنَايَةَ عَنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ فَكَانَ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَلِكَ زِيدَ فِي الْجَوَابِ كَلِمَةُ لَكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الْمِيعَادَ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهِمُ ابْتِدَاءً. وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِمَّا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعَهُ جَمَاعَةً يُخْبِرُونَ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَإِمَّا الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هَذَا الْوَعْدِ لِلِاسْتِخْفَافِ وَالتَّحْقِيرِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَةٌ ... لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا وَجَوَابُ: كُنْتُمْ صادِقِينَ دَلَّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَعَيِّنُوا لَنَا مِيقَاتَ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذَا كَلَامٌ صَادِرٌ عَنْ جَهَالَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ عَالِمًا بِوَقْتِ حُصُولِهِ وَلَوْ فِي الْمُضِيِّ فَكَيْفَ بِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي الْجَوَابِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْوَعْدِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بَاسِمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ مِيعادُ يَوْمٍ لِمَا فِي هَذَا الِاسْمِ النَّكِرَةِ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي يُوَجِّهُ نُفُوسَ السَّامِعِينَ إِلَى كُلِّ وَجْهٍ مُمْكِنٍ فِي مَحْمَلِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْبَعْثِ أَوْ يَوْمًا آخَرَ يَحِلُّ فِيهِ عَذَاب على أيمة الْكُفْرِ وَزُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَلَعَلَّ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ هُمْ أَصْحَابُ مَقَالَةِ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَأَفَادَ تَنْكِيرُ يَوْمٍ تَهْوِيلًا وَتَعْظِيمًا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْمِيعَادُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلْوَعْدِ فَإِضَافَتُهُ إِلَى ظَرْفِهِ بَيَانِيَّةٌ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مُسْتَعْمَلًا

[سورة سبإ (34) : آية 31]

فِي الزَّمَانِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْيَوْمِ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِيعَادَ هُوَ الْيَوْمُ نَفْسُهُ. وَجُمْلَةُ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً إِمَّا صِفَةٌ لِ مِيعادُ وَإِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ. وَالِاسْتِئْخَارُ وَالِاسْتِقْدَامُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّأَخُّرِ والتقدم مثل: اسْتِحْبَاب، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدَّمَ الِاسْتِئْخَارَ عَلَى الِاسْتِقْدَامِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مِيعَادُ بَأْسٍ وَعَذَابٍ عَلَيْهِمْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَمَنَّوْا تَأَخُّرَهُ، وَيَكُونُ وَلا تَسْتَقْدِمُونَ تَتْمِيمًا لِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَالسَّاعَةُ: حِصَّةٌ مِنَ الزَّمَنِ، وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّقْلِيلِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ. [31] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 31] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا فَاجَأَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَأَخَذَ أَمْرُهُ فِي الظُّهُورِ قَدْ سَلَكُوا طَرَائِقَ مُخْتَلِفَةً لِقَمْعِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ لَاهِينَ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الشَّرَائِعِ فَلَمَّا قَرَعَتْ أَسْمَاعَهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ: فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] ، وَقَالُوا غَيْرَ ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَجَأُوا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ لِيَتَلَقَّوْا مِنْهُمْ مُلَقَّنَاتٍ يُفْحِمُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أهل الْكتب يُمْلُونَ عَلَيْهِمْ كُلَّمَا لَقُوهُمْ مَا عَسَاهُمْ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ عَدَمَ صِحَّةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] ، وَمَرَّةً يَقُولُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] ، وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ مُسَاوَاتِهِ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ مُنَافِيَةً لِكَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مُخْتَارًا مِنْ عِنْدِ الله فَقَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 17] وَإِلَى قَوْله: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 93] ، وَهُمْ لَا يُحَاجُّونَ بِذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ بِصِحَّةِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَسِيلَةً لِإِبْطَالِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَمَغَتْهُمْ حُجَجُ الْقُرْآنِ الْعَدِيدَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا مَا هُوَ بِدْعٌ مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِمِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَحَاجَّهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ

عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْقَصَص: 49] الْآيَة. فَلَمَّا لما يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْمُكَابَرَةِ فِي مُسَاوَاة حَاله بِحَال الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَأَوَوْا إِلَى مَأْوَى الشِّرْكِ الصَّرِيحِ فَلَجَأُوا إِلَى إِنْكَارِ رِسَالَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ حَتَّى لَا تَنْهَضَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِمُسَاوَاةِ أَحْوَالِ الرَّسُولِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ الْأَقْدَمِينَ فَكَانَ مِنْ مُسْتَقَرِّ أَمْرِهِمْ أَنْ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ حَاجَّهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ كَمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [48] ، أَيْ كَفَرَ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ وَهُمْ قِبْطُ مِصْرَ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى وَهُوَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ وَالتَّمْثِيلِ. فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ: وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مدعوّين لَا يُؤمنُوا بِكِتَابٍ آخَرَ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ جَرَى ذَلِكَ فِي مَجَارِي الْجِدَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْقُرْآنِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أَرَادُوا قَطْعَ وَسَائِلِ الْإِلْزَامِ الْجَدَلِيِّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ طَعْنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [سبأ: 29] . وَالِاقْتِصَارُ عَلَى حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ دُونَ تَعْقِيبٍ بِمَا يُبْطِلُهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بُطْلَانَهَا بَادٍ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُهَا حَيْثُ جَمَعَتِ التَّكْذِيبَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وَهَذَا بُهْتَانٌ وَاضِحٌ. وَحِكَايَةُ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ أَقْلَعُوا عَنْهَا. وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى التَّأْبِيد تأييسا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ بِهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِهِ إِلَى حَاضِرٍ فِي الْأَذْهَانِ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي الْقُرْآنِ شَائِعٌ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ مُؤَيِّدٍ وَمُنْكَرٍ فَكَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ. وَلَيْسَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعْنَى التَّحْقِيرِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَنْبِزُونَ الْقُرْآنَ بِالنُّقْصَانِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: «إِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ» ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ: «لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ أَيُّهَا الْمَرْءُ» ، وَأَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَقَالَ لَهُ: «هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟» فَقَالَ: «لَا وَالدِّمَاءِ» . وَكَيْفَ وَقد تحداهم الْإِتْيَان

بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَلَوْ كَانُوا يَنْبِزُونَهُ بِنَقْصٍ أَوْ سَخَفٍ لَقَالُوا: نَحْنُ نَتَرَفَّعُ عَنْ مُعَالَجَةِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. وَمَعْنَى بَيْنَ يَدَيْهِ الْقَرِيبُ مِنْهُ سَوَاءً كَانَ سَابِقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ» (¬1) أَمْ كَانَ جَائِيًا بَعْدَهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] . وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَلَا مُدَّعًى. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ. أُرْدِفَتْ حِكَايَاتُ أَقْوَالِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَصْنَافِهَا بِذِكْرِ جَزَائِهِمْ وَتَصْوِيرِ فَظَاعَتِهِ بِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ الْآيَةَ مِنَ الْإِبْهَامِ الْمُفِيدِ لِلتَّهْوِيلِ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [سبأ: 29] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ [سبأ: 30] الَخْ أَتْبَعَهُ بِتَصْوِيرِ حَالِهِمْ فِيهِ. وَالْخِطَابُ فِي وَلَوْ تَرى لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِتَلَقِّي الْخِطَابِ مِمَّنْ تَبْلُغُهُ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ وَلَوْ يَرَى الرَّائِي هَذَا الْوَقْتَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَهُوَ حَذْفٌ شَائِعٌ. وَتَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجَبًا. وإِذِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرى أَيْ لَوْ تَرَى فِي الزَّمَانِ الَّذِي يُوقَفُ فِيهِ الظَّالِمُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ. والظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَتَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [27] ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ إِيقَافٌ جَمَعَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِشْرَاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ ¬

(¬1) رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ.

نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [28] . وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ اسْمِيَّةً هُنَا لِإِفَادَةِ طُولِ وُقُوفِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طُولًا يَسْتَوْجِبُ الضَّجَرَ وَيَمْلَأُ الْقُلُوبَ رُعْبًا وَهُوَ مَا أَشَارَ لَهُ حَدِيثُ أَنَسٍ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَفَاعَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ: «تَدْنُو الشَّمْس من رُؤُوس الْخَلَائِقِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا» الْحَدِيثَ. وَجُمْلَةُ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الظَّالِمُونَ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ مَوْقُوفُونَ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَرَجْعُ الْقَوْلِ: الْجَوَابُ، وَرَجْعُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ: الْمُجَاوَبَةُ وَالْمُحَاوَرَةُ. وَهِيَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ كَلَامًا وَيُجِيبَهُ الْآخَرُ عَنْهُ وَهَكَذَا شَبَّهَ الْجَوَابَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِرْجَاعِ الْقَوْلِ كَأَنَّ الْمُجِيبَ أَرْجَعَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ كَلَامَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ كَانَ قَدْ خَاطَبَهُ بِكِفَائِهِ وَعَدْلِهِ، قَالَ بَشَّارٌ: وَكَأَنَّ رَجْعَ حَدِيثِهَا ... قَطْعُ الرِّيَاضِ كُسِينَ زَهْرَا أَيْ كَأَنَّ جَوَابَهَا حَيْثُ تُجِيبُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجَوَابِ: رَدٌّ. وَرَجْعُ الرَّشْقِ فِي الرَّمْيِ: مَا تَرُدُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّرَاشُقِ. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ الْمَحْكِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْقَوْلِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ . وَجِيء بالمضارع فِيهَا على نَحْو مَا جِيءَ فِي قَوْله: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ لِيَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ بِهَا لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ

الْقَوْلِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ غَرِيبَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ جُرْأَةِ الْمُسْتَضْعَفِينَ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِينَ وَمِنْ تَنَبُّهِ هَؤُلَاءِ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَمَّا كَانَ الْمُسْتَكْبِرُونَ يَغُرُّونَهُمْ بِهِ حَتَّى أَوْقَعُوهُمْ فِي هَذَا الْمَأْزِقِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتُضْعِفُوا لِلْعَدِّ وَالْحُسْبَانِ، أَيِ الَّذِينَ يَعُدُّهُمُ النَّاسُ ضُعَفَاءَ لَا يَؤْبَهُ بِهِمْ وَإِنَّمَا يَعُدُّهُمُ النَّاسُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ وَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ يَسْتَضْعِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالضَّعْفُ هُنَا الضَّعْفُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ حَالَة الِاحْتِيَاج فِي الْمُهِمَّات إِلَى من يضطلع بشؤونهم وَيَذُبُّ عَنْهُمْ وَيُصَرِّفُهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ. وَمِنْ مَشْمُولَاتِهِ الضَّعَةُ وَالضَّرَاعَةُ وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِ «الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» ، أَيْ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ كُبَرَاءَ وَهُمْ مَا عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ كُبَرَاءَ إِلَّا لِمَا يَقْتَضِي اسْتِكْبَارَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ لَوُصِفُوا بِالْغُرُورِ وَالْإِعْجَابِ الْكَاذِبِ. وَلِهَذَا عَبَّرَ فِي جَانِبِ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَفِي جَانِبِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَعْلُومِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ. ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفٌ يَدُلُّ على امْتنَاع جَوَاب (أَيِ انْتِفَائِهِ) لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهِ فَعُلِمَ أَنَّهَا حَرْفُ شَرْطٍ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَصَرُوا الْعِبَارَةَ، وَمَعْنَى: لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهِ، أَيْ حُصُولِهِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُلَازِمَةِ الدُّخُولَ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَيَلْزَمُ إيلاؤه اسْما هُوَ مُبْتَدأ. وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ خَبَرِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْكَلَامِ غَالِبًا بِحَيْثُ يَبْقَى مِنْ شَرْطِهَا اسْمٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ اخْتِصَارٌ لِأَنَّ حَرْفَ لَوْلا يُؤْذِنُ بِتَعْلِيقِ حُصُولِ جَوَابِهِ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ. فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ بَعْدَهَا فِي مَعْنَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ حَذَفُوا الْخَبَرَ اخْتِصَارًا. وَيُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ التَّعْلِيقَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْوُجُودُ مَفْهُومَةٍ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْوُجُودُ الْمُجَرَّدُ لِشَيْءٍ سَبَبًا فِي وُجُودِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ أَخَصُّ أَحْوَالِهِ الْمُلَازِمَةِ لِوُجُودِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى عَبَّرَ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ بِالْوُجُودِ الْمُطْلَقِ وَهِيَ عِبَارَةٌ غَيْرُ مُتْقَنَةٍ وَمُرَادُهُمْ أَعْلَقُ أَحْوَالِ الْوُجُودِ بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ، أَيِ الْمُجَرَّدَ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ شَرْطٌ.

[سورة سبإ (34) : آية 32]

وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَبْطُ التَّعْلِيقِ بِضَمِيرِ «الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» فَاقْتضى أَن الْمُسْتَضْعَفِينَ ادّعوا أَن وجود المستكبرين مَانع لَهُم أَن يَكُونُوا مُؤمنين. فَاقْتَضَى أَنَّ جَمِيعَ أَحْوَالِ الْمُسْتَكْبِرِينَ كَانَتْ تُدَنْدِنُ حَوْلَ مَنعهم من الْإِيمَان فَكَانَ وَجُودُهُمْ لَا أَثَرَ لَهُ إِلَّا فِي ذَلِك من انقطاعهم للسعي فِي ذَلِكَ الْمَنْعِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ فِيمَا بَعْدَ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ [سبأ: 33] مِنْ فَرْطِ إِلْحَاحِهِمْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَكْرِيرِهِ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَكَأَنَّهُ اسْتَغْرَقَ وُجُودَهُمْ، لِأَنَّ الْوُجُودَ كَوْنٌ فِي أَزْمِنَةٍ فَكَانَ قَوْلُهُمْ هُنَا لَوْلا أَنْتُمْ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ فِي الِاعْتِبَارِ الْبَلَاغِيِّ فَمُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حَذْفُ الْمُشَبَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ: مُؤْمِنِينَ بِالْمَعْنَى اللَّقَبِيِّ الَّذِي اشْتُهِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَكَذَلِكَ لَا يُقَدَّرُ لِ مُؤْمِنِينَ متعلّق. [32] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 32] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) جُرِّدَ فِعْلُ قالَ عَنِ الْعَاطِفِ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَاوَبَةِ وَالشَّأْنُ فِيهِ حِكَايَةُ الْقَوْلِ بِدُونِ عَطْفٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْكَارِ على قَول الْمُسْتَضْعَفِينَ تبرّؤا مِنْهُ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ بُهْتَانٌ وَإِنْكَارٌ لِلْوَاقِعِ بَعَثَهُ فِيهِمْ خَوْفُ إِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَيْهِمْ وَفَرْطُ الْغَضَبِ وَالْحَسْرَةِ مِنِ انْتِقَاضِ أَتْبَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ وَزَوَالِ حُرْمَتِهِمْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ لَا يُكَذِّبُوهُمْ وَيَذِيلُوا بِتَوْرِيطِهِمْ. وَأَتَى بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ النَّفْيِ لِيُفِيدَ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا. وَالْمَعْنَى: مَا صَدَدْنَاكُمْ وَلَكِنْ صَدَّكُمْ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ الْمَعْطُوفُ بِ بَلْ الَّتِي لِلْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أَيْ ثَبَتَ لَكُمُ الْإِجْرَامُ مِنْ قَبْلُ وَإِجْرَامُكُمْ هُوَ الَّذِي صَدَّكُمْ إِذْ لَمْ تَكُونُوا عَلَى مُقَارَبَةِ الْإِيمَانِ فَنَصُدَّكُمْ عَنْهُ وَلَكِنَّكُمْ صَدَدْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ بِإِجْرَامِكُمْ وَلَمْ تَقْبَلُوا دَعْوَةَ الْإِيمَانِ.

[سورة سبإ (34) : آية 33]

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ حَالَنَا وَحَالَكُمْ سَوَاءٌ، كُلُّ فَرِيقٍ يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ أَعْمَالِهِ فَإِنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْإِيمَانِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ مُكَابَرَةٌ مِنْهُمْ وَبُهْتَانٌ وَسَفْسَطَةٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ الدَّهْمَاءَ عَنِ الدِّينِ وَيَخْتَلِقُونَ لَهُمُ الْمَعَاذِيرَ. وَإِنَّمَا نَفَوْا هُنَا أَنْ يَكُونُوا مُحَوِّلِينَ لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ تَقَلُّدِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمُدَّعَى. فَمَوْقِعُ السفسطة هُوَ قَوْله: بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ لِأَنَّ الْمَجِيءَ فِيهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاقْتِرَابِ مِنْهُ وَالْمُخَالَطَةِ لَهُ. وإِذْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَكُمْ مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَمَحْضَةٌ لِكَوْنِهَا اسْمَ زَمَانٍ غَيْرَ ظَرْفٍ وَهُوَ أَصْلُ وَضْعِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، وَلِهَذَا صَحَّتْ إِضَافَةُ بَعْدَ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ قَرِينَةٌ عَلَى تَجْرِيدِ إِذْ مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: حِينَئِذٍ وَيَوْمَئِذٍ. وَالتَّقْدِيرُ: بعد زمن مَجِيئه إِيَّاكُمْ. وبَلْ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ، أَيْ مَا صَدَدْنَاكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَالْإِجْرَامُ: الشِّرْكُ وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِتَعَمُّدِهِمْ إِيَّاهُ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ دُونَ تَسْوِيلِ مُسَوِّلٍ. [33] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 33] وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً. لَمْ تَجْرِ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ الَّتِي تُحْكَى بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى حُسْنِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ كَمَا اسْتَقْرَيْنَاهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ وَقَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] الْآيَةَ، فَجِيءَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ جَاوَبُوا بِهَا قَوْلَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ [سبأ: 32] الْآيَةَ لِنُكْتَةٍ دَقِيقَةٍ، وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَقَالَةَ الْمُسْتَضْعَفِينَ هَذِهِ هِيَ فِي الْمَعْنَى تَكْمِلَةٌ لِمَقَالَتِهِمْ المحكية بقوله: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31] تَنْبِيها على أَن مقالتهم تَلَقَّفَهَا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فَابْتَدَرُوهَا بِالْجَوَابِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ بِحَيْثُ لَوِ انْتَظَرُوا تَمام كَلَامهم وأبلعوهم رِيقَهُمْ لَحَصَلَ مَا فِيهِ إِبْطَالُ كَلَامِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ قَاطَعُوا

كَلَامَهُمْ مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَضْعَفُونَ. وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ هَذَا بِفعل الْمَاضِي لِمُزَاوَجَةِ كَلَامِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِأَنَّ قَوْلَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا هَذَا بَعْدَ أَنْ كَانَ تَكْمِلَةً لِقَوْلِهِمُ الَّذِي قَاطَعَهُ الْمُسْتَكْبِرُونَ، انْقَلَبَ جَوَابًا عَنْ تَبَرُّؤِ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا صَدُّوا الْمُسْتَضْعَفِينَ عَنِ الْهُدَى، فَصَارَ لِقَوْلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مَوْقِعَانِ يَقْتَضِي أَحَدُ الْمَوْقِعَيْنِ عَطْفَهُ بِالْوَاوِ، وَيَقْتَضِي الْمَوْقِعُ الْآخَرُ قَرْنَهُ بِحَرْفِ بَلْ وَبِزِيَادَةِ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ إِذْ تَأْمُرُونَنَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ الَخْ. فَلَمَّا قَاطَعَهُ الْمُسْتَكْبِرُونَ بِكَلَامِهِمْ أُقْحِمَ فِي كَلَامِ الْمُسْتَضْعَفِينَ حَرْفُ بَلْ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32] . وَبِذَلِكَ أَفَادَ تَكْمِلَةَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَالْجَوَابَ عَنْ تَبَرُّؤِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَلَوْ لَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ لَمَا أَفَادَ إِلَّا أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَطْ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الْإِيجَازِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ أَيْضًا إِبْطَالًا لِمُقْتَضَى الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِمْ: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى [سبأ: 32] فَإِنَّهُ وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ نَفْيٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لَهُ مَعْنَى النَّفْيِ. ومَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) . وَهُنَالِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَمَجْرُورٌ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا السِّيَاقُ، أَيْ مَكْرُكُمْ بِنَا. وَارْتَفَعَ مَكْرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ هَذَا الْكَلَامِ بِكَلَامِ الْمُسْتَكْبِرِينَ إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ. فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرُكُمْ صَدَّنَا، فَيُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ مَا صَدَّنَا إِلَّا مَكْرُكُمْ، وَهُوَ نَقْضٌ تَامٌّ لِقَوْلِهِمْ: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى [سبأ: 32] وَقَوْلِهِمْ: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32] . وَالْمَكْرُ: الِاحْتِيَالُ بِإِظْهَارِ الْمَاكِرِ فِعْلَ مَا لَيْسَ بِفَاعِلِهِ لِيُغَرَّ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [54] . وَإِطْلَاقُ الْمَكْرِ عَلَى تَسْوِيلِهِمْ لَهُمُ الْبَقَاءَ عَلَى الشِّرْكِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ يُمَوِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَيُوهِمُونَهُمْ أَشْيَاءَ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ دِينُ آبَائِكُمْ وَكَيْفَ تَأْمَنُونَ غَضَبَ الْآلِهَةِ عَلَيْكُمْ إِذَا

تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالِاحْتِيَالُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُحْتَالَ غَيْرُ مُسْتَحْسِنٍ الْفِعْلَ الَّذِي يَحْتَالُ لِتَحْصِيلِهِ. وَالْمَعْنَى: مُلَازَمَتُهُمُ الْمَكْرَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ الْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالشِّرْكِ. وإِذْ تَأْمُرُونَنا ظَرْفٌ لِمَا فِي مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنْ مَعْنَى (صَدَّنَا) أَيْ حِينَ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ. وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ، وَهُوَ الْمُمَاثِلُ، أَيْ نَجْعَلُ لِلَّهِ أَمْثَالًا فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا تَطَاوُلٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عَلَى مُسْتَكْبِرِيهِمْ لَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ غَنَائِهِمْ عَنْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ حِينَ عَلِمُوا كَذِبَهُمْ وَبُهْتَانَهُمْ. وَقَدْ حُكِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [166] . وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ: 31] فَتَكُونُ حَالًا. وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سبأ: 31] . وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ قَبْلُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كُشِفَ لَهُمْ عَنِ الْعَذَابِ الْمُعَدِّ لَهُمْ، وَذَلِكَ عَقِبَ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ التَّرَامِيَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ لَمْ يُغْنِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَيْئًا، فَحِينَئِذٍ أَيْقَنُوا بِالْخَيْبَةِ وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّدَامَةَ اسْتِبْقَاءً لِلطَّمَعِ فِي صَرْفِ ذَلِكَ عَنْهُمْ أَوِ اتِّقَاءً لِلْفَضِيحَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَقَدْ أَعْلَنُوا بِهَا مِنْ بَعْدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [31] ، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [58] . وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ أَسَرُّوا هُنَا بِمَعْنَى أَظْهَرُوا، وَزَعَمَ أَنَّ (أَسَرَّ) مُشْتَرِكٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ. فَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ وَقَدْ فَسَّرَ الزَّوْزَنِيُّ الْإِسْرَارَ بِالْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا ... عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي وَأَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: «وَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ فِي اللُّغَةِ أَنَّ (أَسَرَّ) مِنَ الْأَضْدَادِ» . قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ عَدَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْأَضْدَادِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ: وَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا وَفِي كِتَابِ «الْأَضْدَادِ» لِأَبِي الطَّيِّبِ الْحَلَبِيِّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا أَثِقُ بِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْقُرْآن وَلَا بقول الْفَرَزْدَقِ وَالْفَرَزْدَقُ كَثِيرُ التَّخْلِيطِ فِي شِعْرِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ عَنِ التَّوَّزِيِّ أَنَّ غَيْرَ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْشَدَ بَيْتَ الْفَرَزْدَقِ وَالَّذِي جَرَّ عَلَى تَفْسِيرِ «أَسَرُّوا» بِمَعْنَى أَظْهَرُوا هُنَا هُوَ مَا يَقْتَضِي إِعْلَانَهُمْ بِالنَّدَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31] . وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 27] الْآيَةَ. وَالنَّدَامَةُ: التَّحَسُّرُ مِنْ عَمَلٍ فَاتَ تَدَارُكُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [[الْمَائِدَة]] [31] . وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [33] . عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ [سبأ: 31] . وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى إِذْ جَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا. وَجَوَاب (لَو) الْمَحْذُوف جَوَاب للشرطين. والْأَغْلالَ: جمع غلّ بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ دَائِرَة من حَدِيد أَو جلد على سَعَة الرَّقَبَة تُوضَع فِي رَقَبَةِ الْمَأْسُورِ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ إِلَيْهَا بِسِلْسِلَةٍ أَوْ سَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ أَوْ حَبْلٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ. وَجَعْلُ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ شِعَارٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى مَا يُحَاوِلُونَ الْفِرَارَ وَالِانْفِلَاتَ مِنْهُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي الرَّعْدِ [5] . والَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالْإِتْيَانُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَكَوْنُهُ مَوْصُولًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا،

[سورة سبإ (34) : آية 34]

كَأَنَّ سَائِلًا اسْتَعْظَمَ هَذَا الْعَذَابَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِاعْتِبَارِ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: هَلْ جُزُوا بِغَيْرِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ يُجْزَوْنَ لِأَنَّ (جَزَى) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى، كَمَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ بِالْبَاء عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى: عَوَّضَهُ. وَجُعِلَ جَزَاؤُهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مِثْلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا يُجَاوِزُونَهُ بِمُسَاوَاةِ الْجَزَاءِ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي جُوزُوا عَلَيْهَا حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] . وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ مُمَاثِلًا فِي الْمِقْدَارِ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مُقَدِّرُ الْحَقَائِقِ وَالنِّيَّاتِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ وِفاقاً فِي النَّوْعِ فَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ مَنْعٌ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أنفسهم فَنَاسَبَ نَوعه أَن يكون جَزَاء على مَا عبّدوا بِهِ أَنْفُسِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] وَمَا تَقَبَّلُوهُ مِنِ اسْتِعْبَادِ زُعَمَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ إِيَّاهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَاب: 67] . وَمِنْ غُرَرِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ لَمَّا كَانَ عَرَضَ عَلَيْهِ فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 71] فَسَأَلَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: هَلْ يَسْتَقِيمُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَيِّدُ فِعْلَ الْأُمَرَاءِ أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمُحَارِبِينَ وَنَحْوِهِمْ مَغْلُولِينَ مِنْ أَعْنَاقِهِمْ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فِي حَدِّ الْفَاحِشَةِ) فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ بِأَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا لِأَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا أَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا بُدَّ لِجَوَازِهِ من دَلِيل. [34] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 34] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) اعْتِرَاضٌ لِلِانْتِقَالِ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا مُنِيَ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ

[سورة سبإ (34) : الآيات 35 إلى 36]

وبخاصة مَا قَابَلَهُ بِهِ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنَ التَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِتَذْكِيرِهِ أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ فِي الزُّخْرُفِ وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [23] الَخْ، أَيْ وَكَذَلِكَ التَّكْذِيبُ الَّذِي كَذَّبَكَ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ. وَالتَّعْرِيضُ بِقَوْمِهِ الَّذِينَ عَادَوْهُ بِتَذْكِيرِهِمْ عَاقِبَةَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الَّتِي كذّب أَهلهَا برسلهم وَأَغْرَاهُمْ بِذَلِكَ زُعَمَاؤُهُمْ. وَالْمُتْرَفُونَ: الَّذِينَ أُعْطُوا التَّرَفَ، وَالتَّرَفُ: النَّعِيمُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ بِتَقْدِيرِ: أَنَّ اللَّهَ أَتْرَفَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَة الْمُؤْمِنُونَ [33] . وَفِي بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ تَعْرِيضٌ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا وَيُقْلِعُونَ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُ تَقْدِيرُهُ: أَتْرَفَتْهُمُ النِّعْمَةُ، أَيْ أَبْطَرَتْهُمْ. وإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ حِكَايَةٌ لِلْقَوْلِ بِالْمَعْنَى: أَيْ قَالَ مُتْرَفُو كُلِّ قَرْيَةٍ لِرَسُولِهِمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ كَافِرُونَ. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا التَّوْزِيعُ عَلَى آحَادِ الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُمْ: أُرْسِلْتُمْ بِهِ تَهَكُّمٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: كافِرُونَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] أَوِ الْمَعْنَى: إِنَّا بِمَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّكُمْ أرسلتم بِهِ. [35، 36] [سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 35 إِلَى 36] وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) قَفَّوْا عَلَى صَرِيحِ كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِكَلَامٍ كَنَّوْا بِهِ عَن إبِْطَال حقية الْإِسْلَامِ بِدَلِيلٍ سِفُسْطَائِيٍّ فَجَعَلُوا كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ حَظٍّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَضَمِيرُ وَقالُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ [سبأ: 31] الَخْ. وَهَذَا مِنْ تَمْوِيهِ الْحَقَائِقِ بِمَا يَحُفُّ

بِهَا مِنَ الْعَوَارِضِ فَجَعَلُوا مَا حَفَّ بِحَالِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ وَفْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ حُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَظِنَّةُ الْعِنَايَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ مِنْهُمْ بِعَكْسِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ حَالَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَشَظَفِ عَيْشِهِمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْظُوظِينَ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا مُسَبَّبَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِأَحْوَالِ الْأَوْلَادِ. وَهَذَا الْمَبْدَأُ الْوَهْمِيُّ السِّفُسْطَائِيُّ خَطِيرٌ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُنْتَشِرَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْلُو الْمُسْلِمُونَ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهَا فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ قِيَاسٌ يُصَادِفُ الصَّوَابَ تَارَةً وَيُخْطِئُهُ تَارَاتٍ. وَمِنْ أَكْبَرِ أَخْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ خَطَأُ اللَّجَأِ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي أَعْذَارِهِمْ، وَخَطَأُ التَّخَلُّقِ بِالتَّوَكُّلِ فِي تَقْصِيرِهِمْ وَتَكَاسُلِهِمْ. فَجُمْلَةُ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ [سبأ: 31] الَخْ، وَقَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كَالنَّتِيجَةِ لِقَوْلِهِمْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَإِنَّمَا جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْفَائِدَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ على جَانب الاستنتاج الَّذِي يومىء إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَحَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ اسْتِدْلَالٌ لِصِحَّةِ دِينِهِمْ وَلِإِبْطَالِ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ ثُمَّ الِافْتِخَارِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالضَّعَةِ لِجَانِبِ الْمُسْلِمِينَ بِإِشَارَةٍ إِلَى قِيَاسٍ اسْتِثْنَائِيٍّ بِنَاء عَلَى مُلَازَمَةٍ مَوْهُومَةٍ، وَكَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِانْتِفَاءِ التَّعْذِيبِ عَلَى أَنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى قِيَاسِ مُسَاوَاةٍ مَطْوِيٍّ فَكَأَنَّهُمْ حَصَرُوا وَسَائِلَ الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ فِي وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَلَوْلَا هَذَا التَّأْوِيل لخلت كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَنْ أَهَمِّ مَعْنَيَيْهِمَا وَبِهِ يَكُونُ مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَعْنَى، أَيْ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَقْتِيرَهُ شَأْنٌ آخَرُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ الْمَنُوطَةِ بِمَا قَدَّرَهُ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّشْدِ وَالْغَيِّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ لَرَأَيْتُمُوهَا لَا تُلَاقِي أَسْبَابَ الْغَيِّ وَالِاهْتِدَاءِ، فَرُبَّمَا وَسَّعَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَلَى الْعَاصِي وَضَيَّقَهُ عَلَى الْمُطِيعِ وَرُبَّمَا عَكَسَ فَلَا يُغْرَنَّهُمْ هَذَا وَذَاكَ فَإِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَهَذَا مَا جَعَلَ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُصِيبًا الْمَحَزَّ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ

[سورة سبإ (34) : آية 37]

تَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ فَيَخْلِطُونَ بَيْنَهَا وَلَا يَضَعُونَ فِي مَوَاضِعِهَا زَيْنَهَا وَشَيْنَهَا. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا أَن حَالهم غَيْرُ دالّ على رضى اللَّهِ عَنْهُم وَلَا على عَدَمِهِ، وَهَذَا الْإِبْطَالُ هُوَ مَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ نَقْضًا إِجْمَالِيًّا. وَبَسْطُ الرِّزْقِ: تَيْسِيرُهُ وَتَكْثِيرُهُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْبَسْطُ وَهُوَ نَشْرُ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ تَكْثُرُ مِسَاحَةُ انْتِشَارِهِ. وَقَدْرُ الرِّزْقِ: عُسْرُ التَّحْصِيلِ عَلَيْهِ وَقِلَّةُ حَاصِلِهِ اسْتُعِيرَ لَهُ الْقَدْرُ، أَيِ التَّقْدِيرُ وَهُوَ التَّحْدِيدُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يَسْهُلُ عَدُّهُ وَحِسَابُهُ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي ضِدِّهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الْبَقَرَة: 212] ، وَمَفْعُولُ يَقْدِرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ يَبْسُطُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا أَوْ طَالِحًا، وَمن انْتِفَاء علمهمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا بَسْطَ الرِّزْقِ عَلَامَةً عَلَى الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ، وَضِدَّهُ عَلَامَةً عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. وَبِهَذَا أَخْطَأَ قَوْلُ أَحْمد بن الرواندي: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٌ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٌ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا فَلَوْ كَانَ عَالِمًا نِحْرِيرًا لَمَا تَحَيَّرَ فَهْمُهُ، وَمَا تَزَنْدَقَ مِنْ ضِيقِ عطن فكره. [37] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 37] وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما أَمْوالُكُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ [سبأ: 36] الَخْ فَيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: 35] فَتَكُونَ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهَةً إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [سبأ: 36] . فَيَكُونَ مِمَّا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيُبْلِغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ فِي ضَمِيرِ عِنْدَنا الْتِفَاتٌ، وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ تَكُونُ عَائِدَةً إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ نُنَبِّهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا. وَهُوَ ارْتِقَاءٌ مِنْ إِبْطَالِ الْمُلَازِمَةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ النَّقْضِ التَّفْصِيلِيِّ الْمُسَمَّى بِالْمُنَاقَضَةِ أَيْضًا فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ. وَهُوَ مَقَامُ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمَنْعِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى الْخَصْمِ، فَقَدْ أَبْطَلَتِ الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ مُقَرِّبَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي صِيغَةِ حَصْرٍ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أُرِيدَ مِنْهَا نَفْيُ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَيْ لَا أَنْتُمْ، فَكَانَ كَلَامُهُمْ فِي قُوَّةِ حَصْرِ التَّقْرِيبِ إِلَى اللَّهِ فِي كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فَنُفِيَ ذَلِكَ بِأَسْرِهِ. وَتَكْرِيرُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ الْعَاطِفِ فِي وَلا أَوْلادُكُمْ لِتَأْكِيدِ تَسَلُّطِ النَّفْيِ عَلَى كِلَا الْمَذْكُورَيْنِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودًا بِنَفْيِ كَوْنِهِ مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى الله وملتفتا إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ جَمْعَيْ تَكْسِيرٍ عُومِلَا مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ فَجِيءَ بِخَبَرِهِمَا اسْم مَوْصُول الْمُفْرد الْمُؤَنَّثِ عَلَى تَأْوِيلِ جَمَاعَةِ الْأَمْوَالِ وَجَمَاعَةِ الْأَوْلَادِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى تَغَلُّبِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَمْوَالِ فَيُخْبَرُ عَنْهُمَا مَعًا ب (الَّذين) وَنَحْوِهِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَيْنَا، إِلَى تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا لِأَنَّ التَّقْرِيبَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّشْرِيفِ وَالْكَرَامَةِ لَا تَقْرِيبَ مَكَانٍ. وَالزُّلْفَى: اسْمٌ لِلْقُرْبِ مِثْلَ الرُّجْعَى وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَائِبٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، أَيْ تُقَرِّبُكُمْ تَقْرِيبًا، وَنَظِيرُهُ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] . وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وإِلَّا بِمَعْنَى (لَكِنِ) الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِدْرَاكِ وَمَا بَعْدَهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ

الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا مُفْرَدًا فَإِنَّ إِلَّا تُقَدَّرُ بِمَعْنَى (لَكِنَّ) أُخْتِ (إِنَّ) عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ فَيَنْصِبُونَ مَا بَعْدَهَا عَلَى تَوَهُّمِ اسْمِ (لَكِنَّ) وَتُقَدَّرُ بِمَعْنَى (لَكِنِ) الْمُخَفَّفَةِ الْعَاطِفَةِ عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ فَيَتْبَعُ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَهَا إِعْرَابَ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهَا وَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابٍ يَخْتَارُ فِيهِ النَّصْبَ مِنْ أَبْوَابِ الِاسْتِثْنَاءِ (¬1) . فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا جُمْلَةً اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً فَإِنَّ إِلَّا تُقَدَّرُ بِمَعْنَى (لَكِنِ) الْمُخَفَّفَةِ وَتُجْعَلُ الْجُمْلَةُ بَعْدُ اسْتِئْنَافًا، وَذَلِكَ فِي نَحْو قَوْلِ الْعَرَبِ: «وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلَّا حِلُّ ذَلِكَ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا» قَالَ سِيبَوَيْهِ: «فَإِنَّ: أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، بِمَنْزِلَةِ: إِلَّا فِعْلَ كَذَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِلٍّ (أَيْ هُوَ خَبَرٌ لَهُ) . وَحِلُّ مُبْتَدَأٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ حِلُّ ذَلِكَ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا» اهـ (¬2) . قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» : وَتَقْرِيرُ الْإِخْرَاجِ فِي هَذَا أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُمْ: إِلَّا حِلُّ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ: لَا أَرَى لِهَذَا الْعَقْدِ مُبْطِلًا إِلَّا فِعْلُ كَذَا. وَجَعَلَ ابْنُ خَرُوفٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ [الغاشية: 22- 24] عَلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ مُبْتَدأ و «يعذبه اللَّهُ» الْخَبَرَ وَدَخَلَ الْفَاءُ لِتَضْمِينِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الْجَزَاء. وَقَالَ أَبُو يسعود: إِنَّ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا اهـ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ، فَيَكُونُ مَنْ مُبْتَدَأً مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ ولَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ جُمْلَةَ خَبَرٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضْمِينِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَأَسْهَلُ مِنْ هَذَا أَنْ نَجْعَلَ مَنْ شَرْطِيَّةً وَجُمْلَةَ فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَاقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَتَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ بِدُونِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَرَدُّدَ فِي النَّظْمِ. ¬

(¬1) انْظُر الْجُزْء الأول ص 319 طبع باريس. (¬2) نفس الْمصدر والجزء ص 326.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ الَخْ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ: 36] وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: 39] وَتَكُونُ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهَةً إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وكافرين. وَعَلِيهِ فَيكون قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً الَخْ مُسْتَثْنًى مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، أَيْ مَا أَمْوَالُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْكُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا ثَنَاءً عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ مَنْ آمَنَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَقَدَّمَتِ اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَغَيْرِهِ. وَوِزَانُ هَذَا الْمَعْنَى وِزَانُ قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ إِلَى قَوْلِهِ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمرَان: 198] الْآيَة. والضِّعْفِ الْمُضَاعَفُ الْمُكَرَّرُ فَيَصْدُقُ بِالْمُكَرَّرِ مَرَّةً وَأَكْثَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ» وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 261] . وَإِضَافَةُ جَزاءُ إِلَى الضِّعْفِ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ الْمُضَاعَفَةُ لِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكُنِّيَ عَنِ التَّقْرِيبِ بِمُضَاعَفَةِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمَارَةُ كَرَامَةِ الْمَجْزِيِّ عِنْدَ اللَّهِ، أَي أُولَئِكَ الَّذين يَقْرُبُونَ زُلْفَى فَيُجْزَوْنَ جَزَاءَ الضِّعْفِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لَا عَلَى وَفْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَالِاسْتِدْرَاكُ وَرَدَ عَلَى جَمِيعِ مَا أَفَادَهُ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ وَالْفَخْرِ الْكَاذِبِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ لَا تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ بِحَالٍ، فَإِنَّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ صَدَقَاتٍ وَنَفَقَاتٍ، وَمِنْ أَوْلَادِهِمْ أَعْوَانًا عَلَى الْبِرِّ وَمُجَاهِدِينَ وَدَاعِينَ لِآبَائِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما عَمِلُوا تَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ فَتَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْمُضَاعَفُ وَهُوَ مَا يُنَاسِبُ السَّبَبَ مِنَ الصَّالِحَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: 60] ، وَتَحْتَمِلُ الْعِوَضَ فَيَكُونُ «مَا عَمِلُوا» هُوَ الْمُجَازَى عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ:

[سورة سبإ (34) : آية 38]

جَزَيْتُهُ بِأَلْفٍ، فَلَا تَقْدِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَزاءُ الضِّعْفِ. والْغُرُفاتِ جَمْعُ غُرْفَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ الْبَيْتُ الْمُعْتَلِي وَهُوَ أَجْمَلُ مَنْظَرًا وَأَشْمَلُ مَرْأًى. وآمِنُونَ خَبَرٌ ثَانٍ يَعْنِي تُلْقِي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَمْنَ مِنِ انْقِطَاعِ ذَلِكَ النَّعِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْغُرُفاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ «فِي الغرفة» بِالْإِفْرَادِ. [38] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 38] وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) جَرَى الْكَلَامُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ وَعَكْسِهِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَبَيْنَ إِرْشَادِهِمْ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ لِلْقُرْبِ عِنْد الله تَعَالَى بِجُمْلَةِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [سبأ: 39] الَخْ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي الْآيَاتِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِالطَّعْنِ فِيهِ بِالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ عِنْدَ سَمَاعِهِ. وَالسَّعْيُ مُسْتَعَارٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَل كَقَوْلِه تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: 22] وَإِذَا عُدِّيَ بِ فِي كَانَ فِي الْغَالِبِ مُرَادًا مِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَضَرَّةِ فَمَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا يَجْتَهِدُونَ فِي إِبْطَالِهَا، ومُعاجِزِينَ مغالبين طَالِبين الْعَجْزَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [51] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْجَحِيمَ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وفِي الْعَذابِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. ومُحْضَرُونَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَمُتَعَلِّقِهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ فِي سُورَة الرّوم [16] .

[سورة سبإ (34) : آية 39]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 39] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) أَتْبَعَ إِبْطَالَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ بِذَاتِهِمَا وَسِيلَةَ قُرْبٍ لَدَى اللَّهِ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يُشْبِهُ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ من إِثْبَات انْتِفَاع بِالْمَالِ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى رِضَى اللَّهِ إِنِ اسْتُعْمِلَ فِي طَلَبِ مرضاة الله تَفْضِيلًا لِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ إِجْمَالًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يكون فِيهِ قربَة إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سبأ: 37] كَمَا تقدم. وَقَوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا تَأْكِيدًا لِذَلِكَ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ. فَالَّذِي تَقَدَّمَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا تَرْغِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْعِبَارَاتُ وَاحِدَةٌ وَالْمَقَاصِدُ مُخْتَلِفَةٌ. وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ صَالِحًا لِغَرَضَيْنِ وَأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى طَائِفَتَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الثَّانِي مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ أُشِيرَ إِلَى تَشْرِيفِهِمْ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ: مِنْ عِبادِهِ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى مِنْ، أَيْ وَيَقْدِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَمَفْعُولُ يَقْدِرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ يَبْسُطُ. وَكَانَ مَا تقدم حَدِيثا عَن بسط الرِّزْقَ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَنْعَمُوا بِوَصْفٍ مِنْ عِبادِهِ لِأَنَّ فِي الْإِضَافَةِ تَشْرِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي هَذَا امْتِنَانٌ عَلَى الَّذِينَ يَبْسُطُ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ بِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ فَضْلَ الْإِيمَانِ وَفَضْلَ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَتَسْلِيَةٌ لِلَّذِينِ قَدَرَ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَالُوا فَضْلَ الْإِيمَانِ وَفَضْلَ الصَّبْرِ عَلَى ضِيقِ الْحَيَاةِ. وَفِي تَعْلِيقِ لَهُ بِ يَقْدِرُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَهِيَ فَائِدَةُ الثَّوَاب على الرضى من قُسِمَ لَهُ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا» . وَلَوْلَا هَذَا الْإِيمَاءُ لَقِيلَ: وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: 7] . وَأَمَّا حَالُ الْكَافِرِينَ فَإِنَّهُمْ يُنْعِمُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِرِزْقٍ يُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ أَشَدَّ

الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا رَازِقَهُمْ، وَيَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَلَا يَنَالهُ إلّا الشَّقَاءُ. وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ حَثًّا عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَالْمُرَادُ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَا يُنَافِي نَعِيمَ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [الْبَقَرَة: 201، 202] . فَأَمَّا نَعِيمُ الدُّنْيَا فَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ أَحْوَالٍ دُنْيَوِيَّةٍ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَسَّرَهَا لِمَنْ يَسَّرَهَا فِي عِلْمِهِ بِغَيْبِهِ، وَأَمَّا نَعِيمُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ أَعْمَالٍ مُبَيَّنَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ النَّعِيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مُنَعَّمُونَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكثير من أيمة الدِّينِ مِثْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَسَحْنُونٍ. فَأَمَّا اخْتِيَار الله لنبيئه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَةَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا فَلِتَحْصُلَ لَهُ غَايَاتُ الْكَمَالِ مِنَ التَّمَحُّضِ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ وَجَمِيلِ الْخِصَالِ وَمِنْ مُسَاوَاةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ بَيَانًا فِي رِسَالَةِ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَرْغِيبِ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَعَلَ الْوَعْدَ بِإِخْلَافِ مَا يُنْفِقُهُ الْمَرْءُ كِنَايَةً عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِإِخْلَافِهِ مَعَ تَأْكِيدِ الْوَعْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِك من المنفقين. وَأَكَّدَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَبِجَعْلِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ اسْمِيَّةً وَبِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ يُخْلِفُهُ، فَفِي هَذَا الْوَعْدِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى مَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِتَحْقِيقِهِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِنَايَةِ عَنْ كَوْنِهِ مَرْغُوبَهُ تَعَالَى. ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَا فِي مَا مِنَ الْعُمُومِ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ بِزِيَادَةٍ، لِبَيَانِ أَنَّ مَا يُخْلِفُهُ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْفَقَهُ الْمُنْفِقُ. خَيْرُ بِمَعْنَى أَخْيَرَ لِأَنَّ الرِّزْقَ الْوَاصِلَ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْلِهِ أَجْرَاهُ عَلَى يَدِ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِذَا كَانَ تَيْسِيرُهُ بِرِضًى مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمَرْزُوقِ وَوَعْدٍ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَخْلَقَ بِالْبَرَكَةِ وَالدَّوَامِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ إِخْلَافَ الرِّزْقِ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ: الْإِنْفَاقُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ فِي الدِّينِ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 إلى 41]

وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَصْرِ الدِّينِ. رَوَى مَالِكٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْن آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدْ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ أَوْ أَزْيَدَ، وَقَدْ يُعَوَّضُ ثَوَابًا، وَقَدْ يُدَّخَرُ لَهُ وَهُوَ كَالدُّعَاءِ فِي وَعْدِ الْإِجَابَةِ» اهـ. قُلْتُ: وَقَدْ يُعَوَّضُ صِحَّةً وَقَدْ يُعَوَّضُ تَعْمِيرًا. وَلِلَّهِ فِي خلقه أسرار. [40، 41] [سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 40 إِلَى 41] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سبأ: 31] الْآيَةَ اسْتِكْمَالًا لِتَصْوِيرِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْوَعْدِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَبَعًا لِمَا وَصَفَ مِنْ حَالِ مُرَاجَعَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْهُمْ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ فَوَصَفَ هُنَا افْتِضَاحَهُمْ بِتَبَرُّؤِ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُمْ وَشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مِنْ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: 35] الَّذِي هُوَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ [سبأ: 31] . وَالْكَلَامُ كُلُّهُ مُنْتَظِمٌ فِي أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَجَمِيعُ: فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَجْمُوعٍ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ وَصْفًا لِإِفَادَةِ شُمُولِ أَفْرَادِ مَا أُجْرِيَ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ذَوَاتٍ وَأَحْوَالٍ، أَيْ يَجْمَعُهُمُ الْمُتَكَلِّمُ، قَالَ لَبِيدٌ: عَرِيَتْ وَكَانَ بهَا الْجَمِيع فأبكروا ... مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثِمَامُهَا وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ فِي سُورَةِ هُودٍ [55] . فَلَفْظُ جَمِيعاً يَعُمُّ أَصْنَافَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اخْتِلَافِ نِحَلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ نِحَلًا شَتَّى يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمَا كَانُوا يُحَقِّقُونَ مَذْهَبًا مُنْتَظِمَ الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِمَا يُنَافِي بَعْضُهُ بَعْضًا. وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ كَمَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [20] . وَكَانُوا يَخْلِطُونَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَيَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ نَسَبًا، فَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرْوَاتِ الْجِنِّ.

وَقَدْ كَانَ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو مُلَيْحٍ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى تَقْرِيرِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِشْهَادِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ إِبْطَالَ إِلَهِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ يُفِيدُ إِبْطَالَ إِلَهِيَّةِ مَا هُوَ دونهَا مِمَّن أُعِيد مِنْ دُونِ اللَّهِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، أَيْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقْرِير من أهم مَا جُعِلَ الْحَشْرُ لِأَجْلِهِ. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا الِاسْتِفْهَام مُسْتَعْمل فِي التَّعْرِيض بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَثَلِ «إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ» . وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى فَرِيقٍ كَانُوا عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ مِنْ بَقِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى يَعْبُدُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَالرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَحُكِيَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ بِدُونِ عَاطِفٍ لِوُقُوعِهِ فِي الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْحِكَايَةِ. وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا مَعَ التَّنَزُّهِ عَنْ لَفْظِ كَوْنِهِمْ مَعْبُودِينَ كَمَا يَتَنَزَّهُ مَنْ يَحْكِي كُفْرَ أَحَدٍ فَيَقُولُ قَالَ: هُوَ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا الْقَائِلُ قَالَ: أَنَا مُشْرِكٌ بِاللَّهِ. فَمَوْرِدُ التَّنْزِيهِ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ سُبْحانَكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا أَنْ يُعْبَدَ، مَعَ لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلَا يُضَرُّونَ بِأَنْ يَكُونُوا مَعْبُودِينَ. وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ وَالْحَلِيفُ وَالصَّدِيقُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلْيِ مَصْدَرُ وَلِيَ بِوَزْنِ عَلِمَ. وَكُلٌّ مِنْ فَاعِلِ الْوَلْيِ وَمَفْعُولِهِ وَلِيٌّ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ نِسْبَةٌ تَسْتَدْعِي طَرَفَيْنِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَلِيُّ فَعِيلًا صَالِحًا لِمَعْنَى فَاعِلٍ وَلِمَعْنَى مَفْعُولٍ. فَيَقَعُ اسْمُ الْوَلِيِّ عَلَى الْمُوَالِي بِكَسْرِ اللَّامِ وَعَلَى الْمُوَالَى بِفَتْحِهَا وَقَدْ وَرَدَ بِالْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا. فَمَعْنَى أَنْتَ وَلِيُّنا لَا نُوَالِي غَيْرَكَ، أَيْ لَا نَرْضَى بِهِ وَلِيًّا، وَالْعِبَادَةُ وَلَايَةٌ بَيْنَ الْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ، وَرِضَى الْمَعْبُودِ بِعِبَادَةِ عَابِدِهِ إِيَّاهُ وِلَايَةٌ بَيْنَ الْمَعْبُودِ وَعَابِدِهِ، فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ سُبْحانَكَ تَبَرُّؤٌ مِنَ الرِّضَى بِأَنْ يَعْبُدَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا

[سورة سبإ (34) : آية 42]

جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُوَالِينَ لِلَّهِ فَقَدْ كَذَّبُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ، لِأَنَّ الْعَابِدَ لَا يكون معبودا. وَقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ (وَلِيٍّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [14] وَفِي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ. ومِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَ (دُونَ) اسْمٌ لِمَعْنَى غَيْرٍ، أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنَا وَهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ لَنَا وَلَا نَرْضَى بِهِمْ لِكُفْرِهِمْ فَ مِنْ دُونِهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنَ الْحَصْرِ لِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ انْتِقَالًا مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الَّذِينَ سَوَّلُوا لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَعْنَى: بَلْ كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَكَانَ الْجِنُّ رَاضِينَ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّا مُنْكِرُونَ عِبَادَتَهُمْ إِيَّانَا وَلَمْ نَأْمُرْهُمْ بِهَا وَلَكِنَّ الْجِنَّ سَوَّلَتْ لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فَعَبَدُوا الْجِنَّ وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ. وَجُمْلَةُ أَكْثَرُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَضَمِيرُ بِهِمْ لِلْجِنِّ، وَالْمَقَامُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ وَلَوْ تَمَاثَلَتِ الضَّمَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا أَيْ أَحْرَزَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَغَانِمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ ونقول بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَائِبِ فِيهِمَا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى رَبِّي مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: 39] . [42] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 42] فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا. الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ وَالْجِنَّ. وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمُقَاوَلَةِ السَّابِقَةِ. وَهِيَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ: التَّعْرِيضُ بِضَلَالِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ مَضْمُونَ هَذَا الْخَبَرِ فَلَا نَقْصِدُ إِفَادَتَهُمْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: إِذْ علمْتُم أَنكُمْ عَبدْتُمْ الْجِنَّ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِظْهَارًا لِلْغَضَبِ عَلَيْهِمْ تَحْقِيقًا لِلتَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ، وَالْفَاءُ أَيْضًا فَصِيحَةٌ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ لِأَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ يَوْمَئِذٍ قَدِ اخْتَصَّ صَغِيرُهُمَا وَكَبِيرُهُمَا بِاللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ نَفْعِ الْجِنِّ عُبَّادَهُمْ بِبَعْضِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَنَفَعِ الْمُشْرِكِينَ الْجِنَّ بِخِدْمَةِ وَسَاوِسِهِمْ وَتَنْفِيذِ أَغْرَاضِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَذَلِكَ الضُّرُّ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. وَالْمِلْكُ هُنَا بِمَعْنَى: الْقُدْرَةِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ بَعْضُكُمْ عَلَى نَصْرٍ أَو نفع بعض. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] . وَقَدَّمَ النَّفْعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ تَأْيِيسًا لَهُم لأَنهم كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ يَوْمَئِذٍ ويَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . وَعَطَفَ نَفْيَ الضُّرِّ عَلَى نَفْعِ النَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَلْبِ مَقْدِرَتِهِمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْكَائِنَاتِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضُرَّ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَ كَالْعَقْرَبِ. وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نقُول لِلْمَلائِكَةِ [سبأ: 40] . وَقَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْحِوَارِ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ إِظْهَارًا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ هَذَا الحكم الشَّديد، ولكونه كالمعلول لِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا. وَالذَّوْقُ: مَجَازٌ لِمُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ، وَاخْتِيَارُهُ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ. وَوَصْفُ النَّارِ بِالَّتِي كَانُوا يكذبُون بهَا لما فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ إِيذَانٍ بِغَلَطِهِمْ وَتَنْدِيمِهِمْ. وَقَدْ عُلِّقَ التَّكْذِيبُ هُنَا بِنَفْسِ النَّارِ فَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُنَاسِبِ لَهَا وَلَمْ

[سورة سبإ (34) : آية 43]

يُعَلَّقْ بِالْعَذَابِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ السَّجْدَةِ [20] وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَبَرَ عَنْهُ هُنَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ وَقَدْ أَذِنَ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وَشَاهَدُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى آنِفًا: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ [سبأ: 33] فَإِنَّ الَّذِي يَرَى هُوَ مَا بِهِ الْعَذَابُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [20] فَهُوَ قَوْلُ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالرِّعَايَةِ على الفاصلة. [سُورَة سبإ (34) : آيَة 43] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) انْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ كُفْرِهِمْ وَغُرُورِهِمْ وَازْدِهَائِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِأُصُولِ الدِّيَانَةِ إِلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِحِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمُ الْكِتَابَ وَالدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَكَانَ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ. وَجُمْلَةُ إِذا تُتْلى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نحشرهم جَمِيعاً [سبأ: 40] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ: 31] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَإِيرَادُ حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَيَّدَةً بِالزَّمَنِ الَّذِي تُتْلَى عَلَيْهِمْ فِيهِ آيَاتُ اللَّهِ الْبَيِّنَاتِ تَعْجِيبٌ مِنْ وَقَاحَتِهِمْ حَيْثُ كَذَّبُوهُ فِي أَجْدَرِ الْأَوْقَاتِ بِأَنْ يصدقوه عِنْدهَا لِأَنَّهُ وَقْتَ ظُهُورِ حُجَّةِ صِدْقِهِ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُتَبَصِّرٍ. وَلِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الظَّرْفِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ وَالتَّشَوُّقِ إِلَى الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ وَأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْبُهْتَانِ وَالْكُفْرِ الْبَوَاحِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ آيَاتُ الْقُرْآن، ووصفها بالبيّنات لِأَجْلِ ظُهُورِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لإعجازها إيَّاهُم عَن مُعَارَضَتِهَا، وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى صدق مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، فَهِيَ محفوفة بِالْبَيَانِ بِأَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا.

وَحُذِفَ فَاعِلُ التِّلَاوَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ تَالِي آيَاتِ اللَّهِ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واستحضروه بطرِيق الْإِشَارَةِ دُونَ الِاسْم إِفَادَة لحضوره مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ وَقَاحَتِهِمْ فَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فِي مَجَالِسِهِمْ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ قِرَاءَتِهِ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ لِلْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي تَشَاجَرَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ. وَابْتَدَأُوا بِالطَّعْنِ فِي التَّالِي لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الَّذِي يَرْمُونَ إِلَيْهِ، وَأَثْبَتُوا لَهُ إِرَادَةَ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ قَصْدَ أَنْ يُثِيرَ بَعْضُهُمْ حَمِيَّةَ بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ آبَاءَهُمْ أَهْلَ الرَّأْيِ فِيمَا ارْتَأَوْا وَالتَّسْدِيدِ فِيمَا فَعَلُوا فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا حَقًّا وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا صَوَابًا وَحِكْمَةً، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدُ الصَّدِّ عَنْهَا مُحَاوِلًا الْبَاطِلَ وَكَاذِبًا فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ مُطَابِقٌ الْوَاقِعَ فَإِبْطَالُ مَا هُوَ حَقٌّ فِي زَعْمِهِمْ قَوْلٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَهُوَ الْكَذِبُ. وَفِعْلُ كانَ فِي قَوْلِهِمْ: عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ عَنَوْا أَنَّ تِلْكَ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ ثَابِتَةٌ. وَفِي ذَلِكَ إِلْهَابٌ لِقُلُوبِ قَوْمِهِمْ وَإِيغَارٌ لِصُدُورِهِمْ لِيَتَأَلَّبُوا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزْدَادُوا تَمَسُّكًا بِدِينِهِمْ وَقد قصروا الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى صِفَةِ إِرَادَةِ صَدِّهِمْ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ إِلَّا رَجُلٌ صَادِقٌ فَمَا هُوَ بِرَسُولٍ. وَأَتْبَعُوا وَصْفَ التَّالِي بِوَصْفِ الْمَتْلُوِّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَإِعَادَةُ فِعْلِ القَوْل للاهتمام بحكاية قَوْلهم لفظاعته وَكَذَلِكَ إِعَادَة فعل الْقَوْلِ إِعَادَةٌ ثَابِتَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِكُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْغَرِيبَيْنِ تَشْنِيعًا لَهُمَا فِي نَفْسِ السَّامِعِينَ فَجُمْلَةُ وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ، فَالْفِعْلَانِ مُشْتَرِكَانِ فِي الظَّرْفِ. وَالْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي تَضَمَّنُهُ تُتْلى لِتَعَيُّنِهِ لِذَلِكَ. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ، وَوَصْفُهُ بِالْمُفْتَرَى إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ إِفْكٌ وَزَادُوا فَجَعَلُوهُ مُخْتَرَعًا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَسْبُوقًا بِهِ. فَكَوْنُهُ إِفْكًا يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَكَوْنُهُ مُفْتَرًى يُرْجِعُونَهُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ

[سورة سبإ (34) : آية 44]

قَصَصِ الْأَوَّلِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ بُهْتَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] فَلَيْسَ مُفْتَرىً تَأْكِيدًا لِ إِفْكٌ. ثُمَّ حُكِيَ تَكْذِيبُهُمُ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيٍ يُتْلَى أَوْ دَعْوَةٍ إِلَى التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ أَوِ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ أَوْ مُعْجِزَةٍ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، فَهَذَا الْمَقَالُ الثَّالِثُ يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَهُ، فَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ هَذَا تَقُومُ مَقَامَ التَّذْيِيلِ. وَأُظْهِرَ لِلْقَائِلِينَ دُونَ إِضْمَارِ مَا تَقَدَّمَ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ فَقِيلَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ بَاعِثُ قَوْلِهِمْ هَذَا. وَأُظْهِرَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، أَي إِذْ ظهر لَهُمْ مَا هُوَ حَقٌّ مِنْ إِثْبَاتٍ لِلتَّوْحِيدِ أَوْ إِخْبَارٍ عَنِ الْغَيْبِ أَوِ الْبَعْثِ قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السِّحْرَ لَهُ أُسْلُوبَانِ: أَحَدُهُمَا شَعْوَذَةُ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا تُفْهَمُ مَدْلُولَاتُهَا يَخْتَلِقُهَا السَّحَرَةُ لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ فِيهَا مُنَاجَاةً مَعَ الْجِنِّ لِيُمَكِّنُوهُمْ مِنْ عَمَلِ مَا يُرِيدُونَ فَيَسْتَرْهِبُوهُمْ بِذَلِكَ، وَثَانِيهِمَا أَفْعَالٌ لَهَا أَسْبَابٌ خَفِيَّةٌ مَسْتُورَةٌ بِحِيَلِ وَخِفَّةِ أَيْدٍ تُحَرِّكُهَا فَيُوهِمُونَ بِهَا النَّاسَ أَنَّهَا مِنْ تَمْكِينِ الْجِنِّ إِيَّاهُمُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَفِيَّاتِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ أَلْحَقُوهُ بِالْأُسْلُوبِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا رَأَوُا الْمُعْجِزَاتِ أَلْحَقُوهَا بِالْأُسْلُوبِ الثَّانِي كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي شَاهَدَتْ مُعْجِزَةَ تَكْثِيرِ الْمَاءِ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لِقَوْمِهَا «أَتَيْتُ أَسْحَرَ النَّاسِ، أَوَ هُوَ نَبِيءٌ كَمَا زَعَمُوهُ» . وَمَعْنَى مُبِينٌ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ سِحْرٌ فَتَبْيِينُهُ كُنْهُهُ مِنْ نَفْسِهِ، يَعْنُونَ أَنَّ مَنْ سَمِعَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ. وَجُمْلَةُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى. [44] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 44] وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ [سبأ: 43] الْآيَةَ،

تَحْمِيقًا لِجَهَالَتِهِمْ وَتَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ فِي أَمْرَيْنِ: «أَحَدُهُمَا» : أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْمَزِيَّةِ بِمَجِيءِ الْحَقِّ إِلَيْهِمْ إِذْ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ بِهِ لِأَنْ يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْأُمَمِ ذَوِي الْكِتَابِ، وَفِي بَدْءِ حَالٍ يَبْلُغُ بِهِمْ مَبْلَغَ الْعِلْمِ، إِذْ هُمْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ أَنْ أَتَاهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ رَسُولٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَكَيْفَ رَفَضُوا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَتَلَقِّيَ الْقُرْآنِ وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِمُ الِاغْتِبَاطَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: يَدْرُسُونَها أَيْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ دِرَاسَةٍ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسُرَّهُمْ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ. «وَثَانِيهِمَا» : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى وَلَا دِينٍ مَنْسُوبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ تَمَسُّكُهُمْ بِهِ وَخَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَةِ إِنْ فَرَّطُوا فِيهِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ وَصِدْقِ الرَّسُولِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ فَيَكُونُ لَهُمْ فِي الصَّدِّ عَنْهُمَا بَعْضُ الْعُذْرِ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: التَّعْجِيبُ مِنْ رَفْضِهِمُ الْحَقَّ حِينَ لَا مَانِعَ يَصُدُّهُمْ، فَلَيْسَ مَعْنَى جُمْلَةِ وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ الَخْ عَلَى الْعَطْفِ وَلَا عَلَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّ مَضْمُونَ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِالْإِخْبَارِ بِهِ، وَلَكِنْ على الْحَال لإِفَادَة التَّعْجِيبِ وَالتَّحْمِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى الْمُفَسِّرُونَ. وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِتَمَهُّلٍ وَتَفَهُّمٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فِي آلِ عِمْرَانَ [79] . وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْ إِيتَاءَ الْكُتُبِ بِقَيْدٍ كَمَا قَيَّدَ الْإِرْسَالَ بِقَوْلِهِ: قَبْلَكَ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ هُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ إِرْسَالِ النَّذِيرِ فَهُوَ حَاصِلٌ سَوَاءً تَقَبَّلُوهُ أَمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ. وَمَنْ نَحَا نَحْوَ أَنْ يَكُونَ معنى الْآيَة التَّفْرِقَة بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَذَلِكَ مَنْحًى وَاهِنٌ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى مَعْذِرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَضِّهِمْ بِالنَّوَاجِذِ عَلَى دِينِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِمَكَّةَ عَلَاقَةٌ لِلدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا دعاهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَيْضًا لَا يَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ بِ قَبْلَكَ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ كَمَا عَلِمْتَ. وَهُنَالِكَ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى أَشَدُّ بُعْدًا وَأَبْعَدُ عَنِ الْقَصْد جدا.

[سورة سبإ (34) : آية 45]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 45] وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدٌ لِلَّذِينِ كَذَّبُوهُ، فَمَوْقِعُ التَّسْلِيَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَوْقِعُ التَّهْدِيدِ بَقِيَّةُ الْآيَةِ، فَالتَّسْلِيَةُ فِي أَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَالتَّهْدِيدُ. بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا وَكَيْفَ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ وَأَعْظَمَ سَطْوَةً مِنْهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] . وَمَفْعُولُ كَذَّبَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَي كذبُوا الرُّسُل، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي. وَضَمِيرُ بَلَغُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي آتَيْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا سحر مُبين [سبأ: 43] . وَالْمَقَامُ يُرَدُّ عَلَى كُلِّ ضَمِيرٍ إِلَى معاده، كَمَا تقدم قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 41] . وَالْمِعْشَارُ: الْعُشْرُ، وَهُوَ الْجُزْءُ الْعَاشِرُ مِثْلَ الْمِرْبَاعِ الَّذِي كَانَ يَجْعَل لقائد الكتبية مِنْ غَنَائِمِ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذُكِرَ احْتِمَالَانِ آخَرَانِ فِي مَعَادِ الضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُمَا سِيَاقُ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالِاعْتِرَاضُ بِهَا تَمْهِيدٌ لِلتَّهْدِيدِ وَتَقْرِيبٌ لَهُ بِأَنَّ عِقَابَ هَؤُلَاءِ أَيْسَرُ مِنْ عِقَابِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ أَن المفرع عطف عَلَيْهِ قَوْله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ فَكَذَّبُوا رُسُلِي تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [9] ، وَلِكَوْنِ الْفَاءِ

الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي. وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَ (كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحَالَةِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّفْرِيعِ كَقَوْلِ الْحَجَّاجِ لِلْعُدَيْلِ ابْنِ الْفَرْخِ «فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ أَمْكَنَ مِنْكَ» ، أَيْ أَمْكَنَنِي مِنْكَ، فِي قِصَّةِ هُرُوبِهِ. فَجُمْلَتَا فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فِي قُوَّةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُفَرَّعَةٍ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكيف كَانَ نكيري عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جُمْلَةُ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَقْصُودًا مِنْهَا تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ ابْتِدَاءً جُعِلَتْ مَقْصُورَةً عَلَى ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ الْغَرَضِ وَانْتِصَارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَصَّتْ عِبْرَةَ تَسَبُّبِ التَّكْذِيبِ فِي الْعِقَابِ بِجُمْلَةٍ تَخُصُّهَا تَهْوِيلًا لِلتَّكْذِيبِ وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِطْنَابِ، فَصَادَفَ أَنْ كَانَ مَضْمُونُ الْجُمْلَتَيْنِ مُتَّحِدًا اتِّحَادَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبَيْنِ أَوِ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولَيْنِ كَعِلَّةِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ وَالْغُرْمِ. وَبُنِيَ النَّظْمُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الشَّيِّقِ تَجَنُّبًا لِثِقَلِ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ إِعَادَةً سَاذِجَةً فَفُرِّعَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأُولَى وَأُظْهِرَ فِيهَا مَفْعُولُ كَذَّبَ وَبُنِيَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ التَّفْظِيعِيُّ، أَوْ فَرَّعَ لِلتَّكْذِيبِ الْخَاصِّ عَلَى التَّكْذِيبِ الَّذِي هُوَ سَجِيَّتُهُمُ الْعَامَّةُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: 9] . والنكير: اسْمٌ لِلْإِنْكَارِ وَهُوَ عَدُّ الشَّيْءِ مُنْكَرًا، أَيْ مَكْرُوهًا، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْغَضَبِ وَتَسْلِيطِ الْعِقَابِ عَلَى الْآتِي بِذَلِكَ الْمُنْكَرِ فَهِيَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي لَهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ مِمَّا أَنْكَرَهُ، أَيْ كَانَ عِقَابًا عَظِيمًا عَلَى وَفْقِ إِنْكَارِنَا تَكْذِيبَهُمْ. ونَكِيرِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِلتَّخْفِيفِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا بِبَقَاءِ الْكَسْرَةِ عَلَى آخِرِ الْكَلِمَةِ وَلِيُنَاسِبَ الْفَاصِلَةَ وَأُخْتَهَا. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ وَبِوَقْفٍ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ.

[سورة سبإ (34) : آية 46]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 46] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) افْتَتَحَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ هُنَا وَفِي الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ بَعْدَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْضِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّسْلِيَةِ وَالتَّهْدِيدِ وَوَصْفِ صُدُودِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ إِلَى دَعْوَتِهِمْ للإنصاف فِي النّظر والتأمل فِي الْحَقَائِقِ لِيَتَّضِحَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْعَسْفِ فِي تَلَقِّي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَمَا أَلْصَقُوا بِهِ وَبِالدَّاعِي إِلَيْهِ، وَأَرْشَدُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ فِي شَأْنِهِمْ وَالِاخْتِلَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ لِمُحَاسَبَتِهَا عَلَى سُلُوكِهَا، اسْتِقْصَاءً لَهُمْ فِي الْحُجَّةِ وَإِعْذَارًا لَهُمْ فِي الْمُجَادَلَةِ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَال: 42] . وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ صِيغَةُ الْحَصْرِ بِ إِنَّما، أَيْ مَا أَعِظُكُمْ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ، طَيًّا لبساط المناظرة وإرساء عَلَى الْخُلَاصَةِ مِنَ الْمُجَادَلَاتِ الْمَاضِيَةِ، وَتَقْرِيبًا لِشُقَّةِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ الْمُفَصَّلَةِ، أَيْ إِنِ اسْتَكْثَرْتُمُ الْحُجَجَ وَضَجِرْتُمْ مِنَ الرُّدُودِ وَالْمَطَاعِنِ فَأَنَا أَخْتَصِرُ الْمُجَادَلَةَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ كَانُوا يَتَذَمَّرُونَ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَبِي طَالِبٍ: أَمَا يَنْتَهِي ابْن أَخِيك عَن شَتْمِ آلِهَتِنَا وَآبَائِنَا. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُنَاظِرُ وَالْجَدَلِيُّ بَعْدَ بَسْطِ الْأَدِلَّةِ فَيَقُولُ: وَالْخُلَاصَةُ أَوِ والفذلكة كَذَا. وَقَدِ ارْتَكَبَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ تَقْرِيبَ مَسَالِكِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ بِاخْتِصَارِهِ، فَوُصِفَ بِأَنَّهُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لِئَلَّا يَتَجَهَّمُوا الإقبال على هَذَا النَّظَرِ الَّذِي عَقَدُوا نِيَّاتِهِمْ عَلَى رَفْضِهِ، فَأَعْلَمُوا بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُكَلِّفُهُمْ جُهْدًا وَلَا يُضِيعُ عَلَيْهِمْ زَمَنًا فَلْيَتَأَمَّلُوا فِيهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَقْضُوا قَضَاءَهُمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِهِ. وَالْوَعْظُ: كَلَامٌ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ مَكْرُوهٍ وَتَرْغِيبٌ فِي ضِدِّهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] ، وَقَوْلُهُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ

وَ «وَاحِدَةٍ» صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَيَفْرِضُهُ السَّامِعُ نَحْوَ: بِخَصْلَةٍ، أَوْ بِقَضِيَّةٍ، أَوْ بِكَلِمَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ تَقْلِيلُهَا تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَاخْتِصَارًا فِي الِاسْتِدْلَالِ وَإِيجَازًا فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَاسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُورِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ. وَبُنِيَتْ هَذِهِ الْوَاحِدَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى إِلَى آخِرِهِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ «وَاحِدَةٍ» ، أَوْ قُلْ عَطْفُ بَيَانٍ فَإِنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ هُوَ الْبَدَلُ الْمُطَابِقُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَلَا تَخُضْ فِي مُحَاوَلَةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَالَّذِي خَاضُوا. وَالْقِيَامُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُومُوا مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ التَّأَهُّبُ لِلْعَمَلِ وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النِّسَاء: 127] . وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِذَاتِهِ، أَيْ جَاعِلِينَ عَمَلَكُمْ لِلَّهِ لَا لِمَرْضَاةِ صَاحِبٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ [العنكبوت: 25] ، أَوْ لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالتَّدَبُّرِ فِي صِفَاتِهِ. وَكَلِمَةُ مَثْنى مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، بِتَكْرِيرِ كَلِمَةِ اثْنَيْنِ تَكْرِيرًا يُفِيدُ مَعْنَى تَرْصِيفِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِجَعْلِ كُلِّ مَا يُعَدُّ بِعَدَدِ اثْنَيْنِ مِنْهُ مُرَصَّفًا عَلَى نَحْوِ عَدَدِهِ. وَكَلِمَةُ فُرادى مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمْ: فَرْدًا فَرْدًا تَكْرِيرًا يُفِيدُ مَعْنَى التَّرْصِيفِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ إِلَى تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [3] . وَانْتَصَبَ مَثْنى وَفُرادى عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَقُومُوا، أَيْ أَنْ تَكُونُوا فِي الْقِيَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْ تَقُومُوا لِحَقِّ اللَّهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ مِنِ اجْتِمَاعٍ وَانْفِرَادٍ، فَيَكُونُ مَثْنى كِنَايَةً عَنِ التَّعَدُّدِ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ فِي التَّكَرُّرِ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ أَوَّلُ التَّكْرِيرِ فَجَعَلَ التَّكَرُّرَ لَازِمًا لِلتَّثْنِيَةِ ادِّعَاءً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: 4] فَإِنَّ الْبَصَرَ لَا يَرْجِعُ خَاسِئًا مِنْ إِعَادَةِ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ تَكْرِيرُ

النَّظَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَقَوْلُهُمْ: دَوَالَيْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنْ تَقُومُوا لِحَقِّ اللَّهِ مُسْتَعِينًا أَحَدُكُمْ بِصَاحِبٍ لَهُ أَوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مَنْ يَنْشَطُ إِلَيْهِ بِالْمُدَارَسَةِ مَا لَا يُنَشِّطُهُ بِالْخَلْوَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَالُهُ بِعَكْسِ هَذَا، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَثْنى وَفُرادى لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا اضْطِرَارَ إِلَيْهِ. وَقَدَّمَ مَثْنى لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ أَعْوَنُ عَلَى الْفَهْمِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ دَفْعَ عَوَائِقِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُغَالِطُ فِيهِ صَاحِبُ هَوًى وَلَا شُبْهَةٍ وَلَا يَخْشَى فِيهِ النَّاظِرُ تَشْنِيعًا وَلَا سُمْعَةً، فَإِنَّ الْجَمَاهِيرَ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَمْ يَخْلُ مُجْتَمَعُهُمْ مِنْ ذِي هَوًى وَذِي شُبْهَةٍ وَذِي مَكْرٍ وَذِي انْتِفَاعٍ، وَهَؤُلَاء- بِمَا يلازم نَوَايَاهُمْ مِنَ الْخُبْثِ- تَصْحَبُهُمْ جُرْأَةٌ لَا تَتْرُكُ فِيهِمْ وَازِعًا عَنِ الْبَاطِلِ وَلَا صَدًّا عَنِ الِاخْتِلَاقِ وَالتَّحْرِيفِ لِلْأَقْوَالِ بِعَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ، وَلَا حَيَاءً يُهَذِّبُ مِنْ حِدَّتِهِمْ فِي الْخِصَامِ وَالْأَذَى، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِالْقَالَةِ وَأَعْمَالِ أَهْلِ السَّفَالَةِ. فَلِلسَّلَامَةُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِقِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْ تِلْكَ الْبَوَائِقِ الصَّادَّةِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ قِيلَ هَنَا مَثْنى وَفُرادى فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لَمْ يَرْضَ لَهَا بِغَيْرِ النُّصْحِ، وَإِذَا خَلَا ثَانِي اثْنَيْنِ فَهُوَ إِنَّمَا يَخْتَارُ ثَانِيَهُ أَعْلَقَ أَصْحَابِهِ بِهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ رَأْيًا فَسَلِمَ كِلَاهُمَا مِنْ غِشِّ صَاحِبِهِ. وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ فِي أَحْوَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَمُّ فِي إِصْلَاحِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَتِهِ، بِخِلَافِ الْقِيَامِ لِلَّهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْبَوْنَهُ. وَالتَّفَكُّرُ: تَكَلُّفُ الْفِكْرِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي الْأَنْعَامِ [50] . وَقَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ نَفْيٌ يُعَلِّقُ فِعْلَ تَتَفَكَّرُوا عَنِ الْعَمَلِ لِأَجْلِ حَرْفِ النَّفْيِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَعْلَمُوا نَفْيَ الْجُنُونِ عَنْ صَاحِبِكُمْ، أَيْ تَعْلَمُوا مَضْمُونَ هَذَا. فَجُمْلَةُ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ مَعْمُولَةٌ لِ تَتَفَكَّرُوا. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى تَتَفَكَّرُوا لَمْ يُتْقِنِ التَّفَكُّرَ. وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ: الْمُخَالِطُ مُطلقًا بالموافقة وبالمخاصمة، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّبَصُّرِ

فِي خَلْقِهِ كَقَوْلِ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ لِلْخَوَارِجِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ» يَعْنِي فَلَا تَخْفَى عَلَيَّ مَقَاصِدُكُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [184] . وَالتَّعْبِيرُ بِصاحِبِكُمْ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: مَا بِي مِنْ جَنَّةٍ إِذِ الْكَلَامُ جَارٍ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ حَالَهُ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ لَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ لِشِدَّةِ مُخَالَطَتِهِ بِهِمْ مُخَالَطَةً لَا تَذَرُ لِلْجَهَالَةِ مَجَالًا فَهُمْ عَرَفُوهُ وَنَشَأَ بَيْنَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ فَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: 16] . وَالِاقْتِصَارُ فِي التَّفَكُّرِ الْمَطْلُوبِ عَلَى انْتِفَاءِ الْجِنَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ هُوَ الطَّعْنُ فِي نُبُوءَتِهِ وَهُمْ لَمَّا طَعَنُوا فِيهِ قَالُوا: مَجْنُونٌ، وَقَالُوا: سَاحِرٌ، وَقَالُوا: كَاذِبٌ. فَابْتُدِئْ فِي إِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ بِنَفْيِ الْجِنَّةِ عَنْهُ حَتَّى إِذَا أَذْعَنُوا إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ انْصَرَفَ النَّظَرُ إِلَى أَنَّ مِثْلَ مَا جَاءَ بِهِ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا عَاقِلٌ وَهُمْ إِنَّمَا ابَتَدَأُوا اخْتِلَاقَهُمْ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: 2] فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ نُزُولًا. وَقَالَ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ فِي السُّورَة السَّابِعَة [التكوير: 22] وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدُّخان: 14] إِذْ دَعْوَى الْجُنُونِ أَرْوَجُ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْجُنُونَ يَطْرَأُ عَلَى الْإِنْسَانِ دَفْعَةً فَلَمْ يَجِدُوا تَعِلَّةً أَقْرَبَ لِلْقَبُولِ مِنْ دَعْوَى أَنَّهُ اعْتَرَاهُ جُنُونٌ كَمَا قَالَت عَادٌ لِهُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] ، وَقَالَتْ ثَمُودُ لِصَالِحٍ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: 62] . فَبَقِيَتْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَأَنَّهُ كَاهِنٌ وَأَنَّهُ شَاعِرٌ وَأَنَّهُ كَاذِبٌ (حَاشَاهُ) . فَأَمَّا السِّحْرُ وَالْكِهَانَةُ فَسَهُلَ نَفْيُهُمَا بِنَفْيِ خَصَائِصِهِمَا فَأَمَّا انْتِفَاءُ السِّحْرِ فَبَيِّنٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةِ تَعَلُّمٍ وَمُزَاوَلَةٍ طَوِيلَةٍ وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَمَسْحَتُهُ مَنْفِيَّةٌ عَنِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي كِنَانَةِ مَطَاعِنِهِمْ إِلَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا يزيفه قَوْله: بِصاحِبِكُمْ فَإِنَّهُمْ عَرَفُوهُ بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ فِي شَبِيبَتِهِ وَكُهُولَتِهِ فَكَيْفَ يُصْبِحُ بَعْدَ ذَلِكَ كَاذِبًا كَمَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: فَلَمَّا رَأَيْتُمُ الشَّيْبَ فِي صُدْغَيْهِ قُلْتُمُ شَاعِرٌ

[سورة سبإ (34) : آية 47]

وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ وقلتم مَجْنُون، وو الله مَا هُوَ بأولئكم. وَإِذَا كَانَ لَا يَكْذِبُ عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ سَأَلَهُ: هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا. قَالَ: فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَتْرُكَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا التَّدَرُّجِ الَّذِي طُوِيَ تَحْتَ جُمْلَةِ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِحَصْرِ أمره فِي النذرات بِقُرْبِ عَذَابٍ وَاقِعٍ، أَيْ فِي النِّذَارَةِ وَالرِّسَالَةِ الصَّادِقَةِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَيْ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا يَتَصَدَّى لَهَا إِلَّا رَجُلَانِ: إِمَّا مَجْنُونٌ لَا يُبَالِي بِافْتِضَاحِهِ إِذَا طُولِبَ بِالْبُرْهَانِ، وَإِمَّا عَاقِلٌ رَاجِحُ الْعَقْلِ لَا يَدَّعِي مِثْلَهُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ بِالْحُجَّةِ، وَإِلَّا فَمَا يُجْدِي الْعَاقِلُ دَعْوَى شَيْءٍ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنْ جِنَّةٍ بَلْ عَلِمْتُمُوهُ أَرْجَحَ قُرَيْشٍ عَقْلًا وَأَرْزَنَهُمْ حِلْمًا وَأَثْقَبَهُمْ ذِهْنًا وَآصَلَهُمْ رَأْيًا وَأَصْدَقَهُمْ قَوْلًا وَأَجْمَعَهُمْ لِمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَكَانَ مَظِنَّةً لِأَنْ تَظُنُّوا بِهِ الْخَيْرَ وَتُرَجِّحُوا فِيهِ جَانِبَ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ» اهـ. فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ لَا تَحُومُ حَوْلَهُ الْأَوْصَافُ الَّتِي لَمَزْتُمُوهُ بِهَا. وَمَعْنَى بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ الْقُرْبُ، أَيْ قُرْبَ الْحُصُولِ فَيَقْتَضِي الْقَبْلِيَّةَ، أَيْ قَبْلَ عَذَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمُرَادُ عَذَاب الْآخِرَة. [47] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 47] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) هَذَا اسْتِقْصَاءٌ لِبَقَايَا شُبَهِ التَّكْذِيبِ لِدَحْضِهَا سَوَاءً مِنْهَا مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: كَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ وَمَا لَمْ يَدَّعُوهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْطُرُ بِبَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّهُ يُرِيد بِهَذِهِ الدعْوَة نَفْعًا لِنَفْسِهِ يَكُونُ أَجْرًا لَهُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ. وَهُمْ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ أَنَّهُ كَاهِنٌ لَزِمَ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ

لِجَائِزَةِ الشَّاعِرِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ فَلَمَّا نُفِيَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْخِلَالُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي الْكِنَانَةِ سَهْمُ طَعْنٍ، إِلَّا أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّهُ يَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى الْإِرْشَادِ فَقِيلَ لَهُمْ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ ظَنُّ انْتِفَاعِي مِنْكُمْ بِمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ لِي مِنْ أَجْرٍ عَلَيْهِ فَخُذُوهُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ بَدِيعَةٌ فِي الْكِنَايَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ يُفْرَضَ كَالْوَاقِعِ ثُمَّ يُرَتَّبَ عَلَيْهِ الِانْكِفَافُ عَنْهُ وَرَدُّ مَا فَاتَ مِنْهُ لِيُفْضِيَ بِذَلِكَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ، فَهِيَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمْ أَجْرًا قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [ص: 86، 87] أَوْ إِنْ كُنْتُ سَأَلْتُكُمْ أَجْرًا فَلَا تُعْطُونِيهِ، وَإِنْ كُنْتُمْ أَعْطَيْتُمْ شَيْئًا فَاسْتَرِدُّوهُ، فَكُنِّيَ بِهَذَا الشَّرْطِ الْمُحَقَّقِ انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا أَجْرًا مِنْهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: 116] . وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ عَقِبَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَجِيءَ بِالشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِيَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَجْدَرَ عَلَى أَنَّ وُقُوعَهُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَقْضِي بِانْتِفَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا. وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى التَّحَدِّي لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِجَمَاعَتِهِمْ أَوْ آحَادِهِمْ عِلْمٌ بِأَنَّهُ طَلَبَ أَجْرًا مِنْهُمْ لَجَارُوا حِينَ هَذَا التَّحَدِّي بِمُكَافَحَتِهِ وَطَالَبُوهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِمْ. وَيَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا إِلَى تعين أَنَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُمْ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ التَّبَرُّؤُ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ مِنْهُمْ أَجْرًا أَوْ يَتَطَلَّبُ نَفْعًا لِأَنَّ انْتِفَاءَ ذَلِكَ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْعَنَاءِ فِي الدَّعْوَةِ دَلِيلُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لَا يُرِيدُ جَزَاءً مِنْهُمْ. وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، ومِنْ أَجْرٍ بَيَانًا لِإِبْهَامِ مَا وَجُمْلَةُ فَهُوَ لَكُمْ جَوَابَ الشَّرْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً. وَتَكُونَ مِنْ لِتَوْكِيدِ عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ، وَتَكُونَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ لَكُمْ تَفْرِيعًا عَلَى نَفْيِ الْأَجْرِ، وَضَمِيرُ «هُوَ» عَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ [سبأ: 43] أَيْ فَهَذَا الْقُرْآنُ لِفَائِدَتِكُمْ لَا لِفَائِدَتِي لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يُفِيدُ أَنْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ نَظِيرَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [ص: 86، 87] .

[سورة سبإ (34) : آية 48]

وَالْأَجْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [25] . وَجُمْلَةُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ: كَيْفَ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَى مَا قَامَ بِهِ أَجْرٌ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ أَجْرَهُ مَضْمُونٌ وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُومُ بِعَمَلٍ لِمَرْضَاتِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فَعَلَيْهِ أَجْرُهُ. وَحَرْفُ عَلَى يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَعْدِهِ الصَّادِقِ، ثُمَّ ذَيَّلَ ذَلِكَ بِاسْتِشْهَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَاطِنِهِ وَنِيَّتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهَا، وَعَلِيمٌ بِخَفَايَاهَا فَهُوَ مِنْ بَابِ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد: 43] أَيْ وَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. وَالْأَجْرُ: عِوَضٌ نَافِعٌ عَلَى عَمَلٍ سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ يَاءَ أَجْرِيَ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَاكِنَةً، وَهُمَا وَجْهَانِ مِنْ وُجُوهِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْإِضَافَة. [48] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 48] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) لَا جَرَمَ إِذِ انْتَهَى الِاسْتِدْلَالُ وَالْمُجَادَلَةُ أَنْ يُنْتَقَلَ إِلَى النِّدَاءِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ بِظُهُورِ الْحَقِّ فَيُسْتَغْنَى عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ. وَأُعِيدَ فِعْلُ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَقُولِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَالتَّأْكِيدُ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْخَبَرِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ بِلَفْظِ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِلْإِشَارَةِ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِ وَأَنَّهُ تَأْيِيدٌ مِنْ رَبِّهِ فَإِنَّ الرَّبَّ يَنْصُرُ مَرْبُوبَهُ وَيُؤَيِّدُهُ. فَالْمُرَادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ هُنَا رُبُوبِيَّةُ الْوَلَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ لَا مُطْلَقُ الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهَا تَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ دُونَ التَّقَوِّي لِأَنَّ تَقَوِّيَ الْجُمْلَةِ حَصَلَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَقْذِفُ

[سورة سبإ (34) : آية 49]

بِالْحَقِّ مِنْ مَعْنَى: النَّاصِرِ لِي دُونَكُمْ فَمَاذَا يَنْفَعُكُمُ اعْتِزَازُكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ. وَالْقَذْف: إِلْقَاء شَيْء مِنَ الْيَدِ، وَأُطْلِقَ عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ قَذْفٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، شَبَّهَ إِعْلَانَ الْحَقِّ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبِّي يَقْذِفُكُمْ بِالْحَقِّ. أَوْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ [الْأَنْبِيَاء: 18] وعَلى كُلٍّ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَتَخْصِيصُ وَصْفِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْصَافِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِالنَّوَايَا، وَأَنَّ الْقَائِلَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَالَّذِي يَعْلَمُ هَذَا لَا يجترىء عَلَى اللَّهِ بِادِّعَائِهِ بَاطِلًا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، فَالْإِعْلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُنَا يُشْبِهُ اسْتِعْمَالَ الْخَبَرِ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يُرْسِلُ الْوَحْيَ، أَيْ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غَافِر: 15] وَيَكُونَ قَوْلُهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْلَا أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ دُونَ مُحَمَّدٍ. وَارْتَفَعَ عَلَّامُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِاسْمِ إِنَّ إِمَّا مَقْطُوعٌ، وَإِمَّا لِمُرَاعَاةِ مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ حَيْثُ إِنَّهَا اسْتَوْفَتْ خَبَرَهَا لِأَنَّ حُكْمَ الصِّفَةِ حُكْمُ عَطْفِ النَّسَقِ عِنْدَ أَكْثَرِ النُّحَاةِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رَفْعُ الِاسْم فِي مثل هَذَا هُوَ غَالِبُ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِثْلُهُ بِالْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْغُيُوبِ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ كَمَا جَاءَ الْوَجْهَانِ فِي بَاء «بيُوت» . [49] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 49] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) أُعِيدَ فِعْلُ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَقُولِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ قُلْ جاءَ الْحَقُّ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ [سبأ: 48] فَإِنَّ الْحَقَّ

[سورة سبإ (34) : آية 50]

قَدْ جَاءَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَعَطَفَ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ عَلَى جاءَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْحَقُّ انْقَشَعَ الْبَاطِلُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَّ فِيهِ الْحَقُّ. ويُبْدِئُ مُضَارِعُ أَبْدَأَ بِهَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَالْهَمْزَةُ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ لِلزِّيَادَةِ مِثْلُ هَمْزَةِ: أَجَاءَ، وَأَسْرَى. وَإِسْنَادُ الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ إِلَى الْبَاطِلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَوِ اسْتِعَارَةٌ. وَمَعْنَى مَا يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ الْكِنَايَةُ عَنِ اضْمِحْلَالِهِ وَزَوَالِهِ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالزُّهُوقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [81] . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي تَكُونُ لَهُ آثَارٌ إِمَّا أَنْ تَكُونَ آثَارُهُ مُسْتَأْنَفَةً أَوْ مُعَادَةً فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَاءٌ وَلَا إِعَادَةٌ فَهُوَ مَعْدُومٌ وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَصَرُّفِ الْحَيِّ فَيَكُونُ مَا يُبْدِئُ وَمَا يُعِيدُ كِنَايَةً عَنِ الْهَلَاكِ كَمَا قَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبِيدُ ... فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ (يَعْنِي نَفْسَهُ) . وَيَقُولُونَ أَيْضًا: فلَان مَا يبدىء وَمَا يُعِيدُ، أَيْ مَا يَتَكَلَّمُ بِبَادِئَةٍ وَلَا عَائِدَةٍ، أَيْ لَا يَرْتَجِلُ كَلَامًا وَلَا يُجِيبُ عَنْ كَلَامِ غَيْرِهِ. وَأَكْثَرُ مَا يسْتَعْمل فعل (أبدأ) الْمَهْمُوزُ أَوَّلُهُ مَعَ فِعْلِ (أَعَادَ) مُزْدَوِجَيْنِ فِي إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَقَدْ تقدم قَوْله تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فِي سُورَة العنكبوت [19] . [50] [سُورَة سبإ (34) : آيَة 50] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ تَقْتَضِي زَعْمَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى ضَلَالٍ وَكَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ قَاطِعًا بِأَنَّهُ عَلَى هُدًى بِقَوْلِهِ: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ: 49] انْتَقَلَ هُنَا إِلَى مُتَارَكَةِ جِدَالِهِمْ وَتَرْكِهِمْ وَشَأْنِهِمْ لِقِلَّةِ جَدْوَى مُرَاجَعَتِهِمْ. وَهَذَا مَحْضَرٌ خَاصٌّ وَطَيُّ بِسَاطِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى تَرْكِ

مُجَادَلَتِهِمْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ يُنَافِي ذَلِكَ فَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَعْدَ ذَلِكَ طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى دَعْوَتِهِمْ وَتَحْذِيرِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي لِقَصْرِ الضَّلَالِ الْمَفْرُوضِ، أَيْ عَلَى نَفْسِي لَا عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يُقْلِعَ عَمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى صُدُودِهِمْ. وَتَعْدِيَةُ أَضِلُّ بِحَرْفِ عَلى تَتَضَمَّنُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً إِذْ شَبَّهَ الضَّلَالَ بِجَرِيرَةٍ عَلَيْهِ فَعَدَّاهُ بِالْحَرْفِ الشَّائِعِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهَا غَيْرِ الْمُلَائِمَةِ، عَكْسَ اللَّامِ، وَذِكْرُ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ تَخْيِيلٌ لِلْمَكْنِيَّةِ وَلَا يُقَالُ: ضُمِّنَ أَضِلُّ مَعْنَى أَجْنِي، لِأَنَّ ضَلَلْتُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ الْمَفْرُوضُ غَيْرُ مُضَمَّنٍ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فَكَالِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مُقْتَصِرًا عَلَى فَرْضِ كَوْنِهِ مَظِنَّةَ الضَّلَالِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِنِعْمَتِهِ بِأَنَّ مَا يَنَالُهُ مِنْ خَيْرٍ فَهُوَ بِإِرْشَادِ اللَّهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَصِلُ لِذَلِكَ وَهُوَ مَغْمُورٌ بِأُمَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ لَوْلَا إِرْشَادُ اللَّهِ إِيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] . وَاخْتِيرَ فِي جَانِبِ الْهُدَى فِعْلُ اهْتَدَيْتُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ (هُدًى) لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لَهُ هَادِيًا، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي لِيَحْصُلَ شُكْرُهُ لِلَّهِ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا، وَفِي قَوْلِهِ: فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَى هُدًى لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ وَارِدٌ إِلَيْهِ. وَقَدِ اسْتُفِيدَ أَنَّ الضَّلَالَ الْمَفْرُوضَ إِنْ حَصَلَ فَسَبَبُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ أَضِلُّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ مِمَّا عَقِبَهُ مِنْ قَصْرِ الضَّلَالِ عَلَى الْحُصُولِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ أَغْرَقُ فِي التَّعَلُّقِ بِهِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ بَيَانَ التَّسَبُّبِ وَلَكِنْ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الضَّلَالِ الْمَفْرُوضِ إِلَيْهِمْ إِذْ هُمْ يَتَّبِعُوهُ فِيمَا تَلَبَّسَ بِهِ، وَلَمْ يُرْتَكَبْ مِثْلُ هَذَا فِي جَانِبِ فَرْضِ اهْتِدَائِهِ لِأَنَّ اهْتِدَاءَهُ كَانَ هُوَ الْحَاصِلَ فِي الْوَاقِعِ وَكَانَ شَامِلًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ لِأَنَّ اهْتِدَاءَهُ مُلَابِسٌ لِدَعْوَتِهِ النَّاسَ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مُخْتَلِفٌ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 53]

وَالِاهْتِدَاءِ مُخْتَلِفٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَلَا سِيَّمَا حِينَ رَجَّحَ جَانِبَ اهْتِدَائِهِ بِقَوْلِهِ: فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي. عَلَى أَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ يَنْقَدِحُ بِهَا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَنَّ الضَّلَالَ مِنْ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَلَوْ حَصَلَ لَكَانَ جِنَايَةً مِنَ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَأَنَّ الِاهْتِدَاءَ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ نَفْعٌ سَاقَهُ إِلَيْهِ بِوَحْيِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَذْيِيلٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَتَانِ الْمَقُولَتَانِ قَبْلَهُ مِنَ التَّرْدِيدِ فِي نِسْبَةِ الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي عَلَى هُدًى أَوْ ضِدِّهِ وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُ مُقَابَلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ خُصُومِهِ لِأَنَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُهُ الْفَرِيقَانِ قَرِيبٌ مِمَّا يُضْمِرُونَهُ فَلَا يخفى عَلَيْهِ. والقرب هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ فِيهِ قُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَهَذَا تَعْرِيض بالتهديد. [51، 53] [سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 51 إِلَى 53] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) لَمَّا جَاءَهُمُ التَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ مِنْ لَازِمِ الْمُتَارَكَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: 50] لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الضَّالَّ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ أَتْبَعَ حَالَهُمْ حِينَ يَحِلُّ بِهِمُ الْفَزَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا هُدِّدُوا بِهِ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ أَوْ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ. وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ لِلتَّهْوِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا. وَمَفْعُولُ تَرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا، أَيْ لَوْ تَرَاهُمْ، أَوْ تَرَى عَذَابَهَمْ وَيَكُونُ إِذْ فَزِعُوا ظَرْفًا لِ تَرى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ هُوَ الْمَفْعُولَ بِهِ وَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ لَوْ تَرَى ذَلِكَ الزَّمَانَ، أَيْ تَرَى مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ. وَالْفَزَعُ: الْخَوْفُ الْمُفَاجِئُ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ: «إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ

عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ» . وَهَذَا الْفَزَعُ عِنْدَ الْبَعْثِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُهَيِّئِينَ لِهَذَا الْوَقْتِ أَسْبَابَ النَّجَاةِ مِنْ هَوْلِهِ. وَالْأَخْذُ: حَقِيقَتُهُ التَّنَاوُلُ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْغَلَبِ وَالتَّمَكُّنِ بِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: 10] . وَالْمَعْنَى: أُمْسِكُوا وَقُبِضَ عَلَيْهِمْ لِمُلَاقَاةِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ. وَجُمْلَةُ فَلا فَوْتَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. وَالْفَوْتُ: التَّفَلُّتُ وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ، قَالَ رُوَيْشِدٌ الطَّائِيُّ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... مِمَّا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمُ فَوْتُ أَيْ إِذَا أَذْنَبْتُمْ فَجَاءَتْ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ مُعْتَذِرِينَ فَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ جَزَاءَكُمْ عَلَى ذَنْبِكُمْ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : «وَلَوْ، وَإِذْ، وَالْأَفْعَالُ الَّتِي هِيَ فَزِعُوا، وَأُخِذُوا، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ، كُلُّهَا لِلْمُضِيِّ، وَالْمُرَادُ بِهَا الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ مَا اللَّهُ فَاعِلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ وَوجد لتحققه» اهـ. وَيَزْدَادُ عَلَيْهَا فِعْلُ وَقالُوا. وَالْمَكَانُ الْقَرِيبُ: الْمَحْشَرُ، أَيْ أُخِذُوا مِنْهُ إِلَى النَّارِ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةِ عَنْ ذِكْرِ الْغَايَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَبْدَأٍ لَهُ غَايَةٌ، وَمَعْنَى قُرْبِ الْمَكَانِ أَنَّهُ قَرِيبٌ إِلَى جَهَنَّمَ بِحَيْثُ لَا يَجِدُونَ مُهْلَةً لِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ. وَلَيْسَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ قَرِيبٍ هُنَا وَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50] مَا يشبه الإيطاء فِي الْفَوَاصِلِ لِاخْتِلَافِ الْكَلِمَتَيْنِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَصَارَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ. وَعَطَفَ وَقالُوا عَلَى وَأُخِذُوا أَيْ يَقُولُونَ حِينَئِذٍ: آمَنَّا بِهِ. وَضَمِيرُ بِهِ لِلْوَعِيدِ أَوْ لِيَوْمِ الْبَعْثِ أَوْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْقُرْآنِ، إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ مَحْكِيًّا مِنْ كَلَامِهِمْ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصِحُّ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ مُشَاهَدٌ لَهُمْ وَلِلْمَلَائِكَةِ، فَأَجْمَلُوا فِيمَا يُرَادُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّهُمْ ضَاقَ عَلَيْهِمُ الْوَقْتُ فَاسْتَعْجَلُوهُ بِمَا يَحْسَبُونَهُ مُنْجِيًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ مِنَ الْحِكَايَةِ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ [سبأ: 48] لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ.

ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْكَلَامَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ إِلَى إِضَاعَتِهِمْ وَقْتَ الْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ إِلَى آخِرِهَا. وأَنَّى اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. والتَّناوُشُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ السَّهْلُ أَوِ الْخَفِيفُ وَأَكْثَرُ وُرُودِهِ فِي شُرْبِ الْإِبِلِ شُرْبًا خَفِيفًا مِنَ الْحَوْضِ وَنَحْوِهِ، قَالَ غَيْلَانُ بْنُ حُرَيْثٍ: بَاتَتْ تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلَا ... نَوْشًا بِهِ تُقَطَّعُ أَجْوَازُ الْفَلَا يتحدث عَن رَاحِلَته، أَيْ تَتَنَاوَلُ الْمَاءَ مِنْ أَعْلَاهُ وَلَا تَغُوصُ مَشَافِرُهَا فِيهِ. وَجُمْلَةُ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌّ يُفِيدُ تَشْبِيهَ حَالِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَقْتَ الْمُكْنَةِ مِنْهَا حِينَ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ وَقَدْ عَمَّرَهُمُ اللَّهُ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تذكر ثمَّ جاؤوا يَطْلُبُونَ النَّجَاةَ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا بِحَالِهِمْ كَحَالِ مَنْ يُرِيدُ تَنَاوُشَهَا وَهُوَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْ مُرَادِهِ الَّذِي يَجِبُ تَنَاوُلُهُ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ بِأَنْ يُشَبَّهَ السَّعْيُ بِمَا يَحْصُلُ بِسُرْعَةٍ بِالتَّنَاوُشِ وَيُشَبَّهُ فَوَاتُ الْمَطْلُوبِ بِالْمَكَانِ الْبَعِيدِ كَالْحَوْضِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِم وَخلف بِالْهَمْزَةِ فِي مَوْقِعِ الْوَاوِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مِنْ إِبْدَالِ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ فِي نُطْقِ الضَّمَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] وَقَوْلِهِمْ: أُجُوهٌ: جَمْعُ وَجْهٍ. وَبَحَثَ فِيهِ أَبُو حَيَّانَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَيْضًا: هُوَ مِنْ نَأَشَ بِالْهَمْزِ إِذَا أَبْطَأَ وَتَأَخَّرَ فِي عَمَلٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَهْشَلِ بْنِ حَرِيٍّ النَّهْشَلِيِّ: تَمَنَّى نَئِيشًا أَنْ يَكُونَ أَطَاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْأُمُورِ أُمُورُ أَيْ تَمَنَّى أَخِيرًا. وَفَسَّرَ الْمَعَرِّيُّ فِي «رِسَالَةِ الْغُفْرَانِ» نَئِيشًا بِمَعْنَى: بَعْدَ مَا فَاتَ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالتَّنَاوُشِ وَصْفُ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ بِأَنَّهُ إِيمَانٌ تَأَخَّرَ وَقْتُهُ أَوْ فَاتَ وَقْتُهُ.

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَكانٍ قَرِيبٍ ومَكانٍ بَعِيدٍ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَيْفَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فِي وَقْتِ الْفَوَاتِ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي وَقْتِ التَّمَكُّنِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ [الْقَلَم: 43] . وَيَقْذِفُونَ عَطْفٌ عَلَى كَفَرُوا فَهِيَ حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَانُوا يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ. وَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] . وَالْقَذْفُ: الرَّمْيُ بِالْيَدِ مِنْ بُعْدٍ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقَوْلِ بِدُونِ تَرَوٍّ وَلَا دَلِيلٍ، أَيْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا غَابَ عَنِ الْقِيَاسِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ إِذْ أَحَالُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ وَقَالُوا لِشُرَكَائِهِمْ: هُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ تَمْثِيلًا مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، شُبِّهُوا بِحَالِ مَنْ يَقْذِفُ شَيْئًا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ لَا يَرَاهُ فَهُوَ لَا يُصِيبُهُ أَلْبَتَّةَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَقْذِفُونَ لِدَلَالَةِ فِعْلِ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ عَلَيْهِ، أَيْ يَقْذِفُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الْكُفْرِ يَرْمُونَ بِهَا جِزَافًا. وَالْغَيْبُ: الْمُغَيَّبُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ بِهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَقْذِفُونَ، أَيْ يَقْذِفُونَ وَهُمْ غَائِبُونَ عَنِ الْمَقْذُوفِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. ومَكانٍ بَعِيدٍ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ يَعْنِي مِنَ الدُّنْيَا، وَهِيَ مَكَانٌ بَعِيدٌ عَنِ الْآخِرَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِعَارَتِهِ لِمَا لَا يُشَاهَدُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: بِالْغَيْبِ كَمَا عَلِمْتَ فَتُعَيَّنُ لِلْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَبِذَلِكَ فَلَيْسَ بَيْنَ لَفْظِ بَعِيدٍ الْمَذْكُورِ هُنَا وَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ مَا يشبه الإيطاء لِاخْتِلَافِ الْكَلِمَتَيْنِ بالمجاز والحقيقة.

[سورة سبإ (34) : آية 54]

[سُورَة سبإ (34) : آيَة 54] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) عُطِفَ عَلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ نَظَائِرُ هَذِهِ وَهِيَ جُمَلُ فَزِعُوا وأُخِذُوا وقالُوا [سبأ: 51، 52] أَيْ وَحَالَ زَجُّهُمْ فِي النَّارِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَأْمَلُونَهُ مِنَ النَّجَاةِ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ [سبأ: 52] . وَمَا يَشْتَهُونَهُ هُوَ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ عَوْدَتُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوْهُ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْعَام: 27] ، «رَبنَا أرجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» . وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ تَشْبِيهٌ لِلْحَيْلُولَةِ بِحَيْلُولَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ بَعْضِ الْأُمَمِ وَبَيْنَ الْإِمْهَالِ حِينَ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا، مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يُونُس: 90] ، وَكَذَلِكَ قَوْمُ نُوحٍ حِينَ رَأَوُا الطُّوفَانَ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ حَلَّ بِهَا عَذَابٌ إِلَّا وَتَمَنَّتِ الْإِيمَانَ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَالْأَشْيَاعُ: الْمُشَابِهُونَ فِي النِّحْلَةِ وَإِنْ كَانُوا سَالِفِينَ. وَأَصْلُ الْمُشَايَعَةِ الْمُتَابَعَةُ فِي الْعَمَلِ وَالْحِلْفِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى مُطْلَقِ الْمُمَاثِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ، أَيْ كَمَا فُعِلَ بِأَمْثَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا يَوْمُ الْحَشْرِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ وَكَذَلِكَ أَشْيَاعُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْبِيهِ تَذْكِيرُ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قبلهم ليوقنوا أَنه سُنَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي زَعَمُوهَا شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَفُعِلَ بِهِمْ جَمِيعُ مَا سَمِعْتَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَيَاتِهِمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا وُصِفَ لَهُمْ مِنْ أَهْوَالِهِ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ حَالَتُهُمْ شَكًّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ شَاكِّينَ وَفِي بَعْضِهَا مُوقِنِينَ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَإِذَا كَانَ الشَّكُّ مُفْضِيًا إِلَى تِلْكَ الْعُقُوبَةِ فَالْيَقِينُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَمَآلُ

الشَّكِّ وَالْيَقِينِ بِالِانْتِفَاءِ وَاحِدٌ إِذْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا عَدَمُ الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمُ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئَةً عَنْ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ هَلْ كَانُوا طَامِعِينَ فِي حُصُولِ مَا تَمَنَّوْهُ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ وَيَشُكُّونَ فِي اسْتِجَابَتِهِ فَلَمَّا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ غَشِيَهُمُ الْيَأْسُ، وَالْيَأْسُ بَعْدَ الشَّكِّ أَوْقَعُ فِي الْحُزْنِ مِنَ الْيَأْسِ الْمُتَأَصِّلِ. وَالْمُرِيبُ: الْمُوقِعُ فِي الرَّيْبِ. وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، فَوَصْفُ الشَّكِّ بِهِ وَصْفٌ لَهُ بِمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِإِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَلَيْلٌ أَلْيَلُ، أَوْ لَيْلٌ دَاجٍ. وَمُحَاوَلَةُ غَيْرِ هَذَا تَعَسُّفٌ.

35- سورة فاطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 35- سُورَةُ فَاطِرٍ سُمِّيَتْ «سُورَةَ فَاطِرٍ» فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ. وَسُمِّيَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ» لَا غَيْرَ. وَقَدْ ذَكَرَ لَهَا كِلَا الِاسْمَيْنِ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» . فَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ فَاطِرٍ» أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَقَعَ فِي طَالِعَةِ السُّورَةِ وَلَمْ يَقَعْ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أُخْرَى. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ» أَنَّهُ ذُكِرَ فِي أَوَّلِهَا صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَقَعْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحَكَى الْأَلُوسِيُّ عَنِ الطَّبَرْسِيِّ أَنَّ الْحَسَنَ اسْتَثْنَى آيَتَيْنِ: آيَةَ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: 29] الْآيَةَ، وَآيَةَ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] الْآيَةَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ سُورَةِ مَرْيَمَ. وَقَدْ عُدَّتْ آيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِثْبَاتِ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَافْتُتِحَتْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَبْدَعَ مِنَ الْكَائِنَاتِ الدَّالِّ إِبْدَاعُهَا عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ.

[سورة فاطر (35) : آية 1]

وَعَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ. وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. وَتَذْكِيرِ النَّاسِ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْإِمْدَادِ، وَمَا يَعْبُدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يُغْنُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا وَقَدْ عَبَدَهُمُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهُمْ. وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَكَشْفِ نَوَايَاهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمُ احْتَفَظُوا بِعِزَّتِهِمْ. وَإِنْذَارِهِمْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ قَبْلَهُمْ. وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْإِسْلَامَ بِالتَّصْدِيقِ وَبِضِدِّ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ. وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ تَكَبَّرُوا وَاسْتَنْكَفُوا. وَأَنَّهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ شَاهَدُوا آثَارَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِإِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَالتَّحْذِيرِ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ لنَوْع الْإِنْسَان. [1] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) افْتِتَاحُهَا بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ صِفَاتٍ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ سَتُذْكَرُ فِيهَا، وَإِجْرَاءُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَفْضَلَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُرْسَلِينَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ السُّورَةَ جَاءَتْ لِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِيذَانُ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِاسْتِحْقَاقِ اللَّهِ إِيَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.

وَالْفَاطِرُ: فَاعِلُ الْفَطْرِ، وَهُوَ الْخَلْقُ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكَوُّنِ سَرِيعًا لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَطْرِ وَهُوَ الشَّقُّ، وَمِنْهُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى: 5] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (أَيْ لِعَدَمِ جَرَيَانِ هَذَا اللَّفْظِ بَيْنَهُمْ فِي زَمَانِهِ) حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيْ أَنَا ابْتَدَأْتُهَا. وَأَحْسَبُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا سَبَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [14] ، وَقَوْلِهِ: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ [101] فَضُمَّهُ إِلَى مَا هُنَا. وَأَمَّا جاعِلِ فَيُطْلَقُ بِمَعْنَى مُكَوِّنٍ، وَبِمَعْنَى مُصَيِّرٍ، وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ يَخْتَلِفُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: رُسُلًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ جاعِلِ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ لِيَكُونُوا رُسُلًا مِنْهُ تَعَالَى لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِقُوَّتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَلائِكَةِ، أَيْ يَجْعَلَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يُرْسَلُوا. وَلِصَلَاحِيَّةِ الْمَعْنَيَيْنِ أُوثِرَتْ مَادَّةُ الْجَعْلِ دُونَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى مَعْمُولِ فاطِرِ. وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَيْنِ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِشَرَفِهِمْ بِأَنَّهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ وَعَظِيمِ خَلْقِهِمْ. وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ صِفَةَ أَنَّهُمْ رُسُلٌ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ، أَيْ جَاعِلُهُمْ رُسُلًا مِنْهُ إِلَى الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ لِلْوَحْيِ بِمَا يُرَادُ تَبْلِيغُهُمْ إِيَّاهُ لِلنَّاسِ. وَقَوْلُهُ أُولِي أَجْنِحَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَتَكُونَ الْأَجْنِحَةُ ذَاتِيَّةً لَهُمْ من مقومات خلقتهمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رُسُلًا فَيَكُونُ خَاصَّةً بِحَالَةِ مَرْسُولِيَّتِهِمْ. وأَجْنِحَةٍ جَمْعُ جَنَاحٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ مَا يَكُونُ لِلطَّائِرِ فِي مَوْضِعِ الْيَدِ لِلْإِنْسَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَجْنِحَةِ لِلْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي يَخْتَرِقُونَ بِهَا الْآفَاقَ السَّمَاوِيَّةَ صُعُودًا وَنُزُولًا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. ومَثْنى وَأَخَوَاتُهُ كَلِمَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى التَّكْرِيرِ لِاسْمِ الْعَدَدِ الَّتِي تُشْتَقُّ

مِنْهُ ابْتِدَاءً مِنَ الِاثْنَيْنِ بِصِيغَةِ مَثْنَى ثُمَّ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ ثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَادَّةَ الْأَرْبَعَةِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَالْمَعْنَى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ الَخْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى فِي سُورَةِ سَبَأٍ [46] . وَالْكَلَامُ عَلَى أُولِي تَقَدَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو أَجْنِحَةٍ بَعْضُهَا مُصَفَّفَةٌ جَنَاحَيْنِ جَنَاحَيْنِ فِي الصَّفِّ، وَبَعْضُهَا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَبَعْضُهَا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَذَلِكَ قَدْ تَتَعَدَّدُ صُفُوفُهُ فَتَبْلُغُ أَعْدَادًا كَثِيرَةً فَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ» . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَعْدَادُ الْأَجْنِحَةِ مُتَغَيِّرَةً لِكُلِّ مَلَكٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَغَيِّرَةٍ عَلَى حَسَبِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِاخْتِرَاقِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجْنِحَةَ لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ أَحْوَالِ التَّشَكُّلِ الَّذِي يَتَشَكَّلُونَ بِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَأَيْتَ إِسْرَافِيلَ إِنَّ لَهُ لَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ وَإِنَّ الْعَرْشَ لَعَلَى كَاهِلِهِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ تَتَحَصَّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ سَعْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» «إِنَّهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلَاتِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، شَأْنُهُمُ الْخَيْرُ وَالطَّاعَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمَسْكَنُهُمُ السَّمَاوَاتُ، وَقَالَ: هَذَا ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ» . اهـ. وَمَعْنَى الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْجَوْهَرِ لَا الْعَرَضِ وَأَنَّهَا جَوَاهِرُ مِمَّا يُسَمَّى عِنْدَ الْحُكَمَاءِ بِالْمُجَرَّدَاتِ. وَعِنْدِي: أَنَّ تَعْرِيفَ صَاحِبِ «الْمَقَاصِدِ» لِحَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا يَخْلُو عَنْ تَخْلِيطٍ فِي تَرْتِيبِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ خَلَطَ فِي التَّعْرِيفِ بَيْنَ الذَّاتِيَّاتِ وَالْعَرَضِيَّاتِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَرْتِيبِ التَّعْرِيفِ أَنْ يُقَالَ: أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ أَخْيَارٌ ذَوُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِهِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْعِلْمُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ، وَمَقَرُّهُمُ السَّمَاوَاتُ مَا لَمْ يُرْسَلُوا إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَهَذَا التَّشَكُّلُ انْكِمَاشٌ وَتَقَبُّضٌ فِي ذَرَّاتِ نَوْرَانِيَّتِهِمْ وَإِعْطَاءُ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْجُسْمَانِيَّاتِ الْكَثِيفَةِ لِذَوَاتِهِمْ. دَلَّ عَلَى تَشَكُّلِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: 12] ، وَثَبَتَ تَشَكُّلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَتَشَكُّلُهُ لَهُ وَلِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَالسَّاعَةِ فِي صُورَةِ «رَجُلٍ شَدِيدِ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدِ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ (أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخِذَيْهِ» الْحَدِيثَ، وَقَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمُ الرَّجُلُ «هَلْ تَدْرُونَ مَنِ السَّائِلُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . وَثَبَتَ حُلُولُ جِبْرِيلَ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَظُهُورِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِصُورَتِهِ الَّتِي رَآهُ فِيهَا فِي غَارِ حِرَاءٍ كَمَا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ، وَرَأَى كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ نَاسًا لَا يَعْرِفُونَهُمْ عَلَى خَيْلٍ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ. وَجُمْلَةُ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ يُثِيرُ تَعَجُّبَ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَجِيبَةِ، فَأُجِيبَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ بِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تُوَقَّتُ. وَلِكُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَوِّمَاتُهُ وَخَوَاصُّهُ. فَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ: الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا، أَيْ يَزِيدُ اللَّهُ فِي بَعْضِهَا مَا لَيْسَ فِي خَلْقٍ آخَرَ. فَيَشْمَلُ زِيَادَةَ قُوَّةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي شَيْءٍ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ مِنْ حَصَافَةِ عَقْلٍ وَجَمَالِ صُورَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَذَلْقَةِ لِسَانٍ وَلِيَاقَةِ كَلَامٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ صِفَةً ثَانِيَةً لِلْمَلَائِكَةِ، أَيْ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي خَلْقِهِمْ مَا يَشَاءُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَأَكْثَرَ، فَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ كَثْرَةِ أَجْنِحَةِ جِبْرِيلَ يُبَيِّنُ مَعْنَى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ مَا خُلِقَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ أَجْنِحَةً زَائِدَة على من لِبَعْضٍ آخَرَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَسْفِيهِ عُقُولِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ وَقَالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إِبْرَاهِيم: 10] ،

[سورة فاطر (35) : آية 2]

فَأُجِيبُوا بِقَوْلِ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: 11] . [2] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 2] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ تَصْدِيرِ السُّورَةِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَفَاتِحِ الرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ وَمُمْسِكِهَا عَنْهُمْ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِمْسَاكِ مَا فَتَحَهُ وَلَا عَلَى فَتْحِ مَا أَمْسَكَهُ. وَمَا شَرْطِيَّةٌ، أَيِ اسْمٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَأَصْلُهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَانْقَلَبَتْ صِلَتُهُ إِلَى جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ وَانْقَلَبَتْ جُمْلَةُ الْخَبَرِ جَوَابًا وَاقْتَرَنَتْ بِالْفَاءِ لِذَلِكَ، فَأَصْلُ مَا الشَّرْطِيَّةِ هُوَ الْمَوْصُولَةُ. وَمَحَلُّ مَا الِابْتِدَاءُ وَجَوَابُ الشَّرْط أغْنى عَن الْخَبَرِ. ومِنْ رَحْمَةٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ. وَالْفَتْح: تَمْثِيلِيَّةٌ لِإِعْطَاءِ الرَّحْمَةِ إِذْ هِيَ مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُدَّخَرَاتِ الْمُتَنَافَسِ فِيهَا فَكَانَتْ حَالَةُ إِعْطَاءِ اللَّهِ الرَّحْمَةَ شَبِيهَةً بِحَالَةِ فَتْحِ الْخَزَائِنِ لِلْعَطَاءِ، فَأُشِيرَ إِلَى هَذَا التَّمْثِيلِ بِفِعْلِ الْفَتْحِ، وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ رَحْمَةٍ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَتُهُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ مَعَ الشَّدِّ عَلَيْهِ بِهَا لِئَلَّا يَسْقُطَ أَوْ يَنْفَلِتَ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، أَوْ هُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِهِ الْفَتْحُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَمْسَكَ بِكَذَا، فَالْبَاءُ إِمَّا لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] ، وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاعْتِصَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لُقْمَان: 22] . وَقَدْ أُوهِمَ فِي «الْقَامُوس» و «اللِّسَان» و «التَّاج» أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.

[سورة فاطر (35) : آية 3]

فَقَوْلُهُ هُنَا: وَما يُمْسِكْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُمْسِكُهُ مِنْ رَحْمَةٍ، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ بَيَانٌ اسْتِغْنَاءً بِبَيَانِهِ مِنْ فِعْلٍ. وَالْإِرْسَالُ: ضِدُّ الْإِمْسَاكِ، وَتَعْدِيَةُ الْإِرْسَالِ بِاللَّامِ لِلتَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُنَا فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ. ومِنْ بَعْدِهِ بِمَعْنَى: مِنْ دُونِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ [الجاثية: 6] ، أَيْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ دُونَ اللَّهِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِبْطَالِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِعْطَاءٍ أَوْ مَنْعٍ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا مُرْسِلَ لَهُ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَا لِأَنَّهَا لَا بَيَانَ لَهَا، وَتَأْنِيثُهُ فِي قَوْلِهِ: فَلا مُمْسِكَ لَها لِمُرَاعَاةِ بَيَانِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَحْمَةٍ لِقُرْبِهِ. وَعَطْفُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ رُجِّحَ فِيهِ جَانِبُ الْإِخْبَارِ فَعُطِفَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ يَفْتَحُ وَيُمْسِكُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ نَقْضَ مَا أَبْرَمَهُ فِي فَتْحِ الرَّحْمَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْلِبَهُ، فَإِنَّ نَقْضَ مَا أَبْرَمَ ضَرْبٌ مِنَ الْهَوَانِ وَالْمَذَلَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِعَارِ صَاحِبِ السُّؤْدُدِ أَنَّهُ يُبْرِمُ وَيَنْقُضُ قَالَ الْأَعْشَى: عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ ... النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ وَضَمِيرُ لَها وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدَانِ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، رُوعِيَ فِي تَأْنِيثِ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ مَعْنَى مَا فَإِنَّهُ اسْمٌ صَادِقٌ عَلَى رَحْمَةٍ وَقَدْ بُيِّنَ بِهَا، وَرَوْعِيَ فِي تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ الْآخَرِ لَفْظُ مَا لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ فِيهِ. وَهُمَا اعْتِبَارَانِ كَثِيرَانِ فِي مِثْلِهِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَيِّ الِاعْتِبَارَيْنِ شَاءَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفَنُّنٌ. وَأُوثِرَ بِالتَّأْنِيثِ ضَمِيرُ مَا لِأَنَّهَا مُبَيَّنَةٌ بِلَفْظٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ مِنْ رَحْمَةٍ. [3] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 3] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ. لَمَّا جَرَى ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ بِأَنْ يَتَذَكَّرُوا

نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْخَاصَّةَ وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي تَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ بِخَاصَّتِهِ فَيَأْتَلِفُ مِنْهَا مَجْمُوعُ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَمَا هِيَ إِلَّا بَعْضُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَذَكُّرِ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا وَقَدْرُهَا قَدْرَهَا. وَمِنْ أَكْبَرِ تِلْكَ النِّعَمِ نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةُ فَوْزِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهَا بِالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ. فَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا التَّذَكُّرُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ مِنْ إِرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَإِلَّا لَكَانَ الْأَوَّلُ هَذَيَانًا وَالثَّانِي كِتْمَانًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ» ، أَيْ وَفِي كِلَيْهِمَا فَضْلٌ. وَوُصِفَتِ النِّعْمَةُ بِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذَكُّرِ التَّذَكُّرُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ التَّذَكُّرِ بِمَعْنَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي بَدِيعِ فَضْلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ قَدْ تَضَمَّنَ الدَّعْوَةَ إِلَى النَّظَرِ فِي دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفَضْلِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ مَا بَعْدَهُ بِ مِنْ الَّتِي تُزَادُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَاخْتِيرَ الِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ لِمَا فِي أَصْلِ مَعْنَى هَلْ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّصْدِيقِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى (قَدْ) وَتُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ. وَالِاهْتِمَامُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ مَا هُوَ فِي قُوَّةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَجُعِلَ صِفَةً لِ خالِقٍ لِأَنَّ غَيْرُ صَالِحَةٌ لِلِاعْتِبَارَيْنِ وَلِذَلِكَ جَرَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى اعْتِبَارِ غَيْرُ هُنَا وَصْفًا لِ خالِقٍ، فجمهور الْقُرَّاء قرأوه بِرَفْعِ غَيْرُ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ خالِقٍ الْمَجْرُورِ بِ مِنْ لِأَنَّ مَحَلَّهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَظْهَرِ الرَّفْعُ لِلِاشْتِغَالِ بِحَرَكَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِالْجَرِّ عَلَى إِتْبَاعِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَحَلِّ. وَهُمَا اسْتِعْمَالَانِ فَصِيحَانِ فِي مِثْلِهِ اهْتَمَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» . وَجُمْلَةُ يَرْزُقُكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا ثَانِيًا لِ خالِقٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَيْدِ وَهُوَ جُمْلَةُ الصِّفَةِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَشْكُرُوا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِ الْخَالِقِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ خَالِقًا لَكَانَ رَازِقًا إِذِ الْخَلْقُ بِدُونِ رِزْقٍ قُصُورٌ فِي الْخَالِقِيَّةِ لَأَنَّ الْمَخْلُوقَ بِدُونِ رِزْقٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَدَمِ فَيَكُونُ خَلْقُهُ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَوْصُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحِكْمَةِ فَكَانَتِ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِنِعْمَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ. وَزِيَادَةُ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِتَعَدُّدِ مَصَادِرِ الْأَرْزَاقِ فَإِنَّ مِنْهَا سَمَاوِيَّةً كَالْمَطَرِ الَّذِي مِنْهُ شَرَابٌ، وَمِنْهُ طَهُورٌ، وَسَبَبُ نَبَاتِ أَشْجَارٍ وَكَلَأٍ، وَكَالْمَنِّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى شَجَرٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْدِيَةٍ فِي الْجَوِّ، وَكَالضِّيَاءِ مِنَ الشَّمْسِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ فِي اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الطَّيْرِ الَّذِي يُصَادُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ السَّمَاءِ. وَمِنَ الْأَرْضِ أَرْزَاقٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ وَزُيُوتٍ وَفَوَاكِهَ وَمَعَادِنَ وَكَلَأٍ وَكَمْأَةٍ وَأَسْمَاكِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَفِي هَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَفْعُ تَوَهُّمِ الْغَفَلِ أَنَّ أَرْزَاقًا تَأْتِيهِمْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا الَّتِي يُعْطِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي يُعَاوِضُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَإِنَّهَا لِكَثْرَةِ تَدَاوُلِهَا بَيْنَهُمْ قَدْ يُلْهِيهِمُ الشُّغْلُ بِهَا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي أُصُولِ مَنَابِعِهَا فَإِنَّ أُصُولَ مَوَادِّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَآلَ مَا يُعْطَاهُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى نَحْوِ مَا عَرَضَ لِلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ إِذْ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَة: 258] فَهَذَا رَجُلٌ مَحْكُومٌ بِقَتْلِهِ هَا أَنَا ذَا أَعْفُو عَنْهُ فَقَدْ أَحْيَيْتُهُ، وَهَذَا رَجُلٌ حَيٌّ هَا أَنَا ذَا آمُرُ بِهِ فَيُقْتَلُ فَأَنَا أُمِيتُ. فَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 258] . لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. هَذَا نَتِيجَةٌ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ إِذْ رُتِّبَ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَالِقِيَّةِ وَالرَّازِقِيَّةِ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ النَّاسِ فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ التَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِجُمْلَةِ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.

[سورة فاطر (35) : آية 4]

وَ (أَنَّى) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يَجِيءُ بِمَعْنَى اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْحَالَةِ أَوْ عَنِ الْمَكَانِ أَوْ عَنِ الزَّمَانِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَالَةِ انْصِرَافِهِمْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ تَبَعًا لِمَنْ يُصَرِّفُهُمْ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ. وتُؤْفَكُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ مِنْ أَفَكَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَهُ، إِذَا صَرَفَهُ وَعَدَلَ بِهِ، فَالْمَصْرُوفُ مَأْفُوكٌ. وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا لِأَنَّ آفِكِيهِمْ أَصْنَافٌ كَثِيرُونَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَة بَرَاءَة [30] . [4] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 4] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) عَطْفٌ عَلَى جملَة اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر: 3] أَيْ وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى انْصِرَافِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَتِكَ وَلَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ بِبَعْثِكَ فَلَا عَجَبَ فَقَدْ كَذَّبَ أَقْوَامٌ مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلًا مِنْ قَبْلُ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُنَاسَبَةِ جَرَيَانِ خِطَابِ النَّاسِ عَلَى لِسَانِهِ فَهُوَ مُشَاهِدٌ لِخِطَابِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بَعْدَ تَوْجِيهِهِ إِلَيْهِمْ إِذِ الْمَقَامُ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] . وَإِذْ قَدْ أَبَانَ لَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ حِينَ خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ نُقِلَ الْإِخْبَارُ عَنْ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَنْكَرُوا قَبُولَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَبَانَ صِدْقُهُ فِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ نَاسَبَ أَنْ يُعْرَضَ إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُ بِمِثْلِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ مَنْ قَبْلِهِ وَقَدْ أُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقَامُهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَقَامِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ. وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي أَصْلُهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِهِ شَرْطٌ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِوُقُوعِهِ تَنْزِيلًا لَهُمْ بَعْدَ مَا قُدِّمَتْ إِلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ الْمُصَدِّقَةِ لِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ فِيهِ، مَنْزِلَةَ مَنْ أَيْقَنَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَلَا يَكُونُ فَرْضُ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ إِلَّا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ.

[سورة فاطر (35) : آية 5]

وَهَذَا وَجْهُ إِيثَارِ الشَّرْطِ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يَتَمَخَّضُ لِلِاسْتِقْبَالِ، أَيْ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ بَعْدَ مَا قَرَعَ أَسْمَاعَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّامِغَةِ. وَالْمَذْكُورُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِجَوَابٍ مَحْذُوفٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَلَا يَحْزُنْكَ تَكْذِيبُهُمْ إِذْ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَاسْتُغْنِيَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرَّفْ رُسُلٌ وَجِيءَ بِهِ مُنَكَّرًا لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ زِيَادَةً عَلَى جَانِبِ صِفَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ جَانِبِ كَثْرَتِهِمْ وَتَنَوُّعِ آيَاتِ صِدْقِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ كَذَّبَهُمْ أَقْوَامُهُمْ. وَعُطِفَ عَلَى هَذِهِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ مَا هُوَ كَالتَّأْكِيدِ لَهُمَا وَالتَّذْكِيرِ بِعَاقِبَةِ مَضْمُونِهَا بِأَنَّ أَمْرَ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ آلَ إِلَى لِقَائِهِمْ جَزَاءَ تَكْذِيبِهِمْ مِنْ لَدُنِ الَّذِي تُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، فَكَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ وَأَمْرُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي جُمْلَةِ عُمُومِ الْأُمُورِ الَّتِي أُرْجِعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا تَخْرُجُ أُمُورُهُمْ مِنْ نِطَاقِ عُمُومِ الْأُمُورِ. وَقَدِ اكْتَسَبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ. والْأُمُورُ جَمْعُ أَمْرٍ وَهُوَ الشَّأْنُ وَالْحَالُ، أَيْ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيفَ يَشَاء، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَهْدِيدًا للمكذبين وإنذارا. [5] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 5] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) أُعِيدَ خِطَابُ النَّاسِ إِعْذَارًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا بِتَحْقِيقِ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ مِنْ عِقَابِهِ الْمُكَذِّبِينَ فِي يَوْمِ الْبَعْثِ هُوَ وَعْدٌ وَاقِعٌ لَا يَتَخَلَّفُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لَهُمُ التَّذْكِيرَ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ غَيْرُهُ. وَبَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا أَنْتَجَتْهُ تِلْكَ الدَّلَائِلُ هُوَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ فِيمَا أَنْبَأَهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهُوَ أَكْبَرُ مَا قَرَعَ آذَانَهُمْ وَأَحْرَجُ شَيْءٍ

لِنُفُوسِهِمْ، فَإِذَا تَأَيَّدَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ تَمَهَّدَ السَّبِيلُ لِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي الْأُولَى يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِي الثَّانِيَةِ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ مَا تَلَاهُ صَالِحٌ لِمَوْعِظَةِ الْفَرِيقَيْنِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنْكِرِينَ، وَإِمَّا لِتَغْلِيبِ فَرِيقِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى تَقْوِيَةِ الْمَوْعِظَةِ. وَالْوَعْدُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْمُخْبِرِ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَدَا الشَّرِّ، وَيُخَصُّ الشَّرُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْوَعِيدِ، يَعُمُّهُمَا وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [268] . وَإِضَافَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ تَوْطِئَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْتِي مِنْهُ الْبَاطِلُ. وَالْحَقُّ هُنَا مُقَابِلُ الْكَذِبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صَادِقٌ. وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالغَة فِي حَقِيقَته. وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَعْدُ بِحُلُولِ يَوْمِ جَزَاءٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الْآيَةَ. والغرور بِضَمِّ الْغَيْنِ وَيُقَالُ التَّغْرِيرُ: إِيهَامُ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ فِيمَا هُوَ ضُرٌّ وَفَسَادٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [112] . وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ: مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَهْوٍ وَتَرَفٍ، وَانْتِهَائِهَا بِالْمَوْتِ وَالْعَدَمِ مِمَّا يُسَوِّلُ لِلنَّاسِ أَنْ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ أُخْرَى. وَإِسْنَادُ التَّغْرِيرِ إِلَى الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْغَارَّ لِلْمَرْءِ هُوَ نَفْسُهُ الْمُنْخَدِعَةُ بِأَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِهِ وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ.

وَالنَّهْيُ فِي الظَّاهِر موجه إِلَى النَّاس وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ وَهُوَ الِاغْتِرَارُ لِمَظَاهِرِ الْحَيَاةِ. وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الْمَائِدَة: 2] ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ [196] . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. والغرور بِفَتْحِ الْغَيْنِ: هُوَ الشَّدِيدُ التَّغْرِيرِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ تَعَالَى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَاف: 22] . وَهُوَ يُغَيِّرُ النَّاسَ بِتَزْيِينِ الْقَبَائِحِ لَهُمْ تَمْوِيهًا بِمَا يَلُوحُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَاسِنَ تُلَائِمُ نُفُوسَ النَّاسِ. وَالْبَاء فِي قَول بِاللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مُضَافٍ مُقَدَّرٍ أَيْ، بِشَأْنِ اللَّهِ، أَيْ يَتَطَرَّقُ إِلَى نَقْضِ هُدَى اللَّهِ فَإِنَّ فِعْلَ غَرَّ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ وَهِيَ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وَقَوله فِي سُورَة الْحَدِيدِ [14] : وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وَذَلِكَ إِذَا أُرِيدَ بَيَانُ مَنِ الْغَرُورُ مُلَابِسٌ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَاف، أَي بِحَال مِنْ أَحْوَالِهِ. وَتِلْكُ مُلَابَسَةُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيجَازِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَاءُ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ غُرُورَيْنِ: غُرُورًا يَغْتَرُّهُ الْمَرْءُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَيُزَيِّنُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْفَاتِنَةِ الَّتِي تَلُوحُ لَهُ فِي هَذِه الدُّنْيَا مَا يَتَوَهَّمُهُ خَيْرًا وَلَا يَنْظُرُ فِي عَوَاقِبِهِ بِحَيْثُ تَخْفَى مضارّه فِي بادىء الرَّأْيِ وَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَغُرُورًا يَتَلَقَّاهُ مِمَّنْ يَغُرُّهُ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ الْغُرُورُ كُلُّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَعْضُهُ يُمْلِيهِ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْضُهُ يَتَلَقَّاهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَتُرِكَ تَفْصِيلُ الْغَرُورِ الْأَوَّلِ الْآنَ اعْتِنَاءً بِالْأَصْلِ وَالْأَهَمِّ، فَإِنَّ كُلَّ غُرُورٍ يَرْجِعُ إِلَى غُرُورِ الشَّيْطَانِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 10] .

[سورة فاطر (35) : آية 6]

[سُورَة فاطر (35) : آيَة 6] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) لَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5] إِبْهَامُ مَا فِي الْمُرَادِ بِالْغَرُورِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ بِأَنَّ الْغَرُورَ هُوَ الشَّيْطَانُ لِيَتَقَرَّرَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ يَعْلَمُ السَّامِعُ مِنْ وُقُوعِ وَصْفِ الشَّيْطَانِ عَقِبَ وَصْفِ الْغَرُورِ أَنَّ الْغَرُورَ هُوَ الشَّيْطَانُ. وَأُظْهِرَ اسْمُ الشَّيْطَانِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِفْصَاحِ عَنِ الْمُرَادِ بِالْغَرُورِ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَإِثَارَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَالشَّيْطَانِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْقُرْآن تَصْرِيحًا وتضمّنا، وَهُوَ هُنَا صَرِيحٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: 36] . وَتِلْكَ عَدَاوَةٌ مُودَعَةٌ فِي جِبِلَّتِهِ كَعَدَاوَةِ الْكَلْبِ لِلْهِرِّ لِأَنَّ جِبِلَّةَ الشَّيْطَانِ مَوْكُولَةٌ بِإِيقَاعِ النَّاسِ فِي الْفَسَادِ وَأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي قَوَالِبَ مُحَسَّنَةٍ مُزَيَّنَةٍ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ تَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْحَوَادِثِ حَيْثُمَا عَثَرَ عَلَيْهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 27] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَر بِحرف التَّأْكِيد لِقَصْدِ تَحْقِيقِهِ لِأَنَّهُمْ بِغَفْلَتِهِمْ عَنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ فَرَّعَ عَنْهُ أَنْ أُمِرُوا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذُهُ عَدُوًّا وَإِلَّا لَكَانُوا فِي حَمَاقَةٍ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ عَدَاوَتِهِمُ الدُّعَاةَ فِي الضَّلَالَةِ الْمُسْتَمِدِّينَ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَالْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ عَدُوٌّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [92] . وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهِيَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْإِضَافَةُ فَلَمَّا قَدَّمَ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ صَرَّحَ بِاللَّامِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ.

وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّخَاذِ الْعَدُوِّ عَدُوًّا وَلَمْ يَنْدُبْ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ عَدَاوَتِهِ كَمَا أَمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ رَجَاءَ صَلَاحِ حَالِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْمُسْلِمِ عَارِضَةٌ لِأَغْرَاضٍ يُمْكِنُ زَوَالُهَا وَلَهَا حُدُودٌ لَا يُخْشَى مَعَهَا الْمَضَارُّ الْفَادِحَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] الْآيَةَ، بَلْ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ مُنَاوَأَتَهُمْ غَيْرُ عَارِضَةٍ بَلْ هِيَ لِغَرَضِ ابْتِزَازِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَة: 34] فَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لَمَّا كَانَتْ جِبِلِيَّةً لَا يُرْجَى زَوَالُهَا مَعَ مَنْ يَعْفُو عَنْهُ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ إِلَّا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَدُوًّا لَمْ يُرَاقِبِ الْمُسْلِمُ مَكَائِدَهُ وَمُخَادَعَتَهُ. وَمِنْ لَوَازِمِ اتِّخَاذِهِ عَدُوًّا الْعَمَلُ بِخِلَاف مَا يَدْعُو إِلَيْهِ لِتَجَنُّبِ مَكَائِدِهِ وَلِمَقْتِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَالْإِيقَاعُ بِالنَّاسِ فِي الضُّرِّ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَلَا أَعْدَاؤُهُ وَلَكِنَّ أَوْلِيَاءَهُ يُضْمِرُ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَيَأْنَسُ بِهِمْ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِهِمْ وَطَرَهُ وَأَمَّا أَعْدَاؤُهُ فَهُوَ مَعَ عَدَاوَتِهِ لَهُمْ يَشْمَئِزُّ وَيَنْفِرُ وَيَغْتَاظُ مِنْ مُقَاوَمَتِهِمْ وَسَاوِسَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ الْفِرَارِ مِنْ عُظَمَاءِ الْأُمَّةِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «إِيهِ يَا بْنَ الْخَطَّابِ مَا رَآكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» . وَوَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ» الْحَدِيثَ. وَوَرَدَ «أَنه مَا ريء الشَّيْطَانُ أَخْسَأَ وَأَحْقَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنَ الرَّحْمَةِ» . وَأُعْقِبَ الْأَمْرُ بِاتِّخَاذِ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا بِتَحْذِيرٍ مِنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ وَحَثٍّ عَلَى وُجُوبِ الْيَقْظَةِ لِتَغْرِيرِهِ وَتَجَنُّبِ تَوَلِّيهِ بِأَنَّهُ يَسْعَى فِي ضُرِّ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يُوقِعُهُمْ فِي السَّعِيرِ. وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ تَضَرُّرًا بِهِ هُمْ حِزْبُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ. وَجُمْلَة إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. وَجِيءَ بِهَا فِي صِيغَةِ حَصْرٍ لِانْحِصَارِ دَعَوْتِهِ فِي الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَقِبَهَا بِلَامِ الْعِلَّةِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ دَعوته تَخْلُو عَن تِلْكَ الْغَايَةِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا.

[سورة فاطر (35) : آية 7]

وَبِهَذَا الْعُمُومِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَصْرُ صَارَتِ الْجُمْلَةُ أَيْضًا فِي مَعْنَى التذييل لما قبلهَا كُلَّهُ. وَمُقْتَضَى وُقُوع فعل يَدْعُوا فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ أَنَّ مَفْعُولَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: حِزْبَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ، أَيْ أَنَّهُ يَدْعُو حِزْبَهُ وَلَا يَدْعُو غَيْرَ حِزْبِهِ، وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ سَوَاءً فِي ذَلِكَ حِزْبُهُ وَمَنْ لَمْ يَرْكَنْ إِلَى دَعْوَتِهِ إِلَّا أَنَّ أَثَرَ دَعْوَتِهِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَرْكَنُونَ لَهُ فَيَصِيرُونَ حِزْبَهُ قَالَ تَعَالَى لَهُ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] . وَحَكَى اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحجر: 39، 40] فَتَعَيَّنَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ دَعْوَةً بَالِغَةً مَقْصِدَهُ. وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْذِيرِ وَلَوْ كَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا حِزْبَهُ لَمَا كَانَ لِتَحْذِيرِ غَيْرِهِمْ فَائِدَةٌ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ يجوز أَن تكون لَامَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَكُونُ سَاعِيًا لِغَايَةِ إِيقَاعِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعَذَابِ نِكَايَةً بِهِمْ، وَهِيَ عِلَّةٌ لِلدَّعْوَةِ مَخْفِيَّةٌ فِي خَاطِرِهِ الشَّيْطَانِيِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا لِأَنَّ إِخْفَاءَهَا مِنْ جُمْلَةِ كَيْدِهِ وَتَزْيِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ مِثْلَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى السَّعِيرِ إِنَّمَا اتَّفَقَ أَنْ صَار أَمرهم عَن دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ. والسَّعِيرِ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ، وَغَلَبَ فِي لِسَانِ الشَّرْع على جنهم. [7] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 7] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يُفِيدُ مَفَادَ الْفَذْلَكَةِ وَالِاسْتِنْتَاجِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَاف يومىء إِلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حِزْبَهُ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَحَكَمَ هُنَا بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ إِذْ هُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ بِطَرِيقَةِ قِيَاسٍ مَطْوِيٍّ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ لِعُكُوفِهِمْ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلِنُوا ذَلِكَ لِاقْتِنَاعِهِ مِنْهُمْ بِمُلَازَمَةِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ.

[سورة فاطر (35) : آية 8]

وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْعُصَاةُ فَلَيْسُوا مِنْ حِزْبِهِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَيْدَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بَعْضَ وَسْوَسَتِهِ بِدَافِعِ الشَّهَوَاتِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُونَهُ وَيَتَبَرَّأُونَ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ» . وَذِكْرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تَتْمِيمٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ حِزْبِهِ قَدْ فَازُوا بِالْخَيْرَاتِ. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى طَرَفَيْنِ فِي الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ وَطَوَتْ مَا بَيْنَ ذَيْنِكَ مِنَ الْمَرَاتِبِ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا بَيْنَ ذَلِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ أَشْبَهِ أَحْوَالِهِمْ بِأَحْوَالِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي وَضْعِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، والأمل والرهبة. [8] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 8] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) لَمَّا جَرَى تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَإِيقَاظُهُمْ إِلَى عَدَاوَتِهِ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَتَقْسِيمُ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ انْطَلَتْ عَلَيْهِ مَكَائِدُ الشَّيْطَانِ وَاغْتَرُّوا بِغُرُورِهِ وَلَمْ يُنَاصِبُوهُ الْعَدَاءَ، وَفَرِيقٍ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ وَاحْتَرَسُوا مِنْ كَيْدِهِ وَتَجَنَّبُوا السَّيْرَ فِي مَسَالِكِهِ، ثُمَّ تَقْسِيمُهُمْ إِلَى كَافِرٍ مُعَذَّبٍ وَمُؤْمِنٍ صَالِحٍ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْإِيمَاءِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ عَذَابَ السَّعِيرِ، وَبِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْلُصُوا مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ مِنْ أُمَّةِ دَعْوَتِهِ بِأُسْلُوبِ الْمُلَاطَفَةِ فِي التَّسْلِيَةِ فَفَرَّعَ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً إِلَى قَوْلِهِ: بِما يَصْنَعُونَ فَابْتِدَاؤُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ رَبْطٌ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ لِيَعُودَ الذِّهْنُ إِلَى مَا حُكِيَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ، ثُمَّ بِإِبْرَازِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَاجْتِلَابِ الْمَوْصُول الَّذِي تومىء صِلَتُهُ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ الْمَقْصُودِ، فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ وُقُوعَهُ فِي هَذِه الْحَالة ناشىء مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ، فَالْمُزَيِّنُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ هُوَ الشَّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النَّمْل: 24] فَرَأَوْا أَعْمَالَهُمُ

السَّيِّئَةَ حَسَنَةً فَعَكَفُوا عَلَيْهَا وَلم يقبلُوا فِيهَا نَصِيحَةَ نَاصِحٍ، وَلَا رِسَالَةَ مُرْسَلٍ. ومَنْ مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ بَلْ وَدَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ هَذَا عَلَى قَوْله إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ومَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [فاطر: 7] عَقِبَ قَوْله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَتَقْدِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اسْتَحَقَّهُ حِزْبُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْعَذَابِ: أَفَأَنْتَ تَهْدِي مَنْ زيّن لَهُ سوء عَمَلُهُ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَتَقْدِيره بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحْزُنْكَ مَصِيرُهُ فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أَيْ فَلَا تَفْعَلْ ذَلِكَ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَرُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ حَسَنًا وَهُوَ مِنْ فعل أنفسهم فَلَمَّا ذَا تَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْخَبَرُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر: 7] فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ سُوءٌ وَأَنَّ الْإِيمَانَ حُسْنٌ، فَيَكُونُ «مَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» هُوَ الْكَافِرَ، وَيَكُونُ ضِدُّهُ هُوَ الْمُؤْمِنَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [19] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [33] . وَالتَّزْيِينُ: تَحْسِينُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ. وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ: سُوءُ عَمَلِهِ، أَيْ صُوِّرَتْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ لِيُقْدِمُوا عَلَيْهَا بِشَرَهٍ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النَّمْلِ. وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مُفَرَّعَةٌ، وَهِيَ تَقْرِيرٌ

لِلتَّسْلِيَةِ وَتَأْيِيسٌ مِنِ اهْتِدَاءِ مَنْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِيهِ أَسْبَابَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَحِيحِ النَّظَرِ وَإِنْصَافِ الْمُجَادَلَةِ. وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الله إِسْنَاد بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ خَالِقُ أَسْبَابِ الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَهُوَ سِرٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ عَظِيمٌ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهُ وَلَهُ أُصُولٌ وَضَوَابِطُ سَأُبَيِّنُهَا فِي «رِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْمُفَرَّعِ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ إِلَخ فتؤول إِلَى التَّفْرِيعِ على الجملتين فيؤول إِلَى أَنْ يَكُونَ النَّظْمُ هَكَذَا: أَفَتَتَحَسَّرُ عَلَى مَنْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ فَرَأَوْهَا حَسَنَاتٍ وَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الضَّلَالِ فَإِنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَهُوَ قَدْ تَصَرَّفَ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَضَلَّهُمْ وَهُدَى غَيْرَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الَّتِي شَاءَ بِهَا إِيجَادَ الْمَوْجُودَاتِ لَا بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّاسَ إِلَى الرَّشَادِ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ وَإِنَّمَا حَسْرَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ رَضُوا لَهَا بِاتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ وَنَبَذُوا اتِّبَاعَ إِرْشَادِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا أَوْقَعُوهَا فِيهِ بِصُنْعِهِمْ. فَاللَّهُ أَرْشَدَهُمْ بِإِرْسَالِ رَسُولِهِ لِيَهْدِيَهُمْ إِلَى مَا يُرْضِيهِ، وَاللَّهُ أَضَلَّهُمْ بِتَكْوِينِ نُفُوسِهِمْ نَافِرَةً عَنِ الْهُدَى تَكْوِينًا مُتَسَلْسِلًا مِنْ كَائِنَاتٍ جَمَّةٍ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُهُ وَكُلُّهَا مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَتِهِ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَلَاسِلَ الْكَائِنَاتِ عَلَى غَيْرِ هَذَا النِّظَامِ فَلَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَكُلُّهُمْ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهِ إِلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ فَعُدِلَ عَنِ النَّظْمِ الْمَأْلُوفِ إِلَى هَذَا النَّظْمِ الْعَجِيبِ. وَصِيغَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالنَّهْيِ التَّثْبِيتِيِّ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [19] ، فَإِنَّ أَصْلَ نَظْمِهَا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ زَادَتْ بِالِاعْتِرَاضِ وَكَانَ الْمُفَرَّعُ الْأَخِيرُ فِيهَا نَهْيًا وَالْأُخْرَى عُرِّيَتْ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَكَانَ الْمُفَرَّعُ الْأَخِيرُ فِيهَا اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا. وَالنَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَذْهَبَ حَسَرَاتٍ عَلَى الضَّالِّينَ وَلَمْ يُوَجَّهْ إِلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْسُهُ مُتَّحِدَانِ

فَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الذَّهَابَ مُسْتَعَارٌ إِلَى التَّلَفِ وَالِانْعِدَامِ كَمَا يُقَال: طارت نَفسه شَعَاعًا، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً ... إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ تَوْزِيعِ النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَكْرِيرُ الْخِطَابِ وَالنَّهْيِ لِكِلَيْهِمَا. وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّجْرِيدِ الْمَعْدُودِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ الْمُوجِبِ تَقْرِيرَ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [9] . وَالْحَسْرَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [39] . وَانْتَصَبَ حَسَراتٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تُتْلِفْ نَفْسَكَ لِأَجْلِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] ، وَقَوْلِهِ: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [يُوسُف: 84] أَيْ مِنْ حُزْنِ نَفْسِهِ لَا مِنْ حُزْنِ الْعَيْنَيْنِ. وَجُمِعَتِ الْحَسَرَاتُ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ صَالِحٌ للدلالة على تكْرَار الْأَفْرَادِ قَصْدًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِرَادَةِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ جِنْسِ الْحَسْرَةِ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ يَكُونُ عِنْدَ تَعَاقُبِ الْحَسَرَاتِ الْوَاحِدَةِ تِلْوَ الْأُخْرَى لِدَوَامِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْهُ فَكُلُّ تَحَسُّرٍ يَتْرُكُ حَزَازَةً وَكَمَدًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا تُطِيقُهُ النَّفْسُ فَيَنْفَطِرَ لَهُ الْقَلْبُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الطِّبِّ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ كَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ سَبَبُهُ اخْتِلَالُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ مِنْ تَوَارُدِ الْآلَامِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ نَهْيِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَنَصْبِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يُذْهِبَ نَفْسَهُ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَاءَاتٍ أَرْبَعٍ كُلُّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ وَهِيَ الَّتِي بَلَغَ بِهَا نَظْمُ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَفِي اجْتِمَاعِهَا مُحَسِّنُ جَمْعِ النَّظَائِرِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ التَّصَبُّرِ وَالتَّحَلُّمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ

[سورة فاطر (35) : آية 9]

عَلِيمٌ بِصُنْعِهِمْ فِي الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ فَكَمَا أَنَّهُ لِحِلْمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ فَكُنْ أَنْتَ مُؤْتَسِيًا بِاللَّهِ وَمُتَخَلِّقًا بِمَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَفِي ضِمْنِ هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى سُوءِ عَمَلِهِمْ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ لِأَنَّ كَمَدَ نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ عِقَابِهِمْ وَلَكِنْ لِأَجْلِ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ أَغْفَلَهُ التَّحَسُّرُ عَلَيْهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَأَكَّدَ لَهُ الْخَبَرَ بِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ، وَإِمَّا لِجَعْلِ التَّأْكِيدِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِتَكُونَ إِنَّ مُغْنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ فَتَتَمَخَّضَ الْجُمْلَةُ لِتَقْرِيرِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْجَزَاءِ عَنْ ذَلِكَ. وَعَبَّرَ بِ يَصْنَعُونَ دُونَ: يَعْمَلُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يُدَبِّرُونَ مَكَائِدَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ إِيذَانًا بِوُجُودِ بَاعِثٍ آخَرَ عَلَى النَّزْعِ عَنِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَبُو جهل وَحزبه. [9] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 9] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) لَمَّا قُدِّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ أَهْلِهَا وَذَلِكَ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ ثَنَّى هُنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِتَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَتَكْوِينِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] . وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مقَام الْإِضْمَار دُونَ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] . وَاخْتِيرَ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ دَلَالَةُ تَجَمُّعِ أَسْبَابِ الْمَطَرِ لِيُفْضِيَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَنْظِيرِ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ أَحْوَالِ الْفَنَاءِ بِآثَارِ ذَلِكَ الصُّنْعِ الْعَجِيبِ وَأَنَّ الَّذِي خَلَقَ وَسَائِلَ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ وَسَائِلِ إِحْيَاءِ الَّذِينَ ضَمِنَتْهُمُ الْأَرْضُ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْمَاجِ.

وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقَصْدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ وُقُوعُ الْإِحْيَاءِ وَتَقَرُّرُ وُقُوعِهِ جِيءَ بِفعل الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَرْسَلَ. وَأَمَّا تَغْيِيرُهُ إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَتُثِيرُ سَحاباً فَلِحِكَايَةِ الْحَالِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا إِثَارَةُ الرِّيَاحِ السَّحَابَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ لِلْبُلَغَاءِ فِي الْفِعْل الَّذِي فِيهِ خُصُوصِيَّة بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ وَتَهُمُّ السَّامِعَ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي ... بِسَهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ فَأَضْرِبُهَا بِلَا دَهَشٍ فَخَرَّتْ ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ فَابْتَدَأَ بِ (لَقِيتُ) لِإِفَادَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ ثُمَّ ثَنَّى بِ (أَضْرِبُهَا) لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ إِقْدَامِهِ وَثَبَاتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يُبْصِرُونَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَلَمْ يُؤْتَ بِفِعْلِ الْإِرْسَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [48] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ الْآيَةَ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا اسْتِدْلَالٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ إِظْهَارًا لِإِمْكَانِ نَظِيرِهِ وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَجْدِيدِ صُنْعِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ. وَالْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ تَقَدَّمَ غير مرّة أولاها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَسُقْناهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ التَّفَاوُت مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ النُّشُورُ سَبِيلُهُ سَبِيلُ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطر: 5] الْآيَاتِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ مَا قَبْلَهُ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ فَحْوَى الدَّلَالَةِ لَمَّا ظَهَرَتْ فِي بُرْهَانِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدٍ أُخِذَ مِنْ طَرِيقِ دَلَالَةِ التَّقْرِيبِ لِوُقُوعِ الْبَعْث إِذْ عسر عَلَى عُقُولِهِمْ تَصْدِيقُ إِمْكَانِ الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَنَاءِ لِيَحْصُلَ مِنْ بَارِقَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارِقَةِ الْإِمْكَانِ مَا يَسُوقُ أَذْهَانَهُمْ إِلَى اسْتِقَامَةِ التَّصْدِيقِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ النُّشُورُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَجْمُوعِ الْحَالَةِ الْمُصَوَّرَةِ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الصُّنْعِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ نَصْنَعُ صُنْعًا يَكُونُ بِهِ النشور بِأَن يهيّىء اللَّهُ حَوَادِثَ سَمَاوِيَّةً

[سورة فاطر (35) : آية 10]

أَوْ أَرْضِيَّةً أَو مَجْمُوعَة مِنْهُمَا حَتَّى إِذَا اسْتَقَامَتْ آثَارُهَا وَتَهَيَّأَتْ أَجْسَامٌ لِقَبُولِ أَرْوَاحِهَا أَمَرَ اللَّهُ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَإِذَا الْأَجْسَادُ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ نَظِيرَ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجِنَّةِ عِنْد استكمال تهيئها لِقَبُولِ الْأَرْوَاحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ مَرَرْتَ بِوَادٍ أُهْلِكَ مُمَحَّلًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا؟ قيل: نعم. قَالَ: فَكَذَلِك يحيي اللَّهُ الْمَوْتَى وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَات عَن أبي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَن السَّائِل أَبُو رَزِينٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «الرّيح» بِالْإِفْرَادِ، والمعرّف بِلَامِ الْجِنْسِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. [10] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 10] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً. مَضَى ذِكْرُ غُرُورَيْنِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [فاطر: 5] ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5] فَأَخَذَ فِي تَفْصِيلِ الْغَرُورِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: 6] وَمَا اسْتَتْبَعَهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْجَارِ كَيْدِهِ وَانْبِعَاثِ سُمُومِ مَكْرِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ مَصَارِعِ مُتَابَعَتِهِ وَإِبْدَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاقِعِينَ فِي حَبَائِلِهِ وَالْمُعَافِينَ مِنْ أَدْوَائِهِ، بِدَارًا بِتَفْصِيلِ الْأَهَمِّ وَالْأَصْلِ، وَأَبْقَى تَفْصِيلَ الْغَرُورِ الْأَوَّلِ إِلَى هُنَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ أَعْظَمُ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ فِي شِرْكِهِمْ نَاشِئًا عَنْ قَبُولِ تَعَالِيمِ كُبَرَائِهِمْ وَسَادَتِهِمْ وَكَانَ أَعْظَمُ دَوَاعِي الْقَادَةِ إِلَى تَضْلِيلِ دَهْمَائِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ، هُوَ مَا يَجِدُونَهُ من الْعِزَّة والافتنان بِحُبِّ الرِّئَاسَةِ فَالْقَادَةُ يَجْلِبُونَ الْعِزَّةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْأَتْبَاعُ يَعْتَزُّونَ بِقُوَّةِ قَادَتِهِمْ، لَا جَرَمَ كَانَتْ إِرَادَةُ الْعِزَّةِ مِلَاكَ تَكَاتُفِ الْمُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَتَأَلُّبِهِمْ عَلَى مُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ، فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِكَشْفِ اغْتِرَارِهِمْ بِطَلَبِهِمُ الْعِزَّةَ فِي الدُّنْيَا، فَكُلُّ مُسْتَمْسِكٍ بِحَبْلِ الشِّرْكِ مُعْرِضٌ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، لَا يُمَسِّكُهُ بِذَلِكَ إِلَّا إِرَادَةُ الْعِزَّةِ، فَلِذَلِكَ نَادَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ بِأَنَّ مَنْ

كَانَ ذَلِكَ صَارِفُهُ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّ الْعِزَّةَ الْحَقَّ فِي اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِزَّةِ كَالْعَدَمِ. ومَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجُعِلَ جَوَابُهَا فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، وَلَيْسَ ثُبُوتُ الْعِزَّةِ لِلَّهِ بِمُرَتَّبٍ فِي الْوُجُودِ عَلَى حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ هُوَ عِلَّةُ الْجَوَابِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ وَاسْتُغْنِيَ بِهَا عَنْ ذِكْرِهِ إِيجَازًا، وَلِيَحْصُلَ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَطَاوِي الْكَلَامِ تَقَرُّرُهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَذَاب فَلْيَسْتَجِبْ إِلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَفِيهَا الْعِزَّةُ لِأَنَّ الْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الْعِزَّةُ الَّتِي يَتَشَبَّثُونَ بِهَا فَهِيَ كَخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ لِأَنَّهَا وَاهِيَةٌ بَالِيَةٌ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يُرَادُ فِيهِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ عَلَى خَطَأٍ فِي زَعْمِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْسِيِّ فِي مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْإِسْفَارِ أَرَادَ أَنَّ مَنْ سَرَّهُ مَقْتَلُ مَالِكٍ فَلَا يَتَمَتَّعْ بِسُرُورِهِ وَلَا يَحْسَبْ أَنَّهُ نَالَ مُبْتَغَاهُ لِأَنَّهُ إِنْ أَتَى سَاحَةَ نِسْوَتِنَا انْقَلَبَ سُرُورُهُ غَمًّا وَحُزْنًا إِذْ يَجِدُ دَلَائِلَ أَخْذِ الثَّأْرِ مِنْ قَاتِلِهِ بَادِيَةً لَهُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَتِيلَ لَا يَنْدُبُهُ النِّسَاءُ إِلَّا إِذَا أُخِذَ ثَأْرُهُ. هَذَا مَا فَسَّرَهُ الْمَرْزُوقِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَلَقَّيْتُهُ عَنْ شَيْخِنَا الْوَزِيرِ وَفِي الْبَيْتَيْنِ تَفْسِيرٌ آخَرُ. وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ وَهُوَ تَثْبِيتُ الْمُخَاطَبِ عَلَى عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت: 5] . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا يُقْصَدُ بِهِ إِظْهَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِ الشَّرْطِ وَمَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَمَنْ يَكُنْ قَدْ قَضَى مِنْ خُلَّةٍ وَطَرًا ... فَإِنَّنِي مِنْكَ مَا قَضَيْتُ أوطاري وَقَول ضابىء بْنِ الْحَارِثِ: وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ وَقَوْلِ الْكِلَابِيِّ: فَمَنْ يُكْلَمْ يَغْرَضْ فَإِنِّي وَنَاقَتِي ... بِحَجْرٍ إِلَى أَهْلِ الْحِمَى غَرَضَانِ

فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ قَصْرًا وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عِزَّةٍ ضَئِيلَةٍ، أَيْ فَالْعِزَّةُ لِلَّهِ لَا لَهُمْ. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِيهِ تَرْتِيبُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ [الْإِسْرَاء: 18] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: 15] . وجَمِيعاً أَفَادَتِ الْإِحَاطَةَ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ فَحَصَلَتْ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ فَالْقَصْرُ بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدَيْنِ (¬1) وجَمِيعاً بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدٍ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النِّسَاء: 139] فَإِنَّ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ: تَأْكِيدًا بِ (إِنَّ) وَتَأْكِيدًا بِ جَمِيعاً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى تَقْوِيَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَمِيعاً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً فِي سُورَةِ سَبَأٍ [40] . وَانْتَصَبَ جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْعِزَّةَ وَكَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْعِزَّةُ كُلُّهَا لِلَّهِ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ مِنْهَا فَيَثْبُتُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ الْمُتَعَارَفَةَ بَيْنَ النَّاسِ كَالْعَدَمِ إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُهَا مِنِ احْتِيَاجٍ وَوَهَنٍ وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ. وَتَعْرِيفُ الْعِزَّةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْعِزَّةُ: الشَّرَفُ وَالْحَصَانَةُ مِنْ أَنْ يُنَالَ بِسُوءٍ. فَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَانْصَرَفَ عَنْ دَعْوَةِ اللَّهِ إِبْقَاءً عَلَى مَا يَخَالُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ عِزَّةٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ إِذْ لَا عِزَّةَ لَهُ فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ مَاءً لِلَمْعِ سَرَابٍ. وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ الَّذِي دَعَاهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَعِزَّةُ الْمَوْلَى ينَال حزبه وأولياءه حَظّ مِنْهَا فَلَوِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ فَالْتَحَقُوا بِحِزْبِهِ صَارَتْ لَهُمْ عِزَّةُ اللَّهِ وَهِيَ الْعِزَّةُ الدَّائِمَةُ فَإِنَّ عِزَّةَ الْمُشْرِكِينَ يَعْقُبُهَا ذُلُّ الِانْهِزَامِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي الدُّنْيَا وَذُلُّ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَعِزَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَزَايُدِ الدُّنْيَا وَلَهَا دَرَجَاتُ كَمَالٍ فِي الْآخِرَةِ. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. كَمَا أَتْبَعَ تَفْصِيلَ غُرُورِ الشَّيْطَانِ بِعَوَاقِبِهِ فِي الْآخِرَةِ بقوله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ ¬

(¬1) لقَوْل السكاكي: لَيْسَ الْحصْر والتخصيص إلّا تَأْكِيدًا على تَأْكِيد.

لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] الْآيَةَ، وَبِذِكْرِ مُقَابِلِ عَوَاقِبِهِ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ أَتْبَعَ تَفْصِيلَ غُرُورِ الْأَنْفُسِ أَهْلَهَا بِعَوَاقِبِهِ وَبِذِكْرِ مُقَابِلِهِ أَيْضًا لِيَلْتَقِيَ مَآلُ الْغَرُورَيْنِ وَمُقَابِلِهِمَا فِي مُلْتَقًى وَاحِدٍ، وَلَكِنْ قُدِّمَ فِي الْأَوَّلِ عَاقِبَةُ أَهْلِ الْغَرُورِ بِالشَّيْطَانِ ثُمَّ ذُكِرَتْ عَاقِبَةُ أَضْدَادِهِمْ، وَعُكِسَ فِي مَا هُنَا لِجَرَيَانِ ذِكْرِ عِزَّةِ اللَّهِ فَقُدِّمَ مَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِآثَارِ عَزَّةِ اللَّهِ فِي حِزْبِهِ وَجُنْدِهِ. وَجُمْلَةُ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ تَفْصِيلِ الْغَرُورِ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الَّتِي تَنْفَعُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ سَعْيٌ بَاطِلٌ. وَالْقُرُبَاتُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ، فَالْأَقْوَالُ مَا كَانَ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِغْفَارًا وَدُعَاءً، وَدُعَاءَ النَّاسِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [70] . وَالْأَعْمَالُ فِيهَا قُرُبَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ بِالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلَ، وَكَانُوا يَتَحَنَّثُونَ بِأَعْمَالٍ مِنْ طَوَافٍ وَحَجٍّ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَشُوبًا بِالْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُمْ يَنْوُونَ بِهَا التَّقَرُّبَ إِلَى الْآلِهَةِ فَلِذَلِكَ نَصَبُوا أَصْنَامًا فِي الْكَعْبَةِ وَجَعَلُوا هُبَلَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ، وَجَعَلُوا إِسَافَا وَنَائِلَةَ فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِتَكُونَ مَنَاسِكُهُمْ لِلَّهِ مَخْلُوطَةً بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْإِشْرَاكِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ. فَلَمَّا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أُفِيدَ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَدَّمُ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فَ الْعَمَلُ مُقَابِلُ الْكَلِمُ، أَيِ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ، وَضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدٌ إِلَى مَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مِنْ يَرْفَعُهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَيِ اللَّهُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ. والصعود: الْإِذْهَابُ فِي مَكَانٍ عَالٍ. وَالرَّفْع: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ أَعْلَى مِنْهُ، فَالصُّعُودُ مُسْتَعَارٌ لِلْبُلُوغِ إِلَى عَظِيمِ الْقَدْرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ لَدَيْهِ.

وَ (الرَّفْعُ) : حَقِيقَتُهُ نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ مَقَرِّهِ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ لِلْقَبُولِ عِنْدَ عَظِيمٍ، لِأَنَّ الْعَظِيمَ تَتَخَيَّلُهُ التَّصَوُّرَاتُ رَفِيعَ الْمَكَانِ. فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ (يَصْعَدُ) وَ (يَرْفَعُ) تَبِعَتَيْنِ قَرِينَتَيْ مَكْنِيَّةٍ بِأَنْ شُبِّهَ جَانِبُ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ لَا يَصِلُهُ إِلَّا مَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ. فَقَوْلُهُ: الْعَمَلُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَرْفَعُهُ، وَفِي بِنَاءِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَا يُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ سِيَاقُ جُمْلَتِهِ عَقِبَ سِيَاقَ جُمْلَةِ الْقَصْرِ الْمُشْعِرِ بِسَرَيَانِ حُكْمِ الْقَصْرِ إِلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ لِاتِّحَادِ الْمَقَامِ إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يُقْصَرَ صُعُودُ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ عَلَى الْجَانِبِ الْإِلَهِيِّ ثُمَّ يُجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَعَهُ فِي رَفْعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، تَعَيَّنَ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: اللَّهُ الَّذِي يَقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ. وَإِنَّمَا جِيءَ فِي جَانِبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِجُمْلَةِ يَرْفَعُهُ وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فِي حُكْمِ الصُّعُودِ إِلَى اللَّهِ مَعَ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ لفائدتين: أولاهما: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ نَوْعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَهَمُّ مِنْ نَوْعِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْسَعُ نَفْعًا مِنْ مُعْظَمِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ (عَدَا كَلِمَةَ الشَّهَادَتَيْنِ وَمَا وَرَدَ تَفْضِيلُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي السُّنَّةِ مِثْلَ دُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ) فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ رَفْعُهُ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طيبا تلقّاها الرحمان بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ يَتَكَيَّفُ فِي الْهَوَاءِ فَإِسْنَادُ الصُّعُودُ إِلَيْهِ مُنَاسِبٌ لِمَاهِيَّتِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ كَيْفِيَّاتٌ عَارِضَةٌ لِذَوَاتٍ فَاعِلَةٍ وَمَفْعُولَةٍ فَلَا يُنَاسِبُهُ إِسْنَادُ الصُّعُودِ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَعَلِّقًا لِرَفْعٍ يَقَعُ عَلَيْهِ وَيُسَخِّرُهُ إِلَى الِارْتِفَاعِ.

وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ. هَذَا فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعِزَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: 30] الْآيَةَ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ فَعَطْفُهُمْ عَلَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِالذِّكْرِ لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَكْرِ. وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ. وَالْمَكْرُ: تَدْبِيرُ إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ فِي خُفْيَةٍ لِئَلَّا يَأْخُذَ حِذْرَهُ، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ. وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَضْرُورِ بِوَاسِطَةِ الْبَاءِ الَّتِي لِلْمُلَابَسَةِ، يُقَالُ: مَكَرَ بِفُلَانٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِوَسِيلَةِ الْمَكْرِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ يُقَالُ: مَكَرَ بِفُلَانٍ بِقَتْلِهِ فَانْتِصَابُ السَّيِّئاتِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرِ الْمَكْرِ نَائِبًا مَنَابَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَالَّذِينَ يمكرون الْمَكْر السيّء. وَكَانَ حَقُّ وَصْفِ الْمَصْدَرِ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] فَلَمَّا أُرِيدَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَكْرِ عُدِلَ عَنِ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ وَأُتِيَ بِهِ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْفَعَلَاتِ مِنَ الْمَكْرِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَكْرِهِمْ هِيَ سَيِّئَةٌ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ (صَالِحَةٍ) كَقَوْلِ جَرِيرٍ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي أَيْ صَالِحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنْوَاعُ مَكَرَاتِهِمْ هِيَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: 30] . وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ عِلَّةٌ فِيمَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُكْمِ، أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ. وَعُبِّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي الصِّلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ مَكْرِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِ وَأَنه دأبهم وهجّيراهم. وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى مَكْرِهِمْ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ مَكْرَهُمْ لَا يَرُوجُ وَلَا يَنْفِقُ وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ فَلَا يَنْتَفِعُونَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُضَرُّونَ بِسَبَبِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ.

[سورة فاطر (35) : آية 11]

وَعُبِّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، فَيُكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ تَمْيِيزِ الْمَكْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِمْ وَوُضُوحِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَعِلْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّمَا أُشِيرَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَكْرِهِمْ بِاسْمِ إِشَارَةٍ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ. وَالضَّمِيرُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ مَكْرُ أُولئِكَ وَبَيْنَ يَبُورُ ضَمِيرُ فَصْلٍ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: 104] . وَالرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِ النُّحَاةِ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ: أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ يَلِيهِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ دُونَ غَيْرِ الْمُضَارِعِ، وَوَافَقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْإِيضَاحِ» لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو حَيَّانَ وَقَالَ: لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ فِيمَا عَلِمْنَا. وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ فَإِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ إِرَادَةَ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ إِرَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ فِي حُصُولِ النِّسْبَةِ الْحِكْمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ إِلَى الْبَلِيغِ سَبِيلٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْقَصْدَيْنِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِيُفِيدَ الثَّبَاتَ وَالتَّقْوِيَةَ لِتَعَذُّرِ إِفَادَةِ ذَلِك بِالْجُمْلَةِ الإسلامية. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 5] ، فَالْفَصْلُ هُنَا يُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ مَكْرُهُمْ يَبُورُ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَهُ هُنَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْكُرُ بِهِمْ مَكْرًا يُصِيبُ الْمَحَزَّ مِنْهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: 54] . وَالْبَوَارُ حَقِيقَتُهُ: كَسَادُ التِّجَارَةِ وَعَدَمُ نَفَاقِ السِّلْعَةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِخَيْبَةِ الْعَمَلِ بِوَجْهِ الشَّبَهِ بَيْنَ مَا دَبَّرُوهُ مِنَ الْمَكْرِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى إِصَابَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضُرٍّ وَبَيْنَ مَا يُنَمِّقُهُ التَّاجِرُ وَمَا يُخْرِجُهُ مِنْ عِيَابِهِ وَيَرْصِفُهُ عَلَى مَبْنَاتِهِ وَسَطَ اللَّطِيمَةِ مَعَ السِّلَعِ لِاجْتِلَابِ شَرَهِ الْمُشْتَرِينَ. ثُمَّ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ فَيَرْجِعُ مِنْ لَطِيمَتِهِ لَطِيمَ كَفِّ الْخَيْبَةِ، فَارِغَ الْكَفِّ وَالْعَيْبَةِ. [11] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 11] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً. هَذَا عَوْدٌ إِلَى سَوْقِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةٍ عَلَيْهَا مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ دَلَالَةِ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] . فَهَذَا كَقَوْلِهِ:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وَقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] فَابْتَدَأَهُمْ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَصْلِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ مِنْ تُرَابٍ وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ عِلْمُهُ لَدَى جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُمْ وَهُوَ الْبَشَرُ الْأَوَّلُ، خُلِقَ مِنْ طِينٍ فَصَارَ ذَلِكَ حَقِيقَةً مُقَرَّرَةً فِي عِلْمِ الْبَشَرِ وَهِيَ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْمَنْطِقِ «بِالْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ» الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمَحْسُوسَاتِ. ثُمَّ اسْتَدْرَجَهُمْ إِلَى التَّكْوِينِ الثَّانِي بِدَلَالَةِ خَلْقِ النَّسْلِ مِنْ نُطْفَةٍ وَذَلِكَ عِلْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي النُّفُوسِ بِمُشَاهَدَةِ الْحَاضِرِ وَقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْمُشَاهَدِ، فَكَمَا يَجْزِمُ الْمَرْءُ بِأَنَّ نَسْلَهُ خُلِقَ مِنْ نُطْفَتِهِ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نُطْفَةِ أَبَوَيْهِ، وَهَكَذَا يَصْعَدُ إِلَى تَخَلُّقِ أَبْنَاءِ آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَالنُّطْفَةُ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [37] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً يُشِيرُ إِلَى حَالَةٍ فِي التَّكْوِينِ الثَّانِي وَهُوَ شَرْطُهُ مِنَ الِازْدِوَاجِ. فَ ثُمَّ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ فِي الْغَرَضِ أَعْنِي دَلَالَةَ التَّكْوِينِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَذَلِكَ مُوَزَّعٌ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وَقَدْ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا لِتَرْكِيبِ تِلْكَ النُّطْفَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِدِقَّةِ صُنْعِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ. وَفِيهَا غُنْيَةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي تَأَمُّلِ صُنْعِ بَقِيَّةِ الْحَيَوَانِ. وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ الَّذِي يَصِيرُ بِانْضِمَامِ الْفَرْدِ إِلَيْهِ زوجا، أَي شفعا، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى صِنْفِ الذُّكُورِ مَعَ صِنْفِ الْإِنَاثِ لِاحْتِيَاجِ الْفَرْدِ الذَّكَرِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إِلَى أُنْثَاهُ مِنْ صِنْفِهِ وَالْعَكْسِ. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ الثَّانِي مِنَ التَّلَاقُحِ بَين النطفتين اسْتدلَّ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَطْوَارِ الْعَارِضَةِ لِلنُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ وَهُوَ أَطْوَارُ الْحَمْلِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى الْوَضْعِ.

وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ التَّنْبِيهِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْكَائِنَاتِ الْخَفِيَّةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَلِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ أَعْلَى قُدِّمَ ذِكْرُ الْحَمْلِ عَلَى ذِكْرِ الْوَضْعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ عَطْفِ الْوَضْعِ أَنْ يَدْفَعَ تَوَهُّمَ وُقُوفِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْخَفِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْغَيْبِ دُونَ الظَّوَاهِرِ بِأَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهَا بِتَدْبِيرِ خَفِيَّاتِهَا كَمَا هُوَ شَأْن عُظَمَاء الْعُلَمَاءِ مِنْ الْخَلْقِ، لظُهُور اسْتِحَالَةِ تَوَجُّهِ إِرَادَةِ الْخَلْقِ نَحْوَ مَجْهُولٍ عِنْدَ مُرِيدِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لَا جَرَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنِ التَّكْوِينِ يَسْتَتْبِعُ ذِكْرَ الْمَوْتِ الْمَكْتُوبِ عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَجَاءَ بِذِكْرِ عِلْمِهِ الْآجَالَ وَالْأَعْمَارَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ. وَالتَّعْمِيرُ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ عَامِرًا، أَيْ بَاقِيًا فِي الْحَيَاةِ، فَإِنَّ الْعَمْرَ هُوَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ يُقَالُ: عَمِرَ فُلَانٌ كَفَرِحَ وَنَصِرَ وَضَرِبَ، إِذَا بَقِيَ زَمَانًا، فَمَعْنَى عَمَّرَهُ بِالتَّضْعِيفِ: جَعَلَهُ بَاقِيًا مُدَّةً زَائِدَةً عَلَى الْمُدَّةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي أَعْمَارِ الْأَجْيَالِ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالنَّقْصِ مِنَ الْعُمُرِ، وَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِالتَّعْمِيرِ صَاحِبُهُ إِلَّا بِالْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ فَيُقَالُ: عُمِّرَ فُلَانٌ فَهُوَ مُعَمَّرٌ. وَقَدْ غَلَبَ فِي هَذِهِ الْأَجْيَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ فَمَا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ عُمُرٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْمُعَمَّرُ الَّذِي يَزِيدُ عُمُرُهُ عَلَى السَّبْعِينَ، وَالْمَنْقُوصُ عُمُرُهُ الَّذِي يَمُوتُ دُونَ السِّتِّينَ. وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ فِي تَعْمِيرِ الْمَفْقُودِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ الْإِبْلَاغَ بِهِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ تَارِيخِ وِلَادَتِهِ وَوَقَعَ الْقَضَاءُ فِي تُونُسَ بِأَنَّهُ مَا تَجَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً، قَالُوا: لِأَنَّ الَّذِينَ يَعِيشُونَ إِلَى ثَمَانِينَ سنة غَيْرُ قَلِيلٍ فَلَا يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْقُودِ مَيِّتًا إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمِيرَاثُ وَلَا مِيرَاثَ بِشَكٍّ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا تُزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّزَوُّجِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ خَلِيَّةً مِنْ عِصْمَةٍ، وَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُ الشَّرْطِ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ. وَهُوَ تَخْرِيجٌ فِيهِ نَظَرٌ. وَضَمِيرُ مِنْ عُمُرِهِ عَائِدًا إِلَى مُعَمَّرٍ عَلَى تَأْوِيلِ مُعَمَّرٍ بِ (أَحَدٍ) كَأَنَّهُ

قِيلَ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ أَحَدٍ وَلَا ينقص من عُمُرُهُ، أَيْ عُمُرُ أَحَدٍ وَآخَرَ. وَهَذَا كَلَامٌ جَارٍ عَلَى التَّسَامُحِ فِي مِثْلِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَاعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ السَّامِعِينَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ [النِّسَاء: 12] لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ الْمَيِّتُ وَارِثًا لِمَنْ قَدْ وَرِثَهُ وَلَا وَارِثٌ مَيِّتًا مَوْرُوثًا لِوَارِثِهِ. وَالْكِتَابُ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْمَكْتُوبَ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مَوْجُودَاتٍ هِيَ كَالْكُتُبِ تُسَطَّرُ فِيهَا الْآجَالُ مُفَصَّلَةً وَذَلِكَ يَسِيرٌ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ هَذَا الضَّبْطِ عُسْرٌ وَلَا كَدٌّ. وَقَدْ وَرَدَ هُنَا الْإِشْكَالُ الْعَامُّ النَّاشِئُ عَنِ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَدِلَّةِ جَرَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ سَابِقٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَسْبَابٍ وَطَلَبِ اكْتِسَابِ الْمَرْغُوبِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَاجْتِنَابِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَعْمَارِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ مَعَ كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ وَعِلْمٍ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَكَيْفَ يرغّب فِي الصَّدَقَة مثلا بِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَأَنَّ صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمُرِ. وَالْمُخَلِّصُ مِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ هُوَ الْقَاعِدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مَعْلُومًا لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُرَادًا، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمَعْدُومَةِ. وَالْإِرَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِإِيجَادِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا تُوجَدُ، فَالنَّاسُ مُخَاطَبُونَ بِالسَّعْيِ لِمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ فَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْإِرَادَةُ بِالشَّيْءِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ وُقُوعَهُ، وَمَا تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ وَمَسَاعِيهِمْ إِلَّا أَمَارَاتٌ عَلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَصَدَقَةُ الْمُتَصَدِّقِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ تَعْمِيرَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُظْهِرُ مَعْلُومَاتِهِ فِي مَظَاهِرِ تَكْرِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ لِيَتِمَّ النِّظَامُ الَّذِي أَسَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِ هَذَا الْعَالَمَ وَيَلْتَئِمُ جَمِيعُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ عَلَى وُجُوهٍ لَا يُخِلُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ. وَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا هَذَا الْجَوَابُ وَجَمِيعُ مَا سِوَاهُ وَإِنْ أَقْنَعَ ابْتِدَاءً فَمَآلُهُ إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ الْإِشْكَال.

[سورة فاطر (35) : آية 12]

[سُورَة فاطر (35) : آيَة 12] وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحْوَالِ فِي الْأَجْوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَمَا فِي صِفَاتِهَا مِنْ دَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى دَلَالَةِ وُجُودِ أعيانها، على عَظِيم مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصِيغَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ إِذِ اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ نَامُوسُ تَمَايُزِهَا بِخَصَائِصَ مُخْتَلِفَةٍ وَاتِّحَادِ أَنْوَاعِهَا فِي خَصَائِصَ مُتَمَاثِلَةٍ اسْتِدْلَالًا عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: 4] وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ الْبَحْرَيْنِ أَنْفُسِهِمَا لِأَنَّ ذِكْرَ اخْتِلَافِ مَذَاقِهِمَا يَسْتَلْزِمُ تَذَكُّرَ تَكْوِينِهِمَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْبَحْرَيْنِ الْعَذْبَ وَالْأُجَاجَ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَخَالف بَين أعراضهما، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَفَاوُتُ الْبَحْرَيْنِ فِي الْمَذَاقِ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَفَانِينِ الدَّلَائِلِ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي «الْكَشَّافِ» : ضَرَبَ الْبَحْرِينِ الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ فِي صِفَةِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا عُلِّقَ بِهِمَا مِنْ نِعْمَتِهِ وَعَطَائِهِ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا. وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: اسْمٌ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ الْقَارِّ فِي سَعَةٍ، فَالْفُرَاتُ وَالدِّجْلَةُ بَحْرَانِ عَذْبَانِ وَبَحْرُ خَلِيجِ الْعَجَمِ مِلْحٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [53] وَقَدِ اتَّحَدَا فِي إِخْرَاجِ الْحِيتَانِ وَالْحِلْيَةِ، أَيِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَهُمَا يُوجَدُ أَجْوَدُهُمَا فِي بَحْرِ الْعَجَمِ حَيْثُ مَصَبُّ النَّهْرَيْنِ، وَلِمَاءِ النَّهْرَيْنِ الْعَذْبِ وَاخْتِلَاطِهِ بِمَاء الْبَحْر الْملح أَثَرٌ فِي جَوْدَةِ اللُّؤْلُؤِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا كُلِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً كُلٌّ لَا كُلِّيَّةٌ لِأَنَّ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً. وَكَلِمَةُ كُلٍّ صَالِحَةٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَعَطْفُ وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.

فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ بِالْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ. وَالتَّخَالُفُ فِي بَعْضِ مُسْتَخْرَجَاتِهِمَا وَالتَّمَاثُلُ فِي بَعْضِهَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ. وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ حَلَاوَةً مَقْبُولَةً فِي الذَّوْقِ. وَالْمِلْحُ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام: الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالْمُلُوحَةِ بِذَاتِهِ لَا بِإِلْقَاءِ مِلْحٍ فِيهِ، فَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الْمِلْحُ حَتَّى يَكْتَسِبَ مُلُوحَةً فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: مَالِحٌ، وَلَا يُقَالُ: مِلْحٌ. وَمَعْنَى: سائِغٌ شَرابُهُ أَنَّ شُرْبَهُ لَا يُكَلِّفُ النَّفْسَ كَرَاهَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِسَاغَةِ وَهِيَ اسْتِطَاعَةُ ابْتِلَاعِ الْمَشْرُوبِ دُونَ غُصَّةٍ وَلَا كُرْهٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ: فَسَاغَ لِيَ الشَّرَاب وَكنت قبلا ... أَكَادُ أَغُصُّ بِالْمَاءِ الْحَمِيمِ وَالْأُجَاجُ: الشَّدِيدُ الْمُلُوحَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [59] ، وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ مَواخِرَ عَلَى عَكْسِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَأُدْمِجَ فِيهِ الامتنان بقوله: تَأْكُلُونَ.... وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وَقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فَكَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ سِيَاقِهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ فَهُوَ الْأَهَمُّ هُنَا. وَلَمَّا كَانَ طَفْوُ الْفُلْكِ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى لَا يَغْرَقَ فِيهِ أَظْهَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ قُدِّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الظَّرْفِيَّةُ فِي الْبَحْرِ. وَالْمَخْرُ فِي الْبَحْرِ آيَةُ صُنْعِ اللَّهِ أَيْضًا بِخَلْقِ وَسَائِلِ ذَلِكَ وَالْإِلْهَامِ لَهُ، إلّا أَن خطور السَّفَرِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ أَوْ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ فَأُخِّرَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْغَرَضِ لَا مِنْ مَقْصِدِهِ فَهُوَ يَسْتَتْبِعُ نِعْمَةَ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ لِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي لَوْ قُطِعَتْ بِسَيْرِ الْقَوَافِلِ لَطَالَتْ مُدَّةُ الْأَسْفَارِ. وَمِنْ هُنَا يَلْمَعُ بَارِقُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي كَوْنِ فِعْلِ لِتَبْتَغُوا غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ هُنَا وَمَعْطُوفًا نَظِيرُهُ فِي آيَةِ النَّحْلِ لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ عُلِّقَ

[سورة فاطر (35) : الآيات 13 إلى 14]

هُنَا بِ مَواخِرَ إِيقَافًا عَلَى الْغَرَضِ مِنْ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، وَفِي آيَةِ النَّحْلِ ذُكِرَ الْمَخْرُ فِي عداد الامتنان لِأَنَّهُ بِهِ تَيْسِيرَ الْأَسْفَارِ، ثُمَّ فُصِلَ بَيْنَ مَواخِرَ وَعِلَّتِهِ بِظَرْفِ فِيهِ، فَصَارَ مَا يؤمىء إِلَيْهِ الظَّرْفُ فَصْلًا بِغَرَضٍ أُدْمِجَ إِدْمَاجًا وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ بِطَفْوِ الْفُلْكِ عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ وَهُوَ الْعَوْدُ إِلَى الِامْتِنَانِ بِالْمَخْرِ لِنِعْمَةِ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ عُطِفَ الْمُغَايِرُ فِي الْغَرَضِ. [13، 14] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 13 الى 14] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي مَظَاهِرِ السَّمَاوَاتِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ فِي أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ لِيَتَذَكَّرُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، سِوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَ فِيهَا كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ فَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْرِي بِاللَّامِ وَجِيءَ فِي آيَةِ سُورَةِ لُقْمَانَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ يَجْرِي بِحَرْفِ (إِلَى) ، فَقِيلَ اللَّامُ تَكُونُ بِمَعْنَى (إِلَى) فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِهَاءِ، فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي النَّظْمِ. وَهَذَا أَبَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ وَرَدَّهُ أَغْلَظَ رَدٍّ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَعَاقُبِ الْحَرْفَيْنِ وَلَا يَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِلَّا بَلِيدُ الطَّبْعِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَعْنِي الِانْتِهَاءَ وَالِاخْتِصَاصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلَائِمٌ لِصِحَّةِ الْغَرَضِ لِأَنَّ قَوْلَكَ: يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى مَعْنَاهُ يَبْلُغُهُ، وَقَوْلَهُ: يَجْرِي لِأَجَلٍ تُرِيدُ لِإِدْرَاكِ أَجَلٍ اهـ. وَجُعِلَ اللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ وَيَجْرِي لِأَجْلِ أَجَلٍ، أَيْ لِبُلُوغِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَالِانْتِهَاءُ وَالِاخْتِصَاصُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُلَائِمٌ لِلْغَرَضِ، أَيْ فَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ مُخْتَلِفًا، يَعْنِي فَلَا يُعَدُّ الِانْتِهَاءُ مَعْنًى لِلَّامِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَرْمِي إِلَى تَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَعَانِي الْحُرُوف وَهُوَ مِمَّا نَمِيلُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُنْكِرَ كَثْرَةَ وُرُودِ اللَّامِ فِي مَقَامِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ كَثْرَةً جَعَلَتِ اسْتِعَارَةَ حَرْفِ التَّخْصِيصِ لِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَى مُسَاوِيهِ لِلْحَقِيقَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّمَخْشَرِيُّ يُرِيدُ أَنَّ الْأَجَلَ هُنَا هُوَ أَجَلُ كُلِّ إِنْسَانٍ، أَيْ عُمُرُهُ وَأَنَّ الْأَجَلَ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ هُوَ أَجَلُ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ. وَهُوَ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَّرَهُمْ

بِأَنَّ لِأَعْمَارِهِمْ نِهَايَةً تَذْكِيرًا مُرَادًا بِهِ الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [60] ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى. وَاقْتِلَاعُ الطُّغْيَانِ وَالْكِبْرِيَاءِ مِنْ نُفُوسِهِمْ. وَيُرِيدُ ذَلِكَ أَنَّ مُعْظَمَ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَامٌّ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَكَانَ إِدْمَاجُ التَّذْكِيرِ فِيهِ بِأَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ انْتِهَاءً أَنْسَبَ بِالْجَمِيعِ لِيَسْتَعِدَّ لَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيُرْغَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْبَعْثِ لِأَنَّ نِهَايَةَ هَذَا الْعَالَمِ ابْتِدَاءٌ لِعَالَمٍ آخَرَ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ اسْتِئْنَافٌ مَوْقِعُهُ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ بَعْدَ تَفْصِيلِهَا. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ وَالْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] الْآيَاتِ فَكَانَ اسْمُهُ حَرِيًّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِجْرَاءِ تِلْكَ الصِّفَاتِ إِذْ بِذِكْرِهَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ السَّامِعِينَ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ حَتَّى كَأَنَّهُ مُشَاهِدٌ لِأَبْصَارِهِمْ مَعَ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْبُعْدِ الْمُسْتَعْمَلِ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَمَعَ مَا يَقْتَضِيهِ إِيرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقٌ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَاحِبُ الِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ الَّذِي لَا يَجْهَلُونَهُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْخَلَائِقِ بَعْدَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَأَنْ خَلَقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، وَقَدَّرَ آجَالَهُمْ وَأَوْجَدَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فَهُوَ الرَّبُّ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ الَّذِي الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ أَفَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، فَانْتَهِضِ الدَّلِيلَ.

وَعُطِفَ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ الْمُلْكِ شَيْئًا وَلَوْ حَقِيرًا وَهُوَ الْمُمَثَّلُ بِالْقِطْمِيرِ. وَالْقِطْمِيرُ: الْقِشْرَةُ الَّتِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ كَالْخَيْطِ الدَّقِيقِ. فَالْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَوْ حَقِيرًا، فَكَوْنُهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْقِطْمِيرِ مَعْلُومٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ أَصْنَامَهُمْ حِجَارَةٌ جَاثِمَةٌ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا بِتَكَسُّبٍ وَلَا تَحُوزُهُ بِهِبَةٍ، فَإِذَا انْتَفَى أَنَّهَا تَمْلِكُ شَيْئًا انْتَفَى عَنْهَا وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَنُفِيَ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنْ تَدْعُوهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [فاطر: 13] . وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عَجْزِ أَصْنَامِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَلِّمُونَهَا وَيُوَجِّهُونَ إِلَيْهَا مَحَامِدَهُمْ وَمَدَائِحَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الْخَبَرِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ فَإِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَيْسَتِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، أَيْ وَلَوْ سَمِعُوا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَمُجَارَاةِ مَزَاعِمِكُمْ حِينَ تَدَّعُونَهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِكُمْ، أَيْ لَا تُرَدُّ عَلَيْكُمْ بِقَبُولٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ سَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ، فَطَالَمَا دَعَوُا الْأَصْنَامَ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهَا جَوَابًا وَطَالَمَا دَعَوْهَا فَلَمْ يَحْصُلْ مَا دَعَوْهَا لِتَحْصِيلِهِ مَعَ أَنَّهَا حَاضِرَةٌ بِمَرْأًى مِنْهُمْ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ، فَعَدَمُ إِجَابَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْعَظِيمِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي مَرْضَاتِهِ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ إِمَّا عَجْزُهَا وَإِمَّا أَنَّهَا لَا تَفْقَهُ إِذْ لَيْسَ فِي أَوْلِيَائِهَا مَغْمَزٌ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُرْضَيْنَ لِهَذَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُوَطَّأِ بِمُقَدِّمَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: مَا اسْتَجابُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِجَابَةِ الْمُنَادِي بِكَلِمَاتِ الْجَوَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِجَابَةِ السَّائِلِ بِتَنْوِيلِهِ مَا سَأَلَهُ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَلَمَّا كُشِفَ حَالُ الْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا بِمَا فِيهِ تَأْيِيسٌ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا فِيهَا كَمُلَ كَشْفُ أَمْرِهَا فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ يُنْطِقُهَا اللَّهُ فَتَتَبَرَّأُ مِنْ شِرْكِهِمْ، أَيْ تَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ تَكُونَ دَعَتْ لَهُ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ.

وَالْكُفْرُ: جُحْدٌ فِي كَرَاهَةٍ. وَالشِّرْكُ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ بِشِرْكِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ مَوْصُولُ الْعَاقِلِ وَضَمَائِرُ الْعُقَلَاءِ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ [فاطر: 13] إِلَى قَوْلِهِ: يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ عَلَى تَنْزِيلِ الْأَصْنَامِ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ مُجَارَاةً لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ تَذْيِيلٌ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا هُوَ الْخَبِيرُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا وَلَا يُخْبِرُكَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا يُخْبِرُكَ هُوَ. وَعَبَّرَ بِفِعْلِ الْإِنْبَاءِ لِأَنَّ النَّبَأَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ حَدَثٍ خَطِيرٍ مُهِمٍّ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: يُنَبِّئُكَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أُرْسِلَتْ مُرْسَلَ الْأَمْثَالِ فَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ مَضْمُونِهَا بِمُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ. وخَبِيرٍ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَبُرَ، بِضَمِّ الْبَاءِ، فُلَانٌ الْأَمْرَ، إِذَا عَلِمَهُ عِلْمًا لَا شَكَّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِ خَبِيرٍ جِنْسُ الْخَبِيرِ، فَلَمَّا أَرْسَلَ هَذَا الْقَوْلَ مَثَلًا وَكَانَ شَأْنُ الْأَمْثَالِ أَنْ تَكُونَ مُوجَزَةً صِيغَ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ فَحُذِفَ مِنْهُ متعلّق فعل (ينبّىء) ومتعلّق وَصْفِ خَبِيرٍ، وَلَمْ يُذْكَرْ وَجْهُ الْمُمَاثَلَةِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَجُعِلَ خَبِيرٍ نَكِرَةً مَعَ أَن المُرَاد بِهِ خَبِيرٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ فَكَانَ حَقُّهُ التَّعْرِيفَ، فَعُدِلَ إِلَى تَنْكِيرِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ إِضَافَةَ كَلِمَةِ مِثْلُ إِلَى خَبِير لَا تفيده تَعْرِيفًا. وَجُعِلَ نَفْيُ فِعْلِ الْإِنْبَاءِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُنْبِئِ. وَلَعَلَّ التَّرْكِيبَ: وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ يُمَاثِلُ هَذَا الْخَبِيرَ الَّذِي أَنْبَأَكَ بِهِ، فَإِذَا أَرْدَفَ مُخْبِرٌ خَبَرَهُ بِهَذَا الْمَثَلِ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِالْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ يُرِيدُ بِ خَبِيرٍ نَفْسَهُ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ وَبَيْنَ تَمَثُّلِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. فَالْمَعْنَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ مِثْلِي لِأَنِّي خَبِرْتُهُ، فَهَذَا تَأْوِيلُ هَذَا التَّرْكِيب وَقد أغفل المفسّرون بَيَان هَذَا التَّرْكِيبِ. وَالْمِثْلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ: الْمُسَاوِي إِمَّا فِي قَدْرٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى ضَعْفٍ، وَإِمَّا الْمُسَاوِي فِي صِفَةٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى شَبِيهٍ وَهُوَ بِوَزْن فعل بِمَعْنى فَاعل وَهُوَ قَلِيلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: شِبْهٌ، وندّ، وخدن.

[سورة فاطر (35) : آية 15]

[سُورَة فاطر (35) : آيَة 15] يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) لَمَّا أُشْبِعَ الْمَقَامُ أَدِلَّةً، وَمَوَاعِظَ، وَتَذْكِيرَاتٍ، مِمَّا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الِانْتِفَاعِ وَالِاقْتِنَاعِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ مَا يُتَوَسَّمُ مِنْهُ نَزْعُهُمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَرُبَّمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْعِزَّةِ مِنْهُمْ إِعْجَابًا بِأَنْفُسِهِمْ وَاغْتِرَارًا بِأَنَّهُمْ مَرْغُوبٌ فِي انْضِمَامِهِمْ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ الْغَرُورُ قَبُولًا لِتَسْوِيلِ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِشِرْكِهِمْ، نَاسَبَ أَنْ يُنَبِّئَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ غَنِي عَنْهُم وَأَنَّ دِينَهُ لَا يَعْتَزُّ بِأَمْثَالِهِمْ وَأَنَّهُ مُصَيِّرُهُمْ إِلَى الْفَنَاءِ وَآتٍ بِنَاسٍ يَعْتَزُّ بِهِمُ الْإِسْلَامُ. فَالْمُرَاد ب يَا أَيُّهَا النَّاسُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هُوَ غَالِبُ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ آنِفًا ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [فاطر: 13] الْآيَاتِ. وَقَبْلَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ لِلذِّلَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِمْ مِنَ الشُّعُورِ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يوقنون بِأَنَّهُم فُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بالمقصد الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ، فَأُرِيدَ إِبْلَاغُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ قَرْعِ أَسْمَاعِهِمْ بِمَا لَمْ تكن تقرع بِهِ مِنْ قَبْلُ عَسَى أَنْ يَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَيَتَكَعْكَعُوا عَنْ غُرُورِ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْلُو جَمْعُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عُقُولٍ صَالِحَةٍ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقَائِقِ الْحَقِّ فَأُولَئِكَ إِذَا قُرِعَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِمَا لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ قَبْلُ ازْدَادُوا يَقِينًا بِمُشَاهَدَةِ مَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ بَصَائِرِهِمْ بِأَسْتَارِ الِاشْتِغَالِ بِفِتْنَةِ ضَلَالِهِمْ عَسَى أَنْ يُؤْمِنَ مَنْ هَيَّأَهُ اللَّهُ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ، فَمَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ كَانَ بَقَاؤُهُ مَشُوبًا بِحِيرَةٍ وَمَرَّ طَعْمُ الْحَيَاةِ عِنْدَهُ، فَأَيْنَ مَا كَانَتْ تَتَلَقَّاهُ مَسَامِعُهُمْ مِنْ قَبْلِ تَمْجِيدِهِمْ وَتَمْجِيدِ آبَائِهِمْ وَتَمْجِيدِ آلِهَتِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَاتَبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مُرَاجَعَتِهِمْ عَدُّوا عَلَيْهِ شَتْمَ آبَائِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ. وَجُمْلَةُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ تُفِيدُ الْقَصْرَ لِتَعْرِيفِ جُزْأَيْهَا، أَيْ قَصْرَ صِفَةِ الْفَقْرِ عَلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنْتُمُ الْمُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمُفْتَقِرٍ إِلَيْكُمْ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] الْمُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَغِيظُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَدَمِ قَبُولِ دَعْوَتِهِ. فَالْوَجْهُ حَمْلُ الْقَصْرِ

[سورة فاطر (35) : الآيات 16 إلى 17]

الْمُسْتَفَادِ مِنْ جُمْلَةِ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ على الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، وَأَمَّا حَمْلُ الْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ ثُمَّ تَكَلُّفُ أَنَّهُ ادِّعَائِيٌّ فَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. وَإِتْبَاعُ صِفَةِ الْغَنِيُّ بِ الْحَمِيدُ تَكْمِيلٌ، فَهُوَ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَنِيًّا عَنِ اسْتِجَابَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي أَنْ لَا يَعْبُدُوهُ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَمْدِ لِمَنْ عَبَدَهُ وَاسْتَجَابَ لِدَعْوَتِهِ كَمَا أَتْبَعَ الْآيَةَ الْأُخْرَى إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ كَمَا وَقَعَ الْغَنِيُّ فِي مُقَابلَة قَوْله: الْفُقَراءُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ فَقْرَهُمْ بِالْكَوْنِ إِلَى اللَّهِ قَيَّدَ غِنَى اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ الْحَمِيدُ لِإِفَادَةِ أَنَّ غِنَاهُ تَعَالَى مُقْتَرِنٌ بِجُودِهِ فَهُوَ يَحْمِدُ مَنْ يتَوَجَّه إِلَيْهِ. [16، 17] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 16 إِلَى 17] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] مِنْ مَعْنَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ مَعْنَى رِضَاهُ عَلَى مَنْ يَعْبُدُهُ فَهُوَ تَعَالَى لِغِنَاهُ عَنْهُمْ وَغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ لَوْ شَاءَ لَأَبَادَهُمْ وَأَتَى بِخَلْقٍ آخَرِينَ يَعْبُدُونَهُ فَخَلُصَ الْعَالَمُ مِنْ عُصَاةِ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ فِي قُدْرَتِهِ وَلَكِنَّهُ أَمْهَلَهُمْ إِعْمَالًا لِصِفَةِ الْحِلْمِ. فَالْمَشِيئَةُ هُنَا الْمَشِيئَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُمْ وَلَكِنَّهُ أَمْهَلَهُمْ، لَا أَصْلُ الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا فِي فِعْلِهِ لَا مُكْرِهَ لَهُ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِهَا. وَالْإِذْهَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهْلَاكِ، أَيِ الْإِعْدَامِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ مَوْتًا يَعُمُّهُمْ فَكَأَنَّهُ أَذَهْبَهُمْ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَنَّهُ يَأْتِي بهم إِلَى الدَّار الْآخِرَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِحْدَاثِ نَاسٍ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ وَلَا مُتَرَقَّبًا وَجُودُهُمْ، أَيْ يُوجِدُ خَلْقًا مِنَ النَّاسِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. فَالْخَلْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: 11] .

[سورة فاطر (35) : آية 18]

وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: 38] . وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ يَشَأْ يُعَجِّلْ بِمَوْتِهِمْ فَيَأْتِي جِيلُ أَبْنَائِهِمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يَنْبُو عَنْهُ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ شَاءَ لَكَانَ هَيِّنًا عَلَيْهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بعزيز. والعزيز: الْمُمْتَنع الْغَالِبُ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الْإِرْهَابِ وَالتَّهْدِيدِ لِيَكُونُوا مُتَوَقِّعِينَ حُلُولَ هَذَا بِهِمْ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ اسْتِغْنَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ يُذْهِبْكُمْ أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ لِمَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَما ذلِكَ عَائِدَةٌ إِلَى الْإِذْهَابِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِ يُذْهِبْكُمْ أَوْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. [18] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 18] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى. لَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَسُوقًا فِي غَرَضِ التَّهْدِيدِ وَكَانَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ أُرِيدَتْ طَمْأَنَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَوَاقِبِ التَّهْدِيدِ، فَعُقِّبَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ وِزْرًا لَا يَنَالُهُ جَزَاءُ الْوَازِرِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مَرْيَم: 72] . وَقَدْ يَكُونُ وَعْدًا بِالْإِنْجَاءِ مِنْ عَذَاب الدُّنْيَا إِذا نَزَلَ بِالْمُهَدَّدِينَ الْإِذْهَابُ وَالْإِهْلَاكُ مِثْلَمَا أُهْلِكَ فَرِيقُ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُنْجِيَ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ هَذَا وَعْدًا خَاصًّا لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25] وَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا

عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يُوسُف: 110] . وَلِهَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: 33] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُوَ تَأْمِينٌ مِنْ تَعْمِيمِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ جَمِيعًا وَلَا يُعَذِّبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَعم وَأحسن. وأيّاما كَانَ فَإِنَّ قَضِيَّةَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [13] ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ وِزْرَ آخَرَ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ لِلْحَامِلِ عَلَى اقْتِرَافِ الْوِزْرِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَمَوْرِدُهَا فِي زُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَوَّهُوا الضَّلَالَةَ وَثَبَتُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَوَّلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَرْوِحُونَ مِنْهُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَحْرَى. وَأَصْلُ الْوِزْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ: هُوَ الْوِقْرُ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ. وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَا يُحْمَلُ، وَيُقَالُ: وَزِرَ إِذَا حَمَلَ. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى، أَيْ لَا يُحَمِّلُ اللَّهُ نَفْسًا حِمْلًا جَعَلَهُ لِنَفْسٍ أُخْرَى عَدْلًا مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَدْلَ وَقَدْ نَفَى عَنْ شَأْنِهِ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ. وَجَرَى وَصْفُ الْوَازِرَةِ عَلَى التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ النَّفْسُ. وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ بِتَأْوِيلِ النَّفْسِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ الْإِضْمَارُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْسِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ لِلْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاكْتِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [164] ، وَقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [38] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الْعَادِلَ مُطَّرِدٌ مُسْتَمِرٌّ حَتَّى لَوِ اسْتَغَاثَتْ نفس مثقلة بالأوزار مَنْ يُنْتَدَبُ لَحَمْلِ أَوْزَارِهَا أَوْ بَعْضِهَا لَمْ تَجِدْ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا، لِئَلَّا يَقِيسَ النَّاسُ الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ،

فَإِنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفُوا النَّجْدَةَ إِذَا اسْتُنْجِدُوا وَلَوْ كَانَ لِأَمْرٍ يَضُرُّ بِالْمُنْجِدِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «لَوْ دُعِيَ الْكَرِيمُ إِلَى حَتْفِهِ لَأَجَابَ» ، وَقَالَ وَدَّاكُ بن ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ: إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ ... لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأِيِّ مَكَانِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَلَبُ الْحِمْلِ هُنَا دُعَاءً لِأَنَّ فِي الدُّعَاءِ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَدْعُ لِقَصْدِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَيَّ مَدْعُوٍّ. وَقَوْلُهُ: إِلى حِمْلِها مُتَعَلِّقٌ بِ تَدْعُ، وَجُعِلَ الدُّعَاءُ إِلَى الْحِمْلِ لِأَنَّ الْحِمْلَ سَبَبُ الدُّعَاءِ وَعِلَّتُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَحَدًا إِلَيْهَا لِأَجْلِ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهَا حِمْلَهَا، فَحُذِفَ أَحَدُ مُتَعَلِّقَيِ الْفِعْلِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَوِ اسْتُصْرِخَتْ نَفْسٌ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا مِنْ أَوْزَارِهَا، كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ أَوْ غَيْرِهِمْ، لَا تَجِدُ مَنْ يُجِيبُهَا لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُثْقَلَةٌ. ولَوْ وَصْلِيَّةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى مَفْعُولِ تَدْعُ الْمَحْذُوفِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَحَدًا إِلَى حِمْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَا. فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ ذَا قُرْبَى، فَإِنَّ الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَصِيرُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ عُمُومًا بَدَلِيًّا. وَوَجْهُ مَا اقْتَضَتْهُ الْمُبَالَغَةُ مِنْ لَوْ الْوَصْلِيَّةِ أَنَّ ذَا الْقُرْبَى أَرَقُّ وَأَشْفَقُ عَلَى قَرِيبِهِ، فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُغْنِي عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُقَاسِمَهُ الثِّقَلَ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْعَذَابِ فَيَخِفُّ عَنْهُ الْعَذَابُ بِالِاقْتِسَامِ.

وَالْإِطْلَاقُ فِي الْقُرْبَى يَشْمَلُ قَرِيبَ الْقَرَابَةِ كَالْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: 34، 35] . وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاعْتِقَادِ الْغَنَاءِ الذَّاتِيِّ بِالتَّضَامُنِ وَالتَّحَامُلِ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقِيسُونَ أُمُورَ الْآخِرَة على أُمُور الدُّنْيَا فَيُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِذَا هُدِّدُوا بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ شُفَعَاءَ وَأَنْصَارًا، فَهَذَا سِيَاقُ تَوْجِيهِ هَذَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ هُوَ بِعُمُومِهِ يَنْسَحِبُ حُكْمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إِثْمَهُ. وَهَذَا لَا يُنَافِي الشَّفَاعَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْحَدِيثِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لكرامة نبيئه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُنَافِي مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ من مكفّرات للذنوب كَمَا وَرَدَ أَنَّ أَفْرَاطَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْفَعُونَ لِأُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ شَفَاعَةٌ جَعْلِيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ كَرَامَةً لِلْأُمَّهَاتِ الْمُصَابَةِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. اسْتِئْنَاف بياني لِأَن الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُرُ فِي نَفْسِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ عَدَمِ تَأَثُّرِ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ بِإِنْذَارِهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ إِنْذَارَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ تَهَيَّأُوا لِلْإِيمَانِ. وَإِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْعِظَةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَخْوِيفُهُمْ، وَإِبْلَاغُ الْحَقِيقَةِ إِلَيْهِمْ لِاقْتِلَاعِ مَزَاعِمِهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِيَشْعُرَ بِأَنَّ تِلْكَ المواعظ لم تَجِد فيهم وَأَنَّهَا إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ أَيْضًا يُؤَكِّدُ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ التَّعْرِيضِ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ. وَأُطْلِقَ الْإِنْذَارُ هُنَا عَلَى حُصُولِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الِانْكِفَافُ أَوِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِنْذَارِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ صَادِقَةٌ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ قَرِينَةُ تَكَرُّرِ الْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْذَرَ الْمُشْرِكِينَ طُولَ مُدَّةِ دَعْوَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ بِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ تَعَلُّقٌ عَلَى مَعْنَى حُصُولِ أَثَرِ الْفِعْلِ.

فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ أَنَّهُ قَصْرُ قَلْبٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنْ لَا يَظُنَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتِفَاعَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِنِذَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ صَالِحَةً لِمَعْنَى الْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ لَكِنَّ اعْتِبَارَ الْمَقَامِ يُعَيِّنُ اعْتِبَارَ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس [11] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَقَوْلُهُ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فِي سُورَةِ ق [45] ، مَعَ أَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ. وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْكَ، أَيِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي خَلْوَاتِهِمْ وَعِنْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنِ الْعِيَانِ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا حَقًّا غَيْرَ مُرَائِينَ أَحَدًا. وأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي صَلَاةٍ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ الْمَعْنَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَدَلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِمْ بِأَشْهَرِ أَلْقَابِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ إِلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِصِلَتَيْنِ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِطْنَابِ، تَذَرُّعًا بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ تَذْيِيلٌ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ. وَذِكْرُ التَّذْيِيلِ عَقِبَ الْمُذَيَّلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْمُذَيَّلُ دَاخِلٌ فِي التذييل بادىء ذِي بَدْءٍ مِثْلَ دُخُولِ سَبَبِ الْعَامِّ فِي عُمُومِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ دُونَ أَنْ يُخَصَّ الْعَامُّ بِهِ، فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ خَشَوْا رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ هُمْ مِمَّنْ تَزَكَّى فَانْتَفَعُوا بِتَزْكِيَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالنِّذَارَةِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فَأُولَئِكَ تَزَكَّوْا بِهَا وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أَنَّ قَبُولَهُمُ النِّذَارَةَ كَانَ لِفَائِدَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَعْبَأُوا بِنِذَارَتِهِ تَرَكُوا تَزْكِيَةَ أَنْفُسِهِمْ بِهَا فَكَانَ تَرْكُهُمْ ضُرًّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تَكْمِيلٌ لِلتَّذْيِيلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ

[سورة فاطر (35) : الآيات 19 إلى 23]

لِلْجِنْسِ، أَيِ الْمَصِيرُ كُلُّهُ إِلَى اللَّهِ سَوَاءً فِيهِ مَصِيرُ الْمُتَزَكِّي وَمَصِيرُ غَيْرِ الْمُتَزَكِّي، أَيْ وَكُلٌّ يُجَازَى بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَصِيرٌ إِلَى مَنِ اقْتَضَى اسْمُهُ الْجَلِيلُ الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةَ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَإِفَاضَةِ الْفَضْلِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. [19- 23] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 19 الى 23] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) أَرْبَعَةُ أَمْثَالٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَلِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، شُبِّهَ الْكَافِرُ بِالْأَعْمَى، وَالْكُفْرُ بِالظُّلُمَاتِ، وَالْحَرُورُ وَالْكَافِرُ بِالْمَيِّتِ، وَشُبِّهَ الْمُؤْمِنُ بِالْبَصِيرِ وَشُبِّهَ الْإِيمَان بِالنورِ والظل، وَشُبِّهَ الْمُؤْمِنُ بِالْحَيِّ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ قِلَّةَ نَفْعِ النِّذَارَةِ لِلْكَافِرِينَ وَأَنَّهَا لَا يَنْتَفِعُ بِهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ ضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ أَمْثَالًا كَاشِفَةً عَنِ اخْتِلَافِ حَالَيْهِمَا، وَرُوعِيَ فِي هَذِهِ الْأَشْبَاهِ تَوْزِيعُهَا عَلَى صِفَةِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، وَعَلَى حَالَةِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَعَلَى أَثَرِ الْإِيمَانِ وَأَثَرِ الْكُفْرِ. وَقُدِّمَ تَشْبِيهُ حَالِ الْكَافِرِ وَكُفْرِهِ عَلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ هُوَ تَفْظِيعُ حَالِ الْكَافِرِ ثُمَّ الِانْتِقَالُ إِلَى حُسْنِ حَالِ ضِدِّهِ لِأَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ جَاءَ لِإِيضَاحِ مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرُ قَلْبٍ، فَالْكَافِرُ شَبِيهٌ بِالْأَعْمَى فِي اخْتِلَاطِ أَمْرِهِ بَيْنَ عَقْلٍ وَجَهَالَةٍ، كَاخْتِلَاطِ أَمْرِ الْأَعْمَى بَيْنَ إِدْرَاكٍ وَعَدَمِهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ يُدْرِكُ بِهِ الْأُمُورَ فَإِنَّ عَقْلَهُ تَمَحَّضَ لِإِدْرَاكِ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَانَ كَالْعَدَمِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: 7] ، فَحَالُهُ الْمُقَسَّمُ بَيْنَ انْتِفَاعٍ بِالْعَقْلِ وَعَدَمِهِ يُشْبِهُ حَالَ الْأَعْمَى فِي إِدْرَاكِهِ أَشْيَاءَ وَعَدَمِ إِدْرَاكِهِ. وَالْعَمَى يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الضَّلَالِ، قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:

أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ ثُمَّ شَبَّهَ الْكُفْرَ بِالظُّلُمَاتِ فِي أَنَّهُ يَجْعَلُ الَّذِي أَحَاطَ هُوَ بِهِ غَيْرَ مُتَبَيِّنٍ لِلْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الظُّلْمَةِ إِخْفَاءَ الْأَشْيَاءِ، وَالْكَافِرُ خَفِيَتْ عَنهُ الْحَقَائِق الاعتقادية، وَكُلَّمَا بَيَّنَهَا لَهُ الْقُرْآنُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى أَجْلَى، كَمَا لَوْ وَصَفْتَ الطَّرِيقَ لِلسَّائِرِ فِي الظلام. وجي فِي الظُّلُماتُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَ الظُّلْمَةَ إِلَّا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي الْأَنْعَامِ [1] . وَضُرِبَ الظِّلُّ مَثَلًا لِأَثَرِ الْإِيمَانِ، وَضِدُّهُ وَهُوَ الْحَرُورُ مَثَلًا لِأَثَرِ الْكُفْرِ فَالظِّلُّ مَكَانُ نَعِيمٍ فِي عُرْفِ السَّامِعِينَ الْأَوَّلِينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ الَّتِي تَتَطَلَّبُ الظِّلَّ لِلنَّعِيمِ غَالِبًا إِلَّا فِي بَعْضِ فَصْلِ الشِّتَاءِ، وَقُوبِلَ بِالْحَرُورِ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ وَمُعَذِّبٌ فِي عُرْفِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ، وَفِي مُقَابَلَتِهِ بِالْحَرُورِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُهُ بِالظِّلِّ فِي حَالَةِ اسْتِطَابَتِهِ. والْحَرُورُ حَرُّ الشَّمْسِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الرِّيحِ الْحَارَّةِ وَهِيَ السَّمُومُ، أَوِ الْحَرُورُ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَهُبُّ بِلَيْلٍ وَالسَّمُومُ تَهُبُّ بِالنَّهَارِ. وَقُدِّمَ فِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ مَا هُوَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَكْسِ الْفِقْرَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَجْلِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ بِكَلِمَةِ الْحَرُورُ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ فَصَاحَتِهِ، فَلَهَا حَظٌّ مِنَ الْإِعْجَازِ. فَحَالُ الْمُؤْمِنِ يُشْبِهُ حَالَ الظِّلَّ تَطْمَئِنُّ فِيهِ الْمَشَاعِرُ، وَتَصْدُرُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَنْ تَبَصُّرٍ وَتَرَيُّثٍ وَإِتْقَانٍ. وَحَالُ الْكَافِرِ يُشْبِهُ الْحَرُورَ تَضْطَرِبُ فِيهِ النُّفُوسُ وَلَا تتمكن مَعَه الْعُقُول مِنَ التَّأَمُّلِ وَالتَّبَصُّرِ وَتَصْدُرُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْمَسَاعِي مُعَجَّلَةً مُتَفَكِّكَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكِيبَ الْآيَةِ عَجِيبٌ فَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى وَاوَاتِ عَطْفٍ وَأَدَوَاتِ نَفْيٍ فَكُلٌّ مِنَ الْوَاوَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الظُّلُماتُ الَخْ، وَقَوْلِهِ: الظِّلُّ الَخْ عَاطِفٌ جُمْلَةً عَلَى جملَة وعاطف تشبيهات ثَلَاثَةً بَلْ تَشْبِيهٌ مِنْهَا يَجْمَعُ الْفَرِيقَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَلَا يَسْتَوِي الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمُقَدَّرِ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.

وَأَمَّا الْوَاوَاتُ الثَّلَاثَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَصِيرُ وَلَا النُّورُ وَلَا الْحَرُورُ فَكُلُّ وَاوٍ عَاطِفٌ مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ، فَهِيَ سِتَّةُ تَشْبِيهَاتٍ مُوَزَّعَةٌ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ فَ الْبَصِيرُ عُطِفَ عَلَى الْأَعْمى، والنُّورُ عُطِفَ عَلَى الظُّلُماتُ، والْحَرُورُ عُطِفَ عَلَى الظِّلُّ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ. وَأَمَّا أَدَوَاتُ النَّفْيِ فَاثْنَانِ مِنْهَا مُؤَكَّدَانِ لِلتَّغَلُّبِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ الْمَحْذُوفِ فِعْلَاهُمَا وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا الظِّلُّ، وَاثْنَانِ مُؤَكَّدَانِ لِتَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْمُفْرَدَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى مُفْرَدَيْنِ فِي سِيَاقِ نَفْيِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا عُطِفَا عَلَيْهِمَا وَهُمَا وَاوُ وَلَا النُّورُ، وَوَاوُ وَلَا الْحَرُورُ، وَالتَّوْكِيدُ بَعْضُهُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ حَرْفُ لَا وَبَعْضُهُ بِالْمُرَادِفِ وَهُوَ حَرْفُ مَا وَلَمْ يُؤْتَ بِأَدَاةِ نَفْيٍ فِي نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الَّذِي ابْتُدِئَ بِهِ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ الْمُؤَكَّدِ مِنْ بَعْدُ فَهُوَ كُلُّهُ تَأْيِيسٌ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ قُرْآنِيٌّ بَدِيعٌ فِي عَطْفِ الْمَنْفِيَّاتِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [34] . وَجُمْلَةُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أُظْهِرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلُ الَّذِي قُدِّرَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَهُوَ فِعْلُ يَسْتَوِي لِأَنَّ التَّمْثِيلَ هُنَا عَادَ إِلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ إِذْ شَبَّهَ حَالَ الْمُسْلِمِ بِحَالِ الْأَحْيَاءِ وَحَالَ الْكَافِرِينَ بِحَالِ الْأَمْوَاتِ، فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي تَشْبِيهِ الْحَالَيْنِ مِنْ تَشْبِيهِ الْمُؤْمِنِ بِالْبَصِيرِ وَالْكَافِرِ بِالْأَعْمَى إِلَى تَشْبِيهِ الْمُؤْمِنِ بِالْحَيِّ وَالْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ، وَنَظِيرُهُ فِي إِعَادَةِ فِعْلِ الِاسْتِوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [16] : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ. فَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ هِيَ مَبْعَثُ الْمَدَارِكِ وَالْمَسَاعِي كُلِّهَا وَكَانَ الْمَوْتُ قَاطِعًا لِلْمَدَارِكِ وَالْمَسَاعِي شُبِّهَ الْإِيمَانُ بِالْحَيَاةِ فِي انْبِعَاثِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهُ وَفِي تَلَقِّي ذَلِكَ وَفَهْمِهِ، وَشُبِّهَ الْكُفْرُ بِالْمَوْتِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَعْمَالِ وَالْمُدْرَكَاتِ النَّافِعَةِ كُلِّهَا وَفِي عَدَمِ تَلَقِّي مَا يُلْقَى إِلَى صَاحِبِهِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُ شَبِيهًا بِالْحَيِّ مُشَابَهَةً كَامِلَةً لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ نُفِخَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَكَانَ الْكَافِرُ شَبِيهًا بِالْمَيِّتِ مَا دَامَ عَلَى كُفْرِهِ. وَاكْتُفِيَ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي مَوْضِعَيْنِ عَنْ

تَشْبِيهِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَبِالْعَكْسِ لِتَلَازُمِهِمَا، وَأُوتِيَ تَشْبِيهُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِكَوْنِ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ أَوْضَحَ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَوْضَحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ [22] إِلَّا نَذِيرٌ [23] . لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ حِرْمَانٍ نَشَأَ عَنِ الْكُفْرِ هُوَ حِرْمَانُ الِانْتِفَاعِ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَصْدَقِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ كَانَ حَالُ الْكَافِرِ الشَّبِيهِ بِالْمَوْتِ أَوْضَحَ شَبَهًا بِهِ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِالْقُرْآنِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ سَمَاعِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] ، وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَكْسِ ذَلِكَ إِذْ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ وَدَرَسُوهُ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: 18] ، وَأُعْقِبَ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ بِحَالِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْذِرَةً لَهُ فِي التَّبْلِيغِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَفِي عَدَمِ قَبُولِ تَبْلِيغِهِ لَدَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَسْلِيَةً لَهُ عَنْ ضَيَاعِ وَابِلِ نُصْحِهِ فِي سِبَاخِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ قَبُولَ الَّذِينَ قَبِلُوا الْهُدَى وَاسْتَمَعُوا إِلَيْهِ كَانَ بِتَهْيِئَةِ اللَّهِ تَعَالَى نُفُوسَهُمْ لِقَبُولِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّ عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُعْرِضِينَ بِذَلِكَ هُوَ بِسَبَبِ مَوْتِ قُلُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمُ الْأَمْوَاتُ فِي الْقُبُورِ وَأَنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ عَلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ مُقَابَلَةَ اللَّفِّ بِالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] ، لِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ يَنْحَلُّ إِلَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ فَكَانَ مُفِيدًا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا انْتَفَعَ بِالْإِنْذَارِ، وَفَرِيقًا لَمْ يَنْتَفِعْ، فَعُلِّلَ ذَلِكَ بِ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُسْمِعَهُمْ إِنْذَارَكَ. وَاسْتُعِيرَ مَنْ فِي الْقُبُورِ لِلَّذِينِ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِمُ النُّذُرُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَمْوَاتِ بِ مَنْ فِي الْقُبُورِ لِأَنَّ مَنْ فِي الْقُبُورِ أَعْرَقُ فِي الِابْتِعَادِ عَنْ بُلُوغِ الْأَصْوَاتِ لِأَنَّ

[سورة فاطر (35) : آية 24]

بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُنَادِي حَاجِزُ الْأَرْضِ. فَهَذَا إِطْنَابٌ أَفَادَ مَعْنًى لَا يُفِيدُهُ الْإِيجَازُ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ الْمَوْتَى. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ أُورِدَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اسْمًا لَهُ أَفْرَادٌ بِخِلَافِ النُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَأَمَّا جَمْعُ الظُّلُماتُ فَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَهُ آنِفًا. وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أَفَادَتْ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُعَالَجَةِ تَسْمِيعِهِمُ الْحَقَّ، أَيْ أَنْتَ نَذِيرٌ لِلْمُشَابِهِينَ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَلَسْتَ بمدخل الْإِيمَان فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْمَعْذِرَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ إِذْ كَانَ مُهْتَمًّا مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَالنَّذِيرُ: الْمُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ أَوْ مُؤْلِمٍ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَصْفِهِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُصَمِّمِينَ على الْكفْر. [24] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 24] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْوِيهٌ بِهِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَصْرُهُ عَلَى النِّذَارَةِ قَصْرًا حَقِيقًا لِتَبَيُّنِ أَنَّ قَصْرَهُ عَلَى النِّذَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَابَهَ حَالُهُمْ حَالَ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، أَيْ إِنَّ رِسَالَتَكَ تَجْمَعُ بِشَارَةً وَنِذَارَةً فَالْبِشَارَةُ لِمَنْ قَبِلَ الْهُدَى، وَالنِّذَارَةُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْقَبُولِ، فَهِيَ رِسَالَةٌ مُلَابِسَةٌ لِلْحَقِّ وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي أَرْسَلْناكَ أَيْ مُحِقِّينَ غَيْرَ لَاعِبِينَ، أَوْ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ، أَيْ مُحِقًّا أَنْتَ غَيْرَ كَاذِبٍ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالًا مُلَابَسًا بِالْحَقِّ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ إِبْطَالٌ لِاسْتِبْعَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا صَدَّهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ

بِهِ، فَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ دَلَائِلُ الرِّسَالَةِ بِإِبْطَالِ الشُّبْهَةِ الْحَاجِبَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9] . وَأَيْضًا فِي ذَلِكَ تَسْفِيهٌ لِأَحْلَامِهِمْ إِذْ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي شَرُفَتْ بِالرِّسَالَةِ. وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ النَّذِيرِ هُنَا دُونَ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْبَشِيرِ هُوَ مُرَاعَاةُ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهَا بِشَارَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهَا أَحَدٌ، فَفِي الْحَدِيثِ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيءُ يَمُرُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيءُ يَمُرُّ مَعَهُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، وَالنَّبِيءُ يَمُرُّ وَحْدَهُ» الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ مَرُّوا وَحْدَهُمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذِكْرِ وَصْفِ الْبِشَارَةِ لِلِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ قَرِينَةٍ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ وَصْفُ النَّذِيرِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَقَامِ خِطَابِ الْمُكَذِّبِينَ. وَمَعْنَى الْأُمَّةِ هُنَا: الْجَذْمُ الْعَظِيمُ مِنْ أَهْلِ نَسَبٍ يَنْتَهِي إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ جَامِعٍ لِقَبَائِلَ كَثِيرَةٍ لَهَا مَوَاطِنُ مُتَجَاوِرَةٌ مِثْلَ أُمَّةِ الْفُرْسِ وَأُمَّةِ الرُّومِ وَأُمَّةِ الصِّينِ وَأُمَّةِ الْهِنْد وَأمة اليونان وَأُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَأُمَّةِ الْعَرَبِ وَأُمَّةِ الْبَرْبَرِ فَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا نَذِيرٌ، أَيْ رَسُولٌ أَوْ نَبِيءٌ يُنْذِرُهُمْ بِالْمُهْلِكَاتِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَمِنَ الْمُنْذِرِينَ مَنْ عَلِمْنَاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْذَرُوا وَانْقَرَضُوا وَلَمْ يَبْقَ خَبَرُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: 78] . وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِنْذَارِ أَنْ لَا يَبْقَى الضَّلَالُ رَائِجًا وَأَنْ يَتَخَوَّلَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ سَوَاءً عمِلُوا بهَا أَو لم يعلمُوا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَثَرٍ صَالِحٍ فِيهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسَمِّ الْقُرْآنُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأُمَمِ السَّامِيَّةِ الْقَاطِنَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ حِينَ نُزُولِهِ ابْتَدَأَ بِخِطَابِ الْعَرَبِ وَلَهُمْ عِلْمٌ بِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ فَقَدْ عَلِمُوا أَخْبَارَهُمْ وَشَهِدُوا آثَارَهُمْ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهِمْ أَوْقَعَ، وَلَوْ ذُكِرَتْ لَهُمْ رُسُلُ أُمَمٍ لَا يَعْرِفُونَهُمْ لَكَانَ إِخْبَارُهُمْ عَنْهُمْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِدْلَال وَاعْتِبَار.

[سورة فاطر (35) : الآيات 25 إلى 26]

[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أُعَقِبَ الثَّنَاءُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْلِيَتِهِ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَتَأْنِيسِهِ بِأَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِ الْأُمَمِ جُعِلَتِ التَّسْلِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَالِ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ عَكْسَ مَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [184] : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ لِأَنَّ سِيَاقَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ كَانَ فِي رَدِّ مُحَاوَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَبْلَهَا الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمرَان: 183] . وَقَدْ خُولِفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ إِذْ قُرِنَ كُلٌّ مِنَ «الزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ» هُنَا بِالْبَاءِ، وَجُرِّدَا مِنْهَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ جَرَتْ فِي سِيَاقِ زَعْمِ الْيَهُودِ أَنْ لَا تُقْبَلَ مُعْجِزَةُ رَسُولٍ إِلَّا مُعْجِزَةَ قُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَقِيلَ فِي التَّفَرُّدِ بِبُهْتَانِهِمْ: قَدْ كُذِّبَتِ الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِأَصْنَافِ الْمُعْجِزَاتِ مِثْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِمْ قَرَابِينُ تَأْكُلُهَا النَّارُ فَكَذَّبْتُمُوهُمْ، فَتَرْكُ إِعَادَةِ الْبَاءِ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ ابْتِلَاءُ الرُّسُلِ بِتَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ فَمِنْهُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِآيَاتٍ، أَيْ خَوَارِقِ عَادَاتٍ فَقَطْ مِثْلُ صَالِحٍ وَهُودٍ وَلُوطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَتَوْا بِالزُّبُرِ وَهِيَ الْمَوَاعِظُ الَّتِي يُؤْمَرُ بِكِتَابَتِهَا وَزَبْرِهَا، أَيْ تَخْطِيطِهَا لِتَكُونَ مَحْفُوظَةً وَتُرَدَّدَ عَلَى الْأَلْسُنِ كَزَبُورِ دَاوُدَ وَكُتُبِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ أَرْمِيَاءَ وَإِيلِيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَاءُوا بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، يَعْنِي كِتَابَ الشَّرَائِعِ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَذكر الْبَاء مشير إِلَى تَوْزِيعِ أَصْنَافِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَصْنَافِ الرُّسُلِ. فَزَبُورُ إِبْرَاهِيمَ صُحُفُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 19] . وَزَبُورُ مُوسَى كَلَامُهُ فِي الْمَوَاعِظِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ مِثْلَ دُعَائِهِ الَّذِي

دَعَا بِهِ فِي قَادِشَ الْمَذْكُورِ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَوَصِيَّتِهِ فِي عَبْرِ الْأُرْدُنِ الَّتِي فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ السِّفْرِ الْمَذْكُورِ، وَمِثْلَ نَشِيدِهِ الْوَعْظِيِّ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهِ وَالتَّرَنُّمِ بِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ، وَمِثْلَ الدُّعَاءِ الَّذِي بَارَكَ بِهِ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ فِي عَرَبَاتِ مُؤَابَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ. وَزَبُورُ عِيسَى أَقْوَالُهُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْأَنَاجِيلِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى الْوَحْيِ. فَالضَّمِيرُ فِي «جَاءُوا» لِلرُّسُلِ وَهُوَ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ جَاءَ مَجْمُوعُهُمْ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَجِيءَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِهَا كَمَا يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا. وَجَوَابُ إِنْ يُكَذِّبُوكَ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] . وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَلَا تَحْزَنْ، وَلَا تَحْسَبْهُمْ مُفْلِتِينَ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَدْ كَذَّبَ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ جَاءَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ عَاقَبْنَاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَجُمْلَةُ جاءَتْهُمْ صِلَةُ الَّذِينَ، ومِنْ قَبْلِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ مُقَدَّمٍ عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَلِّقٍ بِ جاءَتْهُمْ. وثُمَّ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ أَخَذْتُ عَلَى جُمْلَةِ جاءَتْهُمْ أَيْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، وَأُظْهِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَوْضِعِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ لِأَجْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِئْصَالِ وَالْإِفْنَاءِ شُبِّهَ إِهْلَاكُهُمْ جَزَاءً عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِإِتْلَافِ الْمُغِيرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَتَبْقَى دِيَارُهُمْ بَلْقَعًا كَأَنَّهُمْ أُخِذُوا مِنْهَا. وَ (كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَهُوَ مُفَرَّعٌ بِالْفَاءِ عَلَى أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْمَعْنَى: أَخَذْتُهُمْ أَخْذًا عَجِيبًا كَيْفَ تَرَوْنَ أُعْجُوبَتَهُ.

[سورة فاطر (35) : آية 27]

وَأَصْلُ (كَيْفَ) أَنْ يُسْتَفْهَمَ بِهِ عَنِ الْحَالِ فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ أَخْذِهِمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ مَعْرُوفًا، أَيْ يَعْرِفُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ أَخْبَارُهُمْ فَعَلَى تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ الْمَشْهُورَةِ بُنِيَ التَّعْجِيبُ. وَالنَّكِيرُ: اسْمٌ لِشِدَّةِ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ يَسْتَلْزِمُ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ بِالْعِقَابِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا وَلِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ يعْتَبر فِيهَا الْوَقْت، وَتَقَدَّمَ فِي سَبَأٍ. [27] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 27] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها. اسْتِئْنَافٌ فِيهِ إِيضَاحُ مَا سَبَقَهُ مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْهُدَى وَرَفْضِهِ بِسَبَبِ مَا تَهَيَّأَتْ خِلْقَةُ النُّفُوسِ إِلَيْهِ لِيَظْهَرَ بِهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأَصْنَافِ وَالْأَنْوَاعِ نَامُوسٌ جَبَلِيٌّ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْفَعَ عَنْهُ اغْتِمَامَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ عَدَمِ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ. وَضُرِبَ اخْتِلَافُ الظَّوَاهِرِ فِي أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مَثَلًا لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، فَكَانَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّقْرِيبِ مِمَّا تَشْرَئِبُّ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ [فاطر: 22] . وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَجَاءَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [148] وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَضَمِيرُ فَأَخْرَجْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ وَهُوَ عَرَضٌ، أَيْ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِسُطُوحِ الْأَجْسَامِ يُكَيِّفُهُ النُّورُ كَيْفِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةً عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَحْصُلُ مِنْهَا عِنْدَ انْعِكَاسِهَا إِلَى عَدَسَاتِ الْأَعْيُنِ

مِنْ شِبْهِ الظُّلْمَةِ وَهُوَ لَوْنُ السَّوَادِ وَشِبْهِ الصُّبْحِ هُوَ لَوْنُ الْبَيَاضِ، فَهُمَا الْأَصْلَانِ لِلْأَلْوَانِ، وَتَنْشَقُّ مِنْهَا أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ وُضِعَتْ لَهَا أَسْمَاءٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَتَشْبِيهِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [69] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاعْتِبَارِ هُوَ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْأَصْنَافِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ التُّفَّاحِ مَعَ أَلْوَانِ السَّفَرْجَلِ، وَأَلْوَانِ الْعِنَبِ مَعَ أَلْوَانِ التِّينِ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ الْأَفْرَادِ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ تَارَاتٍ كَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ التُّمُورِ وَالزَّيْتُونِ وَالْأَعْنَابِ وَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ. وَذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ إِدْمَاجٌ فِي الْغَرَضِ لِلِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنِ اتِّحَادِ أَصْلِ نَشْأَةِ الْأَصْنَافِ وَالْأَنْوَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: 4] وَذَلِكَ أَرْعَى لِلِاعْتِبَارِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَتَيْنِ الْفِعْلِيَّتَيْنِ فِي أَنْزَلَ وَ «أَخْرَجْنَا» لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ وَإِخْرَاجَ الثَّمَرَاتِ مُتَجَدِّدٌ آنًا فَآنًا. وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ وَقَوْلِهِ: «أَخْرَجْنَا» لِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَنْسَبُ بِمَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ. وَضَمِيرُ التَّكَلُّمِ أَنْسَبُ بِمَا فِيهِ امْتِنَانٌ. وَقُدِّمَ الِاعْتِبَارُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الثَّمَرَاتِ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِهَا سَعَةً تُشْبِهُ سَعَةَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَدَارِكِ وَالْعَقَائِدِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا» . وَجُرِّدَ مُخْتَلِفاً مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعٌ وَشَأْنُ النَّعْتِ السَّبَبِيِّ أَنْ يُوَافِقَ مرفوعه فِي التَّذَكُّر وَضِدِّهِ وَالْإِفْرَادِ وَضِدِّهِ، وَلَا يُوَافِقُ فِي ذَلِكَ مَنْعُوتَهُ،

لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ جَمْعًا لِمَا لَا يَعْقِلُ وَهُوَ الْأَلْوَانُ كَانَ حَذْفُ التَّاءِ فِي مِثْلِهِ جَائِزًا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَآثَرَهُ الْقُرْآنُ إِيثَارًا لِلْإِيجَازِ. وَالْمُرَادُ بِالثَّمَرَاتِ: ثَمَرَاتُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرِهَا، فَثَمَرَاتُ النَّخِيلِ أَكْثَرُ الثَّمَرَاتِ أَلْوَانًا، فَإِنَّ أَلْوَانَهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَطْوَارِهَا، فَمِنْهَا الْأَخْضَرُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ فَهِيَ مِثْلُهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَعَطْفُهَا عَلَيْهَا لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ. وجُدَدٌ مُبْتَدَأٌ وَمِنَ الْجِبالِ خَبَرُهُ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلتَّشْوِيقِ لِذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ حَثًّا عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ. ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى: وَبَعْضُ تُرَابِ الْجِبَالِ جُدَدٌ، فَفِي الْجَبَلِ الْوَاحِدِ تُوجَدُ جُدَدٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْجُدَدِ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْجِبَالِ وَبَعْضٌ آخَرُ فِي بَعْضٍ آخَرَ. وجُدَدٌ: جَمْعُ جُدَّةٍ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ وَالْخُطَّةُ فِي الشَّيْءِ تَكُونُ وَاضِحَةً فِيهِ. يُقَالُ لِلْخُطَّةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الْحِمَارِ جُدَّةٌ، وَلِلظَّبْيِ جُدَّتَانِ مِسْكِيَّتَا اللَّوْنِ تَفْصِلَانِ بَيْنَ لَوْنَيْ ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ، وَالْجُدَدُ الْبِيضُ الَّتِي فِي الْجِبَالِ هِيَ مَا كَانَتْ صُخُورًا بَيْضَاءَ مِثْلَ الْمَرْوَةِ، أَوْ كَانَتْ تَقْرُبُ مِنَ الْبَيَاضِ فَإِنَّ مِنَ التُّرَابِ مَا يَصِيرُ فِي لون الأصهب فَيُقَالُ: تُرَابٌ أَبْيَضُ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّهُ أَبْيَضُ كَالْجِيرِ وَالْجِصِّ بَلْ يَعْنُونَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِغَالِبِ أَلْوَانِ التُّرَابِ، وَالْجُدَدُ الْحُمْرُ هِيَ ذَاتُ الْحِجَارَةِ الْحَمْرَاءِ فِي الْجِبَالِ. وغَرابِيبُ جَمْعُ غِرْبِيبٍ، وَالْغِرْبِيبُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْأَسْوَدِ الْحَالِكِ سَوَادُهُ، وَلَا تُعْرَفُ لَهُ مَادَّةٌ مُشْتَقٌّ هُوَ مِنْهَا، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَامِدِ، وَهُوَ الْغُرَابُ لِشُهْرَةِ الْغُرَابِ بِالسَّوَادِ. وسُودٌ جَمْعُ أَسْوَدَ وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ السَّوَادُ.

[سورة فاطر (35) : آية 28]

فَالْغِرْبِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَشَدَّ مِنْ مَعْنَى أَسْوَدَ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ غَرابِيبُ مُتَأَخِّرًا عَنْ سُودٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، كَمَا يَقُولُونَ: أَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَحْمَرُ قَانٍ، وَلَا يَقُولُونَ: غِرْبِيبٌ أَسَوْدُ وَإِنَّمَا خُولِفَ ذَلِكَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْوَاوِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَتَيْنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] ، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى أَن يكون غربيبا تَابِعًا لِأَسْوَدَ نَظَرًا وَالْآيَةُ تُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ، وَدَعْوَى كَوْنِ غَرابِيبُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سُودٌ تَكَلُّفٌ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَرَضُ التَّوْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. [28] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 28] وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ. مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: 27] ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعْنًى آخَرَ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ هُنَا سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ. وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ النَّاسِ مِنْهُ اخْتِلَافٌ عَامٌّ وَهُوَ أَلْوَانُ أَصْنَافِ الْبَشَرِ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَحْمَرُ حَسَبَ الِاصْطِلَاحِ الْجُغْرَافِيِّ. وَلِلْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِأَلْوَانِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ فِي سُورَةِ الرُّومِ [22] . ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخْتَلِفَ أَلْوَانُهُ بَعْضٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَجْمُوعُ الْمُخْتَلِفَاتِ كُلُّهُ هُوَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَهُوَ نَظْمٌ دَقِيقٌ دَعَا إِلَيْهِ الْإِيجَازُ. وَجِيءَ فِي جُمْلَةِ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: 27] ومِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بِالِاسْمِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ كَمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ الْجِبَالِ وَالْحَيَوَانِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيجَادِ اخْتِلَافًا دَائِمًا لَا يَتَغَيَّرُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ تَوَلُّدِ النَّسْلِ.

كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَذلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِخْبَارِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ. وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ أَمْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدِ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الِاسْتِنْتَاجِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ أَيْ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفَةِ أَلْوَانُهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، فَجُمْلَةُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ كَذلِكَ. وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ دَلَّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعُلَمَاءِ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ فِي أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مُخْتَلِفُونَ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] . وَأُوثِرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الدَّلَالَةِ تَخَلُّصًا لِلتَّنْوِيهِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِيَنْتَقِلَ إِلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: 29] الْآيَةَ ... فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، أَوْ كَذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [91] : كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وَهُوَ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَيُسْتَأْنَفُ مَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا جَعْلُ كَذلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يُنَاسِبُ نَظْمَ الْقُرْآنِ لِضَعْفِهِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا يَخْشَاهُ الْجُهَّالُ، وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَإِنَّ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ عَدَمِ الْعِلْمِ فَالْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْمُشْرِكُونَ جَاهِلُونَ نُفِيَتْ عَنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي مَرَاتِبِ الْخَشْيَةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا. وَتَقْدِيمُ مَفْعُولِ يَخْشَى عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْمَحْصُورَ فِيهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ هُمُ الْعُلَمَاءُ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَلَى سُنَّةِ تَأْخِيرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَبِالشَّرِيعَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مِقْدَارِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ تَقْوَى الْخَشْيَةُ فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِعُلُومٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ مَعْرِفَةً عَلَى

[سورة فاطر (35) : الآيات 29 إلى 30]

وَجْهِهَا فَلَيْسَتْ عُلُومُهُمْ بِمُقَرِّبَةٍ لَهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ لَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ حَقَائِقُ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ يَفْهَمُ مَوَاقِعَهَا حَقَّ الْفَهْمِ وَيَرْعَاهَا فِي مَوَاقِعِهَا وَيَعْلَمُ عَوَاقِبَهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَهُوَ يَأْتِي وَيَدَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ مُرَادُ اللَّهِ وَمَقْصِدُ شَرْعِهِ، فَإِنْ هُوَ خَالَفَ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِدَاعِي شَهْوَةٍ أَوْ هَوًى أَوْ تَعَجُّلِ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ كَانَ فِي حَالِ الْمُخَالَفَةِ مُوقِنًا أَنَّهُ مُوَرَّطٌ فِيمَا لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ، فَذَلِكَ الْإِيقَانُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُخَالَفَةِ بِالْإِقْلَاعِ أَوِ الْإِقْلَالِ. وَغَيْرُ الْعَالِمِ إِنِ اهْتَدَى بِالْعُلَمَاءِ فَسَعْيُهُ مِثْلُ سَعْيِ الْعُلَمَاءِ وَخَشْيَتُهُ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ خَشْيَةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَالْعِلْمُ دَلِيلٌ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إِلَيْهَا، وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إِلَى اللَّهِ أَوْلَاهُمْ بِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً وَفِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً» . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تَكْمِيلٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ لَهُمُ الْخَيْرَ. وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْوَصْفِ ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ مِمَّا قَدْ يُحْدِثُ يَأْسًا فِي نُفُوسِ الْمُقَارِبِينَ مِنْهُمْ، أُلِّفَتْ قُلُوبُهُمْ بِاتِّبَاعِ وَصْفِ عَزِيزٌ، بِوَصْفِ غَفُورٌ أَيْ فَهُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهُمْ إِنْ تَابُوا إِلَى مَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ فِي صِفَةِ غَفُورٌ حَظًّا عَظِيمًا لِأَحَدِ طرفِي الْقصر وهم الْعُلَمَاءُ، أَيْ غَفُور لَهُم. [29، 30] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 29 إِلَى 30] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ جُمْلَةِ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] الْآيَةَ، فَالَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ، وَقَدْ تُخُلِّصَ إِلَى بَيَانِ فَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الذّكر وخشوا الرحمان بِالْغَيْبِ فَإِنَّ حَالَهُمْ مُضَادٌّ لِحَالِ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَانُوا عِنْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِهِ كَحَالِ أَهْلِ الْقُبُورِ لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا. فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ ثَنَاءً إِجْمَالِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، وَأَجْمَلَ حُسْنَ جَزَائِهِمْ بِذِكْرِ

صفة غَفُورٌ [فاطر: 28] وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ فُصِّلَ ذَلِكَ الثَّنَاءُ وَذُكِرَتْ آثَارُهُ وَمَنَافِعُهُ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ لِأَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِذَلِكَ وَعُرِفُوا بِهِ وَهُمُ الْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] . وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَتْلُو الْكِتَابَ إِلَّا مَنْ صَدَّقَ بِهِ وَتَلَقَّاهُ بِاعْتِنَاءٍ. وَتَضَمَّنَ هَذَا أَنَّهُمْ يَكْتَسِبُونَ مِنَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالتَّكَالِيفِ، فَقَدْ أَشْعَرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بِتَجَدُّدِ تِلَاوَتِهِمْ فَإِنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُتَجَدِّدٌ فَكُلَّمَا نَزَلَ مِنْهُ مِقْدَارٌ تَلَقَّوْهُ وَتَدَارَسُوهُ. وَكِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَعَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُضَافِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي إِضَافَته إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِهِ. وَأَتْبَعَ مَا هُوَ عَلَامَةُ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ بِهِ بِعَلَامَةٍ أُخْرَى وَهِيَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، ثُمَّ أُتْبِعَتْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الْمَالِ وَهِيَ الْإِنْفَاقُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ حَيْثُمَا أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الصَّدَقَاتُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَمَا وَرَدَ الْإِنْفَاقُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ إِذْ لَمْ تَكُنِ الزَّكَاةُ قَدْ فُرِضَتْ أَيَّامَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ مَفْرُوضَةً دُونَ نُصُبٍ وَلَا تَحْدِيدٍ ثُمَّ حُدِّدَتْ بِالنُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَدْ تَقَرَّرَ وَعَمِلُوا بِهِ فَلَا تَجَدُّدَ فِيهِ، وَامْتِثَالُ الَّذِي كلفوا بِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُدَاوِمُونَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْفَاقُ شُكْرٍ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فَهُمْ يُعْطُونَ مِنْهُ أَهْلَ الْحَاجَةِ. وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلِامْتِنَانِ.

وَانْتَصَبَ سِرًّا وَعَلانِيَةً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرِ أَنْفَقُوا مَحْذُوفٍ، أَيْ إِنْفَاقَ سِرٍّ وَإِنْفَاقَ عَلَانِيَةٍ وَالْمَصْدَرُ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِلَّا مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُرَاءُونَ بِهِ، فَهُمْ يُنْفِقُونَ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ وَيُنْفِقُونَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ فَلَا يَصُدُّهُمْ مُشَاهَدَةُ النَّاسِ عَنِ الْإِنْفَاقِ. وَفِي تَقْدِيمِ السِّرِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ لِانْقِطَاعِ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ مِنْهُ، وَذِكْرُ الْعَلَانِيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَصُدُّهُمْ مَرْأَى الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِنْفَاقِ فَهُمْ قَدْ أَعْلَنُوا بِالْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ حُبَّ مَنْ حَبَّ أَوْ كُرْهَ مَنْ كَرِهَ. ويَرْجُونَ تِجارَةً هُوَ خَبَرُ إِنَّ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّبْشِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَرْجُوا تِجَارَةً، وَزَادَهُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ التَّبْشِيرِ. وَالتِّجَارَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِأَعْمَالِهِمْ مِنْ تِلَاوَةٍ وَصَلَاةٍ وَإِنْفَاقٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُشَابَهَةُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِتَرَتُّبِ الرِّبْحِ عَلَى التِّجَارَةِ. وَالْمَعْنَى: لِيَرْجُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُمْ كَتِجَارَةٍ رَابِحَةٍ. وَالْبَوَارُ: الْهَلَاكُ. وَهَلَاكُ التِّجَارَةِ: خَسَارَةُ التَّاجِرِ. فَمَعْنَى لَنْ تَبُورَ أَنَّهَا رَابِحَةٌ. ولَنْ تَبُورَ صِفَةُ تِجارَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرْجُونَ عَدَمَ بَوَارِ التِّجَارَةِ. فَالصِّفَةُ مَنَاطُ التَّبْشِيرِ وَالرَّجَاءِ لَا أَصْلُ التِّجَارَةِ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ الْعَمَلِ الْفَظِيعِ لِعَمَلِ التَّاجِرِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ. ولِيُوَفِّيَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَرْجُونَ، أَيْ بَشَّرْنَاهُمْ بِذَلِكَ وَقَدَّرْنَاهُ لَهُمْ لِنُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ. وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِلَى الْغَيْبَةِ رُجُوعًا إِلَى سِيَاقِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أَيْ لِيُوَفِّيَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَهُ. وَالتَّوْفِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ تَامًّا لَا نَقِيصَةَ فِيهِ وَلَا غَبْنَ. وَأَسْجَلَ عَلَيْهِمُ الْفَضْلَ بِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَعْمَالُهُمْ ثَوَابًا مِنْ فَضْلِهِ،

[سورة فاطر (35) : آية 31]

أَيْ كَرَمِهِ، وَهُوَ مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَة: 261] الْآيَةَ. وَذُيِّلَ هَذَا الْوَعْدُ بِمَا يُحَقِّقُهُ وَهُوَ أَنَّ الْغُفْرَانَ وَالشُّكْرَانَ مِنْ شَأْنِهِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِهِ الْغَفُورَ الشَّكُورَ، أَيِ الْكَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ وَالشَّدِيدَ الشُّكْرِ. فَالْمَغْفِرَةُ تَأْتِي عَلَى تَقْصِيرِ الْعِبَادِ الْمُطِيعِينَ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ الْحَقَّ الَّتِي هِيَ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَلِ وَالْخَوَاطِرِ لَا يَبْلُغُ حَقَّ الْوَفَاءِ بِهَا إِلَّا الْمَعْصُومُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنِ الْأُمَّةِ فِيمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، وَفِيمَا هَمَّتْ بِهِ وَلَمْ تَفْعَلْهُ، وَفِي اللَّمَمِ، وَفِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ بِالتَّوْبَةِ، وَالشُّكْرُ كِنَايَةٌ عَنْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ عَلَى أَعْمَالهم فَهُوَ شكر بِالْعَمَلِ لِأَنَّ الَّذِي يُجَازِي عَلَى عَمَلٍ الْمَجْزِيُّ بِجَزَاءٍ وَافِرٍ يَدُلُّ جَزَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ حَمِدَ لِلْفَاعِلِ فِعْلَهُ. وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِهِ، وَلِمَا فِي التَّأْكِيدِ مِنَ الْإِيذَانِ بِكَوْنِ ذَلِكَ عِلَّةً لِتَوْفِيَةِ الْأُجُورِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا. وَفِي الْآيَةِ مَا يَشْمَلُ ثَوَابَ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ يَصْدُقُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَلَوْ لَمْ يُصَاحِبْهُمُ التَّدَبُّرُ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلتِّلَاوَةِ حَظَّهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالتَّنَوُّرِ بِأَنْوَارِ كَلَامِ اللَّهِ. [31] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 31] وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. لَمَّا كَانَ الْمُبْدَأُ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ تِلَاوَتُهُمْ كِتَابَ اللَّهِ أُعْقِبَ التَّنْوِيهُ بِهِمْ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِجَلَالِ الْقُرْآنِ وَشَرَفِهِ إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ اسْتِحْقَاقِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ مَا اسْتَحَقُّوا. وَابْتُدِئَ التَّنْوِيهُ بِهِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ تَنْوِيهًا بِالْكِتَابِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، فَفِي هَذَا مَسَرَّةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِشَارَةٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَأَنَّ كِتَابَهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ.

وَهَذِهِ نُكْتَةُ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِهِ الْحَقَّ الْكَامِلَ، دُونَ الْإِضْمَارِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الْكِتَابُ الْحَقُّ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. ومِنَ بَيَانِيَّةٌ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْكِتَابُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ. فَقُدِّمَ الْمَوْصُولُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَقَعَ صِفَةً لِلْكِتَابِ تَقْدِيمًا لِلتَّشْوِيقِ بِالْإِبْهَامِ لِيَقَعَ بَعْدَهُ التَّفْصِيلُ فَيَتَمَكَّنَ مِنَ الذِّهْنِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ. فَجُمْلَةُ وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: 29] فَهِيَ مِثْلُهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِئْنَافِ. وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ مِنَ الْقَصْرِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرَ جِنْسِ الْحَقِّ عَلَى الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَقِّيَّةِ مَا عَدَاهُ من الْكتب. فَأَما الْكُتُبِ غَيْرُ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلُ (الزَّنْدِ فِسْتَا) كِتَابِ (زِرَادِشْتَ) وَمِثْلُ كُتُبِ الصَّابِئَةِ فَلِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَلِيلِ الْحَقِّ قَدْ غُمِرَ بِالْبَاطِلِ وَالْأَوْهَامِ. وَأَمَّا الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ كَالزَّبُورِ وَكِتَابِ أَرْمِيَا مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَمَا شَهِدَ الْقُرْآنُ بِحَقِّيَّتِهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا جَاءَ نَسْخُهُ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ بَيَّنَ النَّسْخُ تَحْدِيدَ صَلَاحِيَّتِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ أَيْضًا تَصْدِيقٌ لَهَا لِأَنَّهُ يَدْفَعُ مَوْهِمَ بُطْلَانِهَا عِنْدَ مَنْ يَجِدُ خِلَافَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ نُقِلَ عَلَى تَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْقَصْرُ. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ مُعْظَمَهُ وَكَشَفَ عَنْ مَوَاقِعِهِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ [الْبَقَرَة: 85] . وَمَعْنَى «مَا بَيْنَ يَدَيْهِ» مَا سَبَقَهُ لِأَنَّ السَّابِقَ يَجِيءُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَسْبُوقِ فَكَأَنَّهُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] .

[سورة فاطر (35) : آية 32]

وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَأَهَمُّهَا شَرِيعَةُ مُوسَى وَشَرِيعَةُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَانْتَصَبَ مُصَدِّقاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتابِ وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ فِعْلُ أَوْحَيْنا لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حَقًّا بَالِغًا فِي الْحَقِّيَّةِ فَهُوَ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ الْحَقَّةِ، وَمُقَرِّرٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ قَبْلَهُ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ وَمِنِ انْطِوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ عَلَى الْخَشْيَةِ وَعَدَمِهَا، وَإِقْبَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَإِعْرَاضِ بَعْضٍ، وَمِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ الْمُقْتَضِي أَيْضًا تَفْضِيلَ بَعْضِ الْمُرْسَلِينَ بِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ مَوْقِعُ إِقْنَاعِ السَّامِعِينَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ، وَيَصْطَفِي مِنْهُمْ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كُفْئًا لِاصْطِفَائِهِ، فَأَلْقَمَ بِهَذَا الَّذِينَ قَالُوا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] حَجَرًا، وَكَأُولَئِكَ أَيْضًا الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ جَاءَ مُبْطِلًا لِكِتَابِهِمْ. وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ وَالْمَحْسُوسَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ. وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبِيرُ عَلَى الْبَصِيرُ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ. وَذِكْرُ الْبَصِيرُ عَقِبَهُ لِلْعِنَايَةِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْمُبْصَرَاتِ وَهِيَ غَالِبُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِرْدَافُ الْخَبِيرِ بِالْبَصِيرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَاللَّامِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْخَبَر. [32] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 32] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ فَهِيَ هُنَا لِعَطْفِ الْجُمَلِ

عَطْفًا ذِكْرِيًّا، فَالْمُتَعَاطِفَاتُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْنَفَاتِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْمُسْتَأْنَفَةِ، وثُمَّ لِلتَّرَقِّي فِي الِاسْتِئْنَافِ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنِ التَّنْوِيهَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرُوجٌ فِي مَسَرَّتِهِ وَتَبْشِيرِهِ، فَبَعْدَ أَنْ ذُكِّرَ بِفَضِيلَةِ كِتَابِهِ وَهُوَ أَمْرٌ قَدْ تَقَرَّرَ لَدَيْهِ زِيدَ تَبْشِيرًا بِدَوَامِ كِتَابِهِ وَإِيتَائِهِ أُمَّةً هُمُ الْمُصْطَفَوْنَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَبْشِيرِهِ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِهِ وَلَا يَتْرُكُونَهُ كَمَا تَرَكَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِهِ كُتُبَهُمْ وَرُسُلَهُمْ، لِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ أَهَمُّ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُ فَوَقْعُهَا أَهَمُّ. وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ثُمَّ هُنَا عَلَى التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ فَاحْتَاجَ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي إِقَامَةِ الْمَعْنَى. وَالْمُرَادُ بِ الْكِتابَ الْكِتَابُ الْمَعْهُودُ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [فاطر: 31] أَيِ الْقُرْآنِ. وأَوْرَثْنَا جَعَلْنَا وَارِثِينَ. يُقَالُ: وَرِثَ، إِذَا صَارَ إِلَيْهِ مَالُ مَيِّتٍ قَرِيبٍ. وَيَسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكَسْبِ عَنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ وَلَا عِوَضٍ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: جَعَلْنَاهُمْ آخِذِينَ الْكِتَابَ مِنَّا، أَوْ نَجْعَلُ الْإِيرَاثَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَمْرِ بِالتَّلَقِّي، أَيْ أَمَرْنَا الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَرِثُوا الْقُرْآنَ، أَيْ يَتَلَقَّوْهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَفِي الْإِيرَاثِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ فَيَكُونُ فِعْلُ أَوْرَثْنَا حَقِيقًا بِأَنْ يَنْصِبَ مَفْعُولَيْنِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ الَّذِي هُوَ الْآخِذُ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَالْآخَرُ ثَانِيًا، وَإِنَّمَا خُولِفَ هُنَا فَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَمْنِ اللَّبْسِ قَصْدًا لِلِاهْتِمَامِ بِالْكِتَابِ الْمُعْطَى. وَأَمَّا التَّنْوِيهُ بِآخِذِي الْكِتَابِ فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الصِّلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ: الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ اجْتَباكُمْ [الْحَج: 77، 78] . وَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَفْضَلَ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَلَمَّا أُرِيدَ تَعْمِيمُ الْبِشَارَةِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُمْ مَرَاتِبُ فِيمَا بُشِّرُوا بِهِ جِيءَ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَرَاتِبِ الْمُصْطَفَيْنَ لِتَشْمَلَ الْبِشَارَةُ

جَمِيعَ أَصْنَافِهِمْ وَلَا يُظَنَّ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مَحْرُومٌ مِنْهَا، فَمَنَاطُ الِاصْطِفَاءِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْقَوْلِ وَالِاسْتِسْلَامُ. وَقُدِّمَ فِي التَّفْصِيلِ ذِكْرُ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ حِرْمَانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَعْجِيلًا لِمَسَرَّتِهِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الَخْ تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ أَيْ أُعْطَوُا الْقُرْآنَ. وَضَمِيرُ «مِنْهُمُ» الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اصْطَفَيْنا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ. وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ إِلَى عِبادِنا أَيْ وَمن عبادنَا علمه وَالْإِطْلَاق. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَعَلَيْهِ فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْكَافِرُ. وَيَسْرِي أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِي مَحْمَلِ ضَمِيرِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: 33] وَلِذَلِكَ يَكُونُ قَوْلُ الْحَسَنِ جَارِيًا عَلَى وِفَاقِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ. وَالظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَجُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ الْمَرْءِ رَبَّهُ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُوَرِّطُهَا فِي الْعُقُوبَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعَاصِي عَلَى تَفْصِيلِهَا وَذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَيْهَا إِذْ قَصَّرَ بِهَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْخَيِّرَاتِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَوَرَّطَهَا فِيمَا تَجِد جَزَاء ذَمِيمًا عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ حِينَ خَالَفَا مَا نُهِيَا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَاف: 23] وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: 110] وَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [11] ، وَقَالَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [53] . وَاللَّامُ فِي لِنَفْسِهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ إِذْ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَالْمُقْتَصِدُ: هُوَ غَيْرُ الظَّالِمِ نَفْسَهُ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ، فَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكِبَارَ وَلَمْ يَحْرِمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَقَدْ يُلِمُّونَ بِاللَّمَمِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِمُنْتَهَى الْقُرُبَاتِ الرَّافِعَةِ لِلدَّرَجَاتِ، فَالِاقْتِصَادُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقَصْدِ وَهُوَ ارْتِكَابُ

الْقَصْدِ وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ، فَلَمَّا ذُكِرَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الظَّالِمِ وَالسَّابِقِ عُلِمَ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ حَالَةً بَيْنِ تَيْنِكَ الْحَالَتَيْنِ فَهُوَ لَيْسَ بِظَالِمٍ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِسَابِقٍ. وَالسَّابِقُ أَصْلُهُ: الْوَاصِلُ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَاشِينَ إِلَيْهَا. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِإِحْرَازِ الْفَضْلِ لِأَنَّ السَّابِقَ يُحْرِزُ السَّبَقَ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) ، أَوْ مَجَازٌ فِي بَذْلِ الْعِنَايَةِ لِنَوَالِ رِضَى اللَّهِ، وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فِي الْمَجَازِ فَهُوَ مُكَنًّى عَنِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ لِأَنَّ السَّبْقَ يَسْتَلْزِمُ إِسْرَاعَ الْخُطُوَاتِ، وَالْإِسْرَاعُ إِكْثَارٌ. وَفِي هَذَا السَّبْقِ تَفَاوُتٌ أَيْضًا كَخَيْلِ الْحَلَبَةِ. وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْخَيْرُ: النَّافِعُ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الطَّاعَاتُ لِأَنَّهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ نَافِعَةٌ لِعَامِلِهَا وَلِلنَّاسِ بِآثَارِهَا. وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِي الْخَيْرَاتِ كَقَوْلِهِ: يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: 62] . وَفِي ذِكْرِ الْخَيْرَاتِ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُرَادَةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ فِي الْخَيْرَاتِ وَمُقْتَصِدٍ فِي الْخَيْرَاتِ أَيْضًا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ نَاقِصُهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ كَقَوْلِهِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ لَمْ تَنْقُصْ عَنْ مُعْتَادِهَا فِي الْإِثْمَارِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [33] . وَالْإِذْنُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّيْسِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ سابِقٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِفِعْلِ الْخَيْرِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى بِهِ وَمن قصّر بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ لِلْمُلَابَسَةِ وَتَجْعَلَهَا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ سابِقٌ أَيْ مُتَلَبِّسًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَكُونُ الْإِذْنُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ سَابِقٌ مَلَابِسٌ لِمَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ، أَيْ لَمْ يُخَالِفْهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ تَنْوِيهٌ بِالسَّابِقِينَ بِأَنَّ سَبْقَهُمْ كَانَ بِعَوْنٍ مِنَ اللَّهِ وَتَيْسِيرٍ مِنْهُ. وَفِيمَا رَأَيْتَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ فِي الْآيَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ،

[سورة فاطر (35) : آية 33]

مَعَ ضَمِيمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا. تَسْتَغْنِي عَنِ التِّيهِ فِي مَهَامِّهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِهَا تَجَاوَزَتِ الْأَرْبَعِينَ قَوْلًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إِلَى الِاصْطِفَاءِ الْمَفْهُومِ مِنِ اصْطَفَيْنا أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ الِاصْطِفَاءِ وَإِيرَاثِ الْكِتَابِ. والْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ، والْكَبِيرُ مُرَادٌ بِهِ ذُو الْعِظَمِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الشَّرَفُ وَهُوَ فَضْلُ الْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْفَضْلُ مَرَاتِبُ فِي الشَّرَفِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَقْسِيمُ أَصْحَابِهِ إِلَى: ظَالِمٍ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَهُوَ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ مُنْحَصِرٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ فَضْلٍ هُوَ غَيْرُ كَبِيرٍ إِلَّا ذَلِكَ الْفَضْلَ. وَوَجْهُ هَذَا الِانْحِصَارِ أَنَّ هَذَا الِاصْطِفَاءَ وَإِيرَاثَ الْكِتَابِ جَمَعَ فَضِيلَةَ الدُّنْيَا وَفَضْلَ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] ، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: 55] . [33] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 33] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) الْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] فَإِنَّ مِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ كَمَا عَلِمْتَ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ أَصْنَافِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ حِينَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ وَقَدْ بُيِّنَ بِأَعْظَمِ أَصْنَافِهِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي يَدْخُلُونَها رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ اصْطَفَيْنا [فاطر: 32] الْمُقَسَّمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٍ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِأَنَّ

[سورة فاطر (35) : الآيات 34 إلى 35]

الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ مَآلُهُمُ الْجَنَّةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَكَاثَرَتْ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] قَالَ: «هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ هُمُ الَّذِينَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [8- 10] : أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ- والسَّابِقُونَ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ فِي النَّارِ الْحَامِيَةِ، وَأَصْحَابَ سُورَةِ فَاطِرٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُمْ بَيْنَ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] فَجَعَلَهُمْ مُصْطَفَيْنَ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: 33] وَلَا يُصْطَفَى إِلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَكِنَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: 32] وَهُوَ الْعَاصِي وَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْكَافِرُ، وَقِيلَ عَنْهُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ رِفْقًا بِهِ، وَقِيلَ لِلْآخَرِ: السَّابِقِ بِإِذْنِ اللَّهِ إِنْبَاءً أَنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ لَا مِنْ حَالِ الْعَبْدِ اهـ. وَفِي الْإِخْبَارِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِفَادَةٌ تُقَوِّي الْحُكْمَ وَصَوْغُ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ، وَكَذَلِكَ صَوْغُ يُحَلَّوْنَ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ فَانْظُرْهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَلُؤْلُؤاً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَساوِرَ لِأَنَّهُ لَمَّا جُرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ كَانَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ يُحَلَّوْنَ فَجَازَ فِي الْمَعْطُوفِ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى مُرَاعَاةِ مَحَلِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ، وهما وَجْهَان. [34، 35] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 34 إِلَى 35] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَقالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير يُحَلَّوْنَ [فاطر: 33] لِئَلَّا يَلْزَمَ تَأْوِيلُ

الْمَاضِي بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ فِي قَوْله: يَدْخُلُونَها [فاطر: 33] . وَتِلْكَ الْمَقَالَةُ مُقَارِنَةٌ لِلتَّحْلِيَةِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ كَلَامٌ يَجْرِي بَيْنَهُمْ سَاعَتَئِذٍ لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا خَوَّلَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَإِذْهَابُ الْحَزَنِ مَجَازٌ فِي الْإِنْجَاءِ مِنْهُ فَتَصْدُقُ بِإِزَالَتِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَيَصْدُقُ بِعَدَمِ حُصُولِهِ. والْحَزَنَ الْأَسَفُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أُعْطَوْا مَا أُعْطَوْهُ زَالَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَمِنْ خَشْيَةِ الْعِقَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَمِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ عِقَابٍ بِالنِّسْبَةِ لِظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ شَكَرُوا بِهِ نِعْمَةَ السَّلَامَةِ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا تَجَاوَزَ عَمَّا اقْتَرَفُوهُ مِنَ اللَّمَمِ وَحَدِيثِ الْأَنْفُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ، وَلِمَا تَجَاوَزَ عَنْهُ مِنْ تَطْوِيلِ الْعَذَابِ وَقَبُولِ الشَّفَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمُخْتَلَفِ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَثْنَوْا عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ شَكُورٌ لِمَا رَأَوْا مِنْ إِفَاضَتِهِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِمْ وَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ صَالِحَاتِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 30] . والْمُقامَةِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَقَامَ بِالْمَكَانِ إِذَا قَطَنَهُ. وَالْمُرَادُ: دَارُ الْخُلُودِ. وَانْتَصَبَ دارَ الْمُقامَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ أَحَلَّنا أَيْ أَسْكَنَنَا. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ دارَ الْمُقامَةِ. وَالْفَضْلُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ أَخُو التَّفَضُّلِ فِي أَنَّهُ عَطَاءٌ مِنْهُ وَكَرَمٌ. وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمَا جَعَلَ لِلصَّالِحَاتِ عَطَاءً وَلَكَانَ جَزَاؤُهَا مُجَرَّدَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَكَانَ أَمْرُ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كِفَافًا، أَيْ لَا عِقَابَ وَلَا ثَوَابَ فَيَبْقَى كَالسَّوَائِمِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا مِنْ هَذَا تَمَامَ الشُّكْرِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي التَّأَدُّبِ. وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ.

[سورة فاطر (35) : آية 36]

وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهَا، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ مِنْ نَحْوِ شِدَّةِ حَرٍّ وَشِدَّةِ بَرْدٍ. وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ مِنْ جَرَّاءِ عَمَلٍ أَوْ جَرْيٍ. وَإِعَادَةُ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ لِتَأْكِيدِ انْتِفَاء المسّ. [36] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 36] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) مُقَابَلَةُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِلَّذِينِ أُورِثُوا الْكِتَابَ بِذِكْرِ الْكَافِرِينَ يَزِيدُنَا يَقِينًا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ أَقْسَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُقَابَلَةُ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِنَارِ جَهَنَّمَ يُوَضِّحُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارٌ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نَارَ عِقَاب الْمُؤمنِينَ خَفِيفَة عَنْ نَارِ الْمُشْرِكِينَ. فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: 33] . وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ بِأَنَّهَا لَهُمْ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [24] وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [131] ، فَنَارُ عِقَابِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ نَارٌ مُخَالِفَةٌ أَوْ أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهَا مَنْ أُدْخِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لِاقْتِرَافِهِمُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ لِلْكَافِرِينَ. وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ فِي لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ عَلَى الْمسند إِلَيْهِ للتشويق إِلَى ذكر الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُونَ تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ. وَجُمْلَةُ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، وَالْقَضَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْحُكْمُ، وَمِنْهُ قَضَاءُ اللَّهِ حُكْمُهُ وَمَا أَوْجَدَهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَمَاتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الْقَصَص: 15] . وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ

[سورة فاطر (35) : آية 37]

لِلْحَقِيقَةِ، أَيْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ مَوْتَهُمْ، فَقَوْلُهُ: فَيَمُوتُوا مُسَبَّبٌ عَلَى الْقَضَاءِ. وَالْمَعْنَى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ فَيَمُوتُوا، وَمُحْتَمِلٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَتَفْرِيعُ فَيَمُوتُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا الْإِمَاتَةَ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَزُولُ عِنْدَهُ الْإِحْسَاسُ، فَيُفِيد أَنهم يماتون مَوْتًا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا آلَامُهُ دُونَ رَاحَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: 77] وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: 56] . وَضَمِيرُ عَذابِها عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ لِيَشْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمُعَذَّبِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ وَيُعَذَّبُونَ بِالزَّمْهَرِيرِ وَهُوَ شِدَّةُ الْبَرْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَوَقَعَ كَذلِكَ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِقَوْلِهِ: نَجْزِي أَيْ نَجْزِيهِمْ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ تَذْيِيلٌ. وَالْكَفُورُ: الشَّدِيدُ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَجْزِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَنَصْبِ كُلَّ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يُجْزَى بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَرَفْعِ كُلَّ. [37] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 37] وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [فاطر: 36] وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ [فاطر: 36] وَلَا تُجْعَلُ حَالًا لِأَنَّ التَّذْيِيلَ آذَنَ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَبِاسْتِقْبَالِ كَلَامٍ جَدِيدٍ. ويَصْطَرِخُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (يَصْرُخُونَ) لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الصُّرَاخِ وَهُوَ الصِّيَاحُ بِشِدَّةٍ وَجُهْدٍ، فَالِاصْطِرَاخُ مُبَالَغَةٌ فِيهِ، أَيْ يَصِيحُونَ مِنْ شِدَّةِ مَا نَابَهُمْ. وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَخْرِجْنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَصْطَرِخُونَ، يَحْسَبُونَ أَنَّ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ الله بندائهم ولإظهار عَدَمِ إِطَاقَةِ مَا هُمْ فِيهِ.

وَقَوْلُهُمْ: نَعْمَلْ صالِحاً وَعْدٌ بِالتَّدَارُكِ لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَكِنَّهَا إِنَابَةٌ بَعْدَ إِبَانِهَا. وَلِإِرَادَةِ الْوَعْدِ جُزِمَ نَعْمَلْ صالِحاً فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا. وغَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نَعْتٌ لِ صالِحاً، أَيْ عَمَلًا مُغَايِرًا لِمَا كُنَّا نَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا نَدَامَةٌ عَلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِفَسَادِ عَمَلِهِمْ وَضُرِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ. الْوَاوُ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَوْلٍ مَحْذُوفًا لِعِلْمِهِ مِنَ السِّيَاقِ بِحَسَبِ الضَّمِيرِ فِي نُعَمِّرْكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها فَإِنَّ صُرَاخَهُمْ كَلَامٌ مِنْهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا وَنَقُولُ أَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٌ لِلتَّوْبِيخِ، وَجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ تَوْطِئَةً لِيُنْكِرَهُ الْمُقَرَّرُ حَتَّى إِذَا قَالَ: بَلَى عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُ الْإِنْكَارُ حَتَّى مَعَ تَمْهِيدِ وطاء الْإِنْكَار إِلَيْهِ. وَالتَّعْمِيرُ: تَطْوِيلُ الْعُمُرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [96] ، وَقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [11] . وَمَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ زَمَانَ تَعْمِيرِ مُعَمَّرٍ. وَجُمْلَةُ يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ صِفَةٌ لِ مَا، أَيْ زَمَانًا كَافِيًا بِامْتِدَادِهِ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّبْصِيرِ. والنَّذِيرُ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ «أَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ

فَعُطِفَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ جَائِزٌ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ هُنَا حَسَنٌ. وَوَصْفُ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنْ شَأْنِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ هُوَ النِّذَارَةُ. وَالْفَاءُ فِي فَذُوقُوا لِلتَّفْرِيعِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ «ذُوقُوا» لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ ذُوقُوا الْعَذَابَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحِكَايَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَذْيِيلُ لَهُ وَتَفْرِيعٌ عَلَيْهِ لِتَأْيِيسِهِمْ مِنَ الْخَلَاصِ يَعْنِي: فَأَيْنَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَنُصَرَاؤُكُمْ فَمَا لَكُمْ مَنْ نَصِيرٍ. وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ أَنْ يُقَالَ: فَمَا لَكُمَ مِنْ نَصِيرٍ، إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ بِوَصْفِ «الظَّالِمِينَ» لِإِفَادَةِ سَبَبِ انْتِفَاءِ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ، أَيْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مَنْ نَصِيرٍ، فَالْمَقْصُودُ ابْتِدَاءُ نَفْيِ النَّصِيرِ عَنْهُمْ وَيَتْبَعُهُ التَّعْمِيمُ بِنَفْيِ النَّصِيرِ عَنْ كُلِّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مُفَرَّعًا عَلَى الْقِصَّةِ ذُيِّلَتْ بِهِ لِلسَّامِعِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ [فاطر: 36] ، فَلَيْسَ فِيهِ عُدُولٌ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِفَادَةُ شُمُولِ هَذَا الْحُكْمِ لِكُلِّ ظَالِمٍ فَيَدْخُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي الْعُمُومِ. وَالظُّلْمُ: هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ حَقٍّ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى اللَّهِ بإنكار صفته النفيسة وَهِي الْوَحْدَانِيَّةُ، وَاعْتِدَاءُ الْمُشْرِكِ على نَفسه إِذْ أَقْحَمَهَا فِي الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَتَعْمِيمُ «الظَّالِمِينَ» وَتَعْمِيمُ «النَّصِيرِ» يَقْتَضِي أَنَّ نَصْرَ الظَّالِمِ تَجَاوُزٌ لِلْحَقِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا يَكُونَ لِلظَّالِمِ نَصِيرٌ، إِذْ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى يَدِ كُلِّ ظَالِمٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُكَلَّفَةٌ بِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ جَمَاعَتِهَا.

[سورة فاطر (35) : الآيات 38 إلى 39]

وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِخُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْقَائِلِينَ فِي أَمْثَالِهِمُ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» . وَقَدْ أَلْقَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ إِبْطَالُ ذَلِكَ فَسَاقَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ حَتَّى سَأَلُوا عَنْهُ ثُمَّ أَصْلَحَ مَعْنَاهُ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِهِ فَقَالَ: «إِذَا كَانَ ظَالِمًا تَنْصُرُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَكُفُّهُ عَن ظلمه» . [38، 39] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 38 إِلَى 39] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اسْتِئْنَافٌ وَاصِلٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: 31] وَبَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: 40] الْآيَةَ، فَتَسَلْسَلَتْ مَعَانِيهِ فَعَادَ إِلَى فَذْلَكَةِ الْغَرَضِ السَّالِفِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: 25- 31] ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَالتَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي كُلَّ ذِي نِيَّةٍ عَلَى حَسَبِ مَا أَضْمَرَهُ لِيَزْدَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِينًا بِأَن الله غير عَالِمٌ بِمَا يُكِنُّهُ الْمُشْرِكُونَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ مُسْتَأْنَفَةٌ هِيَ كَالنَّتِيجَةِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ عِلْمِ الله بِغَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عِلْمُهُ بِمَا فِي صُدُورِ النَّاسِ. وَ «ذَاتِ الصُّدُورِ» ضَمَائِرِ النَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [43] . وَجِيءَ فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِ اللَّهِ بِالْغَيْبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَفِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ بِذَاتِ الصُّدُورِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِخْبَارِ الْمُخَاطَبِينَ تَنْبِيِهُهُمْ عَلَى أَنَّهُ

كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَفُوتَ عِلْمَهُ تَعَالَى شَيْءٌ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَهِيَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي أَمْرٍ كَانَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أُمَمٍ مَضَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [14] فَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا غَابَ فِي قُلُوبِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: 14] وَيكون مَا صدف ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ مُتَصَرِّفِينَ فِي الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 129] ، فَيَكُونَ الْكَلَامُ بِشَارَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ سُلْطَانٍ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أُمَمٍ تَدَاوَلَتْ سِيَادَةَ الْعَالَمِ وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ دِينُ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مُفِيدَةٌ تُقَوِّي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ جَعْلُ اللَّهِ الْمُخَاطَبِينَ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قَوْلُهُ: فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَهُوَ شَرْطٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ دَوَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَجُمْلَةُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَكَانَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ لَا تُعْطَفَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْبَيَانِ فَجُعِلَ مُسْتَقِلًّا بِالْقَصْدِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ فَعُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُبَيَّنَةِ بِمَضْمُونِهَا تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْلَالِ، وَهَذَا مَقْصِدٌ يَفُوتُ لَوْ تُرِكَ الْعَطْفُ، أَمَّا مَا تُفِيدُهُ مِنَ الْبَيَانِ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَفُوتُ لِأَنَّهُ تَقْتَضِيهِ نِسْبَةُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى.

[سورة فاطر (35) : آية 40]

وَالْمَقْتُ: الْبُغْضُ مَعَ خِزْيٍ وَصَغَارٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [22] ، أَيْ يَزِيدُهُمْ مَقْتُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَمَقْتُ اللَّهِ مَجَازٌ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ إِمْسَاكُ لُطْفِهِ عَنْهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِأَشَدِّ الْعِقَابِ. وَتَرْكِيبُ جُمْلَةِ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً تَرْكِيبٌ عَجِيبٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا قَبْلَ الْكُفْرِ مَمْقُوتِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَلَمَّا كَفَرُوا زَادَهُمْ كُفْرُهُمْ مَقْتًا عِنْدَهُ، فِي حَالِ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ سَبَبُ مَقْتِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكْفُرُوا لَمَا مَقَتَهُمُ اللَّهُ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِالْكُفْرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ يَزِيدُهُمْ مَقْتًا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُفْرِهِمُ الثَّانِي الدَّوَامُ عَلَى الْكُفْرِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُشَاقُّونَهُمْ وَيُؤَيِّسُونَهُمْ مِنَ الطَّمَاعِيَّةِ فِي أَنْ يَقْبَلُوا الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ دِينَ آبَائِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ ذَلِكَ مَقْتًا مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَجَازَاهُمُ اللَّهُ بِزِيَادَةِ الْمَقْتِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ [غَافِر: 10] ، يَعْنِي: يُنَادَوْنَ فِي الْمَحْشَرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً. وَالْخَسَارُ: مَصْدَرُ خَسِرَ مِثْلُ الْخَسَارَةِ، وَهُوَ: نُقْصَانُ التِّجَارَةِ. وَاسْتُعِيرَ لِخَيْبَةِ الْعَمَلِ شَبَّهَ عَمَلَهُمْ فِي الْكُفْرِ بِعَمَلِ التَّاجِرِ وَالْخَاسِرِ، أَيِ الَّذِي بَارَتْ سِلْعَتُهُ فَبَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَصَابَهُ الْخَسَارُ فَكُلَّمَا زَادَ بَيْعًا زَادَتْ خَسَارَتُهُ حَتَّى تُفْضِيَ بِهِ إِلَى الْإِفْلَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا فِي سُورَة الْبَقَرَة. [40] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 40] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) لَمْ يَزَلِ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا لِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ وَتَعَنُّتِهِمْ وَحُسْبَانِ أَنَّهُمْ مَقَتُوا الْمُسْلِمِينَ عَادَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فِي بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ آلِهَتِهِمْ بِحُجَّةِ أَنَّهَا لَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ يَدَّعِي

أَنَّهَا خَلَقَتْهُ، وَلَا فِي السَّمَاوَاتِ شَيْءٌ لَهَا فِيهِ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَاجَّهُمْ وَيُوَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَفَى اسْتِحْقَاقَهَا لِعِبَادَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَرْزُقُهُمْ كَمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ اللَّهُ التَّصَرُّفَ فِي مَظَاهِرِ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] ، وَذَكَّرَهُمْ بِخَلْقِهِمْ وَخَلْقِ أَصْلِهِمْ وَقَالَ عَقِبَ ذَلِكَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [فاطر: 13] الْآيَةَ عَادَ إِلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. وَبُنِيَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مُقَدِّمَةِ مُشَاهَدَةِ انْتِفَاءِ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْأَصْنَامِ، وَهِيَ خُصُوصِيَّةِ خَلْقِ الْمَوْجُودَاتِ وَانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ النَّقْلِيَّةِ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ يَعْنِي: إِنْ كُنْتُمْ رَأَيْتُمُوهُمْ فَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا شَيْئًا. وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُوَ أَحْوَالُ الْمَرْئِيِّ وَإِنَاطَةُ الْبَصَرِ بِهَا، أَيْ أَنَّ أَمْرَ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَاضِحٌ بَادٍ لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 1، 2] وَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الْإِسْرَاء: 62] إِلْخَ.. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِكَلَامٍ يَأْتِي بَعْدَهُ يَكُونُ هُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوِ الْإِيضَاحِ لَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ كَلَامٍ بَعْدَهُ، فَفِي قَوْلِهِ هُنَا: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ تَمْهِيدٌ لِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمُ الْإِخْبَارَ عَنْ شَيْءٍ خَلَقَهُ شُرَكَاؤُهُمْ فَصَارَ الْمُرَادُ مِنْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ انْظُرُوا مَا تُخْبِرُونَنِي بِهِ مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ، فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ إِجْمَالٌ فَصَّلَهُ قَوْلُهُ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَوْ بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ. وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ مَنْ زَعَمُوهُمْ شُرَكَاءَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَلِذَلِكَ أُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيِ الشُّرَكَاءِ عِنْدَكُمْ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ بِشَيْءٍ فَتَمَحَّضَتِ الْإِضَافَةُ لِمَعْنَى مُدَّعِيكُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَالْمَوْصُولُ وَالصِّلَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ كَقَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ:

إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمُ أَنْ تُصْرَعُوا وَقَرِينَةُ التَّخْطِئَةِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لِلتَّعْجِيزِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوْهُ شَيْئًا خَلَقَتْهُ الْأَصْنَامُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ التَّعْجِيزِيُّ فِي قُوَّةِ نَفْيِ أَنْ خَلَقُوا شَيْئًا مَا، كَمَا كَانَ الْخَبَرُ فِي بَيْتِ عَبْدَةَ الْوَارِدِ بَعْدَ الصِّلَةِ قَرِينَةً عَلَى كَوْنِ الصِّلَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَأِ الْمُخَاطَبِينَ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ قَلْبِيٌّ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِنْبَاءِ، أَيْ أَنْبِئُونِي شَيْئًا مَخْلُوقًا لِلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَ (ذَا) الَّتِي بِمَعْنَى الَّذِي حِينَ تَقَعُ بَعْدَ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ، وَفِعْلُ الْإِرَاءَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرُونِي شَيْئًا خَلَقُوهُ مِمَّا على الْأَرْضِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ شَيْئًا نَاشِئًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ مَا عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى سُكَّانِهَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] . وأَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَهِيَ تُؤْذِنُ بِاسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَلَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ. وَالشِّرْكُ بِكَسْرِ الشِّينِ: اسْمٌ لِلنَّصِيبِ الْمُشْتَرَكِ بِهِ فِي مِلْكِ شَيْءٍ. وَالْمَعْنَى: أَلَهُمْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي ملك السَّمَوَات وتصريف أحوالها كَسَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ. وَلَمَّا كَانَ مَقَرُّ الْأَصْنَامِ فِي الْأَرْضِ كَانَ مِنَ الرَّاجِح أَن تتخيّل لَهُمُ الْأَوْهَامُ تَصَرُّفًا كَامِلًا فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُمْ آلِهَةٌ أَرْضِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتْ مَزَاعِمُ الْعَرَبِ وَاعْتِقَادَاتُهُمْ أَفَانِينَ شَتَّى مُخْتَلِطَةً مِنِ اعْتِقَادِ الصَّابِئَةِ وَمِنِ اعْتِقَادِ الْفُرْسِ وَاعْتِقَادِ الرُّومِ فَكَانُوا أَشْبَاهًا لَهُمْ فَلِذَلِكَ قِيلَ لِأَشْبَاهِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ فَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ فِي ذَلِكَ تَصَرُّفَ الْخَالِقِيَةِ، فَأَمَّا السَّمَاوَاتُ فَقَلَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ لِلْأَصْنَامِ تَصرفا فِي شؤونها، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ جَاءَ قَوْلُهُ: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ مَجِيءَ تَكْمِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْضِ وَالِاحْتِمَالِ، كَمَا يُقَالُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ «فَإِنْ قُلْتَ» . وَقَدْ كَانُوا يَنْسِبُونَ لِلْأَصْنَامِ بُنُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى:

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: 19- 23] . فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ تَأْثِيرِ الْأَصْنَامِ فِي الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ بِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ لَهَا شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لَهَا فِي مَزَاعِمِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا قَضَى حَقُّ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ انْتَقَلَ إِلَى انْتِفَاءِ الْحُجَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُثْبِتَةِ آلِهَةً دُونَهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِشُرَكَائِهِ وَأَنْدَادِهِ لَوْ كَانُوا، فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ على بَيِّنَات مِنْهُ الْمَعْنَى: بَلْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حُجَّةٍ فِيهِ تُصَرِّحُ بِإِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى بَيِّنَاتٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ عَلى بَيِّنَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَمْعِ فَوَجْهُهَا أَنَّ شَأْنَ الْكِتَابِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى أَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ وَمَوَاعِظَ مُكَرَّرَةٍ لِيَتَقَرَّرَ الْمُرَادُ مِنْ إِيتَاءِ الْكُتُبِ مِنَ الدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا وَلَا مُبَالَغَةً وَلَا نَحْوَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي دَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْإِفْرَادِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا جِنْسُ الْبَيِّنَةِ الصَّادِقُ بِأَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ. وَوَصْفُ الْبَيِّنَاتِ أَوِ الْبَيِّنَةِ ب مِنْهُ للدلالة عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُ الْكِتَابِ الْمَفْرُوض إيتاؤه إيَّاهُم مُشْتَمِلًا عَلَى حُجَّةٍ لَهُمْ تُثْبِتُ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ. وَلَيْسَ مُطْلَقُ كِتَابٍ يُؤْتُونَهُ أَمَارَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَتِ الْخَوَارِقُ نَاطِقَةً بِأَنَّهُ صَادِق فَأُرِيد: أآتيناهم كِتَابًا نَاطِقًا مِثْلَ مَا آتَيْنَا الْمُسْلِمِينَ الْقُرْآنَ. ثُمَّ كَرَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِبْطَالَ بِوَاسِطَةِ بَلْ، بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُنْتَفٍ وَأَنَّهُمْ لَا بَاعِثَ لَهُمْ عَلَى مَزَاعِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ إِلَّا وَعْدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَوَاعِيدَ كَاذِبَةً يَغُرُّ بَعْضُهُمْ بِهَا بَعْضًا. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعِدُونَهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتُهُمْ بالموعودين عَامَّتُهُمْ وَدُهْمَاؤُهُمْ،

[سورة فاطر (35) : آية 41]

أَوْ أُرِيدَ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَاعِدٌ وَمَوْعُودٌ فِي الرُّؤَسَاءِ وَأَيِمَّةِ الْكُفْرِ يَعِدُونَ الْعَامَّةَ نَفْعَ الْأَصْنَامِ وَشَفَاعَتِهَا وَتَقْرِيبِهَا إِلَى اللَّهِ وَنَصْرِهَا غُرُورًا بِالْعَامَّةِ وَالْعَامَةُ تَعِدُ رُؤَسَاءَهَا التَّصْمِيمَ عَلَى الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 42] . وإِنْ نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّعٌ عَنْ جِنْسِ الْوَعْدِ مَحْذُوفًا. وَانْتَصَبَ غُرُوراً عَلَى أَنه صفة للمستثنى الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعْدًا إِلَّا وَعْدًا غُرُورًا. وَالْغُرُورُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آل عمرَان [196] . [41] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 41] إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) انْتِقَالٌ مِنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِشُرَكَائِهِمْ خَلْقٌ أَوْ شَرِكَةُ تَصَرُّفٍ فِي الْكَائِنَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَيُّومُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَبْقَيَا مَوْجُودَتَيْنِ فَهُوَ الْحَافِظُ بقدرته نظام بقائهما. وَهَذَا الْإِمْسَاكُ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِنِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ خَلَلٌ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحِفْظِ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَحَقِيقَةُ الْإِمْسَاكِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ وَلَا يَتَفَرَّقُ، فَمُثِّلَ حَالُ حِفْظِ نِظَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ الَّذِي يُمْسِكُهُ الْمُمْسِكُ بِيَدِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِمْسَاكِ مَعْنَى الْمَنْعِ عُدِيَّ إِلَى الزَّوَالِ بِ مِنْ، وَحُذِفَتْ كَمَا هُوَ شَأْنُ حُرُوفِ الْجَرِّ مَعَ إِنَّ وإِنَّ فِي الْغَالِبِ، وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ لَا تَسَامُحَ فِيهِ وَلَا مُبَالَغَةَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [65] . ثُمَّ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُمْكِنَاتِ الْمَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ وَلَوْ بَعْدَ أَدْهَارٍ فَعُطِفَ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَالزَّوَالُ الْمَفْرُوضُ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ اخْتِلَالُ نِظَامِهِمَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تطاحنهما. والزوال يُطْلَقُ عَلَى الْعَدَمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَتَقَدَّمَ آخِرَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرك فَإِن اللَّهَ يُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يُعْدَمَا، وَيُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَحَوَّلَ نِظَامُ حَرَكَتِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 40] . فَاللَّهُ مُرِيدٌ اسْتِمْرَارَ انْتِظَامِ حَرَكَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَرْضِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الْمُشَاهَدِ الْمُسَمَّى بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَكَذَلِكَ نِظَامُ الْكَوَاكِبِ الْأُخْرَى الْخَارِجَةِ عَنْهُ إِلَى فَلَكِ الثَّوَابِتِ، أَيْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْعَوَالِمِ أَوْ بَعْضِهِا قَيَّضَ فِيهَا طَوَارِئَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْخَرْقِ بَعْدَ الِالْتِئَامِ وَالْفَتْقِ بَعْدَ الرَّتْقِ، فَتَفَكَّكَتْ وَانْتَشَرَتْ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُ مَصِيرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ مُدَافَعَةَ ذَلِكَ وَلَا إِرْجَاعَهَا إِلَى نِظَامِهَا السَّابِقِ فَرُبَّمَا اضْمَحَلَّتْ أَوِ اضْمَحَلَّ بَعْضُهَا، وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَسَالِكَ جَدِيدَةً مِنَ الْبَقَاءِ. وَفِي هَذَا إِيقَاظٌ لِلْبَصَائِرِ لِتَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا وتتدبر فِي انتساق هَذَا النِّظَامِ الْبَدِيعِ. فَالْلَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُقْسَمٌ عَلَيْهِ، أَيْ مُحَقَّقٌ تَعْلِيقُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَوُقُوعُهُ عِنْدَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِ إِنَّ النَّافِيَةِ وَهِيَ أَيْضًا سَادَّةٌ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللَّهَ مُمْسِكُهُمَا عَنِ الزَّوَالِ عُلِمَ أَنَّ زَوَالَهُمَا الْمَفْرُوضَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى زَوَالَهُمَا وَإِلَّا لَبَطَلَ أَنَّهُ مُمْسِكُهُمَا مِنَ الزَّوَالِ. وَأَسْنَدَ فِعْلَ زالَتا إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاوَاتِ بِسَمَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَأَسْنَدَ الزَّوَالَ إِلَيْهِمَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُزِيلُهُمَا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا. وَجِيءَ فِي نَفْيِ إِمْسَاكِ أَحَدٍ بِحَرْفِ مِنْ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى عُمُومِ

النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِمْسَاكَهُمَا وَإِرْجَاعَهُمَا. وَ «من بعد» صفة أَحَدٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَي أحد ناشىء أَوْ كَائِنٍ مِنْ زَمَانٍ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ (بَعْدِ) تَأَخُّرُ زَمَانِ أَحَدٍ عَنْ زَمَنِ غَيْرِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (بَعْدَ) وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُغَايَرَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ الْمُضَافِ تَقْتَضِي مُغَايِرَةَ صَاحِبِ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] ، أَيْ غَيْرِ اللَّهِ فَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (بَعْدَ) عَائِدٌ إِلَى الله تَعَالَى. وَهَذَا نَظِيرُ اسْتِعْمَالِ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى (دُونَ) أَوْ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَفِي ذِكْرِ إِمْسَاكِ السَّمَاوَاتِ عَنِ الزَّوَالِ بَعْدَ الْإِطْنَابِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَفْظِيعِ غُرُورِهِمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَظَاعَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزَلْزِلَ الْأَرَضِينَ وَيُسْقِطَ السَّمَاءَ كِسَفًا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَقَاءَهُمَا لِحِكْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: 89، 90] . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ بِاعْتِبَارِ مُثَارِ مَقَامَاتِ التَّكَلُّمِ بِهَا، وَهُوَ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ. وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِالتَّذْيِيلِ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بالحلم وَالْمَغْفِرَة لما يَشْمَلُهُ صِفَةُ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُزْعِجَهُمْ بِفَجَائِعَ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَأْخِيرِ مُؤَاخَذَتِهِمْ فَإِنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ أَثَرِ الْحِلْمِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الْغَفُورِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِمْهَالِ إِعْذَارًا لِلظَّالِمِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» لَمَّا رَأَى مَلَكَ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ» . وَفِعْلُ كانَ الْمُخْبَرُ بِهِ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ مُفِيدٌ لِتَقَرُّرِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 إلى 43]

[42، 43] [سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 42 الى 43] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [42] اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. هَذَا شَيْءٌ حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ حِكَايَةُ قَوْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُرْوَ خَبَرٌ عَنِ السَّلَفِ يُعَيِّنُ صُدُورَ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ، وَلَا قَائِلَهَا سِوَى كَلَامٍ أُثِرَ عَنِ الضَّحَّاكِ هُوَ أَشْبَهُ بِتَفْسِيرِ الضَّمِيرِ مِنْ أَقْسَمُوا، وَتَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ سَبَبُ نُزُولٍ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَالَّذِي يَلُوحُ لِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ فِي مَجَارِي الْمُحَاوَرَةِ أَوِ الْمُفَاخَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ بِمَكَّةَ، أَوْ يَقْدَمُونَ هُمْ عَلَيْهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ أَوْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، فَرُبَّمَا كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبُلْدَانِ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ وَيُصَغِّرُونَ الشِّرْكَ فِي نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ الْمُشْركُونَ لَا يجرأون عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَرْمُوقِينَ عِنْدَهُمْ بِعَيْنِ الْوَقَارِ إِذْ كَانُوا يُفَضِّلُونَهُمْ بِمَعْرِفَةِ الدِّيَانَةِ وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أُمِّيِّينَ وَهُمْ يَأْبَوْنَ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَ الشِّرْكِ فَكَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ رَسُولَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الْعَرَبِ وَلَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 157] . وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعُونَ لَهُمْ هُمُ النَّصَارَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ شِعَارِ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عِيسَى أَوْصَاهُمْ أَنْ يُرْشِدُوا بَنِي الْإِنْسَانِ إِلَى الْحَقِّ وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَأشبه فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَنَصَّرَتْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ تَغْلِبَ، وَلَخْمٍ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنْ صَحَّ إِيصَاءُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا دَعْوَةَ إِرْشَادٍ إِلَى التَّوْحِيدِ لَا دَعْوَةَ تَشْرِيعٍ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ فَمَا أَرَاهَا إِلَّا تَوْطِئَةً لِدِينٍ يَجِيءُ تَعُمُّ دَعْوَتُهُ سَائِرَ الْبَشَرِ، فَكَانَتْ وَصِيتُهُ وَسَطًا بَيْنَ أَحْوَالِ الرُّسُلِ الْمَاضِينَ إِذْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ خَاصَّةً وَبَيْنَ حَالَةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكَافَّةِ النَّاسِ عَزْمًا.

أَمَّا الْيَهُودُ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مَنْ يَتَهَوَّدُ كَمَا تَهَوَّدَ عَرَبُ الْيَمَنِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَوْ تَشْهِيرِ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، لَا يَخْلُو عَنْهَا عُلَمَاءُ مُوَحِّدُونَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّصَّاحِ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ يَثْرِبَ يَعْرِضُ لِقُرَيْشٍ إِذَا مَرُّوا عَلَى يَثْرِبَ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ مِنَ الشِّرْكِ فَيَعْتَذِرُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهِيَ تُسَاوِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 155- 157] . فَيَتَّضِحُ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَخْبَارِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي شَأْنِ الرِّسَالَةِ وَالتَّدَيُّنِ، وَأَنَّ مَا حُكِيَ فِيهَا هُوَ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ وَمُجَازَفَتِهِمْ. وَالْقَسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرُهُ بِاللَّهِ، وَقَدْ يُقْسِمُونَ بِالْأَصْنَامِ وَبِآبَائِهِمْ وَعَمْرِهِمْ. وَالْغَالِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاللات وَالْعُزَّى، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، أَيْ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ ذَلِكَ جَرْيَ الْكَلَامِ الْغَالِبِ وَذَلِكَ فِي صَدْرِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ. وَجَهْدُ الْيَمِينِ: أَبْلَغُهَا وَأَقْوَاهَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَهْدِ وَهُوَ التَّعَبُ، يُقَالُ: بَلَغَ كَذَا مِنِّي الْجَهْدُ، أَيْ عَمِلْتُهُ حَتَّى بَلَغَ عَمَلُهُ مِنِّي تَعَبِي، كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ عَزْمِهِ فِي الْعَمَلِ. فَجَهْدُ الْأَيْمَانِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَأْكِيدِهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [53] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ النُّورِ. وَانْتَصَبَ جَهْدَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَهُوَ أَيْمانِهِمْ إِذْ هُوَ جمع يَمِينٍ وَهُوَ الْحَلِفُ

فَهُوَ مُرَادِفٌ لِ أَقْسَمُوا، فَتَقْدِيرُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ قَسَمًا جَهْدًا، وَهُوَ صِفَةٌ بِالْمَصْدَرِ أُضِيفَتْ إِلَى مَوْصُوفِهَا. وَجُمْلَةُ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَقْسَمُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ الْآيَة [طه: 120] . وَعَبَّرَ عَنِ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِيَّاهُمْ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى تَخْوِيفٍ وَإِنْذَارٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وَصْفِ النَّذِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: 19] . وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْمُجَادَلَةُ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ النَّصَارَى لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ مُعْظَمُهُ نِذَارَةٌ. وإِحْدَى الْأُمَمِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ ذَاتِ الدِّينِ فَإِنْ عَنَوْا بِهَا أُمَّةً مَعْرُوفَةً: إِمَّا الْأُمَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ، وَإِمَّا الْأُمَّةَ الْيَهُودِيَّةَ، أَوِ الصَّابِئَةَ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِ إِحْدَى الْأُمَمِ إِبْهَامًا لَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْهَامًا مِنْ كَلَامِ الْمُقْسِمِينَ تَجَنُّبًا لِمُجَابَهَةِ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِصَرِيحِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْهَامًا مِنْ كَلَامِ الْقُرْآنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّرَفُّعِ عَمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أَشْهَدُوا اللَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ يَكُونُوا أَسْبَقَ مِنْ غَيْرِهِمُ اهْتِدَاءً فَإِذَا هُمْ لَمْ يَشُمُّوا رَائِحَةَ الِاهْتِدَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَظَرُوا فِي قَسَمِهِمْ بِهَدْيِ الْيَهُودِ، وَفَرِيقٌ نَظَرُوا بِهَدْيِ النَّصَارَى، وَفَرِيقٌ بِهَدْيِ الصَّابِئَةِ، فَجَمَعَتْ عِبَارَةُ الْقُرْآنِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ لِيَأْتِيَ عَلَى مَقَالَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مَعَ الْإِيجَازِ. وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْأُمَمِ بِمَعْنَى أَفْضَلِ الْأُمَمِ، فَيَكُونَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُقْسِمِينَ، أَيْ أَهْدَى مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى التَّنْظِيرِ بِمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِحْدَى الْإِحَدِ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْإِحَدِ) وَلَا يَتِمُ التَّنْظِيرُ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِحْدَى الْإِحَدِ، جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ فِي الشَّرِّ أَوِ الْخَيْرِ. وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ الِاسْتِعْظَامِ إِضَافَةُ «إِحْدَى» إِلَى اسْمٍ مِنْ لَفْظِهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعْنًى يُرَادُ فِي حَالَةِ تَجَرُّدِ إِحْدَى عَنِ الْإِضَافَةِ. وَبَيْنَ: أَهْدى وإِحْدَى الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا وَمَا يُؤْثَرُ مِنْ تَنَصُّرِ بَعْضِ الْعَرَبِ وَمِنِ اتِّسَاعِ بَعْضِهِمْ فِي

التَّحَنُّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ، وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] ، فَذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُمْ فِي الْمُلَاجَّةِ وَالْمُحَاجَّةِ لَمَّا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ أَحْوَالَ الْبَشَرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 20] فَلَجَأُوا إِلَى إِنْكَارِ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى بَشَرٍ شَيْئًا. وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُمْ هُنَا فَهُوَ شَأْنُهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ بِكَلَامِهِ. فَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ قَبْلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: 46] وَهَذَا غَيْرُ الْقَسَمِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا» . وَالزِّيَادَةُ: أَصْلُهَا نَمَاءٌ وَتَوَفُّرٌ فِي ذَوَاتٍ. وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْقُوَّةُ فِي الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125] . وَمِنْ ثَمَّةَ تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ أَيْضًا عَلَى طُرُوِّ حَالٍ عَلَى حَالٍ، أَوْ تَغْيِيرِ حَالٍ إِلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: 30] . وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يَطْرَأُ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوْعُهُ عِنْدَهُ مِنْ قَبْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: 26] ، أَيْ وَعَطَاءٌ يَزِيدُ فِي خَيْرِهِمْ. وَلَّمَا كَانَ مَجِيءُ الرَّسُول يَقْتَضِي تغير أَحْوَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ كَانَ الظَّنُّ بِهِمْ لَمَّا أَقْسَمُوا قَسَمَهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءَهُمُ النَّذِيرُ اهْتَدَوْا وَازْدَادُوا مِنَ الْخَيْرِ إِنْ كَانُوا عَلَى شَأْنٍ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّ الْبَشَرَ لَا يَخْلُو مِنْ جَانِبٍ مِنَ الْخَيْرِ قَوِيٌّ أَوْ ضَعِيفٌ فَإِذَا بِهِمْ صَارُوا نَافِرِينَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي جَاءَهُم. وَالِاسْتِثْنَاء مُفَرع مِنْ مَفْعُولِ زادَهُمْ الْمَحْذُوفِ، أَيْ مَا أَفَادَهُمْ صَلَاحًا وَحَالًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلَّا نُفُورًا فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا نُفُوراً مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا نَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَقْسَمُوا: لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى كَانَ

حَالُهُمْ حَالَ النفور من قبُول دَعْوَةِ النَّصَارَى إِيَّاهُمْ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ مِنَ الِاتِّعَاظِ بِمَوَاعِظِ الْيَهُودِ فِي تَقْبِيحِ الشِّرْكِ فَأَقْسَمُوا ذَلِكَ الْقَسَمَ تَفَصِّيًا مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَبَاعِثُهُمْ عَلَيْهِ النُّفُورُ مِنْ مُفَارَقَةِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ مَا زَادَهُمْ شَيْئًا وَإِنَّمَا زَادَهُمْ نُفُورًا، فَالزِّيَادَةُ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ وَالِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدّه. والنفور هم نُفُورُهُمُ السَّابِقُ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَزِدْهُمْ شَيْئًا وَحَالُهُمْ هِيَ هِيَ. وَضَمِيرُ زادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ أَوْ إِلَى الْمَجِيءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جاءَهُمْ. وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرَّسُولَ أَوْ مَجِيئَهُ لَيْسَ هُوَ يَزِيَدُهُمْ وَلَكِنَّهُ سَبَبُ تَقْوِيَةِ نُفُورِهِمْ أَوِ اسْتِمْرَارِ نُفُورِهِمْ. واسْتِكْباراً بَدَلُ اشْتِمَالِ مِنْ نُفُوراً أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ النُّفُورَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ فَصَحَّ إِعْمَالُهُ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: نَفَرُوا لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ فِي الْأَرْضِ. وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. وَالْأَرْضُ: مَوْطِنُ الْقَوْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا [الْأَعْرَاف: 88] أَيْ بَلَدِنَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا فِي قَوْمِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَمَكْرَ السَّيِّئِ عُطِفَ عَلَى اسْتِكْباراً بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَإِضَافَةُ مَكْرَ إِلَى السَّيِّئِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مِثْلُ: عِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَأَصْلُهُ: أَنْ يَمْكُرُوا الْمَكْر السيّء بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. وَالْمَكْرُ: إِخْفَاءُ الْأَذَى وَهُوَ سيّىء لِأَنَّهُ مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْخُلُقِ الْكَرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِالسَّيِّئِ وَصْفٌ كَاشِفٌ، وَلَعَلَّ التَّنْبِيهَ إِلَى أَنَّهُ وَصْفٌ كَاشِفٌ هُوَ مُقْتَضَى إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الْوَصْفِ لِإِظْهَارِ مُلَازَمَةِ الْوَصْفِ لِلْمَوْصُوفِ فَلَمْ يَقُلْ: وَمَكْرًا سَيِّئًا (وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمَكْرِ إِلَّا فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا مَدْخُولٌ فِيهَا عَلَى مِثْلِهِ) أَيْ مَكْرًا بِالنَّذِيرِ وَأَتْبَاعِهِ وَهُوَ مَكْرٌ ذَمِيمٌ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمُتَسَبِّبِ فِي صَلَاحِهِمْ بِإِضْمَارِ ضُرِّهِ.

وَقَدْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ فِي قَسَمِهِمْ إِذْ قَالُوا: «لَئِنْ جَاءَنَا نَذِيرٌ لَنَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْهُمْ» وَأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِهِ إِلَّا التَّفَصِّي مِنَ اللَّوْمِ. وَجُمْلَةُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ تَذْيِيلٌ أَوْ مَوْعِظَةٌ. ويَحِيقُ: ينزل بِهِ شَيْء مَكْرُوهٍ حَاقَ بِهِ، أَيْ نَزَلَ وَأَحَاطَ إِحَاطَةَ سُوءٍ، أَيْ لَا يَقَعُ أَثَرُهُ إِلَّا عَلَى أَهْلِهِ. وَفِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: ضرّ الْمَكْر السيّء أَوْ سوء الْمَكْر السيّء كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَحِيقُ فَإِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ فِي الْمَكْرُ لِلْجِنْسِ كَانَ الْمُرَادُ بِ «أَهْلِهِ» كُلَّ مَاكِرٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِمَوْقِعِ الْجُمْلَةِ وَمَحْمَلِهَا عَلَى التَّذْيِيلِ لِيَعُمَّ كُلَّ مَكْرٍ وَكُلَّ مَاكِرٍ، فَيَدْخُلَ فِيهِ الْمَاكِرُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونَ الْقَصْرُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالضُّرِّ الْقَلِيلِ الَّذِي يَحِيقُ بِالْمَمْكُورِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمَاكِرِ فِي قَدَرِهِ مِنْ مُلَاقَاةِ جَزَائِهِ عَلَى مَكْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ النَّوَامِيسِ الَّتِي قَدَّرَهَا الْقَدَرُ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الضَّارَّةِ تُؤَوَّلُ إِلَى ارْتِفَاعِ ثِقَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَاللَّهُ بَنَى نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى تَعَاوُنِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، فَإِذَا لَمْ يَأْمَنْ أَفْرَادُ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَنَكَّرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَتَبَادَرُوا الْإِضْرَارَ وَالْإِهْلَاكَ لِيَفُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ بِكَيْدِ الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ كَبِيرٍ فِي الْعَالِمِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا ضُرَّ عَبِيدِهِ إِلَّا حَيْثُ تَأْذَنُ شَرَائِعُهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ مِنْ جِنْسِهِ ... حَتَّى الْحَدِيدُ سَطَا عَلَيْهِ الْمِبْرَدُ وَكَمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ نَوَامِيسَ مَغْفُولٍ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] . وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدِهِ عَنِ الزُّهْرِيُّ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ «مَنْ حَفْرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا» ، وَمِنْ كَلَامِ عَامَّةِ أَهْلِ تُونِسَ (يَا حَافِرَ حُفْرَةِ السَّوْءِ مَا تَحْفِرُ إِلَّا قِيَاسَكَ» . وَإِذَا كَانَ تَعْرِيفُ الْمَكْرُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ كَانَ الْمَعْنَى: وَلَا يَحِيقُ هَذَا الْمَكْرُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أَيِ الَّذِينَ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ فَازْدَادُوا نُفُورًا، فَيَكُونُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ مَوْقِعَ الْوَعِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْرَهُمْ وَيَحِيقُ

ضُرُّ مَكْرِهِمْ بِهِمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُمْ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ، فَيَكُونُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: 54] فَالْقَصْرُ حَقِيقِيُّ. فَكَمِ انْهَالَتْ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ آدَابٍ عُمْرَانِيَّةٍ وَمُعْجِزَاتٍ قُرْآنِيَّةٍ وَمُعْجِزَاتٍ نَبَوِيَّةٍ خَفِيَّةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ قَدْ جُعِلَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي مِثَالًا لِلْكَلَامِ الْجَارِي عَلَى أُسْلُوبِ الْمُسَاوَاةِ دُونَ إِيجَازٍ وَلَا إِطْنَابٍ. وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ مَثَّلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ هُوَ الْخَطِيبُ الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاح» وَفِي «تَلْخِيص الْمِفْتَاحِ» ، وَهُوَ مِمَّا زَادَهُ عَلَى مَا فِي «الْمِفْتَاحِ» وَلَمْ يُمَثِّلْ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِلْمُسَاوَاةِ بِشَيْءٍ وَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ الْقَزْوِينِيُّ فَإِنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَاهِرِ لَمْ يَذْكُرِ الْإِيجَازَ وَالْإِطْنَابَ فِي كِتَابِهِ. وَإِذْ قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» «أَنَّ الْمُسَاوَاةَ هِيَ مُتَعَارَفُ الْأَوْسَاطِ وَأَنَّهُ لَا يُحْمَدُ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ وَلَا يُذَمُّ» فَقَدْ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا تَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بَلْهَ الْمُعْجِزَ. وَمِنَ الْعَجِيبِ إِقْرَار الْعَلامَة التفتازانيّ كَلَامَ صَاحِبِ «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنَ الْمُسَاوَاةِ وَفِيهِ جُمْلَةٌ ذَاتُ قَصْرٍ وَالْقَصْرُ مِنَ الْإِيجَازِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ جُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةُ إِثْبَاتٍ لِلْمَقْصُودِ، وَجُمْلَةُ نَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ، فَالْمُسَاوَاةُ أَنْ يُقَالَ: يَحِيق الْمَكْر السيّء بِالْمَاكِرِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ فقد سلك طَريقَة الْإِيجَازِ. وَفِيهِ أَيْضًا حَذْفُ مُضَافٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَحِيقُ ضرّ الْمَكْر السيّء إِلَّا بِأَهْلِهِ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: بِأَهْلِهِ إِيجَازًا لِأَنَّهُ عَوَّضَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: بِالَّذِينِ تَقَلَّدُوهُ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا مَوَاقِعُهَا فِي مُحَادَثَاتِ النَّاسِ الَّتِي لَا يُعْبَأُ فِيهَا بِمُرَاعَاةِ آدَابِ اللُّغَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَمَكْرَ السَّيِّئِ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَعْرِيفِ الْمَكْرُ وَفِي المُرَاد ب بِأَهْلِهِ، أَيْ كَمَا مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَحَاقَ بِهِمْ مَكْرُهُمْ كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. ويَنْظُرُونَ هُنَا مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ. كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: وَشُعْثٍ يَنْظُرُونَ إِلَى بَلِالٍ ... كَمَا نَظَرَ الْعِطَاشُ حَيَا الْغَمَامِ فَقَوْلُهُ: «إِلَى» مُفْرَدٌ مُضَافٌ، وَهُوَ النِّعْمَة وَجمعه آلَاءُ. وَمَعْنَى الِانْتِظَارِ هُنَا: أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، فَشَبَّهَ لُزُومَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِالشَّيْءِ الْمَعْلُومِ لَهُمُ الْمُنْتَظَرِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ: وَالْأَوَّلُونَ: هُمُ السَّابِقُونَ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، بِقَرِينَةِ سِيَاق الْكَلَام. وسُنَّتَ مَفْعُولُ يَنْظُرُونَ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ أَوْ قِيَاسَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس: 102] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لَمَّا ذَكَّرَ النَّاسَ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ أَفْصَحَ عَنِ اطِّرَادِ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. ولَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَالْخِطَابُ فِي تَجِدُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطِبٍ، وَبِذَلِكَ يَتَسَنَّى أَنْ يُسِيرَ هَذَا الْخَبَرُ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالتَّبْدِيلُ: تَغْيِيرُ شَيْءٍ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

[سورة فاطر (35) : آية 44]

وَالتَّحْوِيلُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَوْلِ وَهُوَ الْجَانِبُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْكَرَامَةُ فِي مَوْقِعِ الْعِقَابِ، وَلَا يُتْرَكُ عِقَابُ الْجَانِي. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْحُكَمَاءِ: مَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَخْتَلِفُ. [44] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 44] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: 43] اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّ مُسَاوَاتَهُمْ لِلْأَوَّلِينَ تُنْذِرُ بِأَنْ سَيَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ مِنْ نَوْعِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آثَارِ اسْتِئْصَالِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الِاضْمِحْلَالَ مَعَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ اسْتِئْصَالُ هَؤُلَاءِ أقرب. وَجِيء بِهَذِهِ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْآيَة لما يفِيدهُ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ تِلْكَ الْقُوَّةِ إِيثَارًا لِلْإِيجَازِ لِاقْتِرَابِ خَتْمِ السُّورَةِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ فِي نَظَائِرِهَا بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَلَكِنْ أُتِيَ فِيهَا بِجُمْلَةِ وَصْفٍ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [21] : الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، وَفِي سُورَة الرّوم [9] الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ حَيْثُ أوثر فيهمَا الْإِطْنَابُ بِتَعْدَادِ بَعْضِ مَظَاهِرِ تِلْكَ الْقُوَّةِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً. لَمَّا عَرَضَ وَصْفَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ فِي مَعْرِضِ التَّمْثِيلِ بِالْأَوَّلِينَ تَهْدِيدًا وَاسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي مِثْلِ عَذَابِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالِاحْتِرَاسِ عَنِ الطَّمَاعِيَةِ فِي النَّجَاةِ مِنْ مِثْلِ عَذَابِهِمْ بِعِلَّةِ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَزَعْمِهِمْ: أَنَّ لَهُمْ آلِهَةً تَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بشفاعتها أَو دفاعها فَقِيلَ: وَما

[سورة فاطر (35) : آية 45]

كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، أَيْ هَبْكُمْ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلين أَو أشدّ حِيلَةً مِنْهُمْ أَوْ لَكُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] . وَجِيءَ بِلَامِ الْجُحُودِ مَعَ كانَ الْمَنْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ نَفْيِّ كُلِّ شَيْءٍ يَحُولُ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالِاحْتِرَاسِ. وَمَعْنَى «يُعْجِزُهُ» : يَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَنْ تَحْقِيقِ مُرَادِهِ فِيهِ فَيُفْلِتُ أَحَدً عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ شَيْءٍ يُغَالِبُ مُرَادَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِلْمِ وَاسِعُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَبِأَنَّهُ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ. وَقَدْ حَصَرَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْجِزُ اللَّهَ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُرِيدِ عَنْ تَحْقِيقِ إِرَادَتِهِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ خَفَاءَ مَوْضِعِ تَحَقُّقِ الْإِرَادَةِ، وَهَذَا يُنَافِي إِحَاطَةَ الْعِلْمِ، أَوْ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَهَذَا يُنَافِي عُمُوم الْقُدْرَة. [45] [سُورَة فاطر (35) : آيَة 45] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) تَذْكِيرٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُمْ تَأْخِيرُ الْمُؤَاخَذَةِ فَيَحْسَبُوهُ عَجْزًا أَوْ رِضًى مِنَ اللَّهِ بِمَا هُمْ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] فَعِلْمُهُمْ أَنَّ لِعَذَابِ اللَّهِ آجالا اقتضتها حكمته، فِيهَا رَعْيُ مَصَالِحِ أُمَمٍ آخَرِينَ، أَوِ اسْتِبْقَاءِ أَجْيَالٍ آتِينَ. فَالْمُرَادُ بِ النَّاسَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَضَمِيرُ «مَا كَسَبُوا» وَضَمِيرُ يُؤَخِّرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَجَلٍ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَ فِيهَا بِما كَسَبُوا وَهُنَالِكَ جَاءَ فِيهَا بِظُلْمِهِمْ [النَّحْل: 61] لِأَنَّ مَا كَسَبُوا

يَعُمُّ الظُّلْمَ وَغَيْرَهُ. وَأُوثِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَقِبَ تَشْنِيعِ ظُلْمٍ عَظِيمٍ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ بَنَاتِهِمُ الْمَوْءُودَاتِ وَإِلَّا أَنَّ هُنَالِكَ قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَيْها [النَّحْل: 61] وَهُنَا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها وَهُوَ تَفَنُّنٌ تَبِعَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا ... عبيدك وَاسْتشْهدَ إلهك يَشْهَدِ وَالضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ هُنَا وَهُنَاكَ فِي الْبَيْتِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنَ الْمَقَامِ. وَالظَّهْرُ: حَقِيقَتُهُ مَتْنُ الدَّابَّةِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهَا، وَهُوَ مَا يَعْلُو الصُّلْبَ مِنَ الْجَسَدِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَطْنِ فَأُطْلِقَ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ صَدْرُهُ وَبَطْنُهُ. وَظَهْرُ الْأَرْضِ مُسْتَعَارٌ لِبَسْطِهَا الَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مَخْلُوقَاتُ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لِلْأَرْضِ بِالدَّابَّةِ الْمَرْكُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ. ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ مِنَ الْحَقِيقَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً، وَقَدْ قَالَ هُنَالِكَ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النَّحْل: 61] ، فَمَا هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ أَخَذَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا، أَيْ عَلِيمًا فِي حَالَيِ التَّأْخِيرِ وَمَجِيءِ الْأَجَلِ، وَلِهَذَا فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً دَلِيلُ جَوَابِ (إِذَا) وَلَيْسَ هُوَ جَوَابَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِقَرْنِهِ بِفَاءِ التَّسَبُّبِ، وَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فَهُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ تهديد بِأَنَّهُم إِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ دُونَ إِمْهَالٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً هُوَ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَنْ يُقَالَ: مَاذَا جَنَتِ الدَّوَابُّ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبَ النَّاسُ، وَكَيْفَ يَهْلِكُ كُلُّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالصَّالِحُونَ، فَأُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِعَدْلِهِ. فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] ، فَإِهْلَاكُهَا قَدْ يَكُونُ إِنْذَارًا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنْ إِجْرَامِهِمْ، وَأَمَّا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى النَّجَاةِ كَمَا نَجَّى هُودًا وَمَنْ مَعَهُ، وَلَعَلَّهُ إِنْ أَهْلَكَهُمْ أَنْ يُعَوِّضَ لَهُمْ حُسْنَ الدَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» .

36- سورة يس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 36- سُورَةُ يس سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ يس بِمُسَمَّى الْحَرْفَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهَا انْفَرَدت بهما فَكَانَا مُمَيِّزَيْنِ لَهَا عَنْ بَقِيَّةِ السُّوَرِ، فَصَارَ مَنْطُوقُهُمَا عَلَمًا عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ وَرَدَ اسْمُهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرأوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» . وَبِهَذَا الِاسْمِ عَنْوَنَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ. وَدَعَاهَا بَعْضُ السَّلَفِ «قَلْبَ الْقُرْآنِ» لِوَصْفِهَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ ، وَهِيَ تَسْمِيَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ. وَرَأَيْتُ مُصْحَفًا مَشْرِقِيًّا نُسِخَ سَنَةَ 1078 أَحْسَبُهُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ عَنْوَنَهَا «سُورَةَ حَبِيبٍ النَّجَّارِ» وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى [يس: 20] كَمَا يَأْتِي. وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ غَرِيبَةٌ لَا نَعْرِفُ لَهَا سَنَدًا وَلَمْ يُخَالِفْ نَاسِخُ ذَلِكَ الْمُصْحَفِ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي «سُورَةِ التِّينِ» عَنْوَنَهَا «سُورَةَ الزَّيْتُونِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: «إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: «دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ» . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ بِمَكَّةَ وَلَكِنَّهَا احْتُجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَدِينَةِ» اهـ.

أغراض هذه السورة

وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَهُوَ يُؤَوِّلُ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ. وَهِيَ السُّورَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْجَعْبَرِيُّ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُلْ أُوحِيَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَمْصَارِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ. وَعُدَّتْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ. وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس. وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ هَارُونُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَيْخٌ مَجْهُولٌ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُهَا ضَعِيفٌ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَبِالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهًا بِهِ، وَأُدْمِجَ وَصْفُهُ بِالْحَكِيمِ إِشَارَةً إِلَى بُلُوغِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْكَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَحْقِيقُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيلُ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي كِتَابٍ مُنْزِلٍ مِنَ اللَّهِ لِإِبْلَاغِ الْأُمَّةِ الْغَايَةَ السَّامِيَةَ وَهِيَ اسْتِقَامَةُ أُمُورِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزُ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ الدِّينُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَأَنَّ الْقُرْآنَ دَاعٍ لِإِنْقَاذِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَسْبِقْ مَجِيءُ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ عَدَمَ سَبْقِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ لِقَبُولِ الدِّينِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا شَاغِلٌ سَابِقٌ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ أَوْ يَكْتَفُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ هُدًى. وَوَصْفُ إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ عَنْ تَلَقِّي الْإِسْلَامِ، وَتَمْثِيلُ حَالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَحِرْمَانُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا دِينَ الْإِسْلَامِ هُمْ أَهْلُ الْخَشْيَةِ وَهُوَ الدِّينُ الْمَوْصُوفُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِفَرِيقَيِ الْمُتَّبِعِينَ وَالْمُعَرِضِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى بِمَا سَبَقَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ شَابَهَ تَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ تَكْذِيبَ قُرَيْشٍ.

وَكَيْفَ كَانَ جَزَاءُ الْمُعْرِضِينَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الدُّنْيَا وَجَزَاءُ الْمُتَّبِعِينَ فِي دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ ضَرْبُ الْمَثَلُ بِالْأَعَمِّ وَهُمُ الْقُرُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَأُهْلِكُوا. وَالرِّثَاءُ لِحَالِ النَّاسِ فِي إِضَاعَةِ أَسْبَابِ الْفَوْزِ كَيْفَ يُسْرِعُونَ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَتَخْلُصُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَقْرِيبِ الْبَعْثِ وَإِثْبَاتِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ تَارَةً وَبِالِاسْتِطْرَادِ أُخْرَى. مُدْمِجًا فِي آيَاتِهِ الِامْتِنَانَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا تِلْكَ الْآيَاتُ. وَرَامِزًا إِلَى دَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالنِّعَمِ عَلَى تَفَرُّدِ خَالِقِهَا وَمُنْعِمِهَا بِالْوَحْدَانِيَّةِ إِيقَاظًا لَهُمْ. ثُمَّ تَذْكِيرُهُمْ بِأَعْظَمِ حَادِثَةٍ حَدَثَتْ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَالْمُتَمَسِّكِينَ بِالْأَصْنَامِ مِنَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ نَذِيرًا، فَهَلَكَ مَنْ كَذَّبَ، وَنَجَا مَنْ آمَنَ. ثُمَّ سِيقَتْ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ الْمَشُوبَةُ بِالِامْتِنَانِ لِلتَّذْكِيرِ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ بِالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَتَرَقُّبِ الْجَزَاءِ. وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّسُولِ وَاسْتِعْجَالِ وَعِيدِ الْعَذَابِ. وَحُذِّرُوا مِنْ حُلُولِهِ بَغْتَةً حِينَ يَفُوتُ التَّدَارُكُ. وَذُكِّرُوا بِمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَوْدَعَهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْفِطْنَةِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ. وَاتِّبَاعُ دُعَاةِ الْخَيْرِ. ثُمَّ رَدَّ الْعَجْزَ عَلَى الصَّدْرِ فَعَادَ إِلَى تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى صَادِرًا مِنْ شَاعِرٍ بِتَخَيُّلَاتِ الشُّعَرَاءِ. وَسَلَّى اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحْزِنَهُ قَوْلُهُمْ وَأَنَّ لَهُ بِاللَّهِ أُسْوَةً إِذْ خَلَقَهُمْ فَعَطَّلُوا قُدْرَتَهُ عَنْ إِيجَادِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً وَلَكِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَيْهِ.

[سورة يس (36) : آية 1]

فَقَامَتِ السُّورَةُ عَلَى تَقْرِيرِ أُمَّهَاتِ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَتَمِّهِ مِنْ إِثْبَات الرسَالَة، وَالْوَحي، وَمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِي صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَعِلْمِ اللَّهِ، وَالْحَشْرِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَهَذِهِ أُصُولُ الطَّاعَةِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْهَا تَتَفَرَّعُ الشَّرِيعَةُ. وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعَ إِدْمَاجِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ بِتَفَنُّنٍ عَجِيبٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسَمَّى «قَلْبَ الْقُرْآنِ» لِأَنَّ مِنْ تَقَاسِيمِهَا تَتَشَعَّبُ شَرَايِينُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَإِلَى وَتِينِهَا يَنْصَبُّ مَجْرَاهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِاعْتِرَافٍ بِالْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، كَمَا سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ إِذْ كَانَتْ جَامِعَةً لِأُصُولُ التدبر فِي أفانينه كَمَا تَكُونُ أُمُّ الرَّأْسِ مَلَاكَ التَّدَبُّرِ فِي أُمُور الْجَسَد. [1] [سُورَة يس (36) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: يَا إِنْسَانُ، بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِلُغَةِ طَيِّءٍ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ عَنْهُ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى حَرْفَيْنِ تُنَافِي ذَلِكَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ يس مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَنَى عَلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنِ بِكْرٍ الْحِمْيَرِيُّ شَاعِرُ الرَّافِضَةِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالسَّيِّدِ الْحِمْيَرِيِّ قَوْلَهُ: يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بِالْوِدِّ جَاهِدَةً ... عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَا وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [130] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ يس اخْتِزَالُ: يَا سَيِّدُ، خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوهِنُهُ نُطْقُ الْقُرَّآءِ بِهَا بِنُونٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ابْنَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ يس بن زين الدِّينِ الْعُلَيْمِيُّ الْحِمْصِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1061 صَاحِبُ

[سورة يس (36) : الآيات 2 إلى 4]

التَّعَالِيقِ الْقَيِّمَةِ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ اسْمَهُ بِحَسَبِ مَا يَنْطِقُ بِهِ لَا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَغْفُلُونَ فَيَكْتُبُونَهُ بِحَرْفَيْنِ كَمَا يُكْتَبُ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1، 2] يَقُولُ هَذَا: اسْمِي يس. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ كَلَامٌ بَدِيعٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بَاسِمٍ اللَّهِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ وَقَادِرٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يَدْرِي مَعْنَاهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَيُقْدِمَ عَلَى خَطَرٍ فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالنُّطْقُ بِاسْمِ (يَا) بِدُونِ مَدٍّ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي كهيعص. [2- 4] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 2 إِلَى 4] وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ كِنَايَةٌ عَنْ شَرَفِ قَدْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ مَعَ ذَلِكَ التَّنْوِيهِ. والْقُرْآنِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُوحَى بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ إِلَى وَفَاتِهِ لِلْإِعْجَازِ وَالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [61] . والْحَكِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيِ الْمَجْعُولِ ذَا إِحْكَامٍ، وَالْإِحْكَامُ: الْإِتْقَانُ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَاحِبَ الْحِكْمَةِ، وَوَصْفُهُ بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ مُحْتَوٍ عَلَيْهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا

[سورة يس (36) : الآيات 5 إلى 6]

بِالرِّسَالَةِ فَهُوَ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَالتَّأْكِيدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ، وَالنُّكَتُ لَا تَتَزَاحَمُ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرٌ ثَانٍ لِ (إِنَّ) ، أَوْ حَالٌ مِنِ اسْمِ (إِنَّ) . وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: الْإِيقَاظُ إِلَى عَظَمَةِ شَرِيعَتِهِ بَعْدَ إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِفَادَةَ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدَ الْمُرْسَلِينَ. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ حَالِ دِينِهِ لِيَكُونَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دِينَهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا لَا ضِمْنِيًّا. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْهُدَى الْمُوَصِّلُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُلُقُ الَّذِي لَقَّنَهُ اللَّهُ، شُبِّهَ بِطَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ فِي أَنَّهُ مَوْثُوقٌ بِهِ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَ أَنْ يَتَرَدَّدَ السَّائِرُ فِيهِ. فَالْإِسْلَامُ فِيهِ الْهُدَى فِي الْحَيَاتَيْنِ فَمُتَّبِعُهُ كَالسَّائِرِ فِي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا حَيْرَةَ فِي سَيْرِهِ تَعْتَرِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَكَانَ الْمُرَادَ. وَالْقُرْآنُ حَاوِي الدِّينِ فَكَانَ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَتَنْكِيرُ صِراطٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى تَعْظِيمه. [5- 6] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 5 إِلَى 6] تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 2] إِذْ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى الْقَسَمُ جَوَابَهُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ تَشْرِيفُ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوُسِمَ بِأَنَّهُ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. وَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ

حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ الْحَذْفُ الْجَارِي عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا أَجْرَوْا حَدِيثًا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ أَخْبَرُوا عَنْهُ الْتَزَمُوا حَذْفَ ضَمِيرِهِ الَّذِي هُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ كَأَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ فِي بَابِ الْأَضْيَافِ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرِ الشَّكْوَى إِذِ النَّعْلُ زَلَّتِ تَقْدِيرُهُ: هُوَ فَتًى. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِنَصْبِ تَنْزِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْنِي. وَالْمَعْنَى: أَعْنِي مِنْ قَسَمِي قُرْآنًا نَزَّلْتُهُ، وَتِلْكَ الْعِنَايَةُ زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ وَهِيَ تُعَادِلُ حَذْفَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ. وَالتَّنْزِيلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أُخْبِرَ عَنْهُ بِالْمَصَدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا. وَأُضِيفَ التَّنْزِيلُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ صِفَتَيِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْهُدَى دُونَ مُصَانَعَةٍ وَلَا ضَعْفٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرَانِ. وَأَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ وَكَشْفِ الْحَقَائِقِ لِلنَّاظِرِينَ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِنْدَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ مَا وَرَدَ بَيَانُهُ بَعْدُ إِجْمَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ، [يس: 6] ثُمَّ تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: 7] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] . فَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَنْزِيلَ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ الْقَوْمُ مِنَ التَّبْلِيغِ إِنْذَارُهُمْ جَمِيعًا بِمَا

[سورة يس (36) : آية 7]

تَضَمَّنَتْهُ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] الْآيَةَ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمِيعًا كَانُوا عَلَى حَالَةٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ لِيُسْرِعُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مُرْتَبِكُونَ. وَالْقَوْمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ: إِمَّا الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَضَتْ قُرُونٌ لَمْ يَأْتِهِمْ فِيهَا نَذِيرٌ، وَمَضَى آبَاؤُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا نَذِيرًا، وَإِنَّمَا يُبْتَدَأُ عَدُّ آبَائِهِمْ مِنْ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى فِي عَمُودِ نَسَبِهِمُ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا بِهِ جِذْمًا وَهُوَ عَدْنَانُ، لِأَنَّهُ جِذْمُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا بَاشَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ بِعْثَتِهِ دَعْوَةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ وَأَنْ تَتَأَصَّلَ مِنْهُمْ جَامِعَةُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَانُوا هُمْ حَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ وَأَعْوَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. فَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ أَهْلُ يَثْرِبَ وَهُمْ قَحْطَانِيُّونَ فَكَانُوا أَنْصَارًا ثُمَّ تَتَابَعَ إِيمَانُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَهُمْ غافِلُونَ أَيْ فَتَسَبَّبَ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْغَفْلَةِ وَصْفًّا ثَابِتًا، أَيْ فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا تَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ فَهُمْ فِي جَهَالَةٍ وَغَوَايَةٍ إِذْ تَرَاكَمَتِ الضَّلَالَاتُ فِيهِمْ عَامًا فَعَامًا وَجِيلًا فَجِيلًا. فَهَذِهِ الْحَالَةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَنْ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ مَنْ آمَنَ بَعْدُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ. وَالْغَفْلَةُ: صَرِيحُهُا الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ، وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهْمَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَحِقُّ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: يَقُولُ أُنَاسٌ يَجْهَلُونَ خَلِيقَتِي ... لَعَلَّ زيادا لَا أَبَاك غافل [7] [سُورَة يس (36) : آيَة 7] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَهُمْ، فَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لم تَنْفَع فيهم النِّذَارَةُ، وَقِسْمٌ اتَّبَعُوا الذِّكْرَ وَخَافُوا اللَّهَ فَانْتَفَعُوا بِالنِّذَارَةِ. وَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَبَلَ عَلَيْهِ

[سورة يس (36) : آية 8]

عُقُولَهُمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ، فَحَقَّقَ فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ انْتِفَاءِ إِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَى أَكْثَرِهِمْ. وحَقَّ: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَوَقَعَ فَلَا يَقْبَلُ نَقْضًا. والْقَوْلُ: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، أَوْ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ، أَيِ الْقَوْلُ النَّفْسِيُّ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ لَا يُؤمنُونَ. [8] [سُورَة يس (36) : آيَة 8] إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] فَإِنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَعْلِ أَغْلَالٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَقِيقَةً أَوْ تَمْثِيلًا. وَالْجَعْلُ: تَكْوِينُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعَلْنَا حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمِحُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِأَنْ شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ بِحَالِ قَوْمٍ جُعِلَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ غَلِيظَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى أَذْقَانِهِمْ فَيَكُونُونَ كَالْمُقْمَحِينَ، أَي الرافعين رؤوسهم الْغَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَوْلَهُمْ فَتَكُونُ تَمْثِيلِيَّةً. وَذَكَرَ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَغْلَالِ مَلْزُوزَةً إِلَى عِظَامِ الْأَذْقَانِ بَحَيْثُ إِذَا أَرَادَ الْمَغْلُولُ مِنْهُمُ الِالْتِفَاتَ أَو أَن يطاطىء رَأْسَهُ وَجِعَهُ ذَقَنُهُ فَلَازَمَ السُّكُونَ وَهَذِهِ حَالَةُ تَخْيِيلِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَلَيْسَ كُلُّ الْأَغْلَالِ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ أَجْزَاءِ الْمَرْكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ إِلَى تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْحَالَيْنِ بِجُزْءٍ مِنَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى بِأَنْ يُشَبَّهَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ بِالْأَغْلَالِ، وَيُشَبَّهُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ بِالْإِقْمَاحِ.

[سورة يس (36) : آية 9]

فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا ، أَيْ جَعَلْنَا أَغْلَالًا، أَيْ فَأَبْلَغْنَاهَا إِلَى الْأَذْقَانِ. وَالْجَعْلُ: هُنَا حَقِيقَةٌ وَهُوَ مَا خُلِقَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خُلُقِ التَّكَبُّرِ وَالْمُكَابَرَةِ. وَالْأَغْلَالُ: جَمَعُ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ حَلْقَةٌ عَرِيضَةٌ مِنْ حَدِيدٍ كَالْقِلَادَةِ ذَاتُ أَضْلَاعٍ مِنْ إِحْدَى جِهَاتِهَا وَطَرَفَيْنِ يُقَابِلَانِ أَضْلَاعَهُمَا فِيهِمَا أَثْقَابٌ مُتَوَازِيَةٌ تَشُدُّ الْحَلْقَةُ مِنْ طَرَفَيْهَا عَلَى رَقَبَةِ الْمَغْلُولِ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ لَهُ رَأْسٌ كَالْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْعَمُودُ فِي الْأَثْقَابِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَى رَأْسِهِ الَّذِي كَالْكُرَةِ اسْتَقَرَّ لِيَمْنَعَ الْغُلَّ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالتَّفَلُّتِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [5] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ مُقْمَحُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ. وَالْمُقْمَحُ: بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الْمَجْعُولِ قَامِحًا، أَيْ رَافِعًا رَأْسَهُ نَاظِرًا إِلَى فَوْقِهِ يُقَالُ: قمحه الغلّ، إِذا جَعَلَ رَأَسَهُ مَرْفُوعًا وَغَضَّ بَصَرَهُ، فَمَدْلُولُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ. وَالْأَذْقَانُ: جَمَعُ ذَقَنٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْإِسْرَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إِلَخْ وَعِيدًا بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْأَغْلَالِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [71، 72] ، فَيَكُونُ فِعْلُ جَعَلْنا مُسْتَقْبَلًا وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، أَيْ سَنَجْعَلُ فِي أَعْنَاقهم أغلالا. [9] [سُورَة يس (36) : آيَة 9] وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا. هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي حِرْمَانِهِمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ لَوْ أَرَادُوا تَأَمُّلًا بِأَنَّ فَظَاظَةَ قُلُوبِهِمْ لَا تَقْبَلُ الِاسْتِنْتَاجَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ بِحَيْثُ لَا يَتَحَوَّلُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَمُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالَةِ مَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ، أَيْ جِدَارَيْنِ: سَدًّا أَمَامَهُمْ، وَسَدًّا خَلْفَهُمْ، فَلَوْ رَامُوا

تَحَوُّلًا عَنْ مَكَانِهِمْ وَسَعْيَهِمْ إِلَى مُرَادِهِمْ لَمَا اسْتَطَاعُوهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ [يس: 67] ، وَقَوْلِ أَبِي الشِّيصِ: وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتَ فَلَيْسَ لِي ... مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ ... : وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَالَكَ أَنَنِي ... ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ لَا أَهْتَدِي فِيهَا لِمَوْضِعِ تَلْعَةِ ... بَيْنَ الْعَذِيبِ وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ وَتَقَدَّمَ السَّدُّ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : مَانِعُ الْإِيمَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا. وَلَهُمُ الْمَانِعَانِ جَمِيعًا: أَمَّا فِي النَّفْسِ فَالْغُلُّ، وَأَمَّا مِنَ الْخَارِجِ فَالسَّدُّ فَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَرَوُا الْآيَاتِ الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْمُقْمَحَ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى الْآفَاقِ لِأَنَّ مَنْ بَيْنَ السَّدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ الْآفَاقَ فَلَا تَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْآيَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] . وَإِعَادَةُ فَعْلِ وَجَعَلْنا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] الْآيَةَ، تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْجَعْلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَإِعَادَةُ فِعْلِ وَجَعَلْنا لِأَنَّهُ جَعْلٌ حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْجَعْلِ الْحَاصِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَدًّا بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمُ الْجِدَارِ الَّذِي يَسُدُّ بَيْنَ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُسَدُّ بِهِ. فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. تَفْرِيعٌ على كلا الْفِعْلَيْنِ جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] وجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا لِأَنَّ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَانِعًا مِنْ أَحْوَالِ النَّظَرِ. وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَفَرَّعُ ثَانِيًا عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِمَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ التَّحَوُّلِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ.

[سورة يس (36) : آية 10]

وَالْإِغْشَاءُ: وَضْعُ الْغِشَاءِ. وَهُوَ مَا يُغَطِّي الشَّيْءَ. وَالْمُرَادُ: أَغْشَيْنَا أَبْصَارَهُمْ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَأَكَّدَهُ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، أَيْ تَحْقِيقِ عدم إبصارهم. [10] [سُورَة يس (36) : آيَة 10] وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُبْصِرُونَ [يس: 9] ، أَيْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَحَرْفُ (عَلَى) مَعْنَاهُ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ هُنَا الملابسة، مُتَعِلِّقٌ بِ سَواءٌ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى (اسْتَوَى) ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى عُدَّتِ التَّسْوِيَةُ مِنْ مَعَانِي الْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي ذَلِكَ مَعَ كَلِمَةِ سَوَاءٍ وَهِيَ تُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ. وَلِمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْهَمْزَةُ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ اسْتُعْمِلَتْ أَمْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ جَاءَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ قَوْلُ بُثَيْنَةَ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنَ مَعْمَرٍ ... إِذَا مِتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ وَلِينُهَا وَجُمْلَةُ لَا يُؤْمِنُونَ مُبِيِّنَةٌ اسْتِوَاءَ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم. [11] [سُورَة يس (36) : آيَة 11] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [يس: 10] أَنَّ الْإِنْذَارَ فِي جَانِبِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يُوهِمُ انْتِفَاءَ الْجَدْوَى مِنَ الْغَيْرِ وَبَعْضٍ مِنْ فَضْلِ أَهَلِ الْإِيمَانِ أَعْقَبَ بِبَيَانِ جَدْوَى الْإِنْذَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان بِالْغَيْبِ. والذِّكْرَ الْقُرْآنُ. وَالِاتِّبَاعُ: حَقِيقَتُهُ الِاقْتِفَاءُ وَالسَّيْرُ وَرَاءَ سَائِرٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَى

الشَّيْءِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ لِأَنَّ الْمُتَّبِعَ شَيْئًا يَعْتَنِي بِاقْتِفَائِهِ، فَاتِّبَاعُ الذِّكْرِ تَصْدِيقُهُ وَالْإِيمَانُ بِمَا فِيهِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ فِيهِ يُفْضِي إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ إِيمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ وَجَدَ لَوْحًا فِيهِ سُورَةُ طه عِنْدَ أُخْتِهِ فَأَخَذَ يَقْرَأُ وَيَتَدَبَّرُ فَآمَنَ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِهِ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ ابْنِ سَلُولَ فِي مَبْدَأِ حُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ فَنَزَلَ فَسَلَّمَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ: يَا هَذَا إِنَّه لَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِكَ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَحَدِّثْهُ وَمَنْ لَمْ يَأْتِكَ فَلَا تَغُتَّهُ بِهِ» . وَلَمَّا كَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ مُفْضِيًا إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا فِيهِ لِأَنَّهُ يُدَاخِلُ الْقَلْبَ كَمَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ «إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ» . أُتْبِعَتْ صِلَةُ اتَّبَعَ الذِّكْرَ بِجُمْلَةِ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنِ اتِّبَاعِ الذِّكْرِ أَكْمَلَ أَنْوَاعِهِ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ إِعْرَاضٌ فَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى امْتِثَالِ الْمُتَّبِعِينَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وخشية الرحمان: تَقْوَاهُ فِي خُوَيْصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ وَبِشَأْنِ الْإِنْذَارِ، فَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: 7] وَهُوَ بَقِيَّةُ تَفْصِيلِ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً [يس: 6] . وَالْغَرَضُ تَقْوِيَةُ دَاعِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْذَارِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ قَبِلُوا نِذَارَتَهُ فَآمَنُوا. فَمَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرَ هُوَ الْإِنْذَارُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالِامْتِثَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا تُنْذِرُ فَيَنْتَذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، أَيْ مِنْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَيَتَّقُونَ. وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الِاتِّبَاعِ وَالْخَشْيَةِ. وَالْمُرَادُ: ابْتِدَاءُ الِاتِّبَاعِ. ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّنْوِيهِ الْأَمْرُ بِتَبْشِيرِ هَؤُلَاءِ بِمَغْفِرَةِ مَا كَانَ مِنْهُم فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا يَقْتَرِفُونَ مِنَ اللَّمَمِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ تُنْذِرُ وَ «بَشِّرْ» فِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، مَعَ بَيَانِ أَنَّ أَوَّلَ أَمْرِهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَاقِبَتَهُ التَّبْشِيرُ.

[سورة يس (36) : آية 12]

وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ، وَوَصْفُهُ بِالْكَرِيمِ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَالتَّعْبِيرُ بِوَصْفِ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنكرُونَ اسْم الرحمان، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وَالثَّانِي: الْإِشَارَة إِلَى أَن رَحْمَتِهِ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ خَشْيَتِهِ فَالْمُؤْمِنُ يَخْشَى اللَّهَ مَعَ عِلْمِهِ بِرَحْمَتِهِ فَهُوَ يَرْجُو الرَّحْمَةَ. فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَهُوَ قَصْرُ الْإِنْذَارِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ اللَّهَ هُوَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تُؤُوِّلَ بِهِ مَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرُ، أَيْ حُصُولُ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ يَكُونُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا إِبْقَاءَ فِعْلِ تُنْذِرُ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِ مَصَادِرِهَا فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتْبِعُوا الذِّكْرَ وَلَمْ يَخْشَوْا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْإِنْذَارِ فِي انْتِفَاء فَائِدَته. [12] [سُورَة يس (36) : آيَة 12] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) لَمَّا اقْتَضَى الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس: 11] نُفِيَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِنْذَارُ بِالَّذِينِ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ وَلم يخشوا الرحمان، وَكَانَ فِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْإِنْذَارِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا يَنْفَعُ كُلَّ عَاقِلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: 70] وَكَمَا قَالَ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: 80] اسْتُطْرِدَ عَقِبَ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّصِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ فَإِنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي حَفَّ بِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان هُوَ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ حَالَةَ الشِّرْكِ حَالَةُ ضَلَالٍ يُشْبِهُ الْمَوْتَ، وَالْإِخْرَاجَ مِنْهُ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ بِصَرِيحِهَا عَلَى عِلْمٍ بِتَحْقِيقِ الْبَعْثِ وَاشْتَمَلَتْ بِتَعْرِيضِهَا عَلَى رَمْزٍ وَاسْتِعَارَتَيْنِ ضِمْنِيَّتَيْنِ: اسْتِعَارَةِ الْمَوْتَى لِلْمُشْرِكِينَ، وَاسْتِعَارَةِ الْأَحْيَاءِ لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَام لما يومىء إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبْقِ الْحُضُورِ فِي الْمُخَيِّلَةِ فَيَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ مِمَّا كَانَ يُتَكَلَّمُ فِي شَأْنِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِيمَا خَطَرَ لَهُ. وَهَذِه الدّلَالَة مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ

الْمَقَامِ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى التَّرْكِيبِ. وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ التَّخَلُّصِ بِحَرْفٍ (إِنَّ) لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ تَحْتَاجُ إِلَى فِطْنَةٍ، وَهَذَا مَقَامُ خِطَابِ الذَّكِيِّ الْمَذْكُورِ فِي مُقَدِّمَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي. فَيَكُونُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ «إِنَّا نُحْيِي الْمَوْتَى» اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ، وَلم يخشوا الرحمان، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَضَاهُمْ جَانِبُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْيَاءُ مُسْتَعَارًا لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَوْتَى: اسْتِعَارَة لأهل الشُّكْر، فَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى تَوْفِيقُ مَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَام: 122] الْآيَةَ. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَيْسِيرِ الْإِيمَانِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: 125] ، وموقع الْجُمْلَة موقع التَّعْلِيل لِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] . وَالْمُرَادُ بِكِتَابَةِ مَا قَدَّمُوا الْكِنَايَةَ عَنِ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالثَّوَابِ عَلَى آثَارِهِمْ. وَهَذَا الِاعْتِبَار يُنَاسِبه الِاسْتِئْنَافَ الِابْتِدَائِيَّ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مُنَبِّهًا السَّامِعَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي مَطَاوِي كَلَامِهِ. وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى معنى الصَّرِيحِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، ونَحْنُ ضَمِيرُ فَصْلٍ لِلتَّقْوِيَةِ وَهُوَ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ. وَالْمَعْنَى: نُحْيِيهِمْ لِلْجَزَاءِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، أَيْ نُحْصِي لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ قَدَّمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِنُجَازِيَهِمْ. وَعَطْفُ ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمُجَازَوْنَ عَلَيْهَا. وَالْكِنَايَةُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَعَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ إِغْفَالِهِ. وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسَجِّلُهَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ.

فَالْمُرَادُ بِ مَا قَدَّمُوا مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ شُبِّهَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَشْيَاءَ يُقَدِّمُونَهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا يُقَدِّمُ الْمُسَافِرُ ثِقْلَهُ وَأَحْمَالَهُ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَهِيَ آثَارُ الْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ عَيْنَ الْأَعْمَالِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِ مَا قَدَّمُوا مِثْلِ مَا يَتْرُكُونَ مِنْ خير أَو يثير بَيْنَ النَّاسِ وَفِي النُّفُوسِ. وَالْمَقْصُودُ بذلك مَا عملوه مُوَافِقًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا وَآثَارَهُمْ كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا» . فَالْآثَارُ مُسَبَّبَاتُ أَسْبَابٍ عَمِلُوا بِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ كِتَابَةَ كُلِّ مَا عَمِلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ. فَهَذَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ كُلٌّ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِنْهُ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: الْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَيَعْنِي آثَارَ أَرْجُلِهِمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ زَادَ: أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فَجَعَلَ الْآثَارَ عَامًّا لِلْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهَذَا يُلَاقِي الْوَجْهَ الثَّانِي فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى . وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا أَسَّسْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَتَوَهَّمَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ وَمَكِّيَّتُهَا تُنَافِيهِ. وَالْإِحْصَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعَدُّ وَالْحِسَابُ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالضَّبْطِ وَعَدَمِ تَخَلُّفِ شَيْءٍ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّعْيِينِ لِأَنَّ الْإِحْصَاءَ وَالْحِسَابَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَفُوتَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَحْسُوبَاتِ. وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الِاقْتِدَاء وَيعْمل عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

[سورة يس (36) : الآيات 13 إلى 14]

بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ أَطْلَقَ الْإِمَامَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُتَّبَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالشُّرُوطِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ ... قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاء وَالْمرَاد ب كُلَّ شَيْءٍ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَذِكْرُ كُلَّ شَيْءٍ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ لِمَّا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ مِنْ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ. فَكَلِمَةُ كُلَّ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَمِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، وَمُبَيِّنَةً لِمُجْمَلِهَا، وَيَكُونُ عَطْفُهَا دُونَ فَصْلِهَا مُرَاعًى فِيهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ شَيْءٍ كَلُّ مَا يُوجَدُ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ الْإِحْصَاءُ إِحْصَاءَ عِلْمٍ، أَيْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ الْمُبِينُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ إِحَاطَةٍ، أَيْ عَدَمُ تَفَلُّتِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَا يَنْفَلِتُ الْمَظْرُوفُ عَنِ الظَّرْفِ. وَجُعِلَ عِلْمُ اللَّهِ إِمَامًا لِأَنَّهُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِهِ تَعَلُقَاتُ الْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا مُفِيدًا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّكَالِيفِ أَوْ ضِدِّهَا بَلْ تَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَادِفُ الْمَوْجُودَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِ كُلَّ شَيْءٍ الْمَوْجُودُ بِالْفِعْلِ أَو مَا يقبل الْإِيجَادِ وَهُوَ الْمُمْكِنُ، فَيَكُونُ إِحْصَاؤُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَمَقَادِيرُ كَوْنِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنّ: 28] . [13، 14] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 13 إِلَى 14] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) أَعْقَبَ وَصْفَ إِعْرَاضِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ بِتَهْدِيدِهِمْ

بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِذْ قَدْ جَاءَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ [يس: 29] . وَالضَّرْبُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي مَعْنَى الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ، وَمِنْهُ: ضَرَبَ خَتْمَهُ. وَضَرَبْتُ بَيْتًا، وَهُوَ هُنَا فِي الْجَعْلِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْمَعْنَى: اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ شَبَهًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ. ولَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ اضْرِبْ أَيِ اضْرِبْ مَثَلًا لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَعْتَبِرُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: 28] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ صِفَةٌ لِ (مَثَلَ) ، أَيِ اضْرِبْ شَبِيهًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: 74] . وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ، فَقَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مَعْنَاهُ وَنَظِّرْ مَثَلًا، أَيْ شَبِّهْ حَالَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكَ بِشَبِيهٍ مِنَ السَّابِقَيْنَ، وَلَمَّا غَلَبَ الْمَثَلُ فِي الْمُشَابِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ الضَّرْبُ أَعَمَّ جُعِلَ مَثَلًا مَفْعُولًا لِ اضْرِبْ، أَيْ نَظِّرْ حَالَهُمْ بِمُشَابِهٍ فِيهَا فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ اضْرِبْ، ومَثَلًا بِالِاعْتِبَارِ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْحَالِ. وَانْتَصَبَ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَيَانِ لِ مَثَلًا، أَوْ بَدَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِ اضْرِبْ ومَثَلًا مَفْعُولًا ثَانِيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً [النَّحْل: 112] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ. والْقَرْيَةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ (أَنْطَاكِيَةُ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ مُتَاخِمَةٌ لِبِلَادِ الْيُونَانِ. وَالْمُرْسَلُونَ إِلَيْهَا قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ بَعَثَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رُفِعَ عِيسَى. وَذَكَرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ.

وَتَحْقِيقُ الْقِصَّةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَدْعُ إِلَى دِينِهِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنِ الدِّينُ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إلّا تكلمة لِمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِكْمَالَهُ من شَرِيعَة التَّوْرَاة، وَلَكِنَّ عِيسَى أَوْصَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ نَهْيِ النَّاسِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا رُؤْيَا أَوْ خَطَرَ لَهُمْ خَاطِرٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِمَّا جَاوَرَهَا، أَوْ خَطَرَ فِي نُفُوسِهِمْ إِلْهَامٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِتَحْقِيقِ وَصِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَوَقَعَتِ اخْتِلَافَاتٌ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ وَتَحْرِيفَاتٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ (¬1) أَنَّ (بِرْنَابَا) وَ (شَاوَل) الْمَدْعُو (بُولُس) مِنْ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ وَوُصِفَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَا فِي أَنْطَاكِيَةَ مُرْسَلَيْنِ لِلتَّعْلِيمِ، وَأَنَّهُمَا عُزِّزَا بِالتِّلْمِيذِ (¬2) (سِيلَا) . وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الثَّالِثَ هُوَ (شَمْعُونُ) ، لَكِنْ لَيْسَ فِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ بُولُس وَبِرْنَابَا عُزِّزَا بِسَمْعَانَ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ أَنه كَانَ نبيء فِي أَنْطَاكِيَةَ اسْمُهُ (سَمْعَانُ) . وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ كَانُوا سُكَّانًا بِأَنْطَاكِيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْيُونَانِ، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الرُّسُلِ سِوَى كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَين الْمُرْسلين وَبَين الْمُرْسل إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ يَطْعَنُونَ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ بُولُس وَبِرْنَابَا وَيُثِيرُونَ عَلَيْهِمَا نِسَاءَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ وُجُوهِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى اضْطُرَّ (بُولُس وَبِرْنَابَا) إِلَى أَنْ خَرَجَا مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَقَصَدَا أَيْقُونِيَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا وَقَاوَمَهُمَا يَهُودُ بَعْضِ تِلْكَ الْمُدُنِ، وَأَنَّ أَحْبَارَ النَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمَدَائِنِ رَأَوْا أَن يعيدون بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. وَبَعْدَ عَوْدَتِهِمَا حَصَلَ لَهُمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي الْأُولَى وَبِالْخُصُوصِ فِي قَضِيَّةِ وُجُوبِ الْخِتَانِ عَلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي الدِّينِ، فَذَهَبَ بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أُورَشْلِيمَ لِمُرَاجَعَةِ الْحَوَارِيِّينَ فَرَأَى أَحْبَارُ أورشليم أَن يؤيدوهما بِرَجُلَيْنِ ¬

(¬1) «الإصحاح» 13، أَعمال الرُّسُل 1- 9. (¬2) «الإصحاح» 15، أَعمال الرُّسُل 34- 35.

[سورة يس (36) : آية 15]

مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هُمَا (بِرْسَابَا) وَ (سِيلَا) . فَأَمَّا (بِرْسَابَا) فَلَمْ يَمْكُثْ. وَأَمَّا (سِيلَا) فَبَقِيَ مَعَ (بُولُس وَبِرْنَابَا) يَعِظُونَ النَّاسَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ إِذْ أَسْنَدَ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْزِيزَ إِلَى اللَّهِ. وَالتَّعْزِيزُ: التَّقْوِيَةُ، وَفِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مَعْنَى جَعْلِ الْمُقَوَّى عَزِيزًا فَالْأَحْسَنُ أَنَّ التَّعْزِيزَ هُوَ النَّصْرُ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فَعَزَّزْنا بِتَخْفِيفِ الزَّايِ الْأُولَى، وَفِعْلُ عَزَّ بِمَعْنَى يُحْيِي مُرَادِفًا لِعَزَّزَ كَمَا قَالُوا شَدَّ وَشَدَّدَ. وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ فَأَكَّدُوا الْخَبَرَ تَأْكِيدًا وَسَطًا، وَيُسَمَّى هَذَا ضَرْبًا طَلَبِيًّا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمُ الْمَقْصُودِ إِيمَانهم بِعِيسَى. [15] [سُورَة يس (36) : آيَة 15] قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) كَانَ أَهْلُ (أَنْطَاكِيَةَ) وَالْمُدُنِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا خَلِيطًا مِنَ الْيَهُودِ وَعَبَدَةَ الْأَصْنَامِ من اليونان، فَقَوله: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا صَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْآلِهَةَ لَا تَبْعَثُ الرُّسُلَ وَلَا تُوحِي إِلَى أَحَدٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (¬1) أَنَّ بَعْضَ الْيُونَانِ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ (لِسْتُرَة) رَأَوْا مُعْجِزَةً مِنْ بُولُس النَّبِيءِ فَقَالُوا بِلِسَانٍ يُونَانِيٍّ: إِنَّ الْآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا فَكَانُوا يَدْعُونَ (بِرْنَابَا) (زِفْس) . أَيْ كَوْكَبَ الْمُشْتَرِي، وَ (بُولُس) (هُرْمُس) أَيْ كَوْكَبَ عُطَارِدٍ وَجَاءَهُمَا كَاهِنُ (زِفْس) بِثِيرَانٍ لِيَذْبَحَهَا لَهُمَا، وَأَكَالِيلَ لِيَضَعَهَا عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ (بُولُس وَبِرْنَابَا) مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَصَرَخَا: نَحْنُ بَشْرٌ مَثْلُكُمْ نَعِظُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا عَنْ ¬

(¬1) انْظُر «الإصحاح» 14.

[سورة يس (36) : الآيات 16 إلى 17]

هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ إِلَى الْإِلَهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ. وَصَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذين لم يتنصّروا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَبَقِيَّةَ الْيَهُودِ سَوَاءٌ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُمَا بِمَا يَزْعُمُونَ مِنَ النُّبُوءَةِ وَيَقْتَضِي إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنَزَلَ شَيْئًا، أَيْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ. فَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ جَمْعُ مُقَالَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّحْمنُ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَفَرَةِ وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ صَالِحًا لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْيُونَانَ لَا يَعْرِفُونَ اسْمَ اللَّهِ، وَرَبُّ الْأَرْبَابِ عِنْدَهُمْ هُوَ (زِفْس) وَهُوَ مَصْدَرُ الرَّحْمَةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ النُّطْقَ بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي لُغَتِهِمْ (يَهْوَه) فَيُعَوِّضُونَهُ بِالصِّفَاتِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ اسْتِفْهَامٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَخْبَارٍ مَحْذُوفَةٍ فَجُمْلَةُ تَكْذِبُونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ ضمير أَنْتُمْ. [16، 17] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 16 إِلَى 17] قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) حُكِيَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُتَحَاوِرِينَ دُونَ عَطْفٍ. ورَبُّنا يَعْلَمُ قَسَمٌ لِأَنَّهُ اسْتِشْهَادٌ بِاللَّهِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ يَمِينٌ قَدِيمَةٌ انْتَقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنِ عَبَّادٍ: لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُـ وَإِنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِي وَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مُغَلِّظًا عِنْدَهُمْ لِقِلَّةِ وُرُودِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَلَا يَكَادُ يَقَعُ إِلَّا فِي مَقَامٍ مُهِمٍّ. وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَمِينٌ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ فِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ لَهُمْ قَوْلًا بِأَنَّ الْحَالِفَ بِهِ كَاذِبًا تَلْزَمُهُ الرِّدَّةُ لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَآلَ إِلَى جَعْلِ عِلْمِ اللَّهِ جَهْلًا. وَهَذَا يَرْمِي إِلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يُكَفِّرُ أَحَدٌ بِلَوَازِمَ بَعِيدَةٍ.

[سورة يس (36) : آية 18]

وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى شِدَّةِ التَّوْكِيدِ بِالْقَسَمِ مَا رَأَوْا مِنْ تَصْمِيمِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَيُسَمَّى هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّأْكِيدِ ضَرْبًا إِنْكَارِيًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فَذَلِكَ وَعْظٌ وَعَظُوا بِهِ الْقَوْمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا مَنْفَعَةَ تَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ إِيمَانِ الْقَوْمِ وَإِعْلَانٌ لَهُمْ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ عُهْدَةِ بَقَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ النَّظَرَ الْفِكْرِيَّ فِي نُفُوسِ الْقَوْمِ. والْبَلاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَبْلَغَ إِذَا أَوْصَلَ خَبَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] وَقَالَ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: 52] . وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبَلَاغُ فِي إِيصَالِ الذَّوَاتِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي كَرَاءِ السُّفُنِ وَالرَّوَاحِلِ: إِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْبَلَاغِ. يُرِيدُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ الْمَكْرِي وَالْمُكْتَرِي. والْمُبِينُ وَصْفٌ لِلْبَلَاغِ، أَيِ الْبَلَاغِ الْوَاضِحِ دَلَالَةً وَهُوَ الَّذِي لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مواربة. [18] [سُورَة يس (36) : آيَة 18] قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) لَمَّا غَلَبَتْهُمُ الْحُجَّةُ من كل جَانب وَبَلَغَ قَوْلُ الرُّسُلِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس: 17] مِنْ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ مَبَلَغَ الْخَجَلِ وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْ إِخْفَاقِ الْحُجَّةِ وَالِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَ نَفْعَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى سَتْرِ خَجَلِهِمْ وَانْفِحَامِهِمْ بِتَلْفِيفِ السَّبَبِ لِرَفْضِ دَعْوَتِهِمْ بِمَا حَسِبُوهُ مُقْنِعًا لِلرُّسُلِ بِتَرْكِ دَعْوَتِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَّعُونَهُ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ مُخْتَرِعِهِ بِالْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ وَلَحِقَهُمْ مِنْهُم شُؤْم، وَلَا بُد لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ. وَالتَّطَيُّرُ فِي الْأَصْلِ: تَكَلُّفُ مُعْرِفَةِ دَلَالَةِ الطَّيْرِ عَلَى خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ تَعَرُّضِ نَوْعِ الطَّيْرِ وَمِنْ صِفَةِ انْدِفَاعِهِ أَوْ مَجِيئِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَدَثٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي لَحَاقِ شَرٍّ بِهِ فَصَارَ مُرَادِفًا لِلتَّشَاؤُمِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ» وَبِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ.

[سورة يس (36) : آية 19]

وَمَعْنَى بِكُمْ بِدَعْوَتِكُمْ، وَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أَنَّ الْقَرْيَةَ حَلَّ بِهَا حَادِثُ سُوءٍ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهَمْ مِنْ قَحْطٍ أَوْ وَبَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضُّرِّ الْعَامِّ مُقَارَنٌ لِحُلُولِ الرُّسُلِ أَوْ لِدَعْوَتِهِمْ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَخْلُو فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ مَكْرُوهُ. وَمِنْ عَادَةِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ السَّخِيفَةِ وَالْعُقُولِ الْمَأْفُونَةِ أَنْ يُسْنِدُوا الْأَحْدَاثَ إِلَى مُقَارَنَاتِهَا دُونَ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا ثُمَّ أَنْ يَتَخَيَّرُوا فِي تَعْيِينِ مُقَارَنَاتِ الشُّؤْمِ أُمُورًا لَا تُلَائِمُ شَهَوَاتِهِمْ وَمَا يَنْفِرُونَ مِنْهُ، وَأَنْ يُعِيِّنُوا مِنَ الْمُقَارَنَاتِ لِلتَّيَمُّنِ مَا يَرْغَبُونَ فِيهِ وَتَقْبَلُهُ طِبَاعُهُمْ يُغَالِطُونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ شَأْنُ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَمَرْجِعُ الْعِلَلِ كُلِّهَا لَدَيْهِمْ إِلَى أَحْوَالِ نُفُوسِهِمْ وَرَغَائِبِهِمْ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] وَحَكَى عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النِّسَاء: 78] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا بِالشُّؤْمِ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ أَحْدَثَتْ مُشَاجَرَاتٍ وَاخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَلَمَّا تَمَالَأَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ كُلِّ حَدَثٍ مَكْرُوهٍ يُصِيبُ أَحَدَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ جَرَّاءِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أَيْ يَقُولُهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوِ الْجَمْعُ فَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالِانْتِهَاءِ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وَبِذَلِك ألجئوا (بُولُس) وَ (بِرْنَابَا) إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ فَخَرَجَا إِلَى أَيْقُونِيَّةَ وَظَهَرَتْ كَرَامَةُ (بُولُس) فِي أَيْقُونِيَّةَ ثُمَّ فِي (لِسْتُرَة) ثُمَّ فِي (دَرْبَةَ) . وَلَمْ يَزَلِ الْيَهُودُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدُنِ يُشَاقُّونَ الرُّسُلَ وَيَضْطَهِدُونَهُمْ وَيُثِيرُونَ النَّاس عَلَيْهِم ويلحقونهم إِلَى كل بلد يحلّون بِهِ ليشغبوا عَلَيْهِمْ، فَمَسَّهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَذَابٌ وَضُرٌّ وَرُجِمَ (بُولُس) فِي مَدِينَةِ (لِسْتُرَة) حَتَّى حَسِبُوا أَنْ قَدْ مَاتَ. وَلَامُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ حُكِيَ بِهَا مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قسم بكلامهم. [19] [سُورَة يس (36) : آيَة 19] قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) حُكيَ قَول الرُّسُل بِمَا يُرَادِفُهُ وَيُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ ضُرِبَتِ الْقَرْيَةُ مَثَلًا لَهُمْ، فَالرُّسُلُ لَمْ يَذْكُرُوا مَادَّةَ الطِّيَرَةَ وَالطَّيْرَ وَإِنَّمَا

أَتَوْا بِمَا يدل عَلَى أَنَّ شُؤْمَ الْقَوْمِ مُتَّصِلٌ بِذَوَاتِهِمْ لَا جَاءٍ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ فَحُكِيَ بِمَا يُوَافِقُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّجْرِيدِ لِضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِأَنْ لُوحِظَ فِي حِكَايَة الْقِصَّة مَا هُوَ من شؤون الْمُشَبَّهِينَ بِأَصْحَابِ الْقِصَّةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الطِّيرَةُ بِمَعْنَى الشُّؤْمِ مُشْتَقَّةً مِنِ اسْمِ الطَّيْرِ لُوحِظَ فِيهَا مَادَّةُ الِاشْتِقَاقِ. وَقَدْ جَاءَ إِطْلَاقُ الطَّائِرِ عَلَى مَعْنَى الشُّؤْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [131] : أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ. وَمَعْنَى طائِرُكُمْ مَعَكُمْ الطَّائِرُ الَّذِي تَنْسُبُونَ إِلَيْهِ الشُّؤْمَ هُوَ مَعَكُمْ، أَيْ فِي نُفُوسِكُمْ، أَرَادُوا أَنَّكُمْ لَوْ تَدَبَّرْتُمْ لَوَجَدْتُمْ أَنَّ سَبَبَ مَا سَمَّيْتُمُوهُ شُؤْمًا هُوَ كُفْرُكُمْ وَسُوءُ سَمْعِكُمْ لِلْمَوَاعِظِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ اتَّبَعُوهُ وَلَمْ يَعْتَدُوا عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمُ الَّذِينَ آثَرْتُمُ الْفِتْنَةَ وَأَسْعَرْتُمُ الْبَغْضَاءَ وَالْإِحَنَ فَلَا جَرَمَ أَنْتُمْ سَبَب سوء الْحَالة الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَأَشَارَ آخِرُ كَلَامِهِمْ إِلَى هَذَا إِذْ قَالُوا: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الدَّاخِلِ عَلَى إِنْ الشَّرْطِيَّةِ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَقُيَّدَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ أَيْضًا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ سِيبَوَيْهِ يُرَجِّحُ إِذَا اجْتَمَعَ الِاسْتِفْهَامُ وَالشَّرْطُ أَنْ يُؤْتَى بِمَا يُنَاسِبُ الِاسْتِفْهَامَ لَوْ صُرِّحَ بِهِ، فَكَذَلِكَ لَمَّا حُذِفَ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَتَتَشَاءَمُونَ بِالتَّذْكِيرِ إِنْ ذُكِّرْتُمْ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ [يس: 18] ، أَيْ بِكَلَامِكُمْ وَأَبْطَلُوا أَنْ يَكُونَ الشُّؤْمُ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أَيْ لَا طِيَرَةَ فِيمَا زَعَمْتُمْ وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ كَافِرُونَ غَشِيَتْ عُقُولَكُمُ الْأَوْهَامُ فَظَنَنْتُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ ضُرًّا لَكُمْ، وَنُطْتُمُ الْأَشْيَاءَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا من إغراقكم فِي الْجَهَالَة وَالْكُفْرِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَمِنْ إِسْرَافِكُمُ اعْتِقَادُكُمْ بِالشُّؤْمِ وَالْبَخْتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَاخِلَةٍ عَلَى إِنْ الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَتَشْديد الْكَاف. وقرأه أَبُو جَعْفَر أأن ذُكِّرْتُمْ بِفَتْحِ كِلْتَا الْهَمْزَتَيْنِ وَبِتَخْفِيفِ الْكَافِ مِنْ ذُكِّرْتُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ، أَيْ أَلِأَجْلِ أَنْ ذَكَرْنَا

[سورة يس (36) : الآيات 20 إلى 25]

أَسْمَاءَكُمْ حِينَ دَعَوْنَاكُمْ حَلَّ الشُّؤْمُ بَيْنَكُمْ كِنَايَة عَن كَونهم أَهْلًا لِأَنْ تَكُونَ أَسْمَاؤُهُمْ شُؤْمًا. وَفِي ذِكْرِ كَلِمَةِ قَوْمٌ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْإِسْرَافَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [164] . [20- 25] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 20 إِلَى 25] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ التَّحَاوُرِ الْجَارِي بَيْنَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَالرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ لِبَيَانِ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهَّلِ الْقَرْيَةِ وَحَالِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمُ الَّذِي وَعَظَهُمْ بِمَوْعِظَةٍ بَالِغَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: 13] وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس: 14] . وَالْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ هُنَا نَفْسُ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] عُبِّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْمَدِينَةِ تفننا، فَيكون أَقْصَا صِفَةً لِمَحْذُوفٍ هُوَ الْمُضَافُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَعِيدِ الْمَدِينَةِ، أَيْ طَرَفِ الْمَدِينَةِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ ظَهَرَ فِي أَهْلِ رَبَضِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فِي قَلْبِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ قَلْبَ الْمَدِينَةِ هُوَ مَسْكَنُ حُكَّامِهَا وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ وَهُمْ أَبْعَدُ عَنِ الِإِنْصَافِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ مَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَعَامَّةُ سُكَّانِهَا تَبَعٌ لِعُظَمَائِهَا لِتَعَلُّقِهِمْ بِهِمْ وَخَشْيَتِهِمْ بَأْسَهُمْ بِخِلَافِ سُكَّانِ أَطْرَاف الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْآخَرِينَ لِأَن سكان الْأَطْرَاف غَالِبُهُمْ عَمَلَةُ أَنْفُسِهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَقْدِيم مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ عَلَى رَجُلٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالثَّنَاءِ

عَلَى أَهْلِ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. وَأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْخَيْرُ فِي الْأَطْرَافِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَسَطِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَسْبِقُ إِلَيْهِ الضُّعَفَاءُ لِأَنَّهُمْ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَقِّ مَا فِيهِ أَهَّلُ السِّيَادَة من ترف وَعَظَمَةٍ إِذِ الْمُعْتَادُ أَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ وَسَطَ الْمَدِينَةِ، قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [20] وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فَجَاءَ النَّظْمُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَصْلِيِّ إِذْ لَا دَاعِي إِلَى التَّقْدِيمِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ نَاصِحًا وَلَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لِلْإِيمَانِ. وَعَلَى هَذَا فَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَهُوَ مِمَّا امْتَازَ الْقُرْآنُ بِالْإِعْلَامِ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وُجِدَ أَنَّ اسْمَهُ حَبِيبُ بْنُ مُرَّةَ قِيلَ: كَانَ نَجَّارًا وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَشْرَفَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَدِينَةِ رَآهُمْ وَرَأَى مُعْجِزَةً لَهُمْ أَوْ كَرَامَةً فَآمَنَ. وَقِيلَ: كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي وَصَفَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِالنَّجَّارِ أَنَّهُ هُوَ (سَمْعَانُ) الَّذِي يُدْعَى (بِالنَّيْجَرِ) الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَأَنَّ وَصْفَ النَّجَّارِ مُحَرَّفٌ عَنْ (نَيْجَر) فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْمُ شَمْعُونَ الصَّفَا أَوْ سَمْعَانَ. وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ. وَوَصْفُ الرَّجُلِ بِالسَّعْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ جَاءَ مُسْرِعًا وَأَنَّهُ بَلَغَهُ هَمُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِرَجْمِ الرُّسُلِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْصَحَهُمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْرَاع إِلَى تَغْيِير الْمُنْكَرِ. وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ «جَاءَ رَجُلٌ» لِأَنَّ مَجِيئَهُ لَمَّا كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ الْمَذْكُورُ. وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِنِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِيَّةِ لَهُ قَصْدٌ مِنْهُ أَنَّ فِي كَلَامِهِ الْإِيمَاءَ إِلَى أَنَّ مَا سَيُخَاطِبُهُمْ بِهِ هُوَ مَحْضُ نَصِيحَةٍ لِأَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَالِاتِّبَاعُ: الِامْتِثَالُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الِاتِّبَاعُ تَشْبِيهًا لِلْأَخْذِ بِرَأْيِ غَيْرِهِ بِالْمُتَّبِعِ لَهُ فِي سَيْرِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُرْسَلِينَ لِلْعَهْدِ.

وَجُمْلَةُ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ مَعَ زِيَادَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ اتِّبَاعِهِمْ بِلَوَائِحِ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ وَالنُّصْحِ عَلَى رِسَالَتِهِمْ إِذْ هُمْ يَدْعُونَ إِلَى هُدًى وَلَا نَفْعَ يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَتَمَحَّضَتْ دَعْوَتُهُمْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ حِكْمَةٌ جَامِعَةٌ، أَيِ اتَّبِعُوا مَنْ لَا تَخْسَرُونَ مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ وَتَرْبَحُونَ صِحَّةَ دِينِكُمْ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي الصِّلَةِ عَدَمُ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ صِدْقِ الْمُرْسَلِينَ وَكَانَ مِنْ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمُ اتِّهَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّعَلُّقُ بِحُبِّ الْمَالِ وَصَارُوا بُعَدَاءَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ كَانُوا يَعُدُّونَ كُلَّ سَعْيٍ يَلُوحُ عَلَى امْرِئٍ إِنَّمَا يَسْعَى بِهِ إِلَى نَفْعِهِ. فَقَدَّمَ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذِه الاسترابة وليتهيّؤوا إِلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْلِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْسَلِينَ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّخْلِيَةُ تُقَدَّمُ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَكَانَتْ جملَة لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أَهَمَّ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَالْأَجْرُ يَصْدُقُ بِكُلِّ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لِأَحَدٍ مِنْ عَمَلِهِ فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَالرِّئَاسَةَ. فَلَمَّا نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَجْرًا فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا يَرْمُونَ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لَهُمْ. وَبَعْدَ ذَلِكَ تَهَيَّأُ الْمَوْقِعُ لِجُمْلَةِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أَيْ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا يَأْتِي بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَى أَنْ تَسِيرُوا سِيرَتَهُمْ فَإِذَا كَانُوا هُمْ مُهْتَدِينَ فَإِنَّ مَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ دَعْوَةً إِلَى الْهُدَى، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَوْقِعِهَا بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا ثَنَاءً عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُتَابَعَتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ مَثَّلَ بِهَا الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاح» و «التَّلْخِيص» لِلْإِطْنَابِ الْمُسَمَّى بِالْإِيغَالِ وَهُوَ أَن يوتى بَعْدَ تَمَامِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامٍ آخَرَ يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهِ لِنُكْتَةٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ زِيَادَةٍ بَلْ كَانَ لِتَوَقُّفِ الْمَوْعِظَةِ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ. وَنَعْتَذِرُ لِصَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» بِأَنَّ الْمِثَالَ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ.

وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنَ الصِّلَةِ فِعْلِيَّةً مَنْفِيَّةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُمْ سُؤَالُ أَجْرٍ فَضْلًا عَنْ دَوَامِهِ وَثَبَاتِهِ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ إِثْبَاتِ اهْتِدَائِهِمْ وَدَوَامِهِ بِحَيْثُ لَا يُخْشَى مَنْ يَتَّبِعُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ غَيْرَ مهتد. وَقَوله: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ قَصَدَ إِشْعَارَهُمْ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْمُرْسَلِينَ وَخَلَعَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَبِصِيغَةِ: مَا لِيَ لَا أَفْعَلُ، الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُورِدَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي ردّ على مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلًا، أَوْ مَلَكَهُ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ يُورِدُهَا مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ إِلَى تَصْدِيقِ الرُّسُل الَّذين جاؤوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَبَقَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَ خَبَرٌ عَنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. وَجُمْلَةُ لَا أَعْبُدُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَكُونُ لِي فِي حَالِ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، أَيْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُنِي مِنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَنِي، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، إِذْ جَعَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَقْوِيَةً لِمَعْنَى التَّعَرُّضِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَهُ بِإِسْنَادِ الْخَبَرِ إِلَى نَفْسِهِ لِإِبْرَازِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُرِيدٌ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُدَارِئَهُمْ فَيُسْمِعَهُمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ وَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَرَجَعَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِاسْتِشْعَارِ سُؤَالٍ عَنْ وُقُوعِ الِانْتِفَاعِ بِشَفَاعَةِ تِلْكَ الْآلِهَةِ عِنْدَ الَّذِي فَطَرَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيُّ، أَيْ أُنْكِرُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، أَيْ لَا أَتَّخِذُ آلِهَةً. وَالِاتِّخَاذٌ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ، وَالتَّنَاوُلُ يُشْعِرُ بِتَحْصِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ، فَالِاتِّخَاذُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ صُنِعَ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا يُجْعَلُ جَعْلًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِلَهِيَّةَ بِالذَّاتِ.

وَوَصَفَ الْآلِهَةَ الْمَزْعُومَةَ الْمَفْرُوضَةَ الِاتِّخَاذِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ . وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُخَاطَبِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَقَدْ عَلِمَ مِنِ انْتِفَاءِ دَفْعِهِمُ الضُّرَّ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ لِأَنَّ دَوَاعِيَ دَفْعِ الضُّرِّ عَنِ الْمَوْلَى أَقْوَى وَأَهَمُّ، وَلَحَاقُ الْعَارِ بِالْوَلِيِّ فِي عَجْزِهِ عَنْهُ أَشَدُّ. وَجَاءَ بِوَصْفِ الرَّحْمنِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ [يس: 15] . وَالْإِنْقَاذُ: التَّخْلِيصُ مِنْ غَلَبٍ أَوْ كَرْبٍ أَوْ حَيْرَةٍ، أَيْ لَا تَنْفَعُنِي شَفَاعَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَنِي بِضُرٍّ وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِنَ الضُّرِّ إِذَا أَصَابَنِي. وَإِذْ قَدْ نُفِيَ عَنْ شَفَاعَتِهِمُ النَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ فِيهِ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشَفَّعُ لَا يَشْفَعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: آتخذ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ مَقْبُولُو الشَّفَاعَةِ. وَإِذْ كَانَتْ شَفَاعَتُهُمْ لَا تَنْفَعُ لِعَجْزِهِمْ وَعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ لِلَّهِ الَّذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَ انْتِفَاءُ أَنْ يُنْقِذُوا أَوْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعُدُولُ عَنْ دَلَالَةِ الْفَحْوَى إِلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَصْرِيحٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ أَسَاسُ الصَّلَاحِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. فَحَرْفُ إِذاً جَزَاءٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ إِنِ اتَّخَذَتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَكُنْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَجُمْلَةُ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْغَايَةِ مِنَ الْخِطَابِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ. وَهَذَا إِعْلَانٌ لِإِيمَانِهِ وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا تِلْكَ الْأَصْنَامِ. وَأُكِّدَ الْإِعْلَانُ بِتَفْرِيعِ فَاسْمَعُونِ اسْتِدْعَاءً لِتَحْقِيقِ أَسْمَاعِهِمْ إِنْ كَانُوا فِي غَفلَة.

[سورة يس (36) : الآيات 26 إلى 27]

[سُورَة يس (36) : الْآيَات 26 إِلَى 27] قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَنْتَظِرُهُ سَامِعُ الْقِصَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ الْخِطَابِ الْجَزْلِ. وَهَلِ اهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ أَوْ أَعرضُوا عَنهُ وتركوه أَوْ آذَوْهُ كَمَا يُؤْذَى أَمْثَالُهُ مِنَ الدَّاعِينَ إِلَى الْحَقِّ الْمُخَالِفِينَ هَوَى الدَّهْمَاءِ فَيُجَابُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وَهُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنَ الْمَقْصُودِينَ بِمَعْرِفَةِ مِثْلِ هَذَا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا وَثَبَاتًا فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَحَظُّهُمْ مِنَ الْمَثَلِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ [يس: 29] . وَفِي قَوْلِهِ: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ كِنَايَةٌ عَنْ قَتْلِهِ شَهِيدًا فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ تَعْقِيبَ مَوْعِظَتِهِ بِأَمْرِهِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ دُفْعَةً بِلَا انْتِقَالٍ يُفِيدُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُ مَاتَ وَأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُمْ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَتَلُوهُ رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحْرَقُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَفَرُوا لَهُ حُفْرَةً وَرَدَمُوهُ فِيهَا حَيًّا. وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَدْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ عَقِبَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالشُّهَدَاءُ لَهُمْ مَزِيَّةَ التَّعْجِيلِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ دُخُولًا غَيْرَ مُوَسَّعٍ. فَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ» . وَالْقَائِلُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقُولُ لَهُ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ ضَمِيرُ الْمَقُولِ لَهُ مَجْرُورًا بِاللَّامِ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ هُنَا قَوْلٌ تَكْوِينِيٌّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ بَلْ يُقْصَدُ حِكَايَةُ حُصُولِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ حَصَلَ أَثَرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: 40] . وَإِذْ لَمْ يَقُصَّ فِي الْمَثَلِ أَنَّهُ غَادَرَ مَقَامَهَ الَّذِي قَامَ فِيهِ بِالْمَوْعِظَةِ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَاتَ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بِأَثَرِهِ. وَإِنَّمَا سَلَكَ فِي هَذَا الْمَعْنَى طَرِيقَ الْكِنَايَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ إِغْمَاضًا لِهَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ كَيْلَا يَسُرُّهُمْ أَنَّ قَوْمَهُ قَتَلُوهُ فَيَجْعَلُوهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا ضُرِبَ بِهِ

الْمَثَلُ لَهُمْ وَلِلرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَطْمَعُوا فِيهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ الْكِنَايَةُ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمُ التَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ خَصَائِصُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا بَعْضُ السَّامِعِينَ. وَجُمْلَةُ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَاذَا قَالَ حِينَ غَمَرَهُ الْفَرَحُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لم يلهه دُخُوله الْجَنَّةِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، فَتَمَنَّى أَنْ يَعْلَمُوا مَاذَا لَقِيَ مِنْ رَبِّهِ لِيَعْلَمُوا فَضِيلَةَ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُوا وَمَا تَمَنَّى هَلَاكَهُمْ وَلَا الشَّمَاتَةَ بِهِمْ فَكَانَ مُتَّسِمًا بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَبِالْحِلْمِ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَالَمَ الْحَقَائِقِ لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَّا إِلَى الصَّلَاحِ الْمَحْضِ وَلَا قِيمَةَ لِلْحُظُوظِ الدَّنِيَّةَ وَسَفْسَافِ الْأُمُورِ. وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ عَلَى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يُخْبِرُونَ، لِأَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ عِلْمُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ يَعْلَمُونَ بِغُفْرَانِ رَبِّي وَجَعْلِهِ إِيَّايَ مِنَ الْمُكْرَمِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُكْرَمِينَ: الَّذِينَ تَلْحَقُهُمْ كَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَفْضَلُ الصَّالِحِينَ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام.

[سورة يس (36) : الآيات 28 إلى 29]

[سُورَة يس (36) : الْآيَات 28 إِلَى 29] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) رُجُوعٌ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِذِكْرِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ نَاصِحًا لَهُمْ وَكَانَ هَذَا الرُّجُوعُ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْقَوْمَ قَوْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَجُمْلَةُ وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس: 26] فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَشَوَّفُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ الَّذِينَ نَصَحَهُمْ فَلَمْ يَنْتَصِحُوا فَلَمَّا بَيَّنَ لِلسَّامِعِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ عُطِفَ عَلَيْهِ بَيَانُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ بَعْدَهُ. وَافْتِتَاحُ قِصَّةِ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِنَفْيِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِانْتِقَامِ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ أَنَّهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ إِلَّا مِثْلُ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، أَيْ لَمْ نُنْزِلْ جُنُودًا مِنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً لِقِتَالِ قَوْمِهِ، أَوْ لَمْ نُنْزِلْ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَمَا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مِنْ مَلَكٍ وَاحِدٍ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ مَزِيدَةٌ فِي الظَّرْفِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ وَأَصْلُهَا مِنْ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَإِضَافَةُ بَعْدِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّجُلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ شَائِعِ الْحَذْفِ، أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [الْبَقَرَة: 133] .

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ جُنْدٍ مُؤَكِّدَةٌ لِعُمُومِ جُنْدٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَفِي الْإِتْيَانِ بِحَرْفٍ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 92] أَيْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ الَّذِي تَدَّعِي أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَمَعَهُ جُنْدُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَثْأَرَ لَكَ. فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ نَوْعَيِ الْعِقَابِ الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ، لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَجْرِ بِإِنْزَالِ الْجُنُودِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَشَأْنُ الْعَاصِينَ أَدْوَنُ مِنْ هَذَا الِاهْتِمَامِ. وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصِّيَاحِ، بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، فَوَصْفُهُا بِوَاحِدَةٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْمُفْرَدُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ، وصَيْحَةً مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانَتْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفْرَّغِ، وَلَحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْفِعْلِ مَعَ نَصْبِ صَيْحَةً مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا صَيْحَةً واحِدَةً، أَيْ لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ إِلَّا صَيْحَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ صَيْحَةً عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ، أَيْ مَا وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ. وَمَجِيءُ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً لِإِفَادَةِ سُرْعَةِ الْخُمُودِ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الصَّيْحَةِ. وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ صَاعِقَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ ثَمُودٍ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: 73] . وَالْخُمُودُ: انْطِفَاءُ النَّارِ، اسْتُعِيرَ لِلْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْمَلِيئَةِ بِالْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، لِيَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ تَشْبِيهَ حَالِ حَيَاتِهِمْ بِشُبُوبِ النَّارِ وَحَالِ مَوْتِهِمْ بِخُمُودِ النَّارِ فَحَصَلَ لِذَلِكَ اسْتِعَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا صَرِيحَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَأُخْرَى ضِمْنِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَرَمْزُهَا الْأُولَى، وَهُمَا الِاسْتِعَارَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُ لَبِيَدٍ: وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ

[سورة يس (36) : آية 30]

وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء [15] ، فَكَانَ هَذَا الْإِيجَازُ فِي الْآيَةِ بَدِيعًا لِحُصُولِ مَعْنَى بَيْتِ لَبِيَدٍ فِي ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى حَدَثٍ عَظِيمٍ حَدَثَ بِأَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ عَقِبَ دَعْوَةِ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ كَرَامَةٌ لِشُهَدَاءِ أَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ كَانَتِ الصَّيْحَةُ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودٍ كَانَ الَّذِينَ خَمَدُوا بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا كُلُّهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الرَّجُلِ الَّذِي وَعَظَهُمْ وَبَعْدَ مُغَادَرَةِ الرُّسُلِ الْقَرْيَةَ. وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْحَادِثِ لَمْ يَذْكُرِ التَّارِيخُ حُدُوثَهُ فِي أَنْطَاكِيَةَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُهْمِلَ التَّارِيخُ بَعْضَ الْحَوَادِثِ وَخَاصَّةً فِي أَزْمِنَةِ الِاضْطِرَاب والفتنة. [30] [سُورَة يس (36) : آيَة 30] يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) تَذْيِيلٌ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقِعٌ مَوْقِعَ الرَّثَاءِ لِلْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الرُّسُلَ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ الْمَقْصُودَةِ بِسَوْقِ الْأَمْثَالِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ، وَاطِّرَادِ هَذَا السَنَنِ الْقَبِيحِ فِيهِمْ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِبادِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ ادِّعَائِيٌّ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْأَغْلَبِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي يَأْتِيهَا رَسُولٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِقِلَّةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ وَنَصَرُوهُمْ فَكَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا. والْعِبادِ: اسْمٌ لِلْبَشَرِ وَهُوَ جَمْعُ عَبْدٍ. وَالْعَبْدُ: الْمَمْلُوكُ وَجَمِيعُ النَّاسِ عَبِيدُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى: رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: 11] ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَبْنَاءَ: أَمْسَى الْعِبَادُ بِشَرٍّ لَا غِيَاثَ لَهُمْ ... إِلَّا الْمُهَلَّبُ بَعْدَ اللَّهِ وَالْمَطَرُ وَيُجْمَعُ عَلَى عَبِيدٍ وَعِبَادٍ وَغَلَبَ الْجَمْعُ الْأَوَّلُ عَلَى عَبْدٍ بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ، وَالْجَمْعُ الثَّانِي عَلَى عَبْدٍ بِمَعْنَى آدَمِيِّ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ حَسَنٌ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ. وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ مَشُوبًا بِتَلَهُّفٍ عَلَى نَفْعٍ فَائِتٍ.

وَحَرْفُ النِّدَاءِ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلَى خَطَرِ مَا بَعْدَهُ لِيُصْغِيَ إِلَيْهِ السَّامِعُ وَكَثُرَ دُخُولُهُ فِي الْجُمَلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا إِنْشَاءُ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ الْإِخْبَارِ فَيَكُونُ اقْتِرَانُ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِعْلَانًا بِمَا فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ مَدْلُولِ الْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِمْ: يَا خَيْبَةً، وَيَا لَعْنَةً، وَيَا وَيْلِي، وَيَا فَرْحِي، وَيَا لَيْتَنِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَتِ امْرَأَة من طي مِنْ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ: فَيَا ضَيْعَةَ الْفِتْيَانِ إِذْ يَعْتَلُونَهُ ... بِبَطْنِ الشَّرَا مِثْلِ الْفَنِيقِ الْمُسَدَّمِ وَبَيْتُ الْكِتَابِ: يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامَ كُلَّهُمْ ... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ وَقَدْ يَقَعُ النِّدَاءُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ: أُلَهْفَى بِقُرَّى سَحْبَلٍ حِينَ أَجْلَبَتْ ... عَلَيْنَا الْوَلَايَا وَالْعَدُوُّ الْمُبَاسِلُ وَأَصْلُ هَذَا النِّدَاءِ أَنَّهُ عَلَى تَنْزِيلِ الْمَعْنَى الْمُثِيرِ لِلْإِنْشَاءِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ فَيَقْصِدُ اسْمَهُ بِالنِّدَاءِ لِطَلَبِ حُضُورِهِ فَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ يَقُولُ: هَذَا مَقَامُكَ فَاحْضُرْ، كَمَا يُنَادَى مَنْ يُقْصَدُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابَةِ عَمَّا لَحِقَ الْمُتَكَلِّمَ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ الْمُنَادِي ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ وَشَاعَ حَتَّى تُنُوسِيَ مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَصَارَ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَالِاهْتِمَامُ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [73] ، وَقَوله: يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [28] . وَمُوقِعُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْثِيلٌ لِحَالِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ بِحَالِ مَنْ يَرْثِي لَهُ أَهْلُهُ وُقُوعَهُ فِي هَلَاكٍ أَرَادُوا مِنْهُ تَجَنُّبَهُ. وَجُمْلَةُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ بَيَانٌ لِوَجْهِ التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَمَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ حَدَثَ إِيهَامٌ فِي وَجْهِ الْعُمُومِ. فَوَقَعَ بَيَانُهُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ مُسَاوُونَ لِمَنْ ضُرِبَ بِهِمُ الْمَثَلُ وَمَنْ ضُرِبَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا وَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْمَوَاعِظُ وَالنُّذُرُ الْبَالِغَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ وَمِنْ مُشَاهَدَةِ الْقُرُونِ الَّذِينَ كَذَّبُوا

[سورة يس (36) : آية 31]

الرُّسُلَ فَهَلَكُوا، فَعُلِمَ وَجْهُ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ إِجْمَالًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ تَفْصِيلًا مِنْ قَوْلِهِ بَعْدُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا [يس: 31] إِلَخْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْتِيهِمْ أَيْ لَا يَأْتِيهِمْ رَسُولٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إلّا فِي حَال اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِالرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِاسْتِفْظَاعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ مَعَ تَأَتِّي الْفَاصِلَةَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ فَحَصَلَ مِنْهُ غَرَضَانِ مِنَ الْمَعَانِي وَمن البديع. [31] [سُورَة يس (36) : آيَة 31] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: 30] لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّسُولِ كَانَتْ هَلَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَعَدَمُ اعْتِبَارِ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهَا يُثِيرُ الْحَسْرَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى نُظَرَائِهَا كَمَا أَثَارَهَا اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرَّسُولِ وَقِلَّةِ التَّبَصُّرِ فِي دَعْوَتِهِ وَنِذَارَتِهِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِ. وَضَمِيرُ يَرَوْا عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ. وَالْمُعَادُ فِيهِ عُمُومٌ ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَخُصَّ مِنْهُ أَوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْبِقْ قَبْلَهُمْ هَلَاكُ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا، فَهَذَا مِنَ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَبْلَهُمْ يُرْشِدُ بِالتَّأَمُّلِ إِلَى عَدَمِ شُمُولِهِ أَوَّلَ أُمَّةٍ أُرْسِلَ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَلَمْ يَرَوْا عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [يس: 13] وَيَكُونُ الْمَثَلُ قَدِ انْتَهَى بِجُمْلَةِ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ... [يس: 30] الْآيَةَ. وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تُعْطَفَ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] ، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: 41] ،

وَلَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْمُعَادِ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَوْجِيهَ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لِتَصْحِيحِ الْعُمُومِ. وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا نَزَلَتْ غَفْلَتُهُمْ عَنْ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيًّا بُنِيَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ الْعلم بإهلاك الْقُرْآن اسْتِقْصَاءً لِمَعْذِرَتِهِمْ حَتَّى لَا يَسَعَهُمْ إِلَّا الْإِقْرَار بِأَنَّهُم عالمون فَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ أَشَدَّ لُزُومًا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا عَلَى النَّفْيِ فَكَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَنْفُوا ذَلِكَ. وَالرُّؤْيَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ عِلْمِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بَصَرِيَّةً لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْقُرُونِ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا لِأُمَّةٍ جَاءَتْ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي أُهْلِكَتْ قَبْلَهَا. وَفَعَلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ كَمْ لِأَنَّ كَمْ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ سَوَاءً كَانَتِ اسْتِفْهَامًا أَمْ خَبَرًا، فَإِنَّ كَمْ الْخَبَرِيَّةَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَمَا لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ. وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ أَهْلَكْنا: وَمُفَادُهَا كَثْرَةٌ مُبْهَمَةٌ فُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ وَوَقَعَتْ كَمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِقَوْلِهِ: أَهْلَكْنا. وقَبْلَهُمْ ظَرْفٌ لِ أَهْلَكْنا وَمَعْنَى قَبْلَهُمْ: قَبْلَ وُجُودِهِمْ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلَكْنا لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ أُبَدِلَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْنَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَثْرَة الإهلاك أَو كَثْرَةُ الْمُهْلَكِينَ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ عَامِلٌ فِي أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بِالتَّبَعِيَّةِ لِتَسَلُّطِ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ يُبْطِلُ الْعَمَلَ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَحَلِّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ تَقْرِيرُ تَصْوِيرِ الْإِهْلَاكِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ، وَلِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْإِهْلَاكِ أَيْ إِهْلَاكًا لَا طماعية مَعَه لرجوع إِلَى الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْإِهْلَاكُ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ مِمَّا يَزِيدُ الْحَسْرَةَ اتِّضَاحًا.

[سورة يس (36) : آية 32]

وَ (إِلَيْهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِ يَرْجِعُونَ وتقديمه على مُتَعَلِّقِهِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِد إِلَى الْعِبادِ [يس: 30] ، وَضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرُونِ. [32] [سُورَة يس (36) : آيَة 32] وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) أَرَى أَنَّ عَطْفَهُ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ [يس: 31] وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ مُؤَيِّدٌ اعْتِقَادَهُمُ انْتِفَاءَ الْبَعْثِ. وإِنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالْأَفْصَحُ إِهْمَالُهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقْتَرِنَ خبر الِاسْم بعْدهَا بِلَامٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ إِنْ النَّافِيَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ بِالْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ فَيُنَاقِضَ مَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَمَّا مُخَفَّفُ الْمِيمِ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا جَمِيعٌ بتَخْفِيف مِيم لَمَّا، فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ اللَّام الفارقة و (مَا) الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْ نَافِيَةً بِمَعْنَى (لَا) وَيَكُونُ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى (إِلَّا) تَقَعُ بَعْدَ النَّفْيِ وَنَحْوِهِ كَالْقَسَمِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كُلُّهُمْ إِلَّا مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا. وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلٌّ) ، أَيْ كُلُّ الْقُرُونِ، أَوْ كُلُّ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمُخَاطَبِينَ. وجَمِيعٌ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، أَيْ مَجْمُوعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَفَرِّقِ. يُقَالُ: جَمْعُ أَشْيَاءَ كَذَا، إِذَا جَعَلَهَا مُتَقَارِبَةً مُتَّصِلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَتَّتَةً وَمُتَبَاعِدَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ الْقُرُونِ مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا مُجْتَمِعِينَ، أَيْ لَيْسَ إِحْضَارُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا فِي أَمْكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَكَلِمَةُ كُلٌّ أَفَادَتْ أَنَّ الْإِحْضَارَ مُحِيطٌ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَكَلِمَةُ جَمِيعٌ أَفَادَتْ أَنَّهُمْ مُحْضَرُونَ مُجْتَمِعِينَ فَلَيْسَتْ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ بِمُغْنِيَّةٍ عَنْ ذِكْرِ الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمَّا

[سورة يس (36) : آية 33]

جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، لَمَّا كَانَ تَنَافٍ بَيْنَ «أَكْثَرِهِمْ» وَبَيْنَ «جَمِيعِهِمْ» أَيْ أَكْثَرُهُمْ يَحْضُرُ مُجْتَمِعِينَ فَارْتَفَعَ جَمِيعٌ عَلَى الخبرية فِي قراءات تَخْفِيفِ لَمَّا وَعَلَى الِاسْتِثْنَاء على قراءات تَشْدِيدِ لَمَّا. ومُحْضَرُونَ نَعَتٌ لِ جَمِيعٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَرُوعِيَ فِي النَّعْتِ مَعْنَى الْمَنْعُوتِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا ... مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثُمَامُهَا وَالْإِحْضَارُ: الْإِحْضَارُ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاء وَالْعِقَاب. [33] [سُورَة يس (36) : آيَة 33] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] فَإِنَّهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَالُ مِنْ إِشْرَاكٍ وَإِنْكَارٍ لِلْبَعْثِ وَأَذًى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ أعقب ذَلِك بالتفصيل لِإِبْطَالِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَابْتُدِئَ بِدَلَالَةِ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ لِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 32] عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَخْلُو مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ. ووَ آيَةٌ مُبْتَدَأٌ ولَهُمُ صِفَةُ آيَةٌ، والْأَرْضُ خَبَرُ آيَةٌ، والْمَيْتَةُ صِفَةُ الْأَرْضُ. وَجُمْلَةُ أَحْيَيْناها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَرْضُ وَهِيَ حَالٌ مُقَيَّدَةٌ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ هُوَ منَاط الدّلَالَة عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةُ أَحْيَيْناها بَيَانًا لِجُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ لِبَيَانِ مَوْقِعَ الْآيَةِ فِيهَا، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ، أَوِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ؟

[سورة يس (36) : الآيات 34 إلى 35]

وَمَوْتُ الْأَرْضِ: جَفَافُهَا وَجَرَازَتُهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ حَيَاةِ النَّبَاتِ فِيهَا، وَإِحْيَاؤُهَا: خُرُوجُ النَّبَاتِ مِنْهَا مِنَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَالزَّرْعِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَيِّتَةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْحَبُّ: اسْمُ جَمْعِ حَبَّةٍ، وَهُوَ بَزْرَةُ النَّبْتِ مِثْلُ الْبُرَّةِ وَالشَّعِيرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [261] . وَإِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنَ الْأَرْضِ: هُوَ إِخْرَاجُهُ مِنْ نَبَاتِهَا فَهُوَ جَاءَ مِنْهَا بِوَاسِطَةٍ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَتَقْدِيم فَمِنْهُ عَلَى يَأْكُلُونَ لِلِاهْتِمَامِ تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ ولرعاية الفاصلة. [34، 35] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 34 إِلَى 35] وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) هَذَا مِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ الْأَشْجَارِ ذَاتِ الثِّمَارِ، وَهُوَ إِحْيَاءٌ أَعْجَبُ وَأَبْقَى وَإِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ بِإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَالْكَلَأِ أَوْضَحَ دَلَالَةً لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحُصُولِ. وَتقدم ذكر جَنَّاتٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [4] . وَتَفْجِيرُ الْعُيُونِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [74] . وَالثَّمَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمَّتَيْنِ: مَا يَغُلُّهُ النَّخْلُ وَالْأَعْنَابُ مِنْ أَصْنَافِ الثَّمَرِ وَأَصْنَافِ الْعِنَبِ وَالثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُبِّ لِلسُّنْبُلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَرِهِ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمَّتَيْنِ. وَالنَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعِ نَخْلٍ. وَالْأَعْنَابُ جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَعَلَى ثَمَرِهَا. وَجَمْعُ النَّخِيلِ

وَالْأَعْنَابِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ شَجَرِهِ الْمُثْمِرِ أَصْنَافًا مِنْ ثَمَرِهِ. وَضَمِيرُ مِنْ ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعَ الْبَهَقْ فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا قُلْتَ: كَأَنَّهَا؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ وَيْلَكَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] . وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى النَّخِيلِ وَتُتْرَكُ الْأَعْنَابُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا مِثْلُ النَّخِيلِ. كَقَوْلِ الْأَزْرَقِ بْنِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَمُودِ الْقَرَاطِيِّ (¬1) الْبَاهِلِيِّ: رَمَانِي بِذَنْبٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَّانِي (¬2) فَلَمْ يَقُلْ: بَرِيئَيْنِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ وَالِدَهُ مِثْلُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَوْصُولَةً مَعْطُوفَةً عَلَى ثَمَرِهِ، أَيْ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَر مَا أخرجناه وَمن ثَمَرِ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِلْإِرْشَادِ إِلَى إِقَامَةِ الْجَنَّاتِ بِالْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ وَالتَّعَهُّدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْفَرَ لِأَغْلَالِهَا. وَضَمِيرُ عَمِلَتْهُ عَلَى هَذَا عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَيجوز أَن يكون مَا نَافِيَةً وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُقُوهُ. وَهَذَا أَوْفَرُ فِي الِامْتِنَانِ وَأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما عَمِلَتْهُ بِإِثْبَاتِ هَاءِ الضَّمِيرِ عَائِدًا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ وَما عَمِلَتْ بِدُونِ هَاءٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ وَهُوَ جَارٍ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا. ¬

(¬1) كَذَا فِي نُسْخَة «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة» ، وَلم أَقف على معنى هَذِه النِّسْبَة. (¬2) نازعه نَاس من قُشَيْر فِي بِئْر لَدَى الْحَاكِم فَقَالَ الْقشيرِي للأزرق: هُوَ لص ابْن لص ليغري بِهِ الْحَاكِم، وَنسب بَعضهم هَذَا إِلَى الْبَيْت للفرزدق، وَلَا يَصح.

[سورة يس (36) : آية 36]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكِلَا الْحَذْفَيْنِ شَائِعٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لِعَدَمِ شُكْرِهِمْ بِأَنِ اتَّخَذُوا لِلَّذِي أَوْجَدَ هَذَا الصُّنْعَ الْعَجِيبَ أَنْدَادًا. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مُبَالغَة فِي إِنْكَار كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُكَرَّرُوا شُكْرُهُ فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاك بِهِ. [36] [سُورَة يس (36) : آيَة 36] سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] وَجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] ، أَثَارَهُ ذِكْرُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجِ الْحَبِّ وَالشَّجَرِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْوَالًا وَإِبْدَاعًا عَجِيبًا يُذَكِّرُ بِتَعْظِيمِ مُودِعِ تِلْكَ الصَّنَائِعِ بِحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ تَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وسُبْحانَ هُنَا لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَأَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَإِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ مَضَّى الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. والْأَزْواجَ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلَى مَعْنَى الصِّنْفِ الْمُتَمَيِّزِ بخواصه من نوع الْمَوْجُودَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِصِنْفِ الذَّكَرِ وَصِنْفِ الْأُنْثَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه [53] ، وَالْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْكَثِيرُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ نَقْلُ اللَّفْظِ مِنَ الزَّوْجِ الَّذِي يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ، فَيَجُوزُ أَن يحمل للأزواج فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيَكُونَ تَذْكِيرًا بِخَلْقِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَتَكُونَ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ خَلَقَ.

وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِذَكَرِ آيَةٍ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، فَخَلْقُ الْحَيَوَانِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَى لِتَنَاسُلِهِ وَحِمَايَةِ نَوْعِهِ وَإِنْتَاجِ مَنَافِعِهِ، هُوَ أَدَقُّ الْخَلْقِ صُنْعًا وَأَعْمَقُهُ حِكْمَةً، وَأَدْخَلُهُ فِي الْمِنَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِأَنْ جُعِلَتْ مَنَافِعُ الْحَيَوَانِ لَهُ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ الْآخَرِ بِقَرْنِهِ بِالتَّسْبِيحِ لِخَالِقِهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَتَفَنُّنًا فِي سَرْدِ أَعْظَمِ الْمَوَالِيدِ الناشئة عَن إِيدَاع قُوَّةِ الْحَيَاةِ لِلْأَرْضِ وَانْبِثَاقِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ وَأَصْنَافِهَا مِنْهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنْ مَبَادِئِ التَّخَلُّقِ لِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ فِي تَكْوِينِ مَوَادِّ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطَفِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَتَتَوَلَّدُ النُّطَفُ مِنْ قُوَى الْأَغْذِيَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَنَاوُلِ النَّبَاتِ فَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَمِمَّا يَتَكَوَّنُ فِيهِمْ مِنْ أَجْزَائِهِمُ الْحَيَوَانِيَّةِ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ بِالْعِبْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ. وَإِشَارَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ إِلَى أَسْرَارٍ مُودَعَةٍ فِي خَلْقِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَأَصْنَافِهِ هِيَ الَّتِي مَيَّزَتْ أَنْوَاعَهُ عَنْ بَعْضٍ وَمَيَّزَتْ أَصْنَافَهُ وَذُكُورَهُ عَنْ إِنَاثِهِ، وَأَوْدَعَتْ فِيهِ الرُّوحَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَنِ النَّبَات بتدبير شؤونه عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ كُلِّ نَوْعٍ وَكُلِّ صِنْفٍ حَتَّى يَبْلُغَ فِي الِارْتِقَاءِ إِلَى أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ، فَمَعْنَى وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ: مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ تَفْصِيلًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَشْعُرُونَ بِهِ إِجْمَالًا، فَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْرَارًا خَفِيَّةً لَمْ تَصِلْ أَفْهَامُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الرُّوحُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 85] . وَقَدْ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي إِدْرَاكِ بَعْضِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَمْتَازُ بَعْضُ الطَّوَائِفِ أَوِ الْأَجْيَالِ بِمَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقَ الْخَلْقِ بِسَبَبِ اكْتِشَافٍ أَوْ تجربة أَو تقضي آثَارٍ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا غَيْرُ أُولَئِكَ ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِيمَا بَقِيَ تَحْتَ طَيِّ الْخَفَاءِ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ، فَبِهَذَا الشُّعُورِ الْإِجْمَالِيِّ بِهَا وَقَعَ عَدُّهَا فِي ضِمْنِ الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي. وَإِذَا حُمِلَ الْأَزْواجَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها عَلَى الْمَعْنَى

[سورة يس (36) : آية 37]

الثَّانِي لِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأَصْنَاف والأنواع المتمايزة كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 53] كَانَتْ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بَيَانِيَّةً، وَالْمَجْرُورُ بِهَا فِي فَحْوَى عَطْفِ الْبَيَانِ، أَوْ بَدَلِ مُفَصَّلٍ من مُجمل مِنْ قَوْلِهِ: الْأَزْواجَ وَالْمَعْنَى: الْأَزْوَاجُ كُلُّهَا الَّتِي هِيَ: مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَأَنْفُسُهُمْ، وَمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَعْلَمُونَ، وَذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ. فَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ لِأَنَّ بِهَا قِوَامَ مَعَاشِ النَّاسِ وَمَعَاشِ أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَأَصْنَافِ أَنْفُسِ النَّاسِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَقْوَى، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فِي مُخْتَلَفِ الْأَقْطَارِ وَالْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ النَّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِالْأَهَمِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 32] . وَتَكْرِيرُ حَرْفِ مِنْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِلتَّوْكِيدِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ. وَضَمِيرُ أَنْفُسِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْعِبادِ فِي قَوْلِهِ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] . وَالْمُرَادُ بِهِمُ: المكذبون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [37] [سُورَة يس (36) : آيَة 37] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ مظَاهر العوالم العلوية عَلَى دَقِيق نظام الْخَالِق فِيهَا مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ التَّبَصُّرِ. وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتَكَرُّرِ وُقُوعِهِ أَمَامَ الْمُشَاهَدَةِ لِكُلِّ رَاءٍ. وَجُمْلَةُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ تَحْتَمِلُ جَمِيعَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس: 33] آنِفًا. وَالسَّلْخُ: إِزَالَةُ الْجِلْدِ عَنْ حَيَوَانِهِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْجِلْدِ الْمُزَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْجِلْدِ الْمُزَالِ مِنْ جِسْمِ الْحَيَوَانِ: سِلْخٌ (بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ) بِمَعْنَى مَسْلُوخٍ، وَلَا يُقَالُ لِلْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ: سِلْخٌ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُ سَلَخَ إِلَى الْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ (مِنْ)

الِابْتِدَائِيَّةِ، وَيَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) أَيْضًا لِمَا فِي السَّلْخِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ وَالْمُجَاوَزَةِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ. فَمَفْعُولُ نَسْلَخُ هُنَا هُوَ النَّهارَ بِلَا رَيْبٍ، وَعُدِّيَ السَّلْخُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّيْلُ بِ (مِنْ) فَصَارَ الْمَعْنَى: اللَّيْلُ آيَةٌ لَهُمْ فِي حَالِ إِزَالَةِ غِشَاءِ نُورِ النَّهَارِ عَنْهُ فَيَبْقَى عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ، فَشُبِّهَ النَّهَارُ بِجِلْدِ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ مِنْهَا كَمَا يُغَطِّي النَّهَارُ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ فِي الصَّبَاحِ. وَشُبِّهَ كَشْفُ النَّهَارِ وَإِزَالَتِهِ بِسَلْخِ الْجِلْدِ عَنْ نَحْوِ الشَّاةِ فَصَارَ اللَّيْلُ بِمَنْزِلَةِ جِسْمِ الْحَيَوَانِ الْمَسْلُوخِ مِنْهُ جِلْدُهُ، وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِمَقْصُودٍ بِالتَّشْبِيهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ زَوَالِ النَّهَارِ عَنْهُ فَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ يَبْقَى شِبْهَ الْجِسْمِ الْمَسْلُوخِ عَنْهُ جِلْدُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِلْعَوَالِمِ قَبْلَ خَلْقِ النُّورِ فِي الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورُ وُجُودٌ، وَكَانَتِ الْمَوْجُودَاتُ فِي ظُلْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ النَّيِّرَةَ وَيُوصِلُ نُورَهَا إِلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا كَالْأَرْضِ وَالْقَمَرِ. وَإِذَا كَانَتِ الظُّلْمَةُ هِيَ الْحَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْمَوْجُودَاتِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً لِلْأَرْضِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَرْضَ انْفَصَلَتْ عَنِ الشَّمْسِ نَيِّرَةً وَإِنَّمَا ظُلْمَةُ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ إِذَا غَشِيَهَا نُورُ الشَّمْسِ مُعْتَبَرَةٌ كَالْجِسْمِ الَّذِي غَشِيَهُ جِلْدُهُ فَإِذَا أُزِيلَ النُّورُ عَادَتِ الظَّلَمَةُ فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِسَلْخِ الْجِلْدِ عَنِ الْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مُقَابِلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [3] : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ. فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ هُوَ الظُّلْمَةُ وَلَكِنَّهَا سَاقَتْ لِلنَّاسِ اعْتِبَارًا وَدَلَالَةً بِحَالَةٍ مُشَاهَدَةٍ لَدَيْهِمْ فَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ. وَقَدِ اعْتَبَرَ أَيِمَّةُ الْبَلَاغَةِ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْآيَةِ أَصْلِيَّةً تَبَعِيَّةً وَلَمْ يَجْعَلُوهَا تَمْثِيلِيَّةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ هُوَ حَالَةُ زَوَالِ نُورِ النَّهَارِ عَنِ الْأُفُقِ فَتَخْلُفُهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَإِسْنَادُ مُظْلِمُونَ إِلَى النَّاسِ مِنْ إِسْنَادِ إِفْعَالِ الَّذِي الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ مِثْلِ أصبح وَأمسى.

[سورة يس (36) : آية 38]

[سُورَة يس (36) : آيَة 38] وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) الشَّمْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اللَّيْلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرِدٍ وَيُقَدَّرُ لَهُ خَبَرٌ مُمَاثِلٌ لِخَبَرِ اللَّيْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالشَّمْسُ آيَةٌ لَهُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَجْرِي حَالًا مِنَ الشَّمْسُ مِثْلُ جُمْلَةِ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَجْرِي خَبَرًا عَن الشَّمْسُ. وأيّاما كَانَ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] إِلْخَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 40] ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا أَنْ لَا يُعْطَفَ فَيُقَالَ: الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ آيَةً خَاصَّةً وَهِيَ آيَةُ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقُدِّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فَكَانَتْ آيَةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مُرَادًا بِهَا دَلِيلٌ آخَرَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نِظَامُ الْفُصُولِ. وَجُمْلَةُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يحْتَمل الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس: 33] مِنْ كَوْنِهَا حَالًا أَوْ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ [يس: 37] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ وَآيَةٌ. وَالْجَرْيُ حَقِيقَتُهُ: السّير السَّرِيع وَهُوَ لِذَوَاتِ الْأَرْجُلِ، وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى تَنَقُّلِ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ تَنَقُّلًا سَرِيعًا بِالنِّسْبَةِ لِتَنَقُّلِ أَمْثَالِ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَسَاوَى الْحَقِيقَةَ وَأُرِيدَ بِهِ السَّيْرُ فِي مَسَافَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ جِدَّ التَّبَاعُدِ فَتَقْطَعُهَا فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَبَاعُدِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ ذَلِكَ السَّيْرِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةً إِجْمَالِيَّةً بِمَا يَحْسِبُونَ مِنَ الْوَقْتِ وَامْتِدَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمُرَاقَبَةِ أَحْوَالِهَا مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَرْقُبُونَ مَنَازِلَ تَنَقُّلِهَا الْمُسَمَّاةِ بِالْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمَعْرُوفَةِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ تَفْصِيلًا وَاسْتِدْلَالًا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا بَلَغَهُ عِلْمُهُمْ. وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، أَيِ الْقَرَارُ أَوْ زَمَانُهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ.

وَاللَّامُ فِي لِمُسْتَقَرٍّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَيْ تَجْرِي لِأَجْلِ أَنْ تَسْتَقِرَّ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَنْتَهِيَ جَرْيُهَا كَمَا يَنْتَهِي سَيْرُ الْمُسَافِرِ إِذَا بَلَغَ إِلَى مَكَانِهِ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَجْرِي عَلَى أَنَّهُ نِهَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ لَمَّا كَانَتْ نِهَايَتُهُ انْقِطَاعَهُ نَزَلَ الِانْقِطَاعُ عَنْهُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ كَمَا يُقَالُ: «لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ» . وَتَنْزِيلُ النِّهَايَةِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَسِيرُ سَيْرًا دَائِبًا مُشَاهَدًا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الِاحْتِجَابَ عَنِ الْأَنْظَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (إِلَى) ، أَيْ تَجْرِي إِلَى مَكَانِ اسْتِقْرَارِهَا وَهُوَ مَكَانُ الْغُرُوبِ، شُبِّهَ غُرُوبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي آخِرِ النَّهَارِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ وَرَدَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِ فِي صحيحي «البُخَارِيّ» و «مُسلم» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ حَاصِلُ تَرْتِيبِهَا أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلته (أَو فَقَالَ) : إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا وَمُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها . وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ لِسَيْرِ الشَّمْسِ اليومي الَّذِي يبتدىء بِشُرُوقِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فِي خُطُوطٍ دَقِيقَةٍ، وَبِتَكَرُّرِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا تَتَكَوَّنُ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ. وَقَدْ جُعِلَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ سَيْرُهَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَحْتِ الْعَرْشِ وَهُوَ سَمْتٌ مُعَيَّنٌ لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مُنْتَهَى مَسَافَةِ سَيْرِهَا الْيَوْمِيِّ، وَعِنْدَهُ

[سورة يس (36) : آية 39]

يَنْقَطِعُ سَيْرُهَا فِي إِبَّانِ انْقِطَاعِهِ وَذَلِكَ حِينَ تَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَيْ حِينَ يَنْقَطِعُ سَيْرُ الْأَرْضِ حَوْلَ شُعَاعِهَا لِأَنَّ حَرَكَةَ الْأَجْرَامِ التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا تَنْقَطِعُ تَبَعًا لِانْقِطَاعِ حَرَكَتِهَا هِيَ وَذَلِكَ نِهَايَةُ بَقَاء هَذَا الْعَالم الدُّنْيَوِيِّ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَها لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُسْتَقَرٍّ. وَعُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ مُسْتَقَرٍّ لِضَمِيرِ الشَّمْسِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِظْهَارِ اللَّامِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِاللَّامِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ «مُسْتَقَرٍّ» تَنْكِيرًا مُشْعِرًا بِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمُسْتَقَرِّ. وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْغُرُوبِ وَالشُّرُوقِ الْيَوْمِيَّيْنِ. وَجُعِلَ سُجُودُ الشَّمْسِ تَمْثِيلًا لِتَسْخِرِهَا لِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا كَمَا جُعِلَ الْقَوْلُ تَمْثِيلًا لَهُ فِي آيَةِ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لِمُسْتَقَرٍّ لَها إِدْمَاجٌ لِلتَّعْلِيمِ فِي التَّذْكِيرِ وَلَيْسَ مِنْ آيَةِ الشَّمْسِ لِلنَّاسِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى [الْأَنْعَام: 60] عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: 60] . وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إِلَى الْمَذْكُورِ: إِمَّا مِنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيِ، وَإِمَّا مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَذِكْرُ صِفَتِي الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لِمُنَاسَبَةِ مَعْنَاهُمَا لِلتَّعَلُّقِ بِنِظَامِ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، فَالْعِزَّةُ تُنَاسِبُ تَسْخِيرَ هَذَا الْكَوْكَبِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ يُنَاسِبُ النِّظَامَ الْبَدِيعَ الدَّقِيقَ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي سُورَة الْفرْقَان [61] . [39] [سُورَة يس (36) : آيَة 39] وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِرَفْعِ وَالْقَمَرَ فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي [يس: 38] عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ وَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.

وَجُمْلَةُ قَدَّرْناهُ إِمَّا حَالٌ وَإِمَّا خَبَرٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِنَصْبِ الْقَمَرَ عَلَى الِاشْتِغَالِ فَهُوَ إِذَنْ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [5] . وَالتَّقْدِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى جَعْلِ الْأَشْيَاءِ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ مُحْكَمٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَحْدِيدِ الْمِقْدَارِ مِنْ شَيْءٍ تُطْلَبُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ مِثْلُ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ وَتَقْدِيرِ الْكِمِّيَّاتِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ مُرَادٌ هُنَا. فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ نِظَامَ سَيْرِهِمَا وَقَدَّرَ بِذَلِكَ حِسَابَ الْفُصُولِ السَّنَوِيَّةِ وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي. وعدّي فعل قَدَّرْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَمَرَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ لِسَيْرِهِ وَلَكِنْ عُدِّيَ التَّقْدِيرُ إِلَى اسْمِ ذَاتِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمُضَافِ مُبَالَغَةً فِي لُزُومِ السَّيْرِ لَهُ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِ حَتَّى كَأَنَّ تَقْدِيرَ سَيْرِهِ تَقْدِيرٌ لِذَاتِهِ. وَانْتَصَبَ مَنازِلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ مِثْلُ: سِرْتُ أَمْيَالًا، أَيْ قَدَّرْنَا سَيْرَهُ فِي مَنَازِلَ يَنْتَقِلُ بِسَيْرِهِ فِيهَا مَنْزِلَةً بَعْدَ أُخْرَى. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ لَيْسَتْ حَرْفَ جَرٍّ فَإِنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ. وَمَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارِقُ حَتَّى فَآذَنَ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ بِمُغَيًّا مَحْذُوفٍ فَالْغَايَةُ تَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَ شَيْءٍ. وَالتَّقْدِير: فابتدأ ضوؤه وَأَخَذَ فِي الِازْدِيَادِ لَيْلَةً قَلِيلَةً ثُمَّ أَخَذَ فِي التَّنَاقُصِ حَتَّى عَادَ، أَيْ صَار كالعرجون الْقَدِيم، أَيْ شَبِيهًا بِهِ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ إِذْ لَيْسَ لِضَوْءِ الْقَمَرِ فِي أَوَاخِرِ لَيَالِيهِ اسْمٌ يُعْرَفُ بِهِ بِخِلَافِ أَوَّلِ أَجْزَاءِ ضَوْئِهِ الْمُسَمَّى هِلَالًا، وَلِأَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يُمَاثِلُ حَالَةَ اسْتِهْلَالِهِ كَمَا يُمَاثِلُ حَالَةَ انْتِهَائِهِ. وعادَ بِمَعْنَى صَارَ شَكْلُهُ لِلرَّائِي كَالْعُرْجُونِ. وَالْعُرْجُونُ: الْعُودُ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّخْلَةُ فَيَكُونُ الثَّمَرُ فِي مُنْتَهَاهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى مُتَّصِلًا بِالنَّخْلَةِ بَعْدَ قَطْعِ الْكِبَاسَةِ مِنْهُ وَهِيَ مُجْتَمَعُ أَعْوَادِ التَّمْرِ.

[سورة يس (36) : آية 40]

والْقَدِيمِ: هُوَ الْبَالِي لِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الثَّمر تقوس واصفار وَتَضَاءَلَ فَأَشْبَهَ صُورَةَ مَا يُوَاجِهُ الْأَرْضَ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ فِي آخِرِ لَيَالِي الشَّهْرِ وَفِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَتَرْكِيبُ عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ صَالِحٌ لِصُورَةِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْمُحَاقُ وَلِصُورَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ هُوَ الْهِلَالُ. وَقَدْ بَسَّطَ لَهُمْ بَيَانُ سَيْرِ الْقَمَرِ وَمَنَازِلِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتْقِنُونَ عِلْمَهُ بِخِلَافِ سير الشَّمْس. [40] [سُورَة يس (36) : آيَة 40] لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي مَعْرِضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَعَلَى صِفَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الَّتِي مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِآيَةِ الشَّمْسِ وَسَيْرِهَا، وَالْقَمَرِ وَسَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَكَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ تَقَارُبَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِيمَا يَرَاهُ الرَّاءُونَ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَ سَيْرَهُمَا بِأَسْمَاتٍ مُعَلَّمَةٍ بِعَلَامَاتٍ نُجُومِيَّةٍ تُسَمَّى بُرُوجًا بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الشَّمْسِ، وَتُسَمَّى مُنَازِلَ بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ شِدَّةَ قُرْبِ الْمَنَازِلِ الْقَمَرِيَّةِ مِنَ الْبُرُوجِ الشَّمْسِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ بُرْجٍ تُسَامِتُهُ مَنْزِلَتَانِ أَوْ ثَلَاثَ مَنَازِلَ، وَبَعْضُ نُجُومِ الْمَنَازِلِ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنْ نُجُومِ الْبُرُوجِ، زَادَهُمُ اللَّهُ عِبْرَةً وَتَعْلِيمًا بِأَنَّ لِلشَّمْسِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الْقَمَرِ، وَلِلْقَمَرِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الشَّمْسِ وَلَا يَمُرُّ أَحَدُهُمَا بِطَرَائِقِ مَسِيرِ الْآخَرِ وَأَنَّ مَا يَتَرَاءَى للنَّاس من مُشَاهدَة الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي جَوٍّ وَاحِدٍ وَفِي حَجْمَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ مِنْ تَقَارُبِ نُجُومِ بُرُوجِ الشَّمْسِ وَنُجُومِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، إِنْ هُوَ إِلَّا مِنْ تَخَيُّلَاتِ الْأَبْصَارِ وَتَفَاوُتِ الْمَقَادِيرِ بَيْنَ الْأَجْرَامِ وَالْأَبْعَادِ. فَالْكُرَةُ الْعَظِيمَةُ كَالشَّمْسِ تَبْدُو مُقَارِبَةً لِكُرَةِ الْقَمَرِ فِي الْمَرْأَى وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَبَاعُدِ الْأَبْعَادِ فَأَبْعَادُ فَلَكِ الشَّمْسِ تَفُوتُ أَبْعَادَ فَلَكِ الْقَمَرِ بِمِئَاتِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأَمْيَالِ، حَتَّى يَلُوحَ لَنَا حَجْمُ الشَّمْسِ مُقَارِبًا لِحَجْمِ الْقَمَرِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ نَظَّمَ سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ اتِّصَالُ إِحْدَى الْكُرَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِشِدَّةِ الْأَبْعَادِ بَيْنَ مَدَارَيْهِمَا.

فَمَعْنَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ نَفْيُ انْبِغَاءِ ذَلِكَ، أَيْ نَفْيُ تَأْتِيهِ، لِأَنَّ انْبَغَى مُطَاوِعُ بَغَى الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى طَلَبَ، فَانْبَغَى يُفِيدُ أَنَّ الشَّيْءَ طَلَبٌ فَحَصَلَ لِلَّذِي طَلَبَهُ، يُقَالُ: بَغَاهُ فَانْبَغَى لَهُ، فَإِثْبَاتُ الِانْبِغَاءِ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ فَلَا يَقْتَضِي وُجُوبًا، وَنَفْيُ الِانْبِغَاءِ يُفِيدُ نَفْيَ إِمْكَانِهِ وَلِذَلِكَ يُكْنَى بِهِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَحْظُورِ. يُقَالُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ كَذَا، فَفَرِّقْ مَا بَيْنَ قَوْلِكَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْعَلَ كَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الْفرْقَان: 18] وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [92] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْإِدْرَاكُ: اللَّحَاقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الْبُغْيَةِ فَقَوْلُهُ: أَنْ تُدْرِكَ فَاعِلُ يَنْبَغِي فَأَفَادَ الْكَلَامُ نَفِيَ انْبِغَاءِ إِدْرَاكِ الشَّمْسِ الْقَمَرَ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ تَصْطَدِمَ الشَّمْسُ بِالْقَمَرِ، خِلَافًا لِمَا يَبْدُو مِنْ قُرْبِ مَنَازِلِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُسَامَتَةِ لَا مِنَ الِاقْتِرَابِ. وَصَوْغُ هَذَا بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي حُكْمَ النَّفْيِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِانْتِفَاءِ مِمَّا لَوْ قِيلَ: لَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِيَكُونَ النَّفْيُ مُتَقَرَّرًا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَقْوَى مِمَّا لَوْ قِيلَ: الشَّمْسُ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ خُصُوصِيَّتَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَكَانَتِ الشَّمْسُ مُقَارِنَةً لِلنَّهَارِ فِي مُخَيَّلَاتِ الْبَشَرِ، وَكَانَ الْقَمَرُ مُقَارِنًا لِلَّيْلِ، وَكَانَ فِي نِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ اعْتُرِضَ بِذِكْرِ نِظَامِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَثْنَاءَ الِاعْتِبَارِ بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَمَعْنَى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ بِمُفْلِتٍ لِلنَّهَارِ، فَالسَّبْقُ بِمَعْنَى التَّخَلُّصِ وَالنَّجَاةِ، كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءَ الْفَقْعَسِيِّ: كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكَتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [4] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ انْسِلَاخَ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ أَمْرٌ مُسَخَّرٌ لَا قِبَلَ لِلَّيْلِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ السَّبْقِ هُنَا بِمَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ وَهُوَ الْأَوَّلِيَّةُ بِالسَّيْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي تَدَاوُلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبْقِ ابْتِدَاءَ التَّكْوِينِ إِذْ لَا يُتَعَلَّقُ بِذَلِكَ غَرَضٌ مُهِمٌّ فِي الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ تَكُونَ الظُّلْمَةُ أَسْبَقَ فِي التَّكْوِينِ. وَالْغَرَضُ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّيْلِ وَنِعْمَةِ النَّهَارِ فَإِنَّ لِكِلَيْهِمَا فَوَائِدَ لِلنَّاسِ فَلَوْ تَخَلَّصَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ فَاسْتَقَرَّ فِي الْأُفُقِ لَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ جَمَّةٌ مِنْ حَيَاةِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ. وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَا الْقَمَرُ يُدْرِكُ الشَّمْسَ، وَلَا النَّهَارُ سَابِقُ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَلَى جَانِبِ التَّذْيِيلِ، وَإِلَّا فَحَقُّ التَّذْيِيلِ الْفَصْلُ. وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلٌّ مَحْذُوفٍ، وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ الْكَوَاكِبِ. وَزِيدَتْ قَرِينَةُ السِّيَاقِ تَأْكِيدًا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يَسْبَحُونَ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَبْلُ شَيْئَانِ لَا أَشْيَاءَ، وَبِهَذَا التَّعْمِيمِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَالْفَلَكُ: الدَّائِرَةُ الْمَفْرُوضَةُ فِي الْخَلَاءِ الْجَوِّيِّ لِسَيْرِ أَحَدِ الْكَوَاكِبِ سَيْرًا مُطَّرِدًا لَا يَحِيدُ عَنْهُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَرْصَادِ الْأَقْدَمِينَ لَمَّا رَصَدُوا تِلْكَ الْمَدَارَاتِ وَجَدُوهَا لَا تَتَغَيَّرُ وَوَجَدُوا نِهَايَتَهَا تَتَّصِلُ بِمُبْتَدَاهَا فَتَوَهَّمُوهَا طَرَائِقَ مُسْتَدِيرَةً تَسِيرُ فِيهَا الْكَوَاكِبُ كَمَا تَتَقَلَّبُ الْكُرَةُ عَلَى الْأَرْضِ وَرُبَّمَا تَوَسَّعُوا فِي التَّوَهُّمِ فَظَنُّوهَا طَرَائِقَ صَلْبَةً تَرْتَكِزُ عَلَيْهَا الْكَوَاكِبُ فِي سَيرهَا وَبَعض الْأُمَم يتوهمون الشَّمْس فِي سَيْرِهَا مَجْرُورَةً بِسَلَاسِلَ وَكَلَالِيبَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي مُعْتَقَدِ الْقِبْطِ بِمِصْرَ.

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 44]

وَسَمَّى الْعَرَبُ تِلْكَ الطَّرَائِقَ أَفْلَاكًا وَأَحَدُهَا فَلَكٌ اشْتَقُّوا لَهُ اسْمًا مِنِ اسْمِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، وَهِيَ عُودٌ فِي أَعْلَاهُ خَشَبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ مُتَبَطِّحَةٌ مِثْلُ التُّفَّاحَةِ الْكَبِيرَةِ تَلُفُّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا خِيُوطَ غَزْلِهَا الَّتِي تَفْتِلُهَا لِتُدِيرَهَا بِكَفَّيْهَا فَتَلْتَفُّ عَلَيْهَا خُيُوطُ الْغَزْلِ، فَتَوَهَّمُوا الْفَلَكَ جِسْمًا كُرَوِيًّا وَتَوَهَّمُوا الْكَوَاكِبَ مَوْضُوعَةً عَلَيْهِ تَدُورُ بِدَوْرَتِهِ وَلِذَلِكَ قَدَّرُوا الزَّمَانَ بِأَنَّهُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ. وَسَمَّوْا مَا بَيْنَ مَبْدَأِ الْمُدَّتَيْنِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ دَوْرَةَ الْفَلَكِ. وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ جَارَاهُمْ فِي الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْلَغُ اللُّغَةِ وَأَصْلَحُ لَهُمْ مَا تَوَهَّمُوا بِقَوْلِهِ: يَسْبَحُونَ، فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ أَجْرَامُ الْكَوَاكِبِ مُلْتَصِقَةً بِأَفْلَاكِهَا وَلَزِمَ مِنْ كَوْنِهَا سَابِحَةً أَنَّ طَرَائِقَ سَيْرِهَا دَوَائِرُ وَهْمِيَّةٌ لِأَنَّ السَّبْحَ هُنَا سَبَحٌ فِي الْهَوَاءِ لَا فِي الْمَاءِ، وَالْهَوَاءُ لَا تُخَطَّطُ فِيهِ الْخُطُوطُ وَلَا الْأَخَادِيدُ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ يَسْبَحُونَ ضَمِيرَ جَمْعٍ مَعَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ هُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لِأَنَّ الْمُرَادَ إِفَادَةُ تَعْمِيمِ هَذَا الْحُكْمِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَجَمِيعِ الْكَوَاكِبِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ عِلْمِيَّةٌ سَبَقَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَجُمْلَةُ كُلٌّ فِي فَلَكٍ فِيهَا مُحَسِّنُ الطَّرْدِ وَالْعَكْسُ فَإِنَّهَا تُقْرَأُ مِنْ آخِرِهَا كَمَا تَقْرَأُ من أَولهَا. [41، 44] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 41 إِلَى 44] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) انْتِقَالٌ مِنْ عَدِّ آيَاتٍ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ إِلَى عَدِّ آيَةٍ فِي الْبَحْرِ تَجْمَعُ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ وَهِيَ آيَةُ تَسْخِيرِ الْفُلْكِ أَنْ تَسِيرَ عَلَى الْمَاءِ وَتَسْخِيرِ الْمَاءِ لِتَطْفُوَ عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يُغْرِقَهَا. وَقَدْ ذَكَّرَ اللَّهُ النَّاسَ بِآيَةٍ عَظِيمَةٍ اشْتُهِرَتْ حَتَّى كَانَتْ كَالْمُشَاهَدَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ آيَةُ إِلْهَامِ نُوحٍ صُنْعَ السَّفِينَةِ لِيَحْمِلَ النَّاسَ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَحْمِلَ مِنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ زَوْجَيْنِ لِيُنْجِيَ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْهَلَاكِ وَالِاضْمِحْلَالِ بِالْغَرَقِ فِي حَادِثِ الطُّوفَانِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَاصِلَةً لِفَائِدَةِ حَمْلِ أَزْوَاجٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ جُعِلَتِ

الْآيَةُ نَفْسَ الْحَمْلِ إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ فِي ضِمْنِ الْعِبْرَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَآيَةٌ لَهُمْ صُنْعُ الْفُلْكِ لِنَحْمِلَ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِيهِ فَحَمَلْنَاهُمْ. وَأُطْلِقَ الْحَمْلُ عَلَى الْإِنْجَاءِ مِنَ الْغَرَقِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ وَالْمُسَبَبِيَّةِ، أَيْ أَنْجَيْنَا ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ بِحَمْلِهِمْ فِي الْفُلْكِ حِينَ الطُّوفَانِ. وَالذُّرِّيَّاتُ: جُمَعُ ذُرِّيَّةٍ وَهِيَ نَسْلُ الْإِنْسَانِ. والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ: هُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ الْبَشَرِ فِي قِصَّةِ الطُّوفَانِ، وَهُوَ هُنَا مُفْرَدٌ بِقَرِينَة وَصفه بالمفرد وَهُوَ الْمَشْحُونِ وَلَمْ يَقُلِ: الْمَشْحُونَةُ كَمَا قَالَ: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فاطر: 12] وَهُوَ فُلْكُ نُوحٍ فَقَدِ اشْتَهَرَ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [119] فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَلَمْ يُوصَفْ غَيْرُ فُلْكِ نُوحٍ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَتَعْدِيَةُ حَمَلْنا إِلَى الذُّرِّيَّاتِ تَعْدِيَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فَإِنَّ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِسْنَادِ بَلْ يَكُونُ الْمَجَازَ فِي التَّعْلِيقِ فَإِنَّ الْمَحْمُولَ أُصُولُ الذُّرِّيَّاتِ لَا الذُّرِّيَّاتُ وَأُصُولُهَا مُلَابِسَةً لَهَا. وَلَمَّا كَانَتْ ذُرِّيَّاتُ الْمُخَاطَبِينَ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ بَقَاءَهُ فِي الْأَرْضِ حِينَ أَمَرَ نُوحًا بِصُنْعِ الْفُلْكِ لِإِنْجَاءِ الْأَنْوَاعِ وَأَمَرَهُ بِحَمْلِ أَزْوَاجٍ مِنَ النَّاسِ هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّدَ مِنْهُمُ الْبَشَرَ بَعْدَ الطُّوفَانِ نَزَّلَ الْبَشَرَ كُلَّهُ مَنْزِلَةَ مَحْمُولِينَ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فِي زَمَنِ نُوحٍ، وَذِكْرُ الذُّرِّيَّاتِ يَقْتَضِي أَنَّ أُصُولَهُمْ مَحْمُولُونَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ، وَأَنَّ أَنْفُسَهُمْ مَحْمُولُونَ كَذَلِكَ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّا حَمَلْنَا أُصُولَهُمْ وَحَمَلْنَاهُمْ وَحَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِهِمْ، إِذْ لَوْلَا نَجَاةُ الْأُصُولِ مَا جَاءَتِ الذُّرِّيَّاتُ، وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي حَمْلِ الْأُصُولِ بَقَاءَ الذُّرِّيَّاتِ فَكَانَتِ النِّعْمَةُ شَامِلَةً لِلْكُلِّ، وَهَذَا كَالِامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً [الحاقة: 11، 12] . وَضَمِيرُ ذُرِّيَّاتِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ لَهُمْ أَيِ الْعِبَادُ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَكِنَّهُمْ لُوحِظُوا هُنَا بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبَشَرِ، فَالْمَعْنَى: آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِ الْبَشَرِ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ وَذَلِكَ حِينَ أَمْرَ اللَّهُ نُوحًا

بِأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا أَهَّلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِهِ لِبَقَاءِ ذُرِّيَّاتِ الْبَشَرِ فَكَانَ ذَلِكَ حَمْلًا لِذُرِّيَّاتِهِمْ مَا تَسَلْسَلَتْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. هَذَا هُوَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قَدْ خَلَطَ بَعْضُ النَّاسِ حَتَّى قَالُوا: الذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ مِنَ اللُّغَةِ» وَتَقْدَمَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ فَهُمَ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ صَرِيحًا وَكِنَايَةً أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَمِرَّةٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ إِذْ يَشْهَدُونَ أَسْفَارَهُمْ وَأَسْفَارَ أَمْثَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَخَاصَّةً سُكَّانَ الشُّطُوطِ وَالسَّوَاحِلِ مَثْلَ أَهْلِ جِدَّةَ وَأَهْلِ يَنْبُعَ إِذْ يُسَافِرُونَ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَبِلَادِ الْحَبَشَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّا حَمَلْنَا وَنَحْمِلُ وَسَنَحْمِلُ أَسْلَافَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ السُّفُنَ فِي مُعَلَّقَتِهِ. وَجُمْلَةُ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ آيَةِ الْبَحْرِ اقْتَضَتْهَا مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِ الْإِبِلِ صَالِحَةً لِلْأَسْفَارِ فَحُكِيَتْ آيَةُ الْإِلْهَامِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ مِنْ حَيْثُ الْحِكْمَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْإِلْهَامِ وَتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لَهَا وَإِيجَادِهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِحِفْظِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ فِي جَانِبِهَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْإِيجَادِ دُونَ صُنْعِ النَّاسِ. وَحُكِيَتْ آيَةُ اتِّخَاذِ الرَّوَاحِلِ بِفِعْلِ خَلَقْنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمُقَارنَة قَوْله تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف: 12] ، فَمَا صدق مَا يَرْكَبُونَ هُنَا هُوَ الرَّوَاحِلُ خَاصَّةً لِأَنَّهَا الَّتِي تُشْبِهُ الْفُلْكَ فِي جَعْلِهَا قَادِرَةً عَلَى قَطْعِ الرِّمَالِ كَمَا جَعَلَ الْفُلْكَ صَالِحًا لِمَخْرِ الْبِحَارِ، وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الرَّوَاحِلَ سَفَائِنَ الْبَرِّ ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ بَيَانِيَّةٌ بِتَقْدِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْأَصَحِّ، أَوْ مُؤَكِّدَةٌ وَمَجْرُورُهَا أَصْلُهُ حَالٌ مِنْ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَرْكَبُونَ. وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْعَظَمَةِ وَقُوَّةِ الْحَمْلِ وَمُدَاوَمَةِ السَّيْرِ وَفِي الشَّكْلِ.

وَجُمْلَةُ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا الْكِنَائِيَّةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْمِنَّةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي امْتَنَّ عَلَيْهِمْ إِذَا شَاءَ جَعْلَ فِيمَا هُوَ نِعْمَةٌ عَلَى النَّاسِ نِقْمَةً لَهُمْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا. وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ وَعَكْسِهِ لِئَلَّا يَبْطَرَ النَّاسُ بِالنِّعْمَةِ وَلَا يَيْأَسُوا مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ جِيءَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُضَارِعِ الْمُتَمَحِّضِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً [الْإِسْرَاء: 68- 69] . وَالصَّرِيخُ: الصَّارِخُ وَهُوَ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَنْجِدُ تَقُولُ الْعَرَبُ: جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، أَيِ الْمَنْكُوبُ الْمُسْتَنْجِدُ لِيُنْقِذُوهُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَيُطْلَقُ الصَّرِيخُ عَلَى الْمُغِيثِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنْجِدَ إِذَا صَرَخَ بِهِ الْمُسْتَنْجِدُ صَرَخَ هُوَ مُجِيبًا بِمَا يَطْمَئِنُّ لَهُ مِنَ النَّصْرِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ قَوْلُ سَلَامَةَ بْنِ جَنْدَلٍ أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي «الْكَامِلِ» : إِنَّا إِذَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَابِيبِ وَالظَّنَابِيبُ: جَمْعُ ظُنْبُوبٍ وَهُوَ مِسْمَارٌ يَكُونُ فِي جُبَّةِ السِّنَانِ. وَقَرَعَ الظَّنَابِيبَ تَفَقَّدَ الْأَسِنَّةَ اسْتِعْدَادًا لِلْخُرُوجِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَجِدُونَ مَنْ يَسْتَصْرِخُونَ بِهِ وَهُمْ فِي لُجُجِ الْبَحْرِ وَلَا يُنْقِذُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَرَقِ. وَالْإِنْقَاذُ: الِانْتِشَالُ مِنَ الْمَاءِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ وَهُوَ نَفْيُ إِنْقَاذِ أَحَدٍ إِيَّاهُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّرِيخِ وَلَا مِنَ

[سورة يس (36) : الآيات 45 إلى 46]

الْمُنْقِذِ وَإِنَّمَا هِيَ إِسْعَافُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِسُكُونِ الْبَحْرِ وَتَمْكِينِهِمْ مِنَ السَّبْحِ عَلَى أَعْوَادِ الْفَلَكِ. ووَ مَتاعاً عَطَفٌ عَلَى رَحْمَةً، أَيْ إِلَّا رَحْمَةً هِيَ تَمْتِيعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّ كل حَيّ صائر إِلَى الْمَوْتِ فَإِذَا نَجَا مِنْ مَوْتَةٍ اسْتَقْبَلَتْهُ مَوْتَةٌ أُخْرَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ حُبَّ زِيَادَةِ الْحَيَاةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ لَهُ عَن الْمَوْت. [45، 46] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 45 إِلَى 46] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) تَخَلَّصَ الْكَلَامُ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ إِلَى عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْمُبَلَّغَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَبِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِتَذْكِيرِ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَعَلَى الْبَعْثِ. وَبِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا بَيْنَ الْأَيْدِي يُرَادُ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَمَا هُوَ خَلْفٌ يُرَادُ مِنْهُ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ [آل عمرَان: 50] ، أَيْ مَا تَقَدَّمَنِي. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ هَذَيْنِ التَّرْكِيبَيْنِ تَمْثِيلَانِ فَتَارَةً يَنْظُرُونَ إِلَى تَمْثِيلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِسَائِرٍ إِلَى مَكَانٍ فَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ مَا سَيَرِدُ هُوَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي مِنْ وَرَائِهِ هُوَ مَا خَلَّفَهُ خَلْفَهُ فِي سَيْرِهِ، وَتَارَةً يَنْظُرُونَ إِلَى تَمْثِيلِ الْمُضَافِ بِسَائِرٍ، فَهُوَ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدِيِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَهُ فِي السَّيْرِ فَهُوَ سَابِقٌ لَهُ وَإِذَا كَانَ خَلْفَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَهُوَ وَارِدٌ بَعْدَهُ. وَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَجْهَيْنِ فَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَحْوَالُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ

[سورة يس (36) : آية 47]

وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ وَسُفْيَانَ. وَمَتَى حُمِلَ أَحَدُ الْمَوْصُولَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَجَبَ تَقْدِيرُ مُضَافَيْنِ قَبْلَ مَا الْمَوْصُولَةِ هُمَا الْمَفْعُولُ، أَيِ اتَّقُوا مِثْلَ أَحْوَالِ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُم، أَو مثل أَحْوَالِ مَا خَلْفَكُمْ، وَلَا يُقَدَّرُ مُضَافَانِ فِي مُقَابَلَهِ لِأَن مَا صدق مَا الْمَوْصُولَةِ فِيهِ حِينَئِذٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَفْعُولُ اتَّقُوا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فِي سُورَة الْبَقَرَة [66] . و (لعلّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ تُرْجَى لَكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اتَّقَوْا حَذِرُوا مَا يُوقِعُ فِي الْمُتَّقَى فَارْتَكَبُوا وَاجْتَنَبُوا وَبَادَرُوا بِالتَّوْبَةِ فِيمَا فَرَطَ فَرَضِيَ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ فَرَحِمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَجَنَّبَهُمُ الْعِقَابَ. وَالْكَلَامُ فِي (لَعَلَّ) الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [21] . وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: كَانُوا مُعْرِضِينَ. وَجُمْلَةُ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، فَفِيهَا تَعْمِيمُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ مَا يَبَلَّغُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا أَعْرَضُوا، وَالْإِعْرَاضُ دَأْبُهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقَالُ لَهُمْ. وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَنْزِلُ فَيَقْرَؤُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَأُطْلِقَ عَلَى بُلُوغِهَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْإِتْيَانِ وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِالْآيَاتِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَلَامِ رَبِّهِمْ كُفْرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ. وَمَا نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ آيَةٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَجُمْلَةُ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوضِع الْحَال. [47] [سُورَة يس (36) : آيَة 47] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) كَانُوا مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ يَشِحُّونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَيَمْنَعُونَهُمُ الْبَذْلَ تَشَفِّيًا مِنْهُمْ فَإِذَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ سَأَلَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ

مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَنْ يُعْطُوهُمْ مَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: 136] فَلَعَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفُقَرَاءِ سَأَلُوا الْمُشْرِكِينَ مَا اعْتَادُوا يُعْطُونَهُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ فَيَقُولُونَ أَعْطُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَقَدْ سَمِعُوا مِنْهُمْ كَلِمَاتٍ إِسْلَامِيَّةً لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَهَا مِنْ قَبْلُ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُحَاجُّونَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَلَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ كَائِنٌ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَلَّلُونَ لِمَنْعِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ فَيَقُولُونَ: لَا نُطْعِمُ مِنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا رزقناه الله فَلَمَّا ذَا لَمْ يَرْزُقْكُمْ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَكُمْ كَمَا أَطْعَمَنَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ وَضْعَ صِفَاتِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعِهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] . وَإِظْهَارُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قَالُوا أَنُطْعِمُ إِلَخْ لِنُكْتَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَلِأَجْلِ إِيمَانِ الَّذِينَ سُئِلَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ. رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي شِدَّةٍ أَصَابَتِ النَّاسَ فَشَحَّ فِيهَا الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَمَنَعُوهُمْ مَا كَانُوا يُعْطُونَهُمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِهِ أَيْ خَاطَبُوا الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ قَالُوا فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: 168] وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: 11] أَيْ قَالُوا ذَلِكَ تَعِلَّةً لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُطْعِمُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُطْعِمُ من لَو شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُمْ بِحَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَطْعِمُ. وَالتَّعْبِيرُ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْإِنْفَاقُ: إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ يُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا الْإِنْفَاقَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِكْسَاءَ وَالْإِسْكَانَ فَأَجَابُوا بِإِمْسَاكِ الطَّعَامِ وَهُوَ أَيْسَرُ

[سورة يس (36) : الآيات 48 إلى 50]

أَنْوَاعِ الْإِنْفَاقِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَيِّرُونَ مَنْ يَشِحُّ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَإِذَا مَنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ الطَّعَامَ كَانَ مَنْعُهُمْ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَحْرَى. وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يُخَاطِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ مُتَصَرِّفٌ فِي أَحْوَالِنَا إِلَّا مُتَمَكِّنٌ مِنْكُمُ الضَّلَالُ الْوَاضِحُ. وَجَعَلُوهُ ضَلَالًا لِجَهْلِهِمْ بِصِفَاتِ اللَّهِ، وَجَعَلُوهُ مُبِينًا لِأَنَّهُمْ يُحَكِّمُونَ الظَّوَاهِرَ مِنْ أَسْبَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ. وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الْمُسْتَفَادِ من الِاسْتِفْهَام. [48، 50] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 48 إِلَى 50] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) ذَكَرَ عَقِبَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا مَنَعُوهُمُ الْإِنْفَاقَ بِعِلَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَطْعَمَهُمُ اسْتِهْزَاءً آخَرَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي تَهْدِيدِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ هَذَا الْوَعْدَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّهَكُّمِ وَالتَّكْذِيبِ. وَأُطْلِقَ الْوَعْدُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِالشَّرِّ لِأَنَّ الْوَعْدَ أَعَمُّ وَيَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْقَرِينَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْوَعْدِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعْدِ الْعَذَابِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا وَإِذَا قَدْ كَانَ اسْتِهْزَاؤُهُمْ هَذَا يَسُوءُ الْمُسْلِمِينَ أَعْلَمَ اللَّهُ وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْوَعْدَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُمْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً تَأْخُذُهُمْ فَلَا يُفْلِتُونَ مِنْ أَخْذَتِهَا.

وَفِعْلُ يَنْظُرُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّظْرَةِ وَهُوَ التَّرَقُّبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ فِي سُورَة [الْأَنْعَام: 158] . وَالصَّيْحَةُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ الْخَارِجُ مِنْ حَلْقِ الْإِنْسَانِ لِزَجْرٍ، أَوِ اسْتِغَاثَةٍ. وَأُطْلِقَتِ الصَّيْحَةُ فِي مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى صَوْتِ الصَّاعِقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ ثَمُودٍ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: 73] . فَالصَّيْحَةُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَعْقَةً أَوْ نَفْخَةً عَظِيمَةً. وَالْمُرَادُ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا نِظَامُ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَالْأُخْرَى تَنْشَأُ عَنْهَا النَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَيَكُونُ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ خَارِجًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إِعْرَاضًا عَنْ جَوَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَقِيقَةَ الِاسْتِفْهَامِ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْأَجْدَرُ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ. وَمَعْنَى تَأْخُذُهُمْ تُهْلِكُهُمْ فَجْأَةً، شُبِّهَ حُلُولُ صَيْحَةِ الْعِقَابِ بِحُلُولِ الْمُغِيرِينَ عَلَى الْحَيِّ لِأَخْذِ أَنْعَامِهِ وَسَبْيِ نِسَائِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْحُلُولِ فِعْلُ تَأْخُذُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: 10] أَيْ تَحُلُّ بِهِمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ. وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ يَهْلِكُونَ بِصَعْقَتِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيْحَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَهِيَ صَيْحَةُ صَائِحِينَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يُصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً تُنْذِرُ بِحُلُولِ الْقَتْلِ، فَيَكُونَ إِنْذَارًا بِعَذَابِ الدُّنْيَا. ولعلها صَيْحَة الصَّارِخ الَّذِي جَاءَهُمْ بِخَبَرِ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِرَكْبِ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ. ويَخِصِّمُونَ مِنَ الْخُصُومَةِ وَالْخِصَامِ وَهُوَ الْجِدَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [105] ، وَقَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [19] . وَأَصْلُهُ: يَخْتَصِمُونَ فَوَقَعَ إِبْدَالُ التَّاءِ ضَادًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْإِدْغَامِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا، فَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ: فَقَرَأَ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَخِصِّمُونَ

بِتَشْدِيدِ الصَّادِ مَكْسُورَةً عَلَى اعْتِبَارِ التَّاءِ الْمُبْدَلَةِ صَادًا وَالْمُسَكَّنَةِ لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ، أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْخَاءِ الَّتِي كَانَتْ سَاكِنَةً. وَقَرَأَهُ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ بِسُكُونِ الْخَاءِ سُكُونًا مُخْتَلَسًا (بِالْفَتْحِ) لِأَجْلِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَبِكَسْرِ الصَّادِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَخلف يَخِصِّمُونَ بِكَسْر الْخَاءِ وَكَسْرُ الصَّادِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ يَخِصِّمُونَ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ (خَصَمَ) قِيلَ بِمَعْنَى جَادَلَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يَخِصِّمُونَ بِإِسْكَان الْخَاءِ وَبِكَسْرِ الصَّادِ مُشَدِّدَةً عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ. وَالِاخْتِصَامُ: اخْتِصَامُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ أَوْ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَخْرُجُ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ مُفَاجَآتٍ لَهُمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ لِلنَّذِيرِ. وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ وَقْتُ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ أَنَّ الصَّيْحَةَ تَأْخُذُهُمْ. وَفُرِّعَ عَلَى تَأْخُذُهُمْ جُمْلَةُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أَيْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَوْصِيَةٍ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْتَضَرِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ صَيْحَةَ الْوَاقِعَةِ كَانَ قَوْلُهُ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ السُّرْعَةِ بَيْنَ الصَّيْحَةِ وَهَلَاكِهِمْ، إِذْ لَا يَكُونُ الْمُرَادُ مَدْلُولَهُ الصَّرِيحَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ غَيْرَهُمْ بَعْدَهُمْ إِذِ الْهَلَاكُ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ صَيْحَةَ الْقِتَالِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى مَوَاقِعِ الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ إِلَى تَرَقُّبِ وُصُولِ جَيْشِ الْفَتْحِ يَوْمَ الْفَتْح فَلَا يتمكنون مِنَ الْحَدِيثِ مَعَ مَنْ يُوصُونَهُ بِأَهْلِيهِمْ. وَالتَّوْصِيَةُ: مَصْدَرُ وَصَّى الْمُضَاعَفِ وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً مَا.

[سورة يس (36) : آية 51]

وَقَوْلُهُ: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يجوز أَن يكون عَطْفًا عَلَى تَوْصِيَةً، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِمْ كَشَأْنِ الَّذِي يُفَاجِئُهُ ذُعْرٌ فَيُبَادِرُ بِافْتِقَادِ حَالِ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ «لَا يَسْتَطِيعُونَ» فَيَكُونُ مِمَّا شَمِلَهُ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ، أَيْ فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ، أَيْ هُمْ هَالِكُونَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ صَيْحَةُ الْحَرْبِ يُخَصَّصُ ضَمِيرُ يَرْجِعُونَ بِكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هَلَكُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُتَوَلُّونَ كِبْرَ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، أَوِ الَّذِينَ أُكْمِلُوا بِالْهَلَاكِ يَوْمَ الْفَتْحِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ الَّذِي قُتِلَ يَوْم الْفَتْح. [15] [سُورَة يس (36) : آيَة 51] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ مَوْضِعَ الْحَالِ، أَيْ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً وَقَدْ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَخْ.. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ وَاقِعٌ بَيْنِ جُمْلَةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 49] إِلَخْ ... وَجُمْلَةِ وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا [يس: 66] . وَالْمَقْصُودُ: وَعْظُهُمْ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَبِمَا وَرَاءَهُ. وَالْمَاضِي مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مِثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَالْمَعْنَى: وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ، أَيْ وَيَنْفُخُ نَافِخٌ فِي الصُّورِ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، وَاسْمُهُ إِسْرَافِيلُ. وَهَذِهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] . وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ وَهِيَ حُصُولُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا سَرِيعًا وَبِدُونِ تَهَيُّؤٍ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ السَّابِقَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ فَإِذَا النَّاسُ كُلُّهُمْ وَمِنْهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ. والْأَجْداثِ: جَمْعُ جَدَثٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْقَبْرُ. ويَنْسِلُونَ يَمْشُونَ مَشْيًا سَرِيعًا. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَوَرَدَ مِنْ بَابِ نَصَرَ قَلِيلًا. وَالْمَصْدَرُ: النَّسَلَانِ، عَلَى وَزْنِ الْغَلَيَانِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفِعْلِ مِنَ التَّقْلِيبِ وَالِاضْطِرَابِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قُبِرُوا بَعْدَ الصَّيْحَةِ

[سورة يس (36) : آية 52]

الَّتِي أَخَذَتْهُمْ فَإِنْ كَانَت الصَّيْحَة صَيْحَة الْوَاقِعَةُ فَالْأَجْدَاثُ هِيَ مَا يَعْلُوهُمْ مِنَ التُّرَابِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الصَّيْحَةِ وَالنَّفْخَةِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً إِذْ لَا يَبْقَى بَعْدَ تِلْكَ الصَّيْحَةِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ لِيُدْفِنَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّيْحَةُ صَيْحَةَ الْفَزَعِ إِلَى الْقَتْلِ فَالْأَجْدَاثُ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِثْلُ قَلِيبِ بَدْرٍ. وَمَعْنَى: إِلى رَبِّهِمْ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ وَحِسَابِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ ب يَنْسِلُونَ. [52] [سُورَة يس (36) : آيَة 52] قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالِ بَعْدَ حِكَايَةِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَإِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَقَالِهِمْ حينما يرَوْنَ حقية الْبَعْثِ. وَيَا وَيْلَنا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْوَاقِعُ فِي مُصِيبَةٍ أَوِ الْمُتَحَسِّرُ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَاب عِنْد مَا بُعِثُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي اتِّبَاعًا لِحِكَايَةِ مَا قَبْلَهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ. وَحَرْفُ النِّدَاءِ الدَّاخِلُ عَلَى وَيْلَنا لِلتَّنْبِيهِ وَتَنْزِيلِ الْوَيْلِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْمَعُ فَيُنَادَى لِيَحْضُرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا وَيْلَتى فِي سُورَةِ هُودٍ [72] . ومَنْ اسْتِفْهَامٌ عَنْ فَاعِلِ الْبَعْثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالتَّحَسُّرِ مِنْ حُصُولِ الْبَعْثِ. وَلَمَّا كَانَ الْبَعْثُ عِنْدَهُمْ مُحَالًا كَنَوْا عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ حُصُولِهِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْغَرِيبَةَ تَتَوَجَّهُ الْعُقُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ فَاعِلِهَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا وَأُزْجِيَ بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ عَلِمُوا أَنَّهُ بَعْثٌ فَعَلَهُ مَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ. وَالْمَرْقَدُ: مَكَانُ الرُّقَادِ. وَحَقِيقَةُ الرُّقَادِ: النَّوْمُ. وَأَطْلَقُوا الرُّقَادَ عَلَى الْمَوْتِ وَالِاضْطِجَاعِ فِي الْقُبُورِ تَشْبِيهًا بِحَالَةِ الرَّاقِدِ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ اسْتَحْضَرَتْ نُفُوسُهُمْ مَا كَانُوا يُنْذَرُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاسْتَأْنَفُوا عَنْ

تَعَجُّبِهِمْ قَوْلَهُمْ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا سَبَبَ مَا تَعَجَّبُوا مِنْهُ فَبَطَلَ الْعَجَبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُتَحَسِّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَقُولَهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كُلٌّ يَظُنُّ أَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلسَّبَبِ فَيُرِيدُ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِ. وَأَتَوْا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْمِ الْجَلالَة بِصفة الرحمان إِكْمَالًا لِلتَّحَسُّرِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ بِذِكْرِ مَا كَانَ مُقَارَنًا لِلْبَعْثِ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارُ هَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْمَرْئِيَّةِ لِجَمِيعِهِمْ وَهِيَ حَالَةُ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَجُمْلَةُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ عَلَى أَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَجَمْعُ الْمُرْسَلِينَ مَعَ أَنَّ الْمَحْكِيَّ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: 48] إِمَّا لِأَنَّهُمُ اسْتَحْضَرُوا أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَاعِثُهُ إِحَالَتَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُرْسِلُ بَشَرًا رَسُولًا، فَكَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ أَحَدًا يَأْتِي بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] فَلَمَّا تَحَسَّرُوا عَلَى خَطَئِهِمْ ذَكَرُوهُ بِمَا يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ سَبَبَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ من سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [105] ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [37] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ المبعوثين من جَمِيع الْأُمَمِ فَعَلِمَتْ كُلُّ أُمَّةٍ خَطَأَهَا فِي تَكْذِيبِ رَسُولِهَا وَخَطَأِ غَيْرِهَا فِي تَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ فَنَطَقُوا جَمِيعًا بِمَا يُفْصِحُ عَنِ الْخَطَأَيْنِ، وَقَدْ مَضَى أَنَّ ضَمِيرَ فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ [يس: 53] يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُجِيبُونَ بِهِ قَوْلَ الْكُفَّارِ مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فَهَذَا جَوَابٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَنْ بَعَثَهُمْ مَعَ تَنْدِيمِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِينَ أَبْلَغَهُمُ الرُّسُلُ

[سورة يس (36) : آية 53]

ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْمُ الرَّحْمنُ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ لِزِيَادَةِ تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ عَلَى تَجَاهُلِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا. [53] [سُورَة يس (36) : آيَة 53] إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 49] إِلَى قَوْلِهِ: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] لِأَنَّ النَّفْخَ مُرَادِفٌ لِلصَّيْحَةِ فِي إِطْلَاقِهَا الْمَجَازِيِّ، فَاقْتِرَانُ فِعْلِ كَانَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيث لتأويل النَّفْي مَأْخُوذٌ مِنْ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: 51] بِمَعْنَى النَّفْخَةِ يُنْظَرُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِ صَيْحَةً. وَوَصْفُهَا بِ واحِدَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْخُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً لَا يُكَرَّرُ اسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْحُضُورِ بَلِ النَّفْخُ الْوَاحِدُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الْقُبُورِ وَيَسِيرُ بِهِمْ وَيُحْضِرُهُمْ لِلْحِسَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] فَتِلْكَ نَفْخَةٌ سَابِقَةٌ تَقَعُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَفْنَى بِهَا النَّاسُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فِي قُوَّةِ التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: 51] كَانَ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] فَكَأَنَّهُ مِثْلُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] وفَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُقْتَرِنَتَيْنِ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ حَتَّى كَانَ كِلَيْهِمَا مُفَاجَأً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ آنِفًا. وجَمِيعٌ نَعْتٌ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمْ جَمِيعُهُمْ، فَالتَّنْوِينُ فِي جَمِيعٌ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الرَّابِطِ لِلنَّعْتِ بِالْمَنْعُوتِ، أَيْ مُجْتَمِعُونَ لَا يَحْضُرُونَ أَفْوَاجًا وَزُرَافَاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 32] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

[سورة يس (36) : آية 54]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ صَيْحَةً. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَائِل السُّورَة. [54] [سُورَة يس (36) : آيَة 54] فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْبَعْثِ كَانَ هَذَا كَلَامًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فَاءٌ فَصِيحَةٌ وَهِيَ الَّتِي تفصح وتنبىء عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 53] فَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ قَالُوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] . وَالْمَعْنَى: فَقَدْ أَيْقَنْتُمْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ الرُّسُلَ صَدَقُوا فَالْيَوْمَ يَوْمُ الْجَزَاءِ كَمَا كَانَ الرُّسُلُ يُنْذِرُونَكُمْ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ كَانَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ وَكَانَتْ جُمْلَةُ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 53] إِلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. وَ «الْيَوْمَ» ظَرْفٌ وَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ عَهْدُ حُضُورٍ يَعْنِي يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْعَدْلِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بِالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءً قَاسِيًا لَكِنَّهُ عَادِلٌ لَا ظُلْمَ فِيهِ لِأَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِمَّا يُخَالُ أَنَّهُ مُتَجَاوِزٌ مُعَادَلَةَ الْجَرِيمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ إِلَّا عَلَى وِفَاقِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَعَلَى مِقْدَارِهِ. وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ. وَوُقُوعُ نَفْسٌ وشَيْئاً وَهُمَا نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ انْتِفَاءَ كُلِّ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ وَانْتِفَاءَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حَقِيقَةِ الظُّلْمِ وَذَلِكَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْفُسِ.. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْفُسُ الْمُعَاقَبِينَ، أَيْ أَنَّ جَزَاءَهُمْ عَلَى حَسَبِ سَيِّئَاتِهِمْ جَزَاءٌ عَادِلٌ. وَإِذْ قَدْ كَانَ تَقْدِيرُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْعَدْلِ مُحَقَّقَةً فِي مِقْدَارِ جَزَائِهِمْ إِذْ كُلُّ عَدْلٍ غَيْرُ عَدْلِ اللَّهِ مُعَرَّضٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي نَفْسِ

[سورة يس (36) : الآيات 55 إلى 57]

الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِينِ، وَاللَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَاكِمَ إِلَّا بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجر وَاحِد» . [55- 57] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 55 إِلَى 57] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) هَذَا من الْكَلَام الَّذِي يُلْقَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُقَالُ لِمَنْ حَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِعْلَامًا لَهُمْ بِنُزُولِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِعْلَانًا بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ وَإِدْخَالًا لِلنَّدَامَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عُجِّلَ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى النَّارِ أَهْلُهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ. وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ. وَالشَّغْلُ: مَصْدَرُ شَغَلَهُ، إِذَا أَلْهَاهُ. يُقَالُ: شَغَلَهُ بِكَذَا عَنْ كَذَا فَاشْتَغَلَ بِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ جُعِلَ تَلَبُّسُهُمْ بِالشُّغْلِ كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ شُغْلٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَوْقِفِ أَهْلِ الْعَذَابِ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَنْظَرِ الْمُزْعِجَاتِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا لَا تَخْلُو مِنِ انْقِبَاضِ النُّفُوسِ، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشْغَلُهُمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذِكْرِهِ، فَقَوْلُهُ: فِي شُغُلٍ خَبَرُ إِنَّ وفاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبٌ شُغْلٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. والفاكه: ذُو الْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ الْمِزَاحُ بِالْكَلَامِ الْمُسِرِّ وَالْمُضْحِكِ، وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ: فَكِهَ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِذَا مَزَحَ وَسُرَّ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ لَمْ

يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي قِلَّةَ اسْتِعْمَالِهِ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ غَيْرُ الثُّلَاثِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَا تُفَاكِهْ أَمَهْ وَلَا تَبُلْ عَلَى أَكْمَهْ، وَقَالَ تَعَالَى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَة: 65] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهُونَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ مِثَالِ الْمُبَالَغَةِ. وَجُمْلَةُ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَخ. وَالْمرَاد بأزواجهم: الْأَزْوَاجُ اللَّاتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنْهُنَّ مَنْ كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ كُنَّ غَيْرَ مَمْنُوعَاتٍ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرَّعْد: 23] . وَالظِّلَالُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَزْنِ فِعَالٍ بِكَسْرِ أَوله على أَنه جَمْعِ ظِلٍّ، أَيْ ظِلُّ الْجَنَّاتِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ (ظُلَّةَ) وَهِيَ مَا يَظِلُّ كَالْقِبَابِ. وَجُمِعَ الظِّلَالُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَجْلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْجَمْعِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِي ظِلٍّ أَوْ فِي ظُلَّةٍ. والْأَرائِكِ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ السَّرِيرِ وَالْحَجَلَةِ، فَإِذَا كَانَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ أَرِيكَةً. وَهَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَيْءٍ مُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ مِثْلِ الْمَائِدَةِ اسْمٌ لِلْخِوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ طَعَامٌ. وَالِاتِّكَاءُ: هَيْئَةٌ بَيْنَ الِاضْطِجَاعِ وَالْجُلُوسِ وَهُوَ اضْطِجَاعٌ عَلَى جَنْبٍ دُونَ وَضْعِ الرَّأْسِ وَالْكَتِفِ عَلَى الْفِرَاشِ. وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ وَكَأَ الْمَهْمُوزِ، إِذَا اعْتُمِدَ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي تُجَاهٍ وَتُرَاثٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ فعل اتكأ لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَشُدُّ قَعْدَتَهُ وَيُرَسِّخُهَا بِضَرْبٍ مِنَ الِاضْطِجَاعِ. وَالِاسْمُ مِنْهُ التُّكَأَةُ بِوَزْنِ هُمَزَةٍ، وَهُوَ جُلُوسُ الْمُتَطَلِّبِ لِلرَّاحَةِ وَالْإِطَالَةِ وَهُوَ جِلْسَةُ أَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] . وَكَانَ الْمُتَرَفِّهُونَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَانَ ذَلِكَ عَادَةَ سَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَمَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَلِذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ يُعِينُ عَلَى امْتِدَادِ

الْمَعِدَةِ فَتَقْبَلُ زِيَادَةَ الطَّعَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ الِاتِّكَاءُ فِي الطَّعَامِ مَكْرُوهًا لِلْإِفْرَاطِ فِي الرَّفَاهِيَةِ. وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ فِي غَيْرِ حَالِ الْأَكْلِ فَقَدِ اتَّكَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: أَنَّهُ دَخْلَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: «هُوَ ذَلِكَ الْأَزْهَرُ الْمُتَّكِئُ» . وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلشِّبَعِ كَالثِّمَارِ وَالنُّقُولِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَزِيزَةُ النَّوَالِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَنَّهَا اسْتَجْلَبَهَا ذِكْرُ الِاتِّكَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَّكِئِينَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِتَنَاوُلِ الْفَوَاكِهِ. ثُمَّ عَمَّمَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ويَدَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَرِّفًا مِنَ الدُّعَاءِ أَوْ مِنَ الِادِّعَاءِ، أَيْ مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَدَّعُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ. وَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَوَزْنُ يَدَّعُونَ يَفْتَعِلُونَ. أَصْلُهُ يَدْتَعْيُونَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْيَاءِ ثَقِيلٌ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ سَاكِنَةً وَبَعْدَهَا وَاوُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مُفِيدُ مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ. وَهَذَا الِافْتِعَالُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ (دَعَا) ، وَالِافْتِعَالُ هُنَا يَجْعَلُ فِعْلَ (دَعَا) قَاصِرًا فَيَنْبَغِي تَعْلِيقُ مَجْرُورٍ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ (¬1) اشْتَوَى إِذَا شَوَى لِنَفْسِهِ وَاجْتَمَلَ إِذَا جَمُلَ لِنَفْسِهِ، أَيْ جَمْعَ الْجَمِيلَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ وَهُوَ الْإِهَالَةُ. وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الِادِّعَاءِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمْ، أَيْ تَتَحَدَّثُ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: وَيَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا ¬

(¬1) قبله: وَغُلَام أَرْسلتهُ أمه ... بألوك فبذلنا مَا سَأَلَ أَرْسلتهُ فَأَتَاهُ رزقه ... ............... .... إِلَخ

[سورة يس (36) : آية 58]

بِالْقَوْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ مَعْنَى يَدَّعُونَ يَتَمَنَّوْنَ. يُقَالُ: ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، أَيْ تَمَنَّ عَلَيَّ، وَفُلَانٌ فِي خَيْرٍ مَا ادَّعَى، أَيْ فِي خَيْرٍ مَا يَتَمَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ فِي سُورَة فصّلت [31] . [58] [سُورَة يس (36) : آيَة 58] سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) اسْتِئْنَافُ قَطْعٍ عَنْ أَنَّ يُعْطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ إِذْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ بِكَلَامٍ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ قَوْلٌ مِنَ اللَّهِ: إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ أَصْوَاتٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهَا مَجْعُولَةً لِأَجْلِ أَسْمَاعِهِمْ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِمَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ أَصْنَافِهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَسْمَى وَأَعْلَى وَهُوَ التَّكْرِيمُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] . وسَلامٌ مَرْفُوع فِي جَمِيع الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ وَرَفْعُهُ لِلدَّلَالَةِ على الدَّوَام والتحقق، فَإِنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ نِيَابَةً عَنِ الْفِعْلِ مثل قَوْله: فَقالُوا سَلاماً [الذاريات: 25] . فَلَمَّا أُرِيدَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ جِيءَ بِهِ مَرْفُوعًا مِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ سَلامٌ [هود: 69] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] . وَحَذْفُ خَبَرِ سَلامٌ لِنِيَابَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق وَهُوَ قَوْله قَوْلًا عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ، وَالَّذِي اقْتَضَى حَذْفَ الْفِعْلِ وَنِيَابَةَ الْمَصْدَرِ عَنْهُ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْمَصْدَرِ لِقَبُولِ التَّنْوِينِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مَرْفُوعًا هُوَ مَا يُشْعِرُ بِهِ النَّصْبَ مِنْ كَوْنِ الْمَصْدَرِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَتَنْوِينُ رَبٍّ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَجِلِ ذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْإِكْرَامِ وَالرِّضَى عَنْهُمْ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي الدُّنْيَا فَاعْتَرفُوا بربوبيته.

[سورة يس (36) : آية 59]

[سُورَة يس (36) : آيَة 59] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس: 55] وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى سَلامٌ قَوْلًا [يس: 58] ، أَيْ وَيُقَالُ: امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، عَلَى الضِّدِّ مِمَّا يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَلَامٌ يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلًا، وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ: امْتَازُوا، فَتَكُونُ مِنْ توزيع الخطابين على مخاطبين فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] . وَامْتَازَ مُطَاوِعُ مَازَهَ، إِذَا أَفْرَدَهُ عَمَّا كَانَ مُخْتَلِطًا مَعَهُ، وُجِّهَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْتَازُوا مُبَالَغَةً فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْمَيْزِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ تَكْوِينٍ فَعُبِّرَ عَنْ مَعْنَى. فَيَكُونُ الْمَيْزُ بِصَوْغِ الْأَمْرِ مِنْ مَادَّةِ الْمُطَاوَعَةِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: لِتَنْكَسِرَ الزُّجَاجَةُ أَشَدُّ فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْكَسْرِ فِيهَا مِنْ أَنْ تَقُولَ: اكْسِرُوا الزُّجَاجَةَ. وَالْمُرَادُ: امْتِيَازُهُمْ بِالِابْتِعَادِ عَنِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرُوا إِلَى النَّارِ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: ادْخُلُوا النَّارَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَحْشَرِ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس: 55] ، فَلَمَّا حُكِيَ مَا فِيهِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ حِينَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ النَّارِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [يس: 54] ، حُكِيَ ذَلِكَ ثُمَّ قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ. وَتَكْرِيرُ كَلِمَةِ الْيَوْمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ تَأْكِيدِ ذَكْرِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ [يس: 54] وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ [يس: 55] وَقَوْلِهِ: امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ. وَنِدَاؤُهُمْ بِعُنْوَانِ: الْمُجْرِمُونَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةٍ مَيْزِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، فَاللَّامُ فِي الْمُجْرِمُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ أَيُّهَا الَّذين أجرموا.

[سورة يس (36) : الآيات 60 إلى 62]

[سُورَة يس (36) : الْآيَات 60 إِلَى 62] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) إِقْبَالٌ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ جَمَعَهُمُ الْمَحْشَرُ غَيْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ عُجِّلُوا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَشْمَلُ هَذَا جَمِيعَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّهُ شَامِلٌ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ إِشْهَادٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَخُوطِبُوا بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الشَّيْطَانَ يَقْتَضِي تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لَهُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بجلق ... وقبر بصيدا الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ وَلِلْحَارِثِ الْجَفْنِيِّ سيد قومه ... ليلتمس بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ يَعْنِي بِلَادَ مَنْ حَارَبَ أُصُولَهُ. وَالْعَهْدُ: الْوِصَايَةُ، ووصاية الله بني آدَمُ بِأَلَّا يَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ هِيَ مَا تَقَرِّرَ وَاشْتَهِرَ فِي الْأُمَمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ فَلَا يَسَعُ إِنْكَارُهُ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِحَالِ مَنْ يَجْحَدُ هَذَا الْعَهْدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْهَدْ تَوَالِي الْعَيْنِ وَالْهَاءِ وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ إِلَّا أَنَّ تَوَالِيَهُمَا لَمْ يُحْدِثْ ثِقْلًا فِي النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ يُنَافِي الْفَصَاحَةَ بِمُوجَبِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ لِأَنَّ انْتِقَالَ النُّطْقِ فِي مَخْرَجِ الْعَيْنِ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ إِلَى مَخْرَجِ الْهَاءِ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ خَفَّفَ النُّطْقَ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ سُكُونٍ إِلَى حَرَكَةٍ زَادَ ذَلِكَ خِفَّةً. وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: 26] الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَاءٍ وَهِيَ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ وَهَاءٍ وَهِيَ مَنْ أَقْصَاهُ إِلَّا أَنَّ الْأُولَى سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةَ مُتَحَرِّكَةٌ وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مِنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ، وَمُثِّلَ لَهُ بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى ... مَعِي وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي

فَإِنَّ كَلِمَةَ (أَمْدَحْهُ) لَا تُعَدُّ مُتَنَافِرَةَ الْحُرُوفِ عَلَى أَنَّ تَكْرِيرَهَا أَحْدَثَ عَلَيْهَا ثِقْلًا مَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَى (¬1) الْمَجْعُولِ مِثَالًا لِلتَّنَافُرِ فَإِنَّ تَنَافُرَ حُرُوفِهِ انْجَرَّ إِلَيْهِ مِنْ تَعَاقُبِ ثَلَاثَةِ حُرُوفٍ: السِّينِ وَالشِّينِ وَالزَّايِ، وَلَوْلَا الْفَصْلُ بَيْنَ السِّينِ وَالشِّينِ بِالتَّاءِ لَكَانَ أَشَدَّ تَنَافُرًا. وَمُوجِبَاتُ التَّنَافُرِ كَثِيرَةٌ وَمَرْجِعُهَا إِلَى سُرْعَةِ انْتِقَالِ اللِّسَانِ فِي مَخَارِجِ حُرُوفٍ شَدِيدَةِ التَّقَارُبِ أَوِ التَّبَاعُدِ مَعَ عَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهَا مِنْ صِفَاتِ الْحُرُوفِ مِنْ: جَهْرٍ وَهَمْسٍ، أَوْ شِدَّةٍ وَرِخْوٍ، أَوِ اسْتِعْلَاءٍ وَاسْتِفَالٍ، أَوِ انْفِتَاحٍ وَانْطِبَاقٍ، أَوْ إِصْمَاتٍ وَانْذِلَاقٍ. وَمِنْ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا وَلَيْسَ لِذَلِكَ ضَابِطٌ مُطَّرِدٌ وَلَكِنَّهَ مِمَّا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى ذَوْقِ الْفُصَحَاءِ. وَقَدْ حَاوَلَ ابْنُ سِنَانٍ الْخَفَاجِيِّ إِرْجَاعَهُ إِلَى تَقَارُبِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فَرَدَّهُ ابْنُ الْأَثِيرِ عَلَيْهِ بِمَا لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ. وَإِذَا اقْتَضَى الْحَالُ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ إِيثَارَ كَلِمَةٍ بِالذِّكْرِ إِذْ لَا يَعْدِلُهَا غَيْرُهَا فَعَرَضَ مِنْ تَصَارِيفِهَا عَارِضُ ثِقَلٍ لَا يَكُونُ حَقُّ مُقْتَضَى الْحَالِ الْبَلَاغِيِّ مُوجِبًا إِيرَادَهَا. وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، فَسَرَتْ إِجْمَالَ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْعَهْدَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَ أَنْ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرِيَّةٌ. وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ: عِبَادَةُ مَا يَأْمُرُ بِعِبَادَتِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا. وَجُمْلَةُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وَقَدْ أَغْنَتْ أَنْ عَنْ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ للْمُبَالَغَة، أَي عداوته وَاضِحَةٌ، وَوَجْهُ وُضُوحِهَا أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا رَاقَبَ عَوَاقِبَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوَسْوِسُهَا لَهُ نَفْسُهُ وَاتَّهَمَهَا وَعَرَضَهَا عَلَى وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَجَدَهَا عَوَاقِبَ نَحِسَةً، فَوَضَحَ لَهُ أَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ وَأَنَّ الَّذِي وَسْوَسَ بِهَا عَدُوٌّ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَدُودًا لَمَا أَوْقَعَهُ فِي ¬

(¬1) تَمَامه: تضل العقاص فِي مثنى ومرسل. [.....]

الْكَوَارِثِ وَلَا يُظَنُّ بِهِ الْإِيقَاعُ فِي ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ بَصِيرَة لِأَن تكَرر أَمْثَالِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ لِلْمَرْءِ وَلِأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَبُوحُ لَهُ بِأَحْوَالِهِ يَدُلُّ ذَلِكَ التَّكَرُّرُ عَلَى أَنَّهَا وَسَاوِسُ مَقْصُودَةٌ لِلْإِيقَاعِ فِي الْمَهَالِكِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُشِيرَ بِهَا عَدُوٌّ أَلَدُّ، وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. وَجُمْلَةُ وَأَنِ اعْبُدُونِي عَطْفٌ عَلَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ بِإِعَادَةِ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ فَهُمَا جُمْلَتَانِ مُفَسِّرَتَانِ لِعَهْدَيْنِ. وَعُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ لِأَنَّ فِي الْإِتْيَانِ بِهَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ زِيَادَةَ فَائِدَةٍ لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ الدَّهْرِيِّينَ وَالْمُعَطِّلِينَ فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فَكَانُوا خَاسِئِينَ بِالْعَهْدِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لِلْعَهْدِ الْمَفْهُومِ مِنْ فِعْلِ أَعْهَدْ أَوْ لِلْمَذْكُورِ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْ جُمْلَتَيْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وَأَنِ اعْبُدُونِي، أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ كَالطَّرِيقِ الْقَوِيمِ فِي الْإِبْلَاغِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً عَطْفٌ عَلَى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَعَدَاوَتُهُ وَاضِحَةٌ بِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ فَكَانَتْ عِلَّةً لِلنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَدَاوَتَهُ وَاضِحَةٌ وُضُوحَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِأَنَّهَا تَقَرَّرَتْ بَيْنَ النَّاسِ وَشَهِدَتْ بِهَا الْعُصُورُ وَالْأَجْيَالُ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُضِلُّ النَّاسَ إِضْلَالًا تَوَاتَرَ أَمْرُهُ وَتَعَذَّرَ إِنْكَارُهُ. وَالْجِبِلُّ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحِّدَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ كَمَا قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ. وَالْجِبِلُّ: الْجَمْعُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْلِ بِسُكُونِ الْبَاءِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ.

[سورة يس (36) : الآيات 63 إلى 64]

وَفُرِّعَ عَلَيْهِ تَوْبِيخُهُمْ بِقِلَّةِ الْعُقُولِ بِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ عَنْ عَدَمِ كَوْنِهِمْ يَعْقِلُونَ، أَيْ يُدْرِكُونَ، إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ لَتَفَطَّنُوا إِلَى إِيقَاعِ الشَّيْطَانِ بِهِمْ فِي مَهَاوِي الْهَلَاكِ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَتَكَوَّنْ فِيهِمْ وَلَا هُمْ كائنون بِهِ. [63، 64] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 63 إِلَى 64] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعْبُودَاتٍ يُسَوِّلُهَا لَهُمُ الشَّيْطَانُ، إِذْ تَبْدُو لَهُمْ جَهَنَّمُ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهَا وَيُعَرَّفُونَ أَنَّهَا هِيَ جَهَنَّمُ الَّتِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُنْذَرُونَ بِهَا وَتَذْكُرُ لَهُمْ فِي الْوَعِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ. وَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: اصْلَوْهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالتَّنْكِيرِ. واصْلَوْهَا أَمْرٌ مِنْ صَلِيَ يَصْلَى، إِذَا اسْتَدْفَأَ بِحَرِّ النَّارِ، وَإِطْلَاقُ الصَّلْيِ عَلَى الْإِحْرَاقِ تَهَكُّمٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ هَذَا الْيَوْمَ الْحَاضِرَ وَأُرِيدَ بِهِ جَوَابَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنِ اسْتِبْطَاءِ الْوَعْدِ وَالتَّكْذِيبِ إِذْ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] . وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا. [65] [سُورَة يس (36) : آيَة 65] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ نَخْتِمُ. وَالْقَوْلُ فِي لَفْظِ الْيَوْمَ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِهِ بِحُصُولِ هَذَا الْحَالِ الْعَجِيبِ فِيهِ، وَهُوَ انْتِقَالُ النُّطْقِ مِنْ مَوْضِعِهِ الْمُعْتَادِ إِلَى الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ.

وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي أَفْواهِهِمْ- أَيْدِيهِمْ- أَرْجُلُهُمْ- يَكْسِبُونَ عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [يس: 63] عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَأَصْلُ النَّظْمِ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِكُمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيكُمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. وَمُوَاجَهَتُهُمْ بِهَذَا الْإِعْلَامِ تَأْيِيسٌ لَهُمْ بِأَنَّهُم لَا يَنْفَعهُمْ إِنْكَارُ مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنْ صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: 14] . وَقَدْ طُوِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا وَرَدَ تَفْصِيلُهُ فِي آيٍ أُخَرَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 22- 23] وَقَالَ: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ [يُونُس: 28- 29] . وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُخَاطِبُ الْعَبْدُ رَبَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلم؟ فَيَقُول: بلَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ. فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ» ، وَإِنَّمَا طُوِيَ ذِكْرُ الدَّاعِي إِلَى خِطَابِهِمْ بِهَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ هُنَا فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَقَدْ يُخَيَّلُ تَعَارُضٌ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّور: 24] . وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّ آيَةَ يس فِي أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَآيَةَ سُورَةِ النُّورِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ. وَالْمُرَادُ بِتَكَلُّمِ الْأَيْدِي تَكَلُّمُهَا بِالشَّهَادَةِ، وَالْمُرَادُ بِشَهَادَةِ الْأَرْجُلِ نُطْقُهَا بِالشَّهَادَةِ، فَفِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ احْتِبَاكٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ فَتَشْهَدُ وَتُكَلِّمُنَا أَرْجُلُهُمْ فَتَشْهَدُ. وَيَتَعَلَّقُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بِكُلٍّ مِنْ فِعْلَيْ تُكَلِّمُنا وتَشْهَدُ عَلَى وَجْهِ التَّنَازُعِ. وَمَا يَكْسِبُونَهُ: هُوَ الشِّرْكُ وَفُرُوعُهُ. وَتَكْذِيبُهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَلْحَقُوا بِهِ من الْأَذَى.

[سورة يس (36) : الآيات 66 إلى 67]

[سُورَة يس (36) : الْآيَات 66 إِلَى 67] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: 48] . وَمَوْقِعُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ إِلْجَاءَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالشِّرْكِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ ذَلِكَ مُثِيرًا لِأَنْ يَهْجِسَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَمَنَّوْا لَوْ سَلَكَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ فَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَإِلَى تَصْدِيقِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ دِينِهِ، فَأَفَادَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَفَعَلَ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى تُجْرِي تَعَلُقَاتِهِا عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى وَحَكْمَتِهِ. فَهُوَ قَدْ جَعَلَ نِظَامَ الدُّنْيَا جَارِيًا عَلَى حُصُولِ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي وَكَّلَ اللَّهُ إِلَيْهَا إِنْتَاجَ مُسَبَّبَاتِهَا وَأَثَارِهَا وَتَوَالُدَاتِهَا حَتَّى إِذَا بُدِّلَ هَذَا الْعَالَمُ بِعَالَمِ الْحَقِيقَةِ أَجْرَى الْأُمُورَ كُلَّهَا عَلَى الْمَهْيَعِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ فِي مَجَارِي الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ. وَالْمَعْنَى إِنَّا أَلْجَأْنَاهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا شِرْكٌ وَبَاطِلٌ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا لِيَرْتَدِعُوا وَيَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَسُوءِ إِنْكَارِهِمْ. وَلَمَّا كَانَتْ لَوْ تَقْتَضِي امْتِنَاعًا لِامْتِنَاعٍ فَهِيَ تَقْتَضِي مَعْنَى: لَكِنَّا لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ فَتَرَكْنَاهُمْ عَلَى شَأْنِهِمُ اسْتِدْرَاجًا وَتَمْيِيزًا بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ. فَهَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمُرَادٌ مِنْهُ تَبْصِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَأْتِيَ نَصْرُ اللَّهِ. فالطمس وَالْمَسْخ المعلقان عَلَى الشَّرْطِ الِامْتِنَاعِيِّ طَمْسٌ وَمَسْخٌ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ. وَالطَّمْسُ: مَسْخُ شَوَاهِدِ الْعَيْنِ بِإِزَالَةِ سَوَادِهَا وَبَيَاضِهَا أَوِ اخْتِلَاطِهِمَا وَهُوَ الْعَمَى أَوِ الْعَوَرُ، وَيُقَالُ: طَرِيقٌ مَطْمُوسَةٌ، إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا آثَارُ السَّائِرِينَ لِيَقْفُوَهَا السَّائِرُ. وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الطَّمْسِ وَإِلَّا فَإِنَّ طَمَسَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.

وَالِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ وَالِافْتِعَالُ دَالٌّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْفِعْلِ أَيْ فَبَادَرُوا. والصِّراطَ: الطَّرِيقُ الَّذِي يُمْشَى فِيهِ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الِاسْتِبَاقِ إِلَيْهِ عَلَى حَذْفِ (إِلَى) بِطَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْكِتَابِ: تَمُرُّونَ الديار وَلم تعرجوا أَرَادَ: تَمُرُّونَ عَلَى الدِّيَارِ. أَوْ عَلَى تَضْمِينِ «اسْتَبَقُوا» مَعْنَى ابْتَدَرُوا، أَيِ ابْتَدَرُوا الصِّرَاطَ مُتَسَابِقِينَ، أَيْ مُسْرِعِينَ لِمَا دَهَمَهُمْ رَجَاءَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا فَلَمْ يُبْصِرُوا الطَّرِيقَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [17] . وَ «أَنَّى» اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى (كَيْفَ) وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يُبْصِرُونَ وَقَدْ طُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ، أَيْ لَوْ شِئْنَا لِعَجَّلْنَا لَهُمْ عُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا يرتدعون بهَا فيقلعوا عَنْ إِشْرَاكِهِمْ. وَالْمَسْخُ: تَصْيِيرُ جِسْمِ الْإِنْسَانِ فِي صُورَةِ جِسْمٍ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [65] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ بِبَقِيَّةِ مَسْخٍ. وَالْمَكَانَةُ: تَأْنِيثُ الْمَكَانِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْبُقْعَةِ كَمَا قَالُوا: مُقَامٌ وَمُقَامَةٌ، وَدَارٌ وَدَارَةٌ، أَيْ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَا الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا فِي مَكَانِهِمُ الَّذِي أَظْهَرُوا فِيهِ التَّكْذِيبَ بِالرُّسُلِ فَمَا اسْتَطَاعُوا انْصِرَافًا إِلَى مَا خَرَجُوا إِلَيْهِ وَلَا رُجُوعًا إِلَى مَا أَتَوْا مِنْهُ بَلْ لَزِمُوا مَكَانَهُمْ لِزَوَالِ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَسْخِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا رُجُوعًا، وَلَكِنْ عَدَلَ إِلَى وَلا يَرْجِعُونَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ فَجُعِلَ قَوْلُهُ وَلا يَرْجِعُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ «مَا اسْتَطَاعُوا» وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى مُضِيًّا لِأَنَّ فِعْلَ اسْتَطَاعَ لَا يَنْصِبُ الْجُمَلَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمَا

[سورة يس (36) : آية 68]

مَضَوْا وَلَا رَجَعُوا فَجَعَلْنَا لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا قبل عَذَاب الْآخِرَةِ وَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَكْنَاهُمْ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لمن بعدهمْ. [68] [سُورَة يس (36) : آيَة 68] وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) قَدْ يلوح فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْغَرِيبِ عَنِ السِّيَاقِ فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ انْتَقَلَ بِهِ من غَرَضُ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ حَتَّى يُخَالُ أَنَّ الَّذِي اقْتَضَى وُقُوعَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِبَاعِ نُزُولِ الْآيَاتِ قَبْلَهَا لِسَبَبٍ اقْتَضَى نُزُولَهَا. فَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَوْقِعَهَا مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسْتَصْعَبُ عَلَيْهَا طَمْسُ أَعْيُنِهِمْ وَلَا مَسْخُهُمْ كَمَا غَيَّرَ خِلْقَةَ الْمُعَمَّرِينَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى ضَعْفٍ، فَيَكُونُ قِيَاسَ تَقْرِيبٍ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَبِالْأَدْوَنِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قيل: لَو نَشأ لَطَمَسْنَا إِلَخْ لِأَنَّا قَادِرُونَ عَلَى قَلْبِ الْأَحْوَالِ، أَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ نُقَلِّبُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَنَجْعَلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا خَلَقْنَاهُ أَوَّلًا. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمَوْقِعُ وَاوِ الْعَطْفِ غَيْرُ شَدِيدِ الِانْتِظَامِ. وَجَعَلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، أَيْ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ خَلْقِهِمْ مِنْ شَبَابٍ إِلَى هَرَمٍ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ أَيْضًا قِيَاسُ تَقْرِيبٍ بِالْخَفِيِّ وَبِالْأَدْوَنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا مُعْرِضًا عَمَّا قَبْلَهَا فَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَاهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا وَجْهَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا لِقَطْعِ مَعْذِرَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ يَقُولُوا: مَا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَمْرًا قَلِيلًا وَلَوْ عَمَّرْنَا طَوِيلًا لَمَا كَانَ مِنَّا تَقْصِيرٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ تَحُومُ حَوْلَ جَعْلِ الْخَلْقِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، أَيْ فِي خِلْقَتِهِ أَوْ فِي أَثَرِ خَلْقِهِ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ بَعِيدٌ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي دَفَعَ

الْمُفَسِّرِينَ إِلَى ذَلِكَ هُوَ مَا أَلِفَهُ النَّاسُ مِنْ إِطْلَاقِ التَّعْمِيرِ عَلَى طُولِ عُمْرِ الْمُعَمَّرِ، فَلَمَّا تَأَوَّلُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَلْحَقُوا تَأْوِيلَ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ لِكَوْنِ جُمْلَةِ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ عَطَفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ [يس: 67] فَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ، فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ شَرْطٍ امْتِنَاعِيٍّ وَالْمَعْطُوفَةُ جُمْلَةُ شَرْطٍ تَعْلِيقِيٍّ، وَالْجُمْلَةُ الْأَوْلَى أَفَادَتْ إِمْهَالَهُمْ وَالْإِمْلَاءَ لَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ أَفَادَتْ إِنْذَارَهَمْ بِعَاقِبَةٍ غَيْرِ مَحْمُودَةٍ وَوَعِيدَهُمْ بِحُلُولِهَا بِهِمْ، أَيْ إِنْ كُنَّا لَمْ نَمْسَخْهُمْ وَلَمْ نَطْمِسْ عَلَى عُيُونِهِمْ فَقَدْ أَبْقَيْنَاهُمْ لِيَكُونُوا مَغْلُوبِينَ أَذِلَّةً، فَمَعْنَى وَمَنْ نُعَمِّرْهُ مَنْ نُعَمِّرْهُ مِنْهُمْ. فَالتَّعْمِيرُ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ، أَيْ مَنْ نُبْقِيهِ مِنْهُمْ وَلَا نَسْتَأْصِلُهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَهُ بَين الْأُمَم دَلِيلا، فَالتَّعْمِيرُ الْمُرَادُ هُنَا كَالتَّعْمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، بِأَنَّ مَعْنَاهَا: أَلَمْ نُبْقِكُمْ مُدَّةً مِنَ الْحَيَاةِ تَكْفِي الْمُتَأَمِّلَ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ بِقَوْلِهِ: مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْمِيرِ فِيهَا طُولَ الْحَيَاةِ وَإِدْرَاكَ الْهَرَمِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بِجَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ. وَقَدْ طُوِيَتْ فِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ تَقْدِيرُهَا: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَهْلَكْنَاهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ أَيْ نُبْقِهِ حَيا. والنكس: حَقِيقَته قَلْبِ الْأَعْلَى أَسْفَلَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْأَسْفَلِ، قَالَ تَعَالَى: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة: 12] . وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: فُلَانٌ نَكِسٌ، إِذَا كَانَ ضَعِيفًا لَا يُرْجَى لِنَجْدَةٍ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَأَنَّهُ مَنْكُوسٌ فِي خَلَائِقِ الرُّجُولَةِ، فَ نُنَكِّسْهُ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّا نَجْعَلُهُ مَجَازًا فِي الْإِذْلَالِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَسُوءِ الْحَالَةِ بَعْدَ زَهْرَتِهَا. والْخَلْقِ: مَصْدَرُ خَلَقَهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَثِيرًا وَعَلَى النَّاسِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي رَأَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِالْحَبَشَةِ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، أَيْ شَرَارُ النَّاسِ. وَوُقُوعُ حَرْفِ فِي هُنَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْخَلْقَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ النَّاسُ، أَيْ تَجْعَلُهُ دَلِيلًا فِي

[سورة يس (36) : الآيات 69 إلى 70]

النَّاسِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى دُونَ مَعْنًى فِي خِلْقَتِهِ لِأَنَّ الْإِنْكَاسَ لَا يَكُونُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي أَطْوَارِهَا، وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف: 69] أَيْ زَادَكُمْ قُوَّةً وَسَعَةً فِي الْأُمَمِ، أَيْ فِي الْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لَكُمْ، فَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَوُقُوعِهِمْ تَحْتَ نُفُوذِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذين كَانُوا رؤوسا لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَارُوا فِي أَسْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي حُكْمِهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ فَكَانُوا يُدْعَوْنَ الطُّلَقَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَكِّسْهُ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً وَهُوَ مُضَارِعُ نَكَسَ الْمُتَعَدِّي، يُقَالُ: نَكَسَ رَأْسَهُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُشَدَّدَةً مُضَارِعُ نَكَّسَ الْمُضَاعَفِ. وَفُرِّعَ عَلَى الْجُمَلِ الشَّرْطِيَّةِ الثَّلَاثِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْله: أَفَلا يَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافًا إِنْكَارِيًّا لِعَدَمِ تَأَمُّلِهِمْ فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَطَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ وَلَوْ شَاءَ لَمَسْخَهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ نَصْرِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَاسُوا مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ لَعَلِمُوا أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى مَسْخِهِمْ فَمَا دَونَهُ مِنْ إِنْزَالِ مَكْرُوهٍ بِهِمْ أَيْسَرُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الْمُتْقَنَةِ وَأَنَّهُ لَا حَائِلَ بَيْنَ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِمَسْخِهِمْ إِلَّا عَدَمُ إِرَادَتِهِ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا فَإِنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورَاتِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَفَلَا تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمَلَ الشّرطِيَّة لَا تَخْلُو مِنْ مُوَاجَهَةٍ بِالتَّعْرِيضِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ أَنْ يَعْقِلُوا مَغْزَاهَا ويتفهموا مَعْنَاهَا. [69، 70] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 69 إِلَى 70] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) هَذِهِ الْآيَةُ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [يس: 46]

فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَهُ أَحْوَالٌ شَتَّى: بَعْضُهَا بِعَدَمِ الِامْتِثَالِ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: 47] الْآيَةَ، وَبَعْضُهَا بِالتَّكْذِيبِ لِمَا يُنْذِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: 48] . وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ طَعْنُهُمْ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ بِأَقْوَالٍ شَتَّى مِنْهَا قَوْلُهُمْ: هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ، فَلَمَّا تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِإِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدٍ بِالْجَزَاءِ يَوْمَ الْحَشْرِ بِمَا تَعَاقَبَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ عَادَ هُنَا إِلَى طَعْنِهِمْ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: 5] ، فَقَوْلهم بَلْ هُوَ شاعِرٌ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ شِعْرٌ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْبِيَاء: 38] ، عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَيَكُونُ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا دون التَّعَرُّض لتنزيهه عَنْ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْغَرَضَ الرَّدُّ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ إِبْطَالَ مَقَالَاتٍ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 41، 42] . وَضَمِيرُ عَلَّمْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الرَّدِّ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ. وَبُنِيَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ بِنَفْيِ تَعْلِيمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِفَادَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعَلَّمٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِشَاعِرٍ. وَانْتَصَبَ الشِّعْرَ على أَن مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ عَلَّمْناهُ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَمُجَرَّدُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ غَالِبًا نَحْوُ عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ. وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ. فَإِذَا دَخَلَهُ التَّضْعِيفُ صَارَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَقَطِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ مَجْرَدَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْمَائِدَة: 110] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ، وَقَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يس

وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ موكولة إِلَى اخْتِيَار أَهْلِ اللِّسَانِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» فِي بَابِ تَعْدِيَةِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِأَنَّ أَصْلَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: نَحْنُ عَلَّمْنَاهُ الْقُرْآنَ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ، فَالْقُرْآنُ مُوحًى إِلَيْهِ بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِي أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَإِذَنْ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنَ الشِّعْرِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنَ اللَّازِمِ إِلَى الْمَلْزُومِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، أَيْ لَيْسَ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا وَمَا هُوَ بِشِعْرٍ. وَالتَّعْلِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، أَيْ وَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ الشَّعْرَ فَقَدْ أُطْلِقَ التَّعْلِيمُ عَلَى الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: 4، 5] وَقَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاء: 113] . وَكَيْفَ يَكُونُ الْقُرْآنُ شِعْرًا وَالشِّعْرُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى لَهُ مَعَانٍ مُنَاسِبَةٌ لِأَغْرَاضِهِ الَّتِي أَكْثَرَهَا هَزْلٌ وَفُكَاهَةٌ، فَأَيْنَ الْوَزْنُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَيْنَ التَّقْفِيَةُ، وَأَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي ينتجها الشُّعَرَاء، وَأَيْنَ نَظْمُ كَلَامِهِمْ مِنْ نَظْمِهِ، وَأَسَالِيبُهُمْ مِنْ أَسَالِيبِهِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ فِي الْوَقَاحَةِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْبَلَاغَةِ قَوْلٌ مِثْلُ هَذَا وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِيهِ بِحَالٍ، فَمَا قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بُهْتَانٌ. وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ مِنْ تَسَاوِي الْفَوَاصِلِ لَا يَجْعَلُهَا مُوَازِيَةً لِلْقَوَافِي كَمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْهُمْ وَكُلُّ مَنْ زَاوَلَ مَبَادِئَ الْقَافِيَةِ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ، وَلَا أَحْسَبُهُمْ دَعَوْهُ شِعْرًا إِلَّا تَعَجُّلًا فِي الْإِبْطَالِ، أَوْ تَمْوِيهًا عَلَى الْإِغْفَالِ، فَأَشَاعُوا فِي الْعَرَبِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاعِرٌ، وَأَنَّ كَلَامَهُ شِعْرٌ. وَيَنْبَنِي عَنْ هَذَا الظَّنِّ خَبَرُ أُنَيْسِ بْنِ جُنَادَةَ الْغِفَارِيِّ أَخِي أَبِي ذَرٍّ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَا: «قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَاسْتَمِعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي

ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ، سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقِرَّاءَ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرُ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» ثُمَّ اقْتَصَّ الْخَبَرَ عَنْ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ، وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ. وَمِثْلُهُ خَبَرُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ «أَنَّهُ جَمَعَ قُرَيْشًا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْسِمِ لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا لَا يُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ وَلَا بِسَجْعِهِ، قَالُوا: نَقُولُ مَجْنُونٌ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَا بِخَنْقِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ، فَذَكَرَ تَرَدُّدَهُمْ فِي وَصْفِهِ إِلَى أَنْ قَالُوا: نَقُولُ شَاعِرٌ؟ قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْتُ الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَبْسُوطَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَا هُوَ بِشَاعِرٍ ... » إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ. فَمَعْنَى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ: وَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ شِعْرًا عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي طَبْعِ النَّبِيءِ الْقُدْرَةَ عَلَى نَظْمِ الشِّعْرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقْدِرَةِ لَا تُسَمَّى تَعْلِيمًا حَتَّى تُنْفَى وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَما يَنْبَغِي لَهُ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ قَرِيبًا. وَقَدِ اقْتَضَتِ الْآيَةُ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ شِعْرًا، وَهَذَا الِاقْتِضَاءُ قَدْ أَثَارَ مَطَاعِنَ لِلْمُلْحِدِينَ وَمَشَاكِلَ لِلْمُخْلِصِينَ، إِذْ وُجِدَتْ فِقْرَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ اسْتَكْمَلَتْ مِيزَانَ بُحُورٍ مِنَ الْبُحُورِ الشِّعْرِيَّةِ، بَعْضُهَا يَلْتَئِمُ مِنْهُ بَيْتٌ كَامِلٌ، وَبَعْضُهَا يَتَقَوَّمُ مِنْهُ مِصْرَاعٌ وَاحِدٌ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الشِّعْرِ فِي آيِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ أَثَارَ الْمَلَاحِدَةُ هَذَا الْمَطْعَنَ، فَلِذَلِكَ تَعَرَّضَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِلَى دَحْضِهِ فِي كِتَابِهِ «إِعْجَازُ الْقُرْآنِ» وَتَبِعَهُ السَّكَّاكِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ، فَأَمَّا الْبَاقِلَّانِيُّ فَانْفَرَدَ بَرَدٍّ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْبَيْتَ الْمُفْرَدَ لَا يُسَمَّى شِعْرَا بَلْهَ الْمِصْرَاعَ الَّذِي لَا يَكْمُلُ بِهِ بَيْتٌ. وَأَرَى هَذَا غَيْرَ كَافٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ نَفْيُ مُسَمَّى الشِّعْرِ عَنِ الْمِصْرَاعِ وَأَوْلَى عَنِ الْبَيْتِ.

وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي آخِرِ مَبْحَثِ رَدِّ الْمَطَاعِنِ عَنِ الْقُرْآنِ مِنْ كِتَابِ «مِفْتَاحِ الْعُلُومِ» : «إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ عَلَّمَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ مَا الشِّعْرُ، وَإِمَّا أَنَّ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي قُرْآنِكُمْ وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَأَنَّهُ يَسْتَدْعِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا عَلَّمَهُ شِعْرٌ» . ثُمَّ إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَمِيعِ الْبُحُورِ شِعْرًا: فَمِنَ الطَّوِيلِ مِنْ «صَحِيحِهِ» فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْف: 29] . وَمِنْ مَخْرُومِهِ مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] . وَمِنْ بَحْرِ الْمَدِيدِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هود: 37] . وَمِنْ بَحْرِ الْوَافِرِ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 14] . وَمِنْ بَحْرِ الْكَامِلِ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْبَقَرَة: 213] . وَمن بَحر الهجز من مَخْرُومِهِ: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا [يُوسُف: 91] . وَمِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ: دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [الْإِنْسَان: 14] . وَمِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ: 13] . وَنَظِيرُهُ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشَّرْح: 2- 3] . وَمن بَحر السَّرِيع قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ [طه: 95] وَنَظِيره نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ [الْأَنْبِيَاء: 18] وَمِنْه أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] . وَمِنْ بَحْرِ الْمُنْسَرِحِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [الْإِنْسَان: 2] . وَمن بَحْرِ الْخَفِيفِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 1- 2] . وَمِنْهُ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النِّسَاء: 78] وَنَحْوُهُ: قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي [هود: 78] . وَمِنْ بَحْرِ الْمُضَارِعِ مِنْ مَخْرُومِهِ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غَافِر: 32- 33] . وَمِنْ بَحْرِ الْمُقْتَضَبِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: 10] . وَمِنْ بَحْرِ الْمُتَقَارِبِ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَاف: 183] .

فَيُقَالُ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ النَّظَرِ فِيمَا أَوْرَدُوهُ: هَلْ حَرَّفُوا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ حَرَكَةً أَوْ حَرْفًا أَمْ لَا. وَقَبْلَ أَنْ نَنْظُرَ هَلْ رَاعَوْا أَحْكَامَ عِلْمِ الْعَرُوضِ فِي الْأَعَارِيضِ وَالضُّرُوبِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا أَمْ لَا. وَمِنْ قَبْلِ أَنْ نَنْظُرَ هَلْ عَمِلُوا بِالْمَنْصُورِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي مَعْنَى الشِّعْرِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ أَمْ لَا (يَعْنِي الْمَذْهَبَيْنِ مَذْهَبَ الَّذِينَ قَالُوا لَا يَكُونُ الشِّعْرُ شِعْرًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ قَائِلُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا، وَمَذْهَبَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ تَعَمُّدَ الْوَزْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ يَكْفِي أَنْ يُلْفَى مَوْزُونًا وَلَوْ بِدُونِ قَصْدِ قَائِلِهِ لِلْوَزْنِ وَقَدْ نُصِرَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلِ) يَا سُبْحَانَ اللَّهِ قَدَّرُوا جَمِيعَ ذَلِكَ أَشْعَارًا، أَلَيْسَ يَصِحُّ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى مَا أَوْرَدْتُمُوهُ لِقِلَّتِهِ، وَيُجْرَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ مَجْرَى الْخَالِي عَنِ الشِّعْرِ فَيُقَالُ بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ اهـ. كَلَامُهُ، وَقَدْ نَحَا بِهِ نَحْوَ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَّزِنِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْهُ الْوَزْنَ، فَلَا يَكُونُ شِعْرًا عَلَى رَأْيِ الْأَكْثَرِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ إِلَى الْوَزْنِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعْبَأْ بِاتِّزَانِهِ. الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فَإِنَّ نَفْيَ كَوْنِ الْقُرْآنِ شِعْرًا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ. فَلَا يُعَدُّ قَائِلُهُ كَاذِبًا وَلَا جَاهِلًا فَلَا يُنَافِي الْيَقِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَّمَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» إِلَى أَنَّ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنِ اسْتِخْرَاجِ فِقْرَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَوَازِينَ شِعْرِيَّةٍ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ مِثْلِ بَتْرِ الْكَلَامِ أَوْ زِيَادَةِ سَاكِنٍ أَوْ نَقْصِ حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَتِمُّ لَهُ فَرَاجِعْهُ. وَلَا مَحِيصَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِاشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى فِقْرَاتٍ مُتَّزِنَةٍ يَلْتَئِمُ مِنْهَا بَيْتٌ أَوْ مِصْرَاعٌ، فَأَمَّا مَا يَقِلُّ عَنْ بَيْتٍ فَهُوَ كَالْعَدَمِ إِذْ لَا يَكُونُ الشِّعْرُ أَقَلَّ مِنْ بَيَّتٍ، وَلَا فَائِدَة فِي الاستكثار مِنْ جَلْبِ مَا يُلْفَى مُتَّزِنًا فَإِنَّ وُقُوعَ مَا يُسَاوِي بَيْتًا تَامًّا مِنْ بَحْرٍ مِنْ بُحُورِ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ وَلَوْ نَادِرًا أَوْ مُزْحَفًا أَوْ مُعَلًّا كَافٍ فِي بَقَاءِ الْإِشْكَالِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا سَلَكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي رَدِّهِ وَلَا كِفَايَةَ لِمَا سَلَكَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي كِتَابِهِ، لِأَنَّ الْمَرْدُودَ عَلَيْهِمْ فِي سَعَةٍ مِنَ الْأَخْذِ بِمَا يُلَائِمُ نِحْلَتَهُمْ مِنْ أَضْعَفِ الْمَذَاهِبِ فِي حَقِيقَةِ الشِّعْرِ وَفِي زِحَافِهِ وَعِلَلِهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْبَاقِلَّانِيَّ وَالسَّكَّاكِيَّ لَمْ يَغُوصَا

عَلَى اقْتِلَاعِ مَا يُثِيرُهُ الْجَوَابُ الثَّانِي فِي كَلَامِهِمَا بِعَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى الْوَزْنِ، مِنْ لُزُومِ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الله تَعَالَى فَلَمَّا ذَا لَا تُجْعَلُ فِي مَوْضِعِ تِلْكَ الْفِقْرَاتِ الْمُتَّزِنَةِ فِقْرَاتٌ سَلِيمَةٌ مِنَ الِاتِّزَانِ. وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْخَائِضِينَ فِي وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ التَّصَدِّي لِاقْتِلَاعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَقَدْ مَضَتْ عَلَيْهَا مِنَ الزَّمَانِ بُرْهَةٌ، وَكُنْتُ غَيْرَ مُقْتَنِعٍ بِتِلْكَ الرُّدُودِ وَلَا أَرْضَاهَا، وَأَرَاهَا غَيْرَ بَالِغَةٍ مِنْ غَايَةِ خَيْلِ الْحَلْبَةِ مُنْتَهَاهَا. فَالَّذِي بَدَا لِي أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِأَفْصَحِ لُغَاتِ الْبَشَرِ الَّتِي تَوَاضَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَلَوْ أَنَّ كَلَامًا كَانَ أَفْصَحَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ أُمَّةً كَانَتْ أَسْلَمَ طِبَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لَاخْتَارَهَا اللَّهُ لِظُهُورِ أَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَأَعَزِّ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ مُعْجِزًا لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ فَكَانَتْ تَرَاكِيبُهُ وَمَعَانِيهَا بِالِغَيْنِ حَدًّا يَقْصُرُ عَنْهُ كُلُّ بَلِيغٍ مِنْ بُلَغَائِهِمْ عَلَى مَبْلَغِ مَا تَتَّسِعُ لَهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً فَإِذَا كَانَتْ نِهَايَةُ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ تَتَطَلَّبُ لِإِيفَاءِ حَقِّ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَلْفَاظًا وَتَرْكِيبًا وَنَظْمًا فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ لِمَجْمُوعِ حَرَكَاتِهَا وَسُكُونَاتِهَا مَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مِيزَانِ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ فِي أَعَارِيضِهِ وَضُرُوبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْكَلَامُ مَعْدُودًا مِنَ الشِّعْرِ لَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامٍ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَوُقُوعُهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ قَدْ لَا يَتَفَطَّنُ إِلَيْهِ قَائِلُهُ وَلَوْ تَفَطَّنَ لَهُ لَمْ يَعْسُرْ تَغْيِيرُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَايَةَ مَا يَقْتَضِيِهِ الْحَالُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُصِدَ بِهِ تَفَنُّنًّا فِي الْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ ظَاهِرُهُ نَثْرٌ وَتَفْكِيكُهُ نَظْمٌ. فَأَمَّا وُقُوعُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَخَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وُقُوعُهُ فِي كَلَامٍ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْأَلْفَاظِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ مَجْمُوعَهَا هُوَ جَمِيعُ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَبَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ الْمُوحَى بِهِ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى مُحَسِّنِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّثْرِ وَالنَّظْمِ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَنْزِيهَ كَلَامِهِ عَنْ شَائِبَةِ الشِّعْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنَ الشِّعْرِ مَعَ أَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ

وَجُلُّهُمْ شُعَرَاءُ وَبَلَاغَتُهُمْ مُودَعَةٌ فِي أَشْعَارِهِمْ هِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِعْجَازِ وَبَيْنَ سَدِّ بَابِ الشُّبْهَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ لَوْ جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى مَوَازِينِ الشّعْر، وَهِي شُبْهَة الْغَلَطِ أَوِ الْمُغَالَطَةِ بِعَدِّهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زُمْرَةِ الشُّعَرَاءِ فَيَحْسَبُ جُمْهُورُ النَّاسِ الَّذِينَ لَا تَغُوصُ مُدْرِكَاتُهُمْ عَلَى الْحَقَائِقِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَيْسَ بِالْعَجِيبِ، وَأَنَّ هَذَا الْجَائِيَ بِهِ لَيْسَ بِنَبِيءٍ وَلَكِنَّهُ شَاعِرٌ، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ بِكَوْنِهِ مِنْ نَوْعِ كَلَامِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ جُحُودًا لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصِّنْفِ الْمُسَمَّى بِالشِّعْرِ بَلْ هُوَ فَائِقٌ عَلَى شِعْرِهِمْ فِي مَحَاسِنِهِ الْبَلَاغِيَّةِ وَلَيْسَ هُوَ فِي أُسْلُوبِ الشِّعْرِ بالأوزان الَّتِي ألقوها بَلْ هُوَ فِي أُسْلُوبِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالذِّكْرِ. وَلَقَدْ ظَهَرَتْ حِكْمَةُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ ابْتَدَرُوا إِلَى الطَّعْنِ فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ: هُوَ شَاعِرٌ، أَيْ أَنَّ كَلَامَهُ شِعْرٌ حَتَّى أَفَاقَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عُقَلَاؤُهُمْ مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ، وَأُنَيْسِ بن جُنَادَة الْغِفَارِيّ، وَحَتَّى قَرَعَهُمُ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ إِقَامَةَ الشِّعْرِ لَا يَخْلُو الشَّاعِرُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ تَارَاتٍ بِمَا لَا تَقْضِيهِ الْفَصَاحَةُ مِثْلُ مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ مِنَ التَّعْقِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَمِثْلُ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فَيُعْتَذَرُ لِوُقُوعِهِ بِعُذْرِ الضَّرُورَةِ الشِّعْرِيَّةِ، فَإِذَا جَاءَ الْقُرْآنُ شِعْرًا قَصَّرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ إِيفَاءِ جَمِيعِ مُقْتَضَى الْحَالِ حَقَّهُ. وَسَنَذْكُرُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لَهُ وُجُوهًا يَنْطَبِقُ مُعْظَمُهَا عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَما يَنْبَغِي لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقُرْآنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: وَما يَنْبَغِي لَهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ قُصِدَ مِنْهَا اتِّبَاعُ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْمُوحَى بِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَرَا بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاعِرًا فِيمَا يَقُولُهُ مِنْ غَيْرِ مَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ أَيْ فَطَرَ اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّفْرَةِ بَيْنَ مَلَكَتِهِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْمَلَكَةِ الشَّاعِرِيَّةِ، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَلَكَةَ أَصْحَابِ قَرْضِ الشِّعْرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ دَابِرَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاعِرًا

وَأَنْ يَكُونَ قُرْآنَهُ شِعْرًا لِيَتَّضِحَ بُهْتَانُهُمْ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ تَمْيِيزٍ لِلْكَلَامِ وَكَثِيرٌ مَا هُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ رِجَالِهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْ نِسَائِهِمْ غَيْرَ زَوْجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَنَظِيرَاتِهَا، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَضَمِيرُ يَنْبَغِي عَائِدٌ إِلَى الشِّعْرِ، وَضَمِيرُ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ فِعْلُ عَلَّمْناهُ فَجَعَلَ جُمْلَةَ وَما يَنْبَغِي لَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ. وَمَعْنَى وَما يَنْبَغِي لَهُ مَا يَتَأَتَّى لَهُ الشِّعْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مَرْيَم: 92] تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس: 40] . فَأَصْلُ مَعْنَى يَنْبَغِي يَسْتَجِيبُ لِلْبَغْيِ، أَي الطّلب، وَهُوَ يشْعر بِالطَّلَبِ الْمُلِحِّ. ثُمَّ غَلَبَ فِي مَعْنَى يَتَأَتَّى وَيَسْتَقِيمُ فَتُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ وَصَارَ يَنْبَغِي بِمَعْنَى يَتَأَتَّى يُقَالُ: لَا يَنْبَغِي كَذَا، أَيْ لَا يَتَأَتَّى. قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» «كُلُّ فِعْلٍ فِيهِ عِلَاجٌ يَأْتِي مُطَاوَعَهً عَلَى الِانْفِعَالِ: كَضَرَبَ وَطَلَبَ وَعَلِمَ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ عِلَاجٌ: كَعَدِمَ وَفَقَدَ لَا يَأْتِي فِي مُطَاوِعِهِ الِانْفِعَالُ أَلْبَتَّةَ» اهـ. وَمَعْنَى كَوْنِ الشِّعْرِ لَا يَنْبَغِي لَهُ: أَنَّ قَوْلَ الشِّعْرِ لَا يَنْبَغِي لَهُ لِأَنَّ الشِّعْرَ صِنْفٌ مِنَ الْقَوْلِ لَهُ مَوَازِينُ وَقَوَافٍ، فَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ قَرْضِ الشِّعْرِ وَتَأْلِيفِهِ، أَيْ لَيْسَتْ مِنْ طِبَاعِ مَلَكَتِهِ إِقَامَةُ الْمَوَازِينِ الشِّعْرِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُنْشِدُ الشِّعْرَ لِأَنَّ إِنْشَادَ الشِّعْرِ غَيْرُ تَعَلُّمِهِ، وَكَمْ مِنْ رَاوِيَةٍ لِلْأَشْعَارِ وَمِنْ نُقَّادٍ لِلشِّعْرِ لَا يَسْتَطِيعُ قَوْلَ الشِّعْرِ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْتَقَدَ الشِّعْرَ، وَنَبَّهَ عَلَى بَعْضِ مَزَايَا فِيهِ، وَفَضَّلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقْرِضُ شِعْرًا. وَرُبَّمَا أَنْشَدَ الْبَيْتَ فَغَفَلَ عَنْ تَرْتِيبِ كَلِمَاتِهِ فَرُبَّمَا اخْتَلَّ وَزْنُهُ فِي إِنْشَادِهِ (¬1) وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْمُنَافَرَةِ بَيْنَ مَلَكَةِ بَلَاغَتِهِ وَمَلَكَةِ الشُّعَرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا فَرُبَّمَا أَنْشَدَ الْبَيْتَ مَوْزُونًا. ¬

(¬1) كَمَا أنْشد بَيت عَبَّاس بن مرداس: أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبي ... د بَين عُيَيْنَة والأقرع فَقَالَ: بَين الْأَقْرَع وعيينة، وَكَذَلِكَ أنْشد مرّة مصراع طرفَة: ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد فَقَالَ: «ويأتيك من لم تزَود بالأخبار» . وَرُبمَا أنْشد الْبَيْت دون تَغْيِير كَمَا أنْشد بَيت ابْن رَوَاحَة: يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه ... إِذا استثقلت بالمشركين الْمضَاجِع وَأنْشد بَيت عنترة: وَلَقَد أَبيت على الطوى وأظله ... كَيْمَا أنال بِهِ شهيّ الْمطعم

هَذَا مِنْ جَانِبِ نَظْمِ الشِّعْرِ وَمَوَازِينِهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا جَانِبُ قِوَامِ الشِّعْرِ وَمَعَانِيهِ فَإِنَّ لِلشِّعْرِ طَرَائِقَ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَالْغَزَلِ وَالنَّسِيبِ وَالْهِجَاءِ وَالْمَدِيحِ وَالْمُلَحِ، وَطَرَائِقٌ مِنَ الْمَعَانِي كَالْمُبَالَغَةِ الْبَالِغَةِ حَدَّ الْإِغْرَاقِ وَكَادِّعَاءِ الشَّاعِرِ أَحْوَالًا لِنَفْسِهِ فِي غَرَامٍ أَوْ سَيْرٍ أَوْ شَجَاعَةٍ هُوَ خُلُوٌّ مِنْ حَقَائِقِهَا فَهُوَ كَذِبٌ مُغْتَفَرٌ فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ. وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَرْفَعِ مَقَامٍ لِكِمَالَاتِ النَّفْسِ، وَهُوَ مَقَامُ أَعْظَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَلَوْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَضَ الشِّعْرَ وَلَمْ يَأْتِ فِي شِعْرِهِ بِأَفَانِينِ الشُّعَرَاءِ لَعُدَّ غَضَاضَةً فِي شِعْرِهِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَضَاضَةُ دَاعِيَةً لِلتَّنَاوُلِ مِنْ حُرْمَةِ كَمَالِهِ فِي أَنْفُسِ قَوْمِهِ يَسْتَوِي فِيهَا الْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ. عَلَى أَنَّ الشُّعَرَاءَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ غَيْرَ مُرْضِيَّةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالشَّرَفِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْخَلَاعَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَحَسْبُكَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَضِيَّةِ خَلْعِ حُجْرٍ الْكِنِدِيِّ ابْنَهُ امْرَأَ الْقَيْسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: 224] الْآيَةَ. فَلَوْ جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّعْرِ أَوْ قَالَهُ لَرَمَقَهُ النَّاسُ بِالْعَيْنِ الَّتِي لَا يُرْمَقُ بِهَا قَدْرُهُ الْجَلِيلُ وَشَرَفُهُ النَّبِيلُ، وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ هُوَ الْغَالِبُ الشَّائِعُ وَإِلَّا فقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَقَالَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» فَتَنْزِيهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مِنْ قَبِيلِ حِيَاطَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَحِيَاطَةِ مَقَامِ الرِّسَالَةِ مِثْلِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ

تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ. فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْأُمِّيَّةُ مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَفْيُ النَّظْمِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ. وَمِنْ أَجْلِ مَا لِلشِّعْرِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي شُيُوعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ أَن أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسانا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ بِقَوْلِهِ، وَأَظْهَرَ اسْتِحْسَانَهُ لِكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ حِينَ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ الْمَشْهُورَةَ: بَانَتْ سُعَادُ. وَالْقَوْلُ فِي مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَلَامٍ مَوْزُونٍ مِثْلِ قَوْلِهِ يَوْمَ أحد: أَنا النَّبِي لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ كَالْقَوْلِ فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ شَبِيهِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَاهُ آنِفًا. وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ نَفْيَ الشِّعْرِ عَنِ الْقُرْآنِ يُثِيرُ سُؤَالَ مُتَطَلِّبٍ يَقُولُ: فَمَا هُوَ هَذَا الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ جَوَابًا لِطِلْبَتِهِ. وَضَمِيرُ هُوَ لِلْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ عَلَّمْناهُ، أَيْ لَيْسَ الَّذِي عَلِمَهُ الرَّسُولُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا أَوْ لِلشَّيْءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ، أَيْ لِلشَّيْءِ الْمُعَلَّمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ عَلَّمْناهُ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى ذِكْرٌ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا ذِكْرٌ الَّذِي هُوَ مُبِينٌ. وَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا وَرُتْبَةً لِأَنَّ الْبَيَانَ كَالْبَدَلِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [37] . وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الْمُفِيدَةِ قَصْرَ الْوَحْيِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْكَوْنِ ذِكْرًا وَقُرْآنًا قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ لَيْسَ شِعْرًا كَمَا زَعَمْتُمْ. فَحَصَلَ بِذَلِكَ اسْتِقْصَاءُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ شِعْرًا. وَالذِّكْرُ: مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصْفًا لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ إِنْ هُوَ إِلَّا مُذَكِّرٌ لِلنَّاسِ بِمَا نَسُوهُ أَوْ جَهِلُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الذِّكْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . وَالْقُرْآنُ: مَصْدَرُ قَرَأَ، أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيِ الْكَلَامِ الْمَقْرُوءِ، وَتَقَدَّمَ

بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [61] . وَالْمُبِينُ: هُوَ الَّذِي أَبَانَ الْمُرَادَ بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ بِقَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ شِعْرًا ثُمَّ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ ذِكْرًا وَقُرْآنًا، أَيْ لِأَنَّ جُمْلَةَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: وَمَا عَلَّمْنَاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا مُبِينًا لِيُنْذِرَ أَوْ لِتُنْذِرَ. وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَعَلِّقًا بِ مُبِينٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لِتُنْذِرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِب، أَي لينذر النَّبِيءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ. وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِأَمْرٍ يَجِبُ التَّوَقِّي مِنْهُ. وَالْحَيُّ: مُسْتَعَارٌ لِكَامِلِ الْعَقْلِ وَصَائِبِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مَنْ كَانَ مِثْلَ الْحَيِّ فِي الْفَهْمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِعُقُولِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النَّمْل: 80] . وَعَطَفَ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ عَلَى لِتُنْذِرَ عَطْفَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ اللَّامَ النَّائِبَ عَنْهُ وَاوُ الْعَطْفِ لَيْسَ لَامَ تَعْلِيلٍ وَلَكِنَّهُ لَامُ عَاقِبَةٍ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . فَفِي الْوَاوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا فَيَزْدَادَ حَيَاةً بِامْتِثَالِ الذِّكْرِ فَيَفُوزَ وَمَنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْإِنْذَارِ ابْتِدَاءً وَالْبِشَارَةِ آخِرًا. والْقَوْلُ: هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي جَاءَ بِوَعِيدِ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِإِنْذَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 73]

وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الْمُسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَرَدَ لِلنَّاسِ أَوَّلَ مَا وَرَدَ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَفِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ عَوْدٌ إِلَى مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: 6] فَهُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَبِذَلِكَ تَمَّ مَجَالُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالِ شُبَهِهِمْ وَتَخْلُصُ إِلَى الِامْتِنَانِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: 73] . [71، 73] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 71 إِلَى 73] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) بَعْدَ أَنِ انْقَضَى إِبْطَالُ مَعَاقِدِ شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَ الْكَلَامُ يَتَطَرَّقُ غَرَضَ تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ قَابَلُوهَا بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَعِبَادَتِهِ وَاتَّخَذُوا لِعِبَادَتِهِمْ آلِهَةً زَعْمًا بِأَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ وأدمج فِي ذَلِك التَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْأَنْعَامَ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ شَوَاهِدَ النِّعْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً كَانَ الْإِنْكَارُ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً فَالْإِنْكَارُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ مُشَاهَدَتِهِمْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَتِهَا وَرُؤْيَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَجُمْلَةُ الْفِعْلِ الْمُنْسَبِكِ بِالْمَصْدَرِ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِلرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا مَفْعُولٌ لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ. وَفِي خِلَالِ هَذَا الِامْتِنَانِ إِدْمَاجُ شَيْءٍ مِنْ دَلَائِلَ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ الْمُبْطِلَةِ لِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا خَلَقْنا وَقَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا وَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها وَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، لِأَنَّ

مَعْنَاهُ: أَوْدَعْنَا لَهُمْ فِي أَضْرَاعِهَا أَلْبَانًا يَشْرَبُونَهَا وَفِي أَبْدَانِهَا أَوْبَارًا وَأَشْعَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَقَوْلُهُ: لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الِامْتِنَانِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ خَلَقَهَا الله لأجل انْتِفَاع الْإِنْسَانِ بِهَا تَكْرِمَةً لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] . وَاسْتُعِيرَ عَمَلُ الْأَيْدِي الَّذِي هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الصُّنْعِ إِلَى إِيجَادِ أُصُولِ الْأَجْنَاسِ بِدُونِ سَابِقِ مَنْشَأٍ مِنْ تَوَالُدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي اللَّهِ تَعَالَى لِظُهُورِ أَنَّ تِلْكَ الْأُصُولَ لَمْ تَتَوَلَّدْ عَنْ سَبَبٍ كَقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] ، فَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي لَهُمْ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ أُصُولٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أُصُولِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ بِأَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِتَقْرِيبِ شَأْنِ الْخَلْقِ الْخَفِيِّ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] . وَقَرِينَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مَا تَقَرِّرَ مِنْ أَنَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَذَلِكَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنْ تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ فَسَمَّوْهَا الْمُتَشَابِهَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّنَا لَمْ نَصِلْ إِلَى حَقِيقَةِ مَا نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْكُنْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوهَا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا تَقْرِيبٌ وَإِسَاغَةٌ لِغُصَصِ الْعِبَارَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِظَوَاهِرِهَا فَبَاعِثُهُمْ فَرْطُ الْخَشْيَةِ، وَكَانَ لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ لَا يَسَعُ أَهْلَ الْعُصُورِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ فَهُمْ عَنْ إِقْنَاعِ السَّائِلِينَ بِمَعْزِلٍ، وَقَلَمُ التَّطْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَغْزِلٌ. وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ. وَفَرَّعَ عَلَى خَلْقِهَا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَهَا مَالِكُونَ قَادِرُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَشَاءُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُعَمَّرِينَ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ التَّذْكِيرِ. وَتَقْدِيمُ لَها عَلَى مالِكُونَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقَهُ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ

السَّامِعِينَ قَبْلَ سَمَاعِ مُتَعَلِّقِهِ لِيَقَعَ كِلَاهُمَا أَمْكَنَ وَقَعَ بِالتَّقْدِيمِ وَبِالتَّشْوِيقِ، وَقَضَى بِذَلِكَ أَيْضًا رَعْيُ الْفَاصِلَةِ. وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَال: فهم مالكوها، إِلَى فَهُمْ لَها مالِكُونَ لِيَتَأَتَّى التَّنْكِيرُ فَيُفِيدَ بِتَعْظِيمِ الْمَالِكِينَ لِلْأَنْعَامِ الْكِنَايَةَ عَنْ تَعْظِيمِ الْمِلْكِ، أَيْ بِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ. وَأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصْفِ الْمُشْبِهِ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُكْسِبُ الْمُضَافَ تَعْرِيفًا لَكِنَّهَا لَا تَنْسَلِخُ مِنْهَا خَصَائِصُ التَّنْكِيرِ مِثْلَ التَّنْوِينِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ ثَبَاتِ هَذَا الْمِلْكِ وَدَوَامِهِ. وَالتَّذْلِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ذَلِيلًا، وَالذَّلِيلُ ضِدُّ الْعَزِيزِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ. وَمَعْنَى تَذْلِيلِ الْأَنْعَامِ خَلْقُ مَهَانَتِهَا لِلْإِنْسَانِ فِي جِبِلَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تُقْدِمُ عَلَى مُدَافَعَةِ مَا يُرِيدُ مِنْهَا فَإِنَّهَا ذَاتُ قُوَاتٍ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا عَنْ نَفْسِهِ بِهَا فَإِذَا زَجَرَهَا الْإِنْسَانُ أَوْ أَمَرَهَا ذَلَّتْ لَهُ وَطَاعَتْ مَعَ كَرَاهِيَتِهَا مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا، مِنْ سَيْرٍ أَوْ حَمْلٍ أَوْ حَلْبٍ أَوْ أَخْذِ نَسْلٍ أَوْ ذَبْحٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَالرَّكُوبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: الْمَرْكُوبُ مِثْلُ الْحَلُوبُ وَهُوَ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ يُقَالُ: بَعِيرٌ رَكُوبٌ وَنَاقَةٌ حَلُوبَةٌ. وَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ وَبَعْضُهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ الْحَرْثِ وَالْقِتَالِ كَمَا قَالَ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ وَالْمَشَارِبُ: جَمْعُ مَشْرَبٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى: الشُّرْبِ، أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيْ مَشْرُوبَاتٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ بِ (مِنْ) عَلَى مَا حَقِّهِمَا أَنْ يَتَأَخَّرَا عَنْهُمَا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَفرع على هَذَا التَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ قَوْلُهُ: أَفَلا يَشْكُرُونَ استفهاما تعجيبيا لِتَرْكِهِمْ تَكْرِيرَ الشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الْعِدَّةِ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجْدِيدِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ مُتَتَالِيَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ، وَإِذْ قَدْ عُجِبَ مِنْ عَدَمِ

[سورة يس (36) : الآيات 74 إلى 75]

تَكْرِيرِهِمُ الشُّكْرَ كَانَتْ إِفَادَةُ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ الشُّكْرِ مِنْ أَصْلِهِ بِالْفَحْوَى وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [يس: 74] . [74، 75] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 74 إِلَى 75] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] ، أَيْ أَلَمْ يَرَوْا دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا جَلَائِلَ النِّعْمَةِ، وَاتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ وَالْمُنْفَرِدِ بِالْخَلْقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفَرَّعَتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ التَّعْجِيبُ مِنْ جَرَيَانِهِمْ عَلَى خِلَافِ حَقِّ النِّعْمَةِ ثُمَّ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمُدْمَجِ فِي ذِكْرِ النِّعَمِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ دُونَ ضَمِيرِ إِظْهَارٍ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ اسْمُهُ الْعَلَمُ مِنْ عَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يس: 76] أَيْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا هُوَ أَشَدُّ نُكْرًا. وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [3] : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ صَرِيحًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: 2] . وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ وَقَعَتْ (لَعَلَّ) فِيهِ مَوْقِعًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ لِأَنَّ شَأْنَ (لَعَلَّ) أَنْ تُفِيدَ إِنْشَاءَ رَجَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ هُنَا. وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ التَّعَرُّضَ لِتَفْسِيرِهِ، وَأَهْمَلَهَ عُلَمَاءُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مِنِ اسْتِعْمَالِ (لَعَلَّ) ، فَيَتَعَيَّنُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ (لَعَلَّ) تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً بِأَنْ شُبِّهَ شَأْنُ اللَّهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ

يَرْجُو مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ خَبَرُ (لَعَلَّ) ، وَذِكْرُ حَرْفُ (لَعَلَّ) رمز لرديف الْمُشبه بِهِ فَتَكُونُ جُمْلَةَ لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آلِهَةً وَبَيْنَ صِفَتِهِ وَهِيَ جُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَرَى عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَوْ تَهَكُّمِيٌّ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ أَيْضًا، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الرَّجَاءُ مُنْصَرِفًا إِلَى رَجَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ، أَيْ رَاجِينَ أَنْ تَنْصُرَهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ وَعَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ: لَعَلَّنَا نُنْصَرُ، وَحُكِيَ يُنْصَرُونَ بِالْمَعْنَى عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ تَقُولُ: قَالَ أَفْعَلُ كَذَا، وَقَالَ يَفْعَلُ كَذَا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ اسْتِئْنَافًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ (لَعَلَّ) لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ فَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ اسْتِئْنَافًا. وَالْمَقْصُودُ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] وَهُمْ سَالِكُونَ فِي هَذَا الزَّعْمِ مَسْلَكَ مَا يَأْلَفُونَهُ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِالْمُوَالَاةِ وَالْحِلْفِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى قَادَتِهِمْ، فَبِمِقْدَارِ كَثْرَةِ الْمَوَالِي تَكُونُ عِزَّةُ الْقَبِيلَة فقاسوا شؤونهم مَعَ رَبهم على شؤونهم الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ وَقِيَاسُ أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى أَحْوَالِ الْبَشَرِ مِنْ أَعْمَقِ مَهَاوِي الضَّلَالَةِ. وَأجْرِي عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ بِأَسْمَاءِ الْعُقَلَاءِ وَزَعَمُوا لَهُمْ إِدْرَاكًا. وَضَمِيرُ وَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى آلِهَةً تَبَعًا لِضَمِيرِ لَا يَسْتَطِيعُونَ. وَضَمِيرِ لَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ وَالْأَصْنَامُ لِلْمُشْرِكِينَ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ، وَالْجُنْدُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ. وَالْمُحْضَرُ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِيَحْضُرَ مَشْهَدًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّصْرَ مَعَ حُضُورِهِمْ فِي مَوْقِفِ الْمُشْرِكِينَ لِمُشَاهَدَةِ تَعْذِيبِهِمْ وَمَعَ كَوْنِهِمْ عَدَدًا كَثِيرًا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَصْرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِمْ، أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ نَفْعِ أَصْنَامِهِمْ. وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، أَيْ وَالْمُشْرِكُونَ جُنْدٌ لِأَصْنَامِهِمْ مُحَضَرُونَ لِخِدْمَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِمْ مَعَ أَصْنَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

[سورة يس (36) : آية 76]

وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَطِيعُونَ، أَيْ لَيْسَ عَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِمْ نَصرهم لبعد مكانهم وَتَأَخُّرِ الصَّرِيخِ لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ وَهُمْ حَاضِرُونَ لَهُمْ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُ الْأَصْنَامَ حِينَ حَشْرِ عَبَدَتِهَا إِلَى النَّارِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ خَطَلَ رَأْيِهِمْ وَخَيْبَةَ أَمَلِهِمْ، فَهَذَا وَعِيدٌ بِعَذَابٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ ملْجأ. [76] [سُورَة يس (36) : آيَة 76] فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [يس: 74] صَرْفَ أَنْ تُحْزِنَ أَقْوَالُهُمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَحْذِيرُهُ مِنْ أَنْ يَحْزَنَ لِأَقْوَالِهِمْ فِيهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي شَأْنِ اللَّهِ مَا هُوَ أَفْظَعُ. وقَوْلُهُمْ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ، أَيْ فَلَا تُحْزِنْكَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَقُول، أَي لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْزِنَكَ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِ وَهُوَ اشْتِغَالُ بَالِ الرَّسُولِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الصَّارِفَةِ لِلْحُزْنِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ التَّسَلِّي بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ مَنْ نَاوَوْهُ وَعَادَوْهُ. إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ لِقَوْلِهِمْ. وَالْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِمَا يَقُولُونَ، أَيْ أَنَّا مُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهَمْ وَمَا تُسِرُّهُ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا لَا يَجْهَرُونَ بِهِ فَنُؤَاخِذُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا يُكَافِئُهُ مِنْ عِقَابِهِمْ وَنَصْرِكَ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تَعْمِيمٌ لِجَعْلِ التَّعْلِيلِ تَذْيِيلًا أَيْضًا. وَ «إِنَّ» مُغْنِيَةٌ عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ فِي مَقَامِ وُرُودِهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّأْكِيدِ الْمُخْبَرِ بِالْجُمْلَةِ لَيْسَتْ مُسْتَأْنَفَةً وَلَكِنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ.

[سورة يس (36) : الآيات 77 إلى 79]

وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَحْزَنَهُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَزَنًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ مِنْ حَزَنَهُ بِفَتْحِ الزَّايِ بِمَعْنَى أَحْزَنَهُ وَهَمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدَّمَ الْإِسْرَارَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْإِعْلَانَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ وَكُلِّيَّاتِهَا. وَالْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ لِلْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَلَوْ قَالُوهُ لَمَا كَانَ مِمَّا يَحْزُنُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَنْهَى عَنِ الْحزن مِنْهُ. [77، 79] [سُورَة يس (36) : الْآيَات 77 إِلَى 79] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) لَمَّا أُبْطِلَتْ شُبَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِحَالَتِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْبَائِهِ بِذَلِكَ إِبْطَالًا كُلِّيًّا، عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى جَانِبِ تَسْفِيهِ أَقْوَالٍ جُزْئِيَّةٍ لِزُعَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ وَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحْسَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ الدَّلَائِل ويزينون الْجِدَال لِلنَّاسِ وَيَأْتُونَ لَهُمْ بِأَقْوَالٍ إِقْنَاعِيَّةٍ جَارِيَةٍ عَلَى وَفْقِ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، فَقيل أُرِيد ب الْإِنْسانُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ أُرِيد بِهِ العَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ بِأَسَانِيدَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضَهَا. قَالُوا فِي الرِّوَايَاتِ: جَاءَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ عَظْمُ إِنْسَانٍ رَمِيمٍ فَفَتَّهُ وَذَرَاهُ فِي الرِّيحِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ (أَيْ بَلِيَ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ.

فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ الْمَعْرُوفُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [66] أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا نَزَلَ فِي أَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَذُكِرَ مَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [3] . وَوَجْهُ حَمْلِ التَّعْرِيفِ هُنَا عَلَى التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَهُ لِلْجِنْسِ يَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، كَيْفَ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْمِلَلِ، وَحَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَبْعَدُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ الِاسْتِغْرَاقُ الْعُرْفِيُّ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَوَاقِعِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ [4] : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فَهُوَ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ. وَالْمُرَادُ بِ خَصِيمٌ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: أَنَّهُ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ [يس: 71] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ كَالِاسْتِفْهَامِ فِي الْجُمْلَة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا قَلْبِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ أَنَّا خَلَقْناهُ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] . وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ. وَوَجْهُ الْمُفَاجَأَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيَعْلَمَ مَا يَلِيقُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ فَاجَأَ بِمَا لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا مِنْهُ مَعَ إِفَادَةِ أَنَّ الْخُصُومَة فِي شؤون الْإِلَهِيَّةِ كَانَتْ بِمَا بَادَرَ بِهِ حِينَ عَقَلَ. وَالْخَصِيمُ فَعِيلٌ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مُخَاصِمٌ شَدِيدُ الْخِصَامِ. وَالْمُبِينُ: مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِيجَادُهُ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْمَثَلُ: تَمْثِيلُ الْحَالَةِ، فَالْمَعْنَى: وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَأَتَى لَهُمْ بِتَشْبِيهِ حَالِ قُدْرَتِنَا بِحَالِ عَجْزِ النَّاسِ إِذْ أَحَالَ إِحْيَاءُنَا الْعِظَامَ بَعْدَ أَنْ أَرَمَّتْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: 74] ، أَيْ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ فَتَجْعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً [النَّحْل: 73] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ إِنْكَارِيٌّ. ومَنْ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْخَبَرُ. فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يُحْيِيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فَشَمِلَ عُمُومُهُ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى مُحْيِيًا لِلْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا رَمِيمًا. وَجُمْلَةُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ [طه: 120] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ بَيَان لجملة فَوَسْوَسَ. وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ مُسْتَعَارٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْلِهِ، أَيْ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ نَسِيَ أَنَّنَا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَةِ عَظْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] . وَذِكْرُ النُّطْفَةِ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْمُفَاجَأَةِ بِكَوْنِهِ خَصِيمًا مُبِينًا عَقِبَ خَلْقِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْهَيِّنُ الْمَنْشَأِ قَدْ أَصْبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ نَسِيَ خَلْقَهُ الضَّعِيفَ فَتَطَاوَلَ وَجَاوَزَ، وَلِأَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَائِهِ وَهُوَ عَظَمٌ مُجَارَاةٌ لِزَعْمِهِ فِي مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُحْيِي مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْعِظَامِ فَيُحْيِي الْإِنْسَانَ مِنْ رَمَادِهِ، وَمِنْ تُرَابِهِ، وَمِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ، وَمَنْ لَا شَيْءَ بَاقِيًا مِنْهُ. وَالرَّمِيمُ: الْبَالِي، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ وَأَرَمَّ، إِذَا بَلِيَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ رَمِيمًا، فَهُوَ خَبَرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ وَهِيَ بِلَى. وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَمْرٌ بِجَوَابٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا تَطَلُّبُ تَعْيِينِ الْمُحْيِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِحَالَةَ، فَأُجِيبَ جَوَابَ مَنْ هُوَ مُتَطَلَّبٌ عَلِمًا. فَقِيلَ لَهُ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.

[سورة يس (36) : آية 80]

فَلِذَلِكَ بُنِيَ الْجَوَابُ عَلَى فِعْلِ الْإِحْيَاءِ مُسْنَدًا لِلْمُحْيِي، عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ صَالِحٌ لِأَن يكون إبطالا لِلنَّفْيِ الْمُرَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَلَمْ يُبْنَ الْجَوَابُ عَلَى بَيَانِ إِمْكَانِ الْإِحْيَاءِ وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيَانُ الْإِمْكَانِ فِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولًا لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى الْإِمْكَانِ فَيَحْصُلُ الْغَرَضَانِ، فَالْمَوْصُولُ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ يُحْيِيهَا، أَيْ يُحْيِيهَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْشَائِهَا ثَانِي مرّة كَمَا أَنْشَأَهَا أول مَرَّةٍ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 62] ، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . وَذُيِّلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِجُمْلَةِ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أَيْ وَاسِعُ الْعِلْمِ مُحِيطٌ بِكُلِّ وَسَائِلِ الْخَلْقِ الَّتِي لَا نَعْلَمُهَا: كَالْخَلْقِ مِنْ نُطْفَةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ ذَرَّةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَاتِ الْمُغْلَقَةِ كَسُوسِ الْفُولِ وَسُوسِ الْخَشَبِ، فَتِلْكَ أَعْجَبُ مِنْ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِظَامِهِ. وَفِي تَعْلِيقِ الْإِحْيَاءِ بِالْعِظَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِظَامَ الْحَيِّ تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ كَلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَبِ وَالْخَشَبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلِذَلِكَ تَنَجَّسُ عِظَامُ الْحَيَوَانِ الَّذِي مَاتَ دُونَ ذَكَاةٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْعَظْمَ لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ فَلَا يَنَجُسُ بِالْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدِ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ، يَعْنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ نَسَبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَيَصِيرُ اتِّفَاقًا وَعُلَمَاءُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ الْحَيَاةَ فِي الْعِظَامِ وَالْإِحْسَاسِ. وَقَالَ ابْنُ زُهْرٍ الْحَكِيمُ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِ «التَّيْسِيرِ» : أَنَّ جَالِينُوس اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فِي الْعِظَامِ هَلْ لَهَا إحساسا وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ لَهَا إحساسا بطيئا. [80] [سُورَة يس (36) : آيَة 80] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) بَدَلٌ مِنَ الَّذِي أَنْشَأَها [يس: 79] بَدَلًا مُطَابِقًا، وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الصِّلَةُ عَلَى الصِّلَةِ فَيُكْتَفَى بِالْعَطْفِ عَنْ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ وَاهْتِمَامًا بِالثَّانِي حَتَّى تَسْتَشْرِفَ نَفْسُ السَّامِعِ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَفْطَنُ بِمَا فِي

هَذَا الْخَلْقِ مِنَ الْغَرَابَةِ إِذْ هُوَ إِيجَادُ الضِّدِّ وَهُوَ نِهَايَةُ الْحَرَارَةِ مِنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ. وَهَذَا هُوَ وَجْهُ وَصْفِ الشَّجَرِ بِالْأَخْضَرِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَخْضَرِ اللَّوْنَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَازِمُهُ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ لِأَنَّ الشَّجَرَ أَخْضَرُ اللَّوْنِ مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا جَفَّ وَزَالَتْ مِنْهُ الْحَيَاةُ اسْتَحَالَ لَوْنُهُ إِلَى الْغَبَرَةِ فَصَارَتِ الْخُضْرَةُ كِنَايَةً عَنْ رُطُوبَةِ النَّبْتِ وَحَيَاتِهِ. قَالَ ذُوُ الرمة: وَلما تمنّت تَأْكُلُ الرُّمَّ لَمْ تَدَعْ ... ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَا خُضْرَا وَوَصْفُ الشَّجَرِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ شَجَرَةٍ وَهُوَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى بِ الْأَخْضَرِ بِدُونِ تَأْنِيثٍ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمَوْصُوفِ بِخُلُوِّهِ عَنْ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَيَقُولُونَ: شَجَرٌ خَضْرَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الْوَاقِعَة: 52- 54] . وَالْمُرَادُ بِالشَّجَرِ هُنَا: شَجَرُ الْمَرْخِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ) وَشَجَرُ الْعَفَارِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ) فَهُمَا شَجْرَانِ يُقْتَدَحُ بِأَغْصَانِهِمَا يُؤْخَذُ غُصْنٌ مِنْ هَذَا وَغُصْنٌ مِنَ الْآخَرِ بِمِقْدَارِ الْمِسْوَاكِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يُقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعَفَارِ فَتَنْقَدِحُ النَّارُ، قِيلَ: يُجْعَلُ الْعَفَارُ أَعْلَى وَالْمَرْخُ أَسْفَلَ، وَقِيلَ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْجَوْهَرِي وَابْن السَّيِّد فِي «الْمُخَصَّصِ» قَالَا: الْعَفَارُ هُوَ الزَّنْدُ وَهُوَ الذَّكَرُ وَالْمَرْخُ الْأُنْثَى وَهُوَ الزَّنْدَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْمَرْخُ الذَّكَرُ وَالْعَفَارُ الْأُنْثَى، وَالنَّارُ هِيَ سِقْطُ الزَّنْدِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ عِنْدَ الِاقْتِدَاحِ مُشْتَعِلًا فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ قَابِلٌ لِلِالْتِهَابِ مِنْ تِبْنٍ أَوْ ثَوْبٍ بِهِ زَيْتٌ فَتُخْطَفُ فِيهِ النَّارُ. وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دَالَّةٌ عَلَى عَجِيبِ إِلْهَامِ اللَّهِ الْبَشَرَ لِاسْتِعْمَالِ الِاقْتِدَاحِ بِالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَاهْتِدَائِهِمْ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ. وَالْإِيقَادُ: إِشْعَالُ النَّارِ يُقَالُ: أَوْقَدَ، وَيُقَالُ: وَقَدْ بِمَعْنًى. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِك واستمراره.

[سورة يس (36) : آية 81]

[سُورَة يس (36) : آيَة 81] أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) عُطِفَ هَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى الِاحْتِجَاجَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمَعْنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: 77] ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ أَشْيَاءَ عَلَى إِمْكَانِ خَلْقِ أَمْثَالِهَا ارْتُقِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ مَخْلُوقَاتٍ عَظِيمَةٍ عَلَى إِمْكَانِ خَلْقِ مَا دَونَهَا. وَجِيءَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ بِطَرِيقَةِ التَّقْرِيرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ لِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لِوُضُوحِهِ لَا يَسَعُ الْمُقِرَّ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ فَإِنَّ الْبَدِيهَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ عَلَى خَلْقِ نَاسٍ بَعْدَ الْمَوْتِ أَقْدَرُ. وَإِنَّمَا وُجِّهَ التَّقْرِيرُ إِلَى نَفْيِ الْمُقَرَّرِ بِثُبُوتِهِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُقَرَّرِ إِنْ أَرَادَ إِنْكَارًا مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ الْإِنْكَارُ فَيَكُونُ إِقْرَارُهُ بَعْدَ تَوْجِيهِ التَّقْرِيرِ إِلَيْهِ عَلَى نَفْيِ الْمَقْصُودِ، شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ، وَأَمْثَالُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ كَثِيرَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِقادِرٍ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِأَلْفٍ بَعْدِ الْقَافِ وَجُرَّ الِاسْمُ بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِهِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَحْتِيَّةٍ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَقْدِرُ. وَلِكَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَقِبَ التَّقْرِيرِ بِجَوَابٍ عَنِ الْمُقَرَّرِ بِكَلِمَةِ بَلى الَّتِي هِيَ لِنَقْضِ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. وَضَمِيرُ مِثْلَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ [يس: 77] عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالنَّاسِ سَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: 77] شَخْصًا مُعَيَّنًا أَمْ غَيْرَ شَخْصٍ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُشَايِعِينَ لَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، أَيْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ أَمْثَالَهُمْ، أَيْ أَجْسَادًا عَلَى صُوَرِهِمْ وَشَبَهِهِمْ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ الْمَخْلُوقَةَ لِلْبَعْثِ هِيَ أَمْثَالُ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرَكَّبِينَ مِنْ أَجْزَائِهِمْ فَإِنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ بِجَمْعِ مُتَفَرِّقِ الْأَجْسَامِ بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا عَنْ عَدَمِهَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَيْفِيَّاتٌ، فَالْأَمْوَاتُ الْبَاقِيَةُ أَجْسَادُهَا تُبَثُّ فِيهَا الْحَيَاةُ، وَالْأَمْوَاتُ الَّذِينَ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ وَتَفَسَّخَتْ يُعَادُ تَصْوِيرُهَا، وَالْأَجْسَادُ

[سورة يس (36) : آية 82]

الَّتِي لَمْ تَبْقَ مِنْهَا بَاقِيَة تُعَاد أجساد عَلَى صُوَرِهَا لِتُودَعَ فِيهَا أَرْوَاحُهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَسَدَ الْإِنْسَانِ يَتَغَيَّرُ عَلَى حَالَتِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَيَكْبُرُ وَتَتَغَيَّرُ مَلَامِحُهُ، وَيُجَدَّدُ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ بِقَدْرِ مَا اضْمَحَلَّ وَتَبَخَّرَ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّغَيُّرُ تَبْدِيلًا لِذَاتِهِ فَهُوَ يُحِسُّ بِأَنَّهُ هُوَ هُوَ وَالنَّاسُ يُمَيِّزُونَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَغَيُّرِ الرُّوحِ. وَفِي آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلْمَعَادِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي أَنَّ الْبَعْثَ عَنْ عَدَمٍ أَوْ عَنْ تَفْرِيقٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيِّ فِي «أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ» وَمُودَعَةٌ فِيهَا أَرْوَاحُهُمُ الَّتِي كَانَتْ تُدَبِّرُ أَجْسَامَهُمْ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ هُوَ يَخْلُقُ خَلَائِقَ كَثِيرَةً وواسع الْعلم بأحوالهم ودقائق ترتيبها. [82] [سُورَة يس (36) : آيَة 82] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) هَذِهِ فَذَلَكَةُ الِاسْتِدْلَالِ، وَفَصْلُ الْمَقَالِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَمَّا قَبْلَهَا كَمَا تُفْصَلُ جُمْلَةُ النَّتِيجَةِ عَنْ جُمْلَتِيِ الْقِيَاسِ، فَقَدْ نَتَجَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِإِيجَادِهِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنْ تَقْرِيبِهِ بِ كُنْ وَهُوَ أَخْصَرُ كَلِمَةٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْكَوْنِ، أَيِ الِاتِّصَافَ بِالْوُجُودِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الرَّمِيمِ، أَيْ لَا شَأْنَ لِلَّهِ فِي وَقْتِ إِرَادَتِهِ تَكْوِينَ كَائِنٍ إِلَّا تَقْدِيرُهُ بِأَنْ يُوجِدَهُ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ الَّذِي يَنْطَاعُ لَهُ الْمَقْدُورُ بِقَوْلِ: كُنْ لِيُعْلِمَ أَنْ لَا يُبَاشِرَ صُنْعَهُ بِيَدٍ وَلَا بِآلَةٍ وَلَا بِعَجْنِ مَادَّةِ مَا يَخْلُقُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُ الصُّنَّاعُ وَالْمُهَنْدِسُونَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَشَأَ لَهُمْ تَوَهُّمُ اسْتِحَالَةِ الْمَعَادِ مِنِ انْعِدَامِ الْمَوَادِ فَضْلًا عَنْ إِعْدَادِهَا وَتَصْوِيرِهَا، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ مَادَّةٍ وَتَكْيِيفِهَا وَمُضِيُّ مُدَّةٍ لِإِتْمَامِهَا. وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ، أَيْ حِينَ إِرَادَتِهِ شَيْئًا.

[سورة يس (36) : آية 83]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَهُوَ يَكُونُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَقُولَ الْمَنْصُوب. [83] [سُورَة يس (36) : آيَة 83] فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِذَا ظَهَرَ كُلُّ مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَنْشَأُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ فِي شَأْنِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى نَقْصِ عَظْمَتِهِ لِأَنَّ بِيَدِهِ الْمُلْكَ الْأَتَمَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ. وَالْمَلَكُوتُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمِلْكِ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) فَإِنَّ مَادَّةَ فَعَلَوْتٍ وَرَدَتْ بِقِلَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَهَبُوتٌ وَرَحَمُوتٌ، وَمِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِالْأَمْثَالِ «رَهَبُوتٌ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوتٍ» أَيْ لَأَنْ يَرْهَبَكَ النَّاسُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَرْحَمُوكَ، أَيْ لَأَنْ تَكُونَ عَزِيزًا يُخْشَى بَأْسُكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَيِّنًا يَرِقُّ لَكَ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [75] . وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّسْبِيحِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْفَصِيحَةُ. وَالْمَعْنَى: قَدِ اتَّضَحَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ خَارِجِينَ مِنْ قَبْضَةِ مُلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ خَلْقِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ ثَمَّةَ رَجْعَةً إِلَى غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ مِنْ أَصْلِهِ.

37- سورة الصافات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 37- سُورَةُ الصَّافَّاتِ اسْمُهَا الْمَشْهُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ «الصَّافَّاتِ» . وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَتِهَا، وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : رَأَيْتُ فِي كَلَامِ الْجَعْبَرِيِّ أَنَّ سُورَةَ «الصَّافَّاتِ» تُسَمَّى «سُورَةَ الذَّبِيحِ» وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى مُسْتَند من الْأَثر. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بَاسِمِ «الصَّافَّاتِ» وُقُوعُ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا بِالْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ «الْمُلْكِ» لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ إِذْ أُرِيدَ هُنَالِكَ صِفَةُ الطَّيْرِ، عَلَى أَنَّ الْأَشْهَرَ أَنَّ «سُورَةَ الْمُلْكِ» نَزَلَتْ بَعْدَ «سُورَةِ الصَّافَّاتِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَقَبْلَ سُورَةِ لُقْمَانَ. وَعُدَّتْ آيُهَا مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعَدَدِ. وَعَدَّهَا الْبَصْرِيُّونَ مِائَةً وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ. أَغْرَاضُهَا إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَوْقُ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَى انْفِرَادِهِ بِصُنْعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا قِبَلَ لِغَيْرِهِ بِصُنْعِهَا وَهِيَ الْعَوَالِمُ السَّمَاوِيَّةِ بِأَجْزَائِهَا وَسُكَّانِهَا وَلَا قِبَلَ لِمَنْ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي ذَلِكَ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْبَعْثَ يَعْقُبُهُ الْحَشْرُ وَالْجَزَاءُ.

وَوَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَوُقُوعِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. وَوَصْفُ حُسْنِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَعِيمِهِمْ. وَمُذَاكَرَتُهُمْ فِيمَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمُحَاوَلَتِهِمْ صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ وَرَفَعَ شَأْنَهُمْ وَبَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ وَمَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكُرُوبِ الَّتِي حَفَّتْ بِهِمْ. وَخَاصَةً مَنْقَبَةُ الذَّبِيحِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. وَوَصَفُ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. ثُمَّ الْإِنْحَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَسَادَ مُعْتَقَدَاتِهِمْ فِي اللَّهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ الشُّرَكَاءِ. وَقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُم على رُؤُوس الْأَشْهَادِ. وَقَوْلِهِمْ فِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَكَيْفَ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِتَابٌ. ثُمَّ وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ كَدَأْبِ الْمُرْسَلِينَ وَدَأْبِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ نَازِلٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَتَخْلُصُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِأَغْرَاضِهَا بِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَلَائِكَةِ مُنَاسِبٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمْ يَدَّعُوا لَهَا مَلَائِكَةً، وَالَّذِي تَخْدِمُهُ الْمَلَائِكَةُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالِّ خَلْقُهَا عَلَى عِظَمِ الْخَالِقِ، وَيُؤْذِنُ الْقَسَمُ بِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الصِّفَات الَّتِي لَو حظت فِي الْقَسَمِ بِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْأَغْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، فَ الصَّافَّاتِ يُنَاسِبُ عَظمَة رَبهَا، وفَالزَّاجِراتِ يُنَاسِبُ قَذْفَ الشَّيَاطِينِ عَنِ السَّمَاوَاتِ، وَيُنَاسِبُ تَسْيِيرَ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظَهَا مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُنَاسِبُ زَجْرَهَا النَّاسَ فِي الْمَحْشَرِ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 1 إلى 4]

وَ"التَّالِياتِ ذِكْراً" يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الرَّسُولِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ. هَذَا وَفِي الِافْتِتَاحِ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ السَّامِعُ بِشَرَاشِرِهِ. فَقَدِ اسْتُكْمِلَتْ فَاتِحَةُ السُّورَةِ أَحْسَنَ وُجُوهِ الْبَيَان وأكملها. [1- 4] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَهُوَ قَسَمٌ وَاحِدٌ وَالْمُقْسَمُ بِهِ نَوْعٌ وَاحِدٌ مُخْتَلِفُ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ طَوَائِفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. وَعَطْفُ «الصِّفَاتِ» بِالْفَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ ثَابِتَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ جِهَةٍ تَرْجِعُ إِلَيْهَا وَحْدَتُهُ، وَهَذَا الْمَوْصُوفُ هُوَ هَذِهِ الطَّوَائِفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الشَّأْنَ فِي عَطْفِ الْأَوْصَافِ أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ بِالْفَاءِ اتِّصَالُ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِهَا لِمَا فِي الْفَاءِ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ وَلِذَلِكَ يَعْطِفُونَ بِهَا أَسْمَاءَ الْأَمَاكِنِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فحومل ... فتوضح فالمقرة ... الْبَيْتَ وَكَقَوْلِ لَبِيَدٍ: بِمَشَارِقِ الْجَبَلِيَّيْنِ أَوْ بِمُحَجِّرِ ... فتضمنتها فَرده فَمر خاها فَصِدِائِقُ أَنْ أَيْمَنَتْ فَمِظِنَّةٌ ... ............ الْبَيْتَ وَيَعْطِفُونَ بِهَا صِفَاتِ مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ ابْنِ زِيَّابَةَ: يَا لَهَفَ زِيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الْ ... صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ يُرِيدُ صِفَاتٍ لِلْحَارِثِ، وَوَصَفَهُ بِهَا تَهَكُّمًا بِهِ.

فَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلْمَلَائِكَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ «التَّالِيَاتِ ذِكْرًا» الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَسَمُ الله بمخلوقاته يومىء إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُقْسَمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَالٌّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ أَوْ كَوْنِهِ مُشَرَّفًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَأْنِيثُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِاعْتِبَارِ إِجْرَائِهَا عَلَى مَعْنَى الطَّائِفَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَصْنَافٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا آحَادَ مِنْهُمْ. والصَّافَّاتِ جَمْعُ: صَافَّةٍ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الْمُصْطَفُّ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ. يُقَالُ: صَفَّ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ، مُتَعَدِّيًا إِذَا جَعَلَهُ صَفًّا وَاحِدًا أَوْ صُفُوفًا، فَاصْطَفَّوْا. وَيُقَالُ: فَصُفُّوا، أَيْ صَارُوا مُصْطَفِّينَ، فَهُوَ قَاصِرٌ. وَهَذَا مِنَ الْمُطَاوِعِ الَّذِي جَاءَ عَلَى وَزْنِ فِعْلِهِ مِثْلُ قَوْلِ الْعَجَّاجِ: قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجَبَرَ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [36] ، وَقَوْلُهُ: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النُّورِ: 41] . وَوَصَفُ الْمَلَائِكَةَ بِهَذَا الْوَصْفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُصْطَفَّةً صُفُوفًا، وَهِيَ صُفُوفٌ مُتَقَدِّمٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْفَضْلِ وَالْقُرْبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 165، 166] . وَالزَّجْرُ: الْحَثُّ فِي نَهْيٍ أَوْ أَمْرٍ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ لِلْمَأْمُورِ تَبَاطُؤٌ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَطْلُوبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: تَسْخِيرُ الْمَلَائِكَةِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِتَسْخِيرِهَا خَلْقًا أَوْ فِعْلًا، كَتَكْوِينِ الْعَنَاصِرِ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، وَإِزْجَاءِ السَّحَابِ إِلَى الْآفَاقِ. وَ «التَّالِياتِ ذِكْرًا» الْمُتَرَدِّدُونَ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ لِتَبْلِيغِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَوْ لِتَبْلِيغِهِ إِلَى الرُّسُلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] . وَبَيَّنَهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي قَالَ الْحَقَّ» . وَالْمُرَادُ بِ «التَّالِيَاتِ» مَا يَتْلُونَهُ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَقْدِيسٍ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لَمَّا كَانَ مُلَقَّنًا مِنْ لَدُنِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ كَلَامُهُمْ بِهَا تِلَاوَةً. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [102] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ فِي [الْأَنْفَالِ: 2] . وَالذِّكْرُ مَا يُتَذَكَّرُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . وَمَا تُفِيدُهُ الْفَاءُ مِنْ تَرْتِيبِ مَعْطُوفِهَا يَجُوزُ أَن يكون ترتيبا فِي الْفضل بِأَنْ يُرَادَ أَنَّ الزَّجْرَ وَتِلَاوَةَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّفِّ لِأَنَّ الِاصْطِفَافَ مُقَدِّمَةٌ لَهَا وَوَسِيلَةٌ وَالْوَسِيلَةُ دُونَ الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ تِلَاوَةَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنَ الزَّجْرِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ إِصْلَاحِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَزْجُورَةِ بِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ إِنْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ تِلَاوَةَ الْوَحْيِ الْمُوحَى بِهِ لِلرُّسُلِ، أَوْ بِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ مِنْ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاضَلُ تَارَةً بِتَفَاضُلِ مُتَعَلَّقَاتِهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ قِسْمًا وَسَطًا مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ الثَّلَاثَةِ بِاعْتِبَارِ التَّأْثِيرِ وَالتَّأَثُّرِ. فَأَعْظَمُ الْأَقْسَامِ الْمُؤَثِّرِ الَّذِي لَا يَتَأَثَّرُ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ سُبْحَانَهُ، وَأَدْنَاهَا الْمُتَأَثِّرِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ وَهُوَ سَائِرُ الْأَجْسَامِ، وَالْمُتَوَسِّطُ الَّذِي يُؤَثِّرُ وَيَتَأَثَّرُ وَهَذَا هُوَ قِسْمُ الْمُجَرَّدَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ والأرواح فَهِيَ قَابِلَة لِلْأَثَرِ عَنْ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ تُبَاشِرُ التَّأْثِيرَ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ. وِجِهَةُ قَابِلِيَّتِهَا الْأَثَرَ مِنْ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ مُغَايِرَةٌ لِجِهَةِ تَأْثِيرِهَا فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَتَصَرُّفِهَا فِيهَا، فَقَوْلُهُ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً إِشَارَةٌ إِلَى تَأْثِيرِهَا، وَقَوْلُهُ: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِشَارَةٌ إِلَى تَأَثُّرِهَا بِمَا يُلْقَى إِلَيْهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَتَتْلُوهُ وَتَتَعَبَّدُ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جَوَابُ الْقَسَمِ وَمَنَاطُ التَّأْكِيدِ صِفَةُ «وَاحِدٍ» لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ إِلَهًا وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوهُ عِدَّةَ آلِهَةٍ فَأَبْطَلَ اعْتِقَادَهُمْ

[سورة الصافات (37) : آية 5]

بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْمُتَعَدِّدِينَ وَأَمَّا اقْتِضَاؤُهُ تَعْيِينَ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَذَلِك حَاصِل بِأَنَّهُم لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّبُّ الْعَظِيمُ وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فَحَصَلَ التَّعَدُّدُ فِي مَفْهُومِ الْإِلَهِ فَإِذَا بَطَلَ التَّعَدُّدَ تَعَيَّنَ انْحِصَارُ الْإِلَهِيَّةِ فِي رَبٍّ وَاحِدٍ هُوَ الله تَعَالَى. [5] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 5] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) أَتْبَعَ تَأْكِيدَ الْإِخْبَارِ عَنْ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْقَسَمَ لِتَأْكِيدِهِ لَا يُقْنِعُ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ مَنْ بَلَّغَ إِلَيْهِمُ الْقَسَمَ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ مَعَ إِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَعْيِينِهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ الْمُقْتَضِي تَفَرُّدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَقَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ رَبُّ السَّمَاوَات، أَي إِلَهكُم الْوَاحِدُ هُوَ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ. فَقَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَرَى حَذْفُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ تَقَدُّمِ حَدِيثٍ عَنْهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الشّرك لم يتجرّأوا عَلَى ادِّعَاءِ الْخَالِقِيَةِ لِأَصْنَامِهِمْ وَلَا التَّصَرُّفِ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ، وَكَيْفَ يَبْلُغُونَ إِلَيْهَا وَهُمْ لَقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَكَانَ تَفَرُّدُ اللَّهِ بِالْخَالِقِيَةِ أَفْحَمَ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ فِي بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. وَشَمِلَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما جَمِيعَ الْعَوَالِمِ الْمَشْهُودَةِ لِلنَّاسِ بِأَجْرَامِهَا وَسُكَّانِهَا وَالْمَوْجُودَاتِ فِيهَا. وَتَخْصِيصُ الْمَشارِقِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ مَشْهُودَةٌ كُلَّ يَوْمٍ. وَجَمْعُ الْمَشارِقِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فِي أَيَّامِ نِصْفِ سَنَةِ دَوْرَتِهَا وَهِيَ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ شَرْقًا بِاعْتِبَارِ أَطْوَلِ نَهَارٍ فِي السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 6 إلى 7]

وَأَقْصَرِهِ مُكَرَّرَةً مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ ابْتِدَاءً مِنَ الرُّجُوعِ الشِّتْوِيِّ إِلَى الرُّجُوعِ الْخَرِيفِيِّ، وَهِيَ مَطَالِعُ مُتَقَارِبَةٌ لَيْسَتْ مُتَّحِدَةً، فَإِنَّ الْمَشْرِقَ اسْمٌ لِمَكَانِ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَهُوَ ظُهُورِهَا فَإِذَا رَاعَوُا الْجِهَةَ دُونَ الْفَصْلِ قَالُوا: الْمَشْرِقَ، بِالْإِفْرَادِ، وَإِذَا رُوعِيَ الْفَصْلَانِ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ قِيلَ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ، عَلَى أَنَّ جَمْعَ الْمَشَارِقِ قَدْ يَكُونُ بِمُرَاعَاةِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ فِي مَبَادِئِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلِاعْتِبَارَيْنِ لِيَعْتَبِرَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ بِهَا عَلَى حسب مبالغ علمهمْ. [6- 7] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 6 إِلَى 7] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) هَذِه الْجُمْلَة تتنزل مِنْ جُمْلَةِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [الصافات: 5] مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى رُبُوبِيَّةِ السَّمَاوَاتِ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا يَقْتَضِي رُبُوبِيَّةَ الْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَدْمَجَ فِيهَا مِنَّةً عَلَى النَّاسِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ فِي السَّمَاءِ زِينَةَ الْكَوَاكِبِ تَرُوقُ أَنْظَارُهُمْ فَإِنَّ مَحَاسِنَ الْمَنَاظِرِ لَذَّةٌ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] ، وَمِنَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ جَعْلَ فِي تِلْكَ الْكَوَاكِبِ حِفْظًا مِنْ تَلَقِّي الشَّيَاطِينِ لِلسَّمْعِ فِيمَا قَضَى اللَّهُ أمره فِي الْعَالم الْعُلْوِيِّ لِقَطْعِ سَبِيلِ اطِّلَاعِ الْكُهَّانِ عَلَى بَعْضِ مَا سَيَحْدُثُ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَفْتِنُوا النَّاسَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فَتَنُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ قُطِعَتِ الْكَهَانَةُ عِنْدَ إِرْسَالِهِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِيهَا مَنْفَعَةً عَظِيمَةً دِينِيَّةً وَهِيَ قَطْعُ دَابِرِ الشَّكِّ فِي الْوَحْيِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا مَنْفَعَةً دُنْيَوِيَّةً وَهِيَ لِلزِّينَةِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. والْكَواكِبِ: الْكُرَيَّاتُ السَّمَاوِيَّةُ الَّتِي تَلْمَعُ فِي اللَّيْلِ عَدَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَتُسَمَّى النُّجُومَ، وَهِيَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا الْعَظِيمُ، وَمِنْهَا دُونَهُ، فَمِنْهَا الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ، وَمِنْهَا الثَّوَابِتُ، وَمِنْهَا قِطَعٌ تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ. وَفِي الْكَوَاكِبِ حكم مِنْهَا أَن تَكُونُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ فِي اللَّيْلِ فَالْكَوَاكِبُ هِيَ الَّتِي بِهَا زُيِّنَتِ السَّمَاءُ. فَإِضَافَةُ (زِينَةٍ) إِلَى (الْكَواكِبِ) إِنْ جَعَلْتَ زِينَةِ مَصْدَرًا بِوَزْنِ فِعْلَةٍ مِثْلِ

نِسْبَةٍ كَانَتْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ زَانَتْهَا الْكَوَاكِبُ أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ بِزِينَةِ اللَّهِ الْكَوَاكِبَ، أَيْ جَعْلَهَا زَيْنًا. وَإِنْ جَعَلْتَ زِينَةِ اسْمًا لِمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِنَا: لِيقَةٍ لِمَا تُلَاقُ بِهِ الدَّوَاةُ، فَالْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى «مِنَ» الِابْتِدَائِيَّةِ، أَيْ زِينَةٍ حَاصِلَةٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فإقحام لَفْظِ زِينَةِ تَأْكِيدٌ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ بِسَبَبِ زِينَةِ الْكَوَاكِبِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ تَزْيِينًا فَكَانَ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فِي قُوَّةِ: بِالْكَوَاكِبِ تَزْيِينًا، فَقَوْلُهُ: بِزِينَةٍ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ زَيَّنَّا فِي الْمَعْنَى وَلَكِنْ حَوْلَ التَّعْلِيقِ فَجَعْلَ زِينَةً هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِ زَيَّنَّا لِيُفِيدَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي تَرْكِيبٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ زِينَةٌ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِفِعْلِ زَيَّنَّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ زِينَةٍ لَوْلَا مَا قُصِدَ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالتَّوْكِيدِ. والدُّنْيا: أَصْلُهُ وَصْفٌ هُوَ مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، أَيِ الْقُرْبَى. وَالْمُرَادُ: قُرْبُهَا مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ السَّمَاءُ الْأُولَى مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ. وَوَصَفَهَا بِالدُّنْيَا: إِمَّا لِأَنَّهَا أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ مِنْ بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ، وَالسَّمَاءُ الدُّنْيَا عَلَى هَذَا هِيَ الْكُرَةُ الَّتِي تُحِيطُ بِكُرَةِ الْهَوَاءِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ ذَاتُ أَبْعَادٍ عَظِيمَةٍ. وَمَعْنَى تَزْيِينِهَا بِالْكَوَاكِبِ وَالشُّهُبِ عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَوَاكِبَ وَالشُّهُبَ سَابِحَةً فِي مُقَعَّرِ تِلْكَ الْكُرَةِ عَلَى أَبْعَادٍ مُخْتَلِفَةٍ وَوَرَاءَ تِلْكَ الْكُرَةِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مُحِيطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي أَبْعَادٍ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ سَعَتِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَنِظَامُ الْكَوَاكِبِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ عَلَى هَذَا مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ اصْطِلَاحَاتٌ، وَالْقُرْآنُ صَالِحٌ لَهَا، وَلَمْ يَأْتِ لِتَدْقِيقِهَا وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِيهَا. وَالسَّمَاءُ الدُّنْيَا عَلَى هَذَا هِيَ الَّتِي وُصِفَتْ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بِالْأُولَى. وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا الْكُرَةُ الْهَوَائِيَّةُ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَلَا مِنَ الشُّهُبِ وَأَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشُّهُبَ فِي أَفْلَاكِهَا وَهِيَ السَّمَاوَاتُ السِّتُّ وَالْعَرْشُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّظَامُ الشَّمْسِيُّ كُلُّهُ لَيْسَ مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاءِ

الدُّنْيَا. وَمَعْنَى تَزْيِينِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ وَالشُّهُبِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَدِيمَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَابِلًا لِاخْتِرَاقِ أَنْوَارِ الْكَوَاكِبِ فِي نِصْفِ الْكُرَةِ السَّمَاوِيَّةِ الَّذِي يَغْشَاهُ الظَّلَامُ مِنْ تَبَاعُدِ نُورِ الشَّمْسِ عَنْهُ فَتَلُوحُ أَنْوَارُ الْكَوَاكِبِ مُتَلَأْلِئَةً فِي اللَّيْلِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْأَضْوَاءُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا تَزْدَانُ بِهَا. وَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلِاحْتِمَالَيْنِ لِأَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا إِلَّا أَنَّ السَّمَاءَ الدُّنْيَا تَزْدَانُ بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْكَوَاكِبِ سَابِحَةً فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَالزِّينَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنَّاسِ، وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي يَزْدَانُ بِهَا النَّاسُ مُغَايِرَةٌ لَهُمْ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ قَوْلُنَا: ازْدَانَ الْبَحْرُ بِأَضْوَاءِ الْقَمَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بِإِضَافَةِ زِينَةِ إِلَى الْكَواكِبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ وَجَرِّ الْكَواكِبِ عَلَى أَنَّ الْكَواكِبِ بَدَلٌ مِنْ زِينَةٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ وَنَصْبِ الْكَواكِبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى زِينَةِ السَّمَاءِ بِالْكَوَاكِبِ وَكَوْنِهَا حِفْظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [16، 17] . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَوَاكِبِ فِي قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَباً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [76] . وَانْتَصَبَ حِفْظاً بِالْعَطْفِ عَلَى بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَبَيَّنَهُ مَا بَيَّنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: بِالْكَوَاكِبِ زِينَةً، وَعَامِلُهُ زَيَّنَّا. وَالْحِفْظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ خَلْقِ الْكَوَاكِبِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكَوَاكِبَ خُلِقَتْ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الشَّيَاطِينِ الرَّجْمَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أُطْرِدَ إِبْلِيسُ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ اتِّحَادِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَعَ عَامِلِهِ فِي الْوَقْتِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ لَا يَرَى اشْتِرَاطُ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يُتَابِعُهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ جَعَلَهُ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى اعْتِبَارِهِ عِلَّةً مُقَدَّرَةً كَمَا جَوَّزَ فِي الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ حِفْظاً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ فَيَكُونُ فِي تَقْدِيرِ: وَحَفِظْنَا، عَطْفًا عَلَى زَيَّنَّا، أَيْ حَفِظْنَا بِالْكَوَاكِبِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُبَرِّدِ. وَالْمَحْفُوظُ هُوَ السَّمَاءُ، أَيْ وَحَفِظْنَاهَا بِالْكَوَاكِبِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ. وَلَيْسَ الَّذِي بِهِ الْحِفْظُ هُوَ جَمِيعُ الَّذِي بِهِ التَّزْيِينُ بَلِ الْعِلَّةُ مُوَزَّعَةٌ فَالَّذِي هُوَ زِينَةٌ مُشَاهَدٌ بِالْأَبْصَارِ، وَالَّذِي هُوَ حِفْظٌ هُوَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10] . وَمَعْنَى كَوْنِ الْكَوَاكِبِ حِفْظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْكَوَاكِبِ الشُّهُبَ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ عِنْدَ مُحَاوَلَتِهَا اسْتِرَاقَ السَّمْعِ فَتَفِرُّ الشَّيَاطِينُ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهَا لِأَنَّهَا إِذَا أَصَابَتْ أَشْكَالَهَا اخْتَرَقَتْهَا فَتَفَكَّكَتْ فَلَعَلَّهَا تَزُولُ أَشْكَالُهَا بِذَلِكَ التَّفَكُّكِ فَتَنْعَدِمُ بِذَلِكَ قِوَامُ مَاهِيَّتِهَا أَوْ تَتَفَرَّقُ لَحْظَةً لَمْ تَلْتَئِمْ بَعْدُ فَتَتَأَلَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ فَإِنَّ تِلْكَ الشُّهُبَ الَّتِي تَلُوحُ للنَّاظِر قطعا لَا معة مِثْلَ النُّجُومِ جَارِيَةً فِي السَّمَاءِ إِنَّمَا هِيَ أَجْسَامٌ مَعْدِنِيَّةٌ تَدُورُ حول الشَّمْس وَعند مَا تَقْرُبُ إِلَى الْأَرْضِ تَتَغَلَّبُ عَلَيْهَا جَاذِبِيَّةُ الْأَرْضِ فَتَنْزِعُهَا مِنْ جَاذِبِيَّةِ الشَّمْسِ فَتَنْقَضُّ بِسُرْعَةٍ نَحْوَ مَرْكَزِ الْأَرْضِ وَلِشِدَّةِ سُرْعَةِ انْقِضَاضِهَا تُولَدُ فِي الْجَوِّ الْكُرَوِيِّ حَرَارَةٌ كَافِيَةٌ لِإِحْرَاقِ الصِّغَارِ مِنْهَا وَتَحْمَى الْكِبَارُ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْحَرَارَةِ تُوجِبُ لَمَعَانَهَا وَتَسْقُطُ حَتَّى تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْبَحْرِ غَالِبًا وَرُبَّمَا وَقَعَتْ عَلَى الْبَرِّ، وَقَدْ يَعْثُرُ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ إِذْ يَجِدُونَهَا وَاقِعَةً عَلَى الْأَرْضِ قِطَعًا مَعْدِنِيَّةً مُتَفَاوِتَةً وَرُبَّمَا أَحْرَقَتْ مَا تُصِيبُهُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ مَنَازِلَ. وَقَدْ أُرِّخَ نُزُولُ بَعْضِهَا سَنَةَ (616) قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ بِبِلَادِ الصِّينِ فَكَسَرَ عِدَّةَ مَرْكَبَاتٍ وَقَتَلَ رِجَالًا، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْعَرَبُ فِي شِعْرِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ قَالَ دَوْسُ بْنُ حَجَرٍ يَصِفُ ثَوْرًا وَحْشِيًّا: فَانْقَضَّ كَالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ ... نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالُهُ طُنُبَا وَقَالَ بِشْرِ بن خازم أبي خَازِمٍ أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي «الْحَيَوَانِ» : وَالْعَيْرُ يُرْهِقُهَا الْخَبَارَ وَجَحْشُهَا ... ينْقض خلفهمَا انقضا الْكَوَاكِب (¬1) وَفِي سَنَةِ (944) سُجِّلَ مُرُورُ كُرَيَّاتٍ نَارِيَّةٍ فِي الْجَوِّ أَحْرَقَتْ بُيُوتًا عِدَّةً. ¬

(¬1) الخبار بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: الأَرْض الرخوة .

[سورة الصافات (37) : الآيات 8 إلى 10]

وَسَقَطَتْ بِالْقُطْرِ التُّونِسِيِّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مِنْهَا قِطْعَةٌ سَقَطَتْ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ وَسَطَ الْمَمْلَكَةِ أَحْسَبُ أَنَّهَا بِجِهَاتِ تَالَةٍ وَرَأَيْتُ شَظِيَّةً مِنْهَا تُشْبِهُ الْحَدِيدَ، وَالْعَامَّةُ يَحْسَبُونَهَا صَاعِقَةً وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجَرَ الصَّاعِقَةِ، وَتَسَاقُطُهَا يَقَعُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَكِنَّا لَا نُشَاهِدُ مُرُورَهَا فِي النَّهَارِ لِأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَحْجُبُهَا عَنِ الْأَنْظَارِ. وَمِمَّا عَلِمْتَ مِنْ تَدَحْرُجِ هَذِهِ الشُّهُبِ مِنْ فَلَكِ الشَّمْسِ إِلَى فَلَكِ الْأَرْضِ تَبَيَّنَ لَكَ سَبَبُ كَوْنِهَا مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَسَبَبُ اتِّصَالِهَا بِالْأَجْرَامِ الشَّيْطَانِيَّةِ الصَّاعِدَةِ مِنَ الْأَرْضِ تَتَطَلَّبُ الِاتِّصَالَ بِالسَّمَاوَاتِ. وَقَدْ سُمِّيَتْ شُهُبًا عَلَى التَّشْبِيهِ بِقَبَسِ النَّارِ وَهُوَ الْجَمْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [7] . وَالْمَارِدُ: الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ الَّذِي لَا يُلَابِسُ الطَّاعَةَ سَاعَةً قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَة: 101] . وَفِي وَصْفِهِ بِالْمَارِدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يُصِيبُ إِخْوَانَهُ مِنَ الضُّرِّ بِالشُّهُبِ لَا يَعِظُهُ عَنْ تَجْدِيدِ مُحَاوَلَةِ الِاسْتِرَاقِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ طَبْعُهُ الشَّيْطَانِيُّ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلْكَ السَّجَايَا الْخَبِيثَةِ كَمَا لَا يَنْزَجِرُ الْفِرَاشُ عَنِ التَّهَافُتِ حَوْلَ الْمِصْبَاحِ بِمَا يُصِيبُ أَطْرَافَ أَجْنِحَتِهِ مِنْ مسّ النَّار. [8- 10] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 8 إِلَى 10] لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا [الصافات: 6] وَجُمْلَةِ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: 11] قُصِدَ مِنْهُ وَصْفُ قِصَّةِ طَرْدِ الشَّيَاطِينِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ قَوْله: وَحِفْظاً [الصافات: 7] مَصْدَرًا نَائِبًا مَنَابَ فِعْلِهِ يَجُوزُ جَعْلُ جُمْلَةِ لَا يَسَّمَّعُونَ بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْقِعِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ جُمْلَةِ وَحِفْظاً عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ [طه: 120] الْآيَةَ، أَيِ انْتَفَى بِذَلِكَ الْحِفْظِ سَمْعُ الشَّيَاطِينِ لِلْمَلَأِ الْأَعْلَى.

وَحَرْفُ إِلَى يُشِيرُ إِلَى تَضْمِينِ فِعْلِ يَسَّمَّعُونَ مَعْنَى يَنْتَهُونَ فَيَسْمَعُونَ، أَيْ لَا يَتْرُكُهُمُ الرَّمْيُ بِالشُّهُبِ مُنْتَهِينَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى انْتِهَاءَ الطَّالِبِ الْمَكَانَ الْمَطْلُوبَ بَلْ تَدْحَرُهُمْ قَبْلَ وُصُولِهِمْ فَلَا يَتَلَقَّفُونَ مِنْ عِلْمِ مَا يَجْرِي فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى الْأَشْيَاءَ مَخْطُوفَةً غَيْرَ مُتَبَيَّنَةٍ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ فَلَا يَسْمَعُونَ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ سَمِعْتُ الْمَعْدَّى بِنَفْسِهِ يُفِيدُ الْإِدْرَاكَ، وَسَمِعْتُ الْمَعْدَّى بِ إِلَى يُفِيدُ الْإِصْغَاءَ مَعَ الْإِدْرَاكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسَّمَّعُونَ بِسُكُونِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ لَا يَسَّمَّعُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: لَا يَتَسَمَّعُونَ فَقُلِبَتِ التَّاءُ سِينًا تَوَصُّلًا إِلَى الْإِدْغَامِ، وَالتَّسَمُّعُ: تَطَلُّبُ السَّمْعِ وَتَكَلُّفُهُ، فَالْمُرَادُ التَّسَمُّعُ الْمُبَاشِرُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَكَانَ الَّذِي تَصِلُ إِلَيْهِ أَصْوَاتُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَيْ أَنَّهُمْ يُدْحَرُونَ قَبْلِ وُصُولِهِمُ الْمَكَانَ الْمَطْلُوبَ، وَالْقِرَاءَتَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالِاسْتِعْمَالِ لَا يَصِحُّ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ الشُّهُبَ تَحُولُ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْمَعُوا شَيْئًا مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ رُبَّمَا اخْتَطَفُوا الْخَطْفَةَ فَأَلْقَوْهَا إِلَى الْكُهَّانِ فَلَمَّا بَعَثَ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ زِيَادَةَ حِرَاسَةِ السَّمَاءِ بِإِرْدَافِ الْكَوَاكِبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَتَّى لَا يَرْجِعَ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ سَالِمًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، فَالشُّهُبُ كَانَتْ مَوْجُودَةً مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ لَا تَحُولُ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ تَلَقُّفِ أَخْبَارٍ مُقَطَّعَةٍ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِمَتِ الشَّيَاطِينُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ أَهْلُ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمَلَائِكَةُ. وَوَصْفُ الْمَلَإِ بِ الْأَعْلى لِتَشْرِيفِ الْمَوْصُوفِ. وَالْقَذْفُ: الرَّجْمُ، وَالْجَانِبُ: الْجِهَةُ، وَالدُّحُورُ: الطَّرْدُ. وَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ يُقْذَفُونَ. وَإِسْنَادُ فَعْلِ يُقْذَفُونَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْقَاذِفَ مَعْلُومٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْحِفْظِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً [الْجِنّ: 8] . وَالْعَذَابُ الْوَاصِبُ: الدَّائِمُ يُقَالُ: وَصَبَ يَصِبُ وُصُوبَا، إِذَا دَامَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطْرَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُحَقَّرُونَ وَلَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الشَّيَاطِين للنار فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [68] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَذَابَ الْقَذْفِ وَأَنَّهُ وَاصِبٌ، أَيْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ كُلَّمَا حَاوَلُوا الِاسْتِرَاقَ لِأَنَّهُمْ مجبولون على محاولته. وَجُمْلَةُ وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهِيَ جُمْلَةُ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ. ومَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ مُسْتَثْنًى مِنْ ضَمِيرِ لَا يَسَّمَّعُونَ فَهُوَ فِي مَحل رفع على الْبَدَلِيَّةِ مِنْهُ. وَالْخَطْفُ: ابْتِدَارُ تَنَاوُلِ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ، والْخَطْفَةَ الْمَرَّةُ مِنْهُ. فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ خَطِفَ لِبَيَانِ عَدَدِ مَرَّاتِ الْمَصْدَرِ، أَيْ خَطْفَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِسْرَاعِ بِسَمْعِ مَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَهُ مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ تَامٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [20] . وَ «أَتْبَعَهُ» بِمَعْنَى تَبِعَهُ فَهَمْزَتُهُ لَا تُفِيدُهُ تَعْدِيَةً، وَهِيَ كَهَمْزَةِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ. وَالشِّهَابُ: الْقَبَسُ وَالْجَمْرُ مِنَ النَّارِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُسَمَّى بِالنَّيْزَكِ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [18] . وَالثَّاقِبُ: الْخَارِقُ، أَيِ الَّذِي يَتْرُكُ ثُقْبًا فِي الْجِسْمِ الَّذِي يُصِيبُهُ، أَيْ ثَاقِبٌ لَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشِّهَابُ لَا يَقْتُلُ الشَّيْطَانَ الَّذِي يُصِيبُهُ وَلَكِنَّهُ يَحْتَرِقُ وَيَخْبِلُ، أَيْ يُفْسِدُ قِوَامَهُ فَتَزُولُ خَصَائِصُهُ، فَإِنْ لَمْ يَضْمَحِلَّ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مَرَّةً أُخْرَى، أَيْ إِلَّا مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الدُّنُوِّ إِلَى مَحَلٍّ يَسْمَعُ فِيهِ كَلِمَاتٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَيُرْدَفُ بِشِهَابٍ يَثْقُبُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ صَدَرَ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ مَا بَعْدَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ فِي سُورَة الشُّعَرَاء [210، 211] .

[سورة الصافات (37) : آية 11]

[سُورَة الصافات (37) : آيَة 11] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: 6] بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، أَيْ فَسَلْهُمْ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَإِحَالَتِهِمْ إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَصِيرُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَخَلْقُهُمْ حِينَئِذٍ أَشُدُّ عَلَيْنَا أَمْ خَلْقُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؟ وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَقَامِ وَهُمُ الَّذِينَ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَكَذَلِكَ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ وَضَمِيرُ الْخِطَابِ مِنْهُ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَسَلْهُمْ، وَهُوَ سُؤَالُ مَحَاجَّةٍ وَتَغْلِيطٍ. وَالِاسْتِفْتَاءُ: طَلَبُ الْفَتْوَى بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْوَاوِ، وَيُقَالُ: الْفُتْيَا بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِالْيَاءِ. وَهِيَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ يَخْفَى عَنْ غَيْرِ الْخَوَاصِّ فِي غَرَضٍ مَا. وَهِيَ: إِمَّا إِخْبَارٌ عَنْ عِلْمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ الْمُخْبِرُ قَالَ تَعَالَى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ [يُوسُف: 46] الْآيَةَ، وَقَالَ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاء: 176] ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [41] . وَإِمَّا إِخْبَارٌ عَنْ رَأْيٍ يُطْلَبُ مِنْ ذِي رَأْيٍ مَوْثُوقٍ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ [32] . وَالْمَعْنَى: فَاسْأَلْهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ فَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَمْرًا مُحْتَاجًا إِلَى إِعْمَالِ نَظَرٍ أَطُلِقَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ فِعْلُ الِاسْتِفْتَاءِ. وَهَمْزَةُ: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلتَّقْرِيرِ بِضَعْفِ خَلْقِ الْبَشَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَؤُولُ إِلَى الْإِقْرَارِ حَيْثُ إِنَّه يلجىء الْمُسْتَفْهِمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ طَرَفَيِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالِاسْتِفْتَاءُ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ. وأَشَدُّ بِمَعْنَى: أَصْعَبُ وَأَعْسَرُ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 12 إلى 14]

وَ (خَلْقاً) تَمْيِيزٌ، أَيْ أَخَلْقُهُمْ أَشَدُّ أَمْ خَلْقٌ مَنْ خَلَقْنَا الَّذِي سَمِعْتُمْ وَصْفَهُ. وَالْمُرَادُ بِ مَنْ خَلَقْنا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الشَّامِلُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكَوَاكِبِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا بِقَرِينَةِ إِيرَادِ فَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [النازعات: 27] وَنَحْوِهِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْعَاقِلِ وَهُوَ مَنْ الْمَوْصُولَةُ تَغْلِيبًا لِلْعَاقِلِينَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَعَوَالِمِهَا احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَأَتِّيَ خَلْقِهِمْ بَعْدَ الْفَنَاءِ أَهْوَنُ مِنْ تَأَتِّي الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا وَلَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً قَبْلُ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ طِينٍ لِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَهُوَ آدَمُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ لَدَى جَمِيعِ الْبَشَرِ فَكَيْفَ يُحِيلُونَ الْبَعْثَ بِمَقَالَاتِهِمُ الَّتِي مِنْهَا قَوْلهم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات: 16] . وَالطِّينُ: التُّرَابُ الْمَخْلُوطُ بِالْمَاءِ. وَاللَّازِبُ: اللَّاصِقُ بِغَيْرِهِ وَمِنْهُ أُطْلِقَ عَلَى الْأَمْرِ الْوَاجِبِ «لَازِبٌ» فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَاءَ لَازِبٍ بَدَلٌ مِنْ مِيمِ لَازِمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ طِينٌ عَتِيقٌ صَارَ حَمْأَةً. وَضَمِيرُ إِنَّا خَلَقْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ خَلَقْنَا أَصْلَهُمْ وَهُوَ آدَمُ فَإِنَّهُ الَّذِي خُلِقَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُهُمْ قَدْ أُنْشِئَ مِنْ تُرَابٍ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ إِمْكَانَ إِعَادَةِ كُلِّ آدَمِيٍّ من تُرَاب. [12- 14] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 12 إِلَى 14] بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) بَلْ لِلْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ التَّقْرِيرِ التَّوْبِيخِيِّ إِلَى أَنَّ حَالَهُمْ عَجَبٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَلْ عَجِبْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ لِلْخِطَابِ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الْمُخَاطَبِ بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ [الصافات: 11] . وَفِعْلُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي مَعْنَى الطَّلَبِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي إِنْشَاءِ صِيَغِ الْعُقُودِ نَحْوُ: بِعْتُ. وَالْمَعْنَى: اعْجَبْ لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَجَبُ قَدْ حَصَلَ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى إِعْرَاضَهُمْ وَقِلَّةَ إِنْصَافِهِمْ فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ أَعَجِبْتَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْجَمِيعِ: أَنَّ حَالَهُمْ حَرِيَّةٌ بِالتَّعَجُّبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [5] . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بَلْ عَجِبْتَ بِضَمِّ التَّاءِ لِلْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ أَسْنَدَ الْعَجَبَ إِلَى نَفْسِهِ. وَيُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْعَجَبِ الْمُسْتَلْزِمَةِ الرَّوْعَةَ وَالْمُفَاجَأَةَ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُتَرَقَّبٍ بَلِ الْمُرَادُ التَّعْجِيبُ أَوِ الْكِنَايَةُ عَنْ لَازِمِهِ، وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ. وَلَيْسَ لِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِ النُّبُوءَةِ مِنْهُ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنْ رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. يَعْنِي ثُمَّ يُسْلِمُ الْقَاتِلُ الَّذِي كَانَ كَافِرًا فَيُقَاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْأَنْصَارِيِّ وَزَوْجِهِ إِذْ أَضَافَا رَجُلًا فَأَطْعَمَاهُ عَشَاءَهُمَا وَتَرَكَا صِبْيَانَهُمَا «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعَالِكُمَا» . وَنَزَلَ فِيهِ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ (¬1) [الْحَشْر: 9] . وَقَوْلُهُ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ» (¬2) . وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الصَّرِيحِ وَهُوَ الِاسْتِعْظَامُ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَالصَّارِفُ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ: عَجِبْتَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ. ¬

(¬1) رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «مَنَاقِب الْأَنْصَار» وَفِيه قصَّة. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَجِبْتَ عَلَى مَعْنَى الْمُجَازَاةِ عَلَى عَجَبِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: 11] دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ عَلَى عَجَبِهِمْ. وَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْعِقَابِ فِعْلَ عَجِبْتَ كَمَا أَطْلَقَ عَلَى عِقَابِ مَكْرِهِمُ الْمَكْرَ فِي قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: 54] . وَالْوَاوُ فِي وَيَسْخَرُونَ وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَجِبْتَ أَيْ كَانَ أَمْرُهُمْ عَجَبًا فِي حَالِ اسْتِسْخَارِهِمْ بِكَ فِي اسْتِفْتَائِهِمْ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَسْخَرُونَ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ السُّخْرِيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنْهَا. وَالسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [10] . وَالتَّذْكِيرُ بِأَنْ يَذْكُرُوا مَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ تَنْظِيرِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَتَّعِظُوا بِذَلِكَ عِنَادًا فَأَطْلَقَ لَا يَذْكُرُونَ عَلَى أَثَرِ الْفِعْلِ، أَيْ لَا يَحْصُلُ فِيهِمْ أَثَرُ تَذَكُّرِ مَا يُذَكَّرُونَ بِهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَذْكُرُونَ مَا ذُكِّرُوا بِهِ، أَيْ لِشِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا ذُكِّرُوا بِهِ لِاسْتِقْرَارِ مَا ذُكِّرُوا بِهِ فِي عُقُولِهِمْ فَلَا يَذْكُرُونَ مَا هُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الْفرْقَان: 44] . ووَ إِذا رَأَوْا آيَةً أَيْ خَارِقَ عَادَةٍ أظهره الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ نِظَامَ خلقته فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ مِنْ خَالِقِ الْعَادَاتِ وَنَاظِمِ سُنَنِ الْأَكْوَانِ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: صَدَقَ هَذَا الرَّسُولُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِّي. وَقَدْ رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، قَالَ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 1، 2] .

[سورة الصافات (37) : الآيات 15 إلى 19]

وَ (يَسْتَسْخِرُونَ) مُبَالَغَةٌ فِي السُّخْرِيَةِ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمرَان: 195] وَقَوْلِهِ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: 43] . فَالسُّخْرِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ سُخْرِيَةٌ مِنْ محاجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالْأَدِلَّةِ. وَالسُّخْرِيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا سُخْرِيَةٌ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ، أَيْ يَزِيدُونَ فِي السُّخْرِيَةِ بِمَنْ ظَنَّ مِنْهُمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ يَحُولُ بِهِمْ عَنْ كُفْرِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 42] . [15- 19] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 15 إِلَى 19] وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: 11] الْآيَةَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً وَهُوَ إِعَادَةُ الْخَلْقِ عِنْدَ الْبَعْثِ، ويبينه قَوْله: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَيْ وَقَالُوا فِي رَدِّ الدَّلِيلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الصافات: 11] أَيْ أَجَابُوا بِأَنَّ ادِّعَاءَ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْبِلَى كَلَامُ سِحْرٍ مُبِينٍ، أَيْ كَلَامٌ لَا يُفْهَمُ قُصِدَ بِهِ سِحْرُ السَّامِعِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرًا يَلْتَئِمُ بِهِ نَظْمُهَا خِلَافًا لِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ هَمْزَةُ إِنَّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَوَابُ إِذا الْوَاقِعَةِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ مِنْ حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ غير نَافِع أَإِنَّا بِهَمْزَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُؤَكِّدَةٌ لِلْهَمْزَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى إِذا. وَقَوله: أَوَآباؤُنَا قَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِسُكُون وَاو أَوَعلى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَعَ الْوَاوِ حَرْفٌ وَاحِدٌ هُوَ أَوْ الْعَاطِفَةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّقْسِيمِ هُنَا

وَوَجْهُ الْعَطْفِ بِـ أَوْ هُوَ جَعْلُهُمُ الْآبَاءَ الْأَوَّلِينَ قِسْمًا آخَرَ فَكَانَ عَطْفُهُ ارْتِقَاءً فِي إِظْهَارِ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّ آبَاءَهَمْ طَالَتْ عُصُورُ فَنَائِهِمْ فَكَانَتْ إِعَادَةُ حَيَاتِهِمْ أَوْغَلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْعَطْفِ وَالْهَمْزَةَ هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ فَهُمَا حَرْفَانِ. وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ حَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الْكثير. وَالتَّقْدِير: وأ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ مِثْلُنَا. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَرَفْعُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ الَّذِي كَانَ مُبْتَدَأً قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ، وَالْغَالِبُ فِي الْعَطْفِ عَلَى اسْمِ إِنَّ يَرْفَعُ الْمَعْطُوفَ اعْتِبَارًا بِالْمَحَلِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: 3] أَوْ يُجْعَلُ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي خَبَرِ إِنَّ وَهُوَ هُنَا مَرْفُوعٌ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَبَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ، أَوْ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْهَمْزَةِ الْمُفْضِي إِلَى إِعْمَالِ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ فِيمَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ يُنَافِي صَدَارَةَ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ صَدَارَةَ الِاسْتِفْهَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُمْلَتِهِ فَلَا يُنَافِيهَا عَمَلُ عَامِلٍ مِنْ جُمْلَةٍ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْإِعْمَالَ اعْتِبَارٌ يَعْتَبِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ وَيَفْهَمُهُ السَّامِعُ فَلَا يُنَافِي التَّرْتِيبَ اللَّفْظِيَّ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: أَإِذا مِتْنا إِنْكَارِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ فَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَعَمْ جَوَابا لقَولهم أَإِذا مِتْنا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِصَرْفِ قَصْدِهِمْ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ظَاهِرِ الِاسْتِفْهَامِ فَجُعِلُوا كَالسَّائِلِينَ: أَيُبْعَثُونَ؟ فَقِيلَ لَهُمْ: نَعَمْ، تَقْرِيرًا لِلْبَعْثِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، أَيْ نَعَمْ تُبْعَثُونَ. وَجِيءَ بِ قُلْ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وأَنْتُمْ داخِرُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالدَّاخِرُ: الصَّاغِرُ الذَّلِيلُ، أَيْ تُبْعَثُونَ بَعْثَ إِهَانَةٍ مُؤْذِنَةٍ بِتَرَقُّبِ الْعِقَابِ لَا بَعْثَ كَرَامَةٍ. وَفُرِّعَ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ الْحَاصِلِ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، أَنَّ بَعْثَهُمْ وَشِيكُ الْحُصُولِ لَا يَقْتَضِي مُعَالَجَةً وَلَا زَمَنًا إِنْ هِيَ إِلَّا إِعَادَةٌ تَنْتَظِرُ زَجْرَةً وَاحِدَةً.

[سورة الصافات (37) : آية 20]

وَالزَّجْرَةُ: الصَّيْحَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: 2] . وواحِدَةٌ تَأْكِيدٌ لِمَا تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْفَعْلَةِ مِنْ مَعْنَى الْمَرَّةِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ الْجِنْسَ دُونَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وَزْنَ الْفَعْلَةِ يَجِيءُ لِمَعْنَى الْمَصْدَرِ دُونَ الْمَرَّةِ. وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ وَهُوَ لَا مُعَادَ لَهُ إِنَّمَا تُفَسِّرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ وَدَلَّ فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى تَعْقِيبِ الْمُفَاجَأَةِ، وَدَلَّ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى سُرْعَةِ حُصُولِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ فِي سُورَةِ يس [53] . وَكُنِيَ عَنِ الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا دَهْشَ يُخَالِطُهَا بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِهِ: يَنْظُرُونَ لِأَنَّ النَّظَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَمَامِ الْحَيَاةِ. وَأُوثِرَ النَّظَرُ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمَقَامِ وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِمَا اعْتَرَاهُمْ من البهت لمشاهدة الْحَشْر. [20] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 20] وَقالُوا يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ قَائِلِينَ يَا وَيْلَنا أَيْ يَقُولُ جَمِيعُهُمْ: يَا وَيْلَنَا يَقُولُهُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جملَة يَنْظُرُونَ [الصافات: 19] . وَالْمَعْنَى: وَنَظَرُوا وَقَالُوا. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ. وَحَرْفُ النِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فِي سُورَةِ يس [30] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الْمُشَاهَدِ. والدِّينِ: الْجَزَاءُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الْفَاتِحَة. [21] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 21] هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُوَجَّهًا إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ:

[سورة الصافات (37) : الآيات 22 إلى 26]

يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ [الصافات: 20] ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِمْ، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ. والْفَصْلِ: تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ، أَيْ هَذَا يَوْمٌ يُفْضِي عَلَيْكُمْ بِمَا اسْتَحْقَقْتُمُوهُ من الْعقَاب. [22- 26] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 22 إِلَى 26] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) تَخَلُّصٌ مِنَ الْإِنْذَارِ بِحُصُولِ الْبَعْثِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا يَحِلُّ بِهِمْ عَقِبَهُ إِذَا ثَبَتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. واحْشُرُوا أَمْرٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي آمِرًا، أَيْ نَاطِقًا بِهِ، فَهَذَا مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعَلُّقِ بِشَيْءٍ مِمَّا سَبَقَهُ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ مِنْ حَدِيثِ الْبَحْرِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْحِسَابِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. والَّذِينَ ظَلَمُوا: الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَالْأَزْوَاجُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَلَائِلُهُمْ وَهُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ الْمُوَافِقَاتُ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ، أَمَّا مَنْ آمَنَ فَهُنَّ نَاجِيَاتٌ مِنْ تَبِعَاتِ أَزْوَاجِهِنَّ وَهَذَا كَذِكْرِ أَزْوَاجِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [يس: 56] فَإِنَّ الْمُرَادَ أَزْوَاجُهُمُ الْمُؤْمِنَاتُ فَأُطْلِقَ حَمْلًا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرَّعْد: 23] . وَذِكْرُ الْأَزْوَاجِ إِبْلَاغٌ فِي الْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ النِّسَاءَ الْمُشْرِكَاتِ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِنَّ. وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْصِيصِهِنَّ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَقِيلَ: الْأَزْوَاجُ: الْأَصْنَافُ، أَيْ أَشْيَاعُهُمْ فِي الشِّرْكِ وَفُرُوعِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْأَزْوَاجُ الْمُقَارَنُونَ لَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَضَمِيرُ يَعْبُدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ. وَمَا صدق مَا غَيْرُ الْعُقَلَاءِ، فَأَما الْعُقَلَاء فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي فَاهْدُوهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيِ الْأَصْنَامُ. وَعَطْفُ فَاهْدُوهُمْ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الْأَمْرِ بِهِمْ إِلَى النَّارِ عَقِبَ ذَلِكَ الْحَشْرِ فَالْأَمْرُ بِالْأَصَالَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْهِدَايَةُ وَالْهَدْيُ: الدَّلَالَةُ عَلَى الطَّرِيقِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَهِيَ إِرْشَادٌ إِلَى مَرْغُوبٍ وَقَدْ غَلَبَتْ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَهْدِيِّ رَاغِبًا فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ مِنْ لَوَازِمِ فِعْلِ الْهِدَايَةِ وَلِذَلِكَ تُقَابَلُ بِالضَّلَالَةِ وَهِيَ الْحَيْرَةُ فِي الطَّرِيق، فَذكر فَاهْدُوهُمْ هُنَا تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمُ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرَادَّةَ طَحُونَا وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ، أَيْ طَرِيقُ جَهَنَّمَ. وَمَعْنَى: وَقِفُوهُمْ أَمْرٌ بِإِيقَافِهِمْ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ بِهِمْ لِمَا أَفَادَهُ الْأَمْرُ مِنَ الْفَوْرِ بِقَرِينَةِ فَاءِ التَّعْقِيبِ الَّتِي عَطَفَتْهُ، أَيِ احْبِسُوهُمْ عَنِ السَّيْرِ قَلِيلًا لِيُسْأَلُوا سُؤَالَ تَأْيِيسٍ وَتَحْقِيرٍ وَتَغْلِيظٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، أَيْ مَا لَكُمْ لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَدْفَعُ عَنْهُ الشَّقَاءَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَأَيْنَ تُنَاصُرُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تَتَنَاصَرُونَ فِي الدُّنْيَا وَتَتَأَلَّبُونَ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ مبيّنة لإبهام مَسْؤُلُونَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَسُوءُهُمْ، فَظَهَرَ أَنَّ السُّؤَالَ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 27 إلى 32]

وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ التَّعْجِيبُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ اخْتُصَّ بِكُمْ، فَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ ولَكُمْ خَبَرٌ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ لَا تَناصَرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ وَهِيَ مَنَاطُ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَسْتَوْجِبُ التَّعَجُّبَ مِنْ عَدَمِ تَنَاصُرِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَناصَرُونَ بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ عَلَى إِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. وَالْإِضْرَابُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ بَلْ إضراب لإبطال إِمْكَان التَّنَاصُرِ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ السَّمْعُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْإِضْرَابُ تَأْكِيدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ التَّعْجِيزِ. وَالِاسْتِسْلَامُ: الْإِسْلَامُ الْقَوِيُّ، أَيْ إِسْلَامُ النَّفْسِ وَتَرْكُ الْمُدَافَعَةِ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي أَسْلَمَ. وَذَكَرَ الْيَوْمَ لِإِظْهَارِ النِّكَايَةِ بِهِمْ، أَيْ زَالَ عَنْهُمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ تَنَاصُرٍ وَتَطَاوُلٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْيَوْمِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَر: 44] وَقَدْ قَالَهَا أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أَيْ نَحْنُ جَمَاعَةٌ لَا تُغْلَبُ فَكَانَ لِذِكْرِ الْيَوْمِ وَقْعٌ بَدِيعٌ فِي هَذَا الْمقَام. [27- 32] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 27 إِلَى 32] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) عَطْفٌ على مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 26] أَيِ اسْتَسْلَمُوا وَعَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِاللَّائِمَةِ وَالْمُتَسَائِلُونَ: الْمُتَقَاوِلُونَ وَهُمْ زُعَمَاءُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَدَهْمَاؤُهُمْ كَمَا تُبَيِّنُهُ حِكَايَةُ تَحَاوُرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ وَقَوْلِهِ: فَأَغْوَيْناكُمْ إِلَخْ.

وَعَبَّرَ عَنْ إِقْبَالِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَهُوَ مِمَّا سَيَقَعُ فِي الْقِيَامَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ لِذَلِكَ مَزِيدَ تَأْثِيرٍ فِي تَحْذِيرِ زُعَمَائِهِمْ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِمْ، وَتَحْذِيرِ دهمائهم من الاغترار بِتَغْرِيرِهِمْ، مَعَ أَنَّ قَرِينَةَ الِاسْتِقْبَالِ ظَاهِرَةٌ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ [الصافات: 19] الْآيَةَ. وَالْإِقْبَالُ: الْمَجِيءُ مِنْ جِهَةٍ قِبَلَ الشَّيْءِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ وَهُوَ مَجِيءُ الْمُتَجَاهِرِ بِمَجِيئِهِ غَيْرِ الْمُتَخَتِّلِ الْخَائِفِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْقَصْدِ بِالْكَلَامِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ كَأَنَّهُ جَاءَهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. فَحَاصِلُ الْمَعْنَى حِكَايَةُ عِتَابٍ وَلَوْمٍ تَوَجَّهَ بِهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عَلَى قَادَتِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ، وَدَلَالَةُ التَّرْكِيبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ أُطْلِقُ عَلَى الدَّعَايَةِ وَالْخَطَابَةِ فِيهِمْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ يَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ دُونَ إِرَادَةِ مَجِيءٍ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أتَاكَ امْرِؤٌ مُسْتَبْطِنٌ لِي بِغَضَّةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُهُ وَاسْتِعْمَالُ مُرَادِفِهِ وَهُوَ الْمَجِيءُ مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [63، 64] . أَوْ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُرَادًا بِهِ جِهَةَ الْخَيْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُضِيفُ الْخَيْرَ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ. وَقَدِ اشْتُقَّتْ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ عِنْدَهُمْ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ عَقَائِدُهُمْ فِي زَجْرِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مِنَ التَّيَمُّنِ بِالسَّانِحِ، وَهُوَ الْوَارِدُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِ السَّائِرِ، وَالتَّشَاؤُمِ، أَيْ تَرَقُّبِ وُرُودِ الشَّرِّ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ. وَكَانَ حَقُّ فِعْلِ تَأْتُونَنا أَنْ يُعَدَّى إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ بِحَرْفِ «مِنْ» فَلَمَّا عُدِّيَ بِحَرْفِ عَنِ الَّذِي هُوَ للمجاوزة تَعَيَّنَ تَضْمِينُ تَأْتُونَنا مَعْنَى «تَصُدُّونَنَا» لِيُلَائِمَ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ، أَيْ تَأْتُونَنَا صَادِّينَنَا عَنِ الْيَمِينِ، أَيْ عَنِ الْخَيْرِ. فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدِ اضْطَرَبَ كَثِيرٌ فِي تَفْسِيرِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا خُلَاصَتُهُ: اضْطَرَبَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: عَنِ الْيَمِينِ فَعَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِطَرِيقِ الْجَنَّةِ وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى وَلَا تَخْتَصُّ بِنَفْسِ اللَّفْظَةِ، وَبَعْضُهُمْ أَيْضًا نَحَا فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى مَا يَخُصُّ اللَّفْظَةَ فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ مَعَانٍ مِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ بِالْيَمِينِ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ (قُلْتُ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءِ)

فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُغْرُونَنَا بِقُوَّةٍ مِنْكُمْ، وَمِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ أَنْ يُرِيدُوا: تَأْتُونَنَا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُحْسِنُهَا تَمْوِيهُكُمْ وَإِغْوَاؤُكُمْ وَتُظْهِرُونَ فِيهَا أَنَّهَا جِهَةُ الرُّشْدِ (وَهُوَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَالْجُبَّائِيِّ) وَمِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ أَنْ يُرِيدُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا، أَيْ تَقْطَعُونَ بِنَا عَنْ أَخْبَارِ الْخَيْرِ وَالْيُمْنِ، فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِالْيَمِينِ، وَمِنَ الْمَعَانِي أَنْ يُرِيدُوا: أَنَّكُمْ تَجِيئُونَ مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ وَعَدَمِ النَّظَرِ لِأَنَّ جِهَةَ يَمِينِ الْإِنْسَانِ فِيهَا كَبِدُهُ وَجِهَةَ شَمَالِهِ فِيهَا قَلْبُهُ وَأَنَّ نَظَرَ الْإِنْسَانِ فِي قَلْبِهِ وَقِيلَ: تحلفون لنا ا. هـ. وَجَوَابُ الزُّعَمَاءِ بِقَوْلِهِمْ: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ لِزَعْمِ الْأَتْبَاعِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ صَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ أَيْ بَلْ هُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ لِأَنَّ تَسْلِيطَ النَّفْيِ عَلَى فِعْلِ الْكَوْنِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ، أَيْ بَلْ كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْآبِينَ قَبُولَ الْإِيمَانِ. وَمَا كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ مِنْ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ حَتَّى نُكْرِهَكُمْ عَلَى رَفْضِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدُوا هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ، أَيْ كَانَ الطُّغْيَانُ وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ شَأْنَكُمْ وَسَجِيَّتَكُمْ، فَلِذَلِكَ أَقْحَمُوا لَفْظَ قَوْماً بَيْنَ «كَانَ» وَخَبَرِهَا لِأَنَّ اسْتِحْضَارَهُمْ بِعُنْوَانِ الْقَوْمِيَّةِ فِي الطُّغْيَانِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الطُّغْيَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَفَرَّعُوا عَلَى كَلَامِهِمُ اعْتِرَافَهَمْ بِأَنَّهُمْ جَمِيعًا اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ فَقَوْلُهُمْ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، تَفْرِيعُ الِاعْتِرَاضِ، أَيْ كَانَ أَمْرُ رَبِّنَا بِإِذَاقَتِنَا عَذَابَ جَهَنَّمَ حَقًّا. وَفِعْلُ «حَقَّ» بِمَعْنَى ثَبَتَ. وَجُمْلَةُ إِنَّا لَذائِقُونَ بَيَانٌ لِ قَوْلُ رَبِّنا. وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِالْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَلَوْلَا الِالْتِفَاتُ لَقَالَ: إِنَّكُمْ لَذَائِقُونَ أَوْ إِنَّهُمْ لَذَائِقُونَ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ زِيَادَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْمَعْنِيِّ بِذَوْقِ الْعَذَابِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ «ذَائِقُونَ» لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] .

[سورة الصافات (37) : الآيات 33 إلى 34]

وَفَرَّعُوا عَلَى مَضْمُونِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْماً طاغِينَ قَوْلَهُمْ: فَأَغْوَيْناكُمْ، أَيْ مَا أَكْرَهْنَاكُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَلَكِنَّا وَجَدْنَاكُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ وَرَاغِبِينَ فِيهِ فَأَغْوَيْنَاكُمْ، أَيْ فَأَيَّدْنَاكُمْ فِي غوايتكم لأنّا كُنَّا غَاوِينَ فَسَوَّلْنَا لَكُمْ مَا اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ. وَ «إِنَّ» مُغْنِيَةٌ غَنَاءَ لَامِ التَّعْلِيلِ وَفَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَزِيَادَةُ كُنَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمْكِينِ الْغَوَايَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَقَدِ اسْتَبَانَ لَهُمْ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ غَوَايَةٌ فَأَقَرُّوا بِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [101] : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمُ الْمَنْفِيَّ هُنَالِكَ هُوَ طَلَبُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ النَّجْدَةَ وَالنُّصْرَةَ وَأَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ هُنَا تَسَاؤُلٌ عَنْ أَسْبَابِ وَرْطَتِهِمْ فَلَا تَعَارُضَ بَين الْآيَتَيْنِ. [33- 34] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 33 إِلَى 34] فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) هَذَا الْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى موجه إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ حِكَايَةِ حِوَارِ اللَّهِ أَهْلَ الشِّرْكِ فِي الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ تَوْبِيخِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ [الصافات: 38] . وَالْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ بَعْدَ تَقْرِيرِ أَحْوَالٍ وَكَانَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ نَتِيجَةً لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ فَكَانَتِ الْفَاءُ مُفْصِحَةً عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِذَا كَانَ حَالُهُمْ كَمَا سَمِعْتُمْ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الشِّرْكِ وَتَمَالُئِهِمْ، أَيْ لَا عُذْرَ لِلْكَلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ لَا لِلزُّعَمَاءِ بِتَسْوِيلِهِمْ وَلَا لِلدَّهْمَاءِ بِنَصْرِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ عَذَابُ الدُّعَاةِ الْمُغْوِينَ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الْآخَرِينَ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاشْتِرَاك فِي جِنْسِ الْعَذَابِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ أُخْرَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ عَدَمِ إِجْدَاءِ مَعْذِرَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَتَنَصُّلِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ حِكَايَةِ مَوْقِفِهِمْ فِي الْحِسَابِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي

[سورة الصافات (37) : الآيات 35 إلى 36]

الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أَيْ فَإِنَّ جَزَاءَ الْمُجْرِمِينَ يَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فِي مُؤَاخَذَةِ التَّابِعِ الْمَتْبُوعِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ، أَيِ الْمُجْرِمِينَ مِثْلَ جُرْمِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] . [35- 36] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 35 إِلَى 36] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَفَادَ تَعْلِيلَ جَزَائِهِمْ وَبَيَانَ إِجْرَامِهِمْ بِذِكْرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكَبُّرِ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ وَمِنْ وصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَصْفًا يَرْمُونَ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ. فَحَرْفُ (إِنَّ) هُنَا لَيْسَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ كَذَلِكَ مِمَّا لَا مُنَازِعَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ فَلِذَلِكَ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ وَتُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَذُكِرَ فِعَلُ الْكَوْنِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ وَصْفٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ فَهُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا هُمْ حَائِدُونَ عَنْهُ. وَمَعْنَى قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الدَّعْوَةِ وَالتَّعْلِيمِ. وَفَاعِلُ الْقَوْلِ الْمَبْنِيُّ فِعْلُهُ للنائب هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ يَتَعَاظَمُونَ عَنْ أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلطَّلَبِ، أَيْ إِظْهَارِ التَّكَبُّرِ، أَيْ يَبْدُو عَلَيْهِمُ التَّكَبُّرُ وَالِاشْمِئْزَازُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَيُقَارِنُ اسْتِكْبَارَهُمْ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا نَتْرُكُ آلِهَتَنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، وَأَتَوْا بِالنَّفْيِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ إِظْهَارًا لِكَوْنِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمر مُنكر لَا يَطْمَعُ فِي قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ، تَحْذِيرًا لِمَنْ يَسْمَعُ مَقَالَتَهُمْ مِنْ أَنْ يَجُولَ فِي خَاطِرِهِ تَأَمُّلٌ فِي قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوَّوْا هَذَا التَّحْذِيرَ بِجَعْلِ حَرْفِ الْإِنْكَارِ مُسَلَّطًا على الْجُمْلَة الموكّدة بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا مَا أَنْكَرُوهُ كَانُوا قَدْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُمْ آلِهَتَهِمْ تَنْزِيلًا لِبَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ

[سورة الصافات (37) : آية 37]

الْإِيمَانَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ آلِهَتِهِمْ لِيَسُدُّوا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مَنَافِذَ التَّرَدُّدِ أَنْ يَتَطَرَّقَ مِنْهَا إِلَى خَوَاطِرِهِمْ. وَاللَّامُ فِي لِشاعِرٍ لَامُ الْعِلَّةِ وَالْأَجْلِ، أَيْ لِأَجْلِ شَاعِرٍ، أَيْ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: «شَاعِرٍ مَجْنُونٍ» قَوْلٌ مُوَزَّعٌ، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ شَاعِرٌ، وَبَعْضُهُمْ: هُوَ مَجْنُونٌ، أَوْ يَقُولُونَ مَرَّةً: شَاعِرٌ، وَمَرَّةً: مَجْنُونٌ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] . [37] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 37] بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الِاعْتِرَاضِ قُصِدَتْ مِنْهُ الْمُبَادَرَةُ بتنزيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا قَالُوهُ. وبَلْ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ لِقَوْلِهِمْ: لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] وَبِإِثْبَاتِ صِفَتِهِ الْحَقِّ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ. وَفِي وَصْفِ مَا جَاءَ بِهِ أَنَهُ الْحَقُّ مَا يَكْفِي لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا وَمَجْنُونًا، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا أَرَادُوا بِوَصْفِهِ بِشَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ إِلَّا التَّنْفِيرَ مِنَ اتِّبَاعِهِ فَمَثَّلُوهُ بِالشَّاعِرِ مِنْ قَبِيلَةٍ يَهْجُو أَعْدَاءَ قَبِيلَتِهِ، أَوْ بِالْمَجْنُونِ يَقُولُ مَا لَا يَقُولُهُ عُقَلَاءُ قَوْمِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ مُثْبِتًا لِكَوْنِ الرَّسُولِ عَلَى غَيْرِ مَا وَصَفُوهُ إِثْبَاتًا بِالْبَيِّنَةِ. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا بِمِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ، فَكَانَ الْإِنْصَافُ أَنْ يُلْحِقُوهُ بِالْفَرِيقِ الَّذِي شَابَهَهُمْ دُونَ فَرِيقِ الشُّعَرَاءِ أَوِ الْمَجَانِينِ. وَتَصْدِيقُ الْمُرْسَلِينَ يَجْمَعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ فَهُوَ تَصْدِيقٌ لَهُ وَمُصَادَقَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ بَعْضُ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَالْإِنْبَاءُ بِنَسْخِهِ وَانْتِهَاءِ الْعَمَلِ بِهِ تَصْدِيقٌ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ فِي حِينِ مَجِيئِهِمْ بِهِ، فَكُلُّ هَذَا مِمَّا شَمِلَهُ مَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ هُوَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ قَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ بِالنَّقْلِ عَقِبَ الِاحْتِجَاجِ بأدلة النّظر.

[سورة الصافات (37) : الآيات 38 إلى 39]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 38 إِلَى 39] إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَقِبَ تَسَاؤُلِهِمْ وَتَحَاوُرِهِمْ فَيَكُونُ مَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مُحَاوَرَتِهِمُ الْمُنْتَهِيَةِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ [الصافات: 32] اعْتِرَاضًا، أيْ فَلَمَّا انْتَهَوْا مِنْ تَحَاوُرِهِمْ خُوطِبُوا بِمَا يَقْطَعُ طَمَعَهُمْ فِي قَبُولِ تَنَصُّلِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَبِعَاتِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِيَزْدَادُوا تَحَقُّقًا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عَلِمُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: 31] ، وَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: لَذائِقُوا الْعَذابِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، أَيْ حَالِ التَّلَبُّسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ هَذَا كَانُوا مُشْرِفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ وَذَلِكَ زَمَنُ حَالٍ فِي الْعُرْفِ الْعَرَبِيِّ. وَلَمَّا وَصَفَ عَذَابَهُمْ بِأَنَّهُ أَلِيمٌ عَطَفَ عَلَيْهِ إِخْبَارَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لَا حَيْفَ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِأَنَّهُ عَلَى وِفَاقِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ، وَالْحَظُّ الْأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ هُوَ حَظُّ الشِّرْكِ وَلَكِنْ كُنِّيَ عَنِ الشِّرْكِ بِأَعْمَالِهِ وَأَمَّا هُوَ فَهُوَ أَمْرٌ اعْتِقَادِيٌّ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُجَازُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ كَتَمْجِيدِ آلِهَتِهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهَا، وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَاهُ وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِمْ فِي أَصْنَامِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَمِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالْغَارَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ ووأد الْبَنَات وَالزِّنَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّ ذَلِك وَاقع.

[سورة الصافات (37) : الآيات 40 إلى 49]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 40 إِلَى 49] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، وَالِاسْتِدْرَاكُ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِمَا يُضَادُّهُ، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ تَعْقِيبٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: 33] فَإِنَّ حَالَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ تَامُّ الضِّدَّيَّةِ لِحَالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يَكُونَ رَفْعَ تَوَهُّمٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ غَالِبٌ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ هُوَ: تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ، تَعْرِيفٌ أَغْلَبِيٌّ، أَوْ أُرِيدَ أَدْنَى التَّوَهُّمِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ إِخْرَاجًا مِنْ حُكْمٍ لَا مِنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمُنْقَطِعِ قَائِمٌ مَقَامَ لَكِنْ، وَلِذَلِكَ يَقْتَصِرُونَ عَلَى ذِكْرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى بَلْ يُرْدِفُونَهُ بِجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ مَحَلَّ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الْأَعْرَاف: 11] وَقَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى [الْبَقَرَة: 34] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَمَا أَتْبَعَ الْمُسْتَثْنَى بِإِخْبَارٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُثْبِتُ لَهُ نَقِيضَ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُفَادُ إِلَّا، وَنَظِيرُهُ مَعَ لكِنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [19، 20] . وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُضَافَةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْوِيهٌ بِهِمْ وَتَقْرِيبٌ، وَذَلِكَ اصْطِلَاحٌ غَالِبٌ فِي الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ الْعَبْدِ وَالْعِبَادِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [ص: 45] يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ الْعَبْدُ غَيْرَ مُضَافٍ مُرَادًا بِهِ التَّقْرِيبَ أيْضًا كَقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: 30] ، أَيِ الْعَبْدُ لِلَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ ذِكْرُ قَوْمٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْتَ بِلَفْظِ الْعِبَادِ مُضَافًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: 5] إِلَّا

بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] لِأَنَّ صِفَةَ الْإِضْلَالِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لَيْسَتْ لِلتَّقْرِيبِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] فَقَرِينَةُ التَّغْلِيبِ هِيَ مَنَاطُ اسْتِثْنَاءِ الْغَاوِينَ مِنْ قَوْلِهِ عِبادِي وَيُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ: وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَفَخْرًا ... وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِيَ ... وَأَنْ أَرْسَلْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الَّذين آمنُوا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخْطُرُونَ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَقَالُوا فِيهِ مَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ خُطُورَ الضِّدِّ بِذِكْرِ ضِدِّهِ. والْمُخْلَصِينَ صِفَةُ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ إِذَا أُرِيدَ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِوِلَايَتِهِ، وَبِكَسْرِهَا أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ اللَّامِ. وأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عِبادَ اللَّهِ قَصَدَ مِنْهُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مِمَّا أُثْبِتَ لَهُمْ مِنْ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ كَمَا ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2، 3] . وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ قَالَ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] ، وَقَالَ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ [يُوسُف: 37] . وَالْمَعْلُومُ: الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ مِيعَادِهِ وَلَا يَنْتَظِرُهُ أَهْلُهُ. وفَواكِهُ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ رِزْقٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ طَعَامَهُمْ كُلَّهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي يُتَفَكَّهُ بِهَا لَا مِمَّا يُؤْكَلُ لِأَجْلِ الشِّبَعِ. وَالْفَوَاكِهُ: الثِّمَارُ وَالْبُقُولُ اللَّذِيذَةُ. وَهُمْ مُكْرَمُونَ عَطْفٌ عَلَى لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، أَيْ يُعَامَلُونَ بِالْحَفَاوَةِ وَالْبَهْجَةِ فَإِنَّهُ وَسَّطَ فِي أَثْنَاءِ وَصْفِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْجِسْمَانِيِّ أَنَّ لَهُمْ نَعِيمَ الْكَرَامَةِ وَهُوَ أَهَمُّ لِأَنَّ بِهِ انْتِعَاشَ النَّفْسِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خُلُوصِ النِّعْمَةِ مِمَّنْ يُكَدِّرُهَا

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَدْحٍ وَتَعْظِيمٍ وَلَا بِأَذًى وَهُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِأَذًى وَذَلِكَ يُكَدِّرُ مِنْ صَفْوِهُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] فَإِذَا كَانَ الْإِحْسَانُ مَعَ عِبَارَاتِ الْكَرَامَةِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي فَذَلِكَ الثَّوَابُ. وسُرُرٍ: جَمْعُ سَرِيرٍ وَهُوَ كَكُرْسِيٍّ وَاسِعٍ يُمْكِنُ الِاضْطِجَاعُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَذَلِكَ جُلُوسُ أَهْلِ النَّعِيمِ لِأَنَّ الْجَالِسَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يَجِدُ مَلَلًا لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ جِلْسَتَهُ كَيْفَ تَتَيَسَّرُ لَهُ. ومُتَقابِلِينَ كُلُّ وَاحِدٍ قُبَالَةَ الْآخَرِ. وَهَذَا أَتَمُّ لِلْأُنْسِ لِأَنَّ فِيهِ أُنْسَ الِاجْتِمَاعِ وَأُنْسَ نَظَرِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الْحَبِيبِ وَالصَّدِيقِ تُؤْنِسُ النَّفْسَ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُتَقَابِلِينَ تَقَابُلَ أَفْرَادٍ كُلُّ جَمَاعَةٍ مَعَ أَصْحَابِهِمْ، وَأَنَّهُمْ جَمَاعَاتٌ عَلَى حَسَبِ تَرَاتِيبِهِمْ فِي طَبَقَاتِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ كُلِّ طَبَقَةٍ يُقَسَّمُونَ جَمَاعَاتٍ عَلَى حَسَبِ قَرَابَتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [يس: 56] وَكَثْرَةُ كُلِّ جَمَاعَةٍ لَا تُنَافِي تَقَابُلَهُمْ عَلَى السُّرُرِ وَالْأَرَائِكِ وتحادثهم لِأَن شؤون ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي الدُّنْيَا. وَمَعْنَى يُطافُ يُدَارُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ. وَالْكَأْسُ (بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْكَافِ) : إِنَاءُ الْخَمْرِ، مُؤَنَّثٌ، وَهِيَ إِنَاءٌ بِلَا عُرْوَةٍ وَلَا أُنْبُوبٍ وَاسِعَةُ الْفَمِ، أَيْ مَحَلُّ الصَّبِّ مِنْهَا، تَكُونُ مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ذَهَبٍ وَمِنْ خَزَفٍ وَمِنْ زُجَاجٍ، وَتُسَمَّى قَدَحًا وَهُوَ مُذَكَّرٌ. وَجَمْعُ كأس: كاسات وكؤوس وَأَكْؤُسٌ. وَكَانَتْ خَاصَّةً بِسَقْيِ الْخَمْرِ حَتَّى كَانَتِ الْكَأْسُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ تَسْمِيَةً بِاسْمِ الْمَحَلِّ، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَ الْأَعْشَى: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا وَقَدْ قِيلَ: لَا يُسَمَّى ذَلِكَ الْإِنَاءُ كَأْسًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْخَمْرُ وَإِلَّا فَهُوَ قَدَحٌ. وَالْمَعْنِيُّ بِهَا فِي الْآيَةِ الْخَمْرُ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ الْكَأْسَ مَعَ أَنَّ الْمَطُوفَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُونَ، وَلِأَنَّهَا وُصِفَتْ بِأَنَّهَا مِنْ مَعِينٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا عُنِيَ بِهَا الْخَمْرُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ بِهِ الْأَخْفَشُ.

وَ (مَعِينٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، قِيلَ أَصْلُهُ: مَعْيُونٍ. فَقِيلَ: مِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنٍ يُقَالُ: مَاءُ مَعْنٍ، فَيَكُونُ مَعِينٍ بِوَزْنِ فَعِيلٍ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْمَعْنِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ فِي الْفِعْلِ شَبَّهَ جَرْيَهُ بِالْإِبْعَادِ فِي الْمَشْيِ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الِاشْتِقَاقِ. وَقِيلَ: مِيمُهُ زَائِدَةٌ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَانَهُ، إِذَا أَبْصَرَهُ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي سَيَلَانِهِ فَوَزْنُهُ مَفْعُولٌ، وَأَصْلُهُ مَعْيُونٌ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِعْلُ عَانَ مُسْتَعْمَلًا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِفِعْلِ عَايَنَ. وبَيْضاءَ صِفَةٌ لِ «كَأْسٍ» . وَإِذْ قَدْ أُرِيدَ بِالْكَأْسِ الْخَمْرُ الَّذِي فِيهَا كَانَ وَصْفُ بَيْضاءَ لِلْخَمْرِ. وَإِنَّمَا جَرَى تَأْنِيثُ الْوَصْفِ تَبَعًا لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْخَمْرِ بِكَلِمَةِ كَأْسٍ، عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَتَأْنِيثُهَا أَكْثَرُ. رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَوْنُهَا مُشْرِقٌ حَسَنٌ فَهِيَ لَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا فِي مَنْظَرِهَا الرَّدِيءِ مِنْ حُمْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ. وَاللَّذَّةُ: اسْمٌ مَعْنَاهُ إِدْرَاكٌ مَلَائِمٌ نَفْسَ الْمُدْرِكِ، يُقَالُ: لَذَّهُ وَلَذَّ بِهِ، وَالْمَصْدَرُ: اللَّذَّةُ وَاللَّذَاذَةُ. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ فَرِحَ، تَقُولُ: لَذَّذْتُ بِالشَّيْءِ وَيُقَالُ: شَيْءٌ لَذٌّ، أَيْ لَذِيذٍ فَهُوَ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ فَإِذَا جَاءَ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ كَمَا فِي هَذِه الْآيَةِ فَهُوَ الِاسْمُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْوَصْفَ لَا يُؤَنَّثُ بِتَأْنِيثِ مَوْصُوفِهِ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَدْلٌ وَلَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَدْلَةٌ. وَوَصْفُ الْكَأْسِ بِهَا كَالْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ يُفِيدُ الْمُبَالِغَةَ فِي تَمَكُّنِ الْوَصْفِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَذَّةٍ هُوَ أَقْصَى مِمَّا يُؤَدِّي شِدَّةَ الِالْتِذَاذِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنِ الْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، وَعَدَلَ عَنِ الْمَصْدَرِ إِلَى الِاسْمِ لِمَا فِي الْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ. وَجُمْلَةُ لَا فِيها غَوْلٌ صِفَةٌ رَابِعَةٌ لِكَأْسٍ بِاعْتِبَارِ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْخَمْرِ. وَالْغَوْلُ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ: مَا يَعْتَرِي شَارِبَ الْخَمْرِ مِنَ الصُّدَاعِ وَالْأَلَمِ، اشْتُقَّ مِنَ الْغَوْلِ مَصْدَرِ غَالَهُ، إِذَا أَهْلَكَهُ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها [الْوَاقِعَة: 19] . وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيْ هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ فَقَطْ دُونَ مَا يُعْرَفُ مِنْ خَمْرِ الدُّنْيَا، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَوُقُوعُ غَوْلٌ

وَهُوَ نَكِرَةٌ بَعْدَ لَا النَّافِيَةِ أَفَادَ انْتِفَاءَ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ أَصْلِهِ، وَوَجَبَ رَفْعُهُ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرْفِ النَّفْيِ بِالْخَبَرِ. وَجُمْلَةُ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا فِيها غَوْلٌ. وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَالْمُسْنَدُ فِعْلٌ لِيُفِيدَ التَّقْدِيمُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، أَيْ بِخِلَافِ شَارِبِي الْخَمْرِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. ويُنْزَفُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُقَالُ: نُزِفَ الشَّارِبُ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا (وَلَا يُبْنَى لِلْمَعْلُومِ) فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ، شَبَّهُوا عَقْلَ الشَّارِبِ بِالدَّمِ يُقَالُ: نُزِفَ دَمُ الْجَرِيحِ، أَيْ أُفْرِغَ. وَأَصْلُهُ مِنْ: نَزَفَ الرَّجُلُ مَاءَ الْبِئْرِ مُتَعَدِّيًا، إِذَا نَزَحَهُ وَلَمْ يبْق مِنْهُ شَيْئا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يُنْزَفُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أُنْزِفَ الشَّارِبُ، إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَيْ صَارَ ذَا نَزْفٍ، فَالْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ. وقاصِراتُ الطَّرْفِ أَيْ حَابِسَاتُ أَنْظَارِهِنَّ حَيَاءً وَغُنْجًا. وَالطَّرَفُ: الْعَيْنُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ لَا جَمْعَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الطَّرَفِ مَصْدَرُ: طَرَفَ بِعَيْنِهِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، إِذَا حَرَّكَ جَفْنَيْهِ، فَسُمِّيَتِ الْعَيْنُ طَرْفًا، فَالطَّرْفُ هُنَا الْأَعْيُنُ، أَيْ قَاصِرَاتُ الْأَعْيُنِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [43] ، وَقَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [40] . وَذُكِرَ «عِنْدَ» لِإِفَادَةِ أَنَّهُنَّ مُلَابِسَاتٌ لَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي تُدَارُ عَلَيْهِمْ فِيهَا كَأْسُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ حُضُورُ الْجَوَارِي مَجَالِسَ الشَّرَابِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْأُنْسِ وَالطَّرَبِ عِنْدَ سَادَةِ الْعَرَبِ، قَالَ طَرْفَةُ: نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وَقَيْنَةٌ ... تَرُوحُ عَلَيْنَا بَيْنَ بَرْدٍ وَمِجْسَدِ وعِينٌ جَمْعُ: عَيْنَاءَ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ النَّجْلَاوَتُهَا. وَالْبَيْضُ الْمَكْنُونُ: هُوَ بَيْضُ النَّعَامِ، وَالنَّعَامُ يُكِنُّ بَيْضَهُ فِي حُفَرٍ فِي الرَّمْلِ وَيَفْرِشُ لَهَا مِنْ دَقِيقِ رِيشِهِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْحُفَرُ: الْأُدَاحِيَّ، وَاحِدَتُهَا أُدْحِيَّةٌ بِوَزْنِ أُثْفِيَّةٍ. فَيَكُونُ الْبَيْضُ شَدِيدَ لَمَعَانِ اللَّوْنِ وَهُوَ أَبْيَضُ مَشُوبٌ بَيَاضُهُ بِصُفْرَةٍ

[سورة الصافات (37) : الآيات 50 إلى 57]

وَذَلِكَ اللَّوْنُ أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ، وَقَدِيمًا شَبَّهُوا الْحِسَانَ بِبَيْضِ النَّعَامِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا ... تَمَتَّعَتْ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غير معجل [50- 57] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 50 إِلَى 57] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَجَالِسِينَ فِي مَسَرَّةٍ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ مَعَ الْأَصْحَابِ وَالْمُنْتَدِمِينَ لَذَّةً كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فَيَّاضٍ: وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا ... أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الشَّرَابِ فَإِذَا اسْتَشْعَرُوا أَنَّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ كَانَ جَزَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ تَذَكَّرَ بَعْضُهُمْ مَنْ كَانَ يُجَادِلُهُ فِي ثُبُوتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَحَمَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ هَدَاهُ لِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى ذَلِكَ الصَّادِّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ جُلَسَاءَهُ وَأَرَاهُمْ إِيَّاهُ فِي النَّارِ، فَلِذَلِكَ حُكِيَ إِقْبَالُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْمُسَاءَلَةِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ تَعُودُ إِلَيْهِمْ تَذَكُّرَاتُهُمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُصَفَّاةً مِنَ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ وَالْأَكْدَارِ النَّفْسَانِيَّةِ مُدْرِكَةً الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِصِيَغِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّهَا مُسْتَقْبَلَةٌ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ التَّفْرِيعُ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ. وَالتَّسَاؤُلُ: أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحُذِفَ الْمُتَسَاءَلُ عَنْهُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ نَحْوًا مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 40، 42] .

وَجُمْلَةُ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ، أَيْ قَالَ أَحَدُهُمْ فِي جَوَابِ سُؤَالِ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ مَعْنَى التَّسَاؤُلِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْجَوَابِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لَا بَدَلَ بَعْضٍ وَلَا عَطْفَ بَيَانٍ، وَالْقَرِينُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُولَهُ كَثِيرٌ مِنْ خُلَطَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا. وَالْقَرِينُ: الْمُصَاحِبُ الْمُلَازِمُ شُبِّهَتِ الْمُلَازِمَةُ الْغَالِبَةُ بِالْقَرْنِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَصِلَانِ، أَيْ يَقُولُ لَهُ صَاحِبُهُ لَمَّا أَسْلَمَ وَبَقِيَ صَاحِبُهُ عَلَى الْكُفْرِ يُجَادِلُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَيُحَاوِلُ تَشْكِيكَهُ فِي صِحَّتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الْإِسْلَامِ» أَيْ جَاعِلُنِي فِي وَثَاقٍ لِأَجْلِ أَنِّي أَسْلَمْتُ، وَكَانَ سَعِيدٌ صِهْرَ عُمَرَ زَوْجَ أُخْتِهِ. والاستفهام فِي أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ مَا كَانَ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تُصَدِّقَ بِهَذَا، وَسُلِّطَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَرْفِ التَّوْكِيدِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ بَلَغَهُ تَأَكُّدُ إِسْلَامِ قَرِينِهِ فَجَاءَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا تَحَقَّقَ عِنْدَهُ، أَيْ أَنَّ إِنْكَارَهُ إِسْلَامَهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ خَبَرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَحَقَّقَهُ لَمَا ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ. وَالْمُصَدِّقُ هُوَ: الْمُوقِنُ بِالْخَبَرِ. وَجُمْلَةُ أَإِذا مِتْنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بَيَّنَتِ الْإِنْكَارَ الْمُجْمَلَ بِإِنْكَارٍ مُفَصَّلٍ وَهُوَ إِنْكَارُ أَنْ يُبْعَثَ النَّاسُ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِمْ وَتَحَوُّلِهَا تُرَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُجَازُوا. وَجُمْلَةُ إِنَّا لَمَدِينُونَ جَوَابُ إِذا. وَقُرِنَتْ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلْوَجْهِ الَّذِي عَلِمْتَهُ فِي قَوْلِهِ: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. وَالْمَدِينُ: الْمُجَازَى يُقَالُ: دَانَهُ يُدِينُهُ، إِذَا جَازَاهُ، وَالْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَزَاء على السوء، وَالدَّيْنُ: الْجَزَاءُ كَمَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقيل هُنَا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ وَفِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات: 16] لِاخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ أَإِنَّكَ بِهَمْزَتَيْنِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَا ابْنَ عَامِرٍ أَإِذا مِتْنا بِهَمْزَتَيْنِ وَابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَة وَهِي همزَة إِذا اكْتِفَاءً بِهَمْزَةِ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ فِي

قِرَاءَتِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ إِنَّا لَمَدِينُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتِفَاءً بِالِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ على شَرطهَا. وقرأه الْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ الْمَحْكِيَّ بِهَا هُوَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ إِذْ هُوَ تَكْمِلَةٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ، عَرَضَ عَلَى رُفَقَائِهِ أَنْ يَتَطَلَّعُوا إِلَى رُؤْيَةِ قَرِينِهِ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ: إِمَّا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ قَرِينَهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَهُ بِالْمَوْتِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَنَّ قَرِينَهُ صَارَ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِأَنَّ خَازِنَ النَّارِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَرِينِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا يَتَسَاءَلُونَ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُطَّلِعُونَ لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ. فَالتَّقْدِيرُ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ لِنَنْظُرَهُ فِيهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَاطَّلَعَ اكْتِفَاءٌ، أَي فاطّلع واطّلعوا فَرَآهُ وَرَأَوْهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ إِذْ هُوَ إِنَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِمُ الِاطِّلَاعَ لِيَعْلَمُوا تَحْقِيقَ مَا حَدَّثَهُمْ عَنْ قَرِينِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اطِّلَاعِهِ هُوَ دُونَ ذِكْرِ اطِّلَاعِ رُفَقَائِهِ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالِاطِّلَاعِ لِيُمَيِّزَ قَرِينَهُ فَيُرِيَهُ لِرُفَقَائِهِ. وسَواءِ الْجَحِيمِ وَسَطُهَا قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ: عَضْبًا أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا وَجُمْلَةُ قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالَةِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: فَمَاذَا حَصَلَ حِينَ اطَّلَعَ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ حِينَ رَأَى قَرِينَهُ أَخَذَ يُوَبِّخُهُ عَلَى مَا كَانَ يحاوله مِنْهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي النَّارِ مِثْلَهُ. وَهَذَا التَّوْبِيخُ يَتَضَمَّنُ تَنْدِيمَهُ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِرْجَاعِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَالْقَسَمُ بِالتَّاءِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا جَوَابُ قَسَمِهِ غَرِيبٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [73] ، وَقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [57] . وَمَحَلُّ الْغَرَابَةِ هُوَ خَلَاصُهُ مِنْ شَبَكَةِ قَرِينِهِ وَاخْتِلَافُ

حَالِ عَاقِبَتَيْهِمَا مَعَ مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْمُلَازَمَةِ وَالصُّحْبَةِ وَمَا حَفَّهُ مِنْ نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ وَمَا تَوَرَّطَ قرينه فِي أَو حَال الْغَوَايَةِ. وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ النَّاسِخُ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فِي أَحْوَالِهَا إِذَا أُهْمِلَتْ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ كَادَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ والنافية. و «ترديني» تُوقِعُنِي فِي الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَأَصِلُ الرَّدَى: الْمَوْتُ ثُمَّ شَاعَتِ اسْتِعَارَتُهُ لِسُوءِ الْحَالِ تَشْبِيهًا بِالْمَوْتِ لِمَا شَاعَ مِنَ اعْتِبَارِ الْمَوْتِ أَعْظَمَ مَا يُصَابُ بِهِ الْمَرْءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ قَارَبْتَ أَنْ تُفْضِيَ بِي إِلَى حَالِ الرَّدَى بِإِلْحَاحِكَ فِي صَرْفِي عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ لِفَرْطِ الصُّحْبَةِ. وَلَوْلَا نِعْمَةُ هِدَايَةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتِهِ لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ مَعَكَ فِي الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَتُرْدِينِ بِنُونٍ مَكْسُورَةٍ فِي آخِرِهِ دُونَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَهُوَ حَذْفٌ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَلَا يُنَافِي رَسْمَ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَاءَاتِ لَمْ تُكْتَبْ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ بِإِثْبَاتِهَا فَإِنَّ كُتَّابَ الْمُصْحَفِ قَدْ حَذَفُوا مُدُودًا كَثِيرَةً مِنْ أَلِفَاتٍ وَيَاءَاتٍ. وَالْمُحْضَرُونَ: أُرِيدَ بِهِمُ الْمُحْضَرُونَ فِي النَّارِ، أَيْ لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ مَعَكَ لِلْعَذَابِ. وَقَدْ كَثُرَ إِطْلَاقُ الْمُحْضَرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الَّذِي يَحْضُرُ لِأَجْلِ الْعِقَابِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَرِينَ هُنَا بِالشَّيْطَانِ الَّذِي يُلَازِمُ الْإِنْسَانَ لِإِضْلَالِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَطَرِيقُ حِكَايَةِ تَصَدِّي الْقَائِلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِإِخْبَارِ أَهْلِ مَجْلِسِهِ بِحَالِهِ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الشَّيْطَانَ لَكَانَ إِخْبَارُهُ بِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا عَالِمٌ بِأَنَّ مَصِيرَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَرِيكَيْنِ هُمَا الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 58 إلى 60]

وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَخَوَيْنِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، كَانَا غَنِيَّيْنِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي الصَّدَقَاتِ وَكَانَ الْكَافِرُ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي اللَّذَّاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةٌ مِنَ الْحَذَرِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَوُجُوبِ الِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيُزَيِّنُونَهُ من المهالك. [58- 60] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 58 إِلَى 60] أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) عطفت الْفَاء الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جُمْلَةِ قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات: 54] ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُوَجَّهٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ إِلَى بَعْضِ الْمُتَسَائِلِينَ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ الْمُرَادِ بِهِ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ الْخُلُودِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطْلَعَهُمْ عَلَى مَصِيرِ قَرِينِهِ السُّوءِ أَقْبَلَ عَلَى رِفَاقِهِ بِإِكْمَالِ حَدِيثِهِ تَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ وَاغْتِبَاطًا وَابْتِهَاجًا بِهَا، وَذِكْرًا لَهَا فَإِنَّ لِذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ لَذَّةً فَمَا ظَنُّكَ بِذِكْرِ نِعْمَةٍ قَدِ انْغَمَسُوا فِيهَا وَأَيْقَنُوا بِخُلُودِهَا. وَلَعَلَّ نَظْمَ هَذَا التَّذَكُّرِ فِي أُسْلُوبِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ لِقَصْدِ أَنْ يَسْمَعَ تَكَرُّرَ ذِكْرِ ذَلِكَ حِينَ يُجِيبُهُ الرِّفَاقُ بِأَنْ يَقُولُوا: نَعَمْ مَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْمَوْتَ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْمَوْتُ فِي الْحَالِ، أَوِ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُوَ شَأْنُ اسْمِ الْفَاعِلِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمَنْفِيِّ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنِ الْمَوْتَةُ الْأُولَى. وَذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ. وَانْتِصَابُهُ لِأَجْلِ الِانْقِطَاعِ لَا لِأَجْلِ النَّفْيِ. وَعَطَفَ وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لِيَتَمَحَّضَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا مَا هُمْ بِمَيِّتِينَ وَلَكِنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ فَحَالُهُمْ شَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ. قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَا شَرُّ مِنَ الْمَوْتِ؟ فَقَالَ: الَّذِي يُتَمَنَّى فِيهِ الْمَوْتُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ حِكَايَةٌ لِبَقِيَّةِ كَلَامِ الْقَائِلِ لِرِفَاقِهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ وَالْفَذْلَكَةِ لِحَالَتِهِمُ الْمُشَاهَدِ بَعْضُهَا وَالْمُتَحَدَّثِ عَنْ بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ.

[سورة الصافات (37) : آية 61]

والْفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، أَيْ حَالُنَا هُوَ النَّجَاحُ وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ. وَقَدْ أُبْدِعَ فِي تَصْوِيرِ حُسْنِ حَالِهِمْ بِحَصْرِ الْفَوْزِ فِيهِ حَتَّى كَانَ كُلُّ فَوْزٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِفَوْزٍ، فَالْحَصْرُ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَلْحَقُوا ذَلِكَ الْحَصْرَ بِوَصْفِهِ ب الْعَظِيمُ. [61] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 61] لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) هَذَا تَذْيِيلٌ لِحِكَايَةِ حَالِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ فَهُوَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّنْوِيهِ بِمَا فِيهِ عِبَادُ اللَّهِ الْمُخَلِصُونَ، وَلِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْعَمَلِ بِمِثْلِ مَا عَمِلُوهُ مِمَّا أَوْجَبَ لَهُمْ إِخْلَاصَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: لِمِثْلِ هَذَا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 41] الْآيَاتِ، أَيْ لِمِثْلِ نَعِيمِهِمْ وَأُنْسِهِمْ وَمَسَرَّتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَبَهْجَتِهِمْ وَخُلُودِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَالْمُرَادُ بِمِثْلِهِ: نَظِيرُهُ مِنْ نَعِيمٍ لِمُخْلِصِينَ آخَرِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْعَامِلِينَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْخَيْرَ وَيَسِيرُونَ عَلَى مَا خَطَّتْ لَهُمْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ «يَعْمَلِ» اخْتِصَارًا لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَاللَّامُ فِي لِمِثْلِ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا لِعَمَلِ غَيره، وَهُوَ قصر قَلْبٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا صَالِحَةً يَتَفَاخَرُونَ بِهَا مِنَ الْمَيْسِرِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْف: 103- 104] . وَالْمَعْنَى: لِنَوَالِ مِثْلَ هَذَا، فَحذف مُضَاف لِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَاهُ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَضْمُونِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 40] الْآيَاتِ. وَالْأَمْرُ فِي فَلْيَعْمَلِ لِلْإِرْشَادِ الصَّادِقِ بالواجبات والمندوبات.

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 68]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 62 إِلَى 68] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ تَمَامِ قِصَّةِ الْمُؤْمِنِ وَرِفَاقِهِ قُصِدَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ إِلَى الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَغَازِيهَا وَمَوَاعِظِهَا. فَالْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْناها، أَيْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِلَى آخِرِهَا. وَإِنَّمَا صِيغَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى مَا يَرِدُ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُكَنًّى بِهِ عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَفَوْزِهِ وَخَسَارِ الْكَافِرِ. وَهُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ أَذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّعِيمِ وَالْخُلُودِ، وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مُفْرَدًا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، بِعَلَامَةِ بُعْدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِتَعْظِيمِهِ بِالْبُعْدِ، أَيْ بُعْدِ الْمَرْتَبَةِ وَسُمُوِّهَا لِأَنَّ الشَّيءَ النَّفِيسَ الشَّرِيفَ يُتَخَيَّلُ عَالِيًا وَالْعَالِي يُلَازِمُهُ الْبُعْدُ عَنِ الْمَكَانِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ السُّفْلُ، وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى. وَالنُّزُلُ: بِضَمَّتَيْنِ، وَيُقَالُ: نُزْلٌ بِضَمٍّ وَسُكُونٍ هُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ النَّازِلُ، قَالَهُ الزَّجَاجُ. وَجَرَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» ، وَأُطْلِقَ إِطْلَاقًا شَائِعًا كَثِيرًا عَلَى الطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لَهُ لِنُزُولِهِ تَسْمِيَةً بِاسْمِ مَكَانِهِ نَظِيرَ مَا أَطْلَقُوا اسْمَ السُّكْنِ بِسُكُونِ الْكَافِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُعَدِّ لِلسَّاكِنِ الدَّارِ إِذِ الْمَسْكَنُ يُقَالُ فِيهِ: سَكْنٌ أَيْضًا. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاغِبُ غَيْرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النُّزُلِ هُنَا طَعَامَ الضِّيَافَةِ فِي الْجَنَّةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانَ النُّزُولِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ بِتَقْدِيرِ: أَمْ مَكَانُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَانْتِصَابُ نُزُلًا عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَمُتَوَجَّهُ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا يُنَاسِبُ الْوَجْهَيْنِ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الصافات: 41- 43] . وَيَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى مُعَادِلِ الِاسْتِفْهَامِ فَيَكُونُ إِمَّا أَنْ تُقَدِّرَ: أَمْ مَنْزِلُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَم: 73] فَقَدْ ذَكَرَ مَكَانَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ نُقَدِّرَ: أَمْ نَزَّلَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ مُشَاكَلَةٌ تَهَكُّمًا لِأَنَّ طَعَامَ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُسَمَّى نُزُلًا. وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ ذُكِرَتْ هُنَا ذِكْرَ مَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ قَبْلُ لِوُرُودِهَا مُعَرَّفَةً بِالْإِضَافَةِ ولوقوعها فِي مَقَامِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَالَيْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَيُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ عَلَى مَثَلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا جَعَلَهُ الْقُرْآنُ لِشَجَرَةٍ فِي جَهَنَّمَ وَيَكُونَ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [51- 52] ، وَكَانَ نُزُولهَا قبل نزُول سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَيُبَيِّنُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْكَلْبِيُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (أَيْ آيَةُ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ) قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: أَكْثَرَ اللَّهُ فِي بُيُوتِكُمُ الزَّقُّومَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ التَّمْرَ وَالزُّبْدَ بِالزَّقُّومِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِجَارِيَتِهِ: زَقِّمِينَا فَأَتَتْهُ بِزُبْدٍ وَتَمْرٍ فَقَالَ: تَزَقَّمُوا. وَعَنِ ابْنِ سِيدَهْ: بَلَغَنَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ (أَيْ فِي سُورَةِ الدُّخان [43- 44] ) لم يعرفهَا قُرَيْشٌ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا جَارِيَةُ هَاتِي لَنَا تَمْرًا وَزُبْدًا نَزْدَقِمُهُ، فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَيَقُولُونَ: أَفَبِهَذَا يُخَوِّفُنَا مُحَمَّدٌ فِي الْآخِرَة ا. هـ. وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلهم هَذَا عِنْد مَا سَمِعُوا آيَة سُورَة الْوَاقِعَة لَا آيَةَ سُورَةِ الدُّخَانِ وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا نَكِرَةً. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِشَجَرٍ مَعْرُوفٍ هُوَ مَذْمُومٌ، قِيلَ: هُوَ شَجَرٌ مِنْ أَخْبَثِ الشَّجَرِ يَكُونُ بِتُهَامَةَ وَبِالْبِلَادِ الْمُجْدِبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلصَّحَرَاءِ كَرِيهَةُ الرَّائِحَةِ صَغِيرَةُ الْوَرَقِ مَسْمُومَةٌ ذَاتُ لَبَنٍ إِذَا أَصَابَ جِلْدَ الْإِنْسَانِ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ. قَالَهُ قُطْرُبٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.

وَتَصَدِّي الْقُرْآنِ لِوَصْفِهَا الْمُفَصَّلِ هُنَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ فَذَكَرَهَا مُجْمَلَةً فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا فصّل أَو صافها هُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِي سُورَةِ الدُّخَانِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تغلي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدُّخان: 43- 46] . وَقَدْ سَمَّاهَا الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ كَأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزُّقْمَةِ بِضَمِّ الزَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ اسْمُ الطَّاعُونِ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمْ يَكُنِ الزَّقُّومُ اشْتِقَاقًا مِنَ التَّزَقُّمِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْأَكْلِ حَتَّى يَكْرَهَهُ. وَهُوَ يُرِيدُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّزَقُّمِ وَهُوَ الْبَلْعُ عَلَى جَهْدٍ لِكَرَاهَةِ الشَّيْءِ. وَاسْتَأْنَفَ وَصْفَهَا بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، أَيْ عَذَابًا مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] ، أَيْ عَذَّبُوهُمْ بِأُخْدُودِ النَّارِ. وَفُسِّرَتِ الْفِتْنَةُ أَيْضًا بِأَنَّ خَبَرَ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ كَانَ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ أَغْرَاهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ فَيَكُونُ مَعْنَى جَعَلْناها جَعَلْنَا ذِكْرَهَا وَخَبَرَهَا، أَيْ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ، أَيْ جَعْلَنَا ذِكْرَهَا مُثِيرًا لِفِتْنَتِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ دُونَ تَفَهُّمٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31] ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ جَهَنَّمَ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ أَيَعْجَزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ (أَيْ مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ) فَقَالَ أَبُو الأشد الجُمَحِي: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [المدثر: 31] أَيْ فَلَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31] . وَاسْتَأْنَفَ لِوَصْفِهَا استئنافا ثَانِيًا مكررا فِيهِ كَلِمَةَ إِنَّها لِلتَّهْوِيلِ. وَمَعْنَى تَخْرُجُ تَنْبُتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَاف: 58] . وَمِنْ عَجِيبِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ مِنَ النَّارِ شَجَرَةً وَهِيَ نَارِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. صَوَّرَ اللَّهُ فِي النَّارِ شَجَرَةً مِنَ النَّارِ، وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ مَا يُصَوَّرُ فِي الشَّمَارِيخِ النَّارِيَّةِ مِنْ صُوَرٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ كَالنَّخِيلِ وَنَحْوِهُ.

وَجَعَلَ لَهَا طَلْعًا، أَيْ ثَمَرًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الطَّلْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِطَلْعِ النَّخْلَةِ لِأَنَّ اسْمَ الطَّلْعِ خَاصٌّ بِالنَّخِيلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالَ الْكُفَّارُ: كَيْفَ يُخْبِرُ مُحَمَّدٌ عَنِ النَّارِ أَنَّهَا تُنْبِتُ الْأَشْجَارَ، وَهِيَ تَأْكُلُهَا وَتُذْهِبُهَا، فَقَوْلُهُمْ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ كفرا وتكذيبا. ورُؤُسُ الشَّياطِينِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مرَادا بهَا رُؤُوس شَيَاطِينِ الْجِنِّ جَمْعِ شَيْطَانٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُور ورؤوس هَذِهِ الشَّيَاطِينِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لَهُمْ، فَالتَّشْبِيهُ بِهَا حَوَالَةٌ عَلَى مَا تُصَوِّرُ لَهُمُ الْمُخَيِّلَةُ، وَطَلْعُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَوُصِفَ لِلنَّاسِ فَظِيعًا بَشِعًا، وَشُبِّهَتْ بشاعته ببشاعة رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَعْقُولِ كَتَشْبِيهِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: 70] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا تَقْرِيبُ حَالِ الْمُشَبَّهِ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ وَلَا كَوْنُ الْمُشَبَّهِ كَذَلِكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقيل: أُرِيد برؤوس الشَّيَاطِينِ ثَمَرُ الْأَسْتَنِ، وَالْأَسْتَنُ (بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفتح التَّاء) شَجَرَة فِي بَادِيَةِ الْيَمَنِ يُشْبِهُ شُخُوصَ النَّاسِ وَيُسمى ثمره رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ كَذَلِكَ لِبَشَاعَةِ مَرْآهِ ثُمَّ صَارَ مَعْرُوفًا، فَشُبِّهَ بِهِ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: الشَّياطِينِ: جَمْعُ شَيْطَانٍ وَهُوَ مِنَ الْحَيَّات مَا لرؤوسه أَعْرَافٌ، قَالَ الرَّاجِزُ يُشَبِّهُ امْرَأَتَهُ بِحَيَّةٍ مِنْهَا: عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ ... كَمَثَلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ الْحَمَاطُ: جَمْعُ حَمَاطَةَ بِفَتْحِ الْحَاءِ: شَجَرٌ تَكْثُرُ فِيهِ الْحَيَّاتُ، وَالْعَنْجَرِدُ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الْمَرْأَةُ السَّلِيطَةُ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ بَالِغَةٌ حَدًّا عَظِيمًا مِنَ الذَّمِّ وَذَلِكَ الذَّمُّ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَلْعُونَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [60] ، وَكَذَلِكَ فِي آيَةِ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تغلي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ

وَقَدْ أُنْذِرُوا بِأَنَّهُمْ آكِلُونَ مِنْهَا إِنْذَارًا مُؤَكَّدًا، أَيْ آكِلُونَ مِنْ ثَمَرِهَا وَهُوَ ذَلِكَ الطَّلْعُ. وَضَمِيرُ مِنْها لِلشَّجَرَةِ جَرَى عَلَى الشَّائِعِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ أَكَلْتُ مِنَ النَّخْلَةِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ آكِلُونَ مِنْهَا كُرْهًا وَذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْكُولُ كَرِيهًا يَزِيدُهُ كَرَاهَةً سُوءُ مَنْظَرِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَهَى إِذَا كَانَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ كَانَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ بِشَرَهٍ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَنَاوُلِ تُفَّاحَةٍ صَفْرَاءَ وَتَنَاوُلِ تُفَّاحَةٍ مُوَرَّدَةِ اللَّوْنِ، وَكَذَلِكَ مُحَسَّنَاتُ الشَّرَابِ، أَلَا تَرَى إِلَى كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ كَيْفَ أَطَالَ فِي مُحَسَّنَاتِ الْمَاءِ الَّذِي مُزِجَتْ بِهِ الْخَمْرُ فِي قَوْلِهِ: شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَجْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطُهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بَيْضٌ يَعَالِيلُ وَمَلْءُ الْبُطُونِ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ مَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا عَلَى كَرَاهَتِهَا. وَإِسْنَادُ الْأَكْلِ وَمَلْءِ الْبُطُونِ إِلَيْهِمْ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ وَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ وَالْمَلْءِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْله: فَمالِؤُنَ فَاءُ التَّفْرِيعِ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْقِيبِ، أَيْ لَا يلبثُونَ أَن تمتلىء بُطُونُهُمْ مِنْ سُرْعَةِ الِالْتِقَامِ، وَذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِكَرَاهَتِهَا فَإِنَّ الطَّعَامَ الْكَرِيهَ كَالدَّوَاءِ إِذَا تَنَاوَلَهُ آكِلُهُ أَسْرَعَ بِبَلْعِهِ وَأَعْظَمَ لَقْمَهُ لِئَلَّا يَسْتَقِرَّ طَعْمُهُ عَلَى آلَةِ الذَّوْقِ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً، وَلَيْسَ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ مَعْنًى إِلَّا إِفَادَةَ أَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ التَّرَاخِي أَهَمُّ أَوْ أَعْجَبُ مِمَّا قَبْلَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنِ السَّامِعُ يَرْقُبُهُ فَهُوَ أَعْلَى رُتْبَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْعَذَابِ عَلَى الَّذِي سَبَقَهُ فَوَقْعُهُ أَشَدُّ مِنْهُ، وَقَدْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْها، أَيْ بَعْدَهَا أَيْ بَعْدَ أَكْلِهِمْ مِنْهَا. وَالشَّوْبُ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ شَابَ الشَّيءَ بِالشَّيءِ إِذَا خَلَطَهُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيءِ الْمَشُوبِ بِهِ إِطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُحْتَمَلٌ هُنَا.

[سورة الصافات (37) : الآيات 69 إلى 70]

وَضَمِيرُ عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى شَجَرَةُ الزَّقُّومِ بِتَأْوِيلِ ثَمَرِهَا. وَ (عَلَى) بِمَعْنَى (مَعَ) ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعْلَاءِ لِأَنَّ الْحَمِيمَ يَشْرَبُونَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْأَمْعَاءِ. وَالْحَمِيمُ: الْقَيْحُ السَّائِلُ مِنَ الدُّمَّلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ كَالْقَوْلِ فِي عَطْفِ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ. وَالْمَرْجِعُ: مَكَانُ الرُّجُوعِ، أَيِ الْمَكَانِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ الْخَارِجُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُفَارِقَهُ. وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ طَارِئَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَصْلِيَّةٍ تَشْبِيهًا بِمُغَادَرَةِ الْمَكَانِ ثُمَّ الْعُودُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي كَلَامه مَعَ هنيىء صَاحِبِ الْحِمَى «فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلَكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ» ، يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّان وَعبد الرحمان بْنَ عَوْفٍ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَنَى أَنَّهُمَا يَنْتَقِلَانِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاشِيَةِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ الرُّجُوعُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يَطْعَمُونَ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَيَشْرَبُونَ الْحَمِيمَ لَمْ يُفَارِقُوا الْجَحِيمَ فَأُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْأَكْلِ مِنَ الزَّقُّومِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَمِيمِ زِيَادَةٌ عَلَى عَذَابِ الْجَحِيمِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ مُغَادَرَةٍ لِلْجَحِيمِ حَتَّى يَكُونَ الرُّجُوعُ حَقِيقَةً، مِثْلُهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رُجُوعِهِ مِنْ إِحْدَى مَغَازِيهِ «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» يُرِيدُ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنَّهُمْ حِينَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ قَدْ تَرَكُوا مُجَاهَدَةَ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي جِهَادٍ زَائِدٍ فَصَارُوا إِلَى الْجِهَاد السَّابِق. [69- 70] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 69 إِلَى 70] إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) تَعْلِيلٌ لِمَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَإِبْدَاءٌ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُرْمِهِمْ، فَإِنَّ جُرْمَهُمْ كَانَ تَلَقِّيًا لِمَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَشُعَبِهِ بِدُونِ نَظَرٍ وَلَا اخْتِيَارٍ لِمَا

يَخْتَارُهُ الْعَاقِلُ، فَكَانَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُطْعَمُونَ طَعَامًا مُؤْلِمًا وَيُسْقَوْنَ شَرَابًا قَذِرًا بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا تَلَقَّوْا دِينَ آبَائِهِمْ تَقْلِيدًا وَاعْتِبَاطًا. فَمَوْقِعُ (إِنَّ) مَوْقِعُ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ لِذَلِكَ مُفِيدَةٌ رَبْطَ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا كَمَا تَرْبُطُهَا الْفَاءُ وَلَامُ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ. وَالْمُرَادُ: الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] . وَفِي قَوْلِهِ: أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهِ لَوْ تُرِكُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَمْ يُغَشُّوهَا بِغِشَاوَةِ الْعِنَادِ. وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةِ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ فَاءُ الْعَطْفِ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ مُتَفَرِّعٌ على إلفائهم آبَاءَهُم ضَالِّينَ أَنِ اقْتَفَوْا آثَارَهُمْ تَقْلِيدًا بِلَا تَأَمُّلٍ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ. وَالْآثَارُ: مَا تَتْرُكُهُ خُطَى الماشين من موطىء الْأَقْدَامِ فَيَعْلَمُ السَّائِرُ بُعْدَهُمْ أَنَّ مَوَاقِعَهَا مَسْلُوكَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى مَعْمُورٍ، فَمَعْنَى عَلى الِاسْتِعْلَاءُ التَّقْرِيبِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ مَعَهَا وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُعْتَلِينَ عَلَيْهَا. ويُهْرَعُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ مُضَارِعُ: أَهْرَعَهُ، إِذَا جَعَلَهُ هَارِعَا، أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْهَرَعِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ الْمُفْرِطُ فِي السَّيْرِ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ دُونَ تَأَمُّلٍ، فَشَبَّهَ قَبُولَ الِاعْتِقَادِ بِدُونِ تَأَمُّلٍ بِمُتَابَعَةِ السَّائِرِ مُتَابَعَةً سَرِيعَةً لِقَصْدِ الِالْتِحَاقِ بِهِ. وَأُسْنِدَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَن ذَلِك ناشىء عَنْ تَلْقِينِ زُعَمَائِهِمْ وَتَعَالِيمِ الْمُضَلِّلِينَ، فَكَأَنَّهُمْ مَدْفُوعُونَ إِلَى الْهَرَعِ فِي آثَارِ آبَائِهِمْ فَيَحْصُلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُهْرَعُونَ تَشْبِيهُ حَالِ الْكَفَرَةِ بِحَالِ مَنْ يُزْجَى وَيُدْفَعُ إِلَى السَّيْرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يسَار بِهِ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 71 إلى 74]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 71 إِلَى 74] وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) عُقِّبَ وَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَاتَّبَعُوا آبَاءَهُمْ بِتَنْظِيرِهِمْ بِمَنْ سَلَفُوا مِنَ الضَّالِّينَ وتذكيرا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَسْلَاةً لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، وَاسْتِقْصَاءً لَهُمْ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِكْمَالًا لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ اتَّبَعُوا آثَارَ آبَائِهِمْ وَاقْتَدَوْا بِالْأُمَمِ أَشْيَاعِهِمْ. وَوَصَفَ الَّذِينَ ضَلُّوا قَبْلَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ بِكَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَعْتَزُّوا بِهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا تُبَرِّرُ ضَلَالَ الضَّالِّينَ وَلَا خَطَأَ الْمُخْطِئِينَ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَا مِنْ آثَارِ الْعَدَدِ كَثْرَةً وَقِلَّةً وَلَكِنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ ثَابِتَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ فَإِذَا عَرَضَتْ لِإِحْدَاهُمَا كَثْرَةً أَوْ قِلَّةً فَلَا تَكُونَانِ فِتْنَةً لِقِصَارِ الْأَنْظَارِ وَضُعَفَاءِ التَّفْكِيرِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: 100] . وَأُكْمِلَتِ الْعِلَّةُ وَالتَّسْلِيَةُ وَالْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أَيْ رُسُلًا يُنْذِرُونَهُمْ، أَيْ يُحَذِّرُونَهُمْ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى هَؤُلَاءِ. وَخَصَّ الْمُرْسَلِينَ بِوَصْفِ الْمُنْذِرِينَ لِمُنَاسَبَةِ حَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَأَمْثَالِهِمْ. وَضَمِيرُ فِيهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَرْسَلْنَا فِي الْأَوَّلِ مُنْذِرِينَ فَاهْتَدَى قَلِيلٌ وَضَلَّ أَكْثَرُهُمْ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ الْخِطَابَ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْشِيحًا لِمَا فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ جَانِبِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّثْبِيتِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِالْكَلَامِ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآن فَشَمَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّهْوِيلِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَاقِبَةِ عَاقِبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَالنَّظَرُ بَصَرِيٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ عَاقِبَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ فَالنَّظَرُ قَلْبِيٌّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 75 إلى 82]

وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْمُنْذَرِينَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهُمُ الْمُنْذَرُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الْمُنْذِرُونَ، أَيْ فَهُمُ الضَّالُّونَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. فَالْمَعْنَى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ أنذرناهم فَلم ينتذروا كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَاتَّبَعُوهُمْ، فَقَدْ تَحَقَّقَ اشْتِرَاكُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ فِي الضَّلَالِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ كَعَاقِبَةِ أُولَئِكَ. وَفِعْلُ النَّظَرِ مُعَلَّقٌ عَنْ مَعْمُولِهِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ لِلتَّفْظِيعِ. وَاسْتُثْنِيَ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْذَرِينَ فَصَدَّقُوا الْمُنْذِرِينَ وَلَمْ يُشَارِكُوا الْمُنْذَرِينَ فِي عَاقِبَتِهِمُ الْمَنْظُورِ فِيهَا وَهِيَ عَاقِبَةُ السُّوءِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي فَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: الْمُخْلَصِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 39- 40] . [75- 82] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 75 إِلَى 82] وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) أَتْبَعَ التَّذْكِيرَ وَالتَّسْلِيَةَ مِنْ جَانِبِ النَّظَرِ فِي آثَارِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، بِتَذْكِيرٍ وَتَسْلِيَةٍ مِنْ جَانِبِ الْإِخْبَارِ عَنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ وَآذَوْهُمْ وَكَيْفَ انْتَصَرَ اللَّهُ لَهُم ليزِيد رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثْبِيتًا وَيُلْقِمَ الْمُشْرِكِينَ تَبْكِيتًا. وَذَكَرَ فِي هَذِه السُّورَة سِتّ قصَص من قَصَصَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِأَنَّ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا خَاصِّيَّةً لَهَا شَبَهٌ بِحَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ وَبِحَالِهِ الْأَكْمَلِ فِي دَعْوَتِهِ، فَفِي الْقَصَصِ كُلِّهَا عِبْرَةٌ وَأُسْوَةٌ وَتَحْذِيرٌ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا، وَيَجْمَعُهَا كُلَّهَا مُقَاوَمَةُ الشِّرْكِ وَمُقَاوَمَةُ أَهْلِهَا.

وَاخْتِيرَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ السِّتَّةُ: لِأَن نوحًا الْقُدْرَة الْأُولَى، وَإِبْرَاهِيمَ هُوَ رَسُولُ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي هِيَ نَوَاةُ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ شَجَرَةِ الْإِسْلَامِ، وَمُوسَى لِشِبْهِ شَرِيعَتِهِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي التَّفْصِيلِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الدِّينِ وَالسُّلْطَانِ، فَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ أُصُولٌ. ثُمَّ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ رُسُلٍ تفرّعوا عَنْهُم وثلاثتهم عَلَى مِلَّةِ رُسُلِ مَنْ قَبْلَهُمْ. فَأَمَّا لُوطٌ فَهُوَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا إِلْيَاسُ وَيُونُسُ فَعَلَى مِلَّةِ مُوسَى. وَابْتَدَى بِقِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ الْأُسْوَةُ الْأُولَى وَالْقُدْوَةُ الْمُثْلَى. وَابْتِدَاءُ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نِدَاءِ نُوحٍ رَبَّهُ مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَحْذَرُوا دُعَاء الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ تَعَالَى بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ وَهَذَا النِّدَاءُ هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 26] ، وَقَوْلِهِ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ نُوحٍ [21] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى نَادَانَا، أَيْ نَادَانَا فَأَجَبْنَاهُ، فَحَذَفَ الْمُفَرَّعَ لِدَلَالَةِ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ عَلَيْهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى فَأَجَبْنَاهُ جَوَابَ مَنْ يُقَالُ فِيهِ: نِعْمَ الْمُجِيبُ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نَحْنُ. وَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْظِيمِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدُ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ بِلَامِ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ الْأَمْرَيْنِ تَحْذِيرًا لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ نُوحًا دَعَا فَاسْتُجِيبَ لَهُ. وَالتَّنْجِيَةُ: الْإِنْجَاءُ وَهُوَ جَعْلُ الْغَيْرِ نَاجِيًا. وَالنَّجَاةُ: الْخَلَاصُ مِنْ ضُرٍّ وَاقِعٍ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتْ سَلَامَتُهُ فِي حِينِ إِحَاطَةِ الضُّرِّ بِقَوْمِهِ نَزَلَتْ سَلَامَتُهُ مِنْهُ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاصِ مِنْهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ تَنْزِيلًا لِمُقَارَبَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ وُقُوعِهِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ لِلَفْظِ النَّجَاةِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: النَّجَاةُ خَلَاصٌ مِنْ ضُرٍّ وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِهِ: عَائِلَتُهُ إِلَّا مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ قَومِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ

الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] . فَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَهْلِهِ هُنَا لِقِلَّةِ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ أَهْلَ دِينِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: 68] . وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَنَّ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ نُوحٍ كَانَتْ بِأَنْ أَهْلَكَ قَوْمَهَ. والْكَرْبِ: الْحُزْنُ الشَّدِيدُ وَالْغَمُّ. وَوَصَفَهُ بِ الْعَظِيمِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي نَوْعِهِ فَهُوَ غَمٌّ عَلَى غَمٍّ. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ الطُّوفَانُ، وَهُوَ كَرْبٌ عَظِيمٌ عَلَى الَّذِينَ وَقَعُوا فِيهِ، فَإِنْجَاءُ نُوحٍ مِنْهُ هُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ كَمَا عَلِمْتَ لِأَنَّهُ هَوْلٌ فِي الْمَنْظَرِ، وَخَوْفٌ فِي الْعَاقِبَة وَالْوَاقِع فِيهِ مُوقِنٌ بِالْهَلَاكِ. وَلَا يزَال الْخَوْف يزْدَاد بِهِ حَتَّى يَغْمُرَهُ الْمَاءُ ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي آلَامٍ مِنْ ضِيقِ النَّفَسِ وَرِعْدَةِ القرّ وَالْخَوْف وَتحقّق الْهَلَاكِ حَتَّى يَغْرَقَ فِي الْمَاءِ. وَإِنْجَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْجَاءُ أَهْلِهِ نعْمَة أُخْرَى، وإهلاك ظَالِمِيهِ نِعْمَةٌ كُبْرَى، وَجَعْلُ عُمْرَانِ الْأَرْضِ بذريته نعْمَة دائمة لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ وَيُذْكَرُ بَيْنَهُمْ مَصَالِحُ أَعْمَالِهِ وَذَلِكَ مِمَّا يَرْحَمُهُ اللَّهُ لِأَجْلِهِ، وَسَتَأْتِي نِعَمٌ أُخْرَى تَبْلُغُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْباقِينَ لِلْحَصْرِ، أَيْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ مَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَبْنَاءِ آدَمَ غَيْرُ ذَرِّيَّةِ نُوحٍ فَجَمِيعُ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَوْلَادِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَنْ آمَنَ مَعَ نُوحٍ مِنْ غَيْرِ أَبْنَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى أَنَّ الطُّوفَانَ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا وَاسْتَأْصَلَ جَمِيعَ الْبَشَرِ إِلَّا مَنْ حَمَلَهُمْ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَعُمُومُ الطُّوفَانِ هُوَ مُقْتَضَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَمَنْ قَالُوا إِنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَعُمَّ الْأَرْضَ فَإِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى إِنْكَارِهِ مِنْ جِهَةِ قِصَرِ الْمُدَّةِ الَّتِي حَدَّدَتْ بِهَا كُتُبُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الِاطْمِئْنَانُ لَهَا فِي ضَبْطِ عُمْرِ الْأَرْضِ وَأَحْدَاثِهَا وَذَلِكَ لَيْسَ

مِنَ الْقَوَاطِعِ، وَيَكُونُ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا أَيْ لَمْ يَبْقَ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: نُسَلِّمُ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَعُمَّ الْأَرْضَ وَلَكِنَّهُ عَمَّ الْبَشَرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْحَصِرِينَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي أَصَابَهَا الطُّوفَانُ وَلَئِنْ كَانَتْ أَدِلَّةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ فَإِنَّ مُسْتَنَدَاتِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ غَيْرُ نَاهِضَةٍ فَلَا تُتْرَكُ ظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ لِأَجْلِهَا. وَزَادَ اللَّهُ فِي عِدَادِ كَرَامَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، فَتِلْكَ نِعْمَةٌ خَامِسَةٌ. وَالتَّرْكُ: حَقِيقَتُهُ تَخْلِيفُ شَيءٍ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ. وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا مَتَاعٌ زَائِلٌ بَعْدُ، طَالَ مَكْثُهَا أَوْ قَصُرَ، فَكَأَنَّ زَوَالَهَا اسْتِرْجَاعٌ مِنْ مُعْطِيهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى» فَشَرَّفَ اللَّهُ نُوحًا بِأَنْ أَبْقَى نِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي أُمَمٍ بَعْدَهُ. وَظَاهِرُ الْآخِرِينَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ، وَقَرِينَةُ الْمَجَازِ تَعْلِيقُ عَلَيْهِ بِ تَرَكْنا لِأَنَّهُ يُنَاسِبُ الْإِبْقَاءَ، يُقَالُ: أَبْقَى عَلَى كَذَا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ لِيَبْقَى وَلَا يَنْدَثِرَ، وعَلى هَذَا لَا يَكُونُ لِ تَرَكْنا مَفْعُولٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ لَهُ مَفْعُولًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَي تركنَا ثَنَاء عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْإِبْقَاءِ تَعْمِيرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، فَهُوَ إِبْقَاءُ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ إِبْقَاءُ الْحَيِّ إِلَيْهِ فَوْقَ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بَقَاءُ حُسْنِ ذِكْرِهِ بَيْنَ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: 84] فَكَانَ نُوحٌ مَذْكُورًا بِمَحَامِدِ الْخِصَالِ حَتَّى قِيلَ: لَا تَجْهَلُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَمِ الْأَرْضِ نُوحًا وَفَضْلَهُ وَتَمْجِيدَهُ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يُسَمُّونَهُ بِهَا بِاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ. فَجَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ: كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللَّهِ. وَوَرَدَ ذِكْرُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَة لم تخنا ... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ وَذِكْرُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَعْرِضِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاء: 3] .

وَذَكَرَ ابْنُ خَلْدُونَ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا هُوَ (أَفْرِيدُونْ) مَلِكُ بِلَادِ الْفُرْسِ، وَبَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا هُوَ (أُوشْهَنْكُ) مَلِكُ الْفُرْسِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ (كُيُومَرْثَ) بِمِائَتَيْ سَنَةٍ وَهُوَ يُوَافِقُ أَنَّ نُوحًا كَانَ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ كُيُومَرْثُ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ حَسَبَ كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. عَلَى أَنَّ كُيُومَرْثَ يُقَالُ: إِنَّهُ آدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمُتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ لَمْ يَحُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَوْلَهُ فِيمَا اطَّلَعْتُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ تَرَكْنا بِتَضْمِينِ هَذَا الْفِعْلِ مَعْنَى (أَنْعَمْنَا) فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَدَّى هَذَا الْفِعْلُ بِاللَّامِ، فَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى أَنْعَمْنَا أَفَادَ بِمَادَّتِهِ مَعْنَى الْإِبْقَاءِ لَهُ، أَيْ إِعْطَاءِ شَيءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمُدَّخَرَةِ الَّتِي يُشْبِهُ إِعْطَاؤُهَا تَرْكَ أَحَدٍ مَتَاعًا نَفِيسًا لِمَنْ يُخَلِّيهِ هُوَ لَهُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ. وَأَفَادَ بِتَعْلِيقِ حَرْفِ (عَلَى) بِهِ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْعَامِ وَالتَّفْضِيلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ التَّضْمِينِ أَنْ يُفِيدَ الْمُضَمَّنُ مُفَادَ كَلِمَتَيْنِ فَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الْإِيجَازِ. ثُمَّ إِنَّ مَفْعُولَ تَرَكْنا لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا وَكَانَ فِعْلُ (أَنْعَمْنَا) الَّذِي ضُمِّنَهُ فِعْلُ تَرَكْنا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَانَ مَحْذُوفًا أَيْضًا مَعَ عَامِلِهِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: وَتَركنَا لَهُ ثَنَاء وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ، فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ: تَرَكْنا عَلَيْهِ حَذْفُ خَمْسِ كَلِمَاتٍ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَلِذَلِكَ قَدَّرَ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَتَرَكْنا ثَنَاء حَسَنًا عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنْشَاءُ ثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى نُوحٍ وَتَحِيَّةٌ لَهُ وَمَعْنَاهُ لَازِمُ التَّحِيَّةِ وَهُوَ الرِّضَى وَالتَّقْرِيبُ، وَهُوَ نِعْمَةٌ سَادِسَةٌ. وَتَنْوِينُ سَلامٌ لِلتَّعْظِيمِ وَلِذَلِكَ شَاعَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا كَالْمَوْصُوفِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ: الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ السَّلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَم: 15] فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: 130] سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 109] . وَفِي الْعالَمِينَ حَالٌ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ سَلامٌ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي

الْعالَمِينَ فِي مَحَلِّ مَفْعُولِ تَرَكْنا، أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَهِيَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قُصِدَتْ حِكَايَتُهُ كَمَا تَقُولُ قَرَأْتُ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النُّور: 1] ، أَيْ جَعَلْنَا النَّاسَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَجْيَالِ، فَمَا ذَكَرُوهُ إِلَّا قَالُوا: عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالُوا فِي نَظَائِرِهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ. وَزِيدَ فِي سَلَامِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي الْعَالَمِينَ دُونَ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَإِلْيَاسَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ التَّنْوِيهَ بِنُوحٍ كَانَ سَائِرًا فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ وَيَذْكُرُونَهُ ذِكْرَ صِدْقٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَجُمْلَةُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ نُوحًا. وَ (إِنَّ) تُفِيدُ تَعْلِيلًا لِمُجَازَاةِ اللَّهِ نُوحًا بِمَا عَدَّهُ من النعم بِأَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا، أَيْ مُتَخَلِّقًا بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْخَالِصُ الْمُفَسَّرُ فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، وَأَيُّ دَلِيلٍ عَلَى إِحْسَانِهِ أَجْلَى مِنْ مُصَابَرَتِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى وَمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى مِنْ قَوْمِهِ طُولَ مُدَّةِ دَعْوَتِهِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ جَزَاءَهُ كَانَ هُوَ الْمِثَالَ وَالْإِمَامَ لِجَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَلَى مَرَاتِبِ إِحْسَانِهِمْ وَتَفَاوُتِ تَقَارُبِهَا مِنْ إِحْسَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقُوَّتِهِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ. فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ فَسَنَّ الْجَزَاءَ لِمَنْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وَكَانَ عَلَى قَالَبِ جَزَائِهِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ كِفْلٌ مِنْ كُلِّ جَزَاءٍ يُجْزَاهُ أَحَدٌ عَلَى صَبْرِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ، فَثَبَتَ لِنُوحٍ بِهَذَا وَصْفُ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ السَّابِعَةُ. وَثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْمُحْسِنِينَ فِي جَزَائِهِمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَهِيَ النِّعْمَةُ الثَّامِنَةُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تَعْلِيل لاستحقاقه المجازاة الْمَوْصُوفَةَ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فَاخْتَلَفَ مَعْلُولُ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَمَعْلُولُ الْعِلَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَأَفَادَ وَصْفُهُ بِ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا أَنَّهُ مِمَّنِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَصْفَ، وَقَدْ عَلِمْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ وَصْفَ (عَبْدٍ) إِذَا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ أَشْعَرَ بِالتَّقْرِيبِ وَرَفْعِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 83 إلى 87]

الدَّرَجَةِ، اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِ الْعِبَادِ بِالْمُؤْمِنِينَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْإِيمَانِ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَيُقْلِعَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الشِّرْكِ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ تَاسِعَةٌ. وَأُقْحِمَ مَعَهَا مِنْ عِبادِنَا لِتَشْرِيفِهِ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 40- 41] وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَاشِرَةٌ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ الْإِيمَانِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نوح وتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعْلُ نُوحٍ قُدْوَةً لَهُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَ نُوحًا عَلَى قَوْمِهِ وَيُنْجِيهِ مِنْ أَذَاهُمْ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ. وثُمَّ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي الرَّتْبِيَّيْنِ لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا فِي الْكَلَامِ هُوَ مِمَّا حَصَلَ بَعْدَ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَمَعْنَى التَّرَاخِي الرَّتْبِيِّ هُنَا أَنَّ إِغْرَاقَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ مَعَ نَجَاتِهِ وَنَجَاةِ أَهْلِهِ، أَعْظَمُ رُتْبَةً فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَالدَّلَالَةِ عَلَى وَجَاهَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفِهِ. وَمَعْنَى الْآخَرِينَ مَنْ عَدَاهُ وَعَدَا أَهْلَهَ، أَيْ بَقِيَّةُ قَوْمِهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْآخَرِينَ ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِقَارِ. وَمِمَّا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «إِنَّ الْآخَرَ قَدْ زَنَى» يَعْنِي نَفْسَهَ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ وَقِصَّتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آلِ عِمْرَانَ [33] ، وَفِي الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ، وَذِكْرُ سَفِينَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَة العنكبوت. [83- 87] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 83 إِلَى 87] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) تَخَلَّصَ إِلَى حِكَايَةِ مَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ

وَمَا لَاقَاهُ مِنْهُمْ وَكَيْفَ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنْهُمْ، وَقَعَ هَذَا التَّخَلُّصُ إِلَيْهِ بِوَصْفِهِ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ لِيُفِيدَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ تَأْكِيدَ الثَّنَاءِ عَلَى نُوحٍ وَابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَتَخْلِيدَ مَنْقَبَةٍ لِنُوحٍ أَنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ الرَّسُولُ الْعَظِيمُ مِنْ شِيعَتِهِ وَنَاهِيكَ بِهِ. وَكَذَلِكَ جمع محامد لإِبْرَاهِيم فِي كَلِمَةِ كَوْنِهِ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ الْمُقْتَضِي مُشَارَكَتَهُ لَهُ فِي صِفَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الْإِسْرَاء: 3] . وَالشِّيعَةُ: اسْمٌ لِمَنْ يُنَاصِرُ الرَّجُلَ وَأَتْبَاعَهُ وَيَتَعَصَّبُ لَهُ فَيَقَعُ لَفْظُ شِيعَةٍ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى شِيَعٍ وَأَشْيَاعٍ إِذَا أُرِيدَ: جَمَاعَاتٌ كُلُّ جَمَاعَةٍ هِيَ شِيعَةٌ لِأَحَدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [10] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [4] . وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَكَانَ دِينُهُ مُوَافِقًا لِدِينِ نُوحٍ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ نَبْذُ الشِّرْكِ. وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ لِأَنَّ نُوحًا قَدْ جَاءَتْ رُسُلٌ عَلَى دِينِهِ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ فَقَدْ كَانَا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَهُمَا غَيْرَ مَرَّةٍ عَقِبَ ذِكْرِ نُوحٍ وَقَبْلَ ذِكْرِ لُوطٍ مُعَاصِرِ إِبْرَاهِيمَ. وَلِقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] ، وَلِقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: 74] ، وَقَوْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] . فَجَعَلَ قَوْمَ لُوطٍ أَقْرَبَ زَمَنًا لِقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ. وَكَانَ لُوطٌ مُعَاصِرَ إِبْرَاهِيمَ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ شِيعَةٌ لِنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ تِلْكَ الشِّيعَةِ وَهَذِهِ نِعْمَةٌ حَادِيَةَ عَشْرَةَ. وتوكيد الْخَبَر ب إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: 135] . وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ لِلْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعَيْنِ خَبَرًا عَنْ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ شِيعَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ

مَعْنَى الْمُشَايَعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ، أَيْ كَانَ مِنْ شِيعَتِهِ حِينَ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ كَمَا جَاءَ نوح، فَذَلِك وَقَتُ كَوْنِهِ مِنْ شِيعَتِهِ، أَيْ لِأَنَّ نُوحًا جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وَفِي إِذْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِكَوْنِهِ مِنْ شِيعَتِهِ فَإِنَّ مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَثِيرُ الْعُرُوضِ لِ إِذْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 39] . وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَلَى نُوحٍ وَهِيَ ثَانِيَةَ عَشْرَةَ. وَالْبَاءُ فِي بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ جَاءَ مَعَهُ قَلَبٌ صفته السَّلامَة فيؤول إِلَى مَعْنَى: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِسَلَامَةِ قَلْبٍ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْقَلْبُ ابْتِدَاءً ثُمَّ وُصِفَ بِ سَلِيمٍ لِمَا فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ مِنْ إِحْضَارِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْقَلْبِ النَّزِيهِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَ تَنْكِيرُ «قَلْبٍ» دُونَ تَعْرِيفٍ. وسَلِيمٍ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّلَامَةِ وَهِيَ الْخَلَاصُ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَدْوَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ الْقَلْبُ ظَهَرَ أَنَّ السَّلَامَةَ سَلَامَتُهُ مِمَّا تُصَابُ بِهِ الْقُلُوبُ مِنْ أَدْوَائِهَا فَلَا جَائِزَ أَنْ تَعْنِيَ الْأَدْوَاءَ الْجَسَدِيَّةَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالْقَلْبِ إِلَّا مَقَرَّ الْإِدْرَاكِ وَالْأَخْلَاقِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ: صَاحِبُ الْقَلْبِ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ طَاعَةِ الْهَوَى وَالْعَجَبِ وَالْغُرُورِ، وَمَعَ النَّاسِ بِمِثْلِ الْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ. وَأَطْلَقَ الْمَجِيءَ عَلَى مُعَامَلَتِهِ بِهِ فِي نَفْسِهِ بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ بِحَالِ مَنْ يَجِيءُ أَحَدًا مُلْقِيًا إِلَيْهِ مَا طَلَبَهُ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ تُحَفٍ أَوْ أَلْطَافٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ فَامْتَثَلَ فَأَشْبَهَ حَالَ مَنْ دَعَاهُ فَجَاءَهُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 31] . وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ جَوَامِعَ كَمَالِ النَّفْسِ وَهِيَ مَصْدَرُ مَحَامِدِ الْأَعْمَالِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَوْلُهُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 88- 89] ، فَكَانَ عِمَادُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمُتَفَرِّعَ عَنْ قَوْلِهِ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَذَلِكَ جِمَاعُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلِذَلِكَ وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] ، فَكَانَ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ وَاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ.

ثُمَّ إِنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ قَابِلَةٌ لِلِازْدِيَادِ فَكَانَ حَظُّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهَا حَظًّا كَامِلًا لَعَلَّهُ أَكْمَلُ مِنْ حَظّ نوح بِنَاء عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ بعد مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَّخَرَ اللَّهُ مُنْتَهَى كَمَالِهَا لرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا وُصِفَتْ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَوُصِفَ الْإِسْلَامُ بِزِيَادَةِ ذَلِكَ فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَتَعْلِيقُ كَوْنِهِ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ بِهَذَا الْحِينِ الْمُضَافِ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كِنَايَةٌ عَنْ وَصْفِ نُوحٍ بِسَلَامَةِ الْقَلْبِ أَيْضًا يَحْصُلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِثْبَاتُ مِثْلِ صِفَاتِ نُوحٍ لِإِبْرَاهِيمَ وَمِنْ قَوْلِهِ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِثْبَاتُ صِفَةٍ مِثْلِ صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ لِنُوحٍ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ فِي الْإِثْبَاتَيْنِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ أُثْبِتَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالصَّرِيحِ وَيَثْبُتُ لِنُوحٍ بِاللُّزُومِ فَيَكُونُ أَضْعَفَ فِيهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. وإِذْ قالَ لِأَبِيهِ بَدَلٌ مِنْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَمَّا نَشَأَ عَنِ امْتِلَاءِ قَلْبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْغَضَبِ لِلَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ كَالشَّيءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ قَلْبُهُ السَّلِيمُ فَصَدَرَ عَنْهُ. وماذا تَعْبُدُونَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ على أَن يعبدوا مَا يَعْبُدُونَهُ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ إنكاري وَهُوَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. وَهَذَا الَّذِي اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ «مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُشْرَبٌ مَعْنَى الْمَوْصُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَاقْتَضَى أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ مُشَاهَدٌ لِإِبْرَاهِيمَ فَانْصَرَفَ الِاسْتِفْهَامُ بِذَلِكَ إِلَى مَعْنًى دُونَ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [70] فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ وَلِذَلِكَ أَجَابُوا عَنْهُ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [71] ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ هُنَالِكَ التَّمْهِيدَ إِلَى الْمُحَاجَّةِ فَصَوَّرَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِسَمَاعِ جَوَابِهِمْ فَيَنْتَقِلُ إِلَى إِبْطَالِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ تَرْتِيبِ حِجَاجِهِ هُنَالِكَ، فَذَلِكَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَحِكَايَةٌ لِبَعْضِ أَقْوَالِهِ فِي إِعَادَةِ الدَّعْوَةِ وتأكيدها. وَجُمْلَة أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَاذَا تَعْبُدُونَ بَيَّنَ بِهِ مَصَبَّ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: مَاذَا تَعْبُدُونَ وَإِيضَاحَهُ، أَيْ كَيْفَ تُرِيدُونَ آلِهَةً إِفْكًا.

وَإِرَادَةُ الشَّيْءِ: ابْتِغَاؤُهُ وَالْعَزْمُ عَلَى حُصُولِهِ، وَحَقُّ فِعْلِهَا أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعَانِي قَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ: تُرِيدِينَ قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِكَ فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الذَّوَاتِ كَانَ عَلَى مَعْنَى يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الذَّوَاتِ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ الْأَسَدِيِّ: أَرَادَتْ عِرَارًا بِالْهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ ... عِرَارًا لَعَمْرِي بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ تُرِيدُونَ إِلَى آلِهَةً عَلَى مَعْنَى: تُرِيدُونَهَا بِالْعِبَادَةِ أَوْ بِالتَّأْلِيهِ، فَكَانَ مَعْنَى آلِهَةً دَلِيلًا عَلَى جَانِبِ إِرَادَتِهَا. فَانْتَصَبَ آلِهَةً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى جِهَةِ تَجَاوُزِ مَعْنَى الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ. وَانْتَصَبَ إِفْكاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُرِيدُونَ أَيْ آفِكِينَ. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ آلِهَةٍ، أَيْ آلِهَةٍ مَكْذُوبَةٍ، أَيْ مَكْذُوبٌ تَأْلِيهُهَا. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَاعِلِ أَوْ مَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَقُدِّمَتِ الْحَالُ عَلَى صَاحِبِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّعْجِيلِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ كَذِبِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: دُونَ اللَّهِ أَيْ خِلَافَ اللَّهِ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ قَوْمِهِ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ غَيْرَ مُعْتَرِفِينَ بِإِلَهٍ غَيْرِ أَصْنَامِهِمْ، وَلِاعْتِبَارِهِمْ مُشْرِكِينَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْعَرَبَ بَقِيَتْ فِيهِمْ أَثَارَةٌ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ فَلَمْ يَنْسَوْا وَصْفَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَهُمُ الْكِلْدَانُ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ نَظِيرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيُونَانُ وَالْقِبْطُ. وَفَرَّعَ عَلَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى الْخَطَأِ، وَأُرِيدَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقَادُ الْخَطَأُ. وَسُمِّيَ ظَنًّا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ وَلَمْ يُسَمِّهِ عِلْمًا لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى

الِاعْتِقَادِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ وَلِذَلِكَ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: «صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ» وَلَا يَنْتَفِي احْتِمَالُ النَّقِيضِ إِلَّا مَتَى كَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ. وَكَثُرَ إِطْلَاقُ الظَّنِّ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمُخْطِئِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [116] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُس: 36] . وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّ اعْتِقَادَكُمْ فِي جَانِبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَهْلٌ مُنْكَرٌ. وَفِعْلُ الظَّنِّ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ أَشْعَرَ غَالِبًا بِظَنٍّ صَادِقٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَاب: 10] وَقَالَ: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ [فصلت: 23] . وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الظَّنِينِ عَلَى الْمُتَّهَمِ فَإِنَّ أَصْلَهُ: ظَنِينٌ بِهِ، فَحُذِفَتِ الْبَاءُ وَوُصِلَ الْوَصْفُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْأَكْثَرُ حَذْفُ مَفْعُولِهِ وَكَانَتِ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ ظَنَّ ظَنًّا مُلْصَقًا بِاللَّه، أَي مدّعى تَعَلُّقَهُ بِاللَّهِ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مَا لَيْسَ لَائِقًا بِاللَّهِ. وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [10] . وَالْمَعْنَى: فَمَا ظنكم السيّء بِاللَّهِ، وَلَمَّا كَانَ الظَّنُّ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ فَتَعْدِيَتُهُ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ دُونَ إِتْبَاعِ الِاسْمِ بِوَصْفٍ مُتَعَيِّنَةٌ لِتَقْدِيرِ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ. وَقَدْ حُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ هُنَا لِقَصْدِ التَّوَسُّعِ فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ بِكُلِّ احْتِمَالٍ مُنَاسِبٍ تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي فَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ مِنْ ذَاتِ ربّ الْعَالمين أَو صافه. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْهَا الْكُنْهُ وَالْحَقِيقَةُ، فَاعْتِبَارُ الْوَصْفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ مِنْهُ الرَّبُّ وَهُوَ الرُّبُوبِيَّةُ وَهِيَ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ تَدْرِيجًا وَرِفْقًا فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْبَقَاءِ وَالْإِمْدَادِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَشْكُرَ الْمُمَدُّ فَلَا يَصُدُّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَمَا ظَنُّكُمْ أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ الْمُتَمَثِّلِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِإِنْعَامِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ أَحَدُ مَعْنَيَيِ الرَّبِّ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَعْنَى

[سورة الصافات (37) : الآيات 88 إلى 96]

الْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَمَا ظَنُّكُمْ مَاذَا يَفْعَلُ بِكُمْ مِنْ عِقَابٍ عَلَى كُفْرَانِهِ وَهُوَ مَالِكُكُمْ وَمَالِكُ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا جَوَازُ اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكُنْهِهِ. فَالتَّقْدِيرُ فِيهِ: فَمَا ظَنُّكُمْ بِكُنْهِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّكُمْ جَاهِلُونَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا وَفِي مقدمتها الوحدانية. [88- 96] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 88 إِلَى 96] فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) مُفَرَّعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الصافات: 85] تَفْرِيعُ قِصَصٍ بِعَطْفِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ بِالْفَاءَاتِ هُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَى قَوْلِهِ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا فَتَمْهِيدٌ لَهَا وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَكَسْرِهَا لِيَظْهَرَ لِعَبَدَتِهَا عَجْزُهَا. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» «قَالَ قَتَادَةُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَفَكَّرَ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ، يَعْنِي قَتَادَةُ: أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ مُتَفَكِّرًا فِيمَا يُلْهِيهِمْ بِهِ» اه. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ الْخَلِيلِ وَالْمُبَرِّدِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ يُدَبِّرُهُ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ، أَيْ أَنَّهُ نَظَرَ فِي النُّجُومِ، مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ التَّفْكِيرِ لِأَنَّ الْمُتَفَكِّرَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْمَرْئِيَّاتِ فَيَخْلُوَ بِفِكْرِهِ لِلتَّدَبُّرِ فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَظَرَ فِي النُّجُومِ وَهِيَ طَالِعَةٌ لَيْلًا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَظَرَ لِلسَّمَاءِ الَّتِي هِيَ قَرَارُ النُّجُومِ وَذِكْرُ النُّجُومِ جَرَى عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَجَنَحَ الْحَسَنُ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى النُّجُومِ بِالْمَصَدَرِ أَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا نَجَمَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ، يَعْنِي أَنَّ النُّجُومَ مَصْدَرُ نَجَمَ بِمَعْنَى ظَهَرَ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ: نَظَرَ هُنَا تَفَكَّرَ فِيمَا نَجَمَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَمَّا سَأَلُوهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ لِيُدَبِّرَ حُجَّةً.

وَالْمَعْنَى: فَفَكَّرَ فِي حِيلَةٍ يَخْلُو لَهُ بِهَا بُدُّ أَصْنَامِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ لِيَلْزَمَ مَكَانَهُ وَيُفَارِقُوهُ فَلَا يُرِيهم بَقَاؤُهُ حَوْلَ بُدِّهِمْ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِبْطَالِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِالْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ: أَنَّ التَّعْقِيبَ الَّذِي أَفَادَتْهُ الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَنَظَرَ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ نَحْسَبُهُ فَيُفِيدُ كَلَامًا مَطْوِيًّا يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي قَالَ فِيهَا: إِنِّي سَقِيمٌ وَالَّتِي تَفَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ [الذاريات: 26] إِلَخْ. وَتَقْيِيدُ النَّظْرَةِ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ فِي قَوْلِهِ: نَظْرَةً إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُ الْمَكِيدَةَ وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْحُجَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51] . وَقَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ عُذْرٌ انْتَحَلَهُ لِيَتْرُكُوهُ فَيَخْلُو بِبَيْتِ الْأَصْنَامِ لِيَخْلُصَ إِلَيْهَا عَنْ كَثَبٍ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنِ الْإِيقَاعِ بِهَا. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ بَيَانٌ لِهَذَا لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ خُرُوجِهِ مَعَ قَوْمِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ عِيدٍ يَخْرُجُونَ فِيهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ فَافْتَرَضَ إِبْرَاهِيمُ خُرُوجَهُمْ لِيَخْلُوَ بِبُدِّ الْأَصْنَامِ وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. وَالسَّقِيمُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُوَ الْمَرِيضُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84] . يُقَالُ: سَقِمَ بِوَزْنِ مَرِضَ، وَمَصْدَرُهُ السَّقَمُ بِالتَّحْرِيكِ، فَيُقَالُ: سِقَامٌ وَسُقْمٌ بِوَزْنِ قُفْلٍ. وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَالْمُفَارَقَةُ. لَمْ ينْطق إِبْرَاهِيم فَإِن النُّجُومَ دَلَّتْهُ عَلَى أَنَّهُ سَقِيمٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ قَوْلَهُ: إِنِّي سَقِيمٌ مُقَارِنًا لِنَظَرِهِ فِي النُّجُوم أَو هم قَوْمَهَ أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ النُّجُومِ حَسَبَ أَوْهَامِهِمْ. ومُدْبِرِينَ حَالٌ، أَيْ وَلَّوْهُ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ: ظُهُورَهُمْ. وَالْمَعْنَى: ذَهَبُوا وَخَلَّفُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُونَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُدْبِرِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ وَهُوَ مِنَ التَّوْكِيدِ الْمُلَازِمِ لِفِعْلِ التَّوَلِّي غَالِبًا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ تَوَلِّي مُخَالَفَةٍ وَكَرَاهَةٍ دُونَ انْتِقَالِ. وَمَا وَقَعَ فِي التَّفَاسِيرِ فِي مَعْنَى نَظَرِهِ فِي النُّجُومِ وَفِي تَعْيِينِ سُقْمِهِ الْمَزْعُومِ كَلَامٌ لَا يُمْتِعُ بَيْنَ مَوَازِينِ الْمَفْهُومِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلنُّجُومِ دَلَالَةً عَلَى حُدُوثِ شَيْءٍ مِنْ حَوَادِثِ الْأُمَمِ وَلَا الْأَشْخَاصِ وَمَنْ يَزْعُمْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ

دِينًا، وَاخْتَلَّ نَظَرًا وَتَخْمِينًا. وَقَدْ دَوَّنُوا كَذِبًا كَثِيرًا فِي ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ عِلْمَ أَحْكَامِ الْفَلَكِ أَوِ النُّجُومِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي سَقِيمٌ لَمْ يَكُنْ مَرَضًا وَلِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاث كذبات اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: 63] ، وَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ سَارَةَ فَقَالَ: «هِيَ أُخْتِي» الْحَدِيثَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ مِنْ نِسْبَةِ الْكَذِب إِلَى نبيء. وَدَفْعُ الْإِشْكَالِ: أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْكَلَامِ كَذِبًا مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى مَا يُفْهِمُهُ أَوْ يُعْطِيهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَمَا هُوَ بِالْكَذِبِ الصُّرَاحِ بَلْ هُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ، أَيْ أَنِّي مِثْلُ السَّقِيمِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ، أَوْ فِي التَّأَلُّمِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُ: «هِيَ أُخْتِي» أَرَادَ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ التَّهَكُّمَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: 63] لِظُهُورِ قَرِينَةِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّغْلِيطُ. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لَا تَدْفَعُ إِشْكَالًا يَتَوَجَّهُ عَلَى تَسْمِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَامَ بِأَنَّهُ كِذْبَاتٌ. وَجَوَابُهُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَةِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ التَّشْبِيهُ الْبَلِيغُ، وَلَا الْمَجَازُ، وَلَا التَّهَكُّمُ، فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْمِهِ كَذِبًا وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِعْلَ ذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ بِتَأْوِيلِهِ كَمَا أَذِنَ لِأَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا مِنْ عِصِيٍّ فَيَضْرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِيُبِرَّ قَسَمَهُ إِذْ لَمْ تَكُنِ الْكَفَّارَةُ مَشْرُوعَةً فِي دِينِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِعْلُ «رَاغَ» مَعْنَاهُ: حَادَ عَنِ الشَّيْءِ، وَمَصْدَرُهُ الرَّوْغُ وَالرَّوَغَانُ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الذَّهَابِ إِلَى أَصْنَامِهِمْ مُخَاتَلَةً لَهُمْ وَلِأَجْلِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الذَّهَابِ عُدِّيَ بِ إِلى. وَإِطْلَاقُ الْآلِهَةِ عَلَى الْأَصْنَامِ مُرَاعًى فِيهِ اعْتِقَادُ عَبَدَتِهَا بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِهِمْ، أَيْ إِلَى الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ لَهُمْ. وَمُخَاطَبَةُ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ بِقَوْلِهِ: أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ وَهُوَ فِي حَالِ خَلْوَةٍ بِهَا وَعَلَى غَيْرِ مَسْمَعٍ مِنْ عَبَدَتِهَا قُصِدَ بِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نَفْسِهِ غَضَبًا

عَلَيْهَا إِذْ زَعَمُوا لَهَا الْإِلَهِيَّةَ لِيَزْدَادَ قُوَّةَ عَزْمٍ عَلَى كَسْرِهَا. فَلَيْسَ خِطَابُ إِبْرَاهِيمَ لِلْأَصْنَامِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهُ وَهُوَ تَذْكُرُ كَذِبِ الَّذِينَ أَلَّهُوهَا وَالَّذِينَ سَدَنُوا لَهَا وَزَعَمُوا أَنَّهَا تَأْكُلُ الطَّعَامَ الَّذِي يَضَعُونَهُ بَيْنَ يَدَيْهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُكَلِّمُهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ (رَاغَ) هُنَا مُضَمَّنًا مَعْنَى (أَقْبَلَ) مِنْ جِهَةٍ مَائِلَةٍ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَهَا ثُمَّ أَخَذَ يَضْرِبُهَا ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: 102] . وَانْتَصَبَ ضَرْباً بِالْيَمِينِ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فَراغَ أَيْ ضَارِبًا. وَتَقْيِيدُ الضَّرْبِ بِالْيَمِينِ لِتَأْكِيدِ ضَرْباً أَيْ ضَرْبًا قَوِيًّا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 45] وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ فَلَمَّا عَلِمُوا بِمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ بِأَصْنَامِهِمْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنْ يُحْضِرُهُ فِي مَلَئِهِمْ حَوْلَ أَصْنَامِهِمْ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُجْمِلَ هُنَا. فَالتَّعْقِيبُ فِي قَوْلِهِ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ تَعْقِيبٌ نِسْبِيٌّ وَجَاءَهُ الْمُرْسَلُونَ إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ يَزِفُّونَ أَيْ يَعْدُونَ، وَالزَّفُّ: الْإِسْرَاعُ فِي الْجَرْيِ، وَمِنْهُ زَفِيفُ النَّعَامَةِ وَزَفُّهَا وَهُوَ عَدْوُهَا الْأَوَّلُ حِينَ تَنْطَلِقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَزِفُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ زَفَّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَزَفَّ، أَيْ شَرَعُوا فِي الزَّفِيفِ، فَالْهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ بَلْ لِلدُّخُولِ فِي الْفِعْلِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: أَدْنَفَ، أَيْ صَارَ فِي حَالِ الدَّنَفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِ الْهَمْزَةِ لِلصَّيْرُورَةِ. وَجُمْلَةُ قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ إِقْبَالَ الْقَوْمِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بِحَالَةٍ تُنْذِرُ بِحِنْقِهِمْ وَإِرَادَةِ الْبَطْشِ بِهِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَسَاؤُلًا عَنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ فِي تَلَقِّيهِ بِأُولَئِكَ وَهُوَ فَاقِدٌ لِلنَّصِيرِ مُعَرَّضٌ لِلنَّكَالِ فَيَكُونُ قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا

تَنْحِتُونَ جَوَابًا وَبَيَانًا لِمَا يَسْأَلُ عَنهُ، وَذَلِكَ منبىء عَنْ رِبَاطَةِ جَأْشِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ لَمْ يَتَلَقَّ الْقَوْمَ بِالِاعْتِذَارِ وَلَا بِالِاخْتِفَاءِ، وَلَكِنَّهُ لَقِيَهُمْ بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [63] . ثُمَّ أَنْحَى عَلَيْهِمْ بِاللَّائِمَةِ وَالتَّوْبِيخِ وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ إِذْ بَلَغُوا مِنَ السَّخَافَةِ أَنْ يَعْبُدُوا صُوَرًا نَحَتُوهَا بِأَيْدِيهِمْ أَوْ نَحَتَهَا أَسْلَافُهُمْ، فَإِسْنَادُ النَّحْتِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيلَةِ إِذَا فَعَلَهُ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِمْ: بَنُو أَسَدٍ قَتَلُوا حُجْرَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا امْرِئِ الْقَيْسِ. وَالنَّحْتُ: بَرْيُ الْعُودِ لِيَصِيرَ فِي شَكْلٍ يُرَادُ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَصْنَامُ مِنَ الْخَشَبِ فَإِطْلَاقُ النَّحْتِ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حِجَارَةٍ كَمَا قِيلَ، فَإِطْلَاقُ النَّحْتِ عَلَى نَقْشِهَا وَتَصْوِيرِهَا مَجَازٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ تَسَلُّطِ فِعْلِهِمْ عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ، أَيْ أَنَّ شَأْنَ الْمَعْبُودِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَا مُنْفَعِلًا، فَمِنَ الْمُنْكَرِ أَنْ تَعْبُدُوا أَصْنَامًا أَنْتُمْ نَحَتُّمُوهَا وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْكُمْ. وَالْوَاوُ فِي وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ أَتَيْتُمْ مُنْكَرًا إِذْ عَبَدْتُمْ مَا تَصْنَعُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ وَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ مَخْلُوقَاتٍ دُونَكُمْ. وَالْحَالُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْجِيبِ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا بَعْدَ وَاوِ الْحَالِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَعْبُدُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَا نَحَتُّمُوهُ. وَمَا مَوْصُولَةٌ وتَعْمَلُونَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْكَثِيرَةِ، أَيْ وَمَا تَعْمَلُونَهَا. وَمَعْنَى تَعْمَلُونَ تَنْحِتُونَ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ إِعَادَةِ فِعْلِ تَنْحِتُونَ لِكَرَاهِيَةِ تَكْرِيرِ الْكَلِمَةِ فَلَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ تَنْحِتُونَ عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِ مَا تَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْمُولُ الْخَاصُّ وَهُوَ الْمَعْمُولُ لِلنَّحْتِ لِأَنَّ الْعَمَلَ أَعَمُّ. يُقَالُ: عَمِلَتُ قَمِيصًا وَعَمِلَتُ خَاتَمًا. وَفِي حَدِيثِ صُنْعِ الْمِنْبَرِ «أَرْسَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ عَلَيْهَا النَّاسَ» . وَخَلْقُ اللَّهِ إِيَّاهَا ظَاهِرٌ، وَخُلْقُهُ مَا يَعْمَلُونَهَا: هُوَ خَلْقُ الْمَادَّةِ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا

[سورة الصافات (37) : الآيات 97 إلى 98]

مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ إِسْنَادِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَإِسْنَادِ الْعَمَلِ إِلَيْهِمْ بِإِسْنَادِ فِعْلِ تَعْمَلُونَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَهُوَ تَمَسُّكٌ ضَعِيفٌ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَقَامَ يُرَجِّحُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِذْ هُوَ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْفُسَهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَالْأَوْلَى الْمَصِيرُ إِلَى أَدِلَّة أُخْرَى. [97- 98] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 97 إِلَى 98] قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) الْجَحِيمِ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْوَقُودِ، وَكُلُّ نَارٍ عَلَى نَارٍ وَجَمْرٍ فَوْقَ جَمْرٍ فَهُوَ جَحِيمٌ. وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَبَّرَ هُنَا بِ الْأَسْفَلِينَ وَهُنَالِكَ ب الْأَخْسَرِينَ [الْأَنْبِيَاء: 70] وَالْأَسْفَلُ هُوَ الْمَغْلُوبُ لِأَنَّ الْغَالِبَ يُتَخَيَّلُ مُعْتَلِيًا عَلَى الْمَغْلُوبِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلْمَغْلُوبِ، وَالْأَخْسَرُ هُنَالِكَ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ لَا يَحْصُلُ مِنْ سَعْيِهِ على بغيته. [99- 100] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 99 إِلَى 100] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) لَمَّا نَجَا إِبْرَاهِيمُ مِنْ نَارِهِمْ صَمَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ (أُورَ الْكِلْدَانِيِّينَ) . وَهَذِهِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْبُعْدِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَالتَّوْرَاةُ بَعْدَ أَنْ طَوَتْ سَبَبَ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُ خَرَجَ قَاصِدًا بِلَادَ حَرَّانَ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ (وَهِيَ بِلَادُ الْفِينِيقِيِّينَ) . وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ عَلَنًا فِي قَوْمِهِ لِيَكُفُّوا عَنْ أَذَاهُ، وَكَانَ الْأُمَمُ الْمَاضُونَ يَعُدُّونَ الْجَلَاءَ مِنْ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ، قَالَ زُهَيْرٌ:

وَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ... يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ وَلِذَلِكَ لَمَّا أُمِرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّة لم يتَعَرَّض لَهُ قُرَيْش فِي بادىء الْأَمْرِ ثُمَّ خَافُوا أَنْ تَنْتَشِرَ دَعْوَتُهُ فِي الْخَارِجِ فَرَامُوا اللَّحَاقَ بِهِ فَحَبَسَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ الَّذِينَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ مَعَهُ فَمَعْنَى ذاهِبٌ إِلى رَبِّي مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ وَلَا أَعْبُدُ آلِهَةً غَيْرَهُ وَلَا أُفْتَنُ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا فُتِنْتُ فِي بَلَدِهِمْ. وَمُرَادُ اللَّهِ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى بُلُوغِ مَكَّةَ لِيُقِيمَ هُنَالِكَ أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِإِعْلَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ فَسَلَكَ بِهِ الْمَسَالِكَ الَّتِي سَلَكَهَا حَتَّى بَلَغَ بِهِ مَكَّةَ وَأَوْدَعَ بِهَا أَهْلًا وَنَسْلًا، وَأَقَامَ بِهَا قَبِيلَةً دِينُهَا التَّوْحِيدُ، وَبَنَى لِلَّهِ مَعْبَدًا، وَجَعَلَ نَسْلَهُ حَفَظَةَ بَيْتِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْغَايَةِ بِالْوَحْيِ أَوْ سَتَرَهَا عَنْهُ حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ عِنْدَهَا فَلِذَلِكَ أَنْطَقَهُ بِأَنَّ ذَهَابَهُ إِلَى اللَّهِ نُطْقًا عَنْ عِلْمٍ أَوْ عَنْ تَوْفِيقٍ. وَجُمْلَةُ سَيَهْدِينِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَ قَوْمِهِ بِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِرَبِّهِ وَأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ لَهُ فِي مُفَارَقَتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الْجُمْلَةِ حَالًا اقْتِرَانُهَا بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ فَإِنَّ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي مُقَدِّرًا، كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مَجِيءُ الْحَالِ مَعْمُولًا لِعَامِلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: 62] وَقَوْلِ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ: سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلِيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا وَامْتِنَاعُ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ مَذْهَبٌ بَصْرِيٌّ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِ اسْتِعْمَالِ الْحَالِ، وَجَوَازُهُ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْإِنْصَافِ» ، وَالْحَقُّ فِي جَانِبِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. وَقَدْ تَلَقَّفَ الْمَذْهَبَ الْبَصْرِيَّ مُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَتَحَيَّرَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ فِي تَأْيِيدِهِ فَلَجَأُوا إِلَى أَنَّ عِلَّتَهُ اسْتِبْشَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَوْنِ الْكَلِمَةِ حَالًا وَبَيْنَ اقْتِرَانِهَا بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ. وَنُبَيِّنُهُ بِأَنَّ الْحَالَ مَا سُمِّيَتْ حَالًا إِلَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا ثُبُوتُ وَصْفٍ فِي الْحَالِ وَهَذَا يُنَافِي اقْتِرَانَهَا

بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ تَنَافِيَا فِي الْجُمْلَةِ. هَذَا بَيَانُ مَا وَجَّهَ بِهِ الرَّضِيُّ مَذْهَبَ الْبَصرِيين وَتَبعهُ التفتازانيّ فِي مَبْحَثِ الْحَالِ مِنْ شَرْحِهِ الْمُطَوَّلِ عَلَى «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» . وَفِي مَبْحَثِ الِاسْتِفْهَامِ بِ (هَلْ) مِنْهُ. وَقَدْ زَيَّفَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ» ذَلِكَ التَّوْجِيهَ فِي مَبْحَثِ الْحَالِ تَزْيِيفًا رَشِيقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ سَيَهْدِينِ مُسْتَأْنَفَةً وَبِذَلِكَ أَجَابَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ عَنْ تَمَسُّكِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ بِالْآيَةِ فِي جَوَازِ اقْتِرَانِ الْحَالِ بِعِلْمِ الِاسْتِقْبَالِ، فَالِاسْتِئْنَافُ بَيَانِيٌّ بَيَانًا لِسَبَبِ هِجْرَتِهِ. وَجُمْلَةُ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بَقِيَّةُ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُهَاجِرٌ اسْتَشْعَرَ قِلَّةَ أَهْلِهِ وَعُقْمَ امْرَأَتِهِ وَثَارَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ إِزْمَاعِ الرَّحِيلِ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِقِلَّةِ الْأَهْلِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ يَكُونُ أَقْوَى لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمِهِ كَانَ لَهُ بَعْضُ السُّلُوِّ بِوُجُودِ قَرَابَتِهِ وَأَصْدِقَائِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ النَّسْلَ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ عَشَرَ) «وَقَالَ أَبْرَامُ إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلًا وَهَذَا ابْنُ بَيْتِي (بِمَعْنَى مَوْلَاهُ) وَارِث لي (أَنهم كَانُوا إِذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ وَرِثَهُ مَوَالِيهِ) » . وَكَانَ عُمْرُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لَفْظُ الْهِبَةِ غَلَبَ فِي الْوَلَدِ. لَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَلَبَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْوَلَدِ: وَلَا أَحْسَبُهُ غَلَبَ فِيهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مَرْيَم: 53] . فَحَذَفَ مَفْعُولَ الْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْوَلَدِ تَكُونُ أَكْمَلَ إِذَا كَانَ صَالِحًا فَإِنَّ صَلَاحَ الْأَبْنَاءِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِلْآبَاءِ، وَمِنْ صَلَاحِهِمْ برّهم بوالديهم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 101 إلى 102]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 101 إِلَى 102] فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) الْفَاءُ فِي فَبَشَّرْناهُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْبِشَارَةُ: الْإِخْبَارُ بِخَيْرٍ وَارِدٍ عَنْ قُرْبٍ أَوْ عَلَى بُعْدٍ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ أَوْ يُوجَدُ لَهُ نَسْلٌ عَقِبَ دُعَائِهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ عَشَرَ فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ وَأَنَّهُ يَهَبُهُ وَلَدًا بَعْدَ زَمَانٍ، فَالتَّعْقِيبُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ بَشَّرَهُ بِغُلَامٍ بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ حَمَلَتْ مِنْهُ هَاجَرُ جَارَيْتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَالتَّعْقِيبُ نِسْبِيٌّ، أَيْ بَشَّرْنَاهُ حِينَ قَدَّرْنَا ذَلِكَ أَوَّلَ بِشَارَةٍ بِغُلَامٍ فَصَارَ التَّعْقِيبُ آئِلًا إِلَى الْمُبَادَرَةِ كَمَا يُقَالُ: تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ هُوَ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ الَّذِي وُلِدَ لَهُ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ لَا مَحَالَةَ. وَالْحَلِيمُ: الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ وَهُوَ اسْمٌ يَجْمَعُ أَصَالَةَ الرَّأْيِ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالرَّحْمَةَ بِالْمَخْلُوقِ. قِيلَ: مَا نَعَتَ اللَّهَ الْأَنْبِيَاءُ بِأَقَلَّ مِمَّا نَعَتَهُمْ بِالْحِلْمِ. وَهَذَا الْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ ابْنُهُ الْبِكْرُ وَهَذَا غَيْرُ الْغُلَامِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28] فَذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ عَلِيمٍ. وَهَذَا وُصِفَ بِ حَلِيمٍ. وَأَيْضًا ذَلِكَ كَانَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ بِمَحْضَرِ سَارَةَ أُمِّهِ وَقَدْ جُعِلَتْ هِيَ الْمُبَشَّرَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ: يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] ، فَتِلْكَ بِشَارَةُ كَرَامَةٍ وَالْأَوْلَى بِشَارَةُ اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ، فَلَمَّا وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ تَحَقَّقَ أَمَلُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ مِنْ صُلْبِهِ. فَالْبِشَارَةُ بِإِسْمَاعِيلَ لَمَّا كَانَتْ عَقِبَ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ عُطِفَتْ هُنَا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَبِشَارَتُهُ بِإِسْحَاقَ ذُكِرَتْ فِي هَذِه السُّورَة معطوفة بِالْوَاوِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالْفَاءُ فِي فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا مُفْصِحَةٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: فَوُلِدَ لَهُ وَيَفَعَ وَبَلَغَ السَّعْيَ فَلَمَّا بَلَغَ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِلَخْ، أَيْ بَلَغَ أَنْ

يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ، أَيْ بَلَغَ سِنَّ مَنْ يَمْشِي مَعَ إِبْرَاهِيم فِي شؤونه. فَقَوْلُهُ: مَعَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّعْيِ وَالضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي بَلَغَ لِلْغُلَامِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَعَهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. والسَّعْيَ مَفْعُولُ بَلَغَ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ مَنَعَ تَقَدُّمَ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الظُّرُوفَ يُتَوَسَّعُ فِيهَا مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَعْمُولَاتِ. وَكَانَ عُمْرُ إِسْمَاعِيلَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَحِينَئِذٍ حَدَّثَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ بِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَكَانَ أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ يُوحَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَّا فِي الْيَقَظَةِ مَعَ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ دُونَ رُؤْيَا الْمَنَامِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الرُّؤْيَا وَحْيًا لَهُ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ مِثْلَ الْكَشْفِ عَلَى مَا يَقَعُ وَمَا أُعِدَّ لَهُ وَبَعْضِ مَا يَحِلُّ بِأُمَّتِهِ أَوْ بِأَصْحَابِهِ، فَقَدْ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ فَلَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَأَى بَقَرًا تُذْبَحُ فَكَانَ تَأْوِيلُ رُؤْيَاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَقَدْ يُرَجَّحُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ مِنَ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِسْرَاءَ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقَظَةً وَبِالْجَسَدِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَنَامِ وَبِالرُّوحِ خَاصَّةً، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ فِي لَيْلَتِهِ وَالصَّلَاةُ ثَانِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُفْرَضَ فِي أَكْمَلِ أَحْوَال الْوَحْي للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَالُ الْيَقَظَةِ فَافْهَمْ. وَأَمْرُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ أَمْرُ ابْتِلَاءٍ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْرِيعَ إِذْ لَوْ كَانَ تَشْرِيعًا لَمَا نُسِخَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ الْحِكْمَةَ مِنَ التَّشْرِيعِ بِخِلَافِ أَمْرِ الِابْتِلَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ إِظْهَارُ عَزْمِهِ وَإِثْبَاتُ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ عَزِيزٌ عَلَى نَفْسِ الْوَالِدِ، وَالْوَلَدُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ أَمَلُ الْوَالِدِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ أَشَدُّ عِزَّةً عَلَى نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ سَأَلَ وَلَدًا لِيَرِثَهُ نَسْلُهَ وَلَا يَرِثَهُ مَوَالِيهِ، فَبَعْدَ أَنْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِإِجَابَةِ سُؤْلِهِ وَتَرَعْرُعِ وَلَدِهِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْبَحَهُ فَيَنْعَدِمَ نَسْلُهُ وَيَخِيبَ أَمَلُهُ وَيَزُولَ أُنْسُهُ وَيَتَوَلَّى بِيَدِهِ إِعْدَامَ أَحَبِّ النُّفُوسِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ الِابْتِلَاءِ. فَقَابَلَ أَمْرَ رَبِّهِ بِالِامْتِثَالِ وَحَصَلَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ مِنَ ابْتِلَائِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] .

وَإِنَّمَا بَرَزَ هَذَا الِابْتِلَاءُ فِي صُورَةِ الْوَحْيِ الْمَنَامِيِّ إِكْرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ عَنْ أَنْ يُزْعَجَ بِالْأَمْرِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ بِوَحْيٍ فِي الْيَقَظَةِ لِأَنَّ رُؤَى الْمَنَامِ يَعْقُبُهَا تَعْبِيرُهَا إِذْ قَدْ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى رُمُوزٍ خَفِيَّةٍ وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِنَفْسِهِ لِتَلَقِّي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَبْحُ ابْنِهِ الْوَحِيدِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى فَاءُ تَفْرِيعٍ، أَوْ هِيَ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، أَيْ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى. وَالنَّظَرُ هُنَا نَظَرُ الْعَقْلِ لَا نَظَرُ الْبَصَرِ فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَلَكِنْ عَلَّقَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْعَمَلِ. وَالْمَعْنَى: تَأَمَّلْ فِي الَّذِي تُقَابِلُ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْغُلَامِ كَانَ لِلْغُلَامِ حَظٌّ فِي الِامْتِثَالِ وَكَانَ عَرْضُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا عَلَى ابْنه عرض اختبار لِمِقْدَارِ طَوَاعِيَتِهِ بِإِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي ذَاتِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ بِالرِّضَى وَالِامْتِثَالِ مَرْتَبَةُ بَذْلِ نَفْسِهِ فِي إِرْضَاءِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَرْجُو مِنِ ابْنِهِ إِلَّا الْقَبُولَ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ ابْنِهِ وَلَيْسَ إِبْرَاهِيمُ مَأْمُورًا بِذَبْحِ ابْنِهِ جَبْرًا، بَلِ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ تَعَلَّقَ بِمَأْمُورَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِتَلَقِّي الْوَحْيِ، وَالْآخَرُ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، فَلَوْ قَدَّرَ عِصْيَانَهُ لَكَانَ حَالُهُ فِي ذَلِكَ حَالَ ابْنِ نُوحٍ الَّذِي أَبَى أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ لَمَّا دَعَاهُ أَبُوهُ فَاعْتُبِرَ كَافِرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَاذَا تَرى بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ مَاذَا تُرِينِي مِنَ امْتِثَالٍ أَوْ عَدَمِهِ. وَحُكِيَ جَوَابُهُ فَقَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ دُونَ عَطْفٍ، جَرْيًا عَلَى حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَابْتِدَاءُ الْجَوَابِ بِالنِّدَاءِ وَاسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ وَإِضَافَةُ الْأَبِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَوَّضِ عَنْهَا التَّاءُ الْمُشْعِرُ تَعْوِيضُهَا بِصِيغَةِ تَرْقِيقٍ وَتَحَنُّنٍ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الذَّبْحِ بِالْمَوْصُولِ وَهُوَ مَا تُؤْمَرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: اذْبَحْنِي، يُفِيدُ وَحْدَهُ إِيمَاءً إِلَى السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَ جَوَابَهُ امْتِثَالًا لِذَبْحِهِ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 103 إلى 107]

وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ تُؤْمَرُ لِظُهُورِ تَقْدِيرِهِ: أَيْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ. وَبَقِيَ الْفِعْلُ كَأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَهَذَا الْحَذْفُ يُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: افْعَلْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِذْنِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: اذْبَحْنِي، إِلَى افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْإِذْنِ وَتَعْلِيلِهِ، أَيْ أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَذْبَحَنِي لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِذَلِكَ، فَفِيهِ تَصْدِيقُ أَبِيهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ. وَجُمْلَةُ سَتَجِدُنِي هِيَ الْجَوَابُ لِأَنَّ الْجُمَلَ الَّتِي قَبْلَهَا تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ كَمَا عَلِمْتَ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَثَّهُ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَعَدَهُ بِالِامْتِثَالِ لَهُ وَبِأَنَّهُ لَا يَجْزَعُ وَلَا يَهْلَعُ بَلْ يَكُونُ صَابِرًا، وَفِي ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ عِبْءِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ لِأَبِيهِ مِنَ الْحُزْنِ لِكَوْنِهِ يُعَامِلُ وَلَدَهُ بِمَا يَكْرَهُ. وَهَذَا وَعْدٌ قَدْ وَفَّى بِهِ حِينَ أَمْكَنَ أَبَاهُ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي شَكَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم: 54] ، وَقَدْ قَرَنَ وَعْدَهُ بِ إِنْ شاءَ اللَّهُ اسْتِعَانَةً عَلَى تَحْقِيقِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الصَّابِرِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِ بِالصَّبْرِ مَا لَيْسَ فِي الْوَصْفِ: بِصَابِرٍ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي عِدَادِ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالصَّبْرِ وَعُرِفُوا بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَعَدَ الْخَضِرَ قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الْكَهْف: 69] لِأَنَّهُ حُمِلَ عَلَى التَّصَبُّرِ إِجَابَةً لمقترح الْخضر. [103- 107] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 103 إِلَى 107] فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) أَسْلَما اسْتَسْلَمَا. يُقَالُ: سَلَّمَ وَاسْتَسْلَمَ وَأَسْلَمَ بِمَعْنَى: انْقَادَ وَخَضَعَ، وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ أَسْلَمَا لِأَمْرِ اللَّهِ فَاسْتِسْلَامُ إِبْرَاهِيمَ بِالتَّهَيُّؤِ

لِذَبْحِ ابْنِهِ، وَاسْتِسْلَامُ الْغُلَامِ بِطَاعَةِ أَبِيهِ فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ رَبِّهِ. وتَلَّهُ: صَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ التَّلِّ وَهُوَ الصُّبْرَةُ مِنَ التُّرَابِ كَالْكُدْيَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الشُّرْبِ «فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ» أَي الْقدح، فَذَلِك عَلَى تَشْبِيهِ شِدَّةِ التَّمْكِينِ كَأَنَّهُ أَلْقَاهُ فِي يَدِهِ. وَاللَّامُ فِي لِلْجَبِينِ بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِهِ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً [الْإِسْرَاء: 107] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: دَعانا لِجَنْبِهِ [يُونُس: 12] ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَدْخُولَهَا هُوَ أَسْفَلُ جُزْءٍ مِنْ صَاحِبِهِ. وَالْجَبِينُ: أَحَدُ جَانِبَيِ الْجَبْهَةِ، وَلِلْجَبْهَةِ جَبِينَانِ، وَلَيْسَ الْجَبِينُ هُوَ الْجَبْهَةَ وَلِهَذَا خَطَّأُوا الْمُتَنَبِّي فِي قَوْلِهِ: وَخَلِّ زِيًّا لِمَنْ يُحَقِّقُهُ ... مَا كَلُّ دَامٍ جَبِينُهُ عَابِدْ وَتَبِعَ الْمُتَنَبِّي إِطْلَاقَ الْعَامَّةِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي «أدب الْكتاب» وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي «الِاقْتِضَابِ» وَلَكِنَّ الْحَرِيرِيَّ لَمْ يَعُدَّهُ فِي «أَوْهَامِ الْخَوَاصِّ» فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ غَفَلَ عَنْهُ، وَذَكَرَ مُرْتَضَى فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» عَنْ شَيْخِهِ تَصْحِيحَ إِطْلَاقِ الْجَبِينِ عَلَى الْجَبْهَةِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ: يَقِينِي بِالْجَبِينِ وَمَنْكِبَيْهِ ... وَأَدْفَعُهُ بِمُطَّرِدِ الْكُعُوبِ وَزَعَمَ أَنَّ شَارِحَ دِيوَانِ زُهَيْرٍ ذَكَرَ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَصح اسْتِعْمَالَهُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ لِأَنَّ الْمَجَازَ إِذَا لَمْ يَكْثُرْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَدَّ فِي مَعَانِي الْكَلِمَةِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ زُهَيْرًا أَرَادَ مِنَ الْجَبِينِ الْجَبْهَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَسَاسِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى جَانِبٍ بِحَيْثُ يُبَاشِرُ جَبِينُهُ الْأَرْضَ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ. وَمُنَادَاةُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ بِإِرْسَالِ الْمَلَكِ، أُسْنِدَتِ الْمُنَادَاةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهَا. وَتَصْدِيقُ الرُّؤْيَا: تَحْقِيقُهَا فِي الْخَارِجِ بِأَنْ يَعْمَلَ صُورَةَ الْعَمَلِ الَّذِي رَآهُ يُقَالُ: رُؤْيَا صَادِقَةٌ، إِذَا حَصَلَ بَعْدَهَا فِي الْوَاقِعِ مَا يُمَاثِلُ صُورَةَ مَا رَآهُ الرَّائِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: 27] . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» . وَبِضِدِّ ذَلِكَ يُقَالُ: كَذَبَتِ الرُّؤْيَا، إِذَا حَصَلَ خِلَافُ مَا رَأَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ» ، فَمَعْنَى قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا قَدْ فَعَلْتَ مِثْلَ صُورَةِ مَا رَأَيْتَ فِي النَّوْمِ أَنَّكَ تَفْعَلُهُ. وَهَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمُبَادَرَتِهِ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ وَلَا سَأَلَ مِنَ اللَّهِ نَسْخَ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ صَدَّقَ مَا رَآهُ إِلَى حَدِّ إِمْرَارِ السِّكِّينِ عَلَى رَقَبَةِ ابْنِهِ، فَلَمَّا نَادَاهُ جِبْرِيلُ بِأَنْ لَا يَذْبَحَهُ كَانَ ذَلِكَ الْخِطَابُ نَسْخًا لِمَا فِي الرُّؤْيَا مِنْ إِيقَاعِ الذَّبْحِ، وَذَلِكَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لَا مِنْ تَقْصِيرِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِبْرَاهِيمُ صَدَّقَ الرُّؤْيَا إِلَى أَنْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ إِكْمَالِ مِثَالِهَا، فَأُطْلِقَ عَلَى تَصْدِيقِهِ أَكْثَرَهَا أَنَّهُ صَدَّقَهَا، وَجُعِلَ ذَبْحُ الْكَبْشِ تَأْوِيلًا لِذَبْحِ الْوَلَدِ الْوَاقِعِ فِي الرُّؤْيَا. وَجُمْلَةُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَنادَيْناهُ لِأَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُ تَرْفِيعٌ لِشَأْنِهِ فَكَانَ ذَلِكَ النِّدَاءُ جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمَلِ خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مَنْ فِعْلِ صَدَّقْتَ مِنَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ مِثْلَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مَنِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، أَيْ إِنَّا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كَذَلِكَ التَّصْدِيقُ، أَيْ مِثْلَ عَظَمَةِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ نَجْزِي جَزَاءً عَظِيمًا لِلْمُحْسِنِينَ، أَيِ الْكَامِلِينَ فِي الْإِحْسَانِ، أَيْ وَأَنْتَ مِنْهُمْ. وَلِمَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْجَزَاءِ مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَمُمَاثَلَةِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ عَظُمَ شَأْنُ الْجَزَاءِ بِتَشْبِيهِهِ بِمُشَبَّهٍ مُشَارٍ إِلَيْهِ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ الْمُفِيدِ بُعْدًا اعْتِبَارِيًّا وَهُوَ الرِّفْعَةُ وَعِظَمُ الْقَدْرِ فِي الشَّرَفِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ جَزَاءً كَذَلِكَ الْإِحْسَانُ الَّذِي أَحْسَنْتَ بِهِ بِتَصْدِيقِكَ الرُّؤْيَا، مُكَافَأَةً عَلَى مِقْدَارِ الْإِحْسَانِ فَإِنَّهُ بَذَلَ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ فَبَذَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْسَنِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي بِيَدِهِ تَعَالَى، فَالْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْقُولَانِ إِذْ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمُشَاهَدٍ وَلَكِنَّهُمَا مُتَخَيِّلَانِ بِمَا يَتَّسِعُ لَهُ التَّخَيُّلُ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُحْسِنِينَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ اعْتِقَادُهُمْ فِي وَعْدِ الصَّادِقِ مِنْ جَزَاءِ

الْقَادِرِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: 60] . وَلِمَا أَفَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ عَظَمَةِ الْجَزَاءِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ لدفع تو هم الْمُبَالَغَةِ، أَيْ هُوَ فَوْقَ مَا تَعْهَدُهُ فِي الْعَظَمَةِ وَمَا تُقَدِّرُهُ الْعُقُولُ. وَفُهِمَ مِنْ ذِكْرِ الْمُحْسِنِينَ أَنَّ الْجَزَاءَ إِحْسَانٌ بِمِثْلِ الْإِحْسَانِ فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّا كَذَلِكَ الْإِحْسَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَحْسَنْتَهُ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فَهَذَا وَعْدٌ بِمَرَاتِبَ عَظِيمَةٍ مِنَ الْفَضْلِ الرَّبَّانِيِّ، وَتَضَمَّنَ وَعْدُ ابْنِهِ بِإِحْسَانٍ مِثْلِهِ مِنْ جِهَةِ نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْإِحْسَانِ، وَقَدْ كَانَ إِحْسَانُ الِابْنِ عَظِيمًا بِبَذْلِ نَفْسِهِ. وَقَدْ أُكِّدَ ذَلِكَ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أَيْ هَذَا التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفْنَاكَ هُوَ الِاخْتِبَارُ الْبَيِّنُ، أَيِ الظَّاهِرُ دَلَالَةً عَلَى مَرْتَبَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ. وَاسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْبَلَاءِ مَجَازًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِمَرْتَبَةِ مَنْ لَوِ اخْتُبِرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ لَعُلِمَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي الطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ فِي مَحَلِّ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: 81] فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَجَوَابُ فَلَمَّا أَسْلَما مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنادَيْناهُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ فِي صُورَةِ الْعَطْفِ إِيثَارًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْقِصَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْجَوَابِ تَحْصُلُ بِعَطْفِ بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ [يُوسُف: 15، 16] . وَجُمْلَةُ وَفَدَيْناهُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: وَقَدْ فَدَيْنَا ابْنَكَ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ تَكُونُ حِكَايَةُ نِدَاءِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ النِّدَاءِ وَهُوَ إِبْطَالُ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْغُلَامِ.

وَالْفِدَى وَالْفِدَاءُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْ حَقٍّ لِلْمُعْطَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُفَدَّى بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ. وَأُسْنِدَ الْفِدَاءُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْآذِنُ بِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ الْكَبْشَ فِدَاءً عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْفَادِي بِإِذْنِ اللَّهِ، وَابْنُ إِبْرَاهِيمَ مُفْدًى. وَالذِّبْحُ بِكَسْرِ الذَّالِ: الْمَذْبُوحُ وَوَزْنُ فِعْلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ يُكْثِرُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ مِثْلَ: الْحِبُّ وَالطِّحْنُ وَالْعِدْلُ. وَوَصْفُهُ بِ عَظِيمٍ بِمَعْنَى شَرُفَ قَدْرُ هَذَا الذِّبْحِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَدَى بِهِ ابْنَ رَسُولٍ وَأَبْقَى بِهِ مَنْ سَيَكُونُ رَسُولًا فَعَظَّمَهُ بِعِظَمِ أَثَرِهِ، وَلِأَنَّهُ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَلَمْ يُسَمِّهِ الْقُرْآنُ لِعِلَّةٍ لِئَلَّا يُثِيرَ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ مِنْ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الْمَقْصِدُ تَأَلُّفَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الِاعْتِرَافِ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَقْصِدٌ مُهِمٌّ يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ وَلَا فِي تَخْطِئَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّى إِسْمَاعِيلَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرَ قِصَّةِ الذَّبْحِ وَسَمَّى إِسْحَاقَ فِي مَوَاضِعَ، وَمِنْهَا بِشَارَةُ أُمِّهِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَذَكَرَ اسْمَيْ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وُهِبَا لَهُ عَلَى الْكِبَرِ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْفَضْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ فَأَيُّ وَلَدَيْهِ كَانَ الذَّبِيحَ كَانَ فِي ابْتِلَائِهِ بِذَبْحِهِ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ تَنْوِيهٌ عَظِيمٌ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ» . رَوَى الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ أَحَدَ الْأَعْرَابِ قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ فَتَبَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ الذَّبِيحُ وَأَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ أَبُوهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ: لَئِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ بِعَشَرَةِ بَنِينَ أَنْ يَذْبَحَ الْعَاشِرَ لِلْكَعْبَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ الْعَاشِرُ عَزَمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ، فَكَلَّمَهُ كَبَرَاءُ أَهْلِ الْبِطَاحِ أَنْ يَعْدِلَهُ

بِعَشَرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ وَأَنْ يَسْتَقْسِمَ بِالْأَزْلَامِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْإِبِلِ فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْإِبِلِ نَحَرَهَا، فَفَعَلَ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالُوا: أَرْضِ الْآلِهَةَ، أَيِ الْآلِهَةَ الَّتِي فِي الْكَعْبَةِ يَوْمَئِذٍ، فَزَادَ عَشَرَةً مِنَ الْإِبِلِ وَاسْتَقْسَمَ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ: أَرْضِ الْآلِهَةَ وَيَزِيدُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَشَرَةً مِنَ الْإِبِلِ وَيُعِيدُ الِاسْتِقْسَامَ وَيَخْرُجُ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ مَائَةً مِنَ الْإِبِل واستقسم عَلَيْهِمَا فَخَرَجَ سَهْمُ الْإِبِلِ فَقَالُوا رَضِيَتِ الْآلِهَةُ فَذَبَحَهَا فِدَاءً عَنْهُ. وَكَانَتْ مَنْقَبَةً لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِابْنِهِ أبي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُشْبِهُ مَنْقَبَةَ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَتْ جَرَتْ عَلَى أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهَا يُسْتَخْلَصُ مِنْهَا غَيْرُ مَا حَفَّ بِهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ فَتْرَةٍ لَا شَرِيعَةَ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا. إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِنَاءً عَلَى مَا جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» فِي «الْإِصْحَاحِ» الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ وَعَلَى مَا كَانَ يَقُصُّهُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا عَلِمُوهُ مِنْ أَقْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُهُ وَلَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ. وَالتَّأَمُّلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَوِّي الظَّنَّ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ هُوَ الْغُلَامُ الْحَلِيمُ فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ فَسَاقَتِ الْآيَةُ قِصَّةَ الِابْتِلَاءِ بِذَبْحِ هَذَا الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الْمَوْهُوبِ لِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَعْقَبَتْ قِصَّتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيئًا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ إِسْحَاقَ هُوَ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي مَضَى الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْله: وَبَشَّرْناهُ [الصافات: 112] بِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ وَأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ إِسْحَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ. فَهَذَا دَلِيلٌ أَوَّلُ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ وَقَعَ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ ابْنٌ غَيْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الِابْتِلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] عَقِبَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الْحَلِيمَ الَّذِي أُمِرَ

بِذَبْحِهِ هُوَ الْمُبَشَّرُ بِهِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ عَقِيمًا يَرِثُهُ عَبِيدُ بَيْتِهِ كَمَا جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» وَتَقَدَّمَ آنِفًا. الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى بَيْتًا لِلَّهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا آخَرَ بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ شَأْنِ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ تُقَرَّبَ فِيهَا الْقَرَابِينُ فَقُرْبَانُ أَعَزِّ شَيْءٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِ قُرْبَانًا لِأَشْرَفِ هَيْكَلٍ. وَقَدْ بَقِيَتْ فِي الْعَرَبِ سُنَةُ الْهَدَايَا فِي الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ وَمَا تِلْكَ إِلَّا تَذْكِرَةٌ لِأَوَّلِ عَامٍ أُمِرَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَأَنَّهُ الْوَلَدُ الَّذِي بِمَكَّةَ. الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَعَلِمَ مُرَادَهَ وَتَبَسَّمَ، وَلَيْسَ فِي آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبِيحٌ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْمَاعِيلَ. الدَّلِيلُ السَّادِسُ: مَا وَقَعَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرَيَّا وَأَصْعِدْهُ هُنَالِكَ مُحْرَقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ إِسْحَاقُ ابْنًا وَحِيدًا لِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ وُلِدَ قَبْلَهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مُتَوَاصِلَيْنِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرين من سفر التَّكْوِينِ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَدَفَنَهُ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَاهُ» ، فَإِقْحَامُ اسْمِ إِسْحَاقَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ابْنَكَ وَحِيدَكَ، مِنْ زِيَادَةِ كَاتِبِ التَّوْرَاةِ. الدَّلِيلُ السَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَدُلُّ عَلَيهِ أَنَّ قَرْنَيِ الْكَبْشِ كَانَا مَنُوطَيْنِ فِي الْكَعْبَةَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِلَى أَنِ احْتَرَقَ الْبَيْتُ فِي حِصَارِ ابْن الزبير ا. هـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ مِنْ مِيزَابِ الْكَعْبَةَ وَقَدْ يَبِسَ. قُلْتُ: وَفِي صِحَّةِ كَوْنِ ذَلِكَ الرَّأْسِ رَأْسَ كَبْشِ الْفِدَاءِ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ نَظَرٌ. الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ فِي حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الرَّمْيِ فِي الْجَمَرَاتِ مِنْ عَهْدِ الْحَنِيفِيَّةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَعَرَّضَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَصُدَّهُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ وَذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَمْ تَكُنْ لِلْيَهُودِ سُنَّةُ ذَبْحٍ مُعَيَّنٍ.

وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِإِبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَرَجَمَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِحَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ الْأُخْرَى. وَعَنْهُ: أَنَّ مَوْضِعَ مُعَالَجَةِ الذَّبْحِ كَانَ عِنْدَ الْجِمَارِ وَقِيلَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي أَصْلِ جَبَلِ ثَبِيرٍ بِمِنًى. الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْقُرْآنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَرَنَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ بِأَنَّهُ يُولَدُ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ إِبْرَاهِيمَ فَلَوِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ لَكَانَ الِابْتِلَاءُ صُورِيًّا لِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِأَنَّ إِسْحَاقَ يَعِيشُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ يَعْقُوبُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَلَمَّا بَشَّرَهُ بِإِسْمَاعِيلَ لَمْ يَعِدْهُ بِأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا تَوْطِئَةٌ لِابْتِلَائِهِ بِذَبْحِهِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَدْعُو لِحَيَاةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ. فَقَدْ جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ عَشَرَ «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ فَقَالَ اللَّهُ: بَلْ سَارَةُ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ» . وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِذَبْحِهِ. الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ إِسْحَاقَ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيئًا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] تَكْرِيرًا لِأَنَّ فِعْلَ: بَشَّرْنَاهُ بِفُلَانٍ، غَالِبٌ فِي مَعْنَى التَّبْشِيرِ بِالْوُجُودِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمِمَّنْ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَهُ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ إِسْحَاقُ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَهُ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ: عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ. وَفِي «جَامِعِ الْعَتَبِيَّةِ» أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَامَ جَنَحْتَ إِلَيْهِ وَاسْتَدْلَلْتَ عَلَيهِ مِنِ اخْتِيَارِكَ أَنْ يَكُونَ

[سورة الصافات (37) : الآيات 108 إلى 111]

الِابْتِلَاءُ بِذَبْحِ إِسْمَاعِيلَ دُونَ إِسْحَاقَ، فَكَيْفَ تَتَأَوَّلُ مَا وَقَعَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» ؟ قُلْتُ: أَرَى أَنَّ مَا فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» نُقِلَ مُشَتَّتًا غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ فِيهِ أَزْمَانُ الْحَوَادِثِ بِضَبْطٍ يُعَيِّنُ الزَّمَنَ بَيْنَ الذَّبْحِ وَبَيْنَ أَخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا نَقَلَ النَّقَلَةُ التَّوْرَاةَ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهَا عَقِبَ أَسْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بِلَادِ أَشُورَ زَمَنَ بُخْتُنَصَّرَ، سَجَّلَتْ قَضِيَّةَ الذَّبِيحِ فِي جُمْلَةِ أَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُدْمِجَ فِيهَا مَا اعْتَقَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي غُرْبَتِهِمْ مِنْ ظَنِّهِمُ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ «وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ» إِلَخْ فَهَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهَا: بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَعْدَ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ بَعْدَ بَعْضِ مَا تقدم. [108- 111] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 108 إِلَى 111] وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) الْقَوْلُ فِي وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ نَظِيرُ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي ذِكْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِعَادَتُهُ هُنَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَرِدُ أَن يُقَال: لماذَا لَمْ تُؤَكَّدْ جُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ بِ (إِنَّ) هُنَا وَأُكِّدَتْ مَعَ ذِكْرِ نُوحٍ وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُهُ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 80] وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الْمَجْزِيَّ اكْتُفِيَ بِتَأْكِيدِ نَظِيرِهِ عَنْ تَأْكِيدِهِ، أَيْ لِأَنَّهُ بِالتَّأْكِيدِ الْأَوَّلِ حَصَلَ الِاهْتِمَامُ فَلَمْ يَبْقَ دَاعٍ لِإِعَادَتِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى تَأْكِيدِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلْعِنَايَةِ بِجَزَائِهِ عَلَى إِحْسَانِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 79] لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ الْأُمَمِ مِنَ الْبَشَرِ بِخِلَافِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 112 إلى 113]

[112- 113] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 112 الى 113] وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى لِإِبْرَاهِيمَ وَمَكْرَمَةٌ لَهُ، وَهِيَ غَيْرُ الْبِشَارَةِ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ، فَإِسْحَاقُ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ. وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] . وَتَسْمِيَةُ الْمُبَشَّرِ بِهِ إِسْحَاقَ تَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ عَيَّنَ لَهُ اسْمًا يُسَمِّيهِ بِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ عشر من «سفر التَّكْوِينِ» «سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ» . وَتَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ: بَشَّرْنَاهُ بِوَلَدٍ الَّذِي سُمِّيَ إِسْحَاقُ، وَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي اسْمُهُ إِسْحَاقُ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ الَّذِي سُمِّيَ إِسْمَاعِيلَ. وَمَعْنَى الْبِشَارَةِ بِهِ الْبِشَارَةُ بِوِلَادَتِهِ لَهُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي. وَانْتَصَبَ نَبِيئًا عَلَى الْحَالِ مِنْ إِسْحَاقَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِلْبِشَارَةِ فَيَكُونُ الْحَالُ حَالًا مُقَدَّرًا لِأَنَّ اتِّصَافَ إِسْحَاقَ بِالنُّبُوءَةِ بَعْدَ زَمَنِ الْبِشَارَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ بَلْ هُوَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، فَالْمَعْنَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ اسْمُهُ إِسْحَاقُ مُقَدَّرًا حَالُهُ أَنَّهُ نَبِيءٌ، وَعَدَمُ وُجُودِ صَاحِبِ الْحَالِ فِي وَقْتِ الْوَصْفِ بِالْحَالِ لَا يُنَافِي اتصافه بِالْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ لِأَنَّ وُجُودَ صَاحِبِ الْحَالِ غَيْرُ شَرْطٍ فِي وَصْفِهِ بِالْحَالِ بَلِ الشَّرْطُ مُقَارَنَةُ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ مَعَ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْحَالِ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ وَلَا تَكُونُ الْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَطُولُ زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ لَا يَتَحَدَّدُ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَأْتِينا فَرْداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [80] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ أَنَّهَا مُقَدَّرٌ حُصُولُهَا غَيْرَ حَاصِلَةٍ الْآنَ وَالْمُقَدَّرُ هُوَ النَّاطِقُ بِهَا، وَهِيَ وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَيْدٌ لِعَامِلِهَا كَيْفَمَا كَانَ، فَلَا

تَحْتَفِلُ بِمَا أَطَالَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَا بِمُخَالَفَةِ الْبَيْضَاوِيِّ لَهُ وَلَا بِمَا تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ. وَإِنْ كَانَ وَضْعًا مُعْتَرَضًا فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ كَانَ تَنْوِيهًا بِإِسْحَاقَ وَكَانَ حَالًا حَاصِلَةً. وَقَوْلُهُ: مِنَ الصَّالِحِينَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَذَكَرَهَا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الصَّلَاحِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْدُودُونَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ كُلَّ نَبِيءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا، وَالنُّبُوءَةُ أَعْظَمُ أَحْوَالِ الصَّلَاحِ لِمَا مَعَهَا مِنَ الْعَظَمَةِ. وَبَارَكَ جَعَلَهُ ذَا بَرَكَةِ وَالْبَرَكَةُ زِيَادَةُ الْخَيْرِ فِي مُخْتَلَفِ وُجُوهِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] . وَقَوْلِهِ: وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [48] . وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ تَمَكُّنِ الْبَرَكَةِ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهِمَا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعْطَاهُمَا نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِمَا فَقَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ، أَيْ عَامِلٌ بِالْعَمَلِ الْحَسَنِ، وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أَيْ مُشْرِكٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَرِّيَّتَهُمَا لَيْسَ جَمِيعُهَا كَحَالِهِمَا بَلْ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْبِيَاءٌ وَصَالِحُونَ وَمُؤْمِنُونَ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ مِثْلُهُمْ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ حَادُوا عَنْ سُنَنِ أَبِيهِمْ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَذَلِكَ مِثْلَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَسِيحِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ لَا يَجْرِي أَمْرُهُمَا عَلَى الْعِرْقِ وَالْعُنْصُرِ فَقَدْ يَلِدُ الْبَرُّ الْفَاجِرَ وَالْفَاجِرُ الْبَرَّ، وَعَلَى أَنَّ فَسَادَ الْأَعْقَابِ لَا يُعَدُّ غَضَاضَةً عَلَى الْآبَاءِ، وَأَنَّ مَنَاطَ الْفَضْلِ هُوَ خِصَالُ الذَّاتِ وَمَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَأَمَّا كَرَامَةُ الْآبَاءِ فَتَكْمِلَةٌ لِلْكَمَالِ وباعث على الاتّسام بِفَضَائِلَ الْخِلَالِ، فَكَانَ فِي هَذِهِ التَّكْمِلَةِ إِبْطَالُ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهَا مَزِيَّةٌ لَكِنْ لَا يُعَادِلُهَا الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُمُ الْأَوْلَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي خِطْبَةِ خَدِيجَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ وَجَعَلَنَا

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 إلى 116]

رِجَالَ حَرَمِهِ وَسَدَنَةَ بَيْتِهِ» فَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 19] . وَقَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: 34] وَقَالَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيءُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: 68] . وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَثَلًا لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَبَاتِهِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَفِيمَا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِ فِي هِجْرَتِهِ وَيَهَبُ لَهُ أُمَّةً عَظِيمَةً كَمَا وَهَبَ إِبْرَاهِيمَ أَتْبَاعًا، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النَّحْل: 120] . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ مَثَلٌ لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أهل مَكَّة. [114- 116] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 114 إِلَى 116] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ [الصافات: 75] ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا ذُكِرَ هُنَالِكَ. وَذَكَرَ هُنَا مَا كَانَ مِنَّةً عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَهُوَ النُّبُوءَةُ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ دَرَجَةٍ يُرْفَعُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ، وَلِذَلِكَ اكْتُفِيَ عَنْ تَعْيِينِ الْمَمْنُونِ بِهِ لِحَمْلِ الْفِعْلِ عَلَى أَكْمَلِ مَعْنَاهُ. وَجُعِلَتْ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَسْأَلِ النُّبُوءَةَ إِذْ لَيْسَتِ النُّبُوءَةُ بِمُكْتَسَبَةٍ وَكَانَتْ مِنَّةً عَلَى هَارُونَ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَارُونَ، فَهِيَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ وَإِرْضَاءٌ لِمُوسَى، وَالْمِنَّةُ عَلَيْهِمَا مِنْ قَبِيلِ إِيصَالِ الْمَنَافِعِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ. وَفِي اخْتِلَافِ مَبَادِئِ الْقَصَصِ الثَّلَاثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِهِ إِمَّا بِاسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ، وَإِمَّا لِجَزَاءٍ عَلَى سَلَامَةِ طَوِيَّةٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَإِمَّا لِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَمِنَّةٍ عَلَى عِبَادِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَإِنْجَاءُ مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا كَرَامَةٌ أُخْرَى لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِسَبَبِهِمَا، وَهَذِهِ نِعْمَةُ إِزَالَةِ الضُّرِّ، فَحَصَلَ لِمُوسَى وَهَارُونَ نَوْعَا الْإِنْعَامِ وَهُمَا: إِعْطَاءُ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعُ الْمَضَارِّ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 117 إلى 122]

والْكَرْبِ الْعَظِيمِ: هُوَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَذَلَّةِ تَحْتَ سُلْطَةِ الْفَرَاعِنَةِ وَمِنَ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ فِي خُرُوجِهِمْ حِينَ تَرَاءَى الْجَمْعَانِ فَقَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاء: 61] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ وَاجْتَازَ مِنْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ مَدَّ الْبَحْرُ أَمْوَاجَهَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، عَلَى أَنَّ الْكَرْبَ الْعَظِيمَ أُطْلِقَ عَلَى الْغَرَقِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ السَّابِقَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي مَرُّوا بِبِلَادِهَا مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَالْأَمُورِيِّينَ فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُنْتَصِرِينَ فِي كُلِّ مَوْقِعَةٍ قَاتَلُوا فِيهَا عَنْ أَمْرِ مُوسَى وَمَا انْهَزَمُوا إِلَّا حِينَ أَقْدَمُوا عَلَى قِتَالِ الْعَمَالِقَةِ وَالْكَنْعَانِيِّينَ فِي سُهُولِ وَادِي (شُكُولَ) لِأَنَّ مُوسَى نَهَاهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ هُنَالِكَ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي تَارِيخِهِمْ. وهُمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ضَمِيرُ فَصْلٍ وَهُوَ يُفِيدُ قَصْرًا، أَيْ هُمُ الْغَالِبِينَ لِغَيْرِهِمْ وَغَيْرُهُمْ لَمْ يَغْلِبُوهُمْ، أَيْ لَمْ يُغْلَبُوا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمُنْتَصِرَ قَدْ يَنْتَصِرُ بَعْدَ أَنْ يُغْلَبَ فِي مواقع. [117- 122] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 117 إِلَى 122] وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، وَالْمُسْتَبِينُ الْقَوِيُّ الْوُضُوحِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ يُقَالُ: اسْتَبَانَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ ظُهُورًا شَدِيدًا. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الْإِيتَاءِ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ أَنَّ الَّذِي أُوتِيَ التَّوْرَاةَ هُوَ مُوسَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْمُؤْمِنُونَ: 49] مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَارُونَ كَانَ مُعَاضِدًا لِمُوسَى فِي رِسَالَتِهِ فَكَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْ إِيتَاءِ التَّوْرَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاء: 48] وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْإِيتَاءِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. والصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: الدِّينَ الْحَقَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَدْ كَانَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ يَوْمَ أُوتِيهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَلَمَّا نُسِخَتْ

[سورة الصافات (37) : الآيات 123 إلى 132]

بِالْقُرْآنِ صَارَ الْقُرْآنُ هُوَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْأَبَدِ وَتَعَطَّلَ صِرَاطُ التَّوْرَاةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أُصُولُ الدِّيَانَةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَكُلِّيَّاتُ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً إِلَى قَوْلِهِ: وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] . وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ عِنْدَ ذِكْرِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ مَفْعُولًا لِفِعْلِ تَرَكْنا عَلَيْهِما عَلَى إِرَادَةِ حِكَايَةِ اللَّفْظِ هُنَا أَضْعَفُ مِنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ إِذْ لَيْسَ يَطَّرِدُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْآخَرِينَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ مَعًا لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَ مُوسَى يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى مُوسَى وَالَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ ذِكْرُ هَارُونَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى هَارُونَ وَلَا يَجْمَعُ اسْمَيْهِمَا فِي السَّلَامِ إِلَّا الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ ذِكْرُهُمَا مَعًا كَمَا يَقُولُ الْمُحَدِّثُ عَنْ جَابِرٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِذَا قَالَ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ عِبْرَةُ مَثَلٍ كَامِل للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَهِدَايَتِهِ وَانْتِشَارِ دِينِهِ وَسُلْطَانِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ ديار الْمُشْركين. [123- 132] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 123 إِلَى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) أُتْبِعَ الْكَلَامُ عَلَى رُسُلٍ ثَلَاثَةٍ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ: نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى بِالْخَبَرِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَنْبِيَاءَ وَمَا لَقُوهُ مِنْ قَوْمِهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ شَوَاهِدُ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوَارِعُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَابْتُدِئَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِجُمْلَةِ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي

مَرْتَبَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَفِي أَنَّهُمْ لَا شَرَائِعَ لَهُمْ. وَتَأْكِيدُ إِرْسَالِهِمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ إِذْ لَمْ تَكُنْ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ. وإِلْياسَ هُوَ (إِيلْيَاءُ) مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابِعِينَ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفُ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ أُمِرَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَبْلِيغِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِطْلَاقُ وَصْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مِثْلُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَّةَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ يس. وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ أَنَّهُ مِنْ حِينِ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَانَ مُبَلِّغًا رِسَالَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى قَوْمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إلْيَاْسَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْمِهِ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا قَدْ عَبَدُوا بَعْلًا مَعْبُودَ الْكَنْعَانِيِّينَ بِسَبَبِ مُصَاهَرَةِ بَعْضِ مُلُوكِ يَهُوذَا لِلْكَنْعَانِيِّينَ وَلِذَلِكَ قَامَ إلْيَاسُ دَاعِيًا قَوْمَهَ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ بَعْلِ الصَّنَمِ وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَقَوْلُهُ: أَلا كَلِمَتَانِ: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ، وَلَا النَّافِيَةُ، إِنْكَارٌ لِعَدَمِ تَقْوَاهُمْ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَتَّقُونَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ. وَ (بَعْلٌ) اسْمُ صَنَمِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَهُوَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَعْلٍ فِي لُغَتِهِمْ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الذُّكُورَةِ. ثُمَّ دَلَّتْ عَلَى مَعْنَى السِّيَادَةِ فَلَفْظُ الْبَعْلِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَمْزٌ عَلَى الشَّمْسِ وَيُقَابِلُهُ كَلِمَةُ (تَانِيتْ) بِمُثَنَّاتَيْنِ، أَيِ الْأُنْثَى وَكَانَت لَهُم صنمة تُسَمَّى عِنْدَ الْفِينِيقِيِّينَ بِقُرْطَاجَنَّةَ (تَانِيتْ) وَهِيَ عِنْدَهُمْ رَمْزُ الْقَمَرِ وَعِنْدَ فِينِيقِيِّيِ أَرْضِ فِينِيقِيَّةَ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ لِلْكَنْعَانِيِّينَ تُسَمَّى هَذِهِ الصَّنَمَةُ (الْعَشْتَارُوثْ) . وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى بَعْلٍ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْمُ «مُولَكْ» أَيْضًا، وَقَدْ مَثَّلُوهُ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ لَهُ رَأْسُ عِجْلٍ وَلَهُ قَرْنَانِ وَعَلَيْهِ إِكْلِيلٌ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ مَادًّا يَدَيْهِ كَمَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا وَكَانَتْ صُورَتُهُ مِنْ نُحَاسٍ وَدَاخِلُهَا مُجَوَّفٌ وَقَدْ وَضَعُوهَا عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ بِنَاءٍ كَالتَّنُّورِ فَكَانُوا يُوقِدُونَ النَّارَ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ حَتَّى يُحْمَى النُّحَاسُ وَيَأْتُونَ بِالْقَرَابِينِ فَيَضَعُونَهَا عَلَى ذِرَاعَيْهِ فَتَحْتَرِقُ بِالْحَرَارَةِ فَيَحْسَبُونَ لِجَهْلِهِمُ الصَّنَمَ تَقَبَّلَهَا وَأَكَلَهَا مِنْ يَدَيْهِ، وَكَانُوا يُقَرِّبُونَ لَهُ أَطْفَالًا مِنْ أَطْفَالِ مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَاءِ مِلَّتِهِمْ، وَقَدْ عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَبَعًا لِلْكَنْعَانِيِّينَ، وَالْعَمُونِيِّينَ،

وَالْمُؤْبِيِّينَ وَكَانَ لِبَعْلٍ مِنَ السَّدَنَةِ فِي بِلَادِ السَّامِرَةِ، أَوْ مَدِينَةِ صِرْفَةَ أَرْبَعُمَائَةٍ وَخَمْسُونَ سَادِنًا. وَتُوجَدُ صُورَةُ بَعْلٍ فِي دَارِ الْآثَارِ بِقَصْرِ اللُّوفَرِ فِي بَارِيسَ مَنْقُوشَةٌ عَلَى وَجْهِ حِجَارَةٍ صَوَّرُوهُ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ عَلَى رَأْسِهِ خَوْذَةٌ بِهَا قَرْنَانِ وَبِيَدِهِ مِقْرَعَةٌ. وَلَعَلَّهَا صُورَتُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي عَبَدَتْهُ وَلَا تُوجَدُ لَهُ صُورَةٌ فِي آثَارِ قُرْطَاجَنَّةَ الْفِينِيقِيَّةِ بِتُونُسَ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ بِذِكْرِ صِفَةِ اللَّهِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ تَعْرِيضًا بِتَسْفِيهِ عُقُولِ الَّذِينَ عَبَدُوا بَعْلَا بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الرَّبِّ الْمُتَّصِفِ بِأَحْسَنِ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِهَا وَعَبَدُوا صَنَمًا ذَاتُهُ وَخْشٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَدْعُونَ صَنَمًا بَشِعًا جَمَعَ عُنْصُرَيِ الضَّعْفِ وَهُمَا الْمَخْلُوقِيَّةُ وَقُبْحُ الصُّورَةِ وَتَتْرُكُونَ مَنْ لَهُ صِفَةُ الْخَالِقِيَّةِ وَالصِّفَاتُ الْحُسْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلْياسَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْمِ الْعَلَمِ فَلَمْ يَحْذِفُوا الْهَمْزَةَ إِذَا وَصَلُوا إِنَّ بِهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فَحَذَفَهَا فِي الْوَصْلِ مَعَ إِنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حَرْفًا لِلَمْحِ الْأَصْلِ. وَأَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ يَاسُ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. وَلِلْعَرَبِ فِي النُّطْقِ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ تَصَرُّفَاتٌ كَثِيرَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ فَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي النُّطْقِ بِهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ أَبْنِيَةَ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَرَأَ الْأَكْثَرُ بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ بِأَنْ عَبَدُوا بَعْلًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِنَصْبِ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ لِ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيَانِ زِيَادَةُ التَّصْرِيحِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيضَاحٍ لِأَصْلِ الدِّيَانَةِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ أَنَّهُمْ لَا رَبَّ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا أَوَّلُ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّهُ رَبُّ آبَائِهِمْ فَإِنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْأَبُ الأول من حَيْثُ تَمَيَّزَتْ أُمَّتُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ هُوَ يَعْقُوبُ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْصَى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا

تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] ، وَاحْتِرَازٌ بِ الْأَوَّلِينَ عَنْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُلُوكِهِمْ بَعْدَ سُلَيْمَانَ. وَجُمِعَ هَذَا الْخَبَرُ تَحْرِيضًا عَلَى إِبْطَالِ عِبَادَةِ «بَعْلٍ» لِأَنَّ فِي الطَّبْعِ مَحَبَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِالسَّلَفِ فِي الْخَيْرِ. وَقَدْ جَمَعَ إِلْيَاْسُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَجَعَلَ مَكِيدَةً لِسَدَنَةِ (بَعْلٍ) فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمُ انْتِصَارًا لِلدِّينِ وَانْتِقَامًا لِمَنْ قَتَلَتْهُمْ (إِيزَابِلْ) زَوْجَةُ (آخَابْ) . وَفِي «مَفَاتِيح الْغَيْب» : «كَانَ الْمُلَقَّبَ بِالرَّشِيدِ الْكَاتِبِ (¬1) يَقُولُ: لَوْ قِيلَ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَدَعُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، أَوْهَمَ أَنَّهُ أَحْسَنُ» ، أَيْ أَوْهَمَ كَلَامُ الرَّشِيدِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ كَلِمَةُ (تَدَعُونَ) عِوَضًا عَنْ تَذَرُونَ. وَأَجَابَ الْفَخْرُ بِأَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ رِعَايَةِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ بَلْ لِأَجْلِ قُوَّةِ الْمَعَانِي وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ اهـ-. وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ مُقْنِعٍ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ حُسْنِ مَوْقِعِ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُقْتَضَيَاتِ الْبَلَاغَةِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ: «وَأَصْلُ الْحُسْنِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ) أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ تَوَابِعَ لِلْمَعَانِي لَا أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي لَهَا تَوَابِعَ، أَعْنِي أَنْ لَا تَكُونَ مُتَكَلَّفَةً» . فَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ (تَذَرُونَ) وَ (تَدَعُونَ) مُتَرَادِفَانِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى إِبْطَالِ أَنَّ إِيثَارَ (تَدَعُونَ) أَنْسَبُ. فَالْوَجْهُ إِمَّا أَنْ يُجَابَ بِمَا قَالَهُ سَعْدُ اللَّهِ مُحَشِّي الْبَيْضَاوِيِّ بِأَنَّ الْجِنَاسَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ كَلَامًا صَادِرًا فِي مَقَامِ الرِّضَى لَا فِي مَقَامِ الْغَضَبِ وَالتَّهْوِيلِ. يَعْنِي أَنَّ كَلَامَ إِلْيَاسَ الْمَحْكِيَّ هُنَا مَحْكِيٌّ عَنْ مَقَامِ الْغَضَبِ وَالتَّهْوِيلِ فَلَا تُنَاسِبُهُ اللَّطَائِفُ اللَّفْظِيَّةُ (يَعْنِي بِالنَّظَرِ إِلَى حَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ مَحْكِيٌّ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِمَا يُنَاسِبُ مَصْدَرَهُ فِي لُغَةِ قَائِلِهِ وَذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ التَّرْجَمَةِ) ، وَهُوَ جَوَابٌ دَقِيقٌ، وَإِنْ كَابَرَ فِيهِ الْخَفَاجِيُّ بِكَلَامٍ لَا يَلِيقُ، وَإِنْ تَأَمَّلْتَهُ جَزَمْتَ بِاخْتِلَالِهِ. وَقَدْ أُجِيبَ بِمَا يَقْتَضِي مَنْعَ التَّرَادُفِ بَيْنَ فِعْلَيْ تَذَرُونَ وَ «تَدَعُونَ» بِأَنَّ فِعْلَ ¬

(¬1) لم أَقف على ذكر كَاتب يلقب بالرشيد وأحسب أَنه رَاشد بن إِسْحَاق بن رَاشد أَبَا حليمة الْكَاتِب. كَانَ شَاعِرًا مَاجِنًا. تَرْجمهُ ياقوت وَذكر أَنه اتَّصل بالوزير عبد الْملك بن الزيات وَزِير المعتصم (173/ 233) .

(يَدَعُ) أَخَصُّ: إِمَّا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِعَدَمِ تَرْكِهِ كَمَا قَالَ سَعْدُ الله، وَإِمَّا لِأَن فِعْلُ يَدَعُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَفِعْلُ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا حَكَاهُ سَعْدُ اللَّهِ عَن بعض الْأَئِمَّة عَازِيًا إِيَّاهُ لِلْفَخْرِ. وَعِنْدِي: أَنَّ مَنْعَ التَّرَادُفِ هُوَ الْوَجْهُ لَكِنْ لَا كَمَا قَالَ سَعْدُ اللَّهِ وَلَا كَمَا نُقِلَ عَنِ الْفَخْرِ بَلْ لِأَنَّ فِعْلَ (يَدَعُ) قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لَا سَنَدَ لَهَا خِلَافًا لِفِعْلِ (يَذَرُ) . وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلَى تَرْكٍ مَعَ إِعْرَاضٍ عَنِ الْمَتْرُوكِ بِخِلَافِ (يَدَعُ) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكًا مُؤَقَّتًا وَأَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَلَامُ الرَّاغِبِ فِيهِمَا. وَهُنَالِكَ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ أُخْرَى، هِيَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا أَحْرَى. وَمَعْنَى فَكَذَّبُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُطِيعُوهُ تَمَلُّقًا لِمُلُوكِهِمُ الَّذِينَ أَجَابُوا رَغْبَةَ نِسَائِهِمُ الْمُشْرِكَاتِ لِإِقَامَةِ هَيَاكِلَ لِلْأَصْنَامِ فَإِنَّ (إِيزَابِلْ) ابْنَةَ مَلِكِ الصَّيْدَوَنِيِّينَ زَوْجَةَ (أَخَابْ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ لَمَّا بَلَغَهَا مَا صَنَعَ إلْيَاسُ بِسَدَنَةِ بَعْلٍ ثَأْرًا لِمَنْ قَتَلَتْهُ (إِيزَابِلْ) مِنْ صَالِحِي إِسْرَائِيلَ أَرْسَلَتْ إِلَى إِلْيَاسَ تَتَوَعَّدُهُ بِالْقَتْلِ فَخَرَجَ إِلَى مَوْضِعٍ اسْمُهُ (بِئْرُ سَبْعٍ) ثُمَّ سَاحَ فِي الْأَرْضِ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَعْهَدَ إِلَى صَاحِبِهِ (الْيَسَعَ) بِالنُّبُوءَةِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَكَانَهُ. وَفِي كِتَابِ «إِيلِيَاءَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ فِي مَرْكَبَةٍ يَجُرُّهَا فُرْسَانٌ، وَأَنَّ (الْيَسَعَ) شَاهَدَهُ صَاعِدًا فِيهَا وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إِن إلْيَاس هود إِدْرِيسُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيئًا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مَرْيَم: 56، 57] ، وَقِيلَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: إِن إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عِوَضَ وَإِنَّ إِلْياسَ وَيَقْرَأُ (سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ) عَلَى أَنَّهُ لُغَةٌ فِي إِدْرِيسَ. وَلَا يَقْتَضِي مَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ مِنْ رَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِدْرِيسَ لِأَنَّ الرَّفْعَ إِذَا صَحَّ قَدْ يَتَكَرَّرُ وَقَدْ رَفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَعْنَى فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهُمْ لِلْعِقَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فِي هَذِه السُّورَة الصافات [57] . وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ عِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إِلْيَاسَ وَأَعَانُوهُ عَلَى قَتْلِ سَدَنَةِ (بَعْلٍ) . وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِيمَا

سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [74] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ. وَقَوْلُهُ: إِلْ ياسِينَ قِيلَ أُرِيدَ بِهِ إِلْيَاسُ خَاصَّةً وَعبر عَنهُ بياسين لِأَنَّهُ يُدْعَى بِهِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَلَعَلَّ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي لُغَتِهِمْ مَعْنًى وَيَكُونُ ذِكْرُ آلِ إِقْحَامًا كَقَوْلِهِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: 54] . وَقِيلَ: إِنَّ يَاسِينَ هُوَ أَبُو إِلْيَاسَ. فَالْمُرَادُ: سَلَامٌ عَلَى إِلْيَاسَ وَذَوِيهِ مِنْ آلِ أَبِيهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ إِلْ يَاسِينَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ إِلْ وَ (يَاسِينَ) . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَهَا وَبِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ اسْمُ إِلْيَاْسَ وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا عَلَى قِطْعَتَيْنِ إِلْ يَاسِينَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّ آلَ قَدْ تُرْسَمُ مَفْصُولَةً عَنْ مَدْخُولِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَن المُرَاد بآل يَاسِينَ أَنْصَارُهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَأَعَانُوهُ كَمَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ» (¬1) . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ (جَبَلِ الْكَرْمَلِ) الَّذِينَ اسْتَنْجَدَهُمْ إِلْيَاسُ عَلَى سَدَنَةِ بَعْلٍ فَأَطَاعُوهُ وَأَنْجَدُوهُ وَذَبَحُوا سَدَنَةَ بَعْلٍ كَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِإِسْهَابٍ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: سَلَامٌ عَلَى يَاسِينَ وَآلِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ لَهُمُ الْكَرَامَةُ لِأَنَّهُمْ آلُهُ فَهُوَ بِالْكَرَامَةِ أَوْلَى. وَفِي قِصَّةِ إِلْيَاسَ إِنْبَاءٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الرِّسَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُشَاهِدَ عِقَابَ الْمُكَذِّبِينَ وَلَا هَلَاكَهُمْ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] قَالَ تَعَالَى: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 93- 95] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [غَافِر: 77] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [مَرْيَم: 40] . [133- 136] ¬

(¬1) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «الْأَوْسَط» بِسَنَد ضعّفوه.

[سورة الصافات (37) : الآيات 133 إلى 136]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 133 إِلَى 136] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) هَذَا ثَانِي الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَمَعَهُمُ التَّنْظِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلُوطٌ كَانَ رَسُولًا لِلْقُرَى الَّتِي كَانَ سَاكِنًا فِي إِحْدَاهَا فَهُوَ رَسُولٌ لَا شَرِيعَةَ لَهُ سِوَى أَنَّهُ جَاءَ يَنْهَى الْأَقْوَامَ الَّذِينَ كَانَ نَازِلًا بَيْنَهُمْ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَتِلْكَ لَمْ يَسْبِقِ النَّهْيُ عَنْهَا فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ. وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ الْمُرْسَلِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي حِينِ إِنْجَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِهْلَاكِ اللَّهِ قَوْمَهَ كَانَ قَائِمًا بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى نَاطِقًا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا خُصَّ حِينَ إِنْجَائِهِ بِجَعْلِهِ ظَرْفًا لِلْكَوْنِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ ظَرْفٌ لِلْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ إِذْ هِيَ مُمَاثِلَةٌ لِأَحْوَالِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ لُوطٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْعَجُوزُ: امْرَأَةُ لُوطٍ، وَتَقَدَّمَ خَبَرُهَا وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَة الشُّعَرَاء. [137- 138] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 137 إِلَى 138] وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ سِيقَتْ هَذِهِ الْقَصَصُ لِعِظَتِهِمْ. وَالْمُرُورُ: مُجَاوَزَةُ السَّائِرِ بِسَيْرِهِ شَيْئًا يَتْرُكُهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا: مُرُورُهُمْ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ إِذَا سَافَرُوا فِي تِجَارَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ يَمُرُّونَ بِبِلَادِ فِلَسْطِينَ فَيَمُرُّونَ بِأَرْضِ لوط على شاطىء الْبَحْرِ الْمَيِّتِ الْمُسَمَّى بُحَيْرَةَ لُوطٍ. وَتَعْدِيَةُ الْمُرُورِ بِحَرْفِ (عَلَى) يُعَيِّنُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى: عَلَى أَرْضِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: 259] . يُقَالُ: مَرَّ عَلَيْهِ وَمَرَّ بِهِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) تُفِيدُ تَمَكُّنَ الْمُرُورِ أَشَدَّ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ، وَكَانُوا يَمُرُّونَ بِدِيَارِ لُوطٍ بِجَانِبِهَا لِأَنَّ قُرَاهُمْ غَمَرَهَا الْبَحْرُ الْمَيِّتُ وَآثَارُهَا بَاقِيَةٌ تَحْتَ الْمَاءِ. وَالْمُصْبِحُ: الدَّاخِلُ فِي وَقت الصَّباح، أَي تمرّون عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الصَّبَاحِ تَارَةً وَفِي اللَّيْلِ تَارَةً بِحَسَبِ تَقْدِيرِ السَّيْرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، لِأَنَّ رِحْلَةَ قُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 إلى 144]

تَكُونُ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَيَكُونُ السَّيْرُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَسُرًى وَالْبَاءُ فِي وَبِاللَّيْلِ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالْخَبَرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ وَالِاعْتِبَارِ لَا فِي حَقِيقَةِ الْإِخْبَارِ، وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِاللَّامِ تَأْكِيدٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [76] . وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مِنْ عَدَمِ فِطْنَتِهِمْ لِدَلَالَةِ تِلْكَ الْآثَارِ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمْ مَنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعَلَى سَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ تَكْذِيبُ رَسُولِ اللَّهِ لُوطٍ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى وَجْهِ تَخْصِيصِ قِصَّةِ لُوطٍ مَعَ الْقَصَصِ الْخَمْسِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ وَتَزِيدُ عَلَى تِلْكَ الْقَصَصِ بِأَنَّ فِيهَا مُشَاهَدَةَ آثَارِ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَأَصَرُّوا على الْكفْر. [139- 144] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 139 إِلَى 144] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) يُونُسُ هُوَ ابْنُ مَتَّى، وَاسْمُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (يُونَانُ بْنُ آمِتَايَ) ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيلَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ (نِينَوَى) وَكَانَتْ نِينَوَى مَدِينَةً عَظِيمَةً مِنْ بِلَادِ الْآشُورِيِّينَ وَكَانَ بِهَا أَسْرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ بِأَيْدِي الْآشُورِيِّينَ وَكَانُوا زُهَاءَ مِائَةِ أَلْفٍ بَقَوْا بَعْدَ (دَانْيَالَ) . وَكَانَ يُونُسُ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذِكْرُ قَوْمِهِ فِي الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ يُونُسَ. وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ الْمُرْسَلِينَ ، وَإِنَّمَا وُقِّتَتْ رِسَالَتُهُ بِالزَّمَنِ الَّذِي أَبَقَ فِيهِ إِلَى الْفُلْكِ لِأَنَّ فِعْلَتَهُ تِلْكَ كَانَت عِنْد مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالذَّهَابِ إِلَى نِينَوَى لِإِبْلَاغِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ انْحَرَفُوا عَنْ شَرِيعَتِهِمْ. فَحِينَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ عَظُمَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ فَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ وَقَصَدَ مَرْسَى (يَافَا) لِيَذْهَبَ إِلَى مَدِينَةِ (تَرْشِيشَ) وَهِيَ طرطوسية على شاطىء بِلَادِ الشَّامِ فَهَالَ

الْبَحْرُ حَتَّى اضْطَرَّ أَهْلُ السَّفِينَةِ إِلَى تَخْفِيفِ عَدَدِ رُكَّابِهَا فَاسْتَهَمُوا عَلَى مَنْ يَطْرَحُونَهُ مِنْ سَفِينَتِهِمْ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ يُونُسُ مِمَّنْ خَرَجَ سَهْمُ إِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ عَظِيمٌ وَجَرَتْ قِصَّتُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ هُرُوبُهُ مِنْ كُلْفَةِ الرِّسَالَةِ مُقَارِنًا لِإِرْسَالِهِ وُقِّتَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وأَبَقَ مَصْدَرُهُ إِبَاقٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَهُوَ فِرَارُ الْعَبْدِ مِنْ مَالِكِهِ. وَفِعْلُهُ كَضَرَبَ وَسَمِعَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّ يُونُسَ هَرَبَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ فِيهِ قَاصِدًا بَلَدًا آخَرَ تَخَلُّصًا مِنْ إِبْلَاغِ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ (نِينَوَى) وَلَعَلَّهُ خَافَ بَأْسَهُمْ وَاتَّهَمَ صَبْرَ نَفْسِهِ عَلَى أَذَاهُمُ الْمُتَوَقَّعِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي حِمَايَةِ الْآشُورِيِّينَ. فَفِعْلُ أَبَقَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَتْ حَالَةَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَلَّفَهُ رَبُّهُ فِيهِ بِالرِّسَالَةِ تَبَاعُدًا مِنْ كُلْفَةِ رَبِّهِ بِإِبَاقِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ الَّذِي كَلَّفَهُ عَمَلًا. والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ : الْمَمْلُوءُ بِالرَّاكِبِينَ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَسَاهَمَ: قَارَعَ. وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ السَّهْمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِعُونَ بِالسِّهَامِ وَهِيَ أَعْوَادُ النِّبَالِ وَتُسَمَّى الْأَزْلَامَ. وَتَفْرِيعُ فَساهَمَ يُؤْذِنُ بِجُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ تَقْدِيرُهَا: فَهَالَ الْبَحْرُ وَخَافَ الرَّاكِبُونَ الْغَرَقَ فَسَاهَمَ. وَهَذَا نَظِيرُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] وَالْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ «يُونَانَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نُلْقِ قُرْعَةً لِنَعْرِفَ مَنْ هُوَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ فَأَلْقَوْا قُرْعَةً فَوَقَعَتْ عَلَى يُونُسَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ الْقُرْعَةَ خَرَجَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى يُونُسَ. وَسُنَّةُ الِاقْتِرَاعِ فِي أَسْفَارِ الْبَحْرِ كَانَتْ مُتَّبَعَةً عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ إِذَا ثَقُلَتِ السَّفِينَةُ بِوَفْرَةِ الرَّاكِبِينَ أَوْ كَثْرَةِ الْمَتَاعِ. وَفِيهَا قِصَّةُ الْحِيلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الصَّفَدَيُّ فِي «شَرْحِ الطُّغْرَائِيَّةِ» (¬1) : أَنَّ بَعْضَ الْأَصْحَابِ يَدَّعِي أَنَّ مَرْكَبًا فِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ ¬

(¬1) قصيدة الطغرائي اللامية الْمُسَمَّاة لامية الْعَجم. انْظُر شرح الْبَيْت: إِن الْعلَا حَدَّثتنِي وَهِي صَادِقَة ... فَمَا تحدث أَن الْعِزّ فِي النَّقْل

أَشْرَفَ عَلَى الْغَرَقِ وَأَرَادُوا أَنْ يَرْمُوا بَعْضَهُمْ إِلَى الْبَحْرِ لِيَخِفَّ الْمَرْكَبُ فَيَنْجُوَ بَعْضُهُمْ وَيَسْلَمَ الْمَرْكَبُ فَقَالُوا: نَقْتَرِعُ فَمَنْ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ أَلْقَيْنَاهُ. فَنَظَرَ رَئِيسُ الْمَرْكَبِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ جَالِسُونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا حُكْمًا مُرْضِيًا وَإِنَّمَا نَعُدُّ الْجَمَاعَةَ فَمَنْ كَانَ تَاسِعًا أَلْقَيْنَاهُ فَارْتَضَوْا بِذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يَعُدُّهُمْ وَيُلْقِي التَّاسِعَ فَالتَّاسِعَ إِلَى أَنْ أَلْقَى الْكُفَّارَ وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ وَهَذِهِ صُورَةُ ذَلِكَ (وَصَوَّرَ دَائِرَةً فِيهَا عَلَامَاتٌ حُمْرٌ وَعَلَامَاتٌ سُودٌ، فَالْحُمْرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمُ ابْتِدَاءُ الْعَدِّ وَهُوَ إِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ) قَالَ: وَلَقَدْ ذَكَرْتُهَا لِنُورِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَدِيِّ فَأَعْجَبَتْهُ وَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِحِفْظِ هَذَا التَّرْتِيبِ فَقُلْتُ لَهُ: الضَّابِطُ فِي هَذَا الْبَيْتِ تَجْعَلُ حُرُوفَهَ الْمُعْجَمَةَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُهْمَلَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ: اللَّهُ يَقْضِي بِكُلِّ يُسْرٍ ... ويرزق الضَّيْف حِين كَانَا ا. هـ وَكَانَتِ الْقُرْعَةُ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْحَقِّ أَوْ عِنْدَ اسْتِوَاءِ عَدَدٍ فِي اسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [44] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ إِقْنَاعِيَّةٌ كَانَ الْبَشَرُ يَصِيرُونَ إِلَيْهَا لِفَصْلِ التَّنَازُعِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُتَدَيِّنَةِ، أَوْ إِرَادَةِ الْأَصْنَامِ عِنْدَ الْأُمَمِ الَّتِي تَعْبُدُ الْأَصْنَامَ تَمْيِيزَ صَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ. وَلَعَلَّهَا مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْكَهَنَةِ وَسَدَنَةِ الْأَصْنَامِ. فَلَمَّا شَاعَتْ فِي الْبَشَرِ أَقَرَّتْهَا الشَّرَائِعُ لِمَا فِيهَا مِنْ قَطْعِ الْخِصَامِ وَالْقِتَالِ، وَلَكِنَّ الشَّرَائِعَ الْحَقَّ لَمَّا أَقَرَّتْهَا اقْتَصَدَتْ فِي اسْتِعْمَالِهَا بِحَيْثُ لَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْحَقِّ وَفُقْدَانِ الْمُرَجِّحِ، الَّذِي هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي نَوْعِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَهِيَ مِنْ بَقَايَا الْأَوْهَامِ. وَقَدِ اقْتَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي اعْتِبَارِهَا عَلَى أَقَلِّ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ. مِثْلَ تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَقْسَامِ الْمُتَسَاوِيَةِ لِأَحَدِ الْمُتَقَاسِمِينَ إِذْ تَشَاحُّوا فِي أَحَدِهَا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : «وَالْقُرْعَةُ إِنَّمَا جُعِلَتْ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِ الْمُتَقَاسِمِينَ وَأَصْلُهَا قَائِمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُونُسَ: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. وَعِنْدِي: أَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْكِ شَرْعًا صَحِيحًا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ إِذْ لَا يُعْرَفُ دِينُ أَهْلِ السَّفِينَةِ الَّذِينَ أَجْرَوُا الِاسْتِهَامَ عَلَى يُونُسَ، عَلَى أَنَّ مَا أُجْرِيَ الِاسْتِهَامُ عَلَيْهِ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ

عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي مِثْلِهِ اسْتِهَامٌ. فَلَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبِلْنَا فَقَدْ نَسَخَهُ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ أُمَّتِنَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الِاقْتِرَاعُ عَلَى إِلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يقتل وَلَا أَن يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ. وَإِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُود وَالتَّعْزِير عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إِذَا هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطَرُّوا إِلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا، وَهَذَا فَاسِدٌ فَلَا تُخَفَّفُ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ. وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا الْقُرْعَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ. وَجَاءَتِ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: الْأَوَّلُ: كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. الثَّانِي: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَأَقْرَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ- وَهُمَا مُعَادِلُ الثُّلُثِ- وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. الثَّالِثُ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ، فَقَالَ: اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الِاقْتِرَاعُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِيثَارٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَةُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي «الْفِرَقِ» (240) : مَتَى تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِرَاعُ لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ الْحَقِّ وَمَتَى تَسَاوَتِ الْحُقُوقُ أَوِ الْمَصَالِحُ فَهَذَا مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ دَفْعَا لِلضَّغَائِنِ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ إِذَا اسْتَوَتْ فِيهِمُ الْأَهْلِيَّة للولاية وَالْأَئِمَّة والمؤذنين إِذْ اسْتَوَوْا وَالتَّقَدُّمُ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ وَتَغْسِيلُ الْأَمْوَاتِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْأَوْلِيَاءِ وَتُسَاوِيهِمْ وَبَيْنَ الْحَاضِنَاتِ وَالزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ

وَالْقِسْمَةُ وَالْخُصُومُ عِنْدَ الْحُكَّامِ فِي عِتْقِ الْعَبِيدِ إِذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يُحَمِّلَهُمُ الثُّلُثَ. وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ (بَيْنَهُمْ) . وَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ وَيُسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَوَافَقَ فِي قِيمَةِ الْأَرْضِ. قَالَ: وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهَا تَجْرِي فِي كل مُشكل ا. هـ. قُلْتُ: وَفِي «الصَّحِيحِ» «عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهُ لَمَّا اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ وَقَعَ فِي سَهْمِهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْجَصَّاصُ: (احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ الْأَغْمَارِ فِي إِيجَابِ الْقُرْعَةِ فِي الْعَبِيدِ يَعْتِقُهُمُ الْمَرِيضُ. وَذَلِكَ إِغْفَالٌ مِنْهُ لِأَنَّ يُونُسَ سَاهَمَ فِي طَرْحِهِ فِي الْبَحْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِي قَتْلِ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ وَفِي أَخْذِ مَالِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ فِيهِ) . وَقَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِإِلْقَاءِ الْأَقْلَامِ فِي كَفَالَةِ مَرْيَمَ» عَلَى جَوَازِ الْقُرْعَةِ فِي الْعَبِيدِ يَعْتِقُهُمُ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ وَلَيْسَ هَذَا (أَيْ إِلْقَاءُ الْأَقْلَامِ) مِنْ عِتْقِ الْعَبِيدِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الرِّضَى بِكَفَالَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَرْيَمَ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى اسْتِرْقَاقِ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْحُرِّيَّةُ، وَقَدْ كَانَ عِتْقُ الْمَيِّتِ نَافِذًا فِي الْجَمِيعِ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْقُرْعَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ. وَالْإِدْحَاضُ: جَعْلُ الْمَرْءِ دَاحِضًا، أَيْ زَالِقًا غَيْرَ ثَابِتِ الرِّجْلَيْنِ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْخُسْرَانِ وَالْمَغْلُوبِيَّةِ. وَالِالْتِقَامُ: الْبَلْعُ. وَالْحُوتُ الَّذِي الْتَقَمَهُ: حُوتٌ عَظِيمٌ يَبْتَلِعُ الْأَشْيَاءَ وَلَا يَعَضُّ بِأَسْنَانِهِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ الْحُوتُ الَّذِي يُسَمَّى (بَالَيْنُ) بِالْإِفْرِنْجِيَّةِ. وَالْمُلِيمُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَلَامَ، إِذَا فَعَلَ مَا يَلُومُهُ عَلَيْهِ النَّاسُ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمْ لَائِمِينَ فَهُوَ أَلَامَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَانَ غَرَقُهُ فِي الْبَحْرِ الْمُسَمَّى بَحْرَ الرُّومِ وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ الْبَحْرَ الْأَبْيَضَ الْمُتَوَسِّطَ، وَلَمْ يَكُنْ بِنَهْرِ دِجْلَةَ كَمَا غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 145 إلى 146]

وكانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [87] ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ بِسَبَبِ تَسْبِيحِهِ وَتَوْبَتِهِ فَقَذَفَهُ الْحُوتُ مِنْ بَطْنِهِ إِلَى الْبَرِّ بَعْدَ أَنْ مَكَثَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَقِيلَ: يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَقِيلَ: بِضْعَ سَاعَاتٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ التَّأْبِيدُ بِأَنْ يُمِيتَ اللَّهُ الْحُوتَ حِينَ ابْتِلَاعِهِ وَيُبْقِيَهُمَا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، أَوْ بِأَنْ يُخْتَطَفَ الْحُوتُ فِي حَجَرٍ فِي الْبَحْرِ أَوْ نَحْوِهُ فَلَا يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ حَتَّى يُبْعَثَ يُونُسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قَعْر الْبَحْر. [145- 146] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 145 إِلَى 146] فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات: 143، 144] . فَالتَّقْدِيرُ: يُسَبِّحُ رَبَّهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَنَجَّاهُ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْمَعْنَى: فَلَفَظَهُ الْحُوتُ وَقَاءَهُ، وَحَمَلَهُ الْمَوْجُ إِلَى الشَّاطِئِ. وَالنَّبْذُ: الْإِلْقَاءُ وَأُسْنِدَ نَبْذُهُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْحُوتَ لِقَذْفِهِ مِنْ بَطْنه إِلَى شاطىء لَا شَجَرَ فِيهِ. وَالْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا شَجَرَ فِيهَا وَلَا مَا يُغَطِّيهَا. وَكَانَ يُونُسُ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ سَقِيمًا لِأَنَّ أَمْعَاءَ الْحُوتِ أَضَرَّتْ بِجِلْدِهِ بِحَرَكَتِهَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ نزع ثِيَابه عِنْد مَا أُرِيدَ رَمْيُهُ فِي الْبَحْرِ لِيَخِفَّ لِلسِّبَاحَةِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَصَابَ الْحُوتَ بِشِبْهِ الْإِغْمَاءِ فَتَعَطَّلَتْ حَرَكَة هضمه تعطلا مَا فَبَقِيَ كَالْخَدِرِ لِئَلَّا تَضُرَّ أَمْعَاؤُهُ لَحْمَ يُونُسَ. وَأَنْبَتَ اللَّهُ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ لِتُظَلِّلَهُ وَتَسْتُرَهُ. وَالْيَقْطِينُ: الدُّبَّاءُ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوَرَقِ تَتَسَلَّقُ أَغْصَانُهَا فِي الشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَغْصَانَ الْيَقْطِينَةِ تَسَلَّقَتْ عَلَى جَسَدِ يُونُس فكسته وأضلته. وَاخْتِيرَ لَهُ الْيَقْطِينُ لِيُمْكِنَ لَهُ أَنْ يَقْتَاتَ مِنْ غَلَّتِهِ

فَيَصْلُحُ جَسَدُهُ لُطْفًا مِنْ رَبِّهِ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَجْرَى لَهُ حَادِثًا لِتَأْدِيبِهِ، شَأْنُ الرَّبِّ مَعَ عَبِيدِهِ أَنْ يُعْقِبَ الشِّدَّةَ بِالْيُسْرِ. وَهَذَا حَدَثٌ لَمْ يَعْهَدْ مَثِيلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَلِأَجْلِهِ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيِرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ، يُرِيدُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَحَدًا آخَرَ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْمَعْنَى نَفْيُ الْأَخْيَرِيَّةِ فِي وَصْفِ النُّبُوءَةِ، أَيْ لَا يَظُنَّنَّ أَحَدٌ أَنَّ فِعْلَةَ يُونُسَ تَسْلُبُ عَنْهُ النُّبُوءَةَ. فَذَلِكَ مثل قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ، أَيْ فِي أَصْلِ النُّبُوءَةِ لَا فِي دَرَجَاتِهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [الْبَقَرَة: 253] وَقَالَ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: 55] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ يُونُسَ هُنَا تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَلْقَاهُ مَنْ ثِقَلِ الرِّسَالَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَثْقَلَ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ فَظَهَرَتْ مرتبَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَبْرِهِ عَلَى ذَلِكَ وَعدم تذمّره ولإعلام جَمِيعِ النَّاسِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمُدَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ لِلدِّينِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَلُومُونَهُ عَلَى إِلْحَاحِهِ عَلَيْهِمْ وَدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي مُخْتَلَفِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَيَقُولُونَ: لَا تَغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَمن جَاءَك فمنّا فَاسْمَعْهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رسالاته [الْمَائِدَة: 67] فَلِذِكْرِ قِصَّةِ يُونُسَ أَثَرٌ مِنْ مَوْعِظَةِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقع فِيهِ يُونُس مِنْ غَضَبِ رَبِّهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [الْقَلَم: 48، 49] . وَلْيَعْلَمِ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا اصْطَفَى أَحَدًا لِلرِّسَالَةِ لَا يُرَخِّصُ لَهُ فِي الْفُتُورِ عَنْهَا وَلَا يَنْسَخُ أَمْرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته.

[سورة الصافات (37) : الآيات 147 إلى 148]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 147 إِلَى 148] وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) ظَاهِرُ تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْحُوتِ أَنَّهُ إِعَادَةٌ لِإِرْسَالِهِ. وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَا فِي كِتَابِ يُونُسَ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ إِذْ وَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ: ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونُسَ ثَانِيَةً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا. وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ: الْيَهُودُ الْقَاطِنُونَ فِي نِينَوَى فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ مُخْتَلِطِينَ بِغَيْرِهِمْ أَنْ تَعُمَّ رسَالَته جَمِيع الخليط لِأَنَّ فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيرًا لِكُفْرِ غَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَخْلِيصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَعَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُقَدَّرَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ هُمُ الْيَهُودُ وَأَنَّ الْمَعْطُوفَيْنِ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ هُمْ بَقِيَّةُ سُكَّانِ (نِينَوَى) . وَذُكِرَ فِي كِتَابِ يُونُسَ أَنَّ دَعْوَةَ يُونُسَ لَمَّا بَلَغَتْ مَلِكَ نِينَوَى قَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ وَلَبِسَ مَسْحًا وَأَمَرَ أَهْلَ مَدِينَتِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ إِلَخْ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ يُونُسَ دَعَا غَيْرَ أَهْلِ نِينَوَى مِنْ بِلَادِ أَشُورَ مَعَ سَعَتِهَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قَالَ: «عِشْرُونَ أَلْفًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَحَرْفُ أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ بِمَعْنَى (بَلْ) عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتِيَارِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ جِنِّيِّ وَابْنِ بُرْهَانَ (¬1) . وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ جَرِيرٍ: مَاذَا تَرَى فِي عِيَالٍ قَدْ بَرَمْتَ بِهِمْ ... لَمْ أُحْصِ عِدَّتَهُمْ إِلَّا بّعَدَّادِ كَانُوا ثَمَانِينَ أَوْ زَادُوا ثَمَانِيَةً ... لَوْلَا رَجَاؤُكَ قَدْ قَتَّلْتَ أَوْلَادِي وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ وَأَنْ يُعَادَ ¬

(¬1) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة مَمْنُوعًا من الصّرْف هُوَ سعيد بن الْمُبَارك الْبَغْدَادِيّ ولد سنة 469 وَتُوفِّي سنة 559.

[سورة الصافات (37) : آية 149]

الْعَامِلُ، وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَالْمَعْنَى إِذَا رَآهُمُ الرَّائِي تَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، أَوْ يَقُولَ: يَزِيدُونَ. وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِ أَوْ غَيْرُ مُفْرَدٍ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُبِينٌ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ لِلْإِضْرَابِ. وَالْفَاءُ فِي فَآمَنُوا لِلتَّعْقِيبِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ يُونُسَ لَمَّا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَدَعَاهُمُ امْتَنَعُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَعِيدٍ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ خَافُوا فَآمَنُوا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: 98] . [149] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 149] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِبْطَالِ دَعَاوِيهِمْ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ لَهُمْ بِنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ فَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْطَالِ مَا نَسَبَهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْوَلَدِ. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ. مِثْلَ نَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الصافات: 11] . وَالْمُرَادُ: التَّهَكُّمُ عَلَيْهِمْ بِصُورَةِ الِاسْتِفْتَاءِ إِذْ يَقُولُونَ: وُلَدَ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُمْ قَسَّمُوا قِسْمَةً ضِيزَى حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الْأَبْنَاءِ الذُّكُورِ وَيَكْرَهُونَ الْإِنَاثَ، فَجَعَلُوا لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ. وَقَدْ جَاءُوا فِي مَقَالِهِمْ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا التَّجْسِيمَ لِلَّهِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ. الثَّانِي: إِيثَارُ أَنْفُسِهِمْ بِالْأَفْضَلِ وَجَعْلُهُمْ لِلَّهِ الْأَقَلَّ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف: 17] . الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَصْفَ الْأُنُوثَةِ وَهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِأَبِي الْإِنَاثِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنْ كُفْرِهِمْ فِي كِتَابِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.

[سورة الصافات (37) : آية 150]

فَجُمْلَةُ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَاسْتَفْتِهِمْ. وَضَمِيرُ لِرَبِّكَ مُخَاطَبٌ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلِاسْتِفْتَاءِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَفْتَاهُمْ يَقُولُ: أَلِرَبِّكُمُ الْبَنَاتُ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ وَلَهُمُ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ لَهُمْ: وَلَكُمُ الْبَنُونَ. وَهَذَا التَّصَرُّفُ يَقَعُ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَنَحْوِهُ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ مثل الاستفتاء. [150] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 150] أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) وَهِيَ لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، فَالْكَلَامُ بَعْدَهَا مُقَدَّرٌ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ أَخَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا. وَضَمِيرُ خَلَقْنَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ وَهُوَ إِذَا اسْتَفْتَاهُمْ يَقُولُ لَهُمْ: أَمْ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَتَعْجِيبِيٌّ مِنْ جُرْأَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ بِلَا عِلْمٍ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ شاهِدُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهِيَ قَيْدٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ كَانُوا حَاضِرِينَ حِينَ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ فَشَهِدُوا أُنُوثَةَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ لِأَمْثَالِهِمْ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِعِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ. وَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الْقَاطِعِ فَذَلِكَ مَا سَيَنْفِيهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ [الصافات: 156] ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُنُوثَةَ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ. وَضَمِيرُ: وَهُمْ شاهِدُونَ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى فِي الِاسْتِفْتَاءِ. وَالْأَصْلُ: وَأَنْتُمْ شَاهِدُونَ، كَمَا تقدم آنِفا. [151- 152] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 151 إِلَى 152] أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) ارْتِقَاءٌ فِي تَجْهِيلِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمُسْتَحِيلَ فَضْلًا عَلَى الْقَوْلِ بِلَا دَلِيلٍ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ إِفْكًا. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ الِاسْتِفْتَاءِ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 153 إلى 157]

وَ (أَلا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ أَيْ قَوْلُهُمْ هَذَا بَعْضٌ مِنْ أُكْذُوبَاتِهِمْ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِعَطْفِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مُؤَكَّدًا بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ، أَيْ شَأْنُهُمُ الْكَذِبُ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِنْ بَاطِلِهِمْ، فَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: مِنْ إِفْكِهِمْ كَيْفَ وَهِي معطوفة. [153- 157] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 153 إِلَى 157] أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِفْتَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا كَمَالَ الِاتِّصَالِ، فَالْمَعْنَى: وَقُلْ لَهُمْ: اصْطفى الْبَنَات. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَصْطَفَى بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى أَنَّهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَمَّا هَمْزَةُ الْوَصْلِ الَّتِي فِي الْفِعْلِ فَمَحْذُوفَةٌ لِأَجْلِ الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ. وَالْكَلَامُ ارْتِقَاءٌ فِي التَّجْهِيلِ، أَيْ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ اتخذ ولدا فَلَمَّا ذَا اصْطَفَى الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ، أَيِ اخْتَارَ لِذَاتِهِ الْبَنَاتِ دُونَ الْبَنِينَ وَالْبَنُونَ أَفْضَلُ عِنْدَكُمْ؟ وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ فَإِنَّ إِنْكَارَ اصْطِفَاءِ الْبَنَاتِ يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّلِيلِ فِي حُكْمِهِمْ ذَلِكَ، فَأَبْدَلَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ مِنْ إِنْكَارِ ادِّعَائِهِمُ اصْطِفَاءَ اللَّهِ الْبَنَاتِ لِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: مَا لَكُمْ: مَا اسْتِفْهَامٌ عَنْ ذَاتٍ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ ولَكُمْ خَبَرٌ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَكُمْ؟ وَهَذَا إِبْهَامٌ فَلِذَلِكَ كَانَتْ كَلِمَةُ «مَا لَكَ» وَنَحْوُهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ يَجِبُ أَنْ يُتْلَى بِجُمْلَةِ حَالٍ تُبَيِّنُ الْفِعْلَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ نَحْوَ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ [الصافات: 92] وَنَحْوَ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 11] وَقَدْ بُيِّنَتْ هُنَا بِمَا

تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ اسْتِفْهَامِ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فَإِنَّ كَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْحَالِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَحْكُمُونَ قُدِّمَتْ لِأَجْلِ صَدَارَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَجُمْلَةُ تَحْكُمُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ فَحَصَلَ اسْتِفْهَامَانِ: أَحَدُهُمَا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ فَحَكَمُوا هَذَا الْحُكْمَ. وَثَانِيهِمَا عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا لَمَّا حُكِيَ هَذَا الْحُكْمُ الْبَاطِلُ. وَهَذَا إِيجَازُ حَذْفٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: مَا لَكَمَ تَحْكُمُونَ هَذَا الْحُكْمَ، كَيْفَ تَحْكُمُونَهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ تَحْكُمُونَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامَانِ مِنْ كَوْنِ مَا حَكَمُوا بِهِ مُنْكَرًا يَحِقُّ الْعَجَبُ مِنْهُ فَكِلَا الِاسْتِفْهَامَيْنِ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَنْ عَدَمِ تَذَكُّرِهِمْ، أَيِ اسْتِعْمَالُ ذُكْرِهِمْ- بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ الْعَقْلُ- أَيْ فَمُنْكَرٌ عَدَمُ تَفَهُّمِكُمْ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْ حُكْمِكُمْ. وأَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ فَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) الَّتِي مَعْنَاهَا الإضراب الصَّالح للإضراب الْإِبْطَالِيُّ وَالْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ لِلْحَقِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَمْ بَعْدَهَا إِنْكَارِيُّ أَيْضًا. فَالْمَعْنَى: مَا لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ، أَيْ عَلَى مَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى إِنْكَارِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ بِمَا قَالُوا أَنْ خُوطِبُوا بالإتيان بِكِتَاب من عِنْد الله عَلَى ذَلِكَ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا زَعَمُوا، أَي فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِكُتَّابٍ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتُمْ غَيْرُ صَادِقِينَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا أَمْرُ تَعْجِيزٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] . وَإِضَافَةُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ كِتَابٍ مُرْسَلٍ إِلَيْكُمْ. وَمُجَادَلَتُهُمْ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الْمُتَفَنَّنَةِ رُتِّبَتْ عَلَى قَانُونِ الْمُنَاظَرَةِ فَابْتَدَأَهُمْ بِمَا يُشْبِهُ الِاسْتِفْسَارَ عَنْ دَعْوَيَيْنِ: دَعْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً [الصافات: 149، 150] .

ثُمَّ لَمَّا كَانَ تَفْسِيرُهُمْ لِذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ مُتَكَرَّرِ أَقْوَالِهِمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْمُجِيبِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ مِنِ اسْتِفْسَارِهِمْ صُورَةُ الِاسْتِفْسَارِ مُضَايَقَةً لَهُمْ وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِفْسَارِ إِلَى مَقَامِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَذَلِكَ الِانْتِقَالُ ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: 150] وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ شَهِدَ إِذَا حَضَرَ وَرَأَى، ثُمَّ قَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَرَدَّدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى دَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ إِلَى دَلِيلٍ غَيْرِهِ وَهُوَ هُنَا مُتَعَيَّنٌ لِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَقْطُوعًا بِصِدْقِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَدَلِيلُ الْمُشَاهَدَةِ مُنْتَفٍ بِالضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ مُنْتَفٍ أَيْضًا إِذْ لَا دَلِيلَ مِنَ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَلَا عَلَى أَنَّهُمْ ذُكُورٌ. فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ هُنَا انْحَصَرَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي دَلِيلِ السَّمْعِ وَهُوَ الْخَبَرُ الصَّادِقُ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعِلْمِ لِلْخَلْقِ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ: أُشِيرَ إِلَى دَلِيلِ الْحِسِّ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ شاهِدُونَ، وَإِلَى دَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَهُوَ دَلِيلُ السَّمْعِ. فَأَسْقَطَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ احْتِمَالَ دَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ مَقْطُوعٌ إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ وَانْحَصَرَ دَلِيلُ السَّمْعِ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا عَلِمْتَ إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِ اللَّهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ خُوطِبُوا بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَاب أَي بِكِتَابٍ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَةَ مَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاسْتِحَالَةَ أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ أَحَدًا مَنْ خَلْقِهِ، فَانْحَصَرَ الدَّلِيلُ الْمَفْرُوضُ مِنْ جَانِبِ السَّمْعِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ فِي أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] ، وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ. فَذِكْرُ لَفْظِ «كِتَابِكُمْ» إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَأْتُوا بِهِ، أَيِ السُّلْطَانِ الْمُبِينِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كِتَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِضَافَةُ كِتَابٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مِنْ إِضَافَةِ مَا فِيهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ إِلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ

[سورة الصافات (37) : آية 158]

عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِكِتَابٍ إِلَيْكُمْ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَادَّةُ الْكِتَابَةِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ (إِلَى) . فَلَا جَرَمَ قَدِ اتَّضَحَ إِفْحَامُهُمْ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَلِذَلِكَ صَارُوا كَالْمُعْتَرِفِينَ بِأَنْ لَا دَلِيلَ لَهُمْ على مَا زعموه فَانْتَقَلَ السَّائِلُ الْمُسْتَفْتِي مِنْ مَقَامِ الِاعْتِرَاضِ فِي الْمُنَاظَرَةِ إِلَى انْقِلَابِهِ مُسْتَدِلًّا بِاسْتِنْتَاجٍ مِنْ إِفْحَامِهِمْ وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الصافات: 151، 152] الْوَاقِعُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ التَّرْدِيدِ فِي الدَّلِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ فِي أَثْنَاءِ الْمُنَاظَرَةِ كَمَا عَلِمْتَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُسَمَّى الْمُعَارَضَةَ. وَإِنَّمَا أُقْحِمَ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُجْعَلْ مَعَ حِكَايَةِ دَعْوَاهُمْ لِيَكُونَ آخِرُ الْجَدَلِ مَعَهُمْ هُوَ الدَّلِيلَ الَّذِي يَجْرِفُ جَمِيعَ مَا بَنَوْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّسِيجِ الْجَامِعِ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَأُسْلُوبِ الْمَوْعِظَةِ وَأُسْلُوبِ التَّعْلِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَذَكَّرُونَ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الذَّال بَعْدَ قَلْبِهَا ذَالًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ عَلَى أَنَّ إِحْدَى التَّاءَيْنِ حذفت تَخْفِيفًا. [158] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 158] وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) عَطْفٌ عَلَى جملَة لَيَقُولُونَ [الصافات: 151] أَيْ شَفَّعُوا قَوْلَهُمْ: وَلَدَ اللَّهُ [الصافات: 152] ، فَجَعَلُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْجِنِّ نَسَبًا بِتِلْكَ الْوِلَادَةِ، أَيْ بَيَّنُوا كَيْفَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَادَةُ بِأَنْ جَعَلُوهَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا.

والْجِنَّةِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْجِنِّ، فَتَأْنِيثُ اللَّفْظِ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ مِثْلُ تَأْنِيثِ رَجْلَةَ، الطَّائِفَةُ مِنَ الرِّجَالِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ مِنْ فَرِيقِ نِسَاءٍ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَشْرَافِ الْجِنِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [184] . وَالنَّسَبُ: الْقَرَابَةُ الْعَمُودِيَّةُ أَوِ الْأُفُقِيَّةُ- أَيْ مِنَ الْأَطْرَافِ- وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَوِي نَسَبٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نسب النبوءة لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ جَعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى نَسَبًا لِلْجِنَّةِ وَلِلْجِنَّةِ نَسَبًا لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ نَسَباً أَيْ كَائِنًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ، أَيْ أَنَّ نَسَبَهُ تَعَالَى، أَيْ نَسْله سُبْحَانَهُ ناشىء مِنْ بَيْنِهِ وَبَيْنِ الْجِنِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ جَعَلُوا، أَيْ جَعَلُوا فِي الِاقْتِرَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنِّ نَسَبًا لَهُ، أَيْ جَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ نَسَبًا يَتَوَلَّدُ لَهُ، فَقَوْلُهُ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً هُوَ كَقَوْلِكَ: بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ بَنُونَ، أَيْ لَهُ مِنْهَا وَلَهَا مِنْهُ بَنُونَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مُرَادُ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنْ جَعَلُوا الْجِنَّ أَصْهَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَتَفْسِيرُهُ النَّسَبَ بِالْمُصَاهَرَةِ تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّسَبَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُصَاهَرَةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ، لِأَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي دَوَاوِينِ اللُّغَةِ فَلَا تَغْتَرِرْ بِهِ. وَلِعَدَمِ الْغَوْصِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنَّةِ الْمَلَائِكَةُ، أَيْ جَعَلُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ نَسَبَ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً إِعَادَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ [الصافات: 151، 152] وَمِنْ قَوْلِهِ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: 150] . وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجِنَّةِ أَصْلُ الْجِنَّةِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ نَسِيبًا لِلشَّيْطَانِ نَسَبَ الْأُخُوَّةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ مِنَ الْمَجُوسِ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْخَيْرِ هُوَ اللَّهُ، وَإِلَهٍ لِلشَّرِّ هُوَ الشَّيْطَانُ وَهُمْ مِنْ مِلَلِ مَجُوسِ فَارِسَ وَسَمَّوْا إِلَهَ الْخَيْرِ (يَزْدَانَ) وَإِلَهَ الشَّرِّ (أَهْرُمُنْ) وَقَالُوا: كَانَ إِلَهُ الْخَيْرِ وَحْدَهُ فَخَطَرَ لَهُ خَاطِرٌ فِي نَفْسِهِ مِنَ الشَّرِّ فَنَشَأَ مِنْهُ إِلَهُ الشَّرِّ هُوَ (أَهْرُمُنْ) وَهُوَ مَا نَعَاهُ الْمَعَرِّيُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:

قَالَ أُنَاسٌ بَاطِلٌ زَعْمُهُمْ ... فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَلَا تَزْعُمُنْ فَكَّرَ (يَزْدَانُ) عَلَى غِرَّةٍ ... فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ (أَهْرُمُنْ) وَهَذَا الدِّينُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَرَبِ الْعِرَاقِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِ فَارِسَ وَالْخَاضِعِينَ لِسُلْطَانِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّ الْجِنَّةَ لَا يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ إِلَّا أَنَّهُ تَمَيَّزَ بِهِ صِنْفٌ خَاصٌّ مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَبَيْنَ جُمْلَةِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 159] وجَعَلُوا بَيْنَهُ إِلَخْ ... حَالٌ وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ، وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ إِلَى الْجِنَّةِ، وَالْوَجْهَانِ مُرَادَانِ فَإِن الْفَرِيقَيْنِ معاقبان. وَالْمُحْضَرُونَ: الْمَجْلُوبُونَ لِلْحُضُورِ، وَالْمُرَادُ: مُحَضَرُونَ لِلْعِقَابِ، بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّوْبِيخِ فَإِنَّ التَّوْبِيخَ يَتْبَعُهُ التَّهْدِيدُ، وَالْغَالِبُ فِي فِعْلِ الْإِحْضَارِ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِحْضَارُ سُوءٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات: 57] وَلِذَلِكَ حَذَفَ مُتَعَلِّقَ «مُحْضَرُونَ» ، فَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِأَحَدٍ لِإِكْرَامِهِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ كَذِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ كَذِبًا فَاحِشًا يُجَازَوْنَ عَلَيْهِ بِالْإِحْضَارِ لِلْعَذَابِ، فَجُعِلَ «مُحْضَرُونَ» كِنَايَةً عَنْ كَذِبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ مَا عُذِّبُوا عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ حَاصِلٌ لِلْجِنِّ فِيمَا مَضَى، وَلَعَلَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ زَمَانِ تَمَكُّنِهِمْ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي مَوْضِعِ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، أَيْ سَتَعْلَمُ الْجِنَّةُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ يَتَحَقَّقُونَ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فَقَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ لِاعْتِقَادِ وَجَاهَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالصَّهْرِ الَّذِي لَهُم.

[سورة الصافات (37) : آية 159]

[سُورَة الصافات (37) : آيَة 159] سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) اتُّبِعَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمُ الْبَاطِلِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِاعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى يَتَضَمَّنُ إِنْشَاءَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ إِنْشَاءٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَنْزِيهِهِ، وَتَلْقِينٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْتَدُوا بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ التَّنْزِيهِ، وَتَعْجِيبٌ مِنْ فَظِيعِ مَا نسبوه إِلَيْهِ. [160] [سُورَة الصافات (37) : آيَة 160] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 159] وَجُمْلَةِ فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ [الصافات: 161] الْآيَةَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، قِيلَ نَشأ عَن قَوْلهم: إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 158] وَالْمَعْنَى لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لَا يُحْضَرُونَ، وَقِيلَ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 159] أَيْ لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخَلَصِينَ لَا يَصِفُونَهُ بِذَلِكَ، وَقِيلَ مِنْ ضمير وَجَعَلُوا [الصافات: 158] أَيْ لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لَا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ. وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَالْمُرَادُ بِالْعِبَادِ الْمُخْلَصِينَ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 159] فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِهِ لِأَنَّ «مَا يَصِفُونَ» أَفَادَ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ [الصافات: 149] . وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَالْمُرَادُ مِنْ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الْمَلَائِكَةُ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] . [161- 163] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 161 إِلَى 163] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) عُقِّبَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ بِهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْجِنِّ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي سَوَّلَهَا لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَحَرَّضَهُمْ عَلَيْهَا الْكُهَّانُ خَدَمَةُ الْجِنِّ

فَعُقِّبَ ذَلِكَ بِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِدْخَالِ الْفِتْنَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِمَا يُحَاوِلُونَ مِنْهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ، أَوْ هِيَ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مُنَزَّهُونَ عَنْ مِثْلِ قَوْلِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَفْتِنُونَ إِلَّا من هُوَ صالي الْجَحِيمِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْتَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ [الصافات: 149] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] الْآيَةَ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما تَعْبُدُونَ وَاوُ الْعَطْفِ أَوْ وَاوُ الْمَعِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مَفْعُولٌ مَعَهُ وَالْخَبَرُ هُوَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. وَضَمِيرُ أَنْتُمْ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِثْلُ ضَمِيرِ «إِنَّكُمْ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ مُصْطَحَبِينَ بِالْجِنِّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ لَا تَفْتِنُونَ أَحَدًا. وَوَجْهُ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ لِلنَّاسِ أَنَّ الْجِنَّ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ كَذَلِكَ وَكَانُوا يُخَوِّفُونَ النَّاسَ مِنْ بَأْسِهَا وَانْتِقَامِهَا كَمَا قَالَتِ امْرَأَةُ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ لَمَّا أَسْلَمَ وَدَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ «أَلَا تَخْشَى عَلَى الصِّبْيَةِ مِنْ ذِي الشَّرَى؟ قَالَ: لَا» فَأَسْلَمَتْ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ يَسُبُّ الْأَصْنَامَ يُصِيبُهُ الْبَرَصُ أَوِ الْجُذَامُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَدِمَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: بَاسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. فَقَالُوا: يَا ضِمَامُ اتَّقِ الْجُذَامَ اتَّقِ الْجُنُونَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا يُسْنَدُ إِلَيْهَا الْإِفْتَانُ. وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما تَعْبُدُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ سَادًّا مَسَدَّ خَبَرِ (إِنَّ) ، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ، أَيْ فَإِنَّكُمْ قُرَنَاءُ لِآلِهَتِكُمْ لَا تَبْرَحُونَ تَعْبُدُونَهَا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ «كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتَهُ» أَيْ مَعَ ضَيْعَتِهِ، أَيْ مُقَارِنٌ لَهَا. وَمَا تَعْبُدُونَ صَادِقٌ عَلَى الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: 100] لِأَنَّ الْجِنَّ تَصْدُرُ مِنْهُمْ فِتْنَةُ النَّاسِ بِالْإِشْرَاكِ دُونَ الْأَصْنَامِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهَا

[سورة الصافات (37) : الآيات 164 إلى 166]

قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] الْآيَةَ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ [الصافات: 151، 152] أَوْ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ [الصافات: 160] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا تَعْبُدُونَ بِمُرَاعَاةِ إِفْرَادِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَهُوَ مَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ «فَاتِنِينَ» لِقَصْدِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: بِفَاتِنِينَ أَحَدًا، وَمِعْيَارُهُ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ وَالْمُسْتَثْنَى مَفْعُولٌ بِفاتِنِينَ. وَحَرْفُ (عَلَى) يَتَعَلَّقُ بِ «فَاتِنِينَ» إِمَّا لِتَضْمِينِ «فَاتِنِينَ» مَعْنَى مُفْسِدِينَ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا يُقَالُ: فَسَدَ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ وَخَلَّقَ فُلَانٌ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا، وَتَكُونُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ تَضْمِينَ مُفْسِدِينَ فِيهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ. وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ معنى حاملين ومسؤولين وَيَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 185] وَيَكُونُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ بَيْنَ (عَلَى) وَمَجْرُورِهَا تَقْدِيرُهُ: عَلَى عِبَادَةِ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ وَالشَّيَاطِينَ لَا يَتْبَعُكُمْ أَحَدٌ فِي دِينِكُمْ إِلَّا مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِيَكُونَ صَالِيَ الْجَحِيمِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: 42، 43] . وَرُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ صالِ الْجَحِيمِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْوَصْلِ فَإِنَّ الْيَاءَ لَا يُنْطَقُ بِهَا فَرَسَمَهُ كَاتِبُ الْمُصْحَفِ بِمِثْلِ حَالَةِ النُّطْقِ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوقَفَ على صالِ. [164- 166] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 164 إِلَى 166] وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 160] عَلَى أَوَّلِ الْوَجْهَيْنِ

فِي الْمَعْنَى بِعِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلَادَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَنهم يتبرأون مِنْ ذَلِكَ فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ قَوْلًا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامَ قَائِلٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُونَ مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَقُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَقَوْلِهِ: الصَّافُّونَ الْمُسَبِّحُونَ: الشَّائِعُ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَصْفُهُمْ بِالصَّافَّاتِ، وَوَصْفُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] ، وَذِكْرُ مَقَامَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 20، 21] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النَّجْم: 13، 14] . وَفِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَثَلًا حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَنَّ جِبْرِيلَ وَجَدَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَلَكًا يَسْتَأْذِنُهُ جِبْرِيلُ أَنْ يَدْخُلَ تِلْكَ السَّمَاءَ وَيَسْأَلُهُ الْمَلَكُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَنْ مَعَكَ؟ وَهَلْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ، فَتَحَ لَهُ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إِلَى الْمُسَبِّحُونَ نَزَلَ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَتَأَخَّرَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ: أَهُنَا تُفَارِقُنِي فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَقَدَّمَ عَنْ مَكَانِي وَأَنْزَلَ اللَّهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ الْآيَتَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ عَطْفًا عَلَى التَّفْرِيعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ [الصافات: 161] إِلَى آخِرِهِ وَيَتَّصِلُ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ [الصافات: 149] إِلَى هُنَا. وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُم بفاتنينا فِتْنَةَ جَرَاءَةٍ عَلَى رَبِّنَا فَنَقُولُ مِثْلَ قَوْلِكُمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْجِنُّ أَصْهَارُ اللَّهِ فَمَا مِنَا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَهُوَ مَقَامُ الْمَخْلُوقِيَّةِ لِلَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ. وَالْمَنْفِيُّ بِ مَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَّا. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا كَمَا فِي قَوْلِ سُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ: أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَاعِ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي

التَّقْدِيرُ: ابْنُ رَجُلٍ جَلَا. وَالْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا كَائِنٌ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ. وَالْمَقَامُ: أَصْلُهُ مَكَانُ الْقِيَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْقِيَامُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ كَثُرَ إِطْلَاقُ الْمَقَامِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمَرْءُ كَمَا حُكِيَ فِي قَوْلِ نُوحٍ: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي [يُونُس: 71] أَيْ عَمَلِي. وَالْمَعْلُومُ: الْمُعَيَّنُ الْمَضْبُوطُ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفُ مَعْلُومٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ الْمَضْبُوطَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُتَبَصِّرِ فِيهِ فَمَنْ تَأَمَّلَهُ عَلِمَهُ. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَّا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لَهُ صِفَةٌ وَعَمَلٌ نَحْوَ خَالِقِهِ لَا يَسْتَزِلُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا تَرُوجُ عَلَيْهِ فِيهِ الوساوس فَلَا تطمعوا أَنْ تَزِلُّونَا عَنْ عِبَادَةِ رَبِّنَا. فَالْمَقَامُ هُوَ صِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِقَرِينَةِ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ [الصافات: 161، 162] ، أَيْ مَا أَنْتُمْ بِفَاتِنِينَ لَنَا فَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْنَا فَضْلُ الْمَلَائِكَةِ فَنَرْفَعَهُ إِلَى مَقَامِ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا نُشَبِّهُ اعْتِقَادَكُمْ فِي تَصَرُّفِ الْجِنِّ أَنْ تَبْلُغُوا بِهِمْ مَقَامَ الْمُصَاهَرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمُدَانَاةِ لِجَلَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [الْأَنْعَام: 100] . فَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أَيْ وَإِنَّا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، الصَّافُّونَ أَيِ الْوَاقِفُونَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ صُفُوفًا بِالصَّلَاةِ. وَوَصَفَ وُقُوفَهُمْ فِي الصَّلَاةِ بِالصَّفِّ تَشَبُّهًا بِنِظَامِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ» ، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَبِّحِينَ الْمُنَزِّهُونَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا أَوْ يَكُونَ خَلَقَ صِهْرًا لَهُ أَوْ صَاحِبَةً خِلَافًا لِشِرْكِكُمْ إِذْ عِبَادَتُكُمْ مُكَاءٌ وَتَصْدِيَةٌ وَخِلَافًا لِكُفْرِكُمْ إِذْ تَجْعَلُونَ لَهُ صَوَاحِبَ وَبَنَاتٍ وَأَصْهَارًا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الصَّافُّونَ ... الْمُسَبِّحُونَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ [الصافات: 162] عَلَيْهِ، أَيِ الصَّافُّونَ لِعِبَادَتِهِ الْمُسَبِّحُونَ لَهُ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كلهَا مُتَعَلق بشؤون اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، وَضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ: لَنَحْنُ يُفِيدَانِ قَصْرًا مُؤَكَّدًا فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ دُونَ مَا وَصَفْتُمُوهُ بِهِ مِنَ البنوّة لله.

[سورة الصافات (37) : الآيات 167 إلى 170]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 167 إِلَى 170] وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) انْتِقَالٌ مَنْ ذِكْرِ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ وَبِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمَا وَصَفُوا بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السِّحْرِ وَالْجُنُونِ ثُمَّ بِمَا نَسَبُوا لِلَّهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ وَالْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعِبْرَةِ بِمَصَارِعِ الْمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ وَمَا لَقِيَهُ رُسُلُ اللَّهِ من أقوامهم. فانتقال الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَكْذِيبِ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هَدًى لَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا هُوَ قَوْلُهُ: فَكَفَرُوا بِهِ أَيِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ لَهُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ تَهَافُتُهُمْ فِي الْقَوْلِ إِذْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ يَوَدُّونَ أَنْ يُشَرِّفَهُمُ اللَّهُ بِكِتَابٍ لَهُمْ كَمَا شَرَّفَ الْأَوَّلِينَ وَيَرْجُونَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ مُخْلَصِينَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا رَغِبُوا فِيهِ كَفَرُوا بِهِ وَذَلِكَ أَفْظَعُ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِمَا كَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ إِذْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَغْبِطُونَ الْأُمَمَ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُمْ عَنْ مُبَاغَتَةٍ وَلَا عَنْ قِلَّةِ تَمَكُّنٍ مِنَ النَّظَرِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِيَسُدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْإِنْكَارِ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ (كَانَ) ثَابِتٌ لَهُمْ فِي الْمَاضِي. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي «يَقُولُونَ» لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ. ولَوْ شَرْطِيَّةٌ وَسَدَّتْ أَنَّ وَصِلَتُهَا مَسَدَّ فِعْلِ الشَّرْطِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَالذِّكْرُ: الْكِتَابُ الْمَقْرُوءُ، سُمِّيَ ذِكْرًا لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مُسَمًّى بِالْمَصْدَرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . ومِنَ الْأَوَّلِينَ صِفَةٌ لِ ذِكْراً، وَالْمُرَادُ بِ الْأَوَّلِينَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ، ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ ذِكْرًا جَائِيًا مِنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، أَيْ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى. وَمُرَادُهُمْ

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 إلى 173]

بِهَذَا أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُونُوا مُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ وَلَا بَلَّغُوا إِلَيْهِمْ كِتَابَهُمْ وَلَوْ كَانُوا مُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ لَآمَنُوا بِهِمْ فَكَانُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَذَكَرَ فِي جَوَابِ لَوْ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ لِيُفِيدَ مَعْنَى الْإِيمَانِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَفِي جُمْلَةِ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ صِيغَةُ قَصْرٍ مِنْ أَجْلِ كَوْنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعْرِفَةً بِالْإِضْمَارِ وَالْمُسْنَدِ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ، أَيْ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ دُونَ غَيْرِنَا، وَلَمَّا وَصَفَ الْمُسْنَدَ بِ الْمُخْلَصِينَ وَهُوَ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ حَصَلَ قَصْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ لَهُمْ صِفَةُ الْإِخْلَاصِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ثُبُوتِ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ لَهُمْ حَتَّى كَانُوا شَبِيهِينَ بِالْمُنْفَرِدِينَ بِالْإِخْلَاصِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِخْلَاصِ غَيْرِهِمْ فِي جَانِبِ إخلاصهم. وَهُوَ يؤول إِلَى مَعْنَى تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ حِينَئِذٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 157] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَفَرُوا بِهِ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى فِعْلِ لَيَقُولُونَ، أَيِ اسْتَمَرَّ قَوْلُهُمْ حَتَّى كَانَ آخِرُهُ أَنْ جَاءَهُمُ الْكِتَابُ فَكَفَرُوا بِهِ، أَو للفصيحة، وَالتَّقْدِيرُ: فَكَانَ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ فَكَفَرُوا بِهِ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: 42] . وَبِهَذَا كَانَ لِلْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ مَوْقِعُهُ الْمُصَادِفُ الْمِجَزُّ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَوْلُهُ بِمَا ضَمِنَهُ مِنَ الْإِبْهَامِ. وَ «سَوْفَ» أُخْتُ السِّينِ فِي إِفَادَةِ مُطلق الِاسْتِقْبَال. [171- 173] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 171 إِلَى 173] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَكَفَرُوا بِهِ [الصافات: 170] وَبَيَانٌ لِبَعْضِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات: 170] بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 174 إلى 175]

جَانِبُ التَّسْلِيَةِ فَعَطَفَ بِالْوَاوِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالْكَلِمَةُ مُرَادٌ بِهَا الْكَلَامُ، عَبَّرَ عَنِ الْكَلَامِ بِكَلِمَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُنْتَظِمٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ دَالٍّ عَلَى الْمَقْصُودِ دَلَالَةً سَرِيعَةً فَشُبِّهَ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فِي سُرْعَةِ الدَّلَالَةِ وَإِيجَازِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» وَبُيِّنَتِ الْكَلِمَةُ بِجُمْلَةِ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، أَيِ الْكَلَامُ الْمُتَضَمِّنُ وَعْدَهُمْ بِأَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ وَعَادَوْهُمْ وَهَذِهِ بِشَارَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ تَسْلِيَتِهِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْمُرْسَلِينَ. وَعَطَفَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ جُنْدُ اللَّهِ، أَيْ أَنْصَارُهُ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوا دِينَهُ وَتَلَقَّوْا كَلَامَهُ، كَمَا سُمُّوا حِزْبَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] . وَقَوله: هُمُ الْغالِبُونَ يَشْمَلُ عُلُوَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فِي مَقَامِ الْحِجَاجِ وَمَلَاحِمِ الْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا، وَعُلُوَّهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْبَقَرَة: 212] فَهُوَ من استعمالْ غالِبُونَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَمعنى الْمَنْصُورُونَ وْغالِبُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ وَبِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ نَادِرًا ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، أَوِ الْمُرَادُ النَّصْرُ وَالْغَلَبَةُ الْمَوْعُودُ بِهِمَا قَرِيبًا وَهُمَا مَا كَانَ يَوْم بدر. [174- 175] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 174 إِلَى 175] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) هَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى التَّسْلِيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا [الصافات: 171] .

والتولي حَقِيقَتُهُ: الْمُفَارَقَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات: 90] ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِمَا يَقُولُونَهُ وَتَرْكِ النَّكَدِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ. وَالْحِينُ: الْوَقْتُ. وَأَجْمَلَ هُنَا إِيمَاءً إِلَى تَقْلِيلِهِ، أَيْ تَقْرِيبِهِ، فَالتَّنْكِيرُ لِلتَّحْقِيرِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ التَّقْلِيلُ. وَمَعْنَى أَبْصِرْهُمْ انْظُرْ إِلَيْهِمْ، أَيْ مِنَ الْآنِ، وَعُدِّيَ (أَبْصِرْ) إِلَى ضَمِيرِهِمُ الدَّالِّ عَلَى ذَوَاتِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّظَرَ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لَكِنْ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، أَيْ تَأَمَّلْ أَحْوَالَهُمْ تَرَ كَيفَ ننصرك عَلَيْهِمْ، وَهَذَا وَعِيدٌ بِمَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَحُذِفَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْصَارُ مِنْ حَالٍ أَوْ مَفْعُولٍ مَعَهُ بِتَقْدِيرِ: وَأَبْصِرْهُمْ مَأْسُورِينَ مَقْتُولِينَ، أَوْ وَأَبْصِرْهُمْ وَمَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْرٍ وَقَتْلٍ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: 172، 173] عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَيْضًا ذَوَاتِهِمْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي وَأَبْصِرْهُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِرْشَادِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ: إِذَا أَعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ مِنِ امْرِئٍ ... فَدَعْهُ وَوَاكِلْ أَمْرَهُ وَاللَّيَالِيَا أَيْ إِذَا شِئْتَ أَنْ تَتَحَقَّقَ قَرَارَةَ حَالِهِ فَانْتَظِرْهُ. وَعبر عَن ترَتّب نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِمْ بِفِعْلِ الْإِبْصَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ قَرِيبٌ حَتَّى أَنَّ الْمَوْعُودَ بِالنَّصْرِ يَتَشَوَّفُ إِلَى حُلُولِهِ فَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِهِ وَقُرْبِهِ لِأَنَّ تَحْدِيقَ الْبَصَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ أَشْرَفَ عَلَى الْحُلُولِ. وَتَفْرِيعُ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عَلَى وَأَبْصِرْهُمْ تَفْرِيعٌ لِإِنْذَارِهِمْ بِوَعِيدٍ قَرِيبٍ عَلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ بِقُرْبِهِ فَإِن ذَلِك المبصر يسرّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْزِنُ أَعْدَاءَهُ، فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْصِرْهُمْ وَمَا يَنْزِلُ بِهِمْ فَسَوْفَ تُبْصِرُ مَا وَعَدْنَاكَ وَلِيُبْصِرُوا مَا يَنْزِلُ بِهِمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَهُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُبْصِرُونَ لِدَلَالَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْرِيعَ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عَلَى وَأَبْصِرْهُمْ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَبْصِرْهُمْ حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحِينِ كَمَا لَا يخفى.

[سورة الصافات (37) : الآيات 176 إلى 177]

[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 176 إِلَى 177] أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى التَّأْجِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى حِينٍ [الصافات: 174] فَإِنَّ ذَلِكَ مَا أُنْذِرُهُمْ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ تُوُقِّعَ أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَرِنَا الْعَذَابَ الَّذِي تُخَوِّفُنَا بِهِ وَعَجِّلْهُ لَنَا. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فَلُوحِظَ ذَلِكَ وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ من استعجالهم مَا فِي تَأْخِيرِهِ وَالنَّظْرَةِ بِهِ رَأْفَةً بِهِمْ وَاسْتِبْقَاءً لَهُمْ حِينًا. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، أَيْ إِنْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ فَإِذَا نَزَلَ بِهِمْ فَبِئْسَ وَقْتُ نُزُولِهِ. وَإِسْنَادُ النُّزُولِ إِلَى الْعَذَابِ وَجَعْلُهُ فِي سَاحَتِهِمُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ، شَبَّهَتْ هَيْئَةَ حُصُولِ الْعَذَابِ لَهُمْ بَعْدَ مَا أُنْذِرُوا بِهِ فَلم يعبأوا بِهَيْئَةِ نُزُولِ جَيْشِ عَدُوٍّ فِي سَاحَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ بِهِ النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَلَمْ يَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ حَتَّى أَنَاخَ بِهِمْ. وَذَكَرَ الصَّبَاحَ لِأَنَّهُ مِنْ عَلَائِقِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَإِنَّ شَأْنَ الْغَارَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الصَّبَاحِ وَلِذَلِكَ كَانَ نَذِيرُ الْمَجِيءِ بِغَارَةِ عَدُوٍّ يُنَادِي: يَا صَبَاحَاهُ! نِدَاءَ نُدْبَةٍ وَتَفَجُّعٍ. وَلِذَلِكَ جُعِلَ جَوَابُ «إِذَا» قَوْلُهُ: فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أَيْ بِئْسَ الصَّبَاحُ صَبَاحُهُمْ. وَفِي وَصْفِهِمْ بِ الْمُنْذَرِينَ تَرْشِيحٌ لِلتَّمْثِيلِ وَتَوْرِيَةٌ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمُشَبَّهِينَ مُنْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ بِالْعَذَابِ. وَالَّذِينَ يَسُوءُ صَبَاحُهُمْ عِنْدَ الْغَارَةِ هُمُ الْمَهْزُومُونَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِأَنْ يُشَبِّهَ الْعَذَابَ بِالْجَيْشِ، وَحُلُولَهُ بِهِمْ بِنُزُولِ الْجَيْشِ بِسَاحَةِ قَوْمٍ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ ضُرِّ الْعَذَابِ بِضُرِّ الْهَزِيمَةِ، وَوَقْتَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِتَصْبِيحِ الْعَدُوِّ مَحِلَّةَ قَوْمٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَمَا فَصَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

[سورة الصافات (37) : الآيات 178 إلى 179]

وَلَا كَانَتْ لَهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تُحِسُّ بِهَا وَيَرُوقُكَ مَوْرِدُهَا عَلَى نَفْسِكَ وَطَبْعِكَ إِلَّا لِمَجِيئِهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اخْتِيَارِ هَذَا التَّمْثِيلِ الْبَدِيعِ مَعْنًى بَدِيعًا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوهُ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ عَلَى طَريقَة التورية. [178- 179] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 178 إِلَى 179] وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ [الصافات: 177] الْآيَةَ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا الْوَعْدُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فَعَطَفَ عَلَيْهِ أمره رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَهْتَمَّ بِعِنَادِهِمْ. وَهَذِهِ نَظِيرُ الَّتِي سَبَقَتْهَا الْمُفَرَّعَةِ بِالْفَاءِ فَلِذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْهَا تَأْكِيدُ نَظِيرَتِهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَذَا التَّوَلِّي غَيْرَ الْأَوَّلِ وَإِلَى حِينٍ آخَرَ وَإِبْصَارٍ آخَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوَلٍّ عَمَّنْ يَبْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ الَّذِي اسْتُعْجِلُوهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِينًا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا فَهُوَ إِنْذَارٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى حِينٍ مِنْ أَحْيَانِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ غَايَةً لتولي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ غَايَةٌ لتولي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُ عَنْهُمْ مُسْتَمِرٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ مُدَّةَ لحاق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى لَمَّا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِتَوَلِّيهِ عَنْهُمْ جُعِلَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ كَأَنَّهَا ظَرْفٌ لِلتَّوَلِّي يَنْتَهِي بِحِينِ إِحْضَارِهِمْ لِلْعِقَابِ، فَيكون قَوْله: حَتَّى حِينٍ مُرَادًا بِهِ الْأَبَدُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَأَبْصِرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِدَلَالَةِ مَا فِي نظيرها عَلَيْهِ. [180- 182] [سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 180 إِلَى 182] سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْيِيلًا لِخِطَابِهِ الْمُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ [الصافات: 149] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ خُلَاصَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا حَوَتْهُ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ رُسُلَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةٌ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ جَمَعَتْ تَنْزِيهَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَى

الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ وَحَمْدَ اللَّهَ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هُدًى وَنَصْرٍ وَفَوْزٍ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ كَمَالِ النُّفُوسِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَلِيقُ بِهِ تُنْقِذُ النَّفْسَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مُهَاوِي الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الضَّلَالَةِ فَسُوءِ الْحَالَةِ. وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. فَأَشَارَ قَوْلُهُ: سُبْحانَ رَبِّكَ إِلَخْ إِلَى تَنْزِيهِهِ، وَأَشَارَ وَصْفُ رَبِّ الْعِزَّةِ إِلَى التَّوْصِيفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ تَجْمَعُ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةَ وَصِفَاتِ الْمَعَانِي وَالْمَعْنَوِيَّةَ لِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ هِيَ كَمَالُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْغَيْرِ، وَلَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ لَا تَسْلَمُ مِنْ نَقْصٍ أَوْ حَيْرَةٍ كَانَتْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مُرْشِدِينَ يُبَلِّغُونَهَا مَرَاتِبَ الْكَمَالِ بِإِرْشَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِلَى النَّاسِ وَبِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرُّسُلِ. وَكَانَتْ غَايَةُ ذَلِكَ هِيَ بُلُوغَ الْكَمَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ عَلَى النَّاسِ حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمَحْمُودِ بِالْفَضَائِلِ وَإِنْعَامَهُ بِالْفَوَاضِلِ وَأَعْظَمُهَا نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ فَهُمُ الْمُبَلِّغُونَ إِرْشَادَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ. ورَبِّ هُنَا بِمَعْنَى: مَالِكٍ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى مَالِكَ الْعِزَّةِ: أَنَّهُ مُنْفَرد بِالْعِزَّةِ الْحَقِيقَة وَهِيَ الْعِزَّةُ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا افْتِقَارٌ، فَإِضَافَةُ رَبِّ إِلَى الْعِزَّةِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ: صَاحِبُ صِدْقٍ، لِمَنِ اخْتُصَّ بِالصِّدْقِ وَكَانَ عَرِيقًا فِيهِ. وَفِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّسْلِيمِ إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ عَلَى طَرِيقَةِ بَرَاعَةِ الْخَتْمِ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِزَّةِ كَالتَّعْرِيفِ فِي الْحَمْدُ هُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَقْتَضِي انْفِرَادَهُ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ كَالْعَدَمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَتَنْكِيرُ سَلامٌ لِلتَّعْظِيمِ.

وَوَصْفُ الْمُرْسَلِينَ يَشْمَلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مُرْسَلُونَ فِيمَا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ. رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ يَقُولُ آخِرَ صِلَاتِهِ أَوْ حِينَ يَنْصَرِفُ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَمِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسِهِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ، وَفِي بَعْضِ أَسَانِيدِهِ أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ» .

38- سورة ص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 38- سُورَةُ ص سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ عَنِ السَّلَفِ «سُورَةَ صَادٍ» كَمَا يُنْطَقُ بِاسْمِ حَرْفِ الصَّادِ تَسْمِيَةً لَهَا بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ مِنْهَا هِيَ صَادٌ (بِصَادٍ فَأَلِفٍ فَدَالٍ سَاكِنَةٍ سُكُونَ وَقْفٍ) شَأْنُ حُرُوفِ التَّهَجِّي عِنْدَ التَّهَجِّي بِهَا أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً، أَيْ سَاكِنَةَ الْأَعْجَازِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَهُوَ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الْإِنْسُ وَالْجِ ... نُّ بِمَا صَحَّ مِنْ شَهَادَةِ صَادِ فَإِنَّمَا هِيَ كَسْرَةُ الْقَافِيَةِ السَّاكِنَةِ تُغَيَّرُ إِلَى الْكَسْرَةِ (لِأَنَّ الْكَسْرَ أَصْلٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ السُّكُونِ) كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ كِتَابِ «جَمَالِ الْقُرَّاءِ» لِلسَّخَاوِيِّ: أَنَّ سُورَةَ ص تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ دَاوُدَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدَهُ فِي ذَلِكَ. وَكُتِبَ اسْمُهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِصُورَةِ حَرْفِ الصَّادِ مِثْلَ سَائِرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ اتِّبَاعًا لِمَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّ الْجَعْبَرِيَّ حَكَى قَوْلًا بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ حِكَايَةِ جَمَاعَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَعَنِ الدَّانِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَدَدِ» قَوْلٌ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَلَاثُونَ فِي عداد نزُول السُّور نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

أغراضها

وَعُدَّتْ آيُهَا سِتًّا وَثَمَانِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَعَدَّهَا أَيُّوبُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْبَصْرِيُّ خَمْسًا وَثَمَانِينَ. وَعُدَّتْ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثَمَانًا وَثَمَانِينَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وجاءه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جهل كي يمْنَع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ. قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَةً! قَالَ: يَا عَمِّ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالُوا: أَإِلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ، قَالَ فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] إِلَى قَوْلِهِ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ نُزُولَهَا فِي آخِرِ حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَهَذَا الْمَرَضُ مَرَضُ مَوْتِهِ كَمَا فِي ابْنِ عَطِيَّةَ فَتَكُونُ هَذِهِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. أَغْرَاضُهَا أَصْلُهَا مَا عَلِمْتَ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى تكذيبهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَبُّرِهِمْ عَنْ قَبُولِ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَتَهْدِيدِهِمْ بِمِثْلِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ قَبْلَهُمْ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوهُ لِأَنَّهُ جَاءَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ اخْتُصَّ بِالرِّسَالَةِ مِنْ دُونِهِمْ. وتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وَأَنْ يَقْتَدِيَ بِالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ دَاوُدَ وَأَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ وَمَا جُوزُوا عَنْ صَبْرِهِمْ، وَاسْتِطْرَادُ الثَّنَاءِ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ، وَأَتْبَعَ ذِكْرَ أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ لِمُنَاسَبَةٍ سَنَذْكُرُهَا. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ لحكمة جَزَاء الْعَالمين بِأَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَجَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَضِدُّهُ مِنْ جَزَاءِ الطَّاغِينَ وَالَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَقَبَّحُوا لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَوَصَفَ أَحْوَالَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

[سورة ص (38) : آية 1]

وَذِكْرُ أَوَّلِ غَوَايَةٍ حَصَلَتْ وَأَصْلِ كُلِّ ضَلَالَةٍ وَهِيَ غَوَايَةُ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةِ السُّجُودِ لِآدَمَ. وَقَدْ جَاءَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِجَمِيعِ أَغْرَاضِهَا إِذِ ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَجَاءَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ سَبَبُهُ اعْتِزَازُهِمْ وَشِقَاقُهُمْ، وَمِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ سَبَبُهُ ضِدُّ ذَلِكَ، مَعَ مَا فِي الِافْتِتَاحِ بِالْقَسَمِ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى مَا بَعْدَهُ فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُسْتَكْمِلَةً خَصَائِصَ حسن الِابْتِدَاء. [1] [سُورَة ص (38) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ص الْقَوْلُ فِي هَذَا الْحَرْفِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّوَرِ بِدُونِ فَرْقٍ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلتَّهَجِّي تَحَدِّيًا لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ وَتَوَرُّكًا عَلَيْهِمْ إِذْ عَجَزُوا عَنْهُ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدِّ عَلَى أَنَّ ص لَيْسَ بِآيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ هِيَ فِي مَبْدَأِ آيَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ذِي الذِّكْرِ وَإِنَّمَا لَمْ تُعَدَّ ص آيَةً لِأَنَّهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ كَمَا لَمْ يعد ق [ق: 1] ون [الْقَلَم: 1] آيَةً. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. الْوَاوُ لِلْقَسَمِ أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ قَسَمَ تَنْوِيهٍ بِهِ. وَوُصِفَ بِ ذِي الذِّكْرِ لِأَنَّ ذِي تُضَافُ إِلَى الْأَشْيَاءِ الرَّفِيعَةِ فتجري على متصف مَقْصُودٍ التَّنْوِيهُ بِهِ. والذِّكْرِ: التَّذْكِيرُ، أَيْ تَذْكِيرُ النَّاسِ بِمَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَهُوَ عَلَى مَعْنَى: الَّذِي يُذَكِّرُ، بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ، أَيِ الْمَمْدُوحِ الْمُسْتَحَقِّ الثَّنَاءَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 10] أَيْ شَرَفُكُمْ. وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَى أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَا أَحَدُ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ ص فَإِنَّ الْمَقْصُودَ

[سورة ص (38) : آية 2]

مِنْهُ التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَعَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ بِلُغَتِهِمْ وَمُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفِهَا فَكَيْفَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّهُ لَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِهَذَا عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. وَثَانِيهِمَا: الَّذِي أَرَى أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ أَيْضًا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِضْرَابُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 2] بَعْدَ أَنْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِ ذِي الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَمُوقِظٌ لِلْعُقُولِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ لَذِكْرٌ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ يَجْحَدُونَ أَنَّهُ ذِكْرٌ وَيَقُولُونَ: سِحْرٌ مُفْتَرًى وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] ، فَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَلَيْسَ حَرْفُ ص هُوَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقَسَمِ، أَيْ لَيْسَ دَلِيلُ الْجَوَابِ مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِنَ الْمَعْنَى وَالسِّيَاقِ. وَالْغَرَضُ مِنْ حَذْفِ جَوَابِ الْقَسَمِ هُنَا الْإِعْرَاضُ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ وَهُوَ صِفَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْقُرْآنَ عِنَادًا أَوْ شقاقا مِنْهُم. [2] [سُورَة ص (38) : آيَة 2] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) بَلِ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ إِبْطَالًا مَحْضًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِحَيْثُ يَكُونُ حَرْفُ بَلِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ النَّفْيِ كَمَا هُوَ غَالِبُ الْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، وَلَا هُوَ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، وَلَكِنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِتَوَهُّمٍ يَنْشَأُ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ إِذْ دَلَّ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] أَنَّ الْقُرْآنَ مُذَكِّرٌ سَامِعِيهِ تَذْكِيرًا نَاجِعًا، فعقب بِإِزَالَة تو هم مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عَدَمَ تَذَكُّرِ الْكُفَّارِ لَيْسَ لِضَعْفٍ فِي تَذْكِيرِ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ مُتَعَزِّزُونَ مُشَاقُّونَ، فَحَرْفُ بَلِ فِي مِثْلِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحْقِيقُ أَنَّهُ ذُو ذِكْرٍ، وَإِزَالَةُ الشُّبْهَةِ الَّتِي قَدْ تَعْرِضُ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 1، 2] ، أَيْ

لَيْسَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ لِنَقْصٍ فِي عُلُوِّهِ وَمَجْدِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ بِهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ بَلِ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ مِنَ الشُّرُوعِ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ إِلَى بَيَانِ سَبَبِ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ، لِأَنَّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ السَّبَبِ تَحْقِيقًا لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ كَمَا يُقَالُ: دَعْ ذَا وَخُذْ فِي حَدِيثٍ..، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ... ذُمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا وَقَالَ زُهَيْرٌ: دَعْ ذَا وَعَدِّ الْقَوْلَ فِي هَرَمٍ ... خَيْرِ الْبُدَاةِ وَسَيِّدِ الْحَضَرِ وَقَوْلِ الْأَعْشَى: فَدَعْ ذَا وَلَكِنْ مَا تَرَى رَأْيَ كَاشِحٍ ... يَرَى بَيْنَنَا مِنْ جَهْلِهِ دَقَّ مَنْشَمِ وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ: دَعْ ذَا وَبَهِّجْ حَسَبًا مُبَهَّجَا وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ أَخَذَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ وَهُوَ بَيَانُ سَبَبِ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ لِاعْتِزَازِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، فَوَقَعَ الْعُدُولُ عَنْ جَوَابِ الْقَسَمِ اسْتِغْنَاءً بِمَا يُفِيدُ مُفَادَ ذَلِكَ الْجَوَابِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ (الْكَافِرُونَ) لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. وَالْعِزَّةُ تَحُومُ إِطْلَاقَاتُهَا فِي الْكَلَامِ حَوْلَ مَعَانِي الْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالتَّكَبُّرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى أَسْبَابٍ وَاقِعَةٍ فَهِيَ الْعِزَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَإِنْ كَانَ عَنْ غُرُورٍ وَإِعْجَابٍ بِالنَّفْسِ فَهِيَ عِزَّةٌ مُزَوَّرَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [الْبَقَرَة: 206] ، أَيْ أَخَذَتْهُ الْكِبْرِيَاءُ وَشِدَّةُ الْعِصْيَانِ، وَهِيَ هُنَا عِزَّةٌ بَاطِلَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهَا إِبَاءٌ مِنَ الْحَقِّ وَإِعْجَابٌ بِالنَّفْسِ. وَضِدُّ الْعِزَّةِ الذِّلَّةُ قَالَ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَة: 54] وَقَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ غَيْرُهُ: وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ

[سورة ص (38) : آية 3]

وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مُسْتَعَارَةٌ لِقُوَّةِ التَّلَبُّسِ بِالْعِزَّةِ. وَالْمَعْنَى: مُتَلَبِّسُونَ بِعِزَّةٍ عَلَى الْحَقِّ. وَالشِّقَاقُ: الْعِنَادُ وَالْخِصَامُ. وَالْمُرَادُ: وَشِقَاقٌ لِلَّهِ بالشرك وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ هُوَ مَا فِي قَرَارَةِ نُفُوسِهِمْ مِنَ الْعِزَّة والشقاق. [3] [سُورَة ص (38) : آيَة 3] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْعِزَّةَ عَنِ الْحَقِّ وَالشِّقَاقَ لله وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُثِيرُ فِي خَاطِرِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ جَزَاءِ ذَلِكَ فَوَقَعَ هَذَا بَيَانًا لَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 2] ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص: 4] . وَكَانَ هَذَا الْبَيَانُ إِخْبَارًا مُرْفَقًا بِحُجَّةٍ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ تَمْثِيلٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِهِمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ فِي الْعِزَّةِ وَالشِّقَاقِ وَمُتَضَمِّنًا تَحْذِيرًا مِنَ التَّرَيُّثِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ، أَيْ يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ فَلَا يَنْفَعُهُمْ نَدَمٌ وَلَا مَتَابٌ كَمَا لَمْ يَنْفَعِ الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: سَيُجَازَوْنَ عَلَى عِزَّتِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ بِالْهَلَاكِ كَمَا جُوزِيَتْ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلْيَحْذَرُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إِنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَتَابٌ كَمَا لَمْ يَنْفَعِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَتَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ. وكَمْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ. ومِنْ قَرْنٍ تَمْيِيزٌ لِإِبْهَامِ الْعَدَدِ، أَيْ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَهْلَكْنا. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 42] . ومِنْ قَبْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا جُعِلَ صِفَةً لِ قَرْنٍ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ حَالًا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِيُفِيدَ الِاهْتِمَامَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ أُسْوَةٌ لَهُمْ فِي الْعِزَّةِ وَالشِّقَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ إِهْلَاكِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ أَهْلَكْنا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَقُدِّمَ عَلَى مَفْعُولِ فِعْلِهِ

مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ أَوْلَى بِالسَّبْقِ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْمُولَاتِ الْفِعْلِ لِيَكُونَ تَقْدِيمُهُ اهْتِمَامًا بِهِ إِيمَاءً إِلَى الْإِهْلَاكِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَفَرَّعَ عَلَى الْإِهْلَاكِ أَنَّهُمْ نَادَوْا فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ نِدَاؤُهُمْ، تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَقَعَ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ أَضَاعُوا الْفُرْصَةَ فَنَادَوْا بَعْدَ فَوَاتِهَا فَلَمْ يُفِدْهُمْ نِدَاؤُهُمْ وَلَا دُعَاؤُهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ فِي فَنادَوْا نِدَاؤُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى تَضَرُّعًا، وَهُوَ الدُّعَاءُ كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدُّخان: 12] . وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 64] . وَجُمْلَةُ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ نَادَوْا فِي حَالٍ لَا حِينَ مَنَاصٍ لَهُمْ. ولاتَ حَرْفُ نَفْيٍ بِمَعْنَى (لَا) الْمُشَبَّهَةِ بِ (لَيْسَ) ولاتَ حَرْفٌ مُخْتَصٌّ بِنَفْيِ أَسْمَاءِ الْأَزْمَانِ وَمَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الزَّمَانِ مِنْ إِشَارَةٍ وَنَحْوِهَا. وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (لَا) النَّافِيَةِ وُصِلَتْ بِهَا تَاءٌ زَائِدَةٌ لَا تُفِيدُ تَأْنِيثًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ هَاءً وَإِنَّمَا هِيَ كَزِيَادَةِ التَّاءِ فِي قَوْلِهِمْ: رُبَّتْ وَثُمَّتْ. وَالنَّفْيُ بِهَا لِغَيْرِ الزَّمَانِ وَنَحْوِهِ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ وَقَعَ فِيهِ أَبُو الطَّيِّبِ إِذْ قَالَ: لَقَدْ تَصَبَّرْتُ حَتَّى لَاتَ مُصْطَبَرٍ ... وَالْآنَ أُقْحِمُ حَتَّى لَاتَ مُقْتَحَمِ وَأَغْفَلَ شَارِحُو دِيوَانِهِ كُلُّهُمْ وَقَدْ أَدْخَلَ لاتَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ زَمَانٍ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ صَارَتْ (لَا) بِلُزُومِ زِيَادَةِ التَّاءِ فِي آخِرِهَا حَرْفًا مُسْتَقِلًّا خَاصًّا بِنَفْيِ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ فَخَرَجَتْ عَنْ نَحْوِ: رُبَّتْ وَثُمَّتْ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ أَنَّ التَّاءَ فِي وَلاتَ حِينَ مَناصٍ مُتَّصِلَةٌ بِ حِينَ وَأَنَّهُ رَآهَا فِي مصحف عُثْمَانَ مُتَّصِلَةً بِ حِينَ وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ التَّاءَ

[سورة ص (38) : الآيات 4 إلى 5]

تَدْخُلُ عَلَى: حِينٍ وَأَوَانٍ وَآنٍ (¬1) يُرِيدُ أَنَّ التَّاء لَا حقة لِأَوَّلِ الِاسْمِ الَّذِي بَعْدَ (لَا) وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْ لِدُخُولِهَا مَعْنًى. وَقد اعتذر الْأَئِمَّة عَنْ وُقُوعِ التَّاءِ مُتَّصِلَةً بِ حِينَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قَدْ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ الَّذِي رَآهُ أَبُو عُبَيدٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمُعَاصِرَةِ لِذَلِكَ الْمُصْحَفِ وَالْمَرْسُومَةِ بَعْدَهُ. وَالْمَنَاصُ: النَّجَاءُ وَالْفَوْتُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، يُقَالُ: نَاصَّهُ، إِذَا فَاتَهُ. وَالْمَعْنَى: فَنَادَوْا مُبْتَهِلِينَ فِي حَالٍ لَيْسَ وَقْتَ نَجَاءٍ وَفَوْتٍ، أَيْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غَافِر: 85] . [4- 5] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 4 الى 5] وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 2] فَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ الْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ إِلَيْهِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 1، 2] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمُ اسْتِحَالَةُ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْهُمْ فَذَلِكَ سَبَبٌ آخَرُ لِانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّذَكُّرِ بِالْقُرْآنِ. وَالْعَجَبُ حَقِيقَتُهُ: انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ عِلْمٍ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُتَرَقِّبٍ وُقُوعُهُ عِنْدَ النَّفْسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ نَادِرٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي سُورَةِ هُودٍ [73] فَإِنَّ مَحَلَّ الْعِتَابِ هُوَ كَوْنُ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ أَحَالَتْ أَنْ تَلِدَ، وَهِيَ عَجُوزٌ وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُهُ هُنَا. وَالْمَعْنَى: وَأَنْكَرُوا وأحالوا أَن جَاءَ هم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. ¬

(¬1) يُشِير إِلَى قَول أبي زبيد:

وَالْمُنْذِرُ: الرَّسُولُ، أَيْ مُنْذِرٌ لَهُمْ بِعَذَابٍ عَلَى أَفْعَالٍ هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا. وَعَبَّرَ عَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْمُنْذِرِ: وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُوءِ نَظَرِهِمْ مِنْ عَجَبِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ النَّذِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَوْمِ مِمَّنْ يَنْصَحُ لَهُمْ فَكَوْنُهُ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يكون من غير هم. ثُمَّ إِنْ كَانَ التَّبْعِيضُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ حَرْفِ (مِنْ) مُرَادًا بِهِ أَنَّهُ بَعْضُ الْعَرَبِ أَوْ بَعْضُ قُرَيْشٍ فَأَمْرُ تَجْهِيلِهِمْ فِي عَجَبِهِمْ مِنْ هَذَا النَّذِيرِ بَيِّنٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادًا بِهِ أَنَّهُ بَعْضُ الْبَشَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَتَجْهِيلُهُمْ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِمْ أَجْدَرُ بِأَنْ يَنْصَحَ لَهُمْ مِنْ رَسُولٍ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ كَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذِهِ جَدَارَةٌ عُرْفِيَّةٌ. وَهَذَا الْعَجَبُ تَكَرَّرَ تَصْرِيحُهُمْ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِهِمْ، وَهُوَ الْأَصْلُ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ تَصْدِيقِهِ فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَتْ بِهِ حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي قَالُوهَا فِي مَجْلِسِ شَيْخِ الْأَبَاطِحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ. وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) . بَعْدَ أَنْ كُشِفَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنَ الْعِزَّةِ وَالشِّقَاقِ وَإِحَالَةِ بَعْثَةِ رَسُولٍ لِلْبَشَرِ مِنْ جِنْسِهِمْ، حُوسِبُوا بِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَجْلِسِهِمْ ذَلِكَ، إِشَارَةً بِهَذَا التَّرْتِيبِ إِلَى أَنَّ مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ نَتِيجَةٌ لِعَقِيدَتِهِمْ تِلْكَ. وَفِي قَوْلِهِ: الْكافِرُونَ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: «وَقَالُوا هَذَا سَاحِرٌ» إِلَخْ، وَهَذَا لِقَصْدِ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِرَبِّهِمْ مُقَابَلَةً لِمَا وَصَمُوا بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوُصِفُوا بِمَا هُوَ شَتْمٌ لَهُمْ يَجْمَعُ ضُرُوبًا مِنَ الشَّتْمِ تَأْصِيلًا وَتَفْرِيعًا وَهُوَ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ جِمَاعُ فَسَادِ التَّفْكِيرِ وَفَاسِدِ الْأَعْمَالِ. وَلَفَظُ هَذَا أَشَارُوا بِهِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اسْتَعْمَلُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ لِتَحْقِيرِ مثله فِي قَوْلهم: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 36] وَإِنَّمَا قَالُوا مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ حِينَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ مَجْلِسِ أَبِي طَالِبٍ الْمَذْكُورِ فِي سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ جعلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِمَحْضَرِهِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ حِينَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ.

[سورة ص (38) : الآيات 6 إلى 7]

وَجَعَلُوا حَالَهُ سِحْرًا وَكَذِبًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَقْبَلْ عُقُولُهُمْ مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ زَعَمُوا مَا لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ- مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا أَوْ كَوْنِهِ يُعِيدُ الْمَوْتَى أَحْيَاءً- سِحْرًا إِذْ كَانُوا يَأْلَفُونَ مِنَ السِّحْرِ أَقْوَالًا غَيْرَ مَفْهُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَزَعَمُوا مَا يَفْهَمُونَهُ وَيُحِيلُونَهُ مِثْلَ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ كَذِبًا. وَبَيَّنُوا ذَلِكَ بِجُمْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةُ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] . فَجُمْلَةُ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَيْ حَيْثُ عَدُّوهُ مُبَاهِتًا لَهُمْ بِقَلْبِ الْحَقَائِقِ وَالْأَخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ. وَالْهَمْزَةُ للاستفهام الإنكاري التعجيبي وَلِذَلِكَ أَتْبَعُوهُ بِمَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِمْ: ساحِرٌ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ أَيْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ شَعْوَذَةِ السَّاحِرِ. وعُجابٌ: وَصْفُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَثِيرًا لِأَنَّ وَزْنَ فُعَالٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِثْلَ: طُوَالٌ، بِمَعْنَى الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ، وَكُرَامٌ بِمَعْنَى الْكَثِيرِ الْكَرَمِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كَرِيمٍ، وَقَدِ ابْتَدَأُوا الْإِنْكَارَ بِأَوَّلِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَإِنَّ أُصُولَ كُفْرِهِمْ ثَلَاثَةٌ: الْإِشْرَاكُ، وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَة. [6- 7] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 6 إِلَى 7] وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) الِانْطِلَاقُ حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ وَالْمَشْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ الشَّارِعَ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ: ذَهَبَ بِفِعْلِ كَذَا، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبَهَانِيِّ: فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ

وَكَذَلِكَ قَامَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قامُوا فَقالُوا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [14] . وَقِيلَ: إِنَّ الِانْطِلَاقَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ وَانْصَرَفَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طَالِبٍ. والْمَلَأُ: سَادَةُ الْقَوْمِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَائِلُ ذَلِكَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ مِنَ الْقَائِلِينَ أَبَا جَهْلٍ، وَالْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ. وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ الِانْطِلَاقَ إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ فِي الشُّرُوعِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الشُّرُوعُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرٍ بِكَلَامٍ مَقُولٍ، وَإِنْ كَانَ الِانْطِلَاقُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقَدْ تَضَمَّنَ انْطِلَاقَهُمْ عَقِبَ التَّقَاوُلِ بَيْنَهُمْ بِكَلَامِهِمُ الْبَاطِلِ هَذَا ساحِرٌ [ص: 4] إِلَى قَوْله: عُجابٌ [ص: 5] يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا مُتَحَاوِرِينَ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ. وَلَمَّا أُسْنِدَ الِانْطِلَاقُ إِلَى الْمَلَأِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا لِيَنْطَلِقُوا إِلَّا لِتَدْبِيرٍ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَحَاوُرًا وَتُقَاوُلًا احْتِيجَ إِلَى تَفْسِيره بِجُمْلَةِ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِلَخْ. وَالْأَمْرُ بِالْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، أَيِ انْصَرِفُوا عَنْ هَذَا الْمَكَانِ مَكَانِ الْمُجَادَلَةِ، وَاشْتَغِلُوا بِالثَّبَاتِ عَلَى آلِهَتِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا يُقَالُ: كَمَا سَارَ الْكِرَامُ، أَيِ اعْمَلْ كَمَا عَمِلُوا، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ الْمُعْتَادَةُ سِيرَةً. وَالصَّبْرُ: الثَّبَاتُ وَالْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: صَبَرَ الدَّابَّةَ إِذَا رَبَطَهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الثَّبَاتُ عِنْدَ حُلُولِ الضُّرِّ صَبْرًا لِأَنَّهُ مُلَازَمَةٌ لِلْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ بِحَيْثُ لَا يَضْطَرِبُ بِالْجَزَعِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 42] .. وَحَرْفُ عَلى يَدُلُّ عَلَى تَضْمِينِ اصْبِرُوا مَعْنَى: اعْكُفُوا وَاثْبُتُوا، فَحَرْفُ عَلى هُنَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَلَيْسَ هُوَ حَرْفَ عَلى الْمُتَعَارَفَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الصَّبْرِ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى (مَعَ) ، وَلِذَلِكَ يَخْلُفُهُ اللَّامُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الْقَلَم: 48] ، وَلَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى عِبَادَةِ

آلِهَتِكُمْ، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ فِي الشُّرُوعِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الشُّرُوعُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى آلِهَتِهِمْ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ شَكِّهِمْ فِي صِحَّةِ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا شَيْءٌ أَرَادَهُ لِغَرَضٍ أَيْ لَيْسَ صَادِقًا وَلَكِنَّهُ مَصْنُوعٌ مُرَادٌ مِنْهُ مَقْصِدٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ دُبِّرَ بِلَيْلٍ، فَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ، أَيْ هَذَا القَوْل وَهُوَ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] . وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ لِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِ مِثْلِهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ شَيْءٌ مُصْطَنَعٌ مُبْتَدَعٌ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ. وَفِي قَوْله: هَذَا تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ. وَنَفِيُ السَّمَاعِ هُنَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِاتِّهَامِ بِالْكَذِبِ. والْمِلَّةِ: الدِّينُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [120] ، وَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [37، 38] . والْآخِرَةِ: تَأْنِيثُ الْآخِرُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَقَرَّرَتْ فِيهَا أَمْثَالُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت: 20] . وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَيَانًا لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِشَارَةِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ سَمِعْنا. وَالْمَعْنَى: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ فَلَا نَعْتَدُّ بِهِ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ دِينَ النَّصَارَى، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ فَالْمُشْرِكُونَ اسْتَشْهَدُوا عَلَى بُطْلَانِ تَوْحِيدِ الْإِلَهِ بِأَنَّ دِينَ النَّصَارَى الَّذِي ظهر قَبْلَ الْإِسْلَامِ

[سورة ص (38) : آية 8]

أَثْبَتَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ، وَيَكُونُ نَفْيُ السَّمَاعِ كِنَايَةً عَنْ سَمَاعِ ضِدِّهِ وَهُوَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا بِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ الْمِلَّةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِ مَلَأِ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ فِي حِينِ احْتِضَارِهِ حِينَ قَالَ لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالُوا لَهُ جَمِيعًا: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . فَقَوْلُهُمْ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ انْتِفَاءِ هَذَا إِلَى الزَّمَنِ الْأَخِيرِ فَيَعْلَمُ أَنَّ انْتِفَاءَهُ فِي مِلَّتِهِمُ الْأَوْلَى بِالْأَحْرَى. وَجُمْلَةُ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا سَمِعْنا بِهذا وَهَذَا هُوَ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمَبْدُوءِ بِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْفَذْلَكَةِ لِكَلَامِهِمْ. وَالِاخْتِلَاقُ: الْكَذِبُ الْمُخْتَرَعُ الَّذِي لَا شُبْهَة لقائله. [8] [سُورَة ص (38) : آيَة 8] أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا. يجوز أَن يكون أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا مِنْ كَلَامِ عُمُومِ الْكَافِرِينَ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ بَيَانًا لجملة كَذَّابٌ [ص: 4] ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: هَذَا كَذَّابٌ إِذْ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ لِ (كَانَ) ، وَلِكَوْنِهِ بَيَانًا لِلَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [ص: 6] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْبَيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمَلَأِ وَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ بَيَانِ جُمْلَةِ كَذَّابٌ لِأَنَّ نُطْقَ الْمَلَأِ بِهِ كَافٍ فِي قَوْلِ الْآخَرِينَ بِمُوجَبِهِ فَاسْتَغْنَوْا عَنْ بَيَانِ جُمْلَةِ كَذَّابٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَمَنَاطُ الْإِنْكَارِ هُوَ الظَّرْفُ مِنْ بَيْنِنا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرُوا أَنْ يخص مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِرْسَالِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] أَيْ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الطَّائِفِ وَلَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الْإِنْكَارِ

تَجْوِيزَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمُ اسْتِقْصَاءُ الِاسْتِبْعَادِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَصْلَ الرِّسَالَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص: 4] وَغَيْرُهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] وَهُوَ أَصْلُ إِنْكَارِ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْهُمْ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أَيْ لَيْسَ قَصْدُهُمُ الطَّعْنَ فِي اخْتِصَاصِكَ بِالرِّسَالَةِ وَلَكِنَّهُمْ شَاكُّونَ فِي أَصْلِ إِنْزَالِهِ، فَتَكُونُ بَلْ إِضْرَابًا إِبْطَالِيَّا تَكْذِيبًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ إِنْكَارِهِمْ إِنْزَالَ الذِّكْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِنَّمَا قَصْدُهُمُ الشَّكُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَى أَحَدٍ بِالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي شَكًّا مِنْ وُقُوعِهِ. وَالشَّكُّ يُطْلَقُ عَلَى الْيَقِينِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَيَكُونُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا مِنْ خَبَرٍ عَنْهُمْ إِلَى خَبَرٍ آخَرَ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا وَتَكُونُ بَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَالْمَعْنَى: وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ كُنْهِ الْقُرْآنِ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ، وَمَرَّةً يَقُولُونَ: شِعْرٌ، وَمَرَّةً: سِحْرٌ، وَمَرَّةً: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَمَرَّةً: قَوْلُ كَاهِنٍ. فَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ حَقِيقَتُهُ أَيِ التَّرَدُّدُ فِي الْعِلْمِ. وَإِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَلِتَحْقِيقِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ تَوَصُّلًا إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتْ مُلَابَسَةُ الشَّكِّ إِيَّاهُمْ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ الْمُحِيطِ بِمَحْوَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ جَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِهِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرِي ابْتِدَائِيَّةٌ لِكَوْنِ الشَّكِّ صِفَةً لَهُمْ، أَيْ نَشَأَ لَهُمُ

[سورة ص (38) : آية 9]

الشَّكُّ مِنْ شَأْنِ ذِكْرِي، أَيْ مِنْ جَانِبِ نَفْيِ وُقُوعِهِ، أَوْ فِي جَانِبِ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. أَتْبَعَ ذَلِكَ الْإِضْرَابَ بِإِضْرَابٍ آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا الشِّقَاقِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَأَخَّرَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ ظَنُّوا وَعِيدَهُ كَاذِبًا فَأَخَذُوا فِي الْبَذَاءَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَلَوْ ذَاقُوا الْعَذَابَ لَأَلْقَمَتْ أَفْوَاهُهُمُ الْحَجَرَ. ولَمَّا حَرْفُ نَفْيٍ بِمَعْنَى (لَمْ) إِلَّا أَنَّ فِي لَمَّا خُصُوصِيَّةً، وَهِيَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْفِيِّ بِهَا مُتَّصِلِ الِانْتِفَاءِ إِلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ بِخِلَافِ (لَمْ) فَلِذَلِكَ كَانَ النَّفْيُ بِ لَمَّا قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ تَرَقُّبُ حُصُولِ الْمَنْفِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ [14] مَا فِي لَمَّا مِنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٍّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ، أَيْ دَالٍ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ الْحَاصِلِ مِنْ مَعْنَى غَايَةِ النَّفْيِ إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ، أَيْ لَا أَضْمَنُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَاقُوا عَذَابَ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَإِضَافَةُ عَذابِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِاخْتِصَاصِهِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ مُقَدِّرُهُ وَقَاضٍ بِهِ عَلَيْهِمْ وَلِوُقُوعِهِ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ جَارِيَةٍ عَلَى الْمُعْتَادِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَسْتَأْصِلَ الْجَيْشُ الْقَوِيُّ الْجَيْشَ الْقَلِيلَ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا لِلْفَاصِلَةِ، وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ دَلِيلًا عَلَيْهَا وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ فِي الْفَوَاصِلِ وَالشِّعْرِ عَلَى نَحْوِ حَذْفِهَا من المنادى. [9] [سُورَة ص (38) : آيَة 9] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ أَيْضًا وَهُوَ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ فَإِنَّ أَمْ مُشْعِرَةٌ بِاسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا هُوَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ إِنْكَارًا لِقَوْلِهِمْ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] أَيْ لَيْسَتْ خَزَائِنُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمْ فَيَتَصَدَّوْا لِحِرْمَانِ مَنْ يَشَاءُونَ حِرْمَانَهُ مِنْ مَوَاهِبِ الْخَيْرِ فَإِنَّ الْمَوَاهِبَ مِنَ اللَّهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ فَهُوَ يَخْتَارُ لِلنُّبُوءَةِ مَنْ

[سورة ص (38) : آية 10]

يَصْطَفِيهِ وَلَيْسَ الِاخْتِيَارُ لَهُمْ فَيَجْعَلُوا مَنْ لَمْ يُقَدِّمُوهُ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ غَيْرَ أَهْلٍ لِأَنْ يَخْتَارَهُ اللَّهُ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّهُ مَنَاطُ الْإِنْكَارِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] . وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ. وَهِيَ الْبَيْتُ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الْمَالُ أَوِ الطَّعَامُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى صُنْدُوقٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ يُخَزَّنُ فِيهِ الْمَالُ. وَالْخَزْنُ: الْحِفْظُ وَالْحِرْزُ. وَالرَّحْمَةُ: مَا بِهِ رِفْقٌ بِالْغَيْرِ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، شُبِّهَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِالشَّيْءِ النَّفِيسِ الْمَخْزُونِ الَّذِي تَطْمَحُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ فِي أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا بِمَشِيئَةِ خَازِنِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَإِثْبَاتُ الْخَزَائِنِ: تَخْيِيلٌ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمُنْيَةِ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفٍ لِأَنَّ لَهُ مَزِيدَ مُنَاسَبَةٍ لِلْغَرَضِ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تَشْرِيفَهُ إِيَّاهُ بِالنُّبُوءَةِ مِنْ آثَارِ صِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ لَهُ لِأَنَّ وَصْفَ الرَّبِّ مُؤْذِنٌ بِالْعِنَايَةِ وَالْإِبْلَاغِ إِلَى الْكَمَالِ. وَأُجْرِيَ عَلَى الرَّبِّ صِفَةُ الْعَزِيزِ لِإِبْطَالِ تَدَخُّلِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، وَصِفَةُ الْوَهَّابِ لِإِبْطَالِ جَعْلِهِمُ الْحِرْمَانَ مِنَ الْخَيْرِ تَابِعًا لِرَغَبَاتِهِمْ دُونَ مَوَادَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. والْعَزِيزِ: الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، والْوَهَّابِ: الْكَثِيرُ الْمَوَاهِبِ فَإِنَّ النُّبُوءَةَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يُخَوَّلُ إِعْطَاؤُهَا إِلَّا لِشَدِيدِ الْعِزَّةِ وافر الموهبة. [10] [سُورَة ص (38) : آيَة 10] أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى رَدٍّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَزَاعِمِهِمْ وَيَشْمَلُ بِإِجْمَالِهِ جَمِيعَ النُّقُوضِ التَّفْصِيلِيَّةِ لِمَزَاعِمِهِمْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ كَالْحَوْصَلَةِ فَيُشْبِهُ التَّذْيِيلَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عُمُومِ الْمُلْكِ وَعُمُومِ الْأَمَاكِنِ الْمُقْتَضِي عُمُومَ الْعِلْمِ وَعُمُومَ التَّصَرُّفِ يُنْعَى عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ فِي الْمُغَيَّبَاتِ بِلَا عِلْمٍ وَتَحَكُّمُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْمَوْجُودَاتِ بِدُونِ قُدْرَةٍ وَلَا غِنًى.

[سورة ص (38) : آية 11]

وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ تَهَكُّمِيٌّ وَلَيْسَ إِنْكَارِيًا لِأَنَّ تَفْرِيعَ أَمْرِ التَّعْجِيزِ عَلَيْهِ يُعَيِّنُ أَنَّهُ تَهَكُّمِيٌّ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَكَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَصَّعَّدُوا إِنِ اسْتَطَاعُوا فِي أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ لِيُخْبَرُوا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ فَيَتَكَلَّمُوا عَنْ عِلْمٍ فِي كُنْهِ الْإِلَهِ وَصِفَاتِهِ وَفِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَعَدَمِهِ وَفِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ضِدِّهِ وَلِيَفْتَحُوا خَزَائِنَ الرَّحْمَةِ فَيُفِيضُوا مِنْهَا عَلَى مَنْ يُعْجِبُهُمْ وَيَحْرِمُوا مَنْ لَا يَرْمُقُونَهُ بِعَيْنِ اسْتِحْسَانٍ. وَالْأَمْرُ فِي فَلْيَرْتَقُوا لِلتَّعْجِيزِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الْحَج: 15] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَسْبابِ لِعَهْدِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ لِكُلِّ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ أَسْبَابًا يُصْعَدُ بِهَا إِلَيْهِ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَقَوْلِ الْأَعْشَى: فَلَوْ كُنْتَ فِي حِبِّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَالسَّبَبُ: الْحَبْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الصَّاعِدُ إِلَى النَّخْلَةِ لِلْجِذَاذِ، فَإِنْ جُعِلَ مِنْ حَبْلَيْنِ وَوُصِلَ بَيْنَ الْحَبْلَيْنِ بِحِبَالٍ مُعْتَرِضَةٍ مَشْدُودَةٍ أَوْ بِأَعْوَادٍ بَيْنَ الْحَبْلَيْنِ مَضْفُورٍ عَلَيْهَا جَنْبَتَا الْحَبْلَيْنِ فَهُوَ السُّلَّمُ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْأَسْبَابِ حَتَّى كَأَنَّهَا ظُرُوفٌ مُحِيطَة بالمرتقين. [11] [سُورَة ص (38) : آيَة 11] جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [ص: 3] الْآيَةَ أُرِيدَ بِهِ وَصْلُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلَهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 2] وَتَلَاهُ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ الْآيَةَ. فَلَمَّا تَقَضَّى الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْ عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وَمَا لِذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى

تَفْصِيلِ مَا أُهْلِكَ مِنَ الْقُرُونِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي الْكُفْرِ لِيُفْضِيَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [ص: 12] إِلَى قَوْلِهِ: فَحَقَّ عِقابِ [ص: 14] . فَتَكُونُ جُمْلَةُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُسْتَقِلًّا خَارِجًا مَخْرَجَ الْبشَارَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومٌ، أَيْ مُقَدَّرٌ انْهِزَامُهُ فِي الْقَرِيبِ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ مُعْجِزَةٌ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ خَتَمَ بِهَا وَصْفَ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: وَعَدَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَهْزِمُهُمْ وَهُمْ بِمَكَّةَ فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْفَخْرُ: إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ يَوْمِ الْخَنْدَقِ. وَعَادَةُ الْأَخْبَارِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْبِشَارَةِ أَوِ النِّذَارَةِ بِأَمْرٍ مَغِيبٍ أَنْ تَكُونَ مَرْمُوزَةً، وَالرَّمْزُ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: هُنالِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِدُونِ تَأَوُّلٍ فَلْنَجْعَلْهُ إِشَارَةً إِلَى مَكَانٍ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَكَانُ بَدْرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَحْزابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى انْهِزَامِ الْأَحْزَابِ أَيْامَ الْخَنْدَقِ فَإِنَّهَا عُرِفَتْ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ الْأَحْزابِ فِي السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِمْ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إِلْهَامًا كَمَا أَلْهَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَسَمَّوْا حجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ سَلِيمُ الْمِزَاجِ، وَهَذَا فِي عِدَادِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي جَمَعْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي كِتَابٍ خَاصٍّ. وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْبَعِيدِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الِانْهِزَامَ سَيَكُونُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ غَيْرِ مَكَّةَ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ عَذَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بَلْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانُوا الطُّلَقَاءَ. وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ قَدْ علمهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ حَتَّى كَانَ الْمُسْتَقْبِلَ تَأْوِيلَهَا كَمَا عَلِمَ يَعْقُوبُ سِرَّ رُؤْيَا ابْنِهِ يُوسُفَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ [يُوسُف: 5] . وَلَمْ يَعْلَمْ يُوسُفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا يَوْمَ قَالَ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يُوسُف: 100] يُشِيرُ إِلَى سُجُودِ أَبَوَيْهِ لَهُ.

وَأَمَّا ظَاهِرُ الْآيَةِ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ يَوْمَ نُزُولِهَا فَهُوَ أَنَّ الْجُنْدَ هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّ التَّنْوِينَ فِيهِ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ مَا هُمْ إِلَّا جُنْدٌ مِنَ الْجُنُودِ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَأُهْلِكُوا، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِ هُنالِكَ إِلَى مَكَانٍ اعْتِبَارِيٍّ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الرِّفْعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ وَأَنَّ الِانْهِزَامَ مُسْتَعَارٌ لِإِضْعَافِ شَوْكَتِهِمْ، وَعَلَى التفسيرين الظَّاهِر والمؤول لَا تَعْدُو الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ تَسْلِيَة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتًا لَهُ وَبِشَارَةً بِأَنَّ دِينَهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ. وَالْجُنْدُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ قَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج: 17، 18] . وَمَا حَرْفٌ زَائِدٌ يُؤَكِّدُ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ فَهِيَ تَوْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ جُنْدٌ بِمَعْنَاهُ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ جُنْدٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى التَّعْظِيمِ فَلَيْسَ نَصًّا فَصَارَ بِالتَّوْكِيدِ نَصًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] ، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ فَتَعْظِيمُ جُنْدٌ لِأَنَّ رِجَالَهُ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُشِيرَةً إِلَى يَوْمِ الْأَحْزَابِ فَتَعْظِيمُ جُنْدٌ لِكَثْرَةِ رِجَالِهِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَوَصْفُ جُنْدٌ بِ مَهْزُومٌ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ سَيُهْزَمُ، وَاسْمُ الْمَفْعُولِ كَاسْمِ الْفَاعِلِ مَجَازٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْقَرِينَةُ حَالِيَّةٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ مَا هُوَ لِلْحَالِ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ فَكَأَنَّهُ مِنَ الْقُرْبِ بِحَيْثُ هُوَ كَالْوَاقِعِ فِي الْحَالِ. والْأَحْزابِ: الَّذِينَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ يَتَحَزَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُنْدَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [غَافِر: 30، 31] .

[سورة ص (38) : الآيات 12 إلى 14]

[سُورَة ص (38) : الْآيَات 12 إِلَى 14] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدًا لَهُ بِالنَّصْرِ وَتَعْرِيضًا بِوَعِيدِ مُكَذِّبِيهِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ الْأَحْزَابُ الَّذِينَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا جِيءَ بِمَا هُوَ كَالْبَيَانِ لِهَذَا التَّعْرِيضِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمَصِيرِ الْمَقْصُودِ عَلَى طَرِيقَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ: إِمَّا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ جُنْدٌ مَا هُنالِكَ إِلَخْ، وَإِمَّا اسْتِئْنَافٌ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ كَذَّبَتْ لِأَنَّهُ سَيَرِدُ مَا يُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ كَمَا سَيَأْتِي. وَخَصَّ فِرْعَوْنَ بِإِسْنَادِ التَّكْذِيبِ إِلَيْهِ دُونَ قَوْمِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ لِيُطْلِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَذَّبَ مُوسَى فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِمُجَادِلَةِ فِرْعَوْنَ لِإِبْطَالِ كُفْرِهِ فَتَسَلْسَلَ الْجِدَالُ فِي الْعَقِيدَةِ وَوَجَبَ إِشْهَارُ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِشُبُهَاتِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ كَانَ فِرْعَوْنُ عَقِبَ ذَلِكَ مُضْمِرًا أَذَى مُوسَى وَمُعْلِنًا بِتَكْذِيبِهِ. وَوُصِفَ فِرْعَوْنُ بِأَنَّهُ بِ ذُو الْأَوْتادِ لِعَظَمَةِ مُلْكِهِ وَقُوَّتِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ. وَأَصْلُ الْأَوْتادِ أَنَّهُ: جَمْعُ وَتِدٍ بِكَسْرِ التَّاءِ: عُودٌ غَلِيظٌ لَهُ رَأْسٌ مُفَلْطَحٌ يُدَقُّ فِي الْأَرْضِ لِيُشَدَّ بِهِ الطُّنُبُ، وَهُوَ الْحَبْلُ الْعَظِيمُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ شَقَّةُ الْبَيْتِ وَالْخَيْمَةِ فَيُشَدُّ إِلَى الْوَتِدِ وَتُرْفَعُ الشَّقَّةُ عَلَى عِمَادِ الْبَيْتِ قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدَيُّ: وَالْبَيْتُ لَا يُبْتَنَى إِلَّا عَلَى عَمَدٍ ... وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادِ والْأَوْتادِ فِي الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ لِثَبَاتِ الْمُلْكِ وَالْعِزِّ، كَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ وَقِيلَ: الْأَوْتادِ: الْبِنَاءَاتُ الشَّاهِقَةُ. وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ، سُمِّيَتِ الْأَبْنِيَةُ أَوْتَادًا لِرُسُوخِ أُسُسِهَا فِي الْأَرْضِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَتَأَيَّدُ بِمُطَابَقَةِ التَّارِيخِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ الْمَعْنِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ (مِنْفِتَاحُ الثَّانِي) الَّذِي خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ فِي زَمَنِهِ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ الْأُسَرِ الَّتِي تَدَاوَلَتْ مُلْكَ مِصْرَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْعَائِلَةُ مُشْتَهِرَةً بِوَفْرَةِ الْمَبَانِي الَّتِي بَنَاهَا مُلُوكُهَا مِنْ مَعَابِدَ وَمَقَابِرَ وَكَانَتْ مُدَّةُ حُكْمِهِمْ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً مِنْ سَنَةِ (1462) قَبْلَ الْمَسِيحِ إِلَى سَنَةِ (1288) ق. م. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهْ فِي «تَفْسِيرِهِ» لِلْجُزْءِ الثَلَاثِينَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: وَمَا أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَمَّا تَرَكَ الْمِصْرِيُّونَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْبَاقِيَةِ بِالْأَوْتَادِ فَإِنَّهَا هِيَ الْأَهْرَامُ وَمَنْظَرُهَا فِي عَيْنِ الرَّائِي مَنْظَرُ الْوَتَدِ الضَّخْمِ الْمَغْرُوزِ فِي الأَرْض ا. هـ. وَأَكْثَرُ الْأَهْرَامِ بُنِيَتْ قَبْلَ زَمَنِ فِرْعَوْنَ مُوسَى مِنْفِتَاحَ الثَّانِي فَكَانَ مِنْفِتَاحُ هَذَا مَالِكَ تِلْكَ الْأَهْرَامِ فَإِنَّهُ يَفْتَخِرُ بِعَظَمَتِهَا وَلَيْسَ يُفِيدُ قَوْلُهُ: ذُو الْأَوْتادِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى إِذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْبَانِيَ تِلْكَ الْأَهْرَامِ. وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: ذُو النِّيلِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] . وَأَمَّا ثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ غَيْرَ مرّة. وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ: هُمْ أَهْلُ مَدْيَنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُمْ وَتَحْقِيقُ أَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ مَعَ مَدْيَنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ عَلَى ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ لَيْكَةَ مَعَ أَنَّ قِصَّتَهُ حَدَثَتْ بَعْدَ قَصَصِهِمْ لِأَنَّ حَالَهُ مَعَ مُوسَى أَشْبَهُ بِحَالِ زُعَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ قاوم موس بِجَيْشٍ كَمَا قَاوَمَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ بِجُيُوشٍ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الْأَحْزابُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ وَجُمْلَةِ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْظِيمِ، أَيْ تَعْظِيمِ الْقُوَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَحْزابِ اسْتِغْرَاقٌ ادِّعَائِيٌّ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ مِثْلَ: هُمُ الْقَوْمُ وَأَنْتَ الرَّجُلُ. وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، قُصِرَتْ صِفَةُ

الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِ أُولئِكَ بِادِّعَاءِ الْأُمَمِ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَمَّا يَبْلُغُوا مَبْلَغَ أَنْ يُعَدُّوا مِنَ الْأَحْزَابِ فَظَاهِرُ الْقِصَرِ وَلَامُ الْكَمَالِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْكَمَالِ كَقَوْلِ الْأَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ الْمَذْكُورُونَ هُمُ الْأُمَمُ لَا تُضَاهِيهِمْ أُمَمٌ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِتَخْوِيفِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ بِأُولَئِكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [21، 22] . وَجُمْلَةُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى قَوْله: وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلَّا مُكَذِّبِينَ عَلَى وَجْهِ الْحَصْرِ كَأَنَّهُمْ لَا صِفَةَ لَهُمْ إِلَّا تَكْذِيبُ الرُّسُلِ لِتَوَغُّلِهِمْ فِيهَا وَكَوْنِهَا هِجِّيرَاهُمْ. وإِنْ نَافِيَةٌ، وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُلُّهُمْ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَ الرُّسُلَ لِيُفِيدَ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فَحَصَلَ بِهَذَا النّظم تَأْكِيد الْحَصْرِ. وَتَعْدِيَةُ كَذَّبَ إِلَى الرُّسُلَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ إِنَّمَا كَذَّبَتْ رَسُولَهَا، مَقْصُودٌ مِنْهُ تَفْظِيعُ التَّكْذِيبِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا كَذَّبَتْ رَسُولَهَا مُسْتَنِدَةً لِحُجَّةٍ سُفُسْطَائِيَّةٍ هِيَ اسْتِحَالَةُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ فَهَذِهِ السَّفْسَطَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الرُّسُلِ. وَقَدْ حَصَلَ تَسْجِيلُ التَّكْذِيبِ عَلَيْهِمْ بِفُنُونٍ مِنْ تَقْوِيَةِ ذَلِكَ التَّسْجِيلِ وَهِيَ إِبْهَامُ مَفْعُولِ كَذَّبَتْ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ثُمَّ تَفْصِيلُهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ وَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الْحَصْرِ، وَمَا فِي تَأْكِيدِهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كَذَّبَ، وَمَا فِي جَعْلِ الْمُكَذَّبِ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ،

[سورة ص (38) : آية 15]

فَأَنْتَجَ ذَلِكَ التَّسْجِيلُ اسْتِحْقَاقَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَحَقَّ عِقابِ، أَيْ عِقَابِي، فَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ. وَحَقَّ: تَحَقَّقَ، أَيْ كَانَ حَقًّا، لِأَنَّهُ اقْتَضَاهُ عَظِيمُ جُرْمِهِمْ. وَالْعِقَابُ: هُوَ مَا حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ الْغَرَقُ وَالتَّمْزِيقُ بِالرِّيحِ، وَالْغَرَقُ أَيْضًا، وَالصَّيْحَةُ، وَالْخَسْفُ، وَعَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِعَذَابٍ مِثْلِ عَذَابِ أُولَئِكَ لِاتِّحَادِهِمْ فِي مُوجبه. [15] [سُورَة ص (38) : آيَة 15] وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (15) لَمَّا أَشْعَرَ قَوْلُهُ: فَحَقَّ عِقابِ [ص: 14] بِتَهْدِيدِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِعَذَابٍ يَنْتَظِرُهُمْ جَرْيًا عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُ، عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْأَحْزَابِ السَّابِقِينَ جُمْلَةُ تَوَعُّدٍ بِعَذَابِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي التَّكْذِيبِ. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ لِأَنَّ تَجَدُّدَ دَعْوَتِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا جَعَلَهُمْ كَالْحَاضِرِينَ فَكَانَتِ الْإِشَارَةُ مَفْهُومًا مِنْهَا أَنَّهَا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ إِذَا اسْتَعْمَلَ هؤُلاءِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُشَارٌ إِلَيْهِ مَذْكُورٌ: أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى غَيْرَ مَرَّةٍ. ويَنْظُرُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ قَالَ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْعَام: 158] ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُ الْمُشْرِكُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس: 102] . وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا تهديد لَهُم بِصَيْحَةٍ صَاعِقَةٍ وَنَحْوِهَا كَصَيْحَةِ ثَمُودَ أَوْ صَيْحَةِ النَّفْخِ فِي الصُّورِ الَّتِي يَقَعُ عِنْدَهَا الْبَعْثُ لِلْجَزَاءِ، وَلَكِنْ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ قَوْلَهَ تَعَالَى: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةٍ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مُعَانَدِيهِ سَيُهْزَمُونَ وَيَعْمَلُ فِيهِمُ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ، يَقْتَضِي أَنَّ الصَّيْحَةَ

[سورة ص (38) : آية 16]

صَيْحَةُ الْقِتَالِ وَهِيَ أَنْ يَصِيحَ النَّذِيرُ: يَا صَبَاحَاهُ كَمَا صَاحَ الصَّارِخُ بِمَكَّةَ حِينَ تَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لِعِيرِ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ. وَوَصْفُهَا بِ واحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّاعِقَةَ عَظِيمَةٌ مُهْلِكَةٌ، أَوْ أَنَّ النَّفْخَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَفِي خَفِيِّ الْمَعْنَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ يَبْتَدِرُونَ إِلَى السِّلَاحِ وَيَخْرُجُونَ مُسْرِعِينَ لِإِنْقَاذِ غَيْرِهِمْ فَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْعَظِيمَةُ وَقْعَةَ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ صَيْحَةَ الْمُبَارِزِينَ لِلْقِتَالِ يَوْمَئِذٍ. وَأُسْنِدَ الِانْتِظَارُ إِلَيْهِمْ فِي حِينِ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ ومكذبون بِظَاهِرِهِ إِسْنَاد مجازي عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُ بِهِمْ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ الْمَوْعُودُونَ بِالنَّصْرِ، أَوْ يَنْتَظِرُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِحَشْرِهِمْ عِنْدَ النَّفْخَةِ، فَلَمَّا كَانُوا مُتَعَلَّقَ الِانْتِظَارِ أُسْنِدَ فِعْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ لِمُلَابَسَةِ الْمَفْعُولِيَّةِ عَلَى نَحْوِ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] . وَالْفَوَاقُ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ حَلْبَتَيْ حَالِبِ النَّاقَةِ وَرَضْعَتَيْ فَصِيلِهَا، فَإِنَّ الْحَالِبَ يَحْلِبُ النَّاقَةَ ثُمَّ يَتْرُكُهَا سَاعَةً لِيَرْضَعَهَا فَصِيلُهَا لِيَدِرَّ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَحْلِبُونَهَا، فَالْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ تُسَمَّى فَوَاقًا. وَهِيَ سَاعَةٌ قَلِيلَةٌ وَهُمْ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْحَلْبِ يَتْرُكُونَ الْفَصِيلَ يَرْضَعُهَا لِتَدِرَّ بِاللَّبَنِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ وَالضَّمَّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ بَيْنَ الْمَفْتُوحِ وَالْمَضْمُومِ فَرْقًا فَقَالَا: الْمَفْتُوحُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ مِثْلَ الْجَوَابِ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَالْمَضْمُومُ اسْمٌ لِلْمُدَّةِ. وَاللَّبَنُ الْمُجْتَمِعُ فِي تِلْكَ الْحِصَّةِ يُسَمَّى: الْفَيْقَةَ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَجَمْعُهَا أَفَاوِيقُ. وَمَعْنَى مَا لَها مِنْ فَواقٍ لَيْسَ بَعْدَهَا إِمْهَالٌ بِقَدْرِ الْفَوَاقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً [يس: 49، 50] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَواقٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَم الْفَاء. [16] [سُورَة ص (38) : آيَة 16] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) حِكَايَةُ حَالَةِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ ذَلِكَ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِ

الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ فَلَمَّا هَدَّدَهُمُ الْقُرْآنُ بِعَذَابِ اللَّهِ قَالُوا: رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ إِظْهَارًا لِعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْوَعِيدِ وَتَكْذِيبِهِ، لِئَلَّا يَظُنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اسْتِخْفَافَهُمْ بِالْوَعِيدِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَأَبَانُوا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يصدّقون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَعِيدٍ حَتَّى الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فِي تَصَرُّفِ اللَّهِ. فَالْقَوْلُ هَذَا قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ وَحُكِيَ عَنْهُمْ هُنَا إِظْهَارًا لِرِقَاعَتِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمُ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهَا وَهُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] فَذَكَرَ قَوْلَهُمْ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُمْ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] وَمَا عَقَبَهُ مِنْ عَوَاقِبِ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَفْضَى الْقَوْلُ إِلَى أَصْلِهِمُ الثَّالِثِ. قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ: أَبُو جَهْلٍ وَالْقَوْمُ حَاضِرُونَ رَاضُونَ فَأُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمِيعِ. وَالْقِطُّ: هُوَ الْقِسْطُ مِنَ الشَّيْءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ الْوَرَقِ أَوِ الرَّقِّ أَوِ الثَّوْبِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا الْعَطَاءُ لِأَحَدٍ وَلِذَلِكَ يُفَسَّرُ بِالصَّكِّ، وَقَدْ قَالَ الْمُتَلَمِّسُ فِي صَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الَّتِي أَعْطَاهُ إِيَّاهَا إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَحْرَيْنِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْعَطَاءِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْرٌ بِقَتْلِهِ وَعَرَفَ الْمُتَلَمِّسُ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ فَأَلْقَاهَا فِي النَّهْرِ وَقَالَ فِي صَحِيفَتِهِ الْمَضْرُوبِ بِهَا الْمَثَلُ: وَأَلْقَيْتُهَا بِالثِّنْيِ مِنْ جَنْبِ كَافِرٍ ... كَذَلِكَ يَلْقَى كُلُّ قِطٍّ مُضَلَّلِ فَالْقِطُّ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُكْتَبُ فِيهِ عَطَاءٌ أَوْ عِقَابٌ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ وَرَقَةُ الْعَطَاءِ، قَالَ الْأَعْشَى: وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمًا لَقِيتُهُ ... بِأُمَّتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا عَنَوْا عَجِّلْ لَنَا النَّعِيمَ الَّذِي وَعَدْتَنَا بِهِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى نَرَاهُ الْآنَ فَنُوقِنَ. وَعَلَى تَسْلِيمِ اخْتِصَاصِ الْقِطِّ بِصَكِّ الْعَطَاءِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَصْدِهِمْ

[سورة ص (38) : الآيات 17 إلى 20]

تَعْجِيلَ الْعِقَابِ بِأَنْ يَكُونُوا سَمَّوُا الْحَظَّ مِنَ الْعِقَابِ قِطًّا عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ إِذْ جَعَلَ الْقِتَالَ قِرًى: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا فَيَكُونُونَ قَدْ أَدْمَجُوا تَهَكُّمًا فِي تَهَكُّمٍ إِغْرَاقًا فِي التَّهَكُّمِ. وَتَسْمِيَتُهُمْ يَوْمِ الْحِسابِ أَيْضًا مِنَ التَّهَكُّمِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤمنُونَ بِالْحِسَابِ. [17- 20] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 17 إِلَى 20] اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) أعقب حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] إِلَى هُنَا، بِأَمْرِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَقوَالِهِمْ إِذْ كَانَ جَمِيعُهَا أَذًى: إِمَّا صَرِيحًا كَمَا قَالُوا: ساحِرٌ كَذَّابٌ وَقَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ [ص: 6] ، وَإِمَّا ضِمْنًا وَذَلِكَ مَا فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] مِنْ إِثْبَاتِ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَيَشْمَلُ مَا يَقُولُونَهُ مِمَّا لَمْ يُحْكَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ إِلَى آخِرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ بِأَنْ أَتْبَعَ أَمْرَهُ بِالصَّبْرِ وَبِالِائْتِسَاءِ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فِيمَا لَقُوهُ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ كَانَتْ لَهُمْ عَاقِبَةُ النَّصْرِ وَكَشْفُ الْكَرْبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ عطف الْقِصَّة على الْقِصَّةِ وَالْغَرَضُ هُوَ هُوَ. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ دَاوُدَ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ مُلْكًا وَسُلْطَانًا لَمْ يَكُنْ لِآبَائِهِ فَفِي ذِكْرِهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَأْن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَصِيرُ إِلَى الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَفٌ وَلَا جُنْدٌ فَقَدْ كَانَ حَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ بِحَالِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الضَّجَرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّقَاءِ

مُرَاعَاةِ حُظُوظِ النَّفْسِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ إبعادا لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَهَاوِي الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَتَأْدِيبًا لَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ مِمَّا أَنْ يَتَلَقَّى بِالْعَذَلِ. وَكَانَ دَاوُدُ أَيْضًا قَدْ صَبَرَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ حَسَدِ شَاوِلَ (طَالُوتَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ عَلَى انْتِصَارِهِ عَلَى جَالُوتَ مَلِكِ فِلَسْطِينَ. فَالْمَصْدَرُ الْمُتَصَرِّفُ مِنْهُ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ هُوَ الذُّكْرُ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ وَلَيْسَ هُوَ ذِكْرَ اللِّسَانِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِتَسْلِيَتِهِ وَحِفْظِ كَمَالِهِ لَا لِيُعْلِمَهُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا لِيُعْلِمَهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ حَاصِلٌ تَبَعًا حِينَ إِبْلَاغِ الْمُنَزَّلِ فِي شَأْنِ دَاوُدَ إِلَيْهِمْ وَقِرَاءِتِهِ عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِتَذَكُّرِ ذَلِكَ تَذَكُّرُ مَا سَبَقَ إِعْلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَتَذْكِيرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْلَمْهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَصْفُ دَاوُدَ بِ عَبْدَنا وَصْفُ تَشْرِيفٍ بِالْإِضَافَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [40] . والْأَيْدِ: الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، مَصْدَرُ: آدَ يَئِيدُ، إِذَا اشْتَدَّ وَقَوِيَ، وَمِنْهُ التَّأْيِيدُ التقوية، قَالَ تَعَالَى: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [26] . وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ أُعْطِيَ قُوَّةً نَادِرَةً وَشَجَاعَةً وَإِقْدَامًا عَجِيبَيْنِ وَكَانَ يَرْمِي الْحَجَرَ بالمقلاع فَلَا يخطىء الرَّمْيَةَ، وَكَانَ يَلْوِي الْحَدِيدَ لِيَصْنَعَهُ سَرْدًا لِلدُّرُوعِ بِأَصَابِعِهِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَحْمُودَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا فِي نَصْرِ دِينِ التَّوْحِيدِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِذِكْرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَاذْكُرْ وَجُمْلَةِ بَيَانِهَا وَهِيَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ. وَالْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ. وَالْمُرَادُ: الرُّجُوعُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهِ وَتَدَارُكُ مَا فَرَّطَ فِيهِ. وَالتَّائِبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَوَّابُ، وَهُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَجَازٌ وَلَا تُسَمَّى التَّوْبَة أوبا، و «زبور» دَاوُدَ الْمُسَمَّى عِنْد الْيَهُود ب «المزامير» مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ التَّوْبَةِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيِ اذْكُرْ فَضَائِلَهُ وَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَكَيْتَ وَكَيْتَ، ومَعَهُ ظَرْفٌ لِ يُسَبِّحْنَ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعِيَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا لِ سَخَّرْنَا لِاقْتِضَائِهِ، وَتَقَدَّمَ تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ لِدَاوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَجُمْلَةُ يُسَبِّحْنَ حَالٌ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ دُونَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الشَّأْنُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَجَدُّدِ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ مَعَهُ كُلَّمَا حَضَرَ فِيهَا، وَلِمَا فِي الْمُضَارع من استحضار تِلْكَ الْحَالَةَ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ. وَالتَّسْبِيحُ أَصْلُهُ قَوْلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الذِّكْرِ وَعَلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ سُبْحَةَ الصُّبْحِ وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ الْجِبَالَ لَا تُصَلِّي وَالطَّيْرُ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ دَاوُدَ لَا يُصَلِّي فِي الْجِبَالِ إِذِ الصَّلَاةُ فِي شَرِيعَتِهِمْ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ فَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ. وَالْعَشِيُّ: مَا بَعْدَ الْعَصْرِ. يُقَالُ: عَشِيٌّ وَعَشِيَّةٌ. والْإِشْراقِ: وَقْتُ ظُهُورِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَاضِحًا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ وَقْتُ الضُّحَى، يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَلَا يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَعَدَ، وَلِذَلِكَ كَانَ قِيَاسُ الْمَكَانِ مِنْهُ الْمَشْرَقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَلكنه لم يجىء إِلَّا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَوَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ الشُّرُوقُ وَوَقْتُ الْإِشْرَاقِ الضُّحَى، يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ وَلَمَّا تُشْرِقْ، وَيُقَالُ: كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ، أَيْ كُلَّمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْعَشِيِّ لِلظَّرْفِيَّةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشْرَاقِ وَقْتُ الْإِشْرَاقِ. وَالْمَحْشُورَةُ: الْمُجْتَمِعَةُ حَوْلَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ الزَّبُورَ. وَانْتَصَبَ مَحْشُورَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّيْرَ. وَلَمْ يُؤْتَ فِي صِفَةِ الطَّيْرِ بِالْحَشْرِ بِالْمُضَارِعِ كَمَا جِيءَ بِهِ فِي يُسَبِّحْنَ إِذِ الْحَشْرُ يَكُونُ دُفْعَةً فَلَا يَقْتَضِي الْمَقَامُ دَلَالَةً عَلَى تَجَدُّدٍ وَلَا عَلَى اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ الْمَحْشُورَةِ لَهُ

أَوَّابٌ، أَيْ كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، أَيْ يَأْتِيهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ لَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الطَّيْرِ النُّفُورُ مِنَ الْإِنْسِ. وَكَلِمَةُ كُلٌّ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا مِنَ الشُّمُولِ. وأَوَّابٌ هَذَا غَيْرُ أَوَّابٌ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ أَوَّابٌ فَلَمْ تَتَكَرَّرِ الْفَاصِلَةُ. وَاللَّامُ فِي لَهُ أَوَّابٌ لَامُ التَّقْوِيَةِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. وَالشَّدُّ: الْإِمْسَاكُ وَتَمَكُّنُ الْيَدِ مِمَّا تَمْسِكُهُ، فَيَكُونُ لِقَصْدِ النَّفْعِ كَمَا هُنَا، وَيَكُونُ لِقَصْدِ الضُّرِّ كَقَوْلِهِ: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَة [يُونُس: 88] . فَشَدُّ الْمَلِكِ هُوَ تَقْوِيَةُ مُلْكِهِ وَسَلَامَتُهُ مِنْ أَضْرَارِ ثَوْرَةٍ لَدَيْهِ وَمِنْ غَلَبَةِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ فِي حُرُوبِهِ. وَقَدْ مَلَكَ دَاوُدُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَاتَ وَعُمُرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتٍ. والْحِكْمَةَ: النُّبُوءَةُ. وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَعَمِّ: الْعِلْمُ بِالْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ وَالْعَمَلُ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَقَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ «الزَّبُورِ» عَلَى حِكَمٍ جَمَّةٍ. وفَصْلَ الْخِطابِ: بَلَاغَةُ الْكَلَامِ وَجَمْعُهُ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ سَامِعُهُ إِلَى زِيَادَةِ تِبْيَانٍ، وَوَصْفُ الْقَوْلِ بِ (الْفَصْل) وصف بِالْمَصْدَرِ، أَيْ فَاصِلٍ. وَالْفَاصِلُ: الْفَارِقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَهُوَ ضِدُّ الْوَاصِلِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَا يُمَيِّزُ شَيْئًا عَنِ الِاشْتِبَاهِ بِضِدِّهِ. وَعَطْفُهُ هُنَا عَلَى الْحِكْمَةِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَهُ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ دَاوُدَ أُوتِيَ مِنْ أَصَالَةِ الرَّأْيِ وَفَصَاحَةِ الْقَوْلِ مَا إِذَا تَكَلَّمَ جَاءَ بِكَلَامٍ فَاصْلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ شَأْنُ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَحَسْبُكَ بِكِتَابِهِ «الزَّبُورِ» الْمُسَمَّى عِنْد الْيَهُود ب «المزامير» فَهُوَ مَثَلٌ فِي بَلَاغَةِ الْقَوْلِ فِي لُغَتِهِمْ. وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: فَصْلَ الْخِطابِ هُوَ قَوْلُهُ فِي خُطَبِهِ «أَمَّا بَعْدُ» قَالَ: وَدَاوُدُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا صَحِيحًا لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَلَا

[سورة ص (38) : الآيات 21 إلى 25]

يُعْرَفُ فِي كِتَابِ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ مَا هُوَ بِمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ، وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فَصْلَ الْخِطَابِ عِنْدَ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا تَقَعُ بَيْنَ مُقَدِّمَةِ الْمَقْصُودِ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ. فَالْفَصْلُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَالْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» هُوَ سُحْبَانُ وَائِلٍ خَطِيبُ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: فَصْلَ الْخِطابِ الْقَضَاءُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا وَجْهَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْخِطَابِ. وَاعْلَمْ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ كُلِّ مَا أُعْطِيَ دَاوُدُ فَكَانَ أَوَّابًا، وَهُوَ الْقَائِلُ: «إِنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، وَسَخَّرَ لَهُ جَبَلَ حِرَاءٍ عَلَى صُعُوبَةِ مَسَالِكِهِ فَكَانَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ إِلَى أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ فِي غَارِ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ جِبَالُ مَكَّةَ أَنْ تَصِيرَ لَهُ ذَهَبًا فَأَبَى وَاخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ وَسُخِّرَتْ لَهُ مِنَ الطَّيْرِ الْحَمَامُ فَبَنَتْ وَكْرَهَا عَلَى غَارِ ثَوْرٍ مُدَّةَ اخْتِفَائِهِ بِهِ مَعَ الصّديق فِي مسير هما فِي الْهِجْرَةِ. وَشَدَّ اللَّهُ مُلْكَ الْإِسْلَامِ لَهُ، وَكَفَاهُ عَدُوَّهُ مِنْ قَرَابَتِهِ مِثْلَ أَبِي لَهَبٍ وَابْنِهِ عُتْبَةَ وَمِنْ أَعْدَائِهِ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ، وَآتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَآتَاهُ فَصْلَ الْخِطَابِ قَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِيَ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا» بَلْهَ مَا أُوتِيَهُ الْكِتَابِ الْمُعْجِزِ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: 13، 14] . [21- 25] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 21 الى 25] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ جُمْلَةُ وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِلَى آخِرِهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ [ص: 18] . وَالْإِنْشَاءُ هُنَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ قَصَّتْ شَأْنًا مِنْ شَأْنِ دَاوُدَ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى فَهِيَ نَظِيرُ مَا قَبْلَهَا.

وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ أَوْ فِي الْبَحْثِ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مَعْلُومَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ وَإِنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ عَهْدِهِ بِعِلْمِهَا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْحَثِّ مِثْلُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] . وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ سَامِعٍ وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ قَائِمَانِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخَصْمِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ عَهْدِ فَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسِهِ أَيْ نَبَأِ خَصْمٍ مُعَيَّنٍ هَذَا خَبَرُهُ، وَهَذَا مِثْلُ التَّعْرِيفِ فِي ادْخُلِ السُّوقَ. وَالْخِصَامُ وَالِاخْتِصَامُ: الْمُجَادَلَةُ وَالتَّدَاعِي، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [19] . والْخَصْمِ: اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا خَصْمَانِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ خَصْمانِ. وَتَسْمِيَتُهُمَا بِالْخَصْمِ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الصُّورَةِ وَهِيَ مِنْ عَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ فِي الذَّاتِ لَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَعَادَةُ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ أَنْ يُمَثِّلُوهَا بِقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا رَأَى صُورَةَ أَسَدٍ: هَذَا أَسد. وَضمير الْجمع مُرَادٌ بِهِ الْمُثَنَّى، وَالْمَعْنَى: إِذْ تَسَوَّرَا الْمِحْرَابَ، وَالْعَرَبُ يَعْدِلُونَ عَنْ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ إِلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ لِأَنَّ فِي صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ ثِقَلًا لِنُدْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] أَيْ قَلْبَاكُمَا. وإِذْ تَسَوَّرُوا إِذَا جُعِلَتْ إِذْ ظَرْفًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْخَصْمِ، وَالتَّقْدِيرُ: تَحَاكَمَ الْخَصْمُ حِينَ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ لِدَاوُدَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ أَتاكَ وَلَا بِ نَبَأُ لِأَنَّ النَّبَأَ الْمُوَقَّتَ بِزَمَنِ تَسَوُّرِ الْخَصْمِ مِحْرَابَ دَاوُدَ لَا يَأْتِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ إِذْ اسْمًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي مُجَرَّدًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَتَجْعَلَهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ الْخَصْمِ لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها [مَرْيَم: 16] ، فَالْخَصْمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى زَمَنِ تَسَوُّرِهِمُ الْمِحْرَابَ، وَخُرُوجُ إِذْ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِوُقُوعِهَا مَفْعُولًا بِهِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فَيَكُونُ ظَرْفًا وَغَيْرَ ظَرْفٍ.

وَالتَّسَوُّرُ: تَفَعُّلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّورِ، وَهُوَ الْجِدَارُ الْمُحِيطُ بِمَكَانٍ أَوْ بَلَدٍ يُقَالُ: تَسَوَّرَ، إِذَا اعْتَلَى عَلَى السُّورِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: تَسَنَّمَ جَمَلَهُ، إِذَا عَلَا سَنَامَهُ، وَتَذَرَّأَهُ إِذَا عَلَا ذُرْوَتَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ قَوْلُهُمْ: صَاهَى، إِذَا رَكِبَ صَهْوَةَ فَرَسِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَيْتَ عِبَادَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَحُوطًا بِسُورٍ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ حَارِسِ السُّورِ. والْمِحْرابَ: الْبَيْتُ الْمُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [13] . وإِذْ دَخَلُوا بَدَلٌ مِنْ إِذْ تَسَوَّرُوا لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ لِلدُّخُولِ عَلَى دَاوُدَ. وَالْفَزَعُ: الذُّعْرُ، وَهُوَ انْفِعَالٌ يَظْهَرُ مِنْهُ اضْطِرَابٌ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ تَوَقُّعِ شِدَّةٍ أَوْ مُفَاجَأَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [103] . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : إِنْ قِيلَ: لِمَ فَزِعَ دَاوُدُ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوءَةِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْعِصْمَةَ وَلَا الْأَمْنَ مِنَ الْقَتْلِ وَكَانَ يَخَافُ مِنْهُمَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى لَا تَخَفْ وَقَبْلَهُ قِيلَ لِلُوطٍ. فَهُمْ مُؤَمَّنُونَ مِنْ خَوْفِ مَا لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ مِنْهُ مَعْصُومُونَ اه. وَحَاصِلُ جَوَابِهِ: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ عَرَضَ لِلْأَنْبِيَاءِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْ إِصَابَةِ الضُّرِّ حَتَّى يُؤَمِّنَ اللَّهُ أَحَدَهُمْ فَيَطْمَئِنَّ وَاللَّهُ لَمْ يُؤَمِّنْ دَاوُدَ فَلِذَلِكَ فَزِعَ. وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ تَامِّ الْإِقْنَاعِ لِأَنَّ السُّؤَالَ تَضَمَّنَ قَوْلَ السَّائِلِ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوءَةِ فَجَعَلَ السَّائِلُ انْتِفَاءَ تَطَرُّقِ الْخَوْفِ إِلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ أَصْلًا بَنَى عَلَيْهِ سُؤَالَهُ، وَهُوَ أَجَابَ بِانْتِفَاءِ التَّأْمِينِ فَلَمْ يُطَابِقْ سُؤَالَ السَّائِلِ. وَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَنْفِيَ فِي الْجَوَابِ سَلَامَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ تَطَرُّقِ الْخَوْفِ إِلَيْهِمْ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ نُجِيبَ: أَوَّلًا: بِأَنَّ الْخَوْفَ انْفِعَالٌ جِبْلِيٌّ وَضَعَهُ اللَّهُ فِي أَحْوَالِ النُّفُوسِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَكْرُوهِ فَلَا تَخْلُو مِنْ بَوَادِرِهِ نُفُوسُ الْبَشَرِ فَيَعْرِضُ لَهَا ذَلِك الانفعال بادىء ذِي بَدْءٍ ثُمَّ يَطْرَأُ

عَلَيْهِ ثَبَاتُ الشَّجَاعَةِ فَتَدْفَعُهُ عَلَى النَّفْسِ وَنُفُوسُ النَّاسِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي دَوَامِهِ وَانْقِشَاعِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَمَّنَ اللَّهُ نَبِيئًا فَذَلِكَ مَقَامٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ لِمُوسَى لَا تَخَفْ وَقَوله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 137] . وَثَانِيًا: بِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَزَعٌ وَلَيْسَ بِخَوْفٍ. وَالْفَزَعُ أَعَمُّ مِنَ الْخَوْفِ إِذْ هُوَ اضْطِرَابٌ يحصل من الْإِحْسَان بِشَيْءٍ شَأْنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ خُسُوفِ الشَّمْسِ «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فَزِعًا، أَيْ مُسْرِعًا مُبَادِرًا لِلصَّلَاةِ تَوَقُّعًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخُسُوفُ نَذِيرَ عَذَابٍ» ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْقُرْآنُ فَفَزِعَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: خَافَ. وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات: 28] أَيْ تَوَجُّسًا مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْخَوْفِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْخَصْمِ لِدَاوُدَ لَا تَخَفْ فَهُوَ قَوْلٌ يَقُولُهُ الْقَادِمُ بِهَيْئَةٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُرِيبَ النَّاظِرَ. وَثَالِثًا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ فَقَدْ يَفْزَعُ النَّبِيءُ مِنْ تَوَقُّعِ خَطَرٍ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ فَيَنْقَطِعَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأُمَّتِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِقَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ. قَالَتْ: فَنَامَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ يحرس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَة: 67] فَتُرِكَتِ الْحِرَاسَةُ. وَمَعْنَى بَغى بَعْضُنا اعْتَدَى وَظَلَمَ. وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِ خَصْمانِ وَالرَّابِطُ ضَمِيرُ بَعْضُنا، وَجَاءَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ رَعْيًا لِمَعْنَى خَصْمانِ. وَلَمْ يُبَيِّنَا الْبَاغِيَ مِنْهُمَا لِأَنَّ مَقَامَ تَسْكِينِ رَوْعِ دَاوُدَ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، وَلِإِظْهَارِ الْأَدَبِ مَعَ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَوَلَّيَانِ تَعْيِينَ الْبَاغِي مِنْهُمَا بَلْ يَتْرُكَانِهِ لِلْحَاكِمِ يُعَيِّنُ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا فِي حُكْمِهِ حِينَ قَالَ لِأَحَدِهِمَا: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ. وَالْفَاءُ فِي فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: خَصْمانِ لِأَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ لَمَّا كَانَ مَلِكًا وَكَانَ اللَّذَانِ حَضَرَا عِنْدَهُ خَصْمَيْنِ كَانَ طَلَبُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا مُفَرَّعًا عَلَى ذَلِكَ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ مُتَعَلقَة ب فَاحْكُمْ. وَهَذَا مُجَرَّدُ طَلَبٍ مِنْهُمَا لِلْحَقِّ كَقَوْلِ الرجل للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي افْتَدَى ابْنَهُ مِمَّنْ زَنَى بِامْرَأَتِهِ: فاحْكُمْ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَالنَّهْيُ فِي لَا تُشْطِطْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ. وتُشْطِطْ: مُضَارِعُ أَشَطَّ، يُقَالُ: أَشَطَّ عَلَيْهِ، إِذَا جَارَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّطَطِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْقَدْرِ الْمُتَعَارَفِ. وَمُخَاطَبَةُ الْخَصْمِ دَاوُدَ بِهَذَا خَارِجَةٌ مَخْرَجَ الْحِرْصِ عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ وَهُوَ فِي مَعْنَى الذِّكْرَى بِالْوَاجِبِ فَلِذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِثْلُهَا جَفَاءً لِلْحَاكِمِ وَالْقَاضِي، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِي. وَصُدُورُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْجَفَاءِ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْجَفَاءِ كَالَّذِي قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةٍ قَسَّمَهَا «اعْدِلْ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» . وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِ الْخَصْمِ لِلْقَاضِي: (اتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِي) إِنَّهُ لَا يُعَدُّ جَفَاءً لِلْقَاضِي وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ كَمَا يُعَاقِبُ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. وَأَفْتَى مَالِكٌ بِسَجْنِ فَتًى، فَقَالَ أَبُوهُ لِمَالِكٍ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مَالك، فو الله مَا خُلِقَتِ النَّارُ بَاطِلًا، فَقَالَ مَالِكٌ: مِنَ الْبَاطِلِ مَا فَعَلَهُ ابْنُكَ. فَهَذَا فِيهِ زِيَادَةٌ بالتعريض بقوله فو الله مَا خُلِقَتِ النَّارُ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُمَا: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ يَصْرِفُ عَنْ إِرَادَةِ الْجَفَاءِ مِنْ قَوْلِهِمَا: وَلا تُشْطِطْ لِأَنَّهُمَا عَرَفَا أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَأَنَّهُمَا تَطَلَّبَا مِنْهُ الْهُدَى. وَالْهُدَى: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْبَيَانِ وَإِيضَاحِ الصَّوَابِ. وسَواءِ الصِّراطِ: مُسْتَعَارٌ لِلْحَقِّ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الصِّرَاطَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، وَالسَّوَاءُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا شَعْبَ تَتَشَعَّبُ مِنْهُ فَهُوَ أَسْرَعُ إِيصَالًا إِلَى الْمَقْصُودِ بِاسْتِوَائِهِ وَأَبْعَدُ عَنِ الِالْتِبَاسِ بِسَلَامَتِهِ مِنَ التَّشَعُّبِ.

وَمَجْمُوعُ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْحَاكِمِ بِالْعَدْلِ بِحَالِ الْمُرْشِدِ الدَّالِّ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ فَهُوَ مِنَ التَّمْثِيلِ الْقَابِلِ تَجْزِئَةَ التَّشْبِيهِ فِي أَجْزَائِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هُنَا أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي الْعَدْلِ يُحْمَلُ عَلَى الْجَرْيِ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ الْحُكْمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْحَقِّ شَرْعًا لِأَنَّهُ هَدْيٌ فَهُوَ وَالْفُتْيَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا هُدًى إِلَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ إِلْزَامٌ. وَمَعْنَى أَكْفِلْنِيها اجْعَلْهَا فِي كَفَالَتِي، أَيْ حِفْظِي وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْطَاءِ وَالْهِبَةِ، أَيْ هَبْهَا لِي. وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا أَخِي إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ وَظَاهِرُ الْأَخِ أَنَّهُمَا أَرَادَا أُخُوَّةَ النَّسَبِ. وَقَدْ فَرَضَا أَنْفُسَهُمَا أَخَوَيْنِ وَفَرَضَا الْخُصُومَةَ فِي مُعَامَلَاتِ الْقَرَابَةِ وَعَلَاقَةِ النَّسَبِ وَاسْتِبْقَاءِ الصِّلَاتِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخِي بَدَلًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ إِنَّ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ اسْتِفْظَاعِ اعْتِدَائِهِ عَلَيْهِ. وعَزَّنِي غَلَبَنِي فِي مُخَاطَبَتِهِ، أَيْ أَظْهَرَ فِي الْكَلَامِ عِزَّةً عَلِيَّ وَتَطَاوُلًا. فَجَعَلَ الْخِطَابَ ظَرْفًا لِلْعِزَّةِ مَجَازًا لِأَنَّ الْخِطَابَ دَلَّ عَلَى الْعِزَّةِ وَالْغَلَبَةِ فَوَقَعَ تَنْزِيلَ الْمَدْلُولِ مَنْزِلَةَ الْمَظْرُوفِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ نَعْجَتَهُ، وَلَمَّا رَأَى مِنْهُ تَمَنُّعًا اشْتَدَّ عَلَيْهِ بِالْكَلَامِ وَهَدَّدَهُ، فَأَظْهَرَ الْخَصْمُ الْمُتَشَكِّي أَنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ فَشَكَاهُ إِلَى الْمَلِكِ لِيَصُدَّهُ عَنْ مُعَامَلَةِ أَخِيهِ مُعَامَلَةَ الْجَفَاءِ وَالتَّطَاوُلِ لِيَأْخُذَ نَعْجَتَهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَوْضِعَ هَذَا التَّحَاكُمِ طَلَبُ الْإِنْصَافِ فِي مُعَامَلَةِ الْقَرَابَةِ لِئَلَّا يُفْضِيَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ إِلَى التَّوَاثُبِ فَتَنْقَطِعَ أَوَاصِرُ الْمَبَرَّةِ وَالرَّحْمَةِ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ عَلِمَ دَاوُدُ مِنْ تَسَاوُقِهِمَا لِلْخُصُومَةِ وَمِنْ سُكُوتِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ عَلَى مَا وَصَفَهُ الْحَاكِي مِنْهُمَا، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدِ اعْتَرَفَ. فَحَكَمَ دَاوُدُ بِأَنَّ سُؤَالَ الْأَخِ أَخَاهُ نَعْجَتَهُ ظُلْمٌ لِأَنَّ السَّائِلَ فِي غِنًى عَنْهَا وَالْمَسْئُولُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا فَرَغْبَةُ السَّائِلِ فِيمَا بِيَدِ أَخِيهِ مِنْ فَرْطِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ

وَاجْتِلَابِ النَّفْعِ لِلنَّفْسِ بِدُونِ اكْتِرَاثٍ بِنَفْعِ الْآخَرِ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ التَّحَابِّ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمَا فَهُوَ ظُلْمٌ وَمَا كَانَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ، وَلِأَنَّهُ تَطَاوَلَ عَلَيْهِ فِي الْخِطَابِ وَلَامَهُ عَلَى عَدَمِ سَمَاحِ نَفْسِهِ بِالنَّعْجَةِ، وَهَذَا ظُلْمٌ أَيْضًا. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ لِلتَّعْرِيفِ، أَيْ هَذَا السُّؤَالِ الْخَاصِّ الْمُتَعَلِّقِ بِنَعْجَةٍ مَعْرُوفَةٍ، أَيْ هَذَا السُّؤَالُ بِحَذَافِرِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ظُلْمٍ، وَإِضَافَةُ سُؤَالٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَتَعْلِيقُ إِلى نِعاجِهِ بِ «سُؤَالِ» تَعْلِيقٌ عَلَى وَجْهِ تَضْمِينِ «سُؤَالِ» مَعْنَى الضَّمِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بِطَلَبِ ضَمِّ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ. فَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمَا: فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِجَوَابِ قَوْلِهِمَا: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِذْ قَالَ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْمُفِيدِ أَنَّ بَغْيَ أَحَدِ الْمُتَعَاشِرَيْنِ عَلَى عَشِيرِهِ مُتَفَشٍّ بَيْنَ النَّاسِ غَيْرِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَمْرِهِمَا بِأَنْ يَكُونَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ. وَذِكْرُ غَالِبِ أَحْوَالِ الْخُلَطَاءِ أَرَادَ بِهِ الْمَوْعِظَةَ لَهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنِ انْتِهَازِ فُرَصِ الْهِدَايَةِ فَأَرَادَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُرَغِّبَهُمَا فِي إِيثَارِ عَادَةِ الْخُلَطَاءِ الصَّالِحِينَ وَأَنْ يُكَرِّهَ إِلَيْهِمَا الظُّلْمَ وَالِاعْتِدَاءَ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّهُ يَأْسَفُ لِحَالِهِمَا، وَأَنَّهُ أَرَادَ تَسْلِيَةَ الْمَظْلُومِ عَمَّا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ خَلِيطِهِ، وَأَنَّ لَهُ أُسْوَةً فِي أَكْثَرِ الْخُلَطَاءِ. وَفِي تَذْيِيلِ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ حَثٌّ لَهُمَا أَنْ يَكُونَا مِنَ الصَّالِحِينَ لِمَا هُوَ مُتَقَرَّرٌ فِي النُّفُوسِ مِنْ نَفَاسَةِ كُلِّ شَيْءٍ قَلِيلٍ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: 100] . وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مِنْ جَانِبِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الدَّوَاعِيَ إِلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ وَالْمَشْيَ مَعَ الْهَوَى مَحْبُوبٌ وَمُجَاهَدَةَ النَّفْسِ عَزِيزَةُ الْوُقُوعِ، فَالْإِنْسَانُ مَحْفُوفٌ بِجَوَاذِبِ السَّيِّئَاتِ، وَأَمَّا دَوَاعِي الْحَقِّ وَالْكَمَالِ فَهُوَ الدِّينُ وَالْحِكْمَةُ، وَفِي أَسْبَابِ الْكَمَالِ إِعْرَاضٌ عَنْ مُحَرِّكَاتِ

الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ إِعْرَاضٌ عَسِيرٌ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا مَنْ سَمَا بِدِينِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى الشَّرَفِ النَّفْسَانِيِّ وَأَعْرَضَ عَنِ الدَّاعِي الشَّهْوَانِيِّ، فَذَلِكَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْقِلَّةِ. وَزِيَادَةُ مَا بَعْدَ قَلِيلٌ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ [ص: 11] ، وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ إِيذَانٌ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ ذَلِكَ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْمَقَامِ كَمَا أَفَادَتْ زِيَادَتُهَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَحَدِيثُ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنَا ... وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ مَعْنَى التَّلَهُّفِ وَالتَّشَوُّقِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَاهِيَّة هاذين الْخَصْمَيْنِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَا مَلَكَيْنِ أَرْسَلَهُمَا اللَّهُ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِبْلَاغِ هَذَا الْمَثَلِ إِلَيْهِ عِتَابًا لَهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَقَيلَ كَانَا أَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ أَلْهَمَهُمَا اللَّهُ إِيقَاعَ هَذَا الْوَعْظِ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَوْقَ هَذَا النَّبَأِ عَقِبَ التَّنْوِيهِ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ إِلَّا تَتْمِيمًا لِلتَّنْوِيهِ بِهِ لِدَفْعِ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَنْقُضُ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضَائِلِهِ مِمَّا جَاءَ فِي كِتَابِ «صَمْوِيلَ الثَّانِي» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَغْلَاطٍ بَاطِلَةٍ تُنَافِي مَقَامَ النُّبُوءَةِ فَأُرِيدَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ الصَّادِقِ مِنْهَا وَتَذْيِيلُهُ بِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَوْجِبُ الْعِتَابَ وَلَا يَقْتَضِي الْعِقَابَ وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 40] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ لِهَذَا النَّبَأِ تَعَلُّقٌ بِالْمَقْصِدِ الَّذِي سِيقَ لِأَجْلِهِ ذِكْرُ دَاوُدَ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا النَّبَأُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى قِصَّةِ تَزَوُّجِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَوْجَةَ (أُورَيَا الْحَثِّيِّ) مِنْ رِجَالِ جَيْشِهِ وَكَانَ دَاوُدُ رَآهَا فَمَالَ إِلَيْهَا وَرَامَ تَزَوُّجَهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يَتَنَازَلَ لَهُ عَنْهَا وَكَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مُبَاحًا أَنَّ الرَّجُلَ يَتَنَازَلُ عَنْ زَوْجِهِ إِلَى غَيْرِهِ لِصَدَاقَةٍ بَيْنَهُمَا فَيُطَلِّقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا الْآخَرُ بَعْدَ مُضِيِّ عِدَّتِهَا وَتَحَقُّقِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَخَرَجَ أُورَيَا فِي غَزْوِ مَدِينَةِ (رَبَّةَ) لِلْعَمُونِيِّينَ وَقِيلَ فِي غَزْوِ

عَمَّانَ قَصَبَةِ الْبَلْقَاءِ مِنْ فِلَسْطِينَ فَقُتِلَ فِي الْحَرْبِ وَكَانَ اسْمُ الْمَرْأَةِ (بَثَشْبَعُ بِنْتُ أَلْيَعَامِ وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ) . وَحكى الْقُرْآن الْقِصَّة اكْتِفَاءً بِأَنَّ نَبَأَ الْخَصْمَيْنِ يُشْعِرُ بِهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا أَعْقَبَهُ نَبَأُ الْخَصْمَيْنِ فِي نَفْسِ دَاوُدَ فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ أَنِ اسْتَعْمَلَ لِنَفْسِهِ هَذَا الْمُبَاحَ فَعَاتَبَهُ بِهَذَا الْمَثَلِ الْمُشَخَّصِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنْ أَعْلَى سُورِ الْمِحْرَابِ فِي صُورَةِ خَصْمَيْنِ وَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ وَطَلَبَا حُكْمَهُ وَهَدْيَهُ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَهَدَاهُمَا بِمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لِتَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ عِظَةً لَهُ وَيُشْعِرُ أَنَّهُ كَانَ الْأَلْيَقُ بِمَقَامِهِ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ هَذَا الزَّوَاجَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِيثَارِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ لِغَيْرِهِ وَلَوْ بِوَجْهٍ مُبَاحٍ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِحُسْنِ الْفِعْلِ أَوْ قُبْحِهِ قَدْ لَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ حِينَ يَفْعَلُهُ فَإِذَا رَأَى أَوْ سَمِعَ أَنَّ وَاحِدًا عَمِلَهُ شَعَرَ بِوَصْفِهِ. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ «صَمْوِيلِ الثَّانِي» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ سَوْقُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى الْخِلَافِ هَذَا. وَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْخَصْمَيْنِ: هَذَا أَخِي وَلَا فِي فَرْضِهِمَا الْخُصُومَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاقِعَةٍ ارْتِكَابُ الْكَذِبِ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخَالِفَةِ لِلْوَاقِعِ الَّتِي لَا يُرِيدُ الْمُخْبِرُ بِهَا أَنْ يَظُنَّ الْمُخْبَرُ (بِالْفَتْحِ) وُقُوعَهَا إِلَّا رَيْثَمَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنَ الْعِبْرَةِ بِهَا ثُمَّ يَنْكَشِفُ لَهُ بَاطِنُهَا فَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ. وَمَا يَجْرِي فِي خِلَالِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ وَالنِّسَبِ غَيْرِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَعَلَى نِيَّةِ الْمُشَابَهَةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى جَوَازِ وَضْعِ الْقَصَصِ التَّمْثِيلِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا التَّرْبِيَةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَلَا يَتَحَمَّلُ وَاضِعُهَا جُرْحَةَ الْكَذِبِ خِلَافًا لِلَّذِينِ نَبَزُوا الْحَرِيرِيَّ بِالْكَذِبِ فِي وَضْعِ «الْمَقَامَاتِ» كَمَا أَشَارَ هُوَ إِلَيْهِ فِي دِيبَاجَتِهَا. وَفِيهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِجَوَازِ تَمْثِيلِ تِلْكَ الْقَصَص بالأجسام والذوات إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرِيعَةَ، وَمِنْهُ تَمْثِيلُ الرِّوَايَاتِ وَالْقَصَصِ فِي دِيَارِ التَّمْثِيلِ، فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَنَا فِي شَرْعِنَا إِذَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ أَوْ سنة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ. وَأُخِذَ مِنَ الْآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سِوَى هَذِهِ الْآيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا حَكَاهُ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ.

وَقَدْ حُكِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سِفْرِ «صَمْوِيلِ الثَّانِي» فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ عَشَرَ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْقُرْآنِ وَعَلَى خِلَافِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِصْمَةُ لِنُبُوءَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاحْذَرُوهُ. وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحَقُّ، وَالْمُنْتَظِمُ مَعَ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، وَلَوْ حُكِيَ ذَلِكَ بِخَبَرِ آحَادٍ فِي الْمُسْلِمِينَ لَوَجَبَ رَدُّهُ وَالْجَزْمُ بِوَضْعِهِ لِمُعَارَضَتِهِ الْمَقْطُوعَ بِهِ مِنْ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ الْمُخْتَار. هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أَيْ عَلِمَ دَاوُدُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْخُصُومَةِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا لَهُ فِتْنَةً لِيُشْعِرَهُ بِحَالِ فَعْلَتِهِ مَعَ (أُورَيَا) وَقَدْ أَشْعَرَهُ بِذَلِكَ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ انْصِرَافُ الْخَصْمَيْنِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، فَعَلِمَ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ وَأَنَّ الْخُصُومَةَ صُورِيَّةٌ فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمَا إِلَيْهِ عَتْبًا لَهُ عَلَى مُتَابَعَةِ نَفْسِهِ زَوْجَةَ (أُورَيَا) وَطَلَبِهِ التَّنَازُلَ عَنْهَا. وَعَبَّرَ عَنْ عِلْمِهِ ذَلِكَ بِالظَّنِّ لِأَنَّهُ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ اكْتَسَبَهُ بِالتَّوَسُّمِ فِي حَالِ الْحَادِثَةِ وَكَثِيرًا مَا يُعَبَّرُ عَنِ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ بِالظَّنِّ لِمُشَابَهَتِهِ الظَّنَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ تَرَدُّدٍ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ. وأَنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ ظَنَّ أَنَّ الْخُصُومَةَ لَيْسَتْ إِلَّا فِتْنَةً لَهُ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ فِي تَزَوُّجِ امْرَأَةِ أُورَيَا لَيْسَ إِلَّا فِتْنَةً. وَمَعْنَى فَتَنَّاهُ قَدَّرْنَا لَهُ فِتْنَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِتْنَةُ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي تَدْبِيرِ الْحِيلَةِ لِقَتْلِ (أُورَيَا) فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْفِتْنَةِ لِأَنَّهَا أَوْرَثَتْ دَاوُدَ مُخَالَفَةً لِلْأَلْيَقِ بِهِ مِنْ صَرْفِ نَفْسِهِ عَنْ شَيْءِ غَيْرِهِ، وَعَدَمِ مُتَابَعَتِهِ مَيْلَهُ النَّفْسَانِيَّ وَإِنْ كَانَ فِي دَائِرَةِ الْمُبَاحِ فِي دِينِهِمْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَعَلِمَ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ فِتْنَةٌ مِنَ النَّفْسِ. وَإِنَّمَا عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ كَرَاهِيَةَ مِثْلِهَا مِمَّا صَوَّرَهُ لَهُ الْخَصْمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْنُ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: وَفَتَنَّاكَ

فُتُوناً [طه: 40] ، أَيْ ظَنَّ أَنَّا اخْتَبَرْنَا زَكَانَتَهُ بِإِرْسَالِ الْمَلَكَيْنِ، يُصَوِّرُ أَنَّ لَهُ صُورَةً شَبِيهَةً بِفِعْلِهِ فَفَطِنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ أَمْرٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ. وَتَفْرِيعُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، أَيْ لَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ طَلَبَ الْغُفْرَانَ مِنْ رَبِّهِ لِمَا صَنَعَ. وَخَرَّ خُرُورًا: سَقَطَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: 26] . وَالرُّكُوعُ: الِانْحِنَاءُ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ دُونَ وُصُولٍ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الْفَتْح: 29] ، فَذَكَرَ شَيْئَيْنِ. قَالُوا: لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُجُودٌ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ لَهُمُ الرُّكُوعُ، وَعَلَيْهِ فَتَقْيِيدُ فِعْلِ خَرَّ بِحَالِ راكِعاً تَمَجُّزٌ فِي فِعْلِ خَرَّ بِعَلَاقَةِ الْمُشَابِهَةِ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ الِانْحِنَاءِ حَتَّى قَارَبَ الْخُرُورَ. وَمَنْ قَالَ: كَانَ لَهُمُ السُّجُودُ جَعَلَ إِطْلَاقَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ، قُلْتُ: الْخِلَافُ مَوْجُودٌ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَيْسَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُجُودٌ بِالْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ عِبَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَشَأْنِ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ خَاصَّةً بِالْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ كَمَا تقدم فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [100] . وَكَانَ رُكُوعُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَضَرُّعًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَقْبَلَ اسْتِغْفَارَهُ. وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ: يُقَالُ: أَنَابَ، وَيُقَالُ: نَابَ. وَتَقَدَّمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [75] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [31] . وَهُنَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ مِنَ الْعَزَائِمِ عِنْدَ مَالِكٍ لِثُبُوتِ سُجُود النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ مُجَاهِدٍ «سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّجْدَةِ فِي ص فَقَالَ: أَو مَا تَقْرَأُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الْأَنْعَام: 84] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيئُكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ» . وَفِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

«لَيْسَ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ (أَيْ تَهَيَّأُوا وَتَحَرَّكُوا لِأَجْلِهِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيءٍ وَلَكِنِّي رأيتكم تشزّنتم للسُّجُود فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا» ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ سُجُودًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا لِأَجْلِ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيءٍ» فَرَجَعَ أَمْرُهَا إِلَى أَنَّهَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا دَلِيلًا. وَوَجْهُ السُّجُودِ فِيهَا عِنْدَ مَنْ رَآهُ أَنَّ رُكُوعَ دَاوُدَ هُوَ سُجُودُ شَرِيعَتِهِمْ فَلَمَّا اقْتَدَى بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي اقْتِدَائِهِ بِمَا يُسَاوِي الرُّكُوعَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ السُّجُودُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرُّكُوعُ يَقُومُ مَقَامَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ خُصُومَةُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ تَمْثِيلِ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ بِصُورَةِ قَضِيَّةِ الْخَصْمَيْنِ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ إِذْ طَوَى الْقِصَّةَ الَّتِي تَمَثَّلَ لَهُ فِيهَا الْخَصْمَانِ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْمَطْوِيِّ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَأَتْبَعَ اللَّهُ الْخَبَرَ عَنِ الْغُفْرَانِ لَهُ بِمَا هُوَ أَرْفَعُ دَرَجَةً وَهُوَ أَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ الْمَرْضِيِّ عَنْهُمْ وَأَنَّهُ لَمْ يُوقَفْ بِهِ عِنْد حد الْغُفْرَانِ لَا غَيْرَ. وَالزُّلْفَى: الْقُرْبَى، وَهُوَ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَر لإِزَالَة تو هم أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ إِذْ فَتَنَهُ تَنْزِيلًا لِمَقَامِ الِاسْتِغْرَابِ مَنْزِلَةَ مقَام الْإِنْكَار. والمئاب: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْأَوْبِ. وَهُوَ الرُّجُوعُ. وَالْمُرَادُ بِهِ: الرُّجُوعُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَسُمِّيَ رُجُوعًا لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى حِكْمَةِ الْبَحْتِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرَّعْد: 36] . وَحسن المئاب: حسن الْمَرْجِعِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ رُجُوعًا حَسَنًا عِنْدَ نَفْسِهِ وَفِي

[سورة ص (38) : آية 26]

مَرْأَى النَّاسِ، أَيْ لَهُ حُسْنُ رُجُوعٍ عِنْدِنَا وَهُوَ كَرَامَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ، أَي الْجنَّة يؤوب إِلَيْهَا. [26] [سُورَة ص (38) : آيَة 26] يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ص: 25] أَيْ صَفَحْنَا عَنْهُ وَذَكَّرْنَاهُ بِنِعْمَةِ الْمُلْكِ وَوَعَظْنَاهُ، فَجَمَعَ لَهُ بِهَذَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَإِرْشَادًا لِلْوَاجِبِ. وَافْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ لِاسْتِرْعَاءِ وَعْيِهِ وَاهْتِمَامِهِ بِمَا سَيُقَالُ لَهُ. وَالْخَلِيفَةُ: الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي عَمَلٍ، أَيْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ الْمَخْلُوفِ عَنْهُ قِيلَ: هُوَ خَلِيفَةُ فُلَانٍ، وَإِن كَانَ بعد مَا مَضَى الْمَخْلُوفُ قِيلَ: هُوَ خَلِيفَةٌ مِنْ فُلَانٍ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي إِنْفَاذِ شَرَائِعِهِ لِلْأُمَّةِ الْمَجْعُولِ لَهَا خَلِيفَةً مِمَّا يُوحِي بِهِ إِلَيْهِ وَمِمَّا سَبَقَ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أُوحِيَ إِلَيْهِ الْعَمَلُ بِهَا. وَخَلِيفَةٌ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْأَوَّلِينَ الْمَدْعُوِّينَ بِالْقُضَاةِ، أَوْ خَلِيفَةٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ فِي الْمُلْكِ وَهُوَ شَاوَلُ. والْأَرْضِ: أَرْضُ مَمْلَكَتِهِ الْمَعْهُودَةِ، أَيْ جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَرْضَ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ الْأَرْضِ فَإِنَّ دَاوُدَ كَانَ فِي زَمَنِهِ أَعْظَمَ مُلُوكِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مَمْلَكَتِهِ وَيَخَافُ بَأْسَهُ مُلُوكُ الْأَرْضِ فَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ إِذْ لَا يَنْفَلِتُ شَيْءٌ مِنْ قَبْضَتِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْخِلَافَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [يُونُس: 14] وَقَوْلِهِ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النَّمْل: 62] . وَهَذَا الْمَعْنَى خِلَافُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] فَإِنَّ الْأَرْضَ هُنَالِكَ هِيَ هَذِهِ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُقَالُ خَلِيفَةُ اللَّهِ إِلَّا لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَلِيفَةُ الَّذِي قَبْلَهُ،

أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَرَّرُوا هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَبِهَذَا كَانَ يُدْعَى بِذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فَطَالَ وَرَأَوْا أَنَّهُ سَيَطُولُ أَكْثَرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا وَلِيَ خَلِيفَةٌ بَعْدَ عُمَرَ فَدَعَوْا عُمَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَصُرَ هَذَا عَلَى الْخُلَفَاءِ، وَمَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ دُعَاءِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ خَلِيفَةَ اللَّهِ فَذَلِكَ تَجَوُّزٌ كَمَا قَالَ ابْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ: خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي بَرِيَّتِهِ ... جَفَّتْ بِذَاكَ الْأَقْلَامُ وَالْكُتُبُ وَفُرِّعَ عَلَى جَعْلِهِ خَلِيفَةً أَمْرُهُ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبُهُ وَأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَرْجِعُ لِلْمَظْلُومِينَ وَالَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ مَظَالِمُ الظَّلَمَةِ مِنَ الْوُلَاةِ فَإِذَا كَانَ عَادِلًا خَشِيَهُ الْوُلَاةُ وَالْأُمَرَاءُ لِأَنَّهُ أَلِفَ الْعَدْلَ وَكَرِهَ الظُّلْمَ فَلَا يُقِرُّ مَا يَجْرِي مِنْهُ فِي رَعِيَّتِهِ كُلَّمَا بَلَغَهُ فَيَكُونُ النَّاسُ فِي حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمْ مَا عَسَى أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَيَقْتَصَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ يَظْلِمُ فِي حُكْمِهِ فَإِنَّهُ يَأْلَفُ الظُّلْمَ فَلَا يُغْضِبُهُ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ مَظْلَمَةُ شَخْصٍ وَلَا يَحْرِصُ عَلَى إِنْصَافِ الْمَظْلُومِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ لِلزُّهْرِيِّ: هَلْ سَمِعْتَ مَا بَلَغَنَا؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ وَلَا تُكْتَبُ لَهُ مَعْصِيَةٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْخُلَفَاءُ أَفْضَلُ أَمِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ نَاسُ مَمْلَكَتِهِ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ أَوْ هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَالْحَقُّ: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِي خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَيَتَعَيَّنُ الْحَقُّ بِتَعْيِينِ الشَّرِيعَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ بَاءُ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَ الْحَقُّ كَالْآلَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا الْعَامِلُ فِي قَوْلِكَ: قَطَعَهُ بِالسِّكِّينِ، وَضَرَبَهُ بِالْعَصَا. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى مَعْطُوفٌ عَلَى التَّفْرِيعِ، وَلَعَلَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ. وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ لِيَكُونَ تَوْطِئَةً لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى سَدًّا لِذَرِيعَةِ

الْوُقُوعِ فِي خَطَأِ الْحَقِّ فَإِنَّ دَاوُدَ مِمَّنْ حَكَمَ بِالْحَقِّ فَأَمَرَهُ بِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْهَوى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَالنَّهْيُ يَعُمُّ كُلَّ مَا هُوَ هَوًى، سَوَاءٌ كَانَ هَوَى الْمُخَاطَبِ أَوْ هَوَى غَيْرِهِ مِثْلَ هَوَى زَوْجِهِ وَوَلَدِهِ وَسَيِّدِهِ، وَصَدِيقِهِ، أَوْ هَوَى الْجُمْهُورِ: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَاف: 138] . وَمَعْنَى الْهَوَى: الْمَحَبَّةُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ مُبَالَغَةً، أَيْ وَلَوْ كَانَ هَوًى شَدِيدًا تَعْلَقُ النَّفْسُ بِهِ. وَالْهَوَى: كِنَايَةٌ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنَ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ هَوَى النُّفُوسِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ ثَقِيلٌ عَلَى النُّفُوسِ فَلَا تَهْوَاهُ غَالِبًا، وَمَنْ صَارَتْ لَهُ مَحَبَّةُ الْحَقِّ سَجِيَّةً فَقَدْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَأُيِّدَ بِالْحِفْظِ أَوِ الْعِصْمَةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى تَحْذِيرٌ لَهُ وَإِيقَاظٌ لِيُحَذِّرَ مِنْ جَرَّاءِ الْهَوَى وَيَتَّهِمَ هَوَى نَفْسِهِ وَيَتَعَقَّبَهُ فَلَا ينقاد إِلَيْهِ فِيمَا يَدعُوهُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّثَبُّتِ، وَقَدْ قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ» ، ذَلِكَ أَنَّ هَوَى النَّفْسِ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ السَّهْلَةِ عَلَيْهَا الرَّائِقَةِ عِنْدَهَا وَمُعْظَمُ الْكَمَالَاتِ صَعْبَةٌ عَلَى النَّفْسِ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَالِارْتِقَاءِ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى أَوْجِ الْمَلَكِيَّةِ، فَفِي جَمِيعِهَا أَوْ مُعْظَمِهَا صَرْفٌ لِلنَّفْسِ عَمَّا لَاصَقَهَا مِنَ الرَّغَائِبِ الْجُسْمَانِيَّةِ الرَّاجِعِ أَكْثَرُهَا إِلَى طَبْعِ الْحَيَوَانِيَّةِ لِأَنَّهَا إِمَّا مَدْعُوَّةٌ لِدَاعِي الشَّهْوَةِ أَوْ دَاعِي الْغَضَبِ فَالِاسْتِرْسَالُ فِي اتِّبَاعِهَا وُقُوعٌ فِي الرَّذَائِلِ فِي الْغَالِبِ، وَلِهَذَا جُعِلَ هُنَا الضَّلَالُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مُسَبَّبًا عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ تَسَبُّبٌ أَغْلَبِيٌّ عُرْفِيٌّ، فَشَبَّهَ الْهَوَى بِسَائِرٍ فِي طَرِيقٍ مُهْلِكَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكَنِيَّةِ وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِلَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِضْلَالُ عَنْ طَرِيقِ الرَّشَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِسَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَّبِعُ سَائِرًا غَيْرَ عَارِفٍ بِطَرِيقِ الْمَنَازِلِ النَّافِعَةِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَجِدَ نَفْسَهُ وَإِيَّاهُ فِي مَهْلَكَةٍ أَوْ مَقْطَعَةِ طَرِيقٍ. وَاتِّبَاعُ الْهَوَى قَدْ يَكُونُ اخْتِيَارًا، وَقَدْ يَكُونُ كُرْهًا. وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِهِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَأَمَّا الِاتِّبَاعُ الِاخْتِيَارِيُّ فَالْحَذَرُ مِنْهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الِاتِّبَاعُ الِاضْطِرَارِيُّ فَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِالِانْسِحَابِ عَمَّا جَرَّهُ إِلَى الْإِكْرَاهِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ

الْعُلَمَاءُ فِي الْخَلِيفَةِ شُرُوطًا كُلُّهَا تَحُومُ حَوْلَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمَا يُوَازِيهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبَاطِلِ، وَهِيَ: التَّكْلِيفُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالذُّكُورَةُ، وَأَمَّا شَرْطُ كَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلِئَلَّا يَضْعُفَ أَمَامَ الْقَبَائِلِ بِغَضَاضَةٍ. وَانْتَصَبَ فَيُضِلَّكَ بَعْدَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ. وَمَعْنَى جَوَابِ النَّهْيِ جَوَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ السَّبَبُ فِي الضَّلَالِ وَلَيْسَ النَّهْيُ سَبَبًا فِي الضَّلَالِ. وَهَذَا بِخِلَافِ طَرِيقَةِ الْجَزْمِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ. وسَبِيلِ اللَّهِ: الْأَعْمَالُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا مَرْضَاتُهُ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَوَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، شُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى مَرْضَاتِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا يَظْهَرُ أَنَّهَا مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ دَاوُدَ، وَهِيَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْعَدَدِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمَ الْحِسابِ، فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ، فَكَانَتْ (إِنَّ) مُغْنِيَةً عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ وَالتَّرَتُّبِ، فَالشَّيْءُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ خَلِيقٌ بِأَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْ خِطَابِ دَاوُدَ كَانَتْ مُعْتَرِضَةً وَمُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ خَطَرِ الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَالْعُمُومُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُكْسِبُ الْجُمْلَةَ وَصْفَ التَّذْيِيلٍ أَيْضًا وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مُوجِبٌ لِعَدَمِ عَطْفِهَا. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ عَذابٌ لِلِاخْتِصَاصِ، وَالْبَاءُ فِي بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ سَبَبِيَّةٌ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ نِسْيَانِهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي نَابَ عَنْهُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ عَذابٌ. وَالنِّسْيَانُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ الشَّدِيدِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ نِسْيَانَ الْمُعْرِضِ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] ، وَهُوَ مَرَاتِبُ أَشَدُّهَا إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ [السَّجْدَة: 14] . وَدُونَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ تَكُونُ عَلَى وِفْقِ مَرَاتِبِ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ السَّبَبُ ذَا مَرَاتِبَ كَانَتِ الْمُسَبَّبَاتُ تَبَعًا لِذَلِكَ.

[سورة ص (38) : آية 27]

وَالْمُرَادُ بِ يَوْمَ الْحِسابِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ جَزَاءَ يَوْمِ الْحِسَابِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ [الْكَهْف: 57] ، أَيْ لَمْ يُفَكِّرْ فِي عَاقِبَةِ مَا يُقَدِّمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَفِي جَعْلِ الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَنِسْيَانِ يَوْمِ الْحِسَابِ سَبَبَيْنِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَلَازُمِهِمَا فَإِنَّ الضَّلَالَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُفْضِي إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ مُرَاقَبَةِ الْجَزَاءِ. وَتَرْجَمَةُ دَاوُدَ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ فِي الْأَنْعَامِ [84] وَقَوْلِهِ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي النِّسَاء [163] . [27] [سُورَة ص (38) : آيَة 27] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) لَمَّا جَرَى فِي خِطَابِ دَاوُدَ ذِكْرُ نِسْيَانِ يَوْمِ الْحِسَابِ وَكَانَ أقْصَى غايات ذَلِكَ النِّسْيَانِ جُحُودُ وُقُوعِهِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ مُرَاعَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ أَبَدًا اعْتُرِضَ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ بِثَلَاثِ آيَاتٍ لِبَيَانِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَعْلِ الْجَزَاءِ وَيَوْمِهِ احْتِجَاجًا عَلَى مُنْكِرِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْبَاطِلُ: ضِدُّ الْحَقِّ، فَكُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ حَقٍّ فَهُوَ الْبَاطِلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 39] . وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ نَفْيِ الْبَاطِلِ هُنَا، هُوَ أَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ عَلَى حَالَةٍ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْحَقِّ إِمَّا حَالًا كَخَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِمَّا فِي الْمَآلِ كَخَلْقِ الشَّيَاطِينِ وَالْمُفْسِدِينَ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِ اسْتِدْرَاكٍ لِمُقْتَضَى الْحَقِّ. وَقَدْ بُنِيَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْمُشَاهَدَاتِ وَهِيَ أَحْوَالُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَأُقِيمُ الدَّلِيلُ عَلَى أَسَاسِ مُقَدِّمَةٍ لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ إِذَا تَأَمَّلُوا أَدْنَى تَأَمُّلٍ وَجَدُوا مِنْ نِظَامِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ دَلَالَةً تَحْصُلُ بِأَدْنَى

نَظَرٍ عَلَى أَنَّهُ نِظَامٌ عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ إِحْكَامًا مُطَّرِدًا، وَهُوَ مَا نَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا. وَمَصَبُّ النَّفْيِ الْحَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ: باطِلًا فَهُوَ عَامٌّ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَبُعْدُ النَّظَرِ يُعْلِمُ النَّاظِرَ أَنَّ خَالِقَهَا حَكِيمٌ عَادِلٌ وَأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفَاعِلِ يُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا عَلَى الْخَفي، فَكَانَ حَقًا عَلَى الَّذِينَ اعْتَادُوا بِتَحْكِيمِ الْمُشَاهَدَاتِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِهَا أَنْ ينْظرُوا بِقِيَاس من خَفِيَ عَنْهُمْ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَنَّ نِظَامَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَكَامِلِ النِّظَامِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا فِيمَا خَفِيَ عَنْهُمْ مِنْ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ جَارٍ عَلَى نِظَامٍ بَدِيعٍ إِلَّا أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ صَالِحِينَ نَافِعِينَ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ إِلَى صِنْفِ الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ كَثِيرًا لَمْ يَنَالُوا مِنْ حُظُوظِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ شَيْئًا أَوْ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ صَلَاحُهُ وَمَا جَاهَدَهُ مِنَ الِارْتِقَاءِ بِنَفْسِهِ إِلَى مَعَارِجِ الْكَمَالِ. وَمِنَ الْمُفْسِدِينَ مَنْ هُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَالْفَسَادُ: اخْتِلَالٌ اجْتَلَبَهُ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ بِاتِّبَاعِهِ شَهَوَاتِهِ بِاخْتِيَارِهِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ، وَبِقُوَاهُ الْبَاطِنِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4، 6] وَفِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَدْنُو النَّاسُ دُنُوًّا مُتَدَرِّجًا إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ دُنُوًّا مُتَدَلِّيًا إِلَى أَحْضِيَةِ الشَّيَاطِينِ فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَلْتَحِقَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَشْبَاهِهِ فِي النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ أَوِ الْجَحِيمِ السَّرْمَدِيِّ. وَلَوْلَا أَنَّ حِكْمَةَ نِظَامِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ اقْتَضَتْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَ الْعَوَالِمِ الزَّائِلَةِ وَالْعَوَالِمِ السَّرْمَدِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِبَقَاءِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ لَأَطَارَ اللَّهُ الصَّالِحِينَ إِلَى أَوْجِ النَّعِيمِ الْخَالِدِ، وَلَدَسَّ الْمُجْرِمِينَ فِي دَرَكَاتِ السَّعِيرِ الْمُؤَبَّدِ، لِعِلَلٍ كَثِيرَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ جُمَاعُهَا رَعْيَ الْإِبْقَاءِ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى تُؤَدِّيَ وَظَائِفَهَا الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا، وَهِيَ خَصَائِصُ قَدْ تَتَعَارَضُ فَلَوْ أُوثِرَ بَعْضُهَا عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْقَاءِ لَأَفْضَى إِلَى زَوَالِ الْآخَرِ، فَمَكَّنَ اللَّهُ كُلَّ نَوْعٍ وَكُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْكَدَحِ لِنَوَالِ مُلَائِمِهِ وَأَرْشَدَ الْجَمِيعَ إِلَى الْخَيْرِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَبَيَّنَ وَحَدَّدَ.

وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْعَالَمِ الزَّائِلِ عَالَمًا خَالِدًا يَكُونُ فِيهِ وُجُودُ الْأَصْنَافِ مَحُوطًا بِمَا تَسْتَحِقُّهُ كَمَالَاتُهَا وَأَضْدَادُهَا مِنْ حُسْنٍ أَوْ سُوءٍ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الْعَالَمَ الْأَبَدِيَّ لَذَهَبَ صَلَاحُ الصَّالِحِينَ بَاطِلًا أَجْهَدُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَضَاعُوا فِي تَحْصِيلِهِ جَمًّا غَفِيرًا مِنْ لَذَائِذِهِمُ الزَّائِلَةِ دُونَ مُقَابِلٍ، وَلَعَادَ فَسَادُ الْمُفْسِدِينَ غُنْمًا أَرْضَوْا بِهِ أَهْوَاءَهُمْ وَنَالُوا بِهِ مُشْتَهَاهُمْ فَذَهَبَ مَا جَرُّوهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَرْزَاءٍ بَاطِلًا، فَلَا جَرَمَ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَزَاءُ الْأَبَدِيُّ لَعَادَ خَلْقُ الْأَرْضِ بَاطِلًا وَلَفَازَ الْغَوِيُّ بِغَوَايَتِهِ. فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُعُيِّنَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرُهُ قَائِلًا بِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ، وَقَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْأُخْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي خَلْقِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ بِقِيَاسِ الْخَفِيِّ عَلَى الظَّاهِرِ، فَبَطَلَ مَا يُفْضِي إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ فِي خَلْقِ بَعْضِ مَا ذكر شَيْء مِنَ الْبَاطِلِ. وَالْمُشْرِكُونَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَا اعتقدوه لكِنهمْ آئلون إِلَى لُزُومِهِ لَهُمْ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَقَدْ تَقَلَّدَ أَنَّ مَا هُوَ جَارٍ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ بَاطِلٌ، وَالنَّاسُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَبَاطِلُهُمْ إِذَا لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ خَالِقُهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ مِمَّا أَقَرَّهُ خَالِقُهُمْ، فَيَكُونُ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ، فَتَنْتَقِضُ كُلِّيَّةُ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، وَهُوَ مَا أَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقَضِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ لَا إِلَى نَفْيِهَا، أَيْ خَلْقُ الْمَذْكُورَاتِ بَاطِلًا هُوَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيِ اعْتِقَادُهُمْ. وَأُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ ظَنَّهُمْ عِلْمٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ فَهُوَ بَاسْمِ الظَّنِّ أَجْدَرُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الظَّنِّ يَقَعُ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِلْمِ الْمُشْبِهِ وَالْبَاطِلِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْقَوْلِ يُعْتَبَرُ قَوْلًا، وَأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ وَهُوَ الَّذِي نَحَاهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُوجِبَاتِ الرِّدَّةِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَعَدَمِ جَرْيِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُقْتَضَاهُ قَوْلَهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَيْ نَارِ جَهَنَّمَ. وَعُبِّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ عَلَى سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ آثَارِ انْتِفَاءِ الْبَاطِلِ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِنِظَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي ارْتِكَابِهِمْ مَفَاسِدَ عَوَائِدِ

[سورة ص (38) : آية 28]

الشِّرْكِ وَمَلَّتِهِ، وَقَدْ تَمَتَّعُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَتَّعَ بِهَا الصَّالِحُونَ فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ. وَلَفْظُ: «وَيْلٌ» يَدُلُّ عَلَى أَشَدِّ السُّوءِ. وَكَلِمَةُ: وَيْلٌ لَهُ، تُقَالُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ شِدَّةِ سُوءِ حَالَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ عَذَابِهِمْ فِي النَّارِ. ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: 79] ، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ شَرِبَ دَمَ حِجَامَتِهِ: «وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ للنَّاس مِنْك» . [28] [سُورَة ص (38) : آيَة 28] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ أَفَادَتْ إِضْرَابًا انْتِقَالِيًّا وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَعْثِ وَبَيَانٌ لِمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، بَعْدَ أَنْ سِيقَ ذَلِكَ بِوَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ الْجُمَلِيِّ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ بِنَاءً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] فَلِأَجْلِ ذَلِكَ بُنِيَ عَلَى اسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ أَمْ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ اسْتِعْمَالِهَا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: لَوِ انْتَفَى الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ كَمَا تَزْعُمُونَ لَاسْتَوَتْ عِنْدَ اللَّهِ أَحْوَالُ الصَّالِحِينَ وَأَحْوَالُ الْمُفْسِدِينَ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَالْمُفْسِدِينَ لِلتَّسْوِيَةِ. وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونُوا سَوَاءً فِي جَعْلِ اللَّهِ، أَيْ إِذَا لَمْ يُجَازِ كُلَّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَالْمُشَاهَدُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خِلَافُ ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ فِي عَالَمٍ آخَرَ وَهُوَ الَّذِي يُسْلَكُ لَهُ النَّاسُ بَعْدَ الْبَعْثِ. وَقَدْ أُخِذَ فِي الِاسْتِدْلَالِ جَانِبُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَبَيْنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُتَسَاوِينَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي النِّعْمَةِ أَوْ فِي التَّوَسُّطِ أَوْ فِي الْبُؤْسِ وَالْخَصَاصَةِ، فَحَالَةُ الْمُسَاوَاةِ كَافِيَةٌ لِتَكُونَ مَنَاطَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ ظَنِّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ حَالَةٍ أُخْرَى أَوْلَى

بِالدَّلَالَةِ، وَهِيَ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ فَرِيقِ الْمُفْسِدِينَ أُولِي النِّعْمَةِ وَفَرِيقِ الصَّالِحِينَ أُولِي الْبُؤْسِ، وَعَنْ حَالَةٍ دُونَ ذَلِكَ وَهِيَ فَرِيقُ الْمُفْسِدِينَ أَصْحَابِ الْبُؤْسِ وَالْخَصَاصَةِ وَفَرِيقُ الصَّالِحِينَ أُولِي النِّعْمَةِ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَرْعِي خَاطِرَ النَّاظِرِ. وأَمْ الثَّانِيَةُ مُنْقَطِعَةٌ أَيْضًا وَمَفَادُهَا إِضْرَابُ انْتِقَالٍ ثَانٍ لِلِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ بمراعاة الْحق وانتفاع الْبَاطِلِ فِي الْخَلْقِ تَقْتَضِي الْجَزَاءَ وَالْبَعْثَ لِأَجْلِهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَمْ الثَّانِيَةُ: الْإِنْكَارُ كَالَّذِي اقْتَضَتْهُ أَمْ الْأُولَى. وَهَذَا الِارْتِقَاءُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِأَنَّ ظَنَّهُمْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُسَاوِينَ لِلْفُجَّارِ فِي أَحْوَالِ وُجُودِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَقْرِيرُهِ مِثْلَ مَا قَرَّرَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ. وَالْمُتَّقُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَانَتِ التَّقْوَى شِعَارَهُمْ. وَالتَّقْوَى: مُلَازَمَةُ اتِّبَاعِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْفُجَّارُ: الَّذِينَ شِعَارُهُمُ الْفُجُورُ، وَهُوَ أَشَدُّ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْكُفْرُ وَأَعْمَالُهُ الَّتِي لَا تُرَاقِبُ أَصْحَابُهَا التَّقْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 42] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً إِلَى قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُس: 4، 5] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِطْنَابِ زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ وَالتَّفْظِيعِ عَلَى الَّذِينَ ظَنُّوا ظَنًّا يُفْضِي إِلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ شَيْئًا مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا فَإِنَّ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دَلَالَةِ الْأَضْعَفِ إِلَى دَلَالَةِ الْأَقْوَى وَفِي تَكْرِيرِ أَدَاةِ الْإِنْكَارِ شَأْنًا عَظِيمًا مِنْ فَضْحِ أَمر الضَّالّين.

[سورة ص (38) : آية 29]

[سُورَة ص (38) : آيَة 29] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) عَقِبَ الْإِمْعَانِ فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَتَجْهِيلِهِمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ بِحِكْمَةِ الْجَزَاءِ وَيَوْمِ الْحِسَابِ عَلَيْهِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْ خِطَابِهِمْ وَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهِ لَهُمْ مَقْنَعٌ، وَحِجَاجًا هُوَ لِشُبُهَاتِهِمْ مَقْلَعٌ، وَأَنَّهُ إِنْ حَرَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنْفُسَهَمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَفِي ذَلِكَ إِدْمَاجُ الِاعْتِزَازِ بِهَذَا الْكِتَابِ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَلِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَاهْتَدَى بِهَدْيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [5] . وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ مُعْتَرِضٌ وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ نَظَرٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] إِعَادَةً لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ كَمَا سَيُعَادُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا ذِكْرٌ [ص: 49] . فَقَوْلُهُ: كِتابٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا كِتَابٌ، وَجُمْلَةُ أَنْزَلْناهُ صِفَةُ كِتابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ أَنْزَلْناهُ صِفَةَ كِتابٌ ومُبارَكٌ خَبَرًا عَنْ كِتابٌ. وَتَنْكِيرُ كِتابٌ لِلتَّعْظِيمِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ مَعْلُومٌ فَمَا كَانَ تَنْكِيرُهُ إِلَّا لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَصْفُهُ بِجُمْلَةِ أَنْزَلْناهُ ومُبارَكٌ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ مُسَوِّغًا لِلِابْتِدَاءِ وَتَجْعَلَ جُمْلَةَ أَنْزَلْناهُ خَبَرًا أَوَّلَ ومُبارَكٌ خَبَرًا ثَانِيًا ولِيَدَّبَّرُوا مُتَعَلق بِ أَنْزَلْناهُ وَلَكِنْ لَا يُجْعَلُ كِتابٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَتُقَدِّرُهُ: هَذَا كِتَابٌ، إِذْ لَيْسَ هَذَا بِمَحَزٍّ كَبِيرٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ. وَالْمُبَارَكُ: الْمُنْبَثَّةُ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَهِيَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَكُلُّ آيَاتِ الْقُرْآنِ مُبَارَكٌ فِيهَا لِأَنَّهَا: إِمَّا مُرْشِدَةٌ إِلَى خَيْرٍ، وَإِمَّا صَارِفَةٌ عَنْ شَرٍّ وَفَسَادٍ، وَذَلِكَ سَبَبُ الْخَيْرِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَلَا بَرَكَةَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.

وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ قَلِيلِ اللَّفْظِ كَثِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي أُودِعَتْ فِيهِ بِحَيْثُ كُلَّمَا ازْدَادَ المتدبر تدبرا انكشفت لَهُ مَعَانٍ لَمْ تَكُنْ بادية لَهُ بادىء النَّظَرِ. وَأَقْرَبُ مَثَلٍ لِلتَّدَبُّرِ هُنَا هُوَ مَا مَرَّ آنِفًا مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 27، 28] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [82] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَدَّبَّرُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَأَصْلُ «يَدَّبَّرُوا» يَتَدَبَّرُوا، فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ لِتَخْفِيفِهِ وَهُوَ صِيغَةُ تُكَلُّفٍ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ: دَبَرَ بِوَزْنِ ضَرَبَ، إِذَا تَبِعَ، فَتَدَبَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ تَتَبَّعَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَتَعَقَّبُ ظَوَاهِرَ الْأَلْفَاظِ لِيَعْلَمَ مَا يَدْبِرُ ظَوَاهِرُهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَكْنُونَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ اللَّائِقَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [68] . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لِتَدَبَّرُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ وَأَصْلُهَا: لِتَتَدَبَّرُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالتَّذَكُّرُ: اسْتِحْضَارُ الذِّهْنِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَهُوَ صَادِقٌ بِاسْتِحْضَارِ مَا هُوَ مَنْسِيٌّ وَبِاسْتِحْضَارِ مَا الشَّأْنُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَهِمُّ الْعِلْمَ بِهِ، فَجَعَلَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ لِيَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ وَيَكْشِفُوا عَنْ غَوَامِضِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ فَإِنَّهُمْ عَلَى تَعَاقُبِ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى نِهَايَةٍ مِنْ مَكْنُونِهِ وَلِتَذَكُّرِهِمُ الْآيَةَ بِنَظِيرِهَا وَمَا يُقَارِبُهَا، وَلِيَتَذَكَّرُوا مَا هُوَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ وَمُوقِظٌ مِنْ غَفَلَاتِهِمْ. وَضَمِيرُ «يَدَّبَّرُوا» عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَائِد إِلَى أُولُوا الْأَلْبابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ لِلْفِعْلِ الْمُهْمَلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي التَّنَازُعِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَدَّبَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ آيَاتِهِ وَيَتَذَكَّرُوا، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فَإِسْنَادُ «يتَذَكَّر» إِلَى أُولُوا الْأَلْبابِ اكْتِفَاءٌ عَنْ وَصْفِ الْمُتَدَبِّرِينَ بِأَنَّهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ مُفْضٍ إِلَى التَّذَكُّر. وَالتَّذَكُّرُ مِنْ آثَارِ التَّدَبُّرِ فَوَصْفُ فَاعِلِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يُغْنِي عَنْ وَصْفِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْآخَرِ.

[سورة ص (38) : آية 30]

وأُولُو الْأَلْبابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ لَيْسُوا مَنْ أَهَّلِ الْعُقُولِ، وَأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فَهُمْ مِمَّنْ تَدَبَّرُوا آيَاتِهِ فَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْمَعَانِي مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَمَنْ قَرَأَهُ فَتَذَكَّرَ بِهِ مَا كَانَ عَلِمَهُ وَتَذَكَّرَ بِهِ حَقًّا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَاهُ، وَالْكَافِرُونَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فَلَا جَرَمَ فاتهم التَّذَكُّر. [30] [سُورَة ص (38) : آيَة 30] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) جُعِلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَنَاقِبِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ كَالتَّكْمِلَةِ لِقِصَّةِ دَاوُدَ. وَلَمْ يَكُنْ لِحَالِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَبَهٌ بِحَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ قِصَّتِهِ هُنَا مِثَالًا لحَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّهَا إِتْمَامٌ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى دَاوُدَ إِذْ أَعْطَاهُ سُلَيْمَانَ ابْنًا بَهْجَةً لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَوِرْثِ مُلْكِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ الْآيَةَ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ تُفْتَتَحْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بِعِبَارَةِ: وَاذْكُرْ، كَمَا افْتُتِحَتْ قِصَّةُ دَاوُدَ ثُمَّ قِصَّةُ أَيْوبَ، وَالْقَصَصُ بَعْدَهَا مُفَصَّلُهَا وَمُجْمَلُهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ مَوَاضِعِ أُسْوَةٍ وَعِبْرَةٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنِ افْتِرَاضِ الْإِرْشَادِ. وَمِنْ حُسْنِ الْمُنَاسِبَةِ لِذِكْرِ مَوْهِبَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ وُلِدَ لِدَاوُدَ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي عُوتِبَ دَاوُدُ لِأَجْلِ اسْتِنْزَالِ زَوْجِهَا أُورَيَا عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَتْ مَوْهِبَةُ سُلَيْمَانَ لِدَاوُدَ مِنْهَا مَكْرَمَةً عَظِيمَةً هِيَ أَثَرُ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لِدَاوُدَ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ الَّتِي يَقْتَضِي قَدَرُهُ تَجَنُّبَهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَتَحَقُّقُهُ لِتَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 40] فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَهَبَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الزَّوْجَةِ نَبِيئًا وَمَلِكًا عَظِيمًا. فَجُمْلَةُ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ [ص: 18] وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ. وَجُمْلَةُ نِعْمَ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ سُلَيْمانَ وَهِيَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَمَدْحٌ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَحَقُّوا عُنْوَانَ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَهُوَ الْعُنْوَانُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّقْرِيبُ بِالْقَرِينَةِ

[سورة ص (38) : الآيات 31 إلى 33]

كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [40، 41] . وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: سُلَيْمانَ وَالتَّقْدِيرُ: نِعْمَ الْعَبْدُ سُلَيْمَانُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِ نِعْمَ الْعَبْدُ. وَالْأَوَّابُ: مُبَالغَة فِي الآئب أَيْ كَثِيرِ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ مَادِحُهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَوْبِ إِلَى اللَّهِ: الْأَوْبُ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَيْ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُبْعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ تَذَكَّرَ فَآبَ، أَيْ فَتَابَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا فِي ذكر دَاوُد. [31- 33] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 31 إِلَى 33] إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) يَتَعَلَّقُ إِذْ عُرِضَ ب أَوَّابٌ [ص: 30] . وَتَعْلِيقُ هَذَا الظَّرْفِ بِ أَوَّابٌ تَعْلِيقُ تَعْلِيلٍ لِأَنَّ الظُّرُوفَ يُرَادُ مِنْهَا التَّعْلِيلُ كَثِيرًا لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَوَّابٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَطْ لِأَنَّ صِيغَةَ أَوَّابٍ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ. وَالْأَصْلُ مِنْهَا الْكَثْرَةُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ قِصَّةٍ مِنْ حَوَادِثِ أَوْبَتِهِ كَانَ لِأَنَّهَا يَنْجَلِي فِيهَا عِظَمُ أَوْبَتِهِ. وَالْعَرْضُ: الْإِمْرَارُ وَالْإِحْضَارُ أَمَامَ الرَّائِي، أَيْ عَرَضَ سُوَاسَ خَيْلِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِ. وَالْعَشِيُّ: مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [52] . وَذَلِكَ وَقْتُ افْتِقَادِ الْخَيْلِ وَالْمَاشِيَةِ بَعْدَ رَوَاحِهَا مِنْ مَرَاعِيهَا وَمَرَاتِعِهَا. وَذِكْرُ الْعَشِيِّ هُنَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ التَّوْقِيتِ بَلْ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، فَلَيْسَ ذِكْرُ الْعَشِيِّ فِي وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ كَوَقْعِهِ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: مُلُوكٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ ... يُسَاقُونَ الْعَشِيَّةَ يُقْتَلُونَا

والصَّافِناتُ: وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ لِدَلَالَةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّافِنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ وَالْأَفْرَاسِ وَهُوَ الَّذِي يَقِفُ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَطَرْفِ حَافِرِ الْقَائِمَةِ الرَّابِعَةِ لَا يُمَكِّنُ الْقَائِمَةَ الرَّابِعَةَ مِنَ الْأَرْضِ، وَتِلْكَ مِنْ عَلَامَاتِ خِفَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِ أَصْلِ الْفَرَسِ وَحُسْنِ خِلَالَهِ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفُرَسُ صُفُونًا، وَأَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالزَّجَّاجُ فِي صفة فرس: أَلِفَ الصُّفُونَ فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرًا (¬1) الْجِيادُ: جَمْعُ جَوَادٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ الْفَرَسُ ذُو الْجَوْدَةِ، أَيِ النَّفَاسَةِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ مُولَعًا بِالْإِكْثَارِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْفَرَسَانِ، فَكَانَتْ خَيْلُهُ تُعَدُّ بِالْآلَافِ. وَأَصْلُ تَرْكِيبِ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ: أَحْبَبْتُ الْخَيْرَ حُبًّا، فَحَوَّلَ التَّرْكِيبَ إِلَى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ فَصَارَ حُبَّ الْخَيْرِ تَمْيِيزًا لِإِسْنَادِ نِسْبَةِ الْمَحَبَّةِ إِلَى نَفْسِهِ لِغَرَضِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: 12] وَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: أَكْرِمْ بِهَا خَلَّةً وَقَوْلِهِمْ: لِلَّهِ دَرُّهُ فَارِسًا. وَضَمَّنَ أَحْبَبْتُ مَعْنَى عَوَّضْتُ، فَعُدِّيَ بِ عَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي فَصَارَ الْمَعْنَى: أَحْبَبْتُ الْخَيْرَ حُبًّا فَجَاوَزْتُ ذِكْرَ رَبِّي. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الرَّبِّ الصَّلَاةُ، فَلَعَلَّهَا صَلَاةٌ كَانَ رَتَّبَهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْعَشِيِّ لَيْسَتْ فِيهِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى إِلَّا الْمَغْرِبُ. والْخَيْرِ: الْمَالُ النَّفِيسُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 180] . وَالْخَيْلُ مِنَ الْمَالِ النَّفِيسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَيْرُ بِالرَّاءِ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَيل. وَالْعرب تعاقب بَيْنَ اللَّامِ وَالرَّاءِ كَمَا يَقُولُونَ: انْهَمَلَتِ الْعَيْنُ وَانْهَمَرَتْ. وَخَتَلَ وَخَتَرَ إِذَا خَدَعَ. ¬

(¬1) فِي هَذَا الْبَيْت إِشْكَال من جِهَة الْعَرَبيَّة إِذْ نصب كسيرا وَهُوَ فِي الْمَعْنى خبر كَأَن. وَخرج على أَنه جعله خبر (يزَال) على وَجه التَّشْبِيه البليغ. وأقحم (كَأَنَّهُ) لتقرر التَّشْبِيه. وَقد احتفل بِبَيَان هَذَا الْبَيْت ابْن الْحَاجِب فِي «أَمَالِيهِ» ، وَصَاحب الْكَشْف على «الْكَشَّاف» .

وَقُلْتُ: إِنَّ الْعَرَبَ مِنْ عَادَتِهِمُ التَّفَاؤُلُ وَلَهُمْ بِالْخَيْلِ عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى وَصَفُوا شِيَاتِهَا وَزَعَمُوا دَلَالَتَهَا عَلَى بَخْتٍ أَوْ نَحْسٍ فَلَعَلَّهُمْ سَمَّوْهَا الْخَيْرَ تَفَاؤُلًا لِتَتَمَحَّضَ لِلسَّعْدِ وَالْبَخْتِ. وَضَمِيرُ تَوارَتْ لِلشَّمْسِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْعَشِيِّ وَحَرْفِ الْغَايَةِ وَلَفْظِ الْحِجَابِ، عَلَى أَنَّ الْإِضْمَارَ لِلشَّمْسِ فِي ذِكْرِ الْأَوْقَاتِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. كَمَا قَالَ لَبِيدٌ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا أَيْ أَلْقَتِ الشَّمْسُ يَدَهَا فِي الظُّلْمَةِ، أَيْ أَلْقَتْ نَفْسَهَا فَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ بِبَعْضِ أَعْضَائِهَا. وَالتَّوَارِي: الِاخْتِفَاءُ، وَالْحِجَابُ: السَّتْرُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي تَحْتَجِبُ وَرَاءَهُ الْمَرْأَةُ وَغَيْرُهَا وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِتَوَارِي الْمَرْأَةِ وَرَاءَ الْحِجَابِ وَكُلٌّ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ مُسْتَعَارٌ فَلِلشَّمْسِ اسْتُعِيرَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَلِاخْتِفَائِهَا عَنِ الْأَنْظَارِ اسْتُعِيرَ التَّوَارِي، وَلِأُفُقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ اسْتُعِيرَ الْحِجَابُ. وَالْمَعْنَى: عُرِضَتْ عَلَيْهِ خَيْلُهُ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَاشْتَغَلَ بِأَحْوَالِهَا حُبًّا فِيهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَفَاتَتْهُ صَلَاةٌ كَانَ يُصليهَا فِي السَّمَاء قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَقَالَ عَقِبَ عَرْضِ الْخَيْلِ وَقَدِ انْصَرَفَتْ: إِنِّي أَحْبَبْتُ الْخَيْلَ فَغَفَلْتُ عَنْ صَلَاتِي لِلَّهِ. وَكَلَامُهُ هَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ كَقَوْلِ أُمِّ مَرْيَمَ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: 36] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ لِسَوَاسِ خَيْلِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْخَيْلِ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ أَرْجِعُوا الْخَيْلَ إِلَيَّ، وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَالْخِطَابُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَوْلَا كَثْرَةُ ذِكْرِهِ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ لَكَانَ الْأَوْلَى بِنَا عَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ، أَيْ هَلْ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَرُدُّوا الشَّمْسَ بَعْدَ غُرُوبِهَا، كَقَوْلِ مُهَلْهَلٍ:

يَا لِبَكْرٍ أَنْشِرُوا لِي كُلَيْبًا وَقَوْلِ الْحَارِثِ الضَّبِّيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الْجَمَلِ: رُدُّوا عَلَيْنَا شَيْخَنَا ثُمَّ بَجَّلَ يُرِيدُ: عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَا اسْتِبْعَادَ فِي هَذَا الْمَحْمَلِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَطَفِقَ تَعْقِيبِيَّةٌ، وَطَفِقَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، أَيْ فَشَرَعَ. ومَسْحاً مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْفِعْلِ، أَيْ طَفِقَ يَمْسَحُ مَسْحًا. وَحَرْفُ التَّعْرِيفِ فِي بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِسُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] . وَالْمَسْحُ حَقِيقَتُهُ: إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ لِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ غَبَشٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غُبَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُرَادُ بَقَاؤُهُ عَلَى الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِالْيَدِ وَبِخِرْقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَسْحُ مَجَازًا عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ يُقَالُ: مَسَحَهُ بِالسَّيْفِ. وَيُقَالُ: مَسَحَ السَّيْفَ بِهِ. وَلَعَلَّ أَصْلَهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ لِأَنَّ السَّيْفَ يُمْسَحُ عَنْهُ الدَّمُ بَعْدَ الضَّرْبِ بِهِ. وَالسُّوقُ: جَمْعُ سَاقٍ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ وَبِوَزْنِ فُعْلٍ مِثْلَ: دَارَ وَدُورٍ، وَوَزْنُ فُعْلٍ فِي جَمْعِ مِثْلِهِ قَلِيلٌ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ «السُّؤْقِ» بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ جَمْعُ: سَأْقٍ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي سَاقَ. والْأَعْناقِ: جَمْعُ عُنُقٍ وَهُوَ الرَّقَبَةُ. وَالْبَاءُ فِي بِالسُّوقِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ تَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَفِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جد النَّاس يضلح عَاثِرَا وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي عُنِيَ بِقَوْلِهِ: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ كَيْسَانَ وَقُطْرُبٍ: طَفِقَ يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَسُوقَهَا بِيَدِهِ حُبًّا لَهَا. وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى الْمُنَاسِبِ لِمَقَامِ نَبِيءٍ وَالْأَوْفَقِ بِحَقِيقَةِ

الْمَسْحِ وَلَكِنَّهُ يَقْتَضِي إِجْرَاءَ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْرَضَهَا وَانْصَرَفُوا بِهَا لِتَأْوِيَ إِلَى مَذَاوِدِهَا قَالَ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ إِكْرَامًا لَهَا وَلِحُبِّهَا. وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ مُعْتَرِضًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِلتَّعْجِيلِ بِذِكْرِ نَدَمِهِ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ ذِكْرِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ فِي الذُّهُولِ بَلْ بَادَرَ الذِّكْرَى بِمُجَرَّدِ فَوَاتِ وَقْتِ الذِّكْرِ الَّذِي اعْتَادَهُ، إِذْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ إِلَخْ مِنْ آثَارِ نَدَمِهِ وَتَحَسُّرِهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ ذِكْرِهِ نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ الرَّدِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ فَإِنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُوا وَقَدْ بَقِيَ مَا يَكْفِي مِنَ الْوَقْتِ لِلذِّكْرِ فَلَمَّا حَمَلَتْهُ بَهْجَتُهُ بِهَا عَلَى أَنْ أَمَرَ بِإِرْجَاعِهَا وَاشْتَغَلَ بِمَسْحِ أَعْنَاقِهَا وَسُوقِهَا خَرَجَ وَقْتُ ذِكْرِهِ فَتَنَدَّمَ وَتَحَسَّرَ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَالْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا نَدِمَ عَلَى اشْتِغَالِهِ بِالْخَيْلِ حَتَّى أَضَاعَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي وَقْتٍ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ أَمَرَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْخَيْلُ الَّتِي شَغَلَتْهُ فَجَعَلَ يُعَرْقِبُ سُوقَهَا وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهَا لِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْهَا مَعَ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا تَوْبَةً مِنْهُ وَتَرْبِيَةً لِنَفْسِهِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ وَإِضَاعَةٌ لِلْمَالِ فَأَجَابُوا: بِأَنَّهُ أَرَادَ ذَبحهَا ليأكلها الْفُقَرَاءُ لِأَنَّ أَكْلَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَهُمْ وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُهَا فَسَادًا فِي الْأَرْضِ. وَتَجَنَّبَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْوَجْهَ وَجَعَلَ الْمَسْحَ مُسْتَعَارًا لِلتَّوْسِيمِ بِسِمَةِ الْخَيْلِ الْمَوْقُوفَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِكَيِّ نَارٍ أَوْ كَشْطِ جِلْدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ الَّتِي عَلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ، فَشُبِّهَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ بِإِزَالَةِ الْمَسْحِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْمَمْسُوحِ مِنْ مُلْتَصِقٍ بِهِ، وَهَذَا أَسْلَمُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَعْزُوٌّ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ وَهَمَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ طَرَائِقِ تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَمَظَاهِرِ كَمَالِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ سَبَبًا فِي الْهَفْوَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَطَفِقَ تَعْقِيبًا عَلَى رُدُّوها عَلَيَّ وَعَلَى مَحْذُوفٍ بَعْدَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ فَطَفِقَ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ

[سورة ص (38) : الآيات 34 إلى 35]

فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] . وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ مِنْ مَقُولِ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ. [34- 35] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 34 إِلَى 35] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) قَدْ قُلْتُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ [ص: 30] أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ مَنَاقِبِ سُلَيْمَانَ لَمْ يَخْلُ مِنْ مَقَاصِدِ ائْتِسَاءٍ وَعِبْرَةٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي ابْتِدَارِ وَسَائِلِ الْإِرْشَادِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَكَذَلِكَ كَانَتِ الْآيَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِنَدَمِهِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخَيْلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مَوقِعَ أُسْوَةٍ بِهِ فِي مُبَادَرَةِ التَّوْبَةِ وَتَحْذِيرٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ غَفْلَتِهِ، وَكَذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُشِيرَةً إِلَى فِتْنَةٍ عَرَضَتْ لِسُلَيْمَانَ أَعْقَبَتْهَا إِنَابَةٌ ثُمَّ أَعْقَبَتْهَا إِفَاضَةُ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ فَذُكِرَتْ عَقِبَ ذِكْرِ قِصَّةِ مَا نَالَهُ مِنَ السَّهْوِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَهُوَ دُونَ الْفِتْنَةِ. وَالْفَتْنُ وَالْفُتُونُ وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَالِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ مِقْدَارُ صَبْرِ وَثَبَاتِ مَنْ يَحِلُّ بِهِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى حَدَثٍ عَظِيمٍ حَلَّ بِسُلَيْمَانَ، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ فَذَكَرُوا قَصَصًا هِيَ بِالْخُرَافَاتِ أَشْبَهُ، وَمَقَامُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَمْثَالِهَا أَنْزَهُ. وَمِنْ أَغْرَبِهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَخَافَ عَلَيْهِ النَّاسَ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَاسْتَوْدَعَهُ الرِّيحَ لِتَحْضُنَهُ وَتُرْضِعَهُ دَرَّ مَاءِ الْمُزْنِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَصَابَهُ الْمَوْتُ وَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا مَرَدَّ لِمَحْتُومِ الْمَوْتِ. وَهَذَا مَا نَظَمَهُ الْمَعَرِّيُّ تَبَعًا لِأَوْهَامِ النَّاسِ فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ: خَافَ غَدْرَ الْأَنَامِ فَاسْتَوْدَعَ الرِّي ... حَ سَلِيلًا تَغْذُوهُ دَرَّ الْعِهَادِ وَتَوَخَّى النَّجَاةَ وَقَدْ أَيْ ... قَنَ أَنَّ الْحِمَامَ بِالْمِرَصَادِ

فَرَمَتْهُ بِهِ عَلَى جَانِبِ الْكُرْ ... سِيِّ أُمُّ اللُّهَيْمِ أُخْتُ النَّآدِ (¬1) وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ لِيَرْتَبِطَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنابَ بِذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قِصَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ قِصَّةِ فِتْنَتِهِ. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ إِشَارَةً إِلَى مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلم تحمل مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَأَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . وَلَيْسَ فِي كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا وَضَعَ الْبُخَارِيُّ وَلَا التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ كِتَابَيْهِمَا. قَالَ جَمَاعَةٌ: فَذَلِكَ النِّصْفُ مِنَ الْإِنْسَانِ هُوَ الْجَسَدُ الْمُلْقَى عَلَى كُرْسِيِّهِ جَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ فَأَلْقَتْهُ لَهُ وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَالْفِتْنَةُ عَلَى هَذَا خَيْبَةُ أَمَلِهِ وَمُخَالَفَةُ مَا أَبْلَغَهُ صَاحِبُهُ. وَإِطْلَاقُ الْجَسَدِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْلُودِ إِمَّا لِأَنَّهُ وُلِدَ مَيِّتًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: «شِقِّ رَجُلٍ» ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ خِلْقَةً غَيْرَ مُعْتَادَةٍ فَكَانَ مُجَرَّدَ جَسَدٍ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ الشِّقَّ الَّذِي وَلَدَتْهُ الْمَرْأَةُ كَانَ حَيًّا وَلَا أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. وَتَرْكِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ تَكَلُّفٌ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ ابْنَةَ مَلِكِ صَيْدُونَ بَعْدَ أَنْ غَزَا أَبَاهَا وَقَتَلَهُ فَكَانَتْ حَزِينَةً عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ شَغَفَ بِحُبِّهَا فَسَأَلَتْهُ لِتَرْضَى أَنْ يَأْمُرَ الْمُصَوِّرِينَ لِيَصْنَعُوا صُورَةً لِأَبِيهَا فَصُنِعَتْ لَهَا فَكَانَتْ تَغْدُو وَتَرُوحُ مَعَ وَلَائِدِهَا يَسْجُدْنَ لِتِلْكَ الصُّورَةِ فَلَمَّا عَلِمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ أَمَرَ بِذَلِكَ التِّمْثَالِ فَكُسِرَ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَعْبُدُ صَنَمًا لَهَا مِنْ يَاقُوتٍ خُفْيَةً فَلَمَّا فَطِنَ سُلَيْمَانُ أَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ تُرِكَ ذَلِكَ الصَّنَمُ. ¬

(¬1) اللهيم كزبير: الداهية: والنّآد كسحاب: الداهية أَيْضا.

وَهَذَا الْقَوْلُ مُخْتَزَلٌ مِمَّا وَقَعَ فِي «سِفْرِ الْمُلُوكِ» الْأَوَّلِ مِنْ كُتُبٍ الْيَهُودِ إِذْ جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ: وَأَحَبَّ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كُثَيْرَةَ بِنْتَ فِرْعَوْنَ وَمَعَهَا نِسَاءٌ مُؤَابَيَاتٌ وَعَمُونِيَّاتٌ، وَأَدُومِيَّاتٌ وَصَيْدَوَنِيَّاتٌ وَحَثَيَاتٌ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: لَا تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ. فَبَنَى هَيْكَلًا لِلصَّنَمِ (كَمُوشَ) صَنَمِ الْمُؤَابِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورْشَلِيمَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ لَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي فَإِنِّي أُمَزِّقُ مَمْلَكَتَكَ بَعْدَكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ وَلَا أُعْطِي ابْنَكَ إِلَّا سِبْطًا وَاحِدًا إِلَخْ. وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ اجْتَهَدَ وَسَمَحَ لِنِسَائِهِ الْمُشْرِكَاتِ أَنْ يَعْبُدْنَ أَصْنَامَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ الَّتِي هِيَ بُيُوتُهُ أَوْ بَنَى لَهُنَّ مَعَابِدَ يَعْبُدْنَ فِيهَا فَلَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَاحَ لَهُ تَزَوُّجَ الْمُشْرِكَاتِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِنَبِيءٍ أَنْ يَسْمَحَ لِنِسَائِهِ بِذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لِعَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ وَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ تَأَوَّلَ أَنَّ ذَلِكَ قَاصِرٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يَتَجَاوَزُ إِلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجَسَدِ الصَّنَمَ لِأَنَّهُ صُورَةٌ بِلَا رُوحٍ كَمَا سَمَّى اللَّهُ الْعِجْلَ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ جَسَدًا فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [طه: 88] . وَيَكُونُ مَعْنَى إِلْقَائِهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ نَصْبَهُ فِي بُيُوتِ زَوْجَاتِهِ الْمُشْرِكَاتِ بِقُرْبٍ مِنْ مَوَاضِعِ جُلُوسِهِ إِذْ يَكُونُ لَهُ فِي كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ. وَعُطِفَ ثُمَّ أَنابَ بِحَرْفِ ثُمَّ الْمُفِيدِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْإِنَابَةِ أَعْظَمُ ذِكْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص: 32] . وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ. وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَنابَ لِأَنَّ الْإِنَابَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى تَرَقُّبِ الْعَفْوِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ مِمَّا لَا يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى صُدُورَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ. وَإِرْدَافُهُ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ بِاسْتِيهَابِ مُلْكٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّهُ تَوَقَّعَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَمْرَيْنِ: الْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَسَلْبَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا إِذْ قَصَّرَ فِي شُكْرِهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَوْمَئِذٍ فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ فَسُؤَالُ مَوْهِبَةِ الْمُلْكِ مُرَادٌ بِهِ اسْتِدَامَةُ

ذَلِكَ الْمُلْكِ وَصِيغَةُ الطَّلَبِ تَرِدُ لِطَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَتَنْكِيرُ مُلْكاً لِلتَّعْظِيمِ. وَارْتَقَى سُلَيْمَانُ فِي تَدَرُّجِ سُؤَالِهِ إِلَى أَنْ وَصَفَ مُلْكًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ أَحَدًا يَبْتَغِيهِ مِنْ بَعْدِهِ. فَكَنَّى بِ لَا يَنْبَغِي عَنْ مَعْنَى لَا يُعْطَى لِأَحَدٍ، أَيْ لَا تُعْطِيهِ أَحَدًا مِنْ بَعْدِي. فَفِعْلُ: يَنْبَغِي مُطَاوِعُ بَغَاهُ، يُقَالُ: بَغَاهُ فَانْبَغَى لَهُ وَلَيْسَ لِلْمُلْكِ اخْتِيَارٌ وَانْبِغَاءٌ وَإِنَّمَا اللَّهُ هُوَ الْمُعْطِي وَالْمُيَسِّرُ فَإِسْنَادُ الِانْبِغَاءِ إِلَى الْمُلْكِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَحَقِيقَتُهُ: انْبِغَاءُ سَبَبِهِ. وَهَذَا مِنَ التَّأَدِّي فِي دُعَائِهِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: لَا تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ بَعْدِي. وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ لَا يُقِيمَ لَهُ مُنَازِعًا فِي مُلْكِهِ وَأَنْ يُبْقِيَ لَهُ ذَلِكَ الْمُلْكَ إِلَى مَوْتِهِ، فَاسْتَجَابَ فَكَانَ سُلَيْمَانُ يَخْشَى ظُهُورَ عَبْدِهِ (يَرْبَعَامَ بْنِ نَبَاطَ) مِنْ سِبْطِ أَفْرَايِمْ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ أَظْهَرَ الْكَيْدَ لِسُلَيْمَانَ فَطَلَبَهُ سُلَيْمَانُ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ إِلَى (شَيْشَقَ) فِرْعَوْنِ مِصْرَ وَبَقِيَ فِي مِصْرَ إِلَى وَفَاةِ سُلَيْمَانَ. فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا حَمَلَ سُلَيْمَانَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَثْبِيتَ مُلْكِهِ وَأَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَحَدًا غَيْرَهُ. وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَدُوَّانِ آخَرَانِ هُمَا (هدد) الأدومي و (رزون) مِنْ أهل صرفة مقيمين فِي تِخُومِ مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ فَخَشِيَ أَنْ يكون الله هيأ هما لِإِزَالَةِ مُلْكِهِ. وَاسْتُعْمِلَ مِنْ بَعْدِي فِي مَعْنَى: مِنْ دُونِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] ، فَيَكُونُ مَعْنَى لَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ غَيْرِي، أَيْ فِي وَقْتِ حَيَاتِي فَهَذَا دُعَاءٌ بِأَنْ لَا يُسَلط أحد عَلَى مُلْكِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَكُونُ فِي سُؤَالِهِ هَذَا الْمُلْكَ شَيْءٌ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَنْ لَا يَنَالَ غَيْرُهُ مِثْلَ مَا نَالَهُ هُوَ فَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ مِنَ الْحَسَدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى مِنْ بَعْدِي عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ بَعْدَ حَيَاتِي. فَمَعْنَى لَا يَنْبَغِي: لَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ لِأَحَدٍ بَعْدَ وَفَاتِي. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ مِنْ سُؤَالِهِ الْإِشْفَاقَ

مِنْ أَنْ يَلِيَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُلْكَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ النُّبُوءَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِصْمَةِ مَا يَضْطَلِعُ بِهِ لِأَعْبَاءِ مُلْكٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْمُلْكِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ النُّفُوذِ عَلَى أُمَّتِهِ مَا لِسُلَيْمَانَ عَلَى أُمَّتِهِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُحْسَدَ عَلَى الْمُلْكِ فَيَنْجُمُ فِي الْأُمَّةِ مُنَازِعُونَ لِلْمَلِكِ عَلَى مُلْكِهِ، فَيَنْتَفِي أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِيهَامُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعْطَى أَحَدٌ غَيْرُهُ مِثْلَ مُلْكِهِ (مِمَّا تُشَمُّ مِنْهُ رَائِحَةُ الْحَسَدِ) . وَقَدْ تَضَمَّنَتْ دَعْوَتُهُ شَيْئَيْنِ: هُمَا أَنْ يُعْطَى مُلْكًا عَظِيمًا، وَأَنْ لَا يُعْطَى غَيْرُهُ مِثْلَهُ فِي عَظَمَتِهِ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ دُعَاءَ سُلَيْمَانَ وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ أَلْهَمَهُ إِيَّاهُ، وَأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ دَعْوَتَهُ تَعْرِيفًا بِرِضَاهُ عَنْهُ وَبِأَنَّهُ جَعَلَ اسْتِجَابَتَهُ مَكْرُمَةَ تَوْبَتِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي مَلِكٌ بَعْدَهُ لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ جَمِيعُ مَا لِسُلَيْمَانَ فَإِن ملك سُلَيْمَان عمّ التَّصَرُّف فِي الْجِنّ وتسخير الرّيح وَالطير، ومجموع ذَلِك لم يحصل لأحد من بعده. وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: «رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا» . وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ عِلَّةٌ لِلسُّؤَالِ كُلِّهِ وَتَمْهِيدٌ لِلْإِجَابَةِ، فَقَامَتْ (إِنَّ) مَقَامَ حَرْفِ التَّفْرِيعِ وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَهَّابُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَهَبُ الْكَثِيرَ وَالْعَظِيمَ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ تُفِيدُ شِدَّةَ الْكَمِّيَّةِ أَوْ شِدَّةَ الْكَيْفِيَّةِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا بِقَرِينَةِ مَقَامِ الدُّعَاءِ، فَمَغْفِرَةُ الذَّنْبِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الْعَظِيمَةِ لِمَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَإِعْطَاءُ مِثْلِ هَذَا الْمُلْكِ هُوَ هِبَةٌ عَظِيمَةٌ. وأَنْتَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَأَفَادَ الْفَصْلُ بِهِ قَصْرًا فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنْتَ الْقَوِيُّ الْمَوْهِبَةِ لَا غَيْرَكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَهَبُ مَا لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ أَن يَهبهُ.

[سورة ص (38) : الآيات 36 إلى 38]

[سُورَة ص (38) : الْآيَات 36 إِلَى 38] فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) اقْتَضَتِ الْفَاءُ وَتَرْتِيبُ الْجُمَلِ أَنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ وَتَسْخِيرَ الشَّيَاطِينِ كَانَا بَعْدَ أَنْ سَأَلَ اللَّهَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَعْطَاهُ هَاتَيْنِ الْمَوْهِبَتَيْنِ زِيَادَةً فِي قُوَّةِ مُلْكِهِ وَتَحْقِيقًا لِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ غَيْرِهِ وَلَمْ يَسْأَلِ الزِّيَادَةَ فِيمَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْمُلْكِ. وَلَعَلَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ هَاتَيْنِ الْمَوْهِبَتَيْنِ وَأَنْ لَا يُعْطِيَهُمَا أَحَدًا بَعْدَهُ حَتَّى إِذَا أَعْطَى أَحَدًا بَعْدَهُ مُلْكًا مِثْلَ مُلْكِهِ فِيمَا عَدَا هَاتَيْنِ الْمَوْهِبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخْلَفَ إِجَابَتَهُ. وَالتَّسْخِيرُ الْإِلْجَاءُ إِلَى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيَارٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لتكوين أَسبَاب صرف الرِّيحِ إِلَى الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ سُلَيْمَانُ تَوْجِيهَ سُفُنِهِ إِلَيْهَا لِتَكُونَ مُعِينَةً سُفُنَهُ عَلَى سُرْعَةِ سَيْرِهَا، وَلِئَلَّا تُعَاكِسَ وِجْهَةَ سُفُنِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ فِي سُورَة سبأ [12] . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [81] . وَاللَّامُ فِي لَهُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِهِ، أَيْ ذَلِكَ التَّسْخِيرُ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ بِأَنْ جَعَلَ تَصْرِيفَ الرِّيَاحِ مُقَدَّرًا عَلَى نَحْوِ رَغْبَتِهِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ مُسْتَعَارٌ لِلرَّغْبَةِ أَوْ لِلدُّعَاءِ بِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ الرِّيحُ مُتَّجِهَةً إِلَى صَوْبِ كَذَا حَسَبِ خُطَّةِ أَسْفَارِ سَفَائِنِهِ، أَوْ يَرْغَبَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَيَصْرِفَ اللَّهُ الرِّيحَ إِلَى مَا يُلَائِمُ رَغْبَتَهُ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِالْخَفِيَّاتِ. وَالرُّخَاءُ: اللَّيِّنَةُ الَّتِي لَا زَعْزَعَةَ فِي هُبُوبِهَا. وَانْتَصَبَ رُخاءً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَجْرِي أَيْ تَجْرِي بِأَمْرِهِ لَيِّنَةً مُسَاعِدَةً لِسَيْرِ السُّفُنِ وَهَذَا مِنَ التَّسْخِيرِ لِأَنَّ شَأْنَ الرِّيحِ أَنْ تَتَقَلَّبَ كَيْفِيَّاتُ هُبُوبِهَا، وَأَكْثَرُ مَا تَهُبُّ أَنْ تَهُبَّ شَدِيدَةً عَاصِفَةً، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [81] : وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً وَمَعْنَاهُ: سَخَّرْنَا

لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الَّتِي شَأْنُهَا الْعُصُوفُ، فَمَعْنَى فَسَخَّرْنا لَهُ جَعَلْنَاهَا لَهُ رُخَاءً. فَانْتَصَبَ عاصِفَةً فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الرِّيحَ وَهِيَ حَالٌ مُنْتَقِلَةٌ. وَلَمَّا أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ عُلِمَ أَنَّ عَصْفَهَا يَصِيرُ إِلَى لِينٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، أَيْ دُعَائِهِ، أَوْ بعزمه، أَو رغبته لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ لَهُ أَنْ تَكُونَ عَاصِفَةً بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَهَذَا وَجْهُ دَفْعِ التَّنَافِي بَيْنَ الْحَالَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ. وأَصابَ مَعْنَاهُ قَصَدَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّوْبِ، أَيِ الْجِهَةِ، أَيْ تَجْرِي إِلَى حَيْثُ أَيِّ جِهَةٍ قَصَدَ السَّيْرَ إِلَيْهَا. حَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: «أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ» أَيْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَلَمْ يُصِبْ. وَقِيلَ: هَذَا اسْتِعْمَالٌ لَهَا فِي لُغَةِ حِمْيَرَ، وَقِيلَ فِي لُغَةِ هَجَرَ. والشَّياطِينَ جَمْعُ شَيْطَانٍ، وَحَقِيقَتُهُ الْجِنِّيُّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا لِلْبَالِغِ غَايَةَ الْمَقْدِرَةِ وَالْحِذْقِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نبيء عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: 112] ، فَسَخَّرَ اللَّهُ النَّوْعَ الْأَوَّلَ لِسُلَيْمَانَ تَسْخِيرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ فَهُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ فِي الْأُمُورِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَفِيَّةِ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ جِنْسِهِمْ إِيجَادُ الصِّنَاعَاتِ الْمُتْقَنَةِ كَالْبِنَاءِ، وَسَخَّرَ النَّوْعَ الثَّانِي لَهُ تَسْخِيرَ إِذْلَالٍ وَمَغْلُوبِيَّةٍ لِعِظَمِ سُلْطَانِهِ وَإِلْقَاءِ مَهَابَتِهِ فِي قُلُوبِ الْأُمَمِ فَكَانُوا يَأْتُونَ طَوْعًا لِلِانْضِوَاءِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ كَمَا فَعَلَتْ بِلْقِيسُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّياطِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وكُلَّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، أَيْ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ مِنْهُمْ، أَي مِنَ الشَّيَاطِينِ. وكُلَّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثِيرِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ الْفَصِيحِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 97] وَقَالَ: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النَّحْل: 69] . وَقَالَ النَّابِغَةُ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

وَالْبَنَّاءُ: الَّذِي يَبْنِي وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَصُوغٌ عَلَى زِنَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلِدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الصِّنَاعَةِ مِثْلُ نَجَّارٍ وَقَصَّارٍ وَحَدَّادٍ. وَالْغَوَّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ فِي الْبَحْرِ لِاسْتِخْرَاجِ مَحَارِ اللُّؤْلُؤِ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا صِيغَ عَلَى وَزْنِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الصِّنَاعَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ [الْأَنْبِيَاء: 82] . وَقَدْ بَلَغَتِ الصِّنَاعَةُ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ مَبْلَغًا مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْجَوْدَةِ وَالْجَلَالِ، وَنَاهِيكَ بِبِنَاءِ هَيْكَلِ أُورْشَلِيمَ وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَمَا جُلِبَ إِلَيْهِ مِنْ مَوَادِّ إِقَامَتِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الصَّرْحُ الَّذِي أَقَامَهُ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِيهِ مَمْلَكَةُ سَبَأٍ. وآخَرِينَ عَطْفٌ عَلَى كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ. وَجَمْعُ آخَرٍ بِمَعْنَى مُغَايِرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُغَايَرَةُ فِي النَّوْعِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْجِنِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُغَايَرَةُ فِي الصِّفَةِ، أَيْ غَيْرَ بَنَّائِينَ وَغَوَّاصِينَ. وَقَدْ كَانَ يُجْلَبُ مِنَ الْمَمَالِكِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ وَالدَّاخِلَةِ تَحْتَ ظِلِّ سُلْطَانِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بِنَاءِ الْقُصُورِ وَالْحُصُونِ وَالْمُدُنِ وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُ عَظِيمَةً وَكُلُّ الْمُلُوكِ يَخْشَوْنَ بَأْسَهُ وَيُصَانِعُونَهُ. وَالْمُقَرَّنُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ قَرَنَهُ مُبَالَغَةً فِي قَرْنِهِ أَيْ جَعْلُهُ قَرِينًا لِغَيْرِهِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ. والْأَصْفادِ: جَمْعُ صَفَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْقَيْدُ. يُقَالُ: صَفَّدَهُ، إِذَا قَيَّدَهُ. وَهَذَا صِنْفٌ مِمَّنْ عُبِّرَ عَنْهُمْ بِالشَّيَاطِينِ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ يُخْشَى تَفَلُّتُهُ وَيُرَامُ أَنْ يَسْتَمِرَّ يَعْمَلُ أَعْمَالًا لَا يُجِيدُهَا غَيْرُهُ فَيُصَفَّدُ فِي الْقُيُودِ لِيَعْمَلَ تَحْتَ حِرَاسَةِ الْحُرَّاسِ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الْمُلُوكِ يَجْعَلُونَ أَصْحَابَ الْخَصَائِصِ فِي الصِّنَاعَاتِ مَحْبُوسِينَ حَيْثُ لَا يَتَّصِلُونَ بِأَحَدٍ لِكَيْلَا يَسْتَهْوِيَهُمْ جَوَاسِيسُ مُلُوكٍ آخَرِينَ يَسْتَصْنِعُونَهُمْ لِيَتَخَصَّصَ أَهْلُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ بِخَصَائِصِ تِلْكَ الصِّنَاعَاتِ فَلَا تُشَارِكُهَا فِيهَا مَمْلَكَةٌ أُخْرَى وَبِخَاصَّةٍ فِي صُنْعِ آلَاتِ الْحَرْبِ مِنْ سُيُوفٍ وَنِبَالٍ وَقِسِيٍّ وَدَرَقٍ وَمِجَانٍ وَخُوَذٍ وَبَيْضَاتٍ وَدُرُوعٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ

[سورة ص (38) : آية 39]

حَقِيقَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنَ التَّفَلُّتِ. وَقَدْ كَانَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ مُشْتَهِرًا بِصُنْعِ الدُّرُوعِ السَّابِغَاتِ الْمُتْقَنَةِ. يُقَالُ: دُرُوعٌ سُلَيْمَانِيَّةٌ. قَالَ النَّابِغَةُ: وَكُلُّ صَمُوتٍ نَثْلَةٍ تُبَّعِيَّةٍ ... وَنَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قَمْصَاءَ ذَائِلِ أَرَادَ نَسْجَ سُلَيْمَانَ، أَيْ نسج صنّاعه. [39] [سُورَة ص (38) : آيَة 39] هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّسْخِيرِ الْمُسْتَفَاد من فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ [ص: 36] إِلَى قَوْله: وَالشَّياطِينَ [ص: 37] أَيْ هَذَا التَّسْخِيرُ عَطَاؤُنَا. وَالْإِضَافَةُ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُضَافِ لِانْتِسَابِهِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا عَطَاءٌ عَظِيمٌ أَعْطَيْنَاكَهُ. وَالْعَطَاءُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُعْطَى مِثْلُ الْخَلْقِ بِمَعْنى الْمَخْلُوق. و «اُمْنُنْ» أَمْرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَنِّ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْأَنْعَامِ، أَيْ فَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شِئْتَ بِالْإِطْلَاقِ، أَوْ أَمْسِكْ فِي الْخِدْمَةِ مَنْ شِئْتَ. فَالْمَنُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِطْلَاق بِلَازِم اللَّام، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [مُحَمَّد: 4] . وَجَمُلَتَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَطاؤُنا وَقَولِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ. وَالتَّقْدِيمُ لِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ بِالنِّعْمَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص: 57] وَقَولُ عَنْتَرَةَ: وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ المكرم وَقَول بِشَارَة: كَقَائِلَةٍ إِنَّ الْحِمَارَ فَنَحِّهِ ... عَنِ الْقَتِّ أَهلُ السِّمْسِمِ الْمُتَهَذِّبِ مَجَازًا وَكِنَايَةً فِي التَّحْدِيدِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ هَذَا عَطَاؤُنَا غَيْرَ مُحَدَّدٍ وَلَا مُقَتَّرٍ فِيهِ، أَيْ عَطَاؤُنَا وَاسِعًا وَافِيًا لَا تَضْيِيقَ فِيهِ عَلَيْكَ.

[سورة ص (38) : آية 40]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حِسابٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ «امْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ» . وَيَكُونَ الْحِسَابُ بِمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَالْمَعْنَى: امْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْكَ فِيمَنْ مَنَنْتَ عَلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ إِنْ كَانَ مُفْسِدًا، وَلَا فِيمَنْ أَمْسَكْتَهُ فِي الْخِدْمَةِ إِنْ كَانَ صَالحا. [40] [سُورَة ص (38) : آيَة 40] وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَبَيَانُ نُكْتَةِ التَّأْكِيدِ بِحرف إِنَّ. [41- 42] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 41 إِلَى 42] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) هَذَا مَثَلٌ ثَانٍ ذُكِّرَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةً بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] وَلِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْمَثَلِ أُعِيدَ مَعَهُ فِعْلُ اذْكُرْ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص: 17] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَتَرْجَمَةُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَإِذْ كَانَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ اذْكُرْ إِلَى اسْمِ أَيُّوبَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَذَكُّرُ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ أَيُّوبَ لِأَنَّ زَمَنَ نِدَائِهِ رَبَّهُ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ أَيُّوبَ. وَخُصَّ هَذَا الْحَالُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ مَظْهَرُ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِجَابَةِ اللَّهِ دُعَاءَهُ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ. وَالنِّدَاءُ: نِدَاءُ دُعَاءٍ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يُفْتَتَحُ بِ: يَا رَبِّ، وَنَحْوِهِ. وأَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ مُتَعَلِّقٌ بِ نَادَى بِحَذْفِ الْبَاءِ الْمَحْذُوفَةِ مَعَ (أَنَّ) ، أَيْ نَادَى: بِأَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نَادَى رَبَّهُ وَلَوْلَا وُجُودِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الَّتِي تُصَيِّرُ الْجُمْلَةَ فِي مَوْقِعِ الْمُفْرَدِ لَكَانَتْ جُمْلَةً مُبَيِّنَةً لِجُمْلَةِ نَادَى، وَلَمَا احْتَاجَتْ إِلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ لِيَتَعَدَّى إِلَيْهَا فِعْلُ نَادَى وَخَاصَّةً حَيْثُ خَلَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ حَرْفِ نِدَاءٍ. فَقَوْلُهُمْ: إِنَّهَا مَجْرُورَةٌ بِبَاءٍ مُقَدَّرَةٍ

جَرَى عَلَى اعْتِبَارَاتِ الْإِعْرَابِ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَوْقِعِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ وَمَوْقِعِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةَ وَلِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ اطَّرَدَ وَجْهَا فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا فِي نَحْوِ «خَيْرُ الْقَوْلِ أَنِّيَ أَحْمَدُ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: 9] رَأَيْنَا فِي كَوْنِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ مُرَكَّبَةً مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ (وَأَنَّ) النَّاسِخَةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ وَالشِّكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: 36] ، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [83] أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَالنُّصْبُ، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ: الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي نَصَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ النَّصَبُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِنُصْبٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَهُوَ ضَمُّ إِتْبَاعٍ لِضَمِّ النُّونِ. وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَرَضُ يَعْنِي: أَصَابَنِيَ الشَّيْطَانُ بِتَعَبٍ وَأَلَمٍ. وَذَلِكَ مِنْ ضُرٍّ حَلَّ بِجَسَدِهِ وَحَاجَةٍ أَصَابَتْهُ فِي مَالِهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الْأَنْبِيَاء: 83] . وَظَاهِرُ إِسْنَادِ الْمَسِّ بِالنُّصْبِ وَالْعَذَابِ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَسَّ أَيُّوبَ بِهِمَا، أَيْ أَصَابَهُ بِهِمَا حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ النُّصْبَ وَالْعَذَابَ هُمَا الْمَاسَّانِ أَيُّوبَ، فَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [83] أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ فَأَسْنَدَ الْمَسَّ إِلَى الضُّرِّ، وَالضُّرُّ هُوَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ. وَتَرَدَّدَتْ أَفْهَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى إِسْنَادِ الْمَسِّ بِالنُّصْبِ وَالْعَذَابِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بَنِي آدَمَ بِغَيْرِ الْوَسْوَسَةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ مُكَرَّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا مِنْ آثَارِهَا. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ تَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ وَفِي أَكْثَرِهَا سَمَاجَةٌ وَكُلُّهَا مَبْنِيٌّ عَلَى حَمْلِهِمُ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِنُصْبٍ عَلَى أَنَّهَا بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ مَسَّنِيَ، أَوْ بَاءُ الْآلَةِ مِثْلُ: ضَرَبَهُ بالعصا، أَو يؤول النُّصْبُ وَالْعَذَابُ إِلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ أَعْطَى. وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنْ تُحْمَلَ الْبَاءُ عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ بِجَعْلِ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ مُسَبِّبَيْنِ

لِمَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، أَيْ مَسَّنِي بِوَسْوَاسٍ سَبَبُهُ نُصْبٌ وَعَذَابٌ، فَجَعَلَ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ إِلَى أَيُّوبَ بِتَعْظِيمِ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ عِنْدَهُ وَيُلْقِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ الْعَذَابِ لِيُلْقِيَ فِي نَفْسِ أَيُّوبَ سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ أَوِ السُّخْطَ مِنْ ذَلِكَ. أَوْ تُحْمَلُ الْبَاءُ عَلَى الْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مَسَّنِي بِوَسْوَسَةٍ مُصَاحِبَةٍ لِضُرٍّ وَعَذَابٍ، فَفِي قَوْلِ أَيُّوبَ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ كِنَايَةٌ لَطِيفَةٌ عَنْ طَلَبِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَرُفِعَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا صَارَا مَدْخَلًا لِلِشَّيْطَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَطَلَبُ الْعِصْمَةِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يُوسُف: 33] . وَتَنْوِينُ «نُصْبٍ وَعَذَابٍ» لِلِتَّعْظِيمِ أَوْ لِلِنَّوْعِيَّةِ، وَعَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِهِمَا لِأَنَّهُمَا مَعلُومَانِ لِلَّهِ. وَجُمْلَةُ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ إِلَخْ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْنَا لَهُ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، وَذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ هَذَا اسْتِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ. وَالرَّكْضُ: الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ بِالرَّجْلِ، فَقَوْلُهُ: بِرِجْلِكَ زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْفِعْلِ مِثْلَ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ اسْتِجَابَةً فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [84] إِذْ قَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وَجُمْلَةُ هَذَا مُغْتَسَلٌ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقُولُ الْأَوَّلُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ. فَالتَّقْدِيرُ: فَرَكَضَ الْأَرْضَ فَنَبَعَ مَاءٌ فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَاءٍ لِأَنَّهُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ وَيُشْرَبُ. وَوَصَفُ الْمَاءِ بِذَلِكَ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِيهِ شِفَاؤُهُ إِذَا اغْتَسَلَ بِهِ وَشَرِبَ مِنْهُ لِيَتَنَاسَبَ قَولُ اللَّهِ لَهُ مَعَ نِدَائِهِ رَبَّهُ لِظُهُورِ أَنَّ الْقَوْلَ عَقِبَ النِّدَاءِ هُوَ قَولُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ مِنَ الْمَدْعُوِّ. ومُغْتَسَلٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْلِ اغْتَسَلَ، أَيْ مُغْتَسَلٌ بِهِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَإِيصَالُ الْمُغْتَسَلِ الْقَاصِرِ إِلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ: تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا

[سورة ص (38) : آية 43]

وَوَصْفُهُ بِ بارِدٌ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بِهِ زَوَالُ مَا بِأَيُّوبَ مِنَ الْحُمَّى مِنَ الْقُرُوحِ. قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ» ، أَيْ نَافِعٌ شَافٍ، وَبِالتَّنْوِينِ اسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِ شَرابٌ إِذْ مِنَ الْمَعلُومِ أَنَّ الْمَاءَ شَرَابٌ فَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّعْظِيمِ بِالتَّنْوِينِ لَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ شَرَابٌ إِخْبَارًا بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَمُرْجِعُ تَعْظِيمِ شَرابٌ إِلَى كَوْنِهِ عَظِيمًا لِأَيُّوبَ وَهُوَ شِفَاءُ مَا بِهِ من مرض. [43] [سُورَة ص (38) : آيَة 43] وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) اقْتِصَارُ أَيُّوبَ فِي دُعَائِهِ عَلَى التَّعْرِيضِ بِإِزَالَةِ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَبْ بِغَيْرِ الضُّرِّ فِي بَدَنِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهُ تَلَفُ الْمَالِ وَهَلَاكُ الْعِيَالِ كَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ «أَيُّوبَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ فَيَكُونُ اقْتِصَارُهُ عَلَى النُّصْبِ وَالْعَذَابِ فِي دُعَائِهِ لِأَنَّ فِي هَلَاكِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ نُصْبًا وَعَذَابًا لِلِنَّفْسِ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَن أَيُّوب رزىء أَهلَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَبْقَى لَهُ أَهْلَهُ فَلَمْ يُصَبْ فِيهِمْ بِمَا يَكْرَهُ وَزَادَهُ بَنِينَ وَحَفَدَةً. وَيَكُونُ فِعْلُ وَهَبْنا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَحْمَلَ وُقُوعُ كَلِمَةِ مَعَهُمْ عَقِبَ كَلِمَةِ وَمِثْلَهُمْ فَإِنَّ (مَعَ) تُشْعِرُ بِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَاحِقٌ بِأَهْلِهِ وَمَزِيدٌ فِيهِمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَقْدِيرُ مُضَافٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ. وَلَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا إِلَّا أَقْوَالًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ نَاشِئَةً عَنْ أَفْهَامٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَصَابَهُ أَنَّهُ هَلَكَ وَأَوْلَادُهُ فِي مُدَّةِ ضُرِّهِ كَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ «أَيُّوبَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَأَقْوَالِ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ وَهَبْنَا لَهُ عِوَضَ أَهْلِهِ. وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَنْبُو عَنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي.

وَمَعْنَى وَمِثْلَهُمْ مُمَاثِلُهُمْ. وَالْمُرَادُ: مُمَاثِلُ عَدَدِهِمْ، أَيْ ضِعْفَ عَدَدِ أَهْلِهِ مِنْ بَنِينَ وَحَفَدَةٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [84] . وَمَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ هُوَ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ فِي التَّعْبِيرِ لَا يَقْتَضِي تَفَاوُتًا فِي الْبَلَاغَةِ. وَأَمَّا مَا بَيْنَهُمَا مِنْ مُخَالَفَةٍ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَقَولُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ فَإِن الذّكر التَّذْكِيرُ بِمَا خَفِيَ أَوْ بِمَا يَخْفَى وَأُولُو الْأَلْبَابِ هُمْ أَهْلُ الْعُقُولِ، أَيْ تَذْكِرَةٌ لِأَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَإِنَّ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ مُجْمَلُهَا وَمُفَصَّلُهَا مَا إِذَا سَمِعَهُ الْعُقَلَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ بِالْحَوَادِثِ وَالْقَائِسُونَ عَلَى النَّظَائِرِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ صَبْرَهُ قُدْوَةٌ لِكُلِّ مَنْ هُوَ فِي حرج أَن يَنْتَظِرُ الْفَرَجَ، فَلَمَّا كَانَتْ قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَسُوقَةً لِلِاعْتِبَارِ بِعَوَاقِبِ الصَّابِرِينَ وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَأْمُورِينَ بِالِاعْتِبَارِ بِهَا مِنْ قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ كَمَا تَقَدَّمَ حُقَّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِمْ «بِأُولِي الْأَلْبَابِ» . وَأَمَّا الَّذِي فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ جِيءَ بِهِ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ لَا تُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَعْتَرِيهِمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ مَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ مِمَّا لَا يُنْقِصُ مِنْهُمْ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُومُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا يُوحى إِلَيْهِم [الْأَنْبِيَاء: 7] وَأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِأَذَى النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِحُرْمَتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَقْصَى ذَلِكَ الْمَوْتُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 34] . وَإِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَعَصَمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَام: 10] ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: 48، 49] ، وَذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ قومه فَصَبر، وَمن ابْتُلِيَ من غَيرهم فَصَبَرَ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ صَبْرِهِمْ وَاحِدَةً مَعَ اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ. فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِلْعَابِدِينَ، أَيِ الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَ اللَّهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَهْيَهُ، فَإِنَّ مِمَّا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ الصَّبْرَ عَلَى مَا

[سورة ص (38) : آية 44]

يَلْحَقُ الْمَرْءَ مِنْ ضُرٍّ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ لِكَوْنِ دَفْعِهِ خَارِجًا عَنْ طَاقَتِهِ فَخُتِمَ بِخَاتِمَةِ أَن فِي ذَلِك لآيَات للعابدين. [44] [سُورَة ص (38) : آيَة 44] وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ. مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ وَهَذَا إِفْتَاءٌ بِرُخْصَةٍ، وَذَلِكَ لَهُ قصَّته، وَهَذَا لَهُ قِصَّةٌ أُخْرَى أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ إِجْمَالًا وَلَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا أَثَرٌ صَحِيحٌ وَمُجْمَلُهَا أَنَّ زَوْجَ أَيُّوبَ حَاوَلَتْ عَمَلًا فَفَسَدَ عَلَيْهِ صَبْرُهُ مِنَ استِعَانَةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى مُوَاسَاتِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ غَضِبَ وَأَقْسَمَ لَيَضْرِبَنَّهَا عَدَدًا مِنَ الضَّرْبِ ثُمَّ نَدِمَ وَكَانَ مُحِبًّا لَهَا، وَكَانَتْ لَائِذَةً بِهِ فِي مُدَّةِ مَرَضِهِ فَلَمَّا سُرِّيَّ عَنْهُ أَشْفَقَ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِهِمْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَهَا بِحُزْمَةٍ فِيهَا عَدَدٌ مِنَ الْأَعْوَادِ بِعَدَدِ الضَّرَبَاتِ الَّتِي أَقْسَمَ عَلَيْهَا رِفْقًا بِزَوْجِهِ لِأَجْلِهِ وَحِفْظًا لِيَمِينِهِ مِنْ حِنْثِهِ إِذْ لَا يَلِيقُ الْحِنْثُ بِمَقَامِ النُّبُوءَةِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ ذَاتَ أَثَرٍ فِي الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لِأَجْلِهِ قِصَّةُ أَيُّوبَ مِنَ الْأُسْوَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هُنَا تَكْمِلَةً لِمَظْهَرِ لُطْفِ اللَّهِ بِأَيُّوبَ جَزَاءً عَلَى صَبْرِهِ. وَمَعَانِي الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذَا التَّرْخِيصَ رِفْقٌ بِأَيُّوبَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مَعْلُومًا فِي الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ أَيُّوبَ إِبْقَاءً عَلَى تَقْوَاهُ، وَإِكْرَامًا لَهُ لِحُبِّهِ زَوْجَهُ، وَرِفْقًا بِزَوْجِهِ لِبِرِّهَا بِهِ، فَهُوَ رُخْصَةٌ لَا مَحَالَةَ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ. فَجَاءَ عُلَمَاؤُنَا وَنَظَرُوا فِي الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا إِذَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ أَوِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرَعٌ لَنَا وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ من الْمَالِكِيَّة وجهور الشَّافِعِيَّةِ وَجَمِيعُ الظَّاهِرِيَّةِ فَشَأْنُهُمْ فِي هَذَا ظَاهَرٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا أَصْلَ الِاقْتِدَاءِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا بِقُيُودِهِ الْمَذْكُورَةِ وَهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ

فَتَخَطَّوْا لِلْبَحْثِ فِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ يُقَرَّرُ مِثْلُهُ فِي فِقْهِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِفْتَاءِ فِي الْأَيْمَانِ وَهَلْ يُتَعَدَّى بِهِ إِلَى جَعْلِهِ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ فِي كُلِّ ضَرْبٍ يَتَعَيَّنُ فِي الشَّرْعِ لَهُ عَدَدٌ إِذَا قَامَ فِي الْمَضْرُوبِ عُذْرٌ يَقْتَضِي التَّرْخِيصَ بَعْدَ الْبِنَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ، وَهَلْ يُتَعَدَّى بِهِ إِلَى جَعْلِهِ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ أَيْضًا لِإِثْبَاتِ أَصْلٍ مُمَاثِلٍ وَهُوَ التَّحَيُّلُ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ لِلِتَّخَلُّصِ مِنْ وَاجِبِ تَكْلِيفٍ شَرْعِيٍّ، وَاقْتَحَمُوا ذَلِكَ عَلَى مَا فِي حِكَايَةِ قِصَّةِ أَيُّوبَ مِنْ إِجْمَالٍ لَا يَتَبَصَّرُ بِهِ النَّاظِرُ فِي صِفَةِ يَمِينِهِ وَلَا لَفْظِهِ وَلَا نِيَّتِهِ إِذْ لَيْسَ مِنْ مَقْصِدِ الْقِصَّةِ. فَأَمَّا فِي الْأَيْمَانِ فَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ التَّكَلُّفَ بِأَنْ شَرَعَ لَنَا كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ. وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي فعلت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ، فَصَارَ مَا فِي شَرْعِنَا نَاسِخًا لِمَا شُرِعَ لِأَيُّوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ اسْتِنَادًا لِكَوْنِهِ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا وَهُوَ قَولُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ خَاصَّةٌ بِأَيُّوبَ أَفْتَى اللَّهُ بِهَا نَبِيئًا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّهُ بِمَا إِذَا حَلَفَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ أَقَلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الضَّرْبِ وَالْعَدَدِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى فَتْوَى أَيُّوبَ فِي كُلِّ ضَرْبٍ مُعَيَّنٍ بِعَدَدٍ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ، أَيْ فِي بَابِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَهُوَ تَطَوُّحٌ فِي الْقِيَاسِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلِاخْتِلَافِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَمَقْصِدِهَا مِنَ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَلِتَرَتُّبِ الْمَفْسَدَةِ عَلَى إِهْمَالِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْحُدُودِ يُفْضِي إِلَى إِهْمَالِهَا وَمَصِيرِهَا عَبَثًا. وَمَا وَقَعَ فِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ كَانَ مَرِيضًا مُضْنًى فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَاسْتَفْتَوْا لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْكَ لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ مَا هُوَ إِلَّا جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ فَأَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً.

وَرَوَاهُ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ وَعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَمَا هِيَ إِلَّا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَطَرَّقَتْهُ احْتِمَالَاتٌ. أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ مَرِيضًا مُضْنًى وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مِثْلِهِ. الثَّانِي: لَعَلَّ الْمَرَضَ قَدْ أَخَلَّ بِعَقْلِهِ إِخْلَالًا أقدمه على الزِّنَا فَكَانَ الْمَرَضُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ لَا يُنْقَضُ بِهِ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ الثَّابِتُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ. الرَّابِعُ: حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِّ لِلِضَّرُورَةِ كَالْمَرَضِ وَهُوَ غَرِيبٌ لِأَنَّ أَحَادِيث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالَ السَّلَفِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْحَامِلَ يَنْتَظِرَانِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَبْرَأَ، وَلَمْ يَأْمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تُضْرَبَ الْحَامِلُ بِشَمَارِيخَ، فَمَاذَا يُفِيدُ هَذَا الضَّرْبُ الَّذِي لَا يَزْجُرُ مُجْرِمًا، وَلَا يَدْفَعُ مَأْثَمًا، وَفِي «أَحْكَامِ الْجَصَّاصِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ مَا لِلِشَّافِعِيِّ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ إِلَّا الْحَدُّ الْمَعْرُوفُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] وَجُمْلَةُ وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ [ص: 43] ، أَيْ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِجَبْرِ حَالِهِ، لِأَنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا عَلَى مَا أَصَابَهُ فَهُوَ قُدْوَةٌ لِلْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ (إِنَّ) مُغْنِيَةً عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَمَعْنَى وَجَدْناهُ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي صَبْرِهِ مَا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] ، فَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوَّابًا لِلَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالنَّعِيمِ، وَأَيُّوبُ أَوَّابًا لِلَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الضُّرِّ وَالِاحْتِيَاجِ، وَكَانَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمَا مُتَمَاثِلًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْأَوْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الدَّوَاعِي. قَالَ سُفْيَانُ: أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدَيْنِ ابْتُلِيَا: أَحَدُهُمَا صَابِرٌ، وَالْآخِرُ شَاكِرٌ، ثَنَاءً وَاحِدًا. فَقَالَ لِأَيُّوبَ وَلِسُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.

[سورة ص (38) : الآيات 45 إلى 47]

[سُورَة ص (38) : الْآيَات 45 إِلَى 47] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) الْقَولُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ لُغَةً وَمَعْنًى. وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ ذِكْرُ اقْتِدَاءٍ وَائْتِسَاءٍ بِهِمْ، فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا عُرِفَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، وَابْتِلَائِهِ بِتَكْلِيفِ ذَبْحِ ابْنِهِ، وَأَمَّا ذِكْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَاسْتِطْرَادٌ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلِمَا اشْتَرَكَا بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ مَعَ أَبِيهِمُ الَّتِي يَجْمَعُهَا اشْتِرَاكُهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ لِيَقْتَدِيَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَتِهِمْ فِي الْقُوَّةِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْبَصِيرَةِ فِي حَقَائِقِ الْأُمُورِ. وَابْتُدِئَ بِإِبْرَاهِيمَ لِتَفْضِيلِهِ بِمَقَامِ الرِّسَالَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ ذِكْرُ ابْنِهِ وَعُطِفَ عَلَى ابْنِهِ ابْنُهُ يَعْقُوبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاذْكُرْ عِبادَنا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى أَنَّ إِبْراهِيمَ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ كُلُّهُ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرِ عَبْدَنَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِبْراهِيمَ عَطْفَ بَيَان من عِبادَنا وَيكون إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ عطف نسق على عِبادَنا. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّحِدٌ. والْأَيْدِي: جَمْعُ يَدٍ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ [47] . والْأَبْصارِ: جَمْعُ بَصَرٍ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ النَّظَرُ الْفِكْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْبَصِيرَةِ، أَيْ التَّبَصُّرُ فِي مُرَاعَاةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَخِّي مَرْضَاتِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِذِكْرِهِمْ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ يُكْسِبُ الذَّاكِرَ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ فِي إِخْلَاصِهِمْ وَرَجَاءَ الْفَوْزِ بِمَا فَازُوا بِهِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْخَيْرِ. وأَخْلَصْناهُمْ: جَعَلْنَاهُمْ خَالِصِينَ، فَالْهَمْزَةُ لِلِتَّعْدِيَةِ، أَيْ طَهَّرْنَاهُمْ مِنْ دَرَنِ

النُّفُوسِ فَصَارَتْ نُفُوسُهُمْ نَقِيَّةً مِنَ الْعُيُوبِ الْعَارِضَةِ لِلْبَشَرِ، وَهَذَا الْإِخْلَاصُ هُوَ مَعْنَى الْعِصْمَةِ اللَّازِمَةِ لِلِنُّبُوءَةِ. وَالْعِصْمَةُ: قُوَّةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ تَصْرِفُهُ عَنْ فِعْلِ مَا هُوَ فِي دِينِهِ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَعَمَّا هُوَ مُوجِبٌ لِلِنُّفْرَةِ وَالِاسْتِصْغَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ مِنْ أُمَّةِ عَصْرِهِ. وَأَرْكَانُ الْعِصْمَةِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: خَاصِّيَّةٌ لِلِنَّفْسِ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى تَقْتَضِي مَلَكَةً مَانِعَةً مِنَ الْعِصْيَانِ. الثَّانِي: حُصُولُ الْعِلْمِ بِمَثَالِبِ الْمَعَاصِي وَمَنَاقِبِ الطَّاعَات. الثَّالِث: تَأَكد ذَلِكَ الْعِلْمِ بِتَتَابُعِ الْوَحْيِ وَالْبَيَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعُ: الْعِتَابُ مِنَ اللَّهِ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَعَلَى النِّسْيَانِ. وَإِسْنَادُ الْإِخْلَاصِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا بِجَعْلٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنَايَةٍ لَدُنِّيَّةٍ بِحَيْثُ تُنْزَعُ مِنَ النَّفْسِ غَلَبَةُ الْهَوَى فِي كُلِّ حَالٍ وَتُصْرَفُ النَّفْسُ إِلَى الْخَيْرِ الْمَحْضِ فَلَا تَبْقَى فِي النَّفْسِ إِلَّا نَزَعَاتٌ خَفِيفَةٌ تُقْلِعُ النَّفْسُ عَنْهَا سَرِيعًا بِمُجَرَّدِ خُطُورِهَا، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَالْبَاءُ فِي بِخالِصَةٍ لِلِسَّبَبِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ عِصْمَتِهِمْ. وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا السَّبَبِ تَعْبِيرًا مُجْمَلًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ دَقِيقٌ لَا يُتَصَوَّرُ بِالْكُنْهِ وَلَكِنْ يُعْرَفُ بِالْوَجْهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَحْضَرَ هَذَا السَّبَبَ بِوَصْفٍ مُشْتَقٍّ مِنْ فِعْلِ أَخْلَصْناهُمْ عَلَى نَحْوِ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ اقْتِنَاعِهِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ «إِنِّي تَحْضُرُنِي مِنَ اللَّهِ حَاضِرَةٌ» أَيْ حَاضِرَةٌ لَا تُوصَفُ، ثُمَّ بُيِّنَتْ هَذِهِ الْخَالِصَةُ بِأَقْصَى مَا تُعَبِّرُ عَنْهُ اللُّغَةُ وَهِيَ أَنَّهَا ذِكْرَى الدَّارِ. وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرٍ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ مِثْلُ الرُّجْعَى وَالْبُقْيَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَعْنَى. وَالدَّارُ الْمَعْهُودَةُ لِأَمْثَالِهِمْ هِيَ الدَّارُ الْآخِرَةِ، أَيْ

بِحَيْثُ لَا يَنْسَوْنَ الْآخِرَةَ وَلَا يُقْبِلُونَ عَلَى الدُّنْيَا، فَالدَّارُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ عِنَايَتِهِمْ هِيَ الدَّارُ الْآخِرَةِ، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَقُولُ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا» . وَأَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ إِلَى أَنَّ مَبْدَأَ الْعِصْمَةِ هُوَ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِالتَّحْذِيرِ مِمَّا لَا يُرْضِي اللَّهَ وَتَخْوِيفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَتَحْبِيبِ نَعِيمِهَا فَتُحْدِثُ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ الْحَذَرِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَحُبِّ الطَّاعَةِ ثُمَّ لَا يَزَالُ الْوَحْيُ يَتَعَهَّدُهُ وَيُوقِظُهُ وَيُجَنِّبُهُ الْوُقُوعَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَصِيرَ الْعِصْمَةُ مَلَكَةٌ لِلِنَّبِيءِ يَكْرَهُ بِهَا الْمَعَاصِيَ، فَأَصْلُ الْعِصْمَةِ هِيَ مُنْتَهَى التَّقْوَى الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ التَّكْلِيفِ، وَبِهَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الْعِصْمَةُ عَدَمُ خَلْقِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهَا مَلَكَةٌ تَمْنَعُ عَنْ إِرَادَةِ الْمَعَاصِي، فَالْأَوَّلُونَ نَظَرُوا إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْأَخِيرُونَ نَظَرُوا إِلَى الْغَايَةِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تُنَافِي التَّكْلِيفَ وَتَرَتُّبَ الْمَدْحِ عَلَى الطَّاعَاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ «خَالِصَةِ» بِدُونِ تَنْوِينٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى ذِكْرَى الدَّارِ وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ ذِكْرَى الدَّارِ هِيَ نَفْسُ الْخَالِصَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بِذِكْرَى الدَّارِ، وَلَيْسَتْ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَلَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَلَا إِلَى فَاعِلِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ «خَالِصَة» ليَقَع إِجْمَال ثُمَّ يُفَصَّلُ بِالْإِضَافَةِ لِلِتَّنْبِيهِ عَلَى دِقَّةِ هَذَا الْخُلُوصِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَالتَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا أَقْصَى طَرِيقٍ لِلِتَّعْرِيفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ «خَالِصَةٍ» فَيَكُونُ ذِكْرَى الدَّارِ عَطْفَ بَيَانٍ أَوْ بَدَلًا مُطَابِقًا. وَغَرَضُ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ ظَاهِرٌ. وَإِضَافَةُ «خَالِصَةِ» إِلَى ذِكْرَى الدَّارِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَإِبْدَالِهَا مِنْهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ إِبْدَالِ الصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى مُرَادِفَ الذِّكْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ، أَيْ الذِّكْرُ الْحَسَنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مَرْيَم: 50] وَتَكُونُ الدَّارِ هِيَ الدَّارُ الدُّنْيَا.

[سورة ص (38) : آية 48]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادِفًا لِلِذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ الْفِكْرِيُّ وَمُرَاعَاةُ وَصَايَا الدِّينِ. والدَّارِ: الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ: إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى ذِكْرِهِمْ بِأَنَّهُمُ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ فَقَرَّبَهُمْ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُمْ أَخْيَارًا. والْأَخْيارِ: جَمْعُ خَيِّرٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، أَوْ جَمْعُ خَيْرٍ بِتَخْفِيفِهَا مِثْلُ الْأَمْوَاتِ جَمْعًا لِمَيِّتٍ وَمَيْتٍ، وَكِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْوَصْفِ فِي الْمَوْصُوف. [48] [سُورَة ص (38) : آيَة 48] وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) فُصِلَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَدِّهِ مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَأَخِيهِ إِسْحَاقَ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ جِدُّ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَيْ مُعْظَمِهَا فَإِنَّهُ أَبُو الْعَدْنَانِيِّينَ. وَجَدٌّ لِلْأُمِّ لِمُعْظَمِ الْقَحْطَانِيِّينَ لِأَنَّ زَوْجَ إِسْمَاعِيلَ جُرْهُمِيَّةٌ فَلِذَلِكَ قُطِعَ عَنْ عَطْفِهِ عَلَى ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَعَادَ الْكَلَامُ إِلَيْهِ هُنَا. وَأَمَّا قَرْنُهُ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ الْيَسَعَ وَذِي الْكِفْلِ بِعَطْفِ اسْمَيْهِمَا عَلَى اسْمِهِ فَوَجْهُهُ دَقِيقٌ فِي الْبَلَاغَةِ وَلَيْسَ يَكْفِي فِي تَوْجِيهِهِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ، لِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الخيريّة والاصطفاء ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهُمَا بَعْدَ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهِمَا مِنْ ذَوِي الْخَيْرِيَّةِ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْأَخْيَارِ وَالِاصْطِفَاءِ، فَإِنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ جَامِعٌ عَقْلِيٌّ أَوْ وَهْمِيٌّ أَوْ خَيَالِيٌّ كَمَا قَالَ فِي «الْمِفْتَاحِ» ، قَالَ وَمِنْ هُنَا عَابُوا أَبَا تَمَّامٍ فِي قَوْلِهِ: لَا وَالَّذِي هُوَ عَالِمٌ أَنَّ النَّوَى ... صَبْرٌ وَأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَرِيمُ (¬1) حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ مرَارَة النَّوَى وكرم أَبِي الْحُسَيْنِ وَإِنْ كَانَا مقترنين فِي تعلق عِلْمِ اللَّهِ بِهِمَا وَذَلِكَ مُسَاوٍ لِاقْتِرَانِ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذِي الْكِفْلِ فِي أَنَّهُمْ مِنَ الْأَخْيَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ¬

(¬1) هُوَ أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن الْهَيْثَم بن شَبابَة أحد قواد المتَوَكل أَو الواثق وَلأبي تَمام مدائح فِيهِ كَثِيرَة.

[سورة ص (38) : الآيات 49 إلى 52]

فَبِنَا أَنْ نَطْلُبَ الدَّقِيقَةَ الَّتِي حَسَّنَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَطْفَ الْيَسَعَ وَذِي الْكِفْلِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ. فَأَمَّا عَطْفُ الْيَسَعَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ فَلِأَنَّ الْيَسَعَ كَانَ مَقَامُهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَقَامِ إِسْمَاعِيلَ فِي بَنِي إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْيَسَعَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ لِلِرَّسُولِ إِلْيَاسَ (إِيلِيَا) وَكَانَ إِلْيَاْسُ يدافع مُلُوك يهوذا وملوك إِسْرَائِيلَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ الْيَسَعُ فِي إِعَانَتِهِ كَمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ فِي إِعَانَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ إِلْيَاْسُ لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَامَ الْيَسَعُ مَقَامَهُ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سِفْرِ «الْمُلُوكِ الثَّانِي» الْأَصْحَاحِ (1- 2) . وَأَمَّا عَطْفُ ذِي الْكِفْلِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ فَلِأَنَّهُ مُمَاثِلٌ لِإِسْمَاعِيلَ فِي صِفَةِ الصَّبْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [85] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْيَسَعَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مِنْ أَصْلِ الِاسْمِ فِي اللُّغَةِ الْعَبْرَانِيَّةِ فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ بِاللَّامِ وَلَيْسَتْ لَامَ التَّعْرِيفِ، فَدَعْ عَنْكَ مَا أَطَالُوا بِهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِلَامَيْنِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَصْلِهِ الْعَبْرَانِيِّ وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالْهَمْزَةُ وَاللَّامُ، أَوْ وَاللَّامَانِ أَصْلِيَّةُ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ فِي قَوْلِهِ: وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَكُلُّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْأَخْيَارِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَسَعَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذِكْرُ ذِي الْكِفْلِ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء. [49- 52] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 49 إِلَى 52] هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هَذَا ذِكْرٌ جُمْلَةٌ فَصَلَتِ الْكَلَامَ السَّابِقَ عَنِ الْكَلَامِ الْآتِيَ بَعْدَهَا قَصْدًا لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ مِثْلُ جُمْلَةِ: أَمَّا بَعْدُ فَكَذَا وَمِثْلُ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] ، وَقَوْلِهِ: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ [الْحَج: 30] ، وذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فِي سُورَةِ الْحَجِّ [32] . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْكَاتِبُ إِذَا فَرَغَ مِنْ فَصْلٍ مِنْ كِتَابِهِ وَأَرَادَ الشُّرُوعَ فِي آخَرَ: هَذَا

وَقَدْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ اه. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الِانْتِقَالِ هُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْأَدَبِ بِالِاقْتِضَابِ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْعَرَبِ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ، وَلَهُمْ فِي مِثْلِهِ طَرِيقَتَانِ: أَنْ يَذْكُرُوا الْخَبَرَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ الْمُؤَلِّفِينَ: هَذَا بَابُ كَذَا، وَأَنْ يَحْذِفُوا الْخَبَرَ لِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ [الْحَج: 30] ، أَيْ ذَلِك شَأْن الَّذِي عَمِلُوا بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ الْأَصْنَامِ، وَقَوْلِهِ: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، أَيْ ذَلِكَ مَثَلُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، وَقَولِهِ بَعْدَ آيَاتٍ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] أَيْ هَذَا مَآبُ الْمُتَّقِينَ، وَمِنْهُ قَولُ الْكَاتِبِ: هَذَا وَقَدْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّمَا صُرِّحَ بِالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعْيِينِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ التَّذَكُّرُ وَالِاقْتِدَاءُ فَلَا يَأْخُذُ السَّامِعُ اسْمَ الْإِشَارَةِ مَأْخَذَ الْفَصْلِ الْمُجَرَّدِ وَالِانْتِقَالِ الِاقْتِضَابِيِّ، مَعَ إِرَادَةِ التَّوْجِيهِ بِلَفْظِ ذِكْرٌ بِتَحْمِيلِهِ مَعْنَى حُسْنِ السمعة، أَي هَذَا ذِكْرٌ لِأُولَئِكَ الْمُسَمَّيْنَ فِي الْآخَرِينَ مَعَ أَنَّهُ تَذْكِرَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ عَلَى نَحْوِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فِي سُورَة الدُّخان [الزُّخْرُفِ: 44] . وَمِنْ هُنَا احْتُمِلَ أَنْ تكون الْإِشَارَة ب هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ، أَيِ الْقُرْآنُ ذِكْرٌ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلِتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ رَاجِعًا إِلَى غَرَضِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] . وَالْوَاوُ فِي وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ إِلَخْ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ الذِّكْرِيِّ، أَيْ انْتَهَى الْكَلَامُ السَّابِقُ بِقَوْلِنَا هَذَا وَنَعْطِفُ عَلَيْهِ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ. وَتقدم معنى لَحُسْنَ مَآبٍ. وَاللَّامُ فِي لِلْمُتَّقِينَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُمْ حُسْنُ مَآبٍ يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَانْتَصَبَ جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى الْبَيَان من لَحُسْنَ مَآبٍ. وَالْعَدْنُ: الْخُلُودُ. ومُفَتَّحَةً حَالٌ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي لِلْمُتَّقِينَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ فَيَكُونُ (الْ) فِي الْأَبْوابُ عِوَضًا عَنِ الضَّمِيرِ.

وَالتَّقْدِيرُ: أَبْوَابُهَا، عَلَى رَأْيِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَ الْأَبْوابُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُفَتَّحَةً عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَوْ بَعْضٍ وَالرَّابِطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْأَبْوَابُ مِنْهَا. وَتَفْتِيحُ الْأَبْوَابِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمْكِينِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِنَعِيمِهَا لِأَنَّ تَفْتِيحَ الْأَبْوَابِ يَسْتَلْزِمُ الْإِذْنَ بِالدُّخُولِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الدَّاخِلِ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا وَرَاءَ الْأَبْوَابِ. وَقَوْلُهُ مُتَّكِئِينَ فِيها تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي سُورَةِ يس. ويَدْعُونَ: يَأْمُرُونَ بِأَنْ يُجْلَبَ لَهُمْ، يُقَالُ: دَعَا بِكَذَا، أَيْ سَأَلَ أَنْ يُحْضَرَ لَهُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: دَعَا بِكَذَا، لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: دَعَا مَدْعُوًّا يُصَاحِبُهُ كَذَا، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: وَدَعَوْا بِالصَّبُوحِ يَوْمًا فَجَاءَتْ ... قَيْنَةً فِي يَمِينِهَا إِبْرِيقُ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس [57] لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ. وَانْتَصَبَ مُتَّكِئِينَ عَلَى الْحَالِ مِنَ «الْمُتَّقِينَ» وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَجُمْلَةُ يَدْعُونَ حَالٌ ثَانِيَةٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْضًا. وَالشَّرَابُ: اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخَمْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ ذِكْرٌ لِلْمَاءِ كَقَوْلِهِ آنِفًا هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ [ص: 42] . وَتَنْوِينُ شَرابٍ هُنَا لِلِتَّعْظِيمِ، أَيْ شَرَابٌ نَفِيسٌ فِي جِنْسِهِ، كَقَوْلِ أَبي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ: لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمٍ وعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ: عِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ قَرِيبٍ وقاصِراتُ الطَّرْفِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نِسَاءٌ قَاصِرَاتُ النَّظَرِ. وَتَعْرِيفُ الطَّرْفِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الصَّادِقِ بِالْكَثِيرِ، أَيْ قَاصِرَاتُ الْأَطْرَافِ. والطَّرْفِ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ، وَقَصْرُ الطَّرْفِ تَوْجِيهَهٌ إِلَى مَنْظُورٍ غَيْرِ مُتَعَدِّدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُنَ قَاصِرَاتٌ أَطْرَافَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. فَالْأَطْرَافُ الْمَقْصُورَةُ أَطْرَافُهُنَّ. وَإِسْنَادُ قاصِراتُ إِلَى ضميرهن إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ، أَيْ لَا يُوَجِّهْنَ أَنْظَارَهُنَّ

[سورة ص (38) : آية 53]

إِلَى غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ كِنَايَة عَن قصر مَحَبَّتِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُنَّ يَقْصُرْنَ أَطْرَافَ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ فَلَا تَتَوَجَّهُ أَنْظَارُ أَزْوَاجِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِحُسْنِهِنَّ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَامِ حُسْنِهِنَّ فِي أَنْظَارِ أَزْوَاجِهِنَّ بِحَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ اسْتِحْسَانُهُمْ بِغَيْرِهِنَّ، فَالْأَطْرَافُ الْمَقْصُورَةُ أَطْرَافُ أَزْوَاجِهِنَّ، وَإِسْنَادُ قاصِراتُ إِلَيْهِنَّ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ إِذْ كَانَ حُسْنُهُنَّ سَبَبُ قَصْرِ أَطْرَافِ الْأَزْوَاجِ فَإِنَّهُنَّ ملابسات سَبَب سَبَبَ الْقَصْرِ. وأَتْرابٌ: جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ كَانَ عُمْرُهُ مُسَاوِيًا عُمَرُ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ، تَقُولُ: هُوَ تِرْبُ فُلَانٍ، وَهِيَ تِرْبُ فُلَانَةٍ، وَلَا تَلْحَقُ لَفْظَ تَرْبٍ عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُنَّ أَتْرَابٌ بَعْضَهُنَّ لِبَعْضٍ، وَأَنَّهُنَّ أَتْرَابٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِأَنَّ التَّحَابَّ بَيْنَ الْأَقْرَانِ أَمْكَنُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَتْرابٌ وَصْفٌ قَائِمٌ بِجَمِيعِ نِسَاءِ الْجَنَّةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْجَنَّةِ وَمِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي كُنَّ أَزْوَاجًا فِي الدُّنْيَا لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَلَا يَكُونُ بَعْضُهُنَّ أَحْسَنَ شَبَابًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَلْحَقُ بَعْضَ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَضٌّ إِذَا كَانَتْ نِسَاءُ غَيْرِهِ أَجَدُّ شَبَابًا، وَلِئَلَّا تَتَفَاوَتَ نِسَاءُ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُتَّقِينَ فِي شَرْخِ الشَّبَابِ، فَيَكُونُ النَّعِيمُ بِالْأَقَلِّ شَبَابًا دُونَ النَّعِيمِ بِالْأَجَدِّ مِنْهُنَّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ فِي سُورَة الصافات [48] . [53] [سُورَة ص (38) : آيَة 53] هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا قِيلَ لِلْمُتَّقِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 49] . وَالْإِشَارَةُ إِذَنْ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَحُسْنَ مَآبٍ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا مُغَايِرٌ لِاسْتِعْمَالِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ [ص: 49] . وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْقَرِيبِ تَنْزِيلًا للمشار إِلَيْهِ مَنْزِلَةُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْحَاضِرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ تَبْشِيرًا لِلْمُتَّقِينَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تُوعَدُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ.

[سورة ص (38) : آية 54]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ فِي مَحَلِّ حَالٍ ثَانِيَةٍ مِنَ «الْمُتَّقِينَ» . وَالتَّقْدِيرُ: مَقُولًا لَهُمْ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَالْقَوْلُ: إِمَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النَّحْل: 32] ، وَإِمَّا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى نَظِيرُ قَوْلِهِ لِضِدِّهِمْ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمرَان: 181] . وَالْإِشَارَةُ إِذَنْ إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُوعَدُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِتَشْرِيفِ الْمُتَّقِينَ بِعِزِّ الْحُضُورِ لِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي الْخِطَابُ لَهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ «يُوعَدُونَ» بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الْتِفَاتٌ عَنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلِطَّاغِينَ لِزِيَادَةِ التَّنْكِيلِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ من «حسن المئاب» ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي كَذَلِكَ وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى أَهْلِ الْمَحْشَرِ لِتَنْدِيمِ الطَّاغِينَ وَإِدْخَالِ الْحَسْرَةِ وَالْغَمِّ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى النَّعِيمِ الْمُشَاهَدِ. وَاللَّامُ فِي لِيَوْمِ الْحِسابِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ وُعِدْتُمُوهُ لِأَجْلِ يَوْمِ الْحِسَابِ. وَالْمَعْنَى لِأَجْلِ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَلَمَّا كَانَ الْحِسَابُ مُؤْذِنًا بِالْجَزَاءِ جُعِلَ الْيَوْمُ هُوَ الْعِلَّةُ. وَهَذِهِ اللَّامُ تُفِيدُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ تَبَعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] تَنْزِيلًا لِلْوَقْتِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: أَوْقَاتُ الصَّلَوَات أَسبَاب. [54] [سُورَة ص (38) : آيَة 54] إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) يَجْرِي مَحْمَلُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِ وَتَوْجِيهِ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَيْهِ. وَأُطْلِقَ الرِّزْقُ عَلَى النِّعْمَةِ كَمَا فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَالَ حِينَ

[سورة ص (38) : الآيات 55 إلى 56]

يُضَاجِعُ أَهْلَهُ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ وُلِدَ لَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَمَسَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا» فَسَمَّى الْوَلَدَ رِزْقًا. وَالتَّوْكِيدُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ. وَالنَّفَادُ: الِانْقِطَاع والزوال. [55- 56] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 55 إِلَى 56] هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) اسْمُ الْإِشَارَةِ هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ تَنْهِيَةً لِلْغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 49] . وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا شَأْنُ الْمُتَّقِينَ، أَوْ هَذَا الشَّأْنُ، أَوْ هَذَا كَمَا ذُكِرَ. وَجُمْلَةُ يَصْلَوْنَها حَالٌ مِنْ جَهَنَّمَ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى اللَّامِ الَّذِي هُوَ عَامِلٌ فِي «الطَّاغِينَ» فَإِنَّ مَعْنَى اللَّامِ أَنَّهُمْ تَخْتَصُّ بِهِمْ جَهَنَّمُ وَاخْتِصَاصُهَا بِهِمْ هُوَ ذَوْقُ عَذَابِهَا لِأَنَّ الْعَذَابَ ذَاتِيٌّ لِجَهَنَّمَ. وَالطَّاغِي: الْمَوْصُوفُ بالطغيان وَهُوَ: مُجَاوزَة الْحَدِّ فِي الْكِبَرِ وَالتَّعَاظُمِ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ عُظَمَاءُ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا بِعَظَمَتِهِمْ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِبْرٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَحَكَمُوا عَلَى عَامَّةِ قَوْمِهِمْ بِالِابْتِعَادِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُمْ: أَبُو جَهْلٍ وَأُمِّيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَأَضْرَابُهُمْ. وَالْفَاءُ فِي فَبِئْسَ الْمِهادُ لِتَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ وَتَسَبُّبِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، نَظِيرُ عَطْفِ الْجُمَلِ بِ (ثُمَّ) وَهِيَ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ [الْأَنْفَال: 17] بَعْدَ قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [15] . وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ بَدِيعٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يَنْدَرِجُ فِي اسْتِعْمَالَاتِ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ وَلَمْ يُكْشَفْ عَنْهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَالْمَعْنَى: جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا، فَيَتَسَبَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ نَذْكُرَ ذَمَّ هَذَا الْمَقَرَّ لَهُمْ، وَعُبِّرَ عَنْ جَهَنَّمَ بِ الْمِهادُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، شُبِّهَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّارِ مِنْ تَحْتِهِمْ بِالْمِهَادِ وَهُوَ فِرَاشُ النَّائِمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ [الْأَعْرَاف: 41] .

[سورة ص (38) : الآيات 57 إلى 58]

[سُورَة ص (38) : الْآيَات 57 إِلَى 58] هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) اسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا جَارٍ عَلَى غَالِبِ مَوَاقِعِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ [ص: 53] وَالْقَوْلُ فِيهِ مِثلُهُ. وَإِشَارَةُ الْقَرِيبِ لِتَقْرِيبِ الْإِنْذَارِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها [ص: 56] مِنَ الصَّلْيِ وَمِنْ مَعْنَى الْعَذَابِ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَرَّ مِنْ قَوْلِهِ: لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] . وحَمِيمٌ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي مَعْنَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ شَرَّ الْمَآبِ أَوِ الْعَذَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ شَكْلِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] فَمَا فُصِّلَ بِهِ شَرُّ الْمَآبِ وَعَذَابُ جَهَنَّمَ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَعْمُولٌ لِلَّامِ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ. والغساق: قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِتَشْدِيدِهَا. قِيلَ هُمَا لُغَتَانِ وَقِيلَ: غَسَّاقٌ بِالتَّشْدِيدِ مُبَالغَة فِي غَاسِق بِمَعْنَى سَائِلٍ، فَهُوَ عَلَى هَذَا وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَلَيْسَ اسْمًا لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عَلَى زِنَةِ فَعَّالٍ قَلِيلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَالْغَسَّاقُ: سَائِلٌ يَسِيلُ فِي جَهَنَّمَ، يُقَالُ: غَسَقَ الْجُرْحُ، إِذَا سَالَ مِنْهُ مَاءٌ أَصْفَرُ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ بِهَذَا الْوَزْنِ أَطْلَقَهُ الْقُرْآنُ عَلَى سَائِلٍ كَرِيهٍ يُسْقَوْنَهُ كَقَوْلِهِ: بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ [الْكَهْف: 29] . وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الزِّنَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَب، وَبِذَلِك يومىء كَلَامُ الرَّاغِبِ. وَهَذَا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ صِيغَ لَهُ هَذَا الْوَزْنُ لِيَكُونَ اسْمًا لِشَيْءٍ يُشْبِهُ مَا يُغْسَقُ بِهِ الْجُرْحُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِالْمَهْلِ وَالصَّدِيدِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَجُمْلَةُ فَلْيَذُوقُوهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ، وَهَذَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ

[سورة ص (38) : آية 59]

الْمُقْتَرِنِ بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ، وَالْفَاءُ فِيهِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَبِئْسَ الْمِهادُ [ص: 56] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَولُهُ: وَآخَرُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَولِهِ: هَذَا وَضَمِيرُ فَلْيَذُوقُوهُ وَوَصْفٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى مُغَايِرٍ. وَقَولُهُ: مِنْ شَكْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُغَايِرٌ لَهُ بِالذَّاتِ وَمُوَافِقٌ فِي النَّوْعِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَذَابٌ آخَرُ أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ. وَالشَّكْلُ بِفَتْحِ الشِّينِ: الْمِثْلُ، أَيِ الْمُمَاثِلِ فِي النَّوْعِ، أَيْ وَعَذَابٌ آخَرُ غَيْرَ ذَلِكَ الَّذِي ذَاقُوهُ مِنَ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ هُوَ مِثْلُ ذَلِكَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوْ مِثْلُ ذَلِكَ الذَّوْقُ فِي التَّعْذِيبِ وَالْأَلَمِ. وَأُفْرِدَ ضَمِيرُ شَكْلِهِ مَعَ أَنَّ مَعَادَهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ نَظَرًا إِلَى إِفْرَادِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ إِلَى إِفْرَادِ (مَذُوقِ) الْمَأْخُوذِ مِنْ (يَذُوقُوهُ) ، فَقَولُهُ: مِنْ شَكْلِهِ صِفَةٌ لِ آخَرُ. وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ بِمَعْنَى النَّوْعِ وَالْجِنْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [3] . وَالْمَعْنَى: وَعَذَابٌ آخَرُ هُوَ أَزْوَاجُ أَصْنَافٍ كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَ اسْمًا شَائِعًا فِي كُلِّ مُغَايِرٍ صَحَّ وَصْفُهُ بِ أَزْواجٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَآخَرُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَأُخَرُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ جُمَعُ أُخْرَى عَلَى اعْتِبَارِ تَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ، أَيْ وَأَزْوَاجٌ أُخَرُ مِنْ شَكْلِ ذَلِك الْعَذَاب. [59] [سُورَة ص (38) : آيَة 59] هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) ابْتِدَاءُ كَلَامٍ حُكِيَ بِهِ تَخَاصُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا دَخَلُوهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] ، وَبِهِ فَسَّرَ قَتَادَةُ

وَابْنُ زَيْدٍ، وَجَرَيَانُهُ بَيْنَهُمْ لِيَزْدَادُوا مَقْتًا بِأَنْ يُضَافَ إِلَى عَذَابِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ عَذَابُ أَنْفُسِهِمْ بِرُجُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالتَّنْدِيمِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ. وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُتَكَلِّمًا صَادِرًا مِنْهُ، وَأُسْلُوبُ الْمُقَاوَلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ هُمُ الطَّاغُونَ الَّذِينَ لَهُمْ شَرُّ الْمَآبِ لِأَنَّهُمْ أَسَاسُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. فَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ، أَيْ الطَّاغُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، أَيْ يَقُولُونَ مُشِيرِينَ إِلَى فَوْجٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أُقْحِمَ فِيهِمْ لَيْسُوا مِنْ أَكْفَائِهِمْ وَلَا مِنْ طَبَقَتِهِمْ وَهُمْ فَوْجُ الْأَتْبَاعِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الطَّاغِينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا [ص: 60] أَيْ أَنْتُمْ سَبَبُ إِحْضَارِ هَذَا الْعَذَابِ لَنَا. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَعْنَى نَظَائِرَهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَاف: 38] إِلَى قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [39] ، وَقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [166] ، وَقَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ [27] . وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] . فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الطَّاغِينَ. وَجُمْلَةُ هَذَا فَوْجٌ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فِي سُورَةِ النَّمْلِ [83] . وَالِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ فِي النَّاسِ، وَ (مَعَ) مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مَتْبُوعُونَ، وَأَنَّ الْفَوْجَ الْمُقْتَحِمَ أَتْبَاعٌ لَهُمْ، فَأُدْخِلُوا فِيهِمْ مَدْخَلَ التَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ بِعَلَامَاتٍ تُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ مُعْتَرِضَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ الْفَوْجِ. وَلَا مَرْحَباً نَفْيٌ لِكَلِمَةٍ يَقُولُهَا الْمَزُورُ لِزَائِرِهِ وَهِيَ إِنْشَاءُ دُعَاءِ الْوَافِدِ. ومَرْحَباً مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْمَفْعَلِ، وَهُوَ الرُّحْبُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الرَّحْبِ، أَيْ أَتَيْتَ رَحْبًا، أَيْ مَكَانَا ذَا رُحْبٍ، فَإِذَا أَرَادُوا كَرَاهِيَةَ الْوَافِدِ وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِ قَالُوا: لَا مَرْحَبًا بِهِ، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا النَّفْيَ بِمَجْمُوعِ الْكَلِمَةِ:

[سورة ص (38) : آية 60]

لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلَا أَهْلًا بِهِ ... إِنْ كَانَ تَفْرِيقُ الْأَحِبَّةِ فِي غَدِ وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَدْحِ: حَبَّذَا، فَإِذَا أَرَادُوا ذَمًّا قَالُوا: لَا حَبَّذَا. وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ كَنْزَةَ أُمِّ شَمْلَةَ الْمِنْقَرِيِّ تَهْجُو فِيهِ صَاحِبَةَ ذِي الرُّمَّةِ: أَلَا حَبَّذَا أَهْلُ الْمَلَا غَيْرَ أَنَّهُ ... إِذَا ذُكِرَتْ مَيُّ فَلَا حَبَّذَا هِيَّا وَمَعْنَى الرَّحْبِ فِي هَذَا كُلِّهِ: السِّعَةُ الْمَجَازِيَّةُ، وَهِيَ الْفَرَحُ وَلِقَاءُ الْمَرْغُوبِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقَرِينَةِ أَنَّ نَفْسَ السِّعَةِ لَا تفِيد الزَّائِد، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَكُونُوا هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ جَرْيًا عَلَى خُلُقِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ وَاحْتِقَارِ الضُّعَفَاءِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّضَجُّرِ مِنْهُمْ، أَيْ أَنَّهُمْ مُضَايِقُونَنَا فِي مَضِيقِ النَّارِ كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُمْ: مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ. [60] [سُورَة ص (38) : آيَة 60] قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) فَسَمِعَهُمُ الْأَتْبَاعُ فَيَقُولُونَ: بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ إِضْرَابًا عَنْ كَلَامِهِمْ. وَجِيءَ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فَلِذَلِكَ جُرِّدَ مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ، أَيْ أَنْتُمْ أَوْلَى بِالشَّتْمِ وَالْكَرَاهِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا مَرْحَبًا بِكُمْ، لِأَنَّكُمُ الَّذِينَ تَسَبَّبْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَلَنَا فِي هَذَا الْعَذَابِ بِإِغْرَائِكُمْ إِيَّانَا عَلَى التَّكْذِيبِ وَالدَّوَامِ عَلَى الْكُفْرِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ لِرَدِّ الشَّتْمِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ. وَذِكْرُ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ لِلتَّنَصُّلِ مِنْ شَتْمِهِمْ، أَيْ أَنْتُمُ الْمَشْتُومُونَ، أَيْ أَوْلَى بِالشَّتْمِ مِنَّا، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَرْفِ الْإِبْطَالِ لَا مِنَ الضَّمِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَلِأَنَّ مَوْقِعَهُ هُنَا لَا يَقْتَضِي حَصْرًا وَلَا تَقَوِّيًا لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ إِنْشَائِيَّةٍ، أَيْ أَنْتُمْ يُقَالُ لَكُمْ: لَا مَرْحَبًا بِكُمْ. وَإِذَا قَدْ كَانَ قَوْلُ: مَرْحَبًا، إنْشَاء دُعَاء بِالْخَيرِ، وَكَانَ نَفْيُهُ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ

بِضِدِّهِ، كَانَ قَوْلُهُ «بِهِمْ» بَيَانًا لِمَنْ وُجِّهَ الدُّعَاءُ لَهُمْ، أَيْ إِيضَاحًا لِلسَّامِعِ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى أَصْحَابِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَكَانَتِ الْبَاءُ فِيهِ لِلتَّبْيِينِ. قَالَ فِي «الْكَشَّاف» : و «بهم» بَيَانٌ لِمَدْعُوٍّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْهَمَذَانِيُّ فِي شَرْحِهِ «لِلْكَشَّافِ» : يَعْنِي: الْبَيَانَ الْمُصْطَلَحَ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: بِمَنْ يَحْصُلُ هَذَا الرَّحْبُ؟ فَيَقُولُ: بِهِمْ. وَهَذَا كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: 23] . يَعْنِي أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى لَامِ التَّبْيِينِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَغْفَلَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مَعَانِي الْبَاءِ. وَأَشَارَ الْهَمَذَانِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْبَاءَ فِي مِثْلِهِ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ كَالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ لَمْ تَبْقَ مَعَهُ مُلَاحَظَةُ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الرَّحْبِ مَعَهُمْ أَوْ بِسَبَبِهِمْ كَمَا يَتَّجِهُ بِالتَّأَمُّلِ. وَجُمْلَةُ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا عِلَّةٌ لِقَلْبِ سَبَبِ الشَّتْمِ إِلَيْهِمْ، أَيْ لِأَنَّكُمْ قَدَّمْتُمُ الْعَذَابَ لَنَا، فَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَدَّمْتُمُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الذِّهْنِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ، مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] . وَوُقُوعُ أَنْتُمْ قَبْلَ قَدَّمْتُمُوهُ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَمْ يُضِلَّنَا غَيْرُكُمْ فَأَنْتُمْ أَحِقَّاءُ بِالْعَذَابِ. وَالتَّقْدِيمُ: جَعْلُ الشَّيءِ قُدَّامَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمرَان: 181، 182] . فَتَقْدِيمُ الْعَذَابُ لَهُمْ جَعْلُهُ قُدَّامَهُمْ، أَيْ جَعْلُهُ حَيْثُ يَجِدُونَهُ عِنْدَ وُصُولِهِمْ. وَإِسْنَادُ تَقْدِيمِ الْعَذَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا سَبَبًا فِي تَقْدِيمِ الْعَذَابِ لِأَتْبَاعِهِمْ بِإِغْوَائِهِمْ وَكَانَ الْعَذَابُ جَزَاءً عَنِ الْغَوَايَةِ. وَجُعِلَ الْعَذَابُ مُقَدَّمًا وَإِنَّمَا الْمُقَدَّمُ الْعَمَلُ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ، وَهَذَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْمَفْعُولِ فَاجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: قَدَّمْتُمُوهُ مَجَازَانِ عَقْلِيَّانِ. وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْقَرارُ مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ آنِفًا فَبِئْسَ الْمِهادُ [ص: 56] . وَهُوَ ذَمٌّ لِإِقَامَتِهِمْ فِي جَهَنَّمَ تَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ فِيمَا تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: فَبِئْسَ الْقَرَارُ مَا قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا، أَيْ الْعَذَابُ. والقرار: الْمكْث.

[سورة ص (38) : آية 61]

[سُورَة ص (38) : آيَة 61] قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) قالُوا أَيْ الْفَوْجُ الْمُقْتَحِمُ وَهُوَ فَوْجُ الْأَتْبَاعِ، فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ [ص: 60] لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا يُعَيِّنُ هَذَا الْمَحْمَلَ. وَلِذَلِكَ حُقَّ أَنْ يَتَسَاءَلَ النَّاظِرُ عَنْ وَجْهِ إِعَادَةِ فِعْلِ قالُوا وَعَنْ وَجْهِ عَدَمِ عَطْفِهِ عَلَى قَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إِعَادَةُ فِعْلِ الْقَوْلِ فَلِإِفَادَةِ أَنَّ الْقَائِلِينَ هُمُ الْأَتْبَاعُ فَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ تَأْكِيدًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ فَاعِلِ الْقَوْلِ تَبَعًا لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِضَمِيرِ الْقَائِلِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: هَذَا تَحْذِيرُ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَوَاقِبِ رِئَاسَتِهِمْ وَزَعَامَتِهِمُ الَّتِي يَجُرُّونَ بِهَا الْوَيْلَاتِ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ فَيُوقِعُونَهُمْ فِي هَاوِيَةِ السُّوءِ حَتَّى لَا يَجِدَ الْأَتْبَاعُ لَهُمْ جَزَاءً بَعْدَ الْفَوْتِ إِلَّا طَلَبَ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ. وَأَمَّا تَجْرِيدُ فِعْلِ قالُوا عَنِ الْعَاطِفِ فَلِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ التَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ والتوكيد اللَّفْظِيّ يكون عَلَى مِثَالِ الْمُوَكَّدِ. وَلَا تَلْتَبِسُ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ بِحِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فَيُحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِعُنْوَانِ مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا يُعَينُ أَنَّ قَائِلِيهِ هُمُ الْقَائِلُونَ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا [ص: 60] ، وَأَنَّ الَّذِينَ قَدَّمُوا لَهُمْ هُمُ الطَّاغُونَ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [38] قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ. ومَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا مَوْصُولَةٌ، وَجُمْلَةُ فَزِدْهُ خَبَرٌ عَنْ مَنْ، وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِالْفَاءِ جَرَى عَلَى مُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فِي قَرْنِ خَبَرِهِ بِالْفَاءِ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [34] . وَالضِّعْفُ، بِكَسْر الضَّاد: يسْتَعْمل اسْمَ مَصْدَرِ ضعّف وضاعف، فَهُوَ اسْم التَّضْعِيفِ وَالْمُضَاعَفَةِ، أَيْ تَكْرِيرُ الْمِقْدَارِ وَتَكْرِيرُ الْقُوَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ الْمَعَانِي كَالنِّصْفِ وَالزَّوْجِ.

[سورة ص (38) : الآيات 62 إلى 63]

وَيُسْتَعْمَلُ اسْمًا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُضَاعَفِ، وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ زِنَةِ فِعْلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، فَهُوَ بِمَعْنَى: الشَّيْءِ الَّذِي ضُوعِفَ لِأَنَّ زِنَةَ فِعْلٍ تَدُلُّ عَلَى مَا سلط عَلَيْهِ فعل نَحْوَ ذِبْحٍ، أَي مَذْبُوح. [62- 63] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 62 إِلَى 63] وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) عَطْفٌ عَلَى هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ [ص: 59] عَلَى مَا قُدِّرَ فِيهِ مِنْ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَا مِنْ قَوْلِ الطاغين فَإِنَّهُم الَّذين كَانُوا يُحَقِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا اسْتِفْهَامٌ يُلْقِيهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَلَهُّفًا عَلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ مَنْ عَرَفُوهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُكَنًّى بِهِ عَنْ مَلَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى تَحْقِيرِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالْخَطَأِ فِي حُسْبَانِهِمْ. فَلَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَهَنَّمَ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا نَاشِئًا عَنْ ظَنِّ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ رِجَالَ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الطَّاغِينَ أَنْ يَكُونَ رِجَالُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ، كَيْفَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ بِضِدِّ حَالِهِمْ فَلَا يَتَوَهَّمُونَهُمْ مَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيًّا اسْتَفْهَمُوا عَنْ مَصِيرِ الْمُسلمين لأَنهم لم يروهم يَوْمَئِذٍ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ صَارُوا إِلَى عَالَمٍ آخَرَ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يُنْذَرُونَ بِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا إِلَخْ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِمْ: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ الْآتِي ذِكْرُهُمَا. والْأَشْرارِ: جَمْعُ شَرٍّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَشِرِّ، مِثْلُ الْأَخْيَارِ جَمْعُ خَيْرٍ بِمَعْنَى الْأَخْيَرِ، أَوْ هُوَ: جَمْعُ شِرِّيرٍ ضِدُّ الخيّر، أَي الموصوفين بِشَرِّ الْحَالَةِ، أَيْ كُنَّا نَحْسَبُهُمْ أَشْقِيَاءَ قَدْ خَسِرُوا لَذَّةَ الْحَيَاةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْإِسْلَامَ وَرِضَاهُمْ بِشَظَفِ الْعَيْشِ، وَهُمْ يَعْنُونَ أَمْثَالَ بِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَصُهَيْبٍ، وَخِبَابٍ، وَسَلْمَانَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُمْ أَشْرَارًا فِي الْآخِرَةِ مُسْتَحِقِّينَ الْعَذَابَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ أَتَّخَذْناهُمْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ هِيَ هَمْزَةُ

[سورة ص (38) : آية 64]

الِاسْتِفْهَامِ، وَحُذِفَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ مِنْ فِعْلِ (اتَّخَذْنَا) لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَجُمْلَةُ أَتَّخَذْناهُمْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا. وأَمْ حَرْفُ إِضْرَابٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ زَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُنَا. وَالزَّيْغُ: الْمَيلُ عَنِ الْجِهَةِ، أَيْ مَالَتْ أَبْصَارُنَا عَنْ جِهَتِهِمْ فَلَمْ تَنْظُرْهُمْ. وَ (الْ) فِي الْأَبْصارُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ أَبْصَارُنَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَكَانَ تَحْقِيرُنَا إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا خَطَأٌ. وَكُنِّيَ عَنْهُ بِاتِّخَاذِهِمْ سُخْرِيًّا لِأَنَّ فِي فِعْلِ أَتَّخَذْناهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلسُّخْرِيَةِ، وَهَذَا تَنَدُّمٌ مِنْهُمْ عَلَى الِاسْتِسْخَارِ بِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ أَتَّخَذْناهُمْ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةُ رِجالًا ثَانِيَةٌ وَعَلَيْهِ تَكَونُ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَيْ بَلْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ. وَالسُّخْرِيُّ: اسْمُ مَصْدَرِ سَخِرَ مِنْهُ، إِذَا اسْتَهْزَأَ بِهِ، فَالسُّخْرِيُّ الِاسْتِهْزَاءُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى شَدَّةِ الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّ يَاءَهُ فِي الْأَصْلِ يَاءُ نَسَبٍ وَيَاءُ النَّسَبِ تَأْتِي لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ السِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ. [64] [سُورَة ص (38) : آيَة 64] إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) تَذْيِيلٌ وَتَنْهِيَةٌ لِوَصْفِ حَالِ الطَّاغِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَعَذَابِهِمْ، وَجِدَالِهِمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ مَنْظُورٌ فِيهِ لِمَا يَلْزَمُ الْخَبَرَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَإِثْبَاتِ حَشْرِهِمْ وَجَزَائِهِمْ بِأَنَّهُ حَقٌّ، أَيْ ثَابِتٌ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] .

[سورة ص (38) : الآيات 65 إلى 66]

وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُقَاوَلَةِ. وَسُمِّيَتِ الْمُقَاوَلَةُ تَخَاصُمًا، أَيْ تَجَادُلًا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمْ مُجَادَلَةٌ، فَإِنَّ الطَّاغِينَ لَمْ يُجِيبُوا الْفَوْجَ عَلَى قَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ [ص: 60] ، وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَمَلَتِ الْمُقَاوَلَةُ عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْجِدَالِ وَهُوَ قَولُ كُلِّ فَرِيقٍ لِلْآخَرِ لَا مَرْحَباً بِكُمْ كَانَ الذَّمُّ أَشَدَّ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ التَّخَاصُمِ حَقِيقَةً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِصَامَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [19] . وَأُضِيفَ هَذَا التَّخَاصُمُ إِلَى أَهْلِ النَّار كلهم اعْتِبَارا بِغَالِبِ أَهْلِهَا لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِ النَّارِ أَهْلُ الضَّلَالَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَهُمْ لَا يُعَدُّونَ أَنَّ يَكُونُوا دُعَاةً لِلضَّلَالِ أَوْ أَتْبَاعًا لِلدُّعَاةِ إِلَيْهِ فَكُلُّهُمْ يَجْرِي بَيْنَهُمْ هَذَا التَّخَاصُمُ، أَمَّا مَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنَ الْعُصَاةِ فَكَثِيرٌ مِنْهُم لَيْسَ عصيانه إِلَّا تَبَعًا لِهَوَاهُ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى عِلْمٍ بِأَنَّ مَا يَأْتِيهِ ضَلَالَةٌ لَمْ يُسَوِّلْهُ لَهُ أَحَدٌ. وأَهْلِ النَّارِ هُمُ الْخَالدُونَ فِيهَا، كَقَوْلِهِمْ: أَهَّلُ قَرْيَةِ كَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَشْمَلُ الْمُغْتَرِبَ بَيْنَهُمْ، عَلَى أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحِينَ وَغَيْرُ الْمُشْرِكِينَ، فَوَصْفُ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي الْمُشْرِكِينَ دُونَ عُصَاةَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ بَيَانِ مَدْلُولِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ إِنَّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ من لَحَقٌّ. [65- 66] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 65 إِلَى 66] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) هَذَا رَاجَعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] إِلَى قَوْلِهِ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] ، فَلَمَّا ابْتَدَرَهُمُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ بِأَنْ نَظَّرَ حَالَهَمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلِتَنْظِيرِ حَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ صَبَرُوا، وَاسْتَوْعَبَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَحْقِيقِ مقَام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَوْمِهِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مُقَابِلَ قَوْلِهِمْ: هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ،

[سورة ص (38) : الآيات 67 إلى 70]

وَأَنْ يَقُولَ: مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ مُقَابِلَ إِنْكَارِهِمُ التَّوْحِيدَ كَقَوْلِهِمْ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَذِكْرُ صِفَةِ الْوَاحِدِ تَأْكِيد لمدلول مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إِمَاء إِلَى رَدِّ إِنْكَارِهِمْ. وَذِكْرُ صِفَةِ الْقَهَّارُ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى قَهْرِهِمْ، أَيْ غَلَبِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقَهْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [18] . وَإِتْبَاعُ ذَلِكَ بِصِفَةِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَوَصْفُ الْعَزِيزُ تَمْهِيدٌ لِلْوَصْفِ بِ الْغَفَّارُ، أَيْ الْغَفَّارُ عَنْ عِزَّةٍ وَمَقْدِرَةٍ لَا عَنْ عَجْزٍ وَمَلَقٍ أَوْ مُرَاعَاةِ جَانِبٍ مُسَاوٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ الْغَفَّارُ هُنَا اسْتِدْعَاءُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِمُفَادِ وَصْفِ الْقَهَّارُ لِكَيْ لَا يَيْأَسُوا مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا سِيقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَعِيدِ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بالترغيب وَالْعَكْس. [67- 70] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 67 إِلَى 70] قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ هُنَا مُسْتَأْنَفًا. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفٍ يَعْطِفُ الْمَقُولَ أَعْنِي هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَقُولِ السَّابِقِ أَعْنِي أَنَا مُنْذِرٌ [ص: 65] ، عُدُولٌ يشْعر بالاهتمام بالمقول هُنَا كَيْ لَا يُؤْتَى بِهِ تَابِعًا لِمَقُولٍ آخَرَ فَيَضْعُفُ تَصَدِّي السَّامِعِينَ لِوَعْيِهِ. وَجُمْلَةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْقِعِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ انْتِقَالًا مِنْ غَرَضِ وَصْفِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ إِلَى غَرَضِ قِصَّةِ

خَلْقِ آدَمَ وَشَقَاءِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَ شَأْنٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَمَا يَبِينُ بِهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] جُعِلَ هَذَا كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْقِصَّةِ تَشْوِيقًا لِتَلَقِّيهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّبَأِ نَبَأَ خَلْقِ آدَمَ وَمَا جَرَى بَعْدَهُ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ يَخْتَصِمُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى لِأَنَّ الْمَلَأَ جَمَاعَةٌ. وَيُرَادُ بِالِاخْتِصَامِ الِاخْتِلَافُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرُ اللَّهِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَكَانَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ فَعُدَّ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُطْرَدَ مِنَ السَّمَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ إِلَخْ تَذْيِيلًا لِلَّذِي سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 49] إِلَى هُنَا، تَذْيِيلًا يُشْعِرُ بِالتَّنْوِيهِ بِهِ وَبِطَلَبِ الْإِقْبَالِ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ ضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ أُتِيَ لِتَعْرِيفِهِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّبَأِ: خَبَرُ الْحَشْرِ وَمَا أُعِدَّ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ حُسْنِ مَآبٍ، وَلِلطَّاغِينَ مِنْ شَرِّ مَآبٍ، وَمِنْ سُوءِ صُحْبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَتَرَاشُقِهِمْ بِالتَّأْنِيبِ وَالْخِصَامِ بَيْنَهُمْ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ، وَتَرَدُّدِهِمْ فِي سَبَبِ أَنْ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ. وَوَصْفُ النَّبَأِ ب عَظِيمٌ تهويل عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 1- 3] . وَعَظَمَةُ هَذَا النَّبَأِ بَيْنَ الْأَنْبَاءِ مِنْ نَوْعِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الشَّرِّ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَال: 73] ، فَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِلَى قَوْلِهِ: نَذِيرٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبَأِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ وَحْيٌ لَمَا كَانَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلٌ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمرَان: 44] ، وَنَظَائِرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً [ص: 71] إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَعَلَى هَذَا فَضَمِيرُ يَخْتَصِمُونَ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَوْلِهِ: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] إِذْ لَا تَخَاصُمَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا سَيَكُونُ إِذْ يَخْتَصِمُ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ فَمَعْنَى أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْعِلْمِ بِهِ فَقَدْ أُعْلِمُوا بِالنَّبَأِ بِمَعْنَاهُ الْأَوَّلِ وَسَيَعْلَمُونَ قَرِيبًا بِالنَّبَأِ بِمَعْنَاهُ الثَّانِي. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لِإِفَادَةِ إِثْبَاتِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَمَكُّنُهُ مِنْهُمْ، فَأَمَّا إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّبَأِ بِمَعْنَاهُ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ تَمَكُّنُهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُ طَالَمَا أَنْذَرَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَوَصَفَهُ فَلَمْ يَكْتَرِثُوا بِذَلِكَ وَلَا ارْعَوَوْا عَنْ كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّبَأِ بِمَعْنَاهُ الثَّانِي، فَتَأْوِيلُ تُمَكُّنِهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ عَدَمُ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلِاعْتِبَارِ بِمَغْزَاهُ مِنْ تَحَقُّقَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ هُوَ وَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانَ قَصْدًا لِلشَّرِّ بِهِمْ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَإِبَاءِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ لَا يُوجَدُ ذِكْرُ قِصَّةِ آدَمَ فِي سُورَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَهَا. فَذَلِكَ وَجْهُ التَّوْطِئَةِ لِلْقِصَّةِ بِأَسَالِيبِ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ مِمَّا خَلَا غَيْرُهَا عَنْ مِثْلِهِ وَبِأَنَّهَا نَبَأٌ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَوْلُهُ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَحْمِيقٌ. وَجُمْلَةُ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ اعْتِرَاضُ إِبْلَاغٍ فِي التَّوْبِيخِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، وَحُجَّةٌ عَلَى تَحَقُّقِ النَّبَأِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيل إِلَى عمله لَوْلَا وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِ بِهِ. وَذِكْرُ فِعْلِ كانَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا

قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمرَان: 44] وَقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الْقَصَص: 44] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْمَلَإِ الْأَعْلى عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لِلنَّبَأِ، لِتَعْدِيَةِ عِلْمٍ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي تَعْدِيَةِ الْعِلْمِ. وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي «الصَّحِيحِ» فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ. وَيَجُوزُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فِي النَّبَأِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، أَيْ مَا كَانَ لِي عِلْمٌ كَائِنٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَيْ مَا كُنْتَ حَاضِرًا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَهِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [الْقَصَص: 44] . وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ ذَاتُ الشَّأْنِ، وَوَصْفُهُ بِ الْأَعْلى لِأَنَّ الْمُرَادَ مَلَأُ السَّمَاوَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَهُمْ عُلُوٌّ حَقِيقِيٌّ وَعُلُوٌّ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الشَّرَفِ. وإِذْ يَخْتَصِمُونَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ أَيْ حِينَ يَخْتَصِمُ أَهْلُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، أَيْ فِي حِينِ تَنَازُعِ الْمَلَائِكَةِ وَإِبْلِيسَ فِي السَّمَاءِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْمُضِيِّ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ، أَوْ حِينَ يَخْتَصِمُ الطَّاغُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي النَّارِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَيْ مَلَائِكَةِ النَّارِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْمَحْشَرِ، وَالْمُضَارِعُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ. وَالِاخْتِصَامُ: افْتِعَالٌ مِنْ خَصَمَهُ، إِذَا نَازَعَهُ وَخَالَفَهُ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي خَصَمَ. وَجُمْلَةُ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، أَيْ مَا عَلِمْتُ بِذَلِكَ النَّبَأِ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ ذَلِكَ لِأَكُونَ نَذِيرًا مُبِينًا. وَقَدْ رُكِّبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ طَرِيقَيْنِ لِلْقَصْرِ: أَحَدُهُمَا طَرِيقُ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْآخَرُ طَرِيقُ أَنَّما الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ أُخْتُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فِي مَعَانِيهَا الَّتِي مِنْهَا إِفَادَةُ الْحَصْرِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ نَفَوْا إِفَادَتَهَا الْحَصْرَ فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ

(أَنَّ) الْمَفْتُوحَة الْهمزَة و (مَا) الْكَافَّةِ وَلَيْسَتْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ إِلَّا (إِنَّ) الْمَكْسُورَةَ تُغَيَّرُ كَسْرَةُ هَمْزَتِهَا إِلَى فَتْحَةٍ لِتُفِيدَ مَعْنًى مَصْدَرِيًّا مُشْرَبًا بِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ إِشْرَابًا بَدِيعًا جُعِلَ شِعَارُهُ فَتْحَ هَمْزَتِهَا لِتُشَابِهَ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةَ فِي فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتُشَابِهَ (إِنَّ) فِي تَشْدِيدِ النُّونِ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْوَضْعِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَتَكُونُ أَنَّما مَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ إِذَا جُعِلَتْ مَعْمُولَةً لِعَامِلٍ فِي الْكَلَامِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ مَقَامُ الْكَلَامِ هُنَا أَنَّ فَتْحَ هَمْزَةِ أَنَّما لِأَجْلِ لَامِ تَعْلِيلٍ مَقْدِرَةٍ مَجْرُورٍ بِهَا أَنَّما. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا لِأَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ، أَيْ إِلَّا لِعِلَّةِ الْإِنْذَارِ، أَيْ مَا أُوحِيَ إِلَيَّ نَبَأُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى إِلَّا لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، أَيْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْقَصَصِ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عِلَلٍ، وَقَدْ نُزِّلَ فِعْلُ يُوحى مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَحْيٌ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ وَإِيثَارِ جَدْوَى تَعْلِيلِ الْوَحْيِ. وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ تَكْمُلُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَوْقِعِ جُمْلَةِ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ الْمُبَيَّنَةِ بِهَا جُمْلَةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لَوْ جُعِلَ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مُسْتَثْنًى مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ الْوَحْيِ بِأَنْ يُقَدَّرَ: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا كَوْنِي نَذِيرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ لَكِنَّهُ بِالتَّأَمُّلِ يَتَّضِحُ رُجْحَانُ تَقْدِيرِ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ. فَأَفَادَتْ جُمْلَةُ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ حَصْرَ حِكْمَةِ مَا يَأْتِيهُ مِنَ الْوَحْيِ فِي حُصُولِ الْإِنْذَارِ وَحَصْرَ صفة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ النِّذَارَةِ، وَيَسْتَلْزِمُ هَذَانِ الْحَصْرَانِ حَصْرًا ثَالثًا، وَهُوَ أَنَّ إِخْبَار الْقُرْآن وَحي مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَتْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ كَمَا زَعَمُوا. فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ حُصُورٍ: اثْنَانِ مِنْهَا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، وَالثَّالثُ بِكِنَايَةِ الْكَلَامِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: 46] . وَهَذِهِ الْحُصُورُ: اثْنَانِ مِنْهَا إِضَافِيَّانِ، وَهُمَا قَصَرُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ عَلَى عِلَّةِ النِّذَارَةِ وَقصر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ، وَكِلَاهُمَا قَلْبٌ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ لِيَتَّخِذُوهُ لَعِبًا

[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 74]

وَاعْتِقَادِهِمْ أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ ذِكْرَ نَبَأِ خَلْقِ آدَمَ قُصِدَ بِهِ الْإِنْذَارُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَّا إِنَّمَا بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّمَا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَّا هَذَا الْكَلَام. [71- 74] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 71 إِلَى 74] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) مَوْقِعُ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا فَإِذَا جَعَلْنَا النَّبَأَ بِمَعْنَى نَبَأِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ الْمَوْعُودِ بِهِ فَيَكُونُ إِذْ قالَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارا [النَّمْل: 6، 7] ، وَنَظَائِرِهِ. فَإِمَّا عَلَى جَعْلِ النَّبَأِ بِمَعْنَى نَبَأِ خَلْقِ آدَمَ فَإِنَّ جُمْلَةَ إِذْ قالَ رَبُّكَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص: 69] بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ مُجَادَلَةَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَى قَضِيَّةِ قِصَّةِ إِبْلِيسَ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامُرَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِي رُؤْيا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الثَّالثَةِ بَعْدَ أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْحَسَنَاتِ وَالْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد» . وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (وَلَمْ يَذْكُرِ اخْتِصَامَهُمْ فِي قَضِيَّةِ خَلْقِ آدَمَ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح وَقَالَ عَن الْبُخَارِيُّ: إِنَّهُ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ «التَّفْسِيرِ» لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ بَعْضٌ مِمَّا يَخْتَصِمُ فِيهِ أَهْلُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى مُرَادٌ بِهِ اخْتِصَامٌ خَاصٌّ هُوَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَالْمُقَاوَلَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوا كَلَامًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، بَلْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَفْصِيلُ مَا جَرَى مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ يُبَيِّنُ مَا

أُجْمِلَ هُنَا وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ هُنَا الِاتِّعَاظُ بِكِبْرِ إِبْلِيسَ دُونَ مَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ قالَ رَبُّكَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ اذْكُرْ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [ص: 67] لَيْسَ ضَمِيرَ شَأْنٍ بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ وَأَنَّ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص: 69] مُرَادٌ بِهِ خُصُومَةَ أَهْلِ النَّارِ. وَقِصَّةُ خَلْقِ آدَمَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ أَشْبَهُهَا بِمَا هُنَا مَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَأَبْيَنُهَا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَوَقَعَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [31] إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ الْبَاعِثَ عَلَى الْإِبَايَةِ. وَوَقَعَتْ هُنَا زِيَادَةُ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَهُوَ بَيَانٌ لِكَوْنِ الْمُرَادِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [31] مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ الْإِبَايَةَ مِنَ الْكَوْنِ مِنَ السَّاجِدِينَ لِلَّهِ، أَيْ الْمُنَزِّهِي اللَّهَ عَنِ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا سَاعَتَئِذٍ، أَيْ سَاعَةَ إِبَائِهِ مِنَ السُّجُودِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلُ كَافِرًا، فَفِعْلُ كانَ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذَا الْكَلَامِ حِكَايَةً لِكُفْرِهِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: « (كَانَ) جَارٍ عَلَى بَابِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِخْبَارًا عَنِ الْحَالَةِ فِيمَا مَضَى، إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا، فَقَدَ أَنْبَأْتَ عَنْ أَنَّ حَالَتَهُ فِيمَا مَضَى مِنَ الدَّهْرِ هَذَا، وَإِذَا قُلْتَ: سَيَكُونُ عَالِمًا فَقَدْ أَنْبَأْتَ عَنْ أَنَّ حَالَةً سَتَقَعُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، فَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ» اه. وَقَدْ بَدَتْ مِنْ إِبْلِيسَ نَزْعَةٌ كَانَتْ كَامِنَةً فِي جِبِلَّتِهِ وَهِيَ نَزْعَةُ الْكِبْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَمْ تَكُنْ تَظْهَرُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَأَ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ حُسْنِ الْخِلْطَةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُثِيرٌ لِمَا سَكَنَ فِي نَفْسِهِ مِنْ طَبْعِ الْكِبْرِ وَالْعِصْيَانِ. فَلَمَّا طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ الْمَلَأِ مَخْلُوقٌ جَدِيدٌ وَأُمِرَ أَهْلُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِتَعْظِيمِهِ كَانَ ذَلِكَ مُورِيًّا زِنَادَ الْكِبْرِ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ فَنَشَأَ عَنْهُ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَعِصْيَانُ أَمْرِهِ.

[سورة ص (38) : الآيات 75 إلى 76]

وَهَذَا نَامُوسٌ خِلْقِيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ مَبْدَأً لِهَذَا الْعَالَمِ قَبْلَ تَعْمِيرِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْحَوَادِثُ وَالْمَضَائِقُ مِعْيَارِ الْأَخْلَاقِ وَالْفَضِيلَةِ، فَلَا يُحْكَمُ عَلَى نَفْسٍ بِتَزْكِيَةٍ أَوْ ضِدِّهَا إِلَّا بَعْدَ تَجْرِبَتِهَا وَمُلَاحَظَةِ تَصَرُّفَاتِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهَا. وَقَدْ مُدِحَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْخَيْرِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ أَرَيْتُمُوهُ الْأَبْيَضَ وَالْأَصْفَرَ؟ يَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ. وَقَالَ الشَّاعِر: لَا تمد حنّ امْرأ حَتَّى تُجَرِّبَهُ ... وَلَا تَذُمَّنَّهُ مِنْ قَبْلِ تَجْرِيبِ. إِنَّ الرِّجَالَ صَنَادِيقٌ مُقَفَّلَةٌ ... وَمَا مَفَاتِيحُهَا غِيَرُ التَّجَارِيبِ وَوَجْهُ كَوْنِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ امْتِنَاعَ طَعْنٍ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ كَامْتِنَاعِ أَحَدٍ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ إِنْ لَمْ يَجْحَدْ أَنَّهَا حَقٌّ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزلَة. [75- 76] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 75 إِلَى 76] قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) أَيْ خَاطَبَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ حِينَئِذٍ كَانَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا اسْتَكْبَرَ قَدِ انْسَلَخَ عَنْ صِفَةِ الْمَلَكِيَّةِ فَلم يعد بعد أَهْلًا لِتَلَقِّي الْخِطَابِ مِنَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ [الشورى: 51] ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُحَاوَرَةُ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ فَيَكُونُ الِاخْتِصَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَعْلِ ضمير يَخْتَصِمُونَ [ص: 69] عَائِدًا إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَجِيءَ بِفِعْلِ قالَ غَيْرَ مَعْطُوفٍ حَسْبَ طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَاتِ. وَتَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ إِلَّا قَوْلَهُ هُنَا مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ، وَوَقَعَ فِي سُورَة [الْأَعْرَاف: 12] أَلَّا تَسْجُدَ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَةً. وَحُكِيَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَيْ خَلَقْتُهُ بِقُدْرَتِي، أَيْ خَلْقًا خَاصًّا دَفْعَةً وَمُبَاشَرَةً لِأَمْرِ التَّكْوِينِ، فَكَانَ تَعَلُّقُ هَذَا التكوين تعلقا أَقْرَبَ مَنْ تَعَلُّقِهِ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ

الْمُرَتَّبَةِ لَهَا أَسْبَابٌ تُبَاشِرُهَا مِنْ حَمَلٍ وَوِلَادَةٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَخَلُّقِ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ أُصُولِهَا. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ خَلْقَ آدَمَ فِيهِ عِنَايَةٌ زَائِدَةٌ وَتَشْرِيفُ اتِّصَالٍ أَقْرَبُ. فَالْيَدَانِ تَمْثِيلٌ لِتَكَوُّنِ آدَمَ مِنْ مُجَرَّدِ أَمْرِ التَّكْوِينِ لِلطِّينِ بِهَيْئَةِ صُنْعِ الْفَخَّارِيِّ لِلْإِنَاءِ مِنْ طِينٍ إِذْ يُسَوِّيهِ بِيَدَيْهِ. وَكَانَ السَّلَفُ يُقِرُّونَ أَنَّ الْيَدَيْنِ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ مَعَ جَزْمِهِمْ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَقَصْدُهُمُ الْحَذَرُ مِنْ تَحْكِيمِ الْآرَاءِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ أَنْ تَحْمِلَ الْعُقُولُ الْقَاصِرَةُ صِفَاتِ اللَّهِ عَلَى مَا تَعَارَفَتْهُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] وَقَالَ مَرَّةً فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْآيَات المشاهبة فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَفِي إِلْقَاءِ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى إِبْلِيسَ قَطْعٌ بِمَعْذِرَتِهِ. وَالْمَعْنَى: أَمِنْ أَجْلِ أَنَّكَ تَتَعَاظَمُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَمْ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْعُلُوِّ، وَالْمُرَادُ بِالْعُلُوِّ الشَّرَفُ، أَيْ مِنَ الْعَالِينَ عَلَى آدَمَ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُعَظِّمَهُ فَأَجَابَ إِبْلِيسُ مِمَّا يُشَقُّ الثَّانِي. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ أَفْضَلَ مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَآدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ، يَعْنِي وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ، أَيْ فِي رَأْيِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ آدَمَ بَاسِمِ «مَا» الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ حِينَئِذٍ إِنْسَانٌ لِأَنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ كَانَ بَعْدَ خَلْقِهِ وَتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ «مَا» لَا تَخْتَصُّ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قَوْلٌ مِنَ الشَّيْطَانَ حُكِيَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَجُمْلَةُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَدْ جَعَلَ إِبْلِيسُ عُذْرَهُ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْصِيلِ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا التَّأْصِيلَ لِأَنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَعَنَهُ وَأَطْرَدَهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى بَاطِلًا وَعَصَى رَبَّهُ اسْتِكْبَارًا: وَطَرْدُهُ أَجْمَعُ لِإِبْطَالِ عِلْمِهِ وَدَحْضِ دَلِيلِهِ، غَيْرَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي فِي النَّارِ نُورٌ عَارِضٌ قَائِمٌ بِالْأَجْسَامِ الْمُلْتَهِبَةِ الَّتِي تُسَمَّى نَارًا، وَلَيْسَ لِلنَّارِ قِيَامٌ بِنَفْسِهَا وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدَّ أَنْ يَكُونَ كِيَانُهَا مَخْلُوطًا بِمَا يُلْهِبُهَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْطَانِ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ الذَّرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِقِوَامِ

مَاهِيَّتِهِ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ، ثُمَّ تَمْتَزِجُ تِلْكَ الذَّرَّةُ بِعَنَاصِرَ أُخْرَى مِثْلَ الْهَوَاءِ وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ آدَمَ مَخْلُوقًا مِنَ الطِّينِ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ ذَرَّاتِ جُثْمَانِهِ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ وَأُدْخِلَ عَلَى تِلْكَ الذَّرَّاتِ مَا امْتَزَجَتْ بِهِ عَنَاصِرُ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَلَى ذَلِكَ التَّرْكِيبِ مِنْ عَنَاصِرَ كِيمَاوِيَّةٍ وَقُوَّةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ تَتَقَوَّمُ بِمَجْمُوعِهَا مَاهِيَّةُ الْإِنْسَانِ. وَتَكُونُ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةً لَا تَبْعِيضِيَّةً. وَقَدْ جَزَمَ الْفَلَاسِفَةُ الْأَوَّلُونَ وَالْأَطِبَّاءُ بِأَنَّ عُنْصُرَ النَّارِ أَشْرَفُ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ- وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَرْضِ- لِأَنَّ النَّارَ لَطِيفَةٌ مُضِيئَةُ اللَّوْنِ وَالتُّرَابَ كَثِيفٌ مُظْلِمُ اللَّوْنِ. وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ كُلِّيَّاتِ الْقَانُونِ» : إِنَّ النَّارَ وَإِنْ تَرَجَّحَتْ عَلَى الْأَرْضِ بِمَا ذُكِرَ فَالْأَرْضُ رَاجِحَةٌ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا خَيْرٌ لِلْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرُ مُفْسِدَةٍ بِبَرْدِهَا، بِخِلَافِ النَّارِ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ بِحَرِّهَا لِكَوْنِهِ فِي الْغَايَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْحَقُّ: أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْعَنَاصِرِ لَا تَقْتَضِي أَفْضَلِيَّةَ الْكَائِنَاتِ الْمُنْشَأَةِ مِنْهَا لِأَنَّ الْعَنَاصِرَ أَجْرَامٌ بَسِيطَةٌ لَا تَتَكَوَّنُ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ مُجَرَّدِهَا بَلِ الْمَخْلُوقَاتُ تَتَكَوَّنُ بِالتَّرْكِيبِ بَيْنَ الْعَنَاصِرِ، وَالْأَجْسَامُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ كُلِّهَا. وَالرُّوحُ الْآدَمِيُّ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ تَفَوَّقَ بِهَا الْإِنْسَانُ عَلَى جَمِيعِ الْمُرَكَّبَاتِ بِأَنْ كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مَلَكِيٌّ شَارَكَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَلِذَلِكَ طَلَبَ مِنْهُ خَالِقُهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يُلْحِقَ نَفْسَهُ بِالْمَلَائِكَةِ فَتَحَقَّقَ ذَلِكَ الِالْتِحَاقُ كَامِلًا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ أَفْضَلُ من الْمَلَائِكَة لَا ستواء الْفَرِيقَيْنِ فِي تَمَحُّضُ النُّورَانِيَّةِ وَتَمَيَّزَ فَرِيقُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهُمْ لَحِقُوا تِلْكَ الْمَرَاتِبَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالطَّاعَةِ، فَلَيْسَ لِإِبْلِيسَ دَلِيلٌ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى آدَمَ وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ضَالَّةٌ وَلِذَلِكَ جُوزِيَ عَلَى إِبَائِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَيْهِ بِالطَّرْدِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى. وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَا لِرَدِّ شُبَهِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُصَوِّبُونَ شُبْهَةَ إِبْلِيسَ طَعْنًا فِي الدِّينِ لَا إِيمَانًا بِالشَّيَاطِينِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنْ يَكُونَ مَا يَنْشَأُ مِنَ النَّارِ أَفْضَلُ مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الطِّينِ لِأَنَّ

[سورة ص (38) : الآيات 77 إلى 78]

الْمَخْلُوقَ كَائِنٌ مُرَكَّبٌ مِنْ عَنَاصِرَ وَأَجْزَاءٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَالتَّرْكِيبُ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْمَادَّةِ الْأُولَى شَرَفًا وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا حَقَارَةً، وَالتَّفَاضُلُ إِنَّمَا يَتَقَوَّمُ مِنَ الْكَمَالِ فِي الذَّات والْآثَار. [77- 78] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 77 إِلَى 78] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى مَا بَرَزَ مِنْ نَفْسَانِيَّتِهِ فَخَالَفَ مَا كَانَ مِنْ طَرِيقَتِهِ فَأَطْرَدَهُ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَمِنَ الْجَنَّةِ، وَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ. وَفُرِّعَ أَمْرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ بِالْفَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِأَنَّ جَوَابَهُ دَلَّ عَلَى كَوْنِ خُبْثٍ فِي نَفْسِهِ بِدَتْ آثَارُهُ فِي عَمَلِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِمُخَالَطَةِ أَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَاللَّعْنَةُ: الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَة الله، وأضيف إِلَى اللَّهِ لِتَشْنِيعِ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ الْمَلْعُونُ لِأَنَّ الْمَلْعُونَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ هُوَ أَشْنَعُ مَلْعُونٍ. وَجُعِلَ يَوْمِ الدِّينِ غَايَةَ اللَّعْنَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى دَوَامِهَا مُدَّةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا لِيَسْتَغْرِقَ الْأَزْمِنَةَ كُلَّهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولُ ضِدِّ اللَّعْنَةِ لَهُ يَوْمَ الدِّينِ أَعْنِي الرَّحْمَةَ لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فَجَزَاءُ الْمَلْعُونِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِ يَوْمِ الدِّينِ دُونَ: يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص: 79] ، أَوْ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] . [79- 81] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 79 إِلَى 81] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) أَيْ قَالَ إِبْلِيسُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَتَفْسِيرُهَا هُنَاكَ مُسْتَوفى. [82- 83] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 82 إِلَى 83] قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ كَلَامِهِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ وَعِقَابِهِ إِيَّاهُ بِاللَّعْنَةِ

[سورة ص (38) : الآيات 84 إلى 85]

الدَّائِمَةِ وَهَذَا التَّفْرِيعُ مِنْ تَرْكِيبِ كَلَامِ مُتَكَلم على كَلَام مُتَكَلِّمٍ آخَرَ. وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِعَطْفِ التَّلْقِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . أَقْسَمَ الشَّيْطَانُ بِعِزَّةِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقِيَامِهِ بِالْإِغْوَاءِ دُونَ تَخَلُّفٍ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ عَظَمَةَ هَذَا الْقَسَمِ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [39] : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. وَالْعِزَّةُ: الْقَهْرُ وَالسُّلْطَانُ، وَعِزَّةُ اللَّهِ هِيَ الْعِزَّةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي لَا تَخْتَلُّ حَقِيقَتُهَا وَلَا يَتَخَلَّفُ سُلْطَانُهَا، وَقَسَمُ إِبْلِيس بهَا ناشىء عَنْ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِغْوَاءَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَقْدَرَهُ وَلَوْلَا ذَلِك لم يسْتَطع نَقْضَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فِي سُورَة [الْحجر: 40] . [84- 85] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 84 إِلَى 85] قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَفْرِيعًا، وَهَذَا التَّفْرِيعُ نَظِيرُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] . وَقُوبِلَ تَأْكِيدُ عَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله فَبِعِزَّتِكَ [ص: 82] بِتَأْكِيدٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْحَقَّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَا يَتَخَلَّفُ، وَلَمْ يَزِدْ فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ عَلَى لَفْظِ الْحَقَّ تَذْكِيرًا بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَسَمٍ عَلَيْهِ تَرَفُّعًا مِنْ جَلَالِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يُقَابِلَ كَلَامَ الشَّيْطَانِ بِقَسَمٍ مِثْلِهِ. وَلِذَلِكَ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرًا بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ وَهِيَ وَالْحَقَّ أَقُولُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى: لَا أَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَسَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَالْحَقُّ بِالنَّصْبِ وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا عَنْ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أُحِقُّ، أَيْ أُوجِبُ وَأُحَقِّقُ. وَأَصْلُهُ التَّنْكِيرُ، فَتَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ كَالتَّعْرِيفِ فِي: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكُ، فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ

وَإِنَّمَا تَعْرِيفُهُ حِلْيَةٌ لَفْظِيَّةٌ إِشَارَةً إِلَى مَا يَعْرِفُهُ السَّامِعُ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُوَ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَرَّفَ بِاللَّامِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ فَتُنُوسِيَ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنِ الْفِعْلِ. وَهَذَا الرَّفْعُ إِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ فَالْحَقُّ قَوْلِي، أَوْ فَالْحَقُّ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ إِلَخْ، عَلَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الْقَسَمِ قَائِمَةً مَقَامَ الْخَبَرِ، وَإِمَّا عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، أَيْ فَقَوْلِيَ الْحَقُّ وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مُفَسِّرُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، وَلَا خِلَافَ فِي نَصْبِ الْحَقِّ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحَقَّ أَقُولُ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَجُمْلَةُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ إِلَخْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ فَالْحَقُّ وَهِيَ مُؤَكَّدَةٌ بِلَامِ الْقسم وَالنُّون. وَتقدم الْمَفْعُولِ فِي وَالْحَقَّ أَقُولُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ وَلَا أَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ بَيَانِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى التَّمْيِيزِ وَيَنْتَصِبُ التَّمْيِيزُ بِتَقْدِيرِ مَعْنَاهَا. وَتَدْخُلُ عَلَى تَمْيِيزِ (كَمْ) فِي نَحْوِ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [ص: 3] ، وَهِيَ هُنَا بَيَانٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَأَمْلَأَنَّ مِنْ مِقْدَارٍ مُبْهَمٍ فَبُيِّنَ بِآيَةِ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ مَدْخُولِ «مِنِ» الْبَيَانِيَّةِ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ كَافِ الْخِطَابِ فِي مَعْنَى اسْمِ الْجِنْسِ، أَيْ مِنْ جِنْسِكَ الشَّيَاطِينِ إِذْ لَا تَكُونُ ذَات إِبْلِيس مَلأ لِجَهَنَّمَ. وَإِذْ قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَيْ مَنْ تَبِعَكَ مِنَ الَّذِينَ أَغْوَيْتَهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَبْقَى مَنْ عَدَا هَذَيْنِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنَّةِ غَيْرَ مِلْءٍ لِجَهَنَّمَ. وأَجْمَعِينَ تَوْكِيدٌ لضمير مِنْكَ و «لمن» فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ تَبِعَكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ حِكَايَةَ هَذِهِ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ حِكَايَةٌ لِمَا جَرَى فِي خَلَدِ الشَّيْطَانِ مِنَ الْمَدَارِكِ الْمُتَرَتِّبَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ، وَمَا جَرَى فِي إِرَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَسْبَابِهَا مِنْ خَوَاطِرِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ الْعَالَمَ الَّذِي جَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَمُسَبَّبَاتُهَا عَالَمُ حَقِيقَةٍ لَا يَجْرِي فِيهِ إِلَّا الصِّدْقُ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ لِتَرْوِيجِ

[سورة ص (38) : الآيات 86 إلى 88]

الْمُوَارَبَةِ وَلَا الْحِيلَةِ وَلِذَلِكَ لَا تُعَدُّ خَوَاطِرُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ جَرْأَةً عَلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُعَدُّ مُجَازَاةُ اللَّهِ تَعَالَى الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ تَنَازُلًا مِنَ اللَّهِ لِمُحَاوَرَةِ عَبَدٍ بَغِيضٍ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَرَتْ مِنَ الشَّيْطَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَقْوَالُ الَّتِي أَلْقَاهَا الله عَلَيْهِ. [86- 88] [سُورَة ص (38) : الْآيَات 86 إِلَى 88] قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِإِبْلَاغِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ أَمَرَهُ عِنْدَ انْتِهَائِهَا أَنْ يَقْرَعَ أَسْمَاعَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَالْفَذْلَكَةِ لِلسُّورَةِ تَنْهِيَةً لَهَا تسجيلا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مَا جَاءَهُمْ إِلَّا بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَلَيْسَ طَالِبًا مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً، أَيْ لَوْ سَأَلَهُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لَرَاجَ اتِّهَامُهُمْ إِيَّاهُ بِالْكَذِبِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ اتِّهَامِهِ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَقْلِ يصرف صَاحبه على أَنْ يَكْذِبَ لِغَيْرِ نَفْعٍ يَرْجُوهُ لِنَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى عُمُومُ نَفْيِ سُؤَالِهِ الْأَجْرَ مِنْهُمْ مِنْ يَوْمِ بُعِثَ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قِيَاسُ اسْتِقْرَاءٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَقْرَوْا أَحْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا مَضَى وَجَدُوا انْتِفَاءَ سُؤَالِهِ أَجْرًا أَمْرًا عَامًّا بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ الْحَاصِلِ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ مُخَالَطَاتِهِمْ إِيَّاهُ، فَهُوَ أَمْرٌ مُتَوَاتِرٌ بَيْنَهُمْ فَهَذَا إِبْطَالٌ لقَولهم كَذَّابٌ [ص: 4] الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ فَإِنَّ مَبْدَأَ السُّورَةِ قَوْلُهُ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] فَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجز على الْمصدر. وَعَطْفُ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَفَادَ انْتِفَاءَ جَمِيعِ التَّكَلُّفِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّكَلُّفُ: مُعَالَجَةُ الْكُلْفَةِ، وَهِيَ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ عَمَلُهُ وَالْتِزَامُهُ لِكَوْنِهِ يُحْرِجُهُ

أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ مَا لَيْسَ بِسَهْلٍ، فَالْمُتَكَلِّفُ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يَدَّعِي عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ. فَالْمَعْنَى هُنَا: مَا أَنَا بِمُدَّعٍ النُّبُوءَةَ بَاطِلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَهُوَ رَدٌّ لقَولهم: كَذَّابٌ [ص: 4] وَبِذَلِكَ كَانَ كَالنَّتِيجَةِ لقَوْله: مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّفَ شَيْئًا إِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ تَكَلُّفِهِ نَفْعًا، فَالْمَعْنَى: وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ. وَمِنْهُ حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالسٍ عِنْدَ مِقْرَاةٍ لَهُ (أَيْ حَوْضِ مَاءٍ) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ أَوَلَغَتِ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنه قَالَ: «يَا أَيهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، أَيْ لَا مَشَقَّةَ فِي تَكَالِيفِهِ وَهُوَ مَعْنَى سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا اسْتِرْوَاحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ طبع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ رَوْحِ شَرِيعَتِهِ تَنَاسُبًا لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى تَنْفِيذِ شَرْعِهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَجِ عَنْهُ فِي الْقِيَامِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَتَرْكِيبُ مَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَشَدُّ فِي نَفْيِ التَّكَلُّفِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِمُتَكَلِّفٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ اشْتِمَالِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَلَى ثُبُوتِ ضِدِّهِ، فَلَمَّا نَفَى بِقَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَنْ يَكُونَ تَقَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى اللَّهِ، ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ لِلنَّاسِ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، أَيْ لَيْسَ هُوَ بِالْأَسَاطِيرِ أَوِ التُّرَّهَاتِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا تَذْيِيلًا إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا هُنَا. وَهَذَا الْإِخْبَارُ عَنْ مَوْقِعِ الْقُرْآنِ لَدَى جَمِيعِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَا خُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ فِي مُجَادَلَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَا يَرْجُو مِنْ مُعَانِدِيهِ أَجْرًا. وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّلِ مَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَسْتَغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] . وَعُمُومُ الْعَالَمِينَ يُكْسِبُ الْجُمْلَةَ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِلْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا. وَالْقَصْرُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ قَصْرُ قَلْبٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ هُوَ ذِكْرٌ لَا أَسَاطِيرُ وَلَا سِحْرٌ وَلَا شِعْرٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا وَسَمُوا بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِ صِفَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَجُمْلَةُ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقَصْرُ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، أَيْ وَسَتَعْلَمُونَ خَبَرَ هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ زَمَانٍ عِلْمًا جَزْمًا فَيَزُولُ شَكُّكُمْ فِيهِ، فَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى وُجُودِ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، وَأَصْلُ الْخَبَرِ: الصِّدْقُ، أَيْ الْمُوَافَقَةُ لِلْوَاقِعِ، فَإِذَا قِيلَ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، فَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِ فِي الْوَاقِعِ، فَإِضَافَةُ النَّبَأِ إِلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ إِذْ مَعْنَى اللَّامِ هُوَ أَصلُ مَعَانِي الْإِضَافَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21] ، أَيْ سَتَعْلَمُونَ صِدْقَ وَصْفِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] . وَفُسِّرَ النَّبَأُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَا أَنْبَأَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِنْذَارِكُمْ بِالْعَذَابِ، فَهُوَ تَهْدِيدٌ. وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَاقِعٌ فَإِنَّ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْ عُجِّلَ لَهُ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبَقِيَّتُهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ عَلِمُوا دُخُولَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا بِغَيْظِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ شَاهَدُوا فَتْحَ مَكَّةَ وَآمَنُوا، أَوْ رَأَوْا قَبَائِلَ الْعَرَبِ تَدْخُلُ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا فَعَلِمُوا نَبَأَ صِدْقِ الْقُرْآنِ وَمَا وَعَدَ بِهِ بَعْدَ حِينٍ فَازْدَادُوا إِيمَانًا. وَحِينُ كُلِّ فَرِيقٍ مَا مَضَى عَلَيْهِ مِنْ زَمَنٍ بَيْنَ هَذَا الْخِطَابِ وَبَيْنَ تَحَقُّقِ الصِّدْقِ. وَالْحِينُ: الزَّمَنُ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةٍ. فَخَتَمَ الْكَلَامَ بِتَسْجِيلِ التَّبْلِيغِ وَأَنَّ فَائِدَةَ مَا أَبْلَغَهُمْ لَهُمْ لَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَتَمَ بِالْمُوَاعَدَةِ لِوَقْتِ يَقِينِهِمْ بِنَبِيئِهِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَمُرَاعَاةِ حُسْنِ الْخِتَامِ.

39- سورة الزمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 39- سُورَةُ الزُّمَرِ سُمِّيَتْ «سُورَةَ الزُّمَرِ» مِنْ عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ سُورَةَ الزُّمَرِ لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمَّاهَا «سُورَةَ الْغُرَفِ» (وتناقله الْمُفَسِّرُونَ) . وَوجه أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُ الْغُرَفِ، أَيْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ دُونَ الْغُرُفَاتِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزمر: 20] الْآيَةَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَقِيلَ: إِلَى سَبْعِ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي قِصَّةِ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَقِصَّتُهُ عَلَيْهَا مَخَائِلُ الْقَصَصِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ إِذْ تَأَخَّرَ عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَعَدَّ لَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ مَعَهُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَكَانَا تَوَاعَدَا عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَفُتِنَا فَافْتَتَنَا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِهَا، وَمَا نَشَأَ الْقَولُ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا لِمَا رُوِيَ فِيهَا مِنَ الْقَصَصِ الضَّعِيفَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَ أَيْضًا قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: 10] الْآيَةَ بِالْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: 23] الْآيَةَ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.

أغراضها

فَبَلَغَتِ الْآيَاتُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا تِسْعَ آيَاتٍ. وَالْمُتَّجَهُ: أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ مَا يُخَيَّلُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَصَصٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ صَحَّتْ أَسَانِيدُهُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ التَّمَثُّلُ بِهِ فِي تِلْكَ الْقَصَصِ فَاشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ بِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولٍ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ [الزمر: 10] أَنَّهَا نَزَلَتْ قُبَيْلَ هِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ، أَيْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَهِيَ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ عَلَى الْمُخْتَارِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ سَبَأٍ وَقَبْلَ سُورَةِ غَافِرٍ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَمْسًا وَسَبْعِينَ. أَغْرَاضُهَا ابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِمَا هُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ تَنْوِيهًا تَكَرَّرَ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ (¬1) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ لِأَغْرَاضِهَا. وَأَغْرَاضُهَا كَثِيرَةٌ تَحُومُ حَوْلَ إِثْبَاتِ تفرد الله تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ فِيهَا. وَإِبْطَال تعلللات الْمُشْرِكِينَ لِإِشْرَاكِهِمْ وَأَكَاذِيبِهِمْ. وَنَفْيِ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا. وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلِ تَفَرُّدِهِ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَبِتَدْبِيرِ نِظَامِهَا وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُنْكِرُ الْمُشْرِكُونَ انْفِرَادَهُ بِهِ. ¬

(¬1) هِيَ قَوْله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْآيَتَيْنِ وَقَوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الْآيَة، وَقَوله: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ الْآيَتَيْنِ، وَقَوله: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ الْآيَة، وَقَوله: اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الْآيَة، وَقَوله: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي الْآيَة. [.....]

[سورة الزمر (39) : الآيات 1 إلى 2]

وَالْخَلْقِ الْعَجِيبِ فِي أطوار تكون الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ مِنْ فِعْلِهِمْ وَهُوَ الْتِجَاؤُهُمْ إِلَى الله عِنْد مَا يُصِيبُهُمُ الضُّرُّ. وَالدَّعْوَةِ إِلَى التَّدَبُّرِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلِ. وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى كُفْرَانِهِمْ شُكْرَ النِّعْمَةِ. وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَبَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ. وَأَنَّ دِينَ التَّوْحِيدِ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ. وَالتَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِالْمُشْرِكِينَ مَا حَلَّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَإِعْلَامِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ وَشُرَكَاءَهُمْ لَا يُعْبَأُ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَرَسُولُهُ لَا يَخْشَاهُمْ وَلَا يَخَافُ أَصْنَامَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ جَمِيعًا. وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَتَمْثِيلِ الْبَعْثِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِفَاقَةِ بَعْدَهُ وَأَنَّهُ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَتَمْثِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاتَيْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِسْرَافِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِلثَّبَاتِ عَلَى التَّقْوَى وَمُفَارَقَةِ دَارِ الْكُفْرِ. وَخُتِمَتْ بِوَصْفِ حَالِ يَوْمِ الْحِسَابِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ، وَأَمْثَالٌ، وَتَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، وَوَعْظٌ وَإِيمَاءٌ بِقَولِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] الْآيَةَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَهلُ عِلْمٍ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْلُ جَهَالَةٍ، وَذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِرِفْعَةِ الْعِلْمِ ومذمة الْجَهْل. [1- 2] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) فَاتِحَةٌ أَنِيقَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ لِمَا حَوَتْهُ وَغَيْرَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. فَ تَنْزِيلُ مَصْدَرٌ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيُّ لَا مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَيْفَ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الْكِتَابِ وَأَصْلُ الْإِضَافَةِ أَنْ لَا تَكُونَ بَيَانِيَّةً. وَتَنْزِيلُ: مَصْدَرُ نَزَّلَ الْمُضَاعَفِ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا. وَاخْتِيَارُ هَذِهِ الصِّيغَةِ هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَلَّلُوا بِهِ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمَهْمُوزِ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ كُلِّ تَذْكِيرٍ وَكُلِّ مُجَادَلَةٍ. وَأَجْرَى عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَصْفَ بِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُنَزَّلُ مِنْهُ يَأْتِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ الصِّفَتَيْنِ، فَيَكُونُ عَزِيزًا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] ، أَيِ الْقُرْآنُ، عَزِيزٌ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهِ، وَغَالِبٌ بِالْفَضْلِ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَلَبَةَ تَسْتَلْزِمُ التَّفَضُّلَ وَالتَّفَوُّقَ، وَغَالِبٌ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ إِذْ أَعْجَزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَيَكُونُ حَكِيمًا مِثْلَ صِفَةِ مُنْزِلِهِ. وَالْحَكِيمُ: إِمَّا بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَالْقُرْآنُ أَيْضا حَاكم عَن مُعَارِضِيهِ بِالْحُجَّةِ، وَحَاكِمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] . وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ كَاتِّصَافِ مُنَزِّلِهِ بِهَا. وَهَذِهِ مَعَانٍ مُرَادَةٌ مِنَ الْآيَةِ فِيمَا نَرَى، عَلَى أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ ببلاغة لَفظه وبإعجازه العلمي، إِذا اشْتَمَلَ عَلَى عُلُومٍ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَفِي وَصْفِ الْحَكِيمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 269] .

وَفِي هَذَا إرشاد إِلَى وجود التَّدَبُّرِ فِي مَعَانِي هَذَا الْكِتَابِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ التَّدَبُّرِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] . وَمَعْنَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [209] . وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ الِامْتِنَانِ. فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَمَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ اسْتِعْمَالًا لِلْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَلِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَانِ بِصِدْقِ النَّبِيءِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ جَدِيرٌ بِالتَّأْكِيدِ لِأَنَّ دَلِيلَ صِدْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِالْإِعْجَازِ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ المعجزات، فَكَانَ مقضى التَّأْكِيدِ مَوْجُودًا بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ. فَجُمْلَةُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْكِتابِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ جَرْيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَتَعْدِيَةُ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [4] . وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالًا مِنَ الْكِتابَ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] . وَفُرِّعَ عَلَى الْمَعْنَى الصَّرِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَنْ أُمِرَ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ تَعْرِيضٌ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فِي الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَّبَّرُوا فِي الْمَعْنَى الْمُعَرَّضِ بِهِ.

وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ كُبْرَى تَقْتَضِي أَنْ يُقَابِلَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّكْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِشْرَاكَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ كُفْرٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا، فَإِنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَفِي الْعِبَادَةِ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنى قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ التَّوْطِئَةُ إِلَى تَقْيِيدِ الْعِبَادَةِ بِحَالَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ قَوْلِهِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ خَاصَّةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا زِيَادَةُ التَّصْرِيحِ بِالْإِخْلَاصِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ عَدَمِ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ هُنَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ. وَالْإِخْلَاصُ: الْإِمْحَاضُ وَعَدَمُ الشَّوْبِ بِمُغَايِرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِفْرَادَ. وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ الَّتِي فِيهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ، أَيْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَأُوثِرَ الْإِخْلَاصُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّوْحِيدِ وَأَخَصِّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص: 86] . وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُعَامَلَةُ الْمَخْلُوقِ رَبَّهُ وَهِيَ عِبَادَتُهُ. فَالْمَعْنَى: مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ غَيْرَ خَالِطٍ بِعِبَادَتِهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَانْتُصِبَ مُخْلِصاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتر فِي فَاعْبُدِ. وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ مَعْنَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَا مُقْتَضٍ لتقديم مفعول فَاعْبُدِ اللَّهَ عَلَى عَامِلِهِ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ اسْتِنَادُ الشَّيْخِ ابْنِ الْحَاجِبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَوْجِيهِ رَأْيِهِ بِأَنْكَارِ إِفَادَةِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِهِ التَّخْصِيصَ، وَتَضْعِيفِهِ لِاسْتِدْلَالِ أَيِمَّةِ الْمَعَانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ آخِرَ السُّورَةِ [66] بِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ

[سورة الزمر (39) : آية 3]

الِاهْتِمَامِ لِوُرُودِ فَاعْبُدِ اللَّهَ، قَالَ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» فِي الدِّيبَاجَةِ «اللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ» ، اللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] تَقْدِيمًا لِلْأَهَمِّ، وَمَا قِيلَ: إِنَّهُ لِلْحَصْرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّكِ فِيهِ بِنَحْوِ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ فَاعْبُدِ اللَّهَ اهـ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْإِيضَاحِ» هُنَالِكَ قَوْلَهُ: (لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ فَإِنَّ الْمَعْبُودِيَّةَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْخَاصَّةِ بِهِ، فَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحَالِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ) اهـ. وَهُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَنْعِ دَلِيلٍ شَهِدَ بِهِ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عِنْدَ أَيِمَّةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَى سَنَدِ مَنْعِهِ بِتَوَهُّمِهِ أَنَّ التَّقْدِيمَ الَّذِي لُوحِظَ فِي مَقَامٍ يَجِبُ أَنْ يُلَاحَظَ فِي كُلِّ مَقَامٍ، كَأَنَّ الْكَلَامَ قد جعل قوالب يُؤْتَى بِهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ اخْتِلَافُ الْمَقَامَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ، حَتَّى جُعِلَ الِاخْتِصَاصُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقَرِينَةِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ، كَأَنَّ الْقَرِينَةَ لَوْ سُلِّمَ وَجُودُهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّعْوِيلِ عَلَى دَلَالَةِ النُّطْقِ. [3] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 3] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ وَأَفَادَ التَّعْلِيلَ لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْخَالصَةِ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدِّينُ الْخَالصُ مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ وَخَاصًّا بِهِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ مُصِيبًا مَحَزَّهُ فَصَارَ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مُسَبَّبًا عَنْ نِعْمَةِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَمُقْتَضًى لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ اقْتِضَاء الْكُلية لجزئياتها. وَبِهَذَا الْعُمُومِ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَتَحَمَّلَتْ ثَلَاثَةَ مَوَاقِعَ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْفَصْلَ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِهَا لِتَتَلَقَّاهُ النَّفْسُ بِشَرَاشِرِهَا وَذَلِكَ هُوَ مَا رَجَّحَ اعْتِبَارَ الِاسْتِئْنَافِ فِيهَا، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّعْلِيلَ حَاصِلًا تَبَعًا مِنْ ذِكْرِ إِخْلَاصٍ عَامٍّ بَعْدَ إِخْلَاصٍ خَاصٍّ وَمَوْرِدُهُمَا وَاحِدٌ. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لَامُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ لَا يَحِقُّ الدِّينُ الْخَالصُ، أَيْ الطَّاعَةُ غَيْرُ الْمَشُوبَةِ إِلَّا لَهُ عَلَى نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] .

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ فَأَفَادَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ وَأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَالِصُ: السَّالِمُ مِنْ أَنْ يَشُوبَهُ تَشْرِيكُ غَيْرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ. وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ إِخْلَاصُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، أَيْ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِهِ، أَيْ طَلَبًا لِرِضَاهُ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَهُوَ آيِلٌ إِلَى أَحْوَالِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة ينْكِحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . وَعَرَّفَ الْغَزَالِيُّ الْإِخْلَاصَ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ قَصَدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ. وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ وَإِلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ إِرْضَاءَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، أَيْ لِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحَظُّ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِيَمْدَحَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَ الْمَدْحُ لَتَرَكَ الْعِبَادَةَ. وَلِذَا قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، أَيْ إِذَا كَانَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يُقَاتِلَ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَيِسَ مِنْهَا تَرَكَ الْقِتَالَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلنَّفْسِ حَظٌّ عَاجِلٌ وَكَانَ حَاصِلًا تَبَعًا لِلْعِبَادَةِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ مُغْتَفَرٌ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا تَخْلُو عَنْهُ النُّفُوسُ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُبْطِلُهَا الْخَطْرَةُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ. حَدَّثَ الْعُتْبِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إِلَّا مُقَاتِلٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ الْقِتَالُ طَبِيعَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا، فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ: «مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ لَمْ تَضُرْهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ، عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَأَنْكَرُ ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُحِبَّ أَحَدٌ أَنْ يُرَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] ، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: 84] . قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ من وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلَهُ عَنِ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤَيِّسُهُ مِنَ الْأَجْرِ وَلِيَدْفَعَ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ (أَيْ إِذَا أَرَادَ تَثْبِيطَهُ عَنِ الْعَمَلِ) ، وَيُجَدِّدَ النِّيَّةَ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهـ. وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ أَنَّ رَبِيعَةَ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَقُلْتُ لَهُ مَا تَرَى فِي التَّهْجِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الظُّهْرِ؟ قَالَ: مَا زَالَ الصَّالِحُونَ يُهَجِّرُونَ. وَفِي «جَامِعِ الْمِعْيَارِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَذْهَبُ إِلَى الْغَزْوِ وَمَعَهُ فَضْلُ مَالٍ لِيُصِيبَ بِهِ مِنْ فَضْلِ الْغَنِيمَةِ (أَيْ لِيَشْتَرِيَ مِنَ النَّاسِ مَا صَحَّ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ) فَأَجَابَ لَا بَأْسَ بِهِ وَنَزَعَ بِآيَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة: 198] وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ وَلَا قَادِحٍ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَشْرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَبَاحَ ذَلِكَ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الْكَهْف: 110] فَدَلَّ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ تَحْتَ آيَةِ الْكَهْفِ اهـ. وَأَقُول: إِن الْقَصْد إِلَى الْعِبَادَةِ لِيَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ فَيَسْأَلُهُ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا لَا ضَيْرَ فِيهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ جُعِلَتْ وَسِيلَةً لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شُرِعَتْ صَلَوَاتٌ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِثْلَ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَصَلَاةِ الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ، وَمِنَ الْمُغْتَفَرِ أَيْضًا أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ مِنْ عَمَلِهِ

أَنْ يَدْعُوَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَذْكُرُوهُ بِخَيْرٍ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَدَعَا لَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ وَدَّعُوهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِأَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ: لكنني أسأَل الرحمان مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَات فرع يقذف الزَّبَدَا أَوْ طَعْنَةً مِنْ يَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مروا على حدثي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ تَقْيِيدِنَا الْحَظَّ بِأَنَّهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ أَنَّ رَجَاءَ الثَّوْابِ وَاتِّقَاءَ الْعِقَابِ هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّقَرُّبِ لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ هِيَ قَضِيَّةٌ أَخَصُّ مِنْ قَضِيَّةِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا فِي ذَاتِهَا إِذْ قَدْ تَعْرُو الْعِبَادَةِ عَنْ فَضِيلَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ، فَلِلْإِخْلَاصِ أَثَرٌ فِي تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْعَمَلِ وَزِيَادَتِهِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ. وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُجَرَّدَ الِانْقِيَادِ فَإِنْ حَصَلَ مَعَهُ دَاعٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَانِبُ الدَّاعِي إِلَى الِانْقِيَادِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْمُغَايِرِ، أَوْ مُعَادِلًا لَهُ، أَوْ مَرْجُوحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَادِلَ وَالْمَرْجُوحَ سَاقِطٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّاعَةِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أَوْ لَا اهـ. وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ- أَيْ فِي كِتَابِ النِّيَّةِ مِنَ الرُّبْعِ الرَّابِعِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ دَاعِيَ غَيْرِ الطَّاعَةِ مَرْجُوحًا أَنَّهُ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ. وَعَلَامَتُهُ أَنْ تَصِيرَ الطَّاعَةُ أَخَفَّ عَلَى الْعَبْدِ بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ غَرَضٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ بْنَ الْعَرَبِيِّ- أَيْ فِي كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» كَمَا نَقَلَهُ فِي «الْمِعْيَارِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ. - قَالَ الشَّاطِبِيُّ-: وَكَانَ مَجَالُ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدَيْنِ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، فَالْغَزَالِيُّ يَلْتَفِتُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْقَصْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهِ الِانْفِكَاكِ) .

فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ دَقِيقَةٌ أَلْحَقْنَاهَا بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْإِخْلَاصِ الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّشَابُهِ الْعَارِضِ بَيْنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقَارِنُ قَصْدَ الْعِبَادَةِ وَبَيْنَ إِشْرَاكِ الْمَعْبُودِ فِي الْعِبَادَةِ بِغَيْرِهِ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ خُلُوصٌ كَامِلٌ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَا إِشْرَاكَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ وَعَبَدُوهُمْ حِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَزْعُمُونَهُ عُذْرًا لَهُمْ فَقَوْلُهُمْ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ وَقَلْبِ حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ جَعَلُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ فَنَقَضُوا بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ مَقْصِدَهَا وَتَطَلَّبُوا الْقُرْبَةَ بِمَا أَبْعَدَهَا، وَالْوَسِيلَةُ إِذَا أَفْضَتْ إِلَى إِبْطَالِ الْمَقْصِدِ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهَا ضَرْبًا مِنَ الْعَبَثِ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ مَا نَعْبُدُهُمْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ، فَتَعِينَ أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِ وَبِمَا يَلِيهِ، وَفِعْلُ الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا الْقَولُ الْمَحْذُوفُ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَيْ قَائِلِينَ: مَا نَعْبُدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حِينَئِذٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ اتَّخَذُوا فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فَعُلِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ تَعَلُّلِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ أَكْثَرَ من عِبَادَتهم لله. فَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ بِ مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

اخْتِلَافُ طَرَائِقِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَنْوَاعِهَا مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَمَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ لَيْسَ مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ مُقْتَضِيًا الْحُكْمَ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرِيقٍ آخَرَ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ بِإِبْطَالِ دَعْوَى جَمِيعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ عَلَى بَيْنَهُمْ مُمَاثِلٍ لَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، لِاقْتِضَائِهَا أَنَّ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الدِّينَ لِلَّهِ قَدْ وَافَقُوا الْحَقَّ فَالتَّقْدِيرُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُخْلِصِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ النَّابِغَةِ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو حُجْرٍ إِلَّا لَيَالٍ قَلَائِلُ تَقْدِيرُهُ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي بِدَلَالَةِ سِيَاقِ الرِّثَاءِ وَالتَّلَهُّفِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا نَعْبُدُهُمْ لِشَيْءٍ إِلَّا لِعِلَّةِ أَنَّ يُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ فَيُفِيدُ قَصْرًا عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ دُونَ مَا شَنَّعْتُمْ عَلَيْنَا مِنْ أَنَّنَا كَفَرْنَا نِعْمَةَ خَالِقِنَا إِذْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْمَعْذِرَةَ وَيَكُونُ فِي أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ اسْتِخْدَامٌ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُقَدَّرَةَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ الْعِلَّةِ إِذْ لَا يَكُونُ الْكُفْرَانُ بِالْخَالِقِ عِلَّةٌ لِعَاقِلٍ وَلَكِنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَالْقَصْرُ لَا يُنَافِي أَنَّهُمْ أَعَدُّوهُمْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ إِذَا عَدُّوهُمْ شُفَعَاءَ وَاسْتَنْجَدُوهُمْ فِي النَّوَائِبِ، وَاسْتَقْسَمُوا بِأَزْلَامِهِمْ لِلنَّجَاحِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ. وَالزُّلْفَى: مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ، أَيْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ فِي مَنْزِلَةِ الْقرب، وَالْمرَاد بهَا مَنْزِلَةُ الْكَرَامَةُ وَالْعِنَايَةِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَنَازِلِ الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لِيُقَرِّبُونا بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ لِيُقَرِّبُوا مَنْزِلَتَنَا إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زُلْفى اسْمُ مَصْدَرٍ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، أَيْ قُرْبًا شَدِيدًا. وَأَفَادَ نَظْمُ هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَمْرَيْنِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ ثَابِتٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، فَالْأَوَّلُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، وَالثَّانِي مِنْ كَوْنِ الْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ وَعَنْ كَوْنِهِمْ كَفَّارِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ ضَالِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ مَصِيرِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ جَرَّاءِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، أَيْ يَذَرُهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَيُمْهِلُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الدِّينَ فَخَالَفُوهُ. وَالْمُرَادُ بِ مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء، أَي الْمُشْركين، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِهِمْ، وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِضْمَارِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ وَقُوَّةِ الْكُفْرِ. وَهِدَايَةُ اللَّهِ الْمَنْفِيَّةُ عَنْهُمْ هِيَ: أَنْ يَتَدَارَكَهُمُ اللَّهُ بِلُطْفِهِ بِخَلْقِ الْهِدَايَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْهِدَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الْهِدَايَةُ التَّكْوِينِيَّةُ لَا الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالتَّبْلِيغِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، أَيِ الْعِنَايَةِ الَّتِي بِهَا تَيْسِيرُ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَهْتَدُوا، أَيْ لَا يُوَفِّقُهُمُ اللَّهُ بَلْ يَتْرُكُهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ غَضَبًا عَلَيْهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِإِفَادَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ لِيُفِيدَ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ هُوَ كَذِبُهُمْ وَشِدَّةُ كُفْرِهِمْ. فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ فَبَلَّغَهُمْ كَانُوا عِنْد مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِمُسْتَوَى مُتَحَدٍّ عِنْدَ اللَّهِ بِمَا هُمْ عَبِيدٌ مُرَبِوبُونَ ثُمَّ يَكُونُونَ أَصْنَافًا فِي تَلَقِّيهِمُ الدَّعْوَةَ فَمِنْهُمْ طَالِبُ هِدَايَةٍ بِقَبُولِ مَا فَهِمَهُ وَيَسْأَلُ عَمَّا جَهِلَهُ، وَيَتَدَبَّرُ وَيَنْظُرُ وَيَسْأَلُ، فَهَذَا بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ يُعِينُهُ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلْخَيْرِ حَتَّى يُشْرِقَ بَاطِنُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: 125] وَقَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 7، 8] .

[سورة الزمر (39) : آية 4]

وَلَا جَرَمَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَوَغَّلَ الْعَبْدُ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَفِي الْكُفْرِ بِهِ ازْدَادَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَازْدَادَ بُعْدُ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمرَان: 86] . وَالتَّوْفِيقُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَنَفْيُ هِدَايَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ تَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مُسَبَّبَةُ عَنِ التَّوْفِيقِ فَعُبِّرَ بِنَفْيِ الْمُسَبَّبِ عَنْ نَفْيِ السَّبَبِ. وَكَذِبُهُمْ هُوَ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِتَأْلِيهِ الْأَصْنَامِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَاقِ صِفَاتٍ وَهْمِيَّةٍ لِلْأَصْنَامِ وَشَرَائِعَ يَدِينُونَ بِهَا لَهُم. والكفّار: الشَّديد الْكُفْرِ الْبَلِيغُهُ، وَذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّيهِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْمَوَانِعِ لِلتَّدَبُّرِ فِيهِ. وَعُلِمَ مِنْ مُقَارَنَةِ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ بِوَصْفِهِمْ بِالْأَبْلَغِيَّةِ فِي الْكُفْرِ أَنَّهُمْ مُتَبَالِغُونَ فِي الْكَذِبِ أَيْضًا لِأَنَّ كَذِبَهُمُ الْمَذْمُومَ إِنَّمَا هُوَ كَذِبُهُمْ فِي كُفْرِيَّاتِهِمْ فَلَزِمَ مِنْ مُبَالَغَةِ الْكُفْرِ مُبَالَغَةُ الْكَذِب فِيهِ. [4] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 4] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَاذِبُونَ وَكَفَّارُونَ فِي اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 3] وَأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهُدَى وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3] ، فَقَصَدَ إِبْطَالَ شِرْكِهِمْ بِإِبْطَالِ أَقْوَاهُ وَهُوَ عَدُّهُمْ فِي جُمْلَةِ شُرَكَائِهِمْ شُرَكَاءَ زَعَمُوا لَهُمْ بُنُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتِ الله قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْم: 19- 21] . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَالِكَ: «كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ (يَعْنِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ) بَنَاتُ اللَّهِ» وَذَكَرَ الْبَغْوَيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ:

الْأَصْنَامُ وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَخُصَّ الِاعْتِقَادُ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوهُ فِي غَيْرِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ فِي أَسْمَاءِ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَصْنَامِهِمْ مَا هُوَ مُذَكَّرٌ نَحْوَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهِمْ: بِاسْمِ اللَّاتِ، بِاسْمِ الْعُزَّى. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حُجَجِ انْفِرَادِ اللَّهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَّخِذًا وَلَدًا لَاخْتَارَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يَشَاءُ اخْتِيَارَهُ، أَيْ لَاخْتَارَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاخْتِيَارِ وَلَا يَخْتَارُ لِبُنُوَّتِهِ حِجَارَةً كَمَا زَعَمْتُمْ لِأَنَّ شَأْنَ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَحْسَنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاة بَنَات لله تَعَالَى، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهَا بَطَلَ عَنْ سَائِرِ الْأَصْنَامِ بِحُكْمِ الْمُسَاوَاةِ أَوِ الْأَحْرَى، فَتَكُونُ لَوْ هُنَا هِيَ الْمُلَقَّبَةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةَ، أَيْ الَّتِي شَرْطُهَا مَفْرُوضٌ فَرْضًا عَلَى أَقْصَى احْتِمَالٍ وَهِيَ الَّتِي يُمَثِّلُونَ لَهَا بِالْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» ، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى قَوْله: كَفَّارٌ [الزمر: 3] . وَلَيْسَ هُوَ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ وَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِبْطَالًا لِبُنُوَّةِ الْمَسِيحِ عِنْدَ النَّصَارَى لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَقَدٍ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطِبِينَ وَلَا شُعُورٌ لَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُحَاجَّةُ النَّصَارَى وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ إِلَى مُحَاجَّةِ النَّصَارَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بُنِيَ الدَّلِيلُ عَلَى قَاعِدَةِ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ بُنِيَ الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ عَلَى فَرْضِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا عَلَى فَرْضِ التَّوَلُّدِ، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ التَّبَنِّي لِأَنَّ إِبْطَالَ التَّبَنِّي بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَالَ تَّوَلُّدِ الِابْنِ بِالْأَوْلَى. وَعُزِّزَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الِاتِّخَاذِ بِتَعْقِيبِهِ بِفِعْلِ الِاصْطِفَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ الْمُخْطِئ لِيُغَيِّرَ فِي مَهْوَاةِ خَطَئِهِ، أَيْ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ نِسْبَةُ بُنُوَّةٍ

لَكَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ التَّبَنِّيَ لَا غَيْرَ إِذْ لَا تتعقل بنوة لله غَيْرَ التَّبَنِّي وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَبَنِّيًا لَاخْتَارَ مَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِالتَّبَنِّي مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دُونَ الْحِجَارَةِ الَّتِي زَعَمْتُمُوهَا بَنَاتٍ لِلَّهِ. وَإِذَا بَطَلَتْ بُنُوَّةُ تِلْكَ الْأَصْنَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَزْعُومَةِ بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ سَائِرِ الْأَصْنَامِ الْأُخْرَى الَّتِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا فِي مَرْتَبَةٍ دُونَ مَرْتَبَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ فَقَدِ اقْتَضَى الْكَلَامُ دَلِيلَيْنِ: طُوِيَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ دَلِيلُ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذُكِرَ دَلِيلُ إِبْطَالِ التبنّي لما لايليق أَنْ يَتَبَنَّاهُ الْحَكِيمُ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِ وَقْعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا وَبِهِ تَخْرُجُ عَنْ نِطَاقِ الْحَيْرَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَ تَعَسُّفٍ فِي مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَمَوْقِعِهَا، وَلَمْ يَتِمَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهَا. فَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ بُنُوَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَجَعْلُ جَوَابِ لَوْ مَحْذُوفًا وَجَعْلُ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ إِرْشَادًا إِلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: «يَعْنِي لَوْ أَرَادَ اللَّهُ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ لَامْتَنَعَ، وَلَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ (أَيْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ) مُحَالًا وَلَمْ يَتَأَتَّ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَهُ وَيَخْتَصَّهُمْ وَيُقَرِّبَهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ فغرّكم اخْتِصَاصه إِيَّاهُمْ فَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ جَهْلًا مِنْكُمْ بِحَقِيقَتِهِ الْمُخَالَفَةِ لحقائق الْأَجْسَام والأعراض» . فَجُعِلَ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ جَوَابُ لَوْ مُفِيدًا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي يَعْقُبُ الْمُقَدَّمَ وَالتَّالِيَ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَلِلْتَفْتَزَانِيِّ بَحْثٌ يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِقَامَةِ تَقْرِيرِ «الْكَشَّافِ» لِدَلِيلِ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهِ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ لَوْ صُهَيْبِيَّةٌ تَبَعًا لِتَقْرِيرِ ذكره صَاحب «الْكَشْف» . وَبَعْدُ فَإِنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ مُنْقَطِعَةً عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ غَرَضٍ مُسْتَأْنَفٍ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ نَظْمُ الِاحْتِجَاجِ لَا نَظْمُ الْإِفَادَةِ، فَكَانَ مَحْمَلُ «الْكَشَّافِ» فِيهَا بَعِيدًا. وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ فِي تَقْرِيرِ الْمُلَازَمَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ خَفَاءً وَتَعَسُّفًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّقَّارُ فِي كِتَابِهِ «التَّقْرِيبُ مُخْتَصَرُ الْكَشَّافِ» .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْوَلَدِ اتِّخَاذُ التَّشْرِيفِ وَالتَّبَنِّي وَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: لَاصْطَفى وَأَمَّا الِاتِّخَاذُ الْمَعْهُودُ فِي الشَّاهِدِ (يَعْنِي اتِّخَاذَ النَّسْلِ) فَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي جِهَةِ اللَّهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَاصْطَفى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَنْ يَتَّخِذَ الِاصْطِفَاءُ وَالتَّبَنِّي قَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ أَي من محداثته اهـ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْفَخْرُ. وَبَنَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فَقَالَ عقب تعقيب كَلَامِ «الْكَشَّافِ» «وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ لَاخْتَارَ الْأَفْضَلَ (أَيِ الذُّكُورَ) لَا الْأَنْقَصَ وَهُنَّ الْإِنَاث» . وَقَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِحَسْبِ الظَّاهِرِ، وَذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَسْلُكْهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذكره التفتازانيّ هُنَاكَ. وَالَّذِي سَلَكَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ وَأَوْضَحُ مِنْ مَسْلَكِ «الْكَشَّافِ» فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ لَكِنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَصِلُ الْآيَةَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْطَعَ بَيْنَهَا الْأَوَاصِرُ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ. وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَهُ بِالدَّلِيلِ الِامْتِنَاعِيِّ عَوْدًا إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِي فَارَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] . وَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ دَلِيلٌ لِلتَّنْزِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ سُبْحانَهُ. فَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْوَصْفَيْنِ، وَذُكِرَ اسْمُهُ الْعَلَمُ لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ كَمَا قَالَ بَعْدَ: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: 5] . وَإِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ يُبْطِلُ الشَّرِيكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَإِثْبَاتُ الْقَهَّارُ يُبْطِلُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفًى وَتَشْفَعُ لَهُمْ. وَالْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ، أَي هُوَ الشَّديد الْغَلَبَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ

[سورة الزمر (39) : آية 5]

[5] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 5] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: 4] فَإِنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْعَوَالِمِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا عَلَى شِدَّتِهَا وَعَظَمَتِهَا يُبَيِّنُ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَعْنَى الْقَهَّارِيَّةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ذَاتَ اتِّصَالَيْنِ: اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [الزمر: 4] كَاتِّصَالِ التَّذْيِيلِ، وَاتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ اتِّصَالَ التَّمْهِيدِ. وَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاقْتِضَاءِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ نَفِيَ الشَّرِيكِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ شُرَكَاؤُهُمْ خَلْقَ الْعَوَالِمِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَهَا خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَهُوَ هُنَا ضد الْبَعْث، أَيْ خَلَقَهُمَا خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ وَالنَّفْعِ لَا يَشُوبُ خَلْقَهُمَا عَبَثٌ وَلَا اخْتِلَالٌ قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 38- 39] . وَجُمْلَةُ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ بَيَانٌ ثَانٍ وَهُوَ كَتَعْدَادِ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ أَوَ الِامْتِنَانِ. وَأُوثِرَ الْمُضَارِعُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ، أَوْ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ التَّكْوِيرِ تَبَعًا لِاسْتِحْضَارِ آثَارِهَا فَإِنَّ حَالَةَ تَكْوِيرِ اللَّهِ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ وَإِنَّمَا الْمَشَاهَدُ أَثَرُهَا وَتَجَدُّدُ الْأَثَرِ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ التَّأْثِيرِ. وَالتَّكْوِيرُ حَقِيقَتُهُ: اللَّفُّ وَاللَّيُّ، يُقَالُ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا لَوَاهَا وَلَفَّهَا، وَمُثِّلَتْ بِهِ هُنَا هَيْئَةُ غَشَيَانِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ فِي جُزْءٍ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ وَعَكْسُ ذَلِكَ عَلَى التَّعَاقُبِ بِهَيْئَةِ كُوَرِ الْعِمَامَةَ، إِذْ تَغْشَى اللِّيَةُ اللِّيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ قَابِلٌ لِلتَّجْزِئَةِ بِأَنْ تُشَبِّهَ الْأَرْضُ بِالرَّأْسِ، وَيُشَبَّهَ تَعَاوُرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَيْهَا بِلَفِّ طَيَّاتِ الْعِمَامَةِ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ إِبْدَاعًا إِيثَارُ مَادَّةِ التَّكْوِيرِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ عِلْمِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الرَّابِعَةِ وَالْمُوَضَّحَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ، فَإِنَّ مَادَّةَ التَّكْوِيرِ جَائِيَةٌ مِنِ اسْمِ الْكُرَةِ، وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ مِنْ جَمِيعِ

جِهَاتِهِ عَلَى التَّسَاوِي، وَالْأَرْضُ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ فِي الْوَاقِعِ وَذَلِكَ كَانَ يَجْهَلُهُ الْعَرَبُ وَجُمْهُورُ الْبَشَرِ يَوْمَئِذٍ فَأَوْمَأَ الْقُرْآنُ إِلَيْهِ بِوَصْفِ الْعَرَضَيْنِ اللَّذَيْنِ يَعْتَرِيَانِ الْأَرْضَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، أَوِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، إِذْ جَعَلَ تَعَاوُرَهُمَا تَكْوِيرًا لِأَنَّ عَرَضَ الْكُرَةِ يَكُونُ كُرَوِيًّا تَبَعًا لِذَاتِهَا، فَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ بِإِنْشَاءِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اخْتِيرَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ الْإِنْشَاءَ مِنْ خَلْقِ الْعَرَضَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ لِلْأَرْضِ مَادَّةِ التَّكْوِيرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْغَشَيَانِ الَّذِي عُبِّرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ أَوَّلَهَا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الْأَعْرَاف: 54] فَكَانَ تَصْوِيرُ ذَلِكَ بِإِغْشَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى قُوَّةِ التَّمَكُّنِ مِنْ تَغْيِيرِهِ أَعْرَاضَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى تَغْيِيرِ أَعْظَمِ عَرَضٍ وَهُوَ النُّورُ بِتَسْلِيطِ الظُّلْمَةِ عَلَيْهِ، لِتَكُونَ هَاتِهِ الْآيَةُ لِمَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى عِلْمِ الْهَيْئَةِ فَتَكُونُ مُعْجِزَةً عِنْدَهُمْ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُزْءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: 5] . وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هُوَ تَذْلِيلُهُمَا لِلْعَمَلِ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا مِنْ نِظَامِ السَّيْرِ سَيْرِ الْمَتْبُوعِ وَالتَّابِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى جُمْلَةِ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ مُنَاسِبٌ لِتَكْوِيرِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ وَعَكْسِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّكْوِيرَ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ فَتِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ اقْتَضَتْ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَجُمْلَةُ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فِي مَوْقِعِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَذَلِكَ أَوْضَحُ أَحْوَالِ التَّسْخِيرِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ لِلْعِوَضِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ. وَالْجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ.

وَالْأَجَلُ هُوَ أَجَلُ فَنَائِهِمَا فَإِنَّ جَرْيَهُمَا لَمَّا كَانَ فِيهِ تَقْرِيبُ فَنَائِهِمَا جُعِلَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ لِأَجْلِ الْأَجَلِ أَيْ لِأَجْلِ مَا يَطْلُبُهُ وَيَقْتَضِيهِ أَجَلُ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] ، فَالتَّنْكِيرُ فِي (أَجَلٍ) لِلْإِفْرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ أَجْلَ حَيَاةِ النَّاسِ الَّذِي يَنْتَهِي بَانْتِهَاءِ الْأَعْمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَلَيْسَ الْعُمْرُ إِلَّا أَوْقَاتًا مَحْدُودَةً وَأَنْفَاسًا مَعْدُودَةً. وَجَرْيُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تُحْسَبُ بِهِ تِلْكَ الْأَوْقَاتُ وَالْأَنْفَاسُ، فَصَارَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ لِأَجَلٍ. قَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ: مَنَعَ الْبَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ ... وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَالتَّنْكِيرُ فِي أَجَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى لِآجَالٍ مُسَمَّاةٍ. وَلَعَلَّ تَعْقِيبَهُ بِوَصْفِ الْغَفَّارُ يُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالْمُسَمَّى: الْمَجْعُولُ لَهُ وَسْمٌ، أَيْ مَا بِهِ يُعَيَّنُ وَهُوَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لِأَنْ يَبْلُغَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ [لُقْمَان: 29] بِحَرْفِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلَامُ الْعِلَّةِ وَحَرْفُ الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَأَحْسَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ بِهِمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ فِي الْكَلَامِ. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. اسْتِئْنَاف ابتدائي هُوَ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، فَإِنَّ وَصْفَ الْعَزِيزُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا غَالِبَ لَهُ فَلَا تُجْدِي الْمُشْرِكِينَ عِبَادَةُ أَوْلِيَائِهِمْ، وَوَصْفُ الْغَفَّارُ مُؤْذِنٌ بِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَفِي وَصْفِ الْغَفَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِذِكْرِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ يَظْهَرُ أَثَرُهَا بَعْدَ الْبَعْثِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَانْتِهَاءِ الْأَجَلِ تَحْرِيضًا عَلَى الْبِدَارِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ حِينَ يَفُوتُ التَّدَارُكُ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِيذَانٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَدْلُولِهَا الصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ

[سورة الزمر (39) : آية 6]

[6] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 6] خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْعَجِيبُ. وَأُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ أَصْلِهِمْ وَهُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تَشَعَّبَ مِنْهَا عَدَدٌ عَظِيمٌ وَبِخَلْقِ زَوْجِ آدَمَ لِيَتَقَوَّمَ نَامُوسُ التَّنَاسُلِ. وَالْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَكْرِيرًا لِلِاسْتِدْلَالِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ لِيَجْمَعَ فِي تَوْجِيهِ الِاسْتِدْلَالِ إِلَيْهِمْ بَيْنَ طَرِيقَيِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عُطِفَ قَوْلُهُ: جَعَلَ مِنْها زَوْجَها بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالُّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِي لِأَنَّ مَسَاقَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشَّرِيكِ بِمَرَاتِبِهِ، فَكَانَ خَلْقُ آدَمَ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَخَلْقُ زَوْجِهِ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلُّ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ. فَعُطِفَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِي إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا بِالدَّلَالَةِ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، فَكَانَ خَلْقُ زَوْجِ آدَمَ مِنْهُ أَدَلَّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَمِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّهُ خَلَقٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ أَجْلَبُ لِعَجَبِ السَّامِعِ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فَجِيءَ لَهُ بِحَرْفِ التَّرَاخِي الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَرَاخِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي تَرَاخِي الزَّمَنِ لِأَنَّ زَمَنَ خَلْقِ زَوْجِ آدَمَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِ النَّاسِ. فَأَمَّا آيَةُ الْأَعْرَافِ فَمَسَاقُهَا مَسَاقُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ، فَذُكِرَ الْأَصْلَانَ لِلنَّاسِ مَعْطُوفًا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْكَوْنُ أَصْلًا لِخَلْقِ النَّاسِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ ثَلَاثَ دَلَائِلَ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى بِالْأَصَالَةِ وَخَلْقِ الذَّكَرِ الْأَوَّلِ بِالْإِدْمَاجِ وَخَلْقِ الْأُنْثَى بِالْأَصَالَةِ أَيْضًا.

وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ. اسْتِدْلَالٌ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ عُطِفَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَئِذٍ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ وَلَا تَخْلُو الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ وَلَمْ تَزَلِ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَنْعَامِ حَافَّةً بِالْبَشَرِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِمْ. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَبَيْنَ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لِمُنَاسِبَةِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لِزَوْجِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ لِأَنَّ فِي الْأَنْعَامِ مَوَادَّ عَظِيمَةً لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: 5- 7] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها إِلَخْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [80] . وَالْإِنْزَالُ: نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَذْلِيلِ الْأَمْرِ الصَّعْبِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الصَّعْبَ يُتَخَيَّلُ صَعْبَ الْمَنَالِ كَالْمُعْتَصِمِ بِقِمَمِ الْجِبَالِ، قَالَ خَصَّابُ بْنُ الْمُعَلَّى مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: أَنْزَلَنِي الدَّهْرُ عَلَى حُكْمِهِ ... مِنْ شَاهِقٍ عَالٍ إِلَى خَفْضِ فَإِطْلَاقُ الْإِنْزَالِ هُنَا بِمَعْنَى التَّذْلِيلِ وَالتَّمْكِينِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الْحَدِيدَ: 25] أَيْ سَخَّرْنَاهُ لِلنَّاسِ فَأَلْهَمْنَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ قَيْنِهِ يَتَّخِذُونَهُ سُيُوفًا وَدُرُوعًا وَرِمَاحًا وَعَتَادًا مَعَ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْأَنْعَامِ إِنْزَالَهَا الْحَقِيقِيَّ، أَيْ إِنْزَالُ أُصُولِهَا مِنْ سَفِينَةِ نُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: 11] ، أَيْ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] فَيَكُونُ الْإِنْزَالُ هُوَ الْإِهْبَاطُ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَسَنَانِ لِإِطْلَاقِ الْإِنْزَالِ، وَهُمَا أَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ إِنْزَالَ الْأَنْعَامِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، أَيْ لِأَنَّ خَلْقَهَا بِأَمْر التكوين الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ حَضْرَةِ الْقُدْسِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ.

وَالْأَزْوَاجُ: الْأَنْوَاعُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: 3] وَالْمُرَادُ أَنْوَاعُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ. وَأُطْلِقَ عَلَى النَّوْعِ اسْمُ الزَّوْجِ الَّذِي هُوَ الْمُثَنِّي لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ يَتَقَوَّمُ كِيَانُهُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهُمَا زَوْجَانِ أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَزْوَاجٌ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ سَفِينَةِ نُوحٍ مِنْهَا وَهُوَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ نَوْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ لَا غَيْرَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِتَطَوُّرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وحكمته ودقائق صنعه. وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ الْخَلْقِ وَتَكَرُّرِهِ مَعَ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ هَذَا التَّطَوُّرِ الْعَجِيبِ اسْتِحْضَارًا بِالْوَجْهِ وَالْإِجْمَالِ الْحَاصِلِ لِلْأَذْهَانِ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ إِدْرَاكِهَا، وَيَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» . وَقَوْلُهُ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أَيْ طَوْرًا مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَ طَوْرٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ عَشْرَةٌ: الْأَوَّلُ: طَوْرُ النُّطْفَةِ، وَهِيَ جِسْمٌ مُخَاطِيٌّ مُسْتَدِيرٌ أَبْيَضُ خَالٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ يُشْبِهُ دُودَةً، طُولُهُ نَحْو خَمْسَة مليميتر. الثَّانِي: طَوْرُ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ تَتَكَوَّنُ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ اسْتِقْرَارِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ، وَهِيَ فِي حَجْمِ النَّمْلَةِ الْكَبِيرَةِ طُولُهَا نَحْوُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِلِّيمِتْرًا يَلُوحُ فِيهَا الرَّأْسُ وَتَخْطِيطَاتٌ مِنْ صُوَرِ الْأَعْضَاءِ.

الثَّالِثُ: طَوْرُ الْمُضْغَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ حَمْرَاءُ فِي حَجْمِ النَّحْلَةِ. الرَّابِعُ: عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شَهْرَيْنِ يَصِيرُ طوله ثَلَاثَة سانتميتر وَحَجْمُ رَأْسِهِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ بَقِيَّتِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عُنُقُهُ وَلَا وَجْهُهُ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُهُ. الْخَامِسُ: فِي الشَّهْرِ الثَّالثِ يَكُونُ طُولُهُ خَمْسَة عشر سانتيميترا وَوَزْنُهُ مِائَةُ غِرَامٍ وَيَبْدُو رَسْمُ جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَحَوَاجِبِهِ وَأَظَافِرِهِ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُ جِلْدِهِ. السَّادِسُ: فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ يَصِيرُ طوله عشْرين سانتيميترا وَوَزْنُهُ (240) غِرَامَاتِ، وَيَظْهَرُ فِي الرَّأْسِ زَغَبٌ وَتَزِيدُ أَعْضَاؤُهُ الْبَطْنِيَّةُ عَلَى أَعْضَائِهِ الصَّدْرِيَّةِ وَتَتَّضِحُ أَظَافِرُهُ فِي أَوَاخِرَ ذَلِكَ الشَّهْرِ. السَّابِعُ: فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ يَصِيرُ طُولُهُ نَحْو ثَلَاثِينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ خَمْسُمِائَةِ غِرَامٍ وَيَظْهَرُ فِيهِ مُطْبِقًا وَتَتَصَلَّبُ أَظَافِرُهُ. الثَّامِنُ: فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ يَصِيرُ طُولُهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ صنتيمترا ويقلّ احمرارا جِلْدِهِ وَيَتَكَاثَفُ جِلْدُهُ وَتَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ دَسِمَةٌ مُلْتَصِقَةٌ، وَيَطُولُ شَعْرُ رَأْسِهِ وَيَمِيلُ إِلَى الشُّقْرَةِ وَتَتَقَبَّبُ جُمْجُمَتُهُ مِنَ الْوَسَطِ. التَّاسِعُ: فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ يَزِيدُ غِلَظُهُ أَكْثَرَ مِنِ ازْدِيَادِ طُولِهِ وَيَكُونُ طُولُهُ نَحْو أَرْبَعِينَ صنتيمترا، وَوَزْنُهُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ أَوْ تَزِيدُ، وَتَقْوَى حَرَكَتُهُ. الْعَاشِرُ: فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ يَصِيرُ طُولُهُ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى سِتِّينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ مِنْ سِتَّةٍ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ. وَيَتِمُّ عَظْمُهُ، وَيَتَضَخَّمُ رَأْسُهُ، وَيُكَثُفُ شَعْرُهُ، وَتَبْتَدِئُ فِيهِ وَظَائِفُ الْحَيَاةِ فِي الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالرِّئَةِ وَالْقَلْبِ، وَيَصِيرُ نَمَاؤُهُ بِالْغِذَاءِ، وَتَظْهَرُ دَوْرَةُ الدَّمِ فِيهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالدَّوْرَةِ الْجَنِينِيَّةِ. و (الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ) : ظُلْمَةُ بَطْنِ الْأُمِّ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَهِيَ غِشَاءٌ مِنْ جَلْدٍ يُخْلَقُ مَعَ الْجَنِينِ مُحِيطًا بِهِ لِيَقِيَهُ وَلِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُهُ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ فِي دَوْرَتِهِ الدَّمَوِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ دُونَ أُمِّهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَنُفُوذِ قُدْرَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَشَدِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ.

وَانْتَصَبَ خَلْقاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِيَّةِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ بِ يَخْلُقُكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّهاتِكُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ فِي حَالَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ فِي حَالِ الْوَصْلِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ نُونِ بُطُونِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي حَالِ الْوَصْلِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ. بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَكْوَانِ كُلِّهَا: جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: 73] ، مَا يُرْشِدُ الْعَاقِلَ إِلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ الْمُسْتَحَقِّ الْعِبَادَةِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ وَالصِّفَاتِ. وَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ وَنَتِيجَةٌ أَنْتَجَتْهَا الْأَدِلَّةُ السَّابِقَةُ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ صَاحِبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ غَيْرِهِ تَمْيِيزًا يُفْضِي إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الَّذِي خَلَقَ وَسَخَّرَ وَأَنْشَأَ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ أَطْوَارًا هُوَ اللَّهُ، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ إِذْ لَمْ تَبْقَ شُبْهَةٌ تَعْذُرُ أَهْلَ الشِّرْكِ بِشِرْكِهِمْ، أَيْ لَيْسَ شَأْنُهُ بِمُشَابِهٍ حَالَ غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ قَالَ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الرَّعْد: 16] . وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ لِإِحْضَارِ الْمُسَمَّى فِي الْأَذْهَانِ بَاسِمٍ مُخْتَصٍّ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ حَالِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَولُهُ: رَبِّكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ.

وَوَصْفُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ وَهُوَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْطِئَةٌ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِكُفْرَانِ نِعْمَتِهِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] . وَجُمْلَةُ لَهُ الْمُلْكُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْمُلْكُ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ مَلَكَ، وَهُوَ مُثَلَّثُ الْمِيمِ إِلَّا أَن مَضْمُون الْمِيمِ خَصَّهُ الِاسْتِعْمَالُ بِمُلْكِ الْبِلَادِ وَرِعَايَةِ النَّاسِ، وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمرَان: 26] ، وَصَاحِبُهُ: مَلِكٌ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَجَمْعُهُ: مُلُوكٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، أَيْ الْمُلْكُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا مُلْكُ الْمُلُوكِ فَهُوَ لِنَقْصِهِ وَتَعَرُّضِهِ لِلزَّوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] ، وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: «ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» ، فَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْمُلْكُ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُهُمْ شُرَكَاءَ لِلْإِلَهِ الْحَقِّ خَطَأٌ، فَكَانَ الْحَصْرُ الِادِّعَائِيُّ لِإِبْطَالِ ادِّعَاءِ الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الِانْصِرَافُ حَالَةً اسْتُفْهِمَ عَنْهَا بِكَلِمَةِ أَنَّى الَّتِي هِيَ هُنَا بِمَعْنَى (كَيْفَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [الْأَنْعَام: 101] . وَالصَّرْفُ: الْإِبْعَادُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَصْرُوفُ عَنْهُ هُنَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: عَنْ تَوْحِيدِهِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَجَعَلَهُمْ مَصْرُوفَيْنِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ صَارِفًا، فَجَاءَ فِي ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: فَأَنَّى تَنْصَرِفُونَ، نَعَيًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَالْمَقُودِينَ إِلَى الْكُفْرِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّينَ بِأُمُورِهِمْ يَصْرِفُهُمُ الصَّارِفُونَ، يَعْنِي أَيِمَّةَ الْكُفْرِ أَوِ الشَّيَاطِينَ الْمُوَسْوِسِينَ لَهُمْ. وَذَلِكَ إِلْهَابٌ لِأَنْفُسِهِمْ لِيَكُفُّوا عَن امْتِثَال أئمتهم الَّذِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] ، عَسَى أَنْ يَنْظُرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَهُمْ.

[سورة الزمر (39) : آية 7]

وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ يَصْرِفُكُمْ صَارِفٌ عَن توحيده بعد مَا عَلِمْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْآنِفَةِ. وَالْمُضَارِعُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ زَمَنُ الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ. [7] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 7] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ. أَتْبَعَ إِنْكَارَ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ عَلَى ثُبُوتِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، بِأَنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّ كُفْرَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَضُرُّ أَنْفُسَهُمْ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَمُقَابَلَتِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ إِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَجُمْلَةُ إِنْ تَكْفُرُوا مُبَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّوْحِيدِ، أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ هَذَا الزَّمَنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَمَعْنَاهُ: غَنِيٌّ عَنْ إِقْرَارِكُمْ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ طَلَبِ التَّوْحِيدِ مِنْهُمْ لِنَفْعِهِمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ لَا لِنَفْعِ اللَّهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِهَذَا لِيُقْبِلُوا عَلَى النَّظَرِ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ فِعْلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتَرِثُ بِكُفْرِهِمْ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ فَيَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ وَالشُّكْرَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ، لِيَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ. وَبِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِعِبادِهِ الْعِبَادُ الَّذِينَ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَفْظَ الْعِبَادِ، كَقَوْلِه: وَيَوْم نحشرهم وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (¬1) [الْفرْقَان: 17] . الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الْعِبَادِ الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ضَمِيرِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى خُصُوصِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ ظَاهِرَةٌ هُنَا ظُهُورًا دُونَ ظُهُورِهَا فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] . وَالرِّضَى حَقِيقَتُهُ: حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْقُبُ حُصُولَ مُلَائِمٍ مَعَ ابْتِهَاجٍ بِهِ، وَهُوَ عَلَى ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا فَيَقُول) وَهَذَا خطأ.

التَّحْقِيقِ فِيهِ مَعْنًى لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالِابْتِهَاجِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ، وَلِهَذَا يُقَابَلُ الرِّضَى بِالسُّخْطِ، وَتُقَابَلُ الْإِرَادَةُ بِالْإِكْرَاهِ، وَالرِّضَى آئِلٌ إِلَى مَعْنَى الْمَحَبَّةِ. وَالرِّضَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفَاسَةُ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ الرَّاضِي وَتَفْضِيلُهُ وَاخْتِيَارُهُ، فَإِذَا أُسْنِدَ الرِّضَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَازَمَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْفِعَالَاتِ، كَشَأْنِ إِسْنَادِ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ الدَّالَّةِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الانفعالات مثل: الرحمان والرؤوف، وَإِسْنَادُ الْغَضَبِ والفرح والمحبة، فيؤوّل الرِّضَى بَلَازِمِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِثَابَةِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى النَّاسِ، وَمِنَ النَّفَاسَةِ وَالْفَضْلِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى أَسْمَاءِ الْمَعَانِي. وَقَدْ فَسَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالِاخْتِيَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [3] . وَفِعْلُ الرِّضَى يُعَدَّي فِي الْغَالِبِ بِحَرْفِ (عَنْ) ، فَتَدْخُلُ عَلَى اسْمِ عَيْنٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهَا هُوَ مُوجِبُ الرِّضَى. وَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ، وَيَدْخُلُ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمْيِيزٌ بَعْدَهُ نَحْوَ: رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا، أَوْ نَحْوِهِ مِثْلُ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 38] ، أَوْ قَرِينَةُ مَقَامٍ كَقَوْلِ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ رَضِينَا بِهِ، أَيْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا إِذْ هُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ. وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ يُرَاعَى فِيهِ التَّضْمِينُ، أَوِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ، فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيَتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ بِمَعْنَى: أَحْبَبْتُ حُكْمَهُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ نَحْوَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَة: 3] ، أَيْ رَضِيتُهُ لِأَجْلِكُمْ وَأَحْبَبْتُهُ لَكُمْ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، أَيْ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَفَائِدَتِكُمْ. وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ لَدَى السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَرْضَاهُ لِأَجْلِ السَّامِعِ. فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِعِبادِهِ عَامًّا غَيْرَ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ثَارَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ إِذْ مِنَ الضَّرُورِيِّ

أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَثِيرًا كَافِرِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعٍ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ فَأَنْتَجَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الشَّكْلِ الثَّالثِ أَنْ يُقَالَ: كُفْرُ الْكَافِرُ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: 112] وَلَا شَيْءَ من الْكفْر بمرضي لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، يَنْتِجُ الْقِيَاسُ بَعْضُ مَا أَرَادَهُ الله لَيْسَ بمرضي لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ وَالرِّضَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ لَفْظَاهُمَا غَيْرَ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ الْإِرَادَةَ غَيْرُ الرِّضَى، وَالرِّضَى غَيْرُ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَالِاخْتِيَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا حَمْلٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى مَعَانٍ يُمْكِنُ مَعَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَات قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ. وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: 112] رَاجِعًا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا وَمَجْمُوعِ نَظَائِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ لِلْعِبَادِ كَسْبًا فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِ كَسْبِ الْعَبْدِ نَحْوَهَا، فَاللَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ لَهَا. وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ، فَإِنَّ الْكَسْبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُفَسَّرَةُ عِنْدَهُ بِسَلَامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَآلَاتِهِ، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْجَبْرِ، أَيْ هِيَ دُونَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَفَوْقَ تَسْخِيرِ الْجَبْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمَاشِي، وَجَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ عُمُومِ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَ تَوْجِيهِ الشَّرِيعَةِ خِطَابَهَا لِلْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَعَانِي الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ قَولُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَسَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَحْمَلَ لَفْظِ لِعِبادِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْنَسُوا لِهَذَا الْمَحْمَلِ بِأَنَّهُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظَةِ (الْعِبَادِ) لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ضَمِيرِهِ

كَقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: 6] ، قَالُوا: فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ كُفْرَهُ وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، وَالْتَزَمَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ أَصْلَهُ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعِبَادِ: أَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ عُدَّ الْخِلَافُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا. وَمِنَ الْعَجِيبِ تَهْوِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذْ يَقُولُ: «وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ إِلَخْ» ، فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ رَدًّا لِأَوَّلِهِ وَهَلْ يُعَدُّ التَّأْوِيلُ تَضْلِيلًا أَمْ هَلْ يُعَدُّ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالدَّلِيلِ مِنَ النَّادِرِ الْقَلِيلِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُقْدُورَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِسْبَةِ أَفْعَالٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى قُدْرَتِهِ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» فِي فَصْلٍ حَشَرَ فِيهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَكْفُرُوا وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فَتُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَتَشْكُرُوا اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ يَرْضَ لَكُمُ الشُّكْرَ، أَيْ يُجَازِيكُمْ بِلَوَازِمِ الرِّضَى. وَالشُّكْرُ يَتَقَوَّمُ مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةٍ حَاصِلَةٍ لِلشَّاكِرِ مِنَ الْمَشْكُورِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَرْضَهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّكْرِ المتصيّد من فعل إِنْ تَشْكُرُوا. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. كَأَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهَا أَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَافِرًا وَشَاكِرًا وَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ، فَرُبَّمَا تَحَرَّجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُمْ إِثْمٌ مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَشَوْا أَنْ يُصِيبَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ فِي

الدُّنْيَا فَيَلْحَقَ مِنْهُ الْقَاطِنِينَ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ لَا يُنْقِصُ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ وَأَرَادَ اطْمِئْنَانَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَصِلُ الْوِزْرِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ: الثِّقَلُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ تَعَبٌ كَتَعَبِ حَامِلِ الثِّقْلِ. وَيُقَالُ: وَزِرَ بِمَعْنَى حَمَلَ الْوِزْرَ، بِمَعْنَى كَسْبَ الْإِثْمَ. وَتَأْنِيثُ وازِرَةٌ وأُخْرى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ مَعْنَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَة: 48] . وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ إِثْمِهَا، فَلَا تَطْمَعُ نَفْسٌ بِإِعَانَةِ ذَوِيِهَا وَأَقْرِبَائِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَخْشَى نَفْسٌ صَالِحَةٌ أَنْ تُؤَاخَذَ بِتَبِعَةِ نَفْسٍ أُخْرَى مِنْ ذَوِيِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ اللِّجَاجِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ قُصَارَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرْشِدُوا الضُّلَّالَ لَا أَنْ يُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. ثُمَّ لِلْتَرْتِيبَيْنَ الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ غَنِيًّا عَنْكُمْ أَنَّهُ أَعَدَّ لَكُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَإِنَّمَا جَاءَ فِي آيَةِ [الْأَنْعَامِ: 164] : بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ إِثْرَ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَضَمَّنَتِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُشْركين وَلم يَجِيء مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ مِنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَ. وَالْأَنْبَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ الْحَاصِلِ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنْ يُعْلِنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُظْهِرُ لَكُمُ الْحَقَّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَوْ يُخْبِرَكُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيل لجملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

[سورة الزمر (39) : آية 8]

لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا إِلَّا عَلِمَهُ فَإِذَا أَنْبَأَ بِأَعْمَالِهِمْ كَانَ إِنْبَاؤُهُ كَامِلًا. وَذَاتِ: صَاحِبَةِ، مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَعْمَالُ، أَيْ بِالْأَعْمَالِ صَاحِبَةِ الصُّدُورِ، أَيْ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي النَّوَايَا فَعَبَّرَ بِ الصُّدُورِ عَمَّا يَحِلُّ بِهَا، وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا الْقُلُوبُ الْمُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا بِهِ الْإِدْرَاكُ وَالْعَزْمُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: 43] . [8] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 8] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. هَذَا مِثَالٌ لِتَقَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ إِظْهَارِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ عُنْوَانٌ عَلَى مَبْلَغِ كُفْرِهِمْ وَأَقْصَاهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةُ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [الزمر: 6] الْآيَةَ لِاشْتِرَاكِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالتَّصَرُّفِ مُسْتَوْجِبٌ لِلشُّكْرِ، وَعَلَى أَنَّ الْكُفْرَ بِهِ قَبِيحٌ، وَتَتَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ على وحدانية إلهية بِدَلِيلٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ لَجَأْوًا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ أَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِهِ وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَكِنَّ عُمُومَهُ هُنَا عُمُومٌ عُرْفِيٌّ لِفَرِيقٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَهُمْ أَهلُ الشِّرْكِ خَاصَّةً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لَا يَتَّفِقُ مَعَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ وَأَنَّهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَوْ أَبُو جَهْلٍ، خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا هَذَانِ وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْجِنْسِ. وَذِكْرُ الْإِنْسَانِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر: 6، 7] ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ دَعَوْتُمْ رَبَّكُمْ إِلَخْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِمَا فِي مَعْنَى الْإِنْسَانِ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا فِي

الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ التَّقَلُّبِ وَالِاضْطِرَابِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِالتَّوْفِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ مُنَاسِبَةً مَعَ النِّسْيَانِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [33] . وَالتَّخْوِيلُ: الْإِعْطَاءُ وَالتَّمْلِيكُ دُونَ قَصْدِ عِوَضٍ. وَعَيْنُهُ وَاوٌ لَا مَحَالَةَ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَوَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى فِعْلِ خَالَ بِمَعْنَى: افْتَخَرَ، فَتِلْكَ مَادَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ فِعْلُ خَوَّلَ. وَالنِّسْيَانُ: ذُهُولُ الْحَافِظَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ سَابِقًا. وَمَا صدق مَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ هُوَ الضُّرُّ، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى كَشْفِهِ عَنهُ، ومفعول يَدْعُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: دَعا رَبَّهُ، وَضَمِيرُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى مَا، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى كَشْفِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا صَادِقًا عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ وَيَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ (إِلَى) عَائِدًا إِلَى رَبَّهُ، أَيْ نَسِيَ الدُّعَاءَ، وَضُمِّنَ الدُّعَاءُ مَعْنَى الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) . وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الصِّلَةِ تَفَادِيًا مَنْ تَكَرُّرِ الضَّمَائِرِ. وَالْمَعْنَى: نَسِيَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ. وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُوَ الْكُفْءُ، أَيْ وَزَادَ عَلَى نِسْيَانِ رَبِّهِ فَجَعَلَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ لَامُ التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَمَّا كَانَ نَتِيجَةُ الْجَعْلِ جَازَ تَعْلِيلُ الْجَعْلَ بِهِ كَأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْجَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا فَضَّلَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُضِلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ لِيُضِلَّ النَّاسَ بَعْدَ أَنْ أَضَلَّ نَفْسَهُ إِذْ لَا يُضِلُّ النَّاسَ إِلَّا ضَالٌّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ لِيُضِلَّ هُوَ، أَيِ الْجَاعِلُ وَهُوَ إِذَا ضَلَّ أَضَلَّ النَّاسَ. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ حَالَةِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ الْمُعْرِضِ عَنْ شُكْرِ رَبِّهِ يُثِيرُ وَصْفُهَا سُؤَالَ السَّامِعِ عَنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْكَافِرِ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا، أَيْ قُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَوْ رُوعِيَ فِي الْإِفْرَادِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ تَمَتَّعُوا بِكُفْرِكُمْ قَلِيلًا إِنَّكُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَيْنِ الْإِعْتِبَارَيْنِ جَاءَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْخَبَرِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [10- 12] . وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْمُوَقَّتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ [الْأَعْرَافِ: 24] . وَالْبَاءُ فِي بِكُفْرِكَ ظَرْفِيَّةٌ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ التَّمَتُّعِ. ومتعلّق التَّمَتُّع مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ التَّهْدِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: تَمَتَّعْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي زَمَنِ كُفْرِكَ أَوْ مُتَكَسِّبًا بِكُفْرِكَ تَمَتُّعًا قَلِيلًا فَأَنْتَ آئِلٌ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَوَصْفُ التَّمَتُّعِ بِالْقَلِيلِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التَّوْبَة: 38] . وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: تَمَتَّعْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِمْهَالِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وَهُوَ الْإِنْذَارُ بِالْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ بَعْدَ مُدَّةِ الْحَيَاةِ.

[سورة الزمر (39) : آية 9]

وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُ الْأُمَمِ وَالطَّوَائِفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَأَصْحَابُ النَّارِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَهَا فَإِنَّ الصُّحْبَةَ تُشْعِرُ بِالْمُلَازَمَةِ، فَأَصْحَابُ النَّارِ: الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا. [9] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 9] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَحْدَهُمْ أَمَّنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ دَخَلَتْ عَلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ وَ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر: 8] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِنْكَارِ تَعْقِيبُهُ بِقَولِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِظُهُورِ أَنَّ هَلْ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِقَرِينَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. تَقْدِيرُهُ: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ أَفْضَلُ أَمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ تَقْرِيرِيٌّ وَيُقَدَّرُ لَهُ مُعَادِلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ الْهمزَة للنداء وأَمَّنْ هُوَ قانِتٌ: النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَادَاهُ اللَّهُ بِالْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ لَهُ وَنِدَاءٌ لِمَنْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَعَلَيْهِ فَإِفْرَادُ (قُلْ) مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مِنَ) الْمُنَادَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ بِتَشْدِيدِ مِيمِ (مَنْ) عَلَى أَنَّهُ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ (أَمْ) وَ (مَنْ) فَأُدْغِمَتْ مِيمُ (أَمْ) فِي مِيمِ (مَنْ) . وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُعَادِلَةً لِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ مَعَ جُمْلَتِهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا (أَمْ) لِاقْتِضَائِهَا مُعَادِلًا. وَدَلَّ عَلَيْهَا تَعْقِيبُهُ بِ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَهَذَا الْجَاعِلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا

الْكَافِرُ خَيْرٌ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَالْمَقْصُودُ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَطَأِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُنْقَطِعَةً لِمُجَرَّدِ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. و (أَمْ) تَقْتَضِي اسْتِفْهَامًا مُقَدَّرًا بَعْدَهَا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: دَعْ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ وَانْتَقِلْ بِهِمْ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ: الَّذِي هُوَ قَانِتٌ، وَقَائِمٌ، وَيَحْذَرُ اللَّهَ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ. وَالْمَعْنَى: أَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا هُوَ قَانِتٌ إِلَخْ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا تَتَلَاقَى تِلْكَ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مَعَ صِفَةِ جَعْلِهِ لِلَّهِ أَنْدَادًا. وَالْقَانِتُ: الْعَابِدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 238] . وَالْآنَاءُ: جَمْعُ أَنًى مِثْلُ أَمْعَاءٍ وَمَعًى، وَأَقْفَاءٍ وَقَفًى، وَالْأَنَى: السَّاعَةُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ فِي سُورَةِ [الْأَحْزَابِ: 53] . وَانْتَصَبَ آناءَ عَلَى الظَّرْفِ لِ قانِتٌ، وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِقُنُوتِهِمْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ بِاللَّيْلِ أَعْوَنُ عَلَى تَمَحُّضِ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَبْعَدُ عَنْ مُدَاخَلَةِ الرِّيَاءِ وَأَدَلُّ عَلَى إِيثَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَدْعَى إِلَى طَلَبِ الرَّاحَةِ فَإِذَا آثَرَ الْمَرْءُ الْعِبَادَةَ فِيهِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِحُبِّ التَّقَرُّبِ إِلَى الله قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] ، فَلَا جَرَمَ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ دَالًّا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَانِتَ لَا يَخْلُوَ مِنَ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ أَنَاءَ النَّهَارِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً [المزمل: 7] ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ انْطِبَاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: ساجِداً وَقائِماً حَالَانِ مُبَيِّنَانِ لِ قانِتٌ وَمُؤَكِّدَانِ لِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ حَالَانِ، فَالْحَالُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِوَصْفِ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ وَالْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ لِوَصْفِ عَمَلِ قَلْبِهِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَفَلَتَاتِهِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ أَنْ يُثِيبَهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ. وَفِي هَذَا تَمَامُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَارِيَةِ عَلَى وفْق حَال نبيئهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَال

أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي نَادِرِ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الِاضْطِرَارِ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا اهْتِمَامَ لَهُمْ إِلَّا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا لَا يَحْذَرُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابَهَا. وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْف مِنْ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، أَيْ أَوْصَافِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ. وَالرَّجَاءُ: انْتِظَارُ مَا فِيهِ نَعِيمٌ وَمُلَاءَمَةٌ لِلنَّفْسِ. وَالْخَوْفُ: انْتِظَارُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ لِلنَّفْسِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُلَاءَمَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ لِقَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، أَيْ يَحْذَرُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الرَّجَاءَ أَيْضًا الْمَأْمُولَ فِي الْآخِرَةِ. وَلِلْخَوْفِ مَزِيَّتُهُ مِنْ زَجْرِ النَّفْسِ عَمَّا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلِلرَّجَاءِ مَزِيَّتُهُ مِنْ حَثِّهَا عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَكِلَاهُمَا أَنِيسُ السَّالِكِينَ. وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الرَّجَاءُ عَلَى وُجُودِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَرْجُو إِلَّا مَا يَظُنُّهُ حَاصِلًا وَلَا يَظُنُّ الْمَرْءُ أَمْرًا إِلَّا إِذَا لَاحَتْ لَهُ دَلَائِلُهُ وَلَوَازِمُهُ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ بِمُغَالَطَةٍ وَالْمَرْءُ لَا يُغَالِطُ نَفْسَهُ، فَالرَّجَاءُ يَتْبَعُ السَّعْيَ لِتَحْصِيلِ الْمَرْجُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: 19] فَإِنَّ تَرَقُّبَ الْمَرْءِ الْمَنْفَعَةَ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا فَذَلِكَ التَّرَقُّبُ يُسَمَّى غُرُورًا. وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّجَاءُ أَوِ الْخَوْفُ ظَنًّا مَعَ تَرَدُّدٍ فِي الْمَظْنُونِ، أَمَّا الْمَقْطُوعُ بِهِ فَهُوَ الْيَقِينُ وَالْيَأْسُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَاف: 99] ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُف: 87] . وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْ كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» . وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الْحَسَنِ التِّهَامِيِّ إِذْ يَقُولُ: وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ... تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَتَمَادَى فِي الْمَعَاصِي وَيَرْجُو فَقَالَ: هَذَا تَمَنٍّ وَإِنَّمَا الرَّجَاءُ، قَوْلُهُ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرين أُرِيد بِمن هُوَ قانِتٌ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ عَمَّارُ بْنُ

يَاسر، وَقيل صُهَيْب، وَقِيلَ: أَبُو ذَرٍّ، وَقِيلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهِيَ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَلَا جَرَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ هُمْ مِنْ أَحَقِّ مَنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّلَةُ فَهِيَ شَامِلَةٌ لَهُمْ وَلَكِنَّ مَحْمَلَ الْمَوْصُولِ فِي الْآيَةِ عَلَى تَعْمِيمِ كُلِّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الصِّلَةِ. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ موقعه كموقع قَوْله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر: 8] أَثَارُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ، وَالْمَعْنَى: أَعْلِمْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْعَالِمَ بِحَقِّ رَبِّهِ لَيْسَ سَوَاءٌ لِلْكَافِرِ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَقُولِ وَلِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَيْهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ يُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ. وَالْمُرَادُ: تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ [النِّسَاء: 95] الْآيَة، فَيعرف المفضّل بالتصريح كَمَا فِي آيَة لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ [النِّسَاء: 95] أَوْ بِالْقَرِينَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إِلَخْ لِظُهُورِ أَنَّ الْعِلْمَ كَمَالٌ وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ . وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: يُخْبِرُكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُم ... وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَفِعْلُ يَعْلَمُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ. وَالْمَعْنَى: الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الَّذِينَ عَلِمُوا شَيْئًا مُعَيَّنًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ اخْتِصَارًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أَي أهل الْعُقُولُ، وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ مُتَرَادِفَانِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ لَهُمْ عَلِمٌ فَهُمْ يُدْرِكُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى حَسْبِ عِلْمِهِمْ، مَعَ الَّذِينَ

لَا يَعْلَمُونَ فَلَا يُدْرِكُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْحَقَائِقُ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى غَيْرِ انْتِظَامٍ، كَحَالِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا الْحِجَارَةَ آلِهَةً وَوَضَعُوا الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ هُوَ قَانِتٌ أَنَاءَ اللَّيْلِ يَحْذُرُ رَبَّهُ وَيَرْجُوهُ، وَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا هُمُ الْكُفَّارُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَسْتَوُونَ مَعَهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُم، وَإِذ قد تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ الْمُفَضَّلِينَ عَلَيْهِمْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْمَوْصُولِ إِدْمَاجًا لِلثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ وَلِذَمِّ فَرِيقٍ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلَ الشِّرْكِ أَهْلُ جَهَالَةٍ فَأَغْنَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا فِيهَا مِنْ إِدْمَاجٍ عَنْ ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ الْجَاهِلُونَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] . وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخُو الْعِلْمِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا نُورٌ وَمَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ أَخُو الضَّلَالِ لِأَنَّهُ وَالضَّلَالَ ظُلْمَةٌ وَأَوْهَامٌ بَاطِلَة. هَذَا وَوَقع فِعْلِ يَسْتَوِي فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَكْسِبُهُ عُمُومَ النَّفْيِ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الِاسْتِوَاءِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةً عَنِ الْفَضْلِ آلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، فَإِنَّكَ مَا تَأَمَّلْتَ مَقَامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عَالِمٌ وَجَاهِلٌ إِلَّا وَجَدْتَ لِلْعَالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِلْجَاهِلِ وَلِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقَامَاتٍ سِتَّةٍ هِيَ جُلُّ وَظَائِفِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: الِاهْتِدَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ نَوَالُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ مَقَامُ الْعَمَلِ، فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ الْمَقْصُودَ بِيُسْرٍ وَفِي قُرْبٍ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ مِنَ الْعَمَلِ أولى بالإقبال عَنهُ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسَالِكَهُ وَيُضِيعُ زَمَانَهُ فِي طَلَبِهِ فَإِمَّا أَنْ يَخِيبَ فِي سَعْيِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بَعْدَ أَنْ تَتَقَاذَفَهُ الْأَرْزَاءُ وَتَنْتَابَهُ النَّوَائِبُ وَتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَلَغَ الْمَقْصُودَ حَتَّى إِذَا انْتَبَهَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مُرَادِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] .

وَمِنْ أَجْلِ هَذَا شَاعَ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِالنُّورِ وَالْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ. الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة: 20] . الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 19- 21] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ. الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .

[سورة الزمر (39) : آية 10]

وَعَلَى بَثِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بثه فِي صُدُور الرِّجَال، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» . فَهَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَشْمُولٌ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَتَتَشَعَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فُرُوعٌ جَمَّةٌ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا تَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْعَالِمِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) مَرْكَبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ (إِنْ) وَ (مَا) الْكَافَّةُ أَوِ النَّافِيَةُ فَكَانَتْ (إِنْ) فِيهِ مُفِيدَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا مُغْنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّعْلِيلِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُفْرَدَةِ وَ (إِنَّ) الْمُرَكَّبَةَ مَعَ (مَا) ، بَلْ أَفَادَهَا التَّرْكِيبُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ (إِنَّ) عَنْ غَيْرِ مَنْ أَثْبَتَتْهُ لَهُ. وَقَدْ أُخِذَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ جَانب إِثْبَات التَّذَكُّر لِلْعَالَمِينَ، وَنَفْيُهُ مِنْ غَيْرِ الْعَالَمَيْنِ، بِطَرِيقِ الْحَصْرِ لِأَن جَانب التَّذَكُّر هُوَ جَانِبُ الْعَمَلِ الدِّينِيِّ وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ، وَأُولُو الْأَلْبَابِ: هُمْ أَهلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ. فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ التَّذَكُّرِ دُونَ غَيْرِهِمْ أَفَادَ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ كلَاما مُسْتقِلّا. [10] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 10] قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) لَمَّا أُجْرِيَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِقْبَالِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَشَدِّ الْآنَاءِ وَبِشِدَّةِ

مُرَاقَبَتِهُمْ إِيَّاهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَبِتَمْيِيزِهِمْ بِصِفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّذَكُّرِ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِهِمْ لِلِاسْتِزَادَةِ مِنْ ثَبَاتِهِمْ وَرِبَاطَةِ جَأْشِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ. وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا، وَابْتِدَاءُ الْمَقُولِ بِالنِّدَاءِ وَبِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، كُلُّ ذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُقَالُ وَبِأَنَّهُ سَيُقَالُ لَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَهَذَا وَضِعَ لَهُمْ فِي مَقَامِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا عِبادِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَهُ الْعَشَرَةُ يَا عِبادِ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ كَمَا فِي «إِبْرَازِ الْمَعَانِي» لِأَبِي شَامَةَ وَكَمَا فِي «الدُّرَّةِ الْمُضِيئَةِ» فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْعَشْرِ لِعَلِيٍّ الضَّبَّاعِ الْمِصْرِيِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. وَقَدْ يُوَجَّهُ هَذَا التَّخَالُفُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ، فَانْتِسَابُهُمْ إِلَى اللَّهِ مُقَرَّرٌ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِظْهَارِ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي إِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، فَلَيْسَ فِي كَلِمَةِ يَا عِبادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِ الْعَشَرَةِ وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا كُتَّابُ الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ. وَمَا وَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مِنْ قَوْلِهِ: وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ قُلْ يَا عِبادِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَيْضًا وَعَاصِمٌ وَالْأَعْشَى وَابْنُ كَثِيرٍ يَا عِبادِ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ اهـ. سَهْوٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [53] فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيهِ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فَاخْتَلَفُوا كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَشْعِرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْأَذَى فِي الدِّينِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِمْ مَعَهُ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي تَقْوَاهُمْ. وَهَذَا الْأَمْرُ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْهِجْرَةِ لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ، وَهُوَ مَا عُرِّضَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ.

وَفِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَقَرُّرَ إِيمَانُهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي التَّقْوَى وَالِامْتِثَالَ لِلْمُهَاجَرَةِ. وَجُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِلْمُتَّصِفِينَ بِهَا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلِ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَأُرِيدُ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، وَلَكِنْ جُعِلَ قَوْلُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ تَمْهِيدًا لَهُ لِقَصْدِ تَعْجِيلِ التَّكَفُّلِ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ الْحُسْنَى فِي هِجْرَتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ جُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مَسُوقَةً مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى الْوَاقِعِ بَعْدَهَا. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَحْسَنُوا: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: 9] الْآيَةَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُفَسَّرِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ بِأَنْ يُقَالَ: لَكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، إِلَى الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِيَشْمَلَ الْمُخَاطِبِينَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّلَةُ. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى: اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لِتَكُونُوا مُحْسِنِينَ فَإِنَّ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا حَسَنَةً عَظِيمَةً فَكُونُوا مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُحْسَنِ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءٌ بِالْإِحْسَانِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَاسْتُغْنِيَ بِالْوَصْفِ عَنِ الْمَوْصُوفِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: 201] . وَقَوْلِهِ فِي عَكْسِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] . وَتَوْسِيطُ قَوْلِهِ: فِي هذِهِ الدُّنْيا بَيْنَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَبَيْنَ حَسَنَةٌ نَظْمٌ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاقِعِ الْكَلِمِ لِإِكْثَارِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا النَّظْمُ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. فَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ قُدِّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَالِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِقِلَّةِ خُطُورِ ذَلِكَ فِي بَالِهِمْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ تَعْجِيلَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ عَلَى

نَحْوَ مَا أَثْنَى عَلَى مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَقَدْ جَاءَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [30] قَوْلُهُ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَسَنَةِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا مُسَوَّقَةٌ لِتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْأَذَى، وَلِأَمْرِهِمْ بِالْهِجْرَةِ عَنْ دَارِ الشِّرْكِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، فَأَمَّا ثَوَابُ الْآخِرَةِ فَأَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَمُومًى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلِهِ: «فِي الدُّنْيَا» مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ أَحْسَنُوا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لُغَوِيٌّ، أَيْ فَعَلُوا الْحَسَنَاتِ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْحَسَنَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْفَوَاتِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ. وَتَنْوِينُ حَسَنَةٌ لِلتَّعْظِيمِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الْآخِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ الذَّاتِيِّ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الدُّنْيَا تَعْظِيمٌ وَصْفِيٌّ، أَيْ حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنَ الْمُتَعَارَفِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي هذِهِ الدُّنْيا لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِ حَسَنَةٌ يُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الْآخِرَةِ وَيُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: الَّذين يَقُولُونَ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [201] . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [30] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، فَأُلْحِقَ بِهَا مَا قُرِّرَ هُنَا. وَعُطِفُ عَلَيْهِ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ عَطْفَ الْمَقْصُودِ عَلَى التَّوْطِئَةِ. وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْحَثِّ عَلَى الْهِجْرَةِ فِي الْأَرْضِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ بِقَرِينَةِ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ وَاسِعَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِإِفَادَتِهِ وَإِنَّمَا كُنِّيَ بِهِ عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ أَنْ يُلَاقُوا حَسَنَةً إِذَا هُمْ هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِ الشِّرْكِ. وَلَيْسَ حُسْنُ الْعَيْشِ وَلَا ضِدُّهُ مَقْصُورًا عَلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِمَا كُنِّيَ عَنْهُ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النِّسَاء: 97] . وَالْمُرَادُ: الْإِيمَاءُ إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ يُرِيدُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَنُكْتَةُ الْكِنَايَةِ هُنَا إِلْقَاءُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِلُطْفٍ وَتَأْنِيسٍ دُونَ صَرِيحِ الْأَمْرِ لِمَا فِي مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ مِنَ الْغَمِّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا حِكَايَةُ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرُوا. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ وَالتَّغَرُّبَ وَالسَّفَرَ مَشَاقٌّ لَا يَسْتَطِيعُهَا إِلَّا صَابَرٌ، فَذُيِّلَ الْأَمْرُ بِهِ بِتَعْظِيمِ أَجْرِ الصَّابِرِينَ لِيَكُونَ إِعْلَامًا لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ أَجْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ أَجَرُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَالصَّبْرُ: سُكُونُ النَّفْسِ عِنْدَ حُلُولِ الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ بِأَنْ لَا تَضْجَرَ وَلَا تَضْطَرِبَ لِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [155] . وَصِيغَةُ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى مَشَقَّةٍ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَمَرَاتِبُ هَذَا الصَّبْرُ مُتَفَاوِتَةٌ وَبِقَدْرِهَا يَتَفَاوَتُ الْأَجْرُ. وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ تَامًّا. وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَفْرَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ لَا يُتَصَدَّى لِعَدِّهِ، وَالشَّيْءَ الْعَظِيمَ لَا يُحَاطُ بِمِقْدَارِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِالْمِقْدَارِ ضَرْبٌ مِنَ الْحِسَابِ وَذَلِكَ شَأْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

وَفِي ذِكْرِ التَّوْفِيَةِ وَإِضَافَةِ الْأَجْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَأْنِيسٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ لَا مِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَإِنْ كَانَتِ الْمِنَّةُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: 25] . وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما مُنْصَبٌّ عَلَى الْقَيْدِ وَهُوَ بِغَيْرِ حِسابٍ وَالْمَعْنَى: مَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ إِلَّا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى قَلْبِ ظَنِّ الصَّابِرِينَ أَنَّ أَجْرَ صَبْرِهِمْ بِمِقْدَارِ صَبْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ أَجْرَهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ مَشَقَّةِ صَبْرِهِمْ. وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبِ كَانَ يَمْنَعُ ابْنَ أَخِيهِ مِنْ أَضْرَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ» ، فَخَرَجَ مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً سِوَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ قَاصِدًا بِلَادَ الْحَبَشَةِ فَلَقِيَهُ ابْنُ الدِّغِنَّةِ فَصَدَّهُ وَجَعَلَهُ فِي جِوَارِهِ. وَلِمَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ بَيْنَ الْعَرَبِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَعُذِرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَقُوهُ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ أَذِنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَكَانَتْ حِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً بَقَاءَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ الْمُشْرِكِينَ لِبَثِّ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ حَتَّى إِذَا تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تَوَشُّجِ نَوَاةِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْبَحَ انْتِقَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَسْعَدَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَيَّأَ لَهُ بِلُطْفِهِ دُخُولَ أَهْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذَلِكَ جَرَى بِقَدَرٍ وَحِكْمَةٍ ولطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الزمر (39) : الآيات 11 إلى 12]

[سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 11 إِلَى 12] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا [الزمر: 10] أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. نَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْش قَالُوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ، أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَحَقًّا فَإِنَّ إِخْبَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى صَرِيحِهِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ تَوْجِيهَهُ إِلَى الْمُشْركين الَّذِي يَبْتَغُونَ صَرْفَهُ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ عَلَى أَنَّهُ تَوْجِيهٌ لِبَقَائِهِ بِمَكَّةَ لَا يُهَاجِرُ مَعَهُمْ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِلْأَمْنِ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ، فَلَعَلَّهُمْ تَرَقَّبُوا أَنْ يُهَاجِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ فَآذَنَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَيْ أَنَّ يُوَحِّدُهُ فِي مَكَّةَ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَاظِرَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: 94- 95] ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُقِيمَ عَلَى التَّبْلِيغِ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ لَوْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ لَانْقَطَعَتِ الدَّعْوَةُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَتُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ رُخْصَةً لَهُمْ إِذْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَلَمْ يُرَخَّصْ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَاءَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ أَنَّ حَيَاةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَمَاتَهُ لِلَّهِ، أَيْ فَلَا يَفْرَقَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّينِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [162، 163] : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.

[سورة الزمر (39) : آية 13]

فَكَانَ قَوْلُهُ: لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ عِلَّةً لِ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فَالتَّقْدِيرُ: وَأُمِرْتُ بِذَلِكَ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، فَمُتَعَلِّقُ أُمِرْتُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِ. فَ أَوَّلَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازِهِ فَقَطْ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَوَّلِيَّةِ مُجَرَّدُ السَّبْقِ فِي الزَّمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَصَلَ فَلَا جَدْوَى فِي الْإِخْبَارِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُونَ أَقْوَى الْمُسْلِمِينَ إِسْلَامًا بِحَيْثُ أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ: «إِنِّي لِأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِهِ» . وَعَطْفُ وَأُمِرْتُ الثَّانِي عَلَى أُمِرْتُ الْأَوَّلِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي وَلِأَنَّهُ غَايَرَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ بِضَمِيمَةِ قَيْدِ التَّعْلِيلِ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِبَيَانِ الْمَأْمُورِ، وَذِكْرُ الْأَمْرِ الثَّانِي لِبَيَانِ الْمَأْمُورِ لِأَجْلِهِ، لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَالثَّانِي يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ بِعِبَادَتِهِ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَجَعَلَ وَجُودَهُ مُتَمَحَّضًا لِلْإِخْلَاصِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَام: 162، 163] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ فِي خَاصَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [132] وَنَظَائِرِهَا كَثِيرَةٌ، كَانَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ لِشُمُولِ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ للرسل السَّابِقين. [13] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 13] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) هَذَا الْقَوْلُ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُوَاجِهَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاوِلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ وَأَنْ يُتَابِعَ دِينَهُمْ. وَهُمَا أَحَدُ الشِّقَّيْنِ

[سورة الزمر (39) : الآيات 14 إلى 15]

اللَّذَيْنِ وُجِّهَ الْخِطَابُ السَّابِقُ إِلَيْهِمَا، وَتَعْيِينُ كُلٍّ لِمَا وُجِّهَ إِلَيْهِ مُنْطَوٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 15] . وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى هَذَا لِلتَّأْكِيدِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَطْلَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11] الْآيَةَ فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِينَ بِتَوْجِيهِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ أَلَا تَنْظُرَ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وُجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. [14- 15] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 14 إِلَى 15] قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (14) . أَمْرٌ بِأَنْ يُعِيدَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11] ، لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا مَعًا تُفِيدَانِ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ أَعْبُدَ اللَّهَ الْأَوَّلِ بِقَيْدِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَبِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَعْبُدَ الثَّانِي فَتَأَكَّدَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ لِيَتَقَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا إِلَخْ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَفْرِيعٌ ذِكْرِيٌّ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ التَّسْوِيَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنِي كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [29] : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، أَيْ اعْبُدُوا أَيَّ شَيْءٍ شِئْتُمْ عِبَادَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ هُنَا فِعْلَ الْمَشِيئَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَائِدَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَعْبُودَاتِهِمْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ وَالْهَوَى بِلَا دَلِيلٍ.

قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أَعْقَبَ أَمْرَ التَّسْوِيَةِ فِي شَأْنِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ حِرْصًا عَلَى إِصْلَاحِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ، وَلُوحِظَ فِي إِبْلَاغِهِمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ مَقَامُ مَا سَبَقَ مِنَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَأْنِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ الْإِرْشَادِ وَبَيْنَ التَّوْبِيخِ، فَجِيءَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ وَالْحَدِيثِ عَنِ الْغَائِبِ وَالْمُرَادُ الْمُخَاطَبُونَ. وَافْتُتِحَ الْمَقُولُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَتَعْرِيفُ الْخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْجِنْسَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْخُسْرَانِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ، فَيُفِيدُ هَذَا التَّرْكِيبُ قَصْرَ جِنْسِ الْخَاسِرِينَ عَلَى الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْخُسْرَانِ فِي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ فَخُسْرَانُ غَيْرِهِمْ كَلَا خُسْرَانٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أَنَّ مَعْنَى الْكَمَالِ مِنْ مَعَانِي لَامِ التَّعْرِيفِ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ دَارَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 7- 15] ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَرَى الْجِدَالُ مَعَهُمْ، فَأَفَادَ مَعْنَى: إِنَّ الْخَاسِرِينَ أَنْتُمْ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِإِدْمَاجِ وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَعْنَى خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي حِينِ حَسِبُوا أَنَّهُمْ سَعَوْا لَهَا فِي النَّعِيمِ وَالنَّجَاحِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِيقَاعِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَهَا فِي النَّعِيمِ، بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي عَرَّضَ مَالَهُ لِلنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ فَأُصِيبَ بِالتَّلَفِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ تَرْكِيبُ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [9] .

[سورة الزمر (39) : آية 16]

وَأَمَّا خُسْرَانُهُمْ أَهْلِيهِمْ فَهُوَ مِثْلُ خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَغْرَوْا أَهْلِيهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَهْلِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: 6] ، فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ خُسْرَانًا عَظِيمًا. فَقَوْلُهُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَحَبَّ مَا عِنْدَهُمْ وَبِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الْخَاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنْهُ أَنَّ خَسَارَتَهُمْ أَعْظَمُ خَسَارَةٍ وَأَوْضَحُهَا لِلْعَيَانِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسَارَتُهُمْ بِاسْمِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَسَارَةِ دَالٌّ عَلَى قُوَّةِ الْمَصْدَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ. وَأُشِيرَ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ خَسَارَتِهِمْ، بِأَنِ افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ. [16] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 16] لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] ، وَخُصَّ بِالْإِبْدَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خُسْرَانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى إِهْلَاكِ أَجْسَامِهِمْ. وَالْخُسْرَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَغَضَبِ اللَّهِ وَالْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: 15] . وَالظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْجَالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأَنَّهَا يَكُونُ لَهَا ظِلٌّ فِي الشَّمْسِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [210] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [32] . وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أَهْلَ النَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنَ النَّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ فِي الْعُلُوِّ وَالْغَشَيَانِ

مَعَ التَّهَكُّمِ لِأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَحْجُبُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقَاتِ النَّارِ بِالظُّلَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا وَاقِيَ لَهُمْ مِنْ حَرِّ النَّارِ عَلَى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الظُّلَلِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَلِأَنَّ الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفَّارٍ آخَرِينَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ. تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر: 15] الْآيَةَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِوَصْفِ عَذَابهمْ بِأَنَّهُ ظلل مِنَ النَّارِ من فَوْقهم وظلل مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْ يَقُولَ سَائِلُ: مَا يَقَعُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ فَوَاتِ تَدَارُكِ كُفْرِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَيُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرَائِعَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عَاقِبَتُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ وَعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَبِوَصْفِهِ، أَمَّا إِذَاقَتُهُمْ إِيَّاهُ فَهِيَ تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ. وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا بِطْرِيقِ الْمُقَابَلَةِ جَعْلُ الْجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبَادِهِ فِي التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ طَوَى ذِكْرَهُ لِأَنَّ السِّيَاق موعظة لأهل الشِّرْكِ فَاللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ وَمُرَادِهِ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَنَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَسْكَنًا لِأَهْلِ النُّفُوسِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ فَلِذَلِكَ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفْسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفْسٍ فِي الصَّيْفِ» . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَفَ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

[سورة الزمر (39) : الآيات 17 إلى 18]

وَالتَّخْوِيفُ: مَصْدَرُ خَوَّفَهُ، إِذَا جَعَلَهُ خَائِفًا إِذَا أَرَاهُ وَوَصَفَ لَهُ شَيْئًا يُثِيرُ فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ، وَهُوَ الشُّعُورُ بِمَا يُؤْلِمُ النَّفْسَ بِوَاسِطَةِ إِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ. وَالْعِبَادُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا يَعُمُّ كُلَّ عَبْدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ إِذِ الْجَمِيعُ يَخَافُونَ الْعَذَابَ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَالْعَذَابُ مُتَفَاوِتٌ وَأَقْصَاهُ الْخُلُودُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَيْسَ الْعِبَادُ هُنَا مُرَادًا بِهِ أَهلُ الْقُرْبِ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ التَّخْوِيفِ وَلِأَنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: عِبادَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَادَيْنَ جَمِيعُ الْعِبَادِ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَحْوِ يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الزخرف: 68] . يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ تَفْرِيعٌ وَتَعْقِيبٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ مُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَ لِأَهْلِ الْعِصْيَانِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْقَبَ بِأَمْرِ النَّاسِ بِالتَّقْوَى لِلتَّفَادِي مِنَ الْعَذَابِ. وَقُدِّمَ النِّدَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [197] لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِاسْتِرْعَاءِ أَلْبَابِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنْ بَعْدُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى التَّخْوِيفِ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا فِي سِيَاقِ التَّرْغِيبِ فِي إِكْمَالِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالتَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِيهَا مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا عِبادِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم. [17- 18] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 17 إِلَى 18] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) لَمَّا انْتَهَى تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَةُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ثُنِيَ عَنَانِ الْخِطَابِ إِلَى جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ مُقَابَلَةً لِنِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ.

وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [غَافِر: 15] الْآيَةَ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِ- الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ لَهُمُ الْبُشْرى، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ [الزمر: 16] . وَالطَّاغُوتُ: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرِ طَغَا عَلَى وَزْنِ فَعَلُوتٍ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ بِوَزْن رحموت وملوكت. وَفِي أَصْلِهِ لُغَتَانِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ لِقَوْلِهِمْ: طَغَا طُغُوًّا مِثْلَ عُلُوٍّ، وَقَوْلِهِمْ: طُغْوَانُ وَطُغْيَانُ. وَظَاهِرُ «الْقَامُوسِ» أَنَّهُ وَاوِيٌّ، وَإِذْ كَانَتْ لَامُهُ حَرْفَ عِلَّةٍ وَوَقَعَتْ بَعْدَهَا وَاوٌ زِنَةَ فَعَلَوْتٍ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَيْهَا فَقَدَّمُوهَا عَلَى الْعَيْنِ لِيَتَأَتَّى قَلْبُهَا أَلْفًا حَيْثُ تَحَرَّكَتْ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ طَاغُوتٌ بِوَزْنِ فَلَعُوتٍ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَتَاؤُهُ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَصْدَرِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَعَلَ الطَّاغُوتَ اسْمًا أَعْجَمِيًّا عَلَى وَزْنِ فَاعُولٍ مِثْلَ جَالُوتَ وَطَالُوتَ وَهَارُونَ، وَذَكَرَهُ فِي «الْإِتْقَانِ» فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ وَقَالَ: إِنَّهُ الْكَاهِنُ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَاسْتَدْرَكَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا زَادَهُ عَلَى أَبْيَاتِ ابْنِ السُّبْكِيِّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِأَخْصَرَ مِمَّا هُنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [51] . وَأُطْلِقَ الطَّاغُوتُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْقَوِيِّ فِي الْكُفْرِ أَوِ الظُّلْمِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الصَّنَمِ، وَعَلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ، وَعَلَى رَئِيسِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ عَلَى طَوَاغِيتَ فَذَلِكَ عَلَى تَغْلِيبِ الْإِسْمِيَّةِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ إِذْ جُعِلَ الطَّاغُوتُ لِوَاحِدِ الْأَصْنَامِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ جَمَاعَةُ الْأَصْنَامِ وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَعْبُدُوها بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَمْعٌ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [257] بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقَعَ خَبَرًا عَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ، وَبِاعْتِبَارِ تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي زَعْمِ عِبَادِهَا. وأَنْ يَعْبُدُوها بَدَلٌ مِنَ الطَّاغُوتَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.

وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [75] . وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ وَأَعْلَاهَا التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْبُشْرَى: الْبِشَارَةُ، وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ نَفْعٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [64] . وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ. وَفِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى إِفَادَةُ الْقَصْرِ وَهُوَ مِثلُ الْقَصْرِ فِي أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ. وَفُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَهُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ، إِلَى الْإِظْهَارِ باسم الْعباد مُضَاف إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالصِّلَةِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِصِفَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَهُمَا: صِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، أَيْ عُبُودِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَصِفَةُ اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ وَاتِّبَاعِ أَحْسَنِهِ. وَقَرَأَ الْعَشَرَةُ مَا عَدَا السُّوسِيِّ رَاوِي أَبِي عَمْرٍو كَلِمَةَ عِبادِ بِكَسْرِ الدَّالِ دُونَ يَاءٍ وَهُوَ تَخْفِيفٌ وَاجْتِزَاءٌ بِوُجُودِ الْكَسْرَةِ عَلَى الدَّالِ. وَقَرَأَهَا السُّوسِيُّ بِيَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ مَفْتُوحَةٍ فِي الْوَصْلِ وَسَاكِنَةٍ فِي الْوَقْفِ، وَنُقِلَ عَنْهُ حَذْفُ الْيَاءِ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ وَهُمَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ» ، لَكِنِ اتّفقت الْمَصَاحِف على كِتَابَةَ عِبادِ هُنَا بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ وَذَلِكَ يُوَهِّنُ قِرَاءَةَ السُّوسِيِّ إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ لَهَا بِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ يَسْتَمِعُونَ الْأَقْوَالَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى الْهُدَى مِثْلَ الْقُرْآنِ وَإِرْشَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَمِعُونَ الْأَقْوَالَ الَّتِي يُرِيدُ أَهْلُهَا صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ تُرَّهَاتِ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ فَإِذَا اسْتَمَعُوا ذَلِكَ اتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ. وَالْمُرَادُ: يَتْبَعُونَ الْقَوْلَ الْحَسَنَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ

مُسْتَعْمَلًا فِي تَفَاوُتِ الْمَوْصُوفِ بِهِ فِي الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْوَصْفِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] . أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ نَقْدٍ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحِكْمَةِ وَالْأَوْهَامِ نُظَّارٌ فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ نُقَّادٌ لِلْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ أَحْسَنِ الْقَوْلِ سَبَبٌ فِي حُصُولِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ مُسْتَأْنِفَةٌ لِاسْتِرْعَاءِ الذِّهْنِ لِتَلَقِّي هَذَا الْخَبَرَ. وَأُكِّدَ هَذَا الِاسْتِرْعَاءُ بِجَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ إِشَارَةٍ لِيَتَمَيَّزَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ. أَكْمَلَ تَمَيُّزَهُ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ صِفَاتُ اجْتِنَابِهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِمَاعِهِمْ كَلَامِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ نَابِذِينَ مَا يُلْقِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَقْوَالِ التَّضْلِيلِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ ذِكْرِ أَوْصَافٍ أَوْ أَخْبَارٍ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ فِي سُورَةِ [ص: 55] . وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرَ تَعْيِينٍ، أَيْ دُونِ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ. وَمَعْنَى هَداهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ نَالُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ قَابِلَةً لِلْهُدَى الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَى سَمَاعِ الْهُدَى بِشَرَاشِرِهِمْ وَسَعَوْا إِلَى مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى رِضَاهُ وَطَلَبُوا النَّجَاةَ مِنْ غَضَبِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ وَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَوَامِرَ إِرْشَادِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلُ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَطَلَّبُوا الْبَحْثَ عَمَّا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.

وَأَشَارَتْ جُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ إِلَى معنى تهيئهم لِلِاهْتِدَاءِ بِمَا فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عُقُولٍ كَامِلَةٍ، وَأَصْلُ الْخِلْقَةِ مَيَّالَةٌ لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ غَيْرُ مُكْتَرِثَةٍ بِالْمَأْلُوفِ وَلَا مُرَاعَاةِ الْبَاطِلِ، عَلَى تَفَاوُتِ تِلْكَ الْعُقُولِ فِي مَدَى سُرْعَةِ الْبُلُوغِ لِلِاهْتِدَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ عِنْدَ أول دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ خَدِيجَةَ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بُعَيْدَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، فَأُشِيرُ إِلَى رُسُوخِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي عُقُولِهِمْ بِذِكْرِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مَعَ كَلِمَةِ أُولُوا الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا مُمْسِكٌ بِمَا أضيفت إِلَيْهِ كملة أُولُوا، وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْأَلْبابِ مِنْ مَعْنَى الْكَمَالِ، فَلَيْسَ التَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لِأَنَّ جِنْسَ الْأَلْبَابِ ثَابَتٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ. وَأَشَارَ إِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَمَيُّزِهِمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ مِنْ بَيْنِ نُظَرَائِهِمْ وَأَهْلِ عَصْرِهِمْ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَابِلٍ، فَأُشِيرَ إِلَى الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَداهُمُ اللَّهُ، وَإِلَى الْقَابِل بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْقَصْرِ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ دَلَّ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ بِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا صِفَةَ اتِّبَاعِ أَحْسَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ، عَلَى شَرَفِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَلِغَلْقِ الْمَجَالِ فِي وَجْهِ الشُّبْهَةِ وَنَفْيِ تَلَبُّسِ السَّفْسَطَةِ. وَهَذَا مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ عَلَى قَدْرِ قَرِيحَةِ النَّاظِرِ، وَمِنْهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ فَضِيلَةٌ وَكَمَالٌ فِي الْأَعْيَانِ وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِدْرَاكُ دَلَائِلِ ذَلِكَ وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ وَالْفَهْمُ فِيهِ وَالتَّهَمُّمُ بِرِعَايَةِ مَقَاصِدِهِ فِي شَرَائِعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَآدَابِ الْمُعَاشَرَةِ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَصْدَقِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَإِلْجَامُ الْخَائِضِينَ فِي ذَلِكَ بِعَمَايَةٍ وَغُرُورٍ، وَإِلْقَامُ الْمُتَنَطِّعِينَ وَالْمُلْحِدِينَ. وَمِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ انْتِفَاءُ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ وَأَبْلَغِ الْأَقْوَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ بِدُونِ اخْتِلَالِ وَلَا اعْتِلَالِ بِتَهْذِيبِ الْعُلُومِ وَمُؤَلَّفَاتِهَا، فَقَدْ قِيلَ: خُذُوا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ أَحْسَنَهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.

[سورة الزمر (39) : آية 19]

وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَأَبِي ذَرِّ الْغِفَارِيِّ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَ قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الْآيَةَ فِي عُثْمَان وَعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ أبي وَقاص جاؤوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَسْلَمَ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بإيمانه فآمنوا. [19] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 19] أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَمَّا أَفَادَ الْحُصْرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى [الزمر: 17] وَالْحَصْرَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 18] أَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَا بُشْرَى لَهُمْ وَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ وَلَا أَلْبَابَ لَهُمْ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ، وَكَانَ حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْرُومُونَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ بِالنَّعِيمِ الْخَالدِ لِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُهُ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مُفِيدٌ التَّنْبِيهَ عَلَى انْتِفَاءِ الطَّمَاعِيَةِ فِي هِدَايَةِ الْفَرِيقِ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُصِدَ إِقْصَاؤُهُمْ عَنِ الْبُشْرَى، وَالْهِدَايَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِعُقُولِهِمْ، بِالْقَصْرِ الْمَصُوغَةِ عَلَيْهِ صِيَغُ الْقَصْرِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ فِي الْخَبَرِ الْمُهْتَمِّ بِهِ بِأَنْ يُؤَكِّدَ مَضْمُونَهُ الثَّابِتَ لِلْخَبَرِ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِ نَقِيضِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ لِضِدِّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لِيَتَقَرَّرَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَصْلِهِ وَمَرَّةً بِنَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهُ، لِضِدِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] عَقِبَ قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 49] . وَيَكْثُرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِتْيَان باسم إِشَارَة لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: 18] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ مَرَّتَيْنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ إِثْبَاتُ ضِدِّ حُكْمِهِمْ لِمَنْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ حَالِهِمْ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الْفَاءِ لِتَفْرِيعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ

أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 18] لِأَنَّ التَّفْرِيعَ يَقْتَضِي اتِّصَالًا وَارْتِبَاطًا بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ، كَالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ: أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ... خُذِلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا إِذْ فَرَّعَ تَشْبِيهًا عَلَى تَشْبِيهٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا. وَكَلِمَةُ الْعَذابِ كَلَامُ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى حَقَّ تَحَقَّقَتْ فِي الْوَاقِعِ، أَيْ كَانَتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا حَقًّا غَيْرَ كَذِبٍ، فَمَعْنَى حَقَّ هُنَا تَحَقُّقُ، وَحَقُّ كَلِمَةِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ ضِدُّ هَدْيِ اللَّهِ الْآخَرِينَ، وَكَوْنِهِمْ فِي النَّارِ ضِدُّ كَوْنِ الْآخَرِينَ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَتَرْتِيبُ الْمُتَضَادَّيْنِ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ شِبْهِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْبَقَرَة: 6، 7] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: 4، 5] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ضِدٌّ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ضِدُّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَ (مَنْ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَبُو لَهَبٍ وَوَلَدُهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَذْيِيلًا، أَيْ أَنْتَ لَا تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ. وَإِحْدَاهُمَا تَأْكِيدٌ لِلْأُخْرَى الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى نَحْوِ تَكْرِيرِ (أَنْ) فِي قَوْلِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ: لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ اليمانون أنني ... إِذْ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ، أَنِّي خَطِيبُهَا وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ شَارِحُوهُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ شَرْطِيَّةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ

يَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ لِمَعْنَى غَيْرِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِلَّا كَانَتْ مُؤَكِّدَةً لِلْأُولَى وَذَلِكَ يُنْقِصُ مَعْنًى مِنَ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنَ) الْأُولَى مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مُؤَكِّدَةً لِلْفَاءِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ إِلَخْ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ وَالْفَاءُ مَعًا مُؤَكِّدَتَيْنِ لِلْهَمْزَةِ الْأُولَى وَالْفَاءُ الَّتِي مَعَهَا لِاتِّصَالِهِمَا، وَلِأَنَّ جُمْلَةَ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ صَادِقَةٌ عَلَى مَا صَدَقَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ جَارِيًا عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى كَلَامٍ لَا شَرْطَ فِيهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ (مَنْ) شَرْطِيَّةً: أَمَّنْ تَحَقُقْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَنْتَ لَا تُنْقِذُهُ مِنْهُ فَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ افْتُتِحَ بِهَا الْكَلَامُ الْمُتَضَمِّنُ الْإِنْكَارَ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارًا، كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْيٍ قَدْ يَفْتَتِحُونَهُ بِحَرْفِ نَفْيٍ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقُوا بِالنَّفْيِ كَمَا فِي قَوْلِ مُسْلِمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْوَالِبِيِّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: فَلَا وَاللَّهِ لَا يُلْفَى لِمَا بِي ... وَلَا لِمَا بِهِمُ أَبَدًا دَوَاءُ وَيُفِيدُ ذِكْرُهَا تَوْكِيدُ مُفَادِ هَمْزَةِ الْإِنْكَارِ إِفَادَةَ تَبَعِيَّةٍ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ (مَنِ) الْأُولَى مَوْصُولَةَ: الَّذِينَ تَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَنْتَ لَا تُنْقِذُهُمْ مِنَ النَّارِ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَأْكِيدًا لِلْهَمْزَةِ الْأُولَى. ومَنْ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ فِي النَّارِ مَوْصُولَةٌ. ومَنْ فِي النَّارِ هُمْ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْعَذَابِ هِيَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَوَقَعَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَالْأَصْلُ: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ» .

وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ تَهْوِيلُ حَالَتِهِمْ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الْمُصَوِّرِ لِحَالَةِ إِحَاطَةِ النَّارِ بِهِمْ، أَيْ أَفَأَنْتَ تُرِيدُ إِنْقَاذَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّارِ وَهُمُ الْآنَ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ، فَشُبِّهَ تَحَقُّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَحَقُّقِهِ فِي الْحَالِ. وَقَدْ صُرِّحَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [40] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [22] . وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ. وَكَلِمَةُ الْعَذابِ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرَ فِي الْعَذَابِ، أَيْ تَقْدِيرُ اللَّهِ ذَلِكَ لِلْكَافِرِ فِي وَعِيدِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِي الْقُرْآنِ. وَتَجْرِيدُ فِعْلِ حَقَّ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ وَهُوَ كَلِمَةُ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ اكْتَسَبَ التَّذْكِيرَ مِمَّا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ نَظَرًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. وَفَائِدَةُ إِقْحَامِ كَلِمَةُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ وَوَعِيدُهُ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مُفِيدٌ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْرِيرِ دَعْوَتِهِ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَعِيدِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُمُ الْهِدَايَةُ إِذَا لَمْ يُقَدِّرْهَا اللَّهُ لَهُمْ. وَالْخَطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْوِينًا عَلَيْهِ بَعْضَ حِرْصِهِ عَلَى تَكْرِيرِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَحُزْنِهِ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يُنْقِذُهُمْ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ فِعْلُ الْإِنْقَاذِ هُنَا تَشْبِيهًا لِحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ وَبُلُوغِ جُهْدِهِ فِي إِقْنَاعِهِمْ بِتَصْدِيقِ دَعَوْتِهِ، وَحَالِهِمْ فِي انْغِمَاسِهِمْ فِي مُوجِبَاتِ وَعِيدِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُحَاوِلُ إِنْقَاذَ سَاقِطٍ فِي النَّارِ قَدْ أَحَاطَتِ النَّارُ بِجَوَانِبِهِ اسْتِحْقَاقًا قَضَى بِهِ مَنْ لَا يُرِدْ مُرَادَهُ، فَحَالُهُمْ تُشْبِهُ حَالَ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ مِنَ الْآنِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَحُذِفَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَرُمِزَ إِلَى مَعْنَاهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مُلَائِمَاتِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ فِعْلُ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِالْمَكْنِيَّةِ، أَيْ إِجْرَاءَ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ فِي الْمُرَكَّبِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ

قَرِينَةَ هَذِهِ الْمَكْنِيَّةِ وَهُوَ فِي ذَاتِهِ اسْتِعَارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 27] . وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّاف» وَبَينه التفتازانيّ فَيُعَدُّ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ دَقَائِقِ أَنْظَارِهِمَا، وَبِهِ يَتِمُّ تَقْسِيمُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ مُصَرِّحَةٍ وَمَكْنِيَّةٍ. وَذَلِكَ كَانَ مَغْفُولًا عَنْهُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْقَاذَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِلْحَاحِ فِي الْإِنْذَارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ مَنْ هُوَ صَائِرٌ إِلَى النَّارِ، فَلَا مُتَمَسَّكُ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي غَرَضِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّمَا نَفَتِ الشَّفَاعَةَ لَأَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا شَفَاعَةَ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] ، عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْقِذًا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ إِنْقَاذِهِ، فَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ يُنْقِذَهُ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نُكَتٍ بَدِيعَةٍ مِنَ الْإِعْجَازِ إِذْ أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ يَكْمُنُ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِتَعْذِيبِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ حَالَهُمُ الْآنَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، وَحَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ كَحَالِ مَنْ رَأَى سَاقِطًا فِي النَّارِ فَانْدَفَعَ بِدَافِعِ الشَّفَقَةِ إِلَى مُحَاوَلَةِ إِنْقَاذِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُنْكِرَتْ شِدَّةُ حِرْصِهِ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ فَكَانَ إِيدَاعُ هَذَا الْمَعْنَى فِي جُمْلَتَيْنِ نِهَايَةً فِي الْإِيجَازِ مَعَ قَرْنِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الصَّرَاحَةِ. ثُمَّ بِمَا أُودِعَ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْعَجِيبَةِ بِطَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَمِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ فِي قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَحَاصِلُ نَظْمِ هَذَا التَّرْكِيبِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي النَّارِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ وَتُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة الزمر (39) : آية 20]

يَقُولُ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشَ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تقتحمون فِيهَا» . [20] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 20] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أُعِيدَتْ بِشَارَةُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ مِنْ قَبْلُ. وَافْتُتِحَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا، فَحَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْإِشْعَارِ بِتَضَادِّ الْحَالَيْنِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّهُ سَيَتَلَقَّى حُكَمًا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [143] ، وَقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [46] ، فَحَصَلَ فِي قَضِيَّةِ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ تَقْرِيرٌ عَلَى تَقْرِير ابتدئ بالإشارتين فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 18] ثُمَّ بِمَا أُعْقِبَ مِنْ تَفْرِيعِ حَالِ أَضْدَادِهِمْ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ ثُمَّ بِالِاسْتِدْرَاكِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَضْدَادِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ اللَّهِ وَكَانُوا أولي الْأَلْبَاب، فَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم هُنَا إِلَى الْمَوْصُولِ لِقَصْدِ مَدْحِهِمْ بِمَدْلُولِ الصِّلَةِ وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ سَبَبٌ لِلْحُكْمِ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى الْمَوْصُولِ وَهُوَ نُوَالُهُمُ الْغُرَفَ. وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ لِمَا فِي تِلْكَ الْإِضَافَةِ مِنْ تَشْرِيفِهِمْ بِرِضَى رَبِّهِمْ عَنْهِمْ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ الْبَيْتُ الْمُرْتَكِزُ عَلَى بَيْتٍ آخَرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْعُلِّيَّةُ (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً وَالتَّحْتِيَّةُ كَذَلِكَ)

وَتَقَدَّمَتِ الْغُرْفَةُ فِي آخِرَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [75] . وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِاعْتِلَاءِ غَرْفٍ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، فَالْغُرَفُ الَّتِي فَوْقَ الْغُرَفِ هِيَ لَهُمْ أَيْضًا لِأَنَّ مَا فَوْقَ الْبِنَاءِ تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْهَوَاءِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ. فَالْمَعْنَى: لَهُمْ أَطْبَاقٌ مِنَ الْغُرَفِ، وَذَلِكَ مُقَابِلُ مَا جُعِلَ لِأَهْلِ النَّارِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] . وَخُولِفَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ: فَجُعِلَ لِلْمُتَّقِينَ غُرَفٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا فَوْقَهَا غُرَفٌ، وَجُعِلَتْ لِلْمُشْرِكِينَ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَعُطِفَ عَلَيْهَا أَنَّ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ مُتَنَعِّمُونَ بِالتَّنَقُّلِ فِي تِلْكَ الْغُرَفِ، وَإِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْبُوسُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَأَنَّ الظَّلَلَ مِنَ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ لِتَتَظَاهَرَ الظُّلَلُ بِتَوْجِيهِ لَفْحِ النَّارِ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ. وَالْمَبْنِيَّةُ: الْمَسْمُوكَةُ الْجُدْرَانِ بِحَجَرٍ وَجَصٍّ، أَوْ حَجَرٍ وَتُرَابٍ، أَوْ بِطُوبٍ مُشَمَّسٍ ثُمَّ تُوضَعُ عَلَيْهَا السَّقْفُ، وَهَذَا نَعْتٌ لِغُرَفٍ الَّتِي فَوْقَهَا غُرَفٌ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْغُرَفَ الْمُعْتَلَى عَلَيْهَا مَبْنِيَّةٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ وَصْفِ الْغُرَفِ مَعَ أَنَّ الْغُرْفَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بِنَاءٍ، وَلَمْ يَذْهَبُوا إِلَى أَنَّهُ وَصَفٌ كَاشِفٌ وَلَهُمُ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ فَقِيلَ ذِكْرُ الْمَبْنِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا غرف حَقِيقَة لَا أَشْيَاءَ مُشَابَهَةُ الْغُرَفِ فَرْقًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظُّلَلِ الَّتِي جُعِلَتْ لِلَّذِينَ خَسِرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ ظُلَلَهُمْ كَانَتْ مِنْ نَارٍ فَلَا يَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ غُرَفَ الْمُتَّقِينَ مَجَازٌ عَنْ سَحَابَاتٍ مِنَ الظِّلِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى الْمَجَازِ هُنَا بِخِلَافِهِ هُنَالِكَ لِأَنَّهُ اقْتَضَاهُ مَقَامَ التَّهَكُّمِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّاف» : مَبْنِيَّةٌ مِثْلُ الْمَنَازِلِ اللَّاصِقَةِ لِلْأَرْضِ، أَيْ فَذكر الْوَصْف تمهيد لِقَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْأَنْهَارَ لَا تَجْرِي إِلَّا تَحْتَ الْمَنَازِلِ السُّفْلِيَّةِ أَيْ لَمْ يَفُتِ الْغُرَفَ شَيْءٌ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَنَازِلِ السُّفْلِيَّةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهَا مُهَيَّأَةٌ لَهُمْ مِنَ الْآنَ. فَهِيَ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ كَاسْمِ

الْفَاعِلِ فِي اقْتِضَائِهِ الِاتِّصَافِ بِالْوَصْفِ فِي زَمَنِ الْحَالِ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْآنَ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ احْتِرَازًا عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْغُرَفِ تَكُونُ نَحْتًا فِي الْحَجَرِ فِي الْجِبَالِ مِثْلُ غُرَفِ ثَمُودَ، وَمِثْلُ مَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْجَنُوبِ التُّونِسِيِّ غُرَفًا، وَهِيَ بُيُوتٌ مَنْقُورَةٌ فِي جبال (مدنين) و (مطماطة) و (تطاوين) وَانْظُرْ هَلْ تُسَمَّى تِلْكَ الْبُيُوتُ غُرَفًا فِي الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ لَمْ تَصِفْ مُسَمَّى الْغُرْفَةِ وَصْفًا شَافِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيَّةٌ وَصْفًا لِلْغُرَفِ بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا مِنْ مَعْنَى الْمَبْنِيِّ الْمُعْتَلِي فَيَكُونُ الْوَصْفُ دَالًّا عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَبْنِيَّةٌ بِنَاءً بَالِغًا الْغَايَةَ فِي نَوْعِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ. وَجَرْيُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ كَمَالِ حُسْنِ مَنْظَرِهَا لِلْمُطِلِّ مِنْهَا. وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهَا أَنَّ الْأَنْهَارَ تَمُرُّ عَلَى مَا يُجَاوِرُ تَحْتَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي آلِ عِمْرَانَ [15] ، فَأُطْلِقَ اسْمُ «تَحْتٍ» عَلَى مُجَاوِرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أُسُسِهَا الْأَنْهَارُ، أَيْ تَخْتَرِقُ أُسُسَهَا وَتَمُرُّ فِيهَا وَفِي سَاحَاتِهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُرَى فِي الدِّيَارِ كَدِيَارِ دِمَشْقَ وَقَصْرِ الْحَمْرَاءِ بِالْأَنْدَلُسِ وَدِيَارِ أَهْلِ التَّرَفِ فِي مَدِينَةِ فَاسٍ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ «تَحْتِ» حَقِيقَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ غُرْفَةٍ مِنْهَا يَجْرِي تَحْتَهَا نَهَرٌ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ لِيُقَسَّمَ عَلَى الْآحَادِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْعَدَ الْمَاءُ إِلَى كُلِّ غُرْفَةٍ فَيَجْرِي تَحْتَهَا. ووَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمْ غُرَفٌ فِي مَعْنَى: وَعَدَهُمُ اللَّهُ غُرَفًا وَعَدًا مِنْهُ. وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ غُرَفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْنا، وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى اَسْمِ الْجَلَالَةِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ وَعْدٌ مُوفًّى بِهِ فَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ بَيَانًا لِمَعْنَى وَعْدَ اللَّهِ. وَالْمِيعَادُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى الْوَعْد.

[سورة الزمر (39) : آية 21]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ هُدَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ وَانْثَنَى الْكَلَامُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] إِلَى هُنَا، فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزمر: 22، 23] فَمُثِّلَتْ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَاهْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْوَعْدِ بِنَمَاءِ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ، بِحَالَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَنَبَاتِ الزَّرْعِ بِهِ وَاكْتِمَالِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَجْزِئَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا: فَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَشْبِيهٌ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لِإِحْيَاءِ الْقُلُوبِ، وَإِسْلَاكُ الْمَاءِ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ تَشْبِيهٌ لِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ، وَإِخْرَاجُ الزَّرْعِ الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ تَشْبِيهٌ لِحَالِ اخْتِلَافِ النَّاسِ مِنْ طَيِّبٍ وَغَيْرِهِ، وَنَافِعٍ وَضَارٍّ، وَهِيَاجُ الزَّرْعِ تَشْبِيهٌ لِتَكَاثُرِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالَةِ الْمَمَاتِ وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ. وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 22، 23] إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبْرَةِ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ. وَقَرِيبٌ مِنْ تَمْثِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعلم كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله ونفعه مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَصَالَةً وَإِدْمَاجًا عَلَى عَكْسِ مَا بَيَّنَّا، فَيَكُونُ عُودًا إِلَى

الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ الله تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلِيلٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ مُشَاهَدَةً مُتَكَرِّرَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً إِلَى قَوْله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (¬1) مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزمر: 6] الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: 5] ، وَيَكُونُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَانْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ إِدْمَاجًا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أُدْمِجَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إِيمَاءً إِلَى إِمْكَانِ إِحْيَاءِ النَّاسِ حَيَاةً ثَانِيَةً. وَالْكَلَامُ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُخَاطَبًا مُعَيَّنًا. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةُ. وَقَوْلُهُ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فِي سُورَة الْأَنْعَام [99] . وفَسَلَكَهُ أَدْخَلَهُ، أَيْ جَعَلَهُ سَالِكًا، أَيْ دَاخِلًا، فَفِعْلُ سَلَكَ هُنَا مُتَعَدٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا فِي سُورَةِ طه [53] ، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ فِعْلَ سَلَكَ يَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَهَذَا الْإِدْخَالُ دَلِيلٌ ثَانٍ. ويَنابِيعَ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ الْعَيْنُ مِنَ الْمَاءِ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [90] . وَانْتَصَبَ يَنابِيعَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مَاءً. وَتَصْيِيرُ الْمَاءِ الدَّاخِلِ فِي الْأَرْضِ يَنَابِيعَ دَلِيلٌ ثَالِثٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَعَطَفَ بِ ثُمَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ بِحَرْفِ ثُمَّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الزَّرْعِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ إِقْحَالِهَا أَوْقَعُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِأَبْصَارِهِمْ وَأَنْفَعُ لِعَيْشِهِمْ وَإِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَطَرِ. وَهَذَا الْإِخْرَاجُ دَلِيلٌ رَابِعٌ. وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ، وَاللَّوْنُ: كَيْفِيَّةٌ لَائِحَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْجِسْمِ فِي الضَّوْءِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ ¬

(¬1) فِي المطبوعة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.

وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الزَّرْعِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الزَّرْعِ لَوْنًا وَلِنَوْرِهَا أَلْوَانًا وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الزَّرْعِ أَلْوَانٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَطْوَارِ نَبَاتِهِ وَبُلُوغِهِ أَشُدَّهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَعَ اتِّحَادِ الْأَرْضِ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهَا وَاتِّحَادِ الْمَاءِ الَّذِي نَبَتَ بِهِ آيَةٌ خَامِسَةٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ. وَمَعْنَى يَهِيجُ يُغْلُظُ وَيَرْتَفِعُ. وَحَقِيقَةُ الْهِيَاجِ: ثَوْرَةُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، وَيُسْتَعَارُ الْهِيَاجُ لِشِدَّةِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: هَاجَتْ رِيحٌ، وَمِنْهُ هِيَاجُ الزَّرْعِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَطُولُ سُوقُهُ وَسَنَابِلُهُ فَيَتِمُّ جَفَافُهُ فَإِذَا تَحَرَّكَ بِمُرُورِ الرِّيحِ عَلَيْهِ صَارَ لَهُ حَفِيفٌ وَخَشْخَشَةٌ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَبُّ وَالْكَلَأُ وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَادِسَةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَالْحُطَامُ: الْمَحْطُومُ، أَيِ الْمَكْسُورُ الْمَفْتُوتُ، وَوَزْنُ فُعَالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ) يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْفُتَاتِ وَالدُقَاقِ، وَمُثُلُهُ الْفُعَالَةُ كَالصُبَابَةِ وَالْقُلَامَةِ وَالْقُمَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْلُغُ مِنَ الْيَبْسِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَتَحَطَّمَ وَيَتَكَسَّرَ بِحَكِّ بَعْضِهِ بَعْضًا وَتَسَاقُطِهِ وَكَسْرِ الرِّيحِ إِيَّاهُ. وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَابِعَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. وَجَمِيعُهَا آيَاتٌ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِهِ وَكَيْفَ أَوْدَعَ الْأَطْوَارَ الْكَثِيرَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ طَوْرِ وُجُودِهِ إِلَى طَوْرِ اضْمِحْلَالِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ مُبَيِّنَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَفَذْلَكَةٌ لِلْأَطْوَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهَا، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِنْزَالِ إِلَى أَخِرِ الْأَطْوَارِ. وَالْمُرَادُ: ذِكْرَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّكْرَى لِمَا يَذْهَلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ مَبْدَئِهَا إِلَى مُنْتَهَاهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِتَقْرِيبِ الْبَعْثِ فَإِنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْبَاتَهَا بِسَبَبِهِ أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ حُطَامًا، وَتَخَلَّلَتْ زَرَارِيعُهُ الْأَرْضَ فَنَبَتَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِنُزُولِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُعُودُ الْإِنْسَانُ بَعْدَ فَنَائِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: 17، 18] فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ إِدْمَاجَ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ وَإِمْكَانِهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ، وَمِنْ

[سورة الزمر (39) : آية 22]

ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مَثَلًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمَقْصُودُ: تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّجَوُّزُ فِي مُفْرَدَاتِ هَذَا الْمُرَكَّبِ بِأَنْ يُطْلَبَ لِكُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الدُّنْيَا طَوْرٌ يَشْتَبِهُ بِهِ مِنْ أَطْوَارِ النَّبَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا مَثَلٌ لِأَطْوَارِ الْإِنْسَانِ مِنْ طَوْرِ النُّطَفِ إِلَى الشَّبَابِ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ ثُمَّ الْهَلَاكِ، وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ مَعَ إِمْكَانِ تَوْزِيعِ تَشْبِيهِ كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِطَوْرٍ مِنْ أطوار الْحَالة الْمُشبه بِهَا وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاع التمثيلية. وأولي اَلْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَابِهِمْ فَيَهْتَدُونَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 9] ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا فَآمَنُوا. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَدِمُوا الْعُقُولَ. [22] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 22] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [الزمر: 20] وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ. وَ (مَنْ) مُوصِلَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ مِمَّا اقْتَضَاهُ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ مِنْ مُخَالَفَةِ حَالِهِ لِحَالِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ مِثْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: مِثْلُ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّاحِقِ. وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ اسْتِعَارَةٌ لِقَبُولِ الْعَقْلِ هُدَى الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرْحِ أَنَّهُ: شَقُّ اللَّحْمِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ مُشَاهِدَةِ بَاطِنِ الْأَسْبَابِ وَتَرْكِيبِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى شَقِّ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَحْتَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَحَيَّرَ وَتَرَدَّدَ فِي أَمْرٍ يَجِدُ فِي نَفسه غما يَتَأَثَّرُ مِنْهُ جِهَازُهُ الْعَصَبِيُّ فَيَظْهَرُ تَأَثُّرُهُ فِي انْضِغَاطِ نَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ تُنَفُّسُهُ عَسِيرًا وَيَكْثُرُ تَنَهُّدُهُ وَكَانَ

عُضْوُ التَّنَفُّسِ فِي الصَّدْرِ، شُبِّهَ ذَلِكَ الِانْضِغَاطُ بِالضِّيقِ وَالِانْطِبَاقِ فَقَالُوا: ضَاقَ صَدْرُهُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشُّعَرَاء: 13] ، وَقَالُوا: انْطَبَقَ صَدْرُهُ وَانْطَبَقَتْ أَضْلَاعُهُ وَقَالُوا فِي ضِدِّ ذَلِكَ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [125] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ فِي انْشِرَاحٍ، أَيْ يُحِسُّ كَأَنَّ صَدْرَهُ شُرِحَ وَوُسِّعَ. وَمِنْ رَشَاقَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إِيثَارُ كَلِمَةِ شَرَحَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَأَخْلَاقَهُ وَآدَابَهُ تُكْسِبُ الْمُسْلِمَ فَرَحًا بِحَالِهِ وَمَسَرَّةً بِرِضَى رَبِّهِ وَاسْتِخْفَافًا لِلْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ لِجَزْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فِي أَمْرِهِ وَأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى ضُرِّهِ وَأَنَّهُ رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِعَدَمِ مُخَالَطَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ ضَمِيرَهُ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ أَوَّلُ مَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُهُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ دَرَجَاتٍ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حَالَةَ الشِّرْكِ أَنِ اجْتَنَبَ عِبَادَةَ أَحْجَارٍ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا وَمُعْظَمُ مُمْتَلَكَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْهَا كَفَرَسِهِ وَجَمَلِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَنَخْلِهِ، فَشَعَرَ بِعِزَّةِ نَفْسِهِ مُرْتَفِعًا عَمَّا انْكَشَفَ لَهُ مِنْ مَهَانَتِهَا السَّابِقَةِ الَّتِي غَسَلَهَا عَنْهُ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنْطِقُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَيَتَّسِمُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ وَمَحَبَّةِ فِعْلِ الْخَيْرِ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَا يَنْطَوِي بَاطِنُهُ عَلَى غِلٍّ وَلَا حَسَدٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَصْبَحَ يَعُدُّ الْمُسْلِمِينَ لِنَفْسِهِ إِخْوَانًا، وَقَدْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بِالْغَارَةِ وَالْمَيْسِرِ، وَاسْتَغْنَى بِالْقَنَاعَةِ عَنِ الضَّرَاعَةِ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَسَّهُ ضَرٌّ رَجَا زَوَالَهُ وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ تَغَيُّرِ حَالِهِ. وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى تَحَمُّلِهِ وَصَبْرِهِ، وَإِذَا مَسَّتْهُ نِعْمَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَتَرَقَّبَ الْمَزِيدَ، فَكَانَ صَدْرُهُ مُنْشَرِحًا بِالْإِسْلَامِ مُتَلَقِّيًا الْحَوَادِثَ بِاسْتِبْصَارٍ غَيْرَ هَيَّابٍ شُجَاعَ الْقَلْبِ عَزِيزَ النَّفْسِ. وَاللَّامُ فِي لِلْإِسْلامِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ شَرَحَهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لِأَجْلِ قَبُولِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مِنْ.

وَالنُّورُ: مُسْتَعَارٌ لِلْهُدَى وَوُضُوحِ الْحَقِّ لِأَنَّ النُّورَ بِهِ تَنْجَلِي الْأَشْيَاءُ وَيَخْرُجُ الْمُبْصِرُ مِنْ غَيَاهِبِ الضَّلَالَةِ وَتَرَدُّدِ اللَّبْسِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْأَشْبَاحِ. وَاسْتُعِيرَتْ عَلى اسْتِعَارَةٍ تَبَعِيَّةٍ أَوْ تَمْثِيلِيَّةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النُّورِ كَمَا اسْتُعِيرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُقَرَّرَيْنِ هُنَالِكَ. ومِنْ رَبِّهِ نعت ل- نُورٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ نُورٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ نُورٌ كَامِلٌ لَا تُخَالِطُهُ ظَلَمَةٌ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ النُّورِ [35] . فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فُرِّعَ عَلَى وَصْفِ حَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ ضِدِّهِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَحِ اللَّهُ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَكَانَتْ لِقُلُوبِهِمْ قَسَاوَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا فَلَا تَسْلُكُ دَعْوَةُ الْخَيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. وَأُجْمِلَ سُوءُ حَالِهِمْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كلمة فَوَيْلٌ مِنْ بُلُوغِهِمْ أَقْصَى غَايَاتِ الشقاوة والتعاسة، وَقد تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعَانِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: 79] . وَالْقَاسِي: الْمُتَّصِفُ بِالْقَسَاوَةِ فِي الْحَالِ، وَحَقِيقَةُ الْقَسَاوَةِ: الْغِلَظُ وَالصَّلَابَةُ فِي الْأَجْسَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَة: 74] . وقسوة الْقَلْبِ: مُسْتَعَارَةٌ لِقِلَّةِ تَأَثُّرِ الْعَقْلِ بِمَا يُسْدَى إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهَا، وَيُقَابِلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ اسْتِعَارَةُ اللِّينِ لِسُرْعَةِ التَّأَثُّرِ بِالنَّصَائِحِ وَنَحْوِهَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ [الزمر: 23] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَنْ) بِتَضْمِينِ الْقاسِيَةِ مَعْنَى الْمُعْرِضَةِ وَالنَّافِرَةِ، وَقَدْ عُدَّ مُرَادِفُ مَعْنَى (عَنْ) مِنْ مَعَانِي مِنْ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبُ» بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: 22] ، وَفِيهِ نظر، لِإِمْكَان حملهما عَلَى مَعْنَيَيْنِ شَائِعَيْنِ مِنْ مَعَانِي مِنْ وَهُمَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى كَقَوْلِهِمْ: سَقَاهُمْ مِنَ الْغَيْمَةِ، أَيْ لِأَجْلِ

الْعَطَشِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَعَلَ الْمَعْنَى: أَنَّ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ حَصَلَتْ فِيهِمْ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، أَيْ قَسَتْ قُلُوبُهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ آيَةٌ اشْمَأَزُّوا فَتَمَكَّنَ الِاشْمِئْزَازُ مِنْهُمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْقُرْآنِ فَكُلَّمَا سَمِعُوهُ أَعْرَضُوا وَعَانَدُوا وَتَجَدَّدَتْ كَرَاهِيَةُ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى تُرَسَّخَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةُ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَصِيرَ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً. فَكَانَ الْقُرْآنُ أَنْ سَبَّبَ اطْمِئْنَانَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: 28] . وَكَانَ سَبَبًا فِي قَسَاوَةِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْقَابِلِيَّةِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ آثَارُهُ وَأَفْعَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْقَابِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ خَصَائِصُ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ آثَارِهَا فِي غَالِبِ الْمُتَأَثِّرَاتِ، فَذِكْرُ اللَّهِ سَبَبٌ فِي لِينِ الْقُلُوبِ وَإِشْرَاقِهَا إِذَا كَانَتِ الْقُلُوبُ سَلِيمَةً مِنْ مَرِضِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْكِبْرِ، فَإِذَا حَلَّ فِيهَا هَذَا الْمَرَضُ صَارَتْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهَا أَشَدَّ مَرَضًا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ: كَيْفَ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ سَبَبَ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ؟ فَأُفِيدَ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ مُنْغَمِسُونَ فِي حَمْأَتِهَا فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَشَّعَ حِينَ يَسْمَعُونَ ذِكْرَ اللَّهِ. وَافْتِتَاحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ مَا وُصِفُوا بِهِ مِنْ قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ صَارُوا بِهِ أَحْرِيَاءَ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] ، فَكَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُوَ الضَّلَالُ الشَّدِيدُ عِلَّةً لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ

[سورة الزمر (39) : آية 23]

حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ جُمْلَتِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَكَانَ مَضْمُونُهَا مَفْعُولًا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ تَصْدِيرُ جُمْلَتِهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عقب وَصْفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً وَمُنْفَعِلَةً بِاخْتِلَافِ الْمُثَارِ وَمَا تَتْرُكُهُ مِنَ الْآثَارِ لِأَنَّهَا عِلَلٌ وَمَعْلُولَاتٌ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ التَّوَقُّفَ الْمُسَمَّى بِالدَّوْرِ الْمَعِيِّ. وَالْمُبِينُ: الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَخْفَى لِشِدَّتِهِ، فَالْمُبِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَالرُّسُوخِ فَهُوَ يَبِينُ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ. [23] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] . وَمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُلَيِّنُ قُلُوبَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ قَسْوَةِ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ هادٍ مُبَيِّنَةً أَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هِيَ لِرَيْنٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لَا لِنَقْصٍ فِي هِدَايَتِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: 6- 7] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْمِيلٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ غَرَضُ السُّورَةِ وَسَيُقَفَّى بِثَنَاءٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر: 41] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] . وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِتَفْخِيمِ أَحْسَنِ الْحَدِيثِ الْمُنَزَّلِ بِأَنَّ مُنْزِلَهُ هُوَ أَعْظَمُ عَظِيمٍ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ

وَتَحْقِيقِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَيُفِيدُ مَعَ التَّقْوِيَةِ دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ اخْتِصَاصُ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: اللَّهُ نَزَّلَ الْكِتَابَ لَا غَيْرُهُ وَضَعَهُ، فَفِيهِ إِثْبَاتٌ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عَالَمِ الْقُدْسِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ. فَدَلَّتِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَقَوٍّ وَاخْتِصَاصٍ بِالصَّرَاحَةِ، وَعَلَى اخْتِصَاصٍ بِالْكِنَايَةِ، وَإِذْ أُخِذَ مَفْهُومُ الْقَصْرِ وَمَفْهُومُ الْكِنَايَةِ وَهُوَ الْمُغَايِرُ لِمَنْطُوقِهِمَا كَذَلِكَ يُؤْخَذُ مُغَايِرُ التَّنْزِيلِ فِعْلًا يَلِيقُ بِوَضْعِ الْبَشَرِ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا غَيْرَ اللَّهِ وَضَعَهُ، رَدًّا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: 15] هُوَ أَنَّ التَّقَوِّيَ وَالِاخْتِصَاصَ يَجْتَمِعَانِ فِي إِسْنَادِ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» . وَمُفَادُ هَذَا التَّقْدِيمِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ لِشَأْنِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، فَالْمُرَادُ بِ- أَحْسَنَ الْحَدِيثِ عَيْنُ الْمُرَادِ بِ- ذِكْرِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، عُدِلَ عَنْ ذِكْرِ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ إِلَخْ، فَانْتَصَبَ كِتاباً عَلَى الْحَالِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَانْتُصِبَ مُتَشابِهاً عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ كِتاباً. الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. أَيْ أَحْسَنُ الْخَبَرِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، سُمِّيَ حَدِيثًا لِأَنَّ شَأْنَ الْإِخْبَارِ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ وَجَدَّ. سُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا بِاسْمِ بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ آلَ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ. وَقَدْ سُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ

فِي سُورَةِ [الْأَعْرَافِ: 185] ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: 6] . وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَخْبَارِ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَفْضَلِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ مِنَ الْمَعَانِي النَّافِعَةِ وَالْجَامِعَةِ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالتَّشْرِيعِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْعَوَالِمِ وَالْكَائِنَاتِ، وَعَجَائِبِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ، وَالْعَقْلِ، وَبَثِّ الْآدَابِ، وَاسْتِدْعَاءِ الْعُقُولِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْحَقِّ، وَمِنْ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَبَلَاغَةِ مَعَانِيهِ الْبَالِغَيْنِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَمِنْ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهَا. وَفِي إِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى اللَّهِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى حُسْنِهِ حَيْثُ نَزَّلَهُ الْعَلِيمُ بِنِهَايَةِ مَحَاسِنِ الْأَخْبَارِ وَالذِّكْرِ. الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنَّهُ كِتَابٌ، أَيْ مَجْمُوعُ كَلَامٍ مُرَادٌ قِرَاءَتُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، مَأْمُورٌ بِكِتَابَتِهِ لِيَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَإِنْ جُعِلَ الْكَلَامُ كِتَابًا يَقْتَضِي أَهَمِّيَّةَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْعِنَايَةَ بِتَنْسِيقِهِ وَالِاهْتِمَامَ بِحِفْظِهِ عَلَى حَالَتِهِ. وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كِتَابًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ كُتَّابَ الْوَحْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكْتُبُوا كُلَّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ لَهَا بَيْنَ أَخَوَاتِهَا اسْتِنَادًا إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَشَارَ إِلَى الْأَمْرِ بِكِتَابَتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ (¬1) مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21- 22] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَة: 77- 78] . الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، أَيْ مُتَشَابِهَةٌ أَجْزَاؤُهُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهَا وَشَرَفِ مَعَانِيهَا، فَهِيَ مُتَكَافِئَةٌ فِي الشَّرَفِ وَالْحُسْنِ (وَهَذَا كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ مُتَنَاصِفَةٌ الْحُسْنِ، أَيْ أَنْصَفَتْ صِفَاتُهَا بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَمْ يَزِدْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٌ، قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ: إِنِّي غَرِضْتُ إِلَى تَنَاصُفِ وَجْهِهَا ... غَرَضَ الْمُحِبِّ إِلَى الْحَبِيبِ الْغَائِبِ وَمِنْهُ: قَوْلُهُمْ وَجْهٌ مُقَسَّمٌ، أَيْ مُتَمَاثِلُ الْحُسْنِ، كَأَنَّ أَجْزَاءَهُ تَقَاسَمَتِ الْحُسْنَ وَتَعَادَلَتْهُ، قَالَ أَرَقَمُ بْنُ عَلْبَاءَ الْيَشْكُرِيُّ: وَيَوْمًا تَوَافَيْنَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمِ ... كَأَنَّ ظَبْيَةً تَعْطُو إِلَى وَارْقِ السَّلَمِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (إِنَّه لقرآن) ، وَهُوَ خطأ.

أَيْ بِوَجْهٍ قُسِّمَ الْحُسْنُ عَلَى أَجْزَائِهِ أَقْسَامًا. فَمَعَانِيهُ مُتَشَابِهَةٌ فِي صِحَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا وَابْتِنَائِهَا عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَمُصَادَفَةِ الْمَحَزِّ مِنَ الْحُجَّةِ وَتَبْكِيتِ الْخُصُومِ وَكَوْنِهَا صَلَاحًا لِلنَّاسِ وَهُدًى. وَأَلْفَاظُهُ مُتَمَاثِلَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِصَابَةِ لِلْأَغْرَاضِ مِنَ الْمَعَانِي بِحَيْثُ تَبْلُغُ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهُ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ أَشْرَفُ لُغَةٍ لِلْبَشَرِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُفْرَدَاتٍ وَنَظْمًا، وَبِذَلِكَ كَانَ مُعْجِزًا لكل بليغ عَن أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَالِغٌ الطَّرَفَ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، وَأَمَّا تَفَاوُتُهَا فِي كَثْرَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَقِلَّتِهَا فَذَلِكَ تَابِعٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ مُطَابَقَتُهُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، وَالطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ هُوَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، فَآيَاتُ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةُ مُتَشَابِهَةُ فِي الْحُسْنِ لَدَى أَهْلِ الذَّوْقِ مِنَ الْبُلَغَاءِ بِالسَّلِيقَةِ أَوْ بِالْعِلْمِ وَهُوَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ تَفَاوُتٍ رُبَّمَا بَلَغَ بَعْضُهُ مُبْلَغَ أَنْ لَا يُشْبِهَ بَقِيَّتَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: 82] ، فَالْكَاتِبُ الْبَلِيغُ وَالشَّاعِرُ الْمُجِيدُ لَا يَخْلُو كَلَامُ أَحَدٍ مِنْهُمَا مِنْ ضَعْفٍ فِي بَعْضِهِ، وَأَيْضًا لَا تَتَشَابَهُ أَقْوَالُ أَحَدٍ مِنْهُمَا بَلْ تَجِدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قِطَعًا مُتَفَاوِتَةً فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي. وَبِمَا قَرَّرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمرَان: 7] لِاخْتِلَافِ مَا فِيهِ التَّشَابُهِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ مَثَانِيَ، وَمَثَانِي: جَمْعُ مَثْنًى بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ جَمْعُ مَثْنًى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَهُوَ اسْمٌ لِجَعْلِ الْمَعْدُودِ أَزْوَاجًا اثْنَيْنِ، اثْنَيْنِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى التَّكْرِيرِ. كُنِّيَ عَنْ مَعْنَى التَّكْرِيرِ بِمَادَّةِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّكْرِيرِ، كَمَا كُنِّيَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ عَنِ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: 4] ، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، أَيْ إِجَابَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُسَاعَدَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى مَثانِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: 87] ، فَالْقُرْآنُ مَثَانِي لِأَنَّهُ مُكَرَّرُ الْأَغْرَاضِ.

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا عَلَى الْأُمَّةِ بِأَنَّ أَغْرَاضَ كِتَابِهَا مُكَرَّرَةٌ فِيهِ لِتَكُونَ مَقَاصِدُهُ أَرْسَخُ فِي نُفُوسِهَا، وَلِيَسْمَعُهَا مَنْ فَاتَهُ سَمَاعُ أَمْثَالِهَا مِنْ قَبْلُ. وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَنْبِيهًا عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ، وَهِيَ عَدَمُ الْمَلَلِ مِنْ سَمَاعِهِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِهِ زَادَهُ تَكَرُّرُهُ قَبُولًا وَحَلَاوَةً فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ. فَكَأَنَّهُ الْوَجْهُ الْحَسَنُ الَّذِي قَالَ فِي مِثْلِهِ أَبُو نُوَاسٍ: يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا ... إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ وَسَامِعَهُ لَا يَمَجُّهُ، بَلِ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغًا عَظِيمًا يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَلِذَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ: «بِأَنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ سَمِعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: 90] الْآيَةَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ» . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ هُنَا بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ هُوَ غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحجر: 78] لِاخْتِلَافِ مَا أُرِيدَ فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ مُتَّحِدًا. وَوُصِفَ كِتاباً وَهُوَ مُفْرِدٌ بِوَصْفِ مَثانِيَ وَهُوَ مُقْتَضٍ التَّعَدُّدَ يُعَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ جَرَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهِ، أَيْ سُوَرِهِ أَوْ آيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ مِنْهُ يُكَرَّرُ، أَيْ بِاعْتِبَارِ تَبَاعِيضِهِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ قَبْلَهُ وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ، أَيْ مُثَنَّى الْأَغْرَاضِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ: أُولَاهَا: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْجَلَالَةِ وَالرَّوْعَةِ فِي قُلُوبِ سَامِعِيهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي آيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الَّتِي تَوْجَلُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ وَصْفُ كَمَالٍ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ

تَأْثِيرِ كَلَامِهِ فِي النُّفُوسِ، وَلَمْ يَزَلْ شَأْنُ أَهْلِ الْخَطَابَةِ وَالْحِكْمَةِ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ كَلَامِهِمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يُوَاجَهُ بِهِ السَّامِعُونَ لِحُصُولِ فَوَائِدَ مَرْجُوَّةٍ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَمَا تَبَارَى الْخُطَبَاءُ وَالْبُلَغَاءُ فِي مَيَادِينِ الْقَوْلِ إِلَّا لِلتَّسَابُقِ إِلَى غَايَاتِ الْإِقْنَاعِ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ خَارِجَةَ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ؟ «عِنْدِي قِرَى كُلِّ نَازِلٍ، وَرِضَى كُلِّ سَاخِطٍ، وَخُطْبَةٌ مِنْ لَدُنْ تَطَلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، آمُرُ فِيهَا بِالتَّوَاصُلِ وَأَنْهَى عَنِ التَّقَاطُعِ» . وَقَدْ ذَكَرَ أَرِسْطُو فِي الْغَرَضِ مِنَ الْخَطَابَةِ أَنَّهُ إِثَارَةُ الْأَهْوَاءِ وَقَالَ: «إِنَّهَا انْفِعَالَاتٌ فِي النَّفْسِ تُثِيرُ فِيهَا حُزْنًا أَوْ مَسَرَّةً» . وَقَدِ اقْتَضَى قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَهِيَ الْمَعَانِي الْمَوْسُومَةُ بِالْجَزَالَةِ الَّتِي تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ رَوْعَةً وَجَلَالَةً وَرَهْبَةً تَبْعُثُ عَلَى امْتِثَالِ السَّامِعِينَ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِحَالَةٍ تُقَارِنُ انْفِعَالَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ارْتَاعَ وَخَشِيَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ أَثَرِ الِانْفِعَالِ الرَّهْبَنِيِّ، فَمَعْنَى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تَقْشَعِرُّ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ وَالْفَهْمَ يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِنَانِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَهْلُ اللِّسَانِ. يُقَالُ: اقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، إِذَا تَقَبَّضَ تَقَبُّضًا شَدِيدًا كَالَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ شِدَّةِ بَرْدِ الْجَسَدِ وَرِعْدَتِهِ. يُقَالُ: اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى مَا يُثِيرُ انْزِعَاجَهُ وَرَوْعَهُ، فَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كِنَايَةٌ عَنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ الَّذِي تَلْزَمُهُ قَشْعَرِيرَةٌ فِي الْجِلْدِ غَالِبًا. وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: الرَّوْعَةَ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْهَيْبَةَ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهَابَهُ سَامِعُهُ، قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْحَشْر: 21] . وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَصْحَابُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ. وَخَصُّ الْقُشَعْرِيرَةُ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا سَيُرْدَفُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ كَمَا يَأْتِي، قَالَ عِيَاضٌ: «وَهِيَ، أَيِ الرَّوْعَةِ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الْإِسْرَاء: 46] . وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. حُكِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطَّوْرِ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إِلَى قَوْله: الْمُصَيْطِرُونَ [الطّور: 35- 37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي» . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كَلَّمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفِّهِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمُورًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ حم فُصِّلَتْ [1] حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ» أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. الْجِهَةُ الثَّانِيَة من جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: لِينُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَيْضًا عَقِبَ وَجَلِهَا الْعَارِضِ مِنْ سَمَاعِهِ قَبْلُ. وَاللِّينُ: مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَالسُّرُورِ، وَهُوَ ضِدٌّ لِلْقَسَاوَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ يَخْشَى رَبَّهُ وَيَتَجَنَّبُ مَا حَذَّرَ مِنْهُ فَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ فَإِذَا عُقِّبَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْبِشَارَةِ وَالْوَعْدِ اسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَعَرَضَ أَعْمَالَهُ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ فَرَأَى نَفْسَهُ مُتَحَلِّيَةً بِالْعَمَلِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ وَانْقَلَبَ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ رَجَاءً وَتَرَقُّبًا، فَذَلِكَ مَعْنَى لِينِ الْقُلُوبِ. وَإِنَّمَا يَبْعَثُ هَذَا اللِّينَ فِي الْقُلُوبِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانِي الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالسُّهُولَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، وَالْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالرِّقَّةِ نَحْوَ: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: 68- 69] ، وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْخَطَابَةِ أَنَّ لِلْجَزَالَةِ مَقَامَاتُهَا وللسهولة والرقة مقاماتهما. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: أُعْجُوبَةُ جَمْعِهِ بَيْنَ التَّأْثِيرَيِنِ الْمُتَضَادَّيْنِ: مَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّهْبَةِ، وَمَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّغْبَةِ، لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَامَلَةِ رَبِّهِمْ جَارِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ جَلَالُهُ وَمَا يَقْتَضِيهِ حِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ اقْتَضَاهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِمَا وَهُمَا جِهَةُ الْقُشَعْرِيرَةِ وَجِهَةُ اللِّينِ، مَعَ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ بِالْأَمْرَيْنِ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمَقْصُود وَصفهم بالتأثرين عِنْدَ تَعَاقُبِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ آيَاتِ الرَّهْبَةِ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ قَالُوا: «السَّائِرُونَ فِي مَبْدَأِ جَلَالِ اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا» اهـ-. فَالْآيَةُ هُنَا ذَكَرَتْ لَهُمُ الْحَالَتَيْنِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَثانِيَ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَإِلَّا فَقَدِ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَجَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: 2] ، فَالْمَقَامُ هُنَا لِبَيَانِ تَأَثُّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمَقَامُ هُنَالِكَ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ اقْشِعْرَارَ الْجُلُودِ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَجَلِ الْقُلُوبِ وَرَوْعَتِهَا فَكُنِّيَ بِهِ عَنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ. وَأَمَّا لِينُ الْجُلُودِ عَقِبَ تِلْكَ الْقُشَعْرِيرَةِ فَهُوَ رُجُوعُ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا السَّابِقَةِ قَبْلَ اقْشِعْرَارِهَا، وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَنْ تَنَاسٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بَعْدَ تِلْكَ الرَّوْعَةِ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ لِينَ الْقُلُوبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لين خَاص ناشىء عَنِ اطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: 28] وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُجُوعِ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُشَعْرِيرَةِ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِذِكْرِ لِينِ الْقُلُوب عَن لين الْجُلُودِ لِأَنَّهُ قُصِدَ أَنَّ لِينَ الْقُلُوبِ أَفْعَمَهَا حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْجُلُودِ.

وَ (ذِكْرِ اللَّهِ) وَهُوَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِهِ لِبُعْدِ الْمَعَادِ، وَعُدِلَ عَنْ إِعَادَةِ اسْمِهِ السَّابِقِ لِمَدْحِهِ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ مُدِحَ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَالْمُرَادُ بِ- ذِكْرِ اللَّهِ مَا فِي آيَاتِهِ مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ وَالْبِشَارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا ذَكَرَ مَوْعِظَةً وَتَرْهِيبًا إِلَّا أَعْقَبَهُ بِتَرْغِيبٍ وَبِشَارَةٍ. وَعُدِّيَ فِعْلُ تَلِينُ بِحَرْفِ إِلى لِتَضْمِينِ تَلِينُ مَعْنَى: تُطَمْئِنُ وَتَسْكُنُ. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ إِجْرَاءَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْغُرِّ عَلَى الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ أَقْصَى مَا يُوصَفُ بِهِ كَلَامٌ بَالِغٌ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ كَيْفَ سَلَكَتْ آثَارُهُ إِلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالًا يَهْجِسُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ لَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ نُفُوسُ فَرِيقِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَتَقَعُ جُمْلَةُ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْهَاجِسِ. فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ الْمَذْكُورَةِ وَتَأَثُّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَدْيِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا كَامِلًا جَامِعًا لِوَسَائِلِ الْهُدَى، فَمَنْ فَطَرَ اللَّهُ عَقْلَهُ وَنَفْسَهُ عَلَى الصَّلَاحِيَةِ لِقَبُولِ الْهُدَى سَرِيعًا أَوْ بَطِيئًا اهْتَدَى بِهِ، كَذَلِكَ وَمَنْ فَطَرَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ، أَوْ عَلَى فَسَادِ الْفَهْمِ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ضَلَالِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْفَطْرِ اسْمُ الْهُدَى وَاسْمُ الضَّلَالِ، وَأُسْنِدَ كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ جَبَّارُ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا وَخَالِقُ وَسَائِلِ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُ نَوَامِيسِهِ وَأَنْظِمَتِهِ. فَمَعْنَى إِضَافَةِ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا هَيَّأَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ فَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ لِذَلِكَ. وَمَعْنَى إِسْنَادِ الْهُدَى وَالْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى مَرَاتِبِ تَأَثُّرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ

[سورة الزمر (39) : آية 24]

وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِمْ بِحَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُسْتَوْفِيًا لِأَسْبَابِ اهْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ فَكَانُوا مِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَى بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْكِتَابُ، أَيْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ دَلِيلُ هُدَى اللَّهِ. وَمَقْصِدُهُ: اهْتَدَى بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتِدَاءَهُ، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ضَلَالَهُ. فَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تَذْيِيلٌ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ. وَمَعْنَى مَنْ يَشاءُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَنْ يَشَاءُ هَدْيَهُ، أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ، وَهِيَ إِرَادَتُهُ بِأَنَّهُ يَهْتَدِي فَخَلَقَهُ مُتَأَثِّرًا بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ فَقَدَّرَ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي بِهِ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، أَيْ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْ ضَلَالِهِ فَلَا سَبِيلَ لِهَدْيِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي الضَّالِّ لَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنه الْهدى. [24] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 24] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى وَقَوْلِهِ الْآتِي: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] . وَجَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] بِدَلَالَةِ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُهْتَدٍ، وَفَرِيقٍ ضَالٍّ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ. وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: كَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ أَوْ كَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ. وَجَعَلُوا الِاسْتِفْهَامَ تَقْرِيرِيًّا أَوْ إِنْكَارِيًّا، وَالْمَقْصُودُ: عَدَمُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْعَذَابِ وَهُوَ الضَّالُّ وَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ وَهُوَ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ، وَحُذِفَ حَالُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِاسْتِفْهَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 19] وَقَوْلِهِ:

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: 22] ، وَالْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي سَابِقِهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَحَذْفِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُ كَمَنْ أَمِنَ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [مُحَمَّد: 14] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا لَا يَنَالَهُمُ الْعَذَابُ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] تَفْرِيعًا لِتَعْيِينِ مَا صَدَقَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَيكون فَمَنْ يَتَّقِي خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَفَهُوَ مَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ. وَالِاتِّقَاءُ: تُكَلُّفُ الْوِقَايَةِ وَهِيَ الصَّوْنُ وَالدَّفْعُ، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى إِلَى مفعولين، يُقَال: وَفِي نَفْسَهُ ضَرْبَ السَّيْفِ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى سَبَبِ الْوِقَايَةِ، يُقَالُ: وَقَى بِتُرْسِهِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ وَإِذَا كَانَ وَجْهُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقَى بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، إِذِ الْوَجْهُ أَعَزُّ مَا فِي الْجَسَدِ وَهُوَ يُوقَى وَلَا يُتَّقَى بِهِ فَإِنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ إِذَا تَوَقَّعَ مَا يُصِيبُ جَسَدَهُ سَتَرَ وَجْهَهُ خَوْفًا عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّقَاءُ بِالْوَجْهِ مُسْتَعْمَلًا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْوِقَايَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التهكم أَو التلميح، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَطْلُبِ وِقَايَةَ وَجْهِهِ فَلَا يَجِدُ مَا يَقِيهِ بِهِ إِلَّا وَجْهَهُ، وَهَذَا مِنْ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ نَفْيَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْف: 29] . وسُوءَ الْعَذابِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ يَتَّقِي. وَأَصْلُهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِذْ أَصْلُهُ: وَقَى نَفْسَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ الِافْتِعَالُ صَارَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقِيلَ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ لَهُمْ فَإِنَّ (مَنْ) مُرَادٌ بِهَا جمع، وَالتَّعْبِير بالظالمين إِظْهَارٌ فِي

مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ مُسَبَّبٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ، أَيْ شِرْكِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ فَلَا يَجِدُ وِقَايَةً تُنْجِيهِ مِنْ ذَوْقِ الْعَذَابِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا الْعَذَابَ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بالظالمين جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الظَّالِمِينَ إِظْهَارًا عَلَى أَصْلِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ، أَيْ وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهِهِمْ، وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ وَجْهُ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر: 25] . وَجَاءَ فِعْلُ وَقِيلَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ فِعْلٍ مَضَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) وَلِذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ. وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِإِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الذَّوْقِ بِاللِّسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجِلْدِ فَوَجْهُ الشَّبَهِ قُوَّةُ الْجِنْسِ. وَالْمَذُوقُ: هُوَ الْعَذَابُ فَهُوَ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ وَشَرَائِعِهِ، فَجُعِلَ الْمَذُوقُ نَفْسُ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُبَالِغَةً مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ وَفْقُ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ فِي تَعْذِيبِهِمْ. وَأُوثِرَ تَكْسِبُونَ عَلَى (تَعْمَلُونَ) لِأَنَّ خِطَابَهُمْ كَانَ فِي حَالِ اتِّقَائِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعَذَّبِ مِنَ التَّبَرُّمِ الَّذِي هُوَ كَالْإِنْكَارِ عَلَى مُعَذِّبِهِ. فَجِيءَ بِالصِّلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا ذَاقُوهُ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ قطعا لتبرمهم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 25 إلى 26]

[سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 25 إِلَى 26] كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ مَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ يُقَالُ لِلظَّالِمِينَ هُمْ وَأَمْثَالِهِمْ: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] ، يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ تَمَتُّعِ الْمُشْرِكِينَ بِالنِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا ويتمنون أَن يَجْعَل لَهُمُ الْعَذَابُ فَكَانَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَيْ هُمْ مَظِنَّةُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ كَمَا أَتَى الْعَذَابُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِدُونِ إِنْذَارٍ غَيْرَ مُتَرَقِّبِينَ مَجِيئَهُ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس: 102] ، فَكَانَ عَذَابُ الدُّنْيَا خزيا يخزي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَجَزَاءٌ يَجْزِي بِهِ اللَّهُ الظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ دَالَّةٌ عَلَى تَسَبُّبِ التَّكْذِيبِ فِي إِتْيَانِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا سَاوَاهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَبَبُ حُلُولِ الْعَذَابِ بِأُولَئِكَ مَوْجُودًا فِيهِمْ فَهُوَ مُنْذِرٌ بِأَنَّهُمْ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِمْ عَائِد على فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [الزمر: 24] بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى (مَنْ) جَمْعٌ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي أَخْزَاهُمُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ الَّذِي يُوصَفُ بِالْإِتْيَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وحَيْثُ ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ جَاءَ الْعَذَابُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ بِالصَّوَاعِقِ، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنَ الْجَوِّ مِثْلَ رِيحِ عَادٍ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: 24] ، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ بِالزَّلَازِلِ

[سورة الزمر (39) : الآيات 27 إلى 28]

وَالْخَسْفِ مِثْلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ مَثَلَ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمٌ عَمَّ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ مِثْلَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَكَانَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ بِبَالٍ، وَهُوَ قَطْعُ السُّيُوفِ رِقَابَهُمْ وَهُمْ فِي عِزَّةٍ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُرْمَةٍ عِنْدَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَيْدِيًا تَقْطَعُ رِقَابَهُمْ كَحَالِ أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ فِي الْغَرْغَرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ قَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ» . وَاسْتِعَارَةُ الْإِذَاقَةِ لِإِهَانَةِ الْخِزْيِ تَخْيِيلِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لِلِاحْتِرَاسِ، أَيْ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَقَدْ يُصِيبُ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ الظَّلَمَةِ زِيَادَةَ خِزْيٍ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ، أَيْ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَذَاقَ الْآخَرِينَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ هُوَ أَشَدُّ. وَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قَبْلِهِمْ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَةَ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ سَبَبُهُ تَكْذِيبُهُمْ رُسُلَهُمْ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَصْفُ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِ- أَكْبَرُ بِمَعْنَى: أَشَدِّ فَهُوَ أَشَدُّ كَيْفِيَّةً مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَشَدُّ كَمِّيَّةً لِأَنَّهُ أبدي. [27- 28] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 27 إِلَى 28] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] ، تَتِمَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَإِرْشَادِهِ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِهِ

وَأَعْرَضُوا عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَطَعَنُوا فِيهِ وَأَنْكَرُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ كَافَّةً. وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَوَصْفُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَتَنْوِينُ مَثَلٍ لِلتَّعْظِيمِ وَالشَّرَفِ، أَيْ مِنْ كُلٍّ أَشْرَفَ الْأَمْثَالِ، فَالْمَعْنَى: ذَكَرْنَا لِلنَّاسِ فِي الْقُرْآنِ أَمْثَالًا هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلِّ أَنْفَعِ الْأَمْثَالِ وَأَشْرَفِهَا. وَالْمُرَادُ: شَرَفُ نَفْعِهَا. وَخُصَّتْ أَمْثَالُ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَزَايَا الْقُرْآنِ لِأَجْلِ لَفْتِ بَصَائِرِهِمْ لِلتَّدَبُّرِ فِي نَاحِيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ وَهِيَ بَلَاغَةُ أَمْثَالِهِ، فَإِنَّ بُلَغَاءَهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي جَوْدَةِ الْأَمْثَالِ وَإِصَابَتِهَا الْمَحَزِّ مِنْ تَشْبِيهِ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ. وَتَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [89] ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فِي سُورَةِ الرُّومِ [58] . وَمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مُنْصَرِفٌ إِلَى أَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ كَحَالِ مَنْ يَرْجُو النَّاسَ مِنْهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَهَذَا مِثْلُ نَظَائِرِ هَذَا التَّرَجِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى التَّذَكُّرِ: التَّأَمُّلُ وَالتَّدَبُّرُ لِيَنْكَشِفَ لَهُمْ مَا هُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ سَوَاءٌ مَا سَبَقَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَنَسُوهُ وَشُغِلُوا عَنْهُ بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ، وَمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَبْصِرَهُ الرَّأْيُ الْأَصِيلُ حَتَّى إِذَا انْكَشَفَ لَهُ كَانَ كَالشَّيْءِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ عِلْمُهُ وَذَهَلَ عَنْهُ، فَمَعْنَى التَّذَكُّرِ مَعْنًى بَدِيعٌ شَامِلٌ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ. وَهَذَا وَصْفُ الْقُرْآنِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إِنْ صَادَفَ عَقْلًا صَافِيًا وَنَفْسًا مُجَرَّدَةً

عَنِ الْمُكَابَرَةِ فَتَذَكَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَتَذَكَّرَ بِهِ مَنْ كَانَ التَّذَكُّرُ بِهِ سَبَبًا فِي إِيمَانِهِ بَعْدَ كُفْرِهِ بِسُرْعَةٍ أَوْ بِبُطْءٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِهِ فَإِنَّ عَدَمَ تَذَكُّرِهِمْ لِنَقْصٍ فِي فِطْرَتِهِمْ وَتَغْشِيَةِ الْعِنَادِ لِأَلْبَابِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُبَيَّنِ بِالْقُرْآنِ، فَالْحَالُ هُنَا مُوَطِّئَةٌ لِأَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِلنَّعْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ بِظَاهِرِ لَفْظِ قُرْآناً حَالًا مُؤَكَّدَةً وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا بَعْدَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ عَرَبِيًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لِأَنَّهُ نَعَتٌ لِلْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ تَلَقِّيَ مَنْ سَمِعَ كَلَامًا لَمْ يَفْهَمْهُ كَأَنَّهُ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ لَا يُعِيرَهُ بَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدُّخان: 58] ، مَعَ التَّحَدِّي لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَهُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامٌ بِاسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَفْصَحُ لُغَاتِ الْبَشَرِ. وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أُرِيدَ بِهِ: اخْتِلَالُ الْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ، وَأَمَّا الْعَوَجُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَيَشْمَلُهَا، وَهَذَا مُخْتَارُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ مِثْلِ ابْنِ دُرَيْدٍ والزمخشري والزجاج والفيروزآبادي، وَصَحَّحَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ» أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [1] ، وَقَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً فِي [سُورَةِ طه: 107] . وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِكَمَالِ مَعَانِيهِ بَعْدَ أَنْ أُثْنِيَ عَلَيْهِ بِاسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ وَصْفِهِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى وَصْفِهِ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ عَنْهُ التَّوَسُّلِ إِلَى إِيقَاعِ عِوَجٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ مَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَهُوَ كَلِمَةُ غَيْرَ فَيُفِيدُ انْتِفَاءَ جِنْسِ الْعِوَجِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ عِوَجٌ قَطُّ، وَلِأَنَّ لَفْظَ عِوَجٍ مُخْتَصٌّ بِاخْتِلَالِ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ الْكَلَامُ نَصًّا فِي اسْتِقَامَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى اسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ وَنَظْمِهِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ مِنْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا.

[سورة الزمر (39) : آية 29]

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَذَكَرَ هُنَا يَتَّقُونَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا يُسِّرَتْ عَلَيْهِمُ التَّقْوَى، وَلِأَنَّ التَّذَكُّرَ أَنْسَبُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ فِي الْأَمْثَالِ عِبْرَةً بِأَحْوَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ فَهِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَى التَّذَكُّرِ، وَالِاتِّقَاءِ أَنْسَبُ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَقَامَتْ مَعَانِيهِ وَاتَّضَحَتْ كَانَ الْعَمَلُ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ أَيْسَرَ وَذَلِكَ هُوَ التَّقْوَى. [29] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 29] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) اسْتِئْنَافٌ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الرّوم: 58] تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحَالِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ تَخَلُّصٌ أُتْبِعَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ضُرِبَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالِ الْعُمُومِ اسْتِقْصَاءً فِي التَّذْكِيرِ وَمُعَاوَدَةً لِلْإِرْشَادِ، وَتَخَلُّصًا مَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِحَالٍ خَاصٍّ. فَهَذَا الْمَثَلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22] ، فَهُوَ مَثَلٌ لِحَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَحَالِ مَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ. وَمَجِيءُ فِعْلِ ضَرَبَ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ضَرْبَ هَذَا الْمَثَلِ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنْ زَمَنِ الْمَاضِي لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ فَيُجْعَلُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَرغب فِي علمه كَقَوْلِ الْمُثَوِّبِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ [112] . أَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ فِعْلَ ضَرَبَ مُسْتَعْمِلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْخَبَرَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، فَقَرَّرَهُ شَارِحُوهُ الطَّيِّبِيّ والقزويني والتفتازانيّ بِمَا حَاصِلُ مَجْمُوعِهِ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِصِدْقِ مَا عَلِمَهُ وَجَعَلَهُ لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ مَاضٍ. وَلِيُلَائِمَ تَوْجِيهَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا (فَإِنَّهُ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ) فَتَلْتَئِمُ أَطْرَافُ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ إِلْقَاءِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَى إِلْقَائِهِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ صِدْقِ عِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ هَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَنْسَبُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمُضِيَّ فِي فِعْلِ ضَرَبَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ: ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي عِلْمِهِ فَأَخْبِرْ بِهِ قَوْمَكَ. فَالَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى سُلُوكِ هَذَا الْمَعْنَى فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ رَعْيُ مُنَاسَبَاتٍ اخْتُصَّ بِهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ نَظَائِرِ صِيغَتِهَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ لِلَّهِ فِيهِ مُقْتَضٍ لِنَحْوِ هَذَا الْمَحْمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً كَمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [24] ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: 112] . وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنْ أَنْ يُصَاغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الْكَهْف: 32] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: 45] إِلَى أَنْ صِيَغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ هُوَ التَّوَسُّلُ إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمَثَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَإِسْنَادُ ضَرْبِ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ كَوَّنَ نَظْمَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ثُمَّ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَمْثَالُهُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا فَاضْرِبْهُ لِلنَّاسِ وَبَيِّنْهُ لَهُمْ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَبْكِيتُهُمْ بِهِ فِي كَشْفِ سُوءِ حَالَتِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ كَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ، وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: 10] ، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ [الزمر: 11] ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [الزمر: 14] ، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ [الزمر: 15] ، فَبَشِّرْ عِبادِ [الزمر: 17] .

وَقَدْ يَتَطَلَّبُ وَجْهُهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ بِأَنَّ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَانَ فِي مَقَامٍ أَهَمَّ لِأَنَّهُ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِإِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، وَإِمَّا لِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِمَّا لِنَحْوِ ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ كَائِنٌ فِي مَقَامِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ إِجْمَالًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَقَوْلُهُ: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِ- مَثَلًا. وَجَعْلُ الْمُمَثَّلِ بِهِ حَالَةَ رَجُلٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ امْرَأَةٍ أَوْ طِفْلٍ وَلَكِنْ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى أَذْهَانِ النَّاسِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ وَالْحِكَايَاتِ، وَلِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الرجل مِنَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُرَادُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدَّعَةِ أَوِ الْكَدِّ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فَقَدْ يَغْفُلَانِ وَيَلْهَيَانِ. وَجُمْلَةُ فِيهِ شُرَكاءُ نَعْتٌ لِ- رَجُلًا، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى شُرَكاءُ لِأَنَّ خَبَرَ النَّكِرَةِ يَحْسُنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا إِذَا وُصِفَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوصَفْ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِكَرَاهَةِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَمَعْنَى فِيهِ شُرَكاءُ: فِي مُلْكِهِ شُرَكَاءُ. وَالتَّشَاكُسُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَشِدَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الرَّجُلِ الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِخْدَامِهِ وَتَوْجِيهِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَلَماً بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا مِيمٌ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ: سَلِمَ لَهُ، إِذَا خَلَصَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ سَالِمًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مِنْ: سَلِمَ، إِذَا خَلَصَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ كَمَا أَيَّدَهُ النَّحَاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِلرَّجُلِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِ فِي تَقَسُّمِ عَقْلِهِ بَيْنَ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ فَهُوَ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ مِنْ رِضَى بَعْضِهِمْ عَنْهُ وَغَضَبِ بَعْضٍ، وَفِي تَرَدُّدِ عِبَادَتِهِ إِنْ أَرْضَى بِهَا أَحَدَ آلِهَتِهِ، لَعَلَّهُ يُغْضِبُ بِهَا ضِدَّهُ، فَرَغَبَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ أَوْلَى بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] ، وَيَبْقَى هُوَ ضَائِعًا لَا يَدْرِي عَلَى

أَيِّهِمْ يَعْتَمِدُ، فَوَهْمُهُ شُعَاعٌ، وَقَلْبُهُ أَوْزَاعٌ، بِحَالِ مَمْلُوكٍ اشْتَرَكَ فِيهِ مَالِكُونَ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ وَتَنَازُعٌ، فَهُمْ يَتَعَاوَرُونَهُ فِي مِهَنٍ شَتَّى وَيَتَدَافَعُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ، فَهُوَ حَيْرَانُ فِي إِرْضَائِهِمْ تَعْبَاْنُ فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِمْ لَا يَسْتَقِلُّ لَحْظَةً وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِرَاحَةٍ. وَيُقَابِلُهُ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدِ يَقُومُ بِمَا كَلَّفَهُ رَبُّهُ عَارِفًا بِمَرْضَاتِهِ مُؤَمِّلًا رِضَاهُ وَجَزَاءَهُ، مُسْتَقِرَّ الْبَالِ، بِحَالِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْخَالِصِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ قَدْ عَرَفَ مُرَادَ مَوْلَاهُ وَعَلِمَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فَفَهْمُهُ وَاحِدٌ وَقَلْبُهُ مُجْتَمِعٌ وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي كُلِّ مُتَّبِعِ حَقٍّ وَمُتَّبِعِ بَاطِلٍ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْوُجُودِ وَالْوَاقِعِ، وَالْبَاطِلُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْوَاقِعِ، فَمُتَّبِعُ الْحَقِّ لَا يَعْتَرِضُهُ مَا يشوش عَلَيْهِ باله وَلَا مَا يُثْقِلُ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، وَمُتَّبِعُ الْبَاطِلِ يَتَعَثَّرُ بِهِ فِي مَزَالِقِ الْخُطَى وَيَتَخَبَّطُ فِي أَعْمَالِهِ بَيْنَ تَنَاقُضٍ وَخَطَأٍ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَيْ هَلْ يَكُونُ هَذَانِ الرَّجُلَانِ الْمُشَبَّهَانِ مُسْتَوِيَيْنِ حَالًا بَعْدَ مَا عَلِمْتُمْ مِنِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الْمُشَبَّهِينَ بِهِمَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا، وَجِيءَ فِيهِ بِ- هَلْ لِتَحْقِيقِ التَّقْرِيرِ أَوِ الْإِنْكَارِ. وَانْتُصِبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ يَسْتَوِيانِ. وَالْمَثَلُ: الْحَالُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي حَالَاهُمَا، وَالِاسْتِوَاءُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ التَّمْيِيزُ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَقَدْ عُرِفَ التَّعَدُّدُ مِنْ فَاعِلِ يَسْتَوِيانِ وَلَوْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ التَّمْيِيزُ لَقِيلَ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلَاهُمَا. وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِمَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا يَسَعُ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِهِ، فَيُقَدَّرُونَ: أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَالَةِ، أَيْ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ لَا يَنْتَظِرُ السَّائِلُ جَوَابًا عَنْهُ، فَلِذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ الْمَسْئُولُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: 1- 2] ، وَقَدْ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ اعْتَرَفَ فَيُؤْتَى بِمَا يُنَاسِبُ اعْتِرَافَهُ كَمَا هُنَا،

[سورة الزمر (39) : الآيات 30 إلى 31]

فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَسْتَوِيَانِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَبْتَغِيهِ الْمُتَكَلِّمُ مِنِ اسْتِفْهَامِهِ، فَلَمَّا وَافَقَ جَوَابُهُمْ بُغْيَةَ الْمُسْتَفْهِمِ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى نُهُوضِ حُجَّتِهِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، فَمَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ عَلِمَ فَأَقَرَّ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً إِذَا جُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْإِنْكَارِ وَبَيْنَ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي قَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الْحَالَتَيْنِ وَلَوْ عَلِمُوا لَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْحُسْنَى مِنْهُمَا، وَلَمَا أَصَرُّوا عَلَى الْإِشْرَاكِ. وَأَفَادَ هَذَا أَنَّ مَا انْتَحَلُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكَاذِيبِهِ لَا يَمُتُّ إِلَى الْعِلْمِ بِصِلَةٍ فَهُوَ جَهَالَةٌ وَاخْتِلَاقٌ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَأُسْنِدَ عَدَمُ الْعِلْمِ لِأَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَامَّةٌ أَتْبَاعٌ لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَشَرَائِعَهُ انْتِفَاعًا بِالْجَاهِ وَالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ بِحَيْثُ غَشَّى ذَلِكَ على عَمَلهم. [30- 31] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 30 إِلَى 31] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي مَهْيَعِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَات الوحدانية للإله، وَتَوْضِيحِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَالِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُؤمنِينَ بِمَا ينبىء بِتَفْضِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَهْيَعِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَعَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِيمَانِ، وَإِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّبَصُّرِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْلِعِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ، وَخُتِمَ بِتَسْجِيلِ جَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، خُتِمَ هَذَا الْغَرَضُ بِإِحَالَتِهِمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارًا، وَحِينَ يَلْتَفِتُونَ فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا نَارًا. وَقَدَّمَ لِذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ آخِرُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ السَّادِرُ فِي غُلَوَائِهِ إِذَا كَانَ قَدِ اغْتَرَّ بِعَظَمَةِ الْحَيَاةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي اخْتِيَارِ طَرِيقِ السَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ، وَهَذَا مِنِ انْتِهَازِ الْقُرْآنِ فُرَصَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ.

فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَاغْتُنِمَ هَذَا الْغَرَضُ لِيُجْتَلَبَ مَعَهُ مَوْعِظَةٌ بِمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْحَوَادِثِ عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِهَا مُعْتَبَرٌ، فَحَصَلَتْ بِهَذَا فَوَائِدُ: مِنْهَا تَمْهِيدُ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا التَّذْكِيرُ بِزَوَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَهَذَانِ عَامَّانِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا حَثُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْهَا إِشْعَارُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ كَمَا مَاتَ النَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِهِ لِيَغْتَنِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَيَحْرِصُوا عَلَى مُلَازَمَةِ مَجْلِسِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا فِي مَوْتِهِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ سَوَّى فِي الْمَوْتِ بَيْنَ الْخَلْقِ دُونَ رَعْيٍ لِتَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَيَاةِ لِتَكْثُرَ السَّلْوَةُ وَتَقِلَّ الْحَسْرَةُ. فَجَمُلَتَا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ اسْتِئْنَافٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِيكَ وَيَأْتِيهِمْ فَمَا يَدْرِي الْقَائِلُونَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أَنْ يَكُونُوا يَمُوتُونَ قَبْلَكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصَارِعَ أَشَدِّ أَعْدَائِهِ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بن الْوَلِيد فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا غَرَضَ هُنَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ مَيِّتُونَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرَيْنِ بِ- (إِنَّ) لِتَحْقِيقَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالْمَيِّتِ: الصَّائِرُ إِلَى الْمَوْتِ فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْوَصْفِ فِيمَنْ سَيَتَّصِفُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلُ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] .

وَالْمَيِّتُ: هُوَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْمَوْتِ، أَيْ زَالَتْ عَنْهُ الْحَيَاةُ، وَمِثْلُهُ: الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ السُّكُونِ عَلَى الْيَاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْبَعْثَ. وَتَقْدِيمُ عِنْدَ رَبِّكُمْ عَلَى تَخْتَصِمُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. وَالِاخْتِصَامُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا اخْتَصَمْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِثْبَاتِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً وَإِبْطَالِكُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النَّحْل: 124] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِصَامُ أُطْلِقَ عَلَى حِكَايَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ تُعْرَضُ أَعْمَالُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا تَخَاصُمُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فِي طَالِعِ مَحْضَرِ خُصُومَةٍ وَمُقَاوَلَةٍ بَيْنَهُمَا يُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي. وَيَجُوزُ أَنْ تُصَوَّرَ خُصُومَةُ بَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَوْمَئِذٍ لِيَفْتَضِحَ الْمُبْطِلُونَ وَيَبْهَجَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] . وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَضَمِيرُ إِنَّكُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّكَ وإِنَّهُمْ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ اخْتِصَامُ الظُّلَامَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ تَأْوِيلُ الضَّمِيرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: كَيْفَ نَخْتَصِمُ وَنَحْنُ إِخْوَانٌ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَضَرَبَ بَعْضُنَا وَجْهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ قُلْنَا: هَذَا الْخِصَامُ الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَ مَقَالَةِ ابْنِ عمر وَلَكِن أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ وَشَدَّ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ذَا» . وَسَوَاءٌ شَمِلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَحَامِلَ وَهُوَ الْأَلْيَقُ، أَوْ لَمْ تشملها فالمقصود الْأَصْلِيّ مِنْهَا هُوَ تَخَاصُمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ

[سورة الزمر (39) : آية 32]

[32] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سُورَةُ الزُّمَرِ) \ [سُورَة الزمر (39) : آيَة 32] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) أَفَادَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا تَفْرِيعَ الْقَضَاءِ عَنِ الْخُصُومَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] إِذْ قد عَلِمْتَ أَنَّ الِاخْتِصَامَ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ وَأَنْكَرُوهُ، وَالْمَعْنَى: يَقْضِي بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ إِذْ هُوَ الَّذِي لَا أَظْلَمَ مِنْهُ، أَيْ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِنِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ إِلَيْهِ وَالْبَنَاتِ، وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمَا صدق مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] . وَقَدْ كُنِّيَ عَنْ كَوْنِهِمْ مَدِينِينَ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ لِأَنَّ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ لَا يُقَرَّ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ فَإِذَا وُصِفَ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَن دَاوُد: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ [ص: 24] . وَقَدْ عُدِلَ عَنْ صَوْغِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ إِلَى صَوْغِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّامِعَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ كِنَايَةً مُرَادٌ بِهِ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ وَأَنَّهُ لَا ظَالِمَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، فَآلَ مَعْنَاهُ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ أَظْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا أَصْنَافًا مِنَ

الظُّلْمِ الْعَظِيمِ: ظُلْمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِّ بِالْكَذِبِ فِي صِفَاتِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَظُلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبِهِ، وَظُلْمِ الْقُرْآنِ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَذَى، وَظُلْمِ حَقَائِقِ الْعَالَمِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِهَا، وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِإِقْحَامِهَا فِي الْعَذَابِ الْخَالِدِ. وَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْكَذِبَيْنِ هُمَا جِمَاعُ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَالصِّدْقُ: ضِدُّ الْكَذِبِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجِيءُ الصِّدْقِ إِلَيْهِمْ: بُلُوغُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ سَمَاعُهُمْ إِيَّاهُ وَفَهْمُهُمْ فَإِنَّهُ بِلِسَانِهِمْ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ بَيَانٍ بِحَيْثُ لَا يُعْرِضُ عَنْهُ إِلَّا مُكَابِرٌ مُؤْثِرٌ حُظُوظَ الشَّهْوَةِ وَالْبَاطِلِ عَلَى حُظُوظِ الْإِنْصَافِ وَالنَّجَاةِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كَلِمَةِ (الصِّدْقِ) وَفِعْلِ كَذَبَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وإِذْ جاءَهُ مُتَعَلِّقٌ بِ كَذَبَ، وإِذْ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الزَّمَنِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا، وَحُصُولُ مُتَعَلِّقِهِ، فَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ، أَيْ بَادَرَ بِالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ وَقْفَةٍ لِإِعْمَالِ رُؤْيَةٍ وَلَا اهْتِمَامٍ بِمَيْزٍ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَيْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْوَاهُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَإِنَّمَا وُجِّهَ الِاسْتِفْهَامُ إِلَى نَفْيِ مَا الْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ بِهِ جَرْيًا

[سورة الزمر (39) : الآيات 33 إلى 35]

عَلَى الْغَالِبِ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَهِيَ طَرِيقَةُ إِرْخَاءِ الْعَنَانِ لِلْمُقَرَّرِ بِحَيْثُ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْإِنْكَارِ عِلْمًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَسَعُهُ الْإِنْكَارُ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقِرَّ بِالْإِثْبَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ النَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَصْمِيمُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْقُرْآنِ. وَالْكَافِرُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَأَثْبَتُوا لَهُ الشُّرَكَاءَ أَوْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بَعْدَ ظُهُورِ دَلَالَةِ صِدْقِهِمْ، وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكَافِرِينَ) لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمِلَ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ شُمُولًا أَوَّلِيًّا. وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُفِيدَةً لِلتَّذْيِيلِ أَيْضًا، وَيَكُونُ اقْتِضَاءُ مَصِيرِ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِلَى النَّارِ ثَابِتًا بِشِبْهِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَعُمُّ مَصِيرَ جَمِيعِ الْجِنْسِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَصْنَافِهِ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالْمَثْوَى: اسْمُ مَكَانِ الثُّوَاءِ، وَهُوَ الْقَرَارُ، فالمثوى الْمقر. [33- 35] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 33 إِلَى 35] وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالصِّدْقُ: الْقُرْآنُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [الزمر: 32] . وَجُمْلَةُ وَصَدَّقَ بِهِ صِلَةُ مَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الَّذِي صَدَّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ فَالْعَطْفُ عَطْفُ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةِ صِلَةٍ.

وَضَمِيرُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى (الصِّدْقِ) وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِلَيْهِمَا مُتَلَازِمٌ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ كَانَ مُرَادًا بِهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جَمَاعَةٌ فَلَا تَقَعُ صِفَتُهُمْ صِلَةً لِ الَّذِي لِأَنَّ أَصْلَهُ لِلْمُفْرَدِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِفَرِيقٍ، وَقَرِينَتُهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ عَائِدُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَصَدَّقَ رَعْيًا لِلَفْظِ الَّذِي وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْإِيجَازِ. وَرَوَى الطَّبَرَيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ هُمُ الْمُتَّقُونَ يُفِيدُ قَصْرَ جِنْسِ الْمُتَّقِينَ عَلَى الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا متقي يَوْمَئِذٍ غَيْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَكُلُّهُمْ مُتَّقُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْرَقَتْ عَلَى نُفُوسِهِمْ أَنْوَارُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَهَّرَتْ ضَمَائِرُهُمْ مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ فَكَانُوا مَحْفُوظِينَ مِنَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 110] . وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ تَحَقَّقَ فِيهِمْ مَا أُرِيدَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 28] . وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا قُصِرَ عَلَيْهِمْ جِنْسُ الْمُتَّقِينَ كَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِمَزِيَّةٍ عَظِيمَةٍ فَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ عَنْ جَزَاءِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ لَهُم مَا يشاؤون عِنْدَ الله. وَمَا يَشاؤُنَ هُوَ مَا يُرِيدُونَ وَيَتَمَنَّوْنَ، أَيْ يُعْطِيهُمُ اللَّهُ مَا يَطْلُبُونَ فِي الْجَنَّةِ. وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ ادَّخَرَ لَهُمْ مَا يَبْتَغُونَهُ، وَهَذَا مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ

وَوَعْدِ الْإِيجَابِ، يُقَالُ: لَكَ عِنْدِي كَذَا أَيْ أَلْتَزِمُ لَكَ بِكَذَا، ثُمَّ يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُهُمْ أَنْ يَشَاءُوا مَا لَا يَتَجَاوَزُ قَدْرَ مَا عَيَّنَ اللَّهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تَمَنَّهْ، فَلَا يَزَالُ يَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الْأَمَانِيُّ فَيَقُولُ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ» . وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ مِمَّا يَقَعُ تَحْتَ أَنْظَارِهِمْ فِي قُصُورِهِمْ وَيَحْجُبُ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يسْأَلُون إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِمْ وَهُوَ عَظِيمٌ وَيَقْلَعُ اللَّهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْ حُظُوظِهِمْ. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ مَا يُعْطَوْنَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَهَذَا كَمَا يَقُولُ مَنْ أَسْدَيْتَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ: لَكَ عَلَيَّ حُكْمُكَ، أَوْ لَكَ عِنْدِي مَا تَسْأَلُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ مَا هُوَ غَايَةُ الْإِحْسَانِ لِأَمْثَالِهِ. وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يُعْطِيهِمْ عَطَاءَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِيثَارِ بِالْخَيْرِ. ثُمَّ نَوَّهَ بِهَذَا الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا يَشَاءُونَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَنَّهُ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ. وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَضَمُّنِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ الْمُتَّقُونَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِمْ فَيُقَالُ: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ. وَالْإِحْسَانُ: هُوَ كَمَالُ التَّقْوَى لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَأَيُّ إِحْسَانٍ وَأَيُّ تَقْوًى أَعْظَمُ مِنْ نبذهم مَا نشأوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ تَحَمُّلِهِمْ مُخَالَفَةَ أَهْلِيهِمْ وَذَوِيهِمْ وَعَدَاوَتِهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَمِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى مُصَادَرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمُفَارَقَةِ نِسَائِهِمْ تَصْدِيقًا لِلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَإِيثَارًا لِرِضَى اللَّهِ عَلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ وَرِضَى الْعَشِيرَةِ.

وَقَوْلُهُ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَالْتَزَمَ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ مَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِعْلَامُهُمْ بِهِ لِيَطْمَئِنُّوا مِنْ عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَأَحْوَالِهِ. وأَسْوَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى ظَاهِرِ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنِ اقْتِضَاءِ مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ بِأَسْوَأِ عَمَلِهِمْ هُوَ أَعْظَمُهُ سُوءًا وَهُوَ الشِّرْكُ، سُئِلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» . وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي عَمِلُوا إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشِّرْكِ مِمَّا عَمِلُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشِّرْكَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَإِذَا كَفَّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا كَفَّرَ عَنْهُمْ مَا دونه من سيّىء أَعْمَالِهِمْ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَأَفَادَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا مِنْ سَيِّئَاتٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا سَبَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَالْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا عَسَى أَنْ يَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ هَذَا التَّكْفِيرُ خُصُوصِيَّةً لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فَضْلَ الصُّحْبَةِ عَظِيمٌ. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تسبّوا أَصْحَابِي فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَأَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَازٌ فِي السُّوءِ الْعَظِيمِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] أَيِ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ السُّوءِ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ، وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ بَيَانِيَّةً. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُتْبَةَ صُحْبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَةٌ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ

غَرَضًا بَعْدِيَ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» . وَقَدْ أَوْصَى أَيِمَّةُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ أَنْ لَا يذكر أحد مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَبِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِأَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ فِيمَا جَرَى بَيْنَ بَعْضِهِمْ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَفْسِيقِ ابْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُ مِنَ الثُّوَّارِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِخَلْعِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ وَأَصْحَابَ صِفِّينَ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَمَا دَفَعَهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا السَّعْيُ لِصَلَاحِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ جَامِعَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا الْفُرْقَةُ وَالِاخْتِلَالُ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا قُدْوَتُنَا وَوَاسِطَةُ تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَيْنَا، وَالطَّعْنُ فِي بَعْضِهِمْ يُفْضِي إِلَى مَخَاوِفَ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ عُلَمَاؤُنَا عَدَالَةَ جَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ بِضَمِيرِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِزِيَادَةِ تَمَكُّنِ الْإِخْبَارِ بِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ تَمْكِينًا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِوَعْدِ رَبِّهِمْ. وَعُطِفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً أَوْلَى فِعْلٌ هُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْوَعْدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَالْبِنَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ صِفَةٌ لِ أَجْرَهُمْ وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَجْزِيَهُمْ، أَيْ يَجْزِيَهِمْ أَجْرًا عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَل الْأَحْسَن بهَا الْوَعْدِ وَهُوَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُجَازُونَ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ، بِدَلَالَةِ إِيذَانِ وَصْفِ «الْأَحْسَنِ» بِأَنَّ عِلَّةَ الْجَزَاءِ هِيَ الْأَحْسَنِيَّةُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ لِمَعْنَى الْحُسْنِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ فَإِذَا كَانَ جَزَاءُ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ أَنَّ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَانَ جَزَاءُ مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً دُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَازُوا بِزِيَادَةٍ وَتَنْفِيلٍ عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ بِزِيَادَةِ تَنَعُّمٍ أَوْ كَرَامَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 إلى 37]

وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : أَنَّ مُقَاتِلًا كَانَ شَيْخَ الْمُرْجِئَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَسْوَأِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي حَالِ مَا وَصَفَهُمُ الله بالتقوى وَهُوَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَسْوَأِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ اهـ. وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» وَجَوَابُهُ: لِأَنَّ الْأَسْوَأَ مُحْتَمَلٌ أَنَّ أَدِلَّة كَثِيرَة أُخْرَى تُعَارِضُ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِهَا. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كلمة أَسْوَأَ وكملة أحسن محسّن الطّبق. [36- 37] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 36 الى 37] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلٍ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلٍ خَالِصٍ لِرَجُلٍ، كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ مُثِيرًا لِأَنْ يَقُولَ قَائِلُ الْمُشْرِكِينَ لَتَتَأَلَّبَنَّ شُرَكَاؤُنَا عَلَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُهَا وَيَسُبُّهَا، وَمُثِيرًا لِحَمِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْتَصِرُوا لِآلِهَتِهِمْ كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 68] . وَرُبَّمَا أَنْطَقَتْهُمْ حَمِيَّتُهُمْ بِتَخْوِيفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ مَعَرَّتَهَا (بِعَيْنٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ يَعْنُونَ الْمَضَرَّةَ) لِعَيْبِكَ إِيَّاهَا» . وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مَا هُوَ بِمَعْنَى هَذَا، فَلَمَّا حَكَى تَكْذِيبَهُمْ النَّبِيءَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى مَا هَدَّدُوهُ بِهِ وَخَوَّفُوهُ مِنْ شَرِّ أَصْنَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. فَهَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر: 29] الْآيَةَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ كَافِيكَ شَرَّ الْمُشْرِكِينَ وَبَاطِلَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ، فَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَعْجِيلِ مَسَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَعْجِيلُ مَسَرَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَامِنٌ لَهُ الْوِقَايَةَ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 137] .

وَأَصْلُ النَّظْمِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالله كَافِيكَ، فَغَيَّرَ مَجْرَى النَّظْمِ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ نَظْمَ الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللَّفْظِ فَتَجْعَلَ جُمْلَةَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ اسْتِئْنَافًا، وَتَصِيرُ جُمْلَةُ وَيُخَوِّفُونَكَ حَالًا. وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ عَبْدَهُ دُونَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُول الثَّانِي لكاف لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقْصُودَ كَافِيكَ أَذَاهُمْ، فَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَذًى حَتَّى يُكْفَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُمْ أَنْ لَا حَامِيَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضُرِّ الْأَصْنَامِ. وَالْمُرَادُ بِ عَبْدَهُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ وَبِقَرِينَةِ ويُخَوِّفُونَكَ. وَفِي اسْتِحْضَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، مَعْنًى عَظِيمٌ مِنْ تَشْرِيفِهِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَتَحْقِيقِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّمِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ. وَالْخِطَابُ فِي وَيُخَوِّفُونَكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْعَائِدِ عَلَى عَبْدَهُ، وَنُكْتَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ هُوَ تَمْحِيضُ قَصْدِ النَّبِيءِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ كَمَا علمت آنِفا. وبِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ هُمُ الْأَصْنَامُ. عَبَّرَ عَنْهُمْ وَهُمْ حِجَارَةٌ بِمَوْصُولِ الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ فِي الْكَلَامِ بِصِيَغِ الْعُقَلَاءِ. ومِنْ دُونِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِهِ. وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ خَبَرُ تَوْجِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى هَدْمِ الْعُزَّى وَأَنَّ سَادِنَ الْعُزَّى قَالَ لِخَالِدٍ: أُحَذِّرُكَهَا يَا خَالِدُ فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَعَمَدَ خَالِدٌ إِلَى الْعُزَّى فَهَشَّمَ أَنْفَهَا حَتَّى كَسَرَهَا بِالْفَأْسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَأَوَّلَ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِأَنَّ تَخْوِيفَهُمْ خَالِدًا أَرَادُوا بِهِ تَخْوِيفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً وَسِيَاقُ الْآيَةِ نَابَ عَنْهُ. وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ قَالَ هَذَا إِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِشْهَادَ لِتَخْوِيفِ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ بِمِثَالٍ مَشْهُورٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكافٍ عَبْدَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ عِبَادَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَوَّفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَرَادُوا تَخْوِيفَهُ وَتَخْوِيفَ أَتْبَاعِهِ وَأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُمْ شَرَّهُمْ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ الْآيَةَ وَجُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ قَصَدَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ ضَلَالَهُمْ دَاءٌ عَيَاءٌ لِأَنَّهُ ضَلَالٌ مُكَوَّنٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَجِبِلَّتِهِمْ قَدْ ثَبَّتَتْهُ الْأَيَّامُ، وَرَسَّخَهُ تَعَاقُبُ الْأَجْيَالِ، فَرَانَ بِغِشَاوَتِهِ عَلَى أَلْبَابِهِمْ، فَلَمَّا صَارَ ضَلَالُهُمْ كَالْمَجْبُولِ الْمَطْبُوعِ أُسْنِدَ إِيجَادُهُ إِلَى اللَّهِ كِنَايَةً عَنْ تَعَسُّرِ أَوْ تَعَذُّرِ اقْتِلَاعِهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ. وَأُرِيدَ مِنْ نَفْيِ الْهَادِي مِنْ قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ نَفِيُ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ، فَكُنِّيَ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الْهُدَى بِانْتِفَاءِ الْهَادِي لِأَنَّ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ يَجْعَلُ هَادِيَهُمْ كَالْمَنْفِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [186] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ. وَالْآيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي إِفَادَةِ نَفْيِ جِنْسِ الْهَادِي، إِلَّا أَنَّ إِفَادَةَ ذَلِكَ هُنَا بِزِيَادَةِ مِنْ تَنْصِيصًا عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ بِبِنَاءِ هَادِي عَلَى الْفَتْحِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَإِنَّ بِنَاءَ اسْمِهَا عَلَى الْفَتْحِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجِنْسِ نَصًّا. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ. وَتَقْدِيمُ لَهُ عَلَى هادٍ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِهِمْ فِي مَقَامِ نَفْيِ الْهَادِي لَهُمْ لِأَنَّ ضَلَالَهُمُ الْمَحْكِيَّ هُنَا بَالِغٌ فِي الشَّنَاعَةِ إِذَا بَلَغَ بِهِمْ حَدُّ الطَّمَعِ فِي تَخْوِيفِ النَّبِيءِ بِأَصْنَامِهِمْ فِي حَالِ ظُهُورِ عَدَمِ اعْتِدَادِهِ بِأَصْنَامِهِمْ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ مِنْ حَالِ دَعْوَتِهِ، وَإِذْ بَلَغَ بِهِمُ اعْتِقَادُ مَقْدِرَةِ أَصْنَامِهِمْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ قُدْرَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ ضَلَالٌ دُونَ ضَلَالِ التَّخْوِيفِ مِنْ بَأْسِ أَصْنَامِهِمْ.

وَأَمَّا جُمْلَةُ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ فَقَدِ اقْتَضَاهَا أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي اعْتَرَضَتْ بَعْدَهُ الْجُمْلَتَانِ اقْتَضَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا مُتَمَسِّكًا بِاللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَآخَرُ مُسْتَمْسِكًا بِالْأَصْنَامِ الْعَاجِزَةِ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي ضَلَالٌ مَكِينٌ بِبَيَانِ أَنَّ هُدَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ رَاسِخٌ مَتِينٌ فَلَا مَطْمَعَ لِلْفَرِيقِ الضَّالِّ بِأَنْ يَجُرُّوا الْمُهْتَدِينَ إِلَى ضَلَالِهِمْ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ. تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ كِفَايَةِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ كَإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ مُتَقَرِّرٌ فِي النُّفُوسِ لِاعْتِرَافِ الْكُلِّ بِإِلَهِيَّتِهِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي الْعِزَّةَ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مُتَقَرِّرٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ أَخْذِهِ لِبَعْضِ الْأُمَمِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. فَإِذَا كَانُوا يُقِرُّونَ لِلَّهِ بِالْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَافٍ عَبْدَهُ بِعِزَّتِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِصَابَةِ عَبْدِهِ بِسُوءٍ، وَبِانْتِقَامِهِ مِنَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ لِعَبْدِهِ الْأَذَى. والعزيز: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعِزِّ، وَهُوَ مَنَعَةُ الْجَانِبِ وَأَنْ لَا يَنَالَهُ الْمُتَسَلِّطُ وَهُوَ ضِدُّ الذُّلِّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [209] . والانتقام: الْمُكَافَأَةُ عَلَى الشَّرِّ بِشَرٍّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْغَضَبُ كَأَنَّهُ مُطَاوِعُهُ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ النَّقْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [136] . وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ

[سورة الزمر (39) : آية 38]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 38] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ [الزمر: 37] ، وَجُمْلَةِ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّوْطِئَةَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِزَاعَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ، أَيْ خَلْقِهِمَا وَمَا تَحْوِيَانِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ جَاءَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ لِكَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ وَلَا بِالْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَقُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ. وَالْفَاءُ مِنْ أَفَرَأَيْتُمْ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جَوَابِهِمْ تَفْرِيعًا يُفِيدُ مُحَاجَّتَهُمْ عَلَى لَازِمِ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] . وَهَذَا تَفْرِيعُ الْإِلْزَامِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالنَّتِيجَةُ عَلَى الدَّلِيلِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيمَا تَحْوِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ أَفَظَنَنْتُمْ. وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَفْعُولُ (رَأَيْتُمُ) الْأَوَّلُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ سَدَّ مَسَدَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمُعْتَرِضُ بَعْدَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ عَلَى قَاعِدَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ مُبْتَدَأٍ وَشَرْطٍ أَنْ يَجْرِيَ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى مَا يُنَاسِبُ جُمْلَةَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ فِي مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ.

وَجُمْلَةُ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ جَوَابُ إِنْ. وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ إِذَا صُدِّرَ الْجَوَابُ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ غَيْرِ الْهَمْزَةِ يَجُوزُ تَجَرُّدُهُ عَنِ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِلْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 47] ، وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: 63] . فَأَمَّا الْمُصَدَّرُ بِالْهَمْزَةِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: 13، 14] . وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَاتٍ ضُرَّهُ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا لِهَذَا الظَّنِّ. وَجِيءَ بِحَرْفِ هَلْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَيْضًا تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَتْهُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ مَا فِي (هَلْ) مِنْ إِفَادَةِ التَّحْقِيقِ. وَضَمِيرُ هُنَّ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ الْمُؤَنَّثَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَهُ ظَاهِرَةً وَمُسْتَتِرَةً، إِمَّا لِأَن (مَا) صدق مَا الْمَوْصُولَةُ هُنَا أَحْجَارٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ وَجَمْعُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ كَالْإِنَاثِ لَا تَقْدِرُ عَلَى النَّصْرِ. وَالْكَاشِفَاتُ: الْمُزِيلَاتُ، فَالْكَشْفُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِتَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ الضُّرُّ بِشَيْءٍ مُسْتَتِرٍ، وَتَشْبِيهُ إِزَالَتِهِ بِكَشْفِ الشَّيْءِ الْمَسْتُورِ، أَيْ إِخْرَاجِهِ، وَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَالْكَشْفُ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ. وَالْإِمْسَاكُ أَيْضًا مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الرَّحْمَةِ بِمَا يُسْعَفُ بِهِ، وَتَشْبِيهُ التَّعَرُّضِ لِحُصُولِهَا بِإِمْسَاكِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ عَنْ طَالِبِيهِ. وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلضُّرِّ وَالرَّحْمَةِ، إِلَى تَعْدِيَتِهِ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ذَاتِ الْمَضْرُورِ وَالْمَرْحُومِ مَعَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَاتِ الْمَعَانِي دُونَ الذَّوَاتِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ ضُرِّي أَوْ أَرَادَ رَحْمَتِي فَحَقُّ فِعْلِ الْإِرَادَةِ إِذَا قُصِدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَأَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ مُعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، نَحْوَ أَرَدْتُ خَيْرًا لِزَيْدٍ، أَوْ أَرَدْتُ بِهِ خَيْرًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ

الِاهْتِمَامَ بِالْمُرَادِ بِهِ لِإِيصَالِ الْمُرَادِ إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الْمُرَادُ لِمَنْ يُرِيدُ إِيصَالَ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ. وَالْمُرَادُ أَحْوَالُ الذَّوَاتِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، أَيْ أَكْلُهَا. وَنَظْمُ التَّرْكِيبِ: إِنْ أَرَادَنِي وَأَنَا مُتَلَبِّسٌ بِضُرٍّ مِنْهُ أَوْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ شَاسٍ: أَرَادَتْ عِرَارًا بِالْهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ ... عِرَارًا لَعَمْرِي بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ إِرَادَةَ الضُّرِّ وَإِرَادَةَ الرَّحْمَةِ فِي نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَرَادَكُمْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى مَا خَوَّفُوهُ مِنْ ضُرِّ أَصْنَامِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بِإِضَافَةِ الْوَصْفَيْنِ إِلَى الِاسْمَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِتَنْوِينِ الْوَصْفَيْنِ وَنَصْبِ ضُرِّهِ وَرَحمته وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي لَفْظِ تَعَلُّقِ الْوَصْفِ بِمَعْمُولِهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَلَمَّا أَلْقَمَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الْحَجَرَ وَقَطَعَهُمْ فَلَا يُحِيرُوا بِبِنْتِ شَفَةٍ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَنْتَظِمْ حَسْبِيَ اللَّهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ تَوْجِيهُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ فِيمَا سَبَقَهُ مُقْنِعًا مِنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَصْنَامِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ شِعَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع شؤونه، وَفِيهِ حَظٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ حَاصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 64] ، فَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ هَذَا الْغَرَضِ عَنِ الْغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْحَسْبُ: الْكَافِي. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي آلِ عِمْرَانَ [173] . وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِعُمُومِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، أَيْ حَسْبِيَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اعْتِقَادُهُ، ثُمَّ تُذَكُّرُهُ، ثُمَّ الْإِعْلَانُ بِهِ، لِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ.

[سورة الزمر (39) : الآيات 39 إلى 40]

وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ أُمُورِ الْمُفَوِّضِ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ تَذَكُّرًا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَائِلِينَ لِأَنَّ حَسْبِيَ اللَّهُ يؤول إِلَى مَعْنَى: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ حَسْبِيَ أَنَا وَحَسْبُ كُلِّ مُتَوَكِّلٍ، أَيْ كُلِّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كِفَايَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَتَعْرِيفُ الْمُتَوَكِّلُونَ لِلْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، أَيِ الْمُتَوَكِّلُونَ الْحَقِيقِيُّونَ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاطَبَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ: حَسْبِيَ اللَّهُ، أَيِ اجْعَلِ اللَّهَ حَسْبَكَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُمُ الرُّسُلُ وَالصَّالِحُونَ وَإِذْ قَدْ كُنْتَ مِنْ رَفِيقِهِمْ فَكُنْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى يَتَوَكَّلُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ الْحَقِيقِيِّينَ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَعْرِيض بالمشركين إِذْ اعْتَمَدُوا فِي أُمُورِهِمْ على أصنامهم. [39- 40] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 39 إِلَى 40] قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) لَمَّا أَبْلَغَهُمُ اللَّهُ من الموعظة أقْصَى مَبْلَغٍ، وَنَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ أَسَطَعَ حُجَّةٍ، وَثَبَّتَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَخَ تَثْبِيتٍ، لَا جَرَمَ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَادِعَهُمْ مُوَادَعَةَ مُسْتَقْرِبِ النَّصْرِ، وَيُوَاعِدَهُمْ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مَنْ خُسْرٍ. وَعَدَمُ عَطْفِ جُمْلَةِ قُلْ هَذِهِ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر: 38] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ نَظِيرَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي الْبَيْتِ الْمَشْهُورِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي:

وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ لَمْ يَعْطِفْ جُمْلَةَ: أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَبْغِي بِهَا بَدَلًا، وَلِأَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ الدَّعْوَةِ وَالْمُحَاجَّةِ إِلَى غَرَضِ التَّهْدِيدِ. وَابْتَدَأَ الْمَقُولَ بِالنِّدَاءِ بِوَصْفِ الْقَوْمِ لِمَا يَشْعَرُ بِهِ مِنَ التَّرْقِيقِ لِحَالِهِمْ وَالْأَسَفِ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ قَوْمَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدَّخِرَهُمْ نُصْحًا. وَالْمَكَانَةُ: الْمَكَانُ، وَتَأْنِيثُهُ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى الْبُقْعَةِ، اسْتُعِيرَ لِلْحَالَةِ الْمُحِيطَةِ بِصَاحِبِهَا إِحَاطَةَ الْمَكَانِ بِالْكَائِنِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: اعْمَلُوا عَلَى طَرِيقَتِكُمْ وَحَالِكُمْ مِنْ عَدَاوَتِي، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [135] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَكانَتِكُمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مَكَانَاتِكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ. وَقَالَ تَعَالَى هُنَا: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ لِيَكُونَ التَّهْدِيدُ بِعَذَابِ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٍ مُقِيمٍ فِي الْآخِرَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [135] : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَذَابَ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: 134] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ إِنِّي عامِلٌ لِيَعُمَّ كُلَّ مُتَعَلِّقٍ يَصْلُحُ أَن يتَعَلَّق بِعَمَل مَعَ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ إِنِّي عامِلٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى عَمَلِهِ فِي نُصْحِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا يُنْجِيهِمْ. وَأَنَّ حَذْفَ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِقْدَارِ مَكَانَتِهِ وَحَالَتِهِ بَلْ حَالُهُ تَزْدَادُ كُلَّ حِينٍ قُوَّةً وَشِدَّةً لَا يَعْتَرِيهَا تَقْصِيرٌ وَلَا يُثَبِّطُهَا إِعْرَاضُهُمْ، وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبِعَاتِ الْحَذْفِ وَلَمْ نُنَبِّهْ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ. ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتْ فِعْلَ تَعْلَمُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ.

[سورة الزمر (39) : آية 41]

وَالْعَذَابُ الْمُخْزِي هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِقَامَتُهُ خُلُودُهُ. وَتَنْوِينُ عَذابٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ بِهِ التَّهْوِيلُ. وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَأْتِيهِ إِلَى الْعَذَابِ الْمُخْزِي لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يُفَاجِئُهُمْ كَمَا يَأْتِي الطَّارِقُ. وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ فِعْلِ يَحِلُّ إِلَى الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْحُلُولَ مُشْعِرٌ بِالْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ الْخُلُودِ، وَلِذَلِكَ يُسمى منزل القَوْل حِلَّةً، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ الْقَاطِنِينَ غَيْرِ الْمُسَافِرِينَ هُمْ حِلَالٌ، فَكَانَ الْفِعْلُ مُنَاسِبًا لِوَصْفِهِ بِالْمُقِيمِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَحِلُّ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ على تمكنه. [41] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 41] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ الْمُفِيدِ مُوَادَعَتَهُمْ وَتَهْوِينَ تَصْمِيمِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَثْبِيتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَكَفَاكَ ذَلِكَ شَرَفًا وَهِدَايَةً وَكَفَاكَ تَبْلِيغُهُ إِلَيْهِمْ فَمَنِ اهْتَدَى مِنَ النَّاسِ فَهِدَايَتُهُ لِنَفْسِهِ بِوَاسِطَتِكَ وَمَنْ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ بِهِ فَضَلَالُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ تَبِعَةٌ لِأَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ. وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الزمر: 2] ، لِأَنَّ تِلْكَ فِي غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب- أَنْزَلْنا، وبِالْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْكِتابَ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَفْهُومٌ مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْفَائِدَةِ وَالنَّفْعِ أَيْ لِنَفْعِ النَّاسِ، أَوْ مِمَّا يُؤْذَنُ بِهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدى إِلَخْ. وَفَاءُ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ لِلتَّفْرِيعِ وَهُوَ تَفْرِيع ناشىء مِنْ مَعْنَى اللَّامِ. وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، أَيْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِفَائِدَةِ

نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، أَيْ لَيْسَتْ لَكَ مِنِ اهْتِدَائِهِ فَائِدَةٌ لِذَاتِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهِيَ شَرَفُهُ وأجره) ثَابِتَة عَن التَّبْلِيغِ سَوَاءٌ اهْتَدَى مَنِ اهْتَدَى وَضَلَّ مَنْ ضَلَّ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ آخِرَ سُورَةِ يُونُسَ [108] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ [91، 92] ، وَلَكِنْ جِيءَ فِي تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بِصِيغَةِ قَصْرِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى نَفْسِ الْمُهْتَدِي وَتُرِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَيْنَكَ الْآيَتَيْنِ وَارِدَتَانِ بِالْأَمْرِ بِمُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِمَا مُنَاسِبًا لِإِفَادَةِ أَنَّ فَائِدَةَ اهْتِدَائِهِمْ لَا تَعُودُ إِلَّا لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَتْ لِي مَنْفَعَةٌ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ، خِلَافًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا خِطَابٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ مَنْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُدِلِّ بِاهْتِدَائِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِيهِ لِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسَفِهِ عَلَى ضَلَالِهِمُ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ ضُرٌّ، فَخُوطِبَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَلِذَلِكَ اتَّحَدَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى الْقَصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [92] فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فِي معنى: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، أَي لَيْسَ ضلالكم عليّ فَإِنَّمَا أَنا من الْمُنْذِرِينَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ دَقَائِقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ القَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فِي سُورَةِ يُونُس [108] . وَجُمْلَة ووَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أَيْ لَسْتَ مَأْمُورًا بِإِرْغَامِهِمْ عَلَى الِاهْتِدَاءِ، فَصِيغَ هَذَا الْخَبَرُ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِ هَذَا النَّفْي.

[سورة الزمر (39) : آية 42]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 42] اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِحَالِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ وَهُدَى الْمُهْتَدِينَ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتِمْرَارَ الضَّالِّ عَلَى ضَلَالِهِ قَدْ يَحْصُلُ بَعْدَهُ اهْتِدَاءٌ وَقَدْ يُوَافِيهِ أَجَلُهُ وَهُوَ فِي ضَلَالِهِ فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِذَلِكَ بِنَوْمِ النَّائِمِ قَدْ تَعْقُبُهُ إِفَاقَةٌ وَقَدْ يَمُوتُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ، وَهَذَا تَهْوِينٌ عَلَى نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجَاءِ إِيمَانِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ضَلَالٍ وَشِرْكٍ كَمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَهَا اتِّصَالٌ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا إِلَى اسْتِدْلَالٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الذَّوَاتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 5، 6] ، ثُمَّ دَلِيلَ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ أَحْوَالِ ذَوَاتٍ وَإِنْشَاءِ ذَوَاتٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: 21] وَأَعْقَبَ كُلَّ دَلِيلٍ بِمَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ وَالزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَاهُ، فَانْتَقَلَ هُنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةٍ عَجِيبَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَنْفُسِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَحَالَةُ النَّوْمِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَهَذَا دَلِيلٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] وَقَالَ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: 28] ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلتَّدَرُّجِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَهَا اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أَفَادَتِ الْآيَةُ إِبْرَازَ حَقِيقَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ نَوَامِيسِ الْحَيَاتَيْنِ النَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ، أَيِ اللَّهُ يَتَوَفَّى لَا غَيْرُهُ فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِإِظْهَارِ فَسَادِ أَنْ أَشْرَكُوا

بِهِ آلِهَةً لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ. وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ، وُسُمِّيَتْ تَوَفِّيًا لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَمَاتَ أَحَدًا فَقَدْ توفّاه أَجله فَالله الْمُتَوَفِّي وَمَلَكُ الْمَوْتِ مُتَوَفٍّ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُبَاشِرُ التَّوَفِّي. وَالْمَيِّتُ: مُتَوَفَّى بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ التَّوَفِّي مُرَادِفًا لِلْإِمَاتَةِ وَالْوَفَاةُ مُرَادِفَةٌ لِلْمَوْتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَصْرِيفِ ذَلِكَ وَاشْتِقَاقِهِ من مَادَّة الْوَفَاء. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [234] : وَقَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [11] . وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَهِيَ الشَّخْصُ وَالذَّاتُ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَالْإِدْرَاكُ. وَمَعْنَى التَّوَفِّي يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْفُسِ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ. وَالْمَعْنَى: يَتَوَفَّى النَّاسَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فَإِنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالْمَوْتِ هُوَ الذَّاتُ لَا الرُّوحُ وَأَنَّ تَوَفِّيهَا سَلْبُ الْأَرْوَاحِ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ عَطْفٌ عَلَى الْأَنْفُسِ بِاعْتِبَارِ قَيْدِ حِينَ مَوْتِها لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي تَمُوتُ فِي حَالَةِ نَوْمِهَا، وَالْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي نَوْمِهَا فَأَفَاقَتْ. وَيَتَعَلَّقُ فِي مَنامِها بِقَوْلِهِ: يَتَوَفَّى، أَيْ وَيَتَوَفَّى أَنْفُسًا لَمْ تَمُتْ يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَوَفِّيهَا هُوَ مَنَامُهَا، وَهَذَا جَارٍ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِحَسَبِ عُرْفِ اللُّغَةِ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى النَّائِمِ مَيِّتَ وَلَا مُتَوَفَّى. وَهُوَ تَشْبِيهٌ نُحِّيَ بِهِ مَنْحَى التَّنْبِيهِ إِلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّ حَالَةَ النَّوْمِ حَالَةُ انْقِطَاعِ أَهَمِّ فَوَائِدِ الْحَيَاةِ عَنِ الْجَسَدِ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ سِوَى أَنَّ أَعْضَاءَهُ الرَّئِيسِيَّةَ لَمْ تَفْقِدْ صَلَاحِيَتَهَا لِلْعَوْدَةِ إِلَى أَعْمَالِهَا حِينَ الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

وَالْفَاءُ فِي فَيُمْسِكُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ لِأَنَّ مَا تقدم يَقْتَضِي مُقَدرا يُفْصِحُ عَنْهُ الْفَاءُ لِبَيَانِ تَوَفِّي النُّفُوسِ فِي الْمَقَامِ. وَالْإِمْسَاكُ: الشَّدُّ بِالْيَدِ وَعَدَمُ تَسْلِيمِ الْمَشْدُودِ. وَالْمَعْنَى: فَيُبْقِي وَلَا يَرُدُّ النَّفْسَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، أَيْ يَمْنَعُهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْحَيَاةِ فَإِطْلَاقُ الْإِمْسَاكِ عَلَى بَقَاءِ حَالَةِ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِدَوَامِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَ مَيِّتِهِمْ لَوْ وَجَدُوا إِلَى عُودِهِ سَبِيلًا وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْمَحْ لِنَفْسٍ مَاتَتْ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْحَيَاةِ. وَالْإِرْسَالُ: الْإِطْلَاقُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ مُبَارَحَةِ الْمَكَانِ لِلرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ وَالْمُرَادُ بِ الْأُخْرى الَّتِي لَمْ تَمُتْ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ. وَالْمَعْنَى: يَرُدُّ إِلَيْهَا الْحَيَاةَ كَامِلَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْرَازُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَفَاتَيْنِ. وَيَتَعَلَّقُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى بِفِعْلِ يُرْسِلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى يَرُدُّ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا، أَيْ فَلَا يَسْلُبُهَا الْحَيَاةَ كُلَّهَا إِلَّا فِي أَجَلِهَا الْمُسَمَّى، أَيِ الْمُعَيَّنِ لَهَا فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّسْمِيَةُ: التَّعْيِينُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] . هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَلِيُّ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ وَعَنِ ارْتِكَابِ شِبْهِ الِاسْتِخْدَامِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى وَعَنِ التَّقْدِيرِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا تَذْكُرُ النَّتِيجَةَ عَقِبَ الدَّلِيلِ، أَيْ أَنَّ فِي حَالَةِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِنَامَةِ دَلَائِلَ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ بِاخْتِلَافِ حَالَتَيِ الْمَوْتِ وَالنَّوْمِ بَلِ الْمَقْصُودُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي مَضْرِبِ الْمَثَلِ، وَفِي دَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ وَالتَّذْكِيرُ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ كُلَّ يَوْمٍ فِي

[سورة الزمر (39) : الآيات 43 إلى 44]

نَفْسِهِ، وَتَمُرُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي آلِهِمْ وَفِي عَشَائِرِهِمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَبَدِيعِ الصُّنْعِ. وَجَعَلَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ عَجِيبَتَانِ ثُمَّ فِي كُلِّ حَالَةٍ تَصَرُّفٌ يُغَايِرُ التَّصَرُّفَ الَّذِي فِي الْأُخْرَى، فَفِي حَالَةِ الْمَوْتِ سَلْبُ الْحَيَاةِ عَنِ الْجِسْمِ وَبَقَاءُ الْجِسْمِ كَالْجَمَادِ وَمَنْعٌ مِنْ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَفِي حَالَةِ النَّوْمِ سَلْبُ بَعْضِ الْحَيَاةِ عَنِ الْجِسْمِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمَيِّتِ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ثُمَّ مَنْحُ الْحَيَاةِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ دَوَالَيْكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِبَّانُ سَلْبِهَا عَنْهُ سلبا مستمرا. و (الْآيَات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) حَاصِلَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ إِرَادَةِ التَّمْثِيل وَإِرَادَة اسْتِدْلَال عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ مُعْظَمِ النَّاسِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِتِلْكَ الْآيَاتِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالتَّفَكُّرُ: تَكَلُّفُ الْفِكْرَةِ، وَهُوَ مُعَالَجَةُ الْفِكْرِ وَمُعَاوَدَةُ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحَقَائِقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَوْتِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ وَبِرَفْعِ الْمَوْتِ وَهُوَ عَلَى مُرَاعَاةِ نَزْعِ الْخَافِضِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِضُ صَارَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ بِهِ فَجُعِلَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ قَضى مَعْنَى كتب وَقدر. [43- 44] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 43 إِلَى 44] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) أَمِ مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ انْتِقَالًا مِنْ تَشْنِيعِ إِشْرَاكِهِمْ إِلَى إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا دَمَغَتْهُمْ حُجَجُ الْقُرْآنِ بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ

شُرَكَاءُ تَمَحَّلُوا تَأْوِيلًا لِشِرْكِهِمْ فَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَمَّا اسْتُوفِيَتِ الْحُجَجُ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ أَقْبَلَ هُنَا عَلَى إِبْطَالِ تَأْوِيلِهِمْ مِنْهُ وَمَعْذِرَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تُشْعِرُ بِهِ أَمِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهَا هُوَ هُنَا لِلْإِنْكَارِ بِمَعْنَى أَنَّ تَأْوِيَلَهُمْ وَعُذْرَهُمْ مُنْكَرٌ كَمَا كَانَ الْمُعْتَذَرُ عَنْهُ مُنْكَرًا فَلَمْ يَقْضُوا بِهَذِهِ الْمَعْذِرَةِ وَطَرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِكَوْنِهِمْ شُفَعَاءَ. وَأَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَقَالَةً تَقْطَعُ بُهْتَانَهُمْ وَهِيَ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. فَالْوَاوُ فِي أَوَلَوْ كانُوا عَاطِفَةٌ كَلَامَ الْمُجِيبِ عَلَى كَلَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا سُمِّيَ بِعَطْفِ التَّلْقِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي نَظِيرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَصَاحِبُ الْحَالِ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيَشْفَعُونَ لَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ تَصْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ وَاوِ الْحَالِ كَحُكْمِ تَصْدِيرِهِ قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ. وَأَفَادَ تَنْكِيرُ شَيْئاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُمُومَ كُلِّ مَا يُمْلَكُ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ أَمْرًا مَعْنَوِيًّا كَانَ مَعْنَى مِلْكِهَا تَحْصِيلُ إِجَابَتِهَا، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ إِذْ كَيْفَ يَشْفَعُ مَنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنَّهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ لَا يُتَصَوَّرُ خُطُورُ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِرَادَتُهُ إِلَى الِاسْتِشْفَاعِ فَاتِّخَاذُهُمْ شُفَعَاءَ مِنَ الْحَمَاقَةِ. وَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي عُمُومِ نَفْيِ مِلْكِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ الْأَصْنَامِ، قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ أَيِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ. وَأُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنْ لَا يَمْلِكَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ هُوَ مَالِكُ إِجَابَةِ شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ الْحَقِّ.

[سورة الزمر (39) : آية 45]

وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ لِلَّهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ قَصْرِ مِلْكِ الشَّفَاعَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ. وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَا يَشِذُّ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ حَقِيقَةِ الشَّفَاعَةِ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلَّهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِلَازِمِ هَذِهِ لِحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِتَعْمِيمِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الشَّامِلِ لِلتَّصَرُّفِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَسْيِيرِ أُمُورِهِمْ فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ الْمُفِيدِ لِتَقْرِيرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَزِيَادَةٌ. وَالْمُرَادُ الْمُلْكُ بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ وَتَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْعَالَمَيْنِ وَمَنْ فِيهِمَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْملك لَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ صَرَفَهُ عَنْ أَمْرٍ أَرَادَ وُقُوعَهُ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي مُدَّةِ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِأَنْ تَكُونَ لِآلِهَتِهِمْ شَفَاعَةٌ لَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَعُطِفَ عَلَيْهِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَإِلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ الْحَشْرِ إِلَّا مَنْ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ مَضْمُونَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ لِلَّهِ مُلْكَ الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَمُلْكُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ لِسَعَةِ مَمْلُوكَاتِهِ وَبَقَائِهَا. وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [45] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 45] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ [الزمر: 43] لِإِظْهَارِ تَنَاقُضِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمُ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ أَقْضِيَةٌ سُفُسْطَائِيَّةٌ يَقُولُونَهَا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ دَمَغَاتِ الْحُجَجِ الَّتِي جَبَهَهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ تَارَةً عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِأَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُمْ وَإِلَهُ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ

إِذَا ذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَوْ ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوب الْمُشْركين من ذَلِك. وَكَذَلِكَ إِذا ذكر الله بِأَنَّهُ إِلَه النَّاس وَلم يذكر مَعَ ذكره أَن أصنامهم شُرَكَاء لله اشمأزت قُلُوبُهُمْ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَلَا يَرْضَوْنَ بِالسُّكُوتِ عَنْ وَصْفِ أَصْنَامِهِمْ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يُسَوُّونَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى. فَقَوْلُهُ: وَحْدَهُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا. وَيُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: ذُكِرَ اللَّهُ معنى: ذكر بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ وَيَكُونُ مَعْنَى ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ذُكِرَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فِي وَحْدَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَصْدَرًا وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، أَيْ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ ذُكِرَ لِبَيَانِ نَوْعِهِ، أَيْ ذِكْرًا وَحْدًا، أَيْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمْ. وَإِضَافَةُ الْمَصَدَرِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِاشْتِهَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْوَحْدِ. وَهَذَا الذِّكْرُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي فِي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّلَوَاتِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَفِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا ذُكِرَتْ أَصْنَامُهُمْ بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ حِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، أَيْ وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ مَعَهَا فَاسْتِبْشَارُهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَامِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ جَانِبَ الْأَصْنَامِ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالذِّكْرُ: هُوَ النُّطْقُ بِالِاسْمِ. وَالْمُرَادُ إِذَا ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ اسْمَ اللَّهِ اشْمَأَزَّ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ذِكْرَ آلِهَتِهِمْ وَإِذَا ذَكَرَ الْمُشْرِكُونَ أَسْمَاءَ أَصْنَامِهِمُ اسْتَبْشَرَ الَّذِينَ يُسْمَعُونَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ آلِهَتِهِمْ بِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ دُونَ لَفْظِ: شُرَكَائِهِمْ أَوْ شُفَعَائِهِمْ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ اسْتِبْشَارِهِمْ بِذَلِكَ الذِّكْرِ هُوَ أَنَّهُ ذِكْرُ مَنْ هُمْ دُونَ اللَّهِ، أَيْ ذِكْرٌ مُنَاسِبٌ لِهَذِهِ الصِّلَةِ، أَيْ هُوَ ذكر خَالٍ عَنِ اسْمِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: وَإِذَا ذُكِرَ شُرَكَاؤُهُمْ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى التَّعَرُّضِ لِهَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ فِي سُوءِ نَوَايَا الْمُشْرِكِينَ نَحْوَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي بُطْلَانِ اعْتِذَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ إِلَّا لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، فَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ كَقَوْلِهِمْ فِي

[سورة الزمر (39) : آية 46]

التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَذَلِكَ ذِكْرٌ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِالْمَقَامِ. وَذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُرْوَى مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَنُسِبَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِذَلِكَ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الْآيَةِ. وَمِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ فَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ. وَالِاشْمِئْزَازُ: شِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالنُّفُورِ، أَيْ كَرِهَتْ ذَلِكَ قُلُوبُهُمْ وَمَدَارِكُهُمْ. وَالِاسْتِبْشَارُ: شِدَّةُ الْفَرَحِ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى بَشْرَةِ الْوَجْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [67] . وَمُقَابَلَةُ الِاشْمِئْزَازِ بِالِاسْتِبْشَارِ مُطَابَقَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ الِاشْمِئْزَازَ غَايَةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِبْشَارُ غَايَةُ الْفَرَحِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ النَّاسِ مَعَ قَصْدِ إِعَادَةِ تَذْكِيرِهِمْ بِوُقُوعِ الْقِيَامَةِ. وإِذا الْأُولَى وإِذا الثَّانِيَةُ ظَرْفَانِ مُضَمَّنَانِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ. وإِذا الثَّالِثَةُ لِلْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ على أَنهم يعاجلهم الِاسْتِبْشَارُ حِينَئِذٍ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِمْ آلِهَتَهُمْ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَسْتَبْشِرُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: مُسْتَبْشِرُونَ، لِإِفَادَةِ تجدّد استبشارهم. [46] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 46] قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّورَةِ مُشْعِرًا بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُصَمِّمُونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ عَلَى مَا غَمَرَهُمْ مِنْ حُجَجِ الْحَقِّ دُونَ إِغْنَاءِ الْآيَاتِ وَالتَّدَبُّرِ عَنْهُمْ أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا

الْقَوْلَ تَنْفِيسًا عَنْهُ مِنْ كَدْرِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِ، وَإِعْذَارًا لَهُمْ بِالنِّذَارَةِ، وَإِشْعَارًا لَهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِمْ مُضَاعٌ، وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَارِكَتُهُمْ وَأَنْ يُفَوِّضَ الْحُكْمَ فِي خِلَافِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا التَّفْوِيضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْوَاثِقُ بِحَقِيَّةِ دِينِهِ الْمُطْمَئِنُّ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ يُظْهِرُ حَقَّهُ وَبَاطِلَ خَصْمِهِ. وَابْتُدِئَ خِطَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَوْجِيهٍ وَتَحَاكُمٍ. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِخُضُوعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِحُكْمِهِ وَشُمُولِ عِلْمِهِ لِدَخَائِلِهِمْ مِنْ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ. وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَفَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاطِرٌ لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَوَصْفُ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَتَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَصْفِ الْعِلْمِ لِأَنَّ شُعُورَ النَّاسِ بِقُدْرَتِهِ سَابِقٌ عَلَى شُعُورِهِمْ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِطَلَبِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِلْزَامٌ وَقَهْرٌ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ مُبَاشَرَةً. وَالْغَيْبُ: مَا خَفِيَ وَغَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْسَاسِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ عِبادِكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: بَيْنَنَا، لِمَا فِي عِبادِكَ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ فَيَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي قَضِيَّتِهِمْ هَذِهِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَنْسَبُ بِالدُّعَاءِ وَالْمُبَاهَلَةِ. وَجُمْلَةُ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ. وَالْمَعْنَى: احْكُمْ بَيْنَنَا. وَفِي تَلْقِينِ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْحَقُّ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَحْكُمُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنْتَ لَا غَيْرُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يعْتَقد أَن غير اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمُفَادِ الْقَصْرِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً

[سورة الزمر (39) : الآيات 47 إلى 48]

عَنْ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ فِي الْعِنَادِ وَعَدَمِ الْإِنْصَافِ وَالِانْصِيَاعِ إِلَى قَوَاطِعِ الْحُجَجِ، بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يَتَطَلَّبُ حَاكِمًا فِيهِمْ لَا يَجِدُ حَاكِمًا فِيهِمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَهَذَا أَيْضا يؤمىء إِلَى الْعُذْرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِهِ بِأَقْصَى مَا كُلِّفَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَقَّنَهُ رَبُّهُ أَنْ يَقُولَهُ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى: أَنَّكَ أَبْلَغْتَ وَأَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يُعْجِزُهَا الْأَلِدَّاءُ أَمْثَالُ قَوْمِكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْمُعَانِدِينَ. وَالْحُكْمُ يَصْدُقُ بِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، وَيَشْمَلُ حُكْمَ الدُّنْيَا بِنَصْرِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَ حُكْمِهِ بِأَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ صِلَةٌ لِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ، وَكَوْنُ خَبَرِ (كَانَ) مُضَارِعًا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مُتَجَدِّدٌ إِذْ لَا طَمَاعِيَةَ فِي ارْعِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ. وَتَقْدِيمُ فِيهِ عَلَى يَخْتَلِفُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ الْمُخْتَلف فِيهِ. [47- 48] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 47 إِلَى 48] وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 46] إِلَخْ لِأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَبَّهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ سَيَكُونُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْوِيلِ مَا سَيَكُونُ بِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُشْرِكُونَ فِدْيَةً مِنْهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَافْتَدَوْا بِهَا.

وَ (مَا فِي الْأَرْضِ) يَشْمَلُ كل عَزِيز عَلَيْهِم مِنْ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بَلْ وَأَنْفُسِهِمْ فَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَافْتَدَوْا بِهِ يَوْمَئِذٍ. وَوَجْهُ التَّهْوِيلِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِلْكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الشُّحِّ بِهَا فِي مُتَعَارَفِ النُّفُوسِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي شِدَّةِ الدَّرْكِ وَالشَّقَاءِ بِحَالِ مَنْ لَوْ كَانَ لَهُ مَا ذُكِرَ لِبَذَلَهُ فِدْيَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَتَضَمَّنَ حَرْفُ الشَّرْطِ أَنَّ كَوْنَ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ مُنْتَفٍ، فَأَفَادَ أَنْ لَا فِدَاءَ لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ وَهُوَ تَأْيِيسٌ لَهُمْ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُوءِ الْعَذابِ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، أَيْ لَافْتَدَوْا بِهِ لأجل الْعَذَاب السيّء الَّذِي شَاهَدُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَدَلِ، أَيْ بَدَلًا عَنْ سُوءِ الْعَذابِ. وَعُطِفَ عَلَى هَذَا التَّأْيِيسِ تَهْوِيلٌ آخَرُ فِي عِظَمِ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ مِنَ الْإِيهَامِ الَّذِي تَذْهَبُ فِيهِ نَفْسُ السَّامِعِ إِلَى كُلِّ تَصْوِيرٍ مِنَ الشِّدَّةِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ، أَيْ لَافْتَدَوْا بِهِ فِي حَالِ ظُهُورِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ بَدا. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ. وَالِاحْتِسَابُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحِسَابِ بِمَعْنَى الظَّنِّ مِثْلَ: اقْتَرَبَ بِمَعْنَى قَرُبَ. وَالْمَعْنَى: مَا لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُتَجَاوِزًا أَقْصَى مَا يَتَخَيَّلُهُ الْمُتَخَيَّلُ حِينَ يَسْمَعُ أَوْصَافَهُ، فَلَا الْتِفَاتَ فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ إِلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَنَظِير هَذَا فِي الْوَعْدِ بِالْخَبَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَة: 17] . وسَيِّئاتُ جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهُوَ وَصْفٌ أُضِيفَ إِلَى مَوْصُوفِهِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ مَا كَسَبُوا أَيْ مَكْسُوبَاتِهِمُ السَّيِّئَاتِ. وَتَأْنِيثُهَا بِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ إِطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى

[سورة الزمر (39) : آية 49]

الْفِعْلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا كَسَبُوهُ مَا هُوَ مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِقَادِ كَاعْتِقَادِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَإِضْمَارِ الْبُغْضِ لِلرَّسُولِ وَالصَّالِحِينَ وَالْأَحْقَادِ وَالتَّحَاسُدِ فَجَرَى تَأْنِيثُ الْوَصْفِ عَلَى تَغْلِيبِ السَّيِّئَاتِ الْعَمَلِيَّةِ مِثْلَ الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَالْفَوَاحِشِ تَغْلِيبًا لَفْظِيًّا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأُوثِرَ فِعْلُ كَسَبُوا عَلَى فِعْلِ: عَمِلُوا، لِقَطْعِ تَبَرُّمِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِتَسْجِيلِ أَنَّهُمُ اكْتَسَبُوا أَسْبَابَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] دون: تَعْمَلُونَ. وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ فَلَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [10] . وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِذِكْرِهِ تَنْزِيلًا للعقاب منزلَة مستهزء بِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتجْعَل مُتَعَلق يَسْتَهْزِؤُنَ مَحْذُوفًا، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ الْعَذَابَ. وَتَقْدِيمُ بِهِ على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [49] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 49] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: 45] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ مُسَلْسَلٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ لِلْمُنَاسِبَاتِ. وَتَفْرِيعُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعُ وَصْفِ بَعْضٍ مِنْ غَرَائِبِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ فَزَعِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَقَدْ كَانُوا يَشْمَئِزُّونَ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَحْدَهُ فَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَتَعْكِيسٌ، فَإِنَّهُ تَسَبُّبُ

حَدِيثٍ عَلَى حَدِيثٍ وَلَيْسَ تَسَبُّبًا عَلَى الْوُجُودِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ هُنَا وَعَطْفِ نَظِيرِهَا بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر: 8] . وَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَتَتْمِيمٌ وَاسْتِطْرَادٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ [الزمر: 8] الْآيَةَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ كُلَّ مُشْرِكٍ فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ وَلِئَلَّا تَخْلُو إِعَادَةُ الْآيَةِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ إِنَّما فِيهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) الْكَافَّةِ الَّتِي تَصِيرُ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِمَنْزِلَةِ (مَا) النَّافِيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (إِلَّا) الِاسْتِثْنَائِيَّةُ. وَالْمَعْنَى: مَا أُوتِيتَ الَّذِي أُوتِيتَهُ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا لِعِلْمٍ مِنِّي بِطُرُقِ اكْتِسَابِهِ. وَتَرْكِيزُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُهُ عَائِدٌ إِلَى نِعْمَةً عَلَى تَأْوِيلِ حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ بِأَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالِ حُضُورِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ فَهُوَ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى ذَاتٍ مُشَاهَدَةٍ، فَالضَّمِيرُ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: 24] . وَمَعْنَى قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَجَرَى فِي أَقْوَالِهِ إِذِ الْقَوْلُ عَلَى وَفْقِ الِاعْتِقَادِ. وعَلى لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ عِلْمٍ، أَيْ بِسَبَبِ عِلْمٍ. وَخُولِفَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ آيَةِ سُورَةِ الْقَصَصِ [78] فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا عِنْدِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هُنَا مُجَرَّدُ الْفِطْنَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأُرِيدَ هُنَالِكَ عِلْمُ صَوْغِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكِيمْيَاءِ الَّتِي اكْتَسَبَ بِهَا قَارُونُ مِنْ مَعْرِفَةِ تَدَابِيرِهَا مَالًا عَظِيمًا،

وَهُوَ عِلْمٌ خَاصٌّ بِهِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُوجَدُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ. وَالْمُرَادُ: الْعِلْمُ بِطُرُقِ الْكَسْبِ وَدَفْعِ الضُّرِّ كَمَثَلِ حِيَلِ النُّوتِيِّ فِي هَوْلِ الْبَحْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا ذَكَّرَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدُ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ صِيغَةِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَلْبَ كَلَامِ مَنْ يَقُولُ لَهُ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ وَهُوَ إِبْطَالٌ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أُوتُوا ذَلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِهِمْ وَتَدْبِيرِهِمْ، أَيْ بَلْ إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي أُوتُوهَا إِنَّمَا آتَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا لِيُظْهِرَ لِلْأُمَمِ مِقْدَارَ شُكْرِهِمْ، أَيْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى حَالَةٍ فِيهِمْ تُشْبِهُ حَالَةَ الِاخْتِبَارِ لِمِقْدَارِ عِلْمِهِمْ بِاللَّهِ وَشُكْرِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ بِهَا أَثَرٌ فِي الْمَنْعِ عَلَيْهِ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ وَغَنِيٌّ عَنِ اخْتِبَارِهِمْ. وَضَمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلٍ نَحْوَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ ضَمِيرَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ فِتْنَةٌ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ بِالْكَلِمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] وَالْمُرَادُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ سَبَبُ فِتْنَةٍ أَوْ مُسَبَّبٌ عَنْ فِتْنَةٍ فِي نُفُوسِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نِعْمَةً. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ناشىء عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، أَيْ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَمِنْهُمُ الْقَائِلُونَ، أَنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ بِمَا أُوتُوا مِنْ نِعْمَةٍ إِذَا كَانُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ نَتِيجَةُ مَسَاعِيهِمْ وَحِيَلِهِمْ. وَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَادًا، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ، أَيْ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ بَعْضَ مَا أُوتُوهُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ لَهُمْ فِتْنَةً بِحَسَبِ مَا يَتَلَقَّوْنَهَا بِهِ مِنْ قِلَّةِ

[سورة الزمر (39) : الآيات 50 إلى 51]

الشُّكْرِ وَمَا يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْأَكْثَرِ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على علم. [50- 51] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 50 إِلَى 51] قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) جُمْلَةُ قَدْ قالَهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر: 49] لِأَنَّ بَيَانَ مَغَبَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَنَالُهُمْ يُبَيِّنُ أَنَّ نِعْمَةَ هَؤُلَاءِ كَانَتْ فِتْنَةً لَهُمْ. وَضَمِيرُ قالَهَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر: 49] ، عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] . والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ غَيْرُ المتدينين مِمَّن سلفوا مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ قَارُونُ وَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا كَسَبُوهُ مِنْ أَمْوَالٍ. وَعَدَمُ إِغْنَائِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَ الْعَذَابِ بِأَمْوَالِهِمْ. وَالْفَاءُ فِي فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ لِتَفْرِيعِ عَدَمِ إِغْنَاءِ مَا كَسَبُوهُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ السُّوءِ مَا شَأْنُ مِثْلِهِ أَنْ يَتَطَلَّبَ صَاحِبُهُ الِافْتِدَاءَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ السُّوءُ عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِدَاءٌ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا. فَفَاءُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا مُفَرَّعَةٌ على جملَة فَما أَغْنى عَنْهُمْ، أَيْ تَسَبَّبَ عَلَى انْتِفَاءِ إِغْنَاءِ الْكَسْبِ عَنْهُمْ حُلُولُ الْعِقَابِ بِهِمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا مُقَدَّمَةً عَلَى جُمْلَةِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ إِنَّمَا

[سورة الزمر (39) : آية 52]

يُتَرَقَّبُ عِنْدَ حُلُولِ الضَّيْرِ بِهِمْ فَإِذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ الْإِغْنَاءِ يُذْكَرُ بَعْدَهُ حُلُولُ الْمُصِيبَةِ، فَعُكِسَ التَّرْتِيبُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ التَّعْجِيلِ بِإِبْطَالِ مَقَالَةِ قَائِلِهِمْ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر: 49] ، أَيْ لَوْ كَانَ لِعِلْمِهِمْ أَثَرٌ فِي جَلْبِ النِّعْمَةِ لَهُمْ لَكَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّنَا اهْتَدَيْنَا إِلَى كَشْفِ عَادَةٍ مِنْ عَادَاتِ الْقُرْآنِ إِذَا ذُكِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَإِصَابَةُ السَّيِّئَاتِ مُرَادٌ بِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِصَابَةُ جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ عِقَابُ الدُّنْيَا وَعِقَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا. وَالْمُعْجِزُ: الْغَالِبُ، وَتَقَدَّمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] ، أَيْ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَا، فَحُذِفَ مَفْعُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَة عَلَيْهِ. [52] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 52] أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49] فَبَعْدَ أَنْ وَصَفَ أَكْثَرهم بِانْتِفَاء الْعلم بِأَن الرَّحْمَة لَهُم فتْنَة وابتلاء، عطف عَلَيْهِ إِنْكَار علمهمْ انْتِفَاء عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَإِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ وَصَمِّهِمْ آذَانَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى بَقُوا فِي جَهَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، أَيْ يُعْطِي الْخَيْرَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ تَوْبِيخًا. وَاقْتَصَرَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى إِنْكَارِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِأَنْ بَسْطَ الرِّزْقِ وَقَدْرَهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ

[سورة الزمر (39) : آية 53]

تَعَالَى لِأَنَّهُ أَدْنَى لِمُشَاهَدَتِهِمْ أَحْوَالَ قَوْمِهِمْ فَكَمْ مِنْ كَادٍّ غَيْرِ مَرْزُوقٍ وَكَمْ مِنْ آخَرَ يَجِيئُهُ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الرِّزْقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ بِيَدِ الله تَعَالَى ينبىء عَنْ بَقِيَّةِ الْأَحْوَالِ فَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَتَخَلَّقُوا بِهِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ لِلْمُشْرِكِينَ الغافلين عَنهُ. [53] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 53] قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) أَطْنَبَتْ آيَاتُ الْوَعِيدِ بِأَفْنَانِهَا السَّابِقَةِ إِطْنَابًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِ سَامِعِيهَا أَيَّ مَبْلَغٍ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، عَلَى رَغْمِ تَظَاهُرِهِمْ بِقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقَدْ يَبْلُغُ بِهِمْ وَقْعُهَا مَبْلَغَ الْيَأْسِ مِنْ سَعْيٍ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَعِيدِهَا، فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِبَعْثِ الرَّجَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ لِلْخُرُوجِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ إِذَا أَرَادُوهَا عَلَى عَادَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مِنْ مُدَاوَاةِ النُّفُوسِ بِمَزِيجِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ السَّابِقَةَ تُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُوَاجِهِينَ بِهَا خَاطَرَ التَّسَاؤُلِ عَنْ مَسَالِكِ النَّجَاةِ فَتَتَلَاحَمُ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ إِلَى أَنْ يُرْسِيَ التَّلَاحُمُ عَلَى انْتِصَارِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَكَانَ فِي إِنَارَةِ السَّبِيلِ لَهَا مَا يُسَهِّلُ خَطْوَ الْحَائِرِينَ فِي ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَيَرْتَفِقُ بِهَا وَيُوَاسِيهَا بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَتْهَا جُرُوحُ التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَيُضَمِّدُ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ وَالْحَلِيمُ يَزْجُرُ وَيَلِينُ وَتُثِيرُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ غَضَبُ اللَّهِ بِالَّذِينِ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَعْرَضُوا أَوْ حَبَّبَهُمْ فِي الْحَقِّ فَأَبْغَضُوا فَلَعَلَّهُ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ أَوْبَةٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى حُكْمِهِ

الْمُشْتَمِّ مِنْهُ تَرَقُّبُ قَطْعِ الْجِدَالِ وَفَصْمِهُ فَكَانَ أَمْرُهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ تَنْفِيسًا عَلَيْهِ وَتَفْتِيحًا لِبَابِ الْأَوْبَةِ إِلَيْهِ فَهَذَا كَلَامٌ يَنْحَلُّ إِلَى اسْتِئْنَافَيْنِ فَجُمْلَةُ قُلْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَا تَرَقَبَّهُ أَفْضَلُ النَّبِيئِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ بَلِّغْ عَنِّي هَذَا الْقَوْلَ. وَجُمْلَةُ يَا عِبادِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لَهُمْ. وَابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ وَعُنْوَانِ الْعِبَادِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِعْدَادٌ لِلْقَبُولِ وَإِطْمَاعٌ فِي النَّجَاةِ. وَالْخطاب بعنوان يَا عِبادِيَ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ [الزمر: 54] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] وَقَوْلُهُ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الزمر: 59] . فَهَذَا الْخِطَابُ جَرَى عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ فِي عَادَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ عِبادِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَعَالَى. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ- يَعْنِي وَقَدْ سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَعْمَلُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ جَرَائِمٌ وَهُمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ- فَنَزَلَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الْفرْقَان: 68] يَعْنِي إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: 70] وَنَزَلَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثٌ عِدَّةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ بَيْنَ ضَعِيفٍ وَمَجْهُولٍ وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ مجموعها أَنَّهَا جزئيات لِعُمُومِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِخِطَابِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي دِيبَاجَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ. وَمِنْ أَجْمَلِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا اجْتَمَعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ اتَّعَدْتُ أَنَا وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ السَّهْمِيُّ،

وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ عُتْبَةَ. فَقُلْنَا: الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ، وَقُلْنَا: مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ عُتْبَةَ وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ وَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِنَ فَافْتَتَنَ فَكُنَّا نَقُولُ بِالْمَدِينَةِ: هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ افْتَتَنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَةً. وَكَانُوا هُمْ يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إِلَى قَوْله: مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] قَالَ عُمَرُ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَى هِشَامٍ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْتُ بِهَا إِلَى ذِي طَوَى فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اهـ. فَقَوْلُ عُمَرَ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ» يُرِيدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ وَأَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَسْمَعْهُ عُمَرُ إِذْ كَانَ فِي شَاغِلِ تَهْيِئَةِ الْهِجْرَةِ فَمَا سَمِعَهَا إِلَّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ عُمَرَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ تَمْهِيدٌ بِإِجْمَالٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 54] . وَبَعْدَ هَذَا فَعُمُومُ «عِبَادِيَ» وَعُمُومُ صِلَةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا يَشْمَلُ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تُفَرَّغُ فِي قَوَالِبٍ تَسَعُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ ثُبُوتِ الْيَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: 10] ، أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلَّذِينَ أَسْرَفُوا وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَكُلُّهُمْ مَظِنَّةُ تَطَرُّقِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ إِثْبَاتُ (يَا) الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِمْ زِيَادَةَ تَصْرِيحٍ بِعَلَامَةِ التَّكَلُّمِ تَقْوِيَةً لِنِسْبَةِ عُبُودِيَّتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرَّحْمَةُ بِعِبَادِهِ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [6] وَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [33] . وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِ- (عَلَى) لِأَنَّ

الْإِكْثَارَ هُنَا مِنْ أَعْمَالٍ تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَتَثْقُلُ بِهَا وَذَلِكَ مُتَعَارَفٌ فِي التَّبِعَاتِ وَالْعُدْوَانِ تَقُولُ: أَكْثَرْتُ عَلَى فُلَانٍ، فَمَعْنَى أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَنَّهُمْ جَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا تُثْقِلُهُمْ تَبِعَتُهُ لِيَشْمَلَ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ شِرْكٍ وَسَيِّئَاتٍ. وَالْقُنُوطُ: الْيَأْسُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [55] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً تعلليل لِلنَّهْيِ عَنِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَمَادَّةُ الْغَفْرِ تَرْجِعُ إِلَى السَّتْرِ، وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْتُورِ وَاحْتِيَاجَهُ لِلسَّتْرِ فَدَلَّ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ ثَابِتَةٌ، أَيِ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا ثَابِتَةٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُهَا، أَيْ يُزِيلُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَا، وَهَذِهِ الْمَغْفِرَةُ تَقْتَضِي أَسْبَابًا أُجْمِلَتْ هُنَا وَفُصِّلَتْ فِي دَلَائِلَ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] ، وَتِلْكَ الدَّلَائِلُ يَجْمَعُهَا أَنَّ لِلْغُفْرَانِ أَسْبَابًا تَطْرَأُ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْحَكِيمُ تَعَالَى، كَيْفَ وَقَدْ سَمَّاهَا ذُنُوبًا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ دَعْوَةً إِلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ فَإِذَا طَلَبَهَا الْمُذْنِبُ عَرَفَ تَفْصِيلَهَا. وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الذُّنُوبَ، أَيْ حَالُ جَمِيعِهَا، أَيْ عُمُومُهَا، فَيَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ مِنْهَا إِنْ حَصَلَتْ مِنَ الْمُذْنِبِ أَسْبَابُ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَلِمَةِ (جَمِيعٍ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [67] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أَيْ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَغْفِرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَا بَلَغَ جَمِيعُهَا مِنَ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغُفْرَانِ شَدِيدُ الرَّحْمَةِ. فَبَطَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَان شَيْء.

[سورة الزمر (39) : آية 54]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 54] وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) لَمَّا فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الرَّجَاءِ أَعْقَبَهُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى وَسِيلَةِ الْمَغْفِرَةِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُنُوطِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ الْإِنَابَةِ جَمْعًا يَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ، وَهِيَ أَيْضًا مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ. وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ وَلِمَا فِيهَا وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ عُدِّيَ الْفِعْلَانِ بِحَرْفِ إِلَى. وَالْمَعْنَى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ بِأَنْ تُوَحِّدُوهُ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْإِسْلَامِ، أَيِ التَّصْدِيقُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ إِيذَانٌ بِوَعِيدٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا كَمَا يُلْمِحُ إِلَيْهِ فِعْلُ يَأْتِيَكُمُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا يَأْتِهِمُ الْعَذَابُ. وَالْعَذَابُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَهُ اللَّهُ وَهَذَا خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدِ اسْتَعَاذَ لَهُمْ مِنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [65] ، وَمِنَ الْعَذَابِ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ جَزَاءُ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ. وَهَذَا الْخِطَابُ يَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُ بِنَصِيبٍ، فَنَصِيبُ الْمُشْرِكِينَ الْإِنَابَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنَصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ التَّوْبَةُ إِذَا أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَحَاصِلٌ لَهُمْ. وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْغَلَبَةِ بِحَيْثُ يَنْفَلِتُ الْمَغْلُوبُ مِنْ غَلَبَةِ قَاهِرِهِ كُرْهًا عَلَى الْقَاهِرِ وَلَا نَصِيرَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ.

[سورة الزمر (39) : آية 55]

وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَيْسَتْ مِنْ حَقِيقَةِ النَّصْرِ الْمَنْفِيِّ وَهَذِهِ الْفِقْرَةُ أَكْثَرُ حَظٍّ فِيهَا هُوَ حَظّ الْمُشْركين. [55] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 55] وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] . وَالْحَظُّ لِلْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: 17، 18] . وأَحْسَنَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَامِلِ الْحُسْنِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ حُسْنٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] . وَإِضَافَةُ أَحْسَنَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ قَبْلُ بِنَوْعَيْهِ وَكُلُّهُ بَغْتَةٌ إِذْ لَا يَتَقَدَّمُهُ إِشْعَارٌ، فَعَذَابُ الدُّنْيَا يَحِلُّ بَغْتَةً وَعَذَابُ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَظْهَرُ بَوَارِقُهُ عِنْدَ الْبَعْثِ وَقَدْ أَتَاهُمْ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَأْتِيهِمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ يَوْم الْبَعْث. [56- 58] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 56 إِلَى 58] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) أَنْ تَقُولَ تَعْلِيل لِلْأَوَامِرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 54] واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ [الزمر: 55] عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ (أَنْ) وَهُوَ كَثِيرٌ.

وَفِيهِ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ أَنْ، وَهُوَ شَائِعٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 155- 157] ، وَكَقَوْلِهِ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا [النِّسَاء: 135] . وَعَادَةُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَفْعَلُوا كَذَا. وَتَقْدِيرُ (لَا) النَّافِيَةِ أَظْهَرُ لِكَثْرَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ. وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ. وَظَاهِرُ الْقَوْلِ أَنَّهُ الْقَوْلُ جَهْرَةً وَهُوَ شَأْنُ الَّذِي ضَاقَ صَبْرُهُ عَنْ إِخْفَاءِ نَدَامَتِهِ فِي نَفسه فيصرح بِمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ النَّدَامَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا زَائِدَةً عَلَى الَّتِي أَسَرَّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ. وَتَنْكِيرُ نَفْسٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ أَنْ يَقُولَ صِنْفٌ مِنَ النُّفُوسِ وَهِيَ نُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] . وَقَوْلُ لَبِيدٍ: أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يُرِيدُ نَفْسَهُ. وَحَرْفُ (يَا) فِي قَوْله: يَا حَسْرَتى اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْحَسْرَةِ بِالْعَاقِلِ الَّذِي يُنَادَى لِيُقْبِلَ، أَيْ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضُرِي، وَالنِّدَاءُ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ يَا حَسْرَتِي احْضُرِي فَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْكِ، أَيْ إِلَى التَّحَسُّرِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَالْمَثَلِ لِشِدَّةِ التَّحَسُّرِ. وَالْحَسْرَةُ: النَّدَامَةُ الشَّدِيدَةُ. وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ يَا حَسْرَتَايَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَلِفِ الَّتِي جُعِلَتْ عِوَضًا عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلهم: يَا حَسْرَتى. وَالْأَشْهَرُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ الْيَاءَ الَّتِي بَعْدَ الْأَلْفِ مَفْتُوحَةٌ. وَتَعْدِيَةُ الْحَسْرَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ كَمَا هُوَ غَالِبُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّحَسُّرِ مِنْ مَدْخُولِ عَلى.

وَ (مَا) فِي (مَا فَرَّطْتُ) صدرية، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِي فِي جَنْبِ اللَّهِ. وَالتَّفْرِيطُ: التَّضْيِيعُ وَالتَّقْصِيرُ، يُقَالُ: فَرَطَهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ: فَرَّطَ فِيهِ. وَالْجَنْبُ وَالْجَانِبُ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ نَاحِيَةُ الشَّيْءِ وَمَكَانُهُ وَمِنْهُ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النِّسَاء: 36] أَيِ الصَّاحِبُ الْمُجَاوِرُ. وَحَرْفُ فِي هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ فَرَّطْتُ فَلَا يَكُونُ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ وَيَكُونُ الْمُفَرَّطُ فِيهِ هُوَ جَنْبُ اللَّهِ، أَيْ جِهَتُهُ وَيَكُونُ الْجَنْبُ مُسْتَعَارًا لِلشَّأْنِ وَالْحَقِّ، أَيْ شَأْنِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصَايَاهُ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَكَانِ السَّيِّدِ وَحِمَاهُ إِذَا أُهْمِلَ حَتَّى اعْتُدِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَقْفَرَ، كَمَا قَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ: أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ وَامِقٍ ... لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تقطّع أَو تكون جُمْلَةَ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ النَّفْسِ الَّتِي أُوقِفَتْ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ بِحَالِ الْعَبْدِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ حِرَاسَةَ حِمَاهُ وَرِعَايَةَ مَاشِيَتِهِ فَأَهْمَلَهَا حَتَّى رُعِيَ الْحِمَى وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَأُحْضِرَ لِلثِّقَافِ فَيَقُولُ: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ سَيِّدِي. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْجَنْبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ يَعْتَمِدُ تَشْبِيهَ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَفِعْلُ فَرَّطْتُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَحَذْفُهُ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ، وَيَكُونُ الْمَجْرُورُ بِ فِي حَالًا مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، أَيْ كَائِنًا مَا فَرَّطْتُهُ فِي جَانِبِ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَهَا بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى فَكَانَتْ تَسْخَرُ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَرَّطْتُ، أَيْ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَفْرِيطَ السَّاخِرِ لَا تَفْرِيطَ الْغَافِلِ، وَهَذَا إِقْرَارٌ بِصُورَةِ التَّفْرِيطِ.

وَ (إنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ إِنَّ الْمُشَدَّدَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ فَارِقَةٌ بَيْنَ إَنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِن) النافية. ولَمِنَ السَّاخِرِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كُنْتُ لَسَاخِرَةً، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] . وَمَعْنَى أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ الِاعْتِذَارِ وَالتَّنَصُّلِ، تُعِيدُ أَذْهَانُهُمْ مَا اعْتَادُوا الِاعْتِذَارَ بِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] وَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ إِفْحَامِ النَّبِيءِ حِينَ يَدْعُوهُمْ فَبَقِيَ ذَلِكَ التَّفْكِيرُ عَالِقًا بِعُقُولِهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ. وَالْكَلَامُ فِي مِنَ الْمُتَّقِينَ مثله فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهَا: حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَهُوَ تَمَنٍّ مَحْضٌ. ولَوْ فِيهِ لِلتَّمَنِّي، وَانْتَصَبَ فَأَكُونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي. وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [102] ، أَيْ كَرَّةً إِلَى الدُّنْيَا فَأُحْسِنَ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُسِيئِينَ. وَقَدْ حُكِيَ كَلَامُ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ عَلَى تَرْتِيبِهِ الطَّبِيعِيِّ فِي جَوَلَانِهِ فِي الْخَاطِرِ بِالِابْتِدَاءِ بِالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا أَوْقَعَتْ فِيهِ نَفسهَا، ثمَّ بالاعتذار وَالتَّنَصُّلِ طَمَعًا أَنْ يُنْجِيَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ بِتَمَنِّي أَنْ تَعُودَ إِلَى الدُّنْيَا لِتَعْمَلَ الْإِحْسَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] . فَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي النَّظْمِ هُوَ أَحْكَمُ تَرْتِيبٍ وَلَوْ رُتِّبَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِهِ لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلُّدِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْخَاطِرِ حِينَمَا يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاء والخطابة» .

[سورة الزمر (39) : آية 59]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 59] بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) بَلى حَرْفٌ لِإِبْطَالِ مَنْفِيٍّ أَوْ فِيهِ رَائِحَةُ النَّفْيِ، لِقَصْدِ إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ قَبْلَهُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هُنَا جَوَابًا لِقَوْلِ النَّفْسِ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: 57] ، لِمَا تَقْتَضِيهِ لَوْ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ لِلتَّمَنِّي مِنِ انْتِفَاءِ مَا تَمَنَّاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هَدَاهُ لِيَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَيْ لَمْ يَهْدِنِي اللَّهُ فَلَمْ أَتَّقِ. وَجُمْلَةُ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي تَفْصِيلٌ لِلْإِبْطَالِ وَبَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَوَابِ بِالتَّسْلِيمِ بَعْدَ الْمَنْعِ، أَيْ هَدَاكَ اللَّهُ. وَقَدْ قُوبِلَ كَلَامُ النَّفْسِ بِجَوَابٍ يُقَابِلُهُ عَلَى عَدَدِ قَرَائِنِهِ الثَّلَاثِ (¬1) ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَهَذَا مُقَابِلُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي [الزمر: 57] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَكْبَرْتَ وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهَا: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] أَيْ لَيْسَتْ نِهَايَةُ أَمْرِكِ التَّفْرِيطَ بَلْ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِ النَّفْسِ لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: 57] فَهَذِهِ قَرَائِنُ ثَلَاثٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هَدَاكِ فِي الدُّنْيَا بِالْإِرْشَادِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَقَابَلْتِ الْإِرْشَادَ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْكُفْرِ بِهَا فَلَا عُذْرَ لَكِ. وَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُشَوَّشِ بَعْدَ اللَّفِّ رَعْيًا لِمُقْتَضَى ذَلِكَ التَّشْوِيشِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ ابْتِدَاءُ النَّشْرِ بِإِبْطَالِ الْأَهَمِّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اللَّفُّ وَهُوَ مَا سَاقُوهُ عَلَى مَعْنَى التَّنَصُّلِ وَالِاعْتِذَارِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي [الزمر: 57] لِقَصْدِ الْمُبَادَرَةِ بِإِعْلَامِهِمْ بِمَا يَدْحَضُ مَعْذِرَتَهُمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبْتَ بِها، ثُمَّ أَكْمَلَ بِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 58] بِقَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. وَلَمْ يُورَدْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ النَّفْسِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ. ¬

(¬1) الْقَرَائِن القرآنية: جمع قرينَة وَهِي الْفَقْرَة ذَات الفاصلة.

[سورة الزمر (39) : آية 60]

وَلَوْ لَمْ يُسْلَكْ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي النَّشْرِ لِهَذَا اللَّفِّ لَفَاتَ التَّعْجِيلُ بِدَحْضِ الْمَعْذِرَةِ، وَلَفَاتَتْ مُقَابَلَةُ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ الْمُجَابِ عَنْهَا بِقَرَائِنِ أَمْثَالِهَا لِمَا عَلِمَتْ مِنْ أَنَّ الْإِبْطَالَ رُوعِيَ فِيهِ قَرَائِنٌ ثَلَاث على وزان أَقْوَالِ النَّفْسِ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ أَقْوَالِ النَّفْسِ كَانَ جَارِيًا عَلَى التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ، فَلَوْ لَمْ يُشَوَّشِ النَّشْرُ لَوَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَدَدِ قَرَائِنِ اللَّفِّ فَتَفُوتُ نُكْتَةُ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ شَأْنُ الْجِدَالِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَرُّكِ. وَتَرْكِيبُ قَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا أُقْحِمَ فِيهِ فِعْلُ كُنْتَ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ التَّاءَاتِ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَكَذَلِكَ فَتَحُ الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَتْكَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ الْمُغَلَّبَةِ فِي أَنْ يُرَادَ بِهَا الذُّكُورُ وَيُعْلَمَ أَنَّ النِّسَاءَ مِثْلُهُمْ، مِثْلُ تَغْلِيبِ صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْله: لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] . [60] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 60] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) عَطْفٌ عَلَى إِحْدَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ، أَيْ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْوِدَادُ الْوُجُوهِ حَقِيقَةً جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَامَةً لَهُمْ وَجَعَلَ بَقِيَّةَ النَّاسِ بِخِلَافِهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اسْوِدَادَ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْمَصِيرِ كَمَا جَعَلَ بَيَاضَهَا عَلَامَةً عَلَى حُسْنِ الْمَصِيرِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [الْقِيَامَة: 22] ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: بِيضُ الْوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ وَيَقُولُونَ فِي الَّذِي يَخْصُلُ خَصْلَةً يَفْتَخِرُ بِهَا قَوْمُهُ: بَيَّضْتَ وُجُوهَنَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَجُمْلَةُ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لَا يَنْصِبُ فِعْلُهَا مَفْعُولَيْنِ. وَلَا يَلْزَمُ اقْتِرَانُ جُمْلَةِ الْحَالِ الِاسْمِيَّةِ بِالْوَاوِ. والَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ: هُمُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكَاذِيبِ الشِّرْكِ، فَالَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ، وُصِفُوا أَوَّلًا بِالظُّلْمِ ثُمَّ وُصِفُوا بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي حِكَايَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَيَدْخُلُ فِي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ كُلُّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ صِفَةً لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهَا، وَمَنْ شَرَعَ شَيْئًا فَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ مُتَعَمِّدًا قَاصِدًا تَرْوِيجَهُ لِلْقَبُولِ بِدُونِ دَلِيلٍ، فَيَدْخُلُ أَهْلُ الضَّلَالِ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا صِفَاتٍ لِلَّهِ أَوْ نَسَبُوا إِلَيْهِ تَشْرِيعًا، وَلَا يَدْخُلُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ الْمُخْطِئُونَ فِي الْأَدِلَّةِ سَوَاءٌ فِي الْفُرُوعِ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْأُصُولِ عَلَى مَا نَخْتَارُهُ إِذَا اسْتَفْرَغُوا الْجُهُودَ. وَنِسْبَةُ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ أَمْرُهَا خَطِيرٌ، وَلذَلِك قَالَ أَئِمَّتنَا: إِنَّ الْحُكْمَ الْمَقِيسَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِجُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ

[سورة الزمر (39) : آية 61]

السَّامِعَ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ اسْوِدَادِ الْوُجُوهِ فَيُجَابُ بِأَنَّ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَاهُمْ يَعْنِي لِأَنَّ السَّوَادَ يُنَاسِبُ مَا سَيَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ مَنْ مَسِّ النَّارِ فَأُجِيبَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِتَنْزِيلِ السَّائِلِ الْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَثْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مُنَاسَبَةِ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ، لِمَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ لِلدَّخَائِلِ عَنَاوِينَهَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: 53] ، وَكَقَوْلِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ كَانَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا «مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَكَقَوْلِ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ فِي أَهِلِ الْكُوفَةِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ» إِلَخْ. وَالتَّكَبُّرُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، وَمِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، وَالْكِبْرُ: إِظْهَارُ الْمَرْءِ التَّعَاظُمَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ عَظِيمًا. وَتَعْرِيفُ الْمُتَكَبِّرِينَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَصْحَابُ التَّكَبُّرِ مَرَاتِبُ أَقْوَاهَا الشِّرْكُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْإِيمَانِ، وَدُونَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ حَقِيقَةِ مَاهِيَّةِ التَّكَبُّرِ، وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ. وَمَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسُنِ: أَنَّ الْكِبْرَ عَلَى أَهْلِ الْكِبْرِ عِبَادَةٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَفِي وَصْفِهِمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِهِمْ كَانَ مُنَاسِبًا لِكِبْرِيَائِهِمْ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إِذا كَانَ سيّىء الْوَجْهِ انْكَسَرَتْ كِبْرِيَاؤُهُ لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَضْعُفُ بِمِقْدَارِ شُعُورِ صَاحِبِهَا بِمَعْرِفَةِ النَّاس نقائصه. [61] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 61] وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] إِلَى

آخِرِهَا، أَيْ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا مِنْ جَهَنَّمَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَكَبِّرِينَ. وَهَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّقْوَى تُنَافِي التَّكَبُّرَ لِأَنَّ التَّقْوَى كَمَالُ الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ وَتَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْكِبْرُ مَرَضٌ قَلْبِيٌّ بَاطِنِيٌّ فَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ مُلْقِيًا صَاحِبَهُ فِي النَّارِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] فَضِدُّ أُولَئِكَ نَاجُونَ مِنْهَا وَهُمُ الْمُتَّقُونَ إِذِ التَّقْوَى تَحُولُ دُونَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ الَّتِي مِنْهَا الْكِبْرُ، فَالَّذِينَ اتَّقَوْا هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ فَفِعْلُ اتَّقَوْا مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ. وَالْمَفَازَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا لِلْفَوْزِ وَهُوَ الْفَلَاحُ، مِثْلَ الْمَتَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [النبأ: 31] ، وَلِحَاقُ التَّاءِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: 2] . وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي اسْمِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فِي آلِ عِمْرَانَ [188] ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْفَوْزِ أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوْزِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ اسْمًا لِلْفَلَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: لِوِرْدٍ تَقْلِصُ الْغِيطَانُ عَنْهُ ... يَبُذُّ مَفَازَةِ الْخِمْسِ الْكَمَالِ سُمِّيَتْ مَفَازَةً بِاسْمِ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَيِ النَّجَاةُ وَتَأْنِيثُهَا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، وَسَمَّوْهَا مَفَازَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ حَلَّ بِهَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ عَدُوُّهُ، كَمَا قَالَ الْعُدَيْلُ: وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تنالني ... بِسَاط بأيدي أَنا عجات عَرِيضُ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا ... مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) . وَالْمَفَازَةُ: الْجَنَّةُ. وَإِضَافَةُ مَفَازَةٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالْفَوْزِ حَتَّى عُرِفَ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فَازَ فَوْزَ فُلَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفازَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِمَفَازَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّ

[سورة الزمر (39) : الآيات 62 إلى 63]

الْمَصْدَرَ قَدْ يُجْمَعُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الصَّادِرِ مِنْهُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ، وَكَذَلِكَ تَعَدُّدُ أَمْكِنَةِ الْفَوْزِ بِتَعَدُّدِ الطَّوَائِفِ، وَعَلَى هَذَا فَإِضَافَةُ الْمَفَازَةِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ اتَّقَوْا لِتَعْرِيفِهَا بِهِمْ، أَيِ الْمَفَازَةُ الَّتِي عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَهُمْ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ وَأَخْبَارٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً [النبأ: 31، 33] . وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لِأَنَّ نَفْيَ مَسِّ السُّوءِ هُوَ إِنْجَاؤُهُمْ وَنَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُمْ نَفْيٌ لِأَثَرِ الْمَسِّ السُّوءَ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ السُّوءِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِنَفْيِ حَالَةِ أَهْلِ النَّارِ عَنْهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَسٍّ مِنَ السُّوءِ مُتَجَدِّدٌ. وَجِيءَ فِي نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَيْضًا فِي حَزْنٍ وَغَمٍّ ثَابِتٍ لَازِمٍ لَهُمْ. وَمِنْ لَطِيفِ التَّعْبِيرِ هَذَا التَّفَنُّنُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْأَسْوَاءِ الْجَسَدِيَّةِ تَجَدُّدُ آلَامِهَا وَشَأْنُ الْأَكْدَارِ الْقَلْبِيَّةِ دَوَامُ الإحساس بهَا. [62- 63] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 62 إِلَى 63] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: 64] فِي ذِكْرِ تَمَسُّكِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّصَلُّبِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى قَطْعِ دَابِرِهِ، وَجُعِلَتِ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقْدِمَاتٍ تُؤَيِّدُ مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا من قَوْله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: 64] . وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَمَعْطُوفَاتُهُ عَلَى ثَلَاثِ جُمَلٍ وَجُمْلَةٍ رَابِعَةٍ:

فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَدْخَلَتْ كُلَّ مَوْجُودٍ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ وَلِيُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ خَالِقَ نَفْسِهِ أَوْ صِفَاتِهِ لَزِمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالدَّوْرِ فِي الْحِكْمَةِ، وَاسْتِحَالَتُهُ عَقْلِيَّةٌ، فَخَصَّ هَذَا الْعُمُومَ الْعَقْلُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِثْبَاتُ حَقِيقَةٍ، وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِتَوْحِيدِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا قَصْدُ ثَنَاءٍ وَلَا تَعَاظُمٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ تَذْكِيرُ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ جَمِيعًا هُمْ وَمَا مَعَهُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِيجَادِ. الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَجِيءَ بِهَا مَعْطُوفَةً لِأَنَّ مَدْلُولَهَا مُغَايِرٌ لِمَدْلُولِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْوَكِيلُ الْمُتَصَرِّفُ فِي شَيْءٍ بِدُونِ تَعَقُّبٍ وَلَمَّا لَمْ يُعَلَّقْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ شَيْءٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ جِنْسُ التَّصَرُّفِ وَحَقِيقَتُهُ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ مَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ، فَعَمَّ تَصَرُّفُهُ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ وَالْآجَالِ وَالْحَرَكَاتِ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تَقْتَضِي الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ فَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَوَجَدَهُمْ لَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْهُ لَمْحَةً مَا. الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَجِيءَ بِهَا مَفْصُولَةً لِأَنَّهَا تُفِيدُ بَيَانَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ الْوَكِيلَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ. وَالْمَقَالِيدُ: جَمَعَ إِقْلِيدٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهَذَا جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِقْلِيدٌ قِيلَ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ (كِلِيدٌ) قِيلَ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ (إِقْلِيدِسُ) وَقيل كلمة يَمَانِية وَهُوَ مِمَّا تَقَارَبَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِ ذَخَائِرِهَا، فَذَخَائِرُ الْأَرْضِ عَنَاصِرُهَا وَمَعَادِنُهَا وَكَيْفِيَّاتُ أَجْوَائِهَا وَبِحَارِهَا، وَذَخَائِرُ السَّمَاوَاتِ سَيْرُ كَوَاكِبِهَا وَتَصَرُّفَاتُ أَرْوَاحِهَا فِي عَوَالِمِهَا وَعَوَالِمِنَا وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْعَنَاصِرُ وَالْقُوَى شَدِيدَةُ النَّفْعِ لِلنَّاسِ وَكَانَ النَّاسُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا شُبِّهَتْ بِنَفَائِسَ الْمَخْزُونَاتِ فَصَحَّ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَقَالِيدُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَهِيَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ التَّكْوِينِيِّ وَالتَّسْخِيرِيِّ الَّذِي يَفِيضُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ تِلْكَ الذَّخَائِرِ الْمُدَّخَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحجر: 21] .

وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعْطِي مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ النُّبُوءَةُ وَهَدْيُ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ جَهْلَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى أَنْ أَنْكَرُوا اخْتِصَاصَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ دُونَهُمْ، وَاخْتِصَاصُ أَتْبَاعِهِ بِالْهُدَى فَقَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: 53] . فَهَذِهِ الْجُمَلُ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ تَقْتَضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِلَالَةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ، ثُمَّ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ بِوَضْعِ النُّظُمِ وَالنَّوَامِيسِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالتَّهْذِيبِيَّةِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَفِي نِظَامِ الْبَشَرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُوجِبٌ تَوْحِيدَهُ وَتَصْدِيقَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِمْسَاكَ بِعُرْوَتِهِ كَمَا رَشَدَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ. فَأَمَّا الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فَتَحْتَمِلُ الِاعْتِرَاضَ وَلَكِنَّ اقْتِرَانَهَا بِالْوَاوِ بَعْدَ نَظَائِرِهَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةً وَأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى مَفَادِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَتَكُونُ مُقَدَّمَةً رَابِعَةً لِلْمَقْصُودِ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ هُمْ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْحَقِّ بِإِبْطَالِ ضِدِّهِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَعُودُ إِلَى تَرْغِيبٍ وَتَنْفِيرٍ فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَاسِرِينَ لَا جَرَمَ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِ الله هم الفائزين، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُقَابِلُ جُمْلَةَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ [الزمر: 61] الْمُنْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفِيدَةٌ إِنْذَارَهُمْ وَتَأْفِينَ آرَائِهِمْ، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا بَعْدَ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهِيَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يَقْتَضِي التَّنْدِيدَ عَلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا. وَوُصِفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بِأَنَّهُمُ الْخَاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مَنْ لَهُ مَقَالِيدُ خَزَائِنِ الْخَيْرِ فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ وَأَعْظَمُهَا خَزَائِنُ خَيْرِ الْآخِرَةِ. وَآيَاتُ اللَّهِ هِيَ دَلَائِلُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ السَّابِقَةُ.

[سورة الزمر (39) : آية 64]

وَالْإِخْبَارُ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاسْمِ الْإِشَارَة للتّنْبِيه عَن أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ خَسِرُوا لِأَجْلِ مَا وُصِفُوا بِهِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَتَوَسُّطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ حَصْرِ الْخَسَارَةِ فِيهِمْ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِخَسَارَةِ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَسَارَتِهِمْ فَخَسَارَتُهُمْ أعظم خسارة. [64] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 64] قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) هَذَا نَتِيجَةُ الْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِثْبَاتِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ لِيَقْرَعَ بِهِ أَسْمَاعَهُمْ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَبَعْدَ تَقَرُّرِهَا عِنْدَهُمْ وَإِنْذَارِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِمَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْحَقَائِقُ أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ مُنَوَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ إِذْ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ قَدْ خَسِئَتْ بِمَا جَبَهَهَا مِنَ الْكَلَام السَّابِق تأييسها لَهُمْ مِنْ مُحَاوَلَةِ صَرْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَتَوَسُّطُ فِعْلِ قُلْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَنْهُ لِتَصْيِيرِ الْمَقَامِ لِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَامُ الْكَلَامِ قَبْلَهُ مَقَامَ الْبَيَانِ لِكُلِّ سَامِعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي جَعْلِ التَّفْرِيعِ خَاصًّا بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ وَوَفْرَةِ الْمَعَانِي وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ نُسَمِّيَهُ «تلوين الْبسَاط» . وفَغَيْرَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ بِ أَعْبُدُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَأْمُرُونِّي عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) كَثِيرٌ فَقَوْلُهُ: أَعْبُدُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ أَعْبُدَ فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَأْمُرُونِّي حُذِفَتْ (أَنْ) الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ: أَلَا أَيُهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ وَنُحَاةِ الْأَنْدَلُسِ. وَالْجُمْهُورُ يَمْنَعُونَهُ وَيَجْعَلُونَ قَوْلَهُ: أَعْبُدُ هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَفِعْلَ

تَأْمُرُونِّي اعْتِرَاضًا أَوْ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَأَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ حَالَ كَوْنِكُمْ تَأْمُرُونَنِي بِذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ تَأْمُرُونِّي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى حَذْفِ وَاحِدَةٍ مِنَ النُّونَيْنِ اللَّتَيْنِ هَمَّا نُونُ الرَّفْعِ وَنُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَحْذُوفَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: 54] ، وَفَتَحَ نَافِعٌ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّفَادِي مِنَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُونِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ إِدْغَامًا لِلنُّونَيْنِ مَعَ تَسْكِينِ الْيَاءِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَأْمُرُونَنِي بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ. وَنِدَاؤُهُمْ بِوَصْفِ الْجَاهِلِينَ تَقْرِيعٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْخُسْرَانِ لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ نَقْصِ الْآخِرَةِ وَنَقْصِ الدُّنْيَا. وَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَةَ الدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَمْ تُفِدْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَعَمُوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ فَجَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْحَظُّ مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى تَدَلَّوْا إِلَى حَضِيضِ عِبَادَةِ أَجْسَامٍ مِنَ الصَّخْرِ الْأَصَمِّ. وَإِطْلَاقُ الْجَهْلِ عَلَى ضِدِّ الْعِلْمِ إِطْلَاقٌ عَرَبِيٌّ قَدِيمٌ قَالَ النَّابِغَةُ: يُخْبِرْكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمِهِمْ ... وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ علما وَقَالَ السموأل أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيُّ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ ... فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْجاهِلُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ كَأَنَّ الْجَهْلَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً فَلَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا فَهُمْ جَاهِلُونَ بِمَا أَفَادَتْهُ الدَّلَائِلُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي لَوْ عَلِمُوهَا لَمَا أَشْرَكُوا وَلَمَا دَعَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اتِّبَاعِ شِرْكِهِمْ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ الْكَامِلَةِ جَهْلًا أَطْمَعَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَسْتَزِلُّوهُ

[سورة الزمر (39) : الآيات 65 إلى 66]

بِخُزَعْبَلَاتِهِمْ وَإِطْمَاعِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ إِنْ هُوَ شَارَكَهُمْ فِي عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ يَحْسَبُونَ الدِّينَ مُسَاوَمَةً ومغابنة وتطفيفا. [65- 66] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 65 إِلَى 66] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) تَأْيِيدٌ لِأَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مَقَالَةَ إِنْكَارِ أَنْ يَطْمَعُوا مِنْهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، بِأَنَّهُ قَوْلٌ اسْتَحَقُّوا أَنْ يُرْمُوا بِغِلْظَتِهِ لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَجَاهِلُونَ بِنَفْسِ الرَّسُولِ وَزَكَائِهَا. وَأَعْقَبَ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَطَرَّقُ الْإِشْرَاكُ حَوَالَيْ قُلُوبِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ حَاوَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جملَة قُلْ [الزمر: 64] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وبحرف (قد) تَأْكِيد لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْوَحْيُ: الْإِعْلَامُ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. فَالْمُرَادُ الْقَبْلِيَّةُ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ فَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى أُوحِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [طه: 120] . وَالتَّاءُ فِي أَشْرَكْتَ تَاءُ الْخِطَابِ لِكُلِّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَيَكُونُ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ الْبَيَانَ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ عُمُومُهُ وَنَحْوِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِقَوْمِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ فَرْضَ إِشْرَاكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ.

وَاللَّامُ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَاللَّامُ فِي لَيَحْبَطَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ وَالدَّحْضُ، حَبِطَ عَمَلُهُ: ذَهَبَ بَاطِلًا. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُرْجَى مِنْهُ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ الْأَبَدِيُّ. وَمَعْنَى حَبْطِهِ: أَنْ يَكُونَ لَغْوًا غَيْرَ مَجَازِيٍّ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ حُكْمُ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَحُكْمُ رُجُوعِ ثَوَابِ الْعَمَلِ لِصَاحِبِهِ إِنْ عَادَ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِيمَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [217] . ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِشْرَاكِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، شَبَّهَ حَالَهُ حِينَئِذٍ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي أَخْرَجَ مَالًا لِيَرْبَحَ فِيهِ زِيَادَةَ مَالٍ فَعَادَ وَقَدْ ذَهَبَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ أَشْرَكَ بَعْدَ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ قَدْ طَلَبَ بِهِ مُبْتَكِرُوهُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ إِذْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي طَلَبَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ طَلَبَ الرِّبْحَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، فَبَاءَ بِخُسْرَانِهِ وَتَبَابِهِ. وَفِي تَقْدِيرِ فَرْضِ وُقُوعِ الْإِشْرَاكِ مِنَ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ تَحَقُّقِ عِصْمَتِهِمْ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَخَطَرِ الْإِشْرَاكِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْفَضْلِ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْإِشْرَاكُ لَمَا أَبْقَى مِنْهَا أَثَرًا وَلَدَحَضَهَا دَحْضًا. وبَلِ لِإِبْطَالِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ أَيْ بَلْ لَا تُشْرِكُ، أَوْ لِإِبْطَالِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدْ يَظْهَرُ أَنَّهَا تَفْرِيعٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ حَبْطِ الْعَمَلِ وَمِنَ الْخُسْرَانِ فَحَصَلَ بِاجْتِمَاعِ بَلِ وَالْفَاءِ، فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ، أَنْ جَمَعَتْ غَرَضَيْنِ: غَرَضَ إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ، وَغَرَضَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا وَجْهٌ رَشِيقٌ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْفَاءَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِحَسَبِ

[سورة الزمر (39) : آية 67]

الْمَقَامِ، وَتَقْدِيرُهُ: تَنَبَّهْ فَاعْبُدِ اللَّهَ (أَيْ تَنَبَّهْ لِمَكْرِهِمْ وَلَا تَغْتَرِرْ بِمَا أَمَرُوكَ أَنْ تَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ) فَحُذِفَ فِعْلُ الْأَمْرِ اخْتِصَارًا فَلَمَّا حُذِفَ اسْتُنْكِرَ الِابْتِدَاءُ بِالْفَاءِ فَقَدَّمُوا مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمُوَالِي لَهَا فَكَانَتِ الْفَاءُ مُتَوَسِّطَةً كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي نَسْجِ الْكَلَامِ وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ التَّقْدِيمِ حَصْرٌ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ والزجاج الْفَاء جزاءية دَالَّةً عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيره: إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا مُقَابِلَ قَوْلِهِ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] فَاعْبُدِ اللَّهَ، فَلَمَّا حُذِفَ الشَّرْطُ (أَيْ إِيجَازًا) عَوَّضَ عَنْهُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ الْفَاءُ مُؤْذِنَةٌ بِفِعْلٍ قَبْلَهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمُوَالِي لَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُ أَعْبُدُ فَاعْبُدْ، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ حُذِفَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى فَاعْبُدْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [14] ، أَيْ أَعْبُدُ اللَّهَ لَا غَيْرَهُ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] . وَالشُّكْرُ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ فَقَدْ تَمَّحَضَ مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا لِلْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَالْقَوْلُ عُمُومُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ قَبْلَهُ أَوْ فِي خُصُوصِهِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ كَالْقَوْلِ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. [67] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 67] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّ لَهُ مَقَالِيدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَلِكُ عَوَالِمِ الدُّنْيَا، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِدَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ هُمُ

الْخَاسِرُونَ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى عَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ الْأَبَدِيِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَلَكُوتِ الدُّنْيَا قَدْ خَسِرُوا بِتَرْكِ النَّظَرِ، فَلَوِ اطَّلَعُوا عَلَى عَظِيمِ مُلْكِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَقَدَّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 63] وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ إِلَخْ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، اقْتَضَاهَا التَّنَاسُبُ مَعَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الزمر: 63] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَجُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ كِلْتَاهُمَا مَعْطُوفَتَيْنِ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] . وَالْمَعْنَى: هُوَ هُوَ، إِلَّا أَنَّ الْحَالَ أَوْضَحُ إِفْصَاحًا عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِيهِ، وَجُمْلَةُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ اعْتِرَاضًا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْجَاهِلِ بِعَظَمَةِ شَيْءٍ بِحَالِ مَنْ لَمْ يُحَقِّقْ مِقْدَارَ صُبْرَةٍ فَنَقَصَهَا عَنْ مِقْدَارِهَا، فَصَارَ مَعْنَى مَا قَدَرُوا اللَّهَ: مَا عَرَفُوا عَظَمَتَهُ حَيْثُ لَمْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنَ الشَّرِيكِ فِي إِلَهِيَّتِهِ. وحَقَّ قَدْرِهِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَجَمِيعٌ: أَصْلُهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِثْلَ قَتِيلٍ، قَالَ لَبِيدٌ: عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا ... مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثِمَامُهَا وَبِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ تَوْكِيدًا مِثْلَ (كُلٍّ) وَ (أَجْمَعَ) قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ [6] . وَقَدْ وَقَعَ جَمِيعاً هُنَا حَالًا مِنَ الْأَرْضُ وَاسْمُ الْأَرْضُ مُؤَنَّثٌ فَكَانَ تَجْرِيدُ (جَمِيعٍ) مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ جَرْيَا عَلَى الْوَجْهِ الْغَالِبِ فِي جَرَيَانِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى مَوْصُوفِهِ، وَقَدْ تَلْحَقُهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةٌ ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا وَانْتَصَبَ جَمِيعاً هُنَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْأَرْضُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر: 44] . وَالْقَبْضَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فِي سُورَةِ طَهَ [96] . وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَرْضِ بِهَذَا الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَإِنَّمَا صِيغَ لَهَا وَزْنُ الْمَرَّةِ تَحْقِيرًا لَهَا فِي جَانِبِ عَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا لَمْ يُجَأْ بِهَا مَضْمُومَةَ الْقَافِ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمَقْبُوضِ لِئَلَّا تَفُوتَ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاتِّصَافِ وَلَا الدَّلَالَةُ عَلَى التَّحْقِيرِ فَالْقَبْضَةُ مُسْتَعَارَةٌ للتناول اسْتِعَارَة تصريحية، وَالْقَبْضَةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَقْبُوضِ وَأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَا تَصَرُّفَ لَهُ وَلَا تَحَرُّكَ. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَعْطِيلِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ وَانْقِمَاعِ مَظَاهِرِهَا إِذْ تُصْبِحُ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ شَيْئًا مَوْجُودًا لَا عَمَلَ لَهُ وَذَلِكَ بِزَوَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ وَانْقِرَاضِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ تَمُدُّ الْمَوْجُودَاتِ الْحَيَّةِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ. وَطَيُّ السَّمَاوَاتِ: اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ لِتَشْوِيشِ تَنْسِيقِهَا وَاخْتِلَالِ أَبْعَادِ أَجْرَامِهَا، فَإِنَّ الطَّيَّ رَدُّ وَلَفُّ بَعْضِ شُقَقِ الثَّوْبِ أَوْ الْوَرَقِ عَلَى بَعْضٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَبْسُوطَةً مُنْتَشِرَةً عَلَى نَسَقٍ مُنَاسِبٍ لِلْمَقْصُودِ مِنْ نَشْرِهِ فَإِذَا انْتَهَى الْمَقْصُودُ طُوِيَ الْمَنْشُورُ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَإِثْبَاتُ الطَّيِّ تَخْيِيلٌ. وَالْبَاءُ فِي بِيَمِينِهِ لِلْآلَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ. وَالْيَمِينُ: وَصْفٌ لِلْيَدِ وَلَا يَدَ هُنَا وَإِنَّمَا هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ بِالْيَدِ الْيَمِينِ قَالَ الشَّاعِرُ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا ... تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِ

أَيْ بِقُدْرَةٍ. وَضَمِيرُ (مِنْهَا) يَعُودُ عَلَى مَذْكُورٍ فِي أَبْيَاتٍ قَبْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ تَمْثِيلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ فِي قَبْضَتِهِ وَمَنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّةً أَفْلَاكُهَا وَآفَاقُهَا بِيَدِهِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمُتَخَيَّلِ وَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ تَنْحَلُّ أَجْزَاؤُهَا إِلَى اسْتِعَارَتَيْنِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مضمحلة وَلَكِن نظامهما الْمَعْهُودَ اعْتَرَاهُ تَعْطِيلٌ، وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَن الله يَجْعَل السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ. فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَالْحَبْرُ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي: تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي كَمَا جزم بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ: «الْمُفْهِمُ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ فَلَمْ يَذْكُرُوا قَوْلَهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، وَلَعَلَّهُ مِنَ الرَّاوِي ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ. اهـ-، أَيْ فَهُوَ مِنْ إِدْرَاجِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رِوَايَةً عَنْ عُبَيْدَةَ. وَإِنَّمَا كَانَ ضَحِكُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً بِالْحَبْرِ فِي ظَنِّهِ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَأَنَّ لَهُ يَدًا وَأَصَابِعَ حَسَبَ اعْتِقَادِ الْيَهُودِ التَّجْسِيمَ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقِرَاءَةِ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ لِأَنَّ افْتِتَاحَهَا يَشْتَمِلُ عَلَى إِبْطَالِ مَا تَوَهَّمَهُ الْحَبْرُ وَنُظَرَاؤُهُ مِنَ الْجِسْمِيَّةِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ وَقَدْ رَدَّهُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فَلَمْ يَحْتَجِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِإِبْطَالِهِ وَاكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ الْيَهُودِيُّ تَوْزِيعًا عَلَى الْأَصَابِعِ إِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ عَنِ الْأَخْذِ وَالتَّصَرُّفِ.

[سورة الزمر (39) : آية 68]

وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ وَكَيْفَ وَهَذِهِ مَكِّيَّةٌ وَقِصَّةُ الْحَبْرِ مَدَنِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ آلِهَةً وَهُوَ يُؤَكِّدُ جُمْلَةَ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. [68] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 68] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) انْتِقَالٌ مِنْ إِجْمَالِ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى تَفْصِيلِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْوِيلٍ وَتَمْثِيلٍ لِمَجْمُوعِ الْأَحْوَالِ يَوْمَئِذٍ مِمَّا يُنْذِرُ الْكَافِرَ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنَ وَيُذَكِّرُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، ثُمَّ تَمْثِيلُ إِزْجَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وَسَوْقِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَالْجُمْلَةُ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ الْعَطْفِ ظَاهِرَةٌ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ وَقَوْلِهِ: فَصَعِقَ مَجَازًا لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) أَيْ وَالْحَالُ قَدْ نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي فِعْلَيْ (نُفِخَ وصعق) مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِحَدِيثِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ إِذْ هُوَ مِيقَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ مَوْتِ كُلِّ حَيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَالصُّوَرُ: بُوقٌ يُنَادَى بِهِ الْبَعِيدُ الْمُتَفَرِّقُ مِثْلُ الْجَيْشِ، وَمِثْلُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يُنَادُونَ بِهِ: لِلصَّلَاةِ الْجَامِعَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا نِدَاءُ الْخَلْقِ لِحُضُورِ الْحَشْرِ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي الْأَنْعَامِ [73] . وَهُوَ عَلَامَةٌ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ، فَالْأَحْيَاءُ يُصْعَقُونَ فَيَمُوتُونَ (كَمَا يَمُوتُ الْمَفْزُوعُ) بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، وَالْأَمْوَاتُ يُصْعَقُونَ اضْطِرَابًا تَدِبُّ بِسَبَبِهِ فِيهِمُ الْحَيَاةُ فَيَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا نُفِخَتِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ حَلَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُمْ عَلَى مِثَالِ مَا بَلِيَ مِنْ

أَجْسَادِهِمُ الَّتِي بَلِيَتْ، أَوْ حَلَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ بَاقِيَةً غَيْرَ بَالِيَةٍ كَأَجْسَادِ الَّذِينَ صُعِقُوا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ زَمَنٌ تبلى فِيهِ جَمِيع الْأَجْسَادُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ، أَيْ إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ صَعْقِهِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَرْوَاحُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة النَّمْل [87] وَيَوْمَ يُنْفَخُ «1» فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. وثُمَّ تُؤْذِنُ بِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّهَا عَاطِفَةُ جُمْلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تُفِيدَ مَعَ ذَلِكَ الْمُهْلَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وأُخْرى صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَفْخَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ نَفْخَةُ مُخَالِفٍ تَأْثِيرُهَا لِتَأْثِيرِ النَّفْخَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأُولَى نَفْخَةُ إِهْلَاكٍ وَصَعْقٍ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ إِحْيَاءٍ وَذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الصَّوْتَيْنِ أَوْ بِاخْتِلَافِ أَمْرَيِ التَّكْوِينِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَة النَّمْل [87] وَيَوْمَ يُنْفَخُ «2» فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ لِأَنَّ تِلْكَ فِي غَرَضِ الْمَوْعِظَةِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي غَرَضِ عَظَمَةِ شَأْنِ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ وصف النفخة بالواحدة فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [13، 15] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَذُكِرَتْ هُنَا نَفْخَتَانِ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَفْهُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَهُمُ الَّذِينَ صُعِقُوا صَعْقَ مَمَاتٍ وَصَعْقَ اضْطِرَابٍ يُهَيَّأُ لِقَبُولِ الْحَيَاةِ عِنْدَ النَّفْخَةِ. وَإِذا لِلْمُفَاجَأَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سُرْعَةِ حُلُولِ الْحَيَاةِ فِيهِمْ وَقِيَامِهِمْ إِثْرَهُ وقِيامٌ جَمْعُ قَائِمٍ. وَجُمْلَةُ يَنْظُرُونَ حَالٌ. وَالنَّظَرُ: الْإِبْصَارُ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ حَيُوا حَيَاةً كَامِلَةً لَا غِشَاوَةَ مَعَهَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ، أَيْ لَا دَهَشَ فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

_ (1، 2) فِي المطبوعة [التونسية] (وَنفخ) ، وَهُوَ خطأ.

[سورة الزمر (39) : الآيات 69 إلى 70]

فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [19] ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ نَظَرَ الْمُقَلِّبِ بَصَرَهُ الْبَاحِثَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّظْرَةِ، أَو الِانْتِظَار. [69- 70] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 69 إِلَى 70] وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) صَوَّرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ جَلَالَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ وَجَمَالَهُ أَبْدَعَ تَصْوِيرٍ وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ الضِّمْنِيِّ فَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] أَنَّهُمْ قِيَامٌ عَلَى قَرَارٍ فَإِنَّ الْقِيَامَ يَسْتَدْعِي مَكَانًا تَقُومُ فِيهِ تِلْكَ الْخَلَائِقُ وَهُوَ أَرْضُ الْحَشْرِ وَهِيَ السَّاهِرَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [13، 14] : فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ النَّقِيَّةُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَرْضَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا قَدِ اضْمَحَلَّتْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: 48] . وَإِشْرَاقُ الْأَرْضِ انْتِشَارُ الضَّوْءِ عَلَيْهَا، يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ، وَلَا يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ فِي سُورَةِ ص [18] . وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَى الرَّبِّ إِضَافَةُ تَعْظِيمٍ لِأَنَّهُ مُنْبَعِثٌ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النُّورِ [35] . فإضافة نور إِلَى الرَّبِّ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِلْمُضَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَاف: 73] كَمَا أَنَّ إِضَافَةَ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيِرِ الْأَرْضِ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِنُورٍ خَاصٍّ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهَا لَا بِسُطُوعِ مِصْبَاحٍ وَلَا بِنُورِ كَوْكَبِ شَمْسٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَ النُّورُ نُورًا ذَاتِيًّا لِتِلْكَ الْأَرْضِ كَانَ إِشَارَةً إِلَى خُلُوصِهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَعْمَالِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْدَاثِ حَقٌّ وَكَمَالٌ فِي بَابِهِ لِأَنَّ عَالَمَ الْأَنْوَارِ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَالَمَ الْأَرْضِيَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ نَيِّرًا بِذَاتِهِ بَلْ كَانَ نُورُهُ مُقْتَبَسًا مِنْ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ لَيْلًا كَانَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَخْلُوقَاتِ

خَلِيطًا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَهَذَا يُغْنِي عَنْ جَعْلِ النُّورِ مُسْتَعَارًا لِلْعَدْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ كِنَايَةً، وَلَوْ حُمِلَ النُّورُ عَلَى مَعْنَى الْعَدْلِ لَكَانَ أَقَلَّ شُمُولًا لِأَحْوَالِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ وَهُوَ يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَقَدْ ذَهَبَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ طَرَائِقَ شَتَّى. والْكِتابُ تَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ وُضِعَتِ الْكُتُبُ وَهِيَ صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ أُحْضِرَتْ لِلْحِسَابِ بِمَا فِيهَا من صَالح وسيّىء. وَالْوَضْعُ: الْحَطُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِحْضَار. ومجيء النبيئين لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] . وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُوَ الشَّاهِدُ، قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ فِي سُورَةِ ق [21] . وَالْمُرَادُ الشُّهَدَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] أَيْ قُضِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ كُتُبَ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْعِبَادِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ وَيَكُونُ إِحْضَارُهَا شَاهِدَةً عَلَى الْأُمَمِ بِتَفَاصِيلِ مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَزْعُمُوا أَنَّهُمْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الْأَحْكَامُ. وَقَدْ صَوَّرَتِ الْآيَةُ صُورَةَ الْمَحْكَمَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ بِنُورِ الْعَدْلِ، وَصَدْرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَحْكُومُ فِيهِمْ مِنْ كَرَامَةٍ وَنَذَالَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ صَدَرَ الْقَضَاءُ فِيهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ وَهُوَ مُسَمَّى الْحَقِّ، فَمِنَ الْقَضَاءِ مَا هُوَ فَصْلٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ وَمَظْلُومٍ وَمُعْتَدٍ وَمُعْتَدَى عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُعْتَقَدَاتِ وَاخْتِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النَّحْل: 124] .

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 72]

وَمِنَ الْقَضَاءِ الْقَضَاءُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا هِيَ بِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ. فَقَضَاءُ اللَّهِ هُوَ الْقَضَاءُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَنْصَافِ الْمُتَدَاعِينَ كَقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا عَلَى سُلُوكِ الدَّاعِرِينَ كَقَضَاءِ وَالِي الشُّرْطَةِ، وَلَا عَلَى مُرَاقَبَةِ الْمُغِيرِينَ كَقَضَاءِ وَالِي الْحِسْبَةِ، وَلَكِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى كُلِّ نفس فِيمَا اعْتَدَتْ وَفِيمَا سَلَكَتْ وَفِيمَا بَدَّلَتْ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا اخْتَلَتْ بِهِ مِنْ عَمَلٍ وَبِمَا أَضْمَرَتْهُ مِنْ ضَمَائِرَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَإِلَى ذَلِكَ تُشِيرُ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ فِي الْآيَةِ: مَرْتَبَةُ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَمَرْتَبَةُ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وَمَرْتَبَةُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ. وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا لَا نَقْصَ فِيهِ عَنِ الْحَقِّ فِي إِعْطَائِهِ وَلَا عَنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا عَمِلَتْ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ جَزَاء مَا عملت لظُهُور أَن مَا عَمِلَهُ الْمَرْءُ لَا يُوَفَّاهُ بَعْدَ أَنْ عَمِلَهُ وَإِنَّمَا يُوَفَّى جَزَاءَهُ. وَالْقَوْلُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَاضَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ، وَوُضِعَ، وَجَاء، وَوُفِّيَتْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر: 68] . [71- 72] [سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 71 إِلَى 72] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) هَذَا تَنْفِيذُ الْقَضَاءِ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: 69] وَقَوْلِهِ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر: 70] ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَنَتِيجَتَهُ إِيدَاعُ الْمُجْرِمِينَ فِي الْعِقَابِ

وَإِيدَاعُ الصَّالِحِينَ فِي دَارِ الثَّوَابِ. وَابْتُدِئَ فِي الْخَبَرِ بِذِكْرِ مُسْتَحِقِّي الْعِقَابِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ هُوَ مَقَامُ إِعَادَةِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْهِيبِ لِلَّذِينِ لَمْ يَتَّعِظُوا بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِظَاتِ مِثْلَ هَذِهِ فَأَمَّا أَهْلُ الثَّوَابِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ فَمَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ تَكْرِيرُ بِشَارَةٍ وَثَنَاءٍ. وَالسَّوْقُ: أَنْ يَجْعَلَ الْمَاشِي مَاشِيًا آخَرَ يَسِيرُ أَمَامَهُ وَيُلَازِمُهُ، وَضِدُّهُ الْقَوْدُ، وَالسَّوْقُ مُشْعِرٌ بِالْإِزْعَاجِ وَالْإِهَانَةِ، قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الْأَنْفَال: 6] . وَالزُّمَرُ: جَمْعُ زُمْرَةٍ، وَهِيَ الْفَوْجُ مِنَ النَّاسِ الْمَتْبُوعِ بِفَوْجٍ آخَرَ، فَلَا يُقَالُ: مَرَّتْ زُمْرَةٌ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَتْبُوعَةً بِأُخْرَى، وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي مَدْلُولُهَا شَيْءٌ مُقَيَّدٌ. وَإِنَّمَا جُعِلُوا زُمَرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ كُفْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الْمَقْصُودِينَ بِهَذَا الْوَعِيدِ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ تَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَمَا يُخَالِطُهُ مِنْ حَدَبٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ فَظَاظَةٍ، وَمِنْ مُحَايِدَةٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَذًى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمْ جَمِيعَ أَهْلِ الشِّرْكِ كَمَا تَقْتَضِيهِ حِكَايَةُ الْمَوْقِفِ مَعَ قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ كَانَ تَعَدُّدُ زُمَرِهِمْ عَلَى حَسَبِ أَنْوَاعِ إِشْرَاكِهِمْ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وإِذا ظَرْفٌ لِزَمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ يُضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا، أَيْ سِيقُوا سَوْقًا مُلَازِمًا لَهُم بشدته مُتَّصِل بِزَمَنِ مَجِيئِهِمْ إِلَى النَّارِ. وَجُمْلَةُ فُتِحَتْ جَوَابُ إِذا لِأَنَّهَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَأَغْنَى ذِكْرُ إِذا عَنِ الْإِتْيَانِ بِ- (لَمَّا) التَّوْقِيتِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، أَيْ وَكَانَتْ مُغْلَقَةً لِتُفْتَحَ فِي وُجُوهِهِمْ حِينَ مَجِيئِهِمْ فَجْأَةً تَهْوِيلًا وَرُعْبًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فُتِّحَتْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفَتْحِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ. وَالْخَزَنَةُ: جَمْعُ خَازِنٍ وَهُوَ الْوَكِيلُ وَالْبَوَّابُ غَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَازِنِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لِخَزْنِ الْمَالِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ بَعْدَهُ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِ رُسُلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ التَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: 24] ، وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ الرِّسَالَةِ وَالْكِتَابِ لِأَنَّ الْقَارِئَ يَتْلُو بَعْضَ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَأَصْلُ الْآيَاتِ: الْعَلَامَاتُ مِثْلُ آيَاتِ الطَّرِيقِ. وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَقْوَالُ الْمُوحَى بِهَا إِلَى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْقُرْآنِ، وَأَخَصُّهَا بِاسْمِ الْآيَاتِ هِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا اسْتَكْمَلَتْ كُنْهَ الْآيَاتِ بِاشْتِمَالِهَا عَلَى عِظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَإِذْ هِيَ مُعْجِزَاتٌ بِنَظْمِهَا وَلَفْظِهَا، وَمَا عَدَاهُ يُسَمَّى آيَاتٌ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ الَّذِي أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ مَا فِيهِ دَلَائِلُ نَظَرِيَّةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَنَحْوِهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ. وَأُسْنِدَتِ التِّلَاوَةُ إِلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. وَإِضَافَةُ (يَوْمِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ فِيهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» فَالْإِضَافَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّعْرِيفِ بِ (أَلْ) الْعَهْدِيَّةِ. وَجَوَابُهُمْ بِحَرْفِ بَلى إِقْرَارٌ بِإِبْطَالِ الْمَنْفِيِّ وَهُوَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ وَتَبْلِيغُهُمْ فَمَعْنَاهُ إِثْبَاتُ إِتْيَانِ الرُّسُلِ وَتَبْلِيغِهِمْ. وَكلمَة الْعَذابِ هِيَ الْوَعِيدُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: 31] أَيْ تَحَقَّقَتْ فِينَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي كَلِمَةُ الْعَذابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةٍ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَيْ كَلِمَاتُ.

[سورة الزمر (39) : آية 73]

وَمَحَلُّ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ مَا طُوِيَ فِي الْكَلَامِ مِمَّا اقْتَضَى أَنْ تَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ بإعراضهم من الْإِصْغَاءِ لِأَمْرِ الرُّسُلِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ تَكَبَّرْنَا وَعَانَدْنَا فَحَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ قَبِيلِ جَوَابِ الْمُتَنَدِّمِ الْمَكْرُوبِ فَإِنَّهُ يُوجِزُ جَوَابَهُ وَيَقُولُ لِسَائِلِهِ أَوْ لَائِمِهِ: الْأَمْرُ كَمَا تَرَى. وَلَمْ يُعْطَفْ فِعْلُ قالُوا عَلَى مَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي مَعْرِضِ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ انْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِلَى قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] . وَفِعْلُ قِيلَ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ إِذِ الْقَائِلُ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، هُمْ خَزَنَتُهَا. وَدُخُولُ الْبَابِ: وُلُوجُهُ لِوُصُولِ مَا وَرَاءَهُ قَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [الْمَائِدَة: 23] أَيْ لَجُّوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَهِيَ أَرِيحَا. وَالْمَثْوَى: مَحَلُّ الثَّوَاءِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جَهَنَّمُ وَوُصِفُوا بِ الْمُتَكَبِّرِينَ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ تَكَبُّرًا عَنْ أَنْ يَتْبَعُوا وَاحِدًا مِنْهُم. [73] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 73] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) أُطْلِقَ عَلَى تَقْدِمَةِ الْمُتَّقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ فِعْلُ السُّوقِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ ل سِيقَ [الزمر: 71] الْأَوَّلِ، وَالْمُشَاكَلَةُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ، وَهِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا إِلَّا الْمُشَابَهَةُ الْجُمْلِيَّةُ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَيْهَا مُجَانَسَةُ اللَّفْظِ. وَجَعْلُهُمْ زُمَرًا بِحَسَبَ مَرَاتِبِ التَّقْوَى. وَالْوَاوُ فِي جُمْلَةِ وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَاوُ الْحَالِ، أَيْ حِينَ جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِّحَتْ

[سورة الزمر (39) : آية 74]

أَبْوَابُهَا فَوَجَدُوا الْأَبْوَابَ مَفْتُوحَةً عَلَى مَا هُوَ الشَّأْنُ فِي اقْتِبَالِ أَهْلِ الْكَرَامَةِ. وَقَدْ وَهِمَ فِي هَذِهِ الْوَاوِ بَعْضُ النُّحَاةِ مِثْلُ ابْنِ خَالَوَيْهِ وَالْحَرِيرِيِّ وَتَبِعَهُمَا الثَّعْلَبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَزَعَمُوا أَنَّهَا وَاوٌ تَدْخُلُ عَلَى مَا هُوَ ثَامِنٌ إِمَّا لِأَنَّ فِيهِ مَادَّةَ ثَمَانِيَةٍ كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْف: 22] ، فَقَالُوا فِي وَفُتِحَتْ أَبْوابُها جِيءَ بِالْوَاوِ لِأَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ثَامِنٌ فِي التَّعْدَادِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: 112] فَإِنَّهُ الْوَصْفُ الثَّامِنُ فِي التَّعْدَادِ وَوُقُوعُ هَذِهِ الْوَاوَاتِ مُصَادَفَةٌ غَرِيبَةٌ، وَتَنَبُّهُ أُولَئِكَ إِلَى تِلْكَ الْمُصَادَفَةِ تَنَبُّهٌ لِطَيْفٌ وَلَكِنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ بَلْهَ بَلَاغَتِهِ، وَقَدْ زَيَّنَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ» ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [112] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [22] . وإِذا هُنَا لِمُجَرَّدِ الزَّمَانِ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى زَمَنِ مَجِيئِهِمْ إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، أَيْ خَلَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِحْفَافِهِمْ عِنْدَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، كَحَالَةِ مَنْ يَهْدِي الْعَرُوسَ إِلَى بَيْتِهَا فَإِذَا أَبْلَغَهَا بَابَهُ خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَيْتِهَا، كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا مَنْزِلُكُمْ فَدُونَكُمُوهُ، فَتَلَقَّتْهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ. وطِبْتُمْ دُعَاءٌ بِالطِّيبِ لَهُمْ، أَيِ التَّزْكِيَةِ وَطِيبِ الْحَالَةِ، وَالْجُمْلَةُ إِنْشَاءُ تَكْرِيمٍ وَدُعَاءٍ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي فُتِحَتْ هُنَا كَالْخِلَافِ فِي نَظِيرِهِ الْمَذْكُور آنِفا. [74] [سُورَة الزمر (39) : آيَة 74] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) عَطْفُ هَذَا الْكَلَامِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ غَيْرُ جَوَابٍ لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ بَلْ حَمِدُوا اللَّهَ عَلَى مَا مَنَحَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِهِ بِعُنْوَانِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَمَّا كَانُوا أَصْحَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ جَعَلُوا وَعْدَ الْعَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ وَعْدًا لَهُمْ لِتَحَقُّقِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ الْوَعْدُ فِيهِمْ. وَمَعْنَى صَدَقَنا حَقَّقَ لَنَا وَعْدَهُ.

وَقَوْلُهُ: أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ كَلَامٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ لِمَنْ وَرِثَ الْمُلْكَ قَالَ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: 105] فَعَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ مُرَادِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُخْتَلِفِي اللُّغَاتِ بِهَذَا التَّرْكِيبِ الْعَرَبِيِّ الدَّالِّ عَلَى مَعَانِي مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ لُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ نَطَقُوا بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ أَلْهَمَهُمْ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى. وَلَفْظُ الْأَرْضَ جَارٍ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْكِيبِ التَّمْثِيلِيِّ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ اضْمَحَلَّتْ أَوْ بُدِّلَتْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَرْضَ مُسْتَعَارًا لِلْجَنَّةِ لِأَنَّهَا قَرَارُهُمْ كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ قَرَارُ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى. وَإِطْلَاقُ الْإِيرَاثِ اسْتِعَارَةٌ تَشْبِيهًا لِلْإِعْطَاءِ بِالتَّوْرِيثِ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ تَعَبِ الِاكْتِسَابِ. وَالتَّبَؤُّ: السُّكْنَى وَالْحُلُولُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَنَقَّلُونَ فِي الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ تَفَنُّنًا فِي النَّعِيمِ. وَأَرَادُوا بِ الْعامِلِينَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ عَامِلِي الْخَيْرِ، وَهَذَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْحَقَائِقِ فَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ الْكَامِلَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ شَوْبِ النَّقَائِصِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ وَصَفَتْ مَصِيرَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَصِيرَ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَسَكَتَتْ عَنْ مَصِيرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي الَّذِينَ لَمْ يَلْتَحِقُوا بِالْمُتَّقِينَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ وَصْفِ رِجَالٍ مِنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ إِلَّا عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْكَبَائِرَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا كَانَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَقَعُوا فِيهَا فَإِذَا وَقَعُوا فِيهَا فَعَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ، فَإِذَا مَاتُوا غَيْرَ تَائِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْصِي لَهُمْ حَسَنَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَطَيِّبَاتِ نَوَايَاهُمْ فَيُقَاصُّهُمْ بِهَا إِنْ شَاءَ، ثُمَّ هُمْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ يَقْتَرِبُونَ مِنَ الْعِقَابِ بِمِقْدَارِ اقْتِرَابِهِمْ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي وَفْرَةِ الْمَعَاصِي فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نُبْذَةٌ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

[سورة الزمر (39) : آية 75]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 75] وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّتِي عُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ حَفُّ الْمَلَائِكَةِ حَوْلَ الْعَرْشِ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ إِيذَانًا بِأَنَّهَا رُؤْيَةُ دُنُوٍّ مِنَ الْعَرْشِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَذَلِكَ تَكْرِيمٌ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَاهُ مَوْكِبُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ. وَالْحَفُّ: الْإِحْدَاقُ بِالشَّيْءِ وَالْكَوْنُ بِجَوَانِبِهِ. وَجُمْلَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ حَالٌ، أَيْ يَقُولُونَ أَقْوَالًا تَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ مُلَابَسَةً لِحَمْدِهِمْ إِيَّاهُ. فَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ تَتَعَلَّقُ بِ يُسَبِّحُونَ. وَفِي اسْتِحْضَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ رَبِّهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُرْبَهُمْ مِنَ الْعَرْشِ تَرْفِيعٌ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُلَازِمَةِ لِلْخَلَائِقِ. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: 74] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ قَوْلٍ آخَرَ لِقَائِلِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَوْلِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْمَسُوقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى عَدْلِ قَضَائِهِ وَجَمِيعِ صِفَاتِ كَمَالِهِ.

40- سورة المؤمن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 40- سُورَةُ الْمُؤْمِنِ وَرَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي السُّنَّةِ «حم الْمُؤْمِنِ» رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَرَأَ حم الْمُؤْمِنِ إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غَافِر: 1- 3] ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا» الْحَدِيثَ. وَبِذَلِكَ اشْتُهِرَتْ فِي مَصَاحِفِ الْمَشْرِقِ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «الْجَامِعِ» . وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى بِوَجْهٍ صَرِيحٍ. وَالْوَجْهُ فِي إِعْرَابِ هَذَا الِاسْمِ حِكَايَةُ كَلِمَةِ حم سَاكِنَةَ الْمِيمِ بِلَفْظِهَا الَّذِي يُقْرَأُ. وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى لَفْظِ «الْمُؤْمِنِ» بِتَقْدِيرِ: سُورَةُ حم ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ أَوْ لَفْظِ الْمُؤْمِنِ وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ الطَّوْلِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهَا: ذِي الطَّوْلِ [غَافِر: 3] وَقَدْ تُنُوسِيَ هَذَا الِاسْمُ. وَتُسَمَّى سُورَةُ غَافِرٍ لِذِكْرِ وَصْفِهِ تَعَالَى: غافِرِ الذَّنْبِ [غَافِرِ: 3] فِي أَوَّلِهَا. وَبِهَذَا الِاسْمِ اشْتُهِرَتْ فِي مَصَاحِفِ الْمَغْرِبِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنِ الْحَسَنِ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ [غَافِر: 55] ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَوْقَاتِهَا. وَيَرَى أَنَّ فَرْضَ صَلَوَاتٍ خَمْسٍ وَأَوْقَاتِهَا مَا وَقَعَ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَفْرُوضُ بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ ضَعِيفٍ عَلَى ضَعِيفٍ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ الصَّلَوَاتِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُنَزَّهُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَشَذُّ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: 56] نَزَلَتْ فِي يَهُودٍ مِنَ الْمَدِينَةِ جَادَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [4] مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْمُرَادُ بِهِمُ: الْمُشْرِكُونَ. وَهَذِهِ السُّورَةُ جُعِلَتِ السِّتِّينَ فِي عِدَادِ تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الزُّمَرِ وَقَبْلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ وَهِيَ أَوَّلُ سُوَرِ (آلِ حم) نُزُولًا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَقْرُوءَةً عَقِبَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، أَيْ سَنَةَ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ آيَةَ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غَافِر: 28] حِينَ آذَى نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا اشْتَدَّ أَذَى قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ. وَالسُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِكَلِمَةِ حم سَبْعُ سُوَرٍ مرتبَة فِي الْمُصحف عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي النُّزُولِ وَيُدْعَى مَجْمُوعُهَا «آلَ حم» جَعَلُوا لَهَا اسْمَ (آلِ) لِتَآخِيهَا فِي فَوَاتِحِهَا. فَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَلِمَةٌ (آلِ) تُضَافُ إِلَى ذِي شَرَفٍ (وَيُقَالُ لِغَيْرِ الْمَقْصُودِ تَشْرِيفُهُ أَهْلُ فُلَانٍ) قَالَ الْكُمَيْتُ: قَرَأْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً ... تَأَوَّلَهَا مِنَّا فَقِيهٌ وَمُعْرِبُ يُرِيدُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «حم عسق» قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلِذَلِكَ عَزَّزَهُ بِقَوْلِهِ: تَأَوَّلَهَا مِنَّا فَقِيهٌ وَمُعْرِبُ. وَرُبَّمَا جُمِعَتِ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِكَلِمَةِ حم فَقِيلَ الْحَوَامِيمَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ عَلَى زِنَةِ فَعَالِيلَ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلٍ وَزْنًا عَرَضَ لَهُ مِنْ تَرْكِيبِ اسْمَيِ الْحَرْفَيْنِ: حَا، مِيمٍ، فَصَارَ كَالْأَوْزَانِ الْعَجَمِيَّةِ مثل (قابيل) ، و (راحيل) وَمَا هُوَ بِعَجَمِيٍّ لِأَنَّهُ وَزْنٌ عَارِضٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عَلَى فَعَالِيلٍ يَطَّرِدُ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ جَمَعُوا حم عَلَى حَوَامِيمَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَنُسِبَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ

أغراض هذه السورة

يَثْبُتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَمِثْلُهُ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِكَلِمَةِ طس أَوْ طسم جَمَعُوهَا عَلَى طَوَاسِينَ بِالنُّونِ تَغْلِيبًا. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَبْيَاتًا لَمْ يُسَمِّ قَائِلَهَا: حَلَفَتُ بِالسَّبْعِ الْأُلَى قَدْ طَوَّلَتْ ... وَبِمِئِينَ بَعْدَهَا قَدْ أُمِّئَتْ وَبِثَمَانٍ ثُنِّيَتْ وَكُرِّرَتْ ... وَبِالطَّوَاسِينِ اللَّوَاتِي ثُلِّثَتْ وَبِالْحَوَامِيمِ اللَّوَاتِي سُبِّعَتْ ... وَبِالْمُفَصَّلِ الَّتِي قَدْ فُصِّلَتْ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ أَنَّ قَوْلَ الْعَامَّةِ الْحَوَامِيمَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَبِعَهُمَا أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ. وَقَدْ عُدَّتْ آيُهَا أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَخَمْسًا وَثَمَانِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ، وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَغْرَاضًا مِنْ أُصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَابْتُدِئَتْ بِمَا يَقْتَضِي تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ فِي صِدْقِ الْقُرْآنِ كَمَا اقْتَضَاهُ الْحَرْفَانِ المقطّعان فِي فاتحتها كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [1] . وَأُجْرِيَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ مَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَكَانَتْ فَاتِحَة السُّورَة مِثْلَ دِيبَاجَةِ الْخُطْبَةِ مُشِيرَةً إِلَى الْغَرَضِ مِنْ تَنْزِيلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيلِ هَذَا الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ بَيِّنَةٌ لَا يَجْحَدُهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهَا حَسَدًا، وَأَنَّ جِدَالَهُمْ تَشْغِيبٌ وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ بِذِكْرِهِمْ إِجْمَالًا، ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى آثَارِ اسْتِئْصَالِهِمْ وَضَرْبُ الْمَثَلِ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَمَوْعِظَةُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ قَوْمَهُ بِمَوَاعِظَ تُشْبِهُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ.

[سورة غافر (40) : آية 1]

وَالتَّنْبِيهُ عَلَى دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِجْمَالًا. وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالتَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ لِيَشْكُرَهُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِهِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ. وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا يَلْقَوْنَ مِنْ هَوْلِهِ وَمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَتَوَعُّدُهُمْ بِأَنْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَبِأَن كبراءهم يتبرؤون مِنْهُمْ. وَتَثْبِيتُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْقِيقِ نَصْرِ هَذَا الدِّينِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوَصْفُ كَرَامَتِهِمْ وَثَنَاءُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَوَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنِ إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غَافِر: 1، 3] وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يصبح» . [1] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّ مُعْظَمَهَا وَقَعَ بَعْدَهُ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لِتَحَدِّي الْمُنْكِرِينَ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي أَسْمَاؤُهَا مَمْدُودَةُ الْآخِرِ يُنْطَقُ بِهَا فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَقْصُورَةً بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا لِأَنَّهَا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ مِثْلُ اسْمِ (حَا) فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَاسْمِ (رَا) فِي (الر) وَاسْمِ (يَا) فِي (يس) . [2] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الزُّمَرِ. وَيُزَادُ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْخَبَرِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَتَجْرِيدُ الْخَبَرِ عَنِ

[سورة غافر (40) : آية 3]

الْمُؤَكِّدِ إِخْرَاجٌ لَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِجَعْلِ الْمُنْكِرِ كَغَيْرِ الْمُنْكِرِ لِأَنَّهُ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا إِنْ تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ عَنْ إِنْكَارِهِ فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُنكر ذَلِك. [3] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 3] غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سِتَّةُ نُعُوتٍ مَعَارِفُ، بَعْضُهَا بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَبَعْضُهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُعَرَّفٍ بِالْحَرْفِ. وَوَصْفُ اللَّهِ بِوَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: 2] هُنَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُنْكِرِي تَنْزِيلِ الْكِتَابِ مِنْهُ مَغْلُوبُونَ مَقْهُورُونَ، وَبِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ نُفُوسُهُمْ فَهُوَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَمْزٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَلَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا يَعْلَمُ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرَتِهَا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا وَصْفُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] عَلَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى فِي الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ مَا تَأَتَّى فِي بَعْضِ احْتِمَالَاتِ وَصْفِ الْحَكِيمِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. وَيَتَأَتَّى فِي الْوَصْفَيْنِ أَيْضًا مَا تَأَتَّى هُنَالك من طريقي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَفِي ذِكْرِهِمَا رَمَزٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَأَنَّهُ لَا يُجَارِي أَهْوَاءَ النَّاسِ فِيمَنْ يُرَشِّحُونَهُ لِذَلِكَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وَفِي إِتْبَاعِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ بِأَوْصَافِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ تَرْشِيحٌ لِذَلِكَ التَّعْرِيضِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ أَذْنَبْتُمْ بِالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ تَدَارُكَ ذَنْبِكُمْ فِي مَكِنَتِكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ مُقَرَّرٌ اتِّصَافُهُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ وَبِغُفْرَانِ الذَّنْبِ فَكَمَا غَفَرَ لِمَنْ تَابُوا مِنَ الْأُمَمِ فَقَبِلَ إِيمَانَهَمْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَتُوبُ مِنْكُمْ. وَتَقْدِيمُ غافِرِ عَلَى قابِلِ التَّوْبِ مَعَ أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ فِي الْحُصُولِ لِلِاهْتِمَامِ

بِتَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِهِ لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِتَدَارُكِ أَمْرِهِ فَوَصْفُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ، وَصِفَتَا شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْهِيبِ. وَالتَّوْبُ: مَصْدَرُ تَابَ، وَالتَّوْبُ بِالْمُثَنَّاةِ وَالثَّوْبُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْأَوْبُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالِهِ بَعْدَ الِابْتِعَادِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ صِفَةُ وَقابِلِ التَّوْبِ بِالْوَاوِ عَلَى صِفَةِ غافِرِ الذَّنْبِ وَلَمْ تُفْصَلْ كَمَا فُصِلَتْ صِفَتَا الْعَلِيمِ [غَافِر: 2] غافِرِ الذَّنْبِ وَصِفَةُ شَدِيدِ الْعِقابِ إِشَارَةٌ إِلَى نُكْتَةٍ جَلِيلَةٍ وَهِيَ إِفَادَةُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمُذْنِبِ التَّائِبِ بَيْنَ رَحْمَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُ فَيَجْعَلَهَا لَهُ طَاعَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ بِهَا الذُّنُوبَ الَّتِي تَابَ مِنْهَا وَنَدِمَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيُصْبِحَ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا. وَهَذَا فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: شَدِيدِ الْعِقابِ إِفْضَاءٌ بِصَرِيحِ الْوَعِيدِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ مَجِيئَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [غَافِر: 2] يُفِيدُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ مُسْتَتْبِعَاتِ التَّرَاكِيبِ. وَالْمُرَادُ بِ غافِرِ وقابِلِ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِمَدْلُولَيْهِمَا فِيمَا مَضَى إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَيَغْفِرُ وَسَيَقْبَلُ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِيهِمَا مَقْطُوعٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ يَكْتَسِبُ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ الَّتِي تَزِيدُ تَقْرِيبَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ الْمَحْمَلُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ غَيْرَهُ هُنَا. وشَدِيدِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُضَافَةٌ لِفَاعِلِهَا، وَقَدْ وَقَعَتْ نَعْتًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ التَّعْرِيفَ الدَّاخِلَ عَلَى فَاعِلِ الصِّفَةِ يَقُومُ مَقَامَ تَعْرِيفِ الصِّفَةِ فَلَمْ يُخَالِفْ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْكَلَامِ مِنَ اتِّحَادِ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ فِي التَّعْرِيفِ وَاكْتِسَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ هُوَ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ طَرْدًا لِبَابِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ، وَسِيبَوَيْهِ يُجَوِّزُ اكْتِسَابَ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ إِلَّا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِنَّمَا هِيَ لِفَاعِلِهَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ أَصْلَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ أَنَّهُ كَانَ فَاعِلًا فَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ مُجَرَّدَ تَخْفِيفٍ لَفْظِيٍّ وَالْخَطْبُ سَهُلٌ. وَالطَّوْلُ يُطْلَقُ عَلَى سَعَةِ الْفَضْلِ وَسَعَةِ الْمَالِ، وَيُطلق على مُطلق الْقُدْرَةِ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» ، وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَقَرَّهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» وَجَعَلَهُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ،

[سورة غافر (40) : آية 4]

وَوُقُوعُهُ مَعَ شَدِيدِ الْعِقابِ وَمُزَاوَجَتُهَا بِوَصْفَيْ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لِيُشِيرَ إِلَى التَّخْوِيفِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مِنْ وَصْفِ شَدِيدِ الْعِقابِ، وَبِعَذَابِ الدُّنْيَا مِنْ وَصْفِ ذِي الطَّوْلِ كَقَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: 42] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الْأَنْعَام: 37] . وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَبِأَنَّ الْمَصِيرَ، أَيِ الْمَرْجِعَ إِلَيْهِ تَسْجِيلًا لِبُطْلَانِ الشِّرْكِ وَإِفْسَادًا لِإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ. فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ إِنْذَارًا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُجْرِيَتْ صِفَاتُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ أُثِيرَ فِي الْكَلَامِ الْإِطْمَاعُ وَالتَّخْوِيفُ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَشْعُرُوا بِأَنَّ الْمَصِيرَ إِمَّا إِلَى ثَوَابِهِ وَإِمَّا إِلَى عِقَابِهِ فَلْيَزِنُوا أَنْفُسَهُمْ لِيَضَعُوهَا حَيْثُ يَلُوحُ مِنْ حَالِهِمْ. وَتَقْدِيُمُ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ بِحَرْفَيْنِ: حَرْفِ لِينٍ، وَحَرْفٍ صَحِيحٍ مِثْلَ: الْعَلِيمِ، وَالْبِلَادِ، وَعِقَابِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ فَاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَى جَوَامِعِ أَغْرَاضِهَا وَيُنَاسِبُ الْخَوْضَ فِي تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ اعْتَزُّوا بِقُوَّتِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ زَائِلٌ عَنْهُمْ كَمَا زَالَ عَنْ أُمَمٍ أَشَدَّ مِنْهُمْ، فَاسْتَوْفَتْ هَذِهِ الْفَاتِحَةُ كَمَالَ مَا يُطْلَبُ فِي فَوَاتِحِ الْأَغْرَاضِ مِمَّا يُسَمَّى بَرَاعَةَ الْمَطْلَعِ أَوْ براعة الاستهلال. [4] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 4] مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: 2] الْمُقْتَضِي أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْشَأُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَقُولُوا: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي صِدْقِ نِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ لَمْ تُقْنِعْهُمْ دَلَائِلُ نُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا يُجَادِلُ فِي صِدْقِ الْقُرْآنِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَإِذْ قَدْ كَانَ كُفْرُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ أَمْرًا مَعْلُومًا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ

بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِنْهُ إِفَادَةَ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فِي فَائِدَةِ الْخَبَرِ لَا بِمَنْطُوقِهِ وَلَا بِمَفْهُومِهِ، فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحَصْرُ وَهُوَ: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَا يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ كَذَلِكَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا نَفْسَ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِكُفْرِهِمْ كُفْرُهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ، فَالْمَعْنَى: لَا عَجَبَ فِي جِدَالِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاء: 153] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنَ السَّابِقِينَ وَالْحَاضِرِينَ، أَيْ مَا الْجَدَلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، وَمُجَادَلَةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ مُجَادَلَةِ كُلِّ الْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالْأَعَمِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تُرِكَ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ هُنَا الْمُجَادَلَةُ بِالْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَمَعْنَى فِي آياتِ اللَّهِ فِي صِدْقِ آيَاتِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: 2] فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] ، عَلَى تَقْدِيرِ: فِي إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، فَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِإِفَادَةِ التَّكَرُّرِ مِثْلَ: سَافَرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ، وَهُمْ يَتَلَوَّنُونَ فِي الِاخْتِلَاقِ وَيُعَاوِدُونَ التَّكْذِيبَ وَالْقَوْلَ الزُّورَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] ، سِحْرٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: 110] ، بِقَوْلِ كاهِنٍ [الحاقة: 42] ، بِقَوْلِ شاعِرٍ [الحاقة: 41] لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنَ الْمُجَادَلَةِ تَوَرُّكُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَاتٍ كَمَا يَقْتَرِحُونَ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: 7] الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ لِتَعَلُّقِ فِي الظَّرْفِيَّةِ بِالْجِدَالِ، وَلِدُخُولِهِ عَلَى نَفْسِ الْآيَاتِ دُونَ أَحْوَالِهَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَحْوِي جَمِيعَ أَصْنَافِ الْجِدَالِ، وَجُعِلَ مَجْرُورُ الْحَرْفِ نَفْسَ الْآيَاتِ دُونَ تَعْيِينِ نَحْوِ صِدْقِهَا أَوْ وُقُوعِهَا أَوْ صِنْفِهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ: فِي آياتِ اللَّهِ جَامِعًا لِلْجَدَلِ بِأَنْوَاعِهِ

وَلِمُتَعَلِّقِ الْجَدَلِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَالْمُرَادُ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْظِيرُ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَالَ فِيهِمْ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ [غَافِر: 5] فَإِذَا أُرِيدَ الْجِدَالُ بِالْحَقِّ يُقَيَّدُ فِعْلُ الْجِدَالِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْفِيقٌ وَتَسَتُّرٌ عَنْ عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَاعْتِصَامٌ بالمكابرة فمجادلتهم بعد مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحَدِّي دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ وَبِذَلِكَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ فَائِدَةِ هَذَا وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ كُفَّارًا مَعْلُومٌ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فِي آيَاتِهِ، لِتَفْظِيعِ أَمْرِهَا بِالصَّرِيحِ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ الْجَلَالَةِ مُؤْذِنٌ بِتَفْظِيعِ جِدَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلِلتَّصْرِيحِ بِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ. وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ عَلَى مَضْمُونِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نَفْسِ مَنْ يَرَاهُمْ فِي مُتْعَةٍ وَنِعْمَةٍ أَنْ يَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَتْرُكُهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أَيْ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَمِقْدَارٌ مِنْ حِلْمِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ وَقْتًا مَا، أَوْ أَنَّ مَعْنَاهُ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا إِصْرَارًا عَلَى الْكُفْرِ فَلَا يُوهِمُكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ أَنَّا لَا نُؤَاخِذُهُمْ بِذَلِكَ. وَالْغُرُورُ: ظَنُّ أَحَدٍ شَيْئًا حَسَنًا وَهُوَ بِضِدِّهِ يُقَالُ: غَرَّكَ، إِذَا جعلك تظن السيّء حَسَنًا. وَيَكُونُ التَّغْرِيرُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِتَحْسِينِ صُورَةِ الْقَبِيحِ. وَالتَّقَلُّبُ: اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَاوُلِ مَحْبُوبٍ وَمَرْغُوبٍ. والْبِلادِ الْأَرْضُ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الدُّنْيَا كِنَايَةً عَنِ الْحَيَاةِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَغْرُرْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَعُمَّ كُلَّ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَغُرَّهُ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّهْيُ جَارِيًا

[سورة غافر (40) : آية 5]

عَلَى حَقِيقَةِ بَابِهِ، أَيْ مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْغُرُورُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: فَلَا يُغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ النَّهْيِ تَمْثِيلِيَّةً بِتَمْثِيلِ حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِبْطَائِهِ عِقَابَ الْكَافِرِينَ بِحَالِ مَنْ غَرَّهُ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ سَالِمين، كَقَوْلِه تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الْحجر: 3] . وَالْمَعْنَى: لَا يُوهِمَنَّكَ تَنَاوُلُهُمْ مُخْتَلَفَ النَّعْمَاءِ وَاللَّذَّاتِ فِي حَيَاتِهِمْ أَنَّنَا غَيْرُ مُؤَاخِذِينَهُمْ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي آيَاتِنَا، أَوْ لَا يُوهِمَنَّكَ ذَلِكَ أَنَّنَا لَا نَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ نُؤَاخِذْهُمْ بِهِ تَنْزِيلًا لِلْعَالِمِ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ فِي شِدَّةِ حُزْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَوَامِ كُفْرِهِمْ وَمُعَاوَدَةِ أَذَاهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: 42] ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ وَتَقَدَّمَتْ فِي آل عمرَان [196، 197] . [5] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 5] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) جُمْلَةُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: 4] بِاعْتِبَارِ التَّفْرِيعِ الْوَاقِعِ عَقِبَ هَاتِهِ الْجُمَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ، فَالْمَعْنَى: سَبَقَتْهُمْ أُمَمٌ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ كَمَا كَذَّبُوكَ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ رُسُلَهُمْ كَمَا جَادَلَكَ هَؤُلَاءِ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ رَأَيْتَ عِقَابِي إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِي إِمْهَالِهِمْ إِلَى أَنْ آخُذَهُمْ. وَالْأَحْزَابُ: جَمْعُ حِزْبٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ هُمْ سَوَاءٌ فِي شَأْنٍ: مِنِ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ عَادَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْأُمَمُ الَّذِينَ

كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ مُتَّفِقَةً فِي الدِّينِ، فَكُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ حِزْبٌ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا حِزْبًا أَيْضًا فَكَانُوا يَدِينُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ: يَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ، وَوُدٍّ، وَسُوَاعٍ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ حِزْبًا مُتَّفِقِينَ فِي الدِّينِ، فَعَادٌ حِزْبٌ، وَثَمُودُ حِزْبٌ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ حزب، وَقوم فِرْعَوْن حِزْبٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَمِيعًا اشْتَرَكُوا فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَإِنْ تَخَالَفَ بَعْضُ الْأُمَمِ مَعَ بَعْضِهَا فِي الْأَدْيَانِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَبْلَهُمْ ومِنْ بَعْدِهِمْ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ فِي الْكَلَامِ. وَالْهَمُّ: الْعَزْمُ. وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى الْمَعَانِي لِأَنَّ الْعَزْمَ فِعْلٌ نَفْسَانِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَعَانِي. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [التَّوْبَة: 74] ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ، فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى اسْمِ ذَاتٍ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُلَابِسُ الذَّاتَ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ [يُوسُف: 24] أَيْ هَمَّتْ بِمُضَاجَعَتِهِ. وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الذَّاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَهُمُّ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: لِيَأْخُذُوهُ إِن الْهَمَّ بِأَخْذِهِ، وَارْتِكَابُ هَذَا الْأُسْلُوبِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، وَمِثْلُهُ تَعَلُّقُ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ بِالْأَسْمَاءِ فِي ظَنَنْتُكَ جَائِيًا، أَيْ ظَنَنْتُ مَجِيئَكَ. وَالْأَخْذُ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ بِالْعِقَابِ وَالتَّعْذِيبِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ التَّنْكِيلِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: 10] وَيُقَالُ لِلْأَسِيرِ: أَخِيذٌ، وَلِلْقَتِيلِ: أَخِيذٌ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِيَشْمَلَ مُخْتَلَفَ مَا هَمَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهَا مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: 30] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ مِنَ الْكَفَرَةِ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ بَلْ تَجَاوَزُوا ذَلِك إِلَى غَايَة الْأَذَى مِنَ الْهَمِّ بِالْقَتْلِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ ثَمُودَ: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [النَّمْل: 49] . وَقَدْ تَآمَرَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ دَارِ النَّدْوَةِ لِيَقْتُلُوهُ أَنْ يَتَجَمَّعَ نَفَرٌ مِنْ جَمِيعِ عَشَائِرِهِمْ فَيَضْرِبُوهُ بِالسُّيُوفِ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَيْلَا يَسْتَطِيعَ

أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الْأَخْذَ بِثَأْرِهِ، فَأَخَذَ اللَّهُ الْأُمَمَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى هَمِّهِمْ بِرُسُلِهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ. وَيُفْهَمُ مِنْ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ إِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ هَمَّهُمْ بِقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُنْتَهَى أَمَدِ الْإِمْهَالِ لَهُمْ، فَإِذَا صَمَّمُوا الْعَزْمَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ كَمَا أَخَذَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ قَبْلَهُمْ حِينَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فَإِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا هَمُّوا بِقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْهِجْرَةِ ثُمَّ أَمْكَنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمُرَادُ بِ كُلُّ أُمَّةٍ كُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الْأَحْزَابِ الْمَذْكُورِينَ. وَضَمِيرُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ عَائِدٌ عَلَى كُلُّ أُمَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ: مِنْ تَعْدَادِ جَرَائِمِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْهَمِّ بِقَتْلِهِمْ وَالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ النَّازِلِ فِيهِمْ قَوْلُهُ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] بِحَالِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ سَوَاءً، لِيَنْطَبِقَ الْوَعِيدُ عَلَى حَالِهِمْ أَكْمَلَ انْطِبَاقٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْباطِلِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ جَادَلُوا مُلَابِسِينَ لِلْبَاطِلِ فَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْبَاءُ لِلْآلَةِ بِتَنْزِيلِ الْبَاطِلِ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ لِجِدَالِهِمْ فَيَكُونُ الظَّرْفُ لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ جادَلُوا. وَتَقْيِيدُ جادَلُوا هَذَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ بِالْباطِلِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَا أُطْلِقَ فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْإِدْحَاضُ: إِبْطَالُ الْحُجَّةِ، قَالَ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: 16] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ زَوَّرُوا الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَرَوَّجُوهُ بِالسِّفَسْطَةِ فِي صُورَةِ الْحُجَّةِ لِيُبْطِلُوا حُجَجَ الْحَقِّ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْنِيعًا لِكُفْرِهِمْ. وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ قَوْلَهُ: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ كَمَا فَرَّعَ قَوْلَهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: 4] عَلَى جُمْلَةِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4]

[سورة غافر (40) : آية 6]

فَيَجْرِي تَوْجِيهُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا عَلَى نَحْوِ مَا جَرَى مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ هُنَاكَ. وَالْأَخْذُ هُنَا: الْغَلَبُ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالِاسْتِفْهَامِ قَدْ شَاهَدَ ذَلِكَ الْأَخْذَ وَالْعِقَابَ وَإِنَّمَا بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاهَدَةِ آثَارِ ذَلِكَ الْأَخْذِ فِي مُرُورِ الْكَثِيرِ عَلَى دِيَارِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: 76] وَنَحْوُهُ، وَفِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ عَنْ نُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ وَتَوْصِيفِهِمْ، فَنَزَّلَ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ شَاهَدَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَحْقِيقٌ وَتَثْبِيتٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأَخَذْتُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ التَّعْرِيضُ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ بِتَنْبِيهِهِمْ عَلَى مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ عَمَّا حَلَّ بِنُظَرَائِهِمْ تَقْرِيرِيًّا لَهُمْ بِذَلِكَ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ عِقابِ تَخْفِيفًا مَعَ دَلَالَةِ الكسرة عَلَيْهَا. [6] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 6] وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ [غَافِر: 5] ، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ، أُولَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُشَبِّهَهُ لَمْ يُشَبِّهْهُ إِلَّا بِنَفْسِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْأَخْذَ الْمَأْخُوذَ مِنْ قَوْله: فَأَخَذْتُهُمْ [غَافِر: 5] ، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ بِهِ قَوْمَ نُوحٍ وَالْأَحْزَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ حَقَّتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعُلِمَ مِنْ تَشْبِيهِ تَحَقُّقِ كَلِمَاتِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِذَلِكَ

الْأَخْذِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ كَانَ تَحْقِيقًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، أَيْ تَصْدِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا جَمِيعُ الْكَافِرِينَ، فَالْكَلَامُ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْزَابِ الْأُمَمُ الْمَعْهُودَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ قِصَصُهَا فَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعَمَّ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ جَارِيًا عَلَى أَصْلِ التَّشْبِيهِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] وَنَظَائِرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] أَيْ مِثْلَ أَخْذِ قَوْمِ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى كُفَّارِ قَوْمِكَ، أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ إِذَا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ. وَ (كَلِمَاتُ اللَّهِ) هِيَ أَقْوَالُهُ الَّتِي أَوْحَى بِهَا إِلَى الرُّسُلِ بِوَعِيدِ الْمُكَذِّبِينَ، وعَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَعَلَّقُ بِ حَقَّتْ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلا من كَلِمَةُ رَبِّكَ بَدَلًا مُطَابِقًا فَيَكُونُ ضمير أَنَّهُمْ عَائِد إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ النَّارِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُعَاقِبِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِالِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ ذُرِّيَّةً مُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى طَرِيقَةِ كَثْرَةِ حَذْفِهَا قَبْلَ (أَنْ) . وَالْمَعْنَى: لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْإِفْرَادُ هُنَا مُسَاوٍ لِلْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِ (عَلَى) تَعَلَّقَ بِفِعْلِ حَقَّتْ وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ جِنْسًا صَادِقًا بِالْمُتَعَدِّدِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ أَزْمَانِ كَلِمَاتِ الْوَعِيدِ وَتَعَدُّدِ الْأُمَم المتوعّدة.

[سورة غافر (40) : آية 7]

[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 7] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ اقْتَضَاهُ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ الْوَعِيدِ الْمُؤْذِنِ بِذَمِّ الَّذِينَ كفرُوا إِلَى ذكر الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الْجَارِيَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ مِثْلُ الْكَلَامِ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ إِذِ الْجَمِيعُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، وَالْمُنَاسَبَةُ الْمُضَادَّةُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَالْمَقَالَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ وَعِيدِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ حَالِ الَّذِينَ لَا يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِهَا. وَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَائِفَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَوْصُوفَةً بِأَوْصَافٍ تَقْتَضِي رِفْعَةَ شَأْنِهِمْ تَذَرُّعًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الشَّرِيفَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَسْنَدَ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ لِعُمُومِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [5] وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِيهَا بَعْدَهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] . والَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِرَفْعِ الْعَرْشِ الْمُحِيطِ بِالسَّمَاوَاتِ وَهُوَ أَعْظَمُ السَّمَاوَاتِ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] . ومَنْ حَوْلَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ تَحْقِيقًا لِعَظَمَتِهِ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر: 75] ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِي عَدَدِهِمْ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] . وَالْإِخْبَارُ عَنْ صِنْفَيِ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ، فَقَدَّمَ لَهُ مَا فِيهِ

تَحْقِيقُ اسْتِجَابَةِ اسْتِغْفَارِهِمْ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ دَأْبُهُمُ التَّسْبِيحُ وَصِفَتُهُمُ الْإِيمَانُ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُسَبِّحُونَ ويُؤْمِنُونَ ويَسْتَغْفِرُونَ مُفِيدَةٌ لِتَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غَافِر: 8] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ [غَافِر: 9] إِلَخْ وَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَى تُجَدُّدِ الْإِيمَانِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَيُؤْمِنُونَ تَجَدُّدُ مُلَاحَظَتِهِ فِي نُفُوسِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَقْدٌ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ وَإِنَّمَا تُجَدُّدُهُ بِتَجَدُّدِ دَلَائِلِهِ وَآثَارِهِ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا فِي جَانِبِ الْمَلَائِكَةِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ حَالُ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ أَشْرَفِ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 161] . وَجُمْلَةُ رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً مُبَيِّنَةٌ لِ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِيهَا قَوْلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقَةُ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنا. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَسْبِيحًا مُصَاحِبًا لِلْحَمْدِ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ يُسَبِّحُونَ لِدَلَالَةِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ عَلَيْهِ. وَالْمرَاد ب لِلَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَافْتُتِحَ دُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي التَّضَرُّعِ وَأَرْجَى لِلْإِجَابَةِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ بِالثَّنَاءِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَعِلْمِهِ لِأَنَّ سَعَةَ الرَّحْمَةِ مِمَّا يُطْمِعُ بِاسْتِجَابَةِ الْغُفْرَانِ، وَسَعَةَ الْعِلْمِ تَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ إِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَمَعْنَى السَّعَةِ فِي الصِّفَتَيْنِ كَثْرَةُ تَعَلُّقَاتِهِمَا، وَذِكْرُ سَعَةِ الْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ يَقِينِهِمْ بِصِدْقِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِكَ وَوَحَّدُوكَ.

وَجِيءَ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِأُسْلُوبِ التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ النِّسْبَةِ لِمَا فِي تَرْكِيبِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ بِإِسْنَادِ السَّعَةِ إِلَى الذَّاتِ ظَاهِرًا حَتَّى كَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الَّتِي وَسِعَتْ، فَذَلِكَ إِجْمَالٌ يَسْتَشْرِفُ بِهِ السَّامِعُ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَجِيءُ بَعْدَهُ التَّمْيِيزُ الْمُبَيِّنُ لِنِسْبَةِ السَّعَةِ أَنَّهَا مِنْ جَانِبِ الرَّحْمَةِ وَجَانِبِ الْعِلْمِ، وَهِيَ فَائِدَةُ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ لِلتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ تَمْكِينًا لِلصِّفَةِ فِي النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: 4] . وَالْمُرَادُ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ وَسِعَا كُلَّ مَوْجُودٍ، الْآنَ، أَيْ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ هُوَ سِيَاقُ الدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَمَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ نَالَتْهُ قِسْمَةٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ. وكُلَّ شَيْءٍ كُلَّ مَوْجُودٍ، وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْعَقْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّحْمَةِ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي لَهَا إِدْرَاكٌ تُدْرِكُ بِهِ الْمُلَائِمَ وَالْمُنَافِرَ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ بِالْحَجَرِ وَالشَّجَرِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِلْمِ فَالْعُمُومُ عَلَى بَابِهِ قَالَ تَعَالَى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: 14] . وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ هَذَا الدُّعَاءِ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ انْدَفَعَ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَا تَسَعُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ هُمْ فِي عَذَابٍ خَالِدٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ بِمُخَصَّصَاتِ الْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْقَاضِيَةِ بِعَدَمِ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْحِسَابِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ التَّوْطِئَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ الْمُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ مِنْهَا وَهُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ صِدْقَ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَكَانَتْ رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا أَنْ تَشْمَلَهُمْ رَحْمَتُهُ لِأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِهَا. وَمَفْعُولُ فَاغْفِرْ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ، أَيِ اغْفِرْ لَهُمْ مَا تَابُوا مِنْهُ، أَيْ ذُنُوبَ الَّذِينَ تَابُوا. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَعَاصِي وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.

[سورة غافر (40) : الآيات 8 إلى 9]

وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَهُمْ وَاجْتِنَابُ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فَالْإِرْشَادُ يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي رَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا عَمِلُوا بِهِ فَكَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا السَّبِيلَ فَمَشَوْا فِيهِ فَوَصَلُوا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عَطْفٌ عَلَى فَاغْفِرْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّفْرِيعِ فَإِنَّ الْغُفْرَانَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْوِقَايَةَ لِأَنَّ غُفْرَانَ الذَّنْبِ هُوَ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ. وَعَذَابُ الْجَحِيمِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِجَزَاءِ الْمُذْنِبِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ عَضَّدُوا دَلَالَةَ الِالْتِزَامِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ إِظْهَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَالْجَحِيمُ: شِدَّةُ الالتهاب، وَسميت بِهِ جَهَنَّمُ دَارَ الْجَزَاءِ على الذُّنُوب. [8- 9] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 8 إِلَى 9] رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي خِلَالِ جُمَلِ الدُّعَاءِ اعْتِرَاضٌ لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ التَّضَرُّعِ، وَهَذَا ارْتِقَاءٌ مِنْ طَلَبِ وِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ إِلَى طَلَبِ إِدْخَالِهِمْ مَكَانَ النَّعِيمِ. وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، أَيِ الْخُلُودُ. وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِذَلِكَ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُمْ مَوْعُودُونَ بِهِ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [194] قَوْلُهُ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَأَدْخِلْهُمْ عَجِّلْ لَهُمْ بِالدُّخُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِمْ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مَوْعُودِينَ بِهِ صَرِيحًا. ومَنْ صَلَحَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَدْخِلْهُمْ.

وَالْمَعْنَى دُعَاءٌ بِأَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَهُمْ فِي مَسَاكِنَ مُتَقَارِبَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ فِي سُورَةِ يس [56] ، وَقَوْلِهِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الطُّورِ [21] . وَرُتِّبَتِ الْقَرَابَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّ الْآبَاءَ أَسْبَقُ عَلَاقَةً بِالْأَبْنَاءِ ثُمَّ الْأَزْوَاجَ ثُمَّ الذُّرِّيَّاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الدَّعَوَاتِ اسْتِقْصَاءً لِلرَّغْبَةِ فِي الْإِجَابَةِ بِدَاعِي مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ لِمَا بَيْنَ نُفُوسِهِمْ وَالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَاقْتِرَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا. وَ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ فَعِزَّتُكَ وَحِكْمَتُكَ هُمَا اللَّتَانِ جَرَّأَتَانَا عَلَى سُؤَالِ ذَلِكَ مِنْ جَلَالِكَ، فَالْعِزَّةُ تَقْتَضِي الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ فَلَمَّا وَعَدَ الصَّالِحِينَ الْجَنَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَا يَضِنُّهُ بِذَلِكَ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَطْلٌ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي مُعَامَلَةَ الْمُحْسِنِ بِالْإِحْسَانِ. وَأَعْقَبُوا بِسُؤَالِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمَ بِدَارِ الثَّوَابِ بِدُعَاءٍ بِالسَّلَامَةِ مِنْ عُمُومِ كُلِّ مَا يَسُوءُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِمْ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَهُوَ دُعَاءٌ جَامِعٌ إِذِ السَّيِّئَاتُ هُنَا جَمْعُ سَيِّئَةٍ وَهِيَ الْحَالَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا [غَافِر: 45] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] صِيغَتْ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قِيَامِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ مِثْلَ قَيِّمٍ وَسَيِّدٍ وَصَيْقَلٍ، فَالْمَعْنَى: وَقِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُهُمْ. فَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ مَا هُوَ كَالنَّفْيِ وَهُوَ فِعْلُ الْوِقَايَةِ يُفِيدُ عُمُومَ الْجِنْسِ، عَلَى أَنَّ بِسَاطَ الدُّعَاءِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْجِنْسِ وَلَوْ بِدُونِ لَامِ نَفْيٍ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيُّ: يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وقيتم ضرا و

[سورة غافر (40) : آية 10]

فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَمُمْسِكًا تَلَفًا» أَيْ كُلَّ مُنْفِقٍ وَمُمْسِكٍ. وَالْمُرَادُ: إِبْلَاغُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرِّضَى وَالْقَبُولِ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهُمُ الْعَذَابُ وَيَكُونُونَ فِي بُحْبُوحَةِ النَّعِيمِ وَلَا يَعْتَرِيهِمْ مَا يُكَدِّرُهُمْ مِنْ نَحْوِ التَّوْبِيخِ وَالْفَضِيحَةِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ [الْإِنْسَان: 11] . وَجُمْلَةُ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ تَذْيِيلٌ، أَيْ وَكُلُّ مَنْ وُقِيَ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ نَالَتْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، أَيْ نَالَتْهُ الرَّحْمَةُ كَامِلَةً فَفِعْلُ رَحِمْتَهُ مُرَادٌ بِهِ تَعْظِيمُ مَصْدَرِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِذْ أُشِيرَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ وِقَايَةِ السَّيِّئَاتِ إِشَارَةً لِلتَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَوُصِفَ الْفَوْزُ بِالْعَظِيمِ لِأَنَّهُ فَوْزٌ بِالنَّعِيمِ خَالِصًا مِنَ الْكُدْرَاتِ الَّتِي تُنْقِصُ حَلَاوَةَ النِّعْمَةِ. وَتَنْوِينُ يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تُدْخِلُهُمْ جنَّات عدن. [10] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) مُقَابَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّعِيمِ الْخَالِصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ وَمَا يُرَاجَعُونَ بِهِ مِنْ طَلَبِ الْعَفْوِ مُؤْذِنَةٌ بِتَقْدِيرِ مَعْنَى الْوَعْدِ بِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَطَيُّ ذِكْرِ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ. وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى بَيَانِ مَا سَيَحِلُّ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ ضَرْبٌ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ الْآيَاتِ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا

سَأَلَ عَنْ تَقَبُّلِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَهَمَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ إِيمَاءٌ وَرَمْزٌ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا هُوَ مَوْعِظَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ رُجُوعًا إِلَى قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِر: 6] وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا مُشْرِكُو أَهِلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِر: 7] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُنَادِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ تَبْلِيغًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] وَهُوَ بُعْدٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْجَلَالِ، أَيْ يُنَادَوْنَ وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: 11] . وَاللَّامُ فِي لَمَقْتُ اللَّهِ لَامُ الْقَسَمِ. وَالْمَقْتُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ. وإِذْ تُدْعَوْنَ ظَرْفٌ لِ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ. وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ حِينَ كُنْتُمْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ تُدْعَوْنَ وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي تُدْعَوْنَ وفَتَكْفُرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَكَرُّرَ كُفْرِهِمْ، أَيْ تجدده. وَمعنى: مقتهم أنفسهم حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ فَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتَ إِذْ حَرَمُوهَا مِنْ فَضِيلَةِ الْإِيمَانِ وَمَحَاسِنِ شَرَائِعِهِ وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ دِينَ الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أُوقِظُوا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ ضَلَالٍ وَمَغَبَّةِ سُوءٍ، فَكَانَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ شَبِيهًا بِفِعْلِ الْمَرْءِ لِبَغِيضِهِ مِنَ الضُّرِّ وَالْكَيْدِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَدُوُّ نَفْسِهِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ عُمَرَ قَالَ لِنِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَكْثِرْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ لَهُنَّ: «يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . فَالْمَقْتُ مُسْتَعَارٌ لِقِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يَضُرُّ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى وَجْهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ فَمَنَاطُ الْكَلَامِ هُوَ فَتَكْفُرُونَ وَفِي ذِكْرِ يُنادَوْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَمْقَتُهُمُ اللَّهُ وَيُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ إِلَخْ.

وَمَعْنَى مَقْتُ اللَّهِ: بُغْضُهُ إِيَّاهُمْ وَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمُعَامَلَةِ بِآثَارِ الْبُغْضِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْعِقَابِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى حَقِيقَةِ الْبُغْضِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَثَرُهُ وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ بِالنَّكَالِ، وَهُوَ شَائِعٌ شُيُوعَ نَظَائِرِهِ مِمَّا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا تَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ. وأَكْبَرُ بِمَعْنَى أَشَدَّ وَأَخْطَرَ أَثَرًا، فَإِطْلَاقُ الْكِبَرِ عَلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّ الْكِبَرَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَجْسَامِ لَكِنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْمَعَانِي. وَلَمَّا كَانَ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ حَرَمَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّجَاةِ وَالصَّلَاحِ وَكَانَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ كَانَ مَقْتُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَشَدَّ وَأَنْكَى مِنْ مَقْتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ شِدَّةَ الْإِيلَامِ أَقْوَى مِنَ الْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْمَقْتُ الْأَوَّلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] ، وَالْمَقْتُ الثَّانِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً [فاطر: 39] وَهُوَ مَقْتُ الْعَذَابِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمُلَاقِي لِتَنَاسُقِ نَظْمِهَا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا وُجُوهٌ أُخَرُ تَدْنُو وَتَبْعُدُ مِمَّا ذَكَرْنَا فَاسْتَعْرِضْهَا وَاحْكُمْ فِيهَا. وأَنْفُسَكُمْ يتنازعه لَمَقْتُ اللَّهِ، ومَقْتِكُمْ فَهُوَ مَفْعُولُ الْمَصْدَرَيْنِ الْمُضَافَيْنِ إِلَى فَاعِلَيْهِمَا. وَبُنِيَ فِعْلُ تُدْعَوْنَ إِلَى النَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ لِظُهُورِ أَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَتَفْرِيعُ فَتَكْفُرُونَ بِالْفَاءِ عَلَى تُدْعَوْنَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ أَعْقَبُوا الدَّعْوَةَ بِالْكُفْرِ، أَيْ بِتَجْدِيدِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ وَبِإِعْلَانِهِ أَيْ دُونَ أَنْ يَتَمَهَّلُوا مُهْلَةَ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا دعوا إِلَيْهِ.

[سورة غافر (40) : آية 11]

[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 11] قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) جَوَابٌ عَنِ النِّدَاءِ الَّذِي نُودُوا بِهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَكَى مَقَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، طَمَعُوا أَنْ يَكُونَ اعْتِرَافُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَسِيلَةً إِلَى مَنْحِهِمْ خُرُوجًا مِنَ الْعَذَابِ خُرُوجًا مَا لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهُ وَلَوْ بَعْضَ الزَّمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّدَاءَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوْهَمَهُمْ أَنَّ فِيهِ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَافِ هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا وَأَمَّا الْمَوْتَتَانِ وَالْحَيَاةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا ذُكِرْنَ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ فِي صُلْبِ الِاعْتِرَافِ تَزَلُّفًا مِنْهُمْ، أَيْ أَيْقَنَّا أَنَّ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ حَقٌّ وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ صِدْقٌ لَا مُوَارَبَةَ فِيهِ وَلَا تَصَنُّعَ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ عَنْ دَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ مُسَبَّبًا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ بِعَطْفِهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا. وَالْمُرَادُ بِإِحْدَى الْمَوْتَتَيْنِ: الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْجَنِينُ لَحْمًا لَا حَيَاةَ فِيهِ فِي أَوَّلِ تَكْوِينِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَإِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَجَازٌ وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ مِنَ الْحَيِّ بَعْدَ أَنِ اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ، فإطلاقه على حَالَة انْعِدَامِ الْحَيَاةِ قَبْلَ حُصُولِهَا فِيهِ اسْتِعَارَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَلَا إِشْكَالَ فِي اسْتِعْمَالِ أَمَتَّنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، فَفِي ذَلِكَ الْفِعْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ تَبَعًا لِجَرَيَانِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَصْدَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ وَوَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ كَاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَالَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَقْيِيدَ مَدْلُولِ الْمَوْتِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بَعْدَ الْحَيَاةِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى حَالَةِ مَا قَبْلَ الِاتِّصَافِ بِالْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ وَاضِحًا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [28] ، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَوْتِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْوَغُ لِأَنَّ فِيهِ تَغْلِيبًا لِلْمَوْتَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ الْمَوْتَةُ الْمُتَعَارَفَةُ عِنْدَ انْتِهَاءِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءَتَيْنِ: الْإِحْيَاءَةُ الْأُولَى عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ بَعْدَ مَبْدَأِ تَكْوِينِهِ،

وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الْبَقَرَة: 28] . وَانْتَصَبَ اثْنَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَوْتَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَإِحْيَاءَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فَيَجِيءُ فِي تَقْدِيرِ مَوْتَتَيْنِ تَغْلِيبُ الِاسْمِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الِاسْمِ الْمَجَازِيِّ عِنْدَ مَنْ يُقَيِّدُ مَعْنَى الْمَوْتِ. وَقَدْ أَوْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِشْكَالَ أَنَّ هُنَالِكَ حَيَاةً ثَالِثَةً لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا حَدِيثُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَهُوَ حَدِيثٌ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ السَّلَفِ، وَفِي كَوْنِ سُؤَالِ الْقَبْرِ يَقْتَضِي حَيَاةَ الْجِسْمِ حَيَاةً كَامِلَةً احْتِمَالٌ، وَقَدْ يُتَأَوَّلُ بِسُؤَالِ رُوحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ جَسَدِهِ أَوْ بِحُصُولِ حَيَاةِ بَعْضِ الْجَسَدِ أَو لِأَنَّهَا لما كَانَت حَيَاةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِمِقْدَارِ السُّؤَالِ لَيْسَ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا تَصَرُّفُ الْأَحْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لَمْ يُعْتَدْ بِهَا لَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ مُرَادٌ مِنْهُ التَّوْطِئَةُ لِسُؤَالِ خُرُوجِهِمْ مِنْ جَهَنَّمَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا لِثُبُوتِ الْحَيَاةِ عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ. وَتَفَرَّعَ قَوْلُهُمْ: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا عَلَى قَوْلِهِمْ: وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ اعْتِبَارُ أَنَّ إِحْدَى الْإِحْيَاءَتَيْنِ كَانَتِ السَّبَبَ فِي تَحَقُّقِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ فَلَمَّا رَأَوُا الْبَعْثَ رَأْيَ الْعَيْنِ أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ إِذْ أَنْكَرُوهُ وَمُذْنِبُونَ بِمَا اسْتَكْثَرُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ لِاغْتِرَارِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ. فَجُمْلَةُ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا إِنْشَاءُ إِقْرَارٍ بِالذُّنُوبِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي كَمَا هُوَ غَالِبُ صِيَغِ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِثْلَ صِيَغِ الْعُقُودِ نَحْوَ: بِعْتُ. وَالْمَعْنَى: نَعْتَرِفُ بِذُنُوبِنَا. وَجَعَلُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ ضَرْبًا مِنَ التَّوْبَةِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْفَعُ يَوْمَئِذٍ، فَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَيْهِ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ وَالِاسْتِعْطَافِ كُلِّيًّا لِرَفْعِ الْعَذَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةُ سُؤَالِ أَهْلِ النَّارِ الْخُرُوجَ أَوِ التَّخْفِيفَ وَلَوْ يَوْمًا.

[سورة غافر (40) : آية 12]

وَالِاسْتِفْهَامُ بِحَرْفِ هَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِعْطَافِ. وَحَرْفُ مِنْ زَائِدٌ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي النَّكِرَةِ لِيُفِيدَ تَطَلُّبَهُمْ كُلَّ سَبِيلٍ لِلْخُرُوجِ وَشَأْنُ زِيَادَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ دُونَ الْإِثْبَاتِ. وَقَدْ عدّ الِاسْتِفْهَام بهل خَاصَّةً مِنْ مَوَاقِعِ زِيَادَةِ مِنْ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [53] ، وَأَنَّ وَجْهَ اخْتِصَاصِ هَلْ بِوُقُوعِ مِنْ الزَّائِدَةِ فِي الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ بِهَا أَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ بِهَا فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَزِيَادَةُ مِنْ حِينَئِذٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَتَنْصِيصِ عُمُومِ النَّفْيِ، فَخَفَّ وُقُوعُهَا بَعْدَ هَلْ عَلَى أَلْسُنِ أَهْلِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَنْكِيرُ خُرُوجٍ لِلنَّوْعِيَّةِ تَلَطُّفًا فِي السُّؤَالِ، أَيْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخُرُوجِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِأَنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يَنْتَفِعُونَ بِهِ رَاحَةٌ مِنَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِمُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [غَافِر: 49] . وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ وَاسْتُعِيرَ إِلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْأَمْرُ الْمَرْغُوبُ، وَكَثُرَ تَصَرُّفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِطْلَاقَاتِ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَالْمَسْلَكِ وَالْبُلُوغِ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَبِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَتَنْكِيرُ سَبِيلٍ كَتَنْكِيرِ خُرُوجٍ أَيْ مِنْ وَسِيلَةٍ كَيْفَ كَانَتْ بِحَقٍّ أَوْ بِعَفْوٍ بِتَخْفِيفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَهَذَا كَلَامُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ» يُرِيدُ أَنَّ فِي اقْتِنَاعِهِمْ بِخُرُوجٍ مَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ حُصُول الْخُرُوج. [12] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 12] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) عَدَلَ عَنْ جَوَابِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى ذِكْرِ سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ، وَإِذْ قَدْ كَانُوا عَالمين بِهِ حِين قَالُوا: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا [غَافِر: 11] ، كَانَتْ إِعَادَةُ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِ

بَعْدَ سُؤَالِ الصَّفْحِ عَنْهُ كِنَايَةً عَنِ اسْتِدَامَتِهِ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ سُؤَالِهِمُ الْخُرُوجَ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَحْقِيرِهِمْ. وَزِيدَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا بِقَوْلِهِ: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غَافِر: 10] وَمَا عَقَّبَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: 11] . وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَضَمِيرُ بِأَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالسَّبَبُ هُوَ مَضْمُونُ الْقِصَّةِ الَّذِي حَاصِلُ سَبْكِهِ: بِكُفْرِكُمْ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَإِيمَانِكُمْ بِالشِّرْكِ. وإِذا مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَاقِعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، فَالدُّعَاءُ الَّذِي مَضَى مَعَ كُفْرِهِمْ بِهِ كَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ. وَمَجِيءُ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْفِعْلَيْنِ مُؤَوَّلٌ بِالْمَاضِي بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ، وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ لِتَكَرُّرِهِ أَثَرًا فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ. وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ، وَالتَّوَجُّهُ بِالْخِطَابِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الدُّعَاءُ وَيُطْلَقُ الدُّعَاءُ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [60] ، فَالْمَعْنَى إِذَا نُودِيَ اللَّهُ بِمَسْمَعِكُمْ نِدَاءً دَالًّا عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ مِثْلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى نِدَاءِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَالدُّعَاءُ هُنَا الْإِعْلَانُ وَالذِّكْرُ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، وَالدُّعَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى سُؤَالِ الْحَاجَاتِ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُهُ، أَوْ إِذَا عُبِدَ اللَّهُ وَحْدَهُ.

وَمَعْنَى كَفَرْتُمْ جَدَّدْتُمُ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ إِمَّا بِصُدُورِ أَقْوَالٍ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ فِيهَا انْفِرَادَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وإمّا بملاحظة الْكفْر مُلَاحظَة جَدِيدَةٍ وَتَذَكُّرِ آلِهَتِهِمْ. وَمَعْنَى: وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا إِنْ يَصْدُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ مِنْ أَقْوَالِ زُعَمَائِهِمْ وَرِفَاقِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ أَوْ إِذَا أُشْرِكَ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ تُؤْمِنُوا، أَيْ تُجَدِّدُوا الْإِيمَانَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ فِي قُلُوبِكُمْ أَوْ تُؤَيِّدُوا ذَلِكَ بِأَقْوَالِ التَّأْيِيدِ وَالزِّيَادَةِ. وَمُتَعَلِّقُ كَفَرْتُمْ وتُؤْمِنُوا مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُمَا. وَالتَّقْدِيرُ: كَفَرْتُمْ بِتَوْحِيدِهِ وَتُؤْمِنُوا بِالشُّرَكَاءِ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بِ إِذا الَّتِي الْغَالِبُ فِي شَرْطِهَا تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَحْدَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَخْلُو عَنْهُ أَيَّامُهُمْ وَلَا مَجَامِعُهُمْ، مَعَ مَا تُفِيدُ إِذا مِنَ الرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ مَضْمُونِ شَرْطِهَا. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي أَصْلُهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ شَرْطِهَا، أَوْ أَنَّ شَرْطَهَا أَمْرٌ مَفْرُوضٌ، مَعَ أَنَّ الْإِشْرَاكَ مُحَقَّقٌ تَنْزِيلًا لِلْمُحَقَّقِ مُنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ الْمَفْرُوضِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ دَلَائِلَ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَاضِحَةٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ فَنَزَّلَ إِشْرَاكَهُمُ الْمُحَقَّقَ مَنْزِلَةَ الْمَفْرُوضِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يَقْلَعُ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مِنْ أَصْلِهِ فَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لِفَرْضِهِ عَلَى نَحْوِ مَا يفْرض الْمَعْدُوم مَوْجُودًا أَوِ الْمُحَالُ مُمْكِنًا. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحُكْمِ لِلْجِنْسِ. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ أَيْ جِنْسُ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَهَذَا يُفِيدُ قَصْرَ هَذَا الْجِنْسِ عَلَى الْكَوْنِ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَا حُكْمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَسَّكَ الْحَرُورِيَّةُ يَوْمَ حَرُورَاءَ حِينَ تَدَاعَى جَيْشُ الْكُوفَةِ وَجَيْشُ الشَّامِ إِلَى التَّحْكِيمِ فَثَارَتِ الْحَرُورِيَّةُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ (جَعَلُوا التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ وَالصِّيغَةَ لِلْقَصْرِ) وَحَدَّقُوا إِلَى هَذِه الْآيَة وأغضوا عَنْ آيَاتٍ جَمَّةٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لَمَّا سَمِعَهَا: «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ» اضْطَرَبَ النَّاسُ وَلَمْ يَتِمَّ التَّحْكِيمُ.

[سورة غافر (40) : آية 13]

وَإِيثَارُ صِفَتَيِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُنَاسِبٌ لِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، أَيْ لِعَدَمِ نَقْضِ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، لِأَنَّ الْعُلُوَّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ بِمَعْنَى شَرَفِ الْقَدْرِ وَكَمَالِهِ، فَهُوَ الْعَلِيُّ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالَاتِ كُلِّهَا بِالذَّاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِك تَمام الْعلم وَتَمام الْعَدْلِ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ. وَوَصْفُ الْكَبِيرِ كَذَلِكَ هُوَ كِبَرٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ قُوَّةُ صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّ الْكَبِيرَ قَوِيٌّ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ صِيغَ عَلَى مِثَالِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ الذَّاتِيِّ الْمَكِينِ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ حُكْمُ النَّقْضِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ سَبَبِ الْحُكْمِ وَهُوَ النَّقْضُ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَهَذَا يُنَافِيهِ وَصْفُ الْعَلِيِّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَوْرٌ وَمُجَاوِزٌ لِلْحَدِّ، وَهَذَا يُنَافِيهِ وَصْفُ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْغِنَى عَن الْجور. [13] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 13] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنِ انْقَضَى وَصْفُ مَا يُلَاقِي الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْتَجَابُ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: 14] . وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ هِيَ وَصْفَا الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غَافِر: 12] لِأَنَّ جُمْلَةَ يُرِيكُمْ آياتِهِ تُنَاسِبُ وَصْفَ الْعُلُوِّ، وَجُمْلَةَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً تُنَاسِبُ وَصْفَ الْكَبِيرِ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ. وَالْآيَاتُ: دَلَائِلُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَهِيَ الْمَظَاهِرُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تَبْدُو لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرَّعْد: 12] وَقَوْلِهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمرَان: 190] . وَتَنْزِيلُ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ نُزُولُ الْمَطَرِ لِأَنَّ الْمَطَرَ سَبَبُ الرِّزْقِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ

أُدْمِجَ مَعَهَا امْتِنَانٌ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الْأَمْرَانِ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُرِيكُمْ ويُنَزِّلُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِرَاءَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ وَتَنْزِيلٌ مُتَجَدِّدٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ مُسْتَأْنَفٌ مُرَادٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَيْسَ مِنْ بَقِيَّةِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهَنَّمَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَأْيِيدًا قَوْلُهُ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: 14] . وَعُدِّيَ فِعْلَا (يُرِي) ويُنَزِّلُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْآيَاتِ فَآمَنُوا وَانْتَفَعُوا بِالرِّزْقِ فَشَكَرُوا بِالْعَمَلِ بِالطَّاعَاتِ فَجُعِلَ غَيْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ بِالْآيَاتِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] فَجَعَلَ غَيْرَ الْعَالِمِينَ كَمَنْ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَفْقَهُ. وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ إِرَاءَةُ الْآيَاتِ وَإِنْزَالُ الرِّزْقِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ مَنْ آمَنَ وَنَبَذَ الشِّرْكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَصُدُّ أَهْلَهُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ. وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنَابَةَ الْمُحَصِّلَةَ لِلْمَطْلُوبِ هِيَ الْإِنَابَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مُنِيبِينَ إِلَى اللَّهِ كَانَ قَوْلُهُ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ دَالًّا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا الْآيَات واطمأنوا بِهَا وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ وَشَكَرُوهَا فَكَانَ بَيْنَ الْإِنَابَةِ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ تَلَازُمٌ عَادِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ تَذْيِيلٌ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مَفْعُولِ يُنَزِّلُ وَهُوَ رِزْقاً لِكَمَالِ الِامْتِنَانِ بِأَنْ جُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ النَّاسِ وَلَوْ أُخِّرَ الْمَجْرُورُ لَصَارَ صِفَةً لِ رِزْقاً فَلَا يُفِيدُ أَنَّ التَّنْزِيلَ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ بَلْ يُفِيدُ أَنَّ الرِّزْقَ صَالِحٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَفْعُولِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا خُولِفَ الظَّاهِرُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ.

[سورة غافر (40) : آية 14]

وَجُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَرَامَتَهُمُ ابْتِدَاءً وَأَنَّ انْتِفَاعَ غَيْرِهِمْ بِالرِّزْقِ انْتِفَاعٌ بِالتَّبَعِ لَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتُثَارُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْمَاتُرِيدِيِّ وَمَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْمَاتُرِيدِيُّ: هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً، لَا دِينِيَّةً وَلَا أُخْرَوِيَّةً، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: هم مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً وَدِينِيَّةً لَا أُخْرَوِيَّةً، فَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَلَمْ يَعْتَبِرْ بِظَاهِرِ الْمَلَاذِّ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْكَافِرِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لِأَنَّ مَآلَهَا الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ فَلَا تَسْتَحِقُّ اسْمَ النِّعْمَةِ. وَأَنَا أَقُولُ: لَوِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ لَهُمْ تَبَعًا فَهِيَ لَذَائِذُ وَلَيْسَتْ نِعَمًا لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَذَّةٌ أُرِيدَ مِنْهَا نَفْعُ مَنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا. وَأَمَّا الْبَاقِلَّانِيُّ فَرَاعَى ظَاهِرَ الْمَلَاذِّ فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ نِعَمًا وَإِنْ كَانَتْ عَوَاقِبُهَا آلَامًا، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَزَادُوا فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ الْكَافِرَ مِنْ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوَاجِبِ صِفَاتِهِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاظِرٍ إِلَى حَقِيقَةِ حَالَةِ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ كُلُّ شِقٍّ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافِ إِلَى مَا حَفَّ بِأَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي تِلْكَ النِّعْمَةِ فَرَجَعَ إِلَى الْخِلَافِ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا ومدلولاتها لَا فِي حَقَائِقِ الْمَقْصُود مِنْهَا. [14] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 14] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ وَمَا أُفِيضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، وعَلى أَنهم المرجون للتذكر، أَيْ إِذْ كُنْتُمْ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ، فَفِي الْفَاءِ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: 13] .

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرَاكُمْ آيَاتِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمُ الرِّزْقَ وَمَا يتَذَكَّر بذلك إِلَّا الْمُنِيبُونَ وَأَنْتُمْ مِنْهُمْ فَادْعُوا الله مُخلصين لتوفر دَوَاعِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ. وَالدُّعَاءُ هُنَا الْإِعْلَانُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَنِدَاؤُهُ وَيَشْمَلُ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى سُؤَالِ الْحَاجَةِ شُمُولَ الْأَعَمِّ لِلْأَخَصِّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ الدُّعَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ، فَالْمَقْصُودُ: دُومُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَكُونُ سَبَبًا لِمُحَاوَلَتِهِمْ صَرْفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يَجِدُونَ إِلَيْهَا سَبِيلًا فَيُخْشَى ذَلِكَ أَنْ يَفْتِنَ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكَرَاهِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ وَالصَّدِّ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ لِلْكَرَاهِيَةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْكَارِهِ أَنْ لَا يَصْبِرَ عَلَى دَوَامِ مَا يَكْرَهُهُ، فَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لي نَحْوِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَفْرِيعٌ لِاسْتِجْدَادِ غَرَضٍ آخَرَ فَجُعِلَ مُسْتَقِلًّا عَمَّا قَبْلَهُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَوَّلَ سُورَةِ الزُّمَرِ [2] . وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من فَاعل فَادْعُوا. ولَوْ وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّ شَرْطَهَا أَقْصَى مَا يَكُونُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُرَادُ تَقْيِيدُ عَامِلِ الْحَالِ بِهَا، أَيِ اعْبُدُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالِ كَرَاهِيَةِ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَفِي بِلَاد فِيهِ سُلْطَانِ الْكَافِرِينَ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يَصُدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: 94] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ (لَوْ) هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سورة غافر (40) : الآيات 15 إلى 16]

[سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 15 الى 16] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ [غَافِر: 14] وَلَيْسَ خَبَرًا ثَانِيًا بَعْدَ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ [غَافِر: 13] لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي غَرَضٍ مُسْتَجَدٍّ، وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ حَذْفُ اتِّبَاعٍ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ مِثْلِهِ، كَذَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْلَةِ حَدِيثٌ عَنِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الصُّولِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صديقه ... وَلَا مظْهرا للشكوى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ ورَفِيعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدَّرَجاتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: رَفِيعَةٌ دَرَجَاتُهُ، فَلَمَّا حُوِّلَ وَصْفُ مَا هُوَ من شؤونه إِلَى أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِذَاتِهِ سُلِكَ طَرِيقُ الْإِضَافَةِ وَجُعِلَتِ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَجُعِلَ فَاعِلُ الصِّفَةِ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ حَالَاتِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنٌ فعله، وَيُقَال: فلَان حَسَنُ الْفِعْلِ، فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إِلَى صِفَةِ ذَاتِهِ. والدَّرَجاتِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَجْدِ وَالْعَظَمَةِ، وَجَمْعُهَا إِيذَانٌ بِكَثْرَةِ الْعَظَمَاتِ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِ مَجْدِ اللَّهِ الَّتِي لَا تُحْصَرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَقِيقٌ بِإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفِيعُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ يَشَاءُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يُوسُف: 76] . وَإِضَافَتُهُ إِلَى الدَّرَجاتِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: تَثْبِيتُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بِالتَّرْغِيبِ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى

رَفْعِ اللَّهِ دَرَجَاتِهِمْ كَقَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ [11] . وذُو الْعَرْشِ خَبَرٌ ثَانٍ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ مِنْهُ مُتَفَاوِتٌ. كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْيَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْعِظَمِ وَالشَّرَفِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَرْشِ وَهُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ وَرَفَعَ الْعَرْشَ مَاذَا تُقَدِّرُونَ رَفْعَهُ دَرَجَاتِ عَابِدِيهِ عَلَى مَرَاتِبِ عِبَادَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ. وَجُمْلَةُ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خَبَرٌ ثَالِثٌ، أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فَإِنَّ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَ عِبَادِهِ إِلَى دَرَجَةِ النُّبُوءَةِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِبَادِهِ، فَبَدَلُ الْبَعْضِ هُوَ هُنَا أَهَمُّ أَفْرَادِ الْمُبَدَلِ مِنْهُ. وَالْإِلْقَاءُ: حَقِيقَتُهُ رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِعْطَاءِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَرَقَّبٍ، وَكَثُرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْل: 86، 87] . وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَإِلْقَاءِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالرُّوحُ: الشَّرِيعَةُ، وَحَقِيقَةُ الرُّوحِ: مَا بِهِ حَيَاةُ الْحَيِّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيُسْتَعَارُ لِلنَّفِيسِ مِنَ الْأُمُورِ وَلِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ بِهِ حَيَاةُ النَّاسِ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ كَمَالُهُمْ وَانْتِظَامُ أُمُورِهِمْ، فَكَمَا تُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ لِلْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، كَذَلِكَ يُسْتَعَارُ الرُّوحُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ لِكَمَالِ النُّفُوسِ وَسَلَامَتِهَا مِنَ الطَّوَايَا السَّيِّئَةِ، وَيُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْمَلَكِ قَالَ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مَرْيَم: 17] . ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مِنْ أَمْرِهِ أَيْ بِأَمْرِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةَ الرُّوحَ أَي بعض شؤونه الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الشَّأْن، أَي الشؤون الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: مِنْ بَيَانِيَّةٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الرُّوحُ وَهَذَا بِعِيدٌ. وَهَذَهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ لِأَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِقَوْلِهِ:

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: 14] ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فَأَشَارَ إِلَى عِبَادَةَ اللَّهِ بِإِخْلَاصٍ سَبَبٌ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ فَجِيءَ بِفِعْلِ الْإِلْقَاءِ وَبِكَوْنِ الرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ وَبِصِلَةِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَآذَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَحْضِ اخْتِيَارِهِ وَعِلْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] . وَهَذَا يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [2] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ مُفَرِّعًا عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، وَجَاءَ فِي شَأْنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [غَافِر: 14] ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ. وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمُ الْعَرْشَ وَالْأَنْبِيَاءَ مَثَلَيْنِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْعَوَالِمِ وَالْعُقَلَاءِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بتسفيه الْمُشْركين فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: 24] ، وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 124] . وَتَخْلُصُ مِنْ ذِكْرِ النُّبُوءَةِ إِلَى النِّذَارَةِ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ لِيَعُودَ وَصْفُ يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي انْقَطَعَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِر: 12] إِلَخْ. وَالْإِنْذَارُ: إِخْبَارٌ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِمَّا يسوء، وَهُوَ ضد التَّبْشِيرِ إِذْ هُوَ إِخْبَارٌ بِمَا فِيهِ مَسَرَّةٌ. وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ: نَذِرَ كَعَلِمَ، يُقَالُ: نَذِرَ بِالْعَدُوِّ فَحَذِرَهُ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْذَرَ لِلتَّعْدِيَةِ فَحَقُّهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ فَاعِلَ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَأَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِالْبَاءِ، يُقَالُ: أَنْذَرْتُهُمْ بِالْعَدُوِّ، غَيْرَ أَنَّهُ غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَضْمِينُهُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ فَعَدُّوهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ [2] لِتُنْذِرَ بِهِ فَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْآلَةِ الْمَجَازِيَّةِ وَلَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ. وَضمير بِهِ عَائِدًا إِلَى الْكِتَابِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي لِيُنْذِرَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ [غَافِر: 14] ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مِنْ الْمَوْصُولَةِ لِيُنْذِرَ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ الرُّوحَ قَوْمَهُ، وَلِأَنَّ

فِيهِ تَخَلُّصًا إِلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ الْإِنْذَارِ دُونَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوا إِذْ لَا تُلَائِمُهُمْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ وَلِأَنَّهُ مُرَجِّحٌ لِإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَمَا سَيَأْتِي. ويَوْمَ التَّلاقِ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ التَّلَاقِي لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَلْتَقُونَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ لِقَاءً مَجَازِيًّا، أَيْ يَقِفُونَ فِي حَضْرَتِهِ وَأَمَامَ أَمْرِهِ مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: 7] أَيْ لَا يَرْجُونَ يَوْمَ الْحَشْرِ. وانتصب يَوْمَ التَّلاقِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَان لِيُنْذِرَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِظُهُورِهِ، أَيْ لِيُنْذِرَ النَّاس. وَبَين التَّلاقِ ويُلْقِي جناس. وَكتب التَّلاقِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِكَسْرَةٍ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْوَصْلِ لَا فِي الْوَقْفِ فَلَا مُوجِبَ لِطَرْحِ الْيَاءِ إِلَّا مُعَامَلَةُ الْوَصْلِ مُعَامَلَةَ الْوَقْفِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي النَّثْرِ فَيَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ. وَكَفَى بِرِوَايَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو سَمَاعًا. ويَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بَدَلٌ من يَوْمَ التَّلاقِ. وهُمْ بارِزُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَالْمُضَافُ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْأَرْجَحِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَائِدٌ إِلَى الْكافِرُونَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: 14] . وَجُمْلَةُ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هُمْ بارِزُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَاضِحَةٌ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ فَإِنَّ ذَلِك مُقْتَضى قَوْلهم: مِنْهُمْ شَيْءٌ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِظْهَارَهُ أَصْرَحُ لِبُعْدِ مَعَادِهِ بِمَا عَقِبَهُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ ضَمِيرَ لِيُنْذِرَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَشاءُ. وَمَعْنَى مِنْهُمْ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ، أَيْ مِنْ مَجْمُوع أَحْوَالهم وشؤونهم، وَلِهَذَا أُوثِرَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ الصَّالِحِ لِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ، وَأُوثِرَ أَيْضًا لَفْظُ شَيْءٌ لِتَوَغُّلِهِ فِي الْعُمُومِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ

أَحَدٌ، أَوْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْءٌ، أَيْ مِنْ أَجْزَاءِ جِسْمِهِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحُذِفَ الْقَوْلُ مِنْ حَدِيثِ الْبَحْرِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُ اللَّهُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، فَفِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤال سَائل عَمَّا ذَا يَقَعُ بَعْدَ بُرُوزِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِمَّا تَقْرِيرِيٌّ لِيَشْهَدَ الطُّغَاةُ مِنْ أَهْلِ الْمَحْشَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُخْطِئِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مُلْكٍ لِأَصْنَامِهِمْ حِينَ يُضِيفُونَ إِلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِي مَمَالِكَ مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، مِثْلَ قَوْلِ الْيُونَانِ بِإِلَهِ الْبَحْرِ وَإِلَهِ الْحَرْبِ وَإِلَهِ الْحِكْمَةِ، وَقَوْلِ أَقْبَاطِ مِصْرَ بِإِلَهِ الشَّمْسِ وَإِلَهِ الْمَوْتِ وَإِلَهِ الْحِكْمَةِ، وَقَوْلِ الْعَرَبِ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَصْنَامِ بِبَعْضِ الْقَبَائِلِ مِثْلِ اللَّاتِ لِثَقِيفٍ، وَذِي الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ، وَمَنَاةَ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ عَلَى النَّاسِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: 38] وَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] ، وَتَلْقِيبِ أَكَاسِرَةِ الْفُرْسِ أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ: مَلِكِ الْمُلُوكِ (شَاهِنْشَاهْ) ، وَتَلْقِيبِ مُلُوكِ الْهِنْدِ أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ مَلِكِ الدُّنْيَا (شَاهٍ جَهَانِ) . وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْحَشْرِ «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» اسْتِفْهَامًا مُرَادًا مِنْهُ تَخْوِيفُهُمْ مِنَ الظُّهُورِ يَوْمَئِذٍ، أَيْ أَيْنَ هم الْيَوْم لماذَا لَمْ يَظْهَرُوا بِعَظَمَتِهِمْ وَخُيَلَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ كِنَايَةً عَنِ التَّشْوِيقِ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْجَوَابِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ اسْتِفْهَامًا يَتَرَقَّبُ جَوَابَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ الْجَوَابُ عِنْدَ سَمَاعِهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ، عَلَى أَنَّ حُصُولَ التَّشْوِيقِ لَا يَفُوتُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: 186] .

[سورة غافر (40) : آية 17]

وَ (الْيَوْمَ) الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ هُوَ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَحُضُورُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ، أَيِ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الظُّرُوفِ إِذَا عُرِّفَتْ بِاللَّامِ. وَجُمْلَةُ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ الصَّادِرِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَصْدُرَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ اسْتِفْهَامٌ وَيَصْدُرَ مِنْهُ جَوَابُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّقْرِيرِ أَوِ التَّشْوِيقِ كَانَ مِنَ الشَّأْنِ أَنْ يَتَوَلَّى النَّاطِقُ بِهِ الْجَوَابَ عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: 1، 2] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقُولَ قَوْلٍ آخَرَ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَيَقُولُ الْمَسْئُولُونَ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ إِقْرَارًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيَقُولُ الْبَارِزُونَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً. وَذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى لِأَنَّ لِمَعْنَيَيْهِمَا مَزِيدَ مُنَاسَبَةٍ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ حَيْثُ شُوهِدَتْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ لله وقهره جَمِيع الطغاة والجبارين. [17] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 17] الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) لَا رَيْبَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَقُولِ الصَّادِرِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مَقُولًا وَاحِدًا أَمْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مِنْ مَقُولِ أَهَلِ الْمَحْشَرِ. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ الْخَمْسِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، عُدِّدَتْ آثَارُ التَّصَرُّفِ بِذَلِكَ الْمُلْكِ وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْعِبَادِ بِنَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ حُكْمٌ عَادِلٌ لَا يَشُوبُهُ ظُلْمٌ، وَأَنَّهُ عَاجل لَا يبطىء لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ شَاغِلٌ وَلَا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي طُرُقِ قَضَائِهِ، وَعَلَى هَذِهِ النَّتَائِجِ جَاءَ تَرْتِيبُ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، ثُمَّ

لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، وَأَمَّا مَوَاقِعُ هَاتِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ جُمْلَةَ الْيَوْمَ تُجْزى إِلَخْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا فِي جُمْلَةِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غَافِر: 16] وَجَوَابِهَا مِنْ إِجْمَالٍ، وَجُمْلَةُ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أَيْ جَزَاءً عَادِلًا لَا ظُلْمَ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ أَقَلُّ شَوْبٍ مِنَ الظُّلْمِ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ النَّكِرَةِ بَعْدَ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ. وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ وَقَوْلِهِ: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ نَظِيَرُ تَعْرِيفِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غَافِر: 16] ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلِانْتِفَاءِ الظُّلْمِ عَنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. وَتَأْخِيرُهَا عَنْ تَيْنِكَ الْجُمْلَتَيْنِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّهَا عِلَّةٌ لَهُمَا، فَحَرْفُ التَّوْكِيدِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ فِي غَيْرِ مَقَامِ رَدِّ الْإِنْكَارِ، فَسُرْعَةُ الْحِسَابِ تَقْتَضِي سُرْعَةَ الْحُكْمِ. وَسُرْعَةُ الْحُكْمِ تَقْتَضِي تَمَلُّؤَ الْحَاكِمِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ، وَمِنْ تَقْدِيرِ جَزَاءِ كُلِّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا بَحْثٍ لِأَنَّ الْحَاكِمَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: سَرِيعُ الْحِسابِ عِلَّةً لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ فِي هَذَا الْغَرَضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُمْ حِسَابًا سَرِيعًا لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَالْحِسَابُ مَصْدَرُ حَاسَبَ غَيْرَهُ إِذَا حَسِبَ لَهُ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِإِعْدَادِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ فَتَارَةً يَكُونُ الْحِسَابُ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ أَشْيَاءَ كَيْلَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِقَصْدِ تَوْقِيفِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَوْقِيفُهُ عَلَيْهَا، وَتَارَةً يَكُونُ لِقَصْدِ مُجَازَاةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَدْلِهِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ يَوْمُ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُجْزَى بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ، أَيْ جَزَاءً مُنَاسِبًا لِمَا كَسَبَتْ، أَيْ عَمِلَتْ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ بَعْدَ تَبَيُّنِهِ لِلْقَاضِي بِدُونِ عُذْرٍ ضرب من ضروب الْجَوْرِ لِأَنَّ الْحَقَّ إِنْ كَانَ حَقَّ الْعِبَادِ فَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إِبْقَاءٌ لِحَقِّهِ بِيَدِ غَيْرِهِ، فَفِيهِ تَعْطِيلُ انْتِفَاعِهِ بِحَقِّهِ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَعْجِيلِ حَقِّهِ لِنَفْعٍ مُعَطَّلٍ أَوْ لِدَفْعِ ضُرٍّ جَاثِمٍ، وَلَعَلَّهُ أَنْ

[سورة غافر (40) : آية 18]

يَهْلَكَ فِي مُدَّةِ تَأْخِيرِ حَقِّهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، أَوْ لَعَلَّ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ بِهِ يَتْلَفُ بِعَارِضٍ أَوْ قَصْدٍ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ بَعْدُ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَقَّ اللَّهِ كَانَ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ فِيهِ إِقْرَارًا لِلْمُنْكِرِ. فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ عَلَى أَبِي مُوسَى أَلْقَى إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى وِسَادَةً وَقَالَ لَهُ: انْزِلْ، وَإِذَا رَجُلٌ مُوَثَّقٌ عِنْدَ أَبِي مُوسَى، قَالَ مُعَاذٌ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ مُعَاذٌ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو مُوسَى فَقتل» . [18] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 18] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ وَمَا بَعْدَهُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: 17] وَجُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: 19] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ ذِكْرَ الْحِسَابِ بِهِ يَقْتَضِي التَّذْكِيرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْحِسَابِ وَهُوَ يَوْمُ الْآزِفَةِ. وَيَوْمُ الْآزِفَةِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَصْلُ الْآزِفَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مُؤَنَّثٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ أَزِفَ الْأَمْرُ، إِذَا قَرُبَ، فَالْآزِفَةُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: السَّاعَةُ الْآزِفَةُ، أَوِ الْقِيَامَةُ الْآزِفَةُ، مِثْلُ الصَّاخَّةِ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى الْآزِفَةِ، حَقِيقِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ الْإِنْذَارِ إِلَى (الْيَوْمِ) فِي قَوْله: لتنذر يَوْمَ التَّلاقِ [غَافِر: 15] . وإِذِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ فَهُوَ اسْمُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وأل فِي الْقُلُوبُ والْحَناجِرِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَأَصْلُهُ: إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ، فَبِوَاسِطَةِ (أَلْ) عُوِّضَ تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَهُوَ رَأْيُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُقَدِّرُونَ: إِذِ الْقُلُوبُ مِنْهُمْ وَالْحَنَاجِرُ

مِنْهُمْ وَالْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُ الَّذِينَ تُنْذِرُهُمْ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا قُلُوبُ الصَّالِحِينَ يَوْمَئِذٍ فَمُطْمَئِنَّةٌ. وَالْقُلُوبُ: الْبَضْعَاتُ الصُّنُوبَرِيَّةُ الَّتِي تَتَحَرَّكُ حَرَكَةً مُسْتَمِرَّةً مَا دَامَ الْجِسْمُ حَيًّا فَتَدْفَعُ الدَّمَ إِلَيَّ الشَّرَايِينِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْجِسْمِ. وَالْحَنَاجِرُ: جَمْعُ حَنْجَرَةٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الْحُلْقُومُ. وَمَعْنَى الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ: أَنَّ الْقُلُوبَ يَشْتَدُّ اضْطِرَابُ حَرَكَتِهَا مِنْ فَرْطِ الْجزع مِمَّا يُشَاهِدهُ أَهْلُهَا مِنْ بَوَارِقِ الْأَهْوَالِ حَتَّى تَتَجَاوَزَ الْقُلُوبُ مَوَاضِعَهَا صَاعِدَةً إِلَى الْحَنَاجِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ يَوْمِ الْأَحْزَابِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَاب: 10] . وَكَاظِمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَظَمَ كُظُومًا، إِذَا احْتَبَسَ نَفَسُهُ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) . فَمَعْنَى كاظِمِينَ: اكنين لَا يَسْتَطِيعُونَ كَلَامًا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يُقَدَّرُ لِ كاظِمِينَ مَفْعُولٌ لِأَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ. وَيُقَالُ: كَظَمَ كَظْمًا، إِذا سدّ شَيْئا مَجْرَى مَاءٍ أَوْ بَابًا أَوْ طَرِيقًا فَهُوَ كَاظِمٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ مُقَدَّرًا. وَالتَّقْدِيرُ: كَاظِمِينَهَا، أَيْ كَاظِمِينَ حَنَاجِرَهُمْ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا قُلُوبُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الِاضْطِرَابِ. وَانْتَصَبَ كاظِمِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: أَنْذِرْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَالَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِإِسْنَادِ الْكَاظِمِ إِلَى الْقُلُوبِ وَإِنَّمَا الْكَاظِمُ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: 79] وَإِنَّمَا الْكَاتِبُونَ هُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَجُمْلَةُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَسْتَشْرِفُوا إِلَى شَفَاعَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَلْفَوْنَ صَدِيقًا وَلَا شَفِيعًا. وَالْحَمِيمُ: الْمُحِبُّ الْمُشْفِقُ. والتعريف فِي لِلظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِيَعُمَّ كُلَّ ظَالِمٍ، أَيْ مُشْرِكٍ فَيَشْمَلُ الظَّالِمِينَ الْمُنْذَرِينَ، وَمَنْ مَضَى مِنْ أَمْثَالِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ ذِكْرُ الظَّالِمِينَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.

[سورة غافر (40) : آية 19]

وَوَصْفُ: شَفِيعٍ بِجُمْلَةِ يُطاعُ وَصْفٌ كَاشِفٌ إِذْ لَيْسَ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُمْ شُفَعَاءُ لَا تُطَاعُ شَفَاعَتُهُمْ لِظُهُورِ قِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ شَأْنُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلشَّفَاعَةِ أَنْ يَثِقَ بِطَاعَةِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ لَهُ. وَأَتْبَعَ شَفِيعٍ بِوَصْفِ يُطاعُ لِتَلَازُمِهِمَا عُرْفًا فَهُوَ مِنْ إِيرَادِ نَفْيِ الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ. وَالْمَقْصُودُ: نَفِيُ الْمَوْصُوفِ بِضَرْبٍ مِنِ الْكِنَايَةِ التَّلْمِيحِيَّةِ كَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ (¬1) أَيْ لَا ضَبَّ فِيهَا فَيَنْجَحِرُ، وَذَلِكَ يُفِيدُ مُفَادَ التَّأْكِيدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا لَمْ يُطِعْ فَلَيْسَ بِشَفِيعٍ. وَالله لَا يجترىء أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا من يطاع. [19] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 19] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: 17] عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ [غَافِر: 15] . وَمَجْمُوعُ الظَّاهِرِ وَالْمُقَدَّرِ اسْتِئْنَافٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْخَفَايَا كَانَ إِنْذَارًا بَالِغًا يَقْتَضِي الْحَذَرَ مِنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ نَهَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَبَعْدَ أَنْ أيأسهم من شَفِيع يسْعَى لَهُم فِي عدم الْمُؤَاخَذَة بِذُنُوبِهِمْ أَيْأَسَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِخْفَاءَ شَيْءٍ مِنْ نَوَايَاهُمْ أَوْ أَدْنَى حَرَكَاتِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: 17] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا مَرَّ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ. ¬

(¬1) أَوله: لَا تفزع الأرنب أهوالها. يصف مفازة قاحلة لَا ضَب فِيهَا وَلَا أرنب.

وَ (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَالْخَائِنَةُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلُ الْعَافِيَةِ لِلْمُعَافَاةِ، وَالْعَاقِبَةِ، وَالْكَاذِبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: 2] وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ خائِنَةَ عَلَى ظَاهِرِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَعْيُنِ، أَيْ يَعْلَمُ نَظْرَةَ الْأَعْيُنِ الْخَائِنَةِ. وَحَقِيقَةُ الْخِيَانَةِ: عَمَلُ مَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ بِضِدِّ مَا اؤْتُمِنَ لِأَجْلِهِ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِ الْأَمَانَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ نَقْضُ الْعَهْدِ بِدُونِ إِعْلَانٍ بِنَبْذِهِ. وَمَعْنَى: خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خِيَانَةَ النَّظَرِ، أَيْ مُسَارَقَةَ النَّظَرِ لِشَيْءٍ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يُحِبُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ. فَإِضَافَةُ خائِنَةَ إِلَى الْأَعْيُنِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى آلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ السَّيْفَ. وَالْمُرَادُ بِ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ النظرة الْمَقْصُود مِنْهَا إِشْعَارُ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ بِمَا يسوء غَيرهَا الْحَاضِرِ اسْتِهْزَاءً بِهِ أَوْ إِغْرَاءً بِهِ. وَإِطْلَاقُ الْخَائِنَةِ بِمَعْنَى الْخِيَانَةِ عَلَى هَذِهِ النَّظْرَةِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، شَبَّهَ الْجَلِيسَ بِالْحَلِيفِ فِي أَنَّهُ لَمَّا جَلَسَ إِلَيْكَ أَوْ جَلَسْتَ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ عَاهَدَكَ عَلَى السَّلَامَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجَالَسَةَ يَتَقَدَّمُهَا السَّلَامُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ إِنْبَاءٌ بِالْمُسَالَمَةِ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى آخَرَ غَيْرِكُمَا نَظَرًا خَفِيًّا لِإِشَارَةٍ إِلَى مَا لَا يُرْضِي الْجَلِيسَ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ أَوْ إِغْرَاءٍ فَكَأَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ الْمَدْخُولَ عَلَيْهِ بَيْنَكُمَا، فَإِطْلَاقُ الْخِيَانَةِ عَلَى ذَلِكَ تَفْظِيعٌ لَهُ، وَيَتَفَاوَتُ قُرْبُ التَّشْبِيهِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَا وَقَعَتِ النَّظْرَةُ لِأَجْلِهِ فِي الْإِسَاءَةِ وَآثَارِ الْمَضَرَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يكون لنَبِيّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» ، أَيْ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ. ووَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ النَّوَايَا وَالْعَزَائِمُ الَّتِي يُضْمِرُهَا صَاحِبُهَا فِي نَفْسِهِ، فَأُطْلِقَ الصَّدْرُ عَلَى مَا يُكِنُّ الْأَعْضَاءُ الرَّئِيسِيَّةُ عَلَى حَسَبِ اصْطِلَاحِ أَصْحَاب اللُّغَة.

[سورة غافر (40) : آية 20]

[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 20] وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِجُمْلَةِ يَقْضِي بِالْحَقِّ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: 19] فَيُقَالُ: وَيَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِي الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِشْعَارِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي مِنْهَا الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرَّعْد: 41] . وَلِيَحْصُلَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ تَقَوِّي الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الْأَنْفَال: 36] أُعِيدَ الْمَوْصُولُ وَلَمْ يُؤْتَ بِضَمِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ تَقَوِّي الْحُكْمِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ إِلَيْهِ جُمْلَةُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: 19] كَمَا تَقَدَّمَ، وَكِلْتَاهُمَا نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: 18] أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ. وَأَمَّا جُمْلَةُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فَنَاظِرَةٌ إِلَى جُمْلَةِ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: 18] فَبَعْدَ أَنْ نُفِيَ عَنْ أَصْنَامِهِمُ الشَّفَاعَةُ، نُفِيَ عَنْهَا الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مَا بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِعَجْزِهَا. وَلَا تَحْسَبَّنَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ مَسُوقَةً ضَمِيمَةً إِلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لِيُفِيدَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أُفِيدَ الْقَصْرُ مِنْ ضَمِّ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قَول السموأل أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَارِثِيِّ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْ آلِهَتِهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْمُثْبَتِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا يُضَادُّ صِيغَة الْقصر لكفى فِي إِفَادَتِهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِحَمْلِهِ عَلَى إِرَادَةِ

الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ التَّذْكِيرُ بِعَجْزِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي إِثْبَاتِ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ ثُمَّ تَعْقِيبُ ذَلِكَ بِإِظْهَارِ نَقِيضِهِ فِيمَا يُعَدُّ مُسَاوِيًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شيبا بِمَاء فَصَارَ فِيمَا بَعْدُ أَبْوَالًا وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِعَطْفِ قَوْلِهِ: لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ، مُنَاسَبَةً. وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ مُقَرِّرَةٌ لِجُمَلِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غَافِر: 19، 20] . فتوسيط ضَمِيرِ الْفَصْلِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا الْإِلَهِيَّةَ، وَإِثَبَاتُ الْمُبَالَغَةِ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلَّهِ تَعَالَى يُقَرِّرُ مَعْنَى يَقْضِي بِالْحَقِّ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِكُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ حِكْمَتُهُ بِإِرَادَةِ الْبَاطِل وَلَا تخطىء أَحْكَامُهُ بِالْعِثَارِ فِي الْبَاطِلِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقٌ لِلْقَصْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» فِي مَبْحَثِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْقَصْرَ يُؤَكِّدُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَرْعِ أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ على الظَّاهِر.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 22]

[سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 21 إِلَى 22] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) انْتِقَالٌ مِنْ إِنْذَارِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى مَوْعِظَتِهِمْ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بهم عَذَاب الدُّنْيَا قبل عَذَابُ الْآخِرَةِ كَمَا حَلَّ بِأُمَمٍ أَمْثَالِهِمْ. فَالْوَاوُ عاطفة جملَة أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: 18] إِلَخْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى نَفْيٍ فِي الْمَاضِي بِحَرْفِ (لَمْ) ، وَالتَّقْرِيرُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ سَارُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَنَظَرُوا آثَارَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَبَادَهُمُ اللَّهُ جَزَاءَ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، فَهُمْ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي رِحْلَتَيْهِمْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةِ الصَّيْفِ وَإِنَّهُمْ حَدَّثُوا بِمَا شَاهَدُوهُ مَنْ تَضُمُّهُمْ نَوَادِيهِمْ وَمَجَالِسُهُمْ فَقَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْجَمِيعِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ الْمُقَرَّرُ بِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالْمُضَارِعُ الْوَاقِعُ بَعْدَ (لَمْ) وَالْمُضَارِعُ الْوَاقِعُ فِي جَوَابِهِ مُنْقَلِبَانِ إِلَى الْمُضِيِّ بِوَاسِطَةِ (لَمْ) . وَتَقَدَّمَ شَبِيهُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ فَاطِرٍ وَفِي سُورَةِ الرُّومِ. وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ فِي قَوْلِهِ: كانُوا هُمْ ضَمِيرُ فَصْلٍ عَائِد إِلَى لِلظَّالِمِينَ [غَافِر: 18] وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ أُرِيدُوا بقوله: وَأَنْذِرْهُمْ [غَافِر: 18] ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِمُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْحُكْمِ وَتَقْوِيَتِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا بِهِ قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ الْأَشَدِّيَّةِ عَلَى ضَمِيرِ: كانُوا إِذْ لَيْسَ لِلْقَصْرِ مَعْنًى هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [14] وَهَذَا ضَابِطُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الَّذِي يُفِيدُ الْقَصْرَ وَبَيْنَ الَّذِي يُفِيدُ

مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ. وَاقْتِصَارُ الْقَزْوِينِيُّ فِي «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» عَلَى إِفَادَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الِاخْتِصَاصَ تَقْصِيرٌ تَبِعَ فِيهِ كَلَامَ «الْمِفْتَاحِ» وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ سَعْدُ الدِّينِ فِي «شَرْحِهِ عَلَى التَّلْخِيصِ» . وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ الْقُوَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ وَوَفْرَةُ وَسَائِلِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْغَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15] . وَجُمْلَةُ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّفْرِيعِ بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنْكُمْ بِضَمِيرِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ رُسِمَتْ فِي مُصْحَفِ الشَّامِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْآثَارُ: جَمَعُ أَثَرٍ، وَهُوَ شَيْء أَوْ شَكْلٌ يَرْسِمُهُ فِعْلُ شَيْءٍ آخَرَ، مِثْلُ أَثَرِ الْمَاشِي فِي الرَّمْلِ قَالَ تَعَالَى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه: 96] وَمِثْلُ الْعُشْبِ إِثْرَ الْمَطَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرّوم: 50] ، وَيُسْتَعَارُ الْأَثَرُ لِمَا يَقَعُ بَعْدَ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الْكَهْف: 6] . وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ أُمَّتِهِمْ. وَالْفَاءُ فِي فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ لِتَفْرِيعِ الْأَخْذِ عَلَى كَوْنِهِمْ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ لِأَنَّ الْقُوَّةَ أُرِيدَ بِهَا هُنَا الْكِنَايَةُ عَنِ الْإِبَاءِ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّفُورِ مِنَ الدَّعْوَةِ، فَالتَّقْدِيرُ: فأعرضوا، أَو فَكَفرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ. وَالْأَخْذُ: الِاسْتِئْصَالُ وَالْإِهْلَاكُ كُنِّيَ عَنِ الْعِقَابِ بِالْأَخْذِ، أَوِ اسْتُعْمِلَ الْأَخْذُ مَجَازًا فِي الْعِقَابِ. وَالذُّنُوبُ: جَمَعُ ذَنْبٍ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِشْرَاكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ،

وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ ذُنُوبًا جَمَّةً، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ. وَمَعْنَى: وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَالْوَاقِي: هُوَ الْمُدَافِعُ النَّاصِرُ. ومِنْ الْأَوْلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِ واقٍ، وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ، ومِنْ الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِحَرْفِ (مَا) وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَخْذُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا بِهِمْ، وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ. فَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ بِسَبَبِ تَحَقُّقِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَكُفْرِهِمْ بِهِمْ. وَأَفَادَ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ تَجَدُّدَ الْإِتْيَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْأُمَم، أَي يَأْتِي لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ رَسُولٌ، فَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي تَأْتِيهِمْ ورُسُلُهُمْ وَجَمْعُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: رُسُلُهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ أَتَاهَا رَسُولٌ. وَلَمْ يُؤْتَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَكَفَرُوا لِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ الْأُمَمِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ. وَكُرِّرَ قَوْلُهُ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِلَخْ إِطْنَابًا لِتَقْرِيرِ أَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِرُسُلِهِمْ، وَتَهْوِيلًا عَلَى الْمُنْذِرِينَ بِهِمْ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي عَاقِبَتِهِمْ كَمَا سَاوُوهُمْ فِي أَسْبَابِهَا. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ تَعْلِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِأَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَكَيْفِيَّتِهِ وَسُرْعَةِ أَخْذِهِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ فَاءِ التَّعْقِيبِ، فَالْقَوِيُّ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فَلَا يُعَطِّلُ مُرَادَهُ وَلَا يَتَرَيَّثُ، وشَدِيدُ الْعِقابِ بَيَانٌ لِذَلِكَ الْأَخْذِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 42] .

[سورة غافر (40) : الآيات 23 إلى 24]

[سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 23 إِلَى 24] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) هَذَا ذِكْرُ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْأُمَمِ لَمْ يَشْهَدِ الْعَرَبُ آثَارَهُمْ وَهُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ أَقْبَاطُ مِصْرَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ هُودٍ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَامَانَ وَهُوَ لَقَبُ وَزِيرِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى مَا أُجْمِلَ مِنْ قِصَصِ أُمَمٍ أُخْرَى أَنَّ فِيهَا عِبْرَتَيْنِ: عِبْرَةٌ بِكَيْدِ الْمُكَذِّبِينَ وَعِنَادِهِمْ ثُمَّ هَلَاكِهِمْ، وَعِبْرَةٌ بِصَبْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَثَبَاتِهِمْ ثُمَّ نَصْرِهِمْ، وَفِي كِلْتَا الْعِبْرَتَيْنِ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ. وَجُمْلَةُ: فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ [غَافِر: 25] . وَقَارُونُ هُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَذَّبَ مُوسَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْقِصَصِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى فِرْعَوْنَ وَخَادِمًا لَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي زُمْرَةِ مَنْ خَرَجَ مَعَ مُوسَى، أَيْ فَاشْتَرَكَ أُولَئِكَ فِي رَمْيِ رَسُولِهِمْ بِالْكَذِبِ وَالسِّحْرِ كَمَا فعلت قُرَيْش. [25] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 25] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) أَيْ رَمَوْهُ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ تَوَهُّمًا أَنَّهُمْ يُلْقِمُونَهُ حَجَرَ الْإِحْجَامِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى دَعْوَتِهِ وَجَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أَيْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْآيَاتِ الْحَقَّ، أَيِ الْوَاضِحَةَ، فَأَطْلَقَ جاءَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] . ومِنْ عِنْدِنا وَصْفٌ لِلْحَقِّ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ حُقٌّ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَهُوَ آيَاتُ نُبُوَّتِهِ التِّسْعُ. وَوَجْهُ وُقُوعِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا بَعْدَ قَوْلِهِ: أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا [غَافِر: 23]

مَعَ اتِّحَادِ مُفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ فَإِنَّ مُفَادَ جُمْلَةِ جاءَهُمْ مُسَاوٍ لِمُفَادِ جُمْلَةِ أَرْسَلْنا وَمُفَادُ قَوْلِهِ: بِالْحَقِ مُسَاوٍ لِمُفَادِ قَوْلِهِ: بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ [غَافِر: 23] أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّنْوِيهِ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَعَظَمَةِ مَوْقِفِهِ أَمَامَ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ فَهُوَ بَيَانٌ لِدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، فَسُلِكَتْ فِي هَذَا النَّظْمِ طَرِيقَةُ الْإِطْنَابِ لِلتَّنْوِيهِ وَالتَّشْرِيفِ. وَجُمْلَةُ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَأَرَادُوا بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ مَعَهُ أَنْ يُرْهِبُوا أَتْبَاعَهُ حَتَّى يَنْفَضُّوا عَنْهُ فَلَا يَجِدُ أَنْصَارًا وَيَبْقَى بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي خِدْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ. وَضَمِيرُ جاءَهُمْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ جَمْعٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ لَا يَخْلُو عَنْهُمْ مَجْلِسُ الْمَلِكِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ [الْقَصَص: 38] الْآيَةَ. وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ، لِأَنَّ قَارُونَ لَمْ يَكُنْ مَعَ فِرْعَوْنَ حِينَ دَعَاهُ مُوسَى وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُوسَى فِي وَقْتِ حُضُورِهِ لَدَى فِرْعَوْن وَلكنه طغا بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ وَبَلَغَ بِهِ طُغْيَانُهُ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا مُخَاطَبٌ بِهِ فِرْعَوْنُ خِطَابَ تَعْظِيمٍ مِثْلَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] . وَإِنَّمَا أُبْهِمَ الْقَائِلُونَ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِعِلْمِهِ، فَفِعْلُ قالُوا بِمَنْزِلَةِ الْمَبْنِيِّ لِلنَّائِبِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ: قَالَ قَائِلٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ . وَهُوَ مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ كَيْدَ أمثالهم كَانَ مضاعا فَكَذَلِكَ يَكُونُ كَيْدُهُمْ. وَهَذَا الْقَتْلُ غَيْرُ الْقَتْلِ الَّذِي فَعَلَهُ فِرْعَوْنُ الَّذِي وُلِدَ مُوسَى فِي زَمَنِهِ. وَسُمِّيَ هَذَا الرَّأْيُ كَيْدًا لِأَنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِيهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ مُوسَى

[سورة غافر (40) : آية 26]

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُمْ أَضْمَرُوهُ وَلَمْ يُعْلِنُوهُ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْ إِنْفَاذِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [130] : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ [الْأَعْرَاف: 133] الْآيَةَ. وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ وَالِاضْمِحْلَالُ كَقَوْلِهِ: قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] أَيْ هَذَا الْكَيْدُ الَّذِي دَبَّرُوهُ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَلم يَجدوا لانقاذه سَبِيلا. [26] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 26] وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) عَطْفٌ وَقالَ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ جَوَابًا لِقَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: 25] ، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَعْمَلْ بِإِشَارَةِ الَّذِينَ قَالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ بِتَأْيِيدٍ وَلَا إِعْرَاضٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْأَجْدَرَ قَتْلُ مُوسَى دُونَ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَهُ أَقْطَعُ لِفِتْنَتِهِمْ. وَمَعْنَى: ذَرُونِي إِعْلَامُهُمْ بِعَزْمِهِ بِضَرْبٍ مِنْ إِظْهَارِ مَيْلِهِ لِذَلِكَ وَانْتِظَارِهِ الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يُمَثِّلُ حَالَهُ وَحَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ فَيَصُدُّ عَنْهُ، فَلِرَغْبَتِهِ فِيهِ يَقُولُ لِمَنْ يَصُدُّهُ: دَعْنِي أَفْعَلْ كَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُمَانِعُ وَالْمُلَائِمُ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ طَرَفَةُ: فَإِنْ كنت لَا تَسْتَطِيع دَفْعَ مَنِيَّتِي ... فَدَعْنِي أُبَادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي ثُمَّ اسْتُعْمِلَ هَذَا فِي التَّعْبِيرُ عَنِ الرَّغْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُعَارِضٌ أَوْ مُمَانِعٌ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي هَذَا وَمَا يُرَادِفُهُ مِثْلَ: دَعْنِي وَخَلَّنِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ، وَقَول أبي الْقَاسِم السُّهَيْلِيِّ:

دَعْنِي عَلَى حُكْمِ الْهَوَى أَتَضَرَّعُ ... فَعَسَى يَلِينُ لِيَ الْحَبِيبُ وَيَخْشَعُ وَذَلِكَ يُسْتَتْبَعُ كِنَايَةً عَنْ خَطَرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَصُعُوبَةِ تَحْصِيلِهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ مِمَّا يَمْنَعُ الْمُسْتَشَارُ مُسْتَشِيرَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لِأَنَّ مُوسَى خَوَّفَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِالْآيَاتِ التِّسْعِ. وَلَامُ الْأَمْرِ فِي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْعَزْمِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى. وَالْخَوْفُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِشْفَاقِ، أَيْ أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ. وَحُذِفَتْ (مِنَ) الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ أَخافُ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ (أَنْ) . وَالتَّبْدِيلُ: تَعْوِيضُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَتَوَسَّمَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْ إِنْكَارِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ زَعَمَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ لِقَوْمِهِ فَإِنَّ تَبْدِيلَ الْأُصُولِ يَقْتَضِي تَبْدِيلَ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: دِينَكُمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالذَّبِّ عَنِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ هُوَ دِينُهُ أَيْضًا لَكِنَّهُ تَجَرَّدَ فِي مُشَاوَرَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِحَظِّ نَفْسِهِ كَمَا قَالُوا هُمْ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الْأَعْرَاف: 127] وَذَلِكَ كُلُّهُ إِلْهَابٌ وَتَحْضِيضٌ. وَالْأَرْضُ: هِيَ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَهُمْ وَهِيَ مَمْلَكَةُ فِرْعَوْنَ. وَمَعْنَى إِظْهَارِ مُوسَى الْفَسَادَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي ظُهُورِهِ بِدَعْوَتِهِ إِلَى تَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ وَالْعَوَائِدِ. وَأُطْلِقَ الْإِظْهَارُ عَلَى الْفُشُوِّ وَالِانْتِشَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَدْ حَمَلَهُ غُرُورُهُ وَقِلَّةُ تَدَبُّرِهِ فِي الْأُمُورِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ مَا خَالَفَ دِينَهُمْ يُعَدُّ فَسَادًا إِذْ لَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ لِدِينِهِمْ غَيْرُ الْإِلْفِ وَالِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ.

[سورة غافر (40) : آية 27]

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامر وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَنْ بِوَاوِ الْعَطْفِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ أَوْ أَنْ بِ (أَوِ) الَّتِي لِلتَّرْدِيدِ، أَيْ لَا يَخْلُو سَعْيُ مُوسَى عَنْ حُصُول أحد هاذين. وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ يَاءِ يُظْهِرَ وَنَصْبِ الْفَسادَ أَي يُبدل دينكُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا فِي ظُهُورِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِرَفْعِ الْفَسَادُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْفَسَادَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ ظُهُورِ أَتْبَاعِ مُوسَى، أَو بِأَن يجترىء غَيْرُهُ عَلَى مِثْلِ دَعْوَاهُ بِأَنْ تَزُولَ حُرْمَةُ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْخَوْفِ عَنْ عَمَلٍ أَنْ يَنْقَلِبَ جُبْنُهُمْ شَجَاعَةً إِذَا رَأَوْا نَجَاحَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُرِيدُونَ مثله. [27] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 27] وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) هَذَا حِكَايَةُ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْ مُوسَى فِي غَيْرِ حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضُمُّهُ مَلَأُ اسْتِشَارَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ لِقَوْمِهِ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: 26] وَلَكِنَّ مُوسَى لَمَّا بَلَغَهُ مَا قَالَهُ فِرْعَوْن فِي ملائه قَالَ مُوسَى فِي قَوْمِهِ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، وَلِذَلِكَ حُكِيَ فِعْلُ قَوْلِهِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ لَمْ يَقَعْ فِي مُحَاوَرَةٍ مَعَ مَقَالِ فِرْعَوْنَ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [18- 31] مِنْ قَوْلِهِ: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إِلَى قَوْلِهِ: قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَقَوْلُهُ: عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ خِطَابٌ لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَطْمِينًا لَهُمْ وَتَسْكِينًا لِإِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي أَعْدَدْتُ الْعُدَّةَ لِدَفْعِ بَطْشِ فِرْعَوْنَ الْعَوْذَ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَفِي مُقَدِّمَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ فِرْعَوْنُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ سَيَجِدُ مُنَاوِينَ مُتَكَبِّرِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَا رَبَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ الْحِفْظَ وَكَفَاهُ ضَيْرَ كُلِّ مُعَانِدٍ، وَذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي سُورَةِ طه [45، 46] : قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى

[سورة غافر (40) : آية 28]

فَأَخْبَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِأَنَّ رَبَّهُ حَافِظٌ لَهُ لِيَثِقُوا بِاللَّهِ كَمَا كَانَ مقَام النبيء لَا حِينَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ تَحْرُسُهُ أَصْحَابُهُ فِي اللَّيْلِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: 94، 95] الْآيَةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَتَخَلُّوا عَنْ حِرَاسَتِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِ بَعْضِ قَوْمِهِ أَوْ جُلِّهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ إِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ. وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَعْصِمُ بِهِ الْعَائِذُ فَيَدْفَعُ عَنْهُ مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، يُقَالُ: عَاذَ بِالْجَبَلِ، وَعَاذَ بِالْجَيْشِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] . وَعَبَّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ بِصِفَةِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ فِي صِفَةِ الرَّبِّ إِيمَاءً إِلَى تَوْجِيهِ الْعَوْذِ بِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعُوذُ بِمَوْلَاهُ. وَزِيَادَةُ وَصْفِهِ بِرَبِّ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَجْزَعُوا مِنْ مُنَاوَاةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَا يُفْظِعُهُمْ. وَجُعِلَتْ صِفَةُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ مُغْنِيَةً عَنْ صِفَةِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ وَزِيَادَةً، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَرْءِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكْذِيبُ بِالْجَزَاءِ قَلَّتْ مُبَالَاتُهُ بِعَوَاقِبِ أَعْمَالِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْقَسْوَةِ وَالْجُرْأَةِ على النَّاس. [28] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 28] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) عَطْفُ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ هَذَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ شُورَى

فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ جَارِيًا مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِ اسْتِشَارَتِهِ، أَوْ كَانَ أَجَابَ بِهِ عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: 26] لَكَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَقُولَ مَقَالَتَهُ إِلْهَامًا كَانَ أَوَّلَ مَظْهَرٍ مِنْ تَحْقِيقِ اللَّهِ لِاسْتِعَاذَةِ مُوسَى بِاللَّهِ، فَلَمَّا شَاعَ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى فِرْعَوْنَ نَاصِحًا وَلَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُهُ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ مِنْ آلِهِ. وَخِطَابُهُ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ مُوَجَّهٌ إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، وَلِحِكَايَةِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ عَقِبَ كَلَامِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ بِدُونِ عَطْفٍ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: 29] . وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنَ الْقِبْطِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِر: 29] فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُلْكٌ هُنَالِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَرَابَةِ فِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَمُؤْمِنٌ بِصِدْقِ مُوسَى، وَمَا كَانَ إِيمَانُهُ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا اهْتَدَى إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ إِمَّا بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ فصدّق مُوسَى عِنْد مَا سَمِعَ دَعْوَتَهُ كَمَا اهْتَدَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِينِ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «صَدَقْتَ» . وَكَانَ كَتْمُهُ الْإِيمَانَ مُتَجَدِّدًا مُسْتَمِرًّا تَقِيَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ إِظْهَارَهُ الْإِيمَانَ يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُ غَيْرَهُ كَمَا كَانَ (سُقْرَاطُ) يَكْتُمُ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ فِي بِلَادِ الْيُونَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ انْتِصَارًا لِآلِهَتِهِمْ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا إِلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْعَى لِحِفْظِ مُوسَى مِنَ الْقَتْلِ بِفَتْحِ بَابِ الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِهِ لِتَشْكِيكِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِ بِمُوسَى، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ غَيْرُ

الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [20] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فَإِنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَانَتْ قُبَيْلَ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ مِصْرَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي مَبْدَأِ دُخُولِهِ مِصْرَ. وَلَمْ يُوصَفْ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَا بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُنَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَظَّارًا فِي أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ مُوسَى، وَإِنَّ اللَّهَ يُقَيِّضُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ حُمَاةً عِنْدَ الشَّدَائِدِ. قِيلَ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حَبِيبٌ النَّجَّارُ وَقِيلَ سَمْعَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (يس) أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ مِنْ رُسُلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِصَّةُ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي «التَّوْرَاةِ» بِالصَّرِيحِ وَلَكِنَّهَا مَذْكُورَةٌ إِجْمَالًا فِي الْفِقْرَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «فَقَالَ عَبِيدُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَتَى يَكُونُ لَنَا هَذَا (أَيْ مُوسَى) فَخًّا أَطْلِقِ الرِّجَالَ لِيَعْبُدُوا الرَّبَّ إِلَهَهُمْ» . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَقْتُلُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ يَقْبُحُ بِكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا نَفْسًا لِأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ، أَيْ وَلَمْ يَجْبِرْكُمْ عَلَى أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَكُمْ قَوْلًا فَاقْبَلُوهُ أَوِ ارْفُضُوهُ، فَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ. وأَنْ يَقُولَ. مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ الْمُقَدَّرَةِ لِأَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ (أَنْ) كَثِيرًا. وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَسْمَاءِ آلِهَةِ الْقِبْطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْحِجَاجِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْنَسَ فِي خِطَابِ قَوْمِهِ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ فَارْتَقَى إِلَى التَّصْرِيحِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى بِعِلَّةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيِ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ بِصِدْقِهِ، وَإِلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ الْمُخَاطَبِينَ فَقَالَ: مِنْ رَبِّكُمْ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: رَجُلًا وَالْبَاءُ فِي بِالْبَيِّناتِ لِلْمُصَاحَبَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ رُجُوعٌ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ إِيهَامِ الشَّكِّ فِي صِدْقِ مُوسَى لِيَكُونَ كَلَامُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى احْتِمَالَيْ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ يَتَدَاوَلُهُمَا فِي كَلَامِهِ فَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمُوسَى بَلْ يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ فِي حَالَةِ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ لِيَسُوقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ إِلَى أَدِلَّةِ صِدْقِ مُوسَى بِوَجْهٍ لَا يُثِيرُ نُفُورَهُمْ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ فَتَكُونُ حَالًا. وَقَدَّمَ احْتِمَالَ كَذِبِهِ عَلَى احْتِمَالِ صِدْقِهِ زِيَادَةً فِي التَّبَاعُدِ عَنْ ظَنِّهِمْ بِهِ الِانْتِصَارَ لِمُوسَى فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فِي مَظْهَرِ الْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً. وَمَعْنَى: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اسْتِنْزَالُهُمْ لِلنَّظَرِ، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَلَا تَعْجَلُوا بِقَتْلِهِ وَلَا بِاتِّبَاعِهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَذِبُهُ فِيمَا تَحَدَّاكُمْ بِهِ وَمَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ مِنْ مَصَائِبَ فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّكُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَعَادَ كَذِبُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُوسَمَ بِالْكَاذِبِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ، أَيْ تُصِبْكُمْ بَوَارِقُهُ فَتَعْلَمُوا صِدْقَهُ فَتَتَّبِعُوهُ، وَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ بَعْضُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: يُصِبْكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا الْوَعْدُ بِالسُّوءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَعِيدِ. أَيْ فَإِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْعِنَادِ يُصِبْكُمْ جَمِيعُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَدْ شَابَهَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَقَامَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِذْ آمَنَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ دَعْوَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آلِهِ، وَيَوْمَ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) يَخْنُقُهُ بِثَوْبِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ عَقَبِةِ وَدَفَعَهُ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «وَاللَّهِ لَيَوْمُ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَبَذَلَ مَالَهُ وَدَمَهُ» . وَأَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَقْوَى يَقِينًا مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كَتَمَ إِيمَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَجُوزُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّهُ عَلَى كَذِبِهِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَى

[سورة غافر (40) : آية 29]

اللَّهِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَفْتَضِحَ أَمْرُهُ أَوْ يُهْلِكَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44- 46] لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمْهِلُ الْكَاذِبَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَاءَكُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَقَدْ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْرُقُ الْعَادَةَ بَعْدَ تَحَدِّي الْمُتَحَدِّي بِهَا إِلَّا لِيَجْعَلَهَا أَمَارَةً عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْهُ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْكَاذِبِ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ مِمَّا تَوَعَّدَكُمْ بِوُقُوعِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ نَفْسُهَا مَصَائِبَ تَحُلُّ بِهِمْ مِثْلَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَبَقِيَّةِ التِّسْعِ الْآيَاتِ. وَالْمُسْرِفُ: مُتَجَاوِزُ الْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ، فَالْمُرَادُ هُنَا مُسْرِفٌ فِي الْكَذِبِ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْكَذِبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الْأَنْعَام: 93] . وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْإِسْرَافُ فِي الْكَذِبِ تَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّابٌ عَطْفُ بَيَانٍ وَلَيْسَ خَبَرًا ثَانِيًا إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ إِسْرَافٌ هُنَا غَيْرُ إِسْرَافِ الْكَذِبِ، وَفِي هَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْكَرَهُ فِرْعَوْنُ، رَمَاهُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ كَلَامَيْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا هِيَ قَوْلٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ فِي قُرْآنِهِ يُقْصَدُ مِنْهَا تَزْكِيَةُ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ إِذْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ، وَأَنَّهُ تَقِيٌّ صَادِقٌ، فَيَكُونُ نَفْيُ الْهِدَايَةِ عَنِ الْمُسْرِفِ الْكَذَّابِ كِنَايَةً عَنْ تَقْوَى هَذَا الرَّجُلِ وَصِدْقِهِ لِأَنَّهُ نَطَقَ عَنْ هُدًى وَاللَّهُ لَا يُعْطِي الْهُدَى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. [29] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 29] يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا. لَمَّا تَوَسَّمَ نُهُوضَ حُجَّتِهِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهَا دَاخَلَتْ نُفُوسَهُمْ، أَمِنَ بَأْسَهُمْ، وَانْتَهَزَ فُرْصَةَ انْكِسَارِ قُلُوبِهِمْ، فَصَارَحَهُمْ بِمَقْصُودِهِ مِنِ الْإِيمَانِ بِمُوسَى عَلَى سُنَنِ الْخُطَبَاءِ

وَأَهْلِ الْجَدَلِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمُقْدِمَاتِ وَالْحُجَجِ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، فَوَعَظَهُمْ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ. وَأَدْخَلَ قَوْمَهُ فِي الْخِطَابِ فَنَادَاهُمْ لِيَسْتَهْوِيَهُمْ إِلَى تَعْضِيدِهِ أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَلَا يَجِدُ فِرْعَوْنُ بُدًّا مِنَ الِانْصِيَاعِ إِلَى اتِّفَاقِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَشْرِيكَ قَوْمِهِ فِي الْمَوْعِظَةِ أَدْخَلُ فِي بَابِ النَّصِيحَةِ فَابْتَدَأَ بِنُصْحِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَثَنَّى بِنَصِيحَةِ الْحَاضِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ مَصَائِبَ تُصِيبُهُمْ مِنْ جَرَّاءِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى فَإِنَّ ذَلِكَ يُهِمُّهُمْ كَمَا يُهِمُّ فِرْعَوْنَ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي إِسْدَاءِ النَّصِيحَةِ نَظِيرُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (¬1) . وَلَا يَخْفَى مَا فِي نِدَائِهِمْ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ قَوَّمُهُ مِنَ الِاسْتِصْغَاءِ لِنُصْحِهِ وَتَرْقِيقِ قُلُوبِهِمْ لِقَوْلِهِ. وَابْتِدَاءُ الْمَوْعِظَةِ بِقَوْلِهِ: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَخْوِيفِهِمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، يَعْنِي: لَا تَغُرَّنَّكُمْ عَظَمَتُكُمْ وَمُلْكُكُمْ فَإِنَّهُمَا مُعَرَّضَانِ لِلزَّوَالِ إِنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَالْمَقْصُودُ: تَخْوِيفُ فِرْعَوْنَ مِنْ زَوَالِ مُلْكِهِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْمُلْكَ لِقَوْمِهِ لِتَجَنُّبِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ بِفَرْضِ زَوَالِ مُلْكِهِ. وَالْأَرْضُ: أَرْضُ مِصْرَ، أَيْ نَافِذًا حُكْمُكُمْ فِي هَذَا الصُّقْعِ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّمْهِيدِ: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا، وَ (مَنْ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ كُلِّ نَاصِرٍ، فَالْمَعْنَى: فَلَا نَصْرَ لَنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ. وَأَدْمَجَ نَفْسَهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي يَنْصُرُنا وجاءَنا، لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ يَأْبَى لِقَوْمِهِ مَا يَأْبَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ الْمُصِيبَةَ إِنْ حَلَّتْ لَا تُصِيبُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ. وَمَعْنَى ظاهِرِينَ غَالِبِينَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَلَاكِكُمْ. ¬

(¬1) بعض حَدِيث أَوله: الدَّين النَّصِيحَة قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ إِلَخ.

[سورة غافر (40) : الآيات 30 إلى 31]

وَالْبَأْسُ: الْقُوَّةُ عَلَى الْعَدْوِ وَالْمُعَانِدِ، فَهُوَ الْقُوَّةُ عَلَى الضُّرِّ. قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ تَفَطَّنُ فِرْعَوْنُ إِلَى أَنَّهُ الْمُعَرَّضُ بِهِ فِي خِطَابِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ قَوْمَهُ فَقَاطَعَهُ كَلَامَهُ وَبَيَّنَ سَبَبَ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَرَى نَفْعًا إِلَّا فِي قَتْلِ مُوسَى وَلَا يَسْتَصْوِبُ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَرَى ذَلِكَ هُوَ سَبِيلُ الرَّشَادِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَتْرُكَ لِنَصِيحَةِ مُؤْمِنِهِمْ مَدْخَلًا إِلَى نُفُوسٍ مَلَئِهِ خِيفَةَ أَنْ يَتَأَثَّرُوا بِنُصْحِهِ فَلَا يُسَاعِدُوا فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى. وَلِكَوْنِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ صَدَرَ مَصْدَرَ الْمُقَاطَعَةِ لِكَلَامِ الْمُؤْمِنِ جَاءَ فِعْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَةِ. وَمَعْنَى: مَا أُرِيكُمْ: مَا أَجْعَلُكُمْ رَائِينَ إِلَّا مَا أَرَاهُ لِنَفْسِي، أَيْ مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِأَنْ تَعْتَقِدُوا إِلَّا مَا أَعْتَقِدُهُ، فَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، أَيْ لَا أُشِيرُ إِلَّا بِمَا هُوَ مُعْتَقَدِي. وَالسَّبِيلُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّشَادِ قَرِينَةٌ، أَيْ مَا أَهْدِيكُمْ وَأُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِعَمَلٍ فِيهِ رَشَادٌ. وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَنَّ كَلَامَ مُؤْمِنِهِمْ سَفَاهَةُ رَأْيٍ. وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى كَمَا هُوَ بَيِّنٌ وَكَمَا هُوَ مُقْتَضى الْعَطف. [30- 31] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 30 إِلَى 31] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) لَمَّا كَانَ هَذَا تَكْمِلَةٌ لِكَلَامِ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْرِيجٌ عَلَى مُحَاوَرَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: 29] إِلَخْ وَكَانَ الَّذِي آمَنَ قَدْ جَعَلَ كَلَامَ فِرْعَوْنَ فِي الْبَيْنِ

وَاسْتَرْسَلَ يُكْمِلُ مَقَالَتَهُ عَطَفَ فِعْلَ قَوْلِهِ بِالْوَاوِ لِيَتَّصِلَ كَلَامُهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مُرَاجَعَةَ فِرْعَوْنَ وَلَكِنَّهُ قَصَدَ إِكْمَالَ خِطَابِهِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالَّذِي آمَنَ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ. وَإِعَادَتُهُ نِدَاءَ قَوْمِهِ تَأْكِيدٌ لِمَا قَصَدَهُ مِنَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَجُعِلَ الْخَوْفُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَخُوفِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَخُوفِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) قَالَ لَبِيدٌ يَرْثِي أَخَاهُ أَرْبَدَ: أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَخْشَى عَلَيْهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا ويَوْمِ الْأَحْزابِ مُرَادٌ بِهِ، الْجِنْسُ لَا (يَوْمٌ) مُعَيَّنٌ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى جَمْعٍ أَزْمَانُهُمْ مُتَبَاعِدَةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: مِثْلَ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ، فَإِفْرَادُ يَوْمِ لِلْإِيجَازِ، مِثْلَ بَطْنٍ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْفَاعِلِ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ وَالْمُرَادُ بِأَيَّامِ الْأَحْزَابِ أَيَّامَ إِهْلَاكِهِمْ وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ الْيَوْمَ عَلَى يَوْمِ الْغَالِبِ وَيَوْمِ الْمَغْلُوبِ. وَالْأَحْزَابُ الْأُمَمُ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ حِزْبٌ تَجْمَعُهُمْ أَحْوَالٌ وَاحِدَةٌ وَتَنَاصُرٌ بَيْنَهُمْ فَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْأُمَّةُ حِزْبًا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [53] . وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالْعَمَلُ الَّذِي يَدْأَبُ عَلَيْهِ عَامِلُهُ، أَيْ يُلَازِمُهُ وَيُكَرِّرُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ [11] . وانتصب مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ وَلَمَّا كَانَ بَيَانًا لَهُ كَانَ مَا يُضَافَانِ إِلَيْهِ مُتَّحِدًا لَا مَحَالَةَ فَصَارَ الْأَحْزَاب و (الدأب) فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مُتَحَدٍّ فِيهِمَا، فَالتَّقْدِيرُ: مِثْلَ يَوْمِ جَزَاءِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ يَوْمِ جَزَاءِ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، أَيْ جَزَاءِ عَمَلِهِمْ. وَدَأْبُهُمُ الَّذِي اشْتَرَكُوا فِيهِ هُوَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِبْطَ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، فَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَكَّانِ طُوفَانُهُمْ مَشْهُورًا، وَأُمًّا عَادٌ وَثَمُودُ فَلِقُرْبِ بِلَادِهِمْ مَنْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانَ عَظِيمًا لَا يَخْفَى عَلَى مُجَاوِرِيهِمْ. وَجُمْلَةُ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهِيَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامَيْهِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، أَيْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ جَزَاءً عَادِلًا مِنَ اللَّهِ وَهُوَ جَزَاءُ الْإِشْرَاكِ. وَالظُّلْمُ يُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُعَامَلَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ نَفِيَ الظُّلْمِ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُ يُرِيدُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ كَقَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الْمَائِدَة: 6] وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَقَوْلِهِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: 57] ، فَلَمَّا وَقَعَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ اقْتَضَى عُمُومَ نَفِيِ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ صُدُورَ ظُلْمٍ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يَشَاءُ أَنْ يَظْلِمَ عِبَادَهُ. وَأَوَّلُ الْمَعْنَيَيْنَ فِي الْإِرَادَةِ وَفِي الظُّلْمِ أَعْلَقُ بِمَقَامُ الْإِنْذَارَ، وَالْمَعْنَى الثَّانِيَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ عِقَابَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ عَدْلٌ، لِأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي إِقْلَاعِ النَّاسِ عَنْهُ، وَصِدْقُ الْوَعِيدِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ. وَتَقْدِيمُ اسْمِ اللَّهُ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ مَدْلُولِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَإِذْ كَانَ الْمُسْنَدُ وَاقِعًا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَانَ الْمَعْنَى: قَصْرُ نَفْيِ إِرَادَةِ الظُّلْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، أَيِ اللَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ بَلْ غَيْرُهُ يُرِيدُونَهُ لَهُمْ وَهُمْ قَادَةُ الشِّرْكِ وَأَيِمَّتُهُ إِذْ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: 28] . هَذَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِلظُّلْمِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: مَا اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ

[سورة غافر (40) : الآيات 32 إلى 33]

يَظْلِمَ عِبَادَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أنفسهم بِاتِّبَاع أئمتهم عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يُونُس: 44] وبظلمهم دعاتهم وأئمتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] ، فَلَمْ يَخْرُجْ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِفَادَةِ قَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَتَأَمّله. [32- 33] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 32 إِلَى 33] وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) أَعْقَبَ تَخْوِيفَهُمْ بِعِقَابِ الدُّنْيَا الَّذِي حَلَّ مَثَلُهُ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ بِأَنْ خَوَّفَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ عَاطِفًا جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَأَقْحَمَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ نِدَاءَ قَوْمِهِ لِلْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا. ويَوْمَ التَّنادِ هُوَ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْحَشْرِ، سُمِّيَ يَوْمَ التَّنادِ لِأَنَّ الْخَلْقَ يَتَنَادُونَ يَوْمَئِذٍ: فَمِنْ مُسْتَشْفِعٍ وَمِنْ مُتَضَرِّعٍ وَمن مسلّم ومهنّىء وَمِنْ مُوَبِّخٍ وَمِنْ مُعْتَذِرٍ وَمِنْ آمِرٍ وَمِنْ مُعْلِنٍ بِالطَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُنادِيهِمْ [فصلت: 47] ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] ، وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: 44] ، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: 50] ، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاء: 71] ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفرْقَان: 13] ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَر: 6] وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْ بَدِيعِ الْبَلَاغَةِ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْيَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُ فِي مَوْقِفِهِ بَيْنَهُمْ يُنَادِيهِمْ بِ (يَا قَوْمِ) نَاصِحًا وَمُرِيدًا خَلَاصَهُمْ مِنْ كُلِّ نِدَاءٍ مُفْزِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَأْهِيلَهُمْ لِكُلِّ نِدَاءٍ سَارٍّ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَوْمَ التَّنادِ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُنَوَّنٍ وَلَكِنْ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَنُونِ لِقَصْدِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ، كَقَوْلِ التَّاسِعَةِ مِنْ نِسَاءِ

حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، كَثِيرُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ» فَحَذَفَتِ الْيَاءَ مِنْ كَلِمَةِ (النَّادِ) وَهِيَ مَعْرِفَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَوْمَ التَّنَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْفَاصِلَةَ هِيَ قَوْلُهُ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ. ويَوْمَ تُوَلُّونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ التَّنادِ، وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ، وَالْإِدْبَارُ: أَنْ يُرْجِعَ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي وَرَاءَهُ، أَيْ مِنْ حَيْثُ أَتَى هَرَبًا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي وَرَدَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا مَا يَكْرَهُ، أَيْ يَوْمَ تَفِرُّونَ مِنْ هَوْلِ مَا تَجِدُونَهُ. ومُدْبِرِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ تُوَلُّونَ. وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: حَالَةَ لَا يَنْفَعُكُمُ التَّوَلِّي. وَالْعَاصِمُ: الْمَانِعُ وَالْحَافِظُ. ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ عاصِمٍ، ومِنَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لِلِابْتِدَاءِ، تَقُولُ: عَصَمَهُ مِنَ الظَّالِمِ، أَيْ جَعَلَهُ فِي مَنَعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مِنَ الظَّالِمِ. وَضُمِّنَ فِعْلُ (عَصَمَ) مَعْنَى: أَنْقَذَ وَانْتَزَعَ، وَمَعْنَى: مِنَ اللَّهِ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعَانِي لَا الذَّوَاتُ. ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى عاصِمٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَأَغْنَى الْكَلَامُ عَلَى تَعْدِيَةِ فِعْلِ: أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غَافِر: 30] عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ لِتَضَمُّنِهَا معنى: إِنِّي أرشدتكم إِلَى الْحَذَرِ مِنْ يَوْمِ التَّنَادِي. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِحَذْفِ جُمَلٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا إِرْشَادٌ لَكُمْ فَإِنَّ هَدَاكُمُ اللَّهُ عَمِلْتُمْ بِهِ وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُ فَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّكُمْ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلُ. وَمَعْنَى إِسْنَادُ الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ وَنَحْوِهِمَا إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ نَفْسَ

[سورة غافر (40) : الآيات 34 إلى 35]

الشَّخْصِ وَعَقْلَهُ خَلْقًا غَيْرَ قَابِلٍ لِمَعَانِي الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَلَا يَنْفَعِلُ لِدَلَائِلِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ. وَأَرَادَ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ الْعُمُومَ الشَّامِلَ لِكُلِّ مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ التَّوْفِيقَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَوَقُّعِهِ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْعُمُومِ، وَآثَرَ لَهُمْ هَذَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: 37] لِأَنَّهُ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ وَلَمْ يَتَوَسَّمْ فِيهِمْ مَخَائِلَ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِهِ وَمَوْعِظَتِهِ. [34- 35] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 34 الى 35] وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا. تَوَسُّمَ فِيهِمْ قِلَّةَ جَدْوَى النُّصْحِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى تَكْذِيبِ مُوسَى فَارْتَقَى فِي مَوْعِظَتِهِمْ إِلَى اللَّوْمِ عَلَى مَا مَضَى، وَلِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ كَذَّبُوا يُوسُفَ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَتَكْذِيبُ الْمُرْشِدِينَ إِلَى الْحَقِّ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْلَافِهِمْ فَتَكُونُ سَجِيَّةً فِيهِمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (قَدْ) وَلَامِ الْقِسْمِ لِتَحْقِيقِهِ لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةٌ أَنْ يُنْكِرُوهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ. فَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: جاءَكُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْحُصُولِ وَالظُّهُورِ وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ وَلَقَدْ ظَهَرَ لَكُمْ يُوسُفُ بِبَيِّنَاتٍ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ الْبَيِّنَاتِ مُقَارِنًا دَعْوَةً إِلَى شَرْعٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ الْبَيِّنَاتِ وَتَحَقَّقُوا مَكَانَتَهُ كَانَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ أَنْ يَتَبَيَّنُوا آيَاتِهِ وَيَسْتَهْدُوا طَرِيقَ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ يُوسُفَ بِأَنْ يَدْعُوَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، لِحِكْمَةٍ لَعَلَّهَا هِيَ انْتِظَارُ الْوَقْتِ وَالْحَالِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الْبَيِّنَةُ الْمُظْهِرَةُ أَنَّهُ مُصْطَفَى مِنَ اللَّهِ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَّبِعَ خُطَاهُ وَيَتَرَسَّمَ آثَارَهُ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ

الْمَادِّيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَاجِبَةٌ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ: إِمَّا بِالْعَقْلِ، أَوْ بِمَا تَوَاتَرَ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ تَعَالِيمِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالْبَيِّنَاتُ: إِخْبَارُهُ بِمَا هُوَ مَغِيبٌ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤَى، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْعِصْمَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِنْ بَيْنِهِمْ وَشَهِدَتْ لَهُ بِهَا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَشَاهِدُ أَهْلِهَا حَتَّى قَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يُوسُف: 54] ، فَكَانَتْ دَلَائِلُ نُبُوءَةِ يُوسُفَ وَاضِحَةً وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَخْلِصُوا مِنْهَا اسْتِدْلَالًا يَقْتَفُونَ بِهِ أَثَرَهُ فِي صَلَاحِ آخِرَتِهِمْ، وَحَرَصُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ دُنْيَاهُمْ فَأَوْدَعُوهُ خَزَائِنَ أَمْوَالِهِمْ وَتَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: 54] . وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنْ يَسْتَرْشِدُوا بِهِ فِي سُلُوكِهِمُ الدِّينِيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الِاسْتِرْشَادِ بِيُوسُفَ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَأَلْهَاهُمُ الِاعْتِنَاءُ بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا عَنْ تَدْبِير الدَّين فَلَمَّا ذَا لَمْ يَدْعُهُمْ يُوسُفُ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِالْحَقِّ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ سَأَلَ مِنَ الْمَلِكِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: 55] . قُلْتُ: لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا سُئِلَ مِنْهُ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَأَقَامَهُ اللَّهُ مَقَامَ الْمُفْتِي وَالْمُرْشِدِ لِمَنِ اسْتَرْشَدَ لَا مَقَامَ الْمُحْتَسِبِ الْمُغَيِّرِ لِلْمُنْكَرِ، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] ، فَلَمَّا أَقَامَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ وَعَلِمَ يُوسُفُ مِنْ قَوْلِ الْمَلِكِ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: 54] أَنَّ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا تَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِ وَأَمْوَالِهِ، لَمْ يَسْأَلْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا وُجُوبُ طَلَبِهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْتِرْشَادَ مِنْهُ فَذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ الْإِنْحَاءُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ فِي قِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْكَمَالِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، أَيْ فَمَا زَالَ أَسْلَافُكُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنْ يُوسُفَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْهُدَى غَيْرِ مَأْلُوفٍ لَهُمْ وَيُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ ثُمَّ لَا تَعْزِمُ نُفُوسُهُمْ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْإِرْشَادَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. فَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ فِي حَالَةِ شَكٍّ، أَيْ كَانَ حَاصِلُ مَا بَلَغُوا إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا يَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ وَاجِبِهِمْ نَحْوَهُ فَانْقَضَتْ مُدَّةُ حَيَاةِ يُوسُفَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْأَمْرِ.

فَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي طَلَبِ مَا يُنْجِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها [الْإِسْرَاء: 18] الْآيَتَيْنِ. وحَتَّى لِلْغَايَةِ وَغَايَتُهَا هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: إِذا هَلَكَ، وإِذا هُنَا اسْمٌ لِزَمَانِ الْمُضِيِّ مَجْرُورَةٌ بِ (حَتَّى) وَلَيْسَتْ بِظَرْفٍ، أَيْ حَتَّى زَمَنِ هَلَاكِ يُوسُفَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا، أَيْ قَالَ أَسْلَافُكُمْ فِي وَقْتِ وَفَاةِ يُوسُفَ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَبَدًا رَسُولًا بَعْدَ يُوسُفَ، يَعَنُونَ: أَنَّا كُنَّا مُتَرَدِّدِينَ فِي الْإِيمَانِ بِيُوسُفَ فَقَدِ اسْتَرَحْنَا مِنَ التَّرَدُّدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ جَرَى مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَاوِمِينَ لِأَهْلِ الْإِصْلَاحِ وَالْفَضْلِ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِفَضْلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ تَنَدُّمًا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ خَيْرٍ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ. وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَمَالِ فِي عَصْرِهِ كَمَا يُقَالُ: خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَبَقِيَّةُ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَا يَأْتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ بَعْدَهُ كَاذِبٌ فَلِذَلِكَ كَذَّبُوا مُوسَى. وَمَقَالَتُهُمْ هَذِهِ لَا تَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهَا قَطْعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَشْفِ الشَّكِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُوسُفَ كَانَ رَسُولًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أَن رَسُولا محَال مِنْ ضَمِيرِ مِنْ بَعْدِهِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَسُولًا مَفْعُولَ يَبْعَثَ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي وَصْفَ يُوسُفَ بِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ عَدُّهُ فِي الرُّسُلِ وَلَا أَنَّهُ دَعَا إِلَى دِينٍ فِي مِصْرَ وَكَيْفَ وَاللَّهِ يَقُولُ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [يُوسُف: 76] وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ نَبِيءٌ إِذَا وَجَدَ مَسَاغًا لِلْإِرْشَادِ أَظْهَرُهُ كَقَوْلِهِ: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [يُوسُف: 39، 40] وَقَوْلُهُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 37، 38] .

وَعُدِّيَ فِعْلُ جاءَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. وَأُسْنِدَ فَما زِلْتُمْ وقُلْتُمْ إِلَى ضميرهم أَيْضا، وهم مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ قَصْدًا لِحَمْلِ تَبِعَةِ أَسْلَافِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ التَّكْذِيبَ لِلنَّاصِحِينَ وَاضْطِرَابَ عُقُولِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِ الصِّدْقِ قَدْ وَرِثُوهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ فِي جِبِلَّتِهِمْ وَتَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ فَانْتِقَالُهُ إِلَيْهِمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] : وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهُ. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ جَرَى أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ حِكَايَةً لِبَقِيَّةِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ بَعْضَهَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ وَبَعْضَهَا كَلَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِنْ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ إِلَخْ بَدَلًا أَوْ مُبْتَدَأً، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَى بَيَانِ الْمَعْنَى دُونَ تَصَدٍّ لِبَيَانِ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ إِلَى قَوْلِهِ: جَبَّارٍ. كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ وَكَلَامٍ فِرْعَوْنَ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمَعَانِي الْإِسْلَامِيَّةِ قُصِدَ مِنْهُ الْعِبْرَةُ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُوسَى تَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَيْ كَضَلَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنِ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ أَمْثَالَكُمْ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ جَزَاؤُكُمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُؤْمِنٌ بِمُوسَى وَهَارُونَ غَيْرُهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَذَّكُّرِ الشَّيْء بضده، وَمِمَّا يَزِيدُ يَقِينًا بِهَذَا أَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ تَكَرَّرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ من أول هَذِه السُّورَةِ، ثُمَّ كَانَ هُنَا وَسَطًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: 56] ، ثُمَّ كَانَ خَاتِمَةً فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ [غَافِر: 69] .

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ: إِلَى الضَّلَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ اللَّهُ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الضَّلَالِ يَضِلُّ اللَّهُ الْمُسْرِفِينَ الْمُرْتَابِينَ، أَيْ أَنَّ ضَلَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ضَلَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْخِطَابُ بِالْكَافِ الْمُقْتَرِنَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْمُسْرِفُ: الْمُفْرِطُ فِي فِعْلٍ لَا خَيْرَ فِيهِ. والمرتاب: الشَّديد الرَّيْبِ، أَيِ الشَّكِّ. وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ كَإِسْنَادِ نَفْيِ الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غَافِر: 28] ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ كَبُرَ مَقْتاً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ فبيّن أَن مَا صدق (مَنْ) جَمَاعَةٌ لَا وَاحِدٌ، فَرُوعِيَ فِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ لَفَظُ (مَنْ) فَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَرُوعِيَ فِي الْبَدَلِ مَعْنَى (مَنْ) فَأُبْدِلَ مِنْهُ مَوْصُولُ الْجَمْعِ. وَصِلَةُ الَّذِينَ عرف بهَا الْمُشْركُونَ من قُرَيْش قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: 40] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [4] : مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ. وَاخْتِيَارُ الْمُضَارِعِ فِي يُجادِلُونَ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ مُجَادَلَتِهِمْ وَتَكَرُّرِهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي ذَمِّهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ ذَمِّ جِدَالِهِمْ الَّذِي أَوْجَبَ ضَلَالَهُمْ. وَفِي الْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ إِضْلَالِهِمْ، أَيْ سَبَبُ خَلْقِ الضَّلَالِ فِي قُلُوبِهِمِ الْإِسْرَافُ بِالْبَاطِلِ تكَرر مُجَادَلَتِهُمْ قَصْدًا لِلْبَاطِلِ. وَالْمُجَادَلَةُ: تَكْرِيرُ الِاحْتِجَاجِ لِإِثْبَاتِ مَطْلُوبِ الْمُجَادِلِ وَإِبْطَالِ مَطْلُوبِ مَنْ يُخَالِفُهُ قَالَ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: 125] ، فَمِنَ الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمُحَاجَّةُ لِإِبْطَالِ دَلَالَتِهَا، وَمِنْهَا الْمُكَابَرَةُ فِيهَا كَمَا قَالُوا:

قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] ، وَمِنْهَا قَطْعُ الِاسْتِمَاعِ لَهَا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بن سَلُولٍ فِي وَقْتِ صَرَاحَةِ كُفْرِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا فِيهِ ابْنُ سَلُولٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن سَلُولٍ لَا أُحْسِنُ مِمَّا تَقُولُ أَيُّهَا الْمَرْءُ وَلَا تَغُشُّنَا بِهِ فِي مجالسنا وَاجْلِسْ فِي رَحَّلَكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهِ. وبِغَيْرِ سُلْطانٍ مُتَعَلِّقٌ بِ يُجادِلُونَ، وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَالسُّلْطَانِ: الْحُجَّةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَكِنْ بِاللَّجَاجِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وأَتاهُمْ صِفَةٌ لِ سُلْطانٍ. وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعَارٌ لِلظُّهُورِ وَالْحُصُولِ. وَحُصُولُ الْحُجَّةِ هُوَ اعْتِقَادُهَا وَلَوْحُهَا فِي الْعَقْلِ، أَيْ يُجَادِلُونَ جَدَلًا لَيْسَ مِمَّا تُثِيرُهُ الْعُقُولُ وَالنَّظَرُ الْفِكْرِيُّ وَلَكِنَّهُ تَمْوِيهٌ وَإِسْكَاتٌ. وَجُمْلَةُ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ خَبَرُ إِنَّ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْإِنْشَاءِ، وَهِيَ إِنْشَاءُ ذَمِّ جِدَالِهِمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَمُّ فَمِ الْحَقِّ، أَيْ كَبُرَ جِدَالُهُمْ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ، فَفَاعِلُ كَبُرَ ضَمِيرُ الْجِدَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ يُجادِلُونَ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . ومَقْتاً تَمْيِيزٌ لِلْكِبَرِ وَهُوَ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَقْتُ جِدَالِهِمْ. وَفِعْلُ كَبُرَ هُنَا مُلْحَقٌ بِأَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلِ: سَاءَ، لِأَنَّ وَزْنَ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ يَجِيءُ بِمَعْنَى: نِعْمَ وَبِئْسَ، وَلَوْ كَانَتْ ضَمَّةُ عَيْنِهِ أَصْلِيَّةً وَبِهَذَا تَفْظِيعٌ بِالصَّرَاحَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتُفِيدَ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنَّ جِدَالَهُمْ هُوَ سَبَبُ إِضْلَالِهِمْ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ الْمَكِينَ، فَحَصَلَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ تَقْرِيرُ فَظَاعَةِ جِدَالِهِمْ بِطَرِيقَيِ الْكِنَايَةِ وَالتَّصْرِيحِ. وَالْكِبْرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَّةِ، أَيْ مَقَتَ جِدَالَهَمْ مَقْتًا شَدِيدًا. وَالْمَقْتُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ. وَكَوْنُهُ مَقْتًا عِنْدَ الله تشنيع لَهُم وَتَفْظِيعٌ.

أَمَّا عَطْفُ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فَلَمْ أَرَ فِي التَّفَاسِيرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي بَيْنَ يَدِيَّ مَنْ عَرَّجَ عَلَى فَائِدَةِ عَطْفِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا مَا عدا الْمَهَائِمِيَّ فِي «تبصرة الرحمان» إِذْ قَالَ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْإِضْلَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَبُرَ مَقْتًا أَنَّهُ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ الْمَظَاهِرُ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا ظُهُورُ الْحَقِّ اهـ. وَكَلِمَةُ الْمَهَائِمِيِّ كَلِمَةٌ حَسَنَةٌ يَعْنِي أَنَّ كَوْنَهُ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ فِي عِلْمِ النَّاسِ إِلَّا بِالْخَبَرِ فَزِيدَ الْخَبَرُ تَأْيِيدًا بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى قِلَّتِهِمْ يَوْمَئِذٍ يَظْهَرُ بَيْنَهُمْ بُغْضُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَعِنْدِي: أَنَّ أَظْهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّنْوِيهَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَرِدْ إِقْنَاعَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْبَأُونَ بِبُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِبُغْضِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَالْمَقْصُودُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْبَاطِلَ، كَمَا قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: 71] مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَبْجِيلِ مَكَانَتِهِمْ بِأَنْ ضُمَّتْ عِنْدِيَّتُهُمْ إِلَى عِنْدِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمرَان: 18] وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 64] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 62] وَنَحْوِ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذَكَرَ حَدِيثَ كَلَامِ الذِّئْبِ فَتَعَجَّبَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ فَقَالَ: «آمَنَتْ بِذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ» وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَجْلِسِ. وَفِي إِسْنَادِ كَرَاهِيَةِ الْجِدَالِ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَلْقِينٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى نَحْوِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [الْقَصَص: 55] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفرْقَان: 63] وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: 72] . وَالْقَوْلُ فِي كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ كَالْقَوْلِ فِي كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ. وَالطَّبْعُ: الْخَتْمُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالْأَكِنَّةُ: خَلْقُ الضَّلَالَةِ فِي الْقَلْبِ، أَيِ النَّفْسِ. وَالْمُتَكَبِّرُ: ذُو الْكِبْرِ الْمُبَالَغِ فِيهِ وَلِذَلِكَ اسْتُعِيرَتْ صِيغَةُ التَّكَلُّفِ.

[سورة غافر (40) : الآيات 36 إلى 37]

وَالْجَبَّارُ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَالْجَبَّارُ: الَّذِي يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّونَ عَمَلَهُ لِظُلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِإِضَافَةِ قَلْبِ إِلَى مُتَكَبِّرٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وَابْنُ ذكْوَان عَن ابْن عَامِرٍ بِتَنْوِينِ قَلْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرٍ وجَبَّارٍ صِفَتَيْنِ لِ قَلْبِ، وَوَصْفُ الْقَلْبِ بِالتَّكَبُّرِ وَالْجَبْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَقْصُودُ وَصْفُ صَاحِبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَة: 283] لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِثْمِ كَمَا يُقَالُ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي. [36- 37] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً هَذِهِ مَقَالَةٌ أُخْرَى لِفِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي حَاجَّهُ فِيهِ مُوسَى وَلِذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُ بِالْوَاوِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا عَطَفَ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ آنِفًا، وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَالِكَ مُسْتَوْفَى عَلَى نَظِيرِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (هَامَانَ) وَالصَّرْحِ هُنَالِكَ. وَقَدْ لَاحَ لِي هُنَا مَحْمَلٌ آخَرُ أَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فِي الْغَايَةِ وَيُخَالِفُهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحِ لَا لِقَصْدِ الِارْتِقَاءِ إِلَى السَّمَاوَاتِ بَلْ لِيَخْلُوَ بِنَفْسِهِ رِيَاضَةً لِيَسْتَمِدَّ الْوَحْيَ مِنَ الرَّبِّ الَّذِي ادَّعَى مُوسَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ إِذْ قَالَ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ فِي مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ عَنِ النَّاسِ كَانَ مِنْ شِعَارِ الِاسْتِيحَاءِ الْكَهْنُوتِيِّ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَحْسَبُ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ وَحَامِي الْكَهَنَةِ وَالْهَيَاكِلِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَشْغَلُهُ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَمْلَكَةِ فَكَانَ يكل شؤون الدِّيَانَةِ إِلَى الْكَهَنَةِ فِي مَعَابِدِهِمْ، فَأَرَادَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْجَدَلِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّى لِذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ قَوْلُهُ الْفَصْلَ فِي نَفْيِ وُجُودِ إِلَهٍ آخَرَ تَضْلِيلًا لِدَهْمَاءَ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّوْطِئَةَ لِلْإِخْبَارِ بِنَفْيِ إِلَهٍ آخَرَ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى وَسَائِلَ النَّفْيِ بِنَفْسِهِ كَمَا

كَانَتْ لِلْيَهُودِ مَحَارِيبٌ لِلْخَلْوَةِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مَرْيَم: 11] وَقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آل عمرَان: 37] وَمِنِ اتِّخَاذِ الرُّهْبَانِ النَّصَارَى صَوَامِعَ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ لِلْخِلْوَةِ لِلتَّعَبُّدِ، وَوُجُودُهَا عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَمِ يدل على أَنه مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لَهُمْ وَالسَّابِقَةِ عَلَيْهِمْ. وَالْأَسْبَابُ: جَمْعُ سَبَبٍ، وَالسَّبَبُ مَا يُوصِّلُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَيُطْلَقُ السَّبَبُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَبْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى أَعْلَى النَّخِيلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: طُرُقُ السَّمَاوَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَإِنْ يَرِقْ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَانْتَصَبَ أَسْبابَ السَّماواتِ عَلَى الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ لِقَوْلِهِ: الْأَسْبابَ. وَجِيءَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْمُرَادِ بِالْأَسْبَابِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَشَأْنِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ لِيُورِدَ عَلَى نَفْسِ مُتَشَوِّقِةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ نَفْسُ (هَامَانَ) . وَالِاطِّلَاعُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي الطُّلُوعِ، وَالطُّلُوعُ: الظُّهُورُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ظُهُورًا مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ أَوْ عَدَمُهُ بِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ فَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) فَهُوَ الظُّهُورُ مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) فَهُوَ ظُهُورٌ مُطْلَقٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَطَّلِعَ بِالرَّفْعِ تَفْرِيعًا عَلَى أَبْلُغُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْلَغُ ثُمَّ أَطْلَعُ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابَ التَّرَجِّي لِمُعَامَلَةِ التَّرَجِّي مُعَامَلَةَ التَّمَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُنْكِرُونَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَى بَلَغْتُ اطَّلَعْتُ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ هَاهُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ اسْتِعَارَةُ حَرْفِ الرَّجَاءِ إِلَى مَعْنَى التَّمَنِّي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ مَا تَرَجَّاهُ، وَجَعَلَ نَصْبَ الْفِعْلِ بَعْدَهُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَبَيْنَ إِلى وإِلهِ الْجِنَاسُ النَّاقِصُ بِحَرْفٍ كَمَا وَرَدَ مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ ... تَصُولُ بِأَسْيَافٍ قَوَاضٍ قَوَاضِبٍ

وَجُمْلَةُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً مُعْتَرِضَةٌ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ (هَامَانُ) وَقَوْمُهُ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى أَوْهَنَتْ مِنْهُ يَقِينَهُ بِدِينِهِ وَآلِهَتِهِ وَأَنَّهُ يَرُومُ أَنْ يَبْحَثَ بَحْثَ مُتَأَمِّلٍ نَاظِرٍ فِي أَدِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ فَحَقَّقَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ إِلَّا نَفِيَ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى بِدَلِيلِ الْحِسِّ. وَجِيءَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الْمُعَزَّزِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ اتِّهَامَ وَزِيرِهِ إِيَّاهُ بِتَزَلْزُلِ اعْتِقَادِهِ فِي دِينِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ كَذِبُ مُوسَى. وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عَزْمَهُ هَذَا كَيْدًا فِي قَوْلِهِ: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ. وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ جُمْلَةُ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ فِرْعَوْنُ لِبَيَانِ حَالِ اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ أَقْوَالِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنْ ضَلَالِ اعْتِقَاد ومغريا بِفساد الْأَعْمَالِ. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ جَمِيعِ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ لَمْ تُفْصَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مِمَّا سَمَّوْهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ كَمَالِيِّ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ فِي بَابِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي. وَافْتِتَاحُهَا بِ كَذلِكَ كَافْتِتَاحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ أَي تَزْيِين عَمَلِ فِرْعَوْنَ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ تَزْيِينَ عَمَلِهِ لَهُ بَلَغَ مِنَ الْقُوَّةِ فِي نَوْعِهِ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ شِبْهٌ يُشَبَّهُ بِهِ فَمَنْ أَرَادَ تَشْبِيهَهُ فَلْيُشَبِّهْهُ بِعَيْنِهِ. وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَفْعُولِ التَّزْيِينِ لَا مَعْرِفَةُ فَاعِلِهِ، أَيْ حَصَلَ لَهُ تَزْيِينُ سُوءِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ فَحَسِبُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالضَّلَالَ اهْتِدَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصُدَّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ قَاصِرًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُتَعَدِّيًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصُدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ

[سورة غافر (40) : الآيات 38 إلى 40]

أَعْرَضَ عَنِ السَّبِيلِ وَمَنَعَ قَوْمَهَ اتِّبَاعَ السَّبِيلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ بِضَمِّ الصَّادِ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي: زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ. وَتَعْرِيفُ السَّبِيلِ لِلْعَهْدِ، أَيْ سَبِيلُ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلُ الْخَيْرِ، أَوْ سَبِيلُ الْهُدَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَمَالِ فِي النَّوْعِ، أَيْ صَدٌّ عَنِ السَّبِيلِ الْكَامِلِ الصَّالِحِ. وَجُمْلَةُ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَالْمُرَادُ بِكَيْدِهِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ بِنَاءِ الصَّرْحِ وَالْغَايَةِ مِنْهُ، وَسُمِّيَ كَيْدًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ بَلْ أُرِيدُ بِهِ الْإِفْضَاءُ إِلَى إِيهَامِ قَوْمِهِ كَذِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالتِّبَابُ: الْخُسْرَانُ وَالْهَلَاكُ، وَمِنْهُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ، وَحَرَّفُ الظَّرْفِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنَى شِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: «وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْن إلّا بتباب شَدِيدٍ» . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَال مقدرَة. [38- 40] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 38 إِلَى 40] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) هَذَا مَقَالٌ فِي مَقَامٍ آخَرَ قَالَهُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الْمَعْطُوفَةُ بِالْوَاوِ مَقَالَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ. فَابْتَدَأَ مَوْعِظَتَهُ بِنِدَائِهِمْ لِيَلْفِتَ إِلَيْهِ أَذْهَانَهُمْ وَيَسْتَصْغِيَ أَسْمَاعَهُمْ، وَبِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ قَوْمُهُ لِتُصْغِيَ إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهُمْ.

وَرَتَّبَ خُطْبَتَهُ عَلَى أُسْلُوبِ تَقْدِيمِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ تَعْقِيبِهِ بِالتَّفْصِيلِ، فَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، وَسَبِيلُ الرَّشَادِ مُجْمَلٌ وَهُوَ عَلَى إِجْمَالِهِ مِمَّا تَتُوقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، فَرَبَطَ حُصُولَهُ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ مِمَّا يُقْبِلُ بِهِمْ عَلَى تَلَقِّي مَا يُفَسِّرُ هَذَا السَّبِيلُ، وَيَسْتَرْعِي أَسْمَاعَهُمْ إِلَى مَا يَقُولُهُ إِذْ لَعَلَّهُ سَيَأْتِيهِمْ بِمَا تَرْغَبُهُ أَنْفُسُهُمْ إِذْ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ نَقَّحَ رَأْيَهُ وَنَخَلَ مَقَالَهُ وَأَنَّهُ سَيَأْتِي بِمَا هُوَ الْحَقُّ الْمُلَائِمُ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبِيلَ الرَّشادِ آنِفًا. وَأَعَادَ النِّدَاءَ تَأْكِيدًا لِإِقْبَالِهِمْ إِذْ لَاحَتْ بَوَارِقُهُ فَأَكْمَلَ مُقَدِّمَتَهُ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَحْدُودَةٌ بِأَجَلٍ غَيْرِ طَوِيلٍ، وَأَنَّ وَرَاءَهَا حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَشَدَّ دِفَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ مُنْبَعِثٌ عَنْ مَحَبَّةِ السِّيَادَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُمْ هُوَ الْعَمَلُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَقَدْ بَنَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً فِيهَا حَقِيقَةُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ، وَفِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِالنَّعِيمِ أَوِ الْعَذَابِ، إِذْ كَانَتْ دِيَانَتُهُمْ تُثْبِتُ حَيَاةَ أُخْرَى بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّهَا حَرَّفَتْ مُعْظَمَ وَسَائِلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، فَهَذِهِ حَقَائِقٌ مَسَلَّمَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى إِجْمَالِهَا وَهِيَ مِنْ نَوْعِ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ فِي صِنَاعَةِ الْجَدَلِ، وَبِذَلِكَ تَمَّتْ مُقَدِّمَةُ خُطْبَتِهِ وَتَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِبَيَانِ مَقْصِدِهِ الْمُفَسَّرِ لِإِجْمَالِ مُقَدِّمَتِهِ. فَجُمْلَةُ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مُؤَجَّلًا. وَالْقَرَارُ: الدَّوَامُ فِي الْمَكَانِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ لَا صِفَةَ لِلدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهَا نفع موقت، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِتَنْزِيلِ قَوْمِهِ فِي تَهَالُكِهِمْ على مَنَافِع الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُهَا مَنَافِعَ خَالِدَةً. وَجُمْلَتَا مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً إِلَى آخِرِهِمَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ قَصَّرُ قَلْبٍ نَظِيرُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِلْقَصْرِ فِي

قَوْلِهِ: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مِنْ تَأْكِيدِ إِثْبَاتِ ضِدِّ الْحُكْمِ لِضِدِّ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَا الدُّنْيَا. (وَمن) مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً شَرْطِيَّةٌ. وَمَعْنَى إِلَّا مِثْلَها الْمُمَاثِلَةُ فِي الْوَصْفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ السَّيِّئَةِ وَهُوَ الْجَزَاء السّيّء، أَيْ لَا يَجْزِي عَنْ عَمَلِ السُّوءِ بِجَزَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ لَا يطمعوا أَن يعلمُوا السَّيِّئَاتِ وَأَنَّهُمْ يُجَازُونَ عَلَيْهَا جَزَاءَ خَيْرٍ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَانَ كَثِيرَ الْوَعْظِ لِلنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ، إِنَّكَ بِوَعْظِكَ تُقْنِطُ النَّاسَ فَقَالَ: «أَأَنًّا أَقْدِرُ أَنْ أُقْنِطَ النَّاسَ وَاللَّهُ يَقُولُ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مُسَاوِي أَعْمَالِكُمْ» . وَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ خَصَّ الْجَزَاءَ بِالْأَعْمَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَهَاوِنِينَ بِالْأَعْمَالِ وَكَانَ قُصَارَى مَا يَهْتَمُّونَ بِهِ هُوَ حُسْنُ الِاعْتِقَادِ فِي الْآلِهَةِ، وَلِذَلِكَ تُوجَدُ عَلَى جُدُرِ الْمَعَابِدِ الْمِصْرِيَّةِ صُورَةُ الْحِسَابِ فِي هَيْئَةِ وَضْعِ قَلْبِ الْمَيِّتِ فِي الْمِيزَانِ لِيَكُونَ جَزَاؤُهُ على مَا يُفَسر عَنْهُ مِيزَانُ قَلْبِهِ. وَلِذَلِكَ تَرَى مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمْ يُهْمِلْ ذِكْرَ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنِ اهْتَمَّ بِتَقْدِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَرَاهُ يَقُولُ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَالْإِيمَانُ هُوَ أُسُّ هَيْكَلِ النَّجَاةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْكُفْرُ أُسَّ الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ فَإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ سَيِّءٍ فَإِنَّ سُوءَهُ وَفَسَادَهُ جُزْئِيٌّ مُنْقَضٍ فَكَانَ الْعِقَابُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَبَدِيٍّ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَهُوَ سَيِّئَةٌ دَائِمَةٌ مَعَ صَاحِبِهَا لِأَنَّ مَقَرَّهَا قَلْبُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ عِقَابُهُ أَبَدِيًّا، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَآثَارِهَا فَدَلَّ قَوْلُهُ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أَنَّ جَزَاءَ الْكُفْرِ شقاء أبدي لِأَن مِثْلُ الْكُفْرِ فِي كَوْنِهِ مُلَازِمًا لِلْكَافِرِ إِنْ مَاتَ كَافِرًا. وَبِهَذَا الْبَيَانِ أَبْطَلْنَا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ بِمُسَاوَاةِ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ لِلْكَافِرِ فِي الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ، بِأَنَّهُ قَوْلٌ يُفْضِي إِلَى إِزَالَة مِزْيَةِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ تُنَافِيهِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ الْبَالِغَةِ مَبْلَغَ الْقَطْعِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] . وَتَرْتِيبُهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ مَعْنَاهُ: مَنْ عَمِلَ صَالَحَا وَلَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً

[سورة غافر (40) : الآيات 41 إلى 43]

بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، فَإِنَّ خَلْطَ الْمُؤْمِنِ عَمَلًا صَالِحًا وَسَيِّئًا فَالْمُقَاصَّةُ، وَبَيَانُهُ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ كِنَايَةٌ عَلَى سَعَةِ الرِّزْقِ وَوَفْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [37] . ومَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً إِلَخْ شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُهَا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ يَسْتَحِقُّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَهِيَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ مَعَ الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ مُتُّمْ عَلَى الشّرك وَالْعَمَل السيّء لَا تَدْخُلُونَهَا. وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَيَانٌ لِمَا فِي مَنْ مِنَ الْإِبْهَامِ مِنْ جَانِبِ احْتِمَالِ التَّعْمِيمِ فَلَفَظُ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مُرَادٌ بِهِ عُمُومَ النَّاسِ بِذِكْرِ صِنْفَيْهِمْ تَنْصِيصًا عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِفَادَةَ مُسَاوَاةِ الْأُنْثَى لِلذَّكَرِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ فِي هَذَا الْمقَام، وتعريضا بِفِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينِ مِنَ الْجَزَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَالْمعْنَى وَاحِد. [41- 43] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 41 إِلَى 43] وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) أَعَادَ نِدَاءَهُمْ وَعُطِفَتْ حِكَايَتُهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نِدَاءَهُ اشْتَمَلَ عَلَى مَا

يَقْتَضِي فِي لُغَتِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَخَطَّى مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ وَأَنَّهُ سَيَطْرُقُ مَا يُغَايِرُ أَوَّلَ كَلَامِهِ مُغَايِرَةَ مَا تُشْبِهُ مُغَايِرَةَ الْمُتَعَاطِفَيْنَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ سَيَرْتَقِي بِاسْتِدْرَاجِهِمْ فِي دَرَجِ الِاسْتِدْلَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقْدِمَاتِ، فَانْتَقَلَ هُنَا إِلَى أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا جَرَى مِنْهُمْ نَحْوَهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ أَعْقَبُوا مَوْعِظَتَهُ إِيَّاهُمْ بِدَعْوَتِهِ لِلْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِينِهِمْ وَهَذَا شَيْءٌ مَطْوِيٌّ فِي خِلَالِ الْقِصَّةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ حِكَايَةُ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَلَامُ آيِسٍ مِنِ اسْتِجَابَتِهِمْ لِقَوْلِهِ فِيهِ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غَافِر: 44] ، وَمُتَوَقِّعٌ أَذَاهُمْ لِقَوْلِهِ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غَافِر: 44] ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى آخِرَ الْقِصَّةِ: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا [غَافِر: 45] فَصَرَّحَ هُنَا وَبَيْنَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَفِي اتِّبَاعِهِ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاةِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ إِطْلَاقُ النَّجَاةِ عَلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِمَجَازٍ مُرْسَلٍ بَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ النَّجَاةِ بِوَسَائِطَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ اسْتِفْهَامٌ تَعَجُّبِيُّ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ فَجُمْلَةُ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ وَلَيْسَتْ بِعَطْفٍ لِأَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ: مَا لِي أَفْعَلُ، وَمَا لِي لَا أَفْعَلُ وَنَحْوِهُ، أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا عَنْ فِعْلٍ أَوْ حَالٍ ثَبَتَ لِلْمَجْرُورِ بِاللَّامِ (وَهِيَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ) ، وَمَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ يُكْسِبُ مَدْخُولَهَا حَالَةً خَفِيًّا سَبَبُهَا الَّذِي عُلِّقَ بِمَدْخُولِ اللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [النَّمْل: 20] وَقَوْلِكَ لِمَنْ يَسْتَوْقِفُكَ: مَا لَكَ؟ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعُدَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَخَبَرِهِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً. وَتَرْكِيبُ: مَا لِي وَنَحْوِهُ، هُوَ كَتَرْكِيبِ: هَلْ لَكَ وَنَحْوِهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] وَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: أَلَا بَلِّغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتُ وَيْحَكَ هَلْ لَكَ فَإِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى انْتِفَاءِ إِرَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَجُّبِ مِنَ الْحَالَةِ، أَوْ إِلَى الْإِنْكَارِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى التَّعَجُّبِ يَعْنِي

أَنَّهُ يُعْجَبُ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِيَّاهُ لِدِينِهِمْ مَعَ مَا رَأَوْا مِنْ حِرْصِهِ عَلَى نُصْحِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى النَّجَاةِ وَمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ وَبُطْلَانِ دَعْوَتِهِمْ. وَجُمْلَةُ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى النَّارِ أَمْرٌ مُجْمَلٌ مُسْتَغْرَبٌ فَبَيَّنَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى التَّلَبُّسِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ عَذَابَ النَّارِ. وَالْمَعْنَى: تَدْعُونَنِي لِلْكُفْرِ بِاللَّهِ وَإِشْرَاكِ مَا لَا أَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَمَعْنَى مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ مَا لَيْسَ لِي بِصِحَّتِهِ أَوْ بِوُجُودِهِ عِلْمٌ، وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِنَفْيِ اللَّازِمِ عَنْ نَفْيِ الْمَلْزُومِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ فَكَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلِ جُمْلَةِ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ. وَإِبْرَازُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ. وَفِعْلُ الدَّعْوَةِ إِذَا رُبِطَ بِمُتَعَلِّقٍ غَيْرِ مَفْعُولِهِ يُعَدَّى تَارَةً بِاللَّامِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ، وَيُعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى) وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ وَلِذَلِكَ عُلِّقَ بِهِ مَعْمُولُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِ (إِلَى) وَمَرَّةً بِاللَّامِ مَعَ مَا فِي رَبْطِ فِعْلِ الدَّعْوَةِ بِمُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَعْنَوِيَّاتِ مِنْ مُنَاسَبَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ مِثْلَ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ، وَرَبْطُهُ بِمَا هُوَ ذَاتٌ بِحَرْفِ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ: أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ فَإِنَّ النَّجَاةَ هِيَ نَجَاةٌ مِنَ النَّارِ فَهِيَ نَجَاةٌ مِنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ، وَقَوْلِهِ: وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ وَقَوْلِهِ: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا إِلَخْ، لِأَنَّ حَرْفَ (إِلَى) دَالٌ عَلَى الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الَّذِي يَدْعُو أَحَدًا إِلَى شَيْءٍ إِنَّمَا يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، فَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَشُبِّهَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَشُبِّهَ اعْتِقَادُهُ صِحَّتَهُ بِالْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَسْعِيِّ إِلَيْهِ، وَشُبِّهَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ فَكَانَتْ فِي حَرْفِ (إِلَى) اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً وَتَخْيِيلِيَّةً وَتَبَعِيَّةً، وَفِي الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَفِي أَدْعُوكُمْ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَتَخْيِيلِيَّةٌ.

وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى الصِّفَتَيْنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لِإِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْإِفْرَادَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، بِوَصْفِهِ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ لَا تَنَالُهُ النَّاسُ بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمْ فَإِنَّهَا ذَلِيلَةٌ تُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَلْتَصِقُ بِهَا الْقَتَامُ وَتُلَوِّثُهَا الطُّيُورُ بِذَرَقِهَا، وَلِإِدْمَاجِ تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ بِأَنَّ الْمُوَحَّدَ بِالْإِلَهِيَّةِ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ من شركهم بِهِ حَتَّى لَا يَيْأَسُوا مِنْ عَفْوِهِ بعد أَن أساءوا إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي بَيَانٌ لِجُمْلَةِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ. وَكَلِمَةُ لَا جَرَمَ بِفَتْحَتَيْنِ فِي الْأَفْصَحِ مِنْ لُغَاتٍ ثَلَاثٍ فِيهَا، كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا مَعْنَى لَا يَثْبُتُ أَوْ لَا بُدَّ، فَمَعْنَى ثُبُوتِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ هُوَ بَاقٍ وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى حَقَّ وَقَدْ يَقُولُونَ: لَا ذَا جَرَمَ، وَلَا أَنْ ذَا جَرَمَ، وَلَا عَنْ ذَا جَرَمَ، وَلَا جَرَ بِدُونِ مِيمٍ تَرْخِيمًا لِلتَّخْفِيفِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَرَمَ اسْمٌ لَا فِعْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَانَ مَاضِيًا بِحَسَبَ صِيغَتِهِ فَيَكُونُ دُخُولُ لَا عَلَيْهِ مِنْ خَصَائِصِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي الدُّعَاءِ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا (أَنِ) الْمَفْتُوحَةُ الْمُشَدَّدَةُ فَيُقَدَّرُ مَعَهَا حَرْفُ (فِي) مُلْتَزَمًا حَذْفُهُ غَالِبًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى لَا جَرَمَ وَأَنَّ جَرَمَ فِعْلٌ أَوْ اسْمٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هود [22] . وَمَا صدق مَا الْأَصْنَامُ، وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُ مُرَاعَاةً لِإِفْرَادِ لَفْظِ (مَا) . وَقَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَصْحابُ النَّارِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَتَيْ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ لِأَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنْ لَا دَعْوَةَ لِلْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهَا لَا تُنْجِي أَتْبَاعَهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا يُفِيدُهُمْ دُعَاؤُهَا وَلَا نِدَاؤُهَا. وَتَحَقَّقَ إِذَنْ أَنَّ الْمَرْجُوَّ لِلْإِنْعَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُوهُمْ هُوَ إِلَيْهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ غَيْرُ قَاطِعٍ لِلْمُنَازِعِ فِي إِلَهِيَّةِ رَبِّ هَذَا الْمُؤْمِنِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِقْنَاعَهُمْ

وَاسْتَحْفَظَهُمْ دَلِيلَهُ لِأَنَّهُمْ سَيَظْهَرُ لَهُمْ قَرِيبًا أَنَّ رَبَّ مُوسَى لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ انْتِصَارَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَيَرَوْنَ صَرْفَ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ مُوسَى بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَيْهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الدُّنْيَا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ انْتِفَاءُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ الِالْتِجَاءِ نَافِعًا لَا نَفْيَ وُقُوعِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ وُقُوعَهَا مَشَاهِدٌ. فَهَذَا مِنْ بَابِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، أَيْ بِشَيْءٍ نَافِعٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَةٌ مَصْدَرٌ مُتَحَمِّلٌ مَعْنَى ضَمِيرِ فَاعِلٍ، أَيْ لَيْسَتْ دَعْوَةُ دَاعٍ، وَأَنَّ ضَمِيرَ لَهُ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةُ، أَيْ لَا يَمْلِكُ دَعْوَةَ الدَّاعِينَ، أَيْ لَا يَمْلِكُ إِجَابَتَهُمْ. وَعُطِفَتْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةُ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ عَطْفَ اللَّازِمِ عَلَى ملزومه لِأَنَّهُ إِذا تَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّ مُوسَى الْمُسَمَّى (اللَّهَ) هُوَ الَّذِي لَهُ الدَّعْوَةُ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَدَّ أَيْ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالِالْتِجَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْحُكْمِ وَالْجَزَاءِ. وَلَوْ عُطِفَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّفْرِيعِ لَكَانَتْ حَقِيقَةٌ بِهَا، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى عَطْفِهَا بِالْوَاوِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِنَفْسِهَا غَيْرَ بَاحِثٍ سَامِعُهَا عَلَى مَا تَرْتَبِطُ بِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَبَرُ تَابِعًا لَهُ، كَمَا قَالَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ جَوَابَ السَّائِلِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ بِنَفْسِهِ تَابِعٌ لِعُمُومِ السُّؤَالِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَفَرُّعِ مَضْمُونِهَا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ كَانَ الْحُكْمُ وَالْجَزَاءُ بَيْنَ الصَّائِرِينَ إِلَيْهِ مِنْ مُثَابٍ وَمُعَاقَبٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُعَاقَبَ هُمْ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ. فَالْإِسْرَافُ هُنَا: إِفْرَاطُ الْكُفْرِ، وَيَشْمَلُ مَا قِيلَ: إِنَّهُ أُرِيدُ هُنَا سَفْكُ الدَّمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيَصْرِفَ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَعُمَّ أَصْحَابَ الْجَرَائِمِ وَالْآثَامِ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ يُخَاطِبُهُمْ إِذْ هُمْ مُسْرِفُونَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُمْ مُسْرِفُونَ فِي إِفْرَاطِ كُفْرِهِمْ

[سورة غافر (40) : آية 44]

بِالرَّبِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ مُوسَى، وَمُسْرِفُونَ فِيمَا يَسْتَتْبِعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ فَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَصْحابُ النَّارِ يُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّهُمُ الْمُتَنَاهُونَ فِي صُحْبَةِ النَّارِ بِسَبَبِ الْخُلُودِ بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لِحَمْلِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمَظْنُونَ بِهِ أَنه نَبِي أَوْ مُلْهَمٌ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَمْيِيزِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ مَقَامَ تَفْصِيلِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَة. [44] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 44] فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) هَذَا الْكَلَامُ مُتَارَكَةٌ لِقَوْمِهِ وَتَنْهِيَةٌ لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ وَلَعَلَّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ مَلَامِحِهِمْ أَوْ مِنْ مُقَاطَعَتِهِمْ كَلَامَهُ بِعِبَارَاتِ الْإِنْكَارِ، مَا أَيْأَسَهُ مِنْ تَأَثُّرِهِمْ بِكَلَامِهِ، فَتَحَدَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِصَاحِ لِنُصْحِهِ سَيَنْدَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا كَمَا اقْتَضَاهُ تهديده لَهُم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غَافِر: 30] ، أَو فِي الْآخِرَة كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ [غَافِر: 32] ، فَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِر: 41] . وَفَعَلُ سَتَذْكُرُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ الذِّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، أَيْ سَتَذْكُرُونَ فِي عُقُولِكُمْ، أَيْ مَا أَقُولُ لَكُمُ الْأَنَ يَحْضُرُ نَصْبَ بَصَائِرِكُمْ يَوْمَ تَحَقُّقِهُ، فَشَبَّهَ الْإِعْرَاضَ بِالنِّسْيَانِ وَرَمْزَ إِلَى النِّسْيَانِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ فِي الْعَقْلِ مُلَازِمَةَ الضِّدِّ لِضِدِّهِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَفِي قَرِينَتِهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى سَيَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُذَكِّرُكُمْ مَا أَقُولُهُ: إِنَّهُ سَيَحِلُّ بِكُمْ. وَجُمْلَةُ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَسَاقُ الِانْتِصَافِ مِنْهُمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ لَهُ مِنَ الشَّرِّ، يَعْنِي: أَنِّي أَكِلُ شَأْنِي وَشَأْنَكُمْ مَعِي إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِي كُلَّ فَاعِلٍ بِمَا فَعَلَ، وَهَذَا كَلَامُ مُنْصِفٍ فَالْمُرَادُ بِ أَمْرِي شَأْنِي وَمُهِمِّي.

[سورة غافر (40) : الآيات 45 إلى 46]

وَيَدُلُّ لِمَعْنَى الِانْتِصَافِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ مُعَلِّلًا تَفْوِيضَ أَمْرِهِ مَعَهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْعِبَادِ فَعُمُومُ الْعِبَادِ شَمِلَهُ وَشَمِلَ خُصُومَهُ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ لأَنهم توعدوه اهـ. يَعْنِي أَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِذَلِكَ بِمَعُونَةِ مَا بعده. وبِالْعِبادِ النَّاسُ يُطْلَقُ عَلَى جَمَاعَتِهِمُ اسْمُ الْعِبَادِ، وَلَمْ أَرَ إِطْلَاقَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ وَلَا إِطْلَاقَ الْعَبِيدِ عَلَى النَّاسِ. وَالْبَصِيرُ: الْمُطَّلِعُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ [الْقَصَص: 11] ، فَإِذَا أَرَادُوا تَعْدِيَةَ فِعْلِ الْبَصَرِ بِنَفْسِهِ قَالُوا: أبصره. [45- 46] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 45 إِلَى 46] فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) تَفْرِيعُ فَوَقاهُ اللَّهُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا مَكْرًا بِهِ. وَتَسْمِيَتُهُ مَكْرًا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُشْعِرُوهُ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِوِقَايَتِهِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجَا مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَرَجَ مَعَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون فرّ من فِرْعَوْنَ وَلَمْ يَعْثُرُوا عَلَيْهِ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: سَيِّئَاتُ مَكْرِهِمْ. وَإِضَافَةُ سَيِّئاتِ إِلَى (مَكْرِ) إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، وَهِيَ هُنَا فِي قُوَّةِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ الْمَكْرَ سَيْءٌ. وَإِنَّمَا جَمَعَ السَّيِّئَاتِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَكْرِهِمُ الَّتِي بَيَّتُوهَا. وَحَاقَ: أَحَاطَ. وَالْعَذَابُ: الْغَرَقُ. وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ. وَتَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَمُنَاسَبَةُ فِعْلِ حاقَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ أَنَّهُ مِمَّا يَحِيقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَرَقُ سُوءَ عَذَابٍ لِأَنَّ الْغَرِيقَ يُعَذَّبُ بِاحْتِبَاسِ النَّفْسِ مُدَّةً وَهُوَ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ وَيَغُوصُ فِيهِ وَيُرْعِبُهُ هَوْلُ الْأَمْوَاجِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْهَلَاكِ ثُمَّ يَكُونُ عُرْضَةً لِأَكْلِ الْحِيتَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَذَلِكَ أَلَمٌ فِي الْحَيَاةِ وَخِزْيٌ بَعْدَ الْمَمَاتِ يُذْكَرُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً وَقَعَتْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، فَيَجْعَلُ النَّارُ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُ جُمْلَةَ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خَبَّرًا عَنْهُ وَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ لِأَنَّ سُوءَ الْعَذَابِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْغَرَقُ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَوْتِهِمْ وَمَوْتُهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فَالْمَذْكُورُ عَذَابَانِ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَاب الْغَرَقِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ عَذَابٍ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّارُ بَدَلًا مُفْرَدًا مِنْ سُوءُ الْعَذابِ بَدَلًا مُطَابِقًا وَجُمْلَةُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها حَالًا مِنَ النَّارُ فَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَذَابًا وَاحِدًا وَلَمْ يُذْكَرْ عَذَابُ الْغَرَقِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَذَابٌ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ بُقُولِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. وَالْعَرْضُ حَقِيقَتُهُ: إِظْهَارُ شَيْءٍ لِمَنْ يَرَاهُ لترغيب أَو لتحذير وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُظْهَرِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى مَنْ يُظْهَرُ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (عَلَى) ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ يَعْقِلُ ومنزّلا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ يُقْلَبُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ «عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ» ، وَحَقُّهُ: عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [20] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي الْقَلْبَ مِنْ أَنْوَاعِ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَمَثَّلُوا لَهُ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّهِ مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَعَدَّهُ مِنْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَارِسِيُّ وَالسَّكَّاكِيُّ وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ: إِنَّ تَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ.

[سورة غافر (40) : الآيات 47 إلى 48]

وَعِنْدِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَأَنَّ الْعَرْضَ قَدْ كَثُرَ فِي مَعْنَى الْإِمْرَارِ دُونَ قَصْدِ التَّرْغِيبِ كَمَا يُقَالُ: عُرِضَ الْجَيْشُ عَلَى أَمِيرِهِ وَاسْتَعْرَضَهُ الْأَمِيرُ. وَلَعَلَّ أَصْلَهُ مَجَازٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ قَلْبٌ وَلَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، قَلْبٌ، وَيُقَالُ: عُرِضَ بَنُو فُلَانٍ عَلَى السَّيْفِ، إِذَا قُتِلُوا بِهِ. وَخَرَجَ فِي «الْكَشْفِ» آيَةُ الْأَحْقَافِ عَلَى قَوْلِهِمْ: عُرِضَ عَلَى السَّيْفِ. وَمَعْنَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُشَاهِدُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَوْلُهُ: غُدُوًّا وَعَشِيًّا كِنَايَةٌ عَنِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو عَن هاذين الْوَقْتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ هَذَا ذِكْرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ الْخَالِدِ، أَيْ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَعُلِمَ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ أَنَّ فِرْعَوْنَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ أَدْخِلُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الْخَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْقَوْلَ مُوَجَّهٌ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ مُنَادَى بِحَذْف الْحَرْف. [47- 48] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 47 إِلَى 48] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ مَعْمُولًا لِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى

الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ [غَافِر: 35] وَمَا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ لِأَنَّهَا قُصِدُ مِنْهَا عِظَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمَّا اسْتُوفِيَ ذَلِكَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ. وَيُفِيدُ ذَلِكَ صَرِيحَ الْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مَوْعِظَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [166] ، وَقَوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [38] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَإِذْ يَتَحاجُّونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] لِأَنَّ (إِذْ) وَ (يَوْمَ) كِلَيْهِمَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى (حِينَ) ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَحِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَحِينَ يَتَحَاجُّ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ إِلَخْ. وَقَرَنَ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ كَوْنَ هَذَا الْقَوْلِ نَاشِئًا عَنْ تَحَاجِّهِمْ فِي النَّارِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنًى مُتَعَلِّقِ إِذْ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفَاءِ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ زَائِدَةً، وَأَثْبَتَ زِيَادَتَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَعْلَمُ وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِهِ الْبَصْرِيِّينَ. وَضَمِيرُ يَتَحاجُّونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ. ويفيد مَعَ ذَلِك تعريضا بوعيد الْمُشْركين كَمَا هُوَ مُقْتَضى الْمُمَاثلَة المسوقة وَضمير يَتَحاجُّونَ غير عَائِد إِلَى آل فِرْعَوْنَ [غَافِر: 46] لِأَنَّ ذَلِكَ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ [غَافِر: 49] وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِر: 50] وَلَمْ يَأْتِ آلَ فِرْعَوْنَ إِلَّا رَسُولٌ وَاحِدٌ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَعُودُ ضَمِيرُ يَتَحاجُّونَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ. وَالْتَحَاجُّ: الِاحْتِجَاجُ مِنْ جَانِبَيْنِ فَأَكْثَرَ، أَيْ إِقَامَةُ كُلِّ فَرِيقٍ حُجَّتَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي وُقُوعَ خِلَافٍ بَيْنِ الْمُتَحَاجِّينَ إِذِ الْحجَّة تأييد لدعوى لِدَفْعِ الشَّكِّ فِي صِحَّتِهَا. وَالضُّعَفَاءُ: عَامَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ لَا تَصَرُّفَ لَهُمْ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ. وَالَّذِينَ

اسْتَكْبَرُوا: سَادَةُ الْقَوْمِ، أَيِ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا كِبَرًا شَدِيدًا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُ الضُّعَفَاءِ لِلْكُبَرَاءِ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَته فَهُوَ ناشىء عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِمْ فِي مُهِمِّهِمْ حِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فَخَالُوا أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلِهَذَا أَجَابَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِمَا يُفِيدُ أَنَّهُمُ الْيَوْمَ سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْحِيلَةِ فَقَالُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها أَيْ لَوْ أَغْنَيْنَا عَنْكُمْ لَأَغْنَيْنَا عَنْ أَنْفُسِنَا. وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً عَلَى طَلَبِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنَ النَّارِ، مُقَدِّمَةٌ لِلطَّلَبِ لِقَصْدِ تَوْجِيهِهِ وَتَعْلِيلِهِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْوَلَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يُلْهِمُهُمُ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ لِافْتِضَاحِ عَجْزِ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَنْ يَنْفَعُوا أَتْبَاعَهُمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ جَزَاءً عَلَى تَعَاظُمِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاظَمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَوْلَ الضُّعَفَاءِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، أَيْ كُنْتُمْ تَدْعُونَنَا إِلَى دِينِ الشِّرْكِ فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِك أَنا صِرْنَا فِي هَذَا الْعَذَابِ فَهَلْ تَسْتَطِيعُونَ الدَّفْعَ عَنَّا. وَتَأْكِيدُ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَيْسَ لِرَدِّ إِنْكَارٍ. وَالتَّبَعُ: اسْمٌ لِمَنْ يَتْبَعُ غَيْرَهُ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مِثْلُ خَدَمٍ وَحَشَمٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَقِيلَ التَّبَعُ: جَمْعٌ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَاحِدِ، فَهُوَ إِذَنْ مِنَ الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَاللَّوْمِ عَلَى خِذْلَانِهِمْ وَتُرْكِ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابٍ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ هَلْ مِنْ شَأْنِكُمْ أَنَّكُمْ مُغْنُونَ عَنَّا. ومُغْنُونَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَغْنَى غَنَاءً بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ، أَيْ فَائِدَةٌ وَإِجْزَاءٌ. وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْحِصَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ تَعَالَى:

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاء: 7] . وَقَدْ ضُمِّنَ مُغْنُونَ مَعْنَى دَافِعُونَ وَرَادُّونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ نَصِيباً أَيْ جُزْءًا مِنْ حَرِّ النَّارِ غَيْرَ مُحَدَّدِ الْمِقْدَارِ مِنْ قُوَّتِهَا، ومِنَ النَّارِ بَيَانٌ لِ نَصِيباً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إِبْرَاهِيم: 21] فَهُمْ قَانِعُونَ بِكُلِّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ وَغَيْرُ طَامِعِينَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُغْنُونَ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ تَضْمِينٍ وَيَكُونَ نَصِيباً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق لمغنون وَالتَّقْدِيرُ غَنَّاءً نَصِيبًا، أَيْ غِنَاءً مَا وَلَوْ قَلِيلًا. ومِنَ النَّارِ مُتَعَلِّقًا بِ مُغْنُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 67] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الْجُزْءَ مِنْ أَزْمِنَةِ الْعَذَابِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ مُدَّةِ النَّارِ. وَلَمَّا كَانَ جَوَابُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا جَارِيًا فِي مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ جُرِّدَ فَعَلُ قالَ مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُلٌّ فِيها نَحْنُ وَأَنْتُمْ مُسْتَوُونَ فِي الْكَوْنِ فِي النَّارِ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ. وَعَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الضُّعَفَاءِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً إِلَى آخِرِهِ تَوْبِيخًا وَلَوْمًا لِزُعَمَائِهِمْ يَكُونُ قَوْلُ الزُّعَمَاءِ إِنَّا كُلٌّ فِيها اعْتِرَافًا بِالْغَلَطِ، أَيْ دَعُوا لَوْمَنَا وَتَوْبِيخَنَا فَقَدْ كَفَانَا أَنَا مَعَكُمْ فِي النَّارِ وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِهِ أَوْ لِتَنْزِيلِ مَنْ طَالَبُوهُمْ بِالْغَنَاءِ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ أَنَّهُمْ فِي الْعَذَابِ مِثْلُهُمْ، مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُهُمْ غَيْرَ وَاقِعِينَ فِي النَّارِ، وَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ ضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ يَقُولُونَ: أَلَسْتُمْ تَرَوْنَنَا فِي النَّارِ مَثَلَكُمْ فَكَيْفَ نُغْنِي عَنْكُمْ. وكُلٌّ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِيها وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَنْوِينُ (كُلٌّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنَّا كُلُّنَا فِي النَّارِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ

[سورة غافر (40) : الآيات 49 إلى 50]

إِنَّا كُلٌّ فِيها فَكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ جَوَابٌ لَهُمْ مُؤْيِسٌ مِنْ حُصُولِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ. وَالْمَعْنَى: نَحْنُ مُسْتَوُونَ فِي الْعَذَابِ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فَلَا مطمع فِي التَّقَصِّي مِنْ حُكْمِهِ فَقَدْ جُوزِيَ كُلُّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّ. وَمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عُمُومِ تَعَلُّقِ فِعْلِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا يُجْعَلُ هَذَا الْبَدَلَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ بِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ قِسْطُنَا مِنَ الْحُكْمِ هَذَا الْعَذَابَ. فَكَلِمَةُ بَيْنَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُتَوَسِّطُ، أَيْ وَقَعَ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ فِي مَجْمَعِهِمُ الَّذِي حَضَرَهُ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ وَمَنْ حُكِمَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحُكُومَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ بِالْجَنَّةِ، فَلَيْسَتْ كَلِمَةُ (بَيْنَ) هُنَا بِمَنْزِلَةِ (بَيْنَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 48] فَإِنَّهَا فِي ذَلِكَ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةٌ لِزُعَمَاءِ الْأُمَمِ وَقَادَتِهِمْ أَنْ يَحْذَرُوا الِارْتِمَاءَ بِأَنْفُسِهِمْ فِي مَهَاوِي الْخُسْرَانِ فَيُوقِعُوا الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَهَاوِي فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُهُمْ وَمُغَامَرَتُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأُمَمِهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِعَوَاقِبَ ذَلِكَ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالْمَذَمَّةِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، إِذْ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يُغْرَوْا بِأَقْوَامٍ وَكَّلُوا أُمُورَهُمْ بِقَادَتِهِمْ عَنْ حُسْنِ ظَنٍّ فِيهِمْ، أَنْ يَخُونُوا أَمَانَتَهُمْ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] ، وَإِنْ كَانَ قَحْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي مَضَائِقِ الزَّعَامَةِ عَنْ جَهْلٍ بِعَوَاقِبِ قُصُورِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فَإِنَّهُمْ مَلُومُونَ على عدم التَّوَثُّق مِنْ كَفَاءَتِهِمْ لِتَدْبِيرِ الْأُمَّةِ فَيَخْبِطُوا بِهَا خَبْطَ عَشْوَاءٍ حَتَّى يَزِلُّوا بِهَا فَيَهْوُوا بِهَا مِنْ شَوَاهِقَ بَعِيدَةٍ فَيَصِيرُوا رَمِيمًا، وَيَلْقُوا فِي الْآخِرَة جحيما. [49- 50] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 49 إِلَى 50] وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَسَاغًا لِلتَّخْفِيفِ مِنَ الْعَذَابِ فِي جَانِبِ كُبَرَائِهِمْ، وَتَنَصَّلَ كُبَرَاؤُهُمْ

مِنْ ذَلِكَ أَوِ اعْتَرَفُوا بِغَلَطِهِمْ وَتَوْرِيطِهِمْ قَوْمَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى مُحَاوَلَةِ طَلَبِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ بِدَعْوَةٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى الَّذِينَ فِي النَّارِ، أَيْ جَمِيعِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. وَخَزَنَةٌ: جَمْعُ خَازِنٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ لِمَا فِي الْمَكَانِ مِنْ مَالٍ أَو عرُوض. ولِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِمَا تَحْوِيهِ مِنَ النَّارِ وَوَقُودِهَا وَالْمُعَذَّبِينَ فِيهَا وَمُوَكَّلُونَ بِتَسْيِيرِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ دَارُ الْعَذَابِ وَأَهْلِهَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: خَزَنَةُ النَّارِ، لِأَنَّ الْخَزْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّارِ بَلْ بِمَا يَحْوِيهَا فَلَيْسَ قَوْلُهُ هُنَا: جَهَنَّمَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ لَا يَحْسُنُ إِضَافَةُ خَزَنَةٍ إِلَى النَّارِ وَلَوْ تَقَدَّمَ لَفْظُ جَهَنَّمُ لَقَالَ: لِخَزَنَتِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [6- 8] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ (جَهَنَّمَ) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِ جَهَنَّمَ لَا لِ النَّارِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ مِنِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارُ لِلتَّهْوِيلِ بِلَفْظِ جَهَنَّمَ، وَالْمَسْلَكُ الَّذِي سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ. وَفِي إِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِغْرَاءِ بِالدُّعَاءِ، أَيْ لِأَنَّكُمْ أَقْرَبُ إِلَى اسْتِجَابَتِهِ لَكُمْ. وَلِمَا ظَنُّوهُمْ أَرْجَى لِلِاسْتِجَابَةِ سَأَلُوا التَّخْفِيفَ يَوْمًا مِنْ أَزْمِنَةِ الْعَذَابِ وَهُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ تَخْفِيفِ قُوَّةِ النَّارِ الَّذِي سَأَلُوهُ مِنْ مُسْتَكْبِرِيهِمْ. وَجُزِمَ يُخَفِّفْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، وَلَعَلَّهُ بِتَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَجْعَلُهُ جَزَمَا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ لِتَحْقِيقِ التَّسَبُّبِ. فَيَكُونُ فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الَّذِينَ فِي النَّارِ وَاثِقُونَ بِأَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ إِذَا دَعَوُا اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ. وَهَذَا الْجَزْمُ شَائِعٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَحَقُّهُ الرَّفْعُ أَوْ إِظْهَارُ لَامِ الْأَمْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [31] . وَضُمِّنَ يُخَفِّفْ مَعْنَى يُنْقِصُ فَنَصَبَ يَوْماً، أَوْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابَ يَوْمٍ، أَيْ مِقْدَارَ يَوْمٍ، وَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ يُخَفِّفْ.

وَالْيَوْمُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ، أَيْ يُخَفِّفُ عَنَّا وَلَوْ زَمَنًا قَلِيلًا. ومِنَ الْعَذابِ بَيَانٌ لِ يَوْماً لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمِقْدَارُ فَاحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ عَلَى نَحْوِ التَّمْيِيزِ. وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِ يُخَفِّفْ. وَجَوَابُ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لَهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمُرَادِ بِهِ: إِظْهَارُ سُوءِ صَنِيعِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَّبِعُوا الرُّسُلَ حَتَّى وَقَعُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ، وَتَنْدِيمُهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنْ وَسَائِلِ النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ. وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ يَتَضَمَّنُ التَّوْبِيخَ، وَالتَّنْدِيمَ، وَالتَّحْسِيرَ، وَبَيَانِ سَبَبِ تَجَنُّبِ الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ لَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى مَوْقِعِهَا. وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ عَطَفَ بِهَا (خَزَنَةُ جَهَنَّمَ) كَلَامَهُمْ عَلَى كَلَامِ الَّذِينَ فِي النَّارِ مِنْ قَبِيلِ طَرِيقَةِ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ صَدَرَ مِنَ الْمُخَاطَبِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ وَأَنْ لَا يُغْفِلَهُ، وَهُوَ مَا يُلَقَّبُ بِعَطْفِ التَّلْقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا تَذَكَّرُوا ذَلِكَ عَلِمُوا وَجَاهَةَ تَنَصُّلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ مِنَ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، وَتَفْرِيعُ فَادْعُوا عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنَ التَّأْخِيرِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لِوُجُوبِ صَدَارَتِهَا. وَجُمْلَةُ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تَذْيِيلًا لِكَلَامِهِمْ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: فَادْعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ، أَيْ دُعَاؤُكُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ لِأَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ فِي ضَلَالٍ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَذْيِيلًا وَاعْتِرَاضًا. وَالْبَيِّنَاتُ: الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ وَالدَّعَوَاتُ الصَّرِيحَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى. فَلَمْ يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا: بَلَى فَرَدَّ عَلَيْهِمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ بِالتَّنَصُّلِ مِنْ أَنْ يَدْعُوَا اللَّهَ بِذَلِكَ، إِلَى إِيكَالِ أَمْرِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: فَادْعُوا تَفْرِيعًا عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ.

وَمَعْنَى تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ الَّذِي هُوَ التَّنَصُّلُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَا لَهُمْ، أَيْ كَمَا تَوَلَّيْتُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الرُّسُلِ اسْتِبْدَادًا بِآرَائِكُمْ فَتَوَلُّوا الْيَوْمَ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ فَادْعُوا أَنْتُمْ، فَإِنَّ «مَنْ تَوَلَّى قُرَّهَا يَتَوَلَّى حَرَّهَا» ، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ فِي التَّسْوِيَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَأِ السَّائِلِينَ فِي سُؤَالِهِمْ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ مُحَقَّقٌ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنَ الْوُجُودِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْإِتْيَانِ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مَنْ (لَمِ) النَّافِيَةِ فِي الْمَاضِي. وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ، وَأَصْلُهُ: خَطَّأُ الطَّرِيقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ دُعَاءَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُقْتَضٍ عُمُومَ دُعَائِهِمْ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ مَنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَقْتَضِي أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّ عُمُومَ الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ. وَأَمَّا مَا يُوهِمُ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ الْكَافِرِينَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها [الْأَنْعَام: 63، 64] وَقَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُس: 22، 23] ، فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ كَرَامَةٍ وَلَكِنَّهَا لِتَسْجِيلِ كَفْرِهِمْ وَنُكْرَانِهِمْ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَدْعُوَ الْكَافِرُ فَيَقَعُ مَا طَلَبَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُصَادَفَةِ دُعَائِهِ وَقْتَ إِجَابَةِ دُعَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ دُعَاءُ الْكَافِرِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِبْعَادُ اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَرَامَ وَيَلْبَسُ الْحَرَامَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 52]

بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ اللَّهُ: فَلَمَّا اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدَّرَ نَجَاتَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُوا أَوْ لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ صَادَفَ دُعَاءَ بعض الْمُؤمنِينَ. [51- 52] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 51 إِلَى 52] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَهُوَ اسْتِخْلَاصٌ لِلْعِبْرَةِ مِنِ الْقِصَصِ الْمَاضِيَةِ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدِهُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَتَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ كَانَ بِذِكْرِ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] وَأَوْمَأَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَن شيعهم آئلة إِلَى خَسَارٍ بِقَوْلِهِ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: 4] ، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ وَتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي آلَ أَمْرُهَا إِلَى خَيْبَةٍ وَاضْمِحْلَالٍ فِي الدُّنْيَا وَإِلَى عَذَابٍ دَائِمٍ فِي الْآخِرَةِ وَلَمَّا اسْتَوْفَى الْغَرَضُ مُقْتَضَاهُ مِنْ إِطْنَابِ الْبَيَانِ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَهُ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غَافِر: 77] . وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فِعْلِ النَّصْرِ أَنَّ هُنَالِكَ فَرِيقًا مَنْصُورًا عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْمُتَعَيَّنِ أَنَّهُمُ الْفَرِيقُ الْمُعَانِدُ لِلرُّسُلِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَنَصْرُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِبَادَتِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ لَهُمْ وَعَذَابِ النَّارِ لِأَعْدَائِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَنَنْصُرُ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ حَالَاتِ النَّصْرِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي وُصِفَ بَعْضهَا فِي هَذِه السُّورَةِ وَوُصِفَ بَعْضٌ آخَرُ فِي سُوَرٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَضَى وَنَصْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَرَقَّبٌ غَيْرُ حَاصِلٍ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ.

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنْ) وَبِجَعْلِ الْمُسْنَدِ فِعْلِيًا فِي قَوْلِهِ: لَنَنْصُرُ مُرَاعًى فِيهِ حَالُ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ. وَهَذَا وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنْ يُوقِعَ الظَّالِمَ فِي سُوءِ عَاقِبَةٍ أَوْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِنَحْوٍ أَوْ أَشَدَّ مِمَّا ظَلَمَ بِهِ مُؤْمِنًا. وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَاهِدٍ. وَالْقِيَامُ: الْوُقُوفُ فِي الْمَوْقِفِ. وَالْأَشْهَادُ: الرُّسُلُ، وَالْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَة: 143] ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ، وَشَهَادَةُ الرُّسُلِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ نَصْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ. ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الظَّرْفِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَعْذِرَةُ اسْمُ مَصْدَرِ اعْتَذَرَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [164] . وَظَاهِرُ إِضَافَةِ الْمَعْذِرَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ أَنَّهُمْ تَصْدُرُ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَعْذِرَةٌ يَعْتَذِرُونَ بِهَا عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمُ الْعَذَابَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: 38] وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] الَّذِي هُوَ فِي انْتِفَاءِ الِاعْتِذَارُ مِنْ أَصْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ فِي سُورَةِ الرُّومِ [57] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَا يَنْفَعُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ وَهُوَ «مَعْذِرَةُ» غَيْرُ حَقِيقِيُّ التَّأْنِيثِ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ. ولَهُمُ اللَّعْنَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أَيْ وَيَوْمَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ.

[سورة غافر (40) : الآيات 53 إلى 54]

وَاللَّعْنَةُ: الْبُعْدُ وَالطَّرْدُ، أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ هِيَ جَهَنَّمُ. وَتَقْدِيمُ (لَهُمْ) فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بالانتقام مِنْهُم. [53- 54] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 53 إِلَى 54] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) هَذَا مِنْ أَوْضَحِ مَثَلِ نَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَمْثَالِ بِالنَّصْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ فَإِنَّ نَصْرَ مُوسَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَوَّنَ اللَّهُ بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً لَمْ تَكُنْ يُؤْبَهُ بِهَا وَأُوتِيَتْ شَرِيعَةً عَظِيمَةً وَمُلْكًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ كَانَ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْمَلَ وَأَشْرَفَ. فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر: 51] وَبَيْنَ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غَافِر: 55] ، وَأَيُّ نَصْرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالتَّبَعِ لِأُمَّةٍ أُخْرَى فِي أَحْكَامٍ تُلَائِمُ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ التَّابِعَةِ، إِلَى مَصِيرِ الْأُمَّةِ مَالِكَةِ أَمْرِ نَفْسِهَا ذَاتِ شَرِيعَةٍ مُلَائِمَةٍ لِأَحْوَالِهَا وَمَصَالِحِهَا وَسِيَادَةٍ عَلَى أُمَمٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى الْوَعْدِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَاقٍ مَوْرُوثٌ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالْهُدَى الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ، أَيِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ جَعَلَهُ بَاقِيًا فِيهِمْ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُمْ وَرِثُوهُ عَنْ مُوسَى، أَيْ أَخَذُوهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَأَبْقَاهُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِطْلَاقُ الْإِيرَاثِ اسْتِعَارَةٌ. وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ جُمْلَةِ الْهُدَى الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَالْكِتَابَ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، فَإِنَّ مُوسَى أُوتِيَ مِنَ الْهُدَى مَا لَمْ يَرِثْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَأُوتِيَ مِنَ الْهُدَى مَا أُورِثَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ. وهُدىً وذِكْرى حَالَانِ مِنَ الْكِتابَ، أَيْ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَذِكْرَى

[سورة غافر (40) : آية 55]

لَهُمْ، فَفِيهِ عِلْمُ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُتَعَلِّمُونَ، وَفِيهِ ذِكْرَى لِمَا عَلِمَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَتَشْمَلُ الذِّكْرَى اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، فَيَكُونُ لِأُولِي الْأَلْبابِ مُتَعَلقا ب ذِكْرى. وَأولُوا الْأَلْبَابِ: أولو الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ الْقَادِرَةِ على الاستنباط. [55] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 55] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر: 51] أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّا نَاصِرُوكَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاصْبِرْ عَلَى مَا تُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِكَ وَلَا تَهِنْ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ. وإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّعْلِيلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَيُفَادُ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ الَّذِي هُوَ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّحْقِيقِ. وَوَعْدُ اللَّهِ هُوَ وَعْدُ رَسُولِهِ بِالنَّصْرِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَفِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَالْمعْنَى لَا تستبطىء النَّصْرَ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ، وَذَلِكَ مَا نُصِرَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي أَيَّامِ الْغَزَوَاتِ الْأُخْرَى. وَمَا عَرَضَ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا وَتَنْبِيهًا عَلَى سُوءِ مَغَبَّةِ عَدَمِ الْحِفَاظِ عَلَى وَصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَعُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ فَكَانَا دَاخِلَيْنِ فِي سِيَاقِ التَّفْرِيعِ عَلَى الْوَعْد بالنصر رمز إِلَى تَحْقِيقِ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ أَمَرَ عَقِبَهُ بِمَا هُوَ مِنْ آثَارِ الشُّكْرِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ نِعْمَةِ النَّصْرِ حَاصِلَةً لَا مَحَالَةَ، وَهَذِهِ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ. وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ أَمْرٌ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةَ الَّتِي اقْتَضَتْهَا النُّبُوءَةُ،

أَيِ اسْأَلِ اللَّهَ دَوَامَ الْعِصْمَةِ لِتَدُومَ الْمَغْفِرَةُ، وَهَذَا مَقَامُ التَّخْلِيَةِ عَنِ الْأَكْدَارِ النَّفْسِيَّةِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أُمَّتَهُ مَطْلُوبُونَ بِذَلِكَ بِالْأَحْرَى كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وَأَيْضًا فَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِغْفَارِ تَعَبُّدًا وَتَأَدُّبًا. وَأُمِرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، أَيِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَاقْتَصَرَ عَلَى طَرَفَيْ أَوْقَاتِ الْعَمَلِ. وَالْعَشِيُّ: آخِرُ النَّهَارِ إِلَى ابْتِدَاءِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَعَامُ اللَّيْلِ عَشَاءً، وَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ الْأَخِيرَةُ بِاللَّيْلِ عِشَاءً. وَالْإِبْكَارُ: اسْمٌ لِبُكْرَةِ النَّهَارِ كَالْإِصْبَاحِ اسْمٌ لِلصَّبَاحِ، وَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [11] . وَتَقَدَّمَ الْعَشِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [52] . وَهَذَا مَقَامُ التَّحَلِّي بِالْكَمَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الشُّكْرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَجُعِلَ الْأَمْرَانِ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِأَنَّ الصَّبْرَ هُنَا لِانْتِظَارِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّبْرِ لَمَّا حَصَلَ النَّصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 1- 3] فَإِنَّ ذَلِكَ مَقَامُ مَحْضِ الشُّكْرِ دُونَ الصَّبْرِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ كَمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَتْحِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ، لِطَلَبِ دَوَامِ الْمَغْفِرَةِ، وَكَانَ أَمْرُهُ بِهِ فِي سُورَةِ النَّصْرِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِغُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، لِلْإِرْشَادِ إِلَى شُكْرِ نِعْمَةِ النَّصْرِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ عِبَادَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» . بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: 1] قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنُ. وَبِحُكْمِ السِّيَاقِ تَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَرْضِ الصَّلَاةِ وَلَا بِأَوْقَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ فِي سُورَةِ النَّصْرِ

[سورة غافر (40) : آية 56]

[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 56] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ. جَرَى الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مَيْدَانِ الرَّدِّ عَلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَحْضِ شُبَهِهِمْ وَتَوَعُّدِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُمْ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غَافِر: 21] ، كَمَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُ أَضْدَادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ [هود: 96، 97] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غَافِر: 28] ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِوَعْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ كَمَا نصر النبيئون مِنْ قَبْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى عِنَادِ قَوْمِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، فَكَانَ ذِكْرُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: «الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ» . وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ انْتَقَلَ هُنَا إِلَى كَشْفِ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُ الْمُجَادِلِينَ مِنْ أَسْبَابِ جِدَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخِيلَتَهُمْ فَلَا يَحْسَبُ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُ تَنَقُّصًا لَهُ وَلَا تَجْوِيزًا لِلْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدْفَعُهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ هُوَ التَّكَبُّرُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَاءَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالْإِيمَانِ مِمَّنْ كَانُوا لَا يعبأون بِهِمْ. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ الْآيَةَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ كَالتَّكْرِيرِ لِجُمْلَةِ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [غَافِر: 35] تَكْرِيرُ تِعْدَادٍ لِلتَّوْبِيخِ عِنْدَ تَنْهِيَةِ غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا يُوقَفُ الْمُوَبَّخُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ. والَّذِينَ يُجادِلُونَ هُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: 4] . وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ الله تقدم هُنَالك.

وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ سُلْطانٍ بِ يُجادِلُونَ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مُصَاحِبٌ لَهُمْ غَيْرَ سُلْطَانٍ، أَيْ غَيْرَ حُجَّةٍ، أَيْ أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ مُجَادَلَةَ عِنَادٍ وَغَصْبٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ تَشْنِيعُ مُجَادَلَتِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِلْوَاقِعِ فَهَذَا الْقَيْدُ نَظِيرُ الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] ، وَكَذَلِكَ وُصِفَ سُلْطانٍ بِجُمْلَةِ أَتاهُمْ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ مُجَادَلَتِهِمْ بِأَنَّهَا عَرِيَّةٌ عَنْ حُجَّةٍ لَدَيْهِمْ فَهُمْ يُجَادِلُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وإِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ نَافِيَةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وكِبْرٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُجادِلُونَ. وَأَطْلَقَ الصُّدُورَ عَلَى الْقُلُوبِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ، وَالْمُرَادُ ضَمَائِرُ أَنْفُسِهِمْ، وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ الْقَلْبَ عَلَى الْعَقْلِ لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِحَرَكَتِهِ عِنْدَ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ مِنَ الْفَرَحِ وَضِدِّهِ وَالِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ. وَالْكِبْرُ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَهُوَ: إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ خَوَاطِرَ تُشْعِرُهُ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ بَلْهَ مُتَابَعَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [34] . وَالْمَعْنَى: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الْكِبْرُ عَلَى الَّذِي جَاءَهُمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مُجَادَلَتُهُمْ لِدَلِيلٍ لَاحَ لَهُمْ. وَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْكِبْرَ الْبَاعِثَ عَلَى الْمُجَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ لِيَنْفِيَ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَهُمْ إِلَى الْمُجَادَلَةِ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهٍ مُؤَكَّدٍ، فَإِنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ مُؤَكَّدٍ، وَمِنْ نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَتَضَمَّنَ جُمْلَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ

الصِّفَةِ لِ كِبْرٌ. وَحَقِيقَةُ الْبُلُوغِ: الْوُصُولُ، قَالَ تَعَالَى: إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: 7] وَيُطْلَقُ عَلَى نَوَالِ الشَّيْءِ وَتَحْصِيلِهِ مَجَازًا مُرْسَلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ [سبأ: 45] وَهُوَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا مَحَالَةَ، أَيْ مَا هُمْ بِبَالِغِي الْكِبْرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكِبْرُ مُثْبَتًا حُصُولُهُ فِي نُفُوسِهِمْ إِثْبَاتًا مُؤَكَّدًا بِقَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، تَعَيَّنَ أَنَّ نَفْيَ بُلُوغِهِمُ الْكِبْرَ مُنْصَرِفٌ إِلَى حَالَاتِ الْكِبْرِ: فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْيُ أَهْلِيَّتِهِمْ لِلْكِبْرِ إِذْ هُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْكِبْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: 8] أَيْ لَا عِزَّةَ حَقًّا لَهُمْ، فَالْمَعْنَى هُنَا: كِبْرُ زَيْفٍ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْيُ نَوَالِهِمْ شَيْئًا مِنْ آثَارِ كِبْرِهِمْ مِثْلَ تَحْقِيرِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَلَيْهِمْ مِثْلَ احْتِقَارِ الْمُتَكَبِّرِ عَلَيْهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ فَضْلًا عَنِ الِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِفْحَامِ حُجَّتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: مَا هُمْ بِبَالِغِينَ مُرَادَهُمُ الَّذِي يَأْمُلُونَهُ مِنْكَ فِي نُفُوسِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَقْوَالُهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] وَقَوْلِهِمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْكَاشِفَةِ لِآمَالِهِمْ. فَتَنْكِيرُ: كِبْرٌ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ كِبْرٌ شَدِيدٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي بِبالِغِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ أَوِ الْمُسَبَّبِيَّةِ، وَالدَّاعِي إِلَى هَذَا الْمَجَازِ طَلَبُ الْإِيجَازِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ نَفْيِ الْبُلُوغِ بِاسْمِ ذَاتِ الْكِبْرِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُثِيرُهَا الْكِبْرُ، وَهَذَا مِنْ مَقَاصِدِ إِسْنَادِ الْأَحْكَامِ إِلَى الذَّوَاتِ إِنْ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف: 32] أَيْ جَمِيعَ أَحْوَالِ مَعِيشَتِهِمْ. فَشِمَلَ قَوْلُهُ: مَا هُمْ بِبالِغِيهِ عَدَمَ بُلُوغِهِمْ شَيْئًا مِمَّا يَنْطَوِي عَلَيْهِ كِبْرُهُمْ، فَمَا بَلَغُوا الْفَضْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ حَتَّى يَتَكَبَّرُوا، وَلَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي حُصُولِ آثَارِ كِبْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: 21] . وَقَدْ نُفِيَ أَنْ يَبْلُغُوا مُرَادَهُمْ بِصَوْغِهِ فِي قَالَبِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَتِهَا ثَبَاتَ مَدْلُولِهَا وَدَوَامِهِ، فَالْمَعْنَى، أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ بُلُوغِهِ حِرْمَانًا مُسْتَمِرًّا، فَاشْتَمَلَ تَشْوِيهُ حَالِهِمْ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ بَلَاغِيَّةٍ كَثِيرَةٍ.

[سورة غافر (40) : آية 57]

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من جعل مَا صدق: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ هُنَا الْيَهُودَ، وَجَعَلَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: 54] ، وَارْتَقَى بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَأَيَّدُوا تَفْسِيرَهُمْ هَذَا بِآثَارٍ لَوْ صَحَّتْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صُلُوحِيَّةِ الْآيَةِ لَأَنْ تُضْرَبَ مَثَلًا لِكُلِّ فَرِيقٍ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ جدالا يدفعهم إِلَيْهِم الْكِبْرُ. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَمَّا ضَمِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ يَحْدُوهُمْ إِلَى الْجِدَالِ كِبْرُهُمُ الْمُنْطَوِي عَلَى كَيْدِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يبلغون من أَضْمَرُوهُ وَمَا يُضْمِرُونَهُ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَعَاذَهُ مِنْهُمْ، أَيْ لَا يَعْبَأُ بِمَا يُبَيِّتُونَهُ، أَيْ قَدِّمْ عَلَى طَلَبِ الْعَوْذِ بِاللَّهِ. وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ (اسْتَعِذْ) لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَنْتَ لَا تُحِيطُ عِلْمًا بِتَصَارِيفِ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ. وَالتَّوْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ) ، وَالْحَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ مُرَاعًى فِيهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَصْنَعُونَهُ لَا أَنْتَ فَكَيْفَ يَتِمُّ لَهُمْ مَا أضمروه لَك. [57] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 57] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) مُنَاسَبَةُ اتِّصَالِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَهَمَّ مَا جَادَلُوا فِيهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ هِيَ الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لِلْبَعْثِ وَجِدَالُهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ هُوَ أَكْبَرُ شُبْهَةٍ لَهُمْ ضَلَّلَتْ أَنْفُسَهُمْ

وَرَوَّجُوهَا فِي عامّتهم فَقَالُوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرَّعْد: 5] . فَكَانُوا يَسْخَرُونَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7، 8] ، وَلَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِأَنَّ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ لَا يبلغ أمره مِقْدَار أَمر خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْكَلَامُ مُؤْذِنٌ بِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ لِأَنَّ اللَّامَ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْمَقْصُودُ: تَأْكِيدُ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى أَكْبَرُ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ وَأَكْثَرُ مُتَعَلَّقَاتِ قُدْرَةٍ بِالْقَادِرِ عَلَيْهِ لَا يَعْجِزُ عَنْ خَلْقِ نَاسٍ يَبْعَثُهُمْ لِلْحِسَابِ. فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الَّذِينَ يُعِيدُ اللَّهُ خِلْقَتَهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيُودِعُ فِيهِمْ أَرْوَاحَهُمْ كَمَا أَوْدَعَهَا فِيهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ كَوْنَ خَلْقِهَا أَكْبَرَ هُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أُرِيدَ التَّذْكِيرُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ بِهِ. وَمُوقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مَا اقْتَضَاهُ التَّوْكِيدُ بِالْقِسْمِ مِنَ اتِّضَاحِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ حُجَّةَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَاضِحَةٌ وَلَكِنَّ الَّذِينَ يُنْكِرُونَهَا لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الدَّلِيلَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَاهُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مُقْتَنِعُونَ بِبَادِئِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَبْدُو لَهُمْ فَيَتَّخِذُونَهَا عَقِيدَةً دُونَ بَحْثٍ عَنْ مُعَارِضِهَا، فَلَمَّا جَرَوْا عَلَى حَالَةِ انْتِقَاءِ الْعِلْمِ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ فَلِذَلِكَ نَزَلَ فِعْلُ يَعْلَمُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ. فَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ الْبَعْثِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ عَلِمُوا ذَلِكَ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا. وَإِظْهَارُ لَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مَعَ أَنَّ

[سورة غافر (40) : آية 58]

مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ فَتَصْلُحُ لِأَنْ تَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِاسْتِبْعَادِهِمْ خَلْقَ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ اسْتِبْعَادٌ مثل ذَلِك. [58] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 58] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) لَمَّا نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ضَرَبَ مَثَلًا لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَثَلُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ مَعَ وُضُوحِ إِمْكَانِهِ مَثَلُ الْأَعْمَى، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَالَ الْبَصِيرِ، وَقَدْ عُلِمَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَفْهُومِ صِفَةِ أَكْثَرَ النَّاسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يُقَابِلُهُمْ أَقَلُّونَ يَعْلَمُونَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَالَّذِينَ هُمْ فِي ضَلَالٍ، فَإِطْلَاقُ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اسْتِعَارَة لِلْفَرِيقَيْنِ الَّذين تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: 57] . وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [95] ، وَمِنَ الْمُتَبَادَرِ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ صَاحِبُ الْحَالِ الْأَفْضَلِ وَهُوَ الْبَصِيرُ إِذْ لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي أَنَّ الْبَصَرَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَى فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بِدُونِ مُتَعَلِّقٍ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ، لَكِنَّهُ يُخَصُّ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ وَهِيَ آيَاتُ اللَّهِ وَدَلَائِلُ صِفَاتِهِ، وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ الْعُمُومَ الْعُرْفِيَّ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [19] . وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِفَضِيلَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِذِكْرِ فَضِيلَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ فَضْلِهِمْ فِي إِدْرَاكِ أَدِلَّةِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالْمُسِيئُونَ، أَيْ فِي أَعْمَالِهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى

اخْتِلَافِ جَزَاء الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا الْإِيمَاءُ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِتَقْدِيرِ: وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْمُسِيءُ عَاطِفَةٌ الْمُسِيءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا عَطَفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، فَالْعَطْفُ الْأَوَّلُ عَطْفُ الْمَجْمُوعِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الْحَدِيد: 3] . وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَعْمَى عَلَى ذِكْرِ الْبَصِيرِ مَعَ أَنَّ الْبَصَرَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَى بِالنِّسْبَةِ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشَبَّهَ بِالْبَصِيرِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِالْأَعْمَى إِذِ الْمُشَبَّهُ بالبصير الْمُؤْمِنُونَ، فَقدم ذَكَرَ تَشْبِيهَ الْكَافِرِينَ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْأَهَمِّ فِي الْمَقَامِ بَيَانَ حَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْآيَاتِ إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْعِظَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فَإِنَّمَا رَتَّبَ فِيهِ ذِكْرَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اهْتِمَامًا بِشَرَفِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُعِيدَتْ (لَا) النَّافِيَةُ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ عَلَى النَّفْيِ، وَكَانَ الْعَطْفُ مُغْنِيًا عَنْهَا فإعادتها لإِفَادَة تَأْكِيدَ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ وَمَقَامُ التَّوْبِيخِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، وَلِذَلِكَ تُعَدُّ (لَا) فِي مِثْلِهِ زَائِدَةً كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تَقَعَ (لَا) قَبْلَ (الَّذِينَ آمَنُوا) ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ مُسَاوَاةِ الْمُسِيءِ لِمَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ الْمُسِيءِ لِلِاهْتِمَامِ بِالَّذِينَ آمَنُوا وَلَا مُقْتَضِيَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الاهتمام بالذين سبق الْكَلَامُ لِأَجْلِ تَمْثِيلِهِمْ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ اهْتِمَامَانِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ: اثْنَتَيْنِ قُدِّمَ فِيهِمَا جَانِبُ تَشْبِيهِ الْكَافِرِينَ، وَاثْنَتَيْنِ قُدِّمَ فِيهِمَا تَشْبِيهُ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: 19- 22] . وقَلِيلًا حَالٌ مِنْ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ:

[سورة غافر (40) : آية 59]

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، و (مَا) فِي قَوْله: مَا تَتَذَكَّرُونَ مَصْدَرِيَّةٌ وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَهَذَا مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ قلَّة التَّذَكُّر تؤول إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ، وَالْقِلَّةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَمِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 88] ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقِلَّةِ عَدَمَ التَّمَامِ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِذَا تَذَكَّرُوا تذكرا لَا يتممونه فَيَنْقَطِعُونَ فِي أَثْنَائِهِ عَنِ التَّعَمُّقِ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ فِي عَدَمِ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَتَذَكَّرُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تَتَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْخِطَابُ لِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَكَوْنُ الْخِطَابِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِينَ وَأَنَّ التَّذَكُّرَ الْقَلِيلَ هُوَ تَذَكُّرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ تَذَكُّرِ الْمُشْرِكِينَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الرَّدِّ وَلَا يلاقي الِالْتِفَات. [59] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 59] إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) لَمَّا أُعْطِيَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ مَا يَحِقُّ مِنَ الْحِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ، تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِاسْتِخْلَاصِ تَحْقِيقِهِ كَمَا تُسْتَخْلَصُ النَّتِيجَةُ مِنَ الْقِيَاسِ، فَأُعْلِنَ بِتَحْقِيقِ مَجِيءِ السَّاعَةَ وَهِيَ سَاعَةُ الْبَعْثِ إِذِ السَّاعَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْإِسْلَامِ عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ، فَالسَّاعَةُ وَالْبَعْثُ مُتَرَادِفَانِ فِي الْمَآلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي جَادَلَ فِيهِ الْمُجَادِلُونَ سَيَقَعُ لَا مَحَالَةَ إِذِ انْكَشَفَتْ عَنْهُ شُبَهُ الضَّالِّينَ وَتَمْوِيهَاتُهُمْ فَصَارَ بَيِّنًا لَا رَيْبَ فِيهِ. وتأكيد الْخَبَر ب (إنّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّحْقِيقِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ تَحَقَّقَ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَلِهَذَا لَمْ

[سورة غافر (40) : آية 60]

يُؤْتَ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه [15] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي آتِيَةٌ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ فَقَدْ صَارَتْ كَالشَّيْءِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ. وَالْمُرَادُ تَحْقِيقُ وُقُوعِهَا لَا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِهَا. وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ نَفْسِ السَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ عَنْ إِتْيَانِهَا لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: آتِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْنَى نَفْيِ الرَّيْبِ فِي وُقُوعِهَا: أَنَّ دَلَائِلَهَا وَاضِحَةٌ بِحَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِرَيْبِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا لِأَنَّهُمُ ارْتَابُوا فِيهَا لِعَدَمِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] . فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ مَا يُثِيرُهُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ وُقُوعِهَا مِنْ أَنْ يَتَسَاءَلَ مُتَسَائِلٌ كَيْفَ يَنْفِي الرَّيْبَ عَنْهَا وَالرَّيْبُ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ جَوَابًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ. وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَمُرُّونَ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ دَلَالَتِهَا فَيَبْقَوْنَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِمَدْلُولَاتِهَا وَلَوْ تَأَمَّلُوا وَاسْتَنْبَطُوا بِعُقُولِهِمْ لَظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمْ هُنَا وَصْفُ الْإِيمَانِ. وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَلَوْلَا أَنَّ (لَكِنَّ) يَكْثُرُ أَنْ تَقَعَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لَكَانَتِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالْفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، فَهَذَا الْعَطْفُ تَحْلِيَةٌ لَفْظِيَّةٌ. وأَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ مِنَ الْمُؤمنِينَ جدا. [60] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 60] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) لَمَّا كَانَتِ الْمُجَادَلَةُ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَشْمَلُ مُجَادَلَتَهُمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ الْآتِي، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [غَافِر: 73، 74] ، فَجَعَلَ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا نَقِيضَ مَا قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، وَتَشْمَلُ الْمُجَادَلَةُ فِي وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 69- 71] الْآيَةَ، أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُجَادَلَةِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِر: 57] وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الْآيَةَ تَحْذِيرًا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَأَيْضًا لَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ أَمْرًا مُفَرَّعًا عَلَى تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِر: 12] وَعَلَى قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: 13] وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِثْرَ ذَلِكَ إِلَى الأهمّ وَهُوَ الْأَمر بإنذار الْمُشْركين بقوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: 18] إِلَخْ، وَتَتَابَعَتِ الْأَغْرَاضُ حَتَّى اسْتَوْفَتْ مُقْتَضَاهَا، عَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى مَا يَشْمَلُ عِبَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِر: 50] . فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدُّعَاءِ بِمَعْنَيَيْهِ: مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَمَعْنَى سُؤَالِ الْمَطْلُوبِ، أَرْدَفَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَامِعِ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. وَالْقَوْلُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِفِعْلِ: قالَ رَبُّكُمُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ النَّفْسِيُّ، أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَلُّقًا صَلَاحِيًّا، بِأَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَكْوِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ وَيَكُونَ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ أَقْوَالٍ مَضَتْ فِي آيَاتٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: 14] بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: 186] فَإِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَالِ مَجَازًا، أَيْ يَقُولُ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي. وَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلِاعْتِرَافِ بِالْمُنَادَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّلَبِ وَقَدْ جَاءَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ صَلَاحِيَةُ مَعْنَى الدُّعَاءِ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا يُلَائِمُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْحَقِيقَتَيْنِ

فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ كَانَتِ الْعِبَادَةُ هِيَ الدُّعَاءَ لَا مَحَالَةَ. فَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ عَلَى سُؤَالِ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ حَاجته وَهُوَ ظَاهر مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَخْلُو مِنْ دُعَاءِ الْمَعْبُودِ بِنِدَاءِ تَعْظِيمِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ أَقَلُّ شُيُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَيُرَادُ بِالْعِبَادَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيِ الِاعْتِرَافُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ. وَالِاسْتِجَابَةُ تُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِهَا وَتُطْلَقُ عَلَى أَثَرِ قَبُولِ الْعِبَادَةِ بِمَغْفِرَةِ الشِّرْكِ السَّابِقِ وَبِحُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِيمَانِ فَإِفَادَةُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْحَاجَةِ مِنَ اللَّهِ يُنَاسِبُ تَرَتُّبَ الِاسْتِجَابَةِ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مُعَلَّقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ عَلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ قَبُولِ الطَّلَبِ، وَإِعْطَاءِ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِعْطَاءِ عِوَضٍ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَإِفَادَتِهَا عَلَى مَعْنَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيْ بِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ الشِّرْكِ، فَتَرَتُّبُ الِاسْتِجَابَةِ هُوَ قَبُولُ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ مَقْطُوعٌ بِهِ. فَلَمَّا جَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ شُيُوعِ الْإِطْلَاقِ فِي كِلَيْهِمَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مَا يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ بِأَنْ صَرَّحَ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ وَالْعِبَادَةُ، وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ أُرِيدَ بِهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَحُصُولُ أَثَرِ الْعِبَادَةِ. فَفِعْلُ ادْعُونِي مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ بِطَرِيقَةِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ. وَفِعْلُ أَسْتَجِبْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْقَرِينَةُ مَا عَلِمْتَ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْكَلَامِ الْجَامِعِ. وَتَعْرِيفُ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا فِي هَذَا الْوَصْفِ وَإِضَافَتِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ امْتِثَالَ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَوْصُوفُهَا لِأَنَّ الْمَرْبُوبَ مَحْقُوقٌ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَرِّجْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعْمَتِهِ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى كَمَالَاتِ ذَاتِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ

[سورة غافر (40) : آية 61]

بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلًا يُفِيدُ التَّحْذِيرَ مِنْ إِبَايَةِ دُعَاءِ اللَّهِ حِينَ الْإِقْبَالِ عَلَى دُعَاءِ الْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غَافِر: 12] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَتَوَسَّمُوا اسْتِجَابَةَ شُرَكَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: 67] . وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ بِهَذَا التَّحْذِيرِ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَدْعُوَهُ فِي حَاجَاتِهِمْ. وَمَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَنْفَعُ فِي رَدِّ الْقَدَرِ أَوْ لَا؟ وَهُوَ خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَعْنَى أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [186] ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّعْلِيلِ. وداخِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ سَيَدْخُلُونَ أَيْ أَذِلَّةً، دَخَرَ كَمَنَعَ وَفَرِحَ: صَغُرَ وَذَلَّ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [48] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَدْخُلُونَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْخَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، أَيْ سَيُدْخِلُهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَاب جَهَنَّم. [61] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 61] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بَدَلًا مِنْ رَبُّكُمُ فِي وَقالَ رَبُّكُمُ [غَافِر: 60] أَتْبَعَ رَبُّكُمُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ لِيُقْضَى بِذَلِكَ حَقَّانِ: حَقُّ اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يُطَاعَ بِمُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَحَقُّ اسْتِحْقَاقِهِ الطَّاعَةَ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ الَّتِي يَجْمَعُهَا اسْمُ الذَّاتِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ مَعَ وَصْفِ الرَّبِّ الْمُتَقَدِّمِ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ نِعَمِهِ وَلَا كَمَالَاتِهِ اجْتِزَاءً بِمُقْتَضَى حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَكَرَ مَعَ الِاسْمِ الْعَلَمِ بَعْضَ إِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ ثُمَّ وَصَفَ الِاسْمَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ، وَإِيمَاءً إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، وَتَكون الْجُمْلَة استنئافا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَقْوِيَةِ الْأَمْرِ بِدُعَائِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَالْمَوْصُولُ صِفَةً لَهُ وَيَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غَافِر: 64] وَيَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ مُعْتَرِضَةً، أَوْ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَالْمَوْصُولُ خَبَرًا. وَاعْتِبَارُ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفَةً أَحْسَنُ مِنِ اعْتِبَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَدَلًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالتَّوْقِيفِ عَلَى سُوءِ شُكْرِهِمْ، وَبِمَقَامِ تَعْدَادِ الدَّلَائِلِ وَأَسْعَدُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: 64] ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] ، أَيْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ الْعِقَابِ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَعَلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ كُلِّهَا فَقَدْ سَجَّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّاسِ تَقْسِيمَهُمْ إِلَى: شَاكِرِ نِعْمَةٍ، وَكَفُورِهَا، كَمَا سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ تَقْسِيمَهُمْ إِلَى: مُؤْمِنٍ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَكَافِرٍ بِهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ كَمَا اقْتَضَاهُ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمُ وَاقْتَضَاهُ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. وَأُدْمِجَ فِي التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ، وَالتَّدْبِيرِ الَّذِي هُوَ مُلَازِمٌ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ. وَابْتُدِئَ الِاسْتِدْلَالُ بِدَلَائِلِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَآثَارِهَا الْوَاصِلَةِ إِلَى الْأَكْوَانِ السُّفْلِيَّةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ النِّعْمَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَهُمَا تَكْوِينَانِ عَظِيمَانِ دَالَّانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ مُكَوِّنِهِمَا وَمُنَظِّمِهِمَا وَجَاعِلِهِمَا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَنِيطَتْ بِهِمَا أَكْثَرُ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَصَالِحِ أَهْلِهِ، فَمِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ حُصُولُ التَّعَادُلِ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لِتَكُونَ الْأَرْضُ لَائِقَةً بِمَصَالِحِ مَنْ عَلَيْهَا فَتُنْبِتُ الْكَلَأَ وَتُنْضِجُ الثِّمَارَ، وَمِنْ مَصَالِحِ سُكَّانِ الْعَالَمِ سُكُونُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي اللَّيْلِ لِاسْتِرْدَادِ النَّشَاطِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يُعْيِيهِ عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَالْجَسَدِ فِي النَّهَارِ، فَيَعُودُ النَّشَاطُ إِلَى الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ وَإِلَى الْحَوَاسِّ، وَلَوْلَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ لَكَانَ النَّوْمُ غَيْرَ

كَامِلٍ فَكَانَ عَوْدُ النَّشَاطِ بَطِيئًا وَوَاهِنًا وَلَعَادَ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِالِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ فَلَمْ يَتَمَتَّعِ الْإِنْسَانُ بِعُمُرٍ طَوِيلٍ. وَمِنْهَا انْتِشَارُ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ فِي النَّهَارِ وَتَبَيُّنُ الذَّوَاتِ بِالضِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ الْمَسَاعِي لِلنَّاسِ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي بِهَا انْتِظَامُ أَمْرِ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْبَوَادِي، وَالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، وَكَادِحٌ لِلْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَحَاجَتُهُ لِلضِّيَاءِ ضَرُورِيَّةٌ وَلَوْلَا الضِّيَاءُ لَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ مُضْطَرِبَةً مُخْتَبِطَةً. وَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ إِبْصَارِ النَّاسِ فِي الضِّيَاءِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَسْنَدَ الْإِبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِقُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ وَزَمَانِهَا، فَأَسْنَدَ إِبْصَارَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَعْضِهِ وَسَبَبُ كَمَالِ بَعْضٍ آخَرَ. فَأَمَّا نِعْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ فَهِيَ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ رُجُوعُ النَّشَاطِ. وَفِي ذكر اللَّيْل وَالنَّهَار تَذْكِيرٌ بِآيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ الشَّمْسُ الَّتِي يَنْشَأُ اللَّيْلُ مِنِ احْتِجَابِ أَشِعَّتِهَا عَنْ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْشَأُ النَّهَارُ مِنِ انْتِشَارِ شُعَاعِهَا عَلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ دُونَ الشَّمْسِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الشَّمْسُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَانَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهَا الدَّلَالَةَ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الْأَنْعَام: 96] . وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ تَعْلِيلِ إِيجَادِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، بِإِسْنَادِ الْإِبْصَارِ إِلَى ذَاتِ النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا الْمُبْصِرُونَ النَّاسُ فِي النَّهَارِ، عَلَى احْتِبَاكٍ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ كِلَيْهِمَا أَنَّ اللَّيْلَ سَاكِنٌ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّهَارَ خُلِقَ لِيُبْصِرَ النَّاسُ فِيهِ إِذِ الْمِنَّةُ بِهِمَا سَوَاءٌ، فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفَنُّنِ أُسْلُوبَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَمْ يُعْكَسْ فَيُقَلْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ سَاكِنًا وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، لِئَلَّا تَفُوتَ صَرَاحَةُ الْمُرَادِ مِنَ السُّكُونِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سُكُونَ اللَّيْلِ هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ سَاجٍ، لِقِلَّةِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ اعْتِرَاض هُوَ كالتذييل لِجُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لِأَنَّ الْفَضْلَ يَشْمَلُ جَعْلَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ، وَلِأَنَّ النَّاسِ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ وَغَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ. وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمَةٌ جَلِيلَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَذُو فَضْلٍ وَلَمْ يَقُلْ: لَمُتَفَضِّلٌ، وَلَا لَمُفَضَّلٌ، فَعُدِلَ إِلَى إِضَافَةِ (ذُو) إِلَى فَضْلٍ لِتَأَتِّي التَّنْكِيرِ الْمُشْعِرِ بِالتَّعْظِيمِ. وَعُدِلَ عَنْ نَحْوِ: لَهُ فَضْلٌ، إِلَى لَذُو فَضْلٍ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (ذُو) مِنْ شَرَفِ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ ب لكِنَّ ناشىء عَن لَازم لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَشْكُرَ النَّاسُ رَبَّهُمْ عَلَى فَضْلِهِ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ كَافِرًا بِنِعَمِهِ، وَأَيُّ كُفْرٍ لِلنِّعْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ خَالِقِهِمُ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِمْ وَيَعْبُدُوا مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا. وَخَرَجَ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ الْأَقَلُّ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: 100] . وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ (النَّاسِ) فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِيَتَكَرَّرَ لَفْظُ النَّاسِ عِنْدَ ذِكْرِ عَدَمِ الشُّكْرِ كَمَا ذُكِرَ عِنْدَ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ فَيُسَجِّلُ عَلَيْهِمُ الْكُفْرَانَ بِوَجْهٍ أَصْرَحَ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَجْهَ اخْتِلَافِ الْمَنْفِيَّاتِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: 57] وَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [غَافِر: 59] وَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، فَقَدْ أَتْبَعَ كُلَّ غَرَضٍ أُرِيدَ إِثْبَاتُهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَال منكريه.

[سورة غافر (40) : آية 62]

[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 62] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) اتَّصَلَ الْكَلَامُ عَلَى دَلَائِلِ التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: 62- 65] اتِّصَالَ الْأَدِلَّةِ بِالْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: 61] . وَعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَعْلُومٌ مُتَمَيِّزٌ بِأَفْعَالِهِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَتْ أَفْعَالُهُ تَمَيَّزَ عَمَّا سِوَاهُ فَصَارَ كَالْمُشَاهَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ تَلْتَبِسُ إِلَهِيَّتُهُ بِإِلَهِيَّةٍ مَزْعُومَةٍ لِلْأَصْنَامِ فَلَيْسَتْ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ شُبْهَةٌ تُلَبِّسُ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ، أَيْ ذَلِكُمْ رَبُّكُمْ لَا غَيْرُهُ وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا تَعْرِيضٌ بِغَبَاوَةِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمْ حَقِيقَةُ إِلَهِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَخْبَارٌ أَرْبَعَةٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، ابْتُدِئَ فِيهَا بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِجْمَالًا، وَأَرْدَفَ بِ رَبُّكُمْ أَيِ الَّذِي دَبَّرَ خَلْقَ النَّاسِ وَهَيَّأَ لَهُمْ مَا بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الْخَلْقِ مَا هُوَ خَلْقٌ خَاصٌّ بِالْبَشَرِ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا كَمَا خَلَقَهُمْ، وَأَرْدَفَ بِنَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ فَجَاءَتْ مَضَامِينُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ مُتَرَتِّبَةً بِطَرِيقَةِ التَّرَقِّي، وَكَانَ رَابِعُهَا نَتِيجَةً لَهَا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَيْهَا اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى جَانِبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَ وُضُوحِ فَسَادِ إِعْرَاضِهِمْ عَن عِبَادَته. وفَأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَصْلُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ فَإِذَا جَعَلُوا الْحَالَةَ فِي مَعْنَى الْجَانِبِ وَمَثَارِ الشَّيْءِ اسْتَفْهَمُوا بِ (أَنَّى) عَنِ الْحَالَةِ وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [101] . وتُؤْفَكُونَ تُصْرَفُونَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [30] ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَجْهُولِ لِإِجْمَالٍ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ إِذْ سَيُبَيَّنُ بِحَاصِلِ الْجُمْلَة بعده.

[سورة غافر (40) : آية 63]

[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 63] كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ التَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ سَبَبَ التَّعْجِيبِ، فَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمَأْفُوكِينَ بِالْمَوْصُولِ لِأَن الصِّلَة تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى الْجَحْدِ بِآيَاتِ اللَّهِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَدَبُّرٍ فِي مَعَانِيهَا وَدَلَائِلِهَا يَطْبَعُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنِ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ تَعَالَى. فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْإِفْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فعل تُؤْفَكُونَ [غَافِر: 62] أَيْ مِثْلُ إِفْكِكُمْ ذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غَافِر: 62] ، وَيَكُونُ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ تُؤْفَكُونَ، أَيْ مِثْلُ إِفْكِكُمْ تُؤْفَكُونَ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ إِفْكَهُمْ بَلَغَ فِي كُنْهِ الْإِفْكِ النِّهَايَةَ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ الْمُقَرِّبُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لِلسَّامِعِينَ بِشَبِيهٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ شَبِيهًا لَهُ أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَجْلَى فِي مَاهِيَّتِهِ فَلَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ إِفْكِهِمْ تَعْلِيلًا صَرِيحًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ كُلَّ مَنْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ الْمُومَى إِلَيْهِ بِالصِّلَةِ تَعْلِيلًا تَعْرِيضِيًّا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِفْكُ شَأْنَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُلِّهِمْ فَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ بِحُكْمِ الْمُمَاثَلَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ، وَذُكِرَ فِعْلُ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْجَحْدَ بِآيَاتِ اللَّهِ شَأْنُهُمْ وَهِجِّيرَاهُمْ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَخْلَاقِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّ الْعُقُولَ الَّتِي تَتَخَلَّقُ بِالْإِنْكَارِ

[سورة غافر (40) : آية 64]

وَالْمُكَابَرَةِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ فِي الْمَعْلُومَاتِ تُصْرَفُ عَنِ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ فَتَخْتَلِطُ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَاتُ وَلَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ. [64] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 64] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً. اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ بِنَاءً عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي فَسَّرْنَا بِهَا مَوْقِعَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: 61] كَمَا تَقَدَّمَ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تِعْدَادِ دَلَائِلِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَبِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَفْتَضِحَ خَطَلُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ وَكُفْرَانِ نِعَمِهِ، فَذَكَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِآثَارِ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِجَوَاهِرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهُمَا عَرَضَا الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، وَفِي كِلَيْهِمَا نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَى النَّاسِ، وَذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآثَارِ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ هِيَ نِعْمَةٌ لَهُمْ، وَفِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى صُوَرٍ صَالِحَةٍ بِهِمْ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ رَبُّكُمْ فِي وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [غَافِر: 60] ، فَإِنَّ جُمْلَةَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً تَكُونُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ إِلَهِيَّتِهِ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ إِتْقَانِ صُنْعِهِ الْمَمْزُوجِ بِنِعْمَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمُ قُدِّمَتِ الْأَرْضُ عَلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مَحْسُوسٌ وَذُكِرَتِ السَّمَاءُ بَعْدَهَا كَمَا يُسْتَحْضَرُ الشَّيْءُ بِضِدِّهِ مَعَ قَصْدِ إِيدَاعِ دَلَائِلِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ لِمَنْ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَتَتَبُّعِ أَحْوَالِهَا عَلَى تَفَاوُتِ الْمَدَارِكِ وَتَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ وَاتِّسَاعِ الْعُلُومِ. وَالْقَرَارُ أَصْلُهُ، مَصْدَرُ قَرَّ، إِذَا سَكَنَ. وَهُوَ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ عَنِ الْأَرْضِ، فَالْمَعْنَى يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ جَعَلَهَا قَارَّةً غَيْرَ مَائِدَةٍ وَلَا مُضْطَرِبَةٍ فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ كُرَةِ الْهَوَاءِ مُضْطَرِبَةً مُتَحَرِّكَةً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَارَّةً لَكَانَ النَّاسُ فِي عَنَاءٍ مِنَ

اضْطِرَابِهَا وَتَزَلْزُلِهَا، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ بِأَكْثَرِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [31] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ذَاتَ قَرَارٍ، أَيْ قَرَارٍ لَكُمْ، أَيْ جَعَلَهَا مُسْتَقَرًّا لَكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 50] أَيْ خَلَقَهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ تُلَائِمُ الِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا يَابِسَةً غَيْرَ سَائِلَةٍ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَطْحَ الْأَرْضِ سَيَّالًا كَالزِّئْبَقِ أَوْ كَالْعَجَلِ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ سَائِخًا فِيهَا يَطْفُو تَارَةً وَيَسِيخُ أُخْرَى فَلَا يَكَادُ يَبْقَى عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ كَوَسَطِ سَبْخَةِ (التاكمرت) (¬1) الْمُسَمَّاةِ: «شَطَّ الْجَرِيدِ» الْفَاصِلَ بَين «نفطة» و «نفزاوة» مِنَ الْجَنُوبِ التُّونُسِيِّ فَإِنَّ فِيهَا مَسَافَاتٍ إِذَا مَشَتْ فِيهَا الْقَوَافِلُ سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ فَلَا يُعْثَرُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَسِيرُ فِيهَا الْقَوَافِلُ إِلَّا بِهُدَاةٍ عَارِفِينَ بِمَسَالِكِ السَّيْرِ فِي عَلَامَاتٍ مَنْصُوبَةٍ، فَكَانَتْ خِلْقَةُ الْأَرْضِ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى دَقِيقِ حِكْمَتِهِ وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْمَعْمُورِ بِهِمَا وَجْهُ الْأَرْضِ. وَالْبِنَاءُ: مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلِاتِّقَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالدَّوَابِّ. وَوَصْفُ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [22] . وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ. لَا جَرَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ مَا يَحُفُّ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْعَوَالِمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُلَائِمَةٍ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَرَاحَتِهِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مُلَائِمَةٍ لَهُ مُدَّةَ بَقَاءِ نَوْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَتَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ التَّذْكِيرَ بِمَا مَهَّدَ لَهُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ خلقه خلقا مُسْتَوْفِيًا مَصْلَحَتَهُ وَرَاحَتَهُ. ¬

(¬1) التاكمرت كلمة بلغَة البربر بِمَعْنى السبخة.

وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ بِفِعْلِ صَوَّرَكُمْ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ خَلْقٌ عَلَى صُورَةٍ مُرَادَةٍ تُشْعِرُ بِالْعِنَايَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: 11] فَاقْتَضَى حُسْنَ الصُّوَرِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ فِي جَانِبِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ فِعْلِ الْجَعْلِ إِلَى فِعْلِ التَّصْوِيرِ بِقَوْلِهِ: وَصَوَّرَكُمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ [الانفطار: 7، 8] ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ التَّصْوِيرِ مِنَ الْإِتْقَانِ وَالتَّحْسِينِ بِقَوْلِهِ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَدَالَّةٌ عَلَى التَّعْقِيبِ أَيْ أَوْجَدَ صُورَةَ الْإِنْسَانِ فَجَاءَتْ حَسَنَةً. وَعَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ مِنَّةً أُخْرَى فِيهَا عِبْرَةٌ، أَيْ خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ثُمَّ أَمَدَّكُمْ بِأَحْسَنِ رِزْقٍ، فَجَمَعَ لَكُمْ بَيْنَ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ شَهْوَةً فِي ظَاهِرِهِ وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةِ إِمْدَادِ الْجِسْمِ بِوَسَائِلِ تَجْدِيدِ قُوَاهُ الْحَيَوِيَّةِ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: وَرَزَقَكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى نِعْمَةِ طُولِ الْوُجُودِ فَلَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَضْمَحِلُّ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ حُسْنِ الْإِيجَادِ وَبَيْنَ حُسْنِ الْإِمْدَادِ فَجَعَلَ مَا بِهِ مَدَدُ الْحَيَاةِ وَهُوَ الرِّزْقُ مِنْ أَحْسَنِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى خِلَافِ رِزْقِ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ مَوْقِعُ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ كَمَوْقِعِ نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَإِعَادَةُ هَذَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْقِيفِ عَلَى خَطَلِ رَأْيِهِمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غَافِر: 62] ، وَقَرِينَةِ قَوْلِهِ هُنَا: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: 65] . وَفُرِّعَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ بَدَائِعِ صُنْعِهِ وَجَزِيلِ منّه. أَن أنش ئ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا يُفِيدُ اتِّصَافَهُ بِعَظِيمِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ، وَفِعْلُ تَبَارَكَ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي قُوَّةِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، وَالْبَرَكَةُ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى تَزَايُدِ الْخَيْرِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعَ فِعْلِ

[سورة غافر (40) : آية 65]

تَبَارَكَ دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرٍ مَعَ تَقَدُّمِ اسْمِهِ، فَالْإِظْهَارُ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ كَلِمَةَ ثَنَاءٍ مُسْتَقِلَّةً. ورَبِّ الْعالَمِينَ خَالِقُ أَجْنَاسِ الْعُقَلَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ. وَهَذَا الْوَصْفُ مِنْ تَمَامِ الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ وَهُمْ أَشْرَفُ أَجنَاس الموجودات استحضارا لِمَا أَفَاضَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْرَاتِ الإيجاد والإمداد. [65] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 65] هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ لِلِارْتِقَاءِ فِي إِثْبَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الْحَقِّ بِإِثْبَاتِ مَا يُنَاسِبُهَا وَهُوَ الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَدِّمَةٌ لِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَإِثْبَاتُ الْحَيَاةِ الْوَاجِبَةِ لِذَاتِهِ فَإِنَّ الَّذِي رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَأَمَدَّهُمْ بِمَا بِهِ قَوَامُهُمْ عَلَى مَمَرِّ الْأَزْمَانِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ الْحَقِّ لِأَنَّ مُدَبِّرَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى طُولِ الْعُصُورِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ، إِذِ الْحَيَاةُ (مَعَ مَا عَرَضَ مِنْ عُسْرٍ فِي تَعْرِيفِهَا عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ) هِيَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ تُصَحِّحُ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِدْرَاكَ وَالْإِرَادَةَ وَالْفِعْلَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [28] . فَإِنْ كَانَ اتِّصَافُ مَوْصُوفِهَا بِهَا مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ فَهِيَ حَيَاةٌ مُمْكِنَةٌ عَارِضَةٌ مِثْلُ حَيَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ وَحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاةِ الْأَسَارِيعِ، فَتَكُونُ مُتَفَاوِتَةً فِي مَوْصُوفَاتِهَا بِتَفَاوُتِ قُوَّتِهَا فِيهَا وَمُتَفَاوِتَةً فِي مَوْصُوفِهَا الْوَاحِدِ بِتَفَاوُتِ أَزْمَانِهَا مِثْلَ تَفَاوُتِ حَيَاةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي وَقْتِ شَبَابِهِ، وَحَيَاتِهِ فِي وَقْتِ هِرَمِهِ وَمِثْلَ حَيَاةِ الشَّخْصِ وَقْتَ نَشَاطِهِ وَحَيَاتِهِ وَقْتَ نَوْمِهِ، وَبِذَلِكَ التَّفَاوُتِ تَصِيرُ إِلَى الخفوت ثمَّ إِلَى الزَّوَالِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ تَفَاوُتِهَا فِي تَفَاوُتِ آثَارِهَا مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ. وَإِنْ كَانَ اتِّصَافُ مَوْصُوفِهَا بِهَا أَزَلِيًّا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ فَهِيَ حَيَاةُ وَاجِبِ الْوُجُودِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ حَيَاةٌ وَاجِبَةٌ ذَاتِيَّةٌ. وَهِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَرَّضَةٍ لِلنَّقْصِ وَلَا لِلزَّوَالِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَيُّ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنْبَأَتْ عَنْهُ صِيغَةُ الْحَصْرِ فِي

قَوْلِهِ: هُوَ الْحَيُّ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَيَاةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ وَمُعَرَّضَةٌ لِلْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ. فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَاهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَاجِبَةٌ، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مُدَبِّرًا لِلْعَالَمِ. وَجَمِيعُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ بَيْنَ مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِالْحَيَاةِ تَمَامًا كَالْأَصْنَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ أَوِ الْمَعَادِنِ. وَمِثْلَ الْكَوَاكِبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالشَّجَرِ، وَبَيْنَ مَا اتَّصَفَ بِحَيَاةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ كَالْمَلَائِكَةِ، وَبَيْنَ مَا اتَّصَفَ بِحَيَاةٍ عَارِضَةٍ زَائِلَةٍ مِنْ مَعْبُودَاتِ الْبَشَرِ مثل (بوذة) و (برهما) بَلْهَ الْمَعْبُودَاتِ مِنَ الْبَقَرِ وَالثَّعَابِينَ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْل: 20] أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُهُمُ التَّصَرُّفَ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْيَاءِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، أَيْ مُعَرَّضٌ لِلْحَيَاةِ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النَّحْل: 21] فَجَعَلَ نَفْيَ الْحَيَاةِ عَنْهُمْ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ وَجَعَلَ نَفْيَ إِدْرَاكِ بَعْضِ الْمُدْرِكَاتِ عَنْهُمْ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ. وَبَعْدَ اتِّضَاحِ الدَّلَالَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فُرِّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ لِنُهُوضِ انْفِرَادِهِ بِاسْتِحْقَاقِ أَنْ يُعْبَدَ. وَالدُّعَاءُ: الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا يُلَازِمُهَا السُّؤَالُ وَالنِّدَاءُ فِي أَوَّلِهَا وَفِي أَثْنَائِهَا غَالِبًا، لِأَنَّ الدُّعَاءَ عُنْوَانُ انْكِسَارِ النَّفْسِ وَخُضُوعِهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: 60] وَكَمَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [غَافِر: 74] . وَالْإِخْلَاصُ: الْإِفْرَادُ وَتَصْفِيَةُ الشَّيْءِ مِمَّا يُنَافِيهِ أَوْ يُفْسِدُهُ. وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْمُطَاعِ. وَالْمَعْنَى: فَإِذْ كَانَ هُوَ الْحَيَّ دُونَ الْأَصْنَامِ وَكَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَاعْبُدُوهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ. وَيَدْخُلُ فِي مَاهِيَّةِ الْإِخْلَاصِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَرْكُ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الرِّيَاءَ وَهُوَ أَنْ

يَقْصِدَ الْمُتَعَبِّدُ مِنْ عِبَادَتِهِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ سَوَاءٌ كَانَ قَصْدًا مُجَرَّدًا أَوْ مَخْلُوطًا مَعَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. كُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ حَظٍّ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَظُّ فِي جَوْهَرِهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الرِّيَاءَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» (¬1) . وَتَقْدِيمُ لَهُ الْمُتَعَلِّقِ بِمُخْلِصِينَ عَلَى مَفْعُولِ مُخْلِصِينَ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِمُتَعَلِّقِهِ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءً لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَمْثَالِهَا فِي غَالِبِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِفِعْلِ فَادْعُوهُ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ هُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ كَثِيرًا فَصَارَتْ كَالْمَثَلِ فِي إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: فَاعْبُدُوهُ بِالْعَمَلِ وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَشُكْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا أُرِيدَ بِهِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. أَوْ جَارِيًا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: 45] عَقِبَ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [40] . وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ مَصْدَرًا جِيءَ بِهِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ احْمَدُوا اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَعُدِلَ بِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. ¬

(¬1) رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن شَدَّاد بن أَوْس قَالَ: «كُنَّا نعدّ الرِّيَاء على عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّرك الْأَصْغَر. وَعَن مُحَمَّد بن رَافع بن خديج رَفعه: «إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك الْأَصْغَر قَالُوا: وَمَا الشّرك الْأَصْغَر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الرِّيَاء..» . الحَدِيث.

[سورة غافر (40) : آية 66]

وَفَصْلُ الْجُمْلَةِ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا أَسْعَدُ بِالِاحْتِمَالَيْنِ الأول وَالرَّابِع. [66] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 66] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ لِيَجْرُوا عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَانْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِخَبَرِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْمَلَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيُبَلِّغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهَا أَوْ عَدَمِ إِتْقَانِ النَّظَرِ فِيهَا أَوْ قُصُورِ الِاسْتِنْتَاجِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنْوَاعًا بِمُخْتَلِفِ الْبَيَانِ مِنْ أَدِلَّةٍ بُرْهَانِيَّةٍ وَتَقْرِيبِيَّةٍ إِقْنَاعِيَّةٍ. وَأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُمْحِضٌ لَهُمُ النَّصِيحَةَ، وَهَادِيهِمْ إِلَى الْحُجَّةِ لِتَتَظَاهَرَ الْأَدِلَّةُ النَّظَرِيَّةُ بِأَدِلَّةِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ بِحَيْثُ يَقْوَى إِبْطَالُ مَذْهَبِهِمْ فِي الشِّرْكِ، فَإِنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ تَضَمَّنَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً وَإِقْنَاعِيَّةً وَأَوَامِرَ إِلَهِيَّةً وَزَوَاجِرَ وَتَرْغِيبَاتٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحُومُ حَوْلَ إِثْبَاتِ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ تَفَرُّدًا مُطْلَقًا لَا تَشُوبُهُ شَائِبَةُ مُشَارَكَةٍ وَلَوْ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ كَمَا تَشُوبُ الْمُشَارَكَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْأُخْرَى فِي مِثْلِ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ وَالْحَمْدِ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْكَرَمِ وَالْإِعَانَةِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ. فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي إِبْطَالًا لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّحْذِيرِ وَالتَّخْوِيفِ بَعْدَ أَنْ أُبْطِلَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَهَذِهِ دَلَالَةٌ كِنَائِيَّةٌ لِأَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْذِيرَ. وَذَكَرَ مَجِيءَ الْبَيِّنَاتِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى طُرُقٍ أُخْرَى مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ تَكَرَّرَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ ضَمِيرُ إِنِّي عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ نَحْوَ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَكَانَ تَخْصِيصُ

ذَاتِهِ بِهَذَا النَّهْيِ دُونَ تَشْرِيكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي إِبْلَاغِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْرَفَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ إِلْهَامًا إِلَهِيًّا إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ. ولَمَّا حَرْفٌ أَوْ ظَرْفٌ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ كَلِمَةٌ تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَضْمُونِ جُمْلَتَيْنِ تَلِيَانِهَا تُشْبِهَانِ جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُونَهَا (لَمَّا) التَّوْقِيتِيَّةَ، وَحُصُولُ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَقَوْلُهُ: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي تَوْقِيتٌ لِنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِوَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، أَيْ بَيِّنَاتُ الْوَحْيِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ وَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِسْنَادِ الْمَنْهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّعْرِيضُ بِنَهْيِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَا قَصْدَ مِنْهُ إِلَّا التَّبْلِيغَ لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يعبد الَّذين يدعونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي: فَإِذَا كُنْتُ أَنَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلُوا فِي شَأْنِكُمْ وَاسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَكُمْ فِيهِ، لِيَسُوقَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ سَوْقًا لَيِّنًا خَفِيًّا لِاتِّبَاعِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا لَا تَعْرِيضًا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا [مَرْيَم: 43، 44] وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِظُهُورِ أَنَّ النَّاهِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ. وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَسْأَلُ بِهِ حَاجَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: 60] فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ، تَفَنُّنَا. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّي ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجُعِلَ الْمَجْرُورُ بِ (مِنْ) وَصْفَ (رَبٍّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ مَجْرُورُهَا ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ

[سورة غافر (40) : آية 67]

الْمُعَرَّضِ بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ وَمَجِيءَ الْبَيِّنَاتِ هُوَ مِنْ جَانِبِ سَيِّدِهِ وَسَيِّدِهِمْ فَمَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يُطِيعُوهُ وَلِذَلِكَ عَزَّزَهُ بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ رَبُّكُمْ وَرَبُّ غَيْرِكُمْ فَلَا مُنْصَرَفَ لَكُمْ عَنْ طَاعَتِهِ. وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، وَكَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَأَصْلُهُ: أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ ذَاتَهُ أَوْ وَجْهَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ كَاللَّازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [20] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [131] ، وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا. [67] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 67] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) اسْتِئْنَافٌ رَابِعٌ بَعْدَ اسْتِئْنَافِ جُمْلَةِ هُوَ الْحَيُّ [غَافِر: 65] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا، وَكلهَا ناشىء بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. وَهَذَا الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَهُوَ نِعْمَةٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ شَرَفٌ وَالْمَعْدُومَ لَا عِنَايَةَ بِهِ. وَأُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْإِبْدَاعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَطْوَارِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَالطِّفْلُ: اسْمٌ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ قَالَ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: 31] وَقَدْ يُطَابِقُ فَيُقَالُ: طِفْلٌ وَطِفْلَانِ وَأَطْفَالٌ. وَاللَّامَاتُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِ (ثُمَّ) مُتَعَلِّقَاتٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ يُبْقِيكُمْ، أَوْ ثُمَّ يُنْشِئُكُمْ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَهِيَ لَامَاتُ

التَّعْلِيلِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى (إِلَى) لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُقَدَّرَةَ مِنَ اللَّهِ تُشْبِهُ الْعِلَّةَ فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى عَطْفٌ عَلَى لِتَكُونُوا شُيُوخاً أَيْ لِلشَّيْخُوخَةِ غَايَةٌ وَهِيَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى أَيِ الْمَوْتُ فَلَا طَوْرَ بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ. وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ لِلَّذِينَ يَهْلِكُونَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الشَّيْخُوخَةَ فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أَنَّ مِنْ قَبْلِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَطْوَارِ، أَيْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ طِفْلًا وَهُوَ السَّقْطُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْأَشُدَّ، أَوْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا. وَلِتَعَلُّقِهِ بِمَا يَلِيهِ خَاصَّةً عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَلَمْ يُعْطَفْ بِ (ثُمَّ) كَمَا عُطِفَتِ الْمَجْرُورَاتُ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ انْقِرَاضَ الْأَجْيَالِ وَخَلَقَهَا بِأَجْيَالٍ أُخْرَى، فَالْحَيُّ غَايَتُهُ الْفَنَاءُ وَإِنْ طَالَتْ حَيَاتُهُ، وَلَمَّا خَلَقَهُ على حَالَة تؤول إِلَى الْفَنَاءِ لَا مَحَالَةَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْغَايَاتِ فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ أَنْ يَبْلُغُوا أَجَلًا. وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ عَلَى نِيَّةِ مَعْنَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَا ذُكِرَ. وَالْأَشُدُّ: الْقُوَّةُ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ ثَمَان عشرَة سنة إِلَى الثَلَاثِينَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [22] . وَشُيُوخٌ: جَمْعُ شَيْخٍ، وَهُوَ مَنْ بَلَغَ سِنَّ الْخَمْسِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي سُورَةِ هُودٍ [72] . وَيَجُوزُ فِي (شُيُوخٍ) ضَمُّ الشِّينِ. وَبِهِ قَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الشِّينِ وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَطْفٌ عَلَى وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أَيْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَالَةِ الْمُبَيَّنَةِ، أَنْ تَكُونَ فِي تِلْكَ الْخِلْقَةِ دَلَالَةٌ لِآحَادِهِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْخَالِقِ الْخَلْقَ الْبَدِيعَ، وَعَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَصْفَ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ عَقَلَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اهْتَدَى إِلَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَدِيمِ الْعَقْلِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُؤْتَ

[سورة غافر (40) : آية 68]

لِفِعْلِ تَعْقِلُونَ بِمَفْعُولٍ وَلَا بِمَجْرُورٍ لِأَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عُقُولٌ فَهُوَ مُرَادٌ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ فَمِنْ حِكْمَتِهِ أَن جعل ذَلِك الْخَلْقَ الْعَجِيبَ عِلَّةً لأمور كَثِيرَة. [68] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 68] هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) اسْتِئْنَافٌ خَامِسٌ وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا إِلَى وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غَافِر: 67] فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يُرْجَى أَنْ يَعْقِلُوهُ هُوَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْبَدِيعُ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ فِي الْإِنْسَانِ عِنْدَ تَكْوِينِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جُثَّةً لَا حَيَاةَ فِيهَا، وَخَلْقِ الْمَوْتِ فِيهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ أَجَلِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيًّا مُتَصَرِّفًا بِقُوَّتِهِ وَتَدْبِيرِهِ. فَمَعْنَى يُحْيِي يُوجِدُ الْمَخْلُوقَ حَيًّا. وَمَعْنَى يُمِيتُ أَنَّهُ يُعْدِمُ الْحَيَاةَ عَنِ الَّذِي كَانَ حَيًّا، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ. وَأَمَّا إِمْكَانُ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ فَمَدْلُولٌ بِدَلَالَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الْعَقْلِيِّ وَلَيْسَ هُوَ صَرِيحَ الْآيَةِ. وَالْمَقْصُودُ الِامْتِنَانُ بِالْحَيَاةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِر: 67] . وَفِي قَوْلِهِ: يُحْيِي وَيُمِيتُ الْمُحَسِّنُ الْبَدِيعِيُّ الْمُسَمَّى الطِّبَاقَ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ التَّكْوِينِ مِنْ إِحْيَاءٍ أَوْ إِمَاتَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا مُعَالَجَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِالْمَقْدُورِ وَذَلِكَ التَّعَلُّقُ هُوَ تَوْجِيهُ قُدْرَتِهِ لِلْإِيجَادِ أَوِ الْإِعْدَامِ. فَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا قَضى فَاءُ تَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِمَا بَعْدَهَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُ: كُنْ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ بِلَا تَأْخِيرٍ وَلَا عُدَّةٍ وَلَا مُعَانَاةٍ وَعِلَاجٍ بِحَال من يرد إِذْنَ غَيْرِهِ بِعَمَلٍ فَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِ أَمْرًا فَإِنَّ صُدُورَ الْقَوْلِ

[سورة غافر (40) : الآيات 69 إلى 72]

عَنِ الْقَائِلِ أَسْرَعُ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ وَأَيْسَرُ، وَقَدِ اخْتِيرَ لِتَقْرِيبِ ذَلِكَ أَخْصَرُ فِعْلٍ وَهُوَ كُنْ الْمُرَكَّبُ مِنْ حَرْفَيْنِ متحرك وَسَاكن. [69- 72] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 69 إِلَى 72] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) بُنِيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِبْطَالِ جَدَلِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ جِدَالَ التَّكْذِيبِ وَالتَّوَرُّكِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِذْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهَا قَوْلُهُ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِيهَا، فَنَبَّهَ عَلَى إِبْطَالِ جِدَالِهِمْ فِي مُنَاسَبَاتِ الْإِبْطَالِ كُلِّهَا إِذِ ابْتُدِئَ بِإِبْطَالِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ عَقِبَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] ثُمَّ بِإِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [غَافِر: 35] ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غَافِر: 56] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ فَلِذَلِكَ أَعْقَبَ كُلَّ طَرِيقَةٍ مِنْ طَرَائِقِ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِالْإِنْحَاءِ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ لَفْظًا، وَالْمُرَادُ بِهِ: التَّقْرِيرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] . وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهَا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ أَنَّى يُصْرَفُونَ، و (أَنَّى) بِمَعْنَى (كَيْفَ) ، وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ:

أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمرَان: 47] أَيْ أَرَأَيْتَ عَجِيبَ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ بِصَارِفٍ غَيْرِ بَيِّنٍ مَنْشَؤُهُ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ فِعْلُ يُصْرَفُونَ لِلنَّائِبِ لِأَنَّ سَبَبَ صَرْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ لَيْسَ غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنَّى) بِمَعْنَى (أَيْنَ) ، أَيْ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ أَيْنَ يَصْرِفُهُمْ صَارِفٌ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ مَعَ أَنَّ شُبَهَ انْصِرَافِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ مُنْتَفِيَةٌ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَأَنْفُسِهِمْ وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ عَاقِبَةِ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ مِمَّنْ سَبَقَهُمْ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُتَعَجِّبُ مِنْ فِعْلِ أَحَدٍ «أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ» . وَبِنَاءُ فِعْلِ يُصْرَفُونَ لِلْمَجْهُولِ عَلَى هَذَا الْوَجْه للتعجيب مِنَ الصَّارِفِ الَّذِي يَصْرِفُهُمْ وَهُوَ غَيْرُ كَائِنٍ فِي مَكَانٍ غَيْرِ نُفُوسِهِمْ. وَأَبْدَلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ مِنَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ لِأَنَّ صِلَتَيِ الْمَوْصُولَيْنِ صَادِقَتَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فالتكذيب هُوَ مَا صدق الْجِدَالِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَعَطْفُ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ الْعَطْفِ مُقْتَضِيًا الْمُغَايَرَةَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ مُرَادًا بِهِ تَكْذِيبُهُمْ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ فَلَعَلَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ سَأَلُوا عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَأَثْبَتُوهُ فَأَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُرَادِفٍ، فَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ، وَالْمُرَادُ بِ رُسُلَنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 105] يَعْنِي الرَّسُولَ نُوحًا عَلَى أَنَّ فِي الْعَطْفِ فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهِيَ أَنَّ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَاعِظَ وَإِرْشَادًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَتَفَرَّعَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِيدُهُمْ بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ،

أَيْ سَوْفَ يَجِدُونَ الْعَذَابَ الَّذِي كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهِ فَيَعْلَمُونَهُ. وَعَبَّرَ عَنْ وِجْدَانِهِمُ الْعَذَابَ بِالْعِلْمِ بِهِ بِمُنَاسَبَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِالْبَعْثِ وتظاهرهم بِعَدَمِ فَهْمِ مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْذِرُوا بِأَنَّ مَا جَهِلُوهُ سَيَتَحَقَّقُونَهُ يَوْمَئِذٍ كَقَوْلِ النَّاسِ: سَتَعْرِفُ مِنْهُ مَا تَجْهَلُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصِيرُ: فَتَذُمُّ رَأْيَكَ فِي الَّذِينَ خَصَصْتَهُمْ ... دُونِي وَتَعْرِفُ مِنْهُمْ مَا تَجْهَلُ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ عَلَيْهِ، أَيْ يَتَحَقَّقُونَ مَا كَذَّبُوا بِهِ. وَالظَّرْفُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَشَأْنُ (إِذْ) أَنْ تَكُونَ اسْمًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَاسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ (سَوْفَ) فَهُوَ إِمَّا اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ تَشْبِيهًا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ. وَمِنْهُ اقْتِرَانُهَا بِ (يَوْمَ) فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: 4] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: 4، 5] . وَأَوَّلُ مَا يَعْلَمُونَهُ حِينَ تَكُونُ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَحَقَّقُونَ وُقُوعَ الْبَعْثِ. وَالْأَغْلَالُ: جَمْعُ غل، بِضَم الْعين، وَهُوَ حَلَقَةٌ مِنْ قِدٍّ أَوْ حَدِيدٍ تُحِيطُ بِالْعُنُقِ تُنَاطُ بِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ سَيْرٌ مِنْ قِدٍّ يُمْسَكُ بِهَا الْمُجْرِمُ وَالْأَسِيرُ. وَالسَّلَاسِلُ: جَمْعُ سِلْسِلَةٍ بِكَسْرِ السِّينَيْنِ وَهِيَ مَجْمُوعُ حِلَقٍ غَلِيظَةٍ مِنْ حَدِيدٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَمِنَ الْمَسَائِلِ مَا رَأَيْتُهُ أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ كَانَ يَوْمًا فِي دَرْسِهِ فِي التَّفْسِيرِ سُئِلَ: هَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ سَنَدًا لِمَا يَفْعَلُهُ أُمَرَاءُ الْمَغْرِبِ أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ مَنْ وَضْعِ الْجُنَاةِ بِالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ جَرْيًا عَلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الْعُقُوبَاتِ كَمَا اسْتَنْبَطُوا بَعْضَ صُوَرِ عِقَابٍ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ، أَوِ الْإِلْقَاءِ مِنْ شَاهِقٍ. فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ وَضْعَ الْغُلِّ فِي الْعُنُقِ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ وَإِنَّمَا يُوثَقُ الْجَانِي مِنْ يَدِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَاسُوا عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُقَاسُ عَلَى

[سورة غافر (40) : الآيات 73 إلى 76]

تَصَرُّفِهِ فِي الْآخِرَةِ لِنَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ» . وَجُمْلَةُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَعْناقِهِمْ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ يَعْلَمُونَ. وَالسَّحْبُ: الْجَرُّ، وَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيلَامِ وَالْإِهَانَةِ. وَالْحَمِيمُ: أَشَدُّ الْحَرِّ. وَ (ثُمَّ) عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ عَلَى جُمْلَةِ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ. وَشَأْنُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ أَنْ تَكُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ احْتِرَاقَهُمْ بِالنَّارِ أَشَدُّ فِي تَعْذِيبِهِمْ مِنْ سَحْبِهِمْ عَلَى النَّارِ، فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ التَّعْذِيبِ الَّذِي أُجْمِلَ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَالسَّجْرُ بِالنَّارِ حَاصِلٌ عَقِبَ السَّحْبِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَرَاخٍ أَمْ بِدُونِهِ. وَالسَّجْرُ: مَلْءُ التَّنُّورِ بِالْوَقُودِ لِتَقْوِيَةِ النَّارِ فِيهِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ يُسْجَرُونَ إِلَى ضمير هم إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الَّذِي يُسْجَرُ هُوَ مَكَانُهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ، فَأُرِيدَ بِإِسْنَادِ الْمَسْجُورِ إِلَيْهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعَلُّقِ السَّجْرِ بِهِمْ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَشْبِيهِهِمْ بِالتَّنُّورِ فِي اسْتِقْرَارِ النَّارِ بِبَاطِنِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الْحَج: 20] . [73- 76] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 73 إِلَى 76] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) (ثُمَّ) هَذِهِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مِمَّا وَقَعَ فِي آخِرِ الْقَوْلِ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وَدُخُولُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ قَبْلَ السَّحْبِ فِي حَمِيمِهَا وَالسَّجْرِ فِي نَارِهَا. وَهَذَا الْقِيلُ ارْتِقَاءٌ فِي تَقْرِيعِهِمْ

وَإِعْلَانُ خَطَلِ آرَائِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ أَلَمِ الْجِسْمِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُقَدِّمَةٌ لِتَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ سَبَبِ الْعَذَابِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَازْدِهَائِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِكُفْرِهِمْ وَمَرَحِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ أَحْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى نَكَالِهِمْ إِذِ ارْتَقَى مِنْ صِفَةِ جَزَائِهِمْ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ وَهُوَ شَيْءٌ غَيْرُ مُسْتَغْرَبٍ تَرَتُّبُهُ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى وَصْفِ تَحْقِيرِهِمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَذَلِكَ غَرِيبٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْمُهِمُّ مِنَ الْقَوَارِعِ الَّتِي سُلِّطَتْ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَمَوْقِعُ الْمَعْطُوفِ بِ (ثُمَّ) هُنَا كَمَوْقِعِ الْمَعْطُوفِ بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ: قُلْ إِنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... قَبْلَهُ ثُمَّ سَادَ مِنْ قَبْلُ جَدُّهُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ سِيَادَةُ جَدِّهِ أَرْسَخَتْ لَهُ سِيَادَةَ أَبِيهِ وَأَعْقَبَتْ سِيَادَةَ نَفْسِهِ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ بِكَثْرَةٍ. وَصِيغَ (قِيلَ) بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ وَمَضَى وَكَذَلِكَ فِعْلُ قالُوا ضَلُّوا. وَالْقَائِلُ لَهُمْ: نَاطِقٌ بِإِذن الله. و (أَيْن) لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ مَكَانِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ الْمَكَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْغَلَطِ وَالْفَضِيحَةِ فِي الْمَوْقِفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ لِيَكُونُوا شُفَعَاءَ لَهُمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ فَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فَلَمْ يَجِدُوا شُفَعَاءَ ذُكِّرُوا بِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ فَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَابْتَدَرُوا بِالْجَوَابِ قبل انْتِهَاء الْمقَالة طَمَعا فِي أَن يَنْفَعهُمْ الِاعْتِذَار. فجملة قالُوا ضَلُّوا عَنَّا مُعْتَرضَة فِي أثْنَاء الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَمَعْنَى ضَلُّوا غَابُوا كَقَوْلِهِ: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] أَيْ غُيِّبْنَا فِي التُّرَابِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُفِيدُهُمْ. فَأَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: ضَلُّوا عَنَّا وَقَالُوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أَيْ لَمْ نَكُنْ فِي الدُّنْيَا نَدْعُو شَيْئًا يُغْنِي عَنَّا، فَنَفْيُ دُعَاءِ شَيْءٍ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى نَفْيِ دُعَاءِ شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ أَنَّ فُلَانًا شَيْءٌ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنْ كُنْتَ خَبَرْتَهُ فَلَمْ تَرَ عِنْدَهُ خَيْرًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «سُئِلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ

: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» أَيْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ مُعْتَدٍّ بِهِ فِيمَا يَقْصِدُهُمُ النَّاسُ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَاءٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [68] ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا عَبَدُوا شَيْئًا لِمُنَافَاتِهِ لِقَوْلِهِمْ: ضَلُّوا عَنَّا الْمُقْتَضِي الِاعْتِرَافَ الضِّمْنِيَّ بِعِبَادَتِهِمْ. وَفَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أَنَّهُ إِنْكَارٌ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهَا لِاضْطِرَابِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مَقَالَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ أَنْ يُحْشَرُوا فِي النَّارِ هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مُتَمَاثِلِينَ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ تَذْيِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ. وَمَعْنَى الْإِشَارَةِ تَعْجِيبٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ، أَيْ مِثْلُ ضَلَالِهِمْ ذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: عُمُومُ الْكَافِرِينَ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ يُفِيدُ تَشْبِيهَ إِضْلَالِ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ بِإِضْلَالِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ تَذْيِيلًا، أَيْ مِثْلُ إِضْلَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ يُضِلُّ اللَّهُ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ إِضْلَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ مُشَبَّهًا بِهِ إِضْلَالُ الْكَافِرِينَ كُلِّهِمْ، وَالتَّشْبِيهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ إِضْلَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بَلَغَ قُوَّةَ نَوْعِهِ بِحَيْثُ يُنَظَّرُ بِهِ كُلُّ مَا خَفِيَ مِنْ أَصْنَافِ الضَّلَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ مُجَادَلَةِ هَؤُلَاءِ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَشَدَّ الْكُفْرِ. وَالتَّشْبِيهُ جَارٍ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ إِلْحَاقُ نَاقِصٍ بِكَامِلٍ فِي وَصْفٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ

وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] وَلَا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [غَافِر: 63] . وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ تَكْمِلَةُ الْقِيلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ حِينَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ من الْعَذَاب. و (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ ذَلِكُمْ مُسَبَّبٌ عَلَى فَرَحِكُمْ وَمَرَحِكُمُ اللَّذَيْنِ كَانَا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَرْضُ: مُطْلَقَةٌ عَلَى الدُّنْيَا. وَالْفَرَحُ: الْمَسَرَّةُ وَرِضَى الْإِنْسَانِ عَلَى أَحْوَالِهِ، فَهُوَ انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ. وَالْمَرَحُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْفَارِحِ مِنَ الْحَرَكَاتِ فِي مَشْيِهِ وَنَظَرِهِ وَمُعَامَلَتِهِ مَعَ النَّاسِ وَكَلَامِهِ وَتَكَبُّرِهِ فَهُوَ هَيْئَةٌ ظَاهِرِيَّةٌ. وبِغَيْرِ الْحَقِّ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ تَفْرَحُونَ وتَمْرَحُونَ أَيْ تَفْرَحُونَ بِمَا يَسُرُّكُمْ مِنَ الْبَاطِلِ وَتَزْدَهُونَ بِالْبَاطِلِ فَمِنْ آثَارِ فَرَحِهِمْ بِالْبَاطِلِ تَطَاوُلُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْمَرَحِ بِالْبَاطِلِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فاكهين [المطففين: 30، 31] . فَالْفَرَحُ كُلَّمَا جَاءَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: 76] لَا كُلَّ فَرِحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَرَحِ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: 4، 5] . وَبَيْنَ تَفْرَحُونَ وتَمْرَحُونَ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ. وَجُمْلَةُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا التَّقْرِيعَ وَالتَّوْبِيخَ وَأَيْقَنُوا بِانْتِفَاءِ الشَّفِيعِ تَرَقَّبُوا مَاذَا سَيُؤْمَرُ بِهِ فِي حَقِّهِمْ فَقِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ إِلَخْ، فَإِنَّ مَدْلُولَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْعَذَابُ الْمُشَاهَدُ لَهُمْ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِدْخَالِهِمْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ وَالْخُلُودِ فِيهَا. وَدُخُولُ الْأَبْوَابِ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَوْنِ فِي جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْأَبْوَابَ إِنَّمَا جُعِلَتْ لِيُسْلَكَ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ.

[سورة غافر (40) : آية 77]

وخالِدِينَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُقَدَّرًا خُلُودُكُمْ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ جَهَنَّمَ أَيْ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جَهَنَّمُ، وَلَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُ (بِئْسَ) بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ مَثْوَى لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِسْنَادِ فِعْلِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ إِلَى الِاسْمِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُمَا، وَأَمَّا اسْمُ الْمَخْصُوصِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَلِذَلِكَ عُدَّ بَابُ نِعْمَ وَبِئْسَ مِنْ طُرُقِ الْإِطْنَابِ. وَالْمَثْوَى: مَحَلُّ الثَّوَاءِ، وَالثَّوَاءِ: الْإِقَامَةُ الدَّائِمَةُ، وَأُوثِرَ لَفْظُ مَثْوَى دُونَ (مُدْخَلٍ) الْمُنَاسِبِ لِ ادْخُلُوا لِأَنَّ الْمَثْوَى أَدَلُّ عَلَى الْخُلُودِ فَهُوَ أَوْلَى بِمَسَاءَتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ: الْمُخَاطَبُونَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُمْ جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ عَنْ كِبْرٍ فِي صُدُورِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: 56] وَلِأَنَّ تَكَبُّرَهُمْ مِنْ فَرَحِهِمْ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمُتَكَبِّرِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ تَكَبُّرَهُمْ عَلَى الرُّسُلِ. وَلِيَكُونَ لِكُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكِبْرِ حَظٌّ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ إِذَا لَمْ يَتُبْ وَلَمْ تَغْلُبْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أهل الْإِيمَان. [77] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 77] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) قَدْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ السُّورَةِ مَا فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَلَقَّاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْإِعْرَاضِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: 4] ثُمَّ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غَافِر: 21] ، ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر: 51] ثُمَّ

قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: 55] الْآيَةَ، فَفَرَّعَ هُنَا عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ وَمَا تَخَلَّلَهُ مِنْ تَصْرِيحٍ وَتَعْرِيضٍ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا كَالتَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: 55] . وَذَلِكَ أَنَّ نَظِيرَهُ الْمُتَقَدِّمَ وَرَدَ بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غَافِر: 51] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [غَافِر: 53] الْآيَةَ، فَلَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى مَا أَخَذَ اللَّهُ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ مَا يَلْقَوْنَهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 70، 71] الْآيَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عَوْدًا إِلَى بَدْءٍ إِذِ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غَافِر: 4، 5] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غَافِر: 18] ثُمَّ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا [غَافِر: 21] وَمَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا حَصَلَ الْوَعْدُ بِالِانْتِصَافِ مِنْ مُكَذِّبِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَإِنَّ مُنَاسَبَةَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَقِبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا بِالِانْتِصَارِ لَهُ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الشَّرْطُ الْمُرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَرَاهُ، فَإِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ حَاصِلٌ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ مَضْمُونُ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ التَّرْدِيدَيْنِ هُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مَوْقِعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ استبطأوا النَّصْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 214] فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ فَأُكِّدَ وَعْدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُرْجَعُونَ لِإِفَادَتِهِ التَّجَدُّدَ فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ شَرْطٌ، اقْتَرَنَ حَرْفُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ بِحَرْفِ (مَا)

[سورة غافر (40) : آية 78]

الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَلِذَلِكَ لَحِقَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ بِفِعْلِ الشَّرْطِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ وَهُوَ فِعْلُ شَرْطٍ ثَانٍ. وَجُمْلَةُ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ جَوَابٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لَهُ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَذَاكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، أَيْ فَهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِمَّا نَعِدُهُمْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي سُورَةِ يُونُسَ إِلَّا أَنَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [46] فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ، وَلِأَنَّ مَا فِي يُونُسَ اقْتَضَى تَهْدِيدَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، أَيْ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْفَرِيقَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يُونُس: 42] وَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يُونُس: 43] فَكَانَتِ الْفَاصِلَةُ حَاصِلَةً بِقَوْلِهِ: عَلى مَا يَفْعَلُونَ [يُونُس: 46] ، وَأَمَّا هُنَا فَالْفَاصِلَةُ مُعَاقِبَةٌ لِلشَّرْطِ فَاقْتَضَتْ صَوْغَ الرُّجُوعِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُخْتَتَمِ بِوَاوٍ وَنُونٍ، عَلَى أَن مَرْجِعُهُمْ [يُونُس: 46] مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمَرْجِعِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُرْجَعُونَ الْمُشْعِرِ بِرُجُوعٍ مُتَجَدِّدٍ كَمَا عَلِمْتَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِنَا فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ مِثْلَ عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِكَ مِثْلَ قَتْلِهِمْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مُقَرَّرٌ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: 42] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الفاصلة وللاهتمام. [78] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 78] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) ذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَوَّلِ هَذِهِ

السُّورَةِ [4] أَنَّ مِنْ صُوَرِ مُجَادَلَتِهِمْ فِي الْآيَاتِ إِظْهَارَهُمْ عَدَمَ الِاقْتِنَاعِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ آيَاتٍ كَمَا يُرِيدُونَ لِقَصْدِهِمْ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْقَضَى تَفْصِيلُ الْإِبْطَالِ لِضَلَالِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ ثُمَّ بِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَا كَانَ شَأْنُهُ إِلَّا شَأْنَ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ أَنْ لَا يَأْتُوا بِالْآيَاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اسْتِجَابَةً لِرَغَائِبِ مُعَانِدِيهِمْ وَلَكِنَّهَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَأِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ تَنْتَصِبُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعَانِدِينَ. فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إِلَخْ فَهُوَ كَمُقَدَّمَةٍ لِلْمَقْصُودِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُفِيدُ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ رَدِّ مُجَادَلَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] فَدُمِغَتْ مَزَاعِمُهُمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ تَكَرُّرِ بِعْثَةِ الرُّسُلَ فِي الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ الْكَثِيرَةِ. وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَ الله بهم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ إِذْ لَا كَمَالَ فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ، وَالَّذِينَ أَعْلَمَهُ بِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَهُ بِهِمْ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَوَرَدَ ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ بِتَعْيِينٍ أَوْ بِدُونِ تَعْيِينٍ، فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيئًا اسْمُهُ عَبُّودٌ عَبْدًا أَسْوَدَ» وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ: حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيِّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَذِكْرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ نَبِيِّ (¬1) عَبْسٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ نَبِيئًا لَسَعَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَحْرَقَ قَرْيَتَهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ» . وَلَا يَكَادُ النَّاسُ يُحْصُونَ عَدَدَهُمْ لِتَبَاعُدِ أَزْمَانِهِمْ وَتَكَاثُرِ أُمَمِهِمْ وَتَقَاصِي أَقْطَارِهِمْ مِمَّا لَا تُحِيطُ بِهِ عُلُومُ النَّاسِ وَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَهُ أَقْلَامُ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَخْبَارُ الْقَصَّاصِينَ وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهِمْ وَبَعْضِ أُمَمِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِتَحْصِيلِ الْعِبْرَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة (بني) .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَسُولًا وَهُمْ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَعِيسَى وَيُونُسُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا وَهُمْ: دَاوُدُ وَسليمَان وَأَيوب وزكرياء وَيَحْيَى وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَإِدْرِيسُ وَآدَمُ وَذُو الْكِفْلِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَلُقْمَانُ وَنَبِيئَةٌ وَهِيَ مَرْيَمُ. وَوَرَدَ بِالْإِجْمَالِ دُونَ تَسْمِيَةٍ صَاحِبُ مُوسَى الْمُسَمَّى فِي السّنة خضراء وَنَبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ صَمْوِيلُ وَتُبَّعٌ. وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ مُطَالَبِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ بِصَرِيحِ وَصْفِ النُّبُوءَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَتِهِمْ لِمَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرُوا فِيهَا وَعِدَّتُهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ رَسُولٍ وَنَبِيءٍ، وَقَدِ اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْله: وَلُوطاً [الْأَنْعَام: 83- 86] عَلَى أَسْمَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ وَذُكِرَ أَسْمَاءُ سَبْعَةٍ آخَرِينَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَقَدْ جَمَعَهَا مَنْ قَالَ: حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ ... بِأَنْبِيَاءَ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا فِي تِلْكَ حُجَّتُنَا مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ ... مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَهُم إِدْرِيسُ هُودٌ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وَكَذَا ... ذُو الْكِفْلِ آدَمُ بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَوْنِ يُوسُفَ رَسُولًا تَرَدُّدًا بَيَّنْتُهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [34] ، وَأَن فِي نبوءة الْخِضْرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ تَرَدُّدًا. واخترت إِثْبَات نبوءتهم لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَقَدِ اشْتُهِرَتْ فِي النُّبُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَلَّمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَلَا يَجِبُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِوُقُوعِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوءَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ. وَلَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَةِ رِسَالَةِ مُعَيَّنٍ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَنْ بَلَغَ الْعِلْمُ بِنُبُوءَتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغَ الْيَقِينِ لِتَوَاتُرِهِ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ. وَلَكِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى ذِكْرِ نُبُوءَةِ نَبِيءٍ بِوَصْفِهِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن صَرِيحًا وَجب (¬1) عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا عَلِمَهُ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة (وَجِيء) .

وَمَا ثَبَتَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تَجِبُ بِالظَّنِّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لَا وُجُوبَ اعْتِقَادٍ. وَتَنْكِيرُ رُسُلًا مُفِيدٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، أَيْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ وَشَأْنُهُمْ عَظِيمٌ. وَعَطْفُ وَما كانَ لِرَسُولٍ إِلَخْ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ يُفِيدُ اسْتِقْلَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَفْسِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنًى عَظِيمٍ حَقِيقٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَيُكْتَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ارْتِبَاطِ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَوْقِعِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَالْآيَةُ: الْمُعْجِزَةُ، وَإِذْنُ اللَّهِ: هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ بِهِ خَارِقَ الْعَادَةِ لِيَجْعَلَهُ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى إِتْيَانِ الرَّسُولِ بِآيَةٍ: هُوَ تَحَدِّيهِ قَوْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ يُعَيِّنُهَا مِثْلَ قَوْلٍ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَاف: 73] وَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 30] الْآيَةَ. وَقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 49] وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] . فَالْبَاءُ فِي بِآيَةٍ بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ أَنْ يَأْتِيَ وَأَمَّا الْبَاءُ فِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْ أَسْبَابٍ مَحْذُوفَةٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَاب إِلَّا بِسَبَب إِذن اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا يَتَوَرَّكُونَ بِهِ مِنَ الْمُقْتَرَحَاتِ وَالتَّعِلَّاتِ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الرَّسُولِ آيَةً ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالْحَقِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِخَلْقِ آيَةٍ وَظُهُورِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الْأَمْرُ: الْقَضَاءُ وَالتَّقْدِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] وَقَوْلُهُ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [الْمَائِدَة: 52] وَهُوَ الْحَدَثُ الْقَاهِرُ لِلنَّاسِ كَمَا فِي

قَوْلِ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو قَتَادَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «مَا شَأْنُ النَّاسِ» حِينَ انْهَزَمُوا وَفَرُّوا قَالَ عُمَرُ: «أَمْرُ اللَّهِ» . وَفِي الْعُدُولِ عَنْ: إِذْنِ اللَّهِ، إِلَى أَمْرُ اللَّهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا سَيُظْهِرُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِذْنِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ آيَاتُ عِقَابٍ لِمُعَانِدِيهِ، فَمِنْهَا: آيَةُ الْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ، وَآيَةُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ اسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَ الْمُكَذِّبِينَ من أهل مَكَّة، وَآيَة السَّيْف يَوْم حنين إِذْ استأصل صَنَادِيد أَهْلِ الطَّائِفِ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الَّتِي قَالَ الله عَنْهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الْأَحْزَاب: 9] ثُمَّ قَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الْأَحْزَاب: 25- 27] . وَفِي إِيثَارِ قُضِيَ بِالْحَقِّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ: ظَهَرَ الْحَقُّ، أَوْ تَبَيَّنَ الصِّدْقُ، تَرْشِيحٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ أَمْرُ انْتِصَافٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ خَسِرَ الَّذِينَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. وَالْخُسْرَانُ: مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِ الضُّرِّ لِمَنْ أَرَادَ النَّفْعَ، كَخَسَارَةِ التَّاجِرِ الَّذِي أَرَادَ الرِّبْحَ فَذَهَبَ رَأْسُ مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] . وهُنالِكَ أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْمَكَانِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ نُكْتَةٌ بَدِيعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُبْطِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سَتَأْتِيهِمُ الْآيَةُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَكَانُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مَوَاقِعِ إِعْمَالِ السَّيْفِ فِيهِمْ

[سورة غافر (40) : الآيات 79 إلى 80]

فَكَانَتْ آيَاتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَى مُعَانَدِيهِ أَقْوَى مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ نَحْوَ الصَّوَاعِقِ أَوِ الرِّيحِ، وَعَنِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ نَحْوَ الْغَرَقِ وَالْخَسْفِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ وَمُدَاخَلَتِهِمْ حَتَّى يَكُونَ انْغَلَابُهُمْ أَقْطَعَ لِحُجَّتِهِمْ وَأَخْزَى لَهُمْ نَظِيرَ آيَةِ عَصَا مُوسَى مَعَ عصيّ السَّحَرَة. [79- 80] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 79 إِلَى 80] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) انْتِقَالٌ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِمَا سَخَّرَ لِأَجْلِهِمْ مِنْ نِظَامِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، وَبِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْإِيجَادِ وَتَطَوُّرِهِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَلْطَافِ بِهِمْ وَمَا أَدْمَجَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فَكَيْفَ يَنْصَرِفُ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ آلِهَةً أُخْرَى، إِلَى الِامْتِنَانِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ لِمَنَافِعِهِمُ الْجَمَّةِ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ سَادِسٌ. وَالْقَوْلُ فِي افْتِتَاحِهَا كَالْقَوْلِ فِي افْتِتَاحِ نَظَائِرِهَا السَّابِقَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ بِضَمِيرِهِ. وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِبِلُ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَكَانَتِ الْإِبِلُ غَالِبَ مَكَاسِبِهِمْ. وَالْجَعْلُ: الْوَضْعُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّهْيِئَةُ، فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَفَائِدَةُ الِامْتِنَانِ تَقْرِيبُ نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ الْمُنْعِمِ. وَأُدْمِجَ فِي الِامْتِنَانِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَبَلِيغِ الْحِكْمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُرِيكُمْ آياتِهِ [غَافِر: 81] أَيْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَهُوَ امْتِنَانٌ مُجْمَلٌ يَشْمَلُ بِالتَّأَمُّلِ كُلَّ مَا فِي الْإِبِلِ لَهُمْ مِنْ مَنَافِعَ وَهُمْ يَعْلَمُونَهَا إِذَا تَذَكَّرُوهَا وَعَدُّوهَا. ثُمَّ فَصَّلَ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ بِذِكْرِ الْمُهِمِّ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي فِي الْإِبِلِ بِقَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوا مِنْها إِلَى تُحْمَلُونَ. فَاللَّامُ فِي لِتَرْكَبُوا مِنْها لَامُ كَيْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ جَعَلَ أَي لركوبكم. و (من) فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَهِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ (مِنْ) أَيْ بَعْضًا مِنْهَا، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلْأَسْفَارِ مِنَ الرَّوَاحِلِ. وَيَتَعَلَّقُ حرف (من) بتركبوا، وَتَعَلُّقُ (مِنِ) التَّبْعِيَّضِيَّةِ بِالْفِعْلِ تَعَلُّقٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ الَّذِي دَعَا التفتازانيّ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (مِنْ) فِي مِثْلِهِ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وَأُرِيدَ بِالرُّكُوبِ هُنَا الرُّكُوبُ لِلرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْحَاجَةِ الْقَرِيبَةِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ. وَجُمْلَةُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَنْعامَ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ لِتَرْكَبُوا مِنْها لِأَنَّهَا فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: تَرْكَبُونَ مِنْهَا، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ لِبَيَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ، وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فَهِيَ فِي حَيِّزِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ كَيْ فَمَعْنَاهَا: وَلِتَأْكُلُوا مِنْهَا. وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ التَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتَجْتَنُوا مَنَافِعَهَا الْمَجْعُولَةَ لَكُمْ وَإِنَّمَا غَيَّرَ أُسْلُوبَ التَّعْلِيلِ تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ وَتَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ تِكْرَارَاتٍ كَثِيرَةً. وَالْمَنَافِعُ: جَمْعُ مَنْفَعَةٍ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ مِنَ النَّفْعِ، وَهِيَ: الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، أَيْ يُسْتَصْلَحُ بِهِ. فَالْمَنَافِعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُرِيدَ بِهَا مَا قَابَلَ مَنَافِعَ أَكْلِ لُحُومِهَا فِي

قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ مِثْلَ الِانْتِفَاعِ بِأَوْبَارِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَثْمَانِهَا وَأَعْوَاضِهَا فِي الدِّيَاتِ وَالْمُهُورِ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا بِاتِّخَاذِهَا قِبَابًا وَغَيْرَهَا وَبِالْجُلُوسِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِجَمَالِ مَرْآهَا فِي الْعُيُونِ فِي الْمَسْرَحِ وَالْمَرَاحِ، وَالْمَنَافِعُ شَامِلَةٌ لِلرُّكُوبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوا مِنْها، فَذِكْرُ الْمَنَافِعِ بَعْدَ لِتَرْكَبُوا مِنْها تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] بَعْدَ قَوْلِهِ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها [طه: 18] ، فَذَكَرَ هُنَا الشَّائِعَ الْمَطْرُوقَ عِنْدَهُمْ ثُمَّ ذَكَر مَثِيلَهُ فِي الشُّيُوعِ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى عُمُومِ الْمَنَافِعِ، ثُمَّ خَصَّ مِنَ الْمَنَافِعِ الْأَسْفَارَ، فَإِنَّ اشْتِدَادَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ فِيهَا تَجْعَلُ الِانْتِفَاعَ بِرُكُوبِهَا لِلسَّفَرِ فِي مَحَلِّ الِاهْتِمَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي أَجْزَاءِ الْأَنْعَامِ جِيءَ فِي مُتَعَلِّقِهَا بِحَرْفِ (فِي) دُونَ (مِنْ) لِأَنَّ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَتَشْمَلُ كُلَّ مَا يُعَدُّ كَالشَّيْءِ الْمُحَوِّي فِي الْأَنْعَامِ، كَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَذْكُرُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ قَرِيبٍ: نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَأَنْبَأَ فِعْلُ لِتَبْلُغُوا أَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي فِي الصُّدُورِ حَاجَةٌ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ يَطْلُبُهَا صَاحِبُهَا. وَالْحَاجَةُ: النِّيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ. وَالصُّدُورُ أُطْلِقَ عَلَى الْعُقُولِ اتِّبَاعًا لِلْمُتَعَارَفِ الشَّائِعِ كَمَا يُطْلَقُ الْقُلُوبُ عَلَى الْعُقُولِ. وَأَعْقَبَ الِامْتِنَانَ بِالْأَنْعَامِ بِالِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ فَقَالَ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِامْتِنَانِ بِجَعْلِ الْأَنْعَامِ، إِلَى الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الرُّكُوبِ فِي الْفُلْكِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعَلَيْها فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهُ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالْوَاوِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ تَكْرِيرًا لِلْمِنَّةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَشْمَلُ حَمْلَ الْأَثْقَالِ عَلَى الْإِبِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: 7] فَيَكُونُ إِسْنَادُ الْحَمْلِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسِ تَغْلِيبًا.

[سورة غافر (40) : آية 81]

وُوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ أَنَّهُ امْتِنَانٌ بِمَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالذَّكَاءِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَرَعَاتِ النَّافِعَةِ بِحَسْبِ مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَات، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ فِي التِّجَارَةِ وَيَرْكَبُونَ الْأَنْهَارَ أَيْضًا قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الْفُرَاتَ: يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحُ مُعْتَصِمًا ... بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ وَالنَّجَدِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ السَّفَرِ بِالْإِبِلِ وَالسِّفْرِ بِالْفُلْكِ جَمْعٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْإِبِلَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، وَقَدِيمًا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْفُلْكِ وَلَمْ يَقُلْ: وَفِي الْفُلْكِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: 65] لمزاوجة وَالْمُشَاكَلَةِ مَعَ وَعَلَيْها، وَإِنَّمَا أُعِيدَ حِرَفُ (عَلَى) فِي الْفُلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذِّكْرِ وَكَانَ ذِكْرُ وَعَلَيْها كَالتَّوْطِئَةِ لَهَا فَجَاءَتْ عَلَى مِثَالِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ لرعاية على الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي السِّيَاقِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْأَنْعامَ مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِفِعْلِهِ مِنَ الْمَجْرُورِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ. وَالْمُنْعِمِ بِهَا لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ. [81] [سُورَة غَافِر (40) : آيَة 81] وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: 79] أَيِ اللَّهُ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنْ مُتَعَدَّدِ الِامْتِنَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: 61] ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: 64] ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [غَافِر: 67] ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: 79] ، فَإِنَّ تِلْكَ ذُكِرَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ تَذْكِيرًا

بِالشُّكْرِ، فَنَبَّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْمِنَنِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيكُمْ آياتِهِ مُفِيدًا مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي قَوْله: اتِهِ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، أَيْ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فِي النِّعَمِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَنَبْذِ الْمُكَابَرَةِ فِيمَا يَأْتُونَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ صِدْقِهِمْ. وَقَدْ جِيءَ فِي جَانِبِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ كَانَ طَرِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمِ هُوَ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَمِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ يَنْتَقِلُ الْعَقْلُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دَلَالَةَ وُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ بُرْهَانِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالضَّرُورَةِ. وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِهَا، وَالْإِرْشَادِ إِلَى إِجَادَةِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي دَلَائِلِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا جَائِيَةً مِنْ لَدُنِ اللَّهِ وَكَوْنُ إِضَافَتِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ، فَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِسْنَاد فعل رِيكُمْ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى. وَفُرِّعَ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ إِنْكَارِهِمْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَات. و (أيّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ شَيْءٍ عَنْ مُشَارِكِهِ فِيمَا يُضَافُ إِلَيْهِ (أَيٌّ) ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْكَرَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ فَيُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ لَا مَسَاغَ لِادِّعَاءِ خَفَائِهِ وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ إِحْدَى الْآيَاتِ.

[سورة غافر (40) : الآيات 82 إلى 83]

وَالْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ (أَيٍّ) إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ أَنْ لَا تَلْحَقَهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ اكْتِفَاءً بِتَأْنِيثِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالْهَاءِ نَحْوَ حِمَارٍ فَلَا يُقَالُ للمؤنث حمارة. و (أيّ) اسْمٌ وَيَزِيدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ فَلَا يُفَسِّرُهُ إِلَّا الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَلذَلِك قَالَ هناأَيَّ آياتِ اللَّهِ دُونَ: فَأَيَّةَ آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ إِلْحَاقَ عَلامَة التَّأْنِيث ب (أَي) فِي مِثْلِ هَذَا قَلِيلٌ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ تَأْنِيثُ (أَيٍّ) فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ: بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عليّ وتحسب [82- 83] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 82 إِلَى 83] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) تَفْرِيعُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ: يُرِيكُمْ آياتِهِ [غَافِر: 81] ، يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسَاوِقٌ لِلتَّفْرِيعِ الَّذِي قبله وهوأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غَافِر: 81] فَيَقْتَضِي أَنَّ السَّيْرَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى تَرْكِهِ هُوَ سَيْرٌ تَحْصُلُ فِيهِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكِلَا التَّفْرِيعَيْنِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غَافِر: 80] ، فَذَلِكَ هُوَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِعِبْرَةِ آثَارِ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهُ وَجَحَدَتْ آيَاتِهِ وَنِعَمَهُ. وَحَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيرُ الْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: 21] الْآيَةَ، فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ انْتِقَالًا عَقِبَ آيَاتِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَكَانَ هَذَا انْتِقَالًا عَقِبَ آيَاتِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَفِي كِلَا الِانْتِقَالَيْنِ تَذْكِيرٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَزَعُهُمُ النِّعَمُ عَنْ كُفْرَانِ مُسْدِيهَا كَشَأْنِ أَهْلِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ فَلْيَكُونُوا مِمَّنْ يَرْدَعُهُمُ الْخَوْفُ مِنَ الْبَطْشِ كَشَأْنِ أَهْلِ النُّفُوسِ اللَّئِيمَةِ فَلْيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ يَخْتَارُونَ مِنْ إِحْدَى الْخُطَّتَيْنِ.

وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآثاراً فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَخُولِفَ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ فَعُطِفَتْ بِالْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُفَرَّعُ عَنْهُ إِنْكَارُ عَدَمِ النَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِخِلَافِ نَظِيرِهَا الَّذِي قَبْلَهَا فَقَدْ وَقَعَ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْآزِفَةِ. وَجُمْلَةُ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مُعْتَرِضَةٌ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص 57] وَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعْجِيلُ بِإِفَادَةِ أَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَحُصُونَهُمْ وَجَنَّاتِهِمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ شَيْئًا. وَجُمْلَةُ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الْآيَةَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ أَيْ كَانُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ فَرَأَوْا بَأْسَنَا. وَجَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» جَارِيَةً مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ، وَمَا سَلَكْتُهُ أَنَا أَحْسَنُ وَمَوْقِعُ الْفَاءِ يُؤَيّدهُ. وَلما فِي (لَمَّا) مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيتِ أَفَادَتْ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُغَيِّرْ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى حَتَّى كَذَّبُوا رُسُلَهُ. وَجَوَابُ (لَمَّا) جُمْلَةُ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرَائِقَ قِدَدًا ذَكَرَ بَعْضَهَا الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَنْهَاهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى سِتٍّ، وَمَالَ صَاحِبُ «الْكَشْفِ» إِلَى إِحْدَاهَا، وَأَبُو حَيَّانَ إِلَى أُخْرَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَلْبِ ذَلِكَ. وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي يُرَجَّحُ سُلُوكُهَا هِيَ أَنَّ هُنَا ضَمَائِرَ عَشْرَةً هِيَ ضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ وَأَنَّ بَعْضَهَا عَائِدٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَأَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ مُتَنَاسِقَةً غَيْرَ مُفَكَّكَةٍ فَلِذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مَعَادٍ وَاحِدٍ،

[سورة غافر (40) : الآيات 84 إلى 85]

فَالَّذِينَ (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) هُمُ (الَّذِينَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) ، وَهُمُ الَّذِينَ (حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، وَالَّذِينَ رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ، فَمَا بِنَا إِلَّا أَنْ نُبَيِّنَ مَعْنَى فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. فَالْفَرَحُ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنْ آثَارِهِ وَهِيَ الِازْدِهَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ [الْقَصَص: 76] أَيْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مُكَنًّى بِهِ هُنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَادَلُوا الرُّسُلَ وَكَابَرُوا الْأَدِلَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ. وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ مُعْتَقَدَاتُهُمُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ أَسْلَافِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا لِرُسُلِهِمْ: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ اهـ. وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ تَهَكُّمٌ وَجَرْيٌ عَلَى حَسَبِ مُعْتَقَدِهِمْ وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهْلِهِمْ يَعْنِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: 148] . وَحَاقَ بِهِمْ: أَحَاطَ، يُقَالُ: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا، إِذَا أَحَاطَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَّةِ الَّتِي لَا تَنْفِيسَ بِهَا لِأَنَّ الْمُحِيطَ بِشَيْءٍ لَا يَدْعُ لَهُ مَفْرَجًا. وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَالْعَذَابُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رُسُلَهُمْ أوعدوهم بِالْعَذَابِ فاستهزؤوا بِالْعَذَابِ، أَيْ بِوُقُوعِهِ وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِوَعِيدِ الرُّسُلِ كَانَ شِنْشَنَةً لَهُمْ، وَفِي الْإِتْيَان ب يَسْتَهْزِؤُنَ مُضَارِعًا إِفَادَةٌ لِتَكَرُّرِ اسْتِهْزَائِهِمْ. [84- 85] [سُورَة غَافِر (40) : الْآيَات 84 الى 85] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مَوْقِعُ جُمْلَةِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِر: 83] كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ [غَافِر: 82] لِأَنَّ إِفَادَةَ (لَمَّا) مَعْنَى التَّوْقِيتِ يُثِيرُ مَعْنَى تَوْقِيتِ انْتِهَاءِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ دَامَ دُعَاءُ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ وَدَامَ

تَكْذِيبُهُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ إِلَى أَنْ رَأَوْا بأسنا فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ جَامِعٌ لِأَصْنَافِ الْعَذَابِ كَقَوْلِه تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الْأَنْعَام: 42، 43] فَذَلِكَ الْبَأْسُ بِمَعْنَى الْبَأْسَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: تَضَرَّعُوا وَهُوَ هُنَا يَقُولُ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا فَالْبَأْسُ هُنَا الْعَذَابُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ الْمُنْذِرُ بِالْفَنَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهُ عَلِمُوا أَنَّهُ الْعَذَابُ الَّذِي أُنْذِرُوهُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، أَيْ حِينَ شَاهَدُوا الْعَذَابَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْإِيمَانَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِهِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ، إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ لِدَلَالَةِ فِعْلِ الْكَوْنِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ مُقَرَّرُ الثُّبُوتِ لِاسْمِهِ، فَلَمَّا أُرِيدَ نَفْيُ ثُبُوتِ النَّفْعِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ اجْتَلَبَ لِذَلِكَ نَفْيَ فِعْلِ الْكَوْنِ الَّذِي خَبَرُهُ يَنْفَعُهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَارِقِ الْعَذَابِ لَا يُفِيدُ صَاحِبَهُ مِثْلَ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ وَمِثْلَ الْإِيمَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا عَقِبَهُ. سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ انتصب سُنَّتَ اللَّهِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق لِأَن سُنَّتَ اسْمُ مَصْدَرِ السَّنِّ، وَهُوَ آتٍ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالِ من يسْأَل لماذَا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ وَقَدْ آمَنُوا، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَشَرَطَهُ عَلَيْهِمْ فَهِيَ قَدِيمَةٌ فِي عِبَادِهِ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ الْإِيمَانُ إِلَّا قَبْلَ ظُهُورِ الْبَأْسِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: 98] .

وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَأْسِ بِمَعْنَى الْعِقَابِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ وَالَّذِي هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ، فَأَمَّا الْبَأْسُ الَّذِي هُوَ مُعْتَادٌ وَالَّذِي هُوَ آيَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ عَذَابِ بَأْسِ السَّيْفِ الَّذِي نَصَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّ مَنْ يُؤْمِنُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ حِينَ رَأَى جَيْشَ الْفَتْحِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ مِثْلَ إِيمَانِ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْفَتْحِ بَعْدَ رَفْعِ السَّيْفِ عَنْهُمْ، فَإِيمَانُهُ كَامِلٌ مِثْلَ إِيمَانِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بَعْدَ ارْتِدَادِهِ. وَوَجْهُ عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ عِنْدَ حُلُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِ بَأْسِ السَّيْفِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ مُشَارَفَةٌ لِلْهَلَاكِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا فَإِيقَاعُ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصِدُ مِنْ إِيجَابِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ حِزْبًا وَأَنْصَارًا لِدِينِهِ وَأَنْصَارًا لِرُسُلِهِ، وَمَاذَا يُغْنِي إِيمَانُ قَوْمٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا رَمَقٌ ضَعِيفٌ مِنْ حَيَاةٍ، فَإِيمَانُهُمْ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَافِ أَهِلِ الْحَشْرِ بِذُنُوبِهِمْ وَلَيْسَتْ سَاعَةَ عَمَلٍ، قَالَ تَعَالَى فِي شَأْن فِرْعَوْن: إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُس: 90، 91] ، أَيْ فَلَمْ يَبْقَ وَقْتٌ لِاسْتِدْرَاكِ عِصْيَانِهِ وَإِفْسَادِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: 158] فَأَشَارَ قَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً إِلَى حِكْمَةِ عَدَمِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ بِإِيمَانِهِ سَاعَتَئِذٍ. وَإِنَّمَا كَانَ مَا حَلَّ بِقَوْمِ يُونُسَ حَالًا وَسِيطًا بَيْنَ ظُهُورِ الْبَأْسِ وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِ عَلَاقَاتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَجُمْلَةُ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ كَالْفَذْلَكَةِ لِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، وَبِذَلِكَ آذَنَتْ بِانْتِهَاءِ الْغَرَضِ مِنَ السُّورَةِ. وهُنالِكَ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى مَكَانٍ، اسْتُعِيرَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَانِ، أَيْ خَسِرُوا وَقْتَ رُؤْيَتِهِمْ بَأْسَنَا إِذِ انْقَضَتْ حَيَاتُهُمْ وَسُلْطَانُهُمْ وَصَارُوا إِلَى تَرَقُّبِ عَذَابٍ خَالِدٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: 21] إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْكافِرُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ خُسْرَانِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَذَلِكَ إِعْذَارٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ.

أسلوب سورة غافر

أُسْلُوبُ سُورَةِ غَافِرٍ أُسْلُوبُهَا أُسْلُوبُ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِبْطَالِ ضَلَالَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَضَرْبِ مَثَلِهِمْ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَتَرْهِيبِهِمْ مِنَ التَّمَادِي فِي ضَلَالِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي التَّبَصُّرِ لِيَهْتَدُوا. وَافْتُتِحَتْ بِالْحَرْفَيْنِ الْمُقَطَّعَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ لِأَنَّ أَوَّلَ أَغْرَاضِهَا أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَفِي حَرْفَيِ الْهِجَاءِ رَمْزٌ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بَعْدَ أَنْ تَحَدَّاهُمْ، لِذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلُوا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي ذَلِكَ الِافْتِتَاحِ تَشْوِيقٌ إِلَى تَطَلُّعِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَكَانَ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ كَلَامُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى تَيْسِيرِ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَتَرْهِيبٌ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى الْإِصْرَارِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ. ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنَ الْإِيمَاءِ وَالرَّمْزِ إِلَى صَرِيحِ وَصْفِ ضَلَالِ الْمُعَانِدِينَ وَتَنْظِيرِهِمْ بِسَابِقِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ أَعْظَمُ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ وَهُوَ مُوسَى مَعَ أُمَّةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ وَأُطِيلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مُمَاثِلَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الِاعْتِزَازِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ ثَبَاتُ مُوسَى وَثَبَاتُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيمَاءً إِلَى التَّنْظِيرِ بِثَبَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَسِعَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِعَادَةِ الْأَمْوَاتِ. وَخُتِمَتْ بِذِكْرِ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ أَوْبَقَهَمُ الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِمْ وَثِقَتُهُمْ بِجَهْلِهِمْ فَصُمَّتْ آذَانُهُمْ عَنْ سَمَاعِ حُجَجِ الْحَقِّ، وَأَعْمَاهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْكَوْنِ فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ عَلَى كَمَالٍ لَا يَنْقُصُهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الْكَمَالِ، فَحَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَفِي هَذَا رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَخَوَّفَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِانْزِلَاقِ فِي مَهْوَاةِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ الْإِمْهَالُ ثُمَّ الْمُؤَاخَذَةُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَلِمَةً جَامِعَةً لِلْغَرَضِ أَذِنَتْ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فَكَانَتْ مَحْسِنَ الْخِتَامِ.

وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْمُسْتَطْرَدَاتِ وَالِانْتِقَالَاتِ بِذِكْرِ ثَنَاءِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَثَنَائِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذِكْرِ مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّدَامَةِ، وَتَمْثِيلِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَشْوِيهِ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَأْنِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فِي لُقْيَانِ التَّكْذِيبِ وَفِي أَنَّهُ يَأْتِي بِالْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ دُونَ مُقْتَرَحَاتِ الْمُعَانِدِينَ.

41- سورة فصلت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 41- سُورَةُ فُصِّلَتْ تُسَمَّى حم السَّجْدَةِ بِإِضَافَةِ حم إِلَى السَّجْدَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» لِأَنَّهَا تَمَيَّزَتْ عَنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَة من سُجُود الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ خَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ (¬1) : «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: تَبَارَكَ، وَحم السَّجْدَةِ (¬2) . وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ مَصَاحِفِ الْمَشْرِقِ وَالتَّفَاسِيرِ سُورَةَ السَّجْدَةِ، وَهُوَ اخْتِصَارُ قَوْلِهِمْ: حم السَّجْدَةِ وَلَيْسَ تَمْيِيزًا لَهَا بِذَاتِ السَّجْدَةِ. وَسميت هَذِه السُّورَة فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ سُورَةَ فُصِّلَتْ. وَاشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي تُونِسَ وَالْمَغْرِبِ سُورَةُ فُصِّلَتْ لِوُقُوعِ كَلِمَةِ فُصِّلَتْ آياتُهُ [فُصِّلَتْ: 3] فِي أَوَّلِهَا فَعُرِفَتْ بِهَا تَمْيِيزًا لَهَا مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم. كَمَا تَمَيَّزَتْ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ بِاسْمِ سُورَةِ غَافِرٍ عَنْ بَقِيَّةِ السُّورِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَصَابِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: 12] ، وَتُسَمَّى سُورَةَ الْأَقْوَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: 10] . ¬

(¬1) هُوَ خَلِيل بن مرّة الضبعِي (بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة) الْبَصْرِيّ الرقّي، روى عَن عَطاء وَقَتَادَة، وروى عَنهُ اللَّيْث وَابْن وهب وَأحمد بن حَنْبَل. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث توفّي سنة سِتِّينَ وَمِائَة. (¬2) الْمَعْرُوف هُوَ حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن جَابر: «كَانَ رَسُول الله لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: آلم تَنْزِيل، وتبارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك» . وَلَا مُنَافَاة بَين الْحَدِيثين.

أغراضها

وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «التَّبْصِرَةِ» : تُسَمَّى سَجْدَةَ الْمُؤْمِنِ وَوَجْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ قَصْدُ تَمْيِيزِهَا عَنْ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ الْمُسَمَّاةِ سُورَةَ الْمَضَاجِعِ فَأَضَافُوا هَذِهِ إِلَى السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ كَمَا مَيَّزُوا سُورَةَ الْمَضَاجِعِ بِاسْمِ سَجْدَةِ لُقْمَانَ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ غَافِرٍ وَقبل سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَعُدَّتِ الْحَادِيَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ. أَغْرَاضُهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَذِكْرُ هَدْيِهِ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ الْبَاطِلُ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ. وَتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لَهُ بِالْإِعْرَاضِ وَصَمِّ الْآذَانِ. وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ أَصْلًا فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ. وَزَجْرُ الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ بَيَانِ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَشَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمُ الْكُفْرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّاسِ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا

[سورة فصلت (41) : آية 1]

وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَفْوَتِهِمْ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهَ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَبِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ أَمْثَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ وَعِبَرٌ فِي تَقَلُّبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّنْوِيهُ بإيتاء الزَّكَاة. [1] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فَاتِحَةَ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَوْلِ فِي الم. [2- 4] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 2 إِلَى 4] تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) افْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَكَانَتْ بِذَلِكَ كَالْمَوْصُوفَةِ وَقَوْلُهُ: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: كِتابٌ بَدَلٌ مِنْ تَنْزِيلٌ فَحَصَلَ مِنَ الْمَعْنَى: أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ، وَأَنَّ صِفَتَهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، مَوْسُومًا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْقُرْآنَ منزّل من الرحمان الرَّحِيمِ مُفَصَّلًا عَرَبِيًّا.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمُبْتَدَأِ وَتَجْعَلَ قَوْلَهُ: كِتابٌ خَبَرَ الْمُبْتَدَأ، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ أُسْلُوبٌ فَخْمٌ وَقَدْ مَضَى مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 1، 2] . وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مُنَزَّلٌ، فَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاء: 192، 193] وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ فَعَلَ اللَّهُ تَنْزِيلَهُ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مُوحًى بِهِ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ صُحُفِ الْأَوَّلِينَ. وَتَنْكِيرُ تَنْزِيلٌ وكِتابٌ لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ. وَالْكِتَابُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حُرُوفٍ دَالَّةٍ عَلَى أَلْفَاظٍ مُفِيدَةٍ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى بِأَلْفَاظِهِ وَأمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اتخذ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِيثَارُ الصِّفَتَيْنِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 157] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51] . وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا مُنْتَشِرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْبَسْمَلَةِ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْمَاقِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ رَحْمَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ هُمْ أَهْلُ الْمَرْحَمَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: 44] . وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ آياتُهُ بُيِّنَتْ، وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالْإِخْلَاءُ مِنَ الِالْتِبَاسِ.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَاضِحَةُ الْأَغْرَاضِ لَا تَلْتَبِسُ إِلَّا عَلَى مُكَابِرٍ فِي دَلَالَةِ كُلِّ آيَةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَفِي مَوَاقِعِهَا وَتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ فُنُونِ الْمَعَانِي الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ. وَمِنْ كَمَالِ تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ كَانَ بِلُغَةٍ كَثِيرَةِ الْمَعَانِي، وَاسِعَةِ الْأَفْنَانِ، فَصِيحَةِ الْأَلْفَاظِ، فَكَانَتْ سَالِمَةً مِنَ الْتِبَاسِ الدَّلَالَةِ، وَانْغِلَاقِ الْأَلْفَاظِ، مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ فِي قِلَّةِ التَّرَاكِيبِ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَقَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195] وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ ذَمُّ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ هُنَا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء: 200، 201] . وَالْقُرْآنُ: الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ الْمَتْلُوُّ. وَكَوْنُهُ قُرْآنًا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلُ الْحِفْظِ، سَهْلُ التِّلَاوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: 22] وَلِذَلِكَ كَانَ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَكَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْهِمَمِ وَالْمُكْنَاتِ، وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يُقَدِّمُ فِي لَحْدِ شُهَدَائِهِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِ حِفْظِ الْقُرْآنِ زِيَادَةً عَلَى فَضْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ. وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى النَّعْتِ الْمَقْطُوعِ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَدْحِ وَإِلَّا لَكَانَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْخَبَرِ الثَّانِي، فَقَوْلُهُ: قُرْآناً مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيٌّ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [195] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ صِفَةٌ لِ قُرْآناً ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ كَائِنًا لِقَوْمٍ

يَعْلَمُونَ بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: قُرْآناً عَرَبِيًّا مِنْ مَعْنَى وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَسُطُوعِ الْحُجَّةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ: فُصِّلَتْ آياتُهُ على معنى أَن فَوَائِدِ تَنْزِيلِهِ وَتَفْصِيلِهِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُنْزَلْ إِلَّا لَهُمْ، أَيْ فَلَا بِدْعَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِهِ الْمُعَانِدُونَ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 101] وَقَوْلُهُ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يُوسُف: 2] وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] . وَالْبَشِيرُ: اسْمٌ لِلْمُبَشِّرِ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ الْمُخْبَرَ. وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِأَمْرٍ مُخَوِّفٍ، شَبَّهَ الْقُرْآنَ بِالْبَشِيرِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَشِّرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَبِالنَّذِيرِ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَلَيْسَ: بَشِيراً أَوْ نَذِيراً اسْمَيْ فَاعِلٍ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا. وَالْجَمْعُ بَيْنَ: بَشِيراً ونَذِيراً مِنْ قَبِيلِ محسن الطّباق. وانتصب بَشِيراً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ كِتابٌ أَوْ صِفَةٌ لِ قُرْآناً، وَصِفَةُ الْحَالِ فِي مَعْنَى الْحَالِ، فَالْأَوْلَى كَوْنُهُ حَالًا ثَانِيَةً. وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: نَذِيراً مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَنَذِيرٌ لِآخَرِينَ، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْوَاوُ هُنَا كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ [التَّحْرِيم: 5] . وَتَفْرِيعُ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمَعْنَى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى فَلَمْ يَهْتَدُوا، وَمِنَ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يُعْنَوْا بِهَا، وَمِنَ النِّذَارَةِ فَلَمْ يَحْذَرُوهَا، فَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْحَمَاقَةِ، إِذْ لَمْ

[سورة فصلت (41) : آية 5]

يُعْنَوْا بِخَيْرٍ، وَلَا حَذِرُوا الشَّرَّ، فَلَمْ يَأْخُذُوا بِالْحِيطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ عَائِدًا لقوم يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ لَا يُعْرِضُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُلْقُونَ أَسْمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَهَذَا إِجْمَالٌ لِإِعْرَاضِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَسْمَعُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الحكم وتأكيده. [5] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 5] وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) عَطْفُ وَقالُوا على فَأَعْرَضَ [فصلت: 4] أَوْ حَالٌ من أَكْثَرُهُمْ [فصلت: 4] أَوْ عَطْفٌ عَلَى لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: 4] ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا مُصَرِّحِينَ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَبِالِانْتِصَابِ لِلْجَفَاءِ وَالْعَدَاءِ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُقَرِّبَهُمْ إِلَى تَلَقِّيهِ لَا أَنْ يَبْعُدُوا وَيُعْرِضُوا وَقَدْ جَاءَ بِالتَّفْصِيلِ بِأَقْوَالِهِمُ الَّتِي حَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَاحِدًا كَمَا سَتَعْلَمُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ: الْعُقُولُ، حُكِيَ بِمُصْطَلَحِ كَلَامِهِمْ قَوْلُهُمْ إِذْ يُطْلِقُونَ الْقَلْبَ عَلَى الْعَقْلِ. وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ مِثْلُ: غِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، أُثْبِتَتْ لِقُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، وَشُبِّهَتِ الْقُلُوبُ بِالْأَشْيَاءِ الْمُغَطَّاةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ حَيْلُولَةُ وَصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا يَحُولُ الْغِطَاءُ وَالْغِلَافُ دُونَ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَهُ. وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَعُمُّ كُلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ وَأَدِلَّتِهَا، وَمِنْهَا دَلَالَةُ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَلَالَةِ أُميَّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] .

وَجُعِلَتِ الْقُلُوبُ فِي أَكِنَّةٍ لِإِفَادَةِ حَرْفٍ فِي مَعْنَى إِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَكَذَلِكَ جُعِلَ الْوَقْرُ فِي الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ تَغَلْغُلِهِ فِي إدراكهم. و (من) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ بِمَعْنَى (عَنْ) مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] وَقَوْلِهِ: قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: 97] ، وَالْمَعْنَى: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا. وَالْوَقْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: ثِقَلُ السَّمْعِ وَهُوَ الصَّمَمُ، وَكَأَنَّ اللُّغَةَ أَخَذَتْهُ مِنَ الْوِقْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْحِمْلُ لِأَنَّهُ يُثْقِلُ الدَّابَّةَ عَنِ التَّحَرُّكِ، فَأَطْلَقُوهُ عَلَى عَدَمِ تَحَرُّكِ السَّمْعِ عِنْدَ قَرْعِ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَفَتَحُوا لَهُ الْوَاوَ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَضِّ الْحَقِيقِيِّ وَعَظِّ الدَّهْرِ بِأَنْ صَيَّرُوا ضَادَهُ ظَاءً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكِنَّةِ وَالْوَقْرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي الْأَنْعَامِ [25] وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [46] . وَالْحِجَابُ: السَّاتِرُ لِلْمَرْئِيِّ مِنْ حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ. أَطْلَقُوا اسْمَ الْحِجَابِ عَلَى مَا يَمْنَعُ نُفُوسَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةِ دِينِهِ وَتَجَافِي تَقَلُّدِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْحِجَابَ يَحُولُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فَلَا يَنْظُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَمُرَادُهُمُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ. مَثَّلَ نُبُوَّ قُلُوبِهِمْ عَنْ تَقَبُّلِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادِهِ بِحَالِ مَا هُوَ فِي أَكِنَّةٍ، وَعَدَمَ تَأَثُّرِ أَسْمَاعِهِمْ بِدَعْوَتِهِ بِصُمِّ الْآذَانِ، وَعَدَمَ التَّقَارُبِ بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِالْحِجَابِ الْمَمْدُودِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَا تَلَاقِيَ وَلَا تَرَائِيَ. وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ فِي التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَاجْتِلَابُ حَرْفِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْحِجَابِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَتَمَكُّنِ لَازِمِهِ الَّذِي هُوَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ.

وَضَمِيرُ بَيْنِنا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير أَكْثَرُهُمْ [فصلت: 4] . وَعَطْفُ وَبَيْنِكَ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ (بَيْنَ) أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مِثْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] . وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ (مِنْ) الدَّاخِلَةَ عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) زَائِدَةً فَيَكُونُ (بَيْنَ) مَقِيسًا عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) لِأَنَّ الْجَمِيعَ ظُرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِ قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَكَاهُ عَنْهُمْ بِالْمَعْنَى، فَجَمَعَ الْقُرْآنُ بِإِيجَازِهِ وَبَلَاغَتِهِ مَا أَطَالُوا بِهِ الْجِدَالَ وَأَطْنَبُوا فِي اللَّجَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَكَاهُ بِلَفْظِهِمْ فَيَكُونُ مِمَّا قَالَه أحد بلغائهم فِي مَجَامِعِهِمُ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً وَأَنَّ اللَّهَ حَكَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَلَقَّفُوهُ مِمَّا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَصْفِ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَتَبَاعُدِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [46] ، فَإِنَّ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ قَبْلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [45] أَيْضًا، فَجَمَعُوا ذَلِكَ وَجَادَلُوا بِهِ الرَّسُولَ. فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ قَدِ اقْتَبَسُوهُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. قِيلَ: إِنَّ قَائِلَهُ أَبُو جَهْلٍ فِي مَجْمَعٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلِذَلِكَ أَسْنَدَ الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ مُشَائِعُونَ لَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا يُقَابِلُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [فصلت: 2، 3] ، فَإِنَّ كَوْنَهُ تَنْزِيلا من الرحمان الرَّحِيمِ يَسْتَدْعِي تَفَهُّمَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِيهِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَوْنُهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ يَسْتَدْعِي تَلَقِّيَهَا وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ: فِي آذانِنا وَقْرٌ، أَيْ فَلَا نَسْمَعُ تَفْصِيلَهُ، وَكَوْنُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أَشَدُّ إِلْزَامًا لَهُمْ بِفَهْمِهِ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْحُجَّةَ

[سورة فصلت (41) : الآيات 6 إلى 7]

وَهُوَ مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أَيْ فَلَا يَصِلُ كَلَامُهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَتَطَرَّقُ جَانِبَهُمْ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَأْيِيسِهِمُ الرَّسُولَ مِنْ قَبُولِهِمْ دَعْوَتَهُ وَجَعَلَ قَوْلَهُمْ هَذَا مُقَابِلَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ تَعَيَّنَ كَوْنُهُ نَذِيرًا لَهُمْ بِعَذَابٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا فَحُكِيَ مَا فِيهِ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِنِذَارَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَذًى فَلْيُؤْذِهِمْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» . وَحَذَفَ مَفْعُولَا (اعْمَلْ) وعامِلُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ كُلٌّ مَعَ الْآخَرِ مَا يُنَاسِبُهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَة كَقَوْلِه عَنْتَرَةَ بْنِ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيِّ: أَطِلْ حَمْلَ الشَّنَاءَةِ لِي وَبُغْضِي ... وَعِشْ مَا شِئْتَ فَانْظُرْ مَنْ تُضِيرُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40] . وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ. [6، 7] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 6 الى 7] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ تلقين الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ قَوْلَهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: 5] الْمُفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] إِلَى آخِرِهِ جَوَابُ الْمُتَبَرِّئِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوْلٌ وَقُوَّةٌ لِيَعْمَلَ فِي إِلْجَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِمَا أَبَوْهُ إِذْ مَا هُوَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا حَوْلَ لَهُ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ الضَّالَّةِ، إِلَى الْهُدَى، وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِي الْعَمَلِ

بِجَزَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَاذَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْمَلَ مَعَكُمْ فَإِنِّي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَحِسَابُكُمْ عَلَى اللَّهِ. فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تُفِيدُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ أَنَا مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ دُونَ التَّصَرُّفِ فِي قُلُوبِ النَّاس. وبيّن مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَلَقَّفُوا قَوْلَهُ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَلَقُّفَ مَنْ حَصَلَ عَلَى اعْتِرَافِ خَصْمِهِ بِنُهُوضِ حُجَّتِهِ بِمَا يُثْبِتُ الْفَارِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يُوحى إِلَيَّ وَذَلِكَ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ إِبْطَالَ زَعْمِهِمُ الْمَشْهُورِ الْمُكَرَّرِ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ إِرْسَالِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لقَولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: 7] ، وَنَحْوَهُ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ. وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: 10، 11] . وَحِرْصًا عَلَى إِبْلَاغِ الْإِرْشَادِ إِلَيْهِمْ بَيَّنَ لَهُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِعَادَةً لِمَا أَبْلَغَهُمْ إِيَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، شَأْنَ الْقَائِمِ بِهَدْيِ النَّاسِ أَنْ لَا يُغَادِرَ فُرْصَةً لِإِبْلَاغِهِمُ الْحَقَّ إِلَّا انْتَهَزَهَا. وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي مُحَاوَرَةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشُّعَرَاء: 23- 28] . وإِنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ أُخْتُ إِنَّما الْمَكْسُورَةِ وَإِنَّمَا تُفْتَحُ هَمْزَتُهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا تُفْتَحُ هَمْزَةُ (أَنَّ) وَتُكْسَرُ هَمْزَةُ (إِنَّ) لِأَنَّ إِنَّمَا أَوْ (أَنَّمَا) مُرَكَّبَانِ مِنْ (إِنَّ) أَوْ (أَنَّ) مَعَ (مَا) الْكَافَّةِ الزَّائِدَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا) حَتَّى ذَهَبَ وَهَلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ (مَا) الَّتِي مَعَهَا هِيَ النَّافِيَةُ اغْتِرَارًا بِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ مِثْلَ (مَا) وَ (إِلَّا) وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي كَوْنِ أَنَّمَا الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُفِيدَةً الْقَصْرَ

مِثْلَ أُخْتِهَا الْمَكْسُورَةِ الْهُمَزَةِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا رَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُجَازَفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [108] . فَقَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِدْمَاجٌ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ فِي خِلَالِ الْجَوَابِ حِرْصًا عَلَى الْهَدْيِ. وَكَذَلِكَ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ إِتْمَامٌ لِذَلِكَ الْإِدْمَاجِ بِتَفْرِيعِ فَائِدَتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ إِنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذَ الشِّرْكِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَوْجِيهِ ارْتِبَاطِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] إِلَخْ. وَمَوْقِعُ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ يُوحى إِلَيَّ، أَيْ يُوحَى إِلَيَّ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَهُوَ حَصْرُ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ دُونَ شَرِيكٍ. وَمُمَاثَلَتُهُ لَهُمْ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَشَرِيَّةِ فَتُفِيدُ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ بَشَرًا. وَالِاسْتِقَامَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ قَوِيمًا، أَيْ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا خَالِصًا لَيْسَتْ فِيهِ شَائِبَةُ تَمْوِيهٍ وَلَا بَاطِلٍ. وَعَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ صَادِقًا فِي مُعَامَلَتِهِ أَوْ عَهْدِهِ غَيْرَ خَالِطٍ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِيَانَةِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ صَادِقُ الْخُلُقِ، وَإِنْ أُرِيدَ صِدْقُهُ مَعَ غَيْرِهِ يُقَالُ: اسْتَقَامَ لَهُ، أَيِ اسْتَقَامَ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ مُعَامَلَتِهِ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: 7] وَالِاسْتِقَامَةُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا كَثِيرًا مَا تُعَاقِبُ اللَّامَ، يُقَالُ: ذَهَبَتْ لَهُ وَذَهَبَتْ إِلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ إِيثَارَ (إِلَى) هُنَا لِتَضْمِينِ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: تَوَجَّهُوا، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ تَوَجُّهٌ، أَيْ صَرْفُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 79] ، أَوْ ضُمِّنَ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: أَنِيبُوا، أَيْ تُوبُوا مِنَ الشِّرْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَاسْتَغْفِرُوهُ.

وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْعَفْوِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ عِصْيَانٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ. وَالْمَعْنَى: فَأَخْلِصُوا إِلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ وَاسْأَلُوا مِنْهُ الصَّفْحَ عَمَّا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ الْحَالِ وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَجُمْلَة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: 9] أَيْ أَجِبْهُمْ بِقَوْلِكَ: أَنا بشر مثلك يُوحَى إِلَيَّ وَنَحْنُ أَعْتَدْنَا لَهُمُ الْوَيْلَ وَالشَّقَاءَ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَيُسْتَفَادُ تَعْلِيقُ الْوَعِيدِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَيْلِ بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمَوْصُوفِينَ بِالَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَبِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْبَعْثِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِعَلِيَّةِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، وَلِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ بِالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. فَأَمَّا كَوْنُ الشِّرْكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُوجِبَيْنِ لِلْوَيْلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مُوجِبًا لِلْوَيْلِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ مَا قَارَنَ الْإِشْرَاكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ مِنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، فَذِكْرُ ذَلِكَ هُنَا لِتَشْوِيهِ كُفْرِهِمْ وَتَفْظِيعِ شِرْكِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ إِلَى الْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ وَإِلَى الشُّحِّ بِالْمَالِ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْوِيهًا فِي حُكْمِ الْأَخْلَاقِ وَحُكْمِ الْعُرْفِ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِاللُّؤْمِ، وَلَكِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَيَحْرِمُونَ مِنْهُ مُسْتَحِقِّيهِ.

[سورة فصلت (41) : آية 8]

وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَيْلِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْمُشْرِكُونَ لِمَنْعِهِمُ الزَّكَاةَ فِي ضِمْنِ شِرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ رَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَوَافَقَهُ جَمِيعُ أَصْحَاب رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ف الزَّكاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الصَّدَقَةُ لِوُقُوعِهَا مَفْعُولَ يُؤْتُونَ، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ زَكَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ الصَّدَقَةِ دُونَ تَعْيِينِ نُصُبِ وَلَا أَصْنَافِ الْأَرْزَاقِ الْمُزَكَّاةِ، وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مَفْرُوضَةً عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِبَعْضِ الصَّدَقَةِ مِيقَاتٌ وَهِيَ الصَّدَقَةُ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] . وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُؤْتُونَ وَإِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ. وَضَمِيرُ هُمْ كافِرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ لَا يُفِيدُ هُنَا إِلَّا تَوْكِيدَ الْحُكْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُنَا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لَا ضَمِيرَ فَصْلٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [37] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [14] . وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ كافِرُونَ لإِفَادَة الاهتمام. [8] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ، كَأَنَّ سَائِلًا يَقُولُ: فَإِنِ اتَّعَظُوا وَارْتَدَعُوا فَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، فَأُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَقْدِيمُ لَهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ.

[سورة فصلت (41) : آية 9]

وَالْأَجْرُ: الْجَزَاءُ النَّافِعُ، عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَوْ هُوَ مَا يُعْطَوْنَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. وَالْمَمْنُونُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أُعْطُوهُ شُكْرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ، يَعْنِي: أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ تُرَافِقُهُ الْكَرَامَةُ وَالثَّنَاءُ فَلَا يُحِسُّونَ بِخَجَلِ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] ، فَأَجْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُمْ أَحَدٌ وَذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: غُضْفٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا أَيْ تَأْخُذُ طَعَامَهَا بِأَنْفُسِهَا فَلَا مِنَّةَ لأحد عَلَيْهَا. [9] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 9] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَمَا يَمْلِكُ إِلْجَاءَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَمَرَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُعَاوَدَةِ إِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، مُدْمِجًا فِي ذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، بِطَرِيقَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِهِ فِي حِينِ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. فَجُمْلَةُ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ثَانٍ هُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: 5] . وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّوْبِيخِ فَقَوْلُهُ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ. وَفِي الِافْتِتَاحِ بِالِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ

عَلَى أَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا سَيُلْقَى إِلَيْهِمْ، وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ أَوِ التَّعْجِيبِيِّ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ لِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَعَلَى تَجَاهُلِهِمُ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ فَأُعْلِمُوا بِتَوْكِيدِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ، وَبِتَوْبِيخِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالتَّوْبِيخُ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ مُسَلَّطٌ عَلَى تَحْقِيقِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِالْمَكَانَةِ الْعُلْيَا، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيدُ مُسَلَّطًا عَلَى التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ قَلْبٌ لِنِظَامِ الْكَلَامِ. وَمَجِيءُ فِعْلِ «تَكْفُرُونَ» بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَجَدُّدَ كُفْرِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا مَعَ سُطُوعِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِقْلَاعَ عَنْهُ أَمْرٌ أَحَقُّ بِالتَّوْبِيخِ. وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِهِ الْكُفْرُ بِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَمَّا أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً كَانُوا وَاقِعِينَ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا صِفَاتِ ذَاتِهِ فَقَدْ تَصَوَّرُوهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال بَيَان ابْتِدَاء خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ، فَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ إِدْمَاجٌ. والْأَرْضَ: هِيَ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ بِمَا فِيهَا مِنْ يَابِسٍ وَبِحَارٍ، أَيْ خَلْقُ جِرْمِهَا. وَالْيَوْمَانِ: تَثْنِيَةُ يَوْمٍ، وَهُوَ الْحِصَّةُ الَّتِي بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَطُلُوعِهَا ثَانِيَةً. وَالْمُرَادُ: فِي مُدَّةِ تَسَاوِي يَوْمَيْنِ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ النُّور والظلمة اللَّذَان يُقَدَّرُ الْيَوْمُ بِظُهُورِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَظْهَرَا إِلَّا بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ آثَارَهُ أَظْهَرُ لِلْعِيَانِ وَهِيَ فِي مُتَنَاوَلِ الْإِنْسَانِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أَسْبَقَ نُهُوضًا. وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَرْضُ أَقْوَى وَأَعَمُّ فَيَظْهَرُ قُبْحُ الْكُفْرَانِ بِخَالِقِهَا أَوْضَحَ وَأَشْنَعَ. وَعَطْفُ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عَلَى لَتَكْفُرُونَ تَفْسِيرٌ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَكَانَ

[سورة فصلت (41) : آية 10]

مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنَّ فِي التَّفْسِيرِ لَا يُعْطَفُ فَعَدَلَ إِلَى عَطْفِهِ لِيَكُونَ مَضْمُونُهُ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ. وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ الْمِثْلُ. وَالْمُرَادُ: أَنْدَادٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ إِلَى «الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» وَفِي الْإِشَارَةِ نِدَاءٌ عَلَى بَلَادَةِ رَأْيِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، وَلَا إِلَى أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ رَبُّ مَا دُونُ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي هِيَ أَحَطُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ كَالْحِجَارَةِ وَالْأَخْشَابِ الَّتِي مِنْهَا صُنِعَ أَصْنَامُهُمْ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ على الصِّلَة. [10] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 10] وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الصِّلَةِ لَا عَلَى مَعْمُولِ الْفِعْلِ، فَجُمْلَةُ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إِلَخْ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ فِعْلِ (خَلَقَ) لِأَنَّ هَذَا الْجَعْلَ تَكْوِينٌ آخَرُ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ خَلْقُ أَجْزَاءٍ تَتَّصِلُ بِهَا إِمَّا مِنْ جِنْسِهَا كَالْجِبَالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْوَاتِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] . وَالرَّوَاسِي: الثَّوَابِتُ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلْجِبَالِ لِأَنَّ الْجِبَالَ حِجَارَةٌ لَا تَنْتَقِلُ بِخِلَافِ الرِّمَالِ وَالْكُثْبَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ لِدَلَالَةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: 32] أَيِ السُّفُنُ الْجَوَارِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ

وَوَصْفُ الرَّوَاسِي بِ مِنْ فَوْقِها لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الرَّائِعَةِ لِمَنَاظِرِ الْجِبَالِ، فَمِنْهَا الْجَمِيلُ الْمَنْظَرِ الْمُجَلَّلُ بِالْخُضْرَةِ أَوِ الْمَكْسُوُّ بِالثُّلُوجِ، وَمِنْهَا الرَّهِيبُ الْمَرْأَى مِثْلَ جِبَالِ النَّارِ (الْبَرَاكِينِ) ، وَالْجِبَالِ الْمَعْدِنِيَّةِ السُّودِ. وبارَكَ فِيها جَعَلَ فِيهَا الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ النَّافِعُ، وَفِي الْأَرْضِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا رِزْقُ الْإِنْسَانِ وَمَاشِيَتِهِ، وَفِيهَا التُّرَابُ وَالْحِجَارَةُ وَالْمَعَادِنُ، وَكُلُّهَا بَرَكَاتٌ. وقَدَّرَ جَعَلَ قَدْرًا، أَيْ مِقْدَارًا، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: 3] . وَالْمِقْدَارُ: النِّصَابُ الْمَحْدُودُ بالنوع أَو بالكمية، فَمَعْنَى قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْأَرْضِ الْقُوَى الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهَا الْأَقْوَاتُ وَخَلَقَ أُصُولَ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ وَأَنْوَاعَهَا مِنَ الْحَبِّ لِلْحُبُوبِ، وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ، وَالنَّوَى لِلثِّمَارِ، وَالْحَرَارَةِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ بِهَا تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَمِنَ التَّقْدِيرِ: تَقْدِيرُ كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوِ اعْتِدَالٍ. وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: 81] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: 80] الْآيَةَ. وَجَمْعُ الْأَقْوَاتِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْأَرْضِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ جَمِيعُ أَقْوَاتِهَا وَعُمُومُهُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُقْتَاتِينَ، فَلِلدَّوَابِّ أَقْوَاتٌ، وَلِلطَّيْرِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْوُحُوشِ أَقْوَاتٌ، وَلِلزَّوَاحِفِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْحَشَرَاتِ أَقْوَاتٌ، وَجُعِلَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَقْوَاتِ مِمَّا اسْتَطَابَ مِنْهَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] . وَقَوْلُهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ لِمَجْمُوعِ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ جِرْمِهَا، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ رَوَاسِيَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى، فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَقَوْلُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ، وَعُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا فِي نَسْجِ الْآيَةِ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ

[سورة فصلت (41) : آية 11]

وَاعْتِمَادًا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] ، فَلَوْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ قَضَى فِيهِمَا خَلْقَ السَّمَاوَاتِ زَائِدَيْنِ عَلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ انْقَضَتْ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا لَصَارَ مَجْمُوعُ الْأَيَّامِ ثَمَانِيَةً، وَذَلِكَ يُنَافِي الْإِشَارَةَ إِلَى عِدَّةِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ السَّابِعَ يَوْمُ فَرَاغٍ مِنَ التَّكْوِينِ. وَحِكْمَةُ التَّمْدِيدِ لِلْخَلْقِ أَنْ يَقَعَ عَلَى صِفَةٍ كَامِلَةٍ مُتَنَاسِبَةٍ. وسَواءً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَيَّامٍ أَيْ كَامِلَةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ: هِيَ سَوَاءٌ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَجْرُورًا على الْوَصْف ل أَيَّامٍ. ولِلسَّائِلِينَ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ أَفْعَالِ جَعَلَ وبارَكَ وقَدَّرَ فَيَكُونُ لِلسَّائِلِينَ جَمْعُ سَائِلٍ بِمَعْنَى الطَّالِبِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لِلسَّائِلِينَ وَيَجُوزُ أَن يكون ل السَّائِلِينَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِينَ الطالبين للقوت. [11] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 11] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَهَمُّ مَرْتَبَةً مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَعَوَالِمُهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ حَتَّى يُوَفَّى الْمُقْتَضِيَانِ حَقَّهُمَا. وَلَيْسَ هَذَا بِمُقْتَضٍ أَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِ السَّمَاءِ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَلَا مُقْتَضِيًا أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي. وَالِاسْتِوَاءُ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ تَوًّا لَا يَعْتَرِضُهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَادِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] . وَرُبَّمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُ لِخَلْقِ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَوَجُّهًا وَاحِدًا ثُمَّ اخْتَلَفَ زَمَنُ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيُّ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ فَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ تَنْجِيزًا بِخَلْقِ السَّمَاءِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْأَرْضِ، فَعَبَّرَ عَنْ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ تَنْجِيزًا لِخَلْقِ السَّمَاءِ بِتَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ التَّوَجُّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِوَاءِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَفِعْلُ ائْتِيا أَمْرٌ لِلتَّكْوِينِ. وَالدُّخَانُ: مَا يَتَصَاعَدُ مِنَ الْوَقُودِ عِنْدَ الْتِهَابِ النَّارِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ دُخانٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ وَهِيَ مِثْلُ الدُّخَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا كَانَتْ عَمَاءَ» . وَقِيلَ: أَرَادَ بِالدُّخَانِ هُنَا شَيْئًا مُظْلِمًا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنْ قَوْلِهَا: «وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الْعَمَاءُ، وَالْعَمَاءُ: سَحَابٌ رَقِيقٌ، أَيْ رُطُوبَةٌ دَقِيقَةٌ وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْعُنْصُرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ كَوْنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً قَبْلَ الْأَرْضِ. وَمَعْنَى: وَهِيَ دُخانٌ أَنَّ أَصْلَ السَّمَاءِ هُوَ ذَلِكَ الْكَائِنُ الْمُشَبَّهُ بِالدُّخَانِ، أَيْ أَنَّ السَّمَاءَ كُوِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ كَمَا تَقُولُ: عَمَدْتُ إِلَى هَاتِهِ النَّخْلَةِ، وَهِيَ نَوَاةٌ، فَاخْتَرْتُ لَهَا أَخْصَبَ تُرْبَةٍ، فَتَكُونُ مَادَّةُ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ تَفْرِيعٌ عَلَى فِعْلِ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُوَجَّهًا إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَئِذٍ، أَيْ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ لَا مَحَالَةَ وَقَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ لَهَا مُقَارِنًا الْقَوْلَ لِلسَّمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ تَكْوِينٍ. أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ بِمَادَّةِ تَكْوِينِهِمَا وَهِيَ الدُّخَانُ لِأَنَّ السَّمَاءَ تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَمَاءِ بِجُمُودِ شَيْءٍ مِنْهُ سُمِّيَ جِلْدًا فَكَانَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ وَتَكَوَّنَ مَعَ السَّمَاءِ الْمَاءُ وَتَكَوَّنَتِ الْأَرْضُ بِيُبْسٍ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ كَمَا جَاءَ الْإِصْحَاحُ الْأَوَّلُ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنَ التَّوْرَاةِ. وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: ائْتِيا أَصْلُهُ: الْمَجِيءُ وَالْإِقْبَالُ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ غَيْرَ

مُرَادٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَا، وَلَا يُتَصَوَّرَ مِنْهُمَا طَوَاعِيَةٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ إِذْ لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ اللَّهَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي خُرُوجَهُمَا عَن قدرته بادىء ذِي بَدْءٍ تَعَيَّنَ الصَّرْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لَهُمَا مِنَ الْبَلَاغَةِ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَعَارًا لِقَبُولِ التَّكْوِينِ كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْعِصْيَانِ الْإِدْبَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: 22] ، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي وَفْدِ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ «لَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ» ، وَكَمَا يُسْتَعَارُ النُّفُورُ وَالْفِرَارُ لِلْعِصْيَانِ. فَمَعْنَى ائْتِيا امْتَثِلَا أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَهَذَا الِامْتِثَالُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ وَلَهُ مَكَانَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] . وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْبُدِّ مِنْ قَبُولِ الْأَمْرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِيجَادِهِمَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَلِمَةُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْثَالِ. وطَوْعاً أَوْ كَرْهاً مَصْدَرَانِ وَقَعَا حَالَيْنِ مِنْ ضَمِيرِ ائْتِيا أَيْ طَائِعَيْنِ أَوْ كَارِهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مُسْتَعْمَلَةً تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكْوِينِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض لِعَظَمَة خلقهما بِهَيْئَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ آمِرٍ مُطَاعٍ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْحُضُورِ لِعَمَلٍ شَاقٍّ أَنْ يَقُولَ لَهُ: ائْتِ لِهَذَا الْعَمَلِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لِتَوَقُّعِ إِبَائِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِنْ دُونِ مُرَاعَاةِ مُشَابَهَةِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَلَا قَوْلَ وَلَا مَقُولَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ، وَيَكُونُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى هَذَا مِنْ تَمام الْهَيْئَة الْمُشبه بهَا وَلَيْسَ لَهُ مُقَابل فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُفُوذِهَا فِي الْمَقْدُورَاتِ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ.

[سورة فصلت (41) : آية 12]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُسْتَعَارًا لِدَلَالَةِ سُرْعَةِ تَكَوُّنِهِمَا لِشِبْهِهِمَا بِسُرْعَةِ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ وَلَا يَتَلَكَّأُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الرَّاجِزِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ تَعْيِينُهُ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَهُوَ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَكَوُّنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَكْوِينِهِمَا بِهَيْئَةِ الْمَأْمُورِ بِعَمَل تقبله سَرِيعا عَنْ طَوَاعِيَةٍ. وَهُمَا اعْتِبَارَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ، وَالْإِتْيَانَ، وَالطَّوْعَ، عَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مَجَازَاتٍ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي تَكُونُ حَقَائِقَ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ وَالْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ فِي فَنِّ الْبَيَانِ. وَإِنَّمَا جَاءَ قَوْلُهُ: طائِعِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِثْرَ هَذَا فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] فَالِامْتِثَالُ صَادِرٌ عَنْ جَمْعٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فَلِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَيْسَ لَهُمَا تَأْنِيثٌ حَقِيقِيٌّ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فَذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلْمَكْنِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُف: 4] . [12] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 12] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ. تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا [فصلت: 11] . وَالْقَضَاءُ: الْإِيجَادُ الْإِبْدَاعِيُّ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِتْمَامِ وَالْحُكْمِ، فَهُوَ يَقْتَضِي الِابْتِكَارَ وَالْإِسْرَاعَ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ وَضَمِيرُ فَقَضاهُنَّ عَائِدٌ إِلَى السَّمَاوَاتِ عَلَى اعْتِبَارِ تَأْنِيثِ لَفْظِهَا، وَهَذَا تَفَنُّنٌ.

وَانْتَصَبَ سَبْعَ سَماواتٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «قَضَّاهُنَّ» أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ «قَضَاهُنَّ» لِتَضْمِينِ «قَضَاهُنَّ» مَعْنَى صَيَّرَهُنَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ. وَكَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوَاعِدِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَتْ مُدَّةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ عَوَالِمَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ أَسْرَعَ فَلَعَلَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ كَانَ بِانْفِصَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَفَرْقَعَ أَحْجَامُهَا بَعْضُهَا عَنْ خُرُوجِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ الْأَقْدَمُونَ بِمَا سَمَّوْهُ صُدُورَ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَتْ سُرْعَةُ انْبِثَاقِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ مَعْلُولَةً لِأَحْوَالٍ مُنَاسِبَةٍ لِمَا تَرَكَّبَتْ بِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ. وَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ بِطَرِيقَةِ التَّوَلُّدِ الْمُبْطِئِ لِأَنَّهَا تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ فَكَانَ تُوَلُّدُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] . وَهَذِهِ الْأَيَّامُ كَانَتْ هِيَ مَبْدَأَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَرْتِيبِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَقَدْ خَاضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ مَبْدَأِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَمَّا كُتُبُ الْيَهُودِ فَفِيهَا أَنَّ مَبْدَأَ هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ الْأَحَدُ وَأَنَّ سَادِسَهَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ جَعَلَهُ اللَّهُ خِلْوًا مِنَ الْخَلْقِ لِيُوَافِقَ طُقُوسَ دِينِهِمُ الْجَاعِلَةَ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ رَاحَةٍ لِلنَّاسِ وَدَوَابِّهِمُ اقْتِدَاءً بِإِنْهَاءِ خَلْقِ الْعَالَمِينَ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَرَى الْعَرَبُ فِي تَسْمِيَةِ الْأَيَّامِ ابْتِدَاءً مِنَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَوَّلٌ أَوْ وَاحِدٌ، وَاسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ (أَوَّلٌ) وَذَلِكَ سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ الْيَهُودِ أَوْ مِنْ تَعَالِيمَ أَسْبَقَ كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ لِاصْطِلَاحِ الْأُمَّتَيْنِ. وَالَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأَخْبَارُ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَة وَأَنه آخر أَيَّام الْأُسْبُوع، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَفْضَلِهَا، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا فِي

تَعْيِينِ الْيَوْمِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَهَذَا الْيَوْمُ (أَيِ الْجُمُعَةُ) هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ خَلْقِهِ هُوَ الْيَوْمَ السَّابِعَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ» . وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ حَدَّثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ سَنَدِهِ فَظَنَّهُ مَرْفُوعًا. وَلِهَذِهِ تَفْصِيلَاتٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا طَائِلٌ وَإِنَّمَا ألممنا بهَا هُنَا لِئَلَّا يَعْرُوَ التَّفْسِيرُ عَنْهَا فَيَقَعَ مَنْ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ فِي حَيْرَةٍ وَإِنَّمَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً. وَأَوْحى عَطْفٌ عَلَى فَقَضاهُنَّ. وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، وَيُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ مَنْ يُرَادُ حُصُولُهَا عِنْدَهُ دُونَ قَوْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّاءَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ [مَرْيَم: 11] أَيْ أَوْمَأَ إِلَيْهِم بِمَا يدل عَلَى مَعْنَى: سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَول أبي دؤاد: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيَ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ ثُمَّ يُتَوَسَّعُ فِيهِ فَيُطْلَقُ عَلَى إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا تَتَطَلَّبُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهَا كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النَّحْل: 68] أَيْ جَبَلِهَا عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَتَطَلُّبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ لِقَبُولِ أَثَرِ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] . وَالْوَحْيُ فِي السَّمَاءِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازَاتِهِ، فَهُوَ أَوْحَى فِي السَّمَاوَاتِ بِتَقَادِيرِ نُظُمِ جَاذِبِيَّتِهَا، وَتَقَادِيرِ سَيْرِ

كَوَاكِبِهَا، وَأَوْحَى فِيهَا بِخَلْقِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، وَأَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِمَا يَعْمَلُونَ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 27] وَقَالَ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 20] . وأَمْرَها بِمَعْنَى شَأْنِهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ مُلَابَسَاتِهَا مِنْ سُكَّانِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَتَمَاسُكِ جِرْمِهَا وَالْجَاذِبِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يُجَاوِرُهَا. وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: 10] . وَانْتَصَبَ أَمْرَها عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِأَمْرِهَا أَوْ عَلَى تَضْمِينِ أَوْحَى مَعْنَى قَدَّرَ أَوْ أَوْدَعَ. وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ لِطُولِ اسْتِعْمَالِ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] مَعَ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِتَخْصِيصِ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ دِينًا وَدُنْيَا وَهُوَ خَلْقُ النُّجُومِ الدَّقِيقَةِ وَالشُّهُبِ بِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، فَمَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ السَّمَاوَاتِ، وَمَا النُّجُومُ وَالشُّهُبُ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهَا. وَالْمَصَابِيحُ: جَمْعُ مِصْبَاحٍ، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِالنَّارِ فِي الزَّيْتِ لِلْإِضَاءَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّبَاحِ لِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَجْعَلُوهُ خَلَفًا عَنِ الصَّبَاحِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَصَابِيحِ: النُّجُومُ، اسْتُعِيرَ لَهَا الْمَصَابِيحُ لِمَا يَبْدُو مِنْ نُورِهَا. وَانْتَصَبَ حِفْظاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ زَيَّنَّا. وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهَا حِفْظًا. وَالْمُرَادُ: حِفْظًا لِلسَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها [فصلت: 10] إِلَى قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 إلى 14]

وَالتَّقْدِيرُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يس. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِيثَارِ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بِالذِّكْرِ. [13، 14] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 13 الى 14] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْهُمُ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلشَّكِّ مَسْرَبًا إِلَى النُّفُوسِ بَعْدَهَا فِي أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا. وَكَانَ ثُبُوتُ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ الرِّيبَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا بِهِ إِلَّا لِأَجْلِ إِعْلَانِهِ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اسْتَبَانَ ذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَفِيئُوا إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يُقْلِعُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: 4] إِلَخْ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَجِ أَمْرًا مَفْرُوضًا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي لَا جَزْمَ فِيهِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنْ) . فَمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ بَعْدَ مَا هَدَيْتُهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَكَابَرُوا فِيهَا، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَالْإِنْذَارُ: التَّخْوِيفُ، وَهُوَ هُنَا تَخْوِيفٌ بِتَوَقُّعِ عُقَابٍ مِثْلِ عِقَابِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ خَشْيَةَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ تَجْرِيَ أَفْعَالُ اللَّهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ هُوَ وَعِيدًا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُصِبْهُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلُ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَاوَوْهُمَا فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّسُلِ وَفِي التَّعَلُّلَاتِ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 24] وَأَمْهَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا حَتَّى آمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاسْتَأْصَلَ كُفَّارَهُمْ بِعَذَابٍ خَاصٍّ.

وَحَقِيقَةُ الصَّاعِقَةِ: نَارٌ تَخْرُجُ مَعَ الْبَرْقِ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] . وَتُطْلَقُ عَلَى الْحَادِثَةِ الْمُبِيرَةِ السَّرِيعَةِ الْإِهْلَاكِ، وَلَمَّا أُضِيفَتْ صَاعِقَةٌ هُنَا إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ، وَعَادٌ لَمْ تُهْلِكْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمُ الرِّيحُ وَثَمُودُ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الصَّاعِقَةَ هُنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُجَاوِزِ وَالْمُقْتَضِي لِذَلِكَ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ قَصْدَ الْإِيجَازِ، وَلِيَقَعَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ [فصلت: 15] إِلَى قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت: 17] . وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَالْمَعْنَى مِثْلُ صَاعِقَتِهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كلم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 1- 13] الْآيَةَ، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: «نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ» . وَضَمِيرُ جاءَتْهُمُ عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمَا. وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولَانِ هُودٌ وَصَالِحٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ لِحِرْصِ رَسُولِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى هُدَاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ وَسِيلَةً يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى إِبْلَاغِهِمُ الدِّينَ إِلَّا تَوَسَّلَ بِهَا. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِالْمَجِيءِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ تَارَةً مِنْ أَمَامِهِ وَتَارَةً مِنْ خَلْفِهِ لَا يَتْرُكُ لَهُ جِهَةً، كَمَا يَفْعَلُ الْحَرِيصُ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ أَنْ يَتَطَلَّبَهُ وَيُعِيدَ تَطَلُّبَهُ وَيَسْتَوْعِبَ مَظَانَّ وُجُودِهِ أَوْ مَظَانَّ سَمَاعِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ نَظِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: 17] . وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَلَمْ تُسْتَوْعَبِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ كَمَا مُثِّلَ حَالُ الشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَمْثِيلُ الْحِرْصِ فَقَطْ وَقَدْ حَصَلَ، وَالْمَقْصُودُ

فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلُ الْحِرْصِ مَعَ التَّلَهُّفِ تَحْذِيرًا مِنْهُ وَإِثَارَةً لِبُغْضِهِ فِي نُفُوسِ النَّاس. وأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ لِتَضَمُّنِ الْمَجِيءِ مَعْنَى الْإِبْلَاغِ بِقَرِينَةِ كَوْنِ فَاعِلِ الْمَجِيءِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُمْ رُسُلٌ، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِ جاءَتْهُمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خِفٌ مَحْمِلُهَا ... تَسْتَوْجِبَا مِنَّةً عِنْدِي بِهَا ويدا أَن تقرءان عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدًا إِذْ فَسَّرَ الْحَاجَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَاجَةِ الرِّسَالَةَ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ بَلِ الِاكْتِفَاءُ بِتَقَدُّمِ مَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جُمْلَةً خِلَافًا لِمَا أَطَالَ بِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مِنْ أَبْحَاثٍ لَا يَرْضَاهَا الْأَرِيبُ، أَوْ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ عُنْوَانُ الرُّسُلُ مِنْ إِبْلَاغِ رِسَالَةٍ. قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ حِكَايَةُ جَوَابِ عَادٍ وَثَمُودَ لِرَسُولَيْهِمْ فَقَدْ كَانَ جَوَابًا متماثلا لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ تَفْكِيرٍ مُتَمَاثِلٍ وَهُوَ أَنَّ تَفْكِيرَ الْأَذْهَانِ الْقَاصِرَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْنَى عَلَى تَصَوُّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ وَأَقْيِسَةٍ تَخْيِيلِيَّةٍ وَسُفِسْطَائِيَّةٍ، فَإِنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهَا وَيَقِيسُونَهَا عَلَى أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَاثَلُ فِي هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجَهَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 52، 53] ، أَيْ بَلْ هُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي الطُّغْيَانِ، أَيِ الْكُفْرِ الشَّدِيدِ فَتُمْلِي عَلَيْهِمْ أَوْهَامُهُمْ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةً. وَلِكَوْنِ جَوَابِهِمْ جَرَى فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ أَتَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِأُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30]

[سورة فصلت (41) : الآيات 15 إلى 16]

فَإِنَّ قَوْلَ الرُّسُلِ لَهُمْ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَدْ حُكِيَ بِفِعْلٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُوَ فِعْلُ جاءَتْهُمُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. فَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ رِسَالَةِ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ مُرْسَلِينَ إِلَيْنَا، وَهَذَا حَذْفٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِجَوَابِ لَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: 149] ، وَنُكْتَتُهُ الْإِبْهَامُ ثُمَّ الْبَيَانُ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازِ وَهُوَ حَذْفٌ عَزِيزٌ لِمَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ: وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا ... عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ قِيَاسًا اسْتِثْنَائِيًّا تَرْكِيبُهُ: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً يُنْزِلُهُمْ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ إِلَيْنَا مَلَائِكَةً فَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَلِهَذَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ رِسَالَتَكُمْ وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَن التَّكْذِيب. [15، 16] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 15 إِلَى 16] فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الأمتان من الكابرة وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فَصَّلَ هُنَا بَعْضَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنْ صُورَةِ الْكُفْرِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِمَا حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعَذَابِ.

وَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُمْ رَفَضُوا دَعْوَةَ رَسُولَيْهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا إِرْشَادَهُمَا وَاسْتِدْلَالَهُمَا. وَأَمَّا حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْمَعْنَى: فَأَمَّا عَادٌ فَمَنَعَهُمْ مِنْ قَبُولِ الْهُدَى اسْتِكْبَارُهُمْ. وَالِاسْتِكْبَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبْرِ، أَيِ التَّعَاظُمُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ أَرْضُهُمُ الْمَعْهُودَةُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الِاسْتِكْبَارُ لِأَنَّ تكبرهم هُوَ الَّذين صَرَفَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ تَوَقُّعِ عِقَابِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِاسْتِكْبَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ إِذْ لَا مُبَرِّرَ لِلْكِبْرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُغْرِيَاتِ بِالْكِبْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُبْلِغُ الْإِنْسَانَ مَبْلَغَ الْخُلُوِّ عَنِ النَّقْصِ وَلَيْسَ لِلضَّعِيفِ النَّاقِصِ حَقٌّ فِي الْكِبْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْكِبْرُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ قَدِ اغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَعَزَّةِ أُمَّتِهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ اسْتِكْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الِاسْتِخْفَافَ بِمَنْ عَدَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ هُودٌ بِإِنْكَارِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا الْعُجْبَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَكَذَّبُوا رَسُولَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ اغْتِرَارُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ هُوَ بَاعِثَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَ قَوْلُهُمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً دَلِيلًا عَلَيْهِ خُصَّ بِالذِّكْرِ. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِهِ بِكَوْنِهِ مُوجِبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ بِمُفْرَدِهِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ فَذُكِرَ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ «اسْتَكْبَرُوا» لِأَنَّ شَأْنَ الْعَطْفِ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُعْلِمَ أَنَّهُ بَاعِثُهُمْ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ بِالسِّيَاقِ.

وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً حَيْثُ أَعرضُوا عَن رِسَالَة رَسُولِ رَبِّهِمْ وَعَنْ إِنْذَارِهِ إِيَّاهُمْ إِعْرَاضَ مَنْ لَا يَكْتَرِثُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ لَوْ حَسَبُوا لِذَلِكَ حِسَابَهُ لَتَوَقَّعُوا عَذَابَهُ فلأقبلوا على النّظر فِي دَلَائِل صدق رسولهم. وَإِجْرَاءُ وَصْفِ الَّذِي خَلَقَهُمْ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَقْوَى مِنْهُمْ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مَعْلُومٌ لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَحْسِبُوا لِغَضَبِهِ حِسَابَهُ فَيَنْظُرُوا فِي أَدِلَّةِ صِدْقِ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ. وَضَمِيرُ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ بِمَعْنَى وُضُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُحَقَّقًا كَانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمُقْتَضَاهُ أَشْنَعَ وَعُذْرُهُمْ فِي جَهْلِهِ مُنْتَفِيًا. وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا: حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى بِهَا أَنْ يَعْمَلَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، وَتُطْلَقُ عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَوَسَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِطْلَاقِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ وَالْكِنَائِيُّ وَالْمَجَازِيُّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ تَصْرِيحًا وَكِنَايَةً، وَمَجَازُهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ تَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ لِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِعَادٍ فِي أَصَالَةِ آرَائِهِمْ فَيَقُولُونَ: أَحْلَامُ عَادٍ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ ... مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْإِثَمِ وَيَقُولُونَ فِي وَصْفِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقِلُّ صُنْعُ أَمْثَالِهَا: عَادِيَّةٌ يَقُولُونَ: بِئْرٌ عَادِيَّةٌ، وَبِنَاءٌ عَادِيٌّ. وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ سِعَةَ الْقُدْرَةِ أَسْنَدَ الْقُوَّةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهَا شَيْءٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أَيْ هُوَ أَوْسَعُ قُدْرَةً مِنْ قُدْرَتِهِمْ فَإِطْلَاقُ الْقُوَّةِ

عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَيْ عُمُومُ تَأْثِيرِهَا وَتَعَلُّقِهَا بِالْمُمْكِنَاتِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ لَا يَسْتَعْصِي عَلَى تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مُمْكِنٌ، وَكَمَالُ غِنَاهُ عَنِ التَّأَثُّرِ لِلْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [52] . وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَالْوَاوُ فِيهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ مُعْجِزَاتُ رَسُولِهِمْ هُودٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ لِهُودٍ آيَاتٍ سِوَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: 24] فَذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَوَائِلِ الْآيَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف: 69] ، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء: 132، 134] . وَدَلَّ فِعْلُ كانُوا عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْحَدُونَ أَنَّ الْجَحْدَ مُتَكَرِّرٌ فِيهِمْ مُتَجَدِّدٌ. وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفَ عِقَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَشَارَتِ الْفَاءُ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ كَانَ مُسَبَّبًا عَلَى حَالَةِ كُفْرِهِمْ بِصِفَتِهَا فَإِنَّ بَاعِثَ كُفْرِهِمْ كَانَ اغْتِرَارَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِمَا لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ الْهَلَاكَ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ: هُوَ رِيحٌ، لِيُرِيَهُمْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ وَأَنَّهُ يَضَعُ الْقُوَّةَ فِي الشَّيْءِ الْهَيِّنِ مِثْلِ الرِّيحِ لِيَكُونَ عَذَابًا وَخِزْيًا، أَيْ تَحْقِيرًا كَمَا قَالَ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَيُّ خِزْيٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ تَتَرَامَاهُمُ الرِّيحُ فِي الْجَوِّ كَالرِّيشِ، وَأَنْ تُلْقِيَهُمْ هَلْكَى عَلَى التُّرَابِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ فَيُشَاهِدُهُمُ الْمَارُّونَ

بِدِيَارِهِمْ جُثَثًا صَرْعَى قَدْ تَقَلَّصَتْ جُلُودُهُمْ وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ. وَالرِّيحُ: تَمَوُّجٌ فِي الْهَوَاءِ يَحْدُثُ مِنْ تَعَاكُسِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَتَنْتَقِلُ مَوْجَاتُهُ كَمَا تَنْتَقِلُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَالرِّيحُ الَّذِي أَصَابَ عَادًا هُوَ الرِّيحُ الدَّبُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَهُبُّ مِنْ جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَتْ دَبُورًا بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ لِأَنَّهَا تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ دُبُرِ الْكَعْبَةِ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» . وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ بِسَبَبِ قُوَّةِ انْضِغَاطٍ فِي الْهَوَاءِ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَإِنَّ الِانْضِغَاطَ يُصَيِّرُ الشَّيْءَ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، كَمَا شُوهِدَ فِي عَصْرِنَا أَنَّ الْأَجْسَامَ الدَّقِيقَةَ مِنْ أَجْزَاءٍ كِيمْيَاوِيَّةٍ تُسَمَّى الذَّرَّةَ تَصِيرُ بِالِانْضِغَاطِ قَادِرَةً عَلَى نَسْفِ مَدِينَةٍ كَامِلَةٍ، وَتُسَمَّى الطَّاقَةَ الذَّرِّيَّةَ، وَقَدْ نُسِفَ بِهَا جُزْءٌ عَظِيمٌ مِنْ بِلَادِ الْيَابَانِ فِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ. وَالصَّرْصَرُ: الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَرْصَرَةٌ، أَيْ دَوِيٌّ فِي هُبُوبِهَا مِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ تَنَقُّلِهَا. وَتَضْعِيفُ عَيْنِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّتِهَا بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِهَا كَتَضْعِيفِ كُبْكِبَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَبَّ. وَأَصْلُهُ صَرَّ، أَيْ صَاحَ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُؤَنَّثُ لَفْظُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي إِلَّا عَلَى الرِّيحِ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ التَّأْنِيثِ. وَالنَّحِسَاتُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ: جَمْعُ نَحِسٍ بِدُونِ تَأْنِيثٍ لِأَنَّهُ مصدر أَو اسْم مَصْدَرٌ لِفِعْلِ نَحِسَ كَعَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [الْقَمَر: 19] . وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِسِكُونِ الْحَاءِ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الْحَاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْبَقِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ (نَحْسٍ) إِذَا أَصَابَهُ النَّحْسُ إِصَابَةَ سُوءٍ أَوْ ضُرٍّ شَدِيدٍ. وَضِدُّهُ الْبَخْتُ فِي أَوْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلنَّحْسِ وَلَا لِلْبَخْتِ وَلَكِنَّهُمَا عَارِضَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَالنَّحْسُ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ مزاجه أَوْ مِنْ تَفْرِيطِهِ أَوْ مِنْ فَسَادِ بِيئَتِهِ أَوْ قَوْمِهِ، وَالْبَخْتُ يَعْرِضُ مِنْ جَرَّاءِ عَكْسِ ذَلِكَ. وَبَعْضُ النَّوْعَيْنِ أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا جَزَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ فِي دِينِهِ

كَمَا حَلَّ بِعَادٍ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَامَّةُ الْأُمَمِ يَتَوَهَّمُونَ النَّحْسَ وَالْبَخْتَ مِنْ نَوْعِ الطِّيَرَةِ وَمِنَ التَّشَاؤُمِ وَالتَّيَمُّنِ، وَمِنْهُ الزَّجْرُ وَالْعِيَافَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْهُ تَطَلُّعُ الْحَدَثَانِ مِنْ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَيَّامِ عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ أَوِ الْمُخْتَلَّةِ الْعَقِيدَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، أَيْ كَشَفَ بُطْلَانَهُ، بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ تَعْلِيمٌ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي ظَهَرَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. فَمَعْنَى وَصْفِ الْأَيَّامِ بِالنَّحِسَاتِ: أَنَّهَا أَيَّامُ سُوءٍ شَدِيدٍ أَصَابَهُمْ وَهُوَ عَذَابُ الرِّيحِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] ، فَالْمُرَادُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِخُصُوصِهَا كَانَتْ نَحْسًا وَأَنَّ نَحْسَهَا عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّ عَادًا هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْعَذَابِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ كُلِّ عَامٍ هِيَ أَيَّامُ نَحْسٍ عَلَى الْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأُمَمِ حَلَّ بِهَا سُوءٌ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَوُصِفَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِأَنَّهَا نَحِساتٍ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا إِلَّا السُّوءُ لَهُمْ مِنْ إِصَابَةِ آلَامِ الْهَشْمِ الْمُحَقَّقِ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَمُشَاهَدَةِ الْأَمْوَاتِ مِنْ ذَوِيِهِمْ، وَمَوْتِ أَنْعَامِهِمْ، وَاقْتِلَاعِ نَخِيلِهِمْ. وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْقِصَصِ تَسْمِيَةَ أَيَّامٍ ثَمَانِيَةٍ نِصْفُهَا آخِرُ شَهْرِ (شَبَاطَ) وَنِصْفُهَا شَهْرُ (آذَارَ) تَكْثُرُ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا دَعَوْهَا أَيَّامَ الْحُسُومِ ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا الْمَوْصُوفَةُ بِحُسُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [7] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَزَعَمُوا أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْمُوَافِقَةُ لِأَيَّامِ الرِّيحِ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَيَّامُ نَحْسٍ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَكَذَبُوا عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكَاذِيبَ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَالَةٍ، وَتَفَنُّنٌ فِي أَوْهَامِ الضَّلَالَةِ. وَجُمِعَ نَحِساتٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهُوَ أَيَّامٍ. وَاللَّامُ فِي لِنُذِيقَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (أَرْسَلْنَا) . وَالْإِذَاقَةُ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شُبِّهَ الْعَذَاب بِطَعَام هيّيء لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ كَمَا سَمَّى عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ الْغَارَةَ قِرًى فِي قَوْلِهِ:

قَرِينَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونًا وَالْإِذَاقَةُ: تَخْيِيلٌ مِنْ مُلَائِمَاتِ الطَّعَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ. وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْخِزْيِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى، أَيْ أَشَدُّ إِخْزَاءً مِنْ إِخْزَاءِ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخِزْيَ وَصْفٌ لِلْعَذَابِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْعَذَابِ مُخْزِيًا لِلَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُخْزِيًا: أَنَّهُ سَبَبُ خِزْيٍ فَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ خِزْيٌ بِمَعْنَى مُخْزٍ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَيُقَدَّرُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابًا خِزْيًا، أَيْ مُخْزِيًا، فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ قِيلَ: عَذابَ الْخِزْيِ، لِلْمُبَالَغَةِ أَيْضًا لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاتِّصَافِ حَتَّى جُعِلَتِ الصِّفَةُ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَسِّنِ التَّجْرِيدِ فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي قَوْلِهِ: عَذابَ الْخِزْيِ مُبَالَغَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَمُبَالَغَةُ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَجُمْلَةُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبَ السَّامِعُونَ أَنَّ حَظَّ أُولَئِكَ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ بِالرِّيحِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَخْزَى، أَيْ لَهُمْ وَلِكُلِّ مَنْ عُذِّبَ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَخْزَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ جَرَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: أَشَدُّ إِخْزَاءً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: خَزَاهُ، بِمَعْنَى أَخْزَاهُ، أَيْ أَهَانَهُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي صَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ تَذْيِيلٌ، أَيْ لَا يَنْصُرُهُمْ مَنْ يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَلَا مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَا مَنْ يُخْرِجُهُمْ مِنْهُ بعد مهلة.

[سورة فصلت (41) : آية 17]

[سُورَة فصلت (41) : آيَة 17] وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) بَقِيَّةُ التَّفْصِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: 15] . وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْأُمَّتَيْنِ وَاحِدًا فِي عَدَمِ قَبُولِ الْإِرْشَادِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ ثَمُودَ بِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ مُقْتَضِيًا أَنَّهُ هَدَى عَادًا مِثْلَ مَا هَدَى ثَمُودَ وَأَنَّ عَادًا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى مِثْلَ مَا اسْتَحَبَّتْ ثَمُودُ. وَالْمَعْنَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ هِدَايَةَ إِرْشَادٍ بِرَسُولِنَا إِلَيْهِمْ وَتَأْيِيدِهِ بِآيَةِ النَّاقَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ. فَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الْإِرْشَادُ التَّكْلِيفِيُّ، وَهِيَ غَيْرُ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: 37] فَإِنَّ تِلْكَ الْهِدَايَةَ التَّكْوِينِيَّةَ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [غَافِر: 33] . وَاسْتَحَبُّوا الْعَمى مَعْنَاهُ: أَحَبُّوا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُهُمَا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [فصلت: 15] ، أَيْ كَانَ الْعَمَى مَحْبُوبًا لَهُمْ. وَالْعَمَى: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلضَّلَالِ فِي الرَّأْيِ، أَيِ اخْتَارُوا الضَّلَالَ بِكَسْبِهِمْ. وَضُمِّنَ (اسْتَحَبُّوا) مَعْنَى: فَضَلُّوا، وَهَيَّأَ لِهَذَا التَّضْمِينِ اقْتِرَانُهُ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَحَبَّةِ تَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ عَلَى بَقِيَّةِ الْمَحْبُوبَاتِ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ (اسْتَحَبُّوا) بِحَرْفِ عَلَى، أَيْ رَجَّحُوا بِاخْتِيَارِهِمْ. وَتَعْلِيقُ عَلَى الْهُدى بِفِعْلِ (اسْتَحَبُّوا) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: فَضَّلُوا وَآثَرُوا. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ، وَكَانَ الْعِقَابُ مُنَاسِبًا لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ الْعَمَى، فَمَنْ يَسْتَحِبُّهُ فَشَأْنُهُ أَنْ يُحِبَّ الْعَمَى، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ بِالصَّاعِقَةِ لِأَنَّهَا تُعْمِي أَبْصَارَهُمْ فِي حِينِ تُهْلِكُهُمْ قَالَ تَعَالَى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: 20] .

[سورة فصلت (41) : آية 18]

وَالْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ الْمُهْلِكَةِ لِأَنَّهَا اتِّصَالٌ بِالْمُهْلَكِ يُزِيلُهُ مِنَ الْحَيَاةِ فَكَأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْيَدِ. وَالصَّاعِقَةُ: الصَّيْحَةُ الَّتِي تَنْشَأُ فِي كَهْرَبَائِيَّةِ السَّحَابِ الْحَامِلِ لِلْمَاءِ فَتَنْقَدِحُ مِنْهَا نَارٌ تُهْلِكُ مَا تُصِيبُهُ. وَإِضَافَةُ صاعِقَةُ إِلَى الْعَذابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا صَاعِقَةٌ تُعَرَّفُ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِذْ لَا يُعَرَّفُ بِهَا إِلَّا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، أَيْ صَاعِقَةٌ خَارِقَةٌ لِمُعْتَادِ الصَّوَاعِقِ، فَهِيَ صَاعِقَةٌ مُسَخَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَذَابِ ثَمُودَ، فَإِنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ فَتَعْرِيفُ الْمُضَافِ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا بَيَانَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ. والْعَذابِ هُوَ: الْإِهْلَاكُ بِالصَّعْقِ، وَوُصِفَ بِ الْهُونِ كَمَا وُصِفَ الْعَذَابُ بِالْخِزْيِ فِي قَوْلِهِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ [فصلت: 16] ، أَيِ الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهُونِ. والْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ هَوَانًا أَنَّهُ إِهْلَاكٌ فِيهِ مَذَلَّةٌ إِذِ اسْتُؤْصِلُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ وَتُرِكُوا صَرْعَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَهْلِكِ عَادٍ. أَيْ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ فِي اخْتِيَارِهِمُ الْبَقَاءَ عَلَى الضَّلَالِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ دَلَالَةِ آيَاتِهِ. وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ عَادٍ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: 16] أَنَّ لِثَمُودَ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ تَمَاثَلَتَا فِي الْكُفْرِ فَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ هُنَا اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا مُحَسِّنُ الِاكْتِفَاءِ، وَهُوَ مُحَسِّنٌ يَرْجِعُ إِلَى الإيجاز. [18] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 18] وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: 15] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] لِأَنَّ مَوْقِعَ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ إِنْجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَذَابُ عَادٍ وَعَذَابُ ثَمُودَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنْجَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِ عَادٍ وَقَوْمِ ثَمُودَ، فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهِ مَعْنَى اسْتِثْنَاءٍ مِنْ عُمُومِ أُمَّتَيْ عَادٍ وَثَمُودَ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاقِبَةٍ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 إلى 21]

فَإِنَّ جُمْلَتَيِ التَّفْصِيلِ هُمَا الْمَقْصُودُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 58] وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ هُودٍ كَيْفَ أَنْجَى اللَّهُ هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَصَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وَقَوْلُهُ: (وَكانُوا يَتَّقُونَ) ، أَيْ كَانَ سُنَّتُهُمُ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ فِيمَا يُنْجِي مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَالْمُتَّقِينَ. [19- 21] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 19 الى 21] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِأُولَئِكَ لِيَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ عِبْرَةً فَإِنَّ لِاسْتِحْضَارِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ أَثَرًا فِي النَّفْسِ تَعْتَبِرُ بِهِ مَا لَا تَعْتَبِرُ بِتَوَصُّفِ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى إِنْذَارِهِمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَجُمْلَةُ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ الْآيَاتِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 13] الْآيَاتِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ قَوْلُهُ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً إِلَخْ، أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ عِقَابِ الْآخِرَةِ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ أَعدَاء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: 1] ، وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بتهيّؤ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزْوِ مَكَّةَ وَلِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ [فصلت: 28] بَعْدَ قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَعْداءُ اللَّهِ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ دُخُولَ الْبَعْضِ فِي الْعُمُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحْمِلَ لَا يَكُونُ لَهُ مَوْقِعٌ رَشِيقٌ فِي الْمَقَامِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَنْ ذِكْرِ مَا أَصَابَ عَادًا وَثَمُودَ هُوَ تَهْدِيدُ مُشْرِكِي مَكَّةَ بِحُلُولِ عَذَابٍ مِثْلِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوهُ وَرَأَوْا آثَارَهُ فَلِلتَّهْدِيدِ بِمِثْلِهِ مَوْقِعٌ لَا يَسَعُهُمُ التَّغَافُلُ عَنْهُ، وَأَمَّا عَذَابُ عَادٍ وَثَمُودَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجْعَلَ مَوْعِظَةً لِقُرَيْشٍ بَلِ الْأَجْدَرُ أَنْ يَقَعَ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ رَأْسًا بِعَذَابٍ يُعَذَّبُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ أُطِيلَ وَصْفُهُ لِتَهْوِيلِهِ مَا لَمْ يُطَلْ بِمِثْلِهِ حِينَ التَّعَرُّضِ لِعَذَابِ عَادٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: 16] الْمُكْتَفَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ عَذَابِ ثَمُودَ. وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: أَعْداءُ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ ضَمِيرِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (وَاذْكُرْ) مَحْذُوفًا مِثْلَ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لِمَقْصِدٍ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: إِلَى النَّارِ بِ نَحْشُرُ لِتَضْمِينِ نَحْشُرُ مَعْنَى: نُرْسِلُ، أَيْ نُرْسِلُهُمْ إِلَى النَّارِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ عَطْفٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى نَحْشُرُ لِأَنَّ الْحَشْرَ يَقْتَضِي الْوَزْعَ إِذْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ عُرْفًا، إِذِ الْحَشْرُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ عَدَدِ الْمَحْشُورِينَ وَكَثْرَةُ الْعَدَدِ تَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَاطَ وَتَدَاخُلَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ فَلَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْوَزْعِ لِتَصْفِيفِهِمْ وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَالْوَزْعُ: كَفُّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْفَوْضَى، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [17] ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَحْشُورِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ نَحْشُرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ أَعْداءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِمَعْنَى الْغَايَةِ فَهِيَ حِرَفُ انْتِهَاءٍ فِي الْمَعْنَى وَحَرْفُ

ابْتِدَاءٍ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ إِذا تُفِيدُ تَوْكِيدَ مَعْنَى إِذا مِنَ الِارْتِبَاطِ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ إِذا سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْطِيَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] . وَيَظْهَرُ أَنَّ وُرُودَ مَا بَعْدَ إِذا يُقَوِّي مَعْنَى الشَّرْطِ فِي إِذا، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعْنَى الشَّرْطِ حِينَئِذٍ نَصًّا احْتِمَالًا. وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْغَائِب فِي جاؤُها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، أَيْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى جَهَنَّمَ. وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ إِلَخْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا جَوَابُ إِذا، فَاقْتَضَى الِارْتِبَاطُ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا وَتَعْلِيقِهَا بِفِعْلِ الْجَوَابِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُوَجَّهُوا إِلَى النَّارِ، فَقَدَّرُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَسُئِلُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَأَنْكَرُوا فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، يَعْنِي: سَأَلَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ. وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ جَوَابَ إِذا مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ مَفَادِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ السَّائِلَ يَتَطَلَّبُ مَاذَا حَصَلَ بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ عِنْدَ النَّارِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ حُوسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنْكَرُوهَا فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ. أَوْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذا قَوْلَهُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: 24] إِلَخْ. وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَشَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ: شَهَادَةُ تَكْذِيبٍ وَافْتِضَاحٍ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ شَهَادَةً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّارَ اعْتَذَرُوا بِإِنْكَارِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ طَمَعًا فِي تَخْفِيفِ

الْعَذَابِ وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ اللَّهُ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَشَهِدَتْ بِهِ الْحفظَة وقرىء عَلَيْهِمْ كِتَابُهُمْ، وَمَا أُحْضِرُوا لِلنَّارِ إِلَّا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ إِدَانَتُهُمْ، فَمَا كَانَتْ شَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ إِلَّا زِيَادَةَ خِزْيٍ لَهُمْ وَتَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا عَلَى سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ فِي سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ. وَتَخْصِيصُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ لِلسَّمْعِ اخْتِصَاصًا بِتَلَقِّي دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقِّي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَسَمْعُهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهُ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، وَلِأَنَّ لِلْأَبْصَارِ اخْتِصَاصًا بِمُشَاهَدَةِ دَلَائِلِ الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَذَلِكَ دَلِيلُ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ لِأَنَّ الْجِلْدَ يَحْوِي جَمِيعَ الْجَسَدِ لِتَكُونَ شَهَادَةُ الْجُلُودِ عَلَيْهِمْ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهَا فَيَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْحَرْقِ بِالنَّارِ لِبَقِيَّةِ الْأَجْسَادِ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى حَرْقِ مَوْضِعِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرُوا فِي تَوْجِيهِ الْمَلَامَةِ عَلَى جُلُودِهِمْ لِأَنَّهَا حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَهَادَةِ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ هُنَا بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ [24] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ آيَةَ النُّورِ تَصِفُ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا تُهْمَةَ الْإِفْكِ وَمَشَوْا فِي الْمَجَامِعِ يُشِيعُونَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَيُشِيرُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَنِ اتَّهَمُوهُ إِفْكًا. وَإِنَّمَا قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا دُونَ أَنْ يَقُولُوهُ لِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِأَنَّ الْجُلُودَ مُوَاجِهَةٌ لَهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا بِالْمَلَامَةِ. وَإِجْرَاءُ ضَمَائِرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجُلُودِ بِصِيغَتَيْ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ التَّحَاوُرَ مَعَهَا صَيَّرَهَا بِحَالَةِ الْعُقَلَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ قَوْلُ مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْجُلُودَ أُرِيدَ بِهَا الْفُرُوجُ وَنُسِبَ هَذَا لِلسُّدِّيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَهُوَ تَعَنُّتٌ فِي مَحْمِلِ الْآيَةِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بَنَى أَحْمَدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ» فَعَدَّ الْجُلُودَ مِنَ الْكِنَايَاتِ عَنِ الْفُرُوجِ وَعَزَاهُ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فَجَازَفَ فِي التَّعْبِيرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَلَامَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ

جُلُودَهُمْ لِكَوْنِهَا جُزْءًا مِنْهُمْ لَا يحِق لَهَا شَهَادَتُهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَجُرُّ الْعَذَابَ إِلَيْهَا. وَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمرَان: 66] . وَقَوْلُ الْجُلُودِ أَنْطَقَنَا اللَّهُ اعْتِذَارٌ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ جَرَتْ مِنْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا النُّطْقُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَقَوْلُهُمُ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِذَارِ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ نُطْقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَاخْتِلَافُ دَلَالَةِ أَصْوَاتِهَا عَلَى وِجْدَانِهَا، فَعُمُومُ كُلَّ شَيْءٍ مَخْصُوصٌ بِالْعُرْفِ. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا مِنْ تَمَامِ مَا أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ جُلُودَهُمْ قُتُفِّيَ عَلَى مَقَالَتِهَا تَشْهِيرًا بِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيمِ وَالتَّحْسِيرِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَوْنِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَاوَ الْعَطْفِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَاعَتَئِذٍ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ مُبَاشَرَةً. وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ بِمَعْنَى الْبَعْثِ فَإِنَّهُ قَدْ مَضَى بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ إِحْضَارِهِمْ عِنْدَ جَهَنَّمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الرُّجُوعَ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: 24] مُوَجَّهًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْبَعْثِ عَقِبَ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمَوْعِظَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ تَأَثُّرِهِمْ بِسَمَاعِهَا. وَيَكُونُ فِعْلُ تُرْجَعُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْكَلَامُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ.

[سورة فصلت (41) : الآيات 22 إلى 23]

قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] . وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُرْجَعُونَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ ورعاية الفاصلة. [22، 23] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 22 إِلَى 23] وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قَلَّ مَنْ تَصَدَّى مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَنْ تَصَدَّى مِنْهُمْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَوْلَى كَلَامٍ فِي ذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَلَكِنَّهُ وَجِيزٌ وَغَيْرُ مُحَرَّرٍ وَهُوَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِهَا فَزَادُوا بِذَلِكَ إِشْكَالًا وَمَا أَبَانُوا انْفِصَالًا. وَلْنَبْدَأْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، ثُمَّ نَأْتِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الِانْفِصَامِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ بِتَمَامِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [فصلت: 21] إِلَخْ فَتَكُونَ مَشْمُولَةً لِلِاعْتِرَاضِ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْهَا: إِمَّا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: 19] الْآيَاتِ، وَإِمَّا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: 24] ، وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تخفون شرككم وتستترون مِنْهُ بَلْ كُنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ بِاتِّبَاعِهِ فَمَاذَا لَوْمُكُمْ عَلَى جَوَارِحِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ أَنْ شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالِاسْتِتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِخْبَارِ مَجَازًا

لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِتَارِ إِخْفَاءُ الذَّوَاتِ وَالَّذِي شَهِدَتْ بِهِ جَوَارِحُهُمْ هُوَ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْأَقْوَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ. وَحَرْفُ مَا نَفْيٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ إِلَخْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ) . وَتَقْدِيرُهُ: بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ هُنَا يُقَدَّرُ حَرْفُ مِنْ، أَيْ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، أَيْ مَا كُنْتُم تستترون مِنْ تِلْكَ الشُّهُودِ، وَمَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ شَهَادَتَهَا، إِذْ لَا تَحْسَبُونَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ضَائِرٌ إِذْ أَنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ يَوْمِ الْحِسَابِ. فَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فَهُوَ حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِأَسَانِيدَ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٍّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ (¬1) قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ، فَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ . وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ نَفَرٌ مُعَيَّنٌ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ مَعَ الصَّلَاحِيَةِ لِشُمُولِ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ لِلتَّسَاوِي فِي التَّفْكِيرِ. وَيُجْعَلُ مَوْقِعُهَا بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا غَرِيبًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا صَادَفَ الْوَقْتَ الْمُوَالِيَ لِنُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. ¬

(¬1) الشَّك من أبي معمر رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود وَجزم وهب بن ربيعَة رَاوِيه عَن ابْن مَسْعُود بقوله: ثقفي وقريشيان، وَعَن الثَّعْلَبِيّ: أَن الثَّقَفِيّ عبد ياليل بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ والقرشيين ربيعَة بن أُميَّة وَصَفوَان بن أُميَّة. وهما ختنان لعبد ياليل. [.....]

وَمَعَ هَذَا فَهِيَ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ إِذْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَيُشْبِهُ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا عِنْدَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ اهـ. وَفِي كَلَامِهِ الْأَوَّلِ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَزَمَ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ كَلَامُهُ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ هُمْ: عَبْدُ يَالِيلَ الثَّقَفِيُّ وَصَفْوَانُ وَرَبِيعَةُ ابْنَا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَمَّا عَبْدُ يَالِيلَ فَأَسْلَمَ وَلَهُ صُحْبَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَمَّا رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ فَلَا يُعْرَفُ لَهُ إِسْلَامٌ فَلَا يُلَاقِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَحْسَنُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ طَرَفُهُ الثَّانِي وَهُوَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا فَإِن ذَلِك يؤوّل قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا عِنْد مَا أَخْبَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ قَرَأَهَا تَحْقِيقًا لِمِثَالٍ مِنْ صُوَرِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّفَرِ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وَذَلِكَ قَاضٍ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَالْآيَةُ تَحِقُّ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا مِثْلَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَعَلَى بَعْضِ احْتِمَالَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ أَيْ تَسْتَتِرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، وَذَلِكَ تَوْبِيخٌ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبِيحًا حَتَّى يَسْتَتِرُوا مِنْهُ وَعَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِيمَا ذُكِرَ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلَا يَعُوزُكَ تَوْزِيعُ أَصْنَافِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَات: أَن بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ تَفْرِضُهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ جَهَرْتُمْ أَوْ سَتَرْتُمْ وَلَيْسَ اللَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةِ جِوَارِحِكُمْ عَلَيْكُمْ وَمَا أَوْقَعَكُمْ فِي هَذَا الضُّرِّ إِلَّا سُوءُ ظَنِّكُمْ بِجَلَالِ اللَّهِ. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الْإِشَارَةُ إِلَى الظَّنِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ وَتَشْهِيرُ شَنَاعَتِهِ لِلنِّدَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ.

وَأَتْبَعَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِالْبَدَلِ بِقَوْلِهِ: ظَنُّكُمُ لِزِيَادَةِ بَيَانِهِ لِيَتَمَكَّنَ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُوَ فِعْلُ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. والَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ صِفَةٌ لِ ظَنُّكُمُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، أَيْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ظَنًّا بَاطِلًا. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ إِلَى بِرَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِ ظَنِّهِمْ، إِذْ ظَنُّوا خَفَاءَ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ مَعَ أَنه رَبهم وخالقهم فَكَيْفَ يَخْلُقُهُمْ وَتَخْفَى عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: 14] ، فَفِي وَصْفِ بِرَبِّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنى. والإرداء: الْإِهْلَاكُ، يُقَالُ: رَدِيَ كَرَضِيَ، إِذَا هَلَكَ، أَيْ مَاتَ، وَالْإِرْدَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيقَاعِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ أَصَارَهُمْ مِثْلَ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا إِفَادَةُ قَصْرٍ، أَيْ مَا أَرْدَاكُمْ إِلَّا ظَنُّكُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَمْ تُرْدِكُمْ شَهَادَةُ جَوَارِحِكُمْ حَتَّى تَلُومُوهَا بَلْ أَرْدَاكُمْ ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ فَلَمْ تَحْذَرُوا عِقَابَهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَحِقُّ أَنْ يعرفوه من شؤون اللَّهِ وَوَثِقُوا مِنْ تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَعَامَلُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَرْضَاهُ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا النَّجَاةَ، فَشَبَّهَ حَالَهَمْ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي اسْتَعَدَّ لِلرِّبْحِ فَوَقَعَ فِي الْخَسَارَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نُعِيَ عَلَيْهِمْ سُوءُ اسْتِدْلَالِهِمْ وَفَسَادُ قِيَاسِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقِيَاسِهِمُ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، تِلْكَ الْأُصُولُ الَّتِي اسْتَدْرَجَتْهُمْ فِي الضَّلَالَةِ فَأَحَالُوا رِسَالَةَ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ وَنَفَوُا الْبَعْثَ، ثُمَّ أَثْبَتُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَتَفَرَّعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَطْعُ نَظَرِهِمْ عَمَّا وَرَاءَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَمْنُهُمْ مِنَ التَّبِعَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ جِمَاعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.

[سورة فصلت (41) : آية 24]

وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الضَّلَالِ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا إِنَّمَا تَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ فَسَادِ التَّأَمُّلِ وَسُرْعَةِ الْإِيقَانِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الصَّائِبَةِ وَالدَّلَائِلِ الْمُشَابِهَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْوَهْمِ الْمُعَبَّرِ عَنهُ بِالظَّنِّ السيّء، أَوِ الْبَاطِلِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ ظَنَّهُمْ هُوَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: 154] ، فَلْيَحْذَرِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ فَيَبُوءُوا بِبَعْضِ مَا نُعِيَ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» يُرِيد الظَّن الَّذين لَا دَلِيل عَلَيْهِ. و (أَصْبَحْتُم) بِمَعْنَى: صِرْتُمْ، لِأَنَّ أَصْبَحَ يَكْثُرُ أَنْ تَأْتِيَ بِمَعْنى: صَار. [24] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 24] فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَاب إِذا [فصلت: 20] عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصلت: 21] ، أَوْ هُوَ جَوَابُ إِذا، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ عَلَى حَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ: أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ زُجَّ بِهِمْ فِي النَّارِ فَإِنْ صَبَرُوا وَاسْتَسْلَمُوا فَهُمْ بَاقُونَ فِي النَّارِ، وَإِنِ اعْتَذَرُوا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعُذْرُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ تَنَصُّلٌ. وَقَوْلُهُ: فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ كَوْنَ النَّارِ مَثْوًى لَهُمْ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَلَى حُصُولِ صَبْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: إِنْ قَبِلَ ذَلِكَ فَذَاكَ، أَيْ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الصَّبْرُ لِأَنَّ النَّارَ مَثْوًى لَهُمْ. وَمَعْنَى وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا إِنْ يَسْأَلُوا الْعُتْبَى (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورًا اسْمُ مَصْدَرِ الْإِعْتَابِ) وَهِيَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبَ.

[سورة فصلت (41) : آية 25]

وَفِي الْمَثَلِ «مَا مُسِيءٌ مَنْ أَعْتَبَ» أَيْ مَنْ رَجَعَ عَمَّا أَسَاءَ بِهِ فَكَأَنَّهُ لم يسىء. وَقَلَّمَا اسْتَعْمَلُوا الْمَصْدَرَ الْأَصْلِيَّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْعُتْبَى. وَالْعَاتِبُ هُوَ اللَّائِمُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلطَّلَبِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُعَاتِبَهُ وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ تَرْكَ الْمُعَاتَبَةِ، أَيْ يَسْأَلُهُ الصَّفْحَ عَنْهُ فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ قِيلَ: أَعْتَبَهُ أَيْضًا، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ تَصَارِيفِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي اللُّغَةِ وَلِهَذَا كَادُوا أَنْ يُمِيتُوا مَصْدَرَ: أَعْتَبَ بِمَعْنَى رَجَعَ وَأَبْقَوْهُ فِي مَعْنَى قَبِلَ الْعُتْبَى، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْتِبُهُمْ، أَيْ لَا يقبل مِنْهُم. [25] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 25] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: 19] ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حُكِيَ قَوْلُهُمُ الْمُقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْإِيمَانِ ثمَّ ذكر كفر هم بِخَالِقِ الْأَكْوَانِ بقوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] ثُمَّ ذُكِرَ مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ سَبَبِ ضَلَالِهِمُ الَّذِي نَشَأَتْ عَنْهُ أَحْوَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ. وَتَخَلَّلَ بَيْنَ مَا هُنَالِكَ وَمَا هُنَا أَفَانِينُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالدَّلَائِلِ وَالْمِنَنِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْقَوَارِعِ وَالْإِيقَاظِ. وَقَيَّضَ: أَتَاحَ وَهَيَّأَ شَيْئًا لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ. وَالْقُرَنَاءُ جَمْعُ: قَرِينٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، وَالْقُرَنَاءُ هُنَا: هُمُ الْمُلَازِمُونَ لَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ: إِمَّا فِي الظَّاهِرِ مِثْلَ دُعَاةِ الْكُفْرِ وَأَيمَّتِهِ، وَإِمَّا فِي بَاطِنِ النُّفُوسِ مِثْلَ شَيَاطِينِ الْوَسْوَاسِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [36] . وَمَعْنَى تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ: تَقْدِيرُهُمْ لَهُمْ، أَيْ خَلْقُ الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا

تَقَارُنُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِتَنَاسُبِ أَفْكَارِ الدُّعَاةِ وَالْقَابِلِينَ كَمَا يَقُولُ الْحُكَمَاءُ «اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَأِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا» . فَالتَّقْيِيضُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِبَارَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالتَّجَمُّعَاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّآلُفَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ، وَلِمُخْتَلِفِ الطَّبَائِعِ الْمُكَوَّنَةِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقْتَضِي بَعْضُهَا جَاذِبِيَّةَ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهَا وَحُدُوثَ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فِيهَا. وَلِلْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْمَقْصُودِ أُوثِرَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِ قَيَّضْنا دُونَ غَيره من نَحْو: بَعَثْنَا، وَأَرْسَلْنَا. وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُزَيَّنَ غَيْرُ حَسَنٍ فِي ذَاتِهِ. وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ. وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أُمُورُ الدُّنْيَا، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَسَادِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِلَا حَقٍّ، وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْعُدُولِ عَلَى النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَالْمَيْسِرِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالْوَأْدِ. فَعَوَّدُوهُمْ بِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ الْعَارِضَةِ الْقَصِيرَةِ الْمَدَى، وَصَرَفُوهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الذَّاتِيَّةِ الدَّائِمَةِ. وَالْمُرَادُ بِ مَا خَلْفَهُمْ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ الْحِسِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِثْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَسْتُورُ أَعْمَالِهِمْ، وَإِحَالَتِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. وَمَعْنَى تَزْيِينِهِمْ هَذَا لَهُمْ تَلْقِينُهُمْ تِلْكَ الْعَقَائِدَ بِالْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ مِثْلَ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَنَفْيِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ كَقَوْلِهِم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: 16، 17] . وحَقَّ عَلَيْهِمُ أَيْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الْقَوْلُ وَهُوَ وَعِيدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ. وَفِي هَذَا الْعَهْدِ إِجْمَالٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْهَدُ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 19] وَقَوْلِهِ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: 31] ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.

[سورة فصلت (41) : آية 26]

وَقَوْلُهُ: فِي أُمَمٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمُ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي أُمَمٍ أَمْثَالِهِمْ قَدْ سَبَقُوهُمْ. وَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ، أَيْ هُمْ مِنْ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ: إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو ... كَا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا أَيْ فَأَنْتَ مِنْ جُمْلَةِ آخَرِينَ قَدْ صُرِفُوا عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بَيَانِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ أُمَمٍ، أَيْ مِنْ أُمَمٍ مِنَ الْبَشَرِ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85] ، وَقَوْلِهِ: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ [الْأَعْرَاف: 38] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ قُرَناءَ أَيْ مُلَازِمِينَ لَهُمْ مُلَازَمَةً خَفِيَّةً وَهِيَ مُلَازَمَةُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ وَمُلَازَمَةُ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ لَهُمْ بِالتَّشْرِيعِ لَهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلْقَوْلِ مِثْلَ نَظِيرَتِهَا فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [31] ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ والمعنيان متقاربان. [26] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 26] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ التَّخَلُّصِ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْ تَزْيِينِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ [فصلت: 25] . وَهَذَا حِكَايَةٌ لِحَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ إِعْرَاضَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمُ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ تَلْقِينِهِمُ النَّاسَ أَسَالِيبَ

الْإِعْرَاضِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ يَقُولُونَ لِعَامَّتِهِمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ هُوَ أَكْمَلُ الْكَلَامِ شَرِيفَ مُعَانٍ وَبَلَاغَةَ تَرَاكِيبَ وَفَصَاحَةَ أَلْفَاظٍ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُهُ وَتُدَاخِلُ نَفْسَهُ جَزَالَةُ أَلْفَاظِهِ وَسُمُوُّ أَغْرَاضِهِ قَضَى لَهُ فَهْمُهُ أَنَّهُ حَقٌّ اتِّبَاعُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ غَالَبَتْهُمْ مَحَبَّةُ الدَّوَامِ عَلَى سيادة قَومهمْ فتمالؤوا وَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَرَفُوهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ. وَهَذَا مِنْ شَأْنِ دُعَاةِ الضَّلَالِ وَالْبَاطِلِ أَنْ يَكُمُّوا أَفْوَاهَ النَّاطِقِينَ بِالْحَقِّ وَالْحُجَّةِ، بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ تَخْوِيفٍ وَتَسْوِيلٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ وَلَا يَدَعُوا النَّاسَ يَتَجَادَلُونَ بِالْحُجَّةِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ حُجَّةَ خُصُومِهِمْ أَنْهَضُ، فَهُمْ يَسْتُرُونَهَا وَيُدَافِعُونَهَا لَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِأَسَالِيبَ مِنَ الْبُهْتَانِ وَالتَّضْلِيلِ، فَإِذَا أَعْيَتْهُمُ الْحِيَلُ وَرَأَوْا بِوَارِقَ الْحَقِّ تَخْفُقُ خَشَوْا أَنْ يَعُمَّ نُورُهَا النَّاسَ الَّذِينَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ خَيْرٍ وَرُشْدٍ عَدَلُوا إِلَى لَغْوِ الْكَلَامِ وَنَفَخُوا فِي أَبْوَاقِ اللَّغْوِ وَالْجَعْجَعَةِ لَعَلَّهُمْ يَغْلِبُونَ بِذَلِكَ عَلَى حُجَجِ الْحَقِّ وَيَغْمُرُونَ الْكَلَامَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ بِاللَّغْوِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ هَؤُلَاءِ. فَقَوْلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا وَاسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ كَمَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 36] . وَتَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَسْمَعُوا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: تَطْمَئِنُوا أَوْ تَرْكَنُوا. وَاللَّغْوُ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الَّذِي لَا جَدْوَى لَهُ لَغْوًا، وَهُوَ وَاوِيُّ اللَّامِ، فَأصل وَالْغَوْا: وَالْغَوْا اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَحُذِفَتْ وَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَسَكَنَتِ الْوَاوُ الثَّانِيَةُ سُكُونًا حَيًّا، وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ. وَهَذَا الْجَارِي عَلَى ظَاهِرِ كَلَام «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَالُ: لَغِيَ يَلْغَى، كَمَا يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو فَهُوَ إِذَنْ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ. فَمَعْنَى وَالْغَوْا فِيهِ قُولُوا أَقْوَالًا لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ تَكَلَّمُوا كَلَامًا غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهُ إِفَادَةٌ

[سورة فصلت (41) : الآيات 27 إلى 28]

أَوِ الْمَقْصُودُ إِحْدَاثُ أَصْوَاتٍ تَغْمُرُ صَوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِتَخَلُّلِ أَصْوَاتِهِمْ صَوْتَ الْقَارِئِ حَتَّى لَا يَفْقَهَهُ السَّامِعُونَ عُدِّيَ اللَّغْوُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ إِيقَاعِ لَغْوِهِمْ فِي خِلَالِ صَوْتِ الْقَارِئِ وُقُوعَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَأُدْخِلَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى اسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْمِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِثْلَ صَوْتٍ أَوْ كَلَامٍ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُخْفِي أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ أَوْ يُشَكِّكُ فِي مَعَانِيهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا نَظْمٌ لَهُ مَكَانَةٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ يَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ وَالْغَوْا فِيهِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالصِّيَاحِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْأَرَاجِيزِ وَمَا يَحْضُرُهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْخَبُونَ بِهَا» . وَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا اسْتَمَعُوا إِلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَقِيقَ الْقِرَاءَةِ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا» . وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ رَجَاءَ أَنْ تَغْلِبُوا مُحَمَّدًا بِصَرْفِ مَنْ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَتْبَعَهُ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَتَهُ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ غَالِبَهُمْ إِذْ كَانَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ فَيُؤْمِنُونَ، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَهُوَ غالبكم. [27، 28] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 27 إِلَى 28] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُفَرَّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] الْآيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا [فصلت: 13] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: 19] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: 25] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا [فصلت: 26] إِلَخْ.

وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْكَلَام عَنْهُم. ف الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ إِذَاقَةِ الْعَذَابِ، أَيْ لِكُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ بَعْضُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ: تَعْذِيبُهُمْ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْإِذَاقَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلَةِ. وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَعَطْفُ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْآخِرَةِ. وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى أَسْوَأِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءً مُمَاثِلًا أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَسْوَأُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السَّيِّئُ، فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوئِهِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ وَلَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ عَلَى أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: 19] . وَالنَّارُ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ. ودارُ الْخُلْدِ: النَّارُ. فَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَاءَ بِالظَّرْفِيَّةِ بِتَنْزِيلِ النَّارِ مَنْزِلَةَ ظَرْفٍ لِدَارِ الْخُلْدِ وَمَا دَارُ الْخُلْدِ إِلَّا عَيْنُ النَّارِ. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ التَّجْرِيدِ لِيُفِيدَ مُبَالَغَةَ مَعْنَى الْخُلْدِ فِي النَّارِ. وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: 21] وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْعَتَّابِيِّ:

[سورة فصلت (41) : آية 29]

وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي أَيْ وَالرَّحْمَنُ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ. والْخُلْدِ: طُولُ الْبَقَاءِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَانْتَصَبَ جَزاءُ عَلَى الْحَالِ مِنْ دارُ الْخُلْدِ. وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة. و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِنَا. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَجْحَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْجُحُودِ حِينًا فَحِينًا وَتَكَرُّرِهِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يَكْذِبُونَ. وَتَقْدِيمُ بِآياتِنا لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [29] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 29] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) عطف على جملَة لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] ، أَيْ وَيَقُولُونَ فِي جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: 38] ، فَالْقَائِلُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا: هُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله: الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وَمَعْنَى أَرِنَا عَيِّنْ لَنَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِرَادَةِ انْتِقَامِهِمْ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَزَمَ نَجْعَلْهُما فِي جَوَابِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ تُرِنَاهُمَا نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا. وَالْجَعْلُ تَحْتَ الْأَقْدَامِ: الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالرَّفْسُ، أَيْ نَجْعَلُ آحَادَهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِ آحَادِ جَمَاعَتِنَا، فَإِنَّ الدَّهْمَاءَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَادَةِ فَلَا يَعُوزُهُمُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْوَطْءُ بِالْأَرْجُلِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الِانْتِقَامِ وَالِامْتِهَانِ، قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ الْجَرْمِيُّ: وَوَطْئِنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 إلى 32]

وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ يَرَوْهُمَا لِأَنَّ الْمُضِلِّينَ كَانُوا فِي دَرَكَاتٍ مِنَ النَّارِ أَسْفَلَ مِنْ دَرَكَاتِ أَتْبَاعِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْرِفُوا أَيْنَ هُمْ. وَالتَّعْلِيلُ لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ تَوْطِئَةٌ لِاسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ أَنْ يَرِيَهُمُوهُمَا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْمُضِلَّيْنِ فَتَوَسَّلُوا بِعَزْمِهِمْ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَى تَيْسِيرِ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَالْأَسْفَلُونَ: الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ حَقَارَةً مِنْ حَقَارَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ لِيَكُونُوا أَحْقَرَ مِنَّا جَزَاءً لَهُمْ، فَالسَّفَالَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرِنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِسُكُونِ الرَّاءِ لِلتَّخْفِيفِ مِنْ ثِقَلِ الْكَسْرَةِ، كَمَا قَالُوا: فَخْذٌ فِي فَخِذٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ إِذَا قُلْتَ: أَرِنِي ثَوْبَكَ بِكَسْرِ الرَّاء، فَالْمَعْنى: بصّرنيه، وَإِذَا قُلْتَهُ بِسُكُونِ الرَّاءِ فَهُوَ اسْتِعْطَاءٌ، مَعْنَاهُ: أَعْطِنِيهِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا: مكّنا من الَّذين أَضَلَّانَا كَيْ نَجْعَلَهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا، أَيِ ائْذَنْ لَنَا بِإِهَانَتِهِمَا وَخِزْيِهِمَا. وَقَرَأَ ابْن كثير الَّذِينَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فِي سُورَة النِّسَاء [16] . [30- 32] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 30 إِلَى 32] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ مِمَّا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كذبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ، ثُمَّ أُنْذِرُوا بِالتَّصْرِيحِ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَوَصْفِ بَعْضِ أَهْوَالِهِ، تَشَوَّفَ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَظِّ الْمُؤْمِنِينَ وَوَصْفِ حَالِهِمْ فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ إِلَخْ، بَيَانًا لِلْمُتَرَقِّبِ وَبُشْرَى لِلْمُتَطَلِّبِ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله: وَيَوْم نحْشر أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: 19] إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: 29] . وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَفِي تَوْكِيدِ الْخَبَرِ زِيَادَةُ قَمْعٍ لَهُمْ. وَمَعْنَى قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أَنَّهُمْ صَدَعُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يَخْشَوْا أَحَدًا بِإِعْلَانِهِمُ التَّوْحِيدَ، فَقَوْلُهُمْ تَصْرِيحٌ بِمَا فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الصِّدْقُ وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ الْوَاقِعِ وَمَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ. وَقَوْلُهُ: رَبُّنَا اللَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ، أَيْ لَا رَبَّ لَنَا إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالتَّوْحِيدِ يُزِيلُ الْمَانِعَ مِنْ تَصْدِيق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ إِذْ لَمْ يَصُدَّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِنَبْذِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْبَعْثِ تَلَقَّوْهُ مِنْ دُعَاةِ الشِّرْكِ. وَالِاسْتِقَامَةُ حَقِيقَتُهَا: عَدَمُ الِاعْوِجَاجِ وَالْمَيْلِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّقَوُّمِ، فَحَقِيقَةُ اسْتَقَامَ: اسْتَقَلَّ غَيْرَ مَائِلٍ وَلَا مُنْحَنٍ. وَتُطْلَقُ الِاسْتِقَامَةُ بِوَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعْنَى حُسْنِ الْعَمَلِ وَالسِّيرَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6] وَقَالَ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] ، وَيُقَالُ: اسْتَقَامَتِ الْبِلَادُ لِلْمَلِكِ، أَيْ أَطَاعَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: 7] . فَ اسْتَقامُوا هُنَا يَشْمَلُ مَعْنَى الْوَفَاءِ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ وَأَوَّلُ مَا يَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى أَصْلِ التَّوْحِيدِ، أَيْ لَا يُغَيِّرُوا وَلَا يَرْجِعُوا عَنْهُ. وَمِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ:

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ اسْتَقامُوا: لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَعَنْ عُمَرَ: اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لِطَاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ: ثُمَّ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ . فَقَدْ تَوَلَّى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ فِي الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ، وَعِنَايَةُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَقْطَابِ الْإِسْلَامِ بِبَيَانِ الِاسْتِقَامَةِ مُشِيرٌ إِلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي الدَّين. وتعريب الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوَهُ لِمَا فِي الصِّلَة من الْإِيمَاء إِلَى أَنَّهَا سَبَبُ ثُبُوتِ الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَيُفِيدُ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ مُسَبَّبٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبُّنَا اللَّهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُمَا سَبَبُ الْفَوْزِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ زَائِدَةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهَا تَشْمَلُهُ وَتَشْمَلُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالْعَمَلَ بِمَا يَسْتَدْعِيهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: رَبُّنَا اللَّهُ كَانَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنِ اعْتِقَادِ الضَّمِيرِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَيَّةِ. وَجَمَعَ قَوْلُهُ: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أَصْلَيِ الْكَمَالِ الْإِسْلَامِيِّ، فَقَوْلُهُ: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ مُشِيرٌ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْكَمَالُ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَسَاسُ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: اسْتَقامُوا إِلَى أَسَاسِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ قَالَ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] وَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] عَلَى أَنَّ كَمَالَ الِاعْتِقَادِ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَالِاعْتِقَادُ الْحَقُّ أَنْ لَا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّعْطِيلِ، وَلَا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بَلْ يَمْشِي عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ،

وَيَسْتَمِرُّ كَذَلِكَ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَبْرِيِّ وَالْقَدَرِيِّ، وَبَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْقُنُوطِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّفْرِيطِ. وَتَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْحَشْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمُ: الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، وَكَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ لَهُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخَطَّابِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْله: وَيَوْم نحْشر أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت: 19] ، فَأُولَئِكَ تُلَاقِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْوَزْعِ، وَالْمُؤْمِنُونَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْأَمْنِ. وَذِكْرُ التَّنَزُّلِ هُنَا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنْ عُلْوِيَّاتِهِمْ لِأَجْلِهِمْ فَأَمَّا أَعْدَاءُ اللَّهِ فَهُمْ يَجِدُونَ الْمَلَائِكَةَ حُضَّرًا فِي الْمَحْشَرِ يَزَعُونَهُمْ وَلَيْسُوا يَتَنَزَّلُونَ لِأَجْلِهِمْ فَثَبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا كَرَامَةٌ كَكَرَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إِذْ يُنَزِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَلَكَانِ هُمَا الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ كَانَا يَكْتُبَانِ أَعْمَالَهُ فِي الدُّنْيَا. وَلِتَضَمُّنِ تَتَنَزَّلُ مَعْنَى الْقَوْلِ وَرَدَتْ بَعْدَهُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةُ وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ تَنَزُّلٌ خَفِيٌّ يُعْرَفُ بِحُصُولِ آثَارِهِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونَ الْخِطَابُ بِ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا بِمَعْنَى إِلْقَائِهِمْ فِي رُوعِهِمْ عَكْسَ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ الْقُرَنَاءِ بِالتَّزْيِينِ، أَيْ يُلْقُونَ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَصْرِفُهُمْ عَنِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِالْجَنَّةِ فَتَحِلُّ فِيهِمُ السَّكِينَةُ فَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ بِالثِّقَةِ بِحُلُولِهَا، وَيُلْقُونَ فِي نُفُوسِهِمْ نَبْذَ وِلَايَةِ مَنْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ، فَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: 25] الْآيَةَ فَإِنَّهُ تَقْيِيضٌ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ لَا يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ، وَيُوقِنُونَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ: الَّتِي كُنْتُمْ تُعْتَبَرُ (كَانَ) فِيهِ مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ، وَيَكُونُ الْمُضَارِعُ فِي تُوعَدُونَ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِهِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ تَأْيِيدًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَوَعْدًا بِنَفْعِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.

وَلَا نَاهِيَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ: النَّهْيُ عَنْ سَبَبِهِ، وَهُوَ تَوَقُّعُ الضُّرِّ، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنَّ اللَّهَ مُعَاقِبُكُمْ، فَالنَّهْيُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّأْمِينِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ إِذَا تَحَقَّقُوا الْأَمْنَ زَالَ خَوْفُهُمْ، وَهَذَا تَطْمِينٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْخَوْفُ: غَمٌّ فِي النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ ظَنِّ حُصُولِ مَكْرُوهٍ شَدِيدٍ. وَالْحُزْنُ: غَمٌّ فِي النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ وُقُوعِ مَكْرُوهٍ بِفَوَاتِ نَفْعٍ أَوْ حُصُولِ ضُرٍّ. وَأَلْحَقُوا بِتَأْمِينِهِمْ بِشَارَتَهُمْ، لِأَنَّ وَقْعَ النَّعِيمِ فِي النَّفْسِ مَوْقِعَ الْمَسَرَّةِ إِذَا لَمْ يُخَالِطْهُ تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ. وَوَصْفُ الْجَنَّةِ بِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي وُعِدُوا عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ، وَتَعْجِيلٌ لَهُمْ بِمَسَرَّةِ الْفَوْزِ بِرِضَى اللَّهِ، وَتَحْقِيقُ وَعْدِهِ، أَيِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَهَا فِي الدُّنْيَا. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَأَصِّلُونَ فِي الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَذَلِكَ مِنْ سَابِقِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ فِي تُوعَدُونَ إِفَادَةُ أَنَّهُمْ قَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ بِتَكَرُّرِ الْأَعْمَالِ الْمَوْعُودِ لِأَجْلِهَا وَبِتَكَرُّرِ الْوَعْدِ فِي مَوَاقِعِ التَّذْكِيرِ وَالتَّبْشِيرِ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ تَعْرِيفٌ بِأَنْفُسِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهُمْ. فَإِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ صَاحِبٌ قَدِيمٌ يَزِيدُ نَفْسَ الْقَادِمِ انْشِرَاحًا وَأُنْسًا وَيُزِيلُ عَنْهُ دَهْشَةَ الْقُدُومِ، يُخَفِّفُ عَنْهُ مِنْ حِشْمَةِ الضِّيَافَةِ، وَيُزِيلُ عَنْهُ وَحْشَةَ الِاغْتِرَابِ، أَي نَحن الَّذين كُنَّا فِي صُحْبَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا، إِذْ كَانُوا يَكْتُبُونَ حَسَنَاتِهِمْ وَيَشْهَدُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِصَلَاتِهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» . وَقَدْ حَفِظُوا الْعَهْدَ فَكَانُوا أَوْلِيَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ جِيءَ بِهَذَا الْقَوْلِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ صِفَاتِ الْجَنَّةِ

لِيَتَحَقَّقَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ بِشَارَتَهُمْ بِالْجَنَّةِ بِشَارَةُ مُحِبٍّ يَفْرَحُ لِحَبِيبِهِ بِالْخَيْرِ وَيَسْعَى لِيَزِيدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إِشَارَةٌ إِلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: 25] فَكَمَا قيّض للْكَافِرِ قُرَنَاءَ فِي الدُّنْيَا قَيَّضَ للْمُؤْمِنين مَلَائِكَة يكونُونَ قرناءهم فِي الدُّنْيَا، وكما أنطق أتباعهم باللائمة عَلَيْهِم أنطق الْمَلَائِكَة بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خَاصٌّ بِرُفْقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَلَائِهِمْ وَلَا حَظَّ لِلْكَافِرِينَ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْحَفَظَةُ مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي فِي «شَرْحِ الرِّسَالَةِ» فَمَعْنَى وِلَايَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَفَظَةُ مُوَكَّلِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 9- 12] فَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُعَقِّبَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [11] . وَقَدْ دَلَّتْ عِدَّةُ آثَارٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَاقَةٌ بِالنَّاسِ عُمُومًا أَوْ بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ. وَعَنْ عُثْمَانَ «أَنَّهُ سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ مِنْ مَلَكٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَذَكَرَ لَهُ عِشْرِينَ مَلَكًا» . وَلَعَلَّ وَصْفَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَنَزِّلِينَ بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ عَمَلَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِ عَمَلُ صَلَاحٍ وَتَأْيِيدٍ مِثْلَ إِلْهَامِ الطَّاعَاتِ وَمُحَارَبَةِ الشَّيَاطِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ مُقَابَلَةُ تَنَزُّلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ تَقْيِيضِ الْقُرَنَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ. وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ عَطْفٌ عَلَى الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَمَا بَينهمَا جملَة مُعْتَرضَة كَمَا بَيَّنْتُهُ آنِفًا. وَمَعْنَى مَا تَدَّعُونَ : مَا تَتَمَنَّوْنَ. يُقَالُ: ادَّعَى، أَيْ تَمَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ فِي سُورَةِ يس

[سورة فصلت (41) : آية 33]

وَالْمَعْنَى: لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهُونَهُ مِمَّا يَقَعُ تَحْتَ الْحِسِّ وَمَا تَتَمَنَّوْنَهُ فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ مِمَّا يَجُولُ فِي الْخَيَالِ، فَمَا يَدَّعُونَ غَيْرَ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ. وَلِهَذِهِ الْمُغَايَرَةِ أُعِيدَ لَكُمْ لِيُؤْذِنَ بِاسْتِقْلَالِ هَذَا الْوَعْدِ عَنْ سَابِقِهِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَطْفَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ عَطْفٌ عَامٌّ عَلَى خَاصٍّ. وَالنُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وَضَمِّ الزَّايِ: مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ مِنَ الْقِرَى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّزُولِ لِأَنَّهُ كَرَامَةُ النَّزِيلِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا يُعْطُونَهُ مِنَ الرَّغَائِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ رِزْقًا أَمْ غَيْرَهُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ سُرْعَةُ إِحْضَارِهِ كَأَنَّهُ مُهَيَّأٌ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَشْتَهُوهُ أَوْ يَتَمَنَّوْهُ. ومِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ صِفَةُ نُزُلًا، ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَانْتَصَبَ نُزُلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ . وَمَا تَدَّعُونَ حَالَ كَوْنِهِ كَالنُّزُلِ الْمُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ، أَيْ تُعْطَوْنَهُ كَمَا يُعْطَى النُّزُلُ لِلضَّيْفِ. وَأُوثِرَتْ صِفَتَا (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ أَوْ لِأَكْثَرِهِمُ اللَّمَمَ وَمَا تَابُوا مِنْهُ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَهُ وَيَخَافُونَهُ ويناصرون دينه. [33] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 33] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) لَيْسَ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: 30] ، وَاسْتَقَامُوا، وَتَوْجِيهٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ الشَّرِيفَةَ، وَقَمْعٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ، أَيْ كَيْفَ لَا يَكُونُونَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ وَقَدْ قَالُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَعَمِلُوا أَحْسَنَ الْعَمَلِ. وَذِكْرُ هَذَا الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِحُسْنِ قَوْلِهِمْ عَقِبَ ذِكْرِ مَذَمَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدِهِمْ عَلَى سُوءِ قَوْلِهِمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] ، مُشْعِرٌ لَا مَحَالَةَ بِأَنَّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَوْنًا بَعيدا، طرفاه: الْأَحْسَن الْمُصَرُّحُ بِهِ، وَالْأَسْوَأُ الْمَفْهُومُ بِالْمُقَابَلَةِ، أَيْ فَلَا يَسْتَوِي الَّذِينَ قَالُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَعَمِلُوا أَصْلَحَ الْعَمَلِ مَعَ الَّذِينَ قَالُوا أَسْوَأَ الْقَوْلِ وَعَمِلُوا أَسْوَأَ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا عَقَّبَ بُقُولِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: 34] .

وَالْوَاوُ إِمَّا عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: 30] ، أَوْ حَالِيَّةً مِنَ الَّذِينَ قالُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نَالُوا ذَلِكَ إِذْ لَا أَحْسَنَ مِنْهُمْ قَوْلًا وَعَمَلًا. ومَنْ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ الْآيَةَ فِي سُورَة النِّسَاء [125] . ومِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ: كُلُّ أَحَدٍ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ هَذِهِ الصِّلَةِ. وَالدُّعَاءُ إِلَى شَيْءٍ: أَمْرُ غَيْرِكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَالدَّعْوَةُ الْعَلَوِيَّةُ، وَتَسْمِيَةُ الْوَاعِظِ عِنْدَ بَنِي عَبِيدٍ بِالدَّاعِي لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى التَّشَيُّعِ لِآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْآمِرِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ بِحَالِ مَنْ يَدْعُو أَحَدًا بِالْإِقْبَالِ إِلَى شَخْصٍ، وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَعْلَنُوا التَّوْحِيدَ وَهُوَ مَا وُصِفُوا بِهِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا [فصلت: 30] كَمَا عَلِمْتَ وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَسَيِّدُ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ: مَنْ دَعا إِلَى اللَّهِ (مَنْ) فِيهِ تَفْضِيلِيَّةٌ لِاسْمِ أَحْسَنُ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ. وَهَذَا الْحَذْفُ كَالَّذِي فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ أَيْ لَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُصْلِحُ عَامِلَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ صَلَاحًا لَا يَشُوبُهُ فَسَادٌ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ الْجَارِي عَلَى وَفْقَ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] . وَأَمَّا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمُ افْتَخَرُوا بِالْإِسْلَامِ وَاعْتَزُّوا بِهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَتَسَتَّرُوا بِالْإِسْلَامِ. وَالِاعْتِزَازُ بِالدِّينِ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ غَيْظُ

[سورة فصلت (41) : آية 34]

الْكَافِرِينَ. وَمِثَالُ هَذَا مَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ صَاحَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» . وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ نَظِيرَ هَذَا الْقَوْلِ فِي الصِّلَةِ الْمُشِيرَةِ إِلَى سَبَبِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَرَامَةِ وَهِيَ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا هُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِتَفَاخُرِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الصِّلَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ هُنَالِكَ بِخِلَافِ مَوْقِعِهِ هُنَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ عَظِيمٌ لِفَضِيلَةِ عُلَمَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ بَيَّنُوا السُّنَنَ وَوَضَّحُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ وَاجْتَهَدُوا فِي التَّوَصُّلِ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دِينِهِ وَمِنْ خُلُقِهِ. وَفِيهَا أَيْضًا مَنْزَعٌ لَطِيفٌ لِتَأْيِيدِ قَوْلِ الْمَاتُرِيدِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ: إِنَّ الْمُسْلِمَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ وَلَا يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خِلَافًا لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسَ فَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ تَطَايَرَ شَرَرُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مُدَّةَ قَرْنٍ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» وَوَافَقَهُ. وَذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ مُفَصَّلَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [89] وَبِذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: 30] . [34] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 34] وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَهُ مَوْقِعٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: 33] إِلَخْ تَكْمِلَةً لَهَا فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتِ

الثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِثْرَ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَيَانُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَرْتَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الصِّفَةِ فَتَلَمُّحُ الصِّفَةِ مُقَارِنٌ لَهُ، فَالْحَسَنَةُ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى كَمَعْنَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ [غَافِر: 58] ، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الَّتِي يَجْمَعُهَا غَرَضٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] الْوَاقِعَةِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: 5] فَإِنَّ ذَلِكَ مُثِيرٌ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّجَرَ مِنْ إِصْرَارِ الْكَافِرِينَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ بِحَالٍ مِنْ تَضَيُّقِ طَاقَةِ صَبْرِهِ عَلَى سَفَاهَةِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ، فَأَرْدَفَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الضِّيقَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ الْآيَةَ. فَالْحَسَنَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ جِنْسِهَا وَأُولَاهَا تَبَادُرًا إِلَى الْأَذْهَانِ حَسَنَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ جَمِّ الْمَنَافِعِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَتَشْمَلُ صِفَةُ الصَّفْحِ عَنِ الْجَفَاءِ الَّذِي يَلْقَى بِهِ الْمُشْرِكُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الصَّفْحَ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِيهِ تَرْكُ مَا يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمْ لِدِينِهِمْ وَيُقَرِّبُ لِينَ نُفُوسِ ذَوِي النُّفُوسِ اللَّيِّنَةِ. فَالْعَطْفُ عَلَى هَذَا مِنْ عَطْفِ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَهِيَ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ عَقِبَهَا ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْآيَةَ. وَقَدْ عَلِمْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ وَنَحْوَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُرَادُ بِهِ غَالِبًا تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا عَلَى مُقَابِلِهِ بِحَسَبَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: 18] . وَقَوْلِ الْأَعْشَى: مَا يُجْعَلُ الْجُدُّ الضَّنُونُ الَّذِي ... جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الْمَاطِرِ مِثْلَ الْفُرَاتِيِّ إِذَا مَا طَمَا ... يَقْذِفُ بِالْبُوصِيِّ وَالْمَاهِر

فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ والسيئة، دُونَ إِعَادَةِ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [غَافِر: 58] ، فَإِعَادَةُ لَا النَّافِيَةِ تَأْكِيدٌ لِأُخْتِهَا السَّابِقَةِ. وَأَحْسَنُ مِنِ اعْتِبَارِ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ مُؤْذِنٌ بِاحْتِبَاكٍ فِي الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ. فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نَفْيُ أَنْ تَلْتَحِقَ فَضَائِل الْحَسَنَة مساوئ السَّيئَة، وَالْمرَاد بِالثَّانِي نَفْيُ أَنْ تَلْتَحِقَ السَّيِّئَةُ بِشَرَفِ الْحَسَنَةِ. وَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْخَصَائِصِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَتَقْوِيَةٌ لِنَفْيِ الْمُسَاوَاةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ تَامٌّ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ: جِنْسِ الْحَسَنَةِ وَجِنْسِ السَّيِّئَةِ لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ وَلَا مَجَازَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ دُونَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي جِنْسِ وَصْفِهِ مِنْ إِحْسَانٍ وَإِسَاءَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَلِيَتَأَتَّى الِانْتِقَالُ إِلَى مَوْعِظَةِ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِيثَارُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ تَوْطِئَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَوْلُهُ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَجْرِي مَوْقِعُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ. فَالْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ تَخَلُّصٌ مِنْ غَرَضِ تَفْضِيلِ الْحَسَنَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِخُلُقِ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ ذَلِكَ الدَّفْعَ مِنْ آثَارِ تَفْضِيلِ الْحَسَنَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ إِرْشَادًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَأُمَّتِهِ بِالتَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الدَّفْعِ بِالْحُسْنَى. وَهِيَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقدمَة، فمضمونها ناشىء عَنْ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُقْتَضٍ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ.

وَإِنَّمَا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ خُلُقُهُ كَمَا قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْحُكَمَاء. وَالْإِحْسَان كَمَا ذَاتِيٌّ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَرْكُهُ مَحْمُودًا فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا فَذَلِكَ مَعْنًى خَاصٌّ. وَالْكَمَالُ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ مَا لَمْ يُخْشَ فَوَاتُ كَمَالٍ أَعْظَمَ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا انْتَقَمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَغْضَبَ لِلَّهِ» . وَتَخَلُّقُ الْأُمَّةِ بِهَذَا الْخُلُقِ مَرْغُوبٌ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] . وَرَوَى عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَهُوَ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَاف: 199] سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» . وَمَفْعُولُ ادْفَعْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ انْحِصَارُ الْمَعْنَى بَيْنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ مَدْفُوعًا بِهَا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ هُوَ السَّيِّئَةُ، فَالتَّقْدِيرُ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ بِالَّتِي هِيَ أحسن كَقَوْلِه تَعَالَى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [22] وَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [96] . وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الْحَسَنَةُ، وَإِنَّمَا صِيغَتْ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ تَرْغِيبًا فِي دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ طِبَاعِ النَّفْسِ وَهُوَ يَبْعَثُ عَلَى حُبِّ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُسِيءِ فَلَمَّا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجَازِيَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ أُشِيرَ إِلَى فَضْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ قَوْلُهُ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ لِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنَ الصَّلَاحِ تَرْوِيضًا عَلَى التَّخَلُّقِ بِذَلِكَ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ مَصْدَرًا لِلْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآثَارُ الصَّالِحَةُ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِ مَثَارِهَا. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ بَعْضِ مَحَاسِنِهِ

وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَدُوُّ كَالصَّدِيقِ، وَحُسْنُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مَقْبُولٌ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَدُلَّ حُسْنُهُ عَلَى حُسْنِ سَبَبِهِ. وَلِذِكْرِ الْمَثَلِ وَالنَّتَائِجِ عَقِبَ الْإِرْشَادِ شَأْنٌ ظَاهِرٌ فِي تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَخَاصَّةً الَّتِي قَدْ لَا تَقْبَلُهَا النُّفُوسُ لِأَنَّهَا شَاقَّةٌ عَلَيْهَا، وَالْعَدَاوَةُ مَكْرُوهَةٌ وَالصَّدَاقَةُ وَالْوِلَايَةُ مَرْغُوبَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ يُدْنِيهِ مِنَ الصَّدَاقَةِ أَوْ يُكْسِبُهُ إِيَّاهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ مَصْلَحَةِ الْأَمْرِ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أحسن. و (إِذا) لِلْمُفَاجَأَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ ظُهُورِ أَثَرِ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي انْقِلَابِ الْعَدُوِّ صَدِيقًا. وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرَ الْعَدُوِّ مُعَرَّفًا بِلَامِ الْجِنْسِ إِلَى ذِكْرِهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ عَدَاوَةٍ لِلنَّوْعِيَّةِ وَهُوَ أَصْلُ التَّنْكِيرِ فَيَصْدُقُ بِالْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ وَدُونِهَا، كَمَا أَنَّ ظَرْفَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ يَصْدُقُ بِالْبَيْنِ الْقَرِيبِ وَالْبَيْنِ الْبَعِيدِ، أَعْنِي مُلَازِمَةَ الْعَدَاوَةِ أَوْ طَرُوَّهَا. وَهَذَا تَرْكِيبٌ مِنْ أَعْلَى طَرَفِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَحْوَالَ الْعَدَاوَاتِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْإِحْسَانَ نَاجِعٌ فِي اقْتِلَاعِ عَدَاوَةِ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ لِلْمُحْسِنِ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْعَدَاوَةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَتَمَكُّنًا وَبُعْدًا، وَيُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ لِلْعَدُوِّ قَوِيًّا بِقَدْرِ تَمَكُّنِ عَدَاوَتِهِ لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِي اقْتِلَاعِهَا. وَمِنَ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ: النُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، تَشْبِيهٌ فِي زَوَالِ الْعَدَاوَةِ وَمُخَالَطَةِ شَوَائِبِ الْمَحَبَّةِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الْمُصَافَاةُ وَالْمُقَارَبَةُ وَهُوَ مَعْنًى مُتَفَاوِتُ الْأَحْوَالِ، أَيْ مَقُولٌ عَلَى جِنْسِهِ بِالتَّشْكِيكِ عَلَى اخْتِلَافِ تَأَثُّرِ النَّفْسِ بِالْإِحْسَانِ وَتَفَاوُتِ قُوَّةِ الْعَدَاوَةِ قَبْلَ الْإِحْسَانِ، وَلَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِذْ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْعَدُوُّ وَلِيًّا حَمِيمًا، فَإِنْ صَارَهُ فَهُوَ لِعَوَارِضَ غَيْرِ دَاخِلَةٍ تَحْتَ مَعْنَى الْإِسْرَاعِ الَّذِي آذَنَتْ بِهِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ. وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَاوَةٌ فِي الدِّينِ، فَالْمَعْنَى: فَإِذَا

[سورة فصلت (41) : آية 35]

الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ لِكُفْرِهِ، فَلِذَلِكَ لَا تَشْمَلُ الْآيَةُ مَنْ آمَنُوا بَعْدَ الْكفْر فَزَالَتْ عداوتهم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ كَمَا زَالَتْ عَدَاوَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، وَكَمَا زَالَتْ عَدَاوَةُ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ مَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مَنْ أَهْلِ خِبَائِكَ فَقَالَ لَهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا ، أَيْ وَسَتَزِيدِينَ حُبًّا. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ كَانَ عدوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَلِيًّا مُصَافِيًا. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالُوا فَلَا أَحْسَبُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي اكْتِسَابِ الْمَوَدَّةِ بِالْإِحْسَانِ. وَالْوَلِيُّ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَايَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالْوَلَاءِ، وَهُوَ: الْحَلِيفُ وَالنَّاصِرُ، وَهُوَ ضِدُّ الْعَدُوِّ، وَتَقَدَّمَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ وَالصَّدِيقُ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أَنَّهُ جَمْعُ خَصْلَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَهُمَا خَصْلَتَا الْولَايَة والقرابة. [35] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 35] وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34] ، أَوْ حَالٌ مِنَ (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، وَضَمِيرُ يُلَقَّاها عَائِدٌ إِلَى (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِفِعْلِ (ادْفَعْ) ، أَيْ بِالْمُعَامَلَةِ وَالْمُدَافَعَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَأَمَّا مُطْلَقُ الْحَسَنَةِ فَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الَّذِينَ صَبَرُوا. وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الِارْتِيَاضِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ بِإِظْهَارِ احْتِيَاجِهَا إِلَى قُوَّةِ عَزْمٍ وَشِدَّةِ مِرَاسٍ لِلصَّبْرِ عَلَى تَرْكِ هَوَى النَّفْسِ فِي حُبِّ الِانْتِقَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِفَضْلِهَا بِأَنَّهَا تُلَازِمُهَا خَصْلَةُ الصَّبْرِ وَهِيَ فِي ذَاتِهَا خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ وَثَوَابُهَا جَزِيلٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ، وَحَسْبُكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: 2، 3] .

فَالصَّابِرُ مُرْتَاضٌ بِتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ فَيَهُونُ عَلَيْهِ تُرْكُ الِانْتِقَامِ. ويُلَقَّاها يُجْعَلُ لَاقِيًا لَهَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان: 11] ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهَا لِأَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّخَلُّقِ يُشْبِهُ السَّعْيَ لِمُلَاقَاةِ أَحَدٍ فَيَلْقَاهُ. وَجِيءَ فِي يُلَقَّاها بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ فِي الصِّلَةِ وَهِيَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ خُلُقٌ سَابِقٌ فِيهِمْ هُوَ الْعَوْنُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْحُسْنَى، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا الصَّابِرُونَ، لِنُكْتَةِ كَوْنِ الصَّبْرِ سَجِيَّةً فِيهِمْ مُتَأَصِّلَةً. ثُمَّ زِيدَ فِي التَّنْوِيهِ بِهَا بِأَنَّهَا مَا تَحْصُلُ إِلَّا لِذِي حَظٍّ عَظِيمٍ. وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالنَّصِيبِ مِنْ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا: نَصِيبُ الْخَيْرِ، بِالْقَرِينَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْوَضْعِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِلَّا لِصَاحِبِ نَصِيبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَيْ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالِاهْتِدَاءِ وَالتَّقْوَى. فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ التَّخَلُّقَ بِالصَّبْرِ شَرْطٌ فِي الِاضْطِلَاعِ بِفَضِيلَةِ دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ شَرْطًا فِيهَا بَلْ وَرَاءَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حَظٍّ عَظِيمٍ، أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصَّبْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَظِّ الْعَظِيمِ لِأَنَّ الْحَظَّ الْعَظِيمَ أَعَمُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الصَّبْرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا وَرَأْسُ أَمْرِهَا وَعَمُودُهَا. وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ وَما يُلَقَّاها دُونَ اكْتِفَاءٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِظْهَارٌ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ صَرِيحِهِ شَيْءٌ تَحْتَ الْعَاطِفِ. وَأَفَادَ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَن الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنَ الْخَيْرِ سَجِيَّتُهُ وَمَلَكَتُهُ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَةُ ذُو.

[سورة فصلت (41) : آية 36]

وَحَاصِلُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُمْلَتَانِ أَنَّ مِثْلَكَ مَنْ يَتَلَقَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَمَا هِيَ بِالْأَمْرِ الْهَيِّنِ لكل أحد. [36] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 36] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت: 35] ، فَبَعْدَ أَنْ أَرْشَدَ إِلَى مَا هُوَ عَوْنٌ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَبَعْدَ أَنْ شُرِحَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِقَوْلِهِ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] صَرَفَ الْعِنَانَ هُنَا إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عَوَائِقِهَا الَّتِي تَجْتَمِعُ كَثْرَتُهَا فِي حَقِيقَةِ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، فَأُمِرَ بِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَدْعُوهُ إِلَى دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ دَوَاؤُهُ أَنْ تَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُعِيذَهُ إِذَا اسْتَعَاذَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ تَجْدِيدُ دَاعِيَةِ الْعِصْمَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ اسْتِمْدَادٌ لِلْعِصْمَةِ وَصَقْلٌ لِزُكَاءِ النَّفْسِ مِمَّا قَدْ يَقْتَرِبُ مِنْهَا مِنَ الْكُدُرَاتِ. وَهَذَا سِرٌّ مِنَ الِاتِّصَالِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبِّهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ، فَبِذَلِكَ تَسْلَمُ نَفْسُهُ مِنْ أَنْ يَغْشَاهَا شَيْءٌ مِنَ الْكُدُرَاتِ وَيَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» . ثُمَّ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ

التِّرْمِذِيِّ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ» . وَالنَّزْغُ: النَّخْسُ، وَحَقِيقَتُهُ: مَسٌّ شَدِيدٌ لِلْجِلْدِ بِطَرَفِ عُودٍ أَوْ إِصْبَعٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاتِّصَالِ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِخَوَاطِرِ الْإِنْسَانِ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَصْرِفُهُ عَنِ الْخَيْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [200] وَإِسْنَادُ يَنْزَغَنَّكَ إِلَى نَزْغٌ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ بَابِ: جِدُّ جِدِّهِ، ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّزْغِ هُنَا: النَّازِغُ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، ومِنْ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ يَنْزَغَنَّكَ النَّازِغُ الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ. وَالْمُبَالَغَةُ حَاصِلَةٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَتِهَا. وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِ (إِنَّ) الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ تَرْفِيعًا لقدر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ نَزْغَ الشَّيْطَانِ لَهُ إِنَّمَا يُفْرَضُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَاف: 201] فَجَاءَ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ بِحِرَفِ (إِذَا) الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا الْجَزْمُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ أَوْ بِغَلَبَة وُقُوعه. و (مَا) زَائِدَةٌ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ لِتَوْكِيدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلَيْسَتْ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الشَّرْط فَإِنَّهَا تزاد كَثِيرًا بَعْدَ (إِنْ) دُونَ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْجَزْمِ بِوُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ هَنَا حُكْمٌ كِنَائِيٌّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ وَصْفِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ وَهُوَ مُؤَاخَذَةُ مَنْ تَصْدُرُ مِنْهُمْ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ فِي أَذَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَيْدِ لَهُ مِمَّنْ أُمِرَ بِأَنْ يَدْفَعَ سَيِّئَاتِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ سَوَّلَ لَكَ الشَّيْطَانُ أَنْ لَا تُعَامِلَ أَعْدَاءَكَ بِالْحَسَنَةِ وَزَيَّنَ لَكَ الِانْتِقَامَ وَقَالَ لَكَ: كَيْفَ تُحْسِنُ إِلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَفِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَطْعُ

[سورة فصلت (41) : آية 37]

كَيْدِهِمْ لِلدِّينِ، فَلَا تَأْخُذْ بِنَزْغِهِ وَخُذْ بِمَا أَمَرْنَاكَ وَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَزِلَّكَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ أَعْدَائِكَ وَهُوَ يتَوَلَّى جزاءهم. [37] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 37] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) عُطِفَ عَلَى جملَة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] الْآيَةَ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ هُنَا عَنِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِأَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ انْتِقَالًا فِي أَفَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِذَوَاتٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالٍ مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَابْتُدِئَ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ وَهِيَ حَالُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَحَالُ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْقَمَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً [فصلت: 39] . وَيَدُلُّ لِهَذَا الِانْتِقَال أَنه انْتقل مِنْ أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: 13- 34] إِلَى أُسْلُوبِ خِطَابِهِمْ رُجُوعًا إِلَى خِطَابِهِمُ الَّذِي فِي قَوْله: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: 9] . وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى وُجُودِهِ. وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا يَفْعَلُهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِهِ بِالصُّنْعِ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. وَالْمُرَادُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ابْتِدَاءً هُنَا حَرَكَتُهُمَا الْمُنْتَظِمَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ، وَأَمَّا خَلْقُهُمَا فَقَدْ عُلِمَ مَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ:

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] ، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِحْدَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْقَمَرَ تَابِعٌ لِلشَّمْسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِثْلَ طُلُوعٍ أَوْ غُرُوبٍ أَوْ فَلَكٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَالِحًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِمَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، وَلِخَلْقِهِمَا تَأْكِيدٌ لِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ تَوْفِيرًا لِلْمَعَانِي. وَلَمَّا جَرَى الِاعْتِبَارُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَكَانَ فِي النَّاسِ أَقْوَامٌ عَبَدُوا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَهُمُ الصَّابِئَةُ وَمَنْبَعُهُمْ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [76] فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي الْآيَاتِ، ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الدِّينُ فِي سَبَأٍ، عَبَدُوا الشَّمْسَ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ هُنَا: (لَعَلَّ نَاسًا مِنْهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) اهـ. وَلَكِنَّ وُجُودَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فِي الْيَمَنِ أَيَّامَ سَبَأٍ قَبْلَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا يَقْتَضِي بَقَاءَ آثَارِهِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْعَرَبِ. وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَامِ الْعَرَبِ صَنَمٌ اسْمُهُ (شَمْسُ) وَبِهِ سُمُّوا (عَبْدَ شَمْسَ) ، وَكَذَلِكَ جَعَلَهُمْ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّمْسِ الْآلِهَةَ، قَالَتْ مَيَّةُ بِنْتُ أُمِّ عُتْبَةَ: تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّعْبَاءِ عَصْرًا ... فَاعْجَلْنَا الإلهة أَن تؤوبا وَكَانَ الصَّنَمُ الَّذِي اسْمُهُ شَمْسُ يَعْبُدُهُ بَنُو تَمِيم وضبة وتيم وَعُكْلٌ وَأُدٌّ. وَكُنْتُ وَقَفْتُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ كِنَانَةَ عَبَدُوا الْقَمَرَ. وَفِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» لِلْكَوَاشِيِّ: (وَكَانَ النَّاسُ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ السُّجُودَ لِلَّهِ كَالصَّابِئِينَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا أَنْ يَخُصُّوهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ) وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاسَ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَرَبِ بَلْ شُيُوعُ دِينِ الصَّابِئَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ كَافٍ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

[سورة فصلت (41) : آية 38]

وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَحْسَبُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينَ الصَّابِئَةِ فَكَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ أَسْلَمَ: صَبَأَ، وَكَانُوا يصفونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصابىء، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ نَهْيَ إِقْلَاعٍ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَهُوَ نَهْيُ تَحْذِيرٍ لِمَنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُمَا أَنْ لَا يَتْبَعُوا مَنْ يَعْبُدُونَهُمَا. وَوُقُوعُ قَوْلِهِ: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يُفِيدُ مُفَادَ الْحَصْرِ لِأَنَّ النَّهْيَ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ، وَوُقُوعُ الْإِثْبَاتِ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مُقَابَلَةِ النَّفْيِ بِالْإِيجَابِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي إِفَادَةِ الْحَصْرِ كَمَا تَرَاهُ فِي قَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَارِثِيِّ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَسْجُدُوا إِلَّا لِلَّهِ، أَيْ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. فَجُمْلَةُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ إِلَى قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا [فصلت: 38] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَدَا ابْنَ وَهْبٍ: السُّجُودُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَابْنُ وَهْبٍ: هِيَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38] ، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بن الْمسيب. [38] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 38] فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى نَهْيِهِمْ عَنِ السُّجُودِ للشمس وَالْقَمَر وَأمر هم بِالسُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، أَيْ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أَنْ يَتْبَعُوكَ وَصَمَّمُوا عَلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ

بِالْإِلَهِيَّةِ (فَيَعُمُّ ضَمِيرُ اسْتَكْبَرُوا جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ) فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَالِاسْتِكْبَارُ: قُوَّةُ التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصِلُ السِّينِ وَالتَّاءِ الْمُسْتَعْمَلَيْنِ لِلْمُبَالَغَةِ هُمَا السِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، أَيْ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ ذَوِي كِبْرٍ شَدِيدٍ مِنْ فَرْطِ تَكَبُّرِهِمْ. وَجُمْلَةُ: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَكَبَّرُوا عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ سُجُودِهِمْ، لِأَنَّ لَهُ عَبِيدًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ لَا يَفْتُرُونَ عَنِ التَّسْبِيحِ لَهُ بِإِقْبَالٍ دُونَ سَآمَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ بِإِثْبَاتِ أَضْدَادِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ نَفْيِ مَا لَا يَلِيقُ، وَذَلِكَ بِالْأَقْوَالِ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] ، أَوْ بِالْأَعْمَالِ قَالَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْل: 49- 50] وَذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اعْتِقَادٍ. وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكَ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَكَرَامَةٍ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ هُمُ الْعَامِرُونَ لِلْعَوَالِمِ الْعُلْيَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مُشَرَّفَةً بِأَنَّهَا لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا الْفَضِيلَةُ فَكَانَتْ بِذَلِكَ أَشَدَّ اخْتِصَاصًا بِهِ تَعَالَى مِنْ أَمَاكِنَ غَيْرِهَا قَصْدًا لِتَشْرِيفِهَا. وَالسَّآمَةُ: الضَّجَرُ وَالْمَلَلُ مِنَ الْإِعْيَاءِ. وَذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُنَا لِقَصْدِ اسْتِيعَابِ الزَّمَانِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ لَهُ الزَّمَانَ كُلَّهُ. وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهُوَ أَوْقَعُ مِنْ مَحْمِلِ الْعَطْفِ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ مُقَيَّدًا بِهَذِهِ الْحَال أَشد من إِظْهَارِ عَجِيبِ حَالِهِمْ إِذْ شَأْنُ الْعَمَلِ الدَّائِمِ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ عَامِلُهُ

[سورة فصلت (41) : آية 39]

[39] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 39] وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: 37] ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِهَذَا الصُّنْعِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ بِفِعْلِهِ فَهُوَ دَلِيلُ إِلَهِيَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّدَ لِكَوْنِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ نَاقِصَ الْقُدْرَةِ، وَالنَّقْصُ يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْل: 17] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَالْخُشُوعُ: التَّذَلُّلُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِحَالِ الْأَرْضِ إِذَا كَانَتْ مُقْحِطَةً لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا لِأَنَّ حَالَهَا فِي تِلْكَ الْخَصَاصَةِ كَحَالِ الْمُتَذَلِّلِ، وَهَذَا مِنْ تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَخَيَّلُهُ النَّاسُ مِنْ مُشَابَهَةِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الْقُحُولَةِ وَالْخِصْبِ بِحَالَيِ التَّذَلُّلِ وَالِازْدِهَاءِ. وَالِاهْتِزَازُ حَقِيقَتُهُ: مُطَاوَعَةُ هَزِّهِ، إِذَا حَرَّكَهُ بَعْدَ سُكُونِهِ فَتَحَرَّكَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِرُبُوِّ وَجْهِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، شُبِّهَ حَالُ إِنْبَاتِهَا وَارْتِفَاعِهَا بِالْمَاءِ وَالنَّبَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُنْخَفِضَةً خَامِدَةً بِالِاهْتِزَازِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَ حَالُ قُحُولَةِ الْأَرْضِ ثُمَّ إِنْزَالِ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَانْقِلَابِهَا مِنَ الْجُدُوبَةِ إِلَى الْخِصْبِ وَالْإِنْبَاتِ الْبَهِيجِ بِحَالِ شَخْصٍ كَانَ كَاسِفَ الْبَالِ رَثَّ اللِّبَاسِ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغِنَى فَلَبِسَ الزِّينَةَ وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ زَهْوًا، وَلِذَا يُقَالُ: هَزَّ عِطْفَيْهِ، إِذَا اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: خاشِعَةً واهْتَزَّتْ مَكْنِيَّةٌ بِأَنْ شُبِّهَتْ بِشَخْصٍ كَانَ ذَلِيلًا ثُمَّ صَارَ مُهْتَزًّا لِعِطْفَيْهِ وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِمَا بِذِكْرِ رَدِيفَيْهِمَا. فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ تَفْرِيقَ أَجْزَائِهِ فِي أَجْزَاءِ التَّشْبِيهِ. وَعُطِفَ وَرَبَتْ عَلَى اهْتَزَّتْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاهْتِزَازِ هُوَ ظُهُورُ النَّبَاتِ عَلَيْهَا وَتَحَرُّكُهُ. وَالْمَقْصُودُ بِالرُّبُوِّ: انْتِفَاخُهَا بِالْمَاءِ وَاعْتِلَاؤُهَا.

[سورة فصلت (41) : آية 40]

وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ (رَبَأَ) بِالْهَمْزِ، إِذَا ارْتَفَعَ. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَوُقُوعِهِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ وَانْتِهَازِ فُرَصِ الْهُدَى إِلَى الْحَقِّ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَالْمُنَاسَبَةُ مُشَابَهَةُ الْإِحْيَاءَيْنِ، وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِمُرَاعَاةِ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ، وَشُبِّهَ إِمْدَادُ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ انْبِثَاقِ الْبُزُورِ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا الَّتِي تَصِيرُ نَبَاتًا بِإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ أَحْياها عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِ ذَلِكَ الَّذِي سُمِّيَ إِحْيَاءً لِأَنَّهُ شَبِيهُ الْإِحْيَاءِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْمَنْطِقِ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَقْرِيبَ الْمَقِيسِ بِالْمَقِيسِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّبَهِ وَالتَّمْثِيلِ بِحُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ هُوَ إِقْنَاعِيٌّ وَلَكِنَّهُ هُنَا يَصِيرُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمَقِيسِ إِذِ الْمُشَبَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ حَيْثُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ إِلَّا الْخَالِقُ الَّذِي اتَّصَفَ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لِذَاتِهِ فَقَدْ تَسَاوَى فِيهِ قَوِيُّهُ وَضَعِيفُهُ، وَهُمْ كَانُوا يُحِيلُونَ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ اسْتِنَادًا لِلِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ، فَلَمَّا نُظِّرَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمُشَبَّهِ تَمَّ الدَّلِيلُ الْإِقْنَاعِيُّ الْمُنَاسِبُ لِشُبْهَتِهِمُ الْإِقْنَاعِيَّةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا تَذْيِيلُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [40] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 40] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا الِاسْتِدْلَالَ بِآيَاتِ اللَّهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ.

وَقَوْلُهُ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا مُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْوَعِيدِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ كَائِنٍ، وَهُوَ مُتَّصِلُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ آنِفًا: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ [فصلت: 22] الْآيَةَ. وَالْإِلْحَادُ حَقِيقَتُهُ: الْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ الدَّلَائِلَ الْكَوْنِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: 37] إِلَخْ. وتشمل الْآيَات الْآيَاتِ الْقَوْلِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] . فَالْإِلْحَادُ فِي الْآيَاتِ مُسْتَعَارٌ لِلْعُدُولِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَالْإِلْحَادُ فِي الْآيَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مُسْتَعَارٌ لِلْعُدُولِ عَنْ سَمَاعِهَا وَلِلطَّعْنِ فِي صِحَّتِهَا وَصَرْفِ النَّاسِ عَنْ سَمَاعِهَا. وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْله: فِي آياتِنا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَمَكُّنِ إِلْحَادِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ حَيْثُمَا كَانَتْ أَوْ كُلَّمَا سَمِعُوهَا. وَمَعْنَى نَفْيِ خَفَائِهِمْ: نَفِيُ خَفَاءِ إِلْحَادِهِمْ لَا خَفَاءِ ذَوَاتِهِمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ. تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا لِبَيَانِ أَنَّ الْوَعِيدَ بِنَارِ جَهَنَّمَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ ذَلِك. والاستفهام تقريع مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَرْتَبَتَيْنِ. وَكُنِّيَ بِقَوْلِهِ: يَأْتِي آمِناً أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ مَصِيرُهُ الْجَنَّةُ إِذْ لَا غَايَةَ لِلْآمِنِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَعِيمٍ. وَهَذِهِ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِالَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الِاحْتِبَاكِ، إِذْ حُذِفَ مُقَابِلُ: (مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ) وَهُوَ: مَنْ

[سورة فصلت (41) : الآيات 41 إلى 42]

يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَحُذِفَ مُقَابِلُ: مَنْ يَأْتِي آمِناً وَهُوَ: مَنْ يَأْتِي خَائِفًا، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ. اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا إِلَخْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: 41] الْآيَةَ، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا إِلْحَادُهُمْ وَلَا غَيره من سيّىء أَعْمَالِهِمْ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِلْحَادَ بِالذِّكْرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ أَشْنَعُ أَعْمَالِهِمْ وَمَصْدَرُ أَسْوَائِهَا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ، أَوْ فِي الْإِغْرَاءِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّهْدِيدِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ. وَتَوْكِيدُهُ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ مَعْنَيَيْهِ الْكِنَائِيِّ وَالصَّرِيحِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ [فصلت: 22] الْآيَةَ. وَالْبَصِيرُ: الْعَلِيم بالمبصرات. [41، 42] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 41 إِلَى 42] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) أَعْقَبَ تَهْدِيدَهُمْ عَلَى الْإِلْحَادِ فِي آيَاتِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى إِلْحَادِهِمْ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلتَّنْوِيهِ بِخِصَالِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعُرْضَةٍ لِأَنْ يُكْفَرَ بِهِ بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَقَبَّلَ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ، فَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّصَالٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا [فصلت: 40] وَاتِّصَالٌ فِي الْمَوْقِعِ بِجُمْلَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] .

وَتَحْدِيدُ هَذَيْنِ الِاتِّصَالَيْنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِمَا جَرَى اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوْقِعِهَا مِنَ الْإِعْرَاب وَفِي مواقع أَجْزَائِهَا مِنْ تَصْرِيحٍ وَتَقْدِيرٍ. فَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُ إِبْدَالُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْمُفْرَدِ بَدَلًا مُطَابِقًا أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَأَنَّهُ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَهُوَ حَرْفُ إِنَّ وَإِنْ كَانَتْ إِعَادَةُ الْعَامِلِ مَعَ الْبَدَل غير مَشْهُورَة إِلَّا فِي حَرْفِ الْجَرِّ كَمَا قَالَ الرَّضِيُّ، فَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِمِثَالَيْنِ عَامِلُهُمَا حَرْفُ جَرٍّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُقَدَّرُ خَبَرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ خَبَرٌ عَنِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: 40] . وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ جُمْلَةَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِ إِنَّ خَبَرًا. فَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَقَالَ: خَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] . حُكِيَ أَنَّ بِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ سُئِلَ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ خَبَرِ إِنَّ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ لَهَا نَفَاذًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّهُ مِنْكَ لَقَرِيبٌ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. وَهُوَ يَقْتَضِي جَعْلَ الْجُمَلِ الَّتِي بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا جُمَلًا مُعْتَرِضَةً وَهِيَ نَحْوُ سَبْعٍ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَدَّرُوا خَبَرًا لِاسْمِ إِنَّ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ [فصلت: 40] ، فَنُقَدِّرُ الْخَبَرَ، يُلْقُونَ فِي النَّارِ، مَثَلًا. وَسَأَلَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَنِ الْخَبَرِ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ كَفَرُوا بِهِ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. فَقَالَ عِيسَى: أَجَدْتَ يَا أَبَا عُثْمَانَ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا بَدَلَ اشْتِمَال إِن. ريد بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: فِي آياتِنا مُطْلَقُ الْآيَاتِ، أَوْ بَدَلًا مُطَابِقًا إِنْ أُرِيدَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: 43] ، أَيْ مَا يُقَالُ لَكَ فِيهِمْ إِلَّا مَا قَدْ قُلْنَا لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فِي مُكَذِّبِيهِمْ، أَوْ مَا يَقُولُونَ إِلَّا كَمَا قَالَهُ الْأُمَمُ

لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالْكُفْرُ بِالْقُرْآنِ يَشْمَلُ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُوصَفُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا خَالَفَ مُعْتَقَدَهُمْ وَدِينَ شِرْكِهِمْ وَذَلِكَ بِالِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُونَهَا كَقَوْلِهِمْ: سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَقَوْلُ كَاهِنٍ، وَقَوْلُ مَجْنُونٍ، وَلَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ إِلَخْ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: 40] . وَالْمَعْنَى: لِأَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِالْعُقُوبَةِ إِذْ كَفَرُوا بِالْآيَاتِ، وَهِيَ آيَة الْقُرْآن الْمُؤَيد بِالْحَقِّ، وَبِشَهَادَةِ مَا أُوصِيَ إِلَى الرُّسُل من قَوْله. وَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ فَاءِ التَّعْلِيلِ. وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيره بِمَا تدل عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ جَلَالَةِ الذِّكْرِ وَنَفَاسَتِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، أَوْ سَفَّهُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَذْهَبُ إِلَيْهِ نَفْسُ السَّامِعِ الْبَلِيغِ، فَفِي هَذَا الْحَذْفِ تَوْفِيرٌ لِلْمَعَانِي وَإِيجَازٌ فِي اللَّفْظِ يَقُومُ مَقَامَ عِدَّةِ جُمَلٍ، وَحَذْفُ خَبَرِ إِنَّ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ. وَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ الْخَمْسَةِ، وَتَبِعَهُ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَهُ الْفَرَّاءُ فَشَرَطَهُ بِتَكَرُّرِ إِنَّ. وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [25] ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا إِذْ رُوِيَ بِنَصْبِ (رَوَاجِعَا) عَلَى الْحَالِ فَلَمْ يُذْكَرْ خَبَرُ (لَيْتَ) . وَذَكَرَ أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: «إِنَّ مَالًا وَإِنَّ وَلَدًا» أَيْ إِنَّ لَهُمْ، وَقَوْلَ الْأَعْشَى: إِنَّ مَحَلًّا وَإِنَّ مُرْتَحَلًا

أَيْ أَنَّ لَنَا فِي الدُّنْيَا حُلُولًا وَلَنَا عَنْهَا مُرْتَحَلًا، إِذْ لَيْسَ بَقِيَّةُ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ فِي السَّفَرِ إِذْ مَضَوْا مَهَلَا مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ خَبَرًا عَنْ (إِنَّ) الْأُولَى. وَقَالَ جَمِيلٌ: وَقَالُوا نَرَاهَا يَا جَمِيلُ تَنَكَّرَتْ ... وَغَيَّرَهَا الْوَاشِي فَقُلْتُ لَعَلَّهَا وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» فِي بَابِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْأَنْصَارَ آوَوْنَا وَنَصَرُونَا، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْرِفُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، قَالُوا: نَعَمْ ، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا» يُرِيدُ فَإِنَّ ذَلِكَ شُكْرٌ وَمُكَافَأَةٌ اهـ. وَفِي الْمَقَامَةِ الثَّالِثَةِ وَالْأَرْبَعِينَ «حَسْبُكَ يَا شَيْخُ فَقَدْ عَرَفْتُ فَنَّكَ، وَاسْتَبَنْتُ أَنَّكَ» أَيْ أَنَّكَ أَبُو زَيْدٍ. وَقَدْ مَثَّلَ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» لِحَذْفِ خَبَرِ (إِنَّ) بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الذِّكْرِ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ فِي حَالِهِ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ إِنَّ الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى الْقُرْآنِ سِتَّةُ أَوْصَافٍ مَا مِنْهَا وَاحِدٌ إِلَّا وَهُوَ كَمَالٌ عَظِيمٌ: الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ذِكْرٌ، أَيْ يُذَكِّرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِمَّا فِي الْغَفْلَةِ عَنْهُ فَوَاتُ فَوْزِهِمْ. الْوَصْفُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَى الذِّكْرِ: أَنَّهُ ذِكْرٌ لِلْعَرَبِ وَسُمْعَةٌ حَسَنَةٌ لَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ يُخَلِّدُ لَهُمْ مَفْخَرَةً عَظِيمَةً وَهُوَ كَوْنُهُ بِلُغَتِهِمْ وَنَزَلَ بَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي. الْوَصْفُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ، وَالْعَزِيزُ النَّفِيسُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَهِيَ الْمَنَعَةُ لِأَن الشَّيْء النَّفْسِيّ يُدَافَعُ عَنْهُ وَيُحْمَى عَنِ النَّبْذِ فَإِنَّهُ بَيْنَ الْإِتْقَانِ وَعُلُوِّ الْمَعَانِي وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَكُونُ عَزِيزًا، وَالْعَزِيزُ أَيْضًا: الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَكَذَلِكَ حُجَجُ الْقُرْآنِ.

[سورة فصلت (41) : آية 43]

الْوَصْفُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُهُ الْبَاطِلُ وَلَا يُخَالِطُهُ صَرِيحُهُ وَلَا ضِمْنِيُّهُ، أَيْ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْبَاطِلِ بِحَالٍ. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. وَالْمَقْصُودُ اسْتِيعَابُ الْجِهَاتِ تَمْثِيلًا لِحَالِ انْتِفَاءِ الْبَاطِلِ عَنْهُ فِي ظَاهِرِهِ وَفِي تَأْوِيلِهِ بِحَالِ طَرْدِ الْمُهَاجِمِ لِيَضُرَّ بِشَخْصٍ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَإِنْ صَدَّهُ خَاتَلَهُ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الْأَعْرَاف: 17] . فَمَعْنَى: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ لَا يُوجَدُ فِيهِ وَلَا يُدَاخِلُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُدْعَى عَلَيْهِ الْبَاطِلُ. الْوَصْفُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَلَا يَصْدُرُ عَنِ الْحَكِيمِ إِلَّا الْحِكْمَةُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: 269] فَإِنَّ كَلَامَ الْحَكِيمِ يَأْتِي مُحْكَمًا مُتْقَنًا رَصِينًا لَا يَشُوبُهُ الْبَاطِلُ. الْوَصْفُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَحْمُودُ حَمْدًا كَثِيرًا، أَيْ مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ الْكَثِيرَ، فَالْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْكَلَامُ إِذْ يَكُونُ دَلِيلًا لِلْخَيْرَاتِ وَسَائِقًا إِلَيْهَا لَا مَطْعَنَ فِي لَفْظِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَيَحْمَدُهُ سَامِعُهُ كَثِيرًا لِأَنَّهُ يَجِدُهُ مَجْلَبَةً لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَيُحْمَدُ قَائِلُهُ لَا مَحَالَةَ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ. وَفِي إِجْرَاءِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ إِيمَاءٌ إِلَى حَمَاقَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَسَفَاهَةِ آرَائِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِيهِ فَفَرَّطُوا فِي أَسْبَابِ فَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِجُمْلَةِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ عَقِبَ ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ الْآيَاتِ. [43] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 43] مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: 40] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: 41] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ فَيَقُولُ سَائِلٌ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِيهِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ

مَعَ أُمَمِهِمْ لَا يُعْدَمُونَ مُعَانِدِينَ جَاحِدِينَ يَكْفُرُونَ بِمَا جَاءُوا بِهِ. وَإِذَا بُنِيَتْ عَلَى مَا جَوَّزْتُهُ سَابِقًا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: مَا يُقالُ خبر إِنَّ [فصلت: 41] كَانَتْ خَبَرًا وَلَيْسَتِ اسْتِئْنَافًا. وَهَذَا تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَانِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقُرْآن والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دَأْبُ أَمْثَالِهِمُ الْمُعَانِدِينَ من قبلهم فَمَا صدق مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ مَقَالَاتُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، أَيْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُ الْمُكَذِّبِينَ فَكَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ مُتَمَاثِلَةً قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات: 53] . التَّفْسِيرُ الثَّانِي: مَا قُلْنَا لَكَ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ فَيَكُونُ لِقَوْمِكَ بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّكْذِيبِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا كَمَا كَذَّبَ الَّذِينَ من قبلهم، فَمَا صدق: مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ الدِّينُ وَالْوَحْيُ فَيَكُونُ مِنْ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: 18] . وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى كِلَيْهِمَا. وَفِي التَّعْبِير ب مَا الْمَوْصُولَةِ وَفِي حَذْفِ فَاعِلِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُقالُ وَقَوْلِهِ: مَا قَدْ قِيلَ نَظْمٌ مَتِينٌ حَمَّلَ الْكَلَامَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مِثْلَ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ. وَاجْتِلَابُ الْمُضَارِعِ فِي مَا يُقالُ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ وَعَدَمِ ارْعِوَائِهِمْ عَنْهُ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ. واقتران الْفِعْل ب قَدْ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مثل مَا قَالَ الْمُشْركُونَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ لُزُومُ الصَّبْرِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَهُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ إِذْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ جَابَهُوا الرَّسُولَ بِمَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 52، 53] .

[سورة فصلت (41) : آية 44]

إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ تَسْلِيَة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ. وَوُقُوعُ هَذَا الْخَبَرِ عَقِبَ قَوْلِهِ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يومىء إِلَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ جَزَاءٌ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ الْوَعِيدَ لِلَّذِينَ آذَوْهُ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ. وَمَعْنَى الْمَغْفِرَةِ لَهُ: التَّجَاوُزُ عَمَّا يَلْحَقُهُ مِنَ الْحُزْنِ بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى كَثِيرٍ. وَحَرْفُ إِنَّ فِيهِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ والتسبب لَا للتَّأْكِيد. وَكَلِمَةُ ذُو مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعِقَابَ كِلَيْهِمَا مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى وَهُوَ يَضَعُهُمَا بِحِكْمَتِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَوصف الْعقَاب ب أَلِيمٍ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا عُوقِبُوا لِأَجْلِهِ فَإِنَّهُمْ آلَمُوا نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَصَوْا وَآذَوْا. وَفِي جُمْلَةِ: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ ثُمَّ التَّقْسِيمِ، فَقَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ يَجْمَعُ قَائِلًا وَمَقُولًا لَهُ فَكَانَ الْإِيمَاءُ بِوَصْفِ (ذُو مَغْفِرَةٍ) إِلَى الْمَقُولِ لَهُ، وَوَصْفِ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ إِلَى الْقَائِلِينَ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ وَقَرِينَةُ الْمَقَامِ تَرُدُّ كُلًّا إِلَى مُنَاسِبِهِ. [44] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 44] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ. اتِّصَالُ نَظْمِ الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا وَتَنَاسُبُ تَنَقُّلَاتِهِ بِالتَّفْرِيعِ وَالْبَيَانِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالِاسْتِطْرَادِ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا إِلَى آخِرِهِ تَنَقُّلٌ فِي دَرَجِ إِثْبَاتِ أَنَّ قَصْدَهُمُ الْعِنَادُ فِيمَا يتعللون بِهِ ليواجهوا إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَدْيِهِ بِمَا يَخْتَلِقُونَهُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ وَالتَّكْذِيبِ بِهِ، وَتَكَلُّفُ الْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ لِيَتَسَتَّرُوا بِذَلِكَ مِنَ الظُّهُورِ فِي مَظْهَرِ الْمُنْهَزِمِ الْمَحْجُوجِ، فَأَخَذَ يَنْقُضُ دَعَاوِيهِمْ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِتَحَدِّيهِمْ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:

حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إِلَى قَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: 1- 4] فَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ وَوَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِصِفَةِ الْإِعْجَازِ. ثُمَّ أَخَذَ فِي إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ وَمَطَاعِنِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَصَدُوا بِهِ أَنَّ حُجَّةَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُقْنِعَةٍ لَهُمْ إِغَاظَةً مِنْهُم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ تمالئهم عَلَى الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] وَهُوَ عَجْزٌ مَكْشُوفٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: 40] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: 41] الْآيَاتِ. فَأَعْقَبَهَا بِأَوْصَافِ كَمَالِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا يَجِدُونَ مَطْعَنًا فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِه المجادلات فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا إِبْطَالًا لِتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَكَانَ عِمَادُهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ مُفَصَّلُ الدَّلَالَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي لُغَتِهِمْ حَسَبَمَا ابْتُدِئِ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] وَانْتُهِيَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 41، 42] ، فَقَدْ نَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِدَلَالَتِهِ عَلَى صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَانْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى عِمَادُهَا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْآنٍ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا فِي مَوْقِعِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الْكَهْف: 110] مِنَ التَّحَدِّي بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، أَيْ لَوْ جِئْنَاهُمْ بِلَوْنٍ آخَرَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الرَّسُولِ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا، وَلَيْسَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِتِلْكَ اللُّغَةِ مِنْ قَبْلُ، لَقَلَبُوا مَعَاذِيرَهُمْ فَقَالُوا: لَوْلَا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ بِلُغَةٍ نَفْهَمُهَا وَكَيْفَ يُخَاطِبُنَا بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ. فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَرْضِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حِرَفِ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ. وَهَذَا إِبَانَةٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا تُجْدِي مَعَهُمُ الْحُجَّةُ وَلَا يَنْقَطِعُونَ عَنِ الْمَعَاذِيرِ لِأَنَّ جِدَالَهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِهِ تَطَلُّبَ الْحَقِّ وَمَا هُوَ إِلَّا تَعَنُّتٌ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُمْ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي الِاحْتِجَاجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 198، 199] ، أَيْ لَوْ نَزَّلْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِاشْتِرَاكِ الْحُجَّتَيْنِ فِي صِفَةِ الْأُمِّيَّةِ فِي اللُّغَةِ الْمَفْرُوضِ إِنْزَالُ الْكِتَابِ بِهَا، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآيَة بيّنت عَلَى فَرْضِ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولٍ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بُنِيَتْ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى الرَّسُول الْعَرَبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَةٍ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى عُمُومِ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَلَمْ يَكُنْ عَجَبًا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِلُغَةِ غَيْرِ الْعَرَبِ لَوْلَا أَنَّ فِي إِنْزَالِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ حِكْمَةً عَلِمَهَا اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا اصْطفى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَبِيًّا وَبَعَثَهُ بَيْنَ أُمَّةٍ عَرَبِيَّةٍ كَانَ أَحَقُّ اللُّغَاتِ بِأَنْ يُنْزِلَ بِهَا كِتَابَهُ إِلَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ، إِذْ لَوْ نَزَلَ كِتَابُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَاسْتَوَتْ لُغَاتُ الْأُمَمِ كُلُّهَا فِي اسْتِحْقَاقِ نُزُولِ الْكِتَابِ بِهَا فَأَوْقَعَ ذَلِكَ تحاسدا بَينهَا لِأَن بَينهم من سوابق الْحَوَادِث فِي التَّارِيخ مَا يثير الْغيرَة والتحاسد بَينهم بِخِلَافِ الْعَرَبِ إِذْ كَانُوا فِي عزلة عَن بَقِيَّة الْأُمَمِ، فَلَا جَرَمَ رُجِّحَتِ الْعَرَبِيَّةُ لِأَنَّهَا لُغَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولغة الْقَوْمِ الْمُرْسَلِ بَيْنَهُمْ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَبْقَى الْقَوْمُ الَّذِينَ يَدْعُوهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ إِلَيْهِمْ. وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْكُتُبُ بِعَدَدِ اللُّغَاتِ لَفَاتَتْ مُعْجِزَةُ الْبَلَاغَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَعْلَاهَا خَصَائِصَ وَفَصَاحَةً وَحُسْنَ أَدَاءٍ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْوَجِيزَةِ. ثُمَّ الْعَرَبُ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ نَشْرَ هَذَا الدِّينِ بَيْنَ الْأُمَمِ وَتَبْيِينَ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُمْ. وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْلَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا وَعَرَبِيًّا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ الِاسْتِفْهَامِ اهـ. وَلَا أَحسب هَذَا إِلَّا تَأْوِيلًا لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى رَاوٍ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِهِ فَرَأَى أَن الْآيَة تنبىء عَنْ جَوَابِ كَلَامٍ صَدَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ لَقالُوا. وَسِيَاقُ الْآيَةِ وَلَفْظُهَا يَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَيْفَ ولَوْ الِامْتِنَاعِيَّةُ تَمْتَنِعُ مَنْ تَحَمُّلِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَتَدْفَعُهُ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : «أَنَّهُمْ كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ؟ فَقِيلَ: لَوْ كَانَ كَمَا يَقْتَرِحُونَ لَمْ يَتْرُكُوا الِاعْتِرَاضَ وَالتَّعَنُّتَ، وَقَالُوا: لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ إِلَخْ» . فَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَنْ ذَكَرَ مِثْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَمَا هُوَ إِلَّا مِنْ صِنْفِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ نَظْمُ الْآيَةِ: وَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ لَوْ وَجَوَابِهَا. وَلَا يُظَنُّ بِقُرَيْشٍ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ [فصلت: 41] . وَقَوله: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بَقِيَّةُ مَا يَقُولُونَهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ هُنَا: بُيِّنَتْ وَوُضِّحَتْ، أَيْ لَوْلَا جُعِلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيَّةً نَفْهَمُهَا. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَعَرَبِيٌّ لِلْعَطْفِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: وَكَيْفَ يَلْتَقِي أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ أَعْجَمِيًّا وَالْمُخَاطَبُ بِهِ عَرَبِيًّا كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَيُلْقَى لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ إِلَى مُخَاطَبٍ عَرَبِيٍّ. وَمَعْنَى: قُرْآناً كِتَابًا مَقْرُوءًا. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ كِتَابِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُرْآنًا، وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ دَاوُدَ يُسِّرَ لَهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حِينِ يُسْرَجُ لَهُ فَرَسُهُ (أَوْ كَمَا قَالَ) . وَالْأَعْجَمِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى أَعْجَمَ، وَالْأَعْجَمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُجْمَةِ وَهِيَ الْإِفْصَاحُ، فَالْأَعْجَمُ: الَّذِي لَا يُفْصِحُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَزِيَادَةُ الْيَاءِ فِيهِ لِلْوَصْفِ نَحْوَ: أَحَمِرَيٌّ وَدَوَّارِيٌّ. فَالْأَعْجَمِيُّ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ. وَأَفْرَدَ وَعَرَبِيٌّ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِجِنْسِ السَّامِعِ، وَالْمَعْنَى: أَكِتَابٌ عَرَبِيٌّ لِسَامِعِينَ عَرَبٍ فَكَانَ حَقُّ عَرَبِيٌّ أَنْ يُجْمَعَ وَلَكِنَّهُ أُفْرِدَ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى تَنَافُرِ حَالَتَيِ الْكِتَابِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْجِنْسُ دُونَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى إِفْرَادٍ، أَوْ جَمْعٍ.

وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَاخِلٍ فِي صِفَاتِ الذِّكْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ بِلُغَتِكُمْ إِتْمَامًا لِهَدْيِكُمْ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَكَفَرْتُمْ وَتَعَلَّلْتُمْ بِالتَّعَلُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ أَعْجَمِيًّا لَقُلْتُمْ: هَلَّا بُيِّنَتْ لَنَا حَتَّى نَفْهَمَهُ. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هَذَا جَوَابٌ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: 43] ، أَيْ مَا يُقَالُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ الذِّكْرَ أَوِ الْكِتَابَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ الْعَظِيمَةَ لِلْقُرْآنِ حَرَمَهُمْ كُفْرُهُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَانْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ فَكَانَ لَهُمْ هَدْيًا وَشِفَاءً. وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، فَهُوَ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِحُكْمٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَحَقِيقَةُ الشِّفَاءِ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْبَصَارَةِ بِالْحَقَائِقِ وَانْكِشَافِ الِالْتِبَاسِ مِنَ النَّفْسِ كَمَا يَزُولُ الْمَرَضُ عِنْدَ حُصُولِ الشِّفَاءِ، يُقَالُ: شُفِيَتْ نَفْسُهُ، إِذَا زَالَ حَرَجُهُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ: شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمَلِ بْنِ بَدْرٍ ... وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: شُفِيَ غَلِيلُهُ، وَبُرِدَ غَلِيلُهُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ كَالدَّاءِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْعَذَابِ وَيَبْعَثُ عَلَى السَّيِّئَاتِ. وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا تَتَخَلَّلُ آيَاتُهُ نُفُوسَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَمَنْ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ دُونَ سَمَاعِهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُتَعَلِّقًا بِأَحْوَالِ الْقُرْآنِ مَعَ الْفَرِيقِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِتَقْدِيرِ جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا عَنِ الْقُرْآنِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ ضَمِيرِ الذِّكْرِ، أَيِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ وَقْرٌ وعَمًى تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ سَمَاعِ أَلْفَاظِهِ، وَالْوَقْرُ: دَاءٌ فَمُقَابَلَتُهُ بِالشِّفَاءِ مِنْ مُحَسِّنِ الطِّبَاقِ. وَضَمِيرُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يَتَبَادَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ أَوِ الْكِتَابِ كَمَا عَادَ ضَمِيرُ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً. وَالْعَمَى: عَدَمُ الْبَصَرِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِضِدِّ الِاهْتِدَاءِ فَمُقَابَلَتُهُ بِالْهُدَى فِيهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مُعَادِ الضَّمِيرِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ عَمًى مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ عِنَادَهُمْ فِي قَبُولِهِ كَانَ سَبَبًا لِضَلَالِهِمْ فَكَانَ الْقُرْآنُ سَبَبَ سَبَبٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ وَهُوَ ضَمِيرَ شَأْنٍ تَنْبِيهًا عَلَى فَظَاعَةِ ضَلَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ عَلَيْهِمْ عَمًى خَبَرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَقْرِ أَنَّ عَلَيْهِمْ عَمًى، أَيْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَمًى كَقَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: 7] . وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْعَمَى بِالْكَوْنِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمًى مُجَازِيًا تَعَيَّنَ أَنَّ مُصِيبَتَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كُلِّهَا لَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ خَاصَّةً فَإِنَّ عَمَى الْبَصَائِرِ أَشَدُّ ضُرًّا مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَج: 46] . وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِحَالِ مَنْ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ صَوْتُ الْمُنَادِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [171] . وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ: أَنْتَ تُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ

[سورة فصلت (41) : آية 45]

إِلَيْهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنَ الْحِكَمِ مِنْ أَجْلِهَا نَظِيرُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَيَتَعَلَّقُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بِ يُنادَوْنَ. وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَانَ الْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَعَلُّقِ مِنَ الْأَرْضِ، بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ [الرّوم: 25] أَيْ دَعَاكُمْ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الأَرْض، ويذلك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُنادَوْنَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ. [45] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 45] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. اعْتِرَاضٌ بتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْحَدَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فَاخْتَلَفَ الَّذِينَ دَعَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِبَارُ بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَالِاخْتِلَافُ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: اخْتِلَافٌ فِيهَا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِهَا وَكَافِرٍ، فَقَدْ كَفَرَ بِدَعْوَةِ مُوسَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَبَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ قَارُونَ وَمِثْلُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي مَغِيبِ مُوسَى لِلْمُنَاجَاةِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا اخْتِلَافًا عَطَّلُوا بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [الْبَقَرَة: 253] ، وَكِلَا الِاخْتِلَافَيْنِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَأُسْوَةٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا مَا عَصَمَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مِنْ مِثْلِهِ إِذْ قَالَ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يُوسُف: 12] فالتسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا أَوْقَعُ، وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: 43] عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيْهِ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ وَهُوَ الْأَعْظَمُ الْأَهَمُّ. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي

[سورة فصلت (41) : آية 46]

أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَأَمَّا قَوْمُ مُوسَى فَقَدْ قَضَى بَيْنَهُمْ بِاسْتِئْصَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَبِتَمْثِيلِ الْآشُورِيِّينَ بِالْيَهُودِ بَعْدَ مُوسَى، وَبِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَوَالِ مُلْكِ إِسْرَائِيلَ آخِرًا. وَهَذَا الْكَلَامُ دَاخِلٌ فِي إِتْمَامِ التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِبْطَاءِ النَّصْرِ. وَالْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِمْهَالِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالْإِمْهَالُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صُرِعُوا بِبَدْرٍ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ رَبِّكَ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ بِهِ وَالِانْتِصَارِ لَهُ، وَلِمَا فِي الْإِضَافَةِ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْرِيفِ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ تَعْزِيزٌ لِلتَّسْلِيَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ كَلِمَةَ (بَيْنَ) دَالَّةً عَلَى أُخْرَى مُقَدَّرَةً عَلَى سَبِيلِ إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ بِمَا يُظْهِرُ بِهِ انْتِصَارَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ كَذَا وَبَيْنَ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] . وَمَعْنَى سَبَقَتْ أَيْ تَقَدَّمَتْ فِي عِلْمِهِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: جِنْسٌ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا أُجِّلَ بِهِ عِقَابُهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَأَمَّا ضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي الْبَعْثِ وَالشَّاكِّينَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، فَوَصْفُ شَكٍّ بِ مُرِيبٍ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ بِأَنِ اشْتُقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ وَصْفٌ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ! وَشعر شَاعِر. [46] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 46] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) هَذَا مِنْ مُكَمِّلَاتِ التَّسْلِيَةِ وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ ذِكْرِ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى. وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّ مَنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ شَرْطِيَّةً أَوْ

مَوْصُولَةً. وَوُجُودُ الْفَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُمَا جَوَابَانِ لِلشَّرْطِ، وَإِمَّا لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِمْهَالَ إِعْذَارٌ لَهُمْ ليتداركوا أَمرهم. وَتَقْدِيم قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لفظا وَمعنى فِي سُورَةِ غَافِرٍ [31] . وَحَرْفُ (عَلَى) مُؤْذِنٌ بِمُؤَاخَذَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءٍ كَمَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَلِنَفْسِهِ مُؤْذِنٌ بِالْعَطَاءِ. وَالْخِطَابُ فِي رَبُّكَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْزِيزِ تَسْلِيَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ [فصلت: 45] مِنْ الْعُدُولِ إِلَى لَفْظِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبِيدِهِ: أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ بِمُجْرِمٍ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَضَعَ لِلنَّاسِ شَرَائِعَ وَبَيَّنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ قَانُونًا، فَصَارَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى عِقَابِ مَنْ لَيْسَ بمجرم ظلما إِذْ الظُّلْمُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْقَوَانِينِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ. وَأَمَّا صِيغَةُ (ظَلَّامٍ) الْمُقْتَضِيَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي الظُّلْمِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ قَبْلَ دُخُولِ النَّفْيِ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ هِيَ فِيهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُسِيءَ لَكَانَ ظَلَّامًا لَهُ وَمَا هُوَ بِظَلَّامٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي: إِنَّ النَّفْيَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى كَلَامٍ مُقَيَّدٍ قَدْ يَكُونُ النَّفْيُ نَفْيًا لِلْقَيْدِ وَقَدْ يَكُونُ الْقَيْدُ قَيْدًا فِي النَّفْيِ وَمَثَّلُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ دَقِيقٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي نَفْيِ الْوَصْفِ الْمَصُوغِ بِصِيغَةِ الْمُبَالغَة من تَمام عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ كُلَّ دَرَجَاتِ الظُّلْمِ فِي رُتْبَةِ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ

[سورة فصلت (41) : الآيات 47 إلى 48]

[47، 48] [سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 47 الى 48] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. كَانُوا إِذَا أُنْذِرُوا بِالْبَعْثِ وساعته استهزأوا فَسَأَلُوا عَنْ وَقْتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الْأَعْرَاف: 187] فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ دَلِيلِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذِكْرُ إِلْحَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي دَلَالَتِهِ بِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا اسْتِهْزَاءً انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ سُؤَالِهِمْ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ يُفَوَّضُ عِلْمُ السَّاعَةِ لَا إِلَيَّ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْأَجْدَرُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مَتَى السَّاعَةُ وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا وَتَسْتَعِدُّوا لَهَا. وَمِثْلُهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا» ، أَيِ اسْتِعْدَادُكَ لَهَا أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ مِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْ وَقْتِهَا. وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِتَفْوِيضِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَن يكون للمسؤول عِلْمٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ جِيءَ بِالسُّؤَالِ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ فِي «الصَّحِيحِ» «فَعَاتَبَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ» وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: 83] الْآيَةَ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَمَا بَعْدَهَا تَوْجِيهٌ لِصَرْفِ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ إِلَى اللَّهِ بِذِكْرِ نَظَائِرَ لَا يَعْلَمُهَا النَّاسُ، وَلَيْسَ عِلْمُ السَّاعَةِ

بِأَقْرَبَ مِنْهَا فَإِنَّهَا أُمُورٌ مُشَاهَدَةٌ وَلَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَ حَالِهَا إِلَّا اللَّهُ، أَيْ فَلَيْسَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ حُجَّةٌ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ أَنْذَرَ بِهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: 48] ، أَيْ إِنْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا وَقْتَهُ فَلَسْتَ بِصَادِقٍ. فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ تِلْكَ النَّظَائِرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: عِلْمُ مَا تُخْرِجُهُ أَكْمَامُ النَّخِيلِ مِنَ الثَّمَرِ بِقَدْرِهِ وَجَوْدَتِهِ وَثَبَاتِهِ أَوْ سُقُوطِهِ، وَضَمِيرُ أَكْمامِها رَاجِعٌ إِلَى الثَّمَرَاتِ. وَالْأَكْمَامُ: جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهُوَ وِعَاءُ الثَّمَرِ وَهُوَ الْجُفُّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلَةِ مُحْتَوِيًا عَلَى طَلْعِ الثَّمَرِ. ثَانِيهَا: حَمْلُ الْأُنْثَى مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، وَلَا يَعْلَمُ الَّتِي تُلَقَّحُ مِنَ الَّتِي لَا تُلَقَّحُ إِلَّا اللَّهُ. ثَالِثُهَا: وَقْتُ وَضْعِ الْأَجِنَّةِ فَإِنَّ الْإِنَاثَ تَكُونُ حَوَامِلَ مُثْقَلَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ وَضْعِهَا بِالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ إِلَّا اللَّهُ. وَعُدِلَ عَنْ إِعَادَةِ حَرْفِ مَا مَرَّةً أُخْرَى لِلتَّفَادِي مِنْ ذِكْرِ حَرْفٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ تَسَاوِيَ هَذِهِ الْمَنْفِيَّاتِ الثَّلَاثَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي كَوْنِ أَزْمَانِ حُصُولِهَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَالِ وَلِلِاسْتِقْبَالِ يَسُدُّ عَلَيْنَا بَابَ ادِّعَاءِ الْجُمْهُورِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا وَ (لَا) فِي تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِزَمَانِ الْحَالِ مَعَ حَرْفِ مَا وَتَخْلِيصِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ مَعَ حَرْفِ (لَا) . وَيُؤَيِّدُ رَدَّ ابْنِ مَالِكٍ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ. وَحَرْفُ مَنْ بَعْدَ مَدْخُولَيْ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ وَيُسَمَّى حَرْفًا زَائِدًا. وَالْبَاءُ فِي بِعِلْمِهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ثَمَراتٍ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ ثَمَرَةٍ وَاحِدَةِ الثَّمَرَاتِ.

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) . عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ إِبْطَالَ شُبْهَتِهِمْ بِأَنَّ عَدَمَ بَيَانِ وَقْتِهَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِهَا، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَظَائِرَ لِوَقْتِ السَّاعَةِ مِمَّا هُوَ جَارٍ فِي الدُّنْيَا دَوْمًا عَادَ الْكَلَامُ إِلَى شَأْنِ السَّاعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْذَارِ مُقْتَضِيًا إِثْبَاتَ وُقُوعِ السَّاعَةِ بِذِكْرِ بَعْضِ مَا يَلْقَوْنَهُ فِي يَوْمِهَا. ويَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ شَائِعٍ حَذْفُهُ فِي الْقُرْآنِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي (يُنَادِي) عَائِدٌ إِلَى رَبُّكَ فِي قَوْلِهِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ، وَالنِّدَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِطَابِ الْعَلَنِيِّ كَقَوْلِهِ: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الْحَدِيد: 14] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النِّدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فِي آلِ عِمْرَانَ [193] ، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [43] . وَجُمْلَةُ أَيْنَ شُرَكائِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: 74] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: 65] . وَحَذْفُ الْقَوْلِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ يُنادِيهِمْ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُعْلَنِ بِهِ. وَجَاءَتْ جُمْلَةُ قالُوا آذَنَّاكَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30] . وآذَنَّاكَ أَخْبَرْنَاكَ وَأَعْلَمْنَاكَ. وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ مُشْتَقٌّ مِنْ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْأُذْنُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ وَقَالَ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: 109] ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي آذَنَّاكَ إِنْشَاءٌ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحَالِ مِثْلَ: بِعْتُ وَطَلَّقْتُ، أَيْ نَأْذَنُكَ وَنُقِرُّ بِأَنَّهُ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ. وَالشَّهِيدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُشَاهِدُ، أَيِ الْمُبْصِرُ، أَيْ مَا أَحَدٌ مِنَّا يَرَى الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوهُمْ شُرَكَاءَكَ الْآنَ، أَيْ لَا نَرَى وَاحِدًا مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي كُنَّا نَعْبُدُهَا فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ، أَيْ مَا مِنَّا أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنَّهُمْ شُرَكَاؤُكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِكَذِبِهِمْ فِيمَا مَضَى، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قالُوا آذَنَّاكَ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدُوا وَاحِدًا مِنْ أَصْنَامِهِمْ. وَفِعْلُ آذَنَّاكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُرُودِ النَّفْيِ بَعْدَهُ. وضَلَّ: حَقِيقَتُهُ غَابَ عَنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَجِدُوا مَا كَانُوا يَدْعُونَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الْأَحْقَاف: 28] . فَالْمُرَاد بِهِ هُنَا: غَيْبَةُ أَصْنَامِهِمْ عَنْهُمْ وَعَدَمُ وُجُودِهَا فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا مُلْقَاةً فِي جَهَنَّمَ أَوْ بَقِيَتْ فِي الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ حِينَ فَنَائِهِ. وَإِذْ لَمْ يَجِدُوا مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ، أَيْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي شَاهَدُوا إِعْدَادَهُ، فَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَالْمَحِيصُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ: حَاصَ يَحِيصُ، إِذَا هَرَبَ، أَيْ مَا لَهُمْ مَفَرٌّ مِنَ النَّارِ.

[سورة فصلت (41) : الآيات 49 إلى 50]

[سُورَة فصلت (41) : الْآيَات 49 الى 50] لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَعَلِمُوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ. وَقَدْ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نَعْمَاءُ كَذَّبُوا بِقِيَامِ السَّاعَةِ فَجُمْلَةُ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ إِلَى قَوْلِهِ: قَنُوطٌ تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا إِلَخْ ... وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ [فصلت: 47] إِلَخْ يَقْتَضِي مُنَاسَبَةً فِي النَظْمِ دَاعِيَةً إِلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ فَتِلْكَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ صِنْفِ النَّاسِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُ قَصَصِهِمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرِيقًا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَيَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الْعَامِّ لَكِنَّ عُمُومَهُ عُرْفِيٌّ بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ الْمُمَثَّلُ لَهُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي بِقَوْلِكَ: جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ. كَمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، صَرِيحٌ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ عَامًّا عُمُومًا عُرْفِيًّا. فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ، وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ مُشْرِكٌ مُعَيَّنٌ، قِيلَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِخْبَارُ عَنِ إِنْسَانٍ كَافِرٍ. وَمَحْمَلُ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ إِنَاطَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِصِنْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بِمُشْرِكٍ مُعَيَّنٍ بعنوان إِنْسَان يومىء بِأَنَّ لِلْجِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَثَرًا قَوِيًّا فِي الْخُلُقِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِوَازِعِ الْإِيمَانِ. فَأَصْلُ هَذَا الْخُلُقِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى طَلَبِ الْمُلَائِمِ وَالنَّافِعِ وَنِسْيَانُ مَا عَسَى أَنْ يَحِلَّ بِهِ مِنَ الْمُؤْلِمِ وَالضَّارِّ، فَبِذَلِكَ يَأْنَسُ بِالْخَيْرِ إِذَا حَصَلَ لَهُ فَيَزْدَادُ مِنَ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِهِ وَيَحْسَبُهُ كَالْمُلَازِمِ الذَّاتِيِّ فَلَا يَتَدَبَّرُ فِي مُعْطِيهِ حَتَّى يَشْكُرَهُ وَيَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ تَخَضُّعًا،

وَيَنْسَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الضُّرِّ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِسُؤَالِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيُعِيذَهُ مِنْهُ. فَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي، فَأَطْلَقَ عَلَى الِاكْتِفَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ السَّآمَةَ، وَهِيَ الْمَلَلُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ اسْتِرْسَالِ الْإِنْسَانِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ عَلَى الدَّوَامِ بِالْعَمَلِ الدَّائِمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَمَ مِنْهُ عَامِلُهُ فَنَفْيُ السَّآمَةِ عَنْهُ رَمْزٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَلَاثَةً لَأَحَبَّ لَهُمَا رَابِعًا، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] . وَالدُّعَاءُ: أَصْلُهُ الطَّلَبُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الطَّلَبِ مُطْلَقًا فَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْخَيْرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ أَوْ طَلَبُ الْخَيْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، شَبَّهَ الْخَيْرَ بِعَاقِلٍ يَسْأَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ الدُّعَاءِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَأَمَّا أَن الْإِنْسَان يؤوس قُنُوطٌ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَذَلِكَ مِنْ خُلُقِ قِلَّةِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَضْجَرُ إِنْ لَحِقَهُ شَرٌّ وَلَا يُوَازِي بَيْنَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ فَيَقُولُ: لَئِنْ مَسَّنِيَ الشَّرُّ زَمَنًا لَقَدْ حَلَّ بِيَ الْخَيْرُ أَزْمَانًا، فَمِنَ الْحَقِّ أَنْ أَتَحَمَّلَ مَا أَصَابَنِي كَمَا نَعِمْتُ بِمَا كَانَ لِي مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ لَا يَنْتَظِرُ إِلَى حِينِ انْفِرَاجِ الشَّرِّ عَنْهُ وَيَنْسَى الْإِقْبَالَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ الضُّرَّ بَلْ يَيْأَسُ وَيَقْنَطُ غَضَبًا وَكِبْرًا وَلَا يَنْتَظِرُ مُعَاوَدَةَ الْخَيْرِ ظَاهِرًا عَلَيْهِ أَثَرُ الْيَأْسِ بِانْكِسَارٍ وَحُزْنٍ. وَالْيَأْسُ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ هُوَ: اعْتِقَاد عدم حُصُوله الميئوس مِنْهُ. وَالْقُنُوطُ: انْفِعَالٌ يُدْنِي مِنْ أَثَرِ الْيَأْسِ وَهُوَ انْكِسَارٌ وَتَضَاؤُلٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ ذُو دُعَاءٍ لِلَّهِ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] . لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَهُمْ إِنَّمَا يَنْصَرِفُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ.

وَقَدْ جَاءَتْ تَرْبِيَةُ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقُنُوطِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الْحجر: 56] ، وَفِي الْحَدِيثِ «انْتِظَارُ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ عِبَادَةٌ» . فَالْآيَةُ وَصَفَتْ خُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا خُلُقُ الْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَثَانِيهِمَا الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِ النِّعْمَةِ عِنْدَ فَقْدِهَا. وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ لَطَائِفُ مِنَ الْبَلَاغَةِ: الْأُولَى: التَّعْبِيرُ عَنْ دَوَامِ طَلَبِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ السَّآمَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ. الثَّانِيَةُ: التَّعْبِيرُ عَنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ بِدُعَاءِ الْخَيْرِ. الثَّالِثَةُ: التَّعْبِيرُ عَنْ إِضَافَةِ الضُّرِّ بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ أَضْعَف إحساس الْإِصَابَة قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ [الزمر: 61] . الرَّابِعَةُ: اقْتِرَانُ شَرْطِ مَسِّ الشَّرِّ بِ إِنْ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّادِرِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ إِصَابَةَ الشَّرِّ الْإِنْسَانَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ مَغْمُورٌ بِهِ مِنَ النِّعَمِ. الْخَامِسَةُ: صِيغَةُ الْمُبَالغَة فِي فَيَؤُسٌ. السّادسة: إتباع يؤس بِ قَنُوطٌ الَّذِي هُوَ تَجَاوُزُ إِحْسَاسِ الْيَأْسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالِانْكِسَارِ، وَهُوَ مِنْ شِدَّةِ يَأْسِهِ، فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ يَأْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فِي ضَمِيرِهِ وَانْفِعَالٌ فِي سَحَنَاتِهِ. فَالْمُشْرِكُ يَتَأَصَّلُ فِيهِ هَذَا الْخُلُقُ وَيَتَزَايَدُ بِاسْتِمْرَارِ الزَّمَانِ. وَالْمُؤْمِنُ لَا تَزَالُ تَرْبِيَةُ الْإِيمَانِ تَكُفُّهُ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ حَتَّى يَزُولَ مِنْهُ أَوْ يَكَادَ. ثُمَّ بَيَّنَتِ الْآيَةُ خُلُقًا آخَرَ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا زَالَ عَنْهُ كَرْبُهُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ النِّعْمَةُ نَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي لُطْفِ اللَّهِ بِهِ فَبَطِرَ النِّعْمَةَ، وَقَالَ: قَدِ اسْتَرْجَعْتُ خَيْرَاتِي بِحِيلَتِي وَتَدْبِيرِي، وَهَذَا الْخَيْرُ حَقٌّ لِي حَصُلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ تَرَاهُ إِذَا سَمِعَ إنذار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ أَوْ هَجَسَ فِي نَفْسِهِ هَاجِسُ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ قَالَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْعَمَلِ لِيَوْمِ

الْحِسَابِ أَوْ قَالَ فِي نَفْسِهِ مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ فَرَضْتُ قِيَامَ السَّاعَةِ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ فَإِنِّي سَأَجِدُ عِنْدَ اللَّهِ الْمُعَامَلَةَ بِالْحُسْنَى لِأَنِّي مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ سَأَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مِنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَحْسَبُوا أَحْوَالَ الدُّنْيَا مُقَارِنَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ حِينَ اقْتَضَاهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَالًا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَجْرِ صِنَاعَةِ سَيْفٍ فَقَالَ لَهُ: حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ وَيَبْعَثُك، فَقَالَ: أَو إنّي لَمَيِّتٌ فَمَبْعُوثٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ فَسَيَكُونُ لِي مَالِي فَأَقْضِيكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً الْآيَات من سُورَةِ مَرْيَمَ [77] . وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا فِي مَقَالَةِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ. وَذِكْرُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ هُنَا إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ. وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِ وَلَئِنْ رُجِعْتُ بِحَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ وُقُوعُهَا فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ رُجُوعَهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا مَفْرُوضًا ضَعِيفَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا دُخُولُ اللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ عَلَيْهِ فَمَوْرِدُ التَّحْقِيقِ بِالْقِسَمِ هُوَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَوْ حَصَلَ الشَّرْطُ. وَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِ إِنْ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مَوْرِدُهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ لِي وعِنْدَهُ عَلَى اسْمِ إِنَّ هُوَ لِتَقَوِّي تَرَتُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ. وَالْحُسْنَى: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى، أَوِ الْمُعَامَلَةُ الْحُسْنَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحُسْنَى صَارَتِ اسْمًا لِلْإِحْسَانِ الْكَثِيرِ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَفَاوِتَةٌ أَفْرَادُهُ فِي هَذَا الْخُلُقِ الْمَعْزُوِّ إِلَيْهِ هُنَا عَلَى تَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ فِي الْغُرُورِ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ كَانَ هَذَا الْخُلُقُ فَاشِيًا فِيهِمْ

يَقْتَضِيهِ دِينُ الشِّرْكِ. وَلَا نَظَرَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ النَّادِرُ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يُخَامِرُهُ بَعْضُ هَذَا الْخُلُقِ وَتَرْتَسِمُ فِيهِ شِيَاتٌ مِنْهُ وَلَكِنَّ إِيمَانَهُ يَصْرِفُهُ عَنْهُ انْصِرَافًا بِقَدْرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَقُولُ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَكِنَّهُ قَدْ تَجْرِي أَعْمَالُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ أَعْمَالِ مَنْ لَا يَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَأْتُونَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ يَوْمُ الْجَزَاءِ قَالُوا: مَا ثَمَّ إِلَّا الْخَيْرُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَذَمَّةً لِلْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَدًا لِلْأَوَّلِينَ وَانْتِشَالًا لِلْآخِرِينَ. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي [فصلت: 47] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا أَيْ فَلَنُعْلِمَنَّهُمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَنًا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا عَمِلُوهُ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ. وَقَوْلُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَلَنُنَبِّئَنَّهُمْ بِمَا عَمِلُوا، فَعَدَلَ إِلَى الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عِلَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْإِذَاقَةَ بِمَا عَمِلُوا وَإِذَاقَةَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ. وَالْغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الصُّلْبُ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الْفَتْح: 29] ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقَوِيِّ فِي نَوْعِهِ، أَيْ عَذَابٍ شَدِيدِ الْإِيلَامِ وَالتَّعْذِيبِ، كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْقَسَاوَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 73] وَقَوْلِهِ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة: 123] . والإذاقة: مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ فِي الْحِسِّ لِإِطْمَاعِهِمْ أَنَّهَا إِصَابَةٌ خَفِيفَةٌ كَإِصَابَةِ الذَّوْقِ بِاللِّسَانِ. وَهَذَا تَجْرِيدٌ لِلْمَجَازِ كَمَا أَنَّ وَصْفَهُ بِالْغَلِيظِ تَجْرِيدٌ ثَانٍ فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءٌ مُطْمِعٌ وانتهاء مؤيس.

[سورة فصلت (41) : آية 51]

[سُورَة فصلت (41) : آيَة 51] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) هَذَا وَصْفٌ وَتَذْكِيرٌ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنْ طُغْيَانِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ غَيْرِ خَاصٍّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ بَلْ هُوَ مُنْبَثٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى تَفَاوُتٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ. وَهُوَ تَوْصِيفٌ لِنَزَقِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيِّ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِ فَإِذَا أَصَابَتْهُ السَّرَّاءُ طَغَا وَتَكَبَّرَ وَنَسِيَ شُكْرَ رَبِّهِ نِسْيَانًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَشُغِلَ بِلَذَّاتِهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ الضَّرَّاءُ لَمْ يَصْبِرْ وَجَزِعَ وَلَجَأَ إِلَى رَبِّهِ يُلِحُّ بِسُؤَالِ كَشْفِ الضَّرَّاءِ عَنْهُ سَرِيعًا. وَفِي ذِكْرِ هَذَا الضَّرْبِ تَعَرُّضٌ لِفِعْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ الْخَلَّتَيْنِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَهُوَ نَقْدٌ لِسُلُوكِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَتَعْجِيبٌ مِنْ شَأْنِهِ. وَمَحَلُّ النَّقْدِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ إِعْرَاضِهِ وَنَأْيِهِ بِجَانِبِهِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا مَحَلُّ الِانْتِقَادِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ أَنَّهُ ذُو دُعَاء عريض عِنْد مَا يَمَسُّهُ الشَّرُّ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْإِقْبَالَ عَلَى دُعَاءِ ربّه إِلَّا عِنْد مَا يَمَسُّهُ الشَّرُّ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ النِّعْمَةِ فَيَدْعُوَ بِدَوَامِهَا وَيَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَيْهَا وَقَبُولِ شُكْرِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَوْلَى بِالْعِنَايَةِ مِنْ حَالَةِ مَسِّ الضُّرِّ. وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ إِلَى قَوْله: لَلْحُسْنى [فصلت: 49، 50] فَهُوَ وَصْفٌ لِضَرْبٍ آخَرَ أَشَدَّ، وَهُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الْكَهْف: 36] ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ إِلَخْ تَكْرِيرًا مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ [فصلت: 49] الْآيَةَ. فَهَذَا التَّفَنُّنُ فِي وَصْفِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ مَعَ رَبِّهِ هُوَ الَّذِي دَعَا إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِذا أَنْعَمْنا مِنْ بَعْضِ التَّكْرِيرِ لِمَا ذَكَرَ فِي الضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الشِّرْكِ وَعَدَمِهِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي مَثَارِ الْجِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ. وَالْإِعْرَاضُ: الِانْصِرَافُ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ أَوِ التَّعَمُّدِ لِتَرْكِ الشُّكْرِ.

وَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ أَعْرَضَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْرَضَ عَنْ دُعَائِنَا. وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ، فَشَبَّهَ عَدَمَ اشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ بِالْبُعْدِ. وَالْجَانِبُ لِلْإِنْسَانِ: مُنْتَهَى جِسْمِهِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَظَهْرِهِ، وَيُسَمَّى الشِّقَّ، وَالْعِطْفَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَبْعَدَ جَانِبَهُ، كِنَايَةً عَنْ إِبْعَادِ نَفْسِهِ، أَيْ وَلَّى مُعْرِضًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ بِوَجْهِهِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي ابْتَعَدَ هُوَ عَنْهُ. وَمَعْنَى مَسَّهُ الشَّرُّ أَصَابَهُ شَرٌّ بِسَبَبٍ عَادِيٍّ. وَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ إِصَابَةِ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعْلِيمًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: 78] إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: 80] فَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي، وَفِي ذَلِكَ سِرٌّ وَهُوَ أَنَّ النِّعَمَ وَالْخَيْرَ مُسَخَّرَانِ لِلْإِنْسَانِ فِي أَصْلِ وَضْعِ خِلْقَتِهِ فَهُمَا الْغَالِبَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ نَامُوسِ بَقَاءِ النَّوْعِ. وَأَمَّا الشُّرُورُ وَالْأَضْرَارُ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا يَنْجَرُّ إِلَى الْإِنْسَانِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِ وَبِتَعَرُّضِهِ إِلَى مَا حَذَّرَتْهُ مِنْهُ الشَّرَائِعُ وَالْحُكَمَاءُ الْمُلْهَمُونَ فَقَلَّمَا يَقَعُ فِيهِمَا الْإِنْسَان إِلَّا بِعِلْمِهِ وَجُرْأَتِهِ. وَالدُّعَاءُ: الدُّعَاءُ لِلَّهِ بِكَشْفِ الشَّرِّ عَنْهُ. وَوَصْفُهُ بِالْعَرِيضِ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ الْعَرْضَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- ضِدُّ الطُّولِ، وَالشَّيْءُ الْعَرِيضُ هُوَ الْمُتَّسِعُ مِسَاحَةَ الْعَرْضِ، فَشَبَّهَ الدُّعَاءَ الْمُتَكَرِّرَ الْمُلِحَّ فِيهِ بِالثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ الْعَرِيضِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فداع، إِلَى فَذُو دُعاءٍ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ كَلِمَةُ ذُو مِنْ مُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَتَمَلُّكِهِ مِنْهُ. وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ وَالْإِقْلَالِ عَلَى تَفَاوُتِ مُلَاحَظَةِ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ. وَتَوَجُّهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَالٌ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ تَوَارَثُوهَا مِنْ عَادَاتٍ سَالِفَةٍ مِنْ أَزْمَانِ تَدَيُّنِهِمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَتَتَأَصَّلَ فِيهِمْ فَإِذَا دَعَوُا اللَّهَ غَفَلُوا عَنْ مُنَافَاةِ أَقْوَالِهِمْ لعقائد شركهم.

[سورة فصلت (41) : آية 52]

[سُورَة فصلت (41) : آيَة 52] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [فصلت: 41، 45] . فَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ رَجَعَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ بَيَانُ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَصِدْقِهِ وَصِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ. وَهَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِيُعْمِلُوا النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ مِثْلَ إِعْجَازِهِ وَانْتِسَاقِهِ وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا وَكَوْنِهِ مُؤَيِّدًا لِلْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مُؤَيِّدَةً لَهُ. وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ صِدْقِ الْقُرْآنِ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ نَظَرٍ وَتَمْحِيصٍ يُحَصِّلُ الْيَقِينَ وَإِنَّمَا جَازَفْتُمْ بِهِ قَبْلَ النَّظَرِ فَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْتِجَ لَكُمُ التَّأَمُّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِذَا فُرِضَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَقْحَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي شِقَاقٍ قَوِيٍّ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى ذِكْرِ الْحَالَةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى صِفَاتِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّكُمْ قَضَيْتُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَتَعَالَوْا فَتَأَمَّلُوا فِي الدَّلَائِلِ، فَهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ فَقَدْ أَعْمَلُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْمَلُوا الْأَخْذَ بالحيطة لَهُم أَن يَتَدَبَّرُوهُ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي شَأْنه، وهم إِذَا تَدَبَّرُوهُ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَعْلَمُوا صِدْقَهُ، فَاسْتَدْعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى النَّظَرِ بِطَرِيقِ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ وَكَانُوا قَدْ كَفَرُوا بِهِ دُونَ تَأَمُّلٍ كَانُوا قَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّلَالِ الشَّدِيدِ، وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ. وإِنْ الشَّرْطِيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، فَالْإِتْيَانُ بِهَا إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ مَعَهُمْ لِاسْتِنْزَالِ طَائِرِ إِنْكَارِهِمْ حَتَّى يُقْبِلُوا عَلَى التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَالتَّشْكِيكِ أَوَّلًا دَهْمَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ

يَنْظُرُوا فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يُطِيلُوا النَّظَرَ وَلَمْ يَبْلُغُوا بِهِ حَدَّ الِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الْعُقُولِ مِنْهُمْ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الرِّئَاسَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الْعِلْمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَدٍّ قَرِيبٍ مِنْ حَالَةِ الدَّهْمَاءِ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ أَلْقَى بَيْنَهُمْ هَذَا التَّشْكِيكَ تَغْلِيبًا وَمُرَاعَاةً لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَمُجَارَاةً لَهُمُ ادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا نَظَرًا لِقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] . وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كَفَرْتُمْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْرُهُ أَخْطَرُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ومِنْ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَضَلَّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ. ومِنْ الثَّانِيَة مَوْصُولَة وَمَا صدقهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُمْ بِهِ فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى طَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَأْذَنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ أَنَّهُمْ أَضَلُّ الضَّالِّينَ بِكَوْنِهِمْ شَدِيدِي الشِّقَاقِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أَشَدَّ الْخَلْقِ عُقُوبَةً لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ الضَّلَالَ سَبَبٌ لِلْخُسْرَانِ. وَالشِّقَاقُ: الْعِصْيَانُ. وَالْمُرَادُ: عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ لِظُهُورِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ بَيْنَنَا. وَالْبَعِيدُ: الْوَاسِعُ الْمَسَافَةِ، واستعير هُنَا للشديد فِي جِنْسِهِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لِلضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ أَصْلُهُ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَأَنَّ الْبُعْدَ مُنَاسِبٌ لِلشِّقَاقِ لِأَنَّ الْمُنْشَقَّ قَدْ فَارَقَ الْمُنْشَقَّ عَنْهُ فَكَانَ فِرَاقُهُ بَعِيدًا لَا رَجَاءَ مَعَهُ لِلدُّنُوِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [176] . وَفِعْلُ أَرَأَيْتُمْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ، وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ

[سورة فصلت (41) : آية 53]

[53] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 53] سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَعْقَبَ اللَّهُ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا فِيهِ تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَوَاقِبِ الشِّقَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِهِ إِلَى آخِرِ مَا قُرِّرَ آنِفًا، بِأَنْ وعد رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ وَالْبِشَارَةِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَغْمُرُ الْمُشْرِكِينَ بِطَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِهِ مَا يَتَبَيَّنُونَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقًّا فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِيمَانُ بِهِ، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ بَيِّنٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى اعْتِرَافِهِمْ بِحَقِّيَّتِهِ، وَسَتَظْهَرُ دَلَائِلُ حَقِّيَّتِهِ فِي الْآفَاقِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ وَفِي قَبِيلَتِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَتَتَظَاهَرُ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ فَلَا يَجِدُوا إِلَى إِنْكَارِهَا سَبِيلًا، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ يَوْمَئِذٍ مَعَ جَمِيعِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ. وَفِي هَذَا الْوَعْد للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ إِذْ يَسْمَعُونَهُ عَلَى طَرِيقَةِ: فَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصَرِيحِهَا وَتَعْرِيضِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لأمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّعْلِيلُ رَاجِعٌ إِلَى إِحَالَتِهِمْ عَلَى تَشْكِيكِهِمْ فِي مَوْقِفِهِمْ لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَكَتَ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ظُهُورِ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمُ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] ينبىء عَنْ تَقْدِيرِهِ، أَيْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ حَقٌّ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاكًّا مِنْ قَبْلُ عَنْ قِلَّةِ تَبَصُّرٍ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَكْفُرُ عِنَادًا وَاحْتِفَاظًا بِالسِّيَادَةِ افْتَضَحَ بُهْتَانُهُ وَسَفَّهَهُ جِيرَانُهُ. وَكِلَاهُمَا قَدْ أَفَاتَ بِتَأْخِيرِ الْإِيمَانِ خَيْرًا عَظِيمًا مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ بِمَا أَضَاعَهُ مِنْ تَزَوُّدِ ثَوَابٍ فِي مُدَّةِ كُفْرِهِ وَمِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِمَا فَاتَهُ مِنْ شَرَفِ السَّبْقِ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرَفٌ مِنَ الْإِعْجَازِ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ إِذْ أَخْبَرَتْ بِالْوَعْدِ

بِحُصُولِ النَّصْرِ لَهُ وَلِدِينِهِ وَذَلِكَ بِمَا يَسَّرَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَامَّةً وَفِي بَاحَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً مِنَ الْفُتُوحِ وَثَبَاتِهَا وَانْطِبَاعِ الْأُمَمِ بِهَا مَا لَمْ تَتَيَسَّرْ أَمْثَالُهَا لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَالْقَيَاصِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ نُسِبَ عَدَدُهُمْ إِلَى عَدَدِ الْأُمَمِ الَّتِي فَتَحُوا آفَاقَهَا بِنَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ بِأَنَّ مَا تَهَيَّأَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَجَائِبِ الِانْتِشَارِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الْأُمَمِ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّمَا تَمَسَّكُوا بِعُرَى الْإِسْلَامِ لَقُوا مِنْ نَصْرِ اللَّهِ أَمْرًا عَجِيبًا يَشْهَدُ بِذَلِكَ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرَّعْد: 41] ثُمَّ قَالَ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد: 43] . وَلَمْ يَقِفْ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ فَتْحِ الْمَمَالِكِ وَالْغَلَبِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ، بَلْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى التَّغَلْغُلِ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فَتَقَلَّدُوهُ دِينًا وَانْبَثَّتْ آدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ فِيهِمْ فَأَصْلَحَتْ عَوَائِدَهُمْ وَنُظُمَهُمُ الْمَدَنِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا عَلَى حَضَارَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مُتَنَاسِقَةٍ وَأَوْجَدُوا حَضَارَةً جَدِيدَةً سَالِمَةً مِنَ الرُّعُونَةِ وَتَفَشَّتْ لُغَةُ الْقُرْآنِ فَتَخَاطَبَتْ بِهَا الْأُمَمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْأَلْسُنِ وَتَعَارَفَتْ بِوَاسِطَتِهَا وَنَبَغَتْ فِيهِمْ فَطَاحِلُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَيِمَّةِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَفُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ نَشَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الْمَمَالِكِ بِفُتُوحِهِمْ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا مَا يَشْمَلُ الدَّلَائِلَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا يَشْمَلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى رُؤْيَتِهَا رُؤْيَةَ مَا يُصَدِّقُ أَخْبَارَهَا وَيُبَيِّنُ نُصْحَهَا إِيَّاهُمْ بِدَعْوَتِهَا إِلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْآفَاقُ: جَمْعُ أُفُقٍ بِضَمَّتَيْنِ وَتُسَكَّنُ فَاؤُهُ أَيْضًا هُوَ: النَّاحِيَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَمَيِّزَةُ عَنْ غَيْرِهَا، وَالنَّاحِيَةُ مِنْ قُبَّةِ السَّمَاءِ. وَعَطْفُ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، أَيْ وَفِي أُفُقِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ.

وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآفَاقِ عَلَى عُمُومِهِ الشَّامِلِ لِأُفُقِهِمْ، وَيَكُونَ مَعْنَى وَفِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ آيَاتِ صِدْقِهِ فِي أَحْوَالٍ تُصِيبُ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ ذَوَاتِهِمْ مِثْلَ الْجُوعِ الَّذِي دَعَا عَلَيْهِمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: 10] ، وَمِثْلَ مَا شَاهَدُوهُ مِنْ مَصَارِعِ كُبَرَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] . وَأَيَّةُ عِبْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ رَمَاهُ غُلَامَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَتَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ذَبْحَهُ وَثَلَاثَتُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ. وَقَدْ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَوْ غَيْرَ أَكَّارٍ قَتَلَنِي، وَمِنْ مَقْتَلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَئِذٍ بيد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ بِمَكَّةَ: أَنَا أَقْتُلُكَ وَقَدْ أَيْقَنَ بِذَلِكَ فَقَالَ لِزَوْجِهِ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. عَطْفٌ عَلَى إِعْلَامِ الرَّسُولِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ وَصدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةً لِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُ بِظُهُورِ دِينِهِ وَوُضُوحِ صِدْقِهِ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي أَرْضِ قَوْمِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَحْقِيقًا لتيقن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَالَةِ رَبِّهِ بِحَيْثُ كَانَتْ مِمَّا يُقَرَّرُ عَلَيْهَا كِنَايَةً عَنِ الْيَقِينِ بِهَا، فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَالْمَعْنَى: تَكْفِيكَ شَهَادَةُ رَبِّكَ بِصِدْقِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ لِتَكْذِيبِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: 166] وَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: 79] فَهَذَا وَجْهٌ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهُنَالِكَ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ مَسَاقُهَا مَسَاقَ تلقين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ الْقَسَمِ بِإِشْهَادِ اللَّهِ، وَهُوَ قَسَمٌ غَلِيظٌ فِيهِ مَعْنَى نِسْبَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَشْهَدُ اللَّهُ بِهِ فَيَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا إِنْكَارًا لِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَسَمِ، وَعَنْ عَدَمِ

[سورة فصلت (41) : آية 54]

تَصْدِيقِهِمْ بِالْقَسَمِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد: 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً [العنكبوت: 52] . وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ تَوَجُّهُ الْإِنْكَارِ إِلَيْهِمْ. وَلَقَدْ دَلَّتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعْنَاهَا مِنْ لَفْظِهَا. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ بِرَبِّكَ وَالتَّقْدِير: أَو لم يَكْفِهِمْ رَبُّكَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، أَيْ فَهُوَ يُحَقِّقُ مَا وَعَدَكَ مِنْ دَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ، أَوْ فَمَنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ فَقَدْ صَدَقَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ مَنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ كَاذِبًا فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَأْخُذَهُ. وَفِي الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُصَدِّقُ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ وَهُوَ معنى قَول أيّمة أُصُولِ الدِّينِ: إِنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ أَنَّ تَغْيِيرَ اللَّهِ الْعَادَةَ لِأَجْلِ تحدّي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عني. [54] [سُورَة فصلت (41) : آيَة 54] أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) تَذْيِيلَانِ لِلسُّورَةِ وَفَذْلَكَتَانِ افْتُتِحَا بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَضَمَّنَاهُ. فَأَمَّا التَّذْيِيلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ جِمَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ إِذْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا نَاشِئَةً عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ فَكَانُوا فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّفْكِيرِ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَانْحَصَرَتْ مَسَاعِيهُمْ فِي تَدْبِيرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَانْكَبُّوا عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ فِيهَا.

وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ كَمَا عَادَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي سَنُرِيهِمْ [فصلت: 53] . وَأَمَّا التَّذْيِيلُ الثَّانِي فَهُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ إِبْطَالٍ لِأَقْوَالِهِمْ وَتَقْوِيمٍ لِاعْوِجَاجِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِمَا لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهِمَا وَاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ لِاسْتِخْرَاجِ مَا تَحْوِيَانِهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَالْمِرْيَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِيهَا وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ لُغَةٌ مِثْلَ: خِفْيَةٍ وَخُفْيَةٍ. وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مُسْتَعَارٌ لِتَمَكُّنِ الشَّكِّ بِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَتَعَدَّى بِهَا أَفْعَالُ الشَّكِّ إِلَى الْأَمْرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ بِتَنْزِيلِ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ مَثَارِ الْفِعْلِ بِتَشْبِيهِ الْمَفْعُولِ بِالْمُنْشَأِ كَأَنَّ الشَّكَّ جَاءَ مِنْ مَكَانٍ هُوَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ. وَفِي تَعْلِيقِهِ بِذَاتِ الشَّيْءِ مَعَ أَنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مُبَالَغَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ الْأُمُورِ إِلَى الْأَعْيَانِ وَالْمُرَادُ أَوْصَافُهَا، فَتَقْدِيرُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ: فِي مِرْيَةٍ مِنْ وُقُوعِ لِقَاءِ رَبِّهِمْ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَة: 23] أَيْ فِي رَيْبٍ مِنْ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا. وَأَطْلَقَ الشَّكَّ عَلَى جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْبَعْثِ لِأَنَّ جَزْمَهُمْ خَلِيٌّ عَنِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ الشَّكِّ عَلَيْهِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي شَكٍّ عَلَى الْأَقَلِّ. وَوَصْفُ اللَّهِ بِالْمُحِيطِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْمُحِيطَ بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ عِلْمُهُ فَأُسْنِدَتِ الْإِحَاطَةُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ (الْمُحِيطَ) صِفَةٌ مِنْ أَوْصَافِهِ وَهُوَ الْعِلْمُ. وَبِهَاتَيْنِ الْفَذْلَكَتَيْنِ آذَنَ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فَكَانَ مِنْ بَرَاعَةِ الْخِتَامِ.

42- سورة الشورى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 42- سُورَةُ الشُّورَى اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ حم عسق، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ. وَتُسَمَّى «سُورَةَ الشُّورَى» بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا قَالُوا «سُورَةَ الْمُؤْمِنِ» ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ، وَرُبَّمَا قَالُوا «سُورَةَ شُورَى» بِدُونِ أَلْفٍ وَلَامٍ حِكَايَةً لِلَفْظِ الْقُرْآنِ. وَتُسَمَّى «سُورَةَ عسق» بِدُونِ لَفْظِ حم لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ ذَاتِ الِاسْمَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي تَسْمِيَتِهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَصَّارِ فِي كِتَابِهِ فِي «النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» كَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِ فِي «الْإِتْقَانِ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ اسْتِثْنَاءُ أَرْبَعِ آيَاتٍ أُولَاهَا قَوْلُهُ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] إِلَى آخِرِ الْأَرْبَعِ الْآيَاتِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الشورى: 23، 24] . رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي

أغراض هذه السورة

الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْفُرْسِ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ [الشورى: 27] الْآيَةَ نَزَلَ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ فَتَكُونُ مَدَنِيَّةً، وَفِيهِ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 39- 41] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَقَبْلَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَعُدَّتِ التَّاسِعَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ الْجَعْبَرِيِّ الْمَرْوِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ آيَةَ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: 28] نَزَلَتْ فِي انْحِبَاسِ الْمَطَرِ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا قَالَ مُقَاتِلٌ تَكُونُ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَلَعَلَّ نُزُولَهَا اسْتَمَرَّ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ بَعْدَ أَنْ آمَنَ نُقَبَاءُ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] أُرِيدَ بِهِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ خَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَحَدِّي الطَّاعِنِينَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، فَهَذَا التَّحَدِّي لَا تَخْلُو عَنْهُ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْحُرُوفِ الْهِجَائِيَّةِ الْمُقَطَّعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتَدَلَّ اللَّهُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ بِأَنَّ الْوَحْيَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ إِلَّا كَالْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ لِيُنْذِرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَأَنَّ اللَّهَ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَا تُعَارَضُ قُدْرَتُهُ وَلَا يُشَكُّ فِي حِكْمَتِهِ، وَقَدْ خَضَعَتْ لَهُ الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا وَمَنْ فِيهَا وَهُوَ فَاطِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ يَجْتَبِي مَنْ يَشَاءُ لِرِسَالَتِهِ فَلَا بِدْعَ أَنْ يُشَرِّعَ لِلْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الدِّينِ مِثْلَ مَا شَرَّعَ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ يُوحِي إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْبِقْ أَنْ أَرْسَلَ مَلَائِكَةً لِمُخَاطَبَةِ عُمُومِ النَّاسِ مُبَاشَرَةً.

[سورة الشورى (42) : الآيات 1 إلى 2]

وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ لَا حُجَّةَ لَهُمْ إِلَّا تَقْلِيدُ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ شَرَعُوا لَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الشُّبُهَاتِ. وَحَذَّرَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَاقْتِرَابَ السَّاعَةِ وَمَا سَيَلْقَى الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْحِسَابِ مِنَ الْعَذَابِ مَعَ إِدْمَاجِ التَّعْرِيضِ بِالتَّرْغِيبِ فِيمَا سَيَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا لَعَلِمُوا أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِي عَنِ اللَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا هُوَ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ نِعْمَةٌ عَلَى النَّاسِ مِثْلَ دَلِيلِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ وَمَا أُوتِيَهُ النَّاسُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا. وتسلية الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مُتَوَلِّي جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَا على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا الِاسْتِمْرَارُ عَلَى دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْحَقِّ الْقَوِيمِ. وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْتَغِي مِنْهُمْ جَزَاءً عَلَى نُصْحِهِ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَبْتَغِي أَنْ يُرَاعُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّسَبُّبِ فِي قَطْعِهَا بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي أَسْبَابِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْفَوَاتِ، فَقَدْ فَازَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَنَوَّهَ بِجَلَايِلِ أَعْمَالِهِمْ وَتَجَنُّبِهِمُ التَّعَرُّضَ لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيَاتِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُقْتَضِي انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ إِبْطَالًا لِلشِّرْكِ. وَخَتَمَهَا بِتَجَدُّدِ الْمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِأَن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ بِهُدًى عَظِيمٍ مِنَ الدِّينِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ تَصَدَّى لِذَلِكَ فِي سَابِقِ عُمُرِهِ وَذَلِكَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَمْرٌ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِهِ فَمَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ فَقَدْ وَافَقَ مُرَادَ اللَّهِ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ تَتَضَمَّنُ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ وَانْتِظَارَ حُكْمِهِ وَهِيَ كَلِمَةُ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] . [1، 2] [سُورَة الشورى (42) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشورى (42) : آية 3]

حم (1) عسق (2) ابْتُدِئَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ أَمْثَالُهَا مِثْلَ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهَا مُشِيرٌ إِلَى التَّحَدِّي بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَخُصَّتْ بِزِيَادَةِ كَلِمَةِ عسق عَلَى أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنْ آلِ حم وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِحَالٍ كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ التَّحَدِّي لَهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ أَشَدَّ فَزِيدَ فِي تَحَدِّيهِمْ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي. وَإِنَّمَا لَمْ تُوصَلِ الْمِيمُ بِالْعَيْنِ كَمَا وُصِلَتِ الْمِيمُ بِالرَّاءِ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الرَّعْدِ، وَكَمَا وُصِلَتِ الْمِيمُ بِالصَّادِ فِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَكَمَا وُصِلَتِ الْعَيْنُ بِالصَّادِ فِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ مَرْيَمَ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمِيمِ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَاتِّصَالُهُ بِمَا قَبْلَهُ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ حُرُوفٍ تُشْبِهُ كَلِمَةً فَكَانَتْ أولى بالانفصال. [3] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 3] كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) مُوقِعُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَالْمَعْنَى: مِثْلَ هَذَا الْوَحْيِ يُوحِي اللَّهُ إِلَيْكَ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ: الْإِيحَاءُ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ يُوحِي. وَأَمَّا وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ فَإِدْمَاجٌ. وَالتَّشْبِيهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَصْلِهِ، أَيْ مِثْلَ وَحْيِهِ إِلَيْكَ وَحْيُهُ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، فَالتَّشْبِيهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي كِلْتَا طَرِيقَتَيْهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْمُشْتَرَكُ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ إِثْبَاتُ التَّسْوِيَةِ، أَيْ لَيْسَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْكَ إِلَّا عَلَى سُنَّةِ وَحْيِهِ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَلَيْسَ وَحْيُهُ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ بِأَوْضَحَ مِنْ وَحْيِهِ إِلَيْكَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنبيئين من بعده [النِّسَاء: 163] ، أَيْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ إِنْ هُوَ إِلَّا مِثْلُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ، فَمَا إِعْرَاضُ قَوْمِهِ عَنْهُ إِلَّا كَإِعْرَاضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ

رُسُلُهُمْ. فَحَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي بِغَايَةِ الْإِيجَازِ مَعَ حُسْنِ مَوْقِعِ الِاسْتِطْرَادِ. وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ لهاتين الصفتين مزِيد اخْتِصَاصٍ بِالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاء لرسالته. ف الْعَزِيزُ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا يُرِيدُ لَا يَصُدُّهُ أَحَدٌ. والْحَكِيمُ يُحَمِّلُ كَلَامَهُ مَعَانِيَ لَا يَبْلُغُ إِلَى مِثْلِهَا غَيْرُهُ، وَهَذَا مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْغَرَضِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ إِلَى آخِرِهَا ابْتِدَائِيَّةٌ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ كَذلِكَ عَلَى يُوحِي إِلَيْكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ وَالتَّشْوِيقِ بِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْكَلَامِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ بِ كَذلِكَ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ كَذَلِكَ الْإِيحَاءِ يُوحِي إِلَيْكَ اللَّهُ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي نَظَائِرِ هَذَا التَّرْكِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَقِفْ عَلَى مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْخَفَاجِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَنْظِيرِهِ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ: كَذَلِكَ خَيْمُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ ... إِذَا مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ خَيْمُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَيْتَ زُهَيْرٍ مَسْبُوقٌ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ، وَقَدْ فَاتَنِي التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فَعَلَيْكَ بِضَمِّ مَا هُنَا إِلَى مَا هُنَالِكَ. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يُوحِي أَيْ إِيحَاءً كَذَلِكَ الْإِيحَاءِ الْعَجِيبِ. وَالْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْمَاضِي إِلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُوحِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِيحَاءَهُ إِلَيْهِ مُتَجَدِّدٌ لَا يَنْقَطِعُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ لِيَيْأَسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِقْلَاعِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الشورى: 7] إِذْ لَا غَرَضَ فِي إِفَادَةِ مَعْنَى التَّجَدُّدِ هُنَاكَ. وَأَمَّا مُرَاعَاةُ التَّجَدُّدِ هُنَا

[سورة الشورى (42) : آية 4]

فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ هُوَ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ إِدْمَاجٌ. وَلَكَ أَنْ تَعْتَبِرَ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ مَنْظُورًا فِيهَا إِلَى مُتَعَلِّقَيِ الْإِيحَاءِ وَهُوَ إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، فَتَجْعَلَ الْمُضَارِعَ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَى الرُّسُلِ حَيْثُ اسْتَبْعَدَ الْمُشْرِكُونَ وُقُوعَهُ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] وَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُوحِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ فَاعِلٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ يُوحِي بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّ إِلَيْكَ نَائِبُ فَاعِلٍ، فَيَكُونُ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: يُوحَى إِلَيْكَ، قِيلَ: وَمَنْ يُوحِيهِ، فَقِيلَ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أَيْ يُوحِيهِ اللَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ (¬1) أَوِ الْحَارِثِ بْنِ نَهِيكٍ (¬2) : لَيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ إِذْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْبَيْتِ بِالْبِنَاءِ للنائب. [4] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 4] لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) جُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُقَرِّرَةٌ لِوَصْفِهِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكًا لَهُ تَتَحَقَّقُ لَهُ الْعِزَّةُ لِقُوَّةِ مَلَكُوتِهِ، وَتَتَحَقَّقُ لَهُ الْحِكْمَةُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي خَلْقَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِتْقَانَ ذَلِكَ النِّظَامِ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُقَرِّرَةً مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ فَلَمْ تُعْطَفْ عَلَيْهَا. ¬

(¬1) كَذَا نسب فِي كتب علم الْمعَانِي. (¬2) كَذَا عزاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه.

[سورة الشورى (42) : آية 5]

وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ عَطْفٌ عَلَيْهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَرَّرَتْهُ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا فَإِنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالْعَلَاءِ وَالْعَظَمَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَزِيزًا لَتَخَلَّفَ عَلَاؤُهُ وَعَظَمَتُهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا حَكِيمًا لَأَنَّ عَلَاءَهُ يَقْتَضِي سُمُوَّهُ عَنْ سَفَاسِفِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَظِيمًا لَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِسَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَلَتَنَازَلَ إِلَى عَبَثِ الْفِعَالِ. وَالْعُلُوُّ هُنَا عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ السُّمُوُّ فِي الْكَمَالِ بِحَيْثُ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ كَامِلٍ. وَالْعَظَمَةُ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ جَلَالَةُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْجُمْلَةِ مَعْنَى الْقَصْرِ، أَيْ لَا عَلِيَّ وَلَا عَظِيمَ غَيْرُهُ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُ لَا يَخْلُو عَنِ افْتِقَارٍ إِلَيْهِ فَلَا عُلُوَّ لَهُ وَلَا عَظَمَةَ. وَهَذَا قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ دُونَ آلِهَتِكُمْ فَلَا عُلُوَّ لَهَا كَمَا تَزْعُمُونَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي خِلَالِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [5] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 5] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) يَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ. جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَيْهَا، أَيْ يَكَادُ السَّمَاوَاتُ عَلَى عَظَمَتِهِنَّ يَتَشَقَّقْنَ مِنْ شِدَّةِ تَسَخُّرِهِنَّ فِيمَا يُسَخِّرُهُنَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ عَمَلٍ لَا يُخَالِفُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُنَّ، وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: يَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ كَثْرَةِ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْكَوَاكِبِ وَتَصَارِيفِ الْأَقْدَارِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَبِحَقِّهَا أَنْ تَئِطَّ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا فِيهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ سَاجِدٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بِحَمْدِهِ» (¬1) وَيُرَجِّحُهُ تَعْقِيبُهُ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَالْكِسَائِيُّ يَكَادُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَوْقِيَّةٍ وَهُمَا وَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى جَمْعٍ غَيْرِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَخَاصَّةً مَعَ عَدَمِ التَّأْنِيثِ الْحَقِيقِيِّ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [90] قَوْلُهُ: يَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ. ¬

(¬1) أخرجه ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس وَهُوَ حَدِيث حسن.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَتَفَطَّرْنَ بِتَحْتِيَّةٍ ثُمَّ فَوْقِيَّةٌ وَأَصْلُهُ مُضَارِعُ التَّفَطُّرِ، وَهُوَ مُطَاوِعُ التَّفْطِيرِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ الشَّقِّ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ بِتَحْتِيَّةٍ ثُمَّ نُونٍ وَهُوَ مُضَارِعُ: انْفَطَرَ، مُطَاوِعُ الْفَطْرِ مَصْدَرِ فَطَرَ الثُّلَاثِيِّ، إِذَا شَقَّ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قَبُولَ أَثَرِ الْفَاعِلِ إِذْ لَا فَاعِلَ هُنَا لِلشَّقِّ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَبَرُ بِحُصُولِ الْفِعْلِ، وَهَذَا كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمُ: انْشَقَّ ضَوْءُ الْفَجْرِ، فَلَا الْتِفَاتَ هُنَا لِمَا يُقْصَدُ غَالِبًا فِي مَادَّةِ التَّفَعُّلِ مِنْ تَكْرِيرِ الْفِعْلِ إِذْ لَا فَاعِلَ لِلشَّقِّ هُنَا وَلَا لِتَكَرُّرِهِ، فَاسْتَوَتِ الْقِرَاءَتَانِ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ، عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيَغِ الْمُطَاوَعَةِ فِي اللُّغَةِ ذُو أَنْحَاءَ كَثِيرَةٍ وَاعْتِبَارَاتٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّضِيِّ فِي «شَرْحِ الشَّافِيَةِ» . وَقَوْلُهُ: مِنْ فَوْقِهِنَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ فَوْقِهِنَّ عَائِدًا عَلَى السَّماواتُ، فَيَكُونَ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ يَتَفَطَّرْنَ بِمَعْنَى: أَنَّ انْشِقَاقَهُنَّ يَحْصُلُ مِنْ أَعْلَاهُنَّ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ الِانْشِقَاقِ لِأَنَّهُ إِذَا انْشَقَّ أَعْلَاهُنَّ كَانَ انْشِقَاقُ مَا دُونَهُ أَوْلَى، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [259] وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ [45] . وَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَرْضِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فِي الْأَرْضِ [الشورى: 4] عَلَى تَأْوِيلِ الْأَرْضِ بِأَرَضِينَ بِاعْتِبَارِ أَجْزَاءِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْأَرْضِ بِسُكَّانِهَا من بَاب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] . وَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً زِيَادَتَهَا مَعَ الظُّرُوفِ لِتَأْكِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، فَيُفِيدُ الظَّرْفُ اسْتِحْضَارَ حَالَةِ التَّفَطُّرِ وَحَالَةِ مَوْقِعِهِ، وَقَدْ شُبِّهَ انْشِقَاقُ السَّمَاءِ بِانْشِقَاقِ الْوَرْدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] . وَالْوَرْدَةُ تَنْشَقُّ مِنْ أَعْلَاهَا حِينَ يَنْفَتِحُ بِرْعُومُهَا فَيُوشِكُ إِنْ هُنَّ تَفَطَّرْنَ أَنْ يَخْرِرْنَ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَكَادُ يَقَعُ ذَلِكَ لِمَا فَشَا فِي الْأَرْضِ مِنْ إِشْرَاكٍ وَفَسَادٍ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا يَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: 88- 90] وَيُرَجِّحُهُ قَوْلُهُ الْآتِي: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] .

[سورة الشورى (42) : آية 6]

وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ يَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ لِإِفَادَتِهَا تَقْرِيرَ مَعْنَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] . مَرْتَبَةُ وَاجِبِ الْوُجُودِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ أَهْلُ التَّنْزِيهِ وَالْحَمْدِ وَمَرْتَبَةُ الرَّوْحَانِيَّاتِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ وَهِيَ وَاسِطَةُ الْمُتَصَرِّفِ الْقَدِيرِ وَمُفِيضِ الْخَيْرِ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ مِنْ تَكْوِينٍ وَهُدًى وَإِفَاضَةِ خَيْرٍ عَلَى النَّاسِ، فَهِيَ حِينُ تَتَلَقَّى مِنَ اللَّهِ أَوَامِرَهُ تُسَبِّحُهُ وَتَحْمَدُهُ، وَحِينَ تَفِيضُ خَيْرَاتُ رَبِّهَا عَلَى عِبَادِهِ تَسْتَغْفِرُ لِلَّذِينِ يَتَقَبَّلُونَهَا تَقَبُّلَ الْعَبِيدِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ ثَمَرَاتِ إِبْلَاغِهَا، وَذَلِكَ بِتَأْثِيرِهَا فِي نَظْمِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ. وَمَرْتَبَةُ الْبَشَرِيَّةِ الْمُفَضَّلَةِ بِالْعَقْلِ إِذْ أَكْمَلُهُ الْإِيمَانُ وَهِيَ الْمُرَادُ بِ (مَنْ فِي الأَرْض) . [6] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 6] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشورى: 4] بَعْدَ أَنْ أُفِيدَ مَا هُوَ كَالْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ يكَاد السَّمَاوَات [الشورى: 4، 5] الْآيَتَيْنِ. فَالْمَعْنَى: قَدْ نَهَضَتْ حُجَّةُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ وَعَلِمَهَا الْمُؤْمِنُونَ فَاسْتَغْفَرَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُبْصِرُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَدِلَّةُ فَلَا تَهْتَمَّ بِشَأْنِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَسْبُهُمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. فَهَذَا تَسْكِينٌ لحزن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ مقدّمة لما سيأمر بِهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى [الشورى: 7]

الْآيَةَ، ثُمَّ قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [الشورى: 15] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الشورى: 23] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. وَالْحَفِيظُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ حَافِظٌ، وَتَخْتَلِفُ مَعَانِيهِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى رِعَايَةِ الشَّيْءِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ: وَيَكْثُرُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الْمَرْقُوبِ وَأَعْمَالِهِ، وَبِاخْتِلَافِ مَعَانِيهِ تَخْتَلِفُ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ يُنَاسِبُ الْمَعْنَى، وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا يُعَدَّى الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ. وَالْوَكِيلُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ عَمَلٌ فِي شَيْءٍ أَوِ اقْتِضَاءِ حَقٍّ. يُقَالُ: وَكَّلَهُ عَلَى كَذَا، وَمِنْهُ الْوَكَالَةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهِ وَأَعْمَالِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ حَفِيظٌ وَ (وَكِيلٌ) هُنَا فِي اسْتِعْمَالِهِمَا الْكِنَائِيِّ عَنْ مُتَقَارِبِ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ قَدْ يُفَسِّرُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَحَدَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ الْآخَرِ كَتَفْسِيرِ الْمُرَادِفِ بِمُرَادِفِهِ، وَذَلِكَ تَسَامُحٌ. فَعَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِمَا إِلَى أَصْلِ مَادَّتَيْ (حَفِظَ) وَ (وَكَلَ) ، فَمَادَّةُ (حَفِظَ) تَقْتَضِي قِيَامَ الْحَدَثِ بِفَاعِلٍ وَتَعْدِيَتَهُ إِلَى مَفْعُولٍ، وَمَادَّةُ (وَكَلَ) تَقْتَضِي قِيَامَ الْحَدَثِ بِفَاعِلٍ وَتَعْدِيَتَهُ إِلَى مَفْعُولٍ وَتَجَاوُزَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ (حَفِظَ) مُفِيدًا بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى مُتَعَلِّقٍ آخَرَ، بِخِلَافِ فِعْلِ (وَكَلَ) فَإِفَادَتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى ذِكْرٍ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ زَائِدٍ عَلَى الْمَفْعُولِ وَمِنْ عَلَائِقِهِ، فَلِذَلِكَ أُوثِرَ وَصْفُ حَفِيظٌ هُنَا بِالْإِسْنَادِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَهُ غَيْرُهُ حِفْظَ شَيْءٍ فَهُوَ فَاعِلُ الْحِفْظِ، وَأُوثِرَ وَصْفُ (وَكِيلٍ) بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِأَكْثَرِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى: اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ لَا أَنْتَ وَمَا أَنْتَ بِمُوَكَّلٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى جَبْرِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ

السُّورَةِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] . وَأَيْضًا هِيَ كَالْبَيَانِ لِمَا فِي جملَة يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ [الشورى: 5] لِأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ مُقَارَبَةِ تَفَطُّرِهِنَّ كَثْرَةَ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَلَوْلَا أَنَّهَا أُرِيدَ مِنْهَا زِيَادَةُ تَقْرِيرِ مَعْنَى جُمْلَةِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] لَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُفْصَلَ وَلَكِنْ رَجَحَ الْعَطْفُ لِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْرِيرِ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّبْيِينُ فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَعْقِيبِ جُمْلَةِ يَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ بِهَا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا. فَقَوله: الْمَلائِكَةُ [الشورى: 5] مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَة يُسَبِّحُونَ [الشورى: 5] خَبَرٌ وَالْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِجَلَالِ اللَّهِ. وَتَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ: خُضُوعٌ لِعَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ، وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ. فَتَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ قَدْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ إِدْرَاكِهِمْ عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ: انْفِعَالٌ رَوْحَانِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَاف: 205] ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى التَّنْزِيهِ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ ظَوَاهِرِ الِانْفِعَالِ بِالطَّاعَةِ أَوْ مِنْ كَلَامٍ مُنَاسِبٍ لِلْحَالَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَكَذَلِكَ حَمْدُهُمْ رَبَّهُمْ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَمَفْعُولُ يُسَبِّحُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُصَاحَبَتُهُ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] تَقْدِيرُهُ: يُسَبِّحُونَ رَبَّهُمْ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ تَسْبِيحًا مُصَاحِبًا لِحَمْدِهِمْ رَبَّهُمْ، أَيِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ الْكَمَالِيَّةِ، وَمِنَ الثَّنَاءِ مَا هُوَ شُكْرٌ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، فَالْمَعْنَى: يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَحْمَدُونَهُ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ تَسْبِيحِ رَبِّهِمْ وَحَمْدِهِ وَشُغِلُوا بِتَحْمِيدِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا نِعْمَةَ لَهَا عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ. وَتَقْدِيمُ التَّسْبِيحِ عَلَى الْحَمْدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ أَهَمُّ من إِثْبَات صِفَات الْكَمَالِ لَهُ لِأَنَّ التَّنْزِيهَ تَمْهِيدٌ لِإِدْرَاكِ كَمَالَاتِهِ تَعَالَى. وَلِذَلِكَ كَانَتِ

الصِّفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِصِفَاتِ السُّلُوبِ مُقَدَّمَةً فِي تَرْتِيبِ عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي- عِنْدَنَا- وَالصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَالِاسْتِغْفَارُ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِحُصُولِ أَسْبَابِهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ مَرَاتِبَ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابَهَا، وَهُمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ عَالَمِ الْخَيْرِ وَالْهُدَى يَحْرِصُونَ عَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَعَلَى اهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالطَّاعَاتِ وَيُنَاجُونَ نُفُوسَ النَّاسِ بِدَوَاعِي الْخَيْرِ، وَهِيَ الْخَوَاطِرُ الْمَلَكِيَّةُ. فَالْمُرَاد ب لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] مَنْ عَلَيْهَا يَسْتَحِقُّونَ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غَافِر: 7] ثُمَّ قَالَ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [9] . وَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَلْعَنُونَ مَنْ تَحِقُّ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [161] . فَعُمُومُ مَنْ فِي الْأَرْضِ هُنَا مَخْصُوصٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ. وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الشورى: 5] تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] إِلَى آخِرِهَا لِإِبْطَالِ وَهْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ، أَيْ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ. وَصُدِّرَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُفَادِهَا. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهِيَ: وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ التَّبَعِيَّةِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لِلتَّوْحِيدِ، أَيْ لَا تَخْشَ أَنْ نَسْأَلَكَ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِذْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [107] . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْحَفِيظُ الْوَكِيل بِمَعْنًى كَانَ إِثْبَاتُ كَوْنِ اللَّهِ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَنَفْيُ كَون الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِيلًا عَلَيْهِمْ مُفِيدًا قَصْرَ الْكَوْنِ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دون الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ أَحَدِ طُرُقِ الْقَصْرِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ صَرِيحِ الْقَصْرِ وَمَنْطُوقِهِ لَا مِنْ مَفْهُومِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَصْرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَمِنْه قَول السموأل:

[سورة الشورى (42) : آية 7]

تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَأَمَّا طُرُقُ الْقَصْرِ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي فَهِيَ مِنْ أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ، وَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ طَرَفِهِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، نزل الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّهُ وَكَيْلٌ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّنْزِيلِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يضرّون الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لم يصدّقوه. [7] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 7] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ [الشورى: 3] إِلَخْ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفَةِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِمَا فِي الْمَعْطُوفَةِ مِنْ كَوْنِ الْمُوحَى بِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَمَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ كَوْنِهِ مَنْ نَوْعِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَالْقَوْلُ فِي وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا كَالْقَوْلِ فِي كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ [الشورى: 3] . وَإِنَّمَا أُعِيدَ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا لِيُبْنَى عَلَيْهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِمَا حَجَزَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَصْلِ وَأَصْلُ النَّظْمِ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مَعَ مَا حَصَلَ بِتِلْكَ الْإِعَادَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ لِتَقْرِيرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَفْضَلَ تَقْرِيرٍ. وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ الْتِفَاتٌ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ وَمَا أُوحِيَ إِلَى مَنْ قَبْلَكَ، إِلَّا اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إِبْرَاهِيم: 4] . وَالْقُرْآنُ مَصْدَرُ: قَرَأَ، مِثْلُ: غُفْرَانَ وَسُبْحَانَ، وَأُطْلِقُ هُنَا عَلَى الْمَقْرُوءِ مُبَالَغَةً فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَقْرُوئِيَّةِ لِكَثْرَةِ مَا يَقْرَأُهُ الْقَارِئُونَ وَذَلِكَ لِحُسْنِهِ وَفَائِدَتِهِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الِاسْمُ مَعْنَى الْكَمَالِ بَيْنَ الْمَقْرُوءَاتِ. وعَرَبِيًّا نِسْبَةٌ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، أَيْ لُغَةِ الْعَرَبِ

لِأَنَّ كَوْنَهُ قُرْآنًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ، فَوَصْفُهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا يُفِيدُ أَنَّهُ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ. وَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها تَعْلِيلٌ لِ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِأَنَّ كَوْنَهُ عَرَبِيًّا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْذَرِينَ بِهِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالدِّينِ ابْتِدَاءً لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنِ اخْتِيَارِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لِتَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَتَلَقَّى الْإِسْلَامَ وَيَنْشُرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَلَوْ رُوعِيَ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَاقْتَضَى أَنْ يَنْزِلَ بِلُغَاتٍ لَا تُحْصَى، فَلَا جَرَمَ اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ أَفْضَلَ اللُّغَاتِ وَاخْتَارَ إِنْزَالَهُ عَلَى أَفْضَلِ الْبَشَرِ. وأُمَّ الْقُرى مَكَّةُ، وَكُنِّيَتْ: أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَقْدَمُ الْمُدُنِ الْعَرَبِيَّةِ فَدَعَاهَا الْعَرَبُ: أُمَّ الْقُرَى، لِأَنَّ الْأُمَّ تُطْلَقُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ مِثْلَ: أُمِّ الرَّأْسِ، وَعَلَى مَرْجِعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ لِلرَّايَةِ: أُمُّ الْحَرْبِ، وَقَوْلِهِمْ: أُمُّ الطَّرِيقِ، لِلطَّرِيقِ الْعَظِيمِ الَّذِي حَوْلَهُ طُرُقٌ صِغَارٌ. ثُمَّ إِنَّ إِنْذَارَ أُمِّ الْقُرَى يَقْتَضِي إِنْذَارَ بَقِيَّةِ الْقُرَى بِالْأَحْرَى، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الْقَصَص: 59] ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [92] . وَالْمُرَادُ: لِتُنْذَرَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْبَلَدِ عَلَى سُكَّانِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] . وَأَهْلُ مَكَّةَ هُمْ قُرَيْشٌ، وَأَمَّا مَنْ حَوْلَهَا فَهُمُ النَّازِلُونَ حَوْلَهَا مِنَ الْقَبَائِلِ مِثْلَ خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ، وَمِنَ الَّذِينَ حَوْلَهَا قُرَيْشٌ الظَّوَاهِرُ وَهُمُ السَّاكِنُونَ خَارِجَ مَكَّةَ فِي جِبَالِهَا. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى إِنْذَارِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ إنذار الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَلَا تَخْصِيص الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِنْذَارِ دُونَ التَّبْشِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْفِعْلِ بِعِلَّةِ بَاعِثِهِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّلَ مُخَصَّصٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَا بِمُتَعَلِّقَاتِهَا إِذْ قَدْ يَكُونُ لِلْفِعْلِ الْوَاحِدِ عِلَلٌ بَاعِثَةٌ فَإِن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] . وَالِاقْتِصَارُ هُنَا عَلَى إِنْذَارِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَانْتَصَبَ أُمَّ الْقُرى عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ تُنْذِرَ بِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمُعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْمُنْذَرَ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِفِعْلِ الْإِنْذَارِ. لِأَنَّ (أَنْذَرَ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 13] ، وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: «مَا مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ» . فَالْمَعْنَى: لِتُنْذِرَ أَهْلَ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا مَا يُنْذَرُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أُعِيدَ فِعْلُ تُنْذِرَ لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِ أَمْرِ يَوْمِ الْجَمْعِ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ عُمُومِ الْإِنْذَارِ يَقْتَضِي تَهْوِيلَهُ، وَلِأَنَّ تَعْدِيَةَ فِعْلِ وَتُنْذِرَ إِلَى يَوْمَ الْجَمْعِ تَعْدِيَةُ مُخَالَفَةٍ لِإِنْذَارِ أُمِّ الْقُرَى لِأَنَّ يَوْمَ الْجَمْعِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ وَتُنْذِرَ، أَيْ وَتُنْذِرَ النَّاسَ يَوْمَ الْجمع، فمفعول وَتُنْذِرَ الثَّانِي هُوَ الْمُنْذَرُ بِهِ وَمَفْعُولُ لِتُنْذِرَ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُنْذَرُ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ الْجَمْعِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ تُنْذِرَ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَيْ وَتُنْذِرَهُمْ، أَيْ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى يَوْمَ الْجَمْعِ بِالْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: 18] . وَيَوْم الْجَمْعِ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَ يَوْمَ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْخَلَائِقَ تُجْمَعُ فِيهِ لِلْحِسَابِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] . وَالْجمع مَصْدَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُجْتَمِعِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ [ص: 59] ، أَيْ يَوْمَ جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَجُمْلَةُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، وَعُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ فَكَانَ الْجُمْلَتَانِ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ شَأْنِ هَذَا الْجَمْعِ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ. فَقِيلَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، أَيْ فَرِيقٌ مِنَ الْمَجْمُوعِينَ بِهَذَا الْجَمْعِ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، أَوْ لِسُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ حَالِ هَذَا الْجَمْعِ إِنْ كَانَ الْجَمْعُ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِينَ: وَالتَّقْدِيرُ: فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي السَّعِيرِ. وَتَقَدَّمَ السَّعِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [97] . وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِ فَرِيقٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ لِوُقُوعِهَا فِي مَعْرِضِ التَّفْصِيلِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

[سورة الشورى (42) : آية 8]

فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ. وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ دَلَائِلَهُ تَنْفِي الشَّكَّ فِي أَنَّهُ سَيَقَعُ فَنَزَّلَ ريب المرتابين فِي مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ الْيَقِينَ بِوُقُوعِهِ بَيِّنَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] . وَظَرْفِيَّةُ الرَّيْبِ الْمَنْفِيِّ فِي ضَمِيرِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ بَابِ إِيقَاعِ الْفِعْلِ وَنَحْوِهِ عَلَى اسْمِ الذَّاتِ، وَالْمُرَادُ: إِيقَاعُهُ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِهَا الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، أَيْ أَكْلُهَا، أَيْ لَا رَيْبَ فِي وُقُوعِهِ. وَجُمْلَةُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ وفَرِيقٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُتَابَعِ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ، أَيْ هُمْ فَرِيقٌ فِي الجنّة إِلَخ. [8] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 8] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ إِفَادَةُ أَنَّ كَوْنَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَمْرٌ شَاءَ اللَّهُ تَقْدِيرَهُ، أَيْ أَوْجَدَ أَسْبَابَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَوْ شَاءَ لَقَدَّرَ أَسْبَابَ اتِّحَادِهِمْ عَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْهُدَى فَكَانُوا سَوَاءً فِي الْمَصِيرِ، وَالْمُرَادُ: لَكَانُوا جَمِيعًا فِي الْجَنَّةِ. وَهَذَا مَسُوقٌ لتسلية الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَمَنِّيهِمْ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُهْتَدِينَ وَيَكُونَ جَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْأَمْرَيْنِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، لَأَنَّ هَذَا الشِّقَّ الثَّانِيَ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِبَيَانِهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ. فَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة: 13] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس: 99] . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ

[سورة الشورى (42) : آية 9]

أَيْ وَلَكِنْ شَاءَ مَشِيئَةً أُخْرَى جَرَتْ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ، وَهِيَ أَنْ خَلَقَهُمْ قَابِلَيْنِ لِلْهُدَى وَالضَّلَالِ بِتَصَارِيفِ عُقُولِهِمْ وَأَمْيَالِهِمْ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ كَسْبِ أَفْعَالِهِمْ وَأَوْضَحَ لَهُمْ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ بِالتَّكْلِيفِ فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُهْتَدُونَ وَهُمُ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَمِنْهُمُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ. فَقَوْلُهُ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أَحَدُ دَلِيلَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَدْرَكِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ لِيُدْخِلَ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فِي رَحْمَتِهِ وَهِيَ الْجَنَّةُ. وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُدْخِلُ مِنْهُمُ الْفَرِيقَ الْآخَرَ فِي عِقَابِهِ، فَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بَقَوْلِهِ: وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لِأَنَّ نَفْيَ النَّصِيرِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ فِي بُؤْسٍ وَضُرٍّ وَمَغْلُوبِيَّةٍ بِحَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَى نَصِيرٍ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيرٌ، فَيَدْخُلُ فِي الظَّالِمِينَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ سَبَبُ وُرُودِ هَذَا الْعُمُومِ. وَأَصْلُ النَّظْمِ: وَيُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي غَضَبِهِ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى مَا فِي الْآيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ إِدْخَالِهِمْ فِي غَضَبِهِ هُوَ ظُلْمُهُمْ، أَيْ شِرْكُهُمْ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] مَعَ إِفَادَةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَدْفَعُ عَنْهُمْ غَضَبَهُ وَلَا نَصِيرًا يَثْأَرُ لَهُمْ. وَضَمِيرُ (جَعَلَهُمْ) عَائِدٌ إِلَى فَرِيقِ الْجَنَّةِ وَفَرِيقِ السَّعِيرِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ كل فريق. [9] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 9] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) أَمِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ كَمَا يُقَالُ: دَعِ الِاهْتِمَامَ بِشَأْنِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ وَلْنَعُدْ إِلَى فَظَاعَةِ حَالِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ. وَتُقَدَّرُ بَعْدَ أَمِ هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ. فَالْمَعْنى: بل أاتخذوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، أَيْ أَتَوْا مُنْكَرًا لَمَّا اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. فَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الشورى: 6] فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ فَاءُ جَوَابٍ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَقَامُ إِنْكَارِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ إِنْكَارَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ لَيْسَتْ جَدِيرَةً بِالْوِلَايَةِ، وَأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي وِلَايَتِهِمْ إِيَّاهَا، فَنَشَأَ تَقْدِيرُ شَرْطٍ مَعْنَاهُ: إِنْ أَرَادُوا وَلِيًّا بِحَقٍّ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» : وَتَقْدِيرُ الشَّرْطِ لِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَال: 17] عَلَى تَقْدِيرِ إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَقَالَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ أَرَادُوا وَلِيًّا بِحَقٍّ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ بِالْحَقِّ لَا وَلِيَّ سِوَاهُ. وَالْمُرَادُ بِالْوَلَايَةِ فِي قَوْلِهِ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَلَايَةُ الْمَعْبُودِيَّةِ، فَأَفَادَ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ قَصْرَ جِنْسِ الْوَلِيِّ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى اللَّهِ، وَإِذْ قَدْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ قَصْرُ الْوَلَايَةِ الْحَقِّ عَلَيْهِ تَعَالَى. وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ تَأْكِيدَ الْقَصْرِ وَتَحْقِيقَهُ وَأَنَّهُ لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الْوَلَايَةَ الْحَقَّ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُخْتَصَّةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ مَسُوقٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ تَسْلِيَةً وَتَثْبِيتًا وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ. وَعطف وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى عَلَى جُمْلَةِ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ إِدْمَاجٌ لِإِعَادَةِ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ تَرْسِيخًا لِعِلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِبْلَاغًا لِمَسَامِعِ الْمُنْكِرِينَ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فِي ضِمْنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَبْطَلَ مُعْتَقَدَهُمْ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ أَرْدَفَ بِإِبْطَالِ مَا هُوَ مِنْ عَلَائِقِ شِرْكِهِمْ وَهُوَ نَفْيُ الْبَعْثِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِمْ لِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ آلِهَتِهِمْ لِأَنَّ وُقُوعَ الْبَعْثِ مَجْحُودٌ عِنْدَهُمْ. فَأَمَّا عَطْفُ جُمْلَةِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهُوَ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَذْكِيرًا بِانْفِرَادِهِ بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَيُفِيدُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] ، وَيُفِيدُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ: قَالَ تَعَالَى:

[سورة الشورى (42) : آية 10]

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْل: 17] وَقَالَ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْل: 20] وَقَالَ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الْحَج: 73] . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَعْرِيضٌ بِإِبْلَاغِهِ إِلَى مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي إِفَادَةِ الْحُكْمِ، وَكَانَتْ إِفَادَةُ التَّعْلِيلِ بِهَا حَاصِلَةً مِنْ مَوْقِعِهَا عَقِبَهَا، وَلَوْ أُرِيدَ التَّعْلِيلُ ابْتِدَاءً لَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلم تعطف. [10] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 10] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَكْمِلَةً لِلِاعْتِرَاضِ فَيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مُتَّصِلًا بَقَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هَذَا الْكَلَامِ لِمُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ضَمَائِرَ رَبِّي، وتَوَكَّلْتُ، وأُنِيبُ ضَمَائِرُهُ، وَتِلْكَ الضَّمَائِرُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا حَظَّ فِي سِيَاقِ الْوَحْيِ إِلَى أَحَدٍ سوى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ فِعْلِ أَمْرٍ بِقَوْلٍ يَقُوله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ فِعْلَ أَمْرٍ بِالْقَوْلِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ بِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ لِأَنَّ مَادَّةَ الِاخْتِلَافِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ وَحَالَةَ الْفَرِيقَيْنِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْكَافِرُونَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنَّفْعِ وَالْإِضْرَارِ. ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا، أَيْ أَيُّ شَيْءٍ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، وَالْمُرَادُ: مِنْ أَشْيَاء الدّين وشؤون اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ فَحُكْمُهُ عَائِدٌ إِلَى مَا اخْتَلَفْتُمْ عَلَى مَعْنَى: الْحُكْمُ بَيْنَكُمْ فِي شَأْنِهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَّضِحُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ حِينَ يَرَوْنَ الثَّوَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعِقَابَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ.

وَ (إِلَى اللَّهِ) خَبَرٌ عَنْ (حُكْمِهِ) . وإِلَى لِلِانْتِهَاءِ وَهُوَ انْتِهَاءٌ مَجَازِيٌّ تَمْثِيلِيٌّ، مَثَّلَ تَأْخِيرَ الْحُكْمِ إِلَى حُلُولِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَيْرِ السَّائِرِ إِلَى أَحَدٍ يَنْزِلُ عِنْدَهُ. وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِاخْتِلَافِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ حُكْمُهُ مَنُوطٌ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ صِحَّةً وَفَسَادًا فَإِصْدَارُ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُصِيبِ وَالْمُخْطِئِ فِيهَا يَسِيرٌ إِنْ شَاءَ النَّاسُ التَّدَاوُلَ وَالْإِنْصَافَ. وَبِذَلِكَ تَوَصَّلَ أَهْلُ الْحَقِّ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُصِيبِ وَالْمُخْطِئِ، وَمَرَاتِبُ الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْآيَاتِ سَابِقَهَا وَتَالِيَهَا وَلَا أَغْرَاضَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ لَا يَرْتَضِيهِ نَطَّاسٌ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى [الشورى: 7] الْآيَةَ، فَتَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَقْتَضِي كَلَامًا مُنْذَرًا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِجُمْلَةِ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ تَكْمِلَةٌ لِلْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونَ فِي قَوْله: رَبِّي التفاتا مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَتَا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ مُعْتَرِضَتَيْنِ. وَالْإِشَارَةُ لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. وَهَذَا التَّمْيِيزُ لِإِبْطَالِ الْتِبَاسِ مَاهِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ سَمَّوُا الْأَصْنَامَ آلِهَةً وَأَرْبَابًا. وَأُوثِرَ اسْمُ الْإِشَارَةِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْبَعِيدِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ بِالْبُعْدِ الِاعْتِبَارِيِّ اللَّازِمِ لِلسُّمُوِّ وَشَرَفِ الْقَدْرِ، أَيْ ذَلِكُمُ اللَّهُ الْعَظِيمُ. وَيُتَوَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَعْظِيمِ حُكْمِهِ، فَالْمَعْنَى: اللَّهُ الْعَظِيمُ فِي حُكْمِهِ هُوَ رَبِّي الَّذِي تَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِينِي مِنْكُمْ. والتوكل: تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَكْلِ، وَهُوَ التَّفْوِيضُ فِي الْعَمَلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سورة الشورى (42) : آية 11]

وَالْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ تَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِنَابَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [75] . وَجِيءَ فِي فِعْلِ تَوَكَّلْتُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي فِعْلِ أُنِيبُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ كَانَ سَابِقًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَنَكُّرُ قَوْمِهِ لَهُ، فَقَدْ صَادَفَ تَنَكُّرُهُمْ مِنْهُ عَبْدًا مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّهِ، وَإِذَا كَانَ تَوَكُّلُهُ قَدْ سَبَقَ تَنَكُّرَ قَوْمِهِ فَاسْتِمْرَارُهُ بَعْدَ أَنْ كَشَّرُوا لَهُ عَنْ أَنْيَابِ الْعُدْوَانِ مُحَقَّقٌ. وَأَمَّا فِعْلُ أُنِيبُ فَجِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَجَدُّدِ الْإِنَابَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ. وَيُعْلَمُ تَحَقُّقُهَا فِي الْمَاضِي بِمُقَارَنَتِهَا لِجُمْلَةِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لِأَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُنِيبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِبَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَأَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ أَنَبْتُ وَأُنِيبُ. وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ فِي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ. [11] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 11] فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَعْقَبَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَبْرَزِ آثَارِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا. وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ [1] . جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فاطِرُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ

فَطْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَالْأَنْعَامِ مِنْ أَعْجَبِ أَحْوَالِ خَلْقِ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا خَبَرًا ثَالِثًا عَنْ ضَمِيرِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] . وَالْمَعْنَى: قَدَّرَ فِي تَكْوِينِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَزْوَاجًا لِأَفْرَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ مُقَارِنًا لِأَصْلِ تَكْوِينِ النَّوْعِ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَعْمُولَاتِ جَعَلَ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِ أَزْواجاً، وَلِيَكُونَ التَّعْلِيلُ بِهِ مُلَاحَظًا فِي الْمَعْطُوفِ بَقَوْلِهِ وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً. وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْضَمُّ إِلَى فَرْدٍ فَيَصِيرُ كِلَاهُمَا زَوْجًا لِلْآخَرِ وَالْمُرَادُ هُنَا: الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَعَلَ لِمَجْمُوعِكُمْ أَزْوَاجًا، فَلِلذُّكُورِ أَزْوَاجٌ مِنَ الْإِنَاثِ، وَلِلنِّسَاءِ أَزْوَاجٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْجَعْلِ حَصَلَتْ لَذَّةُ التَّأَنُّسِ وَنِعْمَةُ النَّسْلِ. وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ نَوْعِكُمْ، وَمِنْ بَعْضِكُمْ، كَقَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: 29] . وَكَوْنُ الْأَزْوَاجِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَالٌ فِي النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ لَفَاتَ نَعِيمُ الْأُنْسِ، وَأَمَّا زَعْمُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَزَوَّجُ جِنِّيَّةً أَوْ غُولًا فَذَلِكَ مِنَ التَّكَاذِيبِ وَتَخَيُّلَاتِ بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا عَرَضَ لِبَعْضِ النَّاسِ خَبَالٌ فِي الْعَقْلِ خَاصٌّ بِذَلِكَ فَتَخَيَّلَ ذَلِكَ وَتَحَدَّثَ بِهِ فَرَاجَ عَنْ كُلِّ أَبْلَهَ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً عَطْفٌ عَلَى أَزْواجاً الْأَوَّلِ فَهُوَ كَمَفْعُولٍ لِ جَعَلَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا، أَيْ جَعَلَ مِنْهَا أَزْوَاجًا بَعْضَهَا لِبَعْضٍ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ دُونَ أَزْوَاجِ الْوَحْشِ: أَنَّ فِي أَنْوَاعِ الْأَنْعَامِ فَائِدَةً لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهَا تَعِيشُ مَعَهُ وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَلُحُومِهَا وَنَسْلِهَا وَعَمَلِهَا مِنْ حَمْلٍ وَحَرْثٍ، فَبِجَعْلِهَا أَزْوَاجًا حَصَلَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا لِلْإِنْسَانِ.

وَالذَّرْءُ: بَثُّ الْخَلْقِ وَتَكْثِيرُهُ، فَفِيهِ مَعْنَى تَوَالِي الطَّبَقَاتِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلنَّاسِ مِنْ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ بِاعْتِبَارِهَا أَزْوَاجًا سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ نَسْلِهَا. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ بَقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمْ. وَمُرَادُ شُمُولِهِ لِجَعْلِ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لَمْ يَكُنْ هَمَلًا بَلْ مُرَادًا مِنْهُ زِيَادَةُ الْمِنَّةِ فَإِنَّ ذَرْءَ نَسْلِ الْإِنْسَانِ نِعْمَةٌ لِلنَّاسِ وَذَرْءَ نَسْلِ الْأَنْعَامِ نِعْمَةٌ أُخْرَى لِلنَّاسِ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَزْوَاجِ فِي جَانِبِ الْأَنْعَامِ عَنْ ذِكْرِ الذَّرْءِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلنَّاسِ فِي تَزَاوُجِ الْأَنْعَامِ سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ نَسْلِهَا. وَإِذْ كَانَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ ضَمِيرَ خِطَابٍ فِي حِينِ أَنَّ الْأَنْعَامَ لَيْسَتْ عُقَلَاءَ وَلَا مُخَاطَبَةً، فَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ الضَّمِيرِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ إِذْ لَمْ يُذْكَرْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنْ يُقَالَ: يَذَرَاكِ بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى تَأْوِيلِ إِرَادَةِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ. وَجَاءَ فِيهِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِيهِ تَغْلِيبَانِ وَهُوَ تَغْلِيبٌ دَقِيقٌ إِذِ اجْتَمَعَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ نَوْعَانِ مِنَ التَّغْلِيبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَالسَّكَّاكِيُّ فِي مَبْحَثِ التَّغْلِيبِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» . وَضَمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ جَعَلَ لَكُمْ، أَيْ فِي الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَذْرَؤُكُمْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالتَّجَدُّدُ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ. وَحَرْفُ (فِي) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ تَشْبِيهًا لِلسَّبَبِ بِالظَّرْفِ فِي احْتِوَائِهِ عَلَى مُسَبَّبَاتِهِ كَاحْتِوَاءِ الْمَنْبَعِ عَلَى مَائِهِ وَالْمَعْدِنِ عَلَى تُرَابِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ رَابِعٌ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] . وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ مَا هُوَ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُمَاثِلُهُ

شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي تَدْبِيرِهِ وَإِنْعَامِهِ. وَمَعْنَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، فَأُقْحِمَتْ كَافُ التَّشْبِيهِ عَلَى (مِثْلِ) وَهِيَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ مَعْنَى الْمثل هُوَ الشبيه، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْكَافَ مُفِيدَةٌ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْمِثْلِ، وَهُوَ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وحسّنه أَن الموكّد اسْمٌ فَأَشْبَهَ مَدْخُولَ كَافِ التَّشْبِيهِ الْمُخَالِفِ لِمَعْنَى الْكَافِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الثِّقَلُ الَّذِي فِي قَوْلِ خِطَامٍ الْمُجَاشِعِيِّ: وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ (¬1) وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَثَلُ وَاقِعًا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَالْكَافُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِهِ فَكَأَنَّهُ نَفَى الْمِثْلَ عَنْهُ تَعَالَى بِجُمْلَتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ كَيْفَ يُبْطِلُونَ مُمَاثَلَةَ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ رَأْيُ ثَعْلَبٍ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَالزَّجَّاجِ وَالرَّاغِبِ وَأَبِي الْبَقَاءِ وَابْنِ عَطِيَّةَ. وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا ثَانِيًا، وَقَدَّمَ قَبْلَهُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ غَيْرَ مَزِيدَةٍ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَيْسَ شَبِيهَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَالْمُرَادُ: لَيْسَ شِبْهَ ذَاتِهِ شَيْءٌ، فَأَثْبَتَ لِذَاتِهِ مِثْلًا ثُمَّ نَفَى عَنْ ذَلِكَ الْمِثْلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُمَاثِلِ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ بِطَرِيقِ لَازِمِ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ مِثْلِهِ فَقَدِ انْتَفَى الْمِثْلُ عَنْهُ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَّا اسْتَقَامَ قَوْلُكَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَ مِثْلِهِ. وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ قَدْ أَيْفَعَتْ لِدَاتُهُ، أَيْ أَيْفَعَ هُوَ فكني بإيفاع لداغته عَنْ إِيفَاعِهِ. وَقَوْلِ رُقَيْقَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ (¬2) فِي حَدِيثِ سُقْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ «أَلَا وَفِيهِمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِر لداته» اهـ. أَيْ وَيَكُونُ مَعَهُمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ يَعْنِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنِ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ» ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُوَ كَقَوْلِكَ لَيْسَ لِأَخِي زَيْدٍ أَخٌ، تُرِيدُ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ أَخٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ أَخٌ لَكَانَ زَيْدٌ أَخًا ¬

(¬1) رجز وَقَبله: لم يبْق من آي بهَا تحيين ... غير حطام ورمادي كفتين. (¬2) هِيَ رقيقَة بقافين بِصِيغَة التصغير بنت صَيْفِي (وَالصَّوَاب أبي صَيْفِي) بن هِشَام بن عبد الْمطلب.

لِأَخِيهِ فَلَمَّا نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ لِأَخِيهِ أَخٌ فَقَدْ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ أَخٌ، وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْإِبْهَامِ وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ. وَقَدْ شَمِلَ نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ إِبْطَالَ مَا نَسَبُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَهُوَ مُنَاسَبَةُ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً الْآيَةَ. وَحَدِيثُ سُقْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَيْ خَبَرُ اسْتِسْقَائِهِ لِقُرَيْشٍ أَنَّ رُقَيْقَةَ بِنْتَ أَبِي صَيْفِيٍّ قَالَتْ: تَتَابَعَتْ عَلَى قُرَيْشٍ سُنُونَ أَقْحَلَتِ الضَّرْعَ وَأَدَقَّتِ الْعَظْمَ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمَةٌ إِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ هَذَا النَّبِيءَ الْمَبْعُوثَ مِنْكُمْ قَدْ أَظَلَّتْكُمْ أَيَّامُهُ أَلَا فَانْظُرُوا رَجُلًا مِنْكُمْ وَسِيطًا عِظَامًا جِسَامًا أَبْيَضَ أَوْطَفَ الْأَهْدَابِ سَهْلَ الخدّين أشمّ العرين فَلْيُخْلِصْ هُوَ وَوَلَدُهُ، أَلَا وَفِيهِمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ لِدَاتُهُ وَلِيَهْبِطْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ فَلْيَشُنُّوا مِنَ الْمَاءِ وَلْيَمَسُّوا مِنَ الطِّيبِ ثُمَّ لْيَرْتَقُوا أَبَا قُبَيْسٍ فَلْيَسْتَسْقِ الرَّجُلُ وَلْيُؤَمِّنُوا فَعِثْتُمْ مَا شِئْتُمْ» إِلَخْ. قَالُوا: وَكَانَ مَعَهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَن يكون شَيْء مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْمِثْلُ يُحْمَلُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَفْرَادِهِ، قَالَ فَخْرُ الدِّينِ «الْمِثْلَانِ: هُمَا اللَّذَانِ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ» اهـ. فَلَا يُسَمَّى مِثْلًا حَقًّا إِلَّا الْمُمَاثِلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَأَجْزَائِهَا وَلَوَازِمِهَا دُونَ الْعَوَارِضِ، فَالْآيَةُ نَفَتْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مُمَاثِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي صِفَاتِ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُهَا ذَوَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقَاتِ فِي مَحْسُوسِ ذَوَاتِهَا فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوَارِحِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ عِنْدَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا نُسَمِّيهِ بِالْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتُوهُ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِذْ لَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ. وَإِذْ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُوهِمَةِ

[سورة الشورى (42) : آية 12]

التَّشْبِيهَ، إِلَّا أَنَّ تَأْوِيلَ سَلَفِنَا كَانَ تَأْوِيلًا جُمْلِيًّا، وَتَأْوِيلَ خَلَفِهِمْ كَانَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا كَتَأْوِيلِهِمُ الْيَدَ بِالْقُدْرَةِ، وَالْعَيْنَ بِالْعِلْمِ، وَبَسْطَ الْيَدَيْنِ بِالْجُودِ، وَالْوَجْهَ بِالذَّاتِ، وَالنُّزُولَ بِتَمْثِيلِ حَالِ الْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ بِحَالِ نُزُولِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ مَكَانِهِ الْمُمْتَنِعِ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ سَائِلُوهُ لِيُنِيلَهُمْ مَا سَأَلُوهُ. وَلِهَذَا قَالُوا: طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ. وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ صِفَاتِ السُّلُوبِ أَعْقَبَ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الدَّالَّيْنِ عَلَى تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِالْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ نَفْيَ مُمَاثَلَةِ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ الِاتِّصَافِ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَلَكِنْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِهِ تَعَالَى فِي كَمَالِهَا لِأَنَّهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ عَارِضَةٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مُنْتَهَى الْكَمَالِ، فَكَوْنُهُ تَعَالَى سَمِيعًا وَبَصِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ ظِلَالِ التَّأْوِيلِ بِالْحَمْلِ عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَمْ يَقْتَضِيَا جَارِحَتَيْنِ. وَلَقَدْ كَانَ تَعْقِيبُ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِهِمَا شَبِيهًا بِتَعْقِيبِ الْمَسْأَلَة بمثالها. [12] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 12] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) خَبَرٌ رَابِعٌ أَوْ خَامِسٌ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّتِيجَةِ لِمَا تَقَدَّمَهَا، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوَلِيُّ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [الشورى: 11] مِنِ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ، ثَبَتَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّزْقِ. وَالْمَقَالِيدُ: جَمْعُ إِقْلِيدٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوْ جَمْعُ مِقْلَادٍ، وَهُوَ الْمِفْتَاحُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ

[سورة الشورى (42) : آية 13]

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ هِيَ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ غَيْرِهِ. وَالْمَقَالِيدُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ لِخَيْرَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، شُبِّهَتِ الْخَيْرَاتُ بِالْكُنُوزِ، وَأُثْبِتَ لَهَا مَا هُوَ مِنْ مُرَادِفَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْمَفَاتِيحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْخَيْرَاتِ. وَأَمَّا مَا يَتَرَاءَى مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْخَيْرَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بِالْإِعْطَاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالتَّقْتِيرِ وَالتَّبْذِيرِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهِ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَبَسْطُ الرِّزْقِ: تَوْسِعَتُهُ، وَقَدْرُهُ: كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّتِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ هُوَ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ أَنَّ مَشِيئَتَهُ جَارِيَةٌ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمَرْزُوقِينَ مِنْ بَسْطٍ أَوْ قَدْرٍ. وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] . [13] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 13] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. انْتِقَالٌ مِنْ الِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ الْجُثْمَانِيَّةِ إِلَى الِامْتِنَانِ بِالنِّعْمَةِ الرُّوحِيَّةِ بِطَرِيقِ الْإِقْبَالِ عَلَى خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْوِيهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَلِلتَّعْرِيضِ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ. فَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى شَرَعَ أَوْضَحَ وَبَيَّنَ لَكُمْ مَسَالِكَ مَا كَلَّفَكُمْ بِهِ. وَأَصْلُ شَرَعَ جَعَلَ طَرِيقًا وَاسِعَةً، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى سَنِّ الْقَوَانِينِ وَالْأَدْيَانِ فَسُمِّيَ الدّين شَرِيعَة. فشرع هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ،

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [48] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يَعُمُّ الْأَدْيَانَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ. ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ. وَالتَّوْصِيَةُ: الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مَعَ تَحْرِيضٍ عَلَى إِيقَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ مِثْلُ مَا أَمَرَ بِهِ نُوحًا وَحَضَّهُ عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً مُقَدَّرٌ فِيهِ مُضَافٌ، أَيْ مِثْلَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، أَوْ هُوَ بِتَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ الْمُمَاثَلَةِ حَتَّى صَارَ الْمِثْلُ كَأَنَّهُ عَيْنُ مِثْلِهِ. وَهَذَا تَقْدِيرٌ شَائِعٌ كَقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: «هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى» . وَالْمُرَادُ: الْمُمَاثَلَةُ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِمَّا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ، وَفِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِنْ كُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ، وَأَعْظَمُهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ الْحَاجِيَّاتِ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْبَشَرِ بِدُونِهَا، فَإِنَّ كُلَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَدْ أُودِعَ مِثْلُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. فَالْأَدْيَانُ السَّابِقَةُ كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَتَقْوَى اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنْهِيِّهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَبِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِحَسَبِ الْمَعْرُوفِ، قَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 14- 19] . وَتَخْتَلِفُ فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَتَفَارِيعِهِ. وَدِينُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْلُ عَنْ تِلْكَ الْأُصُولِ وَإِنْ خَالَفَهَا فِي التَّفَارِيعِ تَضْيِيقًا وَتَوْسِيعًا، وَامْتَازَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَبِرَفْعِ الْحَرَجِ وَبِالسَّمَاحَةِ وَبِشِدَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْفِطْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» . أَوِ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِيمَا وَقَعَ عَقِبُهُ بَقَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ إِلَخْ بِنَاءً عَلَى أَنْ

تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، أَيْ شَرَعَ لَكُمْ وُجُوبَ إِقَامَةِ الدِّينِ الْمُوحَى بِهِ وَعَدَمَ التَّفَرُّقِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُخَالِفُ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْمُسَمَّاةَ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ يَأْتِي بِمَا أَتَتْ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ دِينِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى لِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ، فَدِينُهُ هُوَ أَسَاسُ الدِّيَانَاتِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنبيئين مِنْ بَعْدِهِ [النِّسَاء: 163] وَلِأَنَّ دِينَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ أَصْلُ الْحَنِيفِيَّةِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْعَرَبِ بِدَعْوَةِ إِسْمَاعِيلَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَشْهَرُ الْأَدْيَانِ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَكَانُوا عَلَى أَثَارَةٍ مِنْهُ فِي الْحَجِّ وَالْخِتَانِ وَالْقِرَى وَالْفُتُوَّةِ. وَدِينُ مُوسَى هُوَ أَوْسَعُ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا دِينُ عِيسَى فَلِأَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي سَبَقَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا دِينٌ آخَرُ، وَلِيَتَضَمَّنَ التَّهْيِئَةَ إِلَى دَعْوَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَتَعْقِيبُ ذِكْرِ دِينِ نُوحٍ بِمَا أُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْخَاتَمُ لِلْأَدْيَانِ، فَعُطِفَ، عَلَى أَوَّلِ الْأَدْيَانِ جَمْعًا بَيْنَ طَرَفَيِ الْأَدْيَانِ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُمَا الْأَدْيَانُ الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ لِأَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الدِّينَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهَا. وَهَذَا نَسْجٌ بَدِيعٌ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاعْتِبَارُ لَكَانَ ذِكْرُ الْإِسْلَامِ مُبْتَدَأً بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنبيئين من بعده [النِّسَاء: 163] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النبيئين مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [7] . وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ أَنَّ تَقْدِيمَ ذكر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّفْصِيلِ لِبَيَانِ أَفْضَلِيَّتِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ لِسَرْدِ مَنْ أُخِذَ عَلَيْهِمِ الْمِيثَاقُ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الشُّورَى فَإِنَّمَا أُورِدَتْ فِي مَقَامِ وَصْفِ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ فَكَأَنَّ اللَّهَ قَالَ: شَرَعَ لَكُمُ الدِّينَ الْأَصِيلَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نُوحًا فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَبَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَهْدِ الْحَدِيثِ، وَبَعَثَ بِهِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا. فَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامٍ، فَعَطَفَهُ عَلَى مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا مِنَ الْمُغَايَرَةِ بِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ. وَذَكَرَهُ عَقِبَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا لِلنُّكْتَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَقَوْلِهِ: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ، جِيءَ بِالْمَوْصُولِ مَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جِيءَ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي، وَقَدْ يظْهر فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ بِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ الْكَلِمَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي هَذَا التَّخَالُفِ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاخْتِلَافُ لِغَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ دَقِيقٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي وَأِخَوَاتِهِ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْمَوْصُولَاتِ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ يُعَيَّنُ بِحَالَةٍ مَعْرُوفَةٍ هِيَ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، فَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بِصِلَتِهِ. وَأَمَّا مَا الْمَوْصُولَةُ فَأَصْلُهَا اسْمٌ عَامٌّ نَكِرَةٌ مُبْهَمَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى صِفَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النِّسَاء: 58] عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ إِذْ قَدَّرُوهُ: نِعْمَ شَيْئًا يعظكم بِهِ. فَمَا نكرَة تَمْيِيز ل (نِعْمَ) وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ بِهِ صِفَةٌ لِتِلْكَ النَّكِرَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] الْمُرَادُ: هَذَا شَيْءٌ لَدَيَّ عَتِيدٌ، وَأَنْشَدُوا: لِمَا نَافِعٍ يَسْعَى اللَّبِيبُ فَلَا تَكُنْ ... لِشَيْءٍ بَعِيدٍ نَفْعُهُ الدَّهْرَ سَاعِيًا أَيْ لِشَيْءٍ نَافِعٍ، فَقَدْ جَاءَتْ صِفَتُهَا اسْمًا مُفْرَدًا بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بَقَوْلِهِ: لِشَيْءٍ بَعِيدٍ نَفْعُهُ، ثمَّ يعرض لما التَّعْرِيفُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِجُمْلَةٍ فَتَعَرَّفَتْ بِصِفَتِهَا وَأَشْبَهَتِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي مُلَازَمَةِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ مَا مَوْصُولَةً فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِيثَارُ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَمَا وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى بِحَرْفِ مَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّهَا شَرَائِعُ بَعُدَ الْعَهْدُ بِهَا فَلَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إِلَّا إِجْمَالًا فَكَانَتْ نَكِرَاتٍ لَا تَتَمَيَّزُ إِلَّا بِصِفَاتِهَا، وَأَمَّا إِيثَارُ الْمُوحَى بِهِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ الَّذِي فَلِأَنَّهُ شَرْعٌ مُتَدَاوَلٌ فِيهِمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ. فَالتَّقْدِيرُ: شَرَعَ لَكُمْ شَيْئًا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَشَيْئًا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَالشَّيْءَ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْكَ. وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا. وَفِي الْعُدُولِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بَعْدَ قَوْلِهِ شَرَعَ لَكُمْ الْتِفَاتٌ. وَذَكَرَ فِي جَانِبِ الشَّرَائِعِ الْأَرْبَعِ السَّابِقَةِ فِعْلَ وَصَّى وَفِي جَانِبِ شَرِيعَة

مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَ الْإِيحَاءِ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ الَّتِي سَبَقَتْ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ شَرَائِعَ مُوَقَّتَةً مُقَدَّرًا وُرُودُ شَرِيعَةٍ بَعْدَهَا فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا كَالْعَمَلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ مُؤْتَمَنٌ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ، وَلِيَقَعَ الِاتِّصَالُ بَيْنَ فِعْلِ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] . وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَإِنَّهَا قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي فِعْلُهَا مُتَصَرِّفٌ، وَالْمَصْدَرُ الْحَاصِلُ مِنْهَا فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ مَا الْمَوْصُولَةِ الْأُولَى أَوِ الْأَخِيرَةِ. وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ مِنْ جَمِيعِ أَخَوَاتِهِمَا لِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ شَرَعَ بِوَاسِطَةِ الْعَطْفِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ فِيهِ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وِصَايَةُ الْأَدْيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِمَعْنَى وَصَّى لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ إِقَامَةَ الدِّينِ وَاجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ أَوْصَى اللَّهُ بِهَا كُلَّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا حُكِيَ شَرْعُهُ فِي الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ كَمَا هُوَ، وَالْإِقَامَةُ مُجْمَلَةٌ يُفَسِّرُهَا مَا فِي كُلِّ دِينٍ مِنَ الْفُرُوعِ. وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ: جَعْلُهُ قَائِمًا، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لِلْحِرْصِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَضَمِيرُ أَقِيمُوا مُرَادٌ بِهِ: أُمَمُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِمْ مَا فِي فِعْلِ وَصَّى مِنْ مَعْنَى التَّبْلِيغِ. وَأَعْقَبَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ. وَالتَّفَرُّقُ: ضِدُّ التَّجَمُّعِ، وَأَصْلُهُ: تَبَاعُدُ الذَّوَاتِ، أَيِ اتِّسَاعُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهَا وَيُسْتَعَارُ كَثِيرًا لِقُوَّةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْآرَاءِ كَمَا هُنَا، وَهُوَ يَشْمَلُ التَّفَرُّقَ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، وَالْكُفْرِ بِهِ، أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَنْبِيَائِكُمْ، وَيَشْمَلُ التَّفَرُّقَ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْ يَكُونُوا نِحَلًا وَأَحْزَابًا، وَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ فِي أُمُورِ دِينِهَا، أَيْ فِي

أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ وَمَقَاصِدِهِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْأُصُولِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ بَعْضِهَا فَيَنْخَرِمُ بَعْضُ أَسَاسِ الدِّينِ. وَالْمُرَادُ: وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِي إِقَامَتِهِ بِأَنْ يَنْشَطَ بَعْضُهُمْ لِإِقَامَتِهِ وَيَتَخَاذَلَ الْبَعْضُ، إِذْ بِدُونِ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ يَضْطَرِبُ أَمْرُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَأْثِيرَ النُّفُوسِ إِذَا اتَّفَقَتْ يَتَوَارَدُ عَلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ فَيَقْوَى ذَلِكَ التَّأْثِيرُ وَيُسْرِعُ فِي حُصُولِ الْأَثَرِ إِذْ يَصِيرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ مُعِينًا لِلْآخَرِ فَيَسْهُلُ مَقْصِدُهُمْ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ. أَمَّا إِذَا حَصَلَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فَذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى ضَيَاعِ أُمُورِ الدِّينِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ هُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُلْقِيَ بِالْأُمَّةِ إِلَى الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا وَقَدْ يَجُرُّهُمْ إِلَى أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ الدَّوَائِرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَال: 46] . وَأما الِاخْتِلَافُ فِي فُرُوعِهِ بِحَسَبِ اسْتِنْبَاطِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدِّينِ فَذَلِكَ مِنَ التَّفَقُّهِ الْوَارِدِ فِيهِ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ» . كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ وَجُمْلَةِ وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ [الشورى: 14] . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ دِينٌ مُؤَيَّدٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، فَأُجِيبَ إِجْمَالًا بِأَنَّهُ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَجَهَّمُوهُ وكَبُرَ بِمَعْنَى صَعُبَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ ثَقُلَ، أَيْ عَجَزُوا عَنْ قَبُولِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَالْكِبَرُ مَجَازٌ اسْتُعِيرَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ لِقَبُولِهِ، وَالْكِبَرُ فِي الْأَصْلِ الدَّالُّ عَلَى ضَخَامَةِ الذَّاتِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الضَّخْمِ أَنْ يَعْسُرَ حَمْلُهُ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَضْمِينِ مَعْنَى ثَقُلَ عُدِّيَ بِ عَلَى. وَعَبَّرَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ اعْتِبَارًا بِنُكْرَانِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِغْرَابِهِمْ إِيَّاهَا، وَعَدِّهِمْ إِيَّاهَا مِنَ الْمُحَالِ الْغَرِيبِ، وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

جِهَةِ الدَّاعِي لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 94] ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ عُظَمَاءِ الْقَرْيَتَيْنِ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وِجِهَةِ مَا بِهِ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَاطب الرّسل إِلَّا بِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ إِلَيْهِ دَفْعَةً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ (¬1) حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: 21] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الْبَقَرَة: 118] وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَمِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَةُ مِمَّا لَمْ تُسَاعِدْ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَيْهِ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] . وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي تَدْعُوهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ: كَيْفَ كَبُرَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، بِأَنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مَنْ يَشَاءُ، فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَرِبُوا مِنْ هُدَى اللَّهِ غَيْرُ مُجْتَبَيْنَ إِلَى اللَّهِ إِذْ لَمْ يَشَأِ اجْتِبَاءَهُمْ، أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُمْ الِاهْتِدَاءَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَى إِحْدَى شُبْهِهِمُ الْبَاعِثَةِ عَلَى إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ عَوَائِدِكُمْ فِي الزَّعَامَةِ وَالِاصْطِفَاءِ. وَالِاجْتِبَاءُ: التَّقْرِيبُ وَالِاخْتِيَارُ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الْأَعْرَاف: 203] . وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ اجْتِبَاءَهُ مَنْ هَدَاهُ إِلَى دِينِهِ مِمَّنْ يُنِيبُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِ خَلْقِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَحَالُوا رِسَالَةَ بَشَرٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَحِينَ أَكْبَرُوا أَنْ يَكُونَ الضَّعَفَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا مِنْهُمْ ¬

(¬1) فِي المطبوعة لَك وَهُوَ خطأ.

[سورة الشورى (42) : آية 14]

[14] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 14] وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما تَفَرَّقُوا تَقْدِيرُهُ: فَتَفَرَّقُوا. وَضَمِيرُ تَفَرَّقُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرٌ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشورى: 13] وَهُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ، أَيْ أَوْصَيْنَاهُمْ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِمْ بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ. دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ مَا فِي فعل وَصَّى [الشورى: 13] مِنْ مَعْنَى التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْعِلْمُ: إِدْرَاكُ الْعَقْلِ جَزْمًا أَوْ ظَنًّا. وَمَجِيءُ الْعِلْمِ إِلَيْهِمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ بَيَّنُوا لَهُمْ مَضَارَّ التَّفَرُّقِ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً إِلَى قَوْلِهِ: سُبُلًا فِجاجاً فِي سُورَةِ نُوحٍ [8- 20] . وَإِنَّمَا تَلَّقَى ذَلِكَ الْعِلْمَ عُلَمَاؤُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ سَبَبُ الْعِلْمِ، أَيْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَجِيء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي كِتَابِهِمْ فَتَفَرَّقُوا فِي اخْتِلَاقِ الْمَطَاعِنِ وَالْمَعَاذِيرِ الْبَاطِلَةِ لِيَنْفُوا مُطَابَقَةِ الصِّفَاتِ، فَيَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 4] عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِمْ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ مَعَ بَيَانِهِمْ لَهُمْ مَفَاسِدِ التَّفَرُّقِ وَأَضْرَارِهِ، أَيْ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عَالِمَيْنِ بِمَفَاسِدِ التَّفَرُّقِ غَيْرَ مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 4] عَلَى التَّفْسِيرِ الْآخَرِ. وَذَكَرَ سَبَبَ تَفَرُّقِهِمْ بَقَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ أَيْ تَفَرَّقُوا لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، أَيْ بَيْنِ الْمُتَفَرِّقِينَ، أَيْ لَمْ يُحَافِظُوا عَلَى وَصَايَا الرُّسُلِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لِعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ

وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَخْ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. وَتَنْكِيرُ كَلِمَةٌ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ كَلِمَةً مِنَ اللَّهِ فِي تَأْجِيلِهِمْ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: 7] . وَتَنْكِيرُ أَجَلٍ أَيْضًا لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْمُتَفَرِّقِينَ أَجَلًا مُسَمًّى، فَهِيَ آجَالٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَمُخْتَلِفَةٌ بِالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ إِمْهَالِهِمْ وَتَأْخِيرِ مُؤَاخَذَتِهِمْ إِلَى أَجَلٍ لَهُمُ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَرُبَّمَا أَخَّرَهُمْ ثُمَّ عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَرُبَّمَا أَخَّرَهُمْ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَلِكُلِّ ذَلِكَ كَلِمَتُهُ. فَالْكَلِمَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَالتَّقْدِيرِ. وَسَبْقُهَا تَقَدُّمُهَا مِنْ قَبْلِ وَقْتِ تَفَرُّقِهِمْ وَذَلِكَ سَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِهَا وَإِرَادَتِهِ إيّاها على وقف عَلِمَهُ وَقَدَّرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ وَفِي سُورَةِ طه. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِلَى قَوْلِهِ: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمَوْجُودُونَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رُسُلِهِمْ أُمَّتَانِ مَوْجُودَتَانِ فِي حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَانَتَا قَدْ تَفَرَّقَتَا فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ الْعِلْمُ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَكَانُوا لَمَّا بَلَغَتْهُمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكُّوا فِي انْطِبَاقِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ بِوَصْفِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا تَفَرَّقَ أَسْلَافُهُمْ فِي الدِّينِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَفَرَّقَ خَلَفُهُمْ مِثْلَهُمْ وَزَادُوا تَفَرُّقًا فِي تَطْبِيقِ صِفَاتِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَفَرُّقًا نَاشِئًا عَنِ التَّرَدُّدِ

وَالشَّكِّ، أَيْ دُونَ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، فَلَمْ يَزَلِ الشَّكُّ دَأْبَهُمْ. فَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ: هُمُ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ سَلَفِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى أسلوب إيجاز يتَحَمَّل هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا، فَجِيءَ بِضَمِيرِ مِنْهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ أَلْفَاظٍ صَالِحَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مَعَادَ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، وَهِيَ لَفْظُ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الدِّينِ [الشورى: 13] ، وَلَفْظُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 13] ، وَمَا الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَدْلُولُهَا الْإِسْلَامُ. وَهُنَالِكَ لَفْظُ مَا وَصَّيْنا [الشورى: 13] الْمُتَعَدِّي إِلَى مُوسَى وَعِيسَى، وَلَفْظُ الْكِتابَ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا (¬1) الْكِتابَ. وَهَذَانَ مَدْلُولُهُمَا كِتَابَا أَهْلِ الْكِتَابِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هُمُ الْمَوْجُودُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شكّ ناشىء مِنْ تِلْكَ الْمُعَادَاتِ لِلضَّمِيرِ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَبْلَغَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ حَالَةَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، أَيْ لَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ بِمُوقِنِينَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَدَّدُوا ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ حَسَدًا وَعِنَادًا. فَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ حَالُهُمْ فِي الشَّكِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى لَفِي شَكٍّ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي شَكٍّ مِمَّا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَرَّقُوا فِيهَا، أَوْ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَجِيءِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَصِفَاتِهِ. فَهَذِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ تَتَحَمَّلُهَا الْآيَةُ وَكُلُّهَا مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى صَرْفِ كَلِمَةِ شَكٍّ عَنْ حَقِيقَتِهَا. وَمَعْنَى أُورِثُوا الْكِتابَ صَارَ إِلَيْهِمْ عِلْمُ الْكِتَابِ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ سَلَفُهُمْ فَاسْتُعِيرَ الْإِرْثُ لِلْخَلَفِيَّةِ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابَ لِلْجِنْسِ لِيَشْمَلَ كِتَابَ الْيَهُودِ وَكِتَابَ النَّصَارَى. ¬

(¬1) فِي المطبوعة أُوتُوا وَهُوَ خطأ.

فَضَمِيرُ مِنْ بَعْدِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ تَفَرَّقُوا وَهُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بَقَوْلِهِ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] . وظرفية قَوْله: لَفِي شَكٍّ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ تَمَكُّنَ الشَّكِّ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ مَجَازِيٌّ مَعْنَاهُ الْمُصَاحَبَةُ وَالْمُلَابَسَةُ، أَيْ شَكٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَوْ فِي شَكٍّ بِسَبَبِهِ. فَفِي حَرْفِ (مِنْ) اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَقَعَ حَرْفُ (مِنْ) مَوْقِعَ بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَمُجَرَّدِ تَحْقِيقه للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الِاهْتِمَامُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْرِيضِ لِلْحَذَرِ مِنْ مَكْرِهِمْ وَعَدَمِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ لِظُهُورِ عَدَاوَتِهِمْ لِئَلَّا يَرْكَنُوا إِلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ الْيَهُودَ قَدْ أَخَذُوا يَوْمَئِذٍ فِي تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ وَاخْتَلَطُوا بِهِمْ فِي مَكَّةَ لِيَتَطَلَّعُوا حَالَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ مَا قَبْلَهُ وَمَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ [الشورى: 15] الْآيَةَ. وَالْمُرِيبُ: الْمُوجِبُ الرَّيْبَ وَهُوَ الِاتِّهَامُ. فَالْمَعْنَى: لَفِي شَكٍّ يُفْضِي إِلَى الظِّنَّةِ وَالتُّهْمَةِ، أَيْ شَكٍّ مَشُوبٍ بِتَكْذِيبٍ، فَ مُرِيبٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَرَابَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَاعِلُ الرَّيْبِ، وَلَيْسَتْ هَمْزَةُ أَرَابَ الَّتِي هِيَ لِلْجَعْلِ فِي قَوْلِهِمْ: أَرَابَنِي بِمَعْنَى أَوْهَمَنِي مِنْهُ رِيبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ بِذِي رَيْبٍ، كَمَا فِي قَوْلِ بَشَّارٍ: أَخُوكَ الَّذِي إِنْ رِبْتَهُ قَالَ إِنَّمَا ... أَرَبْتَ وَإِنْ عَاتَبْتَهُ لَانَ جَانِبُهُ عَلَى رِوَايَةِ فَتْحِ التَّاءِ مِنْ أَرَبْتَ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ فِي سُورَة هود [62] .

[سورة الشورى (42) : آية 15]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 15] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] إِلَى آخِرِهِ، الْمُفَسَّرِ بَقَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] الْمُخَلَّلِ بَعْضُهُ بِجُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَنْ يُنِيبُ [الشورى: 13] . وَاللَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ وَتَكون الْإِشَارَة بذلك إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِيهِ وَتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلدَّعْوَةِ بِالتَّجَهُّمِ وَتَلَقِّي الْمُؤْمِنِينَ لَهَا بِالْقَبُولِ وَالْإِنَابَةِ، وَتَلَقِّي أَهْلِ الْكِتَابِ لَهَا بِالشَّكِّ، أَيْ فَلِأَجَلِ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ، أَيْ لِأَجْلِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ لِمَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَمِنْ تَبَرُّمِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ شَكِّ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُ. وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ (ادْعُ) لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَيِ ادْعُ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا وَأَنَابُوا. وَتَقْدِيمُ (لِذَلِكَ) عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ فِعْلُ (ادْعُ) لِلِاهْتِمَامِ بِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِذْ هُوَ مَجْمُوعُ أَسْبَابٍ لِلْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَلِذلِكَ لَامَ التَّقْوِيَةِ وَتَكُونَ مَعَ مَجْرُورِهَا مَفْعُولَ (ادْعُ) . وَالْإِشَارَةُ إِلَى الدِّينِ مِنْ قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ [الشورى: 13] أَيْ فَادْعُ لِذَلِكَ الدِّينِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالدِّينِ. وَفِعْلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ

لِشُبْهَتِهِمْ فِي الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِفَاءِ التَّفْرِيعِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَمَّنَةً مَعْنَى الْجَزَاءِ لِمَا فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ مِنْ مُشَابَهَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُس: 58] . وَالِاسْتِقَامَةُ: الِاعْتِدَالُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ. وَالْمُرَادُ هُنَا الِاعْتِدَالُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ اعْتِدَالُ الْأُمُورِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنَ التَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، أَيِ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كَمَالَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي مُسْتَقِيمًا فِي نَفْسِهِ. وَالْكَافُ فِي كَما أُمِرْتَ لِتَشْبِيهِ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ، أَيْ دَعْوَةٌ وَاسْتِقَامَةٌ مِثْلَ الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ، أَيْ عَلَى وِفَاقِهِ، أَيْ وَافِيَةٌ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ. وَهَذِهِ الْكَافُ مِمَّا يُسَمَّى كَافَ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] ، وَلَيْسَ التَّعْلِيلُ مِنْ مَعَانِي الْكَافِ فِي التَّحْقِيقِ وَلَكِنَّهُ حَاصِلُ مَعْنًى يَعْرِضُ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَافِ إِذَا أُرِيدَ تَشْبِيهُ عَامِلِهَا بِمَدْخُولِهَا عَلَى مَعْنَى الْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. وَالِاتِّبَاعُ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْمُجَارَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَعَلَى الْمُحَاكَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ لِيَرْجِعَ النَّهْيُ إِلَى النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرَيْنِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ. وَضَمِيرُ أَهْواءَهُمْ لِلَّذِينِ ذُكِرُوا مِنْ قَبْلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَالْمَقْصُودُ: نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [112] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ لاتجارهم فِي مُعَامَلَتِهِمْ، أَيْ لَا يَحْمِلْكَ طَعْنُهُمْ فِي دَعْوَتِكَ عَلَى عَدَمِ ذِكْرِ فَضَائِلِ رُسُلِهِمْ وَهَدْيِ كُتُبِهِمْ عَدَا مَا بَدَّلُوهُ مِنْهَا فَأَعْلِنْ بِأَنَّكَ مُؤْمِنٌ بِكُتُبِهِمْ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ قَوْلُهُ: وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ الْآيَةَ، فَمَوْقِعُ وَاوِ الْعَطْفِ

فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْقِعِ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [8] . وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى وَهُوَ الْمَحَبَّةُ، وَغَلَبَ عَلَى مَحَبَّةِ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، أَيِ ادْعُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَرِهُوهُ، وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ وَإِنْ عَادَاكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ تَتَّبِعُوا مِلَّتَهُمْ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الْبَقَرَة: 120] . وَقَوْلُهُ: وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَادْعُ أَمْرٌ بِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ إِذْ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ [النِّسَاء: 150] يَعْنُونَ التَّوْرَاةَ، وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النِّسَاء: 150] يَعْنُونَ الْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ، فَأمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ الْمُوحَى بِهَا مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: 119] . فَالْمَعْنَى: وَقُلْ لِمَنْ يُهِمُّهُ هَذَا الْقَوْلُ وَهُمُ الْيَهُودُ. وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ إِعْلَانًا بِهِ وَإِبْلَاغًا لِأَسْمَاعِ الْيَهُودِ، فَلَا يُقَابِلُ إِنْكَارَهُمْ حَقِّيَّةَ كِتَابِهِ بِإِنْكَارِهِ حَقِّيَّةَ كِتَابِهِمْ وَفِي هَذَا إِظْهَارٌ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِنَ الْإِنْصَافِ. ومِنْ كِتابٍ بَيَانٌ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَالتَّنْكِيرُ فِي كِتابٍ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ بِأَيِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ يَوْمَئِذٍ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ غَيْرَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ بَيْنَكُمُ خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُمِرَ بِأَنْ يُوَجِّهَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، أَيْ أُمِرْتُ أَنْ أُقِيمَ بَيْنَكُمُ الْعَدْلَ بِأَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَلَا أَظْلِمَكُمْ لِأَجْلِ عَدَاوَاتِكُمْ وَلَكِنِّي أُنَفِّذُ أَمْرَ اللَّهِ فِيكُمْ وَلَا أَنْتَمِي إِلَى الْيَهُودِ وَلَا إِلَى النَّصَارَى. وَمَعْنَى بَيْنَكُمُ أَنَّنِي أُقِيمُ الْعَدْلَ بَيْنَكُمْ فَلَا تَرَوْنَ بَيْنَكُمْ جَوْرًا مِنِّي، فَ (بَيْنَ) هُنَا ظَرْفٌ مُتَّحِدٌ غَيْرُ مُوَزَّعٍ فَهُوَ بِمَعْنَى وَسَطَ الْجَمْعِ وَخِلَالَهُ، بِخِلَافِ (بَيْنَ) فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: قَضَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَوْ قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَ الْعُفَاةِ. فَلَيْسَ الْمَعْنَى: لِأَعْدِلَ بَيْنَ فِرَقِكُمْ إِذْ لَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ كَوْنِهَا نَازِلَةً فِي مَكَّةَ فِي زَمَنِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إِعْجَازٌ بِالْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى أَن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَكُونُ لَهُ الْحُكْمُ عَلَى يَهُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ

وَتَيْمَاءَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، وَقَدْ عَدَلَ فِيهِمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ حَتَّى ظَاهَرُوا عَلَيْهِ الْأَحْزَابَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَعْدِلَ لَامٌ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا بَعْدَ أَفْعَالِ مَادَّتَيِ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاء: 26] ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا زَائِدَةً. وَجُمْلَةُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ مِنَ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ. فَهِيَ كُلُّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جُمْلَةِ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ بِحَذَافِرِهَا هُوَ قَوْلُهُ: لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ فَهِيَ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَإِنَّمَا ابْتُدِئَتْ بِجُمْلَتَيِ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ تَمْهِيدًا لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجُمَلُ كُلُّهَا مَفْصُولَةً عَنْ جُمْلَةِ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أَنَّنَا مُتَّفِقُونَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمرَان: 64] الْآيَةَ، أَيْ فَاللَّهُ الشَّهِيدُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ إِذْ كَذَّبْتُمْ كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِهِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْجِيلِ وَالْإِلْزَامِ. وَجُمْلَةُ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ دَعْوَةُ إِنْصَافٍ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ. وَجُمْلَةُ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ هِيَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أَيْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ وَلَا أُخَاصِمَكُمْ عَلَى إِنْكَارِكُمْ صِدْقِي. وَالْحُجَّةُ: الدَّلِيلُ الَّذِي يَدُلُّ الْمَسُوقَ إِلَيْهِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَى الْقَائِمِ بِهِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ بَيْنَ مُخْتَلِفِينَ فِي دَعْوَى. وَنَفْيُ الْحُجَّةِ نَفْيُ جِنْسٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُجَادَلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا وُقُوعُ الِاحْتِجَاجِ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّصَدِّي لِخُصُومَتِهِمْ فَيَكُونَ الْمَعْنَى الْإِمْسَاكَ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ لِأَنَّ الْحَقَّ ظَهَرَ وَهُمْ مُكَابِرُونَ فِيهِ وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْجِدَالَ مَعَهُمْ لَيْسَ بِذِي جَدْوَى.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ جِنْسَ الْحُجَّةِ الْمُفِيدَةِ، بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ مِثْلَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ يَكُونُ مِنَ الْعَبَثِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ مُكَابِرُونَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ هَذَا النَّفْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّهْيِ عَنِ التَّصَدِّي لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ حَاجَّهُمُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ وحاجّهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجْمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] فَالِاسْتِثْنَاءُ صَرِيحٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُجَادَلَتِهِمْ. وَ (بَيْنَ) الْمُكَرَّرَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ عَلَى جَمَاعَاتِ أَوْ أَفْرَادِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ. وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا يُقَالُ: قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مُخَالف ل (بَيْنَ) الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا الْحَشْرُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُنْصِفٌ. وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْوَاثِقِ بِحَقِّهِ كَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُتَارَكَةِ وَالْمُحَاجَزَةِ، أَيْ سَأَتْرُكُ جِدَالَكُمْ وَمُحَاجَّتَكُمْ لِقِلَّةِ جَدْوَاهَا فِيكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَنَا يَوْمَ يَجْمَعُنَا، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا لِلتَّقَوِّي، أَيْ تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْجَمْعِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ يُثْبِتُونَ الْبَعْثَ. وَ (بَيْنَ) هُنَا ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ. وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَجْمَعُ بَيْنَنا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ مَصِيرُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَبِذَلِكَ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ مَصِيرُنَا وَمَصِيرُكُمْ وَمَصِيرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْأَرْبَعُ تَقْتَضِي الْمُحَاجَزَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَهِيَ مُحَاجَزَةٌ فِي الْمُقَاوَلَةِ وَمُتَارَكَةٌ فِي الْمُقَاتَلَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ لَمَّا ظَاهَرُوا الْأَحْزَابَ.

[سورة الشورى (42) : آية 16]

وَلَيْسَ فِي صِيَغِ هَذِهِ الْجُمَلِ مَا يَقْتَضِي دَوَامَ الْمُتَارَكَةِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ نَاسِخًا لهَذِهِ الْآيَة. [16] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 16] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الشورى: 15] إِلَخْ، وَهُوَ يَقْتَضِي انْتِقَالَ الْكَلَامِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى حَظَّ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيِ شَأْنِ الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ، رَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الشَّأْنِ بَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ. وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ بِالْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمَوْصُولِ وَكَوْنِ صِلَتِهِ مَادَّةَ الِاحْتِجَاجِ مُؤْذِنٌ بِتَغْيِيرِ الْغَرَضِ فِي الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ مَعَ مُنَاسَبَةِ مَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] وَقَوْلُهُ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ، فَالْمَقْصُودُ بِ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ: الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ يُحَاجُّونَ فِي شَأْنِ اللَّهِ وَهُوَ الْوَحْدَانِيَّةُ دُونَ الْيَهُودِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحَاجُّونَ فِي تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ رِجَالٌ طَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ بَعْدَ مَا دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَبَرِيِّ: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَمَعْنَى مُحَاجَّتِهِمْ فِي اللَّهِ مُحَاجَّتُهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ، أَيْ إِدْخَالُهُمْ عَلَى النَّاسِ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَمُحَاجَّتُهُمْ هِيَ مَا يُلْبِسُوهُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ كَقَوْل الْمُشْركين مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: 7] وَقَوْلِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] وَقَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] وَقَوْلِهِمْ: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: 57] ،

وَكَقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: نَحْنُ الَّذِينَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَوْلِهِمْ: كِتَابُنَا أَسْبَقُ مِنْ كِتَابِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحُجَّةِ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ مُجَارَاةٌ لَهُمْ بِطَرِيقِ التَّهَكُّمِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَمَفْعُولُ يُحَاجُّونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: يُحَاجُّونَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابُوا لَهُ، أَيِ اسْتَجَابُوا لِدَعْوَتِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَذَفَ فَاعِلَ اسْتُجِيبَ إِيجَازًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بَعْدِ حُصُولِ الِاسْتِجَابَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالدَّاحِضَةُ: الَّتِي دَحَضَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ، يُقَالُ: دَحَضَتْ رِجْلُهُ تَدْحَضُ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) دُحُوضًا، أَيْ زَلَّتِ. اسْتُعِيرَ الدَّحْضُ لِلْبُطْلَانِ بِجَامِعِ عَدَمِ الثُّبُوتِ كَمَا لَا تَثْبُتُ الْقَدَمُ فِي الْمَكَانِ الدَّحْضِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ دَحْضِهَا اكْتِفَاءً بِمَا بَيَّنَ فِي تَضَاعِيفِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَسَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، وَعَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَبِمَا ظَهَرَ لِلْعِيَانِ مَنْ تَزَايُدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَأَمْنِهِمْ مِنْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ. وَالْغَضَبُ: غَضَبُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نُكِّرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّتِهِ. وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ ضَمِيرِهِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَيْهِم غضب مِنْهُ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمُسْنَدَ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ بَقَوْلِهِ: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لِلِاهْتِمَامِ بِوُقُوعِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ السَّيْفِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ يَوْم بدر.

[سورة الشورى (42) : آية 17]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 17] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ وَمِنْ أَشَدِّهَا تَشْغِيبًا فِي زَعْمِهِمْ مُحَاجَّتَهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7، 8] ، وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: يُخَبِّرُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ وَقَدْ دَحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِنَفْيِ اسْتِحَالَتِهِ، وَبِدَلِيلِ إِمْكَانِهِ، وَأَوْمَأَ هُنَا إِلَى مُقْتَضِي إِيجَابِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ حَقٌّ وَعَدْلٌ فَكَيْفَ لَا يُقَدِّرُهُ مُدَبِّرُ الْكَوْنِ وَمُنَزِّلُ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَقَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: 38- 40] . وَأَكْثَرُهَا جَاءَ نَظْمُهَا عَلَى نَحْوِ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِمَا يُذَكِّرُ بِحِكْمَةِ الْإِيجَادِ وَأَنَّ تَمَامَ الْحِكْمَةِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَقَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يُؤْذِنُ بِمُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، تَقْدِيرُهُ: فَجَعَلَ الْجَزَاءَ لِلسَّائِرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالنَّاكِبِينَ عَنْهُ فِي يَوْمِ السَّاعَةِ فَلَا مَحِيصَ لِلْعِبَادِ عَنْ لِقَاءِ الْجَزَاءِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَوْقِعُهَا مِنْ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ [الشورى: 16] مَوْقِعُ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِشِدَّةِ اتِّصَالِ مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْأُخْرَى. وَالْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي مَضْمُونُ صِلَتِهِ إِنْزَالُهُ الْكِتَابَ

وَالْمِيزَانَ، لِأَجْلِ مَا فِي الْمَوْصُولِيَّةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْآتِي، وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مِثْلَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] . وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْكِتابَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَيْ إِنْزَالُ الْكُتُبِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا: وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ [الشورى: 15] . وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَنْزَلَ الْكُتُبَ مُقْتَرِنَةً بِالْحَقِّ بَعِيدَةً عَنِ الْبَاطِلِ. وَالْحَقُّ: كُلُّ مَا يَحِقُّ، أَيْ يَجِبُ فِي بَابِ الصَّلَاحِ عَمَلُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ النَّافِعَةِ. والْمِيزانَ حَقِيقَتُهُ: آلَةُ الْوَزْنِ، وَالْوَزْنُ: تَقْدِيرُ ثِقَلِ جِسْمٍ، وَالْمِيزَانُ آلَةٌ ذَاتُ كِفَّتَيْنِ مُعْتَدِلَتَيْنِ مُعَلَّقَتَيْنِ فِي طَرَفَيْ قَضِيبٍ مُسْتَوٍ مُعْتَدِلٍ، لَهُ عُرْوَةٌ فِي وَسَطِهِ، بِحَيْثُ لَا تَتَدَلَّى إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى إِذَا أُمْسِكَ الْقَضِيبُ مِنْ عُرْوَتِهِ. وَالْمِيزَانُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَدْلِ وَالْهَدْيِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَنْزَلَ فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمُنَزَّلُ وَالدِّينُ يَدْعُو إِلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي الْمُجَادَلَةِ فِي الدِّينِ وَفِي إِعْطَاءِ الْحُقُوقِ، فَشُبِّهَ بِالْمِيزَانِ فِي تَسَاوِي رُجْحَانِ كِفَّتَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: 25] . وَجُمْلَةُ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِيذَانِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِمُقَدَّرٍ. وَكَلِمَةُ وَما يُدْرِيكَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَالْكَافُ مِنْهَا خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِمَعْنَى: قَدْ تَدْرِي، أَيْ قَدْ يَدْرِي الدَّارِي، فَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالتَّهْيِئَةِ. ويُدْرِيكَ مِنَ الدِّرَايَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَقَدْ عُلِّقَ فِعْلُ (يَدْرِي) عَنِ الْعَمَلِ بِحَرْفِ التَّرَجِّي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ مَا جَاءَ فِعْلُ (مَا أَدْرَاكَ) فَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ أَيْ بَيَّنَهُ لَهُ عَقِبَ كَلِمَةِ (مَا أَدْرَاكَ) نَحْوَ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 10، 11] وَكُلُّ مَا جَاءَ فِيهِ وَما يُدْرِيكَ

[سورة الشورى (42) : آية 18]

لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ أَيْ لَمْ يُعْقِبْهُ بِمَا يُبَيِّنُ إِبْهَامَهُ نَحْوَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] . وَلَعَلَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ خَصَّ كُلَّ صِيغَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَتَأَمَّلْ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ السَّاعَةَ قَرِيبًا، أَيْ مُقْتَضِي عِلْمِكَ مُتَوَفِّرٌ، فَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [109] . وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّاعَةَ بِ قَرِيبٌ وَهُوَ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ غَلَبَ لُزُومُ كَلِمَةِ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ لِلتَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: 63] وَقَوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [56] . [18] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 18] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَسْتَعْجِلُ بِهَا إِلَى آخِرِهَا حَالًا من السَّاعَةَ [الشورى: 17] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّنْبِيهِ وَالتَّهْيِئَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّاعَةِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَذَكَرَ فِيهَا حَالَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ تُجَاهَ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَيَتَلَقَّوْنَهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْجَحْدِ بِهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهَا يَعْمَلُونَ لِمَا بِهِ الْفَوْزُ عِنْدَهَا، وَلِذَلِكَ جِيءَ عَقِبَهَا بِجُمْلَةِ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ التَّعْجِيلِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [11] ، أَيْ يَطْلُبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالسَّاعَةِ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ بِحُلُولِ السَّاعَةِ لِيَبِينَ صِدْقُهُ، تَهَكُّمًا وَاسْتِهْزَاءً وَكِنَايَةً عَنِ اتِّخَاذِهِمْ تَأَخُّرَهَا دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهَا، وَهُمْ آيِسُونَ مِنْهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَسَالِيبَ ذُكِرَتْ فِي تَضَاعِيفِ آيِ الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ: 29] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] . وَالْإِشْفَاقُ: رَجَاءُ وُقُوعِ مَا يُكْرَهُ، أَيْ مُشْفِقُونَ مِنْ أَهْوَالِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: 28] . وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِشْفَاقَ مِنْ ذَاتِ السَّاعَةِ لِإِفَادَةِ تَعْظِيمِ أَهْوَالِهَا حَتَّى كَأَنَّ أَحْوَالَهَا هِيَ ذَاتُهَا، عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ الْحُكْمِ وَنَحْوِهِ إِلَى الْأَعْيَانِ نَحْوَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، فَهُمْ يَتَوَخَّوْنَ النَّجَاةَ مِنْهَا بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، أَيْ فَهُمْ لَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهَا وَإِنَّمَا يَغْتَنِمُونَ بَقَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ: الْمُشْرِكُونَ، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ تَدُلُّ عَلَى عِلَّةِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا: الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّ هَذَا لَقَبٌ لَهُمْ، فَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ، تَقْدِيرُهُ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا فَلَا يُشْفِقُونَ مِنْهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهَا. وَعُطِفَتْ عَلَى مُشْفِقُونَ مِنْها جُمْلَةُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِشْفَاقَهُمْ مِنْهَا إِشْفَاقٌ عَنْ يَقِينٍ وَجَزْمٍ لَا إِشْفَاقٌ عَنْ تَرَدُّدٍ وَخَشْيَةِ أَنْ يَكْشِفَ الْوَاقِعُ عَلَى صِدْقِ الْإِخْبَارِ بِهَا وَأَنَّهُ احْتِمَالٌ مُسَاوٍ عِنْدَهُمْ. وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهَا الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ قَصْرَ مُبَالَغَةٍ لِكَمَالِ الْجِنْسِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ نَحْوَ: عَنْتَرَةُ الشُّجَاعُ، أَيْ يُوقِنُونَ بِأَنَّهَا الْحَقُّ كُلَّ الْحَقِّ، وَذَلِكَ لِظُهُورِ دَلَائِلِ وُقُوعِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حَقَّ غَيْرُهُ. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا بِصَرِيحِهَا وَكِنَايَتِهَا لِأَنَّ صَرِيحَهَا إِثْبَاتُ الضَّلَالِ لِلَّذِينِ يُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ وَكِنَايَتَهَا إِثْبَاتُ الْهُدَى لِلَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالسَّاعَةِ. وَهَذَا التَّذْيِيلُ فَذْلَكَةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

[سورة الشورى (42) : آية 19]

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ أَلا الَّذِي هُوَ لِلتَّنْبِيهِ لِقَصْدِ الْعِنَايَةِ بِالْكَلَامِ. وَالْمُمَارَاةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْمِرْيَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ الشَّكُّ. وَالْمُمَارَاةُ: الْمُلَاحَّةُ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُجَادِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [22] . وَجَعَلَ الضَّلَالَ كَالظَّرْفِ لَهُمْ تَشْبِيهًا لِتَلَبُّسِهِمْ بالضلال بِوُقُوع بالمظروف فِي ظَرْفِهِ، فَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَوَصْفُ الضَّلَالَ بِالْبَعِيدِ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ، شَبَّهَ الْكُفْرَ بِضَلَالِ السَّائِرِ فِي طَرِيقٍ وَهُوَ يَكُونُ أَشَدَّ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ عُسْرِ إِرْجَاعِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَالْمَعْنَى: لَفِي ضَلَالٍ شَدِيدٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [116] . [19] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 19] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْطِئَةٌ لِجُمْلَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] لِأَنَّ مَا سَيُذْكَرُ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ وَمَا يَسَّرَ مِنَ الرِّزْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَالْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رِزْقِ الْآخِرَةِ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُقَدَّمَةٌ لِاسْتِئْنَافِ الْجُمْلَةِ الْمُوَطَّأِ لَهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الْآيَة [الشورى: 20] . وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ إِلَخْ فَسَنُبَيِّنُهُ. وَاللَّطِيفُ: الْبَرُّ الْقَوِيُّ الْبِرُّ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كَثِيرٌ مِنَ النِّعَمِ. فَسَّرَ عَدَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ اللَّطِيفَ بِوَاهِبِ بَعْضِهَا وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرُ تَمْثِيلٍ لَا يَخُصُّ دَلَالَةَ الْوَصْفِ بِهِ. وَفِعْلُ (لَطَفَ) مِنْ بَابِ نَصَرَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا هُنَا وَبِاللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [100] . وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى اسْمِهِ تَعَالَى اللَّطِيفِ.

وَ (عِبَادِهِ) عَامٌّ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهُمْ نَوْعُ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ. وَجُمْلَةُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ عَنْهُ. وَالرِّزْقُ: إِعْطَاءُ مَا يَنْفَعُ. وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يَخْتَصُّ بِالْحَلَالِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يَخْتَصُّ بِهِ وَالْخِلَافُ اصْطِلَاحٌ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ هَنَا رِزْقُ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْكَلَامَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ [الشورى: 20] . وَالْمَشِيئَةُ: مَشِيئَةُ تَقْدِيرِ الرِّزْقِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ لِيَكُونَ عُمُومُ اللُّطْفِ لِلْعِبَادِ بَاقِيًا، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ يَشاءُ فِي مَعْنَى التَّكْرِيرِ، إِذْ يَصِيرُ هَكَذَا يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمَلْطُوفِ بِجَمِيعِهِمْ، وَمَا الرِّزْقُ إِلَّا مِنَ اللُّطْفِ، فَيَصِيرُ بَعْضَ الْمَعْنَى الْمُفَادِ، فَلَا جَرَمَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ هُنَا مَصْرُوفَةٌ لِمَشِيئَةِ تَقْدِيرِ الرِّزْقِ بِمَقَادِيرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لِلُطْفِهِ بِجَمِيعِ عِبَادِهِ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِلَا رِزْقٍ وَأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ جَرْيًا عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُثِيرُ مَسْأَلَةَ الْخلاف بَين أيمة أُصُولِ الدِّينِ فِي نِعْمَةِ الْكَافِرِ، وَمِنْ فُرُوعِهَا رِزْقُ الْكَافِرِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً لِأَنَّ مَلَاذَ الْكَافِرِ اسْتِدْرَاجٌ لَمَّا كَانَتْ مُفْضِيَةً إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَانَتْ غَيْرَ نِعْمَةٍ، وَمُرَادُهُمْ بِالدُّنْيَوِيَّةِ مُقَابِلُ الدِّينِيَّةِ. وَكَأَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ بِهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَمُرَادُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ نعْمَة رضى وَكَرَامَةً وَلَكِنَّهَا نِعْمَةُ رَحْمَةٍ لِمَا لَهُ مِنِ انْتِسَابِ الْمَخْلُوقِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: الْكَافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً وَدِينِيَّةً: فَالدُّنْيَوِيَّةُ ظَاهِرَةٌ، وَالدِّينِيَّةُ كَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَرْجَعَ الْمُحَقِّقُونَ الْخِلَافَ فِيهَا إِلَى اللَّفْظِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْمُصْطَلَحَاتِ

[سورة الشورى (42) : آية 20]

وَالِاعْتِبَارَاتِ الْمُوَافِقَةِ لِدَقَائِقِ الْمَذَاهِبِ، إِذْ لَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي نِعْمَةِ الْمُنَعَّمِينَ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] . وَعَطْفُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ عَلَى صِفَةِ لَطِيفٌ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَيُفِيدُ الِاحْتِرَاسَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ لُطْفَهُ عَنْ عَجْزٍ أَوْ مُصَانَعَةٍ، فَإِنَّهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا يَعْجِزُ وَلَا يُصَانِعُ، أَوْ عَنْ تَوَهُّمِ أَنَّ رِزْقَهُ لِمَنْ يَشَاءُ عَنْ شُحٍّ أَوْ قِلَّةٍ فَإِنَّهُ الْقَوِيُّ، وَالْقَوِيُّ تَنْتَفِي عَنْهُ أَسْبَابُ الشُّحِّ، وَالْعَزِيزُ يَنْتَفِي عَنْهُ سَبَبُ الْفَقْرِ فَرِزْقُهُ لِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ مَنُوطٌ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا فِي أَحْوَالِ خَلْقِهِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشورى: 27] الْآيَةَ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْمُسْنَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ يُفِيدُ مَعْنَى قَصْرِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ الْجِنْسِ لِلْمُبَالَغَةِ لِكَمَالِهِ فِيهِ تَعَالَى حَتَّى كَأَنَّ قُوَّةَ غَيْرِهِ وَعِزَّةَ غَيره عدم. [20] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 20] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشورى: 18] الْآيَةَ، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ وُجُودِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَفَرِيقِ الَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ هَمهمْ قَاصِرَةٌ عَلَى حَيَاةِ الدُّنْيَا، فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلُ مُعَامَلَةِ اللَّهِ الْفَرِيقَيْنِ مُعَامَلَةً مُتَفَاوِتَةً مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ وَكَوْنِهِمْ بِمَحَلِّ لُطْفٍ مِنْهُ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] تَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَكَانَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ تَفْصِيلًا لِحُظُوظِ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَأْنِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَيْهَا، وَتُرِكَ عَطْفُ تَوْطِئَتِهَا كَذَلِكَ، وَلِأَجْلِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19]

اتِّصَالَ الْمَقْصُودِ بِالتَّوْطِئَةِ تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ. وَالْحَرْثُ: أَصُلُهُ مصدر حرث، إِذْ شَقَّ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَ فِيهَا حَبًّا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا شَجَرًا، وَأُطْلِقَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: 22] ، أَيْ جَنَّتِكُمْ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْقَلَم: 17] وَقَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] . وَالْحَرْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَمْثِيلٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَى كَسْبِ مَا يَعُدُّهُ الْكَاسِبُ نَفْعًا لَهُ يَرْجُو مِنْهُ فَائِدَةً وَافِرَةً بِإِقْبَالِ الْفَلَّاحِ عَلَى شَقِّ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا لِيَحْصُلَ لَهُ سَنَابِلُ كَثِيرَةٌ وَثِمَارٌ مِنْ شَجَرِ الْحَرْثِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كِلَانَا إِذَا مَا نَالَ شَيْئًا أَفَاتَهُ ... وَمَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وَحَرْثَكَ يَهْزِلِ وَإِضَافَةُ حَرْثَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى الدُّنْيا عَلَى مَعْنَى اللَّامِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء: 19] ، وَهِيَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ فِي مِثْلِ هَذَا اخْتِصَاصُ الْمُعَلَّلِ بِعِلَّتِهِ، وَمَا لَامُ التَّعْلِيلِ إِلَّا مِنْ تَصَارِيفِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ. وَمَعْنَى يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ يَبْتَغِي عَمَلًا لِأَجْلِ الْآخِرَةِ. وَذَلِكَ الْمُرِيدُ: هُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْآخِرَةِ لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يُرِيدَ الْآخِرَةَ بِبَعْضِ أَعْمَالِهِ كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا، وَالَّذِي يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا مُرَادٌ بِهِ: مَنْ لَا يَسْعَى إِلَّا لِعَمَلِ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِمَنْ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مُرِيدَ حَرْثِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ. وَنَظِيرُهَا فِي هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ [15، 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود: 16] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [18، 19] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.

وَفِعْلُ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يَتَحَمَّلُ مَعْنَيَيْنِ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي ثَوَابِ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: 276] وَقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 261] ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا قَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشورى: 23] . وَعَلَى هَذَا فَتَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ بِالْحَرْثِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ عُلِّقَتِ الزِّيَادَةُ بِالْحَرْثِ وَحَقُّهَا أَنْ تُعَلَّقَ بِسَبَبِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ، فَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَل، أُتِي نُقَدِّرُ لَهُ الْعَوْنَ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَنُيَسِّرُ لَهُ ذَلِكَ فَيَزْدَادُ مِنَ الصَّالِحَاتِ. وَعَلَى هَذَا فَتَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ بِالْحَرْثِ حَقِيقَةٌ فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الْعَقْلِيَّيْنِ. وَمَعْنَى نُؤْتِهِ مِنْها: نُقَدِّرُ لَهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ: مُدَّةِ حَيَاةٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِمَخْلُوقَاتِهِ أَرْزَاقَهُمْ وَأَمْدَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ حَظَّ الْآخِرَةِ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الْإِسْرَاء: 19] . وَقَدْ شَمِلَتْ آيَةُ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فَرِيقًا آخَرَ غَيْرَ مَذْكُورٍ هُنَا، وَهُوَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَيَبْتَغِي النَّجَاةَ فِيهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِسْلَامِ مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا الْفَرِيقُ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْبَلَدِ [11- 17] بَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. فَلَا يَتَوَهَّمَنَّ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَنَحْوَهَا تَحْجُرُ تَنَاوُلَ الْمُسْلِمِ حُظُوظَ الدُّنْيَا إِذَا أَدَّى حَقَّ الْإِيمَانِ وَالتَّكْلِيفِ، وَلَا أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ خَلْطِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعَ حُظُوظِ الْآخِرَةِ إِذَا وَقَعَ الْإِيفَاءُ بِكِلَيْهِمَا، وَلَا أَنَّ الْخَلْطَ بَيْنَ الْحَظَّيْنِ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ كَطَلَبِ التَّبَرُّدِ مَعَ الْوُضُوءِ وَطَلَبِ الصِّحَّةِ مَعَ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ الْإِيفَاءَ بِالْحَقِّ الدِّينِيِّ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي فَصْلٍ أَوَّلٍ مِنَ الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ مِنَ النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» مِنْ كِتَابِ «الْمُوَافَقَاتِ» . وَذَكَرَ فِيهَا نَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِلْغَزَالِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَرَجَّحَ فِيهَا رَأْيَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فَانْظُرْهُ.

[سورة الشورى (42) : آية 21]

وَالنَّصِيبُ: مَا يُعَيَّنُ لِأَحَدٍ مِنَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ نَصَبَ لِأَنَّ الْحَظَّ يُنْصَبُ، أَيْ يُجْعَلُ كَالصُّبْرَةِ لِصَاحِبِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [202] . [21] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 21] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى تَفَرُّقِ أَهْلِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ فِي شَرَائِعِهِمْ مَنِ انْقَرَضَ مِنْهُمْ وَمَنْ بَقِيَ كَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا يُشَابِهُ ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَصْلِ الدِّيَانَةِ، وَتِلْكَ مُخَالَفَةُ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَتَلَقِّيهِمْ دِينَ الْإِشْرَاك من أيمة الْكُفْرِ وَقَادَةِ الضَّلَالِ. وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَام الَّذِي تقضيه أَمْ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ هُوَ هُنَا لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّهَكُّمِ، فَالتَّقْرِيعُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُمْ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَالتَّهَكُّمُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ شَرَعُوا لَهُمُ الشِّرْكَ، فَسُئِلُوا عَمَّنْ شَرَعَ لَهُمْ دِينَ الشِّرْكِ: أَهُمْ شُرَكَاءُ آخَرُونَ اعْتَقَدُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَفِي شَرْعِ الْأَدْيَانِ كَمَا شَرَعَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الْأَدْيَانَ؟ وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لَمْ يَدَّعِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُسَاعِدُ تَنْكِيرَ شُرَكاءُ وَوَصْفَهُ بِجُمْلَةِ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنِ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ هُوَ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَيَكُونَ لَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ شُرَكاءُ. وَالْمَقْصُودُ: فَضْحُ فَظَاعَةِ شِرْكِهِمْ بِعُرُوِّهِ عَنْ الِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا مِنَ الْإِلَهِ الْحَقِّ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ وَهِيَ الشُّرَكَاءُ. وَظَاهِرٌ أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ لَا تَصْلُحُ لِتَشْرِيعِ دِينٍ لِأَنَّهَا لَا تَعْقِلُ وَلَا تَتَكَلَّمُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ دِينَ الشِّرْكِ دِينٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: 137] .

وَقِيلَ المُرَاد بالشركاء: أيمة دِينِ الشِّرْكِ أُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُ الشُّرَكَاءِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ. وَضَمِيرَا لَهُمْ عَائِدَانِ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] أَوْ إِلَى الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ [الشورى: 16] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ لِلْجِنْسِ، أَيْ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ جِنْسِ الدِّينِ مَا، أَيْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، أَيْ لَمْ يَأْذَنْ بِشَرْعِهِ، أَيْ لَمْ يُرْسِلْ بِهِ رَسُولًا مِنْهُ وَلَا أَوْحَى بِهِ بِوَاسِطَةِ مَلَائِكَتِهِ. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، هُوَ كَقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: 14] . وَكَلِمَةُ الْفَصْلِ هِيَ: مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ مِنْ إِمْهَالِهِمْ. وَالْفَصْلُ: الْفَاصِلُ، أَيِ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ إِمْهَالَهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَا يُفْلِتُهُمْ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا ظَلَمُوا. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ لِجَمِيعِهِمْ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ وَالذُّلِّ لِلَّذِينِ أُخِّرُوا إِلَى إِبَّانِ حُلُولِهِ مِثْلَ قَتْلِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ المقصودون بِهِ.

[سورة الشورى (42) : آية 22]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 22] تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) جُمْلَةُ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] ، بَيَّنَ حَالَ هَذَا الْعَذَابِ بِبَيَانِ حَالِ أَصْحَابِهِ حِينَ تَوَقُّعِ حُلُولِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ هَوْلِهِ. وَالْخِطَابُ بِ تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ تُمْكِنُ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ يَوْمَئِذٍ كَقَوْلِهِ: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى: 44، 45] . وَالْمَقْصُودُ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ حَالِ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ. وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعِ الشَّيْءِ الْمُضِرِّ وَهُوَ ضِدُّ التَّمَنِّي. وَ (مَا كَسَبُوا) هُوَ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ. وَالْمُرَادُ: جَزَاؤُهَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُشْفِقِينَ إِشْفَاقًا يُقَارِبُ الْيَأْسَ وَهُوَ أَشَدُّ الْإِشْفَاقِ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُشْفَقَ مِنْهُ لَا يُنْجِي مِنْهُ حَذَرٌ، لِأَنَّ الْإِشْفَاقَ إِذَا حَصَلَ قَبْلَ اقْتِرَابِ الْمُشْفَقِ مِنْهُ قَدْ يُحَاوِلُ الْمُشْفِقُ وَسَائِلَ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ فَقَدْ حَالَ دُونَ التَّخَلُّصِ حَائِلُهُ. وَالْمَعْنَى: مُشْفِقِينَ مِنْ عِقَابِ أَعْمَالِهِمْ فِي حَالِ نُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُشْفِقُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ بِذَلِكَ، فَمَا بُنِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَيْسَ بَيِّنًا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ واقِعٌ بِهِمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ، كَقَوْلِ غَاوِي السُّلَمِيِّ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانِ بِرَأْسِهِ وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ الْمَجَازِيِّ. وَضَمِيرُ وَهُوَ واقِعٌ عَائِد على مِمَّا كَسَبُوا بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ

جَزَاءُ مَا كَسَبُوا، أَيْ فِي حَالِ أَنَّ الْجَزَاءَ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ حَالٌ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ تَرَى الظَّالِمِينَ فِي إِشْفَاقٍ فِي حَالِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يَطْمَئِنُّونَ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا قَدِ اسْتَقَرُّوا فِي الرَّوْضَاتِ مِنْ قَبْلِ عَرْضِ الظَّالِمِينَ عَلَى الْحِسَابِ وَإِشْفَاقِهِمْ مِنْ تَبِعَاتِهِ. وَهَذَا مِنْ تَضَادِّ شَأْنَيِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى عَكْسِهِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدّنيا الْمُتَقَدّم فِي قَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشورى: 18] ، أَيْ فَالْيَوْمَ انْقَلَبَ إِشْفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ اطْمِئْنَانًا وَاطْمِئْنَانُ الْمُشْرِكِينَ إِشْفَاقًا، وَشَتَّانَ بَيْنَ الِاطْمِئْنَانَيْنِ وَالْإِشْفَاقَيْنِ، وَبِهَذِهِ الْمُضَادَّةِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَأَسْبَابِهِمَا صَحَّ اعْتِبَارُ كَيْنُونَةِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْجَنَّةِ حَالًا مِنَ الظَّالِمِينَ. وَالرَّوْضَاتُ: جَمْعُ رَوْضَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَاءٍ وَشَجَرٍ حَافٍّ بِهِ وَخُضْرَةٍ حَوْلَهُ. وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وعِنْدَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ. وَالْعِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٌ لِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ الَّذِي أَفَادَتْهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ وَعِنَايَةٌ بِمَا يُعْطَوْنَهُ مِنْ رَغْبَةٍ. وَالْمعْنَى: مَا يشاؤونه حَقٌّ لَهُمْ مَحْفُوظٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَلَا يَنْبَغِي جَعْلُ عِنْدَ مُتَعَلقا بِفعل يَشاؤُنَ لِأَنَّ عِنْدَ حِينَئِذٍ تَكُونُ ظَرْفًا لِمَشِيئَتِهِمْ، أَيْ مَشِيئَةٍ مِنْهُمْ مُتَوَجِّهَةٍ إِلَى رَبِّهِمْ، فَتُؤَوَّلُ الْمَشِيئَةُ إِلَى مَعْنَى الطَّلَبِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا يَطْلُبُونَ فَيَفُوتُ قَصْدُ التَّشْرِيفِ وَالْعِنَايَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ عِنْدَ رَبِّهِمْ خَبَرًا ثَالِثًا عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ هُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أَيْ فِي ضِيَافَتِهِ وَقِرَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 54، 55] ، وَيَكُونَ تَرْتِيبُ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ جَارِيًا عَلَى نَمَطِ الِارْتِقَاءِ مِنَ الْحَسَنِ إِلَى الْأَحْسَنِ بِأَنْ: أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ نَزَلُوا فِي أَحْسَنِ مَنْزِلٍ، ثُمَّ أَحْضَرَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ كَوْنُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] . وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَعْهُودِ

[سورة الشورى (42) : آية 23]

فِي الْحُصُولِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ الضَّيْفَ أَوِ الْوَافِدَ يَنْزِلُ أَوَّلَ قُدُومِهِ فِي مَنْزِلِ إِكْرَامٍ ثُمَّ يُحْضَرُ إِلَيْهِ الْقِرَى ثُمَّ يُخَالِطُهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ وَيَقْتَرِبُ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِتَأْوِيلِ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ. وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ اسْتِعَارَةً لِكَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بَعِيدَ الْمَكَانَةِ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ مَجَازِيٍّ وَهُوَ الشَّرَفُ. والْفَضْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالتَّفَوُّقِ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى: فَضْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَا يُتَفَضَّلُ بِهِ مِنْ عَطَاءٍ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى: ذَلِكَ فَضْلُنَا عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ طَاعَةَ الْعِبَادِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَدَّوْهَا فَقَدْ فَعَلُوا مَا لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا فِعْلُهُ فَلَوْ لَمْ يُثَابُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ إِثَابَتِهِمْ ظُلْمًا. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَعَظْمِيَّةِ الْفَضْلِ، والْفَضْلُ يَصْلُحُ لِأَنَّ يُعْتَبَرُ كَالْمُضَافِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ كَالْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ فَضْلُهُمْ، أَيْ شَرَفُهُمْ وَبَرَكَتُهُمْ فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى الْقَصْرِ إِلَى أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي حَصَلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَكْبَرُ فَضْلٍ. [23] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 23] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. اسْمُ الْإِشَارَةِ مُؤَكِّدٌ لِنَظِيرِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ الَّذِي هُوَ فَضْلٌ يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ هُوَ أَيْضًا بُشْرَى لَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. وَحَذْفُهُ هُنَا لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِاعْتِبَارِ حَذْفِ الْجَارِّ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَاف: 155] بِتَقْدِيرِ: مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَنْصُوبِ حُذِفَ كَمَا يُحْذَفُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يُبَشِّرُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُوَحِّدَةِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمَكْسُورَةِ، وَهُوَ مِنْ بَشَّرَهُ، إِذَا أَخْبَرَهُ بِحَادِثٍ يَسُرُّهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كثير وَأَبُو عمر وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُبَشِّرُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُوَحِّدَةِ وَضَمِّ الشِّينِ مُخَفَّفَةً، يُقَالُ: بَشَرْتُ الرَّجُلَ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ أَبْشُرُهُ مِنْ بَابِ نصر إِذا غبطه بِحَادِثٍ يَسُرُّهُ. وَجَمْعُ الْعِبَادِ الْمُضَافُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ ضَمِيرِهِ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيبِ وَتَرْفِيعِ الشَّأْنِ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ مَوْقِعُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هُنَا مَوْقِعَ عَطْفِ الْبَيَانِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يُونُس: 62، 63] إِذْ وَقَعَ الَّذِينَ آمَنُوا مَوْقِعَ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ أَوْلِياءَ اللَّهِ. قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَا أُعِدَّ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَذَابٍ وَمَا أُعِدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ خَيْرٍ، وَضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ لَا مَحَالَةَ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ جَوَابًا عَنْهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ جُمْلَةَ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَيَظْهَرُ مِمَّا رَوَاهُ الْوَاحِدِيٌّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اجْتَمَعُوا فِي مَجْمَعٍ لَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَرَوْنَ مُحَمَّدًا يَسْأَلُ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ أَجْرًا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَعْنُونَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَمَعْنَا لَهُ مَالًا كَمَا قَالُوهُ لَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، أَنَّهَا لَا اتِّصَالَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَأَنَّهَا لَمَّا عَرَضَ سَبَبُ نُزُولِهَا نَزَلَتْ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا فَتَكُونُ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً. وَكَانَ مَوْقِعُهَا هُنَا لِمُنَاسَبَةِ مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ فَإِنَّ مُنَاسَبَتَهَا لِمَا مَعَهَا مِنَ الْآيَاتِ مَوْجُودَةٌ إِذْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَاجَهَ بِهِ الْقُرْآنُ مُحَاجَّةَ الْمُشْرِكِينَ، وَنَفَى بِهِ أَوْهَامَهُمْ، وَاسْتَفْتَحَ بَصَائِرَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي عَلَامَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ فَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَجُمْلَةِ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً.

وَابْتُدِئَتْ بِ قُلْ إِمَّا لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا مِمَّا يَهْتَمُّ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ نَظَائِرَهَا افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (¬1) [الْأَنْعَام: 90] . وَضمير عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ. وَالْأَجْرُ: الْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَاهُ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [22] . وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ وَالْمُعَامَلَةُ الْحَسَنَةُ الْمُشْبِهَةُ مُعَامَلَةَ الْمُتَحَابِّينَ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [25] . وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ، أَيِ الْمُجَامَلَةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تُسْأَلُ لِأَنَّهَا انْبِعَاثٌ وَانْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ. وفِي للظرفية المجازية لِأَنَّهُ مَجْرُورَهَا وَهُوَ الْقُرْبى لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مَظْرُوفًا فِيهِ. وَمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ هُنَا: التَّعْلِيلُ، وَهُوَ مَعْنًى كَثِيرُ الْعُرُوضِ لِحَرْفِ فِي كَقَوْلِهِ: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ [الْحَج: 78] . والْقُرْبى: اسْمُ مَصْدَرٍ كَالرُّجْعَى وَالْبُشْرَى، وَهِيَ قَرَابَةُ النَّسَبِ، قَالَ تَعَالَى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الْإِسْرَاء: 26] ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أشدّ مُضَافَة ... الْبَيْتَ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِذِي الْقُرْبى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [41] . وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُهَا: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى الْقُرْآنِ جَزَاءً إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي، أَيْ أَنْ تُعَامِلُونِي مُعَامَلَةَ الْوُدِّ، أَيْ غَيْرَ مُعَامَلَةِ الْعَدَاوَةِ، لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَنَا فِي النَّسَبِ الْقُرَشِيِّ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا خلط بَين آيَة الْأَنْعَام وَآيَة يُونُس [72] وَآيَة الْأَنْعَام ابتدئت بقل- وَهِي مَوضِع الشَّاهِد- وَآيَة يُونُس ابتدئت بِمَا النافية، لذا حذفنا من المطبوعة من عِنْد إِنْ أَجْرِيَ لعدم الْحَاجة إِلَى ذَلِك.

وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَضْرَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَابْتَدَرَ سَعِيدٌ فَقَالَ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَتَبْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْأَلُهُ عَنْهَا فَكَتَبَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْسَطَ النَّاسِ فِي قُرَيْشٍ فَلَيْسَ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، أَيْ تُرَاعُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَتَصُدِّقُونِي، فَالْقُرْبَى هَاهُنَا قَرَابَةُ الرَّحِمِ كَأَنَّهُ قَالَ: اتَّبَعُونِي لِلْقَرَابَةِ إِنْ لم تتبعوني للنبوءة. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا أَقَارِبِي تَلْفِيقُ مَعْنًى عَنْ فَهْمٍ غَيْرِ مَنْظُورٍ فِيهِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِفَهْمِهِ. أَمَّا كَوْنُ محبَّة آل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ مَا لَهُ اتِّصَالٌ بِهِ خُلُقًا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَحَاصِلٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَتَحْدِيدُ حُدُودِهَا مُفَصَّلٌ فِي «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ فَلَيْسَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ عُمُومِ الْأَجْرِ الْمَنْفِيِّ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا. وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى التَّبْلِيغِ أَجْرًا وَأَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ لِأَجْلِ الْقُرْبَى. وَإِنَّمَا سَأَلَهُمُ الْمَوَدَّةَ لِأَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ إِيَّاهُ مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ مُعِينَةٌ عَلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، إِذْ تَلِينُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ شَكِيمَتُهُمْ فَيَتْرُكُونَ مُقَاوَمَتَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْمَوَدَّةُ غَرَضًا دِينِيًّا لَا نَفْعَ فِيهِ لنَفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تَنُوبُهُ نَوَائِبُ لَا يَسَعُهَا مَا فِي يَدَيْهِ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هَدَاكُمُ اللَّهُ بِهِ فَنَجْمَعُ لَهُ مَالًا، فَفَعَلُوا ثُمَّ أَتَوْهُ بِهِ، فَنَزَلَتْ.

وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الْأَنْصَارَ قَالُوا لَهُ يَوْمًا: أَنْفُسُنَا وَأَمْوَالُنَا لَكَ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ نَزَلَ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الشورى: 23، 24] . وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ فَرِيقٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهِيَ أَخْبَارٌ وَاهِيَةٌ. وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَتَطَلَّبَ مِنَ النَّاسِ جَزَاءً عَلَى تَبْلِيغِ الْهُدَى إِلَيْهِمْ فَإِنَّ النُّبُوءَةَ أَعْظَمُ مَرْتَبَةٍ فِي تَعْلِيمِ الْحَقِّ وَهِيَ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْحِكْمَةِ، وَالْحُكَمَاءُ تَنَزَّهُوا عَنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ لَا تُقَابِلُهُ أَعْرَاضُ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ طَلَبِ جَزَاءٍ عَلَى التَّبْلِيغِ، فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نوح وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: 109] . وَكَذَلِكَ حَكَى عَنْ هُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ. وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ. تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَالْمَعْنَى: وَكُلَّمَا عَمِلَ مُؤْمِنٌ حَسَنَةً زِدْنَاهُ حُسْنًا مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 261] وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالِاقْتِرَافُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْقَرْفِ، وَهُوَ الِاكْتِسَابُ، فَالِاقْتِرَافُ مُبَالَغَةٌ فِي الْكَسْبِ نَظِيرَ الِاكْتِسَابِ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِاكْتِسَابِ السُّوءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَلَبَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرَفَ الشَّجَرَةَ، إِذَا قَشَّرَ قِرْفَهَا، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ لِحَاؤُهَا، أَيْ قِشْرُ عُودِهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [113] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [24] . وَالْحَسَنَةُ: الْفَعْلَةُ ذَاتُ الْحُسْنِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ غَلَبَتْ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَامِدِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُسْنِ وَهُوَ جَمَالُ الصُّورَةِ. وَالْحُسْنُ: ضِدُّ الْقُبْحِ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الذَّاتِ تَقْتَضِي قَبُولَ مَنْظَرِهَا فِي نُفُوسِ الرَّائِينَ وَمَيْلَهُمْ إِلَى مُدَاوَمَةِ مُشَاهَدَتِهَا. وَتُوصَفُ الْمَعْنَوِيَّاتُ بِالْحُسْنِ فَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الْفِعْلِ أَوِ الصِّفَةِ مَحْمُودَةً عِنْدَ الْعُقُولِ مَرْغُوبًا فِي الِاتِّصَافِ بِهَا.

[سورة الشورى (42) : آية 24]

وَلَمَّا كَانَتِ الْحَسَنَةُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْحُسْنِ جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْحُسْنِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ الِاشْتِقَاقِ فَكَانَ ذِكْرُ الْحُسْنِ مِنَ الْجِنَاسِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِجِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الرّوم: 43] ، وَصَارَ الْمَعْنَى نَزِدْ لَهُ فِيهَا مُمَاثِلًا لَهَا. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ بِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ عَمَلًا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ أَيْضًا فَلَا تَنْتَهِي الزِّيَادَةُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الزِّيَادَةُ فِي جَزَاءِ أَمْثَالِهَا عِنْدَ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: 160] وَقَوْلِهِ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 261] ، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِلزِّيَادَةِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِهَا بِأَنَّ اللَّهَ كَثِيرَةٌ مَغْفِرَتِهِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، كَثِيرٌ شُكْرُهُ لِلْمُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّعْلِيلِ هُوَ وَصْفُ الشَّكُورِ، وَأَمَّا وَصْفُ الْغَفُورِ فَقَدْ ذُكِرَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَرْغِيبِ الْمُقْتَرِفِينَ السَّيِّئَاتِ فِي الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ لِيُغْفَرَ لَهُمْ فَلَا يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة الله. [24] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 24] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُضْرَبُ عَنْهُ وَالْمُنْتَقَلُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ الِانْتِقَالُ إِلَى تَوْبِيخٍ آخَرَ، فَالْهَمْزَةُ الْمُقَدِّرَةُ بَعْدَ أَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فَاسْتَحَقُّوا التَّوْبِيخَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَمْ قَالُوا افْتَرَى وَيَقُولُونَهُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ يَقُولُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِيَتَوَجَّهَ التَّوْبِيخُ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ بُطْلَانِهِ. فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا شَنَعًا مِنَ الْقَوْلِ فَاسْتِمْرَارُهُمْ عَلَيْهِ أَشْنَعُ.

وَفَرَّعَ عَلَى تَوْبِيخِهِمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَهُوَ تَفْرِيعٌ فِيهِ خَفَاءٌ وَدِقَّةٌ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنَ التَّفْرِيعِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ إِبْطَالٌ لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَتَوْكِيدٌ لِلتَّوْبِيخِ فَكَيْفَ يُسْتَفَادُ هَذَا الْإِبْطَالُ مِنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ الْمُفَرَّعَيْنِ عَلَى التَّوْبِيخِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ هَذَا التَّفْرِيعِ وَتَرَتُّبِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَفْهَامٌ عَدِيدَةٌ لَا يَخْلُو مُعْظَمُهَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَضَعْفِ اقْتِنَاعٍ. وَالْوَجْهُ فِي بَيَانِهِ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ الْمُفَرَّعَيْنِ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ عَلَى التَّوْبِيخِ وَالْإِبْطَالِ هُمَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالتَّفْرِيعِ الْمُنَاسِبِ لِتَوْبِيخِهِمْ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَتَقْدِيرُ الْمُفَرَّعِ هَكَذَا: فَكَيْفَ يَكُونُ الِافْتِرَاءُ مِنْكَ عَلَى اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يُقِرُّ أَحَدًا أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ فَلَوْ شَاءَ لَخَتَمَ عَلَى قَلْبِكَ، أَيْ سَلَبَكَ الْعَقْلَ الَّذِي يُفَكِّرُ فِي الْكَذِبِ فَتُفْحَمُ عَنِ الْكَلَامِ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ، أَيْ وَلَيْسَ ثَمَّةَ حَائِلٌ يَحُولُ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ لَوِ افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الِافْتِرَاءِ لَأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ كَلَامًا، فَحَصَلَ بِهَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَتَكُونُ الْآيَةُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44- 46] . وَلِابْنِ عَطِيَّةَ كَلِمَاتٌ قَلِيلَةٌ يُؤَيِّدُ مَغْزَاهَا هَذَا التَّقْرِيرَ مُسْتَنِدَةٌ لِقَوْلِ قَتَادَةَ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ كَوْنِ مَا بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ الْمُفَرَّعُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ كِنَايَةً عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ قَوْلِهِمُ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ رَسُولَهُ بِهَذَا تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ افْتِرَاءَهُ عَلَى اللَّهِ لَا يُهِمُّكُمْ حَتَّى تناصبوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدَاءَ، فَاللَّهُ أَوْلَى مِنْكُمْ بِأَنْ يُغَارَ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ رِسَالَتِهِ وَبِأَنْ يَذُبَّ عَنْ جَلَالِهِ فَلَا تَجْعَلُوا هَذِهِ الدَّعْوَى هَمَّكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَخَتَمَ عَلَى قَلْبِكَ فَسَلَبَكَ الْقُدْرَةَ عَلَى أَنْ تَنْسُبَ إِلَيْهِ كَلَامًا. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ هُمَا الْمُنَاسِبَانِ لِمَوْقِعِ الْآيَةِ، وَلِفَاءِ التَّفْرِيعِ، وَلِمَا فِي الشَّرْطِ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِوُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ مُضَارِعًا، فَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: عَلى قَلْبِكَ وَهُوَ انْتِهَاءُ كَلَامٍ. وَجُمْلَةُ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى التَّفْرِيعِ، وَهِيَ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ، مُرَادٌ

مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يَمْحُو بَاطِلَ الْمُشْرِكِينَ وَبُهْتَانَهُمْ وَيُحَقِّقُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى جَرَى جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِثْلَ الْكِسَائِيِّ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَلَمْ يَجْعَلُوا وَيَمْحُ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ أَنَّ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ دِينَهُمْ زَائِلٌ. وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ رَفْعِ وَيُحِقُّ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَحْوِ عَلَى هَذَا: الْإِزَالَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ: الْبَاطِلُ الْمَعْهُودُ وَهُوَ دِينُ الشِّرْكِ. وَبِالْحَقِّ: الْحَقُّ الْمَعْهُودُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُزِيلَ الْبَاطِلَ وَيَفْضَحَهُ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ زَوَالِهِ وَأَنْ يُوَضِّحَ الْحَقَّ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ ظُهُورِهِ، حَتَّى يَكُونَ ظُهُورُهُ فَاضِحًا لِبُطْلَانِ الْبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ لَفَضَحَ اللَّهُ بُطْلَانَهُ وَأَظْهَرَ الْحَقَّ، فَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ: جِنْسُ الْبَاطِلِ، وَبِالْحَقِّ جِنْسُ الْحَقِّ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ كَالتَّذْيِيلِ لِلتَّفْرِيعِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِالِاسْتِئْنَافِ، وَلِإِفَادَتِهِ الْوَعِيدَ بِإِزَالَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فَقَوْلُهُ: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى جَزَاءِ الشَّرْطِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَمْحُ الْبَاطِلَ، بَلْ هُوَ تَحْقِيقٌ لِمَحْوِهِ لِلْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاء: 81] ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ رَفْعُ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، فَفِعْلُ يَمْحُ مَرْفُوعٌ وَحَقُّهُ ظُهُورُ الْوَاوِ فِي آخِرِهِ، وَلَكِنَّهَا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا فِي النُّطْقِ، وَتَبِعَ حَذْفَهَا فِي النُّطْقِ حَذْفُهَا فِي الرَّسْمِ اعْتِبَارًا بِحَالِ النُّطْقِ كَمَا حُذِفَ وَاوُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وَوَاوُ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الْإِسْرَاء: 11] . وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْوَاوَ ثَبَتَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِيمَا رَأَيْتُ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَيَمْحُ الْبَاطِلَ، لِتَقْوِيَةِ تَمَكُّنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الذِّهْنِ وَلِإِظْهَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِمَحْوِ الْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي صَوْغِ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ فَلَمْ يَقُلْ: وَاللَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ مَا فِي إِفَادَةِ الْمُضَارِعِ مِنَ التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا شَأْنُ اللَّهِ وَعَادَتُهُ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْقِيقَ ذَلِكَ وَتَثْبِيتَهُ لِأَنَّ إِفَادَةَ

[سورة الشورى (42) : الآيات 25 إلى 26]

التَّكْرِيرِ تَقْتَضِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَحَصَلَ الْغَرَضَانِ. وَالْبَاءُ فِي بِكَلِماتِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْكَلِمَاتُ هِيَ: كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ كَقَوْلِهِ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الْفَتْح: 15] ، أَوِ الْمُرَادُ: كَلِمَاتُ التَّكْوِينِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِيجَادِ عَلَى وَفْقَ عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ [الْكَهْف: 27] . وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِأُسْلُوبِ الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى فِي الِاعْتِنَاءِ بِتَلْقِينِهِ جَوَابَ تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَفْظِيعٍ لِبُهْتَانِهِمْ، وَهَذَا وَجْهُ التَّخَالُفِ بَيْنَ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ [يُونُس: 16] لَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لِإِبْطَالِ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِمَجْمُوعِ جُمْلَتَيْ فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: بِكَلِماتِهِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ افْتِرَاءُ مُفْتَرٍ وَلَا صِدْقُ مُحِقٍّ. وَ (ذَاتِ الصُّدُورِ) : النَّوَايَا وَالْمَقَاصِدُ الَّتِي يُضْمِرُهَا النَّاسُ فِي عُقُولِهِمْ. وَالصُّدُورُ: الْعُقُولُ، أُطْلِقَ عَلَيْهَا الصُّدُورُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَة الْأَنْفَال [43] . [25، 26] [سُورَة الشورى (42) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) لَمَّا جَرَى وَعِيدُ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ لِتَأْيِيدِ بَاطِلِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [الشورى: 16] . ثُمَّ أُتْبِعَ بِوَصْفِ سُوءِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ بَقَوْلِهِ: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا [الشورى: 22] ، وَقُوبِلَ بِوَصْفِ نَعِيمِ الَّذِينَ آمَنُوا بَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ [الشورى: 22] ، وَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ أَنْ يَكْسِرَ نُفُوسَ أَهْلِ

الْعِنَادِ وَالضَّلَالَةِ، أُعْقِبَ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ مَنْ يَتُوبُ مِنْ عِبَادِهِ، وَعَفْوُهُ بِذَلِكَ عَمَّا سَلَفَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ تَعْرِيضٌ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى مُبَادَرَةِ التَّوْبَةِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الصَّالِحِ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَهُوَ أَيْضًا بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَكُونُ قَدْ قَبِلَ تَوْبَةَ التَّائِبِينَ مِنْ قَبْلُ، بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ، وَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الِاسْتِجَابَةَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ عِبَادِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ وَعَكْسِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ وَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَبُولِ إِيمَانِهِمْ وَلِلْعُصَاةِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ. فَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَخَاصَّةً جُمْلَةَ: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: 24] . وَابْتِنَاءُ الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى أُسْلُوبِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَتِهَا ثَبَاتَ حُكْمِهَا وَدَوَامَهُ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ اسْمَ مَوْصُولٍ لِإِفَادَةِ اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَضْمُونِ صِلَتِهِ وَأَنَّهَا شَأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى عُرِفَ بِهِ ثَابِتٌ لَهُ لَا يَتَخَلَّفُ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِحِكْمَتِهِ وَعَظْمَةِ شَأْنِهِ وَغِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ. وَإِيثَارُ جُمْلَةِ الصِّلَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تُجَدُّدِ مَضْمُونِهِ وَتَكَرُّرِهِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَخْتَلِفُ. وَفِعْلُ (قَبِلَ) يَتَعَدَّى بِ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ تَارَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [التَّوْبَة: 54] وَقَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمرَان: 91] ، فَيُفِيدُ مَعْنَى الْأَخْذِ لِلشَّيْءِ الْمَقْبُولِ صَادِرًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَيُعَدَّى بِ عَنْ فَيُفِيدُ مَعْنَى مُجَاوَزَةِ الشَّيْءِ الْمَقْبُولِ أَوِ انْفِصَالَهُ عَنْ مُعْطِيهِ وَبَاذِلِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى الْفِعْلِ مَنْ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ (مِنْ) لَأَنَّ فِيهِ كِنَايَةً عَنِ احْتِبَاسِ الشَّيْءِ الْمَبْذُولِ عِنْدَ الْمَبْذُولِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُرَدُّ عَلَى بَاذِلِهِ.

فَحَصَلَتْ فِي جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ أَرْبَعُ مُبَالَغَاتٍ: بِنَاءُ الْجُمْلَةِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ وَعَلَى الْمَوْصُولِيَّةِ وَعَلَى الْمُضَارِعِيَّةِ، وَعَلَى تَعْدِيَةِ فِعْلِ الصِّلَةِ بِ عَنْ دُونَ (مِنْ) . والتَّوْبَةَ: الْإِقْلَاعُ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ امْتِثَالًا لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [37] . وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمَا رَضِيَ عَنِ الَّذِي اقْتَرَفَ الْجَرِيمَةَ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهَا مَقْبُولَةً لِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ. وَفِي ذِكْرِ اسْمِ الْعِبَادِ دُونَ نَحْوِ: النَّاسِ أَوِ التَّائِبِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ لِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّ الْخَالِقَ وَالصَّانِعَ يُحِبُّ صَلَاحَ مَصْنُوعِهِ. وَالْعَفْوُ: عَدَمُ مُؤَاخَذَةِ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ. وَالسَّيِّئَاتُ: الْجَرَائِمُ لِأَنَّهَا سَيِّئَةٌ عِنْدَ الشَّرْعِ. وَالْعَفْوُ عَنِ السَّيِّئَاتِ يَكُونُ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اقْتَرَفَهَا الْعَاصِي قَبْلَ تَوْبَتِهِ، وَيَكُونُ بِدُونِ ذَلِكَ مِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ عَقِبَ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ، وَمِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ لِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ بِأَنْ يُمْحَى عَنِ الْعَاصِي مِنْ سَيِّئَاتِهِ مَا يُقَابِلُ مِقْدَارًا مِنْ حَسَنَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاء: 48] وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ عَنْ سَيِّئَاتِ عِبَادِهِ فَيَعُمَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ عُمُومًا مَخْصُوصًا بِالْأَدِلَّةِ لِهَذَا الْحُكْمِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا يَفْعَلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ مَا يَفْعَلُ عِبَادُهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالِاسْتِجَابَةُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِجَابَةِ، وَخُصَّتِ الِاسْتِجَابَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِامْتِثَالِ الدَّعْوَةِ أَوِ الْأَمْرِ.

وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ فَاعِلَ يَسْتَجِيبُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَأَن الَّذِينَ آمَنُوا مَفْعُولُ يَسْتَجِيبُ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ. وَالْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُقَالَ: اسْتَجَابَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: 60] وَقَدْ يَحْذِفُونَ اللَّامَ فَيُعَدُّونَهُ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ مَا يَرْجُونَهُ مِنْهُ مِنْ ثَوَابٍ، وَمَا يَدْعُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ آمَنُوا فعل يَسْتَجِيبُ أَيْ يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ فَيُطِيعُونَهُ وَتَكُونَ جُمْلَةُ وَيَسْتَجِيبُ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، أَيْ ذَلِكَ شَأْنُهُ وَهَذَا شَأْنُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَعْنَى وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يُعْطِيهِمْ مَا أَمَّلَوْا مِنْ دُعَائِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَأَعْظَمَ مِمَّا أَمَّلَوْا حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ وَلِرَسُولِهِ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنَ الثَّوَابِ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلُوا مِنَ الصَّالِحَاتِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ إِيَّاهُ كُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَطِيفٌ بِهِمْ وَمُدَبِّرٌ لِمَصَالِحِهِمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الِاسْتِجَابَةُ وَالزِّيَادَةُ كَرَامَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أُظْهِرَ اسْمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَجِيءَ بِهِ مَوْصُولًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ وَجْهُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ وَالزِّيَادَةِ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ اعْتِرَاضٌ عَائِدٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ [الشورى: 22] تَوْكِيدًا لِلْوَعِيدِ وَتَحْذِيرًا مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ فَتْحِ بَابِ التَّوْبَة لَهُم.

[سورة الشورى (42) : آية 27]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 27] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى: 26] أَوْ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ جُمْلَةِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الشورى: 26] وَمِنْ جُمْلَةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَمَوْقِعُ مَعْنَاهَا مُوقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إِذَا سَمِعَ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ: أَنَّ مِمَّا يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُونَ سَعَةَ الرِّزْقِ وَالْبَسْطَةَ فِيهِ فَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَيَّامَ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِي حَاجَةٍ وَضِيقِ رِزْقٍ إِذْ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَرْزَاقَهُمْ وَقَاطَعُوا مُعَامَلَتَهُمْ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ بَسَطَ الرِّزْقَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ بَسْطُهُ مُفْسِدًا لَهُمْ لَأَنَّ الَّذِي يَسْتَغْنِي يَتَطَرَّقَهُ نِسْيَانُ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ فَكَانَ مِنْ خَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْآجِلِ لَهُمْ أَنْ لَا يُبْسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَنُوطًا بِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ تَطَّرِدُ فِي النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] . وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ لَا يَشْغَلَهُ غِنَاهُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ يَفُوزُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَشْغَلُهُ أَمْوَالُهُ عَنْهُ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا تَعَرَّضُوا لَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَدْ جَاءَهُ مَالٌ من الْبَحْرين «فو الله مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» . وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْرِدًا كُلِّيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعِبادِهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْعِبَادِ. وَمِنْ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْمَسْئُولِ عَلَيْهِ الْجُزْئِيِّ الْخَاصِّ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ إِفَادَةِ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا النِّظَامِ التَّكْوِينِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَسَّسَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قَوَانِينَ عَامَّةٍ وَلَيْسَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَخُصَّ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ بِنِظَامٍ تَكْوِينِيٍّ دُنْيَوِيٍّ وَلَكِنَّهُ خَصَّهُمْ بِمَعَانِي الْقُرْبِ

وَالرِّضَا وَالْفَوْزِ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَرُبَّمَا خَصَّهُمْ بِمَا أَرَادَ تَخْصِيصَهُمْ بِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ. وَالْبَغْيُ: الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ، أَيْ لَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْغِنَى مَظِنَّةُ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ إِذَا صَادَفَ نَفْسًا خَبِيثَةً، قَالَ بَعْضُ بَنِي جرم من طَيء مِنْ شُعَرَاءِ الحماسة: إِذا أخصبتموا كُنْتُمْ عَدُوًّا ... وَإِنْ أَجْدَبْتُمُو كُنْتُمْ عِيَالًا وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيُّ يُنْبِتُ بَيْنَنَا ... وَبَيْنَ بَنِي رُومَانَ نَبْعًا وَشَوْحَطًا (¬1) فَأَمَّا الْفَقْرُ فَقَلَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْبَغْيِ إِلَّا بَغْيًا مَشُوبًا بِمَخَافَةٍ كَبَغْيِ الْجَائِعِ بِالِافْتِكَاكِ بِالْعُنْفِ فَذَلِكَ لِنُدْرَتِهِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ لِبَيَانِ حِكْمَةِ كَوْنِ الرِّزْقِ بِقَدَرٍ لَا لِبَيَانِ حِكْمَةٍ فِي الْفَقْرِ. فَالتَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا حَاصِلٌ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ هَذَا السَّبَبِ قَدْ يَخْلُفُهُ ضِدُّهُ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ بَيْنَ بَسْطِ الرِّزْقِ وَبَيْنَ الْفَقْرِ مَرَاتِبَ أُخْرَى مِنَ الْكَفَافِ وَضِيقِ الرِّزْقِ وَالْخَصَاصَةِ، وَالْفَقْرِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا إِشْكَالَ فِي التَّعْلِيلِ. وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ «فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَنَزَلَتْ» ، وَهَذَا مِمَّا حَمَلَ قَوْمًا عَلَى ظَنِّ هَذِهِ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْ خَبَّابٍ فَهُوَ تَأْوِيلٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَخَبَّابٌ أَنْصَارِيٌّ فَلَعَلَّهُ سَمِعَ تَمْثِيلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ تَمَنَّوْا سَعَةَ الرِّزْقِ فَنَزَلَتْ، وَهَذَا خَبَرٌ ضَعِيفٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ جَعَلَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي بَسْطَةٍ مِنَ الرِّزْقِ لَاخْتَلَّ نِظَامُ حَيَاتِهِمْ بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بعض لِأَن بَعضهم الْأَغْنِيَاءَ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْبَغْيِ لِتَوَفُّرِ ¬

(¬1) رُومَان برَاء مَضْمُومَة: اسْم رجل.

أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ كَمَا عَلِمْتَ فَيَجِدُ مِنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ الْمُقَاوَمَةَ وَهَكَذَا، وَذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى اخْتِلَالِ نِظَامِهِمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَا يُفْضِي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْفَسَادِ لِأَنَّ الْغِنَى قَدْ يُصَادِفُ نَفْسًا صَالِحَةً وَنَفْسًا لَهَا وَازِعٌ مِنَ الدِّينِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْبَغْيِ، فَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا خَبِيثَةً لَا وَازِعَ لَهَا فَتِلْكَ حَالَةٌ نَادِرَةٌ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ السَّيِّئَةِ فِي الْعَالَمِ وَلَهَا مَا يُقَاوِمُهَا فِي الشَّرِيعَةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَغَيْرَةِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَامٍّ وَلَا إِلَى اخْتِلَالِ نِظَامٍ. وَإِطْلَاقُ فِعْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى إِعْطَاءِ الرِّزْقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّهُ عَطَاءٌ مِنْ رَفِيعِ الشَّأْنِ، فَشُبِّهَ بِالنَّازِلِ مِنْ عُلُوٍّ وَتَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقَدَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: الْمِقْدَارُ وَالتَّعْيِينُ. وَمَعْنَى مَا يَشاءُ أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَعَلَى مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَسْبَابِ عَلَى حسب مُخْتَلف صَالح مَخْلُوقَاتِهِ وَتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَصَرُّفَاتٌ وَتَقْدِيرَاتٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُهُ تَعَالَى. وَكُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ، وَهِيَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلَّتِي قَبْلَهَا. وَافْتُتِحَتْ بِ (إِنَّ) الَّتِي لَمْ يُرَدْ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَلَكِنَّهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَالْإِيذَانِ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تَقُومُ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، فَالْجُمْلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْفَاءِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفَيْ خَبِيرٌ وبَصِيرٌ لِأَنَّ وَصْفَ خَبِيرٌ دَالٌّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَحْوَالِهِمْ قَبْلَ تَقْدِيرِهَا وَتَقْدِيرِ أَسْبَابِهَا، أَيِ الْعِلْمِ بِمَا سَيَكُونُ. وَوَصْفُ بَصِيرٌ دَالٌّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْوَالِهِمُ الَّتِي حَصَلَتْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعَلُّقَيْنِ للْعلم الإلهي.

[سورة الشورى (42) : آية 28]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 28] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشورى: 27] فَإِنَّ الْغَيْثَ سَبَبُ رِزْقٍ عَظِيمٍ وَهُوَ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ بِقَدَرٍ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى النَّاسِ الَّتِي مِنْهَا مُعْظَمُ رِزْقِهِمُ الْحَقِيقِيِّ لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ. وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهَا لِأَنَّهَا أَصْلُ دَوَامِ الْحَيَاةِ بِإِيجَادِ الْغِذَاءِ الصَّالِحِ لِلنَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ قَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ [الشورى: 29] عَقِبَ قَوْلِهِ هُنَا وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ. وَاخْتِيَارُ الْمُضَارِعِ فِي يُنَزِّلُ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ التَّنْزِيلِ وَتَجْدِيدِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا لِلْإِشَارَةِ إِلَى حُصُولِ الْقُنُوطِ وَتَقَرُّرِهِ بِمُضِيِّ زَمَانٍ عَلَيْهِ. وَالْغَيْثُ: الْمَطَرُ الْآتِي بَعْدَ الْجَفَافِ، سُمِّيَ غَيْثًا بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّ بِهِ غَيْثَ النَّاسِ الْمُضْطَرين، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [49] . وَالْقُنُوطُ: الْيَأْسُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [55] . وَالْمُرَادُ: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا مِنَ الْغَيْثِ بِانْقِطَاعِ أَمَارَاتِ الْغَيْثِ الْمُعْتَادَةِ وَضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ الزَّرْعِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ تُفِيدُ قَصْرَ الْقَلْبِ لِأَنَّ فِي السَّامِعِينَ مُشْرِكِينَ يَظُنُّونَ نُزُولَ الْغَيْثِ مِنْ تَصَرُّفِ الْكَوَاكِبِ وَفِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ الْغَافِلُونَ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ نُزُولَ الْغَيْثِ مَنُوطًا بِالْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ لِنُزُولِ الْغَيْثِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَطَرَ مِنْ تَصَرُّفِ أَنْوَاءِ الْكَوَاكِبِ. وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى إِثْرَ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ، قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ

بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» . فَهَذَا الْقَصْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ قَصْرُ قَلْبٍ أَصْلِيٌّ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَصْرُ قَلْبٍ تَنْزِيلِيٌّ. وَالنَّشْرُ: ضِدُّ الطَّيِّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْقاهُ مَنْشُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [13] . وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلتَّوْسِيعِ وَالِامْتِدَادِ. وَالرَّحْمَةُ هُنَا: رَحْمَتُهُ بِالْمَاءِ، وَقِيلَ: بِالشَّمْسِ بَعْدَ الْمَطَرِ. وَضَمِيرُ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا عَائِدٌ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَفْعِ الْقَحْطِ عَنْ قُرَيْشٍ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَامَ عَلَيْهِمُ الْقَحْطُ سَبْعَ سِنِينَ أَكَلُوا فِيهَا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدُّخان [15] إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ. فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ. فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا. ثُمَّ قَالَ: تَعُودُونَ بَعْدُ» . وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي الْمَدِينَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي استسقاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَهُوَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُ هُوَ كَعْبُ بْنُ مُرَّةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي «الصَّحِيحِ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ يُنَزِّلُ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَذِكْرُ صِفَتَيِ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ دُونَ غَيْرِهِمَا لِمُنَاسَبَتِهِمَا لِلْإِغَاثَةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُحْسِنُ إِلَى مَوَالِيهِ وَالْحَمِيدَ يُعْطِي مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ. وَوَصْفُ حَمِيدٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ تَفْسِيرَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ بعد الْمَطَر.

[سورة الشورى (42) : آية 29]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 29] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) لَمَّا كَانَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ جَامِعًا بَيْنَ كَوْنِهِ نِعْمَةً وَكَوْنِهِ آيَةً دَالَّةً عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِهِ إِلَى ذِكْرِ آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ آيَةُ خَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعَظِيمَةِ وَمَا فِيهَا مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ لِلنَّاسِ دُونَ قَصْدِ الِامْتِنَانِ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ اسْتِطْرَادٌ وَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي سِيَاقُ الْآيَاتِ فِيهَا. وَالْآيَاتُ: جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى شَيْءٍ. وَالسِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَات الإلهية. وَالسَّمَوَات: الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا غَيْرُ الْمُشَاهَدَةِ لَنَا وَالْكَوَاكِبُ وَمَا تَجَاوَزَ الْأَرْضَ مِنَ الْجَوِّ. وَالْأَرْضُ: الْكُرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ. وَالْبَثُّ: وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ. وَالدَّابَّةُ: مَا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَمْشِي فَيَشْمَلُ الطَّيْرَ لِأَنَّ الطَّيْرَ يَمْشِي إِذَا نَزَلَ وَهُوَ مِمَّا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: فِيهِما أَيْ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ، أَيْ بَعْضِ مَا يُسَمَّى بِالسَّمَاءِ وَهُوَ الْجَوُّ وَهُوَ مَا يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِثْلَ قُبَّةٍ زَرْقَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فِي النَّهَارِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [النَّحْل: 79] فَإِطْلَاقُ الدَّابَّةِ عَلَى الطَّيْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ كَثِيرًا لِالْتِقَاطِ الْحَبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي فِي السَّمَوَات العلى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْوَاحِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ دَابَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي بَعْضِ السَّمَاوَاتِ مَوْجُودَاتٌ تَدُبُّ فِيهَا فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَالْعُلَمَاءُ يَتَرَدَّدُونَ فِي إِثْبَاتِ سُكَّانٍ فِي الْكَوَاكِبِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي كَوْكَبِ الْمَرِّيخِ سُكَّانًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: 8] ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِما ظَرْفِيَّةَ الْمَجْمُوعِ لَا الْجَمِيعِ، أَيْ مَا بَثَّ فِي مَجْمُوعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِنْ دَابَّةٍ، فَالدَّابَّةُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ مُقْتَرِنَتَيْنِ وَجَاءَ ذِكْرُ الدَّوَابِّ جُعِلَتِ الدَّوَابُّ مَظْرُوفَةً فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَرْضَ مَحُوطَةٌ بِالسَّمَاوَاتِ وَمُتَخَيَّلَةٌ مِنْهَا كَالْمَظْرُوفِ فِي ظَرْفِهِ، وَالْمَظْرُوفُ فِي ظَرْفٍ مَظْرُوفٌ فِي ظَرْفِ مَظْرُوفِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرَّحْمَن: 19] ثُمَّ قَالَ:

[سورة الشورى (42) : آية 30]

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَن: 22] واللؤلؤ وَالْمَرْجَانُ يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ الْبَحْرُ الْمَلِحُ لَا مِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ، مُعْتَرِضَةٌ فِي جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ لِإِدْمَاجِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي عَرْضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا عَنْ عَدَمٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ بَعْضِ مَا فِيهِمَا لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِ فَكَيْفَ تَعُدُّونَهُ مُحَالًا. وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: جَمْعِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الَّذِي تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِجَمْعِهِ فِي الْحَشْرِ لِلْجَزَاءِ هُمُ الْعُقَلَاءُ مِنَ الدَّوَابِّ أَيِ الْإِنْسُ. وَالْمُرَادُ بِ جَمْعِهِمْ حَشْرُهُمْ لِلْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] . وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ تُحْشَرُ لِلِانْتِصَافِ مِمَّنْ ظَلَمَهَا. وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنْ تَضَمُّنِ الشَّرْطِيَّةِ، فَالتَّقْدِيرُ: حِينَ يَشَاءُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ جَمْعِهِمْ. وَهَذَا الظَّرْفُ إِدْمَاجٌ ثَانٍ لِإِبْطَالِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأَخُّرِ يَوْمِ الْبَعْثِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: 51] ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29، 30] . [30] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 30] وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْمِنَّةُ بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ بَعْدَ الْقُنُوطِ أَنَّ الْقَوْمَ أَصَابَهُمْ جُهْدٌ مِنَ الْقَحْطِ بَلَغَ بِهِمْ مَبْلَغَ الْقُنُوطِ مِنَ الْغَيْثِ أَعْقَبَتْ ذَلِكَ بِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُؤْسِ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الشِّرْكِ تَنْبِيهًا يَبْعَثُهُمْ وَيَبْعَثُ الْأُمَّةَ عَلَى أَنْ

يُلَاحِظُوا أَحْوَالَهُمْ نَحْو امْتِثَال رضى خَالِقِهِمْ وَمُحَاسِبَةِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَا يَحْسَبُوا أَنَّ الْجَزَاءَ الَّذِي أُوعِدُوا بِهِ مَقْصُورٌ عَلَى الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُهُمُ اللَّهُ بِمَا هُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا كَانَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الْقَحْطِ وَالْجُوعِ اسْتِجَابَةً لدَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّعْوَةُ نَاشِئَةً على مَا لاقوه بِهِ مِنَ الْأَذَى، لَا جَرَمَ كَانَ مَا أَصَابَهُمْ مُسَبَّبًا عَلَى مَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ. فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: 28] ، وَأُطْلِقَ كَسْبُ الْأَيْدِي عَلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ بِمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنْ أَقْوَال الشّرك والأذى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ دِينِ الشِّرْكِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءٌ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ كُلِّهَا وَهُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِ الْآخِرَةِ وَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَبِمَا دَلَّ عَلَى شُمُولِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ سَبَبُ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ هُوَ أَعْمَالُكُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَر فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ عَلَى أَنَّ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَهِي مُبْتَدأ. وفَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ بِفَاءٍ قَبْلَ الْبَاءِ وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ الْبَصْرَةِ وَمُصْحَفِ الْكُوفَةِ، عَلَى أَنَّ (مَا) مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَاقْتَرَنَ خَبَرُهَا بِالْفَاءِ لِذَلِكَ، أَوْ هِيَ شَرْطِيَّةٌ وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ وَيَكُونُ وُقُوعُ فِعْلِ الشَّرْطِ مَاضِيًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحَقُّقِ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ وَاسْمِ الشَّرْطِ مِنَ الْإِبْهَامِ. وَالْمُصِيبَةُ: اسْمٌ لِلْحَادِثَةِ الَّتِي تُصِيبُ بِضُرٍّ وَمَكْرُوهٍ، وَقَدْ لَزِمَتْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَادِثَةِ فَلِذَلِكَ تُنُوسِيَتْ مِنْهَا الْوَصْفِيَّةُ وَصَارَتِ اسْمًا لِلْحَادِثَةِ الْمَكْرُوهَةِ. فَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تُعَيِّنُ مَعْنَى عُمُومِ التَّسَبُّبِ لِأَفْعَالِهِمْ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ لِأَنَّ (مَا) فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِمَّا شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطُ دَالٌّ عَلَى التَّسَبُّبِ وَإِمَّا مَوْصُولَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِالشَّرْطِيَّةِ، فَالْمَوْصُولِيَّةُ تُفِيدُ الْإِيمَاءَ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، وَتَشْبِيهُهَا بِالشَّرْطِيَّةِ يُفِيدُ التَّسَبُّبَ.

وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ لَا تُعَيِّنُ التَّسَبُّبَ بَلْ تُجَوِّزُهُ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ قَدْ يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ بِالْوَصْفِ بِالصِّلَةِ، فَتُحَمَلُ عَلَى الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ وَبِتَأْيِيدِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ اتِّحَادُ الْمَعَانِي. وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ فَرِيقًا مُعَيَّنًا وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَصَائِبَ مُعَيَّنَةً حَصَلَتْ فِي الْمَاضِي، وَأَنْ يُرَادَ جَمِيعُ الْمَصَائِبِ الَّتِي حَصَلَتْ وَالَّتِي تَحْصُلُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُفِيدُ: أَنَّ مِمَّا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا مَا هُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَثَلِ الْمُصِيبَةِ أَوِ الْمَصَائِبِ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ وأذاهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ (مَا) شَرْطِيَّةً كَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى عُمُومِ مَفْهُومِهَا الْمُبَيَّنِ بِحَرْفِ مِنْ الْبَيَانِيَّةِ أَظْهَرَ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْمَاضِيَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الشُّرُوطِ الْمَصُوغَةِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ وَالتَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ يُمَحِّضُهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَتْ (مَا) مَوْصُولَةً كَانَتْ دَلَالَتُهَا مُحْتَمِلَةً لِلْعُمُومِ وَلِلْخُصُوصِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَكُونُ لِلْعَهْدِ وَيَكُونُ لِلْجِنْسِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مَا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالنِّسْبَةِ لِأُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ كَانَ فِيهِ نِذَارَةٌ وَتَحْذِيرٌ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَفْعَلُ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهِمْ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ مَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ بِهِمْ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ لَا يَطَّرِدُ فَقَدْ يُجَازِي اللَّهُ قُومًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً فِي الدُّنْيَا مَعَ جَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَتْرُكُ قَوْمًا إِلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ، فَجَزَاءُ الْآخِرَةِ فِي الْخَيْرِ الشَّرّ هُوَ الْمُطَّرِدُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَالْجَزَاءُ فِي الدُّنْيَا قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ بِوَجْهِ الْكُلِّيَّةِ وَبِوَجْهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَمِمَّا جَاءَ بِطَرِيقِ الْكُلِّيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا [الْفجْر: 15- 19] الْآيَةَ،

فَقَوْلُهُ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَلَّا الْمُرَتَّبِ عَلَى قَوْلِهِ: فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَقَوْلِهِ: فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَرَامَةَ وَالْإِهَانَةَ إِنَّمَا تَسَبَّبَا عَلَى عَدَمِ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ وَالْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَقَالَ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الرّوم: 41] . وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» : أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» . وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَة، وَأما مَا جَاءَ عَلَى وَجْهِ الْجُزْئِيَّةِ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً [نوح: 10- 12] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ نُوحٍ [3، 4] . وَقَوْلُهُ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] ، وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الْأَعْرَاف: 152] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَاف: 155] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ فِي الْأَعْرَافِ [167] ، وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النازعات: 25] ، وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ فِي بَرَاءَةٌ [126] . وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، مَنْ يُحَافِظُ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ» . وَفِي بَابِ الْعُقُوبَاتِ مِنْ آخَرِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» . وَفِي «الْبُخَارِيِّ» قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ «إِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَجَاهَدْنَا فِي سَبِيلِهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ ذَهَبَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، مَاتَ وَمَا تَرَكَ إِلَّا ... كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ بِهَا رَأْسَهُ وَنَضَعَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ،

وَمِنْهُمْ مَنْ عُجِّلَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يُهَدِّبُهَا» . وَإِذَا كَانَتِ الْمُصِيبَةُ فِي الدُّنْيَا تَكُونُ جَزَاءً عَلَى فِعْلِ الشَّرِّ فَكَذَلِكَ خَيْرَاتُ الدُّنْيَا قَدْ تَكُونُ جَزَاءً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يُونُس: 62، 64] ، وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يُوسُف: 91] أَيْ مُذْنِبِينَ، أَيْ وَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ خَاطِئًا، وَقَالَ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ [148] وَقَالَ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [82] ، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً فِي سُورَةِ النُّورِ [55] . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْقُضُ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: إِنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لقَوْله تَعَالَى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: 4] أَيْ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ وَالْآخِرَةُ دَارُ الْجَزَاءِ، فَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ هُوَ: أَنَّهُ لَيْسَ كَوْنُ مَا يُصِيبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ بِمُطَّرِدٍ، وَلَا مُتَعَيِّنٍ لَهُ فَإِنَّ لِذَلِكَ أَسْبَابًا كَثِيرَةً وَتَدْفَعُهُ أَوْ تَدْفَعُ بَعْضًا مِنْهُ جَوَابِرُ كَثِيرَةٌ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا وَدَفْعًا وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَزَاءَ إِنْ شَاءَ. وَقَدْ تُصِيبُ الصَّالِحِينَ نَكَبَاتٌ وَمَصَائِبُ وَآلَامٌ فَتَكُونُ بَلْوَى وَزِيَادَةً فِي الْأَجْرِ وَلِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ تُصِيبُ الْمُسْرِفِينَ خَيْرَاتٌ وَنِعَمٌ إِمْهَالًا وَاسْتِدْرَاجًا وَلِأَسْبَابٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِخَفَايَا خَلْقِهِ وَنَوَايَاهُمْ وَمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ، وَاسْتِعْدَادِ نُفُوسِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لِمُخْتَلِفِ مَصَادِرِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَال: 23] . وَمِمَّا اخْتَبَطَ فِيهِ ضُعَفَاءُ الْمَعْرِفَةِ وَقُصَّارُ الْأَنْظَارِ أَنْ زَعَمَ أَهْلُ الْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخِ أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ الَّتِي لَا نَرَى لَهَا أَسْبَابًا وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي مُوَاطِنَ تَحُفُّ بِهَا مُقْتَضَيَاتُ الشُّرُورِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ جَزَاءِ الْأَرْوَاحِ الْمُودَعَةِ فِي الْأَجْسَامِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا

[سورة الشورى (42) : آية 31]

عَلَى مَا كَانَتْ أَصَابَتْهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهَا فِي مَرْآِنَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ الَّتِي نَرَاهَا، وَقَدْ عَمُوا عَمَّا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الزَّعْمِ مِنْ سُؤَالٍ عَنْ سَبَبِ إِيدَاعِ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ فِي الْأَجْسَادِ الْمُيَسَّرَةِ لِلصَّالِحَاتِ وَالْعَكْسِ فَبِئْسَ مَا يفترون. فَقَوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَضمير يَعْفُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ [الشورى: 29] . وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا يَتَرَاءَى لَنَا مِنْ تَخَلُّفِ إِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ عَنْ بَعْضِ الَّذِينَ كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ جَرَائِمَ، وَمِنْ ضِدِّ ذَلِكَ مِمَّا تُصِيبُ الْمَصَائِبُ بَعْضَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ عِبَادَهِ وَمَا تَغَلَّبَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، وَمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ مِنْ إِمْهَالِ بَعْضِ عِبَادِهِ أَوْ مِنِ ابْتِلَاءِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ، وَتِلْكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَتَعَارَضُ وَتَتَسَاقَطُ وَالْمُوَفَّقُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَعْجَزَتْهُ فَوَّضَ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو، أَيْ يَصْفَحُ فَلَا يُصِيبُ كَثِيرًا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا جَزَاءَ السُّوءِ بِعُقُوبَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِهِمْ. فَالْمُرَادُ هُنَا: الْعَفْوُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ فِيهِ أَدِلَّةً أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وكَثِيرٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ عَنْ خَلْقٍ أَو نَاس. [31] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 31] وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) عَطْفٌ على جملَة وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ، وَهُوَ احْتِرَاسٌ، أَيْ يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ فَإِنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَهُ وَلَا تَغْلِبُونَهُ وَلَكِنْ يَعْفُو تَفَضُّلًا. وَالْمُعْجِزُ: الْغَالِبُ غَيْرَهُ بِانْفِلَاتِهِ مِنْ قَبْضَتِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ بِفَالِتِينَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَصَابَكُمْ بِمُصِيبَةِ الْقَحْطِ ثُمَّ عَفَا عَنْكُمْ بِرَفْعِ الْقَحْطِ عَنْكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلِتِينَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُصِيبَكُمْ، فَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] ، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ دَعَا بِرَفْعِ الْقَحْطِ عَنْهُمْ: تَعُودُونَ بَعْدُ، وَقَدْ عَادُوا فَأَصَابَهُمُ اللَّهُ بِبَطْشَةِ بَدْرٍ قَالَ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] . وَتَقْيِيدُ النَّفْيِ بَقَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ فِي مَنْعَة بحولهم فِي مَكَّةَ الَّتِي أَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا خَافُوا سَطْوَةَ مَلِكٍ أَوْ عَظِيمٍ سَكَنُوا الْجِهَاتِ الصَّعْبَةَ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ ذَاكِرًا تَحْذِيرَهُ قَوْمَهُ مِنْ تَرَصُّدِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ لَهُمْ وَنَاصِحًا لَهُمْ: إِمَّا عُصِيتُ فَإِنِّي غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... مِنِّي اللِّصَابُ فَجَنْبَا حَرَّةِ النَّارِ أَوْ أَضَعِ الْبَيْتَ فِي صَمَّاءَ مُضْلِمَةٍ ... مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمَّ صَبَّارِ تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا ... تَقَيُّدَ الْعَيْرِ لَا يَسْرِي بِهَا السَّارِي وَجِيءَ بِالْخَبَرِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ وَدَوَامِهِ، أَيْ نَفْيُ إِعْجَازِهِمْ ثَابِتٌ لَا يَتَخَلَّفُ فَهُمْ فِي مُكْنَةِ خَالِقِهِمْ. وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنْجًى مِنْ سلطة الله أتبع بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَلْجَأٌ يَلْجَأُونَ إِلَيْهِ لِيَنْصُرَهُمْ وَيَقِيَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَقَالَ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلِيٌّ يَتَوَلَّاكُمْ فَيَمْنَعَكُمْ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ وَلَا نَصِيرٍ يَنْصُرُكُمْ عَلَى اللَّهِ إِنْ أَرَادَ إِصَابَتَكُمْ فَتَغْلِبُونَهُ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ نَفْيَ مَا هُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَهُمْ مِنْ وُجُوهِ الْوِقَايَةِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ وَلِيٍّ ونَصِيرٍ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ هُوَ لَكُمْ. وَتَقْدِيمُ الْخِبْرَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بالْخبر ولتعجيل يأسهم من ذَلِك.

[سورة الشورى (42) : الآيات 32 إلى 34]

[سُورَة الشورى (42) : الْآيَات 32 إِلَى 34] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) لَمَّا جَرَى تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنِ اقْتِرَافِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِحُلُولِ الْمَصَائِبِ تَارَةً وَكَشْفِهَا تَارَةً أُخْرَى بقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ، وَأَعْقَبَ بِأَنَّهُمْ فِي الْحَالَتَيْنِ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنْ قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ سِيقَ لَهُمْ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ جَامِعَةً مِثَالًا لِإِصَابَةِ الْمَصَائِبِ وَظُهُورِ مَخَائِلِهَا الْمُخِيفَةِ الْمُذَكِّرَةِ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَالَّتِي قَدْ تَأْتِي بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ وَقَدْ تَنْكَشِفُ عَنْ غَيْرِ ضُرٍّ، وَدَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ عَنْ إِصَابَةِ مَا أَرَادَهُ، وَإِدْمَاجًا لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِلنَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا مِثْلَ جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشورى: 29] . وَالْآيَاتُ: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ. وَالْجَوَارِي: جَمْعُ جَارِيَةٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْبَحْرِ، أَيِ السُّفُنُ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [11] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. وَعَدَلَ عَنِ: الْفُلْكِ إِلَى الْجَوارِ إِيمَاءً إِلَى مَحَلِّ الْعِبْرَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِجَرْيِهَا وَتَفْكِيرِ الْإِنْسَانِ فِي صُنْعِهَا. وَالْأَعْلَامُ: جَمْعُ عَلَمٍ وَهُوَ الْجَبَلُ، وَالْمُرَادُ: بِالْجَوَارِي السُّفُنُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تَسَعُ نَاسًا كَثِيرِينَ، وَالْعِبْرَةُ بِهَا أَظْهَرُ وَالنِّعْمَةُ بِهَا أَكْثَرُ. وَكُتِبَتْ كَلِمَةُ الْجَوارِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ فِي الرَّسْمِ وَالْقِرَاءَةِ، وَلِلْقُرَّاءِ فِي أَمْثَالِهَا اخْتِلَافٌ هِيَ الَّتِي تُدْعَى عِنْدَ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَاتِ بِالْيَاءَاتِ الزَّوَائِدِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ الْجَوَارِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي

حَالَةِ الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَإِسْكَانُ الرِّيَاحِ: قَطْعُ هُبُوبِهَا، فَإِنَّ الرِّيحَ حَرَكَةٌ وَتَمَوُّجٌ فِي الْهَوَاءِ فَإِذَا سَكَنَ ذَلِكَ التَّمَوُّجُ فَلَا رِيحَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ الرِّيَاحَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ الرِّيحَ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيحَ قَدْ تُطْلَقُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ على الرّيح الْخَيْرِ، وَمَا قِيلَ: إِنَّ الرِّيَاحَ لِلْخَيْرِ وَالرِّيحَ لِلْعَذَابِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ غَالِبٌ لَا مطّرد. وَقد قرىء فِي آيَاتٍ أُخْرَى الرِّيَاحَ وَالرِّيحَ فِي سِيَاقِ الْخَيْرِ دُونَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَشَأْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِأَلَفٍ عَلَى أَنَّهُ تَخْفِيفٌ لِلْهَمْزَةِ. وَالرَّوَاكِدُ: جَمْعُ رَاكِدَةٍ، وَالرُّكُودُ: الِاسْتِقْرَارُ وَالثُّبُوتُ. وَالظَّهْرُ: الصُّلْبُ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَيُطْلَقُ عَلَى أَعْلَى الشَّيْءِ إِطْلَاقًا شَائِعًا. يُقَالُ: ظَهْرُ الْبَيْتِ، أَيْ سَطْحُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [الْبَقَرَة: 189] . وَأَصْلُهُ: اسْتِعَارَةٌ فَشَاعَتْ حَتَّى قَارَبَتِ الْحَقِيقَةَ، فَظَهْرُ الْبَحْرِ سَطْحُ مَائِهِ الْبَادِي لِلنَّاظِرِ، كَمَا أُطْلِقَ ظَهْرُ الْأَرْضِ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] . وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لِأَنَّ فِي الْحَالَتَيْنِ خَوْفًا وَنَجَاةً، وَالْخَوْفُ يَدْعُو إِلَى الصَّبْرِ، وَالنَّجَاةُ تَدْعُو إِلَى الشُّكْرِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مُتَخَلِّقٍ بِخُلُقِ الصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ وَالشُّكْرِ لِلسَّرَّاءِ، فَهُوَ يَعْتَبِرُ بِأَحْوَالِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ اعْتِبَارًا يُقَارِنُهُ الصَّبْرُ أَوِ الشُّكْرُ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْآيَةِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهَا تَمُرُّ بِأَعْيُنِهِمْ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا. وَقَوْلُهُ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ عَطْفٌ عَلَى جَزَاءِ الشَّرْطِ. ويُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكُهُنَّ. وَالْإِيبَاقُ: الْإِهْلَاكُ، وَفِعْلُهُ وَبَقَ كَوَعَدَ. وَالْمُرَادُ بِهِ

[سورة الشورى (42) : آية 35]

هُنَا الْغَرَقُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْإِنَاثِ عَائِدًا إِلَى الْجَوارِ عَلَى أَنْ يُسْتَعَارَ الْإِيبَاقِ لِلْإِغْرَاقِ لِأَنَّ الْإِغْرَاقَ إِتْلَافٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الرَّاكِبِينَ عَلَى تَأْوِيلِ مُعَادِ الضَّمِيرِ بِالْجَمَاعَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما كَسَبُوا فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الْحَج: 27] . وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] . ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عَطْفٌ عَلَى يُوبِقْهُنَّ فَهُوَ فِي مَعْنَى جَزَاءٍ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ وَإِنْ يَشَأْ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ فَلَا يُوبِقُهُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْ يُوبَقُوا. وَهَذَا الْعَطف اعْتِرَاض. [35] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 35] وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِرَفْعِ وَيَعْلَمَ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا الِاسْتِئْنَافُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَلَامٌ آنِفٌ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: 32] صَارَ الْمَعْنَى: وَمِنْ آيَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ. وَالْمُشْرِكُونَ يُجَادِلُونَ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالْإِعْرَاضِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ سَمَاعِهَا فَهَدَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ، أَيْ مِنْ عَذَابِهِ، فَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْمَحِيصِ إِبْهَامًا لَهُ تَهْوِيلًا لِلتَّهْدِيدِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ خَبَرًا مُرَادًا بِهِ الْإِنْشَاءُ وَالطَّلَبُ فَهُوَ فِي قُوَّةِ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ، أَوِ اعْلَمُوا يَا مَنْ يُجَادِلُونَ، وَلَيْسَ خَبَرًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ حَتَّى يَعْلَمُوهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَهِيَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى فِعْلٍ

مَدْخُولٍ لِلَامِ التَّعْلِيلِ، وَتَضَمَّنَ (أَنْ) بَعْدَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ الْخَ. وَسَمَّوْا هَذِهِ الْوَاوَ وَاوَ الصَّرْفِ لِأَنَّهَا تَصْرِفُ مَا بَعْدَهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا، إِلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَرْتَفِعُ بَيْنَ الْجَزْمَيْنِ وَيَنْجَزِمُ بَيْنَهُمَا، وَتَبِعَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْمَعِيَّةِ الَّتِي يُنْصَبُ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي مُقَارَبَةِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَحْصُلَ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْحَاصِلِ فَأُخْبِرَ عَنْهُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِنْذَارًا بِعِقَابٍ يَحْصُلُ لَهُمْ قَرِيبٍ وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ وَالْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَذُكِرَ فِعْلُ يَعْلَمَ لِلتَّنْوِيهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] ، وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [41] ، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى أَبَا مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيَّ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ فَنَادَاهُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ! اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ. فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَوَاخِرَ كِتَابِ الْإِيمَانِ . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَا نَافِيَةٌ، وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ يَعْلَمَ عَنْ نَصْبِ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالْمَحِيصُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَنْ حَاصَ، إِذَا أَخَذَ فِي الْفِرَارِ وَمَالَ فِي سَيْرِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي وَصْفِ مَجْلِسِ هِرَقْلَ «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ» . وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ مِنْ فِرَارٍ وَمَهْرَبٍ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيدٍ وَلَا مَلْجَأٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً فِي سُورَة النِّسَاء [121] .

[سورة الشورى (42) : آية 36]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 36] فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا [الشورى: 27] إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهَا اقْتَضَتْ وُجُودَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ وَمَحْرُومٍ، فَذُكِّرُوا بِأَنَّ مَا أُوتُوهُ مِنْ رِزْقٍ هُوَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَأَنَّ الْخَيْرَ فِي الثَّوَابِ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 34] مِنْ سَلَامَةِ النَّاسِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْوَالِ الْأَسْفَارِ الْبَحْرِيَّةِ فَإِنَّ تِلْكَ السَّلَامَةَ نِعْمَةٌ مِنْ نَعَمِ الدُّنْيَا، فَفُرِّعَتْ عَلَيْهِ الذِّكْرَى بِأَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ نِعْمَةٌ قَصِيرَةُ الزَّمَانِ صَائِرَةٌ إِلَى الزَّوَالِ فَلَا يَجْعَلُهَا الْمُوَفَّقُ غَايَةَ سَعْيِهِ وَلْيَسْعَ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَأْتِي بِالنَّعِيمِ الْعَظِيمِ الدَّائِمِ وَهُوَ النَّعِيمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ عِنْدَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُمْ لِلْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلَى نَسَقِ الْخِطَابِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وَقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى: 31] ، وَيَنْسَحِبُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِلَحْنِ الْخِطَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَالْفَاءُ الْأُولَى لِلتَّفْرِيعِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشُّرَطِ وَالْفَاءُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا دَاخِلَةٌ عَلَى خَبَرِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْ مَا شَرْطِيَّةً لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِخْبَارِ لَا عَلَى التَّعْلِيقِ، وَإِنَّمَا تَضْمَنُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُجَرَّدُ مُلَازَمَةِ الْخَبَرِ لِمَدْلُولِ اسْمِ الْمَوْصُولِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا عَلَى وَجْهِ التَّنَازُعِ، وَأُتْبِعَتْ صِلَةُ (الَّذِينَ آمَنُوا) بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ بإيمَانهمْ فِي اعْتِقَادهم فَعَطَفَ عَلَى الصِّلَةِ أَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى رَبِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّوَكُّلُ إِفْرَادٌ لِلَّهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَا تَعْجِزُ عَنْهُ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، فَإِنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ يُنَافِي التَّوْحِيدَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى آلِهَتِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَلِكَوْنِ هَذَا مُتَمَّمًا لِمَعْنَى (الَّذِينَ آمَنُوا) عُطِفَ عَلَى الصِّلَةِ وَلَمْ يُؤْتَ مَعَهُ بِاسْمٍ مَوْصُولٍ بِخِلَافِ مَا ورد بعده.

[سورة الشورى (42) : آية 37]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 37] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) أَتْبَعَ الْمَوْصُولَ السَّابِقَ بِمَوْصُولَاتٍ مَعْطُوفٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا تُعْطَفُ الصِّفَاتُ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ، فَكَذَلِكَ عَطْفُ هَذِهِ الصِّلَاتِ وَمَوْصُولَاتُهَا أَصْحَابُهَا مُتَحِدُّونَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [4] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ: هُوَ الِاهْتِمَامُ بِالصِّلَاتِ فَيُكَرَّرُ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ لِتَكُونَ صِلَتُهُ مُعْتَنًى بِهَا حَتَّى كَأَنَّ صَاحِبَهَا الْمُتَّحِدَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ ذَوَاتٍ. فَالْمَقْصُودُ: مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَاتُهُمْ، أَيْ أَتْبَعُوا إِيمَانَهُمْ بِهَا. وَهَذِهِ صِفَاتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لَهُمْ فَهِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ فِي الْمُؤْمِنَ الْوَاحِدِ إِذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وَقَدْ لَا تَجْتَمِعُ إِذَا لَمْ تُوجَدْ بَعْضُ أَسْبَابِهَا مِثْلَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [38] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَبائِرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ كَبِيرَ بِالْإِفْرَادِ، فَكَبَائِرُ الْإِثْمِ: الْفِعْلَاتُ الْكَبِيرَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِثْمِ وَهِيَ الْآثَامُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا نَهْيًا جَازِمًا، وَتَوَعَّدَ فَاعِلَهَا بِعِقَابِ الْآخِرَةِ مِثْلَ الْقَذْفِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ. وعَلى قِرَاءَة كَبِيرَة الْإِثْمِ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى مُعَرَّفٍ بِلَامِ الْجِنْسِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ كَانَ لَهُ حُكْمُ مَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ. والْفَواحِشَ: جَمْعُ فَاحِشَةٍ، وَهِيَ: الْفِعْلَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالشَّنَاعَةِ وَالَّتِي شَدَّدَ الدِّينُ فِي النَّهْيِ عَنْهَا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ أَوْ وَضَعَ لَهَا عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا لِلَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ فَاعِلِيهَا. وَهَذِهِ مِثْلُ قتل النَّفس، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْحِرَابَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [28] . وَكَبَائِرُ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهَا الْقُوَّةُ الشَّاهِيَةُ. وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ مُتَسَبِّبًا عَلَى الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ مِثْلَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ

[سورة الشورى (42) : آية 38]

أَعْقَبَ الثَّنَاءَ عَلَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَهَا، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ شِيمَتِهِمُ الْمَغْفِرَةَ عِنْدَ الْغَضَبِ، أَيْ إِمْسَاكَ أَنْفُسِهِمْ عَنْ الِانْدِفَاعِ مَعَ دَاعِيَةِ الْغَضَبِ فَلَا يَغُولُ الْغَضَبُ أَحْلَامَهُمْ. وَجِيءَ بِكَلِمَةِ إِذا الْمُضَمَّنَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالدَّالَّةِ عَلَى تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْغَضَبَ طَبِيعَةٌ نَفْسِيَّةٌ لَا تَكَادُ تَخْلُو عَنْهُ نَفْسُ أَحَدٍ عَلَى تَفَاوُتٍ. وَجُمْلَةُ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ. وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي جُمْلَةِ هُمْ يَغْفِرُونَ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي. وَتَقْيِيدُ الْمُسْنَدِ بِ إِذا الْمُفِيدَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الْغُفْرَانِ كُلَّمَا غَضِبُوا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مُعَامَلَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ الْآتِي وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39] لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ أَعدَاء دينهم. [38] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 38] وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) هَذَا مَوْصُولٌ آخَرُ وَصِلَةٌ أُخْرَى. وَمَدْلُولُهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الَّذِينَ آمَنُوا الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا إِيمَانُهُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ابْتِدَاءً هُمُ الْأَنْصَارُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَأَصَّلَ فِيهِمْ خُلُقُ الشُّورَى. وَأَمَّا الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلَّهِ هِيَ الِاسْتِجَابَةُ لدَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ فَكَأَنَّ اللَّهَ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ فَاسْتَجَابُوا لِدَعْوَتِهِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَجابُوا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، أَيْ هِيَ إِجَابَةٌ لَا يُخَالِطُهَا كَرَاهِيَةٌ وَلَا تَرَدُّدٌ. وَلَامُ لَهُ لِلتَّقْوِيَةِ يُقَالُ: اسْتَجَابَ لَهُ كَمَا يُقَالُ: اسْتَجَابَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ اسْتِجَابَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ إِجَابَةُ الْمُبَادَرَةِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَخَدِيجَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَنُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ أَصْحَابِ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ.

وَجُعِلَتْ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ. وَقَدْ عُرِفَ الْأَنْصَارُ بِذَلِكَ إِذْ كَانَ التَّشَاوُرُ فِي الْأُمُورِ عَادَتَهُمْ فَإِذَا نَزَلَ بِهِمْ مُهِمٌّ اجْتَمَعُوا وَتَشَاوَرُوا وَكَانَ مِنْ تَشَاوُرِهِمُ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ هُوَ تَشَاوُرُهُمْ حِينَ وَرَدَ إِلَيْهِمْ نُقَبَاؤُهُمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بدعوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا هُمْ بِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فَلَمَّا أَبْلَغُوهُمْ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالنَّصْرِ لَهُ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الشُّورَى مُفْضِيَةً إِلَى الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ آثَارِهَا أَنِ اهْتَدَى بِسَبَبِهَا الْأَنْصَارُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَثْنَى اللَّهُ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِالشُّورَى الْخَاصَّةِ الَّتِي تَشَاوَرَ بِهَا الْأَنْصَارُ فِي الْإِيمَانِ وَأَيُّ أَمْرِ أَعْظَمُ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ. وَالْأَمْرُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْعَامَّةِ مِثْلُ: شَيْءٍ وَحَادِثٍ. وَإِضَافَةُ اسْمِ الْجِنْسِ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ، أَيْ جَمِيعُ أُمُورِهِمْ مُتَشَاوَرٌ فِيهَا بَيْنَهُمْ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَمْرِ بِأَنَّهُ شُورَى مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الشُّورَى تُسْنَدُ لِلْمُتَشَاوِرِينَ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ لِلشُّورَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: تَشَاوَرَا فِي كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَاجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: وَأَمْرُهُمْ شُورى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَاسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَمُبَالَغَةٌ. وَالشُّورَى مَصْدَرٌ كَالْبُشْرَى وَالْفُتْيَا هِيَ أَنَّ قَاصِدَ عَمَلٍ يَطْلُبُ مِمَّنْ يَظُنُّ فِيهِ صَوَابَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ فِي حُصُولِ الْفَائِدَةِ الْمَرْجُوَّةِ مِنْ عَمَلِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِفَةٌ لِ شُورى. وَالتَّشَاوُرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ الْمُتَشَاوِرَيْنِ فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظَّرْفُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الشُّورَى لَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَجَاوَزَ مَنْ يُهِمُّهُمُ الْأَمْرُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ لَا يُهِمُّهُ الْأَمْرُ، وَإِلَى أَنَّهَا سِرٌّ بَيْنَ الْمُتَشَاوِرَيْنِ قَالَ بَشَّارٌ: وَلَا تُشْهِدِ الشُّورَى امْرَأً غَيْرَ كَاتِمِ وَقَدْ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مَحْمُودُ ابْنُ الْخُوجَةَ أَشَارَ فِي حَدِيثٍ جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْإِيمَاءِ إِشَارَةً بِيَدِهِ حِينَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَا أَدْرِي أَذَلِكَ اسْتِظْهَارٌ مِنْهُ أَمْ

[سورة الشورى (42) : آية 39]

شَيْءٌ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ بَعْضِ أَسَاتِذَتِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنْ مِثْلِهِ. وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِمَكَانَةِ الصَّلَاةِ بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِقَامَةً خَاصَّةً، فَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي الْأَنْصَارِ أَوْ كَانَ الْأَنْصَارُ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْهَا فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مُبَادَرَةُ الْأَنْصَارِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ إِذْ سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَلِلْأَنْصَارِ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ هَذَا الثَّنَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِيهِمْ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْر: 9] . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا أَصْحَابَ أَمْوَالٍ وَعَمَلٍ فَلَمَّا آمَنُوا كَانُوا أَوَّلَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ أَمْوَالٌ يُعِينُونَ بِهَا ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ قَبْلَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّة فقد صادر الْمُشْرِكُونَ أَمْوَالَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ» . وَقَوْلُهُ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي خِلَالِ الْمَدْحِ وَإِلَّا فَلَيْسَ الْإِنْفَاقُ مِنْ غَيْرِ مَا يرزقه الْمُنفق. [39] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 39] وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) هَذَا مَوْصُولٌ رَابِعٌ وَصِلَتُهُ خُلُقٌ أَرَادَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحَظُّ الْأَوَّلُ مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ قبل أَن يهاجرون فَإِنَّهُمْ أَصَابَهُمْ بَغْيُ الْمُشْرِكِينَ بِأَصْنَافِ الْأَذَى مِنْ شَتْمٍ وَتَحْقِيرٍ وَمُصَادَرَةِ الْأَمْوَالِ وَتَعْذِيبِ الذَّوَاتِ فَصَبَرُوا عَلَيْهِ. والْبَغْيُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ، فَمَعْنَى إِصَابَتُهُ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ، أَيْ بَغَى غَيْرُهُمْ عَلَيْهِمْ وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [39، 40] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّ سُورَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَإِنَّمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَنْتَصِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِك الِانْتِصَار ناشىء عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَغْيِ فَكَانَ كُلٌّ مِنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مُوجِبٌ الثَّنَاءَ لِأَنَّ الِانْتِصَارَ مَحْمَدَةٌ دِينِيَّةٌ إِذْ هُوَ لِدَفْعِ الْبَغْيِ اللَّاحِقِ بِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ

[سورة الشورى (42) : آية 40]

مُؤْمِنُونَ، فَالِانْتِصَارُ لِأَنْفُسِهِمْ رَادِعٌ لِلْبَاغِينَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي الْبَغْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَذَلِكَ الرَّدْعُ عَوْنٌ عَلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، إِذْ يَقْطَعُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَالِجَ نُفُوسَ الرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَوَاجِسِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ يُبْغَى عَلَيْهِمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ آنِفًا وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] تَعَارَضٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا وَكَانُوا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. وَأَدْخَلَ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بَقَوْلِهِ: هُمْ يَنْتَصِرُونَ الَّذِي فَصَلَ بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَبَيْنَ خَبَرِهِ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَدَّدُوا فِي الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأُوثِرَ الْخَبَرُ الْفِعْلِيُّ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: مُنْتَصِرُونَ، لِإِفَادَةِ مَعْنَى تَجَدُّدِ الِانْتِصَارِ كُلَّمَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ. وَأَمَّا مَجِيءُ الْفِعْلِ مُضَارِعًا فَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُوَ الَّذِي يَجِيءُ مَعَهُ ضمير الْفَصْل. [40] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 40] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ مُعْتَرِضَةٌ الْوَاحِدَةُ تِلْوَ الْأُخْرَى بَيْنَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ [الشورى: 39] إِلَخْ وَجُمْلَةِ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ [الشورى: 41] . وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ تَحْدِيدُ الِانْتِصَارِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الْعَفْوِ ثُمَّ ذَمُّ الظُّلْمِ وَالِاعْتِدَاءِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الْإِذْنِ فِي الِانْتِصَارِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ إِلَى تَحْدِيدِ إِجْرَائِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ عَلَى جُمْلَةِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها إِذْ سُمِّيَ تَرْكُ الِانْتِصَارِ عَفْوًا وَإِصْلَاحًا وَلَا عَفْوَ وَلَا إِصْلَاحَ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَبِقَرِينَةِ الْوَعْدِ بِأَجْرٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَفْوِ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْإِصْلَاحِ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ أَجْرٌ.

وَ (سَيِّئَةٍ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ فِعْلَةٌ تَسُوءُ مَنْ عُومِلَ بِهَا. وَوَزْنُ سَيِّئَةٍ فَيْعَلَةٌ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ مِثْلَ: هَيِّنَةٍ، فَعَيْنُهَا يَاءٌ وَلَامُهَا هَمْزَةٌ، لِأَنَّهَا مِنْ سَاءَ، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهَا وَزْنُ فَيْعَلَةَ الْتَقَتْ يَاءَانِ فَأُدْغِمَتَا، أَي أَن المجازئ يجازيء مَنْ فَعَلَ مَعَهُ فِعْلَةً تَسُوءُهُ بِفِعْلَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلِ فِعْلَتِهِ فِي السُّوءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ هُنَا الْمَعْصِيَةَ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي إِطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى الْأَذَى الَّذِي يُلْحَقُ بِالظَّالِمِ. وَمَعْنَى مِثْلُها أَنَّهَا تَكُونُ بِمِقْدَارِهَا فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَقَدْ تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْغَرَضِ وَالصُّورَةِ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ وَتِلْكَ حَقِيقَةُ الْمُمَاثَلَةِ مِثْلَ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ ظُلْمًا بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ، وَمِنَ الْمُعْتَدِي بِجِرَاحِ عَمْدٍ، وَقَدْ تَتَعَذَّرُ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ فَيُصَارُ إِلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْغَرَضِ، أَيْ مِقْدَارِ الضُّرِّ وَتِلْكَ هِيَ الْمُقَارَبَةُ مِثْلَ تَعَذُّرِ الْمُشَابِهَةِ التَّامَّةِ فِي جَزَاءِ الْحُرُوبِ مَعَ عَدُوِّ الدِّينِ إِذْ قَدْ يُلْحَقُ الضُّرُّ بِأَشْخَاصٍ لَمْ يُصِيبُوا أَحَدًا بِضُرٍّ وَيَسْلَمُ أَشْخَاصٌ أَصَابُوا النَّاسَ بِضُرٍّ، فَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْحَرْبِ هِيَ انْتِقَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ جَمَاعَةٍ بِمِقْدَارِ مَا يَشْفِي نُفُوسَ الْغَالِبِينَ حَسْبَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النَّاسُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِتْلَافُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ بِسَبَبِ ضَرْبٍ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ عَلَى الْعَيْنِ فَيُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ إِذْ لَا تُضْبَطُ إِصَابَةُ حَاسَّةِ الْبَاغِي بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ حَاسَّةَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِعْطَاءُ قِيَمِ الْمَتْلَفَاتِ مِنَ الْمُقَوَّمَاتِ إِذْ يَتَعَسَّرُ أَنْ يُكَلَّفَ الْجَانِي بِإِعْطَاءِ مِثْلِ مَا أَتْلَفَهُ. وَمِنْ مَشَاكِلِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ مَسْأَلَة الْجَمَاعَة يتمالؤون عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ عَمْدًا، أَوْ عَلَى قَطْعِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَإِنِ اقْتُصَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ إِفْلَاتًا لِبَقِيَّةِ الْجُنَاةِ مِنْ عُقُوبَةِ جُرْمِهِمْ، وَإِنِ اقْتُصَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَنَوْا عَلَى وَاحِدٍ. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَنَظَرَ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنَى عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَاسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ بِمِثْلِ مَا أَلْحَقَهُ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ التَّعَدُّدَ مُلْغًى وَرَاعَى فِي ذَلِكَ سَدَّ ذَرِيعَةِ أَنْ يَتَحَيَّلَ الْمُجْرِمُ عَلَى التَّنَصُّلِ مِنْ جُرْمِهِ بِضَمِّ جَمَاعَةٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَخْذًا مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَوْلِهِ: لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى قَتْلِهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَاقْتَصَصْتُ مِنْهُمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَلَ عَنِ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَلَ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي الْقَطْعِ وَلَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا فِي الْقَتْلِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى بِهِ فِي الْقَتْلِ وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ فِي الْقَطْعِ. وَرُبَّمَا أَلْغَى بَعْضُهُمُ الزِّيَادَةَ إِذَا كَانَ طَرِيقُ ثُبُوتِ الْجِنَايَةِ ضَعِيفًا مِثْلَ الْقَسَامَةِ مَعَ اللَّوْثِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقِصَاصَ بِهَا فَإِنَّ مَالِكًا لَمْ يَرَ أَنْ يُقْتَلَ بِالْقَسَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي نَحْوِ هَذَا تُحَقَّقُ بِقِيمَةِ الْغُرْمِ كَمَا اعْتُبِرَتْ فِي الدِّيَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُقَدَّرُ: أَنَّهُ يُحِبُّ الْعَافِينَ كَمَا قَالَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمرَان: 134] . وَنَصْرُهُ عَلَى ظَالِمِهِ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، أَيْ فَيُؤْجِرُ الَّذِينَ عَفَوْا وَيَنْتَصِرُ لَهُمْ عَلَى الْبَاغِينَ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فَلَا يُهْمِلُ الظَّالِمَ دُونَ عِقَابٍ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الْإِسْرَاء: 33] . وَقَدِ اسْتُفِيدَ حُبُّ اللَّهِ الْعَافِينَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وعَلى هَذَا فَمَا صدق الظَّالِمِينَ: هُمُ الَّذِينَ أَصَابُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَغْيِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ مُنْصَرِفًا لِمَفْهُومِ جُمْلَةِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أَيْ دُونَ تَجَاوُزِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّمْل: 126] فَيكون مَا صدق الظَّالِمِينَ: الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ فِي الْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَحْذِيرًا مِنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَامَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَقَدْ شَمِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَوْقِعِهَا الِاعْتِرَاضِيِّ أُصُولَ الْإِرْشَادِ إِلَى مَا فِي الِانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ وَمَا فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مِنْ صَلَاحِ الْأُمَّةِ، فَفِي تَخْوِيلِ حَقِّ انْتِصَارِ الْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ رَدْعٌ لِلظَّالِمِينَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الظُّلْمِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الْمَظْلُومُ بِحَقِّهِ، فَالْمُعْتَدِي يَحْسَبُ لِذَلِكَ حِسَابَهُ حِينَ أُلْهِمَ بِالْعُدْوَانِ. وَفِي التَّرْغِيبِ فِي عَفْوِ الْمَظْلُومِ عَنْ ظَالِمِهِ حِفْظُ آصِرَةِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَيْنَ الْمَظْلُومِ وَظَالِمِهِ كَيْلَا تَنْثَلِمَ فِي آحَادِ جُزْئِيَّاتِهَا بَلْ تَزْدَادَ بِالْعَفْوِ مَتَانَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] . عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُهْمِلْ جَانِبَ رَدْعِ الظَّالِمِ فَأَنْبَأَ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُ بِمَحَلٍّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَا يَنْحَصِرُ مَا فِي طَيِّ هَذَا مِنْ هَوْلِ الْوَعِيدِ. وَتَنْشَأُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ غَرَّاءُ تَجَاذَبَتْهَا أَنْظَارُ السَّلَفِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهِيَ: تَحْلِيلُ الْمَظْلُومِ ظَالِمَهُ مِنْ مَظْلِمَتِهِ. قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي «الْأَحْكَامِ» : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا، فَقَالَ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ. فَقُلْتُ: الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ وَلَا وَفَاءَ لَهُ قَالَ: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتَّبَعُ فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدِي مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى: 42] ، وَيَقُولُ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: 91] فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ قَالَه ابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَالثَّانِي: يُحَلِّلُهُ، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، زَادَ الْقُرْطُبِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنْ لَا يُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنه حَقه لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ. وَوَجْهُ الثَّالِثِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَلَبَ عَلَى حَقِّكَ فَمِنَ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنَ الْحَقِّ أَنْ لَا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي لِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ صَاحِبُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَرَى فِي وَجْهِكَ سِنْعَةً مَنْ غَضَبٍ فَقَالَ: أَجَلْ كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ وَقُلْتُ: أَثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا:

[سورة الشورى (42) : آية 41]

لَا فَخَرَجَ ابْنٌ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي. فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَخَرَجَ. فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا. قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، قَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حلّ. [41] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 41] وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ [الشورى: 40] فَيَكُونَ عُذْرًا لِلَّذِينِ لَمْ يَعْفُوا، وَيَجُوزُ أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39] وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ، فَالْجُمْلَةُ: إِمَّا مُرْتَبِطَةٌ بِغَرَضِ انْتِصَارِ الْمُسْلِمِ عَلَى ظَالِمِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَكْمِلَةٌ لِجُمْلَةِ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وَإِمَّا مُرْتَبِطَةٌ بِغَرَضِ انْتِصَارِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَغْيِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الِانْتِصَارُ بِالدِّفَاعِ سَوَاءٌ كَانَ دِفَاعَ جَمَاعَاتٍ وَهُوَ الْحَرْبُ فَيَكُونَ هَذَا تَمْهِيدًا لِلْإِذْنِ بِالْقِتَالِ الَّذِي شُرِّعَ مِنْ بَعْدُ، أَمْ دِفَاعَ الْآحَادِ إِنْ تَمَكَّنُوا مِنْهُ فَقَدْ صَارَ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ذَوِي قُوَّةٍ يَسْتَطِيعُونَ بهَا الدّفع عَنْ أَنْفُسِهِمْ آحَادًا كَمَا قِيلَ فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَاللَّامُ فِي وَلَمَنِ انْتَصَرَ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، أَوِ اللَّامُ لَامُ ابْتِدَاءٍ وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ. وَإِضَافَةُ ظُلْمِهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ بَعْدَ كَوْنِهِ مَظْلُومًا. وَمَعْنَى بَعْدَ ظُلْمِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا الِانْتِصَارَ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا: فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْحُرُوبِ فَمَنْ يَتَوَقَّعُ أَنَّ أَحَدًا سَيَعْتَدِي عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَادِرَ أَحَدًا بِأَذًى قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَيَقُولَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْتَدِي عَلَيَّ فَبَادَرْتُهُ بِالْأَذَى اتِّقَاءً لِاعْتِدَائِهِ الْمُتَوَقَّعِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُثِيرُ التَّهَارُجَ وَالْفَسَادَ، فَنَبَّهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَجَنُّبِهِ مَعَ عَدُوِّهِمْ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ. وَأَمَّا حَالُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْآيَةِ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا

سَاوَرَهُ أَحَدٌ بِبَادِئِ عَمَلٍ مِنَ الْبَغْيِ فَهُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ أَنْ يُدَافِعَهُ عَنْ إِيصَالِ بَغْيِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ وَلَا يُمْهِلَهُ حَتَّى يُوقِعَ بِهِ مَا عَسَى أَنْ لَا يَتَدَارَكَهُ فَاعِلُهُ مِنْ بَعْدُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَ حُصُولِهِ، أَيْ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِسَبَبِ ظُهُورِ بَوَادِرِهِ، وَهُوَ مَا قَالَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ: «يَجُوزُ دَفْعُ صَائِلٍ بِمَا أَمْكَنَ» . وَمَحَلُّ هَذِهِ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَالَاتُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا حُصُولُ الضُّرِّ حُصُولًا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَعْسُرُ رَفْعُهُ وَتَدَارُكُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَلَّهَا هُوَ الْحَالَةُ الَّتِي لَمْ يَفُتْ فِيهَا فِعْلُ الْبَغْيِ، فَأَمَّا إِنْ فَاتَ فَإِنَّ حَقَّ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ وَلَا يَتَوَلَّى الْمَظْلُومُ الِانْتِصَافَ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَكِنَّهُ مُسْتَقْرًى مِنْ تَصَارِيفِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا فَفَرَضْنَاهُ هُنَا لِمُجَرَّدِ بَيَانِ مَقْصِدِ الْآيَةِ لَا لِبَيَانِ مَعْنَاهَا. وَالْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ مُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّائِمَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَاللَّمْزِ بِالْعُدْوَانِ وَالتَّبِعَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِقَتْلِ المسالمين، سمي بذلك سَبِيلًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الطَّرِيقَ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ فَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ فَإِنْ جَعَلْتَ لَام لَمَنِ انْتَصَرَ لَامَ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ جَعَلْتَ اللَّامَ مُوطِئَةً لِلْقَسَمِ كَانَ اقْتِرَانُ مَا بَعْدَهَا بِفَاءِ الْجَوَابِ تَرْجِيحًا لِلشَّرْطِ عَلَى الْقَسَمِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالْأَعْرَفُ أَنْ يُرَجَّحَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَيُعْطَى جَوَابَهُ وَيُحْذَفَ جَوَابُ الثَّانِي، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الْقَسَمِ الصَّرِيحِ دُونَ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي صَدْرِ جَوَابِ الشَّرْطِ لِتَمْيِيزِ الْفَرِيقِ الْمَذْكُورِ أَتَمَّ تَمْيِيزٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ هُوَ أَنَّهُمُ انْتَصَرُوا بَعْدَ أَنْ ظُلِمُوا وَلَمْ يَبْدَأُوا النَّاس بالبغي.

[سورة الشورى (42) : آية 42]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 42] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّهُ لِمَا جَرَى الْكَلَامُ السَّابِقُ كُلُّهُ عَلَى الْإِذْنِ لِلَّذِينِ بُغِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَصِرُوا مِمَّنْ بَغَوْا عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَقَّبَ بِأَنَّ أُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ كَانَ ذَلِكَ مَثَارَ سُؤَالِ سَائِلٍ عَنِ الْجَانِبِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ السَّبِيلُ الْمَنْفِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ. وَالْقَصْرُ الْمُفَادُ بِ إِنَّمَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْقَصْرِ أَنْ يُقَابَلَ نَفْيُ السَّبِيلِ عَنِ الَّذِينَ انْتَصَرُوا بَعْدَ ظُلْمِهِمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّ السَّبِيلَ عَلَى الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ لِأَحَدٍ وَنَفْيَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي إِفَادَةِ الْقَصْرِ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ أَوِ الْإِطْنَابِ كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوْ غَيْرِهِ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَأَمَّا طُرُقُ الْقَصْرِ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي فَهِيَ مِنَ الْإِيجَازِ، فَلَمَّا أُورِدَتْ أَدَاةُ الْقَصْرِ هُنَا حَصَلَ نَفْيُ السَّبِيلِ عَنْ غَيْرِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى بِمُفَادِ الْقَصْرِ فَتَأَكَّدَ حُصُولُهُ الْأَوَّلُ الَّذِي حَصَلَ بِالنَّفْيِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [93] . وَالْمُرَادُ بِ السَّبِيلُ عَيْنُ الْمُرَادِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] بِقَرِينَةِ أَنَّهُ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ مُنَكَّرًا فَإِنَّ إِعَادَةَ اللَّفْظِ النَّكِرَةِ مُعَرَّفًا بِلَامِ التَّعْرِيفِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا. وَهَذَا السَّبِيلُ الْجَزَاءُ وَالتَّبِعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَشَمِلَ عُمُومُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ، وَعُمُومُ النَّاسَ كُلَّ ظَالِمٍ، وَبِمِقْدَارِ ظُلْمِهِ يَكُونُ جَزَاؤُهُ. وَيَدْخُلُ ابْتِدَاءً فِيهِ الظَّالِمُونَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ، وَالنَّاسُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ.

وَالْبَغْيُ فِي الْأَرْضِ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَقِّ الشَّامِلِ لِمَنَافِعِ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَتْ لِلنَّاسِ، مِثْلَ تَحْجِيرِ الزَّرْعِ وَالْأَنْعَامِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: 138] ، وَمِثْلَ تَسْيِيبِ السَّائِبَةِ وَتَبْحِيرِ الْبَحِيرَةِ، وَالشَّامِلِ لِمُخَالَفَةِ مَا سَنَّهُ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْقَوِيمَةِ مِثْلَ الْعَدْلِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، فَالْبَغْيُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ الْكِبْرِيَاءِ وَالصَّلَفِ وَتَحْقِيرِ النَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَرْدِهِمْ عَنْ مَجَامِعِ الْقَوْمِ بَغْيٌ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. والْأَرْضِ: أَرْضُ مَكَّةَ، أَوْ جَمِيعُ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: 205] وَقَالَ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَاف: 85] ، فَكُلُّ فَسَادٍ وَظُلْمٍ يَقَعُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ بَغْيٌ مَظْرُوفٌ فِي الْأَرْضِ. وبِغَيْرِ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِ يَبْغُونَ وَهُوَ لِكَشْفِ حَالَةِ الْبَغْيِ لِإِفَادَةِ مَذِمَّتِهِ إِذْ لَا يَكُونُ الْبَغْيُ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ مُسَمَّى الْبَغْيِ هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُبْطِلِ لِأَجَلِ بَاطِلِهِ فَلَا يُسَمَّى بَغْيًا وَيُسَمَّى اعْتِدَاءً قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 194] ، وَيُقَالُ: اسْتَعْدَى فُلَانٌ الْحَاكِمَ عَلَى خَصْمِهِ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بَيَان جملَة إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ إِنْ أُرِيدَ بِ السَّبِيلُ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] سَبِيلٍ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا إِنْ أُرِيدَ بِ السَّبِيلُ هُنَالِكَ مَا يَشْمَلُ الْمَلَامَ فِي الدُّنْيَا، أَيِ السَّبِيلُ الَّذِي عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا جَزَاءَ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ. وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ يَشْمَلُ ظُلْمَ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَشْمَلُ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِيَتَنَاسَبَ مَضْمُونُهَا مَعَ جَمِيعِ مَا سَبَقَ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مَعَ تَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ بِهَذَا الْوَعيد.

[سورة الشورى (42) : آية 43]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 43] وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى: 42] وَجُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ [الشورى: 44] . وهذ الْجُمْلَةُ تُفِيدُ بَيَانَ مزية الْمُؤمنِينَ الَّذِي تَحَمَّلُوا الْأَذَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَصَبَرُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤَاخِذُوا بِهِ مَنْ آمَنَ مِمَّنْ آذَوْهُمْ مِثْلَ أُخْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَمِثْلَ صِهْرِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فَقَدْ قَالَ «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ» ، فَكَانَ فِي صَبْرِ سَعِيدٍ خَيْرٌ دَخَلَ بِهِ عُمَرُ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَزِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى ظُلْمِ إِخْوَانِهِمْ وَيَغْفِرُونَ لَهُمْ فَلَا يَنْتَصِفُونَ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَعْدُونَ عَلَيْهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَلُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] . وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى (مَنْ) لَامُ ابْتِدَاءٍ وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ خَبَرٌ عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَلَامُ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لَامُ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ وَهِيَ مِنْ لَامَاتِ الِابْتِدَاءِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ هِيَ: اللَّامُ، وَإِنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: عَزْمِ الْأُمُورِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِهِ، وَزِيدَ تَنْوِيهًا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ ذلِكَ فَصَارَ فِيهِ خَمْسَةُ اهْتِمَامَاتٍ. وَالْعَزْمُ: عَقْدُ النِّيَّةِ عَلَى الْعَمَلِ وَالثَّبَاتُ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَصْفُ بِالْعَزْمِ مُشْعِرٌ بِمَدْحِ الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ شَأْنَ الْفَضَائِلِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهَا عَسِيرًا عَلَى النُّفُوسِ لِأَنَّهَا تُعَاكِسُ الشَّهَوَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ وُصِفَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ بِأُولِي الْعَزْمِ. والْأُمُورِ: جَمْعُ أَمْرٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْخِلَالُ وَالصِّفَاتُ وَإِضَافَةُ عَزْمِ إِلَى الْأُمُورِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْعَزْمِ. وَوَصْفُ الْأُمُورِ بِ (الْعَزْمِ) مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ الْمَعْنَى فِيهَا،

[سورة الشورى (42) : آية 44]

وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَي الْأُمُور الْعَامَّة الْعَازِمُ أَصْحَابُهَا مَجَازًا عَقْلِيًّا. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الصَّبْرِ وَالْغُفْرَانِ الْمَأْخُوذَيْنِ مِنْ صَبَرَ وَغَفَرَ وَالْمُتَحَمِّلَيْنِ لِضَمِيرِ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ فَيَكُونُ صَوْغُ الْمَصْدَرِ مُنَاسِبًا لِمَا مَعَهُ مِنْ ضَمِيرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ صَبْرَهُ وَغَفْرَهُ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَهَذَا تَرْغِيبٌ فِي الْعَفْوِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعَ الْكَافِرِينَ فَتَعْتَرِيهِ أَحْوَالٌ تَخْتَلِفُ بِهَا أَحْكَامُ الْغُفْرَانِ، وَمِلَاكُهَا أَنْ تَتَرَجَّحَ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعَفْوِ أَوْ فِي الْمُؤَاخَذَةِ. [44] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 44] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ. بَعْدَ أَنْ حَكَى أَصْنَافًا مِنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَمَا فِي مَطَاوِيهَا مِنَ النِّعَمِ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ أَعْقَبَهُ بَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى: 42] . وَالْمَعْنَى: أَن فِيمَا سمعتهم هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ، وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَ الله عَلَيْهِ بالضلال فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ غَيْرِ اللَّهِ يَهْدِيهِ أَوْ يُنْقِذُهُ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ الْوَلِيِّ الَّذِي يُصْلِحُهُ وَيُرْشِدُهُ، كَقَوْلِهِ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الْكَهْف: 17] ، فَالْمُرَادُ هُنَا ابْتِدَاءُ مَعْنًى خَاصٍّ مِنَ الْوِلَايَةِ. وَإِضْلَالُ اللَّهِ الْمَرْءَ: خَلْقُهُ غَيْرَ سَرِيعٍ لِلِاهْتِدَاءِ أَوْ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ وَحِرْمَانُهُ مِنْ تَدَارُكِهِ إِيَّاهُ بِالتَّوْفِيقِ كُلَّمَا تَوَغَّلَ فِي الضَّلَالَةِ، فَضَلَالُهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ، وَاللَّهُ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْهِدَايَةِ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُس: 25] أَيْ يَدْعُو كُلَّ عَاقِلٍ وَيَهْدِي بَعْضَ مَنْ دَعَاهُمْ. ومَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَالْفَاءُ فِي فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ. وَنَفْيُ الْوَلِيِّ

كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ عَنِ الضَّلَالَةِ وَعَوَاقِبِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْوَلِيَّ مِنْ خَصَائِصِهِ نَفْعُ مَوْلَاهُ بِالْإِرْشَادِ وَالِانْتِشَالِ، فَنَفْيُ الْوَلِيِّ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى احْتِيَاجٍ إِلَى نَفْعِهِ مَوْلَاهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَوْلَاهُ فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ الْآيَةَ. فَهَذِهِ كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [23] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ [46] . وَضَمِيرُ بَعْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [23] . وَمَعْنَى بعد هُنَا بِمَعْنى (دُونَ) أَوْ (غَيْرَ) ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ بَعْدَ لِمَعْنَى (دُونَ) لِأَنَّ بَعْدَ مَوْضُوعٌ لِمَنْ يَخْلُفُ غَائِبًا فِي مَكَانِهِ أَوْ فِي عَمَلِهِ، فَشَبَّهَ تَرْكَ اللَّهِ الضَّالَّ فِي ضَلَالِهِ بِغَيْبَةِ الْوَلِيِّ الَّذِي يَتْرُكُ مَوْلَاهُ دُونَ وَصِيٍّ وَلَا وَكِيلٍ لِمَوْلَاهُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [185] وَقَوْلِهِ: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [32] . ومَنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَمِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَتِهَا أَنْ تُزَادَ قَبْلَ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ قَالَ الْحَرِيرِيُّ «وَمَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لَا يَخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٍ» . وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) . عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا وَهُمَا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى: 35] ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَحِيصًا وَلَا وَلِيًّا، فَلَا يَجِدُونَ إِلَّا النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَاتَ فَيَقُولُوا هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ.

[سورة الشورى (42) : آية 45]

وَالِاسْتِفْهَامُ بِحَرْفِ هَلْ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، فَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ مَنْ الزَّائِدَةُ عَلَى سَبِيلٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَالْمَرَدُّ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلرَّدِّ، وَالْمُرَادُ بِالرَّدِّ: الرُّجُوعُ، يُقَالُ: رَدَّهُ، إِذَا أَرْجَعَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرَدٍّ بِمَعْنَى الدَّفْعِ، أَيْ هَلْ إِلَى رَدِّ الْعَذَابِ عَنَّا الَّذِي يَبْدُو لَنَا سَبِيلٌ حَتَّى لَا نَقَعَ فِيهِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ فِي سُورَةِ الطُّورِ [8] . وَالْخِطَابُ فِي تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ تَنَاهَتْ حَالُهُمْ فِي الظُّهُورِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مُخَاطَبٌ، أَوِ الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مَا لَاقَاهُ مِنْهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ. وَالْمَقْصُودُ: الْإِخْبَارُ بِحَالِهِمْ أَوَّلًا، وَالتَّعْجِيبُ مِنْهُ ثَانِيًا، فَلَمْ يَقُلْ: وَالظَّالِمُونَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ، وَإِنَّمَا قِيلَ: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لِلِاعْتِبَارِ بِحَالِهِمْ. وَمَجِيءُ فِعْلِ رَأَوُا الْعَذابَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَالْمُضِيُّ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِقْبَالِ تَشْبِيهًا لِلْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي فِي التَّحَقُّقِ، وَالْقَرِينَةُ فِعْلُ تَرَى الَّذِي هُوَ مُسْتَقْبَلٌ إِذْ لَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ الْمَذْكُورَةُ بِحَاصِلَةٍ فِي الْحَالِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا يَرَوْنَ الْعَذَابَ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالٌ مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ تَرَاهُمْ قَائِلِينَ، فَالرُّؤْيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهَا فِي حَالِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ فِي حَالِ سَمَاعِ الرَّائِي قَوْلَهُمْ. [45] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 45] وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. أُعِيدَ فِعْلُ (تَرَى) لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَتَهْوِيلِهَا كَمَا أُعِيدَ فِعْلُ (تُلَاقُوا) فِي قَوْلِ وَدَّاكِ بْنِ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيِّ: رُوَيْدًا بَنِي شَيْبَانَ بَعْضَ وَعِيدِكُمْ ... تُلَاقُوا غَدًا خَيْلِي عَلَى سَفَوَانِ تُلَاقُوا جِيَادًا لَا تَحِيدُ عَنِ الْوَغَى ... إِذَا ظَهَرَتْ فِي الْمَأْزِقِ الْمُتَدَانِيِِ

وَالْعَرْضُ: أَصْلُهُ إِظْهَارُ الشَّيْءِ وَإِرَاءَتُهُ لِلْغَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ الْبَعِيرَ عَلَى الْحَوْضِ مَعْدُودًا عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَعُلَمَاءِ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ الْقَلْبِ فِي التَّرْكِيبِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ إِطْلَاقَاتٌ عَدِيدَةٌ مُتَقَارِبَةٌ دَقِيقَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَدْقِيقٍ. وَمِنْ إِطْلَاقَاتِهِ قَوْلُهُمْ: عَرْضُ الْجُنْدِ عَلَى الْأَمِيرِ، وَعَرْضُ الْأَسْرَى عَلَى الْأَمِيرِ، وَهُوَ إِمْرَارُهُمْ لِيَرَى رَأْيَهُ فِي حَالِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ، وَهُوَ إِطْلَاقُهُ هُنَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ يُعْرَضُونَ لِمَعْنَى: يَمُرُّ بِهِمْ مَرَّا عَاقِبَتُهُ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ فِيهِمْ فَكَأَنَّ جَهَنَّمَ إِذَا عُرِضُوا عَلَيْهَا تَحْكُمُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ حَرِيقِهَا، وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [20] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِطْلَاقٌ لَهُ آخَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [31] . وَبُنِيَ فِعْلُ يُعْرَضُونَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْفِعْلِ لَا تَعْيِينُ فَاعِلِهِ. وَالَّذِينَ يَعْرِضُونَ الْكَافِرِينَ عَلَى النَّارِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى. وَضَمِيرُ عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ أَنَّهُ النَّارُ أَوْ جَهَنَّمُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الْمَقَامِ. وَانْتَصَبَ خاشِعِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي تَراهُمْ لِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ بَصَرِيَّةٌ. وَالْخُشُوعُ: التَّطَامُنُ وَأَثَرُ انْكِسَارِ النَّفْسِ مِنِ اسْتِسْلَامٍ وَاسْتِكَانَةٍ فَيَكُونُ لِلْمَخَافَةِ، وَلِلْمَهَابَةِ، وَلِلطَّاعَةِ، وَلِلْعَجْزِ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ. وَالْخُشُوعُ مِثْلُ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ لَا يُسْنَدُ إِلَّا إِلَى الْبَدَنِ فَيُقَالُ: خَضَعَ فُلَانٌ، وَلَا يُقَالُ: خَضَعَ بَصَرُهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الْأَحْزَاب: 32] ، وَأَمَّا الْخُشُوعُ فَيُسْنَدُ إِلَى الْبَدَنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خاشِعِينَ لِلَّهِ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [199] . وَيُسْنَدُ إِلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [7] ، وَقَوْلِهِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً فِي سُورَةِ طه [108] . وَالْمُرَادُ بِالْخُشُوعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَبْدُو عَلَيْهِمْ مِنْ أَثَرِ الْمَذَلَّةِ وَالْمَخَافَةِ. فَقَوْلُهُ: مِنَ الذُّلِّ مُتَعَلِّقٌ بِ خاشِعِينَ وَتَعَلُّقُهُ بِهِ يُغْنِي عَنْ تَعْلِيقِهِ بِ يَنْظُرُونَ وَيُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُهُ تَعْلِيقُهُ بِهِ. ومِنَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ خَاشِعِينَ خُشُوعًا نَاشِئًا عَنِ الذُّلِّ، أَيْ لَيْسَ خُشُوعُهُمْ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَجُمْلَةُ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خاشِعِينَ لِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ حَالَةٌ لِلْخَاشِعِ الذَّلِيلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا تَصْوِيرُ حَالَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ. وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّابِغَةِ يَصِفُ سَبَايَا: يَنْظُرْنَ شَزْرًا إِلَى مَنْ جَاءَ عَنْ عُرُضٍ ... بِأَوْجُهٍ مُنْكِرَاتِ الرِّقِّ أَحْرَارِ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابَا وَالطَّرْفُ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ تَحْرِيكُ جَفْنِ الْعَيْنِ، يُقَالُ: طَرَفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، أَيْ حَرَّكَ جَفْنَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ قَالَ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إِبْرَاهِيم: 43] . وَوَصْفُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِ خَفِيٍّ يَقْتَضِي أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ حَرَكَةُ الْعَيْنِ، أَيْ يَنْظُرُونَ نَظَرًا خَفِيًّا، أَيْ لَا حِدَّةَ لَهُ فَهُوَ كَمُسَارَقَةِ النَّظَرِ، وَذَلِكَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَهُمْ يُحْجِمُونَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ لِلرَّوْعِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ مِنْهَا، وَيَبْعَثُهُمْ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَنْ يَتَطَلَّعُوا لِمَا يُسَاقُونَ إِلَيْهِ كَحَالِ الْهَارِبِ الْخَائِفِ مِمَّنْ يَتْبَعُهُ، فَتَرَاهُ يُمْعِنُ فِي الْجَرْيِ وَيَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ لِيَنْظُرَ هَلِ اقْتَرَبَ مِنْهُ الَّذِي يَجْرِي وَرَاءَهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الِالْتِفَاتَةِ أَفَاتَ خُطُوَاتٍ مِنْ جَرْيِهِ لَكِنَّ حُبَّ الِاطِّلَاعِ يُغَالِبُهُ.

وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَالْمَعْنَى: يَنْظُرُونَ نَظَرًا مُنْبَعِثًا مِنْ حَرَكَةِ الْجَفْنِ الْخَفِيَّةِ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ يَنْظُرُونَ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ يَنْظُرُونَ الْعَذَابَ، وَيَنْظُرُونَ أَهْوَالَ الْحَشْرِ وَيَنْظُرُونَ نَعِيمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ. يَتَرَجَّحُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي تَراهُمْ، أَيْ تَرَاهُمْ فِي حَالِ الْفَظَاعَةِ الْمُلْتَبِسَيْنِ بِهَا، وَتَرَاهُمْ فِي حَالِ سَمَاعِ الْكَلَامِ الذَّامِّ لَهُمُ الصَّادِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ. وَحُذِفَتْ (قَدْ) مَعَ الْفِعْلِ الْمَاضِي لِظُهُورِ قَرِينَةِ الْحَالِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُطَمَئِنِّينَ مِنَ الْأَهْوَالِ شَاكِرِينَ مَا سَبَقَ مِنْ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَارِفِينَ بِرِبْحِ تِجَارَتِهِمْ وَمُقَابِلِينَ بِالضِّدِّ حَالَةَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا سَبَبًا فِي خَسَارَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ هَذَا بِمَسْمَعٍ مِنَ الظَّالِمِينَ فَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ تَلْهِيبًا لِنَدَامَتِهِمْ وَمَهَانَتِهِمْ وَخِزْيِهِمْ. فَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِظْهَارِ الْمَسَرَّةِ وَالْبَهْجَةِ بِالسَّلَامَةِ مِمَّا لَحِقَ الظَّالِمِينَ، أَيْ قَالُوهُ تَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ وَاغْتِبَاطًا بِالسَّلَامَةِ يَقُولُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِحَرْفِ إِنَّ مَعَ أَنَّ الْقَائِلَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَالسَّامِعَ لَا يَشُكُّ فِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْكَلَامِ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَتْ سَعَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَوْفِيقُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمُشَاهَدَةِ ضِدِّ ذَلِكَ فِي مُعَانَدِيهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ لَا غَيْرُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ

الْأَكْمَلُونَ فِي الْخُسْرَانِ وَتُسَمَّى (أَلْ) هَذِهِ دَالَّةً عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْءَيْنِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ حَيْثُ نَزَّلَ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْخُسْرَانِ. فَالْمَعْنَى: لَا خُسْرَانَ يُشْبِهُ خُسْرَانَهُمْ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَمَا تُوُهِّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [15] . وَالْخُسْرَانُ: تَلَفُ مَالِ التَّاجِرِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِانْتِفَاءِ الِانْتِفَاعِ بِمَا كَانَ صَاحِبُهُ يُعِدُّهُ لِلنَّفْعِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُلُونَ نَعِيمَ أَنْفُسِهِمْ وَالْأُنْسَ بِأَهْلِيهِمْ حَيْثُمَا اجْتَمَعُوا، فَكُشِفَ لَهُمْ فِي هَذَا الْجَمْعِ عَنِ انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنْ لَا يَحْيَوْا بَعْدَ الْمَوْتِ فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ بَعْدَهُ أَلَمًا وَلَا تُوحِشُهُمْ فُرْقَةُ أَهْلِيهِمْ فَكُشِفَ لَهُمْ مَا خَيَّبَ ظَنَّهُمْ فَكَانُوا كَالتَّاجِرِ الَّذِي أَمَّلَ الرِّبْحَ فَأَصَابَهُ الْخُسْرَانُ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ خَسِرُوا لَا بِفعل قالَ. وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ [الشورى: 44] الْآيَاتِ. لِأَنَّ حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ أَعَمُّ مِنْ حَالَةِ تَلَهُّفِهِمْ عَلَى أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، وَذُلِّهِمْ وَسَمَاعِهِمُ الذَّمَّ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الظَّالِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ اقْتَضَاهُ أَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلَّ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ كَالْمَثَلِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَا قِبَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْكُمُوا هَذَا الْحُكْمَ، عَلَى أَنَّ أُسْلُوبَ افْتِتَاحِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ بِيَدِهِ الْحُكْمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَهُوَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ وَهُمْ مَعَ النَّدَمِ وَذَلِكَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ بِسَمَاعِ مَا يَكْرَهُونَ فِي عَذَابٍ مُسْتَمِرٍّ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ فِي التَّذْيِيلَاتِ لِأَهَمِّيَّتِهَا. وَالْمُقِيمُ: الَّذِي لَا يَرْتَحِلُ. وَوَصَفَ بِهِ الْعَذَابَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، شَبَّهَ الْمُسْتَمِرِّ الدَّائِمِ بِالَّذِي اتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ لَا يَبْرَحُهَا

[سورة الشورى (42) : آية 46]

[46] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 46] وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ [الشورى: 45] أَيْ هُمْ فِي عَذَابٍ دَائِمٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ نَصِيرًا. وَهُوَ رَدٌّ لِمَزَاعِمِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ يَنْصُرُونَهُمْ صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا وِلَايَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ وِلَايَةُ النَّصْرِ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ سَابِقًا وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ [الشورى: 44] مُرَادًا بِهِ وِلَايَةُ الْإِرْشَادِ. ومِنْ زَائِدَةٌ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْوَلِيِّ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ أَوْلِياءَ وَهِيَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ. ومِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ ظَرْفِ دُونِ بِالْفِعْلِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ. تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ وَهُوَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ. وسَبِيلٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ سَبِيلٍ مُخَلِّصٍ مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ آثَارِهِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا ابْتِدَاءً هُوَ سَبِيلُ الْفِرَارِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا هُنَا تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ. [47] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 47] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) بَعْدَ أَنْ قَطَعَ خِطَابَهُمْ عَقِبَ قَوْلِهِ: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الشورى: 36] بِمَا تَخَلَّصَ بِهِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى فِرَقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا اسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مِنَ التَّسْجِيلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ

بِالضَّلَالَةِ وَالْعَذَابِ، وَوَصْفِ حَالِهِمُ الْفَظِيعِ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى خِطَابِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الْجَامِعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ طَلَبًا لِتَدَارُكِ أَمْرِهِمْ قَبْلَ الْفَوَاتِ، فَاسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافًا فِيهِ مَعْنَى النَّتِيجَةِ لِلْمَوَاعِظِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ من الزواجر يهيّىء بَعْضَ النُّفُوسِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَالِاسْتِجَابَةُ: إِجَابَةُ الدَّاعِي، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّوْكِيدِ. وَأُطْلِقَتْ الِاسْتِجَابَةُ عَلَى امْتِثَالِ مَا يُطَالِبُهُمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ لِأَنَّ اسْتِجَابَةَ النِّدَاءِ تَسْتَلْزِمُ الِامْتِثَالَ لِلْمُنَادِي فَقَدْ كَثُرَ إِطْلَاقُهَا عَلَى إِجَابَةِ الْمُسْتَنْجِدِ. وَالْمَعْنَى: أَطِيعُوا رَبَّكُمْ وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الْعَذَابِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ جَارٍ عَلَيْهِ. وَاللَّامُ فِي لِرَبِّكُمْ لِتَأْكِيدِ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ: حَمِدْتُ لَهُ وَشَكَرْتُ لَهُ. وَتُسَمَّى لَامَ التَّبْلِيغِ وَلَامَ التَّبْيِينِ. وَأَصْلُهُ اسْتِجَابَةٌ، قَالَ كَعْبٌ الْغَنَوِيٌّ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَلَعَلَّ أَصْلَهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ لَهُ، أَيْ لِأَجْلِهِ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] فَاخْتُصِرَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَقَالُوا: اسْتَجَابَ لَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [186] . وَالْمَرَدُّ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّدِّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 44] . فَلا مَرَدَّ لَهُ صِفَةُ يَوْمٌ. وَالْمَعْنَى: لَا مَرَدَّ لِإِثْبَاتِهِ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ، ولَهُ خَبَرُ لَا النَّافِيَةِ، أَيْ لَا مَرَدَّ كَائِنًا لَهُ، وَلَامُ لَهُ لِلِاخْتِصَاصِ. ومِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ مَجَازِيٌّ، وَمَعْنَاهُ: حُكْمُ اللَّهِ بِهِ فَكَأَنَّ الْيَوْمَ جَاءَ مِنْ لَدُنْهُ. وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ بِفِعْلِ يَأْتِيَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْكَوْنِ الَّذِي فِي خَبَرِ لَا. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: لَا مَرَدَّ كَائِنًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ مَرَدَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَمِّمُ مَعْنَاهُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اسْمُ لَا شَبِيهًا بِالْمُضَافِ فَكَانَ مُنَوَّنًا

[سورة الشورى (42) : آية 48]

وَلَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مِمَّا يُوهِمُ هَذَا مُؤَوَّلٌ بِمَا سَمِعْتَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ صلَة، وَلم يسمه مُتَعَلِّقًا. وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَلْجَأُ: مَكَان اللجأ، وَاللَّجَأُ: الْمَصِيرُ وَالِانْحِيَازُ إِلَى الشَّيْءِ، فَالْمَلْجَأُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ لِلتَّوَقِّي فِيهِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى النَّاصِرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ مَا لَكُمْ مِنْ شَيْءٍ يَقِيكُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالنَّكِيرُ: اسْمُ مَصْدَرِ أَنْكَرَ، أَيْ مَا لَكُمْ إِنْكَارٌ لِمَا جُوزِيتُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَسَعُكُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ دُونَ تَنَصُّلٍ. [48] [سُورَة الشورى (42) : آيَة 48] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى: 47] الْآيَةَ، وَهُوَ جَامِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ كَمَا عَلِمْتَ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ بِدَعْوَتِهِمْ لِلْإِيمَانِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى: 7] ثُمَّ قَوْلِهِ: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [الشورى: 15] . وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ وَاعْتَرَضَهُ مِنْ تَضَاعِيفِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ وَالضِّمْنِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى: 47] الْآيَةَ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِعْلَام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَامِهِ وَعَمَلِهِ إِنْ أَعْرَضَ مُعْرِضُونَ مِنَ الَّذِينَ يَدْعُوهُمْ وَبِمَعْذِرَتِهِ فِيمَا قَامَ بِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَسْلِيَتِهِ عَلَى مَا لَاقَاهُ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَمُتَكَفِّلًا بِهِمْ إِذْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ وَالدَّعْوَةِ مُصَدَّرًا بَقَوْلِهِ أَوَائِلَ السُّورَةِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6] ، لَا جَرَمَ نَاسَبَ أَنْ يُفَرِّعَ عَلَى تِلْكَ الْأَوَامِرِ بَعْدَ تَمَامِهَا مِثْلَ مَا قَدَّمَ لَهَا فَقَالَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَهَذَا الِارْتِبَاطُ هُوَ نُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى: 47]

الْآيَةَ، إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ هُنَا فَإِنْ أَعْرَضُوا وَإِلَّا لَقِيلَ: فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ. وَالْحَفِيظُ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَقَوْلُهُ: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لَيْسَ هُوَ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَقَائِمٌ مَقَامَهُ، إِذِ الْمَعْنَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَلَسْتَ مُقَصِّرًا فِي دَعْوَتِهِمْ، وَلَا عَلَيْكَ تَبِعَةُ صَدِّهِمْ إِذْ مَا أَرْسَلْنَاكَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَجُمْلَةُ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ. وإِنْ الثَّانِيَةُ نَافِيَةٌ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ جِنَاسٌ تَامٌّ. والْبَلاغُ: التَّبْلِيغُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً دَلَّ عَلَى نَفْيِ التَّبِعَةِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ، وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِ، فَاسْتُفِيدَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الدَّعْوَةَ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِعْرَاضَ. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ. تَتَّصِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. لِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَاقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ كَمَا عَلِمْتَ، وَيُؤْذِنُ بِهَذَا الِاتِّصَالِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُعِلَتَا آيَةً وَاحِدَةً هِيَ ثَامِنَةٌ وَأَرْبَعُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَحْزُنْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ دَعْوَتِكَ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ نِعْمَتِي وَعَنْ إِنْذَارِي بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ الْمُنْفَصِلِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ فِعْلٌ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ إِلَخْ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَصْفُ هَذَا الْإِنْسَانِ بِالْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ وَبِالْكُفْرِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُنَا تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَفَاءِ قَوْمِهِ وَإِعْرَاضِهِمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ

رَبَّهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُسَلِّيكَ عَنْ مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاكَ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاء: 153] ، وَلِهَذَا لَا تَجِدُ نَظَائِرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَعْنَاهَا مُفْتَتَحًا بِمِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَوْقِعَ تِلْكَ النَّظَائِرِ لَا تُمَاثِلُ مَوْقِعَ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا مُتَمَاثِلًا، فَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَلَكِنَّ نَظْمَ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ صَالِحًا لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَلِإِفَادَةِ مَعْنًى آخَرَ مُقَارِبٍ لَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ خُلُقٍ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مُرْتَكِزٍ فِي الْجِبِلَّةِ لَكِنَّ مَظَاهِرَهُ مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ فِي التَّخَلُّقِ بِالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، فَيُحْمَلُ الْإِنْسانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَيُحْمَلُ الْفَرَحُ عَلَى مُطْلَقِهِ الْمَقُولِ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْبَطَرِ، وَتُحْمَلُ السَّيِّئَةُ الَّتِي قَدَّمَتْهَا أَيْدِيهِمْ عَلَى مَرَاتِبِ السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مَبْلَغَ الْإِشْرَاكِ، وَيُحْمَلُ وَصْفُ كَفُورٌ عَلَى مَا يَشْمَلُ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكُفْرِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْكُفْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ. وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ مَحَامِلُ الْمُفَسِّرِينَ لِلْآيَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى خُصُوصِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ بِاللَّهِ مِثْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَالطِّيبِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَا يَعُمُّ أَصْنَافَ النَّاسِ مِثْلَ الطَبَرِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَالنَّسَفِيِّ وَابْنِ كَثِيرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِيَ مُنْدَرِجٌ بِالتَّبَعِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْضَاوِيِّ وَصَاحِبِ الْكَشْفِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْكَوَاشِيِّ فِي تَلْخِيصِهِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ وَالْمَوْضِعِ الثَّانِي مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ، وَأَنَّ النَّاسَ كَفُورُونَ، وَيَكُونُ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا أُرِيدَ بِهِ أَكْثَرُ جِنْسِ الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ أَكْثَرَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكُونَ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أَيْ شَدِيدُ الْكُفْرِ قَوِيُّهُ، وَلِقَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ مِنَ الْكُفْرِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالنَّاسِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْإِنْسَانِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الْمُخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّوْعِ لَا يُزِيلُهُ إِلَّا التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ فَالَّذِينَ لَمْ

يُسْلِمُوا بَاقُونَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّسْلِيَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْإِنْسَانِ اسْمُ جِنْسٍ يَتَضَمَّنُ أَوْصَافَ الْجِنْسِ الْمُسَمَّى بِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: 19] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] وَقَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: 54] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمُنَاسَبَةِ التَّسْلِيَةِ بِأَنْ نُزِّلَ السَّامِعُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِي وُقُوعِ هَذَا الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي ذَلِكَ لِاسْتِعْظَامِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ دَعْوَةِ الْخَيْرِ فَشُبِّهَ بِالْمُتَرَدِّدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ. وَالْإِذَاقَةُ: مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ: أَثَرُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ. فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّا إِذَا رَحِمْنَا الْإِنْسَانَ فَأَصَبْنَاهُ بِنِعْمَةٍ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ الرَّحْمَةِ بِالسَّيِّئَةِ كَمَا قُوبِلَتْ بِالضَّرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [50] . وَالْمُرَادُ بِالْفَرَحِ: مَا يَشْمَلُ الْفَرَحَ الْمُجَاوِزَ حَدَّ الْمَسَرَّةِ إِلَى حَدِّ الْبَطَرِ وَالتَّجَبُّرِ، عَلَى نَحْوِ مَا اسْتُعْمِلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: 76] لَا الْفَرَحُ الَّذِي فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمرَان: 170] . وَتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ فِي فَرِحَ لِمُرَاعَاةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ جَمْعًا، كَقَوْلِهِ: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات: 9] أَيِ الطَّائِفَةَ الَّتِي تَبْغِي، فَاعْتَدَّ بِلَفْظِ طَائِفَةٍ دُونَ مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّهُ قَالَ قبله اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] . وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بِضَمِيرَيِ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ. وَاجْتِلَابُ إِذا فِي هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّ شَأْنَ إِذا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَحَقُّقِ كَثْرَةِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، وَشَأْنُ إِنْ أَنْ تَدُلَّ عَلَى نُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَلِذَلِكَ اجْتَلَبَ إِنْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ لِأَنَّ إِصَابَتَهُمْ بِالسَّيِّئَةِ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِإِصَابَتِهِمْ بِالنِّعْمَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] .

[سورة الشورى (42) : الآيات 49 إلى 50]

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] . وَالْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ صُدِّرَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ لِيُحِيطَ التَّأْكِيدُ بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَوَارِضِ صِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عُرُوضَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ لَهَا، لِأَنَّ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ تَطَلُّبَ مَسَالِكِ النَّفْعِ وَسَدَّ مَنَافِذِ الضُّرِّ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ لَا تَدْخُلُ بَعْضُ أَسْبَابِهَا فِي مَقْدُورِهِ، وَمِنْ طَبْعِهِ النَّظَرُ فِي الْوَسَائِلِ الْوَاقِيَةِ لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ مِنْ طَبْعِهِ تَحْرِيكُ خَيَالِهِ فِي تَصْوِيرِ قُوًى تُخَوِّلُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ فَإِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ خَيَالُهُ وُجُودَ قُوًى مُتَصَرِّفَةٍ فِي النَّوَامِيسِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَقْدُورِهِ خَالَهَا ضَالَّتَهُ الْمَنْشُودَةَ، فَرَكَنَ إِلَيْهَا وَآمَنَ بِهَا وَغَابَ عَنْهُ دَلِيلُ الْحَقِّ، إِمَّا لِقُصُورِ تَفْكِيرِهِ عَنْ دَرَكِهِ وَانْعِدَامِ الْمُرْشِدِ إِلَيْهِ، أَوْ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ الَّذِي يُمْلِي عَلَيْهِ عِصْيَانَ الْمُرْشِدِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ الصَّالِحِينَ إِذْ لَا يَتْبَعُهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَهْتَدِي بِالْعَقْلِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا الْأَقَلُّ مِثْلَ الْحُكَمَاءِ، فَغَلَبَ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى النَّوْعِ بَقَوْلِهِ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الشورى: 49] . وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ إِلَّا الصَّالِحُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنِهِمْ فِي كَمَالِ الْخُلُقِ وَقَدِ اسْتُفِيدَ خُرُوجُهُمْ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] . وَقَدْ شَمِلَ وَصْفُ كَفُورٌ مَا يَشْمَلُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْأَكْثَرِ. [49، 50] [سُورَة الشورى (42) : الْآيَات 49 الى 50] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مِنْ عَجِيبِ خُلُقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَمْ يُهَذِّبْهُ الْهَدْيُ الْإِلَهِيُّ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ فَطْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَاذِينَ الْخُلُقَيْنِ اللَّذَيْنِ

يَتَلَقَّى بِهِمَا نِعْمَةَ رَبِّهِ وَبَلَاءَهُ وَكَيْفَ لَمْ يُفْطَرْ عَلَى الْخُلُقِ الْأَكْمَلِ لِيَتَلَقَّى النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالضُّرَّ بِالصَّبْرِ وَالضَّرَاعَةِ، وَسُؤَالًا أَيْضًا عَنْ سَبَبِ إِذَاقَةِ الْإِنْسَانِ النِّعْمَةَ مَرَّةً وَالْبُؤْسَ مَرَّةً فَيَبْطَرُ وَيَكْفُرُ وَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلْ حَالَهُ كَفَافًا لَا لَذَّاتَ لَهُ وَلَا بَلَايَا كَحَالِ الْعَجْمَاوَاتِ فَكَانَ جَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ الْمُتَصَرِّفَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ فِيهِمَا مَا يَشَاءُ مِنَ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا. وَهُوَ جَوَابٌ إِجْمَالِيٌّ إِقْنَاعِيٌّ يُنَاسِبُ حَضْرَةَ التَّرَفُّعِ عَنِ الدُّخُولِ فِي المجادلة عَن الشؤون الْإِلَهِيَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ مِنَ الْإِجْمَالِ مَا يَبْعَثُ الْمُتَأَمِّلَ الْمُنْصِفَ عَلَى تَطَلُّبِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ تَطَلَّبَهَا انْقَادَتْ لَهُ كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ تَذْيِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي الْحِكْمَةِ فِي مَرَاتِبِ الْكَائِنَاتِ وَتَصَرُّفِ مُبْدِعِهَا، فَكَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَكْمَلِ الْأَخْلَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَفَطَرَ الدَّوَابَّ عَلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُ كَمَالَ الْخَلْقِ، كَذَلِكَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى أَسَاسِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَعَلَهُ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عُقُولِ أَفْرَادِهِ وَمَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ، وَخَلَقَهُ كَامِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَضِدِّهَا لِيَرْتَفِعَ دَرَجَاتٍ وَيَنْحَطَّ دَرَكَاتٍ مِمَّا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُلَائِمُ فَطْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِطْرَةِ الْمَلَائِكَةِ حَالَةَ عَالَمِهِ الْمَادِّيِّ إِذْ لَا تَأَهُّلَ لِهَذَا الْعَالَمِ لِأَنْ يَكُونَ سُكَّانُهُ كَالْمَلَائِكَةِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَعَالَمِ الرُّوحِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا تَمَّ خَلْقُ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَآنَ أَوَانُ تَصَرُّفِهِ مَعَ قَرِينَتِهِ بِحَسَبِ مَا بَزَغَ فِيهِمَا مِنَ الْقُوَى، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نُقِلَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى عَالَمِ الْمَادَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] . وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسُدَّ عَلَى النَّوْعِ مَنَافِذَ الْكَمَالِ فَخَلَقَهُ خَلْقًا وَسَطًا بَيْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْبَهِيمِيَّةِ إِذْ رَكَّبَهُ مِنَ الْمَادَّةِ وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَمْ يُخَلِّهِ عَنِ الْإِرْشَادِ بِوَاسِطَةِ وُسَطَاءَ وَتَعَاقُبِهِمْ فِي الْعُصُورِ وَتَنَاقُلِ إِرْشَادِهِمْ بَيْنَ الْأَجْيَالِ، فَإِنِ اتَّبَعَ إِرْشَادَهُمُ الْتَحَقَ بِأَخْلَاقِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَقَامَاتِ الَّتِي أَقَامَتْهُ فِي مَقَامِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فِي التَّفَاضُلِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 123، 124] ،

وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَة: 34] . يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً. بَدَلَ مِنْ جُمْلَةِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ خَلْقَهُ مَا يَشَاءُ يَشْتَمِلُ عَلَى هِبَتِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ. وَهَذَا الْإِبْدَالُ إِدْمَاجُ مَثَلٍ جَامِعٍ لِصُوَرِ إِصَابَةِ الْمَحْبُوبِ وَإِصَابَةِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً هُوَ مِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ غَالِبِ الْبَشَرِ وَيَتَضَمَّنُ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرَانِ وَهُوَ اعْتِقَادُ بَعْضِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً فِي عَادَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَطَيُّرِهِمْ بِوِلَادَةِ الْبَنَاتِ لَهُمْ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى التَّعْرِيضِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْإِنَاثِ عَلَى الذُّكُورِ فِي ابْتِدَاءِ تَعْدَادِ النِّعَمِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى عَكْسِ الْعَادَةِ فِي تَقْدِيمِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ حَيْثُمَا ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] وَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: 39] فَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا فَقَطْ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. وَتَنْكِيرُ إِناثاً لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَتَعْرِيفُ الذُّكُورَ بِاللَّامِ لِأَنَّهُمُ الصِّنْفُ الْمَعْهُودُ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِمَقْصِدٍ، أَيْ يَهَبُ ذَلِكَ الصِّنْفَ الَّذِي تَعْهَدُونَهُ وَتَتَحَدَّثُونَ بِهِ وَتَرْغَبُونَ فِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ. وَالتَّزْوِيجُ قَرْنُ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَصِيرَانِ زَوْجًا. وَمِنْ مَجَازِهِ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِنْكَاحِ الرَّجُلِ امْرَأَةً لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ كَالزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: جَعَلَهُمْ زَوْجًا فِي الْهِبَةِ، أَيْ يَجَمْعُ لِمَنْ يَشَاءُ فَيَهَبُ لَهُ ذُكْرَانًا مُشْفَعِينَ بِإِنَاثٍ فَالْمُرَادُ التَّزْوِيجُ بِصِنْفٍ آخَرَ لَا مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ بِفَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ الْآخَرِ.

وَالضَّمِيرُ فِي يُزَوِّجُهُمْ عَائِد إِلَى كلا مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ. وَانْتَصَبَ ذُكْراناً وَإِناثاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي يُزَوِّجُهُمْ. وَالْعَقِيمُ: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَفِعْلُهُ عَقِمَ مِنْ بَابِ فَرِحَ وَعَقُمَ مِنْ بَابِ كَرُمَ. وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ عَقَمَهَا اللَّهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُقَالُ عُقِمَتِ الْمَرْأَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ عَقَمَهَا عَاقِمٌ لِأَنَّ سَبَبَ الْعُقْمِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ. فَهُوَ مِمَّا جَاءَ مُتَعَدِّيًا وَقَاصِرًا، فَالْقَاصِرُ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا وَالْمُتَعَدِّي بِفَتْحِهَا، وَالْعَقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غَالِبًا، وَرُبَّمَا ظَهَرَتِ التَّاءُ نَادِرًا قَالُوا: رَحِمٌ عَقِيمَةٌ. إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَلْقَهُ مَا يَشَاءُ لَيْسَ خَلْقًا مُهْمَلًا عَرِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّهُ وَاسِعُ الْعِلْمِ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ فَخَلْقُهُ الْأَشْيَاءَ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَهُوَ قَدِيرٌ نَافِذُ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا عَلِمَ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ شَيْءٍ أَرَادَهُ، فَجَرَى عَلَى قَدْرِهِ. وَلَمَّا جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ هُنَالِكَ صِفَةً مَطْوِيَّةً وَهِيَ الْإِرَادَةُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِالْكَائِنِ. وَتَفْصِيلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي وَضَعَهَا فِي الْعَوَالِمِ، وَبِتَوَافُقِ آثَارِ بَعْضِهَا وَتَخَالُفِ بَعْضٍ، وَكَيْفَ تَتَكَوَّنُ الْكَائِنَاتُ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّرَ لَهَا مِنَ الْأَوْضَاعِ، وَكَيْفَ تَتَظَاهَرُ فَتَأْتِي الْآثَارُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَتَتَمَانَعُ فَيَنْقُصُ تَأْثِيرُ بَعْضِهَا فِي آثَارِهِ بِسَبَبِ مُمَانَعَةِ مُؤَثِّرَاتٍ أُخْرَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِي أَصْلِ التَّكْوِينِ الْعَالَمِيِّ وَمَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ فِي الْجَرْيِ عَلَى وفَاق علمه.

[سورة الشورى (42) : آية 51]

[سُورَة الشورى (42) : آيَة 51] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) عَطَفَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ تُرَّهَاتِهِمْ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] . وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ فِيمَا عَدَدْنَاهُ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ زَعَمُوا أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ مُرْسَلًا مِنَ اللَّهِ لَكَانَتْ مَعَهُ مَلَائِكَةٌ تُصَدِّقُ قَوْلَهُ أَوْ لَأُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ جَاهِزٌ مِنَ السَّمَاءِ يُشَاهِدُونَ نُزُولَهُ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: 7] وَقَالَ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 90- 93] . وَإِذْ قَدْ كَانَ أَهَمَّ غَرَضِ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتَ كَوْنِ الْقُرْآنِ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أُوحِيَ مِنْ قَبْلِهِ لِلرُّسُلِ كَانَ الْعَوْدُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلْمُكَذِّبِينَ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي خِطَابِ رُسُلِهِ لَا تَعْدُو ثَلَاثَةَ أَنْحَاءٍ مِنَ الْخِطَابِ، مِنْهَا مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدَعًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الْأَوَّلُونَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَاطِبَ رُسُلَهُ عَلَى الْأَنْحَاءِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْمُشْرِكُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرٍ مُفْتَتَحَةٍ بِصِيغَةِ الْجُحُودِ الْمُفِيدَةِ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ وَهِيَ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَتَهَيَّأْ لِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يَأْتِيَهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ إِبْلَاغُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَمِ الرُّسُلِ بِغَيْرِ أَحَدِ هَذِهِ

الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي خُصُوصَ نَوْعِ إِرْسَالِ رَسُولٍ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الرُّسُلُ لَا يُخَاطِبُهُمُ اللَّهُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ فَالْأُمَمُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُخَاطَبُوا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ مَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ يُخَاطِبُهُمْ، أَوْ مَجِيءِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ بَلْ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ خِطَابُ اللَّهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ مِنْهُمْ يَتَلَقَّى كَلَامَ اللَّهِ بِنَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ فَإِنَّ الرَّسُولَ يَكُونُ مَلِكًا وَهُوَ الَّذِي يُبَلِّغُ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَخِطَابُ اللَّهِ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ قَدْ يَكُونُ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِمْ أَمْرًا يُصْلِحُهُمْ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 1، 2] ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِبْلَاغِهِمْ شَرَائِعَ لِلْأُمَمِ مِثْلَ مُعْظَمِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ، أَوْ إِبْلَاغِهِمْ مَوَاعِظَ لَهُمْ مِثْلَ الزَّبُورِ وَمِجَلَّةِ لُقْمَانَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا وَحْياً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَنْوَاعِ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهُوَ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ. فَانْتِصَابُ وَحْياً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَلَامًا وَحْيًا أَيْ مُوحًى بِهِ كَمَا تَقُولُ: لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا جَهْرًا، أَوْ إِلَّا إِخْفَاتًا، لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِخْفَاتَ صِفَتَانِ لِلْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّكَلُّمِ بُلُوغُ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى النَّبِيءِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْبُلُوغُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ وَلَا يَرَى مَصْدَرَهُ أَوْ بِكَلَامٍ يُبَلِّغُهُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِعِلْمٍ يُلْقَى فِي نَفْسِ النَّبِيءِ يُوقِنُ بِأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ. وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَنْوَاعِ: بَعْضُهُ حَقِيقَةٌ مِثْلَ مَا يَسْمَعُهُ النَّبِيءُ كَمَا سَمِعَ مُوسَى، وَبَعْضُهُ مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَا يُبَلِّغُهُ إِلَى النَّبِيءِ فَإِنَّهُ رِسَالَةٌ بِكَلَامٍ، وَبَعْضُهُ مَجَازٌ مَحْضٌ وَهُوَ مَا يُلْقَى فِي قَلْبِ النَّبِيءِ مَعَ الْعِلْمِ، فَإِطْلَاقُ فِعْلِ يُكَلِّمَهُ عَلَى جَمِيعِهَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ يُكَلِّمَهُ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ اسْتِثْنَاءُ الْكَلَامِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا.

وَأَصْلُ الْوَحْيِ: الْإِشَارَةُ الْخَفِيَّةُ، وَمِنْهُ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: 11] . وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ دَفْعَةً كَحُصُولِ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: وَأَوْحَى إِلَيَّ اللَّهُ أَنَّ قَدْ تَآمَرُوا ... بِإِبْلِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِالنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ مِنَ الْإِلْهَامِ الْمُتْقَنِ الدَّقِيقِ كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] . فَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ إِلْقَاءِ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْعَدِّ، فَأُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَسْمَعُهُ النَّبِيءُ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ» فَقَرَأَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: 95] ، وَلَمْ يقل فَنزل إِلَيْهِ جِبْرِيلُ. وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْوَحْيِ الَّذِي سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ. وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا: إِيقَاعُ مُرَادِ اللَّهِ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنَّبِيءِ لِمَكَانِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَحُجَّةٌ لِلْأُمَّةِ لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْضَبِطٍ مَعَ أَنَّهُ وَاقِعٌ وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ. وَمِنْ هَذَا الْوَحْيِ مَرَائِي الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهَا وَحْيٌ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ، فَفِي الحَدِيث «إِنِّي رَأَيْت دَارَ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ فِي حَرَّةٍ ذَاتِ نَخْلٍ فَوَقَعَ فِي وَهْلِي أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ طَابَةُ» . وَقَدْ تَشْتَمِلُ الرُّؤْيَا عَلَى إِلْهَامٍ وَكَلَامٍ مِثْلَ حَدِيثِ «رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ وَرَأَيْتُ وَاللَّهُ خَيْرٌ» فِي رِوَايَةِ رَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ رَأَيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَقَدْ أول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ الْبَقَرَ الَّتِي تُذْبَحُ بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَمَّا «وَاللَّهُ خَيْرٌ» فَهُوَ مَا أَتَى اللَّهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ.

وَمِنَ الْإِلْهَامِ مَرَائِي الصَّالِحِينَ فَإِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوءَةِ. وَلَيْسَ الْإِلْهَامُ بِحُجَّةٍ فِي الدِّينِ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ لَا يُوثَقُ بِصِحَّةِ خَوَاطِرِهِ إِذْ لَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَبَعْضُ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَحُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِ يَأْخُذُونَ بِهِ فِي خَاصَّتِهِمْ وَيَدَّعُونَ أَنَّ أَمَارَاتٍ تُمَيِّزُ لَهُمْ بَيْنَ صَادِقِ الْخَوَاطِرِ وَكَاذِبِهَا وَمِنْهُ قَوْلُ قُطْبِ الدِّينِ الشِّيرَازِيِّ فِي دِيبَاجَةِ شَرْحِهِ عَلَى «الْمِفْتَاحِ» «إِنِّي قَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ مِنْ حَضْرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ بِلِسَانِ الْإِلْهَامِ لَا كَوَهْمٍ مِنَ الْأَوْهَامِ» إِلَى أَنْ قَالَ «مَا أَوْرَثَنِي التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ» . وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجْلَهَا وَرِزْقَهَا» عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ فِيهِ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ أَلْفَاظَ هَذَا الْحَدِيثِ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُحْكَى بِهَا نُزُولُ الْوَحْيِ بِوَاسِطَةِ كَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ يَسْمَعُهُ سَامِعُهُ وَلَا يَرَى مَصْدَرَهُ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ كَلَامًا فِي شَيْءٍ مَحْجُوبٍ عَنْ سَامِعِهِ وَهُوَ مَا وَصَفَ اللَّهَ هُنَا بَقَوْلِهِ: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ. وَالْمَعْنَى: أَوْ مَحْجُوبًا الْمُخَاطَبُ- بِالْفَتْحِ- عَنْ رُؤْيَةِ مَصْدَرِ الْكَلَامِ، فَالْكَلَامُ كَأَنَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهَذَا مِثْلَ تَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَيَحْصُلُ عِلْمُ الْمُخَاطَبِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِآيَةٍ يُرِيهِ اللَّهُ إِيَّاهَا يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ كَمَا عَلِمَ مُوسَى ذَلِكَ بِانْقِلَابِ عَصَاهُ حَيَّةً ثُمَّ عَوْدِهَا إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبِخُرُوجِ يَدِهِ مِنْ جَيْبِهِ بَيْضَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 22، 24] . ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَادَةً يَعْرِفُ بِهَا كَلَامَ اللَّهِ. وَاخْتَصَّ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلَامِ فِي الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي وبكلامي [الْأَعْرَاف: 144] وَلَيْسَ الْوَحْيُ إِلَى مُوسَى مُنْحَصِرًا فِي هَذَا النَّوْعِ فَإِنَّهُ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ الْوَحْيَ الْغَالِبَ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَقَدْ حَصَلَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَام لمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ

خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ مِنْهَا حَتَّى بَلَغَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَأَنَّهُ سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: «أَتْمَمْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي» . وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ النَّجْمِ [6، 12] بَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ وَالْأَشْعَرِيِّ وَالْوَاسِطِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ فضل مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ مِنْ أَفْضَلِ مَا أَعْطَاهُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جَمِيعًا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ الْمَلَكَ إِلَى النَّبِيءِ فَيُبَلِّغُ إِلَيْهِ كَلَامًا يَسْمَعُهُ النَّبِيءُ وَيَعِيهِ، وَهَذَا هُوَ غَالِبُ مَا يُوَجَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى فِي ذكر زَكَرِيَّاء فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمرَان: 39] ، وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات: 104، 105] وَهَذَا الْكَلَامُ يَأْتِي بِكَيْفِيَّةٍ وصفهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَارِثِ بن هِشَامٍ وَقَدْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ «كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ أَيْ عَنْ جِبْرِيلَ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» . فَالرَّسُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا: هُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ: فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ سَمَّى هَذَا الْكَلَامَ وَحْيًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْإِطْلَاقِ الْقُرْآنِيِّ الْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: 3- 5] وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا وَحْياً بِقَرِينَةِ التَّقْسِيمِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَمِنْ لَطَائِفِ نَسْجِ هَذِهِ الْآيَةِ تَرْتِيبُ مَا دَلَّ عَلَى تَكْلِيمِ اللَّهِ الرُّسُلَ بِدَلَالَاتٍ فَجِيءَ بِالْمَصْدَرِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا وَحْياً وَجِيءَ بِمَا يُشْبِهُ الْجُمْلَةَ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ وَراءِ حِجابٍ، وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ ثَالِثًا بَقَوْلِهِ: يُرْسِلَ رَسُولًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ أَوْ يُرْسِلَ بِرَفْعِ يُرْسِلَ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ هُوَ

مُرْسِلٌ رَسُولًا. وَقَرَأَ فَيُوحِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَ كَسْرَةِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَوْ يُرْسِلَ بِنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ (أَنْ) مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَطْفُ عَلَى الْمَصْدَرِ فَصَارَ الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ السَّبْكِ. وَقَرَأُوا فَيُوحِيَ بِفَتْحَةٍ عَلَى الْيَاءِ عَطْفًا عَلَى يُرْسِلَ. وَمَا صدق مَا يَشاءُ كَلَامٌ، أَيْ فَيُوحِيَ كَلَامًا يَشَاؤُهُ اللَّهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِ (كَلَامًا) الْمُسْتَثْنَى الْمَحْذُوفِ، وَالرَّابِطُ هُوَ مَا يَشاءُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: كَلَامًا، فَهُوَ كَرَبْطِ الْجُمْلَةِ بِإِعَادَةِ لَفْظِ مَا هِيَ لَهُ أَوْ بِمُرَادِفِهِ نَحْوَ الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1، 2] . وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ إِلَّا كَلَامًا مَوْصُوفًا بِأَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ كَلَامًا يَشَاؤُهُ فَإِنَّ الْإِرْسَالَ نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ أَنْوَاعٌ لِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يُخَاطِبُ بِهِ عِبَادَهُ. وَذِكْرُ النَّوْعَيْنِ: الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إِضَافَةَ الْكَلَامِ الْمُنَوَّعِ إِلَيْهَا إِلَى اللَّهِ أَوْ إِسْنَادَهُ إِلَيْهِ حَيْثُمَا وَقَعَ فِي أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 6] وَقَوْلِهِ: قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي وبكلامي [الْأَعْرَاف: 144] وَقَوْلُهُ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: 164] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ هِيَ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ اللَّهُ إِيجَادًا بِخَرْقِ الْعَادَةِ لِيَكُونَ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ أَلْفَاظِهِ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودٌ لَهُ كَمَا سُمِّيَ الرُّوحُ الَّذِي تَكَوَّنَ بِهِ عِيسَى رُوحَ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَكَوَّنَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَاللَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ خَلْقًا غَيْرَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْكَلَامِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُ أَرَادَ مَدْلُولَاتِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِآيَةِ أَنَّهُ خَرَقَ فِيهِ عَادَةَ إِيجَادِ الْكَلَامِ فَكَانَ إِيجَادًا غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عِلَلٍ وَأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ فَهُوَ كَإِيجَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِيجَادِ آدَمَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عِلَلٍ وَأَسْبَابٍ فِطْرِيَّةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَقْتَضِي لِذَاتِهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَمَا تَقْتَضِي أَنَّهُ وَاحِدٌ حَيٌّ عَالِمٌ قَدِيرٌ مُرِيدٌ، وَمَنْ حَاوَلَ جَعَلَ صِفَةَ الْكَلَامِ مِنْ مُقْتَضَى الْإِلَهِيَّةِ عَلَى تَنْظِيرِ الْإِلَهِ بِالْمُلْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ يَقْتَضِي مُخَاطَبَةَ الرَّعَايَا بِمَا يُرِيدُ الْمَلِكُ مِنْهُمْ، فَقَدْ جَاءَ بِحُجَّةٍ خَطَابِيَّةٍ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الَّذِي اقْتَضَى إِثْبَاتَ كَلَامِ اللَّهِ هُوَ

وَضْعُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، أَيْ تَعَلُّقُ إِرَادَةِ اللَّهِ بِإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى اجْتِنَابِ مَا يخل باستقامة شؤونهم بِأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ وَمَوْعِظَتِهِمْ وَوَعْدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ، مِنْ يَوْمِ نَهَى آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتَوَعَّدَهُ بِالشَّقَاءِ إِنْ أَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى النَّاسِ وَتَبْلِيغِهِمْ إِيَّاهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ بِوَضْعِ الشَّرَائِعِ وَذَلِكَ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ بِلَا شَكٍّ أَوْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِنْ قُلْنَا إِنَّ آدَمَ بَلَّغَ أَهْلَهُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ. فَتَعَيَّنَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ آمِرٌ وَنَاهٍ وَوَاعِدٌ وَمُوعِدٌ، وَمُخْبِرٌ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّ مُرَادَهُ ذَلِكَ أَبْلَغَهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ وَيَفْهَمُونَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ لَهُمْ قَبْلَ النُّبُوءَةِ وَهُوَ مُتَفَاوِتُ الْأَنْوَاعِ فِي مُشَابَهَةِ الْكَلَامِ الْمُتَعَارَفِ. وَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَلَا إِثْبَاتُ صِفَةٍ لَهُ تُسَمَّى الْكَلَامَ، وَلَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ مَا كَانَ ثَمَّةَ دَاعٍ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْخَلَفِ من أشعرية وَمَا تريدية إِذْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ وَإِنَّ لَهُ صِفَةً تُسَمَّى الْكَلَامَ وَبِخَاصَّةٍ الْمُعْتَزِلَةُ إِذْ قَالُوا إِنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَنَفَوْا صِفَةَ الْكَلَامِ وَأَمْرُ الْمُعْتَزِلَةِ أَعْجَبُ إِذْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ لِأَجْلِ الْقَوَاطِعِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَنْكَرُوا صِفَاتِ الْمَعَانِي تَوَرُّعًا وَتَخَلُّصًا مِنْ مُشَابَهَةِ الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ بِلَا دَاعٍ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي عَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَنْدُوحَةٌ لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي إِلَى إِثْبَاتِهَا، خِلَافًا لِمَا دَعَا إِلَى إِثْبَاتِ غَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَقَدْ حَكَى فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ. وَقُصَارَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ إِسْنَادُ فِعْلِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِضَافَةُ مَصْدَرِهِ إِلَى اسْمِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِلَّهِ صِفَةُ نَافِخِ الْأَرْوَاحِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحجر: 29] ، فَالَّذِي حَدَا مُثْبِتِي صِفَةِ الْكَلَامِ لِلَّهِ هُوَ قُوَّةُ تَعَلُّقِ هَذَا الْوَصْفِ بِصِفَةِ الْعِلْمِ فَخَصُّوا هَذَا التَّعَلُّقَ بِاسْمٍ خَاصٍّ وَجَعَلُوهُ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً مِثْلَ مَا فَعَلُوا فِي صِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مُثْبِتِي صِفَةِ الْكَلَامِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهَا، فَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ قَدِيمَةٌ كَسَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ. فَإِذَا سُئِلُوا عَنِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ: أَقَدِيمَةٌ هِيَ أَمْ حَادِثَةٌ؟ قَالُوا: قَدِيمَةٌ، وَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَنَبَزَهُمْ وَلَا

أَحْسَبُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ تَحَاشَوْا عَنِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ دَهْمَاءَ الْأُمَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ حُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ يُؤَدِّيَ إِلَى إِبْطَالِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، لِأَنَّ تِبْيَانَ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: كَلَامُ اللَّهِ، دَقِيقٌ جِدًّا يَحْتَاجُ مُدْرِكُهُ إِلَى شَحْذِ ذِهْنِهِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ، وَالْعَامَّةُ عَلَى بَوْنٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاشْتُهِرَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ زَمَنَ فِتْنَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ. وَكَانَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَنِ الْعُبَيْدِيِّينَ مُلْتَزِمِينَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بن أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : «وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدَ وَلَا صِفَةٍ لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ» . وَقَدْ نَقَشُوا عَلَى إِسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْجَامِعِ بِمَدِينَةِ سُوسَةَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ» وَهِيَ مَاثِلَةٌ إِلَى الْآنِ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: وَاتَّفَقَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يُفِيدُ هَذَا النَّظْمَ الْمُرَكَّبَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى التَّوَالِي كَانَتْ مُحْدَثَةً، فَلَمَّا سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: «الْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقِرَّ وَنُمُرَّ» يَعْنِي نُقِرُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَنَمُرُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعْنَاهُ قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَلَامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ الْقَائِلِ. وَمِنَ الْغَرِيبِ جِدًّا مَا يُعْزَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ الْكَرَّامِيَّةِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: لَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ، وَنُسِبَ مِثْلُ هَذَا إِلَى الْحَشَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَمَنَعُوا أَنْ تَكُونَ لَهُ صِفَةٌ تُسَمَّى الْكَلَامَ، وَالَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا شَاعَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَعِنْدَ السَّلَفِ مِنْ إِسْنَادِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّ اشْتِقَاقَ الْوَصْفِ لَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْمَصْدَرِ بِالْمَوْصُوفِ، وَتِلْكَ طَرِيقَتُهُمْ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَزَادُوا فَقَالُوا: مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي نَقُولُ: إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الْمُرَكَّبُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، الْمَتْلُوُّ بِأَلْسِنَتِنَا، الْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِنَا، إِنَّهُ حَادِثٌ وَلَيْسَ هُوَ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا صِفَةُ اللَّهِ مَدْلُولُ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْحُرُوفِ

وَالْأَصْوَاتِ مِنَ الْمَعَانِي مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ. وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ الْكَلَامَ الْحَادِثَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ دَالٌّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ صِفَةٌ لِلَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنِ الشَّيْخِ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْأَزَلِيَّ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا، مَحْفُوظٌ فِي قُلُوبِنَا، مَسْمُوعٌ بِآذَانِنَا، مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا غَيْرَ حَالٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِقُلُوبِنَا مَذْكُورٌ بِأَلْسِنَتِنَا مَعْبُودٌ فِي مَحَارِيبِنَا وَهُوَ غَيْرُ حَالٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْقِرَاءَةُ وَالْقَارِئُ مَخْلُوقَانِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ مَخْلُوقَانِ، وَالْمَعْلُومُ وَالْمَعْرُوفُ قَدِيمَانِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَقْرُوءَةَ وَالْمَكْتُوبَةَ دَوَالُّ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَدْلُولُ وَهُوَ كَوْنُ اللَّهِ مُرِيدًا لِمَدْلُولَاتِ تِلْكَ التَّرَاكِيبِ هُوَ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى لِيَصِحَّ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنَ النَّاسِ الْعَمَلَ بِالْمَدْلُولَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا تِلْكَ التَّرَاكِيبُ. وَقَدِ اصْطَلَحَ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ كَلَامًا نَفْسِيًّا وَهُوَ إِرَادَةُ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ، وَقَدِ اسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الْأَخْطَلِ: إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا وَأَمَّا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنْهُ كَلَامًا مَزِيجًا مِنْ كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ وَكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْبَعْضُ نَقَلَ عَنْهُ مِثْلَ قَوْلِ السَّلَفِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ النَّقْلِ عَنْهُ هُوَ أَنَّ الْمَاتُرِيدِيَّ تَابَعَ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَبَا حَنِيفَةَ. وَقَدِ اضْطَرَبَ أَتْبَاعُهُ فِي فَهْمِ عِبَارَتِهِ الْوَاقِعَةِ فِي الْعَقِيدَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ الْمُسَمَّاةِ: الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ- إِنْ صَحَّ عَزْوُهَا إِلَيْهِ- إِذْ كَانَتْ عِبَارَةً يَلُوحُ عَلَيْهَا التَّضَارُبُ وَلَعَلَّهُ مَقْصُودٌ. وَتَأْوِيلُهَا بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ التَّحْقِيقُ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ بِوَجْهٍ وَاضِحٍ قَرِيبٍ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْكَلَامِ لِلَّهِ هُوَ مِثْلَ ثُبُوتِ صِفَةِ الْإِرَادَةِ وَصِفَةِ الْقُدْرَةِ لَهُ تَعَالَى، فِي الْأَزَلِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِاتِّصَافِهِ بِالْإِرَادَةِ فَكَمَا أَنَّ مَعْنَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْإِرَادَةِ لِلَّهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِإِيجَادِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، أَوْ بِإِعْدَامِ شَيْءٍ كَانَ مَوْجُودًا، أَنَّهُ لَا يَحُولُ دُونَ تَنْفِيذِ مَا تعلق علمه بإيجاده أَوْ إِعْدَامِهِ حَائِلٌ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ، وَمَتَى تَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِإِبْقَاءِ الْمَعْدُومِ فِي حَالَةِ الْعَدَمِ أَوِ الْمَوْجُودِ فِي حَالَةِ الْوُجُودِ، لَا يُكْرِهُهُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مُكْرِهٌ. فَكَذَلِكَ ثُبُوتُ الْكَلَامِ لِلَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كُلَّمَا تعلق علمه بِأَنَّهُ يَأْمُرَ أَوْ يَنْهَى أَحَدًا لَمْ يَحُلْ

حَائِلٌ دُونَ إِيجَادِ مَا يُبَلِّغُ مُرَادَهُ إِلَى الْمَأْمُورِينَ أَوِ الْمَنْهِيَّينَ، وَكُلَّمَا تَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِأَنْ يَتْرُكَ تَوْجِيهَ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ إِلَى النَّاسِ لَمْ يُكْرِهْهُ مُكْرِهٌ عَلَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَوْ يَنْهَاهُمْ. وَكَمَا أَنَّ لِلْإِرَادَةِ تَعَلُّقًا صَلَاحِيًّا أَزَلِيًّا وَتَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا حَادِثًا حِينَ تَتَوَجَّهُ الْإِرَادَةُ إِلَى إِيجَادٍ بِوَاسِطَةِ الْقُدْرَةِ. كَذَلِكَ نَجِدُ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَلُّقًا صَلَاحِيًّا أَزَلِيًّا وَتَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا حِينَ اقْتِضَاءِ عِلْمِ اللَّهِ تَوْجِيهَ أَمْرِهِ أَوْ نَهْيِهِ أَوْ نَحْوِهِمَا إِلَى بَعْضِ عِبَادِهِ. فَالْكَلَامُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الرَّسُولُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حَادِثٌ وَهُوَ أَثَرُ التَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ الْحَادِثِ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ وَأَرَادَ مِنَ النَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ هُوَ الصِّفَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ وَلَهَا التَّعَلُّقُ الصَّلَاحِيُّ الْقَدِيمُ. وَفِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» لِلْعَلَّامَةِ عَبْدِ الْحَكِيمِ السَّلَكُوتِيِّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا حَادِثًا، وَهَذَا مِنَ التَّحْقِيقِ بِمَكَانٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْأَزَلِيَّ يَتَنَوَّعُ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَدْلُولَاتِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْلُقُ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا بِمُرَادِ اللَّهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ لَا نَعْلَمُهَا، وَعِلْمًا بِأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَهُ إِبْلَاغَ مُرَادِهِ إِلَى النبيء، وَالْمَلَكُ يُبَلِّغُ إِلَى النَّبِيءِ مَا أَمر بتبليغه امتثالا لِلْآمِرِ التَّسْخِيرِيِّ، بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ أَلْقَاهَا اللَّهُ فِي نَفْسِ الْمَلَكِ مِثْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِأَلْفَاظٍ مِنْ صَنْعَةِ الْمَلَكِ كَالَّتِي حَكَى الله عَن زَكَرِيَّاء بَقَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمرَان: 39] . أَوْ يَخْلُقُ فِي سَمْعِ النَّبِيءِ كَلَامًا يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِرٍ إِلَيْهِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ، فَيُوقِنُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَبِدَلَالَةِ تَعَوُّدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا مِثْلُ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ [الْقَصَص: 30، 31] الْآيَةَ، فَقَرَنَ خِطَابَهُ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ بِالْمُعْجِزَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ لِيُوقِنَ مُوسَى أَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أَوْ يَخْلُقُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ عِلْمًا قَطْعِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُ كَذَا كَمَا يَخْلُقُ فِي نَفْسِ الْمَلَكِ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا.

[سورة الشورى (42) : الآيات 52 إلى 53]

فَعَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ يَأْتِي الْوَحْيُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَيَخْتَصُّ الْقُرْآنُ بِمَزِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ كَلَامًا يَعِيهِ الْمَلَكُ وَيُؤْمَرُ بِإِبْلَاغِهِ بنصه دون تغير إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ كَالْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 50] السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا أُوثِرَ هُنَا صِفَةُ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ لِمُنَاسَبَتِهِمَا لِلْغَرَضِ لِأَنَّ الْعُلُوَّ فِي صِفَةِ الْعَلِيِّ عُلُوُّ عَظَمَةٍ فَائِقَةٍ لَا تُنَاسِبُهَا النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَحْظَ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ بِالتَّصْفِيَةِ فَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَتَلَقَّى مِنَ اللَّهِ مُرَادَهُ مُبَاشَرَةً فَاقْتَضَى عُلُوُّهُ أَنْ يَكُونَ تَوْجِيهُ خِطَابِهِ إِلَى الْبَشَرِ بِوَسَائِطَ يُفْضِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْحُكَمَاءُ: اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَأِ تَتَوَقَّفُ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا وَصْفُ الْحَكِيمِ فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُتْقِنُ لِلصُّنْعِ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِهِ وَمَا خِطَابُهُ الْبَشَرَ إِلَّا لِحِكْمَةِ إِصْلَاحِهِمْ وَنِظَامِ عَالَمِهِمْ، وَمَا وُقُوعُهُ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ الثَّلَاثِ إِلَّا مِنْ أَثَرِ الْحِكْمَةِ لِتَيْسِيرِ تَلَقِّي خِطَابِهِ، وَوَعْيِهِ دُونَ اخْتِلَالٍ فِيهِ وَلَا خُرُوجٍ عَنْ طَاقَةِ الْمُتَلَقِّينَ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [143] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [6] . [52، 53] [سُورَة الشورى (42) : الْآيَات 52 الى 53] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] الْآيَةَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَعْقَبَ بِهِ إِبْطَالَ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي تَقَدَّمَ لِإِبْطَالِهَا قَوْلُهُ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الْآيَةَ، أَيْ كَانَ وَحْيُنَا إِلَيْكَ مِثْلَ كَلَامِنَا الَّذِي كَلَّمْنَا بِهِ مَنْ قَبْلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنبيئين من بعده [النِّسَاء: 163] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا هُوَ قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ.

وَالْإِشَارَةُ إِلَى سَابِقٍ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] الْآيَةَ، أَيْ وَمِثْلَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيمِ اللَّهِ وَحْيُنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، فَيَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: مِثْلَهَا تَخْرُجُ النَّصِيحَةُ لِلْقَوْمِ ... فَلَاةً مِنْ دُونِهَا أَفْلَاءُ أَيْ مِثْلَ نَصِيحَتِنَا الَّتِي نَصَحْنَاهَا لِلْمَلِكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ تَكُونُ نَصِيحَةُ الْأَقْوَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَنَّهَا نَصِيحَةُ قَرَابَةِ ذَوِي أَرْحَامٍ (¬1) . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَأْتِي مِنْ بَعْدُ وَهُوَ الْإِيحَاءُ الْمَأْخُوذُ مَنْ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، أَيْ مِثْلَ إِيحَائِنَا إِلَيْكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، أَيْ لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُ إِيحَائِنَا إِلَيْكَ فِي رِفْعَةِ الْقَدْرِ وَالْهُدَى مَا وُجِدَ لَهُ شَبِيهٌ إِلَّا نَفْسُهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَالْمَعْنَى: إِنَّ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هُوَ أَعَزُّ وَأَشْرَفُ وَحْيٍ بِحَيْثُ لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَالِحٌ هُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مَحْمَلًا لِلْآيَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ابْتَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَن النبيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِي أَنْوَاعَ الْوَحْيِ الثَّلَاثَةَ، وَهُوَ أَيْضًا مُقْتَضَى الْغَرَضِ مِنْ مَسَاقِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالرُّوحُ: مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [85] . وَأَطْلَقَ الرُّوحَ هُنَا مَجَازًا عَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي بِهَا اهْتِدَاءُ النُّفُوسِ إِلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْرِ فِي حَيَاتِهِمُ الْأُولَى وَحَيَاتِهِمُ الثَّانِيَةِ، شُبِّهَتْ هِدَايَةُ عُقُولِهِمْ بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِحُلُولِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ فَيَصِيرُ حَيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ جُثَّةً. وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِنا مِمَّا اسْتَأْثَرْنَا بِخَلْقِهِ وَحَجَبْنَاهُ عَنِ النَّاسِ فَالْأَمْرُ الْمُضَافُ إِلَى ¬

(¬1) على إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ وَهِي رِوَايَة نصب (مثلهَا) وَفتح تَاء (تخرج) . و (فلاة) حَال من (النَّصِيحَة) . وَمعنى (فلاة من دونهَا أفلاء) أَن قرابتهم بِالْملكِ مشتبكة كالفلاة، أَي الأَرْض الواسعة الَّتِي تتصل بهَا فلوات. والأفلاء جمع فلوات.

اللَّهِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِمْ: أَمِرَ أَمْرُ فُلَانٍ، أَيْ شَأْنُهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [الْقدر: 4] . وَالْمُرَادُ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَلْقِينِ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ مَأْمُورٍ بِإِبْلَاغِهِ إِلَى النَّاسِ بِلَفْظِهِ دُونَ تَغَيُّرٍ وَهُوَ الْوَحْيُ الْقُرْآنِيُّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَمْرَانِ: الْهِدَايَةُ وَالْإِعْجَازُ، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذَلِكَ بَلِ الرَّسُولُ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ بِهِ الْإِعْجَازُ، أَوْ بِإِلْقَاءِ الْمَعْنَى إِلَى الرَّسُولِ بِمُشَافَهَةِ الْمَلَكِ، وَلِلرَّسُولِ فِي هَذَا أَنْ يَتَصَرَّفَ مِنْ أَلْفَاظِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَا يُرِيدُ التَّعْبِيرَ بِهِ أَوْ بِرُؤْيَا الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْقَاءِ فِي النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاخْتِتَامُ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ افْتِتَاحِهَا بقوله: كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 7] الْآيَةَ فِيهِ مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَجُمْلَةُ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَوْحَيْنا أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فِي حَالَ انْتِفَاءِ عِلْمِكَ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ، أَيْ أَفَضْنَا عَلَيْكَ مَوْهِبَةَ الْوَحْيِ فِي حَالِ خُلُوِّكَ عَنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَعِلْمِ الْإِيمَانِ. وَهَذَا تَحَدٍّ لِلْمُعَانِدِينَ لِيَتَأَمَّلُوا فِي حَال الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْلَمُوا أَنَّ مَا أُوتِيَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْآدَابِ الْخُلُقِيَّةِ هُوَ مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ مُزَاوَلَتُهَا، وَيَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى عَدَمِ دِرَايَةِ الْكِتَابِ: عَدَمُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِقِرَاءَةِ كِتَابٍ أَوْ فَهْمِهِ. وَمَعْنَى انْتِفَاءِ دِرَايَةِ الْإِيمَانِ: عَدَمُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى مَا يُرَادِفُ الْإِسْلَامَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: 143] وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [المدثر: 31] . فَيُزَادُ فِي مَعْنَى عَدَمِ دِرَايَةِ الْإِيمَانِ انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ علم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. فَانْتِفَاءُ دِرَايَتِهِ بِالْإِيمَانِ مِثْلُ انْتِفَاءِ دِرَايَتِهِ بِالْكِتَابِ، أَيِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِحَقَائِقِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي وَلَمْ يَقُلْ: مَا كُنْتَ مُؤْمِنًا.

وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَقْتَضِي أَن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّةِ إِلَهِيَّتِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ إِذِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِلَّهِ وَنَابِذُونَ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَفَاصِيلَ الْإِيمَان، وَكَانَ نبيئنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِ جَاهِلِيَّةِ قَوْمِهِ يَعْلَمُ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْمُهُ يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَبُطْلَانُ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ عِنْدَهُ تُمَحِّضُهُ لِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا مَحَالَةَ. وَقَدْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ» عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» غَيْرَ مَعْزُوٍّ: «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَشَأْتُ- أَيْ عَقَلْتُ- بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ، وَلَمْ أَهُمَّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا ثُمَّ لَمْ أَعُدْ» . وَعَلَى شِدَّةِ مُنَازَعَةِ قُرَيْشٍ إِيَّاهُ فِي أَمْرِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُحَاجُّوهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ مَعَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْقَائِلِينَ بِأَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا قَبْلَ نُبُوءَتِهِ بِشَرْعٍ. وَإِدْخَالُ لَا النَّافِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْإِيمانُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ دِرَايَتِهِ إِيَّاهُ، أَيْ مَا كُنْتَ تَدْرِي الْكِتَابَ وَلَا الْإِيمَانَ، لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ دِرَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ. وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَنَا الْكِتَابَ نُورًا. وَأُقْحِمَ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَكْسُ مَضْمُونِ جُمْلَةِ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ. والاستدراك ناشىء عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ لِأَنَّ ظَاهِرَ نَفْيِ دِرَايَةِ الْكِتَابِ أَنَّ انْتِفَاءَهَا مُسْتَمِرٌّ فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ بِالْكِتَابِ وَهَدَى بِهِ أُمَّتَهُ، فَالِاسْتِدْرَاكُ وَاقِعٌ فِي الْمَحَزِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ثُمَّ هَدَيْنَاكَ بِالْكِتَابِ ابْتِدَاءً وَعَرَّفْنَاكَ بِهِ الْإِيمَانَ وَهَدَيْتَ بِهِ النَّاسَ ثَانِيًا

فَاهْتَدَى بِهِ مَنْ شِئْنَا هِدَايَتَهُ، أَيْ وَبَقِيَ عَلَى الضَّلَالِ مَنْ لَمْ نَشَأْ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَة: 26] . وَشُبِّهَ الْكِتَابُ بِالنُّورِ لِمُنَاسَبَةِ الْهَدْيِ بِهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْهُدَى وَالْعِلْمَ تُشَبَّهُ بِالنُّورِ، وَالضَّلَالَ وَالْجَهْلَ وَالْكُفْرَ تُشَبَّهُ بِالظُّلْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 257] . وَإِذَا كَانَ السَّائِرُ فِي الطَّرِيقِ فِي ظُلْمَةٍ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ فَإِذَا اسْتَنَارَ لَهُ اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ، فَالنُّورُ وَسِيلَةُ الِاهْتِدَاءِ وَلَكِنْ إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ حَائِلٌ دُونَ الِاهْتِدَاءِ وَإِلَّا لَمْ تَنْفَعْهُ وَسِيلَةُ الِاهْتِدَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا، أَيْ نَخْلُقُ بِسَبَبِهِ الْهِدَايَةَ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ أَعَدَدْنَاهُمْ لِلْهُدَى مِنْ عِبَادِنَا. فَالْهِدَايَةُ هُنَا هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ خَلْقُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَيْ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ بِدَعْوَتِكَ وَوَاسِطَتِكَ فَلَمَّا أَثْبَتَ الْهَدْيَ إِلَى اللَّهِ وَجَعَلَ الْكِتَابَ سَبَبًا لِتَحْصِيلِ الْهِدَايَة عطف عَلَيْهِ وَسَاطَةَ الرَّسُولِ فِي إِيصَالِ ذَلِكَ الْهَدْيِ تَنْوِيهًا بشأن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجُمْلَةُ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وَإِذْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَالْهِدَايَةُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي هِدَايَةٌ عَامَّةٌ. وَهِيَ: إِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ فَهِيَ تُخَالِفُ الْهِدَايَةَ فِي قَوْلِهِ: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ لَتَهْدِي لِلْعُمُومِ، أَيْ لَتَهْدِي جَمِيعَ النَّاسِ، أَيْ تُرْشِدُهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: 10، 11] .

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَثْبِيتِ قلب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِهَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنْكِرِينَ لِهَدْيِهِ فَيَكُونُ فِي التَّأْكِيدِ مُلَاحَظَةُ تَحْقِيقِهِ وَإِبْطَالُ إِنْكَارِهِمْ. فَكَمَا أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمَيْنِ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ فَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي غَرَضَيْنِ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِمَّا أُلْحِقَ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَتَنْكِيرُ صِراطٍ لِلتَّعْظِيمِ مِثْلُ تَنْكِيرِ (عَظْمٍ) فِي قَوْلِ أَبِي خِرَاشٍ: فَلَا وَأَبِي الطَّيْرِ الْمُرِبَّةِ فِي الضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْنَ عَلَى عَظْمِ وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ أَنْسَبُ بِمَقَامِ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينِ لَمْ يَأْبَهُوا بِهِدَايَتِهِ. وَعَدَلَ عَنْ إِضَافَةِ صِراطِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ ابْتِدَاءً لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ بِأَنْ يُبْدِلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ صِراطِ اللَّهِ لِيَتَمَكَّنَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فَضْلَ تَمَكُّنٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: 6، 7] . وَإِجْرَاءُ وَصْفِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وصلته للإيماء إِلَى أَنَّ سَبَبَ اسْتِقَامَةِ الصِّرَاطِ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ النَّبِيءُ بِأَنَّهُ صِرَاطُ الَّذِي يَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا يَلِيقُ بِعِبَادِهِ، فَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِكِتَابٍ لَا يُرْتَابُ فِي أَنَّ مَا أَرْسَلَ لَهُمْ فِيهِ صَلَاحُهُمْ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ. تَذْيِيلٌ وَتَنْهِيَةٌ لِلسُّورَةِ بِخِتَامِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُجَادَلَةِ وَالِاحْتِجَاجِ بِكَلَامٍ قَاطِعٍ جَامِعٍ مُنْذِرٍ بِوَعِيدٍ لِلْمُعْرِضِينَ فَاجِعٍ وَمُبَشِّرٍ بِالْوَعْدِ لِكُلِّ خَاشِعٍ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِاسْتِرْعَاءِ أَسْمَاعِ النَّاسِ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَالْمَصِيرُ: الرُّجُوعُ وَالِانْتِهَاءُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِظُهُورِ الْحَقَائِقِ كَمَا هِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَذْهَبُ تَلْبِيسُ الْمُلَبِّسِينَ، وَيَهِنُ جَبَرُوتُ الْمُتَجَبِّرِينَ، وَيُقِرُّ بِالْحَقِّ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [لُقْمَان: 22] وَقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] . والأمور: الشؤون وَالْأَحْوَالُ وَالْحَقَائِقُ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِي. وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى الْكُمَيْتُ فِي قَوْلِهِ: فَالْآنَ صرت إِلَى أُميَّة وَالْأُمُورُ إِلَى مَصَائِرْ وَفِي تَنْهِيَةِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُحَسِّنُ حُسْنِ الْخِتَامِ.

43- سورة الزخرف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 43- سُورَة الزخرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ الْعَتِيقَةِ وَالْحَدِيثَةِ سُورَةَ الزُّخْرُفِ وَكَذَلِكَ وَجدتهَا فِي جُزْء عَتِيقٍ مِنْ مُصْحَفٍ كُوفِيِّ الْخَطِّ مِمَّا كُتِبَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «جَامِعِهِ» ، وَسُمِّيَتْ كَذَلِكَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَسَمَّاهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» سُورَةَ حم الزخرف بِإِضَافَة كَلِمَةِ حم إِلَى الزُّخْرُفِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَسْمِيَةِ سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ، رَوَى الطَّبَرْسِيُّ عَنِ الْبَاقِرِ أَنَّهُ سَمَّاهَا كَذَلِكَ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ وَزُخْرُفاً [35] وَقَعَتْ فِيهَا وَلَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فَعَرَّفُوهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَة وَعبد الرحمان بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَن آيَة وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] نَزَلَتْ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَإِذَا صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِهَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكِّيِّ مَا أُنْزِلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ فُصِّلَتْ وَقَبْلَ سُورَةِ الدُّخَانِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ الْعَادِّينَ مِنْ مُعْظَمِ الْأَمْصَارِ تِسْعًا وَثَمَانِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا أَعْظَمُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ: التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ آيَةُ صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَأَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ بِهِ لِتَذْكِيرِهِمْ وَتَكْرِيرِ تَذْكِيرِهِمْ وَإِنْ أَعْرَضُوا كَمَا أَعْرَضَ مَنْ قَبْلَهُمْ عَنْ رُسُلِهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ بَاعِثُهُمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ تَعَلُّقَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي نَهَاهُمُ الْقُرْآنُ عَنْهَا كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَخَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا وَبَيْنَ اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، حَتَّى إِذَا انْتَقَضَ أَسَاسُ عِنَادِهِمُ اتَّضَحَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بَاطِلُهُمْ. وَجَعَلُوا بَنَاتٍ لِلَّهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْبَنَاتِ أَحَطُّ قَدْرًا مِنَ الذُّكُورِ فَجَمَعُوا بِذَلِكَ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّنْقِيصِ. وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ كُلِّ مَا دُونَ اللَّهِ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ الْمَعْبُودِينَ فِي الشَّرَفِ فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْأُلُوهِيَّةِ وَلِبُنُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَرَّجَ عَلَى إِبْطَالِ حُجَجِهِمْ وَمَعَاذِيرِهِمْ، وَسَفَّهَ تَخْيِيلَاتِهِمْ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَذَكَّرَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ، وَأَنْذَرَهُمْ بِمِثْلِ عَوَاقِبِهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِإِمْهَالِ اللَّهِ وَخَصَّ بِالذِّكْرِ رِسَالَةَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَخَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ جَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي جَمْعٍ مِنْ عَقِبِهِ وَتَوَعَّدَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْذَرَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ الَّذِي كَانَ إِنْكَارُهُمْ وُقُوعَهُ مِنْ مُغَذِّيَاتِ كُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فِي مَأْمَنٍ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ رُتِّبَتْ هَذِهِ الْأَغْرَاضُ وَتَفَارِيعُهَا عَلَى نَسْجٍ بَدِيعٍ وَأُسْلُوبٍ رَائِعٍ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِطْرَادِ عَلَى حَسَبِ دَوَاعِي الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْبَلَاغَةُ، وَتَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ لِقَبُولِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ. وَتَخَلَّلَ فِي خِلَالِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْأَمْثَالِ

[سورة الزخرف (43) : آية 1]

وَالْمَثَلِ وَالْقَوَارِعِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ شَيْءٌ عَجِيبٌ، مَعَ دَحْضِ شُبَهِ الْمُعَانِدِينَ بِأَفَانِينِ الْإِقْنَاعِ بِانْحِطَاطِ مِلَّةِ كُفْرِهِمْ وَعَسْفِ مُعْوَجِّ سُلُوكِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ. وَقَدْ جَرَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أُسْلُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَدَا مَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى غَيره. [1] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِره ومواقعها قَبْلَ ذِكْرِ الْقُرْآن وتنزيله. [2، 3] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 2 إِلَى 3] وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ عَرَبِيًّا وَاضِحَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُصَدِّقُوا بِهِ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مُكَابِرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ كَانُوا كَمَنْ لَا يَعْقِلُونَ. فَالْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَهُوَ تَوْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ إِذْ لَيْسَ الْقَسَمُ هُنَا بِرَافِعٍ لِتَكْذِيبِ الْمُنْكِرِينَ إِذْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْمُقْسِمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْقَسَمِ هُمُ الْمُنْكِرُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَتَفْرِيعِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: 5] عَلَيْهِ. وَتَوْكِيدُ الْجَوَابِ بِ (إِنَّ) زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ لِلْخَبَرِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ. وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ الْقُرْآنَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُبِينًا، وَجَعْلِ جَوَابِ الْقَسَمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُبِينًا، تَنْوِيهٌ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ إِذْ جَعَلَ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ الْمُقَسَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَبِيلِهِ قَوْلَ أَبِي تَمَّامٍ:

وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضُ ... وَلَآلٍ تُؤْمٌ وَبَرْقٌ وَمِيضُ إِذْ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ جُمْلَةَ (إِنَّهَا إِغْرِيضُ) جَوَابَ الْقَسَمِ وَهُوَ الَّذِي تَبِعَهُ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ فِي شَرْحَيْهِمَا «لِلْكَشَّافِ» ، وَهُوَ مَا فَسَّرَ بِهِ التَّبْرِيزِيُّ فِي شَرْحِهِ لِدِيوَانِ أَبِي تَمام، وَلَكِن التفتازانيّ أَبْطَلَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ «الْكَشَّافِ» وَجَعَلَ جُمْلَةَ (إِنَّهَا إِغْرِيضُ) اسْتِئْنَافًا أَيِ اعْتِرَاضًا لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِ ثَنَايَاهَا أَنْ يُقْسِمَ بِهَا، وَجَعَلَ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلَهُ بَعْدَ أَبْيَات ثَلَاثَة: لتكادني غِمَارٌ مِنَ الْأَحْ ... دَاثِ لَمْ أَدْرِ أَيَّهُنَّ أَخُوضُ وَالنُّكَتُ وَالْخُصُوصِيَّاتُ الْأَدَبِيَّةُ يَكْفِي فِيهَا الِاحْتِمَالُ الْمَقْبُولُ فَإِنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ: وَارْتِكَاضُ الْكَرَى بِعَيْنَيْكَ فِي النَّ ... وْمِ فُنُونًا وَمَا بِعَيْنِي غُمُوضُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا ثَانِيًا فَيَكُونَ الْبَيْتُ جَوَابًا لَهُ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ لِيُكْتَبَ وَأَنَّ الْأُمَّةَ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَتِهِ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْمُرَادُ بِ الْكِتابِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ. وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ، أَيْ إِنَّا جَعَلْنَا الْكِتَابَ الْمُبِينَ قُرْآنًا وَالْجَعْلُ: الْإِيجَادُ وَالتَّكْوِينُ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَقْرُوءٌ دُونَ حُضُورِ كِتَابٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مَقْرُوءٌ لِأَنَّ كُلَّ كِتَابٍ صَالِحٌ لِأَنْ يُقْرَأُ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ قُرْآنٌ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ هَذَا الْكِتَابِ مَقْرُوءًا، أَيْ مُيَسَّرًا لِأَنْ يُقْرَأُ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: 17] وَقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [الْقِيَامَة: 17] . وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . فَحَصَلَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِوَصْفَيْنِ: كَوْنِهِ كِتَابًا، وَكَوْنِهِ مَقْرُوءًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ كِتَابُ الْإِسْلَامِ.

وَ (عَرَبِيًّا) نِسْبَةً إِلَى الْعَرَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَنْسُوبُ كِتَابًا وَمَقْرُوءًا فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى الْعَرَبِ نِسْبَةُ الْكَلَامِ وَاللُّغَةِ إِلَى أَهْلِهَا، أَيْ هُوَ مِمَّا يَنْطِقُ الْعَرَبُ بِمِثْلِ أَلْفَاظِهِ، وَبِأَنْوَاعِ تَرَاكِيبِهِ. وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَعَلْناهُ. وَمَعْنَى جَعْلِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا تَكْوِينُهُ عَلَى مَا كُوِّنَتْ عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَاهِرِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ قُرْآنًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا دَلَالَةً عَلَى عَدِيدِ الْمَعَانِي، وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ أَفْهَمُ لِدَقَائِقِهَا، وَلِذَلِكَ اصْطَفَى رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِتَتَظَاهَرَ وَسَائِلُ الدَّلَالَةِ وَالْفَهْمِ فَيَكُونُوا الْمُبَلِّغِينَ مُرَادَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَمِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بِهَاتِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَأْبَى مِنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ بُعَدَاءُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَالرُّشْدِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَدْيَهُمْ فَلَا يُقْطَعُ عَنْهُمْ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتِمَّ مُرَادُهُ وَيَكْمُلَ انْتِشَارُ دِينِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَيَتَدَبَّرُوا إِخْلَاصَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ إِنْ هُمْ ثَابُوا إِلَى رُشْدِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَرَضَانِ: أَحَدُهُمَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَمَدْحُهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوجٌ عَلَى مِنْوَالِ أَفْصَحِ لُغَةٍ، وَثَانِيهِمَا التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْعَرَبِ حِينَ لَمْ يَتَأَثَّرُوا بِمَعَانِيهِ بِأَنَّهُمْ كَمَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ الْمُفْتَتَحَةُ بِهِمَا السُّورَةُ مِنْ مَعْنَى التَّحَدِّي بِأَنَّ هَذَا كِتَابٌ بِلُغَتِكُمْ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. وَحَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [73] . وَالْعَقْلُ الْفَهْمُ. وَالْغَرَضُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا التَّدَبُّرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنَّ كَمَالَهُ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفْصَاحِ نَسْتَأْهِلُ الْعِنَايَةَ بِهِ لَا الْإِعْرَاضَ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّا يَسَّرْنَا فَهْمَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَأَعْرَضْتُمْ وَلَمْ تَعْقِلُوا مَعَانِيَهُ،

[سورة الزخرف (43) : آية 4]

لِأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِقْدَارٌ عَظِيمٌ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَقَلُوا، فَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ عَلَى طَريقَة الْكِنَايَة. [4] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 4] وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] ، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ ثَنَاءً ثَانِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ رِفْعَةً وَإِرْشَادًا. وأُمِّ الْكِتابِ: أَصْلُ الْكِتَابِ. وَالْمُرَادُ بِ أُمِّ الْكِتابِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [39] ، لِأَنَّ الْأُمَّ بِمَعْنَى الْأَصْلِ وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، أَيِ الْمُحَقَّقُ الْمُوَثَّقُ وَهَذَا كِنَايَةً عَنِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا عَهْدًا عَلَى طُولِ مُدَّةٍ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذِرُ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ ... قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَعلي أَصْلُهُ الْمُرْتَفِعُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِشَرَفِ الصِّفَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ. وحَكِيمٌ: أَصْلُهُ الَّذِي الْحِكْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَأْيِهِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِمَا يَحْوِي الْحِكْمَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَالْقَوَانِينِ الْمُقِيمَةِ لِنِظَامِ الْأُمَّةِ. وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْمَعَانِي هُوَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ وَصَدَرَ عَنْ عِلْمِهِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ هَذَا شَهَادَةً بِعُلُوِّ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ فِي الْيَمِينِ: اللَّهُ يَعْلَمُ، وَعلم اللَّهُ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ. ولَدَيْنا ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّهُ أَوْ مِنْ أُمِّ الْكِتابِ

[سورة الزخرف (43) : آية 5]

وَالْمَقْصُودُ: زِيَادَةُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَشْرِيفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي أُمِّ الْكِتابِ بِضَمِّ هَمْزَةِ أُمِّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ أُمِّ الْكِتابِ فِي الْوَصْلِ اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ فِي، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى فِي لَمْ يكسر الْهمزَة. [5] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 5] أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] ، أَيْ أَتَحْسَبُونَ أَنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَمَّا نَزَلَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَبْعَثُنَا عَلَى أَنْ نَقْطَعَ عَنْكُمْ تَجَدُّدَ التَّذْكِيرِ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِعَادَةُ تَذْكِيرِهِمْ وَكَانُوا قَدْ قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ مَا فِيهِ هَدْيُهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا، وَكَانَتْ إِعَادَةُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ مَوْسُومَةً فِي نَظَرِهِمْ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَ إِعْرَاضِهِمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي قَطْعِ الْإِرْشَادِ عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِهِمْ مُرِيدٌ لِصَلَاحِهِمْ لَا يَصُدُّهُ إِسْرَافُهُمْ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ زِيَادَةِ التَقَدُّمِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْهَدْيِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ نَضْرِبَ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا مِنْ جَرَّاءِ إِسْرَافِكُمْ. وَالضَّرْبُ حَقِيقَتُهُ قَرْعُ جِسْمٍ بِآخَرَ، وَلَهُ إِطْلَاقَاتٌ أَشْهَرُهَا: قَرَعَ الْبَعِيرَ بِعَصًا، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالصَّرْفِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ الْغَرَائِبَ عَنِ الْحَوْضِ، أَيْ أَطْرَدَهَا وَصَرَفَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِأَهْلِ الْمَاءِ، فَاسْتَعَارُوا الضَّرْبَ لِلصَّرْفِ وَالطَّرْدِ، وَقَالَ طَرَفَةُ: أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ (¬1) ¬

(¬1) (اضْرِب) فعل أَمر فهمزته همزَة وصل مَكْسُورَة. وَجَاء بِهِ مَفْتُوح الآخر على تَقْدِير نون التوكيد ضَرُورَة، و (طارقها) بدل من (الهموم) أَي الَّتِي تحدث لَك فِي اللَّيْل، و (القونس) عظم ناتىء بَين أُذُنِي الْفرس إِذا ضرب بِالسَّيْفِ فِي الْحَرْب هلك الْفرس، أَرَادَ: اضْرِب الهموم ضربا قَاطعا.

وَالذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ. وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحِ الْوَجْهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ تَرْكَ اسْتِمَاعِهِ وَتَرْكَ النَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ. وَانْتَصَبَ صَفْحاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي مَكَانِ صَفْحٍ، كَمَا يُقَالُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَفْحاً مَصْدَرَ صَفَحَ عَنْ كَذَا، إِذَا أَعْرَضَ، فَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالْإِعْرَاضِ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ الضَّائِرِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ «لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ فَتَكُونُ إِنْ شَرْطِيَّةً، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ أَنْ تَقَعَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ بِخِلَافِ (إِذَا) الَّتِي هِيَ لِلشَّرْطِ الْمُتَيَقَّنِ وُقُوعه، فالإتيان بإن فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لِقَصْدِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ الْمَعْلُومِ إِسْرَافُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي إِسْرَافِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ إِسْرَافَهُمْ وَفِي هَذَا ثِقَةٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى إِمْعَانِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى جَعْلِ إِنَّ مَصْدَرِيَّةً وَتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفًا، أَيْ لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ، أَيْ لَا نَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْرِفِينَ بَلْ لَا نَزَالُ نُعِيدُ التَّذْكِيرَ رَحْمَةً بِكُمْ. وَإِقْحَامُ قَوْماً قَبْلَ مُسْرِفِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْرَافَ صَارَ طَبْعًا لَهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [164] .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 إلى 8]

[سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 6 إِلَى 8] وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) لَمَّا ذَكَرَ إِسْرَافَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِصْغَاءِ لِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ وَأَعْقَبَهُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً عَمَّا يُلَاقِيهِ مِنْهُمْ فِي خِلَالِ الْإِعْرَاضِ مِنَ الْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ حَالَهُ فِي ذَلِكَ حَالُ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ وَسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ، ووعد للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى قَوْمِهِ بِتَذْكِيرِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهُمْ. وَجُعِلَ لِلتَّسْلِيَةِ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بِقَرِينَةِ الْعَدْلِ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِزَجْرِهِمْ عَنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ. فَجُمْلَةُ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى هُنَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وكَمْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ، وَمُوقِعُ كَمْ نَصْبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَرْسَلْنا، وَهُوَ مُلْتَزَمٌ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فَنُقِلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ. وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْإِخْبَارُ بِالْكَثْرَةِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي كَمْ. وَالدَّاعِي إِلَى اجْتِلَابِ اسْمِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِ هَذَا الْحُكْمِ أَدْخَلُ فِي زَجْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ وَأَدْخَلُ فِي تَسْلِيَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْصِيلِ صَبْرِهِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ تُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا تَتَخَلَّفُ، وَذَلِكَ أَزْجَرُ وَأَسْلَى. والْأَوَّلِينَ جَمْعُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِينَ السَّابِقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] فَإِنَّ الَّذِينَ أُهْلِكُوا قَدِ انْقَرَضُوا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ خَلَفَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ

نَبِيءٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا يُقَارِنُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ إِتْيَانَ ذَلِكَ النَّبِيءِ إِلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ. وَضَمِيرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُسْرِفِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطَابُهُمْ فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسَالِ خِطَابِهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَبْلُغُهُمْ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَظْهَرُ أَنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الْإِضْمَارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الِالْتِفَاتِ فِي الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَنَاطَ الِالْتِفَاتِ هُوَ اتِّحَادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأَتِّي الِاقْتِصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ الْأُولَى، وَهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضَى نَقْلِ الْإِضْمَارِ، وَلَا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً بِازْدِيَادِ مُقْتَضَيَاتِهَا. وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنَا الْتِفَاتٌ وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شَارِحُوهُ، وَلَكِن الْعَلامَة التفتازانيّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِيهِ الضَّمِيرَانِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالٌ، وَخُصُوصِيَّاتُ الْبَلَاغَةِ وَاسِعَةُ الْأَطْرَافِ. وَالَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَنْ يَأْتِيهم من نبيء. وَهَذَا تَرْتِيب بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَقْتَضِي كَلَامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلَا نَعْجِزُ عَن إهلاك هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَهُمْ أَقَلُّ بَطْشًا. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: 13] .

[سورة الزخرف (43) : آية 9]

وَالْبَطْشُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ. وَانْتَصَبَ بَطْشاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْأَشُدِّيَّةِ. ومَثَلُ الْأَوَّلِينَ حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ. وَمَعْنَى مَضى: انْقَرَضَ، أَيْ ذَهَبُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَمُضِيِّ الْمَثَلِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّ مُضِيَّ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِمُضِيِّ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: 45] . وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: فِي الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ إِظْهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ صَرِيحًا وَجَارِيًا مجْرى الْمثل. [9] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 9] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6] مُوَجَّهًا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّسْلِيَةِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، عَطَفَ عَلَيْهِ خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الْآيَةَ، لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ عَجَبًا مَعَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُ خَالِقِ الْعَابِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَوْ سَأَلَهُمْ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ خَالِقِ الْخَلْقِ لَمَا اسْتَطَاعُوا غَيْرَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَجُمْلَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6] عَطْفَ الْغَرَضِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِإِقْرَارِهِمُ الضِّمْنِيِّ: أَنَّ أَصْنَامَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ صِفَةِ اسْتِحْقَاقِ أَنْ تُعْبَدَ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ وَلَامِ الْجَوَابِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ تَنْزِيلًا لِغَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ، وَهَذَا التَّنْزِيلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَدَارَةِ حَالَتِهِمْ بِالتَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْكَشْفَ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ فِي صُورَةِ سُؤَالِهِمْ عَنْ خَالِقِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي

[سورة الزخرف (43) : آية 10]

مَجْرَى أَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ حَتَّى إِذَا سَأَلَهُمُ السَّائِلُ عَنْ خَالِقِهِمْ لَمْ يَتَرَيَّثُوا أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّهُ اللَّهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ. وَتَاءُ الْخِطَابِ فِي سَأَلْتَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ التَّسْلِيَةِ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ يَتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ. والْعَزِيزُ الْعَلِيمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ مِنْ مَقُولِ جَوَابِهِمْ وَإِنَّمَا حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِالْمَعْنَى، أَيْ لَيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الَّذِي الصِّفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَقُولُونَ: خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [25] ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. وَذَلِكَ هُوَ المستقرى مِنْ كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَشِعْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِنَّمَا عدل عَن اسْم الْعَلِيِّ إِلَى الصِّفَتَيْنِ زِيَادَةً فِي إِفْحَامِهِمْ بِأَنَّ الَّذِي انْصَرَفُوا عَنْ تَوْحِيدِهِ بِالْعِبَادَةِ عَزِيزٌ عَلِيمٌ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَرْجُوَهُ النَّاسُ لِلشَّدَائِدِ لِعِزَّتِهِ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ بَاطِنَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرُّهُمْ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمْ فَإِنَّهَا أَذِلَّةٌ لَا تَعْلَمُ، وَإِنَّهُمْ لَا يُنَازَعُونَ وَصْفَهُ بِ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. وَتَخْصِيصُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِصِفَاتِ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ عَاجِزَةٌ عَنْ دَفْعِ الْأَيْدِي. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَإِنْ سَأَلْتَهُمْ: أَهْوَ الْعَزِيز الْعَلِيم. [10] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 10] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) هَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ تَخَلُّصٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِسْدَاءِ النِّعَمِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَوَدِ حَيَاةِ النَّاسِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: 9] الْآيَةَ وَجُمْلَةِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: 15] الْآيَةَ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْوَارِدِ عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاجْتِلَابُ الْمَوْصُولِ لِلِاشْتِهَارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَسَاوَى الِاسْمَ الْعَلَمَ فِي الدَّلَالَةِ. وَذُكِرَتْ صِلَتَانِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ لَكُمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 6، 7] لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِنْشَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ إِعَادَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا شَيْئًا عَجِيبًا. وَلَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعَانِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ إِذْ كِلْتَاهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَجَعْلُهُمَا كَجَعْلٍ وَاحِدٍ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الْأَحَدَ عَشَرَ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْله مُقْرِنِينَ [الزخرف: 10- 13] لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْمِهَادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ، أَيْ يُوَطَّأُ وَيُسَهَّلُ لِمَا يَحِلُّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [41] . وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ جَعَلَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا وَذَلِكَ الِانْبِسَاطُ لِنَفْعِ الْبَشَرِ السَّاكِنِينَ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ جِسْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُرَوِيَّتَهَا لَيْسَتْ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مَهْداً بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمِهَادُ. وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَيُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلَى وَسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 44] . وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُهَا، وَهِيَ السُّهُولُ وَسُفُوحُ الْجِبَالِ وَشِعَابُهَا، أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ كُلَّهَا

[سورة الزخرف (43) : آية 11]

جِبَالًا فَيَعْسُرَ عَلَى الْمَاشِينَ سُلُوكُهَا، بَلْ جَعَلَ فِيهَا سُبُلًا سَهْلَةً وَجَعَلَ جِبَالًا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَلِأَنَّ الْأَرْضَ صَالِحَةٌ لِاتِّخَاذِ طُرُقٍ مَطْرُوقَةٍ سَابِلَةٍ. وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهِ تِلْكَ الطُّرُقَ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاتِّبَاعَ بَعْضِهِمْ آثَارَ بَعْضٍ حَتَّى تَتَعَبَّدَ الطُّرُقُ لَهُمْ وَتَتَسَهَّلَ وَيَعْلَمَ السَّائِرُ، أَيَّ تِلْكَ السُّبُلِ يُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ. وَفِي تَيْسِيرِ وَسَائِلِ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ بِهِ تَيْسِيرَ التَّجَمُّعِ وَالتَّعَارُفِ وَاجْتِلَابَ الْمَنَافِعِ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَى دَفْعِ الْغَوَائِلِ وَالْأَضْرَارِ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْمَدَنِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ النَّاسِ مِنَ النَّبَاتِ وَالثَّمَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَالْكَمْأَةِ وَالْفَقْعِ وَهِيَ وَسَائِلُ الْعَيْشِ فَهِيَ سُبُلٌ مَجَازِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ طه. وَالِاهْتِدَاءُ: مُطَاوِعُ هَدَاهُ فَاهْتَدَى. وَالْهِدَايَةُ حَقِيقَتُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الدَّالُّ عَلَى الطَّرَائِقِ هَادِيًا، وَتُطْلَقُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ وَمِنْهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ رَجَاءَ حُصُولِ عِلْمِكُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . وَمَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، مَثَّلَ حَالَ مَنْ كَانَتْ وَسَائِلُ الشَّيْءِ حَاضِرَةً لَدَيْهِ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى لِحُصُولِ المتوسل إِلَيْهِ. [11] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 11] وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْعَيْشِ فِيهَا، وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ تُنْبِتُ الْأَرْضُ مَا يصلح لاقيات النَّاسِ. وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ اهْتِمَامًا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً فَلَا يَخْطُرُ حُضُورُهَا بِالْبَالِ عِنْدَ حُظُورِ الصِّلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا فِي الْجَامِعِ

الْخَيَالِيِّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ وَغَيْرِهَا فَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ مِصْدَاقَهُ هُوَ فَاعِلُ جَمِيعِهَا. وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْيَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَيْفَ نُنْشِزُها [الْبَقَرَة: 259] بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَتَلَا ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] فَأَصْلُ الْهَمْزَةِ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ نَشَرَ بِمَعْنَى حَيِيَ، يُقَالُ: نَشَرَ الْمَيِّتُ، بِرَفْعِ الْمَيِّتِ قَالَ الْأَعْشَى: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَأَصْلُ النَّشْرِ بَسْطُ مَا كَانَ مَطْوِيًّا وَتَفَرَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَعَانِي الْإِعَادَةِ وَالِانْتِشَارِ. وَالنَّشْرُ هُنَا مَجَازٌ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لِلْأَرْضِ مَجَازٌ، وَزَادَهُ حُسْنًا هُنَا أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِ: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَضَمِيرُ فَأَنْشَرْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَالْمَيِّتُ ضِدُّ الْحَيِّ. وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ مَجَازٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] . وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْبَلْدَةُ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ بِالْمَيِّتِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْوَصْفِ الَّذِي أَصْلُهُ مَصْدَرٌ نَحْوَ: عَدْلٌ وَزُورٌ فَحَسُنَ تَجْرِيدُهُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ. وَجُمْلَةُ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، بِمُنَاسَبَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ فِي بَعْضِهَا دَلَالَةٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ إِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الِانْتِشَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَأَنْشَرْنا، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ تُخْرَجُونَ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ فَنَائِكُمْ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِحْدَاثُ الْحَيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ إِظْهَارُ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 12 إلى 14]

فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُخْرَجُونَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ تُخْرَجُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْمعْنَى وَاحِد. [12- 14] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 12 إِلَى 14] وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) هَذَا الِانْتِقَالُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْحَيَاةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الِاكْتِسَابِ لِصَلَاحِ الْمَعَاشِ، وَذَكَرَ مِنْهَا وَسَائِلَ الْإِنْتَاجِ وَأَتْبَعَهَا بِوَسَائِلِ الِاكْتِسَابِ بِالْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاحِدُ ثَانِيًا، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ زَوْجٌ لِلْآخَرِ مِثْلَ الشَّفْعِ. وَغُلِّبَ الزَّوْجُ عَلَى الذَّكَرِ وَأُنْثَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [143] ، وَتُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ الزَّوْجُ عَلَى الصِّنْفِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: 3] . وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا، وَفِي أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ مَنَافِعُ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا وَنِتَاجِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُتَبَادَرُ من الْأزْوَاج بادىء النَّظَرِ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ وَكَانَ مِنْ أَهَمِّهَا عِنْدَهُمُ الرَّوَاحِلُ عَطَفَ عَلَيْهَا مَا هُوَ مِنْهَا وَسَائِلُ لِلتَّنَقُّلِ بَرَّا وَأَدْمَجَ مَعَهَا وَسَائِلَ السَّفَرِ بَحْرًا. فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ فَالْمُرَادُ بِ مَا تَرْكَبُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ هُوَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا وَسِيلَةُ الْأَسْفَارِ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42] وَقَدْ قَالُوا: الْإِبِلُ سَفَائِنُ الْبَرِّ.

وَجِيءَ بِفِعْلِ جَعَلَ مُرَاعَاةً لِأَنَّ الْفُلْكَ مَصْنُوعَةٌ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً، وَالْأَنْعَامُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِشُمُولِ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَزْواجَ إِيَّاهَا. وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهُ الْفُلْكَ وَالْأَنْعَامَ مَرْكُوبَةً: أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةَ التَّفْكِيرِ الَّتِي يَنْسَاقُ بِهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَوْجُودَاتِ فِي نَفْعِهِ فَاحْتَالَ كَيْفَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَيَرْكَبُ فِيهَا وَاحْتَالَ كَيْفَ يُرَوِّضُ الْأَنْعَامَ وَيَرْكَبُهَا. وَقَدَّمَ الْفُلْكَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظُ الْأَزْوَاجِ فَذِكْرُهَا ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى وَلَوْ ذَكَرَ الْأَنْعَامَ لَكَانَ ذِكْرُهُ عَقِبَ الْأَزْوَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَادَةِ. فَلَمَّا ذَكَرَ الْفُلْكَ بِعُنْوَانِ كَوْنِهَا مَرْكُوبًا عَطَفَ عَلَيْهَا الْأَنْعَامَ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ مُتَرَقَّبًا لِلنَّفْسِ لِمُنَاسَبَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ إِذْ أَعْقَبَ ذِكْرَ رُكُوبِ الْجَوَادِ بِذِكْرِ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يُعْقِبْهُ بَقَوْلِهِ: وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً، لِاخْتِلَافِ حَالِ الرُّكُوبَيْنِ: رُكُوبِ اللَّذَّةِ وَرُكُوبِ الْحَرْبِ. وَالرُّكُوبُ حَقِيقَتُهُ: اعْتِلَاءُ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْفُلْكِ لِتَشْبِيهِهِمُ الْفُلْكَ بِالدَّابَّةِ بِجَامِعِ السَّيْرِ فَرُكُوبُ الدَّابَّةِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَرُكُوبُ الْفُلْكِ يَتَعَدَّى بِ (فِي) لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصِيلِ وَاللَّاحِقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [41] . ومِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ. وَحَذَفَ عَائِدَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَفْعُولُ تَرْكَبُونَ هُنَا مُبَيَّنًا بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَانَ حَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى إِلَى أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِ (فِي) فَغَلَبَتِ التَّعْدِيَةُ الْمُبَاشِرَةُ عَلَى التَّعْدِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، وَحَذَفَ الْعَائِدَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ التَّغْلِيبِ. وَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ تَرْكَبُونَ هُنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَالِاسْتِوَاءُ الِاعْتِلَاءُ. وَالظُّهُورُ: جَمْعُ ظَهْرٍ، وَالظَّهْرُ مِنْ عَلَائِقِ الْأَنْعَامِ لَا مِنِِْ

عَلَائِقِ الْفُلْكِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّغْلِيبِ. وَالْمَعْنَى: عَلَى ظُهُورِهِ وَفِي بُطُونِهِ. فَضَمِيرُ ظُهُورِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ الصَّادِقِ بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْبَيَانِ، عَلَى أَنَّ السَّفَائِنَ الْعَظِيمَةَ تَكُونُ لَهَا ظُهُورٌ، وَهِيَ أَعَالِيهَا الْمَجْعُولَةُ كَالسُّطُوحِ لِتَقِيَ الرَّاكِبِينَ الْمَطَرَ وَشِدَّةَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ. وَلِذَلِكَ فَجَمْعُ الظُّهُورِ مِنْ جَمْعِ الْمُشْتَرِكِ وَالتَّعْدِيَةُ بِحَرْفِ عَلى بُنِيَتْ عَلَى أَنَّ لِلسَّفِينَةِ ظَهْرًا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: 28] . وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِمَنَافِعِهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا. وَأَجْدَرُ بِعَدَمِ الذُّهُولِ عَنْهَا، أَيْ جَعَلَ لَكُمْ ذَلِكَ نِعْمَةً لِتَشْعُرُوا بِهَا فَتَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، فَالذِّكْرُ هُنَا هُوَ التَّذَكُّرُ بِالْفِكْرِ لَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ تَقَلَّبُوا فِي نَعَمِ اللَّهِ وَشَكَرُوا غَيْرَهُ إِذِ اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُ فِي الْأَنْعَامِ. وَذِكْرُ النِّعْمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ شُكْرِهَا لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَازِمٌ لِلْإِنْعَامِ عُرْفًا فَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ إِلَّا نِسْيَانُهُ فَإِذَا ذَكَرَهُ شَكَرَ النِّعْمَةَ. وَعَطَفَ عَلَى تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ قَوْلَهُ: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا، أَيْ لِتَشْكُرُوا اللَّهَ فِي نُفُوسِكُمْ وَتُعْلِنُوا بِالشُّكْرِ بِأَلْسِنَتِكُمْ، فَلَقَّنَهُمْ صِيغَةَ شُكْرٍ عِنَايَةً بِهِ كَمَا لَقَّنَهُمْ صِيغَةَ الْحَمْدِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَصِيغَةَ الدُّعَاءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَافْتَتَحَ هَذَا الشُّكْرَ اللِّسَانِيَّ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلثَّنَاءِ إِذِ التَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ بِالصَّرِيحِ وَيَدُلُّ ضِمْنًا عَلَى إِثْبَاتِ الْكِمَالَاتِ لِلَّهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ. وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ التَّسْبِيحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَمْدُ الَّذِي أَفَادَهُ التَّسْبِيحُ شُكْرًا لِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ التَّسْخِيرِ لَنَا.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَرْكُوبِ حِينَمَا يَقُولُ الرَّاكِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سفينة. والتسخير: التذييل وَالتَّطْوِيعُ. وَتَسْخِيرُ اللَّهِ الدَّوَابَّ هُوَ خَلْقُهُ إِيَّاهَا قَابِلَةً لِلتَّرْوِيضِ فَاهِمَةً لِمُرَادِ الرَّاكِبِ، وَتَسْخِيرُ الْفُلْكِ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ الْبَحْرِ صَالِحًا لَسَبْحِ السُّفُنِ عَلَى مَائِهِ، وَخَلْقِ الرِّيَاحَ تَهُبُّ فَتَدْفَعُ السُّفُنَ عَلَى الْمَاءِ، وَخَلْقِ حِيلَةِ الْإِنْسَانِ لِصُنْعِ الْفُلْكِ، وَرَصْدِ مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَوَضْعِ الْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ دُونَ أَنْ تَبْلُغَ اسْتِخْدَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ. وَلِهَذَا عَقَّبَ بَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ، أَيْ بِمُجَرَّدِ الْقُوَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، أَيْ لَوْلَا التَّسْخِيرُ الْمَذْكُورُ، فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَنا أَيْ سَخَّرَهَا لَنَا فِي حَالِ ضَعْفِنَا بِأَنْ كَانَ تَسْخِيرُهُ قَائِمًا مَقَامَ الْقُوَّةِ. وَالْمُقْرِنُ: الْمُطِيقُ، يُقَالُ: أَقْرَنَ، إِذَا أَطَاقَ، قَالَ عَمْرو بن معديكرب: لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ ... لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا وَخُتِمَ هَذَا الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَى اللَّهِ، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْبَعْثِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِتَلْقِينِهِمُ الْإِقْرَارَ بِالْبَعْثِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِسُؤَالِ إِرْجَاعِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَاتِ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرْجَى لِإِرْجَاعِ الْمُسَافِرِ سَالِمًا إِلَى أَهْلِهِ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُفَارِقُهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْزِيهِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ وَبِنِسْبَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَشْكُرُوا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَمْ تَفْعَلُوا، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَكَّدَ الْخَبَرَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا شَكَرُوا لِلَّهِ مَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 15]

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا مُلَاحِظًا لِلْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ نَاظِرًا لِتَقَلُّبَاتِ الْحَيَاةِ نَظَرَ الْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِبَسَائِطِ الْأُمُورِ على عظيمها. [15] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 15] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) هَذَا مُتَّصِلٌ بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: 9] أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنْ خَالِقِ الْأَشْيَاءِ لَيَعْتَرِفُنَّ بِهِ وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ جُزْءًا. فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَمَعْنَى الْحَالِ تُفِيدُ تَعْجِيبًا مِنْهُمْ فِي تَنَاقُضِ آرَائِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَقَلْبِهِمُ الْحَقَائِقَ، وَهِيَ غَبَارَةٌ فِي الرَّأْيِ تَعْرِضُ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ عَقَائِدَهُمْ مِنْ مُخْتَلِفِ آرَاءِ الدُّعَاةِ فَيَجْتَمِعُ لِلْمُقَلِّدِ مِنْ آرَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي النَّظَرِ مَا لَوِ اطَّلَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَأَبْطَلَهُ أَوْ رَجَعَ عَنِ الرَّأْيِ الْمُضَادِّ لَهُ. فَالْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ إِلَهًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ، وَالْبُنُوَّةُ تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لِخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَنَاتٌ فَهُنَّ لَا مَحَالَةَ مَخْلُوقَاتٌ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنَّ مَخْلُوقَاتٍ لَزِمَ أَنْ يَكُنَّ مَوْجُودَاتٍ بِوُجُودِهِ فَكَيْفَ تَكُنَّ بَنَاتِهِ. وَإِلَى هَذَا التَّنَاقُضِ الْإِشَارَةُ بَقَوْلِهِ: مِنْ عِبادِهِ أَيْ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ لَيْسَتِ الْعُبُودِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا عُبُودِيَّةَ الْمَخْلُوقِ جُزْءًا، أَيْ قِطْعَةً. وَالْجُزْءُ: بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ. وَالْوَلَدُ كَجُزْءٍ مِنَ الْوَالِدِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْوَلَدِ: بَضْعَةٌ. فَهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ اعْتِقَادِ حُدُوثِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا عِبَادُ اللَّهِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَتْ عَقِيدَةُ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفَةً لَهُمْ وَمَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجُزْءِ:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 16 إلى 17]

الْبَنَاتِ، لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ أُمَّهَاتُهُمْ سَرَوَاتُ الْجِنِّ، أَيْ شَرِيفَاتُ الْجِنِّ فَسَرَوَاتُ جَمْعُ سُرِّيَّةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُبَرِّدَ قَالَ: الْجُزْءُ هَاهُنَا الْبَنَاتُ، يُقَالُ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. وَفِي «اللِّسَانِ» عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: أَنْشَدْتُ بَيْتًا فِي أَنَّ مَعْنَى جُزْءِ مَعْنَى الْإِنَاثِ وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ أَقَدِيمٌ أَمْ مَصْنُوعٌ، وَهُوَ: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبٌ ... قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارُ أَحْيَانًا وَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» : أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ، وَفِي «اللِّسَانِ» أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ: زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً ... لِلْعَوْسَجِ الرَّطْبِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ. وَجَزَمَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ وَأَنَّ الْبَيْتَيْنِ مَصْنُوعَانِ. وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ على الشَّيْء بوصفه حُكْمًا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فَكَأَنَّهُ صُنْعٌ بِالْيَدِ وَالصُّنْعُ بِالْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجَعْلُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تَذْيِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنْكَارِ مَا زَعَمُوهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ شَدِيدٌ. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ خَاصَّةً. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ كُفْرَهُ فِي أَقْوَالِهِ الصَّرِيحَةِ فِي كُفْرِ نعْمَة الله. [16، 17] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 16 إِلَى 17] أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَمِ لِلْإِضْرَابِ وَهُوَ هُنَا انْتِقَالِيٌّ لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَزِمَهُ من انتقاص حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنِِِ

انْتِقَاصٍ يُنَافِي الْكَمَالَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَبْنَاءً إِنَاثًا وَهَلَّا جَعَلُوهَا ذُكُورًا. وَلَيْسَتْ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ عَنِ الْفَسَادِ الْمُنْجَرِّ إِلَى معتقدهم بالطريقين لِأَنَّ الْإِبْطَالَ الْأَوَّلَ نَظَرِيٌّ يَقِينِيٌّ وَالْإِبْطَالُ الثَّانِي جَدَلِيٌّ بَدِيهِيٌّ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْم: 21، 22] . فَهَذِهِ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ عَلَيْهِمْ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ. وَلَمَّا ادَّعَتْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ النُّبُوءَةَ فِي بَنِي تَمِيمٍ أَيَّامَ الرِّدَّةِ وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَطَلِيحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ التَّمِيمِيُّ: أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا وَأُوثِرَ فِعْلُ اتَّخَذَ هُنَا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِاتِّخَاذَ بِالْوِلَادَةِ، أَيْ بِتَكْوِينِ الِانْفِصَالِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُزَاوَجَةِ مَعَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَيَشْمَلُ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّبَنِّي فَعَلَى كِلَا الْفَرْضَيْنِ يَتَوَجَّهُ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ لِلَّهِ أَدْوَنَ مِمَّا هُوَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْل: 62] . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بِإِبْطَالِ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَنَّى الْمَلَائِكَةَ، سَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَابَ التَّأَوُّلِ وَالتَّنَصُّلِ مِنْ فَسَادِ نِسْبَتِهِمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا التَّبَنِّيَ، كَمَا تَنَصَّلُوا حِينَ دَمَغَتَهُمْ بَرَاهِينُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ فَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، وَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا هُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَتَسَلُّطُ الْإِنْكَارِ عَلَى اتِّخَاذِ الْبَنَاتِ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْبَنَاتِ لِكَوْنِ الْمَعْلُومِ مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ جُزْءًا أَنَّ الْمَجْعُولَ جُزْءًا لَهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالنَّفْيُ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ مُنْصَبٌّ إِلَى قَيْدِ الْحَالِ، فَحَصَلَ

إِبْطَالُ اتِّخَاذِ اللَّهِ الْبَنَاتِ بِدَلِيلَيْنِ، لِأَنَّ إِعْطَاءَهُمُ الْبَنِينَ وَاقِعٌ فَنَفْيُ اقْتِرَانِهِ بِاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ اتِّخَاذِهِ الْبَنَاتِ فَالْمَقْصُودُ اقْتِرَانُ الْإِنْكَارِ بِهَذَا الْقَيْدِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الْوَاوَ فِي جُمْلَةِ وَأَصْفاكُمْ لَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ أَصْفَاهُمْ بِالْبَنِينِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخِطَابُ فِي وَأَصْفاكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ لِمُوَاجَهَتِهِمْ بِهِ. وَتَنْكِيرُ بَناتٍ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَأما تَعْرِيف بِالْبَنِينَ بِاللَّامِ فَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] . وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمُ الْمُتَنَافَسِ فِي وُجُودِهِ لَدَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [49] . وَتَقْدِيمُ الْبَنَاتِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْبَنِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُنَّ أَهَمُّ هُنَا إِذْ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [40] . وَلِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَحْقِيرِهِمُ الْبَنَاتِ وَتَطَيُّرِهِمْ مِنْهُنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّورَى. وَالْإِصْفَاءُ: إِعْطَاءُ الصَّفْوَةِ، وَهِيَ الْخِيَارُ مِنْ شَيْءٍ. وَجُمْلَةُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي وأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَحَدُهُمْ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِيَكُونُوا مَحْكِيًّا حَالَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ فَسَادِ مَقَالَتِهِمْ وَتَشْنِيعًا بِهَا إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ دُونَ الذُّكُورِ وَهُوَ نَقْصٌ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكْرَهُ الْبَنَاتِ وَيُحَقِّرُهُنَّ فَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِجَانِبِ الإلهية. وَالْمعْنَى: أأتّخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ اللَّهُ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي حَالِ أَنَّكُمْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُكُمْ بِمَا ضربه للرحمان مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.

[سورة الزخرف (43) : آية 18]

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَجُمْلَة أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: 18] . وَاسْتِعْمَالُ الْبِشَارَةِ هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: 2] لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إِعْلَامٌ بِحُصُولِ أَمْرٍ مُسَرٍّ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا مَوْصُولَةٌ، أَيْ بُشِّرَ بِالْجِنْسِ الَّذِي ضَرَبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مَثَلًا وَشَبَهًا لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ جَعَلُوا جِنْسَ الْأُنْثَى جُزْءًا لِلَّهِ، أَيْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ فَالْمُبَشَّرُ بِهِ جِنْسُ الْأُنْثَى، وَالْجِنْسُ لَا يَتَعَيَّنُ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ بُشِّرَ بِمِثْلِ مَا ضربه للرحمان مَثَلًا. وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ. وَالضَّرْبُ: الْجَعْلُ وَالصُّنْعُ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّينَارِ، وَقَوْلُهُمْ: ضَرْبَة لازب، فَمَا صدق بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا هُوَ الْإِنَاثُ. وَمَعْنَى ظَلَّ هُنَا: صَارَ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ النَّاقِصَةَ الْخَمْسَةَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا بَابُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ. وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْغَيْظِ إِذْ يَصْعَدُ الدَّمُ إِلَى الْوَجْهِ فَتَصِيرُ حُمْرَتُهُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمَعْنَى: تَغَيَّظَ. وَالْكَظِيمُ: الْمُمْسِكُ، أَيْ عَنِ الْكَلَامِ كربا وحزنا. [18] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 18] أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) عَطْفُ إِنْكَارٍ عَلَى إِنْكَارٍ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ وَأَصْلُ التَّرْتِيبِ: وَأَمَنْ يُنَشَّأُ. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْإِنْكَارِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ أَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: 16] . وَلِذَلِكَ يكون مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ اتَّخَذَ

فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: 16] . وَالتَّقْدِيرُ: أَاتَّخَذَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بَناتٍ بَدَلًا مُطَابِقًا وَأُبْرِزَ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ حُذِفَ مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَإِذْ كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى حُكْمِ الْخَبَرِ كَانَ مُوجِبُ الْإِنْكَارِ الثَّانِي مُغَايِرًا لِمُوجِبِ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوف بِمَا لوصفين اللَّذَيْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْإِنْكَارُ مَوْصُوفًا وَاحِدًا وَهُوَ الْأُنْثَى. وَنَشْءُ الشَّيْءِ فِي حَالَةٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مُقَارِنًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فَتَكُونَ لِلشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ. وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ حَرْفُ فِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ فَمَعْنَى مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ تُجْعَلُ لَهُ الْحِلْيَةُ مَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ كَوْنِهِ وَلَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّ الْبِنْتَ تُتَّخَذُ لَهَا الْحِلْيَةُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهَا وَتُسْتَصْحَبُ فِي سَائِرِ أَطْوَارِهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا شُقَّتْ طَرَفَا أُذُنَيْهَا لِتُجْعَلَ لَهَا فِيهِمَا الْأَقْرَاطُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَلَا يُحَلَّى بِمِثْلِ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَدَامُ لَهُ. وَالنَّشْءُ فِي الْحِلْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّعْفِ عَنْ مُزَاوَلَةِ الصِّعَابِ بِحَسَبِ الْمُلَازَمَةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي اتِّخَاذِ اللَّهِ بَنَاتٍ لَا غَنَاءَ لَهُنَّ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِاتِّخَاذِهَا زِيَادَةُ عِزَّةٍ، بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِهِمْ، فَهَذَا احْتِجَاجٌ إِقْنَاعِيٌّ خِطَابِيٌّ. والْخِصامِ ظَاهِرُهُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَازَعَةُ بِالْكَلَامِ وَالْمُحَاجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى إِبَانَةِ حُجَّتِهَا. وَعَنْ قَتَادَةَ: مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا حُجَّةٌ إِلَّا جَعَلَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَعنهُ: مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ هُنَّ الْجَوَارِي يُسَفِّهُهُنَّ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّهُنَّ غَيْرُ قَوَادِرَ عَلَى الِانْتِصَار بالْقَوْل فبلأولى لَا يَقْدِرْنَ عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، أَيْ فَلَا جَدْوَى لِاتِّخَاذِهِنَّ أَوْلَادًا. وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يُحْمَلَ الْخِصَامُ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالدِّفَاعِ بِالْيَدِ فَإِنَّ الْخَصْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَارِبِ، قَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: 19] فُسِّرَ بِأَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.

[سورة الزخرف (43) : آية 19]

فَمَعْنَى غَيْرُ مُبِينٍ غَيْرُ مُحَقِّقِ النَّصْرِ. قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ: «وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدِ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ» . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا فَضْحُ مُعْتَقَدِهِمُ الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَإِلَّا لَكَانُوا حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بُنُوَّةً أَنْ لَا يَجْعَلُوا لَهُ بُنُوَّةَ الْإِنَاثِ وَهُمْ يَعُدُّونَ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَاتٍ مُسْتَضْعَفَاتٍ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ. والْحِلْيَةِ: اسْمٌ لِمَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُون مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [النَّحْل: 14] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْشَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ يُنَشَّؤُا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ: يُعَوِّدُهُ عَلَى النَّشْأَةِ فِي الْحِلْية ويربّى. [19] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 19] وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) عَطْفٌ عَلَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: 15] ، أُعِيدَ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: 16] لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بَقَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ اسْتِقْرَاءً لِإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ إِذْ أُبْطِلَ ابْتِدَاءً بِمُخَالَفَتِهِ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِمُخَالَفَتِهِ لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالِ، فَكَمُلَ هُنَا إِبْطَالُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ لِدَلِيلِ الْحِسِّ. وَجُمْلَةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ عِنْدَ بِعَيْنٍ فَنُونٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ، أَيِ الَّذِينَ هُمْ مَعْدُودُونَ فِي حَضْرَةِ الْقُدْسِ الْمُقَدَّسَةِ بِتَقْدِيسِ اللَّهِ فَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ بِدُونِ وَسَاطَةٍ وَهُمْ دَائِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 19]

وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَاف: 206] وَمِنْهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» الْحَدِيثَ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ وَالْقَرِينَةُ هِيَ شَأْن من أضيف إِلَيْهِ عِنْدَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عِبادُ الرَّحْمنِ بِعَيْنٍ وَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ دَالٌ مَضْمُومَةٌ عَلَى مَعْنَى: الَّذِينَ هُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى اسْم الرحمان تُفِيدُ تَشْرِيفَهُمْ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ عُبُودِيَّةُ الْقُرْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: 9] . وَجُمْلَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ وَجُمْلَةِ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مَضْمُومَةٌ وَسُكُونِ شِينِ أَشَهِدُوا مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ وَكَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الْهَمْزَتَيْنِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ دُونَ صِيغَةِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَلْقُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْضُرُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِحُضُورِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ لِجِبْرِيلَ حِينَ يَسْتَفْتِحُ» مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ وَفَتَحَ لَهُ» . وَالْمَعْنَى: أَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْف: 51] . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَشِينٍ مَفْتُوحَةٍ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، فَالْهَمْزَةُ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ شَهِدَ، أَيْ مَا حَضَرُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: 150] . وَجُمْلَةُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ لِأَنَّ

[سورة الزخرف (43) : آية 20]

ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَعِيدِ. وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوَعُّدِ. وَكِتَابَةُ الشَّهَادَةِ كِنَايَةٌ عَن تحقق الْعقَاب عَلَى كَذِبِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا [آل عمرَان: 181] . والسّين فِي سَتُكْتَبُ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ. وَالْمُرَادُ بِشَهَادَتِهِمْ: ادِّعَاؤُهُمْ أَن الْمَلَائِكَة إِنَاثًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا شَهَادَةً تَهَكُّمًا بِهِمْ. وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَهْدِيدٍ وَإِنْذَارٍ بِالْعِقَابِ وَلَيْسَ مِمَّا يُتَطَلَّبُ عَنْهُ جَوَابٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إنّك مَنْسُوب ومسؤول أَي مسؤول عَمَّا سَبَقَ مِنْكَ مِنَ التَّكْذِيبِ الَّذِي هُوَ مَعْلُوم للسَّائِل. [20] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 20] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِأَنْ تُعْبَدَ. فَحُكِيَ هُنَا مَا اسْتَظْهَرُوهُ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ عِنْدَ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ يَرُومُونَ بِهَا إفحام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، أَيْ لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ نَعْبُدَهَا لَكَانَ اللَّهُ صَرَفَنَا عَنْ أَنْ نَعْبُدَهَا، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا قَاطِعٌ لجدال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ دِينِهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْحَوَادِثِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي مَا عَبَدْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْغَالِبُ، وَأَقْوَامٌ مِنْهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: 41] . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَأَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ مِثْلَ بَنِي مُلَيْحٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ. فَضَمِيرُ جَمْعِ

الْمُذَكِّرِ تَغْلِيبٌ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا فَلَوْ أَرَادُوا الْمَلَائِكَةَ لَقَالُوا مَا عَبَدْنَاهَا أَو مَا عَبدنَا هنّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطَبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مُعَادَ الضَّمِير الْمَلائِكَةَ [الزخرف: 19] وَلَعَلَّهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ: إِنَّهُمْ إِنَاثٌ وَلَيْسَ اقْتِرَانُ كَلَامٍ بِكَلَامٍ بِمُوجِبٍ اتِّحَادَ مَحْمَلَيْهِمَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ بعيد من اللَّفْظِ لِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِنَ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا طَوَائِفُ قَلِيلَةٌ عَبَدُوا الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ مَعَ الْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ الدِّيَانَةَ الْعَامَّةَ لِلْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مَثَارُهَا تَخْلِيطُ الْعَامَّةِ وَالدَّهْمَاءِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ والإرادة، وَبَين الرضى وَالْمَحَبَّةِ، فَالْعَرَبُ كَانُوا يَقُولُونَ: شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ طَرَفَةُ: فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ تَخْلِيطًا بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِوُقُوعِ شَيْءٍ، وَبَيْنَ مَشِيئَتِهِ الَّتِي قَدَّرَهَا فِي نِظَامِ الْعَالَمِ مِنْ إِنَاطَةِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَاتِّصَالِ الْآثَارِ بِمُؤَثِّرَاتِهَا الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ بِقَدَرٍ حِينَ كَوَّنَ الْعَالَمَ وَنَظَّمَهُ وَأَقَامَ لَهُ سُنَنًا وَنَوَامِيسَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَدَارِهَا إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَلْبَ نُظُمِهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى. فَمَشِيئَةُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا أَقَامَهُ مِنْ نِظَامِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَأَهْلِهِ. وَمَشِيئَتُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي تَدُلُّ عَلَيْهَا شرائعه الْمَبْعُوث بِهَا رُسُلُهُ. وَهَذَا التَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ هُوَ مَثَارُ خَبْطِ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَثَارُ حَيْرَةِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْقُصُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَالْخِطَابِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [148] . وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّادِر مِنْهُم يَنْتَظِم مِنْهُ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا

[سورة الزخرف (43) : آية 21]

عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرف فِي شؤوننا وشؤون الْخَلَائِقِ لَكِنَّا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ وَلَا حُجَّةٌ عَلَى قِيَاسِهِمْ لِأَنَّ مُقَدَّمَ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ وَهُوَ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِبَاسِ الْمَشِيئَةِ التَّكْوِينِيَّةِ بِالْمَشِيئَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَكَانَ قِيَاسُهُمْ خَلِيًّا عَنِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْيَقِينُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ أَيْ بَقَوْلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ بَلْ هُوَ مِنْ جَهَالَةِ السَّفْسَطَةِ وَاللَّبْسِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ. وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ. وَالْخَرْصُ: التَّوَهُّمُ وَالظَّنُّ الَّذِي لَا حُجَّةَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] . [21] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 21] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: 20] فَبَعْدَ أَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ الْعَقْلِ، انْتَقَلَ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ النَّقْلِ عَنْ إِخْبَارِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ من شؤونه. وَاجْتَلَبَ لِلْإِضْرَابِ حَرْفَ أَمْ دُونَ (بَلْ) لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمْ مِنِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] . وَفِي هَذَا ثَنَاءٌ ثَالِثٌ عَلَى الْقُرْآنِ ضِمْنِيٌّ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُسْتَمْسَكُ بِهِ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] . ومِنْ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى (قَبْلَ) . وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلَ) ضَمِيرُ

[سورة الزخرف (43) : آية 22]

الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: كِتاباً. ومُسْتَمْسِكُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (مُمْسِكُونَ) يُقَالُ: أَمْسَكَ بِالشَّيْءِ، إِذَا شَدَّ عَلَيْهِ يَدَهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَى الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: 43] . [22] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 22] بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) هَذَا إِضْرَابُ إِبْطَالٍ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: 21] فَهُوَ إِبْطَالٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ فِيمَا قَالُوهُ وَلَا نَقْلٌ. فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ إِذْ لَمْ يُقَارِنُوا بَيْنَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ آبَائِهِمْ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُمَيِّزَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَيَعْرِضَهُ عَلَى مِعْيَارِ الْحَقِّ. وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ أَيْ ذُو دِينٍ. وعَلى اسْتِعَارَةُ تَبَعِيَّةٌ لِلْمُلَابَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ. وَقَوْلُهُ: عَلى آثارِهِمْ خَبَرُ (إِنَّ) . ومُهْتَدُونَ خَبَرٌ ثَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى آثارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِ مُهْتَدُونَ بِتَضْمِينِ مُهْتَدُونَ مَعْنَى سَائِرُونَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ إِلَّا تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ، وَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُمُ اهْتِدَاءً لِشِدَّةِ غُرُورِهِمْ بِأَحْوَالِ آبَائِهِمْ بِحَيْثُ لَا يتأملون فِي مصادفة أَحْوَالهم للحق.

[سورة الزخرف (43) : آية 23]

[سُورَة الزخرف (43) : آيَة 23] وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَمَسُّكِ الْمُشْرِكِينَ بِدِينِ آبَائِهِمْ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] ، أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُتْرَفُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوْ لِلِاعْتِرَاضِ وَمَا الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا تَعْطِفُ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفًا لَفْظِيًّا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، قَدِ اسْتَوَوْا فِيهِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي مُثَارِهِ وَهُوَ النَّظَرُ الْقَاصِرُ الْمُخْطِئُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 53] ، أَيْ بَلْ هُمُ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِهِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ وَهُوَ الطُّغْيَانُ. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا تَسْلِيَة للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ، بِأَنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ لَقُوا مِثْلَ مَا لَقِيَ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ مُتَعَلِّقٌ بَقَوْلِهِ: قالَ مُتْرَفُوها. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ وَالتَّشْوِيقِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَجُمْلَةُ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مِنْ أَحْوَالٍ مُقَدَّرَةٍ أَيْ مَا أَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ قَوْلٍ قَالَهُ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا إِلَخْ. وَالْمُتْرَفُونَ: جَمْعُ الْمُتْرَفِ وَهُوَ الَّذِي أُعْطِيَ التَّرَفَ، أَيِ النِّعْمَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [13] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِثْلُ قُرَيْشٍ فِي الِازْدِهَاءِ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، أَيْ فِي بَطَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. فَالتَّشْبِيهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مِثْلُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي سَبَبِ الِازْدِهَاءِ وَهُوَ مَا هُمْ

[سورة الزخرف (43) : آية 24]

فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ حَتَّى نَسُوا احْتِيَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] . وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْحَاضِرِينَ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِآثَارِ آبَائِهِمْ، وَجَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ السَّابِقَيْنِ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ بِآبَائِهِمْ مُقْتَدُونَ، لِأَنَّ أَقْوَالَ السَّابِقَيْنِ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُ مُخْتَلِفَهَا أَنَّهَا اقْتِدَاءٌ بِآبَائِهِمْ، فَحِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى، وَحِكَايَةُ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى طَرِيقَةٌ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ كَثُرَ وُرُودُهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَام الْعَرَب. [24] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 24] قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ لِمُفْرَدٍ فَيَكُونُ أمرا للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ قالَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نَذِيرِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] . فَحَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَجَابُوا أَقْوَامَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ فِعْلُ قُلْ أَوْ قالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي مَجَالِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جِئْتُكُمْ بِضَمِيرِ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ جِئْنَاكُمْ بِنُونِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الَّذِينَ قَرَأُوا قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ جِئْنَاكُمْ عَائِدًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَاطَبِ بِفِعْلِ قل لتعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِ تَعَالَى الَّذِي خَاطَبَهُ بَقَوْلِهِ: قُلْ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ عَاطِفَةٌ الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْعَطْفُ مِمَّا يُسَمَّى عَطْفَ التَّلْقِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] .

[سورة الزخرف (43) : آية 25]

وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمَشُوبِ بِالْإِنْكَارِ. وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَجْلِ التَّصْدِيرِ. ولَوْ وَصْلِيَّةٌ، ولَوْ الْوَصْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ بِنِهَايَةِ مَدْلُولِ شَرْطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [91] ، أَيْ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ تَبْقَوْنَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ وَتَتْرُكُونَ مَا هُوَ أَهْدَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ لَعَلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ أَهْدَى مِنْهُمْ. وَصَوْغُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْهَدْيِ إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ لَهُمْ لِيَتَدَبَّرُوا، نَزَّلَ مَا كَانَ عَلَيْهِم آبَاؤُهُمْ مَنْزِلَةَ مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَتَصَدَّوْا لِلنَّظَرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] . قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى: لَا نَتَّبِعُكُمْ وَنَتْرُكُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَضَمِيرُ قالُوا رَاجِعٌ إِلَى مُتْرَفُوها [الزخرف: 23] لِأَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 25] يُعَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ وَقَعَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَقَعَ تَهْدِيدُهُمْ بِأُولَئِكَ. وَقَوْلُهُمْ: (مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، فَإِطْلَاقُهُمُ اسْمَ الْإِرْسَالِ عَلَى دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ تَهَكُّمٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 7] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ مُرْسَلُونَ بِهِ، وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ تَوْحِيد الْإِلَه. [25] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 25] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: 24] ، أَيِ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عَقِبَ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 إلى 27]

تَصْرِيحِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي مَقَالِهِمْ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَالِانْتِقَامُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ بِالسُّوءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: نَقِمَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، إِذَا كَافَأَ عَلَى السُّوءِ بِسوء، وَفِي الْمثل: هُوَ كَالْأَرْقَمِ إِنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ. الْأَرْقَمُ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يَعْتَقِدُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَإِنْ تَرَكَهُ الْمَرْءُ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهِ فَيَلْسَعُهُ وَيَقْتُلُهُ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمَرْءُ انْتَقَمَ بِتَأْثِيرِهِ فَأَمَاتَ قَاتِلَهُ وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْعَرَبِ. وَالْمُرَادُ بِالِانْتِقَامِ اسْتِئْصَالُهُمْ وَانْقِرَاضُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [136] . وَلِذَلِكَ فَالنَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ نَظَرُ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَخْبَارِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [27] ، وَلَيْسَ نَظَرَ الْبَصَرِ إِذْ لَمْ يَرَ النَّبِيءُ حَالَةَ الِانْتِقَامِ فِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّأَمُّلُ. وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحَالَةِ وَهُوَ قَدْ عَلَّقَ فِعْلَ النَّظَرِ عَن مَفْعُوله. [26، 27] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 26 إِلَى 27] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) لَمَّا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَشَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِهِمْ سَاقَ لَهُمْ أَمْثَالًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ مِنْهَا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ. وَابْتَدَأَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ، بِأَنَّ أَوْلَى آبَائِهِمْ بِأَنْ يَقْتَدُوا بِهِ هُوَ أَبُوهُمُ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِنِسْبَتِهِ إِبْرَاهِيمُ.

وَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ عَطْفٌ عَلَى عُمُومِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [الزخرف: 23] إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ، وَهُوَ عَطْفُ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ زَمَانَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ قَوْلًا صَرِيحًا فِي التبرّؤ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَخُصَّ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ قَوْمِهِ وَمَا هُوَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمُ اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَعْبُدُ أَبُوهُ أَدَلُّ عَلَى تَجَنُّبِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِحَيْثُ لَا يُتَسَامَحُ فِيهَا وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَعْبُدُهَا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مُوَحِّدِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ مِثْلَ الْأَبِ، وَلِتَكُونَ حِكَايَةُ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ قُدْوَةً لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] قَالَ تَعَالَى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4] أَيْ فَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَقْتَدُوا بِآبَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَهَلَّا اقْتَدَيْتُمْ بِأَفْضَلِ آبَائِكُمْ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ. وَالْبَرَاءُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْفَعَالِ مِثْلُ الظَّمَاءِ وَالسَّمَاعِ يُخْبَرُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ- وَهِيَ مَا فَوْقَ نَجْدٍ إِلَى أَرْضِ تِهَامَةَ مِمَّا وَرَاءَ مَكَّةَ- وَأَمَّا أَهْلُ نَجْدٍ فَيَقُولُونَ بَرِيءٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ (مَا تَعْبُدُونَ) ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَيْ مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: 74] . وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى: إِنَّنِي اهْتَدَيْتُ إِلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ بِهَدْيٍ مِنَ اللَّهِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 28]

وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هِدَايَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَسْتَمِرُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُفْهَمُ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ الْآنَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ الْآنَ عَلَى هُدًى فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى هُدًى فِي الْمُسْتَقْبل. [28] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 28] وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) عَطَفَ عَلَى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ [الزخرف: 26] أَيْ أَعْلَنَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِي قَوْمِهِ مُعَاصِرِيهِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَنْقُلُونَهَا إِلَى مُعَاصِرِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. إِذْ أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ وَأَنْ يُوصُوا بَنِيهِمْ بِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [131- 132] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَبِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ أَبْقَى إِبْرَاهِيمُ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي عَقِبِهِ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ. وَلِذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ لِصَاحِبَيْهِ فِي السَّجْنِ يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: 39] وَقَالَ لَهُمَا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يُوسُف: 37- 40] . فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي جَعَلَها عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَها. وَحَكَى فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ بِالْكَلِمَةِ نَظَرًا لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي لَفْظَ كَلِمَةً لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [100] إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، أَيْ

قَوْلُ الْكَافِرِ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] . وَقَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: 5] وَهِيَ قَوْلُهُمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: 132] ، أَيْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: 131] فَأَعَادَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ التَّأْنِيثِ عَلَى تَأْوِيلِ (الْكَلِمَةِ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ كَلِمَةٌ إِذَا كَانَ كَلَامًا سَائِرًا عَلَى الْأَلْسِنَةِ مُتَمَثَّلًا بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» ، أَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَجْعُولًا شِعَارًا كَقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 74] » . فَالْمَعْنَى: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26، 27] شِعَارًا لِعَقِبِهِ، أَيْ جَعَلَهَا هِيَ وَمَا يُرَادِفُهَا قَوْلًا بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَلَا يَخْلُو عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ نَابِذِينَ لِلْأَصْنَامِ. وَأَشْعَرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ بِأَنَّ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ أَنْ تَعُمَّ الْعَقِبَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقِبِ مَجْمُوعُ أَعْقَابِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنَ الْيَهُودِ وَانْقَطَعَتْ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ تَقَلَّدُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ إِلَّا مَنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ أَوْ تَنَصَّرَ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ كُلِّ عَقِبٍ فَإِنَّ الْعَرَب لم يَخْلُو مِنْ قَائِمٍ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِثْلَ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ كَالْقَبَائِلِ الْمُتَنَصِّرَةِ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَمِثْلَ الْمُتَحَنِّفِينَ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرِدُ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [5] . وَقَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ مِنَ الْحَمَاسَةِ: وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَالْعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ الَّذِينَ لَا يَنْفَصِلُونَ مِنْ أَصْلِهِمْ بِأُنْثَى، أَيْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ بِالْوِصَايَةِ عَلَيْهَا رَاجِيًا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا التَّوْحِيدَ إِذَا رَانَ رَيْنٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، أَوِ اسْتَحْسَنُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: 138] فَيَهْتَدُونَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ حِين يضيق الزّمن عَنْ بَسْطِ الْحُجَّةِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَلَامِ الَّذِي يُجْعَلُ شِعَارًا لِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَصْلًا مَوْضُوعًا قَدْ تَبَيَّنَ

صِدْقُهُ وَإِصَابَتُهُ، فَاسْتِحْضَارُهُ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ بَسْطِ الْحُجَّةِ لَهُ. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لِأَنَّ جَعْلَهُ كَلِمَةَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف: 26] بَاقِيَةً فِي عقبه، أَرَادَ مِنْهُ مَصَالِحَ لِعَقِبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ رَجَا بِذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ فُتِنُوا بِعِبَادَتِهَا أَوْ يَتَذَكَّرُوا بِهَا الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ عَبَدُوهَا، فَمَعْنَى الرُّجُوعِ، الْعَوْدُ إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 48] ، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ. فَحَرْفُ (لَعَلَّ) لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هَنَا رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى قَوْلٍ صَادِرٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِإِنْشَاءِ رَجَائِهِ، بِأَنْ يُقَدَّرَ: قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَوْ قَائِلًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ إِلَى تَغْيِيرِ اعْتِقَادٍ طَارِئٍ بِاعْتِقَادٍ سَابِقٍ، شَبَّهَ تَرْكَ الِاعْتِقَادِ الطَّارِئِ وَالْأَخْذَ بِالِاعْتِقَادِ السَّابِقِ بِرُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ رُجُوعِ السَّاعِي إِلَى بَيْتِهِ. وَالْمَعْنَى: يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ حَادَ عَنْهَا إِلَيْهَا، وَهَذَا رَجَاؤُهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِ عَقِبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: 124] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَلَّ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِ رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَمُودُ نَسَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي رِسَالَةِ «طَهَارَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّقَائِصِ» (¬1) . وَفِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ كَانَتْ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَتَّجِهُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَانَتْ بَالِغَةً لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ بِمَا تَنَاقَلُوهُ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَمِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْعَرَبُ، فَيَتَّجِهُ مُؤَاخَذَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا النَّظَرَ فِيمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَهُمْ أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهُ أَوْ أَعْرَضُوا. فَيَكُونُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مُؤَاخَذِينَ عَلَى نَبْذِ ¬

(¬1) نشرت فِي مجلة........ بِبَغْدَاد سنة.

[سورة الزخرف (43) : آية 29]

التَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا وَمُعَاقَبِينَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي صِحَاحِ الْآثَارِ مِنْ تَعْذِيبِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي سَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ حَامِلُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ عَلَى الشِّرْكِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ على قَوْلهم. [29] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 29] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 28] ، وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ مَا رَجَاهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ عَقِبِهِ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِرَعْيِهَا. فَإِنَّ أَقْدَمَ أُمَّةٍ مِنْ عَقِبِهِ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى كَلِمَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ. وَبَعْدَ بَلْ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَ الْإِبْطَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: بَلْ لَمْ يَرْجِعْ هَؤُلَاءِ وَآبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَتَبَرَّأُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا أَخَذُوا بِوِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَجُمْلَةُ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ يَسْأَلُ عَمَّا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ جَزَاءً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي وِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَلَّا اسْتَأْصَلَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 23- 25] ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ يَجِيئَهُمْ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ يَرْتَبِطُ بِهَا وُجُودُ الْعَرَبِ زَمَنًا طَوِيلًا بِدُونِ رَسُولٍ، وَتَأَخُّرُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إِلَى الْإِبَّانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ. وَبِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ حَصَلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَا بَدَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مِنْ فَظِيعِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُمْ فَكَانَ مُوقِعُ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغَ مِنْ مَوْقِعِهَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: بَلْ مَا تَذَكَّرُ مِنْ نَوَارَ وَقَدْ نَأَتْ ... وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَرِمَامُهَا إِذْ كَانَ انْتِقَالُهُ اقْتِضَابًا وَكَانَ هُنَا تَخَلُّصًا حَسَنًا. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَّ مُصْطَلَحَ الْقُرْآنِ أَنْ يُرِيدَ بِمِثْلِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَمْ أَرَ مَنِ اهْتَدَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَالْمُرَادُ بِآبَائِهِمْ آبَاؤُهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَالَّذِينَ عَبَدُوهَا مِنْ بَعْدِهِ. وَتَمْتِيعُ آبَائِهِمْ تَمْهِيدٌ لِتَمْتِيعِ هَؤُلَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَةُ التَّمْتِيعِ مَجِيءَ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَجِيئَهُ لِهَؤُلَاءِ. وَالتَّمْتِيعُ هُنَا التَّمْتِيعُ بِالْإِمْهَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ. وَالْمُرَادُ بِ الْحَقُّ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: 30] وَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وَهَذِهِ الْآيَةُ ثَنَاءٌ رَاجِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ مُتَّصِلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ. فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى التَّمْتِيعُ وَأُخِذُوا بِالْعَذَابِ تَدْرِيجًا إِلَى أَنْ كَانَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهَدَى اللَّهِ لِلْإِسْلَامِ مَنْ بَقِيَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَيَّامَ الْوُفُودِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [48] . وَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ هُوَ: الْقُرْآنُ، وَالرَّسُولُ الْمُبين: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصْفُهُ بِ مُبِينٌ لِأَنَّهُ أَوْضَحَ الْهُدَى وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ كَلَامٍ. فَالْإِبَانَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعَانِي دِينِهِ وَأَلْفَاظِ كِتَابِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ بِالِانْتِشَالِ

[سورة الزخرف (43) : آية 30]

مِنْ أَوْحَالِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ إِلَى مَنَاهِجِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ وَأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، فَيَجْبُرَ لِأُمَّةٍ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِأَبِيهِمْ حَتَّى يَكْمُلَ لِدَعْوَتِهِ شَرَفُ الِاسْتِجَابَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا زِيَادَةُ الْإِمْهَالِ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: 155- 157] . وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِلَى قَوْله: وَآباءَهُمْ [الزخرف: 28، 29] أَنَّ آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ الشِّرْكَ وَأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ بَقِيَتْ كَلِمَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِمُخَالَفَةِ قَوْمِهِمُ اتِّقَاءَ الْفِتْنَةِ. وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لديهم شرع. [30] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 30] وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ تَغَافُلِهِمْ، أَيْ قَدْ كَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ قَبْلَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ لِأَنَّ لِلْغَفَلَاتِ الْمُتَقَادِمَةِ غِشَاوَةً تُصَيِّرُ الْغَفْلَةُ جَهَالَةً، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسْتَيْقِظُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ فَيَتَذَكَّرُوا كَلِمَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَازْدَادُوا رَيْنًا عَلَى رَيْنٍ. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لَا فِي إِفَادَةِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ.

[سورة الزخرف (43) : آية 31]

وَفِي تَعْقِيبِ الْغَايَةِ بِهَذَا الْكَلَامِ إِيذَانٌ بِأَنَّ تَمْتِيعَهُمْ أَصْبَحَ عَلَى وَشْكِ الِانْتِهَاءِ. فَجُمْلَةُ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف: 29] فَإِنَّ لَمَّا تَوْقِيتِيَّةٌ فَهِيَ فِي قُوَّةِ حَتَّى الْغَائِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ عَقِبَ ذَلِكَ التَّمْتِيعِ لَمْ يَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، أَيْ كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْحَقِّ مُشْرِكِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَتَسَاهُلٍ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ صَارُوا مُشْرِكِينَ عَنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ. وَجُمْلَةُ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ مَقُولٌ ثَانٍ، أَيْ قَالُوا: هَذَا سِحْرٌ فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّا بِهِ، أَيْ بِالْقُرْآنِ، كَافِرُونَ، أَيْ سَوَاءَ كَانَ سِحْرًا أَمْ غَيْرَهُ، أَيْ فَرَضُوا أَنَّهُ سِحْرٌ ثُمَّ ارْتَقَوْا فَقَالُوا إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، أَيْ كَافِرُونَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءً كَانَ سِحْرًا أَمْ شِعْرًا أَمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ ليؤيسوا الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانهم بِهِ. [31] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 31] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: 30] فَهُوَ فِي حَيِّزِ جَوَاب لَمَّا [الزخرف: 30] التَّوْقِيتِيَّةِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْجِيبِ أَيْضًا، أَيْ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ لِإِنْكَارِ الْحَقِّ إِذْ قَالُوا لِلْقُرْآنِ: هَذَا سِحْرٌ، وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ سَاحِرٌ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ طَعْنٍ آخَرَ مِنْهُمْ فِي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ. ولَوْلا أَصْلُهُ حَرْفُ تَحْضِيضٍ، اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازِمَةِ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ عَلَى تَحْصِيلٍ مَا هُوَ مَقْطُوعٌ بِانْتِفَاءِ حُصُولِهِ يَسْتَلْزِمُ الْجَزْمَ بِانْتِفَائِهِ. وَالْقَرْيَتَانِ هُمَا: مَكَّةُ وَالطَّائِفُ لِأَنَّهُمَا أَكْبَرُ قُرَى تِهَامَةَ بَلَدِ الْقَائِلِينَ وَأَمَّا يَثْرِبُ وَتَيْمَاءُ وَنَحْوَهُمَا فَهِيَ مِنْ بَلَدِ الْحِجَازِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 32]

فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ لِلْعَهْدِ، جَعَلُوا عِمَادَ التَّأَهُّلِ لِسِيَادَةِ الْأَقْوَامِ أَمْرَيْنِ: عَظَمَةُ الْمُسَوَّدِ، وَعَظَمَةُ قَرْيَتِهِ، فَهُمْ لَا يَدِينُونَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَبَائِلِ فِي أَشْهَرِ الْقُرَى لِأَنَّ الْقُرَى هِيَ مأوى شؤون الْقَبَائِلِ وَتَمْوِينِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، وَالْعَظِيمُ: مستعار لصَاحب السؤدد فِي قَوْمِهِ، فَكَأَنَّهُ عَظِيمُ الذَّاتِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ حَبِيبَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَنَوُا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآن وَلم يسموا شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا شَخْصَيْنِ وَوَصَفُوهُمَا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَاقْتَصَرَ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ إِيجَازًا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا كَانُوا يُؤَهِّلُونَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لِلرِّسَالَةِ تَحْمِيقًا لِرَأْيِهِمْ. وَكَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ عَنَوْهُمَا ذَوَيْ مَالٍ لِأَنَّ سَعَةَ الْمَالِ كَانَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ وَصْفِ السُّؤْدَدِ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [الْبَقَرَة: 247] . [32] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 32] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ مَنْ يَتَخَيَّرُ أَصْنَافَ النَّاسِ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلرِّسَالَةِ بِيَدِهِمْ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ ضَمِيرُ هُمْ الْمَجْعُولُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، عَلَى مُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ لِيُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ وَتَخْطِئَةً لَهُمْ فِي تَحَكُّمِهِمْ.

وَلَمَّا كَانَ الِاصْطِفَاءُ لِلرِّسَالَةِ رَحْمَةً لِمَنْ يُصْطَفَى لَهَا وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، جَعَلَ تَحَكُّمَهُمْ فِي ذَلِكَ قِسْمَةً مِنْهُمْ لرحمة الله بِاخْتِيَار هم مَنْ يَخْتَارُ لَهَا وَتَعْيِينِ الْمُتَأَهِّلِ لِإِبْلَاغِهَا إِلَى الْمَرْحُومِينِ. وَوُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُضِيفَ لِفَظُ (الرَّبِّ) إِلَى ضَمِيرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُ تَأْنِيسًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ شَأْنَهُ بِإِبْلَاغِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ وَبِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَتَدْبِيرَهُ. وَجُمْلَةُ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا قَسَمْنَا بَيْنَ النَّاسِ مَعِيشَتَهُمْ فَكَانُوا مُسَيَّرِينَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا هَيَّأْنَا لَهُمْ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَأَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ، فَسَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِي أَشْغَالِهِمْ عَلَى حِسَابِ دَوَاعِي حَاجَةِ الْحَيَاةِ، وَرَفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى بعض ومسخّرا بِهِ. فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي تَدْبِيرِ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي إِقَامَةِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّ ذَلِك أعظم شؤون الْبَشَرِ. فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ. وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْن محيص فِي الشَّاذِّ بِكَسْرِ السِّينِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَخَّرِ، أَيِ الْمَجْبُورِ عَلَى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَاسْمٌ لِمَنْ يُسْخَرُ بِهِ، أَيْ يُسْتَهْزَأُ بِهِ كَمَا فِي «مُفْرَدَات» الرَّاغِب و «الأساس» و «الْقَامُوس» . وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ وَلَا تَدَخُّلَ لِمَعْنَى الْهُزْءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَكَلَامُ الرَّاغِبِ مُحْتَمَلٌ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْخِيرِ. فَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنِيَّيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ سُخْرِيًّا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِتَحَمُّلِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَتَعَمَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شؤون حَيَاتِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ، أَيْ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ وَابْنُ زَيْدٍ،

فَلَامَ لِيَتَّخِذَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِفِعْلِ قَسَمْنا، أَيْ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ، أَيْ أَسْبَابَ مَعِيشَتِهِمْ لِيَسْتَعِينَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَتَعَارَفُوا وَيَتَجَمَّعُوا لِأَجْلِ حَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَتَتَكَوَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبَائِلُ وَالْمُدُنُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَامًّا فِي كُلِّ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِغَيْرٍ آخَرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْمًا مِنَ السُّخْرِيَةِ وَهِيَ الِاسْتِهْزَاءُ. وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ وَبِذَلِكَ تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] وَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْرِيضٌ بالمشركين الَّذين استهزؤوا بِالْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [110] . وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ السُّخْرِيِّ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 110] وَقَوْلُهُ: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ [ص: 63] . وَلَعَلَّ الَّذِي عَدَلَ بِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِهَذَا الْمَعْنَى اسْتِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَسْخَرَةً عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي رَفْعِهِ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ وَاسِعٌ فِي نَظَائِرِهِ وَأَشْبَاهِهِ. وَتَأْوِيلُ مَعْنَى اللَّامِ ظَاهر. وَجُمْلَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَذْيِيلٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ رَدٌّ ثَانٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي جَعَلُوهُ عِمَادَ الِاصْطِفَاءِ لِلرِّسَالَةِ هُوَ أَقَلُّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَهِيَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّفْضِيلِ حِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] فَإِنَّ الْمَالَ شَيْءٌ جَمَعَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ اصْطِفَاءِ اللَّهِ الْعَبْدَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى النَّاسِ. وَرَحْمَةُ اللَّهِ: هِيَ اصْطِفَاؤُهُ عَبْدَهُ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانُوا غَيْرَ قَاسِمِينَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ يَقْسِمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِهِمْ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 إلى 35]

[33- 35] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 33 إِلَى 35] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَلَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ دَلَّ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ امْتِنَاعَ وُقُوعِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَيْ أَرَادَ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَضْمُونِ شَرْطِهَا. لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ خُلُقِهِمْ تَعْظِيمَ الْمَالِ وَأَهْلِ الثَّرَاءِ وَحُسْبَانَهُمْ ذَلِكَ أَصْلَ الْفَضَائِلِ وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِزَكَاءِ النُّفُوسِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جَعْلَهُمُ الْمَالَ سَبَبَ الْفَضْلِ بِإِبْطَالَيْنِ، بِقَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] وَقَوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32] ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَعْرِيفِهِمْ أَنَّ الْمَالَ وَالْغِنَى لَا حَظَّ لَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَجَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ حَقَائِقَهَا وَمَقَادِيرَهَا فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمَالُ لِلْكَافِرِينَ وَمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ جَعَلَ لَهُ أَسْبَابًا نَظَمَهَا فِي سِلْكِ النُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَجَعَلَ لَهَا آثَارًا مُنَاسِبَةً لَهَا، وَشَتَّانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوَاهِبِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّرَائِرِ الطَّيِّبَةِ، فَالْمَالُ فِي الْغَالِبِ مَصْدَرٌ لِإِرْضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَمَرْصَدٌ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّطَاوُلِ. وَأَمَّا مَوَاهِبُ النُّفُوسِ الطَّيِّبَةِ فَمَصَادِرُ لِنَفْعِ أَصْحَابِهَا وَنَفْعِ الْأُمَّةِ، فَفِي أَهْلِ الشَّرِّ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَفِي أَهْلِ الْخَيْرِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، فَظَهَرَ التَّبَايُنُ بَيْنَ آثَارِ كَسْبِ الْمَالِ وَأَثَارِ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّحْقِيرِ لِلْمَالِ إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِمَا أَسَّسُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ على جملَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32] . وَالنَّاسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْبَشَرِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْبَشَرِ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا بِاتِّحَادٍ فِي نَسَبٍ أَوْ دِينٍ أَوْ

حَالَةٍ مُعَرَّفٍ بِهَا فَمَعْنَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يَحْتَمِلُ أَنَّ لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ الْبَشَرُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ، أَيِ الْكُفْرُ وَنَبْذُ الْفِكْرَةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ (¬1) . فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَخَصَّصْنَا الْكَافِرِينَ بِالْمَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَتَرَكْنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا ادَّخَرْنَا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَيَحْسَبُ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ أَنَّ لِلْكُفْرِ أَثَرًا فِي حُصُولِ الْمَالِ جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً لِمَنْ سَمَّاهُمْ بِالْكَافِرِينَ فَيَتْبَعُوا دِينَ الْكُفْرِ لِتَخَيُّلِهِمُ الْمُلَازِمَةَ بَيْنَ سَعَادَةِ الْعَيْشِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَجْيَالِ الْأَوْلَى أَصْحَابَ أَوْهَامٍ وَأَغْلَاطٍ يَجْعَلُونَ لِلْمُقَارَنَةِ حُكْمَ التَّسَبُّبِ فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْلَا تَجَنُّبُ مَا يُفْضِي إِلَى عُمُومِ الْكُفْرِ وَانْقِرَاضِ الْإِيمَانِ، لَجَعَلْنَا الْمَالَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ خَاصَّةً، أَيْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ انْقِرَاضَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يُقَدِّرِ اتِّحَادَ النَّاسِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْعِبَادِ فَعَطَّلَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى اضْمِحْلَالِ الْهُدَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَيْ أَبْقَى بَيْنَهُمْ بَصِيصًا مِنْ نُورِ الْهُدَى. وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلْعَهْدِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَعَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: 173] وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً اتِّحَادُهُمْ فِي الثَّرَاءِ. وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنْ تَصِيرَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَهْلَ ثَرْوَةٍ كُلَّهُمْ أَيْ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ بَلَدٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ وَكُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْعُمْرَانِ وَاحْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، هَذَا لِمَالِهِ، وَهَذَا لِصِنَاعَتِهِ، وَآخَرُ لِمَقْدِرَةِ بَدَنِهِ لَجَعَلْنَا من يكفر بالرحمان وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءً فِي الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَلَخَّصُ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ الثَّرَاءَ وَالرَّفَاهِيَةَ لَا يُقِيمُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ لَهُمَا وَزْنًا فَلَا يُمْسِكُهُمَا عَنِ النَّاكِبِينَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ، فَصَارَ الْكَلَامُ يَقْتَضِي مُقَدَّرًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ لَكِنْ لَا يَكُونُ النَّاسُ سَوَاءً فِي الْغِنَى لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْكَوْنِ الْبِشْرِيِّ ¬

(¬1) جمعناهم فِي هَذَا التَّأْوِيل لِأَن مآل أَقْوَالهم مُتَقَارِبَة.

أَنْ لَا تَكُونَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَوْ قَبِيلَةٌ أَوْ أَهَلُ بَلْدَةٍ أَغْنِيَاءَ لَيْسَ فِيهِمْ مَحَاوِيجُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انخرام نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَارْتِفَاعِ احْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَيَهْلِكُ مُجْتَمَعُهُمْ، وَاللَّهُ أَرَادَ بَقَاءَهُمْ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ. وَيُرَجِّحُ هَذَا جَعْلُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ يَكْفُرُ خُصُوص وصف الرحمان فَإِنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا وصف الرحمان قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ. وَمَعْنَى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ لَقَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ أَسْبَابَ الثَّرَاءِ مُتَّصِلَةً بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْكُفْرُ سَبَبًا وَمَجْلَبَةً لِلْغِنَى، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ فِي عُقُولِ النَّاسِ وَأَسَالِيبِ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ أَسْبَابَ تَعْمِيمِ الْكُفْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفًا مِنْهُ بِالْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ كُفْرٍ جُزْئِيٍّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ حِفْظًا مِنْهُ تَعَالَى لِنَامُوسِ تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا. وَهَذَا مِنْ تَفَارِيعِ التَّفْرِقَة بَين الرضى وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبُيُوتِهِمْ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ، أَيْ لَجَعَلْنَا لِبُيُوتِ من يكفر بالرحمان فَيَكُونُ قَوْلُهُ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ ممّن يكفر بالرحمان. وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لِلتَّوْكِيدِ كَمَا فَعَلُوا فِي الْبَدَلِ مِنَ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ فِي نَحْوِ: مَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ فَقَرَنُوا الْبَدَلَ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ وَلَمْ يَقُولُوا: مَنْ ذَا سَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] . وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ ابْتِدَاءً بِفِعْلِ الْجَعْلِ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ من يكفر بالرحمان فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ قَرْنُهُ مَعَ مَظَاهِرِ الْغِنَى فِي قَرْنِ التَّحْقِيرِ، ثُمَّ يَذْكُرُ مَا يَعِزُّ وُجُودُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْخَبَرُ كُلُّهُ مُسْتَغْرَبًا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُنْظَمَ فِي أُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُقُفاً بِضَمِّ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ جَمْعُ سَقْفٍ بِفَتْحِ السِّينِ

وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ: الْبِنَاءُ الْمُمْتَدُّ عَلَى جُدْرَانِ الْبَيْتِ الْمُغَطِّي فَضَاءَ الْبَيْتَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [26] . وَهَذَا الْجَمْعُ لَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا رَهْنٌ وَرُهُنٌ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُفْرَدِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِبُيُوتِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِكُلِّ بَيْتٍ سَقْفٌ. وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ قَالَ تَعَالَى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [112] ، فَيَكُونُ هُنَا عَطْفًا عَلَى سُقُفاً جَمْعًا لِعَدِيدِ الْمَحَاسِنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّهَبِ لِأَنَّ الذَّهَبَ يُتَزَيَّنُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الْإِسْرَاء: 93] ، فَيَكُونُ وَزُخْرُفاً عَطْفًا عَلَى سُقُفاً بِتَأْوِيلِ: لَجَعَلْنَا لَهُمْ ذَهَبًا، أَيْ لَكَانَتْ سُقُفُهُمْ وَمَعَارِجُهُمْ وَأَبْوَابُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ مُنَوَّعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ فِي تَلْوِينِهَا. وَابْتُدِئَ بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فِي التَّحَلِّيَاتِ وَأَجْمَلُ فِي اللَّوْنِ، وَأَخَّرَ الذَّهَبَ لِأَنَّهُ أَنْدَرُ فِي الْحُلِيِّ، وَلِأَنَّ لَفْظَهُ أَسْعَدُ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِ آخِرِهِ تَنْوِينًا يَنْقَلِبُ فِي الْوَقْفِ أَلِفًا فَيُنَاسِبُ امْتِدَادَ الصَّوْتِ وَهُوَ أَفْصَحُ فِي الْوَقْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ زُخْرُفاً مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَرِدُ سُؤَالٌ عَنْ تَخْصِيصِ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ بِالْفِضَّةِ. ومَعارِجَ اسْمُ جَمْعِ مِعْرَاجٍ، وَهُوَ الدَّرَجُ الَّذِي يُعْرَجُ بِهِ إِلَى الْعَلَالِي. وَمَعْنَى يَظْهَرُونَ: يَعْلُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْف: 97] ، أَيْ أَنْ يَتَسَوَّرُوهُ. وَسُرُرُ بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [44] ، وَفَائِدَةُ وَصْفِهَا بجملة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ هَذِهِ الْبَهْرَجَةَ مَعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي دَعَةِ الْعَيْشِ وَالْخُلُوِّ عَنِ التَّعَبِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَعَارِجَ وَالْأَبْوَابَ وَالسُّرُرَ مِنْ فِضَّةٍ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ لِدَلَالَةِ مَا وُصِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 36]

وَذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ وَالْأَبْوَابِ وَالسُّرُرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَتَاعُ الدُّنْيَا لَا يَعُودُ عَلَى مَنْ أُعْطِيَهُ بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَأَمَّا السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ فَقَدِ ادَّخَرَهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ وَلَيْسَتْ كَمَثَلِ الْبَهَارِجِ وَالزِّينَةِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تُصَادِفُ مُخْتَلَفَ النُّفُوسِ وَتَكْثُرُ لِأَهْلِ النُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ الْخَسِيسَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمرَان: 14] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَتَكُونُ إِنْ الَّتِي قَبْلَهَا مُخَفِّفَةً مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ لِلتَّوْكِيدِ وَتَكُونُ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَمَّا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ وَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةِ وَ (مَا) زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَهِيَ لَمَّا أُخْتُ (إِلَّا) الْمُخْتَصَّةِ بِالْوُقُوعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا. [36] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 36] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَبَيَانٌ لِلنَّاسِ، وَوَصْفِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ، وَأَعْلَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ تَذْكِيرَهُمْ وَمُحَاجَّتَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ يَدْعُو بِالْحَقِّ وَيَعِدُ بِهِ. وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ تَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَيْقِظُونَ مِنْ غِشَاوَتِهِمْ، وَفِي تَنْبِيهِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ حَقِّيَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَفُضِحَتْ شُبُهَاتُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا تَعْوِيلَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ الضَّالُّونَ، وَأُنْذِرُوا بِاقْتِرَابِ انْتِهَاءِ تَمْتِيعِهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَتَقَضَّى ذَلِكَ بِمَزِيدِ الْبَيَانِ، وَأَفْضَى الْكَلَامُ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ إِلَى قَوْله عَظِيمٍ [الزخرف: 30، 31] ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ، عَادَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى عَوَاقِبِ صَرْفِهِمْ عُقُولَهُمْ

عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الدَّعْوَةِ الْقُرْآنِيَّةِ فَكَانَ انْصِرَافُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يُسَخِّرُ اللَّهُ شَيَاطِينَ لَهُمْ تُلَازِمُهُمْ فَلَا تَزَالُ تَصْرِفُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الْحَقِّ وَأَدِلَّةِ الرُّشْدِ. وَهُوَ تَسْخِيرٌ اقْتَضَاهُ نِظَامُ تَوَلُّدِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِهَا، فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ عَمَى بَصَائِرِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ الْبَيِّنِ، وَهَذَا مِنْ سُنَّةِ الْوُجُودِ فِي تَوَلُّدِ الْأَشْيَاءِ مِنْ عَنَاصِرِهَا فَالضَّلَالُ يَنْمِي وَيَتَوَلَّدُ فِي النُّفُوسِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا عَلَى الْقَلْبِ وَأَكِنَّةً فِيهِ وَخَتْمًا عَلَيْهِ وَلَا يَضْعُفُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِتَكَرُّرِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَبِالزَّجْرِ وَالْإِنْذَارِ، فَمِنْ زِنَادِ التَّذْكِيرِ تَنْقَدِحُ شَرَارَاتُ نُورٍ فَرُبَّمَا أَضَاءَتْ فَصَادَفَتْ قُوَّةَ نُورِ الْحَقِّ حَالَةَ وَهَنِ الشَّيْطَانِ فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيُفِيقُ صَاحِبُهَا مِنْ نَوْمَةِ ضَلَالِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ارْعَوَى ضَالٌّ عَنْ ضَلَالِهِ وَلَمَا نَفَعَ إِرْشَادُ الْمُرْشِدِينَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ. فَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: 30] الْآيَة. فجملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَدَمَ فَهْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] بِحَالِ مَنْ يَعْشُو عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ لِلْبَصَرِ. ويَعْشُ: مُضَارِعُ عَشَا كَغَزَا عَشْوًا بِالْوَاوِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا غَيْرَ ثَابِتٍ يُشْبِهُ نَظَرَ الْأَعْشَى، وَإِمَّا الْعَشَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ فَهُوَ اسْمُ ضَعْفِ الْعَيْنِ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: عَشَيَ بِالْيَاءِ مِثْلُ عَرَجَ إِذَا كَانَتْ فِي بَصَرِهِ آفَةُ الْعَشَا وَمَصْدُرُهُ عَشَىَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ مِثْلُ الْعَرَجِ. وَالْفِعْلُ وَاوِيٌّ عَشَا يَعْشُو، وَيُقَالُ عَشِيَ يَعْشَى إِذَا صَارَ الْعَشَا لَهُ آفَةٌ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْأَدْوَاءِ تَأْتِي كَثِيرًا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلَ مَرَضٍ. وَعَشِيَ يَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِأَجْلِ كَسْرَةِ صِيغَةِ الْأَدْوَاءِ.

فَمَعْنَى وَمَنْ يَعْشُ مَنْ يَنْظُرُ نَظَرًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ إِلَّا سَمَاعُ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ دُونَ تَدَبُّرٍ وَقَصْدٍ لِلِانْتِفَاعِ بِمَعَانِيهِ، فَشَبَّهَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مَعَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِنَظَرِ النَّاظِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ. وَعُدِّيَ يَعْشُ بِ عَنْ الْمُفِيدَةِ لِلْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَن ذكر الرحمان وَإِلَّا فَإِنَّ حَقَّ عَشَا أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) كَمَا قَالَ الْحَطِيئَةُ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُهُ إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ وَلَا يُقَالُ: عَشَوْتُ عَنِ النَّارِ إِلَّا بِمِثْلِ التَّضْمِينِ الَّذِي فِي هَاتِهِ الْآيَةِ. فَتَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى يُعْرِضُ: أَرَادَ تَحْصِيلَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ التَّعْدِيَةِ بِ عَنْ، وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ (عَشَا) بِمَعْنَى أَعْرَضَ أَرَادَ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى أَصْلِيًّا لِفِعْلِ (عَشَا) وَظَنَّ أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْإِعْرَاضِ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْفِعْلِ وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلتَّعْدِيَةِ بِ عَنْ فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيٌّ. وذِكْرِ الرَّحْمنِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: 5] . وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّحْمنِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَهَذَا ثَنَاءٌ خَامِسٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالتَّقْيِيضُ: الْإِتَاحَةُ وَتَهْيِئَةُ شَيْءٍ لِمُلَازَمَةِ شَيْءٍ لِعَمَلٍ حَتَّى يُتِمَّهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ قَيَّضَ الْبَيْضَةَ، أَيِ الْقِشْرَ الْمُحِيطَ بِمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الْمُحِّ لِأَنَّ الْقَيْضَ يُلَازِمُ الْبَيْضَةَ فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا الْفَرْخُ فَيَتِمَّ مَا أُتِيحَ لَهُ الْقَيْضُ. فَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ لِلْجَعْلِ مِثْلُ طَيَّنَ الْجِدَارَ: وَمِثْلُ أَزَرَهُ، أَيْ أَلْبَسَهُ الْإِزَارَ، وَدَرَعُوا الْجَارِيَةَ، أَيْ أَلْبَسُوهَا الدِّرْعَ. وَأَصْلُهُ هُنَا تَشْبِيهٌ أَيْ نَجْعَلُهُ كَالْقَيْضِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [25] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا. وَأَتَى الضَّمِيرُ فِي لَهُ مُفْرَدًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الشَّرْطُ شَيْطَانًا وَلَيْسَ لِجَمِيعِهِمْ شَيْطَانٌ وَاحِدٌ وَلِذَلِكَ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [الزخرف: 38] بِالْإِفْرَادِ، أَيْ قَالَ كُلُّ مَنْ لَهُ قَرِينٌ لِقَرِينِهِ.

وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ نُقَيِّضْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ شَيْطاناً فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مُقَيَّضٌ لِإِضْلَالِهِ، أَيْ هُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ. وَفُرِّعَ عَنْ نُقَيِّضْ قَوْلُهُ: فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ لِأَن التقيض كَانَ لِأَجْلِ مُقَارَنَتِهِ. وَمِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي جَرَتْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «نَيْلِ الِابْتِهَاجِ بِتَطْرِيزِ الدِّيبَاجِ» فِي تَرْجَمَةِ الْحَفِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ شَيْخِنَا ابْنِ عَرَفَةَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ حَضَرْتُهُ فَقَرَأَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فَقَالَ: قرىء يَعْشُو بِالرَّفْعِ ونُقَيِّضْ بِالْجَزْمِ (¬1) . وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِكَلَامٍ مَا فَهِمْتُهُ. وَذَكَرَ أَنَّ فِي النُّسْخَةِ خَلَلًا وَذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ. فَاهْتَدَيْتُ إِلَى تَمَامِهِ وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّ جَزْمَ نُقَيِّضْ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِشَبَهِهَا بِالشَّرْطِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا كَانُوا يُعَامِلُونَ الْمَوْصُولَ الَّذِي لَا يُشْبِهُ لَفْظَ الشَّرْطِ بِذَلِكَ فَمَا يُشْبِهُ لَفْظُهُ لَفْظَ الشَّرْطِ أَوْلَى بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ. فَوَافَقَ وَفَرِحَ لَمَّا أَنَّ الْإِنْصَافَ كَانَ طَبْعَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَطَالَبُونِي بِإِثْبَاتِ مُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَقُلْتُ: نَصُّهُمْ عَلَى دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ فِي نَحْوِ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَنَازَعُونِي فِي ذَلِكَ وَكُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِحِفْظِ التَّسْهِيلِ فَقُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيمَا يُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ «وَقَدْ يَجْزِمُهُ مُسَبِّبٌ عَنْ صِلَةِ الَّذِي تَشْبِيهًا بِجَوَابِ الشَّرْطِ وَأَنْشَدْتُ مِنْ شَوَاهِدِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا ... تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ فَجَاءَ الشَّاهِدُ مُوَافِقًا لِلْحَالِ. قَالَ: وَكُنْتُ فِي طَرَفٍ الْحَلْقَةِ، فَصَاحَ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَالَ: يَا أَخِي مَا بَغَيْنَا، لَعَلَّكَ ابْنُ مَرْزُوقٍ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُكُمْ» انْتَهَى مِنِ «اغتنام الفرصة» . اهـ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ فَكَانَ قَرِينًا مُقَارَنَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَلْ: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا قَرِينًا لَهُ. وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى ¬

(¬1) هَذِه الْقِرَاءَة تنْسب إِلَى زيد بن عَليّ إِمَام الزيدية. [.....]

[سورة الزخرف (43) : آية 37]

مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ قَرِينٌ لِلِاهْتِمَامِ بضمير مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أَيْ قَرِينٌ لَهُ مُقَارَنَةً تَامَّةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ يَعْقُوب بياء الْغَائِبِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ على الرَّحْمنِ. [37] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 37] وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] أَيْ مُقَارَنَةَ صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ. وَضَمِيرَا إِنَّهُمْ وَ (يَصُدُّونَ) عَائِدَانِ إِلَى شَيْطاناً [الزخرف: 36] لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابَ شَرْطٍ اكْتَسَبَ الْعُمُومَ تَبَعًا لِعُمُومِ مَنْ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ مِثْلُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ عَلَى خلاف بَين أيمة أُصُولِ الْفِقْهِ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ لَا يَجْرِي هُنَا لِأَنَّ عُمُومَ شَيْطاناً تَابِعٌ لِعُمُومِ مَنْ إِذْ أَجْزَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ تَجْرِي عَلَى حُكْمِ أَجْزَاءِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَقَرِينَةُ عُمُومِ النَّكِرَةِ هُنَا لَا تَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ لَا لِمُطْلَقِ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي (يَصُدُّونَهُمْ) عَائِدٌ إِلَى مَنْ لِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْشُو عَن ذكر الرحمان نُقَيِّضْ لَهُمْ شَيَاطِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْطَانٌ. وَضَمِيرَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ (يَصُدُّونَهُمْ) ، أَيْ وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ أَنْفُسَهُمْ مُهْتَدِينَ. وَقَدْ تَتَشَابَهُ الضَّمَائِرُ فَتَرُدُّ الْقَرِينَةُ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا

[سورة الزخرف (43) : آية 38]

فَضَمِيرُ: أَحْرَزُوا، لِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ، وَضَمِيرُ: جَمَّعُوا، لِلْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] . وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّبِيلِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ الْمُمْتَدَّةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَقَدْ مُثِّلَتْ حَالَةُ الَّذِينَ يَعْشُونَ عَن ذكر الرحمان وَحَالُ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِحَالِ مَنِ اسْتَهْدَى قَوْمًا لِيَدُلُّوهُ عَلَى طَرِيقٍ مُوصِلٍ لِبُغْيَتِهِ فَضَلَّلُوهُ وَصَرَفُوهُ عَنِ السَّبِيلِ وَأَسْلَكُوهُ فِي فَيَافِي التِّيهِ غِشًّا وَخَدِيعَةً، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى حَيْثُ يَبْلُغُ طَلِبَتَهُ. فَجُمْلَةُ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُمْ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْله فَهُوَ [الزخرف: 36] وَالرَّابِطُ وَاوُ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِهِمْ إِلَى السَّبِيلِ. وَالِاهْتِدَاءُ: الْعِلْمُ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَقْصُود. [38] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 38] حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ التَّسَبُّبَ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ مَجَازِيَّةٌ. فَاسْتِعْمَالُ حَتَّى فِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَلَيْسَتْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى دَوَامِ الصَّدِّ عَنِ السَّبِيلِ وَحُسْبَانِ الْآخَرِينَ الِاهْتِدَاءَ إِلَى فَنَاءِ الْقَرِينَيْنِ، إِذْ قَدْ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ فَيَنْقَطِعَ الصَّدُّ وَالْحُسْبَانُ فَلَا تَغْتَرَّ بِتَوَهُّمِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُفَارَقُ حَتَّى فِي جَمِيعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَر جاآنا بِأَلِفِ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى عَائِدًا عَلَى مَنْ يَعْشُ عَن ذكر الرحمان وَقَرِينِهِ، أَيْ شَيْطَانِهِ، وَأُفْرِدَ ضَمِيرُ قالَ لِرُجُوعِهِ إِلَى مَنْ يَعْشُ عَن ذكر الرحمان خَاصَّةً، أَيْ قَالَ الْكَافِرُ مُتَنَدِّمًا عَلَى مَا فَرَّطَ مِنِ اتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ وَائْتِمَارِهِ بِأَمْرِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جاءَنا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قالَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: 36] ، أَيْ قَالَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الَّذِي يعشو. وَالْمعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ قِرَاءَةَ التَّثْنِيَةِ صَرِيحَةٌ فِي مَجِيءِ الشَّيْطَانِ مَعَ قَرِينِهِ الْكَافِرِ وَأَنَّ الْمُتَنَدِّمَ هُوَ الْكَافِرُ، وَالْقِرَاءَةُ بِالْإِفْرَادِ مُتَضَمِّنَةٌ مَجِيءَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ شَيْطَانَهُ الْقَرِينَ حَاضِرٌ مِنْ خِطَابِ الْآخَرِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: وَبَيْنَكَ. وَحَرْفُ يَا أَصْلُهُ لِلنِّدَاءِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّلَهُّفِ كَثِيرًا كَمَا فِي قَوْلِهِ يَا حَسْرَةً [يس: 30] وَهُوَ هُنَا لِلتَّلَهُّفِ وَالتَّنَدُّمِ. وَالْمُشْرِقَانِ: الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، غُلِّبَ اسْمُ الْمَشْرِقِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ خُطُورًا بِالْأَذْهَانِ لِتَشَوُّفِ النُّفُوسِ إِلَى إِشْرَاقِ الشَّمْسِ بَعْدَ الْإِظْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ: إِمَّا مَكَانُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا فِي الْأُفُقِ، وَإِمَّا الْجِهَةُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تَبْدُو الشَّمْسُ مِنْهَا عِنْدَ شُرُوقِهَا وَتَغِيبُ مِنْهَا عِنْدَ غُرُوبِهَا فِيمَا يَلُوحُ لِطَائِفَةٍ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهُوَ مَثَلٌ لِشِدَّةِ الْبُعْدِ. وَأُضِيفَ بُعْدَ إِلَى الْمَشْرِقَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ بِتَقْدِيرِ: بَعُدَ لَهُمَا، أَيْ مُخْتَصٌّ بِهِمَا بِتَأْوِيلِ الْبُعْدِ بِالتَّبَاعُدِ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ حَصَلَ مِنْ صِيغَةِ التَّغْلِيبِ وَمِنَ الْإِضَافَةِ. وَمُسَاوَاتُهُ أَنْ يُقَالَ بُعْدَ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْمَغْرِبِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَنَابَتْ كَلِمَةُ الْمَشْرِقَيْنِ عَنْ سِتِّ كَلِمَاتٍ. وَقَوْلُهُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، بَعْدَ أَنْ تَمَنَّى مُفَارَقَتَهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ ذَمًّا فَالْكَافِرُ يَذُمُّ شَيْطَانَهُ الَّذِي كَانَ قَرِينًا، وَيُعَرِّضُ بِذَلِكَ لِلتَّفَصِّي مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى الشَّيْطَانِ الَّذِي أَضَلَّهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا تَفْظِيعُ عَوَاقِبِ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ الَّتِي كَانَتْ شَغَفَ الْمُتَقَارِنِينَ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مُقَارَنَةٍ على عمل سيئ الْعَاقِبَةِ. وَهَذَا مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] .

[سورة الزخرف (43) : آية 39]

وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ وَذَمِّ الشَّيَاطِينِ لِيَعَافُهُمُ النَّاسُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] . [39] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 39] وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] وَأَنَّ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فعل جاءَنا [الزخرف: 38] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ حَضَرَا لِلْحِسَابِ وَتِلْكَ الْحَضْرَةُ تُؤْذِنُ بِالْمُقَاوَلَةِ فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا حَضَرَا وَتَبَرَّأَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ قَصْدًا لِلتَّفَصِّي مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ آنِفًا فَيَقُولُ اللَّهُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ عَشَوْا عَن ذكر الرحمان وَلِشَيَاطِينِهِمْ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تُلْقُوا التَّبِعَةَ عَلَى الْقُرَنَاءِ فَأَنْتُمْ مُؤَاخَذُونَ بِطَاعَتِهِمْ وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِإِضْلَالِكُمْ وَأَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ عَذَابَ فَرِيقٍ لَا يُخَفِّفُ عَنْ فَرِيقٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: 38] . وَوُقُوعُ فِعْلِ يَنْفَعَكُمُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ نَافِعًا بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَا يُخَفِّفُ عَنِ الشَّرِيكِ مِنْ عَذَابِهِ. وَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنْ تَسَلِّي أَحَدٍ بِرُؤْيَةِ مِثْلِهِ مِمَّنْ مُنِيَ بِمُصِيبَةٍ فَذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَعَالَمُ الْحَقَائِقِ دُونَ الْأَوْهَامِ. وَفِي هَذَا التَّوَهُّمِ جَاءَ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى جَعْلِ الْمَصْدَرِ فَاعِلًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِنَّكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِذْ ظَلَمْتُمْ

وَفَاعِلُ يَنْفَعَكُمُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى التَّمَنِّي بِقَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] ، أَيْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ تَمَنِّيكُمْ وَلَا تَفَصِّيكُمْ. وإِذْ أَصْلُهُ ظَرْفٌ مُبْهَمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي تُفَسِّرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُضَافُ هُوَ إِلَيْهَا وَيَخْرُجُ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مَا يُقَارِبُهَا بِتَوَسُّعٍ أَوْ إِلَى مَا يُشَابِهُهَا بِالْمَجَازِ. وَهُوَ التَّعْلِيلُ، وَهِيَ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، شُبِّهَتْ عِلَّةُ الشَّيْءِ وَسَبَبُهُ بِالظَّرْفِ فِي اللُّزُومِ لَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مَعْنَى التَّعْلِيلِ مِنْ مَعَانِي إِذْ وَلَمْ يَنْسُبْهُ لأحد من أيمة النَّحْوِ وَاللُّغَةِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ إِذْ بَدَلًا من الْيَوْمَ، وَتَأْويل الْكَلَامَ عَلَى جَعْلِ فِعْلِ ظَلَمْتُمْ بِمَعْنَى: تَبَيَّنَ أَنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ، أَيْ وَاسْتَعْمَلَ الْإِخْبَارَ بِمَعْنَى التَّبَيُّنِ، كَقَوْلِ زَائِدِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْفَقْعَسِيِّ: إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدَّا أَيْ تَبَيَّنَ أَنْ لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: رَاجَعْتُ أَبَا عَلِيٍّ مِرَارًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ الْآيَةَ مُسْتَشْكِلًا إِبْدَالَ إِذْ مِنَ الْيَوْمَ فَآخِرُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ فَكَأَنَّ الْيَوْمَ مَاضٍ أَوْ كَانَ إِذْ مُسْتَقْبلَة اهـ. وَهُوَ جَوَابٌ وَهِنٌ مَدْخُولٌ. وَأَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَوَالٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ وَهِيَ لَنْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، والْيَوْمَ اسْمٌ لِزَمَنِ الْحَالِ، وإِذْ اسْمٌ لِزَمَنِ الْمُضِيِّ، وَثَلَاثَتُهَا مَنُوطَةٌ بِفِعْلِ يَنْفَعَكُمُ وَمُقْتَضَيَاتُهَا يُنَافِي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالنَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُنَافِي التَّقْيِيدَ بِ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ لِلْحَالِ، وإِذْ يُنَافِي نَفْيَ النَّفْعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيُنَافِي التَّقْيِيدَ بِ الْيَوْمَ فَتَصَدَّى الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ لِدَفْعِ التَّنَافِي بَيْنَ مُقْتَضَى إِذْ وَمُقْتَضَى الْيَوْمَ بِتَأْوِيلِ مَعْنَى إِذْ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَمْ يَتَصَدَّ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لِدَفْعِ التَّنَافِي بَيْنَ مُقْتَضَى الْيَوْمَ الدَّالِّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ وَبَيْنَ مُقْتَضَى لَنْ وَهُوَ حُصُولُ النَّفْيِ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَأَنَا أَرَى لِدَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ ظَرْفًا لِلْحُكْمِ وَالْإِخْبَارِ، أَيْ تَقَرَّرَ الْيَوْمَ انْتِفَاءُ انْتِفَاعِكُمْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْعَذَابِ انْتِفَاءً مُؤَبَّدًا مِنَ الْآنَ، كَقَوْلِ مِقْدَامٍ الدُّبَيْرِيِّ:

[سورة الزخرف (43) : آية 40]

لَنْ يُخْلِصَ الْعَامَ خَلِيلٌ عَشْرَا ... ذَاقَ الضِّمَادَ أَوْ يَزُورَ الْقَبْرَا وَقَدْ حَصَلَ مِنِ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الدَّوَالِّ الثَّلَاثِ فِي الْآيَةِ طِبَاقٌ عَزِيزٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ فِي الْجُمْلَة. [40] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 40] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً [الزخرف: 36] لِأَنَّ ذَلِكَ أَفَادَ تَوَغُّلَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ وَعُسْرَ انْفِكَاكِهِمْ عَنْهَا، لِأَنَّ مُقَارَنَةَ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى التَّهْوِينِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّحَرُّقِ عَلَيْهِمْ فِي تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْغَيِّ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَأْيِيسٍ مِنَ اهْتِدَاءِ أَكْثَرِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ حرص الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُمْ نَاجِعًا فِيهِمْ إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ ضَلَالَهُمْ فَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النَّحْل: 37] ، وَلَمَّا كَانَ حَال الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُعَاوَدَةِ دَعْوَتِهِمْ كَحَالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ التَّذْكِيرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ فَخُوطِبَ بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ وَسُلِّطَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى كَلَامٍ فِيهِ طَرِيقُ قَصْرٍ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ مَعَ إِيلَاءِ الضَّمِيرِ حَرْفَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ قَصْرٌ مُؤَكَّدٌ وَقَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ أَنْتَ لَا تُسْمِعُهُمْ وَلَا تَهْدِيهِمْ بَلِ اللَّهُ يُسْمِعُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ إِنْ شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس: 99] . وَمِنْ بَدِيعِ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ حَالَ إِعْرَاضِهِمْ عَن الذّكر بالعشا، وَهُوَ النَّظَرُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ شَبَحَ الشَّيْءِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ هُنَا بِالصُّمِّ الْعُمْيِ إِشَارَةً أَنَّ التَّمَحُّلَ لِلضَّلَالِ وَمُحَاوَلَةَ تَأْيِيدِهِ يَنْقَلِبُ بِصَاحِبِهِ إِلَى أَشَدِّ الضَّلَالِ لَا أَنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وَالْأَحْوَالُ تَنْقَلِبُ مَلَكَاتٍ. وَهُوَ مَعْنَى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» أَيْ حَتَّى يَحِقَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَذِبَ مَلَكَةٌ لَهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ إِعْرَاضُهُمُ انْصِرَافًا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ كَانَ حَالُهُمْ يُشْبِهُ حَالَ الصُّمِّ الْعُمْيِ كَمَا مَهَّدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: 36]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 إلى 42]

كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالْعَشَا وَبَيْنَ مَا فِي هَذَا الِانْتِقَالِ لِوَصْفِهِمْ بِالصُّمِّ الْعُمْيِ. وَعَطْفُ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنَ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ بِاعْتِبَارِ انْفِرَادِهِمَا، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّمَمَ وَالْعَمَى لَمَّا كَانَا مَجَازَيْنِ قَدْ يَكُونُ تَعَلُّقُهُمَا بِالْمَسْمُوعِ وَالْمُبْصَرِ جُزْئِيًّا فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ فَكَانَ الْوَصْفُ بِالْكَوْنِ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ تَنْبِيهًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى أبين ضلالا. [41، 42] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 41 إِلَى 42] فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [الزخرف: 40] إِلَى آخِرِهَا الْمُتَضَمِّنَةِ إِيمَاء إِلَى التأييس مِنَ اهْتِدَائِهِمْ، وَالصَّرِيحَةِ فِي تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَجَاءَ هُنَا تَحْقِيقُ وَعْدٍ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَمَعْنَاهُ: الْوَعْدُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ إِنْ كَانَ فِي حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَوَعِيدُهُمْ بِالْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عِقَابِ الْآخِرَةِ، فَلِأَجْلِ الْوَفَاءِ بِهَذَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَانِ: الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَكَوْنُ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي حَيَاة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْمُفَرَّعُ هُوَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، فَمُرَادٌ مِنْهُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَ (إِمَّا) كَلِمَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ أَصْلُهُمَا (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (مَا) زَائِدَةٌ بَعْدَ (إِنْ) ، وَأُدْغِمَتْ نُونُ (إِنْ) فِي الْمِيمِ مِنْ حَرْفِ (مَا) ، وَزِيَادَةُ (مَا) لِلتَّأْكِيدِ، وَيَكْثُرُ اتِّصَالُ فِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَ (إِنِ) الْمَزِيدَةِ بَعْدَهَا (مَا) بِنُونِ التَّوْكِيدِ زِيَادَةً فِي التَّأْكِيدِ، وَيَكْتُبُونَهَا بِهَمْزَةٍ وَمِيمٍ وَأَلِفٍ تَبَعًا لِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا. وَالذَّهَابُ بِهِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّوَفِّي بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُفَارَقَةٌ لِلْأَحْيَاءِ فَالْإِمَاتَةُ كَالِانْتِقَالِ بِهِ، أَيْ تَغْيِيبِهِ وَلِذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنِ الْمَوْتِ بِالِانْتِقَالِ. وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بَعْدَ وَفَاتِكَ.

وَقَدِ اسْتَعْمَلَ مُنْتَقِمُونَ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقَةِ وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي وَعَدْناهُمْ الِانْتِقَامُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ بِقَتْلِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] وَالْبَطْشَةُ هِيَ بَطْشَةُ بَدْرٍ. وَجُمْلَةُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَإِنَّمَا صِيغَ كَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الِانْتِقَامِ وَدَوَامِهِ، وَأَمَّا جُمْلَةُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فَهِيَ دَلِيلُ جَوَابِ جُمْلَةِ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِأَنَّ اقْتِدَارَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا عَلَى إراءته الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ، فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لَا مَحَالَةَ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَتَقْدِيرُهُ: أَوْ إِمَّا نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ، وَهُوَ الِانْتِقَامُ تَرَ انْتِقَامًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مقتدرون، أَي مُقْتَدِرُونَ الْآنَ فَاسْمُ الْفَاعِلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانِ الْحَالِ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ: أَوْ إِمَّا نُرِيَنَّكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ مِنْهُمْ وعَلَيْهِمْ عَلَى مُتَعَلِّقَيْهِمَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فِي التَّمَكُّنِ بِالِانْتِقَامِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَيْهِمْ. وَالْوَعْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فَإِنَّ الْوَعْدَ إِذَا ذُكِرَ مَفْعُولُهُ صَحَّ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُهُ انْصَرَفَ لِلْخَيْرِ وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ لِلشَّرِّ دَائِمًا. وَالِاقْتِدَارُ: شِدَّةُ الْقُدْرَةِ، وَاقْتَدَرَ أَبْلَغُ مِنْ قَدَرَ. وَقَدْ غَفَلَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ وَجَوَابَاهُمَا عَلَى خَمْسَةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ (مَا) الزَّائِدَةُ، وَنُونُ التَّوْكِيدِ، وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلتَّوْكِيدِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى مُنْتَقِمُونَ.

[سورة الزخرف (43) : آية 43]

وَفَائِدَةُ التَّرْدِيدِ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَعْمِيمُ الْحَالَيْنِ حَالِ حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالِ وَفَاتِهِ. وَالْمَقْصُودُ: وَقْتُ ذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْقِيتُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّنَا مُنْتَقِمُونَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ كُنْتَ حَيًّا أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ، أَيْ فَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ مِنْ شَأْنِنَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ أَمْرِنَا وَدِينِنَا، وَلَعَلَّهُ لِدَفْعِ استبطاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ تَأْخِيرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالنَّبِيءِ الْمَوْتَ فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ دَعْوَتِهِ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْتِهِ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ لما يسمعونه. [43] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 43] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) لَمَّا هَوَّنَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَأَنْ لَا يَخُورَ عَزْمُهُ فِي الدَّعْوَةِ ضَجَرًا مِنْ تَصَلُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَنُفُورِهِمْ مِنَ الْحَقِّ. وَالِاسْتِمْسَاكُ: شِدَّةُ الْمَسْكِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْأَمْرُ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِفِعْلٍ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ لَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ هُنَا طَلَبُ الثَّبَاتِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهَذَا كَمَا يُدْعَى لِلْعَزِيزِ الْمُكْرَمِ، فَيُقَالُ: أَعَزَّكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَكَ، أَيْ أَدَامَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: أَحْيَاكَ اللَّهُ، أَيْ أَطَالَ حَيَاتَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الدُّعَاءِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: 6] . وَالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَأْيِيدٌ لِطَلَبِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ.

[سورة الزخرف (43) : آية 44]

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الْعَمَلُ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لِيُفِيدَ أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاسِخٌ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَتَمَكَّنُ السَّائِرُ مِنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَشُوبُهُ فِي سَيْرِهِ تَرَدُّدٌ فِي سُلُوكِهِ وَلَا خَشْيَةُ الضَّلَالِ فِي بُنْيَاتِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [79] . وَحَرْفُ عَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادِ بِهِ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَهَذَا تثبيت للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَا زَاغَ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَيَتْبَعُهُ تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا ثَنَاءٌ سَادِسٌ على الْقُرْآن. [44] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 44] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) ذُكِرَ حَظّ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الثَّنَاءِ وَالتَّأْيِيدِ فِي قَوْلِهِ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] الْمَجْعُولِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ تَعْلِيلٌ آخَرُ اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ حَظِّ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَدْحِ، وَالنَّفْعِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ، وَتَشْرِيفُهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: لَكَ وَأُتْبِعَ بِحَظِّ التَّابِعِينَ لَهُ وَلِكِتَابِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِقَوْلِهِ وَلِقَوْمِكَ. ثُمَّ عَرَّضَ بالمعرضين عَنهُ والمجافين لَهُ بقوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، مَعَ التَّوْجِيهِ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ ذِكْرٌ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يُكْسِبُهُ وَيُكْسِبُ قَوْمَهُ حُسْنَ السُّمْعَةِ فِي الْأُمَمِ فَمَنِ اتَّبَعَهُ نَالَ حَظَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عدّ فِي عِدَادَ الْحَمْقَى كَمَا سَيَأْتِي، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى انْتِفَاعِ الْمُتَّبِعِينَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتِضْرَارِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ فِيهَا، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى عَشَرَةِ مَعَانٍ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ أَوْفَرَ مَعَانِيَ مِنْ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ

الْمَعْدُودِ أَبْلَغَ كَلَامٍ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْإِيجَازِ إِذْ وَقَفَ، وَاسْتَوْقَفَ، وَبَكَى وَاسْتَبْكَى. وَذَكَرَ الْحَبِيبَ، وَالْمَنْزِلَ فِي مِصْرَاعٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ ذَلِكَ الْمِصْرَاعِ وَعِدَّةُ مَعَانِيهَا عَشَرَةٌ فِي حِينَ كَانَتْ مَعَانِي مِصْرَاعِ امْرِئِ الْقَيْسِ سِتَّةً مَعَ مَا تَزِيدُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَهِيَ التَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ وَالْكِنَايَةِ وَمُحَسِّنِ التَّوْجِيهِ. وَالذِّكْرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَ الْعَقْلِ، أَيِ اهْتِدَاءَهُ لِمَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ، فَشُبِّهَ بِتَذَكُّرِ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ كَثِيرُ الذِّكْرِ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ الْمَوْعِظَةِ. وَيَحْتَمِلُ ذِكْرَ اللِّسَانِ، أَيْ أَنَّهُ يُكْسِبُكَ وَقَوْمَكَ ذِكْرًا، وَالذِّكْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَالِبٌ فِي الذِّكْرِ بِخَبَرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ يُكْسِبُ قَوْمَهُ شَرَفًا يُذْكَرُونَ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يَعْنِي الْقُرْآنُ شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَاحْتَاجَ أَهْلُ اللُّغَاتِ كُلِّهَا إِلَى لِسَانِهِمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ فَشَرُفُوا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أهل اللّغات» . وَيُقَال ابْنُ عَطِيَّةَ «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فَإِذَا قَالُوا لَهُ: فَلِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَكَ؟ سَكَتَ حَتَّى إِذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: لِقُرَيْشٍ» . وَدَرَجَ عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» . فَفِي لَفْظِ ذِكْرٌ مُحَسِّنُ التَّوْجِيهِ فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَوْمَهُ بِالثَّنَاءِ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ مَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَقَومه هُمْ قُرَيْشٌ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ أَوْ جَمِيعُ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ شَرُفُوا بِكَوْنِ الرّسول الْأَعْظَم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ الشَّرَفُ لَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْصُرِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَوْلَاهُ مَا كَانَ لِلْعَرَبِ مَنْ يَشْعُرُ بِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا ثَنَاءٌ سَابِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالسُّؤَالُ فِي قَوْله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ سُؤَالُ تَقْرِيرٍ. فَسُؤَالُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ

[سورة الزخرف (43) : آية 45]

مِقْدَارِ الْعَمَلِ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ، وَسُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ قَالَ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف: 19] وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ [الْملك: 8، 11] . [45] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 45] وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) الْأَمْرُ بِالسُّؤَالِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِشُهْرَةِ الْخَبَرِ وَتَحَقُّقِهِ كَمَا فِي قَول السمؤال أَوِ الْحَارِثِيِّ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ وَقَوْلِ زَيْدِ الْخَيْلِ: سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ بشدّتنا وَقَوله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يُونُس: 94] إِذْ لَمْ يكن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَكٍّ حَتَّى يَسْأَلَ، وَإِلَّا فَإِنَّ سُؤَالَهُ الرُّسُلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَالْمَعْنَى اسْتَقْرِ شَرَائِعَ الرُّسُلِ وَكُتُبَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ هَلْ تَجِدُ فِيهَا عِبَادَةَ آلِهَةٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَاسْتَفْتِ قَلْبَكَ» أَيْ تَثَبَّتْ فِي مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَجُمْلَةُ أَجَعَلْنا بَدَلٌ من جملَة وَسْئَلْ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] أَيْ لَيْسَ آبَاؤُكُمْ بِأَهْدَى مِنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَكْذِيبَ رَسُولِنَا لِأَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السُّؤَالُ عَنْ شُهْرَةِ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنَّا مَا أَمَرْنَا بِعِبَادَةِ آلِهَةٍ دُونَنَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِنَا. وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] . وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الظَّرْفِ بِعَامِلِهِ.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 إلى 47]

وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رُسُلِنا بَيَانٌ لِ قَبْلِكَ. فَمَعْنَى أَجَعَلْنا مَا جَعَلْنَا ذَلِكَ، أَيْ جَعْلَ التَّشْرِيعِ وَالْأَمْرِ، أَيْ مَا أَمَرْنَا بِأَنْ تُعْبَدَ آلِهَةٌ دُونَنَا. فَوَصَفَ آلِهَةً بِ يُعْبَدُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَرْضَى بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ إِلَهًا مِثْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَكَانُوا فِي عَقَائِدِهِمْ أَشْتَاتًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُوهُ مِنَ اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. فَلَمَّا نُفِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أَبْطَلَ جَمِيعَ هَذِهِ التَّمَحُّلَاتِ. وَأُجْرِيَ آلِهَةً مَجْرَى الْعُقَلَاءِ فَوُصِفُوا بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ بِقَوْلِهِ: يُعْبَدُونَ. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جَرْيًا عَلَى مَا غَلَبَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِذِ اعْتَقَدُوهُمْ عُقَلَاءَ عَالِمِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَسَلْ بتَخْفِيف الْهمزَة. [46، 47] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 46 إِلَى 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَوْلَهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6- 8] . وَسَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ تَذْكِرَةً بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَا تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمَّا تَقَضَّى أُتْبِعَ بِتَنْظِيرِ حَال الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طُغَاةِ قَوْمِهِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِحَالِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَإِنَّ لِلْمِثْلِ وَالنَّظَائِرِ شَأْنًا فِي إِبْرَازِ الْحَقَائِقِ وَتَصْوِيرِ الْحَالَيْنِ تَصْوِيرًا يُفْضِي إِلَى تَرَقُّبِ مَا كَانَ لِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ مِنْ عَوَاقِبَ أَنْ تَلْحَقَ أَهْلَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى، فَإِن فِرْعَوْن وملئه تَلَقَّوْا مُوسَى بِالْإِسْرَافِ فِي الْكُفْرِ وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِاسْتِضْعَافِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَا بَذْخَةٍ وَلَا مُحَلًّى بِحِلْيَةِ الثَّرَاءِ وَكَانَتْ مُنَاسِبَةً قَوْلَهُ

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] الْآيَةُ هَيَّأَتِ الْمَقَامَ لِضَرْبِ الْمَثَلِ بِحَالِ بَعْضِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِشَرِيعَةٍ عُظْمَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ قَوْلُهُ فِيهَا فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: 55، 56] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآخِرِينَ الْمُكَذِّبُونَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ. وَمِنَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالْخُصُوصِ هُنَا: قَوْله وَمَلَائِهِ أَيْ عُظَمَاءِ قَوْمِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ شَبِيهٌ بِحَالِ أَبِي جَهْلٍ وَأَضْرَابِهِ، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَابِهٌ لِحَالِ قُرَيْشٍ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا من نبيء فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ من نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزخرف: 6، 7] ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف: 52] لِأَنَّهُمْ أَشْبَهُوا بِذَلِكَ حَالَ أَبِي جَهِلٍ وَنَحْوِهِ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ سَادَةِ قُرَيْشٍ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْأَدَبِ مِنْ كَلِمَةِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ رَسُولُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَتْرُكُوا جَانِبَ الْحَيَاءِ بِالْمَرَّةِ وَفِرْعَوْنُ كَانَ رَسُولُهُ غَرِيبًا عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف: 53] لِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] فَإِنَّ عَظَمَةَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ كَانَتْ بِوَفْرَةِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قِصَصِ بِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُمْ: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ [الزخرف: 49] وَهُوَ مُضَاهٍ لِقَوْلِهِ فِي قُرَيْشٍ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: 30] ، وَقَوْلُهُ: فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ، وَذَلِكَ إِنْذَارٌ بِمَا حَصَلَ مِنِ اسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ. فَحَصَلَ مِنَ الْعبْرَة فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْجَهَلَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي رَدِّ فَضْلِ الْفُضَلَاءِ فَيَتَمَسَّكُونَ بِخُيُوطِ الْعَنْكَبُوتِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ صَاحِبَ الْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ صَارَ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا انْتَصَرَ عَلَيْهِ الَّذِي اسْتَضْعَفَهُ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ.

[سورة الزخرف (43) : آية 48]

وَ (إِذا) حَرْفُ مُفَاجَأَةٍ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بعده حصل عَن غَيْرِ تَرَقُّبٍ فَتُفْتَتَحُ بِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُفَادُ مِنْهَا حُصُولُ حَادِثٍ عَلَى وَجْهِ الْمُفَاجَأَةِ. وَوَقَعَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا إِذا جَوَابًا لِحَرْفِ (لَمَّا) ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَ (لَمَّا) تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهَا جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ مَا فِي إِذا مِنْ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَالضَّحِكُ: كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْآيَاتِ وَالتَّكْذِيبِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْحَاضِرِينَ صَدَرَ مِنْهُمْ ضَحِكٌ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَ رُؤْيَةِ آيَةٍ إِذْ لَعَلَّ بَعْضَهَا لَا يَقْتَضِي الضَّحِكَ. [48] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 48] وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَحْوَالٍ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ إِلَّا كَافِيَةٌ فِي الرَّبْطِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى فِي حَالِ أَنَّهَا آيَاتٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَة فَإِنَّمَا يَسْتَخِفُّونَ بِهَا لِمُكَابَرَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَصَوْغُ نُرِيهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ. وَمَعْنَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ تَأْتِي تَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَكُونُ هُنَالِكَ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ مِنْ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ مُتَرَتِّبَةً فِي الْعِظَمِ بِحَسَبِ تَأَخُّرِ أَوْقَاتِ ظُهُورِهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ بعد أُخْرَى ناشىء عَنْ عَدَمِ الِارْتِدَاعِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَيَحْتَمِلُ مَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْآيَاتِ مَوْصُوفَاتٌ بِالْكِبَرِ لَا بِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً فِيهِ وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَلَاقَى فِي الْفَضْلِ وَتَتَفَاوَتُ مَنَازِلُهَا فِيهِ

التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ، أَيْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا، فَعَلَى ذَلِكَ بَنَى النَّاسُ كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: رَأَيْتُ رِجَالًا بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِيهَا فَتَارَةً يُفَضِّلُ هَذَا وَتَارَةً يُفَضِّلُ ذَاكَ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ (¬1) : مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي وَقَدْ فَاضَلَتِ الْأَنْمَارِيَّةُ (¬2) بَيْنَ الْكَمَلَةِ مِنْ بَنِيهَا ثُمَّ قَالَتْ لَمَّا أَبْصَرْتُ مَرَاتِبَهُمْ مُتَقَارِبَةً قَلِيلَةَ التَّفَاوُتِ: ثَكِلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. فَالْمَعْنَى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَهِيَ آيَةٌ جَلِيلَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَادُ تُنْسِيهِمُ الْآيَةَ الْأُخْرَى. وَالْأُخْتُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمُمَاثَلَةِ فِي كَوْنِهَا آيَةً. وَعُطِفَ وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ عَلَى جُمْلَةِ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ لِأَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْعَذَابُ: عَذَابُ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا يُؤْلِمُ وَيَشُقُّ، وَذَلِكَ الْقَحْطُ وَالْقُمَّلُ وَالطُّوفَانُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ فِي الْمَاءِ. وَالْأَخْذُ بِمَعْنَى: الْإِصَابَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْعَذابِ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا تَقُولُ: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، أَيْ ابَتْدَأْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُفِيقُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ إِذْ أُصِيبُوا بِسِنِي الْقَحْطِ. وَالرُّجُوعُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِذْعَانِ وَالِاعْتِرَافِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 28] . وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي نُرِيهِمْ وأَخَذْناهُمْ، ولَعَلَّهُمْ عَائِدَةٌ إِلَى فِرْعَوْن وملئه. [49] ¬

(¬1) قَائِله هُوَ العرندس الْكلابِي أَو عبيد بن العرندس من أَبْيَات. (¬2) الأنمارية هِيَ فَاطِمَة بنت الخرشب الأنمارية أم الكملة من بني عبس وهم أَبنَاء زِيَاد: ربيع وَعمارَة وَقيس وَأنس. وَلَهُم ألقاب: الْكَامِل، والحافظ، والوهاب، وَأنس الفوارس.

[سورة الزخرف (43) : آية 49]

[سُورَة الزخرف (43) : آيَة 49] وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) عَطَفَ عَلَى وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الزخرف: 48] . وَالْمَعْنَى: وَلَمَّا أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ عَلَى يَدِ مُوسَى سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. وَمُخَاطَبَتُهُمْ مُوسَى بِوَصْفِ السَّاحِرِ مُخَاطَبَةُ تَعْظِيمٍ تَزَلُّفًا إِلَيْهِ لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُمْ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ وَكَانَتْ عُلُومُ عُلَمَائِهِمْ سِحْرِيَّةً، أَيْ ذَاتَ أَسْبَابٍ خَفِيِّةٍ لَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُمْ وَغَيْرُ أَتْبَاعِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ لَهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 36، 37] . وَكَانَ السحر بِأَيْدِي الْكَهَنَةِ وَمِنْ مَظَاهِرِهِ تَحْنِيطُ الْمَوْتَى الَّذِي بقيت بِهِ جُثَثُ الْأَمْوَاتِ سَالِمَةً مِنِ الْبِلَى وَلَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهِ. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [134] قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَلَا تُنَافِي مَا هُنَا لِأَنَّ الْخِطَابَ خِطَابُ إِلْحَاحٍ فَهُوَ يَتَكَرَّرُ وَيُعَادُ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور بأيه السَّاحِرُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي الْوَقْفِ أَيْ بِفَتْحَةٍ دُونَ أَلِفٍ وَهُوَ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ رِوَايَةٌ. وَعَلَّلَهُ أَبُو شَامَةَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الرَّسْمَ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً وَهُوَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةُ أَيُّهَ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ، وَالْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْهَاءِ لِأَنَّهَا (هَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ يَفْصِلُ بَيْنَ (أَيْ) وَبَيْنَ نَعْتِهَا فِي النِّدَاءِ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ رَعْيًا لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالْأَصْلُ أَنْ يُرَاعَى فِي الرَّسْمِ حَالَةُ الْوَقْف. وعنوا ب رَبَّكَ الرَّبَّ الَّذِي دَعَاهُمْ مُوسَى إِلَى عِبَادَتِهِ. وَالْقِبْطُ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَبًّا وَلَا يُحِيلُونَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ، وَكَانَتْ لَهُمْ أَرْبَابٌ كَثِيرُونَ مُخْتَلِفَةٌ أَعْمَالُهُمْ وَقَدْرُهُمْ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَانَتْ عَقَائِدُ الْيُونَانِ. وَأَرَادُوا بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مَا خَصَّكَ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِكَ مِمَّا اسْتَطَعْتَ بِهِ أَنْ تَأْتِيَ بِخَوَارِقِ الْعَادَةِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 50]

وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ خَفِيَّةٍ قِيَاسًا عَلَى مَعَارِفِهِمْ بِخَصَائِصِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَامَّةُ، وَكَانَ الْكَهَنَةُ يَعْهَدُونَ بِهَا إِلَى تَلَامِذَتِهِمْ وَيُوصُونَهُمْ بِالْكِتْمَانِ. وَالْعَهْدُ: هُوَ الِائْتِمَانُ عَلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِهِ النُّبُوءَةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَإِذْ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الْعَهْدِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ادْعُ وَهِيَ لِلِاسْتِعَانَةِ. وَلَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ عَلِمُوا أَنَّ رَبَّ مُوسَى قَادِرٌ، وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عَهْدًا يَقْتَضِي اسْتِجَابَةَ سُؤْلِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ جَوَابٌ لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ ادْعُ لَنا رَبَّكَ أَي فَإِن دَعَوْتَ لَنَا وَكَشَفْتَ عَنَّا الْعَذَابَ لَنُؤَمِّنَنَّ لَكَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [134] لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ الْآيَةَ. فَ (مُهْتَدُونَ) اسْمُ فَاعِلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْوَعْدِ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله: يَنْكُثُونَ [الزخرف: 50] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [12، 13] حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الْآيَةَ. وَسَمَّوْا تَصْدِيقَهُمْ إِيَّاهُ اهْتِدَاءً لِأَنَّ مُوسَى سَمَّى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ هَدْيًا كَمَا فِي آيَةِ النَّازِعَاتِ [19] وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى. [50] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 50] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) أَيْ تَفَرَّعَ عَلَى تَضَرُّعِهِمْ وَوَعْدِهِمْ بِالِاهْتِدَاءِ إِذَا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ أَنَّهُمْ نَكَثُوا الْوَعْدَ. وَالنَّكْثُ: نَقْضُ الْحَبْلِ الْمُبْرَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [135] ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْخَيْسِ بِالْعَهْدِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ آنِفًا فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [الزخرف: 47] .

[سورة الزخرف (43) : آية 51]

[سُورَة الزخرف (43) : آيَة 51] وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِدَعْوَةِ مُوسَى، وَأَضْمَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ نَكْثَ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدُوهُ مُوسَى بِأَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ، خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَتَّبِعَ قَوْمُهُ دَعْوَةَ مُوسَى وَيُؤْمِنُوا بِرِسَالَتِهِ فَأَعْلَنَ فِي قَوْمِهِ تَذْكِيرَهُمْ بِعَظَمَةِ نَفْسِهِ لِيُثَبِّتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلِئَلَّا يَنْقُلَ إِلَيْهِمْ مَا سَأَلَهُ مِنْ مُوسَى وَمَا حَصَلَ مِنْ دَعْوَتِهِ بِكَشْفِ الْعَذَابِ وَلِيَحْسَبُوا أَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَذَابِ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ إِذْ قَوْمُهُ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مِنْ سُؤَالِ كَشْفِ الْعَذَابَ. وَالنِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي قَوْمِهِ. وَكَانَ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مُنَادُونَ يُعَيَّنُونَ لِذَلِكَ وَرُبَّمَا نَادَوْا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرَادُ عِلْمُ النَّاسِ بِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ [70] ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ [الشُّعَرَاء: 53- 55] . وَوَقَعَ فِي الْمَقَامَةِ الثَّلَاثِينَ لِلْحَرِيرِيِّ: «فَلَمَّا جَلَسَ كَأَنَّهُ ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ الْأَحْمَاءِ، وَحُرْمَةِ سَاسَانَ أُسْتَاذِ الْأُسْتَاذِينَ، وَقُدْوَةِ الشَّحَّاذِينَ، لَا عَقَدَ هَذَا الْعَقْدَ الْمُبَجَّلَ، فِي هَذَا الْيَوْمِ الْأَغَرِّ الْمُحَجَّلِ، إِلَّا الَّذِي جَالَ وَجَابَ، وَشَبَّ فِي الْكُدْيَةِ وَشَابَ» . فَذَلِكَ نِدَاءٌ لِإِعْلَانِ الْعَقْدِ. وَجُمْلَةُ قالَ إِلَخْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نَادَى، وَالْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ فِي قالَ مِثْلُ الَّذِي فِي وَنادى فِرْعَوْنُ. وَفِرْعَوْنُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي. فَالْأَنْهَارُ: فُرُوعُ النِّيلِ وَتُرَعُهُ، لِأَنَّهَا لِعِظَمِهَا جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ نَهَرٍ فَجُمِعَتْ عَلَى أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ لِنَهَرٍ وَاحِدٍ هُوَ النِّيلُ. فَإِنْ كَانَ مَقَرُّ مُلْكِ فِرْعَوْنَ هَذَا فِي مَدِينَةِ مَنْفِيسَ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ إِشَارَةً إِلَى تَفَارِيعِ النِّيلِ الَّتِي تَبْتَدِئُ قُرْبَ الْقَاهِرَةِ فَيَتَفَرَّعُ النِّيلُ بِهَا إِلَى فَرْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ فَرْعُ دِمْيَاطَ

[سورة الزخرف (43) : آية 52]

وَفَرْعُ رَشِيدٍ، وَتُعْرَفُ بِالدِّلْتَا. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ الَّذِي كَانَ يُدْعَى فَرْعُ تَنِيسَ لِأَنَّ تَنِيسَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَغَمَرَهَا الْبَحْرُ، وَلَهُ تَفَارِيعُ أُخْرَى صَغِيرَةٌ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تُرْعَةٌ، مِثْلُ تُرْعَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَهُنَالِكَ تَفَارِيعُ أُخْرَى تُدْعَى الرَّيَاحُ. وَإِنْ كَانَ مَقَرُّ مُلْكِهِ طَيْبَةَ الَّتِي هِيَ بِقُرْبِ مَدِينَةِ آبُو الْيَوْمَ فَالْإِشَارَةُ إِلَى جَدَاوِلِ النِّيلِ وَفُرُوعِهِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ لِعُيُونِهِمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ادَّعَى أَنَّ النِّيلَ يَجْرِي بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْ تَحْتِي كِنَايَةً عَنِ التَّسْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ [التَّحْرِيم: 10] أَيْ كَانَتَا فِي عِصْمَتِهِمَا. وَيَقُولُ النَّاسُ: دَخَلَتِ الْبَلْدَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَحْتَ الْمَلِكِ فُلَانٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّيْلَ يَجْرِي فِي مَمْلَكَتِهِ مِنْ بِلَادِ أَصْوَانَ إِلَى الْبَحْرِ فَيَكُونُ فِي تَحْتِي اسْتِعَارَةً لِلتَّمَكُّنِ مِنْ تَصَارِيفِ النِّيلِ كَالِاسْتِعَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مَرْيَم: 24] عَلَى تَفْسِيرِ (سَرِيًّا) بِنَهْرٍ، وَكَانَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يَرُوجُ عَلَى الدَّهْمَاءِ لِسَذَاجَةِ عُقُولِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَنْهَارِ مَصَبَّ الْمِيَاهِ الَّتِي كَانَتْ تَسْقِي الْمَدِينَةَ وَالْبَسَاتِينَ الَّتِي حَوْلَهَا وَأَنَّ تَوْزِيعَ الْمِيَاهِ كَانَ بِأَمْرِهِ فِي سِدَادٍ وَخِزَانَاتٍ، فَهُوَ يهوّل عَلَيْهِم بِأَنَّهُ إِذَا شَاءَ قَطَعَ عَنْهُمُ الْمَاءَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ يُوسُفَ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [يُوسُف: 59] فَيَكُونُ مَعْنَى مِنْ تَحْتِي مِنْ تَحْتِ أَمْرِي أَيْ لَا تَجْرِي إِلَّا بِأَمْرِي، وَقَدْ قِيلَ: كَانَتِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي تَحْتَ قَصْرِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَلا تُبْصِرُونَ تَقْرِيرِيٌّ جَاءَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ تَحْقِيقًا لِإِقْرَارِهِمْ حَتَّى أَنَّ الْمُقَرِّرَ يَفْرِضُ لَهُمُ الْإِنْكَارَ فَلَا يُنكرُونَ. [52] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 52] أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَأَنَا خَيْرٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ اللَّازِمُ تَقْدِيرُهُ بَعْدَهَا تَقْرِيرِيٌّ. وَمَقْصُودُهُ: تَصْغِيرُ شَأْنِ مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ بِأَشْيَاءَ هِيَ عَوَارِضُ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً انْتَقَلَ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ نَفْسِهِ إِلَى إِظْهَارِ

الْبَوْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُ دِينَهُ وَعِبَادَةَ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا. وَالْإِشَارَةُ هُنَا لِلتَّحْقِيرِ. وَجَاءَ بِالْمَوْصُولِ لِادِّعَاءِ أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ شَيْءٌ عُرِفَ بِهِ مُوسَى. وَالْمَهِينُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: الذَّلِيلُ الضَّعِيفُ، أَرَادَ أَنَّهُ غَرِيبٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بُيُوتِ الشَّرَفِ فِي مِصْرَ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ يَعْتَزُّ بِهِمْ، وَهَذَا سَفْسَطَةٌ وَتَشْغِيبٌ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ انْتِصَارٍ حَتَّى يُحَقَّرَ الْقَائِمُ فِيهِ بِقِلَّةِ النَّصِيرِ، وَلَا مَقَامَ مُبَاهَاةٍ حَتَّى يُنْتَقَصَ صَاحِبُهُ بِضَعْفِ الْحَالِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَكادُ يُبِينُ إِلَى مَا كَانَ فِي مَنْطِقِ مُوسَى مِنَ الْحُبْسَةِ وَالْفَهَاهَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي الْآيَةِ عَنْ مُوسَى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الْقَصَص: 34] وَفِي الْأُخْرَى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27، 28] ، وَلَيْسَ مَقَامُ مُوسَى يَوْمَئِذٍ مَقَامَ خَطَابَةٍ وَلَا تَعْلِيمٍ وَتَذْكِيرٍ حَتَّى تَكُونَ قِلَّةُ الْفَصَاحَةِ نَقْصًا فِي عَمَلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَقَامُ اسْتِدْلَالٍ وَحُجَّةٍ فَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِبْلَاغِ مُرَادِهِ وَلَوْ بِصُعُوبَةٍ وَقَدْ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ حِينَ تَفَرَّغَ لِدَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى [طه: 36] . وَلَعَلَّ فِرْعَوْنُ قَالَ ذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ فِي بَيْتِ فِرْعَوْنَ فَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ لِيُذَكِّرَ النَّاسَ بِأَمْرٍ قَدِيمٍ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي بُعِثَ مُوسَى فِي زَمَنِهِ هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي وَهُوَ ابْنُ رَعْمَسِيسَ الثَّانِي الَّذِي وُلِدَ مُوسَى فِي أَيَّامِهِ وَرُبِّيَ عِنْدَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ (مِنْفِطَاحَ) كَانَ يَعْرِفُ مُوسَى وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاء: 18] . وَأَمَّا رَسُولنَا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ ذَاتِ فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ وَكَانَتْ مُعْجِزَتُهُ الْقُرْآنَ الْمُعْجِزَ فِي بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَكَانَتْ صِفَةُ الرَّسُولِ الْفَصَاحَةَ لِتُكُونَ لَهُ الْمَكَانَةُ الْجَلِيلَةُ فِي نُفُوسِ قَوْمِهِ. وَمَعْنَى وَلا يَكادُ يُبِينُ وَيَكَادُ أَنْ لَا يُبِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الزخرف (43) : آية 53]

[سُورَة الزخرف (43) : آيَة 53] فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) لَمَّا تَضَمَّنَ وَصْفُهُ مُوسَى بِمَهِينٍ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهُ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ تَرَقِّيَا فِي إِحَالَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَفِرْعَوْنُ لِجَهْلِهِ أَوْ تَجَاهُلِهِ يُخَيِّلُ لِقَوْمِهِ أَنَّ لِلرِّسَالَةِ شِعَارًا كَشِعَارِ الْمُلُوكِ. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. [الزخرف: 31] . وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْإِنْزَالِ، أَيْ هَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَيْ سَوَّرَهُ الرَّبُّ بِهَا لِيَجْعَلَهُ مَلِكًا عَلَى الْأُمَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَسَاوِرَةٌ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ أَسْوِرَةٌ. وَالْأَسَاوِرَةُ: جَمْعُ أَسْوَارٍ لُغَةً فِي سِوَارٍ. وَأَصْلُ الْجَمْعِ أَسَاوِيرُ مُخَفَّفٌ بِحَذْفِ إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ ثُمَّ عَوَّضَ الْهَاء عَن الْمَحْذُوف كَمَا عَوَّضَتْ فِي زَنَادِقَةٍ جَمْعُ زِنْدِيقٍ إِذْ حَقُّهُ زَنَادِيقُ. وَأَمَّا سِوَارٌ فَيُجْمَعُ عَلَى أَسْوِرَةٍ. وَالسِّوَارُ: حَلْقَةٌ عَرِيضَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ تُحِيطُ بِالرُّسْغِ، هُوَ عِنْدُ مُعْظَمِ الْأُمَمِ مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَوْ ذَاتُ سَوَارٍ لَطَمَتْنِي أَيْ لَوْ حُرَّةٌ لَطَمَتْنِي، قَالَهُ أَحَدُ الْأَسْرَى لَطْمَتْهُ أَمَةٌ لِقَوْمٍ هُوَ أَسِيرُهُمْ. وَكَانَ السِّوَارُ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ بِفَارِسَ وَمِصْرَ يَلْبَسُ الْمَلِكُ سِوَارَيْنِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ شِعَارِ الْفَرَاعِنَةِ لُبْسُ سِوَارَيْنِ أَوْ أَسْوِرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَرُبَّمَا جَعَلُوا سِوَارَيْنِ عَلَى الرُّسْغَيْنِ وَآخَرَيْنِ عَلَى الْعَضُدَيْنِ. فَلَمَّا تَخَيَّلَ فِرْعَوْنُ أَنَّ رُتْبَةَ الرِّسَالَةِ مِثْلُ الْمُلْكِ حَسَبَ افْتِقَادَهَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ عِنْدَهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ الرِّسَالَةِ. وأَوْ لِلتَّرْدِيدِ، أَيْ إِنْ لَمْ تُلْقَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ من ذهب فلتجىء مَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ شَاهِدِينَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 54]

وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ وُجُودَ الْمَلَائِكَةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ فَلَعَلَّ فِرْعَوْنُ ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ مُجَارَاةً لِمُوسَى إِذْ لَعَلَّهُ سَمِعَ مِنْهُ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ فَأَرَادَ إِفْحَامَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَظْهَرُونَ لَهُ. ومُقْتَرِنِينَ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ، أَيْ مُقْتَرِنِينَ مَعَهُ فَهَذِهِ الْحَالُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى مَعَهُ لِئَلَّا يُحْمَلَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ عَلَى إِرَادَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَيِّدُهُ بِالْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَرَنْتُهُ بِهِ فَاقْتَرَنَ، أَيْ مُقْتَرِنِينَ بِمُوسَى وَهُوَ اقْتِرَانُ النصير لنصيره. [54] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 54] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) أَيْ فَتَفَرَّعَ عَنْ نِدَاءِ فِرْعَوْنَ قَوْمَهُ أَنْ أَثَّرَ بِتَمْوِيهِهِ فِي نُفُوسِ مَلَئِهِ فَعَجَّلُوا بِطَاعَتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِاتِّبَاعِ مُوسَى لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ. فَالْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةِ التَّأَمُّلِ فِي خَلْعِ طَاعَةِ فِرْعَوْنَ وَالتَّثَاقُلِ فِي اتِّبَاعِهِ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالِامْتِثَالِ لَهُ كَمَا يَخِفُّ الشَّيْءُ بَعْدَ التَّثَاقُلِ. وَالْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ فَأَسْرَعُوا إِلَى التَّصْدِيقِ بِمَا قَالَهُ بَعْدَ أَنْ صَدَّقُوا مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ لَمَّا رَأَوْا آيَاتِهِ نُزُولًا وَرَفْعًا. وَالْمُرَادُ بِ قَوْمَهُ هُنَا بَعْضُ الْقَوْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا مَجْلِسَ دَعْوَةِ مُوسَى هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَانُوا فِي صُحْبَةِ فِرْعَوْنَ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي استخف لمبالغة فِي أَخَفَّ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ [آل عمرَان: 155] وَقَوْلُهُمْ: هَذَا فِعْلٌ يَسْتَفِزُّ غَضَبَ الْحَلِيمِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةٍ فَأَطاعُوهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي غَيْرِ مَقَامِ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ قَدْ كَانُوا فَاسْقِينَ أَمْرٌ بَيَّنَ ضَرُورَةَ أَنَّ مُوسَى جَاءَهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَلَا يَقْتَضِي فِي الْمَقَامِ تَأْكِيدَ كَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، أَيْ كَافِرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَفُّوا لِطَاعَةِ رَأْسِ الْكُفْرِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَلِّهُونَ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا حَصَلَ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 55 إلى 56]

لَهُمْ تَرَدُّدٌ فِي شَأْنِهِ بِبِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ رَجَعُوا إِلَى طَاعَةِ فِرْعَوْنَ بِأَدْنَى سَبَبٍ. وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا: الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ فِي شَأْنِهِمْ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [145] سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ. [55، 56] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 55 إِلَى 56] فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) عُقِّبَ مَا مَضَى مِنَ الْقِصَّةِ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ الْمُتَفَرِّعُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهِيَ: الِانْتِقَامُ، فَالْإِغْرَاقُ، فَالِاعْتِبَارُ بِهِمْ فِي الْأُمَمِ بَعْدَهُمْ. وَالْأَسَفُ: الْغَضَبُ الْمَشُوبُ بِحُزْنٍ وَكَدَرٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى صَنِيعِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِعْلُ آسَفُونا لِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ انْتِقَامُ اللَّهِ مِنْهُمُ انْتِقَامًا كَانْتِقَامِ الْآسِفِ لِأَنَّهُمْ عَصَوْا رَسُولَهُ وَصَمَّمُوا عَلَى شِرْكِهِمْ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتِ الصِّدْقِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَاسْتُعِيرَ آسَفُونا لِمَعْنَى عَصَوْنَا لِلْمُشَابَهَةِ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا عَصَوْنَا عِصْيَانَ الْعَبْدِ رَبَّهُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْآسِفِ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْغَضَبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ كَمَا يُعَامِلُ السَّيِّدُ الْمَأْسُوفُ عَبْدًا أَسَفَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ لِرَحْمَةِ سَيِّدِهِ مَسْلَكًا. وَفِعْلُ آسَفَ قَاصِرٌ فَعُدِّيَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْهَمْزَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونا إِيجَازٌ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مُؤْسَفِينَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ حَتَّى يُبْنَى أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ فَدَلَّ إِنَاطَةُ أَدَاةِ التَّوْقِيتِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَآسَفُونَا فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ. وَالِانْتِقَامُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف: 41] . وَإِنَّمَا عُطِفَ فَأَغْرَقْناهُمْ بِالْفَاءِ عَلَى انْتَقَمْنا مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ إِغْرَاقَهُمْ هُوَ عَيْنُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، إِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ انْتَقَمْنا مُؤَوَّلٌ بِقَدَّرْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَيَكُونُ

عَطْفُ فَأَغْرَقْناهُمْ بِالْفَاءِ كَالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ تَسَبُّبِ آسَفُونا فِي الْإِغْرَاقِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: انْتَقَمْنَا مِنْهُم فأغرقناهم، عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ فَأَغْرَقْناهُمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَزِيدَتِ الْفَاءُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى التَّبْيِينِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ عَاطِفَةً جُمْلَةَ انْتَقَمْنا عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ [الزخرف: 54] فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ انْتَقَمْنا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ وَالْمُفَرَّعَةِ عَنْهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ [الْأَعْرَاف: 136] . وَفُرِّعَ عَلَى إِغْرَاقِهِمْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ سَلَفًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ، أَيْ يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ. وَالسَّلَفُ بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: جَمْعُ سَالِفٍ مِثْلَ: خَدَمٍ لِخَادِمٍ، وَحَرَسٍ لِحَارِسٍ. وَالسَّالِفُ الَّذِي يَسْبِقُ غَيْرَهُ فِي الْوُجُودِ أَوْ فِي عَمَلٍ أَوْ مَكَانٍ، وَلَمَّا ذُكِرَ الِانْتِقَامُ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّلَفِ هُنَا السَّالِفَ فِي الِانْتِقَامِ، أَيْ أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ سَيَلْقَوْنَ مِثْلَ مَا لَقَوْا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَالْكِسَائِيُّ سَلَفاً بِضَمِّ السِّينِ وَضَمِّ اللَّامِ وَهُوَ جَمْعُ سَلِيفٍ اسْمٌ لِلْفَرِيقِ الَّذِي سَلَفَ وَمَضَى. وَالْمَثَلُ: النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ، يُقَالُ: مَثَلَ بِفَتْحَتَيْنِ كَمَا يُقَالُ شَبَهُ، أَيْ مُمَاثِلٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمَثَلُ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ. وَأُطْلِقَ الْمَثَلُ عَلَى لَازِمِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ عِبْرَةً لِلْآخِرِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْعَجِيبِ الشَّأْنِ الَّذِي يَسِيرُ بَيْنَ النَّاسِ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ لِلْآخَرِينَ حَدِيثًا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ وَيَعِظُهُمْ بِهِ مُحَدِّثُهُمْ. وَمَعْنَى الْآخِرِينَ، النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ آخِرُ مُمَاثِلٍ لَهُمْ فِي حِينِ هَذَا الْكَلَامِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ المكذبون للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ آخِرُ الْأُمَمِ الْمُشَابِهَةِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا لَكُمْ وَمَثَلًا لَكُمْ فَاتَّعِظُوا بِذَلِكَ. وَيَتَعَلَّقُ لِلْآخِرِينَ بِ سَلَفاً وَمَثَلًا عَلَى وَجه التَّنَازُع.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 58]

[سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 57 إِلَى 58] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) عَطَفَ قِصَّةً مَنَّ أَقَاصِيصِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ أَقَاوِيلِهِمْ، جَرَتْ فِي مُجَادَلَةٍ مِنْهُمْ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا تَصْدِيرٌ وَتَمْهِيدٌ بَيْنَ يَدَيْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ [الزخرف: 63] الْآيَاتِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ذِكْرِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. واقتران الْكَلَام بلما الْمُفِيدَةِ وُجُودَ جَوَابِهَا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا، أَوْ تَوْقِيتِهِ، يَقْتَضِي أَنَّ مَضْمُونَ شَرْطِ لَمَّا مَعْلُومُ الْحُصُولِ وَمَعْلُومُ الزَّمَانِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَدِيثٍ جَرَى بِسَبَبٍ مِثْلُ ضَرَبَهُ ضَارِبٌ لِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ عِيسَى، عَلَى أَن قَوْلهم أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَى فِي أَثْنَاءِ الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِ عِيسَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ حِكَايَةِ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ عَقَائِدِهِمْ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ مَا يعرفهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ جَدَلٍ جَرَى مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَزِيدُهُ بَيَانًا قَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: 59] وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَخْفَى آيِ الْقُرْآنِ مَعْنًى مُرَادًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يُبَيِّنُ إِجْمَالَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ» وَزَادَ مِنْ عِنْدِهِ احْتِمَالًا رَابِعًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا ثَانِيًا وَوَجْهًا ثَالِثًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَمِعُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى.. كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: 59] وَلَيْسَ خُلْقُهُ مِنْ دُونِ أَبٍ بِأَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ آدَمَ مِنْ دُونِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ أَوْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسُورَةَ الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ قَالُوا: نَحْنُ أَهْدَى مِنَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا آدَمِيًّا وَنَحْنُ عَبَدَنَا الْمَلَائِكَةَ أَيْ يَدْفَعُونَ مَا سَفَّهَهُمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يُسَفِّهَ النَّصَارَى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنْ تَجَاهُلٍ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَدٍّ عَلَى النَّصَارَى.

وَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [98] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ إِذْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى قَبْلَ إِسْلَامه للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَاصَّةٌ لَنَا وَلِآلِهَتِنَا أَمْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ لَكُمْ وَلِآلِهَتِكُمْ وَلِجَمِيعِ الْأُمَمِ» ، قَالَ: «خَصَمْتُكَ وَرَبُّ الْكَعْبَةِ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ نَبِيءٌ وَقَدْ عَبَدَتْهُ النَّصَارَى فَإِنْ كَانَ عِيسَى فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِيَنَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا مَعَهُ» فَفَرِحَ بِكَلَامِهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَضَجَّ أَهْلُ مَكَّةَ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [101] وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى لِجَاجِهِمْ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَزِيدُ فِي رِوَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الزِّبَعْرَى: وَقَدْ عَبَدَتْ بَنُو مُلَيْحٍ الْمَلَائِكَةَ فَإِنْ كَانَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةُ فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِينَا. وَهَذَا يَتَلَاءَمُ مَعَ بِنَاءِ فِعْلِ ضُرِبَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ عِيسَى مَثَلًا لِمُجَادَلَتِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى، وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ مَضْرُوبًا فِي الْقُرْآنِ لَقَالَ: وَلَمَّا ضَرَبْنَا ابْنَ مَرْيَمَ مَثَلًا، كَمَا قَالَ بَعْدَهُ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: 59] . وَيَتَلَاءَمُ مَعَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ يَصِدُّونَ بِحَرْفِ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ دُونَ حَرْفِ (عَنْ) وَمَعَ قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي ضَرَبُوهُ عَائِدٌ إِلَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ عَلَى هَذَا الْمُمَثَّلُ بِهِ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ، لِأَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى نَظَّرَ آلِهَتَهُمْ بِعِيسَى فِي أَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِثْلَهُ فَإِذَا كَانُوا فِي النَّارِ كَانَ عِيسَى كَذَلِكَ. وَلَا يُنَاكِدُ هَذَا الْوَجْهَ إِلَّا مَا جَرَى عَلَيْهِ عَدُّ السُّوَرِ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ مِنْ عَدِّ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي كَانَتْ آيَتُهَا سَبَبَ الْمُجَادَلَةِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ وَلَعَلَّ تَصْحِيحَ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ بَكُرَ بِالْإِبْطَالِ عَلَى مَنْ جَعَلَ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِالْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ تَرْتِيبُ النُّزُولِ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَلَا بِمُحَقَّقِ السَّنَدِ فَهُوَ يُقْبَلُ مِنْهُ مَا لَا مُعَارِضَ لَهُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ ثُمَّ تُلْحَقُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَهَا.

فَإِذَا رُجِّحَ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ كَانَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِابْنِ الزِّبَعْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 101] لِأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ شُمُولِ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] لِعِيسَى مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ نَظَرٌ وَإِنْصَافٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا إِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَى مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ لَا إِلَى مَعْبُودِ النَّصَارَى وَقَلِيلٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ بِالْخِطَابِ الْقُرْآنِيِّ أَيَّاَمَئِذٍ، وَلَمَّا أجابهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْآيَةَ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ إِنَّمَا عَنَى الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ أَصْنَامِهِمْ لَا تَفْقَهُ وَلَا تَتَّصِفُ بِزَكَاءٍ، بِخِلَافِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمُ الْقُرْآنُ بِرِفْعَةِ الدَّرَجَةِ قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا، إِذْ لَا لَبْسَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِقَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا جَوَابًا إِجْمَالِيًّا، أَيْ مَا أَرَادُوا بِهِ إِلَّا التَّمْوِيهَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ تُفِيدُ أَنَّ عِيسَى لَيْسَ حَصَبَ جَهَنَّمَ، وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ إِجْمَالٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ وَتَذْكِيرٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحَادِثَةِ حِينَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٍ يَصِدُّونَ بِضَمِّ الصَّادِّ مِنَ الصُّدُودِ إِمَّا بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ وَالْمُعْرَضُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا بِجَدَلِهِمْ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَنَاقُضًا، وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الضَّمَّ لُغَةٌ فِي مُضَارِعِ صَدَّ بِمَعْنَى ضَجَّ مِثْلُ لُغَةِ كَسْرِ الصَّادِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الصَّادِ وَهُوَ الصَّدُّ بِمَعْنَى الضَّجِيجِ وَالصَّخَبِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا قُرَيْشٌ قَوْمُكَ يَصْخَبُونَ وَيَضِجُّونَ مِنِ احْتِجَاجِ ابْنِ الزِّبَعْرَى بِالْمَثَلِ بِعِيسَى فِي قَوْلِهِ، مُعْجَبِينَ بِفَلْجِهِ وَظُهُورِ حُجَّتِهِ لِضَعْفِ إِدْرَاكِهِمْ لِمَرَاتِبِ الِاحْتِجَاجِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِعُنْوَانِ قَوْمُكَ. لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيْفَ فَرِحُوا مِنْ تَغَلُّبِ ابْنِ الزِّبَعْرَى على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِمْ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ مَعَ أَنَّهُمْ قَوْمُكَ وَلَيْسُوا قَوْمَ عِيسَى وَلَا أَتْبَاعَ دِينِهِ فَكَانَ فَرَحُهُمْ ظُلْمًا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، قَالَ زُهَيْرٌ:

وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مَنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْهُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ يَصِدُّونَ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ (عَنْ) ، وَلَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِهَا عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِ يَصِدُّونَ تَعَلُّقًا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ يَصُدُّونَ صَدًّا نَاشِئًا مِنْهُ، أَيْ مِنَ الْمَثَلِ، أَيْ ضُرِبَ لَهُمْ مَثَلٌ فَجَعَلُوا ذَلِكَ الْمَثَلَ سَبَبًا لِلصَّدِّ. وَقَالُوا جَمِيعًا: آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، تَلَقَّفُوهَا مِنْ فَمِ ابْنِ الزِّبَعْرَى حِينَ قَالَهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادُوهَا. فَهَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى: إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى نَبِيءٌ وَقَدْ عَبَدَتْهُ النَّصَارَى فَإِنْ كَانَ عِيسَى فِي النَّارِ قَدْ رَضِينَا أَنْ نَكُونَ وَآلِهَتُنَا فِي النَّارِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ تَقْرِيرِيٌّ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيءَ يُفَضِّلُ عِيسَى عَلَى آلِهَتِهِمْ، أَيْ فَقَدْ لَزِمَكَ أَنَّكَ جَعَلْتَ أَهْلًا لِلنَّارِ مَنْ كُنْتَ تُفَضِّلُهُ فَأَمْرُ آلِهَتِنَا هَيِّنٌ. وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي مَا ضَرَبُوهُ عَائِدٌ إِلَى ابْنِ الزِّبَعْرَى وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أُعْجِبُوا بِكَلَامِهِ وَقَالُوا بِمُوجَبِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ الْغَائِبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا لَكَ ذَلِكَ الْمَثَلَ إِلَّا جَدَلًا مِنْهُمْ، أَيْ مُحَاجَّةً وَإِفْحَامًا لَكَ وَلَيْسُوا بِمُعْتَقِدِينَ هَوْنَ أَمْرِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَهُمْ، وَلَا بِطَالِبِينَ الْمَيْزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عِيسَى خَيْرٌ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا مُجَارَاةَ النَّبِيءِ فِي قَوْلِهِ لِيُفْضُوا إِلَى إِلْزَامِهِ بِمَا أَرَادُوهُ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي ضَرَبُوهُ عَائِدًا إِلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ فِعْلِ وَقالُوا، أَيْ مَا ضَرَبُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ، أَيْ مَا قَالُوهُ إِلَّا جَدَلًا. فَالضَّرْبُ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ بَيْتًا، وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا

[سورة الزخرف (43) : آية 59]

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا جَدَلًا مُفَرَّغٌ لِلْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ أَوْ لِلْحَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ جَدَلًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ مَا ضَرَبُوهُ لِشَيْءٍ إِلَّا لِلْجَدَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِهِ بِمُجَادِلِينَ أَيْ مَا ضَرَبُوهُ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ أَنَّهُمْ مُجَادِلُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى وَصْفِهِمْ بِحُبِّ الْخِصَامِ وَإِظْهَارِهِمْ مِنَ الْحُجَجِ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ تَمْوِيهًا عَلَى عَامَّتِهِمْ. وَالْخَصْمُ بِكَسْرِ الصَّادِ: شَدِيدُ التَّمَسُّكِ بِالْخُصُومَةِ وَاللَّجَاجِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ عِنْدَهُ، فَهُوَ يُظْهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور آلِهَتُنا بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ بتخفيفها. [59] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 59] إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) لَمَّا ذُكِرَ مَا يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ جِدَالِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] ، وَكَانَ سَبَبُ جِدَالِهِ هُوَ أَنَّ عِيسَى قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمْ يَتْرُكِ الْكَلَامَ يَنْقَضِي دُونَ أَنْ يُرْدِفَ بِتَقْرِيرِ عُبُودِيَّةِ عِيسَى لِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، إِظْهَارًا لِخَطَلِ رَأْيِ الَّذِينَ ادَّعَوْا إِلَهِيَّتَهُ وَعَبَدُوهُ وَهُمُ النَّصَارَى حِرْصًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لِلْحَقِّ. وَقَدْ قُصِرَ عِيسَى عَلَى الْعُبُودِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ قَصْرِ الْقَلْبِ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ زَعَمُوهُ إِلَهًا، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ لَا إِلَهٌ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ. ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ: أَنْعَمْنا عَلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَدْ فُضِّلَ بِنِعْمَةِ الرِّسَالَةِ، أَيْ فَلَيْسَتْ لَهُ خُصُوصِيَّةُ مَزِيَّةٍ عَلَى بَقِيَّةِ الرُّسُلِ، وَلَيْسَ تَكْوِينُهُ بِدُونِ أَبٍ إِلَّا إِرْهَاصًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَهُوَ إِبْطَالٌ لِشُبْهَةِ الَّذِينَ أَلَّهُوهُ

[سورة الزخرف (43) : آية 60]

بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ كَوْنَهُ خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يُفِيدُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ كَانَ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ دُونَ أَنْ يَقْرَبَهَا ذَكَرٌ لِيَكُونَ عِبْرَةً عَجِيبَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ ضَعُفَ إِيمَانُهُمْ بِالْغَيْبِ وَبَعْدَ عَهْدِهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ فَبَعَثَ اللَّهُ عِيسَى مُجَدِّدًا لِلْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ، وَمُبَرْهِنًا بِمُعْجِزَاتِهِ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَمُعِيدًا لِتَشْرِيفِ اللَّهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، وَمُظْهِرًا لِفَضِيلَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَلِعِنَادِ الَّذِينَ مَنَعَهُمُ الدَّفْعُ عَنْ حُرْمَتِهِمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِمُعْجِزَاتِهِ فَنَاصَبُوهُ الْعَدَاءَ وَسَعَوْا لِلتَّنْكِيلِ بِهِ وَقَتْلِهِ فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَفَعَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَاهْتَدَى بِهِ أَقْوَامٌ وَافْتَتَنَ بِهِ آخَرُونَ. فَالْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِبْرَةِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: 56] . وَفِي قَوْلِهِ: لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِيسَى لَمْ يُبْعَثْ إِلَّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ، وَمَنِ اتَّبَعُوهُ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُصُورِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَإِنَّمَا تَقَلَّدُوا دَعْوَتَهُ لِأَنَّهَا تُنْقِذُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ والوثنية والتعطيل. [60] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 60] وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) لَمَّا أَشَارَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالَةِ الَّذِينَ زَعَمُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، مِنْ قَصْرِهِ عَلَى كَوْنِهِ عَبْدًا لِلَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَأَنَّهُ عِبْرَةٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عُقِّبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا يُمَاثِلُ تِلْكَ الضَّلَالَةَ، وَهِيَ ضَلَالَةُ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي ادِّعَاءِ بُنُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمِ حِكَايَتُهَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: 15] الْآيَاتِ فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى جَعَلَ مَكَانَهُمُ الْعَوَالِمَ الْعُلْيَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ بَدَلًا عَنِ النَّاسِ، أَيْ أَنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَهُمْ بِالذَّاتِ وَمَا هُوَ إِلَّا وَضْعٌ بِجَعْلٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ لِلْأَرْضِ سُكَّانًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَكَسَ فَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ فِي الْأَرْضِ بَدَلًا عَنْ

[سورة الزخرف (43) : آية 61]

النَّاسِ، فَلَيْسَ تَشْرِيفُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِسُكْنَى الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا بِمُوجِبٍ بُنُوَّتَهُمْ لِلَّهِ وَلَا بِمُقْتَضٍ لَهُمْ إِلَهِيَّةً، كَمَا لَمْ يَكُنْ تَشْرِيفُ عِيسَى بِنِعْمَةِ الرِّسَالَةِ وَلَا تَمْيِيزُهُ بِالتَّكَوُّنِ مِنْ دُونِ أَبٍ مُقْتَضِيًا لَهُ إِلَهِيَّةً وَإِنَّمَا هُوَ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ. وَجُعِلَ شَرْطُ لَوْ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ لَمْ تَزَلْ مُمْكِنَةً بِأَنْ يُعَوِّضَ لِلْمَلَائِكَةِ سُكْنَى الْأَرْضِ. وَمَعْنَى (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ الْبَدَلِيِّةُ وَالْعِوَضُ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 38] . وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ (جَعَلَنَا) ، وَقُدِّمَ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْبَدَلِيِّةِ لِتَتَعَمَّقَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ فِي تَدَبُّرِهَا. وَجُمْلَةُ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ شِبْهِ الْجُمْلَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْكُمْ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَخْلُفُونَ لِدَلَالَةِ مِنْكُمْ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُ هَذَا الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ بَيَانًا لِمَضْمُونِ مِنْكُمْ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَعَلَيْهِ دَرَجَ الْمُحَقِّقُونَ. وَمُحَاوَلَةُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» حَمْلُ مِنْكُمْ عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَائِيَّةِ وَالِاتِّصَالُ لَا يُلَاقِي سِيَاق الْآيَات. [61] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 61] وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها. الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرِدَاتٍ وَاعْتِرَاضًا اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَةُ. لَمَّا أُشْبِعَ مَقَامُ إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ ثُنِي الْعِنَانُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. وَهَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُنْكِرِينَ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ وَبِذَلِكَ

فَسَّرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَيَكُونُ هَذَا ثَنَاءً ثَامِنًا عَلَى الْقُرْآنِ، فَالثَّنَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ اسْتَمَرَّ مُتَّصِلًا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ آخِذًا بَعْضَهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ مُتَخَلَّلًا بِالْمُعْتَرِضَاتِ وَالْمُسْتَطْرِدَاتِ وَمُتَخَلِّصًا إِلَى هَذَا الثَّنَاءِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ. وَيُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: 43] وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، عَلَى أَنَّ وُرُودَ مِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْقُرْآنُ كَثِيرٌ مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ مَعَادٍ فَضْلًا عَلَى وُجُودِ مَعَادِهِ. وَمَعْنَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْقُرْآنَ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالدِّينِ الْخَاتَمِ لِلشَّرَائِعِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ إِلَّا انْتِظَارُ انْتِهَاءِ الْعَالَمِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ مِنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى مُشِيرًا إِلَيْهِمَا» ، وَالْمُشَابَهَةُ فِي عَدَمِ الْفَصْلِ بَينهمَا. وَإسْنَاد لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ إِذْ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْمُتَنَوِّعَةُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَوُقُوعِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمُعْلِمِ، مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهِ مُحَصِّلًا لِلْعِلْمِ بِالسَّاعَةِ إِذْ لَمْ يُقَارِبْهُ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَاسَبَ هَذَا الْمَجَازَ أَوِ الْمُبَالَغَةَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُبْقِ لِأَحَدٍ مِرْيَةً فِي أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِعِيسَى، وَتَأَوَّلُوهُ بِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَامَةُ السَّاعَةِ، أَيْ سَبَبُ عِلْمٍ بِالسَّاعَةِ، أَيْ بِقُرْبِهَا، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ فَإِنَّ تَقْدِيرَ مُضَافٍ وَهُوَ نُزُولُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَيُنَاكِدُهُ إِظْهَارُ اسْمِ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ عِيسى [الزخرف: 63] إِلَخْ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرَ شَأْنٍ، أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُهِمَّ لِعِلْمِ النَّاسِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ.

[سورة الزخرف (43) : آية 62]

وَعُدِّيَ فِعْلُ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: لَا تُكَذِّبُنَّ بِهَا، أَوِ الْبَاءِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ. وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ اتَّبَعُوا مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ كَلَامِي وَرَسُولِي، جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الضَّمَائِرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمُرَادُ بِاتِّبَاعِ اللَّهِ: اتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَإِرْشَادِهِ الْوَارِدِ عَلَى لِسَانِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاتِّبَاعُ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِامْتِثَالِهِمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنَّ شَبَّهَ حَالَ الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَ اللَّهِ بِحَالِ السَّالِكِينَ صِرَاطًا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [52، 53] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ: وَقُلِ اتَّبِعُونِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لِلْقُرْآنِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: 153] . وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا مَعَ بَقَاءِ نُونِ الْوِقَايَةِ دَلِيلا عَلَيْهَا. [62] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 62] وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) لَمَّا أُبْلِغَتْ أَسْمَاعُهُمْ أَفَانِينَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَرَى فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ حَظَّهُ مِنَ الْبَيَانِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَهْيِهِمْ عَنْ أَنْ يَحْصُلَ صَدُّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ عَنْ هَذَا الدِّينِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي دَعَوَا إِلَى اتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 61] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الصُّدُودَ عَنْ هَذَا الدِّينِ مِنْ وَسْوَسَةِ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 إلى 64]

الشَّيْطَانِ، وَتَذْكِيرًا بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ عَدَاوَةً قَوِيَّةً لَا يُفَارِقُهَا الدَّفْعُ بِالنَّاسِ إِلَى مساوئ الْأَعْمَالِ لِيُوقِعَهُمْ فِي الْعَذَابِ تَشَفِّيًا لِعَدَاوَتِهِ. وَقَدْ صِيغَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ فِي صَدِّهِ إِيَّاهُمْ بِصِيغَةِ نَهْيِ الشَّيْطَانِ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِي مُكْنَتِهِمُ الِاحْتِفَاظَ مِنَ الِارْتِبَاقِ فِي شِبَاكِ الشَّيْطَانِ، فَكُنِّيَ بِنَهْيِ الشَّيْطَانِ عَنْ صَدِّهِمْ عَنْ نَهْيِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ لَهُ بِأَبْلَغَ مِنْ تَوْجِيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، وَلَا أَلْفَيَنَّكَ فِي مَوْضِعِ كَذَا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُمُ الشَّيْطَانُ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْ مَكَائِدِ عَدُّوهِ. وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ نَاشِئَةٌ مِنْ خُبْثِ كَيْنُونَتِهِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْخُبْثِ مَنْ تَنَافِي الْعُنْصُرَيْنِ فَإِذَا الْتَقَى التَّنَافِي مَعَ خُبْثِ الطَّبْعِ نَشَأَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا الْقَصْدُ بِالْأَذَى، وَقَدْ أَذْكَى تِلْكَ الْعَدَاوَةَ حَدَثٌ قَارَنَ نَشْأَةَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ تَكْوِينِهِ، فِي قِصَّتِهِ مَعَ آدَمَ كَمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَحَرْفُ (إِنْ) هُنَا مَوْقِعُهُ مَوْقِعُ فَاءِ التَّسَبُّبِ فِي إِفَادَة التَّعْلِيل. [63، 64] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 63 إِلَى 64] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قِصَّةِ إِرْسَالِ مُوسَى. وَلَمْ يُذْكَرْ جَوَابُ لَمَّا فَهُوَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَمَوْقِعُ حَرْفِ لَمَّا هُنَا أَنَّ مَجِيءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ صَارَ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ مِمَّا تَقَدَّمَ

فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: 59] الْآيَةَ، أَيْ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَحُذِفَ جَوَابُ لَمَّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ سَنَنَ الْأُمَمِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ لَمْ يَخْتَلِفْ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ عَنْ قَوْمٍ آمَنُوا بِهِ وَقَوْمٍ كَذَّبُوهُ ثُمَّ كَانُوا سَوَاءً فِي نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَزَاعِمِ النَّصَارَى أَنَّ عِيسَى ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الزخرف: 65] أَيْ أَشْرَكُوا كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا. فَتَمَّ التَّشَابُهُ بَيْنَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّفْرِيعِ. وَفِي قِصَّةِ عِيسَى مَعَ قَوْمِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِشْرَاكَ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُخَامِرَ نُفُوسَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِقًا بِهَا مِنْ قبل، فَإِن عيس بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا يَدِينُونَ بِالشِّرْكِ إِذْ هُوَ قَدْ بُعِثَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّهُمْ مُوَحِّدُونَ فَلَمَّا اخْتَلَفَ أَتْبَاعُهُ بَيْنَهُمْ وَكَذَّبَتْ بِهِ فِرَقٌ وَصَدَّقَهُ فَرِيقٌ ثُمَّ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ حَدَثَتْ فِيهِمْ نِحْلَةُ الْإِشْرَاكِ. وَجُمْلَةُ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ وَلَيْسَتْ جَوَابًا لِشَرْطِ لَمَّا الَّذِي جُعِلَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم: 37] دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَفِي إِيقَاعِ جُمْلَةِ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بَيَانًا لِجُمْلَةِ جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ بَادَأَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنْ يُسْرِعُوا إِلَى غَايَاتِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَبَادِئُ الدَّعْوَةِ تُنَافِي عَقَائِدَهُمْ، أَيْ لَمْ يَدْعُهُمْ عِيسَى إِلَى أَكْثَرَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحِكْمَةِ وَبَيَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى مَا يُنَافِي أُصُولَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ صُدُودٍ مُرِيعٍ عَنْهُ وَتَكْذِيبٍ. وَابْتِدَاؤُهُ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ وَهُوَ إِجْمَالُ حَالِ رِسَالَتِهِ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي وَعْيِ مَا سَيُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ تَفَاصِيلِ الدَّعْوَةِ الْمُفَرَّعِ بَعْضُهَا عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. وَالْحِكْمَةُ هِيَ مَعْرِفَةُ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَسَنِ وَيَكُفُّ عَنِ الْقَبِيحِ وَهِي هُنَا النبوءة،

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [269] . وَقَدْ جَاءَ عِيسَى بِتَعْلِيمِهِمْ حَقَائِقَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَوَاعِظِ. وَقَوْلُهُ: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ، عُطِفَ عَلَى بِالْحِكْمَةِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ جِئْتُكُمْ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالتَّبْيِينُ: تَجْلِيَةُ الْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ لِغُمُوضٍ أَوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَهُ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْيَهُودِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ التَّوْرَاةِ أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَحْكَامِ لِلْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ الْمَحْكِيَّ فِي آيَة سُورَة آل عمرَان [50] وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ قَالَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ حِكَايَةُ مَا قَالَهُ لَهُمْ مِمَّا لَيْسَ شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ قَوْمَهُ بِالتَّكْذِيبِ فَهُمْ كَذَّبُوهُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَيْ كَذَّبُوهُ فِي حَالِ ظُهُورِ آيَاتِ صِدْقِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَفِي حَالِ انْتِفَاءِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ شَكًّا. وَإِنَّمَا قَالَ: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، إِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِبَيَانِ كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعْضِ ثُمَّ يَكْمُلُ بَيَانُ الْبَاقِي عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ يُبَيِّنُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ. وَإِمَّا لِأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ غَيْرُ شَامِلٍ لِجَمِيعِ مَا هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ يَنْتَظِرُ بَيَانَهُ مِنْ بَعْدُ تَدْرِيجًا فِي التَّشْرِيعِ كَمَا وَقَعَ فِي تَدْرِيجِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ رَاجِعًا إِلَى أَحْكَامِ الدِّينِ دُونَ مَا كَانَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَهْيِئَةٌ لَهُمْ لِقَبُولِ مَا سَيُبَيَّنُ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَوْ مِنْ بَعْدُ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِيمَا لَهُ ظَاهِرٌ وَفِي مَا يَرْجِعُ إِلَى الْبَيَانِ بِالنَّسْخِ، وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَفَرَّعَ عَلَى إِجْمَالِ فَاتِحَةِ كَلَامِهِ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ وَبَيَانِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَإِنَّ التَّقْوَى مَخَافَةَ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ» (¬1) ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ تَشْمَلُ مَعْنَى وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَإِذَا أَطَاعُوهُ عَمِلُوا بِمَا يُبَيِّنُ لَهُمْ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ الْعَمَلُ. وَأَجْمَعُ مِنْهُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَهُ «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» ، لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فِي شَرِيعَةٍ لَا يُتَرَقَّبُ بَعْدَهَا مَجِيءُ شَرِيعَةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَطِيعُونِ فَإِنَّهُ مَحْدُودٌ بِمُدَّةِ وُجُودِهِ بَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَفَرُّدُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ إِذْ لَا يَخَافُ اللَّهَ إِلَّا مَنِ اعْتَرَفَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِهَا. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، أَيِ اللَّهُ رَبِّي لَا غَيْرُهُ. وَهَذَا إِعْلَانٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى مُوَحِّدِينَ، لَكِنْ قَدْ ظَهَرَتْ بِدْعَةٌ فِي بَعْضِ فِرَقِهِمُ الَّذِينَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ غَيْرُ مُنْكِرِينَ ذَلِكَ. وَتَقْدِيمُ نَفْسِهِ عَلَى قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّي وَرَبُّكُمْ لِقَصْدِ سَدِّ ذَرَائِعِ الْغُلُوِّ فِي تَقْدِيسِ عِيسَى، وَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ سَتَغْلُو فِيهِ فِرَقٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَيَزْعُمُونَ بُنُوَّتَهَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَضِلُّونَ بِكَلِمَاتِ الْإِنْجِيلِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا عِيسَى: أَبِي، مُرِيدًا بِهِ اللَّهَ تَعَالَى. وَفُرِّعَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوهُ فَإِنَّ الْمُنْفَرِدَ بِالْإِلَهِيَّةِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُعْبَدَ. ¬

(¬1) رَوَاهُ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي «نَوَادِر الْأُصُول» عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا وَضَعفه الْبَيْهَقِيّ.

[سورة الزخرف (43) : آية 65]

وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، أَيْ هَذَا طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى الْفَوْزِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَدُونَ تَرَدُّدٍ، كَمَا أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَنْبَهِمُ السَّيْرُ فِيهِ على السائر. [65] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 65] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَذَا التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مَنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ مَسَاقَ التَّنْظِيرِ بَيْنَ أَحْوَالِ الرُّسُلِ، أَيْ عَقِبَ دَعْوَتِهِ اخْتِلَافَ الْأَحْزَابِ مِنْ بَيْنِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ وَالَّذِينَ تَقَلَّدُوا مِلَّتَهُ طَلَبًا لِلِاهْتِدَاءِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ (لَمَّا) الْمَحْذُوفِ. وَضَمِيرُ بَيْنِهِمْ مُرَادٌ بِهِ الَّذِينَ جَاءَهُمْ عِيسَى لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَ عِيسى [الزخرف: 63] فَإِنَّ الْمَجِيءَ يَقْتَضِي مَجِيئًا إِلَيْهِ وَهُمُ الْيَهُودُ. ومِنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ مَدْلُولِ بَيْنِهِمْ أَيِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافَ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ فَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ عِيسَى وَهُمْ: يحيى بن زَكَرِيَّاء وَمَرْيَمُ أَمُّ عِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ الِاثْنَا عَشَرَ وَبَعْضُ نِسَاءٍ مِثْلُ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ وَنَفَرٍ قَلِيلٍ، وَكَفَرَ بِهِ جُمْهُورُ الْيَهُودِ وَأَحْبَارُهُمْ، وَكَانَ مَا كَانَ مَنْ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ. ثُمَّ انْتَشَرَ الْحَوَارِيُّونَ يَدْعُونَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى فَاتَّبَعَهُمْ أَقْوَامٌ فِي بِلَادِ رُومِيَّةَ وَبِلَادِ الْيُونَانِ وَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَيْنِهِمْ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ فَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: نَسْطُورِيَّةٍ، وَيَعَاقِبَةَ، وَمَلْكَانِيَّةٍ. فَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ الْيَعَاقِبَةُ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ، أَيْ بِطَرِيقِ الْحُلُولِ، وَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ وَهُمُ الْكَاثُولِيكُ: عِيسَى ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ مَجْمُوعُهَا هُوَ الْإِلَهُ، وَتِلْكَ هِيَ: الْأَبُ اللَّهُ، وَالِابْنُ عِيسَى، وَرُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ فَالْإِلَهُ عِنْدَهُمْ أَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ. وَقَدْ شَمِلَتِ الْآيَةُ كِلَا الِاخْتِلَافَيْنِ فَتَكُونُ الْفَاءُ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَةِ التَّعْقِيبِ وَمَجَازِهِ بِأَنْ يَكُونَ شُمُولُهَا لِلِاخْتِلَافِ الْأَخِيرِ مَجَازًا عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ لِتَشْبِيهِ مُفَاجَأَةِ

طُرُوِّ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَتْبَاعِهِ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ حَدَثَ عَقِبَ بَعْثَةِ عِيسَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا زَمَانٌ طَوِيلٌ دَبَّتْ فِيهِ بِدْعَتُهُمْ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ شَائِعٌ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ مَانِعَةً مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَحْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَجْمَلُ هُنَا وَوَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ عِيسَى، وَآيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا أَحْدَثَهُ النَّصَارَى فِي دِينِ عِيسَى مِنْ زَعْمِ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِلَهِيَّتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِهِمْ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِ (اخْتَلَفَ) أَيْ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ مِنْ بَيْنِهِمْ دُونَ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، أَيْ كَانَ دِينُهُمْ سَالِمًا فَنَشَأَ فِيهِمْ الِاخْتِلَافُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِأَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصَارَى إِذِ اخْتَلَفُوا فِرَقًا وَابْتَدَعُوا قَضِيَّةَ بُنُوَّةِ عِيسَى مِنَ اللَّهِ فَتَكُونُ الْفَاءُ خَالِصَةً لِلتَّعْقِيبِ الْمَجَازِيِّ. وَفُرِّعَ عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ تَهْدِيدٌ بِوَعِيدٍ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْرِيعُ التَّذْيِيلِ عَلَى الْمُذَيَّلِ، فَالَّذِينَ ظَلَمُوا يَشْمَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، وَهَذَا إِطْلَاقُ الظُّلْمِ غَالِبًا فِي الْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ أَفْضَى بِهِمْ أَنْ صَارَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنْ لُزُومِ مُنَاسَبَةِ التَّذْيِيلِ لِلْمُذَيَّلِ، بِأَنْ يَكُونَ التَّذْيِيلُ يَعُمُّ الْمُذَيَّلَ وَغَيْرَهُ فَيَشْمَلُ عُمُومُ هَذَا التَّذْيِيلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [37] قَوْلُهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَجُعِلَتِ الصِّلَةُ فِعْلَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّصَارَى وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مَرْيَم: 38] لَمَّا أُرِيدَ التَّخَلُّصُ إِلَى إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إنذار النَّصَارَى.

[سورة الزخرف (43) : آية 66]

[سُورَة الزخرف (43) : آيَة 66] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَنْزِيلِ سَامِعِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] مَنْزِلَةَ مَنْ يَطْلُبُ الْبَيَانَ فَيَسْأَلُ: مَتَى يَحُلُّ هَذَا الْيَوْمُ الْأَلِيمُ؟ وَمَا هُوَ هَذَا الْوَيْلُ؟ فَوَرَدَتْ جُمْلَةُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً جَوَابًا عَنِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنَ السُّؤَالِ، وَسَيَجِيءُ الْجَوَابُ عَنِ الشِّقِّ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: 67] وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ [الزخرف: 74] الْآيَاتِ. وَقَدْ جَرَى الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ سَوَاءٌ قُرْبَ زَمَانِ وُقُوعِهِ أَمْ بَعْدُ، فَلَا يُرِيبُكُمْ عَدَمُ تَعْجِيلِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [يُونُس: 50] ، وَقَدْ أَشْعَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَقْيِيدُ إِتْيَانِ السَّاعَةِ بِقَيْدِ بَغْتَةً فَإِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا تَسْبِقُهُ أَمَارَةٌ لَا يُدْرَى وَقْتُ حُلُولِهِ. ويَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ أَنْ أَشْرَكُوا لِحُصُولِ الْعَذَابِ إِلَّا حُلُولَ السَّاعَةِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْيَوْمِ بِالسَّاعَةِ تَلْمِيحًا لِسُرْعَةِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّاعَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَهِيَ: حُصُولُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ. وأَنْ تَأْتِيَهُمْ بَدَلٌ مِنَ السَّاعَةَ بَدَلًا مُطَابِقًا فَإِنَّ إِتْيَانَ السَّاعَةِ هُوَ عَيْنُ السَّاعَةِ لِأَنَّ مُسَمَّى السَّاعَةِ حُلُولُ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَالْحُلُولُ هُوَ الْمَجِيءُ الْمَجَازِيُّ الْمُرَادُ هُنَا. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي تَأْتِيَهُمْ. وَالشُّعُورُ: الْعِلْمُ بِحُصُولِ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ. وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُ بَغْتَةً يَقْتَضِي عَدَمَ الشُّعُورِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ حِينَ تَقَعُ عَلَيْهِمْ كَانَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ مُؤَكِّدَةً لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قبلهَا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 إلى 73]

[سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 67 إِلَى 73] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ بَعْضِ الْأَهْوَالِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِجْمَالُ التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] . وَثَانِيهمَا: موعظة الْمُشْركين بِمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ لِأَمْثَالِهِمْ وَالْحَبْرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أُوثِرَ بِالذِّكْرِ هُنَا مِنَ الْأَهْوَالِ مَا لَهُ مَزِيدُ تَنَاسُبٍ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَأَلُّبِهِمْ عَلَى مناواة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ مَا أَلَّبَهُمْ إِلَّا تَنَاصُرُهُمْ وَتَوَادُّهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّبَاهِي بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ فِي نَوَادِيهِمْ وَأَسْمَارِهِمْ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] وَتِلْكَ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَبْلُ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 38] . والْأَخِلَّاءُ: جَمْعُ خَلِيلٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّخَلُّلِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَخَلِّلِ لِصَاحِبِهِ وَالْمُمْتَزِجِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [125] . وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (إِذْ) مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ هُوَ الْمُعَوِّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] .

وَالْعَدُوُّ: الْمُبْغَضُ، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ عَادٍ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى جَرَيَانُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ، وَالْمُذَكَّرِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [92] . وَتَعْرِيفُ الْأَخِلَّاءُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا، أَيِ الْأَخِلَّاءُ مِنْ فَرِيقَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْأَخِلَّاءُ مِنْ قُرَيْشٍ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الْأَخِلَّاءِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَخْدِمُوا خُلَّتَهُمْ فِي إِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَإِنِ افْتَرَقُوا فِي الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ويَوْمَئِذٍ ظرف مُتَعَلق بعدوّ، وَجُمْلَة يَا عِبادِ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْخِطَابِ، أَيْ نَقُولُ لَهُمْ أَوْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ (يَاءِ) الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَحَذْفُهَا حَسَنٌ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ تَنْوِينٍ وَهِيَ قَدْ عَاقَبَتْهُ فَكَمَا يُحْذَفُ التَّنْوِينُ فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُنَادَى كَذَلِكَ تُحْذَفُ الْيَاءُ هُنَا. وَمُفَاتَحَةُ خِطَابِهِمْ بِنَفْيِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ تَأْنِيسٌ لَهُمْ وَمِنَّةٌ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ مِثْلِهِ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَالْفَسَادِ. وَلَا خَوْفٌ مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْتَحْ لِأَنَّ الْفَتْحَ عَلَى تَضْمِينِ (مِنْ) الزَّائِدَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْعُمُومِ وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّأْكِيدُ مُفِيدًا التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ نَفْيِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ الْمَقَامُ غَيْرَ مُقَامِ التَّرَدُّدِ فِي نَفْيِ جِنْسِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا بِهِمْ حِينَئِذٍ مَعَ وُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَأَمَارَةُ نَجَاتِهِمْ مِنْهُ وَاضِحَةٌ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَصْبِ اسْمِ لَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أَمْ زَرْعٍ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَهْ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَهْ. رِوَايَتُهُ بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَنْ لَيْلِ تِهَامَةَ مَشْهُورٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ بَيَانَ وُجُوهِ الشَّبَهِ مِنْ قَوْلِهَا كَلَيْلِ تِهَامَهْ.

وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي فِي نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ، فَالتَّقَوِّي أَفَادَ تَقَوِّيِ النَّفْيِ لَا نَفْيَ قُوَّةِ الْحُزْنِ الصَّادِقِ بِحُزْنٍ غَيْرِ قَوِيٍّ. هَذَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعْمَالِ فِي نَفْسِ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ، تَطْمِينًا لِأَنْفُسِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ قَدْ يَهْجِسُ بِخَوَاطِرِهِمْ هَلْ يَدُومُ لَهُمُ الْأَمْنُ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَجُمْلَةُ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا نَعْتٌ لِلْمُنَادَى مِنْ قَوْله: يَا عِبادِ جِيءَ فِيهَا بِالْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ الصِّلَةِ عَلَى عِلَّةِ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، وَعُطِفَ عَلَى الصِّلَةِ قَوْلُهُ: وَكانُوا مُسْلِمِينَ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ إِذْ كَانَتْ أُولَاهُمَا فِعْلًا مَاضِيًا وَالثَّانِيَةُ فِعْلَ كَوْنٍ مُخْبَرًا عَنْهُ بَاسِمِ فَاعِلٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ: عَقْدُ الْقَلْبِ يَحْصُلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ كَمَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ، فَهُوَ مَعْرُوضٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ أُوثِرَ بِفِعْلِ (كَانَ) الدَّالِّ عَلَى اتِّحَادِ خَبَرِهِ بِاسْمِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ قِوَامِ كِيَانِهِ. وَعَطَفَ أَزْوَاجَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الْإِذْنِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ التَّمَتُّعِ بِالْخُلَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وتُحْبَرُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ مُضَارِعُ حُبِرَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِعْلُهُ حَبَرَهُ، إِذَا سَرَّهُ، وَمَصْدَرُهُ الْحَبْرُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالِاسْمُ الْحُبُورُ وَالْحَبْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [15] . وَجُمْلَةُ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ الْتِفَاتٌ بَلِ الْمَقَامُ لِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. والصحاف: جمع صَحْفَة، وَهِي: إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ وَاسِعُ الْفَمِ يَنْتَهِي أَسْفَلُهُ بِمَا يُقَارب التكوير. والصحفة: إِنَاءٌ لِوَضْعِ الطَّعَامِ أَوِ الْفَاكِهَةِ مِثْلُ صِحَافِ الْفَغْفُورِيِّ الصِّينِيِّ تَسَعُ شِبَعَ خَمْسَةٍ، وَهِيَ دُونُ الْقَصْعَةِ الَّتِي تَسَعُ شِبَعَ عشرَة. وَقد ورد أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابَ اتَّخَذَ صِحَافًا عَلَى عَدَدِ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُؤْتَى إِلَيْهِ بِفَاكِهَةٍ أَوْ طُرْفَةٍ إِلَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ.

وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ إِنَاءٌ لِلشَّرَابِ مِنْ مَاءٍ أَوْ خَمْرٍ مُسْتَطِيلُ الشَّكْلِ لَهُ عُنُقٌ قَصِيرٌ فِي أَعْلَى ذَلِكَ الْعُنُقِ فَمُهُ وَهُوَ مَصَبُّ مَا فِيهِ، وَفَمُهُ أَضْيَقُ مِنْ جَوْفِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ عُرْوَةٌ يُمْسَكُ مِنْهَا فَيُمْسَكُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى عُنُقِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ عُرْوَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْإِبْرِيقِ إِلَّا أَنَّهُ لَا خُرْطُومَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا الْإِبْرِيقُ فَلَهُ عُرْوَةٌ وَخُرْطُومٌ. وَحُذِفَ وَصْفُ الْأَكْوَابِ لِدَلَالَةِ وَصْفِ صِحَافٍ عَلَيْهِ، أَيْ وَأَكْوَابٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَهَذِهِ الْأَكْوَابُ تَكُونُ لِلْمَاءِ وَتَكُونُ لِلْخَمْرِ. وَجُمْلَةُ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ إِلَخْ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةَ، هِيَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةُ، وَقَدْ عَمَّ قَوْلُهُ: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ كُلَّ مَا تَتَعَلَّقُ الشَّهَوَاتُ النَّفْسِيَّةُ بِنَوَالِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَاللَّهُ يَخْلُقُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ الشَّهَوَاتِ اللَّائِقَةِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ وَالسُّمُوِّ. وتَلَذُّ مُضَارِعُ لَذَّ بِوَزْنِ عَلِمَ: إِذَا أَحَسَّ لَذَّةً، وَحَقُّ فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ اللَّذَّةُ بِالْبَاءِ فَيُقَالُ: لَذَّ بِهِ، وَكَثُرَ حَذْفُ الْبَاءِ وَإِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِنَفْسِهِ فَيَنْتَصِبُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَدِّي فَقَالُوا: لَذَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ التَّقْدِيرُ، وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ. وَالضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ هُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ. وَلَذَّةُ الْأَعْيُنِ فِي رُؤْيَةِ الْأَشْكَالِ الْحَسَنَةِ وَالْأَلْوَانِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا النَّفْسُ، فَلَذَّةُ الْأَعْيُنِ وَسِيلَةٌ لِلَذَّةِ النُّفُوسِ فَعَطَفَ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عَلَى مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ عَطْفَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَقَدْ تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ مَا لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ كَالْمُحَادَثَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ وَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْمُوسِيقَى. وَقَدْ تُبْصِرُ الْأَعْيُنُ مَا لَمْ تَسْبِقْ لِلنَّفْسِ شَهْوَةُ رُؤْيَتِهِ أَوْ مَا اشْتَهَتِ النَّفْسُ طَعْمَهُ أَوْ سَمْعَهُ فَيُؤْتَى بِهِ فِي صُوَرٍ جَمِيلَةٍ إِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ.

وَ (الْأَنْفُسُ) فَاعِلُ تَلَذُّ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ مَا تَشْتَهِيهِ بِهَاءِ ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مُصْحَفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مَا تَشْتَهِي بِحَذْفِ هَاءِ الضَّمِيرِ، وَكَذَلِكَ رُسِمَ فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ وَمُصْحَفِ الْبَصْرَةِ وَمُصْحَفِ الْكُوفَةِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ قَارِئِ الْكُوفَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَخَذَ بِهَا حَفْصٌ وَالْأُخْرَى أَخَذَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ. وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمُتَّصِلِ الْمَنْصُوبِ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ بِشَارَةٌ لَهُمْ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْحَبْرَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، وَجِيءَ فِيهِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ تَأْكِيدًا لِحَقِيقَةِ الْخُلُودِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُدَّةِ فَحَسْبُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ، وَعُطِفَ عَلَى بَعْضِ مَا يُقَالُ لَهُمْ مَقُولٌ آخَرُ قُصِدَ مِنْهُ التَّنْوِيهُ بِالْجَنَّةِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ أُعْطُوهَا بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، فَأُشِيرَ إِلَى الْجَنَّةِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا وَإِلَّا فَإِنَّهَا حَاضِرَةٌ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها الْآيَةَ تَذْيِيلٌ لِلْقَوْلِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ والْجَنَّةُ خَبَرُهُ، أَيْ تِلْكَ الَّتِي تَرَوْنَهَا هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي سَمِعْتُمْ بِهَا وَوُعِدْتُمْ بِدُخُولِهَا. وَجُمْلَةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ صِفَةٌ لِلْجَنَّةِ. وَاسْتُعِيرَ أُورِثْتُمُوها لِمَعْنَى: أُعْطِيتُمُوهَا دُونَ غَيْرِكُمْ، بِتَشْبِيهِ إِعْطَاءِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِإِعْطَاءِ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَيِّتِ لِوَارِثِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِهِ وَآثَرُ بِنَيْلِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْجَنَّةَ أَمْرٌ كَائِنٌ مُتَقَرَّرٌ، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ ذَلِكَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، أَيْ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ إِلَى وَفَاتِهِمْ.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 إلى 75]

وَجُمْلَةُ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْجَنَّةِ. وَالْفَاكِهَةُ: الثِّمَارُ رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَلَذُّ مِنَ الْمَآكِلِ، وَطُعُومُهَا مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَوَجْهُ تَكْرِيرِ الِامْتِنَانِ بِنَعِيمِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ فِي الْجَنَّةِ: أَنَّ ذَلِكَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ الطِّبَاعُ الْبَشَرِيَّةُ فِي اسْتِلْذَاذِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مِنْها تَأْكُلُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَام: 141] . [74، 75] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 74 إِلَى 75] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعَانِ: أَحَدُهُمَا: إِتْمَامُ التَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] عَقِبَ تَفْصِيلِ بَعْضِهِ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: 66] إِلَخْ. وَبِقَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: 67] حَيْثُ قُطِعَ إِتْمَامُ تَفْصِيلِهِ بِالِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْوَعِيدِ وَتَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِهَا. الْمَوْقِعُ الثَّانِي: أَنَّهَا كَالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ يُثِيرُهُ مَا يَسْمَعُ مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنَ التَّسَاؤُلِ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُ أَضْدَادِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ. وَالْمَوْقِعَانِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِ الْجُمْلَةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَافْتِتَاحُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، أَوْ لِتَنْزِيلِ السَّائِلِ الْمُتَلَهِّفِ لِلْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي مَضْمُونِهِ لِشِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، أَوْ نَظَرًا إِلَى مَا فِي الْخَبَرِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِإِسْمَاعِهِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُنْكِرُونَ مَضْمُونَهُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. وَالْمُجْرِمُونَ: الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الْإِجْرَامَ، وَهُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا: الْمُشْرِكُونَ المكذبون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ السِّيَاقَ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ وَعِيدِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] ، وَلِأَنَّ جَوَاب الْمَلَائِكَة نداءهم

[سورة الزخرف (43) : آية 76]

بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف: 78] لَا يَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ كَارِهُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، فَذِكْرُ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ إِجْرَامٌ. وَجُمْلَةُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَذابِ جَهَنَّمَ ويُفَتَّرُ مُضَاعَفُ فَتَرَ، إِذَا سَكَنَ، وَهُوَ بِالتَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُفَتِّرُهُ أَحَدٌ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. والإبلاس: الْيَأْسُ وَالذُّلُّ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَزَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي معنى الإبلاس قَيْدَ السُّكُوتِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ السُّكُوتَ مِنْ لَوَازِم معنى الإبلاس وَلَيْسَ قَيْدًا فِي الْمَعْنى. [76] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 76] وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ قُصِدَ مِنْهَا نَفْيُ اسْتِعْظَامِ مَا جُوِّزُوا بِهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ وَنَفْيِ الرِّقَّةِ لِحَالِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75] . وَالظُّلْمُ هُنَا: الِاعْتِدَاءُ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ بِضُرٍّ بِغَيْرِ مُوجِبٍ مَشْرُوعٍ أَوْ مَعْقُولٍ، فَنَفْيُهُ عَنِ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَيِ الْمُعْتَدِينَ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ وَلَمَزُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [13] . وهُمْ ضمير فصل لَا يُطْلَبُ مُعَادًا لِأَنَّهُ لَمْ يُجْتَلَبْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُعَادٍ لِوُجُودِ ضَمِيرِ كانُوا دَالًّا عَلَى الْمَعَادِ فَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُجْتَلَبٌ لِإِفَادَةِ قَصْرِ صِفَةِ الظُّلْمِ عَلَى اسْمِ (كَانَ) ، وَإِذْ قَدْ كَانَ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ كَافِيًا فِي إِفَادَةِ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 77 إلى 78]

الْقَصْرِ كَانَ اجْتِلَابُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ تَأْكِيدًا لِلْقَصْرِ بِإِعَادَةِ صِيغَةٍ أُخْرَى مِنْ صِيَغِ الْقَصْرِ. وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَ ضَمِيرَ الْفَصْلِ فِي الْكَلَامِ غَيْرَ وَاقِعٍ فِي مَوْقِعِ إِعْرَابٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ، وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ حَرْفٌ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنِ الْإِعْرَابِ وَيُسَمِّيهِ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ فَصْلًا، وَيُسَمِّيهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ عِمَادًا. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانُوا وَبَنُو تَمِيمٍ يَجْعَلُونَهُ ضَمِيرًا طَالِبًا مُعَادًا وَصَدْرًا لِجُمْلَتِهِ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُونَ جُمْلَتَهُ فِي مَحَلِّ الْإِعْرَابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّ هُمْ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مِنْهُ وَمِنْ خَبَرِهِ خَبَرُ كانُوا. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ كَانَ يَقُولُ: أَظُنُّ زَيْدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، بِرَفْع خير. [77، 78] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 77 إِلَى 78] وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) جُمْلَةُ وَنادَوْا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75] ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَحُكِيَ نِدَاؤُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ مِمَّا سَيَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا لِأَنَّ إِبْلَاسَهُمْ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْيَأْسُ يَكُونُ بَعْدَ أَنْ نَادَوْا يَا مَالِكُ وَأَجَابَهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ، وَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَ جُمْلَةَ وَنادَوْا حَالِيَّةً، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] وَهَذَا إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ وَنادَوْا إِلَخْ مَعْطُوفَةً. وَ (مَالِكُ) الْمُنَادَى اسْمُ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِجَهَنَّمَ خَاطَبُوهُ لِيَرْفَعَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى شَفَاعَةً.

وَاللَّامُ فِي لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ لَامُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ إِلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّبْلِيغِ كَمَا هُنَا، أَوْ تَنْزِيلِ الْحَاضِرِ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ لِاعْتِبَارٍ مَا مِثْلَ التَّعْظِيمِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْوَزِيرِ لِلْخَلِيفَةِ: لِيَرَ الْخَلِيفَةُ رَأْيَهُ. وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى: الْإِمَاتَةِ كَقَوْلِهِ: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الْقَصَص: 15] ، سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ الْحَيَاةَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْ إِحْسَاسِ الْعَذَابِ. وَهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُمِيتَهُمْ فَأُجِيبُوا بِأَنَّهُمْ مَاكِثُونَ جَوَابًا جَامِعًا لِنَفْيِ الْإِمَاتَةِ وَنَفْيِ الْخُرُوجِ فَهُوَ جَوَابٌ قَاطِعٌ لِمَا قَدْ يَسْأَلُونَهُ مِنْ بَعْدُ. وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) بِحَذْفِ الْكَافِ عَلَى التَّرْخِيمِ، فَذُكِرَتْ قِرَاءَتُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَا كَانَ أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَعَنْ بَعْضِهِمْ: حَسَّنَ التَّرْخِيمَ أَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ الِاسْمِ لِضَعْفِهِمْ وَعِظَمَ مَا هم فِيهِ اهـ. وَأَرَادَ بِبَعْضِهِمُ ابْنَ جِنِّي فِيمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّ ابْنَ جِنِّي قَالَ: وَلِلتَّرْخِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِرٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِعِظَمِ مَا هُمْ عَلَيْهِ ضَعُفَتْ وَذُلَّتْ أَنْفُسُهُمْ وَصَغُرَ كَلَامُهُمْ فَكَانَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاخْتِصَارِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ سَمِعت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَنادَوْا يَا مالِكُ بِإِثْبَاتِ الْكَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) رَوَاهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيكون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَوَاتَرَتْ قِرَاءَةُ إِثْبَاتِ الْكَافِ وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَرْوِيَّةً بِالْآحَادِ فَلَمْ تَكُنْ قُرْآنًا. وَجُمْلَةُ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ. وَضَمِيرُ جِئْناكُمْ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْحَقُّ: الْوَحْيُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَنَسَبَ مَالِكٌ الْمَجِيءَ بِالْحَقِّ إِلَى جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ اعْتِزَازِ الْفَرِيقِ وَالْقَبِيلَةِ بِمَزَايَا

[سورة الزخرف (43) : آية 79]

بَعْضِهَا، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: وَفَكَكْنَا غِلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ عَنْهُ ... بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالْعَنَاءُ (¬1) وَإِنَّمَا نُسِبَتْ كَرَاهَةُ الْحَقِّ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا سَادَةٌ كُبَرَاءُ لِمِلَّةِ الْكُفْرِ وَهُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْإِرْهَابِ وَالتَّرْغِيبِ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ صَدَّ أَبَا طَالِبٍ عِنْدَ احْتِضَارِهِ عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَثَانِيهِمَا دَهْمَاءُ وَعَامَّةٌ وهم تبع لأيمة الْكُفْرِ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [166] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَاتِ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَأُولَئِكَ إِنَّمَا كَرِهُوا الْحَقَّ لِأَنَّهُ يَرْمِي إِلَى زَوَالِ سُلْطَانِهِمْ وَتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ. وَتَقْدِيمُ لِلْحَقِّ عَلَى كارِهُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْحَقِّ تَنْوِيهًا بِهِ، وَفِيهِ إِقَامَةُ الفاصلة أَيْضا. [79] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 79] أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ منقطة لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ مَعَ اتِّحَادِ الْغَرَضِ. انْتَقَلَ مِنْ حَدِيثِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا. فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: 66] إِلَخْ. وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمْ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاة الِاسْتِفْهَام وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَتَهْدِيدٌ، أَيْ أَأَبْرَمُوا أَمْرًا. وَضَمِيرُ أَبْرَمُوا مُرَادٌ بِهِ الْمُشْركُونَ الَّذين ناوأوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرُ (إِنَّا) ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ. ¬

(¬1) يُرِيد امْرأ الْقَيْس بن الْمُنْذر أَخا عَمْرو بن هِنْد وَكَانَ: أسره ملك من غَسَّان فَأَغَارَ عَمْرو بن هِنْد أَخُوهُ فِي جَيش من بكر بن وَائِل قَبيلَة الشَّاعِر وَقتلُوا الْملك وأنقذوا امْرأ الْقَيْس.

[سورة الزخرف (43) : آية 80]

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّا مُبْرِمُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ تَقْدِيرِ حُصُولِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ فَيُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ إِنْ أَبْرَمُوا أَمْرًا مِنَ الْكَيْدِ فَإِنَّ اللَّهَ مُبْرِمٌ لَهُمْ أَمْرًا مِنْ نَقْضِ الْكَيْدِ وَإِلْحَاقِ الْأَذَى بِهِمْ، وَنَظِيرُهُ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطّور: 42] . وَعَنْ مُقَاتِلٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَدْبِيرِ قُرَيْشٍ بالمكر بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ حِينَ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ أَبُو جَهْلٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْرُزَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ لِيَشْتَرِكُوا فِي قتل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ بَنُو هَاشِمٍ الْمُطَالَبَةَ بِدَمِهِ، وَقَتَلَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ فِي بَدْرٍ. وَالْإِبْرَامُ حَقِيقَتُهُ: الْقَتْلُ الْمُحْكَمُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِحْكَامِ التَّدْبِيرِ وَالْعَزْمِ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ أَبْرَمُوا ومُبْرِمُونَ لِأَنَّ إِبْرَامَهُمْ وَاقِعٌ، وَأَمَّا إِبْرَامُ اللَّهِ جَزَاءً لَهُمْ فَهُوَ تَوَعُّدٌ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ نَقْضَ مَا أَبْرَمُوهُ فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ، أَيْ نَحْنُ نُقَدِّرُ لَهُمُ الْآنَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ إِيجَادُ أَسْبَابِ وَقْعَةِ بَدْرٍ الَّتِي اسْتُؤْصِلُوا فِيهَا. وَالْأَمْرُ: الْعَمَلُ الْعَظِيمُ الْخَطِيرُ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُبْرِمُونَ لِدَلَالَةِ مَا قبله عَلَيْهِ. [80] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 80] أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) أَمْ وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: أَمْ يَحْسَبُونَ هُمَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً [الزخرف: 79] . وَحَرْفُ بَلى جَوَابٌ لِلنَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّا لَا نَسْمَعُ، أَيْ بَلَى نَحْنُ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 82]

وَالسَّمْعُ هُوَ: الْعِلْمُ بِالْأَصْوَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالسِّرِّ: مَا يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ وَسَائِلِ الْمَكْر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّجْوَى مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ خَفِيٍّ. وَعَطَفَ وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا يُسِرُّونَ عِلْمٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ فِيهِمْ وَهُوَ مُؤَاخَذَتُهُمْ بِمَا يُسِرُّونَ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْأَعْمَالِ تُؤْذِنُ بِأَنَّهَا سَتُحْسَبُ لَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَالْكِتَابَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَجَازًا، أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْإِحْصَاءِ وَالِاحْتِفَاظِ. وَالرُّسُلُ: هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِتَقَصِّي أَعْمَالَ النَّاسِ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ كَقَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] ، أَي رَقِيب [81، 82] [سُورَة الزخرف (43) : الْآيَات 81 إِلَى 82] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِادِّعَاءِ بُنُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الزخرف: 57] ، وَعَقِبَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْد الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] . وَأَعْقَبَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَمَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ انْخَلَعُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِالْإِيمَانِ، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَقَامِ التَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ، جَمْعًا بَيْنَ الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ، وَالَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ بَعْضَ أَصْنَامِهِمْ بَنَاتُ اللَّهِ مِثْلَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَأَمَرَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيْ قُلْ لَهُمْ جَدَلًا وَإِفْحَامًا،

وَلَقَّنَهُ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْزُبُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا. وَالَّذِينَ يَقُولُ لَهُم هَذَا الْمَقُول هُمُ الْمُشْرِكُونَ الزَّاعِمُونَ ذَلِكَ فَهَذَا غَرَضُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُوجُ عِنْدَهُ ذَلِكَ. وَنَظْمُ الْآيَةِ دَقِيقٌ وَمُعْضِلٌ، وَتَحْتَهُ مَعَانٍ جَمَّةٌ: وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا: أَنَّهُ لَوْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ أَبْنَاءً لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَعْبُدُهُمْ، أَيْ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِأَنْ أَعْبُدَهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَقَلَّ فَهْمًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ابْنًا لِلَّهِ وَلَا يَعْتَرِفَ لِذَلِكَ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ ابْنَ اللَّهِ يَكُونُ مُنْسَلًّا مِنْ ذَاتٍ إِلَهِيَّةٍ فَلَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، فَالدَّلِيلُ مُرَكَّبٌ مِنْ مُلَازَمَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَالشَّرْطُ فَرْضِيٌّ، وَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الْجَوَابِ وَالشَّرْطِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَاقِلٌ دَاعٍ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ مَا يُوَرِّطُهُ، وَأَيْضًا لَا يَرْضَى لَهُمْ إِلَّا مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى النُّصْحِ لَهُمْ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ وَيُفِيدُ أَنَّهُ ثَابِتُ الْقَدَمِ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِ. وَنُفِيَ التَّعَدُّدُ بِنَفْيِ أَخَصِّ أَحْوَالِ التَّعَدُّدِ وَهُوَ التَّعَدُّدُ بِالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ كَتَعَدُّدِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّعَدُّدِ فَيَنْتَفِي أَيْضًا تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ الْأَجَانِبِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِلْحَجَّاجِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ: لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى فَقَالَ سَعِيدٌ: لَوْ عَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكَ، فَنَبَّهَهُ إِلَى خَطَئِهِ بِأَنَّ إِدْخَالَ النَّارِ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مُرَكَّبٌ مِنْ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ أَوَّلُ جُزْأَيْهَا وَهُوَ الْمُقَدَّمُ بَاطِلٌ، وَثَانِيهِمَا وَهُوَ التَّالِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ بُطْلَانَ التَّالِي لَازِمٌ لِبُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ، وَالِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِبُطْلَانِ التَّالِي عَلَى بُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ لِأَنَّ كَون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابِدًا لِمَزْعُومٍ بُنُوَّتُهُ لِلَّهِ أَمْرٌ مُنْتَفٍ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا عَلَى وِزَانِ الِاسْتِدْلَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ جُعِلَ شَرْطُهَا بِأَدَاةٍ صَرِيحَةٍ فِي الِامْتِنَاعِ، وَهَذِهِ جُعِلَ شَرْطُهَا بِأَدَاةٍ غَيْرِ صَرِيحَةٍ فِي الِامْتِنَاعِ.

وَالنُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْأَدَاةِ الصَّرِيحَةِ فِي الِامْتِنَاعِ هُنَا إيهامهم فِي بادىء الْأَمْرِ أَنَّ فَرْضَ الْوَلَدِ لِلَّهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَلِيَتَأَتَّى أَنْ يَكُونَ نَظْمُ الْكَلَامِ مُوَجَّهًا حَتَّى إِذَا تَأَمَّلُوهُ وَجَدُوهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ بِطَرِيقِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا رَوَاهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّضِرَ بْنَ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. فَقَالَ النَّضِرُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَنِي، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: مَا صَدَقَكَ وَلَكِنْ قَالَ: مَا كَانَ للرحمان وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَرُوِيَ مُجْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ السُّدِّيِّ فَكَانَ فِي نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَإِطْمَاعٌ لِلْخُصُومِ بِمَا إِنْ تَأَمَّلُوهُ اسْتَبَانَ وَجْهُ الْحَقِّ فَإِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ ذَلِكَ عُدَّ إِعْرَاضُهُمْ نُكُوصًا. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أُخَرَ مِنَ الْمَعَانِي. مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِن كَانَ للرحمان وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، أَيْ فَأَنَا أول الْمُؤمنِينَ بتكذيبكم، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهِ بِجُمْلَةِ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَمِنْهَا، أَنْ يَكُونَ حَرْفُ إِنْ لِلنَّفْيِ دُونَ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ للرحمان وَلَدٌ فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ: أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، أَيْ أَتَنَزَّهُ عَنْ إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ لَهُ، وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنِهِ. وَمِنْهَا: تَأْوِيلُ الْعابِدِينَ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَبَدَ يَعْبُدُ مِنْ بَابِ فَرِحَ، أَيْ أَنِفَ وَغَضِبَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَطَعَنَ فِيهِ نِفْطَوَيْهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي اسْمِ فَاعِلِ عَبَدَ يَعْبُدُ عَبْدٌ وَقَلَّمَا يَقُولُونَ: عَابِدٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَأْتِي بِالْقَلِيلِ مِنَ اللُّغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَدٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَلَدٌ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ جَمْعُ وَلَدٍ. وَجُمْلَةُ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَكْمِلَةً لِمَا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ، أَيْ قُلْ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ: مَعَ تَنْزِيهٍ عَنْ تَحَقُّقِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَيَكُونُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمُ التَّالِي فِي جُزْأَيِ الْقِيَاسِ الشَّرْطِيِّ الِاسْتِثْنَائِيِّ.

[سورة الزخرف (43) : آية 83]

وَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ يَصِفُونَ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: قُلْ لَهُمْ إِنَّ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِهِ عَمَّا يَقُولُونَ فَتَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ وَجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: 84] . وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهَا نَزَّهَتِ اللَّهَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَوَصْفُهُ بِرُبُوبِيَّةِ أَقْوَى الْمَوْجُودَاتِ وَأَعَمِّهَا وَأَعْظَمِهَا، لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ الْوِلَادَةِ، فَقَدْ تَمَّ خَلْقُ الْعَوَالِمِ وَنِظَامِ نَمَائِهَا وَدَوَامِهَا، وَعُلِمَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقَهَا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ، وَاقْتَضَى عَدَمَ السَّبْقِ بِعَدَمِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ فَوُجُودُ الْوَلَدِ لَهُ يكون عَبَثا. [83] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 83] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) اعْتِرَاضٌ بِتَفْرِيعٍ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ وَالشُّرَكَاءِ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ مِنْ إِجْدَاءِ الْحُجَّةِ فِيهِمْ وَأَنَّ الْأَوْلَى بِهِ مُتَارَكَتُهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَحِينَ يَوْمٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ. وَهَذَا مُتَحَقق فِي أيمة الْكُفْرِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَصَدِّينَ لمحاجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَادَلَتِهِ وَالتَّشْغِيبِ عَلَيْهِ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضِرِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ مِمَّنْ قُتِلُوا يَوْم بدر. و (الْيَوْم) هُنَا مُحْتَمِلٌ لِيَوْمِ بَدْرٍ وَلِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ وُعِدُوهُ، وَالْوَعْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ: الدُّخُولُ فِي لُجَّةِ الْمَاءِ مَاشِيًا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْبَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة الزخرف (43) : آية 84]

وَالْمَعْنَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَعِبِهِمْ فِي مَوَاقِعِ الْجد حِين يهزأوون بِالْإِسْلَامِ. واللعب: المزح والهزل. وَجُزِمَ فِعْلُ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا بِلَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةً وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ جَزْمًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ فَالْأَمْرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ مِنْ قَبِيلِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلاقُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ مَجَازٌ فِي أَنَّهُ لِقَاءٌ مُحَقَّقٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُلْقُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مضارع الْمُجَرّد. [84] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 84] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] وَالْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَانِ، قُصِدَ مِنَ الْعَطْفِ إِفَادَةُ نَفْيِ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ مُطْلَقًا بَعْدَ نَفْيِ الشَّرِيكِ فِيهَا بِالْبُنُوَّةِ، وَقُصِدَ بِذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْإِحَاطَةُ بِعَوَالِمِ التَّدْبِيرِ وَالْخَلْقِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ أَصْنَامُهُمُ الْمَنْصُوبَةُ، وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي السَّمَاءِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِذْ جَعَلُوهُمْ بَنَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ قَوْلُهُ: فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ إِبْطَالًا لِلْفَرِيقَيْنِ مِمَّا زُعِمَتْ إِلَهِيَّتُهُمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهَا الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ عَلَى أَنه وصف للرحمان مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِإِيرَادِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ صِفَةٍ، وَبِإِيرَادِ مُبْتَدَأٍ فِيهَا لِإِفَادَةِ قَصْرِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ إِيرَادَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعْرِفَةً وَالْمُسْنَدِ مَعْرِفَةً طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ. فَالْمَعْنَى وَهُوَ لَا غَيْرُهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، وَصِلَةُ الَّذِي جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ حُذِفَ صَدْرُهَا، وَصَدْرُهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مُعَادِ ضَمِيرِ وَهُوَ وَحَذْفُ صَدْرِ الصِّلَةِ اسْتِعْمَالٌ حَسَنٌ إِذَا طَالَتِ الصِّلَةُ كَمَا هُنَا. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ.

[سورة الزخرف (43) : آية 85]

وَالْمَجْرُورَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِ إِلهٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ مَعْنَى الْمَعْبُودِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ، إِذَا عَبَدَ فَشَابَهَ الْمُشْتَقَّ. وَصَحَّ تَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ بِهِ فَتَعَلُّقُهُ بِلَفْظِ إِلَهٍ كَتَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِغِرْبَالٍ وَأَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورِ بِكَانُونَ فِي قَوْلِ الْحَطِيئَةِ يَهْجُو أُمَّهُ مِنْ أَبْيَاتِ: أَغِرْبَالًا إِذَا اسْتُودِعْتِ سِرًّا ... وَكَانُونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا (¬1) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. بَعْدَ أَنْ وُصِفَ اللَّهُ بِالتَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أُتْبِعَ بِوَصْفِهِ بِ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَدْقِيقًا لِلدَّلِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، حَيْثُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِيهِمَا لِمَا فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَصْفِ لَهُ وَنَفْيِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَتْمِيمًا لِلدَّلِيلِ وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ تَدْقِيقًا إِذِ التَّدْقِيقُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِ دَلِيلِهِ وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِتَمَامِ الْحِكْمَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ مُسْتَغْنٍ عَمَّا سِوَاهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وَلَدٍ وَلَا إِلَى بِنْتٍ وَلَا إِلَى شريك. [85] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 85] وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) عُطِفَ عَلَى سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف: 82] ، قُصِدَ مِنْهُ إِتْبَاعُ إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ. وتَبارَكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْمَدْحِ لِأَنَّ مَعْنَى تَبارَكَ كَانَ مُتَّصِفًا بِالْبَرَكَةِ اتِّصَافًا قَوِيًّا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ تَفَاعَلَ مِنْ قُوَّةِ حُصُولِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى صُدُورِ فِعْلٍ مِنْ فَاعِلَيْنِ مِثْلَ: تَقَاتَلَ وَتَمَارَى، فَاسْتُعْمِلَتْ فِي مُجَرَّدِ تَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ: تَسَامَى وَتَعَالَى. ¬

(¬1) الرِّوَايَة بِنصب غربالا وكانونا بِتَقْدِير: أتكونين، وَيجوز رفعهما بِتَقْدِير: أَأَنْت.

وَالْبَرَكَةُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ. وَقَدْ ذُكِرَ مَعَ التَّنْزِيهِ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِاقْتِضَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ التَّنْزِيهُ عَنِ الْوَلَدِ الْمَسُوقِ الْكَلَامِ لِنَفْيِهِ، وَعَنِ الشَّرِيكِ الْمَشْمُولِ لِقَوْلِهِ: عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: 82] ، وَذُكِرَ مَعَ التَّبْرِيكِ وَالتَّعْظِيمِ أَنَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُلْكِ لِلْعَظَمَةِ وَفَيْضِ الْخَيْرِ، فَلَا يَرِيبُكَ أَنَّ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف: 82] مُغْنٍ عَنِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ غَرَضَ الْقُرْآنِ التَّذْكِيرُ وَأَغْرَاضُ التَّذْكِيرِ تُخَالِفُ أَغْرَاضَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْجَدَلِ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ يُلَائِمُ التَّنْبِيهَ عَلَى مُخْتَلَفِ الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلِاسْتِمْدَادِ مِنَ الْفَضْلِ. ثُمَّ إِنَّ صِيغَةَ تَبارَكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَقْتَضِي اسْتِغْنَاءَهُ عَنِ الزِّيَادَةِ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَاتِّخَاذِ الشَّرِيكِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِدْلَالًا آخَرَ تَابِعًا لِدَلِيلِ قَوْلِهِ: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: 82] . وَقَدْ تَأَكَّدَ انْفِرَادُهُ بِرُبُوبِيَّةِ أَعْظَمِ الْمُوجُودَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِقَوْلِهِ: رَبِّ الْعَرْشِ [الزخرف: 82] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] وَقَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. فَكَمْ مِنْ خَصَائِصَ وَنُكَتٍ تَنْهَالُ عَلَى الْمُتَدَبِّرِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُفِيدًا التَّصَرُّفَ فِي هَذِهِ الْعَوَالِمِ مُدَّةَ وُجُودِهَا وَوُجُودِ مَا بَيْنَهَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ مَعَ مُلْكِ الْعَوَالِمِ الْفَانِيَةِ مُلْكُ الْعَوَالِمِ الْبَاقِيَةِ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي تِلْكَ الْعَوَالِمِ بِمَا فِيهَا بِالتَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِقَصْدِ التَّقَوِّي إِذْ لَيْسَ الْمُخَاطَبُونَ بِمُثْبِتِينَ رُجْعَى إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ أَصْلًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِلْأَصْنَامِ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ فِي

[سورة الزخرف (43) : آية 86]

الدُّنْيَا أَوْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْجَدَلِ وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ [الزخرف: 86] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلْمُبَاشَرَةِ بِالتَّهْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ تَبَعًا لِأُسْلُوبِ الضَّمَائِرِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيّ للْمَجْهُول. [86] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 86] وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) لَمَّا أَنْبَأَهُمْ أَنَّ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِبْطَالًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَبَدُوا دُونَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ اسْتَثْنَاهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ فَهُمْ يُشَفَّعُونَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] ثُمَّ قَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [28] . وَوَصَفَ الشُّفَعَاءَ بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ. فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ لِلَّذِينِ خَالَفَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَشْهَدُ لله بِالْحَقِّ. [87] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 87] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) بَعْدَ أَنْ أَمْعَنَ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ إِلَهٌ غَيْرَ اللَّهِ بِمَا سِيقَ مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، جَاءَ هُنَا بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

[سورة الزخرف (43) : آية 88]

أَيْ سَأَلْتَهُمْ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ عَمَّن خلقهمْ فَإِنَّهُ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلِكَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ» ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَكَّدَ إِنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ فَقَالَ: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي سَفَاهَةِ رَأْيِهِمْ إِذْ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مَنْ لَمْ يَخْلُقْ، قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] . وَالْخُطَّابُ فِي قَوْلِهِ: سَأَلْتَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ إِنْ سَأَلَهُمْ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ وَالْإِقْرَارِ الْإِنْكَارُ وَالتَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَ (أَنَّى) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ فَمَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ يُصْرَفُونَ. ويُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ: يُقَالُ: أَفَكَهُ عَنْ كَذَا، يَأْفِكُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَبُنِيَ لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَمْ يَصْرِفْهُمْ صَارِفٌ وَلَكِنْ صَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ خَالِقِهِمْ، فَقَوْلُهُ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ، أَيْ أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَفْسِكَ إِذْ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ ذَاهِبًا ذَهَبَ بِهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا ذهب بِنَفسِهِ. [88] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 88] وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) الْقِيلُ مَصْدَرُ قَالَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ مُرَادٌ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيِ الْمَقُولُ مِثْلُ الذِّبْحِ وَأَصْلُهُ: قَوْلٌ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. وَالْمَعْنَى: وَمَقُولِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ: (قِيلَ) ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْحِجَاجِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَا رَبِ وَبِقَرِينَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ وَبِقَرِينَةِ إِجَابَتِهِ بِقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: 89] ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا عَنِ الْخِطَابِ

فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: 87] ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ الْمُحَاجَّةِ وَمِنْ حِكَايَةِ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَزَحْزَحُوا عَنِ الْكُفْرِ قَيْدَ أَنْمُلَةٍ، حَصَلَ الْيَأْسُ لِلرَّسُولِ مِنْ إِيمَانِهِمْ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ الْتِجَاءً إِلَى اللَّهِ فِيهِمْ وَتَفْوِيضًا إِلَيْهِ لِيَجْرِيَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي التَّحَسُّرِ أَوِ الشِّكَايَةِ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الْفرْقَان: 30] ، أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَفْرِيعُ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ [الزخرف: 89] ، فَفِي ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: 87] فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ: وَقَوْلُكَ: يَا رَبِّ إِلَخْ. وَيُحَسِّنُ هَذَا الِالْتِفَاتَ أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِشَيْءٍ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ فَجَعَلَ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ لِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْمِلُ نِدَاءَهُ وَشَكْوَاهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عَبَسَ: 1] . وَإِضَافَةُ الْقِيلِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ تَكَرَّرَ مِنْهُ وَعُرِفَ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، أَيْ عُرِفَ بِهَذَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 214] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقِيلِهِ بِنَصْبِ اللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ الرَّسُولُ قِيلَهُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: 87] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] ، أَيْ وَقَالَ الرَّسُولُ حِينَئِذٍ يَا رَبِّ إِلَخْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: تَمْشِي الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا وَقِيلُهُمُ ... إِنَّكَ يَا بن أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ عَلَى رِوَايَةِ (قَيْلِهِمْ) وَنَصْبِهِ، أَيْ وَيَقُولُونَ: قِيلَهُمْ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْمَعِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِقَوْلِهِ: لَا نَسْمَعُ [الزخرف: 80] ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلَى وَنَعْلَمُ قِيلَهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85] أَيْ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ.

[سورة الزخرف (43) : آية 89]

وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِجَرِّ لَامِ (قِيلِهِ) وَيَجُوزُ فِي جَرِّهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى السَّاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85] أَيْ وَعِلْمُ قِيلِ الرَّسُولِ: يَا رَبِّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا وَعْدٌ لِلرَّسُولِ بِالنَّصْرِ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ بِالِانْتِقَامِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْقَسَمِ وَيَكُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ جُمْلَةَ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ: يَا رَبِّ، تَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ وَلِقِيلِهِ الَّذِي هُوَ تَفْوِيضٌ لِلرَّبِّ وَثِقَةٌ بِهِ. وَمَقُولُ قِيلِهِ هُوَ يَا رَبِّ فَقَطْ، أَيْ أَقْسَمَ بِنِدَاءِ الرَّسُولِ رَبَّهُ نِدَاءَ مُضْطَرٍّ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «شَرْحِ الْكَعْبِيَّةِ» عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ: أَنَّ مَنْ جَرَّ فَقَوْلُهُ بِظَنٍّ وَتَخْلِيطٍ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ لِإِمْكَانِ تَخْرِيجِ الْجَرِّ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَقَدْ حُذِفَ بَعْدَ النِّدَاءِ مَا نُودِيَ لِأَجْلِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَقَامُ مَنْ أَعْيَتْهُ الْحِيلَةُ فِيهِمْ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى رَبِّهِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَسَوف تعلمُونَ [الزخرف: 89] . وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْقُرْآنِ غَالِبًا وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ عَدَمِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ: هَؤُلَاءِ لَا يُؤمنُونَ. [89] [سُورَة الزخرف (43) : آيَة 89] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا أَفْصَحَتْ عَنْ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ الْقِيلَ وَفَوَّضْتَ الْأَمْرَ إِلَيْنَا فَسَأَتَوَلَّى الِانْتِصَافَ مِنْهُمْ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ، أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ لَهُمْ وَقُلْ لَهُمْ إِنْ جَادَلُوكَ: سَلامٌ، أَيْ سَلَّمْنَا فِي الْمُجَادَلَةِ وَتَرَكْنَاهَا. وَأَصْلُ سَلامٌ مَصْدَرٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. فَأَصْلُهُ النَّصْبُ، وَعُدِّلَ إِلَى رَفْعِهِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] .

يُقَالُ: صَفَحَ يَصْفَحُ مِنْ بَابِ مَنَعَ بِمَعْنَى: أَعْرَضَ وَتَرَكَ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: 5] وَلَكِنَّ الصَّفْحَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الصَّفْحِ الْمُنْكَرِ وُقُوعُهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَهْدِيدًا لَهُمْ وَوَعِيدًا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ تَعْلَمُونَ لِلتَّهْوِيلِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ تَعْلَمُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مِمَّا أُمِرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ وَقُلْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الْجِدَالِ وَالْوَعِيدِ مَا يُؤْذِنُ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ.

44- سورة الدخان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 44- سُورَةُ الدُّخَانِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ حم الدُّخَانُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ يُعَضِّدُ بَعْضُهُمَا بَعْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانَ فِي لَيْلَةٍ أَوْ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ» الْحَدِيثَ. وَاللَّفْظَانِ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ حم غَيْرُ خَاصَّةٍ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَلَا تُعَدُّ عَلَمًا لَهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ. وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ الدُّخَانِ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالدُّخَانِ وُقُوعُ لَفْظِ الدُّخَانِ فِيهَا الْمُرَادُ بِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أَيَّدَ اللَّهُ بهَا رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الدُّخَانِ بِمَعْنًى آخَرَ قَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ حم تَنْزِيلُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] وَهِيَ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ تَنْزِيلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْجَعْبَرِيُّ وَصَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَى أَنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَا أَحْفَظُ خِلَافًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» اسْتِثْنَاءُ قَوْله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْكَوَاشِيُّ قَوْلًا وَمَا عَزَاهُ إِلَى مُعَيَّنٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَوْلٌ نَشَأَ عَمَّا فَهِمَهُ الْقَائِلُ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ.

أغراضها

وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ فِي عَدِّ نُزُولِ السُّوَرِ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ فِي مَكَانِهَا هَذَا. وَعُدَّتْ آيُهَا سِتًّا وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ، وَعُدَّتْ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَبْعًا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ تِسْعًا وَخَمْسِينَ. أَغْرَاضُهَا أَشْبَهَ افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ فَاتِحَةَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَشَرَفِهِ وَشَرَفِ وَقْتِ ابْتِدَاءِ نُزُولِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُؤْذِنًا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَدَالًّا عَلَى رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ أَلْهَاهُمُ الِاسْتِهْزَاءُ وَاللَّمْزُ عَنِ التَّدَبُّرِ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ دُعَاءُ الرَّسُولِ بِعَذَابِ الْجُوعِ، إِيقَاظًا لِبَصَائِرِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْحِسِّيَّةِ حِينَ لَمْ تَنْجَعْ فِيهِمُ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ دُعَاء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ مُرَادَهُ. فَأَنْذَرَهُمْ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ عِلَاوَةً عَلَى مَا دَعَا بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْيِيدًا مِنَ اللَّهِ لَهُ بِمَا هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَطْلَبِهِ. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِأُمَمٍ أَمْثَالِهِمْ عَصَوْا رُسُلَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَحَلَّ بِهِمْ من الْعقَاب مَا مِنَ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عِظَةً لِهَؤُلَاءِ، تَفْصِيلًا بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى وَمُؤْمِنِي قَوْمِهِ، وَدُونَ التَّفْصِيلِ بِقَوْمِ تُبَّعٍ، وَإِجْمَالًا وَتَعْمِيمًا بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ. وَإِذْ كَانَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَإِحَالَتُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَغْرَتْهُمْ عَلَى إِهْمَالِ التَّدَبُّرِ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِهِ وَالتَّعْرِيفِ بِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُعَانِدِينَ وَمَثُوبَةِ الْمُؤْمِنِينَ تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا. وَأُدْمِجَ فِيهَا فَضْلُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أُنْزِلُ فِيهَا الْقُرْآنُ، أَيِ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا جَرَّتْ إِلَيْهِ الْمُنَاسَبَاتُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ مَنْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَخُتِمَتْ بِالشَّدِّ عَلَى قلب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْتِظَارِ النَّصْرِ وَانْتِظَارِ الْكَافرين الْقَهْر. [1] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الدخان (44) : الآيات 2 إلى 6]

حم (1) الْقَوْلُ فِي نَظَائِره تقدم. [2- 6] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 2 إِلَى 6] وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا الْقِسْمِ وَجَوَابِهِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَنَوَّهَ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ بِذِكْرِ فَضْلِ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ فِيهِ. فَتَعْرِيفُ الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ. وَمَعْنَى الْفِعْلِ فِي أَنْزَلْناهُ ابْتِدَاءُ إِنْزَالِهِ فَإِنَّ كُلَّ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ تَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهِ انْضِمَامَ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ، وَمَجْمُوعُ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْإِنْزَالُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ هُوَ مُسَمَّى الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تَمَّ نُزُولُ آخِرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَتَنْكِيرُ لَيْلَةٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَوَصْفُهَا بِ مُبارَكَةٍ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَشْوِيقٌ لِمَعْرِفَتِهَا. فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَة: 185] . وَاللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] . وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّهَا فِي لَيْلَةِ الْوِتْرِ. وَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِنَظِيرَتِهَا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ فَضْلًا عَظِيمًا لِكَثْرَةِ ثَوَابِ الْعِبَادَةِ فِيهَا فِي كُلِّ رَمَضَانَ كَرَامَةٌ لِذِكْرَى نُزُولِ الْقُرْآنِ وَابْتِدَاءِ رِسَالَةِ أفضل الرُّسُل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. قَالَ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [الْقدر: 4، 5] .

وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي بَرَكَتِهَا وَكَمْ لَهَا مِنْ بَرَكَاتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، وَلَعَلَّ تِلْكَ الْبَرَكَةَ تسري إِلَى شؤونهم الصَّالِحَةِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُمْ. فَبَرَكَةُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أُنْزِلُ فِيهَا الْقُرْآنُ بَرَكَةٌ قَدَّرَهَا اللَّهُ لَهَا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ الْقُرْآنُ بِابْتِدَاءِ نُزُولِهِ فِيهَا مُلَابِسًا لِوَقْتٍ مُبَارَكٍ فَيَزْدَادُ بِذَلِكَ فَضْلًا وَشَرَفًا، وَهَذَا مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي أَنْبَأَنَا اللَّهُ بِبَعْضِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّهَا بِتِلْكَ الْبَرَكَةِ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إِذْ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَى عَلَى ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَوْلُهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: 3] وَقَوْلُهُ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَقَوْلُهُ: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَاخْتُلِفَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، فَقِيلَ: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْبَاقِرِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: 41] فَإِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً من رَمَضَان اهـ. أَيْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا [الْأَنْفَال: 41] أَنَّهُ ابْتِدَاءُ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَفِي الْمُرَادِ بِ مَا أَنْزَلْنا احْتِمَالَاتٌ تَرْفَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ فِي مِثْلِ لَيْلَةِ يَوْمِ بَدْرٍ. وَالَّذِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ أَنَّ لَيْلَةَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ كَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَلَمَّا تَضَافَرَتِ الْأَخْبَارُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فِي ثَالِثَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى» . فَالَّذِي نَعْتَمِدُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ ابْتُدِئَ نُزُولُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، إِلَّا إِذَا حُمِلَ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» عَلَى خُصُوصِ اللَّيْلَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ.

وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِاسْتِمْرَارٍ وَهُوَ مُنَافٍ لِحَدِيثِ «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مُعْتَرِضَةٌ. وَحَرْفُ (إِنَّ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَ رُسُلًا لِلنَّاسِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] ، فَكَانَ رَدُّ إِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مُسْتَأْنَفَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ فَتَكُونُ مُغْنِيَةً غِنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ فَتُفِيدُ تَعْلِيلًا، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ أَنْزَلْناهُ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْإِنْذَارِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ شَأْنُنَا، فَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ وَهُوَ إِيجَازٌ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِ مُنْذِرِينَ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْذِرٌ وَمُبَشِّرٌ اهْتِمَامًا بِالْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى حَالِ جُمْهُورِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَالْإِنْذَارُ يَقْتَضِي التَّبْشِيرَ لِمَنِ انْتَذَرَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُنْذِرِينَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْذِرِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَنْكِيرِ لَيْلَةٍ. وَوَصْفُهَا بِ مُبارَكَةٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فَدَلَّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَاتِهِ اللَّيْلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا ظَهَرَ فِيهَا إِنْزَالُ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا يُفَرَقُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ مُحَسِّنُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَفِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ لَفٌّ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَوَّلُهُمَا: تَعْيِينُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَثَانِيهِمَا: اخْتِصَاصُ تَنْزِيلِهِ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ثُمَّ عَلَّلَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ بِجُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، وَعَلَّلَ الْمَعْنَى الثَّانِي بِجُمْلَةِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. وَالْمُنْذِرُ: الَّذِي يُنْذِرُ، أَيْ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ فِيهِ ضُرٍّ لِقَصْدِ أَنْ يَتَّقِيَهُ الْمُخْبَرُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] . وَالْفَرْقُ: الْفَصْلُ وَالْقَضَاءُ، أَيْ فِيهَا يُفْصَلُ كُلُّ مَا يُرَادُ قَضَاؤُهُ فِي النَّاسِ وَلِهَذَا يُسَمَّى الْقُرْآنُ فُرْقَانًا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فِي

سُورَةِ الْمَائِدَةِ [25] ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَقْتًا لِإِنْفَاذِ وُقُوعِ أُمُورٍ هَامَّةٍ مِثْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لِتِلْكَ الْمُقَضَّيَاتِ وَتَشْرِيفًا لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَكَلِمَةُ كُلُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا مِنَ الشُّمُولِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا هِيَ الْأُمُورُ الْحَكِيمَةُ فَجَمَعَهَا لِلْقَضَاءِ بِهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَأَعْظَمُهَا ابْتِدَاءً نُزُولُ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ كَافَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [23] وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ فِيهَا تُفْرَقُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تُوَافِقُ عَدَّ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ كُلِّ عَامٍ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: يُفْرَقُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ الْمُضَارِعِ فِي يُفْرَقُ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَظِيمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] . وَالْأَمْرُ الْحَكِيمُ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى حِكْمَة من حِكْمَةٍ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ الْأَمْرِ الَّذِي أَحْكَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتْقَنَهُ بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ النُّظُمِ الْمُدَبِّرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ وَعُمُومِهِ. وَبَعْضُ تِلْكَ الْأُمُورِ الْحَكِيمَةِ يَنْفُذُ الْأَمْرُ بِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الموكلين بأنواع الشؤون، وَبَعْضُهَا يَنْفُذُ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَعْضًا يُلْهَمُ إِلَيْهِ مَنْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَفْعَالًا حَكِيمَةً، وَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا عَلَى الْحَالِ مِنْ أَمْرٍ حَكِيمٍ. وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ أَمْراً لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِنا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقَعَ مِنْ عِنْدِنا صِفَةً لِ أَمْرٍ حَكِيمٍ فَخُولِفَ ذَلِكَ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا فَخْمًا إِذَا وُصِفَ بِ حَكِيمٍ. ثُمَّ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ بِهَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ، وَيَنْصَرِفُ هَذَا التَّشْرِيفُ وَالتَّعْظِيمُ ابْتِدَاءً وَبِالتَّعْيِينِ إِلَى الْقُرْآنِ إِذْ كَانَ بِنُزُولِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَشْرِيفُهَا وَجَعْلُهَا وَقْتًا لِقَضَاءِ الْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ الْحَكِيمَةِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَحَرْفُ (إِنَّ) فِيهَا مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُفْتَتَحَ السُّورَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً لِفَتْحِ بَصَائِرِهِمْ إِلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ لِلنَّاسِ لِيَكُفُّوا عَنِ الصَّدِّ عَنْهُ وَلِهَذَا وَرَدَتِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَّلِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّحَدِّي بِالْإِعْجَازِ، وَاشْتَمَلَتْ تِلْكَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ عَلَى حَرْفِ التَّأْكِيدِ، وَيَكُونُ إِعْلَام الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمَزَايَا حَاصِلًا تَبَعًا إِنْ كَانَ لَمْ يَسْبِقْ إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ بِمَا سَبَقَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ أَوْ بِوَحْيِ غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَالَةً وَيَكُونُ عِلْمُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ حَاصِلًا تَبَعًا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ، وَيَكُونُ التَّوْكِيدُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى الْغَرَضِ التَّعْرِيضِيِّ. وَمَفْعُولُ مُرْسِلِينَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَادَّةُ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُرْسِلِينَ الرُّسُلَ. ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مَفْعُولٌ لَهُ مِنْ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أَيْ كُنَّا مُرْسِلِينَ لِأَجْلِ رَحْمَتِنَا، أَيْ بِالْعِبَادِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ بِالْإِنْذَارِ رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ لِيَتَجَنَّبُوا مُهَاوِيَ الْعَذَابِ وَيَكْتَسِبُوا مَكَاسِبَ الثَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَنْزَلْناهُ. وَإِيرَادُ لَفْظِ الرَّبِّ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: رَحْمَةً مِنَّا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَدْعِي الرَّحْمَةَ بِالْمَرْبُوبِينَ ثُمَّ إِضَافَةُ (رَبِّ) إِلَى ضمير الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ مُوَاجَهَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مُوَاجهَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُ الَّذِي جَرَى خِطَابُهُمْ هَذَا بِوَاسِطَتِهِ فَهُوَ كَحَاضِرٍ مَعَهُمْ عِنْدَ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ فَيُصْرَفُ وَجْهُ الْكَلَامِ تَارَةً إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] وَهَذَا لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ بَعْدَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ. وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضمير الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى حَظٍّ لَهُ فِي خِلَالِ هَذِهِ

التَّشْرِيعَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ بِوَاسِطَتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِرْسَالُ رَحْمَةً كَانَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] ، وَيُعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ ربّ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِذْ لَا يَكُونُ الرَّبُّ رَبَّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَأَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَرَبِّهِمْ، لِأَنَّ غَرَضَ إِضَافَةِ رَبِّ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْبَى ذَلِكَ، ثُمَّ سَيُصَرِّحُ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ فِي قَوْلِهِ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدُّخان: 8] وَهُوَ مَقَامٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ كُنَّا مُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ عَلِمَ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَصْنَامِ وَعلم إغواء أيمة الْكُفْرِ لِلْأُمَمِ وَعَلِمَ ضَجِيجَ النَّاسِ مِنْ ظُلْمِ قَوِيِّهِمْ ضَعِيفَهُمْ وَعَلِمَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِتَقْوِيمِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَعَلِمَ أَيْضًا نَوَايَا النَّاسِ وَأَفْعَالَهُمْ وَإِفْسَادَهُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ لِكَفِّ النَّاسِ عَنِ الْفَسَادِ وَإِصْلَاحِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَأُشِيرَ إِلَى عِلْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِوَصْفِ السَّمِيعُ لِأَنَّ السَّمِيعَ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْأَقْوَالَ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَأُشِيرَ إِلَى عِلْمِ النَّوْعِ الثَّانِي بِوَصْفِ الْعَلِيمُ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَقَدَّمَ السَّمِيعُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ هُوَ دُعَاءُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمِيعَ وَالْعَلِيمَ تَعْلِيلَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْإِرْسَالِ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ إِرَادَةُ الصَّلَاحِ وَرَحْمَةُ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي تَجْرِي الْإِرَادَةُ عَلَى وَفْقِهِ، فَالتَّعْلِيلُ بِصِفَةِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، فَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَكَانَ عَلِيمًا بِتَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ كَانَ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَيْنِ أَنْ يُرْسِلَ لِلنَّاسِ رُسُلًا رَحْمَةً بِهِمْ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لَا أَصْنَامُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَهَا. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى الْحَاجَةِ إِلَى إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَفِي وَصْفِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْرِيض بالتهديد.

[سورة الدخان (44) : آية 7]

[سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 7] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) هَذَا عَوْدٌ إِلَى مُوَاجَهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى نَحْو مَا ابتدأت بِهِ السُّورَةُ. وَهُوَ تَخَلُّصٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ إِلْزَامًا لَهُمْ بِمَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ نَتِيجَةِ الدَّلِيلِ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ أَلَا تَرَى الْقُرْآنَ يُكَرِّرُ تَذْكِيرَهُمْ بِأَمْثَالِ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: 20، 21] ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَ الرُّبُوبِيَّةَ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدُّخان: 6] ثُمَّ تَفْصِيلًا بِذِكْرِ صِفَةِ عُمُومِ الْعِلْمِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ بِصِيغَةِ قَصْرِ الْقَلْبِ الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْلَمُ. وَبِذِكْرِ صِفَةِ التَّكْوِينِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ تَعَالَى بِإِقْرَارِهِمُ ارْتِقَاءً فِي الِاسْتِدْلَالِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَجَالٌ لِلرَّيْبِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ أَعْقَبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِجُمْلَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِطَرِيقَةِ إِثَارَةِ التَّيَقُّظِ لِعُقُولِهِمْ إِذْ نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ إِيقَانُهُمْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْإِيقَانِ لِلَّهِ بِالْخَالِقِيِّةِ حِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ بِأَنْ أُتِيَ فِي جَانِبِ فَرْضِ إِيقَانِهِمْ بِطَرِيقَةِ الشَّرْطِ، وَأُتِيَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي أَصْلُهُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّ السَّماواتِ بِرَفْعِ رَبِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ بَعْدَ إِجْرَاءِ أَخْبَارٍ أَوْ صِفَاتٍ عَنْ ذَاتٍ ثُمَّ يُرْدِفُ بِخَبَرٍ آخَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ شَخْصٍ: فَتًى يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ. وَهُوَ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَهُ فَهُوَ كَذَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِجَرِّ رَبِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْله: رَبِّكَ [الدُّخان: 6] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُوقِنِينَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الدُّخان: 8] .

[سورة الدخان (44) : آية 8]

[سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 8] لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) جُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ نَتِيجَةٌ لِلدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِرُبُوبِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ نَتِيجَةً لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِشِدَّةِ اقْتِضَاءِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِيَّاهَا. وَجُمْلَةُ يُحْيِي وَيُمِيتُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِتَفَرُّدِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ فَكَمَا اسْتَدِلَّ عَلَيْهِمْ بِتَفَرُّدِهِ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ أَعْظَمِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ وَهِيَ حَالَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي شُرِّفَ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَكُرِّمَ أَيْضًا بِإِعْطَائِهَا لِلْحَيَوَانِ لِتَسْخِيرِهِ لِانْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ بِسَبَبِهَا، وَبِتَفَرُّدِهِ بِالْإِمَاتَةِ وَهِيَ سَلْبُ الْحَيَاةِ عَنِ الْحَيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً لِلْحَيِّ. وَلَمَّا كَانَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ دَلِيلًا وَاضِحًا فِي أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ وَفِيمَا حَوْلَهُمْ مِنْ ظُهُورِ الْأَحْيَاءِ بِالْوِلَادَةِ وَالْأَمْوَاتِ بِالْوَفَاةِ يَوْمًا فَيَوْمًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَجْهَلُوا دَلَالَتَهُ بَلْهَ جُحُودِهِمْ إِيَّاهَا وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا تُحْيِي وَلَا تُمِيتُ، أَعْقَبَ بِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْمُخَاطَبِينَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِجَحْدِ الْأَدِلَّةِ وَبِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ. وَعَطَفَ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ لِيُسَجِّلَ عَلَيْهِمُ الْإِلْزَامَ بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] . وَوَصَفَهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَقْدَمَ الْآبَاءِ حُجَّةً أَعْظَمَ مِنَ الْآبَاءِ الْأَقْرَبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] . [9] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 9] بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) بَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ رُدَّ بِهِ أَنْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ وَمُقِرِّينَ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ إِقْرَارَهُمْ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ ثَابِتٍ بَلْ هُوَ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهُمْ خَلَطُوهُ بِالشَّكِّ وَاللَّعِبِ فَارْتَفَعَتْ عَنْهُ خَاصِّيَّةُ الْيَقِينِ وَالْإِقْرَارِ الَّتِي هِيَ الْجَرْيُ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَجُرَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَتَجْدِيدِ مُلَاحَظَتِهِ

[سورة الدخان (44) : الآيات 10 إلى 11]

تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الذُّهُولُ ثُمَّ النِّسْيَانُ فَضَعُفَ حَتَّى صَارَ شَكًّا لِانْحِجَابِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَرْسُخُ بِهَا فِي النَّفْسِ، أَيْ هُمْ شَاكُّونَ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الشَّكِّ مِنْ نُفُوسِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ ظَرْفٌ مُحِيطٌ بِهِمْ لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَخْرَجًا، أَيْ لَا يُفَارِقُهُمُ الشَّكُّ، فَالظَّرْفِيَّةُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ مِثْلُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَجُمْلَةُ يَلْعَبُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ هُمْ أَيِ اشْتَغَلُوا عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُزِيلُ الشَّكَّ عَنْهُمْ وَتَجْعَلُهُمْ مُهْتَدِينَ، بِالْهُزْءِ وَاللَّعِبِ فِي تَلَقِّي دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّ انْغِمَاسَهُمْ فِي الشَّكِّ مُقَارِنًا لِحَالِهِمْ مِنَ اللَّعِبِ، وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ إِذْ بِهَا أُفِيدَ أَنَّ الشَّكَّ حَامِلٌ لَهُمْ عَلَى الْهُزْءِ وَاللَّعِبِ، وَأَنَّ الشُّغْلَ بِاللَّعِبِ يَزِيدُ الشَّكَّ فِيهِمْ رُسُوخًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ وَلعب، فتفطّن. [10، 11] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 10 إِلَى 11] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: 9] قُصِدَ مِنْهُ وعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْتِقَامِ اللَّهِ مِنْ مُكَذِّبِيهِ، وَوَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جُحُودِهِمْ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ وُعُكُوفِهِمْ عَلَى اللَّعِبِ، أَيِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، وَذَكَرَ لَهُ مُخَوِّفَاتٍ لِلْمُشْرِكِينَ لِإِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَبَطْشَةُ انتقام من أئمتهم تَسْتَأْصِلُهُمْ. فالخطاب فِي فَارْتَقِبْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّثْبِيتِ. وَالِارْتِقَابُ: افْتِعَالٌ مِنْ رَقَبَهُ، إِذَا انْتَظَرَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِظَارُ عِنْدَ قُرْبِ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمُنْتَظَرِ. وَفِعْلُ (ارْتَقِبْ) يَقْتَضِي بِصَرِيحِهِ أَنَّ إِتْيَانَ السَّمَاءِ بِدُخَانٍ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَقْتَضِي كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ وُقُوعِهِ كَمَا يَرْتَقِبُ الْجَائِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ. ويَوْمَ اسْمُ زَمَانٍ مَنْصُوبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِ (ارْتَقِبْ) وَلَيْسَ ظَرْفًا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخافُونَ يَوْماً [النُّور: 37] ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ لِتَمْيِيزِ الْيَوْمِ

الْمُرَادِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بِأَنَّهُ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ فَنُصِبَ يَوْمَ نَصْبَ إِعْرَابٍ وَلَمْ يُنَوَّنْ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ. وَالْجُمْلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا اسْمُ الزَّمَانِ تَسْتَغْنِي عَنِ الرَّابِطِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ. وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِي قُوَّةِ الْمَصْدَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ إِتْيَانِ السَّمَاءِ بِدُخَانٍ. وَأَطْلَقَ الْيَوْمَ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّ ظُهُورَ الدُّخَانِ كَانَ فِي أَيَّامٍ وَشُهُورٍ كَثِيرَةٍ. وَالدُّخَانُ: مَا يَتَصَاعَدُ عِنْدَ إِيقَادِ الْحَطَبِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ بِمِثْلِ دُخَانٍ. وَالْمُبِينُ: الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَا يُشَكُّ فِي رُؤْيَتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الدُّخَانُ فِي الْآيَةِ هُوَ: الْغُبَارُ الَّذِي يَتَصَاعَدُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ جَرَّاءِ الْجَفَافِ وَأَنَّ الْغُبَارَ يُسَمِّيهِ الْعَرَبُ دُخَانًا وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي تُثِيرُهُ الرِّيَاحُ مِنَ الْأَرْضِ الشَّدِيدَةِ الْجَفَافِ. وَعَنِ الْأَعْرَجِ: أَنَّهُ الْغُبَارُ الَّذِي أَثَارَتْهُ سَنَابِكُ الْخَيْلِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَدْ حَجَبَتِ الْغَبَرَةُ السَّمَاءَ، وَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ السَّمَاءَ مَكَانُهُ حِينَ يَتَصَاعَدُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ أَوْ حِينَ يَلُوحُ لِلْأَنْظَارِ مِنْهَا. وَالْكَلَامُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الدُّخَانَ الْمُرْتَقَبَ حَادِثٌ قَرِيبٌ الْحُصُولِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَدَثٌ يَكُونُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ عِقَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: يَغْشَى النَّاسَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ يَكْشِفُ زَمَنًا قَلِيلًا عَنْهُمْ إِعْذَارًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ يَعُودُونَ بَعْدَ كَشْفِهِ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا [الدُّخان: 15] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ [الدُّخان: 16] فَهُوَ عَذَابٌ آخَرُ. وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعَذَابَ بِالدُّخَانِ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ قَرِيبٌ، وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدُّخَانَ الَّذِي هُوَ عَذَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: 33] فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ هَذَا الدُّخَانِ غَيْرُ قَاطِنِينَ بِدَارِ

الشِّرْكِ، فَهَذَا الدُّخَانُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا مَحَالَةَ وَتَعَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ حَصَلَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ أَوْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا الدُّخَانَ عُنِيَ بِهِ مَا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ سِنِي الْقَحْطِ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالْأَصَحُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ مُسْلِمٍ وَأَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجَهْدِ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ فَأُتِيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: اسْتَسْقِ لِمُضَرَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، فَدَعَا فَكُشِفَ عَنْهُمْ وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ عَادُوا، فَعَادُوا: فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إِلَى قَوْلِهِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 10- 16] وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمُ بَدْرٍ. وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: مَضَى خَمْسٌ: الدُّخَانُ، وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ. فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الصُّبْحِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ. اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَا لَهُمْ بِالنَّجَاةِ كَانُوا مِمَّنْ حَبَسَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالسِّنِينِ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِئَلَّا يُعَذَّبَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجُوعِ وَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْقُنُوتِ أَنَّهُ دَعَا فِي الْقُنُوتِ عَلَى بَنِي لِحْيَانَ وَعُصَيَّةَ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ هَذَا الْجُوعَ حَلَّ بِقُرَيْشٍ بُعَيْدَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجُوعُ الَّذِي دَعَا بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» ، وَفِي رِوَايَةِ «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ

كَسِنِينِ يُوسُفَ» فَأتي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: اسْتَسْقِ لِمُضَرَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ الَّذِي أَتَى النَّبِيءَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَاهُ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَعْنِي أَتَوُا الْمَدِينَةَ لَمَّا عَلِمُوا أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْقَحْطِ، فَقَالُوا: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ فَدَعَا. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ مَا يَرَاهُ الْجَائِعُونَ مِنْ شِبْهِ الْغِشَاوَةِ عَلَى أَبْصَارِهِمْ حِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْجَوِّ بِهَيْئَةِ الدُّخَانِ النَّازِلِ مِنَ الْأُفُقِ، فَالْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ. وَأَمَّا مُفْرَدَاتُ التَّرْكِيبِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقَائِقِهَا لِأَنَّ مِنْ مَعَانِي السَّمَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قُبَّةُ الْجَوِّ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَغْشَى النَّاسَ تَرْشِيحًا لِلتَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ الَّذِي يَغْشَاهُمْ هُوَ الظُّلْمَةُ الَّتِي فِي أَبْصَارِهِمْ مِنَ الْجُوعِ، وَلَيْسَ الدُّخَانُ هُوَ الَّذِي يَغْشَاهُمْ. وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ رَكَّبَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثَ الِاسْتِسْقَاءِ الَّذِي فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَة والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الزَّرْعُ وَالضَّرْعُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا ثَلَاثًا، وَمَا يُرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةُ سَحَابٍ، فَتَلَبَّدَتِ السَّمَاءُ بِالسَّحَابِ وَأُمْطِرُوا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ حَتَّى سَالَتِ الْأَوْدِيَةُ وَسَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي الْجُمُعَةَ الْقَابِلَةَ هُوَ الْأَوَّلُ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَ الْمَطَرَ عَنَّا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَتَفَرَّقَتِ السُّحُبُ حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي شِبْهِ الْإِكْلِيلِ مِنَ السَّحَابِ . وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ظَاهِرٌ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَحْطَ وَقَعَ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ قَحْطٌ آخَرُ غَيْرُ قَحْطِ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَعْنَى يَغْشَى النَّاسَ أَنَّهُ يُحِيطُ بِهِمْ وَيَعُمُّهُمْ كَمَا تُحِيطُ الْغَاشِيَةُ بِالْجَسَدِ، أَيْ لَا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّخَانِ مَا أَصَابَ أَبْصَارَهُمْ مِنْ رُؤْيَةٍ مِثْلِ الْغَبَرَةِ مِنَ الْجُوعِ فَالْغَشَيَانُ مَجَازٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ

[سورة الدخان (44) : آية 12]

غُبَارَ الْحَرْبِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَالْغَشَيَانُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غُبَارًا مُتَصَاعِدًا فِي الْجَوِّ مِنْ شِدَّةِ الْجَفَافِ. وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْجِيبًا مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِتَقْدِيرِ: يَقُولُونَ: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ إِلَى الدُّخَانِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، عَدَلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ بِالْإِضْمَارِ وَأَنْ يُقَالَ: هُوَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، إِلَى اسْتِحْضَارِهِ بِالْإِشَارَةِ، لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا الشِّتَاءُ قَادِمٌ فَأَعِدَّ لَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَام: 24] فَإِنَّ الْمَحْكِيَّ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَة. [12] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 12] رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: 11] وَجُمْلَةُ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى [الدُّخان: 13] فَهِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَمَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ قَوْلِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِتَقْدِيرِ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ، أَيْ هُوَ وَعْدٌ صَادِرٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنْ كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ أَيْ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [49] وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ، أَيْ إِنْ دَعَوْتَ رَبَّكَ اتَّبَعْنَاكَ وَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [134] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ. وَمِمَّا تَسْمَحُ بِهِ تَرَاكِيبُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ أَمْرٍ أَيْ قُولُوا لِتَلْقِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِذْ كَانُوا

وَالْمُشْرِكِينَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ كَمَا اسْتَعَاذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَاف: 155] . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِأَهْلِهَا هَذَا الْعَذَابُ، فَهَذَا التَّلْقِينُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: 286] الْآيَاتِ. وَعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، أَيْ إِنَّا مُتَلَبِّسُونَ بِمَا يَدْفَعُ عَنَّا عَذَابَ الْكَافِرِينَ، وَفِي تَلْقِينِهِمْ بِذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَرَفِ الْإِيمَانِ، وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ جَارٍ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ كَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ حَرْفِ (إِنَّ) مِنْ مَعْنَى الْإِخْبَارِ دُونَ الْوَعْدِ، وَمِنَ التَّعْلِيلِ دُونَ التَّأْكِيدِ، وَلِمَا يَقْتَضِيهِ اسْم الْفَاعِل فِي زَمَنِ الْحَالِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِأَنَّ سِيَاقَهُ خطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرَقُّبِ إِعَانَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا كَانَ يَدْعُو «أَعْنِي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسِنِي يُوسُفَ» فَمُقْتَضَى الْمَقَامِ تَأْمِينُهُ مِنْ أَنْ يُصِيبَ الْعَذَابُ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَاهِرُ مَادَّةِ الْكَشْفِ تَقْتَضِي إِزَالَةَ شَيْءٍ كَانَ حَاصِلًا فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ الْكَشْفَ هُنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَانَ مَجَازُهُ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي منع حُصُول شَيْء يُخْشَى حُصُولُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: 98] فَإِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ عَذَابٌ فَزَالَ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ تُوُعِّدُوا بِهِ فَبَادَرُوا بِالْإِيمَانِ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ: لَا يَكْشِفُ الْغَمَاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا أَرَادَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ بِسُوءٍ، وَمُحْتَمِلًا لِلِاسْتِعْمَالِ فِي زَوَالِ شَيْءٍ كَانَ حَصَلَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ السِّيَرِ وَالْآثَارِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وعدوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ إِنْ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُم الْقَحْط.

[سورة الدخان (44) : الآيات 13 إلى 14]

[سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 13 إِلَى 14] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَعَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدُّخان: 12] تَكْذِيبًا لِوَعْدِهِمْ، أَيْ هُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الْعَذَابِ وَهِيَ دَلَائِلُ صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي انْتَزَعْنَاهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآيَةِ فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: 9] وَهِيَ كَالنَّتِيجَةِ لَهَا لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَقَدْ صَارُوا بُعَدَاءَ عَنِ الذِّكْرَى. وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ أَصْلُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ أَمْكِنَةِ حُصُولِ الشَّيْءِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِيهَا فَيَجْعَلُونَهَا اسْتِفْهَامًا عَنِ الْأَحْوَالِ بِمَعْنَى (كَيْفَ) بِتَنْزِيلِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ ظُرُوفٍ فِي مَكَانٍ كَمَا هُنَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ تَحْصُلُ لَهُمُ الذِّكْرَى وَالْمَخَافَةُ عِنْدَ ظُهُورِ الدُّخَانِ الْمُبِينِ وَقَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ طُرُقُهَا بِطَعْنِهِمْ فِي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَتَاهُمْ بِالتَّذْكِيرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالْإِحَالَةِ، أَيْ كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَهُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَطَعَنُوا فِيهِ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلٍ إِمَّا مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ الذِّكْرى عَلَيْهِ، أَيْ مُبِينٌ لَهُمْ مَا بِهِ يَتَذَكَّرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ رَسُولٌ ظَاهِرٌ، أَيْ ظَاهِرَةٌ رِسَالَتُهُ عَنِ اللَّهِ بِمَا تَوَفَّرَ مَعَهَا مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِهِ. وَإِيثَارُ مُبِينٌ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى مُبِينٌ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ لِيُفِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ مَفَادِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: 9] الَّذِي اتَّصَلَتْ بِهِ جُمْلَةٌ كَانَتْ جُمْلَةُ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا.

[سورة الدخان (44) : آية 15]

فَالْمَعْنَى: وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ فَشَكُّوا فِي رِسَالَتِهِ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَطَعَنُوا فِيهِ، فَالتَّوَلِّي وَالطَّعْنُ حَصَلَا عِنْدَ حُصُولِ الشَّكِّ وَاللَّعِبِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ. وَمَعْنَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ هُنَا أَنَّ التَّوَلِّيَ وَالْبُهْتَانَ أَفْظَعُ مِنَ الشَّكِّ وَاللَّعِبِ. وَالْمُعَلَّمُ الَّذِي يُعَلِّمُهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [103] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ مَرَّةً بِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُ غَيْرُهُ، وَوَصَفُوهُ مَرَّةً بِالْجُنُونِ، تَنَقُّلًا فِي الْبُهْتَانِ، أَوْ وَصَفَهُ فَرِيقٌ بِهَذَا وَفَرِيقٌ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ مُوَزَّعٌ بَيْنَ أَصْحَابِ ضَمِيرِ قالُوا أَوْ بَيْنَ أَوْقَاتِ الْقَائِلِينَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا وَاحِدًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَكُونُ مُعَلَّمًا وَلَا يتأثر بالتعليم. [15] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 15] إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَجِيءُ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ [الدُّخان: 12] ، أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ، وَيَجِيءُ عَلَى مَا دَرَجْنَا عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِعْلَامًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكْشِفَ الْعَذَابَ الْمُتَوَعَّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مُدَّةً، فَيَعُودُونَ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ إِنَّكُمْ عائِدُونَ الْتِفَاتٌ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ يُمْسِكُونَ عَنْ ذَلِكَ مُدَّةً وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي أَرْسَلُوا فِيهَا وَفْدَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْأَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الْقَحْطِ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَيَّامَئِذٍ يُمْسِكُونَ عَنِ الطَّعْنِ وَالذَّمِّ رَجَاءَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا كَانُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الزمر: 8] كَمَا اقْتَضَى أَنَّ الْعَذَابَ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ إِصَابَتِهِمْ بِالْعَذَابِ. فَمَعْنَى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ: إِنَّا كَاشِفُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: 10] الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْآيَةُ

[سورة الدخان (44) : آية 16]

مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ مَعْنَى إِنَّكُمْ عائِدُونَ، أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ يَكُونُ مُرَادًا بِهِ الْحُصُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ. رُوِيَ أَنَّهُمْ كُشِفَ عَنْهُمُ الْقَحْطُ بَعْدَ اسْتِسْقَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَيَوْا وَحَيِيَتْ أَنْعَامُهُمْ ثُمَّ عَادُوا فَعَاوَدَهُمُ الْقَحْطُ كَمَالَ سَبْعِ سِنِينَ، وَلَعَلَّهَا عَقِبَهَا فَتْحُ مَكَّةَ. وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ عائِدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا تَطَلَّعُوا إِلَى مَا سَيَكُونُ بَعْدَ كَشْفِهِ، وَتَطَلَّعَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ كَشْفِ الْعَذَابِ هَلْ يُقْلِعُونَ عَنِ الطَّعْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ عائِدُونَ مُبَيِّنًا لما يتساءلون همخ. [16] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 16] يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) هَذَا هُوَ الِانْتِقَامُ الَّذِي وُعِدَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُوُعِّدَ بِهِ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] فَإِنَّ السَّامِعَ يُثَارُ فِي نَفْسِهِ سُؤَالٌ عَنْ جَزَائِهِمْ حَيْثُ يَعُودُونَ إِلَى التَّوَلِّي وَالطَّعْنِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ هُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الِانْتِقَامُ التَّامُّ، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّطَلُّعِ وَالتَّسَاؤُلِ أُكِّدَا بِخَبَرٍ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ دَفْعًا لِلتَّرَدُّدِ. وَأَصْلُ تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى، فَ يَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ لِاسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مُنْتَقِمُونَ. وَتَقَدَّمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِتَهْوِيلِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيقِ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ خَبَرٌ عَنْ (إِنَّ) بِنَاءً عَلَى الشَّائِعِ مِنْ كَلَامِ النُّحَاةِ أَنَّ مَا بَعْدَ (إِنَّ) لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّ الظُّرُوفَ وَنَحْوَهَا يُتَوَسَّعُ فِيهَا. والْبَطْشَةَ الْكُبْرى: هِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّ مَا أَصَابَ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ كَانَ بَطْشَةً بِالشِّرْكِ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ فَقَدُوا سَادَتَهُمْ وَذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُسَيِّرُونَ أَهْلَ مَكَّةَ كَمَا يُرِيدُونَ.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 21]

وَالْبَطْشَةُ: وَاحِدَةُ الْبَطْشِ وَهُوَ: الْأَخْذُ الشَّدِيدُ بِعُنْفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [195] . [17- 21] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 17 إِلَى 21] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) جَعَلَ اللَّهُ قِصَّةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مَثَلًا لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَجَعَلَ مَا حَلَّ بِهِمْ إِنْذَارًا بِمَا سَيَحِلُّ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْقَحْطِ وَالْبَطْشَةِ مَعَ تَقْرِيبِ حُصُولِ ذَلِكَ وَإِمْكَانِهِ وَيُسْرِهِ وَإِنْ كَانُوا فِي حَالَةِ قُوَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] فَذِكْرُهَا هُنَا تَأْيِيدٌ لِلنَّبِيءِ وَوَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا لِمَجْمُوعِ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ فَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّوْزِيعِ بِأَنْ يُشَبَّهَ أَبُو جَهْلٍ بِفِرْعَوْنَ، وَيُشَبَّهَ أَتْبَاعُهُ بِمَلَأِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَوْ يشبه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُشَبَّهُ الْمُسْلِمُونَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَبُولُ الْمَثَلِ لِتَوْزِيعِ التَّشْبِيهِ مِنْ مَحَاسِنِهِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَتَنَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعَ الْحَالِ فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] ، أَيْ مُنْتَقِمُونَ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَانْتَقَمْنَا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِيمَا مَضَى. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ قَبْلَهُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَيُفْتَنُونَ كَمَا فُتِنَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ هَذَا الظَّرْفُ مُؤْذِنًا بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فَفَاتِنُوهُمْ فَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْذِنًا بِأَنَّ الْمَذْكُورَ كَالدَّلِيلِ عَلَى تَوَقُّعِ ذَلِكَ وَإِمْكَانِهِ وَهُوَ إِيجَازٌ آخَرُ.

وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ صَوْغِ الْكَلَامِ بِصِيغَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ إِلَى صَوْغِهِ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ اهْتِمَامًا بِالْقِصَّةِ وَإِظْهَارًا بِأَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مِمَّا يَهِمُّ الْعِلْمُ بِهِ، وَأَنَّهَا تَذْكِيرٌ مُسْتَقِلٌّ وَأَنَّهَا غَيْرُ تَابِعَةٍ غَيْرَهَا. وَلِأَنَّ جُمْلَةَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ فَتَنَّا أَيْ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ، عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ مَعْطُوفًا إِذِ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعْنَى الْفِتْنَةِ، فَلَا تَكُونُ جُمْلَةً وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَتَنَّا بَلْ هِيَ تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ بَعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْفَتْنُ: الْإِيقَاعُ فِي اخْتِلَالِ الْأَحْوَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ: مُوسَى، وَالْكِرِيمُ: النَّفِيسُ الْفَائِقُ فِي صِنْفِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] ، أَيْ رَسُولٌ مِنْ خِيرَةِ الرُّسُلِ أَوْ مِنْ خِيرَةِ النَّاسِ. وأَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ وَصْفُ رَسُولٌ وَفِعْلُ جاءَهُمْ مِنْ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ فَفِيهِمَا مَعْنَى الْقَوْلِ. وَمَعْنَى أَدُّوا إِلَيَّ أَرْجِعُوا إِلَيَّ وَأَعْطُوا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمرَان: 75] ، يُقَالُ: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ وَأَبْلَغَهُ. وَهَمْزَةُ الْفِعْلِ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ مُضَاعَفُ الْعَيْنِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِعْلٌ سَالِمٌ غَيْرُ مُضَاعَفٍ، جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَخِطَابُ الْجَمْعِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْمُرَادُ: فِرْعَوْنُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ مَلَئِهِ لَعَلَّهُمْ يُشِيرُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ مَجْمُوعَ الْمَلَأِ لَمَّا رَأَى مِنْ فِرْعَوْنَ صَلَفًا وَتَكَبُّرًا من الِامْتِثَال، فخطاب أَهْلَ مَشُورَتِهِ لَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ يَتَبَصَّرُ الْحَقَّ. وعِبادَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَدُّوا مُرَادًا بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، أُجْرِيَ وَصْفُهُمْ عِبادَ اللَّهِ تَذْكِيرًا لِفِرْعَوْنَ بِمُوجَبِ رَفْعِ الِاسْتِعْبَادِ عَنْهُمْ، وَجَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [17] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فَحَصَلَ أنّه وَصفهم بالوصفين، فَوَصْفُ

عِبادَ اللَّهِ مُبْطِلٌ لِحُسْبَانِ الْقِبْطِ إِيَّاهُمْ عَبِيدًا كَمَا قَالَ: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 47] وَإِنَّمَا هُمْ عِبَادُ اللَّهِ، أَيْ أَحْرَارٌ فَعِبَادُ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحُرِّيَّةِ كَقَوْلِ بِشَارٍ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ: أَصْبَحْتَ مَوْلَى ذِي الْجَلَالِ وَبَعْضُهُمْ ... مَوْلَى الْعَبِيدِ فَلُذْ بِفَضْلِكَ وَافْخَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ فِعْلِ أَدُّوا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَدَّوْا إِلَيَّ الطَّاعَةَ وَيَكُونُ عِبادَ اللَّهِ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ مِنْ شَرْعِ مُوسَى أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى دُعَاءِ فِرْعَوْنَ لِلْإِيمَانِ وَأَنْ يُرْسِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُؤْمِنَ ثَبَتَتِ الْمُكَافَحَةُ فِي أَنْ يُرْسِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِتَسْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَيْهِ، أَيْ لِأَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَأَنَا أَمِينٌ، أَيْ مُؤْتَمَنٌ عَلَى أَنِّي رَسُولٌ لَكُمْ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى رَسُولٌ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ الْإِرْسَالِ بِأَنَّهُ لَهُمُ ابْتِدَاءً بِأَنْ يُعْطُوهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ إِرْسَالِهِ لِتَحْرِيرِ أُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَالتَّشْرِيعِ لَهَا، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: لَكُمْ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ مُوسَى قَدْ أَبْلَغَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ رِسَالَتَهُ مَعَ التَّبْلِيغِ إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يُونُس: 83] ، وَلِيَكُونَ امْتِنَاعُ فِرْعَوْنَ مِنْ تَسْرِيحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَرِّرًا لِانْسِلَاخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ طَاعَةِ فِرْعَوْنَ وَفِرَارِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ. وَعَطَفَ عَلَى طَلَبِ تَسْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَهْيًا عَنِ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ إِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ أَنَفَةً مِنَ الْحَطِّ مِنْ عَظَمَتِهِ فِي أَنْظَارِ قَوْمِهِمْ فَقَالَ: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا تَعْلُوَا عَلَى أَمْرِهِ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ فَلَمَّا كَانَ الِاعْتِلَاءُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ تَرْفِيعًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى وَاجِبِ امْتِثَالِ رَبِّهِمْ جَعَلُوا فِي ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ يَتَعَالَوْنَ عَلَى اللَّهِ. وأَنْ لَا تَعْلُوا عَطْفٌ عَلَى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ. وَأُعِيدَ حَرْفُ أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ التَّفْسِيرِ لِمَدْلُولِ الرِّسَالَةِ. وَلَا نَاهِيَةٌ، وَفِعْلُ تَعْلُوا مَجْزُومٌ بِ لَا النَّاهِيَةِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عِلَّةٌ جَدِيرَةٌ بِالْعَوْدِ إِلَى الْجمل الثَّلَاث

الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ مَضَامِينِ تِلْكَ الْجُمَلِ مَعْلُولِهَا وَعِلَّتِهَا. وَالسُّلْطَانُ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُجَّةِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [يُونُس: 68] فالحجة تلجىء المحوج عَلَى الْإِقْرَارِ لِمَنْ يُحَاجُّهُ فَهِيَ كَالْمُتَسَلِّطِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْمُعْجِزَةُ: حُجَّةٌ عَظِيمَةٌ وَلِذَلِكَ وَصِفَ السُّلْطَانُ بِ مُبِينٍ، أَيْ وَاضِحِ الدَّلَالَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ هِيَ انْقِلَابُ عَصَاهُ ثُعْبَانًا مُبِينًا. وآتِيكُمْ مُضَارِعٌ أَوِ اسْمُ فَاعِلِ (أَتَى) . وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهُوَ مُقْتَضٍ لِلْإِتْيَانِ بِالْحُجَّةِ فِي الْحَالِ. وَجُمْلَةُ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ، فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا شَمِلَهُ كَلَامُهُ حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ فَكَانَ دَاخِلًا فِي مُجْمَلِ مَعْنَى وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ الْمُفَسَّرِ بِمَا بَعْدَ أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ. وَمَعْنَاهُ: تَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَرْجُمُوهُ لِأَنَّ مَعْنَى عُذْتُ بِرَبِّي جَعَلْتُ رَبِّي عَوْذًا، أَيْ مَلْجَأً. وَالْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ التَّذْكِيرِ بِخَوْفِ اللَّهِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِالِالْتِجَاءِ إِلَى حِصْنٍ أَوْ مَعْقِلٍ بِجَامِعِ السَّلَامَةِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [18] قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ، وَقَالَ أَحَدُ رُجَّازِ الْعَرَبِ: قَالَتْ وَفِيهَا حَيْدَةٌ وَذُعْرُ ... عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمُ وَحِجْرُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْف بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي ارْعِوَائِهِمْ مِنْ رَجْمِهِ حِينَ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّهُ اسْتَعْصَمَ بِاللَّهِ الَّذِي يَشْتَرِكُونَ فِي مَرْبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَالرَّجْمُ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ تِبَاعًا حَتَّى يَمُوتَ الْمَرْمِيُّ أَوْ يُثْخِنَهُ الْجِرَاحُ. وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَحْقِيرُ الْمَقْتُولِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْحِجَارَةِ مَنْ يَطْرُدُونَهُ، قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الْحجر: 34] .

[سورة الدخان (44) : آية 22]

وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مُوسَى مِنْهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عَادَتَهُمْ عِقَابُ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُمْ بِالْقَتْلِ رَمْيًا بِالْحِجَارَةِ. وَجَاءَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [33] فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا جِئْتُ بِهِ فَلَا تَقْتُلُونِي، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي. وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِالْمُعْجِزَةِ الَّتِي آتِيكُمْ بِهَا فَلَا تَرْجُمُونِي فَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ تَرْجُمُونِي وَلَكِنِ اعْتَزِلُونِي فَكُونُوا غَيْرَ مُوَالِينَ لِي وأكون مَعَ قرمي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالتَّقْدِيرُ: فَاعْتَزِلُونِي وَأَعْتَزِلُكُمْ لِأَنَّ الِاعْتِزَالَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مِنْ جَانِبَيْنِ. وَجِيءَ فِي شَرْطِ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الشَّرْطِ غَيْرِ الْمُتَيَقَّنِ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِهِ بَعْدَ دِلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاقِعٍ فَيُفْرَضَ عَدَمُهُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ. وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، أَوْ أَرَادَ: فَاعْتَزِلُونِي زَمَنًا، يَعْنِي إِلَى أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ اللَّهُ زَمَنَ الْخُرُوجِ. وَعُدِّيَ تُؤْمِنُوا بِاللَّامِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: آمَنَ بِهِ وَآمَنَ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ لَامُ الْعِلَّةِ عَلَى تَضْمِينِ فِعْلِ الْإِيمَانِ مَعْنَى الرُّكُونِ. وَقَدْ جَاءَ تَرْتِيبُ فَوَاصِلِ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مُرَاعَاةِ مَا يَبْدُو مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عِنْدَ إِلْقَاءِ مُوسَى دَعْوَتَهُ عَلَيْهِمْ إِذِ ابْتَدَأَ بِإِبْلَاغِ مَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ فَآنَسَ مِنْهُمُ التَّعَجُّبَ وَالتَّرَدُّدَ فَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَرَأَى مِنْهُمُ الصَّلَفَ وَالْأَنَفَةَ فَقَالَ: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فَلم يرعووا فَقَالَ: إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَلَاحَتْ عَلَيْهِمْ عَلَامَاتُ إِضْمَارِ السُّوءِ لَهُ فَقَالَ: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ، فَكَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْجُمَلِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ مَا أَجَابُوا بِهِ عَلَى أبدع إيجاز. [22] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 22] فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) التَّعْقِيبُ الْمُفَادُ بِالْفَاءِ تَعْقِيبٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَقْتَضِي هَذَا الدُّعَاءَ إِذْ لَيْسَ فِي الْمَذْكُورِ قَبْلَ الْفَاءِ مَا يُنَاسِبُهُ التَّعْقِيبُ بِهَذَا الدُّعَاءِ إِذِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ كَلَامٌ مِنْ مُوسَى

[سورة الدخان (44) : آية 23]

إِلَيْهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ، أَوْ فَأَصَرُّوا عَلَى أَذَاهُ وَعَدَمِ مُتَارَكَتِهِ فَدَعَا رَبَّهُ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ الثَّانِي أَلْيَقُ بِقَوْلِهِ: أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ. وَهَذَا كَالتَّعْقِيبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] ، وَقَوْلِهِ: أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ النُّونِ فَمَا بَعْدَهَا فِي قُوَّةِ الْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ تُقَدَّرُ الْبَاءُ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ (دَعَا) ، أَيْ دَعَا رَبَّهُ بِمَا يَجْمَعُهُ هَذَا التَّرْكِيبُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا تَسْلِيطَ الْعِقَابِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ الدَّاعِي، فَالْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهِمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْمُجَازَاةِ عَلَى الْإِجْرَامِ أَوْ فِي الشِّكَايَةِ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ، أَوْ فِي التَّخَوُّفِ مِنْ شَرِّهِمْ إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى عَدَمِ تَسْرِيحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الدُّعَاءَ لِكَفِّ شَرِّهِمْ، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ فعل دَعَا. [23] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 23] فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدُّخان: 22] ، وَالْمُفَرَّعُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ، أَيْ فَدَعَا فَقُلْنَا: أَسْرِ بِعِبَادِي. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَأَسْرِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ (سَرَى) ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنْ (أَسْرَى) يُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1] فَتَقْيِيدُهُ بِزَمَانِ اللَّيْلِ هَنَا نَظِيرُ تَقْيِيدِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَعْنَى الْإِسْرَاءِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّبْكِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي الرَّحِيلِ أَنْ يَكُونَ فَجْرًا. وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ سَعَةِ الْوَقْتِ مَا يَبْلُغُونَ بِهِ إِلَى شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تُقَيِّدُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْإِسْرَاءِ لَيْلًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَغْرَبُ، أَيْ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرَدْنَا أَنْ تَقْطَعُوا مَسَافَةً يَتَعَذَّرُ عَلَى فِرْعَوْنَ لَحَاقُكُمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِ غَيْرِ السَّائِلِ مَنْزِلَةَ السَّائِلِ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ مَا يُلَوِّحُ لَهُ

[سورة الدخان (44) : آية 24]

بِالْخَبَرِ فَيَسْتَشْرِفُ لَهُ اسْتِشْرَافَ الْمُتَرَدِّدِ السَّائِلِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 37] . وَأُسْنِدَ الِاتِّبَاعُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِي سَيَتْبَعُهُمْ هُوَ فِرْعَوْن وَجُنُوده. [24] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 24] وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا [الدُّخان: 23] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ صَدَرَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ بِأَنْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ أَمْرَهُ بِالْإِسْرَاءِ بِأَنَّهُ يَضْرِبُ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ فَيَنْفَلِقُ عَنْ قَعْرِهِ الْيَابِسِ حَتَّى يَمُرَّ مِنْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ طَمَّنَهُ بِأَنْ لَا يَخْشَى بَقَاءَهُ مُنْفَلِقًا فَيَتَوَقَّعَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِرْعَوْنُ بَلْ يَجْتَازُ الْبَحْرَ وَيَتْرُكُهُ فَإِنَّهُ سَيَطْغَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ فَيَغْرَقُونَ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِذَا سَرَيْتَ بِعِبَادِي فَسَنَفْتَحُ لَكُمُ الْبَحْرَ فَتَسْلُكُونَهُ فَإِذَا سَلَكْتَهُ فَلَا تَخْشَ أَنْ يَلْحَقَكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ وَاتْرُكْهُ فَإِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ صَدَرَتْ وَقْتَ دُخُولِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فِي طَرَائِقَ الْبَحْرِ فَيُقَدَّرُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُ: اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا، أَيْ سَيَدْخُلُهُ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِ مَفْرُوقًا حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ دُخُولُ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ فِي طَرَائِقِهِ طَمَعًا مِنْهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، حَتَّى إِذَا تَوَسَّطُوهُ انْضَمَّ عَلَيْهِمْ، فَتَحْصُلُ فَائِدَةُ إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفَائِدَةُ إِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً قَوْلًا مَحْذُوفًا عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَهُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالتَّرْكُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ: دَعْهُ يَفْعَلْ كَذَا، وَذَرْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: 91] ، وَقَالَتْ كَبْشَة بنت معديكرب: وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمٌ ... وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرِ الْمَطْعَمِ وَالْبَحْرُ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ الْمُسَمَّى الْيَوْمَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ.

[سورة الدخان (44) : الآيات 25 إلى 28]

وَالرَّهْوُ: الْفَجْوَةُ الْوَاسِعَةُ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ رَهَا، إِذَا فَتَحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَسُمِّيَتِ الْفَجْوَةُ رَهْوًا تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَانْتَصَبَ رَهْواً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَحْرِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مِثْلُ رَهْوٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَن سُؤال ناشىء عَنْ الْأَمْرِ بِتَرْكِ الْبَحْرِ مَفْتُوحًا، وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدُّخان: 22] وَالْجُنْدُ: الْقَوْمُ وَالْأُمَّةُ وَعَسْكَرُ الْمَلِكِ. وَإِقْحَامُ لِفَظِ جُنْدٌ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مُغْرَقُونَ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِغْرَاقَهُمْ قَدْ لَزِمَهُمْ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ عِنْدِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . [25- 28] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 25 الى 28] كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فكهين (27) كَذلِكَ. اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مَسُوقٌ لِلْعِبْرَةِ بِعَوَاقِبِ الظَّالِمِينَ الْمَغْرُورِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْقُوَّةِ، غُرُورًا أَنْسَاهُمْ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ فِيمَا يُرْضِيهِ، فَمَوْقِعُ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مُوقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ أَوِ الْبَيَانِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدُّخان: 17] مِنَ التَّنْظِيرِ الْإِجْمَالِيِّ. وَضَمِيرُ تَرَكُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدُّخان: 24] . وَالتَّرْكُ حَقِيقَتُهُ: إِلْقَاءُ شَيْءٍ فِي مَكَان منتقل عَنْهُ إِبْقَاءً اخْتِيَارِيًّا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ وَالشَّيْءِ الَّذِي فِي مَكَانِ غَلَبَةٍ دُونَ اخْتِيَارٍ وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ يُقَالُ: تَرَكَ الْمَيِّتُ مَالًا، وَمِنْهُ سُمِّي مُخَلَّفُ الْمَيِّتِ تَرِكَةً وَهُوَ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَفِعْلُ تَرَكُوا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ أُغْرِقُوا وَأُعْدِمُوا، وَذَلِكَ مُقْتَضَى أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى مِنَ الْإِسْرَاءِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا مَعَهُ مِنِ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ

وَإِزْلَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاقْتِحَامِ فِرْعَوْنَ بِجُنُودِهِ الْبَحْرَ، وَانْضِمَامِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ قَدْ تَمَّ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفِ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا كَمْ تَرَكُوا. وكَمْ اسْمٌ لِعَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ يُفَسِّرُ نَوْعَهُ مُمَيَّزٌ بَعْدَ كَمْ مَجْرُورٌ بِ مِنْ مَذْكُورَةٍ أَوْ مَحْذُوفَةٍ. وَحُكْمُ كَمْ كَالْأَسْمَاءِ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَوَامِلِ. وَإِذْ كَانَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ اسْتِفْهَامٌ فَلَا تَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَلَا خَبَرَ (كَانَ) وَلَا (إِنَّ) وَإِذَا كَانَتْ مَعْمُولَةً لِلْأَفْعَالِ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى عَامِلِهَا. وَانْتَصَبَ كَمْ هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تَرَكُوا أَيْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ جَنَّاتٍ. ومِنْ مُمَيِّزَةٌ لِمُبْهَمِ الْعَدَدِ فِي كَمْ. وَالْمَقَامُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَكَانُ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَكَانِ. وَالْكَرِيمُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَنْفَسُهُ وَخَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْمَسَاكِنُ وَالدِّيَارُ وَالْأَسْوَاقُ وَنَحْوُهَا مِمَّا كَانَ لَهُمْ فِي مَدِينَةِ (مَنْفِسِينَ) . وَالنَّعْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ: اسْمٌ لِلتَّنَعُّمِ مَصُوغٌ عَلَى وَزْنَةِ الْمَرَّةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَرَّةَ بَلْ مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَجْمُوعَ أَحْوَالِ النَّعِيمِ صَارَ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ أَبْلَغُ وَأَجْمَعُ فِي تَصْوِيرِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِفِعْلِ تَرَكُوا لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ أَشْخَاصُ الْأُمُورِ الَّتِي يُنْعَمُ بِهَا وَلَيْسَ الْمَتْرُوكُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ. وفاكِهِينَ مُتَّصِفِينَ بِالْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ اللَّعِبُ وَالْمَزْحُ، أَيْ كَانُوا مَغْمُورِينَ فِي النِّعْمَةِ لَاعِبِينَ فِي تِلْكَ النِّعْمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَكِهِينَ بِدُونِ أَلِفٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ رَاجِعٌ لِفِعْلِ تَرَكُوا. وَالتَّقْدِيرُ: تَرْكًا مِثْلَ ذَلِكَ التَّرْكِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَمَعْنَى الْكَافِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ

[سورة الدخان (44) : آية 29]

وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. عَطْفٌ عَلَى تَرَكُوا أَيْ تَرَكُوهَا وَأَوْرَثْنَاهَا غَيْرَهُمْ، أَيْ لِفِرْعَوْنَ الَّذِي وَلِيَ بَعْدَ مَوْتِ منفطا وَسمي صطفا مَنْفَطَا وَهُوَ أَحَدُ أُمَرَاءِ فِرْعَوْنَ مَنْفَطَا تَزَوَّجَ ابْنَةَ مَنْفَطَا الْمُسَمَّاةَ طُوسِيرَ الَّتِي خَلَفَتْ أَبَاهَا مَنْفَطَا عَلَى عَرْشِ مِصْرَ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ نَسْلِ فِرْعَوْنَ وُصِفَ هُوَ وَجُنْدُهُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قَوْماً آخَرِينَ قَوْمًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُعِيدَ الِاسْمُ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ عَقِبِهِ وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الدُّخان: 30] ، وَلَمْ يَقُلْ وَلَقَدْ نَجَّيْنَاهُمْ. وَوَقَعَ فِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: 57- 59] وَالْمُرَادُ هُنَالِكَ أَنَّ أَنْوَاعًا مِمَّا أَخْرَجْنَا مِنْهُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يُقْصَدْ أَنْوَاعُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي خُصُوصِ أَرْضِ فِرْعَوْنَ. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ هُنَالِكَ أَنَّ الْقَوْمَيْنِ أُخْرِجَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، فَسَلَبَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مَا كَانَ لَهُ دُونَ إِعَادَةٍ لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا، وَأُعْطِي الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَمْثَالَ ذَلِكَ فِي أَرْضِ فَلَسْطِينَ، فَفِي قَوْلِهِ: وَأَوْرَثْناها تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَانْظُرْ آيَةَ سُورَة الشُّعَرَاء. [29] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 29] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: قَوْماً آخَرِينَ [الدُّخان: 25- 28] ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَانْقَرَضُوا، أَيْ فَمَا كَانَ مَهْلِكُهُمْ إِلَّا كَمَهْلِكِ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ حَدَثًا عَظِيمًا كَمَا كَانُوا يَحْسَبُونَ وَيَحْسَبُ قَوْمُهُمْ، وَكَانَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا هَلَكَ عَظِيمٌ أَنْ يُهَوِّلُوا أَمْرَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ: بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ، وَبَكَتْهُ الرِّيحُ، وَتَزَلْزَلَتِ الْجِبَالُ، قَالَ النَّابِغَةُ فِي تَوَقُّعِ مَوْتِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ مَرَضِهِ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسٍ يَهْلِكُ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَقَالَ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ: بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وَحَوْرَانُ مِنْهُ مُوحَشٌ مُتَضَائِلُِِ

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 إلى 31]

وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّحْقِيرِ لَهُمْ، وَقَرِيب مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إِبْرَاهِيم: 46] ، وَهُوَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ اللَّبَّانَةِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي رِثَاءِ الْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ مَلِكِ إِشْبِيلِيَّةَ: تَبْكِي السَّمَاءُ بِمُزْنٍ رَائِحٍ غَادِ ... عَلَى الْبَهَالِيلِ مِنْ أَبْنَاءِ عَبَّادِ وَالْمَعْنَى: فَمَا كَانَ هَلَاكُهُمْ إِلَّا كَهَلَاكِ غَيْرِهِمْ وَلَا أُنْظِرُوا بِتَأْخِيرِ هَلَاكِهِمْ بَلْ عُجِّلَ لَهُم الاستئصال. [30، 31] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 30 إِلَى 31] وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدُّخان: 24] الَّذِي تَقْدِيرُهُ: فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [64- 66] وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. وَالْمَعْنَى: وَنَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ وَقَسَاوَتِهِ، أَيْ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَحْرِ هَلَاكًا لِقَوْمٍ وَإِنْجَاءً لِآخَرِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْجِي الَّذِينَ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَذَابِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ، كَمَا نَجَّى الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُوسَى مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ. وَجُعِلَ طُغْيَانُ فِرْعَوْنَ وَإِسْرَافُهُ فِي الشَّرِّ مَثَلًا لِطُغْيَانِ أَبِي جَهْلٍ وَمَلَئِهِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِاللَّامِ. وَقَدْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقَدَّرِ لِلْمُشْرِكِينَ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدُّخان: 12] . والْعَذابِ الْمُهِينِ: هُوَ مَا كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الاستعباد والإشفاق عَلَيْهِمْ فِي السُّخْرَةِ، وَكَانَ يُكَلِّفُهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا لَهُ اللَّبِنَ كُلَّ يَوْمٍ لِبِنَاءِ مَدِينَتَيِ فَيْثُومَ ورعمسيس وَكَانَ اللَّبِنُ يُصْنَعُ مِنَ الطُّوبِ وَالتِّبْنِ فَكَانَ يُكَلِّفُهُمُ اسْتِحْضَارَ التِّبْنِ اللَّازِمِ لِصُنْعِ اللَّبِنِ وَيَلْتَقِطُونَ مُتَنَاثِرَهُ وَيُذِلُّونَهُمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً، فَذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُهِينُ لِأَنَّهُ عَذَابٌ فِيهِ إِذْلَالٌ.

[سورة الدخان (44) : آية 32]

وَقَوْلُهُ: مِنْ فِرْعَوْنَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مُطَابِقًا لِلْعَذَابِ الْمُهِينِ فَتَكُونَ مِنْ مُؤَكِّدَةً لِ مِنَ الْأُولَى الْمُعَدِّيَةِ لِ نَجَّيْنا لِأَنَّ الْحَرْفَ الدَّاخِلَ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ. وَيَحْسُنُ ذَلِكَ فِي نُكَتٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ وَحُسْنُهُ هُنَا، فَأُظْهِرَتْ مِنْ لِخَفَاءِ كَوْنِ اسْمِ فِرْعَوْنَ بَدَلًا مِنَ الْعَذَابِ تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ التَّهْوِيلِ لِأَمْرِ فِرْعَوْنَ فِي جَعْلِ اسْمِهِ نَفْسَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ صَادِرًا مِنْ فِرْعَوْنَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عالِياً مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ التَّهْوِيلِ الَّذِي أَفَادَهُ جَعْلُ اسْمِ فِرْعَوْنَ بَدَلًا مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ. وَالْعَالِي: الْمُتَكَبِّرُ الْعَظِيم فِي النَّاس، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 4] . ومِنَ الْمُسْرِفِينَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِكْثَارُ فِي التَّعَالِي، يُرَادُ الْإِكْثَارُ فِي أَعْمَالِ الشَّرِّ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الذَّمِّ. ومِنَ الْمُسْرِفِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي اتِّصَافِهِ بِالْإِسْرَافِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: مُسْرِفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [67] . [32] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 32] وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَ الَّذِينَ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ كَمَا اخْتَارَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يَخْتَارَهُمُ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْوِيهُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) ، كَمَا أُكِّدَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الدُّخان: 30] ، وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ بِمَعْنَى (مَعَ) ، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ: إِنِّي عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتُ مُحَسَّدٌ ... أُنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ وَمَوْضِعُ الْمَجْرُورِ بِهَا مَوْضِعُ الْحَالِ. وَالْمُرَادُ بِ الْعالَمِينَ الْأُمَمُ الْمُعَاصِرَةُ لَهُمْ. ثُمَّ بَدَّلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ

[سورة الدخان (44) : آية 33]

الذِّلَّةُ، وَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأُمَمِ فَقَالَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 110] أَيْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ. وَاخْتَارَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُمُ اخْتِيَارًا نِسْبِيًّا عَلَى حَسَبِ اسْتِقَامَتِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يعدله شَيْء. [33] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 33] وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِيتَاءُ الْآيَاتِ مِنْ آثَارِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْأُمَّةِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ يَقِينًا بِإِيمَانِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَوَاقِعِ حُرُوبِهِمْ بِنَصْرِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْهُمْ عَلَى الْجُيُوشِ الْكَثِيرَةِ مَنْ عَدُوِّهِمْ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَغْلِبُونَ جَمْعَهُمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا. وَالْبَلَاءُ: الِاخْتِبَارُ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. فَالْأَوَّلُ اخْتِبَارٌ لِمُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ بِالشُّكْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي اخْتِبَارٌ لِمِقْدَارِ الصَّبْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: 35] أَيْ مَا فِيهِ اخْتِبَارٌ لَهُمْ فِي نَظَرِ النَّاسِ لِيَعْلَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ قَابَلُوا نِعْمَةَ إِيتَاءِ الْآيَاتِ بِالشُّكْرِ، وَيُحَذِّرُوا قَوْمَهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ النِّعْمَة بالكفران. [34- 36] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 34 إِلَى 36] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] وَجُمْلَةِ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدُّخان: 37] فَإِنَّهُ لَمَّا هَدَّدَهُمْ بِعَذَابِ الدُّخَانِ ثُمَّ بِالْبَطْشَةِ الْكُبْرَى وَضَرَبَ لَهُمُ

الْمَثَلَ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنْ تَوَقُّعِ جَزَاءِ السُّوءِ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي لَيْسَ هُوَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى التَّأْكِيدِ فَتَعَيَّنَ كَوْنُ حَرْفِ إِنْ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَهُوَ إِذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْمَوْقِعِ أَفَادَ التَّسَبُّبُ وَأَغْنَى عَنِ الْفَاءِ. فَالْمَعْنَى: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ مِنْهُمْ بِالْبَطْشَةِ الْكُبْرَى لِأَنَّهُمْ لَا يَرْتَدِعُونَ بِوَعِيدِ الْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَّا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ النِّعْمَةِ وَالْقُوَّةِ فَلِذَلِكَ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى سُوءِ كُفْرِهِمْ جَزَاءً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَيُقَالُ لَهُ: ضَمِيرُ الْقِصَّةِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِصِيغَةِ الْمُؤَنَّثِ بِتَأْوِيلِ الْقِصَّةِ، أَيْ لَا قِصَّةَ فِي هَذَا الْغَرَضِ إِلَّا الْمَوْتَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَهِيَ مَوْتَةٌ دَائِمَةٌ لَا نُشُورَ لَنَا بَعْدَهَا. وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ كَلِمَاتِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَإِنَّ لَهُمْ كَلِمَاتٌ فِي ذَلِكَ، فَتَارَةً يَنْفُونَ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَيَاةٌ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الْأَنْعَام: 29] ، وَتَارَةً يَنْفُونَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْمَعْرُوفَةِ شَيْءٌ غَيْرُهَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ شَيْئًا ضِدَّ الْمَوْتَةِ وَهُوَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتَةِ. فَلَهُمْ فِي نَفْيِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَفَانِينُ مِنْ أَقْوَالِ الْجُحُودِ، وَهَذَا الْقَصْرُ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاعْتِرَاءِ أَحْوَالٍ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَكَلِمَةُ هؤُلاءِ حَيْثُمَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ: مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا اسْتَنْبَطْنَاهُ، وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [89] . وَوَصْفُ الْأُولى مُرَادٌ بِهِ السَّابِقَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: 50] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] . وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: 58، 59] . وَأَعْقَبُوا قَصْرَ مَا يَنْتَابُهُمْ بَعْدَ الْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتَةِ الَّتِي يموتونها، بقوله: وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ

[سورة الدخان (44) : آية 37]

تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ. وَجِيءَ بِهِ مَعْطُوفًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ غَرَضٌ مَقْصُودٌ مَعَ إِفَادَتِهِ تَأْكِيدُ الْقَصْرِ وَجَعَلُوا قَوْلَهُمْ: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ حُجَّةً عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ بِأَنَّ الْأَمْوَاتِ السَّابِقِينَ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ وَهُوَ سَفْسَطَةٌ لِأَنَّ الْبَعْثَ الْمَوْعُودَ بِهِ لَا يَحْصُلُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ تَوَرُّكِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ. وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ أَرَادُوا بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ [هود: 7] كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ مَعَ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة مَرْيَم [77] . [37] [سُورَة الدُّخان (44) : آيَة 37] أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدُّخان: 17] فَضَمِيرُ هُمْ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدُّخان: 34، 35] فَبَعْدَ أَنْ ضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِمَهْلِكِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ زَادَهُمْ مَثَلًا آخَرَ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اعْتِبَارِهِمْ بِهِ وَهُوَ مَهْلِكُ قَوْمٍ أَقْرَبُ إِلَى بِلَادِهِمْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَأُولَئِكَ قَوْمُ تُبَّعٍ فَإِنَّ الْعَرَبَ يَتَسَامَعُونَ بِعَظَمَةِ مَلِكِ تُبَّعٍ وَقَوْمِهِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ شَاهَدُوا آثَارَ قُوَّتِهِمْ وَعَظَمَتِهِمْ فِي مَرَاحِلِ أَسْفَارِهِمْ وَتَحَادَثُوا بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهُلْكِ بِسَيْلِ الْعَرِمِ. وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ لِمَضْمُونِهِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ تُبَّعًا وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُلُوكِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ قَوْمِ تُبَّعٍ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ لِأَجْلِ إِجْرَامِهِمْ فَلَمَّا مَاثَلُوهُمْ فِي الْإِجْرَامِ فَلَا مَزِيَّةَ لَهُمْ تَدْفَعُ عَنْهُمُ اسْتِئْصَالَ الَّذِي أَهْلَكَ اللَّهُ بِهِ أُمَمًا قَبْلَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ تَقْرِيرِيٌّ إِذْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّ قَوْمَ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهِمُ الْأَمْثَالَ فِي الْقُوَّةِ

وَالْمَنَعَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ التَّفْضِيلُ فِي الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [43] . وَقَوْمُ تُبَّعٍ هُمْ حِمْيَرُ وَهُمْ سُكَّانُ الْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ مِنْ حِمْيَرَ وَسَبَأٍ وَقَدْ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق. وتبّع بِضَم الْمِيم وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ لَقَبٌ لِمَنْ يَمْلِكُ جَمِيعَ بِلَادِ الْيَمَنِ حِمْيَرًا وَسَبَأً وَحَضْرَمَوْتَ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَلِكِ لَقَبُ تُبَّعٍ إِلَّا إِذَا مَلَكَ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ الثَّلَاثَةَ. قِيلَ سَمَّوْهُ تُبَّعًا بِاسْمِ الظِّلِّ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ كَمَا يَتْبَعُ الظِّلُّ الشَّمْسَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنه يسير بغزاوته إِلَى كُلِّ مَكَانٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ إِلَى قَوْلِهِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً [الْكَهْف: 85- 90] ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ تَتَبَّعَهُ مُلُوكُ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ، وَتَخْضَعُ لَهُ جَمِيعُ الْأَقْيَالِ وَالْأَذْوَاءِ مِنْ مُلُوكِ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَأَذْوَائِهِ، فَلِذَلِكَ لُقِّبَ تُبَّعًا لِأَنَّهُ تَتَبَّعَهُ الْمُلُوكُ. وَتُبَّعٌ الْمُرَادُ هُنَا الْمُسَمَّى أَسْعَدُ وَالْمُكَنَّى أَبَا كَرِبٍ، كَانَ قَدْ عَظُمَ سُلْطَانُهُ وَغَزَا بِلَادَ الْعَرَبِ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَيَثْرِبَ وَبَلَغَ الْعِرَاقَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ الْحِيرَةِ فِي الْعِرَاقِ، وَكَانَتْ دَوْلَةُ تُبَّعٍ فِي سَنَةِ أَلْفٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَقِيلَ كَانَ فِي حُدُودِ السَّبْعِمِائَةِ قَبْلَ بعثة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَعْلِيقُ الْإِهْلَاكِ بِقَوْمِ تُبَّعٍ دُونَهُ يَقْتَضِي أَنَّ تُبَّعًا نَجَا مِنْ هَذَا الْإِهْلَاكِ وَأَنَّ الْإِهْلَاكَ سُلِّطَ عَلَى قَوْمِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ قَوْمَهُ وَلَمْ يَذُمَّهُ. وَالْمَرْوِيُّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ مُؤْمِنًا» ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ اهْتَدَى إِلَى ذَلِكَ بِصُحْبَةِ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ لَقِيَهُمَا بِيَثْرِبَ حِينَ غَزَاهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَجَاتَهُ مِنِ الْإِهْلَاكِ. وَلَعَلَّ اللَّهَ أَهْلَكَ قَوْمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي مَغِيبِهِ. وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا أَثَارَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ مِنَ السُّؤَالِ عَنْ إِبْهَامِهِ مَاذَا أُرِيدَ بِهِ.

[سورة الدخان (44) : الآيات 38 إلى 39]

وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَهْلَكْناهُمْ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِسَبَبِ إِجْرَامِهِمْ، أَي شركهم. [38، 39] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 38 إِلَى 39] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدُّخان: 34، 35] رَدًّا عَلَيْهِمْ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْثٌ وَجَزَاءٌ لَكَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عَبَثًا، وَنَحْنُ خَلَقْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْحِكْمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِتْقَانُ نِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى خَلْقَ ذَلِكَ أَنْ يُجَازَى كُلُّ فَاعِلٍ عَلَى فِعْلِهِ وَأَنْ لَا يُضَاعُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُشَاهَدُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْضِي حَيَاتَهُ وَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ جَزَاءَهُمْ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَكَانَ خَلْقُهُمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّعِبِ. وَذِكْرُ اللَّعِبِ تَوْبِيخٌ لِلَّذِينِ أَحَالُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ بِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَعْلِ أَفْعَالِ الْحَكِيمِ لَعِبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْمُلَازَمَةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [115] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ ص [27] . ولاعِبِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقْنَا، وَالنَّفْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى هَذَا الْحَالِ فَاقْتَضَى نَفْيَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ ذَلِكَ فِي حَالَةِ عَبَثٍ فَمِنْ ذَلِكَ حَالَةُ إِهْمَالِ الْجَزَاءِ. وَجُمْلَةُ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقْنَا ذَلِكَ مُلَابِسًا وَمُقَارِنًا لِلْحَقِّ، أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ الْحَقِّ، أَيْ لِإِيجَادِ الْحَقِّ مِنْ خَلْقِهِمَا. وَالْحَقُّ: مَا يَحِقُّ وُقُوعُهُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَيْ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ لِسَبَبِيَّةٍ أَوْ تَفَرُّعٍ أَوْ

[سورة الدخان (44) : الآيات 40 إلى 42]

مُجَازَاةٍ، فَمِنَ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا لِأَجْلِهِ مُكَافَأَةُ كُلِّ عَامِلٍ بِمَا يُنَاسِبُ عَمَلَهُ وَيُجَازِيهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ الرُّومِ [8] . وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ناشىء عَمَّا أَفَادَهُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ لَعِبًا وَإِثْبَاتُ أَنَّهُ لِلْحَقِّ لَا غَيْرَ مِنْ كَوْنِ شَأْنِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْفَى وَلَكِنَّ جَهْلَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ الَّذِي سَوَّلَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [الدُّخان: 35] . وَجُمْلَةُ الِاسْتِدْرَاكِ تَذْيِيلٌ، وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فِي آخِرِ سُورَة الْحجر [85] . [40- 42] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 40 إِلَى 42] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ النَّتِيجَةِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ، وَالْمَعْنَى: فَيَوْمُ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ إِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّ يَوْمَ الْقَضَاءِ هُوَ أَجَلُ الْجَزَاءِ، فَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ. ويَوْمَ الْفَصْلِ: هُوَ يَوْمُ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ يُفْصَلُ فِيهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ [المرسلات: 12، 13] . وَالْمِيقَاتُ: اسْمُ زَمَانِ التَّوْقِيتِ، أَيِ التَّأْجِيلِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [189] وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْمِيقَاتِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مِيقَاتُ جَزَائِهِمْ. وَأُضِيفَ الْمِيقَاتُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ وَإِلَّا فَإِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُؤْمِنِيهِمْ وَكُفَّارِهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِ أَجْمَعِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، أَيْ مِيقَاتٌ

لِجَزَائِهِمْ كُلِّهِمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَقْوِيَةً فِي الْوَعِيدِ وَتَأْيِيسًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ. ويَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَفَتْحَةُ يَوْمَ لَا يُغْنِي فَتْحَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّ يَوْمَ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ ذَاتِ فِعْلٍ مُعْرَبٍ. وَالْمَوْلَى: الْقَرِيبُ وَالْحَلِيفُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [5] . وَتَنْكِيرُ مَوْلًى فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا يُغْنِي أَحَدٌ مِنَ الْمَوَالِي كَائِنًا مَنْ كَانَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَوَالِيهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وشَيْئاً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ شَيْئاً مِنْ إِغْنَاءٍ. وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّقْلِيلِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي تَنْكِيرِ لَفْظِ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ: 16] . وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ أَيْضًا، يَعْنِي أَيَّ إِغْنَاءٍ كَانَ فِي الْقِلَّةِ بَلْهَ الْإِغْنَاءِ الْكَثِيرِ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّعْمِيمِ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ فَائِدَةً إِذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ. وَالْإِغْنَاءُ: الْإِفَادَةُ وَالنَّفْعُ بِالْكَثِيرِ أَوِ الْقَلِيلِ، وَضَمِيرًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ رَاجِعَانِ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَهُمْ خَيْرٌ [الدُّخان: 37] ، وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [الدُّخان: 34] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الْمَظْنُونُ بِهِمْ ذَلِكَ وَلَا يَنْصُرُهُمْ مُقَيَّضُونَ آخَرُونَ لَيْسُوا مِنْ مَوَالِيهِمْ تَأْخُذُهُمُ الْحَمِيَّةُ أَوِ الْغَيْرَةُ أَوِ الشَّفَقَةُ فَيَنْصُرُونَهُمْ. وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْعَدْوِّ وَعَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْإِغْنَاءِ. فَعُطِفَ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عَلَى لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً زِيَادَةً فِي نَفْيِ عَدَمِ الْإِغْنَاءِ. فَمُحَصَّلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُغْنِي مُوَالٍ عَنْ مُوَالِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِغْنَاءِ حَسَبَ مُسْتَطَاعِهِ وَلَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ شَدِيدُ الِاسْتِطَاعَةِ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ غَلَبَ الْقَوِيِّ عَلَيْهِمْ، فَاللَّهُ هُوَ الْغَالِبُ لَا يَدْفَعُهُ غَالِبٌ. وَبُنِيَ فِعْلُ يُنْصَرُونَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِيَعُمَّ نَفْيَ كُلِّ نَاصِرٍ مَعَ إِيجَازِ الْعِبَارَةِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وَقَعَ عَقِبَ جُمْلَتَيْ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَحُقَّ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ فِي تَيْنِكَ الْجُمْلَتَيْنِ. وَلَنَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ تَصْلُحُ لِأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا وَهِيَ مَوْلًى الْأَوَّلِ الْمَرْفُوعِ بِفِعْلِ يُغْنِي، ومَوْلًى الثَّانِي الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ عَنْ، وَضَمِيرُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّلَاثَةِ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، أَيْ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَوَالِي، أَيْ فَإِنَّهُ يَأْذَنُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ، وَيَأْذَنَ لِلشَّافِعِ بِأَنْ يَشْفَعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبإ: 23] وَقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] . وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّهُ يُقَالُ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» . وَالشَّفَاعَةُ: إِغْنَاءٌ عَنِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ. وَالشُّفَعَاءُ يَوْمَئِذٍ أَوْلِيَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ مِنَ الشُّفَعَاءِ الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت: 31] . وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي شَيْءٍ قَبْلَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُغْنِي عَنْهُ أَوْ يَنْصُرُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَأَسْبَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ وَذَلِكَ سِرٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ هُوَ جَوَابٌ مُجْمَلٌ عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُكْرِهُهُ أَحَدٌ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ مُرَادِهِ، فَهُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُهُ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ وَهُوَ رَحِيمٌ، أَيْ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَرَى بِهِ عَلِمُهُ وَحِكْمَتُهُ وَوَعْدُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاء» .

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 إلى 50]

[سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 43 إِلَى 50] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فَرِيقًا مَرْحُومِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ قَابَلَهُ هُنَا بفريق معذّبون وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَوَصَفَ بَعْضَ أَصْنَافِ عَذَابِهِمْ وَهُوَ مَأْكَلُهُمْ وَإِهَانَتُهُمْ وَتَحْرِيقُهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُبْتَدَأَ الْكَلَامُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [51، 52] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ الْآيَةَ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ بِأَنَّهَا طَعَامُ الْأَثِيمِ اهْتِمَامًا بِالْإِعْلَامِ بِحَالِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَقَدْ جُعِلَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شَيْئًا مَعْلُومًا لِلسَّامِعِينَ فَأَخْبَرَ عَنْهَا بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الدُّخَانِ فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ عُدَّتِ السَّادِسَةَ وَالْأَرْبَعِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ وَسُورَةُ الدُّخَانِ ثَالِثَةٌ وَسِتِّينَ. وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّجَرَةِ طَعَامًا أَنَّ ثَمَرَهَا طَعَامٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها [الصافات: 65، 66] . وكتبت كلمة شَجَرَةَ فِي الْمَصَاحِفِ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُرَاعَاةً لِحَالَةِ الْوَصْلِ وَكَانَ الشَّائِعُ فِي رَسْمِ أَوَاخِرِ الْكَلِمِ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ حَالَةُ الْوَقْفِ، فَهَذَا مِمَّا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. والْأَثِيمِ: الْكَثِيرُ الْآثَامِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ زِنَةُ فَعِيلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ: الْمُشْرِكُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدُّخان: 34، 35] ، فَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ بِالشِّرْكِ مَعَ سَبَبِ مُعَامَلَتِهِمْ هَذِهِ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [62] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَالْمُهْلُ بِضَمِّ الْمِيمِ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. وَالتَّشْبِيهُ بِهِ فِي سَوَادِ لَوْنِهِ وَقِيلَ فِي ذَوَبَانِهِ. والْحَمِيمِ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي انْتَهَى غَلَيَانُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] . وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ هَيْئَةُ غَلَيَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَغْلِي بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. وَإِسْنَادُ الْغَلَيَانِ إِلَى الشَّجَرَةِ مَجَازٌ وَإِنَّمَا الَّذِي يَغْلِي ثَمَرُهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الطَّعَامِ لَا إِلَى الْمُهْلِ. وَالْغَلَيَانُ: شِدَّةُ تَأَثُّرِ الشَّيْءِ بِحَرَارَةِ النَّارِ يُقَالُ: غَلَى الْمَاءُ وَغَلَتِ الْقِدْرُ، قَالَ النَّابِغَةُ: يَسِيرُ بِهَا النُّعْمَانُ تَغْلِي قُدُورُهُ وَجُمْلَةُ خُذُوهُ إِلَخْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ يُقَالُ لِمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ: خُذُوهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ عَائِدٌ إِلَى الْأَثِيمِ بِاعْتِبَارِ آحَادِ جِنْسِهِ. وَالْعَتْلُ: الْقَوْدُ بِعُنْفٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ بِتَلْبِيبِ أَحَدٍ فَيُقَادَ إِلَى سَجْنٍ أَوْ عَذَابٍ، وَمَاضِيهِ جَاءَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا. وَقَرَأَهُ بِالضَّمِّ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ. وَسَوَاءُ الشَّيْءِ: وَسَطُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْمَكَانِ حَرَارَةً. وَقَوْلُهُ: إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ يَتَنَازَعُهُ فِي التَّعَلُّقِ كُلُّ مِنْ فِعْلَيْ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ لِتَضَمُّنِهِمَا: سُوقُوهُ سَوْقًا عَنِيفًا. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ صَبَّ الْحَمِيمِ عَلَى رَأْسِهِ أَشُدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ وَعَتْلِهِ. وَالصَّبُّ: إِفْرَاغُ الشَّيْءِ الْمَظْرُوفِ مِنَ الظَّرْفِ وَفِعْلُ الصَّبِّ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُصَبُّ. فَالصَّبُّ مُسْتَعَارٌ لِلتَّقْوِيَةِ وَالْإِسْرَاعِ فَهُوَ تَمْثِيلِيَّةٌ

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 إلى 53]

اقْتَضَاهَا تَرْوِيعُ الْأَثِيمِ حِينَ سَمِعَهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَحْكِيُّ هُنَا الْقَوْلَ الَّذِي يَسْمَعُهُ الْأَثِيمُ صِيغَ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ تَهْوِيلًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الْحَج: 19] الَّذِي هُوَ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي زَمَنٍ هُمْ غَيْرُ سَامِعِيهِ فَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهَا. وَجُمْلَةُ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ مَقُولُ قَوْلٍ آخَرَ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قُولُوا لَهُ أَوْ يُقَالُ لَهُ. وَالذَّوْقُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِعَلَاقَةِ الضِّدِّيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ عَكْسُ مَدْلُولِهِ، أَيْ أَنْتَ الذَّلِيلُ الْمُهَانُ، وَالتَّأْكِيدُ لِلْمَعْنَى التَّهَكُّمِيِّ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّكَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِفَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمُنْفَصِلِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي إِنَّكَ وَلَا يُؤَكَّدُ ضَمِيرُ النَّصْبِ الْمُتَّصِلِ إِلَّا بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُنْفَصِلٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ بَقِيَّةُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ وَيُقَالُ لِلْآثِمِينَ جَمِيعًا: إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ فِي الدُّنْيَا. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّوْبِيخِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْحَالَةِ الْحَاضِرَةِ لَدَيْهِمْ، أَيْ هَذَا الْعَذَابُ وَالْجَزَاءُ هُوَ مَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ، وَأَطْلَقَ الامتراء على جزيتهم بِنَفْيِ يَقِينِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ لِأَنَّ يَقِينَهُمْ لَمَّا كَانَ خَلِيًّا عَنْ دَلَائِلِ الْعِلْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّكِّ، أَيْ أَنَّ الْبَعْثَ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَنَ بِنَفْيِهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] . [51- 53] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 51 إِلَى 53] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ وَصْفِ عَذَابِ الْأَثِيمِ إِلَى وَصْفِ نَعِيمِ الْمُتَّقِينَ لِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَالْعَكْسُ.

وَالْمُقَامُ بِضَمِّ الْمِيمِ: مَكَانُ الْإِقَامَةِ. وَالْمَقَامُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَكَانُ الْقِيَامِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَسْكَنَ وَمَا يَتْبَعُهُ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَقَامِ الْمَكَانُ فَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ. وَالْأَمِينُ بِمَعْنَى الْآمِنِ وَالْمُرَادُ: الْآمِنُ سَاكِنُهُ، فَوَصْفُهُ بِ أَمِينٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التِّين: 3] . وَالْأَمْنُ أَكْبَرُ شُرُوطِ حُسْنِ الْمَكَانِ لِأَنَّ السَّاكِنَ أَوَّلُ مَا يَتَطَلَّبُ الْأَمْنَ وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالْمَخَاوِفِ فَإِذَا كَانَ آمِنًا فِي مَنْزِلِهِ كَانَ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ شَاعِرًا بِالنَّعِيمِ الَّذِي يَنَالُهُ. وَأَبَدَلَ مِنْهُ بِأَنَّهُم ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ النُّزْهَةِ وَالطِّيبِ. وأعيد حرف ي مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَالْعُيُونُ: جَمْعُ عَيْنٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [60] ، فَهَذَا نَعِيمُ مَكَانِهِمْ. وَوَصَفَ نَعِيمَ أَجْسَادِهِمْ بِذِكْرِ لِبَاسِهِمْ وَهُوَ لِبَاسُ التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ نَعِيمِ الْأَجْسَادِ لِأَنَّهُ لَا يَلْبَسُ هَذَا اللِّبَاسَ إِلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْجَسَدِ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ. وَالسُّنْدُسُ: الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ النَّفِيسُ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مُعَرَّبٌ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ وَقِيلَ عَرَبِيٌّ. أَصْلُهُ: سِنْدِيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى السِّنْدِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَالسُّنْدُسُ يُلْبَسُ مِمَّا يَلِي الْجَسَدَ. وَالْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْقَوِيُّ يُلْبَسُ فَوْقَ الثِّيَابِ وَهُوَ مُعَرَّبُ اسْتَبَرَهْ فَارِسِيَّةٌ، وَهُوَ الْغَلِيظُ مُطْلَقًا ثُمَّ خُصَّ بِغَلِيظِ الدِّيبَاجِ، ثُمَّ عُرِّبَ. وَتَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [31] فَارْجِعْ إِلَيْهِ. ومِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْمُبَيَّنُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ يَلْبَسُونَ. وَالتَّقْدِيرُ: ثِيَابًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.

[سورة الدخان (44) : الآيات 54 إلى 57]

ثُمَّ وَصَفَ نَعِيمَ نُفُوسِهِمْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُحَادَثَاتِهِمْ بِقَوْلِهِ: مُتَقابِلِينَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعَ الْأَصْحَابِ وَالْأَحِبَّةِ نَعِيمٌ لِلنَّفْسِ فَأَغْنَى قَوْلُهُ: مُتَقابِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَحَابِّهِمْ وَحَدِيثِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ أَجْمَعِينَ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَهُوَ صِيغَةُ مُتَقَابِلِينَ وَمَادَّتُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ. [54- 57] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 54 الى 57] كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) كَذلِكَ. اعْتِرَاضٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [91] . وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى. مَعْنَى زَوَّجْناهُمْ جَعَلْنَاهُمْ أَزْوَاجًا جَمْعَ زَوْجٍ ضِدِّ الْفَرْدِ، أَيْ جَعَلْنَا كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ زَوْجًا بِسَبَبِ نِسَاءٍ حُورِ الْعُيُونِ. وَالزَّوْجُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقَرِينِ، أَيْ قَرَنَّا بِكُلِّ وَاحِدٍ نِسَاءً حُورًا عِينًا، وَلَيْسَ فِعْلُ زَوَّجْناهُمْ هُنَا مُشْتَقًّا مِنَ الزَّوْجِ الشَّائِعِ إِطْلَاقُهُ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَعَلَى رَجُلِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ يُقَالُ: زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِنْتَ فُلَانٍ، قَالَ تَعَالَى: زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَاب: 37] ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ هُنَا إِذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ عُقُودُ نِكَاحٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَأْنُوسُونَ بِصُحْبَةِ حَبَائِبَ مِنَ النِّسَاءِ كَمَا أَنِسُوا بِصُحْبَةِ الْأَصْحَابِ وَالْأَحِبَّةِ مِنَ الرِّجَالِ اسْتِكْمَالًا لِمُتَعَارَفِ الْأُنْسِ بَيْنَ النَّاسِ. وُفِي كِلَا الْأُنْسَيْنِ نَعِيمٌ نَفْسَانِيٌّ مُنْجَرٌّ لِلنَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ الْجُثْمَانِيِّ، وَهَذَا مَعْنًى سَامٍ مِنْ مَعَانِي الِانْبِسَاطِ الرُّوحِيِّ وَإِنَّمَا أَفْسَدَ بَعْضَهُ فِي الدُّنْيَا مَا يُخَالِطُ بَعْضَهُ مِنْ أَحْوَالٍ تَجُرُّ إِلَى فَسَادٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِثْلَ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا وَمِثْلَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَسْرًا،

وَمِنْ مُصْطَلَحَاتِ مُتَكَلَّفَةٍ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ سُكُونًا فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: 21] . وَالْحُورُ: جَمْعُ الْحَوْرَاءِ، وَهِيَ الْبَيْضَاءُ، أَيْ بِنِسَاءٍ بَضِيضَاتِ الْجِلْدِ. وَالْعَيْنُ: جَمْعُ الْعَيْنَاءِ، وَهِيَ وَاسِعَةُ الْعَيْنِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَشَمِلَ الْحُورُ الْعِينِ النِّسَاءَ الّلاء كنّ أَزوَاجهنَّ فِي الدُّنْيَا، وَنِسَاءً يَخْلُقُهُنَّ اللَّهُ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [الْوَاقِعَة: 35] وَقَالَ تَعَالَى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [يس: 56] . وَمَعْنَى يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أَيْ هُمْ يَأْمُرُونَ بِأَنْ تَحَضُرَ لَهُمُ الْفَاكِهَةُ، أَيْ فَيُجَابُونَ. وَالدُّعَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ يَأْذَنُونَ بِكُلِّ فَاكِهَةٍ، أَيْ بِإِحْضَارِ كُلِّ فَاكِهَةٍ. وكل هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، أَيْ بِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْفَاكِهَةِ. وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ، أَيْ يُتَلَذَّذُ بِطَعْمِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا. وَجُمْلَةُ يَدْعُونَ حَالٌ من الْمُتَّقِينَ [الدُّخان: 51] ، وآمِنِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْعُونَ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَمْنٌ خَاصٌّ غَيْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدُّخان: 51] وَهُوَ الْأَمْنُ مِنَ الْغَوَائِلِ وَالْآلَامِ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاكِهِ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْإِكْثَارِ مِنَ الطَّعَامِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات: 47] ، أَوْ آمَنِينَ مِنْ نَفَادِ ذَلِكَ وَانْقِطَاعِهِ. وَجُمْلَةُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى حَالٌ أُخْرَى. وَهَذِهِ بِشَارَةٌ بِخُلُودِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ مَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ مِنَ النَّعِيمِ لِأَصْحَابِ النَّعِيمِ كَمَا كَانَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ لَا يَمُوتُونَ نِذَارَةً بِدَوَامِ الْعَذَابِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ انْتِفَاءِ ذَوْقِ الْمَوْت عَن أجل الْجَنَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ أَلْبَتَّةَ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ وَصْفُهَا بِ الْأُولى. وَالْمُرَادُ بِ الْأُولى السَّالِفَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدُّخان: 35] .

[سورة الدخان (44) : الآيات 58 إلى 59]

وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) . عُطِفَ عَلَى وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِمَّا ارْتَبَكَ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَذَلِكَ مِمَّا يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ أَنَّ مِنْ آدَابِ مَنْ يَرَى غَيْرَهُ فِي شِدَّةٍ أَوْ بَأْسٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَضَمِيرُ وَقاهُمْ عَائِدٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي وَزَوَّجْناهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وفَضْلًا حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذِكْرُ الرَّبِّ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَضْلًا مِنْهُ أَوْ مِنَّا. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ تَشْرِيفُ مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهُ لِإِيمَانِهِمْ بِهِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تَذْيِيلٌ، وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِتَعْظِيمِ الْفَضْلِ بِبُعْدِ الْمَرْتَبَةِ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَخْصِيصِ الْفَوْزِ بِالْفَضْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَصْرٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْكَمَالِ كَأَنَّهُ لَا فوز غَيره. [58، 59] [سُورَة الدُّخان (44) : الْآيَات 58 إِلَى 59] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَفَرِّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا حَيْثُ كَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ فَذْلَكَةً لِلسُّورَةِ، أَيْ إِجْمَالٌ لِأَغْرَاضِهَا بَعْدَ تَفْصِيلِهَا فِيمَا مَضَى إِحْضَارًا لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ وَضَبْطًا لِتَرَتُّبِ عِلَّتِهَا. وَضَمِيرُ يَسَّرْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ

وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخان: 2، 3] إِلَخْ، وَالَّذِي كَانَ جُلُّ غَرَضِ السُّورَةِ فِي إِثْبَاتِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ افْتِتَاحُهَا بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَقَوْلُهُ: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، فَهَذَا التَّفْرِيعُ مُرْتَبِطٌ بِذَلِكَ الِافْتِتَاحِ وَهُوَ مَنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. فَهَذَا التَّفْرِيعُ تَفْرِيعٌ لِمَعْنَى الْحَصْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ وَمَا تَخَلَّلَهُ وَتَبِعَهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُفَرَّعُ قَوْلَهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَقُدِّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ تَوْطِئَةٌ لَهُ اهْتِمَامًا بِالْمُقَدَّمِ وَتَقْدِيرِ النَّظْمِ فَلَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَذَا لِمَا يَسَّرْنَاهُ لَهُمْ بِلِسَانِهِمْ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرُ قَلْبٍ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَدْ سَهُلَ لَهُمْ طَرِيقُ فَهْمِهِ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَقَابَلُوهُ بِالشَّكِّ وَالْهُزْءِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: 9] أَيْ إِنَّا جَعَلْنَا فَهْمَهُ يَسِيرًا بِسَبَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى وَهِيَ لُغَتُهُمْ إِلَّا لِيَتَذَكَّرُوا فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا. فَمَفْعُولُ يَسَّرْناهُ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: فَهْمَهُ. وَالْبَاءُ فِي بِلِسانِكَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ لُغَتِكَ، أَيِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِي إِضَافَةِ اللِّسَانِ إِلَى ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَايَةٌ بِجَانِبِهِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وَإِلَّا فَاللِّسَانُ لِسَانُ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: 4] . وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ وَهُوَ اسْمُ الْجَارِحَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْفَمِ عَلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ شَائِعٌ لِأَنَّ أَهَمَّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللِّسَانُ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195] . وَأَفْصَحَ قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْهُمْ بِهِ وَلَا تَسْأَمْ لِعِنَادِهِمْ فِيهِ وَدُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُلَ التَّذَكُّرُ، فَالتَّيْسِيرُ هُنَا تَسْهِيلُ الْفَهْمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ إِلَخْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [97] . وَ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا بِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ [الْأَحْقَاف: 12] .

وَفِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُوجَزِ إِخْبَارٌ بِتَيْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلْفَهْمِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّذَكُّرُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَر: 17] ، وَبِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ التَّيْسِيرِ كَوْنُهُ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَكَوْنُهُ عَلَى لِسَانِ أفضل الرُّسُل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ كَانَ تَسَبُّبُهُ فِي حُصُولِ تَذَكُّرِهِمْ تَسَبُّبًا قَرِيبًا لَوْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَوَافِرَةِ حَسُنَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تأييد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدُ مُعَانِدِيهِ بِقَوْلِهِ: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أَيْ فَارْتَقَبِ النَّصْرَ الَّذِي سَأَلْتَهُ بِأَنْ تُعَانَ عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ فَإِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ذَلِكَ وَأَشَدَّ مِنْهُ وَهُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى. وَإِطْلَاقُ الِارْتِقَابِ عَلَى حَالِ الْمُعَانِدِينَ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَاقُونَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَقَدْ حَسَّنَهَا اعْتِبَارُ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ (ارْتَقِبْ) ومُرْتَقِبُونَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْله فَارْتَقِبْ أَيِ ارْتَقِبِ النَّصْرَ بِأَنَّهُمْ لَاقَوُا الْعَذَابَ بِالْقَحْطِ وَقَدْ أَغْنَتْ (إِنَّ) التَّسَبُّبَ وَالتَّعْلِيلَ. وَفِي هَذِهِ الْخَاتِمَةِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ إِذْ كَانَ صَدْرُ السُّورَةِ فِيهِ ذِكْرُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِي صَدْرِهَا الْإِنْذَارُ بِارْتِقَابِ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ وَذِكْرِ الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى. فَكَانَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ خَاتِمَةٌ عَزِيزَةُ الْمَنَالِ اشْتَمَلَتْ عَلَى حُسْنِ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ وَبَدِيعِ الْإِيجَازِ.

45- سورة الجاثية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 45- سُورَةُ الْجَاثِيَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْعَتِيقَةِ بِتُونِسَ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةَ الْجَاثِيَةِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ. وَتُسَمَّى حم الْجَاثِيَةِ لِوُقُوعِ لَفْظِ جاثِيَةً [الجاثية: 28] فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاقْتِرَانُ لَفَظِ الْجَاثِيَةِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ فِي اسْمِ السُّورَةِ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِيهَا خَلِيٌّ عَنْ لَامِ التَّعْرِيفِ لِقَصْدِ تَحْسِينِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: سُورَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَيِ السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَلَيْسَ لِهَذَا التَّعْرِيفِ فَائِدَةٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَذَلِكَ تَسْمِيَةُ حم غَافِرٍ، وَحم الزُّخْرُفِ. وَتُسَمَّى سُورَةُ شَرِيعَةٍ لِوُقُوعِ لفظ شَرِيعَةٍ [الجاثية: 18] فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَتُسَمَّى سُورَةَ الدَّهْرِ لِوُقُوعِ مَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ لَفْظُ الدَّهْرِ فِي ذَوَاتِ حم الْأُخَرِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِلَا خِلَافٍ، وَفِي «الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا إِلَى بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ فَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ. وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الدُّخَانِ وَقَبْلَ الْأَحْقَافِ.

أغراضها

وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ. وَفِي عَدِّ الْكُوفَةِ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي عَدِّ لَفْظِ حم آيَةً مُسْتَقِلَّةً. أَغْرَاضُهَا الِابْتِدَاءُ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ تَوْطِئَةً لِمَا سَيُذْكَرُ بِأَنَّهُ حَقٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الجاثية: 6] . وَإِثْبَاتُ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ آثَارِ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي جَوَاهِرِ الْمَوْجُودَاتِ وَأَعْرَاضِهَا وَإِدْمَاجِ مَا فِيهَا مَعَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمٍ يَحِقُّ عَلَى النَّاسِ شُكْرُهَا لَا كُفْرُهَا. وَوَعِيدُ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَالْتَزَمُوا الْآثَامَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. وَالتَّنْدِيدُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذِ اتَّخَذُوا آلِهَةً عَلَى حَسَبِ أَهْوَائِهِمْ وَإِذْ جَحَدُوا الْبَعْثَ، وَتَهْدِيدُهِمْ بِالْخُسْرَانِ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَوَصْفُ أَهْوَالِ ذَلِكَ، وَمَا أُعِدَّ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ لِلْمُشْرِكِينَ وَمِنْ رَحْمَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَدُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ إِسَاءَةِ الْكُفَّارِ لَهُمْ وَالْوَعْدُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُخْزِي الْمُشْرِكِينَ. وَوَصْفُ بَعْضِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَنَظَرُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا النَّظَرَ فِي آيَاتِ اللَّهِ مَعَ تِبْيَانِهَا وَخَالَفُوا على رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ بِحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي كِتَابِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ وَبَعْدَ أَنِ اتَّبَعُوهُ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ خَالَفَ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ تَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ تَحْذِيرٌ بَلِيغٌ. وَذَلِكَ تثبيت للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ شَأْنَ شَرْعِهِ مَعَ قَوْمِهِ كَشَأْنِ شَرِيعَةِ مُوسَى لَا تَسْلَمُ مِنْ مُخَالِفٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيهَا وَلَا فِي الَّذِي جَاءَ بِهَا، وَأَنْ لَا يَعْبَأَ بِالْمُعَانِدِينَ وَلَا بِكَثْرَتِهِمْ إِذْ لَا وَزْنَ لَهُمْ عِنْد الله. [1] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجاثية (45) : آية 2]

حم (1) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِهِ، وَهَذِهِ جملَة مُسْتَقلَّة. [2] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ. الْكِتابِ هُوَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ. وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَيُخْبَرَ عَنْهُ فَيُقَالُ الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ هُوَ مَحَلُّ الْجِدَالِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرُ وَلَوْ أَذْعَنُوا لِكَوْنِهِ تَنْزِيلًا لَمَا كَانَ مِنْهُمْ نِزَاعٌ فِي أَنَّ تَنْزِيلَهُ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِغَرَضَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّشْوِيقُ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا الِابْتِدَاءَ بِتَنْزِيلِ الْكِتَابِ اسْتَشْرَفُوا إِلَى مَا سَيُخْبَرُ عَنْهُ فَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَيَتَرَقَّبُونَ أَنَّهُ سَيُلْقَى إِلَيْهِمْ وَصْفٌ جَدِيدٌ لِأَحْوَالِ تَنْزِيل الْكتاب فيتهيّأون لِخَوْضٍ جَدِيدٍ مِنْ جِدَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَتَرَقَّبُونَ لِمَا يَزِيدُهُمْ يَقِينًا بِهَذَا التَّنْزِيلِ. وَالْغَرَضُ الثَّانِي: أَنْ يُدَّعَى أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ تَنْزِيلًا أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَالَّذِينَ خَالَفُوا فِيهِ كَأَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَلْ يَكُونُ التَّنْزِيلُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَدْلُولِ كَوْنِهِ تَنْزِيلًا وَكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا بِاخْتِلَافِ مَفْهُومِ الْمَعْنيين دون مَا صدقيهما عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] . وَإِيثَارُ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِإِشْعَارِ وَصْفِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ مَا نَزَلَ مِنْهُ مُنَاسِبٌ لِعِزَّتِهِ فَهُوَ كِتَابٌ عَزِيزٌ كَمَا وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] ، أَيْ هُوَ غَالِبٌ لِمُعَانِدِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْجَزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَلِإِشْعَارِ وَصْفِ الْحَكِيمِ بِأَنَّ مَا نَزَلَ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 3 إلى 5]

مِنْ عِنْدِهِ مُنَاسِبٌ لِحِكْمَتِهِ، فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ الْيَقِينِ وَالْحَقِيقَةِ، فَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ، مِنْ جَانِبِ بَلَاغَتِهِ إِذْ غَلَبَتْ بَلَاغَةُ بُلَغَائِهِمْ، وَمِنْ جَانِبِ مَعَانِيهِ إِذْ أَعْجَزَتْ حِكْمَتُهُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَثِيلُ هَذَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الزُّمَرِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي طَالِعَةِ سُورَة غَافِر. [3- 5] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 3 إِلَى 5] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ مَوْقِعُ تَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ لِمَا جَمَعَتْهُ جُمْلَةُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: 2] بِاعْتِبَارِ أَنَّ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ آيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلِلَّذِينِ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِسَبَبِ مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ [الجاثية: 6] . وَأُكِّدَ بِ إِنَّ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ غَيْرَ مُنْكِرِيهِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ مِنْ دِلَالَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [9] . وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: لَآيَاتٍ لَكُمْ أَوْ آيَاتٌ لَكُمْ، أَيْ هِيَ آيَاتٌ لِمَنْ يَعْلَمُونَ دَلَالَتَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ يُوقِنُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي نُفُوسِ مَنْ هُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْآيَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّ ذَاتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعِدَادَ صِفَاتِهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَجُعِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ لِمَا أُودِعَتْهُ

مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لَهَا بِأَدْنَى نَظَرٍ وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدِلَالَتِهَا وَعَلِمُوا مِنْهَا أَنَّ مُوجِدَهَا وَمُقَدِّرَ نِظَامِهَا وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَفِي خَلْقِكُمْ إِلَخْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِمَا فِي هَذَا الْخَاصِّ مِنَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ إِيجَادِ النَّوْعِ اسْتِدْعَاءً لِلشُّكْرِ عَلَيْهِ. وَالْبَثُّ: التَّوْزِيعُ وَالْإِكْثَارُ وَهُوَ يَقْتَضِي الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَفِي خَلْقِ اللَّهِ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ. وَتَقَدَّمَ الْبَثُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَبُثُّ لِيُفِيدَ تَجَدُّدَ الْبَثِّ وَتَكَرُّرَهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الدَّوَابِّ وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا. وَالدَّابَّةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرَ الْإِنْسَانِ وَهَذَا أَصْلُ إِطْلَاقِهَا وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَدِبُّ بِالْأَرْجُلِ دُونَ الطَّائِرِ كَقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] . وَالرِّزْقُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَطَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ الْمَطَرَ سَبَبُ وُجُودِ الْأَقْوَاتِ. وَالرِّزْقُ: الْقُوتُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ . وَتَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاسِطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِ (الْمُؤْمِنِينَ) ، وَبِ (قوم يوقنون) ، وب (قَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وَاحِدٌ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَحَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ وَكَانُوا يَعْقِلُونَ، أَيْ يَعْلَمُونَ دَلَالَةَ الْآيَاتِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يُوقِنُونَ، أَيْ يَعْلَمُونَ وَلَا يُكَابِرُونَ، وَالَّذِينَ يَعْقِلُونَ دَلَالَةَ الْآثَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَنَظَرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ فِي شَوَاهِدِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَعَلمُوا أَن لَا بُد لَهَا مِنْ صَانِعٍ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ فَأَيْقَنَ بِذَلِكَ الْعَاقِلُ مِنْهُمُ الَّذِي كَانَ مُتَرَدِّدًا، وَازْدَادَ إِيمَانًا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَصَارَ مُوقِنًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْآيَاتِ هُمُ

الْمُؤْمِنُونَ الْعَاقِلُونَ، فَوُزِّعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ عَلَى فَوَاصِلِ هَذِهِ الْآيِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنْ إِتْلَاءِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ. وَقُدِّمَ الْمُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ لِشَرَفِهِ وَجَعَلَ خَلْقَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ آيَةً لِلْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيقَانِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْخَلْقِ كَائِنَةٌ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَجَعَلَ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافَ حَوَادِثِ الْجَوِّ آيَةً لِلَّذِينِ اتَّصَفُوا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِوَاسِطَةِ لَوَازِمَ مُتَرَتِّبَةٍ بِإِدْرَاكِ الْعَقْلِ. وَقَدْ أَوْمَأَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا بِمَعْنَى النَّفْيِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى قَوْمٍ لَا يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْإِلَهِ وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ لَهُ شُرَكَاءَ، وَكَانَ مَقْصُودًا مِنْهُ ابْتِدَاءُ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَهُوَ أَيْضًا صَالِحٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُعَطِّلِينَ الَّذِينَ يَنْفُونَ وُجُودَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ وَفِي الْعَرَبِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. فَإِنَّ أَحْوَالَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا مُتَغَيِّرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى تَغَيُّرِ مَا اتَّصَفَتْ بِهَا، وَالتَّغَيُّرُ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي يُوجِدُهَا بَعْدَ الْعَدَمِ ثُمَّ يُعْدِمُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَقَوْلَهُ: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بِرَفْعِ آياتٌ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا مُبْتَدَآنِ وَخَبَرَاهُمَا الْمَجْرُورَانِ. وَتُقَدَّرُ (فِي) مَحْذُوفَةً فِي قَوْلِهِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لِدَلَالَةِ أُخْتِهَا عَلَيْهَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ. وَالْعَطْفُ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَطْفُ جُمْلَةٍ لَا عَطْفُ مُفْرَدٍ. وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ وَخلف لآيَات فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرَةٍ نَائِبَةٍ عَن الفتحة فآيات الْأَوَّلُ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ وفِي خَلْقِكُمْ عَطْفٌ عَلَى خَبَرِ إِنَّ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ وَلَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِهِ وَأَمَّا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَكَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَيْ لَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ هُمَا (إِنَّ) وَ (فِي) عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ آياتٌ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً جُمْلَةَ فِي خَلْقِكُمْ

[سورة الجاثية (45) : آية 6]

الْآيَةَ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَمَمْنُوعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ سِيبَوَيْهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِتَقْدِيرِ (فِي) عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لِدَلَالَةِ أُخْتِهَا عَلَيْهَا وَتَبْقَى الْوَاوُ عَاطِفَةً آياتٌ عَلَى اسْمِ (إِنَّ) فَلَا يَكُونُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ كَثِيرٌ كَثْرَةً تَنْبُو عَنِ التَّأْوِيلِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ آياتٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضًا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ لِأَنَّ الرَّفْعَ يَحْتَاجُ إِلَى عَامِلٍ كَمَا أَنَّ النَّصْبَ يَحْتَاجُ إِلَى عَامِلٍ قَالَ: وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَفْرِضُ الْإِشْكَالَ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ لِكَوْنِ الْعَامِلِ لَفْظِيًّا وَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ آياتٌ الثَّانِيَةَ فَقَطْ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُتَعَدِّدٌ مِنِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاح، والسحاب. [6] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 6] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ وَبَيَانُهَا بِآيَاتِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] وَقَوْلِهِ: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 4] وَقَوْلِهِ: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] . وَإِضَافَتُهَا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ خَالِقَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ لَهَا آيَاتٌ لِلْمُسْتَنْصِرِينَ. وَجُمْلَةُ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ آياتُ اللَّهِ وَالْعَامِلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] . وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْآيَاتِ مَتْلُوَّةً أَنَّ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوَّةِ دِلَالَةٌ عَلَيْهَا فَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ (نَتْلُو) مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: الْكِتابِ [الجاثية: 2] أَيْ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ فِي الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ نَتْلُوها فِي حَقِيقَتِهِ. وَإِسْنَادُ التِّلَاوَةِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّهَ مُوجِدُ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ الدَّالِّ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ، وبَعْدَ هُنَا بِمَعْنَى (دُونَ) . فَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ دُونَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [44] ، وَفِي الْأَعْرَافِ [185] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّأْيِيسِ وَالتَّعْجِيبِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: فَمِنْ أَيِّ مَا تَأْتِي الْحَوَادِثُ أَفْرَقُ وَإِضَافَةُ بَعْدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، أَيْ بَعْدَ سَمَاعِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلُ أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ. وَاسْمُ بَعْدَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: الْكَلَامُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] وَكَمَا وَقَعَ إِضَافَةُ حَدِيثٍ إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [185] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ وَفِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ [50] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ. وَعَطَفَ وآياتِهِ عَلَى حَدِيثٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْآيَاتُ غَيْرُ الْقُرْآنِ من دَلَائِل السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 إلى 10]

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ يُؤْمِنُونَ بالتحتية. وقرأه ابْن عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ. [7- 10] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 7 الى 10] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً. أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ الْعَاقِلِينَ الْمُنْتَفِعِينَ بِدَلَالَةِ آيَاتِ اللَّهِ وَمَا يُفِيدُهُ مَفْهُومُ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْرِيضٍ بِالَّذِينِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، بِصَرِيحِ ذِكْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَعْقِلُوهَا كَمَا وَصَفَ لِذَلِكَ قَوْلَهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] . وَافْتَتَحَ ذِكْرَهُ بِالْوَيْلِ لَهُ تَعْجِيلًا لِإِنْذَارِهِ وَتَهْدِيدِهِ قَبْلَ ذِكْرِ حَالِهِ. وَ (وَيْلٌ لَهُ) كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِالشُّكْرِ وَأَصْلُ الْوَيْلِ الشَّرُّ وَحُلُولُهُ. وَ (الْأَفَّاكُ) الْقَوِيُّ الْإِفْكِ، أَيِ الْكَذِبِ. وَالْأَثِيمُ مُبَالَغَةٌ أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَبَالِغِ فِي اقْتِرَافِ الْآثَامِ، أَيِ الْخَطَايَا. وَفَسَّرَهُ الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ فِي «الْقَامُوسِ» بِالْكَذَّابِ وَهُوَ تَسَامُحٌ وَإِنَّمَا الْكَذِبُ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْأَثِيمِ. وَجُعِلَتْ حَالَتُهُ أَنَّهُ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةِ وَهِيَ حَالَةُ تَكَرُّرِ سَمَاعِهِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَكَرُّرِ إِصْرَارِهِ مُسْتَكْبِرًا عَنْهَا تَحْمِلُهُ عَلَى تَكْرِيرِ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيرِ الْإِثْمِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ أَفَّاكًا أَثِيمًا بَلْهَ مَا تَلَبَّسَ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي كُلُّهُ كَذِبٌ وإثم. وَالْمرَاد بِكُل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَدُوا فِي مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبإ: 31]

وَبِخَاصَّةٍ زُعَمَاءُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَيِمَّةُ الْكُفْرِ مِثْلَ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبِي جَهْلٍ وَقُرَنَائِهِمْ. وآياتِ اللَّهِ أَيِ الْقُرْآنُ فَإِنَّهَا الْمَتْلُوَّةُ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِصْرَارَ بَعْدَ سَمَاعِ مِثْلِ تِلْكَ الْآيَاتِ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ، فَهُوَ يُصِرُّ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ وَلَيْسَ إِصْرَارُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ. وَالْإِصْرَارُ: مُلَازَمَةُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُصِرُّ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] . وَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْآيَاتِ بِحَالِهِمْ فِي انْتِفَاءِ سَمَاعِ الْآيَاتِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ كِنَايَةً عَنْ وُضُوحِ دَلَالَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ أَنَّ مَنْ يَسْمَعُهَا يُصَدِّقُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَلَوْلَا إِصْرَارُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ لَانْتَفَعُوا بِهَا. وكَأَنْ أَصْلُهَا (كَأَنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَخُفِّفَتْ فَقُدِّرَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَفُرِّعَ عَلَى حَالَتِهِمْ هَذِهِ إِنْذَارُهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِنْذَارِ اسْمُ الْبِشَارَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْبَار بِمَا يسر عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً السَّمْعُ، أَيْ إِذَا أَلْقَى سَمْعَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ اتَّخَذَهُ هُزُؤًا، أَيْ لَا يَتَلَقَّى شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا لِيَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً لِلْهُزْءِ بِهِ، فَفِعْلُ عَلِمَ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى عَرَفَ. وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي اتَّخَذَها عَائِدٌ إِلَى آياتِنا، أَيِ اتَّخَذَ الْآيَاتِ هزؤا لِأَنَّهُ يستهزىء بِمَا عَلِمَهُ مِنْهَا وَبِغَيْرِهِ، فَهُوَ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا مِنْهَا اسْتَهْزَأَ بِمَا عَلِمَهُ وَبِغَيْرِهِ. وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الْآيَاتِ هُزُؤًا: أَنَّهُمْ يَلُوكُونَهَا بِأَفْوَاهِهِمْ لَوْكَ الْمُسْتَهْزِئِ بِالْكَلَامِ، وَإِلَّا فَإِنَّ مُطْلَقَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْآيَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَمِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِبَعْضِ الْآيَاتِ تَحْرِيفُهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا وَتَحْمِيلُهَا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهَا عَمْدًا لِلِاسْتِهْزَاءِ، كَقَوْلِ أَبِي جَهِلٍ لَمَّا سَمِعَ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: 43، 44] تَجَاهَلَ بِإِظْهَارِ أَنَّ الزَّقُّومَ اسْمٌ

لِمَجْمُوعِ الزُّبْدِ وَالتَّمْرِ فَقَالَ: «زَقَمُونَا» ، وَقَوْلُهُ: لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] : أَنَا أَلْقَاهُمْ وَحْدِي. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) . جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ إِلَى قَوْله هُزُواً عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءٌ بِهِ لِأَجْلِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ. وَجُمْلَةُ مِنْ وَرائِهِمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِمْ تَحْقِيقٌ لِحُصُولِ الْعَذَابِ وَكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ اقْتِرَابِهِ كَغَفْلَةِ الْمَرْءِ عَنْ عَدُوٍّ يَتْبَعُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَأْخُذَهُ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى أَمَامِهِ حَسِبَ نَفْسَهُ آمِنًا. فَفِي الْوَرَاءِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلِاقْتِرَابِ وَالْغَفْلَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: 79] ، وَقَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومُ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ وَمَنْ فَسَّرَ وَرَاءَ بِقُدَّامٍ، فَمَا رَعَى حَقَّ الْكَلَامِ. وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً عَلَى جُمْلَةِ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ الْمُهِينِ فَإِنَّ فِقْدَانَ الْفِدَاءِ وَفِقْدَانَ الْوَلِيِّ مِمَّا يَزِيدُ الْعَذَابَ شِدَّةً وَيُكْسِبُ الْمُعَاقَبَ إِهَانَةً. وَمَعْنَى الْإِغْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ الْكِفَايَةُ وَالنَّفْعُ، أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ. وَعُدِّيَ بِحَرْفِ (عَنْ) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَدْفَعُ فَكَأَنَّهُ عَبَّرَ بِفِعْلَيْنِ لَا يُغْنِيهِمْ وَبِالدَّفْعِ

[سورة الجاثية (45) : آية 11]

عَنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [10] . وَمَا كَسَبُوا: أَمْوَالُهُمْ. وشَيْئاً مَنْصُوبٌ على المفعولية الْمُطلقَة، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ لِأَنَّ شَيْئاً مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ فَهُوَ مُفَسَّرٌ بِمَا وَقَعَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ وَلَوْ قَلِيلًا مِنْ جَهَنَّمَ، أَيْ عَذَابِهَا. وَلا مَا اتَّخَذُوا عُطِفَ عَلَى مَا كَسَبُوا وَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ لِلتَّأْكِيدِ، وأَوْلِياءَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ اتَّخَذُوا. وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ ضَمِيرُهُمْ لِوُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ فَإِنَّ حَذْفَ مِثْلِهِ فِي الصِّلَةِ كَثِيرٌ. وَأُرْدِفَ عَذابٌ مُهِينٌ بِعَطْفِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، فَالْعَذَابُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ غَيْرُ الْعَذَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. [11] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 11] هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) جُمْلَةُ هَذَا هُدىً اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ بِأَنَّهُ مَنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَفْضَلِ صِفَاتِهِ بِأَنَّهُ هُدًى، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ فِي حَالِ النُّزُولِ وَالتِّلَاوَةِ فَهُوَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْ أَوْصَافِهِ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: 2] وَقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ [الجاثية: 6] إِلَى آخِرِهِ مَا صَيَّرَهُ مُتَمَيِّزًا شَخْصًا بِحُسْنِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. وَوَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ هُدىً مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: هَادٍ لِلنَّاسِ، فَمَنْ آمَنَ فَقَدِ اهْتَدَى وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَلَهُ عَذَابٌ لِأَنَّهُ حَرَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْهُدَى فَكَانَ فِي الضَّلَالِ وَارْتَبَقَ فِي الْمَفَاسِدِ وَالْآثَامِ.

[سورة الجاثية (45) : آية 12]

فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَذَا هُدىً وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ مُذَكِّرٌ بِهَا، فَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ فِي عُمُومِ الْآيَاتِ، وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِمَا تُقَدِّمُهُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7] . وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ أَنَّهُمْ حَقِيقُونَ بِالْعِقَابِ. وَاسْتَحْضَرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِعُنْوَانِ الْكُفْرِ دُونَ عُنْوَانَيِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِكْبَارِ اللَّذَيْنِ اسْتُحْضِرُوا بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً [الجاثية: 8] لِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا النَّعْيُ عَلَيْهِمْ إِهْمَالَهُمْ الِانْتِفَاعَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى الَّتِي جَاءَتْهُمْ مِنَ اللَّهِ فَقَابَلُوهَا بِالْكُفْرَانِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] . وَالرِّجْزُ: أَشَدُّ الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْبَقَرَة: 59] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ مِنْ لِلْبَيَانِ فَالْعَذَابُ هُوَ الرِّجْزُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ عَذَابٌ مِمَّا يُسَمَّى بِالرِّجْزِ وَهُوَ أَشَدُّهُ. وأَلِيمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ عَذابٌ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ رِجْزٍ فَيَكُونُ مَجْرُورًا كَمَا قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَن عَاصِم. [12] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 12] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْعَوَالِمِ وَتَصَارِيفِ أَحْوَالِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا دَلَالَاتٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، إِلَى التَّذْكِيرِ بِمَا سَخَّرَ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَصَارِيفِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَت مَنَافِع للنَّاس تَقْتَضِي أَنْ يَشْكُرُوا مُقَدِّرَهَا

فَجَحَدُوا بِهَا إِذْ تَوَجَّهُوا بِالْعِبَادَةِ إِلَى غَيْرِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِفِعْلَيْ سَخَّرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَجْرُورٌ بِلَامِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: لَكُمُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَارِيفَ آيَاتٌ أَيْضًا مِثْلَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ، وَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، وَلَكِنْ لُوحِظَ هُنَا مَا فِيهَا مِنَ النِّعَمِ كَمَا لُوحِظَ هُنَالِكَ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ، وَالْفَطِنُ يَسْتَخْلِصُ مِنَ الْمَقَامَيْنِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ وَاضِحَةٌ. وَاسْمُ الْجَلَالَةِ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ وَالْمَوْصُولُ مُسْنَدٌ، وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ مُفِيدٌ الْحَصْرَ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ بِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ تَسْخِيرَ الْبَحْرِ وَتَسْخِيرَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنْعَامٌ مِنْ شُرَكَائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: 40] ، فَكَانَ هَذَا الْقَصْرُ إِبْطَالًا لِهَذَا الزَّعْمِ الَّذِي اقْتَضَاهُ هَذَا التَّنْزِيلُ. وَقَوْلُهُ: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ لَكُمُ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: لَكُمُ إِجْمَالًا أُرِيدَ تَفْصِيلُهُ. فَتَعْرِيفُ الْفُلْكُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ جَرْيُ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةٍ عَلَى النَّاسِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا يَجُرُّونَهُمَا لِلسَّفَرِ فِي الْبَحْرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ بَابِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] . وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الِاشْتِمَالِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ تَسْخِيرَ الْبَحْرِ لِجَرْيِ الْفُلْكِ فِيهِ لِلسَّفَرِ لِقَضَاءِ مُخْتَلَفِ الْحَاجَاتِ حَتَّى التَّنَزُّهِ وَزِيَارَةِ الْأَهْلِ. وَعُطِفَ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَلَى قَوْلِهِ: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ إِجْمَالًا، بَلْ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فِي التَّعْلِيقِ بِفِعْلِهِ. وَهَذَا مَنَاطُ سَوْقِ هَذَا الْكَلَامِ، أَيْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَكَفَرْتُمْ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

[سورة الجاثية (45) : آية 13]

[سُورَة الجاثية (45) : آيَة 13] وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ. هَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ اقْتَضَاهُ الِاهْتِمَامُ أَوَّلًا ثُمَّ التَّعْمِيمُ ثَانِيًا. وَمَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِمَا تَحْصُلُ لِلنَّاسِ فَائِدَةٌ مِنْ وُجُودِهِ: كَالشَّمْسِ لِلضِّيَاءِ، وَالْمَطَرِ لِلشَّرَابِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِ: كَالْكَوَاكِبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالشَّجَرِ لِلِاسْتِظْلَالِ، وَالْأَنْعَامِ لِلرُّكُوبِ وَالْحَرْثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا لَا يُفِيدُ النَّاسَ فَغَيْرُ مُرَادٍ مِثْلُ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَهْوِيَةِ الْمُنْحَبِسَةِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ الَّتِي يَأْتِي مِنْهَا الزِّلْزَالُ. وَانْتَصَبَ جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَتَنْوِينُهُ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ مِثْلُ تَنْوِينِ (كُلٍّ) فِي قَوْلِهِ: كُلًّا هَدَيْنا [الْأَنْعَام: 84] . وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ أَدْنَى شَرِكَةٍ. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: مِنْهُ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ الْمُعَوَّضِ عَنْهُ التَّنْوِينُ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ جَمِيعاً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَجْمُوعًا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ دَلَائِلُ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَنًا يَحِقُّ أَنْ يَشْكُرَهَا النَّاسُ فَإِنَّهَا أَيْضًا دَلَائِلُ إِذَا تَفَكَّرَ فِيهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمُ اهْتَدَوْا بِهَا، فَحَصَلَتْ لَهُمْ مِنْهَا مُلَائِمَاتٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَمَعَارِفُ نَفْسَانِيَّةٌ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ فِي عِدَادِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ عَنْهَا لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِأَنَّهَا نِعَمٌ، ثُمَّ عُقِّبَتْ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا أَيْضًا دَلَائِلُ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 إلى 15]

وَأُوثِرَ التَّفَكُّرُ بِالذِّكْرِ فِي آخِرِ صِفَاتِ الْمُسْتَدِلِّينَ بِالْآيَاتِ، لِأَنَّ الْفِكْرَ هُوَ مَنْبَعُ الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ وَالْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 4] آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] . [14، 15] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 14 إِلَى 15] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) إِنْ كَانَتْ هَذِهِ مُتَّصِلَةً بِالْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي النُّزُولِ وَلَمْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَمُنَاسَبَةُ وَقْعِهَا هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: 7- 11] يُثِيرُ غَضَبَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ يَعْتَزُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ فَكَانَ مَا ذُكِرَ مِنِ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ سَمَاعِهِ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ أَنْ يَبْطِشَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَرَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ غَضَبٌ أَوْ تَوَعُّدٌ وَأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَصَابَهُمْ أَذًى شَدِيدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ فِي اسْتِبْقَاءِ الْهُدُوءِ بِمَكَّةَ وَالْمُتَارَكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَفِي ذَلِكَ مَصَالِحُ جَمَّةٌ مِنْ شُيُوعِ الْقُرْآنِ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْقَبَائِلِ النَّازِلِينَ حَوْلَهَا فَإِنَّ شُيُوعَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَأْخُذَ بِمَجَامِعِ قُلُوبِهِمْ بِالرَّغْمِ عَلَى مَا يُبْدُونَهُ مِنْ إِعْرَاضٍ وَاسْتِكْبَارٍ وَاسْتِهْزَاءٍ فَتَتَهَيَّأُ نُفُوسُهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ عِنْدَ زَوَالِ مُمَانَعَةِ سَادَتِهِمْ بَعْدَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَعْدَ اسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَاهُمْ، وَلَكِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ أَمْرًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ وَكَانَتْ هَذِهِ أَمْرًا لَهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ لِلْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ كَثُرُوا فِيهِ وَأَحَسُّوا بِعِزَّتِهِمْ. فَأُمِرُوا بِالْعَفْوِ وَأَنْ يَكِلُوا أَمْرَ نَصْرِهِمْ إِلَى

اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ عَرَضَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ السُّورَةِ فَمُنَاسَبَتُهَا لِأَغْرَاضِ السُّورَةِ وَاضِحَةٌ لِأَنَّهَا تَعْلِيمٌ لِمَا يَصْلُحُ بِهِ مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ بَيْنَ الْمُضَادِّينَ لَهُمْ وَاحْتِمَالُ مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ صَلَفِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَخْبَارٌ مُتَفَاوِتَةُ الضَّعْفِ، فَرَوَى مَكِّيُّ بن أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ» . وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ عُمَرَ شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنْ غِفَارٍ فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «كُنَّا بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَرَأَ قَارِئٌ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ: لِيَجْزِيَ عُمَرَ بِمَا صَنَعَ» يَعْنِي أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: نَزَلُوا عَلَى بِئْرٍ يُقَال لَهَا: الْمُريْسِيع فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ غُلَامَهُ لِيَسْتَقِيَ مِنَ الْبِئْرِ فَأَبْطَأَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: مَا حَسْبُكَ. قَالَ: غُلَامُ عُمَرَ قَعَدَ عَلَى فَمِ الْبِئْرِ فَمَا تَرَكَ أَحَدًا يَسْقِي حَتَّى مَلَأَ قرب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقرب أَبِي بَكْرٍ وَمَلَأَ لِمَوْلَاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: «سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ» فَهَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِقَتْلِهِ، فَنَزَلَتْ. وَرَوَى ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: 245] الْآيَةَ قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ: احْتَاجَ رَبُّ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بِذَلِكَ اشْتَمَلَ عَلَى سَيْفِهِ وَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَبَعَثَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: ضَعْ سَيْفَكَ . وَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ وَمِنْ أَجْلِهِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا قَالَهُ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَلَوْ صَحَّتْ مَا كَانَ فِيهِ مَا يُفَكِّكُ انْتِظَامَ الْآيَاتِ سَوَاءٌ صَادَفَ نُزُولُهَا تِلْكَ الْحَادِثَةِ أَوْ أَمَرَ اللَّهُ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَجُزِمَ يَغْفِرُوا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفًا، أَيْ قُلْ لَهُمْ لِيَغْفِرُوا، أَوْ هُوَ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ قُلْ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِلَّذِينِ آمَنُوا اغْفِرُوا يَغْفِرُوا. وَهَذَا ثِقَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِذَا قَالَ لَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَثَلُوا. وَالْوَجْهَانِ

يَتَأَتَّيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ كُلَّمَا وَقَعَ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَة إِبْرَاهِيم [31] . ولِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَالرَّجَاءُ: تَرَقُّبُ وَتَطَلُّبُ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَهَذَا أَشْهَرُ إِطْلَاقَاتِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْأَيَّامُ: جَمْعُ يَوْمٍ، وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْ مُفْرَدُهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمِ أَحَدٍ أَوْ قَوْمٍ أَوْ قَبِيلَةٍ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ لِمَنْ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ نَصْرٌ وَغَلَبٌ عَلَى مُعَانِدٍ أَوْ مُقَاتِلٍ، وَمِنْهُ أُطْلِقَ عَلَى أَيَّامِ الْقِتَالِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ: أَيَّامُ الْعَرَبِ، أَيِ الَّتِي كَانَ فِيهَا قِتَالٌ بَيْنَ قَبَائِلَ مِنْهُمْ فَانْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يُقَالُ أَيَّامُ عَبْسٍ، وَأَيَّامُ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءِ، وَأَيَّامُ الْبَسُوسِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَأَيَّامٌ لَنَا غُرٌّ طُوَالٌ ... عَصَيْنَا الْمَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا فَإِذَا قَالُوا: أَيَّامُ بَنِي فُلَانٍ، أَرَادُوا الْأَيَّامَ الَّتِي انْتَصَرَ فِيهَا مَنْ أُضِيفَتِ الْأَيَّامُ إِلَى اسْمِهِ، وَيَقُولُونَ: أَيَّامُ بَنِي فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَيُرِيدُونَ أَنَّ الْمَجْرُورَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ مَغْلُوبٌ لِتَضَمُّنِ لَفْظِ أَيَّامَ أَوْ (يَوْمٍ) مَعْنَى الِانْتِصَارِ وَالْغَلَبِ. وَبِذَلِكَ التَّضَمُّنِ كَانَ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ أَيَّامَ أَوْ (يَوْمٍ) وَإِنْ كَانَ جَامِدًا، فَمَعْنَى أَيَّامَ اللَّهِ عَلَى هَذَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: أَيَّامُ بَنِي فُلَانٍ، فَيَحْصُلُ مِنْ مَحْمَلِ الرَّجَاءِ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِهِ. وَمَحْمَلُ أَيَّامَ اللَّهِ عَلَى مَحْمَلِ أَمْثَالِهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لِلَّذِينِ لَا تَتَرَقَّبُ نُفُوسُهُمْ أَيَّامَ نَصْرِ اللَّهِ، أَيْ نَصْرُ اللَّهِ لَهُمْ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَسْتَنْصِرُونَهُ بَلْ تَوَجُّهُهُمْ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ بِحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِمْ سُؤَالُ نَصْرِ اللَّهِ أَوْ رَجَاؤُهُ وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلِذَلِكَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ هُنَا وَعُرِفُوا بِهَا. وَأُوثِرَ تَعْرِيفُهُمْ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الَّذِينَ يَرْجُونَ أَيَّامَ نَصْرِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضِ الْإِيمَاءُ بِالْمَوْصُولِ إِلَى وَجْهِ أَمْرِ

الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَيَصْفَحُوا عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَتَكَلَّفُوا الِانْتِصَارَ لِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ. وَقَدْ يُطْلَقُ أَيَّامَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْأَيَّامِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا فَضْلُهُ وَنِعْمَتُهُ عَلَى قَوْمٍ، وَهُوَ أَحَدُ تَفْسِيرَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] . وَمَعْنَى لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُمْ فِي شُغُلٍ عَنْ تَرَقُّبِ نِعَمِ اللَّهِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ الْخَيْرِ إِلَى أَصْنَامِهِمْ بِانْكِبَابِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دُونَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَأْتِي فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّحْرِيضِ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ. وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الْفرْقَان: 21] وَقَوْلُهُ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح: 13] ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِ أَيَّامَ اللَّهِ: أَيَّامَ جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ ظُهُورِ حُكْمِهِ وَعِزِّتِهِ فَهِيَ تُقَارِبُ الْأَيَّامَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [النبأ: 39] ، أَيْ ذَلِكَ يَوْمُ النَّصْرِ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ (يَوْمٌ) فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ تَمَكُّنَ اللَّهِ مِنْ عِقَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِرُوا بِالْعَفْوِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: 186] . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى. وَقَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: يَغْفِرُوا أَيْ لِيَغْفِرُوا وَيَصْفَحُوا عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ فَلَا يَنْتَصِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَلَى مَا أُوذُوا فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّ الِانْتِصَارَ لِلنَّفْسِ تَوْفِيَةٌ لِلْحَقِّ وَمَاذَا عَسَاهُمْ يَبْلُغُونَ مِنْ شِفَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّصَدِّي لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ أُولَئِكَ فَإِذَا تَوَكَّلُوا عَلَى نَصْرِ رَبِّهِمْ كَانَ نَصْرُهُ لَهُمْ أَتَمَّ وَأَخْضَدَ لِشَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ نُوحٌ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [الْقَمَر: 10] . وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الْحجر: 85] . وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لِيَجْزِيَهُمْ بِمَا كَانُوا

يَكْسِبُونَ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَكُونَ لَفْظُ قَوْماً مُشْعِرًا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَضْيَعَةٍ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ لَفْظَ (قَوْمٍ) مُشْعِرٌ بِفَرِيقٍ لَهُ قِوَامُهُ وَعِزَّتُهُ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّد: 11] . وَتَنْكِيرُ قَوْماً لِلتَّعْظِيمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَجْزِيَ أَيَّمَا قَوْمٍ، أَيْ قَوْمًا مَخْصُوصِينَ. وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنِ ابْنِ جِنِّي عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَفَآتٍ بَنُو مَرْوَانَ ظُلْمًا دِمَاءَنَا ... وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ يَعْدِلُوا حُكْمَ عَدْلِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ تَعَالَى أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَسَمَّاهُ الشَّاعِرُ: حُكْمًا عَدْلًا وَأَخْرَجَ اللَّفْظَ مَخْرَجَ التَّنْكِيرِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ آلَ الْكَلَامُ مِنْ لَفْظِ التَّنْكِيرِ إِلَى معنى التَّعْرِيف اهـ. قيل: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْماً مُرَادٌ بِهِ الْإِبْهَامُ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّنْكِيرِ فَقَطْ. وَالْمَعْنَى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ بِمَا يُنَاسِبُ كَسْبِهِمْ فَيَكُونُ وَعِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا وَجْهُ عَدَمِ تَعْلِيقِ الْجَزَاءِ بِضَمِيرِ الْمُوقِنِينَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْعُمُومُ فَلَيْسَ ثَمَّةَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] . وَهَذَا كَالتَّفْصِيلِ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى سَابِقَتِهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّامَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَر بتحتية فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ وَبِفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَصَبَ قَوْماً. وَتَأْوِيلُهَا أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ (يَجْزِي) . وَالتَّقْدِيرُ: لِيَجْزِيَ الْجَزَاءَ. وقَوْماً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ (يَجْزِي) مِنْ بَابِ كَسَا وَأَعْطَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إِنَابَةِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَقَدْ مَنَعَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ بَلْ جُعِلَ الْمَصْدَرُ مَفْعُولًا أَوَّلَ مِنْ بَابِ أَعْطَى وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ جَزَى، وَإِنَابَةُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي بَابِ كَسَا وَأَعْطَى مُتَّفَقٌِِ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 إلى 17]

عَلَى جَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ إِنَابَةَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النَّجْم: 41] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أَيْ بَعْدَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا تَصِيرُونَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ بِمَا يُنَاسِبُ أَعْمَالَكُمْ. وَأَطْلَقَ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ أَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِحَالِ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ سَيِّدِهِ أَوْ أَمِيرِهِ فَعَمِلَ مَا شَاءَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ أَوْ أَمِيرِهِ فَإِنَّهُ يُلَاقِي جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ، وَقَدْ تقدّمت نَظَائِره. [16، 17] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 16 إِلَى 17] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ سَوْقُ خَبَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [الجاثية: 18] أَثَارَ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ إِلَى قَوْله: اتَّخَذَها هُزُواً [الجاثية: 7- 9] ثُمَّ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] فَكَانَ الْمَقْصِدُ قَوْلَهُ ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ [الجاثية: 18] وَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، أَيْ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا عُطِفَ بِهَا. وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ أَنْ يَقَعَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ الْآيَتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ [الجاثية: 18] فَيَكُونَ دَلِيلًا وَحُجَّةً لَهُ فَأَخْرَجَ النَّظْمَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَجُعِلَتِ الْحُجَّةُ تَمْهِيدًا قَصْدًا لِلتَّشْوِيقِ لِمَا بَعْدَهُ، وَلِيَقَعَ مَا بَعْدَهُ مَعْطُوفًا بِ ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا بَعْدَهَا.

وَقَدْ عُرِفَ مِنْ تَوَرُّكِ الْمُشْرِكِينَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] وَقَوْلهمْ: لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً [الجاثية: 7 - 9] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ الْجُمَلِ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِهَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى مَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ شَرِيعَتُهُمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوْمِهِ دَعَوَتَهُ تَنْظِيرًا فِي أَصْلِ الِاخْتِلَافِ دُونَ أَسْبَابِهِ وَعَوَارِضِهِ. وَلَمَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا الْقَصْدُ مِنْهُ التَّسْلِيَةُ وَالِاعْتِبَارُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ حَسُنَ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ، فَمَصَبُّ هَذَا التَّحْقِيقِ هُوَ التَّفْرِيعُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ [يُونُس: 93] تَأْكِيدًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَشَأْنِهِ فِيمَا حَدَثَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ بُسِطَ فِي ذكر النظير فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ وَصْفِ حَالِهِمْ حِينَمَا حَدَثَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ، وَمِنَ التَّصْرِيحِ بِالدَّاعِي لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ مَا طُوِيَ مِنْ مِثْلِ بَعْضِهِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ فَاخْتَلَفُوا مَعَ أَهْلِهِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ السَّامِعُونَ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ قَدْ وَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الجاثية: 6] وَقَوْلِهِ هَذَا هُدىً [الجاثية: 11] فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَابِلُ قَوْلَهُ هُنَا وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة وَمِثْلَ قَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجاثية: 13] فَإِنَّهُ يُقَابِلُ قَوْلَهُ هُنَا وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً إِلَى قَوْله لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [الجاثية: 8، 9] فَإِنَّهُ يُقَابِلُ قَوْلَهُ هُنَا وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] فَإِنَّهُ مُقَابِلُ قَوْلِهِ هُنَا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

والْكِتابَ: التَّوْرَاةُ. والْحُكْمَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ، أَيِ الْفَهْمِ فِي الدِّينِ وَعِلْمِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] ، يَعْنِي يَحْيَى، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى السِّيَادَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا تَحْكُمُهُمْ أُمَّةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [الْمَائِدَة: 20] ، والنبوءة أَنْ يَقُومَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءٌ. وَمَعْنَى إِيتَائِهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ: إِيجَادُهَا فِي الْأُمَّةِ وَإِيجَادُ الْقَائِمِينَ بِهَا لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الْأُمَّةِ جَمْعَاءَ فَكَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ كَمَنْ أُوتِيَ تِلْكَ الْأُمُورَ. وَأَمَّا رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَبِأَنْ يَسَّرَ لَهُمُ امْتِلَاكَ بِلَادِ الشَّامِ الَّتِي تُفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا كَمَا فِي التَّوْرَاةِ فِي وَعْدِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّتِي تُجْبَى إِلَيْهَا ثَمَرَاتُ الْأَرْضِينَ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا وَتَرِدُ عَلَيْهَا سِلَعُ الْأُمَمِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا عَلَى سَوَاحِلِ الْبَحْرِ فَتَزْخَرُ مَرَاسِيهَا بِمُخْتَلَفِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ وَالزَّخَارِفِ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ مَوْقِعِ الْبِلَادِ مِنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ بَرًّا وَالْمَغْرِبِ بَحْرًا. والطَّيِّباتِ: هِيَ الَّتِي تَطِيبُ عِنْدَ النَّاسِ وَتَحْسُنُ طَعْمًا وَمَنْظَرًا وَنَفْعًا وَزِينَةً. وَأَمَّا تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فَبِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ اسْتِقَامَةِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَبَيْنَ حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبَثِّ أُصُولِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، وَبَيْنَ حُسْنِ الْعَيْشِ وَالْأَمْنِ وَالرَّخَاءِ، فَإِنَّ أُمَمًا أُخْرَى كَانُوا فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْعَيْشِ وَلَكِنْ يَنْقُصُ بَعْضَهَا اسْتِقَامَةُ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَبَعْضَهَا عِزَّةُ حُكْمِ النَّفْسِ وَبَعْضَهَا الْأَمْنُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْفِتَنِ. وَالْمُرَادُ بِ الْعالَمِينَ: أُمَمُ زَمَانِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَمَّا مَضَى مِنْ شَأْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُنْفُوَانِ أَمْرِهِمْ لَا عَمَّا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَلَفُوا وَاضْمَحَلَّ مُلْكُهُمْ وَنُسِخَتْ شَرِيعَتُهُمْ. وبَيِّناتٍ صِفَةٌ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْجَامِدِ، فَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ، أَيْ آتَيْنَاهُمْ حُجَجًا، أَيْ عَلَّمْنَاهُمْ بِوَاسِطَةِ كُتُبِهِمْ وَبِوَاسِطَةِ عُلَمَائِهِمْ حُجَجَ الْحَقِّ وَالْهُدَى الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تَتْرُكَ لِلشَّكِّ وَالْخَطَأِ إِلَى نُفُوسِهِمْ سُبُلًا إِلَّا سَدَّتْهَا. والْأَمْرِ: الشَّأْنُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرِ

لِلتَّعْظِيمِ، أَي من شؤون عَظِيمَةٍ، أَيْ شَأْنُ الْأُمَّةِ وَمَا بِهِ قِوَامُ نِظَامِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكْ مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَعْدِهِ شَيْئًا مُهِمًّا مِنْ مَصَالِحِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَضَّحُوهُ وَبَيَّنُوهُ وَحَذَّرُوا مِنَ الِالْتِبَاسِ فِيهِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ: عَلَّمْنَاهُمْ حُجَجًا وَعُلُومًا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَنِظَامِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَدْبِيرِ مُجْتَمَعِهِمْ وَعَلَى سَلَامَةٍ مِنْ مَخَاطِرِ الْخَطَأِ وَالْخَطَلِ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ تَفْرِيعُ إِدْمَاجٍ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلْحَالَةِ الَّتِي أُرِيدَ تَنْظِيرُهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَاخْتَلَفُوا وَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، فَحُذِفَ الْمُفَرَّعُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ إِذِ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ اخْتَلَفُوا حِينَ لَا مَظَنَّةَ لِلِاخْتِلَافِ إِذْ كَانَ الِاخْتِلَاف بَينهم بعد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ الْمَعْهُودُ بِالذِّكْرِ آنِفًا مِنَ الْكتاب وَالْحكم والنبوءة وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْأَمْرِ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي الِاخْتِلَافِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: 23] . وَهَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ وَلَا هُدًى لِيَعْلَمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَلْطُوفٌ بِهِ فِي رِسَالَتِهِ. وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَنْ عَمْدٍ وَمُكَابَرَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَلَيْسَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا الظُّلْمُ هُوَ ظُلْمُ الْحَسَدِ فَإِنَّ الْحَسَدَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، أَيْ فَكَذَلِكَ حَالُ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا اخْتَلَفُوا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بَغْيًا مِنْهُمْ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ بِدَلَالَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لَفْظًا وَمَعَانِيَ. وَانْتَصَبَ بَغْياً إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلُ اخْتَلَفُوا، وَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ أَبْطَلَ النَّفْيَ إِذْ مَا أُرِيدَ إِلَّا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي وَقْتٍ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 18 إلى 19]

قَبْلَ أَنْ يَحُثَّهُمُ الْعِلْمُ فَلَمَّا اسْتُفِيدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ صَارَ الِاخْتِلَافُ ثَابِتًا وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْرُ مَنْفِيٍّ. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ خَبَرَهُمُ الْعَجِيبُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ سَامِعِهِ عَنْ جَزَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَهَذَا جَوَابٌ فِيهِ إِجْمَالٌ لِتَهْوِيلِ مَا سَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِأَنَّ الْخِلَافَ يَقْتَضِي مُحِقًّا وَمُبْطِلًا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِي سُورَة يُونُس [93] . [18، 19] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 18 إِلَى 19] ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَكَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ. وَهَذَا التَّرَاخِي يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ أَهَمُّ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَهَمِّيَّةُ الْغَرَضِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ وَالنَّتِيجَةُ عَلَى الدَّلِيلِ. وَفِي هَذَا التَّرَاخِي تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْجَعْلِ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِيتَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكتاب وَالْحكم والنبوءة وَالْبَيِّنَاتِ من الْأَمر، فنبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابُهُ وَحُكْمُهُ وَبَيِّنَاتُهُ أَفْضَلُ وَأَهْدَى مِمَّا أُوتِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ التَّمَكُّنِ وَالثَّبَاتِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَتَنْوِينُ شَرِيعَةٍ لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ حَرْفِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ.

وَالشَّرِيعَةُ: الدِّينُ وَالْمِلَّةُ الْمُتَّبَعَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّرْعِ وَهُوَ: جَعْلُ طَرِيقٍ لِلسَّيْرِ، وَسُمِّيَ النَّهْجُ شَرْعًا تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ. وَسُمِّيَتْ شَرِيعَةُ الْمَاءِ الَّذِي يَرِدُهُ النَّاسُ شَرِيعَةً لِذَلِكَ، قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتُعِيرَ اسْمُ الشَّرِيعَةِ لِلطَّرِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَشْبِيهًا بِشَرِيعَةِ الْمَاءِ قُلْتُ: وَوَجْهُ الشَّبَهِ مَا فِي الْمَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَهِيَ الرَّيُّ وَالتَّطْهِيرُ. والْأَمْرِ: الشَّأْنُ، وَهُوَ شَأْنُ الدِّينِ وَهُوَ شَأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ، فَتَكُونُ مِنَ تَبْعِيضِيِّةٌ وَلَيْسَتْ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ [الجاثية: 17] لِأَنَّ إِضَافَةَ شَرِيعَةٍ إِلَى الْأَمْرِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْإِيجَازِ مَبْلَغًا عَظِيمًا إِذْ أَفَادَتْ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا لَا يُزَعْزِعُهُ شَيْءٌ عَنِ الدَّأَبِ فِي بَيَانِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ بِاتِّبَاعِهَا بِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعْها أَيْ دُمْ عَلَى اتِّبَاعِهَا، فَالْأَمْرُ لِطَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَاتَّبِعْها وَقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مُحَسِّنُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعٍ آخَرَ. والَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْوَاؤُهُمْ دِينُ الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] . وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ وَالْمَيْلُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ دِينَهُمْ أَعْمَالٌ أَحَبُّوهَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهَا وَلَا اقْتَضَتْهَا الْبَرَاهِينُ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِسْمَاعُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يطمعوا بمصانعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ حِينَ يَرَوْنَ مِنْهُ الْإِغْضَاءَ عَنْ هَفَوَاتِهِمْ وَأَذَاهُمْ وَحِينَ يَسْمَعُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] . وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَعَنِ ابْنِ

[سورة الجاثية (45) : آية 20]

عَبَّاسٍ «أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا دَعَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى دِينِ آبَائِهِ» قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى دِينِ آبَائِكَ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْكَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَتَضَمَّنُ تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ فِي مُخَالَفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ مِنِ اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ مَا يُوقِعُ فِي غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ فَلَا يُغْنِي عَنْهُ اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ. وَالْإِغْنَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ غَنِيًّا، أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، فَالْآثِمُ الْمُهَدَّدُ مِنْ قَدِيرٍ غَيْرُ غَنِيٍّ عَنِ الَّذِي يُعَاقِبُهُ وَلَوْ حَمَاهُ مَنْ هُوَ كُفْءٌ لِمُهَدِّدِهِ أَوْ أَقْدَرُ مِنْهُ لَأَغْنَاهُ عَنْهُ وَضُمِّنَ فِعْلُ الْإِغْنَاءِ مَعْنَى الدَّفْعِ فَعُدِّيَ بِ (عَنْ) . وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، ومِنَ اللَّهِ صِفَةٌ لِ شَيْئاً ومِنَ بِمَعْنَى بَدَلِ، أَيْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ بَدَلًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَيْ قَلِيلًا مِنَ الْإِغْنَاءِ الْبَدِيلِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي آلِ عِمْرَانَ [10] . وَعُطِفَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ تَعْلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ إِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّبِعَهُمْ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُهُمْ مَنْ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ. وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِقَولِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ يُفِيدُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ وَلَيُّهُ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول الْمُتَّقِينَ. [20] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 20] هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) إِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِمُوسَى وَقَوْمِهِ وَمِنْ تَفْضِيلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ اتِّبَاعِهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ رَغَائِبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا وَالتَّهْيِئَةِ لِأَغْرَاضِهَا تَنْبِيهًا لِمَا فِي طَيِّهَا مِنْ عَوَاصِمَ عَنِ الشَّكِّ وَالْبَاطِلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ [35] (¬1) بَلاغٌ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (الْفَتْح) وَهُوَ خطأ.

وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ إِذْ هُوَ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا أُعِيدَ بِهَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَمُتَّبِعِيهِ وَالتَّعْرِيضُ بِتَحْمِيقِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَتَكُونُ مُفِيدَةً تَأْكِيدَ قَوْلِهِ آنِفًا هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: 11] ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ صَرِيحَةً فِي وَعِيدِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ وَهَذِهِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْظَوْا بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ رَشِيقٌ، وَكُلٌّ بِأَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا حَقِيقٌ. وبَصائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ الْأُمُورَ عَلَى حَقَائِقِهَا، شُبِّهَتْ بِبَصَرِ الْعَيْنِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِصِيغَةٍ فِعْلِيَّةٍ لِلْمُبَالَغَةِ قَالَ تَعَالَى: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [108] . وَقَالَ: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [102] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [43] . وَوَصْفُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَوِ الْقُرْآنِ بِالْبَصَائِرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْبَصَائِرِ. وَجَمْعُ الْبَصَائِرِ: إِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ الْمُتَبَصِّرِينَ بِسَبَبِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: لِلنَّاسِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ بَصِيرَتُهُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ بِالتَّبَعِ لِكَوْنِ صَاحِبِ كُلِّ بَصِيرَةٍ جُزْئِيًّا مُشَخِّصًا فَنَاسَبَ أَنْ تُورَدَ جَمْعًا، فَالْبَصِيرَةُ: الْحَاسَّةُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ إِفْرَادِ هُدىً وَرَحْمَةٌ لِأَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ مَعْنَيَانِ كُلِّيَّانِ يَصْلُحَانِ لِلْعَدَدِ الْكَثِيرِ قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 4] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] . وَإِنَّمَا كَانَ هُدًى لِأَنَّهُ طَرِيقُ نَفْعٍ لِمَنِ اتَّبَعَ إِرْشَادَهُ فَاتِّبَاعُهُ كَالِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَإِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ هَدْيِهِ نَجَاحُ النَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ نِظَامُ مُجْتَمَعِهِمْ وَمَنَاطُ أَمْنِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ نَوَالِهِمْ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ. وَكَانَ بَصَائِرَ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَيَعِدُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَيُوعِدُهُمْ عَلَى فِعْلِ الشُّرُورِ فَعَمَلُهُ عَمَلُ الْبَصِيرَةِ.

[سورة الجاثية (45) : آية 21]

وَجَعَلَ الْبَصَائِرَ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَجَعَلَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي بِبَيَانِهِ إِلَّا الْمُوقِنُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا يُرْحَمُ بِهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ الْمُؤْمِنُ بِحَقِّيَّتِهِ. وَذِكْرُ لَفْظِ (قَوْمٍ) لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِيقَانَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمُ الَّتِي تُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَقْوَامٍ آخَرِينَ. وَالْإِيقَانُ: الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِمَا جَاءَتْ بِهِ آيَات الله. [21] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 21] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) انْتِقَالٌ مِنْ وَصْفِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهَا ثُمَّ مِنْ أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ وَإِيكَالِ جَزَاءِ صَنَائِعِهِمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ مِنَ التَّثْبِيتِ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى وَصْفِ صِنْفٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِحَالَتِهِمُ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَتَخْيِيلِهِمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، عَظِيمُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَظِيمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَضَعِيفُهُمْ فِي الدُّنْيَا ضَعِيفُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الِانْتِقَالُ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية: 15] . فَحَرْفُ أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يَلْزَمُ تَقْدِيرُهُ بَعْدَ أَمْ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَحْسَبُ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنَّهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا لَا فِي الْحَيَاةِ وَفِي فِي الْمَمَاتِ. والَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ فِي نَقْلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَرَضِ السَّابِقِ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْعُنْوَانِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ تَعْلِيلِ إِنْكَارِ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَالَمِ الْخُلْدِ وَلِأَنَّ اكْتِسَابَ السَّيِّئَاتِ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ

دِينٌ وَازِعٌ يَزَعُهُمْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَلَا هُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِهِ مُرَغِّبًا فِي الْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّلَبُّسِ بِالسَّيِّئَاتِ كَقَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: 1- 5] وَكَقَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 42- 46] وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 1- 3] وَنَظِيرُهُ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَالُ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَلَا تَبْلُغُ بِهِ حَالُهُ أَنْ يَحْسَبَ أَنَّهُ مُفْلِتٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: لَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا لَنُفَضَّلَنَّ عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ قَالُوا لِعَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَلَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا أَيْ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا لَحَالُنَا أَفْضَلُ مِنْ حَالِكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنَّا أَفْضَلُ حَالًا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَتَأْوِيلُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ أَنَّ حُدُوثَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ صَادَفَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ السُّورَةِ أَوْ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُتَكَرِّرٌ فَنَاسَبَ تَعَرُّضَ الْآيَةِ لَهُ حَقُّهُ. وَنُزُولُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ لِإِبْطَالِ كَلَامِهِمْ فِي ظَاهِرِ حَالِهِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقُولُوهُ عَنِ اعْتِقَادٍ وَإِنَّمَا قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً، لِئَلَّا يَرُوجَ كَلَامُهُمْ عَلَى دَهْمَائِهِمْ وَالْحَدِيثِينَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّصَدِّي لِلْإِرْشَادِ أَنْ لَا يُغَادِرَ مَغْمَزًا لِرَوَاجِ الْبَاطِلِ إِلَّا سَدَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مَرْيَم: 77، 78] وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَزَادَ الْقُرْطُبِيُّ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوهُ حِينَ بَرَزُوا لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا. وَالِاجْتِرَاحُ: الِاكْتِسَابُ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجُرْحِ

فَأُطْلِقَ عَلَى اكْتِسَابِ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كِلَابُ الصَّيْدِ جَوَارِحَ وَسُمِّي بِهِ اكْتِسَابُ النَّاسِ لِأَنَّ غَالِبَ كَسْبِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ مِنَ الْإِغَارَةِ عَلَى إِبِلِ الْقَوْمِ وَهِيَ بِالرِّمَاحِ، قَالَتْ أَمُّ زَرْعٍ: فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شريّا، وَأخذ خطبا وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَلِذَلِكَ غَلَبَ إِطْلَاقُ الِاجْتِرَاحِ عَلَى اكْتِسَابِ الْإِثْمِ وَالْخَبِيثِ. وَظَاهِرُ تَرْكِيبِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ دَاخِلٌ فِي الْحُسْبَانِ الْمَنْكُورِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُشْرِكُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَكَمَا خَالَفَ اللَّهُ بَيْنَ حَالَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَجَعَلَ فَرِيقًا كَفَرَةً مُسِيئِينَ وَفَرِيقًا مُؤْمِنِينَ مُحْسِنِينَ، فَكَذَلِكَ سَيُخَالِفُ بَيْنَ حَالَيْهِمْ فِي الْمَمَاتِ فَيَمُوتُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِذْ لَا يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَيُلَاقُونَ بَعْدَ الْمَمَاتِ هَوْلَ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَمُوتُ الْمُؤْمِنُونَ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْبُشْرَى بِمَا وُعِدُوا بِهِ وَيُلَاقُونَ بَعْدَ الْمَمَاتِ ثَوَابَ اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَوَاءً مَرْفُوعًا فَيَكُونُ مَوْقِعُ جُمْلَةِ سَواءً مَحْياهُمْ مَوْقِعَ الْبَدَلِ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مِثْلِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُرِيدُ أَنَّهُ بَدَلٌ مُطَابِقٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ تُبْدَلُ مِنَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْبَدَلُ الْمُطَابِقُ هُوَ عَطْفُ الْبَيَانِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ بَيَانُ مَا حَسِبَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفُ مَنْصُوبًا، فَلَفْظُ سَواءً وَحْدَهُ بَدَلٌ مِنْ كَافِ الْمُمَاثِلَةِ، بَدَلٌ مُفْرَدٌ مِنْ مُفْرَدٍ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي نَجْعَلَهُمْ . وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: سَنَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ خَيْرًا مِنْكُمْ كَمَا كُنَّا فِي الْحَيَاةِ خَيْرًا مِنْكُمْ. فَضَمِيرُ مَحْياهُمْ وَضَمِيرُ مَماتُهُمْ عَائِدَانِ لِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ وَالَّذِينَ آمَنُوا عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ مَحْيَا كُلٍّ مُسَاوٍ لِمَمَاتِهِ، أَيْ لَا يَتَبَدَّلُ حَالُ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ الْمَمَاتِ بَلْ يَكُونُونَ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَمَا كَانُوا فِي الْحَيَاةِ غَيْرَ أَنَ مَوْقِعَ كَافِ التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ آمَنُوا لَيْسَ وَاضِحَ الْمُلَاقَاةِ لِحُسْبَانِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَسِبُوا أَنْ يَكُونُوا بَعْدَ الْمَمَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْبَعْثِ

أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرَادَةِ إِفْحَامِهِمْ بِسَفْسَطَتِهِمْ. فَبِنَا أَنَّ نُبَيِّنَ مُوقِعَ هَذَا الْكَافِ فِي الْآيَةِ. وَالَّذِي أَرَى: أَنَّ مَوْقِعَهُ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلْمُؤْمِنِينَ حُسْنَ الْحَالِ بَعْدَ الْمَمَاتِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ وَمَنَاطَ التَّشْبِيهِ، وَإِلَى أَنَّ حُسْبَانَ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ بَاطِلٌ، فَعَبَّرَ عَنْ حُسْبَانِهِمُ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الْحَالَ الَّتِي هِيَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ حَسِبَ الْمُشْرِكُونَ بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَكُونُوا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي حَالَةٍ إِذَا أَرَادَ الْوَاصِفُ أَنْ يَصِفَهَا وَصَفَهَا بِمُشَابَهَةِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِنْدِ اللَّهِ وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَثَّلُوا حَالَهُمْ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: كَالَّذِينَ آمَنُوا إِلَى حِكَايَةِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِعِبَارَةٍ تُسَاوِيهِ لَا بِعِبَارَةِ قَائِلِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُتَوَسَّعُ فِيهِ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] فَإِنَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ دَعَا اللَّهُ هُنَا قَصْدَ التَّنْوِيهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْعِنَايَةِ بِزُلْفَاهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَحَسِبُوا أَنْ نَجْعَلَهُمْ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَأْمُولَ فِي حُسْبَانِهِمْ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ لَا حَالُهُمْ. فَأَوْجَزَ الْكَلَامَ، وَفَهْمُ السَّامِعِ يَبْسُطُهُ. وَالْمُوَاجَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ هُمُ النَّبِيءُ وَالْمُؤْمِنُونَ تَكْمِلَة للغرض الْمُبْتَدَأ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] عَلَى أَنَّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَالَّذِينَ آمَنُوا مُعْتَرِضًا بَيْنَ مَفْعُولَيْ (نَجْعَلُ) وَهُمَا ضَمِيرَا الْغَائِبِينَ وَجُمْلَةُ سَواءً مَحْياهُمْ أَوْ وَلَفْظُ سَواءً فِي قِرَاءَةِ نَصْبِهِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا إِدْخَالُهُ فِي حُسْبَانِ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَالَّذِينَ آمَنُوا تَهَكُّمًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي حُسْبَانِهِمْ تَأْكِيدًا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ خِلَافِ ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ مَا قِيلَ: إِنَّ مَدْلُولَ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ لَيْسَ مِنْ حُسْبَانِ الْمُشْرِكِينَ الْمَنْكُورِ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ

[سورة الجاثية (45) : آية 22]

حُسْبَانَ اسْتِوَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ خَطَرَ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ كَيْفَ وَاقِعُ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ حَالَ مَحْيَاهُمْ هُوَ مِقْيَاسُ حَالِ مَمَاتِهِمْ، أَيْ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مُخْتَلِفٌ كَمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُخْتَلِفٌ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَحْيَوْنَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى رَبِّهِمْ وَرَجَاءِ فَضْلِهِ، وَالْكَافِرُونَ يَعِيشُونَ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ آيِسِينَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَهَذَا لَيْسَ عَيْنَ الْجَوَابِ وَلَكِنَّهُ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِعِلَّةِ الْجَوَابِ عَنْ ذِكْرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: حَالُ الْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ مُخْتَلِفًا فِي الْحَيَاةِ. وَجُمْلَةُ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ إِنْكَارِ حُسْبَانِهِمْ وَمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ الْإِنْكَارِ مِنَ الْمَعَانِي. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ مَوْرِدُهَا فِي تَخَالُفِ حَالَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ نَوْطَ الْحُكْمِ فِيهَا بِصِلَةِ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ يَجْعَلُ مِنْهَا إِيمَاءً إِلَى تَفَاوُتِ حَالَيِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَحْسَبْ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَبْكِي إِلَى الصَّبَاحِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الرّبيع بن خَيْثَم وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يُرَدِّدُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَنْتَ. يُخَاطِبُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى مَبْكَاةُ الْعَابِدِينَ. وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ: مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ أَوِ اسْمَا زَمَانٍ، أَيْ حَيَاتُهُمْ وَمَوْتُهُمْ، وَهُوَ عَلَى كِلَا الِاعْتَبَارَيْنِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ حَالَةُ مَحْيَاهُمْ وحالات مماتهم. [22] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 22] وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَبَيْنَ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] هُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ الَّذِينَ هُمْ فِي بُحْبُوحَةِ عَيْشٍ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي نَعِيمٍ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ فَكَانَ جَزَاؤُهُمُ النَّعِيمَ بَعْدَ

مَمَاتِهِمْ، أَيْ بَعْدَ حَيَاتِهِمُ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْعَدْلِ يَسْتَدْعِي التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، وَالِانْتِصَافَ لِلْمُعْتَدَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْتَدِي. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تُبَيِّنُ كَوْنَهُ فِي تَمَامِ الْإِتْقَانِ وَالنِّظَامِ بِحَيْثُ إِنَّ دَلَائِلَ إِرَادَةِ الْعَدْلِ فِي تَصَارِيفِهَا قَائِمَةٌ، وَمَا أَوْدَعَهُ الْخَالِقُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْقُوَى مُنَاسِبٌ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ النِّظَامِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُهُمْ فَإِذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي الْإِفْسَادِ وَالْإِسَاءَةِ كَانَ مِنْ إِتْمَامِ إِقَامَةِ النِّظَامِ أَنْ يُعَاقَبُوا عَلَى تِلْكَ الْإِسَاءَةِ وَالْمُشَاهَدُ أَنَّ الْمُسِيءَ كَثِيرٌ مَا عَكَفَ عَلَى إِسَاءَتِهِ حَتَّى الْمَمَاتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَزَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَصَلَ اخْتِلَالٌ فِي نِظَامِ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ وَخَلْقِ الْقُوَى الصَّادِرِ عَنْهَا الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكُلَّمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهُ أُتْبِعَ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [191] قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [38- 40] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلْقًا لِلسَّبَبِ الْحَقِّ أَوْ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ لَا يَتَخَلَّفُ الْحَقُّ عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَالْحَقُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُحَقَّ وَيُثْبَتَ، وَمِنْ شَأْنِ الْحِكْمَةِ وَالْحَكِيمِ أَنْ يُقِيمَهُ، وَلِذَلِكَ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ اللَّهُ فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَصَرُّفَاتِ الْحِكْمَةِ. وَعُطِفُ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عَلَى بِالْحَقِّ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ الْمَجْرُورَ بِالْيَاءِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا يُنَاسِبُهُ هُوَ مِنَ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ تَعْلِيلَ الْخَلْقِ بِعِلَّةِ الْجَزَاءِ مِنْ تَفْصِيلِ مَعْنَى الْحَقِّ وَآثَارِ كَوْنِ الْحَقِّ سَبَبًا لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ مُلَابِسًا لِأَحْوَالِ خَلْقِهِمَا، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْبَاءِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَاللَّامِ فِي الْمَعْطُوفِ. وَالْبَاءُ فِي بِما كَسَبَتْ لِلتَّعْوِيضِ. وَمَا كَسَبَتْهُ النَّفْسُ لَا تُجْزَى بِهِ بَلْ تُجَازَى بِمِثْلِهِ وَمَا يُنَاسِبُهُ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بِمِثْلِ مَا كَسَبَتْهُ. وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ

[سورة الجاثية (45) : آية 23]

مُمَاثَلَةٌ فِي النَّوْعِ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ فَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُرَاعًى فِيهِ عَظَمَةُ عَالَمِ الْجَزَاءِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمِقْدَارُ تَمَرُّدِ الْمُسِيءِ وَامْتِثَالِ الْمُحْسِنِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمَا يُنَاسِبُ عَالَمَ الدُّنْيَا مِنَ الضَّعْفِ. وَلِهَذَا أَعْقَبَهُ بقوله: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَضَمِيرُ وَهُمْ عَائِدٌ إِلَى كُلُّ نَفْسٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي جُعِلَ سَبَبًا أَوْ مُلَابِسًا لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، فَهُوَ عَدْلٌ، فَلَيْسَ مِنَ الظُّلْمِ فِي شَيْءٍ فَالْمُجَازَى غَيْرُ مَظْلُومٍ، وَبِالْجَزَاءِ أَيْضًا يَنْتَفِي أَثَرُ ظُلْمِ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ إِذْ لَوْ تُرِكَ الْجَزَاءُ لَاسْتَمَرَّ الْمَظْلُوم مَظْلُوما. [23] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) لَمَّا كَانَ الَّذِينَ حَسِبُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ فِي نِعْمَةٍ وَعِزَّةٍ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا قَالُوا ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَكِنْ عَنِ اتِّبَاعِ مَا يَشْتَهُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ دَوَامِ الْحَالِ الْحَسَنِ تَفَرَّعَ عَلَى حُسْبَانِهِمُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ، فَعُطِفَ بِالْفَاءِ الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ، وَجُعِلَ اسْتِفْهَامًا عَنْ رُؤْيَةِ حَالِهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى بُلُوغِ حَالِهِمْ مِنَ الظُّهُورِ إِلَى حَدِّ أَن تكون مرثية. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إِلَخْ، فَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ تَنَاهَتْ حَالُهُمْ فِي الظُّهُورِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مُخَاطَبٌ. ومَنِ الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى فَرِيقِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ حَسِبُوا أَنْ يَكُونَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَوَاءً بِقَرِينَةِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الجاثية: 24] إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ حِجَاجَهُمُ الْمُسْلِمِينَ مُرَكَّزٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْمُغَالَطَةِ، فَلَا نُهُوضَ

لِحُجَّتِهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا فِيمَا أَرَادُوهُ، عَلَى فَرْضِ وُقُوعِ الْبَعْثِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ مِنْ أَهْوَالِ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُرْجَى لَهُمُ اهْتِدَاءٌ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ غَيْرَ قَابِلِينَ لِلْهُدَى فَلَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ هُدَاهُمْ. وإِلهَهُ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ أُطْلِقُ عَلَى مَا يُلَازَمُ طَاعَتُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مَعْبُودٌ فَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيِ اتَّخَذَ هَوَاهُ كَإِلَهٍ لَهُ لَا يُخَالِفُ لَهُ أَمْرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى إِلهَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَكُونَ هَواهُ بِمَعْنَى مَهْوِيِّهِ، أَيْ عَبَدَ إِلَهًا لِأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهُ، يَعْنِي الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً لَا يقلعون عَن عبادتها لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوهَا، أَيْ أَلِفُوهَا وَتَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِعِبَادَتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [الْبَقَرَة: 93] . وَمَعْنَى أَضَلَّهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَفَّهُمْ بِأَسْبَابِ الضَّلَالَةِ مِنْ عُقُولٍ مُكَابِرَةٍ وَنُفُوسٍ ضَعِيفَةٍ، اعْتَادَتِ اتِّبَاعَ مَا تَشْتَهِيهِ لَا تَسْتَطِيعُ حمل المصابرة والرضى بِمَا فِيهِ كَرَاهِيَةٌ لَهَا. فَصَارَتْ أَسْمَاعُهُمْ كَالْمَخْتُومِ عَلَيْهَا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَوَاعِظِ وَالْبَرَاهِينِ، وَقُلُوبُهُمْ كَالْمَخْتُومِ عَلَيْهَا فِي عَدَمِ نُفُوذِ النَّصَائِحِ وَدَلَائِلِ الْأَدِلَّةِ إِلَيْهَا، وَأَبْصَارُهُمْ كَالْمُغَطَّاةِ بِغِشَاوَاتٍ فَلَا تَنْتَفِعُ بِمُشَاهَدَةِ الْمَصْنُوعَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى أَنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ بَعْثًا وَجَزَاءً. وَمَعْنَى عَلى عِلْمٍ أَنَّهُمْ أَحَاطَتْ بِهِمْ أَسْبَابُ الضَّلَالَةِ مَعَ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ، أَيْ عُقُولٍ سَلِيمَةٍ أَوْ مَعَ أَنَّهُمْ بَلَغَهُمُ الْعِلْمُ بِمَا يَهْدِيهِمْ وَذَلِكَ بِالْقُرْآنِ ودعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَحَرْفُ عَلى هُنَا مَعْنَاهُ الْمُصَاحَبَةُ بِمَعْنَى (مَعَ) وَأَصْلُ هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةُ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ. وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي (عَلَى) كَمَا فِي قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: فَيَقِينًا عَلَى الشَّنَاءَةِ تَنْمِينَا ... حُصُونٌ وَعِزَّةٌ قَعْسَاءُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ضَالٌّ مَعَ مَا لَهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ هُنَا مِنْ وَصْفِ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْعِلْمِ لَوْ خَلَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْمُكَابَرَةَ وَالْمَيْلَ إِلَى الْهَوَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غِشاوَةً بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ غِشْوَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَهُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الصِّلَةِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدَّة أسفه لإعراضهم وَبَقَائِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ. ومِنْ بَعْدِ اللَّهِ بِمَعْنَى: دُونَ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ آخَرَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [185] . وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ تَذَكُّرِ الْمُخَاطَبِينَ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، أَيْ كَيْفَ نَسَوْهَا حَتَّى أَلَحُّوا فِي الطَّمَعِ بِهِدَايَةِ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ وَأَسِفُوا لِعَدَمِ جَدْوَى الْحُجَّةِ لَدَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ مَنِ الْمَوْصُولَةَ فِي قَوْلِهِ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ عَلَى مُعَيَّنٍ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ بِسَبَبِ حَدِيثٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَا يَطُوفَانِ لَيْلَةً فَتَحَدَّثَا فِي شَأْن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لِصَادِقٌ فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: مَهْ، وَمَا دَلَّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: كُنَّا نُسَمِّيهِ فِي صِبَاهُ الصَّادِقَ الْأَمِينَ فَلَمَّا تَمَّ عَقْلُهُ وَكَمُلَ رُشْدُهُ نُسَمِّيهِ الْكَذَّابَ الْخَائِنَ! قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ قَالَ: تَتَحَدَّثُ عَنِّي بَنَاتُ قُرَيْشٍ أَنِّي قَدْ اتَّبَعْتُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَجْلِ كِسْرَةٍ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنِ اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَإِنَّ مُطَابَقَةَ الْقِصَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ ظَاهِرَةٌ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَيْضًا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيِّ أَحَدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانَ يَعْبُدُ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْهَوَى الْبَاعِثَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَتْرُكُوا اتِّبَاعَ أَدِلَّةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ مَحْبُوبًا لِأَحَدٍ فَذَلِكَ مِنَ التَّخَلُّقِ بِمَحَبَّةِ الْحَقِّ تَبَعًا لِلدَّلِيلِ مِثْلَ مَا يَهْوَى الْمُؤْمِنُ الصَّلَاةَ وَالْجَمَاعَةَ وَقِيَامَ رَمَضَانَ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ» يَعْنِي الْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ

الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «إِذَا أَصْبَحَ الرَّجُلُ اجْتَمَعَ هَوَاهُ وَعَمَلُهُ وَعِلْمُهُ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ فَيَوْمُهُ يَوْمُ سُوءٍ وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ تَبَعًا لِعِلْمِهِ فَيَوْمُهُ يَوْمٌ صَالِحٌ» . وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ لِإِرْضَاءِ النَّفْسِ دُونَ نَظَرٍ فِي صَلَاحِهِ أَوْ فَسَادِهِ فَذَلِكَ سَبَبُ الضَّلَالِ وَسُوءِ السِّيرَةِ. قَالَ عَمْرو بن العَاصِي: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ ... وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا فَيُوشِكُ أَنْ تَلْقَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةً ... إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَأْثُورَةِ «ثَلَاثٌ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَىً مُتبع، وَإِعْجَاب المرأ بِنَفْسِهِ» وَيُرْوَى حَدِيثًا ضَعِيفَ السَّنَدِ. وَقُدِّمَ السَّمْعُ عَلَى الْقَلْبِ هُنَا بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: 7] لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ هُنَا لَمَّا أُخْبِرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمْ، فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ عَقَدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى الْهَوَى فَكَانَ ذَلِكَ الْعَقْدُ صَارِفًا السَّمْعَ عَنْ تَلَقِّي الْآيَاتِ فَقُدِّمَ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ كَالْمَخْتُومِ عَلَى سَمْعِهِمْ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ وَقَلْبِهِ تَكْمِيلًا وَتَذْكِيرًا بِذَلِكَ الْعَقْدِ الصَّارِفِ لِلسَّمْعِ ثُمَّ ذُكِرَ مَا عَلى بَصَرِهِ مِنْ شِبْهِ الْغِشَاوَةِ لِأَنَّ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ بَصَّرَهُ عَنِ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْكَائِنَاتِ. وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ هُمْ هَؤُلَاءِ أَنْفُسُهُمْ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْهُمُ ابْتُدِئَ بِتَسَاوِي الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ فِي جَانِبِهِمْ بِقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 6] فَلَمَّا أُرِيدَ تَفْصِيلُهُ قُدِّمَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ كَمَا كَانَ اتِّخَاذُ الْهَوَى كَالْإِلَهِ أَصْلًا فِي وَصْفِ حَالِهِمْ فِي آيَةِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ. فَحَالَةُ الْقُلُوبِ هِيَ الْأَصْلُ فِي الِانْصِرَافِ عَنِ التَّلَقِّي وَالنَّظَرِ فِي الْآيَتَيْنِ وَلَكِنَّ نَظْمَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الذِّكْرُ مِنَ التَّرْتِيبِ وَنَظْمُ آيَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ

[سورة الجاثية (45) : آية 24]

وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ تَتَذَكَّرُونَ. فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقِرَاءَتُهُمْ بِقَلْبِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ ذَالًا لِتُقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا قَصْدًا لِلتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا عَاصِمٌ فَقِرَاءَتُهُ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. [24] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 24] وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) هَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ [الجاثية: 21] أَيْ بَعْدَ أَنْ جَادَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَسَتَكُونُ عُقْبَاهُمْ خَيْرًا مِنْ عُقْبَى الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّوَرُّكِ وَهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَلْ ضَرَبُوهُ جَدَلًا وَإِنَّمَا يَقِينُهُمْ قَوْلُهُمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [29] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، أَيْ قِصَّةِ الْخَوْضِ فِي الْبَعْثِ تَنْحَصِرُ فِي أَنْ لَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، أَيِ الْقِصَّةِ هِيَ انْتِفَاءُ الْبَعْثِ كَمَا أَفَادَهُ حَصْرُ الْأَمْرِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيِ الْحَاضِرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَّا، أَيْ فَلَا تُطِيلُوا الْجِدَالَ مَعَنَا فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هِيَ ضَمِيرَ الْحَيَاةِ بِاعْتِبَارِ دِلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ حَصْرًا لِجِنْسِ الْحَيَاةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَجُمْلَةُ نَمُوتُ وَنَحْيا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ لَيْسَ بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ عَالَمٌ آخَرُ فَالْحَيَاةُ هِيَ حَيَاةُ هَذَا الْعَالَمِ لَا غَيْرَ فَإِذَا مَاتَ مَنْ كَانَ حَيًّا خَلْفَهُ مَنْ يُوجَدُ بَعْدَهُ. فَمَعْنَى نَمُوتُ وَنَحْيا يَمُوتُ بَعْضُنَا وَيَحْيَا بَعْضٌ أَيْ يَبْقَى حَيًّا إِلَى أَمَدٍ أَوْ يُولَدُ بَعْدَ مَنْ مَاتُوا. وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا التَّطَوُّرِ عُبِّرَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، أَيْ تَتَجَدَّدُ فِينَا الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ. فَالْمَعْنَى: نَمُوتُ وَنَحْيَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ ثَمَّةَ حَيَاةٌ أُخْرَى. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةً بِلَفْظِ كَلَامِهِمْ فَلَعَلَّهَا مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةً لِمَعْنَى كَلَامِهِمْ فَهِيَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: يَمُوتُ بَعْضُنَا وَيَحْيَا بَعْضُنَا ثُمَّ يَمُوتُ فَصَارَ كَالْمَثَلِ.

وَلَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَنَّ حِكَايَةَ قَوْلِهِمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا تَقْتَضِي إِرَادَةَ نَحْيَا بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يَصْرِفُ عَنْ خُطُورِ هَذَا بِالْبَالِ. وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي الْحُصُولِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ نَمُوتُ فِي الذِّكْرِ عَلَى وَنَحْيا فِي الْبَيَانِ مَعَ أَنَّ الْمُبَيَّنَ قَوْلُهُمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُبْدَأَ فِي الْبَيَانِ بِذِكْرِ اللَّفْظِ الْمُبَيَّنِ فَيُقَالَ: نَحْيَا وَنَمُوتُ، فَقِيلَ قُدِّمَ نَمُوتُ لِتَتَأَتَّى الْفَاصِلَةُ بِلَفْظِ نَحْيا مَعَ لَفْظِ الدُّنْيا. وَعِنْدِي أَنَّ تَقْدِيمَ فِعْلِ نَمُوتُ عَلَى نَحْيا لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَوْتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ تَقْرِيرِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ تَأَتِّي طِبَاقَيْنِ بَيْنَ حَيَاتِنَا الدُّنْيَا وَنَمُوتُ ثُمَّ بَيْنَ نَمُوتُ وَنَحْيَا. وَحَصَلَتِ الْفَاصِلَةُ تَبَعًا، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فالإشارة بذلك إِلَى قَوْلِهِمْ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الْمُمِيتُ إِذْ لَا دَلِيلَ. وَأَمَّا زِيَادَةُ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فَقَصَدُوا تَأْكِيدَ مَعْنَى انْحِصَارِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَهُمْ بِالدَّهْرِ. فَالْحَيَاةُ بِتَكْوِينِ الْخِلْقَةِ وَالْمَمَاتِ بِفِعْلِ الدَّهْرِ. فَكَيْفَ يُرْجَى لِمَنْ أَهْلَكَهُ الدَّهْرُ أَنْ يَعُودَ حَيًّا فَالدَّهْرُ هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُتَعَاقِبُ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ. وَالْمَعْنَى: أَحْيَاؤُنَا يَصِيرُونَ إِلَى الْمَوْتِ بِتَأْثِيرِ الزَّمَانِ، أَيْ حِدْثَانِهِ مِنْ طُولِ مُدَّةٍ يَعْقُبُهَا الْمَوْتُ بِالشَّيْخُوخَةِ، أَوْ مِنْ أَسْبَابٍ تُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَمِنَ الشِّعْرِ الْقَدِيمِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ قَمِيئَةَ: رَمَتْنِي بَنَاتُ الدَّهْرِ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَى ... فَمَا بَالُ مَنْ يُرْمَى وَلَيْسَ بِرَامِ وَلَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ تَأَثَّرَ الزَّمَانُ لَبَقِيَ النَّاسُ أَحْيَاءً كَمَا قَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ: مَنَعَ الْبَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ ... وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ بِفِعْلِ الدَّهْرِ فَكَيْفَ يُرْجَى أَنْ يَعُودُوا أَحْيَاءً. وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِقِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِي الْأُمُورِ وَإِنْ كَانُوا

[سورة الجاثية (45) : آية 25]

يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْعَوَالِمِ، وَأَمَّا مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ وَكَيْفَ وَحَالَتُهُمُ الْأُمِّيَّةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا يُخْطِئُونَ فِي التَّفَاصِيلِ حَتَّى يَأْتُوا بِمَا يُنَاقِضُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فإشارة بِذلِكَ إِلَى قَوْلِهِمْ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الْمُمِيتُ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الدَّلِيلَ النَّظَرِيَّ بَيَّنَ أَنَّ الدَّهْرَ وَهُوَ الزَّمَانُ لَيْسَ بِمُمِيتٍ مُبَاشَرَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا بِوَاسِطَةٍ فِي الْإِمَاتَةِ إِذِ الزَّمَانُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَفْعَلُ وَلَا يُؤَثِّرُ وَإِنَّمَا هُوَ مَقَادِيرُ يُقَدِّرُ بِهَا النَّاسُ الْأَبْعَادَ بَيْنَ الْحَوَادِثِ مَرْجِعُهُ إِلَى تَقْدِيرِ حِصَّةِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَحِصَصِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ عَامَّةُ النَّاسِ أَنَّ الزَّمَانَ مُتَصَرِّفٌ، وَهِيَ تَوَهُّمَاتٌ شَاعَتْ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ فِي الْأَذْهَانِ السَّاذِجَةِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ مَا لَيْسَ بِعِلْمٍ فَهُوَ هُنَا التَّخَيُّلُ وَالتَّوَهُّمُ وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ مُبَيَّنَةُ بِجُمْلَةِ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ سَائِلًا حِينَ سَمِعَ قَوْلَهُ: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ سَأَلَ عَنْ مُسْتَنَدِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ الظَّنُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّخَيُّلِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَظُنُّونَ لِأَنَّهُمْ يُحَدِّدُونَ هَذَا الظَّنَّ وَيَتَلَقَّاهُ صَغِيرُهُمْ عَنْ كَبِيرِهِمْ فِي أَجْيَالِهِمْ وَمَا هُمْ بمقلعين عَنهُ. [25] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 25] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) عَطْفٌ عَلَى وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] ، أَيْ عَقَدُوا عَلَى عَقِيدَةِ أَنْ لَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ اسْتِنَادًا لِلْأَوْهَامِ وَالْأَقْيِسَةِ الْخَيَالِيَّةِ. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَعَلَى لُزُومِهِ لَمْ يُعَارِضُوهَا بِمَا يُبْطِلُهَا بَلْ يُهْرَعُونَ إِلَى الْمُبَاهَتَةِ فَيَقُولُونَ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ صَدَقْتُمْ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَعْثِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْكَلَامِ وَمَا بَعْدَهُ.

وَفِي قَوْلِهِ: مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالتَّلَجْلُجِ عَنِ الْحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى سِلَاحِ الْعَاجِزِ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ دَائِرَةِ الْبَحْثِ. وَالْخِطَابُ بِفِعْلِ ائْتُوا مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِدُخُول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإِلَّا أَنْ قالُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حُجَّتِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي تَسْمِيَةَ كَلَامِهِمْ هَذَا حُجَّةً وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ هُوَ بِالْبُهْتَانِ أَشْبَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا فَسَمَّى الْقَتْلَ قِرًى، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا تَهَكُّمًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُجَّةِ عَلَى كَلَامِهِمْ جَرَى عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ دُونَ قَصْدِ تَهَكُّمٍ بِهِمْ، أَيْ أَتَوْا بِمَا تَوَهَّمُوهُ حُجَّةً فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ اسْتِعَارَةً صُورِيَّةً وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ أَيْضًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِطْلَاقُ اسْتِعَارَةً بِعَلَاقَةِ الضِّدِّيَّةِ فَيَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا بِتَنْزِيلِ التَّضَادِّ مَنْزِلَةَ التَّنَاسُبِ عَلَى قَصْدِ التَّهَكُّمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ إِلَّا هَذِهِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ هِيَ عِنَادٌ فَيَحْصُلُ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُم بطرِيق التمليح وَالْكِنَايَةِ كَقَوْلِ جِرَانِ الْعَوْدِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ أَيْ لَا أُنْسَ بِهَا أَلْبَتَّةَ. وَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ عَلَى الِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ اسْمُ كانَ وحُجَّتَهُمْ خَبَرُهَا لِأَنَّ حُجَّتَهُمْ مَنْصُوبٌ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَتَقْدِيمُ خَبَرِ كانَ عَلَى اسْمِهَا لِأَنَّ اسْمَهَا مَحْصُورٌ بِ إِلَّا فَحَقُّهُ التَّأْخِيرُ عَن الْخَبَر.

[سورة الجاثية (45) : آية 26]

[سُورَة الجاثية (45) : آيَة 26] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) تَلْقِينٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا [الجاثية: 24] . وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ يُحْيِيكُمْ تَوْطِئَةً لَهُ، أَيْ كَمَا هُوَ أَوْجَدَكُمْ هُوَ يُمِيتُكُمْ لَا الدَّهْرُ، فَتَقْدِيمُ اسْمِ اللَّهِ عَلَى الْمَسْنَدِ الْفِعْلِيِّ وَهُوَ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ يُفِيدُ تَخْصِيصَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِهِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، إِنَّ الدَّهْرَ هُوَ الَّذِي يُمِيتُهُمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الجاثية: 24] وَلَيْسَ هُوَ إِبْطَالًا بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ أَدِلَّةَ هَذَا تَكَرَّرَتْ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ تَفْصِيلِهَا وَلَكِنَّهُ إِبْطَالٌ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَالْمُعَارَضَةِ. وَقَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ حَالٌ مِنْ يَوْمِ الْقِيامَةِ، أَيْ لَا رَيْبَ فِي وُجُودِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَمَعْنَى نَفْيِ الرَّيْبِ فِيهِ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الرَّيْبِ وَهِيَ الَّتِي تَتَقَوَّمُ مِنْ دَلَائِلَ تُفْضِي إِلَى الشَّكِّ مُنْتَفِيَةً عَنْ قَضِيَّةِ وُقُوعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِكَثْرَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى إِمْكَانِهِ وَعَلَى أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ لَيْسَ أَعْجَبَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ. فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ جَدِيرًا بِالِاقْتِلَاعِ فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» مَعَ أَنَّهُمْ مَوْجُودُونَ فَأَرَادَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ حَقِيقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] . وَعُطِفَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ وَلَكِنَّ ارْتِيَابَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ دَلَائِلَ وُقُوعِهِ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 إلى 29]

[27- 29] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 27 الى 29] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. اعْتِرَاضُ تَذْيِيلٍ لِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الجاثية: 26] أَيْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَحْوَالِ مَا حَوَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ إِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِمَا أَوْجَدَ مِنْ أُصُولِهَا وَمَا قَدَّرَ مِنْ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا فَلَيْسَ لِلدَّهْرِ تَصَرُّفٌ وَلَا لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ لِرَدِّ مُعْتَقَدِهِمْ مِنْ خُرُوجِ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِي بَعْضِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَقَوْلِهِمْ فِي الدَّهْرِ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) . لَمَّا جَرَى ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُعْقِبَ بِإِنْذَارِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِيهِ. والْمُبْطِلُونَ: الْآتُونَ بِالْبَاطِلِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِذِ الْبَاطِلُ مَا ضَادَّ الْحَقَّ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ابْتِدَاءً هُنَا هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْبَاطِلِ ثُمَّ تَجِيءُ دَرَجَاتُ الْبَاطِلِ مُتَنَازِلَةً وَمَا مِنْ دَرَجَةٍ مِنْهَا إِلَّا وَهِيَ خَسَارَةٌ عَلَى فَاعِلِهَا بِقَدْرِ فَعْلَتِهِ وَقَدْ أَنْذَرَ اللَّهُ النَّاسَ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَقَادِيرِ تِلْكَ الْخَسَارَةِ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَخْسَرُ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ لِمَا يَرِدُ مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِهِ. ويَوْمَئِذٍ تَوْكِيدٌ لِ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ لِدَلَالَةِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَوْمَ عَلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تَقُومُ السَّاعَةُ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ فَالتَّأْكِيدُ بِتَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ وَلِتَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَالْخِطَابُ فِي تَرى لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْخِطَابُ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُقْصَدُ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خطابا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُضَارِعُ فِي تَرى مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ فَالْمَعْنَى: وَتَرَى يَوْمَئِذٍ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ دِينٌ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ. وجاثِيَةً اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مَصْدَرِ الْجُثُوِّ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ الْبُرُوكُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ بِاسْتِئْفَازٍ، أَيْ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةِ المقعدة للْأَرْض، فالجائي هُوَ الْبَارِكُ الْمُسْتَوْفِزُ وَهُوَ هَيْئَةُ الْخُضُوعِ. وَظَاهِرُ كَوْنِ كِتابِهَا مُفْرَدًا غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ أَنَّهُ كِتَابٌ وَاحِدٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ فَيَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ كِتَابُ الشَّرِيعَةِ مِثْلَ الْقُرْآنِ، وَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، فَمَعْنَى تُدْعى إِلى كِتابِهَا تُدْعَى لِتُعْرَضَ أَعْمَالُهَا عَلَى مَا أُمِرَتْ بِهِ فِي كِتَابِهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» وَقِيلَ: أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: كِتابِهَا كِتَابَ تَسْجِيلِ الْأَعْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأُمَّةِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ عَلَى الْأَفْرَادِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ صَحِيفَةُ عَمَلِهِ خَاصَّةٌ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: 14] ، وَقَالَ: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الْكَهْف: 49] أَيْ كُلُّ مُجْرِمٍ مُشْفِقٌ مِمَّا فِي كِتَابِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ وَقَعَ فِيهَا الْكِتَابُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَقُبِلَ الْعُمُومُ. وَأَمَّا آيَةُ الْجَاثِيَةِ فَعُمُومُهَا بَدِّلِيٌّ بِالْقَرِينَةِ. فَالْمُرَادُ: خُصُوصُ الْأُمَمِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ وَلَهَا كُتُبٌ وَشَرَائِعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] . وَمَسْأَلَةُ مُؤَاخَذَةِ الْأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَجِئْهَا الرُّسُلُ بِخُصُوصِ جَحْدِ الْإِلَهِ أَوِ الْإِشْرَاكِ بِهِ مُقَرَّرَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [15] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا بِرَفْعِ كُلَّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وتُدْعى

خَبَرٌ عَنْهُ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ جُثُوَّ الْأُمَّةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ الْجُثُوِّ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِنَصْبِ كُلَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ. وَجُمْلَةُ تُدْعى حَالٌ مِنْ كُلَّ أُمَّةٍ فَأُعِيدَتْ كَلِمَةُ كُلَّ أُمَّةٍ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِقَوْلِهِ تُدْعى أَوْ يَدْعُونَ لِلتَّهْوِيلِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْكِتَابِ بِالْأُمَمِ تَجْثُو ثُمَّ تُدْعَى كُلُّ أُمَّةٍ إِلَى كِتَابِهَا فَتَذْهَبُ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ، أَيْ يَذْهَبُ أَفْرَادُهَا لِلْحِسَابِ وَلَوْ قِيلَ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا لَأُوهِمَ أَنَّ الْجُثُوَّ وَالدُّعَاءَ إِلَى الْكِتَابِ يَحْصُلَانِ مَعًا مَعَ مَا فِي إِعَادَةِ الْخَبَرِ مَرَّةً ثَانِيَةً مِنَ التَّهْوِيلِ. وَجُمْلَةُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ تُدْعى إِلى كِتابِهَا بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ، أَيْ يَكُونُ جَزَاؤُكُمْ عَلَى وَفْقِ أَعْمَالِكُمْ وَجَرْيُهَا عَلَى وَفْقِ مَا يُوَافِقُ كِتَابَ دِينِكُمْ مِنْ أَفْعَالِكُمْ فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا الْبَدَلُ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً وَجُمْلَةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الجاثية: 30] الْآيَاتِ. وَجُمْلَةُ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ، وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَوَقُّعِ سُؤَالِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: مَا هُوَ طَرِيقُ ثُبُوتِ أَعْمَالِهَا. وَالْإِشَارَةُ إِمَّا إِلَى كِتَابِ شَرِيعَةِ الْأُمَّةِ الْمَدْعُوَّةِ، وَإِمَّا إِلَى كُتُبِ أَفْرَادِهَا عَلَى تَأْوِيلِ الْكِتَابِ بِالْجِنْسِ على الوجهتين الْمُتَقَدِّمين. وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ يَنْطِقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ كِتابُنا، فَالْمَعْنَى هَذِهِ كُتُبُنَا تَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ. وَإِضَافَةُ (كِتَابِ) إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أُضِيفَ إِلَى كُلَّ أُمَّةٍ لِاخْتِلَافِ الْمُلَابَسَةِ، فَالْكِتَابُ يُلَابِسُ الْأُمَّةَ لِأَنَّهُ جُعِلَ لِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَوْ لِأَنَّ مَا كُلِّفُوا بِهِ مُثْبَتٌ فِيهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ. وَإِسْنَادُ النُّطْقِ إِلَى الْكَتَابِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا تَنْطِقُ بِمَا فِي الْكِتَابِ مَلَائِكَةُ الْحِسَابِ، أَوِ اسْتُعِيرَ النُّطْقُ لِلدَّلَالَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: نَطَقَتِ الْحَالُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِيهِ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُخَالِفَةٌ لِوَصَايَا الْكِتَابِ أَوْ بِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ. وَلِتَضَمُّنِ يَنْطِقُ مَعْنَى (يَشْهَدُ) عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) . وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِلتَّهْدِيدِ اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى تَعْدِيَةِ يَنْطِقُ بِحَرْفِ (عَلَى) دُونَ زِيَادَةِ: وَلَكُمْ، إِيثَارًا لِجَانِبِ التَّهْدِيدِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ خَطَرَ بِبَالِهِمُ السُّؤَالُ: كَيْفَ شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ الْيَوْمَ وَهُمْ قَدْ عَمِلُوا الْأَعْمَالَ فِي الدُّنْيَا، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ يَأْمُرُ بِنَسْخِ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الصُّحُفِ فِي وَقْتِ عَمَلِهِ. وَإِنْ حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَى كُتُبِ الشَّرِيعَةِ كَانَتْ جُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلًا لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ النُّطْق بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ، أَيْ لِأَنَّ أَعْمَالَكُمْ كَانَتْ مُحْصَاةً مُبَيَّنٌ مَا هُوَ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ كِتَابُهُمْ. وَالِاسْتِنْسَاخُ: اسْتِفْعَالٌ مِنَ النَّسْخِ. وَالنَّسَخُ: يُطْلَقُ عَلَى كِتَابِةِ مَا يُكْتَبُ عَلَى مِثَالِ مَكْتُوبٍ آخَرَ قَبْلَهُ. وَيُسَمَّى بِالْمُعَارَضَةِ أَيْضًا. وَظَاهِرُ الْأَسَاسِ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ مَعْنَى النَّسْخِ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ مَجَازٌ. وَكَلَامُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِهِ كَمَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي بَابِ النَّسْخِ. وَكَلَامُ الرَّاغِبِ يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَيْنِ، فَإِذَا دَرَجْتَ عَلَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ جَعَلْتَ كِتَابَةَ مَكْتُوبٍ عَلَى مِثَالِ مَكْتُوبٍ قَبْلَهُ كَإِزَالَةٍ لِلْمَكْتُوبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْوِيضِ عَنِ الْمَكْتُوبِ الْأَوَّلِ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَوْ لِخَشْيَةِ ضَيَاعِ الْأَصْلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ عَرَبًا وَهَلْ يَكُونُ النَّسْخُ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى كِتَابَةٍ أُنُفٍ لَيْسَتْ عَلَى مِثَالِ كِتَابَةٍ أُخْرَى سَبَقَتْهَا فَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ مَعَانِي النَّسْخِ حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، فَيَكُونُ لَفْظُ النَّسْخِ مُشْتَرِكًا فِي الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَعْنَى

[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 إلى 32]

مُطْلَقِ الْكِتَابَةِ هُوَ الْأَصْلُ وَكَانَتْ تَسْمِيَةُ كِتَابَةٍ عَلَى مِثْلِ كِتَابَةٍ سَابِقَةٍ نَسْخًا لِأَنَّ ذَلِكَ كِتَابَةُ وَكَلَامُ صَاحِبِ «اللِّسَانِ» وَصَاحِبِ «الْقَامُوسِ» أَنَّ نَقْلَ الْكِتَابَةِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى مِثَالِ كِتَابَةٍ سَابِقَةٍ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ مُعْضِلٌ، وَالْأَظْهَرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السِّينُ وَالتَّاءُ فِي نَسْتَنْسِخُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ وَالتَّكْلِيفِ، أَيْ نُكَلِّفُ الْمَلَائِكَةَ نَسْخَ أَعْمَالِكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ حَمَلَ الْمُفَسِّرُونَ السِّينَ وَالتَّاءَ هُنَا أَيْ لِلطَّلَبِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ عَلَى مَعْنَى نَقْلِ كِتَابَةٍ عَنْ كِتَابَةٍ سَابِقَةٍ وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَائِكَةً يَنْسَخُونَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي رَمَضَانَ كُلَّ مَا سَيَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِمَعْنَى كِتَابَةِ مَا تَعَلَّمَهُ النَّاسُ دُونَ نَقْلٍ عَنْ أَصْلٍ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا كُنَّا نَكْتُبُ أَعْمَالَكُمْ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْزِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ يَكْتُبُونَ فِيهِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَمِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ. وَالنَّسْخُ هُنَا: الْكِتَابَةُ، وَإسْنَاد فعل الاستنتاج إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ عَلَى هَذَا إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَة الْأَعْمَال. [30- 32] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 30 إِلَى 32] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) الْفَاءُ لِعَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: 28] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.

فَالْكَلَامُ هُنَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ. وَابْتُدِئَ فِي التَّفْصِيلِ بِوَصْفِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ لِلْحَدِيثِ عَنِ الْمُبْطِلِينَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية: 27] تَنْوِيهًا بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَعْجِيلًا لِمَسَرَّتِهِمْ وَتَعْجِيلًا لِمَسَاءَةِ الْمُبْطِلِينَ لِأَنَّ وَصْفَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْذِنُ بِمُخَالَفَةِ حَالِ الْآخَرِينَ لِحَالِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ بِ (يُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) شَامِلٌ لِمَا تَتَصَوَّرُهُ النَّفْسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ إِذْ جُعِلَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَكَانِ يَدْخُلُونَهُ. وَافْتَتَحَ بَيَانَ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا يُقَالُ لَهُمْ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ صَادِرٌ مِنْ مُتَكَلِّمٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقَدَّرُ فَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ [الجاثية: 34] . وَالْفَاءُ جَوَابُ أَمَّا، أَوْ فَيُقَال لَهُم أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَلَمَّا حُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ قُدِّمَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فَاءِ الْجَوَابِ اعْتِدَادًا بِاسْتِحْقَاقِهِ التَّصْدِيرَ كَمَا يُقَدَّمُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ. وَلَمْ يُتَعَدَّ بِالْمَحْذُوفِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ لِدَفْعِ الْكَرَاهَةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنْ تَأَخُّرِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحَرْفِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ حَذْفِ مَا حُذِفَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيرٌ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنُ، أَيْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا وَلَمْ تَقْتَصِرُوا عَلَى الِاسْتِكْبَارِ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ، أَيْ لَمْ تُفِدْكُمْ مَوَاعِظُ الْقُرْآن صلاحا لأَنْفُسِهِمْ بِمَا سَمِعْتُمْ مِنْهُ. وَإِقْحَامُ قَوْماً دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى: وَكُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْرَامَ صَارَ خُلُقًا لَهُمْ وَخَالَطَ نُفُوسَهُمْ حَتَّى صَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَجُمْلَةُ وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ إِلَخْ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَكْبَرْتُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِذَا قِيلَ لَكُمْ إِنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا. وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِهِ وَبِمَعْنَاهُ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّاعَةُ لِلْعَهْدِ وَهِيَ سَاعَةُ الْبَعْثِ، أَيْ زَمَانُ الْبَعْثِ كَمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْيَوْمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها بِرَفْعِ السَّاعَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِنَصْبِ وَالسَّاعَةُ عَطْفًا عَلَى إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ. وَمَعْنَى مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ مَا نَعْلَمُ حَقِيقَةَ السَّاعَةِ وَنَفْيُ الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهَا كِنَايَةٌ عَنْ جَحْدِ وُقُوعِ السَّاعَةِ، أَيْ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَا وُقُوعَ لَهَا، اسْتِنَادًا لِلتَّخَيُّلَاتِ الَّتِي ظَنُّوهَا أَدِلَّةً كَقَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الْإِسْرَاء: 49] . وَقَوله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، وَمُبَيَّنٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَمَوْقِعُهُ وَمَعْنَاهُ مُشْكِلٌ، وَفِي نَظْمِهِ إِشْكَالٌ أَيْضًا. فَأَمَّا الْإِشْكَالُ مِنْ جِهَةِ مَوْقِعِهِ وَمَعْنَاهُ فَلِأَنَّ الْقَائِلِينَ مُوقِنُونَ بِانْتِفَاءِ وُقُوعِ السَّاعَةِ لِمَا حُكِيَ عَنْهُمْ آنِفًا من قَوْلهم: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الجاثية: 24] إِلَخْ فَلَا يَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ وُقُوعَ السَّاعَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَلَوِ احْتِمَالًا. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُطْلَقَ الظَّنُّ هُنَا عَلَى الْإِيقَانِ بِعَدَمِ حُصُولِهِ فَيُعْضَلُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، فَتَأَوَّلَهُ الْفَخْرُ فَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا فَرِيقٌ كَانُوا قَاطِعِينَ بِنَفْيِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الجاثية: 24] . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَاكًّا مُتَحَيِّرًا فِيهِ وَهُمُ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَة اه. وَأَقُولُ: هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ أَنْ فَرِيقًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِ السَّاعَةِ وَلَا يَجْزِمُونَ بِانْتِفَائِهِ فَإِنَّ جَمْهَرَةَ الْمُشْرِكِينَ نَافُونَ لِوُقُوعِهَا فَلَا يُنَاسِبُ مَقَامَ التَّوْبِيخِ تَخْصِيصُهُ بِالَّذِينِ كَانُوا مُتَرَدِّدِينَ فِي ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِهِ: إِمَّا يَكُونُ هَذَا حِكَايَةً لِاسْتِهْزَائِهِمْ بِخَبَرِ الْبَعْثِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمُ: السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قَالُوا استهزاء إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الجاثية: 33] .

[سورة الجاثية (45) : آية 33]

وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ نَظُنُّ بَعْدَ قَبُولِ خَبَرِكُمْ إِلَّا ظَنًّا وَلَيْسَ يُعْطِينَا يَقِينًا اه، أَيْ فَهُوَ إِبْطَالُهُمْ لِخُصُوصِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا. وَأَمَّا إِشْكَالُهُ مِنْ جِهَةِ النَّظْمِ فَمَرْجِعُ الْإِشْكَالِ إِلَى اسْتِثْنَاءِ الظَّنِّ مِنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا لِلْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ التَّفْرِيعِ. وَالْخَلَاصُ مِنْ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ مُصَحِّحَ الِاسْتِثْنَاءِ الظَّنُّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الظَّنُّ الْمَوْصُوفُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُهُ مِنَ التَّحْقِيرِ الْمُشْعِرِ بِهِ التَّنْوِينُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْأَعْشَى: أَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ ... وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إِلَّا اغْتِرَارَا (¬1) أَيْ، إِلَّا ظَنًّا ضَعِيفًا. وَمَفْعُولَا نَظُنُّ مَحْذُوفَانِ لِدَلِيلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ نَظُنُّ السَّاعَةَ وَاقِعَةً. وَقَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ قَوْلِهِمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَعَطْفُهُ عَطْفُ مُرَادِفٍ، أَيْ لِلتَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ. وَالسِّينُ وَالتَّاء فِي بِمُسْتَيْقِنِينَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُول الْفِعْل. [33] [سُورَة الجاثية (45) : آيَة 33] وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ [الجاثية: 31] بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ: فَيُقَالُ لَهُمْ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا، أَيْ جُمِعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّوْبِيخِ وَالْإِزْعَاجِ فَوُبِّخُوا بِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَأُزْعِجُوا بِظُهُورِ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ ظُهُورِ جَزَاءِ سَيِّئَاتِهِمْ حِينَ رَأَوْا دَارَ الْعَذَابِ وَآلَاتِهِ رُؤْيَةَ مَنْ يُوقِنُ بِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهُ وَذَلِكَ بِعِلْمٍ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَهْوَالِ. ¬

(¬1) رُوِيَ بِالْعينِ الْمُهْملَة فِي اللَّفْظَيْنِ وبالغين الْمُعْجَمَة وَهُوَ أظهر ...

[سورة الجاثية (45) : الآيات 34 إلى 35]

وَعَبَّرَ بِالسَّيِّئَاتِ عَنْ جَزَائِهَا إِشَارَةً إِلَى تَمَامِ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَجَزَائِهِ حَتَّى جُعِلَ الْجَزَاءُ نَفْسَ الْعَمَلِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التَّوْبَة: 35] . وَمَعْنَى حاقَ أَحَاطَ. وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَعُمُّ كُلَّ مَا كَانَ طَرِيقَ اسْتِهْزَاءٍ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الصَّادِرَةِ عَنِ اسْتِهْزَاءٍ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَقَول العَاصِي بْنِ وَائِلٍ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا فِي الْآخِرَةِ فَأَقْضِي مِنْهُ دَيْنَكَ. وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلُوهَا هُزُؤًا مِثْلَ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَشَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَهُوَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ آنِفًا بِ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ تَغْلِيطًا لَهُمْ وَتَنْدِيمًا عَلَى مَا فَرَّطُوا مِنْ أَخْذِ الْعُدَّةِ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ عَبدة بن الطّيب: إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَدْ أُودِعُوا جَهَنَّمَ فَأَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا. وَالْبَاءُ فِي بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى السَّبَبِيَّةِ وَعَلَى تَعديَة فعل يَسْتَهْزِؤُنَ إِلَى مَا لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ أَي الْعَذَاب. [34، 35] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 34 إِلَى 35] وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) لَمَّا أُودِعُوا جَهَنَّمَ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ نُودُوا الْيَوْمَ نَنْساكُمْ إِلَى آخِرِهِ تَأْيِيسًا لَهُمْ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُمْ. وَبُنِيَ فِعْلُ قِيلَ لِلنَّائِبِ حَطًّا لَهُمْ عَنْ رُتْبَةِ أَنْ يُصَرَّحَ بِاسْمِ اللَّهِ فِي حِكَايَةِ الْكَلَامِ الَّذِي وَاجَهَهُمْ بِهِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الجاثية: 32]

بِنَاءً عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ نَنْساكُمْ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ بِبِنَاءِ فِعْلِ وَقِيلَ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ. وَأُطْلِقَ النِّسْيَانُ عَلَى التَّرْكِ الْمُؤَبَّدِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ فِي مَحَلِّهِ أَوْ تَرْكَهُ عَلَى حَالَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ مُسْتَعَارًا لِلْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، أَيْ فَلَا تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ وَعَلَى هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يُفَسَّرُ مَعْنَى النِّسْيَانِ الثَّانِي. وَالْكَافُ فِي كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] ، أَيْ جَزَاءَ نِسْيَانِكُمْ هَذَا الْيَوْمَ، أَيْ إِعْرَاضِكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَاللِّقَاءُ: وِجْدَانُ شَيْءٍ شَيْئًا فِي مَكَانٍ، وَهُوَ الْمُصَادَفَةُ يُقَالُ: لَقِيَ زَيْدُ عَمْرًا، وَلَقِيَ الْعُصْفُورُ حَبَّةً. وَلِقَاءُ الْيَوْمِ، أُطْلِقَ الْيَوْمُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ أَوْجَزُ مِنْ تَعْدَادِ الْأَهْوَالِ الْحَاصِلَةِ مُنْذُ الْبَعْثِ إِلَى قَضَاءِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَإِضَافَةُ يَوْمِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي يَوْمِكُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ ظَرْفٌ لِأَحْوَالٍ تَتَعَلَّقُ بِهِمْ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 103] . وَوَصْفُ الْيَوْمِ باسم الْإِشَارَة تَمْيِيزه أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ تَكْمِيلًا لِتَعْرِيفِهِ بِالْإِضَافَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمْ بِيَوْمٍ آخَرَ. وَعُطِفَ وَمَأْواكُمُ النَّارُ عَلَى الْيَوْمَ نَنْساكُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ تَرْكَهُمْ فِي النَّارِ تَرْكٌ مُؤَبَّدٌ فَإِنَّ الْمَأْوَى هُوَ مَسْكَنُ الشَّخْصِ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ بَعْدَ أَعْمَالِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ قَدْ أَوَيْتُمْ إِلَى النَّارِ فَأَنْتُمْ بَاقُونَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ قَرِيبًا، وَالْمَقْصُودُ تَخْطِئَةُ زَعْمِهِمُ السَّابِقِ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَنْفَعُهُمْ فِي الشَّدَائِدِ. وذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَأْواكُمُ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ ذَلِكُمُ الْمَأْوَى بِسَبَبِ

اتِّخَاذِكُمْ آيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ هُزُؤًا، أَيْ مستهزأ بهَا، هُزُواً مَصْدَرٌ مُرَادٌ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِثْلُ خُلُقٍ. وَتَغْرِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِيَّاهُمْ سَبَبٌ أَيْضًا لِجَعْلِ النَّارِ مَأْوَاهُمْ. وَالتَّغْرِيرُ: الْإِطْمَاعُ الْبَاطِلُ. وَمَعْنَى تَغْرِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِيَّاهُمْ: أَنَّهُمْ قَاسُوا أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى وَتَطَرَّقُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي الدُّنْيَا وَغَرَّهُمْ أَيْضًا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ فَخَالُوهُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فَلَمْ يُصِيخُوا إِلَى دَاعِي الرُّشْدِ وَعِظَةِ النُّصْحِ وَأَعْرَضُوا عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْقُرْآنِ الْمُرْشِدِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْبَلُوا عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا دَعَوْا إِلَيْهِ فَاهْتَدَوْا فَسَلِمُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْكُفْرِ وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْمُغَرِّرَاتِ حَاصِلَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَسْنَدَ التَّغْرِيرَ إِلَى الْحَيَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ لِأَسْبَابِ الْغُرُورِ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها بِالْفَاءِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ لِأَنَّ وُقُوعَ كَلِمَةِ (الْيَوْمِ) فِي أَثْنَائِهِ يُعَيِّنُ أَنَّهُ مِنَ الْقِيلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ لَا يُخْرَجُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: لَا تَخْرُجُونَ، بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ مِثْلَ سَابِقِهِ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِفَاتِ. وَيُحَسِّنُهُ هُنَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بَعْدَ تَوْبِيخِهِمْ وَتَأْيِيسِهِمْ وَصَرْفِ بَقِيَّةِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إِلَى مُخَاطَبٍ آخَرَ يُنَبَّأُ بِبَقِيَّةِ أَمْرِهِمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرَجُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ مَنْ يُخْرِجُهُمْ فَلَا يُخْرِجُهُمْ أَحَدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: 107] وَقَوْلِهِ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: 11] . وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُخْرَجُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الْخُرُوجِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الْحَج: 22] . وَالِاسْتِعْتَابُ بِمَعْنَى: الْإِعْتَابِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ. وَمَعْنَى الْإِعْتَابِ: إِعْطَاءُ الْعُتْبَى وَهِيَ الرِّضَا. وَهُوَ هُنَا مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ. أَيْ لَا يَسْتَعْتِبُهُمْ أَحَدٌ، أَيْ وَلَا يَرْضَوْنَ بِمَا يُسْأَلُونَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فِي سُورَةِ الرُّومِ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 إلى 37]

وَتَقْدِيمُ هُمْ عَلَى يُسْتَعْتَبُونَ وَهُوَ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ هُنَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُعْتِبُ غَيْرَهُمْ، أَيْ يُرْضِي الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يغْفر لَهُم. [36، 37] [سُورَة الجاثية (45) : الْآيَات 36 إِلَى 37] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَفْرِيعًا عَلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ فِيمَا خَلَقَ وَأَرْشَدَ وَسَخَّرَ وَأَقَامَ مِنْ نُظُمِ الْعَدَالَةِ، وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ وَعِيدٍ لِلْمُعْرِضِينَ وَاحْتِجَاجٍ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ كَانَ دَالًّا عَلَى اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ وَعَلَى إِفْضَالِهِ عَلَى النَّاسِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ كَانَ حَقِيقًا بِإِنْشَاءِ قَصْرِ الْحَمْدِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُرَادًا مِنْهُ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ وَهُوَ أَمْرُ النَّاسِ بِأَنْ يَقْصِرُوا الْحَمْدَ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءَ حَمَدٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ. وَكُلُّ مَا سَبَقَهُ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [45] . وَتَقْدِيمُ (لِلَّهِ) لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ الْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي الْحَمْدُ الْحَقُّ الْكَامِلُ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَإِجْرَاءُ وَصْفِ رَبِّ السَّماواتِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ قَصْرِ الْحَمْدِ عَلَى اللَّهِ إِخْبَارًا وَإِنْشَاءً تَأْكِيدًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَعُطِفَ وَرَبِّ الْأَرْضِ بِتَكْرِيرِ لَفْظِ رَبِّ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَحِقُّ حَمْدُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ فَقَدْ حَمِدُوهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] . وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَمَنْ حَمِدَهُ مِنْهُمْ فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الرُّبُوبِيَّةِ وَمَنْ حَمِدَ غَيْرَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَدْ سَجَّلَ عَلَى نَفْسِهِ سِمَةَ الْإِبَاقِ، وَكَانَ بِمَأْوَى النَّارِ مَحَلَّ اسْتِحْقَاقٍ.

ثُمَّ أُتْبِعَ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَأْكِيدًا لِكَوْنِهِمْ مَحْقُوقِينَ بِأَنْ يَحْمَدُوهُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ الَّتِي هم منتفون بِهَا وَخَالِقُ ذَوَاتِهِمْ فِيهَا كَذَلِكَ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اسْتِدْعَاءَهُ خَلْقَهُ لِحَمْدِهِ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْعِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 56، 57] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَلَهُ الْكِبْرِياءُ مِثْلُهُ فِي فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَالْكِبْرِيَاءُ: الْكِبْرُ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الصِّفَاتِ وَكَمَالُ الْوُجُودِ. ثُمَّ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لِأَنَّ الْعِزَّةَ تَشْمَلُ مَعَانِيَ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْحِكْمَةُ تَجْمَعُ مَعَانِيَ تَمَامِ الْعِلْمِ وَعُمُومِهِ. وَبِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ آذَنَ الْكَلَامُ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ خَوَاتِمِ السُّوَرِ.

46- سورة الأحقاف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 46- سُورَةُ الْأَحْقَافِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ الْأَحْقَافِ» فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ، وَوَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِهَذَا الِاسْمِ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ سُورَةً مِنْ آل حم وَهِيَ الْأَحْقَافُ» ، وَكَانَتِ السُّورَةُ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً سُمِّيَتْ ثَلَاثِينَ. وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ الْأَحْقَافِ» الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تُسَمَّى ثَلَاثِينَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «الْأَحْقَافَ» وُرُودُ لِفْظِ (الْأَحْقَافِ) فِيهَا وَلَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاتِّفَاقِ جَمِيعِهِمْ، وَفِي إِطْلَاقِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نَسَبُوا اسْتِثْنَاءَ آيَاتٍ مِنْهَا إِلَى بَعْضِ الْقَائِلِينَ، فَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءَ آيَتَيْنِ هُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ إِلَى الظَّالِمِينَ [الْأَحْقَاف: 10] فَإِنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَوْلُهُ: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 35] . وَفِي «الْإِتْقَانِ» ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ بِاسْتِثْنَاءِ آيَاتٍ ثَلَاث مِنْهَا الثنتان اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَالثَّالِثَةُ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِلَى قَوْله: خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: 15- 18] . وَسَيَأْتِي مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مُضِيِّ عَامَيْنِ

أغراضها

مِنَ الْبَعْثَةِ وَأَسَانِيدُ جَمِيعِهَا مُتَفَاوِتَةٌ. وَأَقْوَاهَا مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَعْدُودَةٌ الْخَامِسَةَ وَالسِتِّينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ الْجَاثِيَةِ وَقَبْلَ الذَّارِيَاتِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ وَالِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حم تُعْتَبَرُ آيَةً مُسْتَقِلَّةً أَوْ لَا. أَغْرَاضُهَا وَمن الْأَغْرَاضِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا أَنَّهَا افْتُتِحَتْ مِثْلَ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ بِمَا يُشِيرُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِإِتْقَانِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى وُقُوعِ الْجَزَاءِ بَعْدَ الْبَعْثِ وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ صَائِرٌ إِلَى فَنَاءٍ. وَإِبْطَالُ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالتَّدْلِيلُ عَلَى خُلُّوِهِمْ عَنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ صُنْعِ غَيْرِ اللَّهِ. وَإِثْبَاتُ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِشْهَادُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ وَاسْتِشْهَادُ شَاهِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَذِكْرُ بَعْضَ خِصَالِهِمُ الْحَمِيدَةِ وَمَا يُضَادُّهَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَحَسَدِهِمُ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ. وَذَكَرَتْ مُعْجِزَةَ إِيمَانِ الْجِنِّ بِالْقُرْآنِ. وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بتثبيت الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُقْحِمَ فِي ذَلِكَ مُعَامَلَةُ الْوَالِدَيْنِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّا هُوَ مِنْ خُلُقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا هُوَ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 1]

وَالْعِبْرَةُ بِضَلَالِهِمْ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَأَهْلَكَ أُمَمًا أُخْرَى فَجَعَلَهُمْ عِظَةً لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَرْبَابُهُمُ الْمَكْذُوبَةُ. وَقَدْ أَشْبَهَتْ كَثِيرًا مِنْ أَغْرَاضِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ مَعَ تفنّن. [1] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ غَافِرٍ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِثْلُ نَظَائِرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ مِنْ سور الْقُرْآن. [2] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أول الجاثية. [3] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 3] مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) لَمَّا كَانَ مِنْ أَهَمِّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِتَوَقُّفِ حُصُولِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا، جُعِلَ قَوْلُهُ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الْأَحْقَاف: 2] تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَجُعِلَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ، وَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إِلَّا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، وَتَقْتَضِي مُلَابَسَتُهُ لِلْحَقِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلْقًا عَبَثًا بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَعْقُبُهُ جَزَاءٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمَخْلُوقُونَ. وَاسْتِثْنَاءُ بِالْحَقِّ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، أَي مَا خلقنَا هما إِلَّا فِي حَالَةِ الْمُصَاحَبَةِ لِلْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُقَدَّرِ فِي مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِ

التَّعْجِيبُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَطْفًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْإِعْرَاضِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا خَلْقًا كَائِنًا بِمُلَابَسَةِ الْحَقِّ فِي حَالِ إِعْرَاضِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَلْقُ بِالْحَقِّ. وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَالْمعْنَى: مَا خلقنَا هما إِلَّا فِي حَالَةِ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لَهُمَا وَتَعْيِينِ أَجْلٍ لَهُمَا. وَإِعْرَاضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ. وَعَطْفُ وَأَجَلٍ مُسَمًّى عَلَى بِالْحَقِّ، عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَعَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [98] لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحُدُوثِ عَلَى قَبُولِ الْفَنَاءِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَهِيَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَأَنَّ تَعَرُّضَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلْفَنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ لِأَنَّ انْعِدَامَ هَذَا الْعَالَمِ يَقْتَضِي بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ يَخْلُفَهُ عَالَمٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ، عَلَى سُنَّةِ تُدَرُّجِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْكَمَالِ، وَقَدْ كَانَ ظَنُّ الدَّهْرِيِّينَ قِدَمَ هَذَا الْعَالَمِ وَبَقَاءَهُ أَكْبَرَ شُبْهَةٍ لَهُمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] . فَالدَّهْرُ عِنْدَهُمْ مُتَصَرِّفٌ وَهُوَ بَاقٍ غَيْرُ فَانٍ، فَلَوْ جَوَّزُوا فَنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ لَأَمْكَنَ نُزُولُهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي حَيَاةً ثَانِيَةً. فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ مُرْتَبِطَةٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ هُمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ وَعِيدِ يَوْمِ الْبَعْثِ. وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ بِ أُنْذِرُوا. وَالتَّقْدِيرُ: عَمَّا أُنْذِرُوهُ مُعْرِضُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فَلَا يُقَدَّرُ بَعْدَهَا ضَمِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ عَنْ إِنْذَارِهِمْ مُعْرِضُونَ فَشَمِلَ كُلَّ إِنْذَارٍ أُنْذِرُوهُ. وَتَقْدِيمُ عَمَّا أُنْذِرُوا عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ مُعْرِضُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا أُنْذِرُوا وَيَتْبَعُ ذَلِكَ رِعَايَة الفاصلة.

[سورة الأحقاف (46) : آية 4]

[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 4] قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ على بطلَان نفي صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ. فَجُمْلَةُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ أَمْرٌ بِإِلْقَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ أَصْلُ ضَلَالِهِمْ. وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ المناظرة فَجعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاجِهًا لَهُمْ بِالِاحْتِجَاجِ لِيَكُونَ إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَةِ حُجَّتِهِ، وَكَذَلِكَ جَرَى الِاحْتِجَاجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِطَرِيقَةِ أَمْرِ التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ الْآيَة. وأَ رَأَيْتُمْ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى: أَخْبِرُونِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [40] قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ. وَقَوْلُهُ: أَرُونِي تَصْرِيحٌ بِمَا كَنَّى عَنْهُ طَرِيقُ التَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ وَمُوقِعُ جُمْلَةِ أَرُونِي فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ. وَالْأَمْرُ فِي أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ وَالتَّعْجِيزِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّفْيِ إِنْ لَمْ يَخْلُقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا فَلَا تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُرُونِي شَيْئًا خَلَقُوهُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا من رُؤُوس مَسَائِلِ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْمُدَّعِي بِالدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ. وماذا بِمَعْنَى مَا الَّذِي خَلَقُوهُ، فَ (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي. وَأَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ نَابَ عَنِ الْمَوْصُولِ. وأصل التَّرْكِيب: مَاذَا الَّذِي خَلَقُوا، فَاقْتَصَرَ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَحَذْفُ اسْم الْمَوْصُول غَالِبا فِي الْكَلَامِ وَقَدْ يَظْهَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: 255] . وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) أَوَ (مَنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَاذَا خَلَقُوا إِنْكَارِيٌّ. وَجُمْلَةُ مَاذَا خَلَقُوا بَدَلٌ مِنْ

جُمْلَةِ أَرُونِي وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بَعْدَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لَهُمْ بَطَلَ أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً لِخُرُوجِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ خَلْقِهِمْ، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَلْقٌ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [191، 192] . وأَمْ حَرْفُ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ انْتِفَاءُ الشَّرِكَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِكَةِ فِي السَّمَاوَاتِ دُونَ انْتِفَاءِ الْخَلْقِ كَمَا أُوثِرَ انْتِفَاءُ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ مُشَاهَدَةٌ لِلنَّاسِ ظَاهِرٌ تَطَوُّرُهَا وَحُدُوثُهَا وَأَنْ لَيْسَ لِمَا يَدْعُونَهُمْ دُونَ اللَّهِ أَدْنَى عَمَلٍ فِي إِيجَادِهَا، وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ السَّمَاوِيَّةُ فَهِيَ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الْعُيُونِ لَا عَهْدَ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ وَجُودِهَا وَلَا تَطَوُّرِهَا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْأَصْنَامِ فِي إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَدَعِ الْمُشْرِكُونَ تَصَرُّفًا لِلْأَصْنَامِ إِلَّا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ مِنْ جَلْبِ نَفَّعٍ أَوْ دَفَعِ ضُرٍّ اقْتَصَرَ فِي نَفْيِ تَصَرُّفِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ شَرِكَةٌ فِي أُمُورِ السَّمَاوَاتِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ ذَلِكَ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [40] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ فَانْظُرْ ذَلِكَ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَبِالْإِقْرَارِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ بِقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَجُمْلَةُ ائْتُونِي بِكِتابٍ فِي مَوْقِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ، كُرِّرَ كَمَا يَتَعَدَّدُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِانْعِدَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَيُسَمَّى الْإِفْحَامَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ لَا بِتَأْثِيرِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا بِأَقْوَالِ الْكُتُبِ، فَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [40] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِ (كِتَابٍ) أَيْ كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمَقْرُوءَةِ. وَهَذَا قَاطِعٌ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ادِّعَاءَ أَنَّ لِأَصْنَامِهِمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ ذِكْرًا غَيْرَ الْإِبْطَالِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَتِهَا، فَلَا يُوجَدُ فِي الْكُتُبِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا فِي

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 إلى 6]

الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِمَّا عَدَمُ ذِكْرِهَا الْبَتَّةَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ. وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْضَارِ وَلَوْ كَانَ فِي مَجْلِسِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [23] . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي أَذْهَانِ أَصْحَابِ الْمُحَاجَّةِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ مُعَاوَدَةً. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِوَصْفِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ لِيَسُدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمُعَارَضَةِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ يُصْنَعُ لَهُمْ، كَمَا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: 31] . وأَثارَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَوْ بَقِيَّةٌ بَقِيَتْ عِنْدَكُمْ تَرْوُونَهَا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ السَّابِقِينَ غَيْرُ مَسْطُورَةٍ فِي الْكُتُبِ. وَهَذَا تَوْسِيعٌ عَلَيْهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْحُجَّةِ لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِدَعْوَاهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلْهَابٌ وَإِفْحَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ آتِينَ بِحُجَّةٍ لَا مِنْ جَانِبِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ النَّقْلِ الْمَسْطُورِ أَوِ الْمَأْثُورِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [50] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. [5، 6] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : الْآيَات 5 إِلَى 6] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ تَلْقِينِ الِاحْتِجَاجِ، فَلَمَّا أَمَرِ اللَّهُ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُحَاجَّهُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ وَضَلَالِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً إِلَخْ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ. ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ. وَالْمعْنَى: لَا أحد أَشَدُّ ضَلَالًا وَأَعْجَبُ حَالًا مِمَّنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ دُعَاءَهُ فَهُوَ أَقْصَى حَدٍّ مِنَ الضَّلَالَةِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَادَّعُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ بِلَا دَلِيلٍ وَاخْتَارُوا الشُّرَكَاءَ مِنْ حِجَارَةٍ وَهِيَ أَبْعَدُ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ قَبُولِ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَالتَّصَرُّفِ ثُمَّ يَدْعُونَهَا فِي نَوَائِبِهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تُجِيبُ ثُمَّ سَمِعُوا آيَاتِ الْقُرْآنِ تُوَضِّحُ لَهُمُ الذِّكْرَى بِنَقَائِصِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَا وَزَعَمُوا أَنَّهَا سِحْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَقْصَى حَدٍّ فِي الضَّلَالِ. ومَنْ لَا يَسْتَجِيبُ الْأَصْنَامُ عُبِّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ مُعَامَلَةً لِلْجَمَادِ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ إِذْ أُسْنِدَ إِلَيْهَا مَا يُسْنَدُ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَلِأَنَّهُ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِجْرَاؤُهَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ فَكَثُرَتْ فِي الْقُرْآنِ مُجَارَاةُ اسْتِعْمَالِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا جَعْلُ ضَمَائِرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ وَقَوْلِهِ: غافِلُونَ وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ. وَجَعْلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ غَايَةً لِانْتِفَاءِ الِاسْتِجَابَةِ. كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَعُبِّرَ عَنْ نِهَايَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِ يَوْمِ الْقِيامَةِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْخَبَرِ هُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ كَمَا عَلِمَتْ وَهُمْ يَثْبُتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة. وضميرا كانُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يعودا إِلَى مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُعَادُونَ أَصْنَامَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَجِدُونَهَا مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَا إِلَى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى حَيَاةً يَوْمَئِذٍ فَتَنْطِق بالتبرّي عَن عُبَّادِهَا وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 14] وَقَالَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الْفرْقَان: 17- 19] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ جَارِيًا عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِمُشَابَهَتِهَا لِلْأَعْدَاءِ وَالْمُنْكِرِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى شَقَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] . وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ إِلَخْ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 7]

وَمِنْ بَدِيعِ تَفَنُّنِ الْقُرْآنِ تَوْزِيعُ مُعَادِ الضَّمَائِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ تَمَاثُلِهَا فِي اللَّفْظِ وَهَذَا يَتَدَرَّجُ فِي مُحَسِّنِ الْجَمْعِ مَعَ التَّفْرِيق وأدق. [7] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 7] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الْأَحْقَاف: 5] ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْعَدِّ لِوُجُوهِ فَرْطِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ تُتْلَى عَلَيْهِمْ صَبَاحَ مَسَاءَ تُبَيِّنُ لَهُمْ دَلَائِلَ خُلُوِّ الْأَصْنَامِ عَنْ مُقَوِّمَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهَا وَتَحْدُو بِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فَيُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ مَا فَهِمُوهُ مِنْهَا تَأَثُّرٌ سِحْرِيٌّ، وَأَنَّهَا سِحْرٌ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ بَلْ زَادُوا بُهْتَانًا فَزَعَمُوا أَنَّهُ مُبِينٌ، أَيْ وَاضِحٌ كَوْنُهُ سِحْرَاً. وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ ضَلَالُ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 1، 2] إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَبِأَنَّهُ سَبَبُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْحَقِّ لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمَقُولِ لَهُ أَيْ قَالَ بَعْضُ الْكَافِرِينَ لِبَعْضٍ فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَنْ أُجِّلَ إِيمَانُهُمْ. وَالْحَقُّ: هُوَ الْآيَاتُ، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْآيَاتِ إِلَى إِظْهَارِ لَفْظِ الْحَقِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ رَمْيَهَا بِالسِّحْرِ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. ولَمَّا جاءَهُمْ تَوْقِيتٌ لِمَقَالَتِهِمْ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِفَوْرِ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَكُلَّمَا جَاءَتْهُمْ، أَيْ دُونَ تَدَبُّرٍ وَلَا إجالة فكر. [8] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 8] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) إِضْرَابُ انْتِقَالٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِ أَقْوَالِهِمْ.

وَسَلَكَ فِي الِانْتِقَالِ مَسْلَكَ الْإِضْرَابِ دُونَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْإِضْرَابَ يُفِيدُ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: دَعْ قَوْلَهُمْ: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: 7] ، وَاسْتَمِعْ لِمَا هُوَ أَعْجَبُ وَهُوَ قَوْلُهُمُ: افْتَراهُ، أَيِ افْتَرَى نِسْبَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ السِّحْرَ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَقَالَتِهِمْ. وَالنَّفْيُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ يَتَسَلَّطُ عَلَى سَبَبِ الْإِنْكَارِ، أَيْ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُفْتَرًى وَلَيْسَ مُتَسَلِّطًا عَلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ الِافْتِرَاءُ الْمَزْعُومُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [الْأَحْقَاف: 7] ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَزَعَمَ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابِ مَقَالَتِهِمْ بِمَا يَقْلَعُهَا مِنْ جَذْرِهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ جُمْلَةً جَارِيَةً مَجْرَى جَوَابِ الْمُقَاوَلَةِ لِوُقُوعِهَا فِي مُقَابَلَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَجُعِلَ الِافْتِرَاءُ مَفْرُوضًا بِحَرْفِ إِنِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ نَادِرَ الْوُقُوعِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي مَقَامٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى دَلَائِلَ تَقْلَعُ الشَّرْطَ مِنْ أَصْلِهِ. وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ تَمْلِكُونَ، أَيْ شَيْئًا يُمْلَكُ، أَيْ يُسْتَطَاعُ، وَالْمُرَادُ: شَيْءٌ مِنَ الدَّفْعِ فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَرُدُّوا عَنِّي شَيْئًا يَرِدُ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى (لَا أَمْلِكُ شَيْئًا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] . وَالتَّقْدِيرُ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَاقَبَنِي اللَّهُ مُعَاقَبَةً لَا تَمْلِكُونَ رَدَّهَا. فَقَوْلُهُ: فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، لِأَن معنى فَلا تَمْلِكُونَ لِي لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ ضُرِّ اللَّهِ عَنِّي، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمَعْنَى: إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَاقَبَنِي اللَّهُ وَلَا تَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ عِقَابِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ فِي اسْتِعْمَالِ (لَا أملك لَك شَيْئًا) وَنَحْوِهِ أَنْ يُسْنِدَ فِعْلُ

الْمِلْكِ إِلَى الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفِعْلِ الْمِلْكِ كَقَوْلِه تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: 188] وَقَوْلِهِ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4] ، أَوْ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى عَامٍّ نَحْوُ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِسْنَادُ فَعْلِ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ وَهُمْ أَعدَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسُوا بِمَظِنَّةِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَنْصِبِ الْحَكَمِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يزْعم أَن يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى أَنْ يُبَلِّغَ إِلَى النَّاسِ شَيْئًا عَنِ اللَّهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 44- 47] . وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ التَّقَوُّلَ عَلَى اللَّهِ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ يَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَاللَّهُ يَغَارُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَجْلِبُهَا الْمَظَالِمُ وَالْعَبَثُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْدَامٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَهُمْ يَدْفَعُونَهُ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَوْ حِيلَةٍ وَمُصَانَعَةٍ. وَأَمَّا التَّقَوُّلُ عَلَى اللَّهِ فَيُوقِعُ النَّاسَ فِي حَيْرَةٍ بِمَاذَا يَتَلَقَّوْنَهُ فَلِذَلِكَ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ وَيُزِيلُهُ. وَجُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً لِأَنَّ جُمْلَةَ فَلا تَمْلِكُونَ لِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ هُوَ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ وَالْوَصْفِ بِالسِّحْرِ أَوْ بِالِافْتِرَاءِ أَو بالجنون، فَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ الْقُرْآنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي افْتَراهُ أَو الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي افْتَراهُ أَوْ مَجْمُوعُ أَحْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا مُخْتَلَفُ خَوْضِهِمْ. وَمُتَعَلِّقُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وَالْإِفَاضَةُ فِي الْحَدِيثِ: الْخَوْضُ فِيهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ وَهِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ: فَاضَ الْمَاءُ إِذَا سَالَ. وَمِنْهُ حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ مُشْتَهِرٌ شَائِعٌ، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ مَا تُفِيضُونَ فِيهِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 9]

وَجُمْلَةُ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِكَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْهُمْ بِكُنْهِ مَا يُفِيضُونَ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْخَوْضِ الْبَاطِلِ وَوَعِيدٌ. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، أَيِ الْمُخْبِرُ بِالْوَاقِعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاكِمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِنَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُمَا بَلْ لِأَحَدِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] . وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَيْهِ تَعَالَى اقْتَضَاهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْض بِالْبَاطِلِ. [9] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 9] قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 4] الْآيَاتِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلهم: افْتَراهُ [الْأَحْقَاف: 8] مِنْ إِحَالَتِهِمْ صِدْقَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ إِحَالَةً دَعَتْهُمْ إِلَى نِسْبَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [الْأَحْقَاف: 8] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِارْتِقَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَدٍّ إِلَى أَقْوَى مِنْهُ فَكَانَ هَذَا كَالتَّعَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: 10] . وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [81- 84] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ إِلَى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: 86] وَقَوْلُهُ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] إِلَخْ. وَالْبِدْعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسِكُونُ الدَّالِ، مَعْنَاهُ الْبَدِيعُ مِثْلُ: الْخِفِّ يَعْنِي الْخَفِيفَ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

يَزِلُّ الْغُلَامُ الْخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ وَمِنْهُ: الْخِلُّ بِمَعْنَى الْخَلِيلِ. فَالْبِدْعُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى الْبَادِعِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْبَدِيعُ» خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعُهَا. فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ مُحْدِثًا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرُّسُلِ. ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ مَا كُنْتُ آتِيًا مِنْهُمْ بَدِيعًا غَيْرَ مُمَاثِلٍ لَهُمْ فَكَمَا سَمِعْتُمْ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ أَخْبَرُوا عَنْ رِسَالَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَكَذَلِك أَنا فَلَمَّا ذَا يَعْجَبُونَ مِنْ دَعْوَتِي. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى نَصَارَى زَمَانِنَا الَّذِينَ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِمَطَاعِنَ لَا مَنْشَأَ لَهَا إِلَّا تَضْلِيلٌ وَتَمْوِيهٌ عَلَى عَامَّتِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعِنِينَ لَيْسُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ بِالَّذِينَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ بُهْتَانُهُمْ كَقَوْلِهِمْ إِنَّهُ تَزَوَّجَ النِّسَاءَ، أَوْ أَنَّهُ قَاتَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ أَنَّهُ أَحَبَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ. وَقَوْلُهُ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يسْأَلُون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُغَيَّبَاتٍ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إِذَا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَنْ أَبِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِهِمْ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الْأَعْرَاف: 188] . وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا وَإِتْمَامًا لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ بِأَنَّ قُصَارَى مَا يَدْرِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا يُعْلِمُهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِهِ، وَمِثْلُ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ وَأَنَّ وَرَاءَ الْمَوْتِ بَعْثًا. وَمِثْلُ أَنَّهُ سَيُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَدَعْ مَا أَطَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا مِنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَمِنْ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً أَوْ مُحْكَمَةً وَمِنْ حُكْمِ نَسْخِ الْخَبَرِ. وَوَجْهُ عَطْفِ وَلا بِكُمْ عَلَى بِي بِإِقْحَامِ (لَا) النَّافِيَةِ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ صِلَةِ مَا الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ فِي الصِّلَة نفي، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُفْعَلُ بِي وَبِكُمْ

[سورة الأحقاف (46) : آية 10]

لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَصَلْتَهُ لَمَّا وَقَعَا مَفْعُولًا لِلْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي تَنَاوَلَ النَّفْيُ مَا هُوَ فِي حَيِّزِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ فَصَارَ النَّفْيُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ فَحَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى الْمَعْطُوفِ، كَمَا حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُزَادَ فَيُجَرُّ بِهَا الِاسْمُ الْمَنْفِيُّ الْمَعْطُوفُ عَلَى اسْمِ (إِنَّ) وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الْأَحْقَاف: 33] لِوُقُوعِ أَنَّ الْعَامِلَةِ فِيهِ فِي خَبَرِ النَّفْيِ وَهُوَ أَوَلَمْ يَرَوْا وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ [الْبَقَرَة: 105] فَإِنَّ خَيْرٍ وَقَعَ مَعْمُولًا لِفِعْلِ يُنَزَّلَ وَهُوَ فِعْلٌ مُثْبَتٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا انْتَفَتْ وِدَادَتُهُمُ التَّنْزِيلَ صَارَ التَّنْزِيلُ كَالْمَنْفِيِّ لَدَيْهِمْ. وَعَطْفُ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. وَالْمَعْنَى: وَمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ لَا مُفْتَرٍ، فَالْقَصْرُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِرَدِّ قَوْلهم افْتَراهُ. [10] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 10] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ حُجَّةً أُخْرَى لَعَلَّهَا تَرُدُّهُمْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 4] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْأَحْقَاف: 8] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9] الْآيَةَ. وَهَذَا اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي دَرَجَاتِ النَّظَرِ فَقَدْ بَادَأَهُمْ بِأَنَّ مَا أَحَالُوهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِمُحَالٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلَ النَّاسِ جَاءَ بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَقْحَمَ فِي هَذَا أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِوُقُوعِ الرِّسَالَاتِ وَنُزُولِ

الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ، وَآمَنَ بِرِسَالَتِي كَيْفَ يَكُونُ انْحِطَاطُكُمْ عَنْ دَرَجَتِهِ، وَقَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ فَأَعْرَضْتُمْ عَنْهُ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 157] ، وَهَذَا تَحْرِيكٌ لِلْهِمَمِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ فُصِّلَتْ [52] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سِوَى أَنَّ هَذِهِ أَقْحَمَ فِيهَا قَوْلَهُ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ لَهُمْ مُخَالَطَةٌ مَعَ بَعْضِ الْيَهُودِ فِي مَكَّةَ وَلَهُمْ صِلَةٌ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْأَلُونَ مَنْ لَقَوْهُ مِنَ الْيَهُودِ عَنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَالرُّسُلِ فَكَانَ الْيَهُودُ لَا مَحَالَةَ يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى وَكِتَابِهِ وَكَيْفَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى فِرْعَوْنَ. فَالْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا هُوَ ممائل لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ وَفِيهِ مَا يَكْفِي لِدَفْعِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرَيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَمَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ظَالِمِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي إِنْ كانَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ إِلَى مَا يُوحَى إِلَيَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَحْقَاف: 9] . وَجُمْلَةُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَرَأَيْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ لِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَاقِعٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْجَدَلِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي ضَلَالٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: أَتَظُنُّونَ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهد على حقّية ذَلِكَ تُوقِنُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِكُمْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَضَمِيرَا كانَ ومِثْلِهِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 2] وَقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الْأَحْقَاف: 4] .

وَجُمْلَةُ وَاسْتَكْبَرْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَشَهِدَ شاهِدٌ إِلَخْ وَجُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمِثْلُ: الْمُمَاثِلُ وَالْمُشَابِهُ فِي صِفَةٍ أَوْ فِعْلٍ، وَضَمِيرُ مِثْلِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَفْظُ مِثْلِهِ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِ الْوَصْفِ، أَيْ عَلَى مُمَاثِلٍ لِلْقُرْآنِ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ نَحْوِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ الْمِثْلُ هُوَ كِتَابُ التَّوْرَاةِ أَوِ الزَّبُورُ مِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْمِثْلُ عَلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ لَفَظُ (مِثْلُ) ، فَيَكُونُ لَفْظُ (مِثْلُ) بِمَنْزِلَةِ الْمُقْحَمِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ» ، وَكَمَا هُوَ أَحَدُ مَحْمَلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . فَالْمَعْنَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ فِيمَا حَوَاهُ. وَيَجُوزُ يَكُونَ ضَمِيرُ مِثْلِهِ عَائِدًا عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ. فَالْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ شَاهِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أَيْ أَيُّ شَاهِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنْبَاءٌ لَهُمْ بِمَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ بِهِ مَعَ الْيَهُودِ. وَبِهَذَا فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْآيَةَ. وَمِثْلُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي بَابِ فَضْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الْآيَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: لَا أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ: الْآيَةُ أَوْ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ مَسْرُوقٌ: لَيْسَ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ

[سورة الأحقاف (46) : آية 11]

الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقَعُ مِنْ إِيمَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادَ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي جَرَّأَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى إِنْكَارِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] حِينَ عَلِمُوا أَنْ قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ بِنُزُولِ مَا سَلَفَ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قبله مَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، أَيْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا لَا يُرْجَى لَهُ زَوَالٌ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْطِ غَيْرِ الْمَجْزُومِ بِوُقُوعِهِ مُجَارَاةً لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ جِمَاحِهِمْ لِيَنْزِلُوا لِلتَّأَمُّلِ وَالْمُحَاوَرَةِ. [11] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 11] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ. هَذَا حِكَايَةُ خَطَأٍ آخَرَ مِنْ أَخْطَاءِ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ وَهُوَ خَطَأٌ مَنْشَؤُهُ الْإِعْجَابُ بِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورُهُمْ بِدِينِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَرُوا الْأَخْذَ بِهِ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ [53] ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود 27] ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ اسْتِكْبَارِهِمْ فَنَاسَبَ قَوْله: وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: 10] . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، هُوَ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَقْدِيرُهُ: مُخَصِّصِينَ أَوْ مُرِيدِينَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: 156] ، وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ

السَّابِقَةِ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: 7] . وَلَيْسَتْ هِيَ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِالْقَوْلِ نَحْوَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الْكَهْف: 72] الْمُسَمَّاةَ لَامَ التَّبْلِيغِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى مَا عد إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 10] وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَفْهُومُ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَحْقَاف: 9] . وَالسَّبْقُ أُطْلِقَ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّلَهُ آخَرُ، شُبِّهَ بِأَسْرَعِ الْوُصُولِ بَيْنَ الْمُتَجَارِينَ، وَالْمُرَادُ: الْأَخْذُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: سَبَقُونا عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِي حَكَتْهُ الْآيَةُ أَرَادُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلَ بِلَالٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسُمَيَّةَ، وَزِنِّيرَةَ (بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ مُشَبَّعَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ) أَمَةٌ رُومِيَّةٌ كَانَتْ مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمِمَّنْ عذبهنّ الْمُشْركُونَ وَمن أَعْتَقَهُنَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زِنِّيرَةُ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي جَمَعَهَا الْقُرْآنُ فِي ضَمِيرِ سَبَقُونَا. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) . عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، أَيْ فَقَدِ اسْتَوْفَوْا بِمَزَاعِمِهِمْ وُجُوهَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالُوا: سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: 7] وَقَالُوا افْتَراهُ [الْأَحْقَاف: 8] ، وَقَالُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَبَقِيَ أَنْ يَقُولُوا هُوَ إِفْكٌ قَدِيمٌ. وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ كُلَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ كُفْرِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ بُقُولِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَوْلِهِ: وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: 10] وَقَوله: وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: 10] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ رَامِيَةً إِلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَوْزِيعُ أَسْبَابِهَا عَلَى مُخْتَلِفِ الْمَقَالَاتِ مُشْعِرًا بِأَنَّ جَمِيعَهَا أَسْبَابٌ لِجَمِيعِهَا.

وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذْ لَمْ تَحْصُلُ هِدَايَتُهُمْ بِالْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى فَسَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا هُوَ إِفْكٌ قَدِيمٌ إِذْ لَا مَطْمَعَ فِي إِقْلَاعِهِمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمَّا كَانَتْ إِذْ ظَرْفًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَأُضِيفَتْ هُنَا إِلَى جُمْلَةٍ وَاقِعَةٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي كَمَا يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ بِحَرْفِ لَمْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَصَارِيفِ أَقْوَالِهِمُ الضَّالَّةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُمْ فِي سُوَرٍ أُخْرَى نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، فَمَعْنَى فَسَيَقُولُونَ سَيَدُومُونَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَالِاسْتِقْبَالُ زَمَنٌ لِلدَّوَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَتَكْرِيرِهَا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الزخرف: 27] فَإِنَّهُ قَدْ هَدَاهُ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا أَرَادَ سَيُدِيمُ هِدَايَتَهُ إِيَّايَ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِخْبَارَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُم فَسَيَقُولُونَ هَذَا وَلَمْ يَقُولُوهُ فِي الْمَاضِي إِذْ لَيْسَ لِهَذَا الْإِخْبَارِ طَائِلٌ. وَإِذْ قَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا يُرَادِفُ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِذْ. وَحَيْثُ قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَامِلِهِ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ إِشْرَابٌ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ، وَكَثِيرٌ فِي إِذْ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذْ لِلتَّعْلِيلِ، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ بِ (يَقُولُونَ) وَلَا تَمْنَعُ الْفَاءُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَإِنَّمَا انْتَظَمَتِ الْجُمْلَةُ هَكَذَا لِإِفَادَةِ هَذِهِ الخصوصيات البلاغية، فالوا وللعطف وَالْمَعْطُوفُ فِي مَعْنَى شَرْطٍ وَالْفَاءُ لِجَوَابِ الشَّرْطِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: وَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ! وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْأَمَالِي» دُونَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، فَإِنَّهُ تَكَلَّفَ لَهُ تَكَلُّفًا غير شاف.

[سورة الأحقاف (46) : آية 12]

[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 12] وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) اتَّبَعَ إِبْطَالَ تُرَّهَاتِهِمُ الطَّاعِنَةِ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُفِيدِ زِيَادَةَ الْإِبْطَالِ لِمَزَاعِمِهِمْ بِالتَّذْكِيرِ بِنَظِيرِ الْقُرْآنِ وَمَثِيلٍ لَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ «التَّوْرَاةُ» مَعَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَزِيَّتِهِ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ إِذْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، فَعُطِفَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِارْتِبَاطِهَا بِهَا فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ وَفِي أَنَّهَا نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الْأَحْقَاف: 10] كَمَا تَقَدَّمَ. فَفِي قَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِبْطَالٌ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَحْيَ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ سَابِقَةٌ مَعْلُومَةٌ أَشْهَرُهُ «كِتَابُ مُوسَى» ، أَيِ «التَّوْرَاةُ» وَهُمْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ نُبُوءَتُهُ مِنَ الْيَهُودِ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَتَقْدِيمُ مِنْ قَبْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَحل الْقَصْد مِنَ الْجُمْلَةِ. وَعُبِّرَ عَنِ «التَّوْرَاةِ» بِ كِتابُ مُوسى بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ وَهُوَ «التَّوْرَاةُ» لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى اسْمِ مُوسَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى بَشَرٍ كَمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْمِيحًا إِلَى مَثَارِ نَتِيجَةِ قِيَاسِ الْقُرْآنِ عَلَى «كِتَابِ مُوسَى» بِالْمُشَابِهَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وإِماماً وَرَحْمَةً حَالَانِ مِنْ كِتابُ مُوسى، وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا حَالَيْنِ مِنْ مُوسى وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ. وَالْإِمَامُ: حَقِيقَتُهُ الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْعَامِلُ مِقْيَاسًا لِعَمَلِ شَيْءٍ آخَرَ وَيُطْلَقُ إِطْلَاقًا شَائِعًا عَلَى الْقُدْوَةِ قَالَ تَعَالَى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: 74] . وَأَصْلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ اسْتِعَارَةٌ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ، وَاسْتُعِيرَ الْإِمَامُ لِكِتَابِ مُوسَى لِأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى مَا يَجِبُ عَمَلُهُ فَهُوَ كَمَنْ يُرْشِدُ وَيَعِظُ، وَمُوسَى إِمَامٌ أَيْضًا بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ. وَالرَّحْمَةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ لِصِفَةِ الرَّاحِمِ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ فَهِيَ، رِقَّةٌ فِي النَّفْسِ تَبْعَثُ عَلَى سَوْقِ الْخَيْرِ لِمَنْ تَتَعَدَّى إِلَيْهِ. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِهَا اسْتِعَارَةٌ لِكَوْنِهِ

سَبَبًا فِي نَفْعِ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا تَضْمَنَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِعَارَةِ، وَمُوسَى أَيْضًا رَحْمَةٌ لِرِسَالَتِهِ كَمَا وصف مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] . وَقَوْلُهُ: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ إِلَخْ هُوَ الْمَقِيسُ عَلَى كِتابُ مُوسى. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ بِالذِّكْرِ فَهُوَ كَالْحَاضِرِ بِالذَّاتِ. وَالْمُصَدِّقُ: الْمُخْبِرُ بِصِدْقِ غَيْرِهِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْمُصَدِّقِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ مُخْبِرٌ بِأَحَقِّيَّةِ كُلِّ الْمَقَاصِدِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّالِفَةُ. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَظِيمٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ احْتَوَى عَلَى كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَجَاءَ مُغْنِيًا عَنْهَا وَمُبَيِّنًا لِمَا فِيهَا. وَالتَّصْدِيقُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَى مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْهَا. وَمَا حُرِّفَ فَهْمُهُ بِهَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] . وَزَادَهُ ثَنَاءً بِكَوْنِهِ لِساناً عَرَبِيًّا، أَيْ لُغَةً عَرَبِيَّةً فَإِنَّهَا أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَنْفَذُهَا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ وَأَحَبُّ اللُّغَاتِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهَا أَشْرَفُ وَأَبْلَغُ وَأَفْصَحُ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا كِتَابُ مُوسَى، وَمِنَ اللُّغَةِ الَّتِي تكلّم بهَا عِيسَى وَدَوَّنَهَا أَتْبَاعُهُ أَصْحَابُ الْأَنَاجِيلِ. وَأُدْمِجَ لَفْظُ لِساناً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعَرَبِيَّتِهِ عَرَبِيَّةُ أَلْفَاظِهِ لَا عَرَبِيَّةُ أَخْلَاقِهِ وَتَعَالِيمِهِ لِأَنَّ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مُخْتَلِطَةٌ من محَاسِن ومساو فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نفى عَنْهَا الْمسَاوِي، وَلِذَلِكَ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . وَغَلَبَ إِطْلَاقُ اللِّسَانِ عَلَى اللُّغَةِ لِأَنَّ أَشْرَفَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللِّسَانُ هُوَ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: 4] ، وَقَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [مَرْيَم: 97] . وَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَجُوزُ أَنْ يتَعَلَّق ب وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالْبِشَارَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا فِي كِتابُ مِنْ مَعْنَى

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 إلى 14]

الْإِرْشَادِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالْبِشَارَةِ. وَهَذَا أَحْسَنُ لِيَكُونَ لِتُنْذِرَ عِلَّةً لِلْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ وَحَالِهِ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَيَلْحَقُ بِهِمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْمُحْسِنِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَتْقِيَاءُ لِأَنَّ الْمُرَادَ ظُلْمُ النَّفْسِ وَيُقَابِلُهُ الْإِحْسَانُ. وَالنِّذَارَةُ مَرَاتِبُ وَالْبِشَارَةُ مِثْلُهَا. وبُشْرى عَطْفٌ عَلَى مُصَدِّقٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَهُوَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ، أَيِ الْكِتَابُ، وَهَذَا النَّظْمُ يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ وَالتَّتْمِيمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ لِتُنْذِرَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ خطابا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْصُلُ وصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مُنْذِرٌ وَوَصْفُ كِتَابِهِ بِأَنَّهُ بُشْرى وَفِيهِ احْتِبَاكٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْكِتَابِ فَإِسْنَادُ الْإِنْذَار إِلَى الْكتاب مجَاز عَقْلِي. [13، 14] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : الْآيَات 13 إِلَى 14] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أُوثِرَ بِصَرِيحِهِ جَانِبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا الْبُشْرَى تَطَلَّعُوا إِلَى صِفَةِ الْبُشْرَى وَتَعْيِينِ الْمُحْسِنِينَ لِيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي حَقِّ مَوَاضِعِهَا، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْبُشْرَى هِيَ نَفْيُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْمُحْسِنِينَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فِي أَعْمَالِهِمْ. وَأُشِيرَ بِمَفْهُومِهِ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّ فِيهِ مَفْهُومَ الْقَصْرِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ. وَتَعْرِيفُهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا حُسْنَ مُعَامَلَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ بِتَوْحِيدِهِ وَخَوْفِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ إِلَى حُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ مَعْنَى ثُمَّ اسْتَقامُوا.

وَجِيءَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِفِعْلٍ قالُوا لِإِيجَازِ الْمَقُولِ وَغِنْيَتِهِ عَنْ أَنْ يُقَالَ: اعْتَرَفُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَأَطَاعُوهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوا مَعْنَاهُ إِذِ الشَّأْنُ فِي الْكَلَامِ الصِّدْقُ وَعَمِلُوا بِهِ لِأَنَّ الشَّأْنَ مُطَابَقَةُ الْعَمَلِ لِلِاعْتِقَادِ. ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ: وَهُوَ الِارْتِقَاءُ وَالتَّدَرُّجُ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ الِاسْتِقَامَةِ أَشَقُّ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ لِاحْتِيَاجِهَا إِلَى تَكَرُّرِ مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ وَاعْتِقَادُهُ يَحْصُلُ دَفْعَةً لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ مُلَاحَظَةٍ. فَهَذَا وَجْهُ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ مِنْ جِهَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ أَرْقَى دَرَجَةً مِنَ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ بِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 12- 17] ، فَالِاعْتِبَارَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ الْمَسُوقِ فِيهِ الْكَلَامُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ وَهُوَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَأَفَادَ تَسَبُّبُ ذَلِكَ فِي أَمْنِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ. وعَلَيْهِمْ خَبَرٌ عَنْ خَوْفٍ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ وَيُصِيبُهُمْ وَيَلْحَقُهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لِتَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ نَحْوِ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْحُزْنَ مُنْتَفٍ عَنْهُمْ لَا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْغَيْرِ: مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، فَجِنْسُ الْخَوْفِ ثَابِتٌ لِمَنْ عَدَاهُمْ عَلَى مَرَاتِبِ تَوَقُّعِ الْعِقَابِ حَتَّى فِي حَالَةِ الْوَجَلِ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ فِيهِمْ وَمِنْ تَوَقُّعِ حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَفَحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْتِحْضَارُهُمْ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الأحقاف (46) : آية 15]

وأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجَنَّةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْجَنَّةُ لِمَا فِي أَصْحابُ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَمَا فِي الْإِضَافَةِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تَصْرِيحٌ بِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ تَعْلِيلِ الصِّلَةِ فِي الْخَبَرِ وَمِنَ اقْتِضَاءِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جَدَارَتَهُمْ بِمَا بَعْدَهُ وَمَا أَفَادَهُ وَصْفُ أَصْحَابُ وَمَا أَفَادَتْهُ الْإِضَافَةُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعِنَايَةِ بِالتَّنْوِيهِ بِهِمْ. [15] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 15] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً تَطَلَّبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجْهَ مُنَاسِبَةِ وُقُوعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَجِيبَ بَعْضُ النَّاس للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْفُرُ بِهِ بَعْضُهُمْ كَمَا اخْتَلَفَ حَالُ النَّاسِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِقَامَةَ عَطَفَ الْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مُقْنِعٍ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ. وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ عِنْدِي أَن هَذَا انْتِقَال إِلَى قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ كَلَامُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَجِدَالِهِمْ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ بِمَحَلِّ الْقَصْدِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما إِلَى قَوْله: خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: 17، 18] . وَصِيغَ هَذَا فِي أُسْلُوبِ قِصَّةِ جِدَالٍ بَيْنَ وَالِدَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ وَوَلَدٍ كَافِرٍ، وَقِصَّةِ جِدَالٍ بَيْنَ وَلَدٍ مُؤْمِنٍ وَوَالِدَيْنِ كَافِرَيْنِ لِأَنَّ لِذَلِكَ الْأُسْلُوبِ وَقْعًا فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ مَعَ مَا رُوِيَ إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جِدَالٍ جَرَى بَين عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَبَيْنَ وَالِدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِذِكْرِ هَذَا الْجِدَالِ. وَقَدْ رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً إِلَى قَوْله: يُوعَدُونَ [الْأَحْقَاف: 15، 16] نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نَزَلَتْ فِي

أَبِي بَكْرٍ وَأَبِيهِ (أَبِي قُحَافَةَ) وَأُمِّهِ (أُمِّ الْخَيْرِ) أَسْلَمَ أَبَوَاهُ جَمِيعًا. وَقَدْ تَكَرَّرَتِ الْوِصَايَةُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقُرْآنِ وَحَرَّضَ عَلَيْهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ فَكَانَ الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ أَجْلَى مَظْهَرًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا وَكَانَ مِنْ بَرَكَاتِ أَهْلِهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مَبْلَغًا فِي أُمَّةٍ مَبْلَغَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَتَقَدَّمَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [8] . وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، أَيْ وَصَّيْنَا النَّاسَ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ النَّاسِ الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِوَصَايَا اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا أُولئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [الْأَحْقَاف: 16] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْغَرَضِ كَمَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْحُسْنُ: مَصْدَرُ حَسُنَ، أَيْ وَصَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ إِحْساناً. وَالنَّصْبُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ إِمَّا بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ وَإِمَّا بِتَضْمِينِ وَصَّيْنَا مَعْنَى: أَلْزَمْنَا. وَالْكُرْهُ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِضَمِّهَا مَصْدَرُ أَكْرَهُ، إِذَا امْتَعَضَ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ كَانَ حمله مَكْرُوها لَهَا، أَيْ حَالَةَ حَمْلِهِ وَوِلَادَتِهِ لِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَرْهًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِفَتْحِ الْكَافِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذِكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَانْتَصَبَ كُرْهاً عَلَى الْحَالِ، أَيْ كَارِهَةً أَوْ ذَاتَ كُرْهٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حَمَلَتْهُ فِي بَطْنِهَا مُتْعَبَةً مِنْ حَمْلِهِ تَعَبًا يَجْعَلُهَا كَارِهَةً لِأَحْوَالِ ذَلِكَ الْحَمْلِ. وَوَضَعَتْهُ بِأَوْجَاعٍ وَآلَامٍ جَعَلَتْهَا كَارِهَةً لِوَضْعِهِ. وَفِي ذَلِكَ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ فَائِدَةٌ لَهُ هِيَ فَائِدَةُ وُجُودِهِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ حَالِ الْمُمْكِنِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى وُجُودِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي بِهِ حُصُولُ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ. وَأُشِيرَ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَمْلِ مِنْ إِرْضَاعِهِ الَّذِي بِهِ عِلَاجُ حَيَاتِهِ وَدَفْعُ أَلَمِ الْجُوعِ عَنْهُ

وَهُوَ عَمَلٌ شَاقٌّ لِأُمِّهِ فَذُكِرَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ لِأَنَّهَا لِطُولِهَا تَسْتَدْعِي صَبْرَ الْأُمِّ عَلَى تَحَمُّلِ كُلْفَةِ الْجَنِينِ وَالرَّضِيعِ. وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ، وَذُكِرَ الْفِصَالُ لِأَنَّهُ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الرِّضَاعِ فَذَكَرَ مَبْدَأَ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِقَوْلِهِ: وَحَمْلُهُ وَانْتِهَاءَ الرِّضَاعِ بِقَوْلِهِ: وَفِصالُهُ. وَالْمَعْنَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ شَهْرًا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَفَصْلُهُ بِسُكُونِ الصَّادِ، أَيْ فَصْلُهُ عَنِ الرَّضَاعَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَمِنْ بَدِيعِ مَعْنَى الْآيَةِ جَمْعُ مُدَّةِ الْحَمْلِ إِلَى الْفِصَالِ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا لِتُطَابِقَ مُخْتَلَفَ مُدَدِ الْحَمْلِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةً وَهُوَ الْغَالِبُ، قِيلَ: كَانُوا إِذَا كَانَ حَمْلُ الْمَرْأَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ الْغَالِبُ أَرْضَعَتِ الْمَوْلُودَ أَحَدَ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَذَلِكَ أَقْصَى أَمَدُ الْإِرْضَاعِ فَعَوَّضُوا عَنْ نَقْصِ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ شَهْرًا زَائِدًا فِي الْإِرْضَاعِ لِأَنَّ نُقْصَانَ مُدَّةِ الْحَمْلِ يُؤَثِّرُ فِي الطِّفْلِ هُزَالًا. وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الطَّيِّ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ قَدْ تَكُونُ دُونَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْلَا أَنَّهَا تَكُونُ دُونَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَحَدَّدَتْهُ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ حَقِّ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ بِمَا تَحَمَّلَتْهُ مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْلِ فَإِنَّ مَشَقَّةَ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَشَدُّ مِنْ مَشَقَّةِ الْإِرْضَاعِ فَلَوْلَا قَصْدُ الْإِيمَاءِ إِلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَكَانَ التَّحْدِيدُ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَجْدَرَ بِالْمَقَامِ. وَقَدْ جَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ قَدْ يَكُونُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَنُسِبَ مِثْلُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَوْا عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ فَوَلَدَتْ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَانْطَلَقَ زَوْجُهَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَذَكَرَ لَهُ فَبَعَثَ إِلَيْهَا عُثْمَانُ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهَا أَمَرَ بِرَجْمِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا

فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ: بلَى. قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، وَقَالَ: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَلَمْ نَجِدْهُ بَقِيَ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. فَرَجَعَ عُثْمَانُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بُنِيَ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ شُمُولَ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ هُوَ اللَّائِقُ بِكَلَامِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ الَّذِي أَنْزَلَهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْكَامِ الْحَمْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِذْ كَانَتْ حَتَّى لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْغَايَةِ كَانَتْ مُؤْذِنَةً هُنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَدَرَّجَ فِي أَطْوَارِهِ مِنْ وَقْتِ فِصَالِهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، أَيْ هُوَ مُوصًى بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا فِي الْأَطْوَارِ الْمُوَالِيَةِ لِفِصَالِهِ، أَيْ يُوصِيهِ وَلِيُّهُ فِي أَطْوَارِ طُفُولَتِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ وَصِيَّةِ اللَّهِ فِي وَقْتِ تَكْلِيفِهِ. وَوُقُوعُ إِذا بَعْدَ حَتَّى لِيُرَتَّبَ عَلَيْهَا تَوْقِيتُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مِنَ الْخَبَرِ، أَيْ كَانَتِ الْغَايَةُ وَقْتَ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ ذَلِكَ قَرِيبًا وَبَعِيدًا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [152] . وَلَمَّا كَانَ إِذا ظَرْفًا لِزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ الْفِعْلُ الْمَاضِي بَعْدَهَا مُنْقَلِبًا إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنَّمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَشْبِيهًا لِلْمُؤَكَّدِ تَحْصِيلُهُ بِالْوَاقِعِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ. وإِذا تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، أَيْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَإِذَا بَلَغَهُ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أَيْ طَلَبَ الْعَوْنَ مِنَ اللَّهِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِأَنْ يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ أَنْ أَلْهَمَهُ الْإِحْسَانَ لِوَالِدَيْهِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ أَنْ سَخَّرَ لَهُمَا هَذَا الْوَلَدَ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، فَهَاتَانِ النِّعْمَتَانِ أَوَّلُ مَا يَتَبَادَرُ عَنْ عُمُومِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلْحَدِيثِ عَنْهُمَا. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُؤَقَّتَ بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ وَهُوَ فِعْلُ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي مِنْ جُمْلَةِ مَا وُصِّيَ بِهِ الْإِنْسَانُ، أَيْ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى وَالِدَيْهِ فِي وَقْتِ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ. فَالْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ حُسْنًا بِوَالِدَيْهِ حَتَّى فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ، أَيْ أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِكُلِّ وَجْهٍ حَتَّى بِالدُّعَاءِ لَهُمَا. وَإِنَّمَا خَصَّ زَمَانَ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ لِأَنَّهُ زَمَنٌ يكثر فِيهِ الكلف بِالسَّعْيِ لِلرِّزْقِ إِذْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ وَأَبْنَاءٌ وَتَكْثُرُ تَكَالِيفُ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ لَهَا فِيهِ زَوْجٌ وَبَيَّتٌ وَأَبْنَاءٌ فَيَكُونَانِ مَظِنَّةَ أَنْ تَشْغَلَهَمَا التَّكَالِيفُ عَنْ تَعَهُّدِ وَالِدَيْهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فَنُبِّهَا بِأَنْ لَا يَفْتُرَا عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ. وَمَعْنَى قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ بِذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ الدُّعَاءُ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّعَاءِ لَهُمَا وَبِأَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمَا بِظَهْرِ الْغَيْبِ مِنْهُمَا حِينَ مُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمَا فِي الْمُوَاجَهَةِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ كَمَا فِي طَرِيقَةِ الْفَحْوَى فِي النَّهْيِ عَنْ أَذَاهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: 23] . وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ وَبِجَمِيعِ وَسَائِلِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَايَتُهُ حُصُولُ النَّفْعِ لَهُمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: 24] وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِلْأَبَوَيْنِ وَعَدَ بِإِجَابَتِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» . وَمَا شُكْرُ الْوَلَدِ رَبَّهُ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِ نِيَابَتِهِ عَنْهُمَا فِي هَذَا الشُّكْرِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْوَلَدُ عَنْ وَالِدَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ

عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ، قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهُ» ، وَهُوَ حَجٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى أَبِيهَا لِعَجْزِهِ. وَالْأَشُدُّ: حَالَةُ اشْتِدَادِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَهُوَ جَمْعٌ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِمُفْرَدٍ. وَقِيلَ مُفْرَدُهُ: شِدَّةٌ بِكَسْرِ الشِّينِ وَهَاءِ التَّأْنِيثِ مِثْلُ نِعْمَةٍ جَمْعُهَا أَنْعُمٌ، وَلَيْسَ الْأَشُدُّ اسْمًا لِعَدَدٍ مِنْ سِنِي الْعُمْرِ وَإِنَّمَا سِنُو الْعُمْرِ مَظِنَّةً لِلْأَشُدِّ. وَوَقْتُهُ مَا بَعْدَ الثَلَاثِينَ سَنَةً وَتَمَامُهُ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى بَلَغَ أَشُدَّهُ قَوْلَهُ: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَيْ بَلَغَ الْأَشُدَّ وَوَصَلَ إِلَى أَكْمَلِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى [الْقَصَص: 14] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ بَلَغَ أَشُدَّهُ لِأَنَّ إِعَادَةَ فِعْلِ بَلَغَ تُبْعِدُ احْتِمَالَ التَّأْكِيدِ وَحَرْفُ الْعَطْفِ أَيْضًا يُبْعِدُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ. وأَوْزِعْنِي: أَلْهِمْنِي. وَأَصْلُ فِعْلِ أَوزَعَ الدَّلَالَةُ عَلَى إِزَالَةِ الْوَزَعِ، أَيِ الِانْكِفَافِ عَنْ عَمَلٍ مَا، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. ونِعْمَتَكَ اسْمُ مَصْدَرٍ مُضَافٍ يَعُمُّ، أَيْ أَلْهِمْنِي شُكْرَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدِيَّ مِنْ جَمِيعِ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ كَالْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَمِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالصِّحَّةِ وَالْجِدَّةِ. وَمَا ذُكِرَ مِنَ الدُّعَاءِ لِذُرِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اسْتِطْرَادٌ فِي أَثْنَاءِ الْوِصَايَةِ بِالدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ بِأَنْ لَا يَغْفُلَ الْإِنْسَانُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ عِنَايَتَهُ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَرَفَهَا إِلَى أَبَوَيْهِ لِيَكُونَ لَهُ مِنْ إِحْسَانِ ذُرِّيَّتِهِ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا كَانَ مِنْهُ لِأَبَوَيْهِ وَإِصْلَاحُ الذُّرِّيَّةِ يَشْمَلُ إِلْهَامَهُمُ الدُّعَاءَ إِلَى الْوَالِدِ. وَفِي إِدْمَاجِ تَلْقِينِ الدُّعَاءِ بِإِصْلَاحِ ذُرِّيَّتِهِ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَلْقَى مِنْ إِحْسَانِ أَبْنَائِهِ إِلَيْهِ مِثْلَ مَا لَقِيَ أَبَوَاهُ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ دَعْوَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ مَرْجُوَّةُ الْإِجَابَةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «لِوَلَدِهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مُتَعَدِّدَةٌ طُرُقُهُ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 16]

وَاللَّامُ فِي وَأَصْلِحْ لِي لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ أَصْلَحْ فِي ذُرِّيَّتِي لِأَجْلِي وَمَنْفَعَتِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] . وَنُكْتَةُ زِيَادَةِ هَذَا فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ تَعَرَّضَ إِلَى نَفَحَاتِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ إِصْلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ وَعَرَّضَ بِأَنَّ إصلاحهم لفائدته، وهذ تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا ابْتَدَأْتَنِي بِنِعْمَتِكَ وَابْتَدَأْتَ وَالِدِيَّ بِنِعْمَتِكَ وَمَتَّعْتَهُمَا بِتَوْفِيقِي إِلَى بِرِّهِمَا، كَمِّلْ إِنْعَامَكَ بِإِصْلَاحِ ذُرِّيَّتِي فَإِنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِي. وَهَذِهِ تَرْقِيَاتٌ بَدِيعَةٌ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ. وَمَعْنَى ظَرْفِيَّةِ فِي ذُرِّيَّتِي أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الظَّرْفِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مَا هُوَ بِهِ الْإِصْلَاحُ وَيَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَمَكُّنَ الْإِصْلَاحِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَتَغَلْغُلَهُ فِيهِمْ. وَنَظِيرُهُ فِي الظَّرْفِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] . وَجُمْلَةُ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْمَطْلُوبِ بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلَ تَوَسُّلٍ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَبِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَيُغْنِي غِنَاءَ الْفَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ: الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ تَوْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ تَبِعَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ. وَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَسْلَمْتُ كَمَا قَالَ: تُبْتُ إِلَيْكَ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ وَهُوَ التَّجَدُّدُ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَجَدِّدَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ دُفْعَةً فَيَسْتَقِرُّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ، وَفِيهِ الرَّعْيُ عَلَى الْفَاصِلَةِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِمَا تُعْطِيهِ تَرَاكِيبُهَا وَنَظْمُهَا دُونَ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَمُّلٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَهْلٍ لِوِصَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَالِدَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِنْ كَانَا مُؤمنين. [16] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 16] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها [الْأَحْقَاف: 14] . وَكَوْنُهُ إِشَارَةَ جَمْعٍ وَمُخْبِرَةٌ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ

الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الْأَحْقَاف: 15] غَيْرُ مُعَيَّنٍ بَلِ الْمُرَادُ الْجِنْسُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِغْرَاقِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْوَصْفِ وَالْحَثِّ يُحْدِثُ تَرَقُّبَ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ فَائِدَةِ ذَلِكَ فَكَانَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يتَقَبَّل عَنْهُمْ إِلَى آخِرِهِ جَوَابًا لِتَرْقِيَةٍ. وَعُمُومُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يُكْسِبُ الْجُمْلَةَ فَائِدَةَ التَّذْيِيلِ، أَيِ الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ وَالدُّعَاءُ لَهُمَا وَلِلذُّرِّيَّةِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا. وَقَدْ تُقَبِّلَ مِنْهُمْ كُلُّ مَا هُوَ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا. وَالتَّقَبُّلُ: تَرَتُّبُ آثَارِ الْعَمَلِ مِنْ ثَوَابٍ عَلَى الْعَمَل واستجابة للدُّعَاء. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّى تَلْقِينَهُ مِثْلُ الدُّعَاءِ الَّذِي فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَدُعَاءِ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ يُتَقَبَّلُ بِحَرْفِ (عَنْ) ، وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (مِنْ) تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمَدْعُوِّ لَهُمْ وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَالذُّرِّيَّةُ، لِأَنَّ دُعَاءَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأُولَئِكَ بِمَنْزِلَةِ النِّيَابَةِ عَنْهُمْ فِي عِبَادَةِ الدُّعَاءِ وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِالنِّيَابَةِ مُتَقَبَّلًا عُلِمَ أَنَّ عَمَلَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ مُتَقَبَّلٌ أَيْضًا فَفِي الْكَلَامِ اخْتِصَارٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أُولَئِكَ يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ وَيُتَقَبَّلُ عَنْ وَالِدَيْهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُتَقَبَّلُ ويتجاوز بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيَّيْنِ لِلنَّائِبِ وَأحسن مَرْفُوعٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ وَلَمْ يُذْكَرِ الْفَاعِلُ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُتَقَبِّلَ هُوَ اللَّهُ وَقَرَأَهُمَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِنُونَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَنَصْبِ أَحْسَنَ. وَقَوْلُهُ: فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ كَائِنِينَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ حِينَ يُتَقَبَّلُ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا وَيُتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مُتَقَبَّلٌ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ وَيُتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَذُكِرَ هَذَا لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الْمُشَرَّفِينَ كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمُهُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ الصِّدْقِ عَلَى الْحَالِ مِنَ التَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ الْمَفْهُومِ مِنْ مَعَانِي يُتَقَبَّلُ وَيُتَجَاوَزُ، فَجَاءَ الْحَالُ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ كَمَا أُعِيدَ

[سورة الأحقاف (46) : آية 17]

عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، أَيِ الْعَدْلُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. وَالْوَعْدُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ ذَلِكَ مَوْعِدُهُمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَهُ. وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى الصِّدْقِ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) ، أَيْ وَعْدٌ مِنَ الصِّدْقِ إِذْ لَا يَتَخَلَّفُ. والَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ صِفَةُ وَعْدَ الصِّدْقِ، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا بِالْقُرْآنِ فِي الْآيَاتِ الْحَاثَّةِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَعَلَى الشُّكْرِ وَعَلَى إصْلَاح الذُّرِّيَّة. [17] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 17] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) هَذَا الْفَرِيقُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَبْدُوءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الْأَحْقَاف: 15] . وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي كَفَرَ بِرَبِّهِ وَأَسَاءَ إِلَى وَالِدَيْهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ وَالِدَيْهِ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الْآيَةَ. فَجُمْلَةُ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ [الْأَحْقَاف: 7] إِلَخْ انْتِقَالٌ إِلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أُصُولُ شِرْكِهِمْ وَهِيَ مَقَالَةُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ فَالْوَجْهُ جَعْلُهُ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرِ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يُلَائِمُ كُلَّ الْوُجُوهِ. وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ [الْأَحْقَاف: 18] خَبَرًا عَنْهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الِاثْنَيْنِ فِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. والَّذِينَ هُنَا اسْمٌ صَادِقٌ عَلَى الْفَرِيقِ الْمُتَّصِفِ بِصِلَتِهِ. وَهَذَا وَصْفٌ لِفِئَةٍ مِنْ

أَبْنَاءٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَأَغْلَظُوا لَهُمُ الْقَوْلَ فَضُمُّوا إِلَى الْكُفْرِ بِشَنِيعِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ قَبِيحٌ لِمُنَافَاتِهِ الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا لِأَنَّ حَالَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ أَبْنَائِهِمَا يَقْتَضِي مُعَامَلَتَهُمَا بِالْحُسْنَى، وَيَدُلُّ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهَا أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ إِلَى آخِرِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعْنِي شَخْصًا مُعَيَّنًا وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا فَرِيقٌ أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يُسْلِمُوا حِينَئِذٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنٍ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْكَعْبَةِ الَّذِي سَمَّاهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمان بَعْدَ أَنْ أسلم عبد الرحمان قَالُوا: كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مُشْرِكًا وَكَانَ يَدْعُوهُ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُذَكِّرَانِهِ بِالْبَعْثِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا بِكَلَامٍ مِثْلِ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَقُولُ: فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَيْنَ عَامِرُ بْنُ كَعْبٍ، وَمَشَايِخُ قُرَيْشٍ حَتَّى أَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ. لَكِنْ لَيْسَتِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِهِ حَتَّى تَكُونَ نَازِلَةً فِيهِ، وَبِهَذَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِمَا قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الحكم لعبد الرحمان هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما. وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِشَارَة عبد الرحمان عَلَى مَرْوَانَ أَخْذَهُ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالْعَهْدِ لَهُ بِالْخِلَافَةِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ مَرْوَانُ ابْن الْحَكَمِ عَلَى الْحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ أَيْ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فَقَالَ لَهُ عبد الرحمان بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَهِرَقْلِيَّةً أَيْ أَجَعَلْتُمُوهَا وِرَاثَةً مِثْلَ سَلْطَنَةِ هِرَقْلَ فَقَالَ: خُذُوهُ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي، فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي أَيْ بَرَاءَتِي. وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما عبد الرحمان بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَآخِرُ الْآيَةِ يَقُولُ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ إِلَى خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: 18] فَذَكَرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِلْجَمْعِ، وَقَضَى عَلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِالْخُسْرَانِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ كَانَ مُشْرِكًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين. وأيّاما

كَانَ فَقَدْ أسلم عبد الرحمان قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَمَّا أَسْلَمَ جَبَّ إِسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الْآيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ وَكُلُّ وَعِيدٍ فَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ تَحَقُّقُهُ بِأَنْ يَمُوتَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ غَيْرَ مُؤْمِنٍ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ. وَتُلَقَّبُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ بِمَسْأَلَةِ الْمُوَافَاةِ، عَلَى أَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَأُفٍّ: اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: أَتَضَجَّرُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ أَقَلِّ الْأَذَى فَيَكُونُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ وَالِدَيْهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا أَوْغَلَ فِي الْعُقُوقِ الشَّنِيعِ وَأَحْرَى بِالْحُكْمِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [23] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أُفٍّ بِكَسْرِ الْفَاءِ مُنَوَّنًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ أُفٍّ بِفَتْحِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ أُفِّ بِكَسْرِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَهِيَ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ فَإِنَّهُ بِوَزْنِ مِصْرَاعٍ مِنَ الرَّمَلِ عَرُوضُهُ مَحْذُوفَةٌ، وَضَرْبُهُ مَحْذُوفٌ، وَفِيهِ الْخَبْنُ وَالْقَبْضُ، وَيُزَادُ فِيهِ الْكَفُّ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَحَفْصٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ إِنْكَارٌ وَتَعَجَّبٌ. وَالْإِخْرَاجُ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ وَهِيَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي قَيْدًا لِمُنْتَهَى الْإِنْكَارِ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَالِ مُضِيِّ الْقُرُونِ. وَالْقُرُونُ: جَمْعُ قَرْنٍ وَهُوَ الْأُمَّةُ الَّتِي تَقَارَبَ زَمَانُ حَيَاتِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً [الْقَصَص: 78] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَحَالَ أَنْ يُخْرَجَ هُوَ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ مَضَتْ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ وَطَالَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ فِي مَعْنَى الْبَعْثِ أَوْ

[سورة الأحقاف (46) : آية 18]

مِنَ الْمُغَالَطَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّ وَعْدَ الْبَعْثِ لَمْ يُوَقَّتْ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَلَا أَنَّهُ يَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَتَعِدانِنِي بِنُونَيْنِ مُفَكَّكَيْنِ وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِإِدْغَامِ النُّونَيْنِ. وَمَعْنَى يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يَطْلُبَانِ الْغَوْثَ مِنَ اللَّهِ، أَيْ يَطْلُبَانِ مِنَ اللَّهِ الْغَوْثَ بِأَنْ يَهْدِيَهُ، فَالْمَعْنَى: يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ لَهُ. وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَيْلَكَ آمِنْ بَيَانًا لِمَعْنَى اسْتِغَاثَتِهِمَا وَلَكِنَّهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. وَكَلِمَةُ وَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ. وَالْوَيْلُ: الشَّرُّ. وَأَصْلُ وَيْلَكَ: وَيْلٌ لَكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: 79] ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَرَادُوا اخْتِصَارَهُ حَذَفُوا اللَّامَ وَوَصَلُوا كَافَ الْخِطَابِ بِكَلِمَةِ (وَيْلٍ) وَنَصَبُوهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَفِعْلُ آمِنْ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ اتَّصَفْ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَتَعْرِيضٌ لَهُ بِالتَّهْدِيدِ مِنْ أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِ وَعْدُ اللَّهِ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْقِصَّةِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الْمَكْذُوبَةِ كَمَا يُقَالُ: خُرَافَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [24] وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فِي سُورَة الْفرْقَان [5] . [18] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 18] أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشِيرًا إِلَى الَّذِي قَالَ لَدَيْهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَرِيقٌ، فَجَاءَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْجَمَاعَةِ بِتَأْوِيلِ الْفَرِيقِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 19]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولئِكَ إِشَارَةً إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَحْقَاف: 17] ، وَهُمُ الَّذِينَ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِيِ بَكْرٍ ذَكَرَهُمْ حِينَ قَالَ: فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَشَائِخُ قُرَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْفَرِيقِ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ حَالِهِمُ الْعَجِيبَةِ. وَتَعْرِيفُ الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ قَوْلٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْقَوْلِ فِي نَحْوِ آيَةِ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85] ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 19] ، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَوْلٌ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] الْآيَةَ. وَإِطْلَاقُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَشِيقٌ لِصُلُوحِيَّةِ. وَإِقْحَامُ كانُوا خاسِرِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ خَاسِرُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ مُحَقَّقٌ فَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِجَعْلِهِمْ كَائِنِينَ فِيهِ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ فَوْزًا لَيْسَ بَعْدَهُ نَكَدٌ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَشُبِّهَتْ حَالَةُ ظَنِّهِمْ هَذَا بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي قَلَّ رِبْحُهُ مِنْ تِجَارَتِهِ فَكَانَ أَمْرُهُ خُسْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي الْبَقَرَةِ [16] . وَإِيرَادُ فِعْلِ الْكَوْنِ بِقَوْلِهِ: كانُوا خاسِرِينَ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى خاسِرِينَ لِأَنَّ (كَانَ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَسَارَةَ متمكنة مِنْهُم. [19] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 19] وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ يتَقَبَّل عَنْهُم [الْأَحْقَاف: 16] ثُمَّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الْأَحْقَاف: 18] إِلَخْ. وَتَنْوِينُ (كُلٍّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَمَّا تُضَافُ إِلَيْهِ كُلٌّ وَهُوَ مُقَدَّرٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ وَلِكُلِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِ الْبَارِّ بِوَالِدَيْهِ وَالْكَافِرِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْعُقُوقِ

دَرَجَاتٌ، أَيْ مَرَاتِبُ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْخَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ جَزَاءِ الْخَيْرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَدَرَكَاتٌ فِي الشَّرِّ لِأَهْلِ الْكُفْرِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ بِالدَّرَجَاتِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ الدَّرَجَةَ مَرْتَبَةٌ فِي الْعُلُوِّ وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ إِنَّمَا يُنَاسِبُ مَرَاتِبَ الْخَيْرِ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ السُّفْلَى فَهِيَ الدَّرَكَةُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: 145] . وَوَجْهُ التَّغْلِيظِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ أَهْلِ الْخَيْرِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلُوا تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمرَاد ب مِمَّا عَمِلُوا جَزَاءُ مَا عَمِلُوا فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ. وَالدَّرَجَاتُ: مَرَاتِبُ الْأَعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَضِدُّهُ الَّتِي يَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى وَفْقِهَا. وَيَجُوزُ كَوْنُ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً، وَمَا عَمِلُوا نَفْسَ الْعَمَلِ فَلَا يُقَدَّرُ مُضَافٌ وَالدَّرَجَاتُ هِيَ مَرَاتِبُ الْجَزَاءِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ تَتَفَاوَتُ بِالْكَثْرَةِ وَبِالسَّبْقِ وَبِالْخُصُوصِ، فَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا وَأَنْكَرَ الْبَعْثَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ هُوَ دُونَ دَرَجَةِ الَّذِي بَادَرَ بِالْإِسْلَامِ وَبِرِّ وَالِدَيْهِ وَمَا يَعْقُبُ إِسْلَامَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الدَّرَجَاتِ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلِنُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ هُوَ عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَتَقْدِيرُهُ: قَدَّرْنَا جَزَاءَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ دَرَجَاتِهِمْ لِنُوَفِّيَهُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ نُجَازِيهِمْ تَامًّا وَافِيًا لَا غَبْنَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِنُوَفِّيَهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ مُرَادًا بِهِ الْعَوْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ احْتِرَاسٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَوْفِيَةِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْفَرِيقُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُقُوبَةِ لِئَلَّا يُحْسَبَ أَنَّ التَّوْفِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ أَشَدَّ مِمَّا تَقْتَضِيه أَعْمَالهم.

[سورة الأحقاف (46) : آية 20]

[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 20] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) انْتِقَالٌ إِلَى وَعِيدِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ بِحَذَافِرِهِ، وَذَلِكَ زَائِدٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُتَعَلِّقِ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ عُقُوقِهِمُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الْأَحْقَاف: 17] الْآيَاتِ. وَالْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيُقَالُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ، وَمُنَاسِبَةُ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى لَا يُظْلَمُونَ [الْأَحْقَاف: 19] ، أَيْ لَا يُظْلَمُونَ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّنَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ شِئْنَا لَعَجَّلْنَا لَهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نِعْمَةَ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا نِعْمَةٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَتَؤَوَّلَ بِأَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ، أَيْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَاقِبَتَهَا سَيِّئَةٌ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مُعَامَلَةٌ بِفَضْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مُعَامَلَةٌ بِعَدْلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ يُعْرَضُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْعَرْضُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [18] وَقَوْلِهِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها فِي سُورَةِ غَافِرٍ [46] وَفِي قَوْلِهِ: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها فِي سُورَةِ الشُّورَى [45] . وَإِذْهَابُ الطَّيِّبَاتِ مُسْتَعَارٌ لِمُفَارَقَتِهَا كَمَا أَنَّ إِذْهَابَ الْمَرْءِ إِبْعَادٌ لَهُ عَن مَكَان لَهُ. وَالذَّهَابُ: الْمُبَارَحَةُ. وَالْمَعْنَى: اسْتَوْفَيْتُمْ مَا لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَمُتْعَتِهَا فَلَمْ تَبْقَ لَكُمْ طَيِّبَاتٌ بَعْدَهَا لِأَنَّكُمْ لَمْ تَعْمَلُوا لِنَوَالِ طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ إِعْذَارٌ لَهُمْ وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِمْ لَا يُظْلَمُونَ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ. فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَوْمَ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ إِلَّا جَزَاء سيّىء

أَعْمَالِكُمْ، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَلَا لِلتَّسَبُّبِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا إِذَا تَوَخَّى حَلَالَهَا وَعَمِلَ بِوَاجِبِهِ الدِّينِيِّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الزُّهْدُ فِي الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ أَرْفَعَ دَرَجَةً وَهِيَ دَرَجَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاصَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَأَنَا أَعْلَمُ بِخَفْضِ الْعَيْشِ وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا، وَصَلَائِقَ وَصِنَابًا وَكَرَاكِرَ وَأَسْنِمَةً (¬1) وَلَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ نَعَى عَلَى قَوْمٍ فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها. وَأَنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ وَاجِبِهِ مِنْ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْأُمَّةِ فَيَقَعَ فِي التَّفْرِيطِ وَيُؤَاخَذَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُمَرَ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ قَدَّمَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ طَعَامًا طَيِّبًا. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا لَنَا فَمَا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَشْبَعُوا مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ؟ فَقَالَ خَالِدٌ: لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَبَكَى عُمَرُ. وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا فِي الْمُقَامِ وَذَهَبُوا بِالْجَنَّةِ لَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا. وَالْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْهُونِ مَعَ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تُجْزَوْنَ. وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِكْبَارِ، الِاسْتِكْبَارُ على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى قَبُولِ التَّوْحِيدِ. وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الدِّينِ وَعَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُ بِحَظٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْجُرْمَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ جَزَائِهِمَا الَّذِي لَقِيَهُ الْكَافِرُونَ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ. وَالْفُسُوقُ: هُنَا الشِّرْكُ. ¬

(¬1) الصلائق بالصَّاد جمع صليقة وَهِي الشَّاة المصلوقة، أَي المشوية، وَالصِّنَاب بِكَسْر الصَّاد وَنون مُخَفّفَة وموحدة صباغ من خَرْدَل وزبيب يُؤْدم بِهِ اللَّحْم. والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غُدَّة فِي صدر الْبَعِير تلاصق الأَرْض إِذا برك وَهِي لحم طيب.

[سورة الأحقاف (46) : آية 21]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَأَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَام التوبيخي. [21] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 21] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) سِيقَتْ قِصَّةُ هُودٍ وَقَوْمِهِ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الْأَحْقَاف: 3] مَعَ مَا أُعْقِبَتْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 4] الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُ هُودٍ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ثُمَّ قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9] الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَوْعِظَةِ بِحَالِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ. وَسِيقَتْ أَيْضًا مَسَاقَ الْحُجَّةِ عَلَى رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عِنَادِ قَوْمِهِ بِذِكْرِ مِثَالٍ لِحَالِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ بِحَالِ عَادٍ مَعَ رَسُولِهِمْ. وَلَهَا أَيْضًا مَوْقِعُ التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَلَقَّاهُ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعِنَادِ وَالْبُهْتَانِ لِتَكُونَ مَوْعِظَةً وَتَسْلِيَةً مَعًا يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ. وَلَا تَجِدُ كَلِمَةً أَجْمَعَ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَعَ كَلِمَةِ اذْكُرْ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِمَعْنَى الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ بِأَنْ يُرَادَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ، وَلِمَعْنَى الذُّكْرِ بِالضَّمِّ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ تِلْكَ الْحَالَةَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ لَهُ وَأَمْثَالُهَا لِأَنَّ فِي التَّذَكُّرِ مَسْلَاةً وَأُسْوَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ فِي سُورَةِ ص [17] . وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَذَكَّرُوا مَا يَعْرِفُونَ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ مِمَّا قَصَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ مِنْ قَبْلُ وَتَذَكَّرَ هُوَ لَا مَحَالَةَ أَحْوَالَ رُسُلٍ كَثِيرِينَ ثُمَّ جَاءَتْ قِصَّةُ هُودٍ مِثَالًا لِذَلِكَ. وَمُشْرِكُو مَكَّةَ إِذَا تَذَكَّرُوا فِي حَالِهِمْ وَحَالِ عَادٍ وَجَدُوا الْحَالَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْدُرُ بِهِمْ أَنْ يَخَافُوا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَادٍ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ

رِسَالَةِ نُوحٍ الْعَامَّةِ وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَةُ هُودٍ وَرِسَالَةُ صَالِحٍ قَبْلَ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأْتِي بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِمْ إِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ إِلَى أُمَمٍ أُخْرَى مِنَ الْعَرَبِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَاف: 27] الْآيَةَ. وَأَخُو عَادٍ هُوَ هُودٌ وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَعَبَّرَ عَنْهُ هُنَا بِوَصْفِهِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا ذِكْرُ التَّمْثِيلِ وَالْمَوْعِظَةِ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّهُمْ أَمْثَالُ عَادٍ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولٍ مَنْ أُمَّتِهِمْ. وَالْأَخُ يُرَادُ بِهِ الْمُشَارِكُ فِي نَسَبِ الْقَبِيلَةِ، يَقُولُونَ: يَا أَخَا بَنِي فُلَانٍ، وَيَا أَخَا الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمُلَازِمُ وَالْمُصَاحِبُ، يُقَالُ: أَخُو الْحَرْبِ وَأَخُو عَزَمَاتٍ. وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: 160، 161] . وَلَمْ يَكُنْ لُوطٌ مِنْ نَسَبِ قَوْمِهِ أَهْلِ سَدُومَ. وإِذْ أَنْذَرَ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهِيَ هُنَا نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَخَا عَادٍ، أَيِ اذْكُرْ زَمَنَ إِنْذَارِهِ قَوْمَهُ فَهِيَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَذِكْرُ الْإِنْذَارِ هُنَا دُونَ الدَّعْوَةِ أَوِ الْإِرْسَالِ لِمُنَاسَبَةِ تَمْثِيلِ حَالِ قَوْمِ هُودٍ بِحَالِ قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الْأَحْقَاف: 3] . وَالْأَحْقَافُ: جَمْعُ حِقْفٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ الرَّمْلُ الْعَظِيمُ الْمُسْتَطِيلُ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَحْقَافِ مَنَازِلَ عَادٍ وَكَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَى الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَعَدَنَ. وَفِي مُنْتَهَى الْأَحْقَافِ أَرْضُ حَضْرَمَوْتَ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [65] . وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَنْذَرَ وَجُمْلَةِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْمُفَسَّرَةِ بِهَا. وَقَدْ فُسِّرَتْ جُمْلَةُ أَنْذَرَ بجملة أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِلَخْ. وَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ أَنْذَرَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 22]

وَمَعْنَى خَلَتِ النُّذُرُ سَبَقَتِ النُّذُرُ أَيْ نُذُرُ رُسُلٍ آخَرِينَ. وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نِذَارَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ. ومِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِمَعْنَى قَرِيبًا مِنْ زَمَانِهِ وَبَعِيدًا عَنْهُ، فَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعْنَاهُ الْقُرْبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] ، أَيْ قَبْلَ الْعَذَابِ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: 38] ، وَقَالَ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النِّسَاء: 164] . وَأَمَّا الَّذِي مِنْ خَلْفِهِ فَنُوحٌ فَقَدْ قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69] ، وَهَذَا مُرَاعَاةً لِلْحَالَةِ الْمَقْصُودِ تَمْثِيلُهَا فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9] أَيْ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ مِثْلَ مَا خَلَتْ بِتِلْكَ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بِسَبَبِ شِرْكِكُمْ. وَعَذَابُ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِعَذَابِ يَوْمِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي عُجِّلَ لَهُمْ. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعِظَمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْعَظِيمَةِ، فَالْوَصْفُ مجَاز عَقْلِي. [22] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 22] قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْقَاف: 21] ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ قالُوا مَفْصُولًا عَلَى طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَصْدِ بِطَلَبِ أَمْرٍ عَظِيمٍ، شُبِّهَ طَرُوُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو بِهَا بِمَجِيءٍ جَاءَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الصَّرْفُ، وَأَرَادُوا بِهِ مَعْنَى التَّرْكُ، أَيْ لِنَتْرُكَ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا. وَهَذَا الْإِنْكَارُ تَعْرِيضٌ بِالتَّكْذِيبِ فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَصَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 23]

وَالْمَعْنَى: ائْتِنَا بِالْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ، أَيْ عَذَابِ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّمَا صَرَفُوا مُرَادَ هُودٍ بِالْعَذَابِ إِلَى خُصُوصِ عَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَبِهَذَا يُؤْذِنُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً [الْأَحْقَاف: 24] وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: 24] . وَأَرَادُوا: ائْتِنَا بِهِ الْآنَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَكْذِيبٍ بِأَنَّ عِبَادَةَ آلِهَتِهِمْ تَجُرُّ لَهُمُ الْعَذَابَ. ومِنَ الصَّادِقِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ بِالصِّدْقِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [34] ، أَيْ إِنْ كُنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مِنَ الَّذِينَ صَدَقُوا، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ فَمَا أَنْتَ بصادق فِيهِ. [23] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 23] قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) لَمَّا جَعَلُوا قَوْلَهُمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْأَحْقَاف: 22] فَصْلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ كَوْنِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تُوجِبُ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلهم فَأْتِنا مُقْتَضِيًا الْفَوْرَ، أَيْ طَلَبَ تَعْجِيلِهِ لِيَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ إِظْهَارِ صِدْقِهِ لَهُمْ. وَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ بِالْعَذَابِ إِلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ فِي إِتْيَانِ الْعَذَاب أَن يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُعَجِّلَهُ، أَوْ جَعَلُوا الْعَذَابَ فِي مَكِنَتِهِ يَأْتِي بِهِ مَتَى أَرَادَ، تَهَكُّمًا بِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ إِنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تُعَاوُنًا وَتُطَاوُعًا، أَيْ فَلَا تَتَأَخَّرْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الِاقْتِضَاءِ قَوْلُهُ لَهُمْ حِينَ نُزُولِ الْعَذَابِ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: 24] فَلِذَلِكَ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ عِلْمُ وَقْتِ إِتْيَانِ الْعَذَابِ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِلْمُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ، أَو التَّعْرِيف عوض عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَقْتِ الْعَذَابِ. وَهَذَا الْجَوَابُ يَجْرِي عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِأَنَّ جَمِيعَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِوَقْتِهِ. وَالْحَصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ كَقَوْلِهِ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: 187] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا

الْحَصْرِ شُمُولُهُ نَفْيَ الْعِلْمِ بِوَقْتِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ رَدًّا على قَوْلهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا. وعِنْدَ هُنَا مَجَازٌ فِي الِانْفِرَادِ بِالْعِلْمِ، أَيْ فَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِالْوَقْتِ الَّذِي يُرْسِلُ فِيهِ الْعَذَابَ لِحِكْمَةٍ فِي تَأْخِيرِهِ. وَمَعْنَى وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ أَنَّهُ بُعِثَ مُبَلِّغًا أَمْرَ اللَّهِ وَإِنْذَارَهُ وَلَمْ يُبْعَثْ لِلْإِعْلَامِ بِوَقْتِ حُلُولِ الْعَذَابِ كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 42- 45] ، فَقَوْلُهُ: أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَجُمْلَةِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أَنَّهُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ صِفَاتِ اللَّهِ وَحِكْمَةَ إِرْسَالِهِ الرُّسُلَ، فَتَحْسَبُونَ أَنَّ الرُّسُل وسائط لإنها اقْتِرَاحِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُمُ الْعَجَائِبَ وَيُسَاجِلَهُمْ فِي الرَّغَائِبِ، فَمَنَاطُ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ مَعْمُولُ خَبَرِ (لَكِنَّ) وَهُوَ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ يَجْهَلُونَ، فَإِدْخَالُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِئَلَّا يُبَادِرَهُمْ بِالتَّجْهِيلِ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِهِمْ، فَجَعَلَ جَهْلَهُمْ مَظْنُونًا لَهُ لِيَنْظُرُوا فِي صِحَّةِ مَا ظَنَّهُ مِنْ عَدَمِهَا. وَإِنَّمَا زِيدَ قَوْماً وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَجْهَلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ مِنْهُمْ حَتَّى صَارَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا عَمَّتْ جَمِيعَ الْقَبِيلَةِ كَمَا قَالَ لُوطٌ لِقَوْمِهِ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود: 78] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأُبَلِّغُكُمْ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ اللَّامِ. يُقَالُ: بَلَّغَ الْخَبَرَ بِالتَّضْعِيفِ وَأَبْلَغَهُ بِالْهَمْزِ، إِذَا جعله بَالغا.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 24 إلى 25]

[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : الْآيَات 24 إِلَى 25] فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْهَا، أَيْ فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِصَابَتَهُمْ بِالْعَذَابِ ورأوه عَارض قَالُوا: هَذَا عارِضٌ إِلَى آخِرِهِ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَيُسَمَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ فَصِيحَةً، وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ مَا حَدَثَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ هُودًا وَبَيْنَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَذُكِرَ فِي كُتُبِ تَارِيخِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ شَدِيدٌ سِنِينَ، وَأَنَّ هُودًا فَارَقَهُمْ فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ وَمَاتَ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقَوْلُهُمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَطَرِ. وَوَرَدَ فِي سُورَةِ هُودٍ [52] قَوْلُ هُودٍ لَهُمْ: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَقِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةٌ فِي تَفْسِيرِنَا لِسُورَةِ هُودٍ. وَضَمِيرُ رَأَوْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَعِدُنا [الْأَحْقَاف: 22] ، وَهُوَ الْعَذَابُ. وَأَطْلَقَ عَلَى الْمَرْئِيِّ ضَمِيرَ الْعَذَابِ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ سَبَبُ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا حَمَلَتْهُ الرِّيحُ. وعارِضاً حَالٌ مِنْهُ، وَالْعَارِضُ: السَّحَابُ الَّذِي يَعْتَرِضُ جَوَّ السَّمَاءِ أَيْ رَأَوْهُ كَالْعَارِضِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَارِضَ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَيْفَ قَدْ أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ. ومُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ نعت ل عارِضاً. وَالِاسْتِقْبَالُ: التَّوَجُّهُ قُبَالَةَ الشَّيْءِ، أَيْ سَائِرًا نَحْوَ أَوْدِيَتِهِمْ. وَأَوْدِيَةٌ: جَمْعُ وَادٍ جَمْعًا نَادِرًا مِثْلَ نَادٍ وأندية. وَيُطلق الواد عَلَى مَحِلَّةِ الْقَوْمِ وَنُزُلِهِمْ إِطْلَاقًا أَغْلَبِيًّا لِأَنَّ غَالِبَ مُنَازِلِهِمْ فِي السُّهُولِ وَمُقَارِّ الْمِيَاهِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ تَحَاوُرٍ وَرَفْعِ صَوْتِهِ عَلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوَادِي. وَجَمَعَ الْأَوْدِيَةَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَنَازِلِهِمْ وَانْتِشَارِهَا.

وَالْعَارِضُ فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا: السَّحَابُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْأُفُقِ كَالْجَبَلِ، ومُمْطِرُنا نَعْتٌ لِ عارِضٌ. وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ هُودٍ إِنْ كَانَ هُودٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رِجَالِهِمْ رَأَى مَخَائِلَ الشَّرِّ فِي ذَلِكَ السَّحَابِ. قِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. قَالَ لَمَّا رَآهُ: «إِنِّي لَأَرَى سَحَابًا مُرْمَدًا لَا تَدَعُ مِنْ عَادٍ أَحَدًا» لَعَلَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ إِنْذَارِ هُودٍ حِينَ رَأَى عَارِضًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ وَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ الْعَذَابُ بِهِمْ، أَوْ كَانَ قَدْ آمَنُ مِنْ قَبْلُ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ بِخَارِقِ عَادَةٍ. وَإِنَّمَا حُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِتَمْثِيلِ قَائِلِ الْقَوْلِ كَالْحَاضِرِ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ سَمِعَ كَلَامَهُمْ وَعَلِمَ غُرُورَهُمْ فَنَطَقَ بِهَذَا الْكَلَامِ تَرْوِيعًا لَهُمْ. وَهَذَا مِنِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ: دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وِدِّي وَجِيرَتِي ... بِذِي الشَّيِّطَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا فَتَخَيَّلَ دَاعِيًا يَدْعُوهُ فَالْتَفَتَ، وَهَذَا مِنَ التَّخَيُّلِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَجُعِلَ الْعَذَابُ مَظْرُوفًا فِي الرِّيحِ مُبَالَغَةً فِي التَّسَبُّبِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ أَشَدُّ مُلَابَسَةً بَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ مِنْ مُلَابَسَةِ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وكُلَّ شَيْءٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي كَثْرَةِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ (كُلًّا) تَأْتِي كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [97] . وَالْمَعْنَى: تُدَمِّرُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُدَمِّرَهُ الرِّيحُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالدِّيَارِ. وَقَوْلُهُ: بِأَمْرِ رَبِّها حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُدَمِّرُ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ تَقْرِيبُ كَيْفِيَّةِ تَدْمِيرِهَا كُلَّ شَيْءٍ، أَيْ تَدْمِيرًا عَجِيبًا بِسَبَبِ أَمْرِ رَبِّهَا، أَيْ تَسْخِيرِهِ الْأَشْيَاءَ لَهَا فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 26]

وَأُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى ضَمِيرِ الرِّيحِ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ فَالْأَمْرُ هُنَا هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ. فَأَصْبَحُوا أَيْ صَارُوا، وَأَصْبَحَ هُنَا مِنْ أَخَوَاتِ صَارَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّ تَدْمِيرَهُمْ كَانَ لَيْلًا فَإِنَّهُمْ دُمِّرُوا أَيَّامًا وَلَيَالِيَ، فَبَعْضُهُمْ هَلَكَ فِي الصَّبَاحِ وَبَعْضُهُمْ هَلَكَ مَسَاءً وَلَيْلًا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَرى لِمَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ حِينَئِذٍ إِتْمَامًا لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ دَمَارِهِمُ الْعَجِيبَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي وَقْتِ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاكِنِ: آثَارُهَا وَبَقَايَاهَا وَأَنْقَاضُهَا بَعْدَ قَلْعِ الرِّيحِ مُعْظَمَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرِّيحَ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ سَاكِنِي مَسَاكِنِهِمْ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلَ جَزَاءِ عَادٍ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: 26] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَرى بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَبِنَصْبِ مَساكِنُهُمْ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ وَبِرَفْعِ مَساكِنُهُمْ وَأَجْرَى عَلَى الْجَمْعِ صِيغَةَ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُسْتَثْنًى بِ إِلَّا وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَين الْفِعْل. [26] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 26] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) هَذَا اسْتِخْلَاصٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَثَلِ عَادٍ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِهْلَاكِ عَادٍ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ مَنْ هُمْ دُونَهُمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مِثْلَهُمْ مُسْتَجْمِعِينَ قُوَى الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا الِانْتِفَاعَ بِقُوَاهُمْ فَجَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ

وَاسْتَهْزَءُوا بِهَا وَبِوَعِيدِهِ فَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَقُرَيْشٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ حَالَهُمْ مِثْلُ الْحَالِ الْمَحْكِيَّةِ عَن أُولَئِكَ فليتهيّأوا لِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَلِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِخْلَاصِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ فِي قالُوا أَجِئْتَنا [الْأَحْقَاف: 22] وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَوَاهِبِ عُقُولِهِمْ. وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ مَعَ أَنَّ مُفَادَهُ لَا شَكَّ فِيهِ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْجِيبِ. وَالتَّمْكِينُ: إِعْطَاءُ الْمَكِنَةِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ) وَهِيَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ. يُقَالُ: مَكَّنَ مِنْ كَذَا وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: مَكَّنَهُ فِي كَذَا، إِذَا جَعَلَ لَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى مَدْخُولِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ فَيُفَسَّرُ بِمَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الظَّرْفِ قَالَ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [6] . فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا لَهُمُ الْقُدْرَةَ فِي الَّذِي لَمْ نُمَكِّنْكُمْ فِيهِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يُمَكَّنُ فِيهِ الْأَقْوَامُ وَالْأُمَمُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [6] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا. وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ فِيما مَوْصُولَةٌ. وإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ. وَمَعْنَى مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ: مَكَّنَّاكُمْ فِي مِثْلِهِ أَوْ فِي نَوْعِهِ فَإِنَّ الْأَجْنَاسَ وَالْأَنْوَاعَ مِنَ الذَّوَاتِ حَقَائِقُ مَعْنَوِيَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ مَوَاهِبُهَا وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِوُجُودِهَا فِي الْجُزْئِيَّاتِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ مَكَّنَّاكُمْ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الصَّادِقِ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي مُكِّنَتْ مِنْهَا عَادٌ. وَمِنْ بَدِيعِ النَظْمِ أَنْ جَاءَ النَّفْيُ هُنَا بِحَرْفِ إِنْ النَّافِيَةِ مَعَ أَنَّ النَّفْيَ بِهَا أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا مِنَ النَّفْيِ بِ (مَا) النَّافِيَةِ قَصْدًا هُنَا لِدَفْعِ الْكَرَاهَةِ مِنْ تَوَالِي مِثْلَيْنِ فِي النُّطْقِ وَهُمَا (مَا) الْمَوْصُولَةُ وَ (مَا) النَّافِيَةُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ عَوَّضُوا الْهَاءَ عَنِ الْأَلِفِ فِي (مَهْمَا) ، فَإِنَّ أَصْلَهَا: (مَا مَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا)

الظَّرْفِيَّةِ وَ (مَا) الزَّائِدَةِ لِإِفَادَةِ الشَّرْطِ مِثْلَ (أَيْنَمَا) . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَلَقَدْ أَغَثَّ أَبُو الطَّيِّبِ فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ مَا مَا بَانَ مِنْكَ لِضَارِبٍ (¬1) وَأَقُولُ وَلَمْ يَتَعَقَّبِ ابْنُ جِنِّي وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ شَرَحَ الدِّيوَانَ مِنْ قَبْلُ عَلَى الْمُتَنَبِّي وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي ضَرُورَاتِ شِعْرِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَقَوْلِ خِطَامٍ الْمُجَاشِعِيِّ: وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْنْ وَلَا يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ لِلْمُوَلَّدِينَ. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ (مَا) نَافِيَةً وَأَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ تَأْكِيدَهَا تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، فَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (إِنْ) بَعْدَ (مَا) أَحْرَى كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ مَا إِنْ أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُصْهُمْ شَيْءٌ مِنْ شَأْنه أَي يُخِلَّ بِإِدْرَاكِهِمُ الْحَقَّ لَوْلَا الْعِنَادُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَيْ أَنَّكُمْ حَرَمْتُمْ أَنْفُسَكُمُ الِانْتِفَاعَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَعُقُولِكُمْ كَمَا حُرِمُوهُ، وَالْحَالَةُ مُتَّحِدَةٌ وَالسَّبَبُ مُتَّحِدٌ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ كَذَلِكَ. وَإِفْرَادُ السَّمْعِ دُونَ الْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [46] وَقَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [31] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ زَائِدَةٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى انْتِفَاءِ الْجِنْسِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ شَيْءٍ الْمَجْرُورُ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِغْنَاءِ، وَحَقُّ شَيْءٍ النَّصْبُ وَإِنَّمَا جُرَّ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. ¬

(¬1) تَمَامه: باقتل مِمَّا بَان مِنْك لعائب. وَوَقع المصراع الأول فِي «الْكَشَّاف» لعمرك، وراوية الدِّيوَان يرى: أَن مَا وَجعل ابْن جنّي والمعري فِي شرحيهما على الدُّيُون اسْم أنّ ضمير شَأْن محذوفا ليستقيم اقتران الْبَاء بقوله باقتل الَّذِي هُوَ بِحَسب الظَّاهِر خبر عَن (أنّ) وَلَعَلَّ التفادي من تكلّف جعل اسْم (أَن) ضمير شَأْن هُوَ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيّ لتغيير الْكَلِمَة الأولى من المصراع الأول.

[سورة الأحقاف (46) : آية 27]

وَ (إِذْ) ظَرْفٌ، أَيْ مُدَّةُ جُحُودِهِمْ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْلِيلِ لِاسْتِوَاءِ مُؤَدَّى الظَّرْفِ وَمُؤَدَّى التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّيْءَ مِنَ الْإِغْنَاءِ مُعَلِّقًا نَفْيَهُ بِزَمَانِ جَحْدِهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِضَافَةِ إِذْ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، عُلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ الزَّمَانِ تَأْثِيرًا فِي نَفْيِ الْإِغْنَاءِ. وَآيَاتُ اللَّهِ دَلَائِلُ إِرَادَتِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِهِمْ وَمِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَقَدِ انْطَبَقَ مِثَالُهُمْ عَلَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ حَقِيقَةَ الْآيَاتِ بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَحَاقَ بِهِمْ: أَحَاطَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الْعَذَابُ، عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَسُوء نظرهم. [27] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 27] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) أَتْبَعَ ضَرْبَ الْمَثَلِ بِحَالِ عَادٍ مَعَ رَسُولِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ لَيْسَ وَحِيدًا فِي بَابِهِ فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَقْوَامًا آخَرِينَ مِنْ مُجَاوَرِيهِمْ تُمَاثِلُ أَحْوَالُهُمْ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ قُرَاهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُونَهَا وَيَسْمَعُ عَنْهَا الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهَا، وَهِيَ قُرَى ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَسَبَأٍ وَقَوْمِ تُبَّعٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ [الْأَحْقَاف: 21] إِلَخْ. وَكُنِّيَ عَنْ إِهْلَاكِ الْأَقْوَامِ بِإِهْلَاكِ قُرَاهُمْ مُبَالَغَةً فِي اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا أُهْلِكَتِ الْقَرْيَةُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا كَنَّى عَنْتَرَةُ بِشَكِّ الثِّيَابِ عَنْ شَكِّ الْجَسَدِ فِي قَوْلِهِ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] . وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ تَنْوِيعُهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَأَصْلُ مَعْنَى التَّصْرِيفِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ لِأَنَّهُ

[سورة الأحقاف (46) : آية 28]

مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّرْفِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ. وَكُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنِ التَّبْيِينِ وَالتَّوْضِيحِ لِأَنَّ تَعَدُّدَ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ يَزِيدُ الْمَقْصُودَ وُضُوحًا. وَمَعْنَى تَنْوِيعِ الْآيَاتِ أَنَّهَا تَارَةً تَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ النَّظَرِيَّةِ، وَتَارَةً بِالتَّهْدِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَأُخْرَى بِالْوَعِيدِ، وَمَرَّةً بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ وَشُكْرِهَا. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ التَّرَجِّي وَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ رَجَاءَ رُجُوعِهِمْ. وَالرُّجُوعُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الطَّلَبِ، أَيْ تَوْسِعَةً لَهُمْ وَإِمْهَالًا لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَّعِظُوا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَهُمْ سَوَاءٌ فِي تَكْوِينِ ضُرُوبِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ زِيَادَةً عَلَى مَا صُرِّفَ لَهُمْ مِنْ آيَاتِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالْكَلَامُ عَلَى (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْبَقَرَة. [28] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 28] فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِعَذَابِ عَادٍ الْمُفَصَّلِ، وَبِعَذَابِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُجْمَلِ، فُرِّعَ عَلَيْهِ تَوْبِيخٌ مُوَجَّهٌ إِلَى آلِهَتِهِمْ إِذْ قَعَدُوا عَنْ نَصْرِهِمْ وَتَخْلِيصِهِمْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ تَوْجِيهُ التَّوْبِيخِ إِلَى الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ النَّهْيِ وَنَحْوِهِ لِغَيْرِ الْمَنْهِيِّ لِيَجْتَنِبَ الْمَنْهِيُّ أَسْبَابَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هُنَا. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّوْبِيخِ تَخْطِئَةُ الْأُمَمِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ لِلنَّصْرِ وَالدَّفْعِ وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ تَعْرِيضًا بِالسَّامِعِينَ الْمُمَاثِلِينَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ آلِهَةٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِتْمَامًا لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّوْبِيخِ بِطَرِيقِ التَّنْظِيرِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ آلَ إِلَى مَعْنَى نَفْيِ النَّصْرِ. وَحَرْفُ لَوْلَا إِذَا دَخَلَ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ كَانَ أَصْلُهُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّحْضِيضِ، أَيْ تَحْضِيضِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ لَوْلَا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِذَا كَانَ

الْفَاعِلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ بِالْكَلَامِ كَانَتْ لَوْلَا دَالَّةً على التوبيخ وَنَحْو إِذْ لَا طَائِلَ فِي تَحْضِيضِ الْمُخَاطَبِ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَقَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ: إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَعُومِلَتِ الْأَصْنَامُ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ بِإِطْلَاقِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِمْ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وقُرْباناً مُصْدَرٌ بِوَزْنِ غُفْرَانٍ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ حِكَايَةً لِزَعْمِهِمُ الْمَعْرُوفَ الْمَحْكِيَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . وَهَذَا الْمَصْدَرُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ اتَّخَذُوا وَمَفْعُولِهِ، ومِنْ دُونِ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِ اتَّخَذُوا. ودُونِ بِمَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ، أَيْ مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ فِي اتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً وَهُوَ حِكَايَةٌ لِحَالِهِمْ لزِيَادَة تشويهها وتشبيعها. وبَلْ بِمَعْنَى لَكِنْ إِضْرَابًا وَاسْتِدْرَاكًا بَعْدَ التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ مَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً وَلَا قَرَّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لِيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ، أَيْ بَلْ غَابُوا عَنْهُمْ وَقْتَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَالضَّلَالُ أَصْلُهُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ وَاسْتُعِيرَ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْحُضُورِ اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً، أَيْ غَابُوا عَنْهُمْ وَلَوْ حَضَرُوا لَنَصَرُوهُمْ، وَهَذَا نَظِيرُ التَّهَكُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [64] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَذلِكَ إِفْكُهُمْ فَهُوَ فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةِ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ وَقَرِينَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: ضَلُّوا عَنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً مَنْ زَعَمَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِفْكُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَالِافْتِرَاءُ: نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ وَهُوَ ابْتِكَارُ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَيُرَادِفُ الِاخْتِلَاقَ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَرْيِ الْجِلْدِ، فَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي يَقُولُهُ، فَعَطْفُ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 إلى 32]

عَلَى إِفْكُهُمْ عَطْفُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، فَإِنَّ زَعْمَهُمُ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَذِبٌ مَرْوِيٌّ مِنْ قَبْلُ فَهُوَ إِفْكٌ. وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَذَلِكَ افْتِرَاءٌ اخْتَرَعُوهُ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ افْتِرَاءَهُمْ رَاسِخٌ فِيهِمْ. وَمَجِيءُ يَفْتَرُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ افتراءهم متكرر. [29- 32] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : الْآيَات 29 إِلَى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) هَذَا تأييد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ سَخَّرَ اللَّهُ الْجِنَّ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدَّقًا عِنْدَ الثَّقَلَيْنِ وَمُعَظَّمًا فِي الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولٍ قَبْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْجِنِّ تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ وَهُمْ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ عَلِمُوا الْقُرْآنَ وَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْإِنْسِ وَمِنْ جنس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ لَمْ يَزَالُوا فِي رَيْبٍ مِنْهُ وَتَكْذِيبٍ وَإِصْرَارٍ، فَهَذَا مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ لِأَحْوَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِحَالِ مُمَاثَلِيهِمْ فِي الْكُفْرِ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ إِيمَانِ الْجِنِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: 18] . فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ [الْأَحْقَاف: 21] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ هُنَا إِذْ صَرَفْنا بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ

وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَهُ لِتَسْجِيلِ بُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَهْتَدِي وَلِتُكْتَبَ تَبِعَتُهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أرسل مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْجِنَّ حَضَرُوا بِعِلْمٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ. فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ فَلَمَّا كَانُوا بِنَخْلَةَ، اسْمُ مَوْضِعٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا» . وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «افتقدنا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا مَا فُعِلَ بِهِ اغْتِيلَ أَوْ وَاسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ فَقَالَ «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ» . وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَادِثُ خَارِقُ عَادَةٍ وَهُوَ معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] . وَالصَّرْفُ: الْبَعْثُ. وَالنَّفَرُ: عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْعِشْرِينَ. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْجِنِّ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْإِنْسِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ. وَجُمْلَةُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْجِنِّ وَحَيْثُ كَانَتِ الْحَالُ قَيْدًا لِعَامِلِهَا وَهُوَ صَرَفْنا كَانَ التَّقْدِيرُ: يَسْتَمِعُونَ مِنْكَ إِذا حَضَرُوا لديك فَصَارَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا مُؤَدَّى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. فَالْمَعْنَى: صَرَفْنَاهُمْ إِلَيْكَ لِيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ. وَضَمِيرُ حَضَرُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ حَضَرُوا إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَضَرُوا قَارِئَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَنْصِتُوا أَمْرٌ بِتَوْجِيهِ الْأَسْمَاعِ إِلَى الْكَلَامِ اهْتِمَامًا بِهِ لِئَلَّا يَفُوتَ مِنْهُ شَيْء. و

فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ» ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ فِي خُطْبَتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» ، أَيْ قَالُوا كُلُّهُمْ: أَنْصِتُوا، كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُهَا لِلْبَقِيَّةِ حِرْصًا عَلَى الْوَعْيِ فَنَطَقَ بِهَا جَمِيعُهُمْ. وقُضِيَ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ. وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ قُضِيَتْ قِرَاءَتُهُ، أَيِ انْتهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ حَضَرُوا وَبِانْتِهَائِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مَنْ صَرْفِ الْجِنِّ ليستمعوا الْقُرْآن ف (ولّوا) ، أَيِ انْصَرَفُوا مِنْ مَكَانِ الِاسْتِمَاعِ وَرَجَعُوا إِلَى حَيْثُ يَكُونُ جِنْسُهُمْ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ قَوْمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ، نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْأُنْسِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّبِيهَةِ بِحَالَةِ النَّاسِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْمِ عَلَى أُمَّةِ الْجِنِّ نَظِيرُ إِطْلَاقِ النَّفَرِ عَلَى الْفَرِيقِ مِنَ الْجِنِّ الْمَصْرُوفِ إِلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَالْمُنْذِرُ: الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ مُخِيفٍ. وَمَعْنَى وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ رَجَعُوا إِلَى بَنِي جِنْسِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي حَضْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتسمعون الْقُرْآنَ فَأَبْلَغُوهُمْ مَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا فِيهِ التَّخْوِيفُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّبْشِيرُ لِمَنْ عَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمْ حُضُورَهُمْ لِقِرَاءَةِ سُورَةٍ جَامِعَةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ كَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ. وَجُمْلَةُ قالُوا يَا قَوْمَنا إِلَى آخِرِهَا مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ: مُنْذِرِينَ. وَحِكَايَةُ تَخَاطُبِ الْجِنِّ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ كَلَامٍ عَرَبِيٍّ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ لِلْجِنِّ مَعْرِفَةً بِكَلَامِ الْإِنْسِ، وَكَذَلِكَ فَعْلُ قالُوا مَجَازٌ عَنِ الْإِفَادَةِ، أَيْ أَفَادُوا جِنْسَهُمْ بِمَا فَهِمُوا مِنْهُ بِطُرُقِ الِاسْتِفَادَةِ عِنْدَهُمْ مَعَانِيَ مَا حُكِيَ بِالْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْل: 18] . وابتدأوا إِفَادَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كِتَابًا تَمْهِيدًا لِلْغَرَضِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَوَصْفِهِ لِيَسْتَشْرِفَ الْمُخَاطَبُونَ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ.

وَوَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى دُونَ: أُنْزِلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ «التَّوْرَاةَ» آخِرُ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ نَزَلَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ بَعْدَهُ فَكُتُبٌ مُكَمِّلَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَمُبَيِّنَةٌ لَهَا مِثْلُ «زبور دَاوُد» و «إنجيل عِيسَى» ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ «التَّوْرَاةِ» فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ جَاءَ بِهَدْيٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْهُ بَيَانُ التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَهَادٍ إِلَى أَزْيَدَ مِمَّا هَدَتْ إِلَيْهِ «التَّوْرَاة» . ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ: يَهْدِي إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ: مَا يُسْلَكُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمُعَامَلَةِ. وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ عَنِ الْقَصْدِ مِنْ سَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ الْحَقِّ مَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ وَتَزْيِيفِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهَا كَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إبلاغ متبعها إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ. وَإِعَادَتُهُمْ نِدَاءَ قَوْمِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامُ قَوْمِهِمْ بِمَا لَقُوا مِنْ عَجِيبِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِهَذَا، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ وَتَجَدُّدَ الْغَرَضِ مِمَّا يَقْتَضِي إِعَادَةَ مِثْلِ هَذَا النِّدَاءِ كَمَا يُعِيدُ الْخَطِيبُ قَوْلَهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ» كَمَا وَقَعَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَاسْتُعِيرَ أَجِيبُوا لِمَعْنَى: اعْمَلُوا وَتَقَلَّدُوا تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِمَا فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْمُنَادِي كَمَا فِي الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيم: 22] أَيْ إِلَّا أَنْ أَمَرْتُكُمْ فَأَطَعْتُمُونِي لِأَنَّ قَوْمَهُمْ لَمْ يَدْعُهُمْ دَاعٍ إِلَى شَيْءٍ، أَيْ أَطِيعُوا مَا طُلِبَ مِنْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوهُ. وداعي اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. وَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ داعِيَ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى طَلَبِ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ اللَّهِ، فَشُبِهَ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ إِلَى اللَّهِ وَاشْتُقَّ مِنْهُ وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ

داعِيَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ وَهِيَ تَابِعَةٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِجَابَةِ لِمَعْنَى الْعَمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ داعِيَ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِالْقُرْآنِ. وَعَطْفُ وَآمِنُوا بِهِ عَلَى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ وَآمِنُوا بِاللَّهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ مَعَ يَغْفِرْ لَكُمْ ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أَوْ عَائِدٌ إِلَى دَاعِيَ اللَّهِ، أَيْ آمِنُوا بِمَا فِيهِ أَوْ آمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجِنَّ مَأْمُورُونَ بِالْإِسْلَامِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ فَتَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ أَجِيبُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُجَابٌ بِفِعْلِ يَغْفِرْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ يَغْفِرْ لَكُمْ بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ احْتِرَازًا فِي الْوَعْدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا تَفْصِيلَ مَا يُغْفَرُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا لَا يُغْفَرُ إِذْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا بَعْضَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحِيطُوا بِمَا فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ عَلَى رَأْيِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يَرَوْنَ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا تُزَادُ فِي النَّفْيِ. وَأَمَّا مِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فَهِيَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يُجِرْكُمْ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَجَارَهُ مِنْ ظُلْمِ فُلَانٍ، بِمَعْنَى مَنَعَهُ وَأَبْعَدَهُ. وَحِكَايَةُ اللَّهِ هَذَا عَنِ الْجِنِّ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالُوهُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْجِنِّ إِدْرَاكًا لِلْمَعَانِي وَعَلَى أَنَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَاجِبٌ عَلَى الْجِنِّ اعْتِقَادُهُ لِأَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ بِالْإِلَهِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ هُوَ الْإِدْرَاكُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْمُدْرَكَاتِ إِذَا تَوَجَّهَتْ مَدَارِكُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ إِذَا نُبِّهُوا إِلَيْهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ إِبْلِيسَ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ نُبِّهُوا إِلَيْهَا بِصَرْفِهِمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُمْ قَدْ نَبَّهُوا قَوْمَهُمْ إِلَيْهَا بِإِبْلَاغِ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى حَسَبِ هَذَا الْمَعْنَى يَتَرَتَّبُ الْجَزَاءُ بِالْعِقَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة: 13] ، وَقَالَ فِي خِطَابِ الشَّيْطَانِ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] ، فَأَمَّا فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ لَائِقَةٍ بِجِنْسِ الْجِنِّ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ مُؤَاخَذُونَ إِذَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي جَزَاءِ الْجِنِّ عَلَى الْإِحْسَانِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالضَّحَّاكُ: كَمَا يُجَازَوْنَ عَلَى الْإِسَاءَةِ يُجَازَوْنَ عَلَى الْإِحْسَانِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَحَكَى الْفَخْرُ أَنَّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا جَدْوَى لَهَا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى أَنَّ الْعَالِمَ إِذا مرّت بهَا الْآيَاتُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَهْمُهَا. وَمَعْنَى فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ عِقَابِ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ إِجَابَتِهِ دَاعِيَهُ، فمفعول بِمُعْجِزٍ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: داعِيَ اللَّهِ أَيْ فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ [12] أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً وَهُوَ نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ يَعْجِزُ طَالِبُهُ، أَيْ نَاجِيًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعِقَابِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ فَجَرَى عَلَى أُسْلُوبِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَّا فَإِنَّ مَكَانَ الْجِنِّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ. ولَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أَيْ لَا نَصِيرَ يَنْصُرُهُ عَلَى اللَّهِ وَيَحْمِيهِ مِنْهُ، فَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى النَّجَاةِ بِالِاسْتِعْصَامِ بِمَكَانٍ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ قُدْرَةُ اللَّهِ، وَلَا بِالِاحْتِمَاءِ بِمَنْ يَسْتَطِيعُ حِمَايَتَهُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ. وَذِكْرُ هَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالَهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِتَسَبُّبِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [لُقْمَان: 5] . وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مَجَازِيَّةٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ فِي وِعَاءٍ هُوَ الضَّلَالُ. وَالْمُبِينُ: الْوَاضِحُ، لِأَنَّهُ ضَلَالٌ قَامَتِ الْحُجَجُ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى أَنه بَاطِل.

[سورة الأحقاف (46) : آية 33]

[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 33] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: 17، 18] فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِمَصِيرِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ ضَلَالِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ وَهُوَ الضَّلَالُ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى إِحَالَةِ الْبَعْثِ، بَعْدَ أَنْ أُطِيلَ فِي إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَفِي إِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وتكذيبهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا عَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ فَقَدِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَحْقَاف: 3] الْآيَةَ وَيَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ إِلَى قَوْلِهِ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَحْقَاف: 17] . وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ. وَأُخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ بَيْنَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ مُشَاهَدَةٌ، وَهِيَ دَلَالَةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ عَدَمٍ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْرَضَ بِالْعَقْلِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ كَامِلُ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ. وَوَقَعَتْ أَنَّ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَرَوْا. وَدَخَلَتِ الْبَاءُ الزَّائِدَةُ عَلَى خَبَرِ أَنَّ وَهُوَ مُثبت وموكّد، وَشَأْنُ الْبَاءِ الزَّائِدَةِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ، لِأَنَّ أَنَّ وَقَعَتْ فِي خَبَرِ الْمَنْفِيِّ وَهُوَ أَوَلَمْ يَرَوْا. وَوَقَعَ بَلى جَوَابًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَلَا يُرِيبُكَ فِي هَذَا مَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ فِي تَأْوِيلِ النَّفْيِ، وَهُوَ هُنَا اتَّصَلَ بِفِعْلٍ مَنْفِيٍّ بِ (لَمْ) فَيَصِيرُ نَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ بِحَرْفِ (نَعَمْ) دُونَ بَلى، لِأَنَّ كَلَامَ الْمُعْرِبِينَ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ فِي قُوَّةِ مَنْفِيٍّ عِنْدَ الْمُسْتَفْهِمِ بِهِ، وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ يُعَامِلُ مُعَامَلَةَ النَّفْيِ فِي الْأَحْكَامِ. وَكُونُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى شَيْءٍ لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعْطَى جَمِيعَ أَحْكَامِهِ.

وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ هُوَ خَبَرُ أَنَّ وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنْكِرُونَهُ فَلَا تَعْجِيبَ فِي شَأْنِهِ. وَوُقُوعُ الْبَاءِ فِي خَبَرِ أَنَّ وَهُوَ بِقادِرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ حَرْفُ أَنَّ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ فِعْلِ يَرَوْا الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فَسَرَى النَّفْيُ لِلْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ، فَقُرِنَ بِالْبَاءِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي «الْكَشَّافِ» «قَالَ الزَّجَّاجُ لَوْ قُلْتَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ جَازَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَيْسَ الله بِقَادِر» اهـ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: 79] يُرِيدَانِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهِ النُّدُورِ. وَأَمَّا مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِحَرْفِ بَلى فَهُوَ جَوَابٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْجِيبُ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: بَلى تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَلْقِينًا لِمَا يُجِيبُونَهُمْ بِهِ. وَحَرْفُ بَلى لَمَّا كَانَ جَوَابًا كَانَ قَائِمًا مَقَامَ جُمْلَةٍ تَقْدِيرُهَا: هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى. وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَعْيَ مُضَارِعُ عَيِيَ مِنْ بَابِ رَضِيَ، وَمَصْدَرُهُ الْعِيُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ عَنِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ الْعِيُّ فِي الْكَلَامِ، أَيْ عُسْرُ الْإِبَانَةِ. وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ هُنَا بَلَاغَةٌ لِيُفِيدَ انْتِفَاءَ عَجْزِهِ عَنْ صُنْعِهَا وَانْتِفَاءَ عَجْزِهِ فِي تَدْبِيرِ مَقَادِيرِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا، فَكَانَتْ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ صَالِحَةً لِتَعْلِيقِ الْخَلْقِ بِالْعِيِّ بِمَعْنَيَيْهِ. وَكثير من أيمة اللُّغَةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْعِيَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّعَبِ وَعَنْ عَجْزِ الرَّأْيِ وَعَجْزِ الْحِيلَةِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ: الْعِيُّ خَاصٌّ بِالْعَجْزِ فِي الْحِيلَةِ وَالرَّأْيِ. وَأَمَّا الْإِعْيَاءُ فَهُوَ التَّعَبُ مِنَ الْمَشْيِ وَنَحْوِهِ، وَفِعْلُهُ أَعْيَا، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» . وَظَاهِرُ الْأَسَاسِ: أَنَّ أَعْيَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَعَدِّيًا، أَيْ هَمْزَتُهُ هَمْزَةُ تَعْدِيَةٍ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ.

[سورة الأحقاف (46) : آية 34]

وَزَعَمَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ مِثْلَهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ. قُلْتُ: وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَلَمْ يَعْيَ دَالًّا عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِدَقَائِقِ مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيُوجِدَهُمَا وَافِيَيْنِ بِهِ. وَتَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى إِيجَادِهِمَا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى أَوْ يَكُونُ إِيكَالُ أَمْرِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِمَا إِلَى عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَنْبِيهَهُمْ إِلَى مَا فِي نِظَامِ خَلْقِهِمَا مِنَ الدَّقَائِقِ وَالْحِكَمِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا لُزُومُ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَعَلَيْهِ أَيْضًا تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ يَعْيَ بِالْبَاءِ مُتَعَيِّنَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِقادِرٍ بِالْمُوَحَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ يَقْدِرُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَقْدِرُ فِي مَحَلِّ خَبَرِ أَنَّ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ بَلى لِأَنَّ هَذِهِ تُفِيدُ الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (أَنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ أَنْ يُمْكِنَ إِحْيَاءُ اللَّهِ الْمَوْتَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَحَالُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَنْكَرُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ جِيءَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِوَصْف بِقادِرٍ، وَفِي الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِوَصْفِ قَدِيرٌ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ دَلَالَةٍ عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ وصف قَادر. [34] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 34] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عَرْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّارِ مِنْ آثَارِ الْجَزَاءِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ أَعْقَبَ بِمَا

[سورة الأحقاف (46) : آية 35]

يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْإِنْذَارِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ لَهُمْ مِمَّا لَا ممندوحة لَهُمْ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ مَا رَدَّ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَوْله: بَلى (¬1) [الْأَحْقَاف: 33] وَمَا يَرُدُّونَ فِي عِلْمِ أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِمْ: بَلى وَرَبِّنا. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَحْقَاف: 33] إِلَخْ. وَأَوَّلُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ قَوْلُهُ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ لِأَنَّهُ مَقُولُ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيُقَالُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ بِدَلِيل قَوْله بعده قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ وَتَنْدِيمٌ عَلَى مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجَزَاءَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ، وَقَالُوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: 59] ، وَإِنَّمَا أَقْسَمُوا عَلَى كَلَامِهِمْ بِقَسَمِ وَرَبِّنا قَسَمًا مُسْتَعْمَلًا فِي الندامة والتغليظ لِأَنْفُسِهِمْ وَجَعَلُوا الْمُقْسَمَ بِهِ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ تَحَنُّنًا وَتَخَضُّعًا. وَفَرَّعَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهَانَةِ. [35] [سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 35] فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِهِمُ الْقُرْآنَ مُفْتَرًى وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: 7] ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِعَادٍ. فَأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِالرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: فَلهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَصِيحَةً. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَعَلِمْتَ كَيْفَ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَانْتَصَرْنَا بِرُسُلِنَا فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا. وَأولُوا الْعَزْمِ: أَصْحَابُ الْعَزْمِ، أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ. وَالْعَزْمُ: نِيَّةٌ مُحَقَّقَةٌ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ دُونَ تَرَدُّدٍ. قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: 159] وَقَالَ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَة: 235] . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَعْنِي نَفْسَهُ: إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ ... وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبًا وَالْعَزْمُ الْمَحْمُودُ فِي الدِّينِ: الْعَزْمُ عَلَى مَا فِيهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَصَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَقِوَامُهُ الصَّبْرُ على الْمَكْرُوه وباعث التَّقْوَى، وَقُوَّتُهُ شِدَّةُ الْمُرَاقَبَةِ بِأَنْ لَا يَتَهَاوَنَ الْمُؤْمِنُ عَنْ مُحَاسَبَتِهِ نَفْسَهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: 186] وَقَالَ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] . وَهَذَا قَبْلَ هُبُوطِ آدَمَ إِلَى عَالَمِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرُّسُلِ تَبْعِيضِيَّةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ الرُّسُلِ أُولُو عَزْمٍ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً. وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّبْرِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ بِصَبْرِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِثْلُهُمْ لِأَنَّهُ ممتثل أَمر رَبِّهِ، فَصَبْرُهُ مَثِيلٌ لِصَبْرِهِمْ، وَمَنْ صَبَرَ صَبْرَهُمْ كَانَ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَأَعْقَبَ أَمْرَهُ بِالصَّبْرِ بِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، أَيْ لَا تَطْلُبْ مِنَّا تَعْجِيلَهُ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يُنَافِي الْعَزْمَ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ تَطْوِيلًا لِمُدَّةِ صَبر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْبِ عَزْمِهِ قُوَّةً. وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، تَقْدِيرُهُ: الْعَذَابُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لَامُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ لِأَجْلِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا تَسْتَعْجِلْ لِهَلَاكِهِمْ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ

عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ بِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُقُوعِهِ تَطْوِيلُ أَجْلِهِ وَلَا تَعْجِيلُهُ، قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَ قَوْلَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ وَهُمْ عِنْدَ حُلُولِهِ مُنْذُ طُولِ الْمُدَّةِ يُشْبِهُ حَالُهُمْ حَالَ عَدَمِ الْمُهْلَةِ إِلَّا سَاعَةً قَلِيلَةً. ومِنْ نَهارٍ وَصْفُ السَّاعَةِ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ سَاعَةَ النَّهَارِ تَبْدُو لِلنَّاسِ قَصِيرَةً لِمَا لِلنَّاسِ فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ بِخِلَافِ سَاعَةِ اللَّيْلِ تَطُولُ إِذْ لَا يَجِدُ السَّاهِرُ شَيْئًا يَشْغَلُهُ. فَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجُمُعَة قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ» ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَالسَّاعَةُ جُزْءٌ مِنَ الزَّمَنِ. بَلاغٌ. فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ لِيَعْلَمَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: بَلاغٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا بَلَاغٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعُنْوَانِ وَالطَّالِعِ نَحْوِ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الظَّهِيرِ: «ظَهِيرٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ» ، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الصُّكُوكِ نَحْوِ: «إِيدَاعُ وَصِيَّةٍ» ، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي التَّأْلِيفِ نَحْوِ مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» «وُقُوتُ الصَّلَاةِ» . وَمِنْهُ مَا يُكْتَبُ فِي أَعَالِي الْمَنْشُورَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ كَلِمَةُ: «إِعْلَانٌ» . وَقَدْ يَظْهَرُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: 52] ، وَقَوْلِ سِيبَوَيْهٍ: «هَذَا بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ» ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: 106] . وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالتَّحْصِيلِ مِثْلُ جُمْلَةِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: 196] ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [الْبَقَرَة: 134] .

فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ. فَرْعٌ عَلَى جُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ إِلَى مِنْ نَهارٍ، أَيْ فَلَا يُصِيبُ الْعَذَابُ إِلَّا الْمُشْرِكِينَ أَمْثَالَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: 130] . وَمَعْنَى التَّفْرِيعِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ مِمَّا سَمِعْتَ أَنَّهُ لَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9] ، وَقَوله: لتنذر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَحْقَاف: 12، 13] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَاف: 27] الْآيَةَ. وَالْإِهْلَاكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِيمَا مَضَى بَعْضُهُ إِهْلَاكٌ حَقِيقِيٌّ مِثْلُ مَا فِي قِصَّةِ عَادٍ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى، وَبَعْضُهُ مُجَازِيٌّ وَهُوَ سُوءُ الْحَالِ، أَيْ عَذَابُ الْآخِرَةِ: وَذَلِكَ فِيمَا حُكِيَ مِنْ عَذَابِ الْفَاسِقِينَ. وَتَعْرِيفُ الْقَوْمُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُفِيدٌ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فَيَعُمُّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الْقُرْآنُ فَكَانَ لِهَذَا التَّفْرِيعِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ يُهْلَكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِتَغْلِيبِ إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي لَمَّا يَقَعْ عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيِ الْقَوْمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ الْآيَةَ، فَيَكُونُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ إِهْلَاكِهِمْ أَنَّهُ الْإِشْرَاكُ. وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا الْفِسْقُ عَنِ الْإِيمَانِ وَهُوَ فِسْقُ الْإِشْرَاكِ. وَأَفَادَ الِاسْتِثْنَاءُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَهْلِكُونَ هَذَا الْهَلَاكَ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

47- سورة محمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 47- سُورَةُ مُحَمَّدٍ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَلِكَ فِي التَّفَاسِيرِ قَالُوا: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِتَالِ. وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْأَشْهُرُ الْأَوَّلُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا اسْم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهَا فَعُرِفَتْ بِهِ قَبْلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [144] الَّتِي فِيهَا وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَة الْقِتَال فَلِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، مَعَ مَا سَيَأْتِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [مُحَمَّد: 20] أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْقِتَالِ تَسْمِيَةً قُرْآنِيَّةً. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» . وَعَنِ النَّسَفِيِّ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَلَعَلَّه وهم ناشىء عَمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ [مُحَمَّد: 13] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى حِرَاءٍ، أَيْ فِي الْهِجْرَةِ. قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَعُدَّتِ السَّادِسَةَ وَالتِسْعِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَقَبْلَ سُورَةِ الرَّعْدِ. وَآيُهَا عُدَّتْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا مُعْظَمُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ التَّحْرِيضُ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَرْغِيبُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ. افْتُتِحَتْ بِمَا يُثِيرُ حَنَقَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ دِينِهِ. وَأَعْلَمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَا يُسَدِّدُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ مُصْلِحُ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ ذَلِكَ كَفَالَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. وَانْتُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَعَدَمِ الْإِبْقَاءِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهَا وَعْدُ الْمُجَاهِدِينَ بِالْجَنَّةِ، وَأَمْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَاهِدَةِ الْكُفَّارِ وَأَنْ لَا يَدْعُوهُمْ إِلَى السَّلْمِ، وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَوَصْفُ جَهَنَّمَ وَعَذَابِهَا. وَوَصْفُ الْمُنَافِقِينَ وَحَالِ انْدِهَاشِهِمْ إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا الْحَضُّ عَلَى الْقِتَالِ، وَقِلَّةِ تَدَبُّرِهِمُ الْقُرْآنَ وَمُوَالَاتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ. وَتَهْدِيدُ الْمُنَافِقِينَ بِأَن الله ينبىء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِيمَاهُمْ وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَرُوجَ عَلَيْهِمْ نِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ. وَخُتِمَتْ بِالْإِشَارَةِ إِلَى وَعْدِ الْمُسْلِمِينَ بِنَوَالِ السُّلْطَانِ وَحَذَّرَهُمْ إِنْ صَارَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرُ مِنَ الْفساد والقطيعة. [1] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) صَدَّرَ التَّحْرِيضَ عَلَى الْقِتَالِ بِتَوْطِئَةٍ لِبَيَانِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ لِكُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَتَحْقِيرِ أَمْرِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ وَكَرَاهِيَةً فَتَثُورُ فِيهِمْ هِمَّةُ الْإِقْدَامِ عَلَى قِتَالِ الْكَافِرِينَ، وَعَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ، حِينَ يَعْلَمُونَ اللَّهَ يَخْذُلُ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: 4] .

وَفِي الِابْتِدَاءِ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ كُفْرَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُنَاوَأَتَهُمْ لِدِينِ اللَّهِ تَشْوِيقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْحُكْمِ الْمُنَاسِبِ لِلصِّلَةِ، وَإِيمَاءٌ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ أَيْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ، وَبَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ. وَالْكُفْرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ حَيْثُمَا أُطْلِقَ الْكُفْرَ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةِ إِرَادَةِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ لِلْمُشْرِكِينَ. وَهِيَ: الْكُفْرُ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَضَلَالُ الْأَعْمَالِ النَّاشِئُ عَنْ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. والصدّ عَن سَبِيل: هُوَ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ مُتَابَعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَصَرْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأُضِيفَ (السَّبِيلُ) إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] . وَاسْتُعِيرَ اسْمُ السَّبِيلِ لِلدِّينِ لِأَنَّ الدِّينَ يُوصل إِلَى رضى اللَّهِ كَمَا يُوَصِّلُ السَّبِيلُ السَّائِرَ فِيهِ إِلَى بُغْيَتِهِ. وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَدُّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْحَج: 25] . وَمِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: إخراجهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِطْعَامُهُمُ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ لِيَثْبُتُوا مَعَهُمْ وَيَكْثُرُوا حَوْلَهُمْ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُرَيْشٍ. وَهُمْ: أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَنُبَيْهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَهَذَا الْأَخِيرُ أَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ وَصَارَ مِنْ خِيرَةِ الصَّحَابَةِ. وَعُدَّ مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو وَمِقْيَسٌ الْجُمَحِيُّ وَالْعَبَّاسُ بْنُ

[سورة محمد (47) : آية 2]

عَبْدِ الْمَطْلَبِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَهَذَانِ أَسْلَمَا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا وَفِي الثَّلَاثَةِ الْآخَرِينَ خِلَافٌ. وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] . وَالْإِضْلَالُ: الْإِبْطَالُ وَالْإِضَاعَةُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الضَّلَالِ. وَأَصْلُهُ الْخَطَأُ لِلطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ يُرَادُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْمَعَانِيَ الْأُخَرَ. وَهَذَا اللَّفْظُ رَشِيقُ الْموقع هُنَا لِأَنَّهُ اللَّهَ أَبْطَلَ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي تَبْدُو حَسَنَةً، فَلَمْ يُثِبْهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ، وَنَحْوِهِمَا، وَلِأَنَّ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ أَنْ كَانَ غَالِبُ أَعْمَالِهِمْ عَبَثًا وَسَيِّئًا وَلِأَنَّ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ خَيَّبَ سَعْيَهُمْ فَلَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ عَلَى طَائِلٍ فَانْهَزَمُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَذَهَبَ إِطْعَامُهُمُ الْجَيْشَ بَاطِلًا، وَأُفْسِدَ تَدْبِيرُهُمْ وكيدهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَشْفُوا غَلِيلَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَوَالَتِ انْهِزَامَاتُهُمْ فِي الْمَوَاقِعِ كُلِّهَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الْأَنْفَال: 36] . [2] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 2] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) هَذَا مُقَابِلُ فَرِيقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهُوَ فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَإِيرَادُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهُ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ، أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ إِلَخْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أُثْبِتَتْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ ضِدَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَهِيَ: الْإِيمَانُ مُقَابِلُ الْكُفْرِ، وَالْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ مُقَابِلُ بَعْضِ مَا تَضَمَّنُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] ، وكَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ مُقَابِلُ بَعْضٍ آخَرَ مِمَّا تَضَمَّنُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، وَأَصْلَحَ بالَهُمْ مُقَابِلُ بَقِيَّةِ مَا تَضَمَّنُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وَزِيدَ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ

وَهُوَ نَظِيرٌ لِوَصْفِهِ بِسَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [مُحَمَّد: 1] . وَعُبِّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ هَنَا بِوَصْفِ الرَّبِّ زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ رَبِّهِمْ. وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ غُفْرَانُهَا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَكَفَّرَ لَهُمُ الصَّغَائِرَ، وَكَفَّرَ عَنْهُمْ بَعْضَ الْكَبَائِرِ بِمِقْدَارٍ يَعْلَمُهُ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً فِي جَانِبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: 102] . وَالْبَالُ: يُطْلَقُ عَلَى الْقَلْبِ، أَيِ الْعَقْلُ وَمَا يَخْطُرُ لِلْمَرْءِ مِنَ التَّفْكِيرِ وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ وَلَعَلَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ ... وَكَانَ عِدَاءُ الْوَحْشِ مِنِّي عَلَى بَالٍ وَقَالَ: عَلَيْهِ الْقَتَامُ سَيْءُ الظَّنِّ وَالْبَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا بَالُكَ؟ أَيْ مَاذَا ظَنَنْتَ حِينَ فَعَلْتَ كَذَا، وَقَوْلُهُمْ: لَا يُبَالِي، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، أَيْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْعُقَيْلِيِّ فِي الْحَمَاسَةِ: وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ ... وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي أَيْ لَا نُفَكِّرُ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَيْ مَعْنَى لَا أُبَالِي: لَا أَكْرَهُ اهـ. وَأَحْسَبُهُمْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى وَلَمْ يَضْبِطُوا تَفْسِيرَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ. وَيُطْلَقُ الْبَالُ عَلَى الْحَالِ وَالْقَدَرِ. وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» . قَالَ الْوَزِيرُ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي شَرْحِ دِيوَانِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ أَقُولُ لِلْمِعَرِّي: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيَقُولُ: بِخَيْرٍ أَصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ. وَلَمْ يُوفِّهِ صَاحِبُ الْأَسَاسِ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ وَأَدْمَجَهُ فِي مَادَّةِ (بَلَوَ) . وَإِصْلَاحُ الْبَالِ يَجْمَعُ إِصْلَاحَ الْأُمُورِ كُلِّهَا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ تَأْتِي عَلَى

[سورة محمد (47) : آية 3]

حَسَبِ رَأْيِهِ، فَالتَّوْحِيدُ أَصْلُ صَلَاحِ بَالِ الْمُؤْمِنِ، وَمِنْهُ تَنْبَعِثُ الْقُوَى الْمُقَاوِمَةُ لِلْأَخْطَاءِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تَلَبَّسَ بِهَا أَهْلُ الشِّرْكِ، وَحَكَاهَا عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَالْمَعْنَى: أَقَامَ أَنْظَارَهُمْ وَعُقُولَهُمْ فَلَا يُفَكِّرُونَ إِلَّا صَالِحًا وَلَا يَتَدَبَّرُونَ إِلَّا نَاجِحًا. [3] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 3] ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ هَذَا تَبْيِينٌ لِلسَّبَبِ الْأَصِيلِ فِي إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ وَإِصْلَاحِ بَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلُ تَمْيِيزٍ تَنْوِيهًا بِهِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَتَابِعَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَهَمَّا أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] وكَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [مُحَمَّد: 2] ، مَعَ اعْتِبَارِ عِلَّتَيِ الْخَبَرَيْنِ الْمُسْتَفَادَتَيْنِ مِنِ اسْمِي الْمَوْصُولِ وَالصِّلَتَيْنِ وَمَا عُطِفَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ إِلَخْ خَبَرُهُ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَمَجْرُورُهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ ذَلِكَ كَائِنٌ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ الْبَاطِلَ وَاتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَامِعًا لِلْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْهُ مُتَعَلِّقًا بِالْخَبَرَيْنِ وَسَبَبًا لَهُمَا. وَفِي هَذَا مُحَسِّنُ الْجَمْعِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ وَيُسَمُّونَهُ كَعَكْسِهِ التَّفْسِيرَ لِأَنَّ فِي الْجَمْعِ تَفْسِيرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. وَشَاهِدُهُ قَوْلُ حَسَّانَ مِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمْ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنِ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا البِدَعُ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا الْكَلَامُ يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّفْسِيرَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ. وَنُقِلَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ لَمَّا فَسَّرَ لِطَلَبَتِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقُيِّدَ عَنْهُ فِي الْحَوَاشِي قَوْلَهُ:

بِهِ فُجِعَ الْفُرْسَانُ فَوْقَ خُيُولِهِمْ ... كَمَا فُجِعَتْ تَحْتَ السُّتُورِ الْعَوَاتِقُ تَسَاقَطَ مِنْ أَيْدِيهِمُ الْبِيضُ حَيْرَةً ... وَزُعْزِعَ عَنْ أَجِيَادِهِنَّ الْمَخَانِقُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا والَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ الْحَقُّ والْباطِلَ. وَفِي بَيْتَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ فَوْقَ وَتَحْت. وَاتِّبَاعُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاع الْحق تمثيليتان لِهَيْئَتَيِ الْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ أَيِمَّةُ الشِّرْكِ أَوْلِيَاءَهُمْ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، أَيْ عَمِلُوا بِالْبَاطِلِ وَعَمِلَ الْآخَرُونَ بِالْحَقِّ. وَوَصْفُ الْحَقَّ بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهِ وَتَشْرِيفٌ لَهُمْ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ. تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّبْيِينِ لِلْحَالَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَحْوَالَ لِلنَّاسِ بَيَانًا وَاضِحًا. وَالْمَعْنَى: قَدْ بَيَّنَّا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَالَهُ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُعَامَلَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ خَفَاءٌ فِي كُنْهِ الْحَالَيْنِ، وَمِثْلَ ذَلِكَ الْبَيَانِ يُمَثِّلُ الله للنَّاس أَحْوَالهم كَيْلَا تَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الْأَسْبَابُ وَالْمُسَبِّبَاتُ. وَمَعْنَى يَضْرِبُ: يُلْقِي وَهَذَا إِلْقَاءُ تَبْيِينٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مَثَلٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي تُمَثِّلُ صَاحِبَهَا، أَيْ تَشْهَرُهُ لِلنَّاسِ وَتُعَرِّفُهُمْ بِهِ فَلَا يُلْتَبَسُ بِنَظَائِرِهِ. وَاللَّامُ لِلْأَجَلِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ. وَضَمِيرُ أَمْثالَهُمْ لِلنَّاسِ. وَالْمَعْنَى: كَهَذَا التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَحْوَالَهُمْ فَلَا يَبْقَوْا فِي غَفلَة عَن شؤون أَنْفُسِهِمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ تَحَقُّقِ كُنْهِهِمْ بِحِجَابِ التَّعَوُّدِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْخَبِيثُ بِالطَّيِّبِ، وَلِكَيْ يَكُونُوا عَلَى بَصِيرَة فِي شؤونهم، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِ التَّوَسُّمِ لِتَمْيِيزِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا، فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدَ السُّورَةِ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.

[سورة محمد (47) : الآيات 4 إلى 6]

[سُورَة مُحَمَّد (47) : الْآيَات 4 الى 6] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ لِأَنَّ فِيهَا قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ. وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْعِقَابُ عَلَى مَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ فِدَاءِ الْأَسْرَى الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَال: 67] الْآيَةَ إِذْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ ذَلِكَ مُقَرَّرًا يَوْمَئِذٍ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثَارَةِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ بِتَشْنِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَظُهُورِ خَيْبَةِ أَعْمَالِهِمْ وَتَنْوِيهِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْفِيقِ آرَائِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ: تَهْوِينُ شَأْنِهِمْ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِغْرَاؤُهُمْ بِقَطْعِ دَابِرِهِمْ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنَافِعِ فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بِالْمَالِ لِيَعْبُدَ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ آمِنِينَ. وَذَلِكَ نَاظِرٌ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَإِلَى مَا يُفِيدُهُ التَّعْلِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. و (إِذْ) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَضَرْبَ الرِّقابِ. وَاللِّقَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: الْمُقَابَلَةُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَهِيرٌ لِلِّقَاءِ، يُقَالُ: يَوْمَ اللِّقَاءِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا لِقَاءُ الْحَرْبِ، وَيُقَالُ: إِنْ لَقِيتَ فَلَانًا لَقِيتَ مِنْهُ أَسَدًا، وَقَالَ النَّابِغَةُ: تَجَنَّبْ بَنِي حُنّ فَإِنَّ لِقَاءَهُمْ ... كَرِيهٌ وَإِنْ لَمْ تَلْقَ إِلَّا بَصَائِرُ فَلَيْسَ الْمَعْنَى: إِذَا لَقِيتُمُ الْكَافِرِينَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَبِذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ لِذِكْرِ مُخَصَّصٍ لِفِعْلِ لَقِيتُمُ. وَالْمَعْنَى: فَإِذَا قَاتَلْتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمْعِنُوا فِي قَتْلِهِمْ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ أَنْ قَدْ خَضَدْتُمْ شَوْكَتَهُمْ، فَأْسِرُوا مِنْهُمْ أَسْرَى. وَضَرْبَ الرِّقَابِ: كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِالضَّرْبِ أَمِِِِْ

بِالطَّعْنِ فِي الْقُلُوبِ بِالرِّمَاحِ أَوْ بِالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ، وَأُوثِرَتْ عَلَى كَلِمَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِ الْكِنَايَةِ بَلَاغَةٌ وَلِأَنَّ فِي خُصُوصِ هَذَا اللَّفْظِ غِلْظَةً وَشِدَّةً تُنَاسِبَانِ مَقَامَ التَّحْرِيضِ. وَالضَّرْبُ هُنَا بِمَعْنَى: الْقَطْعُ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ أَحَدُ أَحْوَالِ الْقِتَالِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى شَجَاعَةِ الْمُحَارب لكَونه مواجه عَدُوَّهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ. وَالْمَعْنَى: فَاقْتُلُوهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ بِضَرْبِ السَّيْفِ، أَوْ طَعْنِ الرِّمَاحِ، أَوْ رَشْقِ النِّبَالِ، لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْإِثْخَانُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ مِنْ تَصَارِيفِ مَادَّةِ الْكُفْرِ، نَحْوِ: الْكَافِرِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا، هُوَ الشِّرْكُ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْغَايَةُ مَعَهَا يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى التَّفْرِيعِ. وَالْإِثْخَانُ: الْغَلَبَةُ لِأَنَّهَا تَتْرُكُ الْمَغْلُوبَ كَالشَّيْءِ الْمُثْخَنِ وَهُوَ الثَّقِيلُ الصُّلْبُ الَّذِي لَا يَخِفُّ لِلْحَرَكَةِ وَيُوصَفُ بِهِ الْمَائِعُ الَّذِي جَمُدَ أَوْ قَارَبَ الْجُمُودَ بِحَيْثُ لَا يَسِيلُ بِسُهُولَةٍ، وَوُصِفَ بِهِ الثَّوْبُ وَالْحَبْلُ إِذَا كَثُرَتْ طَاقَاتُهُمَا بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَفَكُّكُهَا. وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى التَّوْهِينِ بِالْقَتْلِ، وَكِلَا الْمَعْنِيِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِذَا فُسِّرَ بِالْغَلَبَةِ كَانَ الْمَعْنَى حَتَّى إِذَا غَلَبْتُمْ مِنْهُمْ مَنْ وَقَعُوا فِي قَبْضَتِكُمْ أَسْرَى فَشَدُّوا وَثَاقَهُمْ وَعَلَيْهِ فَجَوَازُ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ. وَإِذَا فُسِّرَ الْإِثْخَانُ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ فِيهِمْ كَانَ الْمَعْنَى حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْجَيْشِ إِلَّا الْقَلِيلُ فَأْسِرُوا حِينَئِذٍ، أَيْ أَبْقُوا الْأَسْرَى، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ تَأْوِيلٍ فِي نَظْمِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. وانتصب فَضَرْبَ الرِّقابِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ ثُمَّ أُضِيفَ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا، فَلَمَّا حَذَفَ الْفِعْلَ اخْتِصَارًا قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَنَابَ مَنَابَ الْفِعْلِ فِي الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ الْمَفْعُولِ وَأُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ إِضَافَةَ الْأَسْمَاءِ إِلَى الْأَسْمَاءِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ رَاجِحٌ فِي الِاسْمِيَّةِ.

وَالشَّدُّ: قُوَّةُ الرَّبْطِ، وَقُوَّةُ الْإِمْسَاكِ. وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: الشَّيْءُ الَّذِي يَوْثَقُ بِهِ، وَيَجُوزُ فِيهِ كَسْرُ الْوَاوِ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْأَسْرِ لِأَنَّ الْأَسْرَ يَسْتَلْزِمُ الْوَضْعَ فِي الْقَيْدِ يُشَدُّ بِهِ الْأَسِيرُ. وَالْمَعْنَى: فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنْ أَثْخَنْتُمْ مِنْهُمْ فَأْسِرُوا مِنْهُمْ. وَتَعْرِيفُ الرِّقابِ والْوَثاقَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فَضَرْبَ رِقَابَهُمْ وَشُدُّوا وَثَاقَهُمْ. وَالْمَنُّ: الْإِنْعَامُ: وَالْمُرَادُ بِهِ: إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ وَاسْتِرْقَاقُهُ فَإِنَّ الِاسْتِرْقَاقَ منّ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يُقْتَلْ، وَالْفِدَاءُ: بِكَسْرِ الْفَاءِ مَمْدُودًا تَخْلِيصُ الْأَسِيرِ مِنَ الْأَسْرِ بِعِوَضٍ مِنْ مَالٍ أَوْ مُبَادَلَةٍ بِأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَدَيِ الْعَدُوِّ. وَقَدَّمَ الْمَنَّ عَلَى الْفِدَاءِ تَرْجِيحًا لَهُ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى امْتِلَاكِ ضَمِيرِ الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ ليستعمل بذلك بغضه. وَانْتَصَبَ مَنًّا وفِداءً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ عَامِلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا تَمُنُّونَ وَإِمَّا تَفْدُونَ. وَقَوْلُهُ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِإِبَاحَةِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا فعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ غَزْوَةِ هَوَازِنَ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ النَّظَرِ. فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ، أَيْ مُشْرِكٍ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَهُمُ الْمَعْرُوفُ حَرْبُهُمْ وَيَشْمَلُ مَنْ حَارَبَ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لِتَحْدِيدِ أَحْوَالِ الْقِتَالِ وَمَا بَعْدَهُ، لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْقِتَالِ وَلَا لِبَيَانِ مَنْ هُمُ الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ أَوْقَاتَ الْقِتَالِ مُبِيَّنَةٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَمَعْرِفَةُ الْكَافِرِينَ مَعْلُومَةٌ مِنَ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] . ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [67] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ

وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَمِنَ السَلَفِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ، وَأَمِيرُ الْجَيْشِ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَرَوْنَ أَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ الْإِذْنُ فِي الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ فَهِيَ نَاسِخَةٌ أَوْ مُنْهِيَةٌ لِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [67، 68] . وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا نَاسِخَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ لما علم مِنْ أَنَّ مَوْرِدَ تِلْكَ هُوَ تَعْيِينُ أَوْقَاتِ الْمُتَارَكَةِ، وَأَوْقَاتِ الْمُحَارَبَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هَؤُلَاءِ بِحَظْرِ قَتْلِ الْأَسِيرِ فِي حِينِ أَنَّ التَّخْيِيرَ هُنَا وَارِدٌ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُمَا الْقَتْلُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» ثُبُوتًا مُسْتَفِيضًا أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَقَتَلَ أَسْرَى قُرَيْظَةَ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَتَلَ هِلَالَ بْنَ خَطَلٍ وَمِقْيَسَ بْنَ حُبَابَةٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَتَلَ بَعْدَ أُحُدٍ أَبَا عَزَّةَ الْجُمَعِيَّ الشَّاعِرَ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّهَا جَعَلَتِ التَّخْيِيرَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ. وَأَيْضًا لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ الِاسْتِرْقَاقِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَسْرَى، وَهُوَ يُدْخَلُ فِي الْمَنِّ إِذَا اعْتُبِرَ الْمَنُّ شَامِلًا لِتَرْكِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْمَنِّ بِالْفِدَاءِ تَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ مَشْرُوعٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمَنَّ مِنَ الْعِتْقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَقَطْ دُونَ قَتْلِ الْأَسِيرِ، فَقَتْلُ الْأَسِيرِ يَكُونُ مَحْظُورًا. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يُعَضِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَسِيرِ الْمُشْرِكِ إِلَّا الْقَتْلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَادَى أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِيَدِ

الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَى الْجَصَّاصُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى أَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي ثَقِيفٍ. وَالْغَايَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها لِلتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ لِيَكُفَّ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا فَتَأْمَنُوا مِنَ الْحَرْبِ عَلَيْكُمْ وَلَيْسَتْ غَايَةً لِحُكْمِ الْقِتَالِ. وَالْمَعْنَى يَسْتَمِرُّ هَذَا الْحُكْمُ بِهَذَا لِيَهِنَ الْعَدُوُّ فَيَتْرُكُوا حَرْبَكُمْ، فَلَا مَفْهُومَ لِهَذِهِ الْغَايَةِ، فَالتَّعْلِيلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْقَتْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَيَكُونُ وَارِدًا مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ وَالْمَوْعِظَةِ، أَيْ فَلَا تَشْتَغِلُوا عِنْدَ اللِّقَاءِ لَا بِقَتْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَإِذَا غَلَبْتُمُوهُمْ فَاشْتَغِلُوا بِالْإِبْقَاءِ عَلَى مَنْ تَغْلِبُونَهُ بِالْأَسْرِ لِيَكُونَ الْمَنُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ الْفِدَاءُ. وَالْأَوْزَارُ: الْأَثْقَالُ، وَوَضْعُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِانْتِهَاءِ الْعَمَلِ فَشُبِّهَتْ حَالَةُ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ بِحَالَةِ وَضْعِ الْحَمَّالِ أَوِ الْمُسَافِرِ أَثْقَالَهُ، وَهَذَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَأَخَذَ مِنْهُ عَبَدُ رَبِّهِ السُّلَمِيُّ، أَوْ سُلَيْمٌ الْحَنَفِيُّ قَوْلَهُ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ فَشَبَّهَ حَالَةَ الْمُنْتَهِي مِنْ كُلْفَةٍ بِحَالَةِ السَّائِرِ يُلْقِي عَصَاهُ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا فِي سَيْرِهِ. ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ. أُعِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد: 3] لِلنُّكْتَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هُنَالِكَ، وَهُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ إِلَى هُنَا، وَيُفِيدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَقْرِيرَ الْحُكْمِ وَرُسُوخِهِ فِي النُّفُوسِ. وَالْجُمْلَةُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَحْذُوفِ مُعْتَرِضَةٌ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُقَدَّرِ فِي الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ،

أَيْ أُمِرْتُمْ بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ الله لَو شَاءَ لَاسْتَأْصَلَهُمْ وَلَمْ يُكَلِّفْكُمْ بِقِتَالِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ نَاطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا الْمُعْتَادَةِ وَهِيَ أَنْ يَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ. وَتَعْدِيَةُ (انْتَصَرَ) بِحَرْفِ (مِنْ) مَعَ أَنَّ حَقَّهُ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: انْتَقَمَ. وَالِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَرَكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَا بَعْدَ الِاسْتِدْرَاكِ. وَالْبَلْوُ حَقِيقَتُهُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ ظُهُورُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ رَفْعِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَقْعِ بَأْسِهِمْ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ وَمِنْ إِهَانَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَنَّ شَأْنَهُمْ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ النَّاس. وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) هَذَا مِنْ مَظَاهِرِ بَلْوَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَهُوَ مُقَابِلُ مَا فِي قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِمَّا فِداءً، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ إِهَانَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَذُكِرَ هُنَا مَا هُوَ مِنْ رِفْعَةِ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَعْقَبَ الْأَمْرَ بِوَعْدِ الْجَزَاءِ عَلَى فِعْلِهِ. وَذكر الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَلَنْ يُضِلَّ اللَّهُ أَعْمَالَكُمْ، وَهَكَذَا بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنَ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ إِفَادَةٌ تُقَوِّي الْخَبَرَ، وَلِيَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّنْوِيهِ بِصِلَتِهِ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّلَةِ بِأَنَّ تِلْكَ الصِّلَةَ هِيَ عِلَّةُ مَا وَرَدَ بَعْدَهَا مِنَ الْخَبَرِ.

[سورة محمد (47) : آية 7]

فَجُمْلَةُ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ خَبَرٌ عَنِ الْمَوْصُولِ، وَقُرِنَتْ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ السَّبَبِيَّةِ فِي تَرَتُّبِ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ كَثِيرًا مَا يُشْرَبُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيُقْرَنُ خَبَرُهُ بِالْفَاءِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي فعل قُتِلُوا مُنْصَرِفَةً إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْطِ. وَجُمْلَةُ سَيَهْدِيهِمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ آنِفًا عَلَى مَعْنَى إِضْلَالِ الْأَعْمَالِ وَإِصْلَاحِ الْبَالِ. وَمَعْنَى عَرَّفَها لَهُمْ أَنَّهُ وَصَفَهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُمْ يَعْرِفُونَهَا بِصِفَاتِهَا، فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوِ الْمَعْنَى هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِهَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَتَرَدَّدُونَ فِي أَنَّهُمْ دَاخِلُونَهَا، وَذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ الْفَرَحِ بِهَا. وَقِيلَ: عَرَّفَها جَعَلَ فِيهَا عَرْفًا، أَيْ رِيحًا طَيِّبًا، وَالتَّطْيِيبُ مِنْ تَمَامِ حُسْنِ الضِّيَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَاتَلُوا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، فَهُوَ وَعْدٌ لِلْمُجَاهِدِينَ أَحْيَائُهُمْ وَأَمْوَاتُهُمْ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ قُتِلُوا بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ مَضْمُونُ الْآيَةِ جَزَاءَ الشُّهَدَاءِ فَهِدَايَتُهُمْ وَإِصْلَاحُ بَالِهِمْ كَائِنَانِ فِي الْآخِرَة. [7] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 7] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ الله لَا نتصر مِنْهُمْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ نَصْرَ الدِّينِ بِخَضَدِ شَوْكَةِ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ، أَتْبَعَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِي نَصْرِ اللَّهِ وَالْوَعْدِ بِتَكَفُّلِ اللَّهِ لَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنْ نَصَرُوهُ، وَبِأَنَّهُ خَاذِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِسَبَبِ كَرَاهِيَتِهِمْ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لَهَاتِهِ الْمُنَاسِبَةِ. وَافْتُتِحَ التَّرْغِيبُ بِنِدَائِهِمْ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ اهْتِمَامًا بِالْكَلَامِ وَإِيمَاءً إِلَى أَن الْإِيمَاء يَقْتَضِي مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ تَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ أَنِ اجْتَنَوْا فَائِدَتَهُ مُشَاهَدَةً يَوْمَ بَدْرٍ.

[سورة محمد (47) : الآيات 8 إلى 9]

وَمَعْنَى نَصْرِهِمُ اللَّهَ: نَصْرُ دينه وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ النَّصْرِ فِي تَنْفِيذِ إِرَادَتِهِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [مُحَمَّد: 4] . وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيْنَ تَنْصُرُوا وَاسْمِ الْجَلَالَةِ تَقْدِيرُهُ: دِينُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: نَصَرَ فُلَانٌ فُلَانًا، إِذَا نَصَرَ ذَوِيهِ وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَشَقَّةِ الشَّرْطِ وَشِدَّتِهِ لِيُجْعَلَ الْمَطْلُوبُ بِهِ كَالَّذِي يُشَكُّ فِي وَفَائِهِ بِهِ. وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ: تَمْثِيلٌ لِلْيَقِينِ وَعَدَمِ الْوَهَنِ بِحَالَةِ مَنْ ثَبَتَتْ قَدَمُهُ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَزَلْ، فَإِنَّ الزَّلَلَ وَهَنٌ يُسْقِطُ صَاحِبَهُ، وَلِذَلِكَ يُمَثَّلُ الِانْهِزَامُ وَالْخَيْبَةُ وَالْخَطَأُ بِزَلَلِ الْقَدَمِ قَالَ تَعَالَى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [النَّحْل: 94] . [8، 9] [سُورَة مُحَمَّد (47) : الْآيَات 8 إِلَى 9] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 4] فَإِنَّ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [مُحَمَّد: 4] الْآيَةَ. وَالتَّعْسُ: الشَّقَاءُ وَيُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ: الْهَلَاكُ، وَالْخَيْبَةُ، وَالِانْحِطَاطُ، وَالسُّقُوطُ، وَهِيَ مَعَانٍ تَحُومُ حَوْلَ الشَّقَاءِ، وَقَدْ كَثُرَ أَن يُقَال: تعساله، لِلْعَاثِرِ الْبَغِيضِ، أَيْ سُقُوطًا وَخُرُورًا لَا نُهُوضَ مِنْهُ. وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُمْ لِلْعَاثِرِ: لَعًا لَهُ، أَيِ ارْتِفَاعًا، قَالَ الْأَعْشَى: بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إِذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ لِأَنَّ الْعِثَارَ تَعْسٌ. وَمِنْ بَدَائِعِ الْقُرْآنِ وُقُوعُ فَتَعْساً لَهُمْ فِي جَانِبِ الْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّد: 7] .

وَالْفِعْلُ مِنَ التَّعْسِ يَجِيءُ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَبَابِ سَمِعَ، وَفِي «الْقَامُوسِ» إِذَا خَاطَبْتَ قُلْتَ: تَعَسْتَ كَمَنَعَ، وَإِذَا حَكَيْتَ قُلْتَ: تَعِسَ كسمع. وانتصب فَتَعْساً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَعِسُوا تَعْسَهُمْ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ مِثْلُ تَبًّا لَهُ، وَوَيْحًا لَهُ. وَقُصِدَ مِنَ الْإِضَافَةِ اخْتِصَاصُ التَّعْسِ بِهِمْ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَى الْفَاعِلِ لَامُ التَّبْيِين فَصَارَ فَتَعْساً لَهُمْ. وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِعَامِلِهِ الْمَحْذُوفِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ مُخْتَارُ بن مَالِكٍ وَإِنَّ أَبَاهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَيَجُوزُ أَن يكون فَتَعْساً لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ لِقَصْدِ التَّحْقِيرِ وَالتَّفْظِيعِ، وَذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ هَذَا الْمُرَكَّبِ مِثْلَ سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا لَهُ وَتَبًّا لَهُ وَوَيْحًا لَهُ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ فِي الْآيَةِ فِعْلُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ اللَّهُ: تَعْسًا لَهُمْ، أَوْ فَيُقَالُ: تَعْسًا لَهُمْ. وَدَخَلَتِ الْفَاء على فَتَعْساً وَهُوَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ هُنَالِكَ. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا إِلَخْ فِي مَعْنَاهُ، وَفِي مَوْقِعِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَفِي نُكْتَةِ تَكْرِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد: 3] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّعْسِ وَإِضْلَالِ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. وَالْكَرَاهِيَةُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ. وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، قَالَ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] . وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا لِلسَّبَبِيَّةِ.

[سورة محمد (47) : آية 10]

وَإِحْبَاطُ الْأَعْمَالِ إِبْطَالُهَا: أَيْ جَعْلُهَا بُطْلًا، أَيْ ضَائِعَةً لَا نَفْعَ لَهُمْ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَرْجُونَ مِنْهَا النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَ نَفْعَهَا فِي الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَرْجُونَ مِنَ الْأَعْمَال الصَّالِحَة رَضِي الله ورضى الْأَصْنَامِ لِيَعِيشُوا فِي سَعَةِ رِزْقٍ وَسَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ وَتَسْلَمَ أَوْلَادُهُمْ وَأَنْعَامُهُمْ، فَالْأَعْمَالُ الْمُحْبَطَةُ بَعْضُ الْأَعْمَالِ الْمُضَلِّلَةِ، وَإِحْبَاطُهَا هُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ مَا رَجَوْهُ مِنْهَا فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا عَلِمْتَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] أَوَّلَ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا لِئَلَّا يَظُنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهَا قَدْ تُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فقد كَانُوا يستاءلون عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسلمت على مَا سلف مِنْ خَيْرٍ» أَيْ وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمَا كَانَ لَهُ فِيهَا خَيْرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَانْتَفَعُوا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ وَفِي الدُّنْيَا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ تَأْكِيدُ الْخَيْر الْمَذْكُور. [10] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 10] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ [مُحَمَّد: 8] الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِر أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ [21] . وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمَعْنَى: أَلَيْسَ تَعْسُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَشْهُودًا عَلَيْهِ بِآثَارِهِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ يَدِينُونَ بِمِثْلِ دِينِهِمْ. وَجُمْلَةُ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ وَالدَّمَارُ وَهُوَ الْهَلْكُ.

[سورة محمد (47) : آية 11]

وَفِعْلُ دَمَّرَ مُتَعَدٍّ إِلَى المدمّر بِنَفسِهِ، يُقَال: دَمَّرَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ التَّدْمِيرِ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ دَمَّرَ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، ثُمَّ جُعِلَ التَّدْمِيرُ وَاقِعًا عَلَيْهِمْ فَأَفَادَ مَعْنَى دَمَّرَ كُلَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ، وَأَنَّ التَّدْمِيرَ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْ مَشْمُولِهِ. وَجُمْلَةُ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّد: 11] . وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: كُفَّارُ مَكَّةَ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُفَّارِكُمْ أَمْثَالُ عَاقِبَةِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الدَّمَارِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا وَقَعَ بِهِ التَّعْرِيضُ لِلتَّأْكِيدِ بِالتَّعْمِيمِ ثُمَّ الْخُصُوصِ. وَأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَجَمَعَ الْأَمْثَالَ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْصَلَ الْكَافِرِينَ مَرَّاتٍ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ فَاسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ بِالسَّيْفِ أَيْضًا، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَهَزَمَهُمْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الرُّعْبَ وَالْمَذَلَّةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمَاثِلٌ لِمَا سَلَّطَهُ عَلَى الْأُمَمِ فِي الْغَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ نصر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مَا نَصَرَ بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى قِيمَةً بِكَوْنِهِ بِيَدِهِ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُبَاشَرَةً بِسُيُوفِهِمْ وَذَلِكَ أَنْكَى لِلْعَدُوِّ. وَضَمِيرُ أَمْثالُها عَائِدٌ إِلَى عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا حَالَة سوء. [11] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 11] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (11) أُعِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد: 3] وَقَوْلِهِ: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [مُحَمَّد: 4] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] بِتَأْوِيلِ: ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ بِالتَّدْمِيرِ، وَفِي تَدْمِيرِهِمُ انْتِصَارٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا لَقُوا مِنْهُمْ مِنَ الْأَضْرَارِ، فَأُفِيدَ أَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مُسَبَّبٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ نَصِيرُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ وَمَا بَعْدَهُ تَتْمِيمٌ.

[سورة محمد (47) : آية 12]

وَالْمَوْلَى، هُنَا: الْوَلِيُّ وَالنَّاصِرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ دِينَهُ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَا يَنْصُرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، فَأَشْرَكُوا مَعَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَإِذَا كَانَ لَا يَنْصُرُهُمْ فَلَا يَجِدُونَ نَصِيرًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَنُفِيَ جِنْسُ الْمَوْلَى لَهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الْمَوْلَى. فَقَوْلُهُ: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ أَفَادَ شَيْئَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْصُرُهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ، وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْمَوْلَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يُونُس: 28- 30] فَذَلِكَ الْمَوْلَى بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ مَعْنَى: الْمَالِكِ وَالرَّبِّ، فَلَا تعَارض بَينهمَا. [12] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 12] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) اسْتِئْنَافٌ بَيَانَيٌّ جَوَابُ سُؤَالٍ يُخْطَرُ بِبَالِ سَامِعِ قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ وَعَنْ رِزْقِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ مِنْ وِلَايَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ النَّعِيمَ الْخَالِدَ بَعْدَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَا أَعْطَاهُ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّهُمْ مَسْلُوبُونَ مِنْ فَهْمِ الْإِيمَانِ فَحَظُّهُمْ مِنَ الدُّنْيَا أَكْلٌ وَتَمَتُّعٌ كَحَظِّ الْأَنْعَامِ، وَعَاقِبَتُهُمْ فِي عَالَمِ الْخُلُودِ الْعَذَابُ، فَقَوْلُهُ: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196، 197] لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [مُحَمَّد: 10] وَجُمْلَةُ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [مُحَمَّد: 13] الْآيَةَ. وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَأْكُلُونَ، أَوْ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ يَأْكُلُونَ لِبَيَانِ نَوْعِهِ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْقَلِيلُ بِالْمَتَاعِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَتاعٌ قَلِيلٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [197] ، وَقَوْلِهِ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

[سورة محمد (47) : آية 13]

وَالْمَثْوَى: مَكَانُ الثَّوَاءِ، وَالثَّوَاءُ: الِاسْتِقْرَارُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي الْأَنْعَامِ [128] . وَعُدِلَ عَنِ الْإِضَافَةِ فَقِيلَ مَثْوىً لَهُمْ بِالتَّعْلِيقِ بِاللَّامِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُنَوَّنَ فِي الْإِضَافَةِ لِيُفَادَ بِالتَّنْوِينِ مَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْقَرَارِ فِي النَّارِ مَثْوًى، أَيْ مَثْوًى قَوِيًّا لَهُمْ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَصَلَ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا، فَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ فِي قَوْلِهِ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْهَا وَهُمْ يُشَاهِدُونَهَا فِي الْمَحْشَر. [13] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 13] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [مُحَمَّد: 10] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ اتَّصَلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَكَلِمَةُ كَأَيِّنْ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَهْلَكْناهُمْ، وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْإِخْبَارُ عَلَى الْقَرْيَةِ وَضَمِيرِهَا لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ أَهْلِهَا وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَلِيَكُونَ لِإِسْنَادُ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ إِلَى الْقَرْيَةِ كُلِّهَا وَقَعَ مِنَ التَّبِعَةِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهَا سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ تَوَلَّى أَسْبَابَ الْخُرُوجِ، وَمَنْ كَانَ يَنْظُرُ وَلَا يَنْهَى قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ [الممتحنة: 9] . وَهَذَا إِطْنَابٌ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّ مَقَامَ التَّهْدِيدِ وَالتَّوْبِيخِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، فَمَفَادُ هَذِهِ الْآيَةِ مُؤَكِّدٌ لِمَفَادِ قَوْلِهِ: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] ، فَحَصَلَ تَوْكِيدُ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مُقَارِبٌ لَهُ مِنْ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ ذَوَاتِ الْقُرَى وَالْمُدُنِ بَعْدَ أَنْ شَمِلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَزَادَ هُنَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْهُمْ لِيَفْهَمُوا أَنَّ إِهْلَاكَ هَؤُلَاءِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّهْدِيدُ السَّابِقُ تَهْدِيدًا بِعَذَابِ السَّيْفِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: 4] الْآيَاتِ، قَدْ يُلْقِي فِي نُفُوسِهِمْ غُرُورًا

فَتَعَذَّرَ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ وَهُمْ مَا هُمْ مِنَ الْمَنَعَةِ وَأَنَّهُمْ تَمْنَعُهُمْ قَرْيَتُهُمْ مَكَّةُ وَحَرْمَتُهَا بَيْنَ الْعَرَبِ فَلَا يَقْعُدُونَ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، فَرُبَّمَا اسْتَخَفُّوا بِهَذَا الْوَعِيدِ وَلَمْ يَسْتَكِينُوا لِهَذَا التَّهْدِيدِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ قُرًى كَثِيرَةً كَانَتْ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِهِمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا نَصِيرًا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْمَوْقِعُ الْبَدِيعُ لِلتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَلا ناصِرَ لَهُمْ وَزَادَ أَيْضًا إِجْرَاءَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: قَرْيَتِكَ، وَوَصَفَهَا بِ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ لِمَا تُفِيدُهُ إِضَافَةُ الْقَرْيَةِ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْبِيرِ أَهْلِهَا بِمَذَمَّةِ الْقَطِيعَةِ وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ إِهْلَاكِهِمْ بِسَبَبِ إخراجهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَرْيَتِهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [الْبَقَرَة: 191] . وَإِطْلَاقُ الْإِخْرَاجِ عَلَى مَا عَامَلَ بِهِ الْمُشْركُونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْأَذَى وَمُقَاوَمَةِ نَشْرِ الدِّينِ إِطْلَاقٌ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ سُوءَ مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاهُ كَانَ سَبَبًا فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ قَرْيَتُهُ، فَشَبَّهَ سَبَبَ الْخُرُوجِ بِالْإِخْرَاجِ ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَيْهِ فِعْلَ أَخْرَجَتْكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِخْرَاجٍ وَإِنَّمَا هُوَ خُرُوجٌ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يلجئوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِخْرَاجِ بَلْ كَانُوا عَلَى الْعَكْسِ يَرْصُدُونَ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ اعْتِصَامِهِ بِقَبَائِلَ تَنْصُرُهُ فَلِذَلِكَ أَخْفَى عَلَى النَّاسِ أَمْرَ هِجْرَتِهِ إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ: أَخْرَجَتْكَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ: أَقْدَمَنِي بَلَدَكَ حَقٌّ لِي عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَيْسَ مَجَازًا عَقْلِيًّا إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ إِخْرَاجٌ حَتَّى يُدَّعَى أَنَّ سَبَبَهُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الْإِخْرَاجِ، وَلَا هُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَثَّلَ بِهِ الشَّيْخُ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِلْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَالْمِثَالُ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالِاحْتِمَالُ. وَفَرَّعَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِإِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْإِخْبَارَ بِانْتِفَاءِ جِنْسِ النَّاصِرِ لَهُمْ، أَيِ الْمُنْقِذِ لَهُمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّذْكِيرُ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَجِدُوا دَافِعًا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْإِهْلَاكَ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِلْفَاءِ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ فِي حَرْبِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ قَطْعًا لِمَا قَدْ يُخَالِجُ نُفُوسَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ لِتَظَاهُرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَعَهُمْ، وَلِذَلِكَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ فِي وَقْعَةِ الخَنْدَق. وَضمير لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مِنْ قَرْيَةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرَى أَهْلُهَا. وَالْمَعْنَى:

[سورة محمد (47) : آية 14]

أَهْلَكْنَاهُمْ إِهْلَاكًا لَا بَقَاءَ مَعَهُ لِشَيْءٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ بَقَاءَ شَيْءٍ مِنْهُمْ نَصْرٌ لِذَلِكَ الْبَاقِي بِنَجَاتِهِ مِنَ الْإِهْلَاكِ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: فَلا ناصِرَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَلِذَلِكَ لَا يُقْصَدُ تَضَمُّنَهُ لِزَمَنٍ مَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ بَلْ مُجَرَّدُ الِاتِّصَافِ بِالْمَصْدَرِ فَتَمَحَّضٌ لِلِاسْمِيَّةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِيهِ إِلَى زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَا فَمَعْنَى فَلا ناصِرَ لَهُمْ: فَلَمْ يَنْصُرْهُمْ أَحَدٌ فِيمَا مَضَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِجْرَاءِ مَا حَصَلَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مَجْرَى زَمَنِ الْحَالِ، وَقَوْلُهُمُ اسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِيمَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَكْسُورَةً وَهِي لُغَة. [14] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 14] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: 13] لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ تَحْقِيقًا يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ جَاءَ بِأُسْلُوبِ التَّفْرِيعِ. وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [مُحَمَّد: 12] الْآيَةَ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى اعْتِرَاضٍ. وَهَذَا تَفَنُّنٌّ فِي تَلْوِينِ الْكَلَامِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِينَ هُوَ مِنَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي ابْتَكَرَهَا الْقُرْآنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَرْفُ التَّشْبِيهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِنْكَارِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هُوَ تَفْضِيلُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَإِنْكَارُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ

كَقَوْلِهِمْ: لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: 11] وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: 32] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 110] . وَالْمُرَادُ بِالْمَوْصُولَيْنِ فَرِيقَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَحَدِهِمَا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. وَالْبَيِّنَةُ: الْبُرْهَانُ وَالْحُجَّةُ، أَيْ حُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مُحِقٌّ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْفَرِيقِ تَنْبِيهٌ عَلَى زُلْفَى الْفَرِيقِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِحُجَّةِ اللَّهِ. وَمَعْنَى وَصْفِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا وَحَرَّكَ أَذْهَانَهُمْ فَامْتَثَلُوا وَأَدْرَكُوا الْحَقَّ، فَالْحُجَّةُ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَزْكِيَةٌ لَهَا وَكَشْفٌ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا وَإِتْمَامٌ لِدَلَالَتِهَا، كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ مُتَضَلِّعٍ فِيهِ وَأَخْذِهِ عَنْ مُسْتَضْعَفٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَهَذَا الْفَرِيقُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الدِّينِ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. فَلَا جَرَمَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَوْزُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَهُ فَإِنْ قَاتَلُوا كَانُوا عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فَقَوِيَتْ شَجَاعَتُهُمْ، وَإِنْ سَالَمُوا عُنُوا بِتَدْبِيرِ شَأْنِهِ وَمَا فِيهِ نَفْعُ الْأُمَّةِ وَالدِّينِ فَلَمْ يَأْلَوْا جُهْدًا فِي حُسْنِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ أَنَّ اللَّهَ أَصْلَحَ بَالَهُمْ وهداهم. والفريق الَّذين زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي أَحْوَالِ السُّوأَى مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، فَلَمَّا نَبَّهَهُمُ اللَّهُ لِفَسَادِ أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بَيَّنَ لَهُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئَاتِهَا لَمْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ وَرَأَوْا فَسَادَهُمْ صَلَاحًا فَتَزَيَّنَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي أَنْظَارِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْإِقْلَاعَ عَنْهَا وَغَلَبَ الْفَهْمُ وَهَوَاهُمْ عَلَى رَأْيهمْ فَلم يعبأوا بِاتِّبَاعِ مَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بِإِيجَازٍ. وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ لِلْمَجْهُولِ لِيَشْمَلَ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمْ مِنْ أَيِمَّةِ كُفْرِهِمْ، وَمَا سَوَّلَتْهُ لَهُمْ أَيْضًا عُقُولُهُمُ الْآفِنَةُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ السَّيِّئَةِ اغْتِرَارًا بِالْإِلْفِ أَوِ اتِّبَاعًا لِلَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ

[سورة محمد (47) : آية 15]

أَوْ لِجَلْبِ الرِّئَاسَةِ، أَيْ زَيَّنَ لَهُ مُزَيِّنٌ سُوءَ عَمَلِهِ، وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ إِلَى الْمَجْهُولِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ أَيْضًا لِيَرْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَأَمَّلُوا فِيمَنْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ تَزْيِينُ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الدَّأْبِ عَلَيْهَا كَانَ يَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ إِلْفُهُمْ بِهَا وَوَلَعُهُمْ بِهَا فَتَصِيرُ لَهُمْ أَهْوَاءً لَا يَسْتَطِيعُونَ مُفَارَقَتَهَا أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَيِّنٌ لِلْعَاقِلِ الْمُتَأَمِّلِ بِحَيْثُ يَحِقُّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْفَرِيقَيْنِ سُؤَالَ مَنْ يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَزْعُمَهَا. وَالْمُرَادُ بِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ الْكِنَايَةُ عَنِ التَّفَاضُلِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفَضْلِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي وَقَعَ الثَّنَاء عَلَيْهِ. [15] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [مُحَمَّد: 12] مِمَّا يَسْتَشْرِفُ السَّامِعُ إِلَى تَفْصِيلِ بَعْضِ صِفَاتِهَا، وَإِذْ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ مُوهِمٌ السَّامِعَ أَنَّهَا أَنْهَارُ الْمِيَاهِ لِأَنَّ جَرْيَ الْأَنْهَارِ أَكْمَلُ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ تَوْصِيفِ حَالِ فَرِيقَيِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمِمَّا أَعَدَّ لِكِلَيْهِمَا، وَمِنْ إِعْلَانِ تَبَايُنِ حَالَيْهِمَا ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي الْجنَّة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنْوَاعِ الْأَنْهَارِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ كَانَ قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا سَيُوصَفُ أَوْ مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مُقَدَّرٌ فِيهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [مُحَمَّد: 14] .

وَالتَّقْدِيرُ: أَكَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى التَّشْبِيهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ مَثَلُ الْجَنَّةِ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، أَيْ كَحَالِ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ حَالِ النَّارِ عَنْ حَالِ الْجَنَّةِ، فَحَصَلَ نَحْوُ الِاحْتِبَاكِ إِذْ دَلَّ مَثَلُ الْجَنَّةِ عَلَى مَثَلِ أَصْحَابِهَا وَدَلَّ مَثَلُ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ عَلَى مَثَلِ النَّارِ. وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ بِذِكْرِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَالَيْ مَصِيرِهِمَا الْمُقَرَّرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ [الْحَج: 23] إِلَى آخِرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ ذِكْرَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ فِي خِلَالِ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَقَالَ بَعْدَهُ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. وَلِقَصْدِ زِيَادَةِ تَصْوِيرِ مُكَابَرَةِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَسِّكِ بِبَيِّنَةِ رَبِّهِ وَبَيْنَ التَّابِعِ لِهَوَاهُ، أَيْ هُوَ أَيْضًا كَالَّذِي يُسَوِّي بَيْنَ الْجَنَّةِ ذَاتِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَبَيْنَ النَّارِ ذَاتِ صِفَاتٍ ضِدِّهَا. وَفِيهِ اطِّرَادُ أَسَالِيبِ السُّورَةِ إِذِ افْتُتِحَتْ بِالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَأُعْقِبَ بِاتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ الْبَاطِلَ وَاتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ، وَثُلِّثَ بُقُولِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إِلَخْ. وَالْمَثَلُ: الْحَالُ الْعَجِيبُ. وَجُمْلَةُ فِيها أَنْهارٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ مَثَلُ الْجَنَّةِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُثْبِتُهُ فِي أَنْوَاعِ الْبَدَلِ. وَالْأَنْهَارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَبْحِرُ الْجَارِي فِي أُخْدُودٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

فَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأَنْهَارِ عَلَى أَنْهَارِ الْمَاءِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأَنْهَارِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ لَبَنٍ وَخَمْرٍ وَعَسَلٍ فَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مُمَاثَلَةٌ لِلْأَنْهَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ تَامَّةً فِي أَنَّهَا كَالْأَنْهَارِ مُسْتَبْحِرَةٌ فِي أَخَادِيدَ مِنْ أَرْضِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَرْأَى أَنْهَارٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مَرْأًى مُبْهِجٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ لِلْأَنْهَارِ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الْأَنْهَارِ وَهِيَ الِاسْتِبْحَارُ. وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ وَمِنْ أَعَزِّ مَا يَتَيَسَّرُ الْحُصُولُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ الْكَثِيرُ مِنْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مِنْهَا أَنْهَارٌ فِي الْجَنَّةِ. وَتُنَاوُلُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنَ التَّفَكُّهِ الَّذِي هُوَ تَنَعُّمُ أَهْلِ الْيَسَارِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا أَرْبَعَةُ أَشْرِبَةٍ هِيَ أَجْنَاسُ أَشْرِبَتْهِمْ، فَكَانُوا يَسْتَجِيدُونَ الْمَاءَ الصَّافِيَ لِأَنَّ غَالِبَ مِيَاهِهِمْ مِنَ الْغُدْرَانِ والأحواض بالبادية تمتلىء مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ أَوْ مِنْ مُرُورِ السُّيُولِ فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ أَيَّامًا أَخَذَتْ تَتَغَيَّرُ بِالطُّحْلُبِ وَبِمَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءِ، وَشُرْبِ الْوُحُوشِ وَقَلِيلٌ الْبِلَادُ الَّتِي تَكُونُ مُجَاوِرَةً الْأَنْهَارَ الْجَارِيَةَ. وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ كَانُوا إِذَا حَلَبُوا وَشَرِبُوا أَبْقَوْا مَا اسْتَفْضَلُوهُ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْلُبُونَ إِلَّا حَلْبَةً وَاحِدَةً أَوْ حَلْبَتَيْنِ فِي الْيَوْمِ فَيَقَعُ فِي طَعْمِ اللَّبَنِ تَغْيِيرٌ. فَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ قَلِيلَةً عَزِيزَةً عِنْدَهُمْ لِقِلَّةِ الْأَعْنَابِ فِي الْحِجَازِ إِلَّا قَلِيلًا فِي الطَّائِفِ، فَكَانَتْ الْخَمْرُ تُجْتَلَبُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَمِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَكَانَتْ غَالِيَةَ الثَّمَنِ وَقَدْ يَنْقَطِعُ جَلْبُهَا زَمَانًا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ لِعُسْرِ السَّيْرِ بِهَا فِي الطُّرُقِ وَفِي أَوْقَاتِ الْحُرُوبِ أَيْضًا خَوْفَ انْتِهَابِهَا. وَالْعَسَلُ هُوَ أَيْضًا مَنْ أَشْرَبَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي النَّحْلِ [69] يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: سَقَاهُ عَسَلًا، وَيَقُولُونَ: أَطْعَمَهُ عَسَلًا. وَكَانَ الْعَسَلُ مَرْغُوبًا فِيهِ يُجْتَلَبُ مِنْ بِلَادِ الْجِبَالِ ذَاتِ النَّبَاتِ الْمُسْتَمِرِّ. فَأَمَّا الثَّمَرَاتُ فَبَعْضُهَا كَثِيرٌ عِنْدَهُمْ كَالتَّمْرِ وَبَعْضُهَا قَلِيلٌ كَالرُّمَّانِ. وَالْآسِنُ: وَصْفٌ مَنْ أَسَنَ الْمَاءُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ وَفَرِحَ، إِذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَسِنٍ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ لِلْمُبَالِغَةِ.

وَالْخَمْرُ: عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي يُتْرَكُ حَتَّى يُصِيبَهُ التَّخَمُّرُ وَهُوَ الْحُمُوضَةُ مِثْلُ خَمِيرِ الْعَجِينِ. ولَذَّةٍ وَصْفٌ وَلَيْسَ بِاسْمٍ، وَهُوَ تَأْنِيثُ اللَّذِّ، أَيِ اللَّذِيذِ قَالَ بَشَّارٌ: ذَكَرْتُ شَبَابِي اللَّذَّ غَيْرَ قَرِيبِ ... وَمَجْلِسَ لَهْوٍ طَابَ بَيْنَ شُرُوبِ وَاللَّذَاذَةُ: انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَهِيَ ضِدُّ الْأَلَمِ وَأَكْثَرُ حُصُولِهِ مِنَ الطَّعُومِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْمَلَامِسِ الْبَدَنِيَّةِ، فَوَصْفُ خَمْرٍ هُنَا بِأَنَّهَا لَذَّةٍ مَعْنَاهُ يَجِدُ شَارِبُهَا لَذَاذَةً فِي طَعْمِهَا، أَيْ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا حَرِيقَةُ الطَّعْمِ فَلَوْلَا تَرَقُّبُ مَا تَفْعَلُهُ فِي الشَّارِبِ مِنْ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ لَمَا شَرِبَهَا لِحُمُوضَةِ طَعْمِهَا. وَالْعَسَلُ الْمُصَفَّى: الَّذِي خُلِّصَ مِمَّا يُخَالِطُ الْعَسَلَ مِنْ بَقَايَا الشَّمْعِ وَبَقَايَا أَعْضَاءِ النَّحْلِ الَّتِي قَدْ تَمُوتُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَسَلِ وَتَرْبِيَتِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أَصْنَافٌ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّمَراتِ لِلْجِنْسِ، وكُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَهُوَ الْإِحَاطَةُ، أَيْ جَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرَّحْمَن: 52] . ومَغْفِرَةٌ عَطْفٌ عَلَى أَنْهارٌ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ وَفِيهَا مَغْفِرَةٌ لَهُمْ، أَيْ تَجَاوُزٌ عَنْهُمْ، أَيْ إِطْلَاقٌ فِي أَعْمَالِهِمْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ كَمَغْفِرَتِهِ لِأَهْلِ بَدْرٍ إِذْ بُيِّنَتْ بِأَنْ يعملوا مَا شاؤوا فِي الْحَدِيثِ «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» وَقَدْ تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ كِنَايَةً عَنِ الرُّضْوَانِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] . وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ فِي مَثَلِهِ ظَاهِرٌ لِلْقَرِينَةِ. وَقَوْلُهُ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً جِيءَ بِهِ لِمُقَابَلَةِ مَا وُصِفَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، أَيْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَحْرُومُونَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ. وَلَيْسُوا بِذَائِقِينَ إِلَّا الْمَاءَ

[سورة محمد (47) : آية 16]

الْحَمِيمَ الَّذِي يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ بِفَوْرِ سَقْيِهِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجْ هُنَا عَلَى طَعَامِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الْوَاقِعَة: 52- 54] وَقَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: 62] إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 66- 67] . وَضَمِيرُ سُقُوا رَاجع إِلَى كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى (مَنْ) وَهُوَ الْفَرِيقُ مِنَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ أَنْ أُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ خالِدٌ. وَالْأَمْعَاءُ: جَمْعُ مَعًى مَقْصُورًا وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ مَا يَنْتَقِلُ الطَّعَامُ إِلَيْهِ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْمعدة. وَيُسمى عفج بِوَزْنِ كَتِفٍ. [16] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 16] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً. ضَمِيرُ وَمِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: 12] الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، أَيْ وَمِنَ الْكَافِرِينَ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَأَرَادَ بِمَنْ يَسْتَمِعُ مَعَهُمُ الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ وَقَوْلِهِ: خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمُسْتَمِعِينَ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [يُونُس: 42] وَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الْأَنْعَام: 25] لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ، وَهَذَا صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ أَسَرُّوا الْكُفْرَ وَتَظَاهَرُوا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَقْصُودِينَ مَنْ لَفْظِ الْكُفَّارِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَازِلَةٌ بِقُرْبِ عَهْدٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَمَعْنَى يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ: يَحْضُرُونَ مَجْلِسَكَ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَكَ وَمَا تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِعْرَاضَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ. رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ وَرِفَاعَة بن التابوت وَالْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ وَمَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ (¬1) . وَالِاسْتِمَاعُ: أَشَدُّ السَّمْعِ وَأَقْوَاهُ، أَيْ يَسْتَمِعُونَ بِاهْتِمَامٍ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى وَعْيِ مَا يَقُوله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ يُلْقُونَ إِلَيْهِ بَالَهُمْ، وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِظْهَارِهِ لَا فِي مَعْنَى حُصُولِهِ. وَحَقُّ فِعْلِ اسْتَمَعَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الْأَحْقَاف: 29] فَإِذَا أُرِيدَ تَعَلُّقُهُ بِالشَّخْصِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ يُقَالُ: اسْتَمَعَ إِلَى فُلَانٍ كَمَا قَالَ هُنَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَكَذَا جَاءَ فِي مَوَاقِعِهِ كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ابْتِدَائِيَّةٌ وإِذا اسْمُ زَمَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِ قالُوا. وَالْمَعْنَى: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا إِلَخْ. وَالْخُرُوجُ: مُغَادَرَةُ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مَحْصُورًا وَغَيْرَ مَحْصُورٍ، فَمِنْهُ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يُوسُف: 100] ، وَمِنْهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الْأَعْرَاف: 110] . وَالْخُرُوجُ مِنْ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغَادِرَةُ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ هُنَا بِلَفْظِ عِنْدِكَ. ومَنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ خَرَجُوا وَلَيْسَتِ الَّتِي تُزَادُ مَعَ الظُّرُوفِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 89] . وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلَازِمُونَ لِمَجْلِسِهِ وَسُمِّيَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَسُئِلْتُ فِيمَنْ سُئِلَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يَقُولُهُ مِنَ الْإِرْشَادِ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْتَمِعُ لِيَشْمَلَ ذَلِكَ. ¬

(¬1) أَي فِي أول الْمدَّة من الْهِجْرَة ثمَّ حسن إِسْلَام مَالك بن الدخشم وَشهد بَدْرًا وَشهد لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخلاص إِسْلَامه كَمَا فِي حَدِيث عتاب بن مَالك فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» .

وَمَعْنَى آنِفاً: وَقْتًا قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ التَّكَلُّمِ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِلَّا مَنْصُوبَةً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنِ اسْتَأْنَفَ الشَّيْءَ إِذا ابتدأه اهـ يُرِيدُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ مَزِيدٍ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْأَنْفُ، أَيْ جَارِحَةُ الشَّمِّ وَكَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ أَنْفَ الْبَعِيرِ لِأَنَّ الْأَنْفَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو لِرَاكِبِهِ فَيَأْخُذُ بِخِطَامِهِ، فَلُوحِظَ فِي اسْمِ الْأَنْفِ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالظُّهُورِ، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ عَنِ الْقُرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أُنُفٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ النُّونِ يُوصَفُ بِهِ الْكَأْسُ الَّتِي لَمْ يُشْرَبْ مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَتُوصَفُ بِهِ الرَّوْضَةُ الَّتِي لَمْ تُرْعَ قبل، كَأَنَّهُمْ لَا حظوا فِيهَا لَازِمَ وَصْفِ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ أَنَّهُ جَدِيدٌ، أَيْ زَمَنٌ قَرِيبٌ، فَ آنِفاً زَمَانًا لَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: آنِفاً مَعْنَاهُ: السَّاعَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَّا وَهَذَا تَفْسِير الْمَعْنى» اهـ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَسَّرُوهُ بِوَقْتٍ يَقْرُبُ مِنَّا. وَصِيغَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَهَذَا اسْمٌ غَرِيبُ التَّصْرِيفِ وَلَا يُحْفَظُ شَيْءٌ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ وَقَعَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِصِيغَةِ فَاعِلٍ وَشَذَّتْ رِوَايَةٌ عَنِ الْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ آنِفاً بِوَزْنِ كَتِفٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَاتِ نِسْبَتَهَا إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ وَلَكِنَّ الشَّاطِبِيَّ أَثْبَتَهَا فِي حِرْزِ الْأَمَانِي وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ. فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْبَزِّيِّ عَنْهُ كَانَ آنِفاً حَالًا مِنْ ضَمِيرِ مَنْ يَسْتَمِعُ أُجْرِيَ عَلَى الْإِفْرَادِ رَعْيًا لِلَفْظِ مَنْ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُ شَدِيدُ الْأَنَفَةِ، أَيِ التَّكَبُّرِ إِظْهَارًا لِتَرَفُّعِهِ عَنْ وَعْيِ مَا يَقُوله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْتَهِي الْكَلَامُ عِنْدَ مَاذَا. وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ: أَنَّ الْبَزِّيَّ تَوَهَّمَهُ مِثْلَ: حَاذِرٍ وَحَذِرٍ. وَلَا يُظَنُّ مثل هَذَا بالبزي لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ هَذَا السُّؤَالِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُوَ سُؤال ينبىء عَنْ مَذَمَّةِ سَائِلِيهِ، فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُمْ حَقِيقَةً أَنْبَأَ عَنْ قِلَّةِ وَعْيِهِمْ لِمَا يَسْمَعُونَهُ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَسْتَعِيدُونَهُ مِنَ الَّذِينَ عَلِمُوهُ فَلَعَلَّ اسْتِعَادَتَهُمْ إِيَّاهُ لِقَصْدِ أَنْ يَتَدَارَسُوهُ إِذَا خَلَوْا مَعَ إِخْوَانِهِمْ لِيَخْتَلِقُوا مَغَامِرَ يُهَيِّئُونَهَا بَيْنَهُمْ، أَوْ أَنْ يُجِيبُوا مَنْ يَسْأَلُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَمَّا سَمِعُوهُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ نَاوِينَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ يُظْهِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ اهْتِمَامَهُمْ بِاسْتِعَادَةِ مَا سَمِعُوهُ وَيَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ: إِنَّمَا نَحن مستهزؤون، أَوْ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامًا لَا يَسْتَبِينُ الْمُرَادُ مِنْهُ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ مَنْ يُحِسُّونَ مِنْهُمُ الرَّغْبَةَ فِي حُضُورِ مجَالِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِقِلَّةِ جَدْوَى حُضُورِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَافِقِينَ وَأَحْوَالَهُمْ وَعَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِذَلِكَ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْأَلُوا سُؤَالَ اسْتِطْلَاعٍ هَلْ شَعَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ، فَيَكُونُ مَفْعُولُ يَسْتَمِعُونَ مَحْذُوفًا لِلْعِلْمِ بِهِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَاذَا قالَ آنِفاً سُؤَالٌ غَرِيبٌ مِنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ حُصُولِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ السَّابِقَةِ فِي مُرَادِهِمْ مِنْهُ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ تَشْهِيرًا بِهِمْ، وَجِيء بالموصول وصلتيه خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَيِّزِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمْ أَشْخَاصُ الْفَرِيقِ الْمُتَقَرِّرِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ الَّذِينَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ هُمْ قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِأَهْوَائِهِمْ، فَأَفَادَتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَمِعِينَ زُمْرَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، فَهَذَا التَّرْكِيبُ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَالطَّبْعُ عَلَى الْقَلْبِ: تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ مُخَالَطَةِ الْهُدَى وَالرُّشْدِ لِعُقُولِهِمْ بِحَالِ الْكِتَابِ الْمَطْبُوعِ عَلَيْهِ، أَوِ الْإِنَاءِ الْمَخْتُومِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَنْ يُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَى دَاخِلِهِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَهُمْ، أَيْ عُقُولَهُمْ غَيْرَ مُدْرِكَةٍ وَمُصَدِّقَةٍ لِلْحَقَائِقِ وَالْهُدَى. وَهَذَا الطَّبْعُ مُتَفَاوِتٌ يَزُولُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ فِي مُدَدٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَيَدُومُ مَعَ بَعْضٍ إِلَى الْمَوْتِ كَمَا وَقَعَ، وَزَوَالُهُ بِانْتِهَاءِ مَا فِي الْعَقْلِ مِنْ غِشَاوَةِ الضَّلَالَةِ وَبِتَوَجُّهِ لُطْفِ اللَّهِ بِمَنْ شَاءَ بِحِكْمَتِهِ اللُّطْفَ بِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْفِيقِ الَّذِي فَسَّرَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ

[سورة محمد (47) : آية 17]

وَالدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَبِأَنَّهُ مَا يَقَعُ عِنْدَهُ صَلَاحُ الْعَبْدِ آخِرَةً. وَفَسَّرَ الْمُعْتَزِلَةُ اللُّطْفَ بِإِيصَالِ الْمَنَافِعِ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ يَدِقُّ إِدْرَاكُهُ وَتَمْكِينُهُ بِالْقُدْرَةِ والآلات. [17] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 17] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَام: 25] وَمَا فيهم عَنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: 66] وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ: مُقَابَلَةُ فَرِيقِ الضَّلَالَةِ بِفَرِيقِ الْهِدَايَةِ عَلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِهَا. فَهَذَا أُسْلُوبٌ مُسْتَمِرٌّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَوَاقِعُ جُمَلِهِ. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِيمَانِ فَاهْتَدَوْا لَطَفَ اللَّهِ بِهِمْ فَزَادَهُمْ هُدًى وَأَرْسَخَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَوَفَّقَهُمْ لِلتَّقْوَى، فَاتَّقَوْا وَغَالَبُوا أَهْوَاءَهُمْ. وَإِيتَاءُ التَّقْوَى مُسْتَعَارٌ لِتَيْسِيرِ أَسْبَابِهَا إِذِ التَّقْوَى مَعْنًى نَفْسَانِيٌّ، وَالْإِيتَاءُ يَتَعَدَّى حَقِيقَةً لِلذَّوَاتِ. وَإِضَافَةُ التَّقْوَى إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَا وَاخْتَصَّتْ بِهِمْ. [18] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 18] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها تَفْرِيعٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [مُحَمَّد: 10- 16] الشَّامِلَةَ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ فَفَرَّعَ عَلَيْهَا أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ يَنْتَظِرُونَ حُلُولَ السَّاعَةِ لِيَنَالُوا جَزَاءَهُمْ عَلَى سُوءِ كُفْرِهِمْ فَضَمِيرُ يَنْظُرُونَ مُرَادٌ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ أُمُورًا أُخَرَ مِثْلَ النَّصْرِ وَالشَّهَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَة: 52] الْآيَةَ. وَالنَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الْأَنْعَام: 158] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ مَشُوبٌ بِتَهَكُّمٍ، وَهُوَ إِنْكَارٌ وَتَهَكُّمٌ عَلَى غَائِبِينَ، مُوَجَّهٌ إِلَى

الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْسَبْ تَأْخِيرَ مُؤَاخَذَتِهِمْ إِفْلَاتًا من الْعقَاب، فَإِنَّهُ مُرْجَوْنَ إِلَى السَّاعَةِ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [مُحَمَّد: 12] . وَالْقَصْرُ الَّذِي أَفَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، نُزِّلَ انْتِظَارُهُمْ مَا يَأْمُلُونَهُ مِنَ الْمَرْغُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِضَآلَةِ أَمْرِهِ بَعْدَ أَنْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُونَ فِيمَا يَنْتَظِرُونَ السَّاعَةَ لِأَنَّهُمْ لِتَحَقُّقِ حُلُولِهِ عَلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ مُنْتَظِرِيهَا. وأَنْ تَأْتِيَهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ. وبَغْتَةً حَالٌ مِنَ السَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] . وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: الْمَرَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْوَصْفُ، أَيْ مُبَاغِتَةً لَهُمْ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ السَّاعَةَ مَوْعِدُهُمْ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْتَظِرُ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِظَارُ إِذَا اقْتَرَبَ مَوْعِدُ الشَّيْءِ، هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ تَهَكُّمِيَّةٌ. وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَاءُ الْفَصِيحَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا وَهَذِهِ الْفَصِيحَةُ تُفِيدُ مَعْنَى تَعْلِيلِ قُرْبِ مُؤَاخَذَتِهِمْ. وَالْأَشْرَاطُ: جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ: الْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ عَلَى وَصْفِهِ. وَعَلَامَاتُ السَّاعَةِ هِيَ عَلَامَاتُ كَوْنِهَا قَرِيبَةً. وَهَذَا الْقُرْبُ يُتَصَوَّرُ بِصُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ قُرْبًا نِسْبِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ مُدَّةِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ السَّاعَةِ يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ رُوحَهُ إِذَا خَلَصَتْ عَنْ جَسَدِهِ شَاهَدَتْ مَصِيرَهَا مُشَاهَدَةً إِجْمَالِيَّةً وَبِهِ فُسِرَّ حَدِيثُ أَبِيِِ

[سورة محمد (47) : آية 19]

هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَو حفر مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيُفَسِّرُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَنِهَايَةُ حَيَاةِ الْمَرْءِ قَرِيبَةٌ وَإِنْ طَالَ الْعُمُرُ. وَالْأَشْرَاطُ بِالنِّسْبَةِ لِلصُّورَةِ الْأُولَى: الْحَوَادِثُ الَّتِي أخبر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَأَوَّلُهَا بِعْثَتُهُ لِأَنَّهُ آخِرُ الرُّسُلِ وَشَرِيعَتُهُ آخِرُ الشَّرَائِعِ ثُمَّ مَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَشْرَاطُهَا الْأَمْرَاضُ وَالشَّيْخُوخَةُ. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ. تَفْرِيعٌ عَلَى فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. وأنى اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَثِيرًا وَهُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الذِّكْرَى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، وَالْمَقْصُودُ: إِنْكَارُ الِانْتِفَاعِ بالذكرى حِينَئِذٍ. وفَأَنَّى مُبْتَدَأٌ ثَانٍ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ الصَّدَارَةُ. وذِكْراهُمْ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ ولَهُمْ خبر عَن فَأَنَّى، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [13] ، وَضَمِيرُ جاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةَ. [19] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 19] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) فُرِّعَ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْكَافِرِينَ وَمِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ وَوَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَعَلَى مَا هُوَ دَأْبُهُ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهِ وَمِنَ الْحِرْصِ عَلَى نَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَذَلِكَ الدَّأْبِ اسْتِمْطَارُ الْخَيْرَاتِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ

وَالتَّفْرِيعُ هَذَا مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِقَوْلِهِ آنِفًا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: 11] الْآيَةَ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمْ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ لِطَلَبِ تَحْصِيلِهِ بَلْ لِطَلَبِ الثَّبَاتِ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَأَمَّا الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فَهُوَ لِطَلَبِ تَجْدِيدِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ قَدْ علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ وَعَمِلَهُ أَوْ هُوَ لِطَلَبِ تَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ مِنْ قَبْلُ. وَذِكْرُ الْمُؤْمِناتِ بعد لِلْمُؤْمِنِينَ اهْتِمَامٌ بِهِنَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْغَالِبَ اكْتِفَاءُ الْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَشُمُولِهِ لِلْمُؤْمِنَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ لِلْعِلْمِ بِعُمُومِ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنْ أَمَرَ هُنَا بِالْعِلْمِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ فَضْلِ الْعِلْمِ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ حِينَ بَدَأَ بِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ «صَحِيحِهِ» بَابَ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ. وَمَا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَ السَّيِّئَاتِ لِعِصْمَتِهِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِغْفَارٌ مِنَ الْغَفَلَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَسْمِيَتُهُ بِالذَّنْبِ فِي الْآيَةِ إِمَّا مُحَاكَاةٌ لِمَا كَانَ يكثر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي) وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ فِي مَقَامِ التَّوَاضُعِ، وَإِمَّا إِطْلَاقٌ لِاسْمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الِازْدِيَادِ فِي الْعِبَادَةِ مِثْلُ أَوْقَاتِ النَّوْمِ وَالْأَكْلِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا عناه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ (¬1) عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ¬

(¬1) يغان، أَي يغام ويغشى. وفسروا ذَلِك بالغفلات عَن الذّكر.

[سورة محمد (47) : الآيات 20 إلى 21]

» (¬1) . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِذَنْبِكَ لَامُ التَّعْيِينِ بَيَّنَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِفِعْلِ اسْتَغْفِرْ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَوْ بِمَعْنَى (عَنْ) وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَغْفِرِ الذُّنُوبَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِذُنُوبِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ مَا تَقَدَّمَ. فَالْمُتَقَلَّبُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّقَلُّبِ، أُوثِرَ جَلْبُهُ هُنَا لِمُزَاوَجَةِ قَوْلِهِ: وَمَثْواكُمْ. وَالتَّقَلُّبُ: الْعَمَلُ الْمُخْتَلِفُ ظَاهِرًا كَانَ كَالصَّلَاةِ، أَوْ بَاطِنًا كَالْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ. والمثوى: الْمرجع والمثال، أَيْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَحْوَالَكُمْ جَمِيعًا مِنْ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ، وَقَدَّرَ لَهَا جَزَاءَهَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَرَاتِبِهَا وَيَعْلَمُ مَصَائِرَكُمْ وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ خَاصَّةً لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ عَلَى مُسَبِّبَاتِهَا فَلَا تَيْأَسُوا وَلَا تُهْمِلُوا. [20، 21] [سُورَة مُحَمَّد (47) : الْآيَات 20 الى 21] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ بَدَتْ قُرُونُ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا جَرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ أُعْقِبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ أَجْلَى مَظَاهِرِ نِفَاقِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يُدْعَى الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْجِهَادِ فَقَدْ يَضِيقُ الْأَمْرُ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانَ تَظَاهُرُهُمْ بِالْإِسْلَامِ سَيُلْجِئُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِإِتْلَافِهِمُ النُّفُوسِ دون أَن يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ إِذْ هُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا فَيُصْبِحُوا فِي حَيْرَةٍ. وَكَانَ حَالُهُمْ هَذَا مُخَالِفًا لِحَالِ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِي تَمَنَّوْا أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْقِتَالِ لِيُلَاقُوا الْمُشْرِكِينَ فَيَشْفُوا مِنْهُمْ غَلِيلَهُمْ، فَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ حُكِيَ تَمَنِّي الْمُؤْمِنِينَ نُزُولَ حُكْمِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ يَلُوحُ بِهِ تَمْيِيزُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَبْدُو مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَ كُرْهَ الْقِتَالِ لَدَيْهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْآيَةَ، وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ بِذِكْرِ سَبَّبِهِ، وَأَفَادَ تَقْدِيمُهُ ¬

(¬1) رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد.

أَيْضًا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَفَادَ ذِكْرُهُ مُقَابَلَةً بَيْنَ حَالَيِ الْفَرِيقَيْنِ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَقَالُ الَّذِينَ آمَنُوا هَذَا كَانَ سَبَبًا فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: 4] ، وَلِذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ الْمُؤمنِينَ هَذَا وَقع قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ: إِمَّا لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِثْلَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] ، وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَتَبَعًا لِذَلِكَ تَكُونُ إِذَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ظَرْفًا مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ قَدْ وَقَعَ، وَنَظَرُ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا النَّظَرَ قَدْ وَقَعَ إِذْ لَا يَكُونُ ذَمُّهُمْ وَزَجْرُهُمْ قَبْلَ حُصُولِ مَا يُوجِبُهُ فَالْمَقَامُ دَالٌّ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. ولَوْلا حَرْفٌ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّمَنِّي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ فَأُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ التَّمَنِّي لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسْتَلْزِمُ الْحِرْصَ وَالْحِرْصُ يَدْعُو إِلَى التَّحْضِيضِ. وَحُذِفَ وُصْفُ سُورَةٌ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، أَيْ كَمَا تَمَنَّوُا اقْتَضَى أَنَّ الْمَسْئُولَ سُورَةٌ يُشَرَّعُ فِيهَا قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ. فَالْمَعْنَى: لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ يُذْكَرُ فِيهَا الْقِتَالُ وَفَرْضُهُ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ إِيجَازًا. وَوَصْفُ السُّورَةِ بِ مُحْكَمَةٌ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ آيَاتِهَا بِالْإِحْكَامِ، أَيْ عَدَمِ التَّشَابُهِ وَانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ الْمُحْكَمَاتِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] ، أَيْ لَا تَحْتَمِلُ آيَاتُ تِلْكَ السُّورَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقِتَالِ إِلَّا وُجُوبَ الْقِتَالِ وَعَدَمَ الْهَوَادَةِ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: 4] الْآيَاتَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ إِجَابَةً عَنْ تَمَنِّي الَّذِينَ آمَنُوا. وَإِنَّمَا قَالَ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ لِأَنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ كُلُّهَا مُتَمَحِّضَةٌ لِذِكْرِ الْقِتَالِ فَإِنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ ذَوَاتُ أَغْرَاضٍ شَتَّى.

وَالْخِطَابُ فِي رَأَيْتَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا حقّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَام: 25] . والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمْ الْمُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ فَجَعَلَ الْكُفْرَ الْخَفِيَّ كَالْمَرَضِ الَّذِي مَقَرُّهُ الْقَلْبُ لَا يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ، أَيْ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَدْ غَلَبَ إِطْلَاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ النِّفَاقَ مَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ مُعْضِلٌ لِأَنَّهُ تَتَفَرَّعُ مِنْهُ فُرُوعٌ بَيَّنَّاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [10] . وَانْتَصَبَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ صِفَةِ النَّظَرِ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ ثَبَاتُ الْحَدَقَةِ وَعَدَمُ التَّحْرِيكِ، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمُتَحَيِّرِ بِحَيْثُ يَتَّجِهُ إِلَى صَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْمَرْئِيَّاتِ لِأَنَّهُ فِي شَاغِلٍ عَنِ النَّظَرِ، وَإِنَّمَا يُوَجِّهُونَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانُوا بِمَجْلِسِهِ حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى تَلَقِّي مَا يَنْطِقُ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ فَلَمَّا سَمِعُوا ذِكْرَ الْقِتَالِ بُهِتُوا، فَالْمَقْصُودُ الْمُشَابِهَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [19] . ومِنَ هُنَا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمَوْتِ، أَيْ حُضُورِ الْمَوْتِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ. وَلَفْظُ أَوْلَى هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِهِ اسْتِعْمَالَ التَّفْضِيلِ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَوْلَى لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ نَظَرُهُمْ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، أَنْ يُطِيعُوا أَمْرَ اللَّهِ وَيَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَهُوَ قَوْلُ سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَة: 285] فَذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا أَوْ أُمِرُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى:

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي سُورَةِ النُّورِ [51] . وَعَلَى هَذَا الْوَجْه فتعدية فَأَوْلى بِاللَّامِ دُونَ الْبَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ، فَكَانَ اجْتِلَابُ اللَّامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى النَّفْعِ. فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ [النُّور: 30] وَقَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78] . وَهُوَ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَأَوْلى لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [34، 35] ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ تَوَعُّدِهِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ قِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنَّ أَوْلَى مَرْتَبَةٌ حُرُوفُهُ عَلَى حَالِهَا مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَيْلِ. فَأَصْلُ أَوْلَى: أَوْيَلُ، أَيْ أَشَدُّ وَيْلًا، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ، وَوَزْنُهُ أَفْلَعُ. وَفِي «الصِّحَاحِ» عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مَا يَقْتَضِي: أَنَّهُ يَجْعَلُ (أَوْلَى لَهُ) مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَقْرَبُ مَا يُهْلِكُهُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي (أَوْلَى لَهُ) أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ. وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِمَّا مَزِيدَةٌ، أَيْ أَوْلَاهُمُ اللَّهُ مَا يَكْرَهُونَ فَيَكُونُ مِثْلَ اللَّامِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي وإمّا مُتَعَلقَة بِأولى عَلَى أَنَّهُ فَعْلُ مُضِيٍّ، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ قَوْلُهُ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خَيْرٌ لَهُمْ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: الْأَمْرُ طَاعَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطِيعُوا.

فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. تَفْرِيعٌ عَلَى وَصْفِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْهَلَعِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ إِذَا جَدَّ أَمْرُ الْقِتَالِ، أَيْ حَانَ أَنْ يُنْدَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْقِتَالِ سَيَضْطَرِبُ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَيَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا مِنْ حُضُورِ الْجِهَادِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِيمَانَ وَيُجَاهِدُوا كَمَا يُجَاهِدُ الْمُسْلِمُونَ الْخُلَّصُ وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا حُضُورُ الْقِتَالِ بِدُونِ نِيَّةٍ فَتَكُونُ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ وَيَخْسَرُوا أَنْفُسَهُمْ بَاطِلًا، وَإِمَّا أَنْ يَنْخَزِلُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعُهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُقَدَّرًا وَجُودُهُ، أَيْ فَإِذَا جَدَّ أَمْرُ الْقِتَالِ وَحَدَثَ. وَجُمْلَةُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ دَلِيل جَوَاب فَإِذا لِأَنَّ إِذَا ضُمِّنَتْ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ كَذَّبُوا اللَّهَ وَأَخْلَفُوا فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَضْمِينِ إِذَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْفَاءِ إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ شَرْطِيَّةً أَيْضًا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَوِ اللَّامُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ أَمْرُ الْقِتَالِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ. وَالْعَزْمُ: الْقَطْعُ وَتَحَقُّقُ الْأَمْرِ، أَيْ كَوْنُهُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ. وَاسْتُعِيرَ الْعَزْمُ لِلتَّعْيِينِ وَاللُّزُومِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ، أَيِ الْقِتَالِ بِرَجُلٍ عَزَمَ عَلَى عَمَلٍ مَا وَإِثْبَاتُ الْعَزْمِ لَهُ تَخْيِيلَةٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّكَّاكِيِّ فِي جَمِيعِ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ دَقِيقَةٌ لَكِنْ بِدُونِ اطراد وَلَكِن عِنْد مَا يسمح بِهِ الْمَقَامُ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» إِسْنَادَ الْعَزْمِ إِلَى الْأَمْرِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُسْنَدَ لِأَصْحَابِ الْعَزْمِ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْهُورِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ هُنَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى حُصُولِ الْجِدِّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: 17] فَالْكَلَامُ فِيهَا سَوَاءٌ.

[سورة محمد (47) : آية 22]

وَمَعْنَى صَدَقُوا اللَّهَ قَالُوا لَهُ الصِّدْقَ، وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ لَوْ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَظْهَرُوا لَهُ خِلَافَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَجَعَلَ الْكَذِبَ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ تَفْظِيعًا لَهُ وَتَهْوِيلًا لِمَغَبَّتِهِ، أَيْ لَوْ أَخْلَصُوا الْإِيمَانَ وَقَاتَلُوا بِنِيَّةِ الْجِهَادِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا خَيْرُ الْعِزَّةِ وَالْحُرْمَةِ وَفِي الْآخِرَةِ خَيْرُ الْجَنَّةِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ إِنْبَاءٌ مِمَّا سَيَكُونُ مِنْهُمْ حِينَ يَجِدُّ الْجِدُّ وَيَجِيءُ أَوَانُ الْقِتَالِ وَهِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ فَقَدْ عَزَمَ أَمْرُ الْقِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ وَخَرَجَ الْمُنَافِقُونَ مَعَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي صُورَةِ الْمُجَاهِدِينَ فَلَمَّا بَلَغَ الْجَيْشُ إِلَى الشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ: مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ؟ وَرَجَعَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوِ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَوْلُهُ: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ جَوَابٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكانَ خَيْراً يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ إِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ حَصَلَ لَهُمْ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَلَفْظُ خَيْراً ضِدُّ الشَّرِّ بِوَزْنِ فَعْلٍ، وَلَيْسَ هُوَ هُنَا بِوَزْن أفعل. [22] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 22] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) مُقْتَضَى تَنَاسُقِ النَّظْمِ أَنَّ هَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [مُحَمَّد: 21] لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ تَوَلَّوْا عَنِ الْقِتَالِ وَانْكَشَفَ نِفَاقُهُمْ فَتَكُونُ إِتْمَامًا لِمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟ وَرُبَّمَا قَالَ فِي كَلَامِهِ: وَكَيْفَ نُقَاتِلُ قُرَيْشًا وَهُمْ مِنْ قَوْمِنَا، وَكَانَ لَا يَرَى عَلَى أَهْلِ يَثْرِبَ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرَى الِاقْتِصَارَ عَلَى أَنَّهُمْ آوَوْهُ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْذِيبِ لِمَا سيعتذرون بِهِ لَا نخزالهم وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ

[سورة محمد (47) : آية 23]

بِـ (هَلْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَنْزِلَةِ (قَدْ) فِي الْخَبَرِ، فَالْمَعْنَى: أَفَيَتَحَقَّقُ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنَّكُمْ تُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُونَ أَرْحَامَكُمْ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَوَلَّيْتُمْ إِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى ذَوِي قَرَابَةِ أَنْسَابِكُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا [الْبَقَرَة: 246] وَهَذَا تَوْبِيخٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: 85] . وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَقَعُونَ فِيمَا زَعَمْتُمُ التَّفَادِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ بِتَأْيِيدِ الْكُفْرِ وَإِحْدَاثِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ قَوْمِكُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَالتَّوَلِّي هُنَا هُوَ الرُّجُوعُ عَنِ الْوِجْهَةِ الَّتِي خَرَجُوا لَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 246] وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النَّجْم: 33] وَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: 60] . وَبِمِثْلِهِ فَسَّرَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ التَّفَاسِيرِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ التَّوَلِّيَ عَلَى أَنَّهُ مُطَاوِعُ وُلَّاهُ إِذَا أَعْطَاهُ وِلَايَةً، أَيْ وِلَايَةَ الْحُكْمِ وَالْإِمَارَةِ عَلَى النَّاسِ وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَمِنَ النَّظْمِ وَفِيهِ تَفْكِيكٌ لِاتِّصَالِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَانْتِقَالٌ بِدُونِ مُنَاسَبَةٍ، وَتَجَاوَزَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فَأَخَذَ يَدَّعِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا فِيمَا يَحْدُثُ بَيْنَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي هَاشِمٍ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الشِّيَعِ وَالْأَهْوَاءِ مِنْ تَحْمِيلِ كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ وَمِنْ قَصْرِ عُمُومَاتِهِ عَلَى بَعْضِ مَا يُرَادُ مِنْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ عَسَى إِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّ فِعْلَهُ: عَسِيَ مِثْلُ رَضِيَ، وَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ إِلَّا إِذَا أُسْنِدَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرٍ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الضَّمِيرِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، أَمَّا بَنُو تَمِيمٍ فَلَا يُسْنِدُونَهُ إِلَى الضَّمِيرِ الْبَتَّةَ، يَقُولُونَ: عَسَى أَن تَفعلُوا. [23] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 23] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ آنِفًا: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [مُحَمَّد: 16] وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّد: 22] لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ اللَّعْنَةَ وَلَا أَنْ مُرْتَكِبِيهِ بِمَنْزِلَةِ

[سورة محمد (47) : آية 24]

الصُّمِّ، عَلَى أَنَّ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَفْعَالِ: لَعَنَهُمْ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى، مَا لَا يُلَاقِي قَوْلَهُ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ [مُحَمَّد: 22] وَلَا مَا فِي حَرْفِ (إِنْ) مِنْ زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ. وَاسْتُعِيرَ الصَّمَمُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعَاتِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ ومواعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْعَمَى هُنَا لِعَدَمِ الْفَهْمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ لِأَنَّ حَالَ الْأَعْمَى أَنْ يَكُونَ مُضْطَرِبًا فِيمَا يُحِيطُ بِهِ لَا يَدْرِي نَافِعَهُ مِنْ ضَارِّهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ مَنْ يُرْشِدُهُ، وَكَثُرَ أَنْ يُقَالَ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، مُرَادًا بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَهْدِهِ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي مَجِيءِ تَرْكِيبِ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ مُخَالِفًا لِتَرْكِيبِ فَأَصَمَّهُمْ إِذْ لم يقل: وأعمالهم. وَفِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَقَطِيعَةَ الْأَرْحَامِ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَهُمَا جُرْمَانِ كَبِيرَانِ يَجِبُ عَلَى الْمُؤمنِينَ اجتنابهما. [24] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 24] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [مُحَمَّد: 23] ، أَيْ هَلَّا تَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ عِوَضَ شَغْلِ بِالِهِمْ فِي مَجْلِسِكَ بِتَتَبُّعِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ بِعُقُولٍ غَيْرِ مُنْفَعِلَةٍ بِمَعَانِي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ مَعَ فَهْمِهِ أَوْ لَا يَفْهَمُونَهُ عِنْدَ تَلَقِّيهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عَجِيبٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٌ مِنْ سُوءِ عِلْمِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَمَاعِهِ. وَحَرْفُ أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَالْمَعْنَى: بَلْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَقْفَالٌ وَهَذَا الَّذِي سَلَكَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [51، 52] ، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ أَوْ تَوَهَّمَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» . وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَهُّمُ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ مَا يَخْفَى مِنْهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ دُبُرِ الشَّيْءِ، أَيْ خَلْفُهُ.

[سورة محمد (47) : آية 25]

وَالْأَقْفَالُ: جَمْعُ قُفْلٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شُبِّهَتِ الْقُلُوبُ، أَيِ الْعُقُولُ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِهَا الْمَعَانِيَ بِالْأَبْوَابِ أَوِ الصَّنَادِيقِ الْمُغْلَقَةِ، وَالْأَقْفَالُ تَخْيِيلٌ كَالْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ وَتَنْكِيرُ قُلُوبٍ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ التَّبْعِيضِ، أَيْ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْقُلُوبِ أَقْفَالٌ. وَالْمَعْنَى: بَلْ بَعْضُ الْقُلُوبِ عَلَيْهَا أَقْفَالٌ. وَهَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقُلُوبِ فِي أَثْنَاءِ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ تَدَبُّرِ هَؤُلَاءِ الْقُرْآنَ يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقُلُوبِ ذَوَاتِ الْأَقْفَالِ. فَكَوْنُ قُلُوبِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ. وَيَدْنُو مِنْ هَذَا قَوْلُ لَبِيدٍ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضهَا ... أَو يتَعَلَّق بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يُرِيدُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ الْبَيْتَ، أَيْ أَنَا تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ. وَإِضَافَةُ (أَقْفَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ قُلُوبٍ نَظْمٌ بَدِيعٌ أَشَارَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْأَقْفَالِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ، أَيْ مُلَازَمَتِهَا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قاسية. [25] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 25] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) لَمْ يَزَلِ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَالَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مُنَافِقُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَقًّا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ قَلِيلِي الِاطْمِئْنَانِ وَهُمُ الَّذِينَ مَثَّلَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الْآيَةَ.

وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: تَمْثِيلٌ لِلرَّاجِعِ إِلَى الْكفْر بعد لإيمان بِحَالِ مَنْ سَارَ لِيَصِلَ إِلَى مَكَانٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي طَرِيقِهِ. وَلَمَّا كَانَ الِارْتِدَادُ سَيْرًا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتْ وَرَاءَ السَّائِرِ جُعِلَ الِارْتِدَادُ إِلَى الْأَدْبَارِ، أَيْ إِلَى جِهَةِ الْأَدْبَارِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ عَلى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِارْتِدَادَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْأَدْبَارِ كَمَا يُقَالُ: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَالْهُدَى: الْإِيمَانُ، وَتَبَيَّنَ الْهُدَى لَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْه تبيّن حَقِيقِيّ لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ هُدَى الْإِيمَانِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لَيْسَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ بَعْضُ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ، عُبِّرَ عَنْ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ مُشَارَكَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْمَوَاعِظِ بِالِارْتِدَادِ لِأَنَّهُ مُفَارَقَةٌ لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الطَّيِّبَةِ، أَيْ رَجَعُوا إِلَى أَقْوَالِ الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ وَذَلِكَ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَتَبَيُّنُ الْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَوْنُهُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ لَهُمْ لِوُضُوحِ أَدِلَّتِهِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَهَذَا التَّبَيُّنُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] ، أَيْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُوجِبُ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ الْقِتَالَ حَقٌّ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ انْخَزَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ مَوْقِعِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ نَزَلُوا بِهِ فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ خَلْفَهُمْ. وَهَذَا عِنْدِي أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَأَلْيَقُ بِقَوْلِهِ بَعْدُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ إِلَى قَوْله: وَأَدْبارَهُمْ [مُحَمَّد: 26، 27] . وَالْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْحَقُّ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ. وَأُوثِرَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ (إِنَّ) جُمْلَةً لِيَتَأَتَّى بِالْجُمْلَةِ اشْتِمَالُهَا عَلَى خَصَائِصِ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِ الشَّيْطَانِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي غَرَضِ ذَمِّهِمْ، وَأَنْ يُسْنَدَ إِلَى اسْمِهِ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ لِيُفِيدَ تَقَوِّيَ الْحُكْمِ نَحْوُ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ.

[سورة محمد (47) : آية 26]

وَالتَّسْوِيلُ: تَسْهِيلُ الْأَمْرِ الَّذِي يُسْتَشْعَرُ مِنْهُ صُعُوبَةٌ أَوْ ضُرٌّ وَتَزْيِينُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ. وَالْإِمْلَاءُ: الْمَدُّ وَالتَّمْدِيدُ فِي الزَّمَانِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِبْقَاءِ عَلَى الشَّيْءِ كَثِيرًا، أَيْ أَرَاهُمُ الِارْتِدَادَ حَسَنًا دَائِمًا كَمَا حَكَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: 120] ، أَيْ أَنَّ ارْتِدَادَهُمْ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَمْلى لَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ إِلَى الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَنَا أُمْلِي لَهُمْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ وَعِيدًا، أَيْ أَنَا أُؤَخِّرُهُمْ قَلِيلًا ثمَّ أعاقبهم. [26] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 26] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ إِذِ التَّقْدِيرُ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ مَظْهَرِ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهُمُ الِارْتِدَادَ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، فَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَدْرَجَهُمْ إِلَى الضلال عِنْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى فَسَوَّلَ لَهُمْ أَنْ يُوَافِقُوا أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مُسَوِلًا أَنَّ تِلْكَ الْمُوَافَقَةَ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ لَا تَنْقُضُ اهْتِدَاءَهُمْ فَلَمَّا وَافَقُوهُمْ وَجَدُوا حَلَاوَةَ مَا أَلِفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ فِيمَا وَافَقُوا فِيهِ أَهْلَ الْكُفْرِ فَأَخَذُوا يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ الْمَأْلُوفِ حَتَّى ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ النَّفْسِ فِي مُعَاوَدَةِ مَا تُحِبُّهُ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ عَنْهُ إِنْ كَانَ الِانْقِطَاعُ قَرِيبَ الْعَهْدِ. فَمَعْنَى قالُوا: قَالُوا قَوْلًا عَنِ اعْتِقَادٍ وَرَأْيٍ، وَإِنَّمَا قَالُوا: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ احْتِرَازًا لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا لَمْ يُطِيعُوا فِي بعض. ولِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ هُمُ الَّذِينَ كَرِهُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا، وَهُمْ: إِمَّا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 9] وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ صِلَةٌ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَلَمَّا هَاجر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى

[سورة محمد (47) : آية 27]

الْمَدِينَةِ اشْتَدَّ تَعَهُّدُ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَصْحَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ لِيَتَطَلَّعُوا أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّهُمْ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلثَّأْرِ مِنْهُمُ الَّذِي أَنْجَزُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَإِمَّا الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 11] . فَالْمُرَادُ بِ بَعْضِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَحْمَلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [مُحَمَّد: 25] إِفْشَاءُ بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَإِشْعَارُهُمْ بِوَفْرَةِ عَدَدِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ لِكَرَاهَتِهِمُ الْقِتَالَ. وَالْمُرَادُ بِ بَعْضِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَعْضُ أَمْرِ الْقِتَالِ، يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَكِيدَةُ الَّتِي دَبَّرُوهَا لِلِانْخِزَالِ عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْأَمْرُ هُوَ: شَأْنُ الشِّرْكِ وَمَا يُلَائِمُ أَهْلَهُ، أَيْ نُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْكُفْرِ وَلَا نُطِيعُكُمْ فِي جَمِيع الشؤون لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْضَحُ نِفَاقَهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ فِي بَعْضِ مَا تَأْمُرُونَنَا بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ سِرًّا فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِسْرارَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ سِرٍّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مصدر أسرّ. [27] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 27] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [مُحَمَّد: 25] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ [مُحَمَّد: 25] بِنَاءً عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ لِلِارْتِدَادِ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ لِبَيَانِ مَا سَيَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ اسْتِهْلَالٌ لِمَا يَتَوَاصَلُ مِنْ عَذَابِهِمْ عَنْ مَبْدَأِ الْمَوْتِ إِلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْعَذَابِ الْخَالِدِ.

وَيَجُوزُ عَلَى الْمَحْمَلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ الِارْتِدَادُ عَنِ الْقِتَالِ وَتَكُونُ الْفَاءُ فَصِيحَةً فَيُفِيدُ: إِذَا كَانُوا فَرَّوا مِنَ الْقِتَالِ هَلَعًا وَخَوْفًا فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَيْ كَيْفَ هَلَعُهُمْ وَوَجَلُهُمُ الَّذِي ارْتَدُّوا بِهِمَا عَنِ الْقِتَالِ. وَهَذَا يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ لَا مَحَالَةَ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ مَوْتَتَهُمْ يَصْحَبُهَا تَعْذِيبٌ. فَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: 168] وَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التَّوْبَة: 81] . وَالثَّانِي هُوَ صَرِيحُ الْكَلَامِ وَهُوَ وَعِيدٌ لِتَعْذِيبٍ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَالْمَقْصُودُ: وَعِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُعَجَّلُ لَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ أَوَّلِ مَنَازِلَ الْآخِرَةِ وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ. وَلَمَّا جُعِلَ هَذَا الْعَذَابُ مُحَقَّقًا وُقُوعُهُ رُتِّبَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَالِهِمُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى تَعْجِيبِ الْمُخَاطَبِ مِنْ حَالِهِمْ عِنْدَ الْوَفَاةِ، وَهَذَا التَّعْجِيبُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا حَالَةٌ فَظِيعَةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ إِذْ لَا يُتَعَجَّبُ إِلَّا مِنْ أَمْرٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْفَظَاعَةِ. وإِذا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ، تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ عَمَلُهُمْ حِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَكَثُرَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ كَيْفَ فِي أَمْثَالِ هَذَا مُقَدَّرًا مُؤَخَّرًا عَنْ كَيْفَ وَعَنْ إِذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاء: 41] . وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ وَيَحْتَالُونَ. وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ كَيْفَ فِي مِثْلِهِ ظَرْفًا وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْكَافِيَةِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْفِرَارَ مِنَ الْحَذْفِ. وَجُمْلَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ: وَعِيدُهُمْ بِهَذِهِ الْمِيتَةِ الْفَظِيعَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ تَضْرِبُ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، أَيْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمُ الَّتِي وَقَوْهَا مِنْ ضَرْبِ السَّيْفِ

[سورة محمد (47) : آية 28]

حِينَ فَرُّوا مِنَ الْجِهَادِ فَإِنَّ الْوُجُوهَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ عِنْدَ الْقِتَالِ قَالَ الْحَرِيشُ الْقُرَيْعِيُّ، أَوِ الْعَبَّاس بن مِدْرَاس: نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلنِّظَامِ وَيَضْرِبُونَ أَدْبَارَهُمُ الَّتِي كَانَتْ مَحَلَّ الضَّرْبِ لَوْ قَاتَلُوا، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ قَاتَلُوا لَفَرُّوا فَلَا يَقَعُ الضَّرْبُ إِلَّا فِي أدبارهم. [28] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 28] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ الْفَظِيعِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ [مُحَمَّد: 27] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاتِّبَاعُهُمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ: هُوَ اتِّبَاعُهُمُ الشِّرْكَ. وَالسُّخْطُ مستعار لعدم الرضى بِالْفِعْلِ. وَكَرَاهَتُهُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ: كَرَاهَتُهُمْ أَسْبَابَ رِضْوَانِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَفِي ذِكْرِ اتِّبَاعِ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرَاهَةَ رِضْوَانِهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّتَيْنِ لِلْمُضَادَّةِ بَيْنَ السُّخْطِ وَالرِّضْوَانِ، وَالِاتِّبَاعِ وَالْكَرَاهِيَةِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرَاهَتِهِمْ رِضْوَانَهُ مَعَ إِمْكَانِ الِاجْتِزَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَ هَؤُلَاءِ مُنَاسِبٌ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى مَا أَسْخَطَ اللَّهَ، وَأَنَّ ضَرْبَهُمْ أَدْبَارَهُمْ مُنَاسِبٌ لِكَرَاهَتِهِمْ رِضْوَانَهُ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ وَالْإِدْبَارَ، فَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا مُحَسِّنُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. فَكَانَ ذَلِكَ التَّعْذِيبُ مُنَاسِبًا لِحَالَيْ تَوَقِّيهِمْ فِي الْفِرَارِ مِنَ الْقِتَالِ وَلِلسَّبَبَيْنِ الْبَاعِثَيْنِ عَلَى ذَلِكَ التَّوَقِّي. وَفَرَّعَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وكراهتهم رضوانه قَوْله: فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ فَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرَاهَتُهُمْ رِضْوَانَهُ سَبَبًا فِي الْأَمْرَيْنِ: ضَرْبِ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ الْوَفَاةِ، وَإِحْبَاطِ أَعْمَالِهِمْ.

[سورة محمد (47) : آية 29]

وَالْإِحْبَاطُ: إِبْطَالُ الْعَمَلِ، أَيْ أَبْطَلَ انْتِفَاعَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَمِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فِي أول السُّورَة. [29] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 29] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) انْتِقَالٌ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى الْإِنْذَارِ بِأَنَّ اللَّهَ مطلع رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ أَسْرَارَهُمْ غَيْرُ خَافِيَةٍ فَيُوقِنُوا أَنَّهُمْ يَكُدُّونَ عُقُولَهُمْ فِي تَرْتِيبِ الْمَكَائِدِ بِلَا طَائِلٍ وَذَلِكَ خَيْبَةٌ لِآمَالِهِمْ. وأَمْ مُنْقَطِعَةٌ فِي مَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدِّرُ بَعْدَ أَمْ لِلْإِنْكَارِ. وحرف (لن) لتأييد النَّفْيِ، أَيْ لَا يَحْسَبُونَ انْتِفَاءَ إِظْهَارِ أَضْغَانِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا انْتَفَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْضَحَ نِفَاقَهُمْ. وَاسْتُعِيرَ الْمَرَضُ إِلَى الْكُفْرِ بِجَامِعِ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِهِ، وَلِكَوْنِ الْكُفْرِ مَقَرُّهُ الْعَقْلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَلْبِ كَانَ ذِكْرُ الْقُلُوبِ مَعَ الْمَرَضِ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْقَلْبَ مِمَّا يُنَاسِبُ الْمَرَضَ الْخَفِيَّ إِذْ هُوَ عُضْوٌ بَاطِنٌ فَنَاسَبَ الْمَرَضَ الْخَفِيَّ. وَالْإِخْرَاجُ أُطْلِقَ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْإِبْرَازِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَن الْإِخْرَاج اسْتِدْلَال شَيْءٍ مِنْ مكمنه، فاستعير للإعلام بِخَبَرٍ خَفِيٍّ. وَالْأَضْغَانُ: جَمْعُ ضِغْنٍ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْحِقْدُ وَالْعَدَاوَةُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُخْرِجُهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ وَكَانَ الْعَرَبُ يَجْعَلُونَ الْقُلُوبَ مَقَرَّ الْأَضْغَانِ قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْمِفْتَاحِ لِلسَّكَّاكِيِّ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ: الضَّارِبِينَ بِكُلِّ أَبْيَضَ مِخْذَمِ ... وَالطَّاعِنِينَ مجامع الأضغان

[سورة محمد (47) : آية 30]

[سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 30] وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ. كَانَ مَرَضُ قُلُوبِهِمْ خَفِيًّا لِأَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي كِتْمَانِهِ وَتَمْوِيهِهِ بِالتَّظَاهُرِ بِالْإِيمَانِ، فَذكر الله لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا فَيَعْرِفُ ذَوَاتَهُمْ بِعَلَامَاتِهِمْ. وَالسِّيمَى بِالْقَصْرِ: الْعَلَامَةُ الْمُلَازِمَةُ، أَصْلُهُ: وِسْمَى بِوَزْنِ فِعْلَى مَنِ الْوَسْمِ وَهُوَ جَعْلُ سِمَةٍ لِلشَّيْءِ، وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. فَهُوَ مِنَ الْمِثَالِ الْوَاوِيِّ الْفَاءُ حُوِّلَتِ الْوَاوُ مِنْ مَوْضِعِ فَاءِ الْكَلِمَةِ فَوُضِعَتْ فِي مَكَانِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَحُوِّلَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ فَصَارَتْ سِوْمَى فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [273] . وَالْمَعْنَى: لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ، أَوْ لَذَكَرْنَا لَكَ أَوْصَافَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ بِهَا ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ شَاءَ ذَلِكَ وأراهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ أَنَسٍ «مَا خَفِيَ عَلَى النَّبِيءِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ» ذَكَرَهُ الْبَغْوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ بِدُونِ سَنَدٍ. وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ مَا يَقْتَضِي أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَهُ بِالْمُنَافِقِينَ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا صَحَّ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِجْرَائِهِمْ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ قَالَ هَذَا إِكْرَاما لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُطْلِعْهُ عَلَيْهِمْ. وَاللَّامُ فِي لَأَرَيْناكَهُمْ لَامُ جَوَابِ لَوْ الَّتِي تُزَادُ فِيهِ غَالِبًا. وَاللَّامُ فِي فَلَعَرَفْتَهُمْ تَأْكِيدٌ لِلَّامِ لَأَرَيْناكَهُمْ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ تَفَرُّعِ الْمعرفَة على الإراءة. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. هَذَا فِي مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ مِنْ عَدَمِ وُقُوع الْمَشِيئَة لإراءته إِيَّاهُمْ بِنُعُوتِهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ نُرِكَ إِيَّاهُمْ بِسِيمَاهُمْ فَلَتَقَعَنَّ مَعْرِفَتُكَ بِهِمْ مِنْ لَحْنِ كَلَامِهِمْ بِإِلْهَامٍ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي علم رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ لَحْنِ كَلَامِهِمْ

فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا لَحَنَ فِي قَوْلِهِ، وَهُمْ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنَ اللَّحْنِ فِي قَوْلِهِ، فَمَعْرِفَةُ الرَّسُولِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَاصِلَةٌ وَإِنَّمَا تَرَكَ اللَّهُ تَعْرِيفَهُ إِيَّاهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَوَكَلَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِلَحْنِ قَوْلِهِمْ إِبْقَاءً عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الْحِكْمَةِ فَلَمَّا أُرِيدَ تكريم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاعِهِ عَلَى دَخَائِلِ الْمُنَافِقِينَ سَلَكَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ الرَّمْزِ. وَاللَّامُ فِي وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ لَامُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَلَحْنُ الْقَوْلِ: الْكَلَامُ الْمُحَالُ بِهِ إِلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِيَفْطِنَ لَهُ مَنْ يُرَادُ أَنْ يَفْهَمَهُ دُونَ أَنْ يَفْهَمَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ أَوْ تَوْرِيَةٌ أَوْ أَلْفَاظٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهَا بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ فِرْقَةٍ كَالْأَلْفَاظِ الْعَلْمِيَّةِ قَالَ الْقَتَّالُ الْكِلَائِيُّ: وَلَقَدْ وَحَيْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا ... وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يخاطبون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامٍ تَوَاضَعُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُهُمْ بِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ فَنَبَّهَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَكَانَ بَعْدَ هَذَا يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعَ كَلَامَهُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. تَذْيِيلٌ، فَهُوَ لِعُمُومِهِ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْوَعِيدُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَالْوَعْدُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ لِأَهْلِ النِّفَاقِ بِأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَفْضَحَ نِفَاقَهُمْ كَمَا قَالَ آنِفًا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [مُحَمَّد: 29] . وَاجْتِلَابُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ بذلك مُسْتَمر.

[سورة محمد (47) : آية 31]

[سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 31] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [مُحَمَّد: 30] . وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِمَّا قَدْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّكْلِيفِ. وَوَجْهُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ تَقَعَ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَإِنَّهَا سَتَقَعُ وَيَتَعَلَّقُ بِعَزْمِ النَّاسِ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ التَّكَالِيفِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَمِنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ التَّكَالِيفِ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَتَقَدُّمُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِكُلِّ عَبْدٍ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ. فَقَالُوا أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا كُتِبَ لَنَا؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَقَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: 5- 10] » . وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ وَتَعَرُّفُ حَالِ الشَّيْءِ. وَالْمُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَالْكَافِرُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِابْتِلَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةَ مَصَالِحِ النَّاسِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ عَنْهُمْ لِتَنْظِيمِ أَحْوَالِ حَيَاتِهِمْ ثُمَّ ليترتب عَلَيْهِ مِثَال الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مُبَيِّنًا لِأَحْوَالِ نُفُوسِ النَّاسِ فِي الِامْتِثَالِ وَمُمَحِّصًا لِدَعَاوِيهِمْ وَكَاشِفًا عَنْ دَخَائِلِهِمْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُشْبِهُ الِابْتِلَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ لِلنَّاسِ إِلَّا عِنْدَ تَلَقِّي التَّكَالِيفِ فَأَشْبَهَتْ الِاخْتِبَارَ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الِابْتِلَاءِ عَلَى التَّكْلِيفِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَتَسْمِيَةُ مَا يَلْزَمُ التَّكْلِيفَ مِنْ إِظْهَارِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ ابْتِلَاءً اسْتِعَارَةٌ، فَفِي قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَاسْتِعَارَةٌ. وحَتَّى حَرْفُ انْتِهَاءٍ فَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ تَشْبِيهًا لِعِلَّةِ الْفِعْلِ بِغَايَتِهِ فَإِنَّ غَايَةَ الْفِعْلِ بَاعِثٌ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ فِي الْغَالِبِ، فَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ حَتَّى بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] .

فَالْمَعْنَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لِنَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءَ الْبَلْوَى عِنْدَ ظُهُورِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ وَالصَّابِرِينَ. وَعِلَّةُ الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ انْعِكَاسُهَا، أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْفِعْلِ عِلَّةٌ غَيْرُهَا فَلِلتَّكْلِيفِ عِلَلٌ وَأَغْرَاضٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ حَالُ النَّاسِ فِي قَبُولِ التَّكْلِيفِ ظُهُورًا فِي الدُّنْيَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُعَامَلَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ. وَعِلْمُ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ عِلَّةً لِلْبَلْوِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَشْيَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهَا الْمُسَمَّى عِلْمُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُجَاهِدُ وَمَنْ يَصْبِرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُوَهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِلْمُ غَيْبٍ لِأَنَّهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْلُومِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى نَعْلَمَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى حَتَّى نُظْهِرَ لِلنَّاسِ الدَّعَاوِيَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلَةِ، فَالْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ إِظْهَارِهِ لِلْغَيْرِ كَمَا هُنَا أَوْ لِلْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يخْطر بَيْننَا ... لَا علم مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَرَادَ لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ شُجَاعٌ وَيَظْهَرُ مَنْ هُوَ مِنَ الْقَوْمِ جَبَانٌ، فَاللَّهُ شَرَعَ الْجِهَادَ لِنَصْرِ الدِّينِ وَمِنْ شَرْعِهِ يَتَبَيَّنُ مَنْ يُجَاهِدُ وَمَنْ يَقْعُدُ عَنِ الْجِهَادِ، وَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْحَرْبِ وَمَنْ يَنْخَزِلُ وَيَفِرُّ، فَلَا تَرُوجُ عَلَى النَّاسِ دَعْوَى الْمُنَافِقِينَ صِدْقَ الْإِيمَانِ وَيَعْلَمُ النَّاسَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وَبَلْوُ الْإِخْبَارِ: ظُهُورُ الْأُحْدُوثَةِ مِنْ حُسْنِ السُّمْعَةِ وَضِدِّهِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ تَرَتَّبَ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ عَاجِلًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْوَالِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا هِيَ أَخْبَارٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ عُطِفَتْ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ عطف فعل نَبْلُوَا عَلَى فِعْلِ نَعْلَمَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ أَخْبارَكُمْ بِالْوَاوِ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي لَنَبْلُوَنَّكُمْ وَلَا يُعَاد نَبْلُوَا، فَالْعُدُولُ عَنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بلو لأخبار لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ بَلْوِ أَعْمَالِهِمْ وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَلْوِ ذَوَاتِهِمْ، فَذِكْرُهُ كَذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ إِذْ تَعَلَّقَ الْبَلْوُ الْأَوَّلُ بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ، وَتَعَلَّقَ

[سورة محمد (47) : آية 32]

الْبَلْوُ الثَّانِي بِالْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الْبَلْوِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وَنَبْلُوَا بِالنُّونِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الثَّلَاثَةَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور وَنَبْلُوَا بِفَتْحِ الْوَاوِ عَطْفًا عَلَى نَعْلَمَ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِسُكُونِ الْوَاوِ عَطْفًا على وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ. [32] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 32] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَذْكُورُونَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيمَا بَعْدُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَرَى فِيهَا ذِكْرَ الْكَافِرِينَ، أَيِ الْكُفَّارُ الصُّرَحَاءُ عَادَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُخْفُونَ الْكُفْرَ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ لِتَهْوِينِ حَالِهِمْ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَمَرَ بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ وَأَنَّ التَّعْسَ لَهُمْ وَحَقَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ قُرًى هِيَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ ذَلِكَ ثُنِيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْضًا لِيُعَرِّفَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْمَآزِقِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يَلْحَقُهُمْ مِنْهُمْ أَدْنَى ضُرٍّ، وَلِيَزِيدَ وَصْفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ شاقّوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهِيَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: 35] . وَفَعْلُ شَاقُّوا مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ شِقٍّ بِكَسْرِ الشِّينِ وَهُوَ الْجَانِبُ، وَالْمُشَاقَّةُ الْمُخَالَفَةُ، كُنِّيَ بِالْمُشَاقَّةِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِرَّ بِشِقٍّ مُخَالِفٌ لِلْمُسْتَقَرِّ بِشِقٍّ آخَرَ فَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ، فَلِذَلِكَ صِيغَتْ مِنْهُ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ. وَتَبَيُّنُ الْهُدَى لَهُمْ: ظُهُورُ مَا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ إِذَا نُبِّهَتْ إِلَيْهِ، وَظُهُورُ أَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ فِي ازْدِيَادٍ وَنَمَاءٍ، وَأَنَّ أُمُورَ الْآخَرِينَ فِي إِدْبَارِ، فَلَمْ

[سورة محمد (47) : آية 33]

يَرْدَعْهُمْ ذَلِكَ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْإِضْرَار بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: 41] . فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَهُودُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ، وَعَلَيْهِ فمشاقتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَاقَّةٌ خَفِيَّةٌ مُشَاقَّةُ كَيْدٍ وَمَكْرٍ، وَتَبَيُّنُ الْهُدَى لَهُمْ ظُهُورُ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِغَزْوِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَضُرُّوا وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَضُرُّونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اللَّهَ أَقَلَّ ضُرٍّ. وَإِضْرَارُ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ إِضْرَارُ دِينِهِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ وَالتَّشْرِيفِ لِهَذَا الدِّينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى. وَالْإِحْبَاطُ: الْإِبْطَالُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمَعْنَى إِبْطَالُ أَعْمَالِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِأَعْمَالِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ يلطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ نَصْرِهِمْ وَانْتِشَارِ دِينِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلصَّدِّ وَالْمُشَاقَّةِ عَلَى طَائِلٍ. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] . وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ هُنَا لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْإِحْبَاطِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُحْبِطُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْآنِ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَرَصَّدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلَ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: 98] . [33] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 33] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [مُحَمَّد: 32] ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [مُحَمَّد: 34] وُجِّهَ بِهِ

الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَنُّبِ مَا يُبْطِلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ اعْتِبَارًا بِمَا حُكِيَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ومشاقة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَصْفُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مُقَابِلُ وَصْفِ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: 32] ، وَطَاعَةُ اللَّهِ مُقَابِلُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ ضِدُّ مشاقة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ ضِدُّ بُطْلَانِ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا. فطاعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا هِيَ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّشْرِيعِ فَطَاعَةُ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ طَاعَةُ انْتِصَاحٍ وَأَدَبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَرِيرَةَ لَمْ تُطِعْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا مُغِيثٍ لَمَّا عَلِمَتْ أَنَّ أَمْرَهُ إِيَّاهَا لَيْسَ بِعَزْمٍ. وَالْإِبْطَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ بَاطِلًا، أَيْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، فَالْإِبْطَالُ تَتَّصِفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ إِبْطَالِهِمُ الْأَعْمَالَ: النَّهْيُ عَنْ أَسْبَابِ إِبْطَالِهَا، فَهَذَا مَهْيَعُ قَوْلِهِ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ. وَتَسْمَحُ مَحَامِلُهُ بِأَنْ يَشْمَلَ النَّهْيَ وَالتَّحْذِيرَ عَنْ كُلِّ مَا بَيَّنَ الدِّينُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا مِثْلَ الرِّدَّةِ وَمِثْلَ الرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَهُ. وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ ارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ مُبْطِلًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَقَدَ عَقْدًا تَرَاهُ عَائِشَةُ حَرَامًا: أَخْبَرُوا زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتْرُكْ فَعْلَهُ هَذَا وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ التَّحْذِيرَ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْإِحْبَاطِ بِجِهَادِهِ وَإِنَّمَا عَلِمَتْ أَنَّهُ كَانَ أَنْفَسُ عَمَلٍ عِنْدَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ: لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ بِالْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ. ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ» : «أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ غَزَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَغَزَوْتُ مِنْهَا مَعَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَفْهَامِ فِي الْمَعْنِيِّ بِإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ وَمَا يُبْطِلُهَا وَأَحْسَنُ

أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ حَسَنَاتِنَا إِلَّا مَقْبُولًا حَتَّى نَزَلَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ حَتَّى نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 48] فَكَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَنَرْجُو لِمَنْ لم يصبهَا» اهـ. فَأَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ مَحَامِلُ مُحْتَمَلَةٌ لَا جَزْمَ فِيهَا. وَعَنْ مُقَاتِلٍ لَا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِالْمَنِّ وَقَالَ: هَذَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمُوا وَقَالُوا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ آثَرْنَاكَ وَجِئْنَاكَ بِنُفُوسِنَا وَأَهْلِنَا، يَمُنُّونَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَ فِيهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات: 17] . وَهَذِهِ مَحَامِلُ نَاشِئَةٌ عَنِ الرَّأْيِ وَالتَّوَقُّعِ، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات وَلم يجىء: أَنَّ السَّيِّئَاتِ يُذْهِبْنَ الْحَسَنَاتِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: 40] . وَتَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَاتِهِ الْآيَةِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ الظُّلْمَ وَلَا يُسَلِّمُونَ ظَاهِرَ قَوْله: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: 23] ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ إِذَا ارْتَكَبَ صَاحِبُهَا سَيِّئَةً. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَسْطُورٌ فِي صُحُفِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَاعَفَةٌ وَالسَّيِّئَةَ بِمِقْدَارِهَا. وَهَذَا أَصْلٌ تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَصَحِيحُ الْآثَارِ، فَكَيْفَ يُنْبَذُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ مَنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ. وَحَمَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْعَمَلِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِطْلَاقُ الْإِبْطَالِ عَلَى الْقَطْعِ وَعَدَمِ الْإِتْمَامِ يُشْبِهُ أَنَّهُ مَجَازٌ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ النَّفْلَ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ مِثْلَهُ إِلَى مَالِكٍ. وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْفُرْسِ. وَنَقَلَ

[سورة محمد (47) : آية 34]

الشَّيْخُ الْجَدُّ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمَحَلِّيِّ» عَنِ الْقَرَافِيِّ فِي «شَرْحِ الْمَحْصُولِ» وَنَقْلَ حَلُولُو فِي «شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ» عَنِ الْقَرَافِيِّ فِي «الذَّخِيرَةِ» : أَنَّ مَالِكًا قَالَ بِوُجُوبِ سَبْعِ نَوَافِلَ بِالشُّرُوعِ، وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالِاعْتِكَافُ وَالِائْتِمَامُ وَطَوَافُ التَّطَوُّعِ دُونَ غَيْرِهَا نَحْوُ الْوُضُوءِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَالسَّفَرِ لِلْجِهَادِ، وَزَادَ حَلُولُو إِلْحَاقَ الضَّحِيَّةِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَأْخَذِ الْقَرَافِيِّ ذَلِكَ وَلَا عَلَى مَأْخَذِ حَلُولُو فِي الْأَخِيرِ. وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبًا بِالشُّرُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ وَهُوَ الظَّاهِر. [34] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 34] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [مُحَمَّد: 32] إِلَخْ لِأَنَّ تِلْكَ مَسُوقَةٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَشَاقِّهِمْ وَلِبَيَانِ أَنَّ اللَّهَ مُبْطِلُ صَنَائِعِهِمْ وَهَذِهِ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ لمغفرة الله إِذا مَاتُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَاقْتِرَانُ خَبَرِ الْمَوْصُولِ بِالْفَاءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا يُرَادُ بِهِ ذُو صِلَةٍ مُعَيَّنٌ بَلِ الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ مَاهِيَّةُ الصِّلَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْمَوْتُ على الْكفْر. [35] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 35] فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ خَذْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَقَدَّرَ لَهُمُ التَّعْسَ، وَبِمَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ مَصَائِرِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُمْ وَلَمْ يَجِدُوا نَاصِرًا، وَمَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ من قِتَالهمْ وبتكلفه لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْوِلَايَةِ وَمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَبِمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ كَيْدِ فَرِيقِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ

وَتَعَهُّدِهِمْ بِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِسُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ خِيفَةً إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَعْدَاءً لَهُمْ مُنْبَثُّونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَعَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَرَّعَ نَهْيَهُمْ عَنِ الْوَهَنِ وَعَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدَّعَةِ وَوَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْمُنْتَصِرُونَ وَأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّفْرِيعُ عَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّد: 31] . وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ وَعَنِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَمْرٍ تَوَفَّرَتْ أَسْبَابُ حُصُولِهِ مُتَهَيِّئَةً لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْحَرْبِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِهَا وَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ وَهَنٍ حَصَلَ لَهُمْ وَلَا عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى السَّلْمِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي مُدَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّ التَّحْذِيرَ مِنْ أَنْ يَسْتَوْهِنَهُمُ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَ تَوَجُّهِ أَمْرِ الْقِتَالِ فَيَقُولُوا: لَوْ سَالَمْنَا الْقَوْمَ مُدَّةً حَتَّى نَسْتَعِيدَ عُدَّتَنَا وَنَسْتَرْجِعَ قُوَّتَنَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ مَفْلُولِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فُرْصَةً يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهَا لِمَا ضَايَقَهُمْ مِنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي طَرِيقِ تِجَارَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ السَّوِيقِ، وَغَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ أبي عَامر الضبغي الْمُلَقَّبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالرَّاهِبِ وَالَّذِي غيّر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبَهُ فَلَقَّبَهُ الْفَاسِقَ. كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ يَكِيدَ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْدَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ فَيُظَاهِرُوا عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكِينَ مُتَسَتِّرِينَ بِعِلَّةِ طَلَبِ السَّلْمِ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَقَعُوا فِي هَذِهِ الْحِبَالَةِ. وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي طَلَبِ الدَّعَةِ. وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنْ إِسْلَامِ أَنْفُسِهِمْ لِخَوَاطِرِ الضَّعْفِ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا النَّهْيِ يكون باستحضار مساوي تِلْكَ الْخَوَاطِرِ فَإِنَّ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ إِذَا لَمْ تُقَاوِمْهَا هِمَّةُ الْإِنْسَانِ دَبَّتْ فِي نَفْسِهِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنْهَا فَتُصْبِحَ مَلَكَةً وَسَجِيَّةً. فَالْمَعْنَى: ادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ خَوَاطِرَ الْوَهَنِ وَاجْتَنِبُوا مَظَاهِرَهُ، وَأَوَّلُهَا الدُّعَاءُ إِلَى السَّلْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ فِي حَالِ وَهَنٍ.

وَعَطْفُ وَتَدْعُوا عَلَى تَهِنُوا فَهُوَ مَعْمُولٌ لِحَرْفِ النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَهُوَ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الدُّعَاء إِلَى السّلم مَعَ الْمَقْدِرَةِ مِنْ طَلَبِ الدَّعَةِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ اسْتِبْقَاءِ النُّفُوسِ وَالْعِدَةِ بالاستراحة من عدوان الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مُتَكَالِبِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَاعَوْا مَعَهُمْ لِلسَّلْمِ أَمِنُوا مِنْهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ فُرْصَةً لِيَنُشُّوا الدَّعْوَةَ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْمَضَرَّةِ لِأَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ شَوْكَتِهِمْ فِي نَظَرِ الْمُشْرِكِينَ فَيَحْسَبُونَهُمْ طَلَبُوا السَّلْمَ عَنْ ضَعْفٍ فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ ضَرَاوَةً عَلَيْهِمْ وَتَسْتَخِفُّ بِهِمْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ مَكَانَ الْحُرْمَةِ وَتَوَقُّعِ الْبَأْسِ. وَلِهَذَا الْمَقْصِدِ الدَّقِيقِ جُمِعَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْوَهَنِ وَالدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ وَأُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. فَتَحَصَّلَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السَّلْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ طلب المسالمة مِنَ الْعَدُوِّ فِي حَالِ قُدْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَخَوْفِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَهُوَ سَلْمٌ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ دَاعِينَ لَهُ وَبِكَوْنِهِ عَنْ وَهَنٍ فِي حَالِ قُوَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرِعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا. فَهَذَا لَا يُنَافِي السَّلْمَ الْمَأْذُونَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [61] ، فَإِنَّهُ سَلْمٌ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْأَنْفَالِ وَلَا الْعَكْسَ وَلِكُلٍّ حَالَةٌ خَاصَّةٌ، وَمُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَعِدَّةٍ بِحَيْثُ يَدْعُونَ إِلَى السَّلْمِ رَغْبَةً فِي الدَّعَةِ. فَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي السَّلْمِ أَوْ كَانَ أَخَفَّ ضُرًّا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوا إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ وَأَنْ يُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ صَالح النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ فِيمَا بَعْدُ، وَصَالَحَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوِهِمْ إفريقية أَهلهَا وانكفأوا رَاجِعِينَ إِلَى مِصْرَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كَلَامٍ لَهُ مَعَ بَعْضِ أُمَرَاءِ الْجَيْشِ «فَقَدْ آثَرْتُ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ» . وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْأَرْضِ مَعَ فَتْحِهَا فَذَلِكَ لَا يُنَافِي قُوَّةَ الْفَاتِحِينَ كَمَا صَالَحَ أُمَرَاءُ أَبِي بَكْرٍ نِصْفَ أَهْلِ دِمَشْقَ وَكَمَا صَالَحَ أُمَرَاءُ عمر أهل سود الْعِرَاقِ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ.

[سورة محمد (47) : الآيات 36 إلى 37]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَى السَّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ بِكَسْرِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعْدِ. وَالْأَعْلَوْنَ: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] ، أَيْ وَاللَّهُ جَاعِلُكُمْ غَالِبِينَ. واللَّهُ مَعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى الْوَعْدِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الرِّعَايَةِ وَالْكَلَاءَةِ، أَيْ وَاللَّهُ حَافِظُكُمْ وَرَاعِيكُمْ فَلَا يَجْعَل الْكَافرين عَلَيْكُمْ سَبِيلًا. وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ بِعِنَايَةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ. وَصِيغَ كُلٌّ مِنْ جُمْلَتَيْ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْغَلَبِ لَهُمْ وَثَبَاتِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَعْدٌ بِتَسْدِيدِ الْأَعْمَالِ وَنَجَاحِهَا عَكْسُ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 1] فَكُنِّيَ عَنْ تَوْفِيقِ الْأَعْمَالِ وَنَجَاحِهَا بِعَدَمِ وَتْرِهَا، أَيْ نَقْصِهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَنْقُصُهَا فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُبْطِلهَا، أَي أَن لَا يُخَيِّبُهَا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [مُحَمَّد: 4، 5] . يُقَالُ: وَتَرَهُ يَتِرَهُ وَتْرًا وَتِرَةً كَوَعَدَ، إِذَا نَقَصَهُ، وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ مِنْهُ صَرِيحُهُ، أَيْ يَنْقُصَكُمْ ثَوَابَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، أَيِ الْجِهَادِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْجِهَادِ بِالْوَعْدِ بِأَجْرِهِ كَامِلًا. [36، 37] [سُورَة مُحَمَّد (47) : الْآيَات 36 الى 37] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: 35] الْآيَةَ، وَافْتِتَاحُهَا بِ (إِنَّ) مُغْنٍ عَنِ افْتِتَاحِهَا بِفَاءِ التَّسَبُّبِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَيْسَ اتِّصَالُ

(إِنَّ) بِ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ بِمُغَيِّرٍ مَوْقِعَهَا بِدُونِ (مَا) لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِهَا زَادَهَا مَعْنَى الْحَصْرِ. وَالْمُرَادُ بِ الْحَياةُ أَحْوَالُ مُدَّةِ الْحَيَاةِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ. وَاللَّعِبُ: الْفِعْلُ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ فَاعِلُهُ الْهَزْلَ دُونَ اجْتِنَاءِ فَائِدَةٍ كَأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ فِي مَرَحِهِمْ. وَاللَّهْوُ: الْعَمَلُ الَّذِي يُعْمَلُ لِصَرْفِ الْعَقْلِ عَنْ تَعَبِ الْجِدِّ فِي الْأُمُورِ فَيَلْهُو عَنْ مَا يَهْتَمُّ لَهُ وَيُكِدُّ عَقْلَهُ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْحَيَاةِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، شُبِّهَتْ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي عَدَمَ تُرَتُّبِ الْفَائِدَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ وَالْآخِرَةُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُمْ حُبُّ لَذَائِذِ الْعَيْشِ عَلَى الزَّهَادَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ وَيَتْلُو إِلَى مُسَالَمَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْرِي الْعَدُوَّ بِهِمْ. وَحُبُّ الْفَتَى طُولَ الْحَيَاةِ يُذِلُّهُ ... وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَخْوَةٌ وَعِزَامُ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) . الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: 35] تَذْكِيرًا بِأَنَّ امْتِثَالَ هَذَا النَّهْيِ هُوَ التَّقْوَى الْمَحْمُودَةُ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السَّلْمِ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ حُبَّ إِبْقَاءِ الْمَالِ الَّذِي يُنْفَقُ فِي الْغَزْوِ، فَذُكِّرُوا هُنَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لِيَخْلَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْوَهَنَ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ وَعَنِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ فَكَانَ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّقْوَى، وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَلُهُمْ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا لِفَائِدَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: 38] ، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلُ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ مشير إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِذَا عُمِّرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَانَتْ سَبَبًا فِي الْخَيْرِ الدَّائِمِ.

وَالْأُجُورُ هُنَا: أُجُورُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ثَوَابُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ: وَتَتَّقُوا وَأَمَّا ذِكْرُ تُؤْمِنُوا فَلِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْإِيمَانِ. وَوُقُوعُ تُؤْمِنُوا فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ حَاصِلًا يُعَيِّنُ صَرْفَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فِيهِ إِلَى إِرَادَةِ الدَّوَامِ على الْإِيمَان إِذا لَا تَتَقَوَّمُ حَقِيقَةُ التَّقْوَى إِلَّا مَعَ سَبْقِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ إِدْمَاجٌ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ هُوَ جملَة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. وَعطف وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ عَلَيْكُمْ بِالْخَيْرَاتِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ أَحْسَنَ رَوَابِطَ لِنَظْمِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ لِأَنَّ الْبُخْلَ بِالْمَالِ مِنْ بَوَاعِثِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا بِاتِّبَاع مَا نهيتهم عَنْهُ يَرْضَ اللَّهُ مِنْكُمْ بِذَلِكَ وَيَكْتَفِ بِهِ وَلَا يَسْأَلْكُمْ زِيَادَةً عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. فَيُعْلَمُ أَنَّ مَا يعنيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْإِنْفَاقِ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [38] . فَقَوله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يُفِيدُ بِعُمُومِهِ وَسِيَاقِهِ مَعْنَى لَا يَسْأَلُكُمْ جَمِيعَ أَمْوَالِكُمْ، أَيْ إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ مَا لَا يُجْحِفُ بِكُمْ، فَإِضَافَةُ أَمْوَالٍ وَهُوَ جَمْعٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْمَنْفِيُّ سُؤَالُ إِنْفَاقِ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، فَالْكَلَامُ مِنْ نَفْيِ الْعُمُومِ لَا مِنْ عُمُومِ النَّفْيِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ أَيْضًا مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُطَالِبُكُمْ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَإِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ لِصَالِحِكُمْ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّد: 38] . وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: 38] أَيْ مَا يَكُونُ طَلَبُ بَذْلِ الْمَالِ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَأَيَّةُ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ دَمْغِهَا الْعَدُوَّ عَنْ نَفْسِهَا لِئَلَّا يُفْسِدَ فِيهَا وَيَسْتَعْبِدَهَا. وَأَمَّا تَفْسِيرُ سُؤَالِ الْأَمْوَالِ الْمَنْفِيِّ بِطَلَبِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ فَصَرْفٌ لِلْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِهَا فَإِنَّ الزَّكَاةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَجُمْلَة إِنْ يَسْئَلْكُمُوها إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ سُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ أَمْوَالَهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ إِنْ سَأَلَكُمْ إِعْطَاءَ جَمِيعَ أَمْوَالِكُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَسْمَحُ بِالْمَالِ لَا تَبْخَلُوا بِالْبَذْلِ وَتَجْعَلُوا تَكْلِيفَكُمْ بِذَلِكَ سَبَبًا لِإِظْهَارِ ضِغْنَكُمْ عَلَى الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ فَيَكْثُرُ الِارْتِدَادُ وَالنِّفَاقُ وَذَلِكَ يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ تَزْكِيَةِ نُفُوسِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِيمَانِ. وَهَذَا مُرَاعَاةٌ لِحَالِ كَثِيرٍ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا قَدْ بَذَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَمْ يَسْأَلْهُمْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ يَتَرَصَّدُونَ الْفُرَصَ لِفِتْنَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . وَهَذَا يُشِيرُ إِلَيْهِ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أَيْ تَحْدُثُ فِيكُمْ أَضْغَانٌ فَيَكُونُ سُؤَالُهُ أَمْوَالَكُمْ سَبَبًا فِي ظُهُورِهَا فَكَأَنَّهُ أَظْهَرَهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي سَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ. وَالْإِحْفَاءُ: الْإِكْثَارُ وَبُلُوغُ النِّهَايَةِ فِي الْفِعْلِ، يُقَالُ: أَحْفَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْإِلْحَاحِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: الْإِحْفَاءُ أَنْ تَأْخُذَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدَيْكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ. وَعُبِّرَ بِهِ هُنَا عَنِ الْجَزْمِ فِي الطَّلَبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَيْ فَيُوجِبُ عَلَيْكُمْ بَذْلَ الْمَالِ وَيَجْعَلُ عَلَى مَنْعِهِ عُقُوبَةً. وَالْبُخْلُ: مَنْعُ بَذْلِ الْمَالِ.

[سورة محمد (47) : آية 38]

وَالضِّغْنُ: الْعَدَاوَةُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [مُحَمَّد: 29] . وَالْمَعْنَى: يَمْنَعُوا الْمَالَ وَيُظْهِرُوا الْعِصْيَانَ وَالْكَرَاهِيَةَ، فَلُطْفُ اللَّهِ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمُ اقْتَضَى أَنْ لَا يَسْأَلَهُمْ مَالًا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقَ فِي الْجِهَادِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي وَيُخْرِجْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْبُخْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: تَبْخَلُوا أَيْ مِنْ قَبِيلِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرِجْ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ. [38] [سُورَة مُحَمَّد (47) : آيَة 38] هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: 36- 38] يُعْرِبُ عَنْ حَيْرَةٍ فِي مُرَادِ اللَّهِ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ آنِفًا بِمَا يَشْفِي وَبَقِيَ عَلَيْنَا قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا إِلَخْ كَيْفَ مَوْقِعُهُ بَعْدَ قَوْله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لِلْإِنْفَاقِ عَيْنُ سُؤَالِ الْأَمْوَالِ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ آنِفا وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَدْفَعُوا أَعْدَاءَكُمْ عَنْكُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ. وَنَظْمُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ دَعْوَةٌ لِلْإِنْفَاقِ فِي الْحَالِ وَلَيْسَ إِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ لِلْإِنْفَاقِ فَهُوَ طَلَبٌ حَاصِلٌ. وَيُحْمَلُ تُدْعَوْنَ عَلَى مَعْنَى تُؤْمَرُونَ أَيْ أَمْرُ إِيجَابٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ تُدْعَوْنَ عَلَى دَعْوَةِ التَّرْغِيبِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِلْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ إِيجَابَ الْإِنْفَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ آيَةِ وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 41] وَنَحْوِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِيمَا بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلًا فِي زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ يَحْتَمِلُهُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ.

وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَوْلُهُ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إِمَّا مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ أَوْ مَسَاقَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الشُّحِّ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ السِّيَاقِ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَبْخَلُ بُخْلًا لَيْسَ عَائِدًا بُخْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ يَتَمَكَّنُ عَدُّوهُ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَيْهِ فَعَادَ بُخْلُهُ بِالضُّرِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ بِحِرْمَانِهَا مِنْ ثَوَابِ الْإِنْفَاقِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا قَصْرُ قَلْبٍ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ بُخْلِهِ لِأَنَّ الْبَاخِلَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَنَعَ مَنْ دَعَاهُ إِلَى الْإِنْفَاقِ وَلَكِنَّ لَازِمَ بُخْلِهِ عَادَ عَلَيْهِ بِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ، فَالْقَصْرُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ. وَفِعْلُ (بَخِلَ) يَتَعَدَّى بِ عَنْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ وَيَتَعَدَّى بِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّضْيِيقِ عَلَى الْمَبْخُولِ عَلَيْهِ. وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ عَنْ. وَهَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ (هَا) تَنْبِيهٌ فِي ابْتِدَاءِ الْجُمْلَةِ، وَمِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ ثُمَّ مِنْ (هَا) التَّنْبِيهِ الدَّاخِلَةِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدَةِ تَأْكِيدَ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [109] . وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِهِ مُجَرَّدًا عَنْ (هَا) اكْتِفَاءً بِ (هَاءِ) التَّنْبِيهِ الَّتِي فِي أَوَّلِ التَّرْكِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [119] . وَجُمْلَةُ تُدْعَوْنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ يُفِيدُ حُصُولَ مَدْلُولِ جُمْلَةِ الْحَالِ لِصَاحِبِهَا حُصُولًا وَاضِحًا. وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّ عَدَمَ ذِكْرَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ (هَا أَنَا) وَنَحْوِهِ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ دُخُولُ (هَا) التَّنْبِيهِ عَلَى اسْمٍ غَيْرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ (هَا) التَّنْبِيهِ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فِي نَحْوِ: هَذَا وَهَؤُلَاءِ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدَهَا فَصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَلَكِنْ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» فِي دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ: وَهَا أَنَا بَائِحٌ بِمَا أَسْرَرْتُهُ، وَفِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْهُ نَبَّهَ عَلَيْهِمَا بَدْرُ

الدِّينِ الدَّمَامِينِيُّ فِي شَرْحِهِ «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي» ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِهِ الَّذِي بِالْقَوْلِ الْمُشْتَهِرِ بِ «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ» أَنَّ تَمْثِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» بقوله: هَا إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلَقٌ يَقْتَضِي جَوَازَ: هَا أَنَا أَفْعَلُ، لَكِنَّ الرَّضِيَّ قَالَ: لَمْ أَعْثُرْ بِشَاهِدٍ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ تَذْيِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَهَا فَاللَّهُ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ مَالًا فِي شَيْءٍ، وَالْمُخَاطَبُونَ فُقَرَاءُ فَلَا يُطْمَعُ مِنْهُمُ الْبَذْلُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ دُعَاءَهُمْ لِيُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعَاءٌ بِصَرْفِ أَمْوَالِهِمْ فِي مَنَافِعِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ. وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْغَنِيُّ وَفِي الْفُقَراءُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ فِيهِمَا مُؤْذِنٌ بِكَمَالِ الْجِنْسِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَلَمَّا وَقَعَا خَبَرِينِ وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ أَفَادَا الْحَصْرَ، أَيْ قَصْرُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ قَصْرُ جِنْسِ الْغَنِيِّ عَلَى اللَّهِ وَقَصْرُ جِنْسِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمُخَاطِبِينَ بِ أَنْتُمْ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ فِيهِمَا مُرَتَّبٌ عَلَى دَلَالَةِ أَلْ عَلَى مَعْنَى كَمَالِ الْجِنْسِ، فَإِنَّ كَمَالَ الْغِنَى لِلَّهِ لَا مَحَالَةَ لِعُمُومِهِ وَدَوَامِهِ، وَإِنْ كَانَ يُثْبِتُ بَعْضَ جِنْسِ الْغِنَى لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا كَمَالُ الْفَقْرِ لِلنَّاسِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْنَوْنَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَكِنَّ ذَلِكَ غِنًى قَلِيلٌ وَغَيْرُ دَائِمٍ. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [مُحَمَّد: 36] . وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِاسْتِبْدَالِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ جَزَاؤُهُ اسْتِبْدَالَ قَوْمٍ غَيْرِهِمْ كَمَا اسْتَبْدَلُوا دِينَ اللَّهِ بِدِينِ الشِّرْكِ. وَالِاسْتِبْدَالُ: التَّبْدِيلُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، ومفعوله قَوْماً أَو المستبدل بِهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ قَوْلُهُ غَيْرَكُمْ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَبْدَلَ بِهِ هُوَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (غَيْرُ) لِتَعَيُّنِ انْحِصَارِ الِاسْتِبْدَالِ فِي شَيْئَيْنِ، فَإِذَا ذُكِرَ أَحَدَهُمَا عُلِمَ الْآخَرُ. وَالتَّقْدِيرُ: يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا بِكُمْ لِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي فِعْلِ الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبْدِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ هُوَ الْمُعَوِّضُ وَمَجْرُورُ الْبَاءِ هُوَ الْعِوَضُ كَقَوْلِهِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ

تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] . وَإِنْ كَانَ كِلَا الْمُتَعَلِّقَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُعَوَّضٌ وَعِوَضٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ عُدِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ مَعَ الْمَفْعُولِ لِلْإِيجَازِ. وَالْمَعْنَى: يَتَّخِذُ قَوْمًا غَيْرِكُمْ لِلْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُوجِدُ قَوْمًا آخَرِينَ إِلَّا عِنْدَ ارْتِدَادِ الْمُخَاطَبِينَ، بَلِ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الدِّينِ كَانَ لِلَّهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْتَدُّونَ وَكَانَ لِلَّهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يَرْتَدُّونَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. قَالُوا: وَمَنْ يُسْتَبْدَلُ بِنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، هَذَا وَقَوْمُهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» : هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِيهِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» . وَأَقُولُ هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَارِسَ إِذَا آمَنُوا لَا يَرْتَدُّونَ وَهُوَ من دَلَائِل نبوءة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْعَرَبَ ارْتَدَّ مِنْهُمْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ الْبَرْبَرُ بَعْدَ فَتْحِ بِلَادهمْ وَإِيمَانهمْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْن أَبِي زَيْدٍ، وَلَمْ يَرْتَدَّ أَهْلُ فَارِسَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِصِفَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعُلَوِّهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، أَيْ وَلَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ فِي التَّوَلِّي. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ بِ (ثُمَّ) عَلَى جُمْلَةِ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ فَهِيَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ التَّشْرِيكِ يَجُوزُ جَزْمُهُ عَلَى الْعَطْفِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَزْمِ وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمرَان: 111] عَلَى الرَّفْعِ. وَأَبْدَى الْفَخْرُ وَجْهًا لِإِيثَارِ الْجَزْمِ هُنَا وَإِيثَارِ الِاسْتِئْنَافِ هُنَالِكَ فَقَالَ: وَهُوَ مَعَ الْجَوَازِ فِيهِ تَدْقِيقٌ وَهُوَ أَنَّ هَاهُنَا لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّوَلِّي لِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّوْا يَكُونُونَ مِمَّنْ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا لَا يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ لِكَوْنِهِمْ عَاصِينَ وَكَوْنِ مَنْ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ

مُطِيعِينَ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَسَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا يَنْصُرُونَ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيقِ أَيْ بِالشَّرْطِ هُنَالِكَ وَجْهٌ فَرُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَهَاهُنَا جزم للتعليق اهـ. وَهُوَ دَقِيقٌ وَيُزَادُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَزَاءِ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَعَ فِي آخِرِ الْفَاصِلَةِ الَّتِي جَرَتْ أَخَوَاتُهَا عَلَى حَرْفِ الْوَاوِ وَالنُّونِ فَلَوْ أُوثِرَ جَزْمُ الْفِعْلِ لَأُزِيلَتِ النُّونُ فَاخْتَلَّتِ الْفَاصِلَةُ.

48- سورة الفتح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 48- سُورَةُ الْفَتْحِ سُورَةُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] سُمِّيَتْ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ الْفَتْحِ. وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ- قَالَ: قَرَأَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَعَ فِيهَا . وَفِيهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ تَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا. ثُمَّ حَكَى مَقَالَةَ عُمَرَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرٌ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ حِكَايَةَ فَتْحِ مُتَّجَهِ الله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ عَلَى الْمُصْطَلَحِ الْمَشْهُورِ فِي أَنَّ الْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَدِينَةِ مَنْ أَرْضِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ كُرَاعَ الْغَمِيمِ بِضَمِّ الْكَافِ مَنْ كُرَاعٍ وَبِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْغَمِيمِ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ وَادٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ وَعَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ وَهُوَ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ. وَقِيلَ نَزَلَتْ بِضَجْنَانَ بِوَزْنِ سَكْرَانَ وَهُوَ جَبَلٌ قُرْبَ مَكَّةَ وَنَزَلَتْ لَيْلًا فَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ اللَّيْلِيِّ. وَنُزُولُهَا سَنَةَ سِتٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ منصرف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَبْلَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُمَرَ «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أَيْ مُنْصَرَفِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لَيْلًا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ: عُمَرُ ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ نَزَرْتَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ. قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي وَتَقَدَّمَتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُول

أغراضها

الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الْفَتْح: 2] . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ: فَوْزاً عَظِيماً [الْفَتْح: 2- 5] مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» ثُمَّ قَرَأَهَا . وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الصَّفِّ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَعِدَّةُ آيِهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَا: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسُكِنَا فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا» . أَغْرَاضُهَا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّهُ نَصْرٌ وَفَتْحٌ فَنَزَلَتْ بِهِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَزَالَ حُزْنَهُمْ مِنْ صَدِّهِمْ عَنِ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِدَّةً لَا تُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ فَرَأَوْا أَنَّهُمْ عَادُوا كَالْخَائِبِينَ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَأَنَّ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالتَّنْوِيهَ بكرامة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَبِّهِ وَوَعْدَهُ بِنَصْرٍ مُتَعَاقِبٍ. وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَزَّرُوهُ وَبَايَعُوهُ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ مَثَلَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي الْإِنْجِيلِ.

[سورة الفتح (48) : الآيات 1 إلى 3]

ثُمَّ ذِكْرَ بَيْعَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالتَّنْوِيهَ بِشَأْنِ مَنْ حَضَرَهَا. وَفَضْحَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهَا مِنَ الْأَعْرَابِ وَلَمْزَهُمْ بِالْجُبْنِ وَالطَّمَعِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَبِالْكَذِبِ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْعَهُمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي غَزْوَة خَيْبَر، وإنبائهم بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى جِهَادٍ آخَرَ فَإِنِ اسْتَجَابُوا غُفِرَ لَهُمْ تَخَلُّفَهُمْ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ. ووعد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحٍ آخَرَ يَعْقُبُهُ فَتْحٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَبِفَتْحِ مَكَّةَ. وَفِيهَا ذِكْرٌ بِفَتْحٍ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الْفَتْح: 20] . [1- 3] [سُورَة الْفَتْح (48) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحرف (إنّ) ناشىء عَلَى مَا أُحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكَآبَةِ عَلَى أَنْ أُجِيبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى سُؤَالِهِمُ الْهُدْنَةَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فَالتَّأْكِيدُ مَصْرُوفٌ لِلسَّامِعِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، وَأما النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ وَاثِقًا بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَبْيِينُ هَذَا التَّأْكِيدِ قَرِيبًا. وَالْفَتْحُ: إِزَالَةُ غَلْقِ الْبَابِ أَوِ الْخِزَانَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: 40] وَيُطْلَقُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى دُخُولِ الْغَازِي بِلَادَ عَدُوِّهِ لِأَنَّ أَرْضَ كُلِّ قَوْمٍ وَبِلَادَهُمْ مُوَاقَعٌ عَنْهَا فَاقْتِحَامُ الْغَازِي إِيَّاهَا بَعْدَ الْحَرْبِ يُشْبِهُ إِزَالَةَ الْغَلْقِ عَنِ الْبَيْتِ أَوِ الْخِزَانَةِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى النَّصْرِ الْمُقْتَرِنِ بِدُخُولِ أَرْضِ الْمَغْلُوبِ أَوْ بَلَدِهِ وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى انْتِصَارٍ كَانَتْ نِهَايَتَهُ غَنِيمَةٌ وَأَسْرٌ دُونَ اقْتِحَامِ أَرْضٍ فَيُقَالُ: فَتْحُ خَيْبَرَ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَلَا يُقَالُ: فَتْحُ بَدْرٍ. وَفَتْحُ أُحُدٍ. فَمَنْ أَطْلَقَ الْفَتْحَ عَلَى مُطْلَقِ النَّصْرِ فَقَدْ تَسَامَحَ، وَكَيْفَ وَقَدْ عُطِفَ النَّصْرُ عَلَى الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [13] . وَلَعَلَّ الَّذِي حَدَاهُمْ عَلَى عَدِّ النَّصْرِ مِنْ مَعَانِي مَادَّةِ الْفَتْحِ أَنَّ فَتْحَ الْبِلَادِ هُوَ أَعْظَمُ النَّصْرِ لِأَنَّ النَّصْرَ يَتَحَقَّقُ بِالْغَلَبَةِ وَبِالْغَنِيمَةِ فَإِذَا كَانَ مَعَ اقْتِحَامِ أَرْضِ الْعَدُوِّ

فَذَلِكَ نَصْرٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ انْهِزَامِ الْعَدُوِّ أَشْنَعَ هَزِيمَةٍ وَعَجْزِهِ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ أَرْضِهِ. وَأُطْلِقَ الْفَتْحُ عَلَى الْحُكْمِ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْآيَةَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ [28] . وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَنَا فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّ مَحْمَلَهُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ. وَالْمَعْنَى: سَنَفْتَحُ. وَإِنَّمَا جِيءَ فِي الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ وَتَيَقُّنِهِ، شُبِّهَ الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي فَاسْتُعْمِلَتْ لَهُ الصِّيغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُضِيِّ. أَوْ نَقُولُ اسْتُعْمِلَ فَتَحْنا بِمَعْنَى: قَدَّرْنَا لَكَ الْفَتْحَ، وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ كَلَامُ مِنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَشْيَاءِ لَا يَحْجِزُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَانِعٌ. وَقَدْ جَرَى عَلَى عَادَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ عُلُوِّ شَأْنِ الْمُخْبِرِ مَثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] . وَمَا يَنْدَرِجُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِوُقُوعِ فَتْحِ مَكَّةَ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحُ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ» ، يُرِيدُ أَنَّكُمْ تَحْمِلُونَ الْفَتْحَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً عَلَى فتح مَكَّة وَلكنه فَتْحِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَإِنْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَحْمَلَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ «قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «دَخَلَ مَكَّةَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ» . عَلَى أَنَّ قَرَائِنَ كَثِيرَةً تُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: أُولَاهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُبِينًا. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ عِلَّتَهُ (النَّصْرَ الْعَزِيزَ) الثَّانِيَةَ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: 18] . الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: 19] . الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: 27] . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَعَلُوا إِطْلَاقَ اسْمِ الْفَتْحِ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَ إِلَى فَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، أَوْ كَانَ سَبَبًا فِيهِمَا فَعَنِ الزُّهْرِيِّ «لَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَعْظَمَ الْفُتُوحِ ذَلِكَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهَا فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَلَمَّا وَقَعَ صُلْحٌ مَشَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، أَيْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ أَرْضَ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الْأَمْنِ بَيْنَهُمْ، وَعَلِمُوا وَسَمِعُوا عَنِ اللَّهِ فَمَا أَرَادَ أَحَدٌ الْإِسْلَامَ إِلَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَتَانِ إِلَّا والمسلمون قد جاؤوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ» اهـ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا الْحَدِيثَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ يَعْقِلُ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ» . وَعَلَى هَذَا فَالْمَجَازُ فِي إِطْلَاقِ مَادَّةِ الْفَتْحِ عَلَى سَبَبِهِ وَمَآلِهِ لَا فِي صُورَةِ الْفِعْلِ، أَيِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَجَازِيِّ قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَيَكُونُ اسْمُ الْفَتْحِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَصِيغَةُ الْمَاضِي اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَيَيْهَا فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي إِيثَارِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الْوَاقِعِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها [الْفَتْح: 15] . وَعَلَى هَذِهِ الْمَحَامِلِ فَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِمَا فِي حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ تَرَدُّدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَو تساؤلهم، فَعَن عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: «أَو فتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالله مَا هَذَا بِفَتْحٍ صُدِدْنَا عَنِ الْبَيْتِ وَصُدَّ هَدْيُنَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: بِئْسَ الْكَلَامُ هَذَا بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ لَقَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَيَسْأَلُوكُمُ الْقَضِيَّةَ وَيُرَغِّبُونَ إِلَيْكُمُ الْأَمَانَ وَقَدْ كَرِهُوا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا وَلَقَدْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَدَّكُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ

مَأْجُورِينَ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْفَتْحِ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ، أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الْأَحْزَاب إِذْ جاؤوكم مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَكَّرْنَا فِيمَا ذَكَرْتَ، وَلَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِالْأُمُورِ مِنَّا» . وَحُذِفَ مَفْعُولُ فَتَحْنا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ بِجِنْسِ الْفَتْحِ لَا بِالْمَفْتُوحِ الْخَاصِّ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْنا لَكَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ فَتَحْنَا لِأَجْلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ قَبْلَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ خِلَافًا لِلْأَصْلِ فِي تَرْتِيبِ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَوْلُهُ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ لَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا فَتَحْنَا فَتْحًا مُبِينًا لِأَجْلِكَ لِغُفْرَانِ اللَّهِ لَكَ وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَهِدَايَتِكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَصْرِكَ نَصْرًا عَزِيزًا ... وَجُعِلَتْ مَغْفِرَةُ الله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلَّةً لِلْفَتْحِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ بِسَبَبِ الْفَتْحِ، وَلَيْسَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ مُقْتَضِيَةً حَصْرَ الْغَرَضِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ تَكُونُ لَهَا أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْفَتْحُ لكرامة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ مِنْ عِلَّتِهِ أَنْ يغْفر الله لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْفِرَةً عَامَّةً إِتْمَامًا لِلْكَرَامَةِ فَهَذِهِ مَغْفِرَةٌ خَاصَّة بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ غَيْرُ الْمَغْفِرَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُجَاهِدِينَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ وَالْفَتْحِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْفَتْحِ غُفْرَانَ جَمِيعِ مَا قَدْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ عَلَى مَثْلِهِ رُسُلَهُ حَتَّى لَا يبْقى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْصُرُ بِهِ عَنْ بُلُوغِ نِهَايَةِ الْفَضْلِ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ. فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ جَزَاءً لَهُ عَلَى إِتْمَامِ أَعْمَالِهِ الَّتِي أُرْسِلَ لِأَجْلِهَا مِنَ التَّبْلِيغِ وَالْجِهَادِ وَالنَصَبِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ حَاصِلًا بِسَعْيِهِ وَتَسَبُّبِهِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ بِعِظَمِ أَثَرِ ذَلِكَ الْفَتْحِ بِإِزَاحَةِ الشِّرْكِ وَعُلُوِّ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلِ

النُّفُوسِ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَنْتَشِرَ الْخَيْرُ بِانْتِشَارِ الدِّينِ وَيَصِيرُ الصَّلَاحُ خُلُقًا لِلنَّاسِ يَقْتَدِي فِيهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَكُلُّ هَذَا إِنَّمَا يُنَاسِبُ فَتْحَ مَكَّةَ وَهَذَا هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: 1- 3] أَيْ إِنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ غُفِرَ لَكَ أَعْظَمَ مَغْفِرَةٍ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِأَعْظَمِ مَنْ تَابَ عَلَى تَائِبٍ، وَلَيْسَتْ إِلَّا مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَابِقِهَا وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا مِمَّا يعده النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبًا لِشِدَّةِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَقَلِّ التَّقْصِيرِ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا بِمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا الْمَعْنَى التَّشْرِيفُ بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الْجَلِيلِ كَانَتْ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مُؤْذِنَةً بِاقْتِرَابِ أجل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَهِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ مِنَ الْأَحْوَالِ النِّسْبِيَّةِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الِاعْتِبَارِيَّةِ يُقَالُ: تَقَدَّمَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ عَلَى الرَّكْبِ، وَيُقَال: تقدم نُزُولُ سُورَةِ كَذَا عَلَى سُورَةِ كَذَا وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى بَيَانِ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ بِذَكَرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ تَقَدَّمَ وتأخّر. وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَقَدْ يُقْطَعُ النَّظَرُ عَلَى اعْتِبَارِ مُتَعَلِّقٍ فَيَنْزِلُ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ الْأَفْعَالِ غَيْرِ النِّسْبِيَّةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْمُتَعَلِّقَاتِ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ إِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ كَقَوْلِهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْح: 2] . وَالْمُرَادُ بِ مَا تَقَدَّمَ: تَعْمِيمُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [الْبَقَرَة: 255] ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَرَطَ مِنْهُ ذَنْبٌ أَوْ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ قَدْرَهُ رَفْعَةَ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ لَوْ قُدِّرَ صُدُورُهُ مِنْهُ وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الذَّنْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [55] . وَإِنَّمَا أُسْنِدَ فِعْلُ لِيَغْفِرَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ قَصْدًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَنْفُذُ فِي السَّمْعِ وَأَجْلَبُ لِلتَّنْبِيهِ وَذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ وَبِمُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أُنُفٌ لَمْ يكن

للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْرُزِ الْفَاعِلُ فِي وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ لِأَنَّ إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَهِدَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِازْدِيَادِهِمَا. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ: إِعْطَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ مِثْلَ إِسْلَامِ قُرَيْشٍ وَخَلَاصِ بِلَادِ الْحِجَازِ كُلِّهَا لِلدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَخُضُوعِ مَنْ عَانَدَهُ وَحَارَبَهُ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: 3] فَذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَحَصَلَ بَعْدَ سِنِينَ. وَمَعْنَى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً: يَزِيدَكَ هَدْيًا لَمْ يُسْبَقْ وَذَلِكَ بِالتَّوْسِيعِ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّعْرِيفِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ تَعْرِيفُهُ بِهِ مِنْهَا، فَالْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ثَابِتَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ بِعْثَتِهِ وَلَكِنَّهَا تَزْدَادُ بِزِيَادَةِ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَبِسِعَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى سُلُوكِ طَرَائِقَ كَثِيرَةٍ فِي إِرْشَادِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ وَحِمَايَةِ أَوْطَانِهِمْ وَدَفْعِ أَعْدَائِهِمْ، فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ مُتَجَمِّعَةٌ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ هَدْيَهُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: مُسْتَعَارٌ لِلدِّينِ الْحَقِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وتنوين صِراطاً لِلتَّعْظِيمِ. وَانْتَصَبَ صِراطاً عَلَى أَنَّهُ مفعول ثَان ليهدي بِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ. وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ: غَيْرُ نَصْرِ الْفَتْحِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ الْفَتْحِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا عَقِبَهُ مِنْ دُخُولِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ بِدُونِ قِتَالٍ. وَبَعْثِهِمُ الْوُفُودَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَلَقَّوْا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَيَعْلَمُوا أَقْوَامَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَوُصْفُ النَّصْرِ بِالْعَزِيزِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا الْعَزِيزُ هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْصُورُ، أَوْ أُرِيدَ بِالْعَزِيزِ الْمُعِزِّ كَالسَّمِيعِ فِي قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ، وَكَالْحَكِيمِ عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ. وَالْعِزَّةُ: الْمَنَعَةُ. وَإِنَّمَا أُظْهِرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالضَّمِيرِ اهْتِمَامًا

[سورة الفتح (48) : آية 4]

بِهَذَا النَّصْرِ وَتَشْرِيعًا لَهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِصَرَاحَةِ الظَّاهِرِ وَالصَّرَاحَةُ أَدْعَى إِلَى السَّمْعِ، وَالْكَلَامُ مَعَ الْإِظْهَارِ أَعْلَقُ بِالذِّهْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ. [4] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 4] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الْفَتْح: 3] . وَحَصَلَ مِنْهَا الِانْتِقَالُ إِلَى ذِكْرِ حَظِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ جُنُودُ اللَّهِ الَّذِينَ قَدْ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: 62] فَكَانَ فِي ذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِإِصْلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِذْهَابِ خَوَاطِرِ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ وَإِلْهَامِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فِي ثَبَاتِ عَزْمِهِمْ، وَقُرَارَةِ إِيمَانِهِمْ تَكْوِينٌ لِأَسْبَابِ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَتْحِ الْمَوْعُودِ بِهِ لِيَنْدَفِعُوا حِينَ يَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَبَلْبَلَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ صلح الْحُدَيْبِيَة إِذا انْصَرَفُوا عَقِبَهُ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ بعد أَن جاؤوا لِلْعُمْرَةِ بِعَدَدٍ عَدِيدٍ حَسِبُوهُ لَا يُغْلَبُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادَهُمُ الْعَدُوُّ بِسُوءٍ أَوْ صَدَّهُمْ عَنْ قَصْدِهِمْ قَابَلُوهُ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ قَسْرًا. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَسْمِيَةِ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتْحًا كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بَعْدَ الِاضْطِرَابِ وَرَسَخَ يَقِينُهُمْ بَعْدَ خَوَاطِرِ الشَّكِّ فَلَوْلَا ذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ وَالرُّسُوخُ لَبَقَوْا كَاسِفِي الْبَالِ شَدِيدِي الْبِلْبَالِ، فَذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِالسَّكِينَةِ، وَسُمِّيَ إِحْدَاثُهُ فِي نُفُوسِهِمْ إِنْزَالًا لِلسَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَكَانَ النَّصْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّهَا إِنْزَالُ السَّكِينَةِ، وَكَانَ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا النَّصْرِ نَظِيرَ التَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَمْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الْأَنْفَال: 62، 63] . وَإِنْزَالُهَا: إِيقَاعُهَا فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَخَلْقُ أَسْبَابِهَا الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْعَارِضَةِ، وَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيقَاعِ فِعْلُ الْإِنْزَالِ تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْوِجْدَانِ بِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي هُوَ مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ فَوْقَ النَّاسِ فَأُلْقِيَ إِلَى قُلُوبِ النَّاسِ، وَتِلْكَ رِفْعَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ مُرَادٌ بِهَا شَرَفُ مَا

أُثْبِتَتْ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ عَوَاقِبِ تِلْكَ السَّكِينَةِ أَنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا لِزَوَالِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّأْوِيلِ لِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، وَحَمْلِهِ عَلَى النَّصْرِ الْمَعْنَوِيِّ لِاسْتِبْعَادِهِمْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَتْحًا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ، فَزَالَ مَا خَامَرَهَا وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ وَعْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ فَانْقَشَعَ عَنْهُمْ مَا يُوشِكُ أَنْ يُشَكِّكَ بَعْضَهُمْ فَيَلْتَحِقَ بِالْمُنَافِقِينَ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَإِنَّ زِيَادَةَ الْأَدِلَّةِ تُؤَثِّرُ رُسُوخَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ فِي الْعَقْلِ وَقُوَّةَ التَّصْدِيقِ. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَجُعِلَ ذَلِكَ الِازْدِيَادُ كَالْعِلَّةِ لِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَن السكينَة إِذْ حَصَلَتْ فِي قُلُوبِهِمْ رَسَخَ إِيمَانُهُمْ، فَعُومِلَ الْمَعْلُومُ حُصُولُهُ مِنَ الْفِعْلِ مُعَامَلَةَ الْعِلَّةِ وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْلِيلِ وَهُوَ لَامُ- كَيْ- وَجُعِلَتْ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ إِيمَانٍ آخَرَ دَخَلَ عَلَى الْإِيمَانِ الْأَسْبَقِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى أَفْرَادٍ أُخَرَ زَادَهَا قُوَّةً فَلِذَلِكَ عَلِقَ بِالْإِيمَانِ ظَرْفُ مَعَ فِي قَوْلِهِ: مَعَ إِيمانِهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ خَيْرٌ عَظِيمٌ لَهُمْ كَمَا كَانَ فِيهِ خير للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِتَشْرِيفِهِ بِالْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَلِهِدَايَتِهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَلِنَصْرِهِ نَصْرًا عَزِيزًا، فَأَعْظِمْ بِهِ حَدَثًا أَعْقَبَ هَذَا الْخَيْر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنْ لَا عَجَبَ فِي أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ فَتْحًا عَظِيمًا وَيَنْصُرَكَ عَلَى أَقْوَامٍ كَثِيرِينَ أَشِدَّاءَ نَصْرًا صَحِبَهُ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ خَامَرَهُمُ الْفَشَلُ وَانْكِسَارُ الْخَوَاطِرِ، فَاللَّهُ مَنْ يَمْلِكُ جَمِيعَ وَسَائِلِ النَّصْرِ وَلَهُ الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا هَذَا نَصْرُ إِلَّا بَعْضِ مِمَّا لِلَّهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَجُمْلَةُ التَّذْيِيلِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: 5] الْآيَةَ. وَأُطْلِقَ عَلَى أَسْبَابِ النَّصْرِ الْجُنُودُ تَشْبِيهًا لِأَسْبَابِ النَّصْرِ بِالْجُنُودِ الَّتِي تُقَاتِلُ وَتَنْتَصِرُ.

[سورة الفتح (48) : آية 5]

وَفِي تَعْقِيبِ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِجُمْلَةِ التَّذْيِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ وَأَنَّ إِنْزَالَ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ تَشْدِيدٌ لِعَزَائِمِهِمْ فَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ قَبْلَ هَذَا الْعُمُومِ وَبَعْدَهُ تنويه بشأنهم، ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ الْآيَةَ. فَمِنْ جُنُودِ السَّمَاوَاتِ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُنْزِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى الْعَدُوِّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَالْمَطَرُ الَّذِي أُنْزِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَامَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ جُنُودِ الْأَرْضِ جُيُوشُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدِيدُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ جَاءُوا مُؤْمِنِينَ مُقَاتِلِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَثْلُ بَنِي سُلَيْمٍ، وَوُفُودُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ جَاءُوا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ دُونَ قِتَالٍ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ. وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَالْجُنْدُ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الْمُقَاتِلِينَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْجَمَاعَاتِ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَتَأَلَّفُ مِنْ جُنُودٍ: مُقَدِّمَةٍ وَمَيْمَنَةٍ وَمَيْسَرَةٍ وَقَلْبٍ وَسَاقَةٍ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِمَا يَجْمَعُهُ الْمُلُوكُ وَالْفَاتِحُونَ مِنَ الْجُنُودِ لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لِلَّهِ مِنَ الْغَلَبَةِ لِأَعْدَائِهِ وَالنَّصْرِ لِأَوْلِيَائِهِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَسْبَابِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَعَلِيمٌ بِمَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْبَلْبَلَةِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ مُقْتَضَيَاتِ عِلْمِهِ فِي مَوَاضِعِهَا الْمُنَاسِبَةِ وأوقاتها الملائمة. [5] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 5] لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: 4] فَمَا بَعْدَ اللَّامِ عِلَّةٌ لِعِلَّةِ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ فَتَكُونُ عِلَّةً لِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ عِلَّةُ الْعِلَّةِ.

[سورة الفتح (48) : آية 6]

وَذِكْرُ الْمُؤْمِنَاتِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ بِهَذَا الْإِدْخَالِ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ. وَإِذْ كَانَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ صِيغَةَ الْمُذَكَّرِ مَعَ مَا قَدْ يُؤَكِّدُ هَذَا التَّوَهُّمَ مِنْ وُقُوعِهِ عِلَّةً أَوْ عِلَّةَ عِلَّةٍ لِلْفَتْحِ وَلِلنَّصْرِ وَلِلْجُنُودِ وَكُلِّهَا مِنْ مُلَابَسَاتِ الذُّكُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمُؤْمِنَاتِ حَظٌّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ لَا يَخْلُونَ مِنْ مُشَارَكَةٍ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ مِمَّنْ يُقِمْنَ مِنْهُنَّ عَلَى الْمَرْضَى وَالْجَرْحَى وَسَقْيِ الْجَيْشِ وَقْتَ الْقِتَالِ وَمِنْ صَبْرِ بِعْضِهِنَّ عَلَى الثُّكْلِ أَوِ التَّأَيُّمِ، وَمِنْ صَبْرِهِنَّ عَلَى غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ وَذَوِي الْقَرَابَةِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَكانَ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِدْخَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْجَنَّةَ. وَالْمُرَادُ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ إِدْخَالٌ خَاصٌّ وَهُوَ إِدْخَالُهُمْ مَنَازِلَ الْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ هُوَ الْإِدْخَالُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِالْإِيمَانِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَى. وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وَالْفَوْزُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ الظَّفْرُ بِالْخَيْرِ وَالنَّجَاحِ. وعِنْدَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ فَوْزاً، أَيْ فَازُوا عِنْدَ اللَّهِ بِمَعْنَى: لَقُوا النَّجَاحَ وَالظَّفْرَ فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَات الْكَرَامَة. [6] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 6] وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) الْحَدِيثُ عَنْ جُنُودِ اللَّهِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ نَصْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ فَرِيقًا مَهْزُومًا بِتِلْكَ الْجُنُودِ وَهُمُ الْعَدُوُّ، فَإِذَا كَانَ النَّصْرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ مَعْلُولًا بِمَا بَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَا يَسُوءُ الْعَدُوَّ وَحِزْبَهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ عِلَّةِ ذَلِكَ النَّصْرِ أَنَّهُ يُعَذِّبُ بِسَبَبِهِ الْمُنَافِقِينَ حِزْبَ الْعَدُوِّ، وَالْمُشْرِكِينَ صَمِيمَ الْعَدُوِّ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ مَعْطُوفًا عَلَى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: 5] . وَالْمُرَادُ: تَعْذِيبٌ خَاصٌّ زَائِدٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ.

وَالِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّعْذِيبِ قَبْلَ الْمُشْرِكِينَ لِتَنْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ كُفْرَ الْمُنَافِقِينَ خَفِيٌّ فَرُبَّمَا غَفَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ أَوْ نَسُوهُ. كَانَ الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ وَلَا إِلَى عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مُظَاهِرِينَ لَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُدَافِعُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَكَّةَ وَأَنَّهُ يَكُونُ النَّصْرُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالتَّعْذِيبُ: إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ صَادِقٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: 14] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّوْبَة: 73] ، وَبِالْوَجَلِ، وَحَذَرِ الِافْتِضَاحِ، وَبِالْكَمَدِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْصُورِينَ سَالِمِينَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمرَان: 119] وَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَة: 50] وَصَادِقْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا خُصَّ بِالذِّكْرِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ. وَعَطْفُ الْمُنافِقاتِ نَظِيرُ عطف الْمُؤْمِناتِ [الْفَتْح: 5] الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ نسَاء الْمُنَافِقين يشاركنهم فِي أَسْرَارِهِمْ وَيَحُضُّونَ مَا يُبَيِّتُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ وَيُهَيِّئُونَ لَهُمْ إِيوَاءَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا زَارُوهُمْ. وَقَوْلُهُ: الظَّانِّينَ صِفَةٌ لِلْمَذْكُورِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ فَإِنَّ حَقَّ الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُتَعَدِّدٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ. وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ السَّوْءِ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْعَشَرَةِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِمْ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فَهُوَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْفَتْحِ أَيْضًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِضَمِّ السِّينِ. وَالْمَفْتُوحُ وَالْمَضْمُومُ مُتَرَادِفَانِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُمَا الْمَكْرُوهُ ضِدُّ السُّرُورِ، فَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: الْكَرْهُ وَالْكُرْهُ، الضّعف وَالضُّعْفُ، وَالضَّرُّ وَالضُّرُّ، وَالْبَأْسُ وَالْبُؤْسُ. هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَيَّنَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَ مَصْدَرٌ وَالْمَضْمُومَ اسْمُ مَصْدَرٍ، إِلَّا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَلَبَ الْمَفْتُوحُ فِي أَنْ يَقَعَ وَصْفًا لِمَذْمُومٍ مُضَافًا إِلَيْهِ مَوْصُوفُهُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [98] ، وَغَلَبَ الْمَضْمُومُ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ بِذَاتِهِ شَرٌّ.

[سورة الفتح (48) : آية 7]

فَإِضَافَةُ الظَّنِّ إِلَى السَّوْءِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَالْمُرَادُ: ظَنُّهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ وَلَا أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَلَا يقدر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصْرَ لِقِلَّةِ أَتْبَاعِهِ وَعِزَّةِ أَعْدَائِهِ، فَهَذَا ظَنُّ سوء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْمُنَاسِبُ لِقِرَاءَتِهِ بِالْفَتْحِ. وَأَمَّا دائِرَةُ السَّوْءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهِيَ الدَّائِرَةُ الَّتِي تَسُوءُ أُولَئِكَ الظَّانِّينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَوْنِهَا مَحْمُودَةً عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَالْإِضَافَةُ مِثْلُ إِضَافَةِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو فَإِضَافَةُ دائِرَةُ الْمَضْمُومُ مِنْ إِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ، أَيِ الدَّائِرَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسَّوْءِ وَالْمُلَازِمَةُ لَهُ لَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ. وَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِمَا خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَلَكِنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَفَتْحُ السَّوْءِ الْأَوَّلِ مُتَعَيِّنٌ وَضَمُّ الثَّانِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِرَاجِحٍ وَالِاخْتِلَافُ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَجُمْلَةُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دُعَاءٌ أَوْ وَعِيدٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ بِالِاسْمِيَّةِ لِصَلُوحِيَّتِهَا لِذَلِكَ بِخِلَافِ جُمْلَةِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ فَإِنَّهَا إِخْبَارٌ عَمَّا جَنَوْهُ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مِنْهُ أظهر. [7] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 7] وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) هَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا إِلَّا أَنَّ هَذَا أُوثِرَ بِصِفَةِ عَزِيزٍ دُونَ عَلِيمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْجُنُودِ هُنَا الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ بِهَزَائِمَ تَحِلُّ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَكَمَا ذُكِرَ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِجُنُودِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمَا ذِكْرُ مَا هُنَا لِلْوَعِيدِ بِالْهَزِيمَةِ فَمُنَاسِبَةُ صِفَةِ عَزِيزٍ، أَيْ لَا يغلبه غَالب.

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 إلى 9]

[سُورَة الْفَتْح (48) : الْآيَات 8 إِلَى 9] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) لَمَّا أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَمَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ ذِكْرُهُ إِلَى تَبْيِينِ مَا جَرَى فِي حَادِثَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِبْلَاغِ كُلِّ ذِي حَظٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ نَصِيبَهُ الْمُسْتَحَقَّ ثَنَاءً أَوْ غَيْرَهُ صَدَّرَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ إرْسَال رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْمُقَدَّمَةِ لِلْقِصَّةِ وَذُكِرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِرْسَالِهِ مَا لَهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْوَاقِعَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا، فَذُكِرَتْ أَوْصَافٌ ثَلَاثَةٌ هِيَ: شَاهِدٌ، وَمُبَشِّرٌ، وَنَذِيرٌ. وَقُدِّمَ مِنْهَا وَصْفُ الشَّاهِدِ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْوَصْفَانِ بَعْدَهُ. فَالشَّاهِدُ: الْمُخْبِرُ بِتَصْدِيقِ أَحَدٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ أَوِ ادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] وَقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . فَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ فِي حَالِ أَنَّكَ تَشْهَدُ عَلَى الْأُمَّةِ بِالتَّبْلِيغِ بِحَيْثُ لَا يُعْذَرُ الْمُخَالِفُونَ عَنْ شَرِيعَتِكَ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ، وَتَشْهَدُ عَلَى الْأُمَمِ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَهُوَ حَالُ مُقَارَنَةٍ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى التَّبْلِيغِ الَّذِي سَيَشْهَدُ بِهِ أَنَّهُ مُبَشِّرٌ لِلْمُطِيعِينَ وَنَذِيرٌ لِلْعَاصِينَ عَلَى مَرَاتِبِ الْعِصْيَانِ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ. وَقَوْلُهُ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَفْعَالَ الْأَرْبَعَةَ لِتُؤْمِنُوا وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الْأَرْبَعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي لِتُؤْمِنُوا لَامَ كَيْ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ أَرْسَلْناكَ. وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، أَيْ لِتُؤْمِنَ أَنْتَ وَالَّذِينَ أُرْسِلْتَ إِلَيْهِمْ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَالْمَقْصُودُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَأُقْحِمَ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْإِيمَانِ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي تَشَهُّدِهِ: «وَأَشْهَدُ أَنَّ

مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُتَابِعُ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ خَاصَّةً وَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ وَرَسُولِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَنَذِيراً وَتَكُونُ جُمْلَةُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِتُؤْمِنُوا لَامَ الْأَمْرِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِلْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [7] . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهَا، وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالتَّبْشِيرَ وَالنِّذَارَةَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لَهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ. وَالتَّعْزِيزُ: النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ، وَتَعْزِيزُهُمُ اللَّهَ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ [مُحَمَّد: 7] . وَالتَّوْقِيرُ: التَّعْظِيمُ. وَالتَّسْبِيحُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْمَنْصُوبَةُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِفْرَادَ الضَّمَائِرِ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا اسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَالْقَرِينَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ ذِكْرُ وَتُسَبِّحُوهُ ، وَلِأَنَّ عَطْفَ وَرَسُولِهِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ الْإِيمَان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ ضَمِيرَ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِهِ. وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُهُ، وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيعَابِ الْأَوْقَاتِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: شَرْقًا وَغَرْبًا لِاسْتِيعَابِ الْجِهَاتِ. وَقِيلَ التَّسْبِيحُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْقَوْلُ فِي بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ هُوَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَاب: 45، 46] ،

[سورة الفتح (48) : آية 10]

فَزِيدَ فِي صِفَات النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي الْآيَةِ هَذِهِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِبْطَالِ شَكِّ الَّذِينَ شَكُّوا فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِوَعْدِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ اطْمَأَنُّوا لِذَلِكَ فَاقْتُصِرَ مِنْ أَوْصَاف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ شَاهَدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَكَوْنِهِ مُبَشِّرًا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَنَذِيرًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَحْزَابِ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَنْزِيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي تَزَوُّجِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُزَادَ فِي صِفَاتِهِ مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا هُوَ مِنَ الْأَوْهَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَزَاعِمَ كَاذِبَةٍ مِثْلَ التَّبَنِّي، فَزِيدَ كَوْنُهُ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُ مَزَاعِمَ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَأَنَّهُ سِرَاجٌ مُنِيرٌ يَهْتَدِي بِهِ مَنْ هِمَّتُهُ فِي الِاهْتِدَاءِ دُونَ التَّقْعِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «التَّوْرَاةِ» فَارْجِع إِلَيْهِ. [10] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) شُرُوعٌ فِي الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَكَّدَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُبايِعُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمُبَايَعَةِ الْجَلِيلَةِ لِتَكُونَ كَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا قَدِ انْقَضَتْ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] . وَالْحَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما حَصْرُ الْفِعْلِ فِي مَفْعُولِهِ، أَيْ لَا يُبَايِعُونَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ غَايَةَ الْبَيْعَةِ وَغَرَضَهَا هُوَ النَّصْرُ لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنَزَلَ الْغَرَضُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ فَادَّعَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا اللَّهَ لَا الرَّسُولَ.

وَحَيْثُ كَانَ الْحَصْرُ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» : «لَمْ أَجْعَلْ (إِنَّ) الَّتِي فِي مُفْتَتَحِ الْجُمْلَةِ لِلتَّأْكِيدِ لِحُصُولِ التَّأْكِيدِ بِغَيْرِهَا فَجَعَلْتُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ غَرَضَانِ» . وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا الِادِّعَاءِ إِلَى تَخَيُّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَايِعُهُ الْمُبَايِعُونَ فَأُثْبِتَتْ لَهُ الْيَدُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ على وَجه التخييلية مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ. وَقَدْ هُيِّأَتْ صِيغَةُ الْمُبَايَعَةِ لِأَنْ تُذْكَرَ بَعْدَهَا الْأَيْدِي لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ يُقَارِنُهَا وَضْعُ الْمُبَايِعِ يَدَهُ فِي يَدِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: حَتَّى وَضَعَتْ يَمِينِي لَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفِّ ذِي يَسَرَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ وَمِمَّا زَادَ هَذَا التَّخْيِيلَ حُسْنًا مَا فِيهِ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ يَدِ اللَّهِ وَأَيْدِيهِمْ كَمَا قَالَ فِي «الْمِفْتَاحِ» : وَالْمُشَاكَلَةُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْيَدِ وَسِمَاتِ الْمُحْدَثَاتِ. فَجُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْمُفِيدَةِ أَنَّ بيعتهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، هِيَ بَيْعَةٌ مِنْهُمْ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعِ فَقَرَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَأَكَّدَتْهُ وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَجُعِلَتِ الْيَدُ الْمُتَخَيَّلَةُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: إِمَّا لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَقْتَضِي تَشْرِيفَهَا بِالرِّفْعَةِ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ كَمَا وُصِفَتْ فِي الْمُعْطِي بِالْعُلْيَا فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْآخِذَةُ» ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ بِأَنْ يَمُدَّ الْمُبَايِعُ كَفَّهُ أَمَامَ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ وَيَضَعَ هَذَا الْمُبَايِعُ يَدَهُ عَلَى يَدِ الْمُبَايَعِ، فَالْوَصْفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مِنْ تَمَامِ التَّخْيِيلِيَّةِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ كَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَانَ عُمَرُ يَضَعُ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ كَيْلَا يَتْعَبَ بِتَحْرِيكِهَا لِكَثْرَةِ الْمُبَايِعِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُبَايِعِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَذِكْرُ الْفَوْقِيَّةِ هُنَا تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَإِغْرَاقٌ فِي التَّخَيُّلِ. وَالْمُبَايَعَةُ أَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ لِأَنَّ كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَائِعٌ، وَنُقِلَتْ

إِلَى مَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالنُّصْرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: 12] الْآيَةَ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالطَّاعَةِ. وَهِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي بَايَعَهَا الْمُسلمُونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَوْ أَكْثَرَ، وَعَنْهُ: أَنَّهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى كَانُوا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَأَوَّلُ مَنْ بَايع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ. وَتُسَمَّى بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: 18] . وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُفَاوِضَهُمْ فِي شَأْنِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ فَأُرْجِفَ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فعزم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ لِذَلِكَ وَدَعَا مَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا الْقَوْمَ، فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: بَايَعْنَاهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَذَيْنِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِرَارِ يَقْتَضِي الثَّبَاتَ إِلَى الْمَوْتِ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْبَيْعَةِ إِلَّا عُثْمَان إِذا كَانَ غَائِبًا بِمَكَّةَ لِلتَّفَاوُضِ فِي شَأْنِ الْعُمْرَةِ، وَوضع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَقَالَ: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَبَايَعَ، وَإِلَّا الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ السُّلَمِيُّ اخْتَفَى وَرَاءَ جَمَلِهِ حَتَّى بَايَعَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَعِيفَ الْعَزْمِ. وَقَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَشَفَ كُنْهَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ بِأَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ صَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ عَظِيمًا خَطِيرًا فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّبَايُعُ وَفِي نَكْثِ ذَلِكَ. وَالنَّكْثُ: كَالنَّقْضِ لِلْحَبْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: 92] .

[سورة الفتح (48) : آية 11]

وَغَلَبَ النَّكْثُ فِي مَعْنَى النَّقْضِ الْمَعْنَوِيِّ كَإِبْطَالِ الْعَهْدِ. وَالْكَلَامُ تَحْذِيرٌ مَنْ نَكْثِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ وَتَفْظِيعٌ لَهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَمُضَارِعُ يَنْكُثُ بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَشْهُورِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ. وَمَعْنَى فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ: أَنَّ نَكْثَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ بِالضُّرِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ عَلَى. وإِنَّما لِلْقَصْرِ وَهُوَ لِقَصْرِ النَّكْثِ عَلَى مَدْلُولِ عَلى نَفْسِهِ لِيُرَادَ لَا يَضُرُّ بِنَكْثِهِ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا فَإِنَّ نَكْثَ الْعَهْدِ لَا يَخْلُو مِنْ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِالْمَنْكُوثِ، فَجِيءَ بِقَصْرِ الْقَلْبِ لِقَلْبِ قَصْدِ النَّاكِثِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: أَوْفَى بِالْعَهْدِ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَيُقَالُ: وَفَّى بِدُونِ هَمْزٍ وَهِيَ لُغَةُ عَامَّةُ الْعَرَب، وَلم تَجِيء فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْأُولَى. قَالُوا: وَلَمْ يَنْكُثْ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ سَبَبَ الْمُبَايَعَةِ قَدِ انْعَدَمَ بِالصُّلْحِ الْوَاقِعِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا بَيْنَ سَاعَةِ الْبَيْعَةِ وَبَيْنَ انْعِقَادِ الْهُدْنَةِ وَحَصَلَ أَجْرُ الْإِيفَاءِ بِالنِّيَّةِ عَدَمُهُ لَوْ نَزَلَ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَسَنُؤْتِيهِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. [11] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 11] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لَمَّا حَذَّرَ مِنَ النَّكْثِ وَرَغَّبَ فِي الْوَفَاءِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ التَّخَلُّفِ عَنْ الِانْضِمَامِ إِلَى جَيش النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ الْخُرُوجِ إِلَى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا نَازِلِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ سِتُّ قَبَائِلَ: غِفَارُ وَمُزَيَّنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَأَشْجَعُ وَأَسْلَمُ وَالدَّيْلُ بَعْدَ أَنْ بَايَعُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَإِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى الْعُمْرَةِ اسْتَنْفَرَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ فَيَرْهَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَصُدُّوهُ عَنْ عُمْرَتِهِ فَتَثَاقَلَ أَكْثَرُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ مَنْ جُهَيْنَةَ وَخَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِرْدَاسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيُّ وَالِدُ عَبَّاسٍ الشَّاعِرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَزَاهِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُهْبَانُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- بْنُ أَوْسٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ، وَمن غفار خفات- بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ- بْنُ أَيْمَاءَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- بَعْدَهَا تَحْتِيَّةً سَاكِنَةً، وَمَنْ مُزَيَّنَةَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو. وَتَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ مُعْظَمُهُمْ وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ، وَأَعَدُّوا لِلْمَعْذِرَةِ بَعْدَ رُجُوع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ شَغَلَتْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ، فَأَخْبَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا بَيَّتُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَفَضَحَ أَمْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْتَذِرُوا. وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي قَبْلَ وُقُوعِهِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ وَالنَّكْثِ، فَكُمِّلَ بِذِكْرِ مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الدَّاعِي لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مرجع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُعْتَذِرِينَ كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ. والمخلّفون بِفَتْحِ اللَّامِ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا. وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الْمُخَلَّفُونَ أَيْ غَيْرُهُمْ خَلَّفَهُمْ وَرَاءَهُ، أَيْ تَرَكَهُمْ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ بَلِ الْمُخَلَّفُ هُوَ الْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا. يُقَالُ: خَلَّفْنَا فَلَانًا، إِذَا مَرُّوا بِهِ وَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا مِنْ قَبْلِ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَذَرَهُمْ بِخِلَافِ الْأَعْرَابِ فَإِنَّهُمْ تَخَلَّفَ أَكْثَرُهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتُنْفِرُوا وَلَمْ يَعْتَذِرُوا حِينَئِذٍ. وَالْأَمْوَالُ: الْإِبِلُ. وَأَهْلُونَ: جَمْعُ أَهْلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ غير مُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الْجَمْعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَوِ الْيَاءِ وَالنُّونِ، فَعُدَّ مِمَّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ. وَمَعْنَى فَاسْتَغْفِرْ لَنَا: اسْأَلْ لَنَا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُوَ طَلَبٌ

حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ اسْتِغْفَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَمْحُو مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ النَّكْثِ وَذَهَلُوا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا أَضْمَرُوهُ كَدَأْبِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ فَقَدْ قتل الْيَهُود زَكَرِيَّاء مَخَافَةَ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ دَعْوَةٌ عَلَيْهِمْ حِينَ قَتَلُوا ابْنَهُ يَحْيَى وَلِذَلِكَ عُقِّبَ قَوْلُهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِظَنِّهِمْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مُقَاتِلُوهُ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ الْجَيْشَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَغْلِبُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَذْهَبُ إِلَى قَوْمٍ غَزَوْهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ (¬1) بِالْمَدِينَةِ يَعْنُونَ غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِهِمْ. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا فِيهِ رَدُّ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ اللَّهَ لَهُمْ لَا يُكْرِهُ اللَّهَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ بَلِ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ إِذَا أَرَادَهُ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ نَفْعًا نَفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا ضَرَّهُمْ فَمَا كَانَ مِنَ النُّصْحِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَهُ. فَلَعَلَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عِقَابِ ذَنْبِهِمْ إِذْ تَخَلَّفُوا عَنْ نفير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا فِي الِاعْتِذَارِ لِيُكْثِرُوا مِنَ التَّوْبَةِ وَتَدَارُكِ الْمُمْكِنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ [الْفَتْح: 16] الْآيَةَ. فَمَعْنَى إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً هُنَا الْإِرَادَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ إِعْطَائِهِ النَّفْعَ إِيَّاهُمْ أَوْ إِصَابَتِهِ بِضُرٍّ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ ¬

(¬1) الْعقر بِضَم الْعين وَفتحهَا: الأَصْل وَالْمَكَان. [.....]

تَخَلُّفَهُمْ سَبَبٌ فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ فَضِيلَةِ شُهُودِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَفِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ شُهُودِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنَهْيِهِ عَنْ حُضُورِهِمْ فِيهَا. وَمَعْنَى الْمِلْكُ هُنَا: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] . وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْوِيلِ الشَّرِّ خَيْرًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: 41] . فَكَانَ الْجَرْيُ عَلَى ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مُقْتَضِيًا الِاقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ لَهُمْ شَيْئًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ ضَرَّهُمْ دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا، فَتُوَجَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَنَّهَا لِقَصْدِ التَّتْمِيمِ وَالِاسْتِيعَابِ، وَنَظِيرُهُ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [17] . وَقَدْ مَضَى قَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [188] فَرَاجِعْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَرًّا بِفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ مَصْدَرٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادًا بِهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَضُرَّكُمْ أَوْ يَنْفَعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ مَا يَضُرُّكُمْ وَمَا يَنْفَعُكُمْ. وَمَعْنَى تَعَلُّقِ أَرادَ بِهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى أَرَادَ إِيصَالَ مَا يَضُرُّكُمْ أَوْ مَا يَنْفَعُكُمْ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا عِدَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِذِ الْمَقْصُودُ تَرْكُهُمْ فِي حَالَةِ وَجَلٍ لِيَسْتَكْثِرُوا مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وَقُصِدَتْ مُفَاتَحَتُهُمْ بِهَذَا الْإِبْهَامِ لِإِلْقَاءِ الْوَجَلِ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ ثُمَّ سَيُتْبِعُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمرَان: 189] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِطْمَاعِ. وبَلْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا. وَبِهِ يَزْدَادُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَقْرِيرًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالًا لِعُذْرِهِمْ، وَمِنْ مَعْنَى الْإِبْطَالُ يَحْصُلُ بَيَانُ

[سورة الفتح (48) : آية 12]

الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِذْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِكَذِبِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اعْتِذَارَهُمْ بِحَرْفِ الْإِبْطَالِ. وَتَقْدِيمُ بِما تَعْمَلُونَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ عَمَلِهِمْ هَذَا. وَمَا صدق بِما تَعْمَلُونَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَمَا مَاهُوا بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ نَفِيرِ الرَّسُولِ وَكَثِيرًا مَا سَمَّى الْقُرْآنُ الِاعْتِقَادَ عَمَلًا. وَفِي قَوْلِهِ: كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تهديد ووعيد. [12] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 12] بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الْفَتْح: 11] ، أَيْ خَبِيرًا بِمَا عَلِمْتُمْ، وَمِنْهُ ظَنُّكُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ. وَأُعِيدَ حَرْفُ الْإِبْطَالِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا يُكَرَّرُ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْوَى. وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ ظَنَنْتُمْ، وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الْمُفِيدِ اسْتِمْرَارَ النَّفْيِ. وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: أَبَداً لِأَنَّ ظَنَّهُمْ كَانَ قَوِيًّا. وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُزَيَّنًا فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْرِضُوا غَيْرَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ أَنْ يرجع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا. وَهَكَذَا شَأْنُ الْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالنُّفُوسِ الْهَاوِيَةِ أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تَتَصَوَّرُ بِهَا الْحَوَادِثُ إِلَّا الصُّورَةَ الَّتِي تَلُوحُ لَهَا فِي بادىء الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا تَلُوحُ لَهَا أَوَّلَ شَيْءٍ لِأَنَّهَا الصُّورَةُ الْمَحْبُوبَةُ ثُمَّ يَعْتَرِيهَا التَّزْيِينُ فِي الْعَقْلِ فَتَلْهُو عَنْ فَرْضِ غَيْرِهَا فَلَا تَسْتَعِدُّ لِحِدْثَانِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: حُبُكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ. كَانُوا يَقُولُونَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ: إِن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ- بِفُتُحَاتٍ ثَلَاثٍ- رَأْسٍ- كِنَايَةً عَنِ الْقِلَّةِ، أَيْ يُشْبِعُهُمْ رَأْسُ بَعِيرٍ- لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ هُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقُرَيْشٍ وَالْأَحَابِيشِ وَكِنَانَةَ، وَمَنْ فِي حِلْفِهِمْ.

[سورة الفتح (48) : آية 13]

وَ (ظَنَّ السَّوْءِ) أَعَمُّ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنْ لَا يرجع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ، أَيْ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ بِالدِّينِ وَبِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُوقِنِينَ لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِاسْتِئْصَالِ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَصِرُونَ ثُمَّ يَغْزُونَ الْمَدِينَةَ بِمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ فَيُسْقَطُ فِي أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَيَرْتَدُّونَ عَنِ الدِّينِ فَذَلِكَ ظَنُّ السَّوْءِ. وَالسَّوْءِ بِفَتْحِ السِّينِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْح: 6] . وَالْبُورُ: مَصْدَرٌ كَالْهُلْكِ بِنَاءً وَمَعْنًى، وَمِثْلُهُ الْبَوَارُ بِالْفَتْحِ كَالْهَلَاكِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ وَصْفًا بِالْإِفْرَادِ وَمَوْصُوفِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ الْهَلَاكُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ عَدَمُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ فِي الدِّينِ وَالْآخِرَةِ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [42] . وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْماً بَيْنَ كُنْتُمْ وبُوراً لِإِفَادَةِ أَنَّ الْبَوَارَ صَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ لِشِدَّةِ تَلَبُّسِهِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَقَوْلِهِ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَة يُونُس [101] . [13] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 13] وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْفَتْح: 11] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمرَان: 189] وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ اسْتِدْرَاجِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي مَدَارِجِ الشَّكِّ فِي إِصَابَةِ أَعمال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى دَرَكَاتِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ إِذْ كَانَ تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ وَمَا عَلَّلُوا بِهِ تَثَاقُلَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَإِظْهَارُ عُذْرٍ مَكْذُوبٍ أَضْمَرُوا خِلَافَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حَوْمًا حَوْلَ حِمَى الشَّكِّ يُوشِكُونَ أَنْ يَقَعُوا فِيهِ. ومَنْ شَرْطِيَّةٌ. وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْكَافِرِينَ فِي مَقَامِ أَنْ يُقَالَ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ سَعِيرًا، لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ وَهُوَ مِنْ أَسمَاء جَهَنَّم.

[سورة الفتح (48) : آية 14]

[سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 14] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْفَتْح: 11] فَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التخويف الَّذِي أَو همه فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِلَى إِطْمَاعِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الضُّرُّ عَلَى النَّفْعِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقِيلَ إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً [الْفَتْح: 11] لِيَكُونَ احْتِمَالُ إِرَادَةِ الضُّرِّ بِهِمْ أَسْبَقَ فِي نُفُوسِهِمْ. وَقُدِّمَتِ الْمَغْفِرَةُ هُنَا بِقَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لِيَتَقَرَّرَ مَعْنَى الْإِطْمَاعِ فِي نُفُوسِهِمْ فَيَبْتَدِرُوا إِلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَهُمْ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِوَعْدِهِمُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً [الْفَتْح: 16] . وَزَادَ رَجَاءَ الْمَغْفِرَةِ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ أَقْرَبُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلِلْأَمْرَيْنِ مَوَاضِعُ وَمَرَاتِبُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَالنَّوَايَا وَالْعَوَارِضِ، وَقِيمَةُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَقَدَّرَهَا تَقْدِيرًا. وَلَفْظُ مَنْ يَشاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِجْمَالٌ لِلْمَشِيئَةِ وَأَسْبَابِهَا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَضَاعِيفِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 48] . [15] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 15] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) هَذَا اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الْفَتْح: 11] . وَهُوَ أَيْضًا إِعْلَام للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقُولُهُ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُذْرِهِمُ الْكَاذِبِ، وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ حِينَ يَرَوْنَ اجْتِنَاءَ أَهْلِ

الْحُدَيْبِيَةِ ثَمَرَةَ غَزْوِهِمْ، وَيَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَكْذِيبِهِمْ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَنِ التَّخَلُّفِ بِأَنَّهُمْ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هُنَالِكَ مَغَانِمَ مِنْ قِتَالٍ غَيْرِ شَدِيدٍ يَحْرِصُونَ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَهَالِيهِمْ، فَلَوْ كَانَ عُذْرُهُمْ حَقًّا لَمَا حَرَصُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِذَا تَوَقَّعُوا الْمَغَانِمَ وَلَأَقْبَلُوا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ عَنْ قَرِيحَةٍ وَرَغْبَةٍ لَمْ يُؤْتَ مَعَهَا بِمَجْرُورِ لَكَ كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ آنِفًا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ رَاغِبٌ صَادِقٌ غَيْرُ مُزَوَّرٍ لِأَجْلِ التَّرْوِيجِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُخَلَّفُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمُخَلَّفُونَ الْمَذْكُورُونَ. وَقَوْلُهُ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها مُتَعَلِّقٌ بِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وَلَيْسَ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ. وإِذَا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَوُقُوعُ فِعْلِ الْمُضِيِّ بَعْدَهُ دُونَ الْمُضَارِعِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّحْقِيقِ، وإِذَا قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ: الْخُرُوجُ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ مَغَانِمَ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ مِثْلُ إِطْلَاقِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: 36] . وَفِي هَذَا الْمَجَازِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ فِي غَزْوَتِهِمْ. وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامَ شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ وست وَأَيَّامًا مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَرَامَ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَمَنَعَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ غَزْوَةَ خَيْبَرَ غَنِيمَةً لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ خَاصَّةً إِذْ وَعَدَهُمْ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ. وَقَوْلُهُ: لِتَأْخُذُوها تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَغَانِمَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أخبر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ مَكَّةَ مَغَانِمَ خَيْبَرَ.

وَ (مَغانِمَ) : جَمْعُ مَغْنَمٍ وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ غَنِمَ إِذَا أَصَابَ مَا فِيهِ نَفْعٌ لَهُ كَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ مَغْنَمًا بِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمَغْنُومِ بِمَكَانٍ فِيهِ غَنَمٌ فَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الْمَفْعَلِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ذَرُونا بِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوِ خَيْبَرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ إِلَّا مِنْ حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى فِي سُورَةِ غَافِرٍ [26] . وَقَوْلُهُ: نَتَّبِعْكُمْ حِكَايَةٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ اسْتِنْزَالًا لِإِجَابَةِ طَلَبِهِمْ بِأَنْ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَى غَزْوِ خَيْبَرَ كَالْأَتْبَاعِ، أَيْ أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِأَنْ يَكُونُوا فِي مُؤَخِّرَةِ الْجَيْشِ فَيَكُونَ حَظُّهُمْ فِي مَغَانِمِهِ ضَعِيفًا. وَتَبْدِيلُ كَلَامِ اللَّهِ: مُخَالَفَةُ وَحْيِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ كَرَامَةً لِلْمُجَاهِدِينَ وَتَأْدِيبًا لِلْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ. فَالْمُرَادُ بِكَلَامِ اللَّهِ مَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَعْدِ أَهِلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَغَانِمِ خَيْبَرَ خَاصَّةً لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَلَامِ اللَّهِ هُنَا الْقُرْآنَ إِذْ لَمْ يُنَزَّلْ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ أُشْرِكَ مَعَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ أَهْلِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الَّذِينَ أَعْطَاهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التَّوْبَة: 83] فَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ لَمْ يُمْنَعُوا مَنْعًا مُؤَبَّدًا بَلْ مُنِعُوا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ لِئَلَّا يُشَارِكُوا فِي مَغَانِمِهَا فَلَا يُلَاقِي قَوْلَهُ فِيهَا لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَيُنَافِي قَوْلَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ [الْفَتْح: 16] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ حِينَئِذٍ يَقُولُونَ: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أَنَّ اللَّهَ أوحى إِلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنَازُلُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فَهُمْ يُرِيدُونَ حِينَئِذٍ أَنْ

يُغَيِّرُوا مَا أَمَرَّ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حِينَ يَقُولُونَ ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إِذِ اتِّبَاعُ الْجَيْشِ وَالْخُرُوجُ فِي أَوَّلِهِ سَوَاءٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الْخُرُوجِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلامَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ كَلِمَ اللَّهِ اسْمُ جَمْعِ كَلِمَةٍ. وَجِيءَ بِ لَنْ الْمُفِيدَةِ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ إِلَى خَيْبَرَ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَتَّبِعُونا لِلْعِلْمِ بِهِ. ومِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ طَلَبِكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا سَيَقُولُونَهُ إِذْ قَالَ: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَهِّبُونَ لِلْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَقَالَتَهُمْ قَالُوا: قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا. وبَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَتَّبِعُونا وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ نَشَأَ عَنْ فَوْرَةِ الْغَضَبِ الْمَخْلُوطِ بِالْجَهَالَةِ وَسُوءِ النَّظَرِ، أَيْ لَيْسَ بِكُمُ الْحِفَاظُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ بِكُمْ أَنْ لَا نُقَاسِمَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ حَسَدًا لَنَا عَلَى مَا نُصِيبُ مِنَ الْمَغَانِمِ. وَالْحَسَدُ: كَرَاهِيَةُ أَنْ يَنَالَ غَيْرُكَ خَيْرًا مُعَيَّنًا أَوْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَمَنِّي انْتِقَالِهِ إِلَيْكَ أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ، فَالْحَسَدُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْحِرْصُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْمَغَانِمِ وَكَرَاهِيَةِ الْمُشَارَكَةِ فِيهَا لِئَلَّا يَنْقُصَ سِهَامُ الْكَارِهِينَ. وَتَقَدَّمَ الْحَسَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [الْبَقَرَة: 90] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَة: 109] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَضَمِيرُ الرَّفْعِ مُرَادٌ بِهِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحَسَدِ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْجَوَابَ بمنعهم لعدم رضى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْمَغَانِمِ. وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الضَّمِيرِ شُمُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمُخَلَّفِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَا يتهمون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَسَدِ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اللَّهُ كَلَامَهُمْ بِالْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ فَقَالَ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ لَيْسَ قَوْلُكَ لَهُمْ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاسْتِبْشَارِ بِالْمَغَانِمِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَكِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ وَحَقُّهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَتَأْدِيبٌ لِلْمُخَلَّفِينَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ فِيمَا

[سورة الفتح (48) : آية 16]

يَأْتِي وَهُمْ ظَنُّوهُ تَمَالُؤًا مِنْ جَيْشِ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَتَهُ وَسَبَبَهُمْ. وَإِنَّمَا نَفَى اللَّهُ عَنْهُمُ الْفَهْمَ دُونَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَنُظُمِهِ. وَأَفَادَ قَوْلُهُ: لَا يَفْقَهُونَ انْتِفَاءَ الْفَهْمِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ، فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا أَيْ إِلَّا فَهْمًا قَلِيلًا وَإِنَّمَا قَلَّلَهُ لِكَوْنِ فَهْمِهِمْ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأُمُورِ الْوَاضِحَةِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ لَا يَنْفُذُ إِلَى الْمُهِمَّاتِ وَدَقَائِقِ الْمَعَانِي، وَمِنْ ذَلِكَ ظَنُّهُمْ حِرْمَانَهُمْ مِنْ الِالْتِحَاقِ بِجَيْشِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ مُنْبَعِثًا عَلَى الْحَسَدِ. وَقَدْ جَرَوْا فِي ظَنِّهِمْ هَذَا عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ وَالنُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ مِنَ التَّوَسُّمِ فِي أَعْمَالِ أَهِلِ الْكَمَالِ بِمِنْظَارِ مَا يَجِدُونَ مِنْ دَوَاعِي أَعْمَالِهِمْ وَأَعْمَالِ خُلَطَائِهِمْ. وقَلِيلًا وَصْفٌ لِلْمُسْتَثْنَى الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا فقها قَلِيلا. [16] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 16] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) انْتِقَالٌ إِلَى طَمْأَنَةِ الْمُخَلَّفِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَنَالُونَ مَغَانِمَ فِي غَزَوَاتٍ آتِيَةٍ لِيَعْلَمُوا أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ لِانْسِلَاخِ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ لِحِكْمَةِ نَوْطِ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا عَلَى طَرِيقَةِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ حِرْمَانٌ خَاصٌّ بِوَقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ كَافِرِينَ كَمَا تُدْعَى طَوَائِفُ الْمُسْلِمِينَ، فَذِكْرُ هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ إِدْخَالٌ لِلْمَسَرَّةِ بَعْدَ الْحُزْنِ لِيُزِيلَ عَنْهُمُ انْكِسَارَ خَوَاطِرِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ الْحِرْمَانِ. وَفِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ فُرْصَةٌ لَهُمْ لِيَسْتَدْرِكُوا مَا جَنَوْهُ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْسَلِخُوا عَنِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَامِلِ الْمُنَافِقِينَ الْمُبْطِنِينَ لِلْكُفْرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التَّوْبَة: 83] .

وَكَرَّرَ وَصْفَ مِنَ الْأَعْرابِ هُنَا لِيُظْهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قُصِدَ بِهَا الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الْفَتْح: 11] فَلَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْمُخَلَّفِينَ كُلُّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ التَّخَلُّف. وَأسْندَ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَمْرُ بِامْتِثَالِ الدَّاعِي وَهُوَ وَلِيُّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ فِي تَذْيِيلِهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْفَتْح: 17] وَدَعْوَةُ خلفاء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ تَرْجِعُ إِلَى دَعْوَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي) . وَعُدِّيَ فَعْلُ سَتُدْعَوْنَ بِحَرْفِ إِلى لِإِفَادَةِ أَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْمَشْيِ، وَهَذَا فَرْقٌ دَقِيقٌ بَيْنَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الدَّعْوَةِ بِحَرْفِ إِلى وَبَيْنَ تَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ نَحْوُ قَوْلِكَ: دَعَوْتُ فَلَانًا لِمَا نَابَنِي، قَالَ طَرَفَةُ: وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا وَقَدْ يَتَعَاقَبُ الِاسْتِعْمَالَانِ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ وَالتَّسَامُحِ. وَالْقَوْمُ أُولُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ إِلَّا إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا حُكْمًا فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَوَازِنَ وَثَقِيفَ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، وَذَلِكَ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ وَهِيَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَأَمَّا فَتْحُ مَكَّةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قِتَالٌ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبَأْسِ، وَكَانَ ذَلِكَ صَدْرَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَلَا نَعْلَمُ مِنْ هُمْ حَتَّى دَعَانَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالْحَسَنِ هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَجُمْلَةُ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إِمَّا حَالٌ من ضمير سَتُدْعَوْنَ، وَإِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ تُدْعَوْنَ.

[سورة الفتح (48) : آية 17]

وَ (أَوْ) لِلتَّرْدِيدِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّنْوِيعِ فِي حَالَةِ تُدْعَوْنَ، أَيْ تُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِمْعَانَ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ وَالِاسْتِمْرَارَ فِيهَا مَا لَمْ يُسْلِمُوا، فَبِذَلِكَ كَانَ أَوْ يُسْلِمُونَ حَالًا مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ تُقاتِلُونَهُمْ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُدْعَوْنَ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً تَعْبِيرٌ بِالتَّوَالِي الَّذِي مَضَى، وَتَحْذِيرٌ مِنَ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بِأَنَّهُ تَوَلٍّ يُوقِعُ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ تَوَلٍّ عَنْ دَعْوَةٍ إِلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْقِتَالُ لِلْجِهَادِ. فَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ تَشْبِيهٌ فِي مُطْلَقِ التَّوَلِّي لِقَصْدِ التَّشْوِيهِ وَلَيْسَ تَشْبِيهًا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِك التولي. [17] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 17] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْح: 16] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ قُصِدَ مِنْهَا نَفْيُ الْوَعِيدِ عَنْ أَصْحَابِ الضَّرَارَةِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُذْرِ لِلْعِنَايَةِ بِحُكْمِ التَّوَلِّي وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِلَخْ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً [الْفَتْح: 16] الْآيَةَ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ إِيتَاءِ الْأَجْرِ لِكُلِّ مُطِيعٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالتَّعْذِيبِ لِكُلِّ مُتَوَلٍّ كَذَلِكَ، مَعَ مَا فِي جُمْلَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الْأَجْرَ هُوَ إِدْخَالُ الْجَنَّاتِ، وَهُوَ يُفِيدُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ التَّعْذِيبَ الْأَلِيمَ بِإِدْخَالِهِمْ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ نُدْخِلْهُ وَنُعَذِّبْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُدْخِلْهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْم الْجَلالَة.

[سورة الفتح (48) : الآيات 18 إلى 19]

[سُورَة الْفَتْح (48) : الْآيَات 18 إِلَى 19] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) عَوْدٌ إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَازَى اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الْمُتَقَدِّمِ إِجْمَالُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْح: 10] ، فَإِنَّ كَوْنَ بيعتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْتَبَرُ بَيْعَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ مَكَانَةً رَفِيعَةً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا قُطِعَ الِاسْتِرْسَالُ فِي ذَلِكَ بِمَا كَانَ تَحْذِيرًا مِنَ النَّكْثِ وَتَرْغِيبًا فِي الْوَفَاءِ، بِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ وَذِكْرِ مَا هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْمُخَلَّفِينَ، وَإِبْطَالُ اعْتِذَارِهِمْ وَكَشْفُ طَوِيَّتِهِمْ، وَإِقْصَائِهِمْ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُبَايِعِينَ وَإِرْجَائِهِمْ إِلَى خَيْرٍ يَسْنَحُ مِنْ بَعْدِ إِنْ هُمْ صَدَقُوا التَّوْبَةَ وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ. فَقَدْ أَنَالَ اللَّهُ الْمُبَايِعِينَ رِضْوَانَهُ وَهُوَ أَعْظَمُ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] وَالشَّهَادَةَ لَهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَإِنْزَالَهُ السَّكِينَةَ قُلُوبَهُمْ وَوَعْدَهُمْ بِثَوَابِ فَتْحٍ قَرِيبٍ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٍ. وَفِي قَوْلِهِ: عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُبَايِعْ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ حِينَئِذٍ بِمُؤْمِنٍ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ إِذْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مُنَافِقًا ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَقَدْ دُعِيَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. وإِذْ يُبايِعُونَكَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ رَضِيَ، وَفِي تَعْلِيقِ هَذَا الظّرْف بِفعل الرضى مَا يفهم أَن الرضى مُسَبَّبٌ عَنْ مَفَادِ ذَلِكَ الظَّرْفِ الْخَاصِّ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، مَعَ مَا يُعْطِيهِ تَوْقِيت الرضى بِالظَّرْفِ الْمَذْكُورِ مِنْ تَعْجِيل حُصُول الرضى بِحِدْثَانِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَعَ مَا فِي جَعْلِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا الظَّرْفُ فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً من حُصُول الرضى قَبْلَ انْقِضَاءِ الْفِعْلِ بَلْ فِي حَالِ تَجَدُّدِهِ. فَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ يُبايِعُونَكَ مُسْتَعْمِلٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ

الْمُبَايَعَةِ الجليلة، وَكَون الرضى حَصَلَ عِنْدَ تَجْدِيدِ الْمُبَايَعَةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ تَمَامُهَا، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّجَرَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ: الشَّجَرَةُ الَّتِي عَهِدَهَا أَهْلُ الْبَيْعَةِ حِينَ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّهَا، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ السَّمُرِ- بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ- وَهُوَ شَجَرُ الطَّلْحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَمَّا أُرْجِفَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ «بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ إِذْ نَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَاخْرُجُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَثَارَ النَّاسُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ» . وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ عَمِيَ لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ. وَتَوَاتَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِلْمُ مَكَانِ الشَّجَرَةِ بِصَلَاةِ النَّاسِ عِنْدَ مَكَانِهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَيْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا وَعَنْ طَارِقِ بن عبد الرحمان قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ قُلْتُ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ أَفَأَنْتُمْ أَعْلَمُ» . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ طَارِقٍ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ: مَكَانُ السُّجُودِ، أَيِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْبَيْتَ الَّذِي يُبْنَى لِلصَّلَاةِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَوْضِعِ الشَّجَرَةِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَنِ فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا إِذَا مَرُّوا بِهَا يُصَلُّونَ عِنْدَهَا تَيَمُّنًا بِهَا إِلَى أَنْ كَانَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ كَذَاتِ أَنْوَاطٍ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا فَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَبَعْضَ أَصْحَابِهِ نَسُوا مَكَانَهَا لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي تَوَسُّمِ الْأَمْكِنَةِ وَاقْتِفَاءِ الْآثَارِ.

وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الَّذِي بَنَى مَسْجِدًا عَلَى مَكَانِ الشَّجَرَةِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ وَلَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ حَجَرٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ «أَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْبَيْعَةِ وَأَنَّهُ بُنِيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهِيَ تُوَافِقُ مُدَّةَ الْمُتَوَكِّلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ وَقَدْ تَخَرَّبَ فَجَدَّدَهُ الْمُسْتَنْصِرُ الْعَبَّاسِيُّ سَنَةَ 629 ثُمَّ جَدَّدَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ خَانْ الْعُثْمَانِيُّ سَنَةَ 1254 وَهُوَ قَائِمٌ إِلَى الْيَوْمِ. وَذُكِرَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ تَنْوِيهًا بِالْمَكَانِ فَإِنَّ لِذِكْرِ مَوَاضِعِ الْحَوَادِثِ وَأَزْمَانِهَا مَعَانِيَ تُزِيدُ السَّامِعَ تَصَوُّرًا وَلِمَا فِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ ذِكْرَى مِثْلِ مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالْحَوَادِثِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ» الْحَدِيثَ. وَمَوَاقِعُ الْمَصَائِبِ وَأَيَّامُهَا. وإِذْ ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ رَضِيَ، أَيْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحِين. وَهَذَا رضى خَاصٌّ، أَي تعلّق رضى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. وَالْفَاء فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَتْ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَ عَقِبَ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَلَا عَقِبَ وُقُوعِ بَيْعَتِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا بَايَعُوكَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَآبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ بعد الْإِخْبَار برضى اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ تَوْطِئَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَجْلِ مُبَايَعَتِهِمْ عَلَى نَصْرِكَ فَلَمَّا بَايَعُوا وَتَحَفَّزُوا لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَوَقَعَ الصُّلْحُ حَصَلَتْ لَهُمْ كَآبَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْكَآبَةِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، أَيْ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ مِثْلُ التَّعَلُّقَاتِ التَّنْجِيزَيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ بِإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا حَصَّلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْكَآبَةَ عَنْ أَنَّهُ قَدَرَ ذَلِكَ

[سورة الفتح (48) : آية 20]

لَهُمْ وَشَكَرَهُمْ عَلَى حُبِّهِمْ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِعْلِ وَلِذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَالسَّكِينَةُ هُنَا هِيَ: الطُّمَأْنِينَة والثقة بتحقيق مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالِارْتِيَاضِ عَلَى تَرَقُّبِهِ دُونَ حَسْرَةٍ فَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ إِنْزَالُهُ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَعَبَّرَ بِضَمِيرِهِمْ عِوَضًا عَنْ ضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ هِيَ نُفُوسُهُمْ. وَعُطِفَ أَثابَهُمْ عَلَى فِعْلِ رَضِيَ اللَّهُ. وَمَعْنَى أَثَابَهُمْ: أَعْطَاهُمْ ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، كَمَا يُقَالُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، أَيْ عَوَّضَهُمْ عَنِ الْمُبَايَعَةِ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ وَعَدَهُمْ بِثَوَابٍ هُوَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَمَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، فَفِعْلُ أَثابَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا الْفَتْحُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ يَوْمِ الْبَيْعَةِ بِنَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ. وَالْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا هِيَ: مَغَانِمُ أَرْضِ خَيْبَرَ وَالْأَنْعَامُ وَالْمَتَاعُ وَالْحَوَائِطُ فَوُصِفَتْ بِ كَثِيرَةً لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَهِيَ أَوَّلُ الْمَغَانِمِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا الْحَوَائِطُ. وَفَائِدَةُ وَصْفِ الْمَغَانِمِ بِجُمْلَةِ يَأْخُذُونَها تَحْقِيقُ حُصُولِ فَائِدَةِ هَذَا الْوَعْدِ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْفِعْلِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِكَوْنِ الْفَتْحِ قَرِيبًا وَبِشَارَةٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَهْلِكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَبْلَ رُؤْيَةِ هَذَا الْفَتْحِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها لِأَنَّ تَيْسِيرَ الْفَتْحِ لَهُمْ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أَثَرِ عِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَعَاصَى عَلَيْهَا شَيْءٌ صَعْبٌ، وَمِنْ أَثَرِ حِكْمَتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِي حَالَةٍ لِيَظُنَّ الرَّائِي أَنَّهَا لَا تُيَسَّرُ فِيهَا أَمْثَالُهَا. [20] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 20] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: 18، 19] إِذْ عُلِمَ أَنَّهُ فَتْحُ خَيْبَرَ، فَحَقَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ أَنْ

يَتَرَقَّبُوا مَغَانِمَ أُخْرَى فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا لَهُمْ، أَيْ لَكُمْ مَغَانِمُ أُخْرَى لَا يُحْرَمُ مِنْهَا مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ الْمَغَانِمُ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْفُتُوحِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. فالخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: 18] وَلَيْسَ خَاصًّا بِالَّذِينَ بَايِعُوا. وَالْوَعْدُ بِالْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ وَاقِعٌ فِي مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى لِسَان الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا بَلَّغَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ لِلْجِهَادِ. وَوَصْفُ مَغانِمَ بِجُمْلَةِ تَأْخُذُونَها لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ. وَبِنَاءً عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فِعْلُ فَعَجَّلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَيْ سَيُعَجِّلُ لَكُمْ هَذِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ نُوَالَهُمْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ تَعْجِيلًا، لِقُرْبِ حُصُولِهِ مِنْ وَقْتِ والوعد بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ الْوَعْدِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا عَقِبَهَا وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مَرْوِيٍّ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ إِلَى الْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: 19] وَأُشِيرَ إِلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةٍ غَفَلُوا عَنْهَا حِينَ حَزِنُوا لِوُقُوعِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّلْمِ، أَيْ كَفِّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ وَاجَهُوهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُرَاجَعَةِ فِي سَبَبِ قُدُومِهِمْ لَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْقِتَالِ مُتْعَبِينَ. وَلَمَا تَهَيَّأَ لَهُمْ فَتْحُ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُمْ لَوِ اقْتَتَلُوا مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ لَدُحِضَ فِي ذَلِكَ مُؤْمِنُونَ وَمُؤْمِنَاتٍ كَانُوا فِي مَكَّةَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الْفَتْح: 25] الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ: أَهْلُ مَكَّةَ جَرْيًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ غَالِبًا.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَفُّ أَيْدِي الْإِعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَكَانُوا أَحْلَافًا لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَجَاءُوا لِنُصْرَتِهِمْ لَمَّا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ خَيْبَرَ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَنَكَصُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا لِيُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَأَسَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الْفَتْح: 24] . وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ الْيَهُودِ عَنْكُمْ، أَيْ عَن أهلكم وذاريكم إِذْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُدَّةِ غَيْبَةِ مُعْظَمِ أَهْلِهَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ فِي غَالِبِ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ. وَالْكَفُّ: مَنْعُ الْفَاعِلِ مِنْ فِعْلٍ أَرَادَهُ أَوْ شَرَعَ فِيهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْكَفِّ الَّتِي هِيَ الْيَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ دَفْعًا بِالْيَدِ، وَيُقَالُ: كَفَّ يَدَهُ عَنْ كَذَا، إِذَا مَنَعَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِيَدِهِ. وَأُطْلِقَ الْكَفُّ هُنَا مَجَازًا عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ بِأَنْ أَوْجَدَ أَسْبَابَ صَرْفِهِمْ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلُوكُمْ بِضُرٍّ سَوَاءٌ نَوَوْهُ أَوْ لَمْ يَنْوُوهُ، وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ حِينَ لَا يَكُونُ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ فِعْلٌ مُنَاسِبٌ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِن اللُّغَة بيّنت عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ مُخَاطِبَاتِهِمْ وَطَرَأَتْ مُعْظَمُ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فَتُغَيَّرُ عَنِ الشَّأْنِ الْإِلَهِيِّ بِأَقْرَبِ الْأَفْعَالِ إِلَى مَعْنَاهُ. وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ عِلَّةٌ كَمَا تَقْتَضِي لَامُ كَيْ فَتَعِيَّنَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ فِي اللَّفْظِ أَوْ عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ سَبَقَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضِ التَّعْلِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: 4] أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: 5] وَمَا بَينهمَا اعتراضا وَهُوَ وَإِنْ طَالَ فَقَدِ اقْتَضَتْهُ التَّنَقُّلَاتُ الْمُتَنَاسِبَاتُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَصَالِحَ لَهُمْ مِنْهَا ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ وَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْجَنَّةَ وَتَكْفِيرُ سَيِّئَاتِهِمْ

وَاسْتِحْقَاقُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ الْعَذَابَ، وَلِتَكُونَ السَّكِينَةُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عِبْرَةً لَهُمْ وَاسْتِدْلَالًا عَلَى لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَلَى أَنَّ وَعْدَهُ لَا تَأْوِيل فِيهِ. وَمعنى كَوْنُ السَّكِينَةِ آيَةً أَنَّهَا سَبَبُ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِهِمُ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ فَخَلُصَتْ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَبَانَتْ لَهَا آيَاتُ اللَّهِ فَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ الْفِعْلِ لِأَنَّ مَعَادَهُ السَّكِينَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ يُثَارُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ لِغَايَاتٍ وَحِكَمٍ وَلِتَكُونَ آيَةً. فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ. فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: لِيَحْصُلَ التَّعْجِيلُ لَكُمْ بِنَفْعٍ عِوَضًا عَمَّا تَرَقَّبْتُمُوهُ مِنْ مَنَافِعِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْمَغَانِمُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ وَمَنْ يَعْرِفُونَ بِهَا أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانِ عِنَايَتِهِ وَأَنَّهُ مُوفٍّ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ وَضَامِنٌ لَهُمْ نَصْرَهُمُ الْمَوْعُودَ كَمَا ضَمِنَ لَهُمُ الْمَغَانِمَ الْقَرِيبَةَ وَالنَّصْرَ الْقَرِيبَ. وَتِلْكَ الْآيَةُ تَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةَ إِيمَانٍ. وَضَمِيرُ لِتَكُونَ عَلَى هَذِهِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: هذِهِ عَلَى أَنَّهَا الْمُعَلِّلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْخِصَالِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِغَايَاتٍ جَمَّةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا وَمِنْهَا سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتٍ هُمْ أَحْوَجُ فِيهِ إِلَى اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ادِّخَارًا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جُمْلَةَ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُعْتَرِضَةً، وَعَلَيْهِ فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ غَيْرُ عَاطِفَةٍ وَأَنَّ ضمير لِتَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَرَّةِ مِنْ فِعْلِ كَفَّ: أَيِ الْكَفَّةِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ حِكْمَةٌ أُخْرَى، أَيْ لِيَزُولَ بِذَلِكَ مَا خَامَرَكُمْ مِنَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ فَتَتَجَرَّدُ نُفُوسُكُمْ لِإِدْرَاكِ الْخَيْرِ الْمَحْضِ الَّذِي فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَإِحَالَتِكُمْ عَلَى الْوَعْدِ فَتُوقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فَتَزْدَادُوا يَقِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ وَيَهْدِيَكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء: 136] عَلَى أحد تأويلين.

[سورة الفتح (48) : آية 21]

[سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 21] وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: أُخْرى مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِجُمْلَةِ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها. وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً [الْفَتْح: 20] فَلَفْظُ أُخْرى صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَغانِمَ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ هِيَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَغَانِمِ صَعْبَةِ الْمَنَالِ، وَمَعْنَى الْمَغَانِمِ يَقْتَضِي غَانِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَهُمْ، أَيْ غَيْرَ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا، أَيْ هَذِهِ لَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَلَمْ نَجْعَلْ وَأُخْرى عَطْفًا عَلَى قَوْله هذِهِ [الْفَتْح: 20] عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ غَنِيمَةً وَاحِدَةً بَلْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً. وَمَعْنَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِعَدَمِ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَتْ جُمْلَةُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صِفَةً لِ أُخْرى لَمْ يَقْتَضِ مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ حَاوَلُوا الْحُصُولَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّ صِفَتَهَا عَدَمُ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهَا فَلَمْ تَتَعَلَّقْ أَطْمَاعُكُمْ بِأَخْذِهَا. وَالْإِحَاطَةُ بِالْهَمْزِ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَائِطًا أَيْ حَافِظًا، فَأَصْلُ هَمْزَتِهِ لِلْجَعْلِ وَصَارَ بِالِاسْتِعْمَالِ قَاصِرًا، وَمَعْنَاهُ: احْتَوَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ منصرفا فول عَلَى شِدَّةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُف: 66] أَيْ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا غَلَبًا لَا تَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ الْإِتْيَانَ بِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَيْهَا، أَيْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا لَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها. وَالْمَعْنَى: وَمَغَانِمُ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى نَيْلِهَا قَدْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا، أَي فَأَنا لكم إِيَّاهَا. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ جَدْوَى لِأَنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، أَيْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا لِأَجْلِكُمْ، وَفِي مَعْنَى الْإِحَاطَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا كَالشَّيْءِ الْمُحَاطِ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ فَلَا يَفُوتُهُمْ مَكَانُهُ، جُعِلَتْ كَالْمَخْبُوءِ لَهُمْ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً إِذْ هُوَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِهِمْ.

[سورة الفتح (48) : الآيات 22 إلى 23]

فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَغَانِمِ: نَوْعٌ مِنْ مَغَانِمَ مَوْعُودَةٍ لَهُمْ قَرِيبَةِ الْحُصُولِ وَهِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ، وَنَوْعٌ هُوَ مَغَانِمُ مَرْجُوَّةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَقْتُ حُصُولِهَا، وَمِنْهَا مَغَانِمُ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَنَوْعٌ هُوَ مَغَانِمُ عَظِيمَةٌ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ نُوَالُهَا قَدْ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَعَلَّهَا مَغَانِمُ بِلَادِ الرُّومِ وَبِلَادِ الْفُرْسِ وَبِلَادِ الْبَرْبَرِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْأَخِيرَ لَا يَنَالُهُ جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذِكْرِهِ بِضَمِيرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عُمَرُ فِي عَدَمِ قِسْمَةِ سَوَادِ الْعِرَاقِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: 10] . [22، 23] [سُورَة الْفَتْح (48) : الْآيَات 22 إِلَى 23] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: 20] عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَبَعْضَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَمَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِي النَّاسِ عَنْهُمْ نِعْمَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ وَعِدَّتِهِمْ وَنَشَاطِهِمْ. وَلَيْسَ الْكَفُّ لِدَفْعِ غَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ عَاقِبَةَ النَّصْرِ فَلَوْ قَاتَلَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَجِدُوا نَصِيرًا، أَيْ لَمْ يَنْتَصِرُوا بِجَمْعِهِمْ وَلَا بِمَنْ يُعِينُهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مَا أُرِيدَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِ النَّاسِ بِأَنْ يُقَالَ: وَلَوْ قَاتَلُوكُمْ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ سَبَبُ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ فِي قِتَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ.

وَ (الْأَدْبارَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مفعول ثَان لولوا وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ ضَمِيرِ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوَلَّوْكُمُ الْأَدْبَارَ. وأل لِلْعَهْدِ، أَيْ أَدْبَارَهُمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّ أل فِي مَثْلِهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَعْنَوِيٌّ. وَالتَّوْلِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَالِيًا، أَيْ لَجَعَلُوا ظُهُورَهُمْ تَلِيكُمْ، أَيِ ارْتَدُّوا إِلَى وَرَائِهِمْ فَصِرْتُمْ وَرَاءَهُمْ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وِجْدَانِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ أَشُدُّ عَلَى الْمُنْهَزِمِ من انهزامه لِأَن حِينَ يَنْهَزِمُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ بِأَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يُنْجِدُهُ فَيَكُرُّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ هَزَمُوهُ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَصِرٍ وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ وَمَا وَجَدُوا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي وَالصَّدِيقُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّصِيرِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيُّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِيوَاءِ وَلَيِّهِ وَإِسْعَافِهِ. وَالسُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً، أَيْ جَعَلَهُ عَادَةً لَهُ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ دِينِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّد: 7] وَقَالَ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: 40] ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِبَةُ حُرُوبِهِمْ نَصْرًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْلَبُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: 83] وَقَالَ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: 132] . وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالُ النَّصْرِ عَلَى حَسَبِ ضَرُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى حَسَبِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ غَالِبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ فَيَكُونُ النَّصْرُ تَامًّا فِي حَالَةِ الْخَطَرِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَكُونُ سِجَالًا فِي حَالَةِ السِّعَةِ كَمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: 128] ،

[سورة الفتح (48) : آية 24]

وَيَكُونُ لِمَنْ بعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَسَبِ تَمَسُّكِهِمْ بوصايا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي زمَان يَغْزُو فآم مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَاحَبَ النَّبِيءِ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ» . وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَسَبَقَتْ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ اجْتِلَادِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ نُوِيَ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَالٌّ عَلَى لَفْظِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ بُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى اطِّرَادِهَا وَثَبَاتِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] . وَلما وصف تِلْكَ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا رَاسِخَةٌ فِيمَا مَضَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِهَا بِالتَّحَقُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْمِيمًا لِلْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ النَّصْرِ فِي مُخْتَلَفِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَإِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ تَأْيِيدَ أَحْزَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ إِرَادَةِ الله تَعَالَى. [24] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 24] وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: 20] وَهَذَا كَفٌّ غَيْرُ الْكَفِّ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ

يَكُفُّهُمْ عَنْكُمْ وَلَا كَفَّكُمْ عَنْهُمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لَا أَنْتُمْ وَلَا هُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الشَّرَّ بِكُمْ وَأَنْتُمْ حِينَ أَحَطْتُمْ بِهِمْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ أَوْ أَسْرَهُمْ فَإِنَّ دَوَاعِيَ امْتِدَادِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكُمْ وَامْتِدَادِ أَيْدِيكُمْ إِلَيْهِمْ مُتَوَفِّرَةٌ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَوَانِعَ لَهُمْ وَلَكُمْ لَاشْتَبَكْتُمْ فِي الْقِتَالِ، فَكَفَّ أَيْدِيَهِمْ عَنْكُمْ بِأَنْ نَبَّهَكُمْ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئُوكُمْ وَكَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حِينَ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُطْلِقَهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَفَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَسْبَابٍ أَوْجَدَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِرَادَتِهِ عَدَمَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ مِثْلُ الْمِنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ يَسَّرَهُ اللَّهُ رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ وَإِبْقَاءً عَلَى قُوَّتِهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَوَّلُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَفَّ وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ «أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَدَّرُ بِسِتَّةٍ أَوْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْ بِثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ مُسَلَّحِينَ نَزَلُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ فَفَطِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ دُونَ حَرْب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهِمْ» وَكَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ السُّفَرَاءُ يَمْشُونَ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَلَعَلَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ تَجَنُّبًا لِمَا يُعَكِّرُ صَفْوَ الصُّلْحِ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: 22] وَوَجْهُ عَوْدِهِ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ فَرِيقٌ غَيْرَ الْفَرِيقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ أَنَّ عُرْفَ كَلَامِ الْعَرَبِ جَارٍ عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ يُنْسَبُ إِلَى الْقَوْمِ بِدُونِ تَمْيِيزٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [63] فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ. وَقَوْلُهُ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَسَاسِ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَطْنِ جَوْفُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعَانِي الْمُنْخَفَضِ مِنَ الشَّيْءِ أَوِ الْمُتَوَسِّطِ مَجَازٌ، قَالَ

الرَّاغِبُ: وَيُقَالُ لِلْجِهَةِ السُّفْلَى بَطْنٌ، وَلِلْعُلْيَا ظَهْرٌ. وَيُقَالُ: بَطْنُ الْوَادِي لِوَسَطِهِ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْبَطْنِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَكَانِ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَسَطُ الْمَكَانِ كَمَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا أَيْ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ قَائِلَ: زُولُوا، هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَوْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ، غَيْرَ أَنَّ مَحْمَلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ بَيِّنٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ وُقُوعُ اخْتِلَاطٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي وَسَطِ مَكَّةَ يُفْضِي إِلَى الْقِتَالِ حَتَّى يُمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِكَفِّ أَيْدِي بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَكُلُّ مَا وَقع مِمَّا قد يُفْضِي إِلَى الْقِتَالِ فَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا بَطْنَ مَكَّةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَطْنِ عَلَى أَسْفَلِ الْمَكَانِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ قَرِيبَةٌ مَنْ مَكَّةَ وَهِيَ مِن الْحِلِّ وَبَعْضُ أَرْضِهَا مِنَ الْحَرَمِ وَهِيَ عَلَى الطَّرِيقِ بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَهِيَ إِلَى مَكَّةَ أَقْرَبُ وَتُعْرَفُ الْيَوْمَ بَاسِمِ الشَّمِيسِي، وَجَعَلُوا الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَغَيْرِهِ بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ: أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعُوا الْعَدُوَّ إِلَى أَنْ دَخَلُوا بُيُوتَ مَكَّةَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا فَيَكُونُ بَطْنُ مَكَّةَ مَحْمُولًا عَلَى مَشْهُورِ اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا خَبَرٌ مُضْطَرِبٌ وَمُنَافٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَحْمَلَ فَجَعَلَ الْآيَةَ نَازِلَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ وَيُخَالِفُ كَلَامَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْمَقْصُودِ، هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِبَطْنِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ كَفَّ، أَيْ كَانَ الْكَفُّ فِي بَطْنِ مَكَّةَ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرَيْ عَنْكُمْ وعَنْهُمْ وَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لَوْ كُنْتُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، أَيْ لَوْ لَمْ يَقَعِ الصُّلْحُ فَدَخَلْتُمْ مُحَارِبِينَ كَمَا رَغِبَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَرِهُوا الصُّلْحَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيكون إِطْلَاق بِبَطْنِ مَكَّةَ جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ، أَيْ فِي وَسَطِ مَدِينَةِ مَكَّةَ.

وَلِهَذَا أُوثِرَتْ مَادَّةُ الظَّفَرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الظَّفَرَ هُوَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ فَلَا يَقْتَضِي وُجُودَ قِتَالٍ فَالظَّفَرُ أَعَمُّ مِنَ النَّصْرِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَنَالَكُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَهُوَ هُدْنَةُ الصُّلْحِ وَأَنْ تَعُودُوا إِلَى الْعُمْرَةِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ. وَمُنَاسِبَةُ تَعْرِيفِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ إِذْ نَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ وَكَانُوا أَنْصَارًا لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ كَفَّ بِاعْتِبَارِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولِهِ، أَعْنِي: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَفُّ الَّذِي حَصَلَ بَعْدَ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفِئَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ كَانَ للْمُسلمين إِذا مَنُّوا عَلَى الْعَدْوِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. فَعُدِّيَ أَظْفَرَكُمْ بِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَيَّدَكُمْ وَإِلَّا فَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْبَصِيرُ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالْمَرْئِيَّاتِ، أَيْ عَلِيمًا بِعَمَلِكُمْ حِينَ أَحَطْتُمْ بِهِمْ وَسُقْتُمُوهُمْ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ قَاتِلُوهُمْ أَوْ آسِرُوهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ عَلِيمًا بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ انْحِدَارِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْكُمْ طَامِعِينَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ وَيَعْمَلُونَ بَصِيرًا، أَوْ بِمَا يَعْمَلُونَ وَتَعْمَلُونَ بَصِيرًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يُفِيدُ عَمَلًا لِكُلِّ فَرِيقٍ، أَيْ عَلِمَ نَوَايَاكُمْ فَكَفَّهَا لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِكُمْ وَحُسْنِ سُمْعَتِكُمْ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَأَنْ لَا يَجِدَ الْمُشْرِكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّظَلُّمِ مِنْكُمْ بِالْبَاطِلِ

[سورة الفتح (48) : آية 25]

[25] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 25] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. اسْتِئْنَافٌ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ مَقَامِ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا اكْتَسَبُوا بِتِلْكَ الْبيعَة من رضى اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَائِهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَخَيْرِ الدُّنْيَا عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، وَضَمَانِ النَّصْرِ لَهُمْ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا هَيَّأَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ إِلَى تَعْيِيرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَذَمَّةِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا وَهِيَ صَدُّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَصَدُّ الْهَدْيِ عَنْ أَنْ يُبْلَغَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّهَا سُبَّةٌ لَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحَفَاوَةِ بِمَنْ يَعْتَمِرُونَ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ الله زواره ومعظّميه، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ قَبُولُ كُلُّ زَائِرٍ لِلْكَعْبَةِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَيْهِ الْحَمِيَّةُ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْمُفْتَتَحُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ [الْفَتْح: 22] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ بِالِافْتِتَاحِ بِضَمِيرِهِمْ هُنَا لِاسْتِرْعَاءِ السَّمْعِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ كَمَا إِذَا جَرَّهُ حَدِيثٌ عَنْ بَطَلٍ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَرَبِ ثُمَّ قَالَ قَائِل عَثْرَة هُوَ الْبَطن الْمُحَامِي. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّلَةِ هُوَ جُمْلَةُ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِدْمَاجٌ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الْكُفْرِ وَلِهَذَا الْإِدْمَاجِ نُكْتَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ أَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ صَارَ الْمَوْصُولُ فِي قُوَّةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ فَتُفِيدُ جُمْلَةُ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَصْرَ جِنْسِ الْكُفْرِ عَلَى هَذَا الضَّمِيرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ لِكَمَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِصَدِّهِمُ الْمُعْتَمِرِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَصَدِّ الْهَدْيِ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَالْهَدْيُ: مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ كَحُكْمِ الْمَصْدَرِ قَالَ تَعَالَى: وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: 97] أَيِ الْأَنْعَامَ الْمَهْدِيَّةَ وَقَلَائِدَهَا وَهُوَ هُنَا الْجَمْعُ. وَالْمَعْكُوفُ: اسْمُ مفعول عكفه، إِذْ أَلْزَمُهُ الْمُكْثُ فِي مَكَانٍ، يُقَالُ: عَكَفَهُ فَعَكَفَ فَيُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا عَنِ ابْنِ سِيدَهْ وَغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجَعَهُ فَرَجَعَ

وَجَبَرَهُ فَجَبَرَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا أَعْرِفُ عَكَفَ مُتَعَدِّيًا، وَتَأَوَّلَ صِيغَةَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَعْكُوفاً عَلَى أَنَّهَا لِتَضْمِينِ عَكَفَ مَعْنَى حَبَسَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَالِ التَّشْنِيعُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي صَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ بِأَنَّهُمْ صَدُّوا الْهَدَايَا أَنْ تَبْلُغَ مَحِلَّهَا حَيْثُ اضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَنْحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ عَطَّلُوا بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، فَفِي ذِكْرِ الْحَالِ تَصْوِيرٌ لِهَيْئَةِ الْهَدَايَا وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ. وَمَعْنَى صَدِّهِمُ الْهَدْيَ: أَنَّهُمْ صَدُّوا أَهْلَ الْهَدْيِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ صَدُّوا الْهَدَايَا مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَرَضُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ تَخْلِيَةَ مَنْ يَذْهَبُ بِهَدَايَاهُمْ إِلَى مَكَّةَ لِتُنْحَرَ بِهَا. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ الْهَدْيَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ وَهُوَ (عَنْ) ، أَيْ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَالْمَحِلُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ: مَحَلُّ الْحِلِّ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ حَلَّ ضِدُّ حَرُمَ، أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ نَحْرُ الْهَدْيِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يجزىء غَيْرُهُ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ بِالْمَرْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَمِرِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أُحْصِرُوا أَمَرَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرُوا هَدْيَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ إِذْ تَعَذَّرَ إِبْلَاغُهُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِتَوَخِّي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلنَّحْرِ مِنْ أَرْضِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ مِنْ سَمَاحَةِ الدِّينِ فَلَا طَائِلَ مِنْ وَرَاءِ الْخَوْضِ فِي اشْتِرَاطِ النَّحْرِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ لِلْمُحْصَرِ. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أَتْبَعَ النَّعْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ سُوءَ فِعْلِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَعْطِيلِ شَعَائِرِ اللَّهِ وَعْدَهُ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٍ، بِمَا يَدْفَعُ غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ بِقُوَّتِهِمْ، وَيُسْكِنُ تَطَلُّعَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعْجِيلِ الْفَتْحِ، فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ مَا قَرَّرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [الْفَتْح: 22] أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَأْمُرِ الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِ عَدُوِّهِمْ لَمَّا صَدُّوهُمْ عَنِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ أَرَادَ رَحْمَةَ جَمْعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَانُوا فِي خِلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ لَا يَعْلَمُونَهُمْ، وَعَصَمَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَصَائِبَ مِنْ جَرَّاءِ إِتْلَافِ إِخْوَانِهِمْ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الْفَتْح: 24] إِلَخْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ [الْفَتْح: 26] . وَنَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ بَدِيعٌ فِي أُسْلُوبَيِ الْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الِانْتِقَالِ وَرَشَاقَةِ كَلِمَاتِهِ. ولَوْلا دَالَّةٌ عَلَى امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ امْتَنَعَ تَعْذِيبُنَا الْكَافِرِينَ لِأَجْلِ وُجُودِ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ بَيْنَهُمْ. وَمَا بَعْدَ لَوْلا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي حَذْفِهِ مَعَ لَوْلا إِذَا كَانَ تَعْلِيقُ امْتِنَاعِ جَوَابِهَا عَلَى وُجُودِ شَرْطِهَا وُجُودًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ مَوْجُودُونَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ لَوْ تَزَيَّلُوا، أَيْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ بَيْنَهُمْ، أَيْ أَنَّ وُجُودَ هَؤُلَاءِ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ امْتَنَعَ حُصُولُ مَضْمُونِ جَوَابِ لَوْلا. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفِ عَلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ بِالْإِيمَانِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَهُمُ الْمَانِعَ مِنْ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ هُوَ الْوُجُودُ الْمَوْصُوفُ بِإِيمَانِ أَصْحَابِهِ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ بَلْ عَلَى وُجُودِ ذَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لَيْسَ هُوَ خَبَرًا بَلْ وَصْفًا ثَانِيًا إِذْ لَيْسَ مَحَطَّ الْفَائِدَةِ. وَوَجْهُ عَطْفِ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ مَعَ أَنَّ وُجُودَ رِجالٌ مُؤْمِنُونَ كَافٍ فِي رَبْطِ امْتِنَاعِ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَمَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْلَا الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ غَالِبًا، أَنَّ تَخْصِيصَ النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ أَنْسَبُ بِمَعْنَى انْتِفَاءِ الْمَعَرَّةِ بِقَتْلِهِنَّ وَبِمَعْنَى تَعَلُّقِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِنَّ.

وَمَعْنَى لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعملوا إِيمَانَهُمْ إِذْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بَعْدَ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا. فَعَنْ جُنْبُذِ- بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ- بْنِ سَبُعٍ- بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَيُقَالُ: سِبَاعٌ بِكَسْرِ السِّينِ يُقَالُ: إِنَّهُ أَنْصَارِيٌّ، وَيُقَال: قاري صَاحِبي قَالَ: هُمْ سَبْعَةُ رِجَالٍ سُمِّيَ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ الْقُرَشِيُّ- وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّابِعِ- وَعُدَّتْ أُمُّ الْفَضْلِ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ثَانِيَتَهُمَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الَّتِي لحقت بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَعَنْ حَجَرِ بْنِ خَلَفٍ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَتِسْعُ نِسْوَةٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى نَفْيِ مَعْرِفَةِ أَشْخَاصِهِمْ وَمَعْنَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ كَثِيرٌ مِنْكُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَشْخَاصَهُمْ فَلَا يَعْرِفُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا إِن كَانَ يَعْرِفُهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَيُفِيدُ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْجَيْشُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار. وأَنْ تَطَؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ رِجالٌ وَمَعْطُوفِهِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَيْ لَوْلَا أَنْ تَطَئُوهُمْ. وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ بِالرِّجْلِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِبَادَةِ وَالْإِهْلَاكِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُهْلِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهِرْمِ وَالْإِصَابَةُ: لَحَاقُ مَا يُصِيبُ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الرَّاجِعِ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ وَمِنْ أَجْلِهِمْ مَعَرَّةٌ كُنْتُمْ تَتَّقُونَ لَحَاقَهَا لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهُمْ.

وَالْمَعَرَّةُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ عَرَّهُ، إِذَا دَهَاهُ، أَيْ أَصَابَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ ضُرٍّ أَوْ غُرْمٍ أَوْ سُوءِ قَالَةٍ، فَهِيَ هُنَا تَجْمَعُ مَا يَلْحَقُهُمْ إِذَا أَلْحَقُوا أَضْرَارًا بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِ قَتْلَى، وَغُرْمِ أَضْرَارٍ، وَمِنْ إِثْمٍ يَلْحَقُ الْقَاتِلِينَ إِذَا لَمْ يَتَثَبَّتُوا فِيمَنْ يَقْتُلُونَهُ، وَمِنْ سُوءِ قَالَةٍ يَقُولُهَا الْمُشْرِكُونَ وَيُشِيعُونَهَا فِي الْقَبَائِلِ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَنْجُ أَهْلُ دِينِهِمْ مِنْ ضُرِّهِمْ لِيُكَرِّهُوا الْعَرَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسِينَ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ. وَالْمَجْرُورُ بِهَا مُتَعَلق ب فَتُصِيبَكُمْ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ مَكَارِهُ لَا تَعْلَمُونَهَا حَتَّى تَقَعُوا فِيهَا. وَهَذَا نَفْيُ عِلْمٍ آخَرَ غَيْرِ الْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالَّذِي انْتِفَاؤُهُ سَبَبُ إِهْلَاكِ غَيْرِ الْمَعْلُومِينَ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ لَحَاقُ الْمَعَرَّةِ. وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ الْعِلْمُ بِلَحَاقِ الْمَعَرَّةِ مِنْ وَطْأَتِهِمُ التَّابِعُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِإِيمَانِ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي انْتِفَاؤُهُ يَكُونُ سَبَبًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لِلتَّعْلِيلِ وَالْمُعَلَّلُ وَاقِعٌ لَا مَفْرُوضٌ، فَهُوَ وُجُودُ شَرْطِ لَوْلا الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ جَوَابِهَا فَالْمُعَلَّلُ هُوَ رَبْطُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ، أَيْ لَوْلَا وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنَّ هَذَا الرَّبْطَ لِأَجْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذْ رَحِمَ بِهَذَا الِامْتِنَاعِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ سَلَّمَهُمْ مِنْ مَعَرَّةٍ تَلْحَقُهُمْ وَأَنْ أَبْقَى لَهُمْ قُوَّتَهُمْ فِي النُّفُوسِ وَالْعُدَّةِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، وَرَحِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَرَحِمَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنِ اسْتَبَقَاهُمْ لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ أَوْ يُسْلِمُ أَكْثَرُهُمْ كَمَا حَصَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَحِمَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَالرَّحْمَةُ هُنَا شَامِلَةٌ لِرَحْمَةِ الدُّنْيَا وَرَحْمَةِ الْآخِرَةِ. ومَنْ يَشاءُ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا مَعًا. وَعَبَّرَ بِ مَنْ يَشاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ شُمُولِ أَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ رَحْمَةَ أُولَئِكَ.

وَجَوَابُ لَوْلا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ لَوْ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى لَوْلا فِي قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُ جَوَابِ لَوْ مُرْتَبِطًا عَلَى وَجْهِ تَشْبِيهِ التَّنَازُعِ بَيْنَ شَرْطَيْ لَوْلا ولَوْ لِمَرْجِعِ الشَّرْطَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ فَإِنَّ لَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ أَيْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهَا لِوُجُودِ شَرْطِهَا. ولَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، أَيْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهَا لِامْتِنَاعِ شَرْطِهَا فَحُكْمُ جَوَابَيْهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ شَرْطَاهُمَا فَشَرْطُ لَوْ مُنْتَفٍ وَشَرْطُ لَوْلا مُثْبَتٌ. وَضَمِيرُ تَزَيَّلُوا عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إِلَخْ مِنْ جَمْعٍ مُخْتَلِطٍ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ. وَالتَّزَيُّلُ: مُطَاوِعُ زَيَّلَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ عَنْ مَكَانٍ، وَزَيَّلَهُمْ، أَيْ أَبْعَدَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، أَيْ فَرَّقَهُمْ قَالَ تَعَالَى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يُونُس: 28] وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ وَالتَّمَيُّزِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مُطَاوَعَةٍ لِفِعْلِ فَاعِلٍ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُطَاوَعَةِ كَثِيرًا مَا تُطْلَقُ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ لِدَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَفَرَّقَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَسَلَّطْنَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَعَذَّبُوا الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابَ السَّيْفِ. فَإِسْنَادُ التَّعْذِيبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِهِ وَيُقَدِّرُ النَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [14] . وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ الْمُتَمَيِّزِ مُؤْمِنِهِمْ عَنْ كَافِرِهِمْ، أَيْ حِينَ يَصِيرُ الْجَمْعُ مُشْرِكِينَ خُلَّصًا وَحْدَهُمْ. وَجُمْلَةُ لَوْ تَزَيَّلُوا إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ لَوْلَا وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ إِلَخْ مُنْدَمِجِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ لَوِ افْتَرَقُوا لَعَذَّبْنَا الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ. وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات.

[سورة الفتح (48) : آية 26]

[سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 26] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفعل صَدُّوكُمْ [الْفَتْح: 25] أَيْ صَدُّوكُمْ صَدًّا لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ جَاءُوا مُسَالِمِينَ مُعَظِّمِينَ حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ سَائِقِينَ الْهَدَايَا لِنَفْعِ أَهْلِ الْحَرَمِ فَلَيْسَ مِنَ الرُّشْدِ أَنْ يُمْنَعُوا عَنِ الْعُمْرَةِ وَلَكِنَّ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ غَطَّتْ عَلَى عُقُولِهِمْ فَصَمَّمُوا عَلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ آلَ النِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْعَامَ وَعَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي الْقَابِلِ وَأَنَّ الْعَامَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا التَّشَفِّيَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِحَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَكَانَ تَعْلِيقُ هَذَا الظَّرْفِ بِفِعْلِ وَصَدُّوكُمْ مُشْعِرًا بِتَعْلِيلِ الصَّدِّ بِكَوْنِهِ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْحَمِيَّةَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُمْ تَظْهَرُ مِنْهَا آثَارُهَا فَمِنْهَا الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، أَيِ الِاسْتِنْكَافُ مِنْ أَمْرٍ لِأَنَّهُ يَرَاهُ غَضَاضَةً عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اسْتِكْبَارٍ لَا مُوجِبَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لِمُوجِبٍ فَهُوَ إِبَاءُ الضَّيْمِ. وَلَمَّا كَانَ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ بِلَا حَقٍّ لِأَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ اللَّهِ لَا بَيْتُهُمْ كَانَ دَاعِي الْمَنْعِ مُجَرَّدَ الْحَمِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: 34] . وجَعَلَ بِمَعْنَى وَضَعَ، كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْأَخِيرَةِ «اجْعَلِ الْمَوْت نصب عَيْنك» ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِثْمِدٌ يُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ (¬1) ¬

(¬1) أَوله: النَّاس كالأرض وَمِنْهَا هم ... من خشن الطَّبْع وَمن لين فحجر تدمى بِهِ أرجل ... ............... .... إِلَخ

وَضَمِيرُ جَعَلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ [الْفَتْح: 25] مِنْ قَوْلِهِ: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: 25] وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ. والَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ جَعَلَ. والْحَمِيَّةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا، وفِي قُلُوبِهِمُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ جَعَلَ، أَيْ تَخَلَّقُوا بِالْحَمِيَّةِ فَهِيَ دَافِعَةٌ بِهِمْ إِلَى أَفْعَالِهِمْ لَا يُرَاعُونَ مَصْلَحَةً وَلَا مَفْسَدَةً فَكَذَلِكَ حِينَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وفِي قُلُوبِهِمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ، أَيْ وَضَعَ الْحَمِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْحَمِيَّةِ قُصِدَ مِنْ إِجْمَالِهِ ثُمَّ تَفْصِيلِهِ تَقْرِيرُ مَدْلُولِهِ وَتَأْكِيدُهُ مَا يَحْصُلُ لَوْ قَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ. وَإِضَافَةُ الْحَمِيَّةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ لِقَصْدِ تَحْقِيرِهَا وَتَشْنِيعِهَا فَإِنَّهَا مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْتِسَابُ ذَمٍّ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: 154] وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: 50] . وَيَعْكِسُ ذَلِكَ إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ لِأَنَّ السَّكِينَةَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَهِيَ مَوْهِبَةٌ إِلَهِيَّةٌ. وَتَفْرِيعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَدُّوا أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَنْوَةً غَضَبًا مِنْ صَدِّهِمْ عَنْهَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. وَالْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ: الثَّبَاتُ وَالْأَنَاةُ، أَيْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ التَّأَنِّيَ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْعَجَلَةَ، فَعَصَمَهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ الْحَمِيَّةِ بِالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَابَلُوا الْحَمِيَّةَ بِالتَّعَقُّلِ وَالتَّثَبُّتِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النُّكَتِ الْمَعْنَوِيَّةِ مُقَابَلَةُ جَعَلَ ب فَأَنْزَلَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَقَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ فَدَلَّ عَلَى شَرَفِ السَّكِينَةِ عَلَى الْحَمِيَّةِ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ تَخْيِيلٌ لِلرِّفْعَةِ وَإِضَافَةُ الْحَمِيَّةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَى اسْمِ ذَاتِهِ. وَعُطِفَ عَلَى إِنْزَالِ اللَّهِ سَكِينَتَهُ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْح: 26] ، أَيْ جَعَلَ كَلِمَةَ التَّقْوَى لَازِمَةً لَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهَا، أَيْ قَرَنَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَلِمَةِ التَّقْوَى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْفَتْح: 25] فَإِنَّهُ لَمَّا رَبَطَ صَدَّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ رَبْطًا يُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا رَبَطَ مُلَازَمَةَ الْمُسْلِمِينَ كَلِمَةَ التَّقْوَى بِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، لِيَكُونَ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ، مُؤَثِّرًا فِيهِمْ عَمَلًا ظَاهِرِيًّا وَهُوَ مُلَازَمَتُهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى كَمَا كَانَتْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ هِيَ الَّتِي دَفَعَتِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى صَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي وَأَلْزَمَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَوَّضَ اللَّهُ غَضَبَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ مُفَارِقًا السَّكِينَةَ مِنْ قَبْلُ. وكَلِمَةَ التَّقْوى إِنْ حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَى كَلِمَةَ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ وَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ شَائِعٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] فَفُسِّرَتِ الْكَلِمَةُ هُنَا بِأَنَّهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. قُلْتُ: فِي سَنَدِهِ: ثُوَيْرٌ، وَيُقَالُ: ثَوْرُ بْنُ أَبِي فَاخِتَةَ قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا وَكُلُّهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَعْنَى إِلْزَامِهِ إِيَّاهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى: أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمُ الثَّبَاتَ عَلَيْهَا قَوْلًا بِلَفْظِهَا وَعَمَلًا بِمَدْلُولِهَا إِذْ فَائِدَةُ الْكَلَامِ حُصُولُ مَعْنَاهُ، فَإِطْلَاقُ (الْكَلِمَةِ) هُنَا كَإِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] يَعْنِي بِهَا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: 26، 27] . وَإِضَافَةُ كَلِمَةَ إِلَى التَّقْوى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَمَعْنَى

إِضَافَتِهَا: أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ أَصْلُ التَّقْوَى فَإِنَّ أَسَاسَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ شُعَبُ التَّقْوَى كُلُّهَا. وَرُويَتْ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةَ التَّقْوى بِمَعْنَى كَلَامٍ آخَرَ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ تَفَاسِيرُ لَا تُلَائِمُ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَلَا نَظْمَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْتَمَلَ كَلِمَةَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ مَعْنَاهَا فَتَكُونَ مُقْحَمَةً وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى التَّقْوَى إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيْ كَلِمَةً هِيَ التَّقْوَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَلْزَمَهُمُ التَّقْوَى عَلَى حَدِّ إِقْحَامِ لَفْظِ اسْمٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: 78] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِي التَّقْوَى ابْتِدَاءُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ كَلِمَةَ مُطْلَقًا عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَجِمَاعُ مَعْنَاهُ كَإِطْلَاقِ الِاسْمِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: نُبِّئَتْ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... يَهْدِي إِلَى غَرَائِبِ الْأَشْعَارِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى: الْإِخْلَاصُ. فَجَعَلَ (الْكَلِمَةَ) مَعْنًى مِنَ التَّقْوَى. فَالْمَعْنَى على هذَيْن التوجهين الْأَخِيرَيْنِ: أَنَّهُمْ تَخَلَّقُوا بِالتَّقْوَى لَا يُفَارِقُونَهَا فَاسْتُعِيرَ الْإِلْزَامُ لِدَوَامِ الْمُقَارَنَةِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَا يُعَارِضَانِ تَفْسِيرَ كَلِمَةِ (التَّقْوَى) بِكَلِمَةِ (الشَّهَادَةِ) الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا بِجُزْئِيٍّ مِنَ التَّقْوَى هُوَ أَهَمُّ جُزْئِيَّاتِهَا، أَيْ تَفْسِيرُ مِثَالٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ كَلِمَةَ التَّقْوى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، فَيَكُونُ الْإِلْزَامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، أَيْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَفُوا بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقُضِ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ حَتَّى كَانَ الْمُشْرِكُونَ هم الَّذين ابتدأوا بِنَقْضِهِ. وَالْوَاوُ فِي وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ أَلْزَمَهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فِي حَالٍ كَانُوا فِيهِ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا مِمَّنْ لَمْ يَلْزَمُوهَا وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا التَّوْحِيدَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الْبَقَرَة: 143] .

[سورة الفتح (48) : آية 27]

وَجِيءَ بِفِعْلِ كَانُوا لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَقِّيَّةَ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ حَاصِلَةٌ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ فِي قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ مُتَهَيِّئَةً لِقَبُولِ كَلِمَةِ التَّقْوَى وَالْتِزَامِهَا بِمَا أَرْشَدَهَا اللَّهُ إِلَيْهِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَان دُونَ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ. وَأَهْلُ الشَّيْءِ مُسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كَلِمَةِ التَّقْوَى لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ ضَمَائِرَهُمْ وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَهَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ مِثْلُ الْأَحَقِّيَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي النَّاسِ وَكُلَّمَا اهْتَدَى أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَلَّ اهْتِدَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْإِسْلَامِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ، أَيْ وَسَبْقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ فِي عُمُومِ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَجْرَى تَكْوِينِهِ عَلَى نَحْو علمه. [27] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 27] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: 26] وَدَحْضُ مَا خَامَرَ نُفُوسَ فَرِيقٍ مِنَ الْفَشَلِ أَوِ الشَّكِّ أَوِ التَّحَيُّرِ وَتَبْيِينُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى كَشْفِ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ لِلْقَوْمِ فِي رُؤْيَا رَآهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَلِكَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رُؤْيَا قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ وَهُوَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: كَأَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ وَحَلَقُوا وَقَصَّرُوا. هَكَذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا مُجْمَلَةً لَيْسَ فِيهَا وُقُوعُ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَالْحِلَاقُ وَالتَّقْصِيرُ مُنَاسِبٌ لِكِلَيْهِمَا.

وَقَصَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِهَا وَعَبَرُوهَا أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ إِلَى مَكَّةَ بِعُمْرَتِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا لِأَجْلِهَا، فَلَمَّا جَرَى الصُّلْحُ وَتَأَهَّبَ النَّاسُ إِلَى الْقُفُولِ أَثَارَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ ذِكْرَ الرُّؤْيَا فَقَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا فو الله مَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا حَلَقْنَا وَقَصَّرْنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيُدْخَلُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنْ رُؤْيَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَا وَأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسَتُحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرَاءَةِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك الرُّؤْيَا أَيَامَئِذٍ وَفِي إِخْبَار الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ بِذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الثِّقَةَ بِقُوَّتِهِمْ وَتَرْبِيَةَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَتَسْلَمُ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَاءِ الْجُبْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ إِذَا اعْتَرَتِ النُّفُوسَ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتْرُكَ فِيهَا بَقَايَا الدَّاءِ زَمَانًا كَمَا تَبْقَى آثَارُ الْمَرَضِ فِي الْعُضْوِ الْمَرِيضِ بَعْدَ النَّقَاهَةِ زَمَانًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْعُضْوِ قُوَّتُهُ الْأُولَى بَعْدَ مُدَّةِ مُنَاسِبَةٍ. وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا؟ وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أَنَّهُ أَرَاهُ رُؤْيَا صَادِقَةً لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الْخَبَرِ فَوُصِفَتْ بِالصِّدْقِ لِذَلِكَ. وَهَذَا تَطْمِينٌ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لَمَّا يَحْصُلْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ. وَتَعْدِيَةُ صَدَقَ إِلَى مَنْصُوبٍ ثَانٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ مِنَ النَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الْمُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ حَذْفِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِالْعَمَلِ فِيهِ النَّصْبَ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: 23] . وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا الْحَقَّ، أَوْ وُقُوعٍ حَالًا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا وَقَعَ حَالًا مِنَ الرُّؤْيَا.

وَالْحَقُّ: الْغَرَضُ الصَّحِيحُ وَالْحِكْمَةُ، أَيْ كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً وَكَانَتْ مَجْعُولَةً مُحْكَمَةً وَهِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَجُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ صَدَقَ اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَى لَتَدْخُلُنَّ تَحْقِيقُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَا إِخْبَارٌ بِدُخُولٍ لَمْ يُعَيَّنْ زَمَنُهُ فَهِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِلَّذِينَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِذَلِكَ فَجَزَمُوا بِأَنَّ رُؤْيَا دُخُولِ الْمَسْجِدِ تَقْتَضِي دُخُولَهُمْ إِلَيْهِ أَيَّامَئِذٍ وَمَا ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنَ الرُّؤْيَا وَكَانَ حَقَّهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا وَعْدٌ لَمْ يُعَيَّنْ إِبَّانَ مَوْعُودِهِ وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيَدْخُلُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [100] وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِلرُّؤْيَا لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَسَمِ لَا تُلَائِمُ ذَلِكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَيْ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَحَالَةَ فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذَيَّلَ بِهِ الْخَبَرُ الْمُسْتَقْبَلُ إِذَا كَانَ حُصُولُهُ مُتَرَاخِيًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: افْعَلْ كَذَا، فَيَقُولُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ بَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ زَمَنٍ وَلَكِنْ مَعَ تَحْقِيقِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ. وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ [99] وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أَنَّ إِنْ شاءَ اللَّهُ لِلدُّخُولِ مَعَ تَقْدِيرِ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ. أَمَّا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يُنَاسِبُهُ هَذَا الْمَحْمَلُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنَصُّلَ مِنِ الْتِزَامِ الْوَعْدِ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ كَلِمَةِ إِنْ شاءَ اللَّهُ. فَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لِلثُّنْيَا لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ مَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ: عَدَمُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الَّتِي تَقَعُ مَوْقِعَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْفِعْلَ.

وَالْمَوْعُودُ بِهِ صَادِقٌ بِدُخُولِهِمْ مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمِنِينَ وَحَلَقَ بَعْضُهُمْ وَقَصَّرَ بَعْضٌ غَيْرَ خَائِفِينَ إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ دُخُولٍ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ، وَصَادِقٌ بِدُخُولِهِمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ فِيهِ أَظْهَرُ. وَأَمَّا دُخُولُهُمْ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهِ مُحْرِمِينَ. قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَلَمْ يَكُنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَاللَّهُ أعلم) . ومُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ آمِنِينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَمُقَصِّرِينَ وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَذَلِكَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْأَمْنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَكَتْ مَا رَآهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ، أَيْ يَحْلِقُ مَنْ رَامَ الْحَلْقَ وَيُقَصِّرُ مَنْ رَامَ التَّقْصِيرَ، أَيْ لَا يُعْجِلُهُمُ الْخَوْفُ عَنِ الْحَلْقِ فَيَقْتَصِرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ. وَجُمْلَةُ لَا تَخافُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِ آمِنِينَ تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُؤَسَّسَةً عَلَى أَنَّ آمِنِينَ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ تَدْخُلُّنَ وَأَنَّ لَا تَخافُونَ مَعْمُولٌ لِ آمِنِينَ، أَيْ آمَنِينَ أَمْنَ مَنْ لَا يَخَافُ، أَيْ لَا تَخَافُونَ غَدْرًا. وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ عَدُوِّهِمُ الَّذِي أَمنهم، وَهَذَا يومىء إِلَى حِكْمَةِ تَأْخِيرِ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ حَيْثُ يَزْدَادُونَ قُوَّةً وَاسْتِعْدَادًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهِمْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبَرِ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى دُخُولِهِمْ وَعَلَى الرُّؤْيَا الْمُؤْذِنَةِ بِدُخُولِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الْفَتْح: 18] . وَفِي إِيثَارِ فِعْلِ جَعَلَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَتَحَ لَكُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أَوْ نَحْوَهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْفَتْحَ أَمْرُهُ عَجِيبٌ مَا كَانَ لِيَحْصُلَ مِثْلُهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَهُ. وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي جَعَلَ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي، أَوْ لِأَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى قَدَّرَ. وَدون هُنَا بِمَعْنَى غير، وَمن (م) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ

[سورة الفتح (48) : آية 28]

بَيَانِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَجَعَلَ فَتْحًا قَرِيبًا لَكُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا وَعَدَكُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ آمِنِينَ. وَهَذَا الْفَتْحُ أَوَّلُهُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الَّذِي وَقَعَ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَهَذَا الْقَرِيبُ مِنْ وَقت الصُّلْح. [28] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 28] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِصِدْقِ الرُّؤْيَا بِأَنَّ الَّذِي أرسل رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الدِّينِ مَا كَانَ لِيُرِيَهُ رُؤْيَا صَادِقَةً. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِرَفِ (قَدْ) وَلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: 27] . وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ حُسْنُ مَوْقِعِ الضَّمِيرِ وَالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ غَالِبًا. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤْيا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ عِنْدَهُمْ حِينَ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ بِهِمَا فَخَامَرَتْهُمْ ظُنُونٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا الرَّسُولِ وَحَيٌ وَأَنَّ الْمُوحِيَ لَهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ يُرِيهِ رُؤْيَا غَيْرَ صَادِقَةٍ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ وَلَوْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَتَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَدْخَلُوا التَّرَدُّدَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْبَاءُ فِي بِالْهُدى لِلْمُصَاحَبَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلَ وَالْهُدَى أُطْلِقَ عَلَى مَا بِهِ الْهُدَى، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] ، وَقَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: 185] . وَعَطَفَ دِينِ الْحَقِّ عَلَى الْهُدَى لِيَشْمَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ وَحْيٍ بِكَلَامٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْإِعْجَازُ أَوْ كَانَ مِنْ سنّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهُدى أُصُولَ الدِّينِ مِنِ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهَا تَزْكِيَة النَّفس، ودِينِ الْحَقِّ: شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعُهُ.

[سورة الفتح (48) : آية 29]

وَاللَّامُ فِي لِيُظْهِرَهُ لِتَعْلِيلِ فِعْلِ أَرْسَلَ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، أَيْ أَرْسَلَهُ بِذَلِكَ لِيُظْهِرَ هَذَا الدِّينَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ السَّالِفَةِ وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَمَعْنَى يُظْهِرَهُ يُعْلِيهِ. وَالْإِظْهَارُ: أَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ ظَهَرَ بِمَعْنَى بَدَا، فَاسْتُعْمِلَ كِنَايَةً عَنِ الِارْتِفَاعِ الْحَقِيقِيِّ ثُمَّ أُطْلِقَ مَجَازًا عَنِ الشَّرَفِ فَصَارَ أَظْهَرَهُ بِمَعْنَى أَعْلَاهُ، أَيْ لِيُشَرِّفَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْقُرْآنِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] . وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى إِلَخِ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا صِدْقٌ ذَيَّلَ الْجُمْلَةَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ أَجْزَأَتْكُمْ شَهَادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِ الرُّؤْيَا إِلَى أَنْ تَرَوْا مَا صْدَقَهَا فِي الْإِبَّانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [79] . [29] [سُورَة الْفَتْح (48) : آيَة 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ لَمَّا بَيَّنَ صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَنْوِيهِ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ. ومُحَمَّدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ مُحَمَّدٌ يَعُودُ هَذَا الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ عَلَى قَوْله: رَسُولَهُ [الْفَتْح: 28] فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ الَّذِي وَصَفَهُ السَّكَّاكِيُّ بِالْحَذْفِ الَّذِي الِاسْتِعْمَالُ وَارِدٌ عَلَى تَرْكِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَتَرْكِ نَظَائِره. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» «وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرُوا رَجُلًا: فَتًى مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرُوا الدِّيَارَ أَوِ الْمَنَازِلَ رَبْعَ كَذَا وَكَذَا» . وَمِنْ أَمْثِلَةِ «الْمِفْتَاحِ» لِذَاكَ قَوْلُهُ: (فَرَاجِعْهُمَا) أَيِ الْعَقْلَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ

فَتًى غَيْرَ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ ... وَلَا مُظْهِرَ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ (¬1) إِذْ لَمْ يَقُلْ: هُوَ فَتًى. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْأَظْهَرُ هُنَا إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ أَنْ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: 27] إِلَى قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الْفَتْح: 28] فَيُعْتَبَرُ السَّامِعُ كَالْمُشْتَاقِ إِلَى بَيَانِ: مَنْ هَذَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ؟ فَيُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَيْ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَهَذَا مِنَ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِذكر مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتُعْتَبَرُ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفُ مُبْتَدَؤُهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ لَا تَخْفَى، وَالْأَحْسَنُ مِنْهَا هَذَا. وَفِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى إِبْطَالِ جَحُودِ الْمُشْرِكِينَ رِسَالَتَهُ حِينَ امْتَنَعُوا مِنْ أَنْ يُكْتَبَ فِي صَحِيفَةِ الصُّلْحِ «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالُوا: لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ» . وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مَعَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وأَشِدَّاءُ خَبَرًا عَنْهُ وَمَا بَعْدَهُ إِخْبَارٌ. وَالْمَقْصُودُ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى مَعَهُ: الْمُصَاحَبَةُ الْكَامِلَةُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّأْيِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ. وَالْمُرَادُ: أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ لَا خُصُوصُ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً فَقَدْ عُرِفُوا بِصِدْقِ مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ نَادِ يَا أَصْلَ السَّمُرَةِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ مَعَهُ عَطْفًا عَلَى رَسُولَهُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ [التَّوْبَة: 33] . وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلَ الَّذِينَ مَعَهُ، أَيْ أَصْحَابَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِرْسَالِ مَا يَشْمَلُ الْإِذْنَ لَهُمْ بِوَاسِطَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ¬

(¬1) البيتان لعبر الله بن الزبير (بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْمُوَحدَة) الْأَسدي.

إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 14] الْآيَةَ فَإِنَّ الْمُرْسَلِينَ إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، أَمَرَهُمْ عِيسَى بِنَشْرِ الْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ. فَيَكُونُ الْإِرْسَالُ الْبَعْثَ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَرْسَلْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وأَشِدَّاءُ: جَمْعُ شَدِيدٍ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالشِّدَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ صَلَابَةُ الْمُعَامَلَةِ وَقَسَاوَتُهَا، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ النَّارِ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيم: 6] . وَالشِّدَّةُ عَلَى الْكُفَّارِ: هِيَ الشِّدَّةُ فِي قِتَالِهِمْ وَإِظْهَارُ الْعَدَاوَةِ لَهُمْ، وَهَذَا وَصْفُ مَدْحٍ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا هُمْ فِئَةَ الْحَقِّ وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ إِلَّا إِظْهَارُ الْغَضَبِ لِلَّهِ وَالْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا مِنْ أَجْلِ إشراق أنوار النبوءة عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونُوا أَشَدَّ عَلَى الْكُفَّارِ فَإِنَّ بَيْنَ نُفُوسِ الْفَرِيقَيْنِ تَمَامَ الْمُضَادَّةِ وَمَا كَانَتْ كَرَاهِيَتُهُمْ لِلصُّلْحِ مَعَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي قَتْلِ أَسْرَاهُمُ الَّذِينَ ثَقِفُوهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَفَا عَنْهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ آثَارِ شِدَّتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ تَكُنْ لَاحَتْ لَهُمُ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى الْقَتْلِ الَّتِي آثرها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُحَاوَرَةً فِي إِبَاءِ الصُّلْحِ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ أَشِدَّائِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ أَفْهَمَهُمْ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي توخاها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبرام الصُّلْح أَبَا بَكْرٍ. وَقَدْ قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِعْلَهُ لَرَدَدْنَاهُ. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَكُونُ أَحْكَامُ الشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ وَأَحْكَامِ صُحْبَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ جَارِيَةً عَلَى مُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ وَلِعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيهَا مَقَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَالشِّدَّةُ عَلَى الْكُفَّارِ اقْتَبَسُوهَا مِنْ شدَّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَة: 128] . وَأَمَّا كَوْنُهُمْ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ فَذَلِكَ مِنْ رُسُوخِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ.

وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارُ أُخُوَّتِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْجَمْعِ لَهُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْخَلَّتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ الشِّدَّةِ وَالرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَصَالَةِ آرَائِهِمْ وَحِكْمَةِ عُقُولِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ تَصَرُّفَ الْحِكْمَةِ وَالرُّشْدِ فَلَا تَغْلِبُ عَلَى نُفُوسِهِمْ مَحْمَدَةٌ دُونَ أُخْرَى وَلَا يَنْدَفِعُونَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْجِبِلَّةِ وَعَدَمِ الرُّؤْيَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [54] . وَفِي تَعْلِيقِ رُحَماءُ مَعَ ظَرْفِ (بَيْنَ) الْمُفِيدِ لِلْمَكَانِ الدَّاخِلِ وَسَطَ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ تَنْبِيهٌ عَلَى انْبِثَاثِ التَّرَاحُمِ فِيهِمْ جَمِيعًا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَجِدُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ اشْتَكَى لَهُ جَمِيعُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وَالْخِطَابُ فِي تَراهُمْ لِغَيْرٍ مُعَيَّنٍ بَلْ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ يَرَاهُمُ الرَّائِي. وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، أَيْ تَرَاهُمْ كُلَّمَا شِئْتَ أَنْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِشِدَّةِ إِقْبَالِهِمْ عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ مَفْرُوضُهَا وَنَافِلَتُهَا وَأَنَّهُمْ يتطلبون بذلك رضى اللَّهِ وَرِضْوَانِهُ. وَفِي سَوْقِ هَذَا فِي مَسَاقِ الثَّنَاءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ حَقَّقَ لَهُمْ مَا يَبْتَغُونَهُ. وَالسِّيمَا: الْعَلَّامَةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي الْبَقَرَةِ [273] وَهَذِهِ سِيمَا خَاصَّةٌ هِيَ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنَ السِّيمَا الَّتِي وُصِفَتْ بِأَنَّهَا مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ الْأَوَّلِ: أَنَّهَا أَثَرٌ مَحْسُوسٌ لِلسُّجُودِ، الثَّانِي أَنَّهَا مِنَ الْأَثَرِ النَّفْسِيِّ لِلسُّجُودِ، الثَّالِثِ أَنَّهَا أَثَرٌ يَظْهَرُ فِي وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبِالْأَوَّلِ فَسَّرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ مَالِكٌ: السِّيمَا هِيَ مَا

يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ مِثْلَ مَا تَعَلَّقَ بجبهة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَثَرِ الطِّينِ وَالْمَاءِ لَمَّا وَكَفَ الْمَسْجِدَ صَبِيحَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ السَّعِيدُ وَعِكْرِمَةُ: الْأَثَرُ كَالْغُدَّةِ يَكُونُ فِي جَبْهَةِ الرَّجُلِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ حُدُوثَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ وَلَكِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِسَبَبِ تَكَرُّرِ مُبَاشَرَةِ الْجَبْهَةِ لِلْأَرْضِ وَبَشَرَاتُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي التَّأَثُّرِ بِذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَكَلَّفُهُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ رِيَاءً. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْأَثْوَابِ. وَإِلَى النَّحْوِ الثَّانِي فَسَّرَ الْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ وَمُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جَزْءٍ وَالضَّحَّاكُ. فَقَالَ الْأَعْمَشُ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ عَنْ عَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ حُسْنُ السَّمْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نُورٌ مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: بَيَاضٌ وَصُفْرَةٌ وَتَهَيُّجٌ يَعْتَرِي الْوُجُوهَ مِنَ السَّهَرِ. وَإِلَى النَّحْوِ الثَّالِثِ فَسَّرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَخَالِدٌ الْحَنَفِيُّ وَعَطِيَّةُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: أَنَّهَا سِيمَا تَكُونُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالُوا: هِيَ بَيَاضٌ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ كَرَامَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الْفَتْح: 29] النُّورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قِيلَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَعْطِيلَ بَقِيَّةِ الِاحْتِمَالَاتِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ السِّيمَا الْمَحْمُودَةِ ولكنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَعْلَاهَا. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: تَراهُمْ ويَبْتَغُونَ وسِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِينَ مَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى كُلٍّ مِنْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.

ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ. الْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ السَّابِقَ فِي الذِّكْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ فَيُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ ومَثَلُهُمْ خَبَرُهُ. وَالْمَثَلُ يُطْلَقُ عَلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّظِيرِ، أَيِ الْمُشَابِهِ فَإِنْ كَانَ هُنَا مَحْمُولًا عَلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ هِيَ حَالُهُمُ الْمَوْصُوفُ فِي «التَّوْرَاةِ» . وَقَوْلُهُ: فِي التَّوْراةِ مُتَعَلِّقٌ بِ مَثَلُهُمْ أَوْ حَالٌ مِنْهُ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ فِي «التَّوْرَاةِ» وَصْفَ قَوْمٍ سَيَأْتُونَ وَوُصِفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِي «التَّوْرَاةِ» ، أَيْ أَنَّ «التَّوْرَاةَ» قَدْ جَاءَتْ فِيهَا بِشَارَةٌ بمجيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصْفِ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي «التَّوْرَاةِ» مِمَّا يَصْلُحُ لِتَطْبِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْبِشَارَةُ الرَّمْزِيَّةُ الَّتِي فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَلَاثِينَ مِنْ «سِفْرِ التَّثْنِيَةِ» مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَا وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرٍ وَتَلَأْلَأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِ الْقُدُسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارٌ شَرِيعَةٌ لَهُمْ فَأَحَبَّ الشَّعْبُ جَمِيعَ قِدِّيسِيهِ وَهُمْ جَالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ يَتَقَبَّلُونَ مِنْ أَقْوَالِكَ» فَإِنَّ جَبَلَ فَارَانَ هُوَ حِيَالُ الْحِجَازِ. وَقَوْلُهُ: «فَأَحَبَّ الشَّعْبُ جَمِيعَ قِدِّيسِيهِ» يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ وَقَوْلُهُ: قِدِّيسِيهِ يُفِيدُ مَعْنَى تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الْفَتْح: 29] وَمَعْنَى سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الْفَتْح: 29] . وَقَوْلُهُ فِي «التَّوْرَاةِ» «جَالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ» يُفِيدُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [الْحَشْر: 8] . وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفِ. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مُبْتَدَأٍ. وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فِي التَّوْراةِ وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ:

كَزَرْعٍ خَبَرُهُ، وَهُوَ الْمَثَلُ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فَيَكُونُ مُشِيرًا إِلَى نَحْوِ قَوْلِهِ فِي «إِنْجِيلِ مَتَّى» الْإِصْحَاحِ 13 فِقْرَةِ 3 «هُوَ ذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ» إِلَى أَنْ قَالَ «وَسَقَطَ الْآخَرُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرُهُ بَعْضَ مِائَةٍ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ» . قَالَ فِقْرَةً، ثُمَّ قَالَ: «وَأَمَا الْمَزْرُوعُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِائَةً وَبَعْضٌ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ» . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ نَمَاءَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الدِّينِ حَتَّى يَكْثُرَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا تُنْبِتُ الْحَبَّةُ مِائَةَ سُنْبُلَةٍ وَكَمَا تَنْبُتُ مِنَ النَّوَاةِ الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ. وَفِي قَوْلِهِ: أَخْرَجَ شَطْأَهُ اسْتِعَارَةُ الْإِخْرَاجِ إِلَى تَفَرُّعِ الْفِرَاخِ مِنَ الْحَبَّةِ لِمُشَابَهَةِ التَّفَرُّعِ بِالْخُرُوجِ وَمُشَابَهَةِ الْأَصْلِ الْمُتَفَرَّعِ عَنْهُ بِالَّذِي يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ مَكَانٍ. وَالشَّطْءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَسُكُونِ الطَّاءِ: فِرَاخُ الزَّرْعِ وَفُرُوعُ الْحَبَّةِ. وَيُقَالُ: أَشْطَأَ الزَّرْعُ، إِذَا أَخْرَجَ فُرُوعًا. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِسُكُون الطَّاء وبالهمزة وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ شَطْأَهُ بِفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى تَخْفِيفِ الْهمزَة ألفا. وفَآزَرَهُ قَوَّاهُ، وَهُوَ مِنَ الْمُؤَازَرَةِ بِالْهَمْزِ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْإِزَارِ لِأَنَّهُ يَشُدُّ ظَهْرَ الْمُتَّزِرِ بِهِ وَيُعِينُهُ شَدُّهُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْحَمْلِ كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِزَارُ مُشْتَقًّا اسْمُهُ مِنْ: آزَرَ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ نَادِرٌ لَا يُصَار إِلَى ادعائه إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ. وَصِيغَةُ المفاعلة فِي فَآزَرَهُ مُسْتَعَارَةٌ لِقُوَّةِ الْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها [فصلت: 10] . وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي فَآزَرَهُ لِلشَّطْءِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلزَّرْعِ، أَيْ قَوَّى الشَّطْءُ أَصْلَهُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَآزَرَهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فَأَزَّرَهُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ وَالْمَعْنَى وَاحِد. وَمعنى فَاسْتَغْلَظَ غَلُظَ غِلْظًا شَدِيدًا فِي نَوْعِهِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ: اسْتَجَابَ. وَالضَّمِيرَانِ المرفوعان فِي فَاسْتَغْلَظَ واستوى عَائِدَانِ إِلَى الزَّرْعِ. وَالسَّوَقُ: جَمْعُ سَاقٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ سَاقًا لَيْسَ بِوَصْفٍ وَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقِرَاءَةُ الْجَمِيعِ عَلى سُوقِهِ بِالْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَ ابْن كثير سُوقِهِ بِالْهَمْزَةِ أَيْ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ الْمَضْمُومَةِ وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ يَهْمِزُونَ الْوَاوَ الَّتِي قَبْلَهَا ضَمَّةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ (¬1) : لَحَبُّ الْمُؤْقِدَانِ إِلَيَّ مُؤْسَى وَتُنْسَبُ لِقُنْبُلٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «حِرْزِ الْأَمَانِي» وَذَكَرَهَا النَوْرِيُّ فِي كِتَابِ «غَيْثِ النَّفْعِ» وَكَلَامُهُ غَيْرُ وَاضِحٍ فِي صِحَّةِ نِسْبَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى قُنْبُلٍ. وَسَاقُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرَةِ: الْأَصْلُ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ السُّنْبُلُ وَالْأَغْصَانُ. وَمَعْنَى هَذَا التَّمْثِيلِ تَشْبِيه حَال بده الْمُسْلِمِينَ وَنَمَائِهِمْ حَتَّى كَثُرُوا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ بَدْءِ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَعِيفًا وَتَقَوِّيهِ يَوْمًا فَيَوْمًا حَتَّى اسْتَحْكَمَ أَمْرُهُ وَتَغَلَّبَ عَلَى أَعْدَائِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِاعْتِبَارِ تَجْزِئَةِ التَّشْبِيهِ فِي أَجْزَائِهِ بِأَنْ يشبه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزَّارِعِ ¬

(¬1) هُوَ جرير، وَتَمام الْبَيْت: وجعدة إِذا أضاءهما الْوقُود وتقدّم عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [4] . وَالْبَيْت من قصيدة فِي مدح هِشَام بن عبد الْملك.

كَمَا مَثَّلَ عِيسَى غَلَبَ الْإِسْلَامَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَيُشبه الْمُؤْمِنُونَ الْأَولونَ بِحَبَّاتِ الزَّرْعِ الَّتِي يَبْذُرُهَا فِي الْأَرْضِ مِثْلِ: أَبِي بَكْرٍ وَخَدِيجَةَ وَعَلِيٍّ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ، وَالشَّطْءُ: مَنْ أَيَّدُوا الْمُسْلِمِينَ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ نَفَرٌ قَلِيلٌ ثُمَّ قَوَّاهُ اللَّهُ بِمَنْ ضَامَنَ مَعَهُ كَمَا يُقَوِّي الطَّاقَةَ الْأَوْلَى مِنَ الزَّرْعِ مَا يَحْتَفُّ بِهَا مِمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا حَتَّى يُعْجِبَ الزُّرَّاعَ. وَقَوْلُهُ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ تَحْسِينٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ لِيُفِيدَ تَحْسِينَ الْمُشَبَّهِ. لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ تَمْثِيلُهُمْ بِالزَّرْعِ الْمَوْصُوفِ مِنْ نَمَائِهِمْ وَتَرَقِّيهِمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهَا فَمَثَّلْ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَبُو عُرْوَةَ الزُّبَيْرِيُّ (¬1) : كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَذَكَرُوا عِنْدَهُ رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَرَأَ مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقُلْتُ: رَحِمَ اللَّهُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَرَضِيَ عَنْهُ مَا أَدَقَّ اسْتِنْبَاطَهُ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. أَعْقَبَ تَنْوِيهَ شَأْنِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِوَعْدِهِمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَهَا الْأَثَرُ الْمَتِينُ فِي نَشْرِ وَنَصْرِ هَذَا الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلْبَيَانِ كَقَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَج: 30] ¬

(¬1) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: من ولد الزبير، قلت لَعَلَّه سعيد بن عمر الزبيرِي الْمدنِي من أَصْحَاب مَالك، تَرْجمهُ فِي المدارك وَلم يذكر كنيته.

وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ وَعْدٌ لِكُلِّ مَنْ يَكُونُ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ ذِكْرُ (مِنْ) تَحْذِيرًا وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ لِجَمِيعِهِمْ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَصْحَاب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ خِيرَةُ الْمُؤْمِنِينَ.

49- سورة الحجرات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 49- سُورَةُ الْحُجُرَاتِ سُمِّيَتْ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيرِ سُورَةَ الْحُجُرَاتِ وَلَيْسَ لَهَا اسْمٌ غَيْرُهُ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُ الْحُجُرَاتِ. وَنَزَلَتْ فِي قِصَّةِ نِدَاءِ بَنِي تَمِيمٍ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ، فَعُرِفَتْ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَيْ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَحَكَى السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا شَاذًّا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ. وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ آيَاتِهَا. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَوَّلُ آيِهَا فِي شَأْنِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] . وَعَدَّ جَمِيعُ الْعَادِّينَ آيَهَا ثَمَانَ عَشْرَةَ آيَةً. أَغْرَاضُ هَاتِهِ السُّورَةِ تَتَعَلَّقُ أَغْرَاضُهَا بِحَوَادِثَ جَدَّتْ مُتَقَارِبَةً كَانَتْ سَبَبًا لِنُزُولِ مَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامٍ وَآدَابٍ. وَأَوَّلُهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

مُعَامَلَتِهِ وَخِطَابِهِ وَنِدَائِهِ، دَعَا إِلَى تَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهَا مَا ارْتَكَبَهُ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ جَفَاءِ الْأَعْرَابِ لَمَّا نادوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُيُوتِهِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] . وَوُجُوبِ صِدْقِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ. وَالتَّثَبُّتِ فِي نَقْلِ الْخَبَرِ مُطْلَقًا وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُجَانَبَةِ أَخْلَاقِ الْكَافِرِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَتَطَرَّقَ إِلَى مَا يَحْدُثُ مِنَ التَّقَاتُلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ آدَابِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا خُلُقِ الْكُفْرِ فِي بَعْضِ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ تَقْوِيمًا لِأَوَدِ نُفُوسِهِمْ. وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] : هَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهِيَ إِمَّا مَعَ اللَّهِ أَوْ مَعَ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَو مَعَ غير هما من أنباء الْجِنْسِ، وَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدَاخِلِينَ فِي رُتْبَةِ الطَّاعَةِ أَوْ خَارِجِينَ عَنْهَا وَهُوَ الْفُسُوقُ، وَالدَّاخِلُ فِي طَائِفَتِهِمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَهُمْ أَوْ غَائِبًا عَنْهُمْ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، قَالَ: فَذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَرْشَدَ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مِنْ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَسَنَأْتِي عَلَى بَقِيَّةِ كَلَامِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أَوَّلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَيُسَمَّى الْمُحْكَمُ عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَفِي مَبْدَأِ الْمُفَصَّلِ عِنْدَنَا أَقْوَالٌ عَشَرَةٌ أَشْهَرُهَا قَوْلَانِ قِيلَ: إِنَّ مَبْدَأَهُ سُورَةُ ق وَقِيلَ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ، وَفِي مَبْدَأِ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ سُورَةُ عَبَسَ، وَفِي قِصَارِهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا مِنْ سُورَةِ وَالضُّحَى. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي مَبْدَأِ الْمُفَصَّلِ عَلَى أَقْوَالٍ اثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمُصَحَّحُ أَنَّ أَوَّلَهُ مِنَ

[سورة الحجرات (49) : آية 1]

الْحُجُرَاتِ، وَأَوَّلَ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ سُورَةُ الطَّارِقِ، وَأَوَّلَ الْقِصَارِ سُورَةُ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الزلزلة: 1] . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيلَ: أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ، وَقِيلَ سُورَةُ ق، وَرَجَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ كَمَا سَيَأْتِي. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ سُورَةُ ق. وَالْمُفَصَّلُ هُوَ السُّورُ الَّتِي تُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ بِبَعْضِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كتب الْفِقْه. [1] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الِافْتِتَاحُ بِنِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا يَرِدُ بَعْدَ ذَلِكَ النِّدَاءِ لِتَتَرَقَّبَهُ أَسْمَاعُهُمْ بِشَوْقٍ. وَوَصْفُهُمْ بِ الَّذِينَ آمَنُوا جَارٍ مَجْرَى اللَّقَبِ لَهُمْ مَعَ مَا يُؤْذِنُ بِهِ أَصْلُهُ مِنْ أَهْلِيَّتِهِمْ لِتَلَقِّي هَذَا النَّهْيِ بِالِامْتِثَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَغْرَاضِ السُّورَةِ أَنَّ الْفَخْرَ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهِيَ إِمَّا فِي جَانِبِ اللَّهِ أَوْ جَانب رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِجَانِبِ الْفُسَّاقِ أَوْ بِجَانِبِ الْمُؤْمِنَ الْحَاضِرِ أَوْ بِجَانِبِ الْمُؤْمِنَ الْغَائِبِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، فَذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْشَدَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مَعَ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ إِلَخْ، فَهَذَا النِّدَاءُ الْأَوَّلُ انْدَرَجَ فِيهِ وَاجِبُ الْأَدَبِ مَعَ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْرِضُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا. وَالتَّقَدُّمُ حَقِيقَتُهُ: الْمَشْيُ قَبْلَ الْغَيْرِ، وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ: قَدَمَ مِنْ بَابِ نَصَرَ قَالَ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: 98] . وَحَقُّ قَدَّمَ بِالتَّضْعِيفِ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ وَإِنَّمَا يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِحَرْفِ عَلَى.

وَيُقَالُ: قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ قَدَّمَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مُضَاعَفٌ صَارَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ. فَمَعْنَى لَا تُقَدِّمُوا لَا تَتَقَدَّمُوا. فَفِعْلُ لَا تُقَدِّمُوا مُضَارِعُ قَدَّمَ الْقَاصِرَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِهَذَا الْفِعْلِ مَفْعُولٌ، وَمِنْهُ اشْتُقَّتْ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ لِلْجَمَاعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْهُ وَهِيَ ضِدُّ السَّاقَّةِ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ الطَّائِفَةَ مِنْهُ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْكِتَابِ. وَمَادَّةُ فَعَّلَ تَجِيءُ بِمَعْنَى تَفَعَّلَ مِثْلَ وَجَّهَ بِمَعْنَى تَوَجَّهَ وَبَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. وَالتَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا دُونَ إِذْنٍ مِنَ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ يَتَقَدَّمُ مُمَاشِيَهُ فِي مَشْيِهِ وَيَتْرُكُهُ خَلْفَهُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الِانْفِرَادُ عَنْهُ فِي الطَّرِيقِ. وَالنَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْذِيرِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ صُدُورُ فِعْلٍ من أحد افتياتا عَلَى الشَّرْعِ. وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذَا التَّقَدُّمَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ فِي حَالَةِ إِمْكَانِ التَّرَقُّبِ وَالتَّمَكُّنِ مِنِ انْتِظَارِ مَا يبرمه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْر الله فيومىء إِلَى أَنَّ إِبْرَامَ الْأَمْرِ فِي غيبَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَرَجَ فِيهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ. وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ قِسْمِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّذِينَ تُعْرَضُ لَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ إِبْرَامِ شَيْءٍ دُونَ إِذْنٍ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرَ قَبْلَهُ اسْمُ اللَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قبل الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُقَدِّمُوا إِلَخْ مَعْنَى اتَّبِعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» فِي قِصَّةِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرْ عَلَيْهِمُ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدَ بْنَ زُرَارَةَ. وَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي أَوْ إِلَى خِلَافِي قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ

خِلَافَكَ أَوْ إِلَى خِلَافِكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَنَزَلَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 1، 2] . فَهَذِهِ الْآيَةُ تَوْطِئَةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ وَنِدَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ بَعْثِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَقَتَلَتْ بَنُو عَامِرٍ رِجَالَ السَّرِيَّةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ نَجَوْا فَلَقُوا رجلَيْنِ من بَين سُلَيْمٍ فَسَأَلُوهُمَا عَنْ نِسْبَتِهِمَا فَاعْتَزَيَا إِلَى بَنِي عَامِرٍ ظَنًّا مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِزَاءَ أَنْجَى لَهُمَا مِنْ شَرٍّ تَوَقَّعَاهُ لِأَنَّ بَنِي عَامِرٍ أَعَزُّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَتَلُوا النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ وَسَلَبُوهُمَا ثُمَّ أَتَوْا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: «بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ كَانَا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَالسَّلْبُ مَا كَسَوْتُهُمَا» أَيْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى السَّلْبَ فَعَرَّفَهُ بِأَنَّهُ كَسَاهُمَا إِيَّاهُ وَكَانَتْ تِلْكَ الْكِسْوَةُ عَلَامَةً عَلَى الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَوَادَّهُمَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا الْآيَةَ، أَيْ لَا تَعْمَلُوا شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ فِي التَّصَرُّفِ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَسْتَأْمِرُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الْقِصَّةُ جَرَتْ قُبَيْلَ قِصَّةِ بَنِي تَمِيمٍ فَقُرِنَتْ آيَتَاهُمَا فِي النُّزُولِ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا لَا تُنَاسِبُ مَوْقِعَ الْآيَةِ مَعَ الْآيَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فَهِيَ عَامَّةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ جَمِيعِ أَحْوَالِ التَّقَدُّمِ الْمُرَادِ. وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ مُقَدَّمَةً عَلَى تَوْبِيخِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ حِينَ نادوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ لِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ مُمَارَاةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَارْتِفَاعَ أَصْوَاتِهِمَا كَانَتْ فِي قَضِيَّةِ بَنِي تَمِيمٍ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء الْآيَةَ، لِأَنَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُظْوَةِ، أَيْ جَعَلَ إِبْرَامَ الْعَمَلِ بِدُونِ أَمْرِهِ كَإِبْرَامِهِ بِدُونِ أَمْرِ اللَّهِ حَقِيقٌ بِالتَّهَيُّبِ وَالْإِجْلَالِ أَنْ يُخْفَضَ الصَّوْتُ لَدَيْهِ.

وَإِنَّمَا قَدَّمَ هَذَا عَلَى تَوْبِيخِ الَّذِينَ نادوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ إِذْ هُوَ تَأْدِيبُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّهْذِيبِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تُقَدِّمُوا بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: لَا تَتَقَدَّمُوا. وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ فِيهَا إِرْشَادَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَهِيَ: إِمَّا مَعَ اللَّهِ أَوْ مَعَ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمَا مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ وَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ لِأَنَّهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنْهَا بِالْفِسْقِ وَالدَّاخِلُ فِي طَرِيقَتِهِمْ: إِمَّا حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ، أَوْ غَائِبٌ عَنْهُمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَرْشَدَ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مِنْ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. فَقَالَ أَوَّلًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ تَشْمَلُ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ الرَّسُولُ مَعَهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِ الرَّسُولِ فَهَذِهِ طَاعَةٌ لِلرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ ثَانِيًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء [الحجرات: 2] لِبَيَانِ الْأَدَبِ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَاتِهِ فِي بَابِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَقَالَ ثَالِثًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الْآيَةَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ سُلُوكِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ يُعْرَفُ بِالْخُرُوجِ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَهِيَ طَرِيقَةُ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ لِأَنَّ عَمَلَهُ إِفْسَادٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ، وَأَعْقَبَهُ بِآيَةِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] . وَقَالَ رَابِعًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَة: 229] فَنَهَى عَمَّا يُكْثِرُ عَدَمَ الِاحْتِفَاظِ فِيهِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الَّتِي قَلَّمَا يُقَامُ لَهَا وَزْنٌ. وَقَالَ خَامِسًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِلَى قَوْلِهِ: تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12] اهـ. وَيُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مِثَالًا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِحَسَبِ مَا

[سورة الحجرات (49) : آية 2]

اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ بِمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَجَلِّهِ ابْتِدَاءً لِيَكُونَ كُلُّ مِثَالٍ مِنْهَا دَالًّا عَلَى بَقِيَّةِ نَوْعِهِ وَمُرْشِدًا إِلَى حُكْمِ أَمْثَالِهِ دُونَ كُلْفَةٍ وَلَا سَآمَةٍ. وَقَدْ سَلَكَ الْقُرْآنُ لِإِقَامَةِ أَهَمِّ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ طَرِيقَ النَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ. وَعَطْفُ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَكْمِلَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ إِبْرَامِ شَيْءٍ دُونَ إِذن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ، أَيْ ضِدُّهُ لَيْسَ مِنَ التَّقْوَى وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ. وَالسَّمِيعُ: الْعَلِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْعَلِيمُ أَعَمُّ وَذَكَرَهَا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ كِنَايَةً عَنِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ للنَّهْي وَالْأَمر. [2] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 2] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِعَادَةُ النِّدَاءِ ثَانِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْغَرَضِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ غَرَضٌ جَدِيرٌ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ حَتَّى لَا يَنْغَمِرَ فِي الْغَرَضِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ آدَابِ سُلُوكِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعَاملَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُقْتَضَى التَّأَدُّبِ بِمَا هُوَ آكَدُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَهَذَا أَيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] وَإِلْقَاءٌ لِتَرْبِيَةٍ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ لِمُنَاسَبَةِ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ خَبَرِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ. وَالرَّفْعُ: مُسْتَعَارٌ لِجَهْرِ الصَّوْتِ جَهْرًا مُتَجَاوِزًا لِمُعْتَادِ الْكَلَامِ، شَبَّهَ جَهْرَ الصَّوْتِ بِإِعْلَاءِ الْجِسْمِ فِي أَنَّهُ أَشَدُّ بُلُوغًا إِلَى الْأَسْمَاعِ كَمَا أَنَّ إِعْلَاءَ الْجِسْمِ أَوْضَحُ لَهُ فِي الْإِبْصَارِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، أَوْ شَبَّهَ إِلْقَاءَ الْكَلَامِ بِجَهْرٍ قَوِيٍّ بِإِلْقَائِهِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ كَالْمِئْذَنَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ.

وَ (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ) تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ لَا تَرْفَعُوا وَهُوَ فَوْقٌ مَجَازِيٌّ أَيْضًا. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ أَصْواتَكُمْ، أَيْ مُتَجَاوِزَةً صَوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مُتَجَاوِزَةَ الْمُعْتَادِ فِي جَهْرِ الْأَصْوَاتِ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِجَهْرٍ مُعْتَادٍ. وَلَا مَفْهُومَ لِهَذَا الظَّرْفِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا رفع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِمِقْدَارِ رَفْعِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَبِحَضْرَتِهِ إِذَا كَلَّمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا وَقع فِي سُورَة سَبَبِ النُّزُولِ. وَلَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا النَّهْيِ مَعْنَى الْأَمْرِ بِتَخْفِيضِ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا سُكُوتًا عِنْدَهُ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ (وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ) . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ «كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَهَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْجَهْرِ فِيهَا كَالْأَذَانِ وَتَكْبِيرِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَبِغَيْرِ مَا أَذِنَ فِيهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْنًا خَاصًّا كَقَوْلِهِ لِلْعَبَّاسِ حِينَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «نَادِ يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» وَكَانَ الْعَبَّاسُ جَهِيرَ الصَّوْتِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ نُهِيَ عَنْ جَهْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْجَهْرُ بِالصَّوْتِ عِنْدَ خطابهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوبِ التَّغَايُرِ بَيْنَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ وَمُقْتَضَى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ.

وَاللَّامُ فِي لَهُ لِتَعْدِيَةِ تَجْهَرُوا لِأَنَّ تَجْهَرُوا فِي مَعْنَى: تَقُولُوا، فَدَلَّتِ اللَّامُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَهْرَ يَتَعَلَّقُ بِمُخَاطَبَتِهِ، وَزَادَهُ وُضُوحًا التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ. وَفِي هَذَا النَّهْيِ مَا يَشْمَلُ صَنِيعَ الَّذِينَ نادوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَيَكُونُ تَخَلُّصًا مِنَ الْمُقَدِّمَةِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، وَيَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] . وأَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ فِي مَحَلِّ نَصَبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا لِلنَّهْيِ، أَيْ أَنَّ الْجَهْرَ لَهُ بِالْقَوْلِ يُفْضِي بِكُمْ إِنْ لَمْ تَكُفُّوا عَنْهُ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، فَحَبْطُ الْأَعْمَال بذلك مَا يُحْذَرُ مِنْهُ فَجَعَلَهُ مَدْخُولًا للام التَّعْلِيل مَصْرُوف عَنْ ظَاهِرٍ. فَالتَّقْدِيرُ: خَشْيَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، كَذَا يُقَدِّرُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ. وَالْكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَهُ بِتَقْدِيرِ (لَا) النَّافِيَةِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ عَلَى حَسَبِ الظَّاهِرِ. وَالْحَبْطُ: تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِسَبَبِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَبِطَتِ الْإِبِلُ إِذَا أَكَلَتِ الْخُضْرَ فَنَفَخَ بُطُونَهَا وَتَعْتَلُّ وَرُبَّمَا هَلَكَتْ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبْطًا أَوْ يُلِمُّ» . وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَة: 5] . وَظَاهِرُ الْآيَةِ التَّحْذِيرُ مِنْ حَبْطِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُضَافَ مِنْ صِيغِ الْعُمُومِ وَلَا يَكُونُ حَبْطُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ إِلَّا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانَ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ عَدَمَ الِاحْتِرَازِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ قَدْ يُفْضِي بِفَاعِلِهِ إِلَى إِثْمٍ عَظِيمٍ يَأْتِي عَلَى عَظِيمٍ مِنْ صَالِحَاتِهِ أَوْ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى الْوَحْشَةِ فِي نُفُوسِكُمْ فَلَا تَزَالُ مُعْتَقَدَاتُكُمْ تَتَدَرَّجُ الْقَهْقَرَى حَتَّى يؤول ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ فَحَبْطِ الْأَعْمَالِ. وَأَقُولُ: لِأَنَّ عَدَمَ الِانْتِهَاءِ عَنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّدُ النَّفْسَ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ فَلَا تَزَالُ تَزْدَادُ مِنْهُ وَينْقص توفير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّفْسِ وتتولى من سيّىء إِلَى أَشَدَّ مِنْهُ حَتَّى يؤول إِلَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالتَّأَدُّبِ مَعَهُ وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَهَذَا مَعْنَى وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ

[سورة الحجرات (49) : آية 3]

لِأَنَّ الْمُنْتَقل من سيّىء إِلَى أَسْوَأَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ آخِذٌ فِي التَّمَلِّي مِنَ السُّوءِ بِحُكْمِ التَّعَوُّدِ بِالشَّيْءِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى تَغْمُرَهُ الْمَعَاصِي وَرُبَّمَا كَانَ آخِرُهَا الْكُفْرَ حِينَ تَضْرَى النَّفْسُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَبْطُ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى حُصُولَ حَطِيطَةٍ فِي أَعْمَالِهِمْ بِغَلَبَةِ عِظَمِ ذَنْبِ جَهْرِهِمْ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْحَبْطِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. فَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ تَنْبِيهٌ إِلَى مَزِيدِ الْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْمُهْلِكَاتِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ دُرْبَةً حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، وَلَيْسَ عَدَمُ الشُّعُورِ كَائِنًا فِي إِتْيَانِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لِامْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الغافل وَنَحْوه. [3] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 3] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ، أَيْ مُصَاحِبِ السِّرِّ مِنَ الْكَلَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الحجرات: 2] إِلَخْ يُثِيرُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ ضِدِّ حَالِ الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَجَزَاءِ عَمَلِهِمْ، وَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلَ النَّهْيَيْنِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنْ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا وَأَكَّدَ هَذَا الِاهْتِمَامَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى مَعَ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ مُحَصِّلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ وَقَوْلِهِ: وَلا تَجْهَرُوا [الحجرات: 2] الْأَمْرُ بِخَفْضِ الصَّوْتِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّضِحُ لَكَ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ نَوْطِ

الثَّنَاءِ هُنَا بِعَدَمِ رَفْعِ الصَّوْتِ وَعَدَمِ الْجَهْرِ عِنْد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَوْطِهِ بِغَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ. وَالْغَضُّ حَقِيقَتُهُ: خَفْضُ الْعَيْنِ، أَيْ أَنْ لَا يُحَدِّقَ بِهَا إِلَى الشَّخْصِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِخَفْضِ الصَّوْتِ وَالْمِيلِ بِهِ إِلَى الْإِسْرَارِ. وَالِامْتِحَانُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ مَحَنَهُ، إِذَا اخْتَبَرَهُ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ: اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلتَّقْوَى لَامُ الْعِلَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِأَجْلِ التَّقْوَى، أَيْ لِتَكُونَ فِيهَا التَّقْوَى، أَيْ لِيَكُونُوا أَتْقِيَاءَ، يُقَالُ: امْتُحِنَ فُلَانٌ لِلشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ كَمَا يُقَالُ: جُرِّبَ لِلشَّيْءِ وَدُرِّبَ لِلنُّهُوضِ بِالْأَمْرِ، أَيْ فَهُوَ مُضْطَلِعٌ بِهِ لَيْسَ بِوَانٍ عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الِامْتِحَانَ كِنَايَةً عَلَى تَمَكُّنِ التَّقْوَى مِنْ قُلُوبِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُوجِدُونَ فِي حَالٍ مَا غَيْرَ مُتَّقِينَ وَهِيَ كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ لِكَوْنِ الِانْتِقَالِ بَعْدَهُ لَوَازِمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُ امْتَحَنَ مَجَازًا مُرْسَلًا عَنِ الْعِلْمِ، أَيْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ مُتَّقُونَ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِلتَّقْوى مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ قُلُوبٍ، أَيْ كَائِنَةً لِلتَّقْوَى، فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ. وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ خَبَرُ إِنَّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنِفَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» خَبَرَ إِنَّ هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَعَ خَبَرِهِ وَجَعَلَ جُمْلَةَ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةً وَلِكُلٍّ وَجْهٌ فَانْظُرْهُ. وَقَالَ: «وَهَذِهِ الْآيَةُ بِنَظْمِهَا الَّذِي رُتِّبَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاعِ الْغَاضِّينَ أَصْوَاتَهُمُ اسْمًا لِ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ وَتَصْيِيرُ خَبَرِهَا جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مَعْرِفَتَيْنِ مَعًا. وَالْمُبْتَدَأُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَاسْتِئْنَافُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَوْدَعَةِ مَا هُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَإِيرَادُ الْجَزَاءِ نَكِرَةً مُبْهَمًا أَمْرُهُ نَاظِرَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى غَايَةِ الِاعْتِدَادِ وَالِارْتِضَاءِ لِمَا فَعَلَ الَّذِينَ وَقَّرُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْإِعْلَامِ بِمَبْلَغِ عِزَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَقَدْرِ شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ» اهـ. وَهَذَا الْوَعْدُ وَالثَّنَاءُ يَشْمَلَانِ ابْتِدَاءَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا يُكَلِّمُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَخِي السّرار.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 إلى 5]

[سُورَة الحجرات (49) : الْآيَات 4 إِلَى 5] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات: 2] بَيَانًا بِالْمِثَالِ وَهُوَ سَبَبُ النُّزُولِ. فَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْغَرَضِ وَالَّذِي نَشَأَ عَنْهُ مَا أَوْجَبَ نُزُولَ صَدْرِ السُّورَةِ فَافْتُتِحَ بِهِ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ وَالْوَعْدَ اللَّذَيْنِ جُعِلَا لِأَجْلِهِ صَالِحَانِ لِأَنْ يَكُونَا مُقَدِّمَةً لِلْمَقْصُودِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ نَسْجٌ بَدِيعٌ وَإِيجَازٌ جَلِيلٌ وَإِنْ خَالَفَ تَرْتِيبُ ذِكْرِهِ تَرْتِيبَ حُصُولِهِ فِي الْخَارِجِ، وَقَدْ صَادَفَ هَذَا التَّرْتِيبُ الْمَحَزَّ أَيْضًا إِذْ كَانَ نِدَاؤُهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ مِنْ قَبِيلِ الْجَهْر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَكَانَ النَّهْيُ عَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ تَخَلُّصًا لِذِكْرِ نِدَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ ينادون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ جَمَاعَةٌ مِنْ وَفْدِ بني تَمِيم جاؤوا الْمَدِينَةَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرَ. وَكَانَ سَبَبُ وُفُودِ هَذَا الْوَفْدِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْهُمْ كَانُوا قَدْ شَهَرُوا السِّلَاحَ عَلَى خُزَاعَةَ، وَقِيلَ كَانُوا مَنَعُوا إِخْوَانَهُمْ بَنِي كَعْبِ بْنِ الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَانَ بَنُو كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى وَقْتِ إِسْلَامِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا فِي سَنَةِ الْوُفُودِ فَبَعَثَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ سَاعِيًا لِقَبْضِ صَدَقَاتِ بَنِي كَعْبٍ، فَمَنَعَهُمْ بَنُو الْعَنْبَرِ فَبعث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ فِي خَمْسِينَ مِنَ الْعَرَبِ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيٌّ وَلَا مُهَاجِرِيٌّ فَأُسِرَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا. فَجَاءَ فِي أَثَرِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ لفدائهم فجاؤوا الْمَدِينَةَ. وَكَانَ خَطِيبُهُمْ عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ، وَفِيهِمْ سَادَتُهُمُ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ الْغَطَفَانِيُّ وَكَانَ هَذَانِ الْأَخِيرَانِ أَسْلَمَا مِنْ قَبْلُ وَشَهِدَا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ الْفَتْحِ، ثُمَّ جَاءَ مَعَهُمُ الْوَفْدُ فَلَمَّا دَخَلَ الْوَفْدُ الْمَسْجِدَ وَكَانَ وَقْتَ الْقَائِلَةِ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ فِي

حُجْرَتِهِ، نَادَوْا جَمِيعًا وَرَاءَ الْحُجُرَاتِ: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمَّنَا شَيْنٌ، نَحْنُ أَكْرَمُ الْعَرَبِ سَلَكُوا فِي عَمَلِهِمْ هَذَا مَسْلَكَ وُفُودِ الْعَرَبِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالسَّادَةِ، كَانُوا يَأْتُونَ بَيْتَ الْمَلِكِ أَوِ السَّيِّدِ فَيَطِيفُونَ بِهِ يُنَادُونَ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ وُرُودِ النَّابِغَةِ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، طَرِيقَةٌ كَانُوا يَسْتَدِرُّونَ بِهَا الْعُظَمَاءَ لِلْعَطَاءِ فَإِضَافَةُ: مَدْحِنَا وَذَمِّنَا إِلَى الضَّمِيرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا: جئْنَاك نفاخرك فاذن لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: نُفَاخِرُكَ، جَرَوْا فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْوُفُودِ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَذْكُرُوا مَفَاخِرَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ، وَيَذْكُرَ الْمَوْفُودُ عَلَيْهِمْ مَفَاخِرَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْنَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: نُفَاخِرُكَ، وَكَانَ جُمْهُورُهُمْ لَمْ يَزَالُوا كُفَّارًا حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ أَنْ تَفَاخَرُوا وَتَنَاشَدُوا الْأَشْعَارَ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يُنادُونَكَ رِجَالُ هَذَا الْوَفْدِ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ النِّدَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ نَادَوْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ الَّذِي نَادَى النِّدَاءَ هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعَلَيْهِ فَإِسْنَادُ فِعْلِ يُنادُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ عَنْ نِسْبَةِ فِعْلِ الْمَتْبُوعِ إِلَى أَتْبَاعِهِ إِذْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ مُقَدَّمَ الْوَفْدِ، كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا. وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَة: 72] . وَنَفِيُ الْعَقْلِ عَنْهُمْ مُرَادٌ بِهِ عَقْلُ التَّأَدُّبِ الْوَاجِبِ فِي مُعَاملَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَقَلُ التَّأَدُّبِ الْمَفْعُولِ عَنْهُ فِي عَادَتِهِمُ الَّتِي اعْتَادُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعُنْجُهِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمٌ وَلَا تَرَتُّبُ ذَنْبٍ. وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يناد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ نِدَائِهِمْ، وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ اسْتِثْنَاءُ اللَّذَيْنِ كَانَا أَسْلَمَا مِنْ قَبْلُ. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَأْدِيبٌ لَهُمْ وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ مَذَامِّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْوَرَاءُ: الْخَلْفُ، وَهُوَ جِهَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ بِحَسَبِ مَوْقِعِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحُجُرَاتِ حَاجِزَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ فَعَبَّرَ عَنْ جِهَةِ مَنْ لَا يَرَى بِأَنَّهَا وَرَاءُ. ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ يُنَادُونَكَ نِدَاءً صَادِرًا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَالْمُنَادُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا وَرَاءَ حُجُرَاتِهِ فَالَّذِي يَقُولُ: نَادَانِي فُلَانٌ وَرَاءَ الدَّارِ، لَا يُرِيدُ وَرَاءَ مَفْتَحِ الدَّارِ وَلَا وَرَاءَ ظَهْرِهَا وَلَكِنْ أَيَّ جِهَةٍ مِنْهَا وَكَانَ الْقَوْمُ الْمُنَادُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُمْ تُجَاهَ الْحُجُرَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: نَادَانِي فُلَانٌ وَرَاءَ الدَّارِ، دُونَ حَرْفِ مِنْ، لَكَانَ مُحْتَمِلًا لِأَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي وَالْمُنَادَى كِلَاهُمَا فِي جِهَةٍ وَرَاءَ الدَّارِ، وَأَنَّ الْمَجْرُورَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ وَلِهَذَا أُوثِرَ جَلْبُ مِنْ لِيَدُلَّ بِالصَّرَاحَةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَادَى كَانَ دَاخِلَ الْحُجُرَاتِ لِأَنَّ دَلَالَةَ مِنْ عَلَى الِابْتِدَاءِ تَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى كَذَا أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ اجْتِلَابَ حَرْفِ مِنْ لِدَفْعِ اللَّبْسِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا الْفَرْقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [17] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [25] . وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يَدْفَعُ الِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . فَلَفْظُ وَراءِ هُنَا مَجَازٌ فِي الْجِهَةِ الْمَحْجُوبَةِ عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَالْحُجُرَاتُ، بِضَمَّتَيْنِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ: جَمَعُ حُجْرَةٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَهِيَ الْبُقْعَةُ الْمَحْجُورَةُ، أَيِ الَّتِي مُنِعَتْ مِنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا غَيْرُ حَاجِرِهَا فَهِيَ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ كَغُرْفَةٍ، وَقُبْضَةٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يَعْنِي أَزْوَاجَهُ، وَكَانَتِ الْحُجُرَاتُ تُفْتَحُ إِلَى الْمَسْجِدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْحُجُراتِ بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ. وَكَانَتِ الْحُجُرَاتُ تِسْعًا وَهِيَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، أَيِ الْحَوَاجِزِ الَّتِي بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى، وَعَلَى أَبْوَابِهَا مُسُوحٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ وَعَرْضُ الْبَيْتِ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ إِلَى بَابِ الْبَيْتِ نَحْوَ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، وَمِسَاحَةُ الْبَيْتِ الدَّاخِلِ، أَيِ الَّذِي فِي دَاخِلِ الْحُجْرَةِ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، أَيْ فَتَصِيرُ مِسَاحَةُ الْحُجْرَةِ مَعَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ عَشَرَ

ذِرَاعًا. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كُنْتُ أَدْخُلُ بُيُوتَ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَتَنَاوَلُ سُقُفَهَا بِيَدِي. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحُجُرَاتِ دُونَ الْبُيُوتِ لِأَنَّ الْبَيْتَ كَانَ بَيْتًا وَاحِدًا مُقَسَّمًا إِلَى حُجُرَاتٍ تِسْعٍ. وَتَعْرِيفُ الْحُجُراتِ بِاللَّامِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُنادُونَكَ مُؤَذِنٌ بِأَنَّ الْحُجُرَاتِ حُجُرَاتُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعَرَّفْ بِالْإِضَافَةِ. وَهَذَا النِّدَاءُ وَقَعَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُنادُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ نِدَائِهِمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أَنَّهُ يُكْسِبُهُمْ وَقَارًا بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَسْتَدْعِي لَهُمُ الْإِقْبَالَ من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ غَيْرَ كَارِهٍ لِنِدَائِهِمْ إِيَّاهُ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي مَسْجِدِهِ فَكَانَ فِيمَا فَعَلُوهُ جَلَافَةً. فَقَوْلُهُ: خَيْراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، وَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى: لَكَانَ صَبْرُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْعَجَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا ضِدَّ الشَّرِّ، أَيْ لَكَانَ صَبْرُهُمْ خَيْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْخُلُقِ بِخِلَافِ مَا فَعَلُوهُ فَلَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْآيَةُ تَأْدِيبٌ لَهُمْ وَتَعْلِيمُهُمْ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاق وَإِزَالَة لعوائد الْجَاهِلِيَّةِ الذَّمِيمَةِ. وَإِيثَارُ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ دُونَ (إِلَى) لِأَجْلِ الْإِيجَازِ بِحَذْفِ حَرْفِ (أَنْ) فَإِنَّهُ مُلْتَزَمٌ حَذْفُهُ بَعْدَ حَتَّى بِخِلَافِهِ بَعْدَ (إِلَى) فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا اللَّوْمِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحْصِ عَلَيْهِمْ ذَنْبًا فِيمَا فَعَلُوا وَلَا عَرَّضَ لَهُمْ بِتَوْبَةٍ. وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ شَأْنُهُ التَّجَاوُزُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ رَحْمَةً بِالنَّاسِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا جاهلين.

[سورة الحجرات (49) : آية 6]

[سُورَة الحجرات (49) : آيَة 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) هَذَا نِدَاءٌ ثَالِثٌ ابْتُدِئَ بِهِ غَرَضٌ آخَرُ وَهُوَ آدَابُ جَمَاعَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَارِثِ بْنِ ضِرَارَةَ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبِ قَضِيَّةٍ حَدَثَتْ. ذَلِكَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الويد بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ لِيَأْتِيَ بِصَدَقَاتِهِمْ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَجِيئُهُ، أَو لمّا استبطأوا مَجِيئَهُ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا لِتَلَقِّيهِ أَوْ خَرَجُوا لِيُبَلِّغُوا صَدَقَاتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، وَأَنَّ الْوَلِيدَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ وَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ فِي تَلَقِّي الْمُصَّدِّقِينَ وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، أَوْ لَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ كَذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ خَافَ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا قَتْلَهُ إِذْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَحْنَاءُ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ فَوَلَّى رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ. هَذَا مَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أَرْبَعٍ مُتَّفِقَةٍ فِي صِفَةِ خُرُوجِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي بَيَانِ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْخُرُوجِ وَفِي أَنَّ الْوَلِيدَ أُعْلِمَ بِخُرُوجِهِمْ إِلَيْهِ أَوْ رَآهُمْ أَوِ اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ خَوْفًا وَأَنَّ الْوَلِيدَ جَاءَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَرَادُوا قَتْلِي وَإِنَّهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةِ فَغَضِبَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ بَعَثَ خَالِدًا وَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَغْزُوَهُمْ حَتَّى يَسْتَثْبِتَ أَمْرَهُمْ وَأَنْ خَالِدًا لَمَّا بَلَغَ دِيَارَ الْقَوْمِ بَعَثَ عَيْنًا لَهُ يَنْظُرُ حَالَهُمْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْأَذَانَ وَالصَّلَاةَ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا بَلَغَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَقَبَضَ زَكَاتَهُمْ وَقَفَلَ رَاجِعًا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا مِنْ رُجُوعِ الْوَلِيدِ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ منع الصَّدقَات فجاؤوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ خَالِدٌ إِلَيْهِمْ مُتَبَرِّئِينَ مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَنِيَّةِ الْفَتْكِ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدُوا الْجَيْشَ خَارِجًا إِلَى غَزْوِهِمْ. فَهَذَا تَلْخِيصُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَهِيَ بِأَسَانِيدَ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي «الصَّحِيحِ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَضِيَّتَانِ أُخْرَيَانِ، وَهَذَا أَشْهَرُ. وَلِنَشْتَغِلِ الْآنَ بِبَيَانِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ

الِانْتِقَالَ مِنْهَا إِلَى هَذِهِ يَقْتَضِي مُنَاسِبَةً بَيْنَهُمَا، فَالْقِصَّتَانِ مُتَشَابِهَتَانِ إِذْ كَانَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ النَّازِلَةُ فِيهِمُ الْآيَة السَّابِقَة جاؤوا مُعْتَذِرِينَ عَنْ رَدِّهِمْ سَاعِيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَبْضِ صَدَقَاتِ بَنِي كَعْبِ بْنِ الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ تَبَرَّءُوا مِنْ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ إِلَّا أَنَّ هَذَا يُنَاكِدُهُ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَعْيِينِ سَنَةِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَهْمٌ. وَإِعَادَةُ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَفَصْلُهُ بِدُونِ عَاطِفٍ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْغَرَضِ بِالِاهْتِمَامِ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلْمُنَاسَبَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِتَشْرِيعٍ فِي قَضِيَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ انْقَضَتْ وَسُوِّيَتْ. وَالْفَاسِقُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُسُوقِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُحَرِّمُهُ الشَّرْعُ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَفُسِّرَ هُنَا بِالْكَاذِبِ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَأُوثِرَ فِي الشَّرْطِ حَرْفُ إِنْ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِي وُقُوعِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شَأْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ نَادِرَ الْوُقُوعِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ الْآيَةُ مَا يَقْتَضِي وَصْفَ الْوَلِيدِ بِالْفَاسِقِ تَصْرِيحًا وَلَا تَلْوِيحًا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْوَلِيدَ ظَنَّ ذَلِكَ كَمَا فِي «الْإِصَابَةِ» عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَاتِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. قَالَ الْفَخْرُ: «إِنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَاسِقِ عَلَى الْوَلِيدِ شَيْءٌ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ وَظَنَّ فَأَخْطَأَ، وَالْمُخْطِئُ لَا يُسَمَّى فَاسِقًا» . قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ الْوَلِيدُ فَاسِقًا لَمَا ترك النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِيفَهُ وَاسْتِتَابَتَهُ فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْله لَهُ «التبيّن مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» ، إِذْ كَانَ تَعْجِيلُ الْوَلِيدِ الرُّجُوعَ عَجَلَةً. وَقَدْ كَانَ خُرُوجُ الْقَوْمِ لِلتَّعَرُّضِ إِلَى الْوَلِيدِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مَثَارَ ظَنِّهِ

حَقًّا إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْرُوفُ خُرُوجَ الْقَبَائِلِ لِتَلَقِّي السُّعَاةِ. وَأَنَا أَحْسَبُ أَنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ حِيلَةً مِنْ كُبَرَائِهِمْ عَلَى انْصِرَافِ الْوَلِيدِ عَنِ الدُّخُولِ فِي حَيِّهِمْ تَعَيُّرًا مِنْهُمْ فِي نَظَرِ عَامَّتِهِمْ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَدُوٌّ لَهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ وَيَتَوَلَّى قَبْضَ صَدَقَاتِهِمْ فَتُعَيِّرُهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ بِذَلِكَ يَمْتَعِضُ مِنْهُمْ دَهْمَاؤُهُمْ وَلِذَلِكَ ذَهَبُوا بِصَدَقَاتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ فِي رِوَايَة أَو جاؤوا مُعْتَذِرِينَ قَبْلَ مَجِيءِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْوَلِيدَ أُعْلِمَ بِخُرُوجِ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ بِذَلِكَ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْإِعْلَامَ مُوعَزٌ بِهِ إِلَيْهِ لِيَخَافَ فَيَرْجِعَ. وَقَدِ اتَّفَقَ مَنْ تَرْجَمُوا لِلْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شُجَاعًا جَوَادًا وَكَانَ ذَا خُلُقٍ وَمُرُوءَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُدُولًا وَأَنَّ كُلَّ مَنْ رأى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ شَرْطَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ أَوْ يُلَازِمَهُ وَمَالَ إِلَيْهِ الْمَازِرِيُّ. قَالَ فِي «أَمَالِيهِ» فِي أُصُولِ الْفِقْهِ «وَلَسْنَا نَعْنِي بِأَصْحَابِ النَّبِيءِ كُلَّ مَنْ رَآهُ أَوْ زَارَهُ لِمَامًا إِنَّمَا نُرِيدُ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَعَزَّزُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ شَهِدَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْفَلَاحِ» اهـ. وَإِنَّمَا تَلَقَّفَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ النَّاقِمُونَ عَلَى عُثْمَانَ إِذْ كَانَ مِنْ عِدَادِ مَنَاقِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُ أَوْلَى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِمَارَةَ الْكُوفَةِ فَحَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَأَلْصَقُوا بِالْوَلِيدِ وَصْفَ الْفَاسِقِ، وَحَاشَاهُ مِنْهُ لِتَكُونَ وِلَايَتُهُ الْإِمَارَةَ بَاطِلًا. وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ إِشَارَةً إِلَى فَاسق معِين فَلَمَّا ذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى إِرَادَةِ الَّذِي أَعْلَمَ الْوَلِيدَ بِأَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا لَهُ لِيَصُدُّوهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى دِيَارِهِمْ قَصْدًا لِإِرْجَاعِهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ خَالِدًا وَصَلَ إِلَى دِيَارِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَرَدُوا الْمَدِينَةَ مُعْتَذِرِينَ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ بَيْنَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ شَحْنَاءَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا لِلتَّسَلُّحِ بِقَصْدِ إِكْرَامِ ضَيْفِهِمْ. وَفِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: خَشِينَا أَنْ يُبَادِئَنَا بِالَّذِي كَانَ بَيْنَنَا مِنْ شَحْنَاءَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنْ دَخِيلَةِ مَنْ جُهِلَ حَالُ تَقْوَاهُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يُؤْسَرُ أَحَدُ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ، وَهِيَ أَيْضًا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي

تَصَرُّفَاتِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَفِي تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مِنْ عَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى كُلِّ مَا يُرْوَى وَيُخْبَرُ بِهِ. وَالْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مُرَادٌ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ وَيَشْمَلُ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِذْ صَدَّقَ مَنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يُرِيدُ لَهُ سُوءًا وَمَنْ يَأْتِي مِنْ حُكَّامِ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمَرَائِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَشْرِيعُ تَعْدِيلِ مَنْ لَا يُعَرَفُ بِالصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ. وَمَجِيءُ حَرْفِ إِنْ فِي هَذَا الشَّرْط يومىء إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا نَادرا. والتبين: قُوَّةُ الْإِبَانَةِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ بِمَعْنَى أَبَانَ، أَيْ تَأَمَّلُوا وَأَبِينُوا. وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِنَبَأٍ أَيْ تَبَيَّنُوا مَا جَاءَ بِهِ وَإِبَانَةُ كُلِّ شَيْءٍ بحسبها. وَالْأَمر بالتبيّن أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي الْقَضَاءِ وَأَنْ لَا يَتَتَبَّعَ الْحَاكِمُ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَلَا يَنْصَاعَ إِلَى الْجَوَلَانِ فِي الْخَوَاطِرِ مِنَ الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ. وَمَعْنَى فَتَبَيَّنُوا تَبَيِّنُوا الْحَقَّ، أَيْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ ذَلِكَ الْفَاسِقِ. فَخَبَرُ الْفَاسِقِ يَكُونُ دَاعِيًا إِلَى التَّتَبُّعِ وَالتَّثَبُّتِ يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونُ مُسْتَنَدًا لِلْحُكْمِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ «لَا يُؤْسَرُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ» . وَإِنَّمَا كَانَ الْفَاسِقُ مُعَرَّضًا خَبَرُهُ لِلرِّيبَةِ وَالِاخْتِلَاقِ لِأَنَّ الْفَاسِقَ ضَعِيفُ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ فِي نَفْسِهِ، وَضَعْفُ الْوَازِعِ يُجَرِّئُهُ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَحْظُورِ وَبِمَا يُخْبِرُ بِهِ فِي شَهَادَةٍ أَوْ خَبَرٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا إِضْرَارٌ بِالْغَيْرِ أَوْ بِالصَّالِحِ الْعَامِّ وَيُقَوِّي جُرْأَتَهُ عَلَى ذَلِكَ دَوْمًا إِذَا لَمْ يَتُبْ وَيَنْدَمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَيُقْلِعْ عَنْ مِثْلِهِ. وَالْإِشْرَاكُ أَشَدُّ فِي ذَلِكَ الِاجْتِرَاءِ لِقِلَّةِ مُرَاعَاةِ الْوَازِعِ فِي أُصُولِ الْإِشْرَاكِ. وَتَنْكِيرُ فاسِقٌ، ونبإ، فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْفُسَّاقِ بِأَيِّ فِسْقٍ اتَّصَفُوا، وَفِي الْأَنْبَاءِ كَيْفَ كَانَتْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ فَاسِقٍ جَاءَكُمْ بِأَيِّ نَبَأٍ فَتَوَقَّفُوا فِيهِ وَتَطَلَّبُوا بَيَانَ الْأَمْرِ وَانْكِشَافَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَتَبَيَّنُوا بِفَوْقِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فنون من التبيّن، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ فَتَثَبَّتُوا بِفَوْقِيَّةٍ فَمُثَلَّثَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ من التثبت. والتبيّن: تَطَلُّبُ الْبَيَانِ وَهُوَ ظُهُورُ الْأَمْرِ، وَالتَّثَبُّتُ التَّحَرِّي وَتَطَلُّبُ الثَّبَاتِ وَهُوَ الصِّدْقُ.

وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا. وَعَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «التَّثَبُّتُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» . وَمَوْقِعُ أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا إِلَخْ نَصْبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَالْمُعَلَّلُ بِاللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ أَوِ الْمُقَدَّرَةِ هُوَ التَّثَبُّتُ، فَمَعْنَى تَعْلِيلِهِ بِإِصَابَةٍ يَقَعُ إِثْرَهَا النَّدَمُ هُوَ التَّثَبُّتُ. فَمَعْنَى تَعْلِيلِهِ بِإِصَابَةٍ يَقَعُ آخِرَهَا النَّدَمُ أَنَّ الْإِصَابَةَ عِلَّةٌ تُحْمَلُ عَلَى التَّثَبُّتِ لِلتَّفَادِي مِنْهَا فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا صَلَحَتْ لِإِثْبَاتِ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ تَصْلُحُ لِلْإِتْيَانِ بِضِدِّهِ لِتَلَازُمِ الضِّدِّ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الحجرات: 2] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَذَا التَّحْذِيرُ مِنْ جَرَّاءِ قَبُولِ خَبَرِ الْكَاذِبِ يَدُلُّ عَلَى تَحْذِيرِ مَنْ يَخْطُرُ لَهُ اخْتِلَاقُ خَبَرٍ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِ الْكَاذِبِ مِنْ إِصَابَةِ النَّاسِ. وَهَذَا بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَالْجَهَالَةُ: تُطْلَقُ بِمَعْنَى ضِدِّ الْعِلْمِ، وَتُطْلَقُ بِمَعْنَى ضِدِّ الْحِلْمِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: جَهِلَ كَجَهْلِ السَّيْفِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ أَنْتُمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعِ لِتَصْدِيقِكُمُ الْكَاذِبَ، وَمُتَعَلِّقُ تُصِيبُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاق سَابِقًا وَلَا حَقًا، أَيْ أَنْ تُصِيبُوهُمْ بِضُرٍّ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِ الْإِصَابَةِ عَلَى إِيصَالِ الضُّرِّ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ الثَّانِي الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِفِعْلٍ مِنْ أَثَرِ الْجَهَالَةِ، أَيْ بِفِعْلٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْإِضْرَارِ. وَمَعْنَى فَتُصْبِحُوا فَتَصِيرُوا لِأَنَّ بَعْضَ أَخَوَاتِ (كَانَ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ. وَالنَّدَمُ: الْأَسَفُ عَلَى فِعْلٍ صَدَرَ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّدَمُ الدِّينِيُّ، أَيِ النَّدَمُ عَلَى التَّوَرُّطِ فِي الذَّنْبِ لِلتَّسَاهُلِ وَتَرَكِ تَطَلُّبِ وُجُوهِ الْحَقِّ. وَهَذَا الْخِطَابُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

مُوَجَّهٌ ابْتِدَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْبَرِينَ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- كُلٌّ بِحَسَبِ أَثَرِهِ بِمَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَغْرَاضِ الْمُخْبِرِينَ- بِكَسْرِ الْبَاءِ-. وَلَكِنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَا يَتْرُكُ الْمُخْبِرِينَ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهَذَا التَّبَيُّنِ فِيمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَبِتَوَخِّي سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِيمَا يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْمُخْتَلَقَاتِ وَلَكِنَّ هَذَا تبيّن وَتثبت يُخَالِفُ تَبَيُّنَ الْآخَرِ وَتَثَبُّتَهُ، فَهَذَا تَثَبُّتٌ مِنَ الْمُتَلَقِّي بِالتَّمْحِيصِ لِمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ حِكَايَةٍ أَوْ يَطْرُقُ سَمعه من كَلَام وَالْآخَرُ تَمْحِيصٌ وَتَمْيِيزٌ لِحَالِ الْمُخْبِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَخَرَّجُ مِنْهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وُجُوبُ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَعِنْدَ الرُّوَاةِ. وَهَذَا صَرِيحُ الْآيَةِ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ على قبُول خبر الْوَاحِدِ الَّذِي انْتَفَتْ عَنْهُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ وَهُوَ الْمَوْسُومُ بِالْعَدَالَةِ، وَهَذَا مِنْ مَدْلُولِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَجْهُولِ عَدَمُ الْعَدَالَةِ، أَيْ عَدَمُ ظَنِّ عَدَالَتِهِ فَيَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ مَجْهُولِ الْحَالِ فَلَا يُعْمَلُ بِشَهَادَتِهِ وَلَا بِرِوَايَتِهِ حَتَّى يُبْحَثَ عَنْهُ وَتَثْبُتَ عَدَالَتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ فِي النَّاسِ الْعَدَالَةُ وَيُنْسَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَيُقْبَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولُ الْبَاطِنِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَسْتُورِ الْحَالِ. أَمَّا الْمَجْهُولُ بَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ مَعًا فَحُكِيَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى مَعْنَى كَلِمَةِ الْأَصْلِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ» وَأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ ظُهُورُ شَهَادَةِ الزُّورِ رَجَعَ فَقَالَ: «لَا يُؤْسَرُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ» . وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُمْ عُدُولٌ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي الدِّينِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِنَّمَا تُفِيدُ الْآيَةُ هَذَا الْأَصْلَ إِذَا حُمِلَ مَعْنَى الْفَاسِقِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمُتَّهَمَ بِالْفِسْقِ.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 7 إلى 8]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ: فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أَنَّهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يُوجِبُ النَّدَمَ شَرْعًا، أَيْ مَا يُوجِبُ التَّوْبَةَ مِنْ تِلْكَ الْإِصَابَةِ، فَكَانَ هَذَا كِنَايَةً عَنِ الْإِثْمِ فِي تِلْكَ الْإِصَابَةِ فَحَذَّرَ وُلَاةَ الْأُمُورِ مِنْ أَنْ يُصِيبُوا أَحَدًا بِضُرٍّ أَوْ عِقَابٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ غُرْمٍ دُونَ تَبَيُّنِ وَتَحَقُّقِ تَوَجُّهِ مَا يُوجِبُ تَسْلِيطَ تِلْكَ الْإِصَابَةِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ يُوجِبُ الْيَقِينَ أَوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ تَقْصِيرٌ يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ، وَلَهُ مَرَاتِبُ بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ فِي حِكَمٍ خَطَّهَا الْقَاضِي وَصِفَةِ الْمُخْطِئِ وَمَا يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ بِدُونِ تَثَبُّتٍ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى خَطَرِ أَمْرِهِ. [7، 8] [سُورَة الحجرات (49) : الْآيَات 7 الى 8] وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: 6] عَطْفُ تَشْرِيعٍ عَلَى تَشْرِيعٍ وَلَيْسَ مَضْمُونُهَا تَكْمِلَةً لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ إِلَخْ بَلْ هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَابْتِدَاءُ الْجُمْلَةِ بِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [235] . وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَنْفَالِ [41] . وَقَوْلِهِ: أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ وَالتَّحْذِيرِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ. فَإِنَّ كَوْنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ. فَالْمَقْصُودُ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِرَغَبَاتِهِمْ. وَجُمْلَةُ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. فَضَمِيرَا الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يُطِيعُكُمْ وَقَوْلِهِ: لَعَنِتُّمْ عَائِدَانِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى تَوْزِيعِ الْفِعْلِ عَلَى الْأَفْرَادِ فَالْمُطَاعُ بَعْضُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمُ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ أَنْ يعْمل

الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ، وَالْعَانِتُ بَعْضٌ آخَرُ وَهُمْ جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ قَضَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسَبِ رَغْبَةِ غَيْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَوْ يُطِيعُكُمْ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فِيكُمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَضْمُونَ جَوَابِ لَوْ عَنِتَ يَحْصُلُ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَمَآلُ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ وَاحِدٌ وَانْتِظَامُ الْكَلَامِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ غَيْرُ مُنْثَلِمٍ. وَالطَّاعَةُ: عَمَلُ أَحَدٍ يُؤْمَرُ بِهِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ وَمَا يُشَارُ بِهِ عَلَيْهِ، أَيْ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِيمَا تَرْغَبُونَ. والْأَمْرِ هُنَا بِمَعْنَى الْحَادِثِ وَالْقَضِيَّةِ النَّازِلَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ وَلِذَلِكَ جِيءَ مَعَهُ بِلَفْظِ كَثِيرٍ مِنَ أَيْ فِي أَحْدَاثٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا لَكُمْ رَغْبَةٌ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنْهَا فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا شَرَعَهُ. وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ طَاعَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ مِمَّا هُوَ غير شؤون التَّشْرِيعِ كَمَا أَطَاعَهُمْ فِي نُزُولِ الْجَيْشِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى جِهَةٍ يَسْتَأْثِرُونَ فِيهَا بِمَاءِ بَدْرٍ. وَالْعَنَتُ: اخْتِلَالُ الْأَمْرِ فِي الْحَاضِرِ أَوْ فِي الْعَاقِبَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ يُطِيعُكُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَاضِي لِأَنَّ حَرْفَ لَوْ يُفِيدُ تَعْلِيقَ الشَّرْطِ فِي الْمَاضِي، وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، أَيْ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَوْ أَطَاعَكُمْ كُلَّمَا رَغِبْتُمْ مِنْهُ أَوْ أَشَرْتُمْ عَلَيْهِ لَعَنِتُّمْ لِأَنَّ بَعْضَ مَا يَطْلُبُونَهُ مُضِرٌّ بِالْغَيْرِ أَوْ بِالرَّاغِبِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يُحِبُّ عَاجِلَ النَّفْعِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ بِالضُّرِّ. وَتَقْدِيمُ خَبَرِ (إِنَّ) عَلَى اسْمِهَا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْكَوْنِ فِيهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ وَاجِبَهُمُ الِاغْتِبَاطُ بِهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِيهِمْ شَرَفٌ عَظِيمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ وَصَلَاحٌ لَهُمْ.

وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، أَيْ لَأَصَابَ السَّاعِينَ فِي أَنْ يعْمل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَرْغَبُونَ الْعَنَتَ. وَهُوَ الْإِثْم إِذا استغفلوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَأَصَابَ غَيْرَهُمُ الْعَنَتُ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ وَهِيَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ جَرَيَانِ أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَائِمُ الْوَاقِعَ فَيَضُرُّ بِبَقِيَّةِ النَّاسِ وَقَدْ يَعُودُ بِالضُّرِّ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُتَشَفِّي بِرَغْبَتِهِ تَارَةً فَيَلْحَقُ عَنَتُ مَنْ كَذَّبَ غَيْرَهُ تَارَةً أُخْرَى. وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) . الِاسْتِدْرَاكُ الْمُسْتَفَادُ من لكِنَّ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لِأَنَّهُ اقْتضى أَن لبَعْضهِم رَغْبَةً فِي أَنْ يطيعهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْغَبُونَ أَنْ يَفْعَلَهُ مِمَّا يَبْتَغُونَ مِمَّا يَخَالُونَهُ صَالِحًا بِهِمْ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تُعْرَضُ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ رَسُولَهَ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ رَغَبَاتِكُمُ الْعَاجِلَةَ وَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَالْإِيمَانُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ مُرَادًا مِنْهُ الِاعْتِقَادُ، فَإِنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ وَاسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَدَانِ، أَيْ حُبِّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النِّسَاء: 65] ، وَلِذَا فَكَوْنُهُ حَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ إِدْمَاجٌ وَإِيجَازٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَكُمُ الْإِسْلَامَ وَحَبَّبَهُ إِلَيْكُمْ أَيْ دَعَاكُمْ إِلَى حُبِّهِ وَالرِّضَى بِهِ فَامْتَثَلْتُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يطيعون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إِلَى قَوْلِهِ: هُمُ الظَّالِمُونَ [النُّور: 48- 50] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ يَتْرُكُوا مَا لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ

بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الحجرات: 11] تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الْحِيَادِ عَنْ مَهِيعِ الْإِيمَانِ وَتَجْنِيبًا لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكُفْرِ. فَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْعِصْيانَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِلْهَابِ وَتَحْرِيكِ الهمم لمراعاة محبَّة الْإِيمَانِ وَكَرَاهَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ أَحْبَبْتُمُ الْإِيمَانَ وَكَرِهْتُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَلَا تَرْغَبُوا فِي حُصُولِ مَا تَرْغَبُونَهُ إِذَا كَانَ الدِّينُ يَصُدُّ عَنْهُ وَكَانَ الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ يَدْعُو إِلَيْهِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِانْدِفَاعَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَرْغُوبِ مِنَ الْهَوَى دُونَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا لَا يُرْضِيهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فِي صَدْرِ جُمْلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ دُونَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ اسْمُ الْجَلَالَةِ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالرَّوْعَةِ. وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ وَاجِبِ اقْتِبَالِ مَا حَبَّبَ إِلَيْهِ وَنَبْذِ مَا كَرَّهَ إِلَيْهِ. وَعُدِيَّ فِعْلَا حَبَّبَ وكَرَّهَ بِحرف (إِلَى) لتضمينهما مَعْنَى بَلَّغَ، أَيْ بَلَّغَ إِلَيْكُمْ حُبَّ الْإِيمَانِ وَكُرْهَ الْكُفْرِ. وَلَمْ يُعَدَّ فِعْلُ وَزَيَّنَهُ بِحَرْفِ (إِلَى) مِثْلَ فِعْلَيْ حَبَّبَ وكَرَّهَ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا رَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَكَرَّهَهُمُ الْكُفْرَ امْتَثَلُوا فَأَحَبُّوا الْإِيمَانَ وَزَانَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالتَّزْيِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا، أَيْ حَسَنًا قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: أَجْمَعَتْ خُلَّتَيْ مَعَ الْفَجْرِ بَيْنَا ... جَلَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ زَيْنَا وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ مُعْتَرِضَةٌ لِلْمَدْحِ. وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكُمُ مَرَّتَيْنِ وَفِي قَوْلِهِ: قُلُوبِكُمْ أَيِ الَّذِينَ أَحَبُّوا الْإِيمَانَ وَتَزَيَّنَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَكَرِهُوا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، أَيْ هُمُ الْمُسْتَقِيمُونَ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ. وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ الْقَصْرَ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَيْنَهُمْ فَرِيقًا لَيْسُوا بِرَاشِدِينَ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِالْفِسْقِ حِينَ تَلَبُّسِهِمْ بِهِ فَإِنْ أَقْلَعُوا عَنْهُ الْتَحَقُوا بِالرَّاشِدِينَ.

[سورة الحجرات (49) : آية 9]

وَانْتَصَبَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ مِنْ أَفْعَالِ حَبَّبَ وَزَيَّنَ وَكَرَّهَ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْبِيبَ وَالتَّزْيِينَ وَالتَّكْرِيهَ مِنْ نَوْعِ الْفَضْلِ وَالنِّعْمَةِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ.. وَالْوَاو اعتراضية. [9] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 9] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) لِمَا جَرَى قَوْلُهُ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ [الحجرات: 6] الْآيَةَ كَانَ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ إِصَابَةُ قَوْمٍ أَنْ تَقَعَ الْإِصَابَةُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ أَخْبَارَ النَّمِيمَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَخَطَرُهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَجْرِي بَين الْأَفْرَاد والتبين فِيهَا أَعْسَرُ، وَقَدْ لَا يحصل التبيّن إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَسْتَعِرَ نَارُ الْفِتْنَةِ وَلَا تُجْدِيَ النَّدَامَةُ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ مُرُورِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنُ سَلُولَ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَوَقَفَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَالَ الْحِمَارُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: خَلِّ سَبِيلَ حِمَارِكَ فَقَدْ آذَانَا نَتَنُهُ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: وَاللَّهِ إِنَّ بَوْلَ حِمَارِهِ لَأَطْيَبُ مِنْ مِسْكِكَ فَاسْتَبَّا وَتَجَالَدَا وَجَاءَ قَوْمَاهُمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَتَجَالَدُوا بِالنِّعَالِ وَالسَّعَفِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ... فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ. وَيُنَاكِدُ هَذَا أَنَّ تِلْكَ الْوَقْعَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ قُدُومِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَمْ يَجْزِمْ بِنُزُولِهَا فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: فَبَلَغَنَا أَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. اللَّهُمَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.

وَعَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِتْنَةٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِسَبَبِ خُصُومَةٍ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَوْسِ وَالْآخَرُ مِنَ الْخَزْرَجِ انْتَصَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قَوْمُهُ حَتَّى تَدَافَعُوا وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فجَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَكَانَتْ حُكْمًا عَامًّا نَزَلَ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ. وإِنْ حَرْفُ شَرْطٍ يُخَلِّصُ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ فَيَكُونُ فِي قُوَّةِ الْمُضَارِعِ وَارْتَفَعَ طائِفَتانِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: اقْتَتَلُوا لِلِاهْتِمَامِ بِالْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ كَوْنِهِ الْأَلْيَقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جُعِلَ الْفِعْلُ مَاضِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ فِي مِثْلِهِ مِمَّا أُولِيَتْ فِيهِ إِنْ الشَّرْطِيَّةُ الِاسْمَ نَحْوَ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التَّوْبَة: 6] ، وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً [النِّسَاء: 128] . قَالَ الرَّضِيُّ «وَحَقُّ الْفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الِاسْمِ الَّذِي يَلِي (إِنْ) أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا وَقَدْ يَكُونُ مُضَارِعًا عَلَى الشُّذُوذِ وَإِنَّمَا ضَعُفَ مَجِيءُ الْمُضَارِعِ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْجَازِمِ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ» . وَيَعُودُ ضَمِيرُ اقْتَتَلُوا عَلَى طائِفَتانِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لِأَنَّ طَائِفَةَ ذَاتُ جَمْعٍ، وَالطَّائِفَةُ الْجَمَاعَةُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] . وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ اقْتَتَلُوا مُسْتَعْمَلًا فِي إِرَادَةِ الْوُقُوعِ مِثْلَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 6] وَمِثْلَ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: 3] ، أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَاجِبٌ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الِاقْتِتَالِ وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ بَوَادِرِهِ وَهُوَ أَوْلَى مِنِ انْتِظَارِ وُقُوعِ الِاقْتِتَالِ لِيُمْكِنَ تَدَارَكُ الْخُطَبِ قَبْلَ وُقُوعِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً [النِّسَاء: 128] . وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ وَجْهُ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى عَلَى جُمْلَةِ اقْتَتَلُوا، أَيْ فَإِنِ ابْتَدَأَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قِتَالَ الْأُخْرَى وَلَمْ تَنْصَعْ إِلَى الْإِصْلَاحِ فَقَاتِلُوا الْبَاغِيَةَ.

وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَيْرُ مَعْنَاهِ الْفِقْهِيِّ فَ الَّتِي تَبْغِي هِيَ الطَّائِفَةُ الظَّالِمَةُ الْخَارِجَةُ عَنِ الْحَقِّ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ لِأَنَّ بَغْيَهَا يَحْمِلُ الطَّائِفَةَ الْمَبْغِيَّ عَلَيْهَا أَنْ تُدَافِعَ عَنْ حَقِّهَا. وَإِنَّمَا جُعِلَ حُكْمُ قِتَالِ الْبَاغِيَةِ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةً لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ يَعْسُرُ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِي ظُلْمِهِمْ بِأَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ وَأَعْوَانِ الشُّرْطَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ كَفُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ بِالْجَيْشِ وَالسِّلَاحِ. وَهَذَا فِي التَّقَاتُلِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْقَبَائِلِ، فَأَمَّا خُرُوجُ فِئَةٍ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَشَدُّ وَلَيْسَ هُوَ مَوْرِدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهَا أَصْلٌ لَهُ فِي التَّشْرِيعِ. وَقَدْ بَغَى أَهْلُ الرِّدَّةِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بَغْيًا بِغَيْرِ قِتَالٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَغَى بُغَاةُ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانُوا بُغَاةً عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَبَى عُثْمَانُ قِتَالَهُمْ وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي إِرَاقَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ اجْتِهَادًا مِنْهُ فَوَجَبَ عَلَى الْمُسلمين طَاعَته لِأَن وَلِيُّ الْأَمْرِ وَلَمْ يَنْفُوا عَنِ الثُّوَّارِ حُكْمَ الْبَغْيِ. وَيَتَحَقَّقُ وَصْفُ الْبَغْيِ بِإِخْبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْفِئَةَ بَغَتْ عَلَى الْأُخْرَى أَوْ بِحُكْمِ الْخَلِيفَةِ الْعَالِمِ الْعَدْلِ، وَبِالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ وَعَنِ الْجَمَاعَةِ بِالسَّيْفِ إِذَا أَمَرَ بِغَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا جَوْرٍ وَلَمْ تُخْشَ مِنْ عِصْيَانِهِ فِتْنَةٌ لِأَنَّ ضُرَّ الْفِتْنَةِ أَشَدُّ مِنْ شَدِّ الْجَوْرِ فِي غَيْرِ إِضَاعَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ بَغْيٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ مَعَ الْخَلِيفَةِ. وَقَدْ كَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَغْيِ وَصُوَرُهُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا ضَبَطَهُ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَلَمْ تَطُلْ ثَمَّ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّينَ، وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ فِيهَا بَيْنَ فِئَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنِ الْخَارِجُونَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، بَلْ كَانُوا شَرَطُوا لِمُبَايَعَتِهِمْ إِيَّاهُ أَخْذَ الْقَوَدِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنْهُمْ، فَكَانَ اقْتِنَاعُ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ بَيْنَهُمْ وَقَدْ دَارَتْ بَيْنَهُمْ كُتُبٌ فِيهَا حُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ الثَّابِتُ مِنْهَا وَالْمَكْذُوبُ إِذْ كَانَ الْمُؤَرِّخُونَ أَصْحَابَ أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ يَرَيَانِ الْبَدَاءَةَ بِقَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ أَوْلَى، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ حَقَّقُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْبَغْيَ فِي جَانِبِ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ بِالْخِلَافَةِ لَا تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ بِشَرْطٍ.

وَقَدِ اعْتَرَفَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مُدَافِعِينَ عَنْ نَظَرٍ اجْتِهَادِيٍّ مُخْطِئٍ، وَكَانَ الْوَاجِبُ يَقْضِي عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الدُّعَاءَ إِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حَسَبَ أَمْرِ الْقُرْآنِ وُجُوبَ الْكِفَايَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ التَّدَاعِي إِلَيْهِ وَلم يتم لانتفاض الْحَرُورِيَّةِ عَلَى أَمْرِ التَّحْكِيمِ فَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَا نَحْكُمُ الرِّجَالَ. وَقِيلَ: كِيدَتْ مَكِيدَةٌ بَيْنَ الْحَكَمَيْنِ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَصَدِّينَ لِحِكَايَةِ الْقَضِيَّةِ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالضَّمَائِرِ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: شَهِدَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ وَغِبْنَا وَعَلِمُوا وَجَهِلْنَا. وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: تَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَّا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي لِلْوُجُوبِ، لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ لِحِفْظِ حَقِّ الْمُحِقِّ، وَلِأَنَّ تَرْكَ قِتَالِ الْبَاغِيَةِ يَجُرُّ إِلَى اسْتِرْسَالِهَا فِي الْبَغْيِ وَإِضَاعَةِ حُقُوقِ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَغْرَاضِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلِأَن ذَلِك يجرىء غَيْرَهَا عَلَى أَنْ تَأْتِيَ مثل صنيعها فمقاتلها زَجَرٌ لِغَيْرِهَا. وَهُوَ وُجُوبُ كِفَايَةٍ وَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ جَيْشًا يُوَجِّهُهُ لِقِتَالِهَا إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ قِتَالَ الْبُغَاةِ إِلَّا الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ. فَإِذَا اخْتَلَّ أَمْرُ الْإِمَامَةِ فَلْيَتَوَلَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاؤُهَا. فَهَذَا الْوُجُوبُ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ تُقَيِّدُهُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ قِتَالَهَا يَجُرُّ إِلَى فِتْنَةٍ أَشَدِّ مِنْ بَغْيِهَا. وَقَدْ تَلْتَبِسُ الْبَاغِيَةُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَقَاتِلَتَيْنِ فَإِنَّ أَسْبَابَ التَّقَاتُلِ قَدْ تَتَوَلَّدُ مِنْ أُمُورٍ لَا يُؤْبَهُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ تَثُورُ الثَّائِرَةُ وَيَتَجَالَدُ الْفَرِيقَانِ فَلَا يُضْبَطُ أَمْرُ الْبَاغِي مِنْهُمَا، فَالْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا يُزِيلُ اللَّبْسَ فَإِنِ امْتَنَعَتْ إِحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ الْبَغْيُ فِي جَانِبِهَا لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وَالْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ عَلَى الصُّلْحِ إِذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ وَرَأَى بَوَارِقَهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لِكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ شُبْهَتُهَا إِنْ كَانَتْ لَهَا شُبْهَةٌ وَتُزَالُ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ وَمَنْ يَأْبَ مِنْهُمَا فَهُوَ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ.

وَجَعَلَ الْفَيْءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ غَايَةً لِلْمُقَاتِلَةِ، أَيْ يَسْتَمِرُّ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ إِلَى غَايَةِ رُجُوعِهَا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَأَمْرُ اللَّهِ هُوَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْكَفِّ عَنِ الظُّلْمِ، أَيْ حَتَّى تُقْلِعَ عَنْ بَغْيِهَا، وَأُتْبِعَ مَفْهُومُ الْغَايَةِ بِبَيَانِ مَا تُعَامَلُ بِهِ الطَّائِفَتَانِ بعد أَن تفي الْبَاغِيَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ من ضمير فَأَصْلِحُوا. وَالْعَدْلُ: هُوَ مَا يَقَعُ التَّصَالُحُ عَلَيْهِ بِالتَّرَاضِي وَالْإِنْصَافِ وَأَنْ لَا يَضُرَّ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَإِنَّ الْمَتَالِفَ الَّتِي تَلْحَقُ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا شَدِيدًا فَتَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّعْدِيلِ. وَقَيَّدَ الْإِصْلَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ ثَانِيًا بِقَيْدِ أَنْ تَفِيءَ الْبَاغِيَةُ بِقَيْدِ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْإِصْلَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُقَيَّدُ بِهِ أَيْضًا الْإِصْلَاحُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوَّلًا لِأَنَّ الْقَيْدَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، أَيْ يَجِبُ الْعَدْلُ فِي صُورَةِ الْإِصْلَاحِ فَلَا يُضَيِّعُوا بِصُورَةِ الصُّلْحِ مَنَافِعَ عَنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ الصُّلْحِ مِنْ نُزُولٍ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ بِالْمَعْرُوفِ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَدْلِ بِقَوْلِهِ: وَأَقْسِطُوا أَمْرًا عَامًّا تَذْيِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْعَدْلِ الْخَاصِّ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَشَمِلَ ذَلِكَ هَذَا الْأَمْرَ الْعَامَّ أَنْ يَعْدِلُوا فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَاتَلُوا الَّتِي تَبْغِي، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. وَهَذَا إِصْلَاحٌ ثَانٍ بَعْدِ الْإِصْلَاحِ الْمَأْمُورِ بِهِ ابْتِدَاءً. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْفِئَةَ الَّتِي خَضَعَتْ لِلْقُوَّةِ وَأَلْقَتِ السِّلَاحَ تَكُونُ مَكْسُورَةَ الْخَاطِرِ شَاعِرَةً بِانْتِصَارِ الْفِئَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِتَرْغِيبِهِمَا فِي إِزَالَةِ الْإِحَنِ وَالرُّجُوعِ إِلَى أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَعُودَ التَّنَكُّرُ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنَ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَنْ لَا يُطَالَبُوا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مُدَّةَ الْقِتَالِ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ وَفِي طَلَبِهِمْ بِهِ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنِ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ اهـ. ثُمَّ قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالَ عِنْدَنَا الْمَالِكِيَّةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَضْمَنُونَ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ. فَأَمَّا مَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ بِعَيْنِهِ وَانْظُرْ هَلْ يَنْطَبِقُ

[سورة الحجرات (49) : آية 10]

كَلَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى نَوْعَيِ الْبَاغِيَةِ أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالْبَاغِيَةِ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. فَأَمَّا حُكْمُ تَصَرُّفِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلِ لِلْبُغَاةِ فَكَأَحْوَالِ الْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُتَّبَعُ مُدَبَّرَهُمْ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ وَلَا تُسْتَرَقُّ أَسْرَاهُمْ. وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيلُ فِي أَحْوَالِ جَبْرِ الْأَضْرَارِ اللَّاحِقَةِ بِالْفِئَةِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهَا وَالْأَضْرَارِ اللَّاحِقَةِ بِالْجَمَاعَةِ الَّتِي تَتَوَلَّى قِتَالَ الْبُغَاةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِهِمْ مَا يَرَى أُولُو الْأَمْرِ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا جَرْيًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. [10] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) تَعْلِيلٌ لِإِقَامَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اسْتَشْرَى الْحَالُ بَيْنَهُمْ، فَالْجُمْلَةُ مَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْعِلَّةِ، وَقَدْ بُنِيَ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ كَحَالِ الْإِخْوَةِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الْمُفِيدَةِ لِحَصْرِ حَالِهِمْ فِي حَالِ الْإِخْوَةِ مُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ أَوْ هُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْحَالَةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّذِينَ يَبْغُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ مَجَازًا عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ زِيَادَةً لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ حَتَّى لَا يَحِقَّ أَنْ يُقْرَنَ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ الْمُشْعِرِ بِضَعْفِ صِفَتِهِمْ عَنْ حَقِيقَةِ الْأُخُوَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى تَقَرُّرِ وُجُوبِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ شَأْنَ إِنَّمَا أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ أَوْ لِمَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فِي الْفَصْلِ الثَّانِيَ عَشَرَ وَسَاقَ عَلَيْهِ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ مُفِيدَ أَنَّ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ. وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَام

رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [10] ، وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا مَعْدُودَةٌ الثَّانِيَةَ وَالْمِائَةَ، وَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ مَعْدُودَةٌ الثَّامِنَةَ وَالْمِائَةَ مِنَ السُّورِ. وآخى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ وُرُودِهِ الْمَدِينَةَ وَذَلِكَ مَبْدَأُ الْإِخَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غير رَبِّي لَا تخذت أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ» . وَفِي بَابِ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ: أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلَالٌ» . وَفِي حَدِيثِ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . وَفِي الْحَدِيثِ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» أَيْ يُحِبَّ لِلْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. فَأَشَارَتْ جُمْلَةُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ إِلَى وَجْهِ وُجُوبِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَبَاغِيَتَيْنِ مِنْهُمْ بِبَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ عَقَدَ بَيْنَ أَهْلِهِ مِنَ النَّسَبِ الْمُوحَى مَا لَا يَنْقُصُ عَنْ نِسَبِ الْأُخُوَّةِ الْجَسَدِيَّةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي شَكَتْ إِلَيْهِ حَاجَةَ أَوْلَادِهَا وَقَالَتْ: أَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ أَيْمَاءَ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ الْحُدَيْبِيَةَ فَقَالَ عُمَرُ «مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ» . وَلَمَّا كَانَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا نَشِبَتْ مُشَاقَّةٌ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ لَزِمَ بَقِيَّةَ الْإِخْوَةِ أَنْ يَتَنَاهَضُوا فِي إِزَاحَتِهَا مَشْيًا بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا حَدَثَ شِقَاقٌ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ أَنْ يَنْهَضَ سَائِرُهُمْ بِالسَّعْيِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا وَبَثِّ السُّفَرَاءِ إِلَى أَنْ يُرَقِّعُوا مَا وَهَى، وَيَرْفَعُوا مَا أَصَابَ وَدَهَى. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، عَلَى تَحْقِيقِ كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةً تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِنَّمَا مِنَ التَّعْلِيلِ فَصَارَ الْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ الْوَاقِعِ ابْتِدَاءً دُونَ تَعْلِيلٍ فِي

قَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، وَقَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ [الحجرات: 9] قَدْ أُرْدِفَ بِالتَّعْلِيلِ فَحَصَلَ تَقْرِيرُهُ، ثُمَّ عُقِّبَ بِالتَّفْرِيعِ فَزَادَهُ تَقْرِيرًا. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ مَا يُشْبِهُ الدَّعْوَى وَهِيَ كَمَطْلُوبِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ مَا يُشْبِهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ مَا يُشْبِهُ النَّتِيجَةَ. وَلَمَّا تَقَرَّرَ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَالَ التَّقَرُّرِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، إِلَى قَوْلِهِ: بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فَهُوَ وَصْفٌ جَدِيدٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَتَعَيَّنَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ فَتَأَمَّلْ. وَأُوثِرَتْ صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَخَوَيْكُمْ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْكَلَامِ جَارٍ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَجُعِلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ كَالْأَخِ لِلْأُخْرَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ الْأَخِ، أَيْ بَيْنَ الطَّائِفَةِ وَالْأُخْرَى مُرَاعَاةً لِجَرَيَانِ الْحَدِيثِ عَلَى اقْتِتَالِ طَائِفَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ الْأَخِ عَلَى تَشْبِيهِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِأَخٍ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْوَاوِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ أَخٍ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَالْأَخِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَشْمَلُ الطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَةَ وَالْمَبْغِيَّ عَلَيْهَا، وَيَشْمَلُ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ أمروا بالإصلاح بَيْنَمَا وَمُقَاتَلَةِ الْبَاغِيَةِ، فَتَقْوَى كُلٌّ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلًّا مِمَّا يَخُصُّهُ، وَهَذَا يُشْبِهُ التَّذْيِيلَ. وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ: تُرْجَى لَكُمُ الرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ فَتَجْرِي أَحْوَالُكُمْ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَصَلَاحٍ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَتِ الرَّحْمَةُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَاقِعٌ إِثْرَ تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَشَأْنُ تَعَامُلِ الْإِخْوَةِ الرَّحْمَةُ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِهَا

[سورة الحجرات (49) : آية 11]

[11] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ لَمَّا اقْتَضَتِ الْأُخُوَّةُ أَنْ تُحْسَنَ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ كَانَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ إِيجَابِ مُعَامَلَةِ الْإِخْوَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ آحَادِهِمْ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُنَبِّهَةً عَلَى أُمُورٍ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ قَدْ تَقَعُ الْغَفْلَةُ عَنْ مُرَاعَاتِهَا لِكَثْرَةِ تَفَشِّيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا نِدَاءٌ رَابِعٌ أُرِيدَ بِمَا بَعْدَهُ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ بِوَاجِبِ بَعْضِ الْمُجَامَلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ بَنُو تَمِيمٍ إِذْ سَخِرُوا مِنْ بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ، فَيَكُونُ لِنُزُولِ الْآيَةِ سَبَبٌ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَجْلِهِ وَهَذَا مِنَ السُّخْرِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَ فِي سَمْعِهِ وَقْرٌ وَكَانَ إِذَا أَتَى مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوْسِعُوا لَهُ لِيَجْلِسَ إِلَى جَنْبِهِ فَيَسْمَعُ مَا يَقُولُ فَجَاءَ يَوْمًا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ فَقَالَ رَجُلٌ: قَدْ أَصَبْتَ مَجْلِسًا فَاجْلِسْ. فَقَالَ ثَابِتٌ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا فُلَانٌ. فَقَالَ ثَابِتٌ: ابْنُ فُلَانَةَ وَذَكَرَ أُمًّا لَهُ كَانَ يُعَيَّرُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ» ، فَهَذَا مِنَ اللَّمْزِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: «أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا عَيَّرَتْ بَعْضُ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ بِالْقِصَرِ» ، وَهَذَا مِنَ السُّخْرِيَةِ. وَقِيلَ: عَيَّرَ بَعْضُهُنَّ صَفِيَّةَ بِأَنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، وَهَذَا مِنَ اللَّمْزِ فِي عُرْفِهِمْ. وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِإِعَادَةِ النِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْغَرَضِ فَيَكُونُ مُسْتَقِلًّا غَيْرَ تَابِعٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْفَخْرِ. وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الْآيَاتُ الْوَاقِعَةُ عَقِبَ هَذَا النِّدَاءِ لِصِنْفٍ مُهِمٍّ مِنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِمَّا فَشَا فِي النَّاسِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ التَّسَاهُلُ فِيهَا. وَهِيَ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَقْوَالِ وَيَقْتَضِي النَّهْيُ عَنْهَا الْأَمْرَ بِأَضْدَادِهَا. وَتِلْكَ الْمَنْهِيَّاتُ هِيَ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالنَّبْزُ.

وَالسَّخْرُ، وَيُقَالُ السُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [79] ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنْ) . وَالْقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ: جَمَاعَةُ الرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ، قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟ وَتَنْكِيرُ قَوْمٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ الشِّيَاعِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نَهْيُ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ سَخِرُوا مِنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَإِنَّمَا أَسْنَدَ يَسْخَرْ إِلَى قَوْمٌ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات: 12] لِلنَّهْيِ عَمَّا كَانَ شَائِعًا بَيْنَ الْعَرَبِ مِنْ سُخْرِيَةِ الْقَبَائِلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فَوَجَّهَ النَّهْيَ إِلَى الْأَقْوَامِ. وَلِهَذَا أَيْضًا لَمْ يَقُلْ: لَا يَسْخَرْ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٌ مِنِ امْرَأَةٍ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَهَذَا النَّهْيُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَخَصَّ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ يَشْمَلُهُمْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ الْعُرْفِيِّ فِي الْكَلَامِ، كَمَا يَشْمَلُ لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا اقْتَضَى الدَّلِيلُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ بِهِ دَفَعًا لِتَوَهُّمِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِسُخْرِيَةِ الرِّجَالِ إِذْ كَانَ الِاسْتِسْخَارُ مُتَأَصِّلًا فِي النِّسَاءِ، فَلِأَجَلِ دَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنْ هَذَيْنِ السَّيِّئَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مِنْ آيَةِ الْقِصَاصِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فِي سُورَة الْعُقُود [178] . وَجُمْلَةُ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ السُّخْرِيَةِ بِذِكْرِ حَالَةٍ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِي الْمَسْخُورِيَّةِ، فَتَكُونُ سُخْرِيَةُ السَّاخِرِ أَفْظَعَ مِنَ السَّاخِرِ، وَلِأَنَّهُ يُثِيرُ انْفِعَالَ الْحَيَاءِ فِي نَفْسِ السَّاخِرَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ صِفَةً لقوم من قومه: مِنْ قَوْمٍ وَإِلَّا لَصَارَ النَّهْيُ عَنِ السُّخْرِيَةِ خَاصًّا بِمَا إِذَا كَانَ الْمَسْخُورُ بِهِ مَظِنَّةَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ السَّاخِرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَيْسَتْ صِفَةً لِ نِساءٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ نِساءٍ.

وَتَشَابُهُ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ لَا لَبْسَ فِيهِ لِظُهُورِ مَرْجِعِ كُلِّ ضَمِيرٍ، فَهُوَ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] ، وَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. اللَّمْزُ: ذِكْرُ مَا يَعُدُّهُ الذَّاكِرُ عَيْبًا لِأَحَدٍ مُوَاجَهَةً فَهُوَ الْمُبَاشَرَةُ بِالْمَكْرُوهِ. فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ وَقَاحَةٌ وَاعْتِدَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَهُوَ وَقَاحَةٌ وَكَذِبٌ، وَكَانَ شَائِعًا بَيْنَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهمزَة: 1] يَعْنِي نَفَرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ دَأْبُهُمْ لَمْزَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ بِحَالَةٍ بَيْنِ الْإِشَارَةِ وَالْكَلَامِ بِتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَعْرِفُ مِنْهُ الْمُوَاجَهُ بِهِ أَنَّهُ يُذَمُّ أَوْ يُتَوَعَّدُ، أَوْ يُتَنَقَّصُ بِاحْتِمَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ النَّبْزِ وَغَيْرُ الْغَيْبَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ وَكُتُبِ اللُّغَةِ اضْطِرَابٌ فِي شَرْحِ مَعْنَى اللَّمْزِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ الْمَنْخُولُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى لَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَنُزِّلَ الْبَعْضُ الْمَلْمُوزُ نَفْسًا لِلَامِزِهِ لِتَقَرُّرِ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [84] . وَالتَّنَابُزُ: نَبْزُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالنَّبْزُ بِسُكُونِ الْبَاءِ: ذَكَرَ النَّبَزَ بِتَحْرِيكِ الْبَاءِ وَهُوَ اللَّقَبُ السُّوءُ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْفُ النَّاقَةِ، وَقُرْقُورٌ، وَبَطَّةُ. وَكَانَ غَالِبُ الْأَلْقَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَبْزًا. قَالَ بَعْضُ الْفَزَارِيِّينَ: أُكَنِّيهِ حِينَ أُنَادِيهِ لِأُكْرِمَهُ ... وَلَا أُلَقِّبُهُ وَالسَّوْأَةُ اللَّقَبُ رُوِيَ بِرَفْعِ السَّوْأَةُ اللَّقَبُ فَيَكُونُ جَرْيًا عَلَى الْأَغْلَبِ عِنْدَهُمْ فِي اللَّقَبِ وَأَنَّهُ سَوْأَةٌ. وَرَوَاهُ «دِيوَانُ الْحَمَاسَةِ» بِنَصْبِ السَّوْأَةِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْمَعِيَّةِ. وَرُوِيَ بِالسَّوْأَةِ اللَّقَبَا أَيْ لَا أُلَقِّبُهُ لَقَبًا مُلَابِسًا لِلسَّوْءَةِ فَيَكُونُ أَرَادَ تَجَنُّبَ بَعْضِ اللَّقَبِ

وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى سُوءٍ وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ أَرْجَحُ وَهِيَ الَّتِي يَقْتَضِيهَا اسْتِشْهَادُ سِيبَوَيْهِ بِبَيْتٍ بَعْدَهُ فِي بَابِ ظَنَّ. وَلَعَلَّ مَا وَقَعَ فِي «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ» مِنْ تَغْيِيرَاتِ أَبِي تَمَّامٍ الَّتِي نُسِبَ إِلَيْهِ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ لِأَنَّهُ رَأَى النَّصْبَ أَصَحَّ معنى. فَالْمُرَاد بِالْأَلْقابِ فِي الْآيَةِ الْأَلْقَابُ الْمَكْرُوهَةُ بِقَرِينَةِ وَلا تَنابَزُوا. وَاللَّقَبُ مَا أَشْعَرَ بِخِسَّةٍ أَوْ شَرَفٍ سَوَاءٌ كَانَ مُلَقَّبًا بِهِ صَاحِبُهُ أَمِ اخْتَرَعَهُ لَهُ النَّابِزُ لَهُ. وَقَدْ خُصِّصَ النَّهْيُ فِي الْآيَة بِالْأَلْقابِ الَّتِي لَمْ يَتَقَادَمْ عَهْدُهَا حَتَّى صَارَتْ كَالْأَسْمَاءِ لِأَصْحَابِهَا وَتُنُوسِيَ مِنْهَا قَصْدُ الذَّمِّ وَالسَّبِّ خُصَّ بِمَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ» ، وَقَوْلُهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ «يَا أَبَا هِرٍّ» ، وَلُقِّبَ شَاوُلُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ طَالُوتَ، وَقَوْلُ الْمُحَدِّثِينَ الْأَعْرَجُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، وَالْأَعْمَشُ لِسُلَيْمَان من مِهْرَانَ. وَإِنَّمَا قَالَ وَلا تَلْمِزُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ: وَلا تَنابَزُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ مِنْ جَانِبَيْنِ، لِأَنَّ اللَّمْزَ قَلِيلُ الْحُصُولِ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَبَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ بَنُو سَلِمَةَ بِالْمَدِينَةِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. تَذْيِيلٌ لِلْمَنْهِيَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ قَوِيٌّ بِأَنَّ مَا نُهُوا عَنْهُ فُسُوقٌ وَظُلْمٌ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ مَدْلُولِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا لَوْلَا مَعْنَى التَّعْرِيضِ بِأَنَّ ذَلِكَ فُسُوقٌ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ وَمُعَاقَبٌ عَلَيْهِ فَدَلَّ قَوْلُهُ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ، عَلَى أَنَّ مَا نُهُوا عَنْهُ مَذْمُومٌ لِأَنَّهُ فُسُوقٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَلَا تُزِيلُهُ إِلَّا التَّوْبَةُ فَوَقَعَ إِيجَازٌ بِحَذْفِ جُمْلَتَيْنِ فِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى اللَّمْزَ وَالتَّنَابُزَ مَعْصِيَتَانِ لِأَنَّهُمَا فُسُوقٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ» . وَلَفْظُ الِاسْمُ هُنَا مُطْلَقٌ عَلَى الذِّكْرِ، أَيِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا يُقَالُ: طَارَ اسْمُهُ

[سورة الحجرات (49) : آية 12]

فِي النَّاسِ بِالْجُودِ أَوْ بِاللُّؤْمِ. وَالْمَعْنَى: بِئْسَ الذِّكْرُ أَنْ يُذَكَرَ أَحَدٌ بِالْفُسُوقِ بَعْدَ أَنْ وُصِفَ بِالْإِيمَانِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ الِاسْمِ هُنَا مِنَ الرَّشَاقَةِ بِمَكَانٍ لِأَنَّ السِّيَاقَ تَحْذِيرٌ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ بِالْأَسْمَاءِ الذَّمِيمَةِ إِذِ الْأَلْقَابُ أَسْمَاءٌ فَكَانَ اخْتِيَارُ لَفْظِ الِاسْمِ لِلْفُسُوقِ مُشَاكَلَةً مَعْنَوِيَّةً. وَمَعْنَى الْبَعْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ الْإِيمانِ: بَعْدَ الِاتِّصَافِ بِالْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُنَاسِبُهُ الْفُسُوقُ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَزَعُهُمْ عَنِ الْفُسُوقِ وَازِعٌ، وَهَذَا كَقَوْلِ جَمِيلَةَ بِنْتِ أُبَيٍّ حِينَ شكت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَكْرَهُ زَوْجَهَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَجَاءَتْ تَطْلُبُ فِرَاقَهُ: «لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا فِي خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ- تُرِيدُ التَّعْرِيضَ بِخَشْيَةِ الزِّنَا- وَإِنِّي لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا» . وَإِذْ كَانَ كُلٌّ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ مَعَاصِيَ فَقَدْ وَجَبَتِ التَّوْبَةُ مِنْهَا فَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ ظَالِمٌ: لِأَنَّهُ ظَلَمَ النَّاسَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ رَضِيَ لَهَا عِقَابَ الْآخِرَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ ظُلْمُهُ شَدِيدًا جِدًّا. فَلِذَلِكَ جِيءَ لَهُ بِصِيغَةِ قَصْرِ الظَّالِمِينَ عَلَيْهِمْ كَأَنَّهُ لَا ظَالِمَ غَيْرُهُمْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالظَّالِمِينَ الْآخَرِينَ فِي مُقَابَلَةِ هَؤُلَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِيَزْدَجِرُوا. وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَهَذِهِ الذُّنُوبُ الْمَذْكُورَةُ مَرَاتِبُ وَإِدْمَانُ الصَّغَائِرِ كَبِيرَةٌ. وَتَوْسِيطُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ تَفْظِيعًا لِحَالِهِمْ وَلِلتَّنْبِيهِ، بَلْ إِنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا قَصْرَ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. [12] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 12] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أُعِيدَ النِّدَاءُ خَامِسَ مَرَّةٍ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ هَذَا النِّدَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ السَّيِّئَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ عُومِلَ بِهَا فَلَا يَدْفَعُهَا فَمَا يُزِيلُهَا مِنْ نَفْسِ مَنْ عَامَلَهُ بِهَا.

فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ تَأْدِيبٌ عَظِيمٌ يُبْطِلُ مَا كَانَ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ وَالتُّهَمِ الْبَاطِلَةِ وَأَنَّ الظُّنُونَ السَّيِّئَةَ تَنْشَأُ عَنْهَا الْغَيْرَةُ الْمُفْرِطَةُ وَالْمَكَائِدُ وَالِاغْتِيَالَاتُ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْمُبَادَأَةُ بِالْقِتَالِ حَذَرًا مِنِ اعْتِدَاءٍ مَظْنُونٍ ظَنًّا بَاطِلًا، كَمَا قَالُوا: خُذِ اللِّصَّ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَكَ. وَمَا نَجَمَتِ الْعَقَائِدُ الضَّالَّةُ وَالْمَذَاهِبُ الْبَاطِلَةُ إِلَّا مِنَ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ قَالَ تَعَالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: 154] وَقَالَ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 20] وَقَالَ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 148] ثُمَّ قَالَ: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: 148] . وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . وَلَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّنُونَ الْآثِمَةَ غَيْرُ قَلِيلَةٍ، فَوَجَبَ التَّمْحِيصُ وَالْفَحْصُ لِتَمْيِيزِ الظَّنِّ الْبَاطِلِ مِنَ الظَّنِّ الصَّادِقِ. وَالْمُرَادُ بِ الظَّنِّ هُنَا: الظَّنُّ الْمُتَعَلِّقُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ إِلَى كُلِّ ظَنٍّ مُمْكِنٍ هُوَ إِثْمٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يَسْتَوْقِفُ السَّامِعَ لِيَتَطَلَّبَ الْبَيَانَ فَاعْلَمُوا أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ جُرْمٌ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ وُجُوبِ التَّأَمُّلِ فِي آثَارِ الظُّنُونِ لِيَعْرِضُوا مَا تُفْضِي إِلَيْهِ الظُّنُونُ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ لِيَسْأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ الِاسْتِئْنَافِيَّ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّخْوِيفِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْإِثْمِ. وَلَيْسَ هَذَا الْبَيَانُ تَوْضِيحًا لِأَنْوَاعِ الْكَثِيرِ مِنَ الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ، لِأَنَّهَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَنَبَّهَ عَلَى عَاقِبَتِهَا وَتَرَكَ التَّفْصِيلَ لِأَنَّ فِي إِبْهَامِهِ بَعْثًا عَلَى مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِثْمًا أَنَّهُ: إِمَّا أَنْ يَنْشَأَ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ عَمَلٌ أَوْ مُجَرَّدُ اعْتِقَادٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْشَأُ عَلَيْهِ عَمَلٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَالِاغْتِيَابِ وَالتَّجَسُّسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلْيُقَدِّرِ الظَّانُّ أَنَّ ظَنَّهُ كَاذِبٌ ثُمَّ لْيَنْظُرْ بَعْدُ فِي عَمَلِهِ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ فَيَجِدُهُ قَدْ عَامَلَ بِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ مِنِ اتِّهَامِهِ بِالْبَاطِلِ فَيَأْثَمُ مِمَّا طَوَى عَلَيْهِ قَلْبَهُ لِأَخِيهِ

الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ لَمْ يَنْشَأْ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اعْتِقَادٍ دُونَ عَمَلٍ فَلْيُقَدِّرْ أَنَّ ظَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا يَجِدُ نَفْسَهُ قَدِ اعْتَقَدَ فِي أَحَدٍ مَا لَيْسَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ اعْتِقَادًا فِي صِفَاتِ اللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فَقَدْ خَسِرَ الِانْتِفَاعَ بِمَنْ ظَنَّهُ ضَارًّا، أَوِ الِاهْتِدَاءَ بِمَنْ ظَنَّهُ ضَالًّا، أَوْ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ مِمَّنْ ظَنَّهُ جَاهِلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ فَالظَّنُّ الْبَاطِلُ إِذَا تَكَرَّرَتْ مُلَاحَظَتُهُ وَمُعَاوَدَةُ جَوَلَانِهِ فِي النَّفْسِ قَدْ يَصِيرُ عِلْمًا رَاسِخًا فِي النَّفْسِ فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ بِسُهُولَةٍ فَتُصَادِفُ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِضِدِّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 6] . وَالِاجْتِنَابُ: افْتِعَالٌ مِنْ جَنَّبَهُ وَأَجْنَبَهُ، إِذَا أَبْعَدَهُ، أَيْ جَعَلَهُ جَانِبًا آخَرَ، وَفِعْلُهُ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، يُقَالُ: جَنَّبَهُ الشَّرَّ، قَالَ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيم: 35] . وَمُطَاوِعُهُ أَجْتَنِبُ، أَيْ أَبْتَعِدُ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلُ أَمْرٍ إِلَّا بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ الْأَمْرُ بِتَعَاطِي وَسَائِلِ اجْتِنَابِهِ فَإِنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ فِي خَاطِرِ الْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَلَا يُعْقَلُ التَّكْلِيفُ بِاجْتِنَابِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فِيهِ وَتَمْحِيصِهِ وَالتَّشَكُّكِ فِي صِدْقِهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مُوجِبُهُ بِدُونِ تَرَدُّدٍ أَوْ بِرُجْحَانٍ أَوْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ فَتُكَذِّبُ نَفْسَكَ فِيمَا حَدَّثَتْكَ. وَهَذَا التَّحْذِيرُ يُرَادُ مِنْهُ مُقَاوَمَةُ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ بِمَا هُوَ مِعْيَارُهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ الصَّحِيحَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا» . عَلَى أَنَّ الظَّنَّ الْحَسَنَ الَّذِي لَا مُسْتَنَدَ لَهُ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُوقِعُ فِيمَا لَا يُحَدُّ ضُرُّهُ مِنِ اغْتِرَارٍ فِي مَحَلِّ الْحَذَرِ وَمِنِ اقْتِدَاءٍ بِمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّأَسِّي. وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأُمِّ عَطِيَّةَ حِينَ مَاتَ فِي بَيْتِهَا عُثْمَانُ بن مَظْعُون وَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّايِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي

أَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي. فَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ أَحَدًا» . وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ وَتَبْيِينِهِ بِأَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أَنَّ بَعْضًا مِنَ الظَّنِّ لَيْسَ إِثْمًا وَأَنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِاجْتِنَابِ الظَّنِّ الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ لِأَنَّ كَثِيراً وَصْفٌ، فَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ لَمْ نُؤَمَرْ بِاجْتِنَابِهِ وَهُوَ الَّذِي يُبَيِّنُهُ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أَيْ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ لَيْسَ إِثْمًا، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مِعْيَارُهُ فِي تَمْيِيزِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنَ الْآخَرِ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ فِي تَضَاعِيفِ أَحْكَامِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمَا أَفَادَهُ الِاجْتِهَادُ الصَّحِيحُ وَتَتَبُّعُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَمِنْهُ ظَنٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَالْحَذَرِ مِنْ مَكَائِدِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ، وَكَالظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الدَّلِيلِ الْحَاصِلِ مِنْ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التَّفْرِيعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ حَاصِلَةٌ مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْأَدِلَّةِ. وَقَدْ فَتَحَ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ بَابَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ غَيْرِ الْإِثْمِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَقُومُ حُجَّةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ مُعْظَمَ دَلَالَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمَفَاهِيمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ فَهْمُ الْإِنْسَانِ وَزَكَانَتُهُ فَذَلِكَ خَاطِرٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ أَدْرَى فَمُعْتَادُهُ مِنْهُ مِنْ إِصَابَةٍ أَوْ ضِدِّهَا قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا وَلا تَجَسَّسُوا. التَّجَسُّسُ مِنْ آثَارِ الظَّنِّ لِأَنَّ الظَّنَّ يَبْعَثُ عَلَيْهِ حِينَ تَدْعُو الظَّانَّ نَفْسُهُ إِلَى تَحْقِيقِ مَا ظَنَّهُ سِرًّا فَيَسْلُكُ طَرِيقَ التَّجْنِيسِ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْ سُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ لِلتَّحَقُّقِ لِيَسْلُكُوا غَيْرَهُ إِنْ كَانَ فِي تَحْقِيقِ مَا ظَنَّ فَائِدَةٌ. وَالتَّجَسُّسُ: الْبَحْثُ بِوَسِيلَةٍ خَفِيَّةٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَسِّ، وَمِنْهُ سُمِّي الْجَاسُوسُ. وَالتَّجَسُّسُ مِنَ الْمُعَامَلَةِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْمُتَجَسَّسِ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرْبٌ

مِنَ الْكَيْدِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ. وَقَدْ يَرَى الْمُتَجَسِّسُ مِنَ الْمُتَجَسَّسِ عَلَيْهِ مَا يَسُوءُهُ فَتَنْشَأُ عَنْهُ الْعَدَاوَةُ وَالْحِقْدُ. وَيَدْخُلُ صَدْرَهُ الْحَرَجُ وَالتَّخَوُّفُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ضَمَائِرُهُ خَالِصَةً طَيِّبَةً وَذَلِكَ مِنْ نَكَدِ الْعَيْشِ. وَذَلِكَ ثَلْمٌ لِلْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى إِظْهَارِ التَّنَكُّرِ ثُمَّ إِنِ اطَّلَعَ الْمُتَجَسَّسُ عَلَيْهِ عَلَى تَجَسُّسِ الْآخَرِ سَاءَهُ فَنَشَأَ فِي نَفْسِهِ كُرْهٌ لَهُ وَانْثَلَمَتِ الْأُخُوَّةُ ثُلْمَةٌ أُخْرَى كَمَا وَصَفْنَا فِي حَالِ الْمُتَجَسِّسِ، ثُمَّ يَبْعَثُ ذَلِكَ عَلَى انْتِقَامِ كِلَيْهِمَا مِنْ أَخِيهِ. وَإِذْ قَدِ اعْتُبِرَ النَّهْيُ عَنِ التَّجَسُّسِ مِنْ فُرُوعِ النَّهْيِ عَنِ الظَّنِّ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالتَّجَسُّسِ الَّذِي هُوَ إِثْمٌ أَوْ يُفْضِي إِلَى الْإِثْمِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ عَامَّةٌ صَارَ التَّجَسُّسُ كَبِيرَةً. وَمِنْهُ التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ يَبْتَغِي الضُّرَّ بِهِمْ. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ التَّجَسُّسُ الَّذِي لَا يَنْجَرُّ مِنْهُ نَفَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهُمْ فَلَا يَشْمَلُ التَّجَسُّسَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَلَا تَجَسُّسَ الشُّرَطِ عَلَى الْجُنَاةِ وَاللُّصُوصِ. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ. الِاغْتِيَابُ: افْتِعَالٌ مِنْ غَابَهُ الْمُتَعَدِّي، إِذَا ذَكَرَهُ فِي غَيْبِهِ بِمَا يَسُوءُهُ. فَالِاغْتِيَابُ ذِكْرُ أَحَدٍ غَائِبٍ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْغِيبَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ مِثْلَ الْغِيلَةِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ غِيبَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ بِهِ مِمَّا يَثْلِمُ الْعِرْضَ وَإِلَّا صَارَ قَذْعًا. وَإِنَّمَا قَالَ: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً دُونَ أَنْ يَقُولَ: اجْتَنِبُوا الْغَيْبَةَ. لِقَصْدِ التَّوْطِئَةِ لِلتَّمْثِيلِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَانِبِ فَاعِلِ الِاغْتِيَابِ وَمَفْعُولِهِ مَهَّدَ لَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ التَّمْثِيلَ وُضُوحًا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تَقْرِيرِيٌّ لِتَحَقُّقِ أَنَّ

كُلَّ أَحَدٍ يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أُجِيبَ الِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: فَكَرِهْتُمُوهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَرِدِ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى نَفْيِ مَحَبَّةِ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: أَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ، كَمَا هُوَ غَالِبُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، إِشَارَةً إِلَى تَحَقُّقِ الْإِقْرَارِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتْرُكُ لِلْمُقَرَّرِ مَجَالًا لِعَدَمِ الْإِقْرَارِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا الْإِقْرَار. مثلّث الْغَيْبَةُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ الْمَيِّتِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَمْثِيلَ الْمَوْلُوعِ بِهَا بِمَحَبَّةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ الْمَيِّتِ، وَالتَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنْهُ اسْتِفْظَاعُ الْمُمَثَّلِ وَتَشْوِيهُهُ لِإِفَادَةِ الْإِغْلَاظِ عَلَى الْمُغْتَابِينَ لِأَنَّ الْغِيبَةَ مُتَفَشِّيَةٌ فِي النَّاسِ وَخَاصَّةً فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَشُبِّهَتْ حَالَةُ اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِ مَنْ هُوَ أَخُوهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ غَائِبٌ بِحَالَةِ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ لِلْهَيْئَةِ قَابِلٌ لِلتَّفْرِيقِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الَّذِي اغْتَابَ بِآكِلِ لَحْمٍ، وَيُشَبَّهَ الَّذِي اغْتِيبَ بِأَخٍ، وَتُشَبَّهَ غِيبَتُهُ بِالْمَوْتِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَرِهْتُمُوهُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى أَحَدُكُمْ، أَوْ يَعُودُ إِلَى لَحْمَ. وَالْكَرَاهَةُ هُنَا: الِاشْمِئْزَازُ وَالتَّقَذُّرُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ وَقَعَ هَذَا أَوْ إِنْ عَرَضَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ كَرِهْتُمُوهُ. وَفَاءُ الْفَصِيحَةِ تُفِيدُ الْإِلْزَامَ بِمَا بَعْدَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، أَيْ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا مَنَاصَ لِلْمُوَاجَهِ بِهَا مِنِ الْتِزَامِ مَدْلُولِ جَوَابِ شَرْطِهَا الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى: فَتَعَيَّنَ إِقْرَارُكُمْ بِمَا سُئِلْتُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُمَثَّلِ بِهِ (إِذْ لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهُ) تَحَقَّقَتْ كَرَاهَتُكُمْ لَهُ وَتَقَذُّرُكُمْ مِنْهُ، فَلْيَتَحَقَّقْ أَنْ تَكْرَهُوا نَظِيرَهُ الْمُمَثَّلَ وَهُوَ الْغَيْبَةُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَاكْرَهُوا الْمُمَثَّلَ كَمَا كَرِهْتُمُ الْمُمَثَّلَ بِهِ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مُبَالَغَاتٌ: مِنْهَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى أَمْرٍ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ فَجَعْلُكَ لِلشَّيْءِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّكَ تَدَّعِي أَنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ. وَمِنْهَا جَعْلُ مَا هُوَ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ لِلنَّفْسِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ الْمَحَبَّةِ لِلْإِشْعَارِ بِتَفْظِيعِ

حَالَةِ مَا شُبِّهَ بِهِ وَحَالَةِ مَنِ ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أَيَتَحَمَّلُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا، بَلْ قَالَ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ. وَمِنْهَا إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى أَحَدٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَحَدَيْنِ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَمْثِيلِ الِاغْتِيَابِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ حَتَّى جَعَلَ الْإِنْسَانَ أَخًا. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى كَوْنِ الْمَأْكُولِ لَحْمَ الْأَخِ حَتَّى جَعَلَ الْأَخَ مَيِّتًا. وَفِيهِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الطِّبَاقُ بَيْنَ أَيُحِبُّ وَبَيْنَ فَكَرِهْتُمُوهُ. وَالْغِيبَةُ حَرَامٌ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَآثَارٍ مِنَ السُّنَّةِ بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا دُونَهُ. وَذَلِكَ أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَفْسَدَةِ ضَعْفٍ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ تَبْلُغُ الَّذِي اغْتِيبَ فَتَقْدَحُ فِي نَفْسِهِ عَدَاوَةً لِمَنِ اغْتَابَهُ فَيَنْثَلِمُ بِنَاءُ الْأُخُوَّةِ، وَلِأَنَّ فِيهَا الِاشْتِغَالَ بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَذَلِكَ يُلْهِي الْإِنْسَانَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْمُهِمِّ النَّافِعِ لَهُ وَتَرْكِ مَا لَا يَعْنِيهِ. وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَقَلَّ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّيْخَ عَلِيًّا الصَّعِيدِيَّ فِي «حَاشِيَةِ الْكِفَايَةِ» صَرَّحَ بِأَنَّهَا عِنْدَنَا مِنَ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْهَا وَشَنَّعَهَا. وَمُقْتَضَى كَلَامِ السِّجِلْمَاسِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَمَلِ الْفَاسِيِّ» أَنَّهَا كَبِيرَةٌ. وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ فِعْلٌ يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ فَاعِلِهِ بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ كَذَا حَدَّهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِوَجْهِ مَصْلَحَةٍ مِثْلِ تَجْرِيحِ الشُّهُودِ وَرُوَاةِ الْحَدِيثِ وَمَا يُقَالُ لِلْمُسْتَشِيرِ فِي مُخَالَطَةٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغِيبَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ وَصْفُ الْحَالَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ بِذِكْرِ فِسْقِهِ دُونَ مُجَاهَرَةٍ لَهُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتُؤْذِنَ عِنْدَهُ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ لِيَحْذَرَهُ مَنْ سَمِعَهُ إِذْ كَانَ عُيَيْنَةُ يَوْمَئِذٍ مُنْحَرِفًا عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَعَنِ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ «الْعُدَّةِ» فِي فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ، قَالَ الْمَحَلِّيُّ وَأَقَرَّهُ الرَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ. قُلْتُ: وَذَكَرَ السِّجِلْمَاسِيُّ فِي نَظْمِهِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي جَرَى بِهَا عَمَلُ الْقُضَاةِ فِي فَاسَ فَقَالَ: وَلَا تُجَّرِحْ شَاهِدًا بِالْغِيبَه ... لِأَنَّهَا عَمَّتْ بِهَا الْمُصِيبَه وَذَكَرَ فِي شَرْحِهِ: أَنَّ الْقُضَاةَ عَمِلُوا بِكَلَامِ الْغَزَالِيِّ. وَأَمَّا عُمُومُ الْبَلْوَى فَلَا يُوجِبُ اغْتِفَارَ مَا عَمَّتْ بِهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالتَّعَذُّرِ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ. وَعِنْدِي: أَنَّ ضَابِطَ ذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ فِي النَّاسِ كَثْرَةً بِحَيْثُ يَصِيرُ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِالْوَازِعِ الدِّينِيِّ فَحِينَئِذٍ يُفَارِقُهَا مَعْنَى ضَعْفِ الدِّيَانَةِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الْغَيْبَةِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. عَطْفٌ عَلَى جُمَلِ الطَّلَبِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ هَذَا كَالتَّذْيِيلِ لَهَا إِذْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ جِمَاعُ الِاجْتِنَابِ وَالِامْتِثَالِ فَمَنْ كَانَ سَالِمًا مِنَ التَّلَبُّسِ بِتِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى يُجَنِّبُهُ التَّلَبُّسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى يَجْمَعُ الْأَمْرَ بِالْكَفِّ عَمَّا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلتَّذْيِيلِ لِأَنَّ التَّقْوَى تَكُونُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِالْإِثْمِ فَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ وَتَكُونُ التَّقْوَى ابْتِدَاءً فَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُتَّقِيَ، فَالرَّحِيمُ شَامِل للْجَمِيع.

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

[سُورَة الحجرات (49) : آيَة 13] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) انْتِقَالٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْمُعَامَلَاتِ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ، وَأُعِيدَ النِّدَاءُ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْغَرَضِ، إِذْ كَانَ إِعْجَابُ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِفَضَائِلِهَا وَتَفْضِيلُ قَوْمِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَرَى بَقِيَّتَهُ فِي شِعْرِ الْفَرَزْدَقِ وَجَرِيرٍ، وَكَانُوا يُحَقِّرُونَ بَعْضَ الْقَبَائِلِ مِثْلَ بَاهِلَةَ، وَضُبَيْعَةَ، وَبَنِي عُكْلٍ. سُئِلَ أَعْرَابِيٌّ: أَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَنْتَ بَاهِلِيٌّ فَأَطْرَقَ حِينًا ثُمَّ قَالَ: عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنِّي بَاهِلِيٌّ. فَكَانَ ذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الْإِحَنِ وَالتَّقَاتُلِ وَتَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالنَّبْزُ وَالظَّنُّ وَالتَّجَسُّسُ وَالِاغْتِيَابُ الْوَارِدَةُ فِيهَا الْآيَاتُ السَّابِقَةُ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِتَأْدِيبِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اجْتِنَابِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِاقْتِلَاعِ جُذُورِهِ الْبَاقِيَةِ فِي النُّفُوسِ بِسَبَبِ اخْتِلَاطِ طَبَقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ سَنَةِ الْوُفُودِ إِذْ كَثُرَ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ. فَعَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ رَوَى فِي كِتَابِهِ «الْمَرَاسِيلِ» عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي بَيَاضَةَ (مِنَ الْأَنْصَارِ) أَنْ يُزَوِّجُوا أَبَا هِنْدٍ (مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ قِيلَ اسْمُهُ يَسَارٌ) امْرَأَةً مِنْهُمْ فَقَالُوا: تُزَوِّجُ بَنَاتِنَا مَوَالِيَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً الْآيَةَ. وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. وَنُودُوا بِعُنْوَانِ النَّاسُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ رَعْيًا لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْعُنْوَانِ وَبَيْنَ مَا صُدِّرَ بِهِ الْغَرَضُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، أَيْ أَنَّهُمْ فِي الْخِلْقَةِ سَوَاءٌ لِيُتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ وَالتَّفَاخُرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْفَضَائِلِ وَإِلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْإِسْلَامِ بِزِيَادَةِ التَّقْوَى فَقِيلَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى. فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ دُونَ بَقِيَّةِ السُّورَةِ اغْتَرَّ بِأَنَّ غَالِبَ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا كَانَ فِي الْمَكِّيِّ. وَالْمُرَادُ بِالذَّكْرِ وَالْأُنْثَى: آدَمُ وَحَوَّاءُ أَبَوَا الْبَشَرِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَول النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. فَيَكُونُ تَنْوِينُ (ذَكَرٍ وَأُنْثَى) لِأَنَّهُمَا وَصْفَانِ لِمَوْصُوفٍ فَقَرَّرَ، أَيْ مِنْ أَبٍ ذَكَرٍ وَمِنْ أُمٍّ أُنْثَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ ذَكَرٍ وَأُنْثى صِنْفُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مُكَوَّنٌ مِنْ صِنْفِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَحَرْفُ (مِنْ) عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لِلِابْتِدَاءِ. وَالشُّعُوبُ: جَمْعُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُوَ مَجْمَعُ الْقَبَائِلِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْ يُسَمَّى جَذْمًا، فَالْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ فَمُضَرُ شَعْبٌ، وَرَبِيعَةُ شَعْبٌ، وَأَنْمَارٌ شَعْبٌ، وَإِيَادٌ شَعْبٌ، وَتَجْمَعُهَا الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُسْتَعْرِبَةُ، وَهِيَ عَدْنَانُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحِمْيَرُ وَسَبَأٌ، وَالْأَزْدُ شُعُوبٌ مِنْ أُمَّةِ قَحْطَانَ. وَكِنَانَةُ وَقَيْسٌ وَتَمِيمٌ قَبَائِلُ مِنْ شَعْبِ مُضَرَ. وَمَذْحِجٌ، وَكِنْدَةُ قَبِيلَتَانِ مِنْ شَعْبِ سَبَأٍ. وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبِيلَتَانِ مِنْ شَعْبِ الْأَزْدِ. وَتَحْتَ الْقَبِيلَةِ الْعِمَارَةُ مِثْلُ قُرَيْشٍ مِنْ كِنَانَةَ، وَتَحْتَ الْعِمَارَةِ الْبَطْنُ مِثْلُ قُصَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَتَحْتَ الْبَطْنِ الْفَخِذُ مِثْلَ هَاشِمٍ وَأُمَيَّةَ مِنْ قُصَيٍّ، وَتَحْتَ الْفَخِذِ الْفَصِيلَةُ مِثْلُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسِ وَأَبِي سُفْيَانَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِأَنَّ مَا تَحْتَهَا دَاخِلٌ بِطْرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَتَجَاوَزَ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ جَرْيًا عَلَى الْمُتَدَاوَلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَقْسِيمِ طَبَقَاتِ الْأَنْسَابِ إِذْ لَا يُدْرِكُونَ إِلَّا أَنْسَابَهُمْ. وَجُعِلَتْ عِلَّةُ جَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ. وَحِكْمَتُهُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ أَنْ يَتَعَارَفَ النَّاسُ، أَيْ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَالتَّعَارُفُ يَحْصُلُ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ مُتَدَرِّجًا إِلَى الْأَعْلَى، فَالْعَائِلَةُ الْوَاحِدَةُ مُتَعَارِفُونَ، وَالْعَشِيرَةُ مُتَعَارِفُونَ مِنْ عَائِلَاتٍ إِذْ لَا يَخْلُونَ عَنِ انْتِسَابٍ وَمُصَاهَرَةٍ، وَهَكَذَا تَتَعَارَفُ الْعَشَائِرُ مَعَ الْبُطُونِ وَالْبُطُونُ مَعَ الْعَمَائِرِ، وَالْعَمَائِرُ مَعَ الْقَبَائِلِ، وَالْقَبَائِلُ مَعَ الشُّعُوبِ لِأَنَّ كُلَّ دَرَجَةٍ تَأْتَلِفُ مِنْ مَجْمُوعِ الدَّرَجَاتِ الَّتِي دُونَهَا.

فَكَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ الَّذِي أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ نِظَامًا مُحْكَمًا لِرَبْطِ أَوَاصِرِهِمْ دُونَ مَشَقَّةٍ وَلَا تَعَذُّرٍ فَإِنَّ تَسْهِيلَ حُصُولِ الْعَمَلِ بَيْنَ عَدَدٍ وَاسِعِ الِانْتِشَارِ يَكُونُ بِتَجْزِئَةِ تَحْصِيلِهِ بَيْنَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ثُمَّ بِبَثِّ عَمَلِهِ بَيْنَ طَوَائِفَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ثُمَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاعَاتٍ أَكْثَرَ. وَهَكَذَا حَتَّى يَعُمَّ أُمَّةً أَوْ يَعُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَا انْتَشَرَتِ الْحَضَارَاتُ الْمُمَاثِلَةُ بَيْنَ الْبَشَرِ إِلَّا بِهَذَا النَّامُوسِ الْحَكِيمِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّكُمْ حَرَّفْتُمُ الْفِطْرَةَ وَقَلَبْتُمُ الْوَضْعَ فَجَعَلْتُمُ اخْتِلَافَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ بِسَبَبِ تَنَاكُرٍ وَتَطَاحُنٍ وَعُدْوَانٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِيَنَا ... لَا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا لَا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونَا وَنُكْرِمَكُمْ ... وَأَنْ نَكُفَّ الْأَذَى عَنْكُمْ وَتُؤْذُونَا وَقَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ وَحَارَبَهُ بَنُو عَمِّهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ: وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ ... وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي وَقَوْلُ الشَّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ: وَقَدْ سَاءَنِي مَا جَرَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا ... بَنِي عَمِّنَا لَوْ كَانَ أَمْرًا مُدَانِيَا وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا لَا تُحْصَرُ عَدَا مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّفَاخُرِ وَالتَّطَاوُلِ وَالسُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالنَّبْزِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَالْغِيبَةِ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ جَبَرَ اللَّهُ صَدْعَ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ تَصَارِيفُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ تَرْجِعُ بِالنَّاسِ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا إِخْوَةً وَأَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَقَاتِلَةِ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَثْلِمُ الْأُخُوَّةَ وَمَا يَغِينُ عَلَى نُورِهَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ وَالظَّنِّ السُّوءِ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِأَصْلِ الْأُخُوَّةِ فِي الِأَنْسَابِ الَّتِي أَكَّدَتْهَا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَوَحْدَةُ الِاعْتِقَادِ لِيَكُونَ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ عَوْنًا عَلَى تَبَصُّرِهِمْ فِي حَالِهِمْ،

وَلَمَّا كَانَتِ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالتَّنَابُزُ مِمَّا يُحْمَلُ عَلَيْهِ التَّنَافُسُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالْقَبَائِلِ جَمَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى هَذَا التَّشْعِيبِ الَّذِي وَضَعَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي فَاسِدِ لَوَازِمِهِ وَأَهْمَلُوا صَالِحَ مَا جُعِلَ لَهُ بِقَوْلِهِ: لِتَعارَفُوا ثُمَّ وَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أَيْ فَإِنْ تَنَافَسْتُمْ فَتَنَافَسُوا فِي التَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] . وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَصْلِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ لِيُتَوَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِرَادَةِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا الَّتِي تَرْفَعُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ كِنَايَةً بِمَرْتَبَتَيْنِ. وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فَتِلْكَ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى مَنْزِلَةَ الْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْقِيَاسِ وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ. وَأَمَّا جُمْلَةُ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ مِنِ اعْتِرَاضِهَا: إِدْمَاجُ تَأْدِيبٍ آخَرَ مِنْ وَاجِبِ بَثِّ التَّعَارُفِ وَالتَّوَاصُلِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْهُمْ. وَمِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا خَطَبَ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى» . وَمِنْ نَمَطِ نَظْمِ الْآيَةِ وَتَبْيِينِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَة قَول النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا لَا لِآبَاءِ النَّاسِ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ أَوْ فَاجِرٍ شَقِيٍّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا خَطَبَ بِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (عُبِّيَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا وَبِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ تَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ: الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ. وَوَزْنُهُمَا عَلَى لُغَةِ ضَمِّ الْفَاءِ فُعْوِلَّةٌ وَعَلَى لُغَةِ كَسْرِ الْفَاءِ فِعْلِيَّةٌ، وَهِيَ إِمَّا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعْبِيَةِ فَتَضْعِيفُ الْبَاءِ لِمُجَرَّدِ

الْإِلْحَاقِ مِثْلُ نَضَّ الثَّوْبُ بِمَعْنَى نَضَى أَوْ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عُبَابِ الْمَاءِ فَالتَّضْعِيفُ فِي الْبَاءِ أَصْلِيٌّ) . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ثُمَّ خَطَبَهُمْ فِي بَطْنِ الْمُسِيلِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى إِلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ فِي النَّظْمِ عَنْ جُمْلَةِ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، لِتَكُونَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ كَالتَّوْطِئَةِ لِهَذِهِ وَتَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْمُقَدِّمَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَسَاوَوْا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ لَا يَفْضُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا بِالْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ الْكَمَالُ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ وَالَّذِي جَعَلَ التَّقْوَى وَسِيلَتَهُ وَلِذَلِكَ نَاطَ التَّفَاضُلَ فِي الْكَرَمِ بِ عِنْدَ اللَّهِ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِكَرَمٍ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْرَمِ: الْأَنْفَسُ وَالْأَشْرَفُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَالْأَتْقَى: الْأَفْضَلُ فِي التَّقْوَى وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ صِيغَ مِنِ اتَّقَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أَيْ إِنَّمَا كَانَ أَكْرَمُكُمْ أَتْقَاكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْكَرَامَةِ الْحَقِّ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُ الْمَكَارِمَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْبَطْشِ وَإِفْنَاءِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ وَجْهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ الْكَرَامَةُ الَّتِي هِيَ التَّقْوَى خَبِيرٌ بِمِقْدَارِ حُظُوظِ النَّاسِ مِنَ التَّقْوَى فَهِيَ عِنْدَهُ حُظُوظُ الْكَرَامَةِ فَلِذَلِكَ الْأَكْرَمُ هُوَ الْأَتْقَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النَّجْم: 32] أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَرَاتِبِكُمْ فِي التَّقْوَى، أَيِ الَّتِي هِيَ التَّزْكِيَةُ الْحَقُّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] . عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ لِلنَّاسِ مَكَارِمُ أُخْرَى فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّقْوَى مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرُ تَزْكِيَةٍ فِي النُّفُوسِ مِثْلُ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ ونقاء النّسَب والعرافة فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ وَحُسْنِ السُّمْعَةِ فِي الْأُمَمِ وَفِي

[سورة الحجرات (49) : آية 14]

الْفَصَائِلِ، وَفِي الْعَائِلَاتِ، وَكَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا خَلَّدَهُ التَّارِيخُ الصَّادِقُ لِلْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ فَمَا يَتْرُكُ آثَارًا لِأَفْرَادِهَا وَخِلَالًا فِي سَلَائِلِهَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» . فَإِنَّ فِي خلق الأنباء آثَارًا مِنْ طِبَاعِ الْآبَاءِ الْأَدَنَيْنَ أَوِ الْأَعْلَيْنَ تَكُونُ مُهَيَّئَةً نُفُوسُهُمْ لِلْكَمَالِ أَوْ ضِدِّهِ وَأَنَّ لِلتَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ آثَارًا جَمَّةً فِي تَكْمِيلِ النُّفُوسِ أَوْ تَقْصِيرِهَا وَلِلْعَوَائِدِ وَالتَّقَالِيدِ آثَارُهَا فِي الرِّفْعَةِ وَالضَّعَةِ وَكُلُّ هَذِهِ وَسَائِلُ لِإِعْدَادِ النُّفُوسِ إِلَى الْكَمَالِ وَالزَّكَاءِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي تُخَطِّطُهُ التَّقْوَى. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِتَزْكِيَةِ نَوَايَاهُمْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَا يُرِيدُونَ مِنَ التَّقْوَى بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ ويحاسبهم عَلَيْهِ. [14] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 14] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) كَانَ مِنْ بَيْنِ الْوُفُودِ الَّتِي وَفَدَتْ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ الْمُسَمَّاةِ سَنَةَ الْوُفُودِ، وَفْدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَكَانُوا يَنْزِلُونَ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قُدُومُهُمُ الْمَدِينَةَ عَقِبَ قُدُومِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ الَّذِي ذُكِرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَوَفَدَ بَنُو أَسَدٍ فِي عدد كثير وَفِيهِمْ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَطُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (الَّذِي ادَّعَى النُّبُوءَةَ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الرِّدَّةِ) ، وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَنَةَ جَدْبٍ بِبِلَادِهِمْ فَأَسْلَمُوا وَكَانُوا يَقُولُونَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْكَ الْعَرَبُ بِأَنْفُسِهَا عَلَى ظُهُورِ رَوَاحِلِهَا وَجِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ وَالذَّرَارِيِّ وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ مُحَارِبُ خَصَفَةَ وَهَوَازِنَ وَغَطَفَانَ. يَفِدُونَ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرُوحُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَيَمُنُّونَ عَلَيْهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهِمُ الصَّدَقَاتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ لِوُقُوعِ الْقِصَّتَيْنِ قِصَّةِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَقِصَّةِ وَفْدِ بَنِي أَسَدٍ فِي أَيَّامٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَالْأَغْرَاضُ الْمَسْكُوَّةُ بِالْجَفَاءِ مُتَنَاسِبَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [11] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا الْآيَةَ.

قَالُوا آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْأَعْرَابُ: سُكَّانُ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا مُفْرَدَ لَهُ فَيَكُونُ الْوَاحِدُ مِنْهُ بِيَاءِ النِّسْبَةِ أَعْرَابِيٌّ. وَتَعْرِيفُ الْأَعْرابُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَعْرَابٍ مُعَيَّنِينَ وَهُمْ بَنُو أَسَدٍ فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي فِي الْآيَةِ حَاقًّا عَلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الْبَوَادِي وَلَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ بَنِي أَسَدٍ. وَهُمْ قَالُوا آمَنَّا حِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ لَا بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ لِقَصْدِ أَن يخلصوا إِيمَانهم وَيَتَمَكَّنُوا مِنْهُ كَمَا بَيَّنَهُ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِحَرْفِ (لَكِنْ) لِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا أَنهم جاؤوا مُضْمِرِينَ الْغدر بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا تَعْلِيمًا لَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مُقِرُّهُ اللِّسَانُ وَالْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ، وَهِيَ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ الْأَرْبَعَةُ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْكَعْبَةِ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ عَنْ سُؤَالِ جِبْرِيل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَالسَّاعَةِ «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وتقيم الصَّلَاة وَتَأْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» فَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ لَمَّا جَاءُوا مُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَيْرَ مُطْمَئِنَّةٍ لِعَقَائِدِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِهِ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْفَ بَاطِنُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَأَنه لَا يتعدّ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ الْإِيمَانُ، فَلَا يُغْنِي أَحَدَهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ، فَالْإِيمَانُ بِدُونِ إِسْلَامٍ عِنَادٌ، وَالْإِسْلَامُ بِدُونِ إِيمَانٍ نِفَاقٌ، وَيَجْمَعُهُمَا طَاعَةُ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُمْ، أَوْ أَنْ يُقَالَ: قُلْ لَا تَقُولُوا آمَنَّا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، لِيَتَوَافَقَ الْمُسْتَدْرَكُ عَنْهُ وَالِاسْتِدْرَاكُ بِحَسَبِ النَّظْمِ الْمُتَعَارَفِ فِي الْمُجَادَلَاتِ، فَعَدَلَ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى هَذَا النَّظْمِ لِأَنَّ فِيهِ

صَرَاحَةً بِنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ غَالَطُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتُغْنِيَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَا تَقُولُوا آمَنَّا، لِاسْتِهْجَانِ أَنْ يُخَاطَبُوا بِلَفْظٍ مُؤَدَّاهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِعْلَانِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَقُولُوا آمَنَّا قَوْلًا صَادِقًا لَا كَاذِبًا فَقيل لَهُم لَمْ تُؤْمِنُوا تَكْذِيبًا لَهُمْ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ التَّكْذِيبِ وَلَكِنْ وَقَعَ التَّعْرِيضُ لَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أَيْ لَا أَنْتُمْ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالِاسْتِدْرَاكِ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَلَكِنْ أَسْلَمْتُمْ إِلَى قُولُوا أَسْلَمْنا تَعْرِيضًا بِوُجُوبِ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ لِيُطَابِقَ الْوَاقِعَ، فَهُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنَّ كَذِبَهُمْ قَدْ ظَهَرَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُتَعَيَّرُ بِهِ، أَيِ الشَّأْنُ أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا صَادِقًا. وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَمْ تُؤْمِنُوا وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِمَعْنَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ انْتِفَاءَ وُجُودِ تَصْدِيقٍ بِاللِّسَانِ وَلَكِنِ انْتِفَاءُ رُسُوخِهِ وَعَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنِ ارْتِيَابٍ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا. وَاسْتُعِيرَ الدُّخُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لِلتَّمَكُّنِ وَعَدَمِ التَّزَلْزُلِ لِأَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْمَكَانِ يَتَمَكَّنُ وَيَسْتَقِرُّ وَالْخَارِجَ عَنْهُ يَكُونُ سَرِيعَ الْمُفَارَقَةِ لَهُ مُسْتَوْفِزًا لِلِانْصِرَافِ عَنْهُ. وَ (لَمَّا) هَذِهِ أُخْتُ (لَمْ) وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ بِهَا مُتَّصِلٌ بِزَمَانِ التَّكَلُّمِ وَذَلِكَ الْفَارِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (لَمْ) أُخْتِهَا. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ إِلَى زمن التَّكَلُّم تُؤْذِنُ غَالِبًا، بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُتَوَقَّعُ الْوُقُوعِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَمَا فِي (لَمَّا) مِنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ» . وَهِيَ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ الْعَرَبِيَّةِ. وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَيَّانَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ حُجَّةٌ فِي الذَّوْقِ لَا يُدَانِيهِ أَبُو حَيَّانَ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ تَكْرِيرًا مَعَ

قَوْله: لم يُؤمنُوا. وَقَوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِرْشَادٌ إِلَى دَوَاءِ مَرَضِ الْحَالِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ إِنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ فَإِنَّ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ بِأَنْ يُقْبِلُوا عَلَى التَّعَلُّمِ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ عِوَضًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنِّ وَالتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ الصَّدَقَاتِ. وَمَعْنَى لَا يَلِتْكُمْ لَا يَنْقُصُكُمْ، يُقَالُ: لَاتَهُ مِثْلُ بَاعَهُ. وَهَذَا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَيُقَالُ: أَلَتَهُ أَلْتًا مِثْلَ: أَمَرَهُ، وَهِيَ لُغَةُ غَطَفَانَ قَالَ تَعَالَى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الطُّورِ [21] . وَقَرَأَ بِالْأُولَى جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَبِالثَّانِيَةِ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ. وَلِأَبِي عَمْرٍو فِي تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ فِيهَا وَتَخْفِيفِهَا أَلِفًا رِوَايَتَانِ فَالدُّورِيُّ رَوَى عَنْهُ تَحْقِيقَ الْهَمْزَةِ وَالسُّوسِيُّ رَوَى عَنْهُ تَخْفِيفَهَا. وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي يَلِتْكُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: لَا يَلِتَاكُمْ بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مُتَوَلِّي الْجَزَاءِ دون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: إِنْ أَخْلَصْتُمُ الْإِيمَانَ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَقَبَّلَ اللَّهُ أَعْمَالَكُمُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ جِئْتُمْ طَائِعِينَ لِلْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيمٍ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْ كَذِبِهِمْ إِذَا تَابُوا، وَتَرْغِيبٌ فِي إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْغَفُورَ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ شَدِيدُهَا، وَمِنْ فَرْطِ مَغْفِرَتِهِ أَنَّهُ يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعْتَدٍ بِهَا فَإِذَا آمَنَ عَامِلُهَا جُوزِيَ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ إِيمَانِهِ وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ. وَتَرْتِيبُ رَحِيمٌ بَعْدَ غَفُورٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَصْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَشَأْنُ الْعِلَّةِ أَنْ تُورَدَ بَعْدَ الْمُعَلل بهَا.

[سورة الحجرات (49) : آية 15]

[سُورَة الحجرات (49) : آيَة 15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا إِلَى قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِكُمْ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْأَعْرَابِ، أَيْ لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُخَالِطْ إِيمَانَهُمُ ارْتِيَابٌ أَوْ تَشَكُّكٌ. وَ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ، وَ (إِنَّ) الَّتِي هِيَ جُزْء مِنْهَا مفيدة أَيْضًا لِلتَّعْلِيلِ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، أَيْ إِنَّمَا لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُنَافِيهِ الِارْتِيَابُ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَاتُهُمْ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ. فَأَفَادَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ انْتَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُمُ انْتَفَى عَنْهُمْ مَجْمُوعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ مِنْهُ إِلَّا إِثْبَاتَ الْوَصْفِ لِغَيْرِ الْمَقْصُورِ لِإِخْرَاجِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِمُقْتَضٍ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ عَدَّ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صِفَتَيِ الْإِيمَانِ وَانْتِفَاءِ الرَّيْبِ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَقْعُدُ عَنِ الْجِهَادِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ وَصْفُ الْإِيمَانِ إِذْ لَا يَكْفُرُ الْمُسْلِمُ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ. وَمَا عَدَاهُ خَطَأٌ وَاضِحٌ، وَإِلَّا لانتقضت جَامِعَة الْإِسْلَامِ بِأَسْرِهَا إِلَّا فِئَةً قَلِيلَةً فِي أَوْقَاتٍ غَيْرِ طَوِيلَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِدْمَاجِ ذِكْرِ الْجِهَادِ التَّنْوِيهُ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ وَتَحْرِيضُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ إِلَى الْجِهَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ الْآيَة [الْفَتْح: 16] . وَ (ثُمَّ) مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. فَفِي (ثُمَّ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الِارْتِيَابِ فِي إِيمَانِهِمْ أَهَمُّ رُتْبَةً مِنَ الْإِيمَانِ إِذْ بِهِ قِوَامُ الْإِيمَانِ،

[سورة الحجرات (49) : آية 16]

وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى بَيَانِ قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا يُخَالِجُكُمُ ارْتِيَابٌ فِي بَعْضِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ مِمَّا اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قَصْرٌ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ أَيْضًا، أَيْ هُمُ الصَّادِقُونَ لَا أَنْتُمْ فِي قَوْلكُم آمَنَّا. [16] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 16] قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) أُعِيدَ فِعْلُ قُلْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقُولَ لَهُمْ هَذَا هُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا إِلَى آخِرِهِ، فَأُعِيدَ لَمَّا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِالْجُمَلِ الْمُتَتَابِعَةِ، فَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ اتِّصَالَ الْبَيَانِ بِالْمُبَيِّنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَجُمْلَةُ قُلْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُبَيِّنَةِ وَالْمُبَيَّنَةِ. قِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا الْآيَة جاؤوا إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: «قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَلَمْ يُرْوَ بِسَنَدٍ مَعْرُوفٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ تَفْسِيرًا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ كَمَا وَبَّخَ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [42] بِقَوْلِهِ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ بِسَنَدٍ مَقْبُولٍ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا أُمِرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَالتَّعْلِيمُ مُبَالَغَةٌ فِي إِيصَالِ الْعِلْمِ إِلَى الْمُعَلَّمِ لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْعِيلِ تَقْتَضِي قُوَّةً فِي حُصُولِ الْفِعْلِ كَالتَّفْرِيقِ وَالتَّفْسِيرِ، يُقَالُ: أَعْلَمَهُ وَعَلَّمَهُ كَمَا يُقَالُ: أَنْبَأَهُ وَنَبَّأَهُ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ تَكَلَّفُوا وَتَعَسَّفُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى خُلُوصِ إِيمَانِهِمْ لِيُقْنِعُوا بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَبْلَغَهُمْ أَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ رُسُوخَ الْإِيمَانِ بِمُحَاوَلَةِ إِقْنَاعِهِ تَدُلُّ إِلَى مُحَاوَلَةِ إِقْنَاعِ اللَّهِ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ. وَبَاءُ بِدِينِكُمْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

[سورة الحجرات (49) : آية 17]

لَكَ الْخَيْرَانِ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَقَدْ أُيِّدَ التَّوْبِيخُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ إِذْ حَاوَلُوا إِخْفَاءَ بَاطِنِهِمْ عَنِ الْمُطَّلِعِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَعَمُّ مِنْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ صِفَاتِهِ وَيَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَات كالعرش. [17] [سُورَة الحجرات (49) : آيَة 17] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أُرِيدَ بِهِ إِبْطَالُ مَا أَظْهَرَهُ بَنُو أَسد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَزِيَّتِهِمْ إِذْ أَسْلَمُوا مِنْ دُونِ إِكْرَاهٍ بِغَزْوٍ. وَالْمَنُّ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ لِيُرَاعِيَهُ الْمُحْسَنُ إِلَيْهِ لِلذَّاكِرِ، وَهُوَ يَكُونُ صَرِيحًا مِثْلَ قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: أَتَنْسَى دِفَاعِي عَنْكَ إِذْ أَنْتَ مُسْلَمٌ ... وَقَدْ سَالَ مِنْ ذُلٍّ عَلَيْكَ قَرَاقِرُ وَيَكُونُ بِالتَّعْرِيضِ بِأَنْ يَذْكُرَ الْمَانُّ مِنْ مُعَامَلَته مَعَ الْمَمْنُون عَلَيْهِ مَا هُوَ نَافِعُهُ مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاعِي مُخَاطِبًا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ: فَآزَرَتُ آلَ أَبِي خُبَيْبٍ وَافِدًا ... يَوْمًا أُرِيدَ لِبَيْعَتِي تَبْدِيلَا أَبُو خُبَيْبٍ: كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَكَانَتْ مَقَالَةُ بَنِي أَسَدٍ مُشْتَمِلَةً عَلَى النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمَنِّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ مُحَارِبٌ وَغَطَفَانُ وَهَوَازِنُ وَقَالُوا: وَجِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ. وأَنْ أَسْلَمُوا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ التَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: مَنَّ عَلَيْهِ

بِكَذَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُطَّرِدٌ مَعَ أَنْ وَ (أَنْ) وَالثَّانِي سَمَاعِيٌّ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَهُمْ قَالُوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَّا كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ آنِفًا، وَسَمَّاهُ هُنَا إِسْلَامًا لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] أَي أَن الَّذِي مَنَّوْا بِهِ عَلَيْكَ إِسْلَامٌ لَا إِيمَانٌ. وَأُثْبِتَ بِحَرْفِ بَلِ أَنَّ مَا مَنَّوْا بِهِ إِنْ كَانَ إِسْلَامًا حَقًّا مُوَافِقًا لِلْإِيمَانِ فَالْمِنَّةُ لِلَّهِ لِأَنْ هَدَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَسْلَمُوا عَنْ طَوَاعِيَةٍ. وَسَمَّاهُ الْآنَ إِيمَانًا مُجَارَاةً لِزَعْمِهِمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ كَوْنِ الْمِنَّةِ لِلَّهِ فَمُنَاسَبَةُ مُسَابَرَةِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ آمَنُوا، أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ فَإِنَّ إِيمَانَكُمْ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَنَفَى أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ مَا يَمُنُّونَ بِهِ حَقًّا، ثُمَّ أَفَادَ ثَانِيًا أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ فِيمَا ادَّعَوْهُ لَهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ بَلْ هُوَ فَضْلُ اللَّهِ. وَقَدْ أُضِيفَ إِسْلَامٌ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا يُسَمَّى إِسْلَامًا لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. وَأُتِيَ بِالْإِيمَانِ مُعَرَّفًا بِلَامِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَأَنَّهُمْ مُلَابِسُوهَا. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَمُنُّونَ مَعَ أَنَّ مَنَّهُمْ بِذَلِكَ حَصَلَ فِيمَا مَضَى لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ مَنِّهِمْ كَيْفَ يَمُنُّونَ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا مِثْلَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [212] . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ مَنٌّ مَفْرُوضٌ لِأَنَّ الْمَمْنُونَ بِهِ لَمَّا يَقَعْ. وَفِيهِ مِنَ الْإِيذَانِ بِأَنَّهُ سَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، وَهَذَا مِنَ التَّفَنُّنِ الْبَدِيعِ فِي الْكَلَامِ لِيَضَعَ السَّامِعَ كُلِّ فَنٍّ مِنْهُ فِي قَرَارِهِ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّقْوِيَةِ مِثْلُ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، كَمَا مَثَّلَ بِهِ عبد القاهر.

[سورة الحجرات (49) : آية 18]

[سُورَة الحجرات (49) : آيَة 18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) ذُيِّلَ تَقْوِيمُهُمْ عَلَى الْحَقِّ بِهَذَا التَّذْيِيلِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُمُ، وَأَنَّهُ لَا يَكْذِبُ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أُصُولُ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَرُبَّمَا عَلِمَهَا بَعْضُهُمْ مِثْلَ زُهَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ ... لِيَخْفَى فَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ تَنَصُّرِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ أَنْ لِأَنَّهُمْ بِحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَكَذَبُوا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَكَانَ كَذِبُهُمْ عَلَيْهِ مِثْلَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ جُمْلَتَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات: 16] وَلَكِنَّ هَذِهِ زَادَتْ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْعُمُومَيْنِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا عُمُومَانِ عُرْفِيَّانِ قِيَاسًا عَلَى عِلْمِ الْبَشَرِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَطْفُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَكَانَ شَأْنَ الْغَائِبِ أَنْ لَا يُرَى عَطَفَ عَلَيْهِ عِلْمَهُ بِالْمُبْصَرَاتِ احْتِرَاسًا مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَفَايَا النُّفُوسِ وَمَا يَجُولُ فِي الْخَوَاطِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْمُشَاهَدَاتِ نَظِيرَ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ: إِنَّ الْخَالِقَ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَلِهَذَا أُوثِرَ هُنَا وَصْفُ بَصِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.

50- سورة ق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 50- سُورَةُ ق سُمِّيَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ ق (يُنْطَقُ بِحُرُوفِ: قَافٍ، بِقَافٍ، وَأَلِفٍ، وَفَاءٍ) . فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُورَةَ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] . وَرُبَّمَا قَالَ: ق يَعْنِي فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ «مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذْ خَطَبَ النَّاسَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفجْر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، هَكَذَا رَسْمُ قَافْ ثَلَاثُ أَحْرُفٍ، وَقَوْلُهُ: فِي الْفَجْرِ يَعْنِي بِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ لِأَنَّهَا الَّتِي يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الْجَمَاعَةِ فَأَمَّا نَافِلَةُ الْفَجْرِ فَكَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» وَمُسْلِمٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقَدٍ اللِّيثِيَّ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطَرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِ قَافْ هَكَذَا رَسْمُ قَافْ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ مِثْلُ مَا رُسِمَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ والْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرُ: 1] . وَهِيَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي ابْتِدَائِهَا مِثْلَ طه وَص وَق وَيس لِانْفِرَادِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا بِعَدَدِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِهَا بِحَيْثُ إِذَا دُعِيَتْ بِهَا لَا تَلْتَبِسُ بِسُورَةٍ أُخْرَى. وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةَ الْبَاسِقَاتِ هَكَذَا بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَلَمْ يَعْزِهِ

لِقَائِلٍ وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَتُهَا هَذِهِ عَلَى اعْتِبَارِ وَصْفٍ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ سُورَةُ النَّخْلِ الْبَاسِقَاتِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] . وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَفِي «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» و «الإتقان» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: اسْتِثْنَاءُ آيَةٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، يَعْنِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِذْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، يَعْنِي أَنَّ مَقَالَةَ الْيَهُودِ سُمِعَتْ بِالْمَدِينَةِ، يَعْنِي: وَأُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِمُنَاسَبَةِ مَوْقِعِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعْنًى دَقِيقًا فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ بِالَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْمَدِينَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ فَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ بَعْضَ آرَاءِ الْيَهُودِ كَانَ مِمَّا يَتَحَدَّثُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّيَ الْقَصَصِ وَالْأَخْبَارِ. وَكَانُوا بَعْدَ الْبَعْثَةِ يَسْأَلُونَ الْيَهُودَ عَن أَمر النبوءة وَالْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ إِبْطَالَ أَوْهَامِ الْيَهُودِ لَا تَقْتَضِي أَنْ يُؤَخِّرَ إِبْطَالَهَا إِلَى سَمَاعِهَا بَلْ قَدْ يَجِيءُ مَا يُبْطِلُهَا قَبْلَ فُشُوِّهَا فِي النَّاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَوَرَدَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ بَعْضُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْبِحَارَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ ثُمَّ يَقُولُ «أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» فَتلا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ . وَالْمَقْصُودُ مِنْ تِلَاوَتِهَا هُوَ قَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى سُوءِ فَهْمِ الْيَهُودِ صِفَاتِ اللَّهِ. وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَلَاثُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1] . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ.

أغراض هاته السورة

أَغْرَاضُ هَاتِهِ السُّورَةِ أَوَّلُهَا: التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ. ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كذبُوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْبَشَرِ، وَثَالِثُهَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا وَخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَنَشْأَةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ لِلْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. الرَّابِعُ: تَنْظِيرُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ بِبَعْضِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الْمَعْلُومَةِ لَدَيْهِمْ، وَوَعِيدُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. الْخَامِسُ: الْوَعِيدُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ احْتِضَارِ الْوَاحِدِ، وَذِكْرُ هَوْلِ يَوْمِ الْحِسَابِ. السَّادِسُ: وَعْدُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ. السَّابِعُ: تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَمْرُهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَإِرْجَاءِ أَمْرِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَخَذَهُمْ مِنَ الْآنَ وَلَكِنْ حِكْمَةُ اللَّهِ قَضَتْ بِإِرْجَائِهِمْ وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلَّفْ بِأَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ. الثَّامِنُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِالْقُرْآنِ. التَّاسِعُ: إِحَاطَةُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَفِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاطِرِ النُّفُوسِ. [1- 3] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) ق الْقَوْلُ فِيهِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. فَهُوَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي وَقَدْ رَسَمُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ حَرْفِ الْقَافِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا فِي الْمَكْتَبِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِهَا بِاسْمِ الْحَرْفِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ يَنْطِقُونَ بِقَافٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، بَعْدَهُ فَاءٌ.

وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى النُّطْقِ بِهِ سَاكِنَ الْآخِرِ سُكُونَ هِجَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَعْضِ الْقَصَّاصِينَ الْمَكْذُوبَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ق اسْمُ جَبَلٍ عَظِيمٍ مُحِيطٍ بِالْأَرْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جِبَالٍ سَبْعَةٍ مُحِيطَةٍ بِالْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَاحِدًا وَرَاءَ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ أَرْضٌ وَرَاءَ أَرْضٍ. أَيْ فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ انْحَصَرَتْ أَفْرَادُهُ فِي سَبْعَةٍ، وَأَطَالُوا فِي وَصْفِ ذَلِكَ بِمَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِمُ الْخَيَالُ الْمَشْفُوعُ بِقِلَّةِ التَّثَبُّتِ فِيمَا يَرْوُونَهُ لِلْإِغْرَابِ، وَذَلِكَ مِنَ الْأَوْهَامِ الْمَخْلُوطَةِ بِبَعْضِ أَقْوَالِ قُدَمَاءِ الْمَشْرِقِيِّينَ وَبِسُوءِ فَهْمِ الْبَعْضِ فِي عِلْمِ جُغْرَافِيَةِ الْأَرْضِ وَتَخَيُّلِهِمْ إِيَّاهَا رِقَاعًا مُسَطَّحَةً ذَاتَ تَقَاسِيمَ يُحِيطُ بِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَا يَفْصِلُهُ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ بِحَارٍ وَجِبَالٍ، وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي تَرَفُّعُ الْعُلَمَاءِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِهِ لَوْلَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهُ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَ تُفْرَضَ هَذِهِ الْأَوْهَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ مِنَ الْقُرْآن الم [الْبَقَرَة: 1] ، يَكْفِهِمْ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى صُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي مثل الم [العنكبوت: 1] والمص [الْأَعْرَاف: 1] وكهيعص [مَرْيَم: 1] وَلَوْ أُرِيدَ الْجَبَلُ الْمَوْهُومُ لَكُتِبَ قَافٌ ثَلَاثَةُ حُرُوفٍ كَمَا تُكْتَبُ دَوَالُ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ عَيْنٍ: اسْم الْجَارِحَة، وغينش: مَصْدَرُ غَانَ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُ أَنْ يُدَلَّ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) . قَسَمٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْقَسَمُ بِهِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَظِيمٍ عِنْدَ الْمُقْسِمِ فَكَانَ التَّعْظِيمُ مِنْ لَوَازِمِ الْقَسَمِ. وَأَتْبَعَ هَذَا التَّنْوِيهَ الْكِنَائِيَّ بِتَنْوِيهٍ صَرِيحٍ بِوَصْفِ الْقُرْآنِ بِ الْمَجِيدِ فَالْمَجِيدُ الْمُتَّصِفُ بِقُوَّةِ الْمَجْدِ. وَالْمَجْدُ وَيُقَالُ الْمُجَادَّةُ: الشَّرَفُ الْكَامِلُ وَكَرَمُ النَّوْعِ.

وَشَرَفُ الْقُرْآنِ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَعْلَى الْمَعَانِي النَّافِعَةِ لِصَلَاحِ النَّاسِ فَذَلِكَ مَجْدُهُ. وَأَمَّا كَمَالُ مَجْدِهِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ بِوَصْفِ مَجِيدٍ فَذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفُوقُ أَفْضَلَ مَا أَبْلَغَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ أَوْجَدَ أَلْفَاظَهُ وَتَرَاكِيبَهُ وَصُورَةَ نَظْمِهِ بِقُدْرَتِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَدَهُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِ يُعَبِّرُونَ بِكَلَامِهِمْ عَمَّا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ. وَيَدْخُلُ فِي كَمَالِ مَجْدِهِ أَنَّهُ يَفُوقُ كُلَّ كَلَامٍ أَوْجَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِثْلَ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَائِنَا بِالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَفُوقُ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَجَعَلَهُ مُعْجِزًا لِبُلَغَاءِ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ. وَيَفُوقُ كُلَّ كَلَامٍ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ بِوَفْرَةِ مَعَانِيهِ وَعَدَمِ انْحِصَارِهَا، وَأَيْضًا بِأَنَّهُ تَمَيَّزَ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَخُهُ كِتَابٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ وَمَا يُنْسَخُ مِنْهُ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ يَنْسَخُهُ بَعْضُهُ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ فِي الْمَقَامِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ بِحَرْفِ ق الْمُشْعِرِ بِالنِّدَاءِ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضْرَابُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالْقُرْآنُ الْمَجِيدُ إِنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ بِالْحَقِّ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 1- 4] . أَوْ يُقَدَّرُ الْجَوَابُ: إِنَّهُ لَتَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَحْوِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الْأَحْزَاب: 1- 3] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ يَقْتَضِي كَلَامًا مُنْتَقَلًا مِنْهُ وَالْقَسَمُ بِدُونِ جَوَابٍ لَا يُعْتَبَرُ كَلَامًا تَامًّا فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدِّرَ السَّامِعُ جَوَابًا تَتِمُّ بِهِ الْفَائِدَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ.

وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ وَحَسَّنَهُ أَنَّ الِانْتِقَالَ مُشْعِرٌ بِأَهَمِّيَّةِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، أَيْ عُدْ عَمَّا تُرِيدُ تَقْدِيرَهُ مِنْ جَوَابٍ وَانْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ سَبَبِ إِنْكَارِهِمُ الَّذِي حَدَا بِنَا إِلَى الْقَسَمِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: دَعْ ذَا، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَدَعْ ذَا وَسَلِ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ... ذُمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا وَقَوْلِ الْأَعْشَى: فَدَعْ ذَا وَلَكِنْ رُبَّ أَرْضٍ مُتَيَّهَةٍ ... قَطَعْتُ بِحُرْجُوجٍ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا وَتَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ فِي سُورَةِ ص [2] . وَقَوْلِهِ: وَعَجِبُوا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ إِنْكَارًا لِعَجَبِهِمُ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِحَالَةِ. وعَجِبُوا حَصَلَ لَهُمُ الْعَجَبُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْأَمْرُ غَيْرُ الْمَأْلُوفِ لِلشَّخْصِ قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 72، 73] فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي أَتَعْجَبِينَ إِنْكَارٌ وَإِنَّمَا تُنْكَرُ إِحَالَةُ ذَلِكَ لَا كَوْنُهُ مُوجِبَ تَعَجُّبٍ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ نَفَوْا جَوَازَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 94] . وَضَمِيرُ عَجِبُوا عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، فَمَعَادُهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَعْنِي افْتِتَاحَ السُّورَةِ بِحَرْفِ التَّهَجِّي الَّذِي قُصِدَ مِنْهُ تَعْجِيزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي حَالِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ لُغَتِهِمْ يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ بَشَرٍ بَلْ هُوَ كَلَامٌ أَبْدَعَتْهُ قُدْرَةُ اللَّهِ وَأَبْلَغَهُ اللَّهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ فَإِنَّ الْمُتَّحَدِّينَ بِالْإِعْجَازِ مَشْهُورُونَ يَعْلَمُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَيْضًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِالتَّحَدِّي بِالْإِعْجَازِ. عَلَى أَنَّهُ سَيَأْتِي مَا يُفَسِّرُ الضَّمِيرَ بِقَوْلِهِ: فَقالَ الْكافِرُونَ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ عَجِبُوا وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مِنْ نَوْعِهِمْ أَيْ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ.

وَ (أَنْ جاءَهُمْ) مَجْرُورٌ بِ (مِنْ) الْمَحْذُوفَةِ مَعَ أَنْ، أَيْ عَجِبُوا مِنْ مَجِيءِ مُنْذِرٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَجِبُوا مِنِ ادِّعَاءِ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. وَعَبَّرَ عَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ مُنْذِرٌ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِشَرٍّ سَيَكُونُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عَجَبَهُمْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ صِفَتَيْنِ فِي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ مُخْبِرٌ بِعَذَابٍ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ مُخْبِرٌ بِمَا لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا أَنْذرهُمْ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] . وَالثَّانِيَةُ كَوْنُهُ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ. وَفَرَّعَ عَلَى التَّكْذِيبِ الْحَاصِلِ فِي نُفُوسِهِمْ ذِكْرَ مَقَالَتِهِمُ الَّتِي تُفْصِحُ عَنْهُ وَعَنْ شُبْهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ: فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ الْآيَةَ. وَخَصَّ هَذَا بِالْعِنَايَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاسْتِبْعَادِ وَأَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ فَهُوَ الَّذِي غَرَّهُمْ فَأَحَالُوا أَنْ يُرْسِلَ الله إِلَيْهِم أحد مِنْ نَوْعِهِمْ وَلِذَلِكَ وصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً بِصِفَةِ مُنْذِرٌ قَبْلَ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ هُوَ الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ إِنَّمَا قَوَّى الِاسْتِبْعَادَ وَالتَّعَجُّبَ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يُتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَى إِبْطَالِ حُجَّتِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 4- 11] . فَقَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ هَاتَيْنِ الْفَاصِلَتَيْنِ خُصُوصِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ: مِنْهَا إِيجَازُ الْحَذْفِ، وَمِنْهَا مَا أَفَادَهُ الْإِضْرَابُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْبَعْثِ، وَمِنْهَا الْإِيجَازُ الْبَدِيعُ الْحَاصِلُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِ مُنْذِرٌ، وَمِنْهَا إِقْحَامُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي تَعَجُّبِهِمْ، وَمِنْهَا الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَمِنْهَا الْإِجْمَالُ الْمُعَقَّبُ بِالتَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا إِلَخْ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي فَقالَ الْكافِرُونَ دُونَ: فَقَالُوا، لِتَوْسِيمِهِمْ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، وَلِيَكُونَ فِيهِ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ.

[سورة ق (50) : آية 4]

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي مَقَامِ مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ مِنْ دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّجْعِ، أَيِ الْبَعْثِ وَهُوَ الَّذِي بَينته جملَة أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِلَخْ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِبْطَالِ، يُرِيدُونَ تَعْجِيبَ السَّامِعِينَ مِنْ ذَلِكَ تَعْجِيبَ إِحَالَةٍ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. وَجَعَلُوا مَنَاطَ التَّعْجِيبِ الزَّمَانَ الَّذِي أَفَادَتْهُ (إِذَا) وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، أَيْ زَمَنَ مَوْتِنَا وَكَوْنِنَا تُرَابًا. وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ظرف أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَالتَّقْدِيرُ: أَنَرْجِعُ إِلَى الْحَيَاةِ فِي حِينِ انْعِدَامِ الْحَيَاةِ مِنَّا بِالْمَوْتِ وَحِينِ تَفَتُّتِ الْجَسَدِ وَصَيْرُورَتِهِ تُرَابًا، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَقْصَى الِاسْتِبْعَادِ. وَمُتَعَلِّقُ (إِذَا) هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْمَحْذُوفُ الْمُقَدَّرُ، أَيْ نَرْجِعُ أَوْ نَعُودُ إِلَى الْحَيَاةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا. وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ مُؤَكدَة لجملة أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالذِّكْرِ، بَعْدَ أَنْ أُفِيدَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَالْحَذْفِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ أَجْلَى دَلَالَةً. وَالرَّجْعُ: مَصْدَرُ رَجَعَ، أَيِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ. وَمَعْنَى بَعِيدٌ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَقْلِ، أَيْ هُوَ أَمر مُسْتَحِيل. [4] [سُورَة ق (50) : آيَة 4] قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] فَإِنَّ إِحَالَتَهُمُ الْبَعْثَ نَاشِئَةٌ عَنْ عِدَّةِ شُبَهٍ مِنْهَا: أَنَّ تَفَرُّقَ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ فِي مَنَاحِي الْأَرْضِ وَمَهَابِّ الرِّيَاحِ لَا تُبْقِي أَمَلًا فِي إِمْكَانِ جَمْعِهَا إِذْ لَا يُحِيطُ بِهَا مُحِيطٌ وَأَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ مَوَاقِعُهَا لَتَعَذَّرَ الْتِقَاطُهَا وَجَمْعُهَا، وَلَوْ جُمِعَتْ كَيْفَ تَعُودُ إِلَى صُوَرِهَا الَّتِي كَانَتْ مُشْكِلَةً بِهَا، وَأَنَّهَا لَوْ عَادَتْ كَيْفَ تَعُودُ إِلَيْهَا، فَاقْتَصَرَ فِي إِقْلَاعِ شُبَهِهِمْ عَلَى إِقْلَاعِ أَصْلِهَا وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَذَرَّاتِهَا.

وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِرَدِّ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَمْعَ أَجْزَاءِ الْأَجْسَامِ مُمْكِنٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عُمُومِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَكَانَ قَدْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَصْحَابِهَا كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَلَا يَعْظُمُ عَلَى قُدْرَتِهِ جَمْعُهَا وَتَرْكِيبُهَا أَجْسَامًا كَأَجْسَامِ أَصْحَابِهَا حِينَ فَارَقُوا الْحَيَاةَ فَقَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى دَلِيلِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى عُمُومِ الْعِلْمِ كَمَا قُلْنَا. فَأَسَاسُ مَبْنَى الرَّدِّ هُوَ عُمُومُ عِلْمِ الله تَعَالَى لِأَن يَجْمَعُ إِبْطَالَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَلَوْ قَالَ، نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِرْجَاعِ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ لَخَطَرَ فِي وَسَاوِسِ نُفُوسِهِمْ شُبْهَةُ أَنَّ اللَّهَ وَإِنْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَادِ إِذَا تَفَرَّقَتْ لَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ حَتَّى تَتَسَلَّطَ عَلَى جَمْعِهَا قُدْرَتُهُ فَكَانَ الْبِنَاءُ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ أَقْطَعَ لِاحْتِمَالَاتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَيَانٌ لِلْإِمْكَانِ رَعْيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ مِنَ الْإِحَالَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِمْكَانِ يَقْلَعُ اعْتِقَادَ الِاسْتِحَالَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَهُوَ كَافٍ لِإِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ وَلِاسْتِدْعَائِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي الدَّعْوَةِ، ثُمَّ يَبْقَى النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ أَمْرٌ لَمْ نُكَلَّفْ بِالْبَحْثِ عَنْهُ وَقَدِ اخْتلف فِيهَا أيمة أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ تُعَادُ الْأَجْسَامُ بَعْدَ عَدَمِهَا. وَمَعْنَى إِعَادَتِهَا. إِعَادَةُ أَمْثَالِهَا بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَجْسَادًا مِثْلَ الْأُولَى تُودَعُ فِيهَا الْأَرْوَاحُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا حَالَّةً فِي الْأَجْسَادِ الْمَعْدُومَةِ الْآنَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْجِسْمُ لِصَاحِبِ الرُّوحِ فِي الدُّنْيَا وَبِذَلِكَ يَحِقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا هُوَ فُلَانٌ الَّذِي عَرَفْنَاهُ فِي الدُّنْيَا إِذِ الْإِنْسَانُ كَانَ إِنْسَانًا بِالْعَقْلِ وَالنُّطْقِ، وَهُمَا مَظْهَرُ الرُّوحِ. وَأَمَّا الْجَسَدُ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ كَوْنِهِ جَنِينًا، ثُمَّ مِنْ وَقْتِ الطُّفُولَةِ ثُمَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَطْوَارِ فَتَخْلُفُ أَجْزَاؤُهُ المتجددة أجزاءه الْمُقْتَضِيَة، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الطَّبِيعِيَّاتِ، لَكِنَّ ذَلِكَ التَّغَيُّرَ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اعْتِبَارِ الذَّاتِ ذَاتًا وَاحِدَةً لِأَنَّ هُوِيَّةَ الذَّاتِ حَاصِلَةٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ

النَّوْعِيَّةِ وَالْمُشَخِّصَاتِ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِدُونِ شُعُورِ مَنْ يُشَاهِدُهَا. فَلِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الشَّخْصِ هِيَ الرُّوحُ وَهِيَ الَّتِي تُكْتَسَى عِنْدَ الْبَعْثِ جَسَدَ صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ النَّاسَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ لَا تَبْلَى فِي مِثْلِهِ أَجْسَامُهُمْ تَرْجِعُ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى أَجْسَادِهِمُ الْبَاقِيَةِ دُونَ تَجْدِيدِ خَلْقِهَا، وَلِذَلِكَ فتسمية هَذَا الإيجاز مَعَادًا أَوْ رَجْعًا أَوْ بَعْثًا إِنَّمَا هِيَ تَسْمِيَةٌ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْأَرْوَاحِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْضًا تَشْهَدُ عَلَى الْكُفَّارِ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِأَنَّ الشَّاهِد فِي الْحَقِيقِيَّة هُوَ مَا بِهِ إِدْرَاكُ الْأَعْمَالِ مِنَ الرُّوحِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَعْضَاءِ. وَأَدِلَّةُ الْكِتَابِ أَكْثَرُهَا ظَاهِرٌ فِي تَأْيِيدِ هَذَا الرَّأْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: 56] . وَقَالَ شُذُوذٌ: تُعَادُ الْأَجْسَامُ بِجَمْعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ يَجْمَعُهَا اللَّهُ الْعَلِيمُ بِهَا وَيُرَكِّبُهَا كَمَا كَانَتْ يَوْمَ الْوَفَاةِ. وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْجِسْمِ الْإِنْسَانِيِّ إِذَا تَفَرَّقَتْ دَخَلَتْ فِي أَجْزَاءٍ مِنْ أَجْسَامٍ أُخْرَى مِنْ مُخْتَلِفِ الْمَوْجُودَاتِ وَمِنْهَا أَجْسَامُ أُنَاسٍ آخَرِينَ. وَوَرَدَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ كُلَّ ابْنِ آدَمَ يَفْنَى إِلَّا عَجَبُ الذَّنْبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ نِسْبَةُ الْأَجْسَادِ الْمُعَادَةِ كَنِسْبَةِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ. وَهَذَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ عَنْ عَدَمٍ وَالْقَوْلِ بِأَنَّهَا عَنْ تَفَرُّقٍ. وَلَا قَائِلَ مِنَ الْعُقَلَاءِ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ يُعَادُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا المُرَاد مَا ذكرنَا وَمَا عَدَاهُ مُجَازَفَةٌ فِي التَّعْبِيرِ. وَذَكَرَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْعَقِيدَةِ الْعَضُدِيَّةِ» أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ لَمَّا سَمِعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعَادَةِ جَاءَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ عَظْمٌ قَدْ رُمَّ فَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتُرَى يُحْيِينِي بَعْدَ أَنْ أَصِيرَ كَهَذَا الْعَظْمِ؟ فَقَالْ لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ وَيَبْعَثُكَ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ» . وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] . وَعَبَّرَ بِ تَنْقُصُ الْأَرْضُ دُونَ التَّعْبِيرِ بِالْإِعْدَامِ لِأَنَّ لِلْأَجْسَادِ دَرَجَاتٍ مِنَ

الِاضْمِحْلَالِ تَدْخُلُ تَحْتَ حَقِيقَةِ النَّقْصِ فَقَدْ يَفْنَى بَعْضُ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، وَقَدْ يَأْتِي الْفَنَاءُ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّ عَجَبَ الذَّنْبِ لَا يَفْنَى كَانَ فَنَاءُ الْأَجْسَادِ نَقْصًا لَا انْعِدَامًا. وَعُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ قَوْلُهُ: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى تَذْيِيلٍ لِجُمْلَةِ قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ وَعِنْدَنَا عِلْمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ثَابِتًا فَتَنْكِيرُ كِتابٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ تَعْظِيمُ التَّعْمِيمِ، أَيْ عِنْدِنَا كِتَابُ كُلِّ شَيْءٍ. وحَفِيظٌ فَعِيلٌ: إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ حَافِظٍ لِمَا جُعِلَ لِإِحْصَائِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ وَمَصَائِرِهَا. وَتَعْيِينِ جَمِيعِ الْأَرْوَاحِ لِذَوَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ مُودَعَةً فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ وَبَثِّ الْأَرْوَاحِ فِيهَا. وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْفُوظٍ مَا فِيهِ مِمَّا قَدْ يَعْتَرِي الْكُتُبَ الْمَأْلُوفَةَ مِنَ الْمَحْوِ وَالتَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالتَّشْطِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْكِتَابُ: الْمَكْتُوبُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الصَّحَائِفِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ حَقِيقَةً بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ كُتُبًا وَأَوْدَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةٍ يُسَجِّلُونَ فِيهَا النَّاسَ حِينَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَوَاضِعِ أَجْسَادِهِمْ وَمَقَارِّ أَرْوَاحِهِمْ وَانْتِسَابِ كُلِّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا الْمُعَيَّنِ الَّذِي كَانَتْ حَالَّةً فِيهِ حَالَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا صَادِقًا بِكُتُبٍ عَدِيدَةٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كِتَابُهُ، وَتَكُونُ مِثْلَ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18] ، وَقَوْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: 13، 14] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَعِنْدَنا كِتابٌ تَمْثِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِ عِلْمِ مَنْ عِنْدَهُ كِتَابٌ حَفِيظٌ يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِ النَّاسِ. وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَنا كِتابٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْحِيَاطَةِ وَالْحِفْظِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ مَا يُغَيِّرُ مَا فِيهِ أَوْ مَنْ يُبْطِلُ مَا عيّن لَهُ.

[سورة ق (50) : آية 5]

[سُورَة ق (50) : آيَة 5] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) إِضْرَابٌ ثَانٍ تَابِعٌ لِلْإِضْرَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 2] عَلَى طَرِيقَةِ تَكْرِيرِ الْجُمْلَةِ فِي مَقَامِ التَّنْدِيدِ وَالْإِبْطَالِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَجَبَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ يَقْتَضِيَانِ فَصْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِدُونِ عَاطِفٍ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَفْظَعَ مِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَذَلِكَ هُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْقُرْآنُ لِأَنَّ فِعْلَ التَّكْذِيبِ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عُدِّيَ إِلَى الْخَبَرِ وَإِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ كَانَ لِتَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ. ولَمَّا حَرْفُ تَوْقِيتٍ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى رَبْطِ حُصُولِ جَوَابِهَا بِوَقْتِ حُصُولِ شَرْطِهَا فَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِمُبَادَرَةِ حُصُولِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] ، وَقَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] وَقَدْ مَضَيَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى جاءَهُمْ بَلَغَهُمْ وَأُعْلِمُوا بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا نَظَرٍ فِيمَا حَوَاهُ مِنَ الْحَقِّ بَلْ كَذَّبُوا بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَكَذَّبُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ حَقٍّ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ق: 6- 11] . فَالتَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ يَعُمُّ التَّكْذِيبَ بِالْبَعْثِ وَغَيْرِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى الْخَبَرِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِالْإِضْرَابِ وَصَفُ حَالِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنِ الْمُبَادَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ بِأَنَّهَا أَمْرٌ مَرِيجٌ أَحَاطَ بِهِمْ وَتَجَلْجَلُوا فِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ. وأَمْرٍ اسْمٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ شَيْءٍ، وَلَمَّا وَقَعَ هُنَا بَعْدَ حَرْفِ فِي الْمُسْتَعْمَلِ فِي الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْحَالَ الْمُتَلَبِّسُونَ هُمْ بِهِ تَلَبُّسَ الْمَظْرُوفِ بِظَرْفِهِ وَهُوَ تَلَبُّسُ الْمَحُوطِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ فَاسْتِعْمَالُ فِي اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.

[سورة ق (50) : آية 6]

وَالْمَرِيجُ: الْمُضْطَرِبُ الْمُخْتَلِطُ، أَيْ لَا قَرَارَ فِي أَنْفُسِهِمْ فِي هَذَا التَّكْذِيبِ، اضْطَرَبَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ كُلُّهَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمُ ابْتَدَرُوا فَنَفَوْا عَنْهُ الصِّدْقَ فَلَمْ يَتَبَيَّنُوا بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ يُلْحِقُونَهُ فَقَالُوا: سِحْرٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: 110] ، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] وَقَالُوا بِقَوْلِ شاعِرٍ [الحاقة: 41] ، وَقَالُوا: بِقَوْلِ كاهِنٍ [الحاقة: 42] وَقَالُوا: (هَذَيَانُ مَجْنُونٍ) . وَفِي سُلُوكِهِمْ فِي طُرُقِ مُقَاوَمَةِ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَصِفُونَهُ بِهِ إِذَا سَأَلَهُمُ الْوَارِدُونَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَمَنْ بَهَتَهُمْ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَمَا دَمَغَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ. وَهَذَا تَحْمِيقٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ فَلَمْ يُتْقِنُوا التَّكْذِيبَ وَلَمْ يَرْسُوا عَلَى وَصْفِ الْكَلَامِ الَّذِي كذبُوا بِهِ. [6] [سُورَة ق (50) : آيَة 6] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: 2] إِلَى قَوْله: مَرِيجٍ [ق: 5] لِأَنَّ أَهَمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ، وَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالنُّجُومِ وَالْأَرْضِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْعَدَمِ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ فَتِلْكَ الْعَوَالِمُ وُجِدَتْ عَنْ عَدَمٍ وَهَذَا أَدَلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس [81] أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا. وَالنَّظَرُ نَظَرُ الْفِكْرِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُس: 101] . وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ الْحَالُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كَيْفَ بَنَيْناها، أَيْ أَلَمْ يَتَدَبَّرُوا فِي شَوَاهِدِ الْخَلِيقَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي معنى أَو لم يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا، وَالنَّظَرُ الْمُشَاهَدَةُ، وَمَحَلُّ التَّقْرِيرِ هُوَ فِعْلُ يَنْظُرُوا، أَوْ يكون كَيْفَ مُرَاد بِهِ الْحَالُ الْمُشَاهَدَةُ. هَذَا وَأَنَّ التَّقْرِيرَ عَلَى نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُرَادِ الْإِقْرَارُ بِإِثْبَاتِهِ طَرِيقَةً قُرْآنِيَّةً ذَكَرْنَاهَا غَيْرَ

مَرَّةٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ إِفْسَاحُ الْمَجَالِ لِلْمُقَرَّرِ إِنْ كَانَ يَرُومُ إِنْكَارَ مَا قُرِّرَ عَلَيْهِ، ثِقَةً مِنَ الْمُقَرِّرِ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- بِأَنَّ الْمُقَرَّرَ- بِالْفَتْحِ- لَا يُقْدِمُ عَلَى الْجُحُودِ بِمَا قُرِّرَ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ [الْأَعْرَاف: 148] ، وَقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] . وَهَذَا الْوَجْهُ أَشَدُّ فِي النَّعْيِ عَلَيْهِمْ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. وفَوْقَهُمْ حَالٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْحَالِ تَنْدِيدٌ عَلَيْهِمْ لِإِهْمَالِهِمُ التَّأَمُّلَ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنْهُ إِذِ السَّمَاءُ قَرِيبَةٌ فَوْقَهُمْ لَا يُكَلِّفُهُمُ النَّظَرُ فِيهَا إِلَّا رفع رؤوسهم. وكَيْفَ اسْمُ جَامِدٌ مَبْنِيٌّ مَعْنَاهُ: حَالَةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ فِي الْكَلَامِ لِلسُّؤَالِ عَنِ الْحَالَةِ فَيَكُونُ خَبَرًا قَبْلَ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مِثْلَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ وَحَالًا قَبْلَ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ نَحْوَ: كَيْفَ جَاءَ؟ وَمَفْعُولًا مُطْلَقًا نَحْوَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفجْر: 6] ، وَمَفْعُولًا بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: 21] . وَهِيَ هُنَا بَدَلٌ مِنْ فَوْقَهُمْ فَتَكُونُ حَالًا فِي الْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ هَيْئَةَ بَنْيِنَا إِيَّاهَا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ بَنَيْناها مُبَيِّنَةً لِ كَيْفَ. وَأُطْلِقَ الْبِنَاءُ عَلَى خَلْقِ الْعَلَوِيَّاتِ بِجَامِعِ الِارْتِفَاعِ. وَالْمُرَادُ بِ السَّماءِ هُنَا مَا تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ كُرَةِ الْهَوَاءِ الَّتِي تَبْدُو كَالْقُبَّةِ وَتُسَمَّى الْجَوَّ. وَالتَّزْيِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنَا، أَيْ حَسَنًا أَيْ تَحْسِينُ مَنْظَرِهَا لِلرَّائِي بِمَا يَبْدُو فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ نَهَارًا وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لَيْلًا. وَاقْتَصَرَ عَلَى آيَةِ تَزْيِينِ السَّمَاءِ دُونَ تَفْصِيلِ مَا فِي الْكَوَاكِبِ الْمُزَيَّنَةِ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ التَّزْيِينَ يَشْتَرِكُ فِي إِدْرَاكِهِ جَمِيعُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَهُ وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ التَّمْكِينِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَرَائِي الْحَسَنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى

[سورة ق (50) : آية 7]

وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] فِي شَأْنِ خَلْقِ الْأَنْعَامِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. ثُمَّ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إِدْرَاكِ مَا فِي خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنِظَامِهَا مِنْ دَلَائِلَ عَلَى مِقْدَارِ تَفَاوُتِ عُلُومِهِمْ وَعُقُولِهِمْ. وَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِإِفْهَامِ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ. وَجُمْلَةُ وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَتَيْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها فَهِيَ حَالٌ ثَالِثَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْفُرُوجُ: جَمْعُ فَرْجٍ، وَهُوَ الْخَرْقُ، أَيْ يُشَاهِدُونَهَا كَأَنَّهَا كُرَةٌ مُتَّصِلَةُ الْأَجْزَاءِ لَيْسَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا تَفَاوُتٌ يَبْدُو كَالْخَرْقِ وَلَا تَبَاعُدٌ يَفْصِلُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ فَيَكُونُ خَرْقًا فِي قُبَّتِهَا. وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الصُّنْعِ إِذْ يَكُونُ جِسْمٌ عَظِيمٌ كَجِسْمِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الْجَوِّيِّ مَصْنُوعًا كَالْمَفْرُوغِ فِي قَالَبٍ. وَهَذَا مُشَاهِدٌ لِجَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ عَلَى تَفَاوُتِ مَدَارِكِهِمْ ثُمَّ هُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي إِدْرَاكِ مَا فِي هَذَا الصُّنْعِ مِنْ عَجَائِبِ الْتِئَامِ كُرَةِ الْجَوِّ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ. وَلَوْ كَانَ فِي أَدِيمِ مَا يُسَمَّى بِالسَّمَاءِ تُخَالِفٌ مِنْ أَجْزَائِهِ لَظَهَرَتْ فِيهِ فُرُوجٌ وَانْخِفَاضٌ وَارْتِفَاعٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً إِلَى قَوْلِهِ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْملك: 3] . [7] [سُورَة ق (50) : آيَة 7] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا [ق: 6] عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَدَدْنَا الْأَرْضَ. وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ الْأَرْضِ نُصْبَ أَعْيُنِ النَّاسِ وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاءِ

لِأَنَّهَا تَلُوحُ لِلْأَنْظَارِ دُونَ تَكَلُّفٍ لَمْ يُؤْتَ فِي لَفْتِ أَنْظَارِهِمْ إِلَى دَلَالَتِهَا بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَكُونُوا بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ تَذْكِيرًا لَهُمْ. وَانْتَصَبَ الْأَرْضَ بِ مَدَدْناها عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ، أَيْ بَسَطْنَا الْأَرْضَ فَلَمْ تَكُنْ مَجْمُوعَ نُتُوءَاتٍ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَشْيُ عَلَيْهَا مُرْهِقًا. وَالْمُرَادُ: بَسْطُ سَطْحِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَصْفَ حَجْمِ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُدْرِكُهُ الْمُشَاهَدَةُ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ نَظَرَ التَّأَمُّلِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَلَا فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ فَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَضِيَّةِ كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ. وَالْإِبْقَاءُ: تَمْثِيلٌ لِتَكْوِينِ أَجْسَامٍ بَارِزَةٍ عَلَى الْأَرْضِ مُتَبَاعِدٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلْقَاءِ: رَمْيُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخِلْقَةِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ: وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: 19] وفِيها ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَصْفٌ لِ رَواسِيَ قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ فَصَارَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ أَلْقَيْنا. وَرَوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ مِثْلَ: فَوَارِسُ وَعَوَاذِلُ. وَالرُّسُوُّ: الثَّبَاتُ وَالْقَرَارُ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ إِلَى بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ الْجِبَالَ مُتَدَاخِلَةً مَعَ الْأَرْضِ وَلَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً عَلَيْهَا وَضْعًا كَمَا تُوضَعُ الْخَيْمَةُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَتَزَلْزَلَتْ وَسَقَطَتْ وَأَهْلَكَتْ مَا حَوَالَيْهَا. وَقَدْ قَالَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء [31] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أَيْ دَفْعَ أَنْ تَمِيدَ هِيَ، أَيِ الْجِبَالُ بِكُمْ، أَيْ مُلْصَقَةٌ بِكُمْ فِي مَيْدِهَا. وَهُنَالِكَ وَجْهٌ آخَرُ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه

وَالْمَعْنَى: وَأَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَأَنْوَاعَهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ يُظْهِرُ أَنَّ حَرْفَ مِنْ فِيهِ مَزِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَزِيَادَةُ مِنْ فِي غَيْرِ النَّفْيِ نَادِرَةٌ، أَيْ أَقَلُّ مِنْ زِيَادَتِهَا فِي النَّفْيِ، وَلَكِنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَارِدَةٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، فَأَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: 43] إِنَّ الْمَعْنَى: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] . فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْكِيدِ بِحَرْفِ مِنْ تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعٍ حِينَ ادَّعَوُا اسْتِحَالَةَ إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُؤْتِ بِالتَّوْكِيدِ فِي آيَةِ سُورَةِ طه. وَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. فَكَلِمَةُ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَام: 70] ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه [53] . وَفَائِدَةُ التَّكْثِيرِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِهِمْ لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ وَاضِحَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَالْبَهِيجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً، يُقَالُ: بَهُجَ بِضَمِّ الْهَاءِ، إِذَا حَسُنَ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَالْبَهِيجُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْل: 60] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُنْبَهَجٌ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ يُسَرُّ بِهِ النَّاظِرُ، يُقَالُ: بَهَجَهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا سَرَّهُ، وَمِنْهُ الِابْتِهَاجُ الْمَسَرَّةُ. وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ ذِكْرُهُ تَقْوِيَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِدْمَاجَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِيَشْكُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا يَكْفُرُوهَا بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة ق (50) : آية 8]

وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 5، 6] . [8] [سُورَة ق (50) : آيَة 8] تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِلْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها [ق: 6] وَقَوْلِهِ: مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها [ق: 7] إِلَخْ، عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ، أَيْ لِيَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَمَعْمُولَاتِهَا تَبْصِرَةً وَذِكْرَى، أَيْ جَعَلْنَاهُ لِغَرَضِ أَنْ نُبَصِّرَ بِهِ وَنَذْكُرَ كُلَّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُتَبَصَّرَ فِي شَأْنِهِ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَأَهَمُّ ذَلِكَ فِيهِمْ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ كَمَا هُوَ السِّيَاقُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا. وَإِنَّمَا كَانَتِ التَّبْصِرَةُ وَالذِّكْرَى عِلَّةً لِلْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ وَالذِّكْرَى مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ الَّتِي أَوْجَدَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَجْلِهَا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ انْحِصَارَ حِكْمَةِ خَلْقِهَا فِي التَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى، لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا حِكَمٌ كَثِيرَةٌ عَلِمْنَا. بَعْضَهَا وَخَفِيَ عَلَيْنَا بَعْضٌ. وَالتَّبْصِرَةُ: مَصْدَرُ بَصَّرَهُ. وَأَصْلُ مَصْدَرِهِ التَّبْصِيرُ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ التَّحْتِيَّةَ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا التَّاءَ الْفَوْقِيَّةَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ كَمَا قَالُوا: جَرَّبَ تَجْرِبَةً وَفَسَّرَ تَفْسِرَةً، وَذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمُضَاعَفِ وَيَكْثُرُ فِي الْمَهْمُوزِ نَحْوَ جَزَّأَ تَجْزِئَةً، وَوَطَّأَ تَوْطِئَةً. وَيَتَعَيَّنُ فِي الْمُعْتَلِّ نَحْوَ: زَكَّى تَزْكِيَةً، وَغَطَّاهُ تَغْطِيَةً. وَالتَّبْصِيرُ: جَعْلُ الْمَرْءِ مُبْصِرًا وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِدْرَاكِ النَّفْسِ إِدْرَاكًا ظَاهِرًا لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ خَفِيًّا عَنْهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تُبْصِرْهُ ثُمَّ أَبْصَرَتْهُ. وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَرَ، إِذَا جَعَلَهُ يَذْكُرُ مَا نَسِيَهُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى مُرَاجَعَةِ النَّفْسِ مَا عَلِمَتْهُ ثُمَّ غَفَلَتْ عَنْهُ. وعَبْدٍ بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ، أَيْ مَخْلُوقٍ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْإِنْسَانِ. وَجَمْعُهُ: عِبَادٌ دُونَ عَبِيدٍ.

[سورة ق (50) : الآيات 9 إلى 10]

وَالْمُنِيبُ: الرَّاجِعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّاجِعُ إِلَى الْحَقِّ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِذَا انْحَرَفَ أَوْ شَغَلَهُ شَاغِلٌ ابْتَدَرَ الرُّجُوعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالِامْتِثَالِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَالُ الطَّاعَةِ وَإِذَا فَارَقَهُ قَلِيلًا آبَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ. وَإِطْلَاقُ الْمُنِيبِ عَلَى التَّائِبِ وَالْإِنَابَةِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ تَفَارِيعِ هَذَا الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فِي سُورَةِ ص [24] . وَخُصَّ الْعَبْدُ الْمُنِيبُ بِالتَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ إِفَادَةُ التَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُنِيبَ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ حِكْمَةِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ. وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضٌ بِإِهْمَالِ الْكَافِرِينَ التَّبَصُّرَ وَالتَّذَكُّرَ. وَيُحْمَلُ (كُلِّ) عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ قُصِدَ مِنْهَا التَّبْصِرَةُ وَالذِّكْرَى لِجَمِيعِ الْعِبَادِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْحَقِّ إِذْ لَا يَخْلُونَ مِنْ تَبَصُّرٍ وَتَذَكُّرٍ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهِمْ فِي ذَلِك. [9، 10] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 9 إِلَى 10] وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) بَعْدَ التَّنَظُّرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّبْصِيرِ فِي صُنْعِ السَّمَاوَاتِ وَصُنْعِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ وَقْتِ نَشْأَتِهِمَا نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِإِيجَادِ آثَارٍ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ تَتَجَدَّدُ عَلَى مُرُورِ الدَّهْرِ حَيَّةً ثُمَّ تَمُوتُ ثُمَّ تَحْيَا دَأْبًا، وَقَدْ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ لِهَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ [ق: 6] إِلَى أُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ بِقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً إِيذَانًا بِتَبْدِيلِ الْمُرَادِ لِيَكُونَ مِنْهُ تَخْلُصٌ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] . فَجُمْلَةُ وَنَزَّلْنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [الْحجر: 19] . وَقَدْ ذُكِرَتْ آثَارٌ مِنْ آثَارِ السَّمَاءِ وَآثَارِ الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى وَفْقِ اللَّفِّ. وَالْمُبَارَكُ: اسْمُ مَفْعُولٍ لِلَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ، أَيْ جُعِلَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

وَأَفْعَالُ هَذِهِ الْمَادَّةِ كَثِيرَةُ التَّصَرُّفِ وَمُتَنَوِّعَةُ التَّعْلِيقِ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ النَّافِعُ لِمَا يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِنْبَاتِ الْحُبُوبِ وَالْأَعْنَابِ وَالنَّخِيلِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُبَارَكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] . وَفِي هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِتَفْصِيلِ الْإِنْبَاتِ الَّذِي سَبَقَ إِجْمَالُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] لِمَا فِيهِ مِنْ سَوْقِ الْعُقُولِ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي دَقِيقِ الصُّنْعِ لِذَلِكَ الْإِنْبَاتِ وَأَنَّ حُصُولَهُ بِهَذَا السَّبَبِ وَعَلَى ذَلِكَ التَّطَوُّرِ أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ مِمَّا لَوْ كَانَ إِنْبَاتُ الْأَزْوَاجِ بِالطَّفْرَةِ، إِذْ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَسْبَابُ تَكْوِينِهَا خَفِيَّةً فَإِذَا كَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا، وَمَدُّ الْأَرْضِ وَإِلْقَاءُ الْجِبَالِ فِيهَا دَلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِخَفَاءِ كَيْفِيَّاتِ تَكْوِينِهَا فَإِنَّ ظُهُورَ كَيْفِيَّاتِ التَّكْوِينِ فِي إِنْزَال المَال وَحُصُولِ الْإِنْبَاتِ وَالْإِثْمَارِ دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَهِيَ مَا شُجِّرَ بِالْكَرْمِ وَأَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ وَالنَّخِيلِ. وَالْحَبُّ: هُوَ مَا يَنْبُتُ فِي الزَّرْعِ الَّذِي يُخْرِجُ سَنَابِلَ تَحْوِي حُبُوبًا مِثْلَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالسُّلْتِ وَالْقَطَانِيِّ مِمَّا تُحْصَدُ أُصُولُهُ لِيُدَقَّ فَيَخْرُجُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَبِّ. وحَبَّ الْحَصِيدِ مَفْعُولُ أَنْبَتْنَا لِأَنَّ الْحَبَّ مِمَّا نَبَتَ تَبَعًا لِنَبَاتِ سُنْبُلِهِ الْمَدْلُولِ عَلَى إِنْبَاتِهِ بِقَوْلِهِ: الْحَصِيدِ إِذْ لَا يُحْصَدُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَنْبُتَ. وَالْحَصِيدُ: الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ، أَيِ الْمَقْطُوعُ مِنْ جُذُورِهِ لِأَكْلِ حَبِّهِ، فَإِضَافَةُ حَبَّ إِلَى الْحَصِيدِ عَلَى أَصْلِهَا، وَلَيْسَتْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ: الْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ اسْتِحْصَالِ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ فَإِنَّ الْجَنَّاتِ تُسْتَثْمَرُ وَأُصُولُهَا بَاقِيَةٌ وَالْحُبُوبُ تُسْتَثْمَرُ بَعْدَ حَصْدِ أُصُولِهَا، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْحَصِيدِ مَنَافِعَ لِلْأَنْعَامِ تَأْكُلُهُ بَعْدَ أَخْذِ حَبِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 33] . وَخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ تَنَاوُلِ جَنَّاتٍ لَهُ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْأَشْجَارِ عِنْدَهُمْ وَثَمَرَهُ أَكْثَرُ أَقْوَاتِهِمْ، وَلِإِتْبَاعِهِ بِالْأَوْصَافِ لَهُ وَلِطَلْعِهِ مِمَّا يُثِيرُ تَذَكُّرَ بَدِيعَ قَوَامِهِ، وَأَنِيقَ جَمَالِهِ.

[سورة ق (50) : آية 11]

وَالْبَاسِقَاتُ: الطَّوِيلَاتُ فِي ارْتِفَاعٍ، أَيْ عَالِيَاتٌ فَلَا يُقَالُ: بَاسِقٌ لِلطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ عَلَى الْأَرْضِ. وَعَنِ ابْنِ شَدَّادٍ: الْبَاسِقَاتُ الطَّوِيلَاتُ مَعَ الِاسْتِقَامَةِ. وَلَمْ أَرَهُ لأحد من أيمة اللُّغَةِ. وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ الِامْتِدَادُ فِي الِارْتِفَاعِ. وَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَدَا بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ يُبْدِلُونَ السِّينَ صَادًا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: الْأَصْلُ السِّينُ وَإِنَّمَا الصَّادُ بَدَلٌ مِنْهَا لِاسْتِعْلَاءِ الْقَافِ. وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سمع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ قَرَأَهَا بِالصَّادِّ . وَمِثْلُهُ فِي ابْنِ عَطِيَّةَ وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَالَّذِي فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ مَرْوِيَّةٌ بِالسِّينِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاصِقَاتٍ. وَانْتَصَبَ باسِقاتٍ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى بَدِيعِ خِلْقَتِهِ وَجَمَالِ طَلْعَتِهِ اسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا. وَالطَّلْعُ: أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ مِنْ ثَمَرِ التَّمْرِ، وَهُوَ فِي الْكُفُرَّى، أَيْ غِلَافِ الْعُنْقُودِ. وَالنَّضِيدُ: الْمَنْضُودُ، أَيِ الْمُصَفَّفُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَا دَامَ فِي الْكُفُرَى فَإِذَا انْشَقَّ عَنْهُ الْكُفُرَى فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ. فَهُوَ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ قَالَ تَعَالَى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الْوَاقِعَة: 29] . وَزِيَادَةُ هَذِهِ الْحَالِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الصِّفَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ بَدِيعِ الصَّنْعَةِ وَمِنَ الْمِنَّةِ بِمَحَاسِنِ مَنْظَرِ مَا أوتوه. [11] [سُورَة ق (50) : آيَة 11] رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) رِزْقاً لِلْعِبادِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِقَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ لِنَرْزُقَ الْعِبَادَ، أَيْ نُقَوِّتَهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي التَّعْلِيلِ بِهِ كَالْقَوْلِ فِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: تَبْصِرَةً وَذِكْرى [ق: 8] . وَالْعِبَادُ: النَّاسُ وَهُوَ جَمْعُ عَبْدٍ بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ فَجَمْعُهُ الْعَبِيدُ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَامْتِنَانٌ.

وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. عَطْفٌ عَلَى رِزْقاً لِلْعِبادِ عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ رِزْقُهُ الْمُشْتَقُّ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: رِزْقُنَا الْعِبَادَ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، أَيْ لِرَعْيِ الْأَنْعَامِ وَالْوَحْشِ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ وَفِيهِ امْتِنَانٌ. وَالْبَلْدَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالْمَيْتُ بِالتَّخْفِيفِ: مُرَادِفُ الْمَيِّتِ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] . وَتَذْكِيرُ الْمَيْتِ وَهُوَ وَصْفٌ لِلْبَلْدَةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْبَلَدِ لِأَنَّهُ مُرَادِفُهُ، وَبِالْمَكَانِ لِأَنَّهُ جِنْسُهُ، شَبَّهَ الْجَدْبَ بِالْمَوْتِ فِي انْعِدَامِ ظُهُورِ الْآثَارِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ضِدَّهُ وَهُوَ إِنْبَاتُ الْأَرْضِ حَيَاةً. وَيُقَالُ لِخِدْمَةِ الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ وَسَقْيِهَا: إِحْيَاءُ مَوَاتٍ. كَذلِكَ الْخُرُوجُ. بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ بِصُنْعِ اللَّهِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ لِأَنَّ خَلْقَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ عَدَمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الضَّعِيفَةِ أَمْكَنُ وَأَهْوَنُ، جِيءَ بِمَا يُفِيدُ تَقْرِيبَ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ فَوَجَبَ انْفِصَالُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا أَوِ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ نُحْيِي النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَبِلَاهُمْ، مَعَ إِفَادَتِهَا تَعْظِيمَ شَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، أَيْ مِثْلُ الْبَعْثِ الْعَظِيمِ الْإِبْدَاعُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخُرُوجُ لِلْعَهْدِ، أَيْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

[سورة ق (50) : الآيات 12 إلى 14]

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: 43] . فَ الْخُرُوجُ صَارَ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ دَفْعِ الِاسْتِحَالَةِ وَإِظْهَارِ التَّقْرِيبِ، وَفِيهِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي الْمسند إِلَيْهِ. [12- 14] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 12 إِلَى 14] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) اسْتِئْنَاف ابتدائي ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ [ق: 5] فَعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِبِدْعٍ فِي الضَّلَالِ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أُمَمٌ. وَذَكَرَ مِنْهُمْ أَشْهَرَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَشْهَرَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ، فَقَوْمُ نُوحٍ أَوَّلُ قَوْمٍ كَذَبُوا رَسُولَهُمْ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى وَقَوْمُ لُوطٍ كَذَّبُوهُ وَهَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّسِّ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ فَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَذُكِرُوا هُنَا عَقِبَ قَوْمِ نُوحٍ لِلْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ بَيْنَ الْقَوْمَيْنِ وَهُوَ جَامِعُ التَّضَادِّ لِأَنَّ عَذَابَهُمْ كَانَ ضِدَّ عَذَابِ قَوْمِ نُوحٍ إِذْ كَانَ عَذَابُهُمْ بِالْخَسْفِ وَعَذَابُ قَوْمِ نُوحٍ بِالْغَرَقِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَمُودَ لِشَبَهِ عَذَابِهِمْ بِعَذَابِ أَصْحَابِ الرَّسِّ إِذْ كَانَ عَذَابُهُمْ بِرَجْفَةِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ، ثُمَّ ذُكِرَتْ عَادٌ لِأَنَّ عَذَابَهَا كَانَ بِحَادِثٍ فِي الْجَوِّ وَهُوَ الرِّيحُ، ثُمَّ ذُكِرَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَشْهَرَ الرُّسُلِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ وَهُمْ مِنْ خُلَطَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَعَبَّرَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ بِ إِخْوانُ لُوطٍ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبِيلِهِ، فَالْمُرَادُ بِ إِخْوانُ أَنَّهُمْ مُلَازِمُونَ وَهُمْ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَقُرَاهُمَا وَكَانَ لُوطٌ سَاكِنًا فِي سَدُومَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ سَدُومَ كَنْعَانِيُّونَ وَلُوطًا عِبْرَانِيٌّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [161] . وَذُكِرَ قَوْمُ تُبَّعٍ وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يَعُدُّونَهُمْ عَرَبًا.

وَهَذِهِ الْأُمَمُ أَصَابَهَا عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ لِقَوْمِهِ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. وَالرَّسُّ: يُطْلَقُ اسْمًا لِلْبِئْرِ غَيْرِ الْمَطْوِيَّةِ وَيُطْلَقُ مَصْدَرًا لِلدَّفْنِ وَالدَّسِّ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهِ هُنَا. وأَصْحابُ الرَّسِّ قَوْمٌ عُرِفُوا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الرَّسِّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى الرَّسِّ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَوْطِنِهِ مِثْلَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ، وأَصْحابُ الْحِجْرِ [الْحِجْرِ: 80] وأَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةً إِلَى حَدَثٍ حَلَّ بِهِمْ مِثْلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 4] . وَفِي تَعْيِينِ أَصْحابُ الرَّسِّ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِضَافَةَ أَصْحابُ إِلَى الرَّسِّ مِنْ إِضَافَةِ اسْمٍ إِلَى حَدَثٍ حَدَثَ فِيهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ عُوقِبُوا بِخَسْفٍ فِي الْأَرْضِ فَوَقَعُوا فِي مِثْلِ الْبِئْرِ. وَقِيلَ: هُوَ بِئْرٌ أَلْقَى أَصْحَابُهُ فِيهِ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ حَيًّا فَهُوَ إِذَنْ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ وَقِيلَ هُوَ فَلَجٌ مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْحَابِ الرَّسِّ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [38] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَقَوْمُ تُبَّعٍ هُمْ حِمْيَرُ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَجُمْلَةُ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى آخِرِهَا، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَحَقَّ وَعِيدِ فَيكون تهديد بِأَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ كَمَا حَقَّ عَلَى أُولَئِكَ مُرَتَّبًا بِالْفَاءِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تشريف للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلرُّسُلِ السَّابِقِينَ.

[سورة ق (50) : آية 15]

وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كلّ أُولَئِكَ. وفَحَقَّ صَدَقَ وَتَحَقَّقَ. وَالْوَعِيدُ: الْإِنْذَارُ بِالْعُقُوبَةِ وَاقْتَضَى الْإِخْبَار عَنهُ بِحَق أَنَّ اللَّهَ تَوَعَدَهُمْ بِهِ فَلم يعبأوا وَكَذَّبُوا وُقُوعَهُ فَحَقَّ وَصَدَقَ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا وَعِيدِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَهُوَ كثير. [15] [سُورَة ق (50) : آيَة 15] أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) تُشِيرُ فَاءُ التَّفْرِيعِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ جُمْلَةُ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] وَقَوْلُهُ: تَبْصِرَةً وَذِكْرى [ق: 8] الْمُعَرِّضُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَصَّرُوا بِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرُوا. وَقَوْلُهُ: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] وَقَوْلُهُ: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَغْلِيطٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْيَ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ إِذْ لَا يُنْكِرُ عَاقِلٌ كَمَالَ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَعدم عَجزه. وفَعَيِينا مَعْنَاهُ عَجَزْنَا، وَفِعْلُ (عَيَّ) إِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ ضَمِيرٌ يُقَالُ مُدْغَمًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَيُقَالُ: عَيِيَ بِالْفَكِّ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ تَعَيَّنَ الْفَكُّ. وَمَعْنَاهُ: عَجَزَ عَنْ إِتْقَانِ فِعْلٍ وَلَمْ يَهْتَدِ لِحِيلَتِهِ. وَيُعَدَّى بِالْبَاءِ يُقَالُ: عَيِيَ بِالْأَمْرِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ. وَأَمَّا أَعْيَا بِالْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ قَاصِرًا فَهُوَ لِلتَّعَبِ بِمَشْيٍ أَوْ حَمْلِ ثِقَلٍ وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ لَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ. فَالْمَعْنَى: مَا عَجَزْنَا عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ للْإنْسَان فَكيف تعجز عَنْ إِعَادَةِ خَلْقِهِ. وبَلْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ عَنِ

الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، أَيْ بَلْ مَا عَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ لِلْأَشْيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ الْأَمْوَاتِ وَلَكِنَّهُمْ تَمَكَّنَ مِنْهُمُ اللَّبْسُ الشَّدِيدُ فَأَغْشَى إِدْرَاكَهُمْ عَنْ دَلَائِلِ الْإِمْكَانِ فَأَحَالُوهُ، فَالْإِضْرَابُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِبْطَالِ. وَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ لِلْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ تَمْيِيزُ مُخْتَلِفَاتِهَا بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ اشْتِبَاهُ الْمَأْلُوفِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَا يعْرفُونَ غير بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ انْتِفَاؤُهُ، فَإِنَّهُمُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَهُوَ مُمْكِنٌ عَقْلًا بِالْأَمْرِ الْمُسْتَحِيلِ فِي الْعَقْلِ فَجَزَمُوا بِنَفْيِ إِمْكَانِهِ فَنَفَوْهُ، وَتركُوا الْقيَاس بِأَن مَنْ قَدِرَ عَلَى إِنْشَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا هُوَ عَلَى إِعَادَةِ مَا كَانَ مَوْجُودًا أَقْدَرَ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُمْ وَأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ لَا يُفَارِقُهُمُ الْبَتَّةَ، وَلِيَتَأَتَّى اجْتِلَابُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ فِي الْخَبَرِ فَيَدُلُّ عَلَى انْغِمَاسِهِمْ فِي هَذَا اللَّبْسِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ صِفَةٌ لِ لَبْسٍ، أَيْ لَبْسٍ وَاصِلٍ إِلَيْهِمْ وَمُنْجَرٍّ عَنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَيْ مِنْ لَبْسٍ مِنَ التَّصْدِيقِ بِهِ. وَتَنْكِيرُ لَبْسٍ لِلنَّوْعِيَّةِ وَتَنْكِيرُ خَلْقٍ جَدِيدٍ كَذَلِكَ، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا خَلْقٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقَعُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا وَجَّهَ إِحَالَتَهُ وَلِتَنْكِيرِهِ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ الصِّفَةُ بِ جَدِيدٍ. وَالْجَدِيدُ: الشَّيْءُ الَّذِي فِي أَوَّلِ أَزْمَانِ وُجُودِهِ. وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ وَتَحْمِيقٌ لَهُمْ مِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ، أَيِ اجْعَلُوهُ خَلْقًا جَدِيدًا كَالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَأَيُّ فَارِقٍ بَيْنَهُمَا. وَفِي تَسْمِيَةِ إِعَادَةِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ بِاسْمِ الْخَلْقِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا إِعَادَةٌ بَعْدَ عَدَمِ الْأَجْزَاءِ لَا جَمْعٌ لِمُتَفَرِّقِهَا، وَقَدْ مَضَّى الْقَوْلُ فِيهِ فِي أول السُّورَة.

[سورة ق (50) : آية 16]

[سُورَة ق (50) : آيَة 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) هَذَا تَفْصِيلٌ لِبَعْضِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ تَتْمِيمٌ لِإِحَاطَةِ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] ولينتقل مِنْهُ الْإِنْذَارُ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ فِي وَصْفِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [ق: 17] إِلَخْ. وَوَصَفَ الْبَعْثَ وَصْفَ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: 20- 35] . وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) مُرَاعًى فِيهِ الْمُتَعَاطِفَاتُ وَهِيَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ. والْإِنْسانَ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمْ أَوَّلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْخَبَرُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْإِنْذَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: 22] وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدُ الصِّلَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَتَكَلَّمُهُ نَفْسُهُ عَلَى طَريقَة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ كُلِّ إِنْسَانٍ التَّنْبِيهُ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ حَدِيثَ النَّفْسِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ. وَالْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ عِلْمِ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْوَسْوَسَةِ مُتَجَدِّدٌ غَيْرُ مُنْقَضٍ وَلَا مَحْدُودٍ لِإِثْبَاتِ عُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكِنَايَةُ عَنِ التَّحْذِيرِ مِنْ إِضْمَارِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ.

وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَنَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَأْكِيدُ عَامِلِهَا وَتَحْقِيقُ اسْتِمْرَارِ الْعِلْمِ بِبَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَمَعْنَى تُوَسْوِسُ تَتَكَلَّمُ كَلَامًا خَفِيًّا هَمْسًا. وَمَصْدَرُهُ الْوَسْوَاسُ وَالْوَسْوَسَةُ أُطْلِقَتْ هُنَا مَجَازًا عَلَى مَا يَجُولُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّقْدِيرَاتِ وَالْعَزَائِمِ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ أَقْرَبُ شَيْءٍ تُشَبَّهُ بِهِ تِلْكَ الْخَوَاطِرُ وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَعَارُ لَهَا لِأَنَّهَا تَجْمَعُ مُخْتَلِفَ أَحْوَالِ مَا يَجُولُ فِي الْعَقْلِ مِنَ التَّقَادِيرِ وَمَا عَدَاهَا مِنْ نَحْوِ أَلْفَاظِ التَّوَهُّمِ وَالتَّفَكُّرِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الْخَوَاطِرِ دُونَ بَعْضٍ. وَالْحَبْلُ: هُنَا وَاحِدُ حِبَالِ الْجِسْمِ. وَهِيَ الْعُرُوقُ الْغَلِيظَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الطِّبِّ بِالشَّرَايِينِ، وَاحِدُهَا: شَرْيَانٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتُكْسَرُ وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَتُعْرَفُ بِالْعُرُوقِ الضَّوَارِبِ وَمَنْبَتُهَا مِنَ التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَجْوِيفَيِ الْقَلْبِ. وَلِلشَّرَايِينِ عَمَلٌ كَثِيرٌ فِي حَيَاةِ الْجِسْمِ لِأَنَّهَا الَّتِي تُوصِلُ الدَّمَ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى أَهَمِّ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ مِثْلَ الرِّئَةِ وَالدِّمَاغِ وَالنُّخَاعِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ. وَلِلشَّرَايِينِ أَسْمَاءٌ بِاعْتِبَارِ مَصَابِّهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ. وَالْوَرِيدُ: وَاحِدٌ مِنَ الشَّرَايِينِ وَهُوَ ثَانِي شَرْيَانَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنَ التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ. وَاسْمُهُ فِي علم الطّلب أَوُرْطِيٌّ وَيَتَشَعَّبُ إِلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ ثَالِثَتُهُمَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٍ أَكْبَرَ وَقِسْمٍ أَصْغَر. وَهَذَا الْأَصْغَر يَخْرُجُ مِنْهُ شَرْيَانَانِ يُسَمَّيَانِ السُّبَاتِيَّ وَيَصْعَدَانِ يَمِينًا وَيَسَارًا مَعَ الْوَدَجَيْنِ، وَكُلُّ هَذِه الْأَقْسَام تسمى الْوَرِيدَ. وَفِي الْجَسَدِ وَرِيدَانِ وَهُمَا عِرْقَانِ يَكْتَنِفَانِ صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ فِي مُقَدَّمِهِمَا مُتَّصِلَانِ بِالْوَتِينِ يَرِدَانِ مِنَ الرَّأْسِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ أَسْمَاءُ أَجْزَائِهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْجَسَدِ فَهُوَ فِي الْعُنُقِ يُسَمَّى الْوَرِيدَ، وَفِي الْقَلْبِ يُسَمَّى الْوَتِينَ، وَفِي الظَّهْرِ يُسَمَّى الْأَبْهَرَ، وَفِي الذِّرَاعِ وَالْفَخِذِ يُسَمُّونَهُ الْأَكْحَلَ وَالنَّسَا، وَفِي الْخِنْصَرِ يُدْعَى الْأَسْلَمَ. وَإِضَافَةُ حَبْلِ إِلَى الْوَرِيدِ بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْحَبَلُ الَّذِي هُوَ الْوَرِيدُ، فَإِنَّ إِضَافَةَ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً كَقَوْلِهِمْ: شَجَرُ الْأَرَاكِ.

[سورة ق (50) : الآيات 17 إلى 18]

وَالْقُرْبُ هُنَا كِنَايَةُ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْحَالِ لِأَنَّ الْقُرْبَ يَسْتَلْزِمُ الِاطِّلَاعَ، وَلَيْسَ هُوَ قُرْبًا بِالْمَكَانِ بِقَرِينَةِ الْمُشَاهَدَةِ فَآلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ تَشْبِيهِ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، وَهَذَا مِنْ بِنَاءِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْكِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّ حَبْلَ الْوَرِيدِ مَعَ قُرْبِهِ لَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ بِقُرْبِهِ لِخَفَائِهِ، وَكَذَلِكَ قُرْبُ اللَّهِ مِنَ الْإِنْسَانِ بِعِلْمِهِ قُرْبٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ تَمْثِيلُ هَذَا الْقُرْبِ بِقُرْبِ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَبِذَلِكَ فَاقَ هَذَا التَّشْبِيهُ لِحَالَةِ الْقُرْبِ كُلَّ تَشْبِيهٍ مِنْ نَوْعِهِ وَرَدَ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هُوَ مِنْهُ مِقْعَدُ الْقَابِلَةِ وَمُعَقَّدَ الْإِزَارِ، وَقَوْلُ زُهَيْرٍ: فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَقَوْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ سَيَّارٍ وَهُوَ حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَيَّارٍ الْعِجْلِيِّ مُخَضْرَمٌ: كُلُّ امْرِئٍ مُصْبِحٍ فِي إِهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاك نَعله [17، 18] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 17 إِلَى 18] إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) يَتَعَلَّقُ إِذْ بقوله أَقْرَبُ [ق: 16] لِأَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ فِي الْفَاعِلِ وَلَا فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَاللُّغَةُ تَتَوَسَّعُ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ مَا لَا تَتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهَا، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ وَالْكَلَامُ تَخَلُّصٌ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْجَزَاءِ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ إِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا الْمَعْلُومَةِ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا التَّخَلُّصُ بِكَلِمَةِ إِذْ الدَّالَّةِ عَلَى الزَّمَانِ مِنْ أَلْطَفِ التَّخَلُّصِ. وَتَعْرِيفُ الْمُتَلَقِّيانِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بعد آيَات ذكر فِيهَا الْحَفَظَةُ، أَوْ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالتَّثْنِيَةُ فِيهَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُقَسَّمٌ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. وَالتَّلَقِّي: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ مُعْطِيهِ. اسْتُعِيرَ لِتَسْجِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ حِينَ صُدُورِهَا مِنَ النَّاسِ.

وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَتَلَقَّى لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَالتَّقْدِير: إِذْ تُحْصَى أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ. فَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ يُحْصِيَانِ أَعْمَالَهُ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ مِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ. وَوَرْدَ فِي السُّنَّةِ بِأَسَانِيدَ مَقْبُولَةٍ: أَنَّ الَّذِي يكون عَن الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ وَوَرَدَ أَنَّهُمَا يُلَازِمَانِ الْإِنْسَانَ مِنْ وَقْتِ تَكْلِيفِهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَعِيدٌ بَدَلًا مِنَ الْمُتَلَقِّيانِ بَدَلَ بَعْضٍ، وعَنِ الْيَمِينِ مُتَعَلِّقٌ بِ قَعِيدٌ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِجَانِبَيْهِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْيَمِينِ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وقَعِيدٌ مُبْتَدَأً وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ. وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَعَنِ الشِّمالِ عَلَى جُمْلَةِ يَتَلَقَّى وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْقَعِيدَ قَعِيدٌ فِي الْجِهَتَيْنِ، بَلْ كُلٌّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ قَعِيدٌ مُسْتَقِلٌّ بِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ، وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ آخَرُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَمِينِ والشِّمالِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ أَوِ اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ عَنْ يَمِينِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ شِمَالِهِ. وَالْقَعِيدُ: الْمُقَاعِدُ مِثْلُ الْجَلِيسِ لِلْمُجَالِسِ، وَالْأَكِيلِ لِلْمُؤَاكِلِ، وَالشَّرِيبِ لِلْمُشَارِبِ، وَالْخَلِيطُ لِلْمُخَالِطِ. وَالْغَالِبُ فِي فَعِيلٍ أَنْ يَكُونَ إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُفَاعَلَةِ مَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعًا، جَازَ مَجِيءُ فَعِيلٍ مِنْهُ بِأَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ قَعِيدَتُهُ. وَالْقَعِيدُ مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازِمِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَمَا أَطْلَقُوا الْقَعِيدَ عَلَى الْحَافِظِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الشَّيْءَ الْمُوَكَّلَ بِحِفْظِهِ. وَجُمْلَةُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَخ مبينَة لجملة يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَمَا نَافِيَةٌ وَضَمِيرُ يَلْفِظُ عَائِدٌ لِلْإِنْسَانِ.

وَاللَّفْظُ: النُّطْقُ بِكَلِمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعْنًى وَلَوْ جُزْءِ مَعْنًى، بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَهُوَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ مَعْنًى. ومِنْ زَائِدَةٌ فِي مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، أَيْ مَا يَقُولُ قَوْلًا فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ وُجُودِ رَقِيبٍ عَتِيدٍ لَدَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ لِأَنَّ الْمُرَاقَبَةَ هُنَا تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي الْأَقْوَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَلَا يَكْتُبُ الْحَفَظَةُ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَاحُ الْإِنْسَانِ أَوْ فَسَادُهُ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي كِتَابَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْقَوْلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا التَّحْذِيرِ الْمُشْرِكُونَ وَإِنَّمَا كَانُوا يُؤَاخَذُونَ بِأَقْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى تَكْذِيب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَذَاهُ وَلَا يُؤَاخَذُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ إِذْ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْأَعْمَالِ فِي حَالِ إِشْرَاكِهِمْ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَثَرِ الشِّرْكِ كَالتَّطْوَافِ بِالصَّنَمِ، أَوْ مِنْ أَثَرِ أَذَى النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَإِلْقَاءِ سَلَا الْجُذُورِ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهِ فِي ضِمْنِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ لَا تَخْلُو مِنْ مُصَاحَبَةِ أَقْوَالٍ مُؤَاخَذٍ عَلَيْهَا بِمِقْدَارِ مَا صَاحَبَهَا. وَلِأَنَّ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّيِّئَةِ مَا لَهُ أَثَرٌ شَدِيدٌ فِي الْإِضْلَالِ كَالدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَنَهْيِ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ، وَتَغْرِيرِ الْأَغْرَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ أَوْلَى مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ كَافِيَةٌ فِي تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَضَمِيرُ لَدَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانَ [ق: 16] ، وَالْمَعْنَى: لَدَى لَفْظِهِ بِقَوْلِهِ.

وَ (عَتِيدٌ) فَعِيلٌ مِنْ عَتَدَ بِمَعْنَى هَيَّأَ، وَالتَّاءُ مُبَدَّلَةٌ مِنَ الدَّالِ الْأَوَّلِ إِذْ أَصْلُهُ عَدِيدٌ، أَيْ مُعَدٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يُوسُف: 31] . وَعِنْدِي أَنَّ عَتِيدٌ هُنَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ (عَتُدَ) بِضَمِّ التَّاءِ إِذَا جَسُمَ وَضَخُمَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ شَدِيدًا وَبِهَذَا يَحْصُلُ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] وَيَحْصُلُ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ. وَقَدْ تَوَاطَأَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَفْسِيرِ التَّلَقِّي فِي قَوْلِهِ: الْمُتَلَقِّيانِ بِأَنَّهُ تَلَقِّي الْأَعْمَالِ لِأَجْلِ كَتْبِهَا فِي الصَّحَائِفِ لِإِحْضَارِهَا لِلْحِسَابِ وَكَانَ تَفْسِيرًا حَائِمًا حَوْلَ جَعْلِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ لِفِعْلٍ يَتَلَقَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ بِدَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ وَقَوْلَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَقْدِيرِهِمْ مُنْفَصِلَةً عَنْ جُمْلَةٍ وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَلِفَخْرِ الدِّينِ مَعْنًى دَقِيقٌ فَبَعْدَ أَنْ أَجْمَلَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا يُسَايِرُ تَفْسِيرَ الْجُمْهُورِ قَالَ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّلَقِّي الِاسْتِقْبَالُ، يُقَالُ: فُلَانٌ تَلَقَّى الرَّكْبَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَاهُ: وَقْتَ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّيَانِ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ قَعِيدٌ، فَالْمُتَلَقِّيَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ أَحَدُهُمَا يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الصَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى السُّرُورِ وَالْآخَرُ يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الطَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، أَيْ وَقْتِ تَلَقِّيهِمَا وَسُؤَالِهِمَا أَنَّهُ مِنْ أَيِ الْقَبِيلَيْنِ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَعِيدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنِ الشِّمَالِ مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، وَعِنْدَهُ مَلَكَانِ آخَرَانِ كَاتِبَانِ لِأَعْمَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] . فَالشَّهِيدُ هُوَ الْقَعِيدُ وَالسَّائِقُ هُوَ الْمُتَلَقِّي يَتَلَقَّى رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ فَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ، وَهَذَا أَعْرَفُ الْوَجْهَيْنِ وَأَقَرَبُهُمَا إِلَى الْفَهْمِ» اهـ. وَكَأَنَّهُ يَنْحُو بِهِ مَنْحَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الْوَاقِعَة: 83- 85] . وَلَا نُوقِفُ فِي سَدَادِ هَذَا التَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى ثُبُوتِ وُجُودِ مَلَكَيْنِ يَتَسَلَّمَانِ رُوحَ الْمَيِّتِ مِنْ يَدِ مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ قَبْضِهَا وَيَجْعَلَانِهَا فِي الْمَقَرِّ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهَا. وَالْمَظْنُونُ بِفَخْرِ الدِّينِ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ

[سورة ق (50) : آية 19]

الْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّذْكِرَةِ» عَنْ «مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ» عَنِ الْبَرَاءِ. وَعَنْ كِتَابِ «النَّسَائِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حُضِرَ الْمَيِّتُ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ يَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْملك لم يدعوها فِي يَدِهِ طَرْفَةً فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ فَتَعْرُجُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ» . وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَّا أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَلَائِكَةً جَمْعًا وَفِي الْآيَةِ الْمُتَلَقِّيانِ تَثْنِيَةً. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَفْعُولُ يَتَلَقَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ رُوحَ الْإِنْسَانِ. وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا قَعِيدٌ، وَهُوَ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ عَنْ يَمِينِ أَحَدِهِمَا وَعَنْ شِمَالِ الْآخَرِ. وَيَكُونُ قَعِيدٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى: قَعِيدَانِ فَإِنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ قَدْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مفعول، كَقَوْل الأرزق بْنِ طَرَفَةَ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ أَفْعَالٌ لِعَجْزِهِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَقْوَالٌ مِنْ تَضَجُّرٍ أَوْ أَنِينٍ أَوْ شَهَادَةٍ بِالتَّوْحِيدِ، أَوْ ضِدِّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَصَايَا والإقرارات. [19] [سُورَة ق (50) : آيَة 19] وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَهَذَا تَنَقُّلٌ فِي مَرَاحِلِ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لِلْإِنْسَانِ الَّتِي تُسَلِّمُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى يَقَعَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِ الَّتِي قَدْ أَحْصَاهَا الْحَفِيظَانِ. وَإِنَّمَا خُولِفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَعْطُوفِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي دُونَ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّتِي صِيغَ بِهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لِقُرْبِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا حَصَلَ قَصْدًا لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي نُفُوسِ

الْمُشْرِكِينَ كَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الْجُمُعَة: 8] . وَيَأْتِي على مَا اخْتَارَهُ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [ق: 17] الْآيَةَ أَن تكون جملَة وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ حِينَئِذٍ. وَالْمَجِيءُ مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ وَالِاعْتِرَاءِ وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَهْوِيلٌ لِحَالَةِ احْتِضَارِ الْإِنْسَانِ وَشُعُورِهِ بِأَنَّهُ مُفَارِقُ الْحَيَاةَ الَّتِي أَلِفَهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا قَلْبُهُ. وَالسَّكْرَةُ: اسْمٌ لِمَا يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَلَمٍ أَوِ اخْتِلَالٍ فِي الْمِزَاجِ يَحْجُبُ مِنْ إِدْرَاكِ الْعَقْلِ فَيَخْتَلُّ الْإِدْرَاكُ وَيَعْتَرِي الْعَقْلَ غَيْبُوبَةٌ. وَهِيَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الْغَلْقُ لِأَنَّهُ يُغْلِقُ الْعَقْلَ وَمِنْهُ جَاءَ وَصْفُ السَّكْرَانِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ إِمَّا حَالٌ مِنْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أَيْ مُتَّصِفَةٌ بِأَنَّهَا حَقٌّ، وَالْحَقُّ: الَّذِي حَقَّ وَثَبُتَ فَلَا يَتَخَلَّفُ، أَيِ السَّكْرَةُ الَّتِي لَا طَمَعَ فِي امْتِدَادِ الْحَيَاةِ بَعْدَهَا، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ الْمَوْتِ، أَيْ مُلْتَبِسًا بِأَنَّهُ الْحَقُّ، أَيِ الْمَفْرُوضُ الْمَكْتُوبُ عَلَى النَّاسِ فَهُمْ مَحْقُوقُونَ بِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ الْجِدُّ ضِدُّ الْعَبَثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [التغابن: 3] مَعَ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] . وَقَوْلُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْتِ بِتَنْزِيلِ قُرْبِ حُصُولِهِ مَنْزِلَةَ الْحَاصِلِ الْمُشَاهَدِ. وتَحِيدُ تَفِرُّ وَتَهْرُبُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْكَرَاهِيَةِ أَوْ لِتَجَنُّبِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ. وَالْخِطَابُ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَبِالْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ كَرَاهِيَةً لِلْمَوْتِ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ مَادِّيَّةٌ مَحْضَةٌ فَهُمْ يُرِيدُونَ طُولَ الْحَيَاةِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: 96] إِذْ لَا أَمَلَ لَهُمْ فِي حَيَاةٍ أُخْرَى وَلَا أَمَلَ لَهُمْ فِي تَحْصِيلِ نَعِيمِهَا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ كَرَاهَتَهُمْ لِلْمَوْتِ الْمُرْتَكِزَةَ فِي الْجِبِلَّةِ بِمِقْدَارِ الْإِلْفِ لَا تَبْلُغُ بِهِمْ إِلَى حَدِّ الْجَزَعِ مِنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لقاءه» ، وتأويله بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهُ لِلطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ، وَبِالْكَافِرِ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ. وَقَدْ بَينه

[سورة ق (50) : الآيات 20 إلى 21]

النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ» أَيْ وَالْكَافِرُ بِعَكْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خِطَابًا لِلْيَهُودِ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الْجُمُعَة: 8] . وَتَقْدِيمُ مِنْهُ عَلَى تَحِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا مِنْهُ الْحِيَادُ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [20، 21] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 20 إِلَى 21] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) عَطْفٌ عَلَى وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] عَلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ. فَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْفَخْرِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَصِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ، أَيْ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَصِيغَ لَهُ الْمُضِيُّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ إِذْ أَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ الَّذِي نُفِخَ فِي الصُّورِ عِنْدَهُ هُوَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَالنَّفْخُ فِي الصُّوَرِ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] . وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ النَّفْخِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْوَعِيدِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ ذَلِكَ حُلُولُ يَوْمِ الْوَعِيدِ. وَإِضَافَةُ يَوْمُ إِلَى الْوَعِيدِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَا يَقَعُ فِيهِ، أَيْ يَوْمَ حُصُولِ الْوَعِيدِ الَّذِي كَانُوا تُوُعِّدُوا بِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، تَقْدِيرُهُ: وَيَوْمُ الْوَعْدِ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى جُمْلَةِ نُفِخَ فِي الصُّورِ. وَالْمُرَادُ بِ كُلُّ نَفْسٍ كُلُّ نَفْسٍ مِنَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ:

[سورة ق (50) : آية 22]

أَحَدُهَا: السِّيَاقُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ مَعَها سائِقٌ لِأَنَّ السَّائِقَ يُنَاسِبُ إِزْجَاءَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ، وَأَمَّا الْمَهْدِيُّونَ إِلَى الْكَرَامَةِ فَإِنَّمَا يَهْدِيهِمْ قَائِدٌ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الْأَنْفَال: 6] . وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ بَعْدَهُ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: 22] . وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ. وسائِقٌ مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ الَّذِي هُوَ مَعَها عَلَى رَأْيِ مَنْ أَجَازَهُ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَعَها. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ حَالًا مِنْ كُلُّ نَفْسٍ. وَعَطْفُ وَشَهِيدٌ عَلَى سائِقٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ ذَاتٍ عَلَى ذَاتٍ فَيكون المُرَاد ملكان أَحَدُهُمَا يَسُوقُ النَّفْسَ إِلَى الْمَحْشَرِ وَالْآخَرُ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا حَوَتْهُ صَحَائِفُ أَعْمَالِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ مِثْلَ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَامِ فَهُوَ مَلِكٌ وَاحِدٌ. وَالسَّائِقُ الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ أَمَامَهُ يُزْجِيهِ فِي السَّيْرِ لِيَكُونَ بِمَرْأًى مِنْهُ كَيْلَا يَنْفَلِتَ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمَشْيِ بِهِ إِلَى مَا يَسُوءُ قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الْأَنْفَال: 6] وَقَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر: 71] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: 73] فَمُشَاكَلَةٌ. وَضِدُّ السُّوق: الْقود. [22] [سُورَة ق (50) : آيَة 22] لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ تَعَيُّنِهُ مِنَ الْخِطَابِ، أَيْ يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ لِكُلِّ نَفْسٍ مِنْ نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ خِطَابُ التَّهَكُّمِ التَّوْبِيخِيِّ لِلنَّفْسِ الْكَافِرَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَكُنْ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ.

[سورة ق (50) : آية 23]

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كُلُّ نَفْسٍ [ق: 21] أَوْ مَوْقِعِ الصِّفَةِ، وَعَلَامَاتُ الْخِطَابِ فِي كَلِمَاتِ كُنْتَ وعَنْكَ وغِطاءَكَ وفَبَصَرُكَ مَفْتُوحَةٌ لِتَأْوِيلِ النَّفْسِ بِالشَّخْصِ أَوْ بِالْإِنْسَانِ ثُمَّ غَلَبَ فِيهِ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَهَذَا الْكَلَامُ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْحِسَابِ. وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْإِنْكَارِ وَالْجَحَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَرَشَّحَ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ بِمَعْنَى: بَيَّنَّا لَكَ الدَّلِيلَ بِالْحِسِّ فَهُوَ أَيْضًا تَهَكُّمٌ. وَأُوثِرَ قَوْلُهُ: فِي غَفْلَةٍ عَلَى أَنْ يُقَالَ غَافِلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُ وَلِذَلِكَ اسْتَتْبَعَ تَمْثِيلَهَا بِالْغِطَاءِ. وَكَشْفُ الْغِطَاءِ تَمْثِيلٌ لِحُصُولِ الْيَقِينِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ إِنْكَارِ وُقُوعِهِ، أَيْ كَشَفْنَا عَنْكَ الْغِطَاءَ الَّذِي كَانَ يَحْجُبُ عَنْكَ وُقُوعَ هَذَا الْيَوْمِ بِمَا فِيهِ، وَأُسْنِدَ الْكَشْفُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الَّذِي أَظْهَرَ لَهَا أَسْبَابَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِشَوَاهِدِ عَيْنِ الْيَقِينِ. وَأُضِيفَ (غِطَاءَ) إِلَى ضَمِيرِ الْإِنْسَانِ الْمُخَاطِبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ. وَحِدَّةُ الْبَصَرِ: قُوَّةُ نَفَاذِهِ فِي الْمَرْئِيِّ، وَحِدَّةُ كُلِّ شَيْءِ قُوَّةُ مَفْعُولِهِ، وَمِنْهُ حِدَّةُ الذِّهْنِ، وَالْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِرُؤْيَةِ الْمَرْئِيِّ بِبَصَرٍ قَوِيٍّ، وَتَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: الْيَوْمَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ، أَيْ لَيْسَ حَالُكَ الْيَوْمَ كَحَالِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ إِذْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ. وَالْمَعْنَى: فَقَدْ شَاهَدْتَ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالْجَزَاءَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ كُله، قَالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات: 53] وَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: 59] فَقَدْ رَأَى الْعَذَاب ببصره. [23] [سُورَة ق (50) : آيَة 23] وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ تَاءِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: 22]

أَيْ يُوَبَّخُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ بِكَلِمَةِ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا، فِي حَالِ قَوْلِ قَرِينِهِ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ. وَهَاءُ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: قَرِينُهُ عَائِدَةٌ إِلَى كُلُّ نَفْسٍ [ق: 21] أَوْ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَقَرِينُ فَعِيلُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَقْرُونٌ إِلَى غَيْرِهِ. وَكَأَنَّ فِعْلَ قَرَنَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرَنِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْحَبْلُ وَكَانُوا يَقْرِنُونَ الْبَعِيرَ بِمِثْلِهِ لِوَضْعِ الْهَوْدَجِ، فَاسْتُعِيرَ الْقَرِينُ لِلْمُلَازِمِ. وَهَذَا لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ إِذْ لَيْسَ هُوَ تَغْيِيرَ ضَمِيرٍ وَلَكِنَّهُ تَعْيِينُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ وَأُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى نَفْسٍ أَيْ شَخْصٍ، أَوْ غَلَبَ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَا لَدَيَّ إِلَخْ، يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا لَدَيَّ مَوْصُولَةٌ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. ولَدَيَّ صِلَةٌ، وعَتِيدٌ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْقَرِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ أَيْ هُوَ السَّائِقُ الشَّهِيدُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَرِينُ فِي قَوْلِهِ الْآتِي قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ [ق: 27] بِمَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى الْقَرِينِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَنَّ الْقَرِينَ شَيْطَانُ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ فِي الدُّنْيَا أَيِ الَّذِي وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [فصلت: 25] . وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: أَنْ قَرِينَهُ صَاحِبُهُ مِنَ الْإِنْسِ، أَيِ الَّذِي كَانَ قَرِينَهُ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالْقَرِينِ يَخْتَلِفُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ فَإِنْ كَانَ الْقَرِينُ الْمَلَكَ كَانْتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْعَذَابِ الْمُوكَّلِ بِهِ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَإِنْ كَانَ الْقَرِينُ شَيْطَانًا أَوْ إِنْسَانًا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مُحْتَمَلَةً لِأَنَ تَعُودَ إِلَى الْعَذَابِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: قَرِينُهُ

[سورة ق (50) : الآيات 24 إلى 25]

وَهُوَ نَفْس الْكَافِرِ، أَيْ هَذَا الَّذِي مَعِي، فَيَكُونُ لَدَيَّ بِمَعْنَى: مَعِي، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ صَاحِبٍ يَأْنَسُ بِمُحَادَثَتِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ قرين الشّرك الممائل. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ قَرِينًا لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَاخْتِلَافَ حَالَيْهِمَا يَوْمَ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [51، 52] . وَقَوْلُ الْقَرِينِ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ مُسْتَعْمل فِي التهلف وَالتَّحَسُّرِ وَالْإِشْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا بِهِ الْعَذَابَ عَلِمَ أَنه قد هيّىء لَهُ، أَوْ لَمَّا رَأَى مَا قَدَّمَ إِلَيْهِ قَرِينُهُ علم أَنه لَا حق عَلَى أَثَرِهِ كَقِصَّةِ الثَّوْرَيْنِ الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ اللَّذَيْنِ اسْتَعَانَ الْأَسَدُ بِالْأَحْمَرِ مِنْهُمَا عَلَى أَكْلِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ ثُمَّ جَاءَ الْأَسَدُ بَعْدَ يَوْمٍ لِيَأْكُلَ الثَّوْرَ الْأَحْمَرَ فَعَلَا الْأَحْمَرُ رَبْوَةً وَصَاحَ أَلَا إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عَتِيدٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] ، وَهُوَ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، أَيْ معدّ ومهيّأ. [24، 25] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 24 إِلَى 25] أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ النَّفْسِ إِلَى خِطَابِ الْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَالْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ فَرِيقٍ إِلَى خِطَابِ فَرِيقٍ آخَرَ، وَصِيغَةُ الْمُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: أَلْقِيا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي أَصْلِهَا فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِجَهَنَّمَ وَخُوطِبَ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَعْمَلَةٍ فِي الْخِطَابِ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُ فِيهِمْ أَنْ يُرَافِقَ السَّائِرَ رَفِيقَانِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: قفانبك مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ وَقَوْلِهِمْ: يَا خَلِيلَيَّ، وَيَا صَاحِبَيَّ. وَالْمُبَرِّدُ يَرَى أَنَّ تَثْنِيَةَ الْفَاعِلِ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ تَثْنِيَةِ الْفِعْلِ لِاتِّحَادِهِمَا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلْقِ أَلْقِ لِلتَّأْكِيدِ.

[سورة ق (50) : آية 26]

وَهَذَا أَمْرٌ بِأَنْ يَعُمَّ الْإِلْقَاءُ فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، فَيَعْلَمُ مِنْهُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي الْحَشْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ. وَالْكَفَّارُ: الْقَوِيُّ الْكُفْرِ، أَيِ الشِّرْكِ. وَالْعَنِيدُ: الْقَوِيُّ الْعِنَادِ، أَيِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُدَافَعَةِ لِلْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ. وَالْمَنَّاعُ: الْكَثِيرُ الْمَنْعِ، أَيْ صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْخَيْرِ، وَالْخَيْرُ هُوَ الْإِيمَانُ، كَانُوا يَمْنَعُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَذَوِيهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْإِيمَانِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَقُولُ لِبَنِي أَخِيهِ «مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ مَا عِشْتُ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْضًا مَنْعُ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّ الْخَيْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ الْفُقَرَاءَ وَيُعْطُونَ الْمَالَ لِأَكَابِرِهِمْ تَقَرُّبًا وَتَلَطُّفًا. وَالْمُعْتَدِي: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وعَلى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْقَوْلِ الْبَاطِلِ. وَالْمُرِيبُ الَّذِي أَرَابَ غَيْرَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مُرْتَابًا، أَيْ شَاكًّا، أَيْ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ صُنُوفِ الْمُغَالَطَةِ لِيُشَكِّكُوهُمْ فِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. وَبَيْنَ لَفْظِي عَتِيدٌ [ق: 18] وعَنِيدٍ الجناس الْمُصحف. [26] [سُورَة ق (50) : آيَة 26] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ بَدَلًا مِنْ كَفَّارٍ عَنِيدٍ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ تُبَدَّلُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشورى: 52، 53] ، عَلَى أَنَّ الْمَوْصُولَ هُنَا تَعْرِيفُهُ لَفْظِيٌّ مُجَرَّدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّلَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمُعَيَّنٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَلْقِياهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] وَمَصَبُّ التَّفْرِيعِ الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ، أَيْ فِي أَشَدِّ عَذَابِ جَهَنَّمَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَمْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي جَهَنَّمَ تَفْرِيعُ بَيَانٍ، وَإِعَادَةُ فِعْلِ أَلْقِيا لِلتَّأْكِيدِ مَعَ تَفْرِيعِ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: 9]

[سورة ق (50) : آية 27]

فَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ إِلَخْ قَوْلَهُ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: 188] ، فَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَإِعَادَةُ تَحْسَبَنَّهُمْ تُفِيدُ التَّأْكِيد، وَعَلِيهِ ف الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ: الْكَفَّارُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلَّ [ق: 24] فَهُوَ صَادِقٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْكَفَّارِينَ فَضَمِيرُ النصب فِي فَأَلْقِياهُ بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ جَمْعٍ، أَيْ فَأَلْقَيَاهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُبْتَدَأً عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ وَيُضَمَّنُ الْمَوْصُولُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ فِي وُجُودِ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهَذَا كَثِيرٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا تَأْكِيدُ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. [27] [سُورَة ق (50) : آيَة 27] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) حِكَايَةُ قَوْلِ الْقَرِينِ بِالْأُسْلُوبِ الْمُتَّبَعِ فِي حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أُسْلُوبُ الْفَصْلِ دُونَ عَطْفِ فِعْلِ الْقَوْلِ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ الْأُسْلُوبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، تُشْعِرُ بِأَنَّ فِي الْمَقَامِ كَلَامًا مَطْوِيًّا هُوَ كَلَامُ صَاحِبِ الْقَرِينِ طُوِيَ لِلْإِيجَازِ، وَدَلِيلُهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ الْقَرِينِ مِنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَطْغَى صَاحِبَهُ إِذْ قَالَ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ ص صَرِيحًا بِقَوْلِهِ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: 59- 61] . وَتَقْدِيرُ الْمَطْوِيِّ هُنَا: أَن الكفّار الْعَنِيدَ لَمَّا قَدِمَ إِلَى النَّارِ أَرَادَ التَّنَصُّلَ مِنْ كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ وَأَلْقَى تَبِعَتَهُ عَلَى قَرِينِهِ الَّذِي كَانَ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ فَقَالَ: هَذَا الْقَرِينُ أَطْغَانِي، فَقَالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. فَالْقَرِينُ هَذَا هُوَ الْقَرِينُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] .

[سورة ق (50) : الآيات 28 إلى 29]

وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي التَّعَاظُمِ وَالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ، وَفِعْلُهُ يَائِيٌّ وَوَاوِيٌّ، يُقَالُ: طَغِيَ يَطْغَى كَرَضِيَ، وَطَغَا يَطْغُو كَدَعَا. فَمَعْنَى مَا أَطْغَيْتُهُ مَا جَعَلْتُهُ طَاغِيًا، أَيْ مَا أَمَرْتُهُ بِالطُّغْيَانِ وَلَا زَيَّنْتُهُ لَهُ. والاستدراك ناشىء عَنْ شِدَّةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِينِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرِينِ شَيْطَانَهُ الْمُقَيَّضَ لَهُ فَإِنَّهُ قُرِنَ بِهِ مِنْ وَقْتِ إِدْرَاكِهِ، فَالِاسْتِدْرَاكُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ مِنَ الطُّغْيَانِ بِتَلْقِينِ الْقَرِينِ فَهُوَ يَنْفِي ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ الِاسْتِدْرَاكَ بِجُمْلَةِ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ فَأَخْبَرَ الْقَرِينُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ ضَالٌّ مِنْ قَبْلُ فَلَمْ يَكُنِ اقْتِرَانُهُ مَعَهُ فِي التَّقْيِيضِ أَوْ فِي الصُّحْبَةِ بِزَائِدِ إِيَّاهُ إِضْلَالًا، وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَة: 166] . وَفِعْلُ كانَ لِإِفَادَةِ أَنَّ الضَّلَالَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْأَصَالَةِ مُلَازِمٌ لِتَكْوِينِهِ. وَالْبَعِيدُ: مُسْتَعَارٌ لِلْبَالِغِ فِي قُوَّةِ النَّوْعِ حَدًّا لَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ إِدْرَاكُ الْعَاقِلِ بِسُهُولَةٍ كَمَا لَا يَبْلُغُ سَيْرُ السَّائِرِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ أَوْ بَعِيدُ الزَّمَانِ، أَيْ قَدِيمٌ أَصِيلٌ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمُفَادِ فِعْلِ كانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [116] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَمَكُّنَ الضَّلَالِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بِتَابِعٍ لِمَا يُمْلِيهِ غَيْرُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّابِعِ فِي شَيْءٍ أَنْ لَا يَكُونَ مَكِينًا فِيهِ مِثْلَ عِلْمِ الْمُقَلَّدِ وَعلم النظّار. [28، 29] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 28 إِلَى 29] قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) هَذَا حِكَايَةُ كَلَامٍ يَصْدُرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْفَرِيقَيْنِ الَّذِي اتَّبَعُوا وَالَّذِينَ اتُّبِعُوا، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: 22] . وَعَدَمُ عَطْفِ فِعْلِ قالَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِوُقُوعِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَاوَلَةِ، وَالتَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَقَدْ صَارَتِ المقاولة بَين ثَلَاثَة جَوَانِبَ.

وَالِاخْتِصَامُ: الْمُخَاصَمَةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لِمُطَاوَعَةِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَاسْتُعْمِلَتْ لِلتَّفَاعُلِ مَثَلَ: اجْتَوَرُوا وَاعْتَوَرُوا وَاخْتَصَمُوا. وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُخَاصَمَةِ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ النُّفُوسَ الْكَافِرَةَ ادَّعَتْ أَنَّ قُرَنَاءَهَا أَطْغَوْهَا، وَأَنَّ الْقُرَنَاءَ تَنَصَّلُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ النُّفُوسَ أَعَادَتْ رَمْيَ قُرَنَائِهَا بِذَلِكَ فَصَارَ خِصَامًا فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ لَا تَخْتَصِمُوا عَلَيْهِ إِيثَارًا لِحَقِّ الْإِيجَازِ فِي الْكَلَامِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الِاخْتِصَامِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِتَأْوِيلِ النَّهْيِ عَنِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، أَيْ كَفُّوا عَنِ الْخِصَامِ. وَمَعْنَى النَّهْيُ أَنَّ الْخِصَامَ فِي ذَلِكَ لَا جَدْوَى لَهُ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْكُفْرِ كَافٍ فِي مُؤَاخَذَةِ كِلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: 38] ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يُفِيدُهُمُ التَّخَاصُمُ لِإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ. وَوَجْهُ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَذَابِ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى إِضْلَالِهِ قَائِمٌ بِمَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ تَرْوِيجِ الْبَاطِلِ دُونَ نَظَرٍ فِي الدَّلَائِلِ الْوِزَاعَةِ عَنْهُ وَأَنَّ مُتَلَقِّيَ الْبَاطِلِ مِمَّنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ قَائِمٌ بِمَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ من الطَّاعَة لأيمة الضَّلَالِ فَاسْتَوَيَا فِي الدَّاعِي وَتَرَتُّبِ أَثَرِهِ. وَالْوَاوُ فِي وَقَدْ قَدَّمْتُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَخْتَصِمُوا وَهِيَ حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَامِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَطْمَعُوا فِي أَنَّ تَدَافُعَكُمْ فِي إِلْقَاءِ التَّبِعَةِ يُنْجِيكُمْ مِنَ الْعِقَابِ بَعْدَ حَالِ إِنْذَارِكُمْ بِالْوَعِيدِ مِنْ وَقْتِ حَيَاتِكُمْ فَمَا اكْتَرَثْتُمْ بِالْوَعِيدِ فَلَا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ مَنْ أَنْذَرَ فَقَدْ أَعْذَرَ. فَقَوْلُهُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْخِصَامِ كَوْنَ الْعِقَابِ عَدْلًا مِنَ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْوَعِيدِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِه: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَالْمَعْنَى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ الْوَعِيدَ قَبْلَ الْيَوْمِ.

وَالتَّقْدِيمُ: جَعْلُ الشَّيْءِ قُدَّامَ غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: كَوْنُهُ سَابِقًا عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالشِّرْكِ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ بِوَاسِطَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ الْمُكَنَّى عَنْهُ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، أَيْ لَسْتُ مُبْطِلًا ذَلِكَ الْوَعِيدَ، وَهُوَ الْقَوْلُ، إِذِ الْوَعِيدُ مِنْ نَوْعِ الْقَوْلِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، أَيْ فَمَا أَوْعَدْتُكُمْ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَهَّدَ أَنْ لَا يَغْفِرَ لِمَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي الْمُكَنَّى عَنْهُ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أَيْ فَلِذَلِكَ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ الْوَعِيدَ. وَالْمُبَالَغَةُ الَّتِي فِي وصف بِظَلَّامٍ رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَالْمُرَادُ: لَا أَظْلِمُ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: مَا أَنَا بِشَدِيدِ الظُّلْمِ كَمَا قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْمُقَيَّدِ يُفِيدُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَيْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَغْلَبِيٌّ. وَالْأَكْثَرُ فِي نَفْيِ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِالْمُبَالَغَةِ مُبَالَغَةُ النَّفْيِ، قَالَ طَرَفَةُ: وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً ... وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْيَ كَثْرَةِ حُلُولِهِ التِّلَاعَ وَإِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ النَّفْيِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» تَوَجُّهَ نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُقَيَّدِ إِلَى خُصُوصِ الْقَيْدِ كَتَوَجُّهِ الْإِثْبَاتِ سَوَاءً، وَلَكِن كَلَام التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ» فِي مَبْحَثِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى اسْتِعْمَالَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَالْأَكْثَرُ أَنَّ النَّفْيَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقَيْدِ فَيَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْقَيْدَ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ الْقَيْدُ قَيْدًا لِلنَّفْيِ وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. عَلَى أَنِّي أَرَى أَنَّ عَدَّ مِثْلِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي عِدَادِ الْقُيُودِ مَحَلَّ نَظَرٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْقُيُودِ هُوَ مَا كَانَ لَفْظًا زَائِدًا عَلَى اللَّفْظِ الْمَنْفِيِّ مِنْ صِفَةٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَسْتُ ظَلَّامًا، وَلَكِنْ أَظْلِمُ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا آتِيكَ مُحَارِبًا وَلَكِنْ مُسَالِمًا. وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّ إِيثَار وصف بِظَلَّامٍ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ

[سورة ق (50) : آية 30]

لَوْ كَانَ غَيْرَ مَنْفِيٍّ لَكَانَ ظُلْمًا شَدِيدًا فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أُخِذَ الْجَانِي قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ عَمَلَهُ جِنَايَةٌ لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُ بِهَا ظُلْمًا شَدِيدًا. وَلَعَلَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» يَرْمِي إِلَى مَذْهَبِهِ مِنِ اسْتِوَاءِ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَبِيدِ دُونَ التَّعْبِيرِ بِالنَّاسِ وَنَحْوِهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي نُفُوسِ الْأُمَّةِ، أَيْ لَا أَظْلِمُ وَلَوْ كَانَ الْمَظْلُومُ عَبْدِي فَإِذَا كَانَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْعِبَادَ قَدْ جَعَلَ مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَشْرِيعٌ ظُلْمًا فَمَا بَالَكَ بِمُؤَاخَذَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّبِعَاتِ دُونَ تَقَدُّمٍ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لَا عُقُوبَةَ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ فِيهِ قَانُونٌ سَابِقٌ قبل فعله. [30] [سُورَة ق (50) : آيَة 30] يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] . وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ يَوْمَ يَقُولُ قَوْلًا آخَرَ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ. ومناسبته تَعْلِيقِهِ بِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِجَهَنَّمَ مَقْصُودٌ بِهِ تَرْوِيعُ الْمَدْفُوعِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَنْ لَا يَطْمَعُوا فِي أَنَّ كَثْرَتَهُمْ يَضِيقُ بِهَا سَعَةُ جَهَنَّمَ فَيَطْمَعُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ لَهُ مَكَانٌ فِيهَا، فَحَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْلِيمًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ اسْتَوَتْ قِرَاءَةُ يَقُولُ بِالْيَاءِ، وَهِيَ لِنَافِعٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ بَلْ هُوَ الْتِفَاتٌ تَابِعٌ لِتَبْدِيلِ طَرِيقِ الْإِخْبَارِ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ غَائِبٍ إِلَى خِطَابِ حَاضِرٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ كَلَامٌ يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِمَحْضِ خَلْقِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ. فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ كَمَا يُقَالُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلِ امْتَلَأْتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَنْبِيهِ أَهْلِ الْعَذَابِ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ لِجَهَنَّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي أَصْوَاتِ لَهِيبِهَا أَصْوَاتًا ذَاتَ حُرُوفٍ يَلْتَئِمُ مِنْهَا كَلَامٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ دَلَالَةِ حَالِهَا عَلَى أَنَّهَا

[سورة ق (50) : الآيات 31 إلى 35]

تَسَعُ مَا يُلْقَى فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُكْشَفَ بَاطِنُهَا لِلْمَعْرُوضِينَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرَوْا سِعَتَهَا كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: امْتَلَا الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ مِنْ مَزِيدٍ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّشْوِيقِ وَالتَّمَنِّي. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشَوِّقَةٌ إِلَى الْإِيفَاءِ بِمَا خُلِقَتْ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْطَان قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] . وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِظْهَارِ الِامْتِثَالِ لِمَا خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَجْلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَتَلَكَّأُ وَلَا تَتَعَلَّلُ فِي أَدَائِهِ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ فِي بَابِهِ. وَالْمَزِيدُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِثْلَ الْمَجِيدِ وَالْحَمِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ زَادَ، أَيْ هَلْ مِنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ يلقون فيّ. [31- 35] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 31 إِلَى 35] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) عَطَفَ وَأُزْلِفَتِ عَلَى يَقُولُ لِجَهَنَّمَ. فَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ أزلفت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى مُقَابِلِ حَالَةِ الضَّالِّينَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] وَلَوِ اعْتُبِرَتْ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا لَصَحَّ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ عَطْفَهَا عَلَى جملَة يَوْم يَقُول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: 30] غَنِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الْكَلَامِ. وَالْإِزْلَافُ: التَّقْرِيبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَقِيَاسُ فِعْلِهِ أَنَّهُ كَفَرِحَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَلَمْ يُرْوَ فِي كَلَامِهِمْ، أَيْ جُعِلَتِ الْجَنَّةُ قَرِيبًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَيِ ادْنُوَا مِنْهَا. وَالْجَنَّةُ مَوْجُودَةٌ مِنْ قَبْلِ وُرُودِ الْمُتَّقِينَ إِلَيْهَا فَإِزْلَافُهَا قَدْ يَكُونُ بِحَشْرِهِمْ لِلْحِسَابِ

بِمَقْرُبَةِ مِنْهَا كَرَامَةً لَهُمْ عَنْ كُلْفَةِ الْمَسِيرِ إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ تَيْسِيرِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا بِوَسَائِلَ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي عَادَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ بَعِيدٍ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، أَيْ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُمْ وَإِلَّا صَارَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِ أُزْلِفَتِ كَمَا يُقَالُ: عَاجِلٌ غَيْرُ آجِلٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] وَالتَّأْسِيسُ أَرْجَحُ مِنَ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ. وَانْتَصَبَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَصْفٌ لِظَرْفِ مَكَانٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أَيْ عَنِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذَا الظَّرْفُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةُ. وَتَجْرِيدُ بَعِيدٍ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ: إِمَّا عَلَى اعْتِبَارِ غَيْرَ بَعِيدٍ وَصفا لمَكَان، وَإِمَّا جَرْيٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْغَالِبِ فِي وَصْفِ بَعِيدٍ وَقَرِيبٍ إِذَا أُرِيدَ الْبُعْدُ وَالْقُرْبُ بِالْجِهَةِ دُونَ النَّسَبِ أَنْ يُجَرَّدَا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ أَوْ لِأَنَّ تَأْنِيثَ اسْمِ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الزَّئِيرِ وَالصَّلِيلِ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] . وَجُمْلَةُ هَذَا مَا تُوعَدُونَ مُعْتَرِضَةٌ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا وَحْدَهَا مُعْتَرِضَةً وَمَا بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهَا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهَمَا لِلْمُتَّقِينَ ولِكُلِّ أَوَّابٍ، وَتُجْعَلْ لِكُلِّ أَوَّابٍ بَدَلًا مِنْ لِلْمُتَّقِينَ، وَتَكْرِيرُ الْحَرْفِ الَّذِي جُرَّ بِهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [سبأ: 32] لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النِّسَاء: 11] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُذَكَّرُ مُرَاعًى فِيهِ مَجْمُوعُ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ. وَالْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَالْحَفِيظُ: الْكَثِيرُ الْحِفْظِ لِوَصَايَا اللَّهِ وَحُدُودِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُحَافِظٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَإِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ أَعْقَبَهَا بِالتَّوْبَةِ. ومَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ بدل من لِكُلِّ أَوَّابٍ.

وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ. وَأُطْلِقَتِ الْخَشْيَةُ عَلَى أَثَرِهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِتَنْزِيلِ الْحَالِ مَنْزِلَةَ الْمَكَانِ، أَيِ الْحَالَةُ الْغَائِبَةُ وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْخَشْيَةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو ثَنَاءَ أَحَدٍ وَلَا عِقَابَ أَحَدٍ فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِالتَّاءِ بِفِعْلِ خَشِيَ. وَلَكَ أَنْ تُبْقِيَ الْبَاءَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِيهَا الْغَالِبَةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ وَنَحْوُهَا وَيَكُونُ الْغَيْبُ مَصْدَرًا وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ خَشِيَ. وَمَعْنَى وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَنَّهُ حَضَرَ يَوْمَ الْحَشْرِ مُصَاحِبًا قَلْبَهُ الْمُنِيبَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ مَاتَ مَوْصُوفًا بِالْإِنَابَةِ وَلَمْ يُبْطِلْ عَمَلَهُ الصَّالِحَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 88، 89] . وَإِيثَارُ اسْمِهِ الرَّحْمنَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَّقِيَ يَخْشَى اللَّهَ وَهُوَ يعلم أَنه رحمان، وَلِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا اسْمه الرحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وَالْمَعْنَى عَلَى الَّذِينَ خَشُوا: خَشِيَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ، فَأَنْتُمْ لَا حَظَّ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ أَن الله رحمان بَلْهَ أَنْ تَخْشَوْهُ. وَوَصْفُ قَلْبٍ بِ مُنِيبٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْقَلْبَ سَبَبُ الْإِنَابَةِ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا. وَجُمْلَةُ ادْخُلُوها بِسَلامٍ مِنْ تَمَامِ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَهَذَا الْإِذْنُ مِنْ كَمَالِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ أَنَّهُ إِنْ دُعِيَ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَوْ جِيءَ بِهِ فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ. وَالْبَاءُ فِي بِسَلامٍ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالسَّلَامُ: السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ أَذًى مِنْ تَعَبٍ أَوْ نَصَبٍ، وَهُوَ دُعَاءٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْضًا تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ مِثْلَ قَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا يُثِيرُ تَرَقُّبَ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِذْنِ بِإِنْجَازِ مَا وُعِدُوا بِهِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَكَانَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْبَعِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله: يَوْم يَقُول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: 30] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ جَهَنَّمَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اعْتِرَاضًا مُوَجَّهًا إِلَى الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ إِلَى السَّامِعِينَ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِضَافَةُ يَوْمُ إِلَى الْخُلُودِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَوَّلَ أَيَّامِ الْخُلُودِ هِيَ أَيَّامٌ ذَاتُ مَقَادِيرَ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِ يَوْمُ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ. وَبَيْنَ كَلِمَةٍ ادْخُلُوها وَكَلِمَةِ الْخُلُودِ الْجِنَاسُ الْمَقْلُوبُ النَّاقِصُ، ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا وَأَصْلُهُ: لكم مَا تشاؤون. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ فِي الدُّنْيَا وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. ولَدَيْنا مَزِيدٌ، أَيْ زِيَادَةٌ على مَا يشاؤون مِمَّا لَمْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَوَرَدَتْ آثَارٌ مُتَفَاوِتَةُ الْقُوَّةِ أَنَّ مِنَ الْمَزِيدِ مُفَاجَأَتَهُمْ بِخَيْرَاتٍ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ بِالْإِنْعَامِ ضَرْبٌ مِنَ التَّلَطُّفِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْعَامَ يَجِيئُهُمْ فِي صُوَرٍ مُعْجَبَةٍ. وَالْقَوْلُ فِي مَزِيدٌ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ آنِفًا. وَجَاءَ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي مُنْتَهَى الدِّقَّةِ فَبَدَأَتْ بِذِكْرِ إِكْرَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، ثُمَّ بِذِكْرِ أَنَّ الْجَنَّةَ جَزَاؤُهُمُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَهِيَ حَقٌّ لَهُمْ، ثُمَّ أَوْمَأَتْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ إِلَخْ،

[سورة ق (50) : الآيات 36 إلى 37]

ثُمَّ ذُكِرَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِكْرَامِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ، ثُمَّ طَمْأَنَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ نَعِيمٌ خَالِدٌ، وَزِيدَ فِي إِكْرَامِهِمْ بِأَنَّ لَهُم مَا يشاؤون مَا لَمْ يَرَوْهُ حِينَ الدُّخُولِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ عدهم بِالْمَزِيدِ من لَدنه. [36، 37] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 36 إِلَى 37] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ إِلَى التَّهْدِيدِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهَذَا الْعَطْفُ انْتِقَالٌ إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] وَمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] . وَفِي هَذَا الْعَطْفِ الْوَعِيدُ الَّذِي أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ إِلَى قَوْلِهِ: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12، 14] . فَالْوَعِيدُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً. وَالْخَبَرُ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرَا قَبْلَهُمْ ومِنْهُمْ عَائِدَانِ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] . وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ السُّنَنِ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وكَمْ خَبَرِيَّةٌ وَجُرَّ تَمْيِيزُهَا بِ مِنْ عَلَى الْأَصْلِ. وَالْبَطْشُ: الْقُوَّةُ عَلَى الْغَيْرِ. وَالتَّنْقِيبُ: مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقْبِ بِسُكُونِ الْقَافِ بِمَعْنَى الثَّقْبِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى:

خَرَقُوا، وَاسْتُعِيرَ لِمَعْنَى: ذَلَّلُوا وَأَخْضَعُوا، أَيْ تَصَرَّفُوا فِي الْأَرْضِ بِالْحَفْرِ الْغَرْس وَالْبناء وَتَحْت الْجِبَالِ وَإِقَامَةِ السِّدَادِ وَالْحُصُونِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] . وَتَعْرِيفُ الْبِلادِ لِلْجِنْسِ، أَيْ فِي الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ [الْفجْر: 11] . وَالْفَاءُ فِي فَنَقَّبُوا لتفريع عَنْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، أَيْ ببطشهم وقوتهم لقبوا فِي الْبِلَادِ. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَجُمْلَةِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ كَمَا اعْتَرَضَ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: 14] . وَجُمْلَةُ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلَكْنا، أَيْ إِهْلَاكًا لَا مَنْجًى مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ مِنْ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا يُقَالُ: مَا مِنْ مَحِيصٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ ص [3] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَالْمَحِيصُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ حَاصَ إِذَا عَدَلَ وَجَادَ، أَيْ لَمْ يَجِدُوا مَحِيصًا مِنَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [98] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى إِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْأَشَدِّ بَطْشًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِدْلَالٍ وَتَهْدِيدٍ وَتَحْذِيرٍ مِنْ يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَالذِّكْرَى: التَّذْكِرَةُ الْعَقْلِيَّةُ، أَيِ التَّفَكُّرُ فِي تَدَبُّرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَضَتْ عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا أَحْوَالَهُمْ فَيَعْلَمُوا أَنْ سَيَنَالَهُمْ مَا نَالَ أُولَئِكَ، وَهَذَا قِيَاسٌ عَقْلِيٌّ يُدْرِكُهُ اللَّبِيبُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى مُنَبِّهٍ.

وَالْقَلْبُ: الْعَقْلُ وَإِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ: مُسْتَعَارٌ لِشِدَّةِ الْإِصْغَاءِ لِلْقُرْآنِ ومواعظ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ أَسْمَاعَهُمْ طُرِحَتْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَشْغَلُهَا شَيْءٌ آخَرُ تَسْمَعُهُ. وَالشَّهِيدُ: الْمُشَاهِدُ وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْمُذَكَّرِ، أَيْ تَحْدِيقِ الْعَيْنِ إِلَيْهِ لِلْحِرْصِ عَلَى فَهْمِ مُرَادِهِ مِمَّا يُقَارِنُ كَلَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ سَحْنَةٍ فَإِنَّ النَّظَرَ يُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ. وَقَدْ جِيءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِهَا بِمَضْمُونِ عَامِلِهَا بِحَيْثُ يَكُونُ صَاحِبُ الْحَالِ مُلْقِيًا سَمْعَهُ مُشَاهِدًا. وَهَذِهِ حَالَةُ الْمُؤْمِنِ فَفِي الْكَلَامِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ بُعَدَاءٌ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالذِّكْرَيَاتِ وَالْعِبَرِ. وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ يُوقِظُ الْعَقْلَ لِلذِّكْرَى وَالِاعْتِبَارِ إِنْ كَانَ لِلْعَقْلِ غَفْلَةٌ. وَمَوْقِعُ أَوْ لِلتَّقْسِيمِ لِأَنَّ الْمُتَذَكِّرَ إِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مِنْ فَهْمِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَدِلَّةِ الْآثَارِ عَلَى أَصْحَابِهَا كَآثَارِ الْأُمَمِ مِثْلَ دِيَارِ ثَمُودَ، قَالَ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: 52] فَقَوْلُهُ: أَلْقَى السَّمْعَ اسْتِعَارَةٌ عَزِيزَةٌ شَبَّهَ تَوْجِيهَ السَّمْعِ لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ دُونَ اشْتِغَالٍ بِغَيْرِهَا بِإِلْقَاءِ الشَّيْءِ لِمَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ مَنْ قِسْمِ مَنْ لَهُ قَلْبٌ، وَإِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِمَا يُبَلِّغُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ كَأَحَادِيثِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ خُصُوصُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَلْقَوْا سَمْعَهُمْ لِهَذِهِ الذِّكْرَى وَشَهِدُوا بِصِحَّتِهَا لِعِلْمِهِمْ بِهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ كُتُبِهِمْ فَيَكُونُ شَهِيدٌ مِنَ الشَّهَادَةِ لَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ. وَقَالَ الْفَخْرُ: تَنْكِيرُ قَلْبٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْكَمَالِ. وَالْمَعْنَى: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ذَكِيٌّ وَاعٍ يَسْتَخْرِجُ بِذَكَائِهِ، أَوْ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ إِلَى الْمُنْذِرِ فَيَتَذَكَّرُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَلَمْ يَقُلْ: اسْتَمَعَ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ السَّمْعِ، أَيْ يُرْسِلُ سَمْعَهُ وَلَا يُمْسِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّمَاعَ، أَيْ تَحْصُلُ الذِّكْرَى لِمَنْ لَهُ سَمْعٌ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَمْثِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ قَلْبٌ وَبِمَنْ لَا يلقِي سَمعه.

[سورة ق (50) : آية 38]

[سُورَة ق (50) : آيَة 38] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) مُنَاسَبَةُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] إِلَى قَوْلِهِ: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] ، وَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِمَّا وُصِفَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْمَخْلُوقَاتِ إِجْمَالًا ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَهَذَا مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ «التَّوْرَاةِ» . وَالِاسْتِرَاحَةُ تُؤْذِنُ بِالنَّصْبِ وَالْإِعْيَاءِ فَلَمَّا فَرَغَتِ الْآيَةُ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ عَطَفَتْ إِلَى تَكْذِيبِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ بِحَدِيثِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَهَذَا تَأْوِيلُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَعَ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى طَلِيعَةِ السُّورَةِ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ تَكَلُّفٌ إِذْ لَمْ يَكُنِ الْيَهُودُ مَقْصُورِينَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى مَكَّةَ. فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تَكْمِلَةٌ لِمَا وَصَفَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 6، 7] لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ الْيَهُودِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَبَيْنَ مَا فُرِّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: 130] . وَالْوَاوُ فِي وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ وَاوُ الْحَالِ لِأَنَّ لِمَعْنَى الْحَالِ هُنَا مَوْقِعًا عَظِيمًا مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ بِأَنَّهُ لَا يَنْصَبُ خَالِقُهُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مُعْظَمِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ إِذْ أَحَالَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى ضِيقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ إِيقَاعِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى إِبْرَازِ مَعْنَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَمَعْنَى وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ: مَا أَصَابَنَا تَعَبٌ. وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ: اللَّمْسُ، أَيْ

[سورة ق (50) : الآيات 39 إلى 40]

وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ وَضْعًا غَيْرَ شَدِيدٍ بِخِلَافِ الدَّفْعِ وَاللَّطْمِ. فَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ أَقَلِّ الْإِصَابَةِ بِنَفْيِ الْمَسِّ لِنَفْيِ أَضْعَفِ أَحْوَالِ الْإِصَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة: 3] فَنَفْيُ قُوَّةِ الْإِصَابَةِ وَتَمَكُّنُهَا أَحْرَى. وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ مِنَ الْجَرْيِ وَالْعَمَلِ الشَّدِيدِ. [39، 40] [سُورَة ق (50) : الْآيَات 39 إِلَى 40] فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ. تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: 2] الْآيَاتِ، وَمُنَاسَبَةُ وَقْعِهِ هَذَا الْمَوْقِعَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [مَرْيَم: 74] الْآيَةَ مِنَ التَّعْرِيضِ بتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنَ الْبَعْثِ وَبِالرِّسَالَةِ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْمَوْصُولُ وَهُوَ مَا يَقُولُونَ. وَضَمِيرُ يَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) . عَطْفٌ عَلَى فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّفْرِيعِ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَقْوَالِ أَذَاهُمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ. وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يستهزئون بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ مِثْلَ قِصَّةِ إِلْقَاءِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ سَلَا الْجَزُورِ عَلَى ظهر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ فَأَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غَافِر: 28] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 9- 19] . فَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ

الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ هُنَا الصَّلَاةُ. قُلْتُ: وَلِذَلِكَ صَارَ فِعْلُ التَّسْبِيحِ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: صَلِّ. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّكَ يُرَجِّحُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةِ مِنْهَا الْفَاتِحَةُ وَهِيَ حَمْدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يَعْنِي بِذَلِكَ الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ. ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها كَذَا. وَالْقِرَاءَةُ الْغُرُوبِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَبْلَ الْغُرُوبِ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: الْعَصْرُ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ فِيهِ هُوَ الصَّلَاةُ، وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَنَّهُ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَعَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الصَّلَاةُ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ. وقَبْلَ الْغُرُوبِ ظرف وَاسع يبتدىء مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا حِينَ تَزُولُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ قَدْ مَالَتْ إِلَى الْغُرُوبِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا، وَشَمِلَ ذَلِكَ وَقْتَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَذَلِكَ مَعْلُوم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْبِيحُ اللَّيْلِ بِصَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ لِأَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ مَبْدَأُ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِاللَّيَالِي وَيَبْتَدِئُونَ الشَّهْرَ بِاللَّيْلَةِ الْأَوْلَى الَّتِي بَعْدَ طُلُوعِ الْهِلَالِ الْجَدِيدِ عَقِبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ كُلُّهَا نَوَافِلُ، فَالَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَالَّذِي قَبْلَ الْغُرُوبِ رَكْعَتَانِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَالَهُ أَبُو بَرْزَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالَّذِي مِنَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَأْتِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاخْتِلَافُ فِي مَحْمَلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ إِنْ كَانَا عَامًّا أَوْ

عَلَى الْوُجُوبِ إِنْ كَانَا خَاصّا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [24- 26] . وَقَرِيبٌ مِنْهَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [48، 49] . وَأَمَّا قَوْله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ. وَالْإِدْبَارُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ لِأَنَّ الْمُنْصَرِفَ يَسْتَدْبِرُ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلِانْقِضَاءِ، أَيِ انْقِضَاءِ السُّجُودِ، وَالسُّجُودُ: الصَّلَاةُ، قَالَ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ: وَقْتُ إِدْبَارِ السُّجُودِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِدْبَارِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ: دُبُرٍ، بِمَعْنَى الْعَقِبِ وَالْآخِرِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ وَقْتُ انْتِهَاءِ السُّجُودِ. فَفُسِّرَ السُّجُودُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ، أَيْ بعد الصَّلَوَات قَالَه ابْنُ زَيْدٍ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالرَّوَاتِبِ الَّتِي بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ عَامٌ خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِأَوْقَاتِ النَّوَافِلِ، وَمُجْمَلٌ بَيَّنَتِ السَّنَةُ مَقَادِيرَهُ، وَبَيَّنَتْ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرُ نَدْبٍ وَتَرْغِيبٍ لَا أَمْرُ إِيجَابٍ. وَعَنِ الْمَهْدَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَنُسِخَ بِالْفَرَائِضِ. وَحُمِلَ عَلَى الْعَهْدِ فَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، أَيِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْوِتْرُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَبِّحْهُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ فَيُجْعَلُ التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الظُّرُوفِ الْمُتَعَاطِفَةِ وَهُوَ كَالتَّفْرِيعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: 14] .

[سورة ق (50) : الآيات 41 إلى 43]

[سُورَة ق (50) : الْآيَات 41 إِلَى 43] وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) لَا مَحَالَةَ أَنَّ جُمْلَةَ اسْتَمِعْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ق: 39] ، فَالْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ مُفَرَّعٌ بِالْفَاءِ الَّتِي فُرِّعَ بِهَا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ. فَهُوَ لَا حق بتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ الْمَسْمُوعُ إِلَّا مِنْ نَوْعِ مَا فِيهِ عِنَايَةٌ بِهِ وَعُقُوبَةٌ لِمُكَذِّبِيهِ. وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِ اسْتَمِعْ يُفِيد توثيقا إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ. وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ حَقِيقَتُهُ: الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ وَالْإِصْغَاءِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ ثَلَاثُ طُرُقٍ فِي مَحْمَلِ اسْتَمِعْ، فَالَّذِي نَحَاهُ الْجُمْهُورُ حمل الِاسْتِمَاع على حَقِيقَته وَإِذْ كَانَ الْمَذْكُورُ عَقِبَ فِعْلِ السَّمْعِ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا لِأَنَّ الْيَوْمَ لَيْسَ مِمَّا يُسْمَعُ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ لِ اسْتَمِعْ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الَّذِي بَعْدَهُ فَيُقَدَّرُ: اسْتَمِعْ نِدَاءَ الْمُنَادِي، أَوِ اسْتَمِعْ خَبَرَهُمْ، أَوِ اسْتَمِعِ الصَّيْحَةَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ اسْتَمِعْ مُنْزَلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ كُنْ سَامِعًا وَيَتَوَجَّهُ عَلَى تَفْسِيرِهِ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ تَخْيِيلًا لِصَيْحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي صُورَةِ الْحَاصِلِ بِحَيْثُ يُؤْمَرُ الْمُخَاطَبُ بِالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا فِي الْحَالِ كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ: دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وُدِّي وَجِيرَتِي ... بِذِي الطَّبَسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا وَنَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ حَمْلَ اسْتَمِعْ عَلَى الْمَجَازِ، أَيِ انْتَظِرْ. قَالَ: «لِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يَسْتَمِعَ فِي يَوْمِ النِّدَاءِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِ يَسْتَمِعُ وَإِنَّمَا الْآيَةُ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ فَقيل لمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَسَّسْ هَذَا الْيَوْمَ وَارْتَقِبْهُ فَإِنَّ فِيهِ تَبِينُ صِحَّةُ مَا قُلْتَهُ» اهـ. وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمِثْلُهُ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» وَفِي «تَفْسِيرِ النَّسَفِيِّ» . وَلَعَلَّهُمَا اطَّلَعَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وهما وَإِن كَانَا مَشْرِقِيَّيْنِ فَإِنَّ الْكُتُبَ تُنْقَلُ بَيْنَ الْأَقْطَارِ. ولَلزَّمَخْشَرِيِّ طَرِيقَةٌ أُخْرَى فَقَالَ «يَعْنِي: وَاسْتَمِعْ لِمَا أَخْبَرَكَ بِهِ مِنْ حَالِ يَوْمِ

الْقِيَامَةِ. وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «يَا مُعَاذُ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ ثُمَّ حَدَّثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ» . وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبْقَهُ إِلَى هَذَا وَهُوَ مَحْمَلٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ. وَاللَّائِقُ بِالْجَرْيِ عَلَى الْمَحَامِلِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ يكون يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مُبْتَدَأً وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ فَيَجُوزُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ، وَلَا يُنَاكِدُهُ أَنَّ فِعْلَ الْجُمْلَةِ مُضَارِعٌ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَهُوَ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَابْنِ مَالِكٍ وَلَا رِيبَةَ فِي أَنَّهُ الْأَصْوَبُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَة: 119] فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِفَتْحِ يَوْمَ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بَدَلٌ مُطَابَقٌ من يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَلَكَ أَنْ تجْعَل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مَفْعُولًا فِيهِ لِ اسْتَمِعْ وَإِعْرَابُ مَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ. وَلَكَ أَنْ تجْعَل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ظَرْفًا فِي مَوْقِعِ الْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ وَتَجْعَلَ الْمُبْتَدَأَ قَوْلَهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَاسْتَمِعْ ذَلِكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي إِلَخْ، وَيَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْهُ فِي الْمَعْنَى وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَكْتَفِي بِالتَّقَدُّمِ اللَّفْظِيِّ بَلْ يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الْخُطُورِ فِي الذِّهْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ النَّسَفِيِّ» أَنَّ يَعْقُوبَ أَيِ الْحَضْرَمِيَّ أَحَدَ أَصْحَابِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَاسْتَمِعْ. وتعريف الْمُنادِ تَعْرِيف الْجِنْسِ، أَيْ يَوْمَ يُنَادِي مُنَادٍ، أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْفُخُ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ فَتَتَكَوَّنُ الْأَجْسَادُ وَتَحِلُّ فِيهَا أَرْوَاحُ النَّاسِ لِلْحَشْرِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] . وَتَنْوِينُ مَكانٍ قَرِيبٍ لِلنَّوْعِيَّةِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِتَعْيِينِهِ، وَوَصْفُهُ بِ قَرِيبٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُرْعَةِ حُضُورِ الْمُنَادَيْنَ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ

لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ النِّدَاءَ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ لَا يَخْفَى عَلَى السَّامِعِينَ بِخِلَافِ النداء من كَانَ بَعِيدٍ. وبِالْحَقِّ بِمَعْنَى: بِالصِّدْقِ وَهُوَ هُنَا الْحَشْرُ، وُصِفَ بِالْحَقِّ إِبْطَالًا لِزَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ اخْتِلَاقٌ. وَالْخُرُوجُ: مُغَادَرَةُ الدَّارِ أَوِ الْبَلَدِ، وَأُطْلِقَ الْخُرُوجُ عَلَى التَّجَمُّعِ فِي الْمَحْشَرِ لِأَنَّ الْحَيَّ إِذَا نَزَحُوا عَنْ أَرْضِهِمْ قِيلَ: خَرَجُوا، يُقَالُ: خَرَجُوا بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ جِيءَ بِهِ لِتَهْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ فَأُرِيدَ كَمَالُ الْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْعَظِيمِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. ويَوْمُ الْخُرُوجِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيِ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ، أَيْ هَذَا الْإِحْيَاءُ بَعْدَ أَنْ أَمَتْنَاهُمْ هُوَ من شؤوننا بِأَنَّا نُحْيِيهِمْ وَنُحْيِي غَيْرَهُمْ وَنُمِيتُهُمْ وَنُمِيتُ غَيْرَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَنُمِيتُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: نُحْيِي فَإِنَّهُ لِاسْتِيفَاءِ مَعْنَى تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْنَا فِي إِلَيْنَا الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ إِمَّا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ صَائِرٌ إِلَى مَا قَدَّرْنَاهُ لَهُ وَأَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ نَامُوسُ الْفَنَاءِ الْمَكْتُوبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ وَإِمَّا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمَصِيرُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ لِأَنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إِلَى قَوْلِهِ الْمَصِيرُ مَكَانٌ قَرِيبٌ هِيَ مَعَ مَا تُفِيدُهُ مِنْ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرٌ بِطَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ الْبَدِيعِيِّ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَقِبَ نِدَاءٍ يُفْزِعُهُمْ فَيَلْقَوْنَ إِثْرَهُ حَتْفَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فخوطب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرَقُّبِ يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فِيهِ مُنَادٍ إِلَى الْخُرُوجِ وَهُوَ نِدَاءُ الصَّرِيخِ الَّذِي صَرَخَ بِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ بِأَنَّ عِيرَ قُرَيْشٍ وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ لَقِيَهَا الْمُسْلِمُونَ بِبَدْرٍ وَكَانَ الْمُنَادِي

[سورة ق (50) : آية 44]

ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ إِذْ جَاءَ عَلَى بَعِيرِهِ فَصَرَخَ بِبَطْنِ الْوَادِي: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ. فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَخَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ. فَالْمَكَانُ الْقَرِيبُ هُوَ بَطْنُ الْوَادِي فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ. وَالْخُرُوجُ: خُرُوجُهُمْ لِبَدْرٍ، وَتَعْرِيفُ الْيَوْمِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُرُوجِ لِتَهْوِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ الَّذِي كَانَ اسْتِئْصَالُ سَادَتِهِمْ عَقِبَهُ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَعِيدًا بِأَنَّ اللَّهَ يُمِيتُ سَادَتَهُمْ وَأَنَّهُ يُبْقِي مَنْ قَدَّرَ إِسْلَامَهُ فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ يُحْيِيهِ إِلَى يَوْمِ أَجْلِهِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الْمُنادِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَر بِدُونِ يَاء فِي الْوَصْل وبالياء فِي الْوَقْفِ، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى اعْتِبَارٍ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَامِلُونَ الْمَنْقُوصَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ مُعَامَلَةَ الْمُنَكَّرِ وَخَاصَّةً فِي الْأَسْجَاعِ وَالْفَوَاصِلِ فَاعْتَبَرُوا عَدَمَ رَسْمِ الْيَاءِ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْوَقْفِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الرَّسْمِ لِأَنَّ الْأَسْجَاعَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُكُونِ الْأَعْجَازِ. وَقَرَأَهَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَخَلَفٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُعَامِلُ الْمَنْقُوصَ الْمُعَرَّفَ مُعَامَلَةَ الْمُنَكَّرِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا اعْتِبَارًا بِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قَدْ يُخَالِفُ قِيَاسَ الرَّسْمِ فَلَا يُخَالَفُ قِيَاسُ اللَّفْظ لأَجله. [44] [سُورَة ق (50) : آيَة 44] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) إِنْ جَرَيْتَ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهَا مَعَ مَا فِي الْمَعَادِ مِنْهَا مِنْ تَأْكِيدٍ لِمُرَادِفِهِ. وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا ارْتَأَيْتُهُ فِي مَحْمَلِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَوَصْفِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَهُوَ تَشَقُّقُ الْأَرْضِ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ أَجْسَادٍ مَثِيلَةٍ لِأَجْسَادِهِمْ وَعَنِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَمْ يَلْحَقْهَا الْفَنَاءُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ تَشَقَّقُ بِفَتْحِ التَّاءِ

[سورة ق (50) : آية 45]

وَتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَأَصْلُهُ تَتَشَقَّقُ بِتَاءَيْنِ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ فِي الشِّينِ بَعْدَ قَلْبِهَا شينا لتقارب مخرجيها. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَشَقَّقُ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ عَلَى حَذْفِ تَاءِ التَّفَعُّلِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَاءَيْنِ. وسِراعاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَنْهُمْ وَهُوَ جَمْعُ سَرِيعٍ، أَيْ سِرَاعًا فِي الْخُرُوجِ أَوْ فِي الْمَشْيِ الَّذِي يَعْقُبُهُ إِلَى مَحَلِّ الْحِسَابِ. وَالْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ كَالْقَوْلِ فِي إِعْرَابِ قَوْله: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: 41] إِلَى ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلُهُ. وَتَقَدُّمُ الْمَجْرُورِ فِي عَلَيْنا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هُوَ يَسِيرٌ فِي جَانِبِ قُدْرَتِنَا لَا كَمَا زَعَمَهُ نفاة الْحَشْر. [45] [سُورَة ق (50) : آيَة 45] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [ق: 39] فَهُوَ إِيغَالٌ فِي تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيضٌ بِوَعِيدِهِمْ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي وعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُعَاقِبُ أَعْدَاءَهُ. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تطمين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ غير مسؤول عَنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ دَاعِيًا وَهَادِيًا، وَلَيْسَ مَبْعُوثًا لِإِرْغَامِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْجَبَّارُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَكْرَهَهُ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ بالتذكير لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ نَفْيِ كَوْنِهِ جَبَّارًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22] ، وَلَكِنْ خُصَّ التَّذْكِيرُ هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّذْكِيرَ الَّذِي يَنْفَعُ الْمُذَكَّرَ. فَالْمَعْنَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ فَيَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] . وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَعِيدِ بِدُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ يَاءٍ فِي

الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ التَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.

51- سورة الذاريات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 51- سُورَةُ الذَّارِيَاتِ تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ «وَالذَّارِيَاتِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ تَسْمِيَةً لَهَا بِحِكَايَةِ الْكَلِمَتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ فِي أَوَّلِهَا وَبِهَذَا عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَالْكَوَاشِيُّ فِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» وَالْقُرْطُبِيُّ. وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ الذَّارِيَاتِ» بِدُونِ الْوَاوِ اقْتِصَارًا عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنْ مَشْرِقِيَّةٍ وَمَغْرِبِيَّةٍ قَدِيمَةٍ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَقَعْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةَ السَّادِسَةَ وَالسِّتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ عَدِّ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ آيَهَا سِتُّونَ آيَةً. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ احْتَوَتْ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَمْيِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ. وَوَعِيدِهِمْ بِعَذَابٍ يَفْتِنُهُمْ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 إلى 6]

وَوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِنَعِيمِ الْخُلْدِ وَذِكْرِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. ثُمَّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَعَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بِمَا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا وَيُحِسُّونَ بِهَا دَالَّةً عَلَى سَعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ إِلَّا لِجَزَائِهِ. وَالتَّعْرِيضِ بِالْإِنْذَارِ بِمَا حَاقَ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ، وَبَيَانِ الشَّبَهِ التَّامِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ. وَتَلْقِينِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ وَتَصْدِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَبْذِ الشِّرْكِ. وَمَعْذِرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبِعَةِ إِعْرَاضِهِمْ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِكُفْرَانِ نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ. وَوَعِيدِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا حلّ بأمثالهم. [1- 6] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 1 إِلَى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) الْقَسَمُ الْمُفْتَتَحُ بِهِ مُرَادٌ مِنْهُ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَتَأْكِيدُ وُقُوعِهِ وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِعَظِيمٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى قَسَمٌ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمُتَضَمِّنٌ تَشْرِيفَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَا فِي أَحْوَالِهَا مِنْ نِعَمٍ وَدَلَالَةٍ عَلَى الْهُدَى وَالصَّلَاحِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا أَوْجَدَ فِيهَا. وَالْمُقْسَمُ بِهَا الصِّفَات تَقْتَضِي موصفاتها، فَآلَ إِلَى الْقَسَمِ بِالْمَوْصُوفَاتِ لِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ. وَفِي ذَلِكَ إِيجَازٌ دَقِيقٌ، عَلَى أَنَّ فِي طَيِّ ذِكْرِ الْمَوْصُوفَاتِ تَوْفِيرًا لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّفَاتُ مِنْ مَوْصُوفَاتٍ صَالِحَةٍ بِهَا لِتَذْهَبَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ فِي تَقْدِيرِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ.

وَعَطْفُ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِالْفَاءِ يَقْتَضِي تَنَاسُبَهَا وَتَجَانُسَهَا، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ بِالْفَاءِ، كَقَوْلِ ابْنِ زَيَابَةَ: يَا لَهَفَ زَيَّابَةَ (¬1) لِلْحَارِثِ (¬2) الصَّ ... ابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ (¬3) وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةَ الْمَوْصُوفَاتِ إِلَّا أَنَّ مَوْصُوفَاتِهَا مُتَقَارِبَةٌ مُتَجَانِسَةٌ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ... فَتَوْضِحَ فَالْمِقْرَاةِ ... وَقَوْلُ لَبِيدٍ: بِمَشَارِقِ الْجَبَلَيْنِ أَوْ بِمُحَجَّرٍ ... فَتَضَمَّنَتْهَا فَرْدَةٌ فَرُخَامُهَا فَصَوَائِقٌ إِنْ أَيْمَنَتْ ... ... ... الْبَيْتَ وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي عَطْفِ الْبِقَاعِ الْمُتَجَاوِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الصافات. وَاخْتلف أيمة السَّلَفِ فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَمَوْصُوفَاتِهَا. وَأَشْهَرُ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الذَّارِياتِ الرِّيَاح لِأَنَّهَا تذور التُّرَاب، وفَالْحامِلاتِ وِقْراً: السَّحَاب، وفَالْجارِياتِ: السفن، وفَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَجْنَاسِ الْمُقْسَمِ بِهَا. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ كُلَّ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ يُسَبِّبُ ذِكْرَ الْمَعْطُوفِ لِالْتِقَائِهِمَا فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ، فالرياح تذكّر بِالْحِسَابِ، وَحَمْلُ السَّحَابِ وَقْرَ الْمَاءِ يُذَكِّرُ بِحَمْلِ السُّفُنِ، وَالْكُلُّ يُذَكِّرُ بِالْمَلَائِكَةِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعْلَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ وَصْفًا لِلرِّيَاحِ قَالَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَنُقِلَ بَعْضُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَخْرُ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِعَطْفِ الصِّفَاتِ بِالْفَاءِ. ¬

(¬1) يُرِيد: أمه وَاسْمهَا زيّابة. (¬2) هُوَ الْحَارِث بن همام الشَّيْبَانِيّ، وَهُوَ شَاعِر قديم جاهلي وَكَانَ بَينه وَبَين ابْن زيّابة عَدَاوَة. وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات هِيَ جَوَاب عَن هجاء هجاه بِهِ الْحَارِث. (¬3) تهكم بِالْحَارِثِ.

فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الذَّرْوُ عَلَى نَشْرِ قِطَعِ السَّحَابِ نَشْرًا يُشْبِهُ الذَّرْوَ. وَحَقِيقَةُ الذَّرْوِ رَمْيُ أَشْيَاءَ مُجْتَمِعَةٍ تُرْمَى فِي الْهَوَاءِ لِتَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ الْحَبِّ عِنْدَ الزَّرْعِ وَمِثْلَ الصُّوفِ وَأَصْلُهُ ذَرْوُ الرِّيَاحِ التُّرَابَ فَشُبِّهَ بِهِ دَفْعُ الرِّيحِ قِطَعَ السَّحَابِ حَتَّى تَجْتَمِعَ فَتَصِيرَ سَحَابًا كَامِلًا فَالذَّارِيَاتُ تَنْشُرُ السَّحَابَ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الرّوم: 48] . وَالذَّرْوُ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الرِّيَاحِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَذْرُوِّ سَحَابًا يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَابِ وَقِيلَ ذَرْوُهَا التُّرَابَ وَذَلِكَ قَبْلَ نَشْرِهَا السُّحُبَ وَهُوَ مُقَدِّمَةٌ لِنَشْرِ السَّحَابِ. وَنَصْبُ ذَرْواً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِرَادَةِ تَفْخِيمِهِ بِالتَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَذْرُوِّ، وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُول بِهِ. وفَالْحامِلاتِ وِقْراً هِيَ الرِّيَاحُ حِينَ تَجَمُّعِ السَّحَابِ وَقَدْ ثَقُلَ بِالْمَاءِ، شَبَّهَ جَمْعَهَا إِيَّاهُ بِالْحَمْلِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْحَامِلُ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرّوم: 48] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرَّعْد: 12] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النُّور: 43] . وَالْوِقْرُ بِكَسْرِ الْوَاوِ: الشَّيْءُ الثَّقِيلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَامِلَاتُ الْأَسْحِبَةَ الَّتِي مُلِئَتْ بِبُخَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَصِيرُ مَطَرًا، عُطِفَتْ بِالْفَاءِ عَلَى الذَّارِيَاتِ بِمَعْنَى الرِّيَاحِ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْهَا فَكَأَنَّهَا هِيَ. وفَالْجارِياتِ يُسْراً: الرِّيَاحُ تَجْرِي بِالسَّحَابِ بَعْدَ تَرَاكُمِهِ وَقَدْ صَارَ ثَقِيلًا بِمَاءِ الْمَطَرِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَالْجَارِي بِذَلِكَ الْوِقْرِ يُسْرًا. وَمَعْنَى الْيُسْرِ: اللِّينُ وَالْهَوْنُ، أَيِ الْجَارِيَاتُ جَرْيًا لَيِّنًا هَيِّنًا شَأْنَ السَّيْرِ بِالثِّقَلِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَشْيُ السَّحَابَةِ لَا ريث وَلَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ فَ يُسْراً وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ نُصِبَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُول الْمُطلق. وفَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْتَهِي بِالسَّحَابِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْلُغُ

عِنْدَهُ نُزُولُ مَا فِي السَّحَابِ مِنَ الْمَاءِ أَوْ هِيَ السُّحُبُ الَّتِي تُنْزِلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَطَرِ عَلَى مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ. وَإِسْنَادُ التَّقْسِيمِ إِلَيْهَا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازٌ بِالْمُشَابَهَةِ. وَرُوِيَ عَن الْحسن فَالْمُقَسِّماتِ السحب بقسم اللَّهُ بِهَا أَرْزَاقَ الْعِبَادِ» اه. يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً إِلَى قَوْلِهِ: رِزْقاً لِلْعِبادِ فِي سُورَةِ ق [9- 11] . وَمِنْ رَشَاقَةِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ فِيهِ مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ فَإِنَّ أَحْوَالَ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مَبْدَؤُهَا: نَفْخٌ، فَتَكْوِينٌ، فَإِحْيَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْبَعْثُ مَبْدَؤُهُ: نَفْخٌ فِي الصُّورِ، فَالْتِئَامُ أَجْسَادِ النَّاسِ الَّتِي كَانَتْ مَعْدُومَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، فَبَثُّ الْأَرْوَاحَ فِيهَا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْراً إِشَارَةً إِلَى مَا يُقَابِلُهُ فِي الْمِثَالِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَهُوَ الرُّوحُ لِقَوْلِهِ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] . وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ لِصَادِقٌ. وَالْخِطَابُ فِي تُوعَدُونَ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ وَكَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: 8] . فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ تُوعَدُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي مَاضِيهِ (أوعد) ، وَهُوَ يبْنى لِلْمَجْهُولِ فَأصل تُوعَدُونَ تؤوعدون بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ هِيَ عَيْنُ فِعْلِ (أَوْعَدَ) وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْبِنَاءِ الْمَجْهُولِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمُطَّرِدُ مِنْ حَذْفِ هَمْزَةِ أُفْعِلُ فِي الْمُضَارِعِ مِثْلَ تُكْرِمُونَ، وَسَكَنَتِ الْوَاوُ سُكُونًا مَيِّتًا لِأَجْلِ وُقُوعِ الضَّمَّةِ قَبْلَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ سُكُونُهَا حَيًّا فَصَارَ تُوعَدُونَ ووزنه تافعلون. وَالَّذِي أُوعِدُوهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُ الدُّنْيَا مِثْلُ الْجُوعِ فِي سِنِي الْقَحْطِ السَّبْعِ الَّذِي هُوَ دَعْوَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينًا كَسِنِينِ يُوسُفَ) وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [10، 11] . وَمِثْلُ عَذَابِ السَّيْفِ وَالْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 إلى 9]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُوعَدُونَ مِنَ الْوَعْدِ، أَيِ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لُقْمَان: 33] فَوَزْنُهُ تُفْعَلُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ الْوَعْدُ بِالْبَعْثِ. وَوَصْفُ لَصادِقٌ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ إِذِ الصَّادِقُ هُوَ الْمُوعَدُ بِهِ عَلَى نَحْوِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الجاثية: 21] . وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ. وَالْمُرَادُ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ. وَمَعْنَى لَواقِعٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ مُرَتَّبًا فِي الذِّكْرِ عَلَى مَا يُوعَدُونَ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُصُولُ الْمَوْعُودِ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي ذِكْرِ الْجَزَاءِ زِيَادَةٌ عَلَى الْكِنَايَةِ بِهِ عَنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ إِنَّما مُتَّصِلَةً وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الرَّسْمِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ لَمْ تَصِيرَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ إِنَّمَا الَّتِي هِيَ لِلْقَصْرِ. وَلَمْ يَكُنِ الرَّسْمُ فِي زَمَنِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ فِي أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ عُثْمَانَ قَدْ بَلَغَ تَمام ضَبطه. [7- 9] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 7 إِلَى 9] وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) هَذَا قَسَمٌ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ اضْطِرَابِ أَقْوَالِهِمْ فِي الطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَهُوَ كَالتَّذْيِيلِ لِلَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خَاصٌّ بِإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ. وَهَذَا يَعُمُّ إِبْطَالَ أَقْوَالِهِمُ الضَّالَّةِ فَالْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ شَاعِرِينَ بِحَالِهِمُ الْمُقْسَمِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَمُتَهَالِكُونَ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ، فَهُمْ مُنْكِرُونَ لِمَا فِي أَقْوَالِهِمْ مِنِ اخْتِلَافٍ وَاضْطِرَابٍ جَاهِلُونَ بِهِ جَهْلًا مُرَكَّبًا وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ إِنْكَارٌ لِلْعِلْمِ الصَّحِيحِ. وَالْقَوْلُ فِي الْقَسَمِ بِ السَّماءِ كَالْقَوْلِ فِي الْقَسَمِ ب الذَّارِياتِ [الذَّارِيَاتِ: 1] . وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْقَسَمِ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فِي وَصْفِ السَّمَاءِ بِأَنَّهَا ذَاتُ حُبُكٍ، أَيْ طَرَائِقَ لِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ: إِنَّ قَوْلَهُمْ مُخْتَلِفٌ طَرَائِقَ قِدَدًا وَلِذَلِكَ وَصَفَ الْمُقْسَمَ بِهِ لِيَكُونَ إِيمَاءً إِلَى نَوْعِ جَوَابِ الْقَسَمِ.

وَالْحُبُكُ: بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حِبَاكٍ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ وَمِثَالٍ وَمُثُلٍ، أَوْ جَمْعُ حَبِيكَةٍ مِثْلُ طَرِيقَةٍ وَطُرُقٍ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُبُكِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ إِجَادَةُ النَّسْجِ وَإِتْقَانُ الصُّنْعِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحُبُكِ السَّمَاءِ نُجُومُهَا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الطَّرَائِقَ الْمُوَشَّاةَ فِي الثَّوْبِ الْمَحْبُوكِ الْمُتْقَنِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقِيلَ الْحُبُكُ: طَرَائِقُ الْمَجَرَّةِ الَّتِي تَبْدُو لَيْلًا فِي قُبَّةِ الْجَوِّ. وَقِيلَ: طَرَائِقُ السَّحَابِ. وَفُسِّرَ الْحُبُكُ بِإِتْقَانِ الْخَلْقِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحُبُكَ مَصْدَرًا أَوِ اسْمَ مَصْدَرٍ، وَلَعَلَّهُ مِنَ النَّادِرِ. وَإِجْرَاءُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى السَّمَاءِ إِدْمَاجٌ أُدْمِجَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الِامْتِنَانِ بِحُسْنِ الْمَرْأَى. وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةً رُويَتْ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ الْحُبُكِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَضَمَّ الْبَاءِ وَهِيَ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ. وَجعل بعض أيمة اللُّغَةِ الْحِبُكَ شَاذًّا فَالظَّنُّ أَنَّ رَاوِيَهَا أَخْطَأَ لِأَنَّ وَزْنَ فِعُلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَزْنٌ مُهْمَلٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِشِدَّةٍ ثِقَلِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ مِمَّا سَلِمَتْ مِنْهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ. وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهَا مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ وَهُوَ تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ إِعْمَالَ تَدَاخُلِ اللُّغَتَيْنِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى زِنَةٍ مَهْجُورَةٍ لِأَنَّهَا إِذَا هُجِرَتْ بِالْأَصَالَةِ فَهَجْرُهَا فِي التَّدَاخُلِ أَجْدَرُ وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِاتِّبَاعِ حَرَكَةِ الْحَاءِ لِحَرَكَةِ تَاءِ ذاتِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ تَوْجِيهِ تَدَاخُلِ اللُّغَتَيْنِ فَلَا جَدْوَى فِي التَّكَلُّفِ. وَالْقَوْلُ الْمُخْتَلِفُ: الْمُتَنَاقِضُ الَّذِي يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيَقْتَضِي بَعْضُهُ إِبْطَالَ بَعْضِ الَّذِي هُمْ فِيهِ هُوَ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ وَالْقُرْآنُ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فِي دِينِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُضْطَرِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَقَالُوا الْقُرْآنُ: سِحْرٌ وَشِعْرٌ، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: 5] ، وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] ، وَقَالُوا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: 31] وَقَالُوا: مَرَّةً فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: وَحْيُ الشَّيَاطِينِ. وَقَالُوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَالًا: شَاعِرٌ، سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، كَاهِنٌ، يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ الْأَمِينَ.

وَقَالُوا فِي أُصُولِ شِرْكِهِمْ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 3] ، وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: 28] . وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْمُلَابَسَةِ الشَّبِيهَةِ بِمُلَابَسَةِ الظَّرْفِ لِلْمَظْرُوفِ مِثْلَ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَة: 15] . وَالْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ الْكِنَايَةُ عَنْ لَازِمِ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي الِاعْتِقَادِ، وَيَلْزَمُهُ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ وَذَلِكَ مَصَبُّ التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ (إِنَّ) وَاللَّامِ. ويُؤْفَكُ: يُصْرَفُ. وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ: الصَّرْفُ. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصَّرْفِ عَنْ أَمْرٍ حَسَنٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ كَمَا فِي «اللِّسَانِ» ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أيمة اللُّغَةِ وَالْفَرَّاءِ وَشَمَرٍ وَذَلِكَ مَدْلُولُهُ فِي مَوَاقِعِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ صِفَةٍ ثَانِيَةٍ لِ قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْبَيَانِيَّةِ وَالْجُمْلَةِ الْمُبَيَّنِ عَنْهَا. ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ قَوْلٍ يَقْتَضِي شَيْئًا مَقُولًا فِي شَأْنِهِ فَإِذْ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ قَوْلٍ مَا يَدُلُّ عَلَى مَقُولٍ صَلَحَ لِجَمِيعِ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي اخْتَلَقُوهَا فِي شَأْنِهِ لِلْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا جَاءَ ضَمِيرُ غَيْبَةٍ بَعْدَ لَفْظِ قَوْلٍ احْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى قَوْلٍ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى أَحْوَالِ الْمَقُولِ فِي شَأْنِهِ فَقِيلَ ضَمِيرٌ عَنْهُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ وَأَنَّ مَعْنَى يُؤْفَكُ عَنْهُ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ، أَيْ يُصْرَفُ الْمَصْرُوفُونَ عَنِ الْإِيمَانِ فَتَكُونُ (عَنْ) لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَة: 114] ، وَقِيلَ ضَمِيرُ عَنْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] أَوْ عَائِدٌ إِلَى الدِّينَ [الذاريات: 6] ، أَيِ الْجَزَاءُ أَنْ يُؤْفَكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَنْ أُفِكَ. وَعَنِ

[سورة الذاريات (51) : الآيات 10 إلى 11]

الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى الدِّينِ، أَيْ لِأَنَّهُمَا مِمَّا جَرَى الْقَوْلُ فِي شَأْنِهِمَا، وَحَرْفُ (عَنْ) لِلْمُجَاوَزَةِ. وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ أُفِكَ الْمُشْرِكُونَ الْمَصْرُوفُونَ عَنِ التَّصْدِيقِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِي فَعَلَ الْإِفْكَ الْمَجْهُولَ الْمُشْرِكُونَ الصَّارِفُونَ لِقَوْمِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُمَا الْفَرِيقَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] . وَإِنَّمَا حُذِفَ فَاعِلُ يُؤْفَكُ وَأُبْهِمَ مَفْعُولُهُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلِاسْتِيعَابِ مَعَ الْإِيجَازِ. وَقَدْ حَمَّلَهُمُ اللَّهُ بِهَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ تَبِعَةَ أَنْفُسِهِمْ وَتَبِعَةَ الْمَغْرُورِينَ بِأَقْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] . [10، 11] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 10 إِلَى 11] قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) دُعَاءٌ بِالْهَلَاكِ عَلَى أَصْحَابِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَتْلِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يُقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أُجْرِيَ مَجْرَى اللَّعْنِ وَالتَّحْقِيرِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ سُوءِ أَحْوَالِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا. وَجُمْلَةُ الدُّعَاءِ لَا تُعْطَفُ لِأَنَّهَا شَدِيدَةُ الِاتِّصَالِ بِمَا قَبْلَهَا مِمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ الْوَصْفَ لِدُخُولِهِمْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، كَمَا كَانَ تَعْقِيبُ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا بِهَا إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا سَبَبٌ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. وَالْخَرْصُ: الظَّنُّ الَّذِي لَا حُجَّةَ لِصَاحِبِهِ عَلَى ظَنِّهِ، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ فِي ظَنِّهِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّلَالِ عَمْدًا أَوْ تَسَاهُلًا، فَالْخَرَّاصُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ، فَأَفَادَ أَنَّ قَوْلهم الْمُخْتَلف ناشىء عَنْ خَوَاطِرَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ [116] إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَالْمُرَادُ هُنَا الْخَرْصُ بِالْقَوْلِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَرْصَ فِي أُصُولِ الِاعْتِقَادِ مَذْمُومٌ لِأَنَّهَا لَا تُبْنَى إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ لِخَطَرِ أَمْرِهَا وَهُوَ أَصْلُ مَحَلِّ الذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 12 إلى 14]

وَأَمَّا الْخَرْصُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يُذَمُّ هَذَا الذَّمَّ وَبَعْضُهُ مَذْمُومٌ إِذَا أَدَّى إِلَى الْمُخَاطَرَةِ وَالْمُقَامَرَةِ. وَقَدْ أُذِنَ فِي بَعْضِ الْخَرْصِ لِلْحَاجَةِ. فَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا» يَعْنِي فِي بَيْعِ ثَمَرَةِ النَّخَلَاتِ الْمُعْطَاةِ عَلَى وُجْهَةِ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ هِبَةُ مَالِكِ النَّخْلِ ثَمَرَ بَعْضِ نَخْلِهِ لِشَخْصٍ لِسَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقْبِضَ ثَمَرَتَهَا عِنْدَ جِذَاذِ النَّخْلِ فَإِذَا بَدَا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ شِرَاءُ تِلْكَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ طِيبِهَا رُخِّصَ أَنْ يَبِيعَهَا الْمُعْرَى (بِالْفَتْحِ) لِلْمُعْرِي بِالْكَسْرِ إِذَا أَرَادَ الْمُعْرِي ذَلِكَ فَيَخْرُصُ مَا تَحْمِلُهُ النَّخَلَاتُ مِنَ الثَّمَرِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ عِنْدَ الْجِذَاذِ مَا يُسَاوِي ذَلِكَ الْمَخْرُوصَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا وَحُدِّدَ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَأَقَلَّ لِيَدْفَعَ صَاحِبُ النَّخْلِ عَنْ نَفْسِهِ تَطَرُّقَ غَيْرِهِ لِحَائِطِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهَا عَطِيَّةٌ فَلَمْ يَدْخُلْ إِضْرَارٌ عَلَى الْمُعْرِي مِنْ ذَلِكَ. وَالْغَمْرَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الْغمر، وَهُوَ الإحاء وَيُفَسِّرُهَا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَام: 93] فَإِذَا لَمْ تُقَيَّدْ بِإِضَافَةٍ فَإِنَّ تَعْيِينَهَا بِحَسَبِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [54] . وَالْمُرَادُ: فِي شُغُلٍ، أَيْ مَا يَشْغَلُهُمْ مِنْ مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ شَغْلًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ أَنْ يَتَدَبَّرُوا فِي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا كَإِعْرَاضِ الْغَافِلِ وَمَا هُمْ بِغَافِلِينَ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْقُرْآنِ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهَمْ كُلَّ حِينٍ وَاسْتِعْمَالُ مَادَّةِ السَّهْوِ فِيِ هَذَا الْمَعْنَى نَظِيرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] . [12- 14] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 12 إِلَى 14] يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) هَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضمير الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] لِأَنَّ جُمْلَةَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أَفَادَتْ تَعْجِيبًا مِنْ سُوءِ عُقُولِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَهُوَ مَثَارُ سُؤَالٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ يَتَطَلَّبُ الْبَيَانَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ يَوْمِ الدِّينِ سُؤَالَ مُتَهَكِّمِينَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا وُقُوعَ لِيَوْمِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 1- 3] .

وَ (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ يَسْئَلُونَ لِأَنَّ فِي فِعْلِ السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يَقُولُونَ: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ بَدَلًا من جملَة يَسْئَلُونَ لِتَفْصِيلِ إِجْمَالِهِ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ زَمَانِ فِعْلٍ وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَتْحِ، أَيْ مَتَى يَوْمُ الدِّينِ، وَيَوْمُ الدِّينِ زَمَانٌ فَالسُّؤَالُ عَنْ زَمَانِهِ آيِلٌ إِلَى السُّؤَالِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيَّانَ وُقُوعُ يَوْمِ الدِّينِ، أَوْ حُلُولُهُ، كَمَا تَقُولُ: مَتَى يَوْمُ رَمَضَانَ أَيْ مَتَى ثُبُوتُهُ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الزَّمَانِ حَقُّهَا أَنْ تَقَعَ ظُرُوفًا لِلْأَحْدَاثِ لَا لِلْأَزْمِنَةِ. وَجُمْلَةُ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ جَرَى عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ مِنْ تَلَقِّي السَّائِلِ بِغَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ إِذْ هُمْ حِينَ قَالُوا: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أَرَادُوا التَّهَكُّمَ وَالْإِحَالَةَ فَتَلَقِّي كَلَامِهِمْ بِغَيْرِ مُرَادِهِمْ لِأَنَّ فِي الْجَوَابِ مَا يَشْفِي وَقْعَ تَهَكُّمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: 189] . وَالْمَعْنَى: يَوْمُ الدِّينِ يَقَعُ يَوْمَ تَصْلَوْنَ النَّارَ وَيُقَالُ لَكُمْ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السُّؤَال عَنهُ بقَوْلهمْ: أَيَّام يَوْمُ الدِّينِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. وَالْفَتْنُ: التَّعْذِيبُ وَالتَّحْرِيقُ، أَيْ يَوْمَ هُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ وَأَصْلُ الْفَتْنِ الِاخْتِيَارُ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا إِذَابَةُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ فِي الْبَوْتَقَةِ لِاخْتِيَارِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْدِنٍ غَيْرِ ذَهَبٍ، وَلَا يُذَابُ إِلَّا بِحَرَارَةِ نَارٍ شَدِيدَةٍ فَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْرَاقِ الشَّدِيدِ. وَجُمْلَةُ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، أَيْ عَذَابَكُمْ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْكِيلِ.

وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ الْقَوِيِّ لِأَنَّ اللِّسَانَ أَشَدُّ الْأَعْضَاءِ إِحْسَاسًا. وَإِضَافَةُ فِتْنَةٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَفِي الْإِضَافَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِهَا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا بِكُفْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَالْمَعْنَى: ذُوقُوا جَزَاءَ فِتْنَتِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ تَكْذِيبِكُمْ. وَيَقُومُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا بِتَذْكِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا كَانُوا يَفْتِنُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ مِثْلَ مَا فَتَنُوا بِلَالًا وَخَبَّابًا وَعَمَّارًا وَشُمَيْسَةَ وَغَيْرَهُمْ، أَيْ هَذَا جَزَاءُ فِتْنَتِكُمْ. وَجَعَلَ الْمَذُوقَ فِتْنَتَهُمْ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَنْ فِتْنَتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا نَدَامَةً قَالَ تَعَالَى مُوعِدًا إِيَّاهُمْ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] . وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْعَمَلِ عَلَى جَزَائِهِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] أَيْ تَجْعَلُونَ جَزَاءَ رِزْقِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَنكُمْ تكذّبون وحدانية. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِلَى الشَّيْءِ الْحَاضِرِ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي مِثْلِهِ تَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] . وَمَعْنَى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، أَيْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَسْأَلُونَ تَعْجِيلَهُ وَهُوَ طَلَبٌ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ حَكَاهَا الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْملك: 25] . وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَتَعْدِيدِ الْمَجَارِمِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمُجْرِمِ: فَعَلْتَ كَذَا، وَهِيَ مِنْ مقول القَوْل.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 إلى 19]

[سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 15 إِلَى 19] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) اعْتِرَاضٌ قَابَلَ بِهِ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الدِّينِ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي اتِّبَاعِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ، وَالتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [51، 52] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَجَمَعَ جَنَّاتٍ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا لِجِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ» ، وَتَنْكِيرُ جَنَّاتٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَمَعْنَى آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ: أَنَّهُمْ قَابِلُونِ مَا أَعْطَاهُمْ، أَيْ رَاضُونَ بِهِ فَالْأَخْذُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنْ كَوْنِ مَا يُؤْتَوْنَهُ أَكْمَلَ فِي جِنْسِهِ لِأَنَّ مَدَارِكَ الْجَمَاعَاتِ تَخْتَلِفُ فِي الِاسْتِجَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ نِهَايَةَ الْجَوْدَةِ فَيَسْتَوِي النَّاسُ فِي اسْتَجَادَتِهِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ. وَأَيْضًا فَالْأَخْذُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِأَنَّ مَا يُؤْتِيهم الله بَعضهم مِمَّا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ كَالْفَوَاكِهِ وَالشَّرَابِ وَالرَّيَاحِينِ، وَبَعْضُهُ لَا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ كَالْمَنَاظِرِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَصْوَاتِ الرَّقِيقَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْأَوَّلِ. فَإِطْلَاقُ الْأَخْذِ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [63] ، وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] . فَاجْتَمَعَ فِي لَفْظِ آخِذِينَ كِنَايَتَانِ وَمَجَازٌ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبَّنَا وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» . وَفِي إِيثَارِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ (رَبُّ) مُضَافٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ مَعْنًى مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالْكَرَامَةِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ مَا آتَاهُمْ هُوَ إِيمَانُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ وَهِيَ الْمُطَابِقَةُ لِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ عَنْ إِحْسَانِهِمْ كَمَا قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات: 14] . وَالْمُحْسِنُونَ: فَاعِلُو الْحَسَنَاتِ وَهِيَ الطَّاعَاتُ. وَفَائِدَةُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ ذلِكَ أَنْ يُؤْتَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْإِشَارَةِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُفَادُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذلِكَ، أَيْ قَبْلَ التَّنَعُّمِ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْسِنِينَ، أَيْ عَامِلِينَ الْحَسَنَاتِ كَمَا فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ الْآيَةَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَاثِقِينَ بِوَعْدِهِ وَلَمْ يَرَوْهُ. وَجُمْلَةُ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ هِيَ بَعْضٌ مِنَ الْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ. وَهَذَا كَالْمِثَالِ لِأَعْظَمِ إِحْسَانِهِمْ فَإِنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ طَاعَتِهِمْ لِلَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ بِبَذْلِ أَشَدِّ مَا يُبْذَلُ عَلَى النَّفْسِ وَهُوَ شَيْئَانِ. أَوَّلُهُمَا: رَاحَةُ النَّفْسِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ حَاجَتِهَا إِلَى الرَّاحَةِ وَهُوَ اللَّيْلُ كُلُّهُ وَخَاصَّةً آخِرَهُ، إِذْ يَكُونُ فِيهِ قَائِمُ اللَّيْلِ قَدْ تَعِبَ وَاشْتَدَّ طَلَبُهُ لِلرَّاحَةِ. وَثَانِيهِمَا: الْمَالُ الَّذِي تَشِحُّ بِهِ النُّفُوسُ غَالِبًا، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ أَصْلَيْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِ النَّاسِ. وَذَلِكَ جِمَاعُ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ صَلَاحَ النَّفْسِ تَزْكِيَةُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ فَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفس باستجلاب رضى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الِاسْتِغْفَارِ تَزْكِيَةُ الظَّاهِرِ بِالْأَقْوَالِ الطَّيِّبَةِ الْجَالِبَةِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَفِي جَعْلِهِمُ الْحَقَّ فِي أَمْوَالِهِمْ لِلسَّائِلِينَ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْمُحْتَاجِ الْمُظْهِرِ لِحَاجَتِهِ. وَفِي جَعْلِهِمُ الْحَقَّ لِلْمَحْرُومِ نَفْعُ الْمُحْتَاجِ الْمُتَعَفِّفِ عَنْ إِظْهَارِ حَاجَتِهِ الصَّابِرِ عَلَى شِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ. وَحَرْفُ مَا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ مَزِيدٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَشَاعَتْ زِيَادَةُ مَا بَعْدَ اسْمِ (قَلِيلٍ) وَ (كَثِيرٍ) وَبَعْدَ فِعْلِ (قَلَّ) وَ (كَثُرَ) وَ (طَالَ) . وَالْمَعْنَى: كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ. وَلَيْسَتْ مَا نَافِيَةً. وَالْهُجُوعُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ الْغِرَارُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ وَذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 2- 4] وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهُ: لَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ نَفِهَتِ النَّفْسُ وَهَجَمَتِ الْعَيْنُ. وَقَالَ لَهُ: قُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» . وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى خَصَائِصَ مِنَ الْبَلَاغَةِ: أُولَاهَا: فِعْلُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: كانُوا الدَّالُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا سُنَّةٌ مُتَقَرِّرَةٌ. الثَّانِي: الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَانُوا يُقِيمُونَ اللَّيْلَ، أَوْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، إِلَى قَوْلِهِ: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْهُجُوعِ تَذْكِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فَتَغْلِبُهَا وَتَصْرِفُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: 16] ، فَكَانَ فِي الْآيَةِ إِطْنَابٌ اقْتَضَاهُ تَصْوِيرُ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالْبَلِيغُ قَدْ يُورِدُ فِي كَلَامِهِ مَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ اسْتِفَادَةُ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ صُوَرِ الْأَلْفَاظِ الْمَزِيدَةِ. الثَّالِثُ: التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا النَّوْمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ اسْتِدْعَاءُ النُّفُوسِ لِلنَّوْمِ فِيهِ زِيَادَةً فِي تَصْوِيرِ جَلَالِ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ مِنَ اللَّيْلِ.

الرَّابِعُ: تَقْيِيدُ الْهُجُوعِ بِالْقَلِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْمِلُونَ مُنْتَهَى حَقِيقَةِ الْهُجُوعِ بَلْ يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَلِيلًا. وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ فَاتَتْ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَاسِي فَمَا ... أُطْعَمُ نَوْمًا غَيْرَ تَهْجَاعِ الْخَامِسُ: الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْلِيلِ هُجُوعِهِمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أقل مَا يهجهه الْهَاجِعُ. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالزَّمَانِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: زَمَنًا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ يَهْجَعُونَ. ومِنَ اللَّيْلِ تَبْعِيضٌ. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فِي السَّحَرِ، أَيْ فَإِذَا آذَنَ اللَّيْلُ بِالِانْصِرَامِ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمُوا مِنَ التَّهَجُّدِ مَا يَرْجُونَ أَنْ يزلفهم إِلَى رضى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُجُوعَهُمُ الَّذِي يَكُونُ فِي خِلَالِ اللَّيْلِ قَبْلَ السَّحَرِ. فَأَمَّا فِي السَّحَرِ فَهُمْ يَتَهَجَّدُونَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ الِاسْتِغْفَارَ بِالصَّلَاةِ فِي السَّحَرِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمرَان: 17] ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ طَلَبَ الْغُفْرَانَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ فِي مَضْجَعِهِ إِذْ لَا تَظْهَرُ حِينَئِذٍ مَزِيَّةٌ لِتَقْيِيدِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْكَوْنِ فِي الْأَسْحَارِ. وَالْأَسْحَارُ: جَمْعٌ سَحَرٍ وَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ. وَخُصَّ هَذَا الْوَقْتُ لِكَوْنِهِ يَكْثُرُ فِيهِ أَنْ يَغْلِبَ النَّوْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيهِ فَصَلَاتُهُمْ وَاسْتِغْفَارُهُمْ فِيهِ أَعْجَبُ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِي أَجْزَاءِ اللَّيْلِ الْأُخْرَى. وَجَمْعُ الْأَسْحَارِ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ قِيَامِهِمْ فِي كُلِّ سحر. وَتَقْدِيم بِالْأَسْحارِ عَلَى يَسْتَغْفِرُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَمَا عَلِمْتَ. وَصِيغَ اسْتِغْفَارُهُمْ بأسلوب إِظْهَار اسْم الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ دُونَ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَلِيَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فَيُفِيدُ تَقَوِّي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ

مِنَ النُّدْرَةِ بِحَيْثُ يَقْتَضِي التَّقْوِيَةَ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي السَّحَرِ يَشُقُّ عَلَى مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ إِعْيَائِهِ. فَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. وَحَقُّ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ: هُوَ النَّصِيبُ الَّذِي يُعْطُونَهُ إِيَّاهُمَا، أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَقِّ، إِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّدَقَةَ بِمَا تَيَسَّرَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَصَارَتِ الصَّدَقَةُ حَقًّا لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَلْزَمُوا ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَبِذَلِكَ يَتَأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَقَّ هُوَ الزَّكَاةُ. وَالسَّائِلُ: الْفَقِيرُ الْمُظْهِرُ فَقْرَهُ فَهُوَ يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمَحْرُومُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يُعْطَى الصَّدَقَةَ لِظَنِّ النَّاسِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ مِنْ تَعَفُّفِهِ عَنْ إِظْهَارِ الْفَقْرِ، وَهُوَ الصِّنْفُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [الْبَقَرَة: 273] وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا» . وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحْرُومِ لَيْسَ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ وَيَحْرِمُوهُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَآلُ أَمْرِهِ إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُ الْمَحْرُومِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَحْرُومِ تَشْبِيهًا بِهِ فِي أَنَّهُ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ مُمَكِّنَاتُ الرِّزْقِ بَعْدَ قُرْبِهَا مِنْهُ فَكَأَنَّهُ نَالَهُ حِرْمَانٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَرْقِيقُ النُّفُوسِ عَلَيْهِ وَحَثُّ النَّاسِ عَلَى الْبَحْثِ عَنْهُ لِيَضَعُوا صَدَقَاتِهِمْ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ اللَّهُ وَضْعَهَا فِيهِ وَنَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَحْرُومِ اخْتِلَافًا هُوَ عِنْدِي تَخْلِيطٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِذِ الْمَعْنَى وَاحِدٌ عَبَّرَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ بِعِبَارَاتٍ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالَاتِ فَجَعَلَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ أَقْوَالًا. قُلْتُ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا كُلُّهَا أَمْثِلَةٌ لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُرْبِ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فَمَا صَلَحَ مِنْهَا لِأَنْ يَكُونَ مِثَالًا لِلْغَرَضِ قُبِلَ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ فَهُوَ مَرْدُودٌ، مِثْلُ تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَ الْمَحْرُومَ بِالْكَلْبِ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا الْمَحْرُومُ. وَزَادَ الْقُرْطُبِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لِي الْيَوْمَ سَبْعُونَ سنة مُنْذُ احتملت أَسْأَلُ عَنِ الْمَحْرُومِ فَمَا أَنَا الْيَوْمَ بِأَعْلَمَ مِنِّي فِيهِ يَوْمئِذٍ.

[سورة الذاريات (51) : آية 20]

[سُورَة الذاريات (51) : آيَة 20] وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْقَسَمِ وَجَوَابِهِ مِنْ قَوْله: وَالذَّارِياتِ [الذاريات: 1] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ إِلَى قَوْله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (¬1) [الذاريات: 6، 7] فَبَعْدَ أَنْ حَقَّقَ وُقُوعَ الْبَعْثِ بِتَأْكِيدِهِ بِالْقَسَمِ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيبِهِ بِالدَّلِيلِ لِإِبْطَالِ إِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فصلت: 39] . وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اعْتِرَاضٌ، فَجُمْلَةُ وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ وَهِيَ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذاريات: 5] . وَالْمَعْنَى: وَفِي مَا يُشَاهَدُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَهِيَ الْأَحْوَالُ الدَّالَّةُ عَلَى إِيجَادِ مَوْجُودَاتٍ بَعْدَ إِعْدَامِ أَمْثَالِهَا وَأُصُولِهَا مِثْلَ إِنْبَاتِ الزَّرْعِ الْجَدِيدِ بَعْدَ أَنْ بَادَ الَّذِي قَبْلَهُ وَصَارَ هَشِيمًا. وَهَذِهِ دَلَائِلُ وَاضِحَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى غَوْصِ الْفِكْرِ فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْرَنْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِمَا يَدْعُو إِلَى التَّفَكُّرِ كَمَا قُرِنَ قَوْلُهُ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَرْمُوقَةَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ أَيْضًا عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهَا وَدَحْوِهَا لِلْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَكَيْفَ قُسِّمَتْ إِلَى سَهْلٍ وَجِبَالٍ وَبَحْرٍ، وَنِظَامِ إِنْبَاتِهَا الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَلِهَذَا حُذِفَ تَقْيِيدُ آيَاتٍ بِمُتَعَلِّقٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا تَصْلُحُ الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ. وَاللَّامُ فِي لِلْمُوقِنِينَ مُعَلَّقٌ بِ آياتٌ. وَخُصَّتِ الْآيَات ب لِلْمُوقِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَالَتِهَا فَأَكْسَبَتْهُمُ الْإِيقَانَ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ. وَأُوثِرَ وَصَفُ الْمُوقِنِينَ هُنَا دُونَ الَّذِينَ أَيْقَنُوا لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْإِيقَانِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي مَدْحَهُمْ بِثُقُوبِ الْفَهْمِ لِأَنَّ الْإِيقَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَمْرِ نَظَرِيَّةٌ. وَمَدْحُهُمْ أَيْضًا بِالْإِنْصَافِ وَتَرَكِ الْمُكَابَرَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُنْكِرِينَ لِلْحَقِّ تَحْمِلُهُمُ الْمُكَابَرَةُ ¬

(¬1) فِي المطبوعة: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِلَى قَوْله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ، والمثبت هُوَ الْأَنْسَب للسياق.

[سورة الذاريات (51) : آية 21]

أَوِ الْحَسَدُ عَلَى إِنْكَارِ حَقِّ مَنْ يَتَوَجَّسُونَ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى مَنَافِعِهِمْ. وَتَقْدِيمُ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَرْضِ بِاعْتِبَارِهَا آيَات كَثِيرَة. [21] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 21] وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) عَطْفٌ عَلَى فِي الْأَرْضِ [الذاريات: 20] . فَالتَّقْدِيرُ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. تَفْرِيعًا عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ فَيُقَدَّرُ الْوَقْفُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِ تُبْصِرُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ لِأَنَّ وُجُودَ الْفَاءِ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ إِذْ يَصِيرُ الْكَلَامُ مَعْطُوفًا بِحَرْفَيْنِ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ الْإِبْصَارِ لِلْآيَاتِ. وَالْإِبْصَارُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، أَيْ كَيْفَ تَتْرُكُونَ النَّظَرَ فِي آيَاتٍ كَائِنَةٍ فِي أَنْفُسِكُمْ. وَتَقْدِيمُ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّظَرِ فِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْمَعْنَى: أَلَا تَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ أَنْفُسِكُمْ: كَيْفَ أَنْشَأَكُمُ اللَّهُ مِنْ مَاءٍ وَكَيْفَ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَيْسَ كُلُّ طَوْرٍ هُوَ إِيجَادَ خَلْقٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلُ. فَالْمَوْجُودُ فِي الصَّبِيِّ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ حِينَ كَانَ جَنِينًا. وَالْمَوْجُودُ فِي الْكَهْلِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حِينَ كَانَ غُلَامًا وَمَا هِيَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ إِلَّا مَخْلُوقَاتٌ مُسْتَجَدَّةٌ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَكَذَلِكَ إِنْهَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَهَذَا التَّكْوِينُ الْعَجِيبُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْإِيجَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِ مُكَوِّنِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ مِثْلِ الْإِنْسَانِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ بَوَاطِنَ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ وَظَوَاهِرَهَا عَجَائِبُ مِنَ الِانْتِظَامِ وَالتَّنَاسُبِ وَأَعْجَبُهَا خَلْقُ الْعَقْلِ وَحَرَكَاتِهِ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي وَخَلْقُ النُّطْقِ وَالْإِلْهَامُ إِلَى اللُّغَةِ وَخَلْقُ الْحَوَاسِّ وَحَرَكَةُ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ وَانْتِسَاقُ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ وَتَفَاعُلُهَا وَتَسْوِيَةُ الْمَفَاصِلِ

[سورة الذاريات (51) : آية 22]

وَالْعَضَلَاتِ وَالْأَعْصَابِ وَالشَّرَايِينِ وَحَالُهَا بَيْنَ الِارْتِخَاءِ وَالْيُبْسِ فَإِنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا التَّيَبُّسُ جَاءَ الْعَجْزُ وَإِذَا غَلَبَ الِارْتِخَاءُ جَاءَ الْمَوْتُ. وَالْخِطَابُ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذاريات: 5] . [22] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 22] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ دَلَائِلَ الْأَرْضِ وَدَلَائِلَ الْأَنْفُسِ الَّتِي هُمْ مِنْ عَلَائِقِ الْأَرْضِ عَطَفَ ذِكْرَ السَّمَاءِ لِلْمُنَاسِبَةِ، وَتَمْهِيدًا لِلْقَسَمِ الَّذِي بعده بقوله: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات: 23] . وَلِمَا فِي السَّمَاءِ مِنْ آيَةِ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ تُنْبِتُ الْأَرْضُ بَعْدَ الْجَفَافِ، فَالْمَعْنَى: وَفِي السَّمَاءِ آيَةُ الْمَطَرِ، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَطَرِ إِلَى الرِّزْقِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ فِي كَوْنِهِ مَطَرًا يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَهَذَا قِيَاسُ تَمْثِيلٍ لِلنَّبْتِ، أَيْ فِي السَّمَاءِ الْمَطَرُ الَّذِي تُرْزَقُونَ بِسَبَبِهِ. فَالرِّزْقُ: هُوَ الْمَطَرُ الَّذِي تَحْمِلُهُ السُّحُبُ وَالسَّمَاءُ هُنَا: طَبَقَاتُ الْجَوِّ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلتَّشْوِيقِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِالْمَكَانِ وَلِلرَّدِّ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَعَطْفُ وَما تُوعَدُونَ إِدْمَاجٌ بَيْنَ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ لِقَصْدِ الْمَوْعِظَةِ الشَّامِلَةِ لِلْوَعِيدِ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَالْوَعْدِ عَلَى الْإِيمَانِ إِنْ آمَنُوا تَعْجِيلًا بِالْمَوْعِظَةِ عِنْدَ سُنُوحِ فُرْصَتِهَا. وَفِي إِيثَارِ صِيغَةِ تُوعَدُونَ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ خَصَائِصِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مَصُوغَةً مِنَ الْوَعْدِ فَيَكُونُ وَزْنُ تُوعَدُونَ تُفْعَلُونَ مُضَارِعُ وَعَدَ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ. وَأَصْلُهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ تَعِدُونَ وَأَصْلُهُ تُوعِدُونَ، فَلَمَّا بُنِيَ لِلنَّائِبِ ضُمَّ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ فَصَارَتِ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ مَدَّةً مُجَانَسَةً لِلضَّمَّةِ فَصَارَ: تُوعَدُونَ. وَصَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مِنَ الْإِيعَادِ وَوَزْنُهُ تَأَفْعَلُونَ مِثْلَ تَصْرِيفِ أَكْرَمَ يُكْرِمُ وَبِذَلِكَ صَارَ تُوعَدُونَ مِثْلَ تُكْرَمُونَ، فَاحْتُمِلَتْ لِلْبِشَارَةِ وَالْإِنْذَارِ.

[سورة الذاريات (51) : آية 23]

وَكَوْنُ ذَلِكَ فِي السَّمَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُحَقَّقٌ فِي عِلْمِ أَهْلِ السَّمَاءِ، أَيِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِتَصْرِيفِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَكَانَ حُصُولِهِ فِي السَّمَاءِ، مِنْ جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ مَوْجُودَتَانِ مِنْ قَبْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا أُوعِدُوهُ يَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: 10، 11] . فَإِنَّ ذَلِكَ الدُّخَانَ كَانَ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة الدُّخان. [23] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 23] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ الْكَلَامَ بِالْقَسَمِ ب الذَّارِياتِ [الذَّارِيَاتِ: 1] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ بِالْقَسَمِ بِخَالِقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّ مَا يُوعَدُونَ حَقٌّ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَمُنَاسَبَتُهُ قَوْلُهُ: وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] . وَإِظْهَارُ اسْمِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ دُونَ ذِكْرِ ضَمِيرِهِمَا لِإِدْخَالِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ بِعَظَمَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ لَحَقٌّ عَائِدٌ إِلَى مَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] . وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجز على الْمصدر لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذاريات: 5] وَانْتَهَى الْغَرَضُ. وَقَوْلُهُ: مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِوُقُوعِ مَا أُوعِدُوهُ بِأَنْ شُبِّهَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ كَالضَّرُورَةِ لَا امْتِرَاءَ فِي وُقُوعِهِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُخَاطَبِينَ يَنْطِقُونَ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: كَمَا أَنَّ قَبْلَ الْيَوْمِ أَمْسِ، أَوْ كَمَا أَنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ غَدًا. وَهُوَ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ، وَمِنْهُ تَمْثِيلُ سُرْعَةِ الْوُصُولِ لِقُرْبِ الْمَكَانِ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَقَوْلِهِمْ: مِثْلَ مَا أَنَّكَ هَاهُنَا، وَقَوْلِهِمْ: كَمَا أَنَّكَ تَرَى وَتَسْمَعُ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 30]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِثْلَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ حَالٍ مَحْذُوفٍ قُصِدَ مِنْهُ التَّأْكِيدُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وأبوبكر عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ مَرْفُوعًا عَلَى الصِّفَةِ لَحَقٌّ صِفَةٌ أُرِيدَ بِهَا التَّشْبِيهُ. وَمَا الْوَاقِعَةُ بَعْدَ مِثْلَ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَأُرْدِفَتْ بِ (أَنَّ) الْمُفِيدَةِ لِلتَّأْكِيدِ تَقْوِيَةً لِتَحْقِيقِ حَقِّيَّةِ مَا يُوعَدُونَ. وَاجْتُلِبَ الْمُضَارِعُ فِي تَنْطِقُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: نُطْقُكُمْ، يُفِيدُ التَّشْبِيهَ بِنُطْقِهِمُ الْمُتَجَدِّدِ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ محسوس. [24- 30] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 24 إِلَى 30] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) انْتِقَالٌ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُمَاثِلَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنْ خِطَابِ الْمُنْذِرِينَ مُوَاجَهَةً إِلَى أُسْلُوبِ التَّعْرِيضِ تَفَنُّنًا بِذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِتَكَوْنَ تَوْطِئَةً لِلْمَقْصُودِ مِنْ ذِكْرِ مَا حَلَّ بِقَوْمِ لُوطٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ مَا بَعْدُ قَوْلِهِ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الْحجر: 57] . وَكَانَ فِي الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ قَوْمِ لُوطٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ التَّرْتِيبِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ قَصَصِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِابْتِدَائِهَا بِقَوْمِ نُوحٍ ثُمَّ عَادٍ ثُمَّ ثَمُودَ ثُمَّ قَوْمِ لُوطٍ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ لِلِانْتِقَالِ مِنْ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْعِبْرَةِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ

الْمُشْرِكِينَ وُصِفُوا آنِفًا بِأَنَّهُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ فَكَانُوا فِي تِلْكَ الْغَمْرَةِ أَشْبَهَ بِقَوْمِ لُوطٍ إِذْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْحجر: 72] ، وَلِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي عُذِّبَ بِهِ قَوْمُ لُوطٍ كَانَ حِجَارَةً أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مُشَبَّهَةً بِالْمَطَرِ. وَقَدْ سُمِّيَتْ مَطَرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الْفرْقَان: 40] وَقَوْلِهِ: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] وَلِأَنَّ فِي قِصَّةِ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ وَزَوْجِهِ عِبْرَةً بِإِمْكَانِ الْبَعْثِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ بِشَارَتَهَا بِمَوْلُودٍ يُولَدُ لَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْبَعْثِ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَلَمَّا وُجِّهَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ تَسْلِيَتُهُ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالسَّامِعِينَ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ أَوْ يُبَلِّغُهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِاتِّحَادِ الْأَسْبَابِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فِي سُورَةِ ص [21] ، وَأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهِ الْأَخْبَارُ الْفَخْمَةُ الْمُهِمَّةُ. وَالضَّيْفُ: اسْمٌ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَلِلْجَمْعِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرُ ضَافَ، إِذَا مَالَ فَأُطْلِقَ عَلَى الَّذِي يَمِيلُ إِلَى بَيْتِ أَحَدٍ لِيَنْزِلَ عِنْدَهُ. ثُمَّ صَارَ اسْمًا فَإِذَا لُوحِظَ أَصْلُهُ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُؤَنِّثُوهُ وَلَا يَجْمَعُونَهُ وَإِذَا لُوحِظَ الِاسْمُ جَمَعُوهُ لِلْجَمَاعَةِ وَأَنَّثُوهُ لِلْأُنْثَى فَقَالُوا أَضْيَافٌ وَضُيُوفٌ وَامْرَأَةٌ ضَيْفَةٌ وَهُوَ هُنَا اسْمُ جَمْعٍ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ الْمُكْرَمِينَ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [68] قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ الْمَلَائِكَة الَّذِي أَظْهَرَهُمُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ لِتَنْفِيذِ الْعَذَابِ لِقَوْمِ لُوطٍ وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ ضَيْفًا نَظَرًا لِصُورَةِ مَجِيئِهِمْ فِي هَيْئَةِ الضَّيْفِ كَمَا سمى الْملكَيْنِ الَّذين جَاءَا دَاوُدَ خَصْمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21] ، وَذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الصُّورِيَّةِ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ: أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ. وَعَنْ عَطَاءٍ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَعَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ. وَلَعَلَّ سَبَبَ إِرْسَالِ ثَلَاثَةٍ لِيَقَعَ تَشَكُّلُهُمْ فِي شَكْلِ الرِّجَالِ لِمَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي أَسْفَارِهِمْ أَنْ لَا يَقِلَّ رَكْبُ الْمُسَافِرِينَ عَنْ ثَلَاثَةِ رِفَاقٍ. وَذَلِكَ أَصْلُ جَرَيَانِ الْمُخَاطَبَةِ

بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى فِي نَحْوِ: «قَفَا نَبْكِ» . وَفِي الْحَدِيثِ «الْوَاحِدُ شَيْطَانُ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَذَكَرَ أَنَّ سَنَدَهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ إِرْسَالِهِمْ ثَلَاثَةً أَنَّ عَذَاب قوم لَو كَانَ بِأَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَلَكُهُ الْمُوَكَّلُ بِهِ. وَوَصْفُهُمْ بِالْمُكْرَمِينَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ لِإِكْرَامِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ مَعَ الضَّيْفِ وَهُوَ الَّذِي سَنَّ الْقِرَى، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُمْ بِرَفْعِ الدَّرَجَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] وَقَالَ: كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 11] . وَظَرْفُ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِ حَدِيثُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ خَبَرُهُمْ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قالَ سَلامٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَالَ سِلْمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَوْلُهُ: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَهُ خَفْتًا إِذْ لَيْسَ مِنَ الْإِكْرَامِ أَنْ يُجَاهِرَ الزَّائِرَ بِذَلِكَ، فَالتَّقْدِيرُ: هُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَالْمُنْكَرُ: الَّذِي يُنْكِرُهُ غَيْرُهُ، أَيْ لَا يَعْرِفُهُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَنْ يُنْكَرُ حَالُهُ وَيُظَنُّ أَنَّهُ حَالٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، أَيْ يُخْشَى أَنَّهُ مُضْمِرُ سُوءٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ [70] فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا أَيْ كَرِهَتْ ذَاتِي. وَقِصَّةُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَة هود. وفَراغَ مَالَ فِي الْمَشْيِ إِلَى جَانِبٍ، وَمِنْهُ: رَوَغَانُ الثَّعْلَبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَادَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الضُّيُوفُ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ إِلَى بَيْتِهِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ.

وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا أَمَامَ بَابِ خَيْمَتِهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الضُّيُوفَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّ الرَّوَغَانَ مَيْلٌ فِي الْمَشْيِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْجَانِبِ مَعَ إِخْفَاءِ إِرَادَتِهِ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ الرَّاغِبُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ فَانْتَزَعَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ إِخْفَاءَ إِبْرَاهِيمَ مَيْلَهُ إِلَى أَهْلِهِ مِنْ حُسْنِ الضِّيَافَةِ كَيْلَا يُوهِمَ الضَّيْفَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحْضِرَ لَهُمْ شَيْئًا فَلَعَلَّ الضَّيْفَ أَنْ يَكُفَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَعْذُرَهُ وَهَذَا مَنْزَعٌ لَطِيفٌ. وَكَانَ مَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي جَرَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِمَوْضِعٍ يُسَمَّى (بُلُوطَاتِ مَمْرَا) مِنْ أَرْضِ جَبْرُونَ. وَوُصِفَ الْعِجْلُ هُنَا بِ سَمِينٍ، وَوُصِفَ فِي سُورَةِ هُودٍ بِحَنِيذٍ، أَيْ مَشْوِيٍّ فَهُوَ عِجْلٌ سَمِينٌ شَوَاهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ الشِّوَا أَسْرَعَ طَبْخِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَقَامَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَذْكُرُ الصَّيْدَ: فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مَا بَيْنَ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ فَقَيَّدَ (قَدِيرٍ) بِ (مُعَجَّلِ) وَلَمْ يُقَيِّدْ (صَفِيفَ شِوَاءٍ) لِأَنَّهُ مَعْلُوم. وَمعنى فَقَرَّبَهُ وَضَعَهُ قَرِيبًا مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَنْقُلْهُمْ مِنْ مَجْلِسِهِمْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ جَعَلَ الطَّعَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ بِخِلَافِ مَا يَطْعَمُهُ الْعَافِي وَالسَّائِلُ فَإِنَّهُ يُدْعَى إِلَى مَكَانِ الطَّعَامِ كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: فَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... فَرِيقٌ يَحْسُدُ الْأُنْسُ الطَّعَامَا وَمَجِيءُ الْفَاءِ لِعَطْفِ أَفْعَالِ فَراغَ فَجاءَ فَقَرَّبَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَقَعَتْ فِي سُرْعَةٍ، وَالْإِسْرَاعُ بِالْقِرَى مِنْ تَمَامِ الْكَرَمِ، وَقَدْ قِيلَ: خَيْرُ الْبِرِّ عَاجِلُهُ. وَجُمْلَةُ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ. وأَ لَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ حِرَفُ عَرْضٍ، أَيْ رَغْبَةٍ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ. وَهِيَ هُنَا مُتَعَيِّنَةٌ لِلْعَرَضِ لِوُقُوعِ فِعْلِ الْقَوْلِ بَدَلًا من فعل فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ،

وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهَا كَلِمَتَيْنِ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ لِلْإِنْكَارِ مَعَ (لَا) النَّافِيَةِ. وَالْعَرْضُ عَلَى الضَّيْفِ عَقِبَ وَضْعِ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ زِيَادَةٌ فِي الْإِكْرَامِ بِإِظْهَارِ الْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُ الضَّيْفَ وَإِنْ كَانَ وَضْعُ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ كَافِيًا فِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ. وَقَدِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ إِذْنًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلَائِمِ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ وُجُودِ مَائِدَةِ طَعَامٍ أَوْ سُفْرَةٍ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ أُعِدَّتْ لِغَيْرِ الْمَدْعُوِّ. وَالْفَاءُ فِي فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فَصِيحَةٌ لِإِفْصَاحِهَا عَنْ جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ يَقْتَضِيهَا رَبْطُ الْمَعْنَى، أَيْ فَلَمْ يَأْكُلُوا فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، كَقَوْلِهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ (أَيْ إِلَى الْعَجَلِ) نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 70] . وفَأَوْجَسَ أَحَسَّ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُظْهِرْ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَوْلُهُمْ لَهُ لَا تَخَفْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا فِي نَفْسِهِ مِمَّا ظَهَرَ عَلَى مَلَامِحِهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالْغُلَامُ الَّذِي بَشَّرُوهُ بِهِ هُوَ إِسْحَاقُ لِأَنَّهُ هُوَ ابْنُ سَارَّةَ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي التَّوْرَاةِ، وَوُصِفَ هُنَا بِ عَلِيمٍ، وَأَمَّا الَّذِي ذُكِرَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [101] فَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَوُصِفَ بِ حَلِيمٍ وَلِذَلِكَ فَامْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَادِثُ عَنْهَا هُنَا هِيَ سَارَّةُ، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ بَعْدَ أَنْ أَيِسَتْ، أَمَّا هَاجَرُ فَقَدْ كَانَتْ فَتَاةً وَلَدَتْ فِي مُقْتَبَلِ عُمْرِهَا. وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ حِينَ سَمِعْتُ الْبِشَارَةَ لَهَا بِغُلَامٍ، أَيْ أَقْبَلَتْ عَلَى مَجْلِسِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ضَيْفِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ [71] وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ. وَكَانَ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ مَجَالِسَ الرِّجَالِ فِي بُيُوتِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ وَيُوَاكِلْنَهُمْ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ تَحَضُرَ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا وَضَيْفِهِ وَتَأْكُلَ مَعَهُمْ. وَالصُّرَّةُ: الصِّيَاحُ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ الصَّرِيرُ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ. وَالصَّكُّ: اللَّطْمُ، وَصَكُّ الْوَجْهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ عَادَةُ النِّسَاءِ أَيَامَئِذٍ، وَنَظِيرُهُ

وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إِبْرَاهِيم: 9] . وَقَوْلُهُا عَجُوزٌ عَقِيمٌ خَبَرٌ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ. وَالْعَجُوزُ: فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَهُوَ يَسْتَوِي فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَجْزِ وَيُطْلَقُ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ لِمُلَازِمَةِ الْعَجْزِ لَهُ غَالِبًا. وَالْعَقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ إِذَا جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَقَمَهَا اللَّهُ، إِذَا خَلَقَهَا لَا تَحْمَلُ بِجَنِينٍ، وَكَانَتْ سَارَّةُ لَمْ تَحْمِلْ قَطُّ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَادِثِ وَهُوَ التَّبْشِيرُ بِغُلَامٍ. وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، أَيْ مِثْلُ قَوْلِنَا: قَالَ رَبُّكِ فَنَحْنُ بَلَّغْنَا مَا أُمِرْنَا بِتَبْلِيغِهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا أَخْبَرُوا إِبْرَاهِيمَ إِلَّا تَبْلِيغًا مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ صَادِقُ وَعْدِهِ وَأَنَّهُ لَا مَوْقِعَ لِتَعَجُّبِ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ يُدَبِّرُ تَكْوِينَ مَا يُرِيدُهُ، وَعَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهَا مِنَ الْعَجْزِ وَالْعُقْمِ. وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَسَارَّةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ وَقَعَ مِثْلُهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا قُصَّ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فَحُكِيَ هُنَا مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَارَّةَ، وَحُكِيَ هُنَاكَ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَقَامُ وَاحِدٌ، وَالْحَالَةُ وَاحِدَةٌ كَمَا بُيِّنَ فِي سُورَةِ هُودٍ [72] قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 إلى 34]

[سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 31 إِلَى 34] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُمْ عَنِ الشَّأْنِ الَّذِي أُرْسِلُوا لِأَجْلِهِ. وَإِنَّمَا سَأَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَرَاهُمْ جَرْيًا عَلَى سُنَّةِ الضِّيَافَةِ أَنْ لَا يُسْأَلَ الضَّيْفُ عَنِ الْغَرَضِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِعْدَادِهِ لِلرَّحِيلِ كَيْلَا يَتَوَهَّمَ سَآمَةَ مُضَيِّفِهِ مِنْ نُزُولِهِ بِهِ، وَلِيُعِينَهُ عَلَى أَمْرِهِ إِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَشَّرُوهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ ذَلِكَ هُوَ قُصَارَى مَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ؟ وَحُكِيَ فِعْلُ الْقَوْلِ بِدُونِ عَاطِفٍ لِأَنَّهُ فِي مَقَاوِلِهِ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَيْفِهِ. وَالْفَاءُ فِيمَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصِيحَةٌ مُؤْذِنَةٌ بِكَلَام مَحْذُوف ناشىء عَنِ الْمُحَاوَرَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَيْفِهِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ وَيَقَعُ كَثِيرًا فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَة: 124] وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: 112] . فَإِبْرَاهِيمُ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ بَلُغَتِهِ مَا يُؤَدَّى مِثْلُهُ بِفَصِيحِ الْكَلَامَ الْعَرَبِيِّ بِعِبَارَةِ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: إِذْ كُنْتُمْ مُرْسَلِينَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا خَطْبُكُمُ الَّذِي أرسلتم لأَجله.

وَقَدْ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَا تَكُونُ لِمُجَرَّدِ بِشَارَتِهِ بِابْنٍ يُولَدُ لَهُ وَلِزَوْجِهِ إِذْ كَانَتِ الْبِشَارَةُ تَحْصُلُ لَهُ بِالْوَحْيِ، فَكَانَ مِنْ عِلْمِ النُّبُوءَةِ أَنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَطْبٍ قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الْحجر: 8] . وَالْخَطْبُ: الْحَدَثُ الْعَظِيمُ وَالشَّأْنُ الْمُهِمُّ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَالْمَعْنَى: مَا الْخَطْبُ الَّذِي أُرْسِلْتُمْ لِأَجْلِهِ إِذْ لَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا يُسَمِّيهِمْ بِهِ إِلَّا وَصْفَ أَنَّهُمُ الْمُرْسَلُونَ، وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات: 1] عَن أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورِيَّةَ، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ. وَالْإِرْسَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي الرَّمْيِ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى الصَّيْدِ، وَهَذَا الْإِرْسَالُ يَكُونُ بَعْدَ أَنْ أَصْعَدُوا الْحِجَارَةَ إِلَى الْجَوِّ وَأَرْسَلَتْهَا عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مَطَرًا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ. وَحَصَلَ بَيْنَ أُرْسِلْنا وَبَيْنَ لِنُرْسِلَ جِنَاسٌ لَاخْتِلَافِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ. وَالْحِجَارَةُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَجَرِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْحِجَارَةِ مِنْ طِينٍ: أَنَّ أَصْلَهَا طِينٌ تَحَجَّرَ بِصَهْرِ النَّارِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ بُرْكَانِيَّةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْضُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي صَارَتْ بُحَيْرَةً تُدْعَى الْيَوْمَ بُحَيْرَةَ لُوطٍ، وَأَصْعَدَهَا نَامُوسٌ إِلَهِيٌّ بِضَغْطٍ جَعَلَهُ اللَّهُ يَرْفَعُ الْخَارِجَ مِنَ الْبُرْكَانِ إِلَى الْجَوِّ فَنَزَلَتْ عَلَى قُرَى قَوْمِ لُوطٍ فَأَهْلَكَتْهُمْ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِوَاسِطَةِ الْقُوَى الْمَلَكِيَّةِ. وَالْمُسَوَّمَةُ: الَّتِي عَلَيْهَا السُّومَةُ أَيْ الْعَلَامَةُ، أَيْ عَلَيْهَا عَلَامَاتٌ مِنْ أَلْوَانٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُتَعَارَفَةِ. وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّكَ أَنَّ عَلَامَاتِهَا بَخَلْقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 35 إلى 37]

وَالْمُسْرِفُونَ: الْمُفْرِطُونَ فِي الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ بَكُفْرِهِمْ وَشُيُوعِ الْفَاحِشَةِ فِيهِمْ، فَالْمُسْرِفُونَ: الْقَوْمُ الْمُجْرِمُونَ، عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الْوَصْفِ الظَّاهِرِ، لِتَسْجِيلِ إِفْرَاطِهِمْ فِي الإجرام. [35- 37] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 35 إِلَى 37] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ بَلْ هِيَ تَذْيِيلٌ لِقِصَّةِ مُحَاوَرَةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْفَاءُ فِي فَأَخْرَجْنا فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ هُودٍ مِنْ مَجِيءِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى لُوطٍ وَمَا حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَحَلُّوا بِقَرْيَةِ لُوطٍ فَأَمَرْنَاهُمْ بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْرَجُوهُمْ. وَضَمِيرُ «أَخْرَجْنَا» ضَمِيرُ عَظَمَةِ الْجَلَالَةِ. وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لُوطًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِينَ وَنَجَاتَهُمْ إِذْ أَخَّرَ نُزُولَ الْحِجَارَةِ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ لُوطٌ وَأَهْلُهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ. وَعبر عَنْهُم ب الْمُؤْمِنِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ، أَيْ إِيمَانُهُمْ بلوط. وَالتَّعْبِير عَنهُ ب الْمُسْلِمِينَ لأَنهم آل نبيء وَإِيمَانُ الْأَنْبِيَاءِ إِسْلَامٌ قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] . وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْقَرْيَةِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الْفرْقَان: 40] . وَتَفْرِيعُ فَما وَجَدْنا تَفْرِيعُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَفِعْلُ وَجَدْنا مَعْنَى عَلِمْنَا لِأَنَّ (وَجَدَ) مِنْ أَخَوَاتِ (ظَنَّ) فَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ (مِنَ) مَزِيدَةٌ لَتِأْكِيدِ النَّفْيِ وَقَوْلُهُ: فِيها فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي.

وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَأَخْرَجْنَا لُوطًا وَأَهْلَ بَيْتِهِ قَصْدًا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ نَجَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ لُوطٍ، وَأَنَّ كَوْنَهُمْ أَهْلَ بَيْتِ لُوطٍ لِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ فِيهِمْ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَكَانَ كَالْكُلِّيِّ الَّذِي انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ مُعَيَّنٍ. وَالْمُؤْمِنُ: هُوَ الْمُصَدِّقُ بِمَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ. وَالْمُسْلِمُ الْمُنْقَادُ إِلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ مَعَ التَّفَنُّنِ فِي الْأَلْفَاظِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِكِلَيْهِمَا وَإِلَى أَنَّ النَّجَاةَ بِاجْتِمَاعِهِمَا. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتْ تظهر الانقياد لزَوجهَا وَتُضْمِرُ الْكُفْرَ وَمُمَالَاةَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى فَسَادِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما [التَّحْرِيم: 10] الْآيَةَ، فَبَيْتُ لُوطٍ كَانَ كُلُّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا. وَالْوِجْدَانُ فِي قَوْلِهِ: فَما وَجَدْنا مُرَادٌ بِهِ تَعَلُّقُ علم الله تَعَالَى بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ، وَوِجْدَانُ الشَّيْءِ إِدْرَاكُهُ وَتَحْصِيلُهُ. وَمَعْنَى وَتَرَكْنا فِيها آيَةً: أَنَّ الْقَرْيَةَ بَقِيَتْ خَرَابًا لَمْ تُعَمَّرْ، فَكَانَ مَا فِيهَا مِنْ آثَارِ الْخَرَابِ آيَةٌ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ عَذَابَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْحجر [76] وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أَوْ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الذاريات: 32] عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلَامِ بِالْقِصَّةِ، أَيْ تَرَكْنَا فِي قِصَّتِهِمْ. وَالتَّرْكُ حَقِيقَتُهُ: مُفَارَقَةُ شَخْصٍ شَيْئًا حَصَلَ مَعَهُ فِي مَكَانٍ فَفَارَقَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَأَبْقَى مِنْهُ مَا كَانَ مَعَهُ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّسَبُّبِ فِي إِيجَادِ حَالَةٍ تَطُولُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 إلى 40]

فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي ... إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ بِتَشْبِيهِ إِبْقَاءِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ فِي مَكَانٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ عَدَمُ التَّغَيُّرِ. وَالتَّرْكُ فِي الْآيَةِ: كِنَايَةٌ عَنْ إِبْقَاءِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مُفَارَقَةِ التَّارِكِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ نَظِيرَ مَا فِي بَيت النَّابِغَة. ولِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدِلَالَةِ مَوَاقِعِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى أَسْبَابِ ذَلِكَ الِاسْتِئْصَالِ نُزِّلَتْ دِلَالَةُ آيَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَنْزِلَةَ مَا لَيْسَ بِآيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ يَخَافُونَ اتَّعَظُوا بِآيَةِ قَوْمِ لُوطٍ فَاجْتَنَبُوا مثل أَسبَاب إهلاكهم، وَأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَا يَتَّعِظُونَ فَيُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَاب أَلِيم. [38- 40] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 38 إِلَى 40] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) قَوْلُهُ: وَفِي مُوسى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فِيها آيَةً [الذاريات: 37] . وَالتَّقْدِيرُ: وَتَرَكْنَا فِي مُوسَى آيَةً، فَهَذَا الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ لِتَقْدِيرِ فِعْلِ: تَرَكْنَا، بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فِي قِصَّةِ مُوسَى حِينَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بَسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى إِلَخْ، فَيَكُونُ التَّرْكُ الْمُقَدَّرُ فِي حَرْفِ الْعَطْفِ مُرَادًا بِهِ جَعْلُ الدَّلَالَةِ بَاقِيَةً فَكَأَنَّهَا مَتْرُوكَةٌ فِي الْمَوْضِعِ لَا تُنْقَلُ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ. وَأَعْقَبَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ بِقِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ أَمْرِ مُوسَى وَشَرِيعَتِهِ، فَالتَّرْكُ الْمُقَدَّرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازَيْهِ الْمُرْسَلِ وَالِاسْتِعَارَةِ. وَفِي الْوَاوِ اسْتِخْدَامٌ مِثْلُ اسْتِخْدَامِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُلَقَّبِ مُعَوِّدِ الْحُكَمَاءِ (لَقَّبُوهُ بِهِ لِقَوْلِهِ فِي ذِكْرِ قَصِيدَتِهِ) :

أُعَوِّدُ مِثْلَهَا الْحُكَمَاءَ بَعْدِي ... إِذَا مَا الْحَقُّ فِي الْحَدَثَانِ نَابَا إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأْرِضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى آيَةٌ دَائِمَةٌ. وَعُقِّبَتْ قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ بِقِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَنَاسُبٍ فِي أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي عُذِّبَ بِهِ الْأُمَّتَانِ عَذَابٌ أَرْضِيٌّ إِذْ عُذِّبَ قَوْمُ لُوطٍ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ طِينٍ، وَعُذِّبَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ بِالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ ذُكِرَ عَادٌ وَثَمُودُ وَكَانَ عَذَابُهُمَا سَمَاوِيًّا إِذْ عُذِّبَتْ عَادٌ بِالرِّيحِ وَثَمُودُ بِالصَّاعِقَةِ. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا لِفِرْعَوْنَ مِنِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَمَا تَلَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الثَّمَانِ. وَالتَّوَلِّي حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ. وَالرُّكْنُ حَقِيقَتُهُ: مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ بِنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَيُسَمَّى الْجَسَدُ رُكْنًا لِأَنَّهُ عِمَادُ عَمَلِ الْإِنْسَانِ. وَقَوْلُهُ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ رَفْضِهِ دَعْوَةَ مُوسَى بِهَيْئَةِ الْمُنْصَرِفِ عَنْ شَخْصٍ. وَبِإِيرَادِ قَوْلِهِ: بِرُكْنِهِ تَمَّ التَّمْثِيلُ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ قَوْله: فَتَوَلَّى مُجَرَّدَ اسْتِعَارَةٍ. وَالْبَاءُ لَلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا رُكْنَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء: 83] . وَالْمُلِيمُ: الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ لَائِمًا عَلَيْهِ، أَيْ وَهُوَ مُذْنِبٌ ذَنْبًا يَلُومُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ يُؤَاخِذُهُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُسْتَوْجِبٌ الْعِقَابَ كَمَا قَالَ: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيم: 22] . وَالْمعْنَى: أَن فِي قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ آيَةٌ لَلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَجْتَنِبُونَ مِثْلَ أَسْبَابِ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي مُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ عَنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لَا يَتَّعِظُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالنَّوَامِيسِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فِي دَعْوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فَهُمْ لَا يَزَالُونَ مُعْرِضِينَ سَاخِرِينَ عَنْ

[سورة الذاريات (51) : الآيات 41 إلى 42]

دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ مُتَكَبِّرِينَ عَلَيْهِ، مُكَابِرِينَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مِنْ مِثْلِ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يجوز على الممائل، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا جَهْلِ فِرْعَوْنُ هَذِه الْأمة. [41- 42] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 41 إِلَى 42] وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) نَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلُ نَظْمِ قَوْلِهِ: وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ [الذاريات: 38] انْتَقَلَ إِلَى الْعِبْرَةِ بِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُمْ عَادٌ وَهُمْ أَشْهَرُ الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ. والرِّيحَ الْعَقِيمَ هِيَ: الْخَلِيَّةُ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تُرْجَى لَهَا الرِّيَاحُ مِنْ إِثَارَةِ السَّحَابِ وَسَوْقِهِ، وَمِنْ إِلْقَاحِ الْأَشْجَارِ بِنَقْلِ غُبْرَةِ الذَّكَرِ مِنْ ثِمَارٍ إِلَى الْإِنَاثِ مِنْ أَشْجَارِهَا، أَيْ الرِّيحُ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا، أَيْ هِيَ ضَارَّةٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ لِمَا كَانَ مُشْتَقًّا مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنَاثِ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا يُؤْتَى بِهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ. وَالْعَرَبُ يَكْرَهُونَ الْعُقْمَ فِي مَوَاشِيهِمْ، أَيْ رِيحٌ كَالنَّاقَةِ الْعَقِيمِ لَا تُثْمِرُ نَسْلًا وَلَا دَرًّا، فَوَصْفُ الرِّيحِ بِالْعَقِيمِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ فِي الشُّؤْمِ، قَالَ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الْحَج: 55] . وَجُمْلَةُ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ صفة ثَانِيَة، أَو حَال، فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي مَضَرَّةِ هَذَا الرِّيحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَأَنَّهُ يَضُرُّ أَضْرَارًا عَظِيمَةً. وَصِيغَ تَذَرُ: بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وشَيْءٍ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ لِ تَذَرُ فَإِنَّ (مِنْ) لِتَأَكِيدِ النَّفْيِ والنكرة المجرورة ب (من) هَذِهِ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَامَّةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُخَصَّصٌ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الرِّيحَ إِنَّمَا تُبْلِي الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ شَأْنُهَا أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا الْبِلَى، فَإِنَّ الرِّيحَ لَا تُبْلِي الْجِبَالَ وَلَا الْبِحَارَ وَلَا الْأَوْدِيَةَ وَهِيَ تَمُرُّ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا تُبْلِي الدِّيَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالنَّاسَ وَالْبَهَائِمَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَاف: 25] .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 43 إلى 45]

وَجُمْلَةُ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الرِّيحَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ شَيْءٍ يُبَيِّنُ الْمُعَرَّفَ، أَيْ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ تَدْمِيرِهَا إِلَّا فِي حَالٍ قَدْ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ. وَالرَّمِيمُ: الْعَظْمُ الَّذِي بُلِيَ. يُقَالُ: رَمَّ الْعظم، إِذْ بَلِيَ، أَيْ جَعَلَتْهُ مُفَتَّتًا. وَالْمَعْنَى: وَفِي عَادٍ آيَةٌ لَلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ إِذْ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْآيَةَ كَائِنَةٌ فِي أَسْبَابِ إِرْسَالِ الرِّيحِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ أَسْبَابُ تَكْذِيبِهِمْ هُودًا وَإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] ، فَيَحْذَرُ مِنْ مِثْلَ مَا حَلَّ بِهِمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا أَصَرَّتْ عَادٌ فَيُوشِكُ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مِنْ جَنْسِ مَا حلّ بعاد. [43- 45] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 43 إِلَى 45] وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) أُتْبِعَتْ قِصَّةُ عَادٍ بِقِصَّةِ ثَمُودَ لِتَقَارُنِهِمَا غَالِبًا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ثَمُودَ عَاصَرَتْ عَادًا وَخَلَفَتْهَا فِي عَظَمَةِ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: 74] وَلِاشْتِهَارِهِمَا بَيْنَ الْعَرَبِ. وفِي ثَمُودَ عَطْفٌ عَلَى فِي عادٍ أَوْ عَلَى تَرَكْنا فِيها آيَةً. وَالْمَعْنَى: وَتَرَكْنَا آيَةً لَلْمُؤْمِنِينَ فِي ثَمُودَ فِي حَالٍ قَدْ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، أَيْ فِي دِلَالَةِ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ، عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ هُوَ إِشْرَاكُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ وَعُتُوُّهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَالْمُؤْمِنُونَ اعْتَبَرُوا بِتِلْكَ فَسَلَكُوا مَسْلَكَ النَّجَاةِ مِنْ عَوَاقِبِهَا، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِصْرَارُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ سَيُوقِعُهُمْ فِي عَذَابٍ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ ثَمُودُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا هُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ صَالِحٌ رَسُولُهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً [الْأَعْرَاف: 74]

وَقَوْلِهِ: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ [الشُّعَرَاء: 146- 148] وَقَوْلِهِ: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: 61] . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُعْطُوا مَا هُوَ مَتَاعٌ، أَيْ نَفْعٌ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ، فَكَانَتِ الْأَقْوَالُ الَّتِي قَالَهَا رَسُولُهُمْ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَجْمَعُهَا تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُمْ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَامِعَةَ وَلَمْ تُحْكَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ أَخْبَارَ الْأُمَمِ تَأْتِي مُوَزَّعَةً عَلَى قَصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. فَقَوله: تَمَتَّعُوا أَمر مُسْتَعْمَلٌ فِي إِبَاحَةِ الْمَتَاعِ. وَقَدْ جُعِلَ الْمَتَاعُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: 26] قَوْلُهُ: إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْأَنْبِيَاء: 111] . وَالْمرَاد ب حِينٍ زَمَنٌ مُبْهَمٌ، جُعِلَ نِهَايَةً لِمَا مُتِّعُوا بِهِ مِنَ النِّعَمِ فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ، وَذَلِكَ الْأَجَلُ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَجَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الَّذِي تَنْتَهِي إِلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَجَلُ الْأُمَّةِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَقَاؤُهَا. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود: 3] فَكَمَا قَالَه اللَّهُ لِلنَّاسِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ قَالَهُ لِثَمُودَ عَلَى لِسَانِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ بَمُشِيرٍ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] وَنَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّأْيِيسِ مِنَ النَّجَاةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ مُنَاسِبَةٌ لِتَعْقِيبِهِ بِهِ بِالْفَاءِ لِأَن التَّرْتِيب الَّذِي تُفِيدُهُ الْفَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُرَتَّبٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَالْعُتُوُّ: الْكِبْرُ وَالشِّدَّةُ. وَضُمِّنَ «عَتَوْا» مَعْنَى: أَعرضُوا، فعدي ب (عَن) ، أَيْ فَأَعْرَضُوا عَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْذُ الصاعقة إيَّاهُم إصابتها إِيَّاهُمْ إِصَابَةً تُشْبِهُ أَخْذَ الْعَدُّوِ عَدُوَّهُ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي فَأَخَذَتْهُمُ، أَيْ أَخَذْتُهُمْ

[سورة الذاريات (51) : آية 46]

فِي حَالِ نَظَرِهِمْ إِلَى نُزُولِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَوَارِقَهَا الشَّدِيدَةَ عَلِمُوا أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَادَةٍ فَاسْتَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَى السَّحَابِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَذَلِكَ هَوْلٌ عَظِيمٌ زِيَادَةً فِي الْعَذَابِ فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَى النِّقْمَةِ يَزِيدُ صَاحِبَهَا أَلَمًا كَمَا أَنَّ النَّظَرَ إِلَى النِّعْمَةِ يَزِيدُ الْمُنَعَّمَ مَسَرَّةً، قَالَ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: 50] . وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ الصَّعْقَةُ بَدُونِ أَلِفٍ. وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ تَفْرِيعٌ عَلَى وَهُمْ يَنْظُرُونَ، أَيْ فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَدْفَعُوا ذَلِكَ حِينَ رُؤْيَتِهِمْ بَوَادِرَهُ. فَالْقِيَامُ مَجَازٌ لَلدِّفَاعِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، أَيْ لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «غَضِبَ غَضَبًا لَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ» ، أَيْ فَمَا اسْتَطَاعُوا أَيَّ دِفَاعٍ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أَيْ لم ينصرهم نَاصِر حَتَّى يَكُونُوا مُنْتَصِرِينَ لِأَنَّ انْتَصَرَ مُطَاوِعُ نَصَرَ، أَيْ مَا نَصَرَهُمْ أحد فانتصروا. [46] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 46] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَوْمَ بِالنِّصْبِ بِتَقْدِيرِ (اذْكُرْ) ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقَصَصِ قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَلَيْسَ مِنْ عطف الْمُفْردَات. وقرأه أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِالْجَرِّ عَطْفًا على ثَمُودَ [الذاريات: 43] عَلَى تَقْدِيرِ: وَفِي قَوْمِ نُوحٍ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا قَبْلَ أُولَئِكَ فَهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ رَسُولَهُمْ أُهْلِكُوا. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ. وَتَقْدِيرُ كَوْنِهِمْ آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ: مِنْ كَوْنِهِمْ عُوقِبُوا وَأَنَّ عِقَابَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.

[سورة الذاريات (51) : آية 47]

وَأَخَّرَ الْكَلَامَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ لِمَا عُرِضَ مِنْ تَجَاذُبِ الْمُنَاسَبَاتِ فِيمَا أُورِدَ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ لِلْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا بِمَا عَلِمْتَهُ سَابِقًا. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ مُخَالَفَةِ عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ. وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ إِلَى هَذَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى [النَّجْم: 50- 52] . [47] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 47] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) لَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ نُفَاةِ الْبَعْثِ قَائِمَةً عَلَى تَوَهُّمِ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بعد فنائها أعقب تَهْدِيدَهُمْ بِمَا يُقَوِّضُ تَوَهُّمَهُمْ فَوُجِّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا فَلَا تُعَدُّ إِعَادَةُ الْأَشْيَاءِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: 57] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمَلُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 51] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ [الذاريات: 46] إِلَخْ وَجُمْلَةِ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ [الذاريات: 52] الْآيَةَ. وَابْتُدِئَ بِخَلْقِ السَّمَاءِ لِأَنَّ السَّمَاءَ أَعْظَمُ مَخْلُوقٍ يُشَاهِدُهُ النَّاسُ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ خَلْقُ الْأَرْضِ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مُخَالِفِهِ لِاقْتِرَانِ الْمُتَخَالِفِينَ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ. وَعُطِفَ عَلَيْهَا خَلْقُ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ لِلْأَنْظَارِ لَا يُكَلِّفُ النَّظَرُ فِيهَا وَالتَّدَبُّرُ فِي أَحْوَالِهَا مَا يُرْهِقُ الْأَذْهَانَ. وَاسْتُعِيرَ لِخَلْقِ السَّمَاءِ فعل الْبناء لِأَنَّهُ مَنْظَرَ السَّمَاءِ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَنْظَارِ شَبِيهٌ بِالْقُبَّةِ وَنَصْبُ الْقُبَّةِ يُدْعَى بِنَاءً. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَثَرِ الْخَلْقِ الَّذِي عَايَنُوا أَثَرَهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا كَيْفِيَّتَهُ، لِأَن أَثَره ينبىء عَنْ عَظِيمِ كَيْفِيَّتِهِ، وَأَنَّهَا أَعْظَمُ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِي كَيْفِيَّةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ.

[سورة الذاريات (51) : آية 48]

وَالْأَيْدُ: الْقُوَّةُ. وَأَصْلُهُ جَمْعُ يَدٍ، ثُمَّ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ حَتَّى صَارَ اسْمًا لِلْقُوَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ فِي سُورَةِ ص [17] . وَالْمَعْنَى: بَنَيْنَاهَا بِقُدْرَةٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِثْلَهَا. وَتَقْدِيمُ السَّماءَ عَلَى عَامِلِهِ لِلَاهْتِمَامِ بِهِ، ثُمَّ بِسُلُوكِ طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ زَادَهُ تَقْوِيَةً لِيَتَعَلَّقَ الْمَفْعُولُ بِفِعْلِهِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِنَفْسِهِ، وَمَرَّةً بِضَمِيرِهِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ فِي قُوَّةِ تَكَرُّرِ الْجُمْلَةِ. وَزِيدَ تَأْكِيدُهُ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمُوسِعُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْسَعَ، إِذَا كَانَ ذَا وُسْعٍ، أَيْ قُدْرَةٍ. وَتَصَارِيفُهُ جَائِيَّةٌ مِنَ السَّعَةِ، وَهِيَ امْتِدَادُ مِسَاحَةِ الْمَكَانِ ضِدُّ الضِّيقِ، وَاسْتُعِيرَ مَعْنَاهَا لِلْوَفْرَةِ فِي أَشْيَاءَ مِثْلَ الْإِفْرَادِ مِثْلَ عُمُومِهَا فِي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: 156] ، وَوَفْرَةُ الْمَالِ مِثْلَ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطَّلَاق: 7] ، وَقَوْلِهِ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [الْبَقَرَة: 236] ، وَجَاءَ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَاسِعُ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ. وَهُوَ عِنْدَ إِجْرَائِهِ عَلَى الذَّاتِ يُفِيدُ كَمَالَ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ: الْوُجُودِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْحِكْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 115] وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ سَعَةَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْمَخْلُوقَاتِ بعد بلاها. [48] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 48] وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْأَرْضَ عَلَى عَامِلِهِ، وَفِي مَجِيءِ طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ كَالْقَوْلِ فِي وَالسَّماءَ بَنَيْناها [الذاريات: 47] . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ. مِنْ دَقَائِقِ فَخْرِ الدِّينِ: أَنَّ ذِكْرَ الْأُمَمِ الْأَرْبَعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَهُمْ بِمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ وُجُودِهِمْ، وَهُوَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَهِيَ عَنَاصِرُ الْوُجُودِ، فَأَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِالْحِجَارَةِ وَهِيَ مِنْ طِينٍ، وَأَهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ بِالْمَاءِ، وَأَهْلَكَ عَادًا بِالرِّيحِ وَهُوَ هَوَاءٌ، وَأَهْلَكَ ثَمُودًا بِالنَّارِ.

[سورة الذاريات (51) : آية 49]

وَاسْتَغْنَى هُنَا عَنْ إِعَادَة بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] لِدِلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالْفَرْشُ: بَسْطُ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِلْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَفِي فَرَشْناها اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ تَكْوِينَ اللَّهِ الْأَرْضَ عَلَى حَالَةِ الْبَسْطِ بِفَرْشِ الْبِسَاطِ وَنَحْوِهِ. وَفِي هَذَا الْفَرْشِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ إِذْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَبْسُوطَةً لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى سَطْحِهَا أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيَتَوَسَّدُهَا وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَتَ مُحْدَوْدِبَةً تُؤْلِمُ الْمَاشِيَ بَلْهَ الْمُتَوَسِّدُ وَالْمُضْطَجِعُ. وَلَمَّا كَانَ فِي فَرْشِهَا إِرَادَةً جَعَلَهَا مَهْدًا لِمَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْإِنْسَانِ أَتْبَعَ فَرَشْناها بِتَفْرِيعِ ثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى إِجَادَةِ تَمْهِيدِهَا تَذْكِيرًا بِعَظَمَتْهِ وَنِعْمَتِهِ، أَيْ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ نَحْنُ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: الْماهِدُونَ لِلتَّعْظِيمِ مِثْلِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي [ ... ] (¬1) ، وَرُوعِيَ فِي وَصْفِ خَلْقِ الْأَرْضِ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ سَطْحِهَا لِأَنَّهُ الَّذِي يَهُمُّ النَّاسَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي الامتنان عَلَيْهِم بِمَا فِيهِ لُطْفِهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، دُونَ تَعَرُّضٍ إِلَى تَكْوِيرِهَا إِذْ لَا يَبْلُغُونَ إِلَى إِدْرَاكِهِ، كَمَا رُوعِيَ فِي ذِكْرِ السَّمَاءِ مَا يَبْدُو مِنْ قُبَّةِ أَجْوَائِهَا دُونَ بَحْثٍ عَنْ تَرَامِي أَطْرَافِهَا وَتَعَدُّدِ عَوَالِمِهَا لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ الِاعْتِرَاضَ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَلْقِينُ النَّاسِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا صَنَعَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ مِنَّةٍ لِيَشْكُرُوهُ بِذَلِكَ الثَّنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] . [49] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 49] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) لَمَّا أَشْعَرَ قَوْلُهُ: فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذاريات: 48] بِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِعْمَةً عَلَى الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِصِفَةِ خَلْقِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بالخلق المستلزم لِتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وَالزَّوْجُ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ: النَّوْعُ مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ. وَتَثْنِيَةُ زَوْجٍ هُنَا لِأَنَّهُ أُرِيدُ بِهِ مَا يُزَوَّجُ مِنْ ذِكْرٍ وَأُنْثَى. ¬

(¬1) كلمة غير وَاضِحَة فِي المطبوعة.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 50 إلى 51]

وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ بِخَلْقٍ يُشَاهِدُونَ كَيْفِيَّاتِهِ وَأَطْوَارَهُ كُلَّمَا لَفَتُوا أَبْصَارَهُمْ، وَقَدَحُوا أَفْكَارَهُمْ، وَهُوَ خَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِيَكُونَ مِنْهُمَا إِنْشَاءُ خَلْقٍ جَدِيدٍ يَخْلُفُ مَا سَلَفَهُ وَذَلِكَ أَقْرَبُ تَمْثِيلٍ لِإِنْشَاءِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الْبَعْثُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُقَرَّبُ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ أَحْوَالِ أَمْثَالِهَا. وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أَيْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَتَتَفَكَّرُونَ فِي مَرَاتِبِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَخْتَلِطَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِبْعَادُ وَقِلَّةُ الِاعْتِيَادِ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَتَوَهَّمُوا الْغَرِيبَ مُحَالًا. فَالتَّذَكُّرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِعَادَة التفكر فِي الْأَشْيَاء وَمُرَاجَعَةِ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا أَحَالُوهُ لِيَعْلَمُوا بَعْدَ إِعَادَةِ النَّظَرِ أَنَّ مَا أَحَالُوهُ مُمْكِنٌ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْلَفُوهُ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْغَرِيبُ بِالْمُحَالِ فَأَحَالُوهُ فَلَمَّا كَانَ تَجْدِيدُ التَّفَكُّرِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ شَبِيهًا بِتَذَكُّرِ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 60- 62] فَقَدْ ذُيِّلَ هُنَالِكَ بِالْحَثِّ عَلَى التَّذَكُّرِ، كَمَا ذُيِّلَ هُنَا بِرَجَاءِ التَّذَكُّرِ، فَأَفَادَ أَنَّ خَلْقَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ هُوَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَأَنَّهَا الدَّالَّةُ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّوْجَيْنِ تَذَكُّرٌ لَكُمْ، أَيْ دَلَالَةٌ مَغْفُولٌ عَنْهَا. وَالْقَوْلُ فِي صُدُورِ الرَّجَاءِ مِنَ اللَّهِ مُبِينٌ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [52] . [50، 51] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 50 إِلَى 51] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ ضَلَالَ هَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ بَيَانًا بِالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ، وَمَثَّلَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ سَلَفُوهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالرُّسُلِ وَمَا جَاءُوا بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ لِلضَّالِّينَ وَتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ فِيمَا مَضَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ

دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَفَرِّدٌ بِخَلْقِ الْعَالِمِ وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى أَقْبَلَ عَلَى تَلْقِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَسْتَخْلِصُهُ لَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فَالْجُمْلَةُ الْمُفَرَّعَةُ بِالْفَاءِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرِ: فَقُلْ فِرُّوا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ قَائِلٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ مُبَلِّغٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرُ الْوُرُودِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِهِ، فَالْفَاءُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُفَادُهَا التَّفْرِيعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلَيْسَتْ مُفَرَّعَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ الْمُفَرَّعَ بِالْفَاءِ هُوَ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا. وَقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْمَوْعِظَةِ إِلَى تَوْجِيه الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ لِأَنَّ لِتَعَدُّدِ الْوَاعِظِينَ تَأْثِيرًا عَلَى نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمَوْعِظَةِ. وَالْأَنْسَبُ بِالسِّيَاقِ أَنَّ الْفِرَارَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْلَاعِ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَجُحُودُ الْبَعْثِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ تَوَرُّطِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ بِحَالِ مَنْ هُوَ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ يَدْعُو حَالُهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُجِيرُهُ، وَتَشْبِيهُ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ نَذِيرِ قَوْمٍ بِأَنَّ دِيَارَهُمْ عُرْضَةٌ لِغَزْوِ الْعَدُوِّ فَاسْتُعْمِلَ المركّب وَهُوَ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا التَّمْثِيل. فالمواجه ب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ فَرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ الشِّرْكِ. وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ، أَيْ سُرْعَةُ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ تَجَنُّبًا لِأَذًى يَلْحَقُهُ فِيهِ فيعدي ب (من) الِابْتِدَائِيَّةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ الْأَذَى يُقَالُ: فَرَّ مِنْ بَلَدِ الْوَبَاءِ وَمِنَ الْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُؤْذِي، يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ. وَجُمْلَةُ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَعْلِيل لِلْأَمْرِ ب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَايَةَ مِنَ الْإِنْذَارِ قَصْدُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ فَصَارَ الْإِنْذَارُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْفِرَارِ إِلَى اللَّهِ، أَيِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ.

[سورة الذاريات (51) : آية 52]

وَقَوْلُهُ: مِنْهُ صفة ل نَذِيرٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ فَصَارَتْ حَالًا. وَحَرْفُ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ مَأْمُورٌ لَهُ بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ. وَعَطْفُ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عَلَى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ نَهْيٌ عَنْ نِسْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ بِنَفْيِ الضِّدِّ لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] . وَمِنْ لَطَائِفِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ جَمَعَ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِم والمرسل. [52] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 52] كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) كَلِمَةُ كَذلِكَ فَصْلُ خِطَابٍ تدل على انْتِهَاء حَدِيثٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ، أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى حَدِيثٍ قَبْلَهُ أَتَى عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ. وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يُورَدُ بَعْدَهُ حَدِيثٌ آخَرُ وَالسَّامِعُ يَرُدُّ كُلًّا إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُتَّصِلًا بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ. أُعْقِبَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حلّ بالأمم المكذبين لرسل اللَّهِ مِنْ قَبْلِهِمْ بِتَنْظِيرِهِمْ بِهِمْ فِي مَقَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُرُودُ كَذلِكَ فَصْلًا لِلْخِطَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [91] ، فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ فَصْلٌ وَجُمْلَةُ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَخ مبدأ اسْتِئْنَافٍ عَوْدًا إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْركين فِي قَوْلهم الْمُخْتَلِفِ بِأَنْوَاعِ التَّكْذِيبِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: 8] الْآيَةَ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِمُ الْمُخْتَلِفِ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ فِي مَحَلِّ حَالٍ وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ كَحَالِ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مِمَّنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ أَنْ يَصِفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ فَكَذَلِكَ سَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ عَنْ قَوْلِكَ: «فِرُّوا إِلَى اللَّهِ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ» بِمِثْلِ جَوَابِ مَنْ قَبْلَهُمْ فَلَا مَطْمَعَ فِي ارْعِوَائِهِمْ عَنْ عِنَادِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْأُمَمُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَضَمِيرُ قَبْلِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ. وَزِيَادَةُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَسُولٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ قَالَ فِيهِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِهِ: هُوَ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَجْنُونٌ، مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ دُونَ السِّحْرِ إِذْ لَمْ يَكُنِ السِّحْرُ مَعْرُوفًا فِي زَمَانِهِمْ قَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 25] . وَقَدْ يَجْمَعُونَ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي مُوسَى. وَهَذَا الْعُمُومُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ قَوْمٌ مِنَ الْأَقْوَامِ الْمَذْكُورِينَ إِلَّا قَالُوا لِرَسُولِهِمْ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِلَفْظِهِ أَوْ بِمُرَادِفِهِ كَقَوْلِ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] . وَأَوَّلُ الرُّسُلِ هُوَ نُوحٌ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الشَّفَاعَةِ. فَلَا يُرَدُّ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُكَذِّبْهُ أَهْلُهُ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ وَأَشْعِيَا، لَمْ يُكَذِّبْهُمْ قَوْمُهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: مِنْ رَسُولٍ، وَالرَّسُولُ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيءِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالْمَعْنَى: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ قَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.

[سورة الذاريات (51) : آية 53]

وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ لِلْأُمَمِ أَقْوَالًا غَيْرَ ذَلِكَ وَأَحْوَالًا أُخْرَى، وَإِنَّمَا قَصَرُوا عَلَى هَذَا اهْتِمَامًا بِذِكْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِنَ الْبُهْتَانِ، إِذْ يَرْمُونَ أَعْقَلَ النَّاسِ بِالْجُنُونِ وَأَقْوَمَهُمْ بِالسِّحْرِ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ إِسْنَادٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ فَإِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الْأَقْوَامِ وَالْقَبَائِلِ تَجْرِي عَلَى اعْتِبَار الْغَالِب. [53] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 53] أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَنْ يَقُولُوهُ. فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ التَّعْجِيبُ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ تَمَاثُلَ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ فِي مَقَالَةِ التَّكْذِيبِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مَنْشَأِ هَذَا التَّشَابُهِ. وَضَمِيرُ تَواصَوْا عَائِدٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْمَوْصُولِ وَمِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ قَبْلِهِمْ، أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى بَلَغَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْقَوْمِ الْحَاضِرِينَ. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] ، أَيْ أَتَوَاصَوْا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَفِعْلُ الْوَصِيَّةِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: 3] . وبَلْ إِضْرَابٌ عَنْ مُفَادِ الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوْ عَنِ التَّوَاصِي بِهِ، بِبَيَانِ سَبَبِ التَّوَاطُؤِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَ السَّبَبُ بَطَلَ الْعَجَبُ. أَيْ مَا هُوَ بِتَوَاصٍ وَلَكِنَّهُ تَمَاثَلٌ فِي مَنْشَأِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَيْ سَبَبُ تَمَاثُلِ الْمَقَالَةِ تَمَاثُلُ التَّفْكِيرِ

[سورة الذاريات (51) : الآيات 54 إلى 55]

وَالدَّوَاعِي لِلْمَقَالَةِ، إِذْ جَمِيعُهُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، وَأَنَّ طُغْيَانَهُمْ وَكِبْرِيَاءَهُمْ يَصُدُّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولٍ يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَإِذْ لَا يَجِدُونَ وَصْمَةً يَصِمُونَهُ بِهَا اخْتَلَقُوا لِتَنْقِيصِهِ عِلَلًا لَا تدخل تَحت الضَّبْط وَهِيَ ادِّعَاءُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ أَنَّهُ سَاحِرٌ، فَاسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ بِعِلَّةِ اسْتِوَائِهِمْ فِي أَسبَابه ومعاذيره. فَضَمِيرُ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَتَواصَوْا. وَفِي إِقْحَامِ كَلِمَةِ قَوْمٌ إِيذَانٌ بِأَنَّ الطُّغْيَانَ رَاسِخٌ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [164] . [54، 55] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 54 إِلَى 55] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 52، 53] لَمُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ أَنْ تُقْنِعَهُمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الْإِلْحَاحِ فِي جِدَالِهِمْ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَيَغْتَمُّ مِنْ أَجْلِ عِنَادِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَكَانَ اللَّهُ يُعَاوِدُ تَسْلِيَتَهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ كَمَا قَالَ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: 6] وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النَّحْل: 127] ، فَالتَّوَلِّي مُرَادٌ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بَعْدَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِدَعْوَتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [174- 175] . وَفَرَّعَ عَلَى أَمْرِهِ بِالتَّوَلِّي عَنْهُمْ إِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَصِيغَ الْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ دُونَ: لَا نَلُومُكَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْيِ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ فَقَالَ: فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا

[سورة الذاريات (51) : الآيات 56 إلى 57]

مَلَامَ عَلَيْكَ، أَوْ نَحوه للاهتمام بالتنويه بِشَأْنِ الْمُخَاطَبِ وَتَعْظِيمِهِ. وَزِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا. وَعَطْفُ وَذَكِّرْ عَلَى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ احْتِرَاسٌ كَيْ لَا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ الْإِعْرَاضَ إِبْطَالٌ لِلتَّذْكِيرِ بَلِ التَّذْكِيرُ بَاقٍ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَ النَّاسَ بَعْدَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَآمَنَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ، وَلِيَكُونَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى التَّذْكِيرِ زِيَادَةً فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُعْرِضِينَ، وَلِئَلَّا يَزْدَادُوا طُغْيَانًا فَيَقُولُوا: هَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ أَفْحَمْنَاهُ فَكَفَّ عَمَّا يَقُولُهُ. وَالْأَمْرُ فِي وَذَكِّرْ مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى التَّذْكِيرِ وَتَجْدِيدُهُ. وَاقْتُصِرَ فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ انْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ مُحَقَّقَةٌ، وَلِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَقَامِ الَّذِي أُظْهِرَتْ فِيهِ قِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِالْكَافِرِينَ قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [الْأَعْلَى: 9- 11] . وَلِذَلِكَ فَوَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ يُرَادُ بِهِ الْمُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ شَأْنُ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأَمَّا مَنْ سَيُؤْمِنُ فَعِلَّتُهُ مَطْوِيَّةٌ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَالنَّفْعُ الْحَاصِلُ مِنَ الذِّكْرَى هُوَ رُسُوخُ الْعِلْمِ بِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ لِمَا سَمِعُوهُ وَاسْتِفَادَةُ عِلْمٍ جَدِيدٍ فِيمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ أَوْ غَفَلُوا عَنْهُ، وَلِظُهُورِ حُجَّةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا وَيَتَكَرَّرُ عَجْزُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَوَفْرَةِ الْكَلَام المعجز. [56- 57] [سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 56 إِلَى 57] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ [الذاريات: 52] الْآيَةَ الَّتِي هِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِلَى وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الذاريات: 50، 51]

عَطَفَ الْغَرَضَ عَلَى الْغَرَضِ لِوُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ. فَبَعْدَ أَنْ نَظَّرَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي صَمَّمَتْ عَلَى التَّكْذِيبِ مِنْ قَبْلِهِمْ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ شَنِيعِ حَالِهِمْ مِنَ الِانْحِرَافِ عَمَّا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ وَغُرِزَ فِيهِمْ. فَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ انْحَرَفُوا عَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا فَخَالَفُوا سُنَّتَهَا اتِّبَاعًا لِتَضْلِيلِ الْمُضِلِّينَ. وَالْجِنُّ: جِنْسٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مُسْتَتِرٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ جِنْسٌ شَامِلٌ لِلشَّيَاطِينِ قَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: 50] . وَالْإِنْسُ: اسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ إِنْسِيٌّ بِيَاءِ النِّسْبَة إِلَى اسْم جَمْعِهِ. وَالْمَقْصُود من هَذَا الْإِخْبَارِ هُوَ الْإِنْسُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْجِنُّ إِدْمَاجًا وَسَتَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ عِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ عَامَّةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. وَاللَّامُ فِي لِيَعْبُدُونِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَا خَلَقْتُهُمْ لِعِلَّةٍ إِلَّا عِلَّةَ عِبَادَتِهِمْ إِيَّايَ. وَالتَّقْدِيرُ: لِإِرَادِتِي أَنْ يَعْبُدُونِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ فِي جُمْلَةِ الْبَيَانِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُلَاحَظُ فِي كُلِّ لَامٍ تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ تَعْلِيلًا لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مَا أَرْضَى لِوُجُودِهِمْ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا لِي بِالتَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَمَعْنَى الْإِرَادَة هُنَا: الرضى وَالْمَحَبَّةُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا الصِّفَةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ، الَّتِي اشتق مِنْهَا اسْمُهُ تَعَالَى: «الْمُرِيدُ» لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِرَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إِطْلَاقٌ آخَرُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا تَعْلِيلَ تَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ النَّاشِئَةِ عَنِ اكْتِسَابِهِمْ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأَشَاعِرَةِ، أَوْ عَنْ قُدْرَتِهِمْ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى تَقَارُبِ مَا بَيْنَ الِاصْطِلَاحَيْنِ لِظُهُورِ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ قَدْ تَكُونُ مُنَاقِضَةً لِإِرَادَةِ اللَّهِ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ الصِّفَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النَّاسَ

عَلَى تَرْكِيبٍ يَقْتَضِي النَّظَرَ فِي وُجُودِ الْإِلَهِ وَيَسُوقُ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَلَكِنَّ كَسْبَ النَّاسِ يُجَرِّفُ أَعْمَالَهُمْ عَنِ الْمَهْيَعِ الَّذِي خُلِقُوا لِأَجْلِهِ، وَأَسْبَابُ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِانْحِرَافِ كَثِيرَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى تَشَابُكِ الدَّوَاعِي وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْآلَاتِ وَالْمَوَانِعِ. وَهَذَا يُغْنِي عَنِ احْتِمَالَاتٍ فِي تَأْوِيلِ التَّعْلِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ مِنْ جَعْلِ عُمُومِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَخْصُوصًا بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، أَوْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ فِي الْكَلَامِ، أَيْ إِلَّا لِآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي، أَوْ حَمْلِ الْعِبَادَةِ بِمَعْنَى التَّذَلُّلِ وَالتَّضَرُّعِ الَّذِي لَا يَخْلُو مِنْهُ الْجَمِيعُ فِي أَحْوَالِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّذَلُّلِ وَالتَّضَرُّعِ كَالْمَرَضِ وَالْقَحْطِ وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَرُدُّ عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْإِنْسِ غَيْرُ عَابِدٍ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ غَيْرُ عَابِدِينَ. وَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةً وَجعل فِيهَا نظما وَنَوَامِيسَ فَانْدَفَعَ كُلُّ مَخْلُوقٍ يَعْمَلُ بِمَا تَدْفَعُهُ إِلَيْهِ نَوَامِيسُ جِبِلَّتِهِ، فَقَدْ تَعُودُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ بِنَقْض مَا هيّء هُوَ لَهُ وَيَعُودُ بَعْضُهَا عَلَى غَيْرِهِ بِنَقْضِ مَا يَسْعَى إِلَيْهِ، فَتَشَابَكَتْ أَحْوَالُ الْمَخْلُوقَاتِ وَنَوَامِيسُهَا، فَرُبَّمَا تَعَاضَدَتْ وَتَظَاهَرَتْ وَرُبَّمَا تَنَاقَضَتْ وَتَنَافَرَتْ فَحَدَثَتْ مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا تُحْصَى وَلَا يُحَاطُ بِهَا وَلَا بِطَرَائِقِهَا وَلَا بِعَوَاقِبِهَا، فَكَثِيرًا مَا تُسْفِرُ عَنْ خِلَافِ مَا أُعِدَّ لَهُ الْمَخْلُوقُ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَلِذَلِكَ حَاطَهَا اللَّهُ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ فَحَصَلَ تَنَاقُضٌ بَيْنَ الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ وَالْأَمْرِ التَّشْرِيعِيِّ. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُصْطَلَحَاتِ الشَّرْعِيَّةِ دَقِيقُ الدّلَالَة، وكلمات أَئِمَّة اللُّغَةِ فِيهِ خَفِيَّهٌ وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْهَا أَنَّهَا إِظْهَارُ الْخُضُوعِ لِلْمَعْبُودِ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْعَ الْعَابِدِ وَضُرَّهُ مِلْكًا ذَاتِيًّا مُسْتَمِرًّا، فَالْمَعْبُودُ إِلَهٌ لِلْعَابِدِ كَمَا حَكَى اللَّهُ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 47] . فَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قَصْرُ عِلَّةِ خَلْقِ اللَّهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَلَى إِرَادَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، وَأَنَّهُ قَصْرُ قَلْبٍ بِاعْتِبَار مفعول لِيَعْبُدُونِ، أَيْ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي وَحْدِي، أَيْ لَا لِيُشْرِكُوا غَيْرِي فِي الْعِبَادَةِ، فَهُوَ رَدٌّ لِلْإِشْرَاكِ، وَلَيْسَ هُوَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّا وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَقَادِيرِ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى

مِنْ خَلْقِ الْخَلَائِقِ، لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِهِمْ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَنْ يَعْبُدُوهُ، لِأَنَّ حِكَمَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَفْعَالِهِ كَثِيرَةٌ لَا نُحِيطُ بِهَا، وَذِكْرُ بَعْضِهَا كَمَا هُنَا لما يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِ حِكْمَةٍ أُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ حِكَمًا لَلْخَلْقِ غَيْرَ هَذِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] بَلْهَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ بَعْضِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَقَوْلِهِ فِي خَلْقِ عِيسَى وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مَرْيَم: 21] . ثُمَّ إِنَّ اعْتِرَافَ الْخَلْقِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ يَقْشَعُ تَكْذِيبَهُمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ مَا كَذَّبُوهُ إِلَّا لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدًا نَبْذُهُ، فَإِذَا انْقَشَعَ تَكْذِيبُهُمُ اسْتَتْبَعَ انْقِشَاعَهُ امْتِثَالُ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أَطَاعُوا مَا بَلَّغَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَهَذَا مَعْنًى تَقْتَضِيهِ عِبَادَةُ اللَّهِ بِدِلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا سُمِّيَ بِالْعِبَادَةِ بِالْإِطْلَاقِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَلَيْسَ يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ وَفِي بَعْضِ الْعُصُورِ وَتَتَخَلَّفُ فِي عُصُورِ الْفَتَرَاتِ بَيْنَ الرُّسُلِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَحْسَبُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْعِبَادَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْآنُ لَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ كَثِيرًا وَأَصْبَحَ مُتَعَارَفًا بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ عَهِدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَأَنَّ تَكَالِيفَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا صَلَاحَهُمُ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ وَحُصُولَ الْكَمَال النفساني بذلك الصَّلَاحِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنَ الشَّرَائِعِ كَمَالَ الْإِنْسَانِ وَضَبْطَ نِظَامِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي مُخْتَلِفِ عُصُورِهِ. وَتِلْكَ حِكْمَةُ إِنْشَائِهِ، فَاسْتَتْبَعَ قَوْلَهُ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَنَّهُ مَا خَلَقَهُمْ إِلَّا لِيَنْتَظِمَ أَمْرُهُمْ بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ التَّكَالِيفِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَعِبَادَةُ الْإِنْسَانِ رَبَّهُ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُحَقِّقَةً لِلْمَقْصِدِ مِنْ خَلْقِهِ وَعِلَّةً لِحُصُولِهِ عَادَةً. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ بِمَعْنَى: إِلَّا لِآمُرَهُمْ وَأَنْهَاهُمْ. وَتَبِعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِهِ عُنْوَانِ التَّعْرِيفِ «الْمُوَافَقَاتِ» وَفِي مَحْمِلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ نَظَرٌ قَدْ عَلِمْتَهُ فَحَقِّقْهُ.

وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْجِنَّ هُنَا إِلَّا لِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْجِنِّ فِي سُورَة الْجِنّ قَول قَائِلُهُمْ: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً [الْجِنّ: 4] . وَتَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْغَرِيبِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْجِنّ عباد لله تَعَالَى، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] . وَجُمْلَةُ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ بِإِبْطَالِ بَعْضِ الْعِلَلِ وَالْغَايَاتِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الصَّانِعُونَ شَيْئًا يَصْنَعُونَهُ أَو يتخذونه، فَإِن الْمَعْرُوفُ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ يَتَّخِذُ شَيْئًا إِنَّمَا يَتَّخِذهُ لنفع نَفسه، وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ لِإِفَادَةِ الْجَانِبِ الْمَقْصُورِ دُونَهُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَصْرِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الضِّدِّ. وَلَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الضِّدِّ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. فَقَوْلُهُ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ أَشَدَّ الْحَاجَاتِ فِي الْعُرْفِ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسَّكَنِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالرِّزْقِ وَهُوَ الْمَالُ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، أَيْ إِعْطَاءُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ، وَقَدْ لَا يَجِدُهُ صَاحِبُ الْمَالِ إِذَا قَحَطَ النَّاسُ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُسْلِفُهُ الطَّعَامَ أَوْ يُطْعِمُهُ إِيَّاهُ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ يُهْدُونَ إِلَى الْأَصْنَامِ الْأَمْوَالَ وَالطَّعَام تتلقاه مِنْهُم سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ. وَالرِّزْقُ هُنَا: الْمَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت: 17] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْد: 26] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: 7] ، وَيُطْلَقُ الرِّزْقُ عَلَى الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: 62] وَيَمْنَعُ مِنْ إِرَادَتِهِ هُنَا عَطْفُ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ.

[سورة الذاريات (51) : آية 58]

[سُورَة الذاريات (51) : آيَة 58] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) تَعْلِيلٌ لِجُمْلَتَيْ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] والرزق هُنَا بِمَعْنَى مَا يَعُمُّ الْمَالَ وَالْإِطْعَامَ. وَالرَّزَّاقُ: الْكَثِيرُ الْإِرْزَاقِ، وَالْقُوَّةُ: الْقُدْرَةُ. وَذُو الْقُوَّةِ: صَاحِبُ الْقُدْرَةِ. وَمِنْ خَصَائِصِ (ذُو) أَنْ تُضَافَ إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقُوَّةَ هُنَا قُوَّةٌ خَلِيَّةٌ مِنَ النَّقَائِصِ. وَالْمَتِينُ: الشَّدِيدُ، وَهُوَ هُنَا وَصْفٌ لِذِي الْقُوَّةِ، أَيْ الشَّدِيدُ الْقُوَّةِ، وَقَدْ عُدَّ الْمَتِينُ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعَانِي الْقُدْرَةِ. وَفِي «مَعَارِجِ النُّورِ» شَرْحُ الْأَسْمَاءِ «الْمَتِينُ: كَمَالٌ فِي قُوَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يُعَارَضُ وَلَا يُدَانَى» . فَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْمُسْتَغْنِي غِنًى مُطْلَقًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ فَلَا يَكُونُ خَلْقُهُ الْخَلْقَ لِتَحْصِيلِ نَفْعٍ لَهُ وَلَكِنْ لِعِمْرَانِ الْكَوْنِ وَإِجْرَاءِ نِظَامِ الْعُمْرَانِ بِاتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَجْمَعُهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ إِخْرَاجٌ لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ: إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِالدِّلَالَةِ لِأَنَّهَا سُيِّرَتْ مَسِيرَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ وَالْأَمْثَالِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلّم من لِيَعْبُدُونِ ويُطْعِمُونِ لِلتَّخْفِيفِ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ طَرِيقُ قَصْرٍ لِوُجُودِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، أَيْ: لَا رَزَّاقَ، وَلَا ذَا قُوَّةٍ، وَلَا مَتِينَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا. فَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ بِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ أَصْنَامَهُمْ بِاللَّهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي صِفَاتِهِ الَّتِي مِنْهَا: الْإِرْزَاقُ، وَالْقُوَّةُ، وَالشِّدَّةُ،

[سورة الذاريات (51) : آية 59]

فَأُبْطِلَ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْرِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت: 17] ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الْحَج: 73] . [59] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 59] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ سِيَاقِهِ إِبْطَالُ عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، أَيْ فَإِذَا لَمْ يُفْرِدْنِي الْمُشْرِكُونَ بِالْعِبَادَةِ فَإِنَّ لَهُمْ ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ، وَهُوَ يُلْمِحُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ مَا عُوقِبَتْ بِهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ مِنْ قَوْلِهِ: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الذاريات: 32- 46] . وَالْمَعْنَى: فَإِذَا مَاثَلَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبًا عَظِيمًا مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ نَصِيبِ أُولَئِكَ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا: الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنَ الْعَرَبِ، وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَالذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذَّالِ: الدَّلْو الْعَظِيمَة يَسْتَقِي بِهَا السُّقَاةُ عَلَى الْقَلِيبِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا «ثُمَّ أَخَذَهَا أَبُو بكر فَفَزعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ» وَلَا تُسَمَّى ذَنُوبًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَلْأَى. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةٍ تُسَاوِي حَظَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْعَرَبِ بِحُظُوظِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِهَيْئَةِ الَّذِينَ يَسْتَقُونَ مِنْ قَلِيبٍ وَاحِدٍ إِذْ يَتَسَاوُونَ فِي أَنْصِبَائِهِمْ مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَأَطْلَقَ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ اسْمَ وَصْفِ أَصْحَابِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِاعْتِبَارِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا إِذْ هِيَ هَيْئَةُ جَمَاعَاتِ الْوِرْدِ يَكُونُونَ مُتَصَاحِبِينَ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابل للتوزيع بِأَنَّهُ يُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ بِجَمَاعَةٍ وَرَدَتْ عَلَى الْمَاءِ،

[سورة الذاريات (51) : آية 60]

وَتُشَبَّهُ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِجَمَاعَةٍ سَبَقَتْهُمْ لِلْمَاءِ، وَيُشَبَّهُ نَصِيبُ كُلِّ جَمَاعَةٍ بِالدَّلْوِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنَ الْمَاءِ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ يَمْدَحُ الْمَلِكَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ، وَيَشْفَعُ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ شَأْسِ بْنِ عَبْدَةَ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ يَوْمَ عَيْنِ أَبَاغٍ: وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمَلِكُ قَالَ: «نَعَمْ وَأَذْنِبَةٌ» وَأَطْلَقَ لَهُ أَخَاهُ شَأْسَ بْنَ عَبْدَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَسْرَى تَمِيمٍ، وَهَذَا تَسْلِيَة لنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ: أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَهُوَ تَعْرِيضٌ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أكد الْخَبَر ب (إنّ) لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْوَعِيدِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ على التَّأْكِيد قَالَ: فَلا يَسْتَعْجِلُونِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعْدٌ مَكْذُوبٌ فِي الْوَاقِعِ يَسْتَعْجِلُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَعِيدِهِ. وَعُدِّيَ الِاسْتِعْجَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَهُمْ إِنَّمَا اسْتَعْجَلُوهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِظْهَارِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا بِالْوَعِيدِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمُ لِلتَّخْفِيفِ. وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ إِظْهَارًا لِغَضَبِ الله عَلَيْهِم. [60] [سُورَة الذاريات (51) : آيَة 60] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) فُرِّعَ عَلَى وَعِيدِهِمْ إِنْذَارٌ آخَرُ بِالْوَيْلِ، أَوْ إِنْشَاءُ زَجْرٍ. وَالْوَيْلُ: الشَّرُّ وَسُوءُ الْحَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ. وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ وَيْلٍ، أَيْ عَذَابٌ وَسُوءُ حَالٍ لَهُمْ يَوْمَ أُوعِدُوا بِهِ، وَيَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الزَّجْرِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ فِي يَوْمٍ أُوعِدُوهُ. وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ سُوءُ حَالٍ بِتَرَقُّبِهِمْ عَذَابًا آتِيًا مِنَ الْيَوْم الَّذِي أعدوه.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْكِيدِ الِاسْمِ السَّابِقِ تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ، مَعَ مَا فِي صِفَةِ الْكُفْرِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ خَالِقِهِمْ. وَالْيَوْمَ الَّذِي أُوعِدُوهُ هُوَ زَمَنُ حُلُولِ الْعَذَابِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيُحْتَمَلُ حُلُولُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُغَايِرٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِمْ، أَيْ هُوَ مُعَيَّنٌ لِجَزَائِهِمْ كَمَا أُضِيفَ يَوْمٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 103] . وَالْيَوْمُ: يَصْدُقُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَصْدُقُ بِيَوْمِ بَدْرٍ الَّذِي اسْتَأْصَلَ اللَّهُ فِيهِ شَوْكَتَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْكُفَّارِ الْمُعَيَّنِينَ وَهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمًا خَاصًّا بِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُفَّارِ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [103] : وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ لِأَنَّ ضمير الْخطاب فِيهَا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الْأَنْبِيَاء: 101] كُلِّهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مِنَ اللَّطَائِفِ تَمْثِيلُ مَا سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذَّنُوبِ، وَالذَّنُوبُ يُنَاسِبُ الْقَلِيبَ وَقَدْ كَانَ مَثْوَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَلِيبَ بَدْرٍ الَّذِي رُمِيَتْ فِيهِ أَشْلَاءُ سَادَتِهِمْ وَهُوَ الْيَوْمُ الْقَائِلُ فِيهِ شَدَّاد بن الْأسود اللَّيْثِيُّ الْمُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ يَرْثِي قَتْلَاهُمْ: وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمَّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلَامِ وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا يَشْمَلُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الْأَعْرَاف: 44] .

وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذاريات: 5] رَدُّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ وَذَلِكَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ.

52- سورة الطور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 52- سُورَةُ الطُّورِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ السَّلَفِ «سُورَةَ الطُّورِ» دُونَ وَاوٍ قَبْلَ الطُّورِ. فَفِي جَامِعِ الطَّوَافِ مِنَ «الْمُوَطَّإِ» حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «فَطُفْتُ وَرَسُول الله يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِ: الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ» ، أَيْ يَقْرَأُ بِسُورَةِ الطُّورِ وَلَمْ تُرِدْ يَقْرَأُ بِالْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ فِيهَا وَالطُّورِ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَمْ تَذْكُرِ الْوَاوَ. وَفِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ مِنَ «الْمُوَطَّإِ» حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ جُبَيْرِ بن مطعم قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ» . وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيءَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطّور: 35- 37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ» . وَكَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ مُشْرِكًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ وَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ. وَكَذَلِكَ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَفِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا، وَكَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ. وَهَذَا عَلَى التَّسْمِيَةِ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ سُورَةُ ذِكْرِ الطُّورِ كَمَا يُقَالُ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةُ الْهُدْهُدِ، وَسُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي تَرْجَمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَفْسِيرِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «سُورَةُ وَالطُّورِ» بِالْوَاوِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا، كَمَا يُقَالُ: «سُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ جَمِيعُهَا بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ السُّورَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ نُوحٍ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ.

أغراض هذه السورة

وَعَدَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ آيَهَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَة التهديد بتحقيق وُقُوع الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنِ ذَلِكَ فَقَالُوا: هُوَ سِحْرٌ. وَمُقَابَلَةُ وَعِيدِهِمْ بِوَعْدِ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ وَصِفَةِ نَعِيمِهِمْ وَوَصْفِ تَذَكُّرِهِمْ خَشْيَةً، وَثَنَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ فَانْتَقَلَ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْطَالِ أَقْوَالِهِمْ فِيهِ وَانْتِظَارِهِمْ مَوْتَهُ. وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ. وَإِبْطَالِ خَلِيطٍ مِنْ تَكَاذِيبِهِمْ بِإِعَادَةِ الْخلق وببعثه رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَبِكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ بَنَاتِ اللَّهِ. وَإِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَذِكْرِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْوَعِيدِ. وَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِهِمْ وَأَنْ لَا يَحْزَنَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَعِيدَ حَالٌّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، وَوَعَدَهُ بِالتَّأْيِيدِ، وَأُمِرَ بِشُكْرِ رَبِّهِ فِي جَمِيع الْأَوْقَات. [1- 8] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 1 إِلَى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) الْقَسَمُ لِلتَّأْكِيدِ وَتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ. وَمُنَاسَبَةِ الْأُمُورِ الْمُقْسَمِ بِهَا لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمُقْسَمَ بهَا من شؤون بِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَكَانَ هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَمِنْ مَعَهُ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

والطُّورِ: الْجَبَلُ بِاللُّغَةِ السِّرْيَانِيَّةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَأُدْخِلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَغُلِّبَ عَلَمًا على طور سينا الَّذِي نَاجَى فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْأَلْوَاحُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أُصُولِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ. فَالْقَسَمُ بِهِ بِاعْتِبَارِ شَرَفِهِ بِنُزُولِ كَلَامِ اللَّهِ فِيهِ وَنُزُولِ الْأَلْوَاحِ عَلَى مُوسَى وَفِي ذِكْرِ الطُّورِ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ الْأَلْوَاحِ لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ الْجَبَلِ فَسُمِّيَتْ طُورٌ الْمُعَرَّبُ بِتَوْرَاةٍ. وَأَمَّا الْجَبَلُ الَّذِي خُوطِبَ فِيهِ مُوسَى مِنْ جَانِبِ اللَّهِ فَهُوَ جَبَلُ حُورِيبَ وَاسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ (الزُّبَيْرُ) وَلَعَلَّهُ بِجَانِبِ الطُّورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [29] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [63] . وَالْقَسَمُ بِالطُّورِ تَوْطِئَةً لِلْقَسَمِ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَ أَوَّلُهَا عَلَى مُوسَى فِي جَبَلِ الطُّورِ. وَالْمُرَادُ بِ كِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ التَّوْرَاةُ كُلُّهَا الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِ الْأَلْوَاحِ، وَضَمَّنَهَا كُلَّ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ إِلَى سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ. وَهِيَ الْأَسْفَارُ الْأَرْبَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْيَهُودِ: سِفْرُ التَّكْوِينِ، وَسِفْرُ الْخُرُوجِ، وَسِفْرُ الْعَدَدِ، وَسِفْرُ التَّثْنِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِهَا: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [154] . وَتَنْكِيرُ كِتابٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَإِجْرَاءُ الوصفين عَلَيْهِ لتمييزه بِأَنَّهُ كِتَابٌ مُشَرَّفٌ مُرَادٌ بَقَاؤُهُ مَأْمُورٌ بِقِرَاءَتِهِ إِذِ الْمَسْطُورُ هُوَ الْمَكْتُوبُ. والسطر: الْكِتَابَة الطَّوِيلَة لِأَنَّهَا تُجْعَلُ سُطُورًا، أَيْ صُفُوفا من الْكتاب قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: 1] ، أَيْ يَكْتُبُونَ. وَالرَّقُّ (بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ مُشَدَّدَةٌ) الصَّحِيفَةُ تُتَّخَذُ مِنْ جِلْدٍ مُرَقَّقٍ أَبْيَضَ

لِيُكْتَبَ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَهَا الْمُتَلَمِّسُ فِي قَوْلِهِ: فَكَأَنَّمَا هِيَ مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا ... رَقٌّ أُتِيحَ كِتَابُهَا مَسْطُورُ وَالْمَنْشُورُ: الْمَبْسُوطُ غَيْرُ الْمَطْوِيِّ قَالَ يَزِيدُ بن الطَّثَرِيَّةِ: صَحَائِفُ عِنْدِي لِلْعِتَابِ طَوَيْتُهَا ... سَتُنْشَرُ يَوْمًا مَا وَالْعِتَابُ يَطُولُ أَيْ: أُقْسِمُ بِحَالِ نَشْرِهِ لِقِرَاءَتِهِ وَهِيَ أَشْرَفُ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهَا حَالَةُ حُصُولِ الاهتداء بِهِ للقارىء وَالسَّامِعِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَكْتُبُونَ التَّوْرَاة فِي رقوق مُلْصَقٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ أَوْ مُخَيَّطٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَتَصِيرُ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَيَطْوُونَهَا طَيًّا أُسْطُوَانِيًّا لِتُحْفَظَ فَإِذَا أَرَادُوا قِرَاءَتَهَا نَشَرُوا مَطْوِيَّهَا، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ «فَنَشَرُوا التَّوْرَاة» . وَلَيْسَ المُرَاد بِكِتَابٍ مَسْطُورٍ الْقُرْآنَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مَكْتُوبًا سُطُورًا وَلَا هُوَ مَكْتُوبًا فِي رَقٍّ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِالتَّوْرَاةِ أَنَّهَا الْكِتَابُ الْمَوْجُودُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْجَزَاءِ وَإِبْطَالُ الشِّرْكِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْكَرُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بدعا فقد نزلت قَبْلَهُ التَّوْرَاةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْعَذَابِ بِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطّور: 11، 12] . وَالْقَسَمُ بِالتَّوْرَاةِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّوْرَاةَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَبْدِيلٌ لِمَا كَتَبَهُ مُوسَى: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الْمَائِدَة: 13] أَنَّهُ تَحْرِيفٌ بِسُوءِ فَهْمٍ وَلَيْسَ تَبْدِيلًا لِأَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ أَنَّ التَّحْرِيفَ وَقَعَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ حِينَ ظَهَرَتِ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَجَبَهَتِ الْيَهُودَ دَلَالَةُ مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى صِفَاتِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ الْقَسَمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ الصَّحِيحِ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَهَذَا الْأَنْسَبُ بِعَطْفِهِ عَلَى الطُّورِ،

وَوَصْفِهِ بِ الْمَعْمُورِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ طَائِفٍ بِهِ، وَعُمْرَانُ الْكَعْبَةِ هُوَ عُمْرَانُهَا بِالطَّائِفِينَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 18] الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ سَبْقُ الْقَسَمِ بِكِتَابِ التَّوْرَاةِ فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِمَوَاطِنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا مِثْلَ جَبَلِ حِرَاءَ. وَكَانَ نُزُولُهُ شَرِيعَةً نَاسِخَةً لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذْ جَاءَنِي الْمَلَكَانِ» إِلَخْ، فَيَكُونُ تَوْسِيطُ الْقَسَمِ بِالْكَعْبَةِ فِي أثْنَاء مَا أقسم بِهِ من شؤون شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِدْمَاجًا. وَفِي «الطَّبَرِيِّ» : أَنَّ عَلِيًّا سُئِلَ: مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟ فَقَالَ: «بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا، يُقَالُ: لَهُ الضُّرَاحُ» (بِضَمِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ) ، وَأَنَّ مُجَاهِدًا وَالضَّحَّاكَ وَابْنَ زَيْدٍ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟ قَالَ: فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ تَحْتَهُ الْكَعْبَةُ» إِلَى آخَرِ الْخَبَرِ. وَثَمَّةَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي أَنَّ فِي السَّمَاءِ مَوْضِعًا يُقَالُ لَهُ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ فِي كَوْنِهِ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً. وَأَمَّا السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: فَفَسَّرُوهُ بِالسَّمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الْأَنْبِيَاء: 32] وَقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ رَفَعَها [الرَّحْمَن: 7] فَالرَّفْعُ حَقِيقِيٌّ وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِهَا أَنَّهَا مَصْدَرُ الْوَحْيِ كُلِّهِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ. وَتَسْمِيَةُ السَّمَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَالْبَحْرِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَعِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بَحْرُ الْقَلْزَمِ، وَهُوَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِهِ أَنه بِهِ أُهْلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ حِينَ دَخَلَهُ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ فَلَحِقَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ. والْمَسْجُورِ: قِيلَ الْمَمْلُوءُ، مُشْتَقًّا من السّجر، وهم الْمِلْءُ وَالْإِمْدَادُ. فَهُوَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ قُصِدَ مِنْهَا التَّذْكِيرُ بِحَالِ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ مَمْلُوءًا مَاءً دُونَ أَنْ تَمْلَأَهُ أَوْدِيَةٌ أَوْ سُيُولٌ، أَوْ هِيَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ إِرَادَةِ الْوَادِي إِذِ الْوَادِي يَنْقُصُ فَلَا يَبْقَى عَلَى مِلْئِهِ وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ وَصْفَهُ بِالْمَسْجُورِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى

الْحَالَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا هَلَاكُ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ فَرَقَ اللَّهُ الْبَحْرَ لِمُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ أَسْجَرَهُ، أَيْ أَفَاضَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. وَعَذَابُ اللَّهِ الْمُقْسَمُ عَلَى وُقُوعِهِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً إِلَى قَوْله: تُكَذِّبُونَ [الطّور: 9- 14] . وَأَمَّا عَذَابُ الْمُكَذِّبِينَ فِي الدُّنْيَا فَسَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: 47] . وَتَحْقِيقُ وُقُوعِ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِثْبَات للبعث بطرِيق الْكِنَايَةِ الْقَرِيبَةِ، وتهديد للْمُشْرِكين بطرِيق الْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ. وَالْوَاوَاتُ الَّتِي فِي هَذِه الْآيَة كلهَا وَاوَاتُ قَسَمٍ لِأَنَّ شَأْنَ الْقَسَمِ أَنْ يُعَادَ وَيُكَرَّرَ، وَلِذَلِكَ كَثِيرًا مَا يُعِيدُونَ الْمُقْسَمَ بِهِ نَحْوَ قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَنِعْمَ الْفَتَى وَإِنَّمَا يَعْطِفُونَ بِالْفَاءِ إِذَا أَرَادُوا صِفَاتِ الْمُقْسَمِ بِهِ. وَيَجُوزُ صَرْفُ الْوَاوِ الْأُولَى لِلْقَسَمِ وَاللَّاتِي بَعْدَهَا عَاطِفَاتٌ عَلَى الْقَسَمِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْقَسَمِ قَسَمٌ. وَالْوُقُوعُ: أَصْلُهُ النُّزُولُ مِنْ عُلُوٍّ وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا لِلتَّحَقُّقِ وَشَاعَ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَمُتَحَقِّقٌ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ لَواقِعٌ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَى الْمُكَذِّبِينَ، أَوْ بِالْمُكَذِّبِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطّور: 11] ، أَيْ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ بِقَرِينَةِ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مُعَذِّبُهُمْ لِأَنَّهُ رَبُّكَ وَهُمْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبُوا رِسَالَةَ الرَّبِّ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ بَعْدَ كَوْنِ الْكَلَامِ وَعِيدًا لَهُم على إِنْكَار الْبَعْث وإنكارهم أَنْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ. وَأَتْبَعَ قَوْلَهُ: لَواقِعٌ بِقَوْلِهِ: مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ، وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ عَذابَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، أَيْ: مَا لِلْعَذَابِ دَافِعٌ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ. وَالدَّفْعُ: إِبْعَادُ الشَّيْءِ عَنْ شَيْءٍ بِالْيَدِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْوِقَايَةِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ

[سورة الطور (52) : الآيات 9 إلى 12]

الْإِطْلَاقِ أَلَّا يَقِيَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ بِشَفَاعَةٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ. وَزِيدَتْ مِنْ فِي النَّفْيِ لِتَحْقِيقِ عُمُومِ النَّفْيِ وَشُمُولِهِ، أَيْ نَفْيُ جِنْسِ الدَّافِعِ. رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُكَلِّمَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ فَدُفِعْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ وَالطُّورِ إِلَى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي» ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَسْلَمْتُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَقْوَمَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ بِي الْعَذَاب» . [9- 12] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 9 إِلَى 12] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ بقوله: لَواقِعٌ [الذاريات: 7] عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لَهُ فَيَكُونَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تَفْرِيعًا عَلَى الْجُمْلَةِ كُلِّهَا وَيَكُونُ الْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الذاريات: 7] ، فَيَكُونَ يَوْمَ مُتَعَلِّقًا بِالْكَوْنِ الَّذِي بَيْنَ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ، فَلَمَّا قُدِّمَ الظَّرْفُ اكْتَسَبَ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى عَوَامِلِهَا فَلِذَلِكَ قُرِنَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ بِالْفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ حَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ فَوَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُرِيدُ بِهِ التَّأْكِيدُ لِلظَّرْفِ فَحَصَلَ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ بِطَرِيقَيْنِ طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، وَطَرِيقِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً الْآيَةَ، تَصْرِيحٌ بِيَوْمِ الْبَعْثِ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ تَضَمُّنًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَأْكِيدُهُ أَيْضًا. وَالْمَوْرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ: التَّحَرُّكُ بِاضْطِرَابٍ، وَمَوْرُ السَّمَاءِ هُوَ

اضْطِرَابُ أَجْسَامِهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَاخْتِلَالِ نِظَامِهَا وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِرَاضِ عَالَمِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَسَيْرُ الْجِبَالِ: انْتِقَالُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا بِالزَّلَازِلِ الَّتِي تَحْدُثُ عِنْدَ انْقِرَاضِ عَالَمِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: 1- 6] . وَتَأْكِيدُ فِعْلَيْ تَمُورُ وتَسِيرُ بِمَصْدَرَيْ مَوْراً وسَيْراً لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، أَيْ هُوَ مَوْرٌ حَقِيقِيٌّ وَتَنَقُّلٌ حَقِيقِيٌّ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ الْبَالِغِ مُنْتَهَى السُّوءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي آخِرِ الذَّارِيَاتِ. وَالْمَعْنَى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ الْآنَ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ لِلْمُكَذِّبِينَ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْقُرْآنِ فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي زَمَنِ الْحَالِ. وَالْخَوْضُ: الِانْدِفَاعُ فِي الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ. وَالْمُرَادُ خَوْضُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ مِثْلَ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَام: 68] . وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ الشَّدِيدَةُ كَمُلَابَسَةِ الظَّرْفِ لِلْمَظْرُوفِ، أَيْ الَّذِينَ تَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْخَوْضُ حَتَّى كَأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِمْ. ويَلْعَبُونَ حَالِيَّةٌ. وَاللَّعِبُ: الِاسْتِهْزَاءُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ [التَّوْبَة: 65] .

[سورة الطور (52) : الآيات 13 إلى 16]

[سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 13 إِلَى 16] يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) يَوْمَ يُدَعُّونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَالدَّعُّ: الدَّفْعُ الْعَنِيفُ، وَذَلِكَ إِهَانَةٌ لَهُمْ وَغِلْظَةٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ يَوْمَ يُسَاقُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ سَوْقًا بِدَفْعٍ، وَفِيهِ تَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَائِفُونَ مُتَقَهْقِرُونَ فَتَدْفَعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِزْجَائِهِمْ إِلَى النَّارِ. وَتَأْكِيدُ يُدَعُّونَ بِ دَعًّا لِتُوَصِّلَ إِلَى إِفَادَةِ تَعْظِيمِهِ بِتَنْكِيرِهِ. وَجُمْلَةُ هذِهِ النَّارُ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ يُقَدَّرُ بِمَا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ يُدَعُّونَ. وَتَقْدِيرُهُ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ، وَالْقَائِلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِيصَالِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَالْإِشَارَةُ بِكَلِمَةِ هذِهِ الَّذِي هُوَ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ الْقَرِيب الْمُؤَنَّث تومىء إِلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوهَا وَهُمْ عَلَى شِفَاهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ التَّوْطِئَةُ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ إِلَى لَا تُبْصِرُونَ. وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا بِالْحَشْرِ وَالْعِقَابِ فَرَأَوْا ذَلِكَ عِيَانًا. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّنْبِيهِ تَنْبِيهٌ آخر على ضلالهم فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: أَفَسِحْرٌ هَذَا إِذْ كَانُوا حِينَ يَسْمَعُونَ الْإِنْذَارَ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا سِحْرٌ، وَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ قَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، فَلِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيفِ عَلَى خَطَئِهِمْ وَبَيْنَ التَّهَكُّمِ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ دَخَلَتْ فَاءُ التَّفْرِيعِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لَهُمُ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ.

وَ (أَمْ) مُنْقَطِعَةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَمْ بَعْدَهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّهَكُّمِ. وَالتَّقْدِير: بل أأنتم لَا تُبْصِرُونَ. وَمَعْنَى لَا تُبْصِرُونَ: لَا تُبْصِرُونَ الْمَرْئِيَّاتِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ فَلَعَلَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ نَارًا كَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَقُولُونَ: بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] أَيْ فَلَا نَرَاكَ، وَتَقُولُونَ: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحجر: 15] . وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِخَبَر فعلي منفي لِإِفَادَةِ تَقَوِّيِ الْحُكْمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أَمْ لَا تُبْصِرُونَ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ تَقَوِيًّا، وَلَا: أَمْ لَا تُبْصِرُونَ أَنْتُمْ، لِأَنَّ مَجِيءَ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ يُفِيدُ تَقْرِيرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ وَتَقْوِيَتَهُ وَهُوَ أَشَدُّ تَوْكِيدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَجُمْلَةُ اصْلَوْها مُسْتَأْنَفَةٌ هِيَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيظِ السَّابِقَيْنِ، أَيْ ادْخُلُوهَا فَاصْطَلُوا بِنَارِهَا يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ يَصْلَاهَا، إِذَا قَاسَى حَرَّهَا. وَالْأَمْرُ فِي اصْلَوْها إِمَّا مُكَنًّى بِهِ عَنِ الدُّخُولِ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَهَا يَسْتَلْزِمُ الِاحْتِرَاقَ بِنَارِهَا، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّنْكِيلِ. وَفُرِّعَ عَلَى اصْلَوْها أَمْرٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ صَبْرِهِمْ عَلَى حَرِّهَا وَبَيْنَ عَدَمِ الصَّبْرِ وَهُوَ الْجَزَعُ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُخَفَّفَانِ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إِبْرَاهِيم: 21] لِأَنَّ جُرْمَهُمْ عَظِيمٌ لَا مَطْمَعَ فِي تَخْفِيفِ جَزَائِهِ. وسَواءٌ عَلَيْكُمْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ. وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْكُمْ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا وَلَمْ تُعْطَفْ. وَجُمْلَةُ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ اصْلَوْها إِذْ كَلِمَةُ إِنَّما مُرَكَّبَةٌ من (إنّ) و (مَا) الْكَافَّةِ، فَكَمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِ (إِنَّ) وَحْدَهَا كَذَلِكَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا مَعَ (مَا) الْكَافَّةِ، وَعَلَيْهِ فَجُمْلَتَا

[سورة الطور (52) : الآيات 17 إلى 19]

فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ جُمْلَةِ اصْلَوْها وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ تَعْلِيلًا لَهَا. وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلِمَةِ إِنَّما قَصْرُ قَلْبٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا لَقَوْهُ مِنَ الْعَذَابِ ظُلْمٌ لَمْ يَسْتَوْجِبُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَزَعِ. وَعُدِيَّ تُجْزَوْنَ إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِدُونِ الْبَاءِ خِلَافًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطّور: 19] لِيَشْمَلَ الْقَصْرُ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ، أَيْ تُجْزَوْنَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَيَنْتَفِيَ الظُّلْمُ عَنْ مِقْدَارِ الْجَزَاءِ كَمَا انْتَفَى الظُّلْمُ عَنْ أَصْلِهِ، وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمْ يُعَلَّقْ مَعْمُولُ الْفِعْلِ بِالْبَاءِ إِذْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ نفس الْفِعْل. [17- 19] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 17 إِلَى 19] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ الْمُكَذِّبِينَ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ، فَمِنْ شَأْنِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ عَنْ حَالِ أَضْدَادِهِمْ وَهُمُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ صدقُوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَخَاصَّةً إِذْ كَانَ السَّامِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادَةُ الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ الْإِنْذَارِ بِالتَّبْشِيرِ وَعَكْسِهِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَجُمْلَةِ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَنْكِيرُ جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ لتعظيم، أَيْ فِي أَيَّةِ جَنَّاتٍ وَأَيِّ نَعِيمٍ. وَجَمْعُ جَنَّاتٍ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ. وَالْفَاكِهُ: وَصْفٌ مِنْ فَكِهَ كَفَرِحَ، إِذَا طَابَتْ نَفْسُهُ وَسُرَّ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُور فاكِهِينَ بِصِيغَة اسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فَكِهِينَ بِدُونِ أَلِفٍ. وَالْبَاءُ فِي بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ للسبية، وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّهُمْ أَرْضَاهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ. وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبُّهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ مَا آتَاهُمْ إِذِ الْعَطَاءُ يُنَاسِبُ حَالَ الْمُعْطِي، وَفِي إِضَافَةِ (رَبٍّ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَقْرِيبٌ لَهُمْ وَتَعْظِيمٌ وَجُمْلَةُ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ، أَوْ عاطفة على فاكِهِينَ الَّذِي هُوَ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ: إِظْهَارُ التَّبَايُنِ بَيْنَ حَالِ الْمُتَّقِينَ وَحَالِ الْمُكَذِّبِينَ زِيَادَةً فِي الِامْتِنَانِ فَإِنَّ النِّعْمَةَ تَزْدَادُ حُسْنَ وَقْعٍ فِي النَّفْسِ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ ضِدِّهَا. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ وِقَايَتَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَرِفُوا مَا يُوجِبُ الْعِقَابَ. وَأَمَّا مَا أُعْطُوهُ مِنَ النَّعِيمِ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِكْرَامٌ مِنْهُ لَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: رَبُّهُمْ مَا تَقَدَّمَ قُبَيْلَهُ. وَجُمْلَةُ كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا، تَقْدِيرُهُ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُقَابِلُ مَا يُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطّور: 16] . وَحَذْفُ مَفْعُولِ كُلُوا وَاشْرَبُوا لِإِفَادَةِ النَّعِيمِ، أَيْ كُلُوا كل مَا يُؤْكَلُ وَاشْرَبُوا كُلَّ مَا يُشْرَبُ، وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ مِمَّا تَشْتَهُونَ. وهَنِيئاً اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَقَعَ وَصْفًا لِمَصْدَرَيْنِ لِفِعْلَيْ كُلُوا وَاشْرَبُوا ، أَكْلًا وَشُرْبًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَنَّثِ الْوَصْفُ لِأَنَّ فَعِيلًا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ سَالِمٌ مِمَّا يُكَدِّرُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ الْعَمَل الَّذِي كُنْتُم تعملونه وَهُوَ الْعَمَلِ الصَّالح الَّذِي يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ: الْمُتَّقِينَ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ زِيَادَةُ كَرَامَةٍ لَهُمْ

[سورة الطور (52) : آية 20]

بِإِظْهَارِ أَن مَا أوتوه مِنَ الْكَرَامَةِ عِوَضٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كَمَا آذَنَتْ بِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ مَنْ يُسْدِي نِعْمَةً إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ: لَا فَضْلَ لِي عَلَيْكَ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُكَ، أَوْ نَحْو ذَلِك. [20] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 20] مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطّور: 19] ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ، أَيْ وَهُمْ فِي حَالِ إِكْلَةِ أَهْلِ التَّرَفِ الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ وَقَدْ وَصَفَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] بِقَوْلِهِ: أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً أَي لحز الطَّعَام وَالثِّمَار. وَفِي الحَدِيث «أمّا أَنا فَلَا آكل مُتكئا» وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ وَمَرَازِبَةُ الْفُرْسِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ وَكَذَلِكَ كَانَ أَبَاطِرَةُ الرُّومَانِ وَكَذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ الْأَعْشَى: نَازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا ... وَخَمْرَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ والسّرر: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَهُوَ مَا يُضْطَجَعُ عَلَيْهِ. وَالْمَصْفُوفَةُ: الْمُتَقَابِلَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ مُجْتَمِعِينَ لِلتَّأَنُسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الصافات: 44] . وَجُمْلَةُ وَزَوَّجْناهُمْ عَطْفٌ عَلَى مُتَّكِئِينَ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَمَعْنَى زَوَّجْناهُمْ: جَعَلْنَا كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُمْ زَوْجًا، أَيْ غَيْرَ مُفْرَدٍ، أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِنِسَاءٍ حُورٍ عِينٍ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ جَعَلْنَا حُورًا عِينًا مَعَهُمْ، وَلَمْ يُعَدِّ فِعْلَ زَوَّجْناهُمْ إِلَى بِحُورٍ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَاب: 37] ، لِأَنَّ (زَوَّجْنَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى: أَنْكَحْنَاهُمْ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ عَقْدَ النِّكَاحِ لِنُبُوِّ الْمُرَادِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَالتَّزْوِيجُ هُنَا وَارِدٌ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ الْمُفْرَدِ زَوْجًا وَلَيْسَ واردا بِمَعْنَاهُ الْمَنْقُول عَنْهُ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، وَلَيْسَ الْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ زَوَّجْناهُمْ بِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: قَرَنًّا، وَلَا هُوَ

[سورة الطور (52) : آية 21]

عَلَى لُغَة أَزْد شنوة فَإِنَّهُ لَمْ يُسْمَعُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ. وَحُورٌ: صِفَةٌ لِنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ كُنَّ مُؤْمِنَاتٍ وَمَنْ يَخْلُقُهُنَّ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِنِعْمَةِ الْجَنَّةِ وَحُكْمُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّاتِي هُنَّ مُؤْمِنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِثْلَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي لِحَاقِهِنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ فِي الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [70] وَمَا يُقَالُ فِيهِنَّ يُقَالُ فِي الرِّجَالِ مِنْ أَزْوَاجِ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ. وعِينٍ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَحَقُّهَا أَنْ تُعْطَفَ وَلَكِنْ كَثُرَ تَرْكُ الْعَطْفِ. [21] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 21] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ ذِكْرِ كَرَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَكُونَ الصِّلَةُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ وَجْهَ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهَا، أَيْ أَنَّ سَبَبَ إِلْحَاقِ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِهِمْ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ هُوَ إِيمَانُهُمْ وَكَوْنُ الذُّرِّيَّاتِ آمَنُوا بِسَبَبِ إِيمَانِ آبَائِهِمْ لِأَنَّ الْآبَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يُلَقِّنُونَ أَبْنَاءَهُمُ الْإِيمَانَ. وَالْمَعْنَى: وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَهُمْ ذُرِّيَّاتٌ مُؤْمِنُونَ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: 6] ، وَهل يَسْتَطِيع أحد أَنْ يَقِيَ النَّارَ غَيْرَهُ إِلَّا بِالْإِرْشَادِ. وَلَعَلَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ إِلْحَاقِ ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ شَفَاعَةِ الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ لِأَهْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِإِيمانٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ بِإِيمَانٍ عَظِيمٍ، وَعَظَمَتُهُ بِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي إِلْحَاقِهِمْ بِآبَائِهِمْ وَتَكُونَ النِّعْمَةُ فِي جَعْلِهِمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاتَّبَعَتْهُمْ بِهَمْزَةِ وَصَلٍ وَبِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى وَبِتَاءٍ بَعْدَ الْعَيْنِ هِيَ تَاءُ تَأْنِيثِ ضَمِيرِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وَأَتْبَعْناهُمْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ التَّاءِ. وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّتُهُمْ الْأَوَّلُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو ذُرِّيَّاتِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ ذُرِّيَّةٍ فَهُوَ مَفْعُولُ أَتْبَعْناهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيْضًا لَكِنْ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ اتَّبَعَتْهُمْ، فَيَكُونُ الْإِنْعَامُ عَلَى آبَائِهِمْ بِإِلْحَاقِ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ (أَيْ فِي الْعَمَلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْقُرْطُبِيِّ) لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ . وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ هُوَ نِعْمَةٌ جَمَعَ اللَّهُ بِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْوَاعَ الْمَسَرَّةِ بِسَعَادَتِهِمْ بِمُزَاوَجَةِ الْحُورِ وَبِمُؤَانَسَةِ الْإِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِاجْتِمَاعِ أَوْلَادِهِمْ وَنَسْلِهِمْ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ التَّأَنُسَ بِأَوْلَادِهِ وَحُبَّهُ اتِّصَالَهُمْ بِهِ. وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ الْجَعْفَرِيُّ الْمُرْسِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ نَزِيلُ تُونِسَ سَنَةَ 1013 ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَلْفٍ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ «الْأَنْوَارُ النَّبَوِيَّةُ فِي آبَاءِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ» (¬1) قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْكِتَابِ «قَدْ أَطْلَعَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَوَاسِطَةِ وَالِدِي وَأَنَا ابْنُ سِتَّةِ أَعْوَامٍ مَعَ أَنِّي كُنْتُ إِذَّاكَ أَرُوحُ إِلَى مَكْتَبِ النَّصَارَى لِأَقْرَأَ دِينَهُمْ ثُمَّ أَرْجِعَ إِلَى بَيْتِي فَيُعَلِّمَنِي وَالِدِي دِينَ الْإِسْلَامِ فَكُنْتُ أَتَعَلَّمُ فِيهِمَا (كَذَا) مَعًا وَسِنِّي حِينَ حُمِلْتُ إِلَى مَكْتَبِهِمْ أَرْبَعَةُ أَعْوَامٍ فَأَخَذَ وَالِدِي لَوْحًا مِنْ عُودِ الْجَوْزِ كَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ إِلَيْهِ مُمَلَّسًا مِنْ غَيْرِ طَفَلٍ (اسْمٌ لِطِينٍ يَابِسٍ وَهُوَ طِينٌ لَزِجٌ وَلَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَعَرَبِيَّتُهُ طُفَالٌ كَغُرَابٍ) ، فَكتب لي فِيهِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَهُوَ يَسْأَلُنِي عَنْ حُرُوفِ ¬

(¬1) مخطوط عِنْدِي.

النَّصَارَى حَرْفًا حَرْفًا تَدْرِيبًا وَتَقْرِيبًا فَإِذَا سَمَّيْتُ لَهُ حَرْفًا أَعْجَمِيًّا يَكْتُبُ لِي حَرْفًا عَرَبِيًّا حَتَّى اسْتَوْفَى جَمِيعَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَأَوْصَانِي أَنْ أَكْتُمَ ذَلِكَ حَتَّى عَنْ وَالِدَتِي وَعَمِّي وَأَخِي مَعَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَلْقَى نَفْسَهَ لِلْهَلَاكِ لِإِمْكَانِ أَنْ أُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُ فَيُحْرَقَ لَا مَحَالَةَ وَقَدْ كَانَ يلقّنني مَا أقوله عِنْدَ رُؤْيَتِيَ الْأَصْنَامَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ وَالِدِي أَنِّي أَكْتُمُ أُمُورَ دِينِ الْإِسْلَامِ أَمَرَنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِإِفْشَائِهِ لِوَالِدَتِي وَبَعْضِ الْأَصْدِقَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَسَافَرْتُ الْأَسْفَارَ مِنْ جِيَّانَ لِأَجْتَمِعَ بِالْمُسْلِمِينَ الْأَخْيَارِ إِلَى غَرْنَاطَةَ وَأَشْبِيلِيَّةَ وَطُلَيْطِلَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ مُدُنِ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، فَتَخَلَّصَ لِي مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ أَنِّي مَيَّزْتُ مِنْهُمْ سَبْعَةَ رِجَالٍ كَانُوا يُحَدِّثُونَنِي بِأَحْوَالِ غَرْنَاطَةَ وَمَا كَانَ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ مَرُّوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْخٍ مِنْ مَشَائِخِ غَرْنَاطَةَ يُقَالُ لَهُ الْفَقِيهُ الْأَوْطُورِيُّ ... » إِلَخْ. وَإِيثَارُ فِعْلِ أَلْحَقْنا دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَدْخَلْنَا مَعَهُمْ، أَوْ جعلنَا مَعَهم لَعَلَّه لِمَا فِي مَعْنَى الْإِلْحَاقِ من الصلاحية للفور وَالتَّأْخِيرِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْإِلْحَاقُ بَعْدَ إِجْرَاءِ عِقَابٍ عَلَى بَعْضِ الذُّرِّيَّةِ اسْتَحَقُّوهُ بِسَيِّئَاتِهِمْ عَلَى مَا فِي الْأَعْمَالِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ عِبَادِهِ. وَفِعْلُ الْإِلْحَاقِ يَقْتَضِي أَنَّ الذُّرِّيَّاتِ صَارُوا فِي دَرَجَاتِ آبَائِهِمْ. وَفِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ تَفَنُّنٌ لِدَفْعِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ. وأَلَتْناهُمْ نَقَصْنَاهُمْ، يُقَالُ: آلَتَهُ حَقَّهُ، إِذَا نَقَصَهُ إِيَّاهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَمِنْ بَابَ عَلِمَ. فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ لَامِ أَلَتْناهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ لَامِ أَلَتْناهُمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ [14] . وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَلْحَقَ بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ فِي الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا دُونَ عِوَضٍ احْتِرَاسًا مِنْ أَنْ يَحْسَبُوا أَنَّ إِلْحَاقَ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِهِمْ بَعْدَ عَطَاءِ نَصِيبٍ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ لِذُرِّيَاتِهِمْ لِيَدْخُلُوا بِهِ الْجَنَّةَ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ فِي فَكِّ الْأَسِيرِ، وَحَمَالَةِ الدِّيَاتِ، وَخَلَاصِ الْغَارِمِينَ، وَعَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي

[سورة الطور (52) : الآيات 22 إلى 23]

الِانْتِصَافِ مِنَ الْمَظْلُومِ لِلظَّالِمِ بِالْأَخْذِ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَإِعْطَائِهَا لِلْمَظْلُومِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِقَاصِ حُظُوظِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. ومِنْ عَمَلِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَا أَلَتْناهُمْ وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ وَإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ لِلنَّكِرَةِ. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطّور: 22] ، قُصِدَ مِنْهَا تَعْلِيلُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ صَالِحَةٌ لِلتَّذْيِيلِ مَعَ التَّعْلِيلِ، وكُلُّ امْرِئٍ يَعُمُّ أَهْلَ الْآخِرَةِ كُلَّهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ امْرِئٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ خَاصَّةً. وَالْمَعْنَى: انْتَفَى إِنْقَاصُنَا إِيَّاهُمْ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَقْرُونٌ بِمَا كَسَبَ وَمُرْتَهَنٌ عِنْدَهُ وَالْمُتَّقُونَ لَمَّا كَسَبُوا الْعَمَلَ الصَّالح كَانَ لَازِما لَهُمْ مُقْتَرِنًا بِهِمْ لَا يُسْلَبُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْمُرَادُ بِمَا كَسَبُوا: جَزَاءَ مَا كَسَبُوا لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ وَأَمَّا نَفْسُ الْعَمَلِ نَفْسُهُ فَقَدِ انْقَضَى فِي إِبَّانِهِ. وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ كِنَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ مَقْرُونُونَ بِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ، وَثَانِيَتُهُمَا: أَنَّ ذُرِّيَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِآبَائِهِمْ فِي النَّعِيمِ أُلْحِقُوا بِالْجَنَّةِ كَرَامَةً لِآبَائِهِمْ وَلَوْلَا تِلْكَ الْكَرَامَةُ لَكَانَتَ مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَبِهَذَا كَانَ لهَذِهِ الْجُمْلَة هُنَا وَقْعٌ أَشَدُّ حُسْنًا مِمَّا سِوَاهُ مَعَ أَنَّهَا صَارَتْ مِنْ حُسْنِ التَّتْمِيمِ. وَالْكَسْبُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا يحصله الْمَرْء بِعِلْمِهِ لِإِرَادَةِ نَفْعِ نَفْسِهِ. وَرَهِينٌ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْس. [22، 23] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 22 إِلَى 23] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) عَطْفٌ عَلَى فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطّور: 17] إِلَخْ.

وَالْإِمْدَادُ: إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنْ نَوْعٍ نَافِعٍ فِيمَا زِيدَ فِيهِ، أَيْ زِدْنَاهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْهَنِيءِ فَاكِهَةً وَلَحْمًا مِمَّا يَشْتَهُونَ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَاللِّحُومِ الَّتِي يشتهونها، أَي ليوتي لَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَرْغَبُونَ فِيهِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا اشْتَهَى. وَخَصَّ الْفَاكِهَةَ وَاللَّحْمَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ مَنَحَهُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَذَّةَ نَشْوَةِ الْخَمْرِ وَالْمُنَادَمَةِ عَلَى شُرْبِهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَحْسَنِ اللَّذَّاتِ فِيمَا أَلِفَتْهُ نُفُوسُهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ التَّرَفِ فِي الدُّنْيَا إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ كَسَرُوا سَوْرَةَ حِدَّتِهَا فِي الْبَطْنِ بِالشِّوَاءِ مِنَ اللَّحْمِ قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ قَرْنَ الثَّوْرِ: سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ وَيَدْفَعُونَ لَذْغَ الْخَمْرِ عَنْ أَفْوَاهِهِمْ بِأَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَيُسَمُّونَهَا النُّقْلَ- بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا- وَيَكُونُ مِنْ ثِمَارٍ وَمَقَاثٍ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِقَوْلِهِ: يَتَنازَعُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ إِلَخْ. وَالتَّنَازُعُ أُطْلِقَ عَلَى التَّدَاوُلِ وَالتَّعَاطِي. وَأَصْلُهُ تَفَاعُلٌ مِنْ نَزْعِ الدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ عِنْدَ الِاسْتِقَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا وَرَدُوا لِلِاسْتِقَاءِ نزع أحدهم دلوا مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ نَاوَلَ الدَّلْوَ لِمَنْ حَوْلَهُ وَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ يَنْزِعُ مِنَ الْبِئْرِ لِلْمُسْتَقِينَ كُلِّهِمْ يَكْفِيهِمْ تَعَبَ النَّزْعِ، وَيُسَمَّى الْمَاتِحَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَزْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا بِنْتي شُعَيْبٍ لَمَّا رَأَى انْقِبَاضَهُمَا عَنِ الِانْدِمَاجِ فِي الرِّعَاءِ. وَذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ نَزْعَهُ عَلَى الْقَلِيبِ ثُمَّ نَزْعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ نَزْعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ أَوْ جُعِلَ مَجَازًا عَنِ الْمُدَاوَلَةِ وَالْمُعَاوَرَةِ فِي مُنَاوَلَةِ أَكْؤُسِ الشَّرَابِ، قَالَ الْأَعْشَى: نَازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا ... وَخَمْرَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَصُبُّ لِبَعْضٍ الْخَمْرَ وَيُنَاوِلُهُ إِيثَارًا وَكَرَامَةً. وَقِيلَ: تَنَازُعُهُمُ الْكَأْسَ مُجَاذَبَةُ بَعْضِهِمْ كَأْسَ بَعْضٍ إِلَى نَفْسِهِ لِلْمُدَاعَبَةِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الْمُدَاعَبَةِ عَلَى الطَّعَامِ:

فَظَلَّ الْعَذَارَى يَرْتَمِينَ بِلَحْمِهَا ... وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمْقَسِ الْمُفَتَّلِ وَالْكَأْسُ: إِنَاءٌ تُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ لَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادًا بِهِ الْإِنَاءُ الْمَعْرُوفُ وَمُرَادًا بِهِ الْجِنْسُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [45] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ فِي كَأْسٍ وَاحِدَةٍ بِأَخْذِ أَحَدِهِمْ مِنْ آخَرَ كَأْسَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَأْسِ الْخَمْرُ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: سَالَ الْوَادِي وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى: نَازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ (الْبَيْتَ السَّابِقَ آنِفًا) . وَجُمْلَةُ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ يَجُوزُ أَنْ تكون صفة ل «كأس» وَضَمِيرُ لَا لَغْوٌ فِيها عَائِدًا إِلَى «كَأْسٍ» وَوَصْفُ الْكَأْسِ بِ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ. إِنْ فُهِمَ الْكَأْسُ بِمَعْنَى الْإِنَاءِ الْمَعْرُوفِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: لَا لَغْوٌ وَلَا تأثيم يصاحبها، فَإِنَّ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي تُؤَوَّلُ بِالْمُلَابَسَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الْحَج: 78] وَقَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا- أَيْ وَالِدَيْكَ- فَجَاهِدْ» ، أَيْ جَاهِدْ ببرهما، أَو تأوّل (فِي) بِمَعْنى التَّعْلِيل كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا» . وَإِنْ فُهِمَ الْكَأْسُ مُرَادًا بِهِ الْخَمْرُ كَانَتْ (فِي) مُسْتَعَارَةً لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لَا لَغْوٌ يَقَعُ بِسَبَبِ شُرْبِهَا. وَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا لَا يُخَالِطُ شَارِبِيهَا اللَّغْوُ وَالْإِثْمُ بِالسِّبَابِ وَالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ، أَيْ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي اسْتُعْمِلَتِ الْكَأْسُ لَهَا لَيْسَتْ كَخُمُورِ الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ مُسْتَأْنَفَةً نَاشِئَةً عَنْ جُمْلَةِ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً، وَيَكُونَ ضَمِيرُ فِيها عَائِدًا إِلَى جَنَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الطّور: 17] مِثْلَ ضَمِيرِ فِيها كَأْساً، فَتَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى اللَّغْوُ وَالتَّأْثِيمُ عَنْ أَنْ يَكُونَا فِي الْجَنَّةِ انْتَفَى أَنْ يَكُونَا فِي كَأْسِ شُرْبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً

[سورة الطور (52) : آية 24]

إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً فِي سُورَةِ النَّبَإِ [31- 35] . وَاللَّغْوُ: سَقَطُ الْكَلَامِ وَالْهَذَيَانُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ خَلَلِ الْعَقْلِ. وَالتَّأْثِيمُ: مَا يُؤْثَمُ بِهِ فَاعِلُهُ شَرْعًا أَوْ عَادَةً مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مِثْلِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ وَمَا يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ مِنْ آثَارِ الْعَرْبَدَةِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّدَامَى غَالِبًا، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ عَالَمِ الْحَقَائِقِ وَالْكَمَالَاتِ فَهُمْ حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ، وَقَدْ تَمَدَّحَ أَصْحَابُ الْأَحْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّقَى مَا يَعْرِضُ مِنَ الْفَلَتَاتِ فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ مِثْلَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ (لَا) مشبهّة ب (لَيْسَ) . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ (لَا) مشبهة ب (إنّ) وَهُمَا وَجْهَانِ فِي نَفْيِ النَّكِرَةِ إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْوَاحِدِ غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» رُوِيَتِ النَّكِرَاتُ الْأَرْبَعُ بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ. [24] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 24] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً [الطّور: 23] فَهُوَ مِنْ تَمَامِهِ وَوَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِثْلَهُ، وَجِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، أَيْ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ بِخِلَافِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا لَا بُدَ لَهَا مِنَ الِانْقِطَاعِ بِنِهَايَاتٍ تَنْتَهِي إِلَيْهَا فَتُكْرَهُ لِأَصْحَابِهَا الزِّيَادَةُ مِنْهَا مِثْلِ الْغَوْلِ، وَالْإِطْبَاقِ، وَوَجَعِ الْأَمْعَاءِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَمِثْلِ الشَّبَعِ فِي تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُورِثُ الْعَجْزَ عَن الازدياد عَنِ اللَّذَّةِ وَيَجْعَلُ الِازْدِيَادَ أَلَمًا. وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا لَذَّاتُ الْمَعَارِفِ وَلَذَّاتُ الْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَالْجَمَالِ. وَلَمَّا أَشْعَرَ فِعْلُ يَطُوفُ بِأَنَّ الْغِلْمَانَ يُنَاوِلُونَهُمْ مَا فِيهِ لَذَّاتُهُمْ كَانَ مُشْعِرًا بِتَجَدُّدِ الْمُنَاوَلَةِ وَتَجَدُّدِ الطَّوَافِ وَقَدْ صَارَ كُلُّ ذَلِكَ لَذَّةً لَا سَآمَةَ مِنْهَا.

وَالطَّوَافُ: مَشْيٌ مُتَكَرِّرٌ ذِهَابًا وَرُجُوعًا وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عَلَى اسْتِدَارَةٍ، وَمِنْهُ طَوَافُ الْكَعْبَةِ، وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْأَصْنَامِ وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ الصَّنَمُ دُوَّارًا لِأَنَّهُمْ يَدُورُونَ بِهِ. وَسُمِّيَ مَشْيُ الْغِلْمَانِ بَيْنَهُمْ طَوَافًا لِأَنَّ شَأْنَ مَجَالِسِ الْأَحِبَّةِ وَالْأَصْدِقَاءِ أَن تكون حلقا وَدَوَائِرَ لِيَسْتَوُوا فِي مَرْآهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [44] عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. وَمِنْهُ جُعِلَتْ مَجَالِسُ الدُّرُوسِ حَلَقًا وَكَانَتْ مَجَالِسُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقًا. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى مُنَاوَلَةِ الْخَمْرِ إِدَارَةٌ فَقِيلَ: أَدَارَتِ الْحَارِثَةُ الْخَمْرَ، وَهَذَا الَّذِي يُنَاوِلُ الْخَمْرَ الْمُدِيرُ. وَتَرْكُ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ يَطُوفُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً وَقَوْلِهِ: وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطّور: 22] وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف: 71] وَقَوْلُهُ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: 45، 46] فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُطَاف بِهِ هُنَا تُرِكَ ذِكْرُهُ بَعْدَ فِعْلِ يُطافُ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ. وَالْغِلْمَانُ: جَمْعُ غُلَامٍ، وَحَقِيقَتُهُ مَنْ كَانَ فِي سِنٍّ يُقَارِبُ الْبُلُوغَ أَوْ يَبْلُغُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَادِمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مَا يَتَّخِذُونَ خَدَمَهُمْ مِنَ الصِّغَارِ لِعَدَمِ الْكُلْفَةِ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِثْقَالِ تَكْلِيفِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَمِثْلُهُ إِطْلَاقُ الْوَلِيدَةِ عَلَى الْأَمَةِ الْفَتِيَّةِ كَأَنَّهَا قَرِيبَةُ عَهْدٍ بِوِلَادَةِ أُمِّهَا. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: غِلْمانٌ لَهُمْ: خِدْمَةٌ لَهُمْ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالتَّنْكِيرِ وَتَعْلِيقِ لَامِ الْمُلْكِ بِضَمِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا دُونَ الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ لِمَا فِي الْإِضَافَةِ مِنْ مَعْنَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ السَّامِعِ مِنْ قَبْلُ. وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانُ بِمَمْلُوكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِخِدْمَتِهِمْ خَلَقَهْمُ اللَّهُ لِأَجْلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الْإِنْسَان: 19] وَهَذَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: 5] أَيْ صِنْفٌ مِنْ عِبَادِنَا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ لِلنَّاسِ. وَشُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ فِي حُسْنِ الْمَرْأَى.

[سورة الطور (52) : الآيات 25 إلى 28]

وَاللُّؤْلُؤُ: الدُّرُّ. وَالْمَكْنُونُ: الْمَخْزُونُ لِنَفَاسَتِهِ عَلَى أَرْبَابِهِ فَلَا يُتَحَلَّى بِهِ إِلَّا فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَوَاكِبِ فَلِذَلِكَ يَبْقَى عَلَى لمعانه وبياضه. [25- 28] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 25 إِلَى 28] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً [الطّور: 23] . وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، أَيْ هُمْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ قَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَلَمَّا كَانَ إِلْحَاقُ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِهِمْ مُقْتَضِيًا مُشَارَكَتَهُمْ إِيَّاهُمْ فِي النَّعِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطّور: 21] كَانَ هَذَا التَّسَاؤُلُ جَارِيًا بَيْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْأُصُولِ والذريات سائلين ومسؤولين. وَضَمِيرُ بَعْضُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَّقِينَ [الطّور: 17] وعَلى ذُرِّيَّتُهُمْ [الطّور: 21] . وَجُمْلَةُ قالُوا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: 120] ضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْبَعْضَيْنِ، أَيْ يَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَسَائِلِينَ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ ضِدُّ الرَّجَاءِ، وَهَذَا التَّوَقُّعُ مُتَفَاوِتٌ عِنْدَ الْمُتَسَائِلِينَ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ مَا يُوجِبُهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَدَاءِ حَقِّ التَّكْلِيفِ، أَوْ مِنَ الْعِصْيَانِ. وَلِذَلِكَ فَهُوَ أَقْوَى فِي جَانِبِ ذُرِّيَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِأُصُولِهِمْ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ. وَلَعَلَّهُ فِي جَانِبِ الذُّرِّيَّاتِ أَظْهَرُ فِي مَعْنَى الشُّكْرِ لِأَنَّ أُصُولَهُمْ مِنْ أَهْلِهِمْ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذُرِّيَّاتِهِمْ كَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مُشَاهَدَةِ سَيْرِهِمْ فِي الْوَفَاءِ بِحُقُوقِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ أُصُولُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ

حَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ إِشْفَاقَهُمْ وَاسْتِغْفَارَهُمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُشْفِقِينَ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةُ. وَيَتَعَلَّقُ فِي أَهْلِنا بِ كُنَّا، أَيْ حِينَ كُنَّا فِي نَاسِنَا فِي الدُّنْيَا. فِ أَهْلِنا هُنَا بِمَعْنَى آلِنَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُقَالَةُ صَادِرَةً مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يُخَاطِبُونَ ذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ: فَالْمَعْنَى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ مُشْفِقِينَ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مُشْفِقِينَ لِأَجْلِكُمْ. وَمَعْنَى فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا مَنَّ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ عَنْكُمْ فَأَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وَوَقَانَا أَنْ يُعَذِّبَكُمْ بِالنَّارِ. فَلَمَّا كَانَ عَذَابُ الذُّرِّيَّاتِ يُحْزِنُ آبَاءَهُمْ جُعِلَتْ وِقَايَةُ الذُّرِّيَّاتِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ وِقَايَةِ آبَائِهِمْ فَقَالُوا: وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ إِغْرَاقًا فِي الشُّكْرِ عَنْهُمْ وَعَنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، أَيْ فَمَنَّ عَلَيْنَا جَمِيعًا وَوَقَانَا جَمِيعًا عَذَابَ السَّمُومِ. وَالسَّمُومِ بِفَتْحِ السِّينِ، أَصْلُهُ اسْمُ الرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جِهَةٍ حَارَّةٍ جِدًّا فَتَكُونُ جَافَّةً شَدِيدَةَ الْحَرَارَةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ تُهْلِكُ مِنْ يَتَنَشَّقَهَا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى رِيحِ جَهَنَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ بِالْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، كَمَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْعُنْصُرِ النَّارِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [27] وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ بِالْمَأْلُوفِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ تَعْلِيلٌ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُمْ، أَيْ كُنَّا مِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ نَدْعُوهُ، أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ نَدْعُوهُ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ كُنَّا نَبْتَهِلُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِنَا، وَسَبَبُ الْعُمُومِ دَاخِلٌ ابْتِدَاءً، وَهُوَ الدُّعَاءُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِذُرِّيَّاتِهِمْ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَبِنَوَالِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي دَارِ الْحَقِيقَةِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ إِلْهَامٍ وَمَعْرِفَةٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الصَّالِحِينَ لِأَبْنَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَى إِجَابَةِ دُعَاءِ

[سورة الطور (52) : آية 29]

الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ لِآبَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» فَذَكَرَ «وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» . وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّهُ) عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ مَحْذُوفًا حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنَّ) وَهُوَ هُنَا اللَّامُ تَعْلِيلًا لِ نَدْعُوهُ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَمَوْقِعُ جُمْلَتِهَا التَّعْلِيلُ. وَالْبَرُّ: الْمُحْسِنُ فِي رِفْقٍ. وَالرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَهُوَ لِقَصْرِ صِفَتَيِ الْبَرُّ والرَّحِيمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبُرُورِ غَيْرِهِ وَرَحْمَةِ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بُرُورِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ فَإِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَبْلُغُ بِالْمَبَرَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَبْلَغَ مَا لِلَّهِ وَبِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمُتَعَلِّقِ، وَبِاعْتِبَارِ الدَّوَامِ لِأَنَّ اللَّهَ بَرٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَغَيْرُ اللَّهِ بَرٌّ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَلَا يَمْلِكُ فِي الْآخِرَة شَيْئا. [29] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 29] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: 7] لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ، وَعَقَّبَ بِهَذَا لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مُؤْمِنِينَ بِهِ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ مَعَ مَا أُعِدَّ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فَكَانَ مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي اسْتِمْرَارِ التَّذْكِيرِ حِكْمَةً أَرَادَهَا اللَّهُ، وَهِيَ ارْعِوَاءُ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وَازْدِيَادُ الْمُصَدِّقِينَ تَوَغُّلًا فِي إِيمَانِهِمْ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمر الله رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّذْكِيرِ. فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَلَمَّا كَانَ أَثَرُ التَّذْكِيرِ أَهَمَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ لِيَهْتَدِي مَنْ شُرِحَ قَلْبُهُ لِلْإِيمَانِ رُوعِيَ مَا يَزِيدُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَاتًا عَلَى التَّذْكِيرِ مِنْ تَبْرِئَتِهِ مِمَّا يُوَاجِهُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُ: هُوَ كَاهِنٌ أَوْ هُوَ مَجْنُونٌ، فَرَبَطَ اللَّهُ جَأْشَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ بَرَاءَتَهُ

مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ رَبُّهُ تَعَالَى فَفَرَّعَ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّذْكِيرِ بِقَوْلِهِ: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. وَالْبَاءُ فِي بِنِعْمَةِ رَبِّكَ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَنْتَ. وَنفي هاذين الْوَصْفَيْنِ عَنْهُ فِي خِطَابِ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّفْيِ غَرَضٌ آخَرُ وَهُوَ هُنَا إِبْطَالُ نِسْبَةِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] ، وَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] مُصَرِّحًا فِيهِ بِبَعْضِ أَقْوَالِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ فِيمَا قَبْلَهُ مَقَالَةٌ مِنْ مَقَالِهِمْ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَاتِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ عَلَى خَصَائِصَ تُنَاسِبُ تَعْظِيمَ مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ وَهِيَ أَنَّهَا صِيغَتْ فِي نَظْمِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَقِيلَ فِيهَا «مَا أَنْتَ بِكَاهِنٍ» دُونَ: فَلَسْتَ بِكَاهِنٍ، لِتَدُلَّ عَلَى ثَبَاتِ مَضْمُونِ هَذَا الْخَبَرِ. وَقُدِّمَ فِيهَا الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَدَّمَ الْمسند وَهُوَ بِكاهِنٍ أَوْ مَجْنُونٍ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِالْمُسْنَدِ وَلَكِنَّ الِاهْتِمَامَ بِالضَّمِيرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ كَانَ أَرْجَحَ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ مَعَادِهِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ وَأَفَادَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْخَبَرِ لَا نَفْسُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْخَبَرِ كَقَوْلِنَا: الرَّسُولُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَأَفَادَ أَيْضًا قَصْرًا إِضَافِيًّا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ لِقَلْبِ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: 91] . وَقُرِنَ الْخَبَرُ الْمَنْفِيُّ بِالْبَاءِ الزَّائِدَةِ لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ فَحَصُلَ فِي الْكَلَامِ تَقَوِيَتَانِ، وَجِيءَ بِالْحَالِ قَبْلَ الْخَبَرِ، أَوْ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ، لِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ وَإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَعُدِلَ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ إِلَى تَعْرِيفِهِ بِالْإِضَافَةِ وَبِوَصْفِهِ الرَّبَّ لِإِفَادَةِ لُطْفِهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ رَبُّهُ فَهُوَ يَرُبُّهُ وَيُدَبِّرُ نَفْعَهُ، وَلِتُفِيدَ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

[سورة الطور (52) : آية 30]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ رَدٌّ عَلَى مَقَالَةِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ كَاهِنٌ، وَعَلَى عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِذْ قَالَ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَيَدُلُّ لِكَوْنِهِ رَدًّا عَلَى مَقَالَةٍ سَبَقَتْ أَنَّهُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] مَا سَيَكُونُ وَمَا خَفِيَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ. وَالْكَاهِنُ: الَّذِي يَنْتَحِلُ مَعْرِفَةَ مَا سَيَحْدُثُ مِنَ الْأُمُورِ وَمَا خَفِيَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ وَيُخْبِرُ بِهِ بِكَلَامٍ ذِي أَسْجَاعٍ قَصِيرَةٍ. وَكَانَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ، وَنَظِيرُهَا فِي الْعِبْرِيَّةِ (الْكُوهِينُ) وَهُوَ حَافِظُ الشَّرِيعَةِ وَالْمُفْتِي بِهَا، وَهُوَ مِنْ بَنِي (لَاوِي) ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِهَانَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [210] . وَقَدِ اكْتُفِيَ فِي إِبْطَالِ كَوْنِهِ كَاهِنًا أَوْ مَجْنُونًا بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ دُونَ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّأَمُّلِ فِي حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافٍ فِي تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ ذَيْنَكَ الْوَصْفَيْنِ عَنْهُ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِ اتِّصَافِهِ بِهِمَا إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِنَفْيِهِمَا لِأَنَّ دَلِيله الْمُشَاهدَة. [30] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 30] أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) إِنْ كَانَتْ أَمْ مُجَرَّدَةً عَنْ عَمَلِ الْعَطْفِ فَالْجُمْلَةُ مستأنفة استئنافا ابتدائيا، وَإِلَّا فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: 29] . وَعَنِ الْخَلِيلِ كُلُّ مَا فِي سُورَةِ الطُّورِ مِنْ (أَمْ) فَاسْتِفْهَامٌ وَلَيْسَ بِعَطْفٍ، يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لَا عَلَى عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَهَذَا ضَابِطٌ ظَاهِرٌ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّرٌ بَعْدَ (أَمْ) وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ عَنْ مَقَالَتِهِمُ الْمَرْدُودَةِ بِقَوْلِهِ: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: 29] لِلِانْتِقَالِ إِلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ: «هُوَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» . وَعُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ (بَلْ) مَعَ أَنَّهُ أَشْهَرُ فِي الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، لِقَصْدِ تَضَمُّنِ أَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَيَقُولُونَ شَاعِرٌ إِلَخْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَرَّرُ إِنْكَارِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَال أَن أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّذْكِيرِ يُشِيرُ إِلَى مَقَالَاتِهِمْ

الَّتِي يَرُدُّونَ بِهَا دَعْوَتَهُ فَلَمَّا أُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: 29] انْتَقَلَ إِلَى إِبْطَالِ صِفَةٍ أُخْرَى يُثَلِّثُونَ بِهَا الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا وَهِيَ صِفَةُ شَاعِرٌ. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ النَّاسِ: تَرَبَّصُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْتَ يَكْفِيكُمُوهُ كَمَا كَفَاكُمْ شَاعِرَ بَنِي فُلَانٍ وَشَاعِرَ بَنِي فُلَانٍ، وَلَمْ يُعَيِّنُوا اسْمَ الشَّاعِرِ وَلَا أَنَّهُ كَانَ يَهْجُو كُفَّارَ قُرَيْشٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَكَثُرَتْ آرَاؤُهُمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ: هُوَ شَاعِرٌ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، فَسَيَهْلِكُ كَمَا هَلَكَ زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةُ وَالْأَعْشَى، فَافْتَرَقُوا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَحَكَتْ مَقَالَتَهُمْ كَمَا قَالُوهَا، أَيْ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ خُصُوصُ ارْتِبَاطٍ بَيْنَ دَعْوَى أَنَّهُ شَاعِرٌ، وَبَيْنَ تَرَبُّصِ الْمَوْتِ بِهِ لِأَنَّ رَيْبَ الْمَنُونِ يُصِيبُ الشَّاعِرَ وَالْكَاهِنَ وَالْمَجْنُونَ. وَجَاءَ يَقُولُونَ مُضَارِعًا لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ. وَالتَّرَبُّصُ مُبَالَغَةٌ فِي: الرَّبْصِ، وَهُوَ الِانْتِظَارُ. وَالرَّيْبُ هُنَا: الْحَدَثَانِ، وَفُسِّرَ بِصَرْفِ الدَّهْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَيْبٌ فِي الْقُرْآنِ شَكٌّ إِلَّا مَكَانًا وَاحِدًا فِي الطُّورِ رَيْبَ الْمَنُونِ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِهِ، أَيْ نَتَرَبَّصُ لِأَجْلِهِ فَتَكُونَ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِ نَتَرَبَّصُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُلَابَسَةِ وَتَتَعَلَّقُ بِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَالا مِنْهُ مُقَدّمَة عَلَى صَاحِبِهَا، أَيْ حُلُولَ رَيْبِ الْمَنُونِ بِهِ. وَالْمَنُونُ: مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ وَمِنْ أَسْمَاءِ الدَّهْرِ، وَيُذَكَّرُ. وَقَدْ فُسِّرَ بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِذَا فُسِّرَ بِالْمَوْتِ فَإِضَافَةُ رَيْبَ إِلَيْهِ بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْحَدَثَانِ الَّذِي هُوَ الْمَوْت وَإِذا فُسِّرَ الْمَنُونُ بِالدَّهْرِ فَالْإِضَافَةُ عَلَى أَصْلِهَا، أَيْ أَحْدَاثُ الدَّهْر من مِثْلُ مَوْتٍ أَوْ خُرُوجٍ مِنَ الْبَلَد أَو رُجُوع عَن دَعْوَتِهِ، فَرَيْبُ الْمَنُونِ جِنْسٌ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي مَقَالَتِهِمْ قَوْلَهُمْ: فَسَيُهْلَكُ، فَاحْتُمِلَتْ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوهُ بَيَانَ رَيْبِ الْمَوْتِ أَوْ أَنْ أَرَادُوهُ مِثَالًا لِرَيْبِ الدَّهْرِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ جَارٍ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا حَكَتْ مَقَالَتَهُمْ.

[سورة الطور (52) : آية 31]

وَقَدْ وَرَدَ رَيْبَ الْمَنُونِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْمَعْنَيَيْنِ فَمِنْ وُرُودِهِ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ وَمِنْ وُرُوده بِمَعْنى حدثنان الدَّهْرِ قَوْلُ الْأَعْشَى: أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرَّ بِهِ ... رَيْبُ الْمنون ودهر متبل خَبِلُ أَرَادَ أَضَرَّ بِذَاتِهِ حَدَثَانِ الدَّهْرِ، وَلَمْ يُرِدْ إِصَابَةَ الْمَوْتِ كَمَا أَرَادَ أَبُو ذُؤَيْبٍ. وَلَمَّا كَانَ انْتِفَاءُ كَوْنِهِ شَاعِرًا أَمْرًا وَاضِحًا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ التَّأَمُّلِ لَمْ يَتَصَدَّ الْقُرْآنُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِهِ وَإِنَّمَا اشْتَمَلَتْ مَقَالَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ أَنْ يَحُلَّ بِهِ مَا حَلَّ بِالشُّعَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ. فَأَمْرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ بِأَنْ يَقُولُ: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطّور: 31] ، وَهُوَ جَوَابٌ مُنْصِفٌ لِأَنَّ تَرَبُّصَ حُلُولِ حَوَادِثِ الدَّهْر بِأحد الجانيين أَوْ حُلُولِ الْمَنِيَّةِ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لَا يَدْرِي أَحَدُنَا مَاذَا يحل بِالْآخرِ. [31] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 31] قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) وَرَدَتْ جُمْلَةُ قُلْ تَرَبَّصُوا مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَقَامِ الْمُحَاوَرَةِ لِسَبْقِهَا بِجُمْلَةِ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] إِلَخْ، فَإِنْ أُمِرَ أَحَدٌ بِأَنْ يَقُولَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَأُمِرَ بِقَوْلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاء: 51] . وَالْأَمْرُ فِي تَرَبَّصُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَةِ، أَيْ سَوَاء عِنْدِي تربصكم بِي وَعَدَمُهُ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَيْ فَإِنِّي مُتَرَبِّصٌ بِكُمْ مِثْلَ مَا تَتَرَبَّصُونَ بِي إِذْ لَا نَدْرِي أَيُّنَا يُصِيبُهُ رَيْبُ الْمَنُونِ قَبْلُ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَتَرَبَّصُ بِهِمْ كَمَا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ لِأَنَّهُمْ لِغُرُورِهِمُ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ لِيَرَوْا هَلَاكَهُ، فَهَذَا مِنْ تَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُنْكِرِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ.

[سورة الطور (52) : آية 32]

وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: مَعَكُمْ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا لِلْمُشَارَكَةِ فِي وَصْفِ التَّرَبُّصِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ مُقَدَّرًا مَعَهُ «بِكُمْ» لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] كَانَ فِي الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّهُ يَبْقَى مَعَهُمْ يَتَرَبَّصُ هَلَاكَهُمْ حِينَ تَبْدُو بَوَادِرُهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ إِذْ أَصَابَهُمْ مِنَ الْحَدَثَانِ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى صَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا: مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَرَبَّصُ بِهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ فِي جُمْلَةِ الْمُتَرَبِّصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مَا فِي آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ صِيغَ نَظْمُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الِانْتِقَالَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ وَذَلِكَ بِمَا نُهِّيَ بِهِ مِنْ شِبْهِ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ إِذْ تَمَّتْ بِهِ الفاصلة. [32] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 32] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا. إِضْرَابُ انْتِقَالٍ دَعَا إِلَيْهِ مَا فِي الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ أَمْ من معنى التعجيب مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ السَّابِقِ وَيَسْتَقِرُّ ذَلِكَ فِي إِدْرَاكِهِمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ عُقُولٍ لَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَحْوَالُ النَّاسِ فَهُمْ لَا يَجْهَلُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِحَالِ الْكُهَّانِ وَلَا الْمَجَانِينَ وَلَا الشُّعَرَاءِ وَقَدْ أَبَى عَلَيْهِمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ مَعْرُوفَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يُدْعَوْنَ أَهْلَ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى وَالْمَعْنَى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمُ الْمَزْعُومَةُ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بِهذا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَوْلِ الْمُعَرَّضِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: 29] ، وَالْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَلُومُ عَاقِلًا عَلَى فِعْلٍ فَعَلَهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ

يَجْهَلَ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ: أَعَاقَلٌ أَنْتَ؟ أَوْ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] . وَالْحِلْمُ: الْعَقْلُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَانِعُ مِنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ. وَفِي «الْقَامُوسِ» هُوَ الْأَنَاةُ. وَفِي «مَعَارِجَ النُّورِ» : وَالْحِلْمُ مَلَكَةٌ غَرِيزِيَّةٌ تُورِثُ لِصَاحِبِهَا الْمُعَامَلَةَ بِلُطْفٍ وَلِينٍ لِمَنْ أَسَاءَ أَوْ أَزْعَجَ اعْتِدَالَ الطَّبِيعَةِ. وَمَعْنَى إِنْكَارِ أَنْ تَأْمُرَهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَنَّ الْأَحْلَامَ الرَّاجِحَةَ لَا تَأْمُرُ بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَحْلَامَهُمْ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْلَامَ لَا تَأْمُرُ بِمِثْلِهِ فَهُمْ كَمَنَ لَا أَحْلَامَ لَهُمْ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا عَقْلَ لَهُ (¬1) . قَالُوا وَإِنَّمَا لِلْكَافِرِ الذِّهْنُ وَالذِّهْنُ يَقْبَلُ الْعِلْمَ جُمْلَةً، وَالْعَقْلُ يُمَيِّزُ الْعِلْمَ وَيُقَدِّرُ الْمَقَادِيرَ لِحُدُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْأَمْرُ فِي تَأْمُرُهُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْبَاعِثِ، أَيْ تَبْعَثُهُمْ أَحْلَامُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ. إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى اسْتِفْهَامٍ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالطُّغْيَانِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ مُسْتَعْمَلٌ: إِمَّا فِي التَّشْكِيكِ لِيَكُونَ التَّشْكِيكُ بَاعِثًا عَلَى التَّأَمُّلِ فِي حَالِهِمْ فَيُؤْمِنُ بِأَنَّهُمْ طَاغُونَ، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ لِكُلِّ سَامِعٍ إِذْ يَجِدُهُمْ طَاغِينَ. وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْمٌ يُمَهِّدُ لِكَوْنِ الطُّغْيَانِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حَقِيقَةِ الْقَوْمِيَّةِ فِيهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] ، أَيْ تَأَصَّلَ فِيهِمُ الطُّغْيَانُ وَخَالَطَ نُفُوسَهُمْ فَدَفَعَهُمْ إِلَى أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَقْوَال. [33، 34] ¬

(¬1) رَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ عَن الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ صَاحب «نَوَادِر الْأُصُول» .

[سورة الطور (52) : الآيات 33 إلى 34]

[سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 33 إِلَى 34] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) انْتِقَالٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] إِلَخْ. وَهَذَا حِكَايَةٌ لِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِقَوْلِهِمْ، وَهُمْ قَدْ أَكْثَرُوا من الطعْن وتمالؤوا عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي حِكَايَتِهِ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ يَقُولُونَ الْمُفِيدَةِ لِلتَّجَدُّدِ. وَالتَّقَوُّلُ: نِسْبَةُ كَلَامٍ إِلَى أَحَدٍ لَمْ يَقُلْهُ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْكَلَامِ بِنَفْسِهِ وَيَتَعَدَّى إِلَى مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 44، 45] الْآيَةَ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَقَوَّلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ. وَابْتُدِئَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ لِتَعْجِيلِ تَكْذِيبِهِمْ قَبْلَ الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَلِيَكُونَ وُرُودُ الِاسْتِدْلَالِ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلٍ ثَانٍ. وَمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ: أَنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقَوُّلِ الْقُرْآنِ بَيِّنَةٌ لَدَيْهِمْ وَلَكِنَّ الزَّاعِمِينَ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ الْإِيمَانَ فَهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى الطَّعْنِ دُونَ نَظَرٍ وَيُلْقُونَ الْمَعَاذِيرَ سَتْرًا لِمُكَابَرَتِهِمْ. وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ هَذِهِ طَعْنًا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ تَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ قَدْ تَرُوجُ عَلَى الدَّهْمَاءِ تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِبَيَانِ إِبْطَالِهَا بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَوَّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَيْ فَعَجْزُهُمْ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ. وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ الْعَرَبِ وَهُوَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِمْ. فَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَهَ وَبَيْنَهُمْ فِي الْمَقْدِرَةِ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ ثَابِتَةٌ، فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ قَالَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ بَعْضُ خَاصَّةِ الْعَرَبِ الْبُلَغَاءِ قَادِرًا عَلَى تَأْلِيفِ مِثْلِهِ، فَلَمَّا تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُرْآنِ وَفِيهِمْ بُلَغَاؤُهُمْ وَشُعَرَاؤُهُمْ وَكَلِمَتُهُمْ وَكُلُّهُمْ وَاحِدٌ فِي الْكُفْرِ كَانَ عَجْزُهُمْ

عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ دَالًّا عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ [13، 14] : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: إِحْضَارُهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ نَحْوِ: فَلْيَقُولُوا مِثْلَهُ وَنَحْوِهِ، لِقَصْدِ الْإِعْذَارِ لَهُمْ بِأَنْ يُقْتَنَعَ مِنْهُمْ بِجَلْبِ كَلَامٍ مِثْلِهِ وَلَوْ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [23] فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ، أَو فَأتوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. وَالْحَدِيثُ: الْإِخْبَارُ بِالْحَوَادِثِ، وَأَصْلُ الْحَوَادِثِ أَنَّهَا الْوَاقِعَاتُ الْحَدِيثَةُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فَأُطْلِقَتْ عَلَى الْوَاقِعَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً كَقَوْلِهِمْ: حَوَادِثُ سَنَةِ كَذَا، وَتَبِعَ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى الْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَتُوسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ هُنَا قَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ فَلْيَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، أَيْ فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ لَا خُصُوصَ الْأَخْبَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْبَارِ، أَيْ فَلْيَأْتُوا بِأَخْبَارٍ مِثْلِ قَصَصِ الْقُرْآنِ فَيَكُونَ اسْتِنْزَالًا لَهُمْ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِالْأَخْبَارِ أَسْهَلُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مِنِ ابْتِكَارِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْقُرْآنَ «أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ، أَيْ أَخْبَارٌ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ فَقِيلَ لَهُمْ: فَلْيَأْتُوا بِأَخْبَارٍ مِثْلِ أَخْبَارِهِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالشَّرَائِعِ وَالدَّلَائِلِ لَا قِبَلَ لِعُقُولِهِمْ بِهِ، وَقُصَارَاهُمْ أَنْ يَفْهَمُوا ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوهُ. وَمَعْنَى الْمِثْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مِثْلِهِ الْمِثْلِيَّةُ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهِيَ خُصُوصِيَّاتٌ يُدْرِكُونَهَا إِذَا سَمِعُوهَا وَلَا تُحِيطُ قَرَائِحُهُمْ بِإِيدَاعِهَا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَا أُصُولَ الْإِعْجَازِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.

[سورة الطور (52) : الآيات 35 إلى 36]

وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَأْتُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ قَول إِبْرَاهِيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 258] . وَقَوْلُهُ: إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ، أَيْ فَإِنَّ لَمْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ فَهُمْ كَاذِبُونَ. وَهَذَا إِلْهَابٌ لِعَزِيمَتِهِمْ لِيَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عَدَمُ إِتْيَانِهِمْ بِمِثْلِهِ حُجَّةً عَلَى كَذِبِهِمْ وَقَدْ أَشْعَرَ نَظْمُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ الْوَاقِعِ مَوْقِعًا شَبِيهًا بِالتَّذْيِيلِ وَالْمَخْتُومِ بِكَلِمَةِ الْفَاصِلَةِ، أَنَّهُ نِهَايَةُ غَرَضٍ وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ شُرُوعٌ فِي غَرَضٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطّور: 31] . [35، 36] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 35 إِلَى 36] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ. إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى إِبْطَالِ ضَرْبٍ آخَرَ مِنْ شُبْهَتِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ مِنْ أَغْرَاضِهَا إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ وَصْفِ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَحَالِ أَهْلِهِ قَدِ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَاتٌ نَشَأَتْ عَنْهَا تِلْكَ التَّفَاصِيلُ، فَإِذْ وُفِّيَ حَقُّ مَا اقتضته تِلْكَ المناسبات ثُنِّيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ نَحْو قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الْإِسْرَاء: 49] . فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ الْآيَاتِ أَدِلَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: 7] لِأَنَّ شُبْهَتَهُمُ الْمَقْصُودَ رَدُّهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هِيَ قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 49] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ (أَمْ) تَقْرِيرِيًّا. وَالْمَعْنَى: أَيُقِرُّونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا فَكُلَّمَا خُلِقُوا مِنْ عَدَمٍ فِي نشأتهم الأولى ينشأون مِنْ عَدَمٍ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِإِمْكَانِ الْبَعْثِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: 5- 8]

وَقَوْلِهِ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعْنَى شَيْءٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْمَوْجُودُ فَغَيْرُ شَيْءٍ: الْمَعْدُومُ، وَالْمَعْنَى: أَخُلِقُوا مِنْ عَدَمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) إِنْكَارِيًّا، وَيَكُونَ اسْمُ شَيْءٍ صَادِقًا عَلَى مَا يَصْلُحُ لِمَعْنَى التَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَرْفِ (مِنَ) التَّعْلِيلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ خَلْقَهُمْ بِغَيْرِ حِكْمَةٍ، وَهَذَا إِثْبَاتٌ أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، بِأَنَّ الْجَزَاءَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي لَا يَخْلُو عَنْهَا فِعْلُ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَقَوْلِهِ: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ [الْحجر: 85] . وَلِحَرْفِ (مِنْ) فِي هَذَا الْكَلَامِ الْوَقْعُ الْبَدِيعُ إِذْ كَانَتْ عَلَى احْتِمَالِ مَعْنَيَيْهَا دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَعَلَى وُقُوعِهِ وَعَلَى وُجُوبِ وُقُوعِهِ وُجُوبًا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْعُلْيَا. وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ صَوْغِ الْكَلَامِ بِالصِّيغَةِ الْغَالِبَةِ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، أَعْنِي صِيغَةَ النَّفْيِ بِأَنْ يُقَالَ: أَمَا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَالْعُدُولُ عَنْ تَعْيِينِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ غَيْرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ وَهُوَ لَفْظُ شَيْءٍ، رُوعِيَ فِيهِ الصَّلَاحِيَّةُ لِاحْتِمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ وَذَلِكَ مِنْ مُنْتَهى البلاغة. وَإِذ كَانَ فَرْضُ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَاضِحَ الْبُطْلَانِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ عَلَى إِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَهُوَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ أَيْضًا، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا هُمُ الْخَالِقُونَ وَإِذْ كَانُوا لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ فَالْإِنْكَارُ مُرَتَّبٌ عَلَى تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خَالِقُونَ. وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ الْحَصْرِ الَّذِي طَرِيقُهُ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلرَّدِ عَلَيْهِمْ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْخَالِقُونَ لَا اللَّهَ، لِأَنَّهُمْ عَدُّوا مِنَ

الْمُحَالِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِمْ، فَجَعَلُوهُ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لَا نَحْنُ. وَالْمَعْنَى: نَحْنُ الْخَالِقُونَ لَا هُمْ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْخالِقُونَ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيِ الْخَالِقُونَ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَعَلَى هَذَا جَرَى الطَّبَرِيُّ وَقَدَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَدَا الطَّبَرِيِّ: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَنْفُسَهُمْ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ضَمِيرَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ اسْمُ مَعَادِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ وَلَا افْتِرَاءَ فِي انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونُوا خَالِقِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُتَصَدَّ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى هَذَا الِانْتِفَاءِ. وَجُمْلَةُ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ إِنْ كَانَ مَفْعُولُ الْخالِقُونَ الْمَحْذُوفُ مُرَادًا بِهِ الْعُمُومُ وَكَانَ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ذَاتَيْهِمَا مَعَ مَنْ فِيهِمَا، أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَنَّ الْمُرَادُ ذَاتَيِ السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالذِّكْرِ لِعِظَمِ خَلْقِهِمَا. وَإِعَادَةُ حَرْفِ أَمْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا يُعَادُ عَامِلُ الْمُبَدَلِ مِنْهُ فِي الْبَدَلِ، وَالْمَعْنَى: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُعْجِزُهُ إِعَادَةَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [الْإِسْرَاء: 99] أَيْ أَنْ يَخْلُقَ أَمْثَالَ أَجْسَادِهِمْ بَعْدَ انْعِدَامِهِمْ. بَلْ لَا يُوقِنُونَ. إِضْرَابُ إِبْطَالٍ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ، أَيْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَلَا خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَيِّنٌ لَهُمْ فَمَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْث إِلَّا ناشىء عَنْ عَدَمِ إِيقَانِهِمْ فِي مَظَانِّ الْإِيقَانِ وَهِيَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ

[سورة الطور (52) : آية 37]

أَغْرَبَ مِنْ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَمَا كَانَ إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ إِلَّا عَنْ مُكَابَرَةٍ وتصميم على الْكفْر. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْرَ لَا هَذَا وَلَا ذَلِك وَلَكِنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ بِدُونِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ بَلْ رَانَتِ الْمُكَابَرَةُ على قُلُوبهم. [37] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 37] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ. انْتِقَال بِالْعودِ إِلَى رَدِّ جُحُودِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْإِخْبَارِ فِيهِ إِلَى مُخَاطَبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْأَصْلُ الَّذِي رَكَّزُوا عَلَيْهِ جُحُودَهُمْ تَوَهُّمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِالرِّسَالَةِ رَجُلًا عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ قَوْمِهِمْ كَمَا حَكَى الله عَنْهُم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] يَعَنُونُ قَرْيَةَ مَكَّةَ وَقَرْيَةَ الطَّائِفِ. وَالْمَعْنَى: إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تصرف فِي شؤون الرُّبُوبِيَّةِ فَيَجْعَلُوا الْأُمُورَ عَلَى مَشِيئَتِهِمْ كَالْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ وَالْمُدَبِّرِ فِيمَا وُكِّلَ عَلَيْهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ بِتَنْزِيلِهِمْ فِي إِبْطَالِ النُّبُوءَةِ عَمَّنْ لَا يَرْضَوْنَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ اللَّهِ يَخْلَعُونَ الْخِلَعَ مِنْهَا على من يشاؤون وَيمْنَعُونَ من يشاؤون. وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خَزِينَةٍ وَهِيَ الْبَيْتُ، أَوِ الصُّنْدُوقُ الَّذِي تُخَزَّنُ فِيهِ الْأَقْوَاتُ، أَوِ الْمَالُ وَمَا هُوَ نَفِيسٌ عِنْدَ خَازِنِهِ، وَتَقَدَّمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [يُوسُف: 55] . وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ إِعْطَاءِ الْغَيْر للمخلوقات، وَمِنْه اصْطِفَاءُ مَنْ هَيَّأَهُ مِنَ النَّاسِ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ عَنْهُ إِلَى الْبَشَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [50] قَوْلُهُ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] . وَقَالَ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْقَصَص: 68] . وَقَدْ سُلِكَ مَعَهُمْ هُنَا مَسْلَكَ الْإِيجَازِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِإِحَالَتِهِمْ عَلَى مُجْمَلٍ أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ غَضَبٍ عَلَيْهِمْ لِجُرْأَتِهِمْ عَلَى

الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْيِ الرِّسَالَةِ عَنْهُ بِوَقَاحَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَاهِنٌ، وَمَجْنُونٌ، وَشَاعِرٌ إِلَخْ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهَا رَدَّتْ عَلَيْهِمْ تَعْرِيضَهُمْ أَنْفُسَهُمْ لِنَوَالِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَة ص [8، 9] أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [32] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. وَكَلِمَةُ «عِنْدَ» تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي مَعْنَى الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: 59] ، فَالْمَعْنَى: أَيَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَبِّكَ، أَيِ الْخَزَائِنُ الَّتِي يَمْلِكُهَا رَبُّكَ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَةُ خَزائِنُ إِلَى رَبِّكَ عَلَى نَحْوِ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النَّجْم: 35] . وَقَدْ عُبِّرَ عَنْ هَذَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الْإِسْرَاء: 100] . أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) . إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي عَطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ دُونَ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ مِثْلُ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَالْخَازِنِ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُصَيْطِرُونَ. وَالْمُصَيْطِرُ: يُقَالُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ فِي أَوَّلِهِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَيْطَرَ بِالصَّادِ وَالسِّينِ، إِذَا حَفِظَ وَتَسَلَّطَ، وَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنْ سَيْطَرَ إِذَا قَطَعَ، وَمِنْهُ الساطور، وَهُوَ حَدِيدَة يقطع بهَا اللَّحْمُ وَالْعَظْمُ. وَصِيغَ مِنْهُ وزن فيعل لِلْإِلْحَاقِ بِالرُّبَاعِيِّ كَقَوْلِهِمْ: بَيْقَرَ، بِمَعْنَى هَلَكَ أَوْ تَحَضَّرَ، وَبَيْطَرَ بِمَعْنَى شَقَّ، وَهَيْمَنَ، وَلَا خَامِسَ لَهَا فِي الْأَفْعَالِ. وَإِبْدَالُ السِّينِ صَادًا لُغَةٌ فِيهِ مِثْلُ الصِّرَاطِ وَالسِّرَاطَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْمُصَيْطِرُونَ بِصَادٍ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَفْص فِي رِوَايَة بِالسِّينِ فِي أَوَّلِهِ. وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ

[سورة الطور (52) : آية 38]

الِاسْتِدْلَالُ لِهَذَا النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ لِأَنَّ وُضُوحَهُ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَكَانَتْ سَبَب إِسْلَامه. [38] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 38] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ قَوِيٌّ أَوْ ضَعِيفٌ فِي مَوَاهِبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَعْقَبَهُ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اطِّلَاعٌ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ اطِّلَاعًا يُخَوِّلُهُمْ إِنْكَارَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا أَوْ يُوحِيَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ لِإِبْطَالِ قَوْلهم: تَقَوَّلَهُ [الطّور: 33] . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ هَلَاكَهُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْتَمِعُونَ لِيَعُمَّ كَلَامًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْمَعَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَغِيبَةِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَغَيْرِهِ الْوَاقِعِ وَغَيْرِهِ. وَسَلَكَ فِي نَفْيِ عِلْمِهِمْ بِالْغَيْبِ طَرِيقَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ سُلَّمٌ يَرْتَقُونَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَسْتَمِعُوا مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ أَمْرٍ تَتَلَقَّاهُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ أَهْلُ الْمَلَإِ الْأَعْلَى بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَيَسْتَرِقُوا بَعْضَ الْعِلْمِ مِمَّا هُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ النَّاسِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا سُلَّمَ يَصِلُ أَهْلَ الْأَرْضِ بِالسَّمَاءِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَعُلِمَ مِنِ اسْمِ السُّلَّمِ أَنَّهُ آلَةُ الصُّعُودِ، وَعُلِمَ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَنَّ الْمُرَادَ سُلَّمٌ يَصْعَدُونَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أَيْ يَرْتَقُونَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْتَمِعُونَ وَهُمْ فِيهِ، أَيْ فِي دَرَجَاتِهِ الْكَلَامَ الَّذِي يَجْرِي فِي السَّمَاءِ. وفِيهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَمِعُونَ، أَيْ وَهُمْ كَائِنُونَ فِيهِ لَا يُفَارِقُونَهُ إِذْ لَا يُفْرَضُ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ مِنْهُ إِلَى سَاحَاتِ السَّمَاءِ. وَإِسْنَادُ الِاسْتِمَاعِ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ سَفِيرٌ عَنْهُمْ عَلَى عَادَةِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ بَعْضِ الْقَبِيلَةِ إِلَى جَمِيعِهَا إِذَا لَمْ تَصُدُّهُ عَنْ عَمَلِهِ فِي قَوْلِهِمْ: قَتَلَتْ بَنُو أَسَدٍ حَجَرًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا

فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ، أَيْ مَنَ اسْتَمَعَ مِنْهُمْ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ أَرْسَلُوهُ لِلسَّمْعِ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [49] . و (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ الرَّاقِيَ فِي السُّلَّمِ يَكُونُ كُلُّهُ عَلَيْهِ، فَالسُّلَّمِ لَهُ كَالظَّرْفِ لِلْمَظْرُوفِ، وَإِذْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِعْلَاءٌ ثُمَّ شَاعَ فِي الْكَلَامِ فَقَالُوا: صَعِدَ فِي السُّلَّمِ، وَلَمْ يَقُولُوا: صَعِدَ عَلَى السُّلَّمِ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَتْ ظَرْفِيَّةً حَقِيقِيَّةً، أَيْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً بِخِلَافِ الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ أَنْ يُقَالَ: صَلَبَهُ فِي جِذْعٍ، بَلْ يُقَالُ: صَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ اسْتِعَارَةً، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الظَّرْفِيَّةَ مَجَازِيَّةٌ وَقَوْلِ مَنْ زَعَمَهَا حَقِيقَةً. وَالْفَاءُ فِي فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْأَمْرِ التَّعْجِيزِيِّ عَلَى النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ. فَالْمَعْنَى: فَمَا يَأْتِي مُسْتَمِعٌ مِنْهُمْ بِحُجَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُمْ. فَلَامُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ التَّعْجِيزِ بِقَرِينَةِ انْتِفَاءِ أَصِلِ الِاسْتِمَاعِ بِطَرِيقِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ، أَيْ حُجَّةٌ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي نَفْيِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي كَوْنِهِ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْغَيْبِ مِنْ أَمَارَاتٍ كَأَنْ يَقُولُوا: آيَةُ صِدْقِنَا فِيمَا نَدَّعِيهِ وَسَمِعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْمَلَإِ الْأَعْلَى، أَنَّنَا سَمِعْنَا أَنَّهُ يَقَعُ غَدًا حَادِثُ كَذَا وَكَذَا مَثَلًا، مِمَّا لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ، فَيَقَعُ كَمَا قَالُوا وَيُتَوَسَّمُ مِنْهُ صِدْقُهُمْ فِيمَا عَدَاهُ. وَهَذَا مَعْنَى وصف السُّلْطَان بالمبين، أَيِ الْمُظْهِرُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى. وَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِأَنْ يَأْتِيَ بَعْضُهُمْ بِحُجَّةٍ دُونَ تَكْلِيفِ جَمِيعِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] أَيْ فَلْيَأْتِ مَنْ يَتَعَهَّدُ مِنْهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ بِحُجَّةٍ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْكَلَامِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطّور: 31] وَقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطّور: 34] .

[سورة الطور (52) : آية 39]

[سُورَة الطّور (52) : آيَة 39] أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) لَمَّا جَرَى نَفْيُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مُطَالَعَةُ الْغَيْبِ مِنَ الْمَلَإِ الْأَعْلَى إِبْطَالًا لمقالاتهم فِي شؤون الرُّبُوبِيَّةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ نِسْبَتِهِمْ لِلَّهِ بَنَاتٍ اسْتِقْصَاءً لِإِبْطَالِ أَوْهَامِهِمْ فِي الْمُغَيَّبَاتِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَهَذِهِ الْجُمْلَة معترض بَيْنَ جُمْلَةِ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ [الطّور: 38] وَجُمْلَة أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً [الطّور: 40] ، وَيُقَدَّرُ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارًا لِأَنْ يَكُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتُ. وَدَلِيل الْإِنْكَار فِي نفس الْأَمْرِ اسْتِحَالَةُ الْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عُقُولُ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الرَّدِّ غَيْرَ مُسْتَعِدَّةٍ لِإِدْرَاكِ دَلِيلِ الِاسْتِحَالَةِ، وَكَانَ اعْتِقَادُهُمُ الْبَنَاتِ لِلَّهِ مُنْكَرًا، تُصُدِّيَ لِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ وَسُلِكَ فِي إِبْطَالِهِ دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ يَتَفَطَّنُونَ بِهِ إِلَى خَطَلِ رَأْيِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَكُمُ الْبَنُونَ. فَجُمْلَةُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِلَّهِ الْبَنَاتُ فِي حَالِ أَنَّ لَكُمْ بَنِينَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ صِنْفَ الذُّكُورِ أَشْرَفُ مِنْ صِنْفِ الْإِنَاثِ عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْم: 21، 22] . فَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَشْنِيعِ قَوْلِهِمْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ نَسَبُوا لِلَّهِ الْبَنِينَ لَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَلَا طَائِلَ تَحْتَ إِبْطَالِهِ. وَتَغَيِيرِ أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ الْمُتَّبَعِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] إِلَى أُسْلُوبِ الْخِطَابِ الْتِفَاتُ مُكَافِحَةٍ لَهُمْ بِالرَّدِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمُ عَلَى الْبَنُونَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَكُمُ الْبَنُونَ دُونَهُ فَهُمْ لَهُمْ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْبَنَاتُ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَإِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَناتُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَقَدْ أُنْهِيَ الْكَلَامُ بِالْفَاصِلَةِ لِأَنَّهُ غَرَضٌ مُسْتَقِلٌّ

[سورة الطور (52) : آية 40]

[40] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 40] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) هَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ [الطّور: 33] وَقَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطّور: 37] إِذْ كُلُّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى زعم انْتِفَاء النبوءة عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ وَسَائِلَ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بِمَا زَعَمُوهُ عَادَ إِلَى إِبْطَالِ الدَّوَاعِي الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الَّذِي اتَّصَلَ هُوَ بِهِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُنَا: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً وَقَالَ هُنَالِكَ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطّور: 37] . وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَوَجَّسُ خِيفَةً مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرًا عَلَى إِرْشَادِهِمْ. وَالتَّهَكُّمُ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَالْمَقْصُودُ، مَا فِي التَّهَكُّمِ مِنْ مَعْنَى أَنَّ مَا نَشَأَ عَنْهُ التَّهَكُّمُ أَمْرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَسْأَلُهُمْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ، أَيْ تَسْأَلُهُمْ سُؤَالًا مُتَكَرِّرًا لِأَنَّ الدَّعْوَةَ مُتَكَرِّرَةٌ، وَقَدْ شُبِّهَتْ بِسُؤَالِ سَائِلٍ. وَتَفْرِيعُ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ سُؤَالِ الْأَجْرِ وَبَيْنَ تَجَهُّمِ مَنْ يَسْأَلُ وَالتَّحَرُّجِ مِنْهُ. وَقَدْ فَرَّعَ قَوْلَهُ: فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ مَا سَأَلْتَهُمْ أَجْرًا فَيَثْقُلَ غُرْمُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَالْإِثْقَالِ يَتَفَرَّعُ عَلَى سُؤَالِ الْأَجْرِ الْمَفْرُوضِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّؤَال محرج للمسؤول لِأَنَّهُ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ فَهُوَ ثَقِيلٌ وَبَيْنَ الرَّدِّ وَهُوَ صَعْبٌ. وَالْمَغْرَمُ بُفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ الْغُرْمُ. وَهُوَ مَا يُفْرَضُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِوَضٍ يَدْفَعُهُ. وَالْمُثْقَلُ: أَصْلُهُ الْمُحَمَّلُ بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَنْ يُطَالَبُ بِمَا يَعْسُرُ

[سورة الطور (52) : آية 41]

عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، شَبَّهَ طَلَبَهُ أَدَاءَ مَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ بِحِمْلِ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ عَلَى مَنْ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ. ومِنْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مُثْقَلُونَ مِنْ أَجْلِ مُغْرَمٍ حُمِلَ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ مَا كَلَّفْتَهُمْ شَيْئًا يُعْطُونَهُ إِيَّاكَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ تَخَلُّصًا مِنْ أَدَاءِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ، أَيِ انْتَفَى عُذْرُ إِعْرَاضِهِمْ عَن دعوتك. [41] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 41] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) هَذَا نَظِيرُ الْإِضْرَابِ وَالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطّور: 37] ، أَيْ بَلْ أَعِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا يَجِدُونَهُ فِيهِ وَيَرْوُونَهُ لِلنَّاسِ؟! أَيْ مَا عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حَتَّى يَكْتُبُوهُ، فَبَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ إِنْكَارَهُمُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ كَالَّذِينَ سَأَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِهَا أَعْقَبَهُ بِرَدٍّ آخَرَ بِأَنَّهُمْ كَالَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ مَا ادَّعَى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْلَاغَهُ عَنِ اللَّهِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا قَالُوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أَيْ حَتَّى عَلِمُوا مَتَى يَمُوتُ مُحَمَّدٌ، أَوْ إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ فَجَعَلَهُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] . وَالْوَجْهُ مَا سَمِعْتَهُ آنِفًا. وَالْغَيْبُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَكَلِمَةٌ (عِنْدَ) تُؤْذِنُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِئْثَارِ، أَيِ اسْتَأْثَرُوا بِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ فَعَلِمُوا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُمْ. وَالْكِتَابَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ يَجُوزُ أَنَّهَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْجَزْمِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّخَلُّفَ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَام: 54] لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ أَنْ يُكْتَبَ وَيُسَجَّلَ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ

[سورة الطور (52) : آية 42]

فَيَكُونُ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ مِنْ إِفَادَةِ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَيْ فَهُمْ يُسَجِّلُونَ مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ لِيَبْقَى مَعْلُومًا لِمَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَيَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ تَبَعًا لِفَرْضِ قَوْلِهِ: عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ، وَيَكُونَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النَّجْم: 35] وَقَوْلِهِ: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ [مَرْيَم: 77، 78] . وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِ مَا جَحَدُوهُ وَلَا بِإِثْبَاتِ مَا أثبتوه. [42] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 42] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) انْتِقَالٌ مِنْ نَقْضِ أَقْوَالِهِمْ وَإِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ إِلَى إِبْطَالِ نَوَايَاهُمْ وعزائمهم من التبيت لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِضْرَارِ وَالْإِخْفَاقِ وَفِي هَذَا كَشْفٌ لِسَرَائِرِهِمْ وَتَنْبِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِلْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ كَيْداً لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكِيدُوهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّتْمِيمِ لِنَقْضِ غَزْلِهِمْ وَالتَّذْيِيلِ بِمَا يَعُمُّ كُلَّ عَزْمٍ يَجْرِي فِي الْأَغْرَاضِ الَّتِي جَرَتَ فِيهَا مَقَالَاتُهُمْ. وَالْكَيْدُ وَالْمَكْرُ مُتَقَارِبَانِ وَكِلَاهُمَا إِظْهَارُ إخفاء الضّر بِوُجُوه الْإِخْفَاءِ تَغْرِيرًا بِالْمَقْصُودِ لَهُ الضُّرُّ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ فَهُمُ الْمَكِيدُونَ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ حُلُولِ الْكَيْدِ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ، فَاللَّهُ يُدَافِعُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَنْ دِينِهِ كَيْدَهُمْ وَيُوقِعُهُمْ فِيمَا نَوَوْا إِيقَاعَهُمْ فِيهِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَكِيدُونَ دُونَ مَنْ أَرَادُوا الْكَيْدَ بِهِ.

[سورة الطور (52) : آية 43]

وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكَيْدِ عَلَى مَا يُجَازِيهِمُ اللَّهُ بِهِ عَنْ كَيْدِهِمْ مِنْ نَقْضِ غَزْلِهِمْ إِطْلَاقٌ عَلَى وَجْهِ المشاكلة بتشبيه إمهال اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي نِعْمَةٍ إِلَى أَنْ يَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ بِفِعْلِ الْكَائِدِ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ صَرِيحٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [30] . وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّهْدِيدِ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي تَفْرِيعِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ كَالْقَوْلِ فِي تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطّور: 40] . [43] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 43] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) هَذَا آخِرُ سَهْمٍ فِي كِنَانَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَأَشَدُّ رَمْيٍ لِشَبَحِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ شَبَحُ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ أَجْمَعُ ضَلَالٍ تَنْضَوِي تَحْتَهُ الضَّلَالَاتُ وَهُوَ إِشْرَاكُهُمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. فَلَمَّا كَانَ مَا نُعِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ نَاقِضًا لِإِقْوَالِهِمْ وَنَوَايَاهُمْ، وَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمَ لَمْ يُتْرَكْ عَدُّ ذَلِك عَلَيْهِم مَعَ اشْتِهَارِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَام بِهَذِهِ الْمُنَاسِبَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْمُنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ ارْتِقَاءٌ إِلَى الْأَهَمِّ فِي نَوْعِهِ وَالْأَهَمُّ يُشْبِهُ الْأَعَمَّ فَكَانَ كَالتَّذْيِيلِ، وَنَظِيرُهُ فِي الِارْتِقَاءِ فِي كَمَالِ النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] الْآيَةَ. وَقَدْ وَقَعَ قَوْلُهُ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ إِتْمَامًا لِلتَّذْيِيلِ وَتَنْهِيَةَ الْمَقْصُودِ مِنْ فَضْحِ حَالِهِمْ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْمُقَدَّرَ بَعْدَ أَمْ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآلُوسِيَّ نَقَلَ عَنِ «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» كَلَامًا فِي انْتِظَامِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ شاعِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ فِيهِ نُكَتٌ وتدقيق فَانْظُرْهُ.

[سورة الطور (52) : الآيات 44 إلى 46]

[سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 44 إِلَى 46] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: 30] وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ لِأَقْوَالِهِمْ بِمُنَاسَبَةِ اشْتِرَاكِ مَعَانِيهَا مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي تَصْوِيرِ بُهْتَانِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبُهْتَانِ فَلَوْ أُرُوا كِسْفًا سَاقِطًا مِنَ السَّمَاءِ وَقِيلَ لَهُمْ: هَذَا كِسَفٌ نَازِلٌ كَابَرُوا وَقَالُوا هُوَ سَحَاب مركوم. فَيجوز أَنْ يَكُونَ كِسْفاً تَلْوِيحًا إِلَى مَا حكاء اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [90- 92] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً. وَظَاهِرُ مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْغَرَضِ فَلَا تَوَقُّفَ عَلَى ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ مِمَّا سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ آيَةً عَلَى صِدْقِكَ لَا يُذْعِنُوا وَلَا يُؤْمِنُوا وَلَا يَتْرُكُوا الْبُهْتَانَ بَلْ يَقُولُوا: هَذَا سَحَابٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الْحجر: 14، 15] . والكسف بِكَسْر الْكَاف: الْقِطْعَةُ، وَيُقَالُ: كَسَفَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. ومِنَ السَّماءِ صِفَةٌ لِ كِسْفاً، ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ قِطْعَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ السَّمَاءِ مِثْلُ الْقِطَعِ الَّتِي تَسْقُطُ مِنَ الشُّهُبِ. وَالْمَرْكُومُ: الْمَجْمُوعُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ يُقَالُ: رَكَمَهُ رَكْمًا، وَهُوَ السَّحَابُ الْمُمْطِرُ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً [النُّور: 43] .

وَالْمَعْنَى: إِنْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُوا سَحَابٌ، وَهَذَا لَا يتقضي أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ إِنَّمَا تَقْتَضِي تَعْلِيقَ وُقُوعِ جَوَابِهَا عَلَى وُقُوعِ فِعْلِهَا لَوْ وَقَعَ. وَوَقَعَ سَحابٌ مَرْكُومٌ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ: هُوَ سَحَابٌ وَهَذَا سَحَابٌ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنَادًا مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ سَحَابًا. وَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ أَنَّ الْعِنَادَ شِيمَتُهُمْ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَنَّ أَمر الله رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتْرُكَهُمْ، أَيْ يَتْرُكَ عَرْضَ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَنْ لَا يَسْأَلَ اللَّهَ إِظْهَارَ مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْتَرِحُونَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْحُجَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 96، 97] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ دَعْوَتِهِمْ وَعَرْضَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي تَهْدِيدِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ حِينَ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا يُقَالُ لِلَّذِي لَا يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ: دَعْهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْلِعُ. وَأَفَادَتِ الْغَايَةُ أَنَّهُ يَتْرُكُهُمْ إِلَى الْأَبَدِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ يُصْعَقُوا لَا تُعَادُ مُحَاجَّتُهُمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلاقُوا. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُلْقُوا بِدُونِ أَلِفٍ بعد اللَّام. و «الْيَوْم الَّذِي فِيهِ يَصْعَقُونَ» هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ الَّذِي يُصْعَقُ عِنْدَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَإِضَافَةُ الْيَوْمِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِإِنْكَارِهِ وَعُرِفُوا بِالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة. وَهَذَا نَظِيرُ النِّسَبِ فِي قَوْلِ أَهْلِ أُصُولِ الدِّينِ: فُلَانٌ قَدَرِيٌّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ. فَالْمَعْنَى بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْقَدَرِ أَنَّهُ يَخُوضُ فِي شَأْنِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أُوعِدُوهُ، فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 103] .

وَالصَّعْقُ: الْإِغْمَاءُ مِنْ خَوْفٍ أَوْ هَلَعٍ قَالَ تَعَالَى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الْأَعْرَاف: 143] ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّاعِقَةِ لِأَنَّ الْمُصَابَ بِهَا يُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ يَمُوتُ، يُقَالُ: صَعِقَ، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَصُعِقَ بِضَمٍ وَكَسْرٍ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ يُصْعَقُونَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ. وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ قَالَ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ، وَمُلَاقَاتُهُمْ لِلْيَوْمِ مُسْتَعَارَةٌ لِوُقُوعِهِ، شُبِّهَ الْيَوْمُ وَهُوَ الزَّمَانُ بِشَخْصٍ غَائِبٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكَنِّيَةِ وَإِثْبَاتُ الْمُلَاقَاةِ إِلَيْهِ تَخْيِيلٌ. وَالْمُلَاقَاةُ مُسْتَعَارَةٌ أَيْضًا لِلْحُلُولِ فِيهِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِ. ويَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً بَدَلٌ من يَوْمَهُمُ [الطّور: 45] وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى مُعْرَبٍ. وَالْإِغْنَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ غَنِيًّا، أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مَا تَقُومُ بِهِ حَاجِيَّاتُهُ، وَإِذَا قِيلَ: أَغْنَى عَنْهُ. كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَامَ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ حَاجَةٍ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُومَ بِهَا، وَيُتَوَسَّعَ فِيهِ بِحَذْفِ مَفْعُولِهِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَالْمُرَادُ هُنَا لَا يُغْنِي عَنْهُم شَيْئا عَن الْعَذَابِ الْمَفْهُومِ مِنْ إِضَافَةِ يَوْمَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ وَمِنَ الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. وكَيْدُهُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مَا يَكِيدُونَ بِهِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [الطّور: 42] ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ كَيْدًا يَوْمَئِذٍ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا. فَالْمَعْنَى: لَا كَيْدَ لَهُمْ فَيُغْنِيَ عَنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَي لَا منار لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ. وَهَذَا يَنْفِي عَنْهُمُ التَّخَلُّصَ بِوَسَائِلَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ

[سورة الطور (52) : آية 47]

وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنَ الْعَذَابِ بِفِعْلِ مَنْ يُخَلِّصُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ فَانْتَفَى نَوْعَا الْوَسَائِل المنجية. [47] [سُورَة الطّور (52) : آيَة 47] وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ وَإِنَّ لَهُمْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَذَابُ الْجُوعِ فِي سِنِي الْقَحْطِ، وَعَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَال: وَإِن لَهُم عَذَابًا جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [الطّور: 45] فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِإِفَادَةِ عِلَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ. وَكَلِمَةُ دُونَ أَصْلُهَا الْمَكَانُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ شَيْءٍ انْفِصَالًا قَرِيبًا، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأَقَلِّ، يُقَالُ: هُوَ فِي الشَّرَفِ دُونَ فُلَانٍ، وَعَلَى السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ حُلُولًا مِنَ الْمَسْبُوقِ، وَعَلَى مَعْنَى (غَيْرِ) . ودُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحَةٌ لِلثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، إِذِ الْمُرَادُ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَة: 21] وَهُوَ أسبق من عَذَاب الْآخِرَة لقَوْله تَعَالَى: دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لَهُ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ. وَلِكَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ مُسْتَبْعَدًا عِنْدَهُمْ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فِي نِعْمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت: 50] أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ فَالتَّأْكِيدُ مُرَاعًى فِيهِ شَكُّهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَتْهُ (لَكِنَّ) رَاجِعٌ إِلَى مُفَادِ التَّأْكِيدِ، أَيْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وُقُوعَهُ، أَيْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ وُقُوعُهُ، وَذَلِكَ مِنْ بَطَرِهِمْ وَزَهْوِهِمْ وَمَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوف اختصارا للْعَمَل بِهِ وَأُسْنِدَ عَدَمُ

[سورة الطور (52) : الآيات 48 إلى 49]

الْعِلْمِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ فِيهِمْ أَهْلَ رَأْيٍ وَنَظَرٍ يَتَوَقَّعُونَ حُلُولَ الشَّرِّ إِذَا كَانُوا فِي خَيْرٍ. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ. [48، 49] [سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 48 الى 49] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ [الطّور: 45] إِلَخْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَكَانَ مُفْتَتَحُ السُّورَةِ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاء مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: 7] الْمَسُوقِ مَسَاقَ التَّسْلِيَةِ لَهُ، وَكَانَ فِي مُعْظَمِ مَا فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يُخَالِطُهُ فِي نَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَدَرِ وَالْأَسَفِ عَلَى ضَلَالِ قَوْمِهِ وَبُعْدِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى خُتِمَتِ السُّورَةُ بِأَمْرِهِ بِالصَّبْرِ تَسْلِيَةً لَهُ وَبِأَمْرِهِ بِالتَّسْبِيحِ وَحَمْدِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى تَفْضِيلِهِ بالرسالة. وَالْمرَاد بِحكم رَبِّكَ مَا حَكَمَ بِهِ وَقَدَّرَهُ مِنِ انْتِفَاءِ إِجَابَةِ بَعْضِهِمْ وَمِنْ إِبْطَاءِ إِجَابَةِ أَكْثَرِهِمْ. فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِحُكْمِ رَبِّكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَلَى) فَيَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ اصْبِرْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] . وَيَجُوزُ فِيهَا مَعْنَى (إِلَى) أَيِ اصْبِرْ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ [يُونُس: 109] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونَ لِحُكْمِ رَبِّكَ هُو مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَى النَّاسِ، أَيِ اصْبِرْ لِأَنَّكَ تَقُومُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْكَ. فَلِلَّامِ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَوْقِعٌ جَامِعٌ لَا يُفِيدُ غَيْرُ اللَّامِ مِثْلَهُ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ اصْبِرْ لِأَنَّكَ بِأَعْيُنِنَا، أَيْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ مِنَّا، نَحْنُ نَعْلَمُ مَا تُلَاقِيهِ وَمَا يُرِيدُونَهُ بِكَ

فَنَحْنُ نُجَازِيكَ عَلَى مَا تَلْقَاهُ وَنَحْرُسُكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَنَنْتَقِمُ لَكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَفَّى بِهَذَا كُلِّهِ التَّمْثِيلُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، فَإِنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ لَا نَغْفُلُ عَنْكَ، يُقَالُ: هُوَ بِمَرْأًى مِنِّي وَمَسْمَعٍ، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَأْنُهُ. وَذِكْرُ الْعَيْنِ تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْمُلَاحَظَةِ وَهَذَا التَّمْثِيلُ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِ الْمُلَاحَظَةِ مِنَ النَّصْرِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِفْظِ. وَقَدْ آذَنَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: لِحُكْمِ رَبِّكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِنَا، أَوْ لِحُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَرْبُوبِيَّةَ تُؤْذِنُ بِالْعِنَايَةِ بِالْمَرْبُوبِ. وَجَمْعُ الْأَعْيُنِ: إِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّمْثِيلِ كَأَنَّ الْمُلَاحَظَةَ بِأَعْيُنٍ عَدِيدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هود: 37] وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْجَمْعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مُتَعَلِّقَاتِ الْمُلَاحَظَةِ فَمُلَاحَظَةٌ لِلذَّبِّ عَنْهُ، وَمُلَاحَظَةٌ لِتَوْجِيهِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَةِ، وملاحظة لجزاء أعدائه بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَمُلَاحَظَةٌ لِنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ بِعُمُومِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَهَذَا الْجَمْعُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [الْقَمَر: 13، 14] لِأَنَّ عِنَايَةَ اللَّهِ بِأَهْلِ السَّفِينَةِ تَتَعَلَّقُ بِإِجْرَائِهَا وَتَجْنِيبِ الْغَرَقِ عَنْهَا وَسَلَامَةِ رُكَّابِهَا وَاخْتِيَارِ الْوَقْتِ لِإِرْسَائِهَا وَسَلَامَةِ الرُّكَّابِ فِي هُبُوطِهِمْ، وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] فَإِنَّهُ تَعَلُّقٌ وَاحِدٌ بِمَشْيِ أُخْتِهِ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَقَوْلِهَا: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه: 40] . وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) . التَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ، وَالْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ» وَمَا يُرَادِفُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَآثَارٍ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِحَمْدِ رَبِّكَ لِلْمُصَاحَبَةِ جَمْعًا بَيْنَ تَعْظِيمِ اللَّهِ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَبَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ. وحِينَ تَقُومُ وَقْتَ الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، وَهُوَ وَقْتُ اسْتِقْبَالِ أَعْمَالِ الْيَوْمِ وَعِنْدَهُ تَتَجَدَّدُ الْأَسْبَابُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرَ بِالصَّبْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ. فَالتَّسْبِيحُ مُرَادٌ بِهِ: الصَّلَاةُ، وَالْقِيَامُ: جَعْلُ وَقْتٍ لِلصَّلَوَاتِ: إِمَّا للنوافل، وَإِمَّا لصَلَاة الْفَرِيضَةِ وَهِيَ الصُّبْحُ. وَقِيلَ: التَّسْبِيحُ قَوْلُهُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ» ، وَالْقِيَامُ: الِاسْتِعْدَادُ لِلصَّلَاةِ أَوِ الْهُبُوبُ مِنَ النَّوْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكِ عَلَى تَقَارُبٍ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ، أَيْ يَقُولُ الْقَائِمُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» أَو يَقُول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» . وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ الْقِيَامُ مِنَ الْمَجْلِسِ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا فَكثر فِيهِ لغظه فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. ومِنَ اللَّيْلِ أَيْ زَمَنًا هُوَ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَيَشْمَلُ وَقْتَ النَّهْيِ لِلنَّوْمِ وَفِيهِ تَتَوَارَدُ عَلَى الْإِنْسَانِ ذِكْرَيَاتُ مَهَمَّاتِهِ، وَيَشْمَلُ وَقْتَ التَّهَجُّدِ فِي اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْهُ اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَاحْمِدْهُ. وَانْتَصَبَ وَإِدْبارَ النُّجُومِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَوَقْتَ إِدْبَارِ النُّجُومِ. وَالْإِدْبَارُ: رُجُوعُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ جَاءَ لِأَنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى جِهَةِ الدُّبُرِ، أَيِ الظَّهْرِ. وَإِدْبَارُ النُّجُومِ: سُقُوطُ طَوَالِعُهَا، فَإِطْلَاقُ الْإِدْبَارِ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُفَارَقَةِ

وَالْمُزَايَلَةِ، أَيْ عِنْدَ احْتِجَابِ النُّجُومِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا (الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَشْرِقِ) وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا (الْإِشَارَةُ إِلَى جِهَة الْمغرب) فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» . وَسُقُوطُ طَوَالِعِهَا الَّتِي تَطْلُعُ: أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْفَجْرِ إِذَا أَضَاءَ عَلَيْهَا ابْتِدَاءَ ظُهُورِ شُعَاعِ الشَّمْسِ، فَإِدْبَارُ النُّجُومِ: وَقْتُ السَّحَرِ، وَهُوَ وَقْتٌ يَسْتَوْفِي فِيهِ الْإِنْسَانُ حَظَّهُ مِنَ النَّوْمِ، وَيَبْقَى فِيهِ مَيْلٌ إِلَى اسْتِصْحَابِ الدَّعَةِ، فَأُمِرَ بِالتَّسُبِيحِ فِيهِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ النَّوْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَبَيْنَ التَّنَاوُمِ النَّاشِئِ عَنِ التَّكَاسُلِ، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ حَاجَةً إِلَى غَفْوَةٍ مِنَ النَّوْمِ اضْطَجَعَ قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَحِينَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ. وَالنُّجُومُ: جَمْعُ نَجْمٍ وَهُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي يُضِيءُ فِي اللَّيْلِ غَيْرُ الْقَمَر، وَتقدم عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [12] . وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَوْقَاتِ الرَّغَائِبِ مِنَ النَّوَافِلِ وَهِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْأَشْفَاعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَقِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: أَشَارَتْ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ.

53- سورة النجم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 53- سُورَةُ النَّجْمِ سُمِّيَتْ «سُورَةَ النَّجْمِ» بِغَيْرِ وَاوٍ فِي عَهْدِ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ فَأَخَذَ رَجُلٌ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ. وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا. وَهَذَا الرَّجُلُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ. فَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ لِأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا النَّجْمُ. وَسَمُّوهَا «سُورَةَ وَالنَّجْمِ» بِوَاوٍ بِحِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ الْوَاقِع فِي أَولهَا، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» . وَوَقَعَتْ فِي الْمَصَاحِف والتفاسير بِالْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ السُّورَةِ بِلَفْظٍ وَقْعَ فِي أَوَّلِهَا وَهُوَ لَفْظُ (النَّجْمِ) أَوْ حِكَايَةُ لَفْظِ (وَالنَّجْمِ) . وَسَمُّوهَا وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْم: 1] كَمَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فَلَمْ يَسْجُدْ» ، أَيْ فِي زَمَنٍ آخَرَ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَهَذَا كُلُّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ مُتَوَسَّعٌ فِيهِ فَلَا تُعَدُّ هَذِهِ السُّورَةُ بَيْنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: 32] الْآيَةَ قَالَا: «هِيَ آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ» . وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: السُّورَةَ كلهَا مَدَنِيَّة وَنسب إِلَى الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن السُّورَة كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ شُذُوذٌ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَعْلَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ.

أغراض هذه السورة

وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ فِي عَدِّ تَرْتِيبِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَقَبْلَ سُورَةِ عَبَسَ. وَعَدَّ جُمْهُورُ الْعَادِّينَ آيَهَا إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَقَوَّلُ الْقُرْآنَ وَيَخْتَلِقُ أَقْوَالَهُ، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ فِي ذَلِكَ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا: تَحْقِيقُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا ادَّعَوْهُ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ. وَتَقْرِيبُ صِفَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ بِالْوَحْيِ فِي حَالَيْنِ زِيَادَةٌ فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَإِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ. وَإِبْطَالُ قَوْلِهِمْ فِي اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّهَا أَوْهَامٌ لَا حَقَائِقَ لَهَا وَتَنْظِيرُ قَوْلِهِمْ فِيهَا بِقَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ. وَذَكَرَ جَزَاءَ الْمُعْرِضِينَ وَالْمُهْتَدِينَ وَتَحْذِيرَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بِالظَّنِ دُونَ حُجَّةٍ. وَإِبْطَالُ قِيَاسِهِمْ عَالَمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ ضَلَالٌ فِي الرَّأْيِ قَدْ جَاءَهُمْ بِضِدِّهِ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ. وَذُكِرَ لِذَلِكَ مِثَالٌ مِنْ قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَوْ قِصَّةِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.

[سورة النجم (53) : الآيات 1 إلى 3]

وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ ذَاتِ الشِّرْكِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَبِمَنْ جَاءَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرُّسُلِ أَهْلِ الشَّرَائِعِ. وَإِنْذَارُهُمْ بِحَادِثَةٍ تَحُلُّ بِهِمْ قَرِيبًا. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَرِضَاتٍ وَمُسْتَطْرِدَاتٍ لِمُنَاسَبَاتِ ذِكْرِهِمْ عَنْ أَنْ يَتْرُكُوا أَنْفُسَهُمْ. وَأَنَّ الْقُرْآنَ حَوَى كُتُبَ الْأَنْبِيَاء السَّابِقين. [1- 3] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الطَّاعِنِينَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والنَّجْمِ: الْكَوْكَبُ أَيِ الْجُرْمُ الَّذِي يَبْدُو للناظرين لَا مَعًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ لَيْلًا. أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَظِيمٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَى عَظِيمِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعْرِيفُ النَّجْمِ بِاللَّامِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النَّحْل: 16] وَقَوْلِهِ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَن: 6] ، وَيُحْتَمَلُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَأَشْهَرُ النُّجُومِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ النَّجْمِ عَلَيْهِ الثُّرَيَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَقِّتُونَ بِأَزْمَانِ طُلُوعِهَا مَوَاقِيتَ الْفُصُولِ وَنُضْج الثِّمَارِ، وَمِنْ أَقْوَالِهِمْ: طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَ فابتغى الرَّاعِي كمساء طلع النَّجْم غذيّة وَابْتَغَى الرَّاعِي شُكَيَّةْ (تَصْغِيرُ شَكْوَةٍ وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ) يَعْنُونَ ابْتِدَاءَ زَمَنِ الْبَرْدِ وَابْتِدَاءَ زَمَنِ الْحَرِّ. وَقِيلَ النَّجْمِ: الشِّعْرَى الْيَمَانِيَةُ وَهِيَ الْعُبُورُ وَكَانَتْ مُعَظَّمَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَعَبَدَتْهَا خُزَاعَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد ب النَّجْمِ: الشِّهَابَ، وَبَهُوِيِّهِ: سُقُوطُهُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات: 6، 7]

وَقَالَ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْملك: 5] . وَالْقَسَمُ بِ النَّجْمِ لِمَا فِي خَلْقِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي [الْأَنْعَام: 76] . وَتَقْيِيدُ الْقَسَمِ بِالنَّجْمِ بِوَقْتِ غُرُوبِهِ لِإِشْعَارِ غُرُوبِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ بَعْدَ أَوْجُهٍ فِي شَرَفِ الِارْتِفَاعِ فِي الْأُفُقِ عَلَى أَنَّهُ تَسْخِيرٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَام: 76] . وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ إِذا هَوى بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ النَّجْمِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّجْمِ أَحْوَالُهُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهِ وَمُصَرِّفِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَحْوَالِهِ حَالُ هُوِيَّهِ، وَيَكُونُ إِذا اسْمَ زَمَانٍ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِحَرْفِ الْقَسَمِ، وَبِذَلِكَ نَتَفَادَى مِنْ إِشْكَالِ طَلَبِ مُتَعَلِّقِ إِذا وَهُوَ إِشْكَالٌ أَوْرَدَهُ الْعَلَّامَةُ الْجَنْزِيُّ (¬1) عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ وَفِي «الْمُقْتَبَسِ» قَالَ الْجَنْزِيُّ: «فَاوَضْتُ جَارَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا الْعَامِلُ فِي إِذا؟ فَقَالَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَا تُعَلَّقُ بِهِ الْوَاوُ، فَقُلْتُ: كَيْفَ يَعْمَلُ فِعْلُ الْحَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا لِأَن مَعنا أُقْسِمُ الْآنَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أُقْسِمُ بَعْدَ هَذَا (¬2) فَرَجَعَ وَقَالَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَهُوِيِّ النَّجْمِ إِذَا هَوَى، فَعَرَضْتُهُ على زين المشائخ (¬3) فَلَمْ يَسْتَحْسِنْ قَوْلَهُ الثَّانِيَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ إِذا قَدِ انْسَلَخَ عَنْهُ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَصَارَ لِلْوَقْتِ الْمُجَرَّدِ، وَنَحْوُهُ: آتِيكَ إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ، أَيْ وَقْتَ احْمِرَارِهِ فَقَدْ عُرِّيَ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ وَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: آتِيكَ اه. كَلَامُ الطِّيبِيُّ، فَقَوْلُهُ: ¬

(¬1) هُوَ عمر بن عُثْمَان بن الْحسن الجنزي بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون نِسْبَة إِلَى جنزة أعظم مَدِينَة بأرّان قَرَأَ على أبي المظفر الأبيوردي وَتُوفِّي بمرو سنة 550 هـ. (¬2) يُرِيد أَن مُقْتَضى حرف الْقسم فعل إنشائي حَاصِل فِي حَال النُّطْق وَمُقْتَضى (إِذا) الزّمن الْمُسْتَقْبل فتنافيا. (¬3) هُوَ مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن بايجوك البقّالي الأدمِيّ أَو الْآدَمِيّ الْخَوَارِزْمِيّ النَّحْوِيّ أَخذ اللُّغَة والنحو عَن الزَّمَخْشَرِيّ، وَجلسَ بعد مَكَانَهُ توفّي سنة 562 هـ عَن نَيف وَسبعين سنة. [.....]

فَالْوَجْهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ زَيْنِ الْمَشَائِخِ أَوْ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُقْتَبَسِ» أَوْ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَهُوَ وَجِيهٌ وَهُوَ أَصْلُ مَا بَنَيْنَا عَلَيْهِ مَوْقِعَ إِذا هُنَا، وَلَيْسَ تَرَدُّدُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْجَوَابِ إِلَّا لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَنْ يَكُونَ إِذا ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي «الْمُفَصَّلِ» مَعَ أَنَّ خُرُوجَهَا عَن ذَلِك كثير كَمَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الْمُحَقِّقِينَ. وَالْهُوِيُّ: السُّقُوطُ، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى غُرُوبِ الْكَوْكَبِ، اسْتُعِيرَ الْهُوِيُّ إِلَى اقْتِرَابِ اخْتِفَائِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْهُوِيِّ: سُقُوطُ الشِّهَابِ حِينَ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ يَجْرِي فِي أَدِيمِ السَّمَاءِ، فَهُوَ هُوِيٌّ حَقِيقِيٌّ فَيَكُونُ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَفِي ذِكْرِ إِذا هَوى احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ فِي الْقَسَمِ بِالنَّجْمِ إِقْرَارًا لِعِبَادَةِ نَجْمِ الشِّعْرَى، وَأَنَّ الْقَسَمَ بِهِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ إِلَهٌ إِذْ كَانَ بَعْضُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهَا فَإِنَّ حَالَةَ الْغُرُوبِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْهَوَى حَالَةُ انْخِفَاضٍ وَمَغِيبٍ فِي تَخَيُّلِ الرَّائِي لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ طُلُوعَ النَّجْمِ أَوْجًا لِشَرَفِهِ وَيَعُدُّونَ غُرُوبَهُ حَضِيضًا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَام: 76] . وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ هَذَا يَجِيءُ قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [49] ، وَتِلْكَ اعْتِبَارَاتٌ لَهُمْ تَخَيُّلِيَّةٌ شَائِعَةٌ بَيْنَهُمْ فَمِنَ النَّافِعِ مَوْعِظَةُ النَّاسِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَافٍ فِي إِقْنَاعِهِمْ وُصُولًا إِلَى الْحَقِّ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِذا هَوى إِشْعَارًا بِأَنَّ النُّجُومَ كُلَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ مَسِيرَةٍ فِي نِظَامٍ أَوْجَدَهَا عَلَيْهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهَا فَلَيْسَتْ أَهْلًا لِأَنْ تُعْبَدَ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَسَمِ بِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ الِاحْتِرَاسِ عَنِ اعْتِقَادِ عِبَادَتِهَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: قِيلَ أَرَادَ بذلك أَي ب النَّجْمِ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ الْمُنَجَّمَ قَدْرًا فَقَدْرًا، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: هَوى نُزُولَهُ اه. ومناسبة الْقسم ب النَّجْمِ إِذا هَوى، أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ فَشَابَهَ حَالُ نُزُولِهِ الِاعْتِبَارِيِّ حَالَ النَّجْمِ فِي حَالَةِ هُوِيِّهِ مُشَابَهَةً تَمْثِيلِيَّةً حَاصِلَةً مِنْ نُزُولِ شَيْءٍ مُنِيرٍ إِنَارَةً مَعْنَوِيَّةً نَازِلٍ مِنْ مَحَلِّ رِفْعَةٍ

مَعْنَوِيَّةٍ، شُبِّهَ بِحَالَةِ نُزُولِ نَجْمٍ مِنْ أَعْلَى الْأُفق إِلَى أسلفه وَهُوَ من تَمْثِيلُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى مُشَابَهَةِ حَالَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ مِنَ السَّمَاوَاتِ بِحَالَةِ نُزُولِ النَّجْمِ مِنْ أَعْلَى مَكَانِهِ إِلَى أَسْفَلِهِ، أَوْ بِانْقِضَاضِ الشِّهَابِ تَشْبِيهُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسِ، وَقَدْ يُشَبِّهُونَ سُرْعَةَ الْجَرْيِ بِانْقِضَاضِ الشِّهَابِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ يَصِفُ فرسا: فانقضّ كالدريّ يَتْبَعُهُ ... نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالُهُ طُنُبَا وَالضَّلَالُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي سُلُوكِ مَا يُنَافِي الْحَقَّ. وَالْغِوَايَةُ: فَسَادُ الرَّأْيِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْبَاطِلِ. وَالصَّاحِبُ: الْمُلَازِمُ لِلَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ وَصْفُ صَاحِبٍ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ هُنَا: الَّذِي لَهُ مُلَابَسَاتٌ وَأَحْوَالٌ مَعَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ الْوَارِدِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ الْهِجْرَةِ لَمَّا دَخَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ وَفِيهَا أُمُّ مَعْبَدٍ وَذَكَرَتْ لَهُ مُعْجِزَةَ مَسْحِهِ عَلَى ضَرْعِ شَاتِهَا: «هَذَا صَاحِبُ قُرَيْشٍ» ، أَيْ صَاحِبُ الْحَوَادِثِ الْحَادِثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِوَصْفِ صاحِبُكُمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ بُهْتَانٍ إِذْ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ مَعَ شِدَّةِ اطِّلَاعِهِمْ على أَحْوَاله وشؤونه إِذْ هُوَ بَيْنَهُمْ فِي بَلَدٍ لَا تَتَعَذَّرُ فِيهِ إِحَاطَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ بِحَالِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مَقْصُودٍ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَوَقَعَ فِي خُطْبَةِ الْحَجَّاجِ بَعْدَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ قَوْلُهُ لِلْخَوَارِجِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ» يُرِيدُ أَنَّهُ لَا تَخْفَى عَنْهُ أَحْوَالُهُمْ فَلَا يُحَاوِلُونَ التَّنَصُّلَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْمُغَالَطَةِ وَالتَّشْكِيكِ. وَهَذَا رَدٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْركين وَإِبْطَال لقَولهم فِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَجْنُون، وَقَالُوا: سَاحر، وَقَالُوا: شَاعِرٌ، وَقَالُوا فِي الْقُرْآنِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ. فَالْجُنُونُ مِنَ الضَّلَالِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَهْتَدِي إِلَى وَسَائِلِ الصَّوَابِ، وَالْكَذِبِ

وَالسِّحْرُ ضَلَالٌ وَغَوَايَةٌ، وَالشِّعْرُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنِهِمْ غِوَايَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: 224] أَيْ يُحَبِّذُونَ أَقْوَالَهُمْ لِأَنَّهَا غِوَايَةٌ. وَعُطِفَ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وَهَذَا وَصْفُ كَمَالٍ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: 4] وَقَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: 5] وَذَلِكَ وَنَحْوُهُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ اخْتِرَاعُهُ أَوِ اخْتِيَارُهُ عَنْ مَحَبَّةٍ لِمَا يَخْتَرِعُ وَمَا يَخْتَارُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، فَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً، وَمِنْهُ حِكَايَةَ وَاقِعَاتٍ، وَمِنْهُ تَخَيُّلَاتٍ ومفتريات. وَكله ناشىء عَنْ مَحَبَّةِ الشَّاعِرِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقُرْآنَ دَاعٍ إِلَى الْخَيْرِ. وَ (مَا) نَافِيَةٌ نَفَتْ أَنْ يَنْطِقَ عَنِ الْهَوَى. وَالْهَوَى: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُحِبُّهُ أَوْ تُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَهُ دُونَ أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ الْحَكِيمُ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الْهَوَى وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْحَقِّ، وَقَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ. فَالْمُرَادُ بِالْهَوَى إِذَا أُطْلِقَ أَنَّهُ الْهَوَى الْمُجَرَّدُ عَنِ الدَّلِيلِ. وَنَفْيُ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي نَفْيَ جِنْسِ مَا يَنْطِقُ بِهِ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالصُّدُورِ عَنْ هَوًى سَوَاءٌ كَانَ الْقُرْآنُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْخَطَابَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذَا الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَنْزِيهَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَحْكُمَ عَنْ هَوًى لِأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْحِكْمَةِ. وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا» . وَهُنَا تَمَّ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ فَحَسُنَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. وَبَيْنَ هَوى والْهَوى جِنَاسٌ شبه التَّام.

[سورة النجم (53) : الآيات 4 إلى 10]

[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 4 إِلَى 10] إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: 3] . وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يَنْطِقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] أَيِ الْعَدْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ اعْدِلُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا فِي أَقْوَالِهِمُ الْمَرْدُودَةِ بِقَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْم: 2] زَعَمُوا الْقُرْآنَ سِحْرًا، أَوْ شِعْرًا، أَوْ كَهَانَةً، أَوْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ إِفْكًا افْتَرَاهُ. وَإِنْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْطِقُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ عَنْ وَحْيٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي جَوَابِهِ لِلَّذِي سَأَلَهُ: مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَمِرُ؟ وَكَقَوْلِهِ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا» ، وَمِثْلَ جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَحْوُهُ. وَفِي «سُنَنِ أبي دَاوُد» و «التِّرْمِذِيّ» مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَام بن معد يكرب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكَ رَجُلٌ شَبْعَانَ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» . وَقَدْ يَنْطِقُ عَنِ اجْتِهَادٍ كَأَمْرِهِ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ فِيهَا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ فَقيل لَهُ: أَو نهريقها ونغسلها؟ فَقَالَ: «أَو ذَاك» . فَهَذِهِ الْآيَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِيرَادِهَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا كَانَ نُزُولُهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالْوَحْيُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ فِي سُورَةِ

النِّسَاءِ [163] . وَجُمْلَةُ يُوحى مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ مَعَ دَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ مُتَجَدِّدٌ وَحْيُهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. وَمُتَعَلِّقُ يُوحى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى صَاحِبِكُمْ. وَتُرِكَ فَاعِلُ الْوَحْيِ لِضَرْبٍ مِنَ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقِبُهُ التَّفْصِيلُ لِأَنَّهُ سَيَرِدُ بَعْدَهُ مَا يُبَيِّنُهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى. وَجُمْلَةُ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى إِلَخْ، مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي عَلَّمَهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَحْيِ، أَوْ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ. وَضَمِيرُ هُوَ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَمِيرٌ فِي مَحَلِّ أَحَدِ مَفْعُولَيْ (عَلَّمَ) وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَّمَهُ إِيَّاهُ، يَعُودُ إِلَى صاحِبُكُمْ [النَّجْم: 2] وَيَجُوزُ جَعْلُ هَاءَ عَلَّمَهُ عَائِدًا إِلَى صاحِبُكُمْ وَالْمَحْذُوفُ عَائِدٌ إِلَى وَحْيٌ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] . وَ (عَلَّمَ) هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ لِأَنَّهُ مُضَاعَفُ (عَلِمَ) الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وشَدِيدُ الْقُوى: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يُذْكَرُ بَعْدُ مِمَّا هُوَ من شؤون الْمَلَائِكَةِ، أَيْ مَلَكٌ شَدِيدُ الْقُوَى. وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْمُرَادُ بِ الْقُوى اسْتِطَاعَةُ تَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَال الْعَظِيمَة العقيلة وَالْجُسْمَانِيَّةِ، فَهُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ. وَالْمِرَّةُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، تُطْلَقُ عَلَى قُوَّةِ الذَّاتِ وَتُطْلَقُ عَلَى مَتَانَةِ الْعَقْلِ وَأَصَالَتِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ وَصْفُهُ بِشَدِيدِ الْقُوَى، وَتَخْصِيصُ جِبْرِيلُ بِهَذَا الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْزِلُ بِفُيُوضَاتِ الْحِكْمَةِ عَلَى

الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا نَاوَلَ الْمَلَكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَأْسَ لَبَنٍ وَكَأْسَ خَمْرٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكُ. وَقَوْلُهُ: فَاسْتَوى مُفَرَّعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. وَالْفَاءُ لِتَفْصِيلِ عَلَّمَهُ، وَالْمُسْتَوِي هُوَ جِبْرِيلُ. وَمَعْنَى اسْتِوَائِهِ: قِيَامُهُ بِعَزِيمَةٍ لِتَلَقِّي رِسَالَةِ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: اسْتَقَلَّ قَائِمًا، وَمِثْلَ: بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ، فَاسْتِوَاءُ جِبْرِيلُ هُوَ مَبْدَأُ التَّهَيُّؤِ لِقُبُولِ الرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قُيِّدَ هَذَا الِاسْتِوَاءُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. وَالضَّمِيرُ لِجِبْرِيلَ لَا مَحَالَةَ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَالْأُفُقُ: اسْمٌ لِلْجَوِّ الَّذِي يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مُلْتَقًى بَيْنَ طَرَفِ مُنْتَهَى النَّظَرِ مِنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ مُنْتَهَى مَا يَلُوحُ كَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى نَاحِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ مَوْطِنِ الْقَوْمِ وَمِنْهُ أُفُقُ الْمَشْرِقِ وَأُفُقُ الْمَغْرِبِ. وَوَصْفُهُ بِ الْأَعْلى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ نَاحِيَةٌ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ. وَذُكِرَ هَذَا لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. وثُمَّ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَوى، والتراخي الَّذِي تقيده ثُمَّ تَرَاخٍ رُتَبِيٌّ لِأَنَّ الدُّنُوَّ إِلَى حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَحْيُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالدُّنُوُّ: الْقُرْبُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ فِعْلُ الدُّنُوِّ قَدْ عُطِفَ بِ ثُمَّ على فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عُلِمَ أَنَّهُ دَنَا إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، أَيْ أَخَذَ فِي الدُّنُوِّ بَعْدَ أَنْ تَلَقَّى مَا يُبَلِّغُهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَدَلَّى: انْخَفَضَ مِنْ عُلُوٍّ قَلِيلًا، أَيْ يَنْزِلُ مِنْ طَبَقَاتٍ إِلَى مَا تَحْتَهَا كَمَا يَتَدَلَّى الشَّيْءُ الْمُعَلَّقُ فِي الْهَوَاءِ بِحَيْثُ لَوْ رَآهُ الرَّائِي يَحْسَبُهُ مُتَدَلِّيًا، وَهُوَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ غَيْرَ مُنْقَضٍّ. وقاب، قِيلَ مَعْنَاهُ: قَدْرَ. وَهُوَ وَاوِيُّ الْعَيْنِ، وَيُقَالُ: قَابَ وَقِيبَ بِكَسْرِ

الْقَافِ، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ يُطْلَقُ الْقَابُ عَلَى مَا بَيْنَ مَقْبِضِ الْقَوْسِ (أَيْ وَسَطِ عُودِهِ الْمُقَوَّسِ) وَمَا بَيْنَ سِيتَيْهَا (أَيْ طَرَفَيْهَا الْمُنْعَطِفِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْوَتَرُ) فَلِلْقَوْسِ قَابَانِ وَسِيَتَانِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ هُوَ الْأَصْلُ لِلْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَ الْفَرَّاءُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: الْقَابُ صَدْرُ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ حَيْثُ يُشَدُّ عَلَيْهِ السَّيْرُ الَّذِي يَتَنَكَّبُهُ صَاحِبُهُ وَلِكُلِّ قَوْسٍ قَابٌ وَاحِدٌ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ فَقَوْلُهُ: قابَ قَوْسَيْنِ أَصْلُهُ قَابَيْ قَوْسٍ أَوْ قَابَيْ قَوْسَيْنِ (بِتَثْنِيَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا) فَوَقَعَ إِفْرَادُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا تَجَنُّبًا لِثِقَلِ الْمُثَنَّى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] أَيْ قَلْبَاكُمَا. وَقِيلَ يُطْلَقُ الْقَوْسُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى ذِرَاعٍ يُذْرَعُ بِهِ (وَلَعَلَّهُ إِذَنْ مَصْدَرُ قَاسَ فَسُمِّيَ بِهِ مَا يُقَاسُ بِهِ) . وَالْقَوْسُ: آلَةٌ مِنْ عُودِ نَبْعٍ، مُقَوَّسَةٌ يُشَدُّ بِهَا وَتَرٌ مِنْ جِلْدٍ وَيُرْمَى عَنْهَا السِّهَامُ وَالنِّشَابُ وَهِيَ فِي مِقْدَارِ الذِّرَاعِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ قَوْسَيْنِ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا الْبُعْدِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ حِكَايَةٌ لِصُورَةِ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ فِي أَوَائِلِ عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوءة فَكَانَتْ قُوَاهُ الْبَشَرِيَّةُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَ مُعْتَادَةٍ لِتَحَمُّلِ اتِّصَالِ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ بِهَا مُبَاشَرَةً رِفْقًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتَجَشَّمَ شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَلَا اتِّصَالَ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ بِالْغَطِّ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ» ثُمَّ كَانَتْ تَعْتَرِيهِ الْحَالَةُ الْمَوْصُوفَةُ فِي حَدِيثِ نُزُولِ أَوَّلِ الْوَحْيِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسُورَةِ الْمُزَّمِّلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ، ثُمَّ اعْتَادَ اتِّصَالَ جِبْرِيلَ بِهِ مُبَاشَرَةً فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَالسَّاعَةِ أَنَّهُ «جَلَسَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ» إِذْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَدِ اعْتَادَ الْوَحْيَ وَفَارَقَتْهُ شِدَّتُهُ،

[سورة النجم (53) : الآيات 11 إلى 12]

وَلِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ جِبْرِيلُ يَتَمَثَّلُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ وَقَدْ وَصَفَهُ عُمَرُ فِي حَدِيثِ بَيَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: «إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ» الْحَدِيثُ، وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . وَقَوْلُهُ: أَوْ أَدْنى أَوْ فِيهِ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيبِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ تَقْرِيبَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أَيْ لَا أَزْيَدَ إِشَارَةٌ إِلَى أَن التَّقْدِير لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ. وَتَفْرِيعُ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى عَلَى قَوْلِهِ: فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ الْمُفَرَّعِ عَلَى الْمُفَرَّعِ عَلَى قَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، وَهَذَا التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيَانِ وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ، وَتَمْثِيلٌ لِأَحْوَالٍ عَجِيبَةٍ بِأَقْرَبِ مَا يَفْهَمُهُ النَّاسُ لِقَصْدِ بَيَانِ إِمْكَانِ تَلَقِّي الْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِيلُونَهُ فَبَيَّنَ لَهُمْ إِمْكَانَ الْوَحْيِ بِوَصْفِ طَرِيقِ الْوَحْيِ إِجْمَالًا، وَهَذِهِ كَيْفِيَّةٌ مِنْ صُوَرِ الْوَحْيِ. وَضَمِيرُ أَوْحى عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمعْنَى: فَأوحى الله إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا كَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ الْإِيحَاءِ لِإِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُنْوَانِ عَبْدِهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي اخْتِصَاصِ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَوْحى إِبْهَام لِتَفْخِيمِ مَا أوحى إِلَيْهِ. [11، 12] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 11 إِلَى 12] مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (12) الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا رَدٌّ لِتَكْذِيبٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْفُؤادُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فُؤَادُهُ وَعَلَيْهِ فَيَكُونَ تَفْرِيعُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا لِأَنَّهُمْ مَارَوْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ [النَّجْم: 9] فَإِنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ بِمَرْأًى من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرفع احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي تَشْبِيهِ الْقُرْبِ، أَيْ هُوَ قُرْبٌ حِسِّيٌّ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اتِّصَالٍ رُوحَانِيٍّ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى مُسْتَعْمَلًا فِي الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ أَفَسَتُكَذِّبُونَهُ فِيمَا يَرَى بِعَيْنَيْهِ كَمَا كَذَّبْتُمُوهُ فِيمَا بَلَغَكُمْ عَنِ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُ قَائِلٌ: «أَتَحْسَبُنِي غَافِلًا» وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِي قَضِيَّتِهِمَا «أَتُحَاوِلَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا كَذَبَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ عَلَى حَالِهِمَا كَمَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالْفُؤَادُ: الْعَقْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الْقَصَص: 10] . وَالْكَذِبُ: أُطْلِقَ عَلَى التَّخْيِيلِ وَالتَّلْبِيسِ مِنَ الْحَوَاسِّ كَمَا يُقَالُ: كَذَّبَتْهُ عَيْنُهُ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى عَبْدِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ [النَّجْم: 10] أَيْ مَا رَآهُ عَبْدُهُ بِبَصَرِهِ. وَتَفْرِيعُ أَفَتُمارُونَهُ عَلَى جُمْلَةِ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَفَتُمارُونَهُ مِنَ الْمُمَارَاةِ وَهِيَ الْمُلَاحَاةُ وَالْمُجَادَلَةُ فِي الْإِبْطَالِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ أَفَتَمْرُونَهُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مُضَارِعُ مَرَاهُ إِذَا جَحَدَهُ، أَيْ أَتَجْحَدُونَهُ أَيْضًا فِيمَا رَأَى، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَقَارِبٌ.

[سورة النجم (53) : الآيات 13 إلى 18]

وَتَعْدِيَةُ الْفِعْلِ فِيهِمَا بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، أَيْ هَبْكُمْ غَالَبْتُمُوهُ عَلَى عِبَادَتِكُمُ الْآلِهَةَ، وَعَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَتَغْلِبُونَهُ عَلَى مَا رأى ببصره. [13- 18] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 13 إِلَى 18] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (16) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تجحدون رُؤْيَته جِبْرِيل فِي الْأَرْضِ فَلَقَدْ رَآهُ رُؤْيَةً أَعْظَمَ مِنْهَا إِذْ رَآهُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُصَاحِبًا، فَهَذَا مِنَ التَّرَقِّي فِي بَيَانِ مَرَاتِبَ الْوَحْيِ، وَالْعَطْفُ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ ابْتُدِئَ بِالْأَضْعَفِ وَعُقِّبَ بِالْأَقْوَى. فَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِأَجْلِ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ الْغَرَابَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ وَمِنْ حَيْثُ أَنَّهُ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمِنَ الْأَهَمِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَالٌّ عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي رَآهُ عَائِدٌ إِلَى صاحِبُكُمْ [النَّجْم: 2] ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى جِبْرِيلَ. ونَزْلَةً فَعْلَةً مِنَ النُّزُولِ فَهُوَ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْمَرَّةِ: أَيْ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنَ النُّزُولِ الَّذِي هُوَ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ، وَوَصَفَهَا بِ أُخْرى بِالنِّسْبَةِ لما فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النَّجْم: 8] فَإِنَّ التَّدَلِّيَ نُزُولٌ بِالْمَكَانِ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ. وَانْتِصَابُ نَزْلَةً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِتَقْدِيرِ: وَقْتِ نَزْلَةٍ أُخْرَى، فَتَكُونَ نَائِبًا عَن ظرف الزَّمَان. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى مُتَعَلِّقٌ بِ رَآهُ. وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ رُؤْيَتُهُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى لِعَظِيمِ شَرَفِ الْمَكَانِ بِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَلِأَنَّهَا مُنْتَهَى الْعُرُوجِ فِي مَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ. وسِدْرَةِ الْمُنْتَهى: اسْمٌ أَطْلَقَهُ الْقُرْآنُ عَلَى مَكَانٍ عُلْوِيٍّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ مِنَ الصِّحَاحِ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَلَعَلَّهُ شُبِّهَ ذَلِكَ الْمَكَانُ بِالسِّدْرَةِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةُ شَجَرِ السِّدْرِ إِمَّا فِي صِفَةِ تَفَرُّعِهِ، وَإِمَّا فِي كَوْنِهِ حَدًّا انْتَهَى إِلَيْهِ قُرْبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعٍ لَمْ يَبْلُغْهُ قَبْلَهُ مَلَكٌ. وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اصْطِلَاحٍ عِنْدِهِمْ بِأَنْ يَجْعَلُوا فِي حُدُودِ الْبِقَاعِ سِدْرًا. وَإِضَافَةُ سِدْرَةِ إِلَى الْمُنْتَهى يَجُوزُ أَن تكون إِضَافَة بَيَانِيَّةً. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِتَعْرِيفِ السِّدْرَةِ بِمَكَانٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ أَحَدٌ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ لَا تُطِيقُهُ الْمَخْلُوقَاتُ. وَالسِّدْرَةُ: وَاحِدَةُ السِّدْرِ وَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ قَالُوا: وَيخْتَص بِثَلَاثَة أَوْصَافٍ: ظِلٍّ مَدِيدٍ، وَطَعْمٍ لَذِيذٍ، وَرَائِحَةٍ ذَكِيَّةٍ، فَجُعِلَتِ السِّدْرَةُ مَثَلًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ كَمَا جُعِلَتِ النَّخْلَةُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا يَغْشى إِبْهَامٌ لِلتَّفْخِيمِ الْإِجْمَالِيِّ وَأَنَّهُ تَضِيقُ عَنْهُ عِبَارَاتُ الْوَصْفِ فِي اللُّغَةِ. وَجَنَّةُ الْمَأْوَى: الْجَنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِأَنَّهَا مَأْوَى الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُنْتَهَى مَرَاتِبِ ارْتِقَاءِ الْأَرْوَاحِ الزَّكِيَّةِ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى «ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ» . وَقَوْلُهُ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أُرِيدَ بِهِ التَّنْوِيهُ بِمَا حَفَّ بِهَذَا الْمَكَانِ الْمُسَمَّى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى مِنَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ «حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ» وَفِي رِوَايَةٍ «غَشِيَهَا نُورٌ مِنَ اللَّهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا» ، وَمَا حَصَلَ فِيهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْرِيفِ بِتَلَقِّي الْوَحْيِ مُبَاشَرَةً مِنَ اللَّهِ دُونَ وَاسِطَةِ الْمَلَكِ فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ «حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً» الْحَدِيثَ. وَجُمْلَةُ مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ فِي مَعْنَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى إِلَى آخِرِهَا، أَيْ رَأَى جِبْرِيلَ رُؤْيَةً لَا خَطَأَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ عَلَى مَا وَصَفَ، أَيْ لَا مُبَالَغَةَ.

[سورة النجم (53) : الآيات 19 إلى 23]

وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ، أَيْ مَا مَالَ بَصَرُهُ إِلَى مَرْئِيٍّ آخَرَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ، وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوَزُ الْحَدِّ. وَجُمْلَةُ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى تَذْيِيلٌ، أَيْ رَأَى آيَاتٍ غَيْرَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَمَا غَشِيَ السِّدْرَةَ مِنِ الْبَهْجَةِ وَالْجَلَالِ، رَأَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْكُبْرَى. وَالْآيَاتُ: دَلَائِلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُزِيدُ الرَّسُولَ ارْتِفَاعًا. [19- 23] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 19 الى 23] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. لَمَّا جَرَى فِي صِفَةِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا دلّ على شؤون جليلة من عَظمَة الله تَعَالَى وَشرف رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشرف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ وُصِفَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَنَازِلِ الْعِزَّةِ كَمَا وُصِفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرُوجِ فِي الْمَنَازِلِ الْعُلْيَا، كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ مُوَازَنَةَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّفِيعَةِ بِحَالِ أَعْظَمِ آلِهَتِهِمُ الثَّلَاثِ فِي زَعْمِهِمْ وَهِيَ: اللَّاتُ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةُ الَّتِي هِيَ أَحْجَارٌ مَقَرُّهَا الْأَرْضُ لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا وَلَا يُعَرَجُ بِهَا إِلَى رِفْعَةٍ. فَكَانَ هَذَا التَّضَادُّ جَامِعًا خَيَالِيًّا يَقْتَضِي تَعْقِيبَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ هَاتِهِ. فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ غَرَضِ إِثْبَاتِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوحًى إِلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، إِلَى إِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمَنَاطُ الْإِبْطَالِ قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى جُمْلَةِ أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: 12] الْمُفَرَّعَةِ عَلَى جُمْلَةِ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النَّجْم: 11] . والروية فِي أَفَرَأَيْتُمُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَلَا تَطْلَبُ مَفْعُولًا ثَانِيًا وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا تَهَكُّمِيًّا، أَيْ كَيْفَ تَرَوْنَ اللَّاتَ

وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا وُصِفَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَفِ مَلَائِكَتِهِ وَشَرَفَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَإِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى، وَدَلِيلُهُ الْعِيَانُ. وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ «أَرَأَيْتَ» أَنْ تَكُونَ لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ رَضِيُّ الدِّينِ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ إِلَخِ اسْتِئْنَافًا وَارْتِقَاءً فِي الرَّدِّ أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى لِأَنَّ مَضْمُونَهَا مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَزَاعِمُهُمْ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِنَاتُ اللَّهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَقْتَضِيهِ. وَيَجُوزُ أَن تكون الرُّؤْيَة عِلْمِيَّةً، أَيْ أَزَعَمْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي اخْتِصَارًا لِدِلَالَةِ قَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَزْعَمْتُمُوهُنَّ بَنَاتِ اللَّهِ، أَتَجْعَلُونَ لَهُ الْأُنْثَى وَأَنْتُمْ تَبْتَغُونَ الْأَبْنَاءَ الذُّكُورَ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ إِلَخْ بَيَانًا لِلْإِنْكَارِ وَارْتِقَاءً فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ، أَيْ أَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ خَاصَّةً وَتَغْتَبِطُونَ لِأَنْفُسِكُمْ بِالْبَنِينَ الذُّكُورِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشْفِ» قَوْلَهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُول الثَّانِي لفعل «أَرَأَيْتُمْ» . وَأَيْضًا لِمَا كَانَ فِيمَا جَرَى مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَمَنَازِلِ الزُّلْفَى الَّتِي حَظِيَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَمَةُ جِبْرِيلَ إِشْعَارٌ بِسِعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ مَلَكُوتِهِ مِمَّا يُسَجِّلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي زَعْمِهِمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ أَصْنَامًا مِثْلَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ. فَسَادَ زَعْمِهِمْ وَسَفَاهَةَ رَأْيِهِمْ أُعْقِبَ ذِكْرُ دَلَائِلِ الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ بِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ مَرْتَبَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ تِلْكَ أَوْهَامٌ لَا حَقَائِقَ لَهَا وَلَكِنِ اخْتَرَعَتْهَا مُخَيِّلَاتُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَوَضَعُوا لَهَا أَسْمَاءَ مَا لَهَا حَقَائِقُ، فَفَرَّعَ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إِلَخْ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تقريريا إنكاريّا، والرؤية عِلْمِيَّةً وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها. وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى إِلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِارْتِقَاءِ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ وَزَعَمْتُوهُنَّ بَنَاتٍ لِلَّهِ أَوْ وَزَعَمْتُمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتٍ لِلَّهِ.

وَهَذِهِ الْوُجُوهُ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ فَنَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّ جَمِيعَهَا مَقْصُودٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ «أَرَأَيْتُمْ» (عَلَى اعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً) مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ لِوُقُوعِ إِنْ النَّافِيَةَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى إِلَى قَوْلِهِ: ضِيزى اعْتِرَاضًا. وَاللَّاتُ: صَنَمٌ كَانَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهُ، وَلَهُ شُهْرَةٌ عِنْدَ قُرَيْشٍ، وَهُوَ صَخْرَةٌ مُرَبَّعَةٌ بَنَوْا عَلَيْهَا بِنَاءً. وَقَالَ الْفَخْرُ: «كَانَ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَكَانَ فِي مَوْضِعِ مَنَارَةِ مَسْجِدِ الطَّائِفِ الْيُسْرَى» كَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فَلَعَلَّ الْمَسْجِدَ كَانَتْ لَهُ مَنَارَتَانِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي أَوَّلِ اللَّاتَ زَائِدَتَانِ. وَ (أَلْ) الدَّاخِلَةُ عَلَيْهِ زَائِدَةٌ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُ: لَاتٌ، بِمَعْنَى مَعْبُودٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا جَعْلَهُ عَلَمًا عَلَى مَعْبُودٍ خَاصٍّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ كَمَا فِي اللَّهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ إِلَهٌ. وَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِسِكُونِ تَائِهِ فِي الْفُصْحَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتَ بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة. وقرأه رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَذَلِكَ لُغَةٌ فِي هَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: أَصْلُ صَخْرَتِهِ مَوْضِعٌ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ فَلَمَّا مَاتَ اتَّخَذُوا مَكَانَهُ مَعْبَدًا. والْعُزَّى: فُعْلَى مِنَ الْعِزِّ: اسْمُ صَنَمِ حَجَرٍ أَبْيَضَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ وَقَالَ الْفَخْرُ: «كَانَ عَلَى صُورَةِ نَبَاتٍ» وَلَعَلَّهُ يَعْنِي: أَنَّ الصَّخْرَةَ فِيهَا صُورَةُ شَجَرٍ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ وَكَانَ جُمْهُورُ الْعَرَبِ يعبدونها وخاصة قُرَيْش وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ يُخَاطِبُ الْمُسْلِمِينَ «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» . وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْعَرَب كَانُوا إِذا شَرَعُوا فِي عمل قَالُوا: بِسم اللَّاتِ بِاسْمِ الْعُزَّى. وَأَمَّا مَناةَ فَعَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ فَحَقُّهُ أَنْ يُكْتَبَ بِهَاءِ تَأْنِيثِ فِي آخِرِهِ وَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ، وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، وَفِيهِ لُغَةٌ بِالتَّاءِ الْأَصْلِيَّةِ فِي آخِرِهِ

فَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ وَيَكُونُ مَصْرُوفًا لِأَنَّ تَاءَ لَاتٍ مِثْلُ بَاءِ بَابٍ، وَأَصْلُهُ: مَنَوَاةُ بِالتَّحْرِيكِ وَقَدْ يمد فَيُقَال: منآة وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقِيَاسُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقِفُ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ تَبَعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَانَ صَخْرَةً وَقَدْ عَبَدَهُ جُمْهُورُ الْعَرَبِ وَكَانَ مَوْضِعُهُ فِي الْمُشَلَّلِ حَذْوَ قُدَيْدٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَطُوفُونَ حَوْلَهُ فِي الْحَجِّ عِوَضًا عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا حَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَسَعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الْأَنْصَارُ مِنَ السَّعْيِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّإِ» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [158] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَناةَ بِتَاءٍ بَعْدَ الْأَلِفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ. وَالْجُمْهُورُ يَقِفُونَ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ تَبَعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَتَكُونُ التَّاءُ حَرْفًا مِنَ الْكَلِمَةِ غَيْرَ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فَهِيَ مِثْلُ تَاءِ اللَّاتَ وَيَجْعَلُونَ رَسْمَهَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَوَصْفُهَا بِالثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا ثَالِثَةٌ فِي الذِّكْرِ وَهُوَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَوَصْفُهَا بِالْأُخْرَى أَيْضًا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهَا ثَالِثَةً فِي الذِّكْرِ غَيْرِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ، فَالْحَاصِلُ مِنَ الصِّفَتَيْنِ تَأْكِيدُ ذِكْرِهَا لِأَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى عِنْدَ قُرَيْشٍ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ أَشْهَرُ مِنْ مَنَاةَ لِبُعْدِ مَكَانِ مَنَاةَ عَنْ بِلَادِهِمْ وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ مَوَاقِعِ بُيُوتِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ كَذَلِكَ، فَاللَّاتُ فِي أَعْلَى تِهَامَةَ بِالطَّائِفِ، وَالْعُزَّى فِي وَسْطِهَا بِنَخْلَةٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَمَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَهِيَ ثَالِثَةُ الْبِقَاعِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ مَنَاةُ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ قدرا وأكثرها عابدا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فَأَكَّدَهَا بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. وَالْأَحْسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْعَرَبِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ مُتَعَدِّدٍ وَكَانَ فِيهِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخَبَرِ لِعِظَمَةٍ أَوْ تَبَاعُدٍ عَنِ التَّلَبُّسِ بِمِثْلِ مَا تَلَبَّسَ بِهِ نُظَرَاؤُهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْخَبَرَ فَيَقُولُوا: «وَفُلَانٌ هُوَ الْآخَرُ» وَوَجْهُهُ هُنَا أَنَّ عُبَّادَ مَنَاةَ كَثِيرُونَ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ عَبَدَتِهَا لَا يَزِيدُهَا قُوَّةً عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَامِ فِي مَقَامِ إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى التَّهَكُّمِ وَالتَّسْفِيهِ.

وَجُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ارْتِقَاءٌ فِي الْإِبْطَالِ وَالتَّهَكُّمِ وَالتَّسْفِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ مُجَارَاةٌ لِاعْتِقَادِهِمُ أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ الثَّلَاثَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، أَيْ أجعلتم لله الْبَنَات خَاصَّةً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ لَكُمْ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَأَنَّكُمْ تُفَضِّلُونَ الذُّكُورَ وَتَكْرَهُونَ الْإِنَاثَ وَقَدْ خَصَصْتُمُ اللَّهَ بِالْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ وَاللَّهُ أَوْلَى بِالْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَكَانَ فِي هَذَا زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِكُفْرِهِمْ إِذْ كَانَ كُفْرًا وَسَخَافَةَ عَقْلٍ. وَكَوْنُ الْعُزَّى وَمَنَاة عِنْدهم اثْنَتَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ صِيغَةِ اسْمَيْهِمَا، وَأَمَّا اللَّاتُ فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبَارِ التَّاءِ فِي الِاسْم عَلامَة تَأْنِيث أَوْ أَصْلًا مِنَ الْكَلِمَةِ فَهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ اللَّاتَ أُنْثَى، وَلذَلِك قَالَ أبوبكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ «امْصُصْ أَوِ اعْضُضْ بَظْرَ اللَّاتِ» . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى لِلِاهْتِمَامِ بالاختصاص الَّذِي أفادته اللَّامُ اهْتِمَامًا فِي مَقَامِ التَّهَكُّمِ وَالتَّسْفِيهِ عَلَى أَنَّ فِي تَقْدِيمِ وَلَهُ الْأُنْثى «إِفَادَةَ الِاخْتِصَاصِ» أَيْ دُونَ الذَّكَرِ. وَجُمْلَةُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّهَكُّمِ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، أَيْ قَدْ جُرْتُمْ فِي الْقِسْمَةِ وَمَا عَدَلْتُمْ فَأَنْتُمْ أَحِقَّاءُ بِالْإِنْكَارِ. وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى الْمَذْكُورِ بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ قِسْمَةٌ فَإِنَّهُ مؤنث اللَّفْظ. وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ أُرِيدَ بِهِ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الإنكاري، أَي ترَتّب عَلَى مَا زَعَمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ ضِيزَى، أَيْ قَسَمْتُمْ قِسْمَةً جَائِرَةً. وضِيزى: وَزْنُهُ فُعْلَى بِضَمِ الْفَاءِ مِنْ ضَازَهُ حَقَّهُ، إِذَا نَقَصَهُ، وَأَصْلُ عَيْنِ ضَازَ هَمْزَةٌ، يُقَالُ: ضَأَزَهُ حَقَّهُ كَمَنَعَهُ ثُمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ فَقَالُوا: ضَازَهُ بِالْأَلِفِ. وَيَجُوزُ فِي مُضَارِعِهِ أَنْ يَكُونَ يَائِيَّ الْعَيْنِ أَوْ وَاوِيَّهَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ ضَازَ يَضِيزُ، وَضَازَ يَضُوزُ. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ لَكَ الْخِيَارَ فِي الْمَهْمُوزِ الْعَيْنِ إِذَا خُفِّفَ

أَنْ تُلْحِقَهُ بِالْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِي كَلَامِهِمُ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ يَاءً فَقَالُوا: ضَازَهُ حَقَّهُ ضَيْزًا وَلَمْ يَقُولُوا ضَوْزًا لِأَنَّ الضَّوْزَ لَوْكُ التَّمْرِ فِي الْفَمِ، فَأَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمَصْدَرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَنِ الْمُؤَرِّجِ السَّدُوسِيِّ كَرِهُوا ضَمَّ الضَّادِ فِي ضُوزَى فَقَالُوا: ضِيزَى. كَأَنَّهُ يُرِيدُ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّ الضَّادِ، أَيْ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ مَعَ أَنَّ لَهُمْ مَنْدُوحَةً عَنْهُ بِالزِّنَةِ الْأُخْرَى. وَوَزْنُ ضِيزى: فعلى اسْم تَفْضِيل (مِثْلَ كُبْرَى وَطُوبَى) أَيْ شَدِيدَةُ الضَّيْزِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ الضَّمَّةِ حَرَّكُوهُ بِالْكَسْرِ مُحَافَظَةً عَلَى الْيَاءِ لِئَلَّا يَقْلِبُوهَا وَاوًا فَتَصِيرَ ضُوزَى وَهُوَ مَا كَرِهُوهُ كَمَا قَالَ الْمُؤَرِّجُ. وَهَذَا كَمَا فَعَلُوا فِي بِيضٍ جَمْعُ أَبْيَضَ وَلَوِ اعْتَبَرُوهُ تَفْضِيلًا مِنْ ضَازَ يَضُوزُ لَقَالُوا: ضَوْزَى وَلَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوهُ. وَقِيلَ: وَزْنُ ضِيزى فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِثْلُ دِفْلَى وَشِعْرَى، وَيُبَعِّدُ هَذَا أَنَّهُ مُشْتَقٌّ فَهُوَ بِالْوَصْفِيَّةِ أَجْدَرُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُوجَدُ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي الصِّفَاتِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ ذِكْرَى وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ كَسْرَتُهُ أَصْلِيَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضِيزى بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الضَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الضَّادِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَهَذَا وَسْمٌ لَهُمْ بِالْجَوْرِ زِيَادَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ التَّفْكِيرَ فِي الْجَوْرِ كَفِعْلِهِ فَإِنَّ تَخَيُّلَاتِ الْإِنْسَانِ وَمُعْتَقَدَاتِهِ عُنْوَانٌ عَلَى أَفْكَارِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ. وَجُمْلَةُ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها اسْتِئْنَافٌ يَكُرُّ بِالْإِبْطَالِ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ مِنْ أَصْلِهِ بَعْدَ إِبْطَالِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ فِيهِ لِإِظْهَارِ اخْتِلَالِ مُعْتَقَدِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ إِنْكَارَ نِسْبَتِهِمُ الْبَنَاتِ لِلَّهِ أَنَّهُ إِنْكَارٌ لِتَخْصِيصِهِمُ اللَّهَ بِالْبَنَاتِ وَأَنَّ لَهُ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَوْ أَنَّ مَصَبَّ الْإِنْكَارِ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّهَا بَنَاتٌ وَلَيْسَتْ بِبَنَاتٍ فَيَكُونُ كَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتٍ. وَالضَّمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى اللَّاتِ والعزى وَمَنَاة. وَمَا صدق الضَّمِيرِ الذَّاتُ وَالْحَقِيقَةُ، أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا وَلَا حَقَائِقَ ثَابِتَةً وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [يُوسُف: 40] . وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ هِيَ أَسْمَاءٌ لَا حَقَائِقُ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَلَيْسَ

الْقَصْرُ حَقِيقِيًّا لِأَنَّ لِهَاتِهِ الْأَصْنَامِ مُسَمَّيَاتٌ وَهِيَ الْحِجَارَةُ أَوِ الْبُيُوتُ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِالْعِبَادَةِ وَيَجْعَلُونَ لَهَا سَدَنَةً. وَجُمْلَةُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ تَعْلِيلٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ بِطَرِيقَةِ الِاكْتِفَاءِ لِأَنَّ كَوْنَهَا لَا حَقَائِقَ لَهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ إِذْ لَيْسَتْ إِلَّا حِجَارَةً. وَأَمَّا كَوْنُهَا لَا حَقَائِقَ لَهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلِأَنَّ عَالَمَ الْغَيْبِ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِ مَا يَحْتَوِيهِ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ سُبْحَانَهُ، أَوْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ كَدَلَالَةِ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَبَعْضِ صِفَاتِهِ وَاللَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ لِلْأَصْنَامِ أَرْوَاحًا أَوْ مَلَائِكَةً، مِثْلَ مَا أَخْبَرَ عَنْ حَقَائِقِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ، وَإِنْزَالُهَا مِنَ اللَّهِ: الْإِخْبَارُ بِهَا، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا حُجَّةٌ لِأَنَّ وُجُودَ الْحُجَّةِ يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَهَا، فَنَفْيُ إِنْزَالِ الْحُجَّةِ بِهَا مِنْ بَابِ: على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْإِخْبَارِ الْمُوحَى بِهِ بِفِعْلِ (أَنْزَلَ) لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ يَرِدُ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فَشُبِّهَ بِإِدْلَاءِ جِسْمٍ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ. وَكَذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ إِقَامَةِ دَلَائِلِ الْوُجُودِ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّ النَّظَرَ الْفِكْرِيَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَشُبِّهَ بِالْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: 4] ، فَاسْتِعْمَالُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [71] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [40] قَوْلُهُ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. وَأَكَّدَ نَفْيَ إِنْزَالِ السُّلْطَانِ بِحَرْفِ (مِنْ) الزَّائِدَةِ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْجِنْسِ.

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى. هَذَا تَحْوِيلٌ عَنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَضَمِيرُ يَتَّبِعُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَيْهِمْ. أَعْقَبَ نَفْيَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصَائِصِ الَّتِي يزعمونها لأصنافهم أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِيمَا يَزْعُمُونَهُ إِلَى الْأَوْهَامِ وَمَا تُحِبُّهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَحَبَّةِ سَدَنَتِهَا وَمَوَاكِبِ زِيَارَتِهَا، وَغُرُورِهِمْ بِأَنَّهَا تَسْعَى فِي الْوَسَاطَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْغَبُونَهُ فِي حَيَاتِهِمْ فَتِلْكَ أَوْهَامٌ وَأَمَانِيُّ مَحْبُوبَةٌ لَهُمْ يَعِيشُونَ فِي غُرُورِهَا. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَتَّبِعُونَ لِلدِّلَالَةِ على أَنهم سيسمرّون عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَاهُ نُفُوسُهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ بِدِلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ. وَأَصْلُ الظَّنِّ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ الْجَازِمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ الْجَازِمِ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَغِيبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [46] ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [116] ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ عَطْفِ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ عَلَيْهِ كَمَا عُطِفَ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَطَإِ بِاعْتِبَارِ لِزُومِهِ لَهُ غَالِبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] . وَهَذَا التَّفَنُّنُ فِي مَعَانِي الظَّنِّ فِي الْقُرْآنِ يُشِيرُ إِلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ حَتَّى يُلْحِقَهُ الْمُسْلِمُ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ حُسْنٍ أَوْ ذَمٍّ عَلَى حَسَبِ الْأَدِلَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَنْبَطَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي فِي إِثْبَاتِ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَأَنَّ الظَّنَّ الصَّائِبَ تُنَاطُ بِهِ تَفَارِيعُ الشَّرِيعَةِ.

وَالْمُرَادُ بِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ: مَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا الْمَيْلُ الشَّهْوَانِيُّ، دُونَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَزِيدُهُ حُبُّهُ إِلَّا قَبُولًا كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَافْتَرَقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ» وَقَالَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» . فَمَنَاطُ الذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَصْرُ اتِّبَاعِهِمْ عَلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ. ثُمَّ إِنَّ لِلظَّنِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْأَخْلَاقِ النَّفْسَانِيَّةِ أَحْكَامًا وَمَرَاتِبَ غَيْرَ مَا لَهُ فِي الدِّيَانَاتِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، فَمِنْهُ مَحْمُودٌ وَمِنْهُ مَذْمُومٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَقيل: الحزم سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَنْفُسُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَمَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ وَمَا مَوْصُولَةٌ. وَعَطْفُ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ عَلَى الظَّنِّ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، أَيِ الظَّنُّ الَّذِي يَبْعَثهُم على إتباعه أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِهُدَاهِمْ وَإِلْفِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حَالِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْهَوَى فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِالْهُدَى. وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ هُدًى مُقْنِعٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا يُظَنُّ مِثْلُهُ بِعَاقِلٍ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ رَبِّهِمُ لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ تَصَامُمِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْهُدَى مَعَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فَكَانَ ضَلَالُهُمْ مَخْلُوطًا بِالْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْهُدى لِلدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، أَيِ الْهدى الْوَاضِح.

[سورة النجم (53) : الآيات 24 إلى 25]

[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 24 إِلَى 25] أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) إضراب انتقالي ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النَّجْم: 23] . وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارِيٌّ قُصِدَ بِهِ إِبْطَالُ نَوَالِ الْإِنْسَانِ مَا يَتَّمْنَاهُ وَأَنْ يَجْعَلَ مَا يَتَمَنَّاهُ بَاعِثًا عَنْ أَعْمَالِهِ وَمُعْتَقَدَاتِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَلَّبَ الْحَقَّ مِنْ دَلَائِلِهِ وَعَلَامَاتِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا يَتَمَنَّاهُ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النَّجْم: 23] . وَهَذَا تَأْدِيبٌ وَتَرْوِيضٌ لِلنِّفُوسِ عَلَى تَحَمُّلِ مَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهَا إِذَا كَانَ الْحَقُّ مُخَالِفًا لِلْهَوَى وَلْيَحْمِلْ نَفْسَهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَتَخَلَّقَ بِهِ. وَتَعْرِيفُ الْإِنْسَانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَوُقُوعُهُ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ الْمُسَاوِي لِلنَّفْيِ جَعَلَهُ عَامًّا فِي كُلِّ إِنْسَانٍ. وَالْمَوْصُولُ فِي مَا تَمَنَّى بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بلام الْجِنْس فوقوعه فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، أَيْ مَا لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِمَّا تَمَنَّى، أَي لَيْسَ شَيْء جَارِيًا عَلَى إِرَادَتِهِ بَلْ عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ كُلَّ هَوًى دَعَاهُمْ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ كَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَلَ تَمَنِّيَهُمْ شَفَاعَةَ الْأَصْنَامِ وَهُوَ الْأَهَمُّ مِنْ أَحْوَالِ الْأَصْنَامِ عِنْدَهُمْ وَذَلِكَ مَا يُؤذن بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [النَّجْم: 26] الْآيَةَ. وَتَمَنِّيَهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا وَغَيْرَ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وَقَوْلِهِمُ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] . وَفُرِّعَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، أَيْ فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا بِحَسْبِ إِرَادَتِهِ لَا بِحَسْبِ تَمَنِّي الْإِنْسَانِ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدَاتِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي مِنْهَا يَقِينُهُمْ بِشَفَاعَةِ أَصْنَامِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى، لِأَنَّ مَحَطَّ الْإِنْكَارِ هُوَ أُمْنِيَتُهُمْ أَنْ تَجْرِيَ الْأُمُورُ عَلَى حَسَبِ أَهْوَائِهِمْ فَلِذَلِكَ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ. فَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ هُنَا لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ

[سورة النجم (53) : آية 26]

مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَالِهِمْ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَرَوْنَ الْأُمُورَ تَجْرِي عَلَى مَا يَتَمَنَّوْنَ، أَيْ بَلْ أَمَانِيُّ الْإِنْسَانِ بِيَدِ اللَّهِ يُعْطِي بَعْضَهَا وَيَمْنَعُ بَعْضَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى. وَهَذَا مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ لِأَنَّ رَغْبَةَ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَكُونَ مَا يَتَمَنَّاهُ حَاصِلًا رَغْبَةٌ لَوْ تَبَصَّرَ فِيهَا صَاحِبُهَا لَوَجَدَ تَحْقِيقَهَا مُتَعَذِّرًا لِأَنَّ مَا يَتَمَنَّاهُ أَحَدٌ يَتَمَنَّاهُ غَيْرُهُ فَتَتَعَارَضُ الْأَمَانِيُّ فَإِذَا أُعْطِيَ لِأَحَدٍ مَا يَتَمَنَّاهُ حُرِمَ مَنْ يَتَمَنَّى ذَلِكَ مَعَهُ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيل الأمنيتين بالأخرة، وَالْقَانُونُ الَّذِي أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِظَامَ هَذَا الْكَوْنِ أَنَّ الْحُظُوظَ مُقَسَّمَةٌ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ نَصِيبٌ، وَمِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يتخلق على الرضى بِذَلِكَ وَإِلَّا كَانَ النَّاسُ فِي عِيشَةٍ مَرِيرَةٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتَقْعُدَ فَإِنَّ لَهَا مَا كُتِبَ لَهَا» . وَتَفْرِيعُ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ لِلَّهِ لَا لِلْإِنْسَانِ. والْآخِرَةُ الْعَالَمُ الْأُخْرَوِيُّ، والْأُولى الْعَالِمُ الدُّنْيَوِيُّ. وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَا يَحْتَوِيَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ، أَيْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأُمُورِ الْأُولَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا تَعْمِيمُ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرَّحْمَن: 17] . وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْآخِرَةُ لِلِاهْتِمَامِ بهَا والتثنية إِلَى أَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاءُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، مَعَ مَا فِي هَذَا التَّقْدِيمِ مِنَ الرِّعَايَة للفاصلة. [26] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 26] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ أُمُورَ الدَّارَيْنِ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، ضَرَبَ لِذَلِكَ مِثَالًا مِنَ الْأَمَانِي الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ أَمَانِي الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ فِي الْأَصْنَامِ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، وَقَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] ،

فَبَيَّنَ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ لَهُمْ شَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ (فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ أَنَّهُمْ أَشْرَفُ مِنَ الْأَصْنَامِ) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا إِذَا أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يُشَفِّعَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْبَلَ الشَّفَاعَةَ فِي الْمَشْفُوعِ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ مَا تَمَنَّوْا مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وَهِيَ حِجَارَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مَلَائِكَةً فِي السَّمَاوَاتِ، فَثَبَتَ أَنْ لَا شَفَاعَةَ إِلَّا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ شَفَاعَةَ الْأَصْنَامِ فَبَطَلَ اعْتِقَادُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ، فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى [النَّجْم: 24] . وَلَيْسَ هَذَا الِانْتِقَالُ اقْتِضَابًا لِبَيَانِ عِظَمِ أَمْرِ الشَّفَاعَةِ. وكَمْ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [211] ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فِي الْأَعْرَافِ [4] . وفِي السَّماواتِ صفة ل مَلَكٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا بَيَانُ شَرَفِهِمْ بِشَرَفِ الْعَالَمِ الَّذِي هُمْ أَهْلُهُ، وَهُوَ عَالَمُ الْفَضَائِلِ وَمَنَازِلُ الْأَسْرَارِ. وَجُمْلَةُ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ إِلَخْ، خَبَرٌ عَنْ كَمْ، أَيْ لَا تُغْنِي شَفَاعَةُ أَحَدِهِمْ فَهُوَ عَام لوُقُوع الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَلِإِضَافَةِ شَفَاعَةٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، أَيْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَعُلُوِّ مِقْدَارِهِمْ لَا تُغْنِي شَفَاعَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وشَيْئاً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ نَفْيِ إِغْنَاءِ شَفَاعَتِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ يُوهِمُ أَنَّهُمْ قَدْ يَشْفَعُونَ فَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنهم لَا يجرأون عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى، وَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] وَقَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 225] أَيْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِأَحَدِهِمْ فِي الشَّفَاعَةِ وَيَرْضَى بِقُبُولِهَا فِي الْمَشْفُوعِ لَهُ.

[سورة النجم (53) : الآيات 27 إلى 28]

فَالْمُرَاد ب لِمَنْ يَشاءُ مَنْ يَشَاؤُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ فَإِذَا أَذِنَ لِأَحَدِهِمْ قُبِلَتْ شَفَاعَتُهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ بَعْدَ مَادَّةِ الشَّفَاعَةِ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَفَاعَتِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَلَيْسَتِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِ يَأْذَنَ اللَّهُ. وَمَفْعُولُ يَأْذَنَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْ يَأْذَنَهُمُ اللَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لتعدية يَأْذَنَ إِذا أُرِيدُ بِهِ مَعْنَى يَسْتَمِعُ، أَيْ أَنْ يُظْهِرَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَزَالُونَ يَتَقَرَّبُونَ بِطَلَبِ إِلْحَاقِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِر: 7] وَقَوْلُهُ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ وَالشَّفَاعَةَ تَوَجُّهٌ أَعْلَى، فالملائكة يعلمُونَ إِذا أَرَادَ اللَّهُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِمْ فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أُذِنَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَيَشْفَعَ فَتُقْبَلَ شَفَاعَتُهُ، فَهَذَا تَقْرِيبُ كَيْفِيَّةِ الشَّفَاعَةِ. وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ. وَعُطِفَ وَيَرْضى عَلَى لِمَنْ يَشاءُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِذْنَ اللَّهِ بِالشَّفَاعَةِ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ إِذَا كَانَ الْمَشْفُوعُ لَهُ أَهْلًا لِأَنْ يُشْفَعَ لَهُ. وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ تَحْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي التَّعَرُّض لرضى اللَّهِ عَنْهُمْ لِيَكُونُوا أَهْلًا لِلْعَفْوِ عَمَّا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. [27، 28] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 27 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ. اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَتَبَعًا لِمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتٍ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْم: 19- 21] ثُنِّيَ إِلَيْهِمْ عَنَانُ الرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ جَمْعًا بَيْنَ رَدِّ بَاطِلَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النَّجْم: 28] ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالتَّحْقِيرِ لِعَقَائِدِهِمْ إِذْ كَفَرُوا

بِالْآخِرَةِ وَقد تَوَاتر إِثْبَاتهَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ، فَالْمَوْصُولِيَّةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ وَالتَّهَكُّمِ نَظِيرَ حِكَايَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] إِلَّا أَنَّ التَّهَكُّمَ المحكي هُنَا لَك تَهَكُّمُ الْمُبْطِلِ بِالْمُحِقِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ وُقُوعَ الصِّلَةِ، وَأَمَّا التَّهَكُّمُ هُنَا فَهُوَ تَهَكُّمُ الْمُحِقِّ بِالْمُبْطِلِ لِأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ ثَابِتٌ لَهُمْ. وَالتَّسْمِيَةُ مُطْلَقَةُ هُنَا عَلَى التَّوْصِيفِ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْلُولِ الْمُسَمَّى ذَاتًا كَانَ أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِ لَبِيدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا أَيِ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الْإِنْسَان: 18] أَيْ تُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي حُسْنِ مَآبِهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: 65] ، أَيْ لَيْسَ لِلَّهِ مَثِيلٌ. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ [1] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَذَلِكَ تَوْصِيفٌ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] ، وَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] وَقَالَ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُنْثى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْمُتَعَدِّدِ وَالَّذِي دَعَا إِلَى هَذَا النَّظْمِ مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ لِيَقَعَ لَفْظُ الْأُنْثى فَاصِلَةً كَمَا وَقَعَ لَفْظُ الْأُولى وَلَفْظُ يَرْضى وَلَفْظُ شَيْئاً. وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ حَالٌ من ضمير لَيُسَمُّونَ، أَيْ يُثْبِتُونَ للْمَلَائكَة صِفَات الْإِنَاث فِي حَالِ انْتِفَاءِ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ تَخَيُّلٌ وَتَوَهُّمٌ إِذِ الْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ لَهُمْ فَنَفْيُ الْعِلْمِ مُرَادٌ بِهِ نَفْيُهُ وَنَفْيُ الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ.

[سورة النجم (53) : الآيات 29 إلى 30]

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ذُو شُعَبٍ: فَإِنَّ فِيهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَوْدًا إِلَى جُمْلَةِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَتَأْكِيدًا لِمَضْمُونِهَا وَتَوْطِئَةً لِتَفْرِيعِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْم: 29] . وَاسْتُعِيرَ الِاتِّبَاعُ لِلْأَخْذِ بِالشَّيْءِ وَاعْتِقَادِ مُقْتَضَاهُ أَيْ مَا يَأْخُذُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلِ الظَّنِّ الْمُخْطِئِ. وَأُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ كَمَا هُوَ غَالِبُ إِطْلَاقِهِ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا. وَأُظْهِرَ لَفْظُ الظَّنَّ دُونَ ضَمِيرِهِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ. وَنَفْيُ الْإِغْنَاءِ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْإِفَادَةِ، أَيْ لَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ فَحَرْفُ مِنْ بَيَانٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبِينِ أَعْنِي شَيْئًا. وشَيْئاً مَنْصُوبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ يُغْنِي. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَقَّ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِدْرَاكُهَا هُوَ الْعِلْمُ (الْمُعَرَّفُ بِأَنَّهُ تَصَوُّرُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ) وَالظَّنُّ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْإِدْرَاكَ بِذَاتِهِ فَلَوْ صَادَفَ الْحَقَّ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّدْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَخَاصَّةً الظَّنَّ الْمُخْطِئَ كَمَا هُنَا. [29، 30] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 29 الى 30] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. بَعْدَ أَنْ وَصَفَ مَدَارِكَهُمُ الْبَاطِلَةَ وَضَلَالَهُمْ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ ضَلَالِهِمْ كَانَ نَتِيجَةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَهُوَ

التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ فَحُقَّ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ وَالتَّوَلِّيَ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَقَارِبَانِ فَالْمُرَادُ بِ مَنْ تَوَلَّى الْفَرِيقُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ آنِفًا بِقَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْم: 2] وَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] وَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النَّجْم: 28] إِلَخْ وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [النَّجْم: 27] إِلَخْ. وَالْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي كِلَاهُمَا مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَجَازِهِ فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ أَوْ لِتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَغَضَبِ اللَّهِ، وَأَمَّا التَّوَلِّي فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاسْتِمَاعِ أَوْ لِعَدَمِ الِامْتِثَالِ. وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ: لَفْتُ الْوَجْهِ عَنِ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ صَفْحَةُ الْخَدِّ لِأَنَّ الْكَارِهَ لِشَيْءٍ يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ. وَحَقِيقَةُ التَّوَلِّي: الْإِدْبَارُ وَالِانْصِرَافُ، وَإِعْرَاضُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ عَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِنَجَاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِرْشَادَ وَإِلَّا فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِإِدَامَةِ دَعَوْتِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَكَمَا كَانَ يَدْعُوهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ بَعْدَ نُزُولِهَا، عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِمْ فَإِنَّهَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَمَنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إِعْرَاضٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَا أُنْذِرَ بِهِ الْمُعْرِضُونَ وَيَتَأَمَّلُونَ فِيمَا تَصِفُهُمْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالْمُتَارَكَةِ وَلَا هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] وَقَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [106] ، فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا. وَمَا صدق مَنْ تَوَلَّى الْقَوْمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَإِنَّمَا جَرَى الْفِعْلُ عَلَى صِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَجِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَقِيلَ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا دُونَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَمِنْ تَرَتُّبِ تَوَلِّيهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَبَقَ وَصْفُهُ مِنْ ضَلَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَصْفُهُمْ بِالتَّوَلِي عَنِ الذِّكْرِ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ وَصْفُ أَسْبَابِهِ.

وَالذِّكْرُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمَعْنَى وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لَأَرَادُوهَا وَلَوْ بِبَعْضِ أَعْمَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ اعْتِرَاضٌ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ بِهِ سَبَبَ جَهْلِهِمْ بِوُجُودِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ لِغَرَابَتِهِ مِمَّا يَسْأَلُ عَنْهُ السَّائِلُ وَفِيهِ تَحْقِيرٌ لَهُمْ وَازْدِرَاءٌ بِهِمْ بِقُصُورِ مَعْلُومَاتِهِمْ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ وَعِلَّتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الْآيَةَ. وَأَعْنِي حَاصِلَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا اسْتُعِيرَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمُوهُ اسْمُ الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُ إِلَيْهِ السَّائِرُ فَلَا يَعْلَمُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْبِلَادِ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى. تَعْلِيلٌ لِجُمَلَةِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى وَهُوَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى أَنَّهُ مُتَوَلِّي حِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلضَّالِينَ. وَالتَّوْكِيدُ الْمُفَادُ بِ إِنَّ وبضمير الْفَصْل رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَا مُقْتَضَى لِتَأْكِيدِهَا لَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِحَالِهِمْ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُفِيدُ الْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَالْمَعْنَى: أَنْتَ لَا تَعْلَمُ دَخَائِلَهُمْ فَلَا تَتَحَسَّرْ عَلَيْهِمْ.

[سورة النجم (53) : الآيات 31 إلى 32]

وَجُمْلَةُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تَتْمِيمٌ، وَفِيهِ وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْبَاءُ فِي بِمَنْ ضَلَّ وَفِي بِمَنِ اهْتَدى لِتَعْدِيَةِ صِفَتَيْ أَعْلَمُ وَهِيَ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ هُوَ أَشَدُّ عِلْمًا مُلَابِسًا لِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ ملابسا لحَال ضلاله، وَتَقْدِيم ذكر بِمَنْ ضَلَّ على ذكر بِمَنِ اهْتَدى لِأَن الضالّين أهمّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُهْتَدِينَ فَتَتْمِيمٌ. [31، 32] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 31 الى 32] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ. عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ إِلَخْ فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ لِلَّهِ أُمُورَ الدَّارَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى [النَّجْم: 25] انْتَقَلَ إِلَى أَهَمِّ مَا يَجْرِي فِي الدَّارَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ مَا عَلَى الْأَرْضِ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النَّجْم: 30] الْمُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَزَاءِ وَهُوَ إِثْبَاتٌ لِوُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ: وَما فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمُهِمَّ مَا فِي الْأَرْضِ إِذْ هُمْ مُتَعَلِّقُ الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّتْمِيمِ لِلْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ مُلْكِ اللَّهِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا وَنُكْتَةُ الِابْتِدَاءِ بِالتَّتْمِيمِ دُونَ تَأْخِيرِهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضًى ظَاهِرٌ فِي التَّتْمِيمَاتِ هِيَ الِاهْتِمَامُ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ وَأَشْرَفُ وَلِيَكُونَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا الْآيَةَ مُقْتَرِنًا بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ ذِكْرِ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمَجْزِيِّينَ هُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ نُكْتَةُ مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ بِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ كَائِنٌ مِلْكًا لِلَّهِ كَوْنًا عِلَّتُهُ أَنْ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا وَالَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُمُ الَّذِينَ

يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْإِسَاءَةُ وَالْإِحْسَانُ فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، جُعِلَ الْجَزَاءُ عِلَّةً لِثُبُوتِ مِلْكِ اللَّهِ لما فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ. وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُرْتَبِطَةِ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ ارْتِبَاطًا أَوَّلِيًّا فِي التَّعَقُّلِ وَالِاعْتِبَارِ لَا فِي إِيجَادٍ فَإِنَّ مِلْكَ اللَّهِ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض ناشىء عَنْ إِيجَادِ اللَّهِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ وَاللَّهُ حِينَ أَوْجَدَهَا عَالِمٌ أَنَّ لَهَا حَيَاتَيْنِ وَأَنَّ لَهَا أَفْعَالًا حَسَنَةً وَسَيِّئَةً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَعَالِمٌ أَنَّهُ مُجْزِيهَا عَلَى أَعْمَالِهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا جَزَاءً خَالِدًا فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَلَا جَرَمَ كَانَ الْجَزَاءُ غَايَةً لِإِيجَادِ مَا فِي الْأَرْضِ فَاعْتُبِرَ هُوَ الْعِلَّةَ فِي إِيجَادِهِمْ وَهِيَ عِلَّةٌ بَاعِثَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا غَيْرُهَا لِأَنَّ الْعلَّة الباعثة يُمكن تَعَدُّدُهَا فِي الْحِكْمَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: أَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النَّجْم: 30] ، أَيْ مِنْ خَصَائِصِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ الْجَزَاء. والباءان فِي قَوْلِهِ: بِما عَمِلُوا وَقَوْلِهِ: بِالْحُسْنَى لِتَعْدِيَةِ فُعْلَى لِيَجْزِيَ ويَجْزِيَ فَمَا بَعْدُ الْبَاءَيْنِ فِي مَعْنَى مَفْعُولِ الْفِعْلَيْنِ، فَهُمَا دَاخِلَتَانِ عَلَى الْجَزَاءِ، وَقَوْلُهُ: بِما عَمِلُوا حِينَئِذٍ تَقْدِيرُهُ: بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا، أَيْ جَزَاءً عَادِلًا مُمَاثِلًا لِمَا عَمِلُوا، فَلِذَلِكَ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِ مَا عَمِلُوهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَقَوْلُهُ: بِالْحُسْنَى أَيْ بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى، أَيْ بِأَفْضَلِ مِمَّا عَمِلُوا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ كَقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها [النَّمْل: 89] . وَالْحُسْنَى: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَجْزِيَ وَهِيَ الْمَثُوبَةُ بِمَعْنَى الثَّوَابِ. وَجَاءَ تَرْتِيبُ التَّفْصِيلِ لِجَزَاءِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ عَلَى وَفْقِ تَرْتِيبِ إِجْمَالِهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى [النَّجْم: 30] عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ إِلَخ صفة ل الَّذِينَ أَحْسَنُوا، أَي الَّذين أَحْسَنُوا وَاجْتَنَبُوا كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، أَيْ فَعَلُوا الْحَسَنَاتِ وَاجْتَنَبُوا الْمَنْهِيَّاتِ،

وَذَلِكَ جَامِعُ التَّقْوَى. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اجْتِنَابَ مَا ذُكِرَ يُعَدُّ مِنَ الْإِحْسَانِ لِأَنَّ فِعْلَ السَّيِّئَاتِ يُنَافِي وَصْفُهُمْ بِالذِّينَ أَحْسَنُوا فَإِنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِالْحَسَنَاتِ كُلِّهَا وَلَمْ يَتْرُكُوا السَّيِّئَاتِ كَانَ فِعْلُهُمُ السَّيِّئَاتِ غَيْرُ إِحْسَانٍ وَلَوْ تَرَكُوا السَّيِّئَاتِ وَتَرَكُوا الْحَسَنَاتِ كَانَ تَرْكُهُمُ الْحَسَنَاتِ سَيِّئَاتٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَبائِرَ الْإِثْمِ بِصِيغَةِ جمع (كَبِيرَة) . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كَبِيرَ الْإِثْمِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَالْمُرَادُ بِكَبَائِرِ الْإِثْمِ: الْآثَامُ الْكَبِيرَةُ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ وَهِيَ مَا شَدَّدَ الدِّينُ التَّحْذِيرَ مِنْهُ أَو ذكر لَهُ وَعِيدًا بِالْعَذَابِ أَوْ وَصَفَ عَلَى فَاعِلِهِ حَدًّا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: «الْكَبَائِرُ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَبِرِقَّةِ دِيَانَتِهِ» . وَعَطْفُ الْفَوَاحِشِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِهَا مُغَايِرٌ لِلْكَبَائِرِ وَلَكِنَّهَا مُغَايَرَةٌ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ الْوَجْهِيِّ، فَالْفَوَاحِشُ أَخَصُّ مِنَ الْكَبَائِرِ وَهِيَ أَقْوَى إِثْمًا. وَالْفَوَاحِشُ: الْفِعْلَاتُ الَّتِي يُعَدُّ الَّذِي فَعَلَهَا مُتَجَاوِزًا الْكَبَائِرَ مِثْلُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَقَتْلِ الْغِيلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الْأَعْرَاف: 33] الْآيَةَ وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ [31] فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَاسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ اللَّمَمَ لَيْسَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَلَا مِنَ الْفَوَاحِشِ. فَالِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا سُمِّيَ بِاللَّمَمِ ضَرْبٌ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُحَذَّرِ مِنْهَا فِي الدِّينِ، فَقَدْ يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يَلْحَقُهَا بِكَبَائِرِ الْإِثْمِ فَلِذَلِكَ حُقَّ الِاسْتِدْرَاكُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ: أَمَّا الْعَامَّةُ فَلِكَيْ لَا يُعَامِلَ الْمُسْلِمُونَ مُرْتَكِبَ شَيْءٍ مِنْهَا مُعَامَلَةَ مَنْ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ، وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَرَحْمَةٌ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَدْ يرتكبونها فَلَا يقل ارْتِكَابُهَا مِنْ نَشَاطِ طَاعَةِ الْمُسْلِمِ،

وَلِيَنْصَرِفَ اهْتِمَامُهُ إِلَى تَجَنُّبِ الْكَبَائِرِ. فَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ بِشَارَةٌ لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ رَخَّصَ فِي إِتْيَانِ اللَّمَمِ. وَقَدْ أَخْطَأَ وَضَّاحُ الْيَمَنِ فِي قَوْلِهِ النَّاشِئِ عَنْ سُوءِ فَهْمِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَطَفُّلِهِ فِي غَيْرِ صِنَاعَتِهِ: فَمَا نَوَّلَتْ حَتَّى تَضَرَّعْتُ عِنْدَهَا ... وَأَنْبَأْتُهَا مَا رَخَّصَ اللَّهُ فِي اللَّمَمِ وَاللَّمَمُ: الْفِعْلُ الْحَرَامُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ فِي تَشْدِيدِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَا يَنْدُرُ تَرْكُ النَّاسِ لَهُ فَيُكْتَفَى مِنْهُمْ بِعَدَمِ الْإِكْثَارِ مِنِ ارْتِكَابِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الصَّغَائِرَ فِي مُقَابَلَةِ تَسْمِيَةِ النَّوْع الآخر بالكبائر. فَمَثَّلُوا اللَّمَمَ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْقُبْلَةِ وَالْغَمْزَةِ. سُمِّيَ: اللَّمَمُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ أَلَمَّ بِالْمَكَانِ إِلْمَامًا إِذَا حَلَّ بِهِ وَلَمْ يُطِلِ الْمُكْثَ، وَمِنْ أَبْيَات الْكتاب: قريشي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ ... وَإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمَامَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ يُسَمَّى نَبْهَانَ التَّمَّارَ كَانَ لَهُ دُكَّانٌ يَبِيعُ فِيهِ تَمْرًا (أَيْ بِالْمَدِينَةِ) فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَشْتَرِي تَمْرًا فَقَالَ لَهَا: إِنَّ دَاخِلَ الدُّكَّانِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ رَاوَدَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَبَتْ فَنَدِمَ فَأَتَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يَصْنَعُهُ الرَّجُلُ إِلَّا وَقَدْ فَعَلْتُهُ (أَيْ غَصْبًا عَلَيْهَا) إِلَّا الْجِمَاعَ» ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً أُلْحِقَتْ بِسُورَةِ النَّجْمِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لَهُ لِأَجْلِ تَوْبَتِهِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ اللَّمَمَ بِالْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ وَلَا يَفْعَلُ فَهُوَ إِلْمَامٌ مَجَازِيٌّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ تَعْلِيلٌ لِاسْتِثْنَاءِ اللَّمَمِ مِنِ اجْتِنَابِهِمْ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ شَرْطًا فِي ثُبُوتٍ وَصْفِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لَهُمْ. وَفِي بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ رَبَّكَ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ سِعَةَ الْمَغْفِرَةِ رِفْقٌ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ شَأْنَ الرَّبِّ مَعَ مَرْبُوبِهِ الْحَقِّ.

وَفِي إِضَافَةِ (رَبٍّ) إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِنَايَةَ بِالْمُحْسِنِينَ مِنْ أُمَّتِهِ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ بِبَرَكَتِهِ. وَالْوَاسِعُ: الْكَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ، اسْتُعِيرَتِ السِّعَةُ لِكَثْرَةِ الشُّمُولِ لِأَنَّ الْمَكَانَ الْوَاسِعَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَوِيَ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِمَّنْ يَحِلُّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [7] . هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى. الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَوُقُوعُهُ عَقِبَ قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ينبىء عَنِ اتِّصَالِ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُوَجَّهٍ لِلْيَهُودِ كَمَا فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بن لَهِيعَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ حَارِثٍ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ: «كَانَتِ الْيَهُودُ إِذَا هَلَكَ لَهُمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ يَقُولُونَ: هُوَ صِدِّيقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذِبَتْ يَهُودُ، مَا مِنْ نَسَمَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ إِلَّا أَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَعَبْدُ اللَّهِ بن لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَتَرَكَهُ وَكِيعٌ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى تَضْعِيفِهِ، قُلْتُ: لَعَلَّ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَضْبُطُ فَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَإِنَّمَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَخْ، حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْخَوْضُ مَعَ الْيَهُودِ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَخَرُوا بِأَعْمَالِهِمْ. وَكَأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى تَطَلُّبِ سَبَبٍ لِنُزُولِهَا قَصْدُ إِبْدَاءِ وَجْهِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِمَعْنَى سِعَةِ الْمَغْفِرَةِ بِبَيَانِ سِعَةِ الرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ بِعِبَادِهِ إِذْ سَلَكَ بِهِمْ مَسْلَكَ الْيُسْرِ وَالتَّخْفِيفِ فَعَفَا عَمَّا لَوْ أَخَذَهُمْ بِهِ لَأَحْرَجَهُمْ فَقَوْلُهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ نَظِيرُ قَوْلِهِ:

الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الْأَنْفَال: 66] الْآيَةَ ثُمَّ يَجِيءُ الْكَلَامُ فِي التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ. فَيَنْبَغِي أَنْ تَحُلَّ جُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ الِامْتِنَانِ، فَكَأَنَّ السَّامِعِينَ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ الِامْتِنَانَ شَكَرُوا اللَّهَ وَهَجَسَ فِي نُفُوسِهِمْ خَاطَرُ الْبَحْثِ عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ بِهِمْ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ رَبَّهُمْ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ يُدَبِّرُ لَهُمْ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ خَيْرًا مِنْ بَلْهَ مَا اطَّلَعْتُمْ عَلَيْهِ» . وَقَوْلُهُ: إِذْ أَنْشَأَكُمْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَعْلَمُ) ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْ وَقْتِ إِنْشَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ وَقْتُ خَلْقِ أَصْلِهِمْ آدَمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِنْشَاءَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَلْزِمُ ضِعْفَ قَدْرِهِمْ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ مَعَ تَفَاوُتِ أَطْوَارِ نَشْأَةِ بَنِي آدَمَ، فَاللَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ آخِرَ الْأُمَمِ وَهِيَ أُمَّةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ مُوسَى لمُحَمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً «إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَإِنِّي جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَيْ وَهُمْ أَشَدُّ مِنْ أُمَّتِكَ قُوَّةً، فَالْمَعْنَى أَنَّ الضَّعْفَ الْمُقْتَضِيَ لِسِعَةِ التَّجَاوُزِ بِالْمَغْفِرَةِ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ حِينِ إِنْشَاءِ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ بِالضَّعْفِ الْمُلَازِمِ لِجِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء: 28] ، فَإِنَّ إِنْشَاءَ أَصْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ عُنْصُرٌ ضَعِيفٌ يَقْتَضِي مُلَازَمَةَ الضَّعْفِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَمِنْه قَوْله النَّبِيءِ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ» . وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ يَخْتَصُّ بِسِعَةِ الْمَغْفِرَةِ وَالرِّفْقِ بِهَذِهِ الْأمة وَهُوَ متقضى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . وَالْأَجِنَّةُ: جَمْعُ جَنِينٍ، وَهُوَ نَسْلُ الْحَيَوَانِ مَا دَامَ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ.

وَ (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ إِذِ الْجَنِينُ لَا يُقَالُ إِلَّا عَلَى مَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَشْفِ أَنَّ فِيهِ تَذْكِيرًا بِاخْتِلَافِ أَطْوَارِ الْأَجِنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إِلَى الْوِلَادَةِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِتِلْكَ الْأَطْوَارِ. وَجُمْلَةُ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ وَجُمْلَةُ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النَّجْم: 33] إِلَخْ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاعْتِرَاضِ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعُجْبِ بِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ عَجَبًا يُحْدِثُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُدْخِلُهُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ. وتُزَكُّوا مُضَارِعُ زَكَّى الَّذِي هُوَ مِنَ التَّضْعِيفِ الْمُرَادِ مِنْهُ نِسْبَةُ الْمَفْعُولِ إِلَى أَصْلِ الْفِعْلِ نَحْوُ جَهَّلَهُ، أَيْ لَا تَنْسُبُوا لِأَنْفُسِكُمُ الزَّكَاةَ. فَقَوْلُهُ: أَنْفُسَكُمْ صَادِقٌ بِتَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي سِرِّهِ أَوْ عَلَانِيَّتِهِ فَرَجَعَ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُزَكُّوا إِلَى مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّوْزِيعَ عَلَى الْآحَادِ مِثْلَ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. وَالْمَعْنَى: لَا تَحْسَبُوا أَنْفُسَكُمْ أَزْكِيَاءَ وَابْتَغُوا زِيَادَةَ التَّقَرُّبِ إِلَى الله أَولا تَثِقُوا بِأَنَّكُمْ أَزْكِيَاءُ فَيَدْخُلَكُمُ الْعُجْبُ بِأَعْمَالِكُمْ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ ذِكْرَ الْمَرْءِ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ لِلتَّفَاخُرِ بِهَا، أَوْ إِظْهَارِهَا لِلنَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: 55] . وَعَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِل: كَانَ نَاس يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا حَسَنَةً ثُمَّ يَقُولُونَ: صَلَاتُنَا وَصِيَامُنَا وَحَجُّنَا وَجِهَادُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَيَشْمَلُ تَزْكِيَةَ الْمَرْءِ غَيْرَهُ فَيَرْجِعُ أَنْفُسَكُمْ إِلَى مَعْنَى قَوْمِكُمْ أَوْ جَمَاعَتِكُمْ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَعْنَى: فَلَا يُثْنِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَةِ لِئَلَّا يُغَيِّرَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فِي أَحَادِيثَ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ حِينَ مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي بَيْتِهَا وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: «رَحْمَةُ

اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ (كُنْيَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُ، فَقَالَتْ: إِذَا لَمْ يُكْرِمْهُ اللَّهُ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي» . قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: فَلَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَ مَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ شَاعَ مِنْ آدَابِ عَصْرِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ التَّحَرُّزُ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا أَثْنَوْا عَلَى أَحَدٍ لَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بن عَمْرو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: «سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ فَقَالَتْ لِي زَيْنَب بنت بن سَلَمَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْمِ، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ، قَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: سَمُوُّهَا زَيْنَبَ» . وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مَا يُفِيدُ زَكَاءَ النَّفْسِ، أَيْ طَهَارَتَهَا وَصَلَاحَهَا، تَفْوِيضًا بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ بَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةَ الْمُوَافَقَةِ لِظَوَاهِرِهِمْ وَبَيْنَ أَنْوَاعِهَا بَوْنٌ. وَهَذَا مِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى التَّحَرُّزِ فِي الْحُكْمِ وَالْحِيطَةِ فِي الْخِبْرَةِ وَاتِّهَامِ الْقَرَائِنِ وَالْبَوَارِقِ. فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ وَجُرِّبُوا فِيهِ مِنْ ثِقَةٍ وَعَدَالَةٍ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ التَّعْدِيلِ بِالتَّزْكِيَةِ وَهُوَ لَفْظٌ لَا يُرَادُ بِهِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ بَلْ هُوَ لَفْظٌ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النَّاسُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمُرَادُهُمْ مِنْهُ وَاضِحٌ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِسَبَبِ النَّهْيِ أَوْ لِأَهَمِّ أَسْبَابِهِ، أَيْ فَوَّضُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِذْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، أَيْ بِحَالِ مَنِ اتَّقَى مِنْ كَمَالِ تَقْوَى أَوْ نَقْصِهَا أَوْ تَزْيِيفِهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَقُولَ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ أَحَدٍ بِخَيْرٍ: «لَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» أَيْ لَا أُزَكِّي أَحَدًا مُعْتَلِيًا حَقَّ اللَّهِ، أَيْ متجاوزا قدري.

[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 35]

[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 33 إِلَى 35] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ عَلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْم: 31] إِذْ كَانَ حَالُ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى جَهْلًا بِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى، وَقَدْ حَصَلَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ قَبْلَهَا حَادِثٌ أَنْبَأَ عَنْ سُوءِ الْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ وَاضِحٌ لِمَنْ صَرَفَ حَقَّ فَهْمِهِ. فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَعْجِيبٌ مِنِ انْحِرَافِ أَفْهَامِهِمْ. فَالَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا هُوَ هُنَا لَيْسَ فَرِيقًا مِثْلَ الَّذِي عَنَاهُ قَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْم: 29] بَلْ هُوَ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ. وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَالرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مُعَيَّنٌ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ الَّذِي دُونَ كَلِمَةِ (مَنْ) لِأَنَّ الَّذِي أَظْهَرُ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ دُونَ لَفْظِ (مَنْ) . وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالُوا: كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُ إِلَى قِرَاءَتِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِظُهُ فَقَارَبَ أَنْ يُسْلِمَ فَعَاتَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (لَمْ يُسَمُّوهُ) وَقَالَ: لِمَ تَرَكْتَ دِينَ الْأَشْيَاخِ وَضَلَّلْتَهُمْ وَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْصُرَهُمْ فَكَيْفَ يُفْعَلُ بِآبَائِكَ فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ عَذَابَ اللَّهِ» فَقَالَ: «أَعْطِنِي شَيْئًا وَأَنَا أَحْمِلُ عَنْكَ كُلَّ عَذَابٍ كَانَ عَلَيْكَ» فَأَعْطَاهُ (وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمُ الْتِزَامًا يَلْزَمُ مُلْتَزِمَهُ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ فَلَعَلَّهُ تَفَادَى مِنْ غَضَبِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَرَجَعَ إِلَى الشِّرْكِ) وَلَمَّا سَأَلَهُ الزِّيَادَةَ بَخِلَ عَنْهُ وَتَعَاسَرَ وَأَكْدَى. وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَوَقَعَ فِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ و «الْكَشَّاف» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ حِينَ صَدَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَنْ نَفَقَةٍ فِي الْخَيْرِ كَانَ يَنْفِقُهَا (أَيْ قَبْلَ أَنْ

يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ) رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قَوْمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَعُثْمَانُ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِهِ، أَيْ عَنْ أَنْ يُصْغِيَ إِلَى ابْنِ أَبِي سَرْحٍ فِيمَا صَدَّهُ. فَأَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي تَوَلَّى إِلَى أَنَّهُ تَوَلَّى عَنِ النَّظَرِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنَّ قَارَبَهُ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى إِلَى مَا أَعْطَاهُ لِلَّذِي يَحْمِلُهُ عَنْهُ الْعَذَابَ. وَلَيْسَ وَصْفُهُ بِ تَوَلَّى دَاخِلًا فِي التَّعْجِيبِ وَلَكِنَّهُ سِيقَ مَسَاقَ الذَّمِّ، وَوُصِفَ عَطَاؤُهُ بِأَنَّهُ قَلِيلٌ تَوْطِئَةٌ لِذَمِّهِ بِأَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ مَا أَعْطَاهُ قَدْ شَحَّ بِهِ فَقَطَعَهُ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: وأَكْدى إِلَى بُخْلِهِ وَقَطْعِهِ الْعَطَاءَ يُقَالُ: أَكْدَى الَّذِي يَحْفُرُ، إِذَا اعْتَرَضَتْهُ كُدْيَةٌ أَيْ حَجَرٌ لَا يَسْتَطِيعُ إِزَالَتَهُ. وَهَذِهِ مَذَمَّةٌ ثَانِيَةٌ بِالْبُخْلِ زِيَادَةً عَلَى بُعْدِ الثَّبَاتِ عَلَى الْكُفْرِ فَحَصَلَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ الْوَلِيدِ كُلِّهِ تَحْقِيرًا لِعَقْلِهِ وَأَفَنِ رَأْيِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَعْطى قَلِيلًا أَنَّهُ أعْطى من قبله وَمَيْلُهُ لِلْإِسْلَامِ قَلِيلًا وَأَكْدَى، أَيِ انْقَطَعَ بَعْدَ أَنِ اقْتَرَبَ كَمَا يُكْدِي حَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا اعْتَرَضَتْهُ كُدْيَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إِنْكَارِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِهِ أَنَّ اسْتِئْجَارَ أَحَدٍ لِيَتَحَمَّلَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ يُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ مَا عِنْدَهُ عَلِمُ الْغَيْبِ. وَهَذَا الْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنْ خَطَئِهِ فِيمَا تَوَهَّمَهُ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى إِلَخْ. وَتَقْدِيمُ عِنْدَهُ وَهُوَ مُسْنَدٌ عَلَى عِلْمُ الْغَيْبِ وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ الْعَجِيبِ ادِّعَاؤُهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى يعده عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. وَعِلْمُ الْغَيْبِ: مَعْرِفَةُ الْعَوَالِمِ الْمَغِيبَةِ، أَيِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَدِلَّةٍ فَكَأَنَّهُ شَاهَدَ الْغَيْبَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَهُوَ يَرى. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّعْجِيبِ قَوْلَهُ: فَهُوَ يَرى أَيْ فَهُوَ يُشَاهِدُ أُمُورَ الْغَيْبِ، بِحَيْثُ عَاقِدٌ عَلَى التَّعَارُضِ فِي حُقُوقِهَا. وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَرى بَصَرِيَّةٌ وَمَفْعُولُهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَرَى الْغَيْبَ.

[سورة النجم (53) : الآيات 36 إلى 38]

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ آمَنَ نَفْسَهُ مِنْ تَبِعَةِ التَّوَلِّي عَنِ الْإِسْلَامِ بِبَذْلِ شَيْءٍ لِمَنْ تَحَمَّلَ عَنْهُ تَبَعَةَ تَوَلِّيهِ كَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُشَاهِدُ أَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْعِقَابَ، فَقَدْ كَانَ فِعْلُهُ ضِغْثًا عَلَى إِبَالَةٍ لِأَنَّهُ مَا افتدى إِلَّا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ التَّوَلِّيَ جَرِيمَةٌ، وَمَا بَذَلَ الْمَالَ إِلَّا لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْجَرَائِمَ تَقْبَلُ الْحَمَالَةَ فِي الْآخِرَةِ. وَتَقْدِيمُ الضَّمِيرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَيَرَى، لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، نَحْوِ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. وَهَذَا التَّقَوِّي بِنَاءً عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنَ الْيَقِينِ بِالصَّفْقَةِ الَّتِي عَاقَدَ عَلَيْهَا وَهُوَ أَدْخَلُ فِي التَّعْجِيبِ من حَاله. [36- 38] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 36 إِلَى 38] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) أَمْ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ إِلَى مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ وَإِنْكَارٍ عَلَيْهِ آخَرُ وَهُوَ جَهْلُهُ بِمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَهُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ عِلْمِ مَا جَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلَّا تَطَلَّبَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُ مَنْ قَبْلُ، طَالَمَا ذَكَرَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَسْمَاءَهُمْ وَشَرَائِعَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَطَالَمَا سَأَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ أَخْبَارِ مُوسَى، فَهَلَّا سَأَلَ عَمَّا جَاءَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْغَرَضِ الَّذِي يَسْعَى إِلَيْهِ وَهُوَ طَلَبُ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الله فينبئه الْعَالمُونَ، فَإِنَّ مَآثِرَ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ مَأْثُورٌ بَعْضُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَشَرِيعَةُ مُوسَى مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْيَهُودِ. فَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارٌ مِثْلُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَلَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى إِلَخْ. وصُحُفِ مُوسى: هِيَ التَّوْرَاةُ، وَصُحُفُ إِبْراهِيمَ: صُحُفٌ سَجَّلَ فِيهَا مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى [18، 19] إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى. روى ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ لَهُ مِنْهَا عشرَة صَحَائِفَ أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، أَيْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الصُّحُفَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَعْرِفُونَ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَتَهُ

وَيُسَمُّونَهَا الْحَنِيفِيَّةَ وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَى إِثَارَةٍ مِنْهَا مِثْلُ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَأَمَّا صُحُفُ مُوسَى فَهِيَ مُشْتَهِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْعَرَبُ يُخَالِطُونَ الْيَهُودَ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَتَيْمَا، وَيُخَالِطُونَ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] . وَتَقْدِيمُ صُحُفِ مُوسى لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِسِعَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَالشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ الْمَأْثُورُ مِنْهَا أَشْيَاءَ قَلِيلَةً. وَقُدِّرَتْ بِعَشْرِ صُحُفٍ، أَيْ مِقْدَارُ عَشْرِ وَرَقَاتٍ بِالْخَطِّ الْقَدِيمِ، تَسَعُ الْوَرَقَةُ قُرَابَةَ أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يكون مَجْمُوع ملفي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ آيَةً. وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى صُحُفِ مُوسَى مُرَاعَاةً لِوُقُوعِهِمَا بَدَلًا مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى فَقَدَّمَ فِي الذَّكَرِ أَقْدَمَهُمَا. وَعِنْدِي أَن تَأْخِير ذكر صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ لِيَقَعَ مَا بَعْدَهَا هُنَا جَامِعًا لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فَتَكُونُ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] : وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أَيْ بَلَّغَهُنَّ إِلَى قَوْمِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا الَّذِي وَفَّى فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَتَمَّهُنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] . وَوَصْفُ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَلَّغَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِلَى قَوْمِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ أَهْمَلُوا ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ بِالْإِشْرَاكِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ وَفَّى لِيَشْمَلَ تَوْفِيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْهَا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات: 105] . وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ، فَتَكُونُ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً فَسَّرَتْ مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ مَا

مِنَ الصُّحُفِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ وَالْكِتَابَةُ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَصَلُحَ «مَا فِي صُحُفِ مُوسَى» لِأَنْ تُفَسِّرَهُ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْم: 56] فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ إِلَى قَوْلِهِ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْم: 56] كُلُّ هَذِهِ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وتَزِرُ مُضَارِعُ وَزَرَ، إِذَا فَعَلَ وِزْرًا. وَتَأْنِيثُ وازِرَةٌ بِتَأْوِيلِ: نَفْسٍ، وَكَذَلِكَ تَأْنِيثُ أُخْرى، وَوُقُوعُ «نَفْسٍ» وأُخْرى فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَشْمَلُ نَفْيَ مَا زَعَمَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ تَحَمُّلِ الرَّجُلِ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ. وَهَذَا مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُ مَا حَكَى اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 87- 89] . وَحُكِيَ فِي التَّوْرَاةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِ قَوْمِ لُوطٍ: «أَفَتُهْلِكُ الْبَارَّ مَعَ الْآثِمِ» . وَأَمَّا نَظِيرُهُ فِي صُحُفِ مُوسَى فَفِي التَّوْرَاةِ (¬1) «لَا يُقْتَلُ الْآبَاءُ عَنِ الْأَوْلَادِ وَلَا يُقْتَلُ الْأَوْلَادُ عَنِ الْآبَاءِ كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيئَتِهِ يُقْتَلُ» . وَحَكَى اللَّهُ عَنْ مُوسَى قَوْلَهُ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَاف: 155] . وَعُمُومُ لَفْظِ وِزْرَ يَقْتَضِي اطِّرَادَ الْحُكْمِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ (¬2) أَنَّ اللَّهَ قَالَ: «أَفْتَقِدُ الْأَبْنَاءَ بِذِنُوبِ الْآبَاءِ إِلَى الْجِيلِ الثَّالِثِ» فَذَلِكَ فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ تَحْذِيرٌ. وَلَيْسَ حَمْلُ الْمُتَسَبِّبِ فِي وِزْرِ غَيْرِهِ حَمْلًا زَائِدًا عَلَى وِزْرِهِ مِنْ قَبِيلِ تَحَمُّلِ وِزْرِ الْغَيْرِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ زِيَادَةِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ تَضْلِيلِ الْغَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: ¬

(¬1) سفر التَّثْنِيَة إصحاح 24. (¬2) سفر الْخُرُوج إصحاح 20.

[سورة النجم (53) : آية 39]

لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النَّحْل: 25] . وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، ذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سنّ الْقَتْل» . [39] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 39] وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (39) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: 38] ، فَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَتَكُونَ (أَنْ) مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَتَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ تَكُونُ أَنْ تَأْكِيدًا لِنَظِيرَتِهَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَتَعْرِيفُ الْإِنْسَانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَخْتَصُّ بِهِ إِلَّا مَا سَعَاهُ. وَالسَّعْيُ: الْعَمَلُ وَالِاكْتِسَابُ، وَأَصْلُ السَّعْيِ: الْمَشْيُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ كِنَايَةً. وَالْمُرَادُ هُنَا عَمَلُ الْخَيْرِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ وَبِأَنْ جُعِلَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: 38] . وَالْمَعْنَى: لَا تَحْصُلُ لِأَحَدٍ فَائِدَةُ عَمَلٍ إِلَّا مَا عَمِلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَمَلُ غَيْرِهِ، وَلَامُ الِاخْتِصَاصِ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا سَعَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُ هَذَا تَتْمِيمًا لِمَعْنَى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، احْتِرَاسًا مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ الْمَدْفُوعَ عَنْ غَيْرِ فَاعِلِهِ هُوَ الْوِزْرُ، وَأَنَّ الْخَيْرَ يَنَالُ غَيْرَ فَاعِلِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ مَحْكِيٌّ فِي الْقُرْآنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 89] . وَهَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةٌ عَنْ شَرْعَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ أحد لَا يجزىء عَنْ أَحَدٍ

فَرْضًا أَوْ نَفْلًا عَلَى الْعَيْنِ، وَأَمَّا تَحَمُّلُ أَحَدٌ حَمَالَةً لِفِعْلٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ مِثْلِ دِيَاتِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ فَذَلِكَ مِنَ الْمُؤَاسَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَحْمَلِهَا: فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى حِكَايَةٌ عَنْ شَرِيعَةٍ سَابِقَةٍ فَلَا تَلْزَمُ فِي شَرِيعَتِنَا يُرِيدُ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَسَخَتْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَبُولُ عَمَلِ أَحَدٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ تَأَوَّلَ (الْإِنْسَانَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ سَعْيُهُ وَمَا يَسْعَى لَهُ غَيْرُهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا نَفَتْ أَنْ تَكُونَ لِلْإِنْسَانِ فَائِدَةُ مَا عَمِلَهُ غَيْرُهُ إِذَا لَمْ يَجْعَلِ السَّاعِي عَمَلَهُ لِغَيْرِهِ. وَكَأَنَّ هَذَا يَنْحُو إِلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ سَعى فِي الْآيَةِ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الْعَقْلِيَّيْنِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْفَرَسِ: أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفَرَسِ أَنَّ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَدِلَّةَ لِحَاقِ ثَوَابِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ إِلَى غَيْرِ مَنْ عَمِلَهَا ثَابِتَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا تَتَرَدَّدُ الْأَنْظَارُ فِي التَّفْصِيلِ أَوِ التَّعْمِيمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطّور: 21] ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ. وَقَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70] ، فَجَعَلَ أَزْوَاجَ الصَّالِحِينَ الْمُؤْمِنَاتِ وَأَزْوَاجَ الصَّالِحَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَتَمَتَّعُونَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ فِي الْأَعْمَالِ ضَرُورِيٌّ وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثَلَاثَة إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ، وَمِعْيَارُ عُمُومِهِ الِاسْتِثْنَاءُ فالاستثناء دَلِيل على أَنَّ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الثَّلَاثَةَ هِيَ مِنْ عَمَلِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمَّا كَانَ هُوَ سَبَبَهَا فَهِيَ

مِنِ اكْتِسَابِهِ. قُلْتُ: وَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَفِي الْعِلْمِ الَّذِي بَثُّهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي دُعَاءِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ. قَالَ الْأُبِّيُّ: الْحَدِيثُ «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ» (¬1) فَاسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مُتَّصِلٌ. وَثَبَتَتْ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ أَحَدٍ عَنْ آخَرَ يُجْزِي عَنِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، فَفِي «الْمُوَطَّإِ» حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكْتُ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَة أفيجزىء أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهُ» . وَفِي قَوْلِهَا: لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَجَّهَا عَنْهُ كَانَ نَافِلَةً. وَفِي «كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ» حَدِيثُ بُرَيْدَةَ «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم شهر أفيجزىء أَوْ يَقْضِي عَنْهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: وَإِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ أَوْ يَقْضِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نعم» . وَفِيه حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ أَعْتَقَ أَخُوهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِمُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ عَبِيدًا فَسَأَلَ عَمْرٌو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِ أَخِيهِ فَقَالَ لَهُ «لَوْ كَانَ أَبُوكَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ» . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ عَنْ أَخِيهَا عبد الرحمان بَعْدَ مَوْتِهِ رِقَابًا وَاعْتَكَفَتْ عَنْهُ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَن ابْن عَمْرو ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُمَا أَفْتَيَا امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِمَسْجِدِ قُبَاءَ وَلَمْ تَفِ بِنَذْرِهَا أَنْ تُصَلِّيَ عَنْهَا بِمَسْجِدِ قُبَاءَ» . وَأَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَقْضِيَ نَذْرًا نَذَرَتْهُ أُمُّهُ، قِيلَ كَانَ عِتْقًا، وَقِيلَ صَدَقَةً، وَقِيلَ نَذْرًا مُطْلَقًا. ¬

(¬1) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا ثَبَتَ مِنَ الْأَخْبَارِ مَجَالًا لِأَنْظَارِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجَمْعِ بَيْنِهُمَا وَالْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى نَوْعِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْإِذْنُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَيْنِ فَرْضًا أَوْ سُنَّةً مُرَتَّبَةَ الْمَقْصِدِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُكَلَّفِ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ لِيَكُونَ جُزْءًا صَالِحًا فَإِذَا قَامَ بِهَا غَيْرُهُ عَنْهُ فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُخَاطَبَةِ أَعْيَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَكَذَا اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهَا النِّيَابَةُ لِأَنَّ الْكَفَّ لَا يَقْبَلُ التَّكَرُّرَ فَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَّا مَا سعى وَلَا تجزىء فِيهِ نِيَابَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ فِي أَدَائِهَا، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِيمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّعَدُّدُ بِحَيْثُ يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ وَيُؤْمِنُ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا جَازِمًا فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ إِيمَانَهُ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : «أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» . وَأَمَّا مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبَةِ فَأَمَّا مَا هُوَ مِنْهَا مِنْ عَمَلِ الْأَبْدَانِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى مِنْهُ وَلَا يجزىء عَنْهُ سَعْيُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْأُمُور المعيّنة الْمُطَالَبِ بِهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ هُوَ مَا فِيهَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَارْتِيَاضِهَا عَلَى الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمِثْلُ ذَلِكَ الرَّوَاتِبُ مِنَ النَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ حَتَّى يَصْلُحَ الْإِنْسَانُ وَيَرْتَاضَ عَلَى مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى لِيَصْلُحَ بِصَلَاحِ الْأَفْرَادِ صَلَاحُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَالنِّيَابَةُ تُفِيتُ هَذَا الْمَعْنَى. فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِالطَّلَبِ كَالْقُرَبِ النَّافِلَةِ فَإِنَّ فِيهِ مَقْصِدَيْنِ مَقْصِدٌ مُلْحَقٌ بِالْمَقْصِدِ الَّذِي فِي الْأَعْمَالِ الْمُعَيَّنَةِ بِالطَّلَبِ، وَمَقْصِدُ تَكْثِيرِ الْخَيْرِ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي لَا تُفِيتُهُ النِّيَابَةُ. وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْإِنْسَانِ بِبَدَنِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِهِ بِمَالِهِ لَا أَرَاهُ فَرْقًا مُؤَثِّرًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَالْوَجْهُ اطِّرَادُ الْقَوْلِ فِي كِلَا النَّوْعَيْنِ بِقُبُولِ النِّيَابَةِ أَوْ بِعَدَمِ قَبُولِهَا: مِنْ صَدَقَاتٍ وَصِيَامٍ وَنَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ وَتَجْهِيزِ الْغُزَاةِ لِلْجِهَادِ غَيْرِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَهِّزِ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) وَلَا عَلَى الْمُجَهَّزِ (بِفَتْحِ الْهَاءِ) ، وَالْكَلِمَاتِ

الصَّالِحَةِ من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَنَحْوِهِمَا وَصَلَاةٍ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذَا يَكُونُ تَحْرِيرُ مَحَلِّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْفَرَسِ مِنَ الْخِلَافِ فِي نَقْلِ عَمِلِ أَحَدٍ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: «الدُّعَاءُ يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا. وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ» اه. وَحَكَى ابْنُ الْفَرَسِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: «يُتَطَوَّعُ عَنِ الْمَيِّتِ فَيُتَصَدَّقُ عَنْهُ أَوْ يُعْتَقُ عَنْهُ أَوْ يُهْدَى عَنهُ، وَأما مَا كَانَ مِنَ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ مُرَكَّبًا مِنْ عَمِلِ الْبَدَنِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ مِثْلَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ» فَقَالَ الْبَاجِيُّ: «حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا» وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: «لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا» . وَهُوَ الْمُشْتَهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَمَبْنَى اخْتِلَافِهِمَا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ وَلَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ. وَرَجَّحَ الْبَاجِيُّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ مَالِكًا أَمْضَى الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يُسْتَأْجَرُ لَهُ إِلَّا مَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يحجّ عَنهُ ضرروة، فَلَوْلَا أَنَّ حَجَّ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُوصِي لَمَا اعْتُبِرَتْ صفة الْمُبَاشر لِلْحَجِّ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: «أَجَازَ مَالِكٌ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ، وَرَأَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَالْمُحَرَّرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ صِحَّةُ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْقَادِرِ بِشَرْطِ دَوَامِ عَجْزِهِ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنْ زَالَ عَجْزُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يُنْقَلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ. وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ وَوَصِيَّةَ الْمَيِّتِ بِالْحَجِّ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: «وَلِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى اه. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ جَوَازُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ إِنْ زَالَ عُذْرُهُ. وَأَمَّا الْقُرَبُ غَيْرُ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرُ الرَّوَاتِبِ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبَرِّ وَالنَّوَافِلِ فَأَمَّا الْحَجُّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: «قَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ فِي «التَّفْرِيعِ» يُكْرَهُ أَنْ

يُسْتَأْجَرُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُفْسَخْ» وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: «يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ دُونَ الْمَعْضُوبِ» (وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنِ النُّهُوضِ) . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: «قَدْ جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْهَضُ وَعَنِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ ابْنُهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ» . وَقَالَ الْأُبِّيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : «ذُكِرَ أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ عَامَ حَجَّ اشْتَرَى حَجَّةً لِلسُّلْطَانِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْحَفْصِيِّ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ» ، أَيْ خِلَافًا لِمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، فَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَالَ: «أَمَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ عَنْهُ فَلَا نَرَى ذَلِكَ» . وَقَالَ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : «يُتَطَوَّعُ عَنْهُ بِغَيْرِ هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ: يُهْدَى عَنهُ، أَو يتَصَدَّق عَنْهُ، أَوْ يُعْتَقُ عَنْهُ» . قَالَ الْبَاجِيُّ: «فَفَصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفَقَاتِ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلِهِ: لَا يَصِلُهُ ثَوَابُ الصَّلَوَاتِ التَّطَوُّعِ وَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ. قَالَ صَاحِبُ «التَّوْضِيحِ» مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: «وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي حُجَّةِ التَّطَوُّعِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ» ، وَقَالَ أَحْمَدُ: «يَصِلُهُ ثَوَابُ الصَّلَوَاتِ وَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ» . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَاهِدَاءَ ثَوَابِهَا لِلْمَيِّتِ لَا يَصِلُهُ ثَوَابُهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَصِلُهُ ثَوَابُهَا. وَحَكَى ابْنُ الْفَرَسِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ وَوَهَبَ ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِمَيِّتٍ جَازَ ذَلِكَ وَوَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ وَنَفْعُهُ فَمَا يُنْسَبُ إِلَى مَالِكٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إِهْدَاءِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ غَيْرُ مُحَرِّرٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُعَوِّذُ نَفْسَهُ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ بِهِ الْمَرَضُ كُنْتُ أَنَا أُعَوِّذُهُ بِهِمَا وَأَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَسَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا» فَهَلْ قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ إِلَّا نِيَابَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي التَّعَوُّذِ والتبرك بِالْقُرْآنِ فَلَمَّا ذَا لَا تَصِحُّ فِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ.

[سورة النجم (53) : الآيات 40 إلى 41]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي تَطَوُّعِ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بِقُرْبَةٍ، وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى النِّيَابَةِ فِي الْقُرَبِ: فَأَمَّا الْحَجُّ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ بِوَصِيَّةٍ، أَوْ بِغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْحَجِّ، وَيَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا يَجُوزُ أَخْذُ فَاعِلِهَا أُجْرَةً عَلَى فِعْلِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْقُرَبَ الَّتِي يَصِحُّ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى النِّيَابَةِ فِيهَا مِثْلَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَدَ أَقَرَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَ الَّذِينَ أَخَذُوا أَجْرًا عَلَى رُقْيَةِ الْمَلْدُوغِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا كُلَّهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى هُوَ حُكْمٌ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ سَالِفَةٍ، فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَحِبُ عَلَيْنَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ فِي دِينِنَا مَعَارِضٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ شَرْعَ غَيْرِنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، مِنْهُمْ مَنْ أَعْمَلَ عُمُومَ الْآيَةِ وَتَأَوَّلَ الْأَخْبَارَ الْمُعَارِضَةَ لَهَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ، أَوْ نَاسِخَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ ظَاهِرَ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ، أَوْ تَأَوَّلَ السَّعْيَ بِالنِّيَّةِ. وَتَأَوَّلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِلْإِنْسانِ بِمَعْنى (على) ، أَي لَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ. وَفِي تَفْسِير سُورَة الرحمان مِنَ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ قَالَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ: أُشْكِلَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُ آيَاتٍ. فَذَكَرَ لَهُ مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى فَمَا بَالُ الْأَضْعَافِ، أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245] ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى عَدْلًا، وَلِي أَنْ أُجْزِيَهُ بِوَاحِدَةٍ ألفا فضلا (¬1) . [40، 41] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 40 إِلَى 41] وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: 38] فَهِيَ مِنْ تَمام تَفْسِير بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم: 36، 37] فَيَكُونُ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ إِذْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ أَنْ يَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ ¬

(¬1) انْظُر مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فِي سُورَة الرحمان [29] .

يُعْلَنُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ أَن لَيْسَ بِهِ إِلَّا مَا سَعَى) ، فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ سَعْيَهُ صَالِحًا لِلْوُقُوعِ اسْمًا لِحَرْفِ أَنَّ زَالَ مُقْتَضَى اجْتِلَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ فَزَالَ مُقْتَضَى (أَنِ) الْمُخَفَّفَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: 87] . وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلِهِ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: وَأَنَّ سَعْيَهُ مَشْمُولًا لِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَعَطْفُهُ عَلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم: 36، 37] ، عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا لِبَاءِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: فِي صُحُفِ مُوسى إِلَخْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ سَوْفَ يُرَى، أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يُرَى، أَيْ يُجَازَى عَلَيْهِ، أَيْ لَمْ يُنَبَّأْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ وَعَلَيْهِ فَلَا نَتَطَلَّبُ ثُبُوتَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وسَوْفَ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ الْبَعِيدُ. وَمَعْنَى يُرى يُشَاهَدُ عِنْدَ الْحِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: 49] ، فَيَجُوزُ أَنْ تُجَسَّمَ الْأَعْمَالُ فَتَصِيرَ مُشَاهَدَةً وَأُمُورُ الْآخِرَةِ مُخَالِفَةٌ لِمُعْتَادِ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَاتٍ عَلَى الْأَعْمَالِ يُعْلَنُ بِهَا عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [التَّحْرِيم: 8] . وَمَا فِي الْحَدِيثِ «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادَرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَنَّ عُنْوَانَ سَعْيِهِ سَوْفَ يُرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِشْهَارِ الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الْأَعْرَاف: 49] الْآيَةَ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةً لِلْعِلْمِ لِقَصْدِ تحقق الْعلم واشتهاره. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفُ الْمُحْسِنِينَ بِحُسْنِ السُّمْعَةِ وَانْكِسَارِ الْمُسِيئِينَ بِسُوءِ الْأُحْدُوثَةِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ.

[سورة النجم (53) : آية 42]

وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ حُصُولَ الْجَزَاءِ أَهَمُّ مِنْ إِظْهَارِهِ أَوْ إِظْهَارِ الْمَجْزِيِّ عَنْهُ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: يُجْزاهُ عَائِدٌ إِلَى السَّعْيِ، أَيْ يُجْزَى عَلَيْهِ، أَوْ يُجْزَى بِهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَنَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ فَقَدْ كَثُرَ أَنْ يُقَالَ: جَزَاهُ عَمَلُهُ، وَأَصْلُهُ: جَزَاهُ عَلَى عَمَلِهِ أَوْ جَزَاهُ بِعَمَلِهِ. وَالْأَوْفَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْوَفَاءِ وَهُوَ التَّمَامُ وَالْكَمَالُ، وَالتَّفْضِيلُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْقُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَفْضِيلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ حسن أَو سيء مُوَافِقٌ لِلْمَجَزِيِّ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: 173] وَقَالَ: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: 109] وَقَالَ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: 39] وَقَالَ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الْإِسْرَاء: 63] . وَانْتَصَبَ الْجَزاءَ الْأَوْفى عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: 87] . [42] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 42] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِهَا كَالْقَوْلِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: 40] سَوَاءً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى فَتَكُونَ تَتِمَّةً لِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنَّ إِلَى رَبِّهِ الْمُنْتَهَى، وَقَدْ يَكُونُ نَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] . وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ صُحُفُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَيَكُونُ عَطْفُهَا عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَمَعْمُولَهَا مَدْخُولًا لِلْبَاءِ، أَيْ لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، وَالْخطاب للنبيء صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم. وَعَلَيْهِ فَلَا نَتَطَلَّبُ لَهَا نَظِيرًا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِهِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا تُلَابِسُهُ أَحْكَامٌ هِيَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ مِمَّا هُوَ شَأْنُ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ بِلَفْظِ رَبِّكَ تشريف للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعريض بِالتَّهْدِيدِ لِمُكَذِّبِيهِ لِأَنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الدِّفَاعُ عَنْ مَرْبُوبِهِ. وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَهَى مَجَازًا عَنِ انْتِهَاءِ السَّيْرِ، بِمَعْنَى الْوُقُوفِ، لِأَنَّ الْوُقُوفَ انْتِهَاءُ سَيْرِ السَّائِرِ، وَيَكُونُ الْوُقُوفُ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُطِيعِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَشْبِيهًا لأمر الله بِالْحَدِّ الَّذِي تُحَدَّدُ بِهِ الْحَوَائِطُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ أَبِي الشِّيصِ: وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي ... مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ كَمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحَدِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَة: 229] . وَالْمَعْنَى: التَّحْذِيرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَنَهَى. وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ انْتِهَاءُ دَلَالَةِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَى الْكَائِنَاتِ يَعْلَمُ أَنَّ وُجُودَهَا مُمْكِنٌ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَا بُدَّ لَهَا من مَوْجُود، فَإِذَا خَيَّلَتِ الْوَسْوَسَةُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَفْرِضَ لِلْكَائِنَاتِ مُوجِدًا مِمَّا يَبْدُو لَهُ مِنْ نَحْوِ الشَّمْسِ أَوِ الْقَمَرِ أَوِ النَّارِ لِمَا يَرَى فِيهَا مِنْ عِظَمِ الْفَاعِلِيَّةِ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ لَا يَخْلُو عَنْ تَغَيُّرٍ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَوْجَدَهُ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَيَالُ يُسَلْسِلُ مَفْرُوضَاتِ الْإِلَهِيَّةِ (كَمَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي [الْأَنْعَام: 76] الْآيَاتُ) لَمْ يَجِدِ الْعَقْلُ بُدًّا مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وُجُوبِ وجود صانع لممكنات كُلِّهَا، وَجُودُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ بَلْ وَاجِبٌ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، فَاللَّهُ هُوَ الْمُنْتَهَى الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ اسْتِدْلَالُ الْعَقْلِ، ثُمَّ إِذَا لَاحَ لَهُ دَلِيلُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَأَفْضَى بِهِ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّدًا لَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَعَدِّدِ غَيْرَ كَامِلِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ لَا يَتَصَرَّفُ أَحَدُ الْمُتَعَدِّدِ فِيمَا قَدْ تَصَرَّفَ

[سورة النجم (53) : آية 43]

فِيهِ الْآخَرُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُحْتَاجًا إِلَى الْآخَرِ لِيَرْضَى بِإِقْرَارِهِ عَلَى إِيجَادِ مَا أَوْجَدَهُ، وَإِلَّا لَقَدَرَ عَلَى نَقْضِ مَا فَعَلَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَدِّدِ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يَسْمَحُ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] وَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما تَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 42] وَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] فَانْتَهَى الْعَقْلُ لَا مَحَالَةَ إِلَى مُنْتَهى. [43] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 43] وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) انْتِقَالٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ إِلَى الِاعْتِبَار بأحوال الْحَيَاة الدُّنْيَا وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْم: 42] . وَالضَّحِكُ: أَثَرُ سُرُورِ النَّفْسِ، وَالْبُكَاءُ: أَثَرُ الْحُزْنِ، وَكُلٌّ مِنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ وَكِلَاهُمَا خَلْقٌ عَجِيبٌ دَالٌّ عَلَى انْفِعَالٍ عَظِيمٍ فِي النَّفْسِ. وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْحَيَوَانِ ضَحِكٌ وَلَا بُكَاءٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى الْحَيَوَانِ فَهُوَ كَالتَّخَيُّلِ أَوِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِ النَّابِغَة: بكاء حَمَاقَة تَدْعُو هَدِيلًا ... مُطَوَّقَةٍ عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ حَالَيْ حُزْنٍ وَسُرُورٍ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَزِينًا مَغْمُومًا كَانَ مَسْرُورًا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السُّرُورَ وَالِانْشِرَاحَ مُلَازِمًا لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ سَلَامَةِ مَزَاجِهِ وَإِدْرَاكِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَالِمًا كَانَ نَشِيطَ الْأَعْصَابِ وَذَلِكَ النَّشَاطُ تَنْشَأُ عَنْهُ الْمَسَرَّةُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، فَذِكْرُ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ يُفِيدُ الْإِحَاطَةَ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بِإِيجَازٍ وَيَرْمُزُ إِلَى أَسْبَابِ الْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَيُذَكِّرُ بِالصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَيُبَشِّرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ خَلَقَ أَسْبَابَ فَرَحِهِ وَنَكَدِهِ وَأَلْهَمَهُ إِلَى اجْتِلَابِ ذَلِكَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِ وَجَعَلَ حَدًّا عَظِيمًا مِنْ ذَلِك خَارِجا عَن مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ لَا يَمْتَرِي فِيهِ أَحَدٌ إِذَا تَأَمَّلَ وَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ لِيُقَدِّرَ لِلنَّاسِ أَسْبَابَ الْفَرَحِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمْ أَسْبَابَ الْحُزْنِ

وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى لِسَعْيِ النَّاسِ: بَعْضُهُ سَارٌّ لِفَرِيقٍ وَبَعْضُهُ مُحْزِنٌ لِفَرِيقٍ آخَرَ. وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ قَصْرًا لِصِفَةِ خَلْقِ أَسْبَابِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْطَالِ الشَّرِيكِ فِي التَّصَرُّفِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ تَصَرُّفِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَصْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِ الْأَمْرِ قَصْرًا حَقِيقِيًّا لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ أَنَّ الدَّهْرَ مُتَصَرِّفٌ. وَإِسْنَادُ الْإِضْحَاكِ وَالْإِبْكَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَالِقُ قُوَّتَيِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ فِي الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ خَلْقٌ عَجِيبٌ وَلِأَنَّهُ خَالِقُ طَبَائِعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَجْلِبُ أَسْبَابَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ مِنْ سُرُورٍ وَحُزْنٍ. وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ أَضْحَكَ وَأَبْكى لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْفِعْلَيْنِ لَا إِلَى مَفْعُولَيْهِمَا فَالْفِعْلَانِ مُنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ أَوْجَدَ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْغَرَضُ مِنْ إِثْبَاتِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ خُرُوجِ أَسْبَابِ الضحك والبكاء عَن قُدْرَتِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ: أَضْحَكَ وَأَبْكَى فِي الدُّنْيَا، وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِالْمَسَرَّةِ وَالْحُزْنِ الْحَاصِلَيْنِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي الِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحْسِنُ الطِّبَاقِ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَهُمَا ضِدَّانِ. وَتَقْدِيمُ الضَّحِكِ عَلَى الْبُكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ امْتِنَانًا بِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَحَصَلَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْفَاصِلَةِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي عَطْفِهَا مِثْلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: 40] فِي الِاحْتِمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا شَمِلَتْهُ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ حِكَايَةً لِقَوْلِهِ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: 80] .

[سورة النجم (53) : آية 44]

[سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 44] وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) انْتَقَلَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِانْفِرَادِ اللَّهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى إِيجَادِ أَسْبَابِ الْمَسَرَّةِ وَالْحُزْنِ وَهُمَا حَالَتَانِ لَا تَخْلُو عَنْ إِحْدَاهِمَا نَفْسُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْعِبْرَةِ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَهُمَا حَالَتَانِ لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ عَنْ إِحْدَاهِمَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلُ وُجُودِهِ نُطْفَةٌ مَيْتَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ (قِطْعَةٌ مَيْتَةٌ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَادَّةُ الْحَيَاةِ إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَبْرُزْ مَظَاهِرُ الْحَيَاةِ فِيهَا) ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرّوح فَيصير إِلَى حَيَاةٍ وَذَلِكَ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ. وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِبْرَةُ بِالْإِمَاتَةِ لِأَنَّهَا أَوْضَحُ عِبْرَةً وَلِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ، وَأَنَّ عَطْفَ وَأَحْيا تَتْمِيمٌ وَاحْتِرَاسٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْملك: 2] . وَلِذَلِكَ قَدَّمَ أَماتَ عَلَى أَحْيا مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَضْحَكَ وَأَبْكى [النَّجْم: 43] . وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: 40] . فَإِنْ كَانَ مَضْمُونُهَا مِمَّا شَمِلَتْهُ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ كَانَ الْمَحْكِيُّ بِهَا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشُّعَرَاء: 81] . وَفِعْلَا أَماتَ وَأَحْيا مُنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى [النَّجْم: 43] إِظْهَار لِبَدِيعِ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذَا الصُّنْعِ الْحَكِيمِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ وَإِمْكَانِهِ حَيْثُ أَحَالَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَشَاهِدُهُ فِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلْقَصْرِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى [النَّجْم: 43] رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ يُسْنِدُونَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ إِلَى الدَّهْرِ فَقَالُوا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] . فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ لِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَلِأَنَّهَا مُسْتَقْبَلَةٌ وَالْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ مَاضٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ أَيْضًا لِمَا بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ من التضاد.

[سورة النجم (53) : الآيات 45 إلى 46]

[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 45 إِلَى 46] وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً بِإِفَادَةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ الْأَزْوَاجَ مِنَ الْإِنْسَانِ خَلْقًا بَدِيعًا مِنْ نُطْفَةٍ فَيَصِيرُ إِلَى خَصَائِصِ نَوْعِهِ وَحَسْبُكَ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ تَفْكِيرًا أَوْ مَقْدِرَةً وَعَمَلًا، وَذَلِكَ مَا لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُونَ فَمَا كَانَ ذِكْرُهُ إِلَّا تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: 47] عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] وَبِاعْتِبَارِ اسْتِقْلَالِهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَجِيبِ تَكْوِينِ نَسْلِ الْإِنْسَانِ، عُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: 47] وَإِلَّا لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى بِدُونِ عَطْفٍ وَبِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) . وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ فِيهَا كَيْفِيَّةَ ابْتِدَاءِ الْحَيَاةِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ خُصُوصِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِلِاعْتِبَارِ بِبَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَشَدُّ اتِّفَاقًا فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ النَّاسِ بِمَا فِي أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ أَقْرَبُ وَأَمْكَنُ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ نُطْفَةٍ بَلْ مِنْ بَيْضٍ وَغَيْرِهِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ وَالْبَدَلِ مِنْهُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَّهُ خَلَقَهُ، أَيِ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، كَمَا قَالَ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 5، 6] الْآيَةَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ بِنِعْمَةِ أَنْ خَلَقَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ زَوْجَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [الرّوم: 21] الْآيَةَ. الثَّانِي: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ لِكِلَا الزَّوْجَيْنِ حَظًّا مِنَ النُّطْفَةِ الَّتِي مِنْهَا يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ فَكَانَتْ لِلذَّكَرِ نُطْفَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ نُطْفَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ «إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْمَوْلُودُ أَبَاهُ وَإِنْ سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْمَوْلُودُ أُمَّهُ» ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى نُطْفَةً وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ قَبْلَ الْقُرْآنِ أَنَّ النُّطْفَةَ

هِيَ مَاءُ الرَّجُلِ إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ وَيُشِيرُ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَى أَنْ يَفْهَمَهُ الْمُتَدَبِّرُونَ. وَحَسْبُكَ مَا وَقَعَ بَيَانُهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَالنُّطْفَةُ: فُعْلَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ: نَطَفَ الْمَاءُ، إِذَا قَطَرَ، فَالنُّطْفَةُ مَاءٌ قَلِيلٌ وَسُمِّي مَا مِنْهُ النَّسْلُ نُطْفَةً بِمَعْنَى مَنْطُوفٍ، أَيْ مَصْبُوبٌ فَمَاءُ الرَّجُلِ مَصْبُوبٌ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا مَصْبُوبٌ فَإِنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ يَخْرُجُ مَعَ بُوَيْضَةٍ دَقِيقَةٍ تَتَسَرَّبُ مَعَ دَمِ الْحَيْضِ وَتَسْتَقِرُّ فِي كِيسٍ دَقِيقٍ فَإِذَا بَاشَرَ الذَّكَرُ الْأُنْثَى انْحَدَرَتْ تِلْكَ الْبَيْضَةُ مِنَ الْأُنْثَى وَاخْتَلَطَتْ مَعَ مَاءِ الذَّكَرِ فِي قَرَارَةِ الرَّحِمِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ فَإِنَّ خَلْقَ الْإِنْسَان آتٍ وناشىء بِوَاسِطَةِ النُّطْفَةِ، فَإِذَا تَكَوَّنَتِ النُّطْفَةُ وَأُمْنِيَتِ ابْتَدَأَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ. وتُمْنى تُدْفَقُ وَفَسَّرُوهُ بِمَعْنَى تُقْذَفُ أَيْضًا. وَقِيلَ إِنَّ تُمْنى بِمَعْنَى تُرَاقُ، وَجَعَلُوا تَسْمِيَةَ الْوَادِي الَّذِي بِقُرْبِ مَكَّةَ مِنًى لِأَنَّهُ تُرَاقُ بِهِ دِمَاءُ الْبُدْنِ مِنَ الْهَدَايَا. وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعَانِي مِنًى أَوْ أَمْنَى أَنَّ مِنْهَا الْإِرَاقَةَ. وَهَذَا مِنْ مُشْكِلَاتِ اللُّغَةِ. ثُمَّ إِنَّ تُمْنى يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُضَارِعُ أَمْنَى بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَسَقَطَتْ فِي الْمُضَارع فوزنه تأفعل، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُضَارِعُ مَنَى مِثْلُ رَمَى فَوَزْنُهُ: تُفْعَلُ. وَبُنِيَ فِعْلُ تُمْنى إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ النُّطْفَةَ تَدْفَعُهَا قُوَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ فِي الْجِسْمِ خَفِيَّةٌ فَكَانَ فَاعِلُ الْإِمْنَاءِ مَجْهُولًا لِعَدَمِ ظُهُورِهِ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ تُمْنى تُقَدَّرُ، يُقَالُ: مَنَى الْمَانِي، أَيْ قَدَّرَ الْمُقَدِّرُ. وَالْمَعْنَى: إِذَا قُدِّرَ لَهَا، أَيْ قُدِّرَ لَهَا أَنْ تَكُونَ مُخَلَّقَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الْحَج: 5] . وَالتَّقْيِيدُ بِ إِذا تُمْنى لِمَا فِي اسْمِ الزَّمَانِ مِنَ الْإِيذَانِ بِسُرْعَةِ الْخَلْقِ عِنْدَ دَفْقِ النُّطْفَةِ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ التقاء النطفتين يبتدىء تخلق النَّسْل فَهَذَا إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ

[سورة النجم (53) : آية 47]

إِلَى أَنَّ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي هِيَ نُطْفَةُ الْمَرْأَةِ حَاصِلَةٌ فِي الرَّحِمِ فَإِذَا أُمْنِيَتْ عَلَيْهَا نُطْفَةُ الذَّكَرِ أَخَذَتْ فِي التَّخَلُّقِ إِذَا لَمْ يَعُقْهَا عَائِقٌ. ثُمَّ لِمَا فِي فِعْلِ تُمْنى مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النُّطْفَةَ تُقَطَّرُ وَتُصَبُّ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ الصَّبَّ يَقْتَضِي مَصْبُوبًا عَلَيْهِ فيشير إِلَى أَن التَّخَلُّقِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنِ انْصِبَابِ النُّطْفَةِ عَلَى أُخْرَى، فَعِنْدَ اخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ يَحْصُلُ تَخَلُّقُ النَّسْلِ فَهَذَا سِرُّ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: إِذا تُمْنى. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ لِمَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ شِبْهِ التَّضَادِّ. وَلَمْ يُؤْتَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَضَمِيرِ الْفَصْلِ كَمَا فِي اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى الْقَصْرِ إِذْ لَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى آخِرِهَا كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: 40] . [47] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 47] وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنَ التَّنْظِيرِ أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [النَّجْم: 48] عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى مِنَ الِامْتِنَانِ وَإِظْهَارِ الِاقْتِدَارِ الْمُنَاسِبَيْنِ لِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ [النَّجْم: 43- 45] إِلَخْ. إِذْ يَنْتَقِلُ مِنْ نِعْمَةِ الْخَلْقِ إِلَى نِعْمَةِ الرِّزْقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاء: 78، 79] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الرّوم: 40] وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةٍ تُشْبِهُ الِاعْتِرَاضَ لِيُقْرَنَ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ ذِكْرُ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّشْأَتَيْنِ. وَمِمَّا يُشَابِهُ هَذَا مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُتَنَبِّي فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ: وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّك فِي جن الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هزيمَة ... ووجهك وضاء وَثَغْرُكَ بَاسِمُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ تَطْبِيقَ عَجُزَيِ الْبَيْتَيْنِ عَلَىِِ

صَدْرَيْهِمَا وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تُطَبِّقَ عَجُزَ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي وَعَجُزَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَأَنْتَ فِي هَذَا مِثْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ وَوَجْهُ الْكَلَامِ فِي الْبَيْتَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ أَنْ يَكُونَ عَجُزُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي وَالثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ (أَيْ مَعَ نَقْلِ كَلِمَةِ (لِلَذَّةٍ) مِنْ صَدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَكَلِمَةِ (وَلَمْ أَقُلْ) مِنْ صَدْرِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ لِيَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ) فَيَكُونَ رُكُوبُ الْخَيْلِ مَعَ الْأَمْرِ لِلْخَيْلِ بِالْكَرِّ وَسَبْأُ الْخَمْرِ مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ فَقَالَ أَبُو الطّيب: «أدام اللَّهُ عِزَّ مَوْلَانَا إِنْ صَحَّ أَنَّ الَّذِي اسْتَدْرَكَ هَذَا عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ أَعْلَمُ مِنْهُ بِالشِّعْرِ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَأَخْطَأْتُ أَنَا، وَمَوْلَانَا يَعْرِفُ أَنَّ الْبَزَّازَ لَا يَعْرِفُ الثَّوْبَ مَعْرِفَةَ الْحَائِكِ لِأَنَّ الْبَزَّازَ يَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَالْحَائِكَ يَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ، وَإِنَّمَا قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ لَذَّةَ النِّسَاءِ بِلَذَّةِ الرُّكُوبِ لِلصَّيْدِ وَقَرَنَ السَّمَاحَةَ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ لِلْأَضْيَافِ بِالشَّجَاعَةِ فِي مُنَازَلَةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِنَّمَا لَمَّا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ فِي أَوَّلِ الْبَيْتِ أَتْبَعْتُهُ بِذِكْرِ الرَّدَى لِيُجَانِسَهُ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الْمُنْهَزِمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عُبُوسًا وَعَيْنُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاكِيَةً قُلْتُ: وَوَجْهُكَ وَضَّاءٌ، لأجمع بَين الأضداد فِي الْمَعْنَى» اه. وَلَوْ أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ شَعَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَذَكَرَهَا لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ فَكَانَتْ لَهُ أَقْوَى حُجَّةً مِنْ تَأْوِيلِهِ شِعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ. وَفِي جُمْلَةِ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ تَحْقِيقٌ لِفِعْلِهِ إِيَّاهَا شَبَهًا بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَحْقُوقِ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ فَكَأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِأَنَّ الله وعد بِحُصُول بِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ لِظُهُورِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْرِهُهُ شَيْءٌ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الْأَنْعَام: 12] . والنَّشْأَةَ: الْمَرَّةُ مِنَ الْإِنْشَاءِ، أَيِ الْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. والْأُخْرى: مُؤَنَّثُ الْأَخِيرِ، أَيِ النَّشْأَةُ الَّتِي لَا نَشْأَةَ بَعْدَهَا، وَهِيَ مُقَابِلُ النَّشْأَةِ

[سورة النجم (53) : آية 48]

الْأُولَى الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْم: 45] . وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ هِيَ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ النَّشْأَةَ بِوَزْنِ الْفَعْلَةِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ أَنْشَأَ، وَلَيْسَ مَصْدَرًا، إِذْ لَيْسَ نَشَأَ الْمُجَرَّدَ بِمُتَعَدٍّ وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَنْشَأَ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ النَّشَاءَةَ بِأَلِفٍ بَعْدَ الشِّينِ الْمَفْتُوحَةِ بِوَزْنِ الْفَعَالَةِ وَهُوَ مِنْ أَوْزَانِ الْمَصَادِرِ لَكِنَّهُ مَقِيسٌ فِي مَصْدَرِ الْفِعْلِ الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي نَحْوِ الْجَزَالَةِ وَالْفَصَاحَةِ. وَلِذَلِكَ فَالنَّشَاءَةُ بِالْمَدِّ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ مِثْلُ الْكَآبَةِ. وَلَعَلَّ مَدَّتَهَا مِنْ قَبِيلِ الْإِشْبَاعِ مِثْلِ قَوْلِ عَنْتَرَةَ: يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ أَيْ: يَنْبَعُ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى اسْمِ أَنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّحْقِيقِ الَّذِي أَفَادَتْهُ (عَلَى) تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ تَحْقِيقِهِ بَعْدَ أَنْ حُقِّقَ بِمَا فِي (أَنَّ) من التوكيد. [48] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 48] وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَمَعْنَى أَغْنى جَعَلَ غَنِيًّا، أَيْ أَعْطَى مَا بِهِ الْغِنَى، وَالْغِنَى التَّمَكُّنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُحِبُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى أَقْنى ضِدُّ مَعْنَى أَغْنى رَعْيًا لِنَظَائِرِهِ الَّتِي زَاوَجَتْ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: أَضْحَكَ وَأَبْكى [النَّجْم: 43] وأَماتَ وَأَحْيا [النَّجْم: 44] ، والذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْم: 45] ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ وَسُلَيْمَانُ التَّمِيمِيُّ بِمَعْنَى أَرْضَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: أَقْنى: أَخْدَمَ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْقِنِّ وَهُوَ الْعَبْدُ أَوِ الْمَوْلُودُ فِي الرِّقِّ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْإِغْنَاءِ. وَقِيلَ: أَقْنى: أَعْطَى الْقُنْيَةَ. وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الْغِنَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْنى: أَرْضَى، أَيْ أَرْضَى الَّذِي أَغْنَاهُ بِمَا أَعْطَاهُ، أَيْ أَغْنَاهُ حَتَّى أَرْضَاهُ فَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الِامْتِنَانِ.

[سورة النجم (53) : آية 49]

وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِقَصْرِ صِفَةِ الْإِغْنَاءِ وَالْإِقْنَاءِ عَلَيْهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِمُقَابَلَةِ ذُهُولِ النَّاسِ عَنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِسْنَادِهِمُ الْأَرْزَاقَ لِوَسَائِلِهِ الْعَادِيَّةِ، مَعَ عَدَمِ التَّنَبُّهِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ مَوَادَّ الْإِرْزَاقِ وَأَسْبَابَهَا وَصَرَفَ مَوَانِعَهَا، وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] . وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: 40] . [49] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 49] وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: 38] إِذْ لَا تصلح لِأَنْ تَكُونَ مِمَّا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الشِّعْرَى لَمْ تُعْبَدْ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم: 36، 37] إِلَخْ. الشِّعْرَى: اسْمُ نَجْمٍ مِنْ نُجُومٍ بُرْجِ الْجَوْزَاءِ شَدِيدُ الضِّيَاءِ وَيُسَمَّى: كَلْبَ الْجَبَّارِ، لِأَنَّ بُرْجَ الْجَوْزَاءِ يُسَمَّى الْجَبَّارُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا، وَهُوَ مِنَ الْبُرُوجِ الرَّبِيعِيَّةِ، أَيِ الَّتِي تَكُونُ مُدَّةُ حُلُولِ الشَّمْسِ فِيهَا هِيَ فَصْلِ الرَّبِيعِ. وَسُمِّيَتِ الْجَوْزَاءَ لِشِدَّةِ بَيَاضِهَا فِي سَوَادِ اللَّيْلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالشَّاةِ الْجَوْزَاءِ وَهِيَ الشَّاةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي وَسَطُهَا أَبْيَضُ. وَبُرْجُ الْجَوْزَاءِ ذُو كَوَاكِبَ كَثِيرَةٍ وَلِكَثِيرٍ مِنْهَا أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ وَالْعَرَبُ يَتَخَيَّلُونَ مَجْمُوعَ نُجُومِهَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَاقِفٍ بِيَدِهِ عَصًا وَعَلَى وَسَطِهِ سَيْفٌ، فَلِذَلِكَ سَمُّوهُ الْجَبَّارَ. وَرُبَّمَا تَخَيَّلُوهَا صُورَةَ امْرَأَةٍ فَيُطْلِقُونَ عَلَى وَسَطِهَا اسْمَ الْمِنْطَقَةِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا الشِّعْرَى، وَسُمِّيتْ كَلْبَ الْجَبَّارِ تَخَيَّلُوا الْجَبَّارَ صَائِدًا وَالشِّعْرَى يَتْبَعُهُ كَالْكَلْبِ وَرُبَّمَا سَمُّوا الشِّعْرَى يَدَ الْجَوْزَاءِ، وَهُوَ أَبْهَرُ نَجْمِ بُرْجِ الْجَوْزَاءِ، وَتُوصَفُ الشِّعْرَى بِالْيَمَانِيَّةِ لِأَنَّهَا إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ. وَتُوصَفُ بِالْعَبُورِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا زَوْجُ كَوْكَبِ سُهَيْل وأنهما كَانَا مُتَّصِلَيْنِ وَأَنَّ سُهَيْلًا انْحَدَرَ نَحْوَ الْيَمَنِ فَتَبِعَتْهُ الشِّعْرَى وَعَبَرَتْ نَهْرَ الْمَجَرَّةِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ

بِالْعَبُورِ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كَوْكَبٍ آخَرَ لَيْسَ من كواكب الْجَوْزَاءِ يُسَمُّونَهُ الشِّعْرَى الْغُمَيْصَاءَ (بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بِصِيغَةِ تَصْغِيرٍ) وَذَكَرُوا لِتَسْمِيَتِهِ قِصَّةً. وَالشِّعْرَى تُسَمَّى الْمِرْزَمَ (كَمِنْبَرٍ) وَيُقَالُ: مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ لِأَنَّ نَوْءَهُ يَأْتِي بِمَطَرٍ بَارِدٍ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ فَاشْتُقَّ لَهُ اسْم آلَة الرّزم وَهُوَ شِدَّةُ الْبَرْدِ (فَإِنَّهُمْ كَنَّوْا رِيحَ الشّمال أمّ رزم) . وَكَانَ كَوْكَبُ الشِّعْرَى عَبَدَتْهُ خُزَاعَةُ وَالَّذِي سَنَّ عِبَادَتَهُ رَجُلٌ مِنْ سَادَةِ خُزَاعَةَ يُكَنَّى أَبَا كَبْشَةَ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ اسْمَهُ جَزْءٌ (بِجِيمٍ وَزَايٍ وَهَمْزَةٍ) . وَعَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ وَجْزُ (بِوَاوٍ وَجِيمٍ وَزَايٍ) بْنُ غَالِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ غُبْشَانَ كَذَا فِي «التَّاجِ» ، وَالَّذِي فِي «جَمْهَرَةِ ابْنِ حَزْمٍ» أَنَّ الْحَارِثَ هُوَ غُبْشَانُ الْخُزَاعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اسْمَ أَبِي كَبْشَةَ عَبْدُ الشِّعْرَى. وَلَا أَحْسَبُ إِلَّا أَنَّ هَذَا وَصْفٌ غَلَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنِ اتَّخَذَ الشِّعْرَى مَعْبُودًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ، وَلَمْ يُعَرِّجِ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْجَمْهَرَةِ» عَلَى ذِكْرِ أَبِي كَبْشَةَ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الشِّعْرَى لَمْ يَعْبُدهَا من قبائل الْعَرَبِ إِلَّا خُزَاعَةُ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ السُّدِّيِّ أَنْ حِمْيَرَ عَبَدُوا الشِّعْرَى. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا كَبْشَة خيل لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانُوا يَصِفُونَهُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ. قيل لِأَنَّ أَبَا كَبْشَةَ كَانَ مِنْ أَجْدَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ يُعَرِّضُونَ أَوْ يُمَوِّهُونَ عَلَى دَهْمَائِهِمْ بِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الشِّعْرَى يُرِيدُونَ التَّغْطِيَةَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ لَمَّا أَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ «سَحَرُكُمُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ» وَقَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ لِلنَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي حَضْرَةِ هِرَقْلَ «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ أَنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ» . قَالَ ابْنُ أَبِي الْأُصْبُعِ «فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَدِيعِ مُحَسِّنُ التَّنْكِيتِ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى شَيْءٍ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيره مِمَّا يسده مسد لِأَجْلِ نُكْتَةٍ فِي الْمَذْكُورِ تُرَجِّحُ مَجِيئَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى خَصَّ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ

[سورة النجم (53) : الآيات 50 إلى 52]

لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ ظَهَرَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِأَبِي كَبْشَةَ عَبَدَ الشِّعْرَى وَدَعَا خَلْقًا إِلَى عِبَادَتِهَا» . وَتَخْصِيصُ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ فِي هَاتِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَهِيَ مَعْبُودَاتٌ وَهْمِيَّةٌ لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها [النَّجْم: 23] وَأَعْقَبَهَا بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُجَرَّدَاتِ الْخَفِيَّةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَخُزَاعَةُ أَجْوَارٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَلَمَّا عَبَدُوا الشِّعْرَى ظَهَرَتْ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ فِي الْحِجَازِ، وَإِثْبَاتُ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهَا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت: 37] مَعَ مَا فِي لَفْظِ الشِّعْرَى مِنْ مُنَاسَبَةِ فَوَاصَلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَ مَرْبُوبِيَّةِ الشِّعْرَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ رَبَّ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشِّعْرَى، أَيْ هُوَ رَبُّ تِلْكَ الْآثَارِ وَمُقَدِّرُهَا وَلَيْسَتِ الشِّعْرَى رَبَّةَ تِلْكَ الْآثَارِ الْمُسْنَدَةِ إِلَيْهَا فِي مَزَاعِمِهِمْ، وَلَيْسَ لِقَصْرِ كَوْنِ رَبِّ الشِّعْرَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ لِلشِّعْرَى رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الشِّعْرَى رَبَّةٌ مَعْبُودَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَن صفتهَا. [50- 52] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 50 إِلَى 52] وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) لَمَّا اسْتُوفِيَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَقَامُ النِّدَاءِ عَلَى بَاطِلِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَفَاسِدِ مُعْتَقَدِهِمْ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَفِي الْمُتَصَرِّفِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ مُعْظَمُ شَأْنِهِمْ فِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ شَبِيهًا بِشَأْنِ أُمَمِ الشِّرْكِ الْبَائِدَةِ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِخَوْفِ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِتِلْكَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ فَذَكَرَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ أَشْهُرَهَا عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُمْ: عَادٌ، وَثَمُودُ، وَقَوْمُ نُوحٍ، وَقَوْمُ لُوطٍ.

فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي احْتِمَالِ كَوْنِهَا زَائِدَةً عَلَى مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهَا مِمَّا شَمِلَتْهُ الصُّحُفُ الْمَذْكُورَةُ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ بَعْدَ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ نُوحٍ، وَكَانَ مُعَاصِرًا لِلْمُؤْتَفِكَةِ عَالِمًا بِهَلَاكِهَا. وَلِكَوْنِ هَلَاكِ هَؤُلَاءِ مَعْلُومًا لَمْ تُقْرَنِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ. وَوَصْفُ عَادٍ بِ الْأُولى عَلَى اعْتِبَارِ عَادٍ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا أُولَى لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْعَرَبِ ذِكْرًا وَهُمْ أَوَّلُ الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ وَهُمْ أَوَّلُ أُمَّةٍ أُهْلِكَتْ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ عَادًا هَذِهِ لَمَّا هَلَكَتْ خَلَفَتْهَا أُمَّةٌ أُخْرَى تُعْرَفُ بِعَادِ إِرَمَ أَوْ عَادٍ الثَّانِيَةِ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْعَمَالِيقِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأُولى وَصْفًا كَاشِفًا، أَيْ عَادًا السَّابِقَةَ. وَقِيلَ الْأُولى صِفَةُ عَظَمَةٍ، أَيِ الْأُولَى فِي مَرَاتِبِ الْأُمَمِ قُوَّةً وَسِعَةً، وَتَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِعَادٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ وَقَوْمِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرَ عَادٍ وَثَمُودَ عَلَى ذِكْرِ قَوْمِ نُوحٍ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَسْبَقُ لِأَن عادا وثمودا أَشْهَرُ فِي الْعَرَبِ وَأَكْثَرُ ذِكْرًا بَيْنَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَادًا الْأُولى بِإِظْهَارِ تَنْوِينِ عَادًا وَتَحْقِيقِ هَمْزَةِ الْأُولى. وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرو عَاد لُّولَى بِحَذْفِ هَمْزَةِ (الْأُولَى) بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّامِ الْمُعَرِّفَةِ وَإِدْغَامِ نُونِ التَّنْوِينِ مِنْ عَادًا فِي لَامِ لُّولَى. وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ بِإِسْكَانِ هَمْزَةِ الْأُولى بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّام الْمعرفَة (عَاد لُّؤْلَى) عَلَى لُغَةِ مَنْ يُبْدِلُ الْوَاوَ النَّاشِئَةَ عَنْ إِشْبَاعِ الضَّمَّةِ هَمْزًا، كَمَا قُرِئَ فَاسْتَوى عَلى سُؤْقِهِ [الْفَتْح: 29] .

[سورة النجم (53) : الآيات 53 إلى 54]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (وَثَمُودًا) بِالتَّنْوِينِ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ جَدِّ الْقَبِيلَةِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِدُونِ تَنْوِينٍ عَلَى إِرَادَةِ اسْمِ الْقَبِيلَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ أَهْلَكَ عَادًا إِلَى آخِرِهَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي إِنَّهُمْ كانُوا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ كَانُوا أَظْلَمَ وَأَطْغَى مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ نُوحٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَظْلَمُ وَأَطْغَى مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ فَتَكُونَ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ لَقُوا مِنْ أُمَمِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا لَقِيَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُبْقٍ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُهْلِكُهَا لِأَنَّهُ قَدَّرَ دُخُولَ بَقِيَّتِهَا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَبْنَائِهَا. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ لتقوية الْخَبَر. [53، 54] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 53 إِلَى 54] وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها مَا غَشَّى (54) وَالْمُؤْتَفِكَةُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالتَّقْدِيرُ: الْقُرَى الْمُؤْتَفِكَةُ، وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ الْأَرْبَعُ وَهِي (سدوم) و (عمورة) و (آدمة) و (صبوييم) . وَوُصِفَتْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [70] بِالْمُؤْتَفِكَاتِ لِأَنَّ وَصْفَ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ وَأَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ. وَقَدْ صَارَ هَذَا الْوَصْفُ غَالِبًا عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ. وَذُكِّرَتِ الْقُرَى بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ السُّكَّانِ تَفَنُّنًا وَمُرَاعَاةً لِلْفَوَاصِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُؤْتَفِكَةُ هُنَا وَصْفًا لِلْأُمَّةِ، أَيْ لِأُمَّةِ لُوطٍ لِيَكُونَ نَظِيرًا لِذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ نُوحٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [9] . وَالِائْتِفَاكُ: الِانْقِلَابُ، يُقَالُ: أَفَكَهَا فَأْتَفَكَتْ. وَالْمَعْنَى: الَّتِي خُسِفَ بِهَا فَجُعِلَ عَالِيهَا سَافِلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. وَانْتَصَبَ الْمُؤْتَفِكَةَ مَفْعُولُ أَهْوى أَيْ أَسْقَطُ أَيْ جَعَلَهَا هَاوِيَةً. وَالْإِهْوَاءُ: الْإِسْقَاطُ، يُقَالُ: أَهْوَاهُ فَهَوَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ رَفَعَهَا فِي الْجَوِّ

[سورة النجم (53) : آية 55]

ثُمَّ سَقَطَتْ أَوْ أَسْقَطَهَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ مِنْ أَثَرِ زَلَازِلَ وَانْفِجَارَاتٍ أَرْضِيَّةٍ بُرْكَانِيَّةٍ. وَلِكَوْنِ الْمُؤْتَفِكَةَ عَلَمًا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُؤْتَفِكَةَ وأَهْوى تَكْرِيرٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِعِبْرَةِ انْقِلَابِهَا. وَغَشَّاهَا: غَطَّاهَا وَأَصَابَهَا مِنْ أَعْلَى. وَمَا غَشَّى فَاعل فَغَشَّاها، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، وَجِيءَ بِصِلَتِهَا مِنْ مَادَّةِ وَصِيغَةِ الْفِعْلِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ خَبَرًا جَدِيدًا زَائِدًا عَلَى مُفَادِ الْفِعْلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْوِيلُ كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ وَصْفَ فَاعِلِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَجِدْ لِبَيَانِهِ أَكْثَرَ مِنْ إِعَادَةِ الْفِعْلِ إِذْ لَا يُسْتَطَاعُ وَصْفُهُ. وَالَّذِي غَشَّاهَا هُوَ مَطَرٌ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُحَمَّاةِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ بُرْكَانِيَّةٌ قُذِفَتْ مِنْ فُوَّهَاتٍ كَالْآبَارِ كَانَتْ فِي بِلَادِهِمْ وَلَمْ تَكُنْ مُلْتَهِبَةً مِنْ قَبْلُ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الْفرْقَان: 40] وَقَالَ: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] . وَفَاضَتْ عَلَيْهَا مِيَاهٌ غَمَرَتْ بِلَادَهُمْ فَأَصْبَحَتْ بَحْرًا مَيِّتًا. وَأَفَادَ الْعَطْفُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَغَشَّاها أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بعقب أهوائها. [55] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 55] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) تَفْرِيعُ فَذْلَكَةٍ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ: مِمَّا يَخْتَصُّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى إِلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْم: 2- 18] . وَمِمَّا يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النَّجْم: 43- 49] فَإِنَّ ذَلِكَ خَلِيطٌ مِنْ نِعَمٍ وَضِدِّهَا عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَفِي مَجْمُوعِهَا نِعْمَةُ تَعْلِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ بِمَنَافِعِ الِاعْتِبَارِ بِصُنْعِ اللَّهِ. ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً [النَّجْم: 50] إِلَى هُنَا. فَتِلْكَ نِقَمٌ مِنَ الضَّالِّينَ وَالظَّالِمِينَ لِنَصْرِ رُسُلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ نِعْمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ وَنِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِشَارَتُهُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهُ،

فَجَمِيعُ مَا عَدَّدَ مِنَ النِّعَمِ عَلَى أَقْوَامٍ وَالنِّقَمِ عَنْ آخَرِينَ هُوَ نِعَمٌ مَحْضَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَ (أَيِّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ مُتَشَارِكٍ فِي أَمْرٍ يَعُمُّ بِمَا يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنِ الْبَقِيَّةِ مِنْ حَالٍ يَخْتَصُّ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّسْوِيَةِ كِنَايَةً عَنْ تَسَاوِي مَا عُدِّدَ مِنَ الْأُمُورِ فِي أَنَّهَا نِعَمٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعْدُودَاتِ نَقْصٌ عَنْ نَظَائِرِهِ فِي النِّعْمَةِ كَقَوْلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخُرْشُبِ (وَقَدْ سُئِلَتْ: أَيُّ بَنِيكِ أَفْضَلُ) «ثَكِلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي أَيُّهُمْ أَفْضَلُ» ، أَيْ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي جَوَاب هَذَا السُّؤَالِ، وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى: بِأَشْجَعَ أَخَّاذٍ عَلَى الدَّهْرِ حُكْمَهُ ... فَمِنْ أَي مَا تَأتي الْحَوَادِثُ أَفْرَقُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَذْكِيرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ. فَالْمَعْنَى أَنَّكَ لَا تَحْصُلُ لَكَ مِرْيَةٌ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ آلَاءِ رَبِّكَ فَإِنَّهَا سَوَاءٌ فِي الْإِنْعَامِ، وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُنَاسب لِذِكْرِ الْآلَاءِ وَالْمُوَافِقُ لِإِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ الْمُخَاطَبِ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ، أَيِ الْمُكَذِّبِينَ أَيْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِمَّا عَدَّدَ سَابِقًا عَنْ نِعْمَةٍ لِبَعْضِ النَّاسِ أَوْ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَخْصِيصِ الْآلَاءِ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ بَلِ الْمُرَادُ جِنْسُ الْآلَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَن: 16] . وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ، وَهُوَ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ: إِلًى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ فَتْحِ اللَّامِ مَقْصُورًا، وَيُقَالُ: إِلْيٌ، وَأَلْيٌ، بِسُكُونِ اللَّامِ فِيهِمَا وَآخِرُهُ يَاءٌ مُتَحَرِّكَةٌ، وَيُقَالُ: أَلْوٌ، بِهَمْزٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ وَاوٌ مُتَحَرِّكَةٌ مِثْلُ: دَلْوٍ. وَالتَّمَارِي: التَّشَكُّكُ وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمِرْيَةِ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَتَمارى مُطَاوِعَ مَارَاهُ مِثْلُ التَّدَافُعُ مُطَاوِعُ دَفَعَ فِي قَوْلِ الْمُنَخَّلِ: فَدَفَعْتُهَا فَتَدَافَعَتْ ... مَشْيَ الْقَطَاةِ إِلَى الْغَدِيرِ

[سورة النجم (53) : آية 56]

وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ يُشَكِّكُونَكَ، وَهَذَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: 12] ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُشَكِّكُوكَ فِي حُصُولِ آلَاءِ رَبِّكَ الَّتِي هِيَ نعم النبوءة وَالَّتِي مِنْهَا رُؤْيَته جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَانَ تَتَمارى تَفَاعُلًا مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ، وَلَا يُعْرَفُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ لِلْمِرَاءِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: امْتَرَى، إِذا شكّ. [56] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 56] هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَوْ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فَإِنْ جَعَلَتَ اسْمَ الْإِشَارَةِ رَاجِعًا إِلَى الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ شَيْءٍ مَحْسُوسٍ حَاضِرٍ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِ، فَالْكَلَامُ انْتِقَالٌ اقْتِضَابِيٌّ تَنْهِيَةٌ لِمَا قَبْلَهُ وَابْتِدَاءٌ لِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: 52] . وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِمُعْظَمِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَلِذَلِكَ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ الْكَلَامِ بِأَنَّهُ نَذِيرٌ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: 188] . وَالْإِنْذَارُ بَعْضُهُ صَرِيحٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا [النَّجْم: 31] إِلَخْ، وَبَعْضُهُ تَعْرِيضٌ كَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: 50] وَقَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْم: 42] . وَإِنْ جَعَلْتَ اسْمَ الْإِشَارَةِ عَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، أَوْ إِلَى مَا لَمْ يُنَبَّأْ بِهِ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا، ابْتَدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى [النَّجْم: 36] إِلَى هُنَا على كلا التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ تَنْزِيلًا لِحُضُورِهِ فِي السَّمْعِ مَنْزِلَةَ حُضُورِهِ فِي الْمُشَاهَدَةِ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِ. و «النّذر» حَقِيقَتُهُ الْمُخْبِرُ عَنْ حُدُوثِ حَدَثٍ مُضِرٍّ بِالْمُخْبَرِ (بِالْفَتْحِ) ،

[سورة النجم (53) : الآيات 57 إلى 58]

وَجَمْعُهُ: نُذُرٌ، هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِيهِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْإِشَارَةَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَيُطْلَقُ النَّذِيرُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَهُوَ خَبَرُ الْمُخْبِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ: يُطْلَقُ النَّذِيرُ عَلَى الْإِنْذَارِ (يُرِيدُ أَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الْملك: 17] أَيْ إِنْذَارِي وَجَمْعُهُ نُذُرٌ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: 23] ، أَيْ بِالْمُنْذِرِينَ. وَإِطْلَاقُ نَذِيرٍ عَلَى مَا هُوَ كَلَامٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوْ بَعْضُ آيَاتِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ عَلَى رَأْيِ الزَّجَاجِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالنُّذُرِ الْأُولَى: السَّالِفَةُ، أَيْ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مَعَانِي الشَّرَائِع الأولى كَقَوْلِه النَّبِيءِ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ من كَلَام النبوءة الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» أَيْ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قبل الْإِسْلَام. [57، 58] [سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 57 إِلَى 58] أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلِهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: هَذَا نَذِيرٌ [النَّجْم: 56] . فَالْمَعْنَى: هَذَا نَذِيرٌ بِآزِفَةٍ قَرُبَتْ، وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْقُرْبِ فَائِدَةٌ أُخْرَى زَائِدَةٌ عَلَى الْبَيَانِ وَهِي أَن هَذَا الْمُنْذَرَ بِهِ دَنَا وَقْتُهُ، فَإِنَّ: أَزِفَ مَعْنَاهُ: قرب وَحَقِيقَته الْقرب الْمَكَانِ، وَاسْتُعِيرَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ لِكَثْرَةِ مَا يُعَامِلُونَ الزَّمَانَ مُعَامَلَةَ الْمَكَانِ. وَالتَّنْبِيهُ عَلَى قُرْبِ الْمُنْذَرِ بِهِ مِنْ كَمَالِ الْإِنْذَارِ لِلْبِدَارِ بِتَجَنُّبِ الْوُقُوعِ فِيمَا يُنْذَرُ بِهِ. وَجِيءَ لِفِعْلِ أَزِفَتِ بِفَاعِلٍ مِنْ مَادَّةِ الْفِعْلِ لِلتَّهْوِيلِ عَلَى السَّامِعِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُحَادَثَةِ الَّتِي أَزِفَتْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ لِوُرُودِ ذِكْرِهَا عَقِبَ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ. وَتَأْنِيثُ الْآزِفَةُ بِتَأْوِيلِ الْوَقْعَةِ، أَوِ الْحَادِثَةِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ، أَوْ

وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَغَشِيَتْهُ غَاشِيَةٌ، وَالْعَرَبُ يَسْتَعْمِلُونَ التَّأْنِيثَ دَلَالَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّوْعِ، وَلَعَلَّهُمْ رَاعَوْا أَنَّ الْأُنْثَى مَصْدَرُ كَثْرَةِ النَّوْعِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآزِفَةُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَمِنْهُ زِيَادَةُ تَهْوِيلٍ بِتَمْيِيزِ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ لِأَنَّ فِي اسْتِحْضَارِهِ زِيَادَةَ تَهْوِيلٍ لِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِالتَّدَبُّرِ فِي الْمَخْلَصِ مِنْهُ نَظِيرَ التَّعْرِيفِ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] ، وَقَوْلِهِمْ: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ. وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ آزِفَةً فِي الدُّنْيَا مِنْ جِنْسِ مَا أُهْلِكَ بِهِ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ نُوحٍ فَهِيَ اسْتِئْصَالُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَحْتَمِلُ آزِفَةً وَهِيَ الْقِيَامَةُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقُرْبُ مُرَادٌ بِهِ التَّحَقُّقُ وَعَدَمُ الِانْقِلَابِ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَر: 1] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] . وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ أَوْ صِفَةٌ لِ الْآزِفَةُ. وكاشِفَةٌ يَجُوزُ أَن يكون مصدرا بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ كَالْعَافِيَةِ، وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ، وَلَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَهَا كَشْفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ قُرِنَ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ رَاوِيَةٍ، وَبَاقِعَةٍ، وَدَاهِيَةٍ، أَيْ لَيْسَ لَهَا كَاشِفٌ قَوِيُّ الْكَشْفِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ. وَالْكَشْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّعْرِيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْإِزَالَةُ مِثْلُ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا يُقَالُ: غَشْيَةُ الضُّرِّ. فَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ إِزَالَةَ وَعِيدِهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ كِنَايَةٌ عَنْ تَحَقُّقِ وُقُوعِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَشْفُ بِمَعْنَى إِزَالَةِ الْخَفَاءِ، أَيْ لَا يُبَيِّنُ وَقْتَ الْآزِفَةِ أَحَدٌ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْبَيَانِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: 187] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ بِوَقْتِهَا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا إِذَا شَاءَ أَنْ يُطِلِعَ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ غَيْرُ اللَّهِ، ومِنْ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الَّذِي يُنْوَى فِي خَبَرِ لَيْسَ قَوْله: لَها.

[سورة النجم (53) : الآيات 59 إلى 61]

[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 59 إِلَى 61] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) تَفْرِيعٌ عَلَى هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْم: 56] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَبُيِّنَ بِهِ مِنْ بَيَانٍ أَوْ صِفَةٍ، فُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ. وَالْحَدِيثُ: الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْإِنْذَارِ بِأَخْبَارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ بَعْضُ الْقُرْآنِ بِمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] . وَمَعْنَى الْعَجَبِ هُنَا الِاسْتِبْعَادُ وَالْإِحَالَةُ كَقَوْلِهِ: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 73] ، أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْكَارِ. وَالضَّحِكُ: ضَحِكُ الِاسْتِهْزَاءِ. وَالْبُكَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الْإِسْرَاء: 109] . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَيْثُ حَلُّوا بِحِجْرِ ثَمُودَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» ، أَي ضارعين الله أَنْ لَا يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُم أَو خاشين أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَخْشَوْنَ سُوءَ عَذَابِ الْإِشْرَاكِ فَتُقْلِعُوا عَنْهُ. وسامِدُونَ: مِنَ السُّمُودِ وَهُوَ مَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ، يُقَالُ: سَمَدَ الْبَعِيرُ، إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ فِي سَيْرِهِ، مُثِّلَ بِهِ حَالُ الْمُتَكَبِّرِ الْمُعْرِضِ عَنِ النُّصْحِ الْمُعْجَبِ بِمَا هُوَ فِيهِ بِحَالِ الْبَعِيرِ فِي نَشَاطِهِ. وَقِيلَ السُّمُودُ: الْغِنَاءُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَالْمَعْنَى: فَرِحُونَ بِأَنْفُسِكُمْ تَتَغَنَّوْنَ بِالْأَغَانِي لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِمَا تَسْمَعُونَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: 35] عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ.

[سورة النجم (53) : آية 62]

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ تُقَابِلُوهُ بِالضَّحِكِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ وَلَا لِأَنْ لَا يَتُوبَ سَامِعُهُ، أَيْ لَوْ قَابَلْتُمْ بِفِعْلِكُمْ كَلَامًا غَيْرَهُ لَكَانَ لَكُمْ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِكُمْ، فَأَمَّا مُقَابَلَتُكُمْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا فَعَلْتُمْ فَلَا عُذْرَ لكم فِيهَا. [62] [سُورَة النَّجْم (53) : آيَة 62] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ الْمُفَرَّعَيْنِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِالْوَعِيدِ، فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ بِالسِّجُودِ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّوْبِيخَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْمُقَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَكُفَّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَطَرِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ. وَمُقْتَضَى تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَالسُّجُودُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخَشْيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَن: 6] . وَالْمَعْنَى: أَمَرَهُمْ بِالْخُضُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالْكَفِّ عَنْ تَكْذِيبِ رَسُولِهِ وَعَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَكَانَ عَلَيْهِمْ لَمَّا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أَنْ يَتَدَبَّرُوا وَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سُجُودَ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِأَنْ يُسْلِمُوا فَإِنَّ الصَّلَاةَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 42، 43] ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الصَّلَاةُ وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ الْأَمْرُ بِالرِّكُوعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ [48] فَيَجُوزُ فِيهِ الْمَحْمَلَانِ. وَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا خَضَعُوا لَهُ حَقَّ الْخُضُوعِ عَبَدُوهُ وَتَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ بِالطَّوَافِ حَوْلَهَا وَمُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى الْكَعْبَةِ فَوَضَعُوا فِيهَا الْأَصْنَامَ لِيَكُونَ طَوَافُهُمْ بِالْكَعْبَةِ طَوَافًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَصْنَامِ. أَوِ الْمُرَادُ: وَاعْبُدُوهُ الْعِبَادَةَ الْكَامِلَةَ وَهِيَ الَّتِي يُفْرَدُ بِهَا لِأَنَّ إِشْرَاكَ غَيْرِهِ فِي

الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا هُوَ كَعَدَمِ الْعِبَادَةِ إِذِ الْإِشْرَاكُ إِخْلَالٌ كَبِيرٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النِّسَاء: 36] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فِيهَا- أَيْ عِنْدِ قَوْلِهِ: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا- وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ إِلَّا شَيْخًا مُشْرِكًا (هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ حَصًى فرفعه إِلَى جِهَته وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَا يَسْجُدَانِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي «أَحْكَامِ» ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَجَدَ فِيهَا، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» و «السّنَن» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأَتُ النَّجْمَ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. وَفِي «سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ» . وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَانَ آخِرُ فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسُورَةُ النَّجْمِ مِنَ الْمُفَصَّلِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السُّجُودِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: سَجْدَةُ النَّجْمِ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ (أَيْ لَيْسَتْ مِمَّا يُسَنُّ السُّجُودُ عِنْدَهَا. هَذَا مُرَادُهُ بِالْعَزَائِمِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ عَزَائِمَ وَمِنْهُ غَيْرَ عَزَائِمَ فَ (عَزَائِمُ) وَصْفٌ كَاشِفٌ) وَلَمْ يَرَ سُجُودَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ عَدَا ابْنِ وَهْبٍ قَرَأَهَا مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، هِيَ وَسَجْدَةُ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ وَسَجْدَةُ سُورَةِ الْعَلَقِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي «الْمُنْتَقَى» : أَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ نَافِعٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» مِثْلَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَإِنَّمَا سَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْجُدُوا مُفَرَّعًا عَلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِالسِّجُودِ لِلَّهِ وَلِيُعَضَّدَ الْأَمْرُ الْقَوْلِيُّ بِالْفِعْلِ لِيُبَادِرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُذَكِّرًا لِلْمُشْرِكِينَ بِالسِّجُودِ لِلَّهِ

فَسَجَدُوا مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ السُّجُودُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلِخَبَرِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَمَلِ مُعظم أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

54- سورة القمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 54- سُورَةُ الْقَمَرِ اسْمُهَا بَيْنَ السَّلَفِ «سُورَةُ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» . فَفِي حَدِيثِ أَبِي وَاقَدٍ اللَّيْثِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى» ، وَبِهَذَا الِاسْمِ عَنْوَنَ لَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ. وَتُسَمَّى «سُورَةَ الْقَمَرِ» وَبِذَلِكَ تَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ. وَتُسَمَّى «سُورَةَ اقْتَرَبَتْ» حِكَايَةً لِأَوَّلِ كَلِمَةٍ فِيهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إِلَى قَوْله: وَأَمَرُّ [الْقَمَر: 44- 46] ، قَالَ: نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ (وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَوْمَ بَدْرٍ) . وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الطَّارِقِ وَقَبْلَ سُورَةِ ص. وَعدد آيها خَمْسٌ وَخَمْسُونَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَدَدِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ فَنَزَلَتِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إِلَى قَوْلِهِ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 1، 2] . وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ سَحَرَكُمْ، فَسَأَلُوا السُّفَّارَ، فَقَالُوا: نَعَمْ قَدْ رَأَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرُ: 1] الْآيَاتِ.

أغراض هذه السورة

وَكَانَ نُزُولُهَا فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَفِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَر: 46] . وَكَانَتْ عُقِدَ عَلَيْهَا فِي شَوَّالٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، أَيْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ آيَةِ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: 45] وَبَيْنَ بَدْرٍ سبع سِنِين. أغراض هَذِه السُّورَة تَسْجِيلُ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ. وَإِنْذَارُهُمْ بِاقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ وَبِمَا يَلْقَوْنَهُ حِينَ الْبَعْثِ مِنَ الشَّدَائِدِ. وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا لَقِيَتْهُ الْأُمَمُ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا لِتَكْذِيبَهُمْ رُسُلَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ سيلقون مِثْلَمَا لَقِيَ أُولَئِكَ إِذْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَإِنْذَارُهُمْ بِقِتَالٍ يُهْزَمُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَهُمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَشَدُّ. وَإِعْلَامُهُمْ بِإِحَاطَةِ اللَّهِ عِلْمًا بِأَفْعَالِهِمْ وَأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ شَرَّ الْجَزَاءِ وَمُجَازٍ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَوَصْفُ بَعْضِ أَحْوَالِهِ. وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ تَكْرِيرُ التَّنْوِيهِ بِهَدْيِ الْقُرْآن وحكمته. [1] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ لإعادة الموعظة والتذكير حِينَ يَتَضَاءَلُ تَعَلُّقُ النُّفُوسِ بِالدُّنْيَا، وَتُفَكِّرُ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُعِيرُ آذَانَهَا لِدَاعِي الْهُدَى. فَتَتَهَيَّأُ لِقَبُولِ الْحَقِّ فِي مَظَانِّ ذَلِكَ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي اسْتِعْدَادِهَا وَكَمْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الِانْتِهَازِ سَبَبًا فِي

إِيمَانِ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ، فَإِذَا أَظْهَرَ اللَّهُ الْآيَاتِ على يَد رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَأْيِيدِ صِدْقِهِ شَفَعَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: 59] . وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ شَاهِدَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِظُهُورِ آيَةٍ كُبْرَى وَمُعْجِزَةٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُعْجِزَةُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ» . زَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ «فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ فِرْقَتَيْنِ، فَنَزَلَتِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إِلَى قَوْلِهِ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] . وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ. وَفِي «سِيرَةِ الْحَلَبِيِّ» كَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ (أَي فِي آخر لَيَالِي مِنًى لَيْلَةَ النَّفْرِ) . وَفِيهَا «اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ بِمِنًى وَفِيهِمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَالْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَسَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ فَانْشَقَّ الْقَمَرُ» . وَالْعُمْدَةُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَانْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةٌ دُونَهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اشْهَدُوا اشْهَدُوا» . زَادَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ «يَعْنِي اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . قُلْتُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نِصْفٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفٌ عَلَى قُعَيْقِعَانَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَشْهَدُوا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ لِأَنَّ مَنْ عَدَا عَلِيَّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُونُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُسْلِمُوا إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَكِنَّهُمْ مَا تَكَلَّمُوا إِلَّا عَنْ يَقِينٍ. وَكَثْرَةُ رُوَاةِ هَذَا الْخَبَرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ خَبَرًا مُسْتَفِيضًا. وَقَالَ فِي «شَرْحِ

الْمَوَاقِفِ» : هُوَ مُتَوَاتِرٌ. وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ شَرْطِ التَّوَاتُرِ. وَمُرَادُهُ: أَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ. وَظَاهِرُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ حُصُولِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ الْوَاقِعِ بِمَكَّةَ لَمَّا سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً أَوْ سَأَلُوهُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَإِنَّمَا هُوَ انْشِقَاق يحصل عِنْد حُلُول السَّاعَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخُسُوفِ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [7، 8] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ الْآيَةَ. وَهَذَا لَا يُنَافِي وُقُوعَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ الَّذِي سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِمَا فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ. وَلِحَدِيثِ أَنْسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. وَعَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ فَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ اللِّزَامُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَالْقَمَرُ وَالدُّخَانُ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامَةِ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ الْبَلْخِيِّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِلْجُمْهُورِ. وَخَبَرُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ مَعْدُودٌ فِي مَبَاحِثِ الْمُعْجِزَاتِ مِنْ كتب «السِّيرَة» و «دَلَائِل النُّبُوَّة» . وَلَيْسَ لَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ صَرِيحًا فِي وُقُوعِهِ وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِيهِ كَمَا فِي «الشِّفَاءِ» . فَإِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاقِعًا بَعْدَ حُصُولِ الِانْشِقَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فَتَصْدِيرُ السُّورَةِ بِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزَةِ. فَجُعِلَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ وَسِيلَةً لِلتَّذْكِيرِ بِاقْتِرِابِ السَّاعَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْقَمَرَ كَائِنٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ذَاتِ النِّظَامِ الْمُسَايِرِ لِنِظَامِ الْجَوِّ الْأَرْضِيِّ فَلَمَّا حَدَثَ تَغَيُّرٌ فِي نِظَامِهِ لَمْ يَكُنْ مَأْلُوفًا نَاسَبَ تَنْبِيهَ النَّاسِ لِلِاعْتِبَارِ بِإِمْكَانِ

اضْمِحْلَالِ هَذَا الْعَالَمِ، وَكَانَ فِعْلُ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَرَأَ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ حُصُولِ الِانْشِقَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ إِنْذَارٌ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الِانْشِقَاقَ سَيَكُونُ مُعْجِزَةً لِمَا يَسْأَلُهُ الْمُشْرِكُونَ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَإِذْ قَدْ حَمَلَ مُعْظَمُ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَمَنْ خَلْفَهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ حَصَلَ قَبْلَ نُزُولِهَا أَوْ بِقُرْبِ نُزُولِهَا فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ إِمْكَانَ حُصُولِ هَذَا الِانْشِقَاقِ مُسَايِرِينَ لِلِاحْتِمَالَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ رِوَايَاتِ الْخَبَرِ عَنِ الِانْشِقَاقِ إِبْطَالًا لِجَحْدِ الْمُلْحِدِينَ، وَتَقْرِيبًا لِفَهْمِ الْمُصَدِّقِينَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ خَسْفٌ عَظِيمٌ فِي كُرَةِ الْقَمَرِ أَحْدَثَ فِي وَجْهِهِ هُوَّةً لَاحَتْ لِلنَّاظِرِينَ فِي صُورَةِ شَقِّهِ إِلَى نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا سَوَادٌ حَتَّى يُخَيَّلَ أَنَّهُ مُنْشَقٌّ إِلَى قَمَرَيْنِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالِانْشِقَاقِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ لَأَنَّ الْهُوَّةَ انْشِقَاقٌ وَمُوَافِقٌ لِمَرْأَى النَّاسِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَأَنَّهُ مَشْقُوقٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِي الْأُفُقِ بَيْنَ سَمْتِ الْقَمَرِ وَسَمْتِ الشَّمْسِ مُرُورُ جِسْمٍ سَمَاوِيٍّ مِنْ نَحْوِ بَعْضِ الْمِذْنَبَاتِ حَجَبَ ضَوْءَ الشَّمْسِ عَنْ وَجْهِ الْقَمَرِ بِمِقْدَارِ ظِلِّ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَلَى نَحْوِ مَا يُسَمَّى بِالْخُسُوفِ الْجُزْئِيِّ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ أَحَادِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَا يُنَاكِدُ هَذَا. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَن يكون هَذَا الِانْشِقَاقُ حَدَثًا مُرَكَّبًا مِنْ خُسُوفٍ نِصْفِيٍّ فِي الْقَمَرِ عَلَى عَادَةِ الْخُسُوفِ فَحَجَبَ نِصْفَ الْقَمَرِ، وَالْقَمَرُ عَلَى سَمْتِ أَحَدِ الْجَبَلَيْنِ وَقد حَصَلَ فِي الْجَوِّ سَاعَتَئِذٍ سَحَابٌ مَائِيٌّ انْعَكَسَ فِي بَرِيقِ مَائِهِ صُورَةُ الْقَمَرِ مخسوفا بِحَيْثُ يخاله النَّاظِرُ نِصْفًا آخَرَ مِنَ الْقَمَرِ دُونَ كُسُوفٍ طَالِعًا عَلَى جِهَةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ حَوَادِثِ الْجَوِّ. وَقَدْ عُرِفَتْ حَوَادِثُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالنِّسْبَةِ

لِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهَا بِالنِّسْبَةِ لِضَوْءِ الْقَمَرِ عَلَى أَنَّهُ نَادِرٌ جِدًّا وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [171] . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُسِفَ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سُحِرَ الْقَمَرُ فَنَزَلَتِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ الْآيَةَ فَسَمَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كُسُوفًا تَقْرِيبًا لِنَوْعِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِانْشِقَاقِ مُعْجِزَةً لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي وَقْتِ سُؤَالِهِمْ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً وَإِلْهَامَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ فِي حِينِ تَقْدِيرِ اللَّهِ كَافٍ فِي كَوْنِهِ آيَةَ صِدْقٍ. أَوْ لِأَنَّ الْوَحْيَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا قِبَلَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ ظَوَاهِرِ التَّغَيُّرَاتِ لِلْكَوَاكِبِ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ اخْتِصَاصُ ظُهُورِ ذَلِكَ بِمَكَّةَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْعَالَمِ، وَإِمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ غَيْرُ أَهْلِ مَكَّة من أهل الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَأَهِّبِينَ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا وَهُوَ وَقْتُ غَفْلَةٍ أَوْ نَوْمٍ وَلِأَنَّ الْقَمَرَ لَيْسَ ظُهُورُهُ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّ مَوَاقِيتَ طُلُوعِهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي مُسَامَتَةِ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَتَقْدِيرُهُ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، أَيْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْوُقُوعِ وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا فِي الْوُقُوعِ. وَانْشَقَّ مُطَاوِعُ شَقَّهُ، وَالشَّقُّ: فَرَجٌ وَتَفَرُّقٌ بَيْنَ أَدِيمِ جِسْمٍ مَا بِحَيْثُ لَا تَنْفَصِلُ قِطْعَةُ مَجْمُوعِ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَنِ الْبَقِيَّةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا تَصَدُّعًا كَمَا يَقَعُ فِي عُودٍ أَوْ جِدَارٍ. فَإِطْلَاقُ الِانْشِقَاقِ عَلَى حُدُوثِ هُوَّةٍ فِي سَطْحِ الْقَمَرِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ وَإِطْلَاقُهُ عَلَى انْطِمَاسِ بَعْضِ ضَوْئِهِ اسْتِعَارَةٌ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى تَفَرُّقِهِ نِصْفَيْنِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ. وَالِاقْتِرَابُ أَصْلُهُ صِيغَةُ مُطَاوَعَةٍ، أَيْ قَبُولُ فِعْلِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْبِ فَإِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقُرْبِ فَهُوَ قُرْبٌ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ قُرْبُ حُلُولِ السَّاعَةِ

[سورة القمر (54) : آية 2]

فِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ قُرْبًا نِسْبِيًّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ ابْتِدَاءً مِنْ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» وَأَشَارَ بِسَبَّابَتِهِ وَالْوُسْطَى فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ خَلْقِ الْعَالَمِ أَوْ مِنْ وَقْتِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِهِ وَمَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَدْسِ وَالتَّوَهُّمَاتِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَكُلُّ مَا يُرْوَى مِنَ التَّحْدِيدِ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا فَضَعِيفٌ وَاهِنٌ» اه. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَنْ يُقْبِلَ النَّاسُ عَلَى نَبْذِ الشِّرْكِ وَعَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَاجْتِنَابِ الْآثَامِ لِقُرْبِ يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى وَقْتِ فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّاعَةِ سَاعَةٌ مَعْهُودَةٌ أُنْذِرُوا بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ سَاعَةُ اسْتِئْصَالِ الْمُشْرِكِينَ بِسِيُوفِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ حُمِلَ الْقُرْبُ عَلَى الْمَجَازِ، أَيِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِمْكَانِ، فَالْمَعْنَى: اتَّضَحَ لِلنَّاسِ مَا كَانُوا يَجِدُونَهُ مُحَالًا مِنْ فَنَاءِ الْعَالَمِ فَإِنَّ لِحُصُولِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ إِقْنَاعًا بِإِمْكَانِ أَمْثَالِهَا الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهَا. وَعَطْفُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَوْعِظَةُ إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ حَاصِلٌ فَلَيْسُوا بِحَاجَةٍ إِلَى إِفَادَتِهِمْ حُكْمَ هَذَا الْخَبَرِ وَإِنَّمَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مِنْ أَمَارَاتِ حُلُولِ السَّاعَةِ أَنْ يَقَعَ خَسْفٌ فِي الْقَمَرِ بِمَا تَكَرَّرَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ [الْقِيَامَة: 7، 8] الْآيَةَ إِذْ مَا يَأْمَنُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ أَمَارَةً عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ فَمَا الِانْشِقَاقُ إِلَّا نَوْعٌ مِنَ الْخَسْفِ فَإِنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا غَيْرُ مَحْدُودَةِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ من مشروطها. [2] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَةً 2] وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) يجوز أَن يَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْإِخْبَارِ بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِ آيَةً فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً الْقَمَرَ. فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوُا انْشِقَاقَ

[سورة القمر (54) : آية 3]

الْقَمَرِ قَالُوا: «هَذَا سِحْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: «قَدْ سَحَرَ مُحَمَّدٌ الْقَمَرَ» ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ تَكْذِيبِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ وُقُوعَ آيَةً، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَجِيءَ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا دَيْدَنُهُمْ وَدَأْبُهُمْ. وَضَمِيرُ يَرَوْا عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ دَالٍّ عَلَيْهِ الْمقَام وهم الْمُشْرِكُونَ، كَمَا جَاءَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مَعَ أَنَّ قِصَّةَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَطَعْنِهِمْ فِيهَا مَشْهُورٌ يَوْمَئِذٍ مَعْرُوفَةٌ أَصْحَابُهُ، فَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ كُلَّمَا رَأَوْا آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَصْفُ مُسْتَمِرٌّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلِ مَرَّ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ فِي الزَّوَالِ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّقْوِيَةِ فِي الْفِعْلِ، أَيْ لَا يَبْقَى الْقَمَرُ مُنْشَقًّا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْمِرَّةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيِ الْقُوَّةِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، أَيْ طَلَبٍ لِفِعْلِهِ مِرَّةً، أَيْ قُوَّة، أَي تمَكنا. وَالْمَعْنَى: هَذَا سِحْرٌ مَعْرُوفٌ مُتَكَرِّرٌ، أَيْ مَعْهُودٌ مِنْهُ مثله. [3] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 3] وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِيمَا مَضَى بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالشَّرْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [الْقَمَر: 2] . وَمُقَابَلَةُ ذَلِكَ بِهَذَا فِيهِ شِبْهُ احْتِبَاكٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا: سِحْرٌ، وَقَدْ رَأَوُا الْآيَاتِ وَأَعْرَضُوا وَقَالُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وكذبوا وَاتبعُوا أهوائهم وَسَيُكَذِّبُونَ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ. وَعَطْفُ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَا دَافِعَ لَهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا اتِّبَاعُ مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ مِنْ بَقَاءِ حَالِهِمْ عَلَى مَا أَلِفُوهُ وَعَهِدُوهُ وَاشْتَهَرَ دَوَامُهُ. وَجَمَعَ الْأَهْوَاءَ دُونَ أَنْ يَقُولَ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى كَمَا قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَام: 116] ، حَيْثُ إِنَّ الْهَوَى اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِفْرَادِ إِلَى

الْجَمْعِ لِمُزَاوَجَةِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لَهُمْ أَصْنَافًا مُتَعَدِّدَةً مِنَ الْأَهْوَاءِ: مِنْ حُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَمِنْ حَسَدِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ، وَمِنْ حُبِّ اتِّبَاعِ مِلَّةِ آبَائِهِمْ، وَمِنْ مَحَبَّةِ أَصْنَامِهِمْ، وَإِلْفٍ لِعَوَائِدِهِمْ، وَحِفَاظٍ عَلَى أَنَفَتِهِمْ. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ. هَذَا تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا إِلَى قَوْله: أَهْواءَهُمْ [الْقَمَر: 2، 3] ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذَّبُوا وَجُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ [الْقَمَر: 4] ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ. وكُلُّ مِنْ أَسْمَاءِ الْعُمُومِ. وَأَمْرٌ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى جِنْسٍ عَالٍ وَمِثْلُهُ شَيْءٌ، وَمَوْجُودٌ، وَكَائِنٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِالْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: 83] وَقَدْ يَتَخَصَّصُ بِالْعَقْلِ أَوِ الْعَادَةِ كَمَا تَخَصَّصَ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ رِيحِ عَادٍ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَاف: 25] أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْقَابِلَةِ لِلتَّدْمِيرِ. وَهُوَ هُنَا يَعُمُّ الْأُمُورَ ذَوَاتِ التَّأْثِيرِ، أَيْ تَتَحَقَّقُ آثَارُ مَوَاهِيهَا وَتَظْهَرُ خَصَائِصُهَا وَلَوِ اعْتَرَضَتْهَا عَوَارِضُ تُعَطِّلُ حُصُولَ آثَارِهَا حِينًا كَعَوَارِضَ مَانِعَةٍ مِنْ ظُهُورِ خَصَائِصِهَا، أَوْ مُدَافَعَاتٍ يُرَادُ مِنْهَا إِزَالَةُ نَتَائِجِهَا فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَاتِ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتَغَلَّبَ عَلَى تِلْكَ الْمَوَانِعِ وَالْمُدَافَعَاتِ فِي فُرَصِ تَمَكُّنِهَا مِنْ ظُهُورِ الْآثَارِ وَالْخَصَائِصِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ شُبِّهَتْ حَالَةُ تَرَدُّدِ آثَارِ الْمَاهِيَّةِ بَيْنَ ظُهُورٍ وَخَفَاءٍ إِلَى إِبَّانِ التَّمَكُّنِ مِنْ ظُهُورِ آثَارِهَا بِحَالَةِ سَيْرِ السَّائِرِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ فِي مُخْتَلِفِ الطُّرُقِ بَيْنَ بُعْدٍ وَقُرْبٍ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ. وَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ لِأَنَّ التَّرْكِيبَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَالِةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا حُذِفَ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ رَوَادِفِ مَعْنَاهُ وَهُوَ وَصْفُ مُسْتَقِرٍّ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 67] وَقَدْ أَخَذَهُ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْآنَ صِرْتُ إِلَى أُمَيَّ ... ةَ وَالْأُمُورُ إِلَى مَصَائِرْ

[سورة القمر (54) : الآيات 4 إلى 5]

فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مُسْتَقِرٌّ الِاسْتِقْرَارُ فِي الدُّنْيَا. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْإِيمَاءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَمْرَ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَرْسَخُ وَيَسْتَقِرُّ بَعْدَ تَقَلْقُلِهِ. وَمُسْتَقِرٌّ: بِكَسْرِ الْقَافِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ اسْتَقَرَّ، أَيْ قَرَّ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ السِّينِ وَالتَّاءِ فِي اسْتَجَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ الرَّاءِ مِنْ مُسْتَقِرٌّ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِخَفْضِ الرَّاءِ عَلَى جَعْلِ كُلُّ أَمْرٍ عَطْفًا على السَّاعَةُ [الْقَمَر: 1] . وَالتَّقْدِيرُ: وَاقْتَرَبَ كُلُّ أَمْرٍ. وَجَعْلِ مُسْتَقِرٌّ صِفَةَ أَمْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا سِحْرٌ وَنَحْوُهُ وَتَكْذِيبُهُمُ الصَّادِقَ وَتَمَالُؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يُوهِنُ وَقْعَهَا فِي النُّفُوسِ وَلَا يَعُوقُ إِنْتَاجَهَا. فَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِرٌ إِلَى مَصِيرِ أَمْثَالِهِ الْحَقِّ مِنَ الِانْتِصَارِ وَالتَّمَامِ وَاقْتِنَاعِ النَّاسِ بِهِ وَتَزَايُدِ أَتْبَاعِهِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ أَهْوَاءَهُمْ وَاخْتِلَاقَ مَعَاذِيرِهِمْ صَائِرٌ إِلَى مَصِيرِ أَمْثَالِهِ الْبَاطِلَةِ مِنَ الِانْخِذَالِ وَالِافْتِضَاحِ وَانْتِقَاصِ الْأَتْبَاعِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا التَّذْيِيلُ بِإِجْمَالِهِ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ وَاسْتِدْعَاءً لنظر المترددين. [4، 5] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 4 إِلَى 5] وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [الْقَمَر: 3] أَيْ جَاءَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ لِهَؤُلَاءِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْأَنَبَاءِ الْحُجَجُ الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْحُجَّةِ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. ومِنَ الْأَنْباءِ بَيَانُ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ قُدِّمَ عَلَى الْمُبَيَّنِ ومِنَ بَيَانِيَّةٌ. وَالْمُزْدَجَرُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ مُصَاغٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي فِعْلُهُ زَائِدٌ عَلَى

ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. ازدجره بِمَعْنَى زَجَرَهُ، وَمَادَّةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالدَّالُ بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ الَّتِي تُبْدَلُ بَعْدَ الزَّايِ إِلَّا مِثْلَ ازْدَادَ، أَيْ مَا فِيهِ مَانِعٌ لَهُمْ مِنَ ارْتِكَابِ مَا ارْتَكَبُوهُ. وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ زَاجِرٌ لَهُمْ فَجَعَلَ الِازْدِجَارَ مَظْرُوفًا فِيهِ مَجَازًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي مُلَازَمَتِهِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: 21] أَيْ هُوَ أُسْوَةٌ. وحِكْمَةٌ بالِغَةٌ بَدَلٌ مِنْ مَا، أَيْ جَاءَهُمْ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ. وَالْحِكْمَةُ: إِتْقَانُ الْفَهْمِ وَإِصَابَةُ الْعَقْلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْكَلَام الَّذِي تضمن الْحِكْمَةَ وَيُفِيدُ سَامِعَهُ حِكْمَةً، فَوَصْفُ الْكَلَامِ بِالْحِكْمَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [269] ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَالْبَالِغَةُ: الْوَاصِلَةُ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ مُفِيدَةٌ لِصَاحِبِهَا. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، أَيْ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ فَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِقْلَاعُ عَنْ ضَلَالِهِمْ. وَمَا تَحْتَمِلُ النَّفْيَ، أَيْ لَا تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الْقَمَر: 6] ، فَالْمُضَارِعُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، أَيْ مَا هِيَ مُغْنِيَةٌ، وَيُفِيدُ بِالْفَحْوَى أَنَّ تِلْكَ الْأَنْبَاءَ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ فِيمَا مَضَى بِطَرِيقِ الْأَحْرَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الِانْزِجَارِ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَهُوَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ فِيمَا مَضَى إِذْ لَوْ أغْنى عَنْهُم لَا رتفع اللَّوْمُ عَلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً لِلْإِنْكَارِ، أَيْ مَاذَا تُفِيدُ النُّذُرُ فِي أَمْثَالِهِمُ الْمُكَابِرِينَ الْمُصِرِّينَ، أَيْ لَا غِنَاءَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الأنباء، فَمَا عَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق ل تُغْنِ، وَحُذِفَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ مَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَيُّ غِنَاءٍ تُغْنِي النُّذُرُ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِمَا يَسُوءُ، فَإِنَّ الْأَنْبَاءَ تَتَضَمَّنُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مِنَ اللَّهِ مُنْذِرِينَ لِقَوْمِهِمْ فَمَا أَغْنَوْهُمْ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِمْ وَلِأَنَّ الْأَنْبَاءَ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مِثْلِ صَنِيعِهِمْ فَيَكُونُ

[سورة القمر (54) : الآيات 6 إلى 8]

َالْمُرَادُ بِ النُّذُرُ آيَاتُ الْقُرْآنِ، جُعِلَتْ كُلُّ آيَةٍ كَالنَّذِيرِ: وَجُمِعَتْ عَلَى نُذُرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ اسْمَ مَصْدَرٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ [56] . [6- 8] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 6 الى 8] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ. تَفْرِيعٌ على فَما تُغْنِ النُّذُرُ [الْقَمَر: 5] ، أَيْ أَعْرِضْ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا تُفِيدُهُمُ النُّذُرُ كَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْم: 29] ، أَيْ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ فَمَا أَنْت بمسؤول عَنِ اسْتِجَابَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] . وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَطْمِينٌ لَهُ بِأَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ. وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَحْكَامِ قِتَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنِ السِّيَاقُ لَهُ وَلَا حَدَثَتْ دَوَاعِيهِ يَوْمَئِذٍ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَلِّي مُؤْذِنٌ بِغَضَبٍ وَوَعِيدٍ فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَسَاؤُلًا عَنْ مُجْمَلِ هَذَا الْوَعِيدِ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ [الْقَمَر: 4] وَجُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: 9] . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ شَيْئًا يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ لِيَحْصُلَ بِتَقْدِيمِهِ إِجْمَالٌ يُفَصِّلُهُ بَعْضُ التَّفْصِيلِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَمِعَ السَّامِعُ هَذَا الظَّرْفَ عَلِمَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِأَهْوَالٍ تُذْكَرُ بَعْدَهُ هِيَ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ بِحَيْثُ لَا يَحْسُنُ وَقْعُ شَيْءٍ مِمَّا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ هَذَا الْمَوْقِعَ غَيْرِ هَذَا الظَّرْفِ، وَلَوْلَا تَقْدِيمُهُ لَجَاءَ الْكَلَامُ غَيْرَ مَوْثُوقِ الْعُرَى، وَانْظُرْ كَيْفَ جَمَعَ فِيمَا بَعْدُ قَوْلَهُ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ كَثِيرًا مِنَ الْأَهْوَالِ

آخُذٌ بَعْضَهَا بِحَجْزِ بَعْضٍ بِحُسْنِ اتِّصَالٍ يَنْقُلُ كُلٌّ مِنْهَا ذِهْنَ السَّامِعِ إِلَى الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِأَنَّهُ يُعَدِّدُ لَهُ أَشْيَاءَ. وَقَدْ عُدَّ سَبْعَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْأَهْوَالِ: أَوَّلُهَا: دُعَاءُ الدَّاعِي فَإِنَّهُ مُؤْذِنٌ بَأَنَّهُمْ مُحْضَرُونَ إِلَى الْحِسَابِ، لِأَن مفعول يَدْعُ مَحْذُوفٌ بِتَقْدِيرِ: يَدعُوهُم الدَّاعِي لدلَالَة ضَمِيرِ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ مَا فِي لَفْظِ شَيْءٍ مِنَ الْإِبْهَامِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَهُولٌ، وَمَا فِي تَنْكِيرِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ يُجَسِّمُ ذَلِكَ الْهَوْلَ. وَثَالِثُهَا: وَصْفُ شَيْءٍ بِأَنَّهُ نُكُرٍ، أَيْ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ وَتَكْرَهُهُ. وَالنُّكُرُ بِضَمَّتَيْنِ: صِفَةٌ، وَهَذَا الْوَزْنُ قَلِيلٌ فِي الصِّفَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَوْضَةٌ أُنُفٌ، أَيْ جَدِيدَةٌ لَمْ تَرْعَهَا الْمَاشِيَةُ، وَرَجُلٌ شُلُلٌ، أَيْ خَفِيفٌ سَرِيعٌ فِي الْحَاجَاتِ، وَرَجُلٌ سُجُحٌ بِجِيمٍ قَبْلَ الْحَاءِ، أَيْ سَمْحٌ، وَنَاقَةٌ أُجُدٌ: قَوِيَّةٌ مُوَثَّقَةُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِيهَا لِلتَّخْفِيفِ وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنَا. وَرَابِعُهَا: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ أَيْ ذَلِيلَةٌ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ لَا تَثْبُتُ أَحْدَاقُهُمْ فِي وُجُوهِ النَّاسِ، وَهِيَ نَظْرَةُ الْخَائِفِ الْمُفْتَضَحِ وَهُوَ كِنَايَةٌ لِأَنَّ ذِلَّةَ الذَّلِيلِ وَعِزَّةَ الْعَزِيزِ تَظْهَرَانِ فِي عُيُونِهِمَا. وَخَامِسُهَا: تَشْبِيهُهُمْ بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ فِي الِاكْتِظَاظِ وَاسْتِتَارِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ التَّشْبِيهُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالتَّحَرُّكِ. وَسَادِسُهَا: وَصْفُهُمْ بِمُهْطِعِينَ، وَالْمُهْطِعُ: الْمَاشِي سَرِيعًا مَادًّا عُنُقه، وَهِي مَشِيئَة مذعور غير ملتف إِلَى شَيْءٍ، يُقَالُ: هَطَعَ وَأَهْطَعَ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ وَهُوَ قَوْلٌ مِنْ أَثَرِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ

خَوْفٍ. وَ (عَسِرٌ) : صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الْعُسْرِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِ عَسِرٌ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ زَمَانًا لِأُمُورٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ وَانْتِظَارِ الْعَذَابِ. وَأَبْهَمَ شَيْءٍ نُكُرٍ لِلتَّهْوِيلِ، وَذَلِكَ هُوَ أَهْوَالُ الْحِسَابِ وَإِهَانَةُ الدَّفْعِ وَمُشَاهَدَةُ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَانْتَصَبَ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُقدر فِي يَدْعُ الدَّاعِ وَإِمَّا مِنْ ضَمِيرِ يَخْرُجُونَ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ خُشَّعاً بِصِيغَةِ جَمْعِ خَاشِعٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ خَاشِعًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَكَ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ وَالتَّذْكِيرُ نَحْوُ خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ. وَلَكَ التَّوْحِيدُ وَالتَّأْنِيثُ نَحْوُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ وَلَكَ الْجَمْعُ نَحْوُ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ اه. وأَبْصارُهُمْ فَاعِلُ خُشَّعاً وَلَا ضَيْرَ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ الرَّافِعِ لِلْفَاعِلِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَحْظُورَ هُوَ لِحَاقُ عَلَامَةِ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ لِلْفِعْلِ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ الظَّاهِرُ جَمْعًا أَوْ مُثَنًّى، وَلَيْسَ الْوَصْفُ كَذَلِكَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَصْفُ جَمْعًا مُكَسَّرًا، وَكَانَ جَارِيًا عَلَى مَوْصُوفٍ هُوَ جَمْعٌ، فَرَفْعُ الِاسْم الظَّاهِر الْوَصْف الْمَجْمُوعِ أَوْلَى مِنْ رَفْعِهِ بِالْوَصْفِ الْمَجْمُوعِ الْمُفْرَدِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ مَالِكٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ وَشَاهَدَ هَذَا الْقُرَّاءُ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الْكافِرُونَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِوَصْفِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ وَفِيهِ تَفْسِيرُ الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ. وَالْأَجْدَاثُ: جَمْعُ جَدَثٍ وَهُوَ الْقَبْرُ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ خُرُوجَ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ مِنْ مَوَاضِعِ دَفْنِهِمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: 55]

[سورة القمر (54) : آية 9]

فَيُعَادُ خَلْقُ كُلِّ ذَاتٍ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ وَهِيَ ذَرَّاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَالْجَرَادُ: اسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ جَرَادَةٌ وَهِيَ حَشَرَةٌ ذَاتُ أَجْنِحَةٍ أَرْبَعَةٍ مَطْوِيَّةٍ عَلَى جَنْبَيْهَا وَأَرْجُلٍ أَرْبَعَةٍ، أَصْفَرُ اللَّوْنِ. وَالْمُنْتَشِرُ: الْمُنْبَثُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الدَّبَى وَهُوَ فِرَاخُ الْجَرَادِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ الْأَجْنِحَةُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُقْبٍ فِي الْأَرْضِ هِيَ مَبِيضَاتُ أُصُولِهِ فَإِذَا تَمَّ خَلْقُهُ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ يَزْحَفُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] . وَهَذَا التَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيٌّ لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ خُرُوجِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ مُتَرَاكِمِينِ بِهَيْئَةِ خُرُوجِ الْجَرَادِ مُتَعَاظِلًا يَسِيرُ غير سَاكن. [9] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 9] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) اسْتِئْنَاف بيانيّ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [الْقَمَر: 4] فَإِنَّ مِنْ أَشْهَرِهَا تَكْذِيبَ قَوْمِ نُوحٍ رَسُولَهُمْ، وَسَبَقَ الْإِنْبَاءُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ وَلْيُفَرِّعْ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. فَالْمَقْصُودُ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ عَدَمَ ازْدِجَارِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ بِتِعْدَادِ بَعْضِ الْمُهِمِّ مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ قَبْلَهُمْ تَقْرِيرُ تَسْلِيَةٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الضَّلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِكَ نَظِيرَ مَا هُنَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُعْرِضُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: كَذَّبَ، إِذَا قَالَ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَيُقَالُ كَذَّبَ أَيْضًا، إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ كَاذِبٌ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: 33] فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ هُنَا، فَإِنْ كَانَ فِعْلُ كَذَّبَتْ هُنَا مُسْتَعْمَلًا

فِي مَعْنَى الْقَوْلِ بِالتَّكْذِيبِ، فَإِنَّ قَوْمَ نُوحٍ شَافَهُوا نُوحًا بِأَنَّهُ كَاذِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي اعْتِقَادِهِمْ كَذِبَهُ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ إِنْذَارِهِ وَإِهْمَالُهُمُ الانضواء إِلَيْهِ عِنْد مَا أَنْذَرَهُمْ بِالطُّوفَانِ. وَعُرِّفَ قَوْمُ نُوحٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِهِ إِذْ لَمْ تَكُنْ لِلْأُمَّةِ فِي زَمَنِ نُوحٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ. وَأُسْنِدَ التَّكْذِيبُ إِلَى جَمِيعِ الْقَوْمِ لِأَنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَإِنَّهُ مَا آمَنَ بِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِتَفْصِيلِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ الْمُشَابِهَةِ بَيْنَ تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ رَسُولَهُمْ وَتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِمَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُ بِالْعُبُودِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَفِي أَنَّهُ تَكْذِيبٌ مَشُوبٌ بِبُهْتَانٍ إِذْ قَالَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لِرَسُولِهِ: مَجْنُونٌ، وَمَشُوبٌ بِبَذَاءَةٍ إِذْ آذَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ رَسُولَهُمْ وَازْدَجَرُوهُ. فَمَحَلُّ التَّفْرِيعِ هُوَ وَصْفُ نُوحٍ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ قَوْمِهِ بِأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ وَصْفَهُ بِالْجُنُونِ، وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ بِالْأَذَى وَالِازْدِجَارِ. فَأَصْلُ تَرْكِيبِ الْكَلَامِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَقَالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ. وَلَمَّا أُرِيدُ الْإِيمَاءُ إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً جَعَلَ مَا بَعْدَ التَّسْلِيَةِ مُفَرَّعًا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِيَظْهَرَ قَصْدُ اسْتِقْلَالِ مَا قَبْلَهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ غَنِيًّا عَنِ الْفَاءِ إِذْ كَانَ يَقُولُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ عَبْدَنَا. وأعيد فعل فَكَذَّبُوا لِإِفَادَةِ تَوْكِيدِ التَّكْذِيبِ، أَيْ هُوَ تَكْذِيبٌ قَوِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: 130] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] ، وَقَوْلِ الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي إِعْرَابِ هَذَا الْبَيْتِ مِنْ «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ» ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ نَحَا غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ.

وَحَاصِلُ نَظْمِ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى: أَنَّهُ حَصَلَ فِعْلٌ فَكَانَ حُصُولُهُ عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ طَرِيقَةٍ خَاصَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كَذَّبَتْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى: إِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا كذبه، فتفريع فَكَذَّبُوا عَبْدَنا عَلَيْهِ تَفْرِيعُ تَصْرِيحِهِمْ بِتَكْذِيبِهِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَذِبَهُ. فَيكون فعل فَكَذَّبُوا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى غَيْرِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ فِعْلُ كَذَّبَتْ، وَالتَّفْرِيعُ ظَاهِرٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَأَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ [45] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِخْبَارًا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ حِينَ تَلَقَّوْهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ظَاهِرًا. وازْدُجِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى قالُوا وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الزَّجْرِ. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُهَا: افْتَقَرَ وَاضْطُرَّ. وَنُكْتَةُ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ هُنَا التَّوَصُّلُ إِلَى حَذْفِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِعْلُ الِازْدِجَارِ الْمَبْنِيُّ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ضَمِيرُ قَوْمُ نُوحٍ، فَعَدَلَ على أَنْ يُقَالَ: وَازْدَجَرُوهُ، إِلَى قَوْلِهِ: وَازْدُجِرَ مُحَاشَاةً لِلدَّالِّ عَلَى ذَاتِ نُوحٍ وَهُوَ ضَمِيرٌ مِنْ أَنْ يَقَعَ مَفْعُولًا لِضَمِيرِهِمْ. وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمُ ازْدَجَرُوهُ، أَيْ نَهَوْهُ عَنِ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ بِغِلْظَةٍ قَالَ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَاف: 66] وَقَالَ: قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: 116] وَقَالَ: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود: 38] .

[سورة القمر (54) : الآيات 10 إلى 14]

[سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 10 إِلَى 14] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) تَفْرِيعٌ عَلَى كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: 9] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَالْمَغْلُوبُ مَجَازٌ، شَبَّهَ يَأْسَهُ مِنْ إِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ بِحَالِ الَّذِي قَاتَلَ أَوْ صَارَعَ فَغَلَبَهُ مُقَاتِلُهُ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ كَيْفَ سَلَكَ مَعَ قَوْمِهِ وَسَائِلَ الْإِقْنَاعِ بِقَبُولِ دَعْوَتِهِ فَأَعْيَتْهُ الْحِيَلُ. وأَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ دَعَا بِأَنِّي مَغْلُوبٌ، أَيْ بِمَضْمُونِ هَذَا الْكَلَامِ فِي لُغَتِهِ. وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ فَانْتَصِرْ لِلْإِيجَازِ وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَالتَّقْدِيرُ: فَانْتَصِرْ لِي، أَيِ انْصُرْنِي. وَجُمْلَةُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ إِلَى آخِرِهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَدَعا رَبَّهُ، فَفُهِمَ مِنَ التَّفْرِيعِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ وَأَنَّ إِرْسَالَ هَذِهِ الْمِيَاهِ عِقَابٌ لِقَوْمِ نُوحٍ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْمُحْكَمَةِ السَّرِيعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَفَتَحْنا بِتَخْفِيفِ التَّاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى شِدَّةِ هُطُولِ الْمَطَرِ. وَجُمْلَةُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌ لِهَيْئَةِ انْدِفَاقِ الْأَمْطَارِ مِنَ الْجَوِّ بِهَيْئَةِ خُرُوجِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَبْوَابِ الدَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ: وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الْأَبَاطِحُ وَالْمُنْهَمِرُ: الْمُنْصَبُّ، أَيِ المصبوب يُقَال: عمر الْمَاءَ إِذَا صَبَّهُ، أَيْ نَازِلٌ بِقُوَّةٍ.

وَالتَّفْجِيرُ: إِسَالَةُ الْمَاءِ، يُقَالُ: تَفَجَّرَ الْمَاءُ، إِذَا سَالَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: 90] . وَتَعْدِيَةُ فَجَّرْنَا إِلَى اسْمِ الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ إِذْ جَعَلَتِ الْأَرْضَ مِنْ كَثْرَةِ عُيُونِهَا كَأَنَّهَا عَيْنٌ تَتَفَجَّرُ. وَفِي هَذَا إِجْمَالٌ جِيءَ مِنْ أَجْلِهِ بِالتَّمْيِيزِ لَهُ بِقَوْلِهِ: عُيُوناً لِبَيَانِ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَدْ جَعَلَ هَذَا مُلْحَقًا بِتَمْيِيزِ النِّسْبَةِ لِأَنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنِ الْمَفْعُولِ إِذِ الْمَعْنَى: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مِثْلُ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: 4] ، أَيْ شَيْبُ الرَّأْسِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ. قَالَ فِي «الْمِفْتَاحِ» : «إِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ لِإِفَادَةِ شُمُولِ الاشتعال الرَّأْس إِذْ وزان اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وِزَانَ اشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي بَيْتِي وَاشْتَعَلَ بَيْتِي نَارًا» اه. وَالْتِقَاءُ الْمَاءِ: تَجْمُّعُ مَاءِ الْأَمْطَارِ مَعَ مَاءِ عُيُونِ الْأَرْضِ فَالِالْتِقَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلِاجْتِمَاعِ، شَبَّهَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْمَاءَ الْخَارِجَ مِنَ الْأَرْضِ بِطَائِفَتَيْنِ جَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَكَانٍ فَالْتَقَتَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا يَلْتَقِي الْجَيْشَانِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْماءُ لِلْجِنْسِ. وَعُلِمَ مِنْ إِسْنَادِ الِالْتِقَاءِ أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْمَاءِ مَاءُ الْمَطَرِ وَمَاءُ الْعُيُونِ. وعَلى مِنْ قَوْلِهِ: عَلى أَمْرٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [الْقَصَص: 15] ، وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي الْبَحْرِ حَاتِمًا ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمُ وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ مُلَابِسًا لِأَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَمُتَمَكِّنًا مِنْهُ. وَمَعْنَى التَّمَكُّنِ: شِدَّةُ الْمُطَابَقَةِ لِمَا قُدِرَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِدْ عَنْهُ قَيْدَ شَعَرَةٍ. وَالْأَمْرُ: الْحَالُ وَالشَّأْنُ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ. وَوَصْفُ الْأَمْرَ بِأَنَّهُ قَدْ قُدِرَ، أَيْ أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ بِمِقْدَارٍ، يُقَالُ: قَدَرَهُ

بِالتَّخْفِيفِ إِذَا ضَبَطَهُ وَعَيَّنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: 49] وَمَحَلُّ عَلى أَمْرٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَاءِ. وَاكْتَفَى بِهَذَا الْخَبَرِ عَنْ بَقِيَّةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ طُغْيَانُ الطُّوفَانِ عَلَيْهِمِ اكْتِفَاءً بِمَا أَفَادَهُ تَفْرِيعُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ كَمَا تَقَدَّمَ انْتِقَالًا إِلَى وَصْفِ إِنْجَاءِ نُوحٍ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، فَجُمْلَةُ وَحَمَلْناهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَطْفَ احْتِرَاسٍ. وَالْمَعْنَى: فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَاهُ. وذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ صِفَةُ السَّفِينَةِ، أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ هُنَا عِوَضًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْفُلْكِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بَيَانَ مَتَانَةِ هَذِهِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِ صُنْعِهَا. وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارٌ لِعِنَايَةِ اللَّهِ بِنَجَاةِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِصُنْعِ السَّفِينَةِ وَأَوْحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِهَا وَلَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ سَفِينَةٌ قَبْلَهَا، قَالَ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [هود: 36، 37] ، وَعَادَةُ الْبُلَغَاءِ إِذَا احْتَاجُوا لِذِكْرِ صِفَةٍ بِشَيْءٍ وَكَانَ ذِكْرُهَا دَالًّا عَلَى مَوْصُوفِهَا أَنْ يَسْتَغْنُوا عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ إِيجَازًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ [سبأ: 11] ، أَيْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ. وَالْحِمْلُ: رَفْعُ الشَّيْءِ عَلَى الظَّهْرِ أَوِ الرَّأْسِ لِنَقْلِهِ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: 7] وَلَهُ مَجَازَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَالْأَلْوَاحُ: جَمْعُ لَوْحٍ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ الْمُسَوَّاةُ مِنَ الْخَشَبِ. وَالدُّسُرُ: جَمْعُ دِسَارٍ، وَهُوَ الْمِسْمَارُ. وَعُدِّيَ فِعْلُ (حَمَلْنَا) إِلَى ضَمِيرِ نُوحٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ لِأَنَّ هَذَا الْحِمْلَ كَانَ إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ وَلِنَصْرِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْحِمْلِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [الْأَعْرَاف: 72] وَقَوْلُهُ: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: 28] وَنَحْوُهُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْجَاءِ وَأَنَّ نَجَاةَ قَوْمِهِ بِمَعِيَّتِهِ، وَحَسْبُكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَذْيِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ فَإِنَّ الَّذِي كَانَ كُفِرَ هُوَ نُوحٌ كَفَرَ بِهِ قَوْمُهُ.

وَ (عَلى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اسْتِقْرَارَهُ فِي السَّفِينَةِ كَائِنٌ فِي جَوْفِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] . وَالْبَاءُ فِي بِأَعْيُنِنا لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْأَعْيُنُ: جَمْعُ عَيْنٍ بِإِطْلَاقِهِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: عَلِمْتُكَ تَرْعَانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] . وَجُمِعَ الْعَيْنُ لِتَقْوِيَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْجَمْعَ أَقْوَى مِنَ الْمُفْرَدِ، أَيْ بِحِرَاسَاتٍ مِنَّا وَعِنَايَاتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِنَايَاتِ بِتَنَوُّعِ آثَارِهَا. وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَيْنِ فِي مِثْلِهِ تَمْثِيلٌ بِحَالِ النَّاظِرِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَحْرُوسِ مِثْلُ الرَّاعِينَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُسَافِرِ: «عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ» ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَجُمِعَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ. وجَزاءً مفعول لأَجله لفتحنا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ جَزَاء لنوح. ولِمَنْ كانَ كُفِرَ هُوَ نُوحٌ فَإِنَّ قَوْمَهُ كَفَرُوا بِهِ، أَيْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُ رَسُولٌ وَكَانَ كُفْرُهُمْ بِهِ مُنْذُ جَاءَهُمْ بِالرِّسَالَةِ فَلِذَلِكَ أَقْحَمَ هُنَا فِعْلَ كانَ، أَيْ لِمَنْ كُفِرَ مُنْذُ زَمَانٍ مَضَى وَذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي سُورَةِ نُوحٍ [5- 9] بِقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ كُفِرَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيرُهُ: كُفِرَ بِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَصَحَ لَهُمْ وَلَقِيَ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَنَاءِ فَلَمْ يَشْكُرُوا لَهُ بَلْ كَفَرُوهُ فَهُوَ مَكْفُورٌ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: 152] .

[سورة القمر (54) : آية 15]

[سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 15] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ عَائِدٌ إِلَى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، أَيِ السَّفِينَةِ. وَالتَّرْكُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِبْقَاءِ وَعَدَمِ الْإِزَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ [37] ، وَقَالَ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] ، أَيْ أَبْقَيْنَا سَفِينَةَ نُوحٍ مَحْفُوظَةً مِنَ الْبِلَى لِتَكُونَ آيَةً يَشْهَدُهَا الْأُمَمُ الَّذِينَ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ مَتَى أَرَادَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ رُؤْيَتَهَا مِمَّنْ هُوَ بِجِوَارِ مَكَانِهَا تَأْيِيدًا لِلرُّسِلِ وَتَخْوِيفًا بِأَوَّلِ عَذَابٍ عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ أُمَّةٌ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا فَكَانَتْ حُجَّةً دَائِمَةً مِثْلَ دِيَارِ ثَمُودَ. ثُمَّ أَخَذَتْ تَتَنَاقَصُ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا أَخْشَابٌ شَهِدَهَا صَدْرُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَلَمْ تَضْمَحِلَّ حَتَّى رَآهَا نَاسٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ بَعْدَ نُوحٍ فَتَوَاتَرَ خَبَرُهَا بِالْمُشَاهَدَةِ تَأْيِيدًا لِتَوَاتُرِ الطُّوفَانِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ فَمِنْهُ نَزَلَ نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ وَبَقِيَتِ السَّفِينَةُ هُنَالِكَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِهَا عَنِ الِاضْمِحْلَالِ. وَاسْتَفَاضَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْجُودِيَّ جُبَيْلٌ قُرْبَ قَرْيَةٍ تُسَمَّى (بَاقِرْدَى) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ مَقْصُورًا مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ قُرْبَ الْمَوْصِلِ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ قَتَادَةُ: «لَقَدْ شَهِدَهَا صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [15] وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا هُنَالِكَ. وَالْآيَةُ: الْحُجَّةُ. وَأَصْلُ الْآيَةِ الْأَمَارَةُ الَّتِي يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمرَان: 41] . وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا وَلَقَدْ تَرَكْناها وَقَالَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [15] وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهَا فِي سُورَةِ الْقَمَرِ وَرَدَ بَعْدَ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا وَحُدُوثِ الطُّوفَانِ وَحَمْلِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ. فَأَخْبَرَ بِأَنَّهَا أُبْقِيَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَالْآيَةُ فِي بَقَائِهَا، وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَرَدَ ذِكْرُ السَّفِينَةِ ابْتِدَاءً فَأُخْبِرَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا آيَةً إِذْ أَوْحَى إِلَى نُوحٍ بِصُنْعِهَا، فَالْآيَةُ فِي إِيجَادِهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ جَعَلْناها. وَفَرَّعَ عَلَى إِبْقَاءِ السَّفِينَةِ آيَةَ اسْتِفْهَامٍ عَمَّنْ يَتَذَكَّرُ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ

[سورة القمر (54) : آية 16]

مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْضِيضِ عَلَى التَّذَكُّرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتِقْصَاءِ خَبَرِهَا مِثْلُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ: إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَى ... الْبَيْتَ وَالتَّحْضِيضُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَبْلُغُهُ هَذِهِ الْآيَاتُ ومِنْ زَائِدَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ الْجِنْسِ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. ومُدَّكِرٍ أَصْلُهُ: مُذْتَكِرٌ مُفْتَعِلٌ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي الدَّلِيلِ فَقُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَأُدْغِمَ الذَّالُ فِي الدَّالِ لِذَلِكَ، وَقِرَاءَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مَرْوِيَّةٌ بِخُصُوصِهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [45] وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ. [16] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 16] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) تَفْرِيعٌ عَلَى الْقِصَّةِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَر: 11] إِلَى آخِرِهِ. وَ (كَيْفَ) لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَالَةِ الْعَذَابِ. وَهُوَ عَذَابُ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شِدَّةِ هَذَا الْعَذَابِ الْمَوْصُوفِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ جَزَاءَ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْرَاضِهِمْ وَأَذَاهُمْ كَمَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ. وَحُذِفَ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ نُذُرِ وَأَصْلُهُ: نُذُرِي. وَحَذْفُهَا فِي الْكَلَامِ فِي الْوَقْفِ فَصِيحٌ وَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْفَوَاصِلِ. وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نَذِيرٍ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ أَنْذَرَ كَالنِّذَارَةِ وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا جُمِعَتْ لِتَكَرُّرِ النِّذَارَةِ مِنَ الرَّسُولِ لِقَوْمِهِ طلبا للإيمانهم. [17] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 17] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّذَارَةُ بُلِغَتْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُشْرِكُونَ مُعْرِضُونَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ حَارِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ فَوَائِدِهِ ذُيِّلَ خَبَرُهَا بِتَنْوِيهِ شَأْنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ

وَسَهَّلَهُ لِتَذَكُّرِ الْخَلْقِ بِمَا يَحْتَاجُونَهُ مِنَ التَّذْكِيرِ مِمَّا هُوَ هُدًى وَإِرْشَادٌ. وَهَذَا التَّيْسِير ينبىء بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] تَبْصِرَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِيَزْدَادُوا إِقْبَالًا عَلَى مُدَارَسَتِهِ وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ عَسَى أَنْ يَرْعَوُوا عَنْ صُدُودِهِمْ عَنْهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مُرَاعًى فِيهِ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالتَّيْسِيرُ: إِيجَادُ الْيُسْرِ فِي شَيْءٍ، مِنْ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] أَوْ قَوْلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدُّخان: 58] . وَالْيُسْرُ: السُّهُولَةُ، وَعَدَمُ الْكُلْفَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ مِنْ شَيْءٍ. وَإِذْ كَانَ الْقُرْآنُ كَلَامًا فَمَعْنَى تَيْسِيرِهِ يَرْجِعُ إِلَى تَيْسِيرِ مَا يُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ فَهْمُ السَّامِعِ الْمَعَانِيَ الَّتِي عَنَاهَا الْمُتَكَلّم بِهِ بِدُونِ كُلْفَةٍ عَلَى السَّامِعِ وَلَا إِغْلَاقٍ كَمَا يَقُولُونَ: يَدْخُلُ لِلْأُذُنِ بِلَا إِذْنٍ. وَهَذَا الْيُسْرُ يَحْصُلُ مِنْ جَانِبِ الْأَلْفَاظِ وَجَانِبِ الْمَعَانِي فَأَمَّا مِنْ جَانب الْأَلْفَاظ فَلذَلِك بِكَوُنِهَا فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ وَفَصَاحَةِ التَّرَاكِيبِ، أَيْ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، وَانْتِظَامِ مَجْمُوعِهَا، بِحَيْثُ يَخِفُّ حِفْظُهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ. وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَعَانِي، فَبِوُضُوحِ انْتِزَاعِهَا مِنَ التَّرَاكِيبِ وَوَفْرَةِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ التَّرَاكِيبُ مِنْهَا مِنْ مَغَازِي الْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ هِيَ لَهُ. وَبِتَوَلُّدِ مَعَانٍ مِنْ مَعَانٍ أُخَرَ كُلَّمَا كَرَّرَ الْمُتَدَبِّرُ تَدَبُّرَهُ فِي فَهْمِهَا. وَوَسَائِلُ ذَلِكَ لَا يُحِيطُ بِهَا الْوَصْفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ وَمِنْ أَهَمِّهَا إِيجَازُ اللَّفْظِ لِيُسْرِعَ تَعَلُّقُهُ بِالْحِفْظِ، وَإِجْمَالُ الْمَدْلُولَاتِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ فِي انْتِزَاعِ الْمَعَانِي مِنْهَا كُلَّ مَذْهَبٍ يَسْمَحُ بِهِ اللَّفْظُ وَالْغَرَضُ وَالْمَقَامُ، وَمِنْهَا الْإِطْنَابُ بِالْبَيَانِ إِذَا كَانَ فِي الْمَعَانِي بَعْضُ الدِّقَّةِ وَالْخَفَاءِ. وَيَتَأَتَّى ذَلِكَ بِتَأْلِيفِ نَظْمِ الْقُرْآنَ بِلُغَةٍ هِيَ أَفْصَحُ لُغَاتِ الْبَشَرِ وَأَسْمَحُ أَلْفَاظًا

وَتَرَاكِيبَ بِوَفْرَةِ الْمَعَانِي، وَبِكَوْنِ تَرَاكِيبِهِ أَقْصَى مَا تَسْمَحُ بِهِ تِلْكَ اللُّغَةُ، فَهُوَ خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَارٍ. قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195] . ثمَّ يكون المتلقين لَهُ أُمَّةً هِيَ أَذْكَى الْأُمَمِ عُقُولًا وَأَسْرَعُهَا أَفْهَامًا وَأَشَدُّهَا وَعْيًا لِمَا تَسْمَعُهُ، وَأَطْوَلُهَا تَذَكُّرًا لَهُ دُونَ نِسْيَانٍ، وَهِيَ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي هَذِهِ الْخِلَالِ تَفَاوُتًا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ الْكَوْنِ لَا يُنَاكِدُ حَالُهُمْ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ تَيْسِيرِهِ لِلذِّكْرِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ جِنْسٌ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْمَقُولِ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْأَفْهَامِ عَلَى مُدَارَسَتِهِ وتدبره بَدَت لجموعهم مَعَانٍ لَا يُحْصِيهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَحْدَهُ. وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ تَبْيِينَهُ تَصْرِيحًا كَقَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] ، وَتَعْرِيضًا كَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 187] فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَجْدَرُ بِهَذَا الْمِيثَاقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلذِّكْرِ مُتَعَلقَة ب يَسَّرْنَا وَهِيَ ظَرْفٌ لَغْوٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَهِيَ لَامٌ تَدُلُّ عَلَى أَن الْفِعْل الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ فُعِلَ لِانْتِفَاعِ مَدْخُولِ هَذِهِ اللَّامِ بِهِ فَمَدْخُولُهَا لَا يُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدُ تَعْلِيلِ فِعْلِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ الْمُجَرَّدِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ الْمُنْتَصِبِ بِإِضْمَارِ لَامِ التَّعْلِيلِ الْبَسِيطَةِ، وَلَكِنْ يُرَادُ أَنَّ مَدْخُولَ هَذِهِ اللَّامِ عِلَّةٌ خَاصَّةٌ مُرَاعَاةٌ فِي تَحْصِيلِ فِعْلِ الْفَاعِلِ لِفَائِدَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ مَدْخُولُ هَذِهِ اللَّامِ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لِأَجْلِهِ عِلَّةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَمَدْخُولُ هَذِهِ اللَّامِ عِلَّةٌ خَاصَّةٌ فَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبَبِ الْفِعْلِ وَهُوَ كَمَدْخُولِ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي نَحْوِ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] ، وَمَجْرُورُ هَذِهِ اللَّامِ بِمَنْزِلَةِ مَجْرُورِ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ فِي نَحْوِ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] ، وَهُوَ أَيْضًا شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ كَسَا وَأَعْطَى، فَهَذِهِ اللَّامُ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» : شِبْهَ التَّمْلِيكِ. وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ ابْنَ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» .

وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ ابْنِ مَالِكٍ إِيَّاهُ فِي «شَرْحِ كَافِيَتِهِ» وَفِي «الْخُلَاصَةِ» مَعْنَى التَّعْدِيَةِ. وَلَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ لِأَن مَدْخُول هَذِه اللَّامِ قَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ اللَّامُ تَعْدِيَةً مِثْلَ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ، وَغَفَلَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ هَذَا التَّدْقِيقِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْخَامِسُ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ الْجَارَّةِ فِي «مُغْنِى اللَّبِيبِ» وَقَدْ مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الشورى: 11] ، وَمَثَّلَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: 5] ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 72] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الْأَعْلَى: 8] وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [اللَّيْل: 7] وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: 10] ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَدْخُولَ اللَّامِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ دَالٌّ عَلَى الْمُتَنَفِّعِينَ بِمَفَاعِيلِ أَفْعَالِهَا فَهُمْ مِثْلُ أَوَّلِ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا. وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ اللَّامِ لِدِقَّةِ مَعْنَاهَا وَلِيَتَّضِحَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ. وَأَصْلُ مَعَانِي لَامِ الْجَرِّ هُوَ التَّعْلِيلُ وَتَنْشَأُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ فِي التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَجَعَلَهَا النَّحْوِيُّونَ مَعَانِيَ مُسْتَقِلَّةً لِقَصْدِ الْإِيضَاحِ. وَالذِّكْرُ: مَصْدَرُ ذَكَرَ الَّذِي هُوَ التَّذَكُّرُ الْعَقْلِيُّ لَا اللِّسَانِيُّ، وَالَّذِي يُرَادِفُهُ الذُّكْرُ بِضَمِّ الذَّالِ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، فَالذِّكْرُ هُوَ تَذْكُّرُ مَا فِي تَذَكُّرِهِ نَفَعٌ وَدَفْعُ ضَرٍّ، وَهُوَ الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ. فَصَارَ مَعْنَى يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أَنَّ الْقُرْآنَ سُهِّلَتْ دَلَالَتُهُ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الذِّكْرِ بِذَلِكَ التَّيْسِيرِ، فَجعلت سرعَة ترَتّب التَّذَكُّرِ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْفَعَةٍ لِلذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَشِيعُ وَيَرُوجُ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ طَالِبُ شَيْءٍ إِذَا يُسِّرَتْ لَهُ وَسَائِلُ تَحْصِيلِهِ، وَقُرِّبَتْ لَهُ أَبَاعِدُهَا. فَفِي قَوْلِهِ: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَلَفْظُ يَسَّرْنَا تَخْيِيلٌ. وَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلْمُتَذَكِّرِينَ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، إِلَّا أَنَّ بَيْنَ الِادِّكَارَيْنِ فَرْقًا دَقِيقًا، فَالِادِّكَارُ السَّالِفُ ادِّكَارُ اعْتِبَارٍ عَنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْأُمَّةِ البائدة، والادّكار الْمَذْكُور هُنَا ادِّكَارٌ عَنْ سَمَاعِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ الْبَالِغَةِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ والاهتداء بِهِ.

[سورة القمر (54) : الآيات 18 إلى 20]

[سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 18 إِلَى 20] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: 9] فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا فُصِلَتْ عَنْهَا لِيَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَكْرِيرُ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ [الْقَمَر: 4، 5] . وَمَقَامُ التَّوْبِيخِ وَالنَّعْيِ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ. وَالْحُكْمُ عَلَى عَادٍ بِالتَّكْذِيبِ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُعْظَمَهُمْ كَذَّبُوهُ وَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 58] . وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِتَكْذِيبِ عَادٍ قَوْلَهُ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اللَّهَ عَذَّبَهُمْ فَضْلًا عَنْ وَصْفِ عَذَابِهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ وَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ الْجَوَابِ وَالْجَوَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْعَذَابِ وَهِيَ لَمَّا تُذْكَرُ فَيَحْصُلَ الشَّوْقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَهُوَ أَيْضًا مُكَنًّى بِهِ عَنْ تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ إِجْمَالٌ لِحَالِ الْعَذَابِ وَهُوَ إِجْمَالٌ يَزِيدُ التَّشْوِيقَ إِلَى مَا يُبَيِّنُهُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً الْآيَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] ثُمَّ قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: 2] الْآيَةَ. وَعَطَفَ وَنُذُرِ عَلَى عَذابِي بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَاقِبَةُ نُذُرِي، أَيْ إِنْذَارَاتِي لَهُمْ، أَيْ كَيْفَ كَانَ تَحْقِيقُ الْوَعِيدِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ. وَنُذُرِ: جَمْعُ نَذِيرٍ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جُمْلَةَ «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِي» هَذِهِ لَيْسَتْ تَكْرِيرًا لِنَظِيرِهَا السَّابِقِ فِي خَبَرِ قَوْمِ نُوحٍ، وَلَا اللَّاحِقِ فِي آخِرِ قِصَّةِ عَادٍ لِلِاخْتِلَافِ الَّذِي عَلِمْتَهُ بَيْنَ مفادها ومفاد مماثلتها وَإِنِ اتَّحَدَتْ أَلْفَاظُهُمَا.

وَالْبَلِيغُ يَتَفَطَّنُ لِلتَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فَيَصْرِفُهُ عَنْ تَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ تَكْرِيرًا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ وَصْفُ عَذَابِ عَادٍ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي تَعْجِيبًا مِنْ حَالَةِ عَذَابِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَنُذُرِ مَوْعِظَةٌ مِنْ تَحَقُّقِ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ الْفَخْرُ إِلَى هَذَا وَقَفَّيْنَا عَلَيْهِ بِبَسْطٍ وَتَوْجِيهٍ. وَأَصْلُ السُّؤَالِ عَنْ تَكْرِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَثْنَاءَ قِصَّةِ عَادٍ هُنَا أُورِدُهُ فِي كِتَابِ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةِ التَّأْوِيلِ» الْمَنْسُوبِ إِلَى الْفَخْرِ وَإِلَى الرَّاغِبِ إِلَّا أَنَّ كَلَامَ الْفَخر فِي «التَّفْسِير» أَجْدَرُ بِالتَّعْوِيلِ مِمَّا فِي «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» . وَجُمْلَةُ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً إِلَخْ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَهُوَ فِي صُورَة جَوَاب للاستفهام الصُّورِيِّ. وَكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ يُفِيدُ تَعْرِيضًا بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَجُمْلَةُ الْبَيَانِ إِنَّمَا اتَّصَفَ حَالُ الْعَذَابِ دُونَ حَالِ الْإِنْذَارِ، أَوْ حَالِ رَسُولِهِمْ وَهُوَ اكْتِفَاءٌ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَتَضَمَّنُ مَجِيءَ نَذِيرٍ إِلَيْهِمْ وَفِي مَفْعُولِ كَذَّبَتْ الْمَحْذُوفِ إِشْعَارٌ بِرَسُولِهِمُ الَّذِي كَذَّبُوهُ وَبَعْثِ الرَّسُولِ وتكذيبهم إِيَّاه بتضمن الْإِنْذَارَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ حَقَّ عَلَيْهِ إِنْذَارُهُمْ. وَتَعْدِيَةُ إِرْسَالِ الرِّيحِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ هِيَ كَإِسْنَادِ التَّكْذِيبِ إِلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ وَقَدْ أَنْجَى اللَّهُ هُودًا وَالَّذِينَ مَعَهُ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَوْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ عادٌ. وَالصَّرْصَرُ: الشَّدِيدَةُ الْقَوِيَّةُ يَكُونُ لَهَا صَوْتٌ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَأُرِيدَ بِ يَوْمِ نَحْسٍ أَوَّلُ أَيَّامِ الرِّيحِ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى عَادٍ إِذْ كَانَتْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِلَّا يَوْمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [16] وَقَوْلِهِ: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [7] . وَالنَّحْسُ: سُوءُ الْحَالِ. وَإِضَافَةُ يَوْمِ إِلَى نَحْسٍ مِنْ إِضَافَةِ الزَّمَانِ إِلَى مَا يَقَعُ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ

تَحْلَاقِ اللِّمَمِ، وَيَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا يُضَافُ الْيَوْمُ إِلَى النَّحْسِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْحُوسِ، فَهُوَ يَوْمُ نَحْسٍ لِلْمُعَذَّبِينَ يَوْم نَصْرٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ.. وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ يَوْمٌ يُوصَفُ بِنَحْسٍ أَوْ بِسَعْدٍ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ تَحْدُثُ فِيهِ نُحُوسٌ لِقَوْمٍ وَسُعُودٌ لِآخَرِينَ، وَمَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارٍ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ لِلنَّحْسِ هُوَ مِنْ أَغْلَاطِ الْقَصَّاصِينَ فَلَا يُلْقِي الْمُسْلِمُ الْحَقُّ إِلَيْهَا سَمْعَهُ. وَاشْتَهَرَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ التَّشَاؤُمُ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ عَقَائِدِ مَجُوسِ الْفُرْسِ، وَيُسَمُّونَ الْأَرْبِعَاءَ الَّتِي فِي آخِرِ الشَّهْرِ «الْأَرْبِعَاءَ الَّتِي لَا تَدُورُ» ، أَيْ لَا تَعُودُ، أَرَادُوا بَهَذَا الْوَصْفِ ضَبْطَ مَعْنَى كَوْنِهَا آخِرَ الشَّهْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ جَمِيعُ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَإِلَّا فَأَيَّةُ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ عَدَمِ الدَّوَرَانِ وَبَيْنَ الشُّؤْمِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يَقَعُ فِي الْأُسْبُوعِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ وَلَا يَدُورُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ. وَمِنْ شِعْرِ بَعْضِ الْمُوَلَّدِينِ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: لِقَاؤُكَ لِلْمُبَكِّرِ فَأَلُ سُوءٍ ... وَوَجْهُكَ أَرْبِعَاءٌ لَا تَدُورُ وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. ومُسْتَمِرٍّ: صِفَةُ نَحْسٍ، أَيْ نَحْسٍ دَائِمٍ عَلَيْهِمْ فَعُلِمَ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ أَنَّهُ أَبَادَهُمْ إِذْ لَوْ نَجَوْا لَمَا كَانَ النَّحْسُ مُسْتَمِرًّا. وَلَيْسَ مُسْتَمِرٍّ صفة ل يَوْمِ إِذْ لَا مَعْنَى لِوَصْفِهِ بِالِاسْتِمْرَارِ. وَالْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِ مُسْتَمِرٍّ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ مَرَّ الشَّيْءُ قَاصِرًا، إِذَا كَانَ مُرًّا، وَالْمَرَارَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْكَرَاهِيَةِ وَالنَّفْرَةِ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ النَّحْسَ مَكْرُوهٌ. وَالنَّزْعُ: الْإِزَالَةُ بِعُنْفٍ لِئَلَّا يَبْقَى اتِّصَالٌ بَيْنَ الْمُزَالِ وَبَيْنَ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، وَمِنْهُ نَزْعُ الثِّيَابِ. وَالْأَعْجَازُ جَمْعُ عَجُزٍ: وَهُوَ أَسْفَلُ الشَّيْءِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْعَجُزِ عَلَى آخِرِ

الشَّيْءِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَجْسَامَ مُنْتَصِبَةً عَلَى الْأَرْضِ فَأُولَاهَا مَا كَانَ إِلَى السَّمَاءِ وَآخِرُهَا مَا يَلِي الْأَرْضَ. وَأُطْلِقَتِ الْأَعْجَازُ هُنَا عَلَى أُصُولِ النَّخْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّجَرَةِ هُوَ فِي آخِرِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ. وَشُبِّهَ النَّاسُ الْمَطْرُوحُونَ عَلَى الْأَرْضِ بِأُصُولِ النَّخِيلِ الْمَقْطُوعَةِ الَّتِي تُقْلَعُ مِنْ مَنَابِتِهَا لِمَوْتِهَا إِذْ تَزُولُ فُرُوعُهَا وَيَتَحَاتُّ وَرقهَا فَلَا تبقى إِلَّا الْجُذُوعُ الْأَصْلِيَّةُ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْجَازًا. ومُنْقَعِرٍ: اسْمُ فَاعِلِ انْقَعَرَ مُطَاوِعُ قَعَرَهُ، أَيْ بَلَغَ قَعْرَهُ بِالْحَفْرِ يُقَالُ: قَعَرَ الْبِئْرَ إِذَا انْتَهَى إِلَى عُمْقِهَا، أَيْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ قُعِّرَتْ دَوَاخِلُهُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِعُودِ النَّخْلِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ مَطْرُوحًا. وَمُنْقَعِرٍ: وَصْفُ النَّخْلِ، رُوعِيَ فِي إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ صُورَةُ لَفْظِ نَخْلٍ دُونَ عَدَدِ مَدْلُولِهِ خِلَافًا لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] وَقَوْلِهِ: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ [الرَّحْمَن: 11] . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْأَنْبَارِي سُئِلَ الْمُبَرِّدُ بِحَضْرَةِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي (¬1) عَنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا، قِيلَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الْأَنْبِيَاء: 81] وجاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [يُونُس: 22] وَقَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] وأَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ؟ فَقَالَ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا أَوْ إِلَى الْمَعْنَى تأنيثا» اه. وَجُمْلَة كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّاسَ وَوجه الْوَصْف ب مُنْقَعِرٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الرِّيحَ صَرَعَتْهُمْ صَرْعًا تَفَلَّقَتْ مِنْهُ بُطُونُهُمْ وَتَطَايَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ فَصَارُوا جُثَثًا فُرْغًا. وَهَذَا تَفْظِيعٌ لِحَالِهِمْ وَمُثْلَةٌ لَهُمْ لِتَخْوِيفِ من يراهم. [21] ¬

(¬1) إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن حَمَّاد الْبَصْرِيّ فَقِيه الْمَالِكِيَّة بالعراق، وقاضي الْجَمَاعَة بِبَغْدَاد، توفّي سنة 282 هـ لَهُ «أَحْكَام الْقُرْآن» .

[سورة القمر (54) : آية 21]

[سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 21] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) تَكْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ السَّابِقِ عَقِبَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ لِأَنَّ مَقَامَ التَّهْوِيلِ وَالتَّهْدِيدِ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ مَا يفيدهما. و (كَيفَ) هُنَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى حَالَةِ الْعَذَابِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الْمَوْصُوفَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً إِلَى مُنْقَعِرٍ [الْقَمَر: 19، 20] ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التعجيب. [22] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 22] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) تَكْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي خَبَرِ قوم نوح. [23- 25] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 23 إِلَى 25] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كَالْقَوْلِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ كَذَّبَتْ عادٌ [الْقَمَر: 18] . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِسْنَادِ حُكْمِ التَّكْذِيبِ إِلَى ثَمُودَ وَهُوَ اسْمُ الْقَبِيلَة مُعْتَبر فِيهِ الْغَالِبِ الْكَثِيرِ. فَإِنَّ صَالِحًا قَدْ آمَنَ بِهِ نَفَرٌ قَلِيلٌ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَثَمُودُ: مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بِاعْتِبَارِ الْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ الْمَعْنَوِيِّ، أَيْ عَلَى تَأْوِيلِ الِاسْمِ بِالْقَبِيلَةِ. وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نَذِيرٍ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ أَنْذَرَ، أَيْ كَذَّبُوا بِالْإِنْذَارَاتِ الَّتِي أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ بِهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَلَيْسَ النُّذُرُ هُنَا بِصَالِحٍ لِحَمْلِهِ عَلَى جَمْعِ النَّذِيرِ بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ لِأَنَّ فِعْلَ التَّكْذِيبِ إِذَا تَعَدَّى إِلَى الشَّخْصِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْكَذِبِ تَعَدَّى إِلَى اسْمِهِ بِدُونِ حَرْفٍ قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا رُسُلِي [سبأ: 45] وَقَالَ: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الْفرْقَان: 37] وَقَالَ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ [الْحَج: 42] ، وَإِذَا تَعَدَّى إِلَى الْكَلَامِ الْمُكَذَّبِ تَعَدَّى إِلَيْهِ بِالْبَاءِ قَالَ: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الْأَنْعَام: 57] وَقَالَ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: 66] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 40] وَقَالَ:

كَذَّبُوا بِآياتِنا [آل عمرَان: 11] . وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [141] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِنْذَارَاتِ رَسُولِهِمْ، أَيْ جَحَدُوهَا ثُمَّ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، فَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ قَوْلَهُ: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنُّذُرِ جَمْعَ النَّذِيرِ وَأُطْلِقَ عَلَى نَذِيرِهِمْ لَكَانَ وَجْهُ النَّظْمِ أَنْ تَقَعَ جُمْلَةُ فَقالُوا أَبَشَراً إِلَى آخِرِهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ بَيَانًا لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَالِحًا جَاءَهُمْ بِالْإِنْذَارَاتِ فَجَحَدُوا بِهَا وَكَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ مَا أَعْرَبَ عَنْهُ قَوْلُهُمْ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِلَى آخِرِهِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جَوَابًا عَنْ دَعْوَةٍ وَإِنْذَارٍ، وَإِنَّمَا فَصَّلَ تَكْذِيبَ ثَمُودَ وَأَجْمَلَ تَكْذِيبَ عَادٍ لِقَصْدِ بَيَانِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ ثَمُودَ وَتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ إِذْ تَشَابَهَتْ أَقْوَالُهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي انْتِظَامِ جُمْلَةِ فَقالُوا أَبَشَراً إِلَخْ بَعْدَ جملَة كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كالقول فِي جملَة فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: 9] بعد جُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: 9] . وَهَذَا قَوْلٌ قَالُوهُ لِرَسُولِهِمْ لَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِالنُّذُرِ لِأَنَّ قَوْله: كَذَّبَتْ يُؤذن بِمَخْبَرٍ إِذِ التَّكْذِيبُ يَقْتَضِي وُجُودَ مُخْبَرٍ. وَهُوَ كَلَامٌ شَافَهُوا بِهِ صَالِحًا وَهُوَ الَّذِي عَنَوْهُ بِقَوْلِهِمْ: أَبَشَراً مِنَّا إِلَخْ. وَعَدَلُوا عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَانْتَصَبَ أَبَشَراً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ نَتَّبِعُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَقُدِّمَ لِاتِّصَالِهِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ حَقَّهَا التَّصْدِيرُ وَاتَّصَلَتْ بِهِ دُونَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى نَتَّبِعُ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ هُوَ كَوْنُ الْبَشَرِ مَتْبُوعًا لَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ وَمِثْلُهُ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن: 6] وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ مَوَاقِعِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَنْكَرُوا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً. وَوَصْفُ بَشَراً بِ واحِداً: إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي دَعْوَتِهِ لَا أَتْبَاعَ لَهُ وَلَا نُصَرَاءَ، أَيْ لَيْسَ مِمَّنْ يُخْشَى، أَيْ بِعَكْسِ قَوْلِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: 91] .

وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ آحَادِ النَّاسِ، أَيْ لَيْسَ مِنْ أَفْضَلِنَا. وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ لَا سَلَفَ لَهُ فِيهَا كَقَوْلِ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... سَكَنَ الْمَدِينَةَ مِنْ مُزَارِعِ فُومِ يُرِيدُ: لَا يُنَاظِرُنِي فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ أَنْ يَتَّبِعُوا بَشَرًا مِنْهُمْ تَقْدِيرُهُ: أَنَتَّبِعُكَ وَأَنْتَ بَشَرٌ وَاحِد منا. و (إِذن) حَرْفُ جَوَابٍ هِيَ رَابِطَةُ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. وَالضَّلَالُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ، أَرَادوا: إِنَّا إِذن مُخْطِئُونَ فِي أَمْرِنَا. وَالسُّعُرُ: الْجُنُونُ، يُقَالُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ السُّعُرَ بِالْعَذَابِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ سَعِيرٍ. وَجُمْلَةُ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وأُلْقِيَ حَقِيقَتُهُ: رُمِيَ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِنْزَالِ الذِّكْرِ مِنَ السَّمَاءِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] . و (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جَعَلُوا تَلَبُّسَهُمْ بِالضَّلَالِ وَالْجُنُونِ كَتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ. ومِنْ بَيْنِنا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِ، أَيْ كَيْفَ يُلْقَى عَلَيْهِ الذِّكْرُ دُونَنَا، يُرِيدُونَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِأَنْ يُوحَى إِلَيْهِ حَسَبَ مَدَارِكِ عُقُولِ الْجَهَلَةِ الَّذين يقيسون الْأُمُور بِمَقَايِيسِ قُصُورِ أَفْهَامِهِمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّ أَسْبَابَ الْأَثَرَةِ فِي الْعَادَاتِ هِيَ أَسْبَابُهَا فِي الْحَقَائِقِ. وَحَرْفُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِنا بِمَعْنَى الْفَصْلِ كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ مَالِكٍ وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ هِشَامٍ أَيْ مَفْصُولًا مِنْ بَيْنِنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [الْبَقَرَة: 220] .

[سورة القمر (54) : آية 26]

وَ (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) إِضْرَابٌ عَنْ مَا أنكروه بقَوْلهمْ: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أَي لم ينزل الذّكر عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، بطر متكبر. و (الأشر) بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ: اسْمُ فَاعِلِ أَشِرَ، إِذَا فَرِحَ وَبَطَرَ، وَالْمَعْنَى: هُوَ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ مُدَّعٍ مَا لَيْسَ فِيهِ. [26] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 26] سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: قُلْنَا لِنَذِيرِهِمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: 23] فَإِنَّ النُّذُرَ تَقْتَضِي نَذِيرًا بِهَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [الْقَمَر: 27] وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ آنِفًا: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: 25] كَلَامٌ أَجَابُوا بِهِ نِذَارَةَ صَالِحٍ إِيَّاهُمُ الْمُقَدَّرَةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: 23] ، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ الْكَلَامُ أَتَمَّ انْتِظَامٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَعْلَمُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ سَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ لِصَالِحٍ عَلَى تَقْدِيرِ: قُلْنَا لَهُ: قُلْ لَهُمْ، فَفِيهِ حَذْفُ قَوْلٍ. وَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِتَقْدِيرِ: قُلْنَا لَهُمْ سَتَعْلَمُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ مُعْتَرِضَةً. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: غَداً الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ الْقَرِيبُ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا، أَيْ إِنَّ مَعَ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ زَمَنًا مُسْتَقْبَلًا. يُقَالُ فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ مِنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ: وَقَبْلَ غَدٍ يَا وَيْحَ قَلْبِي مِنْ غَدٍ ... إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ يُرِيدُ يَوْمَ مَوْتِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ يَوْمُ نُزُولِ عَذَابِهِمُ الْمُسْتَقْرَبِ. وَتَبْيِينُهُ فِي قَوْله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [الْقَمَر: 27] إِلَخْ، أَيْ حِينَ يَرَوْنَ الْمُعْجِزَةَ

[سورة القمر (54) : الآيات 27 إلى 29]

وَتَلُوحُ لَهُمْ بَوَارِقُ الْعَذَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْكَذَّابُونَ الْأَشِرُونَ لَا صَالِحَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي ضَمِيرِ سَيَعْلَمُونَ يَكُونُ الْغَدُ مُرَادًا بِهِ: يَوْمُ انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ وَيَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أَيْ سَيَعْلَمُونَ مِنَ الْكَذَّابُ الْمُمَاثِلُ لِلْكَذَّابِ فِي قصَّة ثَمُود. [27- 29] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 27 إِلَى 29] إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [الْقَمَر: 26] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمُبَيَّنَةُ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- مِنَ الْوَعِيدِ وَتَقْرِيبِ زَمَانِهِ وَإِنَّ فِيهِ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ الَّذِي كَذَّبُوهُ. وَضَمِيرُ لَهُمْ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ سَيَعْلَمُونَ بِيَاءِ الْغَائِبَةِ، وَإِمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ سَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَضَمِيرُ لَهُمْ الْتِفَاتٌ. وَإِرْسَالُ النَّاقَةِ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةِ مُعْجِزَةِ صَالِحٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنْ صَخْرَةٍ وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ مُقَدِّمَةَ الْأَسْبَابِ الَّتِي عُجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابُ لِأَجْلِهَا، فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي جُمْلَةِ الْبَيَان تَوْطِئَة وتمهيد. وَالْإِرْسَالُ مُسْتَعَارٌ لِجَعْلِهَا آيَةً لِصَالِحٍ. وَقَدْ عُرِفَ خَلْقُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِتَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِاسْمِ الْإِرْسَالِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: 59] فَشُبِّهَتِ النَّاقَةُ بِشَاهِدٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ لِتَأْيِيدِ رَسُولِهِ. وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ فِي هَذِهِ النَّاقَةِ مُعْجِزَةً وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ آيَةً فِي قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْهُمْ وَعَنْ صَالِحٍ فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ [الشُّعَرَاء: 154، 155] إِلَخْ. وفِتْنَةً لَهُمْ حَالٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ تَفْتِنُهُمْ فِتْنَةً هِيَ مُكَابَرَتُهُمْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وَتَقْدِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّا مُرَسِلُو النَّاقَةِ آيَةً لَكَ وَفِتْنَةً لَهُمْ.

وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ التَّكْذِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ من قَوْله: مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، فَعدل عَن أَنْ يُقَالَ: سَنُرْسِلُ، إِلَى صِيغَةِ اسْم الْفَاعِل الْحَقِيقَة فِي الْحَالِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ. وَالِارْتِقَابُ: الِانْتِظَارُ، ارْتَقَبَ مِثْلُ: رَقَبَ، وَهُوَ أَبْلَغُ دَلَالَةً مِنْ رَقَبَ، لِزِيَادَةِ الْمَبْنَى فِيهِ. وَعُدِّيَ الِارْتِقَابُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَقِبُ ذَوَاتَهُمْ وَإِنَّمَا يَرْتَقِبُ أَحْوَالًا تَحْصُلُ لَهُمْ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ إِسْنَادِ أَوْ تَعْلِيقِ الْمُشْتَقَّاتِ الَّتِي مَعَانِيهَا لَا تُسْنَدُ إِلَى الذَّوَاتِ فَتَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ اخْتِصَارًا فِي الْكَلَامِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ مِثْلُ إِضَافَةِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَى الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] . وَالْمَعْنَى: فَارْتَقِبْ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّاقَةِ. وَالِاصْطِبَارُ: الصَّبْرُ الْقَوِيُّ، وَهُوَ كَالِارْتِقَابِ أَيْضًا أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الصَّبْرِ، أَيِ اصْبِرْ صَبْرًا لَا يَعْتَرِيهِ مَلَلٌ وَلَا ضَجَرٌ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَلَا تَأْيَسْ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ اصْطَبِرْ لِيَعُمَّ كُلَّ حَالٍ تَسْتَدْعِي الضَّجَرَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاصْطَبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَعَلَى مَا تَجِدُهُ فِي نَفْسِكَ مِنَ انْتِظَارِ النَّصْرِ. وَجُمْلَةُ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملَة إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَعْدَ بِخَلْقِ آيَةِ النَّاقَةِ يَقْتَضِي كَلَامًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: فَأَرْسَلْنَا لَهُمُ النَّاقَةَ وَقُلْنَا نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَطْفِ وَالْحَذْفِ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْعَطْفِ مُخْتَلِفًا، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي إِيجَازِ الْقُرْآنِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْماءَ لِلْعَهْدِ، أَيْ مَاءِ الْقَرْيَةِ الَّذِي يَسْتَقُونَ مِنْهُ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مَحَلَّةٍ يَنْزِلُهَا قَوْمٌ مَاءً لِسُقْيَاهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [الْقَصَص: 23] . وَأَخْبَرَ عَنِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ قِسْمَةٌ. وَالْمُرَادُ مَقْسُومٌ فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ.

وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِد إِلَى مَعْلُوم مِنَ الْمَقَامِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَاءِ إِذْ مِنَ الْمُتَعَارَفِ أَنَّ الْمَاءَ يَسْتَقِي مِنْهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَمَاشِيَتِهِمْ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ النَّاقَةُ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الشُّرْبِ فَغَلَبَ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى ضَمِيرِ النَّاقَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاقَةِ مَالِكٌ خَاصٌّ أَمَرَ اللَّهُ لَهَا بِنَوْبَةٍ فِي الْمَاءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [155] قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَهَذَا مَبْدَأُ الْفِتْنَةِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ فِي يَوْمِ شِرْبِهَا تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ كُلَّهُ فَشَحُّوا بِذَلِكَ وَأَضْمَرُوا حَلْدَهَا عَنِ الْمَاءِ فَأَبْلَغَهُمْ صَالِحٌ أَنَّ اللَّهَ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَمَسُّوهَا بِسُوءٍ. وَالْمُحْتَضَرُ بِفَتْحِ الضَّادِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْحُضُورِ وَهُوَ ضِدُّ الْغَيْبَةِ. وَالْمَعْنَى: مُحْتَضَرٌ عِنْدَهُ فَحذف الْمُتَعَلّق لظُهُوره. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ رَسُولُهُمْ بِأَنْ يُنْبِئَهُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَحْضُرُ الْقَوْمُ فِي يَوْمِ شِرْبِ النَّاقَةِ، وَهِيَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ لَا تَحْضُرُ فِي أَيَّامِ شِرْبِ الْقَوْمِ. وَالشِّرْبُ بِكَسْرِ الشِّينِ: نَوْبَةُ الْاِسْتِقَاءِ مِنَ الْمَاءِ. فَنَادَوْا صَاحِبَهُمُ الَّذِي أَغْرَوْهُ بِقَتْلِهَا وَهُوَ قُدَارُ- بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- بْنُ سَالِفٍ. وَيُعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِأَحْمَرَ، قَالَ زُهَيْرٌ: فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلَّهُمْ ... كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ يُرِيدُ أَحْمَرَ ثَمُود لِأَن ثمودا إِخْوَةُ عَادٍ (وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَبَبِ وَصْفِهِ بِأَحْمَرَ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِبَيَاضِ وَجْهِهِ) . وَفِي الْحَدِيثِ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ، وَكَانَ قُدَارٌ مِنْ سَادَتِهِمْ وَأَهْلِ الْعِزَّةِ مِنْهُمْ، وَشَبَّهَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي زَمْعَةَ- يَعْنِي الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ- فِي قَوْلِهِ: «فَانْتُدِبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو مَنَعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ» (أَيْ فَأَجَابَ نِدَاءَهُمْ فَرَمَاهَا بِنَبْلٍ فَقَتلهَا) . وَعبر عَنهُ بِصَاحِبِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِهِ إِذْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ وَمُمَالِئُونَ. وَنِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ نِدَاءُ الْإِغْرَاءِ بِالنَّاقَةِ وَإِنَّمَا نَادَوْهُ لِأَنَّهُ مُشْتَهِرٌ بِالْإِقْدَامِ وَقِلَّةِ المبالاة لعزته. وفَتَعاطى مُطَاوِعُ عَاطَاهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: عَطَا يَعْطُو، إِذَا تَنَاوَلَ. وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ تَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْفَاعِلِ، شُبِّهَ تَخَوُّفُ الْقَوْمِ مَنْ قَتْلِهَا لِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ مِنَِِ

[سورة القمر (54) : آية 30]

الْوَعِيدِ وَتَرَدُّدُهُمْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِهَا بِالْمُعَاطَاةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ حِينَ يُحْجِمُ عَنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ وَيُشِيرُ بِغَيْرِهِ كَأَنَّهُ يُعْطِي مَا بِيَدِهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهِ حَتَّى أَخَذَهُ قُدَارٌ. وَعَطَفَ فَعَقَرَ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سُرْعَةِ إِتْيَانِهِ مَا دَعوه لأَجله. والعقر: أَصْلُهُ ضَرْبُ الْبَعِيرِ بِالسَّيْفِ عَلَى عَرَاقِيبِهِ لِيَسْقُطَ إِلَى الْأَرْضِ جَاثِيًا فَيَتَمَكَّنَّ النَّاحِرُ مِنْ نَحْرِهِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سَمَائُهَا ... إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّكَ عَاقِرُ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى قَتْلِ الْبَعِيرِ كَمَا هُنَا إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَقَرَهَا بَلْ قَتلهَا بنبله. [30] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 30] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْوَاقِعِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ فَلَيْسَ هُوَ تَكْرِيرًا وَلَكِنَّهُ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْقِصَّة. [31] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 31] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) جَوَابُ قَوْلِهِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَر: 30] فَهُوَ مِثْلُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً [الْقَمَر: 19] فِي قِصَّةِ عَادٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالصَّيْحَةُ: الصَّاعِقَةُ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالطَّاغِيَةِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِالرَّجْفَةِ، وَهِيَ صَاعِقَةٌ عَظِيمَةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ أَهْلَكَتْهُمْ، وَلذَلِك وصفت ب واحِدَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ إِذْ أَتَتْ عَلَى قَبِيلَةٍ كَامِلَةٍ وَهُمْ أَصْحَاب الْحجر. وفَكانُوا بِمَعْنَى: صَارُوا، وَتَجِيءُ (كَانَ) بِمَعْنَى (صَارَ) حِينَ يُرَادُ بهَا كَون متجدد لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ.

[سورة القمر (54) : آية 32]

وَالْهَشِيمُ: مَا يَبِسَ وَجَفَّ مِنَ الْكَلَأِ وَمِنَ الشَّجَرِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَشْمِ وَهُوَ الْكَسْرُ لِأَنَّ الْيَابِسَ مِنْ ذَلِكَ يَصِيرُ سَرِيعَ الِانْكِسَارِ. وَالْمُرَادُ هُنَا شَيْءٌ خَاصٌّ مِنْهُ وَهُوَ مَا جَفَّ مِنْ أَغْصَانِ الْعِضَاةِ وَالشَّوْكِ وَعَظِيمِ الْكَلَأِ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنْهُ حَظَائِرَ لِحِفْظِ أَغْنَامِهِمْ مِنَ الرِّيحِ وَالْعَادِيَةِ وَلِذَلِكَ أُضِيفَ الْهَشِيمُ إِلَى الْمُحْتَظِرِ. وَهُوَ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ: الَّذِي يَعْمَلُ الْحَظِيرَةَ وَيَبْنِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْهَشِيمَ وَيُلْقِيهِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَرْصِفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سِيَاجًا لِحَظِيرَتِهِ فَالْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ الْهَشِيمُ الْمَجْمُوعُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُسَيَّجَ وَلِذَلِكَ قَالَ: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَمْ يَقُلْ: كَهَشِيمِ الْحَظِيرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ حَالَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُرْصَفَ وَيُصَفَّفَ وَقَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ مِنْهُ الْحَظِيرَةُ. وَالْمُحْتَظِرِ: مُفْتَعِلٌ مِنَ الْحَظِيرَةِ، أَيْ مُتَكَلِّفُ عَمَلِ الْحَظِيرَةِ. وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ أَرْسَلْنا إِلَى ضمير ثَمُودُ [الْقَمَر: 23] كَالْقَوْلِ فِي أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً [الْقَمَر: 19] . [32] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 32] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) تَكْرِيرٌ ثَانٍ بَعْدَ نَظِيرَيْهِ السَّالِفَيْنِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ وَقِصَّةِ عَادٍ تَذْيِيلًا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا ذُيِّلَتْ بِنَظِيرَيْهِ الْقِصَّتَانِ السَّالِفَتَانِ اقْتَضَى التَّكْرِيرَ مَقَامُ الْاِمْتِنَانِ وَالْحَثِّ عَلَى التَّدَبُّرِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ فِيهِ يَأْتِي بِتَجَنُّبِ الضَّلَالِ وَيُرْشِدُ إِلَى مَسَالِكِ الِاهْتِدَاءِ فَهَذَا أَهَمُّ مِنْ تَكْرِيرِ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَر: 30] فَلذَلِك أوثر. [33- 35] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 33 إِلَى 35] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) الْقَوْلُ فِي مُفْرَدَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ، وَقِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا.

وَعَرَّفَ قَوْمَ لُوطٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْأُمَّةِ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَلَمْ يُحْكَ هُنَا مَا تَلَقَّى بِهِ قَوْمُ لُوطٍ دَعْوَةَ لُوطٍ كَمَا حُكِيَ فِي الْقِصَصِ الثَّلَاثِ قَبْلَ هَذِهِ، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ لِأَنَّ سُورَةَ الْقَمَرِ بُنِيَتْ عَلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي شَاهَدُوهَا وَآثَارِ آيَاتِهِ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي عَلِمُوا أَخْبَارَهَا وَشَهِدُوا آثَارَهَا، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُقْتَضٍ لِتَفْصِيلِ أَقْوَالِ تِلْكَ الْأُمَمِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُشَابِهًا لِأَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَفْصِيلِهِ وَلَمْ تَكُنْ أَقْوَالُ قَوْمِ لُوطٍ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى حِكَايَةِ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَكْذِيبُ رَسُولِهِمْ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ نُذُرِهِ. وَالنُّذُرُ تَقَدَّمَ. وَجُمْلَةُ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالنُّذُرِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ. وَالْحَاصِبُ: الرِّيحُ الَّتِي تَحْصِبُ، أَيْ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ تَرْفَعُهَا مِنَ الْأَرْضِ لِقُوَّتِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [40] . وَالِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ مِنْ جُمْلَةِ قَوْمِهِ. وآلَ لُوطٍ: قَرَابَتُهُ وَهُمْ بَنَاتُهُ، وَلُوطٌ دَاخِلٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ زَوْجَةَ لُوطٍ لَمْ يُنَجِّهَا اللَّهُ وَلَمْ يُذْكُرْ ذَلِكَ هُنَا اكْتِفَاءً بِمَوَاقِعِ ذِكْرِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالرَّسُولِ لَا يُعَدُّ مِنْ آلِهِ، كَمَا قَالَ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] . وَذَكَرَ بِسَحَرٍ، أَيْ فِي وَقْتِ السَّحَرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِنْجَائِهِمْ قُبَيْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِقَوْمِهِمْ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ. وَانْتَصَبَ نِعْمَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ إِنْعَامًا مِنَّا.

[سورة القمر (54) : آية 36]

وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَنْ جُمْلَةِ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ بِاعْتِبَارِ مَا مَعَهَا مِنَ الْحَالِ، أَيْ إِنْعَامًا لِأَجْلِ أَنَّهُ شَكَرَ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ إِهْلَاكَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِنا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ ظَرْفَ (عِنْدَ) يَدُلُّ عَلَى الِادِّخَارِ وَالِاسْتِئْثَارِ مِثْلُ (لَدُنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ لَدُنَّا. فَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: نِعْمَةٌ مِنَّا أَو أنعمنا. [36] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 36] وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [الْقَمَر: 34] . وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ يُقْصَدُ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مَوْعِظَةُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ أَنْذَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُمَارَوْا بِالنُّذُرِ. وَالْبَطْشَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الْبَطْشِ، وَهُوَ الْأَخْذُ بِعُنْفٍ لِعِقَابٍ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [195] ، وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِهْلَاكِ السَّرِيعِ مِثْلِ قَوْلِهِ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [16] . وَالتَّمَّارِي: تَفَاعُلٌ مِنَ الْمِرَاءِ وَهُوَ الشَّكُّ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ للْمُبَالَغَة. وَضمن فَتَمارَوْا مَعْنَى: كَذَّبُوا، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى فِي سُورَة النَّجْم [55] . [37] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 37] وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) إِجْمَالٌ لِمَا ذْكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قِصَّةٍ قَوْمِ لُوطٍ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَرَامَ قَوْمُهُ الْفَاحِشَةَ بِهِمْ وَعَجَزَ لُوطٌ عَنْ دَفْعِ قَوْمِهِ إِذِ اقْتَحَمُوا بَيْتَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَعْمَى أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يَدْخُلُونَ.

[سورة القمر (54) : آية 38]

وَالْمُرَاوَدَةُ: مُحَاوَلَةُ رِضَى الْكَارِهِ شَيْئًا بِقَبُولِ مَا كَرِهَهُ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ رَوْدًا، إِذَا ذَهَبَ وَرَجَعَ فِي أَمْرٍ، مُثِّلَتْ هَيْئَةُ مَنْ يُكَرِّرُ الْمُرَاجَعَةَ وَالْمُحَاوَلَةَ بِهَيْئَةِ الْمُنْصَرِفِ ثُمَّ الرَّاجِعِ. وَضَمَّنَ راوَدُوهُ مَعْنَى دَفَعُوهُ وَصَرَفُوهُ فَعُدِّيَ بِ عَنْ. وَأَسْنَدَ الْمُرَاوَدَةَ إِلَى ضَمِيرِ قَوْمِ لُوطٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَاوِدُونَ نَفَرًا مِنْهُمْ لِأَنَّ مَا رَاوَدُوا عَلَيْهِ هُوَ رَادٌّ جَمِيعَ الْقَوْمِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ يَفْعَلُهُ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: عَنْ ضَيْفِهِ بِفِعْلِ راوَدُوهُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنْ ضُيُوفِهِ. وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِلنَّفَرِ الَّذِينَ طَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَهُوَ الْعَمَى، أَيْ أَلْقَى اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ لَهُمْ. وَاسْتَعْمَلَ الذَّوْقَ فِي الْإِحْسَاسِ بُالْعَذَابِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ التَّقْيِيدِ فِي الْإِحْسَاسِ. وَعَطَفَ النُّذُرَ عَلَى الْعَذَابِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَذَابَ تَصْدِيقٌ لِلنُّذُرِ، أَيْ ذُوقُوا مِصْدَاقَ نُذُرِي، وتعدية فعل فَذُوقُوا إِلَى نُذُرِي بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَآثَارَ نُذُرِي. وَالْقَوْلُ فِي تَأْكِيدِهِ بِلَامِ الْقَسَمِ تَقَدَّمَ، وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُذُرِ تَخْفِيفًا. [38] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 38] وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) الْقَوْلُ فِي تَأْكِيدِهِ بِلَامِ الْقَسَمِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظِيرِهِ. وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ وَهُوَ وَقْتُ الصُّبْحِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ:

[سورة القمر (54) : آية 39]

إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] ، فَذَكَرَ بُكْرَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ. وَالتَّصْبِيحُ: الْكَوْنُ فِي زَمَنِ الصَّبَاحِ وَهُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْمُسْتَقِرُّ: الثَّابِتُ الدَّائِمُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقْلِعُ حَتَّى اسْتَأْصَلَهُمْ. وَالْعَذَابُ: هُوَ الْخَسْفُ وَمَطَرُ الْحِجَارَةِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسورَة هود. [39] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 39] فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) تَفْرِيعُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خُوطِبُوا بِهِ مُرَادٌ بِهِ التَّوْبِيخَ إِمَّا بِأَنْ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِمْ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ، بِأَنْ أَلْقَى اللَّهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ صَوْتًا. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْعَذَابُ الْمُسْتَقِرُّ، وَبِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْرِيرًا. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُذُرِ تَخْفِيفًا. وَالْقَوْلُ فِي اسْتِعْمَالِ الذَّوْق هُنَا كالقول فِي سَابِقِهِ. وَفَائِدَةُ الْإِعْلَامِ بِمَا قِيلَ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنْ يَتَجَدَّدَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْ ذَلِكَ ادِّكَارٌ لَهُمْ وَاتِّعَاظٌ وَإِيقَاظٌ اسْتِيفَاءً لِحَقِّ التَّذْكِير القرآني. [40] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 40] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ لِلْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَرَّرَ فِيهَا نَظِيرَهُ وَمَا يُقَارِبَهُ وَخَاصَّةً فِي نَظِيرِهِ الْمُوَالِي هُوَ لَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَر: 30] اكْتِفَاءً بِحِكَايَةِ التَّنْكِيلِ لِقَوْمِ لُوطٍ فِي التَّعْرِيضِ بتهديد الْمُشْركين.

[سورة القمر (54) : الآيات 41 إلى 42]

[سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 41 إِلَى 42] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) لما كَانَت عدوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ مُوَجَّهَةٍ إِلَى أُمَّةِ الْقِبْطِ، وَغَيْرَ مُرَادٍ مِنْهَا التَّشْرِيعَ لَهُمْ. وَلَكِنَّهَا مُوَجَّهَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ الَّذين بِأَيْدِيهِم تسيير أُمُورُ الْمَمْلَكَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ، لِيَسْمَحُوا بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْاِسْتِعْبَادِ، وَيُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ مُوسَى خَصَّ بِالنُّذُرِ هَنَا آلَ فِرْعَوْنَ، أَيْ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِرَدِّ دَعْوَةِ مُوسَى بَلْ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء: 25] وَقَالَ: فَماذا تَأْمُرُونَ [الشُّعَرَاء: 35] وَقَالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الشُّعَرَاء: 36] الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أُسْلُوبُ الْإِخْبَارِ عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مُمَاثِلًا لِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ إِذْ صَدَرَ الْإِخْبَارُ عَنْ أُولَئِكَ بجملة كَذَّبَتْ [الْقَمَر: 18] ، وَخُولِفَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ فِرْعَوْنَ فَصَدَرَ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وَإِنْ كَانَ مَآلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْخَمْسَةِ مُتَمَاثِلًا. وَالْآلُ: الْقَرَابَةُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَنْ لَهُ شِدَّةُ اتِّصَالٍ بِالشَّخْصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: 46] . وَكَانَ الْمُلُوكُ الْأَقْدَمُونَ يَنُوطُونَ وِزَارَتَهُمْ وَمُشَاوَرَتَهُمْ بِقَرَابَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ كَيْدَهُمْ. وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نَذِيرٍ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ أَنَّ مُوسَى كَرَّرَ إِنْذَارَهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِسْنَادُ التَّكْذِيبِ إِلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ آمَنَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ كَمَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ. وَجُمْلَةُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ لِأَنَّ مَجِيءَ النُّذُرِ إِلَيْهِمْ مُلَابِسٌ لِلْآيَاتِ، وَظُهُورُ الْآيَاتِ مُقَارِنٌ لِتَكْذِيبِهِمْ بِهَا فَمَجِيءُ النُّذُرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ مُقَارِنُ مُقَارِنِهِ. وَقَوْلُهُ: بِآياتِنا إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ مُوسَى الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة القمر (54) : آية 43]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ [الْأَعْرَاف: 133] وَهِيَ تِسْعُ آيَاتٍ مِنْهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ وَالْأَرْبَعُ الْأُخَرُ هِيَ: انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً، وَظُهُورُ يَدِهِ بَيْضَاءَ، وَسِنُو الْقَحْطِ، وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ بِمَرْأَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ، وَلَمْ يَنْجَعْ ذَلِكَ فِي تَصْمِيمِهِمْ عَلَى اللَّحَاقِ بِبَنِي إِسْرَائِيل. وتأكيد بِآياتِنا بِ كُلِّها إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَتِهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَتَكْذِيبُهُمْ بِآيَةِ انْفِلَاقِ الْبَحْرِ تَكْذِيبٌ فِعْلِيٌّ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَتَحَدَّهُمْ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَوْا تِلْكَ الْآيَةَ عَدُّوهَا سِحْرًا وَتَوَهَّمُوا الْبَحْرَ أَرْضًا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الْآيَةِ. وَالْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ لِلِانْتِقَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [46، 47] . وَهَذَا الْأَخْذُ: هُوَ إِغْرَاقُ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ وَجُنْدِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا لِنُصْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ. وَانْتَصَبَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مُبَيِّنًا لِنَوْعِ الْأَخْذِ بِأَفْظَعِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَخْذِ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ. وَالْعَزِيزُ: الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَالْمُقْتَدِرُ: الَّذِي لَا يَعْجِزُ. وَأُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَخْذٌ لَمْ يُبْقِ عَلَى الْعَدُوِّ أَيْ إِبْقَاءٍ بِحَيْثُ قَطَعَ دَابِرَ فِرْعَوْن وَآله. [43] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 43] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالنَّتِيجَةِ لِحَاصِلِ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَقَدْ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ مِنْ كَوْنِهِ مُوَجَّهًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَنْتَقِلَ عَنِ التَّعْرِيضِ إِلَى التَّصْرِيحِ اعْتِنَاءً بِمَقَامِ الْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ. وَالْاِسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى

حَقِيقَتِهِ، وَيَكُونُ مِنَ الْمُحَسِّنِ الْبَدِيعِيِّ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ «سَوْقَ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ» . وَسَمَّاهُ أَهْلُ الْأَدَبِ مِنْ قَبْلِهِ بِ «تَجَاهُلِ الْعَارِفِ» . وَعَدَلَ السَّكَّاكِيُّ عَنْ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ وَقَالَ لِوُقُوعِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وَهُوَ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ كَمَا فِي قَوْلِ لَيْلَى ابْنَةِ طَرِيفٍ الْخَارِجِيَّةِ تَرْثِي أَخَاهَا الْوَلِيدَ بْنَ طريف الشَّيْبَانِيّ: أَبَا شجر الخابور مَا لَك مُورِقًا ... كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ الشَّاهِدُ فِي قَوْلِهَا: كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ إِلَخ. والتوبيخ عَن تَخْطِئَتِهِمْ فِي عَدَمِ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ كُفَّارَهُمْ خَيْرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمَاضِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْ قِصَصِهِمْ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ خَاصِّيَّةٌ تَرْبَأُ بِهِمْ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُمْ مَا لَحِقَ الْكُفَّارَ الْمَاضِينَ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ فِي عَدَمِ اكْتِرَاثِكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ السَّابِقَيْنِ لَا تَخْلَوْنَ عَنْ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الَّذِي طَمْأَنَكُمْ مِنْ أَن يُصِيبكُم مثل مَا أَصَابَهُمْ. وأَمْ لِلْإِضْرَابِ الْاِنْتِقَالِيِّ. وَمَا يُقَدَّرُ بَعْدَهَا مِنِ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْإِنْكَارِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَا لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ حَتَّى تَكُونُوا آمَنِينَ مِنَ الْعِقَابِ. وَضَمِيرُ كُفَّارُكُمْ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ أَنْفُسُهُمُ الْكُفَّارُ، فَإِضَافَةُ لَفْظِ (كُفَّارٍ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً لِأَنَّ الْمُضَافَ صِنْفٌ مِنْ جِنْسِ مَنْ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ الْبَيَانِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: الْكُفَّارُ مِنْكُمْ خَيْرٌ مِنَ الْكُفَّارِ السَّالِفِينَ، أَيْ أَأَنْتُمُ الْكُفَّارُ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخْيَرِيَّةِ انْتِفَاءُ الْكُفْرِ، أَيْ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ الْاِنْتِقَامُ الْإِلَهِيُّ وَادِّعَاءُ فَارِقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ. وَالْبَرَاءَةُ: الْخَلَاصُ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَضُرُّ أَوْ يَشُقُّ أَوْ يُكَلِّفُ كُلْفَةً. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْخَلَاصُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ. والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَزَبُورٌ بِمَعْنَى مَزْبُورٍ، أَيْ بَرَاءَةٌ كُتِبَتْ فِي كُتُبِ اللَّهِ السَّالِفَةِ.

[سورة القمر (54) : الآيات 44 إلى 45]

وَالْمَعْنَى: أَلَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَنَّ كُفَّارَكُمْ لَا يَنَالُهُمُ الْعِقَابُ الَّذِي نَالَ أَمْثَالَهُمْ من الْأُمَم السالفة. وفِي الزُّبُرِ صِفَةُ بَراءَةٌ، أَيْ كَائِنَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَيْ مَكْتُوبَةٌ فِي صَحَائِفِ الْكُتُبِ. وَأفَاد هَذَا الْكَلَام تَرْدِيدَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْاِتِّصَافُ بِالْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] ، وَإِمَّا الْمُسَامَحَةُ وَالْعَفْوُ عَمَّا يَقْتَرِفُهُ الْمَرْءُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . وَالْمَعْنَى انْتِفَاءُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فَلَا مَأْمَنَ لَهُمْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا حَلَّ بأمثالهم. وَالْآيَة توذن بِارْتِقَابِ عَذَابٍ يَنَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: 10] كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] . [44، 45] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 44 إِلَى 45] أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِإِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ. وَالْاِسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ فَهُوَ إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا نَزَلَ قَبْلَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ إِنْذَارٌ بِهَزِيمَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ لِوُجُودِ عَلَامَةِ الْاِسْتِقْبَالِ.

وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ [الْقَمَر: 43] إِلَخْ إِلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ رُجُوعًا إِلَى الْأُسْلُوبِ الْجَارِي مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [الْقَمَر: 2] بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الْإِنْذَارِ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَر: 43] . وَالكَّلَامُ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِالنِّذَارَةِ لِلْمُشْرِكِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ تُحَدِّثُهُمْ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ حَالَهُمْ وَحَالَ الْأُمَمِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ قِصَصُهَا مُتَسَاوِيَةً، أَيْ نَحْنُ مُنْتَصِرُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَسُولَ اللَّهِ فَلَا يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ. وجَمِيعٌ اسْمٌ لِلجَّمَاعَةِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ فِي خبر عمر مَعَ عَليّ وَعَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَضِيَّةِ مَا تَرَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ فَدَكَ، قَالَ لَهُمَا: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ» ، وَقَوْلُ لَبِيدٍ: عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا ... مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثُمَامُهَا وَالْمَعْنَى: بَلْ أَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُغَالِبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَنَّهُمْ غالبونهم لِأَنَّهُمْ جَمِيعٌ لَا يُغْلَبُونَ. وَمُنْتَصِرٌ: وَصْفُ جَمِيعٌ، جَاءَ بِالْإِفْرَادِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ جَمِيعٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا. وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا هُوَ ظَنُّهُمْ وَاغْتِرَارُهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ» . فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْإِعْجَازِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ. وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ هَذَا الْغُرُورَ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَذَا الْاِسْتِخْفَافُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ لِيَشْغِلَهُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ بِالْيَدِّ وَيُقْصِرَهُمْ عَلَى تَطَاوُلِهِمْ عَلَيْهِ بِالْأَلْسِنَةِ حَتَّى تَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ وَحَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْاِنْتِصَارِ بِأَنْصَارِ اللَّهِ.

فَقَوْلُهُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبِلَهَا. وَهَذَا بِشَارَةٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُنْجَزُ وَعْدِهِ وَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ إِلَّا غُرُورًا فَلَا يُعِيرُوهُ جَانِبَ اهْتِمَامِهِمْ وَأَخْذَ الْعُدَّةِ لِمُقَاوَمَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَحْوِ ذَلِكَ: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: 44] . وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجَمْعُ للْعهد، أَيِ الْجَمْعِ الْمَعْهُودِ مِنْ قَوْلِهِ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ وَالْمَعْنَى: سَيُهْزَمُ جَمْعُهُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النُّحَاةِ: اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْهَزْمُ: الْغَلْبُ، وَالسِّينُ لِتَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: 12] . وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ الْهَازِمَ الْمُسْلِمُونَ. ويُوَلُّونَ: يَجْعَلُونَ غَيْرَهُمْ يَلِيَ، فَهُوَ يَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ هُنَا لِلْاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ إِذِ الْغَرَضُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا جَاءَ الْوَغَى يَفِرُّونَ وَيُوَلُّونَكُمُ الْأَدْبَارَ. والدُّبُرَ: الظَّهْرُ، وَهُوَ مَا أَدْبَرَ، أَيْ كَانَ وَرَاءً، وَعَكْسُهُ الْقُبُلُ. وَالْآيَةُ: إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ هُزِمُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ يَوْمَئِذٍ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ فِي جَمْعٍ آخَرَ وَهُوَ جَمْعُ الْأَحْزَابِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَفَرُّوا بِلَيْلٍ كَمَا مَضَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ لِصَفِّ الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ الْقِتَالِ، إِيمَاءً إِلَى تَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَفْرَدَ الدُّبُرَ، وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ لِأَنَّهُ جِنْسٌ يَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ، أَيْ يُوَلِّي كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ دُبُرَهُ، وَذَلِكَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَمُزَاوَجَةُ الْقَرَائِنِ، عَلَى أَنَّ انْهِزَامَ الْجَمْعِ انْهِزَامَةً وَاحِدَةً وَلِذَلِكَ الْجَيْشِ جِهَةُ تَوَلٍّ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا الْهَزْمُ وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ. رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جَعَلْتُ أَقُولُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة القمر (54) : آية 46]

يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَيَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» اه، أَيْ لَمْ يَتَبَيَّنُ لَهُ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الَّذِي سَيُهْزَمُ وَيُوَلِّي الدُّبُرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ قِتَالٌ وَلَا كَانَ يَخْطُرُ لَهُم ببال. [46] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 46] بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) بَلِ لِلْإِضْرَابِ الْاِنْتِقَالِيِّ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، إِلَى الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: 21] ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 127] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: 16] . والسَّاعَةُ: عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَالْمَوْعِدُ: وَقْتُ الْوَعْدِ، وَهُوَ هُنَا وَعْدُ سُوءٍ، أَيْ وَعِيدٌ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ أَيْ مَوْعِدٌ لَهُمْ. وَهَذَا إِجْمَالٌ بِالْوَعِيدِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَفْصِلُهُ وَهُوَ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ. وَوَجْهُ الْعَطْفِ أَنَّهُ أُرِيدَ جَعْلُهُ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا. وأَدْهى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَنْ دَهَاهُ إِذَا أَصَابَهُ بِدَاهِيَةٍ، أَيِ السَّاعَةُ أَشَدُّ إِصَابَةً بِدَاهِيَةِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ مِنْ دَاهِيَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. وَأَمَرُّ: أَيْ أَشَدُّ مَرَارَةً. وَاسْتُعِيرَتِ الْمَرَارَةُ لِلْإِحْسَاسِ بِالْمَكْرُوهِ عَلَى طَرِيقَةِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ الْغَائِبِ بِالْمَحْسُوسِ الْمَعْرُوفِ. وَأُعِيدَ اسْمُ السَّاعَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهَا لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَتَسِيرَ مسير الْمثل.

[سورة القمر (54) : الآيات 47 إلى 48]

[سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 47 إِلَى 48] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) هَذَا الكَّلَامُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَر: 46] . وَاقْتِرَانُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ إِنَّ لِفَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: الْاِهْتِمَامُ بِصَرِيحِهِ الْإِخْبَارِيِّ، وَثَانِيهُمَا: تَأْكِيدُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الكَّلَامَ وَإِنْ كَانَ مُوَجَّهًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يُشَكُّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَبْلُغُهُمْ وَيَشِيعُ بَيْنَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فَكَانُوا جَدِيرِينَ بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ فِي جَانِبِ التَّعْرِيضِ فَتَكُونَ إِنَّ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَرَضَيْهَا مِنَ التَّوْكِيدِ وَالْاِهْتِمَامِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِلْصَاقِ وُصْفِ الْإِجْرَامِ بِهِمْ. وَالضَّلَالُ: يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْهُدَى وَيُطْلَقُ عَلَى الْخُسْرَانِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْمَعْنَى الثَّانِي. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ الْخُسْرَانُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ طرف لِلْكَوْنِ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [النازعات: 6- 8] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [الْقَصَص: 42] فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ ضِدَّ الْهُدَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ يُسْحَبُونَ ظَرْفًا لِلْكَوْنِ الَّذِي فِي خَبَرِ إِنَّ، أَيْ كَائِنُونَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وسُعُرٍ جَمْعُ سَعِيرٍ، وَهُوَ النَّارُ، وَجَمْعُ السَّعِيرِ لِأَنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ. وَالسَّحْبُ: الْجَرُّ، وَهُوَ فِي النَّارِ أَشَدُّ مِنْ مُلَازمَة الْمَكَان لِأَنَّهُ بِهِ يَتَجَدَّدُ مُمَاسَّةُ نَارٍ أُخْرَى فَهُوَ أَشَدُّ تَعْذِيبًا. وَجُعِلَ السَّحْبُ عَلَى الْوُجُوهِ إِهَانَةً لَهُمْ. وذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالذَّوْقُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ.

[سورة القمر (54) : آية 49]

وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالْمُجَازَاةِ. وَالْمَسُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَسَقَرُ: عَلَمٌ عَلَى جَهَنَّمَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّقَرِ بِسُكُونِ القَّافِ وَهُوَ الْتِهَابٌ فِي النَّارِ، فَ سَقَرَ وُضِعَ عَلَمًا لِجَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ مَعْنًى اعْتَبَرُوا فِيهِ أَنَّ مُسَمَّاهُ نَارٌ وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ. وَالْآيَةُ تَتَحَمَّلُ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ ضِدُّ الْهُدَى وَأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى هُدًى، وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ بِالسُّعُرِ نِيرَانُ جَهَنَّمَ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونَ الكَّلَامُ عَلَى التَّقْسِيمِ. أَوْ يَكُونَ السُّعُرُ بِمَعْنَى الْجُنُونِ، يُقَالُ: سُعُرٌ بِضَمَّتَيْنِ وَسُعُرٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، أَيْ جُنُونٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ، أَيْ شَدِيدَةُ السُّرْعَةِ كَأَنَّ بِهَا جُنُونًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [24] . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَسَّرَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَائِلًا: لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي السَّعِيرِ لَمْ يَكُونُوا فِي ضَلَالٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ كُشِفَ لَهُمْ وَإِنَّمَا وَصَفَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَيْهِ فَالضَّلَالُ وَالسُّعُرُ حَاصِلَانِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. [49] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ وَالْاِعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَهُوَ أَيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [الْقَمَر: 50] إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا خَلَقْنَا وَفَعَلْنَا كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَال وأسبابها وآلالتها وَسَلَّطْنَاهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ لِأَنَّا خَلَقَنَا كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، أَيْ فَإِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَانْتَبَهُوا إِلَى أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْإِصْرَارِ مُمَاثِلٌ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ. وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) يُقَالُ فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَر: 47] .

وَالْخَلْقُ أَصْلُهُ: إِيجَادُ ذَاتٍ بِشَكْلٍ مَقْصُودٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى إِيجَادِ الْمَعَانِي الَّتِي تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فِي التَّمَيُّزِ وَالْوُضُوحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: 17] . فَإِطْلَاقُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وشَيْءٍ مَعْنَاهُ مَوْجُودٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ الْمَوْجُودَاتِ جِوَاهِرُهَا وَأَعْرَاضُهَا بِقَدَرٍ. وَالْقَدَرُ: بِتَحْرِيكِ الدَّالِ مُرَادِفُ الْقَدْرِ بِسُكُونِهَا وَهُوَ تَحْدِيدُ الْأُمُورِ وَضَبْطُهَا. وَالْمُرَادُ: أَنَّ خَلْقَ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مُصَاحِبٌ لِقَوَانِينٍ جَارِيَةٍ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [8] وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ وَمِمَّا يَشْمَلُهُ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ خَلْقُ جَهَنَّمَ لِلْعَذَابِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الْحجر: 85، 86] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: 38- 40] فَتَرَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَشْبَاهَهَا تُعَقِّبُ ذِكْرَ كَوْنِ الْخَلْقِ كُلِّهِ لِحِكْمَةٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَيَوْمِ الْجَزَاءِ. فَهَذَا وَجْهُ تَعْقِيبِ آيَاتِ الْإِنْذَارِ وَالْعِقَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] وَسَيَقُولُ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ [الْقَمَر: 51] . فَالْبَاءُ فِي بِقَدَرٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ خَلَقْناهُ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِهِ بَلْهَ تَأْكِيدَهُ بَلِ الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [8] وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.

وَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ مَعْنَى الْقَدَرِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ هُوَ جَارٍ عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِ الْأَشْيَاءِ وَجَاعِلُ الْقُوَى فِيهَا لِتَنْبَعِثَ عَنْهَا آثَارُهَا وَمُتَوَلِّدَاتُهَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَمُرِيدٌ لِوُقُوعِهِ. وَهَذَا قَدْ سُمِّيَ بِالْقَدَرِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ فِي ذِكْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الْإِيمَانُ: «وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: 48، 49] . وَلَمْ يَذْكُرْ رَاوِي الحَدِيث تعْيين مَعْنَى الْقَدَرِ الَّذِي خَاصَمَ فِيهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَبَقِيَ مُجْمَلًا وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ خَاصَمُوا جَدَلًا لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ التَّعْنِيفَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] ، أَيْ جَدَلًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُوجَبِ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ بِقَدَرِ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَعَانِي الْقَدَرِ. قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» «ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَرِ هَنَا مُرَادُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ وَمَا سِيقَ بِهِ قَدَرُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلُ مَسَاقِ الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِسَبَبِهَا الْآيَةُ» اه. وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : «يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ مَعَانِي: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَدَرُ هَاهُنَا بِمَعْنَى مُقَدَّرٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: 3] . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: 4] . وَالثَّالِثُ: بِقَدَرٍ، أَيْ نَخْلُقُهُ فِي وَقْتِهِ، أَيْ نُقَدِّرُ لَهُ وَقْتًا نَخْلُقُهُ فِيهِ» اه. قلت: وَإِذ كَانَ لَفْظُ (قَدَرٍ) جِنْسًا، وَوَقَعَ مُعَلَّقًا بِفِعْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِضَمِيرِ كُلَّ شَيْءٍ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَامًّا لِلْمَعَانِي كُلِّهَا فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَخَلَقَهُ بِقَدَرٍ، وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ، وَلَا يُنَاكِدُ مَوْقِعَ هَذَا التَّذْيِيلِ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ سَبَبَ النُّزُولِ عَلَى كُلِّ مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ سَابِقَةٌ عَلَى مَا عَدُّوهُ مِنَ السَّبَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ كَانَ بِضَبْطٍ جَارِيًا عَلَى حِكْمَةٍ،

[سورة القمر (54) : آية 50]

وَأَمَّا تَعْيِينٌ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِمَّا لَيْسَ مَخْلُوقًا لَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَثَلًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْعِبَادِ أفعالهم كالمعتزلة أَو الْقَائِلين بِكَسْبِ الْعَبْدِ كَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَلَا حُجَّةَ بِالْآيَةِ عَلَيْهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَصَبُّ الْإِخْبَارِ هُوَ مَضْمُونُ خَلَقْناهُ أَوْ مَضْمُونُ بِقَدَرٍ، وَلِاحْتِمَالِ عُمُومِ كُلَّ شَيْءٍ لِلتَّخْصِيصِ، وَلِاحْتِمَالِ الْمُرَادِ بِالشَّيْءِ مَا هُوَ، وَلَيْسَ نَفْيُ حُجِّيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ بِمُبْطِلِ ثُبُوتِ الْقَدَرِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَحَقِيقَةُ الْقَدَرِ الْاِصْطِلَاحِيِّ خَفِيَّةٌ فَإِنَّ مِقْدَارَ تَأَثُّرِ الْكَائِنَاتِ بِتَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَسَبُّبِ أَسْبَابِهَا وَنُهُوضِ مَوَانِعِهَا لَمْ يَبْلُغْ عِلْمُ الْإِنْسَانِ إِلَى كَشْفِ غَوَامِضِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا مَكَّنَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَنْفِيذٍ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ سَوَاءٌ فِي التَّأَثُّرِ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِشَيُءٍ، فَلَيْسَتْ نِسْبَةُ آثَارِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ دُونَ نِسْبَةِ أَثَرِ الشَّرِّ إِلَيْهِ إِلَّا أَدَبًا مَعَ الْخَالِقِ لَقَّنَهُ اللَّهُ عَبِيدَهُ، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ فِي التَّأَثُّرِ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَأَفْعَالِ الشَّرِّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ مُلْحَقَةً بِاعْتِقَادِ الْمَجُوسِ بِأَنَّ لِلْخَيْرِ إِلَهًا وَلِلشَّرِّ إِلَهًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وتؤمن بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» ، وَقَوْلِهِ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا . وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ خَلَقْناهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْاِشْتِغَالِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى خَلَقْناهُ لِيَتَأَكَّدَ مَدْلُولُهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ الظَّاهِرِ ابْتِدَاءً، وَذِكْرَ ضَمِيرِهِ ثَانِيًا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي الْعُدُولَ إِلَى الْاِشْتِغَالِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فَيَحْصُلُ تَوْكِيدٌ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ تَحْقِيقُ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى فَاعِلِهِ بِحَرْفِ إِنَّ الْمُفِيدِ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَلِيَتَّصِلَ قَوْلُهُ: بِقَدَرٍ بِالْعَامِلِ فِيهِ وَهُوَ خَلَقْناهُ، لِئَلَّا يَلْتَبِسُ بِالنَّعْتِ لِشَيْءٍ لَوْ قِيلَ: إِنَّا خَلَقَنَا كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، فَيَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ فَيَبْقَى السَّامِعُ مُنْتَظِرًا لخَبر إِن. [50] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 50] وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: 49] فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّذْيِيلِ، أَيْ

خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ بِعِلْمٍ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَمَا يَصْلُحُ لَهُ مَعْلُومٌ لَنَا فَإِذَا جَاءَ وَقْتُهُ الَّذِي أَعْدَدْنَاهُ حَصَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَسْبِقُهُ اخْتِبَارٌ وَلَا نَظَرٌ وَلَا بِدَاءٌ. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً فِي الدُّنْيَا عِنْدَ وُجُودِ مِيقَاتِهِ وَسَبْقِ إِيجَادِ أَسْبَابِهِ وَمُقَوِّمَاتِهِ الَّتِي لَا يَتَفَطَّنُونَ لِوُجُودِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ بِحُلُولِ الْمَوْتِ ثُمَّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ. وَعَطْفُ هَذَا عَقِبَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: 49] مشْعر بترتب مَضْمُونِهِ عَلَى مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي التَّنْبِيهِ وَالْاِسْتِدْلَالِ حَسَبِ مَا هُوَ جَارٍ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ مُرَاعَاةٍ تُرَتِّبُ مَعَانِيَ الْكَلَامِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ: الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَالرَّبَعِيُّ وَقُطْرُبٌ وَهِشَامٌ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ: إِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْأَكْثَرُ إِفَادَتُهُ التَّرْتِيبَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَمْرُنا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الشَّأْنُ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَهُوَ شَأْنُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، أَيْ وَمَا شَأْنُ خَلْقِنَا الْأَشْيَاءَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِذْنِ فَيُرَادُ بِهِ أَمْرُ التَّكْوِينِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَلِمَةِ «كُنْ» وَالْمَآلُ وَاحِدٌ. وَعَلَى الْاِحْتِمَالَيْنِ فَصِفَةٌ واحِدَةٌ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الكَّلَامُ هُوَ خَبَرٌ عَنْ أَمْرُنا. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةُ (كُنْ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] . وَالْمَقْصُودُ الْكِنَايَةُ عَنْ أَسْرَعِ مَا يُمَكِنُ مِنَ السُّرْعَةِ، أَيْ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَذَلِكَ فِي تَكْوِينِ الْعَنَاصِرِ وَالْبَسَائِطِ وَكَذَلِكَ فِي تَكْوِينِ الْمُرَكَّبَاتِ لِأَنَّ أَمْرَ التَّكْوِينِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ تَسْبِقَهُ أَوَامِرٌ تَكْوِينِيَّةٌ بِإِيجَادِ أَجْزَائِهَا، فَلِكُلِّ مُكَوَّنٍ مِنْهَا أَمْرُ تَكْوِينٍ يَخُصُّهُ هُوَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ التَّكْوِينِيَّ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق: 38] وَنَحْوَهُ، فَخَلْقُ ذَلِكَ قَدِ انْطَوَى عَلَى مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُحْصَرُ عَدَدُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:

يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: 6] فَكُلُّ خَلْقٍ مِنْهَا يَحْصُلُ بِكَلِمِةٍ وَاحِدَةٍ كَلَمْحِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَشْيَاءُ وَآثَارٌ فَيُعْتَبَرُ تَكْوِينُهُ عِنْدَ إِيجَادِ أَوَّلِهِ. وَصَحَّ الْإِخْبَارُ عَنْ (أَمْرٍ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ بِ واحِدَةٌ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا صَدَّقَ الْأَمْرَ هُنَا هُوَ أَمْرُ التَّسْخِيرَ وَهُوَ الْكَلِمَةُ، أَيْ كَلِمَةِ (كُنْ) . وَقَوْلُهُ: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَمْرُنا بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْ حُصُولُ مُرَادُنَا بِأَمْرِنَا كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ فِي سُرْعَةِ الْحُصُولِ، أَيْ مَا أَمْرُنَا إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ سَرِيعَةُ التَّأْثِيرِ فِي الْمُتَعَلِّقَةِ هِيَ بِهِ كَسُرْعَةِ لَمْحِ الْبَصَرِ. وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي تَقْرِيبِ الزَّمَانِ أَبْلَغُ مَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ زُهَيْرٍ: فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [77] وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ فَزِيدَ هُنَالِكَ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُفَاجَأَةِ النَّاسِ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيبِ، بِخِلَافِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لِتَمْثِيلِ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ التَّنْبِيهِ إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ السَّامِعُ فِي التَّصْدِيقِ بِهِ. وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِحَاطَةَ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ بِحِكْمَةٍ، وَصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ. وَاللَّمْحُ: النّظر السَّرِيع وإخلاس النَّظَرُ، يُقَالُ: لَمَحَ الْبَصَرَ، وَيُقَالُ: لَمَحَ الْبَرْقَ كَمَا يُقَالُ: لَمَعَ الْبَرْقُ. وَلَمَّا كَانَ لَمْحُ الْبَصَرِ أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الْبَرْقِ قَالَ تَعَالَى: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [77] إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ.

[سورة القمر (54) : آية 51]

[سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 51] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) الْتَفَتَ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَمَرْجِعُ الْخِطَابِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِظُهُورِ أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالتَّهْدِيدِ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ إِلَى كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَر: 49، 50] . وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ بِالْإِهْلَاكِ وَبِأَنَّهُ يُفَاجِئُهُمْ قِيَاسًا عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَكَّدَ الْخَبَرَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ (قَدْ) . أَمَّا إِهْلَاكُ مَنْ قَبْلِهِمْ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَنَاطَ التَّأْكِيدِ إِثْبَاتَ أَنَّ إِهْلَاكَهُمْ كَانَ لِأَجْلِ شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ. وَتَفْرِيعُ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ فَإِنَّ قَوْمَ نُوحٍ بَقُوا أَزْمَانًا فَمَا أَقْلَعُوا عَنْ إِشْرَاكِهِمْ حَتَّى أَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ بَغْتَةً. وَكَذَلِكَ عَادٌ وَثَمُودُ كَانُوا غَيْرَ مُصَدِّقِينَ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فَلَمَّا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ حَلَّ بِهِمْ بَغْتَةً، وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ خَرَجُوا مُقْتَفِينَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَاثِقِينَ بِأَنَّهُمْ مُدْرِكُوهُمْ وَاقْتَرَبُوا مِنْهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْهُمْ فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا أَنْ أَنْجَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَانْطَبَقَ الْبَحْرُ عَلَى الْآخَرِينَ. وَالْمَعْنَى: فَكَمَا أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ نُهْلِكُكُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا حَلُّوا بِبَدْرٍ وَهُمْ أَوْفَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا كَانُوا وَاثِقِينَ بِأَنَّهُمْ مُنْقِذُونَ عِيرَهُمْ وَهَازِمُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَقَدْ ضَرَبَ فَرَسَهُ وَتَقَدَّمَ إِلَى الصَّفِّ «الْيَوْمُ نَنْتَصِرُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ» فَلَمْ تَجُلِ الْخَيْلُ جَوْلَةً حَتَّى شَاهَدُوا صَنَادِيدَهُمْ صَرْعَى بِبَدْرٍ: أَبَا جَهْلٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَغَيْرَهُمْ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا وَلَمْ تَقُمْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَائِمَةٌ. وَالْأَشْيَاعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ. وَالشِّيعَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يُؤَيِّدُونَ مَنْ يُضَافُونَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ

[سورة القمر (54) : آية 52]

وَأَطْلَقَ الْأَشْيَاعَ هُنَا عَلَى الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ فِي الْكُفْرِ عَلَى طَرِيقِ الْاِسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِهِمْ وَهُمْ مُنْقَرَضُونَ بِأَشْيَاعٍ مَوْجُودِينَ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْإِنْذَارِ قَوْلَهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي هَذِه السُّورَة. [52] [سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 52] وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلُوهُ عَائِدًا إِلَى أَشْياعَكُمْ [الْقَمَر: 51] ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَهَيَّأْنَا لَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَكُتِبَ فِي صَحَائِفِ الْأَعْمَالَ كُلُّ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَفُرُوعِهِ، فَالْكِنَايَةُ فِي الزُّبُرِ وَقعت هُنَا كِنَايَة عَنْ لَازِمِهَا وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ وَعَنْ لَازِمٍ لَازَمَهَا وَهُوَ الْعِقَابُ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا تَعَرَّضُوا لِمَا يُوقِعُ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكَ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ ذَلِكَ قُصَارَى عَذَابِهِمْ فَإِنَّ بَعْدَهُ حِسَابًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ يُعَذَّبُونَ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: 47] . وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْجَمْعِ مِنْ قَوْلِهِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [الْقَمَر: 45] أَو إِلَى الْمُجْرِمِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَر: 47] إِلَخْ، وَالْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ شِرْكٍ وَأَذًى لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَعْدُودٌ عَلَيْهِمْ مُهَيَّأٌ عِقَابُهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ إِحْصَاءِ أَعمال الْأُمَم الماضين قَدْ أَغْنَى عَنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ إِهْلَاكِهِمْ، فَالْأَجْدَرُ تَحْذِيرُ الْحَاضِرِينَ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ. والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزُّبُرِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ، وَجُمِعَتِ الزُّبُرُ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ كِتَابَ أَعْمَالِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ [الْإِسْرَاء: 13، 14] الْآيَةَ. وَعُمُومُ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصَ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ فِي الْآخِرَة.

[سورة القمر (54) : آية 53]

[سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 53] وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) هَذَا كَالتَّذْيِيلِ لِقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَر: 52] فَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ، وَالْمَعْنَى: وكل شَيْءٍ حَقِيرٍ أَوْ عَظِيمٍ مُسْتَطَرٌ، أَيْ مَكْتُوبٌ مَسْطُورٌ، أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَيُحَاسِبُ عَلَيْهِ، فَمُسْتَطَرٌ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ سَطَرَ إِذَا كَتَبَ سُطُورًا قَالَ تَعَالَى: وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطّور: 2] . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَام: 59] وَقَوْلُهُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سبأ: 3] . فَالصَّغِيرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا شَأْنَ لَهُ وَلَا يَهْتَمُّ بِهِ النَّاسُ وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ، أَوْ لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةً عَظِيمَةً. وَالْكَبِيرُ: مُسْتَعَارٌ لِضِدِّهِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لَهُ شَأْنٌ مِنَ الصَّلَاحِ وَمَا لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْفَسَادِ وَمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَكَذَلِكَ كَبَائِرُ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَمَا دُونَهَا مِنَ اللَّمَمِ وَالصَّغَائِرِ. وَالْمُسْتَطَرُ: كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ مَكَانَ ذَلِكَ جَامِعًا للتبشير والإنذار. [54، 55] [سُورَة الْقَمَر (54) : الْآيَات 54 إِلَى 55] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطِرٌ عَلَى إِرَادَةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ وَمُجَازَى عَلَيْهِ وَقَدْ عُلِمَ جَزَاءُ الْمُجْرِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَر: 47] كَانَتْ نَفْسُ السَّامِعِ بِحَيْثُ تَتَشَوَّفُ إِلَى مُقَابِلِ ذَلِكَ مِنْ جَزَاءِ الْمُتَّقِينَ وَجَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالْعَكْسُ. وَافْتِتَاحُ هَذَا الْخَبَرِ بِحَرْفِ إِنَّ لِلْاِهْتِمَامِ بِهِ.

و (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى التَّلَبُّسِ الْقَوِيِّ كَتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وَالْمُرَادُ فِي نَعِيمِ جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فَإِنَّ لِلجَّنَّاتِ وَالْأَنْهَارِ لَذَّاتٌ مُتَعَارَفَةٌ مِنَ اللَّهْوِ وَالْأُنْسِ وَالْمُحَادَثَةِ، وَاجْتِنَاءِ الْفَوَاكِه، ورؤية جَرَيَان الْجَدَاوِلِ وَخَرِيرِ الْمَاءِ، وَأَصْوَاتِ الطُّيُورِ، وَأَلْوَانِ السَّوَابِحِ. وَبِهَذَا الْاِعْتِبَارِ عَطَفَ نَهَرٍ عَلَى جَنَّاتٍ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ جَنَّاتٍ فَإِنَّ ذَلِك يُغني عَنهُ قَوْلِهِ بَعْدَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِي أَنْهَارٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُهُ السَّامِعُونَ. ونهر: بِفَتْحَتَيْنِ لُغَةٌ فِي نَهْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ اسْمُ الْجِنْس الصَّادِق بالمتعدد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الْأَعْرَاف: 43] ، وَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ إِمَّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ الثَّانِي لِ إِنَّ. وَالْمَقْعَدُ: مَكَانُ الْقُعُودِ. وَالْقُعُودُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ الْمُطَمْئِنَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [التَّوْبَة: 46] . وَالصِّدْقُ: أَصْلُهُ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ ثُمَّ شَاعَتْ لَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ نَشَأَتْ عَنْ مَجَازٍ أَوِ اسْتِعَارَةٍ تَرْجَعُ إِلَى مَعْنَى مُصَادَفَةِ أَحَدِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ كَمَالَ أَحْوَالِ جِنْسِهِ، فَيُقَالُ: هُوَ رَجُلُ صِدْقٍ، أَيْ تَمَامٌ رُجْلَةٌ، وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكٍ أَيِ ابْنِ الْعَمِّ حَقًّا، أَيْ مُوفٍ بِحَقِّ الْقَرَابَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يُونُس: 93] وَقَالَ فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: 84] وَيُسَمَّى الْحَبِيبُ الثَّابِتُ الْمَحَبَّةِ صَدِيقًا وَصِدِّيقًا. فَمَقْعَدُ صِدْقٍ، أَيْ مَقْعَدٌ كَامِلٌ فِي جِنْسِهِ مَرْضِيٌّ لِلْمُسْتَقِرِّ فِيهِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِفْزَازٌ وَلَا زَوَالٌ، وَإِضَافَةُ مَقْعَدِ إِلَى صِدْقٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ الصِّفَةِ مِنْهُ.

وَالْمَعْنَى: هُمْ فِي مقْعد يشْتَمل على كُلَّ مَا يَحْمَدُهُ الْقَاعِدُ فِيهِ. وَالْمَلِيكُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَالِكِ مُبَالَغَةً وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ مَلِكَ، وَمُقْتَدِرٌ: أَبْلَغُ مِنْ قَادِرٍ، وَتَنْكِيرُهُ وَتَنْكِيرُ مُقْتَدِرٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَكَرَامَةٍ، وَالظَّرْفُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.

55- سورة الرحمن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 55- سُورَةُ الرَّحْمَنِ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا «بِسُورَة الرَّحْمَن» فِي أَحَادِيث مِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ» الْحَدِيثَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ الْمُنَقِّرِيَّ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْلُ عَلَيَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: أَعِدْهَا، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً» إِلَخْ. وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ. وَذَكَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا تُسَمَّى «عَرُوسَ الْقُرْآنِ» لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الرَّحْمَنِ» . وَهَذَا لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ ثَنَاءً عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ فِي شَيْءٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ (¬1) . وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِاسْمِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ [الرَّحْمَنُ: 1] . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ المحكي فِي قَول تَعَالَى: ¬

(¬1) الظَّاهِر أَن معنى: لكل شَيْء عروس، أَي لكل جنس أَو نوع وَاحِد من جنسه يزينه تَقول الْعَرَب: عرائس الْإِبِل لكرائمها فَإِن الْعَرُوس تكون مكرمَة مزينة مرعية من جمع الْأَهْل بِالْخدمَةِ والكرامة، وَوصف سُورَة الرحمان بالعروس تَشْبِيه مَا تحتوي عَلَيْهِ من ذكر الْحبرَة وَالنَّعِيم فِي الْجنَّة بالعروس فِي المسرة والبذخ، تَشْبِيه مَعْقُول بمحسوس وَمن أَمْثَال الْعَرَب: لَا عطر بعد عروس (على أحد تفسيرين للمثل) أَو تَشْبِيه مَا كثر فِيهَا من تَكْرِير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بِمَا يكثر على الْعَرُوس من الْحلِيّ فِي كل مَا تلبسه.

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [60] ، فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهَا بِاعْتِبَارِ إِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَى «الرَّحْمَن» عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتِ وَصْفِ الرَّحْمَنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ، وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي صلح الْقَضِيَّة عِنْد مَا أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ فِي رَسْمِ الصُّلْحِ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ سِوَى آيَةٍ مِنْهَا هِيَ قَوْله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحْمَن: 29] . وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كُلَّهَا، وَهِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْركين وَمَا الرَّحْمنُ تَكُونُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الْمَحْكِيِّ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [103] . فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ. وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ السُّوَرِ نُزُولًا فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي «مَسْنَدِهِ» بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَت: «سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي نَحْوَ الرُّكْنِ قَبْلَ أَنْ يُصَدَعَ بِمَا يُؤْمَرُ وَالْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَ يَقْرَأُ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَلِلْاِخْتِلَافِ فِيهَا لَمْ تُحَقِّقْ رُتْبَتَهَا فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَعَدَّهَا الْجَعْبَرِيُّ ثَامِنَةً وَتِسْعِينَ بِنَاء على القَوْل بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَجَعَلَهَا بَعْدَ سُورَةِ الرَّعْدِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَإِذْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ قبل سُورَة الْحجر وَقبل سُورَةِ النَّحْلِ وَبَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فَالْوَجْهُ أَنْ تُعَدَّ ثَالِثَةً وَأَرْبَعِينَ بَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ سُورَةِ فَاطِرٍ. وَعْدَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ آيَهَا سَبْعًا وَسَبْعَيْنِ، وَأَهْلُ الشَّام والكوفة ثمانيا وَسَبْعِينَ لأَنهم عدوا الرَّحْمَن آيَةً، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ سِتًّا وَسَبْعَيْنِ.

أغراض هذه السورة

أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ ابْتُدِئَتْ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقَدِّمَ فِي عَدَدِ آلَائِهِ أَوَّلَ شَيْءٍ مَا هُوَ أَسْبَقُ قِدَمًا مِنْ ضُرُوبِ آلَائِهِ وَأَصْنَافِ نَعْمَائِهِ وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ فَقَدَّمَ مِنْ نِعْمَةِ الدِّينِ مَا هُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا وَأَقْصَى مَرَاقِبِهَا وَهُوَ إِنْعَامُهُ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ أَتْبَعُهُ إِيَّاهُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْبَيَانِ» اه. وَتَبِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ الْقُرْآنُ رَدًّا عَلَى مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] ، وَرَدًّا عَلَى مَزَاعِمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ أَوْ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كَلَامُ كَاهِنٍ أَوْ شِعْرٌ. ثُمَّ التَّذْكِيرُ بِدَلَائِلِ قُدْرَةِ الله تَعَالَى فِيمَا أَتْقَنَ صُنْعَهُ مُدْمَجًا فِي ذَلِكَ التَّذْكِيرِ بِمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ نَعَمِ عَلَى النَّاسِ. وَخَلْقِ الْجِنِّ وَإِثْبَاتِ جَزَائِهِمْ. وَالْمَوْعِظَةُ بِالْفَنَاءِ وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ. وَخُتِمَتْ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِدْمَاجَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْرَ بِتَوْفِيَةِ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، وَحَاجَةَ النَّاسِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ فِيمَا خَلَقَ لَهُمْ، وَمِنْ أَهَمِّهَا نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَنِعْمَةُ الْبَيَانِ، وَمَا أَعَدَّ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْمُجْرِمِينَ وَمِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ لِلْمُتَّقِينَ وَوَصْفُ نَعِيمَ الْمُتَّقِينَ. وَمِنْ بَدِيعِ أُسْلُوبِهَا افْتِتَاحُهَا الباهر باسمه الرَّحْمنُ وَهِيَ السُّورَةُ الْوَحِيدَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ غَيْرُهُ. وَمِنْهُ التَّعْدَادُ فِي مَقَامِ الْاِمْتِنَانِ وَالتَّعْظِيمِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِذْ تَكَرَّرَ فِيهَا إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً وَذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ جَلِيلٌ كَمَا سنبينه.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 إلى 2]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) هَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَادِّينَ. وَوَقَعَ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِرِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ عَلَامَةُ آيَةٍ عقب كلمة الرَّحْمنُ، إِذْ عَدَّهَا قُرَّاءُ الْكُوفَةِ آيَةً فَلِذَلِكَ عَدَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ آيِ هَذِه السُّورَة ثمانيا وَسَبْعِينِ. فَإِذَا جُعِلَ اسْم الرَّحْمنُ آيَةً تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ اسْم «الرَّحْمَن» : إِمَّا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الرَّحْمَنُ، أَوْ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُرَادُ لَفْظُهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَلَطِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا هَذَا الْاِسْمَ قَالَ تَعَالَى: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [60] ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ شَبِيهًا بِمَوْقِعِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّوَرِ عَلَى أَظْهَرِ الْوُجُوهَ فِي تَأْوِيلِهَا وَهُوَ التَّعْرِيضُ بالمخاطبين بِأَنَّهُم أخطأوا فِي إِنْكَارِهِمُ الْحَقَائِقَ. وافتتح باسم الرَّحْمنُ فَكَانَ فِيهِ تَشْوِيقُ جَمِيعِ السَّامِعِينَ إِلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْلَفُونَ هَذَا الْاِسْمَ قَالَ تَعَالَى: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] ، فَهُمْ إِذَا سَمِعُوا هَذِهِ الْفَاتِحَةَ تَرَقَّبُوا مَا سَيَرِدُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ إِذَا طَرَقَ أَسْمَاعَهُمْ هَذَا الْاِسْمُ اسْتَشْرَفُوا لِمَا سَيَرِدُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُنَاسِبِ لِوَصْفِهِ هَذَا مِمَّا هُمْ مُتَشَوِّقُونَ إِلَيْهِ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] ، أَيْ يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ فَكَانَ الْاِهْتِمَامُ بِذِكْرِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ أَقْوَى من الاهتمام بالتعليم. وَأُوثِرَ اسْتِحْضَارُ الْجَلالَة باسم الرَّحْمنُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَأْبَوْنَ ذِكْرَهُ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيْنَ رَدَّيْنِ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا لِلْجُمْلَةِ الْاِسْمِيَّةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ،

وَلِأَنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ السُّورَةِ تَعْدَادٌ لِلنِّعَمِ وَالْآلَاءِ فافتتاحها باسم الرَّحْمنُ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ. وَقَدْ أُخْبِرَ عَنْ هَذَا الْاِسْمِ بِأَرْبَعَةِ أَخْبَارٍ مُتَتَالِيَةٍ غَيْرِ مُتَعَاطِفَةٍ رَابِعُهَا هُوَ جُمْلَةُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَن: 5] كَمَا سَيَأْتِي لِأَنَّهَا جِيءَ بهَا على نمط التعديد فِي مقَام الامتنان والتوقيف على الْحَقَائِق والتبكيت للخصم فِي إنكارهم صَرِيح بَعْضهَا، وإعراضهم عَن لَوَازِم بَعْضهَا كَمَا سَيَأْتِي، فَفَصَلَ جُمْلَتِي خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: 3، 4] عَنْ جُمْلَةِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خِلَافَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِنُكْتَةِ التَّعْدِيدِ لِلتَّبْكِيتِ. وَعَطَفَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةً أخر بِحرف الْعَطف مِنْ قَوْلِهِ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ [الرَّحْمَن: 6- 10] وَكُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الْاِسْمَ الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ. وَجِيءَ بِالْمُسَنَدِ فِعْلًا مُؤَخَّرًا عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيص، أَي هُوَ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لَا بَشَرٌ عَلَّمَهُ وَحَذَفَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِفِعْلِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لِظُهُورِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُ مُعَلَّمٌ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا تَبْكِيتٌ أَوَّلٌ. وَانْتَصَبَ الْقُرْآنَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ عَلَّمَ، وَهَذَا الْفِعْلُ هُنَا مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَقَطْ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى أَصْلِ مَا يُفِيدُهُ التَّضْعِيفُ مِنْ زِيَادَةِ مَفْعُولٍ آخَرَ مَعَ فَاعِلِ فِعْلِهِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا الْمَفْعُولُ هُنَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّعْلِيمُ إِذْ هُوَ اسْمٌ لِشَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ التَّعْلِيمُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَهُوَ كَقَوْلِ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ: أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [110] وَقَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ

[سورة الرحمن (55) : آية 3]

فِي سُورَةِ يس [69] ، وَلَا يُقَالُ: عَلَّمْتُهُ زَيْدًا صَدِيقًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَعْلَمْتُهُ زَيْدًا صَدِيقًا، فَفِعْلُ عَلِمَ إِذَا ضُعِّفَ كَانَ بِمَعْنَى تَحْصِيلِ التَّعْلِيمِ بِخِلَافِهِ إِذْ عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِتَحْصِيلِ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْبَاءِ. وَقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمًا عَظِيمَةً عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الْآخِرَةِ وَقَدَّمَ أَعْظَمَهَا وَهُوَ نِعْمَةُ الدِّينِ لِأَنَّ بِهِ صَلَاحَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَبِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ يَحْصُلُ لَهُمُ الْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ دِينُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلَ الْأَدْيَانِ، وَكَانَ هُوَ الْمُنَزَّلَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْإِبَّانِ، وَكَانَ مُتَلَقًّى مِنْ أَفْضَلِ الْوَحْيِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، قَدَّمَهُ فِي الْإِعْلَامِ وَجَعَلَهُ مُؤْذِنًا بِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدِّينِ وَمُشِيرًا إِلَى النِّعَمِ الْحَاصِلَةِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كَمَا قَالَ: هَذَا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الْأَنْعَام: 92] . وَمُنَاسَبَةُ اسْمِ الرَّحْمنُ لِهَذِهِ الْاِعْتِبَارَاتِ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 107] . والْقُرْآنَ: اسْمٌ غَلَبَ عَلَى الْوَحْيِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ وتعبّد أَلْفَاظه. [3] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 3] خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) خَبَرٌ ثَانٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ جِنْسُ الْإِنْسَانِ وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلْخَبَرِ الْآتِي وَهُوَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: 4] . وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ لَا يُنَازِعُونَ فِيهَا وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ مُوجِبِهَا وَهُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، سِيقَ لَهُمُ الْخَبَرُ بِهَا عَلَى أُسْلُوبِ التَّعْدِيدِ بِدُونِ عَطْفٍ كَالَّذِي يَعُدُّ لِلْمُخَاطَبِ مَوَاقِعَ أَخْطَائِهِ وغفلته، وَهَذَا تبكيث ثَانٍ.

[سورة الرحمن (55) : آية 4]

فَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ دَلَالَتَانِ: أُولَاهُمَا: الدَّلَالَةُ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَثَانِيَتُهُمَا: الدَّلَالَةُ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَالْخَلْقُ: نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ فِيهَا تَشْرِيفًا لِلْمَخْلُوقِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ غَيَاهِبِ الْعَدَمِ إِلَى مَبْرَزِ الْوُجُودِ فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدَّمَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ مُنَاسَبَةِ إِرْدَافِهِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ فَعُلًا بَعْدَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ لِلتَّخْصِيصِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهُمْ عبدُوا غَيره. [4] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 4] عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) خَبَرٌ ثَالِثٌ تَضَمَّنَ الْاِعْتِبَارَ بِنِعْمَةِ الْإِبَانَةِ عَنِ الْمُرَادِ وَالْاِمْتِنَانِ بِهَا بَعْدَ الْاِمْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ، أَيْ عَلَّمَ جِنْسَ الْإِنْسَانِ أَنْ يُبَيِّنَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ لِيُفِيدَهْ غَيْرُهُ وَيَسْتَفِيدُ هُوَ. وَالْبَيَانُ: الْإِعْرَابُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ وَهُوَ النُّطْقُ وَبِهِ تَمَيُّزُ الْإِنْسَانِ عَنْ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَهُوَ مَنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ. وَأما الْبَيَان بِغَيْر النُّطْقِ مِنْ إِشَارَةٍ وَإِيمَاءٍ وَلَمْحِ النَّظَرِ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ مُمَيِّزَاتِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ دُونَ بَيَانِ النُّطْقِ. وَمَعْنَى تَعْلِيمِ اللَّهِ الْإِنْسَانَ الْبَيَانَ: أَنَّهُ خَلَقَ فِيهِ الْاِسْتِعْدَادَ لِعِلْمِ ذَلِكَ وَأَلْهَمَهُ وَضْعَ اللُّغَةِ لِلتَّعَارُفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [31] . وَفِيه الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نِعْمَةَ الْبَيَانِ أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَعَدَّ نِعْمَةَ التَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْعُلُومِ الزَّائِدَةِ فِي بَيَانِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ خَصَائِصُ اللُّغَةِ وَآدَابِهَا. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ فِعْلًا بَعْدَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ. وَفِيهِ مِنَ التَّبْكِيتِ مَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَةِ الْبَيَانِ إِذْ

[سورة الرحمن (55) : آية 5]

صَرَفُوا جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ بَيَانِهِمْ فِيمَا يُلْهِيهِمْ عَنْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَفِيمَا يُنَازِعُونَ بِهِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْهدى. [5] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 5] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) جُمْلَةٌ هِيَ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنِ الرَّحْمَنِ وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُهُ هُنَا بِدُونِ مُنَاسِبَةٍ فَيَنْقَلِبَ اعْتِرَاضًا. وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ: بِحُسْبَانِهِ، أَيْ حُسْبَانِ الرَّحْمَنِ وَضَبْطِهِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى التَّفَرُّدِ بِخَلْقِ كَوْكَبِ الشَّمْسِ وَكُرَةِ الْقَمَرِ وَامْتِنَانٌ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِمَا مِنْ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَنِظَامِ سَيْرِهِمَا الَّذِي بِهِ تَدْقِيقُ نِظَامِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ تَغَيُّرَاتِ أَجْوَائِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ. وَيَتَضَمَّنُ الْاِمْتِنَانُ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ. وَفِي كَوْنِ هَذَا الْخَبَرِ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ التَّعْدِيدِ مَا قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا مِنَ التَّبْكِيتِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ غَفَلُوا عَمَّا فِي نِظَامِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ النِّظَامُ مِنْ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِتَقْدِيرِهِ، فَاشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِعِبَادَةِ الشَّمْسِ وَبَعْضُهُمْ بِعِبَادَةِ الْقَمَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] . وَجِيءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً لِلتَّهْوِيلِ بِالْاِبْتِدَاءِ بِاسْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حُسْبَانَهُمَا ثَابِتٌ لَا يَتَغَيَّرُ مُنْذُ بَدْءِ الْخَلْقِ مُؤْذِنٌ بِحِكْمَةِ الْخَالِقِ. وَاسْتُغْنِيَ بِجَعْلِ اسْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُسْنَدًا إِلَيْهِمَا عَنْ تَفْكِيكِ الْمُسْنَدِ إِلَى مَسْنَدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدُلُّ عَلَى الْاِسْتِدْلَالِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى الْاِمْتِنَانِ، كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: 3، 4] . وَالْحُسْبَانُ: مَصْدَرُ حَسَبَ بِمَعْنَى عَدَّ مِثْلَ الْغُفْرَانِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَائِنَانِ بِحُسْبَانٍ، أَيْ بِمُلَابَسَةِ حُسْبَانٍ، أَيْ لِحِسَابِ النَّاسِ مَوَاقِعَ سَيْرِهِمَا. وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْمُلَابَسَةِ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

[سورة الرحمن (55) : آية 6]

سَبَبٌ لِتَلَبُّسِ النَّاسِ بِحِسَابِهِمَا كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ بِعِنَايَةٍ مِنِّي، جَعَلْتَ عِنَايَتَكَ مُلَابِسَةً لِلْمُخَاطَبِ مُلَابَسَةً اعْتِبَارِيَّةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [96] . وَالْحُسْبَانُ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِظَامِ سَيْرِهِمَا انْتِظَامًا مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلُّ حِسَابُ النَّاسِ لَهُ وَالتَّوْقِيتُ بِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ دُونَ بَقِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا حُسْبَانُ الْأَنْوَاءِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، مِثْلِ الْجَوْزَاءِ، وَالشِّعْرَى، وَمَنْزَلَةِ الْأَسَدِ، وَالثُّرَيَّا، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْكَوْكَبَيْنِ هُمَا الْبَادِيَانِ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا يَحْتَاجُ تَعَقُّلُ أَحْوَالِهِمَا إِلَى تَعْلِيمِ تَوْقِيتٍ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ الْأُخْرَى. وَلِأَنَّ السُّورَةَ هَذِهِ بُنِيَتْ عَلَى ذِكْرِ الْأُمُورِ الْمُزْدَوِجَةِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُزْدَوِجَانِ فِي مَعَارِفِ عُمُومِ النَّاسِ فَالشَّمْسُ: كَوْكَبٌ سَمَاوِيٌّ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ تَدُورُ حَوْلَهُ وَدَاخِلَهُ فِي النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ. وَالْقَمَرُ: كَوْكَبٌ أَرْضِيٌّ لِأَنَّهُ دُونَ الْأَرْضِ وَتَابِعٌ لَهَا كَبَقِيَّةِ أَقْمَارِ الْكَوَاكِبِ فَذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَذِكْرِ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ، وَالْمَشْرِقِ، وَالْمغْرب، والبحرين. [6] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 6] وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَن: 5] عَطَفَ الْخَبَرَ عَلَى الْخَبَرِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ لِأَنَّ سُجُودَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْاِمْتِنَانِ بِمَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ إِلَى الْاِمْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لَفْظَ النَّجْمُ وَاسِطَةَ الْاِنْتِقَالِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ مِنْهُ نُجُومُ السَّمَاءِ وَمَا يُسَمَّى نَجْمًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ كَمَا يَأْتِي. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَلَمْ تُفْصَلْ فَخَرَجَتْ مِنْ أُسْلُوبِ تَعْدَادِ الْأَخْبَارِ إِلَى أُسْلُوبِ عَطْفِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بَعْدَ حُرُوفِ الْعَطْفِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّعْدَادُ إِذْ لَيْسَ فِيهَا تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ، فَالْإِخْبَارُ بِسُجُودِ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ أُرِيدَ بِهِ الْإِيقَاظُ إِلَى مَا فِي هَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ دَلَالَةٍ رَمْزِيَّةٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى الْمَقَامُ جَمْعَ النَّظَائِرِ مِنَ الْمُزَاوَجَاتِ بَعْدَ

ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا سُلُوكَ طَرِيقَةِ الْوَصْلِ بَالْعَطْفِ بِجَامِعِ التَّضَادِّ. وَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ مُفْتَتَحَةً بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِتَكُونَ عَلَى صُورَةِ فَاتِحَةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي عطفت هِيَ عَلَيْهَا. وَأُتِيَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدٍ هَذَا السُّجُودِ وَتَكَرُّرِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْد: 15] . والنَّجْمُ يُطْلَقُ: اسْمَ جَمْعٍ عَلَى نُجُومِ السَّمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْم: 1] ، وَيُطْلَقُ مُفْرَدًا فَيُجْمَعُ عَلَى نُجُومٍ، قَالَ تَعَالَى: وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطّور: 49] . وَعَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِنُجُومِ السَّمَاءِ. وَيُطْلَقُ النَّجْمُ عَلَى النَّبَاتِ وَالْحَشِيشِ الَّذِي لَا سُوقَ لَهُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالتُّرَابِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ النَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالنَّبَاتِ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ. وَالشَّجَرُ: النَّبَاتُ الَّذِي لَهُ سَاقٌ وَارْتِفَاعٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. وَهَذَانَ يَنْتَفِعُ بِهِمَا الْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ. فَحَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ بَعْدَ قَوْلِهِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَن: 5] قَرِينَتَانِ مُتَوَازِيَتَانِ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهَذَا مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ الْكَامِلَةِ. وَالسُّجُودُ: يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَيُطلق على الْوُقُوعُ عَلَى الْأَرْضِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَوِ اسْتِعَارَةً وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «نَخْلَةٌ سَاجِدَةٌ» إِذَا أَمَالَهَا حِمْلُهَا، فَسُجُودُ نُجُومِ السَّمَاءِ نُزُولُهَا إِلَى جِهَاتِ غُرُوبِهَا، وَسُجُودُ نَجْمِ الْأَرْضِ الْتِصَاقُهُ بِالتُّرَابِ كَالسَّاجِدِ، وَسُجُودُ الشَّجَرِ تَطَأْطُؤُهُ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَدُنُوُّ أَغْصَانِهِ لِلجَّانِينَ لِثِمَارِهِ وَالْخَابِطِينَ لِوَرَقِهِ، فَفِعْلُ يَسْجُدانِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ وَهُمَا الدُّنُوُّ لِلْمُتَنَاوِلِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ شَبَّهَ ارْتِسَامَ ظِلَالِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ بِالسُّجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [15] ، وَكَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 7 إلى 9]

يكبّ على الأذ ... قان وح الْكَنَهْبَلِ فَقَالَ: عَلَى الْأَذْقَانِ، لِيَكُونَ الْاِنْكِبَابُ مُشَبَّهًا بِسُقُوطِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ بِوَجْهِهِ فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَذِكْرُ الْأَذْقَانِ تَخْيِيلٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُ يَسْجُدانِ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي مَجَازِهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْمَوْجُودَاتِ دَلَالَاتٍ عِدَّةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُوجِدُهَا وَمُسَخِّرُهَا، فَفِي جَمِيعِهَا دَلَالَاتٌ عَقْلِيَّةٌ، وَفِيَ بَعْضِهَا أَوْ مُعْظَمِهَا دَلَالَاتٌ أُخْرَى رَمْزِيَّةٌ وَخَيَالِيَّةٌ لِتُفِيدَ مِنْهَا الْعُقُولُ الْمُتَفَاوِتَةُ فِي الِاسْتِدْلَال. [7- 9] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 7 إِلَى 9] وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) اطَّرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ مَا يُشْبِهُ الضِّدَّيْنِ بَعْدَ مُقَابَلَةِ ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِذِكْرِ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ، فَجِيءَ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ. وَعَادَ الكَّلَامُ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَن: 1، 2] ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَرَفْعُ السَّمَاءِ يَقْتَضِي خَلْقَهَا. وَذُكِرَ رَفْعُهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ بِالْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَمَعْنَى رَفَعَهَا: خلقهَا مَرْفُوعَة إِذْ كَانَت مَرْفُوعَةً بِغَيْرِ أَعْمِدَةٍ كَمَا يُقَالُ لِلْخَيَّاطِ: وَسِّعْ جَيْبَ الْقَمِيصِ، أَيْ خِطْهُ وَاسِعًا عَلَى أَنَّ فِي مُجَرَّدِ الرَّفْعِ إِيذَانًا بِسِمُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَشَرَفِهَا لِأَنَّ فِيهَا مَنْشَأَ أَحْكَامِ اللَّهِ وَمَصْدَرَ قَضَائِهِ، وَلِأَنَّهَا مَكَانُ الْمُلَائِكَةِ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَتَقْدِيمُ السَّمَاءِ عَلَى الْفِعْلِ النَّاصِبِ لَهُ زِيَادَةٌ فِي الْاِهْتِمَامِ بِالْاِعْتِبَارِ بِخَلْقِهَا. والْمِيزانَ: أَصْلُهُ اسْمُ آلَةِ الْوَزْنِ، وَالْوَزْنُ تَقْدِيرُ تَعَادُلِ الْأَشْيَاءِ وَضَبْطُ مَقَادِيرِ ثِقَلِهَا وَهُوَ مِفْعَالٌ مِنَ الْوَزْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [8] ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْمِيزَانِ عَلَى الْعَدْلِ بِاسْتِعَارَةِ لَفْظِ الْمِيزَانِ لِلْعَدْلِ عَلَى وَجْهِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.

وَالْمِيزَانُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْعَدْلَ، مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيد: 25] لِأَنَّهُ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ، أَيْ عَيَّنَهُ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْخَلْقِ، فَالْوَضْعُ هُنَا مستعار للجعل فَهُوَ كَالْإِنْزَالِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ «وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بِئْرُ حَاءٍ وَأَنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ» أَيِ اجْعَلْهَا وَعَيِّنْهَا لِمَا يَدُلُّكَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الْوَضْعِ فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ رَفْعِ السَّمَاءِ مُشَاكَلَةٌ ضِدِّيَّةٌ وَإِيهَامُ طِبَاقٍ مَعَ قَوْلِهِ: رَفَعَها فَفِيهِ مُحْسِنَانِ بَدِيعِيَّانِ. وَقَرَنَ ذَلِكَ مَعَ رَفْعِ السَّمَاءِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْعَدْلِ بِأَنْ نُسِبَ إِلَى الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُوَ عَالَمُ الْحَقِّ وَالْفَضَائِلِ، وَأَنَّهُ نُزُلٌ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ أَيْ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلذَلِك تكَرر ذَلِك الْعَدْلِ مَعَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [5] ، وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [85] ، وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [38، 39] . وَهَذَا يُصَدِّقُ الْقَوْلَ الْمَأْثُورَ: «بِالْعَدْلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ» . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ مِنْ أَهَمِّ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرِنَ ذِكْرُ جَعْلِهِ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَوُضِعَ فِيهَا الْمِيزَانُ. وَ (أَنْ) فِي قَوْله: أَلَّا تَطْغَوْا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ فِعْلَ وَضَعَ الْمِيزَانَ فِيهِ مَعْنَى أَمْرِ النَّاسِ بِالْعَدْلِ. وَفِي الْأَمْرِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَأْتِي تَفْسِيرُهُ بِحَرْفِ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ. فَكَانَ النَّهْي عَن إِضَافَة الْعَدْلِ فِي أَكْثَرِ الْمُعَامَلَاتِ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ. فَتَكُونُ (لَا) نَاهِيَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً بِتَقْدِيرِ لَامِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَعَلَى كِلَا الْاِحْتِمَالَيْنِ يُرَادُ بِالْمِيزَانِ مَا يَشْمَلُ الْعَدْلَ وَيَشْمَلُ مَا بِهِ تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ الْمَوْزُونَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، أَيْ مِنْ فَوَائِدِ تَنْزِيلِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ أَنْ تَجْتَنِبُوا الطُّغْيَانَ فِي إِقَامَةِ الْوَزْنِ فِي الْمُعَامَلَةِ. وَتَكُونُ (لَا) نَافِيَةً، وَفِعْلُ تَطْغَوْا مَنْصُوبًا بِ (أَنَّ) الْمَصْدَرِيَّةِ.

وَلَفْظُ الْمِيزانِ يَسْمَحُ بِإِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَفِي لَفْظِ الْمِيزَانِ وَمَا قَارَنَهُ مِنْ فِعْلِ وَضَعَ وفعلي أَلَّا تَطْغَوْا وأَقِيمُوا وَحَرْفُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالْقِسْطِ وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمِيزانِ وَلَفظ بِالْقِسْطِ، كُلُّ هَذِهِ تَظَاهَرَتْ عَلَى إِفَادَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَالطُّغْيَانُ: دَحْضُ الْحَقِّ عَمْدًا وَاحْتِقَارًا لِأَصْحَابِهِ، فَمَعْنَى الطُّغْيَانِ فِي الْعَدْلِ الْاِسْتِخْفَافُ بِإِضَاعَتِهِ وَضَعْفُ الْوَازِعِ عَنِ الظُّلْمِ. وَمَعْنَى الطُّغْيَانِ فِي وَزْنِ الْمُقَدَّرَاتِ تَطْفِيفُهُ. وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمِيزانِ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ تُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ أَقَلِّ طُغْيَانٍ عَلَى الْمِيزَانِ، أَيْ لَيْسَ النَّهْيُ عَنْ إِضَاعَةِ الْمِيزَانِ كُلِّهِ بَلِ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ طُغْيَانٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى نَحْو الظَّرْفِيَّة فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ [النِّسَاء: 5] ، أَيِ ارْزُقُوهُمْ مِنْ بَعْضِهَا وَقَوْلُ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ: سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ إِذْ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بِبَعْضِ أَثْمَانِ إِبِلِهِمْ وَيُقَامِرُونَ، أَيْ أَنَّ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعَ أُخْرَى وَهِيَ الْعَطَاءُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْبَيْتِ: نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا تَفْسِيرِيَّةً. وَعَلَى جُمْلَةِ وَوَضَعَ الْمِيزانَ على احْتِمَال كَون الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا تَعْلِيلًا. وَالْإِقَامَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ قَائِمًا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أكمل مَا يُرَاد لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَالْوَزْنُ حَقِيقَتُهُ: تَحْقِيقُ تَعَادُلِ الْأَجْسَامِ فِي الثِّقَلِ، وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَا يَشْمَلُ تَقْدِيرُ الْكَمِّيَّاتِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْمِقْيَاسُ.

وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ وَهُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ قِسْطَاسٌ ثُمَّ اخْتُصِرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا مَرَّةً: قِسْطَاسٌ، وَمَرَّةً: قِسْطٌ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [47] . وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالْمَعْنَى: اجْعَلُوا الْعَدْلَ مُلَازِمًا لِمَا تَقُوِّمُونَهُ مِنْ أُمُورِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى [الْأَنْعَام: 152] وَكَمَا قَالَ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا [الْمَائِدَة: 8] ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِالْقِسْطِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوِ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ رَاعُوا فِي إِقَامَةِ التَّمْحِيصِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ، فَيَكُونُ قَوْله: بِالْقِسْطِ طرفا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْهَدُونَ إِلَى التَّطْفِيفِ فِي الْوَزْنِ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1- 3] . فَلَمَّا كَانَ التَّطْفِيفُ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الْمُشْركين تصدت لِلْآيَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَيَجِيءُ عَلَى الْاِعْتِبَارَيْنِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ فَإِنْ حُمِلَ الْمِيزَانُ فِيهِ عَلَى مَعْنَى الْعَدْلِ كَانَ الْمَعْنَى النَّهْيَ عَنِ التَّهَاوُنِ بِالْعَدْلِ لِغَفْلَةٍ أَوْ تَسَامُحٍ بَعْدَ أَنْ نَهَى عَنِ الطُّغْيَانِ فِيهِ، وَيَكُونُ إِظْهَارُ لَفْظِ الْمِيزَانِ فِي مَقَامِ ضَمِيرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ حُمِلَ فِيهِ عَلَى آلَةِ الْوَزْنِ كَانَ الْمَعْنَى النَّهْيَ عَنْ غَبْنِ النَّاسِ فِي الْوَزْنِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ [3] وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. وَالْإِخْسَارُ: جَعْلُ الْغَيْرِ خَاسِرًا وَالْخَسَارَةُ النَّقْصُ. فَعَلَى حَمْلِ الْمِيزَانِ عَلَى مَعْنَى الْعَدْلِ يَكُونُ الْإِخْسَارُ جَعْلَ صَاحِبِ الْحَقِّ خَاسِرًا مَغْبُونًا وَيَكُونُ الْمِيزانَ مَنْصُوبًا على نزع الخافص، وعَلى حَمْلِ الْمِيزَانِ عَلَى مَعْنَى آلَةِ الْوَزْنِ يَكُونُ الْإِخْسَارُ بِمَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا الْمِيزَانَ نَاقِصًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود: 84] ، وَقَدْ عَلِمْتَ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ فِي الْآيَةِ الصَّالِحَ لهَذِهِ المحامل.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 10 إلى 12]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 10 إِلَى 12] وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) عَطْفٌ عَلَى وَالسَّماءَ رَفَعَها [الرَّحْمَن: 7] وَهُوَ مُقَابِلُهُ فِي الْمُزَاوَجَةِ وَالْوَضْعِ يُقَابِلُ الرَّفْعَ، فَحَصَلَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّتَيْنِ، وَمَعْنَى وَضَعَها خَفَضَهَا لَهُمْ، أَيْ جَعَلَهَا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ لِتَمْكِينِهِمْ مِنَ الْاِنْتِفَاعِ بِهَا بِجَمِيعِ مَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ مَنَافِعَ وَمُعَالَجَاتٍ. وَاللَّامُ فِي لِلْأَنامِ لِلْأَجَلِ. وَالْأَنَامُ: اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ فِيهِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْجَوْهَرِيُّ وَلَا الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» وَلَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» وَلَا أَبُو الْبَقَاءِ الْكَفَوِيُّ فِي «الْكُلِّيَّاتِ» . وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: «الْخَلْقُ وَهُوَ كُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ فِيهَا رُوحٌ» . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمْعٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ الْإِنْسَانُ فَقَطْ. وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْسَانُ، لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الْاِمْتِنَانِ وَالْاِعْتِنَاءِ بِالْبَشَرِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ مُشْتَقٍّ وَفِيهِ لُغَاتٌ: أَنَامٌ كَسَحَابٍ، وَأَنَامٌ كَسَابَاطٍ، وَأَنِيمٌ كَأَمِيرٍ. وَجُمْلَةُ فِيها فاكِهَةٌ إِلَى آخِرِهَا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ وَتَقْدِيمُ فِيها عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلْاِهْتِمَامِ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَرْضُ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَضَعَها لِلْأَنامِ يَتَضَمَّنُ وَضْعًا وَعِلَّةً لِذَلِكَ الْوَضْعِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا فِيهِ الْعِبْرَةِ وَالْاِمْتِنَانِ. وَالْفَاكِهَةُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا لَا قُوتًا مُشْتَقَّةٌ مِنْ فَكِهَ كَفَرِحَ، إِذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْحَدِيثِ وَالضَّحِكِ، قَالَ تَعَالَى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَة: 65] لِأَنَّ أَكْلَ مَا يَلَذُّ لَلْأَكْلِ وَلَيْسَ بِضَرُورِيٍّ لَهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْاِنْبِسَاطِ.

وَالْفَاكِهَةُ: مثل الثِّمَار والنقول مِنُ لَوْزٍ وَجَوْزٍ وَفُسْتُقٍ. وَعَطَفَ عَلَى الْفَاكِهَةِ النَّخْلَ وَهُوَ شَجَرُ التَّمْرِ، وَهُوَ أَهَمُّ شَجَرِ الْفَاكِهَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِمْ، وَهُوَ يُثْمِرُ أَصْنَافًا مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ رَطْبٍ وَبُسْرٍ وَمِنْ تَمْرٍ وَهُوَ فَاكِهَةٌ وَقُوتٌ. وَوصف النّخل ب ذاتُ الْأَكْمامِ وَصْفٌ لِلتَّحْسِينِ فَهُوَ اعْتِبَارٌ بِأَطْوَارِ ثَمَرِ النَّخْلِ، وَامْتِنَانٌ بِجَمَالِهِ وَحُسْنِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: 6] فَامْتَنَّ بِمَنَافِعِهَا وَبِحُسْنِ مَنْظَرِهَا. والْأَكْمامِ: جَمْعُ كُمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَهُوَ وِعَاءُ ثَمَرِ النَّخْلَةِ وَيُقَالُ لَهُ: الْكُفُرَّى، فَلَيْسَتِ الْأَكْمَامُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَهَا مَعَ النّخل للتحسين. ووَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ: هُوَ الْحُبُّ الَّذِي لِنَبَاتِهِ سَنَابِلُ وَلَهَا وَرَقٌ وَقَصَبٌ فَيَصِيرُ تِبْنًا، وَذَلِكَ الْوَرَقُ وَالْقَصَبُ هُوَ الْعَصْفُ، أَيِ الَّذِي تَعْصِفُهُ الرِّيَاحُ وَهَذَا وَصَفٌ لِحَبِّ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَبِهِمَا قِوَامُ حَيَاةِ مُعْظَمِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ نَحْوِ السَّلْتِ وَالْأُرْزِ. وَسُمِّيَ الْعَصْفُ عَصْفًا لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَعْصِفُهُ، أَيْ تُحَرِّكُهُ وَوَصَفَ الْحَبَّ بِأَنَّهُ ذُو الْعَصْفِ لِلتَّحْسِينِ وَلِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ جَمَالِ الزَّرْعِ حِينَ ظُهُورِهِ فِي سُنْبُلِهِ فِي حُقُولِهِ نَظِيرَ وَصْفِ النَّخْلِ بِذَاتِ الْأَكْمَامِ وَلِأَنَّ فِي الْمَوْصُوفِ وَوَصْفِهِ أَقْوَاتَ الْبَشَرِ وَحَيَوَانِهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ بِرَفْعِ الْحَبُّ وَرَفْعِ الرَّيْحانُ وَرَفْعِ ذُو، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِرَفْعِ الْحَبُّ وذُو وَبِجَرِّ الرَّيْحانُ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِنَصْبِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَامَةُ نَصْبِ ذَا الْعَصْفِ الْأَلْفُ. وَكَذَلِكَ كُتِبَ فِي مُصْحَفِ الشَّامِ عَطْفًا عَلَى الْأَرْضَ أَوْ هُوَ عَلَى الْاِخْتِصَاصِ. والرَّيْحانُ: مَا لَهُ رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ مِنَ الْأَزْهَارِ وَالْحَشَائِشِ وَهُوَ فَعْلَانُ مِنَ الرَّائِحَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ. وَهَذَا اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ بِالنَّبَاتِ الْمُودَعَةِ فِيهِ الْأَطْيَابُ مِثْلَ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَمَا يُسَمَّى بالريحان الْأَخْضَر.

[سورة الرحمن (55) : آية 13]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 13] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ المنن المدمجة مَعَ دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقِّيَّةِ وَحْيِ الْقُرْآنِ، وَدَلَائِلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ بِاسْتِفْهَامٍ عَنْ تَعْيِينِ نِعْمَةٍ مِنْ نعم الله يَتَأَتَّى لَهُمْ إِنْكَارُهَا، وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَ (أَيِّ) اسْتِفْهَامٌ عَنْ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي تُضَافُ إِلَيْهِ وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّقْرِيرِ بِذِكْرِ ضِدِّ مَا يُقَرِّبُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] . وَقَدْ بَيَّنْتُهُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَجْحَدَ نِعَمَ اللَّهِ. وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ جَمْعُ: إِلْيٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَأَلْيٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَيَاءٍ فِي آخِرِهِ وَيُقَالُ أَلْوٌ بِوَاوٍ عِوَضُ الْيَاءِ وَهُوَ النِّعْمَةُ. وَضَمِيرُ الْمُثَنَّى فِي رَبِّكُما تُكَذِّبانِ خِطَابٌ لِفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا جِنْسُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ [الرَّحْمَن: 3] وَهُمُ الْمُخَاطِبُونَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ [الرَّحْمَن: 8] الْآيَةِ وَالْمُنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا الْأَنَامُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، أَيْ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ لَا يَجْحَدُهَا كَافِرٌ بَلْهَ الْمُؤْمِنُ، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْاِسْتِفْهَامُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُنَاسِبُ حَالَهُ. وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ: التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى أَنْ أَشْرَكُوا فِي الْعِبَادَةِ مَعَ الْمُنْعِمِ غَيْرَ الْمُنْعِمِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِمْ بِتِوْحِيدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّكْذِيبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ. وَقِيلَ التَّثْنِيَةُ جَرَتْ عَلَى طَرِيقَةٍ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُخَاطِبُوا الْوَاحِدَ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالنَّسَفِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ قَائِمَةً مَقَامَ تَكْرِيرِ اللَّفْظِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى مِثْلَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْخِطَابَ لِوَاحِدٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 15]

نَزَلَ لِخَطَابِ النَّاسِ وَوَعْظِهِمْ وَلَمْ يَأْتِ لِخِطَابِ الْجِنِّ، فَلَا يَتَعَرَّضُ الْقُرْآنُ لِخِطَابِهِمْ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُقُوعِ اهْتِدَاءِ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْجِنَّ بِاتِّبَاعِ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ فِي إِدْرَاكِهِمْ، وَقَدْ يُكَلِّفُ اللَّهُ أَصْنَافًا بِمَا هُمْ أَهْلٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا كَلَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ فِي الْعَقَائِدِ وَكَمَا كَلَّفَهُمْ بِالْاِجْتِهَادِ فِي الْفُرُوعِ وَلَمْ يُكَلِّفِ الْعَامَّةَ بِذَلِكَ، فَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْجِنِّ فَهُوَ فِي سِيَاقِ الْحِكَايَةِ عَنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَيْسَ لِتَوْجِيهِ الْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَهُمْ سَاكِتُونَ فَقَالَ لَهُمْ «لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ صَحَّ فَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ الْجِنَّ سَمِعُوا ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِهِ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُمُ الْمُخَاطِبُونَ بِهِ وَإِنَّمَا كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالَّذِينَ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالتَّكْذِيبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ مَجَازًا لِتَشْنِيعِ هَذَا الْجَحْدِ. وَتَكْذِيبُ الْآلَاءِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تُنْكِرُونَ إِنَّهَا نِعْمَةٌ عَلَيْكُمْ فَأَشْرَكْتُمْ فِيهَا غَيْرَهُ بَلْهَ إِنْكَارَ جَمِيعِ نِعَمِهِ إِذْ تَعْبُدُونَ غَيره دواما. [14، 15] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 14 إِلَى 15] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الْاِعْتِبَارِ بِخَلْقِ اللَّهِ الْإِنْسَانَ وَخَلْقِهِ الْجِنَّ. وَالْقَوْلُ فِي مَجِيء الْمسند فعلا كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَن: 2] .

وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ وَهُوَ أَصْلُ الْجِنْسِ وَقَوْلُهُ: مِنْ صَلْصالٍ تَقَدَّمَ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [2] . وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْيَابِسُ. وَالْفَخَّارُ: الطِّينُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّارِ وَيُسَمَّى الْخَزَفَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ: كَالْفَخَّارِ صِفَةٌ لِ صَلْصالٍ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْكَوَاشِيُّ فِي «تَلْخِيصِ التَّبْصِرَةِ» وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى فَائِدَةِ هَذَا الْوَصْفِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ يَكُونَ كَالْفَخَّارِ حَالًا مِنَ الْإِنْسانَ، أَيْ خَلَقَهُ مِنْ صَلْصَالٍ فَصَارَ الْإِنْسَانُ كَالْفَخَّارِ فِي صُورَةٍ خَاصَّة وصلابة. وَالْمعْنَى أَنَّهُ صَلْصَالٌ يَابِسٌ يُشْبِهُ يَبِسَ الطِّينِ الْمَطْبُوخِ وَالْمُشَبَّهُ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَالطِّينِ اللَّازِبِ، وَالتُّرَابِ. والْجَانَّ: الْجِنُّ وَالْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] . وَالْمَارِجُ: هُوَ الْمُخْتَلِطُ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ مِثْلِ دَافِقٍ، وَعِيشَةٍ رَاضِيَةِ، أَيْ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ خَلِيطٍ من النَّار، أَيْ مُخْتَلِطٍ بِعَنَاصِرٍ أُخْرَى إِلَّا أَن النَّاس أَغْلَبُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ التُّرَابُ أَغْلَبَ عَلَى تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ وَهُوَ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَن: 16] وَإِنَّمَا قُرِنَ بِخَلْقِ الْجَانِّ إِظْهَارًا لِكَمَالِ النِّعْمَةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَادَّةٍ لَيِّنَةٍ قَابِلًا لِلتَّهْذِيبِ وَالْكَمَالِ وَصُدُورِ الرِّفْقِ بِالْمَوْجُودَاتِ الَّتِي مَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَهُوَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ بِمَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَجِنْسِ الْجَانِّ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا سَبَقَ فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَفْضِيلِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجَانِّ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ الْجَانَّ بِالسُّجُودِ لِلْإِنْسَانِ، وَمَا ينطوي فِي ذَلِكَ مِنْ وَفْرَةِ مَصَالِحِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَصَالِحِ الْجَانِّ، وَمِنْ تَأَهُّلِهِ لِعُمْرَانِ الْعَالِمِ لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مَنْ طِينَتِهِ إِذِ الْفَضِيلَةُ تَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ أَوْصَافٍ لَا مِنْ خصوصيات مُفْردَة.

[سورة الرحمن (55) : آية 16]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 16] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) هَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى عَدَمِ الْاِعْتِرَافِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، جِيءَ فِيهِ بِمِثْلِ مَا جِيءَ بِهِ فِي نَظِيرِهِ الَّذِي سَبَقَهُ لِيَكُونَ التَّوْبِيخُ بِكَلَامٍ مِثْلَ سَابِقِهِ، وَذَلِكَ تَكْرِيرٌ مِنْ أُسْلُوبِ التَّوْبِيخِ وَنَحْوِهُ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَحَقُّ هَذَا أَنْ يُسَمَّى بِالتَّعْدَادِ لَا بِالتَّكْرَارِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تكريرا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيد، فالفاء من قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما هُنَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرَّحْمَن: 17] لِأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي الْاِعْتِرَافَ لَهُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ وَتَحْصُلُ مِنْ تَمَاثُلِ الْجُمَلِ الْمُكَرَّرَةِ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ أَيْضًا فَيَكُونُ لِلتَّكْرِيرِ غَرَضَانِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ. وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ تَوْكِيدُ التَّقْرِيرِ بِمَا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ نِعَمٍ عَلَى المخاطبين وتعريض بتوبيخهم على إشراكهم بِاللَّهِ أَصْنَامًا لَا نِعْمَةَ لَهَا عَلَى أَحَدٍ، وَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى تَفَرُّدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ «أَنَّ اللَّهَ عَدَّدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَعْمَاءَ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ آلَاءَهُ ثُمَّ أَتْبَعَ كُلَّ خِلَّةٍ وَصَفَهَا، وَنِعْمَةٍ وَضَعَهَا بِهَذِهِ، وَجَعَلَهَا فَاصِلَةً بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى النِّعَمِ وَيُقْرِرْهُمْ بِهَا» اه. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ (¬1) : التَّكْرِيرُ طَرْدٌ لِلْغَفْلَةِ وَتَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي مَجَالِسِهِ وَآمَالِهِ الْمُسَمَّى «الدُّرَرُّ وَالْغَرَرُ» : وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ، قَالَ مُهَلْهَلُ بْنُ رَبِيعَةَ يَرْثِي أَخَاهُ كُلَيْبًا: عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا طَرَدَ الْيَتِيمَ عَنِ الْجَزُورِ وَذَكَرَ المصراع الأول ثَمَانِي مَرَّاتٍ فِي أَوَائِلِ أَبْيَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَيَّادٍ: قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وَائِلٍ عَنْ حِبَالِ ثُمَّ كَرَّرَ قَوْلَهُ: قَرَّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَةِ مِنِّي، فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقَصِيدِ. ¬

(¬1) الْحُسَيْن بن الْفضل بن عُمَيْر البَجلِيّ الْكُوفِي النَّيْسَابُورِي توفّي سنة 282 هـ، وعمره مائَة وَأَرْبع سِنِين، لَهُ «تَفْسِير الْقُرْآن» .

[سورة الرحمن (55) : آية 17]

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَظَائِرَ قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الْمَذْكُورِ هُنَا إِلَى مَا فِي آخر السُّورَة. [17] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 17] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) استنئاف ابْتِدَائِيٌّ فِيهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَن: 5] وَعَطَفَ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ لِأَجْلِ مَا ذَكَرْتُهُ آنِفًا مِنْ مُرَاعَاةِ الْمُزَاوَجَةِ. وَحَذَفَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَمَّاهَا السَّكَّاكِيُّ بِإِتِّبَاعِ الْاِسْتِعْمَالِ الْوَارِدِ عَلَى تَرْكِهِ أَوْ تَرْكِ نَظَائِرِهِ وَتَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ. وَالْمَشْرِقُ: جِهَةُ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبُ: جِهَةُ غُرُوبِهَا. وَتَثْنِيَةُ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي فَصْلَيِ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ مِنْ سَمْتٍ وَفِي فَصْلَيِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ مِنْ سَمْتٍ آخَرَ وَبِمُرَاعَاةِ وَقْتِ الطُّولِ وَوَقْتِ الْقِصَرِ وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ يَنْتَقِلُ طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا فِي دَرَجَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ فَقَدْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فَيُقَالُ: الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ [40] . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ تَثْنِيَةَ الْمَشْرِقَيْنِ لِمُرَاعَاةِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَكَذَلِكَ تَثْنِيَةُ الْمَغْرِبَيْنِ لَمْ يَغَصُّ عَلَى مَعْنًى كَبِيرٍ. وَعَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ الْمَشْرِقَيْنِ والْمَغْرِبَيْنِ بِمَشْرِقَيِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبَيْهَا فَالْمُرَادُ بِ الْمَشْرِقَيْنِ النِّصْفُ الشَّرْقِيُّ مِنَ الْأَرْضِ، وَبِ الْمَغْرِبَيْنِ النِّصْفُ الْغَرْبِيُّ مِنْهَا. وَرُبُوبِيَّةُ الله تَعَالَى للمشرقين وَالْمَغْرِبَيْنِ بِمَعْنَى الْخلق وَالتَّصَرُّف. [18] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 18] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) تَكْرِيرٌ كَمَا علمت آنِفا.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 إلى 20]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 19 إِلَى 20] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (20) خَبَرٌ آخَرُ عَن الرَّحْمنُ [الرَّحْمَنِ: 1] قَصَدَ مِنْهُ الْعِبْرَةَ بِخَلْقِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَذَلِكَ خَلْقٌ عَجِيبٌ دَالٌّ عَلَى عَظَمَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ وَكَانَتِ الْأَبْحُرُ وَالْأَنْهَارُ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ نَاسَبَ الْاِنْتِقَالَ إِلَى الِاعْتِبَار بخلقهما والامتنان بِمَا أودعهما مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ. وَالْمَرَجُ: لَهُ معَان كَثِيرَة، وأولاها فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ الْإِرْسَالُ مِنْ قَوْلِهِمْ: «مرج الدَّابَّة» إِذا أَرْسَلَهَا تَرْعَى فِي الْمَرَجِ، وَهُوَ الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ ذَاتُ الْكَلَأِ الَّذِي لَا مَالك لَهُ، أَيْ: تَرْكُهَا تَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلَ الْبَحْرِينِ لَا يَحْبِسُ مَاءَهُمَا عَنِ الْجَرْيِ حَاجِزٌ. وَهَذَا تَهْيِئَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ خَلَقَهُمَا وَمَرَجَهُمَا، لِأَنَّهُ مَا مَرَجَهُمَا إِلَّا عَقِبَ أَنْ خَلَقَهُمَا. وَيَلْتَقِيَانِ: يَتَّصِلَانِ بِحَيْثُ يَصُبُّ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْغَامِرُ جُزْءًا عَظِيمًا مِنَ الْأَرْضِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِحِ وَالْعَذْبِ. وَالْمُرَادُ تَثْنِيَةُ نَوْعَيِ الْبَحْرِ وَهُمَا الْبَحْرُ الْمِلْحُ وَالْبَحْرُ الْعَذْبُ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فاطر: 12] وَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْجِنْسِيِّ. فَالْمَقْصُودُ مَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَهُمَا نَهْرُ الْفُرَاتِ وَبَحْرُ الْعَجَمِ الْمُسَمَّى الْيَوْمَ بِالْخَلِيجِ الْفَارِسِيِّ. وَالْتِقَاؤُهُمَا انْصِبَابُ مَاءِ الْفُرَاتِ فِي الْخَلِيجِ الْفَارِسِي. فِي شاطىء الْبَصْرَةِ، وَالْبِلَادِ الَّتِي عَلَى الشَّاطِئِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْخَلِيجِ الْفَارِسِيِّ تُعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِبِلَادِ الْبَحْرِينِ لِذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِالْبَرْزَخِ الَّذِي بَيْنَهُمَا: الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَاءَيْنِ الْحُلْوِ وَالْمِلْحِ بِحَيْثُ لَا يُغَيِّرُ أَحَدُ الْبَحْرَيْنِ طَعْمَ الْآخَرِ بِجِوَارِهِ. وَذَلِكَ بِمَا فِي كُلِّ مَاءٍ مِنْهُمَا مِنْ خَصَائِصَ تَدْفَعُ

[سورة الرحمن (55) : آية 21]

عَنْهُ اخْتِلَاطَ الْآخَرِ بِهِ. وَهَذَا مِنْ مَسَائِلِ الثِّقَلِ النَّوْعِيِّ. وَذِكْرُ الْبَرْزَخِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ بَيْنَهُمَا مِثْلُ الْبَرْزَخِ وَهُوَ مَعْنَى لَا يَبْغِيانِ، أَيْ لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، أَيْ لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيُفْسِدُ طَعْمَهُ فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْغَلَبَةِ لَفْظُ الْبَغْيِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ الْاِعْتِدَاءُ وَالتَّظَلُّمُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ تَثْنِيَةَ بَحْرَيْنِ مِلْحَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، فَالْمُرَادُ: بَحْرَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعَرَبِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ: الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ الَّذِي عَلَيْهِ شُطُوطُ تِهَامَةَ مَثَّلُ: جُدَّةُ وَيَنْبُعُ النَّخْلِ، وَبَحْرُ عُمَانَ وَهُوَ بَحْرُ الْعَرَبِ الَّذِي عَلَيْهِ حَضْرَمَوْتُ وَعَدَنُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ. وَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ الْفَاصِلُ، وَالْبَرْزَخُ الَّذِي بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ مَضِيقُ بَابِ الْمَنْدَبِ حَيْثُ يَقَعُ مَرْسَى عَدَنَ وَمَرْسَى زَيْلَعَ. وَلَمَّا كَانَ فِي خَلْقِ الْبَحْرَيْنِ نِعَمٌ عَلَى النَّاسِ عَظِيمَةٌ مِنْهَا مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَسِيرُونَ فِيهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [النَّحْل: 14] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يُونُس: 22] وَاسْتِخْرَاجُ سَمَكِهِ وَالتَّطَهُّرُ بِمَائِهِ. وَمِنْهَا مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ مَا لِأَمْلَاحِ الْبَحْرِ مِنْ تَأْثِيرٍ فِي تَنْقِيَةِ هَوَاءِ الْأَرْضِ وَاسْتِجْلَابِ الْأَمْطَارِ وَتَلَقِّي الْأَجْرَامِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ الشُّهُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ يَلْتَقِيانِ وَجُمْلَةُ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حَالَانِ مِنَ الْبَحْرَيْنِ. وَجُمْلَةُ لَا يَبْغِيانِ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ. [21] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 21] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) تَكْرِيرٌ كَمَا عَلِمْتُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَوَقَعَ هُنَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ أَحْوَال الْبَحْرين. [22] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 22] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) حَالٌ ثَالِثَةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ: بَحْرَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ مِنَ الْبِحَارِ الْمِلْحَةِ تَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا ابْتِدَائِيَّةً لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ يَكُونَانِ فِي الْبَحْرِ الْمِلْحِ.

[سورة الرحمن (55) : آية 23]

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ، وَالْبَحْرُ الْعَذْبُ كَانَتْ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْ نَفْسِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [79] ، أَيْ يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ بِسَبَبِهِمَا، أَيْ بِسَبَبِ مَجْمُوعِهِمَا. أَمَّا اللُّؤْلُؤُ فَأَجْوَدُهُ مَا كَانَ فِي مَصَبِّ الْفُرَاتِ عَلَى خَلِيجِ فَارِسَ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ: لَمَّا كَانَ الْمَاءُ الْعَذْبُ كَاللِّقَاحِ لِلْمَاءِ الْمِلْحِ فِي إِخْرَاجِ اللُّؤْلُؤِ، قِيلَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا كَمَا يُقَالُ: يَتَخَلَّقُ الْوَلَدُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَكَوُّنِ اللُّؤْلُؤِ فِي الْبِحَارِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَقَالَ الزُّجَاجُ: قَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُمَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 15، 16] ، وَالْقَمَر فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] أَيْ مِنْ إِحْدَاهُمَا. والْمَرْجانُ: حَيَوَانٌ بَحَرِيٌّ ذُو أَصَابِعَ دَقِيقَةٍ يَنْشَأُ لَيِّنًا ثُمَّ يَتَحَجَّرُ وَيَتَلَوَّنُ بِلَوْنِ الْحُمْرَةِ وَيَتَصَلَّبُ كُلَّمَا طَالَ مُكْثُهُ فِي الْبَحْرِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُ كَالْعُرُوقِ تُتَّخَذُ مِنْهُ حِلْيَةٌ وَيُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ (بِسَذْ) . وَقَدْ تَتَفَاوَتُ الْبِحَارُ فِي الْجَيِّدِ مِنْ مَرْجَانِهَا. وَيُوجَدُ بِبَحْرِ طَبَرْقَةَ عَلَى الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ فِي شَمَالِ الْبِلَادِ التُّونِسِيَّةِ. والْمَرْجانُ: لَا يَخْرُجُ مِنْ مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ بَلْ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ. وَقِيلَ: الْمَرْجَانُ اسْمٌ لِصِغَارِ الدُّرِّ، وَاللُّؤْلُؤُ كِبَارُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ يَخْرُجُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَخْرُجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ لِأَنَّهُمَا إِذَا أَخْرَجَهُمَا الْغَوَّاصُونَ فَقَدْ خَرَجَا. وَبَيْنَ قَوْله: مَرَجَ [الرَّحْمَن: 19] وَقَوله: وَالْمَرْجانُ الجناس المذيّل. [23] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 23] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) تَكْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الْمُتَقَدّم أَولا.

[سورة الرحمن (55) : آية 24]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 24] وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَن: 22] لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْبَحْرِينِ وَقَدْ أَغْنَتْ إِعَادَةُ لَفْظِ الْبَحْرِ عَنْ ذِكْرِ ضَمِيرِ الْبَحْرِينِ الرَّابِطِ لِجُمْلَةِ الْحَالِ بِصَاحِبِهَا. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَهُوَ مِلْكُ تَسْخِيرِ السَّيْرِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيَاحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الشورى: 32- 34] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَوَارِيَ فِي الْبَحْرِ فِي تَصَرُّفِهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الْحَج: 65] . وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْجَوَارِي بِأَنَّهَا لَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ إِنْشَاءَ الْبَحْرِ لِلسُّفُنِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ ملك الله. والجوار صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي الْبَحْرِ. وَالتَّقْدِيرُ: السُّفُنُ الْجَوَارِي إِذْ لَا يَجْرِي فِي الْبَحْرِ غَيْرُ السُّفُنِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْجَوارِ بِرَاءٍ فِي آخِرِهِ دُونَ يَاءٍ وَقِيَاسُ رَسْمِهِ أَنْ يَكُونَ بِيَاءٍ فِي آخِرِهِ، فَكُتِبَ بِدُونَ يَاءٍ اعْتِدَادًا بِحَالَةِ النُّطْقِ بِهِ فِي الْوَصْلِ إِذْ لَا يَقِفُ الْقَارِئُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ قُرَاهُ جَمِيعُ الْعَشَرَةِ بِدُونَ يَاءٍ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِ نَادِرٌ فِي حَالِ قِرَاءَةِ الْقَارِئِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْمُنْشَآتُ بِفَتْحِ الشِّينِ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ، إِذَا أُوجِدَ وَصُنِعَ، أَيِ الَّتِي أَنْشَأَهَا النَّاسُ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ فَحَصَلَ مِنَ الْكَلَامِ مِنَّتَانِ مِنَّةُ تَسْخِيرِ السُّفُنِ لِلسَّيْرِ فِي الْبَحْرِ وَمِنَّةُ إِلْهَامِ النَّاس لإنشائها. وقرأه حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الشِّينِ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. فَيَجُوزُ أَن يكون المنشئات مُشْتَقًّا مَنْ أَنْشَأَ السَّيْرُ إِذَا أَسْرَعَ، أَيِ الَّتِي يَسِيرُ بِهَا النَّاسُ سَيْرًا سَرِيعًا. قَالَ مُجَاهِد: المنشئات الَّتِي رُفِعَتْ قُلُوعُهَا. وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِاسْتِعْمَالِ الْاِشْتِقَاقِ فِي مَعْنَيَيِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ

[سورة الرحمن (55) : آية 25]

تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِلْهَامِ النَّاسِ إِلَى اخْتِرَاعِ الشِّرَاعِ لِإِسْرَاعِ سَيْرِ السُّفُنِ وَهِيَ مِمَّا اخْتُرِعَ بَعْدَ صُنْعِ سَفِينَةِ نُوحٍ. وَوُصِفَتِ الْجَوَارِي بِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ، أَيِ الْجِبَالِ وَصْفًا يُفِيدُ تَعْظِيمَ شَأْنِهَا فِي صُنْعِهَا الْمُقْتَضِي بَدَاعَةَ إِلْهَامِ عُقُولِ الْبَشَرِ لِصُنْعِهَا، وَالْمُقْتَضِي عِظَمَ الْمِنَّةِ بِهَا لِأَن السفن الْعَظِيمَة أَمْكَنُ لِحَمْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاس وَالْمَتَاع. [25] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 25] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) تَكْرِيرٌ لنظيره السَّابِق. [26، 27] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 26 إِلَى 27] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) لَمَّا كَانَ قَوْله: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرَّحْمَن: 24] مُؤْذِنًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْهَلَاكِ وَأَسْبَابِ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِ مَا بِهِ إِقَامَةَ الْعَيْشِ إِذْ يَسَرَّ لِلنَّاسِ السُّفُنَ عَوْنًا لِلنَّاسِ عَلَى الْأَسْفَارِ وَقَضَاءَ الْأَوْطَارِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ طُغْيَانِ مَاءِ الْبِحَارِ، وَكَانَ وَصْفُ السُّفُنِ بِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ تَوْسِعَةً فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ أَتْبَعُهُ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَنَّ هَذَا لَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْفَنَاءِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الْفُرَصِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ كَقَوْلِهِ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النِّسَاء: 78] . وَفَائِدَةُ هَذَا أَنْ لَا يَنْسَوُا الْاِسْتِعْدَادَ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ بِفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُوا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ. وَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَقِبَ مَا عَدَّدَ مِنَ النِّعَمِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَصِيرَ نِعَمِ الدُّنْيَا إِلَى الْفَنَاءِ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَضَمِيرُ عَلَيْها مُرَادٌ بِهِ الْأَرْضَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] ، أَيِ الشَّمْسِ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكثير وَفِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ.

وَمَعْنَى فانٍ: أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْفَنَاءِ، فَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِزَمَانِ الْاِسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ مِثْلِ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . وَالْمُرَادُ بِ مَنْ عَلَيْها: النَّاس لأَنهم الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعِبَرِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَصِيرَ جَمِيعِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى الفناء، وَهَذَا تذكير بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ. ووَجْهُ رَبِّكَ: ذَاتُهُ، فَذِكْرُ الْوَجْهِ هُنَا جَارٍ عَلَى عُرْفِ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَالذَّاتِ اه. وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى لَفْظُ الْوَجْهِ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا مَا هُنَا وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 115] وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الْإِنْسَان: 9] . وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي فِي الرَّأْسِ. وَاصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْعَقَائِدِ عَلَى تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا بِالْمُتَشَابِهِ وَكَانَ السّلف يحجمون عَن الْخَوْض فِي ذَلِكَ مَعَ الْيَقِينِ بِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَنَاوَلَهُ عُلَمَاء التَّابِعين وَمن بعدهمْ بالتأويل تدريجا إِلَى أَنِ اتَّضَحَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ بِالْجَرْيِ عَلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْمَعَانِي فَزَالَ الْخَفَاءُ، واندفع الْجفَاء، وكلا الْفَرِيقَيْنِ خِيرَةُ الْحُنَفَاءِ. وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: وَجْهُ رَبِّكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ تَبْلِيغُهُ إِلَى الَّذِينَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لِيَذَّكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ. وَلَمَّا كَانَ الْوَجْهُ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ وُصِفَ بِ ذُو الْجَلالِ، أَيِ الْعَظَمَةِ والْإِكْرامِ، أَيِ الْمُنْعِمِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْوَجْهَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَافُ لِلْإِكْرَامِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ لِلْإِكْرَامِ الْيَدُ، أَيْ فَهُوَ لَا يُفْقِدُ عَبِيدُهُ جَلَالَهُ

[سورة الرحمن (55) : آية 28]

وَإِكْرَامَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْجَلَالِ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقْصِ وَفِي الْإِكْرَامِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيَّةِ وَصِفَاتِ الْجَمَالِ كَالْإِحْسَانِ. وَتَفْرِيعُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ كَمَا عَلِمَتْ مِنْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُعَامَلَةَ خَلْقِهِ مُعَامَلَةَ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا تَصْدُرُ عَنْهُ السَّفَاسِفُ، الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَقْطَعُ إِنْعَامَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الآلاء الْعَظِيمَة. [28] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 28] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) تَكْرِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الْمَوْقِعُ يُنَادِي عَلَى أَنَّ لَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَن: 26] ، وَلَا أَنَّ جُمْلَةَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ تَتَضَمَّنُ نِعْمَةً إِذْ لَيْسَ فِي الفناء نعْمَة. [29] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 29] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. اسْتِئْنَافٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ تَنْقَرِضُ مِنْهُمْ أَجْيَالٌ وَتَبْقَى أَجْيَالٌ وَكَلُّ بَاقٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَسْبَابِ بَقَائِهِ وَصَلَاحِ أَحْوَالِهِ فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الَّذِي لَا يَفْنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا أَفْضَى الْإِخْبَارُ إِلَى حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَعَالَى أَتْبَعَ بِأَنَّ الْاِحْتِيَاجَ عَامٌّ أَهْلَ الْأَرْضِ وَأَهْلَ السَّمَاءِ. فَالْجَمِيعُ يَسْأَلُونَهُ، فَسُؤَالُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وَيَسْأَلُونَ رِضَى اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُمُ الْبَشَرُ يَسْأَلُونَهُ نِعَمَ الْحَيَاةِ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ. وَحذف مفعول يَسْئَلُهُ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُمْ وَمَهَامِّهِمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي يَسْئَلُهُ أَوْ تذييلا لجملة يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن من الشؤون

لِلسَّائِلِينَ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ تَعَالَى يبرم شؤونا مُخْتَلِفَةً مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ دَوَامًا، وَيَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِالْاِسْتِقْرَارِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ فِي شَأْنٍ، وَقُدِّمَ عَلَى مَا فِيهِ مُتَعَلِّقُهُ لِلْاِهْتِمَامِ بِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ. وَالْمَعْنَى: فِي شَأْن من شؤون مِنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنِ اسْتِجَابَةِ سُؤْلٍ، وَمِنْ زِيَادَةٍ، وَمِنْ حِرْمَانٍ، وَمِنْ تَأْخِيرِ الْاِسْتِجَابَةِ، وَمِنْ تعويض عَن الْمَسْئُول بِثَوَابٍ، كَمَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ الدُّعَاءِ أَنَّ اسْتِجَابَتَهُ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: 60] . وَمَعْنَى فِي عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَقْوِيَة ثُبُوت الشؤون لِلَّهِ تَعَالَى وَهِي شؤون تَصَرُّفِهِ وَمَظَاهِرُ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفضل النَّيْسَابُورِي: «شؤون يبديها لَا شؤون يَبْتَدِيهَا» . ويَوْمٍ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْوَقْتِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، إِذِ الْمَعْنَى: كُلُّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ لَحُظَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ الْخَاصَّ الَّذِي يَمْتَدُّ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ وَنَحْوِهُ عَلَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: الدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ نُعُمٌ وَيَوْمٌ بُؤْسٌ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَإِنَّ غَدًا وَإِنَّ الْيَوْمَ رَهْنٌ ... وَبَعْدَ غَدٍ لِمَا لَا تَعْلَمِينَ أَرَادَ الزَّمَانَ الْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ الْبَعِيدَ وَإِلَّا فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ. وَالشَّأْنُ: الشَّيْءُ الْعَظِيمُ وَالْحَدَثُ الْمُهِمُّ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَأَعْمَالٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى كُلُّ يَوْمٍ يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ» ، وَهُوَ تَعَالَى يَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ كُلُّ شَأْنٍ فَمَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الشَّأْنِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ مِنْ تَصَرُّفِهِ. والظرفية المستعملة فِيهَا حَرْفِ فِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِشِدَّةِ التَّلَبُّسِ

[سورة الرحمن (55) : آية 30]

وَالتَّعَلُّقِ بِتَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ إِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ أَوْ بِأَسْئِلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كُلُّ يَوْمٍ تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بِأُمُورٍ يُبْرِزُهَا وَيَتَعَلَّقُ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِأُمُورٍ مِنْ إِيجَادٍ وإعدام. وَمِنْ أَحَاسِنِ الْكَلِمِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ (¬1) لَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ (¬2) قَائِلًا: قَدْ أَشْكَلَ عَلَيَّ قَوْلُهُ هَذَا: وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ: «إِنَّهَا شؤون يبديها لَا شؤون يَبْتَدِيهَا» وَقَدْ أَجْمَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْجَوَابَ بِمَا يُقْنِعُ أَمْثَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِشْكَالُ غَيْرَ وَارِدٍ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَة أَن الشؤون تُخَالِفُ مَا سَطَرَهُ قَلَمُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَجْرِي إِلَّا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كَمَا علمت آنِفا. [30] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 30] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) تَكْرِير لنظائره. [31] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 31] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) هَذَا تَخَلُّصٌ مِنَ الْاِعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَالْجَزَاءِ فِيهَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمُنَاسَبَةِ اشْتِمَالِ مَا سَبَقَ مِنْ دَلَائِلَ سَعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى تَعْرِيضٍ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ أَهْلٌ لِلتَّوْحِيدِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَمُسْتَحَقُّ الْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ مَعَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ انْتَقَلَ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْجِنِّ الْمُسَوِّلِينَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ سَيُعْرَضُونَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِيهِمْ. ¬

(¬1) تقدّمت تَرْجَمته عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [الرَّحْمَن: 14] . (¬2) هُوَ من رجال دولة الْمَأْمُون، ولي خُرَاسَان. وَولي الشَّام ومصر توفّي سنة 231 هـ وعمره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ سنة، وَهُوَ ممدوح أبي تَمام.

وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطلق التَّقْرِيب الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [98] . وَالْفَرَاغُ لِلشَّيْءِ: الْخُلُوُّ عَمَّا يُشْغِلُ عَنْهُ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْاِعْتِنَاءِ بِالشَّيْءِ، شَبَّهَ حَالَ الْمُقْبِلِ عَلَى عَمَلٍ دُونَ عَمَلٍ آخَرَ بِحَالِ الْوِعَاءِ الَّذِي أُفْرِغَ مِمَّا فِيهِ لِيُمْلَأَ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ صَالِحٌ لِلْاِسْتِعْمَالِ فِي الْاِعْتِنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ «افْرُغْ إِلَى أَضْيَافِكَ» (أَيْ تَخَلَّ عَنْ كُلِّ شُغْلٍ لِتَشْتَغِلَ بِأَضْيَافِكَ وَتَتَوَفَّرُ عَلَى قِرَاهُمْ) وَصَالِحٌ لِلْاِسْتِعْمَالِ فِي الْوَعِيدِ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ: أَلَانَ وَقَدْ فَرَغْتُ إِلَى نَمِيرٍ ... فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهَا عَذَابًا وَالْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْإِقْبَالِ عَلَى أُمُورِ الثَّقَلَيْنِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ بَعْدَهُ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَن: 41] ، وَهَذَا لِكُفَّارِ الثَّقَلَيْنِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ فِي حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. والثَّقَلانِ: تَثْنِيَةُ ثَقَلٍ، وَهَذَا الْمُثَنَّى اسْمٌ مُفْرَدٌ لِمَجْمُوعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الثَّقَلَ هُوَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَهُوَ كَالثِّقَلِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ هَذَا الْمُثَنَّى عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ، وَقِيلَ غَيْرَ هَذَا مِمَّا لَا يَرْتَضِيهِ الْمُتَأَمِّلُ. وَقَدْ عُدَّ هَذَا اللَّفْظُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِانْفِرَادِهِ اسْمُ الثَّقَلِ وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُثَنَّى اللَّفْظِ مُفْرَدُ الْإِطْلَاقِ. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى مَجْمُوعِ النَّوْعَيْنِ قَبْلَ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ بِالْغَلَبَةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَمِيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ وَجْهًا ... وَسَالِفَةً وَأَحْسَنُهُ قَذَالًا أَرَادَ وَأَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ لَهُ مُفْرَدًا. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي اسْتِعْمَالِهِ إِذْ لَا عَلَاقَةَ لِلْجِنِّ فِي شَيْءٍ مِنْ غَرَضِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَفْرُغُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الْاِلْتِفَاتِ.

[سورة الرحمن (55) : آية 32]

وَكُتِبَ أَيُّهَ فِي الْمُصْحَفِ بِهَاءٍ لَيْسَ بَعْدَهَا أَلْفٌ وَهُوَ رَسْمٌ مُرَاعَى فِيهِ حَالَ النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ فِي الْوَصْلِ إِذْ لَا يُوقَفُ عَلَى مِثْلِهِ، فَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِفَتْحَةٍ عَلَى الْهَاءِ دُونَ أَلِفٍ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ تَبَعًا لِضَمِّ الْيَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهَذَا من الإتباع. [32] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 32] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) تَكْرِيرٌ لِنَظَائِرِهِ وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلثَّقَلَيْنِ وَلَا تَذْيِيلًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبِلَهُ إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ ذِكْرُ نِعْمَةٍ عَلَى الثَّقَلَيْنِ بَلْ هِيَ تهديد لَهما. [33] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 33] يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) هَذَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْإِنْسِ وَالْجِنَّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَنَقُولُ لَكُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام: 128] الْآيَةِ، أَيْ فَنَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَتقدم فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْمَعْشَرُ: اسْمٌ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُعَدُّ عَشَرَةً عَشَرَةً دُونَ آحَادٍ. وَهَذَا إِعْلَانٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجِدُونَ مَنْجَى مِنْهَا، وَهُوَ تَرْوِيعٌ لِلضَّالِّينَ وَالْمُضِلِّينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ من الْجَزَاء السيّء لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ لِجَمْعٍ مُخْتَلِطٍ إِلَّا وَالْمَقْصُودُ أَهْلُ الْجِنَايَةِ مِنْهُمْ فَقَوْلُهُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَامٌ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ [الرَّحْمَن: 35] إِلَخْ. وَالنُّفُوذُ وَالنَّفَاذُ: جَوَازُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَخُرُوجُهُ مِنْهُ. وَالشَّرْطُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ جَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْفُذُوا، أَيْ وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْهُرُوبَ.

[سورة الرحمن (55) : آية 34]

وَالْمَعْنَى: إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى الْاِنْفِلَاتِ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ فَافْلِتُوا. وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِالتَّعْرِيضِ بِالتَّخْوِيفِ مِمَّا سَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِنَ الْعِقَابِ لِأَهْلِ التَّضْلِيلِ. وَالْأَقْطَارُ: جَمْعُ قُطْرٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَهُوَ النَّاحِيَةُ الْوَاسِعَةُ مِنَ الْمَكَانِ الْأَوْسَعِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [14] . وَذَكَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِتَحْقِيقِ إِحَاطَةِ الْجِهَاتِ كُلِّهَا تَحْقِيقًا لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ فَهَذِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَمَامَكُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ جِهَةٍ مِنْهَا فِرَارًا مِنْ مَوْقِفِكُمْ هَذَا، وَذَلِكَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْأَمْكِنَةِ يُسَهِّلُ الْهُرُوبَ مِنْ إِحْدَى جِهَاتِهَا. وَالْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضَ الَّتِي فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ حِينَ الْبَعْثِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَرْضَ الْحَشْرِ وَهِيَ الَّتِي سَمَّاهَا الْقُرْآن بِالسَّاهِرَةِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [14] ، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيم: 48] ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِحَاطَةِ الْجِهَاتِ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: «أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي» . وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَتَنَافَى، وَهِيَ مِنْ حَدِّ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ بَيَانٌ لِلتَّعْجِيزِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ فَإِنَّ السُّلْطَانَ: الْقُدْرَةُ، أَيْ لَا تَنْفُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَأْزِقِ إِلَّا بِقُدْرَةٍ عَظِيمَةٍ تَفُوقُ قُدْرَةَ اللَّهِ الَّذِي حَشَرَكُمْ لِهَذَا الْمَوْقِفِ، وَأَنَّى لَكُمْ هَاتِهِ الْقُوَّةُ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ [الشُّعَرَاء: 210، 211] ، أَيْ مَا صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ فيتنزّلوا بِهِ. [34] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 34] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمَذْكُور قبله.

[سورة الرحمن (55) : آية 35]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 35] يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَنْ جُمْلَةِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرَّحْمَن: 33] إِلَخْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِشْعَارَ بِالتَّهْدِيدِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ تَسَاؤُلًا عَمَّا وَرَاءَهُ. وَضَمِيرُ عَلَيْكُما رَاجِعٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصَ بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] الْآيَاتِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ بَعْدَ أَنْ عَرَّضَ لَهُمْ بِذَلِكَ تَعْرِيضًا بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَن: 33] . وَمَعْنَى يُرْسَلُ عَلَيْكُما أَنَّ ذَلِكَ يَعْتَرِضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَلِجُوا فِي جَهَنَّمَ، أَيْ تُقْذَفُونَ بِشُوَاظٍ مِنْ نَارٍ تَعْجِيلًا لِلسُّوءِ. وَالْمُضَارِعُ لِلْحَالِ، أَيْ وَيُرْسَلُ عَلَيْكُمَا الْآنَ شُوَاظٌ. وَالشُّوَاظُ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَسْرِهَا: اللَّهَبُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ دُخَانٌ لِأَنَّهُ قَدْ كَمُلَ اشْتِعَالُهُ وَذَلِكَ أَشَدُّ إِحْرَاقًا. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا. وَالنُّحَاسُ: يُطْلَقُ عَلَى الدُّخَانِ الَّذِي لَا لَهَبَ مَعَهُ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَتَبِعَهُمَا الْخَلِيلُ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّ الدُّخَّانَ الَّذِي لَمْ تَلْحَقْهُمْ مَضَرَّتُهُ وَالْاِخْتِنَاقُ بِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ لَهَبِ الشُّوَاظِ يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ الشُّوَاظِ عَلَى حِيَالِهِ فَلَا يَفْلِتُونَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَيُطْلَقُ النُّحَاسُ عَلَى الصُّفْرِ وَهُوَ الْقِطْرُ. وَبِهِ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَبُّ عَلَيْهِمُ الصُّفْرُ الْمُذَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُحاسٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى شُواظٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى نارٍ فَيَكُونُ الشُّوَاظُ مِنْهُ أَيْضًا، أَيْ شُوَاظُ لَهَبٍ مِنْ نَارٍ، وَلَهَبٍ مِنْ نُحَاسٍ مُلْتَهِبٍ. وَهَذِهِ نَارٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: 24] .

[سورة الرحمن (55) : آية 36]

وَمَعْنَى فَلا تَنْتَصِرانِ: فَلَا تَجِدَانِ مَخْلِصًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا تَجِدَانِ نَاصِرًا. وَالنَّاصِرُ: هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ، أَيْ لَا تَجِدَانِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْكُمَا ذَلِكَ وَلَا مَلْجَأَ تتّقيان بِهِ. [36] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 36] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) تَكْرِيرٌ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي وَقَعَ قبله قَرِيبا. [37- 40] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 37 إِلَى 40] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) تَفْرِيعٌ إِخْبَار عَلَى إِخْبَارِ فَرْعٍ عَلَى بَعْضِ الْخَبَرِ الْمُجْمَلِ فِي قَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرَّحْمَن: 31] إِلَى آخِرِهِ، تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ بِتَعْيِينِ وَقَتِهِ وَشَيْءٍ مِنْ أَهْوَالِ مَا يَقَعُ فِيهِ لِلْمُجْرِمِينَ وَبَشَائِرِ مَا يُعْطَاهُ الْمُتَّقُونَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْحُبُورِ. وَقَوْلُهُ: فَكانَتْ وَرْدَةً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَانَتْ كَوَرْدَةٍ. وَالْوَرْدَةُ: وَاحِدَةُ الْوَرْدِ، وَهُوَ زَهْرٌ أَحْمَرُ مِنْ شَجَرَةٍ دَقِيقَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ شَائِكَةٍ تَظْهَرُ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ وَهُوَ مَشْهُورٌ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ قِيلَ هُوَ شِدَّةُ الْحُمْرَةِ، أَيْ يَتَغَيَّرُ لَوْنُ السَّمَاءِ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ أَزْرَقُ إِلَى الْبَيَاضِ، فَيَصِيرُ لَوْنُهَا أَحْمَرَ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيم: 48] . وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ كَثْرَةَ الشُّقُوقِ كَأَوْرَاقِ الْوَرْدَةِ. وَالدِّهَانُ، بِكَسْرِ الدَّالِ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ ثَانٍ لِلسَّمَاءِ فِي التَّمَوُّجِ وَالْاِضْطِرَابِ. وَجُمْلَةُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةِ الْجَوَابِ وَقَدْ مَثَّلَ بِهَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» لِلْاِعْتِرَاضِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَعَيَّنَ كَوْنَهَا مُعْتَرِضَةً لَا

[سورة الرحمن (55) : آية 41]

حَالِيَّةً، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةُ تَكْرِيرٍ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ كَمَا هُوَ بيّن، وَانْشِقَاقُ السَّمَاءِ مِنْ أَحْوَالِ الْحَشْرِ، أَيْ فَإِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ [الحاقة: 15، 16] أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة: 18] . وَهَذَا هُوَ الْاِنْشِقَاقُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [25، 26] . وَجُمْلَةُ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِلَخْ جَوَابُ شَرْطِ (إِذَا) . وَاقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ بِاسْمِ زمَان وَهُوَ فَيَوْمَئِذٍ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِدُخُولِ (إِذَا) عَلَيْهِ. وَمعنى لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ: نَفْيُ السُّؤَالِ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ السَّائِلُ مَعْرِفَةَ حُصُولِ الْأَمْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [الْقَصَص: 78] . وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحجر: 92، 93] وَقَوْلِهِ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ فَإِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَّسَعُ الزَّمَانِ، فَفِيهِ مُوَاطِنٌ لَا يُسْأَلُ أَهْلُ الذُّنُوبِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، وَفِيهِ مُوَاطِنٌ يُسْأَلُونَ فِيهَا سُؤَالَا تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ. وَجُمْلَةُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَكْرِيرٌ للتقرير والتوبيخ. [41] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 41] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) هَذَا اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَن: 39] ، أَيْ يُسْتَغْنَى عَنْ سُؤَالِهِمْ بِظُهُورِ عَلَامَاتِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُونَ أَخْذَ عِقَابٍ وَيُسَاقُونَ إِلَى الْجَزَاءِ. وَالسِّيمَا: الْعَلَامَةُ. وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [273] . وَ (الْ) فِي بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِنَوَاصِيهِمْ وَأَقْدَامِهِمْ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

[سورة الرحمن (55) : آية 42]

وَالنَّوَاصِي: جَمْعُ نَاصِيَةٍ وَهِي الشّعْر الَّذِي فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها فِي سُورَةِ هُودٍ [56] . وَالْأَخْذُ بالناصية أَخذ تمكّن لَا يُفْلِتُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: 15] . وَالْأَقْدَامُ: جَمْعُ قَدَمٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ السَّاقِ مِنْ حَيْثُ تُمْسِكُ الْيَدُ رِجْلَ الْهَارِبِ فَلَا يَسْتَطِيعُ انْفِلَاتًا وَفِيهِ أَيْضًا يُوضَعُ الْقَيْدُ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ حُرَّةٌ كَمَهَاةِ الرَّمْلِ قَدْ كُبِلَتْ ... فَوْقَ الْمَعَاصِمِ مِنْهَا والعراقيب [42] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 42] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) تَكْرِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا الَّذِي قبلهَا. [43، 44] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 43 إِلَى 44] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) هَذَا مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَة على رُؤُوس الْمَلَأِ. وَوَصُفُ جَهَنَّمُ بِ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ تَسْفِيهٌ لِلْمُجْرِمِينَ وَفَضْحٌ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ يَطُوفُونَ حَالٌ مِنَ الْمُجْرِمُونَ، أَيْ قَدْ تَبَيَّنَ سَفَهُ تَكْذِيبِهِمْ بِجَهَنَّمَ اتِّضَاحًا بَيِّنًا بِظُهُورِهَا لِلنَّاسِ وَبِأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ خِلَالَهَا كَمَا تَرَدَّدُوا فِي إِثْبَاتِهَا حِينَ أُنْذِرُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَالطَّوَافُ: تَرْدَادُ الْمَشْيِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ، يُقَالُ: طَافَ بِهِ، وَطَافَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَالطَّوَافُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [158] . وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْمُغَلَّى الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ.

[سورة الرحمن (55) : آية 45]

وَالْمَعْنَى: يَمْشُونَ بَيْنَ مَكَانِ النَّارِ وَبَيْنَ الْحَمِيمِ فَإِذَا أَصَابَهُمْ حَرُّ النَّارِ طَلَبُوا التَّبَرُّدَ فَلَاحَ لَهُمُ الْمَاءَ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ فَأَصَابَهُمْ حَرُّهُ فَانْصَرَفُوا إِلَى النَّارِ دَوَالَيْكَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْف: 29] . وَآنٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَنَى، إِذَا اشتدت حرارته. [45] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 45] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) مِثْلُ مَوْقِعِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي التكرير. [46- 53] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 46 إِلَى 53] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) انْتِقَالٌ مِنْ وَصْفِ جَزَاءِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَن: 41] إِلَى آخِرِهَا، وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِهَا يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُمْ فِيهَا. وَاللَّامُ فِي لِمَنْ خافَ لَامُ الْمِلْكِ، أَيْ يُعْطَى مَنْ خَافَ رَبَّهُ وَيُمَلَّكُ جَنَّتَيْنِ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جِنْسَ الْخَائِفِينَ لَا خَائِفَ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الْبَدَلِيِّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: وَلِلْخَائِفِ مَقَامُ رَبِّهِ. وَعَلَيْهِ فَيَجِيءُ النَّظَرُ فِي تَأْوِيلِ تَثْنِيَةِ جَنَّتانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: جِنْسَيْنِ مِنَ الْجَنَّاتِ. وَقَدْ ذُكِرَتِ الْجَنَّاتُ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ غَيْرُ مَرَّةٍ وَسَيَجِيءُ بَعْدَ هَذَا قَوْلُهُ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 62] فَالْمُرَادُ جِنْسَانِ مِنَ الْجَنَّاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةً كِنَايَةً عَنِ التَّعَدُّدِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَفِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: 4]

وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَدَوَالَيْكَ، كَقَوْلِ الْقَوَّالِ (¬1) الطَّائِيِّ مِنْ شِعْرِ الْحَمَاسَةِ: فَقُولَا لِهَذَا الْمَرْءِ ذُو جَاءَ سَاعِيًا ... هَلُمَّ فَإِنَّ الْمَشْرَفِيَّ الْفَرَائِضُ أَيْ فَقُولُوا: يَا قَوْمُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [101] . وَإِيثَارُ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ هُنَا لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فَقَدْ بُنِيَتْ قَرَائِنُ السُّورَةِ عَلَيْهَا وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ الْفَرَّاءِ، وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ مَا أُجْرِيَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي شَأْنِ الْجَنَّتَيْنِ فَمُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ. وَقِيلَ: أُرِيدُ جَنَّتَانِ لِكُلِّ مُتَّقٍ تَحُفَّانِ بِقَصْرِهِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ جَنَّاتِ الدُّنْيَا جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الْكَهْف: 32] الْآيَةَ، وَقَالَ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مساكنهم آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ [سبأ: 15] فَهُمَا جَنَّتَانِ بِاعْتِبَارِ يُمْنَةِ الْقَصْرِ وَيُسْرَتِهِ وَالْقَصْرُ فَاصِلٌ بَيْنَهُمَا. وَالْمَقَامُ: أَصْلُهُ مَحَلُّ الْقِيَامِ وَمَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلْقِيَامِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْحَالَةِ وَالتَّلَبُّسِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَسْتَجِيرُهُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّأْنِ وَالْعَظْمَةِ، فَإِضَافَةُ مَقامَ إِلَى رَبِّهِ هُنَا إِنْ كَانَتْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَقَامِ لِلْخَائِفِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحَالِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَبِّهِ تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَقَامِهِ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَقَامِ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْعَظْمَةِ. وَإِضَافَتُهُ كَالْإِضَافَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [14] وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [40] . وَجُمْلَةُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وَهِيَ تَكْرِيرٌ لِنَظَائِرِهَا. وَذَوَاتَا: تَثْنِيَةُ ذَاتٍ، وَالْوَاوُ أَصْلِيَّةٌ لِأَنَّ أَصْلَ ذَاتٍ: ذُوَةٌ، وَالْأَلِفُ الَّتِي بَعْدَ ¬

(¬1) هَكَذَا وَقع اسْمه فِي «ديوَان الحماسة» و «شروحه» وَهُوَ بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْوَاو كَمَا فِي «خزانَة الْأَدَب» . وَهُوَ من مخضرمي الدولتين.

الْوَاوِ إِشْبَاعٌ لِلْفَتْحَةِ لَازِمٌ لِلْكَلِمَةِ. وَقِيلَ: الْأَلْفُ أَصْلِيَّةٌ وَأَنَّ أَصْلَ (ذَاتٍ) : ذَوَاتٌ فَخُفِّفَتْ فِي الْإِفْرَادِ وَرَدَّتْهَا التَّثْنِيَةُ إِلَى أَصْلِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [16] . وَأَمَّا الْأَلِفُ الَّتِي بَعْدَ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فَهِيَ عَلَامَةُ رَفْعٍ نَائِبَةٌ عَنِ الضَّمَّةِ. وَالْأَفْنَانُ: جَمْعُ فَنَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْغُصْنُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَفْنَانٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ الْإِيرَاقِ وَالْإِثْمَارِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأَفْنَانَ لَا تَخْلُو عَنْهَا الْجَنَّاتُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْأَفْنَانِ لَوْلَا قَصْدُ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَتَثْنِيَةُ عَيْنانِ جَارٍ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَثْنِيَةِ جَنَّتانِ، وَكَذَلِكَ تَثْنِيَةُ ضَمِيرِي فِيهِما وَضَمِيرُ تَجْرِيانِ تَبَعٌ لِتَثْنِيَةِ مَعَادِهِمَا فِي اللَّفْظِ. فَإِنْ كَانَ الْجَنَّتَانِ اثْنَتَيْنِ لِكُلِّ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَلِكُلِّ جَنَّةٍ مِنْهُمَا عَيْنٌ فَهُمَا عَيْنَانِ لِكُلِّ مَنْ خَافَ مَقَامَ ربه، وَإِن كَانَ الْجَنَّتَانِ جِنْسَيْنِ فَالتَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِرَادَةِ الْجَمْعِ، أَيْ عُيُونٍ عَلَى عَدَدِ الْجَنَّاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تَثْنِيَةِ جَنَّتانِ الْكَثْرَةَ كَمَا تَثْنِيَةُ عَيْنانِ لِلْكَثْرَةِ. وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَفْنَانِ وَبَيْنَ ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ بِذِكْرِ الْعَيْنَيْنِ مَعَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ بِالْأَفْنَانِ أَنْسَبُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْأَفْنَانِ، وَهِيَ مِنْ جَمَالِ مَنْظَرِ الْجَنَّةِ أَعْقَبَ بِمَا هُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ وَهُوَ عُيُونُ الْمَاءِ جَمْعًا لِلنَّظِيرِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ جَمَالِ الْمَنْظَرِ، أَعْنِي: الْفَوَاكِهَ فِي أَفْنَانِهَا وَمِنْ مَلَذَّاتِ الذَّوْقِ. وَأَمَّا تَثْنِيَةُ زَوْجَانِ فَإِنَّ الزَّوْجَ هُنَا النَّوْعُ، وَأَنْوَاعُ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ لِكُلِّ فَاكِهَةٍ نَوْعَانِ: فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَنَجْعَلَ إِيثَارَ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ وَلِأَجْلِ الْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَظَائِرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ إِلَى هُنَا. وَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَ تَثْنِيَةَ زَوْجانِ لِكَوْنِ الْفَوَاكِهِ بَعْضُهَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَبَعْضُهَا يُؤْكَلُ يَابِسًا مِثْلَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ، وَأَخُصُّ الْجَوْزَ وَاللَّوْزَ وَجَافَّهُمَا.

[سورة الرحمن (55) : آية 54]

و (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) بَيَانٌ لِ زَوْجانِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبَيِّنِ لِرَعْيِ الْفَاصِلَةِ. وَتَخَلُّلُ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ بِآيَاتِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ جَارٍ عَلَى وَجْهِ الْاِعْتِرَاضِ وَعَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَكْرِيرٍ كَمَا تقدم أولاها. [54] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 54] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) حَالٌ مِنْ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَجِيءَ بِالْحَالِ صِيغَةَ جمع بِاعْتِبَار معنى صَاحِبِ الْحَالِ وَصَلَاحِيَةِ لَفْظِهِ لِلْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ، لَا بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ صِلَتِهِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ اعْتِبَارٌ بِكَوْنِ (مَنْ) مُفْرَدَةَ اللَّفْظِ. وَالْمَعْنَى: أُعْطُوا الْجِنَانَ وَاسْتَقَرُّوا بِهَا وَاتَّكَئُوا عَلَى فُرُشٍ. وَالْاِتِّكَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْوَكْءِ مَهْمُوزُ اللَّامِ وَهُوَ الْاِعْتِمَادُ، فَصَارَ الْاِتِّكَاءُ اسْمًا لِاعْتِمَادِ الْجَالِسِ وَمِرْفَقِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَجَنْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ هَيْئَةٌ بَيْنَ الْاِضْطِجَاعِ عَلَى الْجَنْبِ وَالْقُعُودِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَفُرُشٌ: جَمْعُ فِرَاشٍ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ. وَالْفِرَاشُ أَصْلُهُ مَا يُفْرَشُ، أَيْ يُبْسَطُ عَلَى الْأَرْضِ لِلنَّوْمِ وَالْاِضْطِجَاعِ. ثُمَّ أَطْلَقَ الْفِرَاشُ عَلَى السَّرِيرِ الْمُرْتَفِعِ عَلَى الْأَرْضِ بِسُوقٍ لِأَنَّهُ يُوضَعُ عَلَيْهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُفْرَشَ عَلَى الْأَرْضِ تَسْمِيَةً بِاسْمِ مَا جُعِلَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [15، 16] فِي قَوْلِهِ: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [44] عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. وَالْمُعَبِّرُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرُشِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السُّرُرُ الَّتِي عَلَيْهَا الْفُرُشُ.

وَالْاِتِّكَاءُ: جِلْسَةُ أَهْلِ التَّرَفِ الْمَخْدُومِينَ لِأَنَّهَا جِلْسَةُ رَاحَةٍ وَعَدَمِ احْتِيَاجٍ إِلَى النُّهُوضِ لِلتَّنَاوُلِ نَحوه وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْبَطَائِنُ: جَمْعُ بِطَانَةٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَطْنِ ضِدِّ الظَّهْرِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْأَسْفَلِ. يُقَالُ لِلْجِهَةِ السُّفْلَى: بَطْنٌ، وَلِلْجِهَةِ الْعُلْيَا ظَهْرٌ، فَيُقَالُ: بَطَنْتُ ثَوْبِي بِآخَرَ إِذَا جَعَلَ تَحْتَ ثَوْبِهِ آخَرَ، فَبِطَانَةُ الثَّوْبِ دَاخِلُهُ وَمَا لَا يَبْدُو مِنْهُ، وَضِدُّ الْبِطَانَةِ الظِّهَارَةُ بِكَسْرِ الظَّاءِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَفْرَشَنِي ظَهْرُ أَمْرِهِ وَبَطْنُهُ، أَيْ عَلَانِيَّتُهُ وَسِرُّهُ، شُبِّهَتِ الْعَلَانِيَةُ بِظَهْرِ الْفِرَاشِ وَالسِّرُّ بِبَطْنِ الْفِرَاشِ وَهُمَا الظِّهَارَةُ وَالْبِطَانَةُ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ هَذَا التَّشْبِيهَ بِاسْتِعَارَةِ فِعْلِ: أَفْرَشَنِي. فَالْبِطَانَةُ: هِيَ الثَّوْبُ الَّذِي يُجْعَلُ عَلَى الْفِرَاشِ وَالظِّهَارَةُ: الثَّوْبُ الَّذِي يُجْعَلُ فَوْقَ الْبِطَانَةِ لِيَظْهَرَ لِرُؤْيَةِ الدَّاخِلِ لِلْبَيْتِ فَتَكُونُ الظِّهَارَةُ أَحْسَنُ مِنَ الْبِطَانَةِ فِي الْفِرَاشِ الْوَاحِدِ. وَالْعَرَبُ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْفِرَاشَ حَشِيَّةً، أَيْ شَيْئًا مَحْشُوًّا بِصُوفٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ لِيفٍ لِيَكُونَ أَوْثَرَ لِلْجَنْبِ، قَالَ عَنْتَرَةُ يَصِفُ تَنَعُّمَ عَبْلَةَ: تُمْسِي وَتُصْبِحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشِيَّةٍ ... وَأَبِيتُ فَوْقَ سَرَاةِ أَدْهَمَ مُلْجَمِ فَإِذَا وَضَعُوا عَلَى الْحَشِيَّةِ ثَوْبًا أَوْ خَاطُوهَا بِثَوْبٍ فَهُوَ الْبِطَانَةُ، وَإِذَا غَطَّوْا ذَلِكَ بِثَوْبٍ أَحْسَنَ مِنْهُ فَهُوَ الظِّهَارَةُ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ بَطَائِنَ فُرُشِ الْجَنَّةِ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَلَا تَسْأَلُ عَنْ ظَهَائِرِهَا فَإِنَّهَا أَجْوَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا ثوب فِي الثِّيَابِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا أَنْفَسُ مِنَ الْإِسْتَبْرَقِ الْبَطَائِنِ بِالذِّكْرِ كِنَايَةً عَنْ نَفَاسَةِ وَصْفِ ظَهَائِرِ الْفُرُشِ. وَالْإِسْتَبْرَقُ: صِنْفٌ رَفِيعٌ مِنَ الدِّيبَاجِ الْغَلِيظِ. وَالدِّيبَاجُ: نَسِيجٌ غَلِيظٌ مِنْ حَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ يُنْسَجُ بِخُيُوطِ الذَّهَبِ. قَالَ الْفَخْرُ: وَهُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ عَنْ كَلِمَةِ (سْتبرك) بِكَافٍ فِي آخِرِهِ عَلامَة تَصْغِير (ستبر) بِمَعْنَى ثَخِينٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [31] ، فَأَبْدَلُوا الْكَافَ قَافًا خَشْيَةَ اشْتِبَاهِ الْكَافِ بِكَافِ الْخِطَابِ، وَالَّذِي فِي «الْقَامُوسِ» : الْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ مُعَرَّبُ (اسْتُرُوهُ) ، وَقَدْ

[سورة الرحمن (55) : آية 55]

تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسْتَبْرَقَ: صِنْفٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالدِّيبَاجُ: ثَوْبٌ مَنْسُوجٌ مِنَ الْحَرِيرِ مَنْقُوشٌ وَهُوَ أَجْوَدُ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ. وَمِنْ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ: مَا يُجْنَى مِنْ ثِمَارِهِمَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَا يُقْطَفُ مِنَ الثَّمَرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ دَانٍ مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ فَمَتَى شَاءُوا اقتطفوا مِنْهُ. [55] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 55] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) هُوَ مثل نَظَائِره. [56- 58] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 56 إِلَى 58] فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) ضَمِيرُ فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى فُرُشٍ وَهُوَ سَبَبُ تَأْخِيرِ نِعَمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَذَّةِ التَّأَنُّسِ بِالنِّسَاءِ عَنْ مَا فِي الْجَنَّاتِ مِنَ الْأَفْنَانِ وَالْعُيُونِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْفُرُشِ، لِيَكُونَ ذِكْرُ الْفُرُشِ مُنَاسِبًا لِلْاِنْتِقَالِ إِلَى الْأَوَانِسِ فِي تِلْكَ الْفُرُشِ وَلِيَجِيءَ هَذَا الضَّمِيرُ مُفِيدًا مَعْنًى كَثِيرًا مِنْ لَفْظٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ التَّرْتِيب فِي هَذَا التَّرْكِيبِ. فَ قاصِراتُ الطَّرْفِ كَائِنَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَكَائِنَةٌ عَلَى الْفُرُشِ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ قَالَ تَعَالَى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً [الْوَاقِعَة: 34- 36] الْآيَةَ. وقاصِراتُ الطَّرْفِ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نِسَاءٌ، وَشَاعَ الْمَدْحُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْاِسْمِ فَ قاصِراتُ الطَّرْفِ نِسَاءٌ فِي نَظَرِهِنَّ مِثْلُ الْقُصُورِ وَالْغَضُّ خِلْقَةٌ فِيهِنَّ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا يَقُولُ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ مِرَاضُ الْعُيُونِ، أَيْ: مِثْلِ الْمِرَاضِ خِلْقَةً. وَالْقُصُورُ: مِثْلُ الْغَضِّ مِنْ صِفَاتِ عُيُونِ الْمَهَا وَالظِّبَاءِ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا ... إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ

[سورة الرحمن (55) : آية 59]

أَيْ: كَغَضِيضِ الطَّرْفِ وَهُوَ الظَّبْيُ. وَالطَّمْثُ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَسِيسُ الْأُنْثَى الْبِكْرِ، أَيْ مِنْ أَبْكَارٍ. وَعُبِّرَ عَنِ الْبَكَارَةِ بِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ إِطْنَابًا فِي التَّحْسِينِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً [الْوَاقِعَة: 36] . وَهَؤُلَاءِ هُنَّ نِسَاءُ الْجَنَّةِ لَا أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّائِي كُنْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُنَّ قَدْ يَكُنَّ طَمَثَهُمْ أَزْوَاجٌ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ فِي الْجَنَّةِ تَكُونُ لِآخِرِ مِنْ تَزَوَّجَهَا فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَطْمِثْهُنَّ هُنَا، وَفِي نَظِيرِهِ الْآتِي بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ الدَّوْرِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي مُضَارِعِ طَمَثَ. وَنُقِلَ عَنِ الْكِسَائِيِّ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ. وَقَوْلُهُ: إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أَيْ لَمْ يطمثهن أحد قبل، وَقَوْلُهُ: وَلا جَانٌّ تَتْمِيمٌ وَاحْتِرَاسٌ وَهُوَ إِطْنَابٌ دَعَا إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ دَار ثَوَاب لصالحي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَلَمَّا ذَكَرَ إِنْسٌ نَشَأَ تَوَهُّمٌ أَنْ يَمَسَّهُنَّ جِنٌّ فَدَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِهَذَا الْاِحْتِرَاسِ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ نَعْتٌ أَوْ حَالٌ مِنْ قاصِراتُ الطَّرْفِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بِالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ فِي لَوْنِ الْحُمْرَةِ الْمَحْمُودَةِ، أَيْ حُمْرَةِ الْخُدُودِ كَمَا يُشَبَّهُ الْخَدُّ بِالْوُرُدِ، وَيُطْلَقُ الْأَحْمَرُ عَلَى الْأَبْيَضِ فَمِنْهُ حَدِيثُ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ، وَقَالَ عَبْدُ بَنِي الْحَسَّاسِ: فَلَوْ كُنْتُ وَرْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقَتْنِي ... وَلَكِنَّ رَبِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِهِمَا فِي الصفاء واللمعان. [59] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 59] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) كَرَّرَ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيمَا علمت سَابِقًا.

[سورة الرحمن (55) : آية 60]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 60] هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمَبْدُوءَةِ بِقَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا فَجَازَاهُمْ رَبُّهُمْ بِالْإِحْسَانِ. وَالْإِحْسَانُ الْأَوَّلُ: الْفِعْلُ الْحَسَنُ، وَالْإِحْسَانُ الثَّانِي: إِعْطَاءُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْخَيْرُ، فَالْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أحسن فِي كَذَا، وَالثَّانِي مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ. وَالْاِسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالْاِسْتِثْنَاءِ فَأَفَادَ حَصْرَ مُجَازَاةِ الْإِحْسَانِ فِي أَنَّهَا إِحْسَانٌ، وَهَذَا الْحَصْرُ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ الْجَزَاءَ الْحَقَّ وَمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ لَدَى الظَّالِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] وَقَالَ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الْأَعْرَاف: 190] . وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ جَزَاءَ الْإِسَاءَةِ السُّوءُ قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] . [61] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 61] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) الْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظَائِره. [62- 69] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 62 إِلَى 69] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) عَطْفٌ عَلَى قَوْله: جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] ، أَيْ وَمِنْ دُونِ تِينِكَ الْجَنَّتَيْنِ جَنَّتَانِ، أَيْ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ. وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِما يُحْتَمَلُ أَنَّ (دُونَ) بِمَعْنَى (غَيْرَ) ، أَيْ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ

رَبِّهِ جَنَّتَانِ وَجَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ غَيْرُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: 26] . وَوُصِفَ مَا فِي هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ بِمَا يُقَارِبُ مَا وُصِفَ بِهِ مَا فِي الْجَنَّتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَصْفًا سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ أَيْضًا لِبَيَانِ حُسْنِهِمَا تَرْغِيبًا فِي السَّعْيِ لِنَيْلِهِمَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ مُوجَبُ تَكْرِيرِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ أَو مَا يقرب مِنَ التَّكْرِيرِ بِالْمُتَرَادِفَاتِ. وَيَكُونُ لِكُلِّ الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ لَا يَنْتَقِلْنَ مِنْ قُصُورِهِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (دُونَ) بِمَعْنَى أَقَلِّ، أَيْ لِنُزُولِ الْمَرْتَبَةِ، أَيْ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ أقلّ من الْأَوَّلين فَيَقْتَضِي ذَلِك أَن هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى مِمَّنْ خَافُوا مَقَامَ رَبِّهِمْ هُمْ أَقَلُّ مِنَ الْأَوَّلِينَ فِي دَرَجَةِ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ والجنتين المذكورتين قبلهمَا فِي قَوْلِهِ: جَنَّتانِ ... ذَواتا أَفْنانٍ [الرَّحْمَن: 46، 48] إِلَى آخِرِ الْوَصْفِ جَنَّتَا السَّابِقَيْنِ الْوَارِدِ ذِكْرَهُمْ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [10] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الْآيَاتِ. ومُدْهامَّتانِ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّهْمَةِ بِضَمِّ الدَّالِ وَهِيَ لَوْنُ السَّوَادِ. وَوَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ بِالسَّوَادِ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ خُضْرَةِ أَشْجَارِهِمَا حَتَّى تَكُونَا بِالْتِفَافِ أَشْجَارِهَا وَقُوَّةِ خُضْرَتِهَا كَالسَّوْدَاوَيْنِ لِأَنَّ الشَّجَرَ إِذا كَانَ ريّان اشْتَدَّتْ خُضْرَةُ أَوْرَاقِهِ حَتَّى تَقْرُبَ مِنَ السَّوَادِ، وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو تَمَامٍ وَرَكَّبَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَيَّ تَقَصَّيَا نَظَرَيْكُمَا ... تَرَيَا وُجُوهَ الْأَرْضِ كَيْفَ تُصَوَّرُ تَرَيَا نَهَارًا مُشْمِسًا قَدْ شَابَهَ ... زَهْرَ الرُّبَى فَكَأَنَّمَا هُوَ مقمر وضَّاخَتانِ : فَوَّارَتَانِ بِالْمَاءِ، وَالنَّضْخُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فِي آخِرِهِ أَقْوَى مِنَ النَّضْحِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الَّذِي هُوَ الرَّشُّ. وَقَدْ وَصَفَ الْعَيْنَانِ هُنَا بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ الْعَيْنَانِ فِي الجنتين الْمَذْكُورَتَيْنِ، فَقِيلَ: هُمَا صِنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي أَوْصَافِ الْحُسْنِ يُشِيرُ اخْتِلَافُهُمَا إِلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْمَحَاسِنِ وَلِذَلِكَ جَاءَ هُنَا فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، وَجَاء فِيمَا تَقَدَّمَ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرَّحْمَن: 52] . وَقِيلَ: الْوَصْفَانِ سَوَاءُ، وَعَلَيْهِ فَالْمُخَالِفَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْأَوْصَافِ تَفَنُّنٌ.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 إلى 74]

وَعَطْفُ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عَلَى فاكِهَةٌ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ تَنْوِيهًا بِبَعْضِ أَفْرَادِ الْجَنَّتَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [98] . وَجَاءَتْ جُمَلُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ جَنَّتانِ وَصِفَاتِهَا اعْتِرَاضًا لِلْاِزْدِيَادِ مِنْ تَكْرِيرِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ لِمَنْ حُرِمُوا مِنْ تِلْكَ الجنات. [70- 74] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 70 إِلَى 74] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) ضَمِيرُ فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ الْجَنَّتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَالْجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ دُونِهِمَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لصَاحب الجنتين الْأَوَّلين جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ فَصَارَتْ لَهُ أَرْبَعُ جَنَّاتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْزِيعًا عَلَى مَنْ خَافُوا رَبَّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وخَيْراتٌ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ صِيغَةَ الْوَصْفِ، أَيْ نِسَاءٌ خَيْرَاتٌ، وَخَيْرَاتٌ مُخَفَّفٌ مِنْ خَيِّرَاتٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مُؤَنَّثُ خَيْرٍ وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِأَنَّ صِفَتَهُ الْخَيْرُ ضِدُّ الشَّرِّ. وَخَفَّفَ فِي الْآيَةِ طَلَبًا لِخِفَّةِ اللَّفْظِ مَعَ السَّلامَة من اللَّبْسِ بِمَا أَتْبَعَ بِهِ من وَصْفِ حِسانٌ الَّذِي هُوَ جَمْعُ حَسْنَاءَ كَمَا خَفَّفَ هَيِّنَ وَلَيِّنَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: هَيْنُونَ لَيْنُونَ وَمَعْنَى خَيْراتٌ أَنَّهُنَّ فَاضِلَاتُ النَّفْسِ كَرَائِمُ الْأَخْلَاقِ. وَمَعْنَى حِسَانٌ: أَنَّهُمْ حِسَانُ الْخَلْقِ، أَيْ صِفَاتِ الذَّوَاتِ. وحُورٌ بَدَلٌ مِنْ خَيْراتٌ. والحور: جَمْعُ حَوْرَاءَ وَهِيَ ذَاتُ الْحَوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ وَصْفٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَجْمُوعِ شِدَّةٍ بَيَاضِ أَبْيَضِ الْعَيْنِ وَشِدَّةِ سَوَادِ أَسْوَدِهَا وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ

[سورة الرحمن (55) : آية 75]

وَوَصَفَ نِسَاءَ الْجَنَّتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ بِ قاصِراتُ الطَّرْفِ. وَوَصَفَ نِسَاءَ الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ بِأَنَّهُنَ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الصِّفَاتَ الثَّابِتَةَ لِنِسَاءِ الْجَنَّتَيْنِ وَاحِدَة. والمقصورات: اللّاء قُصِرَتْ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَعُدُّونَ الْأُنْسَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ التَّرَفِ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا فهنّ اللاء لَا يَحْتَجْنَ إِلَى مُغَادَرَةِ بِيُوتِهِنَّ لِخِدْمَةٍ أَوْ وِرْدٍ أَوِ اقْتِطَافِ ثِمَارٍ، أَيْ هُنَّ مَخْدُومَاتٌ مُكَرَّمَاتٌ كَمَا قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ: وَيُكْرِمُهَا جَارَاتُهَا فَيَزُرْنَهَا ... وَتَعْتَلَّ عَنْ إِتْيَانِهِنَّ فَتُعَذَرْ وَالْخِيَامُ: جَمْعُ خَيْمَةٍ وَهِيَ الْبَيْتُ، وَأَكْثَرُ مَا تُقَالُ عَلَى الْبَيْتِ مَنْ أَدَمٍ أَوْ شَعْرٍ تُقَامُ عَلَى الْعَمَدِ وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى بَيْتِ الْبِنَاءِ. وَاعْتَرَضَ بِجُمْلَةِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ لِقَصْدِ التَّكْرِيرِ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَقْتَضِيهِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ آنِفا [56] . [75] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 75] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) تَكْرِيرٌ فِي آخِرِ الْأَوْصَافِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِير والتوبيخ. [76] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 76] مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) ومُتَّكِئِينَ: حَالٌ مِنْ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ كُرِّرَتْ بِدُونَ عَطْفٍ لِأَنَّهَا فِي مَقَامِ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَهُوَ مَقَامٌ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ اسْتِئْنَافًا. وَالرَّفْرَفُ: ضَرْبٌ مِنَ الْبُسُطِ، وَهُوَ اسْمٌ جَمْعُ رفرفة، وَهِي مَا يُبْسَطُ عَلَى الْفِرَاشِ لِيُنَامَ عَلَيْهِ، وَهِيَ تُنْسَجُ عَلَى شِبْهِ الرِّيَاضِ وَيَغْلُبُ عَلَيْهَا اللَّوْنُ الْأَخْضَرُ، وَلِذَلِكَ شَبَّهَ ذُو الرُّمَّةِ الرِّيَاضَ بِالْبُسُطِ الْعَبْقَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِ:

حَتَّى كَأَنَّ رِيَاضَ الْقُفِّ أَلْبَسَهَا ... مِنْ وَشْيِ عَبْقَرٍ تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ فَوَصْفُهَا فِي الْآيَةِ بِأَنَّهَا خُضْرٍ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِاسْتِحْضَارِ اللَّوْنِ الْأَخْضَرِ لِأَنَّهُ يَسُرُّ النَّاظِرَ. وَكَانَتِ الثِّيَابُ الْخُضْرُ عَزِيزَةٌ وَهِيَ لِبَاسُ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ، قَالَ النَّابِغَةُ: يَصُونُونَ أَجْسَادًا قَدِيمًا نَعِيمُهَا ... بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ وَكَانَت الثِّيَاب المصبوغة بِالْأَلْوَانِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا يزيلها الْغسْل نادرة لِقِلَّةِ الْأَصْبَاغِ الثَّابِتَةِ وَلَا تَكَادُ تَعْدُو الْأَخْضَرَ وَالْأَحْمَرَ وَيُسَمَّى الْأُرْجُوَانِيَّ. وَأَمَّا الْمُتَدَاوَلُ مِنْ أَصْبَاغِ الثِّيَابِ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ مَا صُبِغَ بِالْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ فَيَكُونُ أَصْفَرَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَوْنُهُ لَوْنُ مَا يُنْسَجُ مِنْهُ مِنْ صُوفِ الْغَنَمِ أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ مِنْ وَبَرٍ أَوْ مِنْ كَتَّانٍ أَبْيَضَ أَوْ كَانَ مِنْ شِعْرِ الْمَعِزِ الْأَسْوَدِ. وحِسانٍ: جَمْعُ حَسْنَاءُ وَهُوَ صِفَةٌ لِ رَفْرَفٍ إِذْ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ. وَعَبْقَرِيٍّ: وَصْفٌ لِمَا كَانَ فَائِقًا فِي صِنْفِهِ عَزِيزَ الْوُجُودِ وَهُوَ نِسْبَةٌ إِلَى عَبْقَرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتَحَ اسْمَ بِلَادِ الْجِنِّ فِي مُعْتَقَدِ الْعَرَبِ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ مَا تَجَاوَزَ الْعَادَةَ فِي الْإِتْقَانِ وَالْحُسْنِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أَرْضِ الْبَشَرِ، قَالَ زُهَيْرٌ: بِخَيْلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا وَيَسْتَعْلُوا فَشَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ الْعَبْقَرِيُّ وَصْفًا لِلْفَائِقِ فِي صِنْفِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَكَاهُ مِنْ رُؤْيَا الْقَلِيبِ الَّذِي اسْتَسْقَى مِنْهُ «ثُمَّ أَخَذَهَا (أَيِ الذُّنُوبِ) عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ» . وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ كُلَّمَا ... رَأَوْا حُسْنًا عَدُّوهُ مِنْ صَنْعَةِ الْجِنِّ فَضَرَبَهُ الْقُرْآنُ مَثَلًا لِمَا هُوَ مَأْلُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي إِطْلَاقه.

[سورة الرحمن (55) : آية 77]

[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 77] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) هَذِهِ الْجُمْلَةُ آخِرُ الْجُمَلِ الْمُكَرَّرَةِ وَبِهَا انْتَهَى الكَّلَامُ الْمَسُوقُ لِلْاِسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بالإنعام وَالتَّصَرُّف. [78] [سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 78] تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَفَذْلَكَةً لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَعْمَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالكَّلَامُ: إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَبَالِغٍ فِيهِ بِصِيغَةِ التَّفَعُّلِ الَّتِي إِذَا كَانَ فِعْلُهَا غَيْرَ صَادِرٍ مِنِ اثْنَيْنِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ. وَالْمَعْنَى: وَصَفُهُ تَعَالَى بِكَمَالِ الْبَرَكَةِ، وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ الْعَظِيمُ وَالنَّفْعُ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْبَرَكَةُ عَلَى عُلُوِّ الشَّأْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَالْاِسْمُ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتٍ سَوَاءَ كَانَ عَلَمًا مِثْلَ لَفْظِ «اللَّهِ» أَوْ كَانَ صِفَةً مِثْلَ الصِّفَاتِ الْعُلَى وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَأَيُّ اسْمٍ قَدَّرْتَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَسْنَدَ تَبارَكَ إِلَى اسْمُ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْمُسَمَّى دُونَ أَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ رَبُّكَ، كَمَا قَالَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الْفُرْقَانَ: 1] وَكَمَا قَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] لقصد الْمُبَالغَة فِي وَصفه تَعَالَى بِصِفَةِ الْبَرَكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْبُلَغَاءُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُهُ قَدْ تَبَارَكَ فَإِنَّ ذَاتَهُ تَبَارَكَتْ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْاِسْمَ دَالٌّ عَلَى الْمُسَمَّى، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّنْزِيهُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ فَتَعَلُّقُ التَّنْزِيهِ بِذَاتِهِ أَوْلَى وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] عَلَى التَّأْوِيلِ الشَّامِلِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحْرِمٍ أَرَادَ: فَشَكَكْتُهُ بِالرُّمْحِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَة: 96] فَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النَّصْر: 3] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا فِيهِ تَنْزِيهٌ اللَّهِ فَيكون من قبيل قَوْله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، [الْفَاتِحَة: 1] وَيَحْتَمِلُ زِيَادَةَ الْبَاءِ فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] . وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ مِنْ دَقَائِقِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِمْ: لَا يَتَعَلَّقُ الشَّكُّ بِأَطْرَافِهِ وَقَوْلِ ... : يَبِيتُ بِنَجَاةٍ مِنَ اللُّؤْمِ بَيْتُهَا ... إِذَا مَا بُيُوتٌ بِالْمَلَامَةِ حَلَّتْ وَنَظِيرُ هَذَا فِي التَّنْزِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ يَقْرَأُ أَلْفَاظَهُ من لَيْسَ بمتوضىء وَلَا يُمْسِكُ الْمُصْحَفَ إِلَّا الْمُتَوَضِّئُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. فَذِكْرُ اسْمُ فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ مُرَاعًى فِيهِ أَنَّ مَا عدّد من شؤون اللَّهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ وَإِفْضَالِهِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَةُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ إِذْ هِيَ أَقْصَى مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ فِي التَّعْبِيرِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِشُكْرٍ يُوَازِي عِظَمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. وَفِي اسْتِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ (رَبِّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطب وَهُوَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ السِّيَادَةِ الْمَشُوبَةِ بِالرَّأْفَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، وَإِلَى مَا فِي الْإِضَافَةِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَإِلَى كَوْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْخَيِّرَاتِ لِلَّذِينِ خَافُوا مَقَامَ رَبِّهِمْ بِمَا بَلَّغَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ذِي الْجَلَالِ بِالْيَاءِ مَجْرُورًا صِفَةً لِ رَبِّكَ وَهُوَ كَذَلِكَ مَرْسُومٌ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ ذُو الْجَلالِ صِفَةً لِ اسْمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَن: 27] . وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي غَيْرِ مُصْحَفِ أَهْلِ الشَّامِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى الْاِعْتِبَارَيْنِ. وَلَكِنَّ إِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِ ذُو الْجَلالِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي جَرِّ ذِي الْجَلالِ هُنَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ وَجْهُ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الذَّاتِ مَنْ لَفْظِ اسْمُ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَرَيَانَ الْبَرَكَةِ

عَلَى التَّلَفُّظِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ فَذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. وَالْجَلَالُ: الْعَظَمَةُ، وَهُوَ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّائِقَةِ بِهِ تَعَالَى. وَالْإِكْرَامُ: إِسْدَاءُ النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ، فَهُوَ إِذْنٌ حَقِيقٌ بِالثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ.

56- سورة الواقعة

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) 56- سُورَةُ الْوَاقِعَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْوَاقِعَةُ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتُ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كَوِّرَتْ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. رَوَى أَحْمَدُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ الْوَاقِعَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ السُّورِ» . وَهَكَذَا سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ فَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُ هَذَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْن عَطِيَّة: «بِإِجْمَاع مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ فِيهَا آيَاتٌ مَدَنِيَّةٌ، أَيْ نَزَلَتْ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ» اه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ: اثْنَتَانِ نَزَلَتَا فِي سَفَرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَهُمَا أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 81، 82] ، وَاثْنَتَانِ نَزَلَتَا فِي سَفَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُمَا ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 39، 40] وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.

أغراض هذه السورة

وَهِيَ السُّورَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ طه وَقَبْلَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَقَدْ عَدَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ آيُّهَا تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَعَدَّهَا أَهَّلُ الْبَصْرَةِ سَبْعًا وَتِسْعِينَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ سِتًّا وَتِسْعِينَ. وَهَذِهِ السُّورَةُ جَامِعَةٌ لِلتَّذْكِيرِ قَالَ مَسْرُوقٌ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ نَبَأً الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَنَبَأً أَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَبَأً أَهْلِ النَّارِ وَنَبَأً أَهْلِ الدُّنْيَا وَنَبَأً أَهْلِ الْآخِرَةِ فَلْيَقْرَأْ سُورَةَ الْوَاقِعَة» اه. أغراض هَذِه السُّورَة التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَحْقِيقُ وُقُوعِهِ. وَوَصْفُ مَا يُعْرَضُ وَهَذَا الْعَالِمِ الْأَرْضِيِّ عِنْدَ سَاعَةِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَعْضُ نَعِيمِهِمْ. وَصِفَةُ أَهْلِ النَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَإِثْبَاتُ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ وَالْاِسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي بِمَا أَبْدَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَالْاِسْتِدْلَالُ بِدَلَائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْاِسْتِدْلَالُ بِنَزْعِ اللَّهِ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ وَالنَّاسُ كَارِهُونَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مَنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي قَدِرَ عَلَى نَزْعِهَا بِدُونِ مُدَافِعٍ قَادِرٌ عَلَى إِرْجَاعِهَا مَتى أَرَادَ على أَنْ يُمِيتَهُمْ. وَتَأْكِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ نعْمَة أنعم الله بِهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَشْكُرُوهَا وَكَذَّبُوا بِمَا فِيهِ. [1، 2] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالظَّرْفِ الْمُتَضَمِّنِ الشَّرْطَ، افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِأَنَّهُ يَسْتَرْعِي الْأَلْبَابَ لِتَرَقُّبِ مَا بَعْدَ هَذَا الشَّرْطِ الزَّمَانِيِّ مَعَ مَا فِي الْاِسْمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ التَّهْوِيلِ بِتَوَقُّعِ حَدَثٍ عَظِيمٍ يَحْدُثُ. وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ فِي قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 12] إِلَخْ وَقَوْلُهُ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الْوَاقِعَة: 28] إِلَخْ وَقَوْلُهُ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ [الْوَاقِعَة: 42] إِلَخْ. وَضَمَّنَ إِذا مَعْنَى الشَّرْطِ. وَجُمْلَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِلَخْ وَهُوَ اعْتِرَاض بَين جملى إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الْوَاقِعَة: 8] إِلَخْ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [الْوَاقِعَة: 8، 9] ، فيفد جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَيُفِيدُ تَفْصِيلَ جُمْلَةِ وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الْوَاقِعَة: 7] ، وَتَكُونُ الْفَاءُ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَيَيْنِ: رَبَطِ الْجَوَابِ، وَالتَّفْرِيعِ، وَتَكُونُ جُمْلَةً لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ وَمَا بَعْدَهُ اعْتِرَاضًا. وَالْوَاقِعَةُ أَصْلُهَا: الْحَادِثَةُ الَّتِي وَقَعَتْ، أَيْ حَصَلَتْ، يُقَالُ: وَقَعَ أَمْرٌ، أَيْ حَصَلَ كَمَا يُقَالُ: صَدَقُ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ، أَيْ كَوْنِ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ مُوَافِقًا لِمُسَمَّى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْوُجُودِ الْحَاصِل أَو المتوقع عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَمِنْ ذَلِكَ حَادِثَةُ الْحَرْبِ يُقَالُ: وَاقِعَةُ ذِي قَارٍ، وَوَاقِعَةُ الْقَادِسِيَّةِ. فَرَاعَوْا فِي تأنيثها معنى الْحَادِث أَوِ الْكَائِنَةِ أَوِ السَّاعَةِ، وَهُوَ تَأْنِيثٌ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ لَا يَكُونُونَ رَاعَوْا فِيهِ إِلَّا مَعْنَى الْحَادِثَةِ أَوِ السَّاعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَارَتْ عَلَيْهِ الدَّائِرَةُ، قَالَ تَعَالَى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ [الْمَائِدَة: 52] وَقَالَ: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [التَّوْبَة: 98] . وَالْمُرَادُ بِالْوَاقِعَةِ هُنَا الْقِيَامَةُ فَجُعِلَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَمًا لَهَا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة: 15] كَمَا سُمِّيَتِ الصَّاخَّةُ وَالطَّامَّةُ وَالْآزِفَةُ،

أَيِ السَّاعَةِ الْوَاقِعَةِ. وَبِهَذَا الْاِعْتِبَارِ صَارَ فِي قَوْلِهِ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ مُحْسِنُ التَّجْنِيسِ. والْواقِعَةُ: الْمَوْصُوفَةُ بِالْوُقُوعِ، وَهُوَ الْحُدُوثُ. وكاذِبَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ كَذَبَ الْمُجَرَّدُ، جَرَى عَلَى التَّأْنِيثِ لِلدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ. وَتَقْدِيرُهُ هُنَا نَفْسٌ، أَيْ تَنْتَفِي كُلُّ نَفْسٍ كَاذِبَةٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَذَبَ اللَّازِمِ إِذَا قَالَ خِلَافَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: لَا تَقَعُ الْقِيَامَةُ فَيَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا وَقَعَتِ آمَنَتِ النُّفُوسُ كُلُّهَا بِوُقُوعِهَا فَلَمْ تَبْقَ نَفْسٌ تُكَذِّبُ، أَيْ فِي شَأْنِهَا أَوْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا. وَذَلِكَ التَّقْدِيرُ كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَذَبَ الْمُتَعَدِّي مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِمْ كَذَبَتْ فَلَانَا نَفْسُهُ، أَيْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ، أَيْ رَأْيُهُ بِحَدِيثِ كَذِبٍ وَذَلِكَ أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ اعْتِقَادٌ سَوَّلَهُ لَهُ عَقْلُهُ الْقَاصِرُ فَكَأَنَّ نَفْسَهْ حَدَّثَتْهُ حَدِيثًا كَذَّبَتْهُ بِهِ، وَيَقُولُونَ: كَذَبَتْ فَلَانَا نَفْسُهُ فِي الْخَطْبِ الْعَظِيمِ، إِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ فَأَخْفَقَ كَأَنَّ نَفْسَهُ لَمَّا شَجَّعَتْهُ عَلَى اقْتِحَامِهِ قَدْ قَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ تُطِيقُهُ فَتَعْرِضُ لَهُ وَلَا تُبَالِ بِهِ فَإِنَّكَ مُذَلِّلُهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ عَجْزُهُ فَكَأَنَّ نَفْسَهُ أَخْبَرَتْهُ بِمَا لَا يَكُونُ فَقَدْ كَذَّبَتْهُ، كَمَا يُقَالُ: كَذَّبَتْهُ عَيْنُهُ إِذَا تَخَيَّلَ مَرْئِيًّا وَلَمْ يَكُنْ. وَالْمَعْنَى: إِذَا وَقَعَتِ الْقِيَامَةُ تَحَقَّقَ مُنْكِرُوهَا ذَلِكَ فَأَقْلَعُوا عَنِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا لَا تَقَعُ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي اسْتِدْلَالِهِمْ وَهَذَا وَعِيدٌ بِتَحْذِيرِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَامِةِ مِنْ خِزْيِ الْخَيْبَةِ وَسَفَاهَةِ الرَّأْيِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَشْر. وَإِطْلَاق وصف الْكَذِبِ فِي جَمِيعِ هَذَا اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ السَّبَبِ لِلْفِعْلِ غَيْرِ الْمُثْمِرِ بِالْمُخْبِرِ بِحَدِيثِ كَذِبٍ أَوْ تَشْبِيهِ التَّسَبُّبِ بِالْقَوْلِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْكَذِبُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يَتَّسِعَ فِي الْقَوْلِ فِي غَيْرِ نُطْقٍ نَحْوِ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: قَدْ قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِّ (¬1) ¬

(¬1) تَمَامه: قدما فآضت كالفنيق المحنق. النسع: حزَام يشد على بطن الدَّابَّة.

[سورة الواقعة (56) : آية 3]

جَازَ فِي الْكَذِبِ أَنْ يُجْعَلَ فِي غَيْرِ نُطْقٍ نَحْوَ: بِأَنْ كَذَبَ الْقَرَاطِفُ وَالْقَرُوفُ (¬1) وَاللَّامُ فِي لِوَقْعَتِها لَامُ التَّوْقِيتِ نَحْوُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] . وَقَوْلُهُمْ: كَتَبْتُهُ لِكَذَا مَنْ شَهْرِ كَذَا، وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَأَصْلُهَا لَامُ الْاِخْتِصَاصِ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اخْتِصَاصِ الْمُوَقَّتِ بِوَقْتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: 143] . وَهُوَ تَوَسُّعٌ فِي مَعْنَى الْاِخْتِصَاصِ بِحَيْثُ تُنُوسِيَ أَصْلُ الْمَعْنَى. وَفِي الْحَدِيثِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا» . وَهَذَا الْاِسْتِعْمَالُ غَيْرُ الْاِسْتِعْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] . [3] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 3] خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ ضمير الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةُ: 1] ، أَيْ هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، أَيْ يَحْصُلُ عِنْدَهَا خَفْضُ أَقْوَامٍ كَانُوا مُرْتَفِعِينَ وَرَفْعُ أَقْوَامٍ كَانُوا مُنْخَفَضَيْنِ وَذَلِكَ بِخَفْضِ الْجَبَابِرَةِ وَالْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي رِفْعَةٍ وَسِيَادَةٍ، وَبِرَفْعِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يعبأون بِأَكْثَرِهِمْ، وَهِيَ أَيْضًا خَافِضَةُ جِهَاتٍ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً كَالْجِبَالِ وَالصَّوَامِعِ، رَافِعَةُ مَا كَانَ مُنْخَفِضًا بِسَبَبِ الْاِنْقِلَابِ بِالرَّجَّاتِ الْأَرْضِيَّةِ. وَإِسْنَادُ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْوَاقِعَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ إِذْ هِيَ وَقَتُ ظُهُورِ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ مُحْسِّنُ الطباق مَعَ الإغراب بِثُبُوتِ الضِّدَّيْنِ لشَيْء وَاحِد. [4- 7] ¬

(¬1) أَوله: وذبيانية وصت بنيها. وَهُوَ معقّر بن حمَار الْبَارِقي. والقرف: الْأَدِيم. والقرطفة: القطيفة المخملة.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 إلى 7]

[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 4 إِلَى 7] إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةُ: 1] وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَالرَّجُّ: الْاِضْطِرَابُ وَالتَّحَرُّكُ الشَّدِيدُ، فَمَعْنَى: رُجَّتِ رَجَّهَا رَاجٌّ، وَهُوَ مَا يَطْرَأُ فِيهَا مِنَ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتَأْكِيدُهُ بِالْمَصْدَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِهِ وَلِيَتَأَتَّى التَّنْوِينُ الْمُشْعِرُ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ. وَالْبَسُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْتَّفَتُّتِ وَهُوَ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ الْمَجْمُوعَةِ، وَمِنْهُ الْبَسِيسَةُ مِنْ أَسْمَاءِ السَّوِيقِ أَيْ فُتِّتَتِ الْجِبَالُ وَنُسِفَتْ فَيَكُونُ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً [طه: 105، 106] . وَيُطْلَقُ الْبَسُّ أَيْضًا عَلَى السَّوْقِ لِلْمَاشِيَةِ، يُقَالُ: بَسَّ الْغَنَمَ، إِذَا سَاقَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: 47] ، وَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] وَتَأْكِيدُهُ بِقَوْلِهِ: بَسًّا كَالتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: رَجًّا لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ بِالتَّنْوِينِ. وَتَفْرِيعُ فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا عَلَى بُسَّتِ الْجِبالُ لَائِق بمعنيي الْبَسِّ لِأَنَّ الْجِبَالَ إِذَا سُيِّرَتْ فَإِنَّمَا تَسِيرُ تَسْيِيرًا يُفَتِّتُهَا وَيُفَرِّقُهَا، أَيْ تَسْيِيرَ بَعْثَرَةٍ وَارْتِطَامٍ. وَالْهَبَاءُ: مَا يَلُوحُ فِي خُيُوطِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مِنْ دَقِيقِ الْغُبَارِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [23] . وَالْمُنْبَثُّ: اسْمُ فَاعِلِ انْبَثَّ، مُطَاوِعُ بَثَّهُ، إِذَا فَرَّقَهُ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْمُطَاوِعُ لِمُنَاسَبَتِهِ مَعَ قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ فِي أَنَّ الْمَبْنِيَّ لِلنَّائِبِ مَعْنَاهُ كَالْمُطَاوَعَةِ، وَقَوْلُهُ: فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ فَكَانَتْ كَالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ. وَالْخِطَابُ فِي: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ وَهُوَ الْمَوْعِظَةُ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 إلى 12]

وَالْأَزْوَاجُ: الْأَصْنَافُ. وَالزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الصِّنْفِ وَالنَّوْعِ كَقَوْلِه تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرَّحْمَن: 52] وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الصِّنْفَ إِذَا ذُكِرَ يُذْكَرُ مَعَهُ نَظِيرُهُ غَالِبًا فَيكون زوجا. [8- 12] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 8 إِلَى 12] فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) قَدْ عَلِمْتَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةُ: 1] الْوَجْهَ فِي مُتَعَلِّقِ إِذا وَإِذْ قَدْ وَقَعَ قَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الْوَاقِعَة: 7] عَطْفًا عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الْوَاقِعَة: 4] كَانَ هُوَ مَحَطَّ الْقَصْدِ مِنَ التَّوْقِيتِ بِ (إِذَا) الثَّانِيَةِ الْوَاقِعَةِ بَدَلًا مَنْ (إِذَا) الْأُولَى وَكِلْتَاهُمَا مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَكَأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ لِرَبْطِ الْجَزَاءِ مَعَ التَّفْصِيلِ لِلْإِجْمَالِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ جَوَابًا لِ (إِذَا) الثَّانِيَةِ آئِلًا إِلَى كَوْنِهِ جَوَابًا لِ (إِذَا) الْأُولَى لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُبْدَلَةٌ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ جَوَابُ (إِذَا) الْأُولَى فَتَكُونُ الْفَاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَيَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: 2] . وَقَدْ أَفَادَ التَّفْصِيلُ أَنَّ الْأَصْنَافَ ثَلَاثَةٌ: صِنْفٌ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُجْعَلُونَ فِي الْجِهَةِ الْيُمْنَى فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي الْمَحْشَرِ. وَالْيَمِينُ جِهَةُ عِنَايَةٍ وَكَرَامَةٍ فِي الْعُرْفِ، وَاشْتُقَّتْ مِنَ الْيُمْنِ، أَيِ الْبَرَكَةِ. وَصِنْفٌ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَهِيَ اسْمُ جِهَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشُّؤْمِ، وَهُوَ ضِدُّ الْيُمْنِ فَهُوَ الضُّرُّ وَعَدَمُ النَّفْع وَقد سميا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ أَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: 27] وأَصْحابُ الشِّمالِ [الْوَاقِعَة: 41] ، فَجُعِلَ الشَّمَالُ ضِدَّ الْيَمِينِ كَمَا جُعِلَ الْمَشْأَمَةُ هُنَا ضِدَّ الْمَيْمَنَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ شُؤْمٍ وَسُوءٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَعَارٌ لِمَا عُرِفَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ

إِطْلَاقِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ الَّذِي شَاعَ حَتَّى سَاوَى الصَّرِيحَ، وَأَصْلُهُ جَاءَ مِنَ الزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ إِذْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ حُصُولَ خَيْرٍ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ مُرُورِ الطَّيْرِ أَوِ الْوَحْشِ مِنْ يَمِينِ الزَّاجِرِ إِلَى يَسَارِهِ وَيَتَوَقَّعُونَ الشَّرَّ مِنْ مُرُورِهِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [28] ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [131] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ فِي سُورَةِ يس [18] . وَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ هُنَا عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِخَبَرٍ فِيهِ وَصْفُ بَعْضِ حَالَيْهِمَا بِذِكْرِ مَا هُوَ إِجْمَالٌ لِحَالَيْهِمَا مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ لَفْظَيِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَشْأَمَةِ بِطَرِيقَةِ الْاِسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّعَجِيبِ مِنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَهُوَ تَعْجِيبٌ تُرِكَ عَلَى إِبْهَامِهِ هُنَا لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلُّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَ (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ. وَ (أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَاب الْمَشْأَمَةِ) خَبَرَانِ عَنْ (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1، 2] وَقَوْلِهِ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 1، 2] . وَإِظْهَارُ لَفْظَيْ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ بَعْدَ الْاِسْتِفْهَامَيْنِ دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرَيْهِمَا. لِأَن مقَام التعجيب وَالتَّشْهِيرِ يَقْتَضِي الْإِظْهَار بِخِلَاف مقَام قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 10] . وَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ هَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فِي الْعَدِّ وَهُمُ الصِّنْفُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَوَصْفُهُمْ بِالسَّبْقِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ سَابِقُونَ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ فَهُمْ سَابِقُونَ إِلَى الْخَيْرِ، فَالنَّاسُ لَا يَتَسَابَقُونَ إِلَّا لِنَوَالِ نَفِيسٍ مَرْغُوبٍ لِكُلِّ النَّاسِ، وَأَمَّا الشَّرُّ والضرّ فهم يتكعكون عَنْهُ. وَحَقِيقَةُ السَّبْقِ: وُصُولُ أَحَدٍ مَكَانًا قَبْلَ وُصُولِ أَحَدٍ آخَرَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ عَلَى سَبِيلِ الْاِسْتِعَارَةِ، وَقَدْ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ قَوْلُ النَّابِغَةِ: سَبَقْتَ الرِّجَالَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا ... كَسَبْقِ الْجَوَادِ اصْطَادَ قَبْلَ الظَّوَارِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُبَادَرَةِ وَالْإِسْرَاعِ إِلَى الْخَيْرِ فِي

الدِّينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [100] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُغَالَبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [61] . وَقَوْلُهُ: السَّابِقُونَ ثَانِيًا يَجُوزُ جَعْلُهُ خَبَرًا عَنِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ بِأَنَّهُمْ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِهِمْ بِشَيْءٍ لَا يَكْتَنِهُ كُنْهَهُ بِحَيْثُ لَا يَفِي بِهِ التَّعْبِيرُ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ إِذْ هِيَ أَقْصَى مَا يَسَعُهُ التَّعْبِيرُ، فَإِذَا أَرَادَ السَّامِعُ أَنْ يَتَصَوَّرَ صِفَاتَهَمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ حَالَهُمْ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْأَعْرَاف: 157] . وَيَجُوزُ جَعْلُهُ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ فَمَآلُ جُمْلَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَنَظِيرَتُهَا وَجُمْلَةُ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هُوَ التعجيب مِنْ حَالِهِمْ وَطَرِيقُهُ هُوَ الْكِنَايَةُ وَلَكِنَّ بَيْنَ الْكِنَايَتَيْنِ فَرْقًا بِأَنَّ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ السُّؤَالِ عَنِ الْوَصْفِ، وَالْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ تَعَذُّرِ التَّعْبِيرِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَصْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَهُمْ بَلَغَتْ مُنْتَهَى الْفَضْلِ وَالرِّفْعَةِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الْمُتَكَلِّمُ خَبَرًا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُمْ أَدَلَّ عَلَى مَرْتَبَتِهِمْ مِنَ اسْمِ السَّابِقُونَ فَهَذَا الْخَبَرُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِ قَدْرِهِمْ مِنَ الْإِخْبَارِ بِ مَا الْاِسْتِفْهَامِيَّةُ التَّعَجِيبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ أبي الطمحان القفيني: وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمُو هُمُو ... إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ سَيِّدٌ قَامَ صَاحِبُهُ مَعَ مَا فِي اشْتِقَاقِ لَقَبِهِمْ مِنَ «السَّبْقِ» مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى بُلُوغِهِمْ أَقْصَى مَا يَطْلُبُهُ الطَّالِبُونَ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ السَّابِقُونَ فِي الْآيَةِ لِقَصْدِ جَعْلِ وَصْفِ السَّابِقُونَ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ لَهُمْ، وَلِيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ أَنَّهُمْ سَابِقُونَ فِي كُلِّ مَيْدَانٍ تَتَسَابَقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَتَلَقَّوْا مِنْهُمْ شَرَائِعَهُمْ، وَهَذَا الصِّنْفُ يُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ مِنَ الْقَدَمِ، وَمُسْتَمِرٌّ فِي الْأُمَمِ إِلَى الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ

وَلَيْسَ صِنْفًا قَدِ انْقَضَى وَسَبَقَ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ. وَأُخِّرَ السَّابِقُونَ فِي الذِّكْرِ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ لِتَشْوِيقِ السَّامِعِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ صِنْفِهِمْ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ الصِّنْفَانِ الْآخَرَانِ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ تَرْغِيبًا فِي الْاِقْتِدَاءِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَمَّا يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ مِنْ تَسَاؤُلِ السَّامِعِ عَنْ أَثَرِ التَّنْوِيهِ بِهِمْ. وَبِذَلِكَ كَانَ هَذَا ابْتِدَاءَ تَفْصِيل لجزاء الْأَصْنَاف الثَّلَاثَةِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ بَعْدَ اللَّفِّ، نَشْرًا مُشَوَّشًا تَشْوِيشًا اقْتَضَتْهُ مُنَاسِبَةُ اتِّصَالِ الْمَعَانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ أَقْرَبَ ذِكْرًا، ثُمَّ مُرَاعَاةُ الْأَهَمِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّنْفَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَكَانَ بَعْضُ الْكَلَامِ آخِذًا بِحُجُزِ بَعْضٍ. وَالْمُقَرَّبُ: أَبْلَغُ من الْقَرِيب لِدَلَالَةِ صِيغَتِهِ عَلَى الْاِصْطِفَاءِ وَالْاِجْتِبَاءِ، وَذَلِكَ قُرْبٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ شُبِّهَ بِالْقُرْبِ فِي مُلَابَسَةِ الْقَرِيب والاهتمام بشؤونه فَإِن الْمُطِيع بمجاهدته فِي الطَّاعَةِ يَكُونُ كَالْمُتَقَرِّبِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ طَالِبِ الْقُرْبِ مِنْهُ فَإِذَا بَلَغَ مَرْتَبَةً عَالِيَةً مِنْ ذَلِكَ قَرَّبَهُ اللَّهُ، أَيْ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الْمُقَرَّبِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا جَاءَ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبُّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بهَا وَرجله الَّذِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مَجَازِيَّةٌ تَقْرِيبًا لِمَعْنَى التَّقْرِيبِ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْمُقَرَّبُونَ لِظُهُورِ أَنَّهُ مُقَرَّبٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عِنَايَتِهِ وَتَفْضِيلِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ زَمَانُ التَّقْرِيبِ وَلَا مَكَانُهُ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ الْاِعْتِبَارِيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ إِشَارَةٍ تَنْبِيهً عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُخْبِرُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْوَصْفِ الْوَارِدِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ أَنهم السَّابِقُونَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 إلى 14]

وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ. وَإِيقَاعُهُ بَعْدَ وَصْفِ الْمُقَرَّبُونَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَهُ مِنْ آثَارِ التَّقْرِيب الْمَذْكُور. [13، 14] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 13 إِلَى 14] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 12] وَجُمْلَةِ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ [الْوَاقِعَة: 15] . وثُلَّةٌ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُمْ ثُلَّةٌ، وَمُعَادُ الضَّمِيرِ الْمُقَدَّرِ «السَّابِقُونَ» ، أَيِ السَّابِقُونَ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وَهَذَا الْاِعْتِرَاضُ يُقْصَدُ مِنْهُ التَّنْوِيهُ بِصِنْفِ السَّابِقين وتفضيلهم بطرِيق الْكِنَايَةِ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظَيْ ثُلَّةٌ وقَلِيلٌ الْمُشْعِرَيْنَ بِأَنَّهُمْ قُلٌّ مِنْ كُثُرٍ، فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ صِنْفٌ عَزِيزٌ نَفِيسٌ لِمَا عُهِدَ فِي الْعُرْفِ مِنْ قِلَّةِ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ وَكَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ- وَقِيلَ غَيْرُهُ-: تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ مَعَ بِشَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ حَظَّهُمْ فِي هَذَا الصِّنْفِ كَحَظِّ الْمُؤْمِنِينَ السَّالِفِيِّنَ أَصْحَابِ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ وَفِي أَحَادِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بِثَبَاتِ الْمُؤْمِنَيْنِ السَّالِفِيِّنَ مَعَ الرُّسُلِ وَمُجَاهَدَتِهِمْ فَرُبَّمَا خَامَرَ نُفُوسَهُمْ أَنَّ تِلْكَ صِفَةٌ لَا تُنَالُ بَعْدَهُمْ فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ لَهُمْ حَظًّا مِنْهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمرَان: 144- 146] وَغَيْرِهَا، تَلْهِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ وَإِذْكَاءً لِهِمَمِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ بِأَمْثَالِ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ فَيَسْتَكْثِرُوا مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى أَحَدِهِمْ فَيُنْشَرُ إِلَى عَظْمِهِ لَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» . وَالثُّلَّةُ: بِضَمِّ الثَّاءِ لَا غَيْرَ: اسْمٌ لِلجَّمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ مُطْلَقًا قَلِيلًا كَانُوا أَوْ

كَثِيرًا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ وَالرَّاغِبِ وَصَاحِبِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَصَاحِبِ «الْقَامُوسِ» وَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْأَسَاسِ» ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» إِنَّ الثُّلَّةَ: الْأُمَّةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ مَعْنَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَفْسِيرَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ. وَلِمَا فِي هَذَا الْاِعْتِرَاضِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْعِزَّةِ قَدَّمَ عَلَى ذِكْرِ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ كَيْفِيَّتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لوصفهم ب (السَّابِقين) بِخِلَافِ مَا يَأْتِي فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَمَعْنَى: الْأَوَّلِينَ قَوْمٌ مُتَقَدِّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ مَا كَالْوُجُودِ أَوِ الْأَحْوَالِ عَلَى غَيْرِ الَّذِي هُوَ الْآخَرِ أَوِ الثَّانِي، فَالْأَوَّلِيَّةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يُبَيِّنُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ حَيْثُمَا وَقَعَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ هَنَا مُرَادٌ بِهِمُ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الْوَاقِعَة: 7] خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ نَاسٌ لِأَنَّ الْمُنْقَرِضِينَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ مِنْ أَمَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ أَوْ أَهْلِ نحلة يدعونَ بالأوليين كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَمُهَلْهَلُ الشُّعَرَاءِ ذَاكَ الْأَوَّلُ وَقَالَ تَعَالَى: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الْوَاقِعَة: 48] الَّذِينَ هُمْ يَخْلِفُونَهُمْ وَيَكُونُونَ مَوْجُودِينَ، أَوْ فِي تَقْدِيرِ الْمَوْجُودِينَ يُدْعَوْنَ الْآخِرِينَ. وَقَدْ وُصِفَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بِالْآخِرِينَ فِي حَدِيثِ فَضْلِ الْجُمْعَةِ «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا» الْحَدِيثَ. وَإِذْ قَدْ وُصِفَ السَّابِقُونَ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرِ وَوُصِفَتْ حَالُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ عَقِبَ ذَلِكَ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الصَّالِحِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ عَصْرِ آدَمَ إِلَى بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاء: 69] . فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِ الْأَوَّلِينَ الْأُمَمُ الْأُولَى كُلُّهَا، وَكَانَ مُعْظَمُ تِلْكَ الْأُمَمِ

أَهْلَ عِنَادٍ وَكُفْرٍ وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ إِلَّا قَلِيلا كَمَا تنبىء بِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَوُصِفَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَعْضِ الْأُمَمِ عِنْدَ أَقْوَامِهِمْ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ، وَبِالْأَرْذَلِينَ، وَبِالْأَقَلِّينَ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآخِرِينَ الْأُمَّةُ الْأَخِيرَةُ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. فَالسَّابِقُونَ طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَمَجْمُوعُ عَدَدِهَا فِي مَاضِي الْقُرُونِ كَثِيرٌ مِثْلُ أَصْحَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ رَافَقُوهُ فِي التِّيهِ، وَمِثْلُ أَصْحَابِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلُ الْحَوَارِيِّينَ، وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَهُمُ الَّذِينَ أَسْرَعُوا لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَصَحِبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التَّوْبَة: 100] ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَهِيَ لَا يَتَحَقَّقُ مُفَادُهَا إِلَّا فِي الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ. ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، فَاقْتَضَى أَنَّ السَّابِقِينَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَزَمَانِ الْإِسْلَامِ حَاضِرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ بَعُضٌ مَنْ كَلٍّ، وَالْبَعْضِيَّةُ تَقْتَضِي الْقِلَّةَ النِّسْبِيَّةَ وَلَفَظُ ثُلَّةٌ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ وَلَفْظُ قَلِيلٌ صَرِيحٌ فِيهِ. وَإِنَّمَا قُوبِلَ لَفْظُ ثُلَّةٌ بِلَفْظِ قَلِيلٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الثُّلَّةَ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَابِقُو مَنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِينَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَزِنُوا وَقَالُوا: إِذَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَلِيلٌ، فَنَزَلَتْ نِصْفُ النَّهَارِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 39، 40] فَنَسَخَتْ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» (¬1) . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ وَمُجْمَلٌ فَإِنَّ هُنَا قِسْمَيْنِ مُشْتَبِهَيْنِ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِيهَا وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 40] لَيْسَتْ وَارِدَةً فِي شَأْنِ السَّابِقِينَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ¬

(¬1) رَوَاهُ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه، وَزَاد ابْن أبي حَاتِم قَوْله: «وَقَالُوا إِذن لَا يكون من أمة مُحَمَّد إِلَّا قَلِيل. وَزَاد «فنخست وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 15 إلى 26]

أَنَّ عَدَدَ أَهْلِ مَرْتَبَةِ السَّابِقِينَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُسَاوٍ لِعَدَدِ أَهْلِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «فَنَسَخَتْ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» يُرِيدُ نَسَخَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. فَمُرَادُهُ أَنَّهَا أَبْطَلَتْ أَنْ يَكُونَ التَّفَوُّقُ مُطَّرِدًا فِي عَدَدِ الصَّالِحِينَ فَبَقِيَ التَّفَوُّقُ فِي الْعَدَدِ خَاصًّا بِالسَّابِقِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ النَّسْخَ عَلَى مَا يَشْمَل الْبَيَان فَإِنَّهُ مَوْرِدَ آيَةِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 39، 40] فِي شَأْنِ صِنْفِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَوْرِدُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ هُوَ صِنْفُ السَّابِقِينَ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعْنَى النَّسَخِ بِالْمَعْنَى الْاِصْطِلَاحِيِّ مَعَ تَغَايُرِ مَوْرِدِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبَيَانُ وَهُوَ بَيَانٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ. [15- 26] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 15 إِلَى 26] عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنْ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَة: 11] أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهَذَا تَبْشِيرٌ بِبَعْضِ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ مِمَّا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِتَشْوِيقِهِمْ إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ فَيَسْعَوْا لِنَوَالِهِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ الْاِقْتِصَارُ عَلَى الْمَذْكُورِ هُنَا بِمُقْتَضٍ حَصْرَ النَّعِيمِ فِيمَا ذَكَرَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] . وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَهُوَ كُرْسِيٌّ طَوِيلٌ مُتَّسِعٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُتَّكِئُ وَالْمُضْطَجِعُ، لَهُ سُوقٌ أَرْبَعٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ بِنَحْوِ ذِرَاعٍ يُتَّخَذُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْوَادِ وَيَتَّخِذُهُ الْمُلُوكُ مِنْ ذهب وَمن فضَّة وَمِنْ عَاجٍ وَمِنْ نَفِيسِ الْعُودِ كَالْأَبَنُوسِ وَيَتَّخِذُهُ

الْعُظَمَاءُ الْمُتَرَفِّهُونَ مِنَ الْحَدِيدِ الصِّرْفِ وَمِنَ الْحَدِيدِ الْمُلَوَّنِ أَوِ الْمُزَيَّنِ بِالذَّهَبِ. وَالسَّرِيرُ مَجْلِسُ الْعُظَمَاءِ وَالْمُلُوكِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [44] . وَالْمَوْضُونَةُ: الْمَسْبُوكُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا تُسْبَكُ حِلَقُ الدُّرُوعِ وَإِنَّمَا تُوضَنُ سُطُوحُهَا وَهِيَ مَا بَيْنَ سُوقِهَا الْأَرْبَعِ حَيْثُ تُلْقَى عَلَيْهَا الطَّنَافِسُ أَوِ الزَّرَابِيُّ لِلجُّلُوسِ وَالْاِضْطِجَاعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَفْرَشُ وَثِيرًا فَلَا يُؤْلِمُ الْمُضْطَجِعَ وَلَا الْجَالِسَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ مَوْضُونَةٍ بِمَرْمُولَةٍ، أَيْ مَنْسُوجَةٍ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ. وَالْاِتِّكَاءُ: اضْطِجَاعٌ مَعَ تَبَاعُدِ أَعْلَى الْجَنْبِ، وَالْاِعْتِمَادِ عَلَى الْمِرْفَقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الرَّحْمَن. وَالتَّقَابُلُ: مِنْ تَمَامِ النَّعِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأُنْسِ بِمُشَاهَدَةِ الْأَصْحَابِ وَالْحَدِيثِ مَعَهُمْ. وَقَوْلُهُ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 12] وَتَقَدَّمَ قَرِيبٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَالطَّوَافُ: الْمَشْيُ الْمُكَرَّرُ حَوْلَ شَيْءٍ وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُلَازِمَةَ لِلشَّيْءِ. وَوُصِفُ الْوِلْدَانِ بِالْمُخَلَّدِينَ، أَيْ دَائِمَيْنِ عَلَى الطَّوَافِ عَلَيْهِمْ وَمُنَاوَلَتِهِمْ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ ذَلِكَ. وَإِذْ قَدْ أَلِفُوا رُؤْيَتَهُمْ فَمِنَ النِّعْمَةِ دَوَامُهُمْ مَعَهُمْ. وَقَدْ فُسِّرَ مُخَلَّدُونَ بِأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي صِفَةِ الْوِلْدَانِ، أَيْ بِالشَّبَابِ وَالْغَضَاضَةِ، أَيْ لَيْسُوا كَوِلْدَانِ الدُّنْيَا يَصِيرُونَ قَرِيبًا فِتْيَانًا فَكُهُولًا فَشُيُوخًا. وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُمْ مُقَرَّطُونَ بِالْأَقْرَاطِ. وَالْقُرْطُ يُسَمَّى خُلْدًا وَخَلَدًا وَجَمْعُهُ خِلَدَةٌ كَقِرْدَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ اسْتَعْمَلَهَا الْعَرَبُ كُلُّهُمْ وَكَانُوا يُحْسِّنُونَ غِلْمَانَهُمْ بِالْأَقْرَاطِ فِي الْآذَانِ. وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ إِنَاءُ الْخَمْرِ لَا عُرْوَة لَهُ وَله خُرْطُومَ وَفِيهِ اسْتِدَارَةٌ مُتَّسِعٌ مَوْضِعُ الشُّرْبِ مِنْهُ فَهُوَ كَالْقَدَحِ.

وَالْأَبَارِيقُ: جَمْعُ إِبْرِيقَ وَهُوَ إِنَاءٌ تُحْمَلُ فِيهِ الْخَمْرُ لِلشَّارِبِينَ فَتُصَبُّ فِي الْأَكْوَابِ، وَالْإِبْرِيقُ لَهُ خُرْطُومٌ وَعُرْوَةٌ. وَالْكَأْسُ: إِنَاءٌ لِلْخَمْرِ كَالْكُوبِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَطِيلٌ ضَيِّقٌ الْمَشْرَبُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَالْكَأْسُ جِنْسٌ يَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ فَلَيْسَ إِفْرَادُهُ هُنَا لِلْوَحْدَةِ فَإِن المُرَاد كؤوس كَثِيرَةٌ كَمَا اقْتَضَاهُ جَمْعُ أَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ، فَإِذَا كَانَتْ آنِيَةُ حَمْلِ الْخَمْرِ كَثِيرَة كَانَت كؤوس الشَّارِبِينَ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا أُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ فِي لفظ كؤوس ثِقَلًا بِوُجُودِ هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ فِي وَسَطِهِ مَعَ ثِقَلِ صِيغَةِ الْجَمْعِ. وَالْمُعَيَّنُ: الْجَارِي، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَمْرُ الَّتِي لِكَثْرَتِهَا تَجْرِي فِي الْمَجَارِي كَمَا يَجْرِي الْمَاءُ وَلَيْسَتْ قَلِيلَةٌ عَزِيزَةٌ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: 15] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُعَيَّنِ الْمَاءَ لِأَنَّ الْكَأْسَ لَيْسَتْ مِنْ آنِيَةِ المَاء وَإِنَّمَا آنيتهما الْأَقْدَاحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [45، 47] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ وَتِلْكَ صِفَاتُ الْخَمْرِ. وَالتَّصْدِيعُ: الْإِصَابَةُ بِالصُّدَاعِ، وَهُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ مِنَ الْخُمَارِ النَّاشِئِ عَنِ السُّكْرِ، أَيْ لَا تُصِيبُهُمُ الْخَمْرُ بِصُدَاعٍ. وَمَعْنَى (عَنْهَا) مُجَاوِزِينَ لَهَا، أَيْ لَا يَقَعُ لَهُم صداع ناشىء عَنْهَا، أَيْ فَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ خُمُورِ الدُّنْيَا فَاسْتُعْمِلَتْ (عَنْ) فِي مَعْنَى السَّبَبِيَّةَ. وَعُطِفَ وَلا يُنْزِفُونَ عَلَى لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها فَيُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقُ لَا يُصَدَّعُونَ فَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [47] ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أَيْ لَا يَعْتَرِيهِمْ نَزْفٌ بِسَبَبِهَا كَمَا يَحْصُلُ لِلشَّارِبِينَ فِي الدُّنْيَا. وَالنَّزْفُ: اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ، وَفِعْلُهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ يُقَالُ: نُزِفَ عَقْلُهُ مِثْلُ: عُنِيَ فَهُوَ مَنْزُوفٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْزِفُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ مَنْ أَنْزَفَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَنْزَفَ الْمَهْمُوزِ الْقَاصِرِ إِذا سكر وذهر عَقْلُهُ. والفاكهة: الثِّمَار والنقول كَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الرَّحْمَن. وَعَطْفُ فاكِهَةٍ على بِأَكْوابٍ، أَيْ وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِفَاكِهَةٍ وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الدَّعَةِ وألذّ من التَّنَاوُل بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَهَوُا اقْتِطَافَهَا بِالْأَيْدِي دَنَتْ لَهُمُ الْأَغْصَانُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَشْتَهِي تَنَاوُلَ الثَّمَرَةِ من أَغْصَانهَا. ومِمَّا يَتَخَيَّرُونَ: الْجِنْسُ الَّذِي يَخْتَارُونَهُ وَيَشْتَهُونَهُ، أَيْ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِفَاكِهَةٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا، فَفِعْلُ يَتَخَيَّرُونَ يُفِيدُ قُوَّة الِاخْتِيَار. و «لحم الطَّيْرِ» : هُوَ أَرْفَعُ اللُّحُومِ وَأَشْهَاهَا وَأَعَزُّهَا. وَعَطْفُ وَلَحْمِ طَيْرٍ عَلَى فاكِهَةٍ كَعَطْفِ فاكِهَةٍ عَلَى (أَكْوَابٍ) . وَالْاِشْتِهَاءُ: مَصْدَرُ اشْتَهَى، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ مَحَبَّةُ نَيْلِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ مِنْ مَحْسُوسَاتٍ وَمَعْنَوِيَّاتٍ، يُقَالُ: شَهِيٌّ كَرَضِيٌّ، وَشَهَا كَدَعَا. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ: اشْتَهَى، وَالْاِفْتِعَالُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّحْمِ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّ الْفَوَاكِهَ أَعَزُّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ وَلَحْمِ طَيْرٍ فَجُعِلَ التَّخْيِرُ لِلْأَوَّلِ. وَالْاِشْتِهَاءُ لِلثَّانِي وَلِأَنَّ الْاِشْتِهَاءَ أَعْلَقُ بِالطَّعَامِ مِنْهُ بِالْفَوَاكِهِ، فَلَذَّةُ كَسْرِ الشَّاهِيَةِ بِالطَّعَامِ لَذَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى لَذَّةِ حُسْنِ طَعْمِهِ، وَكَثْرَةُ التَّخَيُّرِ لِلْفَاكِهَةِ هِيَ لَذَّةُ تَلْوِينِ الْأَصْنَافِ. وحُورٌ عِينٌ عَطْفٌ عَلَى وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، أَيْ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ حُورٌ عِينٌ. وَالْحُورُ الْعِينُ: النِّسَاءُ ذَوَاتُ الْحَوَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَذَوَاتُ الْعَيْنِ وَهُوَ سِعَةُ الْعَيْنِ وَتَقَدُّمٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحُورٌ عِينٌ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ حُورٌ عطف على بِأَكْوابٍ عُطِفَ مَعْنَى مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا بِتَقْدِيرِ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ، أَوْ يُعْطَفُ عَلَى جَنَّاتِ، أَيْ وَفِي حُورٍ عِينٍ، أَيْ هُمْ فِي حُورٍ عِينٍ أَوْ مُحَاطُونَ بِهِنَّ وَمُحَدِّقُونَ بِهِنَّ. وَالْمُرَادُ: أَزْوَاجُ السَّابِقَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُنَّ الْمَقْصُورَاتُ فِي الْخِيَامِ. وَالْأَمْثَالُ: الْأَشْبَاهُ. وَدُخُولُ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى (أَمْثَالِ) لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . وَالْمَعْنَى: هُنَّ أَمْثَالُ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ. واللُّؤْلُؤِ: الدُّرُّ، وَتَقَدَّمَ تَبْيِينُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً فِي سُورَةِ الْحَجِّ [23] . والْمَكْنُونِ: الْمَخْزُونُ الْمُخَبَّأُ لِنَفَاسَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَة: 11] ، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزاءً مَصْدَرًا جَاءَ بَدَلًا عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَازَيْنَاهُمْ جَزَاءً. وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اعْتِرَاضٌ تُفِيدُ إِظْهَارَ كَرَامَتِهِمْ بِحَيْثُ جَعَلَتْ أَصْنَاف النَّعيم الَّذين حَظُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ قَدَّمُوهُ وَذَلِكَ إِتْمَامٌ لِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ. ثُمَّ أَكْمَلَ وَصْفَ النَّعِيمِ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، وَهِيَ نِعْمَةٌ رُوحِيَّةٌ فَإِنَّ سَلَامَةَ النَّفْسِ مِنْ سَمَاعِ مَا لَا يُحِبُّ سَمَاعَهُ وَمِنْ سَمَاعِ مَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ مِنَ الْأَذَى نِعْمَةٌ بِرَاحَةِ الْبَالِ وَشُغْلِهِ بِسَمَاعِ الْمَحْبُوبِ. وَاللَّغْوُ: الكَّلَامُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالْهَذَيَانِ، وَالكَّلَامُ الَّذِي لَا مُحَصِّلَ لَهُ. وَالتَّأْثِيمُ: اللَّوْمُ وَالْإِنْكَارُ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَثَّمَ، إِذَا نَسَبَ غَيْرَهُ إِلَى الْإِثْمِ.

وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 12] . وَأَتْبَعَ ذِكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِذِكْرِ نِعْمَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَنْعَامِ بِالْمَسْمُوعِ الَّذِي يُفِيدُ الْكَرَامَةَ لِأَنَّ الْإِكْرَامَ لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ يُكْسِبُ النَّفْسَ عزة وإدلالا بقوله: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَغْواً- وتَأْثِيماً بِطَرِيقَةِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ الْمُشْتَهِرَ فِي الْبَدِيعِ بِاسْمِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ لِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَلَهُ مَوْقِعٌ عَظِيم من البلاغة كَقَوْلِه النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ فَالْاِسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ادِّعَاءً وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِحَسَبِ حَاصِلِ الْمَعْنَى، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ انْتِصَابَ قِيلًا عَلَى الْاِسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ لَغْواً. وسَلاماً الْأَوَّلُ مَقُولُ قِيلًا أَيْ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْنَا سَلَامًا، فَهُوَ جُمْلَةٌ مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوُلِ. وسَلاماً الثَّانِي تَكْرِيرٌ لِ سَلاماً الْأَوَّلِ تَكْرِيرًا لَيْسَ لِلتَّأْكِيدِ بَلْ لِإِفَادَةِ التَّعَاقُبِ، أَيْ سَلَامًا إِثْرَ سَلَامٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الْفجْر: 21] وَقَوْلُهُمْ: قَرَأَتُ النَّحْوَ بَابًا بَابًا، أَوْ مُشَارًا بِهِ إِلَى كَثْرَةِ الْمُسَلِّمِينَ فَهُوَ مُؤْذِنٌ مَعَ الْكَرَامَةِ بِأَنَّهُمْ مُعَظَّمُونَ مُبَجَّلُونَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ التَّكْرِيرَ بِتَكْرِيرِ الْأَزْمِنَةِ، وَالثَّانِي يُفِيد التّكْرَار بتكرار الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْقِيلُ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْد: 23، 24] وَيَتَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: 10] . وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ: سَلاماً مَنْصُوبًا دُونَ الرَّفْعِ مَعَ كَوْنِ الرَّفْعِ أَدَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [69] وَسُورَةِ الذَّارِيَاتِ [25] لِأَنَّهُ أُرِيدَ جَعْلُهُ بَدَلًا من قِيلًا.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 إلى 34]

[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 27 إِلَى 34] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) عَوْدٌ إِلَى نَشْرِ مَا وَقَعَ لَفُّهُ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الْوَاقِعَة: 7] كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الْوَاقِعَة: 8] . وَعَبَّرَ عَنْهُمْ هُنَا بِ أَصْحابُ الْيَمِينِ وَهُنَالِكَ بِ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لِلتَّفَنُّنِ. فَجُمْلَةُ وَأَصْحابُ الْيَمِينِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَة: 8] عطف الْقِصَّة عل الْقِصَّةِ. وَجُمْلَةُ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ خَبَرٌ عَنْ أَصْحابُ الْيَمِينِ بِإِبْهَامٍ يُفِيدُ التَّنْوِيَهَ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الْوَاقِعَة: 8] . وَأَتْبَعَ هَذَا الْإِبْهَامَ بِمَا يُبَيِّنُ بَعْضَهُ بِقَوْلِهِ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إِلَخْ. وَالسِّدْرُ: شَجَرٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ مُدَوَّرٍ وَهُوَ صِنْفَانِ: عُبْرِيٌّ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَاءِ نَسَبٍ نِسْبَةً إِلَى الْعِبْرِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ عِبْرُ النَّهْيِ، أَيْ ضَفَّتِهِ، لَهُ شَوْكٌ ضَعِيفٌ فِي غُصُونِهِ لَا يَضِيرُ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي الضَّالُّ (بِضَادٍ سَاقِطَةٍ وَلَامٍ مُخَفَّفَةٍ) وَهُوَ ذُو شَوْكٍ. وَأَجْوَدُ السِّدْرِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ يُشْبِهُ شَجَرَ الْعُنَّابِ، وَوَرَقُهُ كَوَرَقِ الْعُنَّابِ وَوَرَقُهُ يُجْعَلُ غَسُولًا يُنَظَّفُ بِهِ، يُخْرِجُ مَعَ الْمَاءِ رَغْوَةً كَالصَّابُونِ. وَثَمَرُ هَذَا الصِّنْفِ هُوَ النَّبْقُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَافٍ- يُشْبِهُ ثَمَرَ الْعُنَّابِ إِلَّا أَنَّهُ أَصْفَرُ مُزٌّ (بِالزَّايِ) يُفَوِّحُ الْفَمَّ وَيُفَوِّحُ الثِّيَابَ وَيُتَفَكَّهُ بِهِ، وَأَمَّا الضَّالُّ وَهُوَ السِّدْرُ الْبَرِّيُّ الَّذِي لَا يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يَصْلُحُ وَرَقُهُ لِلْغَسُولِ وَثَمَرُهُ عَفِصٌ لَا يَسُوغُ فِي الْحَلْقِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَخْبِطُ الرُّعَاةُ وَرَقَهُ لِلرَّاعِيَةِ، وَأَجْوَدُ ثَمَرِ السِّدْرِ ثَمَرُ سِدْرِ هَجَرَ أَشَدُّ نَبِقَ حَلَاوَةٍ وَأَطْيَبُهُ رَائِحَةً.

وَلَمَّا كَانَ السِّدْرُ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَكَانَ مَحْبُوبًا لِلْعَرَبِ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْهُ فِي جَنَّاتِهِمْ وَحَوَائِطِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَادِيَةِ فَلَا يَنْبُتُ فِي جَنَّاتِهِمْ خُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ شَجَرِ الْجَنَّةِ إِغْرَابًا بِهِ وَبِمَحَاسِنِهِ الَّتِي كَانَ مَحْرُومًا مِنْهَا مَنْ لَا يَسْكُنُ الْبَوَادِي وَبِوَفْرَةِ ظِلِّهِ وَتَهَدُّلِ أَغْصَانِهِ وَنَكْهَةِ ثَمَرِهِ. وَوُصِفِ بِالْمِخْضُودِ، أَيِ الْمُزَالِ شَوْكَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ مَحَاسِنُهُ بِانْتِفَاءِ مَا فِيهِ مِنْ أَذًى. وَالطَّلْحُ: شَجَرٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ وَاحِدُهُ طَلْحَةٌ، وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْحِجَازِ يَنْبُتُ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، شَدِيدُ الطُّولِ، غَلِيظُ السَّاقِ. مِنْ أَصْلَبِ شَجَرِ الْعِضَاهِ عُودًا، وَأَغْصَانُهُ طُوَالٌ عِظَامٌ شَدِيدَةُ الْاِرْتِفَاعِ فِي الْجَوِّ وَلَهَا شَوْكٌ كَثِيرٌ قَلِيلَةُ الْوَرَقِ شَدِيدَةُ الْخُضْرَةِ كَثِيرَةُ الظِّلِّ مِنَ الْتِفَافِ أَغْصَانِهَا، وَصَمْغُهَا جَيِّدٌ وَشَوْكُهَا أَقَلُّ الشَّوْكِ أَذًى، وَلَهَا نُورٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَرَةُ أُمَّ غَيْلَانَ، وَتُسَمَّى فِي صَفَاقُسَ غِيلَانَ وَفِي أَحْوَازِ تُونُسَ تُسَمَّى مِسْكَ صَنَادِقَ. وَالْمَنْضُودُ: الْمُتَرَاصُّ الْمُتَرَاكِبُ بِالْأَغْصَانِ لَيْسَتْ لَهُ سُوقٌ بَارِزَةٌ، أَوِ الْمُنَضَّدُ بِالْحِمْلِ، أَيِ النُّوَّارِ فَتَكْثُرُ رَائِحَتُهُ. وَعَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْبِشَارَةِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ بِالطَّلْحِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَيُعْتَاضُ عَنْ نِعْمَةِ نَكْهَةِ ثَمَرِ السِّدْرِ بِنِعْمَةِ عَرْفِ نَوْرِ الطَّلْحِ. وَفُسِّرَ الطَّلْحُ بِشَجَرِ الْمَوْزِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَالْاِمْتِنَانُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ امْتِنَانٌ بِثَمَرِهِ لِأَنَّهُ ثَمَر طيب لذيد وَلِشَجَرِهِ مِنْ حُسْنِ الْمَنْظَرِ، وَلَمْ يَكُنْ شَائِعًا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى كَثْرَةِ الْمَاءِ. وَالظِّلُّ الْمَمْدُودُ: الَّذِي لَا يَتَقَلَّصُ كَظِلِّ الدُّنْيَا، وَهُوَ ظِلٌّ حَاصِلٌ مِنَ الْتِفَافِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ وَكَثْرَةِ أَوْرَاقِهَا.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 35 إلى 38]

وَسَكْبُ الْمَاءِ: صَبَّهُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى جَرْيِهِ بِقُوَّةٍ يُشْبِهُ السَّكْبَ وَهُوَ مَاءُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ. وَالْفَاكِهَةُ: تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَوُصِفَتْ بِ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَصْفًا بِانْتِفَاءِ ضِدِّ الْمَطْلُوبِ إِذِ الْمَطْلُوبُ أَنَّهَا دَائِمَةٌ مَبْذُولَةٌ لَهُمْ. وَالنَّفْيُ هُنَا أَوْقَعُ مِنَ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة وصف وتوكيده، وَهُمْ لَا يَصِفُونَ بِالنَّفْيِ إِلَّا مَعَ التَّكْرِيرِ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] . وَفِي حَدِيثِ أَمِّ زَرْعٍ: «قَالَتِ الْمَرْأَةُ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَةٌ» . ثُمَّ تَارَةً يَقْصِدُ بِهِ إِثْبَاتَ حَالَةٍ وُسْطَى بَيْنَ حَالَيِ الْوَصْفَيْنِ الْمَنْفِيَّيْنِ كَمَا فِي قَوْلِ أَمِّ زَرْعٍ: «لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ» ، وَفِي آيَةِ: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ وَتَارَةً يُقْصَدُ بِهِ نَفْيُ الْحَالَيْنِ لِإِثْبَاتِ ضِدَّيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَقَوْلُهُ الْآتِي: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: 44] ، وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ فِي حَدِيثِ أَمِّ زَرْعٍ: «وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» . وَجَمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ فَاكِهَةَ الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ ضِدِّي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا يَمْنَعُونَهَا فَإِنْ لَمْ يَمْنَعُوهَا فَإِنَّ لَهَا إِبَّانًا تَنْقَطِعُ فِيهِ. وَالْفُرُشُ: جَمْعُ فِرَاشٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَهُوَ مَا يُفْرَشُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. ومَرْفُوعَةٍ: وَصْفٌ لِ فُرُشٍ، أَيْ مَرْفُوعَةٍ عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَيْ لَيْسَتْ مَفْرُوشَةً فِي الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفُرُشِ الْأَسِرَّةُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يحل فِيهِ. [35- 38] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 35 إِلَى 38] إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْفُرُشِ وَهِيَ مِمَّا يُعَدُّ لِلْاِتِّكَاءِ وَالْاِضْطِجَاعِ وَقْتَ الرَّاحَةِ فِي الْمَنْزِلِ يخْطر بالبال بادىء ذِي بَدْءٍ مُصَاحَبَةُ الْحُورِ الْعِينِ مَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْفُرُشِ فَيَتَشَوَّفُ إِلَى

وَصْفِهِنَّ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً بَيَانًا لِأَنَّ الْخَاطِرَ بِمَنْزِلَةِ السُّؤَالِ عَنْ صِفَاتِ الرَّفِيقَاتِ. فَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ مِنْ أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَلْحُوظٌ فِي الْأَفْهَامِ كَقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ فِي طَالِعِ قَصِيدَةِ: هُنَّ عَوَادِي يُوسُفٍ وَصَوَاحِبِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] . وَهَذَا أَحْسَنُ وَجْهٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ لفظ فُرُشٍ [الْوَاقِعَة: 34] فِي الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي معنييه وَيكون مَرْفُوعَةٍ [الْوَاقِعَة: 34] مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، أَيْ فِي الرَّفْعِ الْحِسِّيِّ وَالرَّفْعِ الْمَعْنَوِيِّ. وَالْإِنْشَاءُ: الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ فَيَشْمَلُ إِعَادَةَ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَعُدِمَ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْإِعَادَةَ إِنْشَاءً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت: 20] فَيَدْخُلُ نسَاء الْمُؤمنِينَ اللاء كُنَّ فِي الدُّنْيَا أَزْوَاجًا لِمَنْ صَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَيَشْمَلُ إِيجَادَ نِسَاءٍ أُنُفًا يُخْلَقْنَ فِي الْجَنَّةِ لِنَعِيمِ أَهْلِهَا. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً شَامِلٌ لِلصِّنْفَيْنِ. وَالْعُرُبُ: جَمْعُ عَرُوبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَيُقَالُ: عَرِبَهُ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَيُجْمَعُ عَلَى عَرَبَاتٍ كَذَلِكَ، وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأحسن مَا يجمعها أَن العروب: الْمَرْأَةُ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى الرِّجُلِ، أَوِ الَّتِي لَهَا كَيْفِيَّةُ الْمُتَحَبِّبَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقْصِدِ التَّحَبُّبَ، بِأَنْ تُكْثِرَ الضَّحِكَ بِمَرْأَى الرَّجُلِ أَوِ الْمِزَاحَ أَوِ اللَّهْو أَو الخضوع فِي الْقَوْلِ أَوِ اللَّثَغَ فِي الْكَلَامِ بِدُونِ عِلَّةٍ أَوِ التَّغَزُّلَ فِي الرَّجُلِ والمساهلة فِي مُجَالَسَتِهِ وَالتَّدَلُّلَ وَإِظْهَارَ مُعَاكَسَةِ أَمْيَالِ الرَّجُلِ لَعِبًا لَا جِدًّا وَإِظْهَارَ أَذَاهُ كَذَلِكَ كَالْمُغَاضَبَةِ من غير غصب بَلْ لِلتَّوَرُّكِ عَلَى الرِّجْلِ، قَالَ نَبِيهُ بْنُ الْحَجَّاجِ: تِلْكَ عَرِيسَيْ غَضْبَى تُرِيدُ زِيَالِي ... أَلِبَيْنٍ أَرَدْتِ أَمْ لِدَلَالِ الشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لِدَلَالِ، قَالَ تَعَالَى:

فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الْأَحْزَاب: 32] ، وَقَالَ: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النُّور: 31] . وَإِنَّمَا فَسَّرُوهَا بِالْمُتَحَبِّبَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا هَاتِهِ الْأَعْمَالَ تَجْلِبُ مَحَبَّةَ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ ظَنُّوا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْعَلُهَا لِاكْتِسَابِ مَحَبَّةِ الرَّجُلِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ: الْعَرُوبُ بِأَنَّهَا الْمُغْتَلِمَةُ، وَإِنَّمَا تِلْكَ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ الْعَرُوبِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ الْعَرُوبُ: الْمَلِقَةُ. وَالْعَرُوبُ: اسْمٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي مُجْتَمِعَةٍ أَوْ مُفْتَرِقَةٍ أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ دُونَ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْأَفْعَالِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا لَهُ فِعْلًا وَلَا مَصْدَرًا وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَالتَّعْرِيبِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الْفُحْشِ. وَالْعِرَابَةُ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ: اسْمٌ مِنَ التَّعْرِيبِ وَفِعْلُهُ: عَرَّبَتْ وَأَعْرَبَتْ، فَهُوَ مِمَّا يُسْنَدُ إِلَى ضَمِيرِ الْمَرْأَةِ غَالِبًا. كَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهُ إِفْصَاحًا عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ لَا يُفْصَحُ عَنْهُ ثُمَّ تُنُوسِيَ هَذَا الْأَخْذُ فَعُومِلَ الْعَرُوبُ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الْمُشْتَقَّةِ، وَيُقَالُ: عَرِبَةٌ. مِثْلُ عَرُوبٍ. وَجَمْعُ الْعَرُوبِ عُرُبٌ وَجَمْعُ عَرِبَةٍ عَرَبَاتٌ. وَيُقَالُ لِلْعَرُوبِ بِلُغَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْعَرِبَةُ وَالشَّكِلَةُ. وَيُقَالُ لَهَا بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: الْغَنِجَةُ. وَبِلُغَةِ الْعِرَاقِ: الشَّكِلَةُ، أَيْ ذَاتِ الشَّكْلِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ الدَّلَالُ وَالتَّعَرُّبُ. وَالْأَتْرَابُ: جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي سَاوَى سَنُّهَا سَنَّ مَنْ تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التِّرْبَ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ، وَأَمَّا الْمُسَاوِي فِي السِّنِّ مِنَ الرِّجَالِ فَيُقَالُ لَهُ: قَرْنُ وِلْدَةٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُنَّ جُعِلْنَ فِي سِنٍّ مُتَسَاوِيَةٍ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ، أَيْ هُنَّ فِي سِنِّ الشَّبَابِ الْمُسْتَوِي فَتَكُونُ مَحَاسِنُهُنَّ غَيْرَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْحُسْنِ، وَعَلَى هَذَا فَنِسَاءُ الْجَنَّةِ هُنَّ الْمَوْصُوفَاتُ بِأَنَّهُنَّ «أَتْرَابٌ» بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ عُرُباً بِسُكُونِ الرَّاءِ سُكُونِ تَخْفِيفٍ وَهُوَ مُلْتَزَمٌ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ. وَاللَّامُ فِي لِأَصْحابِ الْيَمِينِ يتنازعها أَنْشَأْناهُنَّ وفَجَعَلْناهُنَّ لِإِفَادَةِ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 إلى 40]

تَوْكِيدِ الْاِعْتِنَاءِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَقَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: 27] الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أُعْطِي لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِأَنْوَاعِ مَا أُعْطِيَ لِلسَّابِقِينَ وَلَا أَنَّ مَا أُعْطِيَ لِلسَّابِقِينَ مُخَالِفٌ لِمَا أُعْطِيَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فَإِنَّ الظِّلَّ وَالْمَاءَ الْمَسْكُوبَ وَكَوْنَ أَزْوَاجِهِمْ عُرُبَا أَتْرَابًا لَمْ يَذْكَرْ مِثْلُهُ لِلسَّابِقِينَ وَهُوَ ثَابِتٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَا يَقْصُرُونَ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ لِلسَّابِقِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَكْوَابِهِمْ وَأَبَارِيقِهِمْ وَلَحْمِ الطَّيْرِ وَكَوْنِ أَزْوَاجِهِمْ حُورًا عِينًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، لَمْ يَذْكُرْ مَثَلَهُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ أُعْطُوا أَشْيَاءَ لَمْ يُذْكَرْ إِعْطَاؤُهَا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: 10] ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَوْزِيعَ النَّعِيمِ وَلَا قَصْرَهُ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْدَادُهُ وَالتَّشْوِيقُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ السَّابِقِينَ أَعْلَى مَقَامًا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ بِمُقْتَضَى السِّيَاقِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى تَفَاوُتِ الْمَقَامَيْنِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي نَعِيمِ السَّابِقِينَ أَنَّهُ جَزَاءٌ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِيهَا وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي نَعِيمِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَجُمَاعُ الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بكلا الْفَرِيقَيْنِ. [39، 40] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 39 إِلَى 40] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) أَيْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وَالكَّلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 13، 14] فَاذْكُرْهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ كِلْتَا الثُّلَّتَيْنِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ثُلَّةٌ مِنْ صَدْرِهَا وَثُلَّةٌ مِنْ بَقِيَّتِهَا وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى سَنَدِ هَذَا النَّقْلِ. وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا عَنْ ذِكْرِ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ عِزَّةَ هَذَا الصِّنْفِ وَقِلَّتِهِ دُونَ عِزَّةِ صِنْفِ السَّابِقِينِ، فَالسَّابِقُونَ أَعَزُّ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ تَرْتِيبِ نظم الْكَلَام.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 44]

[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 41 إِلَى 44] وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إفضاء إِلَى الصِّنْف الثَّالِثِ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشَاقَّةِ. وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ: مَا أَصْحابُ الشِّمالِ وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ فِي سَمُومٍ بَعْدَهَا كَالْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الْوَاقِعَة: 27، 28] . وَالسُّمُومُ: الرِّيحُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي لَا بَلَلَ مَعَهُ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّمِّ، وَهُوَ مَا يهْلك إِذْ لَاقَى الْبَدَنَ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ. وَالْيَحْمُومُ: الدُّخَّانُ الْأَسْوَدُ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحُمَمِ بِوَزْنِ صُرَدٍ اسْمٌ لِلْفَحْمِ. وَالْحُمَمَةُ: الْفَحْمَةُ، فَجَاءَتْ زِنَةُ يفعول فِيهِ اسْمًا مَلْحُوظًا فِيهِ هَذَا الْاِشْتِقَاقُ وَلَيْسَ يَنْقَاسُ. وَحَرْفُ مِنْ بَيَانِيَّةٌ إِذِ الظِّلُّ هُنَا أُرِيدُ بِهِ نَفْسُ الْيَحْمُومَ، أَيِ الدُّخَّانِ الْأَسْوَدِ. وَوَصَفَ ظِلٍّ بِأَنَّهُ مِنْ يَحْمُومٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ ظِلُّ دُخَّانِ لَهَبِ جَهَنَّمَ، وَالدُّخَّانُ الْكَثِيفُ لَهُ ظِلٌّ لِأَنَّهُ بِكَثَافَتِهِ يَحْجُبُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِنَ الدُّخَانِ ظِلُّهُ لِمُقَابَلَتِهِ بِالظِّلِّ الْمَمْدُودِ الْمُعَدِّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَة: 30] ، أَيْ لَا ظِلَّ لِأَصْحَابِ الشَّمَالِ سِوَى ظِلِّ الْيَحْمُومِ. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّهَكُّمِ وُصِفَ هَذَا الظِّلُّ بِمَا يُفِيدُ نَفْيَ الْبَرْدِ عَنْهُ وَنَفْيَ الْكَرَمِ، فَبَرْدُ الظِّلِّ مَا يَحْصُلُ فِي مَكَانِهِ مِنْ دَفْعِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَكَرَمُ الظِّلِّ مَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ فِي الظِّلَالِ مِثْلَ سَلَامَتِهِ مِنْ هُبُوبِ السَّمُومِ عَلَيْهِ، وَسَلَامَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَظِلُّهُ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْأَوْسَاخِ، وَسَلَامَةِ أَرْضِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذِ الْكَرِيمُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ هُوَ الْجَامِعُ لِأَكْثَرِ مَحَاسِنِ نَوْعِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَة سُلَيْمَان [29] ، فَوَصَفَ ظِلَّ الْيَحْمُومِ بِوَصْفٍ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 45 إلى 48]

خَاصٍّ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْبُرُودَةِ عَنْهُ وَاتْبَعَ بِوَصْفٍ عَامٍّ وَهُوَ انْتِفَاءُ كَرَامَةِ الظِّلَالِ عَنْهُ، فَفِي الصِّفَةِ بِنَفْيِ مَحَاسِنِ الظِّلَالِ تَذْكِيرٌ لِلسَّامِعِينَ بِمَا حُرِمَ مِنْهُ أَصْحَابُ الشِّمَالِ عَسَى أَنْ يَحْذَرُوا أَسْبَابَ الْوُقُوعِ فِي الْحِرْمَانِ، وَلِإِفَادَةِ هَذَا التَّذْكِيرِ عَدَلَ عَنْ وَصْفِ الظِّلِّ بِالْحَرَارَةِ وَالْمَضَرَّةِ إِلَى وَصْفِهِ بِنَفْيِ الْبَرْدِ وَنفي الْكَرم. [45- 48] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 45 إِلَى 48] إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) تَعْلِيلٌ لِمَا يَلْقَاهُ أَصْحَابُ الشَّمَالِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا التَّعْلِيلُ كَانَ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ وَأَنَّهُ مِمَّا لَهُ أَثَرٌ فِي إِلْحَاقِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِقَرِينَةِ عَطْفِ وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ ... وَكانُوا يَقُولُونَ إِلَخْ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْحِنْثِ وَإِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ فَلَا يَخْفَى تَسَبُّبُهُ فِي الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُقْلِعُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ فَإِنَّ التَّرَفَ فِي الْعَيْشِ لَيْسَ جَرِيمَةً فِي ذَاتِهِ وَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ عَاشَ فِي تَرَفٍ، وَلَيْسَ كُلُّ كَافِرٍ مُتْرَفًا فِي عَيْشِهِ، فَلَا يَكُونُ التَّرَفُ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا فِي تَسَبُّبِ الْجَزَاءِ الَّذِي عُومِلُوا بِهِ. فَتَأْوِيلُ هَذَا التَّعْلِيلِ: إِمَّا بِأَنْ يَكُونُ الْإِتْرَافُ سَبَبًا بِاعْتِبَارِ ضَمِيمَةِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ إِلَيْهِ بِأَنْ كَانَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْحِنْثِ وَتَكْذِيبُهُمْ بِالْبَعْثِ جريمتين عظمتين لِأَنَّهُمَا مَحْفُوفَتَانِ بِكُفْرِ نِعْمَةِ التَّرَفِ الَّتِي خَوَّلَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] فَيَكُونُ الْإِتْرَافُ جُزْءَ سَبَبٍ وَلَيْسَ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، وَفِي هَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] . وَإِمَّا بِأَن يُرَاد أَنْ التَّرَفَ فِي الْعَيْشِ عَلَّقَ قُلُوبَهُمْ بِالدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا فَكَانَ ذَلِكَ مُمْلِيًا عَلَى خَوَاطِرِهِمْ إِنْكَارَ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّرَفَ الَّذِي هَذَا الْإِنْكَارُ عَارِضٌ لَهُ وَشَدِيدُ الْمُلَازمَة لَهُ، فوزانه وزان قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [مُحَمَّد: 12] .

وَفَسَّرَ مُتْرَفِينَ بِمَعْنَى مُتَكَبِّرِينَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَالْمُتْرَفُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مَنْ أَتْرَفَهُ، أَيْ جَعْلِهِ ذَا تُرْفَةٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ نِعْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِالْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ لِلْإِتْرَافِ كَشَأْنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتُزِمَ فِيهَا الْإِسْنَادُ الْمَجَازِيُّ الْعَقْلِيُّ الَّذِي لَيْسَ لِمِثْلِهِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَلَا يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: أَتْرَفَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يُقَدِّرُونَ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ بَابِ: قَالَ قَائِلٌ، وَسَأَلَ سَائِلٌ. وَإِنَّمَا جُعِلَ أَهْلُ الشَّمَالِ مُتْرَفِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ تَرَفٍ وَلَوْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَأَزْمَانِهِ مِنْ نَعَمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّسَاءِ وَالْخَمْرِ، وَكُلِّ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِالشُّكْرِ لِوَاهِبِهِ، وَهُمْ قَدْ لَابَسُوا ذَلِكَ بِالْإِشْرَاكِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَصَرُوا أَنْظَارَهُمْ عَلَى التَّفْكِيرِ فِي الْعِيشَةِ الْعَاجِلَةِ صَرْفَهُمْ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ وَالْاِسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا وَجْهُ جَعْلِ التَّرَفِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ جَزَائِهِمُ الْجَزَاءَ الْمَذْكُورَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ ذلِكَ إِلَى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَة: 42، 43] بِتَأْوِيلِهَا بِالْمَذْكُورِ، أَيْ كَانُوا قَبْلَ الْيَوْمِ وَهُوَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْحِنْثُ: الذَّنْبُ وَالْمَعْصِيَة وَمَا يتَخَرَّج مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، أَيْ أَهْمَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَجَرَّ لِنَفْسِهِ حَرَجًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحِنْثُ حِنْثَ الْيَمِينِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقْسِمُونَ عَلَى أَنْ لَا بَعْثَ، قَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْل: 38] ، فَلذَلِك مَنْ الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَام: 109] وَقَدْ جَاءَتْهُمْ آيَةُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَالْعَظِيمُ: الْقَوِيُّ فِي نَوْعِهِ، أَيِ الذَّنْبِ الشَّدِيدِ وَالْحِنْثُ الْعَظِيمِ هُوَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 49 إلى 50]

وَمَعْنَى يُصِرُّونَ: يَثْبُتُونَ عَلَيْهِ لَا يَقْبَلُونَ زَحْزَحَةً عَنْهُ، أَيْ لَا يَضَعُونَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي بُطْلَانِ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُصِرُّونَ ويَقُولُونَ تُفِيدُ تَكَرُّرَ الْإِصْرَار وَالْقَوْل مِنْهُم. وَذِكْرُ فِعْلِ كانُوا لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُمْ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِلَخْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَةَ الْبَعْثِ بَعْدَ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَيُنَاظِرُونَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَوْلَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَةَ الْبَعْثِ. وَالْاِسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَالَةِ وَالْاِسْتِبْعَادِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِلَخْ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِذا مِتْنا بِإِثْبَاتِ الْاِسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، أَيْ إِذَا مِتْنَا أَإِنَّا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالْاِسْتِفْهَامِ فِي أَإِذا مِتْنا وَالْإِخْبَارُ فِي إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوَآباؤُنَا، بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّهَا وَاوَ عَطْفٍ عَطَفَتِ اسْتِفْهَامًا عَلَى اسْتِفْهَامٍ، وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الْاِسْتِفْهَامِ على حرف الْعَطف لِصَدَارَةِ الْاِسْتِفْهَامِ، وَأُعِيدَ الْاِسْتِفْهَامُ تَوْكِيدًا لِلْاِسْتِبْعَادِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَكانُوا يَقُولُونَ إِلَخْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِجَابَةَ مَدْلُولِ ذَلِك الِاسْتِفْهَام. [49، 50] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 49 إِلَى 50] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) لِمَا جَرَى تَعْلِيلُ مَا يُلَاقِيهِ أَصْحَابُ الشِّمَالِ مِنَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ أَدْخَلَ فِي اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَشُمُولِهِ لَهُمْ وَلِآبَائِهِمْ وَلِجَمِيعِ النَّاسِ، أَيْ أَنْبِئْهُمْ بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَيْ هُمْ

وَآبَاؤُهُمْ يُبْعَثُونَ فِي الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَدِ انْتَهَى الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِمْ يَوْمَ تُرَجُّ الْأَرْضُ وَمَا يَتْبَعُهُ. وَافْتَتَحَ الكَّلَامَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلْاِهْتِمَامِ بِهِ كَمَا افْتَتَحَ بِهِ نَظَائِرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ إِلَخِ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً [الْوَاقِعَة: 47] الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ بِ الْأَوَّلِينَ: مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَصْفُ (أَوَّلِ) بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِ الْآخِرِينَ: مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قبله. وَمعنى لَمَجْمُوعُونَ: أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ وَيُحْشَرُونَ جَمِيعًا، وَلَيْسَ الْبَعْثُ عَلَى أَفْوَاجٍ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا كَانَ مَوْتُ النَّاسِ بَلْ يُبْعَثُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ عَطْفُ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ فِي كَلَامِهِمْ مِنِ اسْتِنْتَاجِ اسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا سَبْقَ مَنْ سُبِقَ مَوْتُهُمْ أَدُلُّ عَلَى تَعَذُّرِ بَعْثِهِمْ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهِمُ الْقُرُونُ وَلَمْ يُبْعَثْ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ هَذَا الْقِيلِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (أَنَّ) وَاللَّامِ لِرَّدِ إِنْكَارِهِمْ مَضْمُونَهُ. وَالْمِيقَاتُ: هُنَا لِمَعْنَى الْوَقْتِ وَالْأَجَلِ، وَأَصْلُهُ اسْمُ آلَةٍ لِلْوَقْتِ وَتَوَسَّعُوا فِيهِ فَأَطْلَقُوهُ عَلَى الْوَقْتِ نَفْسِهِ بِحَيْثُ تُعْتَبَرُ الْمِيمُ وَالْأَلْفُ غَيْرَ دَالَّتَيْنِ عَلَى مَعْنًى، وَتَوَسَّعُوا فِيهِ تَوَسُّعًا آخَرَ فَأَطْلَقُوهُ عَلَى مَكَانٍ لِعَمَلٍ مَا. وَلَعَلَّ ذَلِكَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى اعْتِبَارِ مَا فِي التَّوْقِيف مِنَ التَّحْدِيدِ وَالضَّبْطِ، وَمِنْهُ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ، وَهِيَ أَمَاكِنٌ يُحْرِمُ الْحَاجُّ بِالْحَجِّ عِنْدَهَا لَا يَتَجَاوَزُهَا حَلَالًا. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمْ يُوَقِّتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ حَدًّا مُعَيَّنًا» . وَيَصِحُّ حَمْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ على معنى الْمَكَان. وَقد ضمن لَمَجْمُوعُونَ مَعْنَى مَسُوقُونَ، فَتَعَلَّقَ بِهِ مَجْرُورُهُ بِحَرْفِ إِلى لِلْاِنْتِهَاءِ، وَإِلَّا فَإِنَّ ظَاهِرَ مَجْمُوعُونَ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (فِي) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 إلى 55]

وَأَفَادَ تَعْلِيقُ مَجْرُورِهِ بِهِ بِوَاسِطَةِ (إِلَى) أَنَّهُ مُسَيَّرٌ إِلَيْهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى مَكَانٍ. وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ. وَإِضَافَةُ مِيقاتِ إِلَى يَوْمٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّ التَّجَمُّعَ وَاقِعٌ فِي ذَلِك الْيَوْم. وَإِذ كَانَ التَّجَمُّعُ الْوَاقِعُ فِي الْيَوْمِ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْمِيقَاتِ كَانَتْ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَالْيَوْمِ مُلَابَسَةٌ صَحَّحَتْ إِضَافَةَ الْمِيقَاتِ إِلَيْهِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهَذَا أَدَقُّ مِنْ جَعْلِ الْإِضَافَةِ بَيَانِيَّةٌ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي جحدوه. [51- 55] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 51 إِلَى 55] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ فَإِن فِي التَّصْرِيح بتفصيل جَزَائِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَقْعًا فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعْرِيضِ الْإِجْمَالِيِّ بِالْوَعِيدِ الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ [الْوَاقِعَة: 49، 50] . وَهَذَا التَّرَاخِي الرُّتَبِيُّ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: 7] بِمَنْزِلَةِ الْاِعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 49] وَجُمْلَةِ: خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: 57] . وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمَقُولِ إِلَيْهِمْ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، وَفِي نِدَائِهِمْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمَا سَبَبُ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ السَّيِّئِ، وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ: ضَالُّونَ مُكَذِّبُونَ، نَاظِرٌ إِلَى قَوْلهم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً [الْوَاقِعَة: 47] إِلَخ. وَقدم وَصَفَ الضَّالُّونَ عَلَى وَصْفِ الْمُكَذِّبُونَ مُرَاعَاةً لِتَرْتِيبِ الْحُصُولِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ فَكَذَّبُوا بِالْبَعْثِ لِيَحْذَرُوا مِنَ الضَّلَالِ وَيَتَدَبَّرُوا فِي دَلَائِلِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ مُقْتَضَى خِطَابِهِمْ بِهَذَا الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ الْمُتَوَقَّعِ.

وَشَجَرُ الزَّقُّومِ: مِنْ شَجَرِ الْعَذَابِ، تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الدُّخَّانِ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْغَلَيَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [70] وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ من قَوْله: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ تَفْظِيعُ حَالِهِمْ فِي جَزَائِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الترف فِي الدُّنْيَا بِمَلْءِ بُطُونِهِمْ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَلْئًا أَنْسَاهُمْ إِقْبَالَهُمْ عَلَيْهِ وَشُرْبَهُمْ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي مَصِيرِهِمْ. وَقَدْ زيد تفظيعا بالتشبيه فِي قَوْلِهِ: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَإِعَادَةُ فِعْلِ (شَارِبُونَ) لِلتَّأْكِيدِ وَتَكْرِيرِ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الفظيعة. وَمعنى فَشارِبُونَ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (عَلَى) فِيهِ لِلْاِسْتِعْلَاءِ، أَيْ شَارِبُونَ فَوْقَهُ الْحَمِيمَ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ اسْتِفَادَةُ مَعْنَى (مَعَ) مِنْ حَرْفِ (عَلَى) تعجيبا من فظاعة حَالِهِمْ، أَيْ يَشْرَبُونَ هَذَا الْمَاءَ الْمُحْرِقَ مَعَ مَا طَعِمُوهُ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ الْمَوْصُوفَةِ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهَا يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدُّخان: 45، 46] فَيُفِيدُ أَنَّهُمْ يَتَجَرَّعُونَهُ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ امْتِنَاعًا. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى شَجَرٍ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ آكِلُونَ أَكْلًا يُؤْخَذُ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ، ومِنْ الثَّانِيَة الدَّاخِلَة عَلَى زَقُّومٍ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الشَّجَرَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالزَّقُّومِ. وَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ الشَّجَرِ فِي قَوْله: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْجَمْعِ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ تَأْتِي مُؤَنَّثَةً غَالِبًا. وَأَمَّا ضَمِيرُ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: لَآكِلُونَ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ مِثْلِ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَالْهِيمُ: جَمْعُ أَهْيَمَ، وَهُوَ الْبَعِيرُ الَّذِي أَصَابَهُ الْهُيَامُ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ يُورِثُهَا حُمَّى فِي الْأَمْعَاءِ فَلَا تَزَالُ تَشْرَبُ وَلَا تُرْوَى، أَيْ شَارِبُونَ مِنَ الْحَمِيمِ شُرْبًا لَا يَنْقَطِعُ فَهُوَ مُسْتَمِرَّةُ آلَامَهُ.

[سورة الواقعة (56) : آية 56]

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ شُرْبَ بِضَمِّ الشِّينِ اسْمَ مَصْدَرِ شَرِبَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ لِشَرِبَ. وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَزِيدُ الْمُتَوَاتِرَ قُوَّةً فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَوَاتِرٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ عَطْفٌ عَلَى لَآكِلُونَ لِإِفَادَةِ تَعْقِيبِ أَكْلِ الزَّقُّومِ بِ شُرْبَ الْهِيمِ دُونَ فَتْرَةٍ وَلَا اسْتِرَاحَةٍ. وَإِعَادَةُ فَشارِبُونَ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِنَظِيرِهِ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّوْكِيدِ زِيَادَةُ تَقْرِيرِ مَا فِي هَذَا الشُّرْبِ مِنَ الْأُعْجُوبَةِ وَهِيَ أَنَّهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ يَزْدَادُونَ مِنْهُ كَمَا تَرَى الْأَهْيَمَ، فَيَزِيدُهُمْ تَفْظِيعًا لِأَمْعَائِهِمْ لِإِفَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ تَعْجِيبًا ثَانِيًا بَعْدَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ كَوْنَهُمْ شَارِبِينَ لِلْحَمِيمِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَنَاهِي الْحَرَارَةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَشُرْبُهُمْ لَهُ كَمَا تَشْرَبُ الْإِبِلُ الْهِيمُ فِي الْإِكْثَارِ أَمْرٌ عَجِيبٌ أَيْضًا، فَكَانَتَا صفتين مختلفتين. [56] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 56] هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمَلِ الْخِطَابِ مُوَجَّهٌ إِلَى السَّامِعِينَ غَيْرَهُمْ فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَكْلِ الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْهِيمِ. وَالنُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وَضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِهَا مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ مِنْ طَعَامٍ. وَهُوَ هُنَا تَشْبِيهٌ تَهَكُّمِيٌّ كَالْاِسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا ... فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَن تشتمونا قرينانكم فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا وَقَوْلُ أَبِي الشَّعْرِ الضَّبِّيِّ، وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ سُحَيْمٍ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزْلَا

[سورة الواقعة (56) : آية 57]

و (يَوْمَ الدِّينِ) يَوْمَ الْجَزَاءِ، أَيْ هَذَا جَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ آنِفًا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَة: 24] . وَجَعَلَ يَوْمَ الدِّينِ وَقْتًا لِنُزُلِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالنُّزُلِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا تَجْرِيدٌ لِلتَّشْبِيهِ التَّهَكُّمِيِّ وَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى التَّهَكُّمِ كَقَوْلِ عَمْرِو بن كُلْثُوم: «مُرَادة طحونا» . [57] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 57] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَعْقَبَ إبِْطَال نفيهم الْبَعْث بِالْاِسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِهِ وَتَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ الَّتِي أَحَالُوهَا فَاسْتَدَلَّ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعِيدَ خَلْقَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ. وَهَذَا الكَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ مَا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مُسْتَقِلًّا. وَالْخِطَابُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُوَجَّهٌ لِلسَّامِعِينَ فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ خَلَقْناكُمْ الْتِفَات. وَتقدم الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ رَدًّا عَلَى إِحَالَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ فَنَاءِ مُعْظَمِ أَجْسَادِهِمْ حِينَ يَكُونُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، فَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا ذُهِلُوا عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خلقهمْ أول مرّة وَهُوَ الَّذِي يُعِيد خلقهمْ ثَانِي مرّة، فَإِنَّهُم وَإِن كَانُوا يعلمُونَ أَن الله خَلَقَهُمْ لَمَّا لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ الْعلم بإحالتهم إِعَادَة الْخَلْقِ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ بِتَقَوِّي الْحُكْمِ الْإِفْضَاءُ إِلَى مَا سَيُفَرَّعُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ [الْوَاقِعَة: 58- 61] . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَسْجِ نَظْمِهَا وَالتَّرْتِيبِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [28] . وَمَوْقِعُهَا اسْتِدْلَالٌ وَعِلَّةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ [الْوَاقِعَة: 49، 50] وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 58 إلى 59]

وَفرع على هَذَا التَّذْكِيرِ تَحْضِيضُهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ، أَيْ بِالْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَمْ يصدقُوا بِهِ. [58، 59] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 58 إِلَى 59] أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) تَفْرِيعٌ عَلَى نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الْوَاقِعَة: 57] ، أَيْ خَلَقْنَاكُمُ الْخَلْقَ الَّذِي لَمْ تَرَوْهُ وَلَكِنَّكُمْ تُوقِنُونَ بِأَنَّا خَلَقْنَاكُمْ فَتَدَبَّرُوا فِي خَلْقِ النَّسْلِ لِتَعْلَمُوا أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ تُشْبِهُ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ. وَذُكِرَتْ كَائِنَاتٌ خَمْسَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْوَالِ مُتَّحِدَةُ الْمَآلِ إِذْ فِي كُلِّهَا تَكْوِينٌ لِمَوْجُودٍ مِمَّا كَانَ عَدَمًا، وَفِي جَمِيعِهَا حُصُولُ وُجُودٍ مُتَدَرِّجٍ إِلَى أَنْ تَتَقَوَّمَ بِهَا الْحَيَاةُ وَابْتُدِئَ بِإِيجَادِ النَّسْلِ مِنْ مَاءٍ مَيِّتٍ، وَلَعَلَّهُ مَادَّةُ الْحَيَاةِ بِنَسْلِكُمْ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ النُّطَفِ تَكْوِينًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ. وَالْاِسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ بِتَعْيِينِ خَالِقِ الْجَنِينِ مِنَ النُّطْفَةِ إِذْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ النَّسْلِ مِنَ النُّطْفَةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ نَوْعِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ. وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ الْاِسْتِدْلَالُ بِتَقْدِيمِ جُمْلَةِ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ زِيَادَةً فِي إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَاسُوا الْأَحْوَالَ الْمُغَيَّبَةِ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ فِي قُلُوبِهِمْ لَا نُعَادُ بَعْدَ أَنْ كُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا، وَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَقِيسُوا عَلَى تَخَلُّقِ الْجَنِينِ مِنْ مَبْدَأِ مَاءِ النُّطْفَةِ فيقولوا: لَا تتخلق من النُّطْفَة الْميتَة أجسام حَيَّة كَمَا قَالُوا: لَا تَصِيرُ الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ ذَوَاتًا حَيَّةً، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا قَطُّ أَنَّهُمْ خَالِقُونَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تَمْهِيدًا لِلْاِسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَجِنَّةِ بِقُدْرَتِهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْقُدْرَة لَا تقصر عَن الْخَلْقِ الثَّانِي عِنْدَ الْبَعْثِ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ فِي «أَرَأَيْتُمْ» مِنْ بَابِ (ظَنَّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ رُؤْيَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ الرَّضِيُّ: هُوَ فِي مِثْلِهِ مَنْقُولٌ مَنْ رَأَيْتَ، بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ أَوْ عَرَفْتَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَأَبْصَرْتَ حَالَهُ الْعَجِيبَةَ أَوْ أَعَرَفْتَهَا، أَخْبِرْنِي عَنْهَا، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْاِسْتِخْبَارِ عَنْ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ لِشَيْءٍ اه، أَيْ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ لَا مِنْ أَفْعَالِ الْعَقْلِ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 60 إلى 61]

ومَا تُمْنُونَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِفِعْلِ أَفَرَأَيْتُمْ. وَفِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ «أَرَأَيْتُمْ» إِلَيْهِ إِجْمَالٌ إِذْ مَوْرِدُ فِعْلِ الْعِلْمَ عَلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ مَا تُمْنُونَ، فَفِعْلُ «رَأَيْتُمْ» غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى نَفْسِ مَا تُمْنُونَ. فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، وَأُعِيدَ حَرْفُ الْاِسْتِفْهَامِ لِيُطَابِقَ الْبَيَانُ مُبَيَّنَهُ. وَبِهَذَا الْاِسْتِفْهَامِ صَار فعل أَفَرَأَيْتُمْ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولٍ ثَانٍ لِوُجُودِ مُوجَبِ التَّعْلِيقِ وَهُوَ الْاِسْتِفْهَامُ. قَالَ الرضيّ: إِذْ صُدِّرَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي بِكَلِمَةِ الْاِسْتِفْهَامِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُعَلَّقُ فِعْلُ الْقَلْبِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ نَحْوُ: علمت زيدا أَي من هُوَ» . اه. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي لِأَنَّهُمْ لَمَّا نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ صِيغَتْ جُمْلَةُ نَفْيِهِ بِصِيغَةٍ دَالَّةٍ عَلَى زَعْمِهِمْ تُمَكِّنُ التَّصَرُّفَ فِي تَكْوِينِ النَّسْلِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ نَفْيِ الْخَلْقِ عَنْهُمْ وَإِثْبَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مَعْنَى قَصْرِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وأَمْ مُتَّصِلَة معادلة الْهَمْزَةِ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا يُذْكَرُ لَهُ خَبَرٌ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ خَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، وَهَاهُنَا أُعِيدَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ زِيَادَةً فِي تَقْرِيرِ إِسْنَادِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ فِي الْمَعْنَى وَلِلْإِيفَاءِ بِالْفَاصِلَةِ وَامْتِدَادِ نَفْسِ الْوَقْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ أَمْ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى (بَلْ) لِأَنَّ الْاِسْتِفْهَامَ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ فَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ طَلَبُ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ وَيَكُونُ الكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَخْلُقُونَهُ. وَالْمَعْنَى: أَتَظُنُّونَ أَنْفُسَكُمْ خَالِقِينَ النَّسَمَةَ مِمَّا تَمْنُونَ. [60، 61] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 60 الى 61] نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ. اسْتِدْلَالٌ بِإِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِهَا

وَمُشَاهِدُونَهَا وَوَادُّونَ دَفْعَهَا أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَإِنَّ الَّذِي قَدِرَ عَلَى خَلْقِ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذِ الْقُدْرَةُ عَلَى حُصُولِ شَيْءٍ تَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى ضِدِّهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ حَيٍّ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ وَعَلَى إِمَاتَتِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ قَدِيرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي حَالَتَيْ إِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَمَا الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ إِلَّا حَالَةٌ مِنْ تَيْنِكَ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَوَضَحَ دَلِيلُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الْحَج: 66] . هَذَا أصل المفاد من قَوْله: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك تَنْبِيه على أَن الْمَوْت جعله الله طورا من أطوار الْإِنْسَان لحكمة الِانْتِقَال بِهِ إِلَى الْحَيَاة الأبدية بعد إعداده لَهَا بِمَا تهيئه لَهُ أَسبَاب الْكَمَال المؤهلة لتِلْك الْحَيَاة لتتم الْمُنَاسبَة بَين ذَلِك الْعَالم وَبَين عامريه. وَقد مضى الْكَلَام على ذَلِك عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [115] . فَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ دُونَ: نَحْنُ نُمِيتُكُمْ، أَيْ أَنَّ الْمَوْتَ مَجْعُولٌ عَلَى تَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ مُرَادٍ، مَعَ مَا فِي مَادَّةِ قَدَّرْنا مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لِتَتَوَجَّهَ أَنْظَارُ الْعُقُولِ إِلَى مَا فِي طَيِّ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَخَاصَّةٌ فِي تَقْدِيرِ مَوْتِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ إِنْ أَخَذَ لَهَا أَسْبَابَهَا. وَفِي كَلِمَةِ بَيْنَكُمُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي عَلَى آحَادِهِمْ تَدَاوُلًا وَتَنَاوُبًا، فَلَا يُفْلِتُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِحُلُولِهِ صِنْفٌ وَلَا عُمُرٌ فَآذَنَ ظَرْفُ (بَيْنَ) بِأَنَّ الْمَوْتَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّوْزِيعِ لَا يدْرِي أحد مَتَى يُصِيبُهُ قِسْطُهُ مِنْهُ، فَالنَّاسُ كَمَنْ دُعُوا إِلَى قِسْمَةِ مَالٍ أَوْ ثَمَرٍ أَوْ نَعَمٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يُنَادَى عَلَيْهِ لِيَأْخُذَ قِسْمَهُ، أَوْ مَتَى يَطِيرُ إِلَيْهِ قِطُّهُ وَلَكِنَّهُ يُوقِنُ بِأَنَّهُ نَائِلُهُ لَا مَحَالَةَ. وَبِهَذَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شَبَّهَ الْمَوْتَ بِمَقْسُومٍ وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِكَلِمَةِ بَيْنَكُمُ الشَّائِعِ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [الْقَمَر: 28] . وَفِي هَذِهِ الْاِسْتِعَارَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَوْتِ فَائِدَةً وَمَصْلَحَةً لِلنَّاسِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا تَضِيقَ بِهُمُ الْأَرْضُ وَالْأَرْزَاقُ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ، وَالتَّحْقِيقُ رَاجِعٌ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ مِنْ فِعْلِ قَدَّرْنا وَظَرْفُ بَيْنَكُمُ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَى مَا فِي خَلْقِ الْمَوْتِ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنا بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالتَّشْدِيدُ مَصْدَرُهُ التَّقْدِيرُ، وَالتَّخْفِيفُ مَصْدَرُهُ الْقَدْرُ. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) . هَذَا نَتِيجَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْاِسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَعْطِفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ وَيَتْرُكَ عَطْفَهُ فَعَدَلَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، وَعَطَفَ بِالْوَاوِ عَطْفَ الْجُمَلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مَقْصُودًا لِذَاتِهِ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ يُفِيدُ النَّتِيجَةَ، وَيُفِيدُ تَعْلِيمًا اعْتِقَادِيًّا، فَيَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِهِ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، فَالصَّرِيحُ مِنْهُ التَّذْكِيرُ بِتَمَامِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا تَضِيقُ قُدْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ خَلْقًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ بِاسْتِئْصَالِهِمْ وَتَعْوِيضِهِمْ بِأُمَّةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إِبْرَاهِيم: 19، 20] وَلَوْ جِيءَ بِالْفَاءِ لَضَاقَتْ دلَالَة الْكَلَام عَن الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَالسَّبْقُ: مَجَازٌ مِنَ الْغَلَبَةِ وَالتَّعْجِيزِ لِأَنَّ السَّبْقَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ السَّابِقَ غَالِبٌ لِلْمَسْبُوقِ، فَالْمَعْنَى: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ، قَالَ الْفَقْعَسِيُّ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ: كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ وَيَتَعَلَّقُ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ بِمَسْبُوقِينَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: غَلَبَهُ عَلَى كَذَا، إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَوَالِهِ، وَأَصْلُهُ: غَلَبَهُ عَلَى كَذَا، أَيْ تَمَكَّنَ مِنْ كَذَا دُونَهُ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يُوسُف: 21] . وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: أَمْثالَكُمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير قَدَّرْنا [الْوَاقِعَة: 60] ، أَيْ قَدَّرْنَا الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُحْيِيَكُمْ فِيمَا بَعْدُ إِدْمَاجًا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْوَاقِعَة: 47] فَتَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى (مَعَ) وَتَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَهَذَا كَقَوْلِ الْوَاعِظِ: «عَلَى شَرْطِ النَّقْضِ رُفِعَ الْبُنْيَانُ، وَعَلَى شَرْطِ الْخُرُوجِ دَخَلَتِ الْأَرْوَاحُ لِلْأَبْدَانِ» وَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ (مَسْبُوقِينَ) مَحْذُوفًا دَالًّا عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ فِيمَا قَدَّرْنَاهُ مِنْ خَلْقِكُمْ وَإِمَاتَتِكُمْ، وَيُجْعَلُ الْوَقْف على (مسبوقين) . وَيُفِيدُ قَوْلُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ إِلَخْ وَرَاءَ ذَلِكَ عِبْرَةً بِحَالِ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ فَإِنَّ فِي تَقَلُّبِ ذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ عِبْرَةً وَتَدَبُّرًا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وِزَانُهُ وِزَانُ قَوْلِهِ الْآتِي: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الْوَاقِعَة: 70] وَقَوْلِهِ: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ [الْوَاقِعَة: 73] . وَمَعْنَى: أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ : نُبَدِّلُ بِكُمْ أَمْثَالَكُمْ، أَيْ نَجْعَلُ أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا. وَفِعْلُ (بَدَّلَ) يَنْصِبُ مَفْعُولًا وَاحِدًا وَيَتَعَدَّى إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِحَرْفِ الْبَاءِ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ بِ (مِنَ) الْبَدَلِيَّةِ فَإِنَّ مَفْعُولَ (بَدَّلَ) صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُبْدَلًا وَمُبْدَلًا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ [2] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ مِنْكُمْ أَمْثَالَكُمْ، فَحُذِفَ، مُتَعَلِّقُ نُبَدِّلَ وَأُبْقِيَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ أَوْلَى بِالْحَذْفِ. وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ النَّظِيرُ، أَيْ نَخْلُقُ ذَوَاتٍ مُمَاثِلَةٍ لِذَوَاتِكُمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَنُودِعُ فِيهَا أَرْوَاحَكُمْ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ عَنْ عَدَمٍ لَا عَنْ تَفْرِيقٍ. وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَالْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ مَعْنَى التَّهْدِيدِ بِالْاِسْتِئْصَالِ، أَيْ لَوْ شِئْنَا اسْتِئْصَالَكُمْ لَمَا أَعْجَزْتُمُونَا فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِلتَّهْدِيدِ فِي أَثْنَاءِ الْاِسْتِدْلَالِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إِبْرَاهِيم: 19] .

[سورة الواقعة (56) : آية 62]

وَنُنْشِئَكُمْ عَطْفٌ عَلَى نُبَدِّلَ ، أَيْ مَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَلَى إِنْشَائِكُمْ. وَهَذَا الْعَطْفُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايِرٍ بِالذَّاتِ فَيَكُونُ إِنْشَاؤُهُمْ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ تَبْدِيلِ أَمْثَالِهِمْ، أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَتَبْدِيلُ أَمْثَالِهِمْ خَلْقُ أَجْسَادٍ أُخْرَى تُودَعُ فِيهَا الْأَرْوَاحُ، وَأَمَّا إِنْشَاؤُهُمْ فَهُوَ نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ الْمَيِّتَةِ الْكَامِلَةِ وَفِي الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ بَعْدَ إِعَادَتِهَا بِجَمْعِ مُتَفَرِّقِهَا أَوْ بِإِنْشَاءِ أَمْثَالِهَا مِنْ ذَوَاتِهَا مِثْلِ: عَجْبِ الذَّنَبِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاسْتِبْعَادِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ صُوَرِ شُبْهَتِهِمُ الْبَاعِثَةِ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايِرٍ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ التَّبْدِيلِ إِشَارَةٌ عَلَى وَجْهِ الْإِبْهَامِ. وَعَطَفَ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ بِمُفْرَدِهِ تَصْوِيرٌ لِقُدْرَةِ الله تَعَالَى وحكمته بعد مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ مِنْ إِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ. وَمَا مِنْ قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ، أَوِ الْهَيْئَةِ الَّتِي يَتَكَيَّفُ بِهَا الْإِنْشَاءُ، أَيْ فِي كَيْفِيَّةٍ لَا تَعْلَمُونَهَا إِذْ لَمْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِخَفَايَا الْخِلْقَةِ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِمْكَانُ فِي بَعْثِ الْأَجْسَادِ لِإِيدَاعِ الْأَرْوَاحِ. وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ مَعْنَاهَا قُوَّةُ الْمُلَابَسَةِ الشَّبِيهَةِ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ كَقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 7، 8] . وَمَعْنَى لَا تَعْلَمُونَ : أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الْأَحْوَال. [62] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 62] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَعْقَبَ دَلِيلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ الْمُسْتَنِدِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِذَلِكَ وَلِسَدِّ مَنَافِذِ الشُّبْهَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، فَنَبَّهُوا لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ فِي أَنَّهَا إِنْشَاءٌ مِنْ أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَفِي أَنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ عِلْمًا بِدَقَائِقِ حُصُولِهَا.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 إلى 64]

فَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 61] ، هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ، وَالْعِلْمُ الْمُثْبَتُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى هُوَ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ، وَالْإِجْمَالِيُّ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِيِّ إِذْ لَا أَثَرَ لِلتَّفْصِيلِ فِي الْاِعْتِقَادِ. وَفِي الْمُقَابَلَةِ بَين قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 61] بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ مُحَسِّنُ الطِّبَاقَ. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى كَافِيًا لَهُمْ فِي إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبِيخِ مَا لَمْ يُرَتِّبْ مِثْلَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 60، 61] فَقَالَ: فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَيْ هَلَّا تَذَكَّرْتُمْ بِذَلِكَ فَأَمْسَكْتُمْ عَنِ الْجَحْدِ، وَهَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ قِيَاسَ الْأَشْبَاهِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ آنِفًا: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: 57] . وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَذَكَّرُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّذَكُّرِ مَفْتُوحٌ فَإِنْ فَاتَهُمُ التَّذَكُّرُ فِيمَا مَضَى فَلْيَتَدَارَكُوهُ الْآنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ النَّشْأَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ تَلِيهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرَ نَشَأَ عَلَى وَزْنِ الْمَرَّةِ وَهِي مرّة للْجِنْس. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ تَلِيهَا هَمْزَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَعَالَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة العنكبوت. [63، 64] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 63 إِلَى 64] أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) انْتِقَالٌ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَصَلَاحِيَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ لَهُ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْشَاءِ بَعْدَ الْعَدَمِ. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى جُمْلَةِ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: 57] كَمَا فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَة: 58] لِيَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ مُتَّحِدًا وَهُوَ الْاِسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، فَقَصَدَ تَكْرِيرَ الْاِسْتِدْلَالِ وَتَعْدَادَهُ بِإِعَادَةِ جُمْلَةِ

أَفَرَأَيْتُمْ وَإِنْ كَانَ مَفْعُولُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ مُخْتَلِفًا وَسَيَجِيءُ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الْوَاقِعَة: 68] وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الْوَاقِعَة: 71] . وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْفَاءَ لِتَفْرِيعِ مُجَرَّدِ اسْتِدْلَال على اسْتِدْلَالٍ لَا لِتَفْرِيعِ مَعْنَى مَعْطُوفِهَا عَلَى مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا آلَ الْاِسْتِدْلَالُ السَّابِقُ إِلَى عُمُومِ صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَادًا بِهَا تَمْثِيلٌ بِنَوْعٍ عَجِيبٍ مِنْ أَنْوَاعِ تَعَلُّقَاتِ الْقُدْرَةِ بِالْإِيجَادِ دُونَ إِرَادَةِ الْاِسْتِدْلَالِ عَلَى خُصُوصِ الْبَعْثِ فَيَصِحُّ جَعْلُ الْفَاءِ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا اقْتَضَتْ سِعَةَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَمُنَاسِبَةُ الْاِنْتِقَالِ مِنَ الْاِسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّسْلِ إِلَى الْاِسْتِدْلَالِ بِنَبَاتِ الزَّرْعِ هِيَ التَّشَابُهُ الْبَيِّنُ بَيْنَ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ وَتَكْوِينِ النَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] . وَالْقَوْلُ فِي أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَة: 58] . وَمَا تَحْرُثُونَ مَوْصُول وصلَة وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالْحَرْثُ: شَقُّ الْأَرْضِ لِيُزْرَعَ فِيهَا أَوْ يُغْرَسَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا تَحْرُثُونَ أَنَّهُ الْأَرْضُ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يُلَائِمُ ضَمِيرَ تَزْرَعُونَهُ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَا تَحْرُثُونَ بِأَنْ يُقَدَّرَ: مَا تَحْرُثُونَ لَهُ، أَيْ لِأَجْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالَّذِي يَحْرُثُونَ لِأَجْلِهِ هُوَ النَّبَاتُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالَّذِي يُنْفَى هُوَ مَا يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ لَا بَذْرُهُ. فَإِنَّ فِعْلَ (زَرَعَ) يُطْلَقُ بِمَعْنَى: أَنْبَتَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الزَّرْعُ، الْإِنْبَاتُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فَنَفَى عَنْهُمُ الزَّرْعَ وَنَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ اه وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُطْلَقُ فِعْلُ (زَرَعَ) بِمَعْنَى: بَذَرَ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ لِقَوْلِ صَاحِبِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» : زَرَعَ الْحَبَّ: بَذَرَهُ، أَيْ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبُّ الَّذِي يُبْذَرُ فِي الْأَرْضِ زَرِيعَةً لَكِنْ لَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ. فَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمْ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 إلى 67]

الَّذِي تَحْرُثُونَ الْأَرْضَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ النَّبَاتُ مَا أَنْتُمْ تُنْبِتُونَهُ بَلْ نَحْنُ نُنْبِتُهُ. وَجُمْلَةُ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الْوَاقِعَة: 59] وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ إِنْكَارِيٌّ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ. وَالْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ أَمْ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ كَالْقَوْلِ فِي مَوْقِعِ نَظِيرَتِهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الْوَاقِعَة: 59] أَيْ أَنَّ (أَمْ) مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الْوَاقِعَة: 59] . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ الزَّرْعِ عَنْهُمْ وَإِثْبَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ مَعْنَى قَصْرِ الزَّرْعِ، أَيِ الْإِنْبَاتِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ دُونَهُمْ، وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِزَرْعِ النَّاسِ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ إِيمَاءٌ لِتَمْثِيلِ خَلْقِ الْأَجْسَامِ خَلْقًا ثَانِيًا مَعَ الِانْتِسَابِ بَيْنَ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ وَالْأَجْسَامِ الْمُجَدَّدَةِ مِنْهَا بِنَبَاتِ الزَّرْعِ مِنَ الْحَبَّةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَسِبَةٌ إِلَى سُنْبُلَةِ زَرْعٍ أُخِذَتْ هِيَ مِنْهَا فَتَأْتِي هِيَ بسنبلة مثلهَا. [65- 67] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 65 إِلَى 67] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) جُمْلَةُ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، مَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الْوَاقِعَة: 60] فِي أَنَّهَا اسْتِدْلَالٌ بِإِفْنَائِهِ مَا أَوْجَدَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ إيجادا وإعداما، تكلمة لِدَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَجَعَلْناهُ مُفِيدَةٌ لِلتَّأَكِيدِ. وَيَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْ) بِهَذِهِ اللَّامِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا مُثْبَتًا كَمَا يَكْثُرُ تَجَرُّدُهُ عَنْهَا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ لِهَذِهِ. وَالْحُطَامُ: الشَّيْءُ الَّذِي حَطَّمَهُ حَاطِمٌ، أَيْ كَسَّرَهُ وَدَقَّهُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَحْطُومِ،

كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ زِنَةُ فُعَالٍ مثل الفتات والجذاذ وَالدُّقَاقِ، وَكَذَلِكَ الْمُقْتَرِنُ مِنْهُ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ كَالْقُصَاصَةِ وَالْقُلَامَةِ وَالْكُنَاسَةِ وَالْقُمَامَةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مَا يَنْبُتُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْأَرْضِ حُطَامًا بِأَنْ نُسَلِّطَ عَلَيْهِ مَا يُحَطِّمُهُ مِنْ بَرَدٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ حَشَرَاتٍ قَبْلَ أَنْ تَنْتَفِعُوا بِهِ، فَالْمُرَادُ جَعْلُهُ حُطَامًا قَبْلَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَأَمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى الْكَوْنِ حُطَامًا فَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوطًا بِحَرْفِ (لَوِ) الِامْتِنَاعِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى جَعْلِهِ حُطَامًا أَنْ تَصِيرُوا تَقُولُونَ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، فَفِعْلُ (ظَلْتُمْ) هُنَا بِمَعْنَى: صِرْتُمْ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَعْضَلَ وَقْعُ فِعْلِ تَفَكَّهُونَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: تَفَكَّهُونَ تَعْجَبُونَ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: تَتَلَاوَمُونَ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: تَنْدَمُونَ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: تَحْزَنُونَ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَلَهُّفٌ عَلَى مَا فَاتَ، وَهُوَ- أَيْ فِعْلُ تَفَكَّهُونَ- مِنَ الْأَضْدَادِ تَقُولُ الْعَرَبُ: تَفَكَّهْتُ، أَيْ تَنَعَّمْتُ، وَتَفَكَّهْتُ، أَيْ حَزِنْتُ اه. ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ تَفَكَّهُونَ مِنْ مَادَّةِ فَكِهَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَسَرَّةِ وَالْفَرَحِ وَلَكِنَّ السِّيَاقَ سِيَاقُ ضِدِّ الْمَسَرَّةِ، وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَالْفُكَاهَةُ: الْمَسَرَّةُ وَالِانْبِسَاطُ، وَادَّعَى الْكِسَائِيُّ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ وَاعْتَمَدَهُ فِي «الْقَامُوسِ» إِذْ قَالَ: وَتَفَكَّهَ، أَكَلَ الْفَاكِهَةَ وَتَجَنَّبَ عَنِ الْفَاكِهَةِ ضِدُّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ- أَيْ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ- لَا يَخُصُّ اللَّفْظَةَ (أَيْ هُوَ تَفْسِيرٌ بِحَاصِلِ الْمَعْنَى دُونَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ) وَالَّذِي يَخُصُّ اللَّفْظَةَ هُوَ تَطْرَحُونَ الْفَاكِهَةَ (كَذَا وَلَعَلَّ صَوَابَهُ الْفُكَاهَةُ) عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَهِيَ الْمَسَرَّةُ وَالْجَذَلُ، وَرَجُلٌ فَكِهٌ، إِذَا كَانَ مُنْبَسِطَ النَّفْسِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِشَيْءٍ اه. يَعْنِي أَنَّ صِيغَةَ التَّفَعُّلِ فِيهِ مُطَاوَعَةُ فَعَّلَ الَّذِي تَضْعِيفُهُ لِلْإِزَالَةِ مِثْلَ قَشَّرَ الْعُودَ وَقَرَّدَ الْبَعِيرَ وَأَثْبَتَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» هَذَا الْقَوْلَ وَنَسَبَهُ إِلَى ابْنِ عَطِيَّةَ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 68 إلى 69]

وَجَعَلُوا جُمْلَةَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ تَنَدُّمًا وَتَحَسُّرًا، أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حطم زرعكم حرمَان مِنَ اللَّهِ جَزَاءً لكفركم، وَمعنى لَمُغْرَمُونَ مِنَ الْغَرَامِ وَهُوَ الْهَلَاكُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الْفرْقَان: 65] . وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا فِي سُورَةِ الْقَلَمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا طاغِينَ [الْقَلَم: 26- 31] . فَتَحَصَّلَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى ظَاهِرِ مَادَّةِ فَعَّلَ تَفَكَّهُونَ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَهَكُّمًا بِهِمْ حَمْلًا لَهُمْ عَلَى مُعْتَادِ أَخْلَاقِهِمْ مِنَ الْهَزْلِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ عَنْهُمْ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُ الْآيَةِ عَلَى جَعْلِ تَفَكَّهُونَ بِمَعْنَى تَنْدَمُونَ وَتَحْزَنُونَ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِفِعْلِ تَفَكَّهُونَ هُنَا وَقْعٌ يُعَوِّضُهُ غَيْرُهُ. وَجُمْلَةُ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَفَكَّهُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ هَمْزَةُ (إنّ) ، وقرأه أبوبكر عَن عَاصِم أإنا بِهَمْزَتَيْنِ هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ وهمزة (إِن) . [68، 69] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 68 إِلَى 69] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [الْوَاقِعَة: 63] الْآيَةَ، تَفْرِيعًا وَاسْتِفْهَامًا، وَفِعْلَ رُؤْيَةٍ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ أَنَّ الْحَرْثَ إِنَّمَا يَنْبُتُ زَرْعُهُ وَشَجَرُهُ بَالْمَاءِ فَانْتَقَلَ مِنَ الِاسْتِدْلَال بتكوين النَّبَاتِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَكْوِينِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ. وَوَصْفُ الْماءَ بِ الَّذِي تَشْرَبُونَ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، أَيِ الْمَاءُ الْعَذْبُ الَّذِي تَشْرَبُونَهُ، فَإِنَّ شُرْبَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِيُقَابَلَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الْوَاقِعَة: 70] . وَالْمُرَادُ مَاءُ الْمَطَرِ وَلِذَلِكَ قَالَ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، وَالْمُرَادُ: أَنْزَلْتُمُوهُ

[سورة الواقعة (56) : آية 70]

عَلَى بِلَادِكُمْ وَحُرُوثِكُمْ. وَمَاءُ الْمَطَرِ هُوَ مُعْظَمُ شَرَابِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ حِينَئِذٍ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْعَرَبِ: بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ. والمزن: اسْم جَمْعُ مُزْنَةٍ وَهِيَ السَّحَابَةُ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ إِنْشَاءُ مَا بِهِ الْحَيَاةُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا بِأَنْ كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي السَّحَابِ بِحِكْمَةِ تَكْوِينِ الْمَاءِ. فَكَمَا اسْتَدَلَّ بِإِيجَادِ الْحَيِّ مِنْ أَجْزَاءَ مَيِّتَةٍ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالنَّبَاتِ اسْتُدِلَّ بِإِيجَادِ مَا بِهِ الْحَيَاةُ عَنْ عَدَمٍ تَقْرِيبًا لِإِعَادِةِ الْأَجْسَامِ بِحِكْمَةٍ دَقِيقَةٍ خَفِيَّةٍ، أَيْ يَجُوزُ أَنْ يُمْطِرَ اللَّهُ مَطَرًا عَلَى ذَوَاتِ الْأَجْسَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ يَكُونُ سَبَبًا فِي تَخَلُّقِهَا أَجْسَادًا كَامِلَةً كَمَا كَانَتْ أُصُولُهَا، كَمَا تَتَكَوَّنُ الشَّجَرَةُ مِنْ نَوَاةِ أَصْلِهَا، وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. وَقَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ جُعِلَ اسْتِدْلَالًا مَنُوطًا بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ الْمُزْنِ، على طَريقَة الْكِنَايَة بِإِنْزَالِهِ، عَنْ تكوينه صَالحا للشراب، لِأَنَّ إِنْزَالَهُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي تَشْرَبُونَ. وَأَعْقَبَ بِقَوْلِهِ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً [الْوَاقِعَة: 70] فَحَصَلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ احْتِبَاكٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَأَنْتُمْ خَلَقْتُمُوهُ عَذْبًا صَالِحًا لِلشُّرْبِ وَأَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ولأمسكناه فِي سحاباته أَوْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْبِحَارِ أَوِ الْخَلَاءِ فَلَمْ تنتفعوا بِهِ. [70] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 70] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) مَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الْوَاقِعَة: 65] وَالْمَعْنَى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ غَيْرَ نَافِعٍ لَكُمْ. فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَقْضِ مَا فِي الْمَاءِ مِنَ الصَّلَاحِيَّةِ لِلنَّفْعِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَةِ الْمَائِيَّةِ فِيهِ. فَوِزَانُ هَذَا وِزَانُ قَوْلِهِ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الْوَاقِعَة: 60] وَقَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الْوَاقِعَة: 65] . وَتَخَلَّصَ مِنْ هَذَا التَّتْمِيمِ إِلَى الِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ تَحْضِيضًا لَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ وَنَبْذِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ. وَحُذِفَتُ اللَّامُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ لَوْ الْمَاضِي الْمُثْبَتِ لِأَنَّهَا لَامٌ زَائِدَةٌ لَا تُفِيدُ إِلَّا التَّوْكِيدَ فَكَانَ حَذْفُهَا إيجازا فِي الْكَلَام.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 71 إلى 72]

وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَجَرِيُّ التُّونِسِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْأَشْمُونِيِّ لِلْأَلْفِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ «زَوَاهِرُ الْكَوَاكِبِ» عَنْ كِتَابِ «الْبُرْهَانُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ» هَذَا الِاسْمُ سُمِّيَ بِهِ كِتَابَانِ أَحَدُهُمَا لِكَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ وَالثَّانِي: لِابْنِ أَبِي الْأُصْبُعِ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ أُكِّدَ الْفِعْلُ بِاللَّامِ فِي الزَّرْعِ وَلَمْ يُؤَكَّدْ، فِي الْمَاءِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الزَّرْعَ وَنَبَاتَهُ وَجَفَافَهُ بَعْدَ النَّضَارَةِ حَتَّى يَعُودَ حُطَامًا مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الزَّارِعِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ سَقْيِ الْمَاءِ، وَجَفَافُهُ مِنْ عَدَمِ السَّقْيِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِهِ حُطَامًا فِي حَالِ نُمُوِّهِ لَوْ شَاءَ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ لِأَحَدٍ قُدْرَةً عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى اه. وَحَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ قَلِيلٌ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ لَوْ وَشَرطهَا صلَة لموصول فَيَكْثُرُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ لِلطُّولِ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَتَبِعَهُ الرَّضِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: 9] وَإِنْ قَالَ الْمُرَادِيُّ وَالدَّمَامِينِيُّ فِي «شَرْحَيْهِمَا» : إِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِ الْمُصَنِّفِ، قَالَ الرَّضِيُّ: وَكَذَلِكَ إِذَا طَالَ الشَّرْطُ بِذِيُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَان: 27] ، أَيْ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَحَذْفُ اللَّامِ قَلِيلٌ وَلَكِنَّهُ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَلِلْفَخْرِ كَلَامٌ فِي ضَابِطِ حَذْفِ هَذِهِ اللَّامِ، لَيْسَ لَهُ تَمام. [71، 72] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 71 إِلَى 72] أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) هُوَ مِثْلُ سَابِقِهِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّارِ هِيَ مَا تَقَدَّمَ فِي مُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ إِلَى خَلْقِ الْمَاءِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، فَإِنَّ النَّارَ تَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرِ بِالِاقْتِدَاحِ وَتُذَكَّى بِالشَّجَرِ فِي الِاشْتِعَالِ والالتهاب. وَهَذَا اسْتِدْلَال عَلَى تَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ لِلْبَعْثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاقْتِدَاحَ إِخْرَاجٌ وَالزَّنْدُ الَّذِي بِهِ إِيقَادُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ أَعْوَادِ الِاقْتِدَاحِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ.

وَفِي قَوْلِهِ: الَّتِي تُورُونَ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الْوَاقِعَة: 68] . وَهُوَ أَيْضًا وَصْفٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الدَّلِيلِ وَهُوَ النَّارُ الَّتِي تَقْتَدِحُ مِنَ الزَّنْدِ لَا النَّارُ الْمُلْتَهِبَةُ. وَضَمِيرُ شَجَرَتِهَا عَائِدٌ إِلَى النَّارِ. وَشَجَرَةُ النَّارِ: هِيَ جِنْسُ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ حُرَّاقٌ، أَيْ مَا يُقْتَدَحُ مِنْهُ النَّارَ وَهُوَ شَجَرُ الزَّنْدِ أَوِ الزِّنَادِ وَأَشْجَارُ النَّارِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْمَرْخُ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) وَالْعَفَارُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) وَالْعُشَرُ (بِضَمٍّ فَفَتْحٍ) وَالْكَلْخُ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) وَمِنَ الْأَمْثَالِ «فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ» أَيْ أَكْثَرَ مِنَ النَّارِ. وتُورُونَ: مُضَارِعُ أَوْرَى الزَّنْدَ إِذَا حَكَّهُ بِمِثْلِهِ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ النَّارَ كَانُوا يَضَعُونَ عُودًا مِنْ شَجَرِ النَّارِ وَيَحُكُّونَهُ مِنْ أَعْلَاهُ بِعُودٍ مِثْلِهِ فَتَخْرُجُ النَّارُ مِنَ الْعُودِ الْأَسْفَلِ وَيُسَمَّى الْعُودُ الْأَعْلَى زَنْدًا (بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ النُّونِ) وَزِنَادًا (بِكَسْرِ الزَّايِ) وَيُسَمَّى الْأَسْفَلُ زَنْدَةً بِهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، شَبَّهُوا الْعُودَ الْأَعْلَى بِالْفَحْلِ وَشَبَّهُوا الْعُودَ الْأَسْفَلَ بِالطَّرُوقَةِ وَقَدْ تَابَعَ ذُو الرُّمَّةِ هَذَا الْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ الِاقْتِدَاحَ لِلنَّارِ فَقَالَ عَلَى شِبْهِ الْأَلْغَازِ: وَسِقْطٍ كَعَيْنِ الدِّيكِ عَاوَرْتُ صَاحِبِي ... أَبَاهَا وَهَيَّأْنَا لِمَوْقِعِهَا وَكْرًا مُشَهَّرَةٍ لَا تُمْكِنُ الْفَحْلَ أُمَّهَا ... إِذَا نَحْنُ لَمْ نُمْسِكْ بِأَطْرَافِهَا قَسْرَا وَحُذِفَ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ لِأَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ يَكْثُرُ حَذْفُهُ مِنَ الصِّلَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: الَّتِي تُورُونَهَا. وَتَعْدِيَةُ تُورُونَ إِلَى ضَمِيرِ النَّارَ تَعْدِيَةً عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ تُورُونَ شَجَرَتَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها، وَقد شَاعَ هَذَا الْحَذْفُ فِي الْكَلَامِ فَقَالُوا: أَوْرَى النَّارَ كَمَا قَالُوا: أَوَرَى الزِّنَادَ. وَجُمْلَةُ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الْوَاقِعَة: 59] .

[سورة الواقعة (56) : آية 73]

[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 73] نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَة: 72] ، أَيْ إِنَّ إِنْشَاءَ النَّارِ كَانَ لِفَوَائِدَ وَحِكَمًا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ تَذْكِرَةً لِلنَّاسِ يَذْكُرُونَ بِهَا نَارَ جَهَنَّمَ وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ إِحْرَاقِهَا وَإِحْرَاقِ جَهَنَّمَ الَّتِي يَعْلَمُونَ أَنَّهَا أَشَدُّ مِنْ نَارِهِمْ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ، أَيْ يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَانًا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [77] . وَالْمُقْوِي: الدَّاخِلُ فِي الْقَوَاءِ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ) وَهِيَ الْقَفْرُ، وَيُطْلَقُ الْمُقْوِي عَلَى الْجَائِعِ لِأَنَّ جَوْفَهُ أقوت، أَي خلقت مِنَ الطَّعَامِ إِذْ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَوَى وَهُوَ الْخَلَاءُ. وَفَرَاغُ الْبَطْنِ: قَوَاءٌ وَقَوًى. فَإِيثَارُ هَذَا الْوَصْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَجْمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ فَإِنَّ النَّارَ مَتَاعٌ لِلْمُسَافِرِينَ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي مَنَاخِهِمْ وَيَصْطَلُونَ بِهَا فِي الْبَرْدِ وَيَرَاهَا السَّائِرُ لَيْلًا فِي الْقَفْرِ فَيَهْتَدِي إِلَى مَكَانِ النُّزُلِ فَيَأْوِي إِلَيْهِمْ، وَمَتَاعٌ لِلْجَائِعِينَ يَطْبُخُونَ بِهَا طَعَامَهُمْ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَهَذَا إدماج للامتنان فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ. وَاخْتِيرَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ احْتِيَاجَ أَصْحَابِهِمَا إِلَى النَّارِ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاج غَيرهمَا. [74] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 74] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) رَتَّبَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى دَلَائِلِ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى أَمْثَالٍ لِتَقْرِيبِ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوا خَبَرَهُ، وَعَلَى جَلَائِلِ النِّعَمِ الْمُدْمَجَةِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَزِّهَهُ تَنْزِيِهًا خَاصًّا مُعَقِّبًا لِمَا تُفِيضُهُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ الْجَلِيلَةُ الْمَاضِيَةُ مِنْ تَذَكُّرٍ جَدِيدٍ يَكُونُ التَّنْزِيهُ عَقِبَهُ ضَرْبًا مِنَ التَّذَكُّرِ فِي جَلَالِ ذَاتِهِ وَالتَّشَكُّرِ لِآلَائِهِ فَإِنَّ لِلْعِبَادَاتِ مَوَاقِعَ تَكُونُ هِيَ فِيهَا أَكْمَلَ مِنْهَا فِي دُونِهَا، فَيَكُونُ لَهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا يُجْزَلُ ثَوَابُهُ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو عَنْ تَسْبِيحِ رَبِّهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي عَظَمَةِ شَأْنِهِ وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ التَّسْبِيحِ وَالتَّفَكُّرِ مِنْ تَجَدُّدِ مُلَاحَظَةِ النَّفْسِ مَا يَجْعَلُ لِكُلِّ حَالٍ مِنَ التَّفَكُّرِ مَزَايَا تُكْسِبُهُ خَصَائِصَ وَتَزِيدُهُ ثَوَابًا.

فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ [الْوَاقِعَة: 49- 73] ، وَهِيَ تَذْيِيلٌ. وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَاسْمُ الرَّبِّ: هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَجُمَّاعِ صِفَاتِهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ، أَيْ بِأَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَالتَّسْبِيحُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَوْضُوعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ كَانَ تَسْبِيحُ الِاسْمِ مُقْتَضِيًا تَنْزِيهَ مُسَمَّاهُ وَكَانَ أَيْضًا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ بِاللَّفْظِ مَعَ الِاعْتِقَادِ لَا مُجَرَّدَ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَمَّا عُلِّقَ بِلَفْظِ اسْمٍ تَعَيَّنَ أَنَّهُ تَسْبِيحٌ لَفْظِيٌّ، أَيْ قُلْ كَلَامًا فِيهِ مَعْنَى التَّنْزِيهِ، وَعَلِّقْهُ بِاسْمِ رَبِّكَ، فَكُلُّ كَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ مَشْمُولٌ لِهَذَا الْأَمْرِ وَلَكِنْ مُحَاكَاةُ لَفْظِ الْقُرْآنِ أَوْلَى وَأَجْمَعُ بِأَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 3] كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» أَيْ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى إِرَادَةِ أَلْفَاظِهِ. وَالْبَاءُ الدَّاخِلَة على بِاسْمِ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ، أَيِ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ وَذَلِكَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ عَقِبَ ذِكْرِ عِدَّةِ أُمُورٍ تَقْتَضِيهِ حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَاءُ التَّرْتِيبِ فَكَانَ حَقِيقًا بِالتَّقْوِيَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] لِوُقُوعِهِ فِي صَدْرِ جُمْلَتِهِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَاب: 41، 42] . وَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَتْلُوٌّ لَهُمْ وَأَنَّ مَا تَفَرَّعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ لَا يَخْتَصُّ عِلْمُهُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ لِأَجْلِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ مِنَ الْمُسلمين. وَالْمعْنَى: إِذْ عَلِمْتُمْ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَتَذَكَّرْتُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ فَنَزِّهُوا اللَّهَ وَعَظِّمُوهُ بِقُصَارَى مَا تَسْتَطِيعُونَ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 80]

وَ (الْعَظِيمِ) صَالِحٌ لِأَنْ يُجْعَلَ وَصْفًا لِ رَبِّكَ، وَهُوَ عَظِيمٌ بِمَعْنَى ثُبُوتِ جَمِيعِ الْكَمَالِ لَهُ وَهَذَا مَجَازٌ شَائِعٌ مُلْحَقٌ بِالْحَقِيقَةِ وَصَالِحٌ لِأَنْ يكون وَصفا لاسم وَالِاسْمُ عَظِيمٌ عَظَمَةً مَجَازِيَّةً لِيُمْنِهِ وَلِعَظَمَةِ المسمّى بِهِ. [75- 80] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 75 إِلَى 80] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ [الْوَاقِعَة: 49، 50] يُعْرِبُ عَنْ خِطَابٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُوَجَّهٍ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ الْقَائِلين: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْوَاقِعَة: 47] ، انْتَقَلَ بِهِ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَكَانَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ مِنْ أَهَمِّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَكَانَ مِمَّا أَغْرَاهُمْ بِتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ اشْتِمَالُهُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي عَدُّوهُ مُحَالًا، زِيَادَةً عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَأَكَاذِيبِهِمْ، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ، فَقَدْ تَبَيَّنَ صِدْقُ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فَثَبت صدقه وَلذَلِك تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْقَسَمِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَدِلَّةِ وُقُوعِ الْبَعْثِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ [الْوَاقِعَة: 49، 50] ، إِخْبَارٌ بِيَوْمِ الْبَعْثِ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِهِ وَهُمْ قَدْ أَنْكَرُوهُ، وَلِأَجْلِ اسْتِحَالَتِهِ فِي نَظَرِهِمُ الْقَاصِرِ كَذَّبُوا الْقُرْآنَ وَكَذَّبُوا مَنْ جَاءَ بِهِ، فَفَرَّعَ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ تَحْقِيقَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ. فَتَفْرِيعُ الْقَسَمِ تَفْرِيعٌ مَعْنَوِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا تَفْرِيعٌ ذِكْرِيٌّ بِاعْتِبَارِ إِنْشَاءِ الْقَسَمِ إِنْ قَالُوا لَكُمْ: أَقْسَمَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَقَدْ جَاءَ تَفْرِيعُ الْقَسَمِ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ تَفْرِيعًا فِي مُجَرَّدِ الذِّكْرِ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: فَأَقْسَمْتُ بِالَبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ ... رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ عَقِبَ أَبْيَاتِ النَّسِيبِ مِنْ مُعَلَّقَتِهِ، وَلَيْسَ بَين النسيب وَبَين مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ

الْقَسَمِ مُنَاسَبَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصِيدِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ لَهُ النَّسِيبَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الْبَوْنُ فِي النَّظْمِ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ بَيت زُهَيْر. وفَلا أُقْسِمُ بِمَعْنَى: أُقْسِمُ، وَ (لَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَصْلُهَا نَافِيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَسَمِ بِمَا أَقْسَمَ بِهِ خَشْيَةَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكَذِبِ فِي الْقَسَمِ. وَبِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْقَسَمِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَاضح الثُّبُوت، ثمَّ كَثُرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَ مُرَادًا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ فَسَاوَى الْقَسَمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ الْأَنْسَبُ بِمَا وَقَعَ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ مَا لَوْ كَانَ مُقْسِمًا لَأَقْسَمَ بِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ بِمَعْنَى: وَإِنَّ الْمَذْكُورَ لَشَيْءٌ عَظِيمٌ يُقْسِمُ بِهِ الْمُقْسِمُونَ، فَإِطْلَاقُ قَسَمٌ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا (لَا) حَرْفًا مُسْتَقِلًّا عَنْ فِعْلِ أُقْسِمُ وَاقِعًا جَوَابًا لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ رَدًّا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ شِعْرٌ، أَوْ سِحْرٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ قَوْلُ كَاهِنٍ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: أُقْسِمُ اسْتِئْنَافًا. وَعَلَيْهِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ مَعَ فَاء التَّفْرِيع أَنه تفرع على مَا سطح مِنْ أَدِلَّةِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مَا يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ لَيْسَ كَمَا تَزْعُمُونَ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كريم إِلَخ. وبِمَواقِعِ النُّجُومِ جَمْعُ مَوْقِعٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْوُقُوعِ، أَيْ مَحَالُّ وُقُوعِهَا مِنْ ثَوَابِتَ وَسَيَّارَةٍ. وَالْوُقُوعُ يُطْلَقُ عَلَى السُّقُوطِ، أَيِ الْهَوَى، فَمَوَاقِعُ النُّجُومِ مَوَاضِعُ غُرُوبِهَا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْم: 1] وَالْقَسَمُ بِذَلِكَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] . وَجعل بِمَواقِعِ النُّجُومِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقْسَمًا بِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسَاقِطَ فِي حَالِ سُقُوطِ النُّجُومِ عِنْدَهَا تُذَكِّرُ بِالنِّظَامِ الْبَدِيعِ الْمَجْعُولِ لِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَا يَخْتَلُّ وَلَا يَتَخَلَّفُ، وَتُذَكِّرُ

بِعَظَمَةِ الْكَوَاكِبِ وَبِتَدَاوُلِهَا خِلْفَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ الْقَسَمُ بِهِ الرَّاجِعُ إِلَى الْقَسَمِ بِمُبْدِعِهِ. وَيُطْلَقُ الْوُقُوعُ عَلَى الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: وَقَعَتِ الْإِبِلُ، إِذَا بَرَكَتْ، وَوَقَعَتِ الْغَنَمُ فِي مَرَابِضِهَا، وَمِنْهُ جَاءَ اسْمُ الْوَاقِعَةِ لِلْحَادِثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَوَاقِعُ: مَحَالُّ وُقُوعِهَا وَخُطُوطُ سَيْرِهَا فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] . وَالْمَوَاقِعُ هِيَ: أَفْلَاكُ النُّجُومِ الْمَضْبُوطَةِ السَّيْرِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ بُرُوجُهَا وَمَنَازِلُهَا. وَذِكْرُ (مَوَاقِعِ النُّجُومِ) عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَعْظِيمٌ لِأَمْرِهَا لِدَلَالَةِ أَحْوَالِهَا عَلَى دَقَائِقَ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ سَيْرِهَا وَبَدَائِعِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْخِيرِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَوَاقِعِ) جَمْعُ مَوْقِعٍ الْمَصْدَرُ الْمِيمِيُّ لِلْوُقُوعِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ النُّجُومَ أَنَّهَا جَمْعُ نَجْمٍ وَهُوَ الْقِسْطُ الشَّيْءُ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: نُجُومُ الدِّيَاتِ وَالْغَرَامَاتِ وَجَعَلُوا النُّجُومَ، أَيِ الطَّوَائِفَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ فَيُؤَوَّلُ إِلَى الْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 2، 3] . وَجُمْلَةُ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الْمَذْكُور فِي فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَو عَائِدًا إِلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ بِتَأْوِيلِهِ بالمذكور فَيكون قسم بِمَعْنَى مُقْسَمٌ بِهِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. وَجُمْلَةُ لَوْ تَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ وَهِيَ اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ. وَالْعِلْمُ الَّذِي اقْتَضَى شَرْطُ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ عَدَمَ حُصُولِهِ لَهُمْ إِنْ جَعَلْتَ

ضَمِيرَ إِنَّهُ عَائِدًا عَلَى الْقَسَمِ هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ بِأَحْوَالِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ عِلْمٍ إِجْمَالِيٍّ مُتَفَاوِتٍ بِأَنَّ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِعِ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ، أَوْ نُزِّلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِأَنَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ فَلَوْ عَلِمُوا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُ مَوَاقِعِ النُّجُومِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَعَلِمُوا أَنَّهَا مَوَاقِعُ قُدْسِيَّةٌ لَا يَحْلِفُ بِهَا إِلَّا بَارٌّ فِي يَمِينِهِ وَلَكِنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ، فَإِنَّ جَلَالَةَ الْمُقْسَمِ بِهِ مِمَّا يَزَعُ الْحَالِفَ عَنِ الْكَذِبِ فِي يَمِينِهِ. وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ بِعَظَمَتِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ الله بالإلهية فأثبوا لَهُ شُرَكَاءَ لَمْ يَخْلُقُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مَا يُدَانِيهِ فَتِلْكَ آيَةٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا مَا فِي طَيِّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ حَتَّى اسْتَوَى عِنْدَهُمْ خَالِقُ مَا فِي تِلْكَ الْمَوَاقِعِ وَغَيْرُ خَالِقِهَا. فَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ ضَمِيرَ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَائِدًا إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَمَا احْتَجْتُمْ إِلَى الْقَسَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَواقِعِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا أَلِفٌ، وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَخلق بِمَواقِعِ سُكُونُ الْوَاوِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَهَا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ بِوُقُوعِهَا، أَيْ غُرُوبِهَا، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِجِهَةِ غُرُوبِهَا كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 9] . وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظَمَتَهُ، أَيْ دَلَائِلَ عَظَمَتِهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ لَكِنَّكُمْ لَا تَتَّصِفُونَ بِالْعِلْمِ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مُسْتَحْضَرًا لَهُمْ. وَالْقُرْآنُ: الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ، أَيِ الْمَتْلُوُّ الْمُكَرَّرُ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مُتَّعَظٌ بِهِ مَحَلُّ تَدَبُّرٍ وَتِلَاوَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ

وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَهَذَا تَفْضِيلٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى أَفْرَادِ نَوْعِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَمَجَلَّةِ لُقْمَانَ، وَفَضْلُهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ فَاقَهَا فِي اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَإِثْبَاتِ الْمُعْتَقَدَاتِ بِدَلَائِلِ التَّكْوِينِ. وَالْإِبْلَاغِ فِي دَحْضِ الْبَاطِلِ دَحْضًا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مِثْلِهِ كِتَابٌ سَابِقٌ، وَخَاصَّةً الِاعْتِقَادَ، وَفِي وُضُوحِ مَعَانِيهِ، وَفِي كَثْرَةِ دَلَالَتِهِ مَعَ قِلَّةِ أَلْفَاظِهِ، وَفِي فَصَاحَتِهِ، وَفِي حُسْنِ آيَاتِهِ، وَحُسْنِ مَوَاقِعِهَا فِي السَّمْعِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْهِدَايَةِ بِهِ، وَالصَّلَاحِيَةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ، وَلِكُلِّ زَمَانٍ، فَهَذَا وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِالرِّفْعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ حَقًّا لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَالِفُ طَعْنًا فِيهِ. وَبَعْدَ أَنْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِ كَرِيمٌ، وُصِفَ وَصْفًا ثَانِيًا بِأَنَّهُ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ وَذَلِكَ وَصْفُ كَرَامَةٍ لَا مَحَالَةَ، فَلَيْسَ لَفْظُ كِتابٍ وَلَا وَصْفُ مَكْنُونٍ مُرَادًا بِهِمَا الْحَقِيقَةُ إِذْ لَيْسَ فِي حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَكْرِيمٌ، فَحَرْفُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَالْكِتَابُ الْمَكْنُونُ: مُسْتَعَارٌ لِمُوَافَقَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ الْمَلِكَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتلك شؤون مَحْجُوبَةً عَنَّا فَلِذَلِكَ وَصَفَ الْكِتَابَ بِالْمَكْنُونِ اشْتِقَاقًا مِنَ الِاكْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ، أَيْ مَحْجُوبٌ عَنْ أَنْظَارِ النَّاسِ فَهُوَ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَحَاصِلُ مَا يُفِيدُهُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي بَلَغَهُمْ وَسَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ إِعْلَامَ النَّاسِ بِهِ وَمَا تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِإِيِجَادِ نَظْمِهِ الْمُعْجِزِ، لِيَكْمُلَ لَهُ وَصْفُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْهُ بَشَرٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الظَّرْفِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [59] ، وَقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: 11] أَيْ إِلَّا جَارِيًا عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَجَرَى بِهِ قَدَرُهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، فَاسْتُعِيرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ لِمَعْنَى مُطَابَقَةِ مَا هُوَ عِنْدَ

اللَّهِ، تَشْبِيهًا لِتِلْكَ الْمُطَابَقَةِ بِاتِّحَادِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18، 19] وَهَذَا أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْمَجَازِ فِي إِسْنَادِ الْوَصْفِ بِالْكَوْنِ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ إِلَى قُرْآنٍ كَرِيمٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْمَجَازِ وَصْفُ مُمَاثِلِ الْقُرْآنِ وَمُطَابِقِهِ لِأَنَّ الْمُمَاثِلَ مُلَابِسٌ لِمُمَاثِلِهِ. وَاسْتُعِيرَ الْكِتَابُ لِلْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُحَقَّقِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، فَالْتَأَمَ مِنِ اسْتِعَارَةِ الظَّرْفِيَّةِ لِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ، وَمِنِ اسْتِعَارَةِ الْكِتَابِ لِلثَّابِتِ الْمُحَقَّقِ مَعْنَى مُوَافَقَةِ مَعَانِي هَذَا الْقُرْآنِ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُتَعَلِّقِ عِلْمِهِ وَمُتَعَلِّقِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمُوَافَقَةِ أَلْفَاظِهِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ مِنَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُ بِشْرِ بن أبي حَازِم أَوْ الطِّرِمَّاحِ: وَجَدْنَا فِي كِتَابِ بَنِي تَمِيمٍ ... أَحَقَّ الْخَيْلِ بِالرَّكْضِ الْمُعَارِ وَلَيْسَ لِبَنِي تَمِيمٍ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ الْكِتَابَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ. وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ كِتابٍ. والْمُطَهَّرُونَ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ الطَّهَارَةُ النَّفْسَانِيَّةُ وَهِيَ الزَّكَاءُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى [11- 16] قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ اه. يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرُونَ هُمُ السَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ وَلَيْسُوا النَّاسَ الَّذِينَ يَتَطَهَّرُونَ. وَمَعْنَى الْمَسِّ: الْأَخْذِ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَسَّ مِنْ طِيبَةٍ» ، أَيْ أَخَذَ. وَيُطْلَقُ الْمَسُّ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُطَالَعَةِ قَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الْكِلَابِيُّ: مَسِسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا فَكُلُّنَا ... إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعٍ قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ مِنَ «الْحَمَاسَةِ» : «مَسِسْنَا» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

بِمَعْنَى أَصَبْنَا وَاخْتَبَرْنَا لِأَنَّ الْمَسَّ بِالْيَدِ يُقْصَدُ بِهِ الِاخْتِبَارُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى طَلَبْنَا اه. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكِتَابَ لَا يُبَاشِرُ نَقْلَ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ لِتَبْلِيغِهِ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَمَا يَزْعُمُ الْمُشْرِكُونَ قَوْلَ كَاهِنٍ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكَاهِنَ يَتَلَقَّى مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ مَا يَسْتَرِقُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ بِزَعْمِهِمْ، وَلَا هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ شَاعِرٍ شَيْطَانًا يُمْلِي عَلَيْهِ الشِّعْرَ، وَلَا هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، لِأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهَا الْحِكَايَاتِ الْمَكْذُوبَةِ الَّتِي يَتَلَهَّى بِهَا أَهْلُ الْأَسْمَارِ، فَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُطَابِقٌ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي لَا يُشَاهِدُهُ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ. وَجُمْلَةُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مُبِينَةً لِجُمْلَةِ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِصِفَةِ الْقُرْآنِ، أَيْ فَبُلُوغُهُ إِلَيْكُمْ كَانَ بِتَنْزِيلٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ نَزَلَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ. وَفِي مَعْنَى نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: 41- 43] . وَإِذْ قَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الشَّرِيفَةُ لِلْقُرْآنِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ تُعَظَّمَ تِلَاوَتُهُ وَكِتَابَتُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ لَا يَمَسَّ مَكْتُوبَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْمُتَطَهِّرُ تَشَبُّهًا بِحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي تَنَاوُلِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُمْسِكُ الْقُرْآنِ عَلَى حَالَةِ تَطَهُّرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي تومىء إِلَيْهِ مَشْرُوعِيَّةُ الطَّهَارَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ نَظِيرَ مَا فِي الْحَدِيثِ «الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ» . وَقَدْ دَلَّتْ آثَارٌ عَلَى هَذَا أَوْضَحُهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» مُرْسَلًا «إِنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَقْيَالِ ذِي رعين وقعافر وَهَمَذَانَ وَبَعَثَهَا بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِر» . وروى الطَّبَرَانِيّ عَن عبد الله بن عمر قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِرٌ» ، قَالَ الْمَنَاوِيُّ: وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَجَعَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي مَرْتَبَةِ الْحَسَنِ. وَفِي كُتُبِ السِّيرَةِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ دَخْلَ عَلَى أُخْتِهِ وَهِيَ امْرَأَةُ

سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فَوَجَدَهَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ صَحِيفَةٍ مَكْتُوبٌ فِيهَا سُورَةُ طَهَ فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ لِيَقْرَأَهَا فَقَالَتْ لَهُ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَقَرَأَ السُّورَةَ فَأَسْلَمَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ مَسِّ الْقُرْآنِ بِأَيِدِي النَّاسِ وَلَكِنْ ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاهَا لَا يَخْلُو مِنْ إِرَادَةِ أَنْ يُقَاسَ النَّاسُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَمَسُّونَ الْقُرْآنَ إِلَّا إِذَا كَانُوا طَاهِرَيْنَ كَالْمَلَائِكَةِ، أَيْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِنْ طَهَارَةِ الْآدَمِيِّينَ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطَهُّرِ لِمَنْ يُمْسِكُ مَكْتُوبًا مِنَ الْقُرْآنِ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُقْتَضَى هَذَا الْأَمْرِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ، فَالْجُمْهُورُ رَأَوْا وُجُوبَ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكُ مَكْتُوبِ الْقُرْآنِ عَلَى وُضُوءٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ فَرِيقٌ: إِنَّ هَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ. قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» «وَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ لَا بِعِلَاقَتِهِ وَلَا عَلَى وِسَادَةٍ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ إِكْرَامًا لِلْقُرْآنِ وَتَعْظِيمًا لَهُ» . وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْوُضُوءِ مِنَ «الْعُتْبِيَّةِ» فِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ «سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ اللَّوْحِ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيُمَسُّ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟ فَقَالَ: أَمَّا لِلصِّبْيَانِ الَّذِينَ يتعلمون فَلَا رأى بِهِ بَأْسًا، فَقِيلَ لَهُ: فَالرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ فِيهِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، فَقِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: فَالْمُعَلِّمُ يُشَكِّلُ أَلْوَاحَ الصِّبْيَانِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، قَالَ: أَرَى ذَلِكَ خَفِيفًا» . قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : «لِمَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعَلُّمِهِ. وَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ فِي تَخْفِيفِ ذَلِكَ لِلصِّبْيَانِ. وَأَشَارَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» إِلَى أَنَّ إِبَاحَةَ مَسِّ الْقُرْآنِ لِلْمُتَعَلِّمِ وَالْمُعَلِّمِ هِيَ لِأَجْلِ ضَرُورَةِ التَّعَلُّمِ. وَقَدِ اعْتَبَرُوا هَذَا حُكْمًا لِمَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ بِقَصْدِ كَوْنِهِ مُصْحَفًا أَوْ جُزْءًا مِنْ مُصْحَفٍ أَوْ لَوْحًا لِلْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ لِمَا يُكْتَبُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِبَاسِ أَوِ التَّضْمِين أَو الِاحْتِجَاج وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُكْتَبُ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَفِي الْخَوَاتِيمِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهَا الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى، أَيِ الْوُضُوءُ، وَقَالَ

[سورة الواقعة (56) : آية 81]

ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ: يَجُوزُ مَسُّ الْقُرْآنِ بِالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصُّغْرَى. وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةُ قِرَاءَةِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَتْ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْآيَةُ ظَاهِرًا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ غَيْرُ مُتَطَهِّرِ لَعَلَّهُ أَنَّ الْمَسَّ مُلَابَسَةٌ لِمَكْتُوبِ الْقُرْآنِ فَقَدْ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ تِلَاوَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ حَاصِلًا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ الْمُسَاوِي أَوِ الْأَحْرَى، إِذِ النُّطْقُ مُلَابَسَةٌ كَمُلَابَسَةِ إِمْسَاكِ الْمَكْتُوبِ مِنْهُ أَوْ أَشَدَّ وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مَثَارَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ. وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَوَضِّئِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الْمُتَوَضِّئِ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَسَّ الْمُصْحَفِ فِي نَظَرِهِمْ أَشَدُّ مُلَابَسَةً مِنَ النُّطْقِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ. قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُتَوَضِّئِ. وَقُلْتُ: شَاعَ بَيْنَ الْمُسلمين من عَهْدِ الصَّحَابَةِ الْعَمَلُ بِأَنْ لَا يَتْلُوَ الْقُرْآنَ مَنْ كَانَ جُنُبًا وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ إِفْتَاءٌ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ: تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي قِرَاءَةِ الْيَسِيرِ مِنْهُ كَالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوُضُوءَ عَلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ. وَاخْتُلِفَ فِي قِرَاءَتِهِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَوَازِ مُرَاعًى فِيهَا أَنَّ انْتِقَاضِ طَهَارَتِهِمَا تَطُولُ مُدَّتَهُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي الترخيص. [81] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 81] أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سِيقَ لِأَجْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهَا فِي غَرَضِهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي بِحَذْوِ الْفَاءِ، أَوْ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهُوَ الَّذِي حواه مُعْظَمَ السُّورَةِ، وَكَانَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ مُسَبَّبَاتِهِ. وَأَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَدَا الْفَخْرِ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَبَيَانه بقوله: فَبِهذَا الْحَدِيثِ مُشِيرٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ. فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الْوَاقِعَة: 77] الْآيَةَ.

وَالْمُرَادُ بِ الْحَدِيثِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ وَإِرَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ وَارِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [44] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [59] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: أَفَبِهِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، إِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَحْصُلَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ زِيَادَةُ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْفَخْرُ فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى مَا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الْوَاقِعَة: 47، 48] ، فَإِنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 49] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الْوَاقِعَة: 77] ثُمَّ عَادَ إِلَى كَلَامِهِمْ فَقَالَ: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَتَحَدَّثُونَ بِهِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَصْحَابِكُمْ اه، أَيْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [العنكبوت: 25] . وَإِنَّهُ لَكَلَامٌ جَيِّدٌ وَلَوْ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ (هَذَا الْحَدِيثِ) جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أَصْلًا وَتَفْرِيعًا، أَيْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي قَرَعَ أَسْمَاعَكُمْ، لَكَانَ أَجْوَدَ. وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى خَبَرِ الْبَعْثِ أَوْضَحُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ الَّذِي صَارَ حَدِيثًا لِلْقَوْمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَالْمُدْهِنُ: الَّذِي يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ، يُقَالُ: أَدْهَنَ، وَيُقَالُ: دَاهَنَ، وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالتَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ، وَفُسِّرَ بِالتَّكْذِيبِ. وَالْاسْتِفْهَامُ عَلَى كُلِّ التَّفَاسِيرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، أَيْ كَلَامُكُمْ لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُدَاهَنَةً كَمَا يُقَالُ لِأَحَدٍ قَالَ كَلَامًا بَاطِلًا: أَتَهْزَأُ، أَيْ قَدْ نَهَضَ بُرْهَانُ صِدْقِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَا يُكَذِّبُ بِهِ مُكَذِّبٌ إِلَّا وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَذَّبَ لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهُ دَفْعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ إِصْرَارُكُمْ

[سورة الواقعة (56) : آية 82]

عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا مُدَاهَنَةً لِقَوْمِكُمْ تَخْشَوْنَ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ تَزُولَ رِئَاسَتُكُمْ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَعَلَى تَفْسِيرِ مُدْهِنُونَ بِمَعْنَى الْإِلَانَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا تَتَرَاخَوْا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَتَدَبَّرُوهُ وَخُذُوا بِالْفَوْرِ فِي اتِّبَاعِهِ. وَإِنْ فُسِّرَ مُدْهِنُونَ بِمَعْنَى: تَكْذِبُونَ، فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصَوْغُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَن المقرّر عَلَيْهِ إِدْهَانٌ ثَابت مستمرّ. [82] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 82] وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] عَطَفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ وَمُسْتَقِلَّةً بِمَعْنَاهَا. وَالْمَعْنَى: أَفَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِدْلَالُ بِتَكْوِينِ نَسْلِ الْإِنْسَانِ وَخَلْقِ الْحَبِّ، وَالْمَاءِ فِي الْمُزْنِ، وَالنَّارِ مِنْ أَعْوَادِ الِاقْتِدَاحِ، فَإِنَّ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ حُصُولَ مُقَوِّمَاتِ الْأَقْوَاتِ وَهِيَ رِزْقٌ، وَالنَّسْلُ رِزْقٌ، يُقَالُ: رُزِقَ فُلَانٌ وَلَدًا، لِأَن الرزق يُطلق عَلَى الْعَطَاءِ النَّافِعِ، قَالَ لَبِيدٌ: رُزِقَتْ مَرَابِيعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا ... وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا أَيْ أُعْطِيَتْ وَقَالَ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] فَعَطَفَ الْإِطْعَامَ عَلَى الرِّزْقِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَالْاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ الْعَاطِفِ إِنْكَارِيٌّ، وَإِذْ كَانَ التَّكْذِيبُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ

رِزْقًا تَعَيَّنَ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ يُفِيدُهُ الْكَلَامُ فَقَدَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ: شُكْرَ رِزْقِكُمْ، أَوْ نَحْوَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَ اللَّهِ عَلَى رِزْقِهِ إِيَّاكُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَصُوا قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ، وَنَسَبُوا الزَّرْعَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَطَرَ تُمْطِرُهُ النُّجُومُ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَنْوَاءِ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، أَيْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ عَنِ اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْأَنْوَاءِ فِي خَلْقِ الْمَطَرِ، فَمَعْنَى قَوْلِ ابْن عَبَّاس: نزلت فِي قَوْلهم: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَوْبِيخٌ لِلْقَائِلِينَ فِي الْمَطَرِ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ رِزْقًا: هَذَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا اه. أَشَارَ هَذَا إِلَى مَا رُوِيَ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهَا يَوْمَئِذٍ لَقَالَهُ الصَّحَابِيُّ الْحَاضِرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيءُ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ فَنَزَلَتْ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: 75] حَتَّى بَلَغَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَزَادَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَوْلَهُ فَنَزَلَتْ: فَلا أُقْسِمُ إِلَخْ. وَزِيَادَةُ الرَّاوِي مُخْتَلَفٌ فِي قَبُولِهَا بِدُونِ شَرْطٍ أَوْ بِشَرْطِ عَدَمِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَادَةً وَهِيَ أَقْوَالٌ لِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سِنِّ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَة بِمَكَّة فعل قَوْلَهُ: فَنَزَلَتْ تَأْوِيلٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّاسَ مُطِرُوا فِي مَكَّةَ

فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلًا وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَوْلًا فَنَزَلَتْ آيَةُ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تَنْدِيدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِعَقِيدَةٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الَّتِي أَنْكَرَهَا اللَّهَ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مَطَرٌ آخَرُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ لَمْ يُحْسِنِ التَّعْبِيرَ عَنْ كَلَامِهِ فَأُوهِمَ بِقَوْلِهِ فَنَزَلَتْ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: 75] بِأَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَوْ نَحْوَ تِلْكَ الْعِبَارَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْإِيهَامِ فِي أَخْبَارِ أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَيَتَأَكَّدُ هَذَا صِيغَةُ تُكَذِّبُونَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ بِشَيْءِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: 9- 11] فَهَذَا مَعْنَى أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أَيْ تُكَذِّبُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَالَّذِي نَحَاهُ الْفَخْرُ مَنْحًى آخَرَ فَجَعَلَ مَعْنَى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تَكْمِلَةً لِلْإِدْهَانِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] فَقَالَ: «أَيْ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِالْقُرْآنِ ومنعتم ضعفاءكم عَن الْكُفْرِ يَفُوتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ مَا تَرْبَحُونَهُ بِسَبَبِهِمْ فَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ أَيْ فَيَكُونُ عَطْفًا على مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ شَبِيهٍ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، أَيْ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَجَاعِلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، فَهَذَا التَّكْذِيبُ مِنَ الْإِدْهَانِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ صِدْقَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَكْذِيبَهُ إِبْقَاءً عَلَى مَنَافِعِهِمْ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ مَجْرُورًا بِبَاءِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ بِأَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أَيْ تَجْعَلُونَ عِوَضَهُ بِأَنْ تُكَذِّبُوا بِالْبَعْثِ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 إلى 87]

» . [83- 87] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 83 إِلَى 87] فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) مُقْتَضَى فَاءِ التَّفْرِيعِ أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِع بعْدهَا ناشىء عَمَّا قَبْلَهُ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ إِقَامَةَ أَدِلَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ لِلنَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ أَيَّدَتْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَأَنْحَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَضَحَتْ لَهُمُ الْحُجَّةُ وَلَكِنَّهُمْ مُكَابِرُونَ فِيهَا وَمُظْهِرُونَ الْجُحُودَ وَهُمْ مُوقِنُونَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقُوَّةِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِيجَادِ مَوْجُودَاتٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا مَدَارِكُ النَّاسِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِدَلِيلٍ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَتِهِ. فَالتَّفْرِيعُ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 62] وَهُوَ أَنْ عَجْزَهُمْ عَنْ إِرْجَاعِ الرُّوحِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهَا الْجَسَدَ يُنَبِّهُهُمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُفَارَقَةَ مُقَدَّرَةٌ فِي نِظَامِ الْخِلْقَةِ وَأَنَّهَا لِحِكْمَةٍ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ قَدْ أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يُجَازِي النَّاسَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُحْيِيهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِإِجْرَاءِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ دَلَّكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِانْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْهُمْ قَهْرًا، فَلَوْ كَانَ مَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّكُمْ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَقِيَتِ الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهَا، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي انْتِزَاعِهَا مِنْهَا بَعْدَ إِيدَاعِهَا فِيهَا لَوْلَا حِكْمَةُ نَقْلِهَا إِلَى حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ، لِيَجْرِيَ جَزَاؤُهَا عَلَى أَفْعَالِهَا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى. وَهَذَا نَظِيرُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّ فِي كَيْنُونَةِ الْمَوْجُودَاتِ دَلَائِلَ خِلْقِيَّةٍ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْد: 15] . وَمَرْجِعُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي حَالَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ إِيدَاعَ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ تَصَرُّفٌ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْحَكِيمُ، فَمَا نَزَعَ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ أَنْ أَوْدَعَهَا فِيهَا مُدَّةً إِلَّا لِأَنَّ انْتِزَاعَهَا مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ تُنْتَزَعَ، وَانْحَصَرَ ذَلِكَ فِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا الْحِسَابُ عَلَى مَا اكْتَسَبَتْهُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] ، فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآجَالَ مُدَدَ عَمَلٍ، وَجَعَلَ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ نِظَامَ الدُّنْيَا عَلَى قَاعِدَةِ الِانْتِهَاءِ لِآجَالِ حَيَاةِ النَّاسِ. أَمَّا مَوْتُ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ سِنِّ التَّكْلِيفِ وَمَنْ دُونَهُ وَمَوْتُ الْعَجَمَاوَاتِ فَذَلِكَ عَارِضٌ تَابِعٌ لِإِجْرَاءِ التَّكْوِينِ لِلْأَجْسَادِ الْحَيَّةِ عَلَى نِظَامِ التَّكْوِينِ الْمُتَمَاثِلِ، وَكَذَلِكَ مَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ عَوَارِضَ مُهْلِكَةٍ اقْتَضَاهَا تَعَارُضُ مُقْتَضَيَاتِ الْإِنْظَامِ وَتَكْوِينُ الْأَمْزِجَةِ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَمُسَالَمَةٍ وَعُدْوَانٍ. فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ فِي جَعْلِ تَرْجِعُونَها مِنْ جُمْلَةِ جَوَابِ شَرْطِ إِنْ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى صَدِّ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْخُرُوجِ، أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا لِإِجْرَاءِ الْحِسَابِ. وَدَفَعَ هَذَا الْإِشْكَالَ وُجُوبُ تَأْوِيلِ تَرْجِعُونَها بِمَعْنَى تُحَاوِلُونَ إِرْجَاعَهَا، أَيْ عَدَمُ مُحَاوَلَتِكُمْ إِرْجَاعَهَا مُنْذُ الْعُصُورِ الْأُولَى دَلِيلٌ عَلَى تَسْلِيمِكُمْ بِعَدَمِ إِمْكَانِ إِرْجَاعِهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِوُجُوبِ خُرُوجِهَا مِنْ حَيَاةِ الْأَعْمَالِ إِلَى حَيَاةِ الْجَزَاءِ. وَأَصْلُ تَرْكِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: فَإِذَا كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّكُمْ غَيْرُ مَدِينِينَ فَلَوْلَا حَاوَلْتُمْ عِنْدَ كُلِّ مُحْتَضِرٍ إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ أَنْ تُرْجِعُوهَا إِلَى مَوَاقِعِهَا مِنْ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ فَمَا صَرَفَكُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ إِلَّا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّ الرُّوحَ ذَاهِبَةٌ لَا مَحَالَةَ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا اتَّضَحَ لَكَ انْتِظَامُ الْآيَةِ الَّتِي نُظِمَتْ نَظْمًا بَدِيعًا مِنَ الْإِيجَازِ، وَأُدْمِجَ فِي دَلِيلِهَا مَا هُوَ تَكْمِلَةٌ لِلْإِعْجَازِ. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تحضيض مُسْتَعْمل هُنَا فِي التَّعْجِيزِ لِأَنَّ الْمَحْضُوضَ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا حُضَّ عَلَى فِعْلِهِ فَقَدْ أَظْهَرَ عَجْزَهُ وَالْفِعْلُ الْمَحْضُوضُ عَلَيْهِ هُوَ تَرْجِعُونَها، أَيْ تُحَاوِلُونَ رُجُوعَهَا. وإِذا بَلَغَتِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرْجِعُونَها مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِتَهْوِيلِهِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَحْضُوضِ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي بَلَغَتِ عَائِدٌ عَلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْعِبَارَاتِ لِظُهُورِ أَنَّ الَّتِي

تَبْلُغُ الْحُلْقُومَ هِيَ الرُّوحُ حُذِفَ إِيجَازًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] أَيِ الشَّمْسُ. وَ (الْ) فِي الْحُلْقُومَ لِلْعَهْدِ الْجِنْسِيِّ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَلَغَتِ وَمَفْعُولُ تَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهُ: تَنْظُرُونَ صَاحِبَهَا، أَيْ صَاحِبَ الرُّوحِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ تَحْقِيقُ أَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ إِرْجَاعِهَا مَعَ شِدَّةِ أَسَفِهِمْ لِمَوْتِ الْأَعِزَّةِ. وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ تَنْظُرُونَ الْمَحْذُوفِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَأَيًّا مَا كَانَتْ فَهِيَ احْتِرَاسٌ لِبَيَانِ أَنَّ ثَمَّةَ حُضُورًا أَقْرَبَ مِنْ حُضُورِهِمْ عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ وَهُوَ حُضُورُ التَّصْرِيفِ لِأَحْوَالِهِ الْبَاطِنَةِ. وَقُرْبُ اللَّهِ: قُرْبُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: 22] أَوْ قُرْبُ مَلَائِكَتِهِ الْمُرْسَلِينَ لِتَنْفِيذِ أَمْرِهِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ [الْأَعْرَاف: 52] ، أَيْ جَاءَهُمْ جِبْرِيلٌ بِكِتَابٍ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: 37] . وَجُمْلَةُ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَجُمْلَةِ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ وَكَلِمَةُ فَلَوْلا الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِنَظِيرِهَا السَّابِقِ أُعِيدَ لِتُبْنَى عَلَيْهِ جُمْلَةُ تَرْجِعُونَها لِطُولِ الْفَصْلِ. وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ مُعْتَرِضَةٌ أَوْ حَالٌ مِنَ الْوَاوِ فِي تَرْجِعُونَها. وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ تَرْجِعُونَها. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: تَرْجِعُونَها سَدَّ مَسَدَّ الْأَجْوِبَةِ وَالْبَيَانَاتِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا التَّحْضِيضَاتُ، وإِذا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ وَ (إِنْ) الْمُتَكَرِّرَةُ وَحَمْلُ بَعْضُ الْقَوْلِ بَعْضًا إِيجَازٌ أَوِ اقْتِضَابَاتٌ» اه.

وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِمَعْنَى مَدِينِينَ يَكُونُ وَجْهُ إِعَادَةِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا اسْتُفِيدَ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى فَرْضِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هُوَ فَرْضٌ وَتَقْدِيرٌ لَا وُقُوعَ لَهُ نَفْيُ الْبَعْثِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَرْجِعُ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلَى مَا أَفَادَهُ التَّحْضِيضُ، وَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ لِتَأْخِيرِهِا إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ: تَرْجِعُونَها عَائِدٌ إِلَى الرُّوحِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّاءُ فِي قَوْلِهِ: إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ فِي وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ لِرَفْعِ تَوَهُّمٍ قَائِلٍ: كَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمُحْتَضِرِ مِنَ الْعُوَّادِ الْحَافِّينَ حَوْلَهُ وَهُمْ يَرَوْنَ شَيْئًا غَيْرَهُمْ يَدْفَعُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَفْعُولُ تُبْصِرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى مَدِينِينَ مُجَازِينَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهُ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَفَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مَدِينِينَ بِمَعْنَى: عَبِيدٌ لِلَّهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَانَ السُّلْطَانُ الرَّعِيَّةُ، إِذَا سَاسَهُمْ، أَيْ غَيْرُ مَرْبُوبِينَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ السِّيَاقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فَرْضٌ وَتَقْدِيرٌ فَ إِنْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ (لَوْ) ، أَيْ لَوْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، أَيْ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَأَسْنَدَ فِعْلَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ النَّاسُ غَيْرَ مَدِينِينَ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الَّذِينَ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ سِيقَ هَذَا الْكَلَامُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَكَانَ النَّاسُ غَيْرَ مَدِينِينَ لَمَا أُخْرِجَتِ

الْأَرْوَاحُ مِنَ الْأَجْسَادِ إِذْ لَا فَائِدَةَ تَحْصُلُ مِنْ تَفْرِيقِ ذَيْنَكِ الْإِلْفَيْنِ لَوْلَا غَرَضٌ سَامٍ، وَهُوَ وَضْعُ كُلِّ رُوحٍ فِيمَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ عَالَمِ الْخُلُودِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَ لَفْظُ غَيْرَ مَدِينِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: غَيْرُ مَبْعُوثِينَ، أَوْ غَيْرُ مُعَادِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِدَانَةِ نَفْيُ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْثٌ بِلَا جَزَاءٍ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يُدْعَى لِأَنَّهُ عَبَثٌ. فَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ سَوْقِ هَذَا الدَّلِيلِ إِبْطَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ الَّذِي هُوَ لِحِكْمَةِ الْجَزَاءِ. وَمِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُفِيدَ الْإِيمَاءُ إِلَى حِكْمَةِ الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ الْأَرْوَاحِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ الْمَمْلُوءَةِ بَاطِلًا إِلَى الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْحَقِّ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا أَحْوَالُ الْأَرْوَاحِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ سُلُوكَهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّكُمْ مَدِينُونَ لَمَا انْتَزَعْنَا الْأَرْوَاحَ مِنْ أَجْسَادِهَا بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَاهَا فِيهَا وَلَأَبْقَيْنَاهَا لِأَنَّ الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّ لَيْسَ كَالرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِحَاقِّ التَّرْكِيبِ، وَالْآخَرُ بِمُسْتَتْبَعَاتِهِ الَّتِي أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. وَالْغَرَضُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّذِي يُحِيطُ بِأَوْفَرِ مَعَانِيهَا دَلَالَةً وَاقْتِضَاءً وَمُسْتَتْبَعَاتٍ. وَجُعِلَ فِي «الْكَشَّاف» معنى الْآيَةِ يَصُبُّ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَعْتَقِدُهُ الدَّهْرِيُّونَ، أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ، لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ. وَجُعِلَ مَعْنَى مَدِينِينَ مَمْلُوكِينَ لِلَّهِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «إِنَّهُ أَصَحَّ مَا يُقَالُ فِي مَعْنَى اللَّفْظَةِ هُنَا، وَمَنْ عَبَّرَ بِمُجَازَى أَوْ بِمُحَاسَبٍ، فَذَلِكَ هُنَا قَلِقٌ» . وَقُلْتَ: فِي كَلَامِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْرِيعَهُ عَلَى مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمُ السَّابِقِ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْأَنْوَاءِ وَالتَّكْذِيبِ يُفْضِي إِلَى مَذْهَبِ التَّعْطِيلِ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ كُلُّهُ ناء عَن معنى الْآيَةِ لِأَنَّ الدَّهْرِيَّةَ لَا يَنْتَحِلُهَا جَمِيعُ الْعَرَبِ بَلْ هِيَ نِحْلَةُ طَوَائِفَ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ وَنَاءٍ عَنْ مُتَعَارَفِ أَلْفَاظِهَا وَعَنْ تَرْتِيب استدلالها.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 إلى 94]

[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 88 إِلَى 94] فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) لَمَّا اقْتَضَى الْكَلَامُ بِحَذَافِرِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ صَاحِبُ الرُّوحِ صَائِرٌ إِلَى الْجَزَاءِ فَرَّعَ عَلَيْهِ إِجْمَالَ أَحْوَالِ الْجَزَاءِ فِي مَرَاتِبِ النَّاسِ إِجْمَالًا لِمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً إِلَى قَوْلِهِ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: 7- 44] لِيَكُونَ هَذَا فَذْلَكَةً لِلسُّورَةِ وَرَدًّا لِعَجُزِهَا عَلَى صَدْرِهَا. فَضَمِيرُ إِنْ كانَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الْوَاقِعَة: 85] . وَالْمُقَرَّبُونَ هُمُ السَّابِقُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَة: 85] وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ قَدْ تَقَدَّمَ وَالْمُكَذِّبُونَ الضَّالُّونَ: هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ. وَقَدْ ذُكِرَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ جَزَاءٌ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِيُضَمَّ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ الْقِصَّةِ. وَالرَّوْحُ: بِفَتْحِ الرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الرَّاحَةُ، أَيْ فَرَوْحٌ لَهُ، أَيْ هُوَ فِي رَاحَةٍ وَنَعِيمٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [87] . وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الرَّاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، أَيْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوِيَ عَنْهُ الْوَجْهَانِ، فَالْمَشْهُورُ رُوِيَ مُتَوَاتِرًا، وَالْآخَرُ رُوِيَ مُتَوَاتِرًا وَبِالْآحَادِ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الرَّاءِ: أَنَّ رُوحَهُ مَعَهَا الرَّيْحَانُ وَهُوَ الطِّيبُ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَخَرُجُ طَيِّبَةً» . وَقِيلَ: أَطْلَقَ الرُّوحَ بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْحَيُّ حَقًّا، فَهُوَ

ذُو رُوحٍ، أَمَّا مَنْ كَانَ فِي الْعَذَابِ فَحَيَاتُهُ أَقَلُّ من الْمَوْت، قَالَ تَعَالَى: لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: 13] ، أَيْ لِأَنَّهُ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ فَلَا يَجِدُهُ. وَالرَّيْحَانُ: شَجَرٌ لِوَرَقَهِ وَقُضْبَانِهِ رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ شَدِيدُ الْخُضْرَةِ كَانَتِ الْأُمَمُ تُزَيِّنُ بِهِ مَجَالِسِ الشَّرَابِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ «وَطَوْرًا يَسْتَبْزِلُ الدنان، وَمرَّة يستنثق الرَّيْحَانَ» وَكَانَتْ مُلُوكُ الْعَرَبِ تَتَّخِذُهُ، قَالَ النَّابِغَةُ: يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ [12] ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهِ إِيمَاءً إِلَى كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 23، 24] . وَجُمْلَةُ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ جَوَابُ (أَمَّا) الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ. وَفَصَلَ بَيْنَ (مَا) الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى اسْمِ شَرْطٍ وَبَيْنَ فِعْلِ شَرْطٍ وَبَيْنَ الْجَوَابِ بِشَرْطٍ آخَرَ هُوَ إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى عَلَى لُزُومِ الْفَصْلِ بَيْنَ (أَمَّا) وَجَوَابِهَا بِفَاصِلٍ كَرَاهِيَةَ اتِّصَالِ فَاءِ الْجَوَابِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ لَمَّا الْتَزَمُوا حَذْفَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَأَقَامُوا مَقَامَهُ فَاصِلًا كَيْفَ كَانَ. وَجَوَابُ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ (أَمَّا) . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. وَالسَّلَامُ: اسْمٌ لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّحِيَّةِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْكَلَامُ إِجْمَالٌ لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ وَخَلَاصِهِمْ مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَقِيلَ: كَافُ الْخِطَابِ مُوَجَّهَةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخَبَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّلَامَةَ الْحَاصِلَةَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ تَسُرُّ مَنْ يَبْلُغُهُ أَمْرُهَا. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ:

نَاهِيكَ بِهِ، وَحَسْبُكَ بِهِ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَاللَّفْظُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَطُوِيَ مِنْهُ بَعْضُهُ، وَأَصْلُهُ: فَلَهُمُ السَّلَامَةُ سَلَامَةٌ تَسُرُّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُهَا. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرُّ بِمَا يَنَالُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ مِمَّنْ شَمَلَهُمْ لَفْظُ أَصْحابِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُ: سَلَامٌ لَكَ، أَيْ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ. ومِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ومِنْ عَلَى هَذَا تَبْعِيضِيَّةٌ، فَهِيَ بِشَارَةٌ لِلْمُخَاطَبِ عِنْدَ الْبَعْثِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 23، 24] . وَقِيلَ: الْكَافُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَسَلَامٌ لَهُ، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ، أَيْ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْيَمِينِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: 10] أَيْ يُبَادِرُونَهُ بِالسَّلَامِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ مَنْزِلَتِهِمْ، ومِنْ عَلَى هَذَا ابْتِدَائِيَّةٌ. فَهَذِهِ مَحَامِلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ يُسْتَخْلَصُ مِنْ مَجْمُوعِهَا مَعْنَى الرِّفْعَةِ وَالْكَرَامَةِ. وَالْمُكَذِّبُونَ الضَّالُّونَ: هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي الْقِسْمِ السَّابِقِ إِلَى أَزْوَاجٍ ثَلَاثَةٍ. وَقُدِّمَ هُنَا وَصْفُ التَّكْذِيبِ عَلَى وَصْفِ الضَّلَالِ عَكْسَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 51] ، لِمُرَاعَاةِ سَبَبِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَّ هُنَا عَلَى عَذَابٍ قَدْ حَانَ حِينُهُ وَفَاتَ وَقْتُ الْحَذَرِ مِنْهُ فَبُيِّنَ سَبَبُ عَذَابِهِمْ وَذُكِّرُوا بِالَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي سَبَبِهِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ أَلَمُ التَّنَدُّمِ. وَالنُّزُلُ: مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ مِنَ الْقِرَى، وَإِطْلَاقُهُ هُنَا تَهَكُّمٌ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الْوَاقِعَة: 56] .

[سورة الواقعة (56) : آية 95]

وَالتَّصْلِيَةُ: مَصْدَرُ صَلَّاهُ المشدّد، إِذا أَحْرَقَهُ وَشَوَاهُ، يُقَالُ: صَلَّى اللَّحْمَ تَصْلِيَةً، إِذَا شَوَاهُ، وَهُوَ هُنَا مِنَ الْكَلَامِ الموجه لإيهامه أَنه يُصَلَّى لَهُ الشِّوَاءُ فِي نُزُلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، أَيْ يُحَرَّقُ بِهَا. وَالْجَحِيمُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّارِ الْمُؤَجَّجَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَمًا عَلَى جَهَنَّمِ دَارِ الْعَذَاب الْآخِرَة. [95] [سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 95] إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) تَذْيِيلٌ لِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُثْبَتَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ تَحْقِيقِ حَقٍّ وَإِبْطَالِ بَاطِلٍ. وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ. والْيَقِينِ: الْمَعْلُومُ جَزْمًا الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ. وَإِضَافَةُ حَقُّ إِلَى الْيَقِينِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ لَهُوَ الْيَقِينُ الْحَقُّ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِي نَوْعِهِ وُصِفَ بِأَنَّهُ حَقُّ ذَلِكَ الْجِنْسِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ» . فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ الْيَقِينُ حَقُّ الْيَقِينِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ حَقُّ عَالِمٍ. وَمَآلُ هَذَا الْوَصْفِ إِلَى تَوْكِيدِ الْيَقِينِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ مُرَادِفِ الشَّيْءِ وَإِضَافَةُ الْمُتَرَادِفَيْنِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّوْكِيدِ، فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى: أَنَّ هَذَا يَقِينُ الْيَقِينِ وَصَوَابُ الصَّوَابِ. نُرِيدُ: أَنَّهُ نِهَايَةُ الصَّوَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً عَلَى مَعْنَى (مِنْ) ، وَحَقِيقَتُهُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ بِتَقْدِيرِ: لَهُوَ حَقُّ الْأَمْرِ الْيَقِينِ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وسأبين هُنَا لَك مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ هُنَا فَانْظُرْهُ هُنَا لَك. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ: (إِنَّ) ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَإِضَافَةُ شبه المترادفين.

[سورة الواقعة (56) : آية 96]

[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 96] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) تَفْرِيعٌ عَلَى تَحْقِيقِ أَنَّ مَا ذُكِرَ هُوَ الْيَقِينُ حَقًّا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَظِيمِ صِفَاتِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَيُبَشِّرُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ بِمَرَاتِبَ مِنَ الشَّرَفِ وَالسَّلَامَةِ عَلَى مَقَادِيرِ دَرَجَاتِهِمْ وَبِنِعْمَةِ النَّجَاةِ مِمَّا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُؤْمَرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَسْبِيحًا اسْتَحَقَّهُ لِعَظَمَتِهِ، وَالتَّسْبِيحُ ثَنَاءٌ، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ حَمْدًا لِنِعْمَتِهِ وَمَا هَدَى إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

57- سورة الحديد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 57- سُورَةُ الْحَدِيدِ هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ «سُورَةَ الْحَدِيدِ» ، فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَزَّارِ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَإِذَا صَحِيفَةٌ فِيهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْحَدِيدِ [7] فَقُرَأَهُ حَتَّى بَلَغَ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَأَسْلَمَ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ، لِوُقُوعِ لَفْظِ «الْحَدِيدِ» فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الْحَدِيد: 25] . وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [96] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْحَدِيدِ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَلَمْ تُسَمَّ بِهِ لِأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ الْكَهْفِ لِلِاعْتِنَاءِ بِقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَلِأَنَّ الْحَدِيدَ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا مُرَادٌ بِهِ حَدِيدُ السِّلَاحِ مِنْ سُيُوفٍ وَدُرُوعٍ وَخُوَذٍ، تنويها بِهِ إِذْ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ مَادَّتِهِ وَإِلْهَامِ النَّاسِ صَنَعَهُ لِتَحْصُلَ بِهِ مَنَافِعُ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ وَدِفَاعِ الْمُعْتَدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الْحَدِيد: 25] . وَفِي كَوْنِ هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةً أَوْ مَكِّيَّةً اخْتِلَافٌ قَوِيٌّ لَمْ يُخْتَلَفْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَدَنِيَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَاشِ: أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ صَدْرَهَا مَكِّيٌّ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الْحَدِيد: 16] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً. وَهَذَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنِ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيُصَارُ إِلَى

الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَوِ التَّرْجِيحِ، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ سَنَدًا، وَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُرَجَّحُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَأَّنَهُ أَقْدَمَ إِسْلَامًا وَأَعْلَمَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ مَقْرُوءًا قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «يُشْبِهُ صَدْرُهَا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا قُرْآنًا مَدَنِيًّا» اه. وَرُوِيَ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ يَوْمَ ثُلَاثَاءَ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ صَدْرَهَا مَكِّيٌّ كَمَا تَوَسَّمَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَهِي إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الْحَدِيد: 9] وَأَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقْتَضِيهُ مَعَانِيهِ مِثْلَ حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَبَعْضُهُ نَزَلَ بِمَكَّةَ مِثْلُ آيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الْحَدِيد: 16] الْآيَةَ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ السُّورَةِ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَدِيد: 25] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أُلْحِقَ بِهَذِهِ السُّورَةِ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَالِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا. قُلْتُ: وَفِيهَا آيَةُ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [الْحَدِيد: 10] الْآيَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَتْحُ مَكَّةَ أَوْ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْفَتْحِ وَبِهِ سُمِّيَتْ «سُورَةُ الْفَتْحِ» ، فَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مَدَنِيَّةً فَلَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ مَدَنِيٌّ. وَرُوِيَ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْخَامِسَةَ وَالتِسْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ جَرْيًا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَقَالُوا: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الزِّلْزَالِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْقِتَالِ، وَإِذَا رُوعِيَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ صَحِيفَةً لِأُخْتِهِ فَاطِمَةَ فِيهَا صَدْرُ سُورَةِ الْحَدِيدِ لَمْ يَسْتَقِمْ هَذَا الْعَدُّ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بمَكَان نزُول صدر السُّورَةِ لَا نُزُولِ آخِرِهَا فَيُشْكِلُ مَوْضِعُهَا فِي عَدِّ نُزُولِ السُّورَةِ.

أغراضها

وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَكُونُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا آخِرَ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ فَتَكُونُ مِنْ أَقْدَمِ السُّوَرِ نُزُولًا فَتَكُونُ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْحِجْرِ وَطه وَبَعْدَ غَافِرٍ، فَالْوَجْهُ أَنَّ مُعْظَمَ آيَاتِهَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الزِّلْزَالِ. وَعُدَّتْ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ ثَمَانًا وَعِشْرِينَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَعَ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّسْبِيحِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَيَقُولُ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَظَنَّ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْحَدِيد: 3] لِمَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا. أغراضها الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ السُّورَةُ: التَّذْكِيرُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَسِعَةِ قُدْرَتِهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَعُمُومِ تَصَرُّفِهِ، وَوُجُوبِ وُجُودِهِ، وَسِعَةِ عِلْمِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِيِمَانِ بِوُجُودِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَالتَّنْبِيهُ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهَدْيِ وَسَبِيلِ النَّجَاةِ، وَالتَّذْكِيرُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ. وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ لَا يَبْقَى مِنْهُ لِصَاحِبِهِ إِلَّا ثَوَابُ مَا أَنْفَقَ مِنْهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ. وَالتَّخَلُّصُ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خَيْرٍ وَضِدُّ ذَلِكَ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ.

[سورة الحديد (57) : آية 1]

وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مهواة فساوة الْقُلُوب الَّتِي وَقَعَ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ إِهْمَالِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْهُدَى حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَجَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْفُسُوقِ كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَالتَّذْكِيرُ بِالْبَعْثِ. وَالدَّعْوَةُ إِلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ. وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى النَّوَائِبِ وَالتَّنْوِيهُ بِحِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لِإِقَامَةِ أُمُورِ النَّاسِ عَلَى الْعَدْلِ الْعَامِّ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى فَضْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَتَنْظِيرُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا مُهْتَدِينَ وَفَاسِقِينَ. وَأَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَهُمَا بِرُسُلٍ آخَرِينَ، مِنْهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي كَانَ آخِرَ رَسُولٍ أُرْسِلَ بِشَرْعٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ كَانُوا عَلَى سُنَّةِ مَنْ سَبَقَهُمْ، مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ. ثُمَّ أَهَابَ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِيمَانَ تَعْرِيضًا بِالْمُنَافِقِينَ وَوَعَدَهُمْ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَأَنَّ اللَّهَ فَضَّلَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ لِأَنَّ الْفضل بِيَدِهِ يوتيه من يَشَاء. [1] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِذِكْرِ تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ أَهَمَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ إِثْبَاتُ وَصْفِ اللَّهِ بِالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا ضَلَّ فِي شَأْنِهِ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ وَصْفِهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَأَوَّلُ التَّنْزِيهِ هُوَ نَفْيُ الشَّرِيكِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ هِيَ أَكْبَرُ صِفَةٍ ضَلَّ فِي كُنْهِهَا الْمُشْرِكُونَ وَالْمَانَوِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّثْنِيَةِ وَأَصْحَابِ التَّثْلِيثِ وَالْبَرَاهِمَةِ، وَهِيَ الصّفة الَّتِي ينبىء عَنْهَا اسْمُهُ الْعَلَمُ أَعْنِي

«اللَّهَ» لِمَا عَلِمْتَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ الْإِلَهُ، أَيِ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَأَتْبَعَ هَذَا الِاسْمَ بِصِفَاتٍ رَبَّانِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنَزُّهِهِ عَنِ النَّقْصِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْفَاتِحَةُ بَرَاعَةَ اسْتِهْلَالٍ لِهَذِهِ السُّورَةِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ اسْمَهُ الْعَلَمَ بِعَشْرِ صِفَاتٍ هِيَ جَامِعَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَهِيَ: الْعَزِيزُ، الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي، وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَصِيغَ فِعْلُ التَّسْبِيحِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى أَمْرٌ مُقَرَّرٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ قَبْلُ وَأَلْهَمَهُ النَّاسَ وَأَوْدَعَ دَلَائِلَهُ فِي أَحْوَالِ مَا لَا اخْتِيَارَ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْد: 15] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاء: 44] . فَفِي قَوْلِهِ: سَبَّحَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَهْمَلُوا أَهَمَّ التَّسْبِيحِ وَهُوَ تَسْبِيحُهُ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لَامُ التَّبْيِينِ. وَفَائِدَتُهَا زِيَادَةَ بَيَانِ ارْتِبَاطِ الْمَعْمُولِ بِعَامِلِهِ لِأَنَّ فِعْلَ التَّسْبِيحِ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْدِيَةِ بِحَرْفٍ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: 26] ، فَاللَّامُ هُنَا نَظِيرُهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ لَكَ، وَنَصَحْتُ لَكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: 30] ، وَقَوْلِهِمْ سَقْيًا لَكَ وَرَعْيًا لَكَ، وَأَصْلُهُ: سَقْيُكَ وَرَعْيُكَ. وَمَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ مَا اسْمُ مَوْصُولٍ يَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَجَرَى هُنَا عَلَى التَّغْلِيبِ، وَكُلُّهَا دَالٌّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ فَمِنْهَا دَلَالَةٌ بِالْقَوْلِ كَتَسْبِيحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا دَلَالَةٌ بِالْفِعْلِ كَتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهَا دَلَالَةٌ بِشَهَادَةِ الْحَال كَمَا تنبىء بِهِ أَحْوَالُ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّدْبِيرِ، فَإِنْ جُعِلَ عُمُومُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَخْصُوصًا بِمَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ النُّطْقُ بِالتَّسْبِيحِ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ كَانَ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ عَلَى تَسْبِيحِهِمْ حَقِيقَةً.

[سورة الحديد (57) : آية 2]

وَإِنْ حُمِلَ الْعُمُومُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَزِمَ تَأْوِيلُ فِعْلِ سَبَّحَ بِمَا يَشْمَلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَالْعَزِيزُ: الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَنْفِي وُجُودَ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. والْحَكِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ وَضْعُ الْأَفْعَالِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهَا، وَهِيَ أَيْضًا الْعِلْمُ الَّذِي لَا يخطىء وَلَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَحُولُ دُونَ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ حَائِلٌ، وَتَقَدَّمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يُثْبِتُ أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى جَارِيَةٌ عَلَى تَهْيِئَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا بِهِ إِصَابَةُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَلِذَلِكَ عَزَّزَهَا اللَّهُ بِإِرْشَادِهِ بِوَاسِطَة الشَّرَائِع. [2] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 2] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِذِكْرِ صِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي مُتَعَلِّقُهَا أَحْوَالُ الْكَائِنَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَاصَّةً أَهْلُ الْإِدْرَاكِ مِنْهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُؤْذِنُ بِتَعْلِيلِ تَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَنْ لَهُ مُلْكُ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ حَقِيقٌ بِأَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ صِفَاتِ كَمَالِهِ. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَصْرٌ ادعائي لعدم الِاعْتِدَاد بِمُلْكِ غَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ إِذْ هُوَ مُلْكٌ نَاقِصٌ فَإِن الْمُلُوك مفتقرون إِلَى مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَوَادِي بِالْأَحْلَافِ وَالْجُنْدِ، وَإِلَى مَنْ يُدَبِّرُ لَهُمْ نِظَامَ الْمَمْلَكَةِ مِنْ وُزَرَاءَ وَقُوَّادٍ، وَإِلَى أَخْذِ الْجِبَايَةِ وَالْجِزْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ، إِذَا اعْتُبِرَتْ إِضَافَةُ مُلْكُ إِلَى مَجْمُوعِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا مُلْكَ لِمَالِكٍ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا بَلْهَ السَّمَاوَاتُ مَعَهَا. وَهَذَا مَعْنَى صِفَتِهِ تَعَالَى «الْمَلِكُ» ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

[سورة الحديد (57) : آية 3]

فَإِنَّ الْإِحْيَاء والإماتة ممّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعْنَى مُلْكِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض لِأَنَّهُمَا مِنْ أَحْوَالِ مَا عَلَيْهِمَا، وَتَخْصِيصُ هَذَيْنِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمَا لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى دَقِيقِ الْحِكْمَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ولظهور أَن هاذين الْفِعْلَيْنِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَخْلُوقُ ادِّعَاءَ أَنَّ لَهُ عَمَلًا فِيهِمَا، وللتذكير بِدَلِيل إِمْكَان الْبَعْثِ الَّذِي جَحَدَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً [الْفرْقَان: 3] ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ جَاءَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِصِفَةِ «الْمُحْيِي المميت» . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [28] . وَجُمْلَةُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُفِيدُ مَفَادَ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ يُحْيِي وَيُمِيتُ لِتَعْمِيمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُحْيِي وَيُمِيتُ مِنْ بَيَانِ جُمْلَةِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّمَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ وَكَانَ حَقُّ التَّذْيِيلِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا لِقَصْدِ إِيثَارِ الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِعُمُومِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، وَذَلِكَ لَا يفيت قَصْدَ التَّذْيِيلِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يحصل بِالْمَعْنَى. [3] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 3] هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ. اسْتِئْنَافٌ فِي سِيَاقِ تَبْيِينِ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِأَنَّ مُلْكَهُ دَائِمٌ فِي عُمُومِ الْأَزْمَانِ وَتَصَرُّفٌ فِيهِمَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ مِنْ قَبْلِ وُجُودِ كُلِّ مُحْدَثٍ وَمِنْ بَعْدِ فَنَائِهِ إِذِ اللَّهُ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآثَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ فَإِنَّ دَلَائِلَ تَصَرُّفِهِ ظَاهِرَةً لِلْمَتَبَصِّرِ بِالْعَقْلِ وَهُوَ مَعْنَى الظَّاهِرُ كَمَا يَأْتِي، وَأَنَّ كَيْفِيَّاتِ تَصَرُّفَاتِهِ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الْحِسِّ وَذَلِكَ مَعْنَى الْباطِنُ تَعَالَى كَمَا سَيَأْتِي. فَضَمِيرُ هُوَ لَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ وَلَكِنَّهُ ضَمِيرٌ يُعَبِّرُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِاعْتِبَارِنَا الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةً، وَلَوْ جَعَلْتَهُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لَكَانَتْ أَوْصَافُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أَخْبَارًا عَنْ ضَمِيرِ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْحَدِيد: 1] .

وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَخْبَارٍ هِيَ صِفَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا وَصْفُ الْأَوَّلُ فَأَصْلُ مَعْنَاهُ الَّذِي حَصُلَ قَبْلَ غَيْرِهِ فِي حَالَةٍ تُبَيِّنُهَا إِضَافَةُ هَذَا الْوَصْفِ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، فَقَدْ يَقَعُ مَعَ وَصْفٍ (أَوَّلُ) لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا السَّبْقُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، فَوَصْفُ الْأَوَّلُ لَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ إِلَّا بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوْصُوفٍ آخَرَ هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَوْصُوفِ بِ (أَوَّلُ) فِي حَالَةٍ مَا. فَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمُهَلْهَلُ الشُّعَرَاءِ ذَاكَ الأول يُفِيد أَنه مُهَلْهَلَ سَابِقٌ غَيْرَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ فِي الشِّعْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الْأَنْعَام: 14] أَيْ أَوَّلَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [الْبَقَرَة: 41] ، أَيْ أَوَّلَهُمْ كُفْرًا وَقَوْلُهُ: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ [الْأَعْرَاف: 39] ، أَيْ أُولَاهُمْ فِي الدُّخُولِ إِلَى النَّارِ. وَأَشْهَرُ مَعَانِي الْأَوَّلِيَّةِ هُوَ السَّبق فِي الْوُجُود، أَيْ فِي ضِدِّ الْعَدَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَسْبِقُ صَاحِبُهَا غَيْرَهُ فِيهَا هِيَ وَجُودَاتٌ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ، فَوَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ السَّابِقُ وُجُودُهُ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ وُجِدَ أَوْ سَيُوجَدُ، دُونَ تَخْصِيصِ جِنْسٍ وَلَا نَوْعٍ وَلَا صِنْفٍ، وَلَكِنَّهُ وَصْفٌ نِسْبِيٌّ غَيْرُ ذَاتِيٍّ. وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرُ لهَذَا الْوَصْف هُنَا مُتَعَلِّقٌ- بِكَسْرِ اللَّامِ-، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى مُتَعَلِّقٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ بِدُونِ تَقْيِيدٍ. وَيُرَادِفُ هَذَا الْوَصْفَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ صِفَةُ الْقِدَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَسْتَلْزِمُ صِفَةَ الْغِنَى الْمُطْلَقِ، وَهِيَ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْمُخَصَّصِ، أَيْ مُخَصَّصٌ يُخَصِّصُهُ بالوجود بَدَلا عَن الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْأَوَّلُ هُنَا مَعْنَاهُ الْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ دُونَ سَبْقِ عَدَمٍ، وَعَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ قِيَامَ الْعَرْضِ بِالْجَوْهَرِ.

وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِصِفَةِ الْوُجُودِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُ اللَّهِ وَاجِبًا وُجُودُهُ لَمَا كَانَ اللَّهُ مَوْصُوفًا بِالْأَوَّلِيَّةِ، فَالْمَوْجُودَاتُ غَيْرُ اللَّهِ مُمْكِنَةٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يَتَّصِفُ بِالْأَوَّلِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فَلِذَلِكَ تَثْبُتُ لَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ فِي الْوُجُودِ تَقْتَضِي أَنْ تَثْبُتَ لِلَّهِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ اقْتِضَاءً عَقْلِيًّا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ مَلْزُومِهِ وَتَصَوُّرِهِ الْجَزْمُ بِالْمُلَازَمَةِ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا وَصْفُ الْآخِرُ فَهُوَ ضِدُّ الْأَوَّلِ، فَأَصْلُهُ: هُوَ الْمَسْبُوقُ بِمَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ مُتَحَدَّثٍ عَنْهَا فِي الْكَلَامِ أَوْ مُشَارٍ إِلَيْهَا فِيهِ بِمَا يُذْكَرُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، أَوْ تَمْيِيزِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الْأَعْرَاف: 38] أَيْ أُخْرَاهُمْ فِي الْإِدْرَاكِ فِي النَّارِ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ ... » إِلَخْ، وَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الثَّانِيَةِ «وَجَلَسَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ» ، أَيِ الْجَمَاعَاتِ الْأُخْرَيَاتِ فِي الْجُلُوسِ، وَهُوَ وَصْفٌ نِسْبِيٌّ. وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ الْآخِرُ بَعْدَ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ مَعَ كَوْنِ الْوَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ يَقْتَضِي انفكاك جهتي الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ كَوْنَهُ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ بِ الْآخِرُ مُتَعَلِّقًا بِانْتِقَاضِ ذَلِكَ الْوُجُودِ، أَيْ هُوَ الْآخِرُ بعد جَمِيع موجودات السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها [مَرْيَم: 40] وَقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: 88] . فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: وَالْآخِرُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ الَّذِي تَقَرَّرَ بِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ زَائِلٌ يَنْتَابُهُ الْعَدَمُ، إِذْ لَا يُشْعِرُ وَصْفُ الْآخِرُ بِالزَّوَالِ لَا مُطَابَقَةً وَلَا الْتِزَامًا، وَهَذَا هُوَ صِفَةُ الْبَقَاءِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَآلَ مَعْنَى الْآخِرُ إِلَى مَعْنَى «الْبَاقِي» ، وَإِنَّمَا أُوثِرَ وَصْفُ الْآخِرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ لِيَتِمَّ الطِّبَاقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْبَقَاءَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْحُدُوثَ عَلَى خِلَافٍ فِي تَعْيِينِ الْحَوَادِثِ الْبَاقِيَةِ، بِخِلَافِ وصف الْقدَم فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمُتَنَافٍ مَعَ الْحُدُوثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ دَلَالَةَ قَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ.

فَأَمَّا قَصْرُ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْوُجُودِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَصْرُ الْآخِرِيَّةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَعْنَى الْبَقَاءِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَقَاءُ فِي الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ عَرَضَ إِشْكَالُ الْمُتَعَارِضِ بِمَا وَرَدَ مِنْ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ، وَحَدِيثُ «أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ لَا يَفْنَى وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْهُ يُعَادُ» . وَرَفْعُ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُجْعَلَ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبَقَاءِ غَيْرِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بَقَاءٌ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ هُوَ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفَيِ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ فِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. والظَّاهِرُ الْأَرْجَحُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَفَاءِ فَيَكُونُ وَصْفُهُ تَعَالَى بِهِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، فَإِنَّ إِسْنَادَ الظُّهُورِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ظُهُورُ أَدِلَّةِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ لِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْاسْتِدْلَالِ وَالتَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ الْعَالَمِ فَيَكُونُ الْوَصْفُ جَامِعًا لِصِفَتِهِ النَّفْسِيَّةِ، وَهِيَ الْوُجُودُ، إِذْ أَدِلَّةُ وُجُودِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ وَلِصِفَاتِهِ الْأُخْرَى مِمَّا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ مِنْ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ وَإِرَادَةٍ، وَصِفَاتُ الْأَفْعَالِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ عَنِ النَّقْصِ أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهَا تَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقْصِ كَصِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَمُخَالَفَةِ الْحَوَادِثِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ الْمُقَابَلَةُ بِالْبَاطِنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الظُّهُورِ، أَيِ الْغَلَبَةِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الْكَهْف: 20] ، فَمَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْغَالِبُ. وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ مُقَابَلَتَهُ بِ الْباطِنُ إِلَّا عَلَى اعْتِبَارِ مُحَسِّنِ الْإِيهَامِ، وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» فَمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ فِيهِ أَنَّ ظُهُورَهُ تَعَالَى سَبَبٌ فِي انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ فَوْقَ اللَّهِ فِي الظُّهُورِ، أَيْ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَدَلَالَةُ الْفَاءِ تَفْرِيعٌ لَا تَفْسِيرٌ. والْباطِنُ الْخَفِيُّ يُقَالُ: بَطَنَ، إِذَا خَفِيَ وَمَصْدَرُهُ بُطُونٌ. وَمَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِبَاطِنٍ وَصْفُ ذَاتِهِ وَكُنْهِهِ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَام: 103] .

[سورة الحديد (57) : آية 4]

وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ ظُهُورَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَيَيْنِ ظُهُورٌ لَا يُدَانِيهِ ظُهُورُ غَيْرِهِ، وَبُطُونَهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ بُطُونُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ إِذْ لَا مَطْمَعَ لِأَحَدٍ فِي إِدْرَاكِ ذَاتِهِ وَلَا فِي مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ تَصَرُّفَاتِهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفِهِ بِ الظَّاهِرُ بِالْمَعْنَى الرَّاجِحِ والْباطِنُ كَالْجَمْعِ بَيْنَ وَصَفِهِ بِ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُحَسِّنُ الْمُطَابَقَةِ. وَفَائِدَةُ إِجْرَاءِ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَتَدَبَّرَ الْعَالِمُونَ فِي مَوَاقِعِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَاتِ الثَّلَاثَةَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ مُتَّحِدَةُ الْمَعْنَى تَقْتَضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَطْفَ صِفَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «الْوَاوُ الْأُولَى مَعْنَاهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ. وَالثَّالِثَةُ عَلَى أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ، وَأَمَّا الْوُسْطَى فَعَلَى أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ» اه. وَهُوَ تَشَبُّثٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقَالَ: هُوَ الْأَوَّلُ الْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ الْبَاطِنُ، بِحَذْفِ وَاوَيْنِ. وَالْمَعْنَى الَّذِي حَاوَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْتَضِيهُ مَعَانِي هَاتِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ اخْتِلَافِ مَعَانِي الْوَاوَاتِ. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ إِلَخْ عُطِفَتْ صِفَةُ عِلْمِهِ عَلَى صِفَةِ ذَاتِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [4] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافٌ كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الْحَدِيد: 3] الْآيَةَ، فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ مُفِيدٌ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ لِيُقْلِعُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ.

وَيُفِيدُ أَيْضًا بَيَانًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيد: 5] وَجُمْلَةِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْحَدِيد: 2] ، فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى عَظِيمِ الْإِبْدَاعِ. وَالْاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ تَمْثِيلٌ لِلْمُلْكِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيد: 2] وَهَذَا مَعْنَى اسْمِهِ تَعَالَى: «الْخَالِقُ» ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [11] . يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها. اسْتِئْنَافٌ لِتَقْرِيرِ عُمُومِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ فَكَانَ بَيَانَ جُمْلَةِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْحَدِيد: 2] وَجُمْلَةِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْحَدِيد: 3] جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ لِلَّفِّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. فَانْظُرْ ذَلِكَ. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. عَطْفُ مَعْنًى خَاصٍّ عَلَى مَعْنًى شَمِلَهُ وَغَيْرَهُ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمَعْطُوفِ. وَالْمَعِيَّةُ تَمْثِيلٌ كِنَائِيٌّ عَنِ الْعلم بِجَمِيعِ أَحْوَالهم. وأَيْنَ مَا ظَرْفٌ مُرَكَّبٌ مِنْ (أَيْنَ) وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، وَ (مَا) الزَّائِدَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْمِيمِ الْأَمْكِنَةِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَكْمِلَةٌ لِمَضْمُونِ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ لَا تُعْطَفَ وَإِنَّمَا عُطِفَتْ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ.

[سورة الحديد (57) : آية 5]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 5] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. هَذَا تَأْكِيدٌ لِنَظِيرِهِ الَّذِي فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَرَّرَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، فَكَانَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْقَابِلَةِ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا مَبْنِيًّا عَلَيْهِ أَنَّ أُمُورَ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا تَرْجِعُ إِلَى تَصَرُّفِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ لِقَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى فيفيذ صِفَةَ الْوَاحِدِ. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. عَطَفَ عَلَى لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَطْفَ الْخَاصِّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْعَامِّ مِنْهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْجَارِيَةِ فِي الدُّنْيَا، وَعَطْفَ الْمُغَايِرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الَّتِي تَجْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا سَيَتَّضِحُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْأُمُورُ. فَالْأُمُورُ: جَمْعُ أَمْرٍ، وَاشْتُهِرَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْأَمْرَ اسْمٌ لِلشَّأْنِ وَالْحَادِثِ فَيَعُمُّ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأُمُورُ هُنَا: جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالشَّيْءَ وَالْمَوْجُودَ أَسْمَاءٌ شَائِعَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ: أَعْرَاضِهَا وَجَوَاهِرِهَا» اه. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَفِي «الْمَحْصُول» و «شَرحه» فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ كَلِمَةَ (أَمْرٌ) مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ وَالشَّأْنِ وَالشَّيْءِ وَلَمْ أَرَ عَزْوَ ذَلِكَ إِلَى مَعْرُوفٍ وَلَا أَتَوْا لَهُ بِمِثَالٍ سَالِمٍ عَنِ النَّظَرِ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ. فَإِنْ أَخَذْنَا بِالْمَشْهُورِ فِي اللُّغَةِ كَانَ الْمَعْنَى تَرْجِعُ أَفْعَالُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ تَرْجِعُ فِي الْحَشْرِ، وَالْمُرَادُ: رُجُوعُ أَهْلِهَا لِلْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الرُّجُوعُ بِحَقَائِقِهَا، فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَتْمِيمٌ لِجُمْلَةِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ لَهُ مُلْكُ الْعَوَالِمِ فِي الدُّنْيَا وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِي أَعْمَالِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَإِنْ أَخَذْنَا بِشِمُولِ اسْمِ الْأُمُورِ لِلذَّوَاتِ كَانَ مُفِيدًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ، أَيِ

[سورة الحديد (57) : آية 6]

الذَّوَاتُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا تَصِيرُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِيهَا عَلَى أَعْمَالِهَا. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَمَفَادُهُ مَفَادُ اسْمِهِ (الْمُهَيْمِنُ) . وَتَعْرِيفُ الْجَمْعِ فِي الْأُمُورُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلْقَصْرِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لِلْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ وَلَا دَاعِيَ لِلْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ إِذْ لَا يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُثْبِتُ الْبَعْثَ وَلَا مَنْ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ فِي تَصَرُّفِ غَيْرِ اللَّهِ. وَالرُّجُوعُ: مُسْتَعَارٌ لِلْكَوْنِ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ دُونَ سَبْقِ مُغَادَرَةٍ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ كَالْمَثَلِ صَالِحَةً لِلتَّسْيِيرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ تُرْجَعُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى مَعْنَى يُرْجِعُهَا مُرْجِعٌ وَهُوَ اللَّهُ قَسْرًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ تُرْجَعُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ تَرْجِعُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهَا لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ فِي آجالها. [6] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 6] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ. مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَعَاقُبَهُمَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُلَابَسَاتِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيد: 5] وَهُوَ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الْحَدِيد: 5] تَذْكِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِي سَبَبِ الْفَنَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ هُمَا اللَّذَانِ يُفْنِيَانِ النَّاسَ، قَالَ الْأَعْشَى: أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا ... أَفْنَاهُمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ

وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فَلَمَّا قَالَ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الْحَدِيد: 5] ، أَبْطَلَ بَعْدَهُ اعْتِقَادَ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّ لِلزَّمَانِ الَّذِي هُوَ تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدَّهْرِ تَصَرُّفًا فِيهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى اسْمِهِ تَعَالَى: «الْمُدَبِّرُ» . وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. لَمَّا ذُكِرَ تَصَرُّفُ اللَّهِ فِي اللَّيْلِ وَكَانَ اللَّيْلُ وَقْتَ إِخْفَاءِ الْأَشْيَاءِ أَعْقَبَ ذِكْرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَخْفَى الْخَفَايَا وَهِيَ النَّوَايَا، فَإِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعَانِيَ غَائِبَةً عَنِ الْحَوَاسِّ كَانَتْ مَكْنُونَةً فِي ظُلْمَةِ بَاطِنِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا عَالِمٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: 59] ، وَقَوْلِهِ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [هود: 5] . بِذاتِ الصُّدُورِ: مَا فِي خَوَاطِرِ النَّاسِ مِنَ النَّوَايَا، فَ (ذَاتِ) هُنَا مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ. وَالصُّحْبَةُ: هُنَا بِمَعْنَى الْمُلَازَمَةِ. وَلَمَّا أُرِيدَ بِالْمُفْرَدِ الْجِنْسُ أُضِيفَ إِلَى «جَمْعٍ» ، وَتَقَدَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [43] . وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا عَلَى مَعَانِي سِتَّ عَشْرَةَ صِفَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: وَهِيَ: اللَّهُ، الْعَزِيزُ، الْحَكِيمُ، الْمَلِكُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْقَدِيرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْعَلِيمُ، الْخَالِقُ، الْبَصِيرُ، الْوَاحِدُ، الْمُدَبِّرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ هُوَ فِي سِتِّ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ فَهُوَ يَعْنِي مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا يُرَجِّحُ أَنه مكي.

[سورة الحديد (57) : آية 7]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 7] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ قَرَّرَ خُضُوعَ الْكَائِنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ الْقَدِيرُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا تُضْمِرُهُ ضَمَائِرُهُمْ وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ فَمُحَاسِبُهُمْ، فَلَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِإِبْلَاغِهِمُ التَّذْكِيرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا لَا يَشُوبُهُ إِشْرَاكٌ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِمَّا كَانَ مَحَلَّ ارْتِيَابِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ [الْحَدِيد: 8] . فَذَلِكَ وَجْهُ عَطْفِ وَرَسُولِهِ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ مَا ذَكَرَتْ إِلَّا دَلَائِلَ صِفَاتِ اللَّهِ دُونَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْخِطَابُ بِ آمِنُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ حَسْبَ مَا رُوِيَ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ وَهُوَ الَّذِي يُلَائِمُ اتِّصَالَ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيد: 8] إِلَخْ بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ: الْإِنْفَاقُ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ الْإِيمَانُ بَعْدَ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَتَخْصِيصُ الْإِنْفَاقِ بِالذِّكْرِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا فِي اللَّذَّاتِ، وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْمُقَامَرَةِ، وَمُعَاقَرَةِ الْخَمْرِ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 34] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا [الْفجْر: 17- 20] وَقَوْلِهِ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [التكاثر: 1، 2] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ- يَعْنِي الْإِنْفَاق بتجهيز جَيش الْعسرَة- قَالَه ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً وَيَكُونُ قَوْلُهُ: آمِنُوا أَمْرًا بِالدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِمَنْ فِي نُفُوسِهِمْ بَقِيَّةُ نِفَاقٍ أَوِ ارْتِيَابٍ، وَأَنَّهُمْ قَبَضُوا أَيْدِيَهُمْ

[سورة الحديد (57) : آية 8]

عَنْ تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] ، فَهُمْ إِذَا سَمِعُوا الْخِطَابَ علمُوا أَنهم الْمَقْصُود عَلَى نَحْوِ مَا فِي آيَاتِ سُورَةٍ بَرَاءَةٌ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ سَنَةَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَدَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَيُوَجَّهُ إِلَيْهِ خِطَابٌ كَهَذَا. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى غَفْلَةِ السَّامِعِينَ عَنْ كَوْنِ الْمَالِ لِلَّهِ جَعَلَ النَّاسَ كَالْخَلَائِفِ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مُدَّةً مَا، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا لِذَلِكَ كَمَا يَمْتَثِلُ الْخَازِنُ أَمْرَ صَاحِبِ الْمَالِ إِذَا أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُعِّينُهُ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي مُسْتَخْلَفِينَ لِلْمُبَالَغِةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ لَا لِلطَّلَبِ لِاسْتِفَادَةِ الطَّلَبِ مِنْ فِعْلِ جَعَلَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَأْكِيدِ الطَّلَبِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنْفَقُوا أَعْدَدْنَا لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَالْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَيْنِكُمْ وَأَنْفَقُوا، أَيْ سَبَقُوكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، أَيْ فَاغْتَنَمُوهُ وَتَدَارَكُوا مَا فَاتُوكُمْ بِهِ. وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ بَعْضُ قومكم. وَفِي هَذَا إغراء لَهُم بِأَن يماثلوهم. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلَا الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا مُسْتَعْمَلَانِ فِي مَعْنَى الْمُضَارع للتّنْبِيه عَن إِيقَاع ذَلِك. [8] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 8] وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا

فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ كَوْنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الطَّلَبِ لَا فِي الدَّوَامِ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا تُؤْمِنُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْكَوْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ قَائِمًا؟ بِمَعْنَى مَا تَصْنَعُ فِي حَالِ الْقِيَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا لَكُمْ كَافِرِينَ بِاللَّهِ، أَيْ مَا حَصَلَ لَكُمْ فِي حَالَةِ عَدَمِ الْإِيمَانِ. وَجُمْلَةُ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ لَا الْعَطْفِ، فهما حالان متداختان. وَالْمَعْنَى: مَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَقَدْ بَيَّنَ لَكُمُ الرَّسُولُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ وَحُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ حَقٌّ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَقَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَاتُ حَقِّيَّتِهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِصْرَارَكُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ هُوَ مِيثَاقٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مَا يُمَاثِلُ الْمِيثَاقَ مِنْ إِيدَاعِ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَكَأَنَّهُ مِيثَاقٌ قَدْ أُخِذَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْأَزَلِ وَشَرْطِ التَّكْوِينِ فَهُوَ نَامُوسٌ فِطْرِيٌّ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] . فَضَمِيرُ أَخَذَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ النُّفُوسَ لَو خلت من الْعِنَادِ وَعَنِ التَّمْوِيهِ والتضليل كَانَتْ مُنْسَاقَةً إِلَى إِدْرَاكِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكْشِفُ عَنْهُمْ مَا غَشَّى عَلَى إِدْرَاكِهِمْ من دُعَاء أيمة الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ. وَاسم فَاعل فِي قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، أَيْ فَقَدْ حَصَلَ مَا يَقْتَضِي أَنْ تُؤْمِنُوا مِنَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَالسَّبَبِ الْخَفِيِّ الْمُرْتَكِزِ فِي الْجِبِلَّةِ.

[سورة الحديد (57) : آية 9]

وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْحَدِيد: 7] أَنَّهُ لِطَلَبِ إِيجَادِ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا وَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَخَذَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ مِيثاقَكُمْ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو أَخَذَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَرفع مِيثاقَكُمْ. [9] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 9] هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ انْتَقَلَ بِهِ الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مَبْدَأُ الْآيَاتِ الْمَدَنِيَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا عَطْفُ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 10] الْآيَاتِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَالْخِطَابُ هُنَا وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِتَقْرِيرِ مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ [الْحَدِيد: 8] وَلَكِنْ أُسْلُوبُ النَّظْمِ وَمَا عُطِفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَقْتَضِيَانِ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا انْتِقَالِيًّا هُوَ مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَفُوتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى تَقْرِيرِ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ يَحْصُلُ مِنِ انْتِسَابِ الْمَعْنَيَيْنِ: مَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُوَالِيَةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَوْقِعِهَا وَمَعْنَاهَا وَعِلَّتِهَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا أَفَادَتْ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا وَتَعْلِيلًا وَتَذْيِيلًا وَتَخَلُّصًا لِغَرَضٍ جَدِيدٍ، وَهِيَ أَغْرَاضٌ جَمَعَتْهَا جَمْعًا بَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْإِيجَازِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِمَعْنًى عَظِيمٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّذْكِيرِ والإرشاد والامتنان. والرؤوف: مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالغَة فِي الاتصاف بِالرَّأْفَةِ وَهِيَ كَرَاهِيَةُ إِصَابَةِ الْغَيْرِ بِضُرٍّ. وَالرَّحِيمُ: مِنَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ مَحَبَّةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَن عَاصِم لَرَؤُفٌ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ

[سورة الحديد (57) : آية 10]

عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِدُونِ وَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهِيَ لُغَةٌ وَلَعَلَّهَا تَخْفِيفٌ، قَالَ جَرِيرٌ: يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقًّا ... كَفعل الْوَالِد الرّؤوف الرَّحِيمِ وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ وَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ قَدْ حَسِبُوهَا إِسَاءَةً لَهُمْ وَلِآبَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، فَقَدْ قَالُوا: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 41، 42] . وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْحَدِيد: 7] إِلَى هُنَا مَكِّيٌّ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً فَلِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. [10] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 10] وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَعْنَاهُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي عَتَادِ الْجِهَادِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ سَبِيلَ اللَّهِ غَلَبَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْجِهَادِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا نُزُولُهُ مَعَ هَذَا وَلَوْ حُمِلَ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَعْنَى الصَّدَقَاتِ لَكَانَ مُقْتَضِيًا أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُلَامُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى تَرْكِهِ. وَعَلَيْهِ فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ أُعِيدَ الْخِطَابُ بِلَوْنٍ غَيْرِ الَّذِي ابْتُدِئَ بِهِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ أَنَّهُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُشْرِكُونَ فَهُمُ الَّذِينَ شَحُّوا بِالْإِنْفَاقِ. وَوَجْهُ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالْمَكِّيِّ مِنَ السُّورَةِ مُنَاسَبَةُ اسْتِيعَابِ أَحْوَالِ الْمُمْسِكِينَ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيضًا بِالتَّحْذِيرِ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ إِذْ قَدْ سَبَقَهَا قَوْلُهُ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الْحَدِيد: 7] .

وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ إِنْفَاقِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا وَالْفِعْلُ الْمَنْصُوبُ بِهَا فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِاللَّامِ، أَوْ بِ (فِي) مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا حَصَلَ لَكُمْ فِي عَدَمِ إِنْفَاقِكُمْ، أَيْ ذَلِكَ الْحَاصِلُ أَمْرٌ مُنْكَرٌ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ (أَنْ) زَائِدَةٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيد: 8] . وَلَيْسَ نَصْبُهَا الْفِعْلَ الَّذِي بَعْدَهَا بِمَانِعٍ مِنِ اعْتِبَارِهَا زَائِدَةً لِأَنَّ الْحَرْفَ الزَّائِدَ قَدْ يَعْمَلُ مِثْلَ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وَالْوَاوُ فِي وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاوُ الْحَالِ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُنْفِقُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُمُومَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا فِيهِمَا فَيَشْمَلُ الْمُخَاطَبِينَ فَذَلِكَ الْعُمُومُ هُوَ الرَّابِطُ. وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّهِ مِيرَاثُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَشْمَلُ مِيرَاثُهُ إِيَّاكُمْ. وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ عَدَمِ إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِيهِ وَهُمْ سَيَهْلَكُونَ وَيَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَصِيرَهَا إِلَيْهِ فَلَوْ أَنْفَقُوا بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ لَنَالُوا رِضَى اللَّهِ وَانْتَفَعُوا بِمَالٍ هُوَ صَائِرٌ إِلَى مَنْ يَرِثُهُمْ. وَإِضَافَةُ مِيرَاثٍ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: أَهْلِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِيرَاثَ ذَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ انْقِرَاضِ النَّاسِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ.

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَمَّا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِ كَثِيرٍ مِنَ السَّامِعِينَ مِنْ أَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِنْفَاقِ غَيْرَ نَاوِينَ تَرْكَهُ وَلَكِنَّهُمْ سَيَتَدَارَكُونَهُ. وَأُدْمِجَ فِيهِ تَفْضِيلُ جِهَادِ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ لِمُنَاسَبَةِ كَوْنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَشْمَلُ إِنْفَاقَ الْمُجَاهِدِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعُدَّةِ وَالزَّادِ وَإِنْفَاقَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ عُدَّتَهُ وَلَا زَادَهُ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْفَاقَ، فَأُرِيدَ أَنْ لَا يُغْفِلَ ذِكْرَهُ فِي عِدَادِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ إِذِ الْإِنْفَاقُ فِيهَا وَسِيلَةٌ لَهَا. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْفَتْحِ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ فَإِنَّ هَذَا الْجِنْسَ الْمُعَرَّفَ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنْفِقُونَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَالْمُجَاهِدُونَ قَبْلَهُ أَعْظَمَ دَرَجَةً فِي إِنْفَاقِهِمْ وَجِهَادِهِمْ لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ زَمَانَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ كَانُوا أَكْثَرَ الْعَرَبِ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ دَخَلَتْ سَائِرُ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ وَالْجِهَادُ فِيمَا قَبْلَ الْفَتْحِ أَشَقَّ عَلَى نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ لِقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ وَقِلَّةِ جَمْعِهِمْ قُبَالَةَ جَمْعِ الْعَدُوِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا أَمَامَ الْعَدُوِّ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْعَدُوِّ عَشْرَةَ أَضْعَافِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: 65] . وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ. وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِكَوْنِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَنِيٌّ فَيَقْتَضِي أَنَّ مَدَنِيَّهَا قَرِيبُ عَهْدٍ مِنْ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ، وَإِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَارِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] .

وَ (مَنْ أَنْفَقَ) عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ أَنْفَقَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَإِنَّهُ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ مِنْ أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَنَفْيُ التَّسْوِيَةِ مُرَادٌ بِهِ نَفْيُهَا فِي الْفَضِيلَةِ وَالثَّوَابِ فَإِنَّ نَفْيَ التَّسْوِيَةِ فِي وَصْفٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَ أَصْلِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِجَمِيعِ مَنْ نُفِيَتْ عَنْهُمُ التَّسْوِيَةُ، فَنَفْيُ التَّسْوِيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ تَفْضِيل أحد جانبين وَتَنْقِيصِ الْجَانِبِ الْآخَرِ نَقْصًا مُتَفَاوِتًا. وَيُعْرَفُ الْجَانِبُ الْفَاضِلُ وَالْجَانِبُ الْمَفْضُولُ بِالْقَرِينَةِ أَوِ التَّصْرِيحِ فِي الْكَلَامِ، وَلَيْسَ تَقْدِيمُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ نَفْيِ التَّسْوِيَةِ بُمَقْتَضٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النِّسَاء: 95] وَقَدَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ الْجَانِبَ الْمُفَضَّلَ، وَكَذَا الَّذِي فِي قَوْلِ السَّمَوْأَلِ: فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الِاقْتِضَاءَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، أَيْ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ، فَإِنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ يَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِيمَا اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ التَّفْضِيلِ وَزِيَادَةِ مَنْ أُخْبِرَ عَنْهُ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ فِي الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، أَيْ فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَهُ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ. وَحُذِفَ قِسْمُ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ فِعْلِ التَّسْوِيَةِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَسْتَوِي مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَمَنْ أَنْفَقَ بَعْدَهُ. وَالدَّرَجَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلْفَضْلِ لِأَنَّ الدَّرَجَةَ تَسْتَلْزِمُ الِارْتِقَاءَ، فَوَصْفُ الِارْتِقَاءِ مُلَاحَظٌ فِيهَا، ثُمَّ يُشَبَّهُ الْفَضْلُ وَالشَّرَفُ بِالِارْتِقَاءِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالدَّرَجَةِ، فَالدَّرَجَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي لُوحِظَتْ فِيهَا صِفَاتُ أَوْصَافٍ مِثْلَ اسْمِ الْأَسَدِ بِصِفَةِ الشَّجَاعَةِ فِي قَوْلِ الْخَارِجِيِّ: أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ وَقَوْلُهُ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ اسْمَ

التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ مَا فِي قَول: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] ، أَيْ حَبِيبٌ إِلَيَّ دُونَ مَا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَعَبَّرَ بِ الْحُسْنى لِبَيَانِ أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ دَرَجَةُ الْحُسْنَى لِيَكُونَ لِلِاحْتِرَاسِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ. وَالْحُسْنَى: لَقَبٌ قُرْآنِيٌّ إِسْلَامِيٌّ يَدُلُّ عَلَى خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: 26] . وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ حَالٌ مِنْ مَنْ أَنْفَقَ أَصْلُهُ نَعْتٌ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ تَعْجِيلًا بِهَذَا الْوَصْفِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً دُونَ الضَّمِيرِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 4] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] إِلَخْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى بِنَصْبِ كُلًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ بِالضَّمِيرِ الْمَحْذُوف اختصارا. وقرأه ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الِاشْتِغَالِ مُتَسَاوِيَانِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي تَفَاضُلِ أَهْلِ الْفَضْلِ فِيمَا فُضِّلُوا فِيهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ ثَابِتٌ لِلَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَبِئْسَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ مِنْ عِبَارَاتٍ تُؤْذِنُ بِتَنْقِيصِ مَنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ قُرَيْشٍ مِثْلِ كَلِمَةِ «الطُّلَقَاءِ» وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ حَزَازَاتٍ فِي النُّفُوسِ قَبَلِيَّةٍ أَوْ حِزْبِيَّةٍ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَسْبَابَ الْإِنْفَاقِ وَأَوْقَاتِهِ وَأَعْذَارِهِ، وَيَعْلَمُ أَحْوَالَ الْجِهَادِ وَنَوَايَا الْمُجَاهِدِينَ فَيُعْطِي كُلَّ عَامِلٍ عَلَى نِيَّة عمله.

[سورة الحديد (57) : آية 11]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 11] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ وَالْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] . وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَثَلَ الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ مَنْ يُقْرِضُ اللَّهَ وَمَثَلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَزَائِهِ كَمَثَلِ الْمُسْتَسْلِفِ مَعَ مَنْ أَحْسَنَ قَرْضَهُ وَأَحْسَنَ فِي دَفْعِهِ إِلَيْهِ. ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولِ، والَّذِي يُقْرِضُ خَبَرُهَا، وذَا مُعْتَرِضَةٌ لْاسْتِحْضَارِ حَالِ الْمُقْتَرِضِ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: (ذَا) صِلَةٌ، أَيْ زَائِدَةٌ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ مِثْلَ مَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ (ذَا) فِي (مَاذَا) مُلْغَاةٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: رَأَيْتُهَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مَنْذَا الَّذِي وَالنُّونُ مَوْصُولَةٌ بِالذَّالِ اه. وَالْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْرِيضِ مَجَازًا لِأَنَّ شَأْنَ الْمُحَرِّضِ عَلَى الْفِعْلِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّنْ يَفْعَلُهُ وَيَتَطَلَّبُ تَعْيِينَهُ لِيَنُوطَهُ بِهِ أَوْ يُجَازِيهِ عَلَيْهِ. وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ: هُوَ الْقَرْضُ الْمُسْتَكْمِلُ مَحَاسِنَ نَوْعِهِ مِنْ كَوْنِهِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَبَشَاشَةٍ فِي وَجْهِ الْمُسْتَقْرِضِ، وَخُلُوٍّ عَنْ كُلِّ مَا يُعَرِّضُ بِالْمِنَّةِ أَوْ بِتَضْيِيقِ أَجَلِ الْقَضَاءِ. وَالْمُشَبَّهُ هُنَا بِالْقَرْضِ الْحَسَنِ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَنْهِيُّ عَنْ تَرْكِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 10] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيُضاعِفَهُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوب فَيُضاعِفَهُ بِدُونِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ فَيُضاعِفَهُ لَهُ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَةَ مُسَبَّبَةٌ عَلَى الْقَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِعْلَ يُضَاعِفُهُ مَرْفُوعًا عَلَى اعْتِبَارِهِ مَعْطُوفًا عَلَى يُقْرِضُ. وَالْمَعْنَى: التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِقْرَاضِ وَتَحْصِيلُ الْمُضَاعَفَةِ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ سَبَبُ

الْمُضَاعَفَةِ فَالْعَمَلُ لِحُصُولِ الْإِقْرَاضِ كَأَنَّهُ عَمَلٌ لِحُصُولِ الْمُضَاعَفَةِ. أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً فِي التَّقْدِيرِ فَيَقَعُ الْخَبَرُ الْفِعْلِيُّ بَعْدَ الْمُبْتَدَأِ مُفِيدًا تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدَ حُصُولِهِ، وَاعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَوَابًا، لِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ بِإِشْرَابِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ إِشْرَابٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ- كُلٌّ عَلَى قِرَاءَتِهِ- بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. وَمَعْنَى وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ: أَنَّ لَهُ أَنْفَسَ جِنْسِ الْأُجُورِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ النَّفِيسُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَجُعِلَ الْأَجْرُ الْكَرِيمُ مُقَابِلَ الْقَرْضِ الْحَسَنِ فَقُوبِلَ بِهَذَا مَوْصُوف وَصفته بمثلهما. والمضاعفة: مماثلة الْمِقْدَار، فَالْمَعْنَى: يُعْطِيهِ مِثْلَيْ قَرْضِهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا مُضَاعَفَتُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كَمَا قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [261] . وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245] . وَضَمِيرُ النصب فِي فَيُضاعِفَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَرْضِ الْحَسَنِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: فَيُضَاعِفُ جَزَاءَهُ لَهُ. لِأَنَّ الْقَرْضَ هُنَا تَمْثِيلٌ بِحَالِ السَّلَفِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ تَضْعِيفُهُ مِثْلَ تَضْعِيفِ مَالِ السَّلَفِ وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَالْأَجْرُ: مَا زَادَ عَلَى قَضَاءِ الْقَرْضِ مِنْ عَطِيَّةٍ يُسْدِيهَا الْمُسْتَسْلِفُ إِلَى من سلفه عِنْد مَا يَجِدُ سَعَةً، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: 40] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ الْمَغْفِرَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [17] . وَهَذَا يَشْمَلُ الْإِنْفَاقَ فِي الصَّدَقَاتِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الْحَدِيد: 18] ،

[سورة الحديد (57) : آية 12]

وَهُوَ مَا فَسَّرَهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ» ، أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى مُضَاعَفَتِهَا مِثْلُ الْحَسَنَات كلهَا. [12] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 12] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ وَإِعْطَاءَ الْأَجْرِ يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ، تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ تَنْوِيهًا بِمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ثَوَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَمِنْ حِرْمَانٍ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ يَوْمَ لِيَخْتَصَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِذِكْرِ مَا هُوَ من شؤونه فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِسَبَبِ هَذَا التَّعَلُّقِ، عَلَى أَنَّهُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ يَصِحُّ جَعْلُهُ ظَرْفًا مُتَعَلقا ب فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الْحَدِيد: 11] عَلَى طَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ لِذِكْرِ مَا يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ لِأَهْلِهَا وَمِنَ الشَّرِّ لِأَهْلِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَجْرِ الْمُنْفِقِينَ فَعَقَّبَ بِبَيَانِ بَعْضِ مَزَايَا الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِسَبَبِ التَّعَلُّقِ. وَالْخِطَابُ فِي تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَكُونَ عَلَى مِنْوَالِ الْمُخَاطَبَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ يَوْمُ يَرَى الرَّائِي، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، ويَوْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فَتْحَةَ إِعْرَابٍ الْمُضَافَ إِلَى الْمُضَارِعِ يَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَوَجْهُ عَطْفِ الْمُؤْمِناتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُنَا، وَفِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَدَنِيِّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ حُظُوظَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الدِّينِ مُسَاوِيَةٌ حُظُوظَ الرِّجَالِ إِلَّا فِيمَا خُصِّصْنَ

بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ قَلِيلَةٍ لَهَا أَدِلَّتُهَا الْخَاصَّةِ وَذَلِكَ لِإِبْطَالِ مَا عِنْدَ الْيَهُودِ مِنْ وَضْعِ النِّسَاءِ فِي حَالَةِ مَلْعُونَاتٍ وَمَحْرُومَاتٍ مِنْ مُعْظَمِ الطَّاعَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَّا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [178] . وَالنُّورُ الْمَذْكُورُ هُنَا نُورٌ حَقِيقِيٌّ يَجعله الله للْمُؤْمِنين فِي مَسِيرِهِمْ مِنْ مَكَانِ الْحَشْرِ إِكْرَامًا لَهُمْ وَتَنْوِيهًا بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَحْشَرِ. وَالْمَعْنَى: يَسْعَى نُورُهُمْ حِينَ يَسْعَوْنَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِأَنَّ النُّورَ إِنَّمَا يَسْعَى إِذَا سَعَى صَاحبه وَإِلَّا لَا نفصل عَنْهُ وَتَرَكَهُ. وَإِضَافَةُ (نُورٍ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ وَجَعْلُ مَكَانِهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يُبَيِّنُ أَنَّهُ نُورٌ لِذَوَاتِهِمْ أُكْرِمُوا بِهِ. وَانْظُرْ مَعْنَى هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِضَمِيرِهِمْ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: يَسْعى مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، وَوَجْهَ تَخْصِيصِ النُّورِ بِالْجِهَةِ الْأَمَامِ وَبِالْأَيْمَانِ كُلَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ. وَالْبَاءُ فِي وَبِأَيْمانِهِمْ بِمَعْنَى (عَنْ) وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْأَيْمَانِ تَشْرِيفًا لَهَا وَهُوَ مِنَ الِاكْتِفَاءِ، أَيْ وَبِجَانِبَيْهِمْ. وَيجوز أَن تكون الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَيَكُونُ النُّورُ الْمُلَابِسُ لِلْيَمِينِ نُورَ كِتَابِ الْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً [الانشقاق: 7، 8] فَإِنَّ كِتَابَ الْحَسَنَاتِ هُدًى فَيَكُونُ لَفْظُ «النُّورِ» قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَهُوَ الْهُدَى وَالْبَرَكَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انْتُزِعَ حَمْلُ الْمُعْتَقِ لِلشَّمْعَةِ» اه. (لَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَادَةٍ كَانَتْ مَأْلُوفَةً عِنْدَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا بِيَدِ الْعَبْدِ الَّذِي يَعْتِقُونَهُ شَمْعَةً مُشْتَعِلَةً يَحْمِلُهَا سَاعَةَ عِتْقِهِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ) . وَالْبُشْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ بَشَّرَ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ الْمُخْبَرَ، وَأَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ مِثْلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَيِ الَّذِي تُبَشَّرُونَ بِهِ

[سورة الحديد (57) : الآيات 13 إلى 14]

جَنَّاتٌ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ تَقْدِيرُهُمَا: إِعْلَامٌ بِدُخُولِ جَنَّاتٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها. وَجُمْلَةُ بُشْراكُمُ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمْ، أَيْ يُقَالُ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ، تَقُولُهُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ يَسْمَعُونَ كَلَامًا يَخْلُقُهُ اللَّهُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ الْمُبَشَّرِ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحِكَايَةِ الَّتِي حُكِيَتْ فِي الْقُرْآنِ، وعَلى الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ تَدُلُّ عَلَى مَجْمُوعِ مَحَاسِنِ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْبُشْرَى. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّنْبِيهِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لتقوية الْخَبَر. [13، 14] [سُورَة الْحَدِيد (57) : الْآيَات 13 إِلَى 14] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) يَوْمَ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ [الْحَدِيد: 12] بَدَلا مطابقا إِذا الْيَوْمُ هُوَ عَيْنُ الْيَوْمِ الْمُعَرّف فِي قَوْله: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ [الْحَدِيد: 12] . وَالْقَوْلُ فِي فَتْحَةِ يَوْمَ تَقَدَّمَ فِي نَظَرِهِ قَرِيبًا. وَعَطْفُ الْمُنافِقاتُ عَلَى الْمُنافِقُونَ كَعَطْفِ الْمُؤْمِناتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ [12] قَبْلَ هَذِهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا تَغْلِيبٌ لِلذُّكُورِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ أَصْحَابُ النُّورِ وَهُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَ (انْظُرُونا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَضْمُومًا، مِنْ نَظَرَهُ، إِذَا انْتَظَرَهُ مِثْلَ نَظَرَ، إِذَا أَبْصَرَ، إِلَّا أَنَّ نَظَرَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ، وَنَظَرَ بِمَعْنَى أَبْصَرَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى) قَالَ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [الْبَقَرَة: 259] . والانتظار: التَّرَيُّثُ بِفِعْلٍ مَا، أَيْ تَرَيَّثُوا فِي سَيْرِكُمْ حَتَّى نَلْحَقَ بِكُمْ فَنَسْتَضِيءَ بِالَّنُورِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَبِجَانِبِكُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ بِالسَّيْرِ إِلَى الْجَنَّةِ فَوْجًا، وَيَجْعَلُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ سَائِرِينَ وَرَاءَهُمْ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسِيرُونَ فِي ظُلُمَاتٍ فَيَسْأَلُ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْتَظِرُوهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ انْظُرُونا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الظَّاءِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الظَّاءِ، مِنْ أَنْظَرَهُ، إِذَا أَمْهَلَهُ، أَيْ أَمْهِلُونَا حَتَّى نَلْحَقَ بِكُمْ وَلَا تُعَجِّلُوا السَّيْرَ فَيَنْأَى نُورُكُمْ عَنَّا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنْهُمْ مِنْ جَرَّاءِ السُّرْعَةِ. وَالْاقْتِبَاسُ حَقِيقَتُهُ: أَخْذُ الْقَبَسِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الجذوة من الْحمر. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَمَجِيءُ فَعَلْتُ وَافْتَعَلْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِمْ: شَوَيْتُ وَاشْتَوَيْتُ، وَحَقَرْتُ وَاحْتَقَرْتُ. قُلْتَ: وَكَذَلِكَ حَفَرْتُ وَاحْتَفَرْتُ، فَيَجُوزُ أَنْ يكون إِطْلَاق تقتبس هُنَا حَقِيقَةً بِأَنْ يَكُونُوا ظَنُّوا أَنَّ النُّورَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ نُورُ شُعْلَةٍ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَأْخُذُوا قَبَسًا مِنْهُ يُلْقَى ذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لِتَكُونَ خَيْبَتُهُمْ أَشَدَّ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الِاقْتِبَاسُ لِانْتِفَاعِ أَحَدٍ بِضَوْءِ آخَرَ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاقْتِبَاسَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالضَّوْءِ بِدُونِ عِلَاجٍ فَمَعْنَى نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نُصِبْ مِنْهُ ونلتحق بِهِ فنستبر بِهِ. وَيَظْهَرُ مِنْ إِسْنَادِ قِيلَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَنَّ قَائِلَهُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ السَّائِقِينَ لِلْمُنَافِقِينَ. وَتَكُونُ مَقَالَةُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُنَافِقِينَ تَهَكُّمًا إِذْ لَا نُورَ وَرَاءَهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادُوا إِطْمَاعَهُمْ

ثُمَّ تَخْيِيبَهُمْ بِضَرِبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْخَيْبَةَ بَعْدَ الطَّمَعِ أَشَدُّ حَسْرَةً. وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ كَانَ جَزَاءً عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِسْخَارِهِمْ بِهِمْ، فَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: 79] . ووَراءَكُمْ: تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ارْجِعُوا إِذِ الرُّجُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْوَرَاءَ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظرفا لفعل فَالْتَمِسُوا نُوراً، أَيْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي خَلْفَكُمْ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِالْتِمَاسِ النُّورِ هُنَاكَ وَهُوَ أَشَدُّ فِي الْإِطْمَاعِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ النُّورَ يُتَنَاوَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِذَلِكَ الْإِيهَامِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ كَذِبًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعَارِيضِ لَا سِيَّمَا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَراءَكُمْ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى ارْجِعُوا. وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَضَرْبُ السُّورِ: وَضْعُهُ، يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ: إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتَا مُهَاجَرَةً ... بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غول وَضمن فَضُرِبَ فِي الْآيَةِ مَعْنَى الْحَجْزِ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، أَيْ ضُرِبَ بَيْنَهُمْ سُورٌ لِلْحَجْزِ بِهِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، خَلَقَهُ اللَّهُ سَاعَتَئِذٍ قَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، فَحَقَّ بِذَلِكَ التَّمْثِيلُ الَّذِي مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] . وَأَنَّ الْحَيْرَةَ وَعَدَمَ رُؤْيَةِ الْمَصِيرِ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَعَلَّ ضَرْبَ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَجَعْلَ الْعَذَابِ بِظَاهِرِهِ وَالنَّعِيمِ بِبَاطِنِهِ قُصِدَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ لَهُمْ بِأَنَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ هُوَ الْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَعْمَلُهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا مَا يُفْضِي بِعَامِلِهِ إِلَى النَّعِيمِ وَمِنْهَا مَا يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْعَذَابِ فَأَحَدُ طَرَفَيِ السُّورِ مِثَالٌ لِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ مِثَالٌ

لِضِدِّهِ. وَ «الْبَابُ» وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْلُكُ بِالنَّاسِ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. وَلَعَلَّ جَعْلَ الْبَابِ فِي سُورٍ وَاحِدٍ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ لِيَمُرَّ مِنْهُ أَفْوَاجُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ مِنْ وُجُودِ مُنَافِقِينَ بَيْنَهُمْ بِمَرْأًى مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمَحْبُوسِينَ وَرَاءَ ذَلِكَ السُّورِ تَنْكِيلًا بِهِمْ وَحَسْرَةً حِينَ يُشَاهِدُونَ أَفْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَحُ لَهُمُ الْبَابُ الَّذِي فِي السُّورِ لِيَجْتَازُوا مِنْهُ إِلَى النَّعِيمِ الَّذِي بِبَاطِنِ السُّورِ. وَرَكَّبَ الْقَصَّاصُونَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلَاتٍ مَوْضُوعَةً فِي فَضَائِلِ بِلَادِ الْقُدْسِ بِفِلَسْطِينَ عَزَوْهَا إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَسَمَّوْا بَعْضَ أَبْوَابِ مَدِينَةِ الْقُدْسِ بَابَ الرَّحْمَةِ، وَسَمَّوْا مَكَانًا مِنْهَا وَادِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ خَارِجُ سُورِ بِلَادِ الْقُدْسِ، ثُمَّ رَكَّبُوا تَأْوِيلَ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ أَوْهَامٌ عَلَى أَوْهَامٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّورَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ الْحِجَابِ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَضَمَائِرُ لَهُ بابٌ وباطِنُهُ وظاهِرُهُ عَائِدَة إِلَى السُّورِ، والجملتان صفتان لسور. وَإِنَّمَا عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصِّفَةِ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: 5] . وَالْبَاطِنُ: هُوَ دَاخِلُ الشَّيْءِ، وَالظَّاهِرُ: خَارِجُهُ. فَالْبَاطِنُ: هُوَ دَاخِلُ السُّورِ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَهُوَ مَكَانُ الْمُسْلِمِينَ. وَالْبُطُونُ وَالظُّهُورُ هُنَا نِسْبِيَّانِ، أَيْ بِاعِتَبَارِ مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكَانِ الْمُنَافِقِينَ، فَالظَّاهِرُ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي نَحْوَ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ ضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ يُشَاهِدُ الْمُنَافِقُونَ الْعَذَابَ مِنْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يُوَاجِهُهُمْ، وَإِنَّ الرَّحْمَةَ وَرَاءَ مَا يَلِيهِمْ. وَ (قِبَلِ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ، الْجِهَةُ الْمُقَابِلَةُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قِبَلِهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، والْعَذابُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ ظاهِرُهُ.

وَ (مِنْ) بِمَعْنَى (فِي) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: 9] فَتَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ. وَالْعَذَابُ: هُوَ حَرْقُ جَهَنَّمَ فَإِنَّ جَهَنَّمَ دَارُ عَذَابٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الْفرْقَان: 65] . وَجُمْلَةُ يُنادُونَهُمْ حَالٌ مِنْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ. وَضَمَائِرُ يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى تُعْرَفُ مَرَاجِعُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ الْآيَة. وأَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ، اسْتُعْمِلَ كِنَايَةً عَنْ طَلَبِ اللَّحَاقِ بِهِمْ وَالْانْضِمَامِ إِلَيْهِمْ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَعِيَّةُ أُطْلِقَتْ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ مِنْ نُطْقٍ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَإِقَامَةِ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ، تَوَهَّمُوا أَنَّ الْمُعَامَلَةَ فِي الْآخِرَةِ تَجْرِي كَمَا تَجْرِي الْمُعَامَلَةُ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَسَبِ صُوَرِ الْأَعْمَالِ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ الصُّوَرَ مُكَمِّلَاتٌ وَأَنَّ قِوَامَهَا إِخْلَاصُ الْإِيمَانِ وَهَذَا الْجَوَابُ إِقْرَارٌ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَهُمْ مَعَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ يُوهِمُ أَنَّهُ قَوْلٌ بِمُوجَبِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ أَعْقَبُوا جَوَابَهُمُ الْإِقْرَارِيَ بِالِاسْتِدْرَاكِ الرَّافِعِ لِمَا تَوَهَّمَهُ الْمُنَافِقُونَ مِنْ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ تَكْفِي فِي الْتِحَاقِهِمْ بِهِمْ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ فَبَيَّنُوا لَهُمْ أَسْبَابَ التَّبَاعُدِ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ بَاطِنَهُمْ كَانَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِهِمْ. وَذَكَرُوا لَهُمْ أَرْبَعَةَ أُصُولٍ هِيَ أَسْبَابُ الْخُسْرَانِ، وَهِيَ: فِتْنَةُ أَنْفُسِهِمْ، وَالتَّرَبُّصُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَالْارْتِيَابُ فِي صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْاغْتِرَارُ بِمَا تُمَوِّهُ إِلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ أُصُولُ الْخِصَالِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى النِّفَاقِ. الْأَوَّلُ: فِتْنَتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ عَدَمُ قَرَارِ ضَمَائِرِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، فَكَأَنَّ الِاضْطِرَابَ وَعَدَمَ الِاسْتِقْرَارِ خُلُقٌ لَهُمْ فَإِذَا خَطَرَتْ فِي

أَنْفُسِهِمْ خَوَاطِرُ خَيْرٍ مِنْ إِيمَانٍ وَمَحَبَّةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ نَقَضُوهَا بِخَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهَذَا مِنْ صُنْعِ أَنْفُسِهِمْ فَإِسْنَادُ الْفِتَنِ إِلَيْهِمْ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ. وَهَذَا ينشأ عَنهُ الْكَذِبِ، وَالْخِدَاعِ، وَالْاسْتِهْزَاءِ، وَالطَّعْنِ فِي الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاء: 60] . الثَّانِي: التَّرَبُّصُ، وَالتَّرَبُّصُ: انْتِظَارُ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: 228] الْآيَةَ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ. وَحَذَفَ هُنَا مَفْعُولَهُ وَمُتَعَلِّقَهُ لِيَشْمَلَ عِدَّةَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْتَظِرُهَا الْمُنَافِقُونَ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى أَذَى الْمُسلمين وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ فَيَتَرَبَّصُونَ هَزِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ، قَالَ تَعَالَى فِي بَعْضِهِمْ: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: 98] ، وَيَتَرَبَّصُونَ انْقِسَامَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ قَالُوا لِفَرِيقٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُنَدِّمُونَهُمْ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ قَوْمِهِمْ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: 168] . الثَّالِثُ: الِارْتِيَابُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الشَّكُّ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَنْشَأُ عَنْهُ الْقُعُودُ عَنِ الْجِهَادِ قَالَ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: 45] وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآجَالِ، وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: 156] . الرَّابِعُ: الْغُرُورُ بِالْأَمَانِيِّ، وَهِيَ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَهِيَ اسْمُ التَّمَنِّي. وَالْمُرَادُ بِهَا مَا كَانُوا يُمَنُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ انْتِصَارَ الْمُؤْمِنِينَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ تَجْرِي عَلَى رَغْبَتَهِمْ وَهَوَاهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: 8] وَقَوْلُهُمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمرَان: 167] وَلِذَلِكَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . وَقَدْ بَيَّنْتُ الْخِصَالَ الَّتِي تَتَوَلَّدُ عَلَى النِّفَاقِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَطَبِّقْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُصُولَ الْأَرْبَعَةَ وَأَلْحِقْ فُرُوعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَايَةِ بِ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ التَّنْدِيدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْعَوُوا عَنْ

غَيِّهِمْ مَعَ طُولِ مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ وَتَعَاقُبِ السِّنِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يَتَدَبَّرُوا فِي الْعَوَاقِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] وَإسْنَاد التَّغْرِير إِلَى الْأَمَانِيِّ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْأَمَانِيَّ وَالطَّمَعَ فِي حُصُولِهَا سَبَبُ غُرُورِهِمْ وَمَلَابِسُهُ. وَمَجِيءُ أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الْمَوْتُ، أَيْ حَتَّى يَتِمَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ وَلَمْ تُقْلِعُوا عَنْهَا بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ. وَالْغَايَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ، فَلَا يُمَاطِلُ التَّوْبَةَ وَلَا يَقُولُ: غَدًا غَدًا. وَجُمْلَةُ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ تَحْقِيرًا لِغُرُورِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمْ بِأَنَّهَا مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً حِينَئِذٍ. وَالْغَرُورُ: بِفَتْحِ الْغَيْنِ مُبَالَغَةٌ فِي الْمُتَّصِفِ بِالتَّغْرِيرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، أَيْ بِإِلْقَائِهِ خَوَاطِرَ النِّفَاقِ فِي نُفُوسهم بتلوينه فِي لون الْحَقِّ وَإِرْضَاءِ دِينِ الْكُفْرِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جِنْسُ الْغَارِّينَ، أَيْ وغركم بِاللَّه أيمة الْكُفْرِ وَقَادَةُ النِّفَاقِ. وَالتَّغْرِيرُ: إِظْهَارُ الضَّارِّ فِي صُورَةِ النَّافِعِ بِتَمْوِيهٍ وَسَفْسَطَةٍ. وَالْبَاءُ فِي قَوْله: بِاللَّهِ للسبية أَوْ لِلْآلَةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ جَعَلَ الشَّيْطَانُ شَأْنَ اللَّهِ سَبَبًا لِغُرُورِكُمْ بِأَنْ خَيَّلَ إِلَيْكُمْ أَنَّ الْحِفَاظَ عَلَى الْكُفْرِ مُرْضِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ النِّفَاقَ حَافَظْتُمْ بِهِ على دينكُمْ وحفظتم بِهِ نُفُوسَكُمْ وَكَرَامَةَ قَوْمِكُمْ وَاطَّلَعْتُمْ بِهِ عَلَى أَحْوَالِ عَدُوِّكُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا دَلَائِلَهُ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَرَّعُوا لَهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيد: 15] ، قَطْعًا لِطَمَعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الْحَيَاة.

[سورة الحديد (57) : آية 15]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 15] فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ تَتِمَّةِ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ اسْتِمْرَارًا فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ بَيِّنٌ وَالْعِلْمُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا تُؤْخَذَ فِدْيَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا حَاصِلٌ مِمَّا يَسْمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأَقْضِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِحَيْثُ صَارَ مَعْلُومًا لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ، أَوْ هُوَ عِلْمٌ مُتَقَرِّرٌ فِي نُفُوسِهِمْ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُوجِبُ عَطْفَ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَعْبِيرًا عَمَّا عَلِمُوهُ بِأَسْرِهِ وَهُوَ عَطْفٌ مُعْتَرِضٌ جَرَّتْهُ الْمُنَاسَبَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَادِرًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ تَأْيِيسًا لَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي نَوَالِ حَظٍّ مِنْ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْفَاءُ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ عَاطِفَةً كَلَامَ أَحَدٍ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ اتِّحَادِ مَكَانِ الْمُخَاطَبَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إِبْرَاهِيم: 40] . وَيَكُونُ عَطْفُ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا جَمْعًا لِلْفَرِيقَيْنِ فِي تَوْبِيخٍ وَتَنْدِيمٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْكُفْرِ. وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ فَالْيَوْمَ لِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا كَانُوا يُضْمِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا حِينَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ رِيَاءً وَتَقِيَّةً. وَهُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: 98] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يُؤْخَذُ بِيَاءِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ فِدْيَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالظَّرْفِ فَحَصَلَ مُسَوِّغَانِ لِتَرْكِ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِعَلَامَةِ الْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ جَرْيًا عَلَى تَأْنِيثِ الْفَاعِلِ فِي اللَّفْظِ، وَالْقِرَاءَتَانِ سَوَاءٌ. وَكَنَّى بِنَفْيِ أَخْذِ الْفِدْيَةِ عَنْ تَحَقُّقِ جَزَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْذُلُوا فِدْيَةً، وَلَا كَانَ النِّفَاقُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِدْيَةِ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى الْكِنَايَةِ لِمَا هُوَ

[سورة الحديد (57) : آية 16]

مَشْهُورٌ مِنْ أَنَّ الْأَسِيرَ وَالْجَانِي قَدْ يَتَخَلَّصَانِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِفِدْيَةٍ تُبْذَلُ عَنْهُمَا. فَعَطْفُ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ مِنْهُ تَعْلِيلُ أَنْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الْكُفْرِ، مِثْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيِ الَّذِينَ أَعْلَنُوا الْكُفْرَ حَتَّى كَانَ حَالَةً يُعْرَفُونَ بِهَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا هُمْ وَالْكَافِرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَفِيهِ احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْكَافِرُونَ الصُّرَحَاءُ مِنْ ضَمِيرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ تَعَلُّقًا بِأَقَلِ طَمَعٍ، فَلَيْسَ ذِكْرُ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجَرَّدَ اسْتِطْرَادٍ. وَالْمَأْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يُؤْوَى إِلَيْهِ، أَيْ يُصَارُ إِلَيْهِ وَيُرْجَعُ، وَكُنِّيَ بِهِ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ وَالْخُلُودِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالصَّرِيحِ بِجُمْلَةِ مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ! أَيْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهَا كَمَا يَرْجِعُ الْمُسْتَنْصِرُ إِلَى مَوْلَاهُ لِيَنْصُرَهُ أَوْ يُفَادِي عَنْهُ، فَاسْتُعِيرَ الْمَوْلَى لِلْمَقَرِّ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَوْلَى اسْمَ مَكَانِ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالدُّنُوُّ، أَيْ مَقَرُّكُمْ، كَقَوْلِ لَبِيدٍ: فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسَبُ أَنَّهُ ... مَوْلَى الْمَخَافَةِ خَلْفُهَا وَأَمَامُهَا أَيْ مَكَانُ الْمَخَافَةِ وَمَقَرُّهَا. وبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَجَابُوا بِهِ أَهْلَ النِّفَاقِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى دَار الْحَقَائِق. [16] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) قَدْ عُلِمَ مِنْ صَدْرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ

مِنَ الْبَعْثَةِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. وَالْمَقْصُود من لِلَّذِينَ آمَنُوا: إِمَّا بَعْضٌ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانُوا مُقَصِّرِينَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَأَرَادَ اللَّهُ إِيقَاظَ قُلُوبِهِمْ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ وَأَقْوَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْرِيضِ مِثْلَ قَوْلِهِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: 154] . وَلَيْسَ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مُقْتَضِيًا أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلكنه يخْشَى أَن يكون مِنْهُمْ حَذَرًا وَحَيْطَةً. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَا مَنْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ مُنَافِقُونَ وَلَا كَانَ دَاعٍ إِلَى نِفَاقِ بَعْضِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَ بَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بعض ونقول: مَا أَحْدَثْنَا» . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُرَاقَبَةِ ذَلِكَ وَالْحَذَرِ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَمْ يَأْنِ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ إِنْكَارُ نَفْيِ اقْتِرَابِ وَقْتِ فَاعِلِ الْفِعْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ عَلَى النَّفْيِ، وَفِعْلُ يَأْنِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْإِنَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا، أَيِ الْوَقْتُ قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: 53] . وَقَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ قَوْلُهُمْ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ، مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تُسْلِمَ» وَفِي خَبَرِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَرَادَ أَنْ يُضِيفَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا آنَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْرِفَ مَنْزِلَهُ» يُرِيدُ: أَنْ يَعْرِفَ مَنْزِلِي الَّذِي هُوَ كَمَنْزِلِهِ. وَهَذَا تَلَطَّفٌ فِي عَرْضِ الِاسْتِضَافَةِ، إِلَّا أَنَّ فِعْلَ يَأْنِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِنَى وَهُوَ فِعْلٌ مَنْقُوصٌ آخِرَهُ أَلِفٌ. وَفِعْلُ: آنَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَيْنِ وَهُوَ الْحِينُ وَهُوَ فِعْلٌ أَجْوَفُ آخِرَهُ نُونٌ.

فَأَصْلُ: أَنَى أَنِيَ وَأَصْلُ آنَ: آوِنَ وَآلَ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ أَلَمْ يَأْنِ لِأَجَلِ الَّذِينَ آمَنُوا الْخُشُوعُ، أَيْ أَلَمْ يَحِقَّ حُضُورُهُ لِأَجْلِهِمْ. وأَنْ تَخْشَعَ فَاعِلُ يَأْنِ، وَالْخُشُوعُ: الاستكانة والتذلل. ولِذِكْرِ اللَّهِ مَا يُذَكِّرُهُمْ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ الصَّلَاةُ. وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَال: 2] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفَانِ لِلْقُرْآنِ تَشْرِيفًا لَهُ بِأَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ وَتَعْرِيفًا لِنَفْعِهِ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ عَطْفُ وَصْفٍ آخَرَ لِلْقُرْآنِ مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهَمَّامِ ... الْبَيْتَ وَاللَّامُ فِي لِذِكْرِ اللَّهِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَمَعْنَى الْخُشُوعِ لِأَجْلِهِ: الْخُشُوعُ الْمُسَبَّبُ عَلَى سَمَاعِهِ وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالْامْتِثَالُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَما نَزَلَ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ نَزَلَ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ اللَّهُ. وَلَا يَكُونُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ وَلَا تَكُونُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَلَا نَافِيَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالْفِعْلُ مَعْمُولٌ لِ «أَنْ» الْمَصْدَرِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ رُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ فَتَاءُ الْخِطَابِ الِالْتِفَاتُ وَ (لَا) نَافِيَةٌ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ (لَا) نَاهِيَةٌ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ وَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَالْمَقْصُود التحذير لَا أَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يَأْنِ لَهُمُ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ. وَالتَّحْذِيرُ

مُنْصَبٌّ إِلَى مَا حَدَثَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ عَلَيْهِمْ فِي مُزَاوَلَةِ دِينِهِمْ، أَيْ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ عَلَى حَدَثَانِ عَهْدِهِمْ بِالدِّينِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ عُذْرَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ بِطُولِ الْأَمَدِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ طُولَ الْأَمَدِ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيط فِيمَا طَال فِيهِ الْأَمَدُ بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَلَا قَصْدُ تَهْوِينِ حُصُولِهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ يَطُولَ الْأَمَدُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ قَبْلَ طُولِ الْأَمَدِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّهْي عَن التَّشَبُّه بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي عَدَمِ خُشُوعِ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ مِنْ أَنْ يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ الْأَنْبَاءَ بِأَنَّ مُدَّةَ الْمُسْلِمِينَ تَطُولُ قَرِيبًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَوْعِظَةٌ لِلْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ (لَا) حَرْفَ نَهْيٍ وَتَعَلَّقَ النَّهْيُ بِالْغَائِبِ الْتِفَاتًا أَوِ الْمُرَادُ: أَبْلِغْهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا. وَفَاءُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ لِتَفْرِيعُ طُولِ الْأَمَدِ عَلَى قَسْوَةِ الْقُلُوبِ مِنْ عَدَمِ الْخُشُوعِ، فَهَذَا التَّفْرِيعُ خَارِجٌ عَنِ التَّشْبِيهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى عَاقِبَةِ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْمُدَّةُ الَّتِي أَوْصَوْا بِأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى اتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيهَا الْمُغَيَّاةُ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَشَّرِ فِي الشَّرَائِعِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيين لما آتيناكم مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نَسُوا مَا أُوصُوا بِهِ فَخَالَفُوا أَحْكَامَ شَرَائِعِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا عِقَابَ اللَّهِ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا، وَصَارَ دَيْدَنًا لَهُمْ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى ضَرِئُوا بِذَلِكَ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، أَيْ تَمَرَّدَتْ عَلَى الِاجْتِرَاءِ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْكَامِ الدِّينِ. وَجُمْلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَجَاوَزُوا ذَلِكَ الْحَدَّ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ فَنَبَذُوا دِينَهُمْ

[سورة الحديد (57) : آية 17]

وَبَدَّلُوا كِتَابَهُمْ وَحَرَّفُوهُ وَأَفْسَدُوا عَقَائِدَهُمْ فَبَلَغُوا حَدَّ الْكُفْرِ. فَالْفِسْقُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْكُفْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ [الْمَائِدَة: 59] ، أَيْ غَيْرُ مُؤْمِنَيْنِ بِدَلِيلِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى آخِرِهِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَقَسَتْ وَقَوْلِهِ: فاسِقُونَ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ. وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ مُرَكَّبٌ مِمَّا يُسَمَّى جِنَاسُ الْقَلْبِ وَمَا يُسَمَّى الْجِنَاسُ النَّاقِصُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي هَذِه الْآيَة. [17] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ اعْلَمُوا وَنَحْوِهِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا سَيُلْقَى جَدِيرٌ بِتَوَجُّهِ الذِّهْنِ بِشَرَاشِرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [235] وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [41] . وَهُوَ هُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بُعْدُهُ مَغْزًى عَظِيمٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ تَمْثِيلُ حَالِ احْتِيَاجِ الْقُلُوبِ الْمُؤْمِنَةِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ بِحَالِ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْمَطَرِ، وَحَالِ الذِّكْرِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَاسْتِنَارَتِهَا بِحَالِ الْغَيْثِ فِي إِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْجَدْبَةِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِلَّا فَإِنَّ إِحْيَاءَ اللَّهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْمَطَرِ لَا خَفَاءَ فِيهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَفْتَتِحَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِمِثْلِ اعْلَمُوا إِلَّا لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً غَيْرَ مَأْلُوفَةٍ وَهِيَ دَلَالَةُ التَّمْثِيلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَقَدْ رَآهُ لَطَمَ وَجْهَ عَبْدٍ لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا» . فَالْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَدِيد: 16] لِمَا تَتَضَمَّنُهُ تِلْكَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْخُشُوعِ

لِذِكْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ لِلِاهْتِمَامِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مُصَرَّحَةٌ وَيَتَضَمَّنُ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً بِسَبَبِ تَضَمُّنِهِ تَشْبِيهَ حَالِ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ فِي إِصْلَاحِ الْقُلُوبِ بِحَالِ الْمَطَرِ فِي إِصْلَاحِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ جَدْبِهَا. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَرُمِزَ إِلَيْهَا بِلَازِمِهَا وَهُوَ إِسْنَادُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِسَبَبِ الْمَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها (¬1) [النَّحْل: 65] . وَالْمَقْصُودُ الْإِرْشَادُ إِلَى وَسِيلَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمِهِ وَأَنَّ فِي اللَّجَأِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَاةً وَفِي الْمَفْزَعِ إِلَيْهِمَا عِصْمَةً وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» . وَقَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ لِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . وَقَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها لِأَنَّ السَّامِعَ قَوْلَهُ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يَتَطَلَّبُ مَعْرِفَةَ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ جَوَابًا عَنْ تَطَلُّبِهِ، أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِهَذَا تَبْيِينًا لِلْآيَاتِ. وَيُفِيدُ بِعُمُومِهِ مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَكِيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا لِأَنَّ ¬

(¬1) فِي المطبوعة (ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا) وَهَذَا خطأ، لِأَنَّهُ جمع بَين آيَتَيْنِ، والمثبت هُوَ الصَّوَاب وَالله أعلم. [.....]

[سورة الحديد (57) : آية 18]

الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَمَوْقِعُهَا بَعْدَ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا، وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْآيَاتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ. وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا يَشْمَلُ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ إِلَى قَوْلِهِ: بَعْدَ مَوْتِها [الْحَدِيد: 16] ، وَهُوَ مَحَلُّ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِأَنَّ التَّنْظِيرَ بِحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ. وَبَيَانُ الْآيَاتِ يَحْصُلُ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ وَبَلَاغَتِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ وَتَوْضِيحِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَمِنْ أَوْضَحِ الْبَيَانِ التَّنْظِيرُ بِأَحْوَالِ الْمُشَابِهِينَ فِي حَالَةِ التَّحْذِيرِ أَوِ التَّحْضِيضِ. ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: رَجَاءٌ وَتَعْلِيلٌ، أَيْ بَيَّنَا لَكُمْ لِأَنَّكُمْ حَالُكُمْ كَحَالِ مَنْ يُرْجَى فَهْمُهُ، وَالْبَيَانُ عِلّة لفهمه. [18] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 18] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَدَنِيِّ وَأَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الْحَدِيد: 11] وَأَنَّ آيَةَ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الْحَدِيد: 16] وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضٌ. وَقَدْ تَخَلَّلَ الْمَكِّيُّ وَالْمَدَنِيُّ كُلٌّ مَعَ الْآخَرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْآيَتَيْنِ مُتَمَاثِلَةٌ إِذْ أُرِيدَ أَنْ يُعَادَ مَا سَبَقَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَيُؤْتَى بِهِ فِي صُورَةِ الصِّلَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا الْمُمْتَثِلُونَ لِذَلِكَ التَّحْرِيضِ. وَعَطَفَ وَالْمُصَّدِّقاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْحَدِيد: 12] ، وَلِأَنَّ الشُّحَّ يَكْثُرُ فِي النِّسَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَشْعَارُ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْمُصَدِّقِينَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْمُتَصَدِّقِينَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ بَعْدَ قَلْبِهَا صَادًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا تَطَلُّبًا لِخِفَّةِ الْإِدْغَامِ، فَقَوْلُهُ:

[سورة الحديد (57) : آية 19]

وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً مِنْ عَطْفِ الْمُرَادِفِ فِي الْمَعْنَى لِمَا فِي الْمَعْطُوفِ مِنْ تَشْبِيهِ فِعْلِهِمْ بِقَرْضٍ لِلَّهِ تَنْوِيهًا بِالصَّدَقَاتِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ آمَنُوا وَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ فَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعَفُ لَهُمْ بِأَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ يُضَعَّفُ بِدُونِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَعَطَفَ وَأَقْرَضُوا وَهُوَ جُمْلَةٌ عَلَى الْمُصَّدِّقِينَ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ فِي حُكْمِ الْفِعْلِ حَيْثُ كَانَتِ اللَّامُ فِي مَعْنَى الْمَوْصُولِ فَقُوَّةُ الْكَلَامِ: إِنَّ الَّذِينَ اصَّدَّقُوا وَاللَّائِي تَصَدَّقْنَ وَأَقْرَضُوا، عَلَى التَّغْلِيبِ وَلَا فَصْلَ بِأَجْنَبِيٍّ عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُمْنَعُ إِذَا لَمْ يُفْسِدِ الْمَعْنَى. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ تَمَاثُلِ الصِّلَتَيْنِ فَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُقْرِضِينَ، هُوَ تَصْوِيرُ مَعْنَى كَوْنِ التَّصَدُّقِ إِقْرَاضًا لِلَّهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فِي قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الْحَدِيد: 11] الْآيَةَ. [19] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 19] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ. لَمَّا ذُكِرَ فَضْلُ الْمُتَصَدِّقِينَ وَكَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ لِيَتَصَدَّقَ مِنْهُ أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُتَصَدِّقِينَ بِبَيَانِ فَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ عَلَى نَحْوِ التَّذْكِيرِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النِّسَاء: 95] . وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَا أَمْوَالَ لنا، فَقَالَ: أَو لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ، إِنَّ لَكُمْ فِي كُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةً» .

وَ (الَّذِينَ آمَنُوا) يَعُمُّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ هَذِهِ الصِّلَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا. وَفِي جَمْعِ وَرُسُلِهِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، فَالْيَهُودُ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِمُوسَى، وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِاللَّهِ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِرُسُلِ اللَّهِ كُلِّهِمْ، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ الصِّدِّيقُونَ. وَالصِّدِّيقُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مُبَالَغَةٌ فِي الْمُصَدِّقِ مِثْلَ الْمَسِّيكِ لِلشَّحِيحِ، أَيْ كَثِيرُ الْإِمْسَاكِ لِمَالِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُشْتَقَّ هَذَا الْوَزْنُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ مِثْلَ: الضِّلِّيلُ، وَقَدْ يُشْتَقُّ مِنَ الْمَزِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصِّيَغَ الْقَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ يَتَوَسَّعُونَ فِيهَا كَمَا تُوُسِّعَ فِي السَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ فِي بَيْتِ عَمْرو بن معد يكرب، وَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحَكِّمِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ صِدِّيقُونَ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ الْحَقِّ وَلَمْ تَمْنَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ عَصَبِيَّةٌ وَلَا عِنَادٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ وَصْفَهُ بِالصِّدِّيقِ وَوُصِفَتْ مَرْيَمُ بِالصِّدِّيقَةِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ هُمُ الصِّدِّيقُونَ لَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بَعْضَ الرُّسُلِ وَهَذَا إِبْطَالٌ لِأَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْكِتَابِ صِدِّيقِينَ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُمْ رَسُولَهُمْ لَا جَدْوَى لَهُ إِذْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمُ اسْتَحَقُّوا مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الصِّفَاتِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الصِّدِّيقُونَ عَطَفَ الْمُفْرَدَ عَلَى الْمُفْرَدِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ. وَحُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَجَمَاعَةٍ. فَقِيلَ: مَعْنَى كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ: أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَة: 143] ، فَالشَّهَادَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ بِمَا يُثْبِتُ حَقًّا يُجَازَى عَلَيْهِ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.

وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَشُهَدَاءِ الْأُمَمِ، أَيْ كَقَتْلَاهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ وَصْفِهِمْ بِتَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ فَإِنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَا هُوَ نَوَالُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْفَضْلَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالشُّهَداءُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَيَكُونُ الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ فَيُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ: الصِّدِّيقُونَ. وَحُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ فَيَكُونُ انْتِقَالًا مِنْ وَصْفِ مَزِيَّةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَصْفِ مَزِيَّةِ فَرِيقٍ مِنْهُمُ اسْتَأْثَرُوا بِفَضِيلَةِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الْحَدِيد: 10] فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَّهَ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ الْمَعْفِيِّينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ [الْحَدِيد: 8] إِلَخْ فَأَوْفَاهُمْ حَقَّهُمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ أَقْبَلَ عَلَى وَعْدِ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ تَضَمَّنَ ذِكْرَهُمْ قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: 10] الْآيَاتِ، فَالشُّهَدَاءُ إِذَنْ هُمُ الْمَقْتُولُونَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَيَانِ مِنَ الشُّهَدَاءِ مُمْكِنٌ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى إِرَادَتِهِمَا عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ جَرَى اسْتِعْمَالُ الْقُرْآن عَلَيْهِ. وضميرا أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ يَعُودَانِ إِلَى الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ أَوْ إِلَى الشُّهَدَاءِ فَقَطْ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا فِي الْعَطْفِ. وعِنْدَ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي الْمَجْرُورِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِنَايَةِ وَالْحُظْوَةِ. وَالظَّاهِرُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ بِمَعْنَاهُ الْمَذْكُورِ فَظَاهِرُ مَعْنَى أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أَنَّهُ أَجْرُ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ، وَمَعْنَى إِضَافَةِ أَجْرٍ وَنُورٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ أَنَّهُ أَجْرٌ يُعَرَّفُ بِهِمْ وَنُورٌ يُعَرَّفُ بِهِمْ.

وَإِذْ قَدْ كَانَ مُقْتَضَى الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَ تَعْرِيفَ الْمُضَافِ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَكَانَ الْأَجْرُ وَالنُّورُ غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ لِلسَّامِعِ كَانَ فِي الْكَلَامِ إِبْهَامٌ يُكَنَّى بِهِ عَنْ أَجْرٍ وَنُورٍ عَظِيمَيْنِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْأَجْرِ وَذَلِكَ النُّورِ، أَيْ أَجْرٌ وَنُورٌ لَا يُوصَفَانِ إِلَّا أَجْرَهُمْ وَنُورَهُمْ، أَيْ أَجْرًا وَنُورًا لَائِقَيْنِ بِمَقَامٍ، مَعَ ضَمِيمَةِ مَا أَفَادَتْهُ الْعِنْدِيَّةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ مَعْنَى الزُّلْفَى وَالْعِنَايَةِ بِهِمُ الْمُفِيدُ عَظِيمَ الْأَجْرِ وَالنُّورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَا أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ عَائِدَيْنِ إِلَى لَفْظَيِ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ أَوْ إِلَى لَفْظِ الشُّهَداءُ خَاصَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ آنِفًا بَلْ بِمَعْنَى الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، قَالَهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَمَعْنَى الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ حِينَئِذٍ مُغَايِرٌ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ فِي الضَّمِيرِ. وَطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ بِتَقْدِيرِ: لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِهِمْ وَنُورِهِمْ، وَلَا تَأْوِيلَ فِي إِضَافَةِ الْأَجْرِ وَالنُّورِ إِلَى الضَّمِيرَيْنِ بِهَذَا الْمَحْمَلِ فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمُضَافِ بَيِّنٌ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّاسِ مَا وُعِدَ بِهِ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [الْمَائِدَة: 44] وَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبيئين وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاء: 69] . وَفَائِدَةُ التَّشْبِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَصْوِيرُ قُوَّةِ الْمُشَبَّهِ وَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِأَنَّ لِلْأَحْوَالِ السَّالِفَةِ مِنَ الشُّهْرَةِ وَالتَّحَقُّقِ مَا يُقَرِّبُ صُورَةَ الْمُشَبَّهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ مَا فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْبِيهِ بِقَوْلِهِ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. تَتْمِيمٌ اقْتَضَاهُ ذِكْرُ أَهْلِ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ

[سورة الحديد (57) : آية 20]

أَضْدَادِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ التَّنْوِيهَ بِهِمْ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ أَنْجَاهُمْ مِنَ الْجَحِيمِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مَا يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي دَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، فَالْمُشْرِكُونَ اسْتَحَقُّوا الْجَحِيمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ كُفْرِهِمْ، وَالْيَهُودُ اسْتَحَقُّوهُ مِنْ يَوْمِ كَذَّبُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالنَّصَارَى اسْتَحَقَّهُ بَعْضُهُمْ حِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ ابْنًا وَبَعْضُهُمْ مِنْ حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِتَعْرِيفِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ. وَلَمْ يُؤْتَ فِي خَبَرِهِمْ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ مُضَافٌ إِلَى الْجَحِيمِ دَلَالَةٌ عَلَى شِدَّةِ مُلَازَمَتِهِمْ لِلْجَحِيمِ. [20] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 20] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ. أَعْقَبَ التَّحْرِيضَ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْإِنْفَاقِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى دَحْضِ سَبَبِ الشُّحِّ أَنَّهُ الْحِرْصُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الْمَالِ لِإِنْفَاقِهِ فِي لَذَائِذِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَضُرِبَ لَهُمْ مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِحَالٍ مُحَقَّرَةٍ عَلَى أَنَّهَا زَائِلَةٌ تَحْقِيرًا لِحَاصِلِهَا وَتَزْهِيدًا فِيهَا لِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِهَا يَعُوقُ عَنِ الْفَلَاحِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: 9] ، وَقَالَ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النِّسَاء: 128] . كُلُّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ الْحَيَاةُ وَسِيلَةً لِلنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، وَوِقَايَةً مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَمَا

عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: «فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ» إِلَخْ. وَافْتِتَاحُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْلَمُوا لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْحَدِيد: 17] . وأَنَّمَا الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فِي إِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَحَصْرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْأَخْبَارِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهَا هُوَ قْصَرُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ النَّاسِ، فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيُّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ هِمَمُ غَالِبِ النَّاس من شؤون الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالَّتِي إِنْ سَلِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِهِا لَا يَخْلُو مِنْ مُلَابَسَةِ بَعْضٍ آخَرَ إِلَّا الَّذِينَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَيَاةِ كُلِّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحَيَاةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَعْمَالُ التُّقَى وَالْمَنَافِعِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّأْيِيدِ لِلْحَقِّ وَتَعْلِيمِ الْفَضَائِلِ وَتَشْرِيعِ الْقَوَانِينِ. وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا من شؤون الْحَيَاةِ مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ وَمَا لَا يَخْلُو من مقارفة تَضْيِيعِ الْغَايَاتِ الشَّرِيفَةِ أَوِ اقْتِحَامِ مَسَاوٍ ذَمِيمَةٍ، وَهِيَ أُصُولُ أَحْوَالِ الْمُجْتَمَعِ فِي الْحَيَاةِ، وَهِيَ أَيْضًا أَصُولُ أَطْوَارِ آحَادِ النَّاسِ فِي تَطَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّعِبَ طَوْرُ سِنِّ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا، وَاللَّهْوَ طَوْرُ الشَّبَابِ، وَالزِّينَةَ طَوْرُ الْفُتُوَّةِ، وَالتَّفَاخُرَ طَوْرُ الْكُهُولَةِ، وَالتَّكَاثُرَ طَوْرُ الشَّيْخُوخَةِ. وَذَكَرَ هُنَا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: فَاللَّعِبُ: اسْمٌ لِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُرَاد بِهِ المزح وَالْهَزْلُ لِتَمْضِيَةِ الْوَقْتِ أَوْ إِزَالَةِ وَحْشَةِ الْوَحْدَةِ، أَوِ السُّكُونِ، أَوِ السُّكُوتِ، أَوْ لِجَلْبِ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ لِلنَّفْسِ، أَوْ يَجْلِبُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْحَبِيبِ، أَوْ يَجْلِبُ ضِدَّهُ لِلْبَغِيضِ، كَإِعْمَالِ الْأَعْضَاءِ وَتَحْرِيكِهَا دَفْعًا لِوَحْشَةِ السُّكُونِ، وَالْهَذَيَانِ الْمَقْصُودِ لِدَفْعِ وَحْشَةِ السُّكُوتِ، وَمِنْه الْعَبَث، وكالمزح مَعَ الْمَرْأَةِ لْاجْتِلَابِ إِقْبَالِهَا وَمَعَ الطِّفْلِ تَحَبُّبًا أَوْ إِرْضَاءً لَهُ. وَاللَّعِبُ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَعْمَالِ الْأَطْفَالِ وَالصِّبْيَانِ فَطَوْرُ الطُّفُولَةِ طَوْرُ اللَّعِبِ وَيَتَفَاوَتُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِتْيَانِ مِنْهُ فَيَقِلُّ وَيَكْثُرُ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْأَطْوَارِ الْأُولَى مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِي رَجَاحَةِ الْعُقُولِ وَضَعْفِهَا. وَالْإِفْرَاطُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ طَوْرِهِ يُؤْذِنُ بِخِسَّةِ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لَهُ: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الْأَنْبِيَاء: 55] .

وَاللَّعِبُ يَكْثُرُ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ جُزْءٌ عَظِيمٌ مِنْ أَحْوَالِهَا وَحَسْبُكَ أَنَّهُ يَعْمُرُ مُعْظَمَ أَحْوَالِ الصِّبَا. وَاللَّهْوُ: اسْمٌ لِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الْتِذَاذُ النَّفْسِ بِهِ وَصَرْفُهَا عَنْ أَلَمٍ حَاصِلٍ مِنْ تَعَبِ الْجَسَدِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ الْكَمَدِ، يُقَالُ: لَهَا عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ تَشَاغَلَ عَنْهُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ وَقَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ حَجَّهُ: حَيَّاكِ رَبِّي فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا وَيَغْلِبُ اللَّهْوُ عَلَى أَحْوَالِ الشَّبَابِ فَطَوْرُ الشَّبَابِ طَوْرُهُ، وَيَكْثُرُ اللَّهْوُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا مِنْ تَطَلُّبِ اللَّذَّاتِ وَالطَّرَبِ. وَالزِّينَةُ: تَحْسِينُ الذَّاتِ أَوِ الْمَكَانِ بِمَا يَجْعَلُ وَقْعَهُ عِنْدَ نَاظِرِهِ مُسِرًّا لَهُ، وَفِي طِبَاعِ النَّاسِ الرَّغْبَةُ فِي أَنْ تَكُونَ مَنَاظِرُهُمْ حَسَنَةً فِي عَيْنِ نَاظِرِيهِمْ وَذَلِكَ فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ أَشَدُّ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ شِدَّتِهِ فِيهِنَّ كَثْرَةُ إِغْرَاءِ الرِّجَالِ لَهُنَّ بِذَلِكَ. وَيَكْثُرُ التَّزَيُّنُ فِي طَوْرِ الْفُتُوَّةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَشْعُرُ بِابْتِدَاءِ زَوَالِ مَحَاسِنِ شَبَابِهِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ غَانِيَةً تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ حَالِيَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَعَرُّضِهَا لِلرِّجَالِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الرِّجِالُ فِيهِنَّ غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ ذَلِكَ لِتَكُونَ حَسَنَةً فِي النَّاسِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَيَغْلِبُ التَّزَيُّنُ عَلَى أَحْوَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ مُعْظَمَ الْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ يُرَادُ مِنْهُ الزِّينَةُ، وَهِيَ ذَاتِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَمِنَ الْمَعْنَوِيَّةِ مَا يُسَمَّى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالتَّحْسِينِيِّ. وَالتَّفَاخُرُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَفْخَرُ بِهِ، وَالْفَخْرُ: حَدِيثُ الْمَرْءِ عَنْ مَحَامِدِهِ وَالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنْهَا فِيهِ بِالْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ. وَصِيغَ مِنْهُ زنة التفاعل لِأَنَّ شَأْنَ الْفَخْرِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ جَانِبَيْنِ كَمَا أَنْبَأَ بِهِ تَقْيِيدُهُ بِظَرْفِ بَيْنَكُمْ. وَالنَّاسُ يَتَفَاخَرُونَ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي عُصُورِهِمْ وَأَجْيَالِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ، فَمِنَ

الصِّفَاتِ مَا الْفَخْرُ بِهِ غير بَاطِل. وَهُوَ الصِّفَاتُ الَّتِي حَقَائِقُهَا مَحْمُودَةٌ فِي الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ. وَمِنْهَا مَا الْفَخْرُ بِهِ بَاطِلٌ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي اصْطَلَحَ قَوْمٌ عَلَى التَّمَدُّحِ بِهَا وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً بِالْمَدْحِ مِثْلَ التَّفَاخُرِ بِالْإِغْلَاءِ فِي ثَمَنِ الْخُمُورِ وَفِي الْمَيْسِرِ وَالزِّنَى وَالْفَخْرِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَالْغَارَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَأَغْلَبُ التَّفَاخُرِ فِي طَوْرِ الْكُهُولَةِ وَاكْتِمَالِ الْأَشُدِّ لِأَنَّهُ زَمَنُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الْفَخر. والتفاخر كثير فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُ التَّبَاهِي وَالْعَجَبُ، وَعَنْهُ يَنْشَأُ الْحَسَدُ. وَالتَّكَاثُرُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ هُنَا لِلْمُبَالَغِةِ فِي الْفِعْلِ بِحَيْثُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُغَالِبُ غَيْرَهُ فِي كَثْرَةِ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَرْءُ يَنْظُرُ فِي الْكَثْرَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ إِلَى امْرِئٍ آخَرَ لَهُ الْكَثْرَةُ مِنْهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ طَرَفَةَ: فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي ... بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ صِيغَةِ التَّكَاثُرِ فَصَارَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مُغَالَبَةِ الْغَيْرِ مِمَّنْ حَصَلَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [التَّكَاثُرُ: 1] . وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ: إِمَّا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، وَإِمَّا هِيَ الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ، فَإِنْ جُعِلَتِ الْأَمْوَالُ كَالظَّرْفِ يَحْصُلُ تَكَاثُرُ النَّاسِ عِنْدَهُ كَمَنْ يَنْزِعُ فِي بِئْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ نِظَامَ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حِكْمَةِ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ وَسِيلَةً لِبُلُوغِ النُّفُوسِ إِلَى مَا هَيَّأَهَا اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُرُوجِ إِلَى سُمُوِّ الْمَلَكِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] ، فَكَانَ نِظَامُ هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ أُمُورُ النَّاسِ فِيهَا عَلَى حَسْبِ تَعَالِيمِ الْهُدَى لِلْفَوْزِ بِالْحَيَاةِ الأبدية فِي النَّعيم الْحَقِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ حَرَّفُوهَا عَنْ مَهْيَعِهَا، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُِِ

تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ مِنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ كَمَثَلِ غَيْثٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ «مُتَابَعَةَ الِاسْتِعْمَالِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وكَمَثَلِ مَعْنَاهُ كَحَالِ، أَيْ حَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَحَالِ غَيْثٍ إِلَخْ، فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي أَحْوَالِهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمُشَارِ إِلَى تَنْوِيعِهَا بِقَوْلِهِ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ إِلَى آخِرِهِ بِهَيْئَةِ غَيْثٍ أَنْبَتَ زَرْعًا فَأَيْنَعَ ثُمَّ اصْفَرَّ ثُمَّ اضْمَحَلَّ وَتَحَطَّمَ، أَيْ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْغَالِبَةِ عَلَى النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ فِي كَوْنِهَا مَحْبُوبَةً لِلنَّاسِ مُزَهَّيَةً لَهُمْ وَفِي سُرْعَةِ تَقَضِّيهَا بِهَيْئَةِ نَبَاتٍ جَدِيدٍ أَنْبَتَهُ غَيْثٌ فَاسْتَوَى وَاكْتَمَلَ وَأُعْجِبَ بِهِ مَنْ رَآهُ فَمَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةً فَيَبِسَ وَتَحَطَّمَ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّمْثِيلِ هُوَ النَّبَاتُ، وَإِنَّمَا ابتدئ بغيث تصويرا لِلْهَيْئَةِ مِنْ مَبَادِئِهَا لِإِظْهَارِ مَوَاقِعِ الْحُسْنِ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْتَسِبُ مِنْهُ الْمُشَبَّهُ حُسْنًا كَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي تَحْسِينِ أَوْصَافِ الْمَاءِ الَّذِي مُزِجَتْ بِهِ الرَّاحُ فِي قَوْلِهِ: شجت بِذِي شيم مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ الْكُفَّارَ: الزُّرَّاعُ، جَمْعُ كَافِرٍ وَهُوَ الزَّارِعُ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ الزَّرِيعَةَ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، وَالْكَفْرُ بِفَتْحِ الْكَافِ السَّتْرُ، أَيْ سَتْرُ الزَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا أُوثِرَ هَذَا الِاسْمُ هُنَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [29] : يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ، قَصْدًا هُنَا لِلتَّوْرِيَةِ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ إِعْجَابًا بِمَتَاعِ الدُّنْيَا إِذْ لَا أَمَلَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْكُفَّارُ جَمْعُ الْكَافِرِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُمِِْ

قَصَرُوا إِعْجَابَهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْغَايَاتِ الدُّنْيَا دُونَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، فَذِكْرُ الْكُفَّارِ تَلْوِيحٌ إِلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَسُوقٌ إِلَى جَانِبِهِمْ أَوَّلًا. وَالنَّبَاتُ: اسْمُ مَصْدَرِ نَبَتَ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ، وَهُوَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى النَّابِتِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ كَثِيرُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، وَقَدْ يَشِيعُ فَيَزُولُ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَهِيجُ تَضَافَرَتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَفْسِيرِ يَهِيجُ بِ (يَيْبَسُ) أَوْ يَجِفُّ، وَلَمْ يَسْتَظْهِرُوا بِشَاهِدٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ مَعَانِي الْهِيَاجِ الْجَفَافَ، وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: هَاجَ الْبَقْلُ، إِذَا اصْفَرَّ وَطَابَ، وَفِي «الْأَسَاسِ» : مِنَ الْمَجَازِ هَاجَ الْبَقْلُ، إِذَا أَخَذَ فِي الْيُبْسِ. وَهَذَانِ الْإِمَامَانِ لَمْ يَجْعَلَا (هَاجَ) بِمَعْنَى (يَبِسَ) وَكَيْفَ لَفْظُ الْآيَةِ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا، فَالْوَجْهُ أَنَّ الْهِيَاجَ: الْغِلَظُ وَمُقَارَبَةُ الْيُبْسِ، لِأَنَّ مَادَّةَ الْهِيَاجِ تَدُلُّ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالثَّوَرَانِ وَسُمِّيَتِ الْحَرْبُ الْهَيْجَاءُ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: أَهَاجَكَ مِنْ سُعْدَاكَ مَغْنَى الْمَعَاهِدِ وَالزَّرْعُ إِذَا غَلُظَ يَكُونُ لِحَرَكَتِهِ صَوْتٌ فَكَأَنَّهُ هَائِجٌ، أَيْ ثَائِرٌ وَذَلِكَ ابْتِدَاءُ جَفَافِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [29] . وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ يَهِيجُ بِ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتَبِي لِأَنَّ اصْفِرَارَ النَّبَاتِ أَعْظَمُ دَلَالَةٍ عَلَى التَّهَيُّؤِ لِلزَّوَالِ، وَهَذَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي مَقَامِ التَّزْهِيدِ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا. وَعَطَفَ فَتَراهُ مُصْفَرًّا بِالْفَاءِ لِأَنَّ اصْفِرَارَ النَّبْتِ مُقَارِبٌ لِيُبْسِهِ، وَعَطْفُ ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً بِ (ثُمَّ) كَعَطْفِ ثُمَّ يَهِيجُ. وَالْحُطَامُ: بِضَمِّ الْحَاءِ مَا حُطِّمَ، أَيْ كُسِّرَ قِطَعًا. فَضَرَبَ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَطْوَارِ مَا فِيهَا مِنْ شَبَابٍ وَكُهُولَةٍ وَهَرَمٍ فَفَنَاءٍ، وَمِنْ جِدَّةٍ وَتَبَذُّلٍ وَبِلًى، وَمِنْ إِقْبَالِ الْأُمُورِ فِي زَمَنِ إِقْبَالِهَا ثُمَّ إِدْبَارِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، بِأَطْوَارِ الزَّرْعِ. وَكُلُّهَا أَعْرَاضٌ زَائِلَةٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ.

وَتَنْدَرِجُ فِيهَا أَطْوَارُ الْمَرْءِ فِي الْحَيَاةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ إِلَى وَالْأَوْلادِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ مَعَ كَوْنِهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ بِهَيْئَةٍ مِثْلِهَا هُوَ صَالِحٌ لِلتَّفْرِيقِ وَمُقَابَلَةُ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَيُشَبِّهُ أَوَّلَ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ وَإِقْبَالِهَا بِالنَّبَاتِ عَقِبَ الْمَطَرِ، ويشبّه النَّاس المنتفعون بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا بِنَاسٍ زُرَّاعٍ، وَيُشَبِّهُ اكْتِمَالَ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ وَقُوَّةَ الْكُهُولَةِ بِهِيَاجِ الزَّرْعِ، ويشبّه ابْتِدَاء الشخوخة ثُمَّ الْهَرَمِ وَابْتِدَاءَ ضَعْفِ عَمَلِ الْعَامِلِ وَتِجَارَةِ التَّاجِرِ وَفِلَاحَةِ الْفَلَّاحِ بِاصْفِرَارِ الزَّرْعِ وَتَهَيُّئِهِ لَلْفَنَاءِ، وَيُشَبِّهُ زَوَالَ مَا كَانَ لِلْمَرَءِ مِنْ قُوَّةٍ وَمَالٍ بِتَحَطُّمِ الزَّرْعِ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ مَقْصُودًا لِوَجْهِ اللَّهِ فَإِنَّهُ من شؤون الْآخِرَةِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا التَّمْثِيلُ إِلَّا ظَاهِرًا. فَأَعْمَالُ الْبِرِّ وَدِرَاسَةُ الْعِلْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَعْتَرِيهَا نَقْصٌ مَا دَامَ صَاحِبُهَا مُقْبِلًا عَلَيْهَا، وَبَعْضُهَا يَزْدَادُ نَمَاءً بِطُولِ الْمُدَّةِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. كَانَ ذِكْرُ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مُقْتَضِيًا ذِكْرَ مُقَابَلَةٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّحْرِيضِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْ أَصْحَابَ الْعَذَابِ وَأَصْحَابَ الْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ لِظُهُورِ ذَلِكَ. وَكُنِيَ عَنِ النَّعِيمِ بِمَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ لِأَنَّ النَّعِيمَ قِسْمَانِ مَادِّيٌّ وَرُوحَانِيٌّ، فَالْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ أَصْلُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] وَهُمَا يَقْتَضِيَانِ النَّعِيمَ الْجُسْمَانِيَّ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَمَّا رُكِّبَتْ ذَوَاتُهُمْ مِنْ أَجْسَامٍ وَأُودِعَتْ فِيهَا الْأَرْوَاحُ كَانَ النَّعِيمَانِ مُنَاسِبَيْنِ لَهُمْ تَكْثِيرًا لِلَّذَّاتِ، وَمَا لَذَّةُ الْأَجْسَامِ إِلَّا صَائِرَةٌ إِلَى الْأَرْوَاحِ لِأَنَّهَا الْمُدْرِكَةُ اللَّذَّاتِ، وَكَانَ رِضْوَانُ الله يَقْتَضِي إعطائهم مُنْتَهَى مَا بِهِ الْتِذَاذُهُمْ، وَمَغْفِرَتُهُ مُقْتَضِيَةٌ الصَّفْحَ عَمَّا قَدْ يَعُوقُ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ.

[سورة الحديد (57) : آية 21]

وَعَطَفَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ عَلَى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ زِيَادَةً فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّنْفِيرِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَمَا أَحْوَال الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. وَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالِبِ طَالِبِيهَا، فَكَوْنُهَا مَتَاعًا أَمْرٌ مُطَّرِدٌ وَكَوْنُ الْمَتَاعِ مُضَافًا إِلَى الْغُرُورِ أَمْرٌ غَالِبٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَدَا الْأَعْمَالِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمَرْءِ بِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْغُرُورُ: الْخَدِيعَةُ، أَيْ إِظْهَارُ الْأَمْرِ الضَّارِّ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ مِنْهُ فِي صُورَةِ النَّافِعِ الَّذِي يَرْغَبُ فِيهِ. وَإِضَافَةُ مَتاعُ إِلَى الْغُرُورِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ مَتَاعٌ صَائِرٌ لِأَجْلِ الْغُرُورِ بِهِ، أَيْ آيِلٌ إِلَى أَنَّهُ يَغُرُّ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ فَيُسْرِعُونَ فِي التَّعَلُّق بِهِ. [21] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 21] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ [الْحَدِيد: 12] إِلَى هُنَا فَذَلِكَ مَسُوقُ مَسَاقَ التَّرْغِيبِ فِيمَا بِهِ تَحْصِيلُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ فَوَاتِهِ وَمَا يَصْرِفُ عَنْهُ مِنْ إِيثَارِ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطُفْ، وَاقْتَصَرَ فِي الْفَذْلَكَةِ عَلَى الْجَانِبِ الْمَقْصُودِ تَرْغِيبُهُ دُونَ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمُحَذَّرِ مِنْهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَعَبَّرَ عَنِ الْعِنَايَةِ والاهتمام بِفعل السَّابِقَة لِإِلْهِابِ النُّفُوسِ بِصَرْفِ الْعِنَايَةِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الْفَضَائِلِ كَفِعْلِ مَنْ يُسَابِقُ غَيْرَهُ إِلَى غَايَةٍ فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُجَلِّي، وَلِأَنَّ الْمُسَابَقَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُنَافَسَةِ، أَيْ وَاتْرُكُوا الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْأُخْرَيَاتِ وَالْخَوَالِفِ.

وَتَنْكِيرُ مَغْفِرَةٌ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهَا وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهِا، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: سَابِقُوا إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ أَكْثِرُوا مِنْ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا: فَالْمُسَابَقَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ هِيَ الْمُسَابَقَةُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِهَا. وَالْعَرْضُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي السِّعَةِ وَلَيْسَ مُقَابل الطّور لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا طَائِلَ فِي مَعْنَى مَا يُقَابِلُ الطُّولِ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] ، وَقَوْلِ الْعُدَيْلِ لَمَّا فَرَّ مِنْ وَعِيدِ الْحَجَّاجِ: وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنِي ... بِسَاطٌ بِأَيْدِي النَّاعِجَاتِ عَرِيضُ وَتَشْبِيهُ عَرْضِ الْجَنَّةِ بِعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مَجْمُوعُ عَرْضَيْهِمَا لِقَصْدِ تَقْرِيبِ الْمُشَبَّهِ بِأَقْصَى مَا يَتَصَوَّرُهُ النَّاسُ فِي الِاتِّسَاعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْدِيدَ ذَلِكَ الْعَرْضِ وَلَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى يُقَالَ: فَمَاذَا بَقِيَ لِمَكَانِ جَهَنَّمَ. وَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسَابَقَاتِ إِلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ الْمُوجِبَةِ لِلْمَغْفِرَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَشَامِلٌ لِلْمُسَابَقَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ الْمَجَازِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ إِكْثَارًا لِلْمَعَانِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَوْ يَعْلَمَ النَّاسُ مَا فِي الصَّفّ الأول لَا ستبقوا إِلَيْهِ أَوِ اسْتَهَمُوا إِلَيْهِ» . وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ الْآنَ إِذْ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي قَوْلِهِ: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ هُوَ السِّعَةُ لَا الْمِقْدَارُ وَلَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْيَوْمَ وَلَا عَدَمُهُ، وَتَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [133] . وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا وَأَعَدَّهَا لِأَنَّ ظَاهِرَ اسْتِعْمَالِهِ الْفِعْل فِي الزَّمَان الْمَاضِي إِنْ حَصَلَ مَصْدَرُهُ فِيهِ، فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَوْا ذَلِكَ فَاسْتَنَدُوا إِلَى ظَوَاهِرَ أُخْرَى وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

[سورة الحديد (57) : الآيات 22 إلى 23]

وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَن غَيرهم لاحظ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى إِعْدَادِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ قَصْرُهُ عَلَيْهِ. وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا يَشْمَلُ كُلَّ أُمَّةٍ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهَا أَنْ تُؤْمِنَ بِرَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَدْعُ غَيْرَهَا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَغْفِرَة وَالْجنَّة. [22، 23] [سُورَة الْحَدِيد (57) : الْآيَات 22 إِلَى 23] مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْجِهَادِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيد: 10] وَقَوْلِهِ: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الْحَدِيد: 19] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمين هُنَا لَك، وَجَرَى ذِكْرُ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الْحَدِيد: 20] وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا تَحْدُثُ فِيهِ الْمَصَائِبُ مِنْ قَتْلٍ وَقَطْعٍ وَأَسْرٍ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْ كَوَارِثَ تَعْرِضُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ فَقْدٍ وَأَلَمٍ وَاحْتِيَاجٍ، وَجَرَى مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالنَّبَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَا يَعْرِضُ لَهُ الْقَحْطُ وَالْجَوَائِحِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِتَسْلِيَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ تَخَلَّقُوا بِآدَابِ الدُّنْيَا مِنْ قَبْلُ فَرُبَّمَا لَحِقَهُمْ ضُرٌّ أَوْ رُزْءٌ خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ قُدْرَتِهِمْ وَكَسْبِهِمْ فَأُعْلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اقْتَضَاهُ ارْتِبَاطُ أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى مَا سَيَّرَهَا عَلَيْهِ نِظَامُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الْحَدِيد: 22] كَمَا سَتَعْلَمُهُ، فَلَمْ يَمْلِكْهُمُ الْغَمُّ وَالْحُزْنُ، وَانْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى مَا يُهِمُّهُمْ مِنَ الْأُمُورِ وَلَمْ يُلْهِمْهُمُ التَّحَرُّقُ عَلَى مَا فَاتَ عَلَى نَحْوِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 154- 156] ، وَلَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ

شِدَّةٌ فِي إِحْدَى الْمَغَازِي أَوْ حَبْسُ مَطَرٍ أَو نَحْو ذَلِكُم مِمَّا كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَ (مَا) نَافِيَةٌ وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ فِي النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ قَصْدًا لِلْعُمُومِ. وَمَفْعُولُ أَصابَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا أَصَابَكُمْ أَوْ مَا أَصَابَ أَحَدًا. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ كَالْقَحْطِ وَفَيَضَانِ السُّيُولِ وَمَوَتَانِ الْأَنْعَامِ وَتَلَفِ الْأَمْوَالِ. وَقَوْلُهُ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصَائِبِ اللَّاحِقَةِ لِذَوَاتِ النَّاسِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَسْرِ فِي الْحَرْبِ وَمَوْتِ الْأَحْبَابِ وَمَوْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ مُصِيبَةً فِي قَوْلِهِ: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [الْمَائِدَة: 106] . وَتَكْرِيرُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ بِخُصُوصِهِ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ الْخَاصَّةَ بِالنَّفْسِ أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى الْمُصَابِ، فَإِنَّ الْمَصَائِبَ الْعَامَّةَ إِذَا أَخْطَأَتْهُ فَإِنَّمَا يَتَأَثَّرُ لَهَا تَأَثُّرًا بِالتَّعَقُّلِ لَا بِالْحِسِّ فَلَا تَدُومُ مُلَاحَظَةُ النَّفْسِ إِيَّاهُ. وَالْاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَنْفِيَّةٍ بِ (مَا) ، إِذِ التَّقْدِيرُ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كَائِنَةٍ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهَا مَكْتُوبَةً فِي كِتَابٍ، أَيْ مُثْبَتَةً فِيهِ. وَالْكِتَابُ: مَجَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَجْهُ المشابهة عدم قبُوله التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّخَلُّفِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ ... يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَتَقْدِيرُهُ لِأَسْبَابِ حُصُولِهَا وَوَقْتِ خَلْقِهَا وَتَرَتُّبِ آثَارِهَا وَالْقَصْرِ الْمُفَادِ بِ (إِلَّا) قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ دُونَ عَدَمِ سَبْقِ تَقْدِيرِهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: 156] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: 168] .

وَهَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى أَنْ تَتَرَتَّبَ الْمُسَبِّبَاتُ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَقَدَّرَ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: 11] وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْبَرْءُ: بِفَتْحِ الْبَاءِ: الْخَلْقُ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْبَارِئُ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي نَبْرَأَها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ أَوْ إِلَى الْأَنْفُسِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ عُمُومَ الْعِلْمِ وَيُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ الْبَدَاءَ وَتَمَشِّي الْحِيَلِ، وَلِأَجْلِ قَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ أَكَّدَ الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) . وَالتَّعْلِيلُ بِلَامِ الْعِلَّةِ وَ (كَيْ) مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِخْبَارُ الْحَكِيمُ، أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِذَلِكَ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ إِلَخْ، أَيْ لِفَائِدَةِ اسْتِكْمَالِ مُدْرِكَاتِكُمْ وَعُقُولِكُمْ فَلَا تَجْزَعُوا لِلْمَصَائِبِ لِأَنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ نعْمَة دنيوية مَفْقُود يَوْمًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَتَفَاقَمْ جَزَعُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ لِأَنَّهُ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى كُثَيِّرٌ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ وَقَوْلُهُ: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ تتميم لقَوْله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ أَنْ لَا يَأَسَوْا عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قَوْلُهُ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ... إِلَّا فِي كِتابٍ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَسَرَّاتِ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ فَإِنَّ مِنَ الْمَسَرَّاتِ مَا يَحْصُلُ لِلْمَرْءِ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ وَهُوَ أَوْقَعُ فِي الْمَسَرَّةِ كَمُلَ أَدَبُهُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ. وَالْفَرَحُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الشَّدِيدُ مِنْهُ الْبَالِغُ حَدَّ الْبَطَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: 76] . وَقَدْ فَسَّرَهُ التَّذْيِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَالْمَعْنَى: أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لِتَكُونُوا حُكَمَاءَ بُصَرَاءَ فَتَعْلَمُوا أَنَّ لِجَمِيعِ ذَلِكَ أَسْبَابًا وَعِلَلًا، وَأَنَّ لِلْعَالَمِ نِظَامًا مُرْتَبِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْآثَارَ حَاصِلَةٌ عَقِبَ مُؤْثِرَاتِهَا

لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ إِفْضَاءَهَا إِلَيْهَا بَعْضُهُ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ وَمُتَجَاوِزٌ حَدَّ مُعَالَجَتِهِ وَمُحَاوَلَتِهِ، وَفِعْلُ الْفَوَاتِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْفَائِتَ قَدْ سَعَى الْمُفَوَّتُ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهِ ثُمَّ غُلِبَ عَلَى نَوَالِهِ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِكْنَتِهِ، فَإِذَا رَسَخَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ أَحَدٍ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ وَلَمْ يَغْفُلْ عَنْ تَرَقُّبِ زَوَالِ مَا يَسُرُّهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يَسُرُّهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِخُلُقِ الْإِسْلَامِ يتخبط فِي الْجُوع إِذَا أَصَابَهُ مُصَابٌ وَيُسْتَطَارُ خُيَلَاءً وَتَطَاوُلًا إِذَا نَالَهُ أَمْرٌ مَحْبُوبٌ فَيَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَة فِي الْحَالين. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُفَرِّحَاتِ صَائِرَةٌ إِلَى زَوَالٍ وَأَنَّ زَوَالَهَا مُصِيبَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَقَامُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْأَدَبِ بَعْدَ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ وَعِنْدَ نَوَالَ الرَّغِيبَةِ. وَصِلَةُ الْمَوْصُولِ فِي بِما آتاكُمْ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ نِعْمَةٌ نَافِعَةٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْأَدَبِ بَعْدَ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ وَعِنْدَ انْهِيَالِ الرَّغِيبَةِ، هُوَ أَنْ لَا يَحْزَنَ عَلَى مَا فَاتَ وَلَا يَبْطُرَ بِمَا نَالَهُ مِنْ خَيْرَاتٍ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ السَّعْيَ لِنَوَالِ الْخَيْرِ وَاتِّقَاءِ الشَّرِّ قَائِلًا: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْأُمُورَ كُلَّهَا فِي الْأَزَلِ، لِأَنَّ هَذَا إِقْدَامٌ عَلَى إِفْسَادِ مَا فَطَرَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الْعَالَمِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ قَالُوا أَفَلَا نَتَّكِلُ «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» . وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تَحْذِيرٌ مِنَ الْفَرَحِ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَنَالُ الْمَرْءَ ثَابِتٌ فِي كِتَابٍ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْفَرَحِ أَنَّهُ الْفَرَحُ الْمُفْرِطُ الْبَالِغُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ. وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا مُخْتَالًا وفخورا وَلَا تَتَوَهَّمْ أَنَّ مَوْقِعَ (كُلَّ) بَعْدَ النَّفْيِ يُفِيدُ النَّفْيَ عَنِ الْمَجْمُوعِ لَا عَنْ كُلِّ فَرْدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَقْصُدُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَوَقَعَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ القاهر ومتابعيه توعم فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [276] وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيقِي عَلَى دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتاكُمْ بِمَدٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مُحَوَّلٌ عَنْ هَمْزَةٍ ثَانِيَةٍ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، أَيْ مَا جَعَلَهُ آتِيَا لكم، أَي حَاصِلا عنْدكُمْ، فَالْهَمْزَةُ الْأُولَى لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا آتَاكُمُوهُ. وَالْإِتْيَانُ هُنَا أَصْلُهُ مَجَازٌ وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى

[سورة الحديد (57) : آية 24]

سَاوَى الْحَقِيقَةَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَعَائِدُ الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا آتَاكُمُوهُ، وَفِيهِ إِدْمَاجُ الْمِنَّةِ مَعَ الْمَوْعِظَةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الْخَيْرَاتِ مِنْ فضل الله. وقرأه أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ (أَتَى) ، إِذَا حَصَلَ، فَعَائِدُ الْمَوْصُولِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ الْمَرْفُوعُ بِ (أَتَى) ، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُقَابَلَةُ آتاكُمْ بِ (فَاتَكُمْ) وَهُوَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ فَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْن محسّن. [24] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 24] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ خُتِمَ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الْحَدِيد: 23] فَيَكُونُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وَحَامِدٌ لِلْمُنْفِقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ فَيَكُونُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بَدَلًا مِنْ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، أَوْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ فَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ لَا نُطَوِّلُ بِهَا. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: الْمُنَافِقُونَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّلَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَمْرُهُمُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] ، أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ مَنْ يَتَوَلَّ يَعُمُّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَغَيْرَهُمْ فَإِنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أَيْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ قَدْ تَوَلَّوْا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ عَامَّةٌ.

وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قَائِمَةٌ مَقَامُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّ الْفَقِيرَ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ مَالِ الْمُتَوَلِّينَ، وَلِأَنَّ لَهُ عِبَادًا يُطِيعُونَ أَمْرَهُ فَيَحْمَدُهُمْ. وَالْغَنِيُّ: الْمَوْصُوفُ بِالْغِنَى، أَيْ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ. وَلَمَّا لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ كَانَ مُفِيدًا الْغِنَى الْعَامَّ. وَالْحَمِيدُ: وَصْفُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ كَثِيرُ الْحَمْدِ لِلْمُنْفِقِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَة: 54] الْآيَةَ. وَوَصْفُهُ بِ الْحَمِيدُ هُنَا نَظِيرُ وَصْفِهِ بِ «الشَّكُورُ» وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: 17] ، فَإِنَّ اسْمَهُ الْحَمِيدُ صَالِحٌ لِمَعْنَى الْمَحْمُودِ فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَصَالِحٌ لِمَعْنَى كَثِيرِ الْحَمْدِ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ ثَوَابًا جَزِيلًا وَيُثْنِي عَلَى فَاعِلِهِ ثَنَاءً جَمِيلًا فَكَانَ بِذَلِكَ كَثِيرُ الْحَمْدِ. وَقَدْ حَمَلَهُ عَلَى كِلَا الْمَعْنيين ابْن يرّجان الْإِشْبِيلِيُّ (¬1) فِي «شَرْحِهِ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى» (¬2) وَوَافَقَهُ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَصَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى» عَلَى مَعْنَى «الْمَحْمُودِ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بِدُونِ ضَمِيرِ فَصْلٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مُصْحَفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بِضَمِيرِ فَصْلٍ بَعْدَ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَهُمَا رِوَايَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ. ¬

(¬1) هُوَ أَبُو الحكم عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن الأشبيلي المتوفي سنة 536 هـ، وبرجان بموحدة فِي أَوله مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء مُشَدّدَة مَفْتُوحَة. (¬2) هُوَ شرح موسع ينحو الطرائق الصُّوفِيَّة، لم يذكرهُ فِي «كشف الظنون» ، أَوله «الْحَمد لله الَّذِي باسمه تفتتح المطالب، ذكر فِيهِ مائَة واثنين وَثَلَاثِينَ اسْما مستخرجة من أَلْفَاظ الْقُرْآن، مخطوط نَادِر تُوجد مِنْهُ نُسْخَة بالمكتبة العاشورية بتونس نسخت سنة 1021 هـ.

[سورة الحديد (57) : آية 25]

وَالْجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ لِلْقَصْرِ بِدُونِ ضَمِيرِ فَصْلٍ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ، فَالْقِرَاءَةُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ تُفِيدُ تَأْكِيد الْقصر. [25] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) اسْتِئْنَاف ابتدائي ناشىء عَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الله وَعَن ذكر الْفَتْحِ وَعَنْ تَذْيِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الْحَدِيد: 24] ، وَهُوَ إِعْذَارٌ لِلْمُتَوَلِّينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِيَتَدَارَكُوا صَلَاحَهُمْ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّدَبُّرِ فِي هَدْيِ الْقُرْآنِ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ إِنْ يَرْعَوُوا وَيَنْصَاعُوا إِلَى الْحُجَّةِ السَّاطِعَةِ بِأَنَّهُ يَكُونُ تَقْوِيمُ عِوَجِهِمْ بِالسُّيُوفِ الْقَاطِعَةِ وَهُوَ مَا صَرَّحَ لَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [60، 61] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [9] يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الْحَدِيد: 24] مُجَرَّدَ مُتَارَكَةٍ فَيَطْمَئِنُّوا لِذَلِكَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقِسْمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ ذِكْرِ مَا فِي إِرْسَالِ رُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْقِسْطِ لِلنَّاسِ، وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِحَمْلِ الْمُعْرِضِينَ عَلَى السَّيْفِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَلْوَائِهِمْ. وَجَمْعُ (الرُّسُلِ) هُنَا لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ مُكَابَرَةَ الْمُنَافِقِينَ عَمَايَةٌ عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ فَتَأْكِيدُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِ السَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ دَعَوَاهُ الرِّسَالَةَ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ [آل عمرَان: 183] .

وَالْبَيِّنَاتُ: الْحُجَجُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ، وَالْمُعْجِزَاتُ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيِّنَاتِ. وَتَعْرِيفُ الْكِتابَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ كُتُبًا، أَيْ مِثْلَ الْقُرْآنِ. وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ: تَبْلِيغٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنْزَالُ الْمِيزَانِ: تَبْلِيغُ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْمِيزَانُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي إِعْطَاءِ حُقُوقِهِمْ لِأَنَّ مِمَّا يَقْتَضِيهُ الْمِيزَانُ وُجُودَ طَرَفَيْنِ يُرَادُ مَعْرِفَةُ تَكَافُئِهِمَا، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النِّسَاء: 58] . وَهَذَا الْمِيزَانُ تُبَيِّنُهُ كُتُبُ الرُّسُلِ، فَذِكْرُهُ بِخُصُوصِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةُ انْتِظَامِ أُمُورِ الْبَشَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: 105] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُمْ وَضْعَ آلَاتِ الْوَزْنِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُهِمِّ، وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ مَعْنَى الْعَدْلِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ. وَالْقِيَامُ: مَجَازٌ فِي صَلَاحِ الْأَحْوَالِ وَاسْتِقَامَتِهَا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ الْعَمَلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ [3] . وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمِيزَانِ الْمَذْكُورِ لْاخْتِصَاصِهِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ، وَأَمَّا الْقِسْطُ فَهُوَ إِجْرَاءُ أُمُورِ النَّاسِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهُ الْحَقُّ فَهُوَ عَدْلٌ عَامٌّ بِحَيْثُ يَقْدِرُ صَاحِبُ الْحَقِّ مُنَازِعًا لِمَنْ قَدِ احْتَوَى عَلَى حَقِّهِ. وَلَفْظُ «الْقِسْطِ» مَأْخُوذٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ لَفْظِ قِسْطَاسِ اسْمُ الْعَدْلِ بِلُغَةِ الرُّومِ، فَهُوَ مِنَ الْمُعَرَّبِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يَكُونُ أَمْرُ النَّاسِ مُلَابِسًا لِلْعَدْلِ وَمُمَاشِيًا لِلْحَقِّ، وَإِنْزَالُ الْحَدِيدِ: مُسْتَعَارٌ لِخَلْقِ مَعْدَنِهِ كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] ، أَيْ خَلَقَ لِأَجْلِكُمْ وَذَلِكَ بِإِلْهَامِ الْبَشَرِ اسْتِعْمَالَهُ فِي السِّلَاحِ مِنْ سُيُوفٍ وَدُرُوعٍ

وَرِمَاحٍ وَنِبَالٍ وَخُوَذٍ وَدَرَقٍ وَمَجَانٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَدِيدِ خُصُوصُ السِّلَاحِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ مِنْ سُيُوفٍ وَأَسِنَّةٍ وَنِبَالٍ، فَيَكُونُ إِنْزَالُهُ مُسْتَعَارًا لِمُجَرَّدِ إِلْهَامِ صُنْعِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ضَمِيرُ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ عَائِدًا إِلَى الْحَدِيدِ بِاعْتِبَارِ إِعْدَادِهِ لِلْبَأْسِ فَكَأَنَّ الْبَأْسَ مَظْرُوفٌ فِيهِ. وَالْبَأْسُ: الضُّرُّ. وَالْمُرَادُ بَأْسُ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ بِآلَاتِ الْحَدِيدِ مِنْ سُيُوفٍ وَرِمَاحٍ وَنِبَالٍ، وَبَأْسُ جُرْأَةِ النَّاسِ عَلَى إِيصَالِ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ بِوَاسِطَةِ الْوَاقِيَاتِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحَدِيدِ. وَالْمَنَافِعُ: مَنَافِعُ الْغَالِبِ بِالْحَدِيدِ مِنْ غَنَائِمَ وَأَسْرَى وَفَتْحِ بِلَادٍ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِلنَّاسِ بِكُلٍّ مِنْ بَأْسٌ ومَنافِعُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ، أَيْ فِيهِ بَأْسٌ لِنَاسٍ وَمَنَافِعُ لِآخَرِينَ فَإِنَّ مَصَائِبَ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا لفت بصائر السَّامِعِينَ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقِ الْحَدِيدِ وَإِلْهَامِ صُنْعِهِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ وَبَأْسٍ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ أَنْ يُوضَعَ بَأْسُهُ حَيْثُ يُسْتَحَقُّ وَيُوضَعَ نَفْعُهُ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ لَا لِتُجْعَلَ مَنَافِعُهُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مِثْلِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالثُّوَّارِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلِتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ لِحِمَايَةِ الْأَوْطَانِ مِنْ أَهْلِ الْعُدْوَانِ، وَلِلِادِّخَارِ فِي الْبُيُوتِ لِدَفْعِ الضَّارِيَاتِ وَالْعَادِيَاتِ عَلَى الْحُرُمِ وَالْأَمْوَالِ. وَكَانَ الْحَكِيمُ (انْتِيثُنُوسْ) الْيُونَانِيُّ تِلْمِيذُ سُقْرَاطَ إِذَا رَأَى امْرَأَةً حَالِيَّةً مُتَزَيِّنَةً فِي أَثِينَا يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُرِيَهُ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ فَإِذَا رَآهُمَا كَامِلَيْنِ أَذِنَ لْامْرَأَتِهِ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِأَنَّ زَوْجَهَا قَادِرٌ عَلَى حِمَايَتِهَا مِنْ دَاعِرٍ يَغْتَصِبُهَا، وَإِلَّا أَمَرَهَا بِتَرْكِ الزِّينَةِ وَتَرْكِ الْحُلِيِّ. وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ، لَا لِيُجْعَلَ بَأْسُهُ لِإِخْضَادِ شَوْكَة الْعدْل وإرغام الآمرين بِالْمَعْرُوفِ عَلَى السُّكُوتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ وَالْقَارَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] ، وَقَالَ عَلَى لِسَانِ أَحَدِ رُسُلِهِ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] .

وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالْإِجْمَالِ قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، أَيْ لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَثَرَ عِلْمِ اللَّهِ بِمَنْ يَنْصُرُهُ، فَأَطْلَقَ فِعْلَ لِيَعْلَمَ عَلَى مَعْنَى ظُهُورِ أَثَرِ الْعِلْمِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَيْ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ، أَيْ فَيَعْلَمُوا أَنِّي شُجَاعُهُمْ. وَنَصْرُ النَّاسِ الله هُوَ نَصرهم دِينِهِ، وَأَمَّا اللَّهُ فَغَنِيٌّ عَنِ النَّصْرِ، وَعَطَفَ وَرُسُلَهُ، أَيْ مَنْ يَنْصُرُ الْقَائِمِينَ بِدِينِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ نَصْرُ شَرَائِعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ وَنَصْرُ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْقَائِمِينَ بِالْحَقِّ. وَأَعْظَمَ رَجُلٍ نَصَرَ دِينَ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي قِتَالِهِ أهل الرِّدَّة رَضِي الله عَنهُ. وَقَوْلُهُ: بِالْغَيْبِ يَتَعَلَّقُ بِ يَنْصُرُهُ، أَيْ يَنْصُرُهُ نَصْرًا يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ دَاعِي نَفْسِهِ دُونَ خَشْيَةِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، أَوْ رَقِيبٍ يَرْقُبُ صَنِيعَهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ بِمَحْضِ الْإِخْلَاصِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيدِ وَمَعْدِنِهِ وَصِنَاعَتِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [96] . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز فِي شؤونه الْقُدْسِيَّةِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ رُسُلُهُ أَقْوِيَاءَ أَعِزَّةً، وَأَنْ تَكُونَ كُتُبُهُ مُعَظَّمَةً مُوَقَّرَةً، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمَنُوطَةِ أَحْدَاثُهُ بِالْأَسْبَابِ الْمَجْعُولَةِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ الرُّسُلُ وَأَقْوَامٌ مُخْلِصُونَ لِلَّهِ وَيُعِينُوا عَلَى نَشْرِ دِينِهِ وَشَرَائِعِهِ. وَالْقَوِيُّ الْعَزِيزُ: مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. فَالْقَوِيُّ: الْمُتَّصِفُ بِالْقُوَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] وَتَقَدَّمَ الْقَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 52] . وَالْعَزِيزُ: الْمُتَّصِفُ بِالْعِزَّةِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فِي سُورَة يُونُس وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَة: 209] .

[سورة الحديد (57) : آية 26]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الْحَدِيد: 25] عَطَفَ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ لَمَّا أُرِيدَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِهِ تَفْصِيلًا يُسَجِّلُ بِهِ انْحِرَافَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَالضَّالِّينَ مِنَ الْيَهُودِ عَنْ مَنَاهِجِ أَبَوَيْهِمَا: نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاء: 3] ، وَالْعَرَبُ لَا يَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ: فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا ... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ وَالنُّبُوءَةُ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا كَنُبُوءَةِ هُودٍ وَصَالِحٍ وَتُبَّعٍ وَنُبُوءَةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَشُعَيْبٍ وَيَعْقُوبَ. وَالْمُرَادُ بِ الْكِتابَ مَا كَانَ بِيَدِ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أُصُولُ دِيَانَتِهِمْ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمَا حَفِظُوهُ مِنْ وَصَايَاهُ وَوَصَايَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ، وَمِنَ الْفَاسِقِينَ: الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَالْيَمَنِ وَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَمِنْ مَدْيَنَ وَالْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمُرَادُ: مَنْ أَشْرَكُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الْحَدِيد: 27] .

[سورة الحديد (57) : آية 27]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 27] ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) ثُمَّ للتراخي الترتبي لِأَنَّ بَعْثَةَ رُسُلِ اللَّهِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ سَبَقَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ لَدَى ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَفَّى اللَّهُ بِهِمْ، إِذْ أُرْسِلُوا إِلَى أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِيهِمْ شَرِيعَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ. وَالتَّقْفِيَةُ: إِتْبَاعُ الرَّسُولِ بِرَسُولٍ آخَرَ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَفَا لِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ يَمْشِي عَنْ جِهَةِ قَفَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] . وَالْآثَارُ: جَمْعُ الْأَثَرِ، وَهُوَ مَا يَتْرُكُهُ السَّائِرُ مِنْ مَوَاقِعِ رِجْلَيْهِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [الْكَهْف: 64] . وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: عَلى آثارِهِمْ عَائِدٌ إِلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِمَا الَّذِينَ كَانَت فيهم النبوءة وَالْكِتَابُ، فَأَمَّا الَّذِينَ كَانَت فيهم النبوءة فَكَثِيرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانَ فِيهِمِ الْكِتَابُ فَمِثْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ. وَأَصْلُ (قَفَّى عَلَى أَثَرِهِ) يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ مَا بَيْنَ الْمَاشِيَيْنِ، أَيْ حَضَرَ الْمَاشِي الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَزُولَ أَثَرُ الْمَاشِي الْأَوَّلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ قَوْلُهُمْ: عَلَى أَثَرِهِ، بِمَعْنَى بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ مُتَّصِلًا شَأْنُهُ بِشَأْنِ سَابِقِهِ، وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِلْأُمَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا كَثِيرِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ الْأَخِيرِ الَّذِي جَاءَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي إِعَادَة فعل قَفَّيْنا وَعَدَمِ إِعَادَةِ عَلى آثارِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى بُعْدِ الْمُدَّةِ بَيْنَ

آخِرِ رُسُلِ إِسْرَائِيلَ وَبَيْنَ عِيسَى فَإِنَّ آخِرَ رُسُلِ إِسْرَائِيلَ كَانَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِيسَى مُرْسَلًا عَلَى آثَارِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَالْإِنْجِيلُ: هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهَ عَلَى عِيسَى وَكَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ سِيرَتِهِ. وَالْإِنْجِيلُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا مُعَرَّبٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَمَعْنَى جَعْلِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَنَّ تَعَالِيمَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ عِيسَى أَمَرَتْهُمْ بِالتَّخَلُّقِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فَعَمِلُوا بِهَا، أَوْ أَنَّ ارْتِيَاضَهُمْ بِسِيرَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسَخَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهِ وَيَسَّرَهُ عَلَيْهِمْ. ذَلِكَ أَنَّ عِيسَى بُعِثَ لِتَهْذِيبِ نُفُوسِ الْيَهُودِ وَاقْتِلَاعِ الْقَسْوَةِ مِنْ قُلُوبِهِمُ الَّتِي تَخَلَّقُوا بِهَا فِي أَجْيَالٍ طَوِيلَةٍ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [74] . وَالرَّأْفَةُ: الرَّحْمَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَفْعِ الْأَذَى وَالضُّرِّ فَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [2] . وَالرَّحْمَةُ: الْعَطْفُ وَالْمُلَايَنَةُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. فَعَطْفُ الرَّحْمَةِ عَلَى الرَّأْفَةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لْاسْتِيعَابِ أَنْوَاعِهِ بَعْدَ أَنِ اهْتَمَّ بِبَعْضِهَا. وَالرَّهْبَانِيَّةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ الرَّاهِبُ مُتَّصِفًا بِهَا فِي غَالب شؤون دينه، وَالْيَاء فِيهَا يَاءُ النِّسْبَةِ إِلَى الرَّاهِبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ النَّسَبِ إِلَى الرَّاهِبِ الرَّاهِبِيَّةُ، وَالنُّونُ فِيهَا مَزِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النِّسْبَةِ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِمْ: شَعْرَانِيٌّ، لِكَثِيرِ الشِّعْرِ، وَلِحْيَانِيٌّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ، وَرُوحَانِيٌّ، وَنَصْرَانِيٌّ.

وَجُعِلَ فِي «الْكَشَّافِ» النُّونُ جَائِيَةً مِنْ وَصْفِ رُهْبَانٍ مِثْلِ نُونِ خَشْيَانَ مِنْ خَشِيَ وَالْمُبَالَغَةُ هِيَ هِيَ، إِلَّا أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ لَا فِي شِدَّةِ النِّسْبَةِ. وَالْهَاءُ هَاءُ تَأْنِيثٍ بِتَأْوِيلِ الِاسْمِ بِالْحَالَةِ وَجُعِلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْهَاءُ لِلْمَرَّةِ. وَأَمَّا اسْم الراهب الَّذِي نُسِبَتْ إِلَيْهِ الرَّهْبَانِيَّةُ فَهُوَ وَصْفٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الِاسْمِ، وَهُوَ العابد من النَّصَارَى الْمُنْقَطِعِ لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّهَبِ: أَيِ الْخَوْفِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْخَوْفِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى أَو من مُخَالَفَةِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَيَلْزَمُ هَذِهِ الْحَالَةَ فِي عُرْفِ النَّصَارَى الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ تَجَنُّبًا لِمَا يَشْغَلُ عَنِ الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ بِسُكْنَى الصَّوَامِعِ وَالْأَدْيِرَةِ وَتَرْكِ التَّزَوُّجِ تَجَنُّبًا لِلشَّوَاغِلِ، وَرُبَّمَا أَوْجَبَتْ بَعْضُ طَوَائِفِ الرُّهْبَانِ عَلَى الرَّاهِبِ تَرْكَ التَّزَوُّجِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ. وَجُعِلَ فِي «الْكَشَّافِ» : الرَّهْبَانِيَّةُ مُشْتَقَّةً مِنَ الرَّهَبِ، أَيِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَنَّ الْجَبَابِرَةَ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعِيسَى فَقَاتَلُوهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقُتِلُوا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَخَافُوا أَنْ يُفْتَنُوا فِي دِينِهِمْ فَاخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَهِيَ تَرَهُّبُهُمْ فِي الْجِبَالِ فَارِّينَ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ اه. وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ اضْطِهَادُ أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ فِي بِلَادِ الْيَهُودِيَّةِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ أَتْبَاعُ الْمَسِيحِ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ نَاوَاهُمْ أَهْلُ الْإِشْرَاكِ وَالْوَثَنِيَّةِ مِنَ الرُّومِ حَيْثُ حَلُّوا مِنَ الْبِلَادِ التَّابِعَةِ لَهُمْ فَحَدَثَتْ فِيهِمْ أَحْوَالٌ مِنَ التَّقِيَّةِ هِيَ الَّتِي دَعَاهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِمُقَاتَلِةِ الْجَبَابِرَةِ. فَالرَّاهِبُ يَمْتَنِعُ مِنَ التَّزَوُّجِ خِيفَةَ أَنْ تَشْغَلَهُ زَوْجُهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأَصْحَابِ خَشْيَةَ أَنْ يُلْهُوهُ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَيَتْرُكُ لَذَائِذِ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي اكْتِسَابِ المَال الْحَرَام، وَلِأَنَّهُم أَرَادُوا التَّشَبُّهَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ التَّزَوُّجِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ابْتَدَعُوها، أَيْ أَحْدَثُوهَا فَإِنَّ الِابْتِدَاعَ الْإِتْيَانُ بِالْبِدْعَةِ وَالْبِدَعِ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، أَيْ أَحْدَثُوهَا بَعْدَ رَسُولِهِمْ فَإِنَّ الْبِدْعَةَ مَا كَانَ مُحْدَثًا بَعْدَ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ. وَنَصَبَ رَهْبانِيَّةً عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً

وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى رَأْفَةً وَرَحْمَةً لِأَنَّ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ فَلَا يَسْتَقِيمُ كَوْنُهَا مَفْعُولًا لِ جَعَلْنا، وَلِأَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ عَمَلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ وَفِعْلُ جَعَلْنا مُقَيَّدٌ بِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَتَكُونُ مَفْعُولَاتُهُ مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ جَعْلُهَا فِي الْقُلُوبِ بِجَعْلِ حُبِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَة: 93] . وَعَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْإِعْرَابِ مَضَى الْمُحَقِّقُونَ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى رَأْفَةً وَرَحْمَةً. وَاتَّهَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْإِعْرَابَ بِأَنَّهُ إِعْرَابُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: «وَالْمُعْتَزِلَةُ تُعْرِبُ رَهْبانِيَّةً أَنَّهَا نَصْبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ابْتَدَعُوها وَيَذْهَبُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ فَيُعْرِبُونَ الْآيَةَ عَلَى هَذَا» اه. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَلَا فِي إِبْطَالِهِ نَفْعٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ لْاشْتِرَاكِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أَنَّهُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمُرَادِ بِهَا رضوَان الله. وَالْمعْنَى: وَابْتَدَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ رَهْبَانِيَّةً مَا شَرَعْنَاهَا لَهُمْ وَلَكِنَّهُمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَقَبِلَهَا اللَّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّ سِيَاقَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُمْ يَقْتَضِي الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ. وَضَمِيرُ الرَّفْعِ مِنِ ابْتَدَعُوهَا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا الْعَمَلَ بِهَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمُ اخْتَرَعَ أُسْلُوبَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ سَنَّهَا وَتَابَعَهُ بَقِيَّتُهُمْ. وَالَّذين اتَّبَعُوهُ صَادِقٌ عَلَى مَنْ أَخَذُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهِمْ، وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِهِمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِسِيرَتِهِ اهْتِدَاءً كَامِلًا وَانْقَطَعُوا لَهَا وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِالْعِبَادِةِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ جَعْلَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مُتَسَبِّبٌ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ سِيرَتَهُ وَانْقِطَاعِهِمْ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ ابْتَدَعُوها، وَقَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ

احْتِرَاسٌ، وَمَجْمُوعُ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ اسْتِطْرَادٌ وَاعْتِرَاضٌ. وَالْاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ وَجُمْلَةِ فَما رَعَوْها. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ يَشْمَلُهُ حُكْمُ الْعَامِلِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَشْمَلْهُ لَفْظُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ مَدْلُولِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَيْسَ مُنْقَطِعًا عَنْ عَامِلِهِ، فَالْاسْتِثْنَاءُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ مَعْمُولًا فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ كَتَبْناها فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، أَيْ أَنْ يَبْتَغُوا رِضْوَانَ اللَّهِ بِكُلِّ عَمَلٍ لَا خُصُوصَ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِهَا بِعَيْنِهَا. وَقَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِتَكْلِيفِ اللَّهِ بِهَا وَلَوْ فِي عُمُومِ مَا يَشْمَلُهَا، أَيْ لَيْسَتْ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْأَمْرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُرْضُونَ اللَّهَ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِبَعْضِ أَحْوَالِ كِتَابَةِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ كِتَابَةُ الْأَمْرِ بِهَا بِعَيْنِهَا فَتَكُونُ الرَّهْبَانِيَّةُ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ، أَيْ كَتَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَا فِيهِ رِضْوَانُ اللَّهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [آل عمرَان: 93] ، وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» فِي قِصَّةِ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ. وَانْتَصَبَ ابْتِغاءَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ كَتَبْناها، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا لْابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ عَلَى أَظْهَرِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ جُزْئِيَّاتِهَا وَإِثْبَاتُ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي صُوَرِهَا. وَفِيهَا حُجَّةٌ لِانْقِسَامِ الْبِدْعَةِ إِلَى مَحْمُودَةٍ وَمَذْمُومَةٍ بِحَسَبِ انْدِرَاجِهَا تَحْتَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَتَعْتَرِيهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ وَحُذَّاقُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الَّذِينَ حَاوَلُوا حَصْرَهَا فِي الذَّمِّ فَلَمْ يَجِدُوا مَصْرِفًا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لَمَّا جُمِعَ النَّاسُ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» .

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ لِلِانْقِطَاعِ عَنْ جَمَاعَاتِ الشِّرْكِ مِنَ الْيُونَانِ وَالرُّومِ وَعَنْ بَطْشِ الْيَهُودِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ طَلَبٌ لِرِضْوَانِ اللَّهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الْكَهْفِ: 16] . وَفِي الْحَدِيثِ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتَتَبَّعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» ، وَعَلِيهِ فَيكون تَركهم التَّزَوُّجُ عَارِضًا اقْتَضَاهُ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْمُدُنِ وَالْجَمَاعَاتِ فَظَنَّهُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْلًا مِنْ أَصُولِ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَأَمَّا تَرْكُ الْمَسِيحِ التَّزَوُّجَ فَلَعَلَّهُ لِعَارِضٍ آخَرَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ تَرْكُ التَّزَوُّج من شؤون النُّبُوءَةِ فَقَدْ كَانَ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَزْوَاجٌ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرَّعْد: 38] . وَقِيلَ: إِنَّ ابْتِدَاعَهُمُ الرَّهْبَانِيَّةَ بِأَنَّهُمْ نَذَرُوهَا لِلَّهِ وَكَانَ الِانْقِطَاعُ عَنِ اللَّذَائِذِ وَإِعْنَاتِ النَّفْسِ مِنْ وُجُوهِ التَّقَرُّبِ فِي بِعْضِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ بَقِيَتْ إِلَى أَنْ أَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ فِي حَدِيثِ النُّذُرِ فِي «الْمُوَطَّأِ» «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ صَامِتًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَصُومَ يَوْمَهُ فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليتمّ صَوْمه إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [26] قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الرهبانية قد تَتَعَدَّد بِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ. وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِ: ابْتَدَعُوها وَمَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ وَمَا بَعْدَهُ قَوْلُهُ: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى الْتِزَامِهِمُ الرَّهْبَانِيَّةَ أَنَّهُمْ، أَيِ الْمُلْتَزِمِينَ لِلرَّهْبَانِيَّةِ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَهُمْ قَصَّرُوا تَقْصِيرًا مُتَفَاوِتًا، قَصَّرُوا فِي أَدَاءِ حَقِّهَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا يَكْتُبُهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّكَالِيفِ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْعَمَلُ بِهِ. وَالرَّعْيُ: الْحِفْظُ، أَيْ مَا حَفِظُوهَا حَقَّ حِفْظِهَا، وَاسْتُعِيرَ الْحِفْظُ لْاسْتِيفَاءِ مَا تَقْتَضِيهِ مَاهِيَّةُ الْفِعْلِ، فَالرَّهْبَانِيَّةُ تَحُومُ حَوْلَ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّذَائِذِ الزَّائِلَةِ وَإِلَى التعود بِالصبرِ عَلَى تَرْكِ الْمَحْبُوبَاتِ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ اللَّهْوُ بِهَا عَنِ الْعِبَادَةِ وَالنَّظَرِ فِي آيَاتِ

اللَّهِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّقْصِيرُ فِي الْتِزَامِهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ أَوِ التَّفْرِيطُ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ فَقَدِ انْتَفَى حَقُّ حِفْظِهَا. وحَقَّ رِعايَتِها مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ رِعَايَتَهَا الْحَقَّ. وَحَقُّ الشَّيْءِ: هُوَ وُقُوعُهُ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِ نَوْعِهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ. وَالْمَعْنَى: مَا حفظوا شؤون الرَّهْبَانِيَّةِ حِفْظًا كَامِلًا فَمَصَبُّ النَّفْيِ هُوَ الْقَيْدُ بِوَصْفِ حَقَّ رِعايَتِها. وَهَذَا الِانْتِفَاءُ لَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ اللَّوْمِ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِيمَا الْتَزَمُوهُ أَوْ نَذَرُوهُ، وَذَلِكَ تَقَهْقُرٌ عَنْ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْمُتَّقِي أَنْ يَكُونَ مُزْدَادًا مِنَ الْكَمَالِ. وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ» . وَقَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ إِلَى آخِرِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَيْ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَجْرَهُمْ، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَخْلِطُوا مُتَابَعَتَهُمْ إِيَّاهُ بِمَا يُفْسِدُهَا مِثْلُ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بُنُوَّتَهُ لِلَّهِ، وَنَحْوُهُمْ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ أَدْخَلُوا فِي الدِّينِ مَا هُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوَاعِدِهِ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى كَمَا قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ: الْكُفْرُ وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِمَّنْ مَضَوْا مِنَ النَّصَارَى قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهَا إِلَى النَّصَارَى، وَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْمَسِيحِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوهُ إِلَّا فِي الصُّورَةِ وَالَّذِينَ أَفْسَدُوا إِيمَانهم بِنَقْض حُصُوله هُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ الْتَزَمُوا دِينَهُ

[سورة الحديد (57) : آية 28]

خَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ مَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ وَمَا دُونَهُ مِثْلُ الَّذِينَ بَدَّلُوا الْكِتَابَ وَاسْتَخَفُّوا بِشَرَائِعِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 34] . [28] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَقَبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هُنَا عَقِبَ قَوْلِهِ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [الْحَدِيد: 27] ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، احْتَمَلَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا اسْتِعْمَالَهُ اللَّقَبِيَّ أَعْنِي: كَوْنَهُ كَالْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مُؤْمِنِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَهُ اللُّغَوِيَّ الْأَعَمَّ، أَعْنِي: مَنْ حَصَلَ مِنْهُ إِيمَانٌ، وَهُوَ هُنَا مَنْ آمَنَ بِعِيسَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مَقْصُودَانِ لِيَأْخُذَ خُلَّصُ النَّصَارَى مِنْ هَذَا الْكَلَامِ حَظَّهُمْ وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَكْمِلُوا مَا سَبَقَ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ عِيسَى فَيَكُونُ الْخُطَّابُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمَوْجُودِينَ مِمَّنْ آمَنُوا بِعِيسَى، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا خَالِصًا بِشَرِيعَةِ عِيسَى اتَّقُوا اللَّهَ وَاخْشَوْا عِقَابَهُ وَاتْرُكُوا الْعَصَبِيَّةَ وَالْحَسَدَ وَسُوءَ النَّظَرِ وَآمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يُرَادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْإِطْلَاقُ اللَّقَبِيُّ فَيَأْخُذُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ من أَهْلُ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِشَارَةً بِأَنَّهُمْ لَا يَقِلُّ أَجْرُهُمْ عَنْ أَجْرِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا آمَنُوا بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ أَجْرَ مُؤْمِنِي أَهْلِ مِلَلِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَآمِنُوا مُسْتَعْمَلًا فِي الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [136] ، وَيَكُونُ إِقْحَامُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ قَصْدًا لِأَنْ يَحْصُلَ فِي الْكَلَامِ أَمْرٌ بِشَيْءٍ يَتَجَدَّدُ ثُمَّ يُرْدِفَ عَلَيْهِ أَمْرٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ طَلَبُ الدَّوَامِ وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ نَظْمِ الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى إِيتَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كِفْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ: أَنَّ لَهُمْ مِثْلَ

أَجْرَيْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَيَشْرَحُ هَذَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» الَّذِي فِيهِ «مَثَلُ الْمُسلمين وَالْيَهُود والنصار كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لَهُ، فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ، ثُمَّ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ، قَالَ فِيهِ: وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا» ، أَيِ اسْتَكْمَلُوا مِثْلَ أَجْرِ الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ أَخَذُوا ضِعْفَ كُلِّ فَرِيقٍ. وَتَقْوَى اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ وَبِالِاعْتِقَادِ، وَبِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ (وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ لِلْمُتَأَهِّلِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] . وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا هُوَ وَسِيلَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ. وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ جُمْلَةُ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ إِلَخْ الْمَجْزُومُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ يُؤْتِكُمْ جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ وَجَزَاءً فِي الدُّنْيَا فَجَزَاءُ الْآخِرَةِ قَوْلُهُ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَقَوْلُهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَجَزَاءُ الدُّنْيَا قَوْلُهُ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ. وَالْكِفْلُ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ: النَّصِيبُ. وَأَصْلُهُ: الْأَجْرُ الْمُضَاعَفُ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الحبشية كَمَا قَالَه أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، أَيْ يُؤْتِكُمْ أَجْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَكُلُّ أَجْرٍ مِنْهُمَا هُوَ ضِعْفُ الْآخَرِ مُمَاثِلٌ لَهُ فَلِذَلِكَ ثُنِّيَ كِفْلَيْنِ كَمَا يُقَالُ: زَوْجٌ، لِأَحَدِ الْمُتَقَارِبَيْنِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الْأَحْزَاب: 68] وَقَوْلِهِ: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: 30] . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَة يوتون أُجُورَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكتاب آمن بنبيئه وآمن بِي، وَاتَّبَعَنِي، وَصَدَّقَنِي فَلَهُ أَجْرَانِ» الْحَدِيثَ. وَيَتَعَلَّقُ مِنْ رَحْمَتِهِ بِ يُؤْتِكُمْ، وَ (من) ابتدائية مجازيا، أَيْ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِكُمْ، وَهَذَا فِي جَانِبِ النَّصَارَى مَعْنَاهُ لِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى، أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ

[سورة الحديد (57) : آية 29]

كَإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى وَهُوَ مُتَمِّمٌ لِلْإِيمَانِ بِعِيسَى وَإِنَّمَا ضُوعِفَ أَجْرُهُمْ لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا تَدِينُ بِهِ فَيَعْسُرُ عَلَيْهَا تَرْكُهُ، وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ إِكْرَامٌ لَهُمْ لِئَلَّا يَفُوقَهُمْ بَعْضُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّصَارَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ صِفَةً لِ كِفْلَيْنِ وَتَكُونُ (مِنْ) بَيَانِيَّةً، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَاف، تَقْدِيره: من أثر رَحمته، وَهُوَ ثَوَابُ الْجَنَّةِ وَنَعِيمُهَا. وَقَوْلُهُ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ تَمْثِيل لحالة الْقَوْمِ الطَّالِبِينَ التَّحْصِيلَ عَلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْخَائِفِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ بِحَالَةِ قَوْمٍ يَمْشُونَ فِي طَرِيقٍ بِلَيْلٍ يَخْشَوْنَ الْخَطَأَ فِيهِ فَيُعْطَوْنَ نُورًا يَتَبَصَّرُونَ بِالثَّنَايَا فَيَأْمَنُونَ الضَّلَالَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ حَالَةً كَحَالَةِ نُورٍ تَمْشُونَ بِهِ، وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ مِثْلُ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَالْمَعْنَى: وَيُيَسِّرْ لَكُمْ دَلَالَةً تَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ. وَجَمِيعُ أَجْزَاءِ هَذَا التَّمْثِيلِ صَالِحَةٌ لتَكون استعارات مُفْردَة، وَهَذَا أَبْلَغُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِ، وَقد عرف فِي الْقُرْآن تَشْبِيهُ الْهُدَى بِالنُّورِ، وَالضَّلَالِ بِالظُّلْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ بِالطَّرِيقِ، وَإِعْمَالِ النَّظَرِ بِالْمَشْيِ، وَشَاعَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ أُدَبَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَغْفِرَةُ: جَزَاءٌ عَلَى امْتِثَالِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، أَيْ يَغْفِرْ لَكُمْ مَا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الْكفْر والضلال. [29] [سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 29] لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) اسْمُ أَهْلُ الْكِتابِ لَقَبٌ فِي الْقُرْآنِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يَتَدَيَّنُوا بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (أَهْلُ) ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، فَمَنْ صَارَ مُسْلِمًا مِنَ

الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا وُصِفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِي الْقُرْآنِ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: 43] وَقَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الْأَحْقَاف: 10] ، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ آنِفًا صَارُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِ انْسَلَخَ عَنْهُمْ وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَبَقِيَ الْوَصْف بذلك خَاصّا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَمَّا دَعَا اللَّهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ إِلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَدَهُمْ بِمُضَاعَفَةِ ثَوَابِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّ إِيمَانَهُمْ يُبْطِلُ مَا يَنْتَحِلُهُ أَتْبَاعُ الْمَسِيحِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ لِأَنْفُسِهِمْ بِدَوَامِهِمْ عَلَى مُتَابَعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُغَالِطُوا النَّاسَ بِأَنَّهُمْ إِنْ فَاتَهُمْ فَضْلُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَفُتْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْفَضْلِ بِاتِّبَاعِ عِيسَى مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوا دِينَهُمْ. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. قَالَ الْفَخْرُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَلَيْسَ لِلْمُفَسِّرِينَ كَلَامٌ وَاضِحٌ فِي اتِّصَالِهَا بِمَا قبلهَا اه أَي هَلْ هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيد: 28] الْآيَةَ، أَوْ مُتَّصِلَةُ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْحَدِيد: 27، 28] . يُرِيدُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ اتِّصَالَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تَعْلِيلِيَّةً فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مَعْلُولًا بِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ (لَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ. وَالْمُعَلَّلُ هُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَوْ قَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ إِلَى غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْحَدِيد: 27، 28] . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى جَعْلِ (لَا) زَائِدَةً. وَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِثْبَاتِ، أَيْ لِأَنْ يَعْلَمَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ لِيَعْلَمَ، وَقَرَأَ أَيْضًا لِكَيْ يَعْلَمَ (وَقِرَاءَتُهُ تَفْسِيرٌ) . وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي

«الْكَشَّافِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (لَا) قَدْ تَقَعُ زَائِدَةً وَهُوَ مَا أَثْبَتَهُ الْأَخْفَشُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: 92، 93] وَقَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَاف: 12] وَقَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: 75] وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: 95] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّ الْعَرَبَ جَعَلَتْهَا حَشْوًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ أَبُو عُمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... «نَعَمْ» مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُودَ قَائِلُهُ فِي رِوَايَةٍ بِنَصْبِ (الْبُخْلَ) ، الْبُخْلَ وَأَنَّ الْعَرَبَ فَسَّرُوا الْبَيْتَ بِمَعْنَى أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ (¬1) . وَالْمَعْنَى: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمُعَلَّلَ هُوَ تَبْلِيغُ هَذَا الْخَبَرِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ أُعْطِيَ غَيْرَهُمْ فَلَا يَتَبَجَّحُوا بِأَنَّهُمْ عَلَى فَضْلٍ لَا يَنْقُصُ عَنْ فضل غَيرهم إِذا كَانَ لِغَيْرِهِمْ فَضْلٌ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُعْطِي مَعْنًى لِأَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآن بِأَن الْمُسلمين أَجْرَيْنِ لَا يُصَدِّقُ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا فَضْلَ لَهُمْ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ إِخْبَارُ اللَّهِ بِهِ بِأَنَّهُ يُزِيلُ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِفَضْلِ أَنْفُسِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا فَضْلَ لَهُمْ. وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (لَا) نَافِيَةٌ، وَقَرَّرَهُ الْفَخْرُ بِأَنَّ ضَمِيرَ يَقْدِرُونَ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ (أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَأَصْلُهُ أَنْ لَا تَقْدِرُوا) وَإِذَا انْتَفَى عِلْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ثَبَتَ ضِدُّ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِمْ أَيْ كَيْفَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَيَكُونُ يَقْدِرُونَ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى: يَنَالُونَ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي فَضَّلَهُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الْفَضْلِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ¬

(¬1) وَرُوِيَ الْبَيْت بخفض الْبُخْل فَيكون (لَا) محكية وَهِي مُضَافَة إِلَى الْبُخْل، أَي لَا الَّتِي تقال عِنْد الْبُخْل بالبذل وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ مُنَاسِب لمقابلته بِكَلِمَة «نعم» .

وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا وَرَدَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ. الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ. وَأَنَا أَرَى أَنَّ دَعْوَى زِيَادَةِ (لَا) لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا، وَأَنَّ بَقَاءَهَا عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا وَهُوَ النَّفْيُ مُتَعَيِّنٌ، وَتُجْعَلُ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ، أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا الْفَضْلَ وَحُرِمَ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَبَقِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي جَهْلِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ الْمُسْتَمِرَّ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ عِلْمٌ بِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونُوا يَمْلِكُونَ فَضْلَ اللَّهِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى الْفَضْلَ قَوْمًا آخَرِينَ وَحَرَمَهُمْ إِيَّاهُ فَيَنْسَوْنَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَحِقُّهُ بِالذَّاتِ. وَبِهَذَا الْغُرُورِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمُ الْقَدِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ أَصْلُهَا التَّعْلِيلُ الْمَجَازِيُّ كَمَا عَلِمْتَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [8] . وَقَوْلُهُ: أَهْلُ الْكِتابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً إِنْ جُعِلَ التَّعْلِيلُ تَعْلِيلًا لِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [الْحَدِيد: 27] وَقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيد: 28] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِنْ جُعِلَ لَامُ التَّعْلِيلِ عِلَّةً لِقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ. وَ (أَنْ) من قَوْله: أَلَّا يَقْدِرُونَ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ. وَالْمَعْنَى: لَا تَكْتَرِثُوا بِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَبِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، أَيْ لَا تَكْتَرِثُوا بِجَهْلِهِمُ الْمُرَكَّبِ فِي اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِأَنَّ لَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَهُوَ خُلُقُهُمْ فَهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ يَعُمُّ الْفَضْلَ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْفَضْلِ.

58- سورة المجادلة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 58- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ «سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ» بِكَسْرِ الدَّالِ أَوْ بِفَتْحِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتُسَمَّى «سُورَةَ قَدْ سَمِعَ» وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَهِرٌ فِي الْكَتَاتِيبِ فِي تُونُسَ، وَسُمِّيَتْ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «سُورَةَ الظِّهَارِ» . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ» لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِقَضِيَّةِ مُجَادَلَةِ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ لَدَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ مُظَاهَرَةِ زَوْجِهَا. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ وَلَا شَارِحُو كُتُبِ السُّنَّةِ ضَبْطَهُ بِكَسْرِ الدَّالِ أَوْ فَتْحِهَا. وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» عَنِ «الْكَشْفِ» أَنَّ كَسْرَ الدَّالِ هُوَ الْمَعْرُوفُ (وَلَمْ أَدْرِ مَا أَرَادَ الْخَفَاجِيُّ بِالْكَشْفِ الَّذِي عَزَا إِلَيْهِ هَذَا) ، فَكَشْفُ الْقَزْوِينِيِّ عَلَى «الْكَشَّافِ» لَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا فِي التَّفْسِيرِ الْمُسَمَّى «الْكَشْفَ وَالْبَيَانَ» لِلثَّعْلَبِيِّ. فَلَعَلَّ الْخَفَاجِيَّ رَأَى ذَلِكَ فِي «الْكَشْفِ» الَّذِي يَنْقُلُ عَنْهُ الطِّيبِيُّ فِي مَوَاضِعِ تَقْرِيرَاتٍ لِكَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي عِدَادِ شُرُوحِ «الْكَشَّافِ» ، وَكَسْرُ الدَّالِ أَظْهَرُ لِأَنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الَّتِي تُجَادِلُ فِي زَوْجِهَا فَحَقِيقَةٌ أَنْ تُضَافَ إِلَى صَاحِبَةِ الْجِدَالِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 1] . وَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنْ حَاشِيَة مُحَمَّد الْهَمدَانِي عَلَى «الْكَشَّافِ» الْمُسَمَّاةِ «تَوْضِيحَ الْمُشْكِلَاتِ» ، بِخَطِّ مُؤَلِّفِهَا جَعَلَ عَلَامَةَ كَسْرَةٍ تَحْتَ دَالِ الْمُجَادِلَةِ. وَأَمَّا فَتْحُ الدَّالِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ تُجادِلُكَ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّحَاوُرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما [المجادلة: 1] . وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْهَا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيهِا مَكِّيٌّ. وَفِيهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ.

أغراض هذه السورة

وَهِيَ السُّورَةُ الْمِائَةُ وَثَلَاثٌ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ إِبْطَالِ حُكْمِ الظِّهَارِ بِمَا فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا جَعَلَ يَقْتَضِي إِبْطَالَ التَّحْرِيمِ بِالْمُظَاهَرَةِ. وَإِنَّمَا أُبْطِلَ بِآيَةِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ بَعْدَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ. وَآيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ. أغراض هَذِه السُّورَة الْحُكْمُ فِي قَضِيَّةِ مُظَاهَرَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ زَوْجِهِ خَوْلَةَ. وَإِبْطَالُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَزُورِهِمُ الَّتِي كَبَتَهُمُ اللَّهُ بِإِبْطَالِهَا. وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ضَلَالَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْهَا مُنَاجَاتُهُمْ بمرأى الْمُؤمنِينَ ليغيظوهم وَيُحْزِنُوهُمْ. وَمِنْهَا مُوَالَاتُهُمُ الْيَهُودَ. وَحَلِفُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِك التَّعَرُّض لِآدَابِ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَشَرَعَ التَّصَدُّقَ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مُجَافَاتِهِمُ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَحِزْبَهُمَا هم الغالبون. [1] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

(1) افْتُتِحَتْ آيَاتُ أَحْكَامِ الظِّهَارِ بِذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِهَا تَنْوِيهًا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي وَجَّهَتْ شَكْوَاهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا لَمْ تُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْعَدْلِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ بَنِيهَا. وَلَمْ تَرْضَ بِعُنْجُهِيَّةِ زَوْجِهَا وَابْتِدَارِهِ إِلَى مَا يَنْثُرُ عِقْدَ عَائِلَتِهِ دُونَ تَبَصُّرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَتَعْلِيمًا لِنِسَاءِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرِجَالِهَا وَاجِبَ الذَّوْدِ عَنْ مَصَالِحِهَا. تِلْكَ هِيَ قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ خَوْلَةَ أَوْ خُوَيْلَةَ مُصَغَّرًا أَوْ جَمِيلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَوْ بِنْتِ دُلَيْجٍ (مُصَغَّرًا) الْعَوْفِيَّةِ. وَرُبَّمَا قَالُوا: الْخَزْرَجِيَّةُ، وَهِيَ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْ بُطُونِ الْأَنْصَارِ مَعَ زَوْجِهَا أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ الْخَزْرَجِيِّ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ حُدُوثِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا رَآهَا وَهِيَ تُصَلِّي وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ، فَلَمَّا سَلَّمَتْ أَرَادَهَا فَأَبَتْ فَغَضِبَ وَكَانَ قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْرِيمًا لِلْمَرْأَةِ مُؤَبَّدًا (أَيْ وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَدِينَةِ بِعِلْمٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارِهِ النَّاسَ عَلَيْهِ فَاسْتَقَرَّ مَشْرُوعًا) فَجَاءَتْ خَوْلَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَت للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتَهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتَهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي فِي أَمْرِكِ شَيْءٌ» ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا. وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَقَالَ: «حُرِّمْتِ عَلَيْهِ» . فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَجْدِي. كُلَّمَا قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُرِّمْتِ عَلَيْهِ» هَتَفَتْ وَشَكَتْ إِلَى اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ دَاوُدُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مُجْمَلًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ قِصَّتِهِ فَمِنْ رِوَايَاتِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَكُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُجَادِلَةَ خَوْلَةُ أَوْ خُوَيْلَةُ أَوْ جَمِيلَةُ، وَعَلَى أَنَّ زَوْجَهَا أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا فِي الظِّهَارِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى مَنْسُوبَةٍ إِلَى سَلَمَةَ بْنِ

صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ تُشْبِهُ قِصَّةَ خَوْلَةَ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ظِهَارًا مُوقِنًا بِرَمَضَانَ، ثُمَّ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَوَطِئَهَا وَاسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا نَسَبُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى النَّقَّاشِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ سَلَمَةَ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا لِغَيْرِهِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَاطٌ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَصَرِيحُ الْآيَةِ أَنَّ السَّائِلَةَ امْرَأَةٌ وَالَّذِي فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ هُوَ السَّائِلُ. وقَدْ أَصْلُهُ حَرْفُ تَحْقِيقٍ لِلْخَبَرِ، فَهُوَ مِنْ حُرُوفِ تَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَلَكِنَّ الْخِطَابَ هُنَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يُخَامِرُهُ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا قَالَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي جَادَلَتْ فِي زَوْجِهَا. فَتَعَيَّنَ أَنَّ حَرْفَ قَدْ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوَقُّعِ، أَيِ الْإِشْعَارِ بِحُصُولِ مَا يَتَوَقَّعُهُ السَّامِعُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُجَادِلَةَ كَانَا يَتَوَقَّعَانِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّهُ لِمُجَادَلَتِهَا وَشَكْوَاهَا وَيُنْزِلَ فِي ذَلِكَ مَا يُفَرِّجُ عَنْهَا اهـ. وَمَعْنَى التَّوَقُّعُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَرْفُ قَدْ فِي مِثْلِ هَذَا يُؤَوَّلُ إِلَى تَنْزِيلِ الَّذِي يَتَوَقَّعُ حُصُولَ أَمْرٍ لِشِدَّةِ اسْتِشْرَافِهِ لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ الطَّالِبِ فَتَحْقِيقُ الْخَبَرِ مِنْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِنُكْتَةٍ كَمَا قَالُوا فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 27] إِنَّهُ جُعِلَ غَيْرُ السَّائِلِ كَالسَّائِلِ حَيْثُ قُدِّمَ إِلَيْهِ مَا يُلَوِّحُ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ فَيَسْتَشْرِفُ لَهُ اسْتِشْرَافَ الطَّالِبِ الْمُتَرَدِّدِ. وَلِهَذَا جَزَمَ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» بِأَنَّ قَدْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ. ثُمَّ يُضَافُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَانٍ أُخْرَى. وَالسَّمَاعُ فِي قَوْلِهِ: سَمِعَ مَعْنَاهُ الِاسْتِجَابَةُ لِلْمَطْلُوبِ وَقَبُولَهُ بِقَرِينَةِ دُخُولِ قَدْ التَّوَقُّعِيَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُتَوَقَّعَ هُوَ اسْتِجَابَةُ شَكْوَاهَا. وَقَدِ اسْتُحْضِرَتِ الْمَرْأَةُ بِعُنْوَانِ الصِّلَةِ تَنْوِيهًا بِمُجَادَلَتِهَا وَشَكْوَاهَا لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى تَوَكُّلِهَا الصَّادِقِ عَلَى رَحْمَةِ رَبِّهَا بِهَا وَبِأَبْنَائِهَا وَبِزَوْجِهَا. وَالْمُجَادَلَةُ: الِاحْتِجَاجُ وَالْاسْتِدْلَالُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ

[سورة المجادلة (58) : آية 2]

وَالْاشْتِكَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الشَّكْوَى وَهِيَ ذِكْرُ مَا آذَاهُ، يُقَالُ: شَكَا وَتَشَكَّى وَاشْتَكَى وَأَكْثَرُهَا مُبَالَغَةً. اشْتَكَى، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ الشِّكَايَةُ لِقَصْدِ طَلَبِ إِزَالَةِ الضُّرِّ الَّذِي يَشْتَكِي مِنْهُ بِحُكْمٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ إِشَارَةٍ بِحِيلَةِ خَلَاصٍ. وَتَعَلُّقِ فِعْلِ التَّجَادُلِ بِالْكَوْنِ فِي زَوْجِهَا عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ فِي مثل هَذَا بِكَثْرَة: أَيْ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا وَقَضِيَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] ، وَقَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْمُؤْمِنُونَ: 27] وَهُوَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ فِي «أُصُولِ الْفِقْهِ» بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ فِي نَحْوِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] . وَالتَّحَاوُرُ تَفَاعُلُ مِنْ حَارَ إِذَا أَجَابَ. فَالتَّحَاوُرُ حُصُولُ الْجَوَابِ مِنْ جَانِبَيْنِ، فَاقْتَضَتْ مُرَاجَعَةً بَيْنَ شَخْصَيْنِ. وَالسَّمَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُنَاسِبِ لِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ لَا صَارِفَ يَصْرِفُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَكَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمًا بِمَا جَرَى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعْلُومٌ لَا يُرَادُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ إِفَادَةُ الْحُكْمِ، فَتَعَيَّنَ صَرْفُ الْخَبَرِ إِلَى إِرَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ التَّحَاوُرِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ وَبِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ترقّب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُنْزِلُهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيٍ، وَتَرَقُّبُ الْمَرْأَةِ الرَّحْمَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِتَحَاوُرِهِمَا. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُجادِلُكَ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارع لاستحضار حَالَة مُقَارَنَةِ عِلْمِ اللَّهِ لِتَحَاوُرِهِمَا زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ ذَلِكَ التَّحَاوُرِ. وَجُمْلَةُ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أَيْ: أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ صَوْتٍ وَبِكُلِّ مَرْئِيٍّ. وَمِنْ ذَلِكَ مُحَاوَرَةُ الْمُجَادِلَةِ وَوُقُوعُهَا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ إِضْمَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ وَإِثَارَةِ تَعْظِيمِ مِنَّتِهِ تَعَالَى ودواعي شكره. [2] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

(2) تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَمَا يُتِمُّ أَحْكَامَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 1] الْآيَةَ لِأَنَّ فِيهَا مَخْرَجًا مِمَّا لَحِقَ بِالْمُجَادِلَةِ مِنْ ضُرٍّ بِظِهَارِ زَوْجِهَا، وَإِبْطَالًا لَهُ، وَلَهَا أَيْضًا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِجُمْلَةِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي النَّفْسِ أَنْ تَقُولَ: فَمَاذَا نَشَأَ عَنِ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لِشَكْوَى الْمُجَادِلَةِ فَيُجَابُ بِمَا فِيهِ الْمَخْرَجُ لَهَا مِنْهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَظَّهَّرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الظَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَتَظَهَّرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ يُظاهِرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْديد الظَّاء وَألف بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَتَظَاهَرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَأَلِفٍ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ ظَاهَرَ. وَلَمْ يَأْتِ مَصْدَرُهُ إِلَّا عَلَى وَزْنِ الْفِعَالِ وَوَزْنِ الْمُفَاعَلَةِ. يُقَالُ: صَدَرَ مِنْهُ ظِهَارٌ وَمُظَاهَرَةٌ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي مَصْدَرِهِ بِوَزْنِ التَّظَهُّرِ، فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ قَدِ اسْتُغْنِيَ فِيهَا عَنْ مَصْدَرِهِ بِمَصْدَرِ مُرَادِفِهِ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِزَوْجِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَانَ هَذَا قَوْلًا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُرِيدُونَ بِهِ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا وَبَتِّ عِصْمَتِهِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ ضِدِّ الْبَطْنِ لِأَنَّ الَّذِي يَقُولُ لْامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يُرِيد بذلك أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا أَنَّ أُمَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَإِسْنَادُ تَرْكِيبِ التَّشْبِيهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَقْدِيرِ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهَا، وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْرُوفِ، سَلَكُوا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ مَسْلَكَ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا بِالرَّاحِلَةِ، وَإِثْبَاتُ الظَّهْرِ لَهَا تَخَيُّلٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ تَشْبِيهِ ظَهْرِ زَوْجَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، أَيْ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْرُوفِ. وَجُعِلَ الْمُشَبَّهُ ذَاتُ الزَّوْجَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَخَصُّ أَحْوَالِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ حَالُ قُرْبَانِهَا فَآلَ إِلَى إِضَافَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْأَعْيَانِ. فَالتَّقْدِيرُ: قُرْبَانُكِ كَقُرْبَانِ ظَهْرِ أُمِّي، أَيِ اعْتِلَائِهَا الْخَاصِّ. فَفِي هَذِهِ الصِّيغَةِ حَذْفٌ وَمَجِيءُ حُرُوفِ لَفْظِ ظَهْرٍ فِي صِيغَةِ ظِهَارٍ أَوْ مُظَاهَرَةٍ يُشِيرُ إِلَى صِيغَةِ التَّحْرِيمِ الَّتِي هِيَ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» إِيمَاءٌ إِلَى تِلْكَ الصِّيغَةِ عَلَى نَحْوِ

مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّحْتِ وَلَيْسَ هُوَ من التحت لِأَنَّ النَّحْتَ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ مِنْ عِدَّةِ كَلِمَاتٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: كَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتَضِي تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا عِنْدَ أَهْلِ يَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا لِكَثْرَةِ مُخَالَطَتِهِمُ الْيَهُودَ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي مَكَّةَ وَتِهَامَةَ وَنَجْدٍ وَغَيْرِهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ. وَحَسْبُكَ أَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الْمَدَنِيِّ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَالَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُمْتَزِجِينَ بِالْيَهُودِ مُتَخَلِّقِينَ بِعَوَائِدِهِمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَمْنَعُونَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلَ امْرَأَتَهُ مِنْ جِهَةِ خَلْفِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . فَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَفْظُ الظَّهْرِ، فَجَمَعُوا فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ تَغْلِيظًا مِنَ التَّحْرِيمِ وَهِيَ أَنَّهَا كَأُمِّهِ، بَلْ كَظَهْرِ أُمِّهِ. فَجَاءَتْ صِيغَةً شَنِيعَةً فَظِيعَةً. وَأَخَذُوا مِنْ صِيغَةِ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» أَصْرَحَ أَلْفَاظِهَا وَأَخَصَّهَا بِغَرَضِهَا وَهُوَ لَفْظُ «ظَهْرٍ» فَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْفِعْلَ بزنات مُتعَدِّدَة، يَقُولُونَ: ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَظَهَّرَ مِثْلَ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ، وَيُدْخِلُونَ عَلَيْهِمَا تَاءَ الْمُطَاوَعَةِ، فَيَقُولُونَ: تَظَاهَرَ مِنْهَا وَتَظَهَّرَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ النَّحْتِ نَحْوَ: بَسْمَلَ، وَهَلَّلَ، لِعَدَمِ وُجُودِ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِلتَّعْمِيمِ بَيَانًا لِمَدْلُولِ الصِّلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ إِرَادَة معيّن بالصلة. وَمن بَيَانِيَّةٌ كَشَأْنِهَا بَعْدَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ تَشْرِيعٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُظَاهِرٍ. وَلَيْسَ خُصُوصِيَّةً لِخَوْلَةَ وَلَا لِأَمْثَالِهَا مِنَ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْخَصَاصَةِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ. وَأَمَّا مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِهِمْ فَابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُظاهِرُونَ لِتَضَمُّنِهِ

مَعْنَى الْبُعْدِ إِذْ هُوَ قَدْ كَانَ طَلَاقًا وَالطَّلَاقُ يُبْعِدُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ من الْآخَرِ، فَاجْتَلَبَ لَهُ حَرْفَ الِابْتِدَاءِ. كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي صِيغَةِ الظِّهَارِ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالظَّهْرِ وَالْأُمِّ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى مَا يَرْبِطُ هَذِه الْكَلِمَات الثَّلَاث من أدوات الرَّبْطِ مِنْ أَفْعَالٍ وَحُرُوفٍ نَحْوِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَأَنْتِ مِنِّي مِثْلَ ظَهْرِ أُمِّي، أَوْ كُونِي لِي كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِذَا فُقِدَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ أَوْ جَمِيعُهَا. نَحْوُ: وَجْهُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. أَوْ كَجَنْبِ أُمِّي، أَوْ كَظَهْرِ جَدَّتِي، أَوِ ابْنَتِي، مِنْ كُلِّ كَلَامٍ يُفِيدُ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ، أَوْ إِلْحَاقَهَا بِإِحْدَى النِّسَاءِ مِنْ مَحَارِمِهِ بِقَصْدِ تَحْرِيمِ قُرْبَانِهَا، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الظِّهَارِ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِ مَالِكٍ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى صِيغَةِ الطَّلَاقِ أَوِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّوْسِعَةَ عَلَى النَّاسِ وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ. وَلَمْ يُشِرِ الْقُرْآنُ إِلَى اسْمِ الظَّهْرِ وَلَا إِلَى اسْمِ الْأُمِّ إِلَّا مُرَاعَاةً لِلصِّيغَةِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بِحَيْثُ لَا يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنَ الظِّهَارِ إِلَى صِيغَةِ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ تَجَرُّدًا وَاضِحًا. وَالصُّوَرُ عَدِيدَةٌ وَلَيْسَتِ الْإِحَاطَةُ بِهَا مُفِيدَةً، وَذَلِكَ مِنْ مَجَالِ الْفَتْوَى وَلَيْسَ مِنْ مَهْيَعِ التَّفْسِيرِ. وَجُمْلَةُ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، أَيْ لَيْسَ أَزْوَاجُهُمْ أُمَّهَاتٌ لَهُمْ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَيْ لَا تَصِيرُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ أُمَّا لِقَائِلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ أَثَرِ صِيغَةِ الظِّهَارِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، بِمَا يُشِيرُ إِلَى أَن الأمومة حَقِيقَة ثَابِتَةٌ لَا تُصْنَعُ بِالْقَوْلِ إِذِ الْقَوْلُ لَا يُبَدِّلُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هُنَا بِقَوْلِهِ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أَيْ فَلَيْسَتِ الزَّوْجَاتُ الْمُظَاهَرُ مِنْهُنَّ بِصَائِرَاتٍ أُمَّهَاتٍ بِذَلِكَ الظِّهَارِ لْانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْأُمُومَةِ مِنْهُنَّ إِذْ هُنَّ لَمْ يَلِدْنَ الْقَائِلِينَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ، فَالْقَصْرُ فِي الْآيَةِ حَقِيقِيٌّ، أَيْ فَالتَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يَقْتَضِيهِ سَبَبٌ يُؤَثِّرُ إِيجَادَهُ.

وَجُمْلَةُ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَخْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. أَعْنِي إِبْطَالَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، إِذْ كَوْنُهُنَّ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِمْ ضَرُورِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْلِيلِ. وَزِيدَ صَنِيعُهُمْ ذَمَّا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ، أَيْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ هُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ، أَيْ قَبِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ حُرْمَةِ الْأُمِّ لِتَخَيُّلَاتٍ شَنِيعَةٍ تَخْطُرُ بمخيلة السَّامع عِنْد مَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْمُظَاهِرِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَهِيَ حَالَةٌ يَسْتَلْزِمُهَا ذِكْرُ الظَّهْرِ فِي قَوْلِهِ: «كَظَهْرِ أُمِّي» . وَأَحْسَبُ أَنَّ الْفِكْرَ الَّذِي أَمْلَى صِيغَةَ الظِّهَارِ عَلَى أَوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِهَا كَانَ مَلِيئًا بِالْغَضَبِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى بَذِيءِ الْكَلَامِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: امْصُصْ بَظْرَ أُمِّكَ فِي الْمُشَاتَمَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ زُورٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ إِذْ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ وَاللَّامِ، لِلِاهْتِمَامِ بِإِيقَاظِ النَّاسِ لِشَنَاعَتِهِ إِذْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوهُ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي كَوْنِهِ مُنْكَرًا أَوْ زُورًا، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي شَرْعٍ قَدِيمٍ وَلَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ وَضَعَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ عَدُّهُ مَعَ تَكَاذِيبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] . وَبَعْدَ هَذَا التَّوْبِيخِ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ كِنَايَةً عَن عدم مواخذتهم بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الظِّهَارِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ كَانَ عُذْرُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ تَابَعُوا فِيهِ أَسْلَافَهُمْ وَجَرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ دُونَ تَفَكُّرٍ فِي مَدْلُولَاتِهِ. وَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ حُكْمَ إِيقَاعِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفَصِيُّ فِي «اللُّبَابِ» لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [المجادلة: 4] أَنَّ إِيقَاعَ الظِّهَارِ مَعْصِيَةٌ، وَلِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. وَبِذَلِكَ أَيْضًا فَسَّرَ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: هُوَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ إِيقَاعُهُ. وَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَكْذِيبُ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُ مُنْكَرًا وَزُورًا، وَالزُّورُ الْكَذِبُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعٍ.

الثَّالِثُ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ وَيَغْفِرُ وَلَا يُعْفَى وَيُغْفَرُ إِلَّا عَلَى الْمُذْنِبِينَ. وَأَقْوَالُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ وَلَمْ يَصِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ. وَلَا حُجَّةَ فِي وَصْفِهِ فِي الْآيَةِ بِزُورٍ، لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً إِلَّا إِذَا أَفْضَى إِلَى مَضَرَّةٍ. وَعَدَّ السُّبْكِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» الظِّهَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ وَسَلَّمَهُ الْمَحَلِّيُّ. والكاتبون قَالُوا: لِأَن اللَّهَ سَمَّاهُ زُورًا وَالزُّورُ كَبِيرَةٌ فَكَوْنُ الظِّهَارِ كَبِيرَةً قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا الْكَذِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَبِيرَةً. وَإِنَّمَا عَدُّوا شَهَادَةَ الزُّورِ كَبِيرَةً. وَأَعْقَبَ لَعَفُوٌّ بِقَوْلِهِ: غَفُورٌ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فِي مَعْنَى: إِنَّ الله عَفا عَنْهُم وَغَفَرَ لَهُمْ لِأَنَّهُ عَفُوٌّ غَفُورٌ، يَغْفِرُ هَذَا وَمَا هُوَ أَشَدُّ. وَالْعَفُوٌّ: الْكَثِيرُ الْعَفْوِ، وَالْعَفْوُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ أَيْ عَفْوٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ وَزُورٌ. وَالْغَفُورُ: الْكَثِيرُ الْغُفْرَانِ، وَالْغُفْرَانُ الصَّفْحُ عَنْ فَاعِلِ فِعْلٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ، فَذِكْرُ وَصْفِ غَفُورٌ بَعْدَ وَصْفِ (عَفُوٌ) تَتْمِيمٌ لِتَمْجِيدِ اللَّهِ إِذْ لَا ذَنْبَ فِي الْمُظَاهَرَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْبِقُ فِيهَا نَهْيٌ، وَمَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ وَهُمَا مُنْكَراً وزُوراً، بِشَيْئَيْنِ هُمَا (عَفُوُّ غَفُورٌ) . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لِمُشَاكَلَةِ تَأْكِيدِ مُقَابِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهَرَةَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِلَى أَنَّ مُرَاد الله من هَذَا الْحُكْمِ التَّوْسِعَةُ عَلَى النَّاسِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَدُورَ أَحْكَامُ الظِّهَارِ عَلَى مِحْوَرِ التَّخْفِيفِ وَالتَّوْسِعَةِ، فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُفْتُونَ. وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُلَاحَظَ فِيهِ قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ وَلَا قَاعِدَةُ سَدِّ

[سورة المجادلة (58) : آية 3]

الذَّرِيعَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ نَسِيرَ وَرَاءَ مَا أَضَاءَ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : لَا يُقَبِّلُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يُبَاشِرُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى صَدْرٍ وَلَا إِلَى شَعْرٍ. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حمله على الْكَرَاهَة لِئَلَّا يَدْعُوهُ إِلَى الْجِمَاعِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ الْمَسِيسَ وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْجِمَاعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَو تظاهر من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلًا وَاحِدًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُظَاهِرُ مِنْهَا زَوْجُهَا. وَتَحْمِيقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا الظِّهَارَ مُحَرِّمًا عَلَى الْمُظَاهِرِ زَوْجَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا. وَجَعَلَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ فِدْيَةً لِذَلِكَ وَزَجْرًا لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لصَاحبه: تَعَالَى أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ» أَيْ مَنْ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَ الله الميسر. [3] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 3] وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [المجادلة: 2] أُعِيدَ الْمُبْتَدَأُ فِيهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ وَالتَّصْرِيحُ بِأَصْحَابِهِ وَكَانَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ يَعُودُوا لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [المجادلة: 2] . وثُمَّ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ يَعُودُونَ عَلَى جُمْلَةِ يُظاهِرُونَ، وَهِيَ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ تَعْرِيضًا بِالتَّخْطِئَةِ لِهُمْ بِأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ أَنِ

انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ. وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِفِعْلِ يَعُودُونَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ لَفْظَ الظِّهَارِ. وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى شَيْءٍ تَرَكَهُ وَفَارَقَهُ صَاحِبُهُ. وَأَصْلُهُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي غَادَرَهُ، وَهُوَ هُنَا عَوْدٌ مَجَازِيٌّ. وَمَعْنَى يَعُودُونَ لِما قالُوا يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ لِمَا نَطَقُوا بِهِ مِنَ الظِّهَارِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُظَاهِرَ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْهُ لَفْظُ الظِّهَارِ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى. وَبِهَذَا فَسَّرَ الْفَرَّاءُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَرَّةً أُولَى مَعْفُوًّا عَنْهُ. غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي قَضِيَّةِ الْمُجَادِلَةِ يَدْفَعُ هَذَا الظَّاهِر لِأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّكْفِيرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنْ أول مرّة ينْطَلق فِيهَا بِلَفْظِ الظِّهَارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ لَا يُحِبُّونَ الْفِرَاقَ وَيَرُومُونَ الْعَوْدَ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ عَدَا دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ وَبُكَيْرَ بْنَ الْأَشَجِّ وَأَبَا الْعَالِيَةَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قَالَ سَمِعْتُ: أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يُظَاهِرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ يُجْمِعُ عَلَى إِصَابَتِهَا وَإِمْسَاكِهَا فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا عَلَى إِمْسَاكِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَأَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ تَحُومُ حَوْلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى اخْتِلَافٍ فِي التَّعْبِيرِ لَا نُطِيلُ بِهِ. وَعَلَيْهِ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ يَعُودُونَ فِي إِرَادَةِ الْعَوْدَةِ كَمَا اسْتُعْمِلَ فِعْلٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْعَوْدِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْعَوْدِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَوْدًا بِالْفِعْلِ لَمْ يكن لاشْتِرَاط التفكير قَبْلَ الْمَسِيسِ مَعْنًى، فَانْتَظَمَ مِنْ هَذَا مَعْنَى: ثُمَّ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَى مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَعَلَيْهِمْ كَفَّارَةٌ قَبْلَ أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ، وَقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] ، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» .

وَتِلْكَ هِيَ قَضِيَّةُ سَبَبِ النُّزُولِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَا جَاءَتْ مُجَادِلَةً إِلَّا لِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَهَا الْمُظَاهِرَ مِنْهَا لَمْ يُرِدْ فِرَاقَهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ فَجِئْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو إِلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ يُجَادِلُنِي وَيَقُولُ: اتَّقِي اللَّهَ. فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ؟ فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ. فَقَالَ: «يُعْتِقُ رَقَبَةً» . قَالَتْ: لَا يَجِدُ. قَالَ: «فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . قَالَتْ: إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ. فَأَتَى سَاعَتَئِذٍ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: «قَدْ أَحْسَنْتِ اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا: إِنَّهَا كَفَّرَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَأْمِرَهُ. وَالْمُرَادُ «بِمَا قَالُوا» مَا قَالُوا بِلَفْظِ الظِّهَارِ وَهُوَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُفَادِ مِنْ لَفْظِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لِأَنَّ: أَنْتِ عَلَيَّ. فِي مَعْنَى: قُرْبَانِكِ وَنَحْوِهِ عَلَيَّ كَمِثْلِهِ مِنْ ظَهْرِ أُمِّي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: 80] ، أَيْ مَالًا وَوَلَدًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: 77] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: 183] أَيْ قَوْلُكُمْ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. فَفِعْلُ الْقَوْلِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ نَاصِبٌ لِمُفْرَدٍ لوُقُوعه فِي خلاف جُمْلَةٍ مَقُولَةٍ، وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ التَّحْرِيمُ لَهُ. فَلَفْظُ الظِّهَارِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ هَذِهِ إِيجَازٌ وَتَنْزِيهٌ لِلْكَلَامِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ. فَالْمَعْنَى: ثُمَّ يَرُومُونَ أَنْ يَرْجِعُوا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِأَزْوَاجِهِمْ بَعْدَ أَنْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ إِلَى امْرَأَتِهِ لَا يَخْلُو حَالَهُ: فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقَهَا فَلَهُ أَنْ يُوَقِّعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا آخَرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ الظِّهَارُ طَلَاقًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يُرِيدَ طَلَاقًا وَلَا عَوْدًا. فَهَذَا قَدْ صَارَ مُمْتَنِعًا مِنْ مُعَاشَرَةِ زَوْجِهِ مُضِرًّا بِهَا فَلَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الْبَقَرَة: 226] الْآيَةَ. وَقَدْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الظِّهَارَ إِيلَاءً كَمَا فِي قِصَّةِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ. ثُمَّ الزُّرَقِيِّ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنِ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَايِعُ بِي (بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ، وَالظَّاهِرُ

أَنَّهَا مَكْسُورَةٌ. وَالتَّتَايُعُ الْوُقُوعُ فِي الشَّرِّ فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِي) زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ) حَتَّى أُصْبِحَ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ» . الْحَدِيثَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِما قالُوا بِمَعْنَى (إِلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: 28] . وَأَحْسَبُ أَنَّ أَصْلَ اللَّامِ هُوَ التَّعْلِيلُ، وَهُوَ أَنَّهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَجِيءِ حُمِلَتِ اللَّامُ فِيهِ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَهُوَ الْأَصْلُ نَحْوُ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] ، وَمَا يَقَعُ فِيهِ حَرْفُ (إِلَى) مِنْ ذَلِكَ مَجَازٌ بِتَنْزِيلِ مَنْ يُفْعِلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجِيءُ الْجَائِي إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ اللَّامُ فِيهِ مَعْنَى الْمَجِيءِ مِثْلُ فِعْلِ الْعَوْدِ فَإِنَّ تَعَلُّقَ اللَّامِ بِهِ يُشِيرُ إِلَى إِرَادَةِ مَعْنًى فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ بِتَمَجُّزٍ أَوْ تَضْمِينٍ يُنَاسِبُهُ حَرْفُ التَّعْلِيلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرَّعْد: 2] ، أَيْ جَرْيُهُ الْمُسْتَمِرُّ لِقَصْدِهِ أَجَلًا يَبْلُغُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: 28] أَيْ عَاوَدُوا فِعْلَهُ وَمِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [5] أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [29] أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَعَاقُبِ الْحَرْفَيْنِ وَلَا يَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِلَّا ضَيِّقُ الْعَطَنِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَعْنِي الِاسْتِعْلَاءَ وَالتَّخْصِيصَ كِلَاهُمَا مُلَائِمٌ لِصَحَّةِ الْغَرَضِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلى أَجَلٍ مَعْنَاهُ يَبْلُغُهُ، وَقَوْلُهُ: لِأَجَلٍ يُرِيدُ لِإِدْرَاكِ أَجَلٍ تَجْعَلُ الْجَرْيَ مُخْتَصًّا بِالْإِدْرَاكِ اهـ. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ لِأَجْلِ مَا قَالُوا، أَيْ لِأَجْلِ رَغْبَتِهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ، فَيَصِيرُ مُتَعَلَّقُ فِعْلِ يَعُودُونَ مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ يَعُودُونَ لِمَا تَرَكُوهُ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَيَصِيرُ الْفِعْلُ فِي مَعْنَى: يَنْدَمُونَ عَلَى الْفِرَاقِ. وَتَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ شُرِعَتْ إِذَا قَصَدَ الْمُظَاهِرُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى مُعَاشَرَةِ زَوْجِهِ، تَحِلَّةً لِمَا قَصَدَهُ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَتَأْدِيبًا لَهُ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ الْفَاسِدِ وَالْقَوْلِ الشَّنِيعِ. وَبِهَذَا يَكُونُ مَحْمَلُ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّ زَوْجَهُ

[سورة المجادلة (58) : آية 4]

مَسَّ اسْتِمْتَاعٍ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَة: 237] . وَلِذَلِكَ جُعِلَتِ الْكَفَّارَةُ عِتْقَ رَقَبَةٍ لِأَنَّهُ يَفْتَدِي بِتِلْكَ الرَّقَبَةِ رَقَبَةَ زَوْجِهِ. وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَوْعِظَةً بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكُمْ عَائِدٌ إِلَى تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ. وَالْوَعْظُ: التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الشَّرِّ بِتَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، أَيْ فَرْضُ الْكَفَّارَةِ تَنْبِيهٌ لَكُمْ لِتَتَفَادَوْا مَسِيسَ الْمَرْأَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ أَوْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى مُفَارَقَتِهَا مَعَ الرَّغْبَةِ فِي الْعَوْدِ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا لِئَلَّا تَعُودُوا إِلَى الظِّهَارِ. وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ ذَلِكَ كَفَّارَةً هُنَا وسمّاها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّارَةً كَمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مِنْ نَوْعِ الْعُقُوبَةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» . فَالْمُظَاهِرُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، أَيْ مَمْنُوعٌ مِنْ عَلَائِقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الْعِصْمَةِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ كُلِّهَا فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ وَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِسَبَبِ الِاسْتِمْتَاع قبل التَّكْفِير لِأَنَّهُ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَلَا يَضُرُّ تَكَرُّرُ مُسَبِّبِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْكَفَّارَةُ زَجْرًا وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَطْءُ الْمُظَاهِرِ امْرَأَتَهُ قبل الْكَفَّارَة زنا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأمره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ. وَتَفَاصِيلُ أَحْكَامِ الظِّهَارِ فِي صِيغَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، أَيْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ هَذَا التَّكْفِيرِ وَغَيْرِهِ. [4] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 4] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً. رُخْصَةٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ عِتْقَ رَقَبَةٍ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ

رَقَبَةً يَعْتَاضُ بِفَكِّهَا عَنْ فَكِّ عِصْمَةِ الزَّوْجَةِ نُقِلَ إِلَى كَفَّارَةٍ فِيهَا مَشَقَّةُ النَّفْسِ بِالصَّبْرِ عَلَى لَذَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِيَدْفَعَ مَا الْتَزَمَهُ بِالظِّهَارِ مِنْ مَشَقَّةِ الصَّبْرِ عَلَى ابْتِعَادِ حَلِيلَتِهِ فَكَانَ الصَّوْمُ دَرَجَةً ثَانِيَةً قَرِيبَةً مِنْ دَرَجَةِ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ فِي الْمُنَاسَبَةِ. وَأُعِيدَ قَيْدُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْمَسُّ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصِّيَامِ، فَلَا يَظُنُّ أَنَّ مُجَرَّدَ شُرُوعِهِ فِي الصِّيَامِ كَافٍ فِي الْعَوْدِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ. فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَيْ لِعَجْزِهِ أَوْ ضَعْفِهِ رَخَّصَ اللَّهَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِوَضًا عَنِ الصِّيَامِ فَالْإِطْعَامُ دَرَجَةٌ ثَالِثَةٌ يَدْفَعُ عَنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَلَمَ الْجُوعِ عِوَضًا عَمَّا كَانَ الْتَزَمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَشَقَّةِ الِابْتِعَادِ عَنْ لَذَّاتِهِ، وَإِنَّمَا حُدِّدَتْ بِسِتِّينَ مِسْكِينًا إِلْحَاقًا لِهَذَا بِكَفَّارَةِ فِطْرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَمْدًا بِجَامِعِ أَنَّ كِلَيْهِمَا كَفَّارَةٌ عَنْ صِيَامٍ فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ مُتَنَاسِبَةً مَعَ الْمُكَفَّرِ عَنْهُ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا مُنَاسِبًا. وَقَدْ أُجْمِلَ مِقْدَارُ الطَّعَامِ فِي الْآيَةِ اكْتِفَاءً بِتَسْمِيَتِهِ إِطْعَامًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ النَّاسُ مِنَ الطَّعَامِ وَهُوَ الشِّبَعُ الْوَاحِدُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي فِعْلِ طَعِمَ. فَحَمَلَهُ عُلَمَاؤُنَا عَلَى مَا بِهِ شِبَعُ الْجَائِعِ فَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ قَوْمٍ بِحَسْبِ مَا بِهِ شِبَعُ مُعْتَادِ الْجَائِعِينَ. وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مُدٌّ وَاحِدٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مُدَّانِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْمُدَّيْنِ وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامِ (بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ) وَقَدْرُهُ مُدَّانِ إِلَّا ثُلُثَ مُدٍّ قَالَ: قَالَ أَشْهَبُ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمِ الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ (أَيْ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ) . وَقَوْلُهُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِي الْمَدِينَةِ مُدًّا بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فَكَيْفَ جَعَلَهُ مَالِكٌ مُقَدَّرًا بِمُدَّيْنِ أَوْ بِمُدٍّ وَثُلُثَيْنِ، وَقَالَ: لَوْ أَطْعَمَ مُدًّا وَنِصْفَ مُدٍّ أَجْزَأَهُ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَضْعِيفَ الْمِقْدَارِ فِي الْإِطْعَامِ مُرَاعًى فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةُ عَلَى مَا صَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: إِنَّمَا أَخَذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِمُدِّ هِشَامٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُتَظَاهِرِينَ الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا فَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ الشِّبَعَ بِمُدَّيْنِ بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلعه رَاعَى الشِّبَعَ فِي مُعْظَمِ الْأَقْطَارِ غَيْرَ الْمَدِينَةِ، وَقَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِمُدٍّ وَاحِدٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قِيَاسًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَ الْإِطْعَامِ قَيْدُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَصِيَامِ الشَّهْرَيْنِ وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ وَمُجَزَّأٌ لِمِثْلِ أَيَّامِ الصِّيَامِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِطْعَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُقُوعُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. ثُمَّ إِنَّ وَقْعَ الْمَسِيسِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ آثِمٌ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرٌ آخَرُ، وَهَذَا مَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الَّذِي شَكَا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ بَعْدَ أَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، فَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يُكَفِّرَ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. وَصَرِيحُ الْآيَةِ أَنَّ تَتَابُعَ الصِّيَامِ شَرْطٌ فِي التَّكْفِيرِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَفْطَرَ فِي خِلَالِهِ دُونَ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ. وَلَا يَمَسُّ امْرَأَتَهُ حَتَّى يتم الشهران مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ مَسَّهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ أَثِمَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الشَّهْرَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الْوَطْءُ لَيْلًا لَمْ يَبْطُلِ التَّتَابُعُ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى الْقِيَاسِ وَعَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْر. وَأما كَون آثِمًا بِالْمَسِيسِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَفَّارَةِ فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى، فَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْفِقْهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالْمَحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ وَطْءُ تَعَدٍّ فَلَا بُدَّ مِنَ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ وَطْءٌ اه. وَالْمِسْكِينُ: الشَّدِيدُ الْفَقْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَالْمُظَاهِرُ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى بَعْضِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَأَبَى أَنْ يُكَفِّرَ انْقَلَبَ ظِهَارُهُ إِيلَاءً. فَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِالْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجَلُ الْإِيلَاءِ فَإِنِ انْقَضَى الْأَجَلُ

طُلِّقَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إِنْ طَلَبَتِ الطَّلَاقَ. وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةَ كُلِّهَا كَانَ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْوَطْءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ مِنْهُ فَتَبْقَى الْعِصْمَةُ بَيْنَ الْمُتَظَاهِرِ وَامْرَأَتِهِ وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَقَدْ أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَحَقَّ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنِ الْعَاجِزِ كَفَّارَةَ ظِهَارِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مَسِيسِ امْرَأَتِهِ، وَتَبْقَى الْكَفَّارَةُ ذَنْبًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ طَلَاقَ الظِّهَارِ. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ لِتُؤْمِنُوا إِيمَانًا كَامِلًا بِالِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا تَشُوبُوا أَعْمَالَ الْإِيمَانِ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَشْنِيعِ الظِّهَارِ، وَتَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِيقَاعِهِ فِيمَا بَعْدُ، أَوْ ذَلِكَ النَّقْلُ مِنْ حَرَجِ الْفِرَاقِ بِسَبَبِ قَوْلِ الظِّهَارِ إِلَى الرُّخْصَةِ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَفِي الْخَلَاصِ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، لَتَيْسِيرِ الْإِيمَانِ عَلَيْكُمْ فَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] . ولِتُؤْمِنُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَهُوَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ أَوْ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِوَضًا عَنْ تَحْرِيرِ رَقَبَة كَانَ من عُلِّلَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُنْسَحِبًا عَلَى الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَمَا عُلِّلَ بِهِ الصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ مُنْسَحِبًا عَلَى تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، فَأَفَادَ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَصِيَامِ شَهْرَيْنِ وَإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُشْتَمِلٌ عَلَى كِلْتَا الْعِلَّتَيْنِ وَهُمَا: الْمَوْعِظَةُ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالْإِشَارَةُ فِي وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِلَى مَا أُشير إِلَيْهِ ب ذلِكَ، وَجِيءَ لَهُ بِاسْمِ إِشَارَةِ التَّأْنِيثِ نَظَرًا لِلْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ حُدُودُ إِذْ هُوَ جَمْعٌ يَجُوزُ تَأْنِيثُ إِشَارَتِهِ كَمَا يَجُوزُ تَأْنِيثُ ضَمِيرِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة المجادلة (58) : آية 5]

وَجُمْلَةُ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ تَتْمِيمٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ: ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ إِبْطَالُ التَّحْرِيمِ بِالظِّهَارِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ سُنَّةُ قَوْمٍ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، فَالظِّهَارُ شَرْعُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 37] ، لِأَنَّهُ وَضَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ. [5] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 5] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَجَرَى ذِكْرُ حُدُودِ اللَّهِ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ وَإِيقَاظِ الْمُسْلِمِينَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ. وَالْمُحَادَّةُ: الْمَشَاقَّةُ وَالْمُعَادَاةُ، وَقَدْ أُوثِرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِوُقُوعِ الْكَلَامِ عَقِبَ ذِكْرِ حُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُحَادَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحَدِّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ كَأَنَّهُ فِي حَدٍّ مُخَالِفٍ لِحَدِّ الْآخَرِ، مِثْلَ مَا قِيلَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عُدْوَةِ الْوَادِي لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ يُشْبِهُ مَنْ هُوَ مِنَ الْآخَرِ فِي عُدْوَةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: اشْتُقَّتِ الْمُشَاقَّةُ مِنَ الشُّقَّةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَخَالِفَيْنِ كَأَنَّهُ فِي شُقَّةٍ غَيْرِ شُقَّةِ الْآخَرِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يُحَادُّونَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرْسَلَ بِدِينِ اللَّهِ فَمُحَادَّتُهُ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ. وَالْكَبْتُ: الْخِزْيُ وَالْإِذْلَالُ وَفِعْلُ كُبِتُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعِيدِ أَيْ سَيُكْبَتُونَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي خَبَرِهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] وَلِأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِتَنْظِيرِهِ بِمَا وَقَعَ لِأَمْثَالِهِمْ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَوْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْ كَبْتٍ وَقَعَ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُقْتَضَى لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ إِذْ لَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِيمَا وَقَعَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ: كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي الَّذِينَ حَادُّوا اللَّهَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا فَالْمُرَادُ بِصِلَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ.

[سورة المجادلة (58) : آية 6]

وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ. مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجُمْلَةِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي مُحَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَيِّنَةً عَلَى صِدْقِهِ. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ لَهُمْ بَعْدَ الْكَبْتِ عَذَابٌ مُهِينٌ فِي الْآخِرَةِ. وَتَعْرِيفُ (الْكَافِرِينَ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِيَسْتَغْرِقَ كُلَّ الْكَافِرِينَ. وَوَصَفَ عَذَابَهُمْ بِالْمُهِينِ لِمُنَاسَبَةِ وَعِيدِهِمْ بِالْكَبْتِ الَّذِي هُوَ الذل والإهانة. [6] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 6] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) يجوز أَنْ يَكُونَ يَوْمَ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِالْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة: 5] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ مُهِينٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ تَنْوِيهًا بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَهْوِيلًا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] . وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِلَفْظِ الشُّمُولِ وَهُوَ جَمِيعاً حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تَهْدِيدٌ بِفَضْحِ نِفَاقِهِمْ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.

[سورة المجادلة (58) : آية 7]

وَجُمْلَةُ أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ (مَا عَمِلُوا) . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِ هُوَ مَا عطف عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَنَسُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ. وَبِه تكون الْحَال مُؤَسِّسَةً لَا مُؤَكِّدَةً لعاملها، وَهُوَ فَيُنَبِّئُهُمْ، أَيْ عَلِمَهُ اللَّهُ عِلْمًا مُفَصَّلًا مِنَ الْآنَ، وَهُمْ نَسُوهُ، وَذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُتَهَاوِنُونَ بِعَظِيمِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ مِنَ الْغُرُورِ، أَيْ نَسُوهُ فِي الدُّنْيَا بَلْهَ الْآخِرَةِ فَإِذَا أُنْبِئُوا بِهِ عَجِبُوا قَالَ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: 49] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَذْيِيلٌ. وَالشَّهِيدُ: الْعَالِمُ بالأمور الْمُشَاهدَة. [7] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 7] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ تَخَلُّصٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] إِلَى ذِكْرِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَحْلَافِهِمُ الْيَهُودِ. فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يُنَاجِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيُرِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مَوَدَّةَ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ بِتَنَاجِيهِمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ أَمْرُهَا وَاحِدٌ وَكَلِمَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ يُحِبُّونَ أَنْ تكون لَهُم خيفة فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ يَتَّقُونَ بِهَا بَأْسَهُمْ إِنِ اتَّهَمُوا بَعْضَهُمْ بِالنِّفَاقِ أَوْ بَدَرَتْ مِنْ أَحَدِهِمْ بَادِرَةٌ تَنُمُّ بِنِفَاقِهِ، فَلَا يُقْدِمُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَذَاهُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ لَهُ بِطَانَةً تُدَافِعُ عَنْهُ. وَكَانُوا إِذَا مَرَّ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ فَحَسِبُ الْمَارُّونَ لَعَلَّ حَدَثًا حَدَثَ مِنْ مُصِيبَةٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ عَلَى تَوَقُّعِ حَرْبٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي كُلِّ حِينٍ فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مُنَاجَاةَ الْمُتَنَاجِينَ حَدِيثٌ عَنْ قُرْبِ الْعَدُوِّ أَوْ عَنْ هَزِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي السَّرَايَا الَّتِي يَخْرُجُونَ فِيهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ لِإِشْعَارِ الْمُنَافِقِينَ بِعِلْمِ اللَّهِ بِمَاذَا يَتَنَاجَوْنَ، وَأَنَّهُ مطلع رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ لِيَكُفُّوا عَنِ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى الْآيَة [المجادلة: 8] . وأَ لَمْ تَرَ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يُرَى وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ اللَّهَ عَالِمًا. وَمَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَعُمُّ الْمُبْصِرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: 6] لِاخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ الْمُشَاهَدَاتِ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمُفْتَتَحَ بِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ هُوَ عِلْمُ الْمَسْمُوعَاتِ. وَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَى آخِرِهَا بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ. وَقَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَقَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا يَتَنَاجَوْنَ فِيهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَجِيٌّ مَعَهُمْ. وَمَا نَافِيَةٌ. ويَكُونُ مُضَارِعُ (كَانَ) التَّامَّةِ، ومِنْ زَائِدَةٌ فِي النَّفْيِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، ونَجْوى فِي مَعْنَى فَاعِلِ يَكُونُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَكُونُ بِيَاءِ الْغَائِبِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ نَجْوى غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَيَجُوزُ فِيهِ جَرْيُ فِعْلِهِ عَلَى أَصْلِ التَّذْكِيرِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاعِلِهِ بِحَرْفِ مِنْ الزَّائِدَةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَاءِ الْمُؤَنَّثِ رَعْيًا لِصُورَةِ تَأْنِيثِ لَفْظِهِ. وَالنَّجْوَى: اسْمُ مَصْدَرِ نَاجَاهُ، إِذَا سَارَّهُ. وثَلاثَةٍ مُضَافٌ إِلَيْهِ نَجْوى. أَيْ مَا يَكُونُ تَنَاجِي ثَلَاثَةٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ كَرَابِعٍ لَهُمْ، وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ كَسَادِسٍ لَهُمْ، وَلَا أَدْنَى وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى ثَلاثَةٍ وَإِلَى خَمْسَةٍ وَإِلَى ذلِكَ وأَكْثَرَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ وَتَخْصِيصُ عَدَدَيِ الثَّلَاثَةِ وَالْخَمْسَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بعض المتناجين الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمْ كَانُوا حِلَفًا بِعْضُهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَبَعْضُهَا مِنْ خَمْسَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى غَيْرُ مَصْمُودٍ وَالْعَدَدُ غَيْرُ مَقْصُودٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي رَبِيعَةَ وَحَبِيبٍ ابْنَيْ عَمْرِو (بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ

ثَقِيفٍ) وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ (السُّلَمِيِّ حَلِيفِ بَنِي أَسَدٍ) كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: يَعْلَمُ بَعْضًا وَلَا يَعْلَمُ بَعْضًا. وَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَعْضًا فَهُوَ يَعْلَمُ كُلَّهُ. اهـ. وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي غَيْرِ «الْكَشَّافِ» وَلَا مُنَاسَبَةَ لِهَذَا بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَعُدُّوا فِي الصَّحَابَةِ وَكَأَنَّ هَذَا تَخْلِيطٌ مِنَ الرَّاوِي بَيْنَ سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [22] . كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَرُكِّبَتْ أَسْمَاءُ ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ فآية النَّجْوَى إِنَّمَا هِيَ فِي تَنَاجِي الْمُنَافِقِينَ أَوْ فِيهِمْ وَفِي الْيَهُودِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ مُفَرَّعٌ مِنْ أَكْوَانٍ وَأَحْوَالٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَكُونُ وَالْجُمَلُ الَّتِي بعد حرف الِاسْتِثْنَاء فِي مَوَاضِعِ أَحْوَالٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يكون من نَجْوَى ثَلَاثَةٍ فِي حَالٍ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا حَالَةٌ اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ. وَتَكْرِيرُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ وَخَاصَّةً حَيْثُ كَانَ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْمَعَاطِيفِ اسْتِثْنَاءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا أَكْثَرَ بِنَصْبِ أَكْثَرَ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ نَجْوى. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ نَجْوى لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ زَائِدٍ. وأَيْنَ مَا مُرَكَّبٌ مِنْ (أَيْنَ) الَّتِي هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَ (مَا) الزَّائِدَةُ. وَأُضِيفَ (أَيْنَ) إِلَى جُمْلَةِ كانُوا، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانُوا فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [4] . وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ إِنْبَاءَهُمْ بِمَا تَكَلَّمُوا وَمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَدَلُّ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ مِنْ عِلْمِهِ بِحَدِيثِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ مُعْظَمَ عِلْمِ الْعَالَمِينَ يَعْتَرِيهِ النِّسْيَانُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الطُّولِ وَكَثْرَةِ تَدْبِيرِ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّ نَجْوَاهُمْ إِثْمٌ عَظِيمٌ فَنُهِيَ عَنْهُ وَيَشْمَلُ هَذَا تَحْذِيرَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ.

[سورة المجادلة (58) : آية 8]

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا فَأَغْنَتْ أَنَّ غناء فَاء السبية كَقَوْلِ بَشَّارٍ: إِنْ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ أَنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّنَاجِي كَانَ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا. [8] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 8] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ. إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نُهُوا عَنِ النَّجْوى مُؤْذِنًا بِأَنَّهُ سَبَقَ نَهْيٌ عَنِ النَّجْوَى قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ نَهَاهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّنَاجِي بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ نَزَلَتْ لِتَوْبِيخِهِمْ وَهُوَ مَا اعْتَمَدْنَاهُ آنِفًا. وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِفَتْرَةٍ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [المجادلة: 7] كَمَا تَقَدَّمَ، بِأَنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ النَّجْوَى بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا الْوَعِيدَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى هُمُ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] الْآيَةَ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ عَوْدَتَهُمْ إِلَى النَّجْوَى بَعْدَ أَن نهوا عَنْهَا أَعْظَمُ مِنِ ابْتِدَاءِ النَّجْوَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَهَا كَانَ إِثْمًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نَجْوَاهُمْ مِنْ نَوَايَا سَيِّئَةٍ نَحْو النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا عَوْدَتُهُمْ إِلَى النَّجْوَى بَعْدَ أَنْ نُهُوا عَنْهَا فَقَدْ زَادُوا بِهِ تَمَرُّدًا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَاقَّةً لِلْمُسْلِمِينَ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا اقْتَضَاهُ اسْتِمْرَارُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نَجْوَاهُمْ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى تَعْجِيبِيٌّ مُرَادٌ بِهِ تَوْبِيخُهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَهُ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهَا بِحَرْفِ إِلَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّجْوى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّ سِيَاق الْكَلَام فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ النَّجْوَى. وَهِيَ النَّجْوَى الَّتِي تُحْزِنُ الَّذِينَ آمنُوا كَمَا ينبىء عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: 10] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ جِنْسِ النَّجْوَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَعُمُّ كُلَّ نَجْوَى بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : رُوِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ دُونَ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَآمَنَ النَّاسُ زَالَ هَذَا الْحُكْمُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ الْآيَةَ [114] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ، وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَرخص فِي ذَلِكَ بِصَفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ اه. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» حَدِيثٌ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ» . زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» . وَاخْتَلَفَ فِي مَحْمَلِ هَذَا النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْقَبَسِ» : فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ مِنْ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِ انْحَسَمَ التَّأْوِيلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا يَتَنَاجَى أَرْبَعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ. وَأما تناجي الْجَمَاعَة دُونَ جَمَاعَةٍ فَإِنَّهُ أَيْضًا مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ اه. وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ تَنَاجِي جَمَاعَةٍ دُونَ جَمَاعَةٍ وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ التِّينِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ (يَعْنِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهُوَ فِي مَلَأٍ فَسَارَرْتُهُ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُتَنَاجِيَيْنِ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمَا. وَأُلْحِقَ بِالتَّنَاجِي أَنْ يَتَكَلَّمَ رَجُلَانِ بِلُغَةٍ لَا يَعْرِفُهَا ثَالِثٌ مَعَهُمَا. وَالْقَوْلُ فِي اسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَتَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: 3] . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ ثُمَّ عَاطِفَةِ الْجُمْلَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَعُودُونَ دَالَّةٌ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ يُكَرِّرُونَ الْعَدَدَ بِحَيْثُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْعِصْيَانَ وَقِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّهْيِ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَادُوا إِلَى النَّجْوَى مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لَاحْتَمَلَ حَالُهُمْ أَنَّهُمْ نَسُوا. وَ «لِما نُهُوا عَنْهُ» هُوَ النَّجْوَى، فَعَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ النَّجْوَى إِلَى الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عَلَى مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّسْجِيلِ عَلَى سَفَهِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَتَناجَوْنَ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ مِنْ نَاجَى الْمَزِيدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَرُوَيْسٌ وَيَعْقُوبُ وَيَنْتَجُونَ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ مِنْ نَجَا الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ أَيْ سَارَّ غَيْرَهُ، وَالِافْتِعَالُ يَرِدُ بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ مِثْلِ اخْتَصَمُوا وَاقْتَتَلُوا. وَالْإِثْمُ: الْمَعْصِيَةُ وَهُوَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تَنَاجِيهِمْ مِنْ كَلَامِ الْكُفْرِ وَذَمِّ الْمُسْلِمِينَ. والْعُدْوانِ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يُدَبِّرُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَمَعْصِيَةُ الرَّسُولِ مُخَالَفَةُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ النَّجْوَى وَهُمْ يعودون لَهَا. وَالْيَاء لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يَتَنَاجَوْنَ مُلَابِسِينَ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ وَمَعْصِيَةَ الرَّسُولِ وَهَذِهِ الْمُلَابَسَةُ مُتَفَاوِتَةٌ. فَمُلَابَسَةُ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُلَابَسَةُ الْمُتَنَاجِي فِي شَأْنِهِ لِفِعْلِ الْمُنَاجِينَ. وَمُلَابَسَةُ مَعْصِيّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلَابَسَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْفِعْلِ، لِأَنَّ نَجْوَاهُمْ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا مَعْصِيَةٌ وَفِي قَوْلِهِ: نُهُوا عَنِ النَّجْوى وَقَوْلِهِ: وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لَا يَهُودُ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ

يَنْهَى الْيَهُودَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، بَلِ الْحَقُّ مَا فِي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقين. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ. بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي اخْتِلَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ذَكَرَ حَالَ نِيَّاتِهِمُ الْخَبِيثَةِ عِنْدَ الْحُضُورِ فِي مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ يَتَتَبَّعُونَ سُوءَ نِيَّاتِهِمْ مِنْ كَلِمَاتٍ يَتَبَادَرُ مِنْهَا لِلسَّامِعِينَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ فَكَانُوا إِذَا دَخَلُوا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِتُونَ لَفْظَ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» لِأَنَّهُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَلِمَا فِيهِ من جمع مَعْنَى السَّلَامَةِ يَعْدِلُونَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَتْرُكُوا عَوَائِدَ الْجَاهِلِيَّةِ. نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَمَعْنَى بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيَّاهُ بِذَلِكَ بِخُصُوصِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: 56] . وَحَيَّاهُ بِهِ فِي عُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْل: 59] وَتَحِيَّةُ اللَّهِ هِيَ التَّحِيَّةُ الْكَامِلَةُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حيّوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «وَعَلَيْكُمْ» . فَإِنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي قَوْمٍ مَعْرُوفٌ أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَمَا ذُكِرَ أَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ الْيَهُودِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَلَوْ حمل ضمير جاؤُكَ عَلَى الْيَهُودِ لَزِمَ عَلَيْهِ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ. أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذَا مِثْلُ مَا كَانَ بَعضهم يَقُول للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: راعِنا [الْبَقَرَة: 104] تَعَلَّمُوهَا مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّوْجِيهَ بِالرُّعُونَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 104] وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُ نَهْيَ الْيَهُودِ. وَمَعْنَى يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة المجادلة (58) : آية 9]

فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] . وَقَوْلِهِ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النُّور: 12] ، أَيْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَنْفُسِهِمْ مَجَامِعِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً، أَيْ قُلْ لَهُمْ خَالِيًا بِهِمْ سَتْرًا عَلَيْهِمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63] ولَوْلا لِلتَّحْضِيضِ، أَيْ هَلَّا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِسَبَبِ كَلَامِنَا الَّذِي نَتَنَاجَى بِهِ مِنْ ذمّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَيْ يَقُولُونَ مَا مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيئًا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُهُ مِنَ السُّوءِ فِيهِ وَمِنَ الذَّمِّ وَهُوَ مَا لَخَّصَهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِكَلِمَةِ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ فَإِنَّ لَوْلا لِلتَّحْضِيضِ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةٌ عَن جحد نبوءة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ كَانَ نَبِيئًا لَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَعَذَّبَنَا الْآنَ بِسَبَبِ قَوْلِنَا لَهُ. وَهَذَا خَاطِرٌ مِنْ خَوَاطِرِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِيهِمْ، وَهِيَ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ شَأْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَشَأْنِ الْبَشَرِ فِي إِسْرَاعِ الِانْتِقَامِ وَالِاهْتِزَازِ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ وَمِنَ الْمُعَانَدَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لِجُحُودِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ يَحْسَبُونَ أَنَّ عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى يَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا» . وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ قَالَ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت: 23] ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى كَلَامِهِمْ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ أَيْ كَافِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ جَهَنَّمُ فَإِنَّهُ عَذَابٌ. وَأَصْلُ يَصْلَوْنَها يَصْلَوْنَ بِهَا، فَضَمَّنَ مَعْنَى يَذُوقُونَهَا أَوْ يَحُسُّونَهَا وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ بِشَأْنِ ذمّ جَهَنَّم. [9] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 9] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ فَعَامَلَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَظْهَرُوهُ وَنَادَاهُمْ بِوَصْفِ الَّذِينَ آمَنُوا كَمَا قَالَ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الْمَائِدَة: 41]

وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ بِزَعْمِهِ، وَنَبَّهَهُمْ إِلَى تَدَارُكِ حَالِهِمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ آثَارِ النِّفَاقِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّخْوِيفِ بِالتَّرْغِيبِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ فَكَانُوا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ مُقَارِبِينَ الْإِيمَانَ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِالنُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: 17] ثُمَّ قَوْلِهِ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة: 20] . وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِنْ كَانُوا مُتَنَاجِينَ لَا مَحَالَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ بِأَنْ وَجَّهَ اللَّهُ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ تَعْلِيمًا لَهُمْ بِمَا يَحْسُنُ مِنَ التَّنَاجِي وَمَا يَقْبُحُ مِنْهُ بِمُنَاسَبَةِ ذَمِّ تَنَاجِي الْمُنَافِقِينَ فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِالنَّهْيِ عَنْ مِثْلِ تَنَاجِي الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيضًا بِالْمُنَافِقِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمرَان: 156] ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالتَّقْيِيد ب إِذا تَناجَيْتُمْ يُشِير إِلَى أَنه لَا يَنْبَغِي التناجي مُطلقًا وَلَكنهُمْ لما اعتادوا التناجي حذروا من غوائله، وَإِلَّا فَإِن التَّقْيِيد مُسْتَغْنى عَنهُ بقوله: «لَا تتناجوا بالإثم والعدوان» . وَهَذَا مثل مَا وَقع فِي حَدِيث النَّهْي عَن الْجُلُوس فِي الطرقات من قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِن كُنْتُم فاعلين لَا محَالة فاحفظوا حق الطَّرِيق» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تَتَناجَوْا بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَحْدَهُ فَلَا تَنْتَجُوا بِوَزْنِ تَنْتَهُوا. وَالْأَمْرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تَناجَيْتُمْ.

[سورة المجادلة (58) : آية 10]

وَالْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ وَمَعْصِيَةُ الرَّسُولِ تَقَدَّمَتْ. وَأَمَّا الْبِرُّ فَهُوَ ضِدُّ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَهُوَ يَعُمُّ أَفْعَالَ الْخَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الدِّينِ. والتَّقْوى: الِامْتِثَالُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] . وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تَذْكِيرٌ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ. فَالْمَعْنَى: الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون فيجازيكم. [10] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 10] إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْنِيسٌ لِنُفُوسِهِمْ يُزَالُ بِهِ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْحُزْنِ لِمُشَاهَدَةِ نَجْوَى الْمُنَافِقِينَ لِاخْتِلَافِ مَذَاهِبِ نُفُوسِهِمْ إِذَا رَأَوُا الْمُتَنَاجِينَ فِي عَدِيدِ الظُّنُونِ وَالتَّخَوُّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ اقْتَضَتْهُ مُنَاسِبَةُ النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى، عَلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَعْلِيلًا لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّجْوى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لَا مَحَالَةَ. أَيْ نَجْوَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ومعصية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ قَصَرَ النَّجْوَى عَلَى الْكَوْنِ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيْ جَائِيَةٌ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ الَّتِي يَتَنَاجَوْنَ فِيهَا مِنْ أَكْبَرِ مَا يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ بِأَنْ يَفْعَلُوهُ لِيُحْزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يَتَطَرَّقُهُمْ مِنْ خَوَاطِرِ الشَّرِّ بِالنَّجْوَى. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَيْسَتْ قَيْدًا فِي الْحَصْرِ فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ عِلَلًا أُخْرَى مِثْلَ إِلْقَاءِ الْمُتَنَاجِينَ فِي الضَّلَالَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى إِلْقَاءِ الْفِتْنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَقَدْ خُصَّتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَصَبُّرُهُمْ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً لِيَطْمَئِنَّ الْمُؤْمِنُونَ بِحِفْظِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ ضُرِّ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا نَحْو من قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحجر: 42] .

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ لِيَحْزُنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ فَيَكُونُ الَّذِينَ آمَنُوا مَفْعُولًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمَّ الزَّاي مضارع حزم فَيَكُونُ الَّذِينَ آمَنُوا فَاعِلًا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَجُمْلَةُ وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ. وَضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: بِضارِّهِمْ عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطانِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّجْوَى أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ يُحْزِنُهُمْ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] أَوْ عَائِدٌ إِلَى النَّجْوَى بِتَأْوِيلِهِ بِالتَّنَاجِي، أَيْ لَيْسَ التَّنَاجِي بِضَارِّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَن أَكْثَره ناشىء عَنْ إِيهَامِ حُصُولِ مَا يَتَّقُونَهُ فِي الْغَزَوَاتِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ إِلَّا فِي حَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدَّرَ شَيْئًا مِنَ الْمَضَرَّةِ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ قَتْلٍ. وَالْمُرَادُ بِالْإِذْنِ أَمْرُ التَّكْوِينِ. وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ. وَوُقُوعُ شَيْئاً وَهُوَ ذِكْرُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ عُمُومَ نَفْيِ كُلِّ ضُرٍّ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيِ انْتَفَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ضُرِّ الشَّيْطَانِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْمَلُ ضُرَّ النَّجْوَى وَضُرَّ غَيْرِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ مِنْ عُمُومِ شَيْئاً الْوَاقِعُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا ضُرًّا مُلَابِسًا لِإِذْنِ اللَّهِ فِي أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ضُرَّهُ فِيهِ، أَيْ ضُرَّ وَسْوَسَتِهِ. وَاسْتُعِيرَ الْإِذْنُ لِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ بِمَا يُسَوِّلُ إِلَيْهَا. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] فَإِذَا خَلَّى اللَّهُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ يَكُونُ اقْتِرَابُ الْعَبْدِ مِنَ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي كُلِّ حَالَةٍ يَبْتَعِدُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ عَنْ مُرَاقَبَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ. وَهَذَا الضُّرُّ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّلْطَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الشَّيْطَانِ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أَيْ فَلَكَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ. وَهَذِهِ التَّصَارِيفُ الْإِلَهِيَّةُ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُعلمهُ من أَحْوَال عِبَادِهِ وَسَرَائِرِهِمْ وَهُوَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.

[سورة المجادلة (58) : آية 11]

وَلِهَذَا ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلًا حَقًّا بِأَنِ اسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَاسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَى تَيْسِيرِ ذَلِكَ لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق: 3] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومُ شَيْئاً مُرَادًا بِهِ الْخُصُوصُ، أَيْ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا مِمَّا يُوهِمُهُ تَنَاجِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ قَتْلٍ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ حُصُولَ هَزِيمَةٍ أَوْ قَتْلٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّنَاجِيَ يُوهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَيْسَ وَاقِعًا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنْ لَا يَحْزَنُوا بِالنَّجْوَى لِأَنَّ الْأُمُورَ تَجْرِي عَلَى مَا قَدَّرَهُ الله فِي نفس الْآمِرِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِ هَذَا الْمُتَعَلّق. [11] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) فَصَلَ بَيْنَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّجْوَى بِهَذِهِ الْآيَةِ مُرَاعَاةً لِاتِّحَادِ الْمَوْضُوعِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَضْمُونِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي أَنَّهُمَا يَجْمَعُهُمَا غَرَضُ التَّأَدُّبِ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتلك الْمُرَاعَاةُ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ اتِّحَادِ سِيَاقِ الْأَحْكَامِ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَبٌ فِي مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَدَبِ فِي مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخرت تِلْكَ عَنْ آيَاتِ النَّجْوَى الْعَامَّةِ إِيذَانًا بِفَضْلِهَا دُونَ النَّجْوَى الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَاتُ السَّابِقَةُ، فَاتِّحَادُ الْجِنْسِ فِي النَّجْوَى هُوَ مُسَوِّغُ الِانْتِقَالِ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ إِلَى النَّوْعِ الثَّانِي، وَالْإِيمَاءُ إِلَى تَمَيُّزِهَا بِالْفَضْلِ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى الْفَصْلَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بِآيَةِ أَدَبِ الْمَجْلِسِ النَّبَوِيِّ. وَأَيْضًا قَدْ كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ نِيَّةُ مَكْرٍ فِي قَضِيَّةِ الْمَجْلِسِ كَمَا كَانَ لَهُمْ نِيَّةُ مَكْرٍ فِي

النَّجْوَى، وَهَذَا مِمَّا أَنْشَأَ مُنَاسَبَةَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النَّجْوَى إِلَى ذِكْرِ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ. رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّفَّةِ، وَكَانَ فِي الْمَكَانِ ضِيقٌ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَدْ سَبَقُوا فِي الْمَجْلِسِ فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُفْسَحَ لَهُمْ وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُمْ يَا فُلَانُ بِعَدَدِ الْوَاقِفِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ أُقِيمُوا، وَغَمَزَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا أُنْصِفَ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ أَحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْ نَبِيئِهِمْ فَسَبَقُوا إِلَى مَجْلِسِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِ الَّذِينَ أُقِيمُوا، وَتَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ بِوَاجِبِ رَعْيِ فَضِيلَةِ أَصْحَابِ الْفَضِيلَةِ مِنْهَا، وَوَاجِبِ الِاعْتِرَافِ بِمَزِيَّةِ أَهْلِ الْمَزَايَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: 32] ، وَقَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] . وَالْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يَعُمُّ مَنْ حَضَرُوا الْمَجْلِسَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ حَادِثَةُ سَبَبِ النُّزُولِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ عَسَى أَنْ يَحْضُرَ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَابْتُدِئَتِ الْآيَةُ بِالْأَمْرِ بِالتَّفَسُّحِ لِأَنَّ إِقَامَةَ الَّذِينَ أُقِيمُوا إِنَّمَا كَانَتْ لِطَلَبِ التَّفَسِيحِ فَإِنَاطَةُ الْحُكْمِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَالتَّفَسُّحُ: التَّوَسُّعُ وَهُوَ تَفْعُّلٌ مِنْ فَسَحَ لَهُ بِفَتْحِ السِّينِ مُخَفَّفَةً إِذَا أَوْجَدَ لَهُ فُسْحَةً فِي مَكَانٍ، وَفَسُحَ الْمَكَانُ مِنْ بَابِ كَرُمَ إِذَا صَارَ فَسِيحًا. وَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ هُنَا لِلتَّكَلُّفِ، أَيْ يُكَلَّفُ أَنْ يَجْعَلَ فُسْحَةً فِي الْمَكَانِ وَذَلِكَ بِمُضَايَقَةٍ مَعَ الجلّاس. وتعريف الْمَجالِسِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، وَهُوَ مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِذَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُرَاعَاةِ حق رَاجِح على غَيْرِهِ وَالْمَجْلِسُ مَكَانُ الْجُلُوسِ. وَكَانَ مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسْجِدِهِ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ الْمَكَانَ الْمُسَمَّى بِالرَّوْضَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ مِنْبَر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون تَعْرِيف الْمَجالِسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ

مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: فَافْسَحُوا، وَهُوَ وَعْدٌ بِالْجَزَاءِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ التَّفَسُّحِ مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ إِذْ جُعِلَتْ تَوْسِعَةُ اللَّهِ عَلَى الْمُمْتَثِلِ جَزَاءً عَلَى امْتِثَالِهِ الَّذِي هُوَ إِفْسَاحُهُ لِغَيْرِهِ فَضَمِيرُ لَكُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الَّذِينَ يَفْسَحُونَ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَشَاعٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ لِلَّذِينَ تَعَلَّقَ بِهِمُ الْأَمْرُ تَعَلُّقًا إِلْزَامِيًّا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَتَطَلَّبُ النَّاسُ الْإِفْسَاحَ فِيهِ بِحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ مَكَانٍ ورزق أَوْ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلَى حَسَبِ النِّيَّاتِ، وَتَقْدِيرُهُ الْجَزَاءُ مَوْكُولٌ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَحُذِفَ فَاعِلُ الْقَوْلِ لِظُهُورِهِ، أَيْ إِذَا قَالَ لَكُمُ الرَّسُولُ: تَفَسَّحُوا فَافْسَحُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّفَسُّحِ إِذَا أَمَرَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَن تفسح الْمُسلمين بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْمَجَالِسِ مَحْمُودٌ مَأْمُورٌ بِهِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمُكَارَمَةِ وَالْإِرْفَاقِ. فَهُوَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ وَاجِبِ التَّحَابِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْبُقْعَةِ يُضَايِقُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. فَهِيَ كُلْفَةٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إِذَا قُوبِلَتْ بِمَصْلَحَةِ التَّحَابِّ وَفَوَائِدِهِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى شِدَّةِ مُضَايِقَةٍ وَمَضَرَّةٍ أَوْ إِلَى تَفْوِيتِ مَصْلَحَةٍ مِنْ سَمَاعٍ أَوْ نَحْوِهِ مِثْلِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَصُفُوفِ الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ قِيَاسٌ عَلَى مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ مَجْلِسُ خَيْرٍ. وَرُوِيَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّكُمْ إِلَيَّ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ» . قَالَ مَالِكٌ: مَا أَرَى الْحُكْمَ إِلَّا يَطَّرِدُ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا غَابِرَ الدَّهْرِ. يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَإِنْ نَزَلَ فِي مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَامِلٌ لِمَجَالِسِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَجَالِسِ الْخَيْرِ لِأَنَّ هَذَا أَدَبٌ وَمُؤَاسَاةٌ، فَلَيْسَ فِيهِ قَرِينَةُ الْخُصُوصِيَّةِ بِالْمَجَالِسِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَرَادَ مَالِكٌ بِ «نَحْوِهَا» كُلَّ مَجْلِسٍ فِيهِ أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي شُؤُونِ الدِّينِ فَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْرِصُوا عَلَى إِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى حُضُورِهِ. وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِلَّتُهُ هِيَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْمَصَالِحِ. وَأَفْهَمَ لَفْظُ التَّفَسُّحِ أَنَّهُ تَجَنُّبٌ لِلْمُضَايَقَةِ وَالْمُرَاصَّةِ بِحَيْثُ يَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ حُضُورِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ يَحْصُلُ أَلَمٌ لِلْجَالِسِينَ.

وَقَدْ أَرْخَصَ مَالِكٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ دَعْوَةِ الْوَلِيمَةِ إِذَا كَثُرَ الزِّحَامُ فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْمَجْلِسِ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْمَجالِسِ وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَجُوزُ كَوْنُ اللَّامِ لِلْعَهْدِ وَكَوْنُهَا لِلْجِنْسِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مجَالِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا تَكَرَّرَتْ أَوْ مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَجَالِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْن يَصح أَن يكون الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَافْسَحُوا لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا الْآيَةَ عَطْفٌ عَلَى إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ. وانْشُزُوا أَمْرٌ مِنْ نَشَزَ إِذَا نَهَضَ مِنْ مَكَانِهِ يُقَالُ: نَشَزَ يَنْشُزُ مِنْ بَابِ قَعَدَ وَضَرَبَ إِذَا ارْتَفَعَ لِأَنَّ النُّهُوضَ ارْتِفَاعٌ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي استقرّ فِيهِ وَمِنْه نشوز الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا مَجَازًا عَنْ بُعْدِهَا عَنْ مَضْجَعِهَا. وَالنُّشُوزُ: أَخَصُّ مِنَ التَّفْسِيحِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ: مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْهُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَعْطُوفِ لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ أَقْوَى مِنَ التَّفْسِيحِ مِنْ قُعُودٍ. فَذُكِرَ النُّشُوزُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وَأَنَّ التَّفْسِيحَ الْمَأْمُورَ بِهِ تَفْسِيحٌ من قعُود لَا سِيمَا وَقَدْ كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ بِنُشُوزٍ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ النُّشُوزَ بِمُطْلَقِ الْقِيَامِ مِنْ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَ لِأَجْلِ التَّفْسِيحِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ لِأَجْلِهِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ «إِذَا قِيلَ انْشُزُوا إِلَى الْخَيْرِ وَإِلَى الصَّلَاةِ فَانْشُزُوا» . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِذَا قِيلَ انْشُزُوا عَنْ بَيْتِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفِعُوا فَإِن للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَائِجَ، وَكَانُوا إِذَا كَانُوا فِي بَيْتِهِ أَحَبَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُخَصِّصُ الْعَامَّ وَلَا يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ. وَهَذَا الْحُكْمُ إِذَا عَسُرَ التَّفْسِيحُ وَاشْتَدَّ الزِّحَامُ وَالتَّرَاصُّ فَإِنَّ لِأَصْحَابِ الْمَقَاعِدِ الْحَقَّ الْمُسْتَقِرَّ فِي أَنْ يَسْتَمِرُّوا قَاعِدِينَ لَا يُقَامُ أَحَدٌ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَقُومُ لِأَجْلِهِ أَوْلَى بِالْمَكَانِ مِنَ الَّذِي أُقِيمَ لَهُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْأَوَّلِيَّةِ كَمَا فعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِقَامَةِ نَفَرٍ لِإِعْطَاءِ مَقَاعِدِهِمْ لِلْبَدْرِيِّينَ. وَمِنْهُ أَوْلَوِيَّةُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِمَجَالِسِ الدَّرْسِ، وَأَوْلَوِيَّةُ النَّاسِ فِي مَقَاعِدِ الْمَسَاجِدِ بِالسَّبْقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ نهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ.

وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْمَسْجِدِ بِبِسَاطِهِ أَوْ طَنْفَسَتِهِ أَوْ سَجَّادَتِهِ لِتُبْسَطَ لَهُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيَجْلِسَ عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ حَوْزٌ لِذَلِكَ الْمَكَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُرْسِلُ غُلَامَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَجْلِسُ لَهُ فِيهِ فَإِذَا جَاءَ ابْنُ سِيرِينَ قَامَ الْغُلَامُ لَهُ مِنْهُ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طَنْفَسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ فَإِذَا غَشِيَ الطَّنْفَسَةَ كُلَّهَا ظَلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ. فَالطَّنْفَسَةُ وَنَحْوُهَا حَوْزُ الْمَكَانِ لِصَاحِبِ الْبِسَاطِ. فَيَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا يُبَكِّرُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَأْخُذُ مَكَانًا يَقْعُدُ فِيهِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي أَرْسَلَ تَرَكَ لَهُ الْبُقْعَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ النِّيَابَةِ فِي حَوْزِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ انْشُزُوا فَانْشُزُوا بِضَمِّ الشِّينِ فِيهِمَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَهَمَا لُغَتَانِ فِي مُضَارِعِ نَشَزَ. وَقَوْلُهُ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ جَوَاب الْأَمر فِي قَوْله: فَانْشُزُوا فَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى جَزْمِ فِعْلِ يَرْفَعِ فَهُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ بِهَذَا. وَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا فِيهِ أَمْرٌ أَوْ لِمَا يَقْتَضِي الْأَمْرُ مِنْ عِلَّةٍ يُقَاسُ بِهَا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْثَالُهُ مِمَّا فِيهِ عِلَّةُ الْحُكْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَافْسَحُوا. وَلَمَّا كَانَ النُّشُوزُ ارْتِفَاعًا عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ كَانَ جَزَاؤُهُ مِنْ جِنْسِهِ. وَتَنْكِيرُ دَرَجاتٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنْوَاعِهَا مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَدَرَجَاتِ الْآخِرَةِ. وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلَّذِينَ نُودُوا بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ يَرْفَعِ اللَّهُ دَرَجَاتِ الَّذِينَ امْتَثَلُوا. وَقَرِينَةُ هَذَا التَّقْدِيرِ هِيَ جَعْلُ الْفِعْلِ جَزَاءً لِلْأَمْرِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مُسَبَّبٌ عَمَّا رُتِّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ صِفَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا. أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّغَايُرُ بَيْنَ مَعْنَى الْوَصْفِ وَمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِتَغَايُرِ الْمُقَدَّرِ وَإِنْ كَانَ لفظ الْوَصْف وَلَفظ الْمَوْصُوف مُتَرَادِفَيْنِ فِي الظَّاهِرِ. فَآلَ الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْأَمْرِ بِالنُّشُوزِ إِذَا كَانُوا

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ دُونَ مَنْ يَضُمُّهُ الْمَجْلِسُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ النَّاشِزِينَ مِنْكُمْ فَاسْتَحْضَرُوا بِالْمَوْصُولِ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِأَجْلِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ الْقَائِلِ انْشُزُوا وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لِإِيمَانِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ الِامْتِثَالَ مِنْ إِيمَانِهِمْ لَيْسَ لِنِفَاقٍ أَوْ لِصَاحِبِهِ امْتِعَاضٌ. وَعَطَفَ «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْهُمْ» عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ غِشْيَانَ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَتَعْلِيمِهِ، أَيْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ لِأَحَدٍ بِالْقِيَامِ مِنَ الْمَجْلِسِ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ إِجْلَاسِهِمْ، وَذَلِكَ رَفْعٌ لِدَرَجَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَمَكُّنُهُمْ أَجْمَعَ لِلْفَهْمِ وَأَنْفَى لِلْمَلَلِ، وَذَلِكَ أَدْعَى لِإِطَالَتِهِمُ الْجُلُوسَ وَازْدِيَادِهِمُ التَّلَقِّيَ وَتَوْفِيرِ مُسْتَنْبَطَاتِ أَفْهَامِهِمْ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِقَامَةُ الْجَالِسِينَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَجْلِ إِجْلَاسِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ رَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَلَعَلَّ الْبَدْرِيِّينَ الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ قِصَّتِهِمْ كَانُوا مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. وَيَجُوزُ أَنْ بَعْضًا مِنَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِيَامِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأُقِيمَ لِأَجْلِ رُجْحَانِ فَضِيلَةِ الْبَدْرِيِّينَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِي الْوَعْدِ لِلَّذِي أُقِيمَ مِنْ مَكَانِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ اسْتِئْنَاسٌ لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ رَافِعُ دَرَجَتِهِ. هَذَا تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قُوَّةُ إِيجَازِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْإِفْصَاحِ عَنِ اسْتِفَادَةِ الْمَعْنَى مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ مَذَاهِبَ كَثِيرَةً وَمَا سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ مِنْهَا. وَانْتَصَبَ دَرَجاتٍ، عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ مَكَانٍ يَتَعَلَّقُ بِ يَرْفَعِ أَيْ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا رَفْعًا كَائِنًا فِي دَرَجَاتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَرْفَعِ لِأَنَّهَا دَرَجَاتٌ مِنَ الرَّفْعِ، أَيْ مَرَافِعَ.

[سورة المجادلة (58) : آية 12]

وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْكَرَامَةِ فَإِنَّ الرَّفْعِ فِي الْآيَةِ رَفْعًا مَجَازِيًّا، وَهُوَ التَّفْضِيلُ وَالْكَرَامَةُ وَجِيءَ لِلِاسْتِعَارَةِ بِتَرْشِيحِهَا بِكَوْنِ الرَّفْعِ دَرَجَاتٍ. وَهَذَا التَّرْشِيحُ هُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مِثْلُ التَّرْشِيحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [الرَّعْد: 25] وَهَذَا أَحْسَنُ التَّرْشِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [83] نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْكُمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَلَعَلَّهُ يَعْنِي: نَصْبَ دَرَجاتٍ بِفِعْلٍ هُوَ الْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ، أَيِ اللَّهُ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَمُخْتَلِفِ نِيَّاتِكُمْ مِنْ الِامْتِثَالِ كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبيله» الحَدِيث. [12] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 12] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ إِلَى ذِكْرِ بَعْضِ أَحْوَالِ النَّجْوَى وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِهَا الْمَحْمُودَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [المجادلة: 9] . فَهَذِهِ الصَّدَقَةُ شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ سَبَبَهَا مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرَتْ عَقِبَ آيِ النَّجْوَى لِاسْتِيفَاءِ أَنْوَاعِ النَّجْوَى مِنْ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ صَدَقَةِ الْمُنَاجَاةِ. فَنُقِلَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَجَابِر بن زِيَاد وَزيد بْنِ أَسْلَمَ وَمُقَاتِلٍ أَقْوَالٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مُتَخَالِفَةٌ، وَلَا أَحْسَبُهُمْ يُرِيدُونَ مِنْهَا إِلَّا حِكَايَةَ أَحْوَالٍ لِلنَّجْوَى كَانَتْ شَائِعَةً، فَلَمَّا نَزَلَ حُكْمُ صَدَقَةِ النَّجْوَى أَقَلَّ النَّاسُ مِنَ النَّجْوَى. وَكَانَتْ عِبَارَاتُ الْأَقْدَمِينَ تَجْرِي عَلَى التَّسَامُحِ فَيُطْلِقُونَ عَلَى أَمْثِلَةِ الْأَحْكَامِ وَجُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيَّاتِ اسْمَ أَسْبَابِ النُّزُولِ، كَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَمْسَكَ مُجَاهِدٌ فَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ شَرْعَهَا اللَّهُ وَفَرْضَهَا عَلَى مَنْ يَجِدُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْقَطَهَا عَنِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ، وَجَعَلَ سَبَبَهَا وَوَقْتَهَا هُوَ وَقْتَ تُوَجُّهِهِمْ إِلَى مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ حَرِيصِينَ عَلَى سُؤَالِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ كُلَّ يَوْمٍ فَشَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ هَذِهِ الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ نَفْعًا يَوْمِيًّا، وَكَانَ الْفُقَرَاءُ أَيَّامَئِذٍ كَثِيرِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَمُعْظَمُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ شُرِعَتْ بَعْدَ الزَّكَاةِ فَتَكُونُ لِحِكْمَةِ إِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ يَوْمًا فَيَوْمًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ تُدْفَعُ فِي رُؤُوسِ السِّنِينَ وَفِي مُعَيَّنِ الْفُصُولِ، فَلَعَلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهَا يَسْتَنْفِدُونَهُ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ الْقَابِلَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ صَدَقَةَ الْمُنَاجَاةِ شُرِعَتْ قَبْلَ شَرْعِ الزَّكَاةِ وَنُسِخَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [المجادلة: 13] أَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ شَرْعٌ مُفْرَدٌ مَعْلُومٌ، وَلَعَلَّ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَرَادَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالِاكْتِفَاءِ بِالزَّكَاةِ. وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَسَانِيدِ تَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَدُمِ الْعَمَلُ بِهَا إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا، قِيلَ: إِنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَيْ أَنَّهَا لَمْ يَدُمِ الْعَمَلُ بِهَا طَوِيلًا إِنْ كَانَ الْأَمْرُ مُرَادًا بِهِ الْوُجُوبُ وَإِلَّا فَإِنَّ نَدْبَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكُونَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ أَزْكَى عِنْدَ مُلَاقَاةِ النَّبِيءِ مِثْلَ اسْتِحْبَابِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لكل صَلَاة. وتضافرت كَلِمَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَدْ نَسَخَهُ قَوْلُهُ: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] الْآيَةَ. وَهَذَا مُؤَذِّنٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَأَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ حِكَايَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحُومُ حَوْلَ كَوْنِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ شُرِعَتْ لِصَرْفِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ مُنَاجَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانُوا قَدْ أَلْحَفُوا فِي مُنَاجَاتِهِ دُونَ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ فَلَا يَنْثَلِجُ لَهَا صَدْرُ الْعَالِمِ لِضَعْفِهَا سَنَدًا وَمَعْنًى، وَمُنَافَاتِهَا مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ. وَأَقْرَبُ مَا رُوِيَ عَنْ خَبَرِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ مَا فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ عَلِىِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَالَ لي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ فَنِصْفُ دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَيْ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ فَنَزَلَتْ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [المجادلة: 13] الْآيَةَ. قَالَ: «فَبِيَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اه. قُلْتُ: عَلِيُّ بْنُ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: صَحَّحُوا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي» . وَسَاقَ حَدِيثًا. وَمَحْمَلُ قَوْلِ عَلِيٍّ «فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، أَنَّهُ أَرَادَ التَّخْفِيفَ فِي مِقْدَارِ الصَّدَقَةِ مِنْ دِينَارٍ إِلَى زِنَةِ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَهِيَ جُزْءٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءا من أَجزَاء الدِّينَارِ. وَفَعْلُ ناجَيْتُمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] . وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدِّمُوا لِلْوُجُوبِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ وَرَجَّحَهُ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَبِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا بِفَقْدِهِ يَزُولُ الْوُجُوبُ. وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ نُسِخَتْ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ فَرِيقٌ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَهُوَ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنْ فَرَضَ الزَّكَاةِ كَانَ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ شَرْعَ الزَّكَاةِ أَبْطَلَ كُلَّ حَقٍّ كَانَ وَاجِبًا فِي الْمَالِ. وبَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ مَعْنَاهُ: قَبْلَ نَجْوَاكُمْ بِقَلِيلٍ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْمِثْلِ لِلْقُرْبِ مِنَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. شَبَّهَتْ هَيْئَةَ قُرْبِ الشَّيْءِ مِنْ آخَرٍ بِهَيْئَةِ وُصُولِ الشَّخْصِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَرِدُ هُوَ عَلَيْهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.

وَيُسْتَعْمَلُ فِي قُرْبِ الزَّمَانِ بِتَشْبِيهِ الزَّمَانِ بِالْمَكَانِ كَمَا هُنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] . وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ إِلَى التَّقْدِيمِ الْمَفْهُومِ مِنْ «قَدَّمُوا» عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَقَوْلُهُ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ تَعْرِيفٌ بِحِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ قَبْلَ نجوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْغَبَ فِيهَا الرَّاغِبُونَ. وخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ: أَخْيَرُ وَهُوَ الْمُزَاوِجُ لِقَوْلِهِ: وَأَطْهَرُ أَيْ ذَلِكَ أَشَدُّ خَيْرِيَّةً لَكُمْ مِنْ أَنْ تناجوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ خَيْرٌ. كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 271] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ وَهُوَ مُقَابِلُ الشَّرِّ، أَيْ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ النَّجْوَى فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ تَحْصِيلُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حِينِ إِقْبَالِهِمْ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْصُلُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمُنَاجَاةِ مَا لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ بِدُونِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ. وَأَمَّا أَطْهَرُ فَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَطْهَرُ لَكُمْ بِمَعْنَى: أَشَدُّ طُهْرًا، وَالطُّهْرُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ طُهْرُ النَّفْسِ وَزَكَاؤُهَا لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ أَنْوَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ زَكِيَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: 103] . وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الصَّدَقَةُ زَكَاةً. وَصِفَةُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تُعْطَى لِلْفَقِيرِ حِينَ يَعْمِدُ الْمُسْلِمُ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنَاجِيَهُ. وَعَذَرَ اللَّهُ الْعَاجِزِينَ عَنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تَتَصَدَّقُونَ بِهِ قَبْلَ النَّجْوَى غَفَرَ اللَّهُ لَكُمُ الْمَغْفِرَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لَكُمْ لَوْ تَصَدَّقْتُمْ لِأَنَّ مَنْ نَوَى أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى نِيَّتِهِ. وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِدِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي النَّجْوَى بِدُونِ صَدَقَةٍ فَحَاصِلَةٌ

[سورة المجادلة (58) : آية 13]

بِدِلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ إِرَادَةَ مناجاته الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ عَبَثًا بَلْ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَحِيمٌ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَ غَيْرَ الْوَاجِدِ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفس إشعارا لَهُ بِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَنْفَعُهُ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخ. [13] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 13] أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ النَّجْوَى شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَمْسَكُوا عَنْ مُنَاجَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْقَطَ اللَّهُ وُجُوبَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَعَلَّ غَيْرَهُ لَمْ يحْتَج إِلَى نجوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتَصَدَ مِمَّا كَانَ يُنَاجِيهِ لِأَدْنَى مُوجِبٍ. فَالْخِطَابُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِرِينَ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشْفَاقُ توقع حُصُول مَالا يَبْتَغِيهِ وَمَفْعُولُ أَأَشْفَقْتُمْ هُوَ أَنْ تُقَدِّمُوا أَيْ مِنْ أَنْ تُقَدِّمُوا، أَيْ أَأَشْفَقْتُمْ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَقْرُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَسَقَطَ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ لِمَنْ يُرِيدُ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ عَلَى تَجَهُّمِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ فَوَائِدَ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 إلى 15]

ثُمَّ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ الْآيَةَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ أَيْ بَعْضًا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَ (إِذْ) ظَرْفِيَّةٌ مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ فَحِينَ لَمْ تَفْعَلُوا فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ. وَفَاءُ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ. وَجُمْلَةُ وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ (إِذْ) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ: خَفَّفْنَا عَنْكُمْ وَأَعْفَيْنَاكُمْ مِنْ أَنْ تُقَدِّمُوا صَدَقَةً قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفَاءُ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عَاطِفَةٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ وَحَافِظُوا عَلَى التَّكَالِيفِ الْأُخْرَى وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. أَيْ فَذَلِكَ لَا تَسَامُحَ فِيهِ، قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ كُلَّمَا ثَقُلَ عَلَيْهِم فعل مِمَّا كُلِّفُوا بِهِ يُعْفَوْنَ مِنْهُ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ سَابِقَةً عَلَى الْأَمْرِ بِصَدَقَةِ النَّجْوَى عَلَى الْأَصَحِّ كَانَ فِعْلُ آتُوا مُسْتَعْمَلًا فِي طَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلُ فِعْلِ فَأَقِيمُوا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَكْثُرُ وُقُوعُ الْفَاءِ بَعْدَ (إِذْ) وَمُتَعَلِّقِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [11] . وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [16] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي طَاعَةِ الله وَرَسُوله. [14، 15] [سُورَة المجادلة (58) : الْآيَات 14 إِلَى 15] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) هَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ هِيَ تُوَلِّيهِمُ الْيَهُودَ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهَلِ مِلَّتِهِمْ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهَلِ الشِّرْكِ.

وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهَا عَوْدٌ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي سَبَقَتْ فِيهِ آيَاتُ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا [المجادلة: 5] بَعْدَ أَنْ فَصَلَ بِمُسْتَطْرَدَاتٍ كَثِيرَةٍ بَعْدَهُ. وَالْقَوْمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ وَقَدْ عُرِفُوا بِمَا يُرَادِفُ هَذَا الْوَصْفَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: 7] . وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [المجادلة: 8] . وَوَجْهُ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا قَوْمًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ وَلَيْسُوا فِي دِينِهِمْ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى تَوَلِّيهِمْ إِلَّا اشْتِرَاكُ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ مَا هُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ حَالًا مِنَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، أَيْ مَا هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا يَهُودٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى قَوْماً وَهُمُ الْيَهُودُ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا هُمْ مِنْكُمْ صِفَةَ قَوْماً قَوْمًا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَلَا مُشْرِكِينَ بَلْ هُمْ يَهُودٌ. وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ وَلا مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّعَاكُسِ وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَاقِعٌ. وَمُرَادٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي مَعَ الْإِيجَازِ فَيُفِيدُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْا قَوْمًا أَجَانِبَ عَنْهُمْ عَلَى قَوْمٍ هُمْ أَيْضًا أَجَانِبُ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتِلَافُ الدِّينِ فَإِنَّ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ اخْتِلَافُ الدِّينِ وَاخْتِلَافُ النَّسَبِ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ عَرَبٌ وَيُفِيدُ بِالِاحْتِمَالِ الْآخَرِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ إِسْلَامَهُمْ لَيْسَ صَادِقًا، أَيْ مَا هُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِرَاسًا وَتَتْمِيمًا لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ ذَمُّ الْمُنَافِقِينَ أَشَدَّ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَمَاقَتِهِمْ إِذْ جَعَلُوا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مَنْ لَيْسُوا عَلَى دِينِهِمْ فَهُمْ لَا يُوثَقُ بِوِلَايَتِهِمْ وَأَضْمَرُوا بُغْضَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُصَادِفُوا الدِّينَ الْحَقَّ. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ عُطِفَ عَلَى تَوَلَّوْا وَجِيءَ بِهِ مُضَارِعًا لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِهِ وَلِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ فِي حِينِ حَلِفِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ لِلتَّنَصُّلِ مِمَّا فَعَلُوهُ. وَالْكَذِبُ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْوَاقِعِ وَهِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي يُخْبِرُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِي نَفْيِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ.

وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّعْجِيبِ لِأَنَّهُ أَشْنَعُ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ لِعَدَمِ التَّثَبُّتِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ هَذَا إِلَى مَا كَانَ يَحْلِفُهُ المُنَافِقُونَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ إِذَا كُشِفَ لَهُمْ بَعْضُ مَكَائِدِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ [التَّوْبَة: 56] ، وَقَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التَّوْبَة: 62] وَقَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 74] . قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَبْتَلٍ (بِنُونٍ فَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ) كَانَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ يُجَالس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرْفَعُ أَخْبَارَهُ إِلَى الْيَهُودِ ويسبّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا بُلِّغَ خَبَرَهُ أَوْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ جَاءَ فَاعْتَذَرَ وَأَقْسَمَ إِنَّهُ مَا فَعَلَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لإعداد الْعَذَاب الشَّديد لَهُمْ، أَيْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِيمَا مَضَى أَعْمَالًا سَيِّئَةً مُتَطَاوِلَةً مُتَكَرِّرَةً كَمَا يُؤذن بِهِ الْمُضَارِعُ مِنْ قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ. وَبَيْنَ (يَعْمَلُونَ) ، وَ (يَعْلَمُونَ) الْجِنَاسُ الْمَقْلُوبُ قَلْبَ بَعْضٍ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ، فَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِقَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَزِيَادَةِ مَكْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا لِأِنَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة: 15] وَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي التَّعْلِيلِ. وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ وَالسُّتْرَةُ، مِنْ جَنَّ، إِذَا اسْتَتَرَ، أَيْ وِقَايَةٌ مِنْ شُعُورِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ صَدِّ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ لِأَنَّهُمْ

[سورة المجادلة (58) : آية 17]

يَخْتَلِقُونَ أُكْذُوبَاتٍ يَنْسِبُونَهَا إِلَى الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وَذَلِكَ مَعْنَى التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَ «صَدُّوا» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا، وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِظُهُورِهِ، أَيْ فَصَدُّوا النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَي الْإِسْلَام بالتثبيط وَإِلْصَاقِ التُّهَمِ وَالنَّقَائِصِ بِالدِّينِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْل قاصرا، أَي فَصَدُّوا هُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمَجِيءُ فِعْلِ «صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» مَاضِيًا مُفَرَّعًا عَلَى اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً مَعَ أَنَّ أَيْمَانَهُمْ حَصَلَتْ بَعْدَ أَنْ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَاعًى فِيهِ التَّفْرِيعُ الثَّانِي وَهُوَ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا اتَّخَذُوا مِنْ أَيْمَانِهِمْ جُنَّةً سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَذَابِ يَقْتَضِي مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ. وَقَدْ وَصَفَ الْعَذَابَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِشَدِيدٍ وَهُوَ الَّذِي يُجَازَوْنَ بِهِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَحَلِفِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَوَصَفَ عَذَابَهُمْ ثَانِيًا بِ مُهِينٌ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى شَدِيدُ الْعَذَابِ لِأَجْلِ عَظِيمِ الْجُرْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّمْل: 88] . فَكَانَ الْعَذَابُ مُنَاسِبًا لِلْمَقْصِدَيْنِ فِي كُفْرِهِمْ وَهُوَ عَذَابٌ وَاحِدٌ فِيهِ الْوَصْفَانِ. وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ إِبْلَاغًا فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّهُ مَقَامُ تَكْرِيرٍ مَعَ تَحْسِينِهِ باخْتلَاف الوصفين. [17] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 17] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 16] فَكَمَا لَمْ تَقِهِمْ أَيْمَانُهُمُ الْعَذَابَ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَنْصَارُهُمْ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ ثَرَاؤُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ سِيَادَةٍ فَلَمْ يَرْضَوْا أَنْ يَصِيرُوا فِي طَبَقَةِ عُمُومِ

النَّاسِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مُهَيَّأً لِأَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَى الْمَدِينَةِ قُبَيْلَ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ، فَكَانُوا يَفْخَرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِوَفْرَةِ الْأَمْوَالِ وَكَثْرَةِ الْعَشَائِرِ وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» يُرِيدُ بِالْأَعَزِّ فَرِيقَهُ وَبِالْأَذَلِّ فَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ فَآذَنَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ مِمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَذَلَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَاب: 60، 61] . وَإِذَا لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا أَجْدَرُ بِأَنْ لَا تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ شَيْئًا، أَيْ شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الْإِغْنَاءِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنْصَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقَدْ شقينا إِذن. فو الله لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَمْوَالِنَا إِنْ كَانَتْ قِيَامَةٌ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَإِقْحَامُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ لِتَوْكِيدِ انْتِفَاءِ الْإِغْنَاءِ. وَمَعْنَى مِنَ اللَّهِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَوْ مِنْ عَذَابِهِ. وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَتَقْدِيرُهُ ظَاهِرٌ. وَيُلَقَّبُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ عَلَى إِرَادَةِ أَشْهَرِ أَحْوَالِهَا نَحْوَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] ، أَيْ أَكْلُهَا. وَجُمْلَةُ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ إِلَخْ خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ ثَانٍ عَنْ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة: 15] . وَجُمْلَةُ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَصَاحِبُ الشَّيْءِ مُلَازِمُهُ فَلَا يُفَارِقُهُ. إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ من قَوْلِهِ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً [المجادلة: 15] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة: 16] أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ، فَكَيْفَ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19] أَيْ مَا أَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ. فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ يُنَبِّهُ عَلَى

[سورة المجادلة (58) : آية 18]

أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ صَارَ جَدِيرًا بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنْهُ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [5] . [18] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 18] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ إِلَى قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 14- 16] وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [المجادلة: 6] . كَمَا سَبَقَ آنِفا فِي هَذَا السُّورَةِ، أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَحَلِفُهُمْ لِلَّهِ فِي الْآخِرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 23] . وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ فِي صِفَةِ الْحَلِفِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُشْرِكِينَ، وَفِي كَوْنِهِ حَلِفًا عَلَى الْكَذِبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ تَعَالَى فِتْنَةً فِي آيَة الْأَنْعَام [23] بقوله تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَمَعْنَى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ يَظُنُّونَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ حَلِفَهُمْ يُفِيدُهُمْ تَصْدِيقَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حَصَّلُوا شَيْئًا عَظِيمًا، أَيْ نَافِعًا. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ شِدَّةُ التَّلَبُّسِ بِالْوَصْفِ وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَحُذِفَتْ صِفَةُ شَيْءٍ لِظُهُورِ مَعْنَاهَا مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ عَلَى شَيْءٍ نَافِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: 68] . وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» . وَهَذَا يَقْتَضِي تَوَغُّلَهُمْ فِي النِّفَاقِ وَمُرُونَتَهُمْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ بَعْثِهِمْ لِأَنَّ نُفُوسَهُمْ خَرَجَتْ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا مُتَخَلِّقَةً بِهِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تَكْتَسِبُ تَزْكِيَةً أَوْ خُبْثًا فِي عَالَمِ التَّكْلِيفِ. وَحِكْمَةُ إِيجَادِ النُّفُوسِ فِي الدُّنْيَا هِيَ تَزْكِيَتُهَا وَتَصْفِيَةُ

[سورة المجادلة (58) : آية 19]

أَكْدَارِهَا لِتَخْلُصَ إِلَى عَالَمِ الْخُلُودِ طَاهِرَةً، فَإِنْ هِيَ سَلَكَتْ مَسْلَكَ التَّزْكِيَةِ تَخَلَّصَتْ إِلَى عَالَمِ الْخُلُودِ زَكِيَّةً وَيَزِيدُهَا اللَّهُ زَكَاءً وَارْتِيَاضًا يَوْمَ الْبَعْثِ. وَإِنِ انْغَمَسَتْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ فِي حَمْأَةِ النَّقَائِصِ وَصَلْصَالِ الرَّذَائِلِ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ تَشْوِيهًا لِحَالِهَا لِتَكُونَ مَهْزَلَةً لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ. وَقَدْ تَبْقَى فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ خَلَائِقُ لَا تُنَافِي الْفَضِيلَةَ وَلَا تُنَاقِضُ عَالَمَ الْحَقِيقَةِ مِثْلُ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ وَلِقَاءِ الْأَحِبَّةِ قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 67- 70] . وَفِي الحَدِيث: أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ أَنْ يَزْرَعَ، فَيَقُول الله: أَو لست فِيمَا شِئْتَ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَيُبَادِرُ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَجْدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زرع، فَضَحِك النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِقْرَارًا لِمَا فَهِمَهُ الْأَعْرَابِيُّ» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُسلم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» . قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» : هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ حَالَةٍ مَاتَ عَلَيْهَا الْمَرْءُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: يُبْعَثُ الزَّمَّارُ بِمِزْمَارِهِ. وَشَارِبُ الْخَمْرِ بِقَدَحِهِ اهـ. قُلْتُ: ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمُ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ إِذْ تَصِيرُ الْعُلُومُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَخَتَمَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ وَهُوَ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِحَالِ كَذِبِهِمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ [المجادلة: 14] . فَالْمُرَادُ أَنَّ كَذِبَهُمْ عَلَيْكُمْ لَا يُمَاثِلُهُ كَذِبٌ، حَتَّى قُصِرَتْ صِفَةُ الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِكَذِبِ غَيْرِهِمْ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَوْكِيدًا لِمُفَادِ الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، وَهُوَ أَنَّ كَذِبَ غَيْرِهِمْ كَلَا كَذِبٍ فِي جَانِبِ كَذِبِهِمْ، وَبِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ الْمُقْتَضِيَةِ اسْتِمَالَةَ السَّمْعِ لِخَبَرِهِمْ لِتَحْقِيقِ تَمَكُّنِ صِفَةِ الْكَذِبِ مِنْهُم حَتَّى أَنهم يُلَازِمُهُمْ يَوْم الْبَعْث. [19] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 19] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ

(19) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سِيقَ مِنْ وَصْفِهِمْ بِانْحِصَارِ صِفَةِ الْكَذِبِ فِيهِمْ يُثِيرُ سُؤَالَ السَّامِعِ أَنْ يَطْلُبَ السَّبَبَ الَّذِي بَلَغَ بهم إِلَى هَذَا الْحَالِ الْفَظِيعِ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ اسْتِحْوَاذُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ وَامْتِلَاكُهُ زِمَامَ أَنْفُسِهِمْ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يُرِيدُ وَهَلْ يَرْضَى الشَّيْطَانُ إِلَّا بِأَشَدِّ الْفَسَادِ وَالْغِوَايَةِ. وَالِاسْتِحْوَاذُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالْغَلَبُ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ حَاذَ حَوْذًا، إِذَا حَاطَ شَيْئًا وَصَرَّفَهُ كَيْفَ يُرِيدُ. يُقَالُ: حَاذَ الْعِيرَ إِذَا جَمَعَهَا وَسَاقَهَا غَالِبًا لَهَا. فَاشْتَقُّوا مِنْهُ اسْتَفْعَلَ لَلَّذِي يَسْتَوْلِي بِتَدْبِيرٍ وَمُعَالَجَةٍ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَال: استحوذ إِلَّا فِي اسْتِيلَاءِ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ وَسَائِلَ اسْتِيلَاءٍ. وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَلَبِ مِثْلُهَا فِي: اسْتَجَابَ. وَالْأَحْوَذِيُّ: الْقَاهِرُ لِلْأُمُورِ الصَّعْبَةِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ عُمَرُ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ» . وَكَانَ حَقُّ اسْتَحْوَذَ أَنْ يُقْلَبَ عَيْنُهُ أَلِفًا لِأَنَّ أَصْلَهَا وَاوٌ مُتَحَرِّكَةٌ إِثْرَ سَاكِنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ غَيْرُ اسْمِ تَعَجُّبٍ وَلَا مُضَاعَفِ اللَّامِ وَلَا مُعْتَلِّ اللَّامِ فَحَقُّهَا أَنْ تُنْقَلَ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهَا فِرَارًا مِنْ ثِقَلِ الْحَرَكَةِ عَلَى حَرْفِ الْعِلَّةِ مَعَ إِمْكَانِ الِاحْتِفَاظِ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ بِنَقْلِهَا إِلَى الْحَرْفِ قَبْلَهَا الْخَالِي مِنَ الْحَرَكَةِ فَيَبْقَى حَرْفُ الْعِلَّةِ سَاكِنًا سُكُونًا مَيِّتًا إِثْرَ حَرَكَةٍ فَيُقْلَبُ مَدَّةً مُجَانِسَةً لِلْحَرَكَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِثْلُ يَقُومُ وَيَبِينُ وَأَقَامَ، فَحَقُّ اسْتَحْوَذَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: اسْتَحَاذَ وَلَكِنَّ الْفَصِيحَ فِيهِ تَصْحِيحُهُ عَلَى خِلَافِ غَالِبِ بَابِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ سَمَاعِيٌّ، وَلَهُ نَظَائِرُ قَلِيلَةٌ مِنْهَا: اسْتَنْوَقَ الْجمل، وأعول، إِذْ رَفَعَ صَوْتَهُ. وَأَغْيَمَتِ السَّمَاءُ وَاسْتَغْيَلَ الصَّبِيُّ، إِذَا شَرِبَ الْغَيْلَ وَهُوَ لَبَنُ الْحَامِلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: التَّصْحِيحُ هُوَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مُطَّرِدَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ. وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ اسْتَحَاذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَصْحِيحُ هَذَا الْبَابِ كُلُّهُ مُطَّرِدٌ. وَقَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» : يَطَّرِدُ تَصْحِيحُ هَذَا الْبَابِ فِي كُلِّ فِعْلٍ أُهْمِلَ ثُلَاثِيُّهُ مِثْلِ: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ وَاسْتَتْيَسَتِ الشَّاةُ إِذَا صَارَتْ كَالتَّيْسِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِحْوَاذِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [141] ، فَضُمَّ هَذَا إِلَى ذَاكَ.

وَالنِّسْيَانُ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِضَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَنْسِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 126] . وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى نُطْقِ اللِّسَانِ بِاسْمٍ أَوْ كَلَامٍ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّذَكُّرِ بِالْعَقْلِ. وَقَدْ يُخَصُّ هَذَا الثَّانِي بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ، أَيْ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْسَاهُمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. وَالَّذِي لَا يَتَذَكَّرُ شَيْئًا لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَاجِبَاتِهِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ نَتِيجَةٌ وَفَذْلَكَةٌ لِقَوْلِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ. فَإِنَّ الِاسْتِحْوَاذَ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَيَّرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ لِئَلَا يَتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ. وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفَرُّعِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هم الخاسرون، وَلذَلِك عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى حَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَضْمُونِهَا وَأَنَّهُ مِمَّا يَحِقُّ الْعِنَايَةُ بِاسْتِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الِانْدِمَاجِ فِيهِمْ، وَالتَّلَبُّسِ بِمِثْلِ أَحْوَالِهِمُ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَزِيدَ هَذَا التَّحْذِيرُ اهْتِمَامًا بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِحَرْفِ إِنَّ وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ، إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ خَاسِرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمُؤَكِّدَاتُ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَغُرَّهُمْ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ وَتَرُوقَ فِي أَنْظَارِهِمْ بَزَّةُ الْمُنَافِقِينَ وَتَخْدَعَهُمْ أَيْمَانُهُمُ الْكَاذِبَةُ. وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ حِزْبُ الشَّيْطانِ دون ضمير هم لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ صَالِحَة للتمثل بِهِ مُسْتَقِلَّةً بِدِلَالَتِهَا. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لَلْمُبَالَغَةِ فِي مِقْدَار خسرانهم وَأَنه لَا خُسْرَانَ أَشَدُّ مِنْهُ فَكَأَنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ غَيْرِهِ عَدَمٌ فَيُدَّعَى أَنَّ وَصْفَ الْخَاسِرِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ. وَحِزْبُ الْمَرْءِ: أَنْصَارُهُ وَجُنْدُهُ وَمن يواليه.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 إلى 21]

[سُورَة المجادلة (58) : الْآيَات 20 إِلَى 21] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ يُشْبِهُ مَوْقِعَ آيَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] . فَالَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْلِنُونَ بِالْمُحَادَّةِ. وَأَمَّا الْمُحَادُّونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمُ الْمُسِرُّونَ لِلْمُحَادَّةِ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْمُوَالَاةِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَتْ شَيْئًا مِنَ الْخُسْرَانِ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَى حزب الشَّيْطَان الَّذِي هُمْ فِي مُقَدِّمَتِهِ. وَبِهَذَا تَكْتَسِبُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى بَدَلَ الْبَعْضِ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: 19] ، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخُسْرَانُ الدُّنْيَا أَنْوَاعٌ أَشَدُّهَا عَلَى النَّاسِ الْمَذَلَّةُ وَالْهَزِيمَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ فِي الْأَذَلِّينَ والمغلوبين. وَاسْتِحْضَارُهُمْ بصلَة إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ فِي الْأَذَلِّينَ فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِإِفَادَةِ مَدْلُولِ الصِّلَةِ أَنهم أَعدَاء لله تَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِفَادَةُ الْمَوْصُولِ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَذَلِّينَ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَعَدُوُّهُ لَا يَكُونُ عَزِيزًا. وَمُفَادُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي زُمْرَةِ الْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ أَذَلُّونَ، أَيْ شَدِيدُو الْمَذَلَّةِ لِيَتَصَوَّرَهُمُ السَّامِعُ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ يَرَى أَنَّهُمْ أَذَلُّونَ، فَيَكُونُ هَذَا النَّظْمُ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ هُمُ الْأَذَلُّونَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الْوَصْفِ الَّذِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ [5] . وَجُمْلَةُ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ

[سورة المجادلة (58) : آية 22]

أَرَادَ أَنْ يكون رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبًا لِأَعْدَائِهِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَغْلِبُهَا شَيْءٌ وَقَدْ كَتَبَ لِجَمِيعِ رُسُلِهِ الْغَلَبَةَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَغَلَبَتُهُمْ مِنْ غَلَبَةِ اللَّهِ إِذْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَشْيَاءِ على وفْق إِرَادَته وَإِرَادَة اللَّهِ لَا يُغَيِّرُهَا شَيْءٌ، وَالْإِرَادَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ وَمَجْمُوعُ تَوَارُدِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَوْجُودِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَضَاءِ. وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِ كَتَبَ اللَّهُ لِأَنَّ الْكِتَابَة استعيرت الْمَعْنى: قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ وَأَرَادَ وُقُوعَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَهُ وَأَرَادَهُ فَهُوَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا يَتَخَلَّفُ مِثْلُ الْأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ ضَبْطُهُ وَعَدَمُ الْإِخْلَالِ بِهِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لِكَيْ لَا يُنْسَى وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُجْحَدَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ. فَثَبت لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَلَبَةُ لِشِمُولِ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لِرُسُلِهِ إِيَّاهُ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِغَلَبَةِ رَسُولِهِ أَقْوَامًا يُحَادُّونَهُ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ. فَجُمْلَةُ لَأَغْلِبَنَّ مَصُوغَةٌ صِيغَةُ الْقَوْلِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ كَتَبَ إِلَى مَعْنَى قَضَى وَقَدَّرَ. وَالْمَعْنَى: قَضَى مَدْلُولَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَيْ قَضَى بِالْغَلَبَةِ لله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ مِنَ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ: الْغَلَبَةُ بِالْقُوَّةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّهْدِيدِ. وَأَمَّا الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ فَأَمْرٌ مَعْلُومٌ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ لَأَغْلِبَنَّ لِأَنَّ الَّذِي يُغَالِبُ الْغَالِبَ مَغْلُوبٌ. قَالَ حَسَّانُ: زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا ... وَلْيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ [22] [سُورَة المجادلة (58) : آيَة 22] لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ قَرَابَةٌ بِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ نِفَاقُهُمْ لَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ مِنْ مُوَادَّةِ مَنْ يُعَادِي الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَتْ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ قُوَّةَ أَسَانِيدَ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ

وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْآيَةِ سَبَبُ نُزُولٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا مُتَّصِلَةُ الْمَعْنَى بِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ وَمُوَالَاتِهِمُ الْيَهُودَ، فَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ قَصَصٍ لِسَبَبِ نُزُولِهَا فَإِنَّمَا هُوَ أَمْثِلَةٌ لِمُقْتَضَى حُكْمِهَا. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ لَا تَجِدُ قَوْماً يُثِيرُ تَشْوِيقًا إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَمَا سَيُسَاقُ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ حُكْمٍ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَمْرُهُ بِإِبْلَاغِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مُوَادَّةَ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُحَادُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هِيَ مِمَّا يُنَافِي الْإِيمَانَ لِيَكُفَّ عَنْهَا مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِهَا. فَالْكَلَامُ مِنْ قِبَلِ الْكِنَايَةِ عَنِ السَّعْيِ فِي نَفْيِ وِجْدَانِ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ، مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، أَيْ لَا تَحْضُرْ هُنَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [يُونُس: 18] أَرَادَ بِمَا لَا يَكُونُ، لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَيَّامَ كَانُوا بِمَكَّةَ. وَقَدْ نُقِلَتْ أَخْبَارٌ مِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةُ الْقُوَّةِ وَلَكِنْ كَانَ الْكُفْرُ أَيَّامَئِذٍ مَكْشُوفًا وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَاضِحَةً. فَلَمَّا انْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ الْكُفْرُ مَسْتُورًا فِي الْمُنَافِقِينَ فَكَانَ التَّحَرُّزُ مِنْ مُوَادَّتِهِمْ أَجْدَرَ وَأَحْذَرَ. وَالْمُوَادَّةُ أَصْلُهَا: حُصُولُ الْمَوَدَّةِ فِي جَانِبَيْنِ. وَالنَّهْيُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ مَوَدَّةِ الْمُؤْمِنِ الْكَافِرِينَ لَا عَنْ مُقَابَلَةِ الْكَافِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَوَدَّةِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا اعْتِبَارًا بِأَنَّ شَأْنَ الْوُدِّ أَنْ يَجْلِبَ وُدًّا مِنَ الْمَوْدُودِ لِلْوَادِّ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُفَاعَلَةُ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْوُدِّ صَادِقًا لِأَنَّ الْوَادَّ الصَّادِقَ يُقَابِلُهُ الْمَوْدُودُ بِمِثْلِهِ. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَرِينَةُ الْكِنَايَةِ تَوْجِيهُ نَفْيِ وِجْدَانِ الْمَوْصُوفِ بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ هُنَا إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: 28] ، لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فَلَا تُتَصَوَّرُ مَعَهَا التَّقِيَةُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: 28] .

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ إِلَى آخِرِهِ مُبَالَغَةٌ فِي نِهَايَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَدْ يُقْدِمُ فِيهَا الْمَرْءُ عَلَى التَّرَخُّصِ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ بِعِلَّةِ قُرْبِ الْقَرَابَةِ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يُحَادُّ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِذَلِكَ مُعْلِنًا بِهِ، أَوْ مُتَجَاهِرًا بِسُوءِ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ إِسْلَامِهِمْ لَا لِمُوجِبِ عَدَاوَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِظْهَارُ عَدَاوَتِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9] وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِالْحُسْنَى إِلَّا لِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ بَأْسٌ قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: 28] . وَأَمَّا مَنْ عَدَا هَذَا الصِّنْفَ فَهُوَ الْكَافِرُ الْمُمْسِكُ شَرَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] . وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَقَدْ بَيَّنَ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيِّ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ مَسَائِلَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِرِّ وَالْمَوَدَّةِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة: 8] وَأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَالَتَهَا. فَ لَوْ وَصْلِيَةٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى لَوْ الْوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] وَرُتِّبَتْ أَصْنَافُ الْقَرَابَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّدَلِّي مِنَ الْأَقْوَى إِلَى مَنْ دُونَهُ لِئَلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ خَاصُّ بِمَنْ تَقْوَى فِيهِ ظَنَّةُ النَّصِيحَةِ لَهُ وَالِائْتِمَارُ بِأَمْرِهِ. وَعَشِيرَةُ الرَّجُلِ قَبِيلَتُهُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُ مَعَهُمْ فِي جَدٍّ غَيْرِ بَعِيدٍ وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ لَا يُوَادُّونَ مَنْ فِيهِ مَعْنًى مِنْ مُحَادَّةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَرْقِ سِيَاجِ شَرِيعَتِهِ عَمْدًا وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُرُمَاتِ الْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ مِثْلُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مرتكبه بالدّين وينبىء عَنْ ضُعْفِ احْتِرَامِهِ لِلدِّينِ مِثْلُ الْمُتَجَاهِرِينَ بِالْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ السَّاخِرِينَ

مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ، وَمِثْلُ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فِي الِاعْتِقَادِ مِمَّنْ يُؤْذَنُ حَالُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَدِلَّةِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَإِيثَارُ الْهَوَى النَّفْسِيِّ وَالْعَصَبِيَّةِ عَلَى أَدِلَّةِ الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَقِّ. فَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ تَنْزِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ يَصْحَبُ سَلَاطِينَ الْجَوْرِ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادَهِمْ فِي اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَقَالَ فقهاؤنا: يجوز أَن يَجِبُ هُجْرَانُ ذِي الْبِدْعَةِ الضَّالَّةِ أَوْ الِانْغِمَاسِ فِي الْكَبَائِرِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ الْمَوْعِظَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِ الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَوْ وَعِيدٌ لِمَعْنًى آخَرَ فِيهِ وَصْفٌ مِنْ نَوْعِ الْمَعْنَى ذِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الشَّبَهِ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الشَّبَهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَيِمَّةُ الْأُصُولِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النِّسَاء: 115] مَعَ أَنَّ مَهْيَعَ الْآيَةِ الْمُحْتَجِّ بِهَا إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوُا الْخُرُوجَ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةً فَمُخَالَفَةُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فِيهِ شَبَهُ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. الْإِشَارَةُ إِلَى الْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ وَوُقُوعُهَا عَقِبَ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ مُحَادَّةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقًا وَآنِفًا، وَمَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَأَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُمُ

الْخَاسِرُونَ، مِمَّا يَسْتَشْرِفُ بَعْدَهُ السَّامِعُ إِلَى مَا سَيُخْبَرُ بِهِ عَنِ الْمُتَّصِفِينَ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُوله ص. وَكِتَابَةُ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] . وَهِيَ التَّقْدِيرُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا تَتَخَلَّفُ آثَارُهُ، أَيْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الَّذِينَ زَيَّنَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَاتَّبَعُوا كَمَالَهُ وسلكوا شعبه. والتأييد: التَّقْوِيَةُ وَالنَّصْرُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [87] ، أَيْ إِنَّ تَأْيِيدَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ قَدْ حَصَلَ وَتَقَرَّرَ بِالْإِتْيَانِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْحُصُولِ وَعَلَى التَّحَقُّقِ وَالدَّوَامِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَالرُّوحُ هُنَا: مَا بِهِ كَمَالُ نَوْعِ الشَّيْءِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَرُوحٌ مِنَ اللَّهِ: عِنَايَتُهُ وَلُطْفُهُ. وَمَعَانِيَ الرُّوحِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [85] ، وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْجَنَّاتِ خَالِدِينَ فِيهَا. وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ حَاصِلٌ مِنَ الْمَاضِي وَمُحَقَّقُ الدَّوَامِ فَهُوَ مِثْلُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: وَأَيَّدَهُمْ، وَرِضَاهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا بِثَبَاتِهِمْ عَلَى الدِّينِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ، وَحَاصِلٌ فِي الْمُسْتَقْبل بنوال رَضِي اللَّهِ عَنْهُمْ وَنَوَالِ نَعَيْمِ الخلود. وَأما تحول التَّعْبِيرِ إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ فَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْ إِفَادَةِ التَّحْقِيقِ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ كَالْقَوْلِ فِي أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ [المجادلة: 19] . وَحَرْفُ التَّنْبِيهِ يَحْصُلُ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى فَضْلِهِمْ. وَتَنْبِيهُ مَنْ يَسْمَعُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى مَا حَبَا اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ يَغْبِطُونَهُمْ فَيُخْلِصُونَ الْإِسْلَامَ. وَشَتَّانَ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ. فَالْخُسْرَانُ لِحِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَالْفَلَّاحُ لِحِزْبِ اللَّهِ تَعَالَى.

59- سورة الحشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 59- سُورَةُ الْحَشْرِ اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةُ الْحَشْرِ» . وَبِهَذَا الِاسْمِ دَعَاهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ «قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أُعَوِّذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ» الْحَدِيثَ، أَيِ الْآيَاتِ الَّتِي أَوَّلُهَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الْحَشْر: 22] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ قَالَ: «قُلْ بَنِي النَّضِيرِ» ، أَيْ سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ فَابْنُ جُبَيْرٍ سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الْمَشْهُورِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ يُسَمِّيهَا سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ. وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَسْمِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا «سُورَةَ الْحَشْرِ» لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَرَى تَسْمِيَتَهَا «سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ» لِقَوْلِهِ لِابْنِ جُبَيْرٍ «قُلْ بَنِي النَّضِيرِ» . وَتَأَوَّلَ ابْنُ حَجْرٍ كَلَامَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ تَسْمِيَتَهَا بِ «الْحَشْرِ» لِئَلَا يَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَة. وَهَذَا تَأَول بَعِيدٌ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ أَنْ لَهَا اسْمَيْنِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ، لِلتَّخْيِيرِ. فَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «الْحَشْرَ» فَلِوُقُوعِ لفظ الْحَشْرِ [الْحَشْرِ: 2] فِيهَا. وَلِكَوْنِهَا ذُكِرَ

أغراض هذه السورة

فِيهَا حَشْرُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ أَيْ مِنْ قَرْيَتِهِمُ الْمُسَمَّاةِ الزُّهْرَةِ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ. فَخَرَجُوا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ إِلَى أَرِيحَا وَأَذْرُعَاتٍ، وَبَعْضُ بُيُوتِهِمْ خَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَبَعْضُ بُيُوتِهِمْ خَرجُوا إِلَى الحيوة. وَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ» فَلِأَنَّ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ ذُكِرَتْ فِيهَا. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ الثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَيِّنَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّصْرِ. وَكَانَ نُزُولُهَا عَقِبَ إِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ بِلَادِهِمْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ بِاتِّفَاق العادّين. أغراض هَذِه السُّورَة وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ وَلَمْ يُعَيِّنُوا مَا هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا حُكْمُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ الِانْتِصَارِ عَلَيْهِمْ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ دَالٌّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ، وَكَون مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُلْكُهُ، وَأَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُدَبِّرُ. وَعَلَى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَا يَسَّرَ مِنْ إِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَعَةِ وَالْحُصُونِ وَالْعُدَّةِ. وَتِلْكَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ تَأْيِيدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَلَبَتِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ. وَذِكْرِ مَا أَجْرَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِتْلَافِ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَأَحْكَامِ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَعْيِينِ مُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَشْفِ دَخَائِلِ الْمُنَافِقِينَ وَمَوَاعِيدِهِمْ لِبَنِي النَّضِيرِ أَنْ يَنْصُرُوهُمْ وَكَيْفَ كَذَبُوا وَعْدَهُمْ.

[سورة الحشر (59) : آية 1]

وَأَنْحَى عَلَى بَنِي النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْجُبْنِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَتَنْظِيرِ حَالِ تَغْرِيرِ الْمُنَافِقِينَ لِلْيَهُودِ بِتَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ لِلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَتَنَصُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَانَ عَاقِبَةُ الْجَمِيعِ الْخُلُودَ فِي النَّارِ. ثُمَّ خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالْحَذَرِ مِنْ أَحْوَالِ أَصْحَابِ النَّارِ وَالتَّذْكِيرِ بِتَفَاوُتِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ. وَبَيَانِ عَظَمَةِ الْقُرْآنِ وَجَلَالَتِهِ وَاقْتِضَائِهِ خُشُوعَ أَهْلِهِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ شَرَائِعِ انْتِقَالِ الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُجُوهِ الَّتِي نَظَّمَهَا الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَا تَشُقُّ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ. وَالْآمِرُ بِاتِّبَاعِ مَا يَشْرَعُهُ اللَّهُ على لِسَان رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخُتِمَتْ بِصِفَاتٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَشْر: 24] تَزَكِيَهً لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ وتعريضا بالكافرين. [1] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ تَسْبِيحِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ تَعَالَى تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَسْبِيحِهِمْ لِلَّهِ تَسْبِيحَ شُكْرٍ عَلَى مَا أَنَالَهُمْ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ بَنِي النَّضِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ سَبِّحُوا لِلَّهِ كَمَا سَبَّحَ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَتَعْرِيضٌ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتِ السُّورَةُ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ لِتَكَبُّرِهِمْ عَنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ حَقَّ تَسْبِيحِهِ بِتَصْدِيق رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ رِسَالَتِهِ أَوْ كَابَرُوا فِي مَعْرِفَتِهَا. وَالْقَوْلُ فِي لَفْظِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ [1] ، إِلَّا أَنَّ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ فِيهَا: مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَاهُنَا قَالَ: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ فَاتِحَةَ سُورَةِ الْحَدِيدِ تَضَمَّنَتْ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى

[سورة الحشر (59) : آية 2]

عَظْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَكَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ هُوَ مَجْمُوعَ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَوْجُودَاتِ فَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي اسْمٍ وَاحِدٍ هُوَ مَا الْمَوْصُولَةُ الَّتِي صِلَتُهَا قَوْلُهُ: فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَأَمَّا فَاتِحَةُ سُورَةِ الْحَشْرِ فَقَدْ سِيقَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَادِثَةٍ أَرْضِيَّةٍ وَهِيَ خِذْلَانُ بَنِي النَّضِيرِ فَنَاسَبَ فِيهَا أَنْ يُخَصَّ أَهْلُ الْأَرْضِ بِاسْمٍ مَوْصُولٍ خَاصٍّ بِهِمْ، وَهِيَ مَا الْمَوْصُولَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي صِلَتُهَا فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ جَاءَتْ فَوَاتِحُ سُوَرِ الصَّفِّ وَالْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا. وَأُوثِرَ الْإِخْبَارُ عَنْ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ تَسْبِيحُ شُكْرٍ عَنْ نِعْمَةٍ مَضَتْ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ إِخْرَاجِ أَهْلِ النَّضِيرِ. [2] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 2] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ (2) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا. يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ جُمْلَةُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ إِجْرَاءِ هَذَا التَّمْجِيدِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ بَاهِرِ تَقْدِيرِهِ، وَلِمَا يُؤْذِنُ بِهِ ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِوُجُوبِ شُكْرِهِ عَلَى ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الْعَجِيبِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ عَنْ تَسْبِيحِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ التَّذْكِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالتَّعْرِيضِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فَرِيقَانِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا فَاتِحَةُ السُّورَة من أهل أَحْوَالِهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مُبِيِّنَةً لِجُمْلَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْحَشْر: 1] لِأَنَّ هَذَا التَّسْخِيرَ الْعَظِيمَ مِنْ آثَارِ عِزِّهِ وَحِكْمَتِهِ. وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَتَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ وَهُوَ قِسْمَةُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ بِالضَّمِيرِ وَالْمَوْصُولِ يُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ إِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا

مِنْ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِسَعْيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ وَمُعَالَجَتِهِمْ بَعْضَ أَسْبَابِهِ كَتَخْرِيبِ دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ الْقَصْرِ. وَجُمْلَةُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ عَطْفٌ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ وَهُمْ ظنُّوا أَن الْمُسْلِمِينَ لَا يَغْلِبُونَهُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَظَنُّوا أَنْ لَا يُخْرَجُوا. مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى خُرُوجِهِمْ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ أَيْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِمِ اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِ الْمَظْنُونِ بِذِكْرِ عِلَّةِ الظَّنِّ. وَالتَّقْدِيرُ: وَظَنُّوا أَنْ لَا يَخْرُجُوا لِأَنَّهُمْ تَمْنَعُهُمْ حُصُونُهُمْ، أَيْ ظَنُّوا ظَنًّا قَوِيًّا مُعْتَمِدِينَ عَلَى حُصُونِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَنُو النَّضِيرِ (بِوَزْنِ أَمِيرٍ) وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَهُودِ اسْتَوْطَنُوا بِلَادَ الْعَرَبِ هُمْ وَبَنُو عَمِّهِمْ قُرَيْظَةُ، وَيَهُودُ خَيْبَرَ، وَكُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ يُقَالُ لِبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ: الْكَاهِنَانِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ وَهُوَ كَاهِنُ الْمِلَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَالْكِهَانَةُ: حَفِظُ أُمُورِ الدِّيَانَةِ بِيَدِهِ وَيَدِ أَعْقَابِهِ. وَقِصَّةُ اسْتِيطَانِهِمْ بِلَادَ الْعَرَبِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ أَسْلَافِهِمْ لِقِتَالِ الْعَمَالِيقِ الْمُجَاوِرِينَ لِلشَّامِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ فَقَصَّرُوا فِي قِتَالِهِمْ وَتُوُفِّيَ مُوسَى قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا عَلِمُوا بِوَفَاةِ مُوسَى رَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِلَى دِيَارِ إِسْرَائِيلَ فِي أَرِيحَا فَقَالَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ: أَنْتُمْ عَصَيْتُمْ أَمْرَ مُوسَى فَلَا تَدْخُلُوا بِلَادَنَا، فَخَرَجُوا إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَقَامُوا لِأَنْفُسِهِمْ قُرًى حَوْلَ يَثْرِبَ (الْمَدِينَةِ) وَبَنَوْا لِأَنْفُسِهِمْ حُصُونًا وَقَرْيَةً سَمَّوْهَا الزُّهْرَةَ. وَكَانَتْ حُصُونُهُمْ خَمْسَةً سَيَأْتِي ذِكْرُ أَسْمَائِهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَصَارُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَأَمْوَالٍ. وَكَانَ فِيهِمْ أَهْلُ الثَّرَاءِ مِثْلُ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حِلْفٌ وَمُعَامَلَةٌ، فَكَانَ مِنْ بُطُونِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ بَنُو النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ وَخَيْبَرُ. وَوُسِمُوا بِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ كفرُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ وَقَدْ وُصِفُوا بِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 89]

إِلَى قَوْلِهِ: عَذابٌ مُهِينٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [90] . وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَرَادَ بِهِمُ الْيَهُودَ، فَوُصِفُوا بِ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لِئَلَا يُظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ أَوْ بَقِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَدِينَةِ فَيُظَنُّ أَنَّ الْكَلَامَ وَعِيدٌ. وَتَفْصِيلُ الْقِصَّةِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ على مَا ذكره جُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمَدِينَة جاؤوا فصالحوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُصَالَحَتَهُمْ كَانَتْ عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ لَمَّا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ لأَنهم توسّموا أَنه لَا تُهْزَمَ لَهُمْ رَايَةٌ، فَلَمَّا غُلِبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَرَامُوا مُصَالَحَةَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، إِذْ كَانُوا قَدْ قَعَدُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ (كَدَأْبِ الْيَهُودِ فِي مُوَالَاةِ الْقَوِيِّ) فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي النَّضِيرِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّة فَحَالَفُوا الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَنْ يَقْتُلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ غِيلَةً فِي حِصْنِهِ فِي قِصَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيَرِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ سَبَبًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَتْ وَقْعَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ كَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ فَأَطْلَقُهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. فَلَمَّا كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَكَانَ لِقَوْمِهِمَا عَقْدٌ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَا مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، فَلَمَّا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَثْأَرُ بِهِمَا مِنْ بَنِي عَامِرٍ الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَخْبَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَعَلَ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ وَلَآدِيَنَّهُمَا» ، وَخَرَجَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ إِذْ كَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ حِلْفٌ، وَأَضْمَرَ بَنُو النَّضِيرِ الْغَدْرَ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ.

ثُمَّ أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ فَامْتَنَعُوا وَتَنَادَوْا إِلَى الْحَرْبِ وَدَسَّ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ وَقَالَ: إِنْ قَاتَلَكُمُ الْمُسْلِمُونَ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ فَدَرَّبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ (أَيْ سَدُّوا مَنَافِذَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ لِيَكُونَ كُلُّ دَرْبٍ مِنْهَا صَالحا للمدافعة) وحصّونها، وَوَعَدَهُمْ أَنَّ مَعَهُ أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مَعَهُمْ قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ غَطَفَانَ مِنَ الْعَرَبِ فَحَاصَرَهُمْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَظَرُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ وَقُرَيْظَةَ وَغَطَفَانَ أَنْ يَقْدَمُوا إِلَيْهِمْ لِيَرُدُّوا عَنْهُمْ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْجِدُوهُمْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَطَلَبُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ فَأَبَى إِلَّا الْجَلَاءَ عَنْ دِيَارِهِمْ وَتَشَارَطُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا وَيَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ حِمْلَ بعير مِمَّا شاؤوا مِنْ مَتَاعِهِمْ، فَجَعَلُوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ لِيَحْمِلُوا مَعَهُمْ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْخَشَبِ وَالْأَبْوَابِ. فَخَرَجُوا فَمِنْهُمْ مَنْ لَحِقَ بِخَيْبَرَ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ لَحِقُوا بِبِلَادِ الشَّامِ فِي مُدُنِ (أَرِيحَا) وَأَذْرِعَاتٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَخَرَجَ قَلِيلٌ مِنْهُمْ إِلَى الْحِيرَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لَامُ التَّوْقِيتِ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَوَّلِ الزَّمَانِ الْمَجْعُولِ ظَرْفًا لِعَمَلٍ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: 24] أَيْ مِنْ وَقْتِ حَيَاتِي. وَقَوْلُهُمْ: كَتَبَ لِيَوْمِ كَذَا. وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) . فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ عِنْدَ مَبْدَأِ الْحَشْرِ الْمُقَدَّرِ لَهُمْ، وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ جَمِيعِ دِيَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَمَرَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَشْرِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ نَاسٍ فِي مَكَانٍ قَالَ تَعَالَى: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 36، 37] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: حَشْرُ يَهُودِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِلَى أَرْضٍ غَيْرِهَا، أَيْ جَمْعُهُمْ لِلْخُرُوجِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ الْجَلَاءَ إِذَا كَانَ الْجَلَاءُ لِجَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ تُجْمَعُ مِنْ مُتَفَرِّقِ دِيَارِ الْبِلَادِ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: حَشْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَا مُنَاسِبَةَ لَهُ هُنَا وَلَا يُلَائِمُ ذِكْرَ لَفْظِ «أَوَّلِ» لِأَنَّ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَّحِدَ النَّوْعِ مَعَ مَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى حَشْرِ الْقِيَامَةِ وَرَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْهَامًا فِي أَنَّ حَشْرَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ بِأَرْضِ الشَّامِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَرَزَ مِنْ هَذَا حِينَ سَمَّى هَذِهِ السُّورَةَ «سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ» وَفِي جَعْلِ هَذَا الْإِخْرَاجِ وَقْتًا لِأَوَّلِ الْحَشْرِ إِيذَانٌ بِأَنَّ حَشْرَهُمْ يَتَعَاقَبُ حَتَّى يَكْمُلَ إِخْرَاجُ جَمِيعِ الْيَهُودِ وَذَلِكَ مَا أَوْصَى بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ إِذْ قَالَ: «لَا يَبْقَى دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . وَقَدْ أَنْفَذَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ أَجْلَى الْيَهُودَ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: وُصِفَ الْحَشْرُ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَوَّلَ جَلَاءٍ أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ أُجْلُوا مِنْ فِلَسْطِينَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي زَمَنِ (بُخْتَنَصَّرَ) وَمَرَّةً فِي زَمَنِ (طَيْطَسَ) سُلْطَانِ الرُّومِ وَسَلِمَ بَنُو النَّضِيرِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْجَلَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. فَكَانَ أَوَّلَ جَلَاءٍ أَصَابَهُمْ جَلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ. أَيْ كَانَ ظَنُّ الْمُسْلِمِينَ وَظَنُّ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَوَارَدَيْنِ عَلَى تَعَذُّرِ إِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ قَرْيَتِهِمْ بِسَبَبِ حَصَانَةِ حُصُونِهِمْ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَّخِذُونَ حُصُونًا يأوون إِلَيْهَا عِنْد مَا يَغْزُوهُمُ الْعَدُوُّ مِثْلَ حُصُونِ خَيْبَرَ. وَكَانَتْ لِبَنِي النَّضِيرِ سِتَّةُ حُصُونٍ أَسْمَاؤُهَا: الْكُتَيْبَةُ (بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ) وَالْوَطِيحُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الطَّاءِ) وَالسُّلَالِمُ (بِضَمِّ السِّينِ) وَالنَّطَاةُ (بِفَتْحِ النُّونِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بعْدهَا ألف وبهاء تَأْنِيثُ آخِرِهِ) وَالْوَخْدَةُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ) وَشَقُّ (بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ) . وَنَظَمَ جُمْلَةَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ عَلَى هَذَا النَّظْمِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُ سَيَعْقُبُهُ إِسْنَادُ مانِعَتُهُمْ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الِابْتِدَاءُ بِضَمِيرِهِمْ مُشِيرًا إِلَى اغْتِرَارِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَأَنَّ مَنَعَةَ حُصُونِهِمْ هِيَ مِنْ شُؤُونِ عِزَّتِهِمْ.

وَفِي تَقْدِيمِ مانِعَتُهُمْ وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى حُصُونُهُمْ وَهُوَ اسْمٌ وَالِاسْمُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَوْلَى بِأَن يَجْعَل فِي مرتبَة الْمُبْتَدَأِ وَيُجْعَلَ الْوَصْفُ خَبَرًا عَنْهُ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَهَمِّيَّةِ مَنَعَةِ الْحُصُونِ عِنْدَ ظَنِّهِمْ فَهِيَ بِمَحْلِّ التَّقْدِيمِ فِي اسْتِحْضَارِ ظَنِّهِمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِجَوَازِ جَعْلِ حُصُونِهِمْ فَاعِلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مانِعَتُهُمْ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى مُسْنَدٍ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَحَامِلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ تَجْرِي عَلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفِ فِي دَقَائِقَ الْمَعَانِي فَيَصِيرُ الْجَائِزُ مَرْجُوحًا. قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ (بَابِ النَّسَبِ) قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى ذِي الرُّمَّةِ فِي غَيْرِ دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مُعَرَّجُ سَاعَةٌ ... قَلِيلًا فَإِنِّي نَافِعٌ لِي قَلِيلُهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قليلها) مُبْتَدأ و (نَافِع) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ- أَيْ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ-. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ (إِنَّ) وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي قَلِيلُهَا نَافِعٌ لِي. فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ. تَفْرِيعٌ عَلَى مَجْمُوعِ جُمْلَتَيْ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ اللَّتَيْنِ هَمَا تَعْلِيلٌ لِلْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. وَتَرْكِيبُ (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) تَمْثِيلٌ، مُثِّلَ شَأْنُ اللَّهِ حِينَ يَسَّرَ أَسْبَابَ اسْتِسْلَامِهِمْ بَعْدَ أَنْ صَمَّمُوا عَلَى الدِّفَاعِ وَكَانُوا أَهْلَ عِدَّةٍ وَعُدَّةٍ وَلَمْ يَطُلْ حِصَارُهُمْ بِحَالِ مَنْ أَخَذَ حَذَرَهُ مِنْ عَدُوِّهِ وَأَحْكَمَ حِرَاسَتَهُ مِنْ جِهَاتِهِ فَأَتَاهُ عَدْوُهُ مِنْ جِهَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَقَامَ حِرَاسَةً فِيهَا. وَهَذَا يُشْبِهُ التَّمْثِيلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: 39] . وَالِاحْتِسَابُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحُسْبَانِ، أَيِ الظَّنِّ أَيْ مِنْ مَكَانٍ لَمْ يَظُنُّوهُ لِأَنَّهُمْ قَصَرُوا اسْتِعْدَادَهُمْ عَلَى التَّحَصُّنِ وَالْمَنَعَةِ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ فَوْقَ قُوَّتِهِمْ.

وَالْقَذْفُ: الرَّمْيُ بِالْيَدِ بِقُوَّةٍ. وَاسْتُعِيرَ لِلْحُصُولِ الْعَاجِلِ، أَيْ حَصَلَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ دَفْعَةً دُونَ سَابِقِ تَأَمُّلٍ وَلَا حُصُولِ سَبَبٍ لِلرُّعْبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِفِعْلِ الْقَذْفِ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ. وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَسْرَعُوا بِالِاسْتِسْلَامِ. وَقَذْفُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ هُو مِنْ أَحْوَالِ إِتْيَانِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ، وَعَطْفُهُ عَلَى «أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ. والرُّعْبَ: شِدَّةُ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ. وَهَذَا مَعْنَى قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ» ، أَيْ بِرُعْبِ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَجُمْلَةُ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ قُلُوبِهِمُ لِأَنَّ الْمُضَافَ جُزْءٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَلَا يَمْنَعُ مَجِيءَ الْحَالِ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْجِيبُ مِنَ اخْتِلَالِ أُمُورِهِمْ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ خَرَّبُوا بُيُوتَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ لَكِنَّ دَاعِيَ التَّخْرِيبِ قَهْرِيٌّ. وَالْإِخْرَابُ وَالتَّخْرِيبُ: إِسْقَاطُ الْبِنَاءِ وَنَقْضُهُ. وَالْخَرَابُ: تَهَدُّمُ الْبِنَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرِبُونَ بِسِكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ مُضَارِعِ: أَخْرَبَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ مُضَارِعِ: خَرَّبَ. وَهَمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ سِيبَوَيْهُ: إِنَّ أَفْعَلْتَ وَفَعَّلْتَ يتعاقبان نَحْو أخرجته وَخَرَّبْتُهُ، وَأَفْرَحَتُهُ وَفَرَّحَتُهُ. يُرِيدُ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ: أَنْزَلَ وَنَزَّلَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ تَخْرِيبِ بَنِي النَّضِيرِ بِيُوتَهُمْ لِيَأْخُذُوا مِنْهَا مَا يَصْلُحُ مِنْ أَخْشَابٍ وَأَبْوَابٍ مِمَّا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ لِيَبْنُوا بِهِ مَنَازِلَهُمْ فِي مَهَاجِرِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ تَخْرِيبِ الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَّةُ تِلْكَ الْبُيُوتِ كُلَّمَا حَلُّوا بُقْعَةً تَرَكَهَا بَنُو النَّضِيرِ. وَقَوْلُهُ: بِأَيْدِيهِمْ هُوَ تَخْرِيبُهُمُ الْبُيُوتَ بِأَيْدِيهِمْ، حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ وَفِي مَا تَعَلَّقَ

بِهِ، وَأَمَّا تَخْرِيبُهُمْ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي إِسْنَادِ التَّخْرِيبِ الَّذِي خَرَّبَهُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ سَبَّبُوا تَخْرِيبَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا تَرَكَهُ بَنُو النَّضِيرِ. فَعَطَفَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بِأَيْدِيهِمْ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ يُخْرِبُونَ اسْتِعْمَالٌ دَقِيقٌ لِأَنَّ تَخْرِيبَ الْمُؤْمِنِينَ دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا وَجَدُوهَا خَاوِيَةً تَخْرِيبٌ حَقِيقِيٌّ يَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِهِ حَقِيقَةً. فَالْمَعْنَى: وَيُسَبِّبُونَ خَرَابَ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَوَقَعَ إِسْنَادُ فِعْلِ يُخْرِبُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَوَقَعَ تَعَلُّقُ وَتَعْلِيقُ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، فَالْمَجَازُ فِي التَّعْلِيقِ الثَّانِي. وَأَمَّا مَعْنَى التَّخْرِيبِ فَهُوَ حَقِيقِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِكِلَا المتعلقين فَإِنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ فِيهِمَا هُوَ الْعِبْرَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ، أَيِ اعْتَبَرُوا بِأَنْ كَانَ تَخْرِيبُ بُيُوتِهِمْ بِفِعْلِهِمْ وَكَانَتْ آلَاتُ التَّخْرِيبِ مِنْ آلَاتِهِمْ وَآلَاتِ عَدُوِّهِمْ. وَالِاعْتِبَارُ: النَّظَرُ فِي دَلَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا وَعَوَاقِبِهَا وَأَسْبَابِهَا. وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِبْرَةِ، وَهِيَ الْمَوْعِظَةُ. وَقَوْلُ «الْقَامُوسِ» : هِيَ الْعَجَبُ قُصُورٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [111] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: يَا أُولِي الْأَبْصارِ مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ معِين. وَنُودِيَ أولو الْأَبْصَارِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَاضِحَةٌ مَكْشُوفَةٌ لِكُلِّ ذِي بصر مِمَّا شَاهَدَ ذَلِكَ، وَلِكُلِّ ذِي بَصَرٍ يَرَى مَوَاقِعِ دِيَارِهِمْ بَعْدَهُمْ، فَتَكُونُ لَهُ عِبْرَةً قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ وَتَسْلِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. وَفِي انْتِصَارِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَانْتِصَارِ أَهْلِ الْيَقِينِ عَلَى الْمُذَبْذَبِينَ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ لِإِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ

[سورة الحشر (59) : آية 3]

[3] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 3] وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 2] . فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ قَرْيَتِهِمْ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وتكذيبهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْحَشْر: 4] وَلَوْ لَمْ يُعَاقِبْهُمُ اللَّهُ بِالْجَلَاءِ لَعَاقَبَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ. فَلَوْ لَمْ يَقْذِفْ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى اسْتَسْلَمُوا لَعَاقَبَهُمْ بِجُوعِ الْحِصَارِ وَفَتَحَ دِيَارَهُمْ عَنْوَةً فَعُذِّبُوا قَتْلًا وَأَسْرًا. وَالْمُرَادُ بِالتَّعْذِيبِ: الْأَلَمُ الْمَحْسُوسُ بِالْأَبْدَانِ بِالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْأَسْرِ وَالْإِهَانَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ نَكْبَةٌ وَمُصِيبَةٌ لَكِنَّهَا لَا تُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِالْوِجْدَانِ. ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، تُفِيدُ امْتِنَاعَ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا، أَيْ وُجُودُ تَقْدِيرِ اللَّهِ جَلَاءَهُمْ سَبَبٌ لِانْتِفَاءِ تَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ آخَرَ. وَإِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَلَاءَ دُونَ التَّعْذِيبِ فِي الدُّنْيَا لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ، وَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَحَوَائِطَهُمْ دُونَ إِتْلَافٍ مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْقِتَالُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الْفُتُوحِ، فَلَيْسَ تَقْدِيرُ الْجَلَاءِ لَهُمْ لِقَصْدِ اللُّطْفِ بِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ آثَرُوهُ عَلَى الْحَرْبِ. وَمَعْنَى كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ قَدَّرَ لَهُمْ تَقْدِيرًا كالكتابة فِي تحقق مَضْمُونِهِ وَكَانَ مَظْهَرُ هَذَا التَّقْدِيرِ الْإِلَهِيِّ مَا تَلَاحَقَ بِهِمْ مِنَ النَّكَبَاتِ مِنْ جَلَاءِ النَّضِيرِ ثُمَّ فَتْحِ قُرَيْظَةَ ثُمَّ فَتْحِ خَيْبَرَ. وَالْجَلَاءُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ بِنِيَّةِ عَدَمِ الْعَوْدِ، قَالَ زُهَيْرٌ: فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ... يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءٌ وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ لَوْلا هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ لِأَنَّ أَنْ السَّاكِنَةَ النُّونِ إِذَا لَمْ

[سورة الحشر (59) : آية 4]

تَقَعْ بَعْدَ فِعْلِ عِلْمِ يَقِينٍ أَوْ ظَنٍّ وَلَا بَعْدَ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْحَشْر: 2] ، وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى جَوَابِ لَوْلا فَإِنَّ عَذَابَ النَّارِ حَاقٌّ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ مُنْتَفِيًا. وَالْمَقْصُودُ الِاحْتِرَاسُ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ الْجَلَاءَ بَدَلٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَاب الْآخِرَة. [4] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 4] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ إِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ، وَإِعْدَادِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ جَارَّةٌ لِلْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ (أَنْ) وَجُمْلَتِهَا. وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْعَدَاوَةُ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النَّحْل: 27] وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ الْأَنْفَالِ. وَالْمُشَاقَّةُ كَالْمُحَادَّةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الِاسْمِ. وَهُوَ الشِّقُّ، كَمَا اشْتُقَّتِ الْمُحَادَّةُ مِنَ الْحَدِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما. وَقَدْ كَانَ بَنُو النَّضِيرِ نَاصَبُوا الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاءَ بَعْدَ أَنْ سَكَنُوا الْمَدِينَةَ وَأَضَرُّوا الْمُنَافِقِينَ وَعَاهَدُوا مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تَذْيِيلٌ، أَيْ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِكُلِّ مَنْ يُشَاقِقُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

[سورة الحشر (59) : آية 5]

وَعُطِفَ اسْم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي الْجُمْلَة الأولى لقصر تَعْظِيمِ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَة الله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ وَلَمْ يُعْطَفِ اسْم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ اسْتِغْنَاءً بِمَا عُلِمَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَأُدْغِمَ الْقَافَانِ فِي يُشَاقِّ لِأَنَّ الْإِدْغَامَ والإظهار فِي مَثَلِهِ جَائِزَانِ فِي الْعَرَبيَّة. وقرىء بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [217] . وَالْفَكُّ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْإِدْغَامُ لُغَةُ بَقِيَّةِ الْعَرَبِ. وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ دَلِيلُ جَوَابِ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ فَاللَّهُ مُعَاقِبُهُمْ إِنَّهُ شَدِيد الْعقَاب. [5] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 5] مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفْضَى بِهِ إِلَى الْمَقْصد من السُّورَةِ عَنْ أَحْكَامِ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَإِشَارَةُ الْآيَةِ إِلَى مَا حَدَثَ فِي حِصَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا اعْتَصَمُوا بِحُصُونِهِمْ فَحَاصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَتْ حَوَائِطُهُمْ خَارِجَ قَرْيَتِهِمْ وَكَانَتِ الْحَوَائِطُ تُسَمَّى الْبُوَيْرَةُ (بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ تَصْغِيرُ بُؤْرٍ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ فَخُفِّفَتْ وَاوًا) عَمَدَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَطْعِ بَعْضِ نَخِيلِ النَّضِيرِ قِيلَ بِأَمْرٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ بِدُونِ أَمْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ لِيُوَسِّعُوا مَكَانًا لِمُعَسْكَرِهِمْ، وَقِيلَ لِتَخْوِيفِ بَنِي النَّضِيرِ وَنِكَايَتِهِمْ، وَأَمْسَكَ بَعْضُ الْجَيْشِ عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ وَقَالُوا: لَا تَقْطَعُوا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النَّخَلَاتِ الَّتِي قُطِعَتْ سِتُّ نَخَلَاتٍ أَوْ نَخْلَتَانِ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ أَفَمِنَ الصَّلَاحِ قَطْعُ النَّخْلِ وَحَرْقُ الشَّجَرِ، وَهَلْ وَجَدَتَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ إِبَاحَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا قَطَعُوا مِنَ النَّخْلِ أُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةُ إِلْجَاءِ الْعَدُوِّ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ بِأَنْ يَرَوْا أَكْرَمَ أَمْوَالِهِمْ عُرْضَةً لِلْإِتْلَافِ بِأَيْدِي

الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَا أُبْقِيَ لَمْ يُقْطَعْ فِي بَقَائِهِ مَصْلَحَةٌ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِي كِلَا الْقَطْعِ وَالْإِبْقَاءِ مَصْلَحَةٌ فَتَعَارَضَ الْمَصْلَحَتَانِ فَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَخْيِيرَ الْمُسْلِمِينَ. وَالتَّصَرُّفُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ يَكُونُ تَابِعًا لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَطْعَ وَالْإِبْقَاءَ كِلَيْهِمَا بِإِذْنِهِ، أَيْ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ، فَأَطْلَقَ الْإِذْنَ عَلَى الرِّضَى عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، أَوْ أَطْلَقَ إِذَنَ اللَّهِ عَلَى إِذن رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ ثَبَتَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُ. وَكَلَامُ الْأَئِمَةِ غَيْرُ وَاضِحٍ فِي إِذن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ابْتِدَاءً وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ قَوْلُ مُجَاهِدُ: إِنَّ الْقَطْعَ وَالِامْتِنَاعَ مِنْهُ كَانَ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ. وَفِي ذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَتَوَرَّكُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ إِذْ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ بَنِي النَّضِيرِ أَحْلَافَهُمْ وَيَتَوَرَّكُ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ إِذْ لَمْ يَنْصُرْهُمْ أَحْلَافُهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا ... وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ نَصِيرُ وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ يُرِيدُ سَرَاةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَكُلُّهُمْ مِنْ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَفِهْرٌ هُوَ قُرَيْشٌ أَيْ لَمْ يُنْقِذُوا أَحْلَافَهُمْ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبْ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ سَتَعْلَمُ أَيَّنَا مِنْهَا بِنَزْهٍ ... وَتَعْلَمُ أَيَّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ يُرِيدُ أَنَّ التَّحْرِيقَ وَقَعَ بِنَوَاحِيَ مَدِينَتِكُمْ فَلَا يَضِيرُ إِلَّا أَرْضُكُمْ وَلَا يَضِيرُ أَرْضَنَا، فَقَوْلُهُ: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ، تَهَكُّمٌ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَحْرِيقَ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَخْرِيبَهَا وَقَطْعَ ثِمَارِهَا جَائِزٌ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُتَعَيَّنَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِإِنْقَاذِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ وَقَوْلُهُ: مِنْ لِينَةٍ بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا قَطَعْتُمْ. وَاللِّينَةُ: النَّخْلَةُ ذَاتُ الثَّمَرِ الطَّيِّبِ تُطْلِقُ اسْمَ اللِّينَةِ عَلَى كُلِّ نَخْلَةٍ غَيْرِِِ

الْعَجْوَةِ وَالْبَرْمَنِيِّ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَيِمَّةِ اللُّغَةِ. وَتَمْرُ اللِّينَةِ يُسَمَّى اللَّوْنُ. وَإِيثَارُ لِينَةٍ عَلَى نَخْلَةٍ لِأَنَّهُ أَخَفٌّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ نَخْلَةٍ مُفْرَدًا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّخْلُ اسْمَ جَمْعٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يَاءُ لِينَةٍ أَصْلُهَا وَاوٌ انْقَلَبَتْ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ كَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُقَالُ: لِوَنَةٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَفِي كُتُبِ السِّيرَةِ يُذْكَرُ أَنْ بَعْضَ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ أَحْرَقَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ شِعْرُ حَسَّانَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ الْحَرْقَ فَلَعَلَّ خَبَرَ الْحَرْقِ مِمَّا أُرْجِفَ بِهِ فَتَنَاقَلَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ شِعْرُ حَسَّانَ وَشِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، أَوْ أَنَّ النَّخَلَاتِ الَّتِي قُطِعَتْ أَحْرَقَهَا الْجَيْشُ لِلطَّبْخِ أَوْ لِلدِّفْءِ. وَجِيءَ بِالْحَالِ فِي قَوْلِهِ: قائِمَةً عَلى أُصُولِها لِتَصْوِيرِ هَيْئَتِهَا وَحُسْنِهَا. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْقَطْعِ أَوْلَى. وَضَمِيرُ أُصُولِها عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ لِأَنَّ مَدْلُولَ مَا هُنَا جَمْعٌ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى لِينَةٍ لِأَنَّ اللِّينَةَ لَيْسَ لَهَا عِدَّةُ أُصُولٍ بَلْ لِكُلِّ لِينَةٍ أَصْلٌ وَاحِدٌ. وَتَعَلَّقَ عَلى أُصُولِها بِ قائِمَةً. وَالْمَقْصُودُ: زِيَادَةُ تَصْوِيرِ حُسْنِهَا. وَالْأُصُولُ: الْقَوَاعِدُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: سُوقُ النَّخْلِ قَالَ تَعَالَى: أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [إِبْرَاهِيم: 24] . وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا قائِمَةً عَلى أُصُولِها هُوَ بِتَقْدِيرِ: قَائِمَةٌ فُرُوعُهَا عَلَى أُصُولِهَا لِظُهُورِ أَنَّ أَصْلَ النَّخْلَةِ بَعْضُهَا. وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ مَزِيدَةٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَاسْمُ الْمَوْصُولِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَثِيرًا إِذَا ضُمِنَ مَعْنَى التَّسَبُّب، وَقد قرىء بِالْفَاءِ وَبِدُونِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ الشُّورَى [30] . وَعَطْفُ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ مِنْ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ فَبِإِذْنِ اللَّهِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ [166] .

[سورة الحشر (59) : آية 6]

وَالْمَعْنَى: فَقَطْعُ مَا قَطَعْتُمْ مِنَ النَّخْلِ وَتَرْكُ مَا تَرَكْتُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ لِصَلَاحٍ لَهُمْ فِيهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ، أَيْ لِيُهِينَ بَنِي النَّضِيرِ فَيَرَوْا كَرَائِمَ أَمْوَالهم بَعْضهَا مخضود وَبَعضهَا بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ. فَذَلِكَ عَزَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَخِزْيٌ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُرَادُ بِ الْفاسِقِينَ هُنَا: يَهُودُ النَّضِيرِ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ كَمَا أَتَيَ بِضَمَائِرِهِمُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْفاسِقِينَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَقَّ يُؤْذِنُ بِسَبَبِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ، أَيْ لِيَجْزِيَهُمْ لِأَجْلِ الْفِسْقِ. وَالْفِسْق: الْكفْر. [6] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 6] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الْحَشْر: 5] الْآيَةَ فَتَكُونُ امْتِنَانًا وَتَكْمِلَةً لِمَصَارِفَ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِمَصِيرِ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ لِئَلَا يَخْتَلِفَ رِجَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَتِهِ. وَلِبَيَانِ أَنَّ مَا فعله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ هُوَ عَدْلٌ إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَمَا صَدْقُ مَا أَفاءَ اللَّهُ هُوَ مَا تَرَكُوهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ وَالنَّقْضِ وَالْحَطَبِ. وَالْفَيْءُ مَعْرُوفٌ فِي اصْطِلَاحِ الْغُزَاةِ، فَفِعْلُ أَفَاءَ أَعْطَى الْفَيْءَ، فَالْفَيْءُ فِي الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ مَا يَظْفَرُ بِهِ الْجَيْشُ مِنْ مَتَاعِ عَدُوِّهِمْ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهِ فَيَكُونُ الْفَيْءُ بِقِتَالٍ وَيَكُونُ بِدُونِ قِتَالٍ، وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ مَا أُخِذَ بِقِتَالٍ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِد إِلَى الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 2] الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْكُفَّارُ، وَأَنَّهُ نَزَلَ فِي فَيْءِ فَدَكَ فَهَذَا بَعِيدٌ وَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ.

وَقَوْلُهُ: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ خَبَرٌ عَنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ كَالشَّرْطِ لَتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الْحَشْر: 5] . وَهُوَ بِصَرِيحِهِ امْتِنَانٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ سَاقَ لَهُمْ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ دُونَ قِتَالٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الْأَحْزَاب: 25] ، وَيُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةً بِأَنْ يَقْصِدَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ لَازِمَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ سَبَبُ حَقٍّ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: فَمَا هُوَ مِنْ حَقِّكُمْ، أَوْ لَا تَسْأَلُوا قِسْمَتَهُ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَنَالُوهُ بِقِتَالِكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أعطَاهُ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةً مِنْهُ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا نَصَبٍ. وَالْإِيجَافُ: نَوْعٌ مِنْ سَيْرِ الْخَيْلِ. وَهُوَ سَيْرٌ سَرِيعٌ بِإِيقَاعِ وَأُرِيدَ بِهِ الرَّكْضُ لِلْإِغَارَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَرِيعًا. وَالرِّكَابُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْإِبِلِ الَّتِي تُرْكَبُ. وَالْمَعْنَى: مَا أَغَرْتُمْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا إِبِلٍ. وَحَرْفُ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَيْسَ لِتَعْدِيَةِ أَوْجَفْتُمْ لَأَنَّ مَعْنَى الْإِيجَافِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْفَيْءِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ مَصْدَرُ أَوْجَفْتُمْ، أَيْ إِيجَافًا لِأَجْلِهِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْلٍ زَائِدَةٌ دَاخِلَةٌ عَلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَمَدْخُولُ مِنْ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ أَوْجَفْتُمْ أَيْ مَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا رِكَابًا. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى النَّفْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالرَّسُولُ أَحَقُّ بِهِ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ قَصْرًا مَعْنَوِيًّا كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا سَلَّطَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ سَلَّطَ عَلَيْهِم رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ إِيجَازُ حَذْفٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِم رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِعِمُومِهِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْمُقَدَّرِ.

وَعُمُومُ مَنْ يَشاءُ لِشِمُولِ أَنَّهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مُقَاتِلِينَ وَيُسَلِّطُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ. وَالْمَعْنَى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِم، وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. فَأَغْنَى التَّذْيِيلُ عَنِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ مَالِ اللَّهِ يتصرّف فِيهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ مِنْ بَعْدِهِ. فَتَكُونُ الْآيَةُ تَبْيِينًا لِمَا وَقَعَ فِي قِسْمَةِ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ. ذَلِكَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَسِّمْهُ عَلَى جَمِيعِ الْغُزَاةِ وَلَكِنْ قَسَمَهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ سَوَاءٌ كَانُوا مِمَّنْ غَزَوْا مَعَهُ أَمْ لَمْ يَغْزُوا إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ. فَأَرَادَ أَنْ يَكْفِيَهُمْ وَيَكْفِيَ الْأَنْصَارَ مَا مَنَحُوهُ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ النَّخِيلِ. وَلَمْ يُعْطِ مِنْهُ الْأَنْصَارَ إِلَّا ثَلَاثَةً لِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ وَهُمْ أَبُو دُجَانَةَ (سِمَاكُ بْنُ خُزَيْنَةَ) ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ أَبِي الْحُقَيْقِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِاجْتِهَاد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ لَهُ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ قُسِّمَتْ أَمْوَالُ النَّضِيرِ كَانَتْ بَيَانًا بِأَنَّ مَا فعله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، أَوْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إِذْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْجَيْشَ سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْمِيسَ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ مِثْلِ غَنَائِمَ بَدْرٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، كَانَت الْآيَةُ تَشْرِيعًا لِاسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ. قَالَ أَبُو بَكْرُ ابْن الْعَرَبِيِّ: «لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى خَاصَّةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَاصَّةٌ بِأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَعَلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ. وَبِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَحْضِرِ عُثْمَان، وَعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ صَافِيَةً لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَمِّسْهَا . وَاخْتُلِفَ فِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا كُلُّ مَالٍ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

[سورة الحشر (59) : آية 7]

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَتَحَ الله على الْأَئِمَّة مِمَّا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ خَاصَّةً اه. وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا. [7] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 7] مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ. جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ جَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، أَيْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ، وَأَنَّهَا قُصِدَ مِنْهَا حُكْمٌ غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَالِكٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فَجَعَلُوا مَضْمُونَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ خَاصَّةً، وَجَعَلُوا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ هَذِهِ إِخْبَارًا عَنْ حُكْمِ الْأَفْيَاءِ الَّتِي حُصِّلَتْ عِنْدَ فَتْحِ قُرًى أُخْرَى بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ. مِثْلِ قُرَيْظَةَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَفَدَكَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَنَحْوِهِمَا فَعَيَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا، وَلَا حَقَّ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْجَيْشِ أَيْضًا وَهَذَا الَّذِي يَجْرِي عَلَى وِفَاقِ كَلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَضَائِهِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِيمَا بِأَيْدِيهِمَا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى احْتِمَالٍ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَغْيِيرُ أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ هُنَا: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بَعْدَ أَنْ قَالَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ [الْحَشْر: 6] فَإِنَّ ضَمِيرَ مِنْهُمْ رَاجِعٌ لِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 2] وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ لَا مَحَالَةَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ الْآيَةِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنَّ فَتْحَ الْقُرَى وَقَعَ بَعْدَ فَتْحِ النَّضِيرِ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ كَلِمَةً وَبَيَانًا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَي بَيَانا للإجمال الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ الْآيَة [الْحَشْر: 6] ، لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا اقْتَصَرَتْ عَلَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَيْشِ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَلَمْ تُبَيِّنْ مُسْتَحِقَّهُ وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [الْحَشْر: 6] أَنَّهُ مَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَضَعهُ حَيْثُ شَاءَ عَلَى يَد رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ مُسْتَحِقِّيهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجَيْشِ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْقِعُ عَطْفِ الْبَيَانِ. وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ وَعَلَيْهِ جَرَى تَفْسِيرُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَمُقْتَضَى هَذَا

أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا يُخَمَّسُ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَّسَهَا بَلْ ثَبَتَ ضِدُّهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ حُكْمًا خَاصًّا، أَوْ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: آيَةُ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ إِذَا نُظِرَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمَعَ آيَةِ الْغَنِيمَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ الْآيَة [الْحَشْر: 6] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَا صَارَ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ إِيجَافٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا عُمَرُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا صَارَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِإِيجَافٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَشْرِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا فَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَهَا إِلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَأَنَّهُمَا نَزَلَتَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْغَنِيمَةِ الْمُوجَفِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ نَسَخَتْ آيَةَ الْحَشْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْنًى ثَالِثٍ غَيْرِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَتَيْنِ: وَاخْتَلَفَ الذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا: فَقِيلَ نَزَلَتْ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي حُكْمِ الْأَرْضِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ (فَتَكُونُ تَخْصِيصًا لِآيَةِ الْأَنْفَالِ) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ. وَالْآيَةُ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ اه. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْقُرى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ قُرًى مَعْرُوفَةٌ عُدَّتْ مِنْهَا: قُرَيْظَةُ، وَفَدَكُ، وَقُرَى عُرَيْنَةَ، وَالْيَنْبُعُ، وَوَادِي الْقُرَى، وَالصَّفْرَاءُ، فُتِحَتْ فِي عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَتْحِهَا أَكَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا أَوْ فَيْئًا. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ فَدَكَ كَانَتْ مَثَلَ النَّضِيرِ. وَلَا يَخْتَصُّ جَعْلُهُ لِلرَّسُولِ بِخُصُوصِ ذَات الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مِثْلُهُ فِيهِ أَيِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ. وَتَقْيِيدُ الْفَيْءِ بِفَيْءِ الْقُرَى جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا تُفْتَحَ إِلَّا الْقُرَى لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَاصَرُونَ فَيَسْتَسْلِمُونَ وَيُعْطُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ، فَأَمَّا

النَّازِلُونَ بِالْبَوَادِي فَلَا يُغْلَبُونَ إِلَّا بَعْدَ إِيجَافٍ وَقِتَالٍ فَلَيْسَ لِقَيْدِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى مَفْهُومٌ عِنْدِنَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْفَيْءِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِدُونِ إِيجَافٍ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَإِنَّمَا تُخَمَّسُ الْغَنَائِمُ وَهِيَ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِيجَافٍ وَقِتَالٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ غَيْرَ الْأَرْضِينَ وَبَيْنَ الْأَرْضِينَ. فَأَمَّا غَيْرُ الْأَرْضِينَ فَهُوَ مُخَمَّسٌ، وَأَمَّا الْأَرْضُونَ فَالْخِيَارُ فِيهَا لِلْإِمَامِ بِمَا يَرَاهُ أَصْلَحَ إِنْ شَاءَ قَسَّمَهَا وَخَمَّسَ أَهْلَهَا فَهُمْ أَرِقَّاءُ، وَإِن شَاءَ تَركهَا على ملك أَهْلَهَا وَجَعَلَ خَرَاجًا عَلَيْهَا وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْوَالِ الْحَرْبِ مُخَمَّسَةٌ وَحَمَلَ حُكْمَ هَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى حُكْمِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ بِالنَّسْخِ. وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى التَّفْصِيل بَين الْأَمْوَال غير الْأَرْضين وَبَين الْأَرْضين. فَأَما غير الْأَرْضين فَهُوَ مخمّس، وَأما الأرضون فالتفويض فِيهَا للْإِمَام بِمَا يرَاهُ أصلح إِن شَاءَ قسّمها وَخمْس أَهلهَا فهم أرقاء، وَإِن شَاءَ أقرّ أَهلهَا بهَا وَجعل خراجا عَلَيْهَا وعَلى أنفسهم. وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ أَنَّ صِنْفًا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نَصِيبًا لِلْغُزَاةِ وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ مُقْتَضَاهَا وَبَيْنَ قَصْرِ آيَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي لَمْ تَجْعَلْ لِمَنْ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْخُمْسَ، فَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ نَسَخَتْ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ جَمْعٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَةَ الْأَنْفَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْغَنَائِمُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ، وَبِذَلِك قَالَ زَيْدُ بْنُ رُومَانَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ اه. عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْأَنْفَالَ نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَسُورَةُ الْحَشْرِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِسَنَتَيْنِ. إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْحَشْرِ تَجْدِيدًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنَ التَّخْمِيسِ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ، أَيْ فَتَكُونُ آيَةُ الْحَشْرِ نَاسِخَةً لِمَا فَعَلَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ مَغَانِمِ بَدْرٍ، ثُمَّ نَسَخَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ آيَةَ الْحَشْرِ. فَيَكُونُ إِلْحَاقُهَا بِسُورَةِ الْأَنْفَالِ بِتَوْقِيفٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ إِنَّ سُورَةَ الْحَشْرِ

نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْفَالِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَخْمِيسَ الْغَنَائِمِ هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، أَيْ بِفعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْإِجْمَاعِ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْقُرَى الَّتِي عَنَتْهَا آيَةُ الْحَشْرِ فُتِحَتْ بِحَالَةٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ مُجَرَّدِ الْفَيْءِ وَبَيْنَ الْغَنِيمَةِ، فَشُرِعَ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ حَالَتُهَا غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ تَعَذَّرَ أَنْ نَقِيسَ عَلَيْهَا وَنُسِخَ حُكْمُهَا وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى انْحِصَارِ الْفُتُوحِ فِي حَالَتَيْنِ: حَالَةُ الْفَيْءِ الْمُجَرَّدِ وَمَا لَيْسَ مُجَرَّدَ فَيْءٍ. وَسَقَطَ حُكْمُ آيَةِ الْحَشْرِ بِالنَّسْخِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى مُخَالَفَةِ حُكْمُ النَّصِّ يُعْتَبَرُ نَاسِخًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَاسِخًا. وَعَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ- أَيْ آيَةَ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - نَزَلَتْ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ إِذَا أُخِذَتْ عَنْوَةً مِثْلُ سَوَادِ الْعِرَاقِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ غَيْرَ أَرْضٍ. كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَيْرَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مَعَ أَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى هَذِهِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ حُكْمِهِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، وَمَعَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَوْقِعَ كُلٍّ. وَسَتَعْرِفُ وَجْهَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: 10] . وَمن الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ مَحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْغَنَائِمِ كُلِّهَا بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْفَيْءَ بِمَا يُرَادِفُ الْغَنِيمَةَ. وَزَعَمُوا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ. وَتَقَدَّمَ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِدَادِ مَنْ لَهُمُ الْمَغَانِمُ وَالْفَيْءُ وَالْأَصْنَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي سُورَة الْأَنْفَال. وكَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِمَا اقْتَضَاهُ لَامُ التَّمْلِيكِ مِنْ جَعْلِهِ مِلْكًا لِأَصْنَافٍ كَثِيرَةِ الْأَفْرَادِ، أَيْ جَعَلْنَاهُ مَقْسُومًا عَلَى هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لِئَلَّا يَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ وَلَا يَنَالُ أَهْلَ الْحَاجَةِ نَصِيبٌ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ. إِبْطَالُ مَا كَانَ مُعْتَادا فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ اسْتِئْثَارِ قَائِدِ الْجَيْشِ بِأُمُورٍ مِنَ الْمَغَانِمِ وَهِيَ: الْمِرْبَاعُ، وَالصَّفَايَا، وَمَا صَالَحَ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ دُونَ قِتَالٍ، وَالنَّشِيطَةُ، وَالْفُضُولُ.

قَالَ عَبْدُ الله بن عنمة الضَّبِّيُّ يُخَاطِبُ بِسْطَامَ بَنَ قَيْسٍ سَيِّدَ بَنِي شَيْبَانَ وَقَائِدَهُمْ فِي أَيَّامِهِمْ: لَك المرباع مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ فَالْمِرْبَاعُ: رُبْعُ الْمَغَانِمِ كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهِ قَائِدُ الْجَيْشِ. وَالصَّفَايَا: النَّفِيسُ مِنَ الْمَغَانِمِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فَتَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ، كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهِ قَائِدُ الْجَيْشِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ مَا أَعْطَاهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمَالِ إِذَا نَزَلُوا عَلَى حَكَمِ أَمِيرِ الْجَيْشِ. وَالنَّشِيطَةُ: مَا يُصِيبُهُ الْجَيْشُ فِي طَرِيقِهِ مِنْ مَالِ عَدُوِّهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى مَوْضِعِ الْقِتَالِ. وَالْفُضُولُ: مَا يَبْقَى بَعْدَ قِسْمَةِ الْمَغَانِمِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ عَلَى رُؤُوس الْغُزَاة مثل بَعِيرٍ وَفَرَسٍ. وَقَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَجَعَلَ الْفَيْءَ مَصْرُوفًا إِلَى سِتَّة مصارف رَاجِعَةٍ فَوَائِدُهَا إِلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ لَسَدِّ حَاجَاتِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لله وَلِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ الْخُمْسَ مِنَ الْمَغَانِمِ كَذَلِكَ لِتِلْكَ الْمَصَارِفِ. وَقَدْ بَدَا مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً بَيْنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ فِي انْتِقَالِهِ مِنْ كُلِّ مَالٍ لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ مِثْلُ الْمَوَاتِ، وَالْفَيْءِ، وَاللُّقَطَاتِ، وَالرِّكَازِ، أَوْ كَانَ جُزْءًا مُعَيَّنًا مِثْلَ: الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَتَخْمِيسِ الْمَغَانِمِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْمَوَارِيثِ، وَعُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي بَيَنَ جَانِبِيِّ مَالٍ وَعَمَلٍ مِثْلِ: الْقِرَاضِ وَالْمُغَارَسَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَفِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَظْفَرُ بِهَا الظَّافِرُ بِدُونِ عَمَلٍ وَسَعْيٍ مثل: الْفَيْء والرّكاز، وَمَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ «مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» . وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِ: مَا يَتَدَاوَلُهُ الْمُتَدَاوِلُونَ. وَالتَّدَاوُلُ: التَّعَاقُبُ فِي التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ. وَخَصَّهَا الِاسْتِعْمَالُ بِتَدَاوُلِ الْأَمْوَالِ.

وَالدَّوْلَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ: النَّوْبَةُ فِي الْغَلَبَةِ وَالْمِلْكُ. وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِضَمِّ الدَّالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بِنَصْبِ دُولَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ يَكُونَ. وَاسْمُ يَكُونَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ، وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ دُولَةٌ عَلَى أَنَّ يَكُونَ تَامَّةٌ ودولة فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَكُونَ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ تَكُونُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ جَرْيًا عَلَى تَأْنِيثِ فَاعِلِهِ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ هِشَامٍ فَبَعْضُهُمْ رَوَى عَنهُ مُوَافقَة (أَي جَعْفَرٍ) فِي تَاءِ تَكُونُ وَبَعْضُهُمْ رَوَى عَنْهُ مُوَافَقَةَ الْجُمْهُورِ فِي الْيَاءِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الْحَشْر: 2] ثُمَّ قَوْلُهُ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الْحَشْر: 5] وَمَا بَعْدَهُ. وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ خِطَابًا لِلْأَنْصَارِ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غِنًى. وَالْمُرَادُ بِ الْأَغْنِياءِ الَّذِينَ هُمْ مَظَنَّةُ الْغِنَى، وَهُمُ الْغُزَاةُ لِأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بِالْمَغَانِمِ وَالْأَنْفَالِ. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. اعْتِرَاضٌ ذَيَّلَ بِهِ حُكْمَ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ إِذْ هُوَ أَمَرَ بِالْأَخْذِ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي شَأْنِ فَيْءِ النَّضِيرِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ إِزَالَةُ مَا فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْجَيْشِ مِنْ حَزَازَةِ حِرْمَانِهِمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ النَّضِيرِ. وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَبْلِيغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ، جَعَلَ تَشْرِيعَهُ وَتَبْلِيغَهُ كَإِيتَاءِ شَيْءٍ بِأَيْدِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْبَقَرَة: 63 و93] وَاسْتُعِيرَ الْأَخْذُ أَيْضًا لِقَبُولِ الْأَمْرِ والرضى بِهِ وَالْعَمَل.

[سورة الحشر (59) : آية 8]

وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِنَوْعَيِ التَّشْرِيعِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا يَصْدُرُ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهَا جَمِيعُ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ» .. الْحَدِيثُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْهُ فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ لَهَا: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأَتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وَعُطِفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ على لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ بِالْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى هِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ. وَالْمَعْنَى: وَاتَّقُوا عِقَابَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، أَيْ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ واقتحم نَهْيه. [8] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 8] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) بَدَلٌ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي دخلت عَلَيْهَا الْكَلَام مُبَاشَرَةً وَعَطْفًا قَوْلُهُ: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الْحَشْر: 7] بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَأَوَّلُ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْبَدَلِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمَعْنِيَّةِ فِي الْآيَةِ لَا يَجْرِي قَسْمُهُ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ قَسْمُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي اقْتَصَرَ فِي قَسْمِهَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَرَابِعٍ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ لَا مُطْلَقًا، يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَهُمْ.

وَأُعِيدَ اللَّامُ مَعَ الْبَدَلِ لِرَبْطِهِ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ لِانْفِصَالِ مَا بَيْنَهُمَا بِطُولِ الْكَلَامِ مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَذْيِيلٍ وَتَحْذِيرٍ. ولإفادة التَّأْكِيد. وَكَثِيرًا مَا يقْتَرن الْبَدَل بِمثل الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [114] . فَبَقَى احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الْحَشْر: 7] ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِلْفُقَراءِ إِلَى آخِرِهِ مَسُوقًا لِتَقْيِيدِ اسْتِحْقَاقِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ وَشَأْنُ الْقُيُودِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا قَبْلَهَا، فَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يُشْتَرَطَ الْفَقْرُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَهَا قَدْ قُيِّدَ بِقَيْدٍ عَقِبَ إِطْلَاقٍ، وَالْكَلَامُ بِأَوَاخِرِهِ فَلَيْسَ يجْرِي هُنَا الِاخْتِلَافُ فِي حَمْلِ الْمُطَلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا تجْرِي الصُّور الْأَرْبَع فِي حَمْلِ الْمُطَلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنَ اتِّحَادِ حُكْمِهِمَا وَجِنْسِهِمَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى ذَوُو الْقُرْبَى إِلَّا إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ لِأَنَّهُ عِوَضٌ لَهُمْ عَمَّا حُرِمُوهُ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: يُشْتَرَطُ الْفَقْرُ فِيمَا عَدَا ذَوِي الْقُرْبَى لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ لِأَجْلِ الْقَرَابَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَغْلَظَ الشَّافِعِيُّ الرَّدَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَاجَةَ، فَاشْتِرَاطُهَا وَعَدَمُ اعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ يُضَارُّهُ وَيُحَادُّهُ. قُلْتُ: هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ وَصْفَ الْيَتَامَى وَوَصْفَ ابْنِ السَّبِيلِ وَلَمْ يَشْتَرَطِ الْحَاجَةَ. وَاعْتَذَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الصَّدَقَاتِ لَمَّا حُرِّمَتْ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى كَانَتْ فَائِدَةُ ذَكْرِهِمْ فِي خُمْسِ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ إِلَيْهِمِ امْتِنَاعَ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَغْتَرَّ بِالِاعْتِذَارِ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ عَلَى ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ تَشْرِيفًا لَهُمْ فَمَنْ عَلَّلَهُ بِالْحَاجَةِ فَوَّتَ هَذَا الْمَعْنَى اه. وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ تَجِدُ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ مَدْخُولٌ، وَالْبَحْثَ فِيهِ يَطُولُ. وَمَحَلُّهُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ جُمْلَةَ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ابْتِدَائِيَّةً عَلَى حَذْفِ

[سورة الحشر (59) : آية 9]

الْمُبْتَدَأِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ الْفُقَرَاءِ إِلَى آخَرِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَتَكُونُ هَذِهِ مَصَارِفُ أُخْرَى لِلْفَيْءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْطُوفَةً بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى طَرِيقَةِ التِّعْدَادِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قِيلَ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَنْتَفِي كَوْنُهَا قَيْدًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قبلهَا، وتنفتح طرائق أُخْرَى فِي حَمْلِ الْمُطَلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي شُرُوطِ الْحمل، وَهِي طرائق وَاضِحَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُعَوَّلُ. وَوُصِفَ الْمُهَاجِرُونَ بِالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَهُمْ مُرَاعًى جَبْرَ مَا نُكِبُوا بِهِ مِنْ ضَيَاعِ الْأَمْوَالِ وَالدِّيَارِ، وَمُرَاعًى فِيهِ إِخْلَاصُهُمُ الْإِيمَانَ وَأَنَّهُمْ مُكَرِّرُونَ نَصْرَ دِينِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ وَصْفَ الصَّادِقِينَ لِأَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ مِنَ الصِّفَاتِ وَهِيَ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَابْتِغَاؤُهُمْ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَنَصْرُهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الْخَالِصَةَ فِيمَا عُمِلَتْ لِأَجْلِهِ يَشْهَدُ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا مَا يَلْحَقُ عَامِلَهَا مِنْ مَشَاقٍّ وَأَذًى وَإِضْرَارٍ، فَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ مِنْهَا لَوْ تَرَكَ مَا عَمِلَهُ لِأَجْلِهَا أَوْ قَصَّرَ فِيهِ. وَجُمْلَةُ هُمُ الصَّادِقُونَ مُفِيدَةٌ الْقَصْرَ لِأَجْلِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِمْ بِالصِّدْقِ الْكَامِلِ كَأَنَّ صِدْقَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ صِدْقًا فِي جَانِبِ صِدْقِهِمْ. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . [9] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 9] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) الْأَظْهَرُ أَنَّ الَّذِينَ عَطْفٌ على الْمُهاجِرِينَ [الْحَشْر: 8] أَيْ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ.

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ هُمُ الْأَنْصَارُ. وَالدَّارُ تُطْلَقُ عَلَى الْبِلَادِ، وَأَصْلُهَا مَوْضِعُ الْقَبِيلَةِ مِنَ الْأَرْضِ. وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْقَرْيَةِ قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ ثَمُودَ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الْأَعْرَاف: 78] ، أَيْ فِي مَدِينَتِهِمْ وَهِيَ حِجْرُ ثَمُودَ. وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّارِ: يَثْرِبُ، وَالْمَعْنَى الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الدَّارِ. هَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ. وَالتَّبَوُّءُ: اتِّخَاذُ الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْبُقْعَةُ الَّتِي يَبُوءُ إِلَيْهَا صَاحِبُهَا، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهَا بَعْدَ انْتِشَارِهِ فِي أَعْمَالِهِ. وَفِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَالْإِيمانَ غُمُوضٌ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولا لفعل تبوّؤوا، فَتَأَوَّلَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً بِتَشْبِيهِ الْإِيمَانِ بِالْمَنْزِلِ وَجَعْلِ إِثْبَاتِ التَّبَوُّءِ تَخْيِيلًا فَيكون فعل تبوأوا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْمَعْطُوفَ عَامِلًا مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، تَقْدِيره: وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الرَّاجِزِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا (¬1) وَقَوْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا أَيْ وَمُمْسِكًا رُمْحًا وَهُوَ الَّذِي درج عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافُ» . وَقِيلَ الْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ. والْإِيمانَ مَفْعُولٌ مَعَهُ. ¬

(¬1) هُوَ من شَوَاهِد النَّحْو. وَالْمَشْهُور أَن تَمَامه: حَتَّى شتت همّالة عَيناهَا. وَفِي خزانَة الْأَدَب عَن حَاشِيَة الشِّيرَازِيّ واليمني «للكشاف» : أَنه عجز رجزا وَأَن صَدره: لما حططت الرّجل عَنْهَا وَأَرَادَ. قَالَ: وَرَأَيْت فِي حَاشِيَة نُسْخَة صَحِيحَة من «صِحَاح الْجَوْهَرِي» أَنه لذِي الرمة وَلم أَجِدهُ فِي ديوانه.

وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَلَّ قَائِلُوهُ. وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ النَّصْبَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ سَمَاعِيًّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فَتَجَنَّبُوا تَخَرِيجَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ حَتَّى ادَّعَى ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْقُرْآن بِيَقِين. وَتَأَول قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يُونُس: 71] ، ذَلِك لِأَن جُمْهُور الْبَصرِيين يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ هُوَ الْعَامِلَ فِي الِاسْمِ الَّذِي صَاحَبَهُ وَلَا يَرَوْنَ وَاوَ الْمَعِيَّةِ نَاصِبَةَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ فَإِنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى (مَعَ) . وَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: مَنْصُوبٌ بِالْوَاوِ. وَالْحَقُّ عَدَمُ الْتِزَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ مَعْمُولًا لِلْفِعْلِ، أَلَا تَرَى صِحَّةَ قَوْلِ الْقَائِلِ: اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ. وَقَوْلُهُمْ: سِرْتُ وَالنِّيلُ، وَهُوَ يُفِيدُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ دَارُهُمْ آوَوْا إِلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ لِأَنَّهَا دَارُ مُؤْمِنِينَ لَا يُمَاثِلُهَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُهَا. وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ مِنْ قَبْلِهِمْ فعل تَبَوَّؤُا بِمُفْرَدِهِ، وَأَنَّ الْمَجْرُورَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ قُيِّدَ فِيهِ دُونَ مَا ذِكْرٍ بَعْدَ الْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ وَاوَ عَطْفٍ فَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ قَائِمَةً مَقَامَ الْفِعْلِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَاوَ الْمَعِيَّةِ فِي مَعْنَى ظَرْفٍ فَلَا يُعَلَّقُ بِهَا مَجْرُورٌ. وَفِي ذِكْرِ الدَّارِ (وَهِيَ الْمَدِينَةِ) مَعَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ جَعَلَ تَبَوُّءَهُمُ الْمَدِينَةَ قَرِينَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ مَالِكٌ رَحْمَهُ اللَّهُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآفَاقِ. فَقَالَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى افْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ حَالٌ من الَّذين تبوّؤوا الدَّار، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ إِذْ أَحَبُّوا الْمُهَاجِرِينَ، وَشَأْنُ الْقَبَائِلِ أَنْ يَتَحَرَّجُوا مِنَ الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ إِلَى دِيَارِهِمْ لِمُضَايَقَتِهِمْ. وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ خَبَرِ سعد بن الربيح مَعَ عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ إِذْ عَرَضَ سَعْدٌ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاسِمَهُ مَالَهُ وَأَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَقَدْ أَسْكَنُوا الْمُهَاجِرِينَ مَعَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَنَحُوهُمْ مِنْ نَخِيلِهِمْ، وَحَسْبُكَ الْأُخُوَّةُ الَّتِي آخى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أُرِيدَ بِالْوُجْدَانِ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ، وَكَنَّى بِانْتِفَاءِ وجدان الْحَاجة عَن انْتِفَاءِ وُجُودِهَا لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَأَدْرَكُوهَا فِي نُفُوسِهِمْ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ وَالْحَاجَةُ فِي الْأَصْلِ: اسْمُ مَصْدَرِ الْحَوْجِ وَهُوَ الِاحْتِيَاجُ، أَيْ الِافْتِقَارُ إِلَى شَيْءٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهِيَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمَأْرَبِ وَالْمُرَادِ، وَإِطْلَاقُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَأْرَبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ [غَافِر: 80] ، أَيْ لِتَبْلُغُوا فِي السَّفَرِ عَلَيْهَا الْمَأْرَبَ الَّذِي تُسَافِرُونَ لِأَجْلِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها [يُوسُف: 68] أَيْ مَأْرَبًا مُهِمًّا وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَيَّامَ تُخْبِرْنِي نُعْمُ وَأُخْبِرُهَا ... مَا أَكْتُمُ النَّاسَ مِنْ حَاجِي وَإِسْرَارِي وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أُوتُوا ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ مَأْرَبًا أَوْ رَغْبَةً نَاشِئَةً مِنْ فَيْءٍ أُعْطِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ. وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا النُّفُوسُ جَمْعُ الصَّدْرِ وَهُوَ الْبَاطِنُ الَّذِي فِيهِ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ الْقَلْبِ على ذَلِك. و (مَا أُوتُوا) هُوَ فَيْءُ بَنِي النَّضِيرِ. وَضَمِيرُ صُدُورِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ، وَضَمِيرُ أُوتُوا عَائِدٌ إِلَى مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ هَاجَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَرُوعِيَ فِي ضَمِيرِ مَعْنَى (مِنْ) بِدُونِ لَفْظِهَا. وَهَذَانَ الضَّمِيرَانِ وَإِنْ كَانَا ضَمِيرَيْ غَيْبَةٍ وَكَانَا مُقْتَرِبَيْنِ فَالسَّامِعُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مُعَادِهِ بِحَسَبِ السِّيَاقِ مِثْلَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [9] . وَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى هَوَازِنَ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا (أَيْ أَحْرَزَ جَيْشُ هَوَازِنَ مَا جَمَعَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ) . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ تَشَوُّفٌ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ.

وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ حَاجَةٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْحَقِيقِيِّ اسْمُ مَصْدَرِ الِاحْتِيَاجِ فَإِنَّ الْحَاجَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ وُقُوعُهَا فِي الصُّدُورِ لِأَنَّهَا مِنَ الْوِجْدَانِيَّاتِ وَالِانْفِعَالَاتِ. وَمَعْنَى نَفْيِ وُجْدَانِ الِاحْتِيَاجِ فِي صُدُورِهِمْ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ حُبِّهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ صَارُوا لَا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ أَنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يُؤْتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ، أَي فهم أَغْنِيَاء عَمَّا يؤتاه الْمُهَاجِرُونَ فَلَا تستشرف نُفُوسهم إِلَى شَيْء مِمَّا يؤتاه الْمُهَاجِرُونَ بَلْهَ أَنْ يَتَطَلَّبُوهُ. وَتَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أُوتُوا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ حَاجَةٌ لِأَجْلِ مَا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ، أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ حَاجَةٌ نَاشِئَةٌ عَمَّا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ فَيُفِيدُ انْتِفَاءَ وُجْدَانِ الْحَاجَةِ فِي نُفُوسِهِمْ وَانْتِفَاءِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْوُجْدَانِ وَمَنَاشِئِهِ الْمُعْتَادَةِ فِي النَّاسِ تَبَعًا لِلْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَقَدْ دَلَّ انْتِفَاءُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِ حَاجَةِ الْمَحْذُوفِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ حَاجَةً لِشَيْءٍ أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ. وَالْإِيثَارُ: تَرْجِيحُ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمَكْرَمَةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ. وَالْمَعْنَى: يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يُؤْثِرُونَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مِمَّا أُوتُوا عَلَيْهِ. وَمِنْ إِيثَارِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ مَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْأَنْصَارَ لِيَقْطَعَ لَهُمْ قَطَائِعَ بِنَخْلِ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ تَقْطَعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا . وَإِمَّا إِيثَارُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِيَ الْجَهْدُ. فَأَرْسَلَ فِي نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مَنِ الْأَنْصَارِ (هُوَ أَبُو طَلْحَةَ) فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ. قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ. فَإِذَا دَخَلَ الضَّيْفُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ تُرِي أَنَّكِ تُصْلِحِينَهُ فَأَطْفِئِيهِ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ. فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ.

وَذُكِرَتْ قَصَصٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي التَّفَاسِيرِ، قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. ولَوْ وَصْلِيَةٌ وَهِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ تَعْلِيقِ جَوَابِهَا بِشَرْطٍ يُفِيدُ حَالَةً لَا يُظَنُّ حُصُولَ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ لَآثَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيُعْلَمُ أَنَّ إِيثَارَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي دُونَ ذَلِكَ بِالْأَحْرَى دُونَ إِفَادَةِ الِامْتِنَاعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَالْخَصَاصَةُ: شِدَّةُ الِاحْتِيَاجِ. وَتَذْكِيرُ فِعْلِ كانَ لِأَجْلِ كَوْنِ تَأْنِيثِ الْخَصَاصَةِ لَيْسَ حَقِيقِيًّا، وَلِأَنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ كانَ وَاسْمِهَا بِالْمَجْرُورِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، فَإِنَّ التَّذْيِيلَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ. وَتَذْيِيلُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ فَضْلِ مَنْ يُوقَوْنَ شُحَّ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِيثَارَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى فِي حَالَةِ الْخَصَاصَةِ هُوَ سَلَامَةٌ مِنْ شُحِّ الْأَنْفُسِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ شُحِّ الْأَنْفُسِ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالشُّحُّ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَسْرِهَا: غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ بِمَنْعِ مَا هُوَ لَهَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْبُخْلِ. وَقَالَ الطِّيبِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَسِيرٌ جِدًّا وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبُخْلَ أَثَرُ الشُّحِّ وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدٌ مَا يُرَادُ مِنْهُ بَذْلُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النِّسَاء: 128] أَيْ جُعِلَ الشُّحُّ حَاضِرًا مَعَهَا لَا يُفَارِقُهَا، وَأُضِيفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى النَّفْسِ لِذَلِكَ فَهُوَ غَرِيزَةٌ لَا تَسْلَمُ مِنْهَا نَفْسٌ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي بَيَانِ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ «أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى» وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَتَفَاوَتُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَإِذَا غَلَبَ

[سورة الحشر (59) : آية 10]

عَلَيْهَا بِمَنْعِ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ فَذَلِكَ مَذْمُومٌ وَيَتَفَاوَتُ ذَمُّهُ بِتَفَاوُتِ مَا يَمْنَعُهُ. قَالَ وَقَدْ أَحْسَنَ وَصْفَهُ مَنْ قَالَ، لَمْ أَقف على قَائِله: يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ... إِذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلَا فَمَنْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ، أَيْ وُقِيَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشُّحُّ الْمَذْمُومُ خُلُقًا لَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا وُقِيَ هَذَا الْخُلُقَ سَلِمَ مِنْ كُلِّ مَوَاقِعِ ذَمِّهِ. فَإِنْ وُقِيَ مِنْ بَعْضِهِ كَانَ لَهُ مِنَ الْفَلَاحِ بِمَقْدَارِ مَا وُقِيَهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِتَعْظِيمِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ الْمُؤَدَّاةُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ الْفَلَاحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى وِقَايَةِ شُحِّ النَّفْسِ حَتَّى كَأَنَّ جِنْسَ الْمُفْلِحِ مَقْصُورٌ عَلَى ذَلِكَ الْمُوقَى. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جعل وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْأَنْصَارِ بِمُنَاسَبَةِ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَجْعَلُوا لِلْأَنْصَارِ حَظًّا فِي مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وَقَصَرُوا قَوْلَهُ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الْحَشْر: 7] عَلَى قُرًى خَاصَّةٍ هِيَ: قُرَيْظَةُ. وَفَدَكُ، وَخَيْبَرُ. وَالنَّفْعُ، وَعُرَيْنَةُ، وَوَادِي الْقُرَى، وَرَوَوْا أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيْئَهَا قَالَ لِلْأَنْصَارِ: «إِنْ شِئْتُمْ قَاسَمْتُمُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَدِيَارِكُمْ وَشَارَكْتُمُوهُمْ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ، وَإِن شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ وتركتم لَهُم هَذَا» ؟ فَقَالُوا: بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَنَتْرُكُ لَهُمْ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الْآيَة [الْحَشْر: 7] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ وَكُلُّ ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ انْتِظَامِ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ وَتَفْكِيكٌ لِنَظْمِ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبِهِ مَعَ وَهْنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ عطف وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ خَبَرًا عَن الْمُبْتَدَأ. [10] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 10] وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ

(10) عَطْفٌ على وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الْحَشْر: 9] عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ جعلُوا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الْحَشْر: 9] مَعْطُوفًا عَلَى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الْحَشْر: 8] جعلُوا الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَهُوَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَلْ هُوَ مَنْ جَاءَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَضَمِيرُ مِنْ بَعْدِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ لِلطُّرُوِّ وَالْمَصِيرِ إِلَى حَالَةٍ تُمَاثِلُ حَالَهُمْ، وَهِيَ حَالَةُ الْإِسْلَامِ، فَكَأَنَّهُمْ أَتَوْا إِلَى مَكَانٍ لِإِقَامَتِهِمْ، وَهَذَا فَرِيقٌ ثَالِثٌ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ [التَّوْبَة: 100] أَيِ اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا صِيغ جاؤُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَغْلِيبًا لِأَنَّ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِثْلِ غِفَارَةَ، وَمُزَيْنَةَ، وَأَسْلَمَ، وَمِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَكَأَنَّهُ قيل: الَّذين جاؤوا وَيَجِيئُونَ، بِدِلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: زِيَادَةُ دَفْعِ إِيهَامِ أَنْ يَخْتَصَّ الْمُهَاجِرُونَ بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى كَمَا اختصهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ. وَقَدْ شَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلَّ مَنْ يُوجَدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى فَهْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَّمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا (أَيِ الْفَاتِحِينَ) كَمَا قسم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ عُمَرَ دَعَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: تَثَبَّتُوا الْأَمْرَ وَتَدَبَّرُوهُ ثُمَّ اغْدُوَا عَلَيَّ فَلَمَّا غَدَوْا عَلَيْهِ قَالَ: قَدْ مَرَرْتُ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ وَتَلَا مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [7، 8] . قَالَ: مَا هِيَ لِهَؤُلَاءِ فَقَطْ وتلا قَوْله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: رَؤُفٌ رَحِيمٌ ثُمَّ قَالَ: مَا بَقِي أحد مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ اه. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْفَيْءِ، وَأَمَّا مَا فُتِحَ عَنْوَةً فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى وَلِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي

عَدَمِ قِسْمَتِهِ سَوَادَ الْعرَاق بَين الْجَيْش الْفَاتِحِينَ لَهُ عَمَلٌ آخَرُ، وَهُوَ لَيْسَ من غَرَضَنَا. وَمَحَلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ. وَالْفَرِيقُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الْحَشْر: 9] كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَجَعَلَ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [الْحَشْر: 9] خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، جَعَلُوا قَوْله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ كَذَلِكَ مُسْتَأْنَفًا. وَمِنَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا [الْحَشْر: 9] مَعْطُوفًا عَلَى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الْحَشْر: 8] مَنْ جَعَلَ قَوْله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مُسْتَأْنَفًا. وَنَسَبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» إِلَى الشَّافِعِيِّ. وَرَأَى أَنَّ الْفَيْءَ إِذَا كَانَ أَرْضًا فَهُوَ إِلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَالْغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ: الْحَسَدُ وَالْبُغْضُ، أَيْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُطَهِّرَ نُفُوسَهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ لِلْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنِ عَلَى مَا أُعْطُوهُ مِنْ فَضِيلَة صُحْبَة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فُضِّلَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ وَبَعْضُهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ، فَبَيَّنَ الله للَّذين جاؤا مِنْ بَعْدِهِمْ مَا يُكْسِبُهُمْ فَضِيلَةً لَيْسَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهِيَ فَضِيلَةُ الدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَانْطِوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَانْتِفَاءِ الْبُغْضِ لَهُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُضْمِرُونَ مَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِهِ لَهُمْ فِي نُفُوسهم ويرضوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوا سَلَفَهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّ حَقًّا عَلَيْهِمْ مَحَبَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَعْظِيمُهُمْ، قَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ يُبْغِضُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ غِلٌّ فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ. فَلَعَلَّهُ أَخَذَ بِمَفْهُومِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنْ يُضْمِرُوا مَضْمُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ فَإِذَا أَضْمَرُوا خِلَافَهُ وَأَعْلَنُوا بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ فَقَدْ تَخَلَّفَ فِيهِمْ هَذَا الْوَصْفُ، فَإِنَّ الْفَيْءَ عَطِيَّةٌ

[سورة الحشر (59) : آية 11]

أَعْطَاهَا اللَّهُ تِلْكَ الْأَصْنَافَ وَلَمْ يَكْتَسِبُوهَا بِحَقِّ قِتَالٍ، فَاشْتَرَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا أَنْ يَكُونُوا مُحِبِّينَ لِسَلَفِهِمْ غَيْرَ حَاسِدِينَ لَهُمْ. وَهُوَ يَعْنِي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَنَآنٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ لِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ أَوْ شَرْعِيَّةٍ مِثْلِ مَا كَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ حِينَ تَحَاكَمَا إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ الْخَائِنِ الْغَادِرِ. وَمِثْلِ إِقَامَةِ عُمَرَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَبِي بَكْرَةَ. وَأَمَّا مَا جَرَى بَيْنَ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ مِنَ النِّزَاعِ وَالْقِتَالِ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ مِنَ الْقِتَالِ فَإِنَّمَا كَانَ انْتِصَارًا لِلْحَقِّ فِي كِلَا رَأْيَيِ الْجَانِبَيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغِلٍّ أَوْ تَنَقُّصٍ، فَهُوَ كَضَرْبِ الْقَاضِي أَحَدًا تَأْدِيبًا لَهُ فَوَجَبَ إِمْسَاكُ غَيْرِهِمْ مِنَ التَّحَزُّبِ لَهُمْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُ وَإِنْ سَاغَ ذَلِك لآحادهم لتكافىء دَرَجَاتِهِمْ أَوْ تَقَارُبِهَا. وَالظَّنُّ بِهِمْ زَوَالُ الْحَزَازَاتِ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِانْقِضَاءِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ، لَا يُسَوِّغُ ذَلِكَ لِلْأَذْنَابِ مِنْ بَعْدِهِمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي عِيرٍ وَلَا نَفِيرٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسْحَةٌ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ نَخَرَتْ عَضُدَ الْأمة المحمدية. [11] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 11] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) أَعْقَبَ ذِكْرَ مَا حَلَّ بِبَنِي النَّضِيرِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ أَسْبَابِهِ، ثُمَّ بَيَانِ مَصَارِفِ فَيْئِهِمْ وَفَيْءِ مَا يُفْتَحُ مِنَ الْقُرَى بَعْدَ ذَلِكَ، بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ وَتَغْرِيرِهِمْ بِالْوُعُودِ الْكَاذِبَةِ لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ النِّفَاقَ سَجِيَّةٌ فِي أُولَئِكَ لَا يَتَخَلَّوْنَ عَنْهُ وَلَوْ فِي جَانِبِ قَوْمٍ هُمُ الَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فَبُنِيَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِحَالِهِمْ كِنَايَةً عَنِ التَّحْرِيضِ عَلَى إِيقَاعِ هَذَا الْعِلْمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَأَمَّلَ الَّذِينَ نَافَقُوا فِي حَالِ مَقَالَتِهِمْ لِإِخْوَانِهِمْ وَلَا تَتْرُكِ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَالٌ عَجِيبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى كَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَهُمْ قَائِلِينَ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِقَصْدِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدِينَهُ وَمُكَرِّرِينَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبِدَاءِ أَوِ الْخَاطِرِ الْمَعْدُولِ عَنْهُ. والَّذِينَ نافَقُوا الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ هُنَا هُمْ فَرِيقٌ مِنْ بَنِي عَوْفٍ مِنَ الْخَزْرَجِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ سُمِّيَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَرَافِعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَأَوْس بن قيظي، وَوَدِيعَةُ بْنُ أَبِي قَوْتَلٍ، أَوِ ابْنُ قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدٌ (لَمْ يُنْسَبْ) وَدَاعِسٌ (لَمْ يُنْسَبْ) ، بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ حِينَ حَاصَرَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ بَنِي النَّضِيرِ يَقُولُونَ لَهُمْ: اثْبُتُوا فِي مَعَاقِلِكُمْ فَإِنَّا مَعَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِإِخْوَانِهِمْ بَنُو النَّضِيرِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْإِخُوَّةِ لَهُمْ لِأَنَّهُمَ كَانُوا مُتَّحِدِينَ فِي الْكُفْرِ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ أُخُوَّةَ النَّسَبِ فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بَعَثُوا إِلَيْهِمْ مِنْ بَنِي عَوْفٍ مِنْ عَرَبِ الْمَدِينَةِ وَأَصْلُهُمْ مِنَ الْأَزْدِ. وَفِي وَصْفِ إِخْوَانِهِمْ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنْ جَانِبَ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ هُوَ الْكُفْرُ إِلَّا أَنَّ كُفْرَ الْمُنَافِقِينَ كُفْرُ الشِّرْكِ وَكُفْرَ إِخْوَانِهِمْ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْكُفْرُ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَامُ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، أَيْ قَالُوا لَهُمْ كَلَامًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ. وَإِنَّمَا وَعَدُوهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ لِيَطْمَئِنُّوا لِنُصْرَتِهِمْ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّصْرِ وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُفَارِقُوا بِلَادَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ فَهِيَ مِنَ الْمَقُولِ لَا مِنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أُعْرِيَتْ عَنِ الْمُؤَكَّدِ لِأَنَّ بَنِي النَّضِيرِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يطيعون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْخَبَرِ. وَمَعْنَى فِيكُمْ فِي شَأْنِكُمْ، وَيُعْرَفُ هَذَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فِي ضُرِّكُمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُوَالَاةِ إِخْوَانِهِمْ، وَيُقَدَّرُ الْمُضَافُ فِي مِثْلِ هَذَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، [الْمَائِدَة: 52]

[سورة الحشر (59) : آية 12]

أَيْ فِي الْمُوَالَاةِ لَهُمْ. وَمَعْنَى لَنَنْصُرَنَّكُمْ لَنُعِينَنَّكُمْ فِي الْقِتَالِ. وَالنَّصْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَادِي. وَقَدْ أَعْلَمَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَعْلَمَهُ بِمَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ تَطْمِينًا لِخَاطِرِهِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ إِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَبْلَ غَزْوِ قُرَيْظَةَ لِئَلَا يتوجس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيفَةً مِنْ بَأْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَسَمَّى اللَّهُ الْخَبَرَ شَهَادَةً لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ يَقِينٍ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا يَتَجَازَفُ الْمُخْبِرُ فِي شَأْنِهَا. [12] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 12] لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ. بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الْحَشْر: 11] . وَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ وَهَذَا تَأْكِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوهُ شَيْئًا لِكَيْلَا يَعْبَأَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ. وَضَمِيرُ أُخْرِجُوا وقُوتِلُوا عَائِدَانِ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 11] ، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا وَلَمَّا يُقَاتِلُوا وَهُمْ قُرَيْظَةُ وَخَيْبَرُ، أَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَقَدْ أُخْرِجُوا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَهُمْ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمَعْنَى: لَئِنْ أُخْرِجَ بَقِيَّةُ الْيَهُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَنْصُرُونَهُمْ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْبَيَانِ طَرِيقَ الْإِطْنَابِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الْحَشْر: 11] جَمَعَ مَا فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فَجَاءَ بَيَانُهُ بِطَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ كَذِبِهِمْ. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ. ارْتِقَاءٌ فِي تَكْذِيبِهِمْ عَلَى مَا وَعَدُوا بِهِ إِخْوَانَهُمْ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَلَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ. وَفِعْلُ نَصَرُوهُمْ إِرَادَةُ وُقُوعَ الْفِعْلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى إِرَادَتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

[سورة الحشر (59) : آية 13]

الْآيَة [الْمَائِدَة: 6] وَقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الْبَقَرَة: 226] ، أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَى مَا امْتَنَعُوا مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا نَصْرَهُمْ فَإِنَّ أَمْثَالَهُمْ لَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُمُ الثَّبَاتُ فِي الْوَغَى فَلَوْ أَرَادُوا نَصْرَهُمْ وَتَجَهَّزُوا مَعَهُمْ لَفَرُّوا عِنْدَ الْكَرِيهَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التَّوْبَة: 47] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ النَّصْرُ عَلَى الْإِعَانَةِ بِالرِّجَالِ وَالْعَتَادِ وَهُوَ من مَعَاني النَّصْرِ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِي كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ النَّصْرِ أَعْظَمُ رُتْبَةً فِي تَأْيِيسِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِإِعَانَةِ الْمُنَافِقِينَ فَهُوَ أَقْوَى مِنَ انْهِزَامِ الْمُنَافِقين إِذا جاؤوا لِإِعَانَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِتَالِ. وَالنَّصْرُ هُنَا بِمَعْنَى: الْغَلَبُ. وَضَمِيرُ لَا يُنْصَرُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذِ الْكَلَامُ جَارٍ عَلَى وَعْدِ الْمُنَافِقِينَ بِنَصْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْمَقْصُودُ تَثْبِيتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَتَأْمِينُهُمْ مِنْ بَأْس أعدائهم. [13] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 13] لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ وَهْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقِتَالِ تَشْدِيدَ نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَرْهَبُوهُمْ وَلَا يَخْشَوْا مُسَانَدَتَهُمْ لِأَهْلِ حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ أَحْلَافِ الْمُنَافِقِينَ قُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِعْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَأَحْلَافَهُمْ يَخْشَوْنَ الْمُسْلِمِينَ خشيَة شَدِيدَة وصف شِدَّتُهَا بِأَنَّهَا أَشَدُّ مِنْ خَشْيَتِهِمُ اللَّهَ

تَعَالَى، فَإِنَّ خَشْيَةَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ خَشْيَةً فَإِذَا بَلَغَتِ الْخَشْيَةُ فِي قَلْبِ أَحَدٍ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ مُنْتَهَى الْخَشْيَةِ. وَالْمَقْصُودُ تَشْدِيدُ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَدُوَّهُمْ مُرْهَبٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْمُسْلِمِينَ إِقْدَامًا فِي مُحَارَبَتِهِمْ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ قِلَّةَ رَهْبَتِهِمْ لِلَّهِ بَلْ إِعْلَامَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ أَرْهَبُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ أَعْظَمِ الرَّهَبَاتِ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا: النُّفُوسُ وَالضَّمَائِرُ لِأَنَّ مَحَلَّ أَجْهِزَتِهَا فِي الصُّدُورِ. وَالرَّهْبَةُ: مَصْدَرُ رَهِبَ، أَيْ خَافَ. وَقَوْلُهُ: فِي صُدُورِهِمْ لِ رَهْبَةً فَهِيَ رَهْبَةُ أُولَئِكَ. وَضَمِيرُ صُدُورِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا [الْحَشْر: 11] والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 11] إِذْ لَيْسَ اسْمُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلَى بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ مَعَ صَلَاحِيَّةِ الضَّمِيرِ لِكِلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودِينَ بِالْقِتَالِ هُمْ يَهُودُ قُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَانُوا أَعْوَانًا لَهُمْ. وَإِسْنَادُ أَشَدُّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ إِسْنَادٌ سَبَبِيٌّ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَرَهْبَتُكُمِ فِي صُدُورِهِمْ أَشَدُّ مِنْ رَهْبَةٍ فِيهَا. فَالرَّهْبَةُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَكُلُّ مَصْدَرٍ لِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُضَافَ إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَشَدَّ مَرْهُوبِيَّةً. ومِنَ اللَّهِ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ رَهْبَةِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ رَهْبَتِهِمُ اللَّهَ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ. وَهَذَا تَرْكِيبٌ غَرِيبُ النَّسْجِ بَدِيعُهُ. وَالْمَأْلُوفُ فِي أَدَاءِ مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: لَرَهْبَتُهُمْ مِنْكُمْ فِي صُدُورِهِمْ أَشَدُّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَحُوِّلَ عَنْ هَذَا النَّسْجِ إِلَى

النَّسْجِ الَّذِي حَبَكَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ، لِيَتَأَتَّى الِابْتِدَاءُ بِضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ اهْتِمَامًا بِهِ وَلِيَكُونَ مُتَعَلِّقُ الرَّهْبَةِ ذَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِتَوَقُّعِ بَطْشِهِمْ وَلِيَأْتِيَ التَّمْيِيزُ الْمُحَوَّلُ عَنِ الْفَاعِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْإِجْمَالِ مَعَ التَّفْصِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي خُصُوصِيَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: 4] دُونَ: وَاشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي. وَلِيَتَأَتَّى حَذْفُ الْمُضَافِ فِي تَرْكِيبِ مِنَ اللَّهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: مِنْ رَهْبَةِ اللَّهِ لِأَنَّ حَذْفَهُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَوْقِعُهُ مُتَّصِلًا بِلَفْظِ رَهْبَةً، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَرَهْبَتُهُمْ أَشَدُّ مِنَ اللَّهِ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [77] . فَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَخْشُوا اللَّهَ. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ فَهُمْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَيَحْذَرُونَ عِقَابَ الدُّنْيَا وَعِقَابَ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَهُمْ مُشْرِكُونَ وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، وَأَنَّهُ أَوْلَى الْمَوْجُودَاتِ بِأَنْ يُخْشَى لِأَنَّهُ رَبُّ الْجَمِيعِ وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَخَشِيَتْهُمُ اللَّهَ قَاصِرَةٌ عَلَى خَشْيَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا مِنْ خَسْفٍ وَقَحْطٍ وَاسْتِئْصَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ خَشْيَةٌ. وَهَذَا بِشَارَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْقَعَ الرُّعْبَ مِنْهُمْ فِي نُفُوسِ عَدُوِّهُمْ كَمَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» . وَوَجْهُ وَصْفِ الرَّهْبَةِ بِأَنَّهَا فِي صُدُورِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهَا رَهْبَةٌ جَدُّ خَفِيَّةٍ، أَيْ أَنَّهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَطَاوَلُونَ بِالشَّجَاعَةِ لِيَرْهَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَمَا هُمْ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ فَأَطْلَعَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي صُدُورِهِمْ وَصْفًا كَاشِفًا. وَإِذْ قَدْ حَصُلَتِ الْبِشَارَةُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ ثُنِيَ عَنَانُ الْكَلَامِ إِلَى مَذَمَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ مِنْ جَرَّاءِ كَوْنِهِمْ أَخْوَفَ لِلنَّاسِ مِنْهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةٍ فَقْهِ نُفُوسِهِمْ، وَلَوْ فَقِهُوا لَكَانُوا أَخْوَفَ لِلَّهِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ فَنَظَرُوا فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِ التَّفْرِيطِ فِي النَّظَرِ فِي دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمُوا صِدْقَهُ فَنَجَوْا مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَتْ رَهْبَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الرَّهْبَةُ مُصِيبَةً عَلَيْهِمْ وَفَائِدَةً لِلْمُسْلِمِينَ. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَمُبَيِّنِهِ.

[سورة الحشر (59) : آية 14]

وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ وَاجْتِلَابُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِيَتَمَيَّزَ الْأَمْرُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَتَمَّ تَمْيِيزٍ لِغَرَابَتِهِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ سَبَبُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ وَهُوَ انْتِفَاءُ فَقَاهَتِهِمْ. وَإِقْحَامُ لَفْظِ قَوْمٌ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ أَنَّ عَدَمَ فِقْهِ أَنْفُسِهِمْ أَمْرٌ عُرِفُوا بِهِ جَمِيعًا وَصَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَالْفِقْهُ: فَهْمُ الْمَعَانِيَ الْخَفِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [78] ، وَقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [65] ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَبِعُوا دَوَاعِيَ الْخَوْفِ الْمُشَاهَدِ وَذَهَلُوا عَنِ الْخَوْفِ الْمُغَيَّبِ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، وَهُوَ خَوْفُ اللَّهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْخَفِيَّاتِ. [14] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 14] لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الْحَشْر: 13] ، لِأَنَّ شِدَّةَ الرَّهْبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَدَّةِ التَّحَصُّنِ لِقِتَالِهِمْ إِيَّاهُمْ، أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قِتَالِكُمْ إِلَّا فِي هَاتِهِ الْأَحْوَالِ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يُقاتِلُونَكُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 11] . وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كُلَّهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: 48] فَيَكُونُ لِلشِّمُولِ، أَيْ كُلُّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَكُمُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُجْتَمَعِينَ، أَيْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جُيُوشًا كَشَأْنِ جُيُوشِ الْمُتَحَالِفِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ قِتَالُ مَنْ لَا يَقْبَعُونَ فِي قُرَاهُمْ فَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا إِلَى هَذَا

الْقَيْدِ، أَيْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِتَالِكُمُ اجْتِمَاعَ الْجُيُوشِ، أَيْ لَا يُهَاجِمُونَكُمْ وَلَكِنْ يُقَاتِلُونَ قِتَالَ دِفَاعٍ فِي قُرَاهُمْ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا فِي قُرىً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعاً اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ كُلُّهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْكَوْنِ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ إِلَخْ. وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي جَمِيعاً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الْقُرَى وَوَرَاءَ الْجُدُرِ لَيْسَ مِنْ أَحْوَالِ قِتَالِ الْجُيُوشِ الْمُتَسَانِدِينَ. وَعَلَى كلا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْكَلَام يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا مُتَفَرِّقِينَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي قَرْيَتِهِمْ، وَإِلَّا خَائِفِينَ مُتَتَرِّسِينَ. وَالْمَعْنَى: لَا يُهَاجِمُونَكُمْ، وَإِنْ هَاجَمْتُمُوهُمْ لَا يَبْرُزُونَ إِلَيْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ يُدَافِعُونَكُمْ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ يُقَاتِلُونَكُمْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، أَيْ فِي الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ وَمِنْ وَرَاءِ الْأَسْوَارِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْهَزِيمَةِ إِذْ مَا حُورِبَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا إِطْلَاعٌ لَهُمْ عَلَى تطمين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَدَخَائِلِ الْأَعْدَاءِ. وَ «الْجُدُرُ» بِضَمَّتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ جَمْعُ جِدَارٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو جِدَارٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ تُسَاوِي الْجَمْعَ. ومُحَصَّنَةٍ مَمْنُوعَةٍ مِمَّنْ يُرِيدُ أَخْذَهَا بِأَسْوَارٍ أَوْ خَنَادِقَ. وقُرىً بِالْقَصْرِ جَمْعُ قَرْيَةٍ، وَوَزْنُهُ وَقَصْرُهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى زِنَةِ فَعْلَةٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ مِثْلَ قَرْيَةٍ يُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَمْدُودًا مِثْلَ: رَكْوَةٍ وَرِكَاءٍ، وَشَكْوَةٍ وَشِكَاءٍ. وَلَمْ يُسْمَعِ الْقَصْرُ إِلَّا فِي كَوَّةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ لُغَةٌ وَكُوًى، وَقَرْيَةٍ وَقُرًى وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: قُرًى شَاذٌّ، يُرِيدُ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنْصَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ

الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى جَيْشٍ وَاحِدٍ مُتَسَانِدِينَ فِيهِ مِمَّا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَيُجَابُ بِأَنَّ بَيْنَهُمْ بَأْسًا شَدِيدًا وَتَدَابُرًا، فَهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ بَأْسُهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بَيْنَهُمْ، أَيْ مُتَسَلِّطٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ بَأْسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي تَهَكُّمٍ. وَمَعْنَى بَيْنَهُمْ أَنَّ مَجَالَ الْبَأْسِ فِي مُحِيطِهِمْ فَمَا فِي بَأْسِهِمْ مِنْ إِضْرَارٍ فَهُوَ مُنْعَكِسٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29] . وَجُمْلَةُ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ عَنْ جُمْلَةِ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ. لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ السَّائِلُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ مُتَّفِقِينَ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ حَالُ اجْتِمَاعٍ وَاتِّحَادٍ وَهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ مُخْتَلِفُونَ فَآرَاؤُهُمْ غير متفقة إِلَّا إِلْفَةَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ بَيْنَهُمْ إِحَنًا وَعَدَاوَاتٍ فَلَا يَتَعَاضَدُونَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْسَبُ ذَلِكَ. وَهَذَا تَشْجِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِجَمَاعَتِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَرْبِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا مِنَ التَّخَالُفِ وَالتَّدَابُرِ وَيَعْلَمُوا أَنْ الْأُمَّةَ لَا تَكُونُ ذَاتَ بَأْسٍ عَلَى أَعْدَائِهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الضَّمَائِرِ يَرَوْنَ رَأْيًا مُتَمَاثِلًا فِي أُصُولِ مَصَالِحِهِمَا الْمُشْتَرِكَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَنْقُضُ أُصُولَ مَصَالِحِهَا، وَلَا تُفَرِّقُ جَامِعَتِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الِاتِّحَادِ تَوَافُقُ الْأَقْوَالِ وَلَا التَّوَافُقُ عَلَى الْأَغْرَاضِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ خَالِصَةً مِنَ الْإِحَنِ وَالْعَدَاوَاتِ. وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ، وَإِطْلَاقُ الْقَلْبِ عَلَى الْعَقْلِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ. وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ بِمَعْنَى مُفَارِقٍ بِوَزْنِ فَعْلَى مَثَلَ قَتِيلٍ وَقَتْلَى، شُبِّهَتِ الْعُقُولُ الْمُخْتَلِفَةُ مَقَاصِدُهَا بِالْجَمَاعَاتِ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي جِهَاتٍ فِي أَنَّهَا لَا تَتَلَاقَى فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَمِنْ تَشَتُّتِ قُلُوبِهِمْ أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَلَى عَدَمِ عَقْلِهِمْ إِذِ انْسَاقُوا إِلَى إِرْضَاءِ خَوَاطِرِ الْأَحْقَادِ وَالتَّشَفِّي بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَأَهْمَلُوا النَّظَرَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَاتِّبَاعِ الْمَصَالِحِ فَأَضَاعُوا مَصَالِحَ قَوْمِهِمْ.

[سورة الحشر (59) : آية 15]

وَلِذَلِكَ أَقْحَمَ لَفْظَ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ حَتَّى صَارَتْ عُقُولُهُمْ كَالْمَعْدُومَةِ فَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْمَعْقِلَ الصَّحِيحَ. وَأُوثِرَ هُنَا لَا يَعْقِلُونَ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَا يَفْقَهُونَ [الْحَشْر: 13] لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَآلِ التَّشَتُّتِ فِي الرَّأْيِ وَصَرْفِ الْبَأْسِ إِلَى الْمُشَارِكِ فِي الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوَهْنِ وَالْفَتِّ فِي سَاعِدِ الْأُمَّةِ مَعْرِفَةٌ «مَشْهُورَةٌ» بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. قَالَ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ يُخَاطِبُ قَوْمَهُ إِذْ أَزْمَعُوا عَلَى حَرْبِ بَعْضِهِمْ: وَأَنَّ الْحَزَامَةَ أَنْ تَصْرِفُوا ... لِحَيٍ سِوَانَا صُدُورَ الْأَسَلْ فَإِهْمَالُهُمْ سُلُوكَ ذَلِكَ جَعَلَهُمْ سَوَاءً مَعَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ شِقْوَةً لَهُمْ حَصُلَتْ مِنْهَا سَعَادَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ إِسْنَادَ الْحُكْمِ إِلَى عُنْوَانِ قَوْمٍ يُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَالْجِبِلَّةِ الْمُقَوِّمَةِ لِلْقَوْمِيَّةِ وَقَدْ ذكرته آنِفا. [15] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 15] كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ، فَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا، أَيْ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْعُودِ بِنَصْرِ الْمُنَافِقِينَ كَحَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا. وَالْمُرَادُ: أَنَّ حَالَهُمُ الْمُرَكَّبَةَ مِنَ التَّظَاهُرِ بِالْبَأْسِ مَعَ إِضْمَارِ الْخَوْفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ خِذْلَانِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمِنْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، كَحَالِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ وَأَبَوُا الْجَلَاءَ، فَلَمْ يُحَارِبُوا إِلَّا فِي قَرْيَتِهِمْ إِذْ حَصَّنُوهَا وَقَبَعُوا فِيهَا حَتَّى أَعْيَاهُمُ الْحِصَارُ فَاضْطُرُّوا إِلَى الْجَلَاءِ وَلَمْ يَنْفَعْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَلَا إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

[سورة الحشر (59) : الآيات 16 إلى 17]

وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. ومِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدَ ارْتِبَاطِ الظَّرْفِ بِعَامِلِهِ. وَانْتَصَبَ قَرِيباً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقًا بِالْكَوْنِ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ، أَيْ كَحَالٍ كَائِنٍ قَرِيبٍ، أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ أَيِ الْقَوْمُ الْقَرِيبُ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] . وَالْوَبَالُ أَصْلُهُ: وَخَامَةُ الْمَرْعَى الْمُسْتَلَذِّ بِهِ لِلْمَاشِيَةِ يُقَالُ: كَلَأٌ وَبِيلٌ، إِذَا كَانَ مَرْعًى خَضِرًا «حُلْوًا» تَهَشُّ إِلَيْهِ الْإِبِلُ فَيُحْبِطُهَا وَيُمَرِضُهَا أَوْ يَقْتُلُهَا، فَشُبِّهُوا فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْجَهْلِ بِعَاقِبَةِ تِلْكَ الْحَرْبِ بِإِبِلٍ تَرَامَتْ عَلَى مَرْعًى وَبِيلٍ فَهَلَكَتْ وَأُثْبِتَ الذَّوْقُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكَنِيَّةِ وَتَخْيِيلِهَا، فَكَانَ ذِكْرُ ذاقُوا مَعَ وَبالَ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ. وأَمْرِهِمْ شَأْنُهُمْ وَمَا دَبَّرُوهُ وَحَسَبُوا لَهُ حِسَابَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْجَلَاءِ وَتَرْكِ الدِّيَارِ وَمَا فِيهَا، أَيْ ذَاقُوا سُوءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَضَمِيرُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى مَا ذَاقُوهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالْجَلَاءِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَجْسَادِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ على الْكفْر. [16، 17] [سُورَة الْحَشْر (59) : الْآيَات 16 إِلَى 17] كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) هَذَا مَثَلٌ آخَرُ لِمُمَثَّلٍ آخَرَ، وَلَيْسَ مَثَلًا مُنْضَمًّا إِلَى الْمَثَلِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، أَوْ بِ (أَوْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] . وَالْوَجْهُ: أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْحَشْر: 15] كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ الْآيَةَ، أَيْ مثلهم فِي تسبيبهم لِأَنْفُسِهِمْ

عَذَابَ الْآخِرَةِ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكْفُرَ ثُمَّ يَتْرُكَهُ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَقَعَانِ مَعًا فِي النَّارِ. فَجُمْلَةُ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْحَشْر: 15] أَيْ فِي الْآخِرَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّيْطانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ تَعْرِيفُ «الْإِنْسَانِ» . وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ. وَلَمْ تُرَدْ فِي الْآخِرَةِ حَادِثَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فِي الدُّنْيَا، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ مَعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ ظَاهِرَةَ قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أَنَّهُ يَقُولُهُ لِلْإِنْسَانِ، وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يَقُولَهُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ. فَالْحَقُّ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ هَذَا هُوَ مَا فِي آيَةِ وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [22] . وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ رَاهِبٍ بِحِكَايَةٍ مُخْتَلِفَةٍ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ وَضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَسَانِيدَهَا فَلَئِنْ كَانُوا ذَكَرُوا الْقِصَّةَ فَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِمَا يَقَعُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ. فَالْمَعْنَى: إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ وَوَافَى الْقِيَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ قَالَ الشَّيْطَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، أَيْ قَالَ كُلُّ شَيْطَانٍ لِقَرِينِهِ مِنَ الْإِنْسِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِي الْآيَةِ إِيجَازُ حَذْفٍ حُذِفَ فِيهَا مَعْطُوفَاتٌ مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ شَرْطِ (لَمَّا) هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الشَّرْطِ إِذِ التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا كَفَرَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَجَاءَ يَوْمَ الْحَشْرِ وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُ قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِلَخْ. وَهَذِهِ الْمُقَدَّرَاتُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَآيَةِ سُورَةِ ق [27] . قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ

[سورة الحشر (59) : آية 18]

الْآيَةَ. وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَّةَ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ وَبَعْدَ مَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ دُونَ مَنْ أَسْلَمُوا. وَقَوْلُ: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها مِنْ تَمَامِ الْمَثَلِ. أَيْ كَانَ عَاقِبَة الممثل بِهِمَا خُسْرَانَهُمَا مَعًا. وَكَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ الْفَرِيقَيْنِ الْمُمَثَّلَيْنِ أَنَّهُمَا خَائِبَانِ فِيمَا دَبَّرَا وَكَادَا لِلْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ مِنْ مَعْنَى، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمَا سُوأَى وَالْعَاقِبَةُ السُّوأَى جَزَاءُ جَمِيعِ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَمَا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْكَافِرِ وَشَيْطَانِهِ عَاقِبَةَ سوء كَذَلِك تكون عَاقِبَةِ الْمُمَثِّلَيْنِ بِهِمَا وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي ظُلْمِ أَهْلِ الْخَيْر وَالْهدى. [18] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 18] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) انْتِقَالٌ مِنْ الِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَسَّرَ اللَّهُ مِنْ فَتْحِ قَرْيَةِ بَنِي النَّضِيرِ بِدُونِ قِتَالٍ، وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَوَصْفُ مَا جَرَى مِنْ خَيْبَتِهِمْ وَخَيْبَةِ أَمَلِهِمْ فِي نُصْرَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ أَهْلِ الْقُرَى الْبَاقِيَةِ كَعَاقِبَةِ أَسْلَافِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ أَنْصَارِهِمْ مَعَهُمْ، إِلَى الْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا مَنَحَ وَمَا وَعَدَ مِنْ صَادِقِ الْوَعْدِ فَإِنَّ الشُّكْرَ جَزَاءُ الْعَبْدِ عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ جَزَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَمِرِ بِتَقْوَى اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَفَيْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ كَانَ مِنْ مَنَافِعَ الدُّنْيَا، أَعْقَبَهُ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْإِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أَيْ لِتَتَأَمَّلْ كُلُّ نَفْسٍ فِيمَا قَدَّمَتْهُ لِلْآخِرَةِ. وَجُمْلَةُ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، عَطْفُ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ. وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ اتَّقُوا اللَّهَ وَجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. وَذِكْرُ

نَفْسٌ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ: وَانْظُرُوا مَا قَدَّمْتُمْ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِظْهَارِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ أَيْ لِتَنْظُرُوا وَتَنْظُرْ كُلُّ نَفْسٍ. وَتَنْكِيرُ نَفْسٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي سِيَاقِ الْأَمْرِ، أَيْ لِتَنْظُرْ كُلُّ نَفْسٍ، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالدُّعَاءَ وَنَحْوَهُمَا كَالشَّرْطِ تَكُونُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِهَا مِثْلَ مَا هِيَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التَّوْبَة: 6] وَكَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا (أَيْ كُلَّ ضُرٍّ) . وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْ بلام التَّعْرِيف تنصيصا عَلَى الْعُمُومِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نَفْسٌ مَعْهُودَةٌ. وَأَطْلَقَ «غَدٍ» عَلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا لِتَقْرِيبِ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْبَعِيدِ لِمُلَازَمَةِ اقْتِرَابِ الزَّمَنِ لِمَفْهُومِ الْغَدِ، لِأَنَّ الْغَدَ هُوَ الْيَوْمَ الْمُوَالِي لِلْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ أَقْرَبُ أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَالَ قُرَادُ بْنُ أَجْدَعَ: فَإِنْ يَكُ صَدْرُ هَذَا الْيَوْمَ وَلَّى ... فَإِنَّ غَدًا لِنَاظِرِهِ قَرِيبُ وَهَذَا الْمَجَازُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي لَفْظِ (غَدٍ) وَأَخَوَاتِهِ قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ يُرِيدُ بِالْيَوْمِ الزَّمَنَ الْحَاضِرَ، وَبِالْأَمْسِ الزَّمَنَ الْمَاضِي، وَبِالْغَدِ الزَّمَنَ الْمُسْتَقْبَلَ. وَتَنْكِيرُ «غَدٍ» لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، أَيْ لِغَدٍ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِغَدٍ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَا قَدَّمَتْهُ لِأَجْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَالتَّقْدِيمُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي يُعْمَلُ لِتَحْصِيلِ فَائِدَتِهِ فِي زَمَنٍ آتٍ شَبَّهَ قَصْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَقْدِيمِ مَنْ يَحِلُّ فِي الْمَنْزِلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّائِرِينَ إِلَيْهِ مِنْ جَيْشٍ أَوْ سَفَرٍ لِيُهَيِّءَ لَهُمْ مَا يُصْلِحُ أَمْرَهُمْ، وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ وَتَقْدِيمُ الرَّائِدِ قَبْلَ الْقَافِلَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 110] وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: أَخَّرَ، إِذَا تَرَكَ عَمَلَ شَيْءٍ قَالَ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الإنفطار: 5] .

[سورة الحشر (59) : آية 19]

وَإِعَادَةُ وَاتَّقُوا اللَّهَ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فَيَحْصُلُ الرَّبْطُ بَيْنَ التَّعْلِيلِ وَالْمُعَلَّلِ إِذْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَصْلُ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ يُؤْتَى بِهِ تَارَةً مَعْطُوفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [الْقِيَامَة: 34، 35] وَقَوْلِهِ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3- 4] . وَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: «وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا» . وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْعَطْفِ إِيهَامَ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيدُ يُجْعَلُ كَالتَّأْسِيسِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُؤَكَّدِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَمَوْقِعُ إِنَّ فِيهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اتَّقُوا اللَّهَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُرَادًا بِهِ التَّقْوَى بِمَعْنَى الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَيَكُونُ اتَّقُوا اللَّهَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا مُرَادًا بِهِ الدَّوَامُ عَلَى التَّقْوَى الْأُولَى، أَيْ وَدُومُوا عَلَى التَّقْوَى عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: 136] وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ بِمِقْدَارِ اجْتِهَادِكُمْ فِي التَّقْوَى، وَأَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الْحَشْر: 19] أَيْ أَهْمَلُوا التَّقْوَى بَعْدَ أَنْ تَقَلَّدُوهَا كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ تَقَلَّدُوا الْإِسْلَامَ وَأَضَاعُوهُ قَالَ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [التَّوْبَة: 67] . وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِدِلَالَتِهَا أَتَمَّ اسْتِقْلَالٍ فَتَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ وَلِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ فِي نفس المخاطبين. [19] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 19] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِعْدَادِ الْعُدَّةِ لِلْآخِرَةِ أَعْقَبَهُ بِهَذَا النَّهْيِ تَحْذِيرًا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ وَالتَّغَافُلِ عَنِ التَّقْوَى، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْفُسُوقِ. وَجِيءَ

فِي النَّهْيِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ حَالَةِ قَوْمٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الصِّلَةُ لَيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ إِضَاعَةِ التَّقْوَى مُصَوَّرًا فِي صُورَةٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ صُورَةُ قَوْمٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ تِلْكَ الصِّلَةُ وَهُمُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّقْوَى. وَهَذَا الْإِعْرَاضُ مَرَاتِبُ قَدْ تَنْتَهِي إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي تَلَبَّسَ بِهِ الْيَهُودُ وَإِلَى النِّفَاقِ الَّذِي تَلَبَّسَ بِهِ فَرِيقٌ مِمَّنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي أَوَّلِ سِنِيِّ الْهِجْرَةِ، وَظَاهَرُ الْمَوْصُولِ أَنَّهُ لِطَائِفَةٍ مَعْهُودَةٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِ «الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ» الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلَمْ يَهْتَدُوا لِلتَّوْحِيدِ بِهَدْىِ الْإِسْلَامِ فَعَبَّرَ عَنِ النِّفَاقِ بِنِسْيَانِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَهْلٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْكَمَالِ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْفَاسِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [67] ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاظِرَةً إِلَى تِلْكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا دِينَهُمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا رِسَالَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَفرُوا بِحَمْد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَعْنَى: نَسُوا دِينَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: 40، 41] . وَقَدْ أَطْلَقَ نِسْيَانَهُمْ عَلَى التَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عَمْدٍ أَيْ فَنَسُوا دَلَائِلَ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَدَلَائِلَ صِفَاتِهِ وَدَلَائِلَ صدق رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَهْمِ كِتَابِهِ فَالْكَلَامُ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ مُضَافَيْنِ. وَمَعْنَى «أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ» أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِي مَدَارِكِهِمُ التَّفَطُّنَ لِفَهْمِ الْهَدْيِ الْإِسْلَامِيِّ فَيَعْمَلُوا بِمَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَلِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فِي الدُّنْيَا، إِذْ خَذَلَهُمْ بِذَبْذَبَةِ آرَائِهِمْ فَأَصْبَحَ الْيَهُودُ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَصْبَحَ الْمُنَافِقُونَ مَلْمُوزِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ بِالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاحْتِقَارِ وَاللَّعْنِ. وَأَشْعَرَ فَاءُ التَّسَبُّبِ بِأَنَّ إِنْسَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنْفُسَهُمْ مُسَبَّبٌ عَلَى نِسْيَانِهِمْ دِينَ اللَّهِ، أَيْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الْهُدَى بِكَسْبِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ خَلَقَ فِيهِمْ نِسْيَانَ أَنْفُسِهِمْ.

[سورة الحشر (59) : آية 20]

وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: نَسُوهُ لِاسْتِفْظَاعِ هَذَا النِّسْيَانِ فَعَلَّقَ باسم الله الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِمْ بِشِدَّةِ الْفِسْقِ حَتَّى كَأَنَّ فِسْقَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ بِفِسْقٍ فِي جَانِبِ فِسْقِهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَكَانِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ فَهُوَ صِفَةُ ذَمٍّ غَالِبًا لِأَنَّهُ مُفَارَقَةٌ لِلْمَكَانِ اللَّائِقِ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا، فَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْآتُونَ بفواحش السَّيِّئَات ومساوئ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ كَأَنَّ السَّامِعَ سَأَلَ: مَاذَا كَانَ إِثْرَ إِنْسَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنْفُسَهُمْ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ مُنْتَهَى الْفِسْقِ فِي الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا فِسْقَ بعد فسقهم. [20] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 20] لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الْحَشْر: 18] إِلَخْ. لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ عَاقِبَةِ الْحَالَيْنِ: حَالِ التَّقْوَى وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ، وَحَالِ نِسْيَانِ ذَلِكَ وَإِهْمَالِهِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَاقِبَةُ عَمَلِهِ. وَيَشْمَلُ الْفَرِيقَيْنِ وَأَمْثَالَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ أَيْضًا فَذْلَكَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَالِ الْمُتَّقِينَ وَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ وَنُسُّوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلتَّعْرِيضِ بِذَلِكَ الْمُتَحَدَّثِ عَنهُ كَقَوْلِك عِنْد مَا تَرَى أَحَدًا يُؤْذِي النَّاسَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ، فَمَعْنَى الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَكَوْنِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ وَعْدًا لِلْمُتُّقِينَ وَوَعِيدًا لِلْفَاسِقِينَ.

[سورة الحشر (59) : آية 21]

وَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْكِنَايَةُ عَنِ الْبَوْنِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَتَعْيِينُ الْمُفَضَّلِ مِنَ الشَّيْئَيْنِ مَوْكُولٌ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ كَمَا فِي قَوْلِ السَّمَوْأَلِ: فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَوْلُ أَبِي حِزَامٍ غَالِبِ بْنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِي: وَأَعْلَمُ أَنَّ تَسْلِيمًا وتركا ... لَا مُتَشَابِهَانِ وَلَا سَوَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [آل عمرَان: 110] الْآيَة. وَقبل قَوْلُهُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمرَان: 113] . وَقَدْ يُرْدِفُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيد: 10] . وَقَوْلُهُ هُنَا أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةُ [95] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى تَعْمِيمِ نَحْوِ لَا يَسْتَوُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: 18] فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَلِي وِلَايَةَ النِّكَاحِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَرْضِيٍّ، وَقَدْ أَبَاهُ الْحَنَفِيَّةُ وَوَافَقَهُمْ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِي غَيْرِ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» . وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ فَوْزَهُمْ أَبَدِيٌّ فَاعْتَبَرَ فَوْزَ غَيْرِهِمْ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالْعدمِ. [21] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 21] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) لَمَّا حَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَهْوَاةِ نِسْيَانِ اللَّهِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْفَاسِقُونَ، وتوعد الدَّين نَسُوا اللَّهَ بِالنَّارِ، وَبَيَّنَ حَالَهُمْ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ. وَكَانَ الْقُرْآنُ

دَالًّا عَلَى مَسَالِكِ الْخَيْرِ وَمُحَذِّرًا مِنْ مَسَالِكِ الشَّرِّ، وَمَا وَقَعَ الْفَاسِقُونَ فِي الْهَلَكَةِ إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ إِهْمَالِهِمُ التَّدَبُّرَ فِيهِ، وَذَلِكَ مِنْ نِسْيَانِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا يَصْرِفُ النَّاسَ عَنهُ إِلَّا أهواؤهم وَمُكَابَرَتُهُمْ، وَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ أَصْلَ اسْتِمْرَارِ ضَلَالِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، ضَرَبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ تَعْجِيبًا مِنْ تَصَلُّبِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ إِيذَانٌ بِانْتِهَاِءِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ بَعْدَ طُولِ الْكَلَامِ فِي غَرَضِ فَتْحِ قُرَى الْيَهُودِ وَمَا يَنَالُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ جَرَّائِهِ مِنْ خُسْرَانٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وهذَا الْقُرْآنَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي نَزَلَ مِنْهُ، وَهُوَ مَا عَرِفُوهُ وَتَلَوْهُ وَسَمِعُوا تِلَاوَتَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْقَرِيبِ التَّعْرِيضُ لَهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ بَعِيدٍ عَنْهُمْ. وَأَنَّهُ فِي مُتَنَاوُلِهِمْ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ فِي تَدَبُّرِهِ وَلَكِنَّهُمْ قَصَدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْهُ. وَهَذَا مَثَلٌ سَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ إِلَخْ. وَقَدْ ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا لِقَسْوَةِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ وَانْتِفَاءِ تَأَثُّرِهِمْ بِقَوَارِعِ الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَبَلِ: حَقِيقَتُهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فَرْضٌ وَتَقْدِيرٌ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى لَوْ أَنْ تَجِيءَ فِي الشُّرُوطِ الْمَفْرُوضَةِ. فَالْجَبَلُ: مِثَالٌ لِأَشَدِّ الْأَشْيَاءِ صَلَابَةً وَقِلَّةَ تَأَثُّرٍ بِمَا يَقْرَعُهُ. وَإِنْزَالُ الْقُرْآنِ مُسْتَعَارٌ لِلْخِطَابِ بِهِ. عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ تَشْبِيهًا لِشَرَفِ الشَّيْءِ بِعُلُوِّ الْمَكَانِ، وَلِإِبْلَاغِهِ لِلْغَيْرِ بِإِنْزَالِ الشَّيْءِ مِنْ عُلُوٍّ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِالْقُرْآنِ جَبَلًا، وَكَانَ الْجَبَلُ يَفْهَمُ الْخِطَابَ لَتَأَثَّرَ بِخِطَابِ الْقُرْآنِ تَأَثُّرًا نَاشِئًا مِنْ خَشْيَةٍ لِلَّهِ خَشْيَةٍ تُؤَثِّرُهَا فِيهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْجَبَلُ فِي مَوْضِعِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ وَأَعْرَضُوا عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِهِ لَاتَّعَظَ الْجَبَلُ وَتَصَدَّعَ صَخْرُهُ وَتُرْبُهُ مِنْ شِدَّةِ تَأَثُّرِهِ بِخَشْيَةِ اللَّهِ. وَضَرَبَ التَّصَدُّعَ مَثَلًا لِشِدَّةِ الِانْفِعَالِ وَالتَّأَثُّرِ لِأَنَّ مُنْتَهَى تَأَثُّرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ أَنْ تَنْشَقَّ وَتَتَصَدَّعَ إِذْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لَهَا بِسُهُولَةٍ.

[سورة الحشر (59) : آية 22]

وَالْخُشُوعُ: التَّطَأْطُؤُ وَالرُّكُوعُ، أَيْ لَرَأَيْتَهُ يَنْزِلُ أَعْلَاهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَالتَّصَدُّعُ: التَّشَقُّقُ، أَيْ لَتَزَلْزَلَ وَتَشَقَّقَ مِنْ خَوْفِهِ اللَّهَ تَعَالَى. وَالْخِطَابُ فِي لَرَأَيْتَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ لِوِقُوعِهَا جَوَابًا لِحَرْفِ لَوْ الِامْتِنَاعَيَّةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَأَيْتَ الْجَبَلَ فِي حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالتَّصَدُّعِ. وَجُمْلَةُ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا سِيقَ مَسَاقَ الْمَثَلِ فَذُيِّلَ بِأَنَّ الْأَمْثَالَ الَّتِي يَضْرِبُهَا اللَّهُ فِي كَلَامِهِ مِثْلُ الْمَثَلِ أَرَادَ مِنْهَا أَنْ يَتَفَكَّرُوا فَإِنْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا بِهَا فَقَدْ سُجِّلَ عَلَيْهِمْ عِنَادُهُمْ وَمُكَابَرَتُهُمْ، فَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَجْمُوعِ مَا مَرَّ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ مِنَ الْأَمْثَالِ الْكَثِيرَةِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: ضَرَبْنَا هَذَا مَثَلًا، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ سَوْقُهُ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ الضَّرْبَ بِمَعْنَى الْوَضْعِ كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ بَيْتًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَة الْبَقَرَة [26] . [22] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 22] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) لَمَّا تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَضَمَائِرِهِ وَصِفَاتِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً مِنْهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ بِذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَسِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً بِذِكْرِ ضَمِيرِهِ الظَّاهِرِ، أَوْ صِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ. وَكَانَ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ تَصَرُّفِهِ وحكمته. وَكَانَ مِمَّا حَوَتْهُ السُّورَةُ الِاعْتِبَارُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ إِذْ أيد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ ذَلِكَ النَّصْرَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ، وَذَكَرَ مَا حَلَّ بِالْمُنَافِقِينَ أَنْصَارِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ نَصَرُوا الدِّينَ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ، وَخَتْمُ ذَلِكَ

بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ الدَّالِّ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْمُعَرَّفِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ الْمُقْتَضِيَةِ شِدَّةَ خَشْيَتِهِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ طَائِفَةٍ مِنْ عَظِيمِ صِفَاتِ اللَّهِ ذَاتِ الْآثَارِ الْعَدِيدَةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لِغَرَضِ السُّورَةِ زِيَادَةً فِي تَعْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ بِعَظَمَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمَزِيدِ مِنْ خَشْيَتِهِ. وَبِالصِّفَاتِ الْحُسْنَى الْمُوجِبَةِ لِمَحَبَّتِهِ، وَزِيَادَةً فِي إِرْهَابِ الْمُعَانِدِينَ الْمَعْرَضِينَ مِنْ صِفَاتِ بَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمِ لِلسُّورَةِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُخْتَلِفُ التَّعَلُّقِ وَالْآثَارِ لِلْفَرِيقَيْنِ حَظُّ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْهَا. وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ عَلَى بُطْلَانِ إِشْرَاكِهِمْ بِهِ أَصْنَامَهُمْ. وَسَنَذْكُرُ مَرَاجِعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ فِيمَا يَأْتِي. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْوَاقِعُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [الْحَشْر: 18] ، وهُوَ مُبْتَدَأٌ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرٌ عَنْهُ والَّذِي صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الِاقْتِصَارَ عَلَى الضَّمِيرِ دُونَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنِ الضَّمِيرِ بِ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَبِمَا بَعْدَ ذَلِكَ من الصِّفَات الْعلية، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَمَا يُسَاوِي مُعَادَةَ اعْتِبَارٍ بِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يَجْمَعُ صِفَاتَ الْكَمَالِ لِأَنَّ أَصْلُهُ الْإِلَهَ وَمَدْلُولُ الْإِلَه يَقْتَضِي جَمِيع صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَيَكُونُ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافًا قُصِدَ مِنْهُ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِيَتَبَصَّرُوا فِيهَا وَلِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِشْرَاكِهِمْ بِصَاحِبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَهُ أَصْنَافًا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ طَائِفَةٌ مِنْهَا بِجُمْلَةِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْحَشْر: 23] ، لتَكون ختاما لِهَذِهِ السُّورَةِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ مِنَّةً عَظِيمَةً، وَهِيَ مِنَّةُ الْفَتْحِ الْوَاقِعِ وَالْفَتْحِ الْمُيَسَّرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَعْرِفُوا جَلَائِلَ صِفَاتِهِ الَّتِي لِتَعَلُّقَاتِهَا آثَارٌ فِي الْأَحْوَالِ الْحَاصِلَةِ وَالَّتِي سَتَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْفُتُوحِ وَلِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ مَا تَعَاقَبَتْ هَزَائِمُهُمْ إِلَّا مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَظِيمًا نَاسَبَ أَنْ تُفْتَتَحَ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ، فَيَكُونُ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً والَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَبَرًا وَالْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ.

وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ بِصِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهِيَ مَدْلُولُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَهِيَ الْأَصْلُ فِيمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الصِّفَاتِ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُهَا عَقِبَ اسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَثُنِّيَ بِصِفَةِ عالِمُ الْغَيْبِ لِأَنَّهَا الصّفة الَّتِي تَقْتَضِيهَا صِفَةُ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ عِلْمُ اللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ الْوَاجِبُ وَهِيَ تَقْتَضِي جَمِيعَ الصِّفَاتِ إِذْ لَا تَتَقَوَّمُ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ إِلَّا بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَإِذْ هُوَ يَقْتَضِي الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ، وَإِنَّمَا ذكر مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِهِ أُمُورُ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ الَّذِي فَارَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمَ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ مَعَهُ عِلْمَ الشَّهَادَةِ لِلِاحْتِرَاسِ تَوَهُّمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْحَقَائِقَ الْعَالِيَةَ الْكُلِّيَّةَ فَقَطْ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْأَقْدَمِينَ وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ. أَيْ كُلُّ غَيْبٍ وَشَهَادَةٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَهُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَيِ الْغَائِبِ عَنْ إِحْسَاسِ النَّاسِ وَالْمُشَاهَدِ لَهُم. فالمقصود فيهمَا بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ عَالِمٍ مَا ظهر للنَّاس وَمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ غَائِبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لِلِاسْتِغْرَاِقِ الْحَقِيقِيِّ. وَفِي ذِكْرِ الْغَيْبِ إِيمَاءٌ إِلَى ضَلَالِ الَّذِينَ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمُشَاهَدَاتِ وَكَفَرُوا بِالْمُغَيَّبَاتِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَمَّا ذِكْرُ عِلْمِ الشَّهَادَةِ فَتَتْمِيمٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَتَوَهَّمُونَ اللَّهَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا يُخْفُونَهُ. قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت: 22، 23] . وَضَمِيرُ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ضَمِيرُ فَصْلٍ يُفِيدُ قَصْرَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِرَحْمَةِ غَيْرِهِ لِقُصُورِهَا قَالَ تَعَالَى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: 156] . وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا. فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [3] . وَوَجْهُ تَعْقِيبِ صِفَةِ عُمُومِ الْعِلْمِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ أَنَّ عُمُومَ الْعِلْمِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِهِ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَرْحَمُ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى

[سورة الحشر (59) : آية 23]

رَحْمَتِهِ وَيُمْهِلُ الْمُعَانِدِينَ إِلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ رَحْمَانٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ كَثُرَ إِتْبَاعُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِصِفَتَيِ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي الْفَاتِحَةِ. [23] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 23] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ. الْقَوْلُ فِي ضَمِيرِ هُوَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَهَذَا تَكْرِيرٌ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَعْظِيمٍ وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ التَّكْرِيرِ، وَفِيهِ اهْتِمَامٌ بِصِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ. والْمَلِكُ: الْحَاكِمُ فِي النَّاسِ، وَلَا مَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا وَصْفُ غَيْرِهِ بِالْمَلِكِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ. وَعُقِّبَ وَصْفَا الرَّحْمَةِ بِوَصْفِ الْمَلِكُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ فَضْلٌ وَأَنَّهُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ كَمَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. والْقُدُّوسُ بِضَمِّ الْقَافِ فِي الْأَفْصَحِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْقَافُ قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: فَعُّولٌ فِي الصِّفَةِ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ مِثْلِ تَنُّورٍ وَسَفُّودٍ وَعَبُّودٍ. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ السّبّوح والقدوس بِالْفَتْحِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: لَمْ يَرِدْ فُعُّولٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ إِلَّا الْقُدُّوسُ وَالسُّبُوحُ. وَزَادُ غَيْرُهُ الذُّرُّوحُ، وَهُوَ ذُبَابٌ أَحْمَرُ مُتَقَطِّعُ الْحُمْرَةِ بِسَوَادٍ يُشْبِهُ الزُّنْبُورَ. وَيُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأَطِبَّاءِ ذُبَابَ الْهِنْدِ. وَمَا عَدَاهُمَا مَفْتُوحٌ مِثْلَ سَفُّودٍ وَكَلُّوبٍ. وَتَنُّورٍ وَسَمُّورٍ وَشَبُّوطٍ (صِنْفٌ مِنَ الْحُوتِ) وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ سُبُّوحٌ وَقُدُّوسٌ صَارَا اسْمَيْنِ. وَعَقَّبَ بِ الْقُدُّوسُ وَصْفِ الْمَلِكُ لِلِاحْتِرَاسِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ نَقَائِصِ الْمُلُوكِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَقَائِصِ النُّفُوسِ. والسَّلامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُسَالَمَةِ وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ، أَيْ ذُو السَّلَامِ، أَيِ السَّلَامَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى سَالَمَ الْخَلْقَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَمِنْهُ

السَّلَامُ» . وَبِهَذَا ظَهَرَ تَعْقِيبُ وَصْفِ الْمَلِكُ بِوَصْفِ السَّلامُ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَقَّبَ بِ الْقُدُّوسُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى نَزَاهَةِ ذَاتِهِ، عَقَّبَ بِ السَّلامُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِ الْخَلْقَ، وَهَذَا احْتِرَاسٌ أَيْضًا. والْمُؤْمِنُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ آمِنًا. فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَمَانَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ، إِذْ خَلَقَ نِظَامَ الْمَخْلُوقَاتِ بَعِيدًا عَنِ الْأَخْطَارِ وَالْمَصَائِبِ، وَإِنَّمَا تعرض للمخلوقات للمصائب بِعَوَارِضَ تَتَرَكَّبُ مِنْ تَقَارُنٍ أَوْ تَضَادٍّ أَوْ تعَارض مصَالح، فَيرجع أَقْوَاهَا وَيُدْحَضُ أَدْنَاهَا، وَقَدْ تَأْتِي مِنْ جَرَّاءِ أَفْعَالِ النَّاسِ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْمُؤْمِنُ عَقِبَ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَبْلَهُ إِتْمَامٌ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ تَوَهُّمِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الْمَلِكُ أَنَّهُ كَالْمُلُوكِ الْمَعْرُوفِينَ بِالنَّقَائِصِ. فَأُفِيدَ أَوَّلًا نَزَاهَةُ ذَاتِهِ بِوَصْفِ الْقُدُّوسُ، وَنَزَاهَةُ تَصَرُّفَاتِهِ الْمُغَيَّبَةِ عَنِ الْغَدْرِ وَالْكَيْدِ بِوَصْفِ الْمُؤْمِنُ، وَنَزَاهَةُ تَصَرُّفَاتِهِ الظَّاهِرَةِ عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ بِوَصْفِ السَّلامُ. والْمُهَيْمِنُ: الرَّقِيبُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَالْحَافِظُ فِي لُغَةِ بَقِيَّةِ الْعَرَبِ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَمِنَ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَة فَصَارَ آمن وَأَنَّ وَزْنَ الْوَصْفِ مُؤَيْمِنٌ قُلِبَتْ هَمْزَتُهُ هَاءً، وَلَعَلَّ مُوجِبَ الْقَلْبِ إِرَادَةُ نَقْلِهِ مِنَ الْوَصْفِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَعْنَى الْأَمْنِ، بِحَيْثُ صَارَ كَالِاسْمِ الْجَامِدِ. وَصَارَ مَعْنَاهُ: رَقَبَ: (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعْنًى إِلَّا من الَّذين فِي الْمُؤْمِنِ لَمَّا صَارَ اسْمًا لِلرَّقِيبِ وَالشَّاهِدِ) ، وَهُوَ قَلْبٌ نَادِرٌ مِثْلُ قَلْبِ هَمْزَةِ: أَرَاقَ إِلَى الْهَاءِ فَقَالُوا: هَرَاقَ، وَقَدْ وَضَعَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي فَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْ بَابِ النُّونِ وَوَزْنُهُ مُفَعْلِلٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ مِثْلِ مُدَحْرِجٍ، فَتَصْرِيفُهُ مُؤَأْمِنٌ بِهَمْزَتَيْنِ بَعْدَ الْمِيمِ الْأُولَى الْمَزِيدَةِ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ هَمْزَةُ أرَاقَ فَقَالُوا: هَرَاقَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ هَيْمَنَ بِمَعْنَى: رَقَبَ، كَذَا فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَعَلَيْهِ فَالْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ وَوَزْنُهُ مُفَيْعِلٌ. وَذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» فِي فَصْلِ الْهَاءِ مِنْ بَابِ النُّونِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي فَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْهُ. وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي فَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَصْلِ الْهَاءِ مِنْ بَابِ النُّونِ مُصَرِّحًا بِأَنَّ هَاءَهُ أَصْلُهَا هَمْزَةٌ. وَعَدَلَ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الأساس» عَن ذكر.

وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا يَرَيَانِ هَاءَهُ مُبْدَلَةً مِنَ الْهَمْزَةِ وَأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي مَعَانِي الْأَمْنِ. وَفِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» لِلْغَزَالِيِّ الْمُهَيْمِنُ فِي حَقِّ اللَّهِ: الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وَإِنَّمَا قِيَامُهُ عَلَيْهِمْ بِاطِّلَاعِهِ وَاسْتِيلَائِهِ وَحِفْظِهِ. وَالْإِشْرَافُ، (أَيِ الَّذِي هُوَ الِاطِّلَاعُ) يَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَالِاسْتِيلَاءُ يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْحِفْظُ يَرْجِعُ إِلَى الْفِعْلِ. وَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي اسْمُهُ الْمُهَيْمِنُ وَلَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى ذَلِكَ الْكَمَالِ وَالْإِطْلَاقِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ اهـ. وَفِي هَذَا التَّعْرِيفِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ نَظَرٌ وَلَعَلَّهُ جَرَى مِنْ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ مَجْرَى الِاعْتِبَارِ بِالصِّفَةِ لَا تَفْسِيرِ مَدْلُولِهَا. وَتَعْقِيبُ الْمُؤْمِنُ بِ الْمُهَيْمِنُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ تَأْمِينَهُ عَنْ ضَعْفٍ أَوْ عَنْ مَخَافَةِ غَيْرِهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ تَأْمِينَهُ لِحِكْمَتِهِ مَعَ أَنَّهُ رَقِيبٌ مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ خَلْقِهِ فَتَأْمِينُهُ إِيَّاهُمْ رَحْمَةٌ بِهِمْ. والْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ وَلَا يُذِلُّهُ أَحَدٌ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِالْغَالِبِ. والْجَبَّارُ: الْقَاهِرُ الْمُكْرِهُ غَيْرَهُ عَلَى الِانْفِعَالِ بِفِعْلِهِ، فَاللَّهُ جَبَّارُ كُلِّ مَخْلُوق على الانفعال لِمَا كَوَّنَهُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ مَخْلُوقٌ اجْتِيَازَ مَا حَدَّهُ لَهُ فِي خِلْقَتِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ الطَّيَرَانَ وَلَا يَسْتَطِيعُ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ الْمَشْيَ عَلَى رَجْلَيْنِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ هُوَ جَبَّارٌ لِلْمَوْجُودَاتِ عَلَى قَبُولِ مَا أَرَادَهُ بِهَا وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ قُدْرَتُهُ عَلَيْهَا. وَإِذَا وُصِفَ الْإِنْسَانُ بِالْجَبَّارِ كَانَ وَصْفَ ذَمٍّ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى هَوَاهُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [الْقَصَص: 19] . فَالْجَبَّارُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مَنْ أَجْبَرَهُ، وَأَمْثِلَةُ الْمُبَالَغَةِ تُشْتَقُّ مِنَ الْمَزِيدِ بِقِلَّةٍ مِثْلِ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا فِي أَفْعَلَ إِلَّا جَبَّارًا وَدَرَّاكًا. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: الْمُجْبِرُ وَالْمُدْرِكُ، وَقِيلَ: الْجَبَّارُ مَعْنَاهُ الْمُصْلِحُ مِنْ جَبَرَ الْكَسْرَ، إِذْا أَصْلَحَهُ، فَاشْتِقَاقُهُ لَا نُذْرَةُ فِيهِ. والْمُتَكَبِّرُ: الشَّدِيدُ الْكِبْرِيَاءِ، أَيِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ. وَأَصْلُ صِيغَةِ التَّفَعُّلِ

[سورة الحشر (59) : آية 24]

أَنْ تَدُلَّ عَلَى التَّكَلُّفِ لَكِنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ هُنَا فِي لَازِمِ التَّكَلُّفِ وَهُوَ الْقُوَّةُ لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ عَنْ تَأَنُّقٍ وَتَكَلُّفٍ يَكُونُ أَتْقَنَ. وَيُقَالُ: فُلَانُ يَتَظَلَّمُ عَلَى النَّاسِ، أَيْ يُكْثِرُ ظُلْمَهُمْ. وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ عَقِبَ صِفَةِ الْمُهَيْمِنُ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنَ الصِّفَاتِ لَا يُؤْذِنُ إِلَّا بِاطْمِئْنَانِ الْعِبَادِ لِعِنَايَةِ رَبِّهِمْ بِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ وَأَنَّ صِفَةَ الْمُهَيْمِنُ تُؤْذِنُ بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ فَعُقِّبَتْ بِصِفَةِ الْعَزِيزُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ لَا يُعْجِزْهُ شَيْءٌ. وَاتُّبِعَتْ بِصِفَةِ الْجَبَّارُ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُسَخِّرُ الْمَخْلُوقَاتِ لِإِرَادَتِهِ ثُمَّ صِفَةِ الْمُتَكَبِّرُ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ ذُو الْكِبْرِيَاءِ يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ دُونَ كِبْرِيَائِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي جَانِبِ التَّخْوِيفِ كَمَا كَانَت الصِّفَات قَبْلَهَا فِي جَانِبِ الْإِطْمَاعِ. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. ذُيِّلَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ بِتَنْزِيِهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُرَكَاءُ بِأَنْ أَشْرَكَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. فَضَمِيرُ يُشْرِكُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَزَلِ الْقُرْآنُ يُقَرِّعُهُمْ بِالْمَوَاعِظِ. [24] [سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 24] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ. الْقَوْلُ فِي ضَمِيرِ هُوَ الْمُفْتَتَحِ بِهِ وَفِي تَكْرِيرِ الْجُمْلَةِ كَالْقَوْلِ فِي الَّتِي سَبَقَتْهَا. فَإِنْ كَانَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ ضَمِيرَ شَأْنٍ فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ اللَّهُ الْخالِقُ تُفِيدُ قَصْرًا بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْخَالِقُ لَا شُرَكَاؤُهُمْ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ مَا لَا يَخْلُقُ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْل: 20] ، وَقَالَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْهُ والْخالِقُ صِفَةٌ.

والْخالِقُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُ الْخَلْقِ فِي اللُّغَةِ إِيجَادُ شَيْءٍ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ الْآيَةُ [49] فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَيُطْلَقُ الْخَلْقُ عَلَى مَعْنًى أَخَصَّ مِنْ إِيجَادِ الصُّوَرِ وَهُوَ إِيجَادُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق: 38] . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْغَالِبُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْخالِقُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «الْمُقَدِّرُ لِمَا يُوجِدُهُ» . وَنَقَلَ عَنْهُ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «لِمَّا كَانَتْ إِحْدَاثَاتُ اللَّهِ مَقْدِرَةً بِمَقَادِيرِ الْحِكْمَةِ عَبَّرَ عَنْ إِحْدَاثِهِ بِالْخَلْقِ» اهـ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخَالِقَ فِي صِفَةِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْمُحَدِثِ الْأَشْيَاءَ عَنْ عَدَمٍ، وَبِهَذَا يَكُونُ الْخَلْقُ أَعَمَّ مِنَ التَّصْوِيرِ. وَيَكُونُ ذِكْرُ الْبارِئُ والْمُصَوِّرُ بَعْدَ الْخالِقُ تَنْبِيهًا عَلَى أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ فِي الْخَلْقِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: 11] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخَلْقُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ وَاسْتُعْمِلَ فِي إِيدَاعِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا احْتِذَاءٍ اهـ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «عَارِضَةِ الْأَحْوَذِيِّ» عَلَى «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» : الْخالِقُ: الْمُخْرِجُ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ الْمُقَدَّرِ لَهَا عَلَى صِفَاتِهَا (فَخَلَطَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ) ثُمَّ قَالَ: فَالْخَالِقُ عَامٌّ، وَالْبَارِئُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالْمُصَوِّرُ أَخَصُّ مِنَ الْأَخَصِّ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى» : الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مُتَرَادِفَةٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ يَفْتَقِرُ إِلَى تَقْدِيرٍ أَوَّلًا، وَإِلَى الْإِيجَادِ عَلَى وَفْقِ التَّقْدِيرِ ثَانِيًا، وَإِلَى التَّصْوِيرِ بَعْدَ الْإِيجَادِ ثَالِثًا، وَاللَّهُ خَالِقٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُقَدَّرٌ وَبَارِئٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُخْتَرِعٌ مَوْجُودٌ، وَمُصَوَّرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُرَتِّبٌ صُوَرَ الْمُخْتَرَعَاتِ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ اه. فَجَعَلَ الْمَعَانِي مُتَلَازِمَةً وَجَعَلَ الْفَرْقَ بَيْنَهَا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا أَحْسَبُهُ يَنْطَبِقُ عَلَى مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. والْبارِئُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَرَأَ مَهْمُوزًا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» الْمُمَيَّزُ لِمَا يُوجِدُهُ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ اه. وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى الْخَالِق بالخصوص. و

فِي الْحَدِيثِ «مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ» . وَمِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، فَيَكُونُ اسْمُ الْبَرِيئَةِ غَيْرَ خَاصٍّ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [الْبَيِّنَة: 6، 7] . وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبَرِيئَةُ: الْخَلْقُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : الْبارِئُ: خَالِقُ النَّاسَ مِنَ الْبَرَى (مَقْصُورًا) وَهُوَ التُّرَابُ خَاصًّا بِخَلْقِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ اسْمُ الْبَرِيئَةِ خَاصًّا بِالْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَعْنَى الْخَالِقِ. وَكَذَلِكَ صَاحَبُ «الْقَامُوسِ» . وَفَسَّرَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ الْمَوْجُودُ الْمُخْتَرِعُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْطَبِقٍ فَأَحْسَنُ تَفْسِيرٍ لَهُ مَا فِي «الْكَشَّافِ» . والْمُصَوِّرُ: مُكَوِّنُ الصُّوَرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَوَاتِ الصُّوَرِ الْمَرْئِيَّةِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُتَتَابِعَةً لِأَنَّ مِنْ مَجْمُوعِهَا يَحْصُلُ تَصَوُّرُ الْإِبْدَاعِ الْإِلَهِيِّ لِلْإِنْسَانِ فَابْتُدِئَ بِالْخَلْقِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَادُ الْأَصْلِيُّ ثُمَّ بِالْبَرَءِ الَّذِي هُوَ تَكْوِينُ جِسْمِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ بِالتَّصَوُّرِ الَّذِي هُوَ إِعْطَاءُ الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ [الانفطار: 7، 8] ، الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمرَان: 6] . وَوَجْهُ ذِكْرِهَا عَقِبَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ أُرِيدَ مِنْهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَصَرُّفِهِ فِي الْبَشَرِ بِالْإِيجَادِ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ الْبَدِيعَةِ لِيُثِيرَ دَاعِيَةَ شُكْرِهِمْ عَلَى ذَلِك. وَلذَلِك عقب بِجُمْلَةِ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ إِرْجَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى إِلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَلَكِنَّهَا ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ بِحَسَبِ تَنَاسُبِ مَوَاقِعِ بَعْضِهَا عَقِبَ بَعْضٍ مِنْ تَنْظِيرٍ أَوِ احْتِرَاسٍ أَوْ تَتْمِيمٍ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَتَعَلَّقُ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَأَحْلَافِهِمُ الْيَهُودِ الْمُتَأَلِّبِينَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ وَالْكَيْدِ وَالْأَذَى، وَأَنْصَارِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُخَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَإِلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْضَوِي صِفَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْحَشْر: 23] وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّهَيُّؤِ لِلتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ أَصْلُ الضَّلَالَاتِ، وَالْمُشْرِكُونَ هُمُ الَّذِينَ يُغْرُونَ الْيَهُودَ، وَالْمُنَافِقُونَ بَيْنَ يَهُودٍ وَمُشْرِكِينَ تَسَتَّرُوا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، فَالشِّرْكُ هُوَ الَّذِي صَدَّ النَّاسَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَسَالِكِ الْهُدَى، قَالَ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] . وَصِفَةُ عالِمُ الْغَيْبِ [الْحَشْر: 22] فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ إِنْكَارَ الْغَيْبِ الَّذِي مِنْ آثَارِهِ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَعَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الْغَيِّ وَأَعْمَالِ السَّيِّئَاتِ وَإِنْكَارِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْله تَعَالَى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَنْفَال: 13] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ صِفَاتِ «الْمَلِكِ، وَالْعَزِيزِ، وَالْجَبَّارِ، وَالْمُتَكَبِّرِ» ، لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ مَا أَنْزَلَهُ بِبَنِي النَّضِيرِ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخِزْيِ وَالْبَطْشَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مُتَعَلِّقٌ بِمَا اجْتَنَاهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ ثَمَرَةِ النَّصْرِ فِي قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَتِلْكَ صِفَاتُ: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ [الْحَشْر: 23] لِقَوْلِهِ: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ [الْحَشْر: 6] ، أَيْ لَمْ يَتَجَشَّمِ الْمُسْلِمُونَ لِلْغِنَى مَشَقَّةً وَلَا أَذَى وَلَا قِتَالًا. وَكَذَلِكَ صفتا الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الْحَشْر: 22] لِمُنَاسَبَتِهِمَا لِإِعْطَاءِ حَظٍّ فِي الْفَيْءِ لِلضُّعَفَاءِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْفَرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَيَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ حَظَّهُ مِنْهَا، وَهِيَ صِفَاتُ: «الْقُدُّوسِ، الْمُهَيْمِن، الْخَالِق، البارئ، الْمُصَوِّرِ» . لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. تَذْيِيلٌ لِمَا عُدِّدَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَهُ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّتِي بَعْضُهَا الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ خَلْقِهِ وَلِكَوْنِهَا بَالِغَةً مُنْتَهَى حَقَائِقِهَا بِالنِّسْبَةِ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِهَا فَصَارَتْ كَالْأَعْلَامِ عَلَى ذَاتِهِ تَعَالَى.

وَالْمَقْصُودُ: أَنْ لَهُ مَدْلُولَاتِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] ، أَيْ عَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [180] . يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. جُمْلَةُ يُسَبِّحُ لَهُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يَعْنِي أَنَّ اتِّصَافَهُ بِالصِّفَاتِ الْحُسْنَى يَضْطَرُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ فَكُلُّ صِنْفٍ يَبْعَثُهُ عِلْمُهُ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يُنَزِّهَهُ وَيُسَبِّحَهُ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. فَالدَّهْرِيُّ أَوِ الطَّبَائِعِيُّ إِذَا نَوَّهَ بِنِظَامِ الْكَائِنَاتِ وَأُعْجِبَ بِانْتِسَاقِهَا فَإِنَّمَا يُسَبِّحُ فِي الْوَاقِعِ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَدْعُوهُ دَهْرًا أَوْ طَبِيعَةً، هَذَا إِذَا حُمِلَ التَّسْبِيحُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ التَّنْزِيهُ بِالْقَوْلِ، فَأَمَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَعْنِيِّينِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مِنْ دلَالَة على التَّنْزِيه وَلَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالْإِمْدَادِ وَالْقَهْرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْمَخْلُوقَاتِ وَانْتِظَامُ وُجُودِهَا. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ وَأُوثِرَ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِمَا لِنِظَامِ الْخَلْقِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ صَدْرَ السُّورَةِ مُمَاثِلٌ لِآخِرِهَا. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ الثَّلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخَرِ سُورَةَ الْحَشْرِ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ [الْحَشْر: 22] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَاتَ شَهِيدًا. وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . فَهَذِهِ فَضِيلَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ أُخْرَوِيَّةٌ.

وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» بِسَنَدِهِ إِلَى إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّادِ قَالَ: قَرَأَتُ عَلَى خَلَفٍ (رَاوِي حَمْزَةَ) فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الْحَشْر: 21] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ. فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِه الْآيَة قَالَا: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا بَلَغْنَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعَا أَيْدِيَكُمَا عَلَى رُؤُوسِكُمَا، فَإِنِّي قَرَأْتُ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لِي: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا نَزَلَ بِهَا إِلَيَّ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامُ. وَالسَّامُ الْمَوْتُ. قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ أَغَرُّ مُسَلْسَلٌ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ [الْحَشْر: 21] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ: هِيَ رُقْيَةُ الصُّدَاعِ، فَهَذِهِ مَزِيَّةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ.

60- سورة الممتحنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 60- سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ عُرِفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ بِ «سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ النُّطْقُ فِي كَلِمَةِ «الْمُمْتَحِنَةِ» بَكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا جَاءَتْ فِيهَا آيَةُ امْتِحَانِ إِيمَانِ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَأْتِينَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَاتٍ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ آيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . فَوَصَفَ النَّاسُ تِلْكَ الْآيَةَ بِالْمُمْتَحِنَةِ لِأَنَّهَا شَرَعَتْ الِامْتِحَانَ. وَأُضِيفَتِ السُّورَةُ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: أُسْنِدَ الِامْتِحَانُ إِلَى السُّورَةِ مَجَازًا كَمَا قِيلَ لِسُورَةِ بَرَاءَةٍ الْفَاضِحَةُ. يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَيِ الْمَرْأَةُ الْمُمْتَحَنَةُ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَالْمَعْهُودِ أَوَّلُ امْرَأَةٍ امْتُحِنَتْ فِي إِيمَانِهَا، وَهِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ امْرَأَة عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ. (كَمَا سُمِّيَتْ سُورَةُ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ «سُورَةَ الْمُجَادِلَةِ» بِكَسْرِ الدَّالِ) . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، أَيِ النِّسَاءِ الْمُمْتَحَنَةِ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَتُسَمَّى «سُورَةَ الِامْتِحَانِ» ، «وَسُورَةَ الْمَوَدَّةِ» ، وَعَزَا ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ «جَمَالِ الْقُرَّاءِ» لِعَلِيٍّ السَّخَاوِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدَهُ.

وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى عَدِّ آيِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً. وَآيَاتُهَا طِوَالٌ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي شَأْنِ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِصَّةَ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: نَزَلَتْ فِيهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا فِي حَدِيثِ النَّاسِ لَا أَدْرِي الْآيَة فِي الْحَدِيثِ أَوْ قَوْلِ عَمْرٍو. حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَمَا تَرَكَتُ مِنْهُ حَرْفًا اه. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَزُهَيْرٍ (مِنَ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ مُسْلِمٌ يَرْوُونَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ) ذِكْرَ الْآيَةِ. وَجَعَلَهَا إِسْحَاقُ (أَيْ ابْن إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ مِنْ رَوَى عَنْهُمْ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ) فِي رِوَايَتِهِ مِنْ تِلَاوَةِ سُفْيَانَ اه. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ مُسْلِمٌ لِرِوَايَةِ عَمْرٍو النَّاقِدِ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ فَلَعَلَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي آنِ كِتَابَهِ إِلَيْهِمْ أَكَانَ عِنْدَ تَجَهُّزِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَدَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بِنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ أَفْشَى فِي النَّاسِ أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْبَرَ وَأَسَرَّ إِلَى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ أَنَّهُ يُرِيدُ مَكَّةَ. فَكَتَبَ حَاطِبٌ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ ... إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَفْشَى، أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْبَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِرَادَتَهُ مَكَّةَ إِنَّمَا هِيَ إِرَادَةُ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا غَزْوِ مَكَّةَ لِأَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ مَعَهَا حَاطِبٌ كِتَابَهُ كَانَ مَجِيئُهَا الْمَدِينَةَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سَنَةَ سِتٍّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: كَانَ كِتَابُ حَاطِبٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ تَجَهُّزِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ جُمْهُورِ أَهْلِ السِّيَرِ وَصَنِيعِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ «صَحِيحِهِ» فِي تَرْتِيبِهِ لِلْغَزَوَاتِ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ.

أغراض هذه السورة

وَمُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ مَا قَصَدَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَجَهُّزِهِ إِلَى مَكَّةَ أَهْوَ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ أَمْ لِأَجْلِ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ كَانَتِ السُّورَةُ جَمِيعُهَا نَازِلَةً فِي مُدَّةٍ مُتَقَارِبَةٍ فَإِنَّ امْتِحَانَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ كَانَ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَيَكُونُ نُزُولُ السُّورَةِ مُرَتَّبًا عَلَى تَرْتِيبِ آيَاتِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ فِي السُّورِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ صُدُورُ السُّورَةِ نَازِلًا بَعْدَ آيَاتِ الِامْتِحَانِ وَمَا بَعْدَهَا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ قَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي تِعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعُقُودِ وَقَبْلَ سُورَة النِّسَاء. أغراض هَذِه السُّورَة اشْتَمَلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ عَلَى تَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ مَعَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالدِّينِ الْحَقِّ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ. وَإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ ضَلَالٌ وَأَنَّهُمْ لَوْ تَمَكَّنُوا من الْمُؤمنِينَ لأساؤوا إِلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَأَنَّ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ تُجَاهَ الْعَدَاوَةِ فِي الدِّينِ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ قَطِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ. وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِاسْتِئْنَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَجَاءِ أَنْ تَحْصُلَ مَوَدَّةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِمُعَادَاتِهِمْ أَيْ هَذِهِ مُعَادَاةٌ غَيْرُ دَائِمَةٍ. وَأَرْدَفَ بِالرُّخْصَةِ فِي حُسْنِ مُعَامَلَةِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ قِتَالَ عَدَاوَةٍ فِي دِينٍ وَلَا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إِلَى نِهَايَةِ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ. وَحكم الْمُؤْمِنَات الّلاء يَأْتِينَ مُهَاجِرَاتٍ وَاخْتِبَارِ صَدَقِ إِيمَانِهِنَّ وَأَنْ يُحْفَظْنَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الشِّرْكِ وَيُعَوَّضَ أَزْوَاجُهُنَّ الْمُشْرِكُونَ مَا أَعْطَوْهُنَّ مِنَ الْمُهُورِ وَيَقَعَ التَّرَادُّ كَذَلِكَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 1]

وَمُبَايَعَةِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ لِيُعْرَفَ الْتِزَامُهُنَّ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَهِيَ الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ. وَتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكَاتِ وَهَذَا فِي الْآيَتَيْنِ الْعَاشِرَةِ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ. وَالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَأَنَّهُمْ أَشْبَهُوا الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ. [1] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي. اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ» أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ حَاطِبُ بِنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَ حَاطِبٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. وَحَاصِلُ الْقِصَّةِ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا فِي «صَحِيحِ الْآثَارِ» وَمَشْهُورِ السِّيرَةِ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ تَجَهَّزَ قَاصِدًا مَكَّةَ. قِيلَ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ لِأَجْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَقَدِمَتْ أَيَّامَئِذٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ امْرَأَةٌ تُسَمَّى سَارَةٌ مَوْلَاةٌ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَتْ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَقَالَتْ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُمُ الْأَهْلَ وَالْمَوَالِيَ وَالْأَصْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ الْمُوَالِي (تَعْنِي مَنْ قُتِلَ مِنْ مَوَالِيهَا يَوْمَ بَدْرٍ) . وَقَدِ اشْتَدَّتْ بِيَ الْحَاجَةُ فَقَدَمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُونِي فَحَثَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى إِعْطَائِهَا، فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا وَحَمَلُوهَا، وَجَاءَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ فَأَعْطَاهَا كِتَابًا لِتُبَلِّغَهُ إِلَى مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَآجَرَهَا عَلَى إِبْلَاغِهِ فَخَرَجَتْ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَكَانُوا فُرْسَانًا. وَقَالَ: انْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوهُ مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا. فَخَرَجُوا تَتَعَادَى بِهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى بَلَغُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِذَا هُمْ

بِالْمَرْأَةِ. فَقَالُوا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقَالُوا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ (يَعْنُونَ أَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَهَا) فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حُجْزَتِهَا. فَأتوا بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِمَنْ كَانَ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي (يُرِيدُ أُمَّهُ وَإِخْوَتَهُ) ، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . وَقَالَ: لَا تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إِلَّا خَيْرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الْآيَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ جَاءَتْ مُتَجَسِّسَةً إِذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَمِّنْ يَوْمَ الْفَتْحِ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَكِنْ هَذَا يُعَارِضُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْقِصَّةِ مِنْ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا مِنْهَا الْكِتَابَ وَخَلُّوا سَبِيلَهَا» . وَقَدْ وُجِّهَ الْخِطَابُ بِالنَّهِي إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرًا مِنْ إتْيَان مثل فِعْلِ حَاطِبٍ. وَالْعَدُوُّ: ذُو الْعَدَاوَةِ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ: عَدَا يَعْدُو، مِثْلِ عَفُوٍّ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ مِثْلِ قَبُولٍ وَنَحْوِهِ مِنْ مصَادر قَليلَة. ولكونه عَلَى زِنَةِ الْمَصَادِرِ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَصْدَرِ فَاسْتَوَى فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ. قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاء: 77] ، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [92] . وَالْمَعْنَى: لَا تَتَّخِذُوا أَعْدَائِي وَأَعْدَاءَكُمْ أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ الْعَدَاوَةُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الْمُؤمنِينَ لم يبدأوهم بِالْعَدَاوَةِ وَإِنَّمَا أَبْدَى الْمُشْرِكُونَ عَدَاوَةَ الْمُؤْمِنِينَ انْتِصَارًا لِشِرْكِهِمْ فَعَدُّوا مَنْ خَرَجُوا عَنِ الشِّرْكِ أَعْدَاءً لَهُمْ. وَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مُتَفَاوِتِينَ فِي مُنَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا موالين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَمَعْنَى إِضَافَةِ عَدُوٍّ إِلَى يَاء التَّكَلُّم عَلَى تَقْدِيرِ: عَدُوِّ دِينِي، أَوْ رَسُولِي. وَالِاتِّخَاذُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ صِيغَ الِافْتِعَالُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْأَخْذِ الْمَجَازِيِّ فَأُطْلِقَ عَلَى التَّلَبُّسِ وَالْمُلَازَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [71] . وَلِذَلِكَ لَزِمَهُ ذِكْرُ حَالٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ لِتَدُلَّ عَلَى تَعْيِينِ جَانِبِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. فَعُومِلَ هَذَا الْفِعْلُ مُعَامَلَةَ صَيَّرَ. وَاعْتُبِرَتِ الْحَالُ الَّتِي بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلِزُومِ ذِكْرِهَا وَهَلِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهِ إِلَّا حَالٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [74] . وَجُمْلَةُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَتَّخِذُوا، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ أَوْلِياءَ أَوْ بَيَانٍ لِمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَتَّخِذُوا لِأَنَّ جَعْلَهَا حَالًا يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إِلَى التَّعْجِيبِ مِنْ إِلْقَائِهِمْ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَتُهُ رَمْيُ مَا فِي الْيَدِ عَلَى الْأَرْضِ. وَاسْتُعِيرَ لِإِيقَاعِ الشَّيْءِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ فِي مَوْقِعِهِ، أَيْ تَصْرِفُونَ إِلَيْهِمْ مَوَدَّتَكُمْ بِغَيْرِ تَأْمُّلٍ. قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [86] . وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الْمَوَدَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَة: 195] وَقَوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِقَوَّةِ مَوَدَّتِهِمْ لَهُمْ. وَزِيدَ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْهِمْ أَوْ مِنْ عَدُوِّي. «وَمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» هُوَ الْقُرْآنُ وَالدِّينُ فَذُكِرَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا أَتَاهُمْ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيذَانِ بِتَشْنِيعِ كُفْرِهِمْ بِأَنَّهُ كُفْرٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ طُلَّابُ الْهُدَى فَإِنَّ الْحَقَّ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ.

وَتَعْدِيَةُ جَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُمِ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِذِلِكَ الْحَقِّ وَتَقَبَّلُوهُ فَكَأَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ جَاءَ لِدَعْوَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالْمُشْرِكِينَ فَقَبِلَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَنَبَذَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافرين بِهِ ناشىء عَنْ حَسَدِهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَهُمْ. وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِلْهَابٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْذَرُوا مِنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ. وَجُمْلَةُ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كَفَرُوا، أَيْ لَمْ يَكْتَفُوا بِكُفْرِهِمْ بِمَا جَاءَ مِنَ الْحَقِّ فَتَلَبَّسُوا مَعَهُ بِإِخْرَاج الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِخْرَاجِكُمْ مِنْ بَلَدِكُمْ لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، أَيْ هُوَ اعْتِدَاءٌ حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ. وَأَنَّ ذَلِكَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ إِيمَانَكُمْ لَا يَضِيرُهُمْ. وَلِذَلِكَ أُجْرِيَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَصْفُ رَبِّكُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 1- 3] ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] . وَحُكِيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ الْحَالَةِ لَأَنَّ الْجُمْلَةَ لَمَّا وَقَعَتْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ وَقَدْ كَفَرُوا كَانَ إِخْرَاج الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَمَلًا فَظِيعًا، فَأُرِيدَ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الْعَظِيمِ فَظَاعَةَ اعْتِلَالِهِمْ لَهُ. وَالْإِخْرَاجُ أُرِيدَ بِهِ: الْحَمْلُ عَلَى الْخُرُوجِ بِإِتْيَانِ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ تَضْيِيقٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَذًى لَهُمْ. وَأُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَى ضَمِيرِ الْعَدُوِّ كُلِّهِمْ لَأَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَرُبَّمَا أَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي أَسْبَابِهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بِمَجْمُوعِهَا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَجْمُوعُهَا هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تُؤْمِنُوا، لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ مَا سَبَّبَ لَهُمُ الْخُرُوجَ مِنْ بِلَادِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي شَرْطٌ ذُيِّلَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. وَهَذَا مَقَامٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مِثْلِهِ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ التَّتْمِيمِ لِمَا قَبْلَهُ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ مَا قَبْلَهُ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ، أَيْ لَا يُقْصَدُ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِعْلُ الشَّرْطِ انْتَفَى مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الشُّرُوطِ بَلْ يَقْصِدُ تَأْكِيدَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ مَعَ ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِحُصُولِ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ غَيْرُ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ فَتَكُونُ صِيغَةُ الشَّرْطِ مُرَادًا بِهَا التَّحْذِيرُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فِي الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرْطِ يَلْزَمُهُ التَّرَدُّدُ غَالِبًا. وَلِهَذَا يُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاثِقًا بِحُصُولِ مَضْمُونِهِ مُتَحَقِّقًا صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ قَبْلَ الشَّرْطِ. كَمَا ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [51] ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ فَتَكُونُ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ مَعَ أَنَّهُمْ مُتَحَقِّقُونَ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ فَطَمِعُوا فِي مَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ لِتَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ فِي مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ وَتَكُونُ أَدَاةُ الشَّرْطِ مِثْلَ (إِذْ) أَوْ لَامِ التَّعْلِيلِ. وَقَدْ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَنْ يُظْهِرُ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى مَا حَصَلَ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ وَأَنْ لَا يُخَالِفَ مُقْتَضَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الْأَنْفَال: 41] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا [الْأَنْفَال: 41] ، أَيْ فَإِيمَانُكُمْ وَيَقِينُكُمْ مِمَّا أَنْزَلْنَا يُوجِبَانِ أَنْ تَرْضَوْا بِصَرْفِ الْغَنِيمَةِ لِلْأَصْنَافِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِذَا تَتَبَّعْتَ مَوَاقِعَهُ. وَيَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ فِعْلَ كَوْنٍ إِيذَانًا بِأَنَّ الشَّرْطَ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ. وَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَالْمَقْصُودُ اسْتِقْرَارُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ عَدُوِّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَعَقَّبَ بِفَرْضٍ شَرْطُهُ مَوْثُوقٌ بِأَنَّ الَّذِينَ نُهُوا مُتَلَبِّسُونَ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِلَا رَيْبٍ، فَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْطِ مِمَّا يَزِيدُ تَأْكِيدَ الِانْكِفَافِ. وَلِذَلِكَ يُجَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِذْ هُوَ يُشْبِهُ التَّتْمِيمَ وَالتَّذْيِيلَ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.

قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فِي سُورَة الْفرْقَان [42] و (لَوْلَا) فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةُ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ. وَقَالَ هُنَا إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي مِثْلِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدِلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. اه. يَعْنِي أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ وَبَيْنَ مَا اخْتَارَهُ هُوَ مِنْ جَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِ لَا تَتَّخِذُوا فَإِنَّهُ جَعَلَ جَوَابَ الشَّرْطِ غَيْرَ مَنْوِيٍّ. قُلْتُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ كَلَامُهُ مِنْ فُرُوقِ اسْتِعْمَالِ الشُّرُوطِ مِثْلَ فُرُوقِ الْخَبَرِ وَفُرُوقِ الْحَالِ الْمُبَوَّبِ لِكِلَيْهِمَا فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . وَكَلَامُ النُّحَاةِ جَرَى عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَتَأَخَّرُ عَنْ جَوَابِهَا نَحْوَ: اقْبَلْ شَفَاعَةَ فُلَانٍ إِنْ شَفِعَ عِنْدَكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَطَلَّبَ لِتَقْدِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ إِذَا حُذِفَ نُكْتَةٌ فِي غَيْرِ مَا جَرَى عَلَى اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ وَالتَّتْمِيمِ. وَأَدَاةُ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ تُشْبِهُ أَنْ الْوَصْلِيَّةَ وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا: إِنَّ جُمْلَةَ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا يَعْنِي تَعَلُّقَ الْحَالِ بِعَامِلِهَا، أَيْ وَالْحَالُ حَالُ خُرُوجِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْتِغَائِكُمْ مَرْضَاتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ أَنْ. وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّتَيْنِ يُعْتَبَرُ حَالًا. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ شَرْطَهُمَا يَقْتَرِنُ بِوَاوِ الْحَالِ لِأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ وَالزَّمَخْشَرِيَّ سَوَّغَا خُلُوَّ الْحَالِ فِي مِثْلِهِ عَنِ الْوَاوِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَشْهَدُ لَهُمَا. وَالْمَعْنَى: لَا يَقَعُ مِنْكُمُ اتِّخَاذُ عَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ أَوْلِيَاءَ وَمَوَدَّتُهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَأَخْرَجُوكُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِكُمْ. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي، فَكَيْفَ تُوَالُونَ مَنْ أَخْرَجُوكُمْ وَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ إِيَّاكُمْ لِأَجْلِي وَأَنَا رَبُّكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخُرُوجِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجَرَةً إِلَى الْمَدِينَةِ. فَالْخِطَابُ خَاصٌّ بِالْمُهَاجِرِينَ عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ رُوعِيَ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ قَرِينَةُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَادِثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. وجِهاداً، وابْتِغاءَ مَرْضاتِي مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ.

تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِسْرَارَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءُ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، فَالتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِيقَاعِ الْخَبَرِ عَقِبَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالتَّعْجِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْقِيبِهِ بِجُمْلَةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، أَيْ كَيْفَ تَظُنُّونَ أَنَّ إِسْرَارَكُمْ إِلَيْهِمْ يَخْفَى عَلَيْنَا وَلَا نُطْلِعُ عَلَيْهِ رَسُولَنَا. وَالْإِسْرَارُ: التَّحَدُّثُ وَالْإِخْبَارُ سِرًّا. وَمَفْعُولُ تُسِرُّونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ تُخْبِرُونَهُمْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ حَالَةِ الْإِسْرَارِ إِلَيْهِ تَفْظِيعًا لَهَا. وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُخْبِرُونَهُمْ سِرًّا بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ أَيْ بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَوَدَّةِ لَهُمْ كَمَا هُوَ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِفِعْلِ تُسِرُّونَ وَالْبَاءُ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ الْمَفْعُولِيَّةِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَجُمْلَةُ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُسِرُّونَ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَهَذَا مَنَاطُ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِ الْمُعَرَّضِ بِهِ وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَتَقْدِيمُ الْإِخْفَاءِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَأَنَا أَعْلَمُ. وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلْقِصَّةِ. وأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ فَالتَّقْدِيرُ: أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ. وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْمُصَاحِبَةِ. وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 2]

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، عُطِفَ عَلَى النَّهْيِ التَّوَعُّدُ عَلَى عَدَمِ الِانْتِهَاءِ بِأَنَّ مِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ هُوَ ضَالٌّ عَنِ الْهُدَى. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي يَفْعَلْهُ عَائِدٌ إِلَى الِاتِّخَاذِ الْمَفْهُومِ مِنْ فِعْلِ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي أَيْ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ فَهُوَ قَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وسَواءَ السَّبِيلِ مُسْتَعَارٌ لِأَعْمَالِ الصَّلَاحِ وَالْهُدَى لِشَبَهِهَا بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَوِي الَّذِي يَبْلُغُ مَنْ سَلَكَهُ إِلَى بُغْيَتِهِ وَيَقَع من انحرف عَنْهُ فِي هَلَكَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ضَلَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَضَلَّ عَنِ الرُّشْدِ. ومِنَ شُرْطِيَّةٌ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلٌ وَهُوَ وَعِيدٌ لِلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمُ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّوْبِيخُ والتفظيع لعمله. [2] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 2] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) تُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمُفَادِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة: 1] بِاعْتِبَارِ بَعْضَ مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، وَهُوَ الضَّلَالُ عَنِ الرُّشْدِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى وَيُظَنُّ أَنَّ فِي تَطَلُّبِ مَوَدَّةِ الْعَدُوِّ فَائِدَةٌ، كَمَا هُوَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 141] ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ مُوَالَاتَهُمْ مِنَ الدَّهَاءِ وَالْحَزْمِ رَجَاءَ نَفْعِهِمْ إِنْ دَالَتْ لَهُمُ الدَّوْلَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ خَطَأَ هَذَا الظَّنِّ، وَأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَفَادُوا مِنْ مَوَدَّتِهِمْ إِيَّاهُمْ إِطِّلَاعًا عَلَى قُوَّتِهِمْ فَتَأَهَّبُوا لَهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَرْقَبُوا فِيهِمْ إِلَّا وَلَا ذِمَّةٍ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنْهُمْ لَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ لِأَنَّ الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ زَمَنًا يَعْسُرُ أَنْ يَنْقَلِبَ وَدُودًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَنَقِ عَلَى مَا لَقَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِبْطَالِ دِينِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيرِ أَهْلِهِ وَأَصْنَامِهِمْ. وَفِعْلُ يَكُونُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ قَدِيمَةٌ وَأَنَّهَا تَسْتَمِرُّ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 3]

وَالْبَسْطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِكْثَارِ لِمَا شَاعَ مِنْ تَشْبِيهِ الْكَثِيرِ بِالْوَاسِعِ وَالطَّوِيلِ، وَتَشْبِيهِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْقَبْضُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَبَسْطُ الْيَدِ الْإِكْثَارُ مِنْ عَمَلِهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: عَمَلُ الْيَدِ الَّذِي يَضُرُّ مِثْلُ الضَّرْبِ وَالتَّقْيِيدِ وَالطَّعْنِ، وَعَمَلِ اللِّسَانِ الَّذِي يُؤْذِي مِثْلِ الشَّتْمِ وَالتَّهَكُّمِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: بِالسُّوءِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ يَبْسُطُوا الَّذِي مَفْعُولُهُ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ. وَجُمْلَةُ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَكُونُوا، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ وَهُمْ قَدْ وَدُّوا مِنَ الْآنِ أَنْ تَكْفُرُوا فَكَيْفَ لَوْ يَأْسِرُونَكُمْ أَلَيْسَ أَهَمُّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدُّوكُمْ كُفَّارًا، فَجُمْلَةُ الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْطُوفٍ مُقَدَّرٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً إِلَى آخِرِهِ، وَيَرُدُّوكُمْ كُفَّارًا، وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ أَنْ يَكْفُرَ الْمُسْلِمُونَ مَحَبَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِعْلُ وَدُّوا مَاضِيًا وَلَمْ يَقَعْ مُضَارِعًا مِثْلَ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِمَّا فِي كِتَابِ «الْإِيضَاحِ» لِلْقَزْوِينِي فِي بَحْثِ تَقْيِيدِ الْمُسْنَدِ بِالشَّرْطِ، إِذِ اسْتَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ. وَنَظَّرَهُ بِجُمْلَةِ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فِي آلِ عِمْرَانَ [111] . فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ بِ (ثُمَّ) فِيهَا عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَجَوَابِهِ لَا عَلَى جُمْلَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ. ولَوْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ فَفِعْلُ تَكْفُرُونَ مُؤَوَّلٌ بِمَصْدَرٍ، أَيْ ودّوا كفركم. [3] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 3] لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) تَخَلَّصَ مِنْ تَبْيِينِ سُوءِ عَاقِبَةِ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِلَى بَيَانِ سُوءِ

عَاقِبَةِ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ حُسْنِ التَّخَلُّصِ قَوْلُهُ: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2] الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ وِدَادَتَهُمْ كُفْرَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَثْقَفُوكُمْ تَنْقَلِبُ إِلَى أَنْ يُكْرِهُوكُمْ عَلَى الْكفْر حِين يثقفونكم، فَلَا تنفعكم ذَوا أَرْحَامِكُمْ مِثْلُ الْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ، وَلَلْأُمِّ، وَلَا أَوْلَادُكُمْ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ إِنْ كَانُوا قَدْ نَفَعُوكُمْ فِي الدُّنْيَا بِصِلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَنُصْرَةِ الْأَوْلَادِ. فَجُمْلَةُ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ سُؤَالٍ مَفْرُوضٍ مِمَّنْ يَسْمَعُ جُمْلَةَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2] ، أَيْ مِنْ حَقِّ ذَلِكَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ آثَارِهِ لِخَطَرِ أَمْرِهَا. وَإِذَا كَانَ نَاشِئًا عَنْ كَلَامٍ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة: 1] ، فَهُوَ أَيْضًا مُفِيدٌ تَعْلِيلًا ثَانِيًا بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَلَوْلَا إِرَادَةُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَزَادَ ذَلِكَ حُسْنًا أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ حَاطِبِ ابْن أَبِي بَلْتَعَةَ مِمَّا عُدَّ عَلَيْهِ هُوَ مُوَالَاةٌ لِلْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتَهُ (أَي أمه وأخواته) . وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ فِي نَفْيِ النَّفْعِ بِذِكْرِ الْأَرْحَامِ لِمُوَافَقَةِ قِصَّةِ حَاطِبٍ لِأَنَّ الْأُمَّ ذَاتُ رَحِمٍ وَالْإِخْوَةُ أَبْنَاؤُهَا هُمْ إِخْوَتُهُ مِنْ رَحِمَهِ. وَأَمَّا عَطْفُ وَلا أَوْلادُكُمْ فَتَتْمِيمٌ لِشِمُولِ النَّهْيِ قَوْمًا لَهُمْ أَبْنَاءٌ فِي مَكَّةَ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْحَامِ: ذَوُو الْأَرْحَامِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ لِظُهُورِ الْقَرِينَةِ. ويَوْمَ الْقِيامَةِ ظَرْفٌ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ، وَفِعْلِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. إِذْ لَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْعَامِلَيْنِ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِذَا كَانَ ظَرْفًا لِأَنَّ الظُّرُوفَ تَتَقَدَّمُ عَلَى عَوَامِلِهَا وَأَنْ أَبَيْتَ هَذَا التَّنَازُعَ فَقُلْ هُوَ ظَرْفُ تَنْفَعَكُمْ وَاجْعَلْ لِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ظَرْفًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ. وَالْفَصْلُ هُنَا: التَّفْرِيقُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَضَاءَ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَوِي أَرْحَامِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34- 37] .

[سورة الممتحنة (60) : آية 4]

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا لَكُمْ تَرْفُضُونَ حَقَّ اللَّهِ مُرَاعَاةً لَهُمْ وَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْكُمْ يَوْمَ اشْتِدَادِ الْهَوْلِ، خَطَّأَ رَأْيَهُمْ فِي مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَوَّلًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ مَنْ وَالَوْهُ. ثُمَّ خَطَّأَهُ ثَانِيًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ مَنِ اسْتَعْمَلُوا الْمُوَالَاةَ لِأَجْلِهِمْ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ حَاطِبٌ مِنْ أَيِّ جِهَةِ نَظَرٍ إِلَيْهِ يَكُونُ خَطَأً وَبَاطِلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِبِنَاءِ يَفْصِلُ لِلْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَفْصِلُ بِالْبِنَاءِ الْفَاعِل، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يَفْصِلُ مُشَدَّدَ الصَّادِ مَكْسُورَةً مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُبَالَغَةً فِي الْفَصْلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ يَفْصِلُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ مَفْتُوحَةً مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ مِنْ فَصَّلَ الْمُشَدِّدِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ. [4] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 4] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةُ يُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة: 2] وَجُمْلَةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ [الممتحنة: 3] ، لِأَنَّهَا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ خَالَفُوا الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ تُقَوِّي إِثْبَاتَ الْخَطَأِ الْمُسْتَوْجِبِ لِلتَّوْبِيخِ. ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ بَيَانِ خَطَأِ مَنْ يُوَالِي عَدُوَّ اللَّهِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى أَصْحَابِهِ مِنْ مَضَارٍّ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، انْتَقَلَ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَالَةِ الصَّالِحَةِ بِمِثَالٍ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالِاسْتِقَامَةِ الْقَوِيمَةِ وَنَاهِيكَ بِهَا أُسْوَةٌ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِكَلِمَتَيْ قَدْ كانَتْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ قَدْ مَعَ فِعْلِ الْكَوْنِ يُرَادُ بِهِمَا التَّعْرِيضُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْمِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا

تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ كَقَوْلِ عُمَرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ طَعَنَهُ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ: «قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ يَكْثُرَ هَؤُلَاءِ الْأَعْلَاجُ بِالْمَدِينَةِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: 22] تَوْبِيخًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِنْكَارٍ لِلْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ [الْقَلَم: 43] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الْأَحْزَاب: 21] . وَيَتَعَلَّقُ لَكُمْ بِفِعْلِ «كَانَ» ، أَوْ هُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَثَلٌ فِي الْيَقِينِ بِاللَّه وَالْغَضَب بِهِ، عَرَفَ ذَلِكَ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنَ الْأُمَمِ، وَشَاعَ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْأَرَامِيِّينَ، وَلَعَلَّهُ بَلَغَ إِلَى الْهِنْدِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَ (برهما) معبود البراهة مِنَ الْهُنُودِ مُحَرَّفٌ عَنِ (اسْمِ إِبْرَاهِيمَ) وَهُوَ احْتِمَالٌ. وَعُطِفَ وَالَّذِينَ مَعَهُ لِيَتِمَّ التَّمْثِيلُ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أَيْ أَنْ يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ تَابِعِينَ لرضى رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الَّذِينَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ مَعَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ وَهُمْ زَوْجُهُ سَارَةُ وَابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ وَلَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ أَبْنَاءٌ، فَضَمِيرُ إِذْ قالُوا عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ. وإِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، أَيِ الْأُسْوَةُ فِيهِ وَفِيهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ: الْأَحْوَالُ الْكَائِنَةُ فِيهِ، وَهُوَ مَا تُبَيِّنُهُ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا الظَّرْفُ وَهِيَ جُمْلَةُ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إِلَخْ. وَالْأِسْوَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا: الْقُدْوَةُ الَّتِي يُقْتَدَى بِهَا فِي فِعْلٍ مَا. فَوُصِفَتْ فِي الْآيَةِ بِ حَسَنَةٌ وَصْفًا لِلْمَدْحِ لِأَنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً قَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِضَمِّهَا. وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ

وَحَرْفُ فِي مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ إِذْ جَعَلَ تَلَبُّسَ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِكَوْنِهِمْ أُسْوَةً حَسَنَةً، بِمَنْزِلَةِ تَلَبُّسِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ فِي شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَعْنَى: قَدْ كَانَ لَكُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَهُ أُسْوَةً فِي حِينِ قَوْلِهِمْ لِقَوْمِهِمْ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي خَالِدِ العتابي. وَفِي الرّحمان لِلضُّعَفَاءِ كَافِ (¬1) لِأَنَّ الْأُسْوَةَ هُنَا هِيَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ لَا أنفسهم. وبُرَآؤُا بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ فُعَلَاءَ جَمْعُ بَرِيءٍ مِثْلُ كَرِيمِ وَكُرَمَاءَ. وَبَرِيءٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل من برىء من شَيْء إِذَا خَلَا مِنْهُ سَوَاءً بَعْدَ مُلَابَسَتِهِ أَوْ بِدُونِ مُلَابَسَةٍ. وَالْمُرَادُ هُنَا التبرؤ من مخالطتهم وَمُلَابَسَتِهِمْ.. وَعطف عَلَيْهِ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَي من الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بُرَآءُ مِنْ عِبَادَتِهَا. وَجُمْلَةُ كَفَرْنا بِكُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَانٌ لِمَعْنَى جملَة إِنَّا بُرَآؤُا. وَضَمِيرُ بِكُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ مَعَ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيُفَسَّرُ الْكُفْرُ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والمعطوف، أَيْ كَفَرْنَا بِجَمِيعِكُمْ فَكُفْرُهُمْ بِالْقَوْمِ غَيْرُ كُفْرِهِمْ بِمَا يَعْبُدُهُ قَوْمُهُمْ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً وَبَدَا مَعْنَاهُ: ظَهَرَ وَنَشَأَ، أَيْ أَحْدَثْنَا مَعَكُمُ الْعَدَاوَةَ ظَاهِرَةً لَا مُوَارَبَةَ فِيهَا، أَيْ لَيْسَتْ عَدَاوَةٌ فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً بَلْ هِيَ عَدَاوَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَانِيَةٌ بِالْقَوْلِ وَالْقَلْبِ. وَهُوَ أَقْصَى مَا ¬

(¬1) من شَوَاهِد «الْكَشَّاف» وَصدر الْبَيْت: وَلَوْلَا هنّ قد سوّمت مهري. وَقَبله: لقد زَاد الْحَيَاة إليّ حبّا ... بَنَاتِي إنَّهُنَّ من الضِّعَاف

يَسْتَطِيعُهُ أَمْثَالُهُمْ مِنْ دَرَجَاتِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْلِّسَانِ إِذْ لَيْسُوا بِمُسْتَطِيعِينَ تَغْيِيرِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ بِالْيَدِ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ. والْعَداوَةُ الْمُعَامَلَةُ بِالسُّوءِ وَالِاعْتِدَاءِ. والْبَغْضاءُ: نَفْرَةُ النَّفْسِ، وَالْكَرَاهِيَةُ وَقَدْ تُطْلَقُ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْأُخْرَى إِذَا افْتَرَقَتَا، فَذِكْرُهُمَا مَعًا هُنَا مَقْصُودٌ بِهِ حُصُولُ الْحَالَتَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ: حَالَةُ الْمُعَامَلَةِ بِالْعُدْوَانِ، وَحَالَةُ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ، أَيْ نُسِيءُ مُعَامَلَتَكُمْ وَنُضْمِرُ لَكُمُ الْكَرَاهِيَة حَتَّى تؤمنوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكٍ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ مَقَالَ الصَّادِقِ فِي قَوْلِهِ، فَالِائْتِسَاءِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُتَرْجِمُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِمَّا فِي النُّفُوسِ، فَالْمُؤْتَسَى بِهِ أَنَّهُمْ كَاشَفُوا قَوْمَهُمْ بِالْمُنَافَرَةِ، وَصَرَّحُوا لَهُمْ بِالْبَغْضَاءِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَلِمَ يُصَانِعُوهُمْ وَيَغُضُّوا عَنْ كُفْرِهِمْ لِاكْتِسَابِ مَوَدَّتِهِمْ كَمَا فَعَلَ الْمُوَبَّخُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ حِكَايَةِ مَقَالِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ وَجُمْلَةِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ إِذْ لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِنْسِ قَوْلهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إِلَخْ، فَإِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ رِفْقٌ بِأَبِيهِ وَهُوَ يُغَايِرُ التَّبَرُّؤَ مِنْهُ، فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ الشَّامِلِ لِمَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَهُمْ لِاخْتِلَافِ جِنْسَيِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فِي سُورَة الْحجر (¬1) [58، 59] . أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْمٍ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِالْإِجْرَامِ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ الْجِنْسَانِ اهـ. فَجَعَلَ اخْتِلَافَ جِنْسَيِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُوجِبًا اعْتِبَارَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا. وَفَائِدَةُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِخَطَأِ حَاطِبِ ابْن أَبِي بَلْتَعَةَ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَذِرِينَ فَلْيَكُنْ عُذْرُكُمْ فِي مُوَاصَلَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِأَنْ تَوَدُّوا لَهُمُ مَغْفِرَةَ كُفْرِهِمْ بِاسْتِدْعَاءِ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إِلَى ¬

(¬1) فِي المطبوعة (الشُّعَرَاء) وَهُوَ خطأ.

الدِّينِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِمُصَانَعَةٍ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّهُمْ مِنْكُمْ بِمَحَلِّ الْمَوَدَّةِ وَالْعِنَايَةِ فَيَزْدَادُوا تَعَنُّتًا فِي كُفْرِهِمْ. وَحِكَايَةُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمِ لِأَبِيهِ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِكْمَالٌ لِجُمْلَةِ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مُجَرَّدَ وَعْدِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ فَبُنِيَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ قَدْ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ. وَالْوَاوُ فِي وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يجوز أَن تكون لِلْحَالِ أَوْ لِلْعَطْفِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَمَعْنَى الْحَالِ أَوْضَحُ وَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَمَعْنَى الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَمْلِكُ الْقُدْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] . ومِنْ شَيْءٍ عامّ للمغفرة المسئولة وَغَيْرِهَا مِمَّا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ وَجُمْلَةُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْتَسُوا بِهِ، وَبِهِ يَكُونُ الْكَلَامُ شَدِيدَ الِاتِّصَالِ مَعَ قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْكَلَامَ وَيَسْتَحْضِرُوا مَعَانِيَهُ لِيَجْرِيَ عَمَلَهُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْرٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَوْلِ الْعَمَلُ بِالْقَوْلِ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُجَدَّدُ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَيُذَكِّرُ السَّامِعَ مِنْ غَفْلَتِهِ. وَهَذَا تَتْمِيمٌ لِمَا أَوْصَاهُمْ بِهِ مِنْ مُقَاطَعَةِ الْكُفَّارِ بَعْدَ التَّحْرِيضِ عَلَى الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ. فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَكُونُ حِكَايَةً لِمَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ وَقَوْمُهُ بِمَا يُفِيدُ حَاصِلَ مَعَانِيهِ فَقَدْ يَكُونُ هُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَوْلِهِ:

[سورة الممتحنة (60) : آية 5]

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: 78- 82] . فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ بِسُؤَالِهِ النَّجَاحَ فِي مَا يُصْلِحُ أَعْمَالَ الْعَبْدِ فِي مَسَاعِيهِ وَأَعْظَمُهُ النَّجَاحَ فِي دِينِهِ وَمَا فِيهِ قِوَامُ عَيْشِهِ ثُمَّ مَا فِيهِ دَفْعُ الضُّرِّ. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ هُنَاكَ فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَهَذَا جَمَعَهُ قَوْلُهُ هُنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ جَمَعَهُ قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَإِنَّ الْمَصِيرَ مَصِيرَانِ مَصِيرٌ بَعْدَ الْحَيَاةِ وَمَصِيرٌ بَعْدَ الْبَعْثِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي فَإِنَّ وَسِيلَة الطمع هِيَ التَّوْبَة وَقد تضمنها قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ أَنَبْنا. وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْرِفُوا تَوَجُّهَهُمْ إِلَى اللَّهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا لَا يَرْضَاهُ وَإِنْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَإِنَّ رِضَى اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دُونَهُ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى التَّوَكُّلِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [75] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [31] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ بَعْضُهُ ادِّعَائِيٌّ وَبَعْضُهُ حَقِيقِيٌّ كَمَا تُصْرَفُ إِلَيْهِ الْقَرِينَةُ. وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا إِظْهَارٌ لِلتَّضَرُّعِ مَعَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنَ الدَّعْوَات الثَّلَاث. [5] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 5] رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا. الْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَال وفساده، وَهِي اسْمُ مَصْدَرٍ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، [الْبَقَرَة: 191] وَتَجِيءُ وَصْفًا لِلْمَفْتُونِ وَالْفَاتِنِ.

وَمَعْنَى جَعْلِهِمْ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: جَعْلُهُمْ مَفْتُونِينَ يَفْتِنُهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيُصَدَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَيُفْتَنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] إِلَخْ. وَيُصَدَّقُ أَيْضًا بِأَنْ تَخْتَلَّ أُمُورُ دِينِهِمْ بِسَبَبِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ بِمَحَبَّتِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ دُعَاءِ مُوسَى إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَاف: 155] . وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْفِتْنَةُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [85] . وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِلْمِلْكِ، أَيْ مَفْتُونِينَ مُسَخَّرِينَ لَهُمْ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِتْنَةً مَصْدَرًا بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَجْعَلْنَا فَاتِنَيْنِ، أَيْ سَبَبَ فِتْنَةٍ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَعْنَى لَا تُغَلِّبِ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلَيْنَا وَاصْرِفْ عَنَّا مَا يَكُونُ بِهِ اخْتِلَالُ أَمْرِنَا وَسُوءُ الْأَحْوَالِ كَيْلَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاتَنًا الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ مُقَوِّيًا فِتْنَتَهُمْ فَيُفْتَتَنُوا فِي دِينِهِمْ، أَيْ يَزْدَادُوا كُفْرًا وَهُوَ فِتْنَةٌ فِي الدِّينِ، أَيْ فَيَظُنُّوا أَنَّا عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْفِتْنَةُ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى غُرُورٍ فِي الدِّينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [49] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [111] . وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ التَّبْلِيغِ وَهَذِهِ مَعَانٍ جَمَّةٌ أَفَادَتْهَا الْآيَةُ. وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا. أَعْقَبُوا دَعَوَاتِهِمُ الَّتِي تَعُودُ إِلَى إِصْلَاحِ دِينِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِطَلَبِ مَا يُصْلِحُ أُمُورَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا يُوجِبُ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ رِضَاهُ يُفْضِي إِلَى عنايته بهم بتسيير أُمُورِهِمْ فِي الْحَيَاتَيْنِ. وَلِلْإِشْعَارِ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ عَطَفَتْ هَذِهِ الْوَاوُ وَلَمْ تَعْطِفِ الَّتِي قَبْلَهَا. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 6]

تَعْلِيلٌ لِلدَّعَوَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالْإِنَابَةَ وَالْمَصِيرَ تُنَاسِبُ صِفَةَ الْعَزِيزُ إِذْ مِثْلُهُ يُعَامِلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَطَلَبَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةً بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهِ يُنَاسِبُ صِفَةَ الْحَكِيمُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَهَلُوا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةَ الْكَافِرِينَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ رَأَوْا أَنَّ حِكْمَتَهُ تُنَاسِبُهَا إِجَابَةُ دُعَائِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحهمْ وَقد جاؤوا سائلينه. [6] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 6] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) تَكْرِيرُ قَوْلِهِ آنِفًا قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] إِلَخْ، أُعِيدَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ عَلَى عَدَمِ إِضَاعَةِ الِائْتِسَاءِ بِهِمْ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ إِلَخْ. وَقَرَنَ هَذَا التَّأْكِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ كانَ تَاءُ تَأْنِيثٍ مَعَ أَنَّ اسْمَهَا مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ أُسْوَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْإِسْوَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي هَمْزَتِهَا فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ لَكُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] فَلَيْسَ ذِكْرُ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقْتَضِي تَأَسِّيَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنَ وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. وَأُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِتَأْكِيدِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ. وَالْقَصْدُ هُوَ زِيَادَةُ الْحَثِّ عَلَى الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَمن مَعَه، وليرتب عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدِ لِمَا نُهُوا عَنْهُ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 7]

فَفِعْلُ يَتَوَلَّ مُضَارِعُ تَوَلَّى، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيهِ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ مَنْ لَا يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَيُعْرِضُ عَنْ نَهْيِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ امْتِثَالِهِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَاضِيهِ مِنَ التَّوَلِّي بِمَعْنَى اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ، أَيْ مَنْ يَتَّخِذُ عَدُوَّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [51] . وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْغَنِيُّ تَوْكِيدٌ لِلْحَصْرِ الَّذِي أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغِنَى غَيْرِهِ وَلَا بِحَمْدِهِ، أَيْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْمُتَوَلِّينَ لَأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا نُهُوا عَنهُ إِنَّمَا هُوَ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُفِيدُ اللَّهَ شَيْئًا فَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِتْبَاعُ الْغَنِيُّ بِوَصْفِ الْحَمِيدُ تَتْمِيمٌ، أَيِ الْحَمِيدِ لِمَنْ يَمْتَثِلُ أَمْرَهُ وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُ أَوِ الْحَمِيدُ لِمَنْ لَا يَتَّخِذُ عَدُوَّهُ وَلِيًّا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] . [7] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 7] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) اعْتِرَاضٌ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ مُوَاصَلَةِ أَقْرِبَائِهِمْ، بِأَنْ يَرْجُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَل قطيعتهم آئلة إِلَى مَوَدَّةٍ بِأَنْ يَسْلَمَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَرَابَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ ذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِإِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ تزوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ بَعْدَ أَنْ تَنَصَّرَ زَوْجُهَا فَلَمَّا تزَوجهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَانَتْ عَرِيكَةُ أَبِي سُفْيَانَ وَصَرَّحَ بِفضل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا يُقْدَعُ أَنْفُهُ» (رُوِيَ بِدَالٍ بَعْدَ الْقَافِ يُقَالُ: قَدَعَ أَنْفَهُ. إِذَا ضَرَبَ أَنْفَهُ بِالرُّمْحِ) وَهَذَا تَمْثِيلٌ، كَانُوا إِذَا نَزَا فَحَلٌ غَيْرُ كَرِيمٍ عَلَى نَاقَةٍ

[سورة الممتحنة (60) : آية 8]

كَرِيمَةٍ دَفَعُوهُ عَنْهَا بِضَرْبِ أَنْفِهِ بِالرُّمْحِ لِئَلَا يَكُونُ نَتَاجُهَا هَجِينًا. وَإِذَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ تزوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ حَبِيبَةٍ فِي مُدَّةِ مُهَاجَرَتِهَا بِالْحَبَشَةِ وَتِلْكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ. يَعْنِي فَتَكُونُ آيَةُ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ إِلَخْ نَزَلَتْ قَبْلَ نِزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لِحُصُولِ الْمَوَدَّةِ مَعَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَحُصُولُ مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَدَّة يهيّيء صَاحِبَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ صِحَّةَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وعَسَى فِعْلُ مُقَارَبَةٍ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي رَجَاءِ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَعْدِ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الرَّجَاءِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ فِي بَعْضِ الْحَوَائِجِ عَسَى أَوْ لَعَلَّ فَلَا تَبْقَى شُبْهَةٌ لِلْمُحْتَاجِ فِي تَمَامِ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] . وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ الْأَحْوَالَ فَيَصِيرُ الْمُشْرِكُونَ مُؤْمِنِينَ صَادِقِينَ وَتَصِيرُونَ أَوِدَّاءَ لَهُمْ. وَعَطَفَ عَلَى التَّذْيِيلِ جُمْلَةَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ يَغْفِرُ لِمَنْ أَنَابُوا إِلَيْهِ وَيَرْحَمُهُمْ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَصِيرُوا أَوِدَّاءَ لَكُمْ كَمَا تَصِيرُونَ أوداء لَهُم. [8] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 8] لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) اسْتِئْنَافٌ هُوَ مَنْطُوقٌ لِمَفْهُومِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا الْعَدُوُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: 1] وَقَوْلُهُ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: 2] ، الْمَسُوقَةِ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهِي عَنْ اتِّخَاذِ عَدُوِّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، اسْتَثْنَى اللَّهُ أَقْوَامًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غَيْرَ مُضْمِرِينَ الْعَدَاوَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ دِينُهُمْ شَدِيدَ الْمُنَافَرَةِ مَعَ دِينِ الْإِسْلَامِ.

فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى وَصْفِ الْعَدُوِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى حَالَةِ مُعَادَاةِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ وَنَظَرْنَا مَعَ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، كَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِلَى آخِرِهِ، بَيَانًا لِمَعْنَى الْعَدَاوَةِ الْمَجْعُولَةِ عِلَّةً لِلنَّهِي عَنِ الْمُوَالَاةِ وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنَاطَ النَّهْيِ هُوَ مَجْمُوعُ الصِّفَات الْمَذْكُورَة لَا كل صِفَةٍ عَلَى حِيَالِهَا. وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى أَنَّ وَصْفَ الْعَدُوِّ هُوَ عَدُوُّ الدِّينِ، أَيْ مُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهِ مَعَ ضَمِيمَةِ وَصْفِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، كَانَ مَضْمُونُ لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ تَخْصِيصًا لِلنَّهْيِ بِخُصُوصِ أَعْدَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ أَخْرَجَتْ مِنْ حُكْمِ النَّهْيِ الْقَوْمَ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَاتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا يَجْعَلُ الِاعْتِبَارَيْنِ سَوَاءً فَدَخَلَ فِي حكم هَذِه الْآيَةِ أَصْنَافٌ وَهُمْ حلفاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ خُزَاعَةَ، وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَمُزَيْنَةَ كَانَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مظاهرين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ ظُهُورَهُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَمِثْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَتْ قُتَيْلَةُ (بِالتَّصْغِيرِ وَيُقَالُ لَهَا: قَتَلَةُ، مُكَبَّرًا) بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَهِيَ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ إِلَى الْمَدِينَةِ زَائِرَةً ابْنَتَهَا وَقُتَيْلَةُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكَةٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا الْمُهَادَنَةُ بَيْنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ (وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا هَذِهِ السُّورَةُ) فَسَأَلَتْ أَسْمَاءُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَصِلُ أُمَّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ» ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهَا. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِلَخْ، لِأَنَّ وُجُودَ ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ فِي الْمُبْدَلِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْ تَبَرُّوهُمْ يَجْعَلُ بِرَّ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ. فَدَخَلَ فِي الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالَّذِينَ شَمَلَتْهُمْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُمْ قَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ سَبَبُ نُزُولِهَا وَإِنَّمَا هُوَ شُمُولٌ وَمَا هُوَ بِسَبَبِ نُزُولٍ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 9]

وَالْبِرُّ: حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَالْإِكْرَامُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، يُقَالُ: بَرَّ بِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِنَفْسِهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَضَمَّنَ تُقْسِطُوا مَعْنَى تُفْضُوا فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) وَكَانَ حَقَّهُ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ. عَلَى أَنَّ اللَّامَ وَ (إِلَى) يَتَعَاقَبَانِ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ، أَيْ أَنْ تُعَامِلُوهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ التَّقَرُّبِ، فَإِنَّ مُعَامَلَةَ أَحَدٍ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ مِنَ الْعَدْلِ. وَجُمْلَةُ وإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ تَذْيِيلٌ، أَيْ يُحِبُّ كُلَّ مُقْسِطٍ فَيَدْخُلُ الَّذِينَ يُقْسِطُونَ لِلَّذِينَ حَالَفُوهُمْ فِي الدِّينِ إِذَا كَانُوا مَعَ الْمُخَالَفَةِ مُحْسِنِينَ مُعَامَلَتَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ قَالَ: نَسَخَهَا الْقِتَالُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، لِأَن بر الْمُؤمن بِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ بِمَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَيْرُ مَحَرَّمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. اه. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْإِحْسَانِ وَجَوَازُ الاحتفاء بأعيانهم. [9] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 9] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) فَلذَلِك لِمَا تَقَدَّمَ وَحَصْرٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَهِيَ تُؤْذِنُ بِانْتِهَاءِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا قَصْرٌ قُلِبَ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ فِي جَوَازِ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالَّذِينَ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ هُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ، وأَنْ تَوَلَّوْهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 10]

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ شَرْطٌ، وَجِيءَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ الْحُكْمِ. وَالْمُظَاهَرَةُ: المعاونة. وَذَلِكَ أَن أَهْلَ مَكَّةَ فَرِيقَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُ الْمُسْلِمُونَ مَعَهَا الْبَقَاءَ بِمَكَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَيُغْرِي عَلَيْهِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، أَيْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ لِشِدَّتِهِ وَوُقُوعِهُ بَعْدَ النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْأَخْطَاءِ وَالْعِصْيَانِ ظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى حَقِّ الظَّالِمِ نَفْسِهِ. [10] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 10] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. لَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِه الْآيَات إِلَى آخِرَ السُّورَةِ نَزَلَتْ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا رَجَّحْنَا أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ وَأَنَّ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ عِنْدَ تَجَهُّزِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحُدَيْبِيَةِ. وَمُنَاسِبَةُ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا، أَيِ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ يَتَطَرَّقُ إِلَى مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ عُقُودِ النِّكَاحِ وَالْمُصَاهَرَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ زَوْجًا لِمُشْرِكَةٍ وَتَكُونُ الْمُسْلِمَةُ زَوْجًا لِمُشْرِكٍ فَتَحْدُثُ فِي ذَلِكَ حَوَادِثُ لَا يَسْتَغْنِي الْمُسْلِمُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِهَا. وَقَدْ حَدَثَ عَقِبَ الصُّلْحِ الَّذِي انْعَقَدَ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مَجِيءُ أَبِي جندل بن سُهَيْل بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ وَكَانَ مُسلما وَكَانَ مُوَثَّقًا فِي الْقُيُودِ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَكَةَ فَانْفَلَتَ وَجَاءَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ «أَنَّ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إِذَنِ وَلِيِّهِ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ» فَرده النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ هَارِبَةً مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ مُهَاجِرَةً هَارِبَةً مِنْ

زَوْجِهَا صَيْفِيِّ بْنِ الرَّاهِبِ أَوْ مُسَافِرٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَجَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ هَارِبَةً مِنْ زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ الشِّمْرَاخِ وَقِيلَ: حسان بن الدحداحة. وَطَلَبَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ فَجَاءَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ جَاءَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَةِ يَطْلُبُ رَدَّهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ طِينَةَ الْكِتَابِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأبى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ وَاحِدَةً إِلَيْهِمْ وَبَقِيَتْ بِالْمَدِينَةِ فَتَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَتزَوج سبيعة عمر رَضِي الله عَنهُ (¬1) وَتَزَوَّجَ أُمَيْمَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ (¬2) . وَجَاءَتْ زَيْنَبُ بنت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمَةً وَلَحِقَ بِهَا زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بَعْدَ سِنِينَ مُشْرِكًا ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْمَدِينَةِ فَردهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ: هَلْ كَانَ النَّهْيُ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ أَنْ يَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ نَسْخًا لما تضمنته شَرط الصُّلْحِ الَّذِي بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ غَيْرَ مُصَرَّحٍ فِيهِ بِإِرْجَاعِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةٌ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فَاعْتُبِرَ مُجْمَلًا وَكَانَ النَّهْيُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الصُّلْحَ صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّ مَنْ جَاءَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ يُرَدُّ إِلَى وَلِيِّهِ. فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَ صَرِيحًا وَكَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا فعله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالَّذِي فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ خَلِيٌّ مِنْ هَذَا التَّصْرِيحِ وَلِذَلِكَ كَانَ لَفْظُ الصُّلْحِ مُحْتَمِلًا لِإِرَادَةِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا ضَمَائِرُ تَذْكِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَذِينَ سَأَلُوهُ إِرْجَاعَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَطَلَبُوا تَنْفِيذَ شُرُوطِ الصُّلْحِ: إِنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَشْرِيعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ إِذَا جَاءَهُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ وَإِيذَانًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ شَرْطَهُمْ غَيْرُ نَصٍّ، وَشَأْنُ شُرُوطُ الصُّلْحِ الصَّرَاحَةُ لِعِظَمِ أَمْرِ الْمُصَالَحَاتِ وَالْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَذْهَلَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الِاحْتِيَاطِ فِي شَرْطِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِالنِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ إِذْ جَعَلَ لَهُنَّ مخرجا وتأييدا لرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا لِقَصْدِ أَنْ يَشْتَرِكَ مَنْ يُمْكِنُهُ الِاطِّلَاعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ تَعَاوُنًا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ التَّكْلِيفِ يَرْجِعُ كَثِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ نِسَائِهِمْ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: «سهل بن حنيف» والمثبت من «تَفْسِير الْبَغَوِيّ» (4/ 333) و «الْإِصَابَة» (4/ 325) . (¬2) انْظُر «الْإِصَابَة» (4/ 239) .

وَالِامْتِحَانُ: الِاخْتِبَارُ. وَالْمُرَادُ اخْتِبَارُ إِيمَانِهِنَّ. وَجُمْلَةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سَرَائِرَهُنَّ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَخْتَبِرُوا ذَلِكَ بِمَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الدَّلَائِلِ. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَى مَا قَبْلَ الِاعْتِرَاضِ قَوْلَهُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ إِلَخْ، أَيْ إِنْ حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُنَ مُؤْمِنَاتٌ غَيْرُ كَاذِبَاتٍ فِي دَعْوَاهُنَّ. وَهَذَا الِالْتِحَاقُ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ الْمُبَايَعَةَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ الْآيَة [الممتحنة: 12] . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَقُولُ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 12] وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَانَتِ الْمُمْتَحَنَةُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ بُغْضًا لِزَوْجِهَا، وَلَا رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَلَا الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَّا، وَلَا بِجَرِيرَةٍ جَرَّتْهَا بَلْ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا حَلَفَتْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَى ذَلِكَ أعْطى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَهَا مَهْرَهَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا. وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِتَوَلِّي تَحْلِيفِهِنَّ فَإِذَا تَبَيَّنَ إِيمَانُ الْمَرْأَةِ لَمْ يردهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ . وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ مَوْقِعُ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ تَحْقِيقًا لِوُجُوُبِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَزَوْجِهَا الْكَافِرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ النَّهْيِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إِلَى آخِرِهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَقُومَ بِتَنْفِيذِهِ مَنْ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَكُلِّ زَمَانٍ وَهُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ مِنْ أُمَرَاءَ وَقُضَاةٍ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ الْعَمَلِ بِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَالْتِزَامُ الِامْتِثَالِ لِمَا يُقَرِّرُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ.

وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْمَلُ لَفْظِ الْحِلِّ وَمَا تصرف مِنْهُ فِي كَلَامُ الشَّارِعِ مُنْصَرِفًا إِلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الْجَوَازُ وَضِدُّ التَّحْرِيمِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ خِطَابَاتُ التَّكْلِيفِ بِأُمُورِ الْإِسْلَامِ إِذْ هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ فَمُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ تُعَدُّ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِمَسْأَلَةِ: خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، مَسْأَلَةً لَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهَا بَلْهَ التَّفْرِيعُ عَلَيْهَا. وَإِذْ قَدْ عُلِّقَ حُكْمُ نَفْيِ حِلِّ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى حُرْمَةِ دَوَامِ عِصْمَتِهَا عَلَى ضَمِيرِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ. وَلَمْ يَكُنِ الْكُفَّارُ صَالِحِينَ لِلتَّكْلِيفِ بِهَذَا التَّحْرِيمِ فَقَدْ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ هَذَا التَّحْرِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ وَصْفِ الْحِلِّ الْمَنْفِيِّ إِلَى النِّسَاءِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَإِبْدَاءِ وَجْهِ الْإِتْيَانِ بِالْجُمِلَتَيْنِ وَوَجْهِ التَّعَاكُسِ فِي تَرْتِيبِ أَجْزَائِهِمَا. وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ المؤمنة إِلَى الزَّوْج الْكَافِرِ يَقَعُ عَلَى صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ إِلَى زَوْجِهَا فِي بِلَادِ الْكفْر، وَذَلِكَ هُوَ مَا أَلَحَّ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ لَمَّا جَاءَتْ بَعْضُ الْمُؤْمِنَاتِ مُهَاجِرَاتٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ يُقِيمُ مَعَهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا وَمُنِعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا. وَكِلْتَا الصُّورَتَيْنِ غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَلَا يُجِيزُهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الصُّورَةِ الْأُولَى بِجُمْلَةِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ إِذْ جُعِلَ فِيهَا وَصْفُ حِلٌّ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ النِّسَاءِ وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ عَلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ، وَهِيَ لَامُ تَعْدِيَةِ الْحِلِّ وَأَصْلُهَا لَامُ الْمِلْكِ فَأَفَادَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الرِّجَالُ الْكُفَّارُ عِصْمَةَ أَزْوَاجِهِمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ بَقَاءَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ الْكَافِرِينَ غَيْرُ حَلَالٍ، أَيْ لَمْ يُحْلِلْهُنَّ الْإِسْلَامُ لَهُمْ. وَقُدِّمَ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَةِ الْأَكْثَرِ أَهَمِّيَّةً عِنْدِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْأَلُونَ إِرْجَاعَ النِّسَاءِ إِلَيْهِمْ وَيُرْسِلُونَ الْوَسَائِطَ فِي ذَلِكَ بِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا. وَجِيءَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَهِيَ حِلٌّ الْمُفِيدَةُ لِثُبُوتِ الْوَصْفِ

إِذْ كَانَ الرِّجَالُ الْكَافِرُونَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الَّتِي لَهُمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْمُؤْمِنَات مثبتة أَنهم حِلٌّ لَهُمْ. وَعُبِّرَ عَنِ الثَّانِيَةِ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فَعُكِسَ الْإِخْبَارُ بِالْحِلِّ إِذْ جُعِلَ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الرِّجَالِ، وَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمُحَلَّلِ بِاللَّامِ دَاخِلَةٍ عَلَى ضَمِيرِ النِّسَاء فَأفَاد أَنهم لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ الْكَافِرُونَ وَلَوْ بَقَى الزَّوْجُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا ذُكِرَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ كَالتَّتِمَّةِ لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَجِيءَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدِلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِإِفَادَةِ نَفْيِ الطَّمَاعِيَةِ فِي التَّحْلِيلِ وَلَوْ بِتَجَدُّدِهِ فِي الْحَالِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوِ اتِّفَاقٍ جَدِيدٍ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ إِذْ قَالَ: إِنَّ مُوجِبَ الْفُرْقَةِ هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا اخْتِلَافُ الدِّينِ. وَيَجُوزُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْكِيدَ نَفْيِ الْحَالِ فَبَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَكَّدَ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أَيْ أَنَّ انْتِفَاءَ الْحِلِّ حَاصِلٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [187] تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ التَّلَبُّسِ وَالِاتِّصَالِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَفِي الْكَلَامِ مُحَسِّنُ الْعَكْسِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ بَيْنَ حِلٌّ ويَحِلُّونَ اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ، وَإِنَّمَا يُوَفَّرُ حَظُّ التَّحْسِينِ بِمِقْدَارِ مَا يَسْمَحُ لَهُ بِهِ مُقْتَضَى حَالُ الْبَلَاغَةِ. وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا. الْمُرَادُ بِ مَا أَنْفَقُوا مَا أَعْطَوْهُ مِنَ الْمُهُورِ، وَالْعُدُولُ عَنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُهُورِ وَالْأُجُورِ عَلَى مَا دَفَعَهُ الْمُشْركُونَ لنسائهم اللاء أَسْلَمْنَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ أُولَئِكَ النِّسَاءَ أَصْبَحْنَ غَيْرَ زَوْجَاتٍ. فَأُلْغِيَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُهُورِ عَلَى مَا يُدْفَعُ لَهُمْ.

وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُعْطِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَهُنَّ أُجُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وَالْمُكَلَّفُ بِإِرْجَاعِ مُهُورِ الْأَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِمْ هُمْ وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خُصُوصِ قَوْلِهِ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لِئَلَّا يُظَنُّ أَنَّ مَا دُفِعَ لِلزَّوْجِ السَّابِقِ مُسْقِطٌ اسْتِحْقَاقَ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ مِمَّنْ يَرُومُ تَزْوِيجَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِبْقَاءِ النِّسَاءِ الْكَوَافِرِ فِي عِصْمَتِهِمْ وَهن النِّسَاء اللاء لَمْ يَخْرُجْنَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ لِكُفْرِهِنَّ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَلَّقَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجٍ بِمَكَّةَ، فَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَيْنِ لَهُ بِقَيَتَا بِمَكَّةَ مُشْرِكَتَيْنِ، وَهُمَا: قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيَّةُ. وَالْمُرَادُ بِالْكَوَافِرِ: الْمُشْرِكَاتُ. وَهُنَّ مَوْضُوعُ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ لِأَنَّهَا فِي حَالَةٍ وَاقِعَةٍ فَلَا تَشْمَلُ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَقَاءِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي عِصْمَةِ زَوْجٍ مُشْرِكٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ حُكْمُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَأَيْتُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْفَقِيهَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ، فَقُلْتُ لَهُ: النَّحْوِيُّونَ لَا يَرَوْنَهُ إِلَّا فِي النِّسَاءِ لِأَنَّ كَوَافِرَ جُمَعُ كَافِرَةٍ، فَقَالَ: وَآيْشُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا، أَلَيْسَ النَّاسُ يَقُولُونَ: طَائِفَةٌ كَافِرَةٌ، وَفِرْقَةٌ كَافِرَةٌ، فَبُهِتُّ وَقُلْتُ: هَذَا تَأْيِيدٌ اه. وَجَوَابُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ

يَمْنَعُ مِنْهُ ضَمِيرَ الذُّكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوا فَهُمُ الرِّجَالُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَوَافِرُ نِسَاؤُهُمْ. وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ: فَبُهِتُّ وَقُلْتُ ... إِلَخْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا تُمْسِكُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ مَكْسُورَةً مُضَارِعُ مَسَّكَ بِمَعْنى أمسك. وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِحُكْمِهِ، أَيْ كَمَا تُعْطُونَهُمْ مُهُور أَزوَاجهم اللاء فَرَرْنَ مِنْهُمْ مُسَلَّمَاتٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا فَرَّتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَةُ مُسْلِمٍ كَافِرَةً وَلَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَى إِرْجَاعِهَا إِلَيْكُمْ تَسْأَلُونَ الْمُشْرِكِينَ إِرْجَاعَ مَهْرِهَا إِلَى زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ الَّذِي فَرَّتْ مِنْهُ وَهَذَا إِنْصَافٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْأَمْرُ للْإِبَاحَة. وَقَوله: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا تَكْمِلَة لقَوْله: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ هُنَا عَلَى الْمَعِيَّةِ بِالْقَرِينَةِ لِأَن قَوْله: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا لَوْ أُرِيدَ حُكْمُهُ بِمُفْرَدِهِ لَكَانَ مُغْنِيًا عَنْهُ قَوْلُهُ: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، فَلَمَّا كُرِّرَ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ جَمْعُ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ إِذَا أَعْطَوْا مَا عَلَيْهِمْ أَعْطُوهُمْ مَا عَلَيْكُمْ وَإِلَّا فَلَا. فَالْوَاوُ مُفِيدَةٌ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ هُنَا بِالْقَرِينَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ الْمَعِيَّةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ فِي مَعَانِي الْوَاوِ: «اشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا لِلْمَعِيَّةِ. وَقَدْ زَلَّ الْفَرِيقَانِ» اه. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَلَمْ يَرُدُّهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ الْبُرْهَانِ» : «وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا تَأْكُلُ السَّمَكَ وَتَشْرَبُ اللَّبَنَ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ تَنَاوُلِ السَّمَكِ وَتَنَاوُلِ اللَّبَنِ فَيَكُونُ الْإِعْرَابُ مُخْتَلِفًا فَإِذَا قَالَ: وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ بِفَتْحِ الْبَاءِ كَانَ نَهْيًا عَنِ الْجَمْعِ وَيَكُونُ الِانْتِصَابُ بِمَعْنَى تَقْدِيرِ حَرْفِ (أَنْ) اه. وَهُوَ يَرْمِي إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ. فَأفَاد قَوْله: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَبَوْا مِنْ دَفْعِ مُهُورِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَفِرُّونَ إِلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ مُخَوِّلًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُعْطُوهُمْ مُهُورَ مَنْ فَرُّوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْفِقْهِ: خَيْرَتُهُ تَنْفِي ضَرَرَهُ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 11]

ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِأحد جانبيه وَيتْرك الْآخَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْعَهْدُ لَأُمْسِكَ النِّسَاءُ وَلَمْ يُرَدُّ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ صَدَاقٌ. وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ حَالًا مِنْ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ يَرْبِطُ الْجُمْلَةَ بِصَاحِبِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يَحْكُمُهُ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِحَاجَاتِ عِبَادِهِ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ إِذْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ التَّرَادِّ فِي الْمُهُورِ شَرْعًا فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ اقْتَضَاهَا اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ الْمُهَادِنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ خَاصًّا بِذَلِكَ الزَّمَانِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو بكر الْجَصَّاص. [11] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 11] وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) عَطْفٌ على جملَة وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10] فَإِنَّهَا لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى نُزُولِهَا إِبَاءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا إِلَى أَزوَاج النِّسَاء اللاء بَقَيْنَ عَلَى الْكفْر بِمَكَّة واللاء فَرَرْنَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقْنَ بِأَهْلِ الْكفْر بِمَكَّة مهورهن الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا نِسَاءَهُمْ، عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ رَدِّ تِلْكَ الْمُهُورِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّرَادِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] . فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دَفْعِ مُهُورِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ.

وَأَصْلُ الْفَوْتِ: الْمُفَارَقَةُ وَالْمُبَاعَدَةُ، وَالتَّفَاوُتُ: الْمُتَبَاعَدُ. وَالْفَوْتُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِضَيَاعِ الْحَقِّ كَقَوْلِ رُوَيْشِدِ بْنِ كَثِيرٍ الطَّائِيِّ أَوْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ أَيْ فَلَا ضَيَاعَ عَلَيَّ بِمَا أَذْنَبْتُمْ، أَيْ فَإِنَّا كَمَنْ لَمْ يَضِعْ لَهُ حَقٌّ. وَالْمَعْنَى: إِنْ فَرَّتْ بَعْضُ أَزْوَاجِكُمْ وَلَحِقَتْ بِالْكُفَّارِ وَحَصَلَ التَّعَاقُبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَعَقَّبْتُمْ عَلَى أَزْوَاجِ الْكُفَّارِ وَعَقَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ وَأَبَى الْكُفَّارُ مِنْ دَفَعِ مُهُورِ بعض النِّسَاء اللاء ذَهَبْنَ إِلَيْهِمْ، فَادْفَعُوا أَنْتُمْ لِمَنْ حَرَمُهُ الْكُفَّارُ مَهْرَ امْرَأَتَهُ، أَيْ مَا هُوَ حَقُّهُ، واحجزوا ذَلِك عَن الْكُفَّارِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مُهُورَ مَنْ فَاتَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ وَبَقِيَ لِلْمُشْرِكِينَ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْكُفَّارِ. هَذَا تَفْسِيرُ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ: الَّذِينَ فَاتَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ يُعْطَوْنَ مُهُورَ نِسَائِهِمْ مِنْ مَغَانِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةَ [7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ. وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى الْإِعْطَاءِ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ مُهُورِ نسَاء الْمُشْركين اللاء أَتَيْنَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَصِرْنَ أَزْوَاجًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْكَلَامُ إِيجَازُ حَذْفٍ شَدِيدٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَلْفَاظِ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ. وَلَفَظُ شَيْءٌ هَنَا مُرَادٌ بِهِ: بَعْضُ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَيَانٌ لِ شَيْءٌ، وَأُرِيدَ بِ شَيْءٌ تحقير الزَّوْجَات اللاء أَبَيْنَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ قَدْ فَاتَتْ ذَاتُهَا عَنْ زَوْجِهَا فَلَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا. وَضُمِّنَ فِعْلُ فاتَكُمْ مَعْنَى الْفِرَارِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ إِلَى أَيْ فَرَرْنَ إِلَى الْكُفَّارِ.

وَ «عَاقَبْتُمْ» صِيغَةُ تَفَاعُلٍ مِنَ الْعُقْبَةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهِيَ النَّوْبَةُ، أَيْ مَصِيرُ أَحَدٍ إِلَى حَالٍ كَانَ فِيهَا غَيْرُهُ. وَأَصْلُهَا فِي رُكُوبِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ أَنْ يَرْكَبَ أَحَدٌ عُقْبَةً وَآخَرُ عُقْبَةً شَبَّهَ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمِنْ أَدَاءِ أُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ بِمَرْكُوبٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ. فَفِعْلُ ذَهَبَتْ مَجَازٌ مِثْلُ فِعْلِ فاتَكُمْ فِي مَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِنَّ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَآتُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ هُمْ أَيْضًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى: فَلْيُعْطِ الْمُؤْمِنُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مَا يُمَاثِلُ مَا كَانُوا أَعْطَوْهُ مِنَ الْمُهُورِ لِزَوْجَاتِهِمْ. وَالَّذِي يَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ هُنَا هُوَ كَمَا قَرَّرَنَا فِي قَوْلِهِ: آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] أَيْ يُدْفَعُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَنَائِمِ وَالْأَخْمَاسِ وَنَحْوِهَا كَمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ: أعْطى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعِيَاضَ بْنَ أَبِي شَدَّادٍ الْفِهْرِيَّ، وَشَمَّاسَ بْنَ عُثْمَانَ، وَهِشَامَ بْنَ الْعَاصِ، مُهُورَ نِسَائِهِمُ اللَّاحِقَاتِ بِالْمُشِرِكِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَأَفَادَ لَفْظُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الْمُعْطَى مُسَاوِيًا لِمَا كَانَ أُعْطَاهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَا نَقْصَ فِيهِ. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى نِسْوَةٍ مِنْ نِسَاءٍ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يُسْلِمْنَ وَهُنَّ ثَمَانُ نِسَاءٍ: أَمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَيُقَالُ: قُرَيْبَةُ وَهِيَ أُخْتُ أَمِّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ، وَبَرَوْعُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْمُحَدِّثُونَ يَكْسِرُونَهَا) بِنْتُ عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ وَشَهْبَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ وَعَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَقِيلَ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ وَهِنْدُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَرْوَى بْنِتُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ وَبَقِيَتْ زَوْجُهُ مُشْرِكَةً بِمَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ طَلَّقَهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 12]

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ زَوْجَتَيْهِ قُرَيْبَةَ وَأُمَّ جَرْوَلٍ، فَلَمْ تَكُونَا مِمَّنْ لَحِقْنَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا بَقِيَتَا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ طَلَّقَهُمَا عُمَرُ. وَأَحْسَبُ أَنَّ جَمِيعَهُنَّ إِنَّمَا طَلَّقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ تَحْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَأَنْ لَا يَصُدَّهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِبَعْضِهِ مُعَامَلَةُ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْجَوْرِ وَقِلَّةِ النُّصْفَةِ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْمُسْلِمُونَ لِإِخْوَانِهِمْ مُهُور النِّسَاء اللاء فَارَقُوهُنَّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْرِكُونَ بِإِعْطَائِهِمْ مُهُورَهُنَّ وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ انْتَفَى مِنْهُمْ وَازِعُ الْإِنْصَافِ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي الصِّلَةِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ثبات إِيمَانهم. [12] [سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 12] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) هَذِهِ تَكْمِلَةٌ لِامْتِحَانِ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الْآيَة [الممتحنة: 10] . وَبَيَانٌ لِتَفْصِيلِ آثَارِهِ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وَبَيِّنُوا لَهُنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. وَآيَةُ الِامْتِحَانِ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَأْنِ مَنْ هَاجَرْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ وَهُنَّ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَأُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا صِحَّةَ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَنْشَؤُهَا التَّخْلِيطُ فِي الْحَوَادِثِ وَاشْتِبَاهُ الْمُكَرَّرِ بِالْأُنُفِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ

مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: قَدْ بَايَعْتُكِ . وَالْمُقْتَضَى لِهَذِهِ الْبَيْعَةِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّتْ أَحْكَامُ الدِّينِ فِي مُدَّةِ سِنِينَ لَمْ يَشْهَدْنَ فِيهَا مَا شَهِدَهُ الرِّجَالُ مِنِ اتِّسَاعِ التَّشْرِيعِ آنًا فَآنًا، وَلِهَذَا ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بِالنِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيْ قَدِمْنَ عَلَيْكَ مِنْ مَكَّةَ فَهِيَ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: 10] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا. وأجرى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ عَلَى نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَيْضًا. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً الْحَدِيثَ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْخطْبَة فَنزل نبيء اللَّهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا. ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَتَصَدَّقْنَ» . وَأَجْرَى هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ عَلَى الرِّجَالِ أَيْضًا. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كُنَّا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا، وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ (أَيِ النَّازِلَةَ بِخِطَابِ النِّسَاءِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ) فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمُبَايَعَةِ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا رِجَالًا وَنِسَاءً فَجَلَسَ ثَانِي يَوْمِ الْفَتْحِ عَلَى الصَّفَا يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ الرِّجَالِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ،

وَجَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِمَّنْ بَايَعَتْهُ مِنَ النِّسَاءِ يَوْمَئِذٍ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَبْشَةُ بِنْتُ رَافِعٍ. وَجُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِناتُ عَلَى مَعْنَى: يُرِدْنَ الْمُبَايَعَةَ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجَوَابُ إِذا فَبايِعْهُنَّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ جَوَابَ إِذا. وَمَعْنَى إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيِ الدَّاخِلَاتُ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْإِجْمَالِ، لَا يَعْلَمْنَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: يُبايِعْنَكَ فَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ، أَيْ فَلْيُبَايِعْنَكَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَبايِعْهُنَّ تَفْرِيعًا لِجُمْلَةِ يُبايِعْنَكَ وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ. وَقَدْ شَمَلَتِ الْآيَةُ التَّخَلِّيَ عَنْ خِصَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ فِيهِنَّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرِّجَالِ. قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَمَّا وَلَدَتْ زَوْجُهُ بِنْتًا: وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدُ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ. وَالْمُرَادُ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا الْوَأْدُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِبَنَاتِهِمْ، وَثَانِيهِمَا إِسْقَاطُ الْأَجِنَّةِ وَهُوَ الْإِجْهَاضُ. وَأُسْنِدَ الْقَتْلُ إِلَى النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَرْضَيْنَ بِهِ أَوْ يَسْكُتْنَ عَلَيْهِ. وَالْبُهْتَانُ: الْخَبَرُ الْمَكْذُوبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِكَاذِبِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ يَبْهَتُ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ. وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ، أَيْ لَا يَخْتَلِقْنَ أَخْبَارًا بِأَشْيَاءَ لَمْ تَقَعْ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يَتَعَلَّقُ بِ يَأْتِينَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ بِاخْتِلَافِ مَحَامِلِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَكِنَايَةٍ، فَالْبُهْتَانُ حَقِيقَتُهُ: الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَيُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَحَقِيقَةُ بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ: أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ حَاصِلًا فِي مَكَانٍ يَتَوَسَّطُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ كَانَ افْتِرَاؤُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ أَنَّهُ كَذَبَ مُوَاجَهَةً فِي وَجْهِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهَا: يَا فُلَانَةُ زَنَيْتِ

مَعَ فُلَانٍ، أَوْ سَرَقْتِ حَلْيَ فُلَانَةٍ. لِتَبْهَتَهَا فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ أَنْت بنت زنا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ بِمَعْنَى الْمَكْذُوبِ كَانَ مَعْنَى افْتِرَائِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ كِنَايَةً عَنِ ادِّعَاءِ الْحَمْلِ بِأَنْ تَشْرَبَ مَا يَنْفُخُ بَطْنَهَا فَتُوهِمَ زَوْجَهَا أَنَّهَا حَامِلٌ ثُمَّ تُظْهِرَ الطَّلْقَ وَتَأْتِيَ بِوَلَدٍ تَلْتَقِطُهُ وَتَنْسِبُهُ إِلَى زَوْجِهَا لِئَلَّا يُطَلِّقَهَا، أَوْ لِئَلَّا يَرِثَهُ عُصْبَتُهُ، فَهِيَ تُعَظِّمُ بَطْنَهَا وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ إِذَا وَصَلَ إِبَّانَ إِظْهَارِ الطَّلْقِ وَضَعَتِ الطِّفْلَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا وَتَحَدَّثَتْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَبْهُوتٌ عَلَيْهِ. فَالِافْتِرَاءُ هُوَ ادِّعَاؤُهَا ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْبُهْتَانِ. وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ مُسْتَعَارًا لِلْبَاطِلِ الشَّبِيهِ بِالْخَبَرِ الْبُهْتَانِ، كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ مُحْتَمِلًا لِلْكِنَايَةِ عَنْ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا يقبلهَا أَو يحبسها، فَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا أَوْ يَزْنِي بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ أَرْجُلِهَا. وَفَسَّرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِالسِّحْرِ إِذْ تُعَالِجُ أُمُورَهُ بِيَدَيْهَا، وَهِيَ جَالِسَةٌ تَضَعُ أَشْيَاءَ السِّحْرِ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمِثْلِهَا. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَحَامِلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرِّجَالِ إِذْ يُؤْخَذُ لِكُلِّ صِنْفٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا. وَبَعْدَ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ بِالذِّكْرِ لِخَطَرِ شَأْنِهَا عَمَّمَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا لَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْرُوفُ فِي الدِّينِ، فَالتَّقْيِيدُ بِهِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِنَّ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَمَا فَعَلَتْ بَرِيرَةُ إِذْ لَمْ تَقْبَلْ شَفَاعَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِرْجَاعِهَا زَوْجَهَا مُغِيثًا إِذْ بَانَتْ مِنْهُ بِسَبَبِ عِتْقِهَا وَهُوَ رَقِيقٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُنَّ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ عَنِ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا . وَإِنَّمَا هَذَا مِثَالٌ لِبَعْضِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُهُ فَاشٍ فِيهِنَّ. وَوَرَدَ فِي أَخْبَارٍ أَنَّهُ نَهَاهُنَّ عَنْ تَبَرُّجِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَنْ أَنْ يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ الَّذِينَ

لَيْسُوا بِمَحْرَمٍ فَقَالَ عبد الرحمان بْنُ عَوْف: يَا نبيء اللَّهِ إِنَّ لَنَا أَضْيَافًا وَإِنَّا نَغِيبُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَيْسَ أُولَئِكَ عَنَيْتُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَاهُنَّ عَنْ تَمْزِيقِ الثِّيَابِ وَخَدْشِ الْوُجُوهِ وَتَقْطِيعِ الشُّعُورِ وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، أَي من شؤون النِّيَاحَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَخَذَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ جَالِسَةً مَعَ النِّسَاءِ مُتَنَكِّرَةً خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا عَلَى شَقِّهَا بَطْنَ حَمْزَةَ وَإِخْرَاجِهَا كَبِدَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا قَالَ: عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، قَالَتْ هِنْدُ: وَكَيْفَ نَطْمَعُ أَنْ يَقْبَلَ مِنَّا شَيْئًا لَمْ يَقْبَلْهُ مِنَ الرِّجَالِ. فَلَمَّا قَالَ: وَلا يَسْرِقْنَ. قَالَتْ هِنْدُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ هَنَاتٍ فَمَا أَدْرِي أَتَحِلُّ لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ. فَضَحِكَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا فَدَعَاهَا فَأَتَتْهُ فَعَاذَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ: وَلا يَزْنِينَ. فَقَالَت: أَو تَزني الْحُرَّةُ. قَالَ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ. فَقَالَتْ هِنْدُ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ. تُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَتَلُوا ابْنَهَا حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. فَقَالَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ . فَقَوْلُهُ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كَانَ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ لَا نَنُوحَ. قَالَتْ: فَقَلَتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا آلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ أُسْعِدَهُمْ. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا آلَ فُلَانٍ ، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِأُمِّ عَطِيَّةَ وَبِمَنْ سَمَّتْهُمْ. وَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ. وَقَوْلُهُ: فَبايِعْهُنَّ جَوَابُ إِذا تَفْرِيعٌ عَلَى يُبايِعْنَكَ، أَيْ فَاقْبَلْ مِنْهُنَّ مَا بَايَعْنَكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ عِنْدَهُ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهَا صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ. وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، أَيْ فِيمَا فُرِّطَ مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا خُصَّ بِالنَّهِي فِي شُرُوطِ الْبَيْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لفعل اسْتَغْفِرْ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 13]

[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 13] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) بَعْدَ أَنِ اسْتَقْصَتِ السُّورَةُ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، جَاءَ فِي خَاتِمَتِهَا الْإِرْشَادُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ قَوْمٍ لَيْسُوا دُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي وُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، فَالْمُرَادُ بِهِمْ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ شُبِّهَ يَأْسُهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ صِفَةٌ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ إِلْحَاقُهَا بِالْيَهُودِ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [57] . ذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ بِجِوَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَ الْيَهُودِ وَيُواَصِلُونَهُمْ لِيُصِيبُوا بِذَلِكَ مِنْ ثِمَارِهِمْ، وَرُبَّمَا أَخْبَرُوا الْيَهُودَ بِأَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَقِلَّةِ حَذَرٍ فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنْ لَا يَتَوَلَّوْهُمْ. وَالْيَأْسُ: عَدَمُ تَوَقُّعِ الشَّيْءِ فَإِذَا عُلِّقَ بِذَاتٍ كَانَ دَالًّا عَلَى عَدَمِ تَوَقُّعِ وُجُودِهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ الدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ مَعْنَى يَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ فَكَأَنَّهُمْ فِي إِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا آيِسُونَ مِنْهَا، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [86] . وَتَشْبِيهُ إِعْرَاضِهِمْ هَذَا بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ وَجْهُهُ شِدَّةُ الْإِعْرَاضِ وَعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِي الْأَمْرِ، شُبِّهَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ لِنَفْعِ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ حَيَاةِ الْمَوْتَى وَالْبَعْثِ وَفِيهِ تَشْنِيعُ الْمُشَبَّهِ، ومِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ يَئِسُوا. والْكُفَّارُ: الْمُشْرِكُونَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ بَيَانًا لِلْكُفَّارِ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ هَلَكُوا وَرَأَوْا أَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي خَيْرِ الْآخِرَةِ فَشُبِّهَ إِعْرَاضُ الْيَهُودِ عَنِ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ تَحَقُّقُ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى كَيَأْسِ الْكُفَّارِ الْأَمْوَاتِ، أَيْ يَأْسًا مِنَ الْآخِرَةِ. وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْلُومٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِالِاعْتِقَادِ فَالْكَلَامُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ. وَفِي اسْتِعَارَةِ الْيَأْسِ لِلْإِعْرَاضِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَأْسُهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ أُطْلِقَ عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. فَالْمَعْنَى: قَدْ أَيْأَسْنَاهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [23] . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] فَالْقَوْمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ وُصِفُوا بِالْعَدُوِّ لِلَّهِ وَالْعَدُوُّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاس. وَجعل بأسهم مِنَ الْآخِرَةِ هُوَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ. وَجَعْلُ تَشْبِيهِ يَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَنَّ يَأْسَ الْكُفَّارِ الْأَحْيَاءِ كَيَأْسِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ كَيَأْسِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ هُمْ فِي الْقُبُورِ إِذْ كَانُوا فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ آيِسِينَ مِنَ الْآخِرَةِ فَتَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً صِفَةً لِلْكُفَّارِ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَئِسَ فَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْكُفَّارُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُشَبَّهَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ تُوُهِّمَ.

61- سورة الصف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 61- سُورَةُ الصَّفِّ اشْتُهِرَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاسْمِ «سُورَةِ الصَّفِّ» وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سَنَدَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: «لَوْ أَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ نَسْأَلُهُ عَنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ» إِلَى أَنْ قَالَ: «فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ حَتَّى جَمَعَهُمْ وَنَزَلَتْ فِيهِمْ «سُورَةُ سَبَّحَ لِلَّهِ الصَّفِّ» الْحَدِيثَ، رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَبِذَلِكَ عُنْوِنَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» ، وَكَذَلِكَ كُتِبَ اسْمُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ لفظ صَفًّا [الصَّفّ: 4] فِيهَا وَهُوَ صَفُّ الْقِتَالِ، فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْحَوَارِيِّينَ» وَلَمْ يُسْنِدْهُ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ تُسَمَّى «سُورَةَ عِيسَى» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نِسْبَتِهِ لِقَائِلٍ. وَأَصْلُهُ لِلطَّبْرَسِيِّ فَلَعَلَّهُ أُخِذَ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ فِي فَضْلِهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِلَفْظِ «سُورَةِ عِيسَى» . وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْسُومٌ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَالطَّبَرْسِيُّ يُكْثِرُ مِنْ تَخْرِيجِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ. فَتَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ الْحَوَارِيِّينَ» لِذِكْرِ الْحَوَارِيِّينَ فِيهَا. وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُ الْحَوَارِيِّينَ. وَإِذَا ثَبَتَ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ عِيسَى» فَلِمَا فِيهَا مِنْ ذكر عِيسَى [الصَّفّ: 6 و14] مَرَّتَيْنِ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَدَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَالْفَخْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَصَحُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْمَكِّيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَهَلْ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً مُتَلَاحِقَةً. وَفِي «جَامِعْ التِّرْمِذِيِّ» «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَعَدْنَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرْنَا فَقُلْنَا: لَوُ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 1، 2] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارِمِيُّ بِزِيَادَةِ فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى خَتَمَهَا أَوْ فَقَرَأَهَا كُلَّهَا . فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ قَبْلَ أَنْ يُخْلِفُوا مَا وَعَدُوا بِهِ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّحْذِيرِ مِنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرُوهُ وَوَعَدُوا بِهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ يَقُولُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ دَلَّنَا عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ فَنَعْمَلَ بِهِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ: إِيمَانٌ بِهِ وَجِهَادُ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ. فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ كَرِهَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَمِثْلُهُ عَنْ أبي صَالح يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ بِآيَاتِ غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَبَعْدَ أَنْ وَعَدُوا بِالِانْتِدَابِ لِلْجِهَادِ ثُمَّ تَقَاعَدُوا عَنْهُ وَكَرِهُوهُ. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَوْضَحُ وَأَوْفَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ وَاللَّوْمِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 3] . وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَا بِهِ فَدَلَّهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: 4] ، فَابْتُلُوا يَوْمَ

أغراضها

أُحُدٍ بِذَلِكَ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَنَسَبَ الْوَاحِدِيُّ مِثْلَ هَذَا لِلْمُفَسْرِينَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ نَزَلَ بَعْدَ آخِرِهَا. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَسَارَعْنَا إِلَيْهَا فَنَزَلَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الصَّفّ: 10] الْآيَةَ. فَابْتُلُوا يَوْمَ أُحُدٍ فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ تُعَيِّرُهُمْ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالْمِائَةُ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّغَابُنِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْفَتْحِ. وَكَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ. وَعَدَدُ آيِهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعدَد. أغراضها أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا التَّحْذِيرُ مِنْ إِخْلَافِ الْوَعْدِ وَالِالْتِزَامُ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ. وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ فِيهِ، وَصِدْقُ الْإِيمَانِ. وَالثَّبَاتُ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ. وَالِائْتِسَاءُ بِالصَّادِقِينَ مِثْلِ الْحَوَارِيِّينَ. وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَذَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا بِالْيَهُودِ مِثْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِذَلِكَ بِفِعْلِ الْيَهُودِ مَعَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُنَافِقِينَ. وَالْوَعْدُ عَلَى إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِحُسْنِ مَثُوبَةِ الْآخِرَةِ والنصر وَالْفَتْح. [1] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

[سورة الصف (61) : الآيات 2 إلى 3]

(1) مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ السُّورَةِ بَيَانُ أَنَّ الْكَافِرِينَ مَحْقُوقُونَ بِأَنْ تُقَاتِلُوهُمْ لِأَنَّهُمْ شَذُّوا عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَمْ يُسَبِّحُوا اللَّهَ وَلَمْ يَصِفُوهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ إِذْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ أَخْلَفُوا مَا وَعَدُوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤَدُّوا حَقَّ تَسْبِيحِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَحِقٌّ لِأَنْ يُوَفَّى بِعَهْدِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: سَبَّحَ لِلَّهِ إِلَى الْحَكِيمُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ. وَفِي إِجْرَاءِ وَصْفِ الْعَزِيزُ عَلَيْهِ تَعَالَى هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْغَالِبُ لِعَدُوِّهِ فَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَرْهَبُوا أَعْدَاءَهُ فَتَفِرُّوا مِنْهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ. وَإِجْرَاءُ صِفَةِ الْحَكِيمُ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَى الْمُتَّصِفِ بِالْحِكْمَةِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْحِكْمَةِ لَا يَأْمُرُكُمْ بِجِهَادِ الْعَدُوِّ عَبَثًا وَلَا يُخَلِّيهِمْ يَغْلِبُونَكُمْ. وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكِمِ للأمور فَكَذَلِك. [2، 3] [سُورَة الصَّفّ (61) : الْآيَات 2 إِلَى 3] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَزَعَ الْمُؤْمِنُ عَنْ أَنْ يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فِي الْوَعْدِ بِالْخَيْرِ. وَاللَّامُ لِتَعْلِيلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُبْهَمُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُبْهَمٍ يُطْلَبُ تَعْيِينُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ لِأَيِّ سَبَبٍ أَوْ لِأَيَّةِ عِلَّةٍ. وَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلِ تَقُولُونَ الْمَجْرُورِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِصَدَارَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْعِلَّةِ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ ذَلِكَ مُرْضِيًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَمْرٌ مُنْكَرٌ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّوْمِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوهُ وَعْدًا وَعَدُوهُ وَلَمْ يَفُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُطَابِقِ الْوَاقِعَ. وَقَدْ مَضَى اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صَدْرِ السُّورَةِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ مَا فَعَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِطَرِيقِ الرَّمْزِ، وَكِنَايَةٌ عَنِ اللَّوْمِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِطَرِيقِ التَّلْوِيحِ. وَتَعْقِيبُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: 4] إِلَخْ. يُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى وَعْدٍ يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ مَعْنَى الْآيَةِ مَعَ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَتَنْدَحِضُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى رُوِيَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَلَا بِالْجَسَدِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ مِنْكُمْ وَمَعَكُمْ ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ تَصْرِيحًا بِالْمَعْنَى الْمُكَنَّى عَنْهُ بِهَا. وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ كَوْنِ قَوْلِهِمْ: مَا لَا تَفْعَلُونَ أَمْرًا كَبِيرًا فِي جِنْسِ الْمَقْتِ. وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَةِ لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِيهِ كَثْرَةٌ وَشِدَّةٌ فِي نَوْعِهِ. وأَنْ تَقُولُوا فَاعِلُ كَبُرَ. وَالْمَقْتُ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَانْتَصَبَ مَقْتاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِجِهَةِ الْكِبَرِ. وَهُوَ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ. وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَمْقُوتًا قَوْلُكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَهُ. وَنُظِمَ هَذَا الْكَلَامُ بِطَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ بِالتَّمْيِيزِ لِتَهْوِيلِ هَذَا الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ لِكَوْنِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ بِمِظَنَّةِ التَّهَاوُنِ فِي الْحَيْطَةِ مِنْهُ حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا يَوْمَ أُحُدٍ. فَفِيهِ وَعِيدٌ عَلَى تَجَدُّدِ مِثْلِهِ، وَزِيدَ الْمَقْصُودُ اهْتِمَامًا بِأَنْ وُصِفَ الْمَقْتُ بِأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ مَقْتٌ لَا تَسَامُحَ فِيهِ.

[سورة الصف (61) : آية 4]

وَعَدَلَ عَنْ جَعْلِ فَاعِلِ كَبُرَ ضَمِيرَ الْقَوْلِ بِأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَوْ يُقَالُ: كَبُرَ ذَلِكَ مَقْتًا، لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّهْوِيلِ بِإِعَادِةِ لَفْظِهِ، وَلِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا لَا تَفْعَلُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ، أَيِ الْفِعْلُ الَّذِي وَعَدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوهُ وَهُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَوِ الْجِهَادُ. فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْوَعْدَ فِي مِثْلِ هَذَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِأَنَّ الْمَوْعُودَ بِهَ طَاعَةٌ فَالْوَعْدُ بِهِ مِنْ قَبِيلِ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ الْقِرْبَةُ فَيَجِبُ الْوَفَاء بِهِ. [4] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 4] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) هَذَا جَوَابٌ عَلَى تَمَنِّيهِمْ مَعْرِفَةَ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ الْمُتَقَدِّمِ وَمَا قَبْلُهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ عَلَى أُسْلُوبِ الْخُطَبِ وَمُقَدِّمَاتِهَا. وَالصَّفُّ: عَدَدٌ مِنْ أَشْيَاءَ مُتَجَانِبَةٍ مُنْتَظِمَةِ الْأَمَاكِنَ، فَيُطْلَقُ عَلَى صَفِّ الْمُصَلِّينَ، وَصَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَصَفِّ الْجَيْشِ فِي مَيْدَانِ الْقِتَالِ بِالْجَيْشِ إِذَا حَضَرَ الْقِتَالُ كَانَ صَفًّا مِنْ رَجَّالَةٍ أَوْ فُرْسَانٍ ثُمَّ يَقَعُ تَقَدُّمُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فُرَادَى أَوْ زَرَافَاتٍ. فَالصَّفُّ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنْ الِانْتِظَامِ وَالْمُقَاتَلَةِ عَنْ تَدَبُّرِ. وَأَمَّا حَرَكَاتُ الْقِتَالِ فَتَعْرِضُ بِحَسَبِ مَصَالِحِ الْحَرْبِ فِي اجْتِمَاعٍ وَتَفَرُّقٍ وَكَرٍّ وَفَرٍّ. وَانْتَصَبَ صَفًّا عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ: صَافِّينَ، أَوْ مَصْفُوفِينَ. وَالْمَرْصُوصُ: الْمُتَلَاصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَالتَّشْبِيهُ فِي الثَّبَاتِ وَعَدَمِ الِانْفِلَاتِ وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ التَّوْبِيخُ السَّابِقُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 2] . [5] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 5] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ

(5) مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا خَفِيُّ الْمُنَاسِبَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا انْتُقِلَ بِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَى التَّعْرِيضِ بِقَوِمٍ آذوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعِصْيَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَدْ وُسِمُوا بأذى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَاب: 57] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التَّوْبَة: 61] وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التَّوْبَة: 61] . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ اقْتِضَابٌ نُقِلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنَ الْغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ لِتَمَامِهِ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ، أَوْ تَكُونُ مُنَاسِبَةُ وَقْعِهِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ حُدُوثَ سَبَبٍ اقْتَضَى نُزُولَهُ مِنْ أَذًى قَدْ حَدَثَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَرُوَاةُ الْأَخْبَارِ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ. وَالْوَاوُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَطْفِ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُسْلِمِينَ لِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ إِتْيَانِ مَا يُؤْذِي رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسوؤوه مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ جَادَّةِ الْكَمَالِ الدِّينِيِّ مِثْلِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِمْ فِي الْإِتْيَانِ بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَشْفَقَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلزَّيْغِ وَالضَّلَالِ كَمَا حَدَثَ لِقَوْمِ مُوسَى لَمَّا آذَوْهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ بِأَذَى قَوْمِ مُوسَى إِيَّاهُ: عَدَمُ تَوَخِّي طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [الْمَائِدَة: 21] ، إِلَى قَوْلِهِ: قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَة: 24] . فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: 25] . وَقَدْ يَكُونُ وَصْفُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ نَاظِرًا إِلَى وَصْفِهِمْ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ فِي قَوْلِهِ: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: 25] وَقَوْلِهِ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: 26] .

فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنَ الْقِصَّةِ هُوَ مَا تَفَرَّعَ عَلَى ذِكْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وَيُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِبْرَةً بِمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا خَالَفُوا أَمْرَهُ مِنْ عَدَمِ ثَبَاتِ الرُّمَاةِ فِي مَكَانِهِمْ. وَقَدْ تَشَابَهَتِ الْقِصَّتَانِ فِي أَنَّ الْقَوْمَ فَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا فَرَّ قَوْمُ مُوسَى يَوْمَ أَرِيحَا، وَفِي أَنَّ الرُّمَاةَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ «وَلَوْ تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ» وَأَنْ يَنْضَحُوا عَنِ الْجَيْشِ بِالنِّبَالِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعَدُوُّ مِنْ خَلْفِهِ لَمْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَعَصَوْا أَمْرَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ وَفَارَقُوا مَوْقِفَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْوَاوُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَطْفُ تَحْذِيرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَلَى النَّهْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 2] الْآيَةَ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا حَصَلَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ حَتَّى تَسَبَّبُوا فِي هَزِيمَةِ النَّاسِ. وإِذْ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ أَيْضا وَقت قَوْله مُوسَى لِقَوْمِهِ أَوِ اذْكُرْ لَهُمْ مَعَ هَذَا النَّهْيِ وَقْتَ مُوسَى لِقَوْمِهِ. وَابْتِدَاءُ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِ يَا قَوْمِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ شَأْنَ قَوْمِ الرَّسُولِ أَنْ يُطِيعُوهُ بَلْهَ أَنْ لَا يُؤْذُوهُ. فَفِي النِّدَاءِ بِوَصْفِ قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِلْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُؤْذُونَنِي. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِذَايَةِ سَبَبٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَقَدْ جَاءَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ مُصَادِفَةَ الْمَحَلِّ مِنَ التَّرَقِّي فِي الْإِنْكَار. وقَدْ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْحَالِيَّةِ، أَيْ وَعِلْمُكُمْ بِرِسَالَتِي عَنِ اللَّهِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لِمَا

[سورة الصف (61) : آية 6]

شَاهَدُوهُ مِنْ دَلَائِلِ رِسَالَتِهِ، وَكَمَا أُكِّدَ عِلْمُهُمْ بِ قَدْ أُكِّدَ حُصُولُ الْمَعْلُومِ بِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدَانِ لِلرِّسَالِةِ. وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ لَا يَجْرِي أَمْرُكُمْ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْعِلْمِ. وَالْإِتْيَانُ بَعْدَ قَدْ بِالْمُضَارِعِ هُنَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ مُجَدَّدٌ بِتَجَدُّدِ الْآيَاتِ وَالْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَجْدَى بِدَوَامِ امْتِثَالِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْعِلْمِ فِيمَا مَضَى. وَلَعَلَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، وَهَذَا كَالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [18] . وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ لَمَّا خَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ رَسُولُهُمْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغًا، أَيْ تَمَكَّنَ الزَّيْغُ مِنْ نُفُوسِهِمْ فَلَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الضَّلَالِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَذْيِيلٌ، أَيْ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي النَّاسِ فَكَانَ قَوْمُ مُوسَى الَّذِينَ آذَوْهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعُمُومِ. وَذُكِرَ وَصْفُ الْفاسِقِينَ جَارِيًا عَلَى لَفْظِ الْقَوْمَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى الْفُسُوقِ الَّذِي دَخَلَ فِي مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ. كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي الْبَقَرَةِ [164] . فَالْمَعْنَى: الَّذِينَ كَانَ الْفُسُوقُ عَنِ الْحَقِّ سَجِيَّةً لَهُمْ لَا يَلْطُفُ اللَّهُ بِهِمْ وَلَا يَعْتَنِي بِهِمْ عِنَايَةً خَاصَّةً تَسُوقُهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَإِنَّمَا هُوَ طَوْعُ الْأَسْبَاب والمناسبات. [6] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 6] وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ [الصَّفّ: 5] فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ مُسَاوٍ لَهُ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ هَذِهِ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّتْمِيمِ لِقِصَّةِ مُوسَى بِذِكْرِ مِثَالٍ آخَرٍ لِقَوْمٍ حَادُوا عَنْ طَاعَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِفَادَةِ

تَحْذِيرٍ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ أَخْبَارِ عِيسَى بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ. وَنَادَى عِيسَى قَوْمَهُ بِعُنْوَانِ بَنِي إِسْرائِيلَ دُونَ يَا قَوْمِ [الصَّفّ: 5] لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى اشْتُهِرُوا بِعُنْوَانِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانُ: قَوْمُ مُوسَى، إِلَّا فِي مُدَّةِ حَيَاةِ مُوسَى خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا أُمَّةً وَقَوْمًا بِسَبَبِهِ وَشَرِيعَتِهِ. فَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّمَا كَانَ مُرْسَلًا بِتَأْيِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَالتَّذْكِيرِ بِهَا وَتَغْيِيرِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا، وَلِأَنَّ عِيسَى حِينَ خَاطَبَهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ اتَّبَعُوهُ وَلَا صَدَّقُوهُ فَلَمْ يَكُونُوا قَوْمًا لَهُ خَالِصِينَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] وَفِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْعُقُودِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ حِينَ ابْتَدَأَهُمْ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيبُ إِجَابَتِهِمْ وَاسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ لِشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَحْكَامَهَا لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ، وَأَنَّهَا دَائِمَةٌ. وَلِذَلِكَ لَمَّا ابْتَدَأَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا مَا حَكَى عَنْهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَيُحْمَلُ مَا هُنَالِكَ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ وَاقِعٌ بَعْدَ أَوَّلِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوحِ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَحِينَئِذٍ أَخْبَرَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ التَّشْرِيعِ أَنْ يُلْقَى إِلَى الْأُمَّةِ تَدْرِيجًا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّمَا أُنْزِلَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مِنْهُ (أَيِ الْقُرْآنِ) سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ أَنْزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا: لَقَالُوا: لَا نَدع الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَر: 46] ، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ» اه. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ، أَيْ أَعْمَالِ مَجْمُوعِهَا وَجَمْهَرَةِ أَحْكَامِهَا وَلَا

يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ بَعْضُ أَحْكَامِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ. وَالتَّبْشِيرُ: الْإِخْبَارُ بِحَادِثٍ يَسُرُّ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَمْرٍ عَظِيمِ النَّفْعِ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ السُّرُورُ الْحَقُّ فَإِنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ إِلَى النَّاسِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ. وَوَجْهُ إِيثَارِ هَذَا اللَّفْظِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ وَصْفِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ بِأَنَّهَا بِشَارَةُ الْمَلَكُوتِ (¬1) . وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِمَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَالُوا يَنْتَظِرُونَ مَجِيءَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ بَرَاثِنِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الِانْتِظَارُ دَيْدَنُهُمْ، وَهُمْ مَوْعُودُونَ لِهَذَا الْمُخَلِّصِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مُوسَى. فَكَانَ وَعْدُ عِيسَى بِهِ كَوَعْدِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفَاتَحَهُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ اعْتِنَاءً بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ. وَفِي الِابْتِدَاءِ بِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِيسَى هُوَ الْمُخَلِّصُ الْمُنْتَظَرُ وَأَنَّ الْمُنْتَظَرَ رَسُولٌ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِعَظْمِ شَأْنِ هَذَا الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ لِلْأُمَمِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا عَلَامَاتٌ وَدَلَائِلُ لِيَتَبَيَّنُوا بِهَا شَخْصَهُ فَيَكُونُ انْطِبَاقُهَا فَاتِحَةً لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَتِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا الرَّاسِخُونَ فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ الدَّهْمَاءُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِهِمْ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146] . وَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: 43] . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ بَعْضَ صِفَاتِ هَذَا الرَّسُولِ لِمُوسِى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِجَابَتِهِ دُعَاءَ مُوسَى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: 157] . ¬

(¬1) فِي «الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين» من «إنجيل متّى» فقرة 11 ويكرز بِبِشَارَة الملكوت هَذِه فِي كل المسكونة.

فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِعْدَادَ الْبَشَرِ لِقُبُولِ رِسَالَةِ هَذَا الرَّسُولِ الْعَظِيمِ الْمَوْعُود بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْدَعَهُمْ أَشْرَاطَهُ وَعَلَامَاتِهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 81، 82] أَيْ أَأَخَذْتُمْ إِصْرِي مِنْ أُمَمِكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِلرُّسِلِ. وَقَوله: فَاشْهَدُوا [آل عمرَان: 81] ، أَيْ عَلَى أُمَمِكُمْ وَسَيَجِيءُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ مَا يَشْرَحُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِ مَا لَقَّنَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: 129] الْآيَةَ. وَأَوْصَى بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصِيَّةً جَامِعَةً لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَأَجْمَلَهَا إِجْمَالًا عَلَى طَرِيقِ الرَّمْزِ. وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالرِّسَالَةِ فِي غَيْرِ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ، قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: فِي تِلْكَ حِكْمَةُ الْإِشْرَاقِ «وَكَلِمَاتُ الْأَوَّلِينَ مَرْمُوزَةٌ» فَقَالَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيِّ فِي «شَرْحِهِ» : «كَانُوا يَرْمُزُونَ فِي كَلَامِهِمْ إِمَّا تَشْحِيذًا لِلْخَاطِرِ بِاسْتِكَدَادِ الْفِكر أَو تشبها بِالْبَارِي تَعَالَى وَأَصْحَابِ النَّوَامِيسِ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَرْمُوزَةِ لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ الْجُمْهُورِ فَيَنْتَفِعَ الْخَوَاصُّ بِبَاطِنِهَا وَالْعَوَامُّ بِظَاهِرِهَا. اه» ، أَيْ لِيَتَوَسَّمُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَتَحَصَّلَ لَهُمْ مِنْ مَجْمُوعِ تَفْصِيلِهَا شَمَائِلُ الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَلَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ كَذِبًا. أَوْ يَدَّعِيهِ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَذِبًا أَوِ اشْتِبَاهًا. وَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: اسْمُهُ أَحْمَدُ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ اسْمٍ مِنْ أَنَّهُ الْعَلَمُ الْمَجْهُولُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِتُمَيِّزَهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الِاسْمِ لِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمْ يَدْعُهُ النَّاسُ أَحْمَدُ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَدْعُو النبيء مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ أَحْمَدَ لَا قبل نبوته وَلَا بَعْدَهَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَن

النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ» (¬1) فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الِاسْمَ الْعَلَمَ وَالصِّفَةَ الْخَاصَّةَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. وَقَدْ رُوِيَتْ لَهُ أَسْمَاءٌ غَيْرُهَا اسْتَقْصَاهَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَة» و «القبس» . فَالَّذِي نُوقِنُ بِهِ أَنَّ مَحْمَلَ قَوْلِهِ: اسْمُهُ أَحْمَدُ يَجْرِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَحْمِلُهُ جُزْءَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمَعَانِي. فَأَمَّا لَفْظُ «اسْمٍ» فَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ اسْتِعْمَالَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الِاسْم هُوَ المسمّى. وَنَسَبَ ثَعْلَبٌ إِلَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى (أَيْ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ اسْمٍ فِي الْكَلَامِ فَالْمَعْنَى بِهِ مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ) لَكِنْ جَزَمَ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيَوْسِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ فِي مَعَانِيَ الِاسْمِ هَلْ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، فَحَمَلَهُ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيَوْسِيُّ عَلَى أَنَّهُمَا إِطْلَاقَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافٍ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ لِي فِيهِ قَوْلٌ. وَلِمَا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ الِاحْتِمَالِ بَطُلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. الِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بِمَعْنَى شُهْرَةٍ فِي الْخَيْرِ وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: لِأَعْظَمِهَا قَدْرًا وَأَكْرَمِهَا أَبًا ... وَأَحْسَنِهَا وَجْهًا وَأَعْلَنِهَا سُمَى سَمًى لُغَةٌ فِي اسْمٍ. الِاسْتِعْمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى لَفْظِ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ لِتُمَيَّزَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا هُوَ الْعَلَمُ. وَنَحْنُ نَجْرِي عَلَى أَصْلِنَا فِي حَمْلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا ¬

(¬1) وَقع هَذَا الحَدِيث مُرْسلا فِي أَكثر الرِّوَايَات عَن مَالك وَوَقع فِي رِوَايَة معن بن عِيسَى، وَأبي مُصعب الزُّهْرِيّ، وَعبد الله بن نَافِع عَن مَالك أنّ مُحَمَّد بن جُبَير رَوَاهُ عَن أَبِيه فَهُوَ مُسْند.

الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَنَحْمِلُ الِاسْمَ فِي قَوْلِهِ: اسْمُهُ أَحْمَدُ على مَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ مُسَمَّاهُ أَحْمَدُ، وَذِكْرُهُ أَحْمَدَ، وَعَلَمُهُ أَحْمَدُ، وَلْنَحْمِلْ لَفْظَ أَحْمَدَ عَلَى مَا لَا يَأْبَاهُ وَاحِدٌ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ اسْمِ الثَّلَاثَةِ إِذَا قُرِنَ بِهِ وَهُوَ أَنَّ أَحْمَدَ اسْمُ تَفْضِيلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ مَعْنِيًّا بِهِ الْقُوَّةُ فِيمَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، أَيِ الْحَمْدِ وَهُوَ الثَّنَاءُ، فَيَكُونُ أَحْمَدُ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي قُوَّةِ مَفْعُولِيَّةِ الْحَمْدِ، أَيْ حَمْدِ النَّاسِ إِيَّاهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ. «الْعُودُ أَحْمَدُ» ، أَيْ مَحْمُودٌ كَثِيرًا. فَالْوَصْفُ بِ أَحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي اسْمٍ أَنَّ مُسَمَّى هَذَا الرَّسُولَ وَنَفْسُهُ مَوْصُوفَةٌ بِأَقْوَى مَا يَحْمَدُ عَلَيْهِ مَحْمُودٌ فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَالْخِلْقِيَّةِ وَالنَّسَبِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الكمالات الذاتية والعرضية. وَيَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحْمَدُ تَفْضِيلًا حَقِيقِيًّا فِي كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ مُسَمَّاهُ أَحْمَدُ مِنِّي، أَيْ أَفْضَلُ، أَيْ فِي رِسَالَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ. وَعِبَارَاتُ الْإِنْجِيلِ تُشْعِرُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ، فَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ (أَيْ مِنْ رَبِّنَا) فَيُعْطِيَكُمْ (فَارْقَلِيطَ) آخَرَ لِيَثْبُتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالِمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْفَارْقَلِيطُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَب (الله) باسمي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» ، أَيْ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَلِّمُكُمْ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَهَذَا يُفِيدُ تَفْضِيلُهُ عَلَى عِيسَى بفضيلة دوَام شَرِيعَة الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِ الْإِنْجِيلِ «لِيَثْبُتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ» وَبِفَضِيلَةِ عُمُومِ شَرْعِهِ لِلْأَحْكَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «يُعَلِّمَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ» . وَالْوَصْفُ بِ أَحْمَدُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الِاسْمِ. أَنَّ سُمْعَتَهُ وَذِكْرَهُ فِي جِيلِهِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَشَدُّ ذِكْرٍ مَحْمُودٍ وَسُمْعَةٍ مَحْمُودَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. وَوَصْفُ أَحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ فِي الِاسْمِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُ اسْمُهُ الْعَلَمُ يَكُونُ بِمَعْنَى: أَحْمَدَ، فَإِنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ اسْمٌ مَفْعُولٍ مِنْ حَمَّدَ الْمُضَاعَفِ الدَّالِ عَلَى

كَثْرَةِ حَمْدِ الْحَامِدِينَ إِيَّاهُ كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ مُمَدَّحٌ، إِذَا تَكَرَّرَ مَدْحُهُ مِنْ مَادِحِينَ كَثِيرِينَ. فَاسْمُ «مُحَمَّدٍ» يُفِيدُ مَعْنَى: الْمَحْمُودِ حَمْدًا كَثِيرًا وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِأَحْمَدَ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ بِهَا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تَكُونَ شِعَارًا لِجِمَاعِ صِفَاتِ الرَّسُولِ الْمَوْعُود بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صِيغَتْ بِأَقْصَى صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَالًا بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ اللُّغَةُ بِجَمْعِهِ مِنْ مَعَانِيَ. وَوُكِلَ تَفْصِيلُهَا إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ شَمَائِلِهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ وَبَعْدِهَا لِيَتَوَسَّمَهَا الْمُتَوَسِّمُونَ وَيَتَدَبَّرَ مَطَاوِيهَا الرَّاسِخُونَ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ. جَاءَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ قَوْلُ عِيسَى «وَيَقُومِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرًا وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يُخَلَّصُ وَيَكْرِزُ (¬1) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَكُونُ الْمُنْتَهَى» ، وَمَعْنَى يكرز يَدْعُو وينبىء، وَمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى الْمُنْتَهَى يَتَأَخَّرُ إِلَى قُرْبِ السَّاعَةِ. وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ عَشَرَ «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فيعطيكم فارقليط آخَرَ يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ» . وَ (فَارْقَلِيطُ) كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، أَيْ بُوَانِيَّةٌ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمُدَافِعِ أَوِ الْمُسَلِّي، أَيِ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يَدْفَعُ الْأَحْزَانَ وَالْمَصَائِبَ، أَيْ يَأْتِي رَحْمَةً، أَيْ رَسُولٌ مُبَشِّرٌ، وَكَلِمَةُ آخَرَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِثْلُ عِيسَى. وَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَالْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَبِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدُكُمْ (أَيْ مُدَّةَ وُجُودِي بَيْنَكُمْ) ، وَأَمَّا (الْفَارْقَلِيطُ) الرُّوحُ الْقُدْسِيُّ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا ¬

(¬1) كَذَا وَقعت كلمة يكرز فِي تَرْجَمَة الْإِنْجِيل وَلم أتحقق مَأْخَذ المترجم لهاته الْكَلِمَة. ولعلها مَأْخُوذَة من اسْم الكرّاز (بتَشْديد الرَّاء) اسْم الْكَبْش الَّذِي يضع عَلَيْهِ الرَّاعِي كرزه فيحمله، أَو من الكرز بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء ضرب من الجوالق كَبِير يحمل فِيهِ الرَّاعِي زَاده ومتاعه. وَمن الْمَعْلُوم تَشْبِيه الرُّسُل برعاة الْغنم. وَمن كَلَام عِيسَى عَلَيْهِ السّلام: «إِنَّمَا بعثت لخرفان بني إِسْرَائِيل» وَأما فعل كرز فَلَعَلَّهُ من بَاب قعد.

قُلْتُهُ» (وَمَعْنَى «بِاسْمِي» أَيْ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ) لَا أَتَكَلَّمُ مَعَكُمْ كَثِيرًا لِأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالِمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٍ وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالِمُ أَنِّي أُحِبُّ الْأَبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الْأَبُ أَفْعَلُ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ «وَمَتَى جَاءَ الْفَارْقَلِيطُ (¬1) الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» . وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِثْبَاتٌ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ الْمُبَشَّرَ بِهِ تَعُمُّ رِسَالَتُهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ الْخَاتَمُ، وَأَنَّ لِشَرِيعَتِهِ مُلْكًا لِقَوْلِ إِنْجِيلِ مَتَّى «هُوَ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ» وَالْمَلَكُوتُ هُوَ الْمَلِكُ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْعَارِضَةِ لِلنَّاسِ، أَيْ شَرِيعَتُهُ تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَمِيعُهَا مِمَّا تَشْمَلُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ كَلِمَةُ اسْمُهُ أَحْمَدُ فَكَانَتْ مِنَ الرُّمُوزِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِكَوْنِهَا مُرَادَةً لِذَلِكَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا وَإِعْلَانًا. وَذِكْرُ الْقُرْآنِ تَبْشِيرَ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاة والسّلام إدماج فِي خِلَالِ الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ تَنْظِيرُ مَا أُوذِيَ بِهِ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ وَمَا أُوذِيَ بِهِ عِيسَى مِنْ قَوْمِهِ إِدْمَاجًا يُؤَيِّدُ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُثَبِّتُ فُؤَادَهُ وَيَزِيدُهُ تَسْلِيَةً. وَفِيهَا تَخَلُّصٌ إِلَى أَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ نَظِيرُ مَا لَقِيَهُ عِيسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ هُوَ مَنَاطُ الْأَذَى. فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: جاءَهُمْ إِلَى عِيسَى، وَأَنْ يَعُودَ ¬

(¬1) لفظ (فارقليط) وَقع فِي تراجم الأناجيل، وخاصة إنجيل يوحنا كَمَا فِي طبعة الْكتاب المقدّس بعناية (واطس) فِي لندن سنة 1848. وَكَذَلِكَ أثبتها مرَارًا البقاعي فِي «نظم الدُّرَر» وَغَيره. وَهُوَ لفظ يوناني أَصله (باركليتوس) أَوله بَاء فارسية مخرجها بَين الْبَاء وَالْفَاء. وتاؤه الْمُثَنَّاة مفخمة وَلذَلِك قَالُوا هِيَ روحية. وَوَقع فِي «شرح الشِّيرَازِيّ» على «حِكْمَة الْإِشْرَاق» للسهروردي أَنَّهَا عبرية. وهم وهم. وَمَعْنَاهَا المدافع وَكَذَلِكَ المسلّي والمعزّي، أَي من الرُّسُل. وَبِهَذَا الْأَخير ترجمت فِي طبعة الرهبان الأمريكان فِي بيروت سنة 1896 طبعة ثامنة. وَقد قيل إِن كلمة (فارقليط) تطلق على جِبْرِيل وَلَعَلَّ هَذَا من تأويلات النَّصَارَى للتفصّي عَن مَجِيء رَسُول بعد عِيسَى.

[سورة الصف (61) : آية 7]

ضَمِيرُ النَّصْبِ إِلَى الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ عِيسَى. وَالتَّقْدِيرُ: فَكَذَّبُوهُ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ أَوْ هُوَ سَاحِرٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدًا إِلَى رَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي. وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدًا إِلَى لَفْظِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ مَا يُسَمَّى بِدِرْهَمٍ، أَيْ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَاهُ عِيسَى بِاسْمِ أَحْمَدَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ دَلَائِلِ انْطِبَاقِ الصِّفَاتِ الْمَوْعُودِ بِهَا قَالُوا هَذَا سِحْرٌ أَوْ هَذَا سَاحِرٌ مُبِينٌ فَيَكُونُ هَذَا التَّرْكِيبُ مُبَيَّنٌ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ. وَحَصَلَ أَذَاهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ لِكِلَا الرَّسُولَيْنِ. فَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ وَمُمَهِّدَةٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى مَذَمَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَقْبَلْ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدِي. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِسِكُونِهَا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَاخْتَارَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ الْفَتْحَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَذَا سِحْرٌ بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ هَذَا سَاحِرٌ فَعَلَى الأولى الْإِشَارَة للبنات، وَعَلَى الثَّانِيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى عِيسَى أَوْ إِلَى الرَّسُول. [7] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 7] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) كَانَتْ دَعْوَة النبيء ص مُمَاثِلَةً دَعْوَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ جَوَابُ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالْمُشْرِكِينَ مُمَاثِلًا لِجَوَابِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا أَدْمَجَ فِي حِكَايَةِ دَعْوَةِ عِيسَى بِشَارَتَهُ بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ نَاسَبَ أَنْ يَنْقُلَ الْكَلَامَ إِلَى مَا قَابَلَ بِهِ قَوْمُ الرَّسُولِ الْمَوْعُود دَعْوَة رَسُولَهُمْ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي دَعْوَةِ هَذَا الرَّسُولِ دِينُ الْإِسْلَامِ فَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ النَّاسِ تَشْنِيعًا لِحَالِهِمْ.

فَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ هُمُ الَّذِينَ كذبُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ عُطِفَ هَذَا الْكَلَامُ بِالْوَاوِ وَدُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَى دَعْوَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ شَمَلَ هَذَا التَّشْنِيعُ جَمِيعَ الَّذِينَ كَذَّبُوا دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصَّفّ: 8، 9] فَهُمَا فَرِيقَانِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ مَنْ أَظْلَمُ إِنْكَارٌ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ فَالْمُكَذِّبُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَظْلَمَ مِنْهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُسَاوُوهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْكَلَامُ مُبَالَغَةٌ. وَإِنَّمَا كَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ ظلمُوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ إِذْ قَالُوا: هُوَ سَاحِرٌ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ لَمْ يَتَوَخَّوْا لَهَا النَّجَاةَ، فَيَعْرِضُوا دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ حَتَّى يَعْلَمُوا صِدْقَهُ، وَظَلَمُوا رَبَّهُمْ إِذْ نَسَبُوا مَا جَاءَهُمْ مِنْ هَدْيِهِ وحجج رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْهُ فَسَمَّوُا الْآيَاتِ وَالْحُجَجَ سِحْرًا، وَظَلَمُوا النَّاسَ بِحَمْلِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَظَلَمُوهُمْ بِإِخْفَاءِ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُثْبِتَةً صِدْقَ رَسُول الْإِسْلَام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَّلَ لَهُمْ هَذَا الظُّلْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ ظُلْمٌ مُسْتَمِرٌّ. وَقَدْ كَانَ لِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ مَوْقِعٌ مَتِينٌ هُنَا، أَيْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي حِينِ أَنَّ الرَّسُولَ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ فَعَاضُوا الشُّكْرَ بِالْكُفْرِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ افْتِرَاؤُهُمُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولًا يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ هَذِهِ النِّسْبَةِ تَقْتَضِي أَنْ يُقْبِلُوا عَلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لِيَصِلُوا إِلَى التَّصْدِيقِ، فَلَمَّا بَادَرُوهَا بِالْإِعْرَاضِ وَانْتَحَلُوا لِلدَّاعِي صِفَاتَ النَّقْصِ كَانُوا قَدْ نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ دُونَ تَوْقِيرٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَجَحَدُوا الصِّفَاتِ الْمَوْصُوفَةَ فِي كِتَابِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [140] . وَذَلِكَ افْتِرَاءٌ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] .

[سورة الصف (61) : آية 8]

وَاسْمُ الْإِسْلامِ عَلَمٌ لِلدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَامِعٌ لِمَا فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الِاسْمِ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ زِيَادَةً فِي تَشْنِيعِ حَالِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، أَيْ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُ وَبِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِ وَصْفُ أَظْلَمُ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَأْيِيسٌ لَهُمْ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْ هَذَا الظُّلْمِ، أَيْ أَنَّ الَّذِينَ بَلَغُوا هَذَا الْمَبْلَغَ مِنَ الظُّلْمِ لَا طَمَعَ فِي صَلَاحِهِمْ لِتَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ حَتَّى خَالَطَ سَجَايَاهُمْ وَتَقَوَّمَ مَعَ قَوْمِيَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَقْحَمَ لَفْظَ الْقَوْمَ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ بَلَغَ حَدَّ أَنْ صَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَتَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ. وَهَذَا يَعُمُّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ وَأَمْثَالَهُمُ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى عِيسَى، فَفِيهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَأُسْنِدَ نَفْيُ هَدْيِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ هَذَا الْهَدْيِ عَنْهُمْ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ تَكْوِينِ عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ عَلَى الْمُكَابَرَةِ بِأَسْبَابِ التَّكْوِينِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي نِظَامِ تَكَوُّنِ الْكَائِنَاتِ وَتَطَوُّرِهَا مِنَ ارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَدَارَكُ أَكْثَرَهُمْ بِعِنَايَتِهِ، فَمُغَيِّرٌ فِيهِمْ بَعْضَ الْقُوَى الْمَانِعَةِ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى غَضَبًا عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يُخْلِفُوا بِدَعْوَةٍ تَسْتَحِقُّ التَّبَصُّرَ بِسَبَبِ نِسْبَتِهَا إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَتَمَيَّزَ لَهُمُ الصِّدْقُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْحَقُّ من الْبَاطِل. [8] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 8] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي حَالِ أَنهم يدعونَ إِلَّا الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى هَذَا الِافْتِرَاءِ. فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُخْفُوا الْإِسْلَامَ عَنِ النَّاسِ ويعوقوا انتشاره ومثلث حَالَتُهُمْ بِحَالَةِ نَفَرٍ يَبْتَغُونَ الظَّلَامَ لِلتَّلَصُّصِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُرَادُ فِيهِ الِاخْتِفَاءُ. فَلَاحَتْ لَهُ ذُبَالَةُ مِصْبَاحٍ تُضِيءُ لِلنَّاسِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَخَشُوا أَنْ يَشِعَّ نُورُهُ عَلَى النَّاسِ فَتَفْتَضِحَ تُرَّهَاتُهُمْ، فَعَمَدُوا إِلَى إِطْفَائِهِ بِالنَّفْخِ عَلَيْهِ فَلم ينطفىء،

فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ دَالٌّ عَلَى حَالَةِ الْمُمَثَّلِ لَهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُونَ عَوْقَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَثَلِ قَوْمٍ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ النُّورِ، فَهَذَا تَشْبِيهُ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. ثُمَّ إِنْ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ قَابِلٌ لِتَفْرِقَةِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ، فَالْيَهُودُ فِي حَالِ إِرَادَتِهِمْ عَوْقَ الْإِسْلَامِ عَنِ الظُّهُورِ مُشَبَّهُونَ بِقَوْمٍ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِسْلَامِ فَشُبِّهَ بِمِصْبَاحٍ. وَالْمُشْرِكُونَ مِثْلُهُمْ وَقَدْ مُثِّلَ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِنَظِيرِ هَذَا التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [30، 32] ، وَوَصْفهِمُ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ سِحْرٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ تَمْوِيهَاتِهِمْ، فَشُبِّهَ بِنَفْخِ النَّافِخِينَ عَلَى الْمِصْبَاحِ فَكَانَ لِذِكْرِ بِأَفْواهِهِمْ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ لِأَنَّ الْإِطْفَاءَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْأَفْوَاهِ مِثْلِ الْمِرْوَحَةِ وَالْكِيرِ، وَهُمْ أَرَادُوا إِبْطَالَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِزَعْمِ أَنَّهَا مِنْ أَقْوَالِ السِّحْرِ. وَإِضَافَةُ نُورَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، أَيْ نُورًا أَوْقَدَهُ اللَّهُ، أَيْ أَوْجَدَهُ وَقَدَّرَهُ فَمَا ظَنُّكُمْ بِكَمَالِهِ. وَاللَّامُ من قَوْله: لِيُطْفِؤُا تُسَمَّى اللَّامَ الزَّائِدَةَ، وَتُفِيدُ التَّأْكِيدَ. وَأَصْلُهَا لَامُ التَّعْلِيلِ، ذُكِرَتْ عِلَّةُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ عِوَضًا عَنْ مَفْعُولِهِ بِتَنْزِيلِ الْمَفْعُولِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ لِيُطْفِئُوا. وَيكثر وُقُوع هَذِه اللَّامِ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَمَادَّةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: لَامَ (أَنْ) لِأَنَّ مَعْنَى (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] . فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ اللَّامَ بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُرِيدُونَ وَهِيَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مُرَادَهُمْ وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ سَيَتِمُّ، أَيْ يَبْلُغُ تَمَامَ الِانْتِشَارِ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» . وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تُفِيدُ ثُبُوتَ هَذَا الْإِتْمَامِ. وَالتَّمَامُ: هُوَ حُصُولُ جَمِيعِ مَا لِلشَّيْءِ

مِنْ كَيْفِيَّةٍ أَوْ كَمِّيَّةٍ، فَتَمَامُ النُّورِ: حُصُولُ أَقْوَى شُعَاعِهِ وَإِتْمَامُهُ إِمْدَادُ آلَتِهِ بِمَا يُقَوِّى شُعَاعَهُ كَزِيَادَةِ الزَّيْتِ فِي الْمِصْبَاحِ وَإِزَالَةِ مَا يَغْشَاهُ. وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ حَالِيَّةٌ ولَوْ وَصْلِيَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ شَرْطِهَا أَجْدَرُ مَا يُظَنُّ أَنْ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ حُصُولِهِ مَضْمُونُ الْجَوَابِ. وَلِذَلِكَ يُقَدِّرُ الْمُعْرِبُونَ قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِير حُصُول ضد الشَّرْطِ. فَيَقُولُونَ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا بَلْ وَإِنْ كَانَ كَذَا، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ حَذْفٍ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَوْقِعٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يُوسُف: 17] ، إِذْ لَا يُقَال: هَذَا إِذَا كُنَّا كَاذِبِينَ، بَلْ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ. وَكَذَلِكَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ عَلَى فَرْضِ كَرَاهَةِ الْكَافِرِينَ، وَلَمَّا كَانَتْ كَرَاهَةُ الْكَافِرِينَ إِتْمَامَ هَذَا النُّورِ مُحَقَّقَةً كَانَ سِيَاقُهَا فِي صُورَةِ الْأَمْرِ الْمَفْرُوضِ تَهَكُّمًا. وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ (لَوْ) هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] . وَإِنَّمَا كَانَتْ كَرَاهِيَةُ الْكَافِرِينَ ظُهُورَ نُورِ اللَّهِ حَالَةً يُظَنُّ انْتِفَاءُ تَمَامِ النُّورِ مَعَهَا، لِأَنَّ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةَ تَبْعَثُهُمْ عَلَى أَنْ يَتَأَلَّبُوا عَلَى إِحْدَاثِ الْعَرَاقِيلِ وَتَضْلِيلِ الْمُتَصَدِّينَ لِلِاهْتِدَاءِ وَصَرْفِهِمْ عَنْهُ بِوُجُوهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْكَيْدِ وَالْإِضْرَارِ. وَشَمَلَ لَفْظُ الْكافِرُونَ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ بِالْإِسْلَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَكِنْ غَلَبَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ عَلَى تَخْصِيصِ وَصْفِ الْكَافِرِينَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ أَوِ الظَّالِمِينَ وَيَتَّجِهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ لَوْ الْوَصْلِيَّةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ مُرَادِهِمْ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ فَإِتْمَامُ اللَّهِ نُورَهُ إِبْطَالٌ لِمُرَادِهِمْ إِطْفَاءَهُ. وَسَيَرِدُ بَعْدَ هَذَا مَا يُبْطِلُ مُرَادَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُعَانِدِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُتِمُّ نُورِهِ بِتَنْوِينِ مُتِمُّ وَنَصْبِ نُورِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِدُونِ تَنْوِينٍ وَجَرِّ نُورِهِ عَلَى إِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى مَفْعُولِهِ وَكِلَاهُمَا فصيح.

[سورة الصف (61) : آية 9]

[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 9] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) هَذَا زِيَادَةُ تَحَدٍّ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَحْلَافِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [الصَّفّ: 8] . وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. فَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِقَلْبِ زَعْمِ الْكَافِرِينَ أَن محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ أرسل مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ. وَأَنَّ شَيْئًا تَوَلَّى اللَّهُ فِعْلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُزِيلَهُ. وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ظُهُورَ هَذَا الدِّينِ وَانْتِشَارَهُ كَيْلَا يَطْمَعُوا أَنْ يَنَالَهُ مَا نَالَ دِينَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْقَمْعِ وَالْخَفْتِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَاسْتَمَرَّ زَمَانًا طَوِيلًا حَتَّى تَنَصَّرَ قُسْطَنْطِينُ سُلْطَانُ الرُّومِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِظْهَارَ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ عُلِمَ أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى يَتِمَّ الْمُرَادُ. وَالْإِظْهَارُ: النَّصْرُ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّفْضِيلِ وَالْإِعْلَاءِ الْمَعْنَوِيِّ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لِيُعْلِيَ هَذَا الدِّينَ الْحَقَّ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَيَنْصُرَ أَهْلَهُ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَ الدِّينِ مُسْتَعْمَلٌ فِي كِلَا مَعْنَيَيْهِ: الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ. وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ أَهْلُ الدِّينِ كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ قَرْيَةَ كَذَا وَأَكْرَمَتْنِي، فَإِظْهَارُ الدِّينِ عَلَى الْأَدْيَانِ بِكَوْنِهِ أَعْلَى مِنْهَا تَشْرِيعًا وَآدَابًا، وَأَصْلَحَ بِجَمِيعِ النَّاسِ لَا يَخُصُّ أُمَّةً دُونَ أُخْرَى وَلَا جِيلًا دُونَ جِيلٍ. وَإِظْهَارُ أَهْلِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ بِنَصْرِ أَهْلِهِ عَلَى الَّذِينَ يُشَاقُّونَهُمْ فِي مُدَّةِ ظُهُورِهِ حَتَّى يَتِمَّ أَمْرُهُ وَيَسْتَغْنِيَ عَمَّنْ يَنْصُرُهُ. وَقَدْ تَمَّ وَعْدُ اللَّهِ وَظَهَرَ هَذَا الدِّينُ وَمَلَكَ أَهْلُهُ أُمَمًا كَثِيرَةً ثُمَّ عَرَضَتْ عَوَارِضُ

[سورة الصف (61) : الآيات 10 إلى 12]

مِنْ تَفْرِيطِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ عَلَى وَجْهِهِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ أُمَمٌ، فَأَمَّا الدِّينُ فَلَمْ يَزَلْ عَالِيًا مَشْهُودًا لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ الْمُنْصِفِينَ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ دِينٍ لِلْبَشَرِ. وَخُصَّ الْمُشْرِكُونَ بِالذِّكْرِ هُنَا إِتْمَامًا لِلَّذِينَ يَكْرَهُونَ إِتْمَامَ هَذَا النُّورِ، وَظُهُورَ هَذَا الدَّين عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. وَيُعْلَمُ أَنَّ غَيْرَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ ظُهُورَ هَذَا الَّدِينِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ ظُهُورَ هَذَا الدِّينِ فَحَصَلَ فِي الْكَلَام احتباك. [10- 12] [سُورَة الصَّفّ (61) : الْآيَات 10 إِلَى 12] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) هَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصَّفّ: 2- 4] . فَبَعْدَ أَنْ ضُرِبَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ مَجَالٍ إِلَى مَجَالٍ، أُعِيدَ خِطَابُهُمْ هُنَا بِمِثْلِ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 2] ، أَيْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَحَبِّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ لِتَعْمَلُوا بِهِ كَمَا طَلَبْتُمْ إِذْ قُلْتُمْ لَوُ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَا بِهِ فَجَاءَتِ السُّورَةُ فِي أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي أَدُلُّكُمْ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخِطَابِ أَنَّهُ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَعَلَى اخْتِلَافِ الِاحْتِمَالِ يَخْتَلِفُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ الْآتِي وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصَّفّ: 13] . وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ مَجَازًا لِأَنَّ الْعَارِضَ قَدْ يَسْأَلُ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ لِيَعْلَمَ رَغْبَتَهُ فِي الْأَمْرِ الْمَعْرُوضِ كَمَا يُقَالُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ أَوْ هَلْ لَكَ إِلَى كَذَا؟

وَالْعَرْضُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّشْوِيقِ إِلَى الْأَمْرِ الْمَعْرُوضِ، وَهُوَ دَلَالَتُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى تِجَارَةٍ نَافِعَةٍ. وَأَلْفَاظُ الِاسْتِفْهَامِ تَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مِنْ مُلَازِمَاتِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذَكَرَهُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ أَدُلُّكُمْ لِإِفَادَةِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِسُهُولَةٍ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَفْظُ التِّجَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِمُشَابَهَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ التِّجَارَةَ فِي طَلَبِ النَّفْعِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَمُزَاوَلَتِهِ وَالْكَدِّ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] . وَوَصْفُ التِّجَارَةِ بِأَنَّهَا تُنْجِي مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِقَصْدِ الصَّرَاحَةِ بِهَذِهِ الْفَائِدَةِ لِأَهَمِّيَتِهَا وَلَيْسَ الْإِنْجَاءُ مِنَ الْعَذَابِ مِنْ شَأْنِ التِّجَارَةِ فَهُوَ مِنْ مُنَاسِبَاتِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَجُمْلَةُ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ ذِكْرَ الدَّلَالَةِ مُجْمَلٌ وَالتَّشْوِيقُ الَّذِي سَبَقَهَا مِمَّا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ التَّسَاؤُلَ عَنْ هَذَا الَّذِي تَدُلُّنَا عَلَيْهِ وَعَنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْخِطَابُ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ فِعْلَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مَعَ وَتُجاهِدُونَ مُرَادٌ بِهِ تَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْجِهَادِ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ إِفَادَةُ الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَجْدِيدِهِ فِي كُلِّ آنٍ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ وَتَحْذِيرٌ مِنَ التَّغَافُلِ عَنْ مُلَازَمَةِ الْإِيمَانِ وَشُؤُونِهِ. وَأَمَّا وَتُجاهِدُونَ فَإِنَّهُ لِإِرَادَةِ تَجَدُّدِ الْجِهَادِ إِذَا اسْتُنْفِرُوا إِلَيْهِ. وَمَجِيءُ يَغْفِرْ مَجْزُومًا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تُؤْمِنُونَ وَتُجاهِدُونَ وَإِنْ جَاءَا فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْجَزْمَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ لَا فِي جَوَابِ الْخَبَرِ. قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جُزِمَ يَغْفِرْ لِأَنَّهُ جَوَابُ هَلْ أَدُلُّكُمْ، أَيْ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ

[سورة الصف (61) : آية 13]

أَدُلُّكُمْ هُوَ التِّجَارَةُ الْمُفَسَّرَةُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ تَتَّجِرُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْفِعْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ لِلْإِيذَانِ بِوُجُوبِ الِامْتِثَالِ حَتَّى يَفْرِضَ الْمَأْمُورُ كَأَنَّهُ سَمِعَ الْأَمْرَ وَامْتَثَلَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُنْجِيكُمْ بِسِكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، يُقَالُ: أَنْجَاهُ وَنَجَّاهُ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورُ: خَيْرٌ. وخَيْرٌ هَذَا لَيْسَ اسْمَ تَفْضِيلٍ الَّذِي أَصْلُهُ: أَخْيَرُ وَوَزْنُهُ: أَفْعَلُ، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِضِدِّ الشَّرِّ، وَوَزْنُهُ: فَعْلٌ. وَجَمَعَ قَوْلُهُ: خَيْرٌ مَا هُوَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْعِتَابِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ، فَنُدِبُوا إِلَى الْجِهَادِ فَكَانَ مَا كَانَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُشَكُّ فِي عَمَلِهِمْ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجب الْعلم. وَالْمَسَاكِين الطَّيِّبَةِ: هِيَ الْقُصُورُ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الْفرْقَان: 10] . وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْمَسَاكِنُ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْجِهَادِ مُفَارَقَةَ مَسَاكِنِهِمْ، فَوُعِدُوا عَلَى تِلْكَ الْمُفَارقَة الموقتة بِمَسَاكِنَ أَبَدِيَّةٍ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ [التَّوْبَة: 24] الْآيَة. [13] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 13] وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَغْفِرْ لَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ [الصَّفّ: 12] عَطْفَ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ. وَجِيءَ بِالْإِسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الثُّبُوتِ وَالتَّحَقُّقِ. فَ أُخْرى مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ

عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: أُخْرَى لَكُمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَبَرَ قَوْلَهُ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ. وَجِيءَ بِهِ وَصْفًا مُؤَنَّثًا بِتَأْوِيلِ نِعْمَةٍ، أَوْ فَضِيلَةٍ، أَوْ خَصْلَةٍ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصَّفّ: 12] إِلَى آخِرِهِ مِنْ مَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْخَصْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [21] . وَوَصَفَ أُخْرى بِجُمْلَةِ تُحِبُّونَها إِشَارَةً إِلَى الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَائِهِمْ مَا يُحِبُّونَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ إِعْطَاءِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَة: 144] . ونَصْرٌ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ أُخْرى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ أُخْرى. وَالْمُرَادُ بِهِ النَّصْرُ الْعَظِيمِ، وَهُوَ نَصْرُ فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ نَصْرًا عَلَى أَشَدِّ أَعْدَائِهِمُ الَّذِينَ فَتَنُوهُمْ وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ وَالْأَحْزَابَ. وَرَامُوا تَشْوِيهَ سُمْعَتِهِمْ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نَصْرُ الدِّينِ بِإِسْلَامِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ أَيِمَّةَ الْكُفْرِ وَمَسَاعِيرَ الْفِتْنَةِ، فَأَصْبَحُوا مُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة: 7] وَقَوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: 103] . وَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصَّفّ: 10] كَلَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ أُمِرَ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ «قُلْ» . وَوَصْفُ الْفَتْحِ بِ قَرِيبٌ تَعْجِيلٌ بِالْمَسَرَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ:

[سورة الصف (61) : آية 14]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصَّفّ: 10] عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا كَلَامٌ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ من الله لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَرْضُ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ إِذْ لَيْسَ عَطْفُ جُمْلَةٍ بَلْ جملَة على جُمْلَةٍ عَلَى مَجْمُوعِ جُمَلٍ عَلَى نَحْوِ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الْآيَةُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلَامِ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ فِي حَاشِيَةِ «الْكَشَّافِ» . وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ إِلَى آخِرِهِ مَسُوقًا لِأَمْرِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ، إِلَى آخِرِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي وَبَشِّرِ الْتِفَاتًا مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَأُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] . وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي الْآنَ أَنَّ الْاخْتِلَافَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ اخْتِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يُؤَثِّرُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ اتِّصَالًا وَلَا انْقِطَاعًا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ أَمْرَانِ مَعْنَوِيَّانِ وَتَابِعَانِ لِلْأَغْرَاضِ فَالْعِبْرَةُ بِالْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ دُونَ الصِّيغَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَفِي هَذَا مَقْنَعٌ حَيْثُ فَاتَنِي التَّعَرُّضُ لِهَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَة الْبَقَرَة (¬1) . [14] [سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 14] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) ¬

(¬1) فِي قَوْله تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا إِلَى قَوْله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فِي «الْكَشَّاف» (فَإِن قلت: علام عطف هَذَا الْأَمر- أَي وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا- وَلم يسْبق أَمر أَو نهي يَصح عطفه عَلَيْهِ؟ قلت: لَيْسَ الَّذِي اعْتمد بالْعَطْف هُوَ الْأَمر حَتَّى يطْلب لَهُ مشاكل من أَمر أَو نهي- أَي مشاكل إنشائي- يعْطف عَلَيْهِ إِنَّمَا الْمُعْتَمد بالْعَطْف هُوَ جملَة وصف ثَوَاب الْمُؤمنِينَ فَهِيَ معطوفة على جملَة وصف عِقَاب الْكَافرين) اهـ. قَالَ السَّيِّد فِي «حَاشِيَة الْكَشَّاف» : (الْعَطف قد يكون بَين الْمُفْردَات وَمَا فِي حكمهَا من الْجمل الَّتِي لَهَا محلّ من الْإِعْرَاب. وَقد يكون بَين الْجمل الَّتِي لَا محلّ لَهَا، وَقد يكون بَين قصتين بِأَن يعْطف مَجْمُوع جمل مُتعَدِّدَة مسوقة لمقصود، على مَجْمُوع جمل أُخْرَى مسوقة لمقصود آخر، فَيعْتَبر حِينَئِذٍ التناسب بَين الْقصَّتَيْنِ دون آحَاد الْجمل الْوَاقِعَة فيهمَا.

هَذَا خِطَابٌ آخَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَكْمِلَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصَّفّ: 10، 11] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ، فَجَاءَ هَذَا الْخِطَابُ الثَّانِي تَذْكِيرًا بِأُسْوَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَضَعْفِهِمْ. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ الدِّينِ وَهُوَ نَصْرٌ غَيْرُ النَّصْرِ الَّذِي بِالْجِهَادِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ التَّحْرِيضُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفّ: 11] الْآيَةَ وَوَعْدُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ، فَهَذَا النَّصْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا نَصْرُ دِينِ اللَّهِ الَّذِي آمَنُوا بِهِ بِأَنْ يَبُثُّوهُ وَيَثْبُتُوا عَلَى الْأَخْذِ بِهِ دُونَ اكْتِرَاثٍ بِمَا يُلَاقُونَهُ مِنْ أَذًى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ تَعَالَى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: 186] . وَهَذَا هُوَ الَّذِي شَبَّهَ بِنَصْرِ الْحَوَارِيِّينَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ عِيسَى لَمْ يُجَاهِدْ مَنْ عَانَدُوهُ، وَلَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ مِمَّنْ

جَاهَدُوا وَلَكِنَّهُ صَبَرَ وَصَبَرُوا حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ وَانْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ دَبَّ إِلَيْهِ التَّغْيِيرُ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَنَسَخَهُ مِنْ أَصْلِهِ. وَالْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ، وَهُوَ النَّاصِرُ الشَّدِيدُ النَّصْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَر كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ بِتَنْوِينِ أَنْصَارًا وَقَرَنَ اسْمَ الْجَلَالَةِ بِاللَّامِ الْجَارَّةِ فَيَكُونُ أَنْصَارًا مُرَادًا بِهِ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُفِيدِ لِلْإِحْدَاثِ، أَيْ مُحْدِثِينَ النَّصْرَ، وَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ نَاصِرِينَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: 13] . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ أَنْصارَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِدُونِ لَامٍ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْصَارٍ كَاللَّقَبِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: مَنْ أَنْصارِي. وَالتَّشْبِيهُ بِدَعْوَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ وَجَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ، أَي كونُوا عِنْد مَا يدعوكم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ كَحَالَةِ قَوْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ.

وَالتَّشْبِيهُ لِقَصْدِ التَّنْظِيرِ وَالتَّأَسِّي فَقَدْ صَدَقَ الْحَوَارِيُّونَ وَعْدَهُمْ وَثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ وَلَمْ تُزَعْزِعْهُمُ الْفِتَنُ وَالتَّعْذِيبُ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَقَوْلِ عِيسَى وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: لِكَوْنِ قَوْلِ عِيسَى وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ. فَالتَّشْبِيهُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُ عِيسَى وَجَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ لِأَنَّ جَوَابَ الْحَوَارِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ عَلَى دَعْوَةِ عِيسَى وَإِنَّمَا تُحْذَفُ الْفَاءُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَاتِ لِلِاخْتِصَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَقَوْلُ عِيسَى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ لِاخْتِبَارِ انْتِدَابِهِمْ إِلَى نَصْرِ دِينِ اللَّهِ مَعَهُ نَظِيرَ قَول طرفَة: إِن الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ إِنَّنِي ... عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ وَإِضَافَةُ أَنْصارَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ عِيسَى بِاعْتِبَارِهِمْ أَنْصَارَ دَعْوَتِهِ. وإِلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْصارِي. وَمَعْنَى إِلَى الِانْتِهَاءُ الْمَجَازِيِّ، أَيْ

مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللَّهِ، شُبِّهَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الدِّينِ وَتَعْلِيمُهُمُ النَّاسَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ بِسَعْيِ سَاعِينَ إِلَى اللَّهِ لِيَنْصُرُوهُ كَمَا يَسْعَى الْمُسْتَنْجِدُ بِهِمْ إِلَى مَكَانِ مُسْتَنْجِدِهِمْ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى مَنْ غَلَبَهُ. فَفِي حَرْفِ إِلَى اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ الْمَحْكِيُّ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ مُطَابِقًا لِلِاسْتِفْهَامِ إِذْ قَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، أَيْ نَحْنُ نَنْصُرُ اللَّهَ عَلَى مَنْ حَادَّهُ وَشَاقَّهُ، أَيْ نَنْصُرُ دِينَهُ. والْحَوارِيُّونَ: جَمْعُ حَوَارِيٍّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَهِيَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الْحَبَشِيَّةِ (حَوَارِيَّا) وَهُوَ الصَّاحِبُ الصَّفِيُّ، وَلَيْسَتْ عَرَبِيَّةَ الْأَصْلِ وَلَا مُشْتَقَّةً مِنْ مَادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَقَدْ عَدَّهَا الضَّحَّاكُ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ لَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَبَطِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْحَوَارِيِّ: الْغَسَّالُ، كَذَا فِي «الْإِتْقَانِ» . والْحَوارِيُّونَ: اسْمٌ أَطْلَقَهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَصْحَابِ عِيسَى الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نَصَارَى الْعَرَبِ أَخَذُوهُ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ. وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الِاسْمُ

فِي الْأَنَاجِيلِ. وَقَدْ سمى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَوَارِيَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِأَحَدِ الْحَوَارِيِّينَ فَقَالَ: «لكل نبيء حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَوَارِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [52] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَقَالَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَحْكِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مَقَالَتِهِ الْمَحْكِيَّةِ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّ تِلْكَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. أَمَّا مَقَالَتُهُ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا فَهِيَ مُوَجَّهَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ طَالِبًا مِنْهُمْ نُصَرْتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ الْآيَةَ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ اخْتِلَافُ مُقْتَضَى الْكَلَامَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَعَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ يُجْرَى اخْتِلَافُ اعْتِبَارِ الْخُصُوصِيَّاتِ فِي الْكَلَامَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُتَشَابِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْنَا هُنَالِكَ إِضَافَةُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمرَان: 52] إِضَافَةً لَفْظِيَّةً وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ مُفِيدًا لِلْقَصْرِ لِانْعِدَامِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ. فَأَمَّا هُنَا فَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ أَنْصارَ اللَّهِ اعْتُبِرَتْ لَقَبًا لِلْحَوَارِيِّينَ عَرَّفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ وَخَلَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلِذَلِكَ أَرَادُوا الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ إِضَافَةُ أَنْصارَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا إِضَافَةً مَعْنَوِيَّةً مُفِيدَةً تَعْرِيفًا فَصَارَتْ جُمْلَةً نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ هُنَا مُشْتَمِلَةً عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ عَلَى خِلَافِ نَظِيرَتِهَا الَّتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. فَفِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْحَوَارِيِّينَ هُنَا خُصُوصِيَّةُ صِيغَةِ الْقَصْرِ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ. وَخُصُوصِيَّةُ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ. فَكَانَ إِيجَازًا فِي حِكَايَةِ جَوَابِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَجَابُوا بِالِانْتِدَابِ إِلَى نَصْرِ الرَّسُولِ وَبِجَعْلِ أَنْفُسِهِمْ مَحْقُوقِينَ بِهَذَا النَّصْرِ لِأَنَّهُمْ مَحَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِنَصْرِ الدِّينِ وَعُرِفُوا بِذَلِكَ وَبِحَصْرِ نَصْرِ الدِّينِ فِيهِمْ حَصْرًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَمَحُّضِهِمْ لَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لِلدِّينِ غَيْرُهُمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَإِفَادَتَهُ التَّعْرِيضَ بِكُفْرِ بَقِيَّةِ قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفُرِّعَ عَلَى قَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ نَحْنُ أَنْصارُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةٌ آمَنَتْ بِعِيسَى وَمَا جَاءَ بِهِ، وَطَائِفَةٌ كفرت بذلك وَهَذَا التَّفْرِيعُ يَقْتَضِي كَلَامًا مُقَدَّرًا وَهُوَ فَنَصَرُوا اللَّهَ بِالدَّعْوَةِ وَالْمُصَابَرَةِ عَلَيْهَا فَاسْتَجَابَ بَعْضُ بَنِي

إِسْرَائِيلَ وَكَفْرَ بَعْضُ وَإِنَّمَا اسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَقَدْ جَاءَ فِي إِنْجِيلِ (لُوقَا) أَنَّ أَتْبَاعَ عِيسَى كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ التَّوْطِئَةُ لِقَوْلِهِ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ وَالتَّأْيِيدُ النَّصْر وَالتَّقْوِيَةُ، أَيَّدَ اللَّهُ أَهْلَ النَّصْرَانِيَّةِ بِكَثِيرٍ مِمَّنِ اتَّبَعَ النَّصْرَانِيَّةَ بِدَعْوَةِ الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مِثْلَ بُولِسَ. وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيَّدْنَاهُمْ لِأَنَّ التَّأْيِيدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ بِعِيسَى لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِذْ قَدْ قُتِلَ مِنْ أَتْبَاعِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمُثِّلَ بِهِمْ وَأُلْقُوا إِلَى السِّبَاعِ فِي الْمَشَاهِدِ الْعَامَّةِ تَفْتَرِسُهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْحَوَارِيِّينِ الْحَوَارِيُّ الْأَكْبَرُ الَّذِي سَمَّاهُ عِيسَى بُطْرُسَ، أَيِ الصَّخْرَةَ فِي ثَبَاتِهِ فِي اللَّهِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ جُثَّتَهُ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى فِي رُومَةَ الْمَعْرُوفَةُ بِكَنِيسَةِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ وَالْحُكْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ كَمَا تَقُولُ: نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ. وَالْمَقْصُودُ نَصْرُ الدِّينِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَعْدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا أَن يَكُونُوا أنصارا لله بِأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَالْعَدُوُّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الْكَهْف: 50] وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ [1] . وَالظَّاهِرُ: هُوَ الْغَالِبُ، يُقَالُ: ظَهَرَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ، وَظَهَرَ بِهِ أَيْ غَلَبَ بِسَبَبِهِ، أَيْ بِإِعَانَتِهِ وَأَصْلُ فِعْلِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ. وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ الْوَسَطُ مِنْ جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ لِأَنَّ بِالظَّهْرِ قُوَّةَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا مِثْلُ فِعْلِ (عَضَدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْعَضُدِ. وَ (أَيَّدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ وَمِنْ تَصَارِيفِهِ ظَاهَرَ عَلَيْهِ وَاسْتَظْهَرَ وَظَهِيرٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: 4] . فَمَعْنَى ظاهِرِينَ أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لِأَنَّ عَاقِبَةَ النَّصْرِ كَانَتْ لَهُمْ فَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُكْمِ فِي الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ بِعِيسَى وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

62- سورة الجمعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 62- سُورَةُ الْجُمُعَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَالتَّفَاسِيرِ «سُورَةُ الْجُمُعَةِ» وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيءِ فَأُنْزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ» الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الْجُمُعَة: 3] . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا وُقُوعُ لفظ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةُ: 9] فِيهَا وَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَجْتَمِعُ فِيهِ عِنْدَ قُصَيٍّ بِدَارِ النَّدْوَةِ. وَلَا يَقْتَضِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا ذَلِكَ الْيَوْمَ الْجُمُعَةَ. وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَا يُثْبِتُ أَنَّ اسْمَ الْجُمُعَةِ أَطْلَقُوهُ عَلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ «الْجُمُعَةِ» عَلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ عَائِشَةَ «كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ» إِلَخْ. وَفِي كَلَامِ أَنَسٍ «كُنَّا نَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ» ، (أَيْ مِنَ الْمَسْجِدِ) . وَمِنْ كَلَامِ

أغراضها

سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ» . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ «الْجُمُعَةِ» الَّذِي فِي اسْمِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعْنِيًّا بِهِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَحْكَامًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِوُقُوعِ لَفْظِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي السُّورَةِ فِي آيَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَهِيَ سَنَةُ خَيْبَرَ، فَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا «أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسْلَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ» . وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَتَكُونُ قَضِيَّةُ وُرُودِ الْعِيرِ مِنَ الشَّامِ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ السُّورَةِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ. وَكَانَ فَرْضُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى وَقت نزُول هَذِه السُّورَةِ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا فِي خُطْبَةٍ خَطَبَ بِهَا لِلنَّاسِ وَصَلَّاهَا فِي أَوَّلِ يَوْمِ جُمُعَةٍ بَعْدَ يَوْمِ الْهِجْرَةِ فِي دَارٍ لِبَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ. وَثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ صَلَّوْهَا قَبْلَ قُدُومِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَمَا سَيَأْتِي. فَكَانَ فَرْضُهَا ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: 9] وَرَدَ مَوْرِدَ التَّأْكِيدِ لِحُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الِانْصِرَافِ عِنْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ تَمَامِهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ السَّادِسَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّغَابُنِ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُنَجِّمَةٍ. وَعُدَّتْ آيُهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَار. أغراضها أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا مَا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَهُوَ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ

[سورة الجمعة (62) : آية 1]

وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا يَشْغَلُ عَنْهَا فِي وَقْتِ أَدَائِهَا. وَقُدِّمَ لِذَلِكَ: التَّنْوِيهُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. والتنويه بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى الْعَرَبِ وَمَنْ سَيَلْحَقُ بِهِمْ. وَأَنَّ رِسَالَتَهُ لَهُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. وَفِي هَذَا تَوْطِئَةٌ لِذَمِّ الْيَهُودِ لَأَنَّهُمْ حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَشْرِيفِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا حَسَدُوهُمْ عَلَيْهِ وَنَقَمُوهُ أَنْ جُعِلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْيَوْمَ الْفَاضِلَ فِي الْأُسْبُوعِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. وَإِبْطَالُ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ. وَتَوْبِيخُ قَوْمٍ انْصَرَفُوا عَنْهَا لِمَجِيءِ عِيرِ تِجَارَةٍ من الشَّام. [1] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ تَسْبِيحِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ تَعَالَى بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ السُّورَةِ التَّحْرِيضُ عَلَى شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْأَشْغَالِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْ شُهُودِهَا وَزَجْرُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْصَرَفُوا عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حِرْصًا عَلَى الِابْتِيَاعِ مَنْ عِيرٍ وَرَدَتِ الْمَدِينَةَ فِي وَقْتِ حُضُورِهِمْ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُجَدِّدُونَ تَسْبِيحَ اللَّهِ وَلَا يَفْتُرُونَ عَنْهُ أُوثِرَ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ. وَمَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَتْ مُفَرَّقَةً فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَسُورَةِ الْحَشْرِ. سِوَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جَاءَ فِيهَا فِعْلُ التَّسْبِيحِ مُضَارِعًا وَجِيءَ بِهِ فِي سِوَاهَا مَاضِيًا لِمُنَاسَبَةٍ فِيهَا وَهِيَ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالتَّنْدِيدُ عَلَى نَفَرٍ قُطِعُوا عَنْ صَلَاتِهِمْ وَخَرَجُوا لِتِجَارَةٍ أَوْ لَهْوٍ فَمُنَاسِبٌ أَنْ يُحْكَى تَسْبِيحُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَسْبِيحِهِمْ وَتَجَدُّدِهِ تَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يُتِمُّوا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ.

[سورة الجمعة (62) : آية 2]

وَمَعَانِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَذْكُورَةُ هُنَا تَقَدَّمَتْ فِي خَوَاتِمِ سُورَةِ الْحَشْرِ. وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُنَا أَنَّ الْعَظِيمَ لَا ينْصَرف عَن مجْلِس مَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِلَّا عِنْدَ انْفِضَاضِ مَجْلِسِهِ أَوْ إِيذَانِهِ بِانْصِرَافِهِمْ. والْقُدُّوسِ: الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقْصِ وَهُوَ يَرْغَبُ فِي حَضْرَتِهِ. والْعَزِيزِ: يَعْتَزُّ الْمُلْتَفُّونَ حَوْلَهُ. فَمُفَارَقَتُهُمْ حَضَرَتِهِ تَفْرِيطٌ فِي الْعِزَّةِ. وَكَذَلِكَ الْحَكِيمِ إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ حَضْرَتَهُ فَاتَهُ فِي كُلِّ آنٍ شَيْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ كَمَا فَاتَ الَّذِينَ انْفَضُّوا إِلَى الْعِيرِ مَا خَطَبَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تَرَكُوهُ قَائِمًا فِي الْخطْبَة. [2] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 2] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِذْ يَتَسَاءَلُ السَّامِعُ عَنْ وَجْهِ تَخْصِيصِ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا أَنْ يُبَيَّنَ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنْ تَعَلُّقِ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ تَعَالَى إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا يُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ. فصفة الْمَلِكِ [الْجُمُعَة: 1] تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ عباده وَيصْلح شؤونهم، وَصفَة الْقُدُّوسِ [الْجُمُعَة: 1] تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يُزَكِّيَ نُفُوسَهُمْ، وَصفَة الْعَزِيزِ [الْجُمُعَة: 1] اقْتَضَتْ أَنْ يُلْحِقَ الْأُمِّيِّينَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَرَاتِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ ذِلَّةِ الضَّلَالِ فَيَنَالُوا عِزَّةَ الْعِلْمِ وَشَرَفَهُ، وَصفَة الْحَكِيمِ [الْجُمُعَة: 1] اقْتَضَتْ أَنْ يُعَلِّمَهُمُ الْحِكْمَةَ وَالشَّرِيعَةَ. وَابْتِدَاءُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَكُونَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَتُفِيدُ تَقْوِيَةَ هَذَا الْحُكْمِ وَتَأْكِيدِهِ، أَيْ أَن النبيء ص مَبْعُوثٌ مِنَ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ. وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأُمِّيِّينَ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ ظَرْفِيَّةِ الْجَمَاعَةِ وَلِأَحَدِ أَفْرَادِهَا. وَيُفْهَمُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ، أَيْ رَسُولًا لَا يُفَارِقُهُمْ فَلَيْسَ مَارًّا بِهِمْ كَمَا يَمُرُّ الْمُرْسَلُ بِمَقَالَةٍ أَوْ بِمَالِكَةٍ يُبَلِّغُهَا إِلَى الْقَوْمِ وَيُغَادِرُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ رَسُولَهُ لِلنَّاسِ بَيْنَ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ وَيَنْشُرُ رِسَالَتَهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فَإِنَّ دَلَائِلَ عُمُومِ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ

أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [158] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ [28] وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً. وَالْمُرَادُ بِ الْأُمِّيِّينَ: الْعَرَبُ لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمِّيَّةِ غَالِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ يَوْمَئِذٍ. وَوَصَفُ الرَّسُولِ بِ مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا عَنْهُمْ كَمَا بَعَثَ لُوطًا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ وَلَا كَمَا بَعَثَ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى، وَبَعَثَ إِلْيَاسَ إِلَى أَهْلِ صَيْدَا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذين يعْبدُونَ بعل، فَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ رَسُولًا مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ مُوَجَّهَةٌ لِلْعَرَبِ لِيَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى لُطْفِهِ بِهِمْ، فَإِنَّ كَوْنَ رَسُولِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى نِعْمَةِ الْإِرْشَادِ وَالْهَدْيِ، وَهَذَا اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129] فَتَذْكِيرُهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ اسْتِنْزَالٌ لِطَائِرِ نُفُوسِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَفِيهِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ مِنْهُمْ وَكِتَابَهُ بِلُغَتِهِمْ هُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَلَقِّي الْإِرْشَادِ مِنْهُ إِذْ ينْطَلق بلسانهم ويحملهم عَلَى مَا يُصْلِحُ أَخْلَاقَهُمْ لِيَكُونُوا حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ إِلَى غَيْرِهِمْ. والْأُمِّيِّينَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ، أَيْ فِي النَّاسِ الْأُمِّيِّينَ. وَصِيغَة جمع الذُّكُور فِي كَلَامِ الشَّارِعِ تَشْمَلُ النِّسَاءَ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيْ فِي الْأُمِّيِّينَ وَالْأُمِّيَّاتِ فَإِنَّ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ قَائِمَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَّا فِي أَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ. وَالْأُمِّيُّونَ: الَّذين لَا يقرؤون الْكِتَابَةَ وَلَا يَكْتُبُونَ، وَهُوَ جَمْعُ أُمِّيٍّ نِسْبَةً إِلَى الْأُمَّةِ، يَعْنُونَ بِهَا أُمَّةَ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا نَادرا، فَغلبَتْ هَذَا التَّشْبِيهُ فِي الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى صَارَتْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [78] . وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِهِ هُنَا تَوَرُّكًا عَلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الْغَضَّ مِنَ الْعَرَبِ وَمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْلًا مِنْهُمْ فَيَقُولُونَ: هُوَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ وَلَيْسَ رَسُولًا إِلَيْنَا. وَقَدْ قَالَ ابْن صياد للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» . أَشْهَدُ أَنَّكَ

رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ . وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مُتَدَيِّنًا بِالْيَهُودِيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَهُ كَانُوا حُلَفَاءَ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَنْتَقِصُونَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: 75] فَتَحَدَّى اللَّهُ الْيَهُودَ بِأَنَّهُ بَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْأُمِّيِّينَ وَبِأَنَّ الرَّسُولَ أُمِّيٌّ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ وَأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَيْسَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ لِمُوسَى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: 5، 6] . وَوَصَفُ الرَّسُولِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ شَامِلٌ لِمُمَاثَلَتِهِ لَهُمْ فِي الْأُمِّيَّةِ وَفِي الْقَوْمِيَّةِ. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ. وَفِي وَصْفِ الرَّسُولِ الْأُمِّيِّ بَأَنَّهُ يَتْلُو عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ وَحْيَهُ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكُتَّابَ، أَيْ يُلَقِّنُهُمْ إِيَّاهُ كَمَا كَانَتِ الرُّسُلُ تُلَقِّنُ الْأُمَمَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابَةِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي عَلَّمَتْهَا الرُّسُلُ السَّابِقُونَ أُمَمَهُمْ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَحَدٍّ بِمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ فِي هَذَا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا قَدْ أَتَى أَمَّتَهُ بِجَمِيعِ الْفَوَائِدِ الَّتِي أَتَى بِهَا الرُّسُلُ غَيْرُ الْأُمِّيِّينَ أُمَمَهُمْ وَلَمْ يَنْقُصْ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَتَمَحَّضَتِ الْأُمِّيَّةُ لِلْكَوْنِ مُعْجِزَةً حَصَلَ مِنْ صَاحِبِهَا أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ مِنَ الرُّسُلِ الْكَاتِبِينَ مِثْلِ مُوسَى. وَفِي وَصْفِ الْأُمِّيِّ بِالتِّلَاوَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ ضَرْبٌ مِنْ مُحَسِّنِ الطِّبَاقِ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنَّ هَذِهِ مُضَادَّةٌ لِلْأُمِّيَّةِ. وَابْتُدِئَ بِالتِّلَاوَةِ لِأَنَّ أَوَّلَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بِإِبْلَاغِ الْوَحْيِ، وَثُنِّيَ بِالتَّزْكِيَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الدَّعْوَةِ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الرِّجْسِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَمَا يَعْلِقُ بِهِ من مساوئ الْأَعْمَالِ وَالطِّبَاعِ. وَعَقَّبَ بِذِكْرِ تَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ لِأَنَّ الْكِتَابَ بَعْدَ إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ مَقَاصِدُهُ وَمَعَانِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [الْقِيَامَة: 18، 19] ، وَقَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] ، وَتَعْلِيمُ الْحِكْمَةِ هُوَ غَايَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ وَفَهِمَ خَفَايَاهُ نَالَ الْحِكْمَةَ قَالَ تَعَالَى:

[سورة الجمعة (62) : آية 3]

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَة: 231] وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [164] . وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ لَيْسَتْ نِعْمَةُ إِرْسَالِ هَذَا الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ قَاصِرَةً عَلَى رَفْعِ النَّقَائِصِ عَنْهُمْ وَعَلَى تَحْلِيَتِهِمْ بِكَمَالِ عِلْمِ آيَاتِ اللَّهِ وَزَكَاةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بَلْ هِيَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذْ كَانَتْ مُنْقِذَةً لَهُمْ مِنْ ضَلَالٍ مُبِينٍ كَانُوا فِيهِ وَهُوَ ضَلَالُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا كَانَ ضَلَالًا مُبِينًا لِأَنَّهُ أَفْحَشُ ضَلَالٍ وَقَدْ قَامَتْ عَلَى شَنَاعَتِهِ الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ، أَيْ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ إِلَى أَفْضَلِ الْهُدَى، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ نَفَرُوا إِسْلَامَهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ مُهْمَلَةٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي اسْمِهَا وَخَبَرِهَا. وَقَدْ سَدَّ مَسَدَّهَا فِعْلُ (كَانَ) كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ، أَيِ الَّتِي تُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ وإِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا اللَّامُ الَّتِي أَصْلُهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِخَبَرِ (إِنَّ) إِذِ الْأَصْلُ: وَإِنَّهُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، لَكِنَّ ذِكْرَ اللَّامِ مَعَ الْمُخَفَّفَةِ وَاجِبٌ غَالِبًا لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِالنَّافِيةِ، إِلَّا إِذَا أَمن اللّبْس. [3] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 3] وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَآخَرِينَ عَطْفًا على الْأُمِّيِّينَ [الْجُمُعَة: 2] لِأَنَّ آخَرِينَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ لِمَا يُقَابِلُهُ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ غَيْرِ الْعَرَب وَالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ غَيْرِ الْعَرَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا يُعْطَفَ وَآخَرِينَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ بَعَثَ مجرور القي وَلَا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ كَذَلِكَ. فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ من قَوْله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ [الْجُمُعَة: 2] وَالتَّقْدِيرُ: وَيَتْلُو عَلَى آخَرِينَ وَإِذَا كَانَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ تِلَاوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُ إِلَّا تِلَاوَةَ تَبْلِيغٍ لِمَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ.

وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ وَآخَرِينَ مَفْعُولًا مَعَهُ. وَالْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ وَيَتَنَازَعُهُ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَة وَهِي «يَتْلُوا وَيُزَكِّي، وَيُعَلِّمُ» . وَالتَّقْدِيرُ: يَتْلُو عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَّابَ وَالْحِكْمَةَ مَعَ آخَرِينَ. وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْجُمُعَة: 2] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَوْ بَيْنَ الضَّمَائِرِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ وآخَرِينَ: جَمْعُ آخَرَ وَهُوَ الْمُغَايِرُ فِي وَصْفٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَإِذْ قَدْ جَعَلَ آخَرِينَ هُنَا مُقَابِلًا لِلْأُمِّيِّينَ كَانَ مُرَادًا بِهِ آخَرُونَ غَيْرُ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ الْمَعْنِيِّينَ بِالْأُمِّيِّينَ. فَلَوْ حَمَلْنَا الْمُغَايِرَةَ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، أَيْ مُغَايِرِينَ لِلَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ الرَّسُولُ، وَجَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنْهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَقُلْنَا: أُرِيدَ وَآخَرِينَ مِنَ الْعَرَبِ غَيْرِ الَّذِينَ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، أَيْ عَرَبًا آخَرِينَ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةِ، وَهُمْ بَقِيَّةُ قبائل الْعَرَب ناكده مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ يَزِيدُ آخِرُهُمْ عَلَى الْأَوَّلِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فَتَلَاهَا فَلَمَّا بَلَغَ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ وَهَذَا وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرِينَ. وَالَّذِي يَلُوحُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لِيُفِيدَ أَنَّ آخَرِينَ صَادِقٌ عَلَى أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَمَةُ فَارِسَ، وَأَمَّا شُمُولُهُ لِقَبَائِلِ الْعَرَبِ فَهُوَ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ مِمَّا شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْأُمِّيِّينَ. ثُمَّ بِنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ. فلنا أَنْ نَجْعَلَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعَانِيهَا فَنَجْعَلُ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِ (مِنْ) عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْجُمُعَة: 2] ، فَالْمَعْنَى: وَآخَرِينَ مِنَ الضَّالِّينَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَيُزَكِّيهِمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَلَنَا أَنْ نَجْعَلَ (مِنَ) اتِّصَالِيَّةً كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 159] . وَالْمَعْنَى: وَآخَرِينَ يَتَّصِلُونَ بِهِمْ وَيَصِيرُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمْ

[سورة الجمعة (62) : آية 4]

مَوْضِعَ الْحَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لِأَنَّ اللُّحُوقَ هُوَ مَعْنَى الِاتِّصَالِ. وَمَوْضِعُ جُمْلَةِ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ يَصِيرُونَ مِثْلَهُمْ، وَيَنْشَأُ مِنْهُ أَيْضًا رَمَزٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَعَرَّبُونَ لِفَهْمِ الدِّينِ وَالنُّطْقِ بِالْقُرْآنِ فَكَمْ مِنْ مَعَانٍ جَلِيلَةٍ حَوَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ سَكَتَ عَنْهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَهَذِهِ بِشَارَةٌ غَيْبِيَّةٌ بِأَنَّ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَبْلُغُ أُمَمًا لَيْسُوا مِنَ الْعَرَبِ وَهُمْ فَارِسُ، وَالْأَرْمَنُ، وَالْأَكْرَادُ، وَالْبَرْبَرُ، وَالسُّودَانُ، وَالرُّومُ، وَالتُّرْكُ، وَالتَّتَارُ، وَالْمَغُولُ، وَالصِّينُ، وَالْهُنُودُ، وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ صِنْفِ الْإِخْبَارِ بِالْمُغِيبَاتِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عُمُومِ رِسَالَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ. وَالنَّفْيُ بِ (لَمَّا) يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُسْتَمِرُّ الِانْتِفَاءِ إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُتَرَقَّبُ الثُّبُوتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، أَيْ وَسَيَدْخُلُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ آخَرِينَ هُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْتَحِقُوا بِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ وَسَيَدْخُلُونَ فِي أَزْمَانٍ أُخْرَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالثُّرِيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ من هَؤُلَاءِ» إِيمَاء إِلَى مِثَالٍ مِمَّا يَشْمَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي جَوَابِ سُؤَالِ السَّائِلِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْمُرَادِ بِ آخَرِينَ فِي قَوْمِ سَلْمَانَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: هُمُ التَّابِعُونَ. وَعَنْ مُجَاهِدِ: هُمُ النَّاسُ كُلُّهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ الْإِلَهِيِّ لِانْتِشَارِ هَذَا الدِّينِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. فَإِنَّ الْعَزِيزُ لَا يَغْلِبُ قُدْرَتَهُ شَيْءٌ. والْحَكِيمُ تَأْتِي أَفْعَالُهُ عَنْ قدر مُحكم. [4] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 4] ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

[سورة الجمعة (62) : آية 5]

(4) الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ إرْسَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ وَالتَّزْكِيَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ إِفَاضَةِ هَذِهِ الْكَمَالَاتِ عَلَى الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةُ عَلَمٍ وَلَا كِتَابٍ، وَمِنْ لِحَاقِ أُمَمِ آخَرِينَ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَزَالَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْكِتَابِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَذَا أجدع لأنفهم إِذْ حَالُوا أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ أُمِّيٌّ بِشَرِيعَةٍ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَلْتَحِقَ بِأُمِّيَّةِ أُمَمٍ عَظِيمَةٍ كَانُوا أَمْكَنَ فِي الْمَعَارِفِ وَالسُّلْطَانِ. وَقَالَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمرَان: 13] يَخْتَصُّ بِهِ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ [الْجُمُعَة: 5] الْآيَات. [5] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 5] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى آتَى فَضْلَهُ قَوْمًا أُمِّيِّينَ أَعْقَبَهُ بِأَنَّهُ قَدْ آتَى فَضْلَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اقْتَنَعُوا مِنَ الْعِلْمِ بِأَنْ يَحْمِلُوا التَّوْرَاةَ دُونَ فَهْمٍ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ ادِّخَارَ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ وَانْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ كَافٍ فِي التَّبَجُّحِ بِهَا وَتَحْقِيرِ مَنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةَ بِأَيْدِيهِمْ، فَالْمُرَادُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ مَثَلًا بِحَالِ حِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا لَا حَظَّ لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْحَمْلُ دُونَ عِلْمٍ وَلَا فَهْمٍ. ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الْيَهُودِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ أَدْخَلُوا فِيهِ مَا صَيَّرَهُ مَخْلُوطًا بِأَخْطَاءٍ وَضَلَالَاتٍ وَمُتَّبَعًا فِيهِ هَوَى نُفُوسِهِمْ وَمَا لَا يَعْدُو نَفْعَهُمُ الدُّنْيَوِيَّ وَلَمْ يَتَخَلَّقُوا بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالدُّعَاءِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَقَدْ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْعَهْدِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيءِ الَّذِي يَأْتِي لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ رِبْقَةِ الضَّلَالِ فَهَذَا وَجْهُ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِذَلِكَ كَانَتْ هِيَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ

بَعْضِهِمْ: افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ. فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِشَبَهِهِمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. وَمَعْنَى حُمِّلُوا: عُهِدَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَكُلِّفُوا بِمَا فِيهَا فَلَمْ يَفُوا بِمَا كُلِّفُوا، يُقَالُ: حَمَّلْتُ فُلَانًا أَمْرَ كَذَا فَاحْتَمَلَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا سُورَةُ الْأَحْزَابِ [72] . وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةٌ، بِتَشْبِيهِ إِيكَالِ الْأَمْرِ بِحَمْلِ الْحِمْلِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا تَمْثِيلًا لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَهُوَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وَفَائِهِمْ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُ مِنْ تَحَمُّلِهِمْ إِيَّاهُ. وَجُمْلَةُ يَحْمِلُ أَسْفاراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْحِمَارِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْحِمَارِ هُنَا تَعْرِيفُ جِنْسٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا نَكِرَةٌ مَعْنًى، فَصَحَّ فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُ الْحَالِيَّةِ وَالْوَصْفِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْنِيعَ حَالِهِمْ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ الْمُتَعَارَفِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِذَمِّ حَالِهِمْ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ. وبِئْسَ فِعْلُ ذَمٍّ، أَيْ سَاءَ حَالُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى جَهْلِهِمْ بِمَعَانِي التَّوْرَاةِ تَكْذِيبًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ. ومَثَلُ الْقَوْمِ، فَاعل بِئْسَ. وأغنى هَذَا الْفَاعِلُ عَنْ ذِكْرِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ حَالُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْلُكْ فِي هَذَا التَّرْكِيب طَرِيق الْإِبْهَام عَلَى شَرْطِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ مَا بَيَّنَهُ بِالْمَثَلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. فَصَارَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمَثَلِ ثَقِيلًا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتِ. وَهَذَا مِنْ تَفَنُّنَاتِ الْقُرْآنِ. والَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةُ الْقَوْمِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّ سُوءَ حَالِهِمْ لَا يُرْجَى لَهُمْ مِنْهُ انْفِكَاكٌ لِأَنَّ اللَّهُ حَرَمَهُمُ اللُّطْفَ وَالْعِنَايَةَ بِإِنْقَاذِهِمْ لِظُلْمِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ

[سورة الجمعة (62) : آية 6]

على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ دُونَ نَظَرٍ، وَعَلَى آيَاتِ اللَّهِ بِالْجَحْدِ دُونَ تَدَبُّرٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَ الْيَهُودِ فِي ثَلَاثٍ» ، أَيْ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: افْتَخَرُوا بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فَكَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْجُمُعَة: 6] . وَبِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَشَبَّهَهُمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَبِالسَّبْتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرَعَ اللَّهُ لَهُم الْجُمُعَة. [6] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 6] قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) أَعْقَبَ تَمْثِيلَ حَالِ جَهْلِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ بِذِكْرِ زَعْمٍ مِنْ آثَارِ جَهْلِهِمْ بِهَا إِبْطَالًا لِمَفْخَرَةٍ مَزْعُومَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَبَقِيَّةُ النَّاسِ لَيْسُوا مِثْلَهُمْ. وَذَلِكَ أَصْلٌ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً على أَن شؤونهم أفضل من شؤون غَيْرِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمُ السَّبْتَ أَفْضَلَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّيِّينَ مِثْلُهُ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْجُمُعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ اغْتَاظُوا، وَفِي «الْكَشَّافِ» «افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِالسَّبْتِ وَأَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرْعَ اللَّهُ لَهُمُ الْجُمُعَةَ» . وَافْتُتِحَ بِفِعْلِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ. والَّذِينَ هادُوا: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَهُودًا، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْيَهُودِ يَهُودًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هادُوا بِمَعْنَى تَابُوا لِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [156] . وَأَشْهَرُ وَصْفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ هُودٌ جَمْعُ هَائِدٍ مِثْلُ قُعُودٍ جَمْعُ قَاعِدٍ. وَأَصِلُ هُودٍ هُوُودٌ وَقَدْ تُنُوسِيَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنُودُوا بِهِ هُنَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ أَوْ هُوَ تَهَكُّمٌ. وَجِيءَ بِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ هُنَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ إِذْ قَدِ اشْتَهَرُوا بِهَذَا الزَّعْمِ وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ

: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ زَعْمَهُمْ هَذَا لَمَّا كَانَ بَاطِلًا بِالدَّلَائِلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُفْرَضُ وُقُوعُهُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُسْتَبْعَدُ وَكَأَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5] وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَهَذَا إِلْجَاءٌ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَهُمْ ثُبُوتُ شَكِّهِمْ فِيمَا زَعَمُوهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ: كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: 93] . وَوَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنَّ الْمَوْتَ رُجُوعُ الْإِنْسَانِ بِرُوحِهِ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ تَظْهَرُ فِيهَا آثَار رضى اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَوْ غَضَبِهِ لِيَجْزِيَهُ عَلَى حَسَبِ فِعْلِهِ. وَالنَّتِيجَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تُحَصِّلُ أَنَّهُمْ مِثْلُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآثَارِهِمَا، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَفْضَلَ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [الْمَائِدَة: 18] . وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يَعْرِضُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَمَا رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ ذَلِكَ» الْحَدِيثَ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ» إِلَى قَوْلِهِ: «قَالَ مُوسَى فَالْآنَ» . ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْفَوْزَ مَضْمُونٌ لَهُمْ كَمَا تَوَهَّمَ الْيَهُودُ. فَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَهُمْ عَامَّةٌ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْأَوْقَامُ وَالْغُرُورُ بَعْدَ انْقِرَاضِ عُلَمَائِهِمْ، فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ قَوْمٍ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فَوَصَفٌ لِأَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ وَأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ فَلَا

[سورة الجمعة (62) : آية 7]

تَعَارُضَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، فَلَوْ حَصَلَ لِأَحَدٍ يَقِينٌ بِالتَّعْجِيلِ إِلَى النَّعِيمِ لَتَمَنَّى الْمَوْتَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ كَحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْمَلُ حَالُ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ فِي قَوْلِهِ: جَرْيًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ وَحَالُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبِ يَوْمَ مُوتَةَ وَقَدِ اقْتَحَمَ صَفَّ الْمُشْرِكِينَ: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: لكنني أسأَل الرحمان مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةَ ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا الْمُتَقَدِّمَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَضْمُونَةُ الْجَزَاءِ الْأَحْسَنِ وَالْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ. وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: «مِنْ أَحَبِّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ. وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلَكِ الْمَوْت: «فَالْآن» . [7] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 7] وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْقَوْلَيْنِ قُصِدَ بِهِ تَحَدِّيهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءً لِلَّهِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مَعْذِرَةً لَهُمْ مِنْ عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ زِيَادَةُ الْكَشْفِ عَنْ بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] وَإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ بِتَحَقُقِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعُقُودِ [18] . وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يَتَمَنَّوْنَهُ الْمَنْفِيِ فَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ هُوَ سَبَبُ انْتِفَاءِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ أَلْقَى فِي نُفُوسِهِمُ الْخَوْفَ مِمَّا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ سَبَبُ صَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِتَقَدُمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

[سورة الجمعة (62) : آية 8]

وَ (مَا) مَوْصُولَة وعائدة الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ وَحَذْفُهُ أَغْلَبِيٌّ فِي أَمْثَالِهِ. وَالْأَيْدِي مَجَازٌ فِي اكْتِسَابِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْيَدَ يَلْزَمُهَا الِاكْتِسَاب غَالِبا. ومصدق «مَا قدمت أَيْدِيهُمْ» سَيِّئَاتُهُمْ وَمَعَاصِيهُمْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا ذَكَرْتُهُ هُنَا أَتَمُّ مِمَّا هُنَالِكَ فَأَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَالتَّقْدِيمُ: أَصْلُهُ جَعَلُ الشَّيْءِ مُقَدَّمًا، أَيْ سَابِقًا غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ يَقْعُوهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَا سَلَفَ مِنَ الْعَمَلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ الْمَرْءُ إِلَى مَكَانٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَبِأَحْوَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الظَّالِمِينَ فَشَمَلَ لَفْظُ الظَّالِمِينَ الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ظُلْمِهِمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَقَدْ وَصَفَ الْيَهُودَ بِالظَّالِمِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 140] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِحْجَامَهُمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خَوْفِ الْعِقَابِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَكُنِّيَ بِعِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ عَنْ عَدَمِ انْفِلَاتِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا فَفِي هَذَا وَعِيد لَهُم. [8] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 8] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) تَصْرِيحٌ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّذْيِيلُ مِنَ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْجَزَاءِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ بَعُدَ زَمَانُ وُقُوعِهَا لِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عِلْمِ اللَّهِ نِسْيَانًا، إِذْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْجُمُعَة: 6] ، وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [114] . وَوَصَفَ الْمَوْتَ بِ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَلَعَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ خَطَأٌ كَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:

[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 إلى 10]

إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَأَطْلَقَ الْفِرَارَ عَلَى شِدَّةِ الْحَذَرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. وَاقْتَرَانُ خَبَرِ (إِنَّ) بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لِأَنَّ اسْمَ (إِنَّ) نُعِتَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وَالْمَوْصُولُ كَثِيرًا مَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَعُومِلَ اسْمُ (إِنَّ) الْمَنْعُوتُ بِالْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ نَعْتِهِ. وَإِعَادَةُ (إِنَّ) الْأُولَى لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِ جَرِيرِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ ملك بِهِ تزجى الْخَوَاتِيمُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [30] . وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ أَيْضًا. وَالْإِنْبَاءُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِسَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعْرِيض بالوعيد. [9، 10] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : الْآيَات 9 إِلَى 10] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مُقَدِّمَاتٌ وَتَوْطِئَاتٌ لَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ «الْكَشَّافُ» مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَخَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالسَّبْتِ فَشَرَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكُنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً. اللَّام فِي قَوْلِهِ: لِلصَّلاةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ نَادَى مُنَادٍ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ النِّدَاءَ هُنَا هُوَ أَذَانُ الصَّلَاةِ. وَالْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ فِي لُغَةِ جُمْهُورِ الْعَرَبِ وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَبَنُو عَقِيلِ بِسُكُونِ الْمِيمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الصَّلَاةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ الْخَاصَّةُ بِيَوْمِ

الْجُمُعَةِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ شَرْعًا بِالتَّوَاتُرِ ثُمَّ تَقَرَّرَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَصَارَ دَلِيلُ وُجُوبِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَكَانَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَشْرُوعَةً مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْهِجْرَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَنْ يقدم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالُوا: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ مِثْلُ ذَلِكَ فَتَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ حَتَّى نَجْعَلَ يَوْمًا لَنَا نَذْكُرَ اللَّهَ وَنُصَلِّيَ فِيهِ. وَقَالُوا: إِنَّ لِلْيَهُودِ السَّبْتَ وَلِلنَّصَارَى الْأَحَدَ فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ. فَاجْتَمَعُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ وَذَكَّرَهُمْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّهُمْ بَلَغَهُمْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهُ يَوْمُ الْمُسْلِمِينَ. فَمَشْرُوعِيَّةُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالتَّجْمِيعُ فِيهِ إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَغْبَةَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ إِجَابَتِهِ رَغْبَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 144] . وَأَمَّا أَوَّلُ جُمُعَةٍ جمّعها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ لِلْهِجْرَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَأَقَامَ بِقُبَاءَ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَدْرَكَهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ فِي بَطْنِ وَادٍ لِبَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَسْجِدٌ، فَجَمَّعَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَخَطَبَ فِيهِ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ ذَكَرَ نَصَّهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَقَوْلُهُمْ: «فَأَدْرَكَهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً يَوْمَئِذٍ وَأَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَازِمًا أَنْ يُصَلِّيَهَا بِالْمَدِينَةِ فَضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَأَدَّاهَا فِي مَسْجِدِ بَنِي سَالِمٍ، ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ الْقَابِلَةَ فِي مَسْجِدِهِ بَالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ جُمُعَةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ الثَّانِيَةَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ. وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ فِي

مَسْجِدِ جُؤَاثَاءَ (¬1) مِنْ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَهِيَ مَدِينَةُ الْخَطِّ قَرْيَةٌ لِعَبْدِ الْقَيْسِ. وَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَهْلُ جُؤَاثَاءَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَتَقَرَّرَ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: مَعْنَى الْعَرُوبَةِ الرَّاحَةُ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ اه. قُلْتُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَهُوَ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ وَقَدْ كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ عِيدَ الْأُسْبُوعِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَقَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الرَّاحَةُ فِيهِ عَنِ الشُّغْلِ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَبْتَدِئُونَ عَدَدَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ وَهُوَ الْمُوَالِي لِلسَّبْتِ وَتَبِعَهُمُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ وَلِذَلِكَ سَمَّى الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ يَوْمَ الْأَحَدِ أَوَّلَ. فَأَيَّامُ الْأُسْبُوعِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْقَدِيمِ هِيَ: أَوَّلُ، أَهْوَنُ جُبَارٌ، (كَغُرَابٍ وَكِتَابٍ) ، دُبَارٌ (كَذَلِكَ) ، مُؤْيِسٌ (مَهْمُوزًا) ، عَرُوبَةُ، شِيَارٌ (بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مُخَفَّفَةٌ) . ثُمَّ أَحْدَثُوا أَسْمَاءً لِهَذِهِ الْأَيَّامِ هِيَ: الْأَحَدُ، الِاثْنَيْنُ، الثُّلَاثَاءُ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ الْأُولَى وَبِضَمِّهَا-، الْإِرْبِعَاءُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ-، الْخَمِيسُ، عَرُوبَةُ أَوِ الْجُمُعَةُ- فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ- السَّبْتُ.- وَأَصْلُ السَّبْتِ: الْقَطْعُ، سُمِّيَ سَبْتًا عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِيهِ الْعَمَلَ، وَشَاعَ ذَلِكَ الِاسْمُ عِنْدَ الْعَرَبِ-. وَسَمَّوُا الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ بَعْدَهُ بِأَسْمَاءٍ مُشْتَقَّةٍ عَنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرُ أَسْمَاءٍ لِلْأَيَّامِ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْهَا «ذُكِرَتْ أَيَّامُ بَدْءِ الْخَلْقِ بِأَعْدَادِهَا أَوَّلُ وَثَانٍ» إِلَخْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَ الْيَوْمِ ¬

(¬1) جؤاثاء بِضَم الْجِيم وهمزة مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف وَفِي آخِره ألف ممدودة وَقد تقصر. مَدِينَة بِلَاد الْخط من الْبَحْرين (الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الرماح الخطيّة لِأَنَّهَا تجلب إِلَيْهِ من بِلَاد الْهِنْد والخطّ السَّاحِل) وَهَذَا الْخط يسمّى سيف عمان لِأَنَّهُ يَمْتَد إِلَى عمان. وَمن مدنه قطر والقطيف (بِفَتْح الْقَاف وَكسر الطّاء) وَالْفَقِير مُصَغرًا (وَهَذِه الْبِلَاد تعرف فِي زَمَاننَا سنة 1385 بَعْضهَا بِبِلَاد الكويت، وَبَعضهَا بجزائر الْبَحْرين، وَبَعضهَا بِبِلَاد عمان، وَبَعضهَا من الْبِلَاد السعودية مثل القطيف وهجرا.

السَّادِسِ. وَسَمَّتْهُ التَّوْرَاةُ سَبْتًا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قِيلَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى يَوْمَ عَرُوبَةَ الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ جَدُّ أَبِي قُصَيٍّ. وَكَانَ قُرَيْشٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إِلَى كَعْبٍ قَالَ: وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. لَمْ يُسَمَّ يَوْمُ عَرُوبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مُذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ. جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدَ الْأُسْبُوعِ فَشَرَعَ لَهُمُ اجْتِمَاعَ أَهْلِ الْبَلَدِ فِي الْمَسْجِدِ وَسَمَاعَ الْخُطْبَةِ لِيُعَلَّمُوا مَا يُهِمُّهُمْ فِي إِقَامَة شؤون دِينِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ. قَالَ القفّال: مَا جَعَلَ اللَّهُ النَّاسَ أَشْرَفَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لَمْ يُخْفِ عِظَمَ الْمِنَّةِ وَجَلَالَةَ قَدْرِ مَوْهِبَتِهِ لَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ لِيَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ مَعْرُوفَةٍ يَوْمٌ مِنَ الْأُسْبُوعِ مُعَظَّمٌ، فَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى الْأَحَدُ وَلِلْمُسْلِمِينَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ» ، أَيْ آخِرُ الدُّنْيَا السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ بِ «السَّابِقُونَ» ) . بَيْدَ أَنَّهُمْ (أَيِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ. وَلَمَّا جُعِلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ شُكْرٍ وَتَعْظِيمِ نِعْمَةٍ احْتِيجَ فِيهِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ شُهْرَتُهُ فَجُمِّعَتِ الْجَمَاعَاتُ لِذَلِكَ، وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْخُطْبَةِ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَحَثًّا عَلَى اسْتِدَامَتِهَا. وَلَمَّا كَانَ مَدَارُ التَّعْظِيمِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ جُعِلَتِ الصَّلَاةُ لِهَذَا الْيَوْمِ وَسَطَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ الِاجْتِمَاعُ وَلَمْ تَجُزْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَدْعَى الِاجْتِمَاعِ اه. كَلَامُ الْقَفَّالِ. وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا عَمِلَهُ النَّصَارَى بَعْدَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ مِنْ تَعْوِيضِ يَوْمِ السَّبْتِ بِيَوْمِ الْأَحَدِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ يَوْمَ الْأَحَدِ فِيهِ قَامَ عِيسَى مِنْ قَبْرِهِ. فَعَوَّضُوا الْأَحَدَ عَنْ يَوْمِ السَّبْتِ بِأَمْرٍ مِنْ قُسْطَنْطِينَ سُلْطَانِ الرُّومِ فِي سَنَةِ 321 الْمَسِيحِيِّ. وَصَارَ دِينًا لَهُمْ بِأَمْرِ أَحْبَارِهِمْ. وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلَاةُ ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَتْ صَلَاةً زَائِدَةً عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَأُسْقِطَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَانِ لِأَجْلِ الْخُطْبَتَيْنِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا قُصِرَتِ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ (¬1) . ¬

(¬1) رَوَاهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْجَصَّاص فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» لَهُ جُزْء 3 ص 548.

وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ إِذْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ خُطْبَتَانِ مَعَ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ كُلُّ خُطْبَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ وَهَذَا سَبَبُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمَا قَائِمَتَانِ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْجُلُوسُ خَفِيفًا. غَيْرَ أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ لَمْ تُعْطَيَا أَحْكَامَ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا يَضُرُّ فَوَاتُ إِحْدَاهُمَا أَوْ فَوَاتُهُمَا مَعًا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَسْبُوقِ تَعْوِيضُهُمَا وَلَا سُجُودٌ لِنَقْصِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، رُوِيَ عَنْ عَطاء وَمُجاهد وطاووس: أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا صَلَاةَ الظُّهْرِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إِلَيْهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَهُوَ أَرَادَ إِنْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ وَرَكْعَةٌ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (¬1) . وَجُعِلَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ جَهْرًا مَعَ أَنَّ شَأْنَ صَلَوَاتِ النَّهَارِ إِسْرَارُ الْقِرَاءَةِ لِفَائِدَةِ إِسْمَاعِ النَّاسِ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا أُسْمِعُوا الْخُطْبَةَ فَكَانَتْ صَلَاةَ إِرْشَادٍ لِأَهْلِ الْبَلَدِ فِي يَوْمٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ صَلَّاهَا لَا يُصَلِّي مَعَهَا ظُهْرًا فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ. وَرَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فِي دِمَشْقَ قَامَ إِمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ ظُهْرًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ. وَإِنَّمَا اخْتلف الْأَئِمَّة فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَزُفَرُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ الْمَعْرُوفَةُ فَرْضُ وَقْتِ الزَّوَالِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَدَلًا عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَيْ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ لِعُذْرٍ وَنَحْوِهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ (الْمَرْجُوعِ عَنْهُ) وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ بِالْأَصْلِ هُوَ الظُّهْرُ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ بَدَلٌ عَنِ الظُّهْرِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْفَرْضُ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَالتَّعْيِينُ لِلْمُكَلَّفِ فَأَشْبَهَ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ (لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ لَا يَأْثَمُ فِيهِ فَاعِلُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَتَارِكُ الْجُمُعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ آثِمٌ) . ¬

(¬1) ذكره الْجَصَّاص فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» ص 548 ج 3.

قَالُوا: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي حُرٍّ مُقِيمٍ صَلَّى الظُّهْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَبْطُلْ فَرْضُهُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ مُطْلَقًا وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ لَا يَبْطُلُ ظُهْرُهُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ أَمْ لَا، خَرَجَ إِلَيْهَا أَمْ لَا (يَعْنِي فَإِنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرًا آخَرَ) . وَالنِّدَاءُ لِلصَّلَاةِ: الْأَذَانُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ أَذَانُ الظُّهْرِ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ زَادَ أَذَانًا عَلَى الزَّوْرَاءِ (الزَّوْرَاءُ مَوْضِعٌ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ) . وَرُبَّمَا وُصِفَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْأَذَانِ الثَّانِي. وَمَعْنَى كَوْنِهِ ثَانِيًا أَنَّهُ أَذَانٌ مُكَرَّرٌ لِلْأَذَانِ الْأَصْلِيِّ فَهُوَ ثَانٍ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَلَا يُرِيد أَن يُؤَذَّنُ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَذَانِ الَّذِي يُؤَذَّنُ بِهِ وَقْتَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَيْ يُؤَذَّنُ بِهِ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ صَوْمَعَةٌ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَصْفُهُ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ وَإِنَّمَا يُعْنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ ثَالِثٌ بِضَمِيمِهِ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ. وَلَا يُرَادُ أَنَّ النَّاسَ يُؤَذِّنُونَ أَذَانَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا زَادَهُ عُثْمَانُ لِيَسْمَعَ النِّدَاءَ مَنْ فِي أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَحْقِيقِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ هَذَا الْأَذَانَ الثَّانِي يُؤَذَّنُ بِهِ عَقِبَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِ الرِّوَايَاتِ وَالرُّوَاةِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَذَّنُ بِأَذَانِ الزَّوْرَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ يَخْرُجُ الْإِمَامُ فَيُؤَذَّنُ بِالْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : «لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ زَادَ النِّدَاءَ عَلَى الزَّوْرَاءِ لِيَشْعُرَ النَّاسُ بِالْوَقْتِ فَيَأْخُذُوا بِالْإِقْبَالِ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَخْرُجُ عُثْمَانُ فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أُذِّنَ الثَّانِي الَّذِي كَانَ أَوَّلًا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْطُبُ. ثُمَّ يُؤَذَّنُ الثَّالِثُ يَعْنِي بِهِ الْإِقَامَةَ» اه.

وَقَالَ فِي «الْأَحْكَامِ» : «وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ (أَيْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) ثَالِثًا لِأَنَّهُ إِضَافَةٌ إِلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ، (أَيْ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَشْرُوعَةً وَسَمَّى الْإِقَامَةَ أَذَانًا مُشَاكَلَةً أَوْ لِأَنَّهَا إِيذَانٌ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ) كَمَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ» يَعْنِي بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ فَجَعَلُوا الْأَذَانَاتِ ثَلَاثَةً فَكَانَ وَهْمًا. ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ اه. فَتَوَهَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْأَذَانَ لِصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لِهَذَا تَرَاهُمْ يُؤَذِّنُونَ فِي جَوَامِعِ تُونِسَ ثَلَاثَةَ أَذَانَاتٍ وَهُوَ بِدْعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : فَأَمَّا بِالْمَغْرِبِ (أَيْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ) فَيُؤَذِّنُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ لجهل الْمُفْتِينَ قَالَ فِي «الرِّسَالَةِ» : «وَهَذَا الْأَذَانُ الثَّانِي أَحْدَثَهُ بَنُو أُمَيَّةَ» فَوَصَفَهُ بِالثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ أَنَّ الَّذِي زَادَهُ عُثْمَانُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَلَمْ يَرْوِهِ مُسْلِمٌ وَلَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَالسَّبَبُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا كَانَ بِالْكُوفَةِ لم يؤذّن للْجُمُعَة إِلَّا أَذَانًا وَاحِدًا كَمَا كَانَ فِي زمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُلْغِيَ الْأَذَانُ الَّذِي جَعَلَهُ عُثْمَانُ بِالْمَدِينَةِ. فَلَعَلَّ الَّذِي أَرْجَعَ الْأَذَانَ الثَّانِيَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمَجْمُوعَةِ» : إِنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْدَثَ أَذَانًا ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي نِيطَ بِهِ الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ النِّدَاءُ الْأَوَّلُ، وَمَا كَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي إِلَّا تَبْلِيغًا لِلْأَذَانِ لِمَنْ كَانَ بَعِيدًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ لِلْجُمُعَةِ. وَالسَّعْيُ: أَصْلُهُ الِاشْتِدَادُ فِي الْمَشْيِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَشْيِ بِحِرْصٍ وَتَوَقِّي التَّأَخُّرِ مَجَازًا. وذِكْرِ اللَّهِ فُسِّرَ بِالصَّلَاةِ وَفُسِّرَ بِالْخُطْبَةِ، بِهَذَا فَسَّرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ «وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ» . قُلْتُ: وَإِيثَارُ ذِكْرِ اللَّهِ هُنَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِلَى الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ

لِتَتَأَتَّى إِرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَشَرْطِيَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُطْبَةِ لَيْسَتْ مُسَاوِيَةً لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا فِي أَصْلِ حُرْمَةِ التَّخَلُّفِ عَنْ حُضُورِ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا خَرَجَ ابْتَدَأَ بِالْخُطْبَةِ فَكَانَتِ الْخُطْبَةُ مِنَ الذِّكْرِ وَفِي ذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلَفْظِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا نُهُوا عَنِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَشْغَلُهُمْ وَلِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ لِتَرْكِ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْجُمُعَةَ إِقْبَالًا عَلَى عِيرِ تِجَارَةٍ وَرَدَتْ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: 11] . وَمِثْلُ الْبَيْعِ كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَبَعْدَ كَوْنِ الْبَيْعِ وَمَا قيس عَلَيْهِ مَنْهِيّا عَنهُ فَقَدِ اخْتلف فِي فسخ الْعُقُودِ الَّتِي انْعَقَدَتْ وَقْتَ الْجُمُعَةِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا لِدَلِيلٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : إِنَّ الْبَيْعَ الْوَاقِعَ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ يُفْسَخُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسَخُ. وَجَعَلَهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَأَمَّا النِّكَاحُ الْمَعْقُودُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَة: فَفِي «العتيبة» عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يُفْسَخُ. وَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرَ الْقِيَاسَ مُوجِبًا لِفَسْخِ الْمَقِيسِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَيمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تُفْسَخُ الشَّرِكَةُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْوَاقِعَةُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِنَدْرَةِ وُقُوعِ أَمْثَالِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَخِطَابُ الْآيَةِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَشَذَّ قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَخِطَابُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِ إِذَا حَلَّ بِقَرْيَةٍ الْجُمُعَةَ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السَّعْيَ إِلَيْهَا. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ فَإِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَمَانٌ تَقَعُ فِيهِ أَعْمَالٌ مِنْهَا الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ فِيهِ، فَنَزَلَ مَا يَقَعُ فِي الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ.

[سورة الجمعة (62) : آية 11]

وَيَجُوزُ كَوْنُ مِنْ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: 40] ، أَيْ فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرٍ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا، وَأُمِرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ، أَيْ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْبُيُوعَاتِ. فَلَفْظُ خَيْرٌ اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ: أَخْيَرُ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْمُفَضَّلُ: الصَّلَاةُ، أَيْ ثَوَابُهَا. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ: مَنَافِعُ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. وَإِنَّمَا أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لَهُمْ سَعَةً مِنَ النَّهَارِ يَجْعَلُونَهَا لِلْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنِ ابْتِغَاءِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ فَلَا يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ. وَالْأَمْرُ فِي فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِلْإِبَاحَةِ. وَالْمُرَادُ بِ فَضْلِ اللَّهِ: اكْتِسَابُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً فَهُوَ احْتِرَاسٌ مِنَ الِانْصِبَابِ فِي أَشْغَالِ الدُّنْيَا انْصِبَابًا يُنْسِي ذِكْرَ اللَّهِ، أَوْ يَشْغَلُ عَنِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْفَلَاحَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مَرْضَاةِ الله تَعَالَى. [11] [سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 11] وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: 9] الْآيَةَ. عُطِفَ التَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَسُلِكَتْ فِي الْمَعْطُوفَةِ طَرِيقَةُ الِالْتِفَاتِ لخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَانًا بِأَنِّهُمْ أَحْرِيَاءُ أَنْ يُصْرَفَ لِلْخِطَابِ عَنْهُمْ فَحُرِمُوا مِنْ عِزِّ الْحُضُورِ. وَأُخْبِرَ عَنْهُمْ بِحَالِ الْغَائِبِينَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا رَأَيْتُمْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا فَلَا تَنْفَضُّوا إِلَيْهَا. وَمِنْ

مُقْتَضَيَاتِ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ هُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّوْبِيخُ غَيْرَ شَامِلٍ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ بَقُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خُطْبَتِهِ وَلَمْ يَخْرُجُوا لِلتِّجَارَةِ وَلَا لِلَّهْوِ. وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ طَعَامًا فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَنَا فِيهِمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً اه. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُ بَقِيَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقاص، وَعبد الرحمان بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا» . وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ بِتِجَارَةٍ فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهُ بِالدُّفُوفِ فَخَرَجَ النَّاسُ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءٌ شَدِيدٌ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بِتِجَارَةٍ مِنْ زَيْتِ الشَّامِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «وَطَعَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ خَشْيَةَ أَنْ يُسْبَقُوا إِلَى ذَلِكَ» . وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «كَانَتِ الْجَوَارِي إِذَا نُكِحْنَ يُمَرَّرْنَ بِالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا» ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً، فَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ تَارَةً لِأَجْلِ مَجِيءِ الْعِيرِ وَتَارَةً لِحُضُورِ اللَّهْوِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْعِيرَ نَزَلَتْ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أَحْجَارُ الزَّيْتِ فَتَوَهَّمَ الرَّاوِي فَقَالَ: بِتِجَارَةِ الزَّيْتِ. وَضَمِيرُ إِلَيْها عَائِدٌ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهْوِ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ عِنْدَهُ هُوَ مَجِيءُ عِيرِ دِحْيَةَ مِنَ الشَّامِ. وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ ضَمِيرِ اللَّهْوِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، أَوْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَلَعَلَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي أَفَادَتْهُ أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لَهْواً تَقْسِيمٌ لِأَحْوَالِ الْمُنْفَضِّينَ إِذْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَوِي الْعَائِلَاتِ خَرَجُوا لِيَمْتَارُوا لِأَهْلِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ الشَّبَابِ لَا هِمَّةَ لَهُمْ فِي الْمِيرَةِ وَلَكِنْ أَحَبُّوا حُضُورَ اللَّهْوِ. وإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الِانْفِضَاضَ مَضَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَزَلَ هَذَا التَّوْبِيخُ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالتَّحْرِيضِ. وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: 83] وَقَوْلُهُ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا [التَّوْبَة: 92] الْآيَةَ. وَالِانْفِضَاضُ: مُطَاوِعُ فَضَّهُ إِذَا فَرَّقَهُ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ، أَيْ بِمَعْنًى مُطْلَقٍ كَمَا تَفَرَّقَ. قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . وَقَوْلُهُ: أَوْ لَهْواً فِيهِ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ مِنْهُمْ مَنِ انْفَضَّ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْفَضَّ لِأَجْلِ اللَّهْوِ، وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْها تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ (تِجَارَةٍ) لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَانَتِ الدَّاعِيَ الْأَقْوَى لِانْفِضَاضِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَتَرَكُوكَ قائِماً تَفْظِيعٌ لِفِعْلِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِي سَمَاعِ وعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَرَكُوكَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ تَرَكُوكَ فِي حَالِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فَأَضَاعُوا عِلْمًا عَظِيمًا بِانْفِضَاضِهِمْ إِلَى التِّجَارَةِ وَاللَّهْوِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ. وَأَمَرَ الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعِظَهُمْ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُضُورِ الْجُمُعَةِ خَيْرٌ مِنْ فَائِدَةِ التِّجَارَةِ وَلَذَّةِ اللَّهْوِ. وَكَذَلِكَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ لِلَّذِينَ يُؤْثِرُونَ طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مِنْ وَسَائِلِ الِارْتِزَاقِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ جَزَاءً فِي الدُّنْيَا قَبْلَ جَزَاءِ الْآخِرَةِ، فَرُبَّ رِزْقٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْحَرِيصُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَرُبَّ رِزْقٍ قَلِيلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَعُودُ عَلَيْهِ بِصَلَاحٍ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] .

وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ نَوْعِ قَوْمِهِ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً [نوح: 10- 12] . وَذُيِّلَ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَرْضَى عَنْهُ سَلِيمًا مِنَ الْأَكْدَارِ وَالْآثَامِ، وَلِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ غَيْرُ اللَّهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَرَجَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ.

63- سورة المنافقون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 63- سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ» اعْتِبَارًا بِذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ فِيهَا. وَوَقَعَ هَذَا الِاسْمُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: «فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ» . وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ فَيُحَرِّضُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فَيُقْرِعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ» . وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَبَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ الْمُنَافِقُونَ» عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمَغْرِبِيَّةِ وَالْمَشْرِقِيَّةِ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَجِّ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَوَقَعَ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ» . وَوَقَعَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ: أَنَّ

ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ» (وَغَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَغَزْوَةُ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ) . وَرَجَّحَ أَهْلُ الْمَغَازِي وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» وَابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. لِأَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» ، يُنَاسِبُ الْوَقْتَ الَّذِي لَمْ يَضْعُفْ فِيهِ شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ أَمْرُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ضَعْفٍ وَكَانَتْ غَزْوَةَ تَبُوكَ فِي آخر سني النبوءة وَقَدْ ضَعُفَ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا «مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ (¬1) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا جُهَنِيًّا حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، قَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» (أَيِ اتْرُكُوا دَعْوَة الْجَاهِلِيَّة: يَا آل كَذَا) فَسَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: أَقَدْ فَعَلُوهَا أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلُّ» . وَقَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَسَمِعَتُ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُ بِهِ عَمِّي فَذكره للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مَثْلُهُ فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ لِي: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ أَعْرَابِيٌّ وَأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ ضَرَبَ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى رَأْسِهِ بِخَشَبَةٍ فَشَجَّهُ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ» يَعْنِي الْأَعْرَابَ، وَذَكَرَ أَهْلَ السَّيَرِ أَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ مِنْ غِفَارٍ اسْمُهُ جَهْجَاهٌ أَجِيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ جُهَنِيٌّ اسْمُهُ سِنَانٌ حَلِيفٌ لِابْنِ ¬

(¬1) كسع ضربه على دبره، وَكَانَ ذَلِك لخصومة فِي حَوْض مَاء شربت مِنْهُ نَاقَة الْأنْصَارِيّ.

أغراضها

أُبَيٍّ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْحَادِثَة وَاحِدَة. واضطراب الرَّاوِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي صِفَتِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ حَادِثَتَانِ فِي غَزَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي بَلَغَنِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَإِنَّ زَيْدًا لَكَاذِبٌ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْأُولَى قَالَهَا ابْنُ أُبَيٍّ فِي سَوْرَةِ غَضَبٍ تَهْيِيجًا لِقَوْمِهِ ثُمَّ خَشِيَ انْكِشَافَ نِفَاقِهِ فَأَنْكَرَهَا. وَأَمَّا الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّمَا أَدْرَجَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فِي حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا قَالَهَا ابْنُ أُبَيٍّ فِي سُورَةِ النَّاصِحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ حِكَايَتِهَا. وَعَلَى الْأَصَحِّ فَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ تَكُونُ نَزَلَتْ مَعَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ أَوْ قَبْلَهَا بِقَلِيلٍ وَهُوَ بعيد. أغراضها فَضْحُ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ بِعَدِّ كَثِيرٍ مِنْ دَخَائِلِهِمْ وَتَوَلُّدِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضِ مِنْ كَذِبٍ، وَخَيْسٍ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَاضْطِرَابٍ فِي الْعَقِيدَةِ، وَمِنْ سَفَالَةِ نُفُوسٍ فِي أَجْسَامٍ تَغُرُّ وَتُعْجِبُ، وَمِنْ تَصْمِيمٍ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَعَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنْهُ، وَكَانَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ آيَاتِ السُّورَةِ الْمُفْتَتَحِ بِ إِذا خُصَّ بِغَرَضٍ مِنْ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ جَرَّتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَصُّلِ مِمَّا قَالَهُ. وَخُتِمَتْ بِمَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَثِّهِمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالِادِّخَارِ لِلْآخِرَةِ قَبْلَ حُلُول الْأَجَل. [1] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ

(1) لمَّا كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عقب خُصُومَة الْمُهَاجِرِي والأنصاري وَمَقَالَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي شَأْنِ الْمُهَاجِرِينَ. تَعَيَّنَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ التَّعْرِيضُ بِكَذِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَبِنِفَاقِهِ فَصِيَغَ الْكَلَامُ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ الْمُنَافِقِينَ لِتَجَنُّبِ التَّصْرِيحِ بِالْمَقْصُودِ عَلَى طَرِيقَةِ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» وَمُرَادُهُ مَوْلَى بَرِيرَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا لِعَائِشَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَابْتُدِئَ بِتَكْذِيبِ مَنْ أُرِيدَ تَكْذِيبُهُ فِي ادِّعَائِهِ الْإِيمَانَ بِصدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ إِشْعَارًا بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ، وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ، لِأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِبَارَاتٍ كَثِيرَةً تُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلَ نُطْقِهِمْ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. وَيَجُوزُ أَن يَكُونُوا تواطؤوا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ كُلَّمَا أَعْلَنَ أَحَدُهُمُ الْإِسْلَامَ. وَهَذَا أَلْيَقُ بِحِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِكَلِمَةِ قالُوا دُونَ نَحْوِ: زَعَمُوا. وإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي بِقَرِينَةٍ جَعَلَ جُمْلَتَيْهَا مَاضِيَتَيْنِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِفَعْلِ قالُوا وَهُوَ جَوَابُ إِذا. فَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ. ونَشْهَدُ خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إِذْ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَيِ الْمُعَايَنَةِ، وَالْمُعَايَنَةُ أَقْوَى طُرُقِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ: أَشْهَدُ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْيَقِينِ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ. وَكَثُرَ أَنْ يُجَابَ بِمِثْلِ مَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ: نَشْهَدُ لَيْسَ إِنْشَاءً. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلَهُ صِيغَةَ يَمِينٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إِعْلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعلام الْمُسْلِمِينَ بِطَائِفَةٍ مُبْهَمَةٍ شَأْنُهُمُ النِّفَاقُ لِيَتَوَسَّمُوهُمْ وَيَخْتَبِرُوا أَحْوَالَهُمْ وَقَدْ يتلَقَّى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ تَعْيِينَهُمْ أَوْ تَعْيِينَ بَعْضِهِمْ.

والْمُنافِقُونَ جَمْعُ مُنَافِقٍ وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَشْهَدُ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لِدَفْعِ إِيهَامِ مَنْ يَسْمَعُ جُمْلَةَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِجُمْلَةِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مَحْفُوفِينَ بِفِئَامٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَبْثُوثِينَ بَيْنَهُمْ هِجِّيرَاهُمْ فِتْنَةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا دَفَعَ الْإِيهَامِ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِرَاسِ. وَعُلِّقَ فِعْلُ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ (إِنَّ) فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَقَدْ عَدُّوا (إِنَّ) الَّتِي فِي خَبَرِهَا لَامُ ابْتِدَاءِ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ لِأَفْعَالِ الْقَلْبِ عَنِ الْعَمَلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ وَأَنَّ حَقَّهَا أَنْ تَقَعَ قَبْلَ (إِنَّ) وَلَكِنَّهَا زُحْلِقَتْ فِي الْكَلَامِ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ مُؤَكِّدَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ، وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهَ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا نَشْهَدُ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتُقَوِّيَ الْحُكْمَ. وَجِيءَ بِفِعْلِ يَشْهَدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ لِلْمُشَاكَلَةِ حَتَّى يَكُونَ إِبْطَالُ خَبَرِهِمْ مُسَاوِيًا لِإِخْبَارِهِمْ. وَالْكَذِبُ: مُخَالَفَةُ مَا يُفِيدُهُ الْخَبَرُ لِلْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ، أَيِ الْوُجُودِ فَمَعْنَى كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ كَاذِبُونَ هُنَا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَنَّ خَبَرَهُمْ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ بِهِ وَلَا يُوَافِقُ قَوْلُهُمْ مَا فِي نُفُوسِهِمْ. وَبِهَذَا بَطَلَ احْتِجَاجُ النَّظَّامِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ الْكَذِبَ مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ لِأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا نَشْهَدُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الرَّدِّ الْقَزْوِينِيُّ فِي «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» وَفِي «الْإِيضَاحِ» . وَجُمْلَةُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ مَبْنِيَّة لِجُمْلَةِ يَشْهَدُ مثل سابقتاها.

[سورة المنافقون (63) : آية 2]

[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 2] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ تَكْذِيبَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي قَوْلهم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: 1] يُثِيرُ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ أَيْمَانِهِمْ لَدَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يُضْمِرُونَ بُغْضَهُ فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ تَقِيَّةً يَتَّقُونَ بِهَا وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْحَلِفِ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْجُنَّةُ: مَا يُسْتَتَرُ بِهِ وَيُتَّقَى وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الدِّرْعُ جُنَّةً. وَالْمَعْنَى: جَعَلُوا أَيْمَانَهُمْ كَالْجُنَّةِ يُتَّقَى بِهَا مَا يَلْحَقُ مِنْ أَذَى. فَلَمَّا شُبِّهَتِ الْأَيْمَانُ بِالْجُنَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِتَشْبِيهِ الْحَلِفِ بِاتِّخَاذِ الْجُنَّةِ، أَيِ اسْتِعْمَالِهَا، فَفِي اتَّخَذُوا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِحَلِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِهَا، بَلْ هُوَ أَعَمُّ، وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ حَمْلُ ضَمَائِرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الْآيَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَيِ اتَّخَذَ الْمُنَافِقُونَ كُلُّهُمْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، أَيْ كَانَتْ تِلْكَ تَقِيَّتُهُمْ، أَيْ تِلْكَ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِيهِمْ. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَفْرِيعٌ لِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْحَلِفِ الْكَاذِبِ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا حَلَفُوا عَلَى الْكَذِبِ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا اتِّهَامَ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ بِالنِّفَاقِ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَكْرِ بِالْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ إِعْرَاضٌ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِسُلُوكِهَا. وَفِعْلُ (صَدُّوا) هُنَا قَاصِرٌ الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصَّادِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ لِتَفْظِيعِ حَالِهِمْ عَنِ السَّامِعِ. وَسَاءَ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ تُلْحَقُ بِبِئْسَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحْوِيلِ صِيغَةِ فِعْلِهَا عَنْ فَعَلَ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ إِلَى فَعُلَ الْمَضْمُومِهَا لِقَصْدِ إِفَادَةِ الذَّمِّ مَعَ إِفَادَةِ التَّعَجُّبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّحْوِيلِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحب «التسهيل» .

[سورة المنافقون (63) : آية 3]

[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 3] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المُنَافِقُونَ: 2] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [المُنَافِقُونَ: 2] ، أَيْ سَبَبُ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْ سُوئِهَا، هُوَ اسْتِخْفَافُهُمْ بِالْأَيْمَانِ وَمُرَاجَعَتُهُمُ الْكُفْرَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَرَسَخَ الْكُفْرُ فِي نُفُوسِهِمْ فَتَجَرَّأَتْ أَنْفُسُهُمْ على الجرائم وضريت بِهَا، حَتَّى صَارَتْ قُلُوبُهُمْ كَالْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَخْلُصَ إِلَيْهَا الْخَيْرُ. فَقَوْلُهُ: بِأَنَّهُمْ آمَنُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَمَعْنَى الْبَاءِ السَّبَبِيَّةُ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ إِبْطَالَ الْكُفْرِ مَعَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ. وَأَنَّ كُفْرَهُمْ أَرْسَخُ فِيهِمْ مِنْ إِظْهَارِ أَيْمَانِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعَ ذَلِكَ التَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ وَهُوَ الْمُهْلَةُ. فَإِسْنَادُ فِعْلِ آمَنُوا إِلَيْهِمْ مَعَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَاذَّبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: 1] مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَإِنَّ مَرَاتِبَ الْمُنَافِقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي النِّفَاقِ وَشِدَّةِ الْكُفْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنُوا لَمَّا سَمِعُوا آيَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ لَاحَتْ لَهُمْ أَنْوَارٌ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَثْبُتْ فِي قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ لِلَوْمِ أَصْحَابِهِمْ عَلَيْهِمْ أَوْ لِإِلْقَائِهِمُ الشَّكَّ فِي نُفُوسِهِمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ كَانَ هَذَا مَوْجُودا. قلت: وَلَعَلَّ الَّذِينَ تَابُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ. فَهَؤُلَاءِ إِسْنَادُ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَجَهُمْ خَاطَرُ الْإِيمَانِ فَتَرَدَّدُوا وَقَارَبُوا أَنْ يُؤْمِنُوا ثُمَّ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَشَابَهَ أَوَّلُ حَالِهِمْ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ خُطُورِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ كَذِبًا وَهَذَا هُوَ الْفَرِيقُ الْأَكْثَرُ. وَلَيْسَ مَا أَظْهَرُوهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِثْلِهِمْ: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التَّوْبَة: 74] فَسَمَّاهُ إِسْلَامًا وَلَمْ يُسَمِّهِ إِيمَانًا. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] . وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى مَثْلِ هَذَا الْفَرِيقِ مَجَازٌ

[سورة المنافقون (63) : آية 4]

بِعِلَاقَةِ الصُّورَةِ وَهُوَ كَإِسْنَادِ فِعْلِ يَحْذَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ الْآيَةَ، فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [64] . وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ الْأَصْلِيِّ وَالْمَجَازِيِّ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَحْمِلَ فِعْلِ آمَنُوا. وَلَوْ حُمِلَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ أُبَيٍّ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ فَيَكُونُ إِسْنَادُ آمَنُوا حَقِيقَةً وَتَكُونُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ. وَتَفْرِيعُ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ عَلَى قَوْلِهِ: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَصَارَ كُفْرُهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى الْوُجُوهِ السَّابِقَةِ سَبَبًا فِي سُوءِ أَعْمَالِهِمْ بِمُقْتَضَى بَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَسَبَبًا فِي انْتِفَاءِ إِدْرَاكِهِمُ الْحَقَائِقَ النَّظَرِيَّةَ بِمُقْتَضَى فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالْفِقْهُ: فَهْمٌ لِلْحَقَائِقِ الْخَفِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمُوا حَقِّيَّتَهُ. [4] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 4] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ. هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى وَضْحِ بَعْضِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يبرزونها إِذا جاؤوا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهَا تَبْرُزُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِمْ، فَكَانَ الْوَضْحُ الْأَوَّلُ مُفْتَتَحًا بِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] وَهَذَا الْوَضْحُ مُفْتَتَحًا بِ إِذا رَأَيْتَهُمْ. فَجُمْلَةُ وَإِذا رَأَيْتَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المُنَافِقُونَ: 3] وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ وَالتَّتْمِيمِ لِدَفْعِ إِيهَامِ مَنْ يَغُرُّهُ ظَاهِرُ صُوَرِهِمْ. وَاتْبِعَ انْتِفَاءُ فِقْهِ عُقُولِهِمْ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِحُسْنِ صُوَرِهِمْ فَإِنَّهَا أَجْسَامٌ خَالِيَةٌ عَنْ كَمَالِ الْأَنْفُسِ كَقَوْلِ حَسَّانَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: لَا بَأْسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ غِلَظٍ ... جِسْمُ الْبِغَالِ وَأَحْلَامُ الْعَصَافِيرِ وَتُفِيدُ مَعَ الِاحْتِرَاسِ تَنْبِيهًا عَلَى دَخَائِلِهِمْ بِحَيْثُ لَوْ حُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ مِنْ

الْجُمْلَتَيْنِ لَصَحَّ وُقُوعُهُمَا مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ. وَلَكِنْ أُوثِرَ الْعَطْفُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ صِفَتَانِ تُحْسَبَانِ كَمَالًا وَهُمَا نَقِيصَتَانِ لِعَدَمِ تَنَاسُقِهِمَا مَعَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا. فَإِنَّ جَمَالَ النَّفْسِ كَجَمَالِ الْخِلْقَةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَإِلَّا فَرُبَّمَا انْقَلَبَ الْحَسَنُ مُوجِبَ نَقْصٍ. فَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يَرَاهُمْ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنْ تَغُرَّهُ صُوَرُهُمْ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَأَوْقَفَهُ عَلَى تَعْيِينِهِمْ فَهُوَ كَالْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [18] لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ أَوْ عَدَدٌ مَحْدُودٌ إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ أَحَاسِنَ الصُّوَرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ابْنُ أُبَيٍّ جَسِيمًا صَحِيحًا صَبِيحًا ذَلْقَ اللِّسَانِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ ابْنُ أُبَيٍّ وَالْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ كَانَتْ لَهُمْ أَجْسَامٌ وَمَنْظَرٌ وَفَصَاحَةٌ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَقَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي مِثْلِ صِفَةِ ابْنِ أُبَيٍّ رُؤَسَاءُ الْمَدِينَةِ. وَأَجْسَامُ: جَمْعُ جِسْمٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ أَوْ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [247] . وَجُمْلَةُ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَأَيْتَهُمْ إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ: تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِمْ لِحُسْنِ إِبَانَتِهِمْ وَفَصَاحَةِ كَلَامِهِمْ مَعَ تَغْرِيرِهِمْ بِحَلَاوَةِ مَعَانِيهِمْ تَمْوِيهَ حَالِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِقَوْلِهِمْ لِتَضْمِينَ تَسْمَعْ مَعْنَى: تُصْغِ أَيُّهَا السَّامِعُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِالسَّمَاعِ لِلْقَوْلِ فَائِدَةٌ لَوْلَا أَنَّهُ ضَمَّنَ مَعْنَى الْإِصْغَاءِ لِوَعْيِ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ وَصْفِ حُسْنِ أَجْسَامِهِمْ وَذَلَاقَةِ كَلَامِهِمْ، فَإِنَّهُ فِي صُورَةِ مَدْحٍ فَلَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ ذَمِّهِمْ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ مَا يَرِدُ بَعْدَ هَذَا الْوَصْفِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِي الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ حُسْنَ صُوَرِهِمْ لَا نَفْعَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ. وخُشُبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ جَمْعُ خَشَبَةٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَهُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ لَمْ يُحْفَظْ إِلَّا فِي ثَمَرَةٍ، وَقِيلَ: ثُمُرٌ جَمْعُ ثِمَارٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ ثَمَرَةٍ فَيَكُونُ ثُمُرٌ جَمْعَ جَمْعٍ. فَيَكُونُ خُشُبٌ عَلَى مِثَالِ جَمْعِ الْجَمْعِ وَإِنَّ لم يسمع مفرده. وَيُقَالُ: خُشْبٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَهُوَ جَمْعُ خَشَبَةٍ لَا مَحَالَةَ، مِثْلَ: بُدْنٌ جَمْعُ بَدَنَةٍ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ بِضَمَّةٍ فَسُكُونٍ. وَالْمُسَنَّدَةُ الَّتِي سُنِّدَتْ إِلَى حَائِطٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَيْ أُمِيلَتْ إِلَيْهِ فَهِيَ غَلِيظَةٌ طَوِيلَةٌ قَوِيَّةٌ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا فِي سَقْفٍ وَلَا مَشْدُودٍ بِهَا جِدَارٌ. شُبِّهُوا بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ تَشْبِيهَ التَّمْثِيلِ فِي حُسْنِ الْمَرْأَى وَعَدَمِ الْجَدْوَى، أُفِيدَ بِهَا أَنَّ أَجْسَامَهُمُ الْمُعْجَبَ بِهَا وَمَقَالَهُمُ الْمُصْغَى إِلَيْهِ خَالِيَانِ عَنِ النَّفْعِ كَخُلُوِّ الْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ عَنِ الْفَائِدَةِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ حَسِبْتُمُوهُمْ أَرْبَابَ لُبٍّ وَشَجَاعَةٍ وَعِلْمٍ وَدِرَايَةٍ. وَإِذَا اخْتَبَرْتُمُوهُمْ وَجَدْتُمُوهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَلَا تَحْتَفِلُوا بِهِمْ. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، أَيْ مِنْ مُخَالَفَةِ بَاطِنِهِمُ الْمُشَوَّهِ لِلظَّاهِرِ الْمُمَوَّهِ، أَيْ هُمْ أَهْلُ جُبْنٍ فِي صُورَةِ شُجْعَانَ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا فَضَحَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ دَخَائِلِهِمْ وَمَطَاوِي نُفُوسِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَوَاقِعُهَا مِنْ تَفَنُّنِ أَسَالِيبِ النَّظْمِ، فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ. وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصِّيَاحِ، أَيْ هُمْ لِسُوءِ مَا يُضْمِرُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدَاوَةِ

لَا يَزَالُونَ يَتَوَجَّسُونَ خِيفَةً مِنْ أَنْ يَنْكَشِفَ أَمْرُهُمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ فِي خَوْفٍ وَهَلَعٍ إِذَا سَمِعُوا صَيْحَةً فِي خُصُومَةٍ أَوْ أُنْشِدَتْ ضَالَّةٌ خَشَوْا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَارَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ لِلْإِيقَاعِ بِهِمْ. وكُلَّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْأَكْثَرِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَوَجَّسُونَ خَوْفًا مِنْ صَيْحَاتٍ لَا يَعْلَمُونَ أَسْبَابَهَا كَمَا اسْتَعْمَلَهُ النَّابِغَةُ فِي قَوْلِهِ: بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفَعْلِ يَحْسَبُونَ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ صَيْحَةٍ. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ لِغَرَابَةِ مَعْنَاهَا تُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ سَبَبِ هَلَعِهِمْ وَتَخَوُّفِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَتَخَيَّلُ مِنْهُ بَأْسُ الْمُسْلِمِينَ فَيُجَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِأَنِّهُمْ أَعْدَاءٌ أَلَدَّاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَنْظُرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَرْآةِ نُفُوسِهِمْ فَكَمَا هُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ وَيَتَمَنَّوْنَ الْوَقِيعَةَ بِهِمْ فِي حِينَ يُظْهِرُونَ لَهُمُ الْمَوَدَّةَ كَذَلِكَ يَظُنُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ التَّرَبُّصَ بِهِمْ وَإِضْمَارَ الْبَطْشِ بِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوُهُّمِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِذِكْرِ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ تَهُمُّ الْمُسْلِمِينَ مَعْرِفَتُهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا تَفْرِيعُ فَاحْذَرْهُمْ وَعَلَى كُلِّ التَّقَادِيرِ فَنَظْمُ الْكَلَامِ وَافٍ بِالْغَرَضِ مِنْ فَضْحِ دَخَائِلِهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَدُوُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الدَّالِّ عَلَى مُعَيَّنِ كَمَالِ حَقِيقَةِ الْعَدُوِّ فِيهِمْ، لِأَنَّ أَعْدَى الْأَعَادِي الْعَدُوُّ الْمُتَظَاهِرُ بِالْمُوَالَاةِ وَهُوَ مَدَّاحٌ وَتَحْتَ ضُلُوعِهِ الدَّاءُ الدَّوِيُّ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ.

والْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ: الْحَذَرُ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِهِمُ الْخَلَّابَةِ لِئَلَّا يُخْلِصَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِسِرِّهِمْ وَلَا يَتَقَبَّلُوا نَصَائِحَهُمْ خَشْيَةَ الْمَكَائِدِ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَلِّغَهُ الْمُسْلِمِينَ فَيَحْذَرُوهُمْ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. تَذْيِيلٌ فَإِنَّهُ جَمَعَ عَلَى الْإِجْمَالِ مَا يَغْنِي عَنْ تَعْدَادِ مَذَامِّهِمْ (كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [النِّسَاء: 63] ، مَسُوقٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ بِعُدُولِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. فَافْتُتِحَ التَّعْجِيبُ مِنْهُمْ بِجُمْلَةٍ أَصْلُهَا دُعَاءٌ بِالْإِهْلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ وَلَكِنَّهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّعَجُّبِ أَوْ التَّعْجِيبِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ الَّذِي جَرَّهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَلِمِ الَّتِي هِيَ دُعَاءٌ بِسُوءٍ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مَكْرُوهٍ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَوَيْلُ أُمِّهِ. وَتَرِبَتْ يَمِينُهُ. وَاسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي التَّعَجُّبِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِلْمُلَازَمَةِ بَيْنَ بُلُوغِ الْحَالِ فِي السُّوءِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ عَلَى صَاحبه بِالْهَلَاكِ، إِذْ لَا نفع لَهُ وَلَا للنَّاس فِي بَقَائِهِ، ثمَّ الْمُلَازمَة بَين الدُّعَاء بِالْهَلَاكِ وَبَيْنَ التَّعَجُّبِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ. فَهِيَ مُلَازَمَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ. وأَنَّى هُنَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ. وَأَصَّلُ أَنَّى ظَرْفُ مَكَانٍ وَكَثُرَ تَضْمِينُهُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى (كَيْفَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا فِي سُورَةِ عِمْرَانَ [165] ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [13] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَجِيبَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْ حَالِ حُصُولِهِ. فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ مِنْ لَوَازِمِ أُعْجُوبَتِهِ. فَجُمْلَةُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ بَيَانٌ لِلتَّعْجِيبِ الْإِجْمَالِيِّ الْمُفَادِ بِجُمْلَةِ قاتَلَهُمُ اللَّهُ.

[سورة المنافقون (63) : آية 5]

وَ (يُؤْفَكُونَ) يُصْرَفُونَ يُقَالُ: أَفَكَهُ، إِذَا صَرَفَهُ وَأَبْعَدَهُ، وَالْمُرَادُ: صَرَفَهُمْ عَنِ الْهُدَى، أَيْ كَيْفَ أَمْكَنَ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْهُدَى، أَوْ كَيْفَ أَمْكَنَ لِمُضَلِّلِيهِمْ أَنْ يَصْرِفُوهُمْ عَنِ الْهُدَى مَعَ وُضُوحِ دَلَائِلِهِ. وَتقدم نَظِير هَذِه الْآيَةِ فِي سُورَة بَرَاءَة. [5] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 5] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) هَذَا حَالُهُمْ فِي الْعِنَادِ ومجافاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الْآخِرَةِ، بَلْهَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْفَوْزِ فِيهَا. وتَعالَوْا طَلَبٌ مِنَ الْمُخَاطَبِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ الطَّالِبِ، وَأَصْلُهُ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ التَّعَالِي، وَهُوَ تَكَلُّفُ الْعُلُوِّ، أَيِ الصُّعُودِ، وَتُنُوسِيَ ذَلِكَ وَصَارَ لِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْحُضُورِ، فَلَزِمَ حَالَةً وَاحِدَةً فَصَارَ اسْمَ فِعْلٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [151] . وَهَذَا الطَّلَبُ يَجْعَل تَعالَوْا مشْعر بِأَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ انْفِرَادِهِمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ فَهِيَ ثَالِثُ الْأَغْرَاضِ مِنْ بَيَانِ مُخْتَلَفِ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَقَدِ ابْتُدِأَتْ بِ إِذا كَمَا ابْتُدِئَ الْغَرَضَانِ السَّابِقَانِ بِ إِذا إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] . وإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ [المُنَافِقُونَ: 4] . وَالْقَائِلُ لَهُمْ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ وَعَظُوهُمْ وَنَصَحُوهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْهُمُ اهْتَدَى وَأَرَادَ الْإِنَابَةَ. قِيلَ الْمَقُولُ لَهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوُجُوهِ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] وَمَا بَعْدَهُ. وَالْمَعْنَى: اذْهَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَسَلُوهُ الِاسْتِغْفَارَ لكم. وَهَذَا بدل دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تُوبُوا مِنَ النِّفَاقِ وَأَخْلِصُوا الْإِيمَانَ وَسَلُوا رَسُولَ اللَّهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَكُمْ مَا فَرَطَ مِنْكُمْ، فَكَانَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ مُطَّلِعًا عَلَى نِفَاقِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي

[سورة المنافقون (63) : آية 6]

سُورَةِ الْبَقَرَةِ [13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ الصَّفْحَ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» . لِأَنَّ ابْنَ أُبَيٍّ ذَهَبَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المُنَافِقُونَ: 6] . وليّ الرؤوس: إِمَالَتُهَا إِلَى جَانِبٍ غَيْرِ وُجَاهِ الْمُتَكَلِّمِ. إِعْرَاضًا عَنْ كَلَامِهِ، أَيْ أَبَوْا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى النِّفَاقِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ رَاجِعِينَ فِيمَا قَالُوهُ مِنْ كَلَامٍ بَذِيءٍ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِئَلَّا يُلْزَمُوا بِالِاعْتِرَافِ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ النِّفَاقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَوَّوْا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْأُولَى مُضَاعَفُ لَوَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ فَيَقْتَضِي كَثْرَةَ اللَّيِّ مِنْهُمْ، أَيْ لَوَى جَمْعٌ كثير مِنْهُم رؤوسهم، وقرأه نَافِعٌ وَرَوْحُ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ الْأُولَى اكْتِفَاءً بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ. وَالْخِطَابُ فِي وَرَأَيْتَهُمْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ وَرَأَيْتَهُمْ يَا مَنْ يَرَاهُمْ حِينَئِذٍ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَصُدُّونَ، أَيْ يَصُدُّونَ صَدَّ الْمُتَكَبِّرِ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ. [6] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 6] سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ نَشَأَتْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المُنَافِقُونَ: 5] إِلَخْ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكِيبَ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَكَذَا أَمْ كَذَا، وَنَحْوَهُ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَيَلْزَمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ ضَمَائِرِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ. وَمَدْلُولُهُ اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ لَدَى الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ (عَلَى) ، وَلِذَلِكَ يُعَقَّبُ بِجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ جِهَةَ الِاسْتِوَاءِ كَجُمْلَةِ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَجُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [6] . وَقَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ يس [10] وَأَمَّا مَا يُنْسَبُ إِلَى بُثَيْنَةَ فِي رِثَاءِ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ مِنْ قَوْلِهَا:

سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنَ مَعْمَرٍ ... إِذَا مِتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ وَلِينُهَا فَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحَ الرِّوَايَةِ. وَسَوَاءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى مُسَاوٍ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَامِدِ فِي الْغَالِبِ فَلَا يَتَغَيَّرُ خَبَرُهُ نَقُولُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُمْ سَوَاء. وشذ قَوْلهم: سِوَاءَيْنِ. وَ (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ. فَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ فِيهِمْ. وَهَمْزَةُ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَصْلُهَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ وُقُوعِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَسُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ عَدَمِ وُقُوعِهِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَجَازِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِكَلَا الْحَالَيْنِ بِقَرِينَةِ لَفْظِ سَوَاءٍ وَلِذَلِكَ يُسَمِّي النُّحَاةُ هَذِهِ الْهَمْزَةَ التَّسْوِيَةَ. وَتَقَدِّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [6] ، أَيْ سَوَاءٌ عِنْدَهُمُ اسْتِغْفَارُكَ لَهُمْ وَعَدَمُهُ. فَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ التَّمَكُّن والتلبس فتؤول إِلَى مَعْنَى (عِنْدَ) كَمَا تَقُولُ سَوَاءٌ عَلَيَّ أَرَضِيتُ أَمْ غَضِبْتُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [136] . وَجُمْلَةُ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ وَجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ [المُنَافِقُونَ: 7] وَهِيَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَجَزَاءٌ عَلَى اسْتِخْفَافِهِمْ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَحَرَمَهُمُ اللُّطْفَ وَالْعِنَايَةَ

[سورة المنافقون (63) : آية 7]

[7] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 7] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا. هَذَا أَيْضًا مِنْ مَقَالَاتِهِمْ فِي مَجَامِعِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ يَقُولُونَهَا لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ تَظَاهُرًا بِالْإِسْلَامِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَظَاهَرِ الْإِسْلَامَ بِغَيْرِ الْإِنْفَاقِ مثل قَوْلهم لمن يَقُول لَهُم تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُول الله، وَلذَلِك عُقِّبَتْ بِهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَإِسْنَادُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ تَقَبَّلُوهُ مِنْهُ إِذْ هُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ أَوْ فَشَا هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فَأَخَذُوا يَبُثُّونَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافُ الِابْتِدَائِيُّ الْمُعْرِبُ عَنْ مَكْرِهِمْ وَسُوءِ طَوَايَاهُمُ انْتِقَالًا مِنْ وَصْفِ إِعْرَاضِهِمْ عِنْدَ التَّقَرُّبِ من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى وَصْفِ لَوْنٍ آخَرِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَهُوَ الْكَيْدُ لِلدِّينِ فِي صُورَةِ النَّصِيحَةِ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِهِمُ الظَّاهِرِ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِالْمُسْتَتِرِ فِي يَقُولُونَ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَتَرُوا كَيْدَهُمْ بِإِظْهَارِ قَصْدِ النَّصِيحَةِ فَفَضَحَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِمَزِيدِ التَّصْرِيحِ، أَيْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ هَذَا. وَفِي إِظْهَارِ الضَّمِيرِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ [ص: 60] . وَلِيَكُونَ لِلْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ إِفَادَةُ ثَبَاتِ الْخَبَرِ، وَلِيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ مُشْعِرًا بِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَقُولُونَ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ لِقَصْدِ إِفْشَائِهَا. ومَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ كَانُوا فِي رِعَايَتِهِ مِثْلَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَمَنْ كَانُوا يَلْحَقُونَ بِالْمَدِينَةِ من الْأَعْرَاب العفاة أَو فريق مِنَ الْأَعْرَابِ كَانَ يُمَوِّنُهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شَدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهَ بْنُ أُبَيٍّ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ» وَهَذَا كَلَامُ مَكْرٍ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ قَصْدُ الرِّفْقِ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلْفَةِ إِنْفَاقِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَلَمُّوا بِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَبَاطِنَهُ إِرَادَةُ إِبْعَادِ الْأَعْرَابِ عَنْ تَلَقِّي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ وَعَنْ أَنْ يَتَقَوَّى بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ تُفَرُّقُ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ لِتَضْعُفَ بِتَفَرُّقِهِمْ بَعْضُ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَرِوَايَاتُ حَدِيثِ زَيْدٍ مُخْتَلِطَةٌ. وَقَوْلُهُ: رَسُولِ اللَّهِ يُظْهِرُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ

الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ إِذَا كَانُوا قَالُوا ذَلِكَ جَهْرًا فِي مَلَأِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ هُمْ يَتَظَاهَرُونَ سَاعَتَئِذٍ بِالْإِسْلَامِ. وحَتَّى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ مَعْنَى حَتَّى انْتِهَاءُ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا وَغَايَةُ الْفِعْلِ يَنْتَهِي الْفَاعِلُ عَنِ الْفِعْلِ إِذَا بَلَغَهَا، فَهِيَ سَبَبٌ لِلِانْتِهَاءِ وَعِلَّةٌ لَهُ، وَلَيْسَ المُرَاد فَإِذا نفضوا فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِمْ. وَالِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ وَالِابْتِعَادُ. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إبِْطَال لِمَكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِيمَا قَصَدُوهُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمُتَظَاهِرِينَ بِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ نُصْحَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَوْ تَمَشَّتْ حِيلَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَمْسَكُوا هُمْ وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِنْفَاقِ الْأَعْرَابِ وَمَنْ يَأْوُونَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعُفَاةِ، فَإِن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْطَعُ عَنْهُمُ الْإِنْفَاقَ وَذَلِكَ دَأْبُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فكره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ عُمَرَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ «الشَّمَائِلِ» . وَهَذَا جَوَابٌ مِنْ بَابِ طَرِيقَةِ النَّقْضِ لِكَلَامِهِمْ فِي مُصْطَلَحِ آدَابِ الْبَحْثِ. وخَزائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ. وَهِيَ الْبَيْتُ الَّذِي تُخَزِّنُ فِيهِ الطَّعَامُ قَالَ تَعَالَى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [55] . وَتُطْلَقُ عَلَى الصُّنْدُوقِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الْمَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَعَلَى بُيُوتِ الْكُتُبِ

وَصَنَادِيقِهَا، وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الصَّرْفِ مِنَ «الْمُوَطَّأِ» «حَتَّى يَحْضُرَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ» . وخَزائِنُ السَّماواتِ مَقَارُّ أَسْبَابِ حُصُولِ الْأَرْزَاقِ مِنْ غُيُوثٍ رَسْمِيَّةٍ وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ الصَّالِحَةِ فَيَأْتِي ذَلِكَ بِتَوْفِيرِ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَخِصْبِ الْمَرْعَى وَتَزَايُدِ النِّتَاجِ. وَأَمَّا خَزَائِنُ الْأَرْضِ فَمَا فِيهَا مِنْ أَهْرِيَةٍ وَمَطَامِيرَ وَأَنْدُرٍ، وَمِنْ كُنُوزِ الْأَحْوَالِ وَمَا يَفْتَحُ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبِلَاد وَمَا يفِيء عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ الْملك أَيِ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ مَلِكٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى ظُهُورِ الدِّينِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْخَزَائِنَ لِلَّهِ كِنَايَةً عَنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصُولَ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ «وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» «بِهَذَا أُمِرْتُ» . وَذَلِكَ بِمَا سَيَّرَهُ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَكَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَنَائِمِ الْغَزَوَاتِ، وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ بِخَيْرَاتِهَا، وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قِتَالٍ. وَتَقْدِيُمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِإِفَادَةِ قَصْرِ الْقَلْبِ وَهُوَ قَلْبٌ لِلَازِمِ قَوْلِهِمْ لَا لِصَرِيحِهِ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَالُوا: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَسِبُوا أَنَّهُمْ إِذَا قَطَعُوا الْإِنْفَاقَ عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ لَا يجد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ فَأَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُبَاشَرَةً وَأَعْلَمَهُمْ تَبَعًا بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرِّزْقِ أَعْظَمُ وَأَوْسَعُ. وَاسْتَدْرَاكُ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ لِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُمْ حِينَ قَالُوا: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَانُوا قَالُوهُ عَنْ بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ بِأَنَّ انْقِطَاعَ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى الَّذِينَ يَلُوذُونَ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع رِزْقَهُمْ فَيَنْفَضُّونَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِنْفَاقِ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَحْوَالِ وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ تَعَدُّدِ أَسْبَابِ الْغِنَى وَأَسْبَابِ الْفَقْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ دَقَائِقَ الْمُدْرَكَاتِ وَخَفَايَاهَا. وَمَفْعُولُ يَفْقَهُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا يَفْقَهُونَ ذَلِكَ وَهُوَ مَضْمُونُ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَوْ نُزِّلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ مُبَالَغَةً فِي انْتِفَاءِ فَقْهِ الْأَشْيَاءِ عَنْهُمْ فِي كل حَال.

[سورة المنافقون (63) : آية 8]

[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 8] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ عَلَى أُسْلُوبِ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرِيرِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ. وَمِثْلُهُ يَكْثُرُ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ. وَهَذَا وَصْفٌ لِخُبْثِ نَوَايَاهُمْ إِذْ أَرَادُوا التَّهْدِيدَ وَإِفْسَادَ إِخْلَاصِ الْأَنْصَارِ وَأُخُوَّتِهِمْ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ بِإِلْقَاءِ هَذَا الْخَاطِرِ فِي نُفُوسِ الْأَنْصَارِ بَذْرًا لِلْفِتْنَةِ وَالتَّفْرِقَةِ وَانْتِهَازًا لِخُصُومَةٍ طَفِيفَةٍ حَدَثَتْ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مِنْ مَوَالِيَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ هُنَا صَدَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ كَسَعَ حَلِيفُ الْمُهَاجِرِينَ حَلِيفَ الْأَنْصَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: 7] فَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ هُنَا كَإِسْنَادِهِ هُنَاكَ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَالْمَدِينَةُ هِيَ مَدِينَتُهُمُ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ يَثْرِبُ. والْأَعَزُّ: الْقَوِيُّ الْعِزَّةُ وَهُوَ الَّذِي لَا يُقْهَرُ وَلَا يُغْلَبُ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي مِقْدَارِ الْعِزَّةِ إِذْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ. وَالْعِزَّةُ تَحْصُلُ بِوَفْرَةِ الْعَدَدِ وَسِعَةِ الْمَالِ وَالْعُدَّةِ، وَأَرَادَ بِ الْأَعَزُّ فَرِيقَ الْأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَأَرَادَ لَيُخْرِجَنَّ الْأَنْصَارَ مِنْ مَدِينَتِهِمْ مَنْ جَاءَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ كَلَامَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ جَوَابٌ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ وَهِيَ مِمَّا يُسَمَّى بِالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ الْأَعَزُّ يُخْرُجُ الْأَذَلَّ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْفَرِيقُ الْأَعَزُّ. وَعِزَّتُهُمْ بِكَوْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ وَبِتَأْيِيدِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلِيَاءَهُ لِأَنَّ عِزَّةَ اللَّهِ هِيَ الْعِزَّةُ الْحَقُّ الْمُطْلَقَةُ، وَعَزَّةُ غَيْرِهِ نَاقِصَةٌ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ لَا يُقْهَرُونَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَصْرَهُمْ وَوَعْدَهُمْ بِهِ. فَإِنْ كَانَ إِخْرَاجٌ مِنَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّمَا يُخْرَجُ مِنْهَا أَنْتُمْ يَا أَهْلَ النِّفَاقِ.

[سورة المنافقون (63) : آية 9]

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ لِقَصْدِ الْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ الْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَا لَكُمْ كَمَا تَحْسَبُونَ. وَإِعَادَةُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلِرَسُولِهِ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْهَا لِتَأْكِيدِ عزّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا بِسَبَبِ عِزَّةِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ إِيَّاهُ، وَإِعَادَةُ اللَّامِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا إِذْ قَدْ تَخْفَى عِزَّتُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فِي حَالِ قِلَّةٍ وَحَاجَةٍ. وَالْقَوْلُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ نَظِيرُ الْقَوْلِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المُنَافِقُونَ: 7] . وَعُدِلَ عَنِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَدْ سَبَقَ اسْمُهُمْ فِي نَظِيرِهَا قَبْلَهَا لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِذَاتِهَا فَتَسِيرُ سَيْرَ الْمَثَلِ. وَإِنَّمَا نُفِيَ عَنْهُمْ هُنَا الْعِلْمُ تَجْهِيلًا بِسُوءِ التَّأَمُّلِ فِي أَمَارَاتِ الظُّهُورِ وَالِانْحِطَاطِ فَلَمْ يَفْطَنُوا لِلْإِقْبَالِ الَّذِي فِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَازْدِيَادِ سُلْطَانِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا وَتَنَاقُصٍ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فَكَيْفَ يَظُنُّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ عِزَّتَهُمْ أَقْوَى مِنْ عِزَّةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ كُلَّمَا غَزَوهُمْ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ فَمَا بعده. [9] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 9] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) انْتِقَالٌ مِنْ كَشْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمَسُوقِ لِلْحَذَرِ مِنْهُمْ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ صِفَاتِهِمْ، إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَشْغَلَ عَنِ التَّذَكُّرِ لِمَا أَمْرَ اللَّهُ وَنَهَى، ثُمَّ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ وَإِسْعَافِ آحَادِهِمْ، لِئَلَّا يَسْتَهْوِيَهُمْ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الْمُنَافِقين: 7] وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَلِكَ قَبْلَ إِتْيَانِ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يُدْرَى وَقْتُ حُلُولِهِ حِينَ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ قَدْ تَأَخَّرَ أَجَلُهُ لِيَزِيدَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا يَنْفَعُهُ التَّمَنِّي وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ [المُنَافِقُونَ: 10] ، فَالْمُنَاسِبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ هُوَ حِكَايَةُ مَقَالِ الْمُنَافِقِينَ وَلِذَلِكَ قدم ذكر الْأَمْوَال عَلَى ذِكْرِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ بِحَسَبِ السِّيَاقِ.

وَنُودِيَ الْمُخَاطَبُونَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّهَمُّمِ لِامْتِثَالِ النَّهْيِ. وَخُصَّ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ بِتَوَجُّهِ النَّهْيِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهَا اشْتِغَالًا يُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا يَكْثُرُ إِقْبَالُ النَّاسِ عَلَى إِنْمَائِهَا وَالتَّفْكِيرِ فِي اكْتِسَابِهَا بِحَيْثُ تَكُونُ أَوْقَاتُ الشُّغْلِ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَوْقَاتِ الشُّغْلِ بِالْأَوْلَادِ. وَلِأَنَّهَا كَمَا تَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِصَرْفِ الْوَقْتِ فِي كَسْبِهَا وَنَمَائِهَا، تَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِهِ أَيْضًا بِالتَّذْكِيرِ لِكَنْزِهَا بِحَيْثُ يُنْسَى ذِكْرُ مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ إِنْفَاقِهَا. وَأَمَّا ذِكْرُ الْأَوْلَادِ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْأَوْلَادِ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهِم وتدبير شؤونهم وَقَضَاءَ الْأَوْقَاتِ فِي التَّأَنُّسِ بِهِمْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْسِيَ عَنْ تَذَكُّرِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ فَالشُّغْلُ بِهَذَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الشُّغْلِ بِغَيْرِهِمَا. وَصِيغَ الْكَلَامُ فِي قَالَبِ تَوْجِيهِ النَّهْيِ عَنِ الْإِلْهَاءِ عَنِ الذَّكْرِ، إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمُرَادُ نَهْيُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ وَقَرِينَتُهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَأَصْلُهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ أَصْحَابِهَا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِسَبَبِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَنُزِّلَ سَبَبُ الْإِلْهَاءِ مَنْزِلَةَ اللَّاهِي لِلْمُلَابَسَةِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: 27] وَقَوْلِهِمْ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا. وَلَا فِي قَوْلِهِ: وَلا أَوْلادُكُمْ نَافِيَةٌ عَاطِفَةٌ أَوْلادُكُمْ عَلَى أَمْوالُكُمْ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَدْخُولُ لَا النَّاهِيَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ إِذْ هُوَ طَلَبُ عَدَمِ الْفِعْلِ فَ لَا النَّاهِيَةِ أَصْلُهَا لَا النَّافِيَةُ أُشْرِبَتْ مَعْنَى النَّهْيِ عِنْدَ قَصْدِ النَّهْيِ فَجَزَمَتِ الْفِعْلَ حَمْلًا عَلَى مُضَادَّةِ مَعْنَى لَامِ الْأَمْرِ فَأُكِّدَ النَّهْيُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْأَوْلَادِ بِحَرْفِ النَّفْيِ لِيَكُونَ لِلِاشْتِغَالِ بِالْأَوْلَادِ حَظٌّ مِثْلُ حَظِّ الْأَمْوَالِ. وذِكْرِ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. فَيَشْمَلُ الذَّكَرَ بِالْلِسَانِ كَالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّذَكُّرَ بِالْعَقْلِ كَالتَّدَبُّرِ فِي صِفَاتِهِ وَاسْتِحْضَارِ امْتِثَالِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْلِسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ» . وَفِيهِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الَّذِي لَا يُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَلَهُ مَرَاتِبُ.

[سورة المنافقون (63) : آية 10]

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ «النَّهْيُ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فعل» . وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى اللَّهْوِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِسَبَبِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، أَيْ وَمَنْ يُلْهَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ يَتْرُكُ ذِكْرَ اللَّهِ الَّذِي أُوجَبَهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَيَتْرُكُ تَذَكُّرَ اللَّهِ، أَيْ مُرَاعَاةَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ. وَمَتَى كَانَ اللَّهْوُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ الْأَوْلَادِ كَانَ أَوْلَى بِحُكْمِ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ. وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرَ صِفَةِ الْخَاسِرِ عَلَى الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ خُسْرَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِم ب فَأُولئِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَعْنِي اللَّهْوَ عَنْ ذكر الله. [10] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 10] وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) هَذَا إِبْطَالٌ وَنَقْضٌ لِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ قَالُوا: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: 7] ، وَهُوَ يَعُمُّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمُلْتَفِّينَ حَوْلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِنْفَاقَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ كَالتَّذْيِيلِ. وَفَعَلُ أَنْفِقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ الشَّامِلِ لِلْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ مَدْلُولَ صِيغَةِ: افْعَلْ، مُطْلَقُ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ. وَفِي قَوْله: مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ شكر لله عَلَى مَا رَزَقَ الْمُنْفِقُ فَإِنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ الشَّرِيعَةِ.

وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ بَعْضَ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وَهَذِهِ تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهُ هُوَ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ مِثْلَ مَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ بِسَدِّ الْخَلَّةِ الْوَاجِبِ سَدَّهَا مَعَ طَاقَةِ الْمُنْفِقِ كَنَفَقَاتِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ وَنَفَقَاتِ الْعِيَالِ الْوَاجِبَةِ وَنَفَقَاتِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ بِتَعَيُّنِ سَبَبِهِ كَالْكَفَّارَاتِ، وَمِنْهُ مَا وَكَّلَ لِلنَّاسِ تَعْيِينَهُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ من الْإِنْفَاق فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَى رَغَبَاتِ النَّاسِ فِي نَوَالِ الثَّوَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنَ الْقُرْبَى مِنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ» . وَقَدْ ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَيْرِ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْهُ مَا دَامُوا مُقْتَدِرِينَ قَبْلَ الْفَوْتِ، أَيْ قَبْلَ تَعَذُّرِ الْإِنْفَاقِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَحِسُّ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ الْمَوْتِ وَيُغْلَبُ عَلَى قُوَاهُ فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُؤَخِّرَ مَوْتَهُ وَيَشْفِيَهُ لِيَأْتِيَ بِكَثِيرٍ مِمَّا فَرَّطَ فِيهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ طَمَعًا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِ تَأْخِيرٌ أَوْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الِاسْتِجَابَةَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ. ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَالتَّحْضِيضُ الطَّلَبُ الْحَثِيثُ الْمُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ لَوْلا لِلْعَرْضِ أَيْضًا وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ وَالتَّمَنِّي عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [98] . وَحَقُّ الْفِعْلِ بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَإِنَّمَا جَاءَ مَاضِيًا هُنَا لِتَأْكِيدِ إِيقَاعِهِ فِي دُعَاءِ الدَّاعِي حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَرْتِيبُ فِعْلَيْ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَيَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ سُؤَالًا حَثِيثًا أَنْ يُحَقِّقَ تَأْخِيرَ مَوْتِهِ إِلَى أَجَلٍ يَسْتَدْرِكُ فِيهِ مَا اشْتَغَلَ عَنْهُ مِنْ إِنْفَاقٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ. وَوَصْفُ الْأَجَلِ بِ قَرِيبٍ تَمْهِيدٌ لِتَحْصِيلِ الِاسْتِجَابَةِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ أَنَّ الْأَمْرَ الْيَسِيرَ أَرْجَى لِأَنْ يَسْتَجِيبَهُ الْمَسْئُولُ فَيَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى شُعُورِهِمْ حِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَنْسَاقُ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ إِلَى مَا عَرَفُوا، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لَا يَقُولُنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ» . تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ فَالْقُرْآنُ حَكَى عَنِ النَّاسِ مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ.

وَانْتَصَبَ فِعْلُ فَأَصَّدَّقَ عَلَى إِضْمَارِ (أَنَّ) الْمَصْدَرِيَّةِ إِضْمَارًا وَاجِبًا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَكُنْ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُرَّاءُ. فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَرَأُوهُ مَجْزُومًا بِسُكُونِ آخِرِهِ عَلَى اعْتِبَارِهِ جَوَابًا لِلطَّلَبِ مُبَاشَرَةً لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ، وَاعْتِبَارِ الْوَاوِ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ. وَذَلِكَ لِقَصْدِ تَضْمِينِ الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ زِيَادَةً عَلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ فَيُغْنِي الْجَزْمُ عَنْ فِعْلِ شَرْطِ. فَتَقْدِيرُهُ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، جَمْعًا بَيْنَ التَّسَبُّبِ الْمُفَادِ بِالْفَاءِ، وَالتَّعْلِيقِ الشُّرْطِيِّ الْمُفَادِ بِجَزْمِ الْفِعْلِ. وَإِذَا قَدْ كَانَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلَيْنِ الْوَاقِعِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالْآخَرُ بَعْدَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَيْهِ. فَقَدْ أَفَادَ الْكَلَامُ التَّسَبُّبَ وَالتَّعْلِيقَ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنِ الِاحْتِبَاكِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ. إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَصَّدَّقْ وَأُكِنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ بَعْدَ أَنْ حَثَّ سُؤَالَهُ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُمْكِنٌ فَقَالَ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَهُوَ مِنْ بَدَائِعِ الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ وَتَوْفِيرِ الْمَعَانِي. وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالزُّجَاجُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِجَعْلِ وَأَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ فَأَصَّدَّقَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ الْعَشَرَةِ وَأَكُونَ بَالنَّصْبِ وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِرَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا يُوَافِقُهَا رَسْمُ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مَحِيضٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبِي رَجَاءٍ. وَتلك أَقَلُّ شُهْرَةٍ. وَاعْتَذَرَ أَبُو عَمْرٍو عَنْ مُخَالَفَةِ قِرَاءَتِهِ لِلْمَصَحِفِ بِأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ اخْتِصَارًا يُرِيدُ أَنَّهُمْ حَذَفُوا صُورَةَ إِشْبَاعِ الضَّمَّةِ وَهُوَ الْوَاوُ اعْتِمَادًا عَلَى نُطْقِ الْقَارِئِ

[سورة المنافقون (63) : آية 11]

كَمَا تُحْذَفُ الْأَلِفُ اخْتِصَارًا بِكَثْرَةٍ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ الْقُرَّاءُ الْعَرَبُ: قَدْ تَسْقُطُ الْوَاوُ فِي بَعْضِ الْهِجَاءِ كَمَا أَسْقَطُوا الْأَلِفَ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَشْبَاهِهِ، أَيْ كَمَا أَسْقَطُوا الْوَاوَ الثَّانِيَةَ مِنْ دَاوُودَ وَبِكَثْرَةٍ يَكْتُبُونَهُ دَاوُدَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَرَأَيْتُ فِي مَصَاحِفِ عَبْدِ الله «فقولا» نقلا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكُلُّ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَن الْقُرْآن ملتقىّ بِالتَّوَاتُرِ لَا بِهِجَاءِ الْمَصَاحِفِ وَإِنَّمَا الْمَصَاحِفُ مُعِينَةٌ على حفظه. [11] [سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 11] وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها. اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجَلِ لِكُلِّ رُوحٍ عِنْدَ حُلُولِهَا فِي جَسَدِهَا حِينَ يُؤْمَرُ الْمَلِكُ الَّذِي يَنْفُخُ الرُّوحَ يُكْتَبُ أَجَلُهُ وَعَمَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَالْأَجَلُ هُوَ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِحَيَاتِهِ لَا يُؤَخَّرُ عَنْ أَمَدِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ كَانَ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِ اللَّهَ بِتَأْخِيرِ أَجَلِهِ مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْآجَالَ. وَهَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُ حِكْمَةَ تَحْدِيدِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَالنَّفْسُ: الرُّوحُ، سُمِّيَتْ نَفْسًا أَخْذًا مِنَ النَّفَسِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْفِ وَالْفَمِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ ذِي رِئَةٍ، فَسُمِّيَتِ النَّفْسُ نَفْسًا لِأَنَّ النَّفَسَ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا، كَمَا سُمِّيَ مُرَادِفُ النَّفْسِ رُوحًا لِأَنَّهُ مَأْخُوذُ الرَّوْحِ بِفَتْحِ الرَّاءِ لِأَنَّ الرّوح بِهِ. قَالَه أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وأَجَلُها الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِبَقَائِهَا فِي الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّفْسِ الذَّاتُ، أَيْ شَخْصُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مِنْ مَعَانِي النَّفْسِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] وَأَجَلُهَا الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مِقْدَارُهُ لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ. ولَنْ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ التَّأْخِيرِ، وَعُمُومُ نَفْساً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ.

وَمَجِيءُ الْأَجَلِ حُلُولُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَهُوَ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ طَاقَةِ الْبَدَنِ لِلْبَقَاءِ حَيًّا بِحَسَبِ قُوَاهُ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُهْلِكَةِ. وَهَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَا يُؤَخِّرُوا مَا يُهِمُّهُمْ عَمَلُهُ سُؤَالَ ثَوَابِهِ فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُؤَخِّرُ الْعَمَلَ الَّذِي يَسُرُّهُ أَنْ يَعْمَلَهُ وَيَنَالَ ثَوَابَهُ إِلَّا وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِأَنْ يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ عَنْ قَرِيبٍ أَوْ يُفَاجِئَهُ، فَعَلَيْهِ بِالتَّحَرُّزِ الشَّدِيدِ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ، فَرُبَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّدَارُكُ بِفَجْأَةِ الْفَوَاتِ، أَوْ وَهَنِ الْمَقْدِرَةِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَمْ تُطَاوِعْهُ نَفْسُهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ الْفَوَاتِ فَكَيْفَ يَتَمَنَّى تَأْخِيرَ الْأَجَلِ الْمَحْتُومِ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ [المُنَافِقُونَ: 9] . أَوْ تَذْيِيلٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيُفِيدُ بِنَاءُ الْخَبَرِ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَحْقِيقَ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَعْمَلُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَا يُخَامِرُهُمْ شَكٌّ فِي ذَلِكَ كَانَ التَّحْقِيقُ وَالتَّقَوِّي رَاجِعًا إِلَى لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُهُمَا لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْهُ الْوَاجِبُ الْمَنْدُوبُ. وَفِعْلُهُمَا يَسْتَحِقُّ الْوَعْدَ. وَتَرْكُ أَوَّلِهِمَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ. وَإِيثَارُ وُصْفِ خَبِيرٌ دُونَ: عَلِيمٍ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ مَادَّةُ خَبِيرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا بَطَنَ مِثْلَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ الْعَزَائِمُ وَالنِّيَّاتُ، وَإِيقَاعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَقْطَعُهُ الْمَوْتُ مِنِ ازْدِيَادِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا عَسَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْمَوْتُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْعَمَلِ إِذَا كَانَ وَقْتُهُ الْمُعِيَّنُ لَهُ شَرْعًا مُمْتَدًّا كَالْعُمْرِ لِلْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ لِمَنْ لَمْ يَتَوَقَّعُ طُرُوَّ مَانِعٍ. وَكَالْوَقْتِ الْمُخْتَارِ لِلصَّلَوَاتِ، أَنَّ حَيْلُولَةَ الْمَوْتِ دُونَ إِتْمَامه لَا يرزيء الْمُؤْمِنُ ثَوَابَهُ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اعْتَادَ حِزْبًا أَوْ عَزَمَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَا مَنَعَهُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ أَجْرَهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: أَنَّ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَعْمَلُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَائِدًا إِلَى نَفْساً الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّهُ عَامٌ فَلَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ فِي الْمَعْنَى.

64- سورة التغابن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 64- سُورَةُ التَّغَابُنِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ التَّغَابُنِ» ، وَلَا تُعْرَفُ بِغَيْرِ هَذَا الِاسْمِ وَلَمْ تَرِدْ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي خَبَرٍ مَأْثُورٍ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَفِي تَشَابِيكٍ مَكْتُوبٌ خَمْسُ آيَاتٍ فَاتِحَةُ سُورَةِ التَّغَابُنِ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنْتَهَى هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [التغابن: 4] فَتَأَمَّلْهُ. وَرَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى التَّعْلِيقِ فَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ لفظ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: 9] فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَرَادُوا الْهِجْرَةَ فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ يَأْتُونَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَوْفٍ الْأَشْجَعِيِّ كَمَا سَيَأْتِي. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّابِعَةُ وَالْمِائَةُ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الصَّفِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَعدد آيها ثَمَانِي عَشْرَةَ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَنِ النَّقَائِصِ تَسْبِيحًا مُتَجَدِّدًا. وَأَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِإِفْرَادِهِ بِالْحَمْدِ لِأَنَّهُ خَالِقُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَآمَنَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ نَاسٌ وَكَفَرَ نَاسٌ وَلَمْ يَشْكُرُوا نِعَمَهُ إِذْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْذَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لِيَعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ وَجَحَدُوا بِيِّنَاتِهِمْ تَكَبُّرًا أَنْ يَهْتَدُوا بِإِرْشَادِ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ. وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَا يَجْرِي أَمْرٌ فِي الْعَالَمِ إِلَّا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ. وَأَنْحَى عَلَيْهِمْ إِنْكَارَ الْبَعْثِ وَبَيَّنَ لَهُمْ عَدَمَ اسْتِحَالَتِهِ وَهَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ حِينَ يُبْعَثُونَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فَإِنْ أَرَادُوا النَّجَاةَ فَلْيُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ وليصدقوا رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَيُؤْمِنُوا بِالْبَعْثِ فَإِنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا كُفِّرَتْ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ وَإِلَّا فَجَزَاؤُهُمُ النَّارُ خَالِدِينَ فِيهَا. ثُمَّ تَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ ضُرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِمْ فَلْيَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ. وَتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَعْضِ قَرَابَتِهِمُ الَّذِينَ تَغَلْغَلَ الْإِشْرَاكُ فِي نُفُوسِهِمْ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يُثَبِّطُوهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ. وَعَرَّضَ لَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَمْوَالِهِمُ الَّتِي صَادَرَهَا الْمُشْرِكُونَ. وَأَمَرَهُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ الَّتِي يُرْضُونَ بِهَا رَبَّهُمْ وَبِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ لَهُ وَالطَّاعَة. [1] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

(1) لَمَّا كَانَ جُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ إِبْطَالَ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَزَجْرَهُمْ عَنْ دِينِ الْإِشْرَاكِ بِأَسْرِهِ وَعَنْ تَفَارِيعِهِ الَّتِي أَعْظَمُهَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وتكذيبهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ وَتِلْكَ أُصُولُ ضَلَالِهِمْ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالْإِعْلَانِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرَانِهِمُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقَائِصِ: إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُدْرِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ مِثْلَ دَلَالَةِ حَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ كَحَاجَةِ الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّزْقِ وَحَاجَةِ الشَّجَرَةِ إِلَى الْمَطَرِ وَمَا يَشْهَدُ بِهِ حَالُ جَمِيعِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ مِنْ أَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُسَخَّرَةٌ لِمَا أَرَادَهُ مِنْهَا. وَكُلُّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَنْقُضْ دَلَالَةَ حَالِهَا بِنَقَائِضِ كُفْرِ مَقَالِهَا فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ إِلَّا أَهْلُ الضَّلَالِ مِنَ الْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ حُجِبُوا بِشَهَادَةِ حَالِهِمْ لَمَّا غَشَوْهَا بِهِ مِنْ صَرْحِ الْكُفْرِ. فَالْمَعْنَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَهَذَا يُفِيدُ ابْتِدَاءَ تَقْرِيرِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَيَكُونُ لَهُمْ تَعْلِيمًا وَامْتِنَانًا وَيُفِيدُ ثَانِيًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُنَزِّهُوهُ وَلَا وَقَّرُوهُ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ شُرَكَاءَ. وَجِيءَ بِفِعْلِ التَّسْبِيحِ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ وَدَوَامِهِ وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ. وَجِيءَ بِهِ فِي فَوَاتِحِ سُوَرِ: الْحَدِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالصَّفِّ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَدِيمِ الْأَزْمَانِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّفَنُّنِ فِي فواتح هَذِه السُّورَة كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ زِيَادَةً عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الْخَاصَّةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَمَا فِي هَاتِهِ السُّورَةِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ تَجَدُّدِ التَّسْبِيحِ وَالْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِكَيْ لَا يَكْتَفِيَ الْمُؤْمِنُونَ بِحُصُولِ إِيمَانِهِمْ لِيَجْتَهِدُوا فِي تَعْزِيزِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَإِعَادَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ لِقَصْدِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَجُمْلَةُ لَهُ الْمُلْكُ اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ والتسبب لمضمون يسبح لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ مُلَابَسَةَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ لِدَلَائِلِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى

[سورة التغابن (64) : آية 2]

عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَنِ النَّقَائِصِ لَا مُقْتَضَى لَهَا إِلَّا انْفِرَادُهُ بِتَمَلُّكِهَا وَإِيجَادِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ الْمُتَفَرِّدِ فِي مُلْكِهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَنْوِيهٌ بِإِقْبَالِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَجْدِيدِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ. فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ تَعَلُّقِ لَامِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمُلْكِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَلَا مُلْكَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُلْكٍ لِنَقْصِهِ وَعَدَمِ خُلُوِّهِ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهِ مَنْ هُوَ لَهُ بِخِلَافِ مُلْكِهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَلِكُ الْمُطْلَقُ الدَّاخِلُ فِي سُلْطَانِهِ كُلُّ ذِي مُلْكٍ. وَجُمْلَةُ وَلَهُ الْحَمْدُ مَضْمُونُهَا سَبَبٌ لِتَسْبِيحِ اللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، إِذِ التَّسْبِيحُ مِنَ الْحَمْدِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ حَمْدُ ذَوِي الْإِدْرَاكِ مُخْتَصًّا بِهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمُطْلَقِ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ. فَهَذَا الْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَمْدِ غَيْرِهِ لِنُقْصَانِ كَمَالَاتِهِمْ وَإِذَا أُرِيدَ بِالْحَمْدِ مَا يَشْمَلُ الشُّكْرَ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ عَبَدٌ لَمْ يَحْمَدْهُ» وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ مِنْ تَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ فَالشُّكْرُ أَيْضًا مَقْصُورٌ عَلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْحَقُّ بِنِعَمٍ لَا قِبَلَ لِغَيْرِهِ بِإِسْدَائِهَا، وَهُوَ الْمُفِيضُ عَلَى الْمُنْعِمِينَ مَا يُنْعِمُونَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ، قَالَ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: 53] كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى اللَّتَيْنِ قَبِلَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لَهُمَا وَالتَّبْيِينِ لِوَجْهِ الْقَصْرَيْنِ فِيهِمَا، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْحَمْدِ الْحَقِّ. وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ وَعْدٌ لِلشَّاكِرِينَ وَوَعِيدٌ وَتَرْهِيبٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ وَصْفِ قَدِيرٌ هُنَا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُسَبِّحُ اللَّهَ دَالَّةٌ عَلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ أَوَّلًا لِأَنَّ مَنْ يُشَاهِدِ الْمَخْلُوقَاتِ يَعْلَمْ أَنَّ خَالِقهَا قَادر. [2] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

(2) هَذَا تَقْرِيرٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [التغابن: 1] ، وَتَخَلُّصٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ قَدْ كَفَرُوا بِنِعْمَتِهِ وَبِخَلْقِهِمْ زِيَادَةً عَلَى جَحْدِهِمْ دَلَائِلَ تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ النَّقْصِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ لَهُ. وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فَمِنْكُمْ كافِرٌ عَلَى وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ الشِّقَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ قَصْرَ صِفَةِ الْخَالْقِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ قُصِدَ بِهِ الْإِشَارَةُ بِالْكِنَايَةِ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ عَمَدُوا إِلَى عِبَادَةِ أَصْنَامٍ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْهُمْ فَمَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِأَنْ تُعْبَدَ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ شُكْرٌ. قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ يَدْعُوهُمُ الْقُرْآنُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُعِدُّونَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَالْفَاءُ فِي فَمِنْكُمْ كافِرٌ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً عَلَى فِعْلِ خَلَقَكُمْ وَهِيَ لِلتَّفْرِيعِ فِي الْوُقُوعِ دُونَ تَسَبُّبٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الْحَدِيد: 26] وَمِثْلُ هَذَا التَّفْرِيعِ يَسْتَتْبِعُ التَّعْجِيبَ مِنْ جَرْيِ أَحْوَالِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] فَجُمْلَةُ فَمِنْكُمْ كافِرٌ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ فِي الْحُصُولِ، وَقُدِّمَ ذِكْرُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التغابن: 5] . وَجُمْلَةُ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ تَتْمِيمٌ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمُضَادَّةُ حَالِهِمْ لِحَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمُقَابَلَةُ الْحَالِ بِالْحَالِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَتْمِيمٌ وَاحْتِرَاسٌ وَاسْتِطْرَادٌ، فَهُوَ تَتْمِيمٌ لِمَا يُكَمِّلُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَقْسِيمِهِمْ إِلَى فَرِيقَيْنِ لِإِبْدَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَلِكَ وَعَلِيمٌ بِأَنَّهُ يَقَعُ وَلَيْسَ اللَّهُ مَغْلُوبًا عَلَى وُقُوعِهِ وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ وَعِلْمَهُ اقْتَضَيَا ذَلِكَ. وَدُونَ تَفْصِيلٍ هَذَا تَطْوِيلٌ نَخُصُّهُ بِتَأْلِيفٍ فِي مَعْنَى الْقَدَرِ وَجَرَيَانِ أَعْمَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى أَنْ نَقُولَ: خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ

وَأَوْدَعَ فِيهِمُ الْعُقُولَ الَّتِي تَتَوَصَّلُ بِالنَّظَرِ السَّلِيمِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَشَوَائِبِ الْهَوَى وَغِشَاوَاتِ الْعِنَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلَى الْوَصْفِ اللَّائِقِ بِهِ وَخَلَقَ فِيهِمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِهَا الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بِالْكَسْبِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ (وَالْخِلَافُ فِي التَّعْبِيرِ) . وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الصَّلَاحِ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَكْتَسِبُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلَوْ شَاءَ لَصَرَفَ مُقْتَرِفَ الْفَسَادِ عَنْ فِعْلِهِ وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَ نُظُمًا مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَمُنْتَشِرَةً فَقَضَتْ حِكْمَتُهُ بِالْحِفَاظِ عَلَى تِلْكَ النُّظُمِ الْكَثِيرَةِ بِأَنْ لَا يَعُوقَ سَيْرَهَا فِي طَرَائِقِهَا وَلَا يُعَطِّلَ عَمَلَهَا لِأَجْلِ إِصْلَاحِ أَشْخَاصِ هُمْ جُزْءٌ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ النُّظُمَ الْعَامَّةَ أَعَمُّ فَالْحِفَاظُ عَلَى اطِّرَادِهَا أَصْلَحُ وَأَرْجَحُ، فَلَا تَتَنَازَلُ إِرَادَةُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ إِلَى التَّدَخُّلِ فِيمَا سُمِّيَ بِالْكَسْبِ عَلَى أصولنا أَو بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، بَلْ جَعَلَ بِحِكْمَتِهِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ حَاجِزًا هُوَ نِظَامُ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ مِنْ إِرَادَةٍ وَإِدْرَاكٍ وَقُدْرَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ هُوَ بَصِيرٌ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعْمَلُوهُ، وَبَعْدَ أَنْ عَمِلْتُمُوهُ. فَالْبَصِيرُ: أُرِيدَ بِهِ الْعَالِمُ عِلْمَ انْكِشَافٍ لَا يَقْبَلُ الْخَفَاءَ فَهُوَ كَعِلْمِ الْمُشَاهِدَةِ وَهَذَا إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُفْرِدَتْ صِفَةُ بَصِيرٌ بِالذِّكْرِ وَلَمْ تُذْكَرْ مَعَهَا صِفَةُ «سَمِيعٌ» . وَاصْطَلَحَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْبَصِيرَةِ: الْعَالِمُ بِالْمَرْئِيَّاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْأُمُورِ عِنْدَ وُقُوعِهَا. وَالْحَقُّ أَنَّهَا اسْتِعْمَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَبْدُو مِنْ تَعَارُضٍ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَإِخْبَارٍ مِنَ السُّنَّةِ فَاجْعَلُوهُ مِثَالا يحتدى، وَقُولُوا هَكَذَا. هَكَذَا. وَهُوَ احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ مِنْ تَقْسِيمِهِمْ إِلَى فَرِيقَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ رِضَى بِالْحَالِينِ كَمَا حُكِيَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] . وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِهِ عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: بِما تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ كَالْإِيمَانِ وَهِيَ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً هُنَا

[سورة التغابن (64) : آية 3]

[3] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 3] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] يُبَيِّنُ أَنَّ انْقِسَامَهُمْ إِلَى قِسْمَيِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ نَشَأَ عَنْ حِيَادِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنْ يُؤْمِنَ النَّاسُ بِوُجُودِ خَالِقِهِمْ، وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَأَنْ يَفْرِدُوهُ بَالْعِبَادَةِ فَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . وَقَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرّوم: 30] فَمَنْ حَادَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَالَ إِلَى الْكُفْرِ فَقَدْ حَادَ عَنِ الْحَقِّ وَالْفِطْرَةِ. بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجُمْلَةِ وَصَوَّرَكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ إِيمَاءٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ خَلَقَ تَعَلُّقَ الْمُلَابَسَةِ الْمُفَادَ بِالْبَاءِ، أَيْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِ، وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آل عمرَان: 190، 191] . وَالْبَاطِل مصدقه هُنَالِكَ هُوَ الْعَبَثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 38، 39] فَتعين أَن مُصدق الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَنَّهُ ضِدُّ الْعَبَثِ وَالْإِهْمَالِ. وَالْمُرَادُ بِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ خَلَقَ ذَوَاتِهِنَّ وَخُلِقَ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ مَا خَلَقْنَاهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمُلَابَسَةُ الْحَقِّ لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُلَابَسَةً عَامَّةً مُطَّرِدَةً لِأَنَّهُ لَوِ اخْتَلَّتْ مُلَابَسَةُ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ لِلْحَقِّ لَكَانَ نَاقِضًا لِمَعْنَى مُلَابَسَةِ خَلْقِهَا لِلْحَقِّ، فَكَانَ نَفْيُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِ الْمَخْلُوقَاتِ مُوجِبًا

اخْتِلَالَ تِلْكَ الْمُلَابَسَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَتَخَلُّفُ الْجَزَاءِ عَنِ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا مُشَاهَدٌ إِذْ كَثِيرًا مَا نَرَى الصَّالِحِينَ فِي كَرْبٍ وَنَرَى أَهْلَ الْفَسَادِ فِي نِعْمَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا قُصَارَى حَيَاةِ الْمُكَلَّفِينَ لَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ غَيْرَ لَاقٍ جَزَاءً عَلَى صَلَاحِهِ. وَانْقَلَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْفَسَادِ مُتَمَتِّعًا بِإِرْضَاءِ خَبَاثَةِ نَفْسِهِ وَنَوَالِ مُشْتَهَيَاتِهِ، فَكَانَ خَلْقُ كِلَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرَ مُلَابِسٍ لِلْحَقِ، بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ. وَلِزِيَادَةِ الإيقاظ لهَذَا الْإِيمَان عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَكُلُّ ذَلِكَ تَوْطِئَةٌ إِلَى مَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7] الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ رَمْزٌ إِلَى الْجَزَاءِ وَهُوَ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ. وَفِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى آخِرِهِ إِظْهَارٌ أَيْضًا لِعَظَمَةِ اللَّهِ فِي مَلَكُوتِهِ. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. إِدْمَاجُ امْتِنَانٍ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُمْ مَعَ مَا خُلِقُوا عَلَيْهِ مِنْ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَذَلِكَ مِنَ الْكَمَالِ وَهُوَ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فَقَدْ خُلِقُوا فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إِذْ كَانَتْ صُورَةُ الْإِنْسَانِ مُسْتَوْفِيَةَ الْحُسْنِ مُتَمَاثِلَةً فِيهِ لَا يَعْتَوِرُهَا مِنْ فَظَاعَةِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا وَنُقْصَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَا يُنَاكِدُ مَحَاسِنَ سَائِرِهَا بِخِلَافِ مَحَاسِنِ أَحَاسِنِ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ مِنْ مَشْيٍ عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ انْتِكَاسِ الرَّأْسِ غَالِبًا، أَوْ زَحْفٍ، أَوْ نَقْزٍ فِي الْمَشْيِ فِي الْبَعْضِ. وَلَا تَعْتَوِرُ الْإِنْسَانَ نَقَائِصُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مِنْ عَوَارِضَ تَعْرِضُ فِي مُدَّةِ تَكْوِينِهِ مِنْ صَدَمَاتٍ لِبُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، أَوْ عِلَلٍ تَحِلُّ بِهِنَّ، أَوْ بِالْأَجِنَّةِ أَوْ مِنْ عَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ فَتُشَوِّهُ بَعْضَ مَحَاسِنِ الصُّوَرِ. فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ تَصْوِيرِ الْإِنْسَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعَ نُدْرَتِهِ لَا يُعَدُّ فَظَاعَةً وَلَكِنَّهُ نَقْصٌ نِسْبِيٌّ فِي الْمَحَاسِنِ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَاءِ إِلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ قَدْ نَبَّهَهُمْ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ الْإِنْعَامُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] ، وَقَالَ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] .

[سورة التغابن (64) : آية 4]

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصَوَّرَكُمْ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ يَقْتَضِي الْإِيجَادَ فَأُعْقِبَ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ بَعْدَ هَذَا الْإِيجَادِ فَنَاءً ثُمَّ بَعْثًا لِلْجَزَاءِ. وَالْمَصِيرُ مَصْدَرٌ ميمي لفعل صادر بِمَعْنَى رَجَعَ وَانْتَهَى، وَلِذَلِكَ يُعَدَّى بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ، أَيْ وَمَرْجِعَكُمْ إِلَيْهِ يَعْنِي بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ مَصِيرُ الْحَشْرِ لِلْجَزَاءِ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى الْمَصِيرُ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ إِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ ذَلِكَ الْمَصِيرِ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ الْمَحْضِ. وَلَيْسَ مُرَادًا بِالتَّقْدِيمِ قَصْرٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَذَا الْمَصِيرِ مِنْ أَصْلِهِ بَلْهَ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ مَصِيرٌ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِمْ بَالْقَصْرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مِنْهَا بِجُمْلَةِ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كَمَا يظْهر بِالتَّأَمُّلِ. [4] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 4] يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) كَانُوا يَنْفُونَ الْحَشْرَ بِعِلَّةِ أَنَّهُ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ الْجَسَدِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا وَلَا يُحَاطُ بهَا. وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ دَحْضًا لِشُبْهَتِهِمْ، أَيْ أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُعْجِزُهُ تَفَرُّقُ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ إِذَا أَرَادَ جَمْعَهَا. وَالَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَالسِّرُّ أَدَقُّ وَأَخْفَى مِنْ ذَرَّاتِ الْأَجْسَادِ الْمُتَفَرِّقَةِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مَوَاقِعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الدَّقِيقَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: 3، 4] . فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ كَمَا يَقْتَضِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ عَلَى الرَّاجِحِ. وَذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ تَهْدِيدًا عَلَى مَا يُبْطِنُهُ النَّاسُ مِنَ الْكُفْرِ.

[سورة التغابن (64) : آية 5]

وَأَمَّا عَطْفُ وَما تُعْلِنُونَ فَتَتْمِيمٌ لِلتَّذْكِيرِ بِعُمُومِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ. وَقَدْ تَضْمَنَ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَعِيدًا وَوَعْدًا نَاظِرَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ لِذَلِكَ شَدِيدَةَ الِاتِّصَالِ بِجُمْلَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] . وَإِعَادَةُ فِعْلِ يَعْلَمُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهَذَا التَّعَلُّقِ الْخَاصِّ لِلْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ تَعَلُّقِهِ الْعَامِّ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ بِوُجْهٍ خَاصٍّ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ لِأَنَّهُ يعلم مَا يسرّه جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ الْمُخَاطِبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَذَات الصُّدُورِ صِفَةٌ لِمُوصُوفٍ مَحْذُوفٍ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ مَوْصُوفِهَا، أَيْ صَاحِبَاتِ الصُّدُورِ، أَيِ الْمَكْتُومَةِ فِيهَا. وَالتَّقْدِيرُ: بِالنَّوَايَا وَالْخَوَاطِرِ ذَاتِ الصُّدُورِ كَقَوْلِهِ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ [الْقَمَر: 13] وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَة الْأَنْفَال [43] . [5] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 5] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) انْتِقَالٌ مِنَ التَّعْرِيضِ الرَّمْزِيِّ بِالْوَعِيدِ الْأُخْرَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] ، إِلَى قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3] ، وَقَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [التغابن: 4] ، إِلَى تَعْرِيضٍ أَوْضَحَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ إِلَى وَعِيدٍ لِعَذَابٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ مَعًا فَأَنَّ مَا يُسَمَّى فِي بَابِ الْكِنَايَةِ بِالْإِيمَانِ أَقَلَّ لَوَازِم من التَّعْرِيض وَالرَّمْزِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى التَّصْرِيحِ. وَهَذَا الْإِيمَاءُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِحَالِ أُمَمٍ تَلَقَّوْا رُسُلَهُمْ بِمِثْلِ مَا تَلَقَّى بِهِ الْمُشْركُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، فَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةُ لِأَنَّهَا عَدٌّ لِصَنْفٍ ثَانٍ مِنْ أَصْنَافِ كُفْرِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارُ الرِّسَالَةِ. فَالْخِطَابُ لِخُصُوصِ الْفَرِيقِ الْكَافِرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَهَذَا

[سورة التغابن (64) : آية 6]

الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَبَأَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِثْلَ كُفْرِهِمْ، مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَدْيَنَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَالتَّقْرِيرِيُّ يُؤْتَى مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ مَنْفِيَّةً تَوْسِعَةً عَلَى الْمُقَرَّرِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ حَتَّى إِذَا أَقَرَّ لَمْ يَسْتَطِعْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ إِنْكَارًا لِأَنَّهُ قَدْ أُعْذِرَ لَهُ مِنْ قَبْلُ بِتَلْقِينِهِ النَّفْيَ وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَحُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ قَبْلُ وَنُوِيَ مَعْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ فِي الْكُفْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ [التغابن: 2] . وَالْكَافِرُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهُمْ مُقْدِمُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَمُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ. وَالْوَبَالُ: السُّوءُ وَمَا يُكْرَهُ. وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْحَالُ. وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ وَالْوِجْدَانِ، شَبَّهَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِشَيْءٍ ذِي طَعْمٍ كَرِيهٍ يَذُوقُهُ مَنْ حَلَّ بِهِ وَيَبْتَلِعُهُ لِأَنَّ الذَّوْقَ بِالْلِسَانِ أَشَدُّ مِنَ اللَّمْسِ بِالْيَدِ أَو بِالْجلدِ. وَالْمَعْنَى: أَحَسُّوا الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا إِحْسَاسًا مَكِينًا. وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مُرَادٌ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايرَة. [6] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 6] ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) ارْتِقَاءٌ فِي التَّعْرِيضِ إِلَى ضَرْبٍ مِنْهُ قَرِيبٍ مِنَ الصَّرِيحِ. وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْكِنَايَةِ بِالْإِشَارَةِ. كَانَتْ مَقَالَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ مُمَاثِلَةً لِمَقَالَةِ الْمُخَاطَبِينَ فَإِذَا كَانَتْ هِيَ سَبَبُ مَا ذَاقُوهُ مِنَ الْوَبَالِ فَيُوشِكُ أَنْ يَذُوقَ مُمَاثِلُوهُمْ فِي الْمَقَالَةِ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَبَالِ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْوَبَالِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. فَهَذَا عَدٌّ لِكُفْرٍ آخَرَ مِنْ وُجُوهِ كُفْرِهِمْ وَهُوَ تكذيبهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكذيبهم بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ بَيِّنَةٌ مِنَ الْبَيِّنَاتِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ.

وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة فالجملة فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ. وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ مَا يُفَسِّرُ الضَّمِيرُ، وَهُوَ جُمْلَةُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِلَى آخِرِهَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَبَشَرٌ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَإِبْطَالٍ فَهُمْ أَحَالُوا أَنْ يَكُونَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يَهْدُونَ بَشَرًا أَمْثَالَهُمْ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَنْ يَصْطَفِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَيَخْلُقُهُ مُضْطَلِعًا بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ إِلَى عِبَادِهِ. كَمَا قَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] وَجَهِلُوا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ نَوْعِهِمْ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 95] وَلَمَّا أَحَالُوا أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ أَهْلًا لِهِدَايَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِ جَعَلُوا ذَلِكَ كَافِيًا فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْقُرْآنِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ. وَالْبَشَرُ: اسْمُ جِنْسٍ لِلْإِنْسَانِ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْكَهْف: 110] وَيُقَالُ عَلَى الْجَمْعِ كَمَا هُنَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ [17] عِنْدَ قَوْلِهِ: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. وَتَنْكِيرُ بَشَرٌ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّ مَحَطَّ الْإِنْكَارِ عَلَى كَوْنِهِمْ يَهْدُونَهُمْ، هُوَ نَوْعُ الْبَشَرِيَّةِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقَوِّي حُكْمِ الْإِنْكَارِ، وَمَا قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى اعْتَقَدُوهُ فَلِذَلِكَ أَقْدَمُوا عَلَى الْكُفْرِ بِرُسُلِهِمْ إِذْ قَدِ اعْتَقَدُوا اسْتِحَالَةَ إِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَجَزَمُوا بِكَذِبِهِمْ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا. وَالتَّوَلِّي أَصْلُهُ: الِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [64] . وَاسْتَغْنَى غَنِيَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [عبس: 5] . وَالْمَعْنَى: غَنِيَ اللَّهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] . وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ مِنْ زَمَنٍ مَضَى فَإِنَّ غِنَى اللَّهِ عَنْ إِيمَانِهِمْ مُقْرَرٌ فِي الْأَزَلِ.

[سورة التغابن (64) : آية 7]

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْ إِعَادَةِ دَعْوَتِهِمْ لِأَنَّ فِيمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِمْ مَا هُوَ كَافٍ لِحُصُولِ التَّصْدِيقِ بِدَعْوَةِ رُسُلِهِمْ لَوْلَا الْمُكَابَرَةُ فَلِذَلِكَ عُجِّلَ لَهُمْ بِالْعَذَابِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُتَعَلِّقُ اسْتَغْنَى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَفَرُوا وَقَوْلُهُ: بِالْبَيِّناتِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُمْ، حَمِيدٌ لِمَنِ امتثل وشكر. [7] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 7] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) هَذَا ضَرْبٌ ثَالِثٌ مِنْ ضُرُوبِ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ [التغابن: 5] إِلَخْ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قُلْ بَلى. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَلَا مِنَ الِالْتِفَاتِ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ غَرَضٍ مُخَاطَبٍ بِهِ غَيْرُ مَنْ كَانَ الْخِطَابُ جَارِيًا مَعَهُمْ. وَتَتَضَمَّنُ الْجُمْلَةُ تَصْرِيحًا بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ ذَلِك الَّذِي أُوتِيَ إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى يُفِيدُ بَالْحَقِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [التغابن: 3] وَبِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [التغابن: 4] كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا. وَالزَّعْمُ: الْقَوْلُ الْمَوْسُومُ بِمُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ خَطَأٌ فَمِنْهُ الْكَذِبُ الَّذِي لَمْ يَتَعَمَّدْ قَائِلُهُ أَنْ يُخَالِفَ الْوَاقِعَ فِي ظَنِّ سَامِعِهِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَبَرِ الْمُسْتَغْرَبِ الْمَشْكُوكِ فِي وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَعَنْ شُرَيْحٍ: لِكُلِّ شَيْءٍ كُنْيَةٌ وَكُنْيَةُ الْكَذِبِ زَعَمُوا (أَرَادَ بِالْكُنْيَةِ الْكِنَايَةَ) . فَبَيْنَ الزَّعْمِ وَالْكَذِبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ. وَفِي الْحَدِيثِ «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ إِلَى الْكَذِبِ زَعَمُوا» (¬1) ، أَيْ قَوْلُ الرَّجُلِ ¬

(¬1) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان بِسَنَد فِيهِ انْقِطَاع

زَعَمُوا كَذَا. وَرَوَى أَهْلُ الْأَدَبِ أَنَّ الْأَعْشَى لَمَّا أَنْشَدَ قَيْسَ بْنَ مَعْدِ يَكْرِبَ الْكِنَدِيَّ قَوْلَهُ فِي مَدْحِهِ: وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ ... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنِ غَضِبَ قَيْسٌ وَقَالَ لَهُ: «وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّعْمُ» . وَلِأَجْلِ مَا يُصَاحِبُ الزَّعْمَ مِنْ تَوَهُّمِ قَائِلِهِ صِدْقَ مَا قَالَهُ أُلْحِقَ فِعْلُ زَعَمَ بِأَفْعَالِ الظَّنِّ فَنَصَبَ مَفْعُولَيْنِ. وَلَيْسَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبِ: فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فِيكُمُ ... فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكِ بِالْجَهْلِ وَمِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ قَوْلُ أَبِي أُمَيَّةَ أَوْسٍ الْحَنَفِيِّ: زَعَمَتْنِي شَيْخًا وَلَسْتُ بِشَيْخٍ ... إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبًا وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ فِعْلِ الزَّعْمِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْمُشَدَّدَةُ أَوِ الْمُخَفَّفَةُ مِثْلَ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَسُدُّ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا انْتِفَاءَ بَعْثِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ الزَّعْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [60] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [22] وَمَا ذَكَرْتُهُ هُنَا أَوْفَى. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ عَلَى دِينِهِمْ. وَاجْتِلَابُ حَرْفِ لَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فَكَانُوا مُوقِنِينَ بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ إِبْطَالُ زَعْمِهِمْ مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ لِيَنْقُضَ نَفْيَهُمْ بِأَشَدَّ مِنْهُ، فَأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ وَخَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا مَا بَلَّغَنَاهُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ قُلْ بَلى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجُمْلَةِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التغابن: 8] . وَحَرْفُ بَلى حَرْفُ جَوَابٍ لِلْإِبْطَالِ خَاصٌّ بِجَوَابِ الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ لِإِبْطَالِهِ.

[سورة التغابن (64) : آية 8]

وَجُمْلَةُ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ارْتِقَاءٌ فِي الْإِبْطَالِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ إِنْبَاءَهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَهَمُّ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ إِذْ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْبَعْثِ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَإِنْبَاؤُهُمْ بِمَا عَمِلُوا كِنَايَةٌ عَنْ مُحَاسَبَتِهِمْ عَلَيْهِ وَجَزَائِهِمْ عَمَّا عَمِلُوهُ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْمُجَازَى بِعَمَلِهِ الَّذِي جُوزِيَ عَلَيْهِ فَكَانَ حُصُولُ الْجَزَاءِ بِمَنْزِلَةِ إِخْبَارِهِ بِمَا عَمِلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: 23] . وَهَذَا وَعِيدٌ وتهديد بجزاء سيّىء لِأَنَّ الْمَقَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَن عَمَلهم سيىء وَهُوَ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارُ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: إِمَّا عَائِدٌ إِلَى الْبَعْثِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَتُبْعَثُنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] أَيِ الْعَدْلُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَإِمَّا عَائِدٌ إِلَى مَعْنَى الْمَذْكُورِ مِنْ مَجْمُوعِ لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ. وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِ يَسِيرٌ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَاقِعٌ كَمَا قَالَ: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لِرَدِّ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بِعِلَّةِ أَنَّ أَجْزَاءَ الْجَسَدِ تَفَرَّقَتْ فَيَتَعَذَّرُ جَمْعُهَا فَذَكَرُوا بِأَنَّ الْعَسِيرَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ لَا يَعْسُرُ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . [8] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 8] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ تُفْصِحُ عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتُمْ هَذِهِ الْحُجَجَ وَتَذَكَّرْتُمْ مَا حَلَّ بِنُظَرَائِكُمْ مِنَ الْعقَاب وَمَا ستنبّؤون بِهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَآمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ، أَيْ بِنَصِّهِ.

وَالْمُرَادُ بِالنُّورَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ، الْقُرْآنَ، وُصِفَ بِأَنَّهُ نُورٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ النُّورَ فِي إِيضَاحِ الْمَطْلُوبِ بِاسْتِقَامَةِ حُجَّتِهِ وَبَلَاغَةِ كَلَامِهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاء: 174] . وَأَشْبَهَ النُّورَ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى السُّلُوكِ الْقَوِيمِ وَفِي هَذَا الشَّبَهِ الثَّانِي تَشَارُكُهُ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: 44] ، وَقَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ: الَّذِي أَنْزَلْنا، لِأَنَّهُ مِنْ مُنَاسِبَاتِ الْمُشَبَّهِ لِاشْتِهَارِ الْقُرْآنِ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْأَلْقَابِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْإِنْزَالِ وَالتَّنْزِيلِ عَرَفَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُعَانِدُونَ. وَهُوَ إِنْزَالٌ مَجَازِيٌّ أُرِيدَ بِهِ تَبْلِيغُ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [4] وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ فَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْفَاءِ تَضَمَّنَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن: 6] كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا شَامِلًا لِمَا سَبَقَ الْفَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7] إِلَخْ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْزَلْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ تَذْكِيرًا بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ ضَمِيرَ التَّكَلُّمِ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى مَعَادِهِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَلِتَقْوِيَةِ دَاعِي الْمَأْمُورِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يَقْتَضِي وَعْدًا إِنْ آمَنُوا، وَوَعِيدًا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَفِي ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً جَارِيَةً مَجْرَى الْمَثَلِ وَالْكَلِمِ الْجَوَامِعِ، وَلِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الضَّمِيرِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ تَطَلُّبِ الْمَعَادِ. وَفِيهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ مَا فِي قَوْلِ الْخَلِيفَةِ «أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا» . وَالْخَبِيرُ: الْعَلِيمُ، وَجِيءَ هُنَا بِصِفَةِ «الْخَبِيرُ» دُونَ: الْبَصِيرُ، لِأَنَّ مَا يَعْلَمُونَهُ مِنْهُ مَحْسُوسَاتٍ وَمِنْهُ غَيْرُ مَحْسُوسَاتٍ كَالْمُعْتَقَدَاتِ، وَمِنْهَا الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ، فَعُلِّقَ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا

[سورة التغابن (64) : آية 9]

تَقَدَّمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] فَإِنَّ لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ آثَارًا ظَاهِرَةً مَحْسُوسَةً فَعُلِّقَتْ بِالْوُصْفِ الدَّالِّ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْمَحْسُوسَاتِ. [سُورَة التغابن (64) : آيَة 9] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ. مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: 7] الَّذِي هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ «تُجَازَوْنَ» عَلَى تَكْذِيبِكُمْ بِالْبَعْثِ فَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ مَا أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] . وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يَجْمَعُكُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8] . وَمَعْنَى يَجْمَعُكُمْ يَجْمَعُ الْمُخَاطَبِينَ وَالْأُمَمَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] ، وَهَذَا زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِلْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَوْمِ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ يَجْمَعُكُمْ لِأَجْلِ الْيَوْمِ الْمَعْرُوفِ بِالْجَمْعِ الْمَخْصُوصِ. وَهُوَ الَّذِي لِأَجْلِ جَمْعِ النَّاسِ، أَيْ يَبْعَثُكُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْحِسَابِ، فَمَعْنَى الْجَمْعِ هَذَا غَيْرُ مَعْنَى الَّذِي فِي يَجْمَعُكُمْ. فَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْنِيسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (فِي) عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: 187] ، وَقَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: 24] وَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَضَى لِسَبِيلِهِ، أَيْ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ طَرِيقُ الْمَوْتِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ، وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى (عِنْدَ) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: كُتِبَ لِكَذَا مَضَيْنَ مَثَلًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] .

وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاقْتِرَابِ وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) ، وَيُفِيدُ هُنَا: أَنَّهُمْ مَجْمُوعُونَ فِي الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ دُونَ تَأْخِيرٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7] ، فَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِيَوْمِ الْجَمْعِ بِفِعْلِ يَجْمَعُكُمْ. فِ «يَوْمَ الْجَمْعِ» هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» إِلَخْ. جُعِلَ هَذَا الْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ لَقَبًا لِيَوْمِ الْحَشْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَجْمَعُكُمْ بياء الْغَائِب. وقرأه يَعْقُوبُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: 7] بِمُتَعَلِّقِهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ اعْتِرَاضًا يُفِيدُ تَهْوِيلَ هَذَا الْيَوْمَ تَعْرِيضًا بِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَسَارَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ بِسُوءِ الْمُنْقَلَبِ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مَقَامِ الضَّمِيرِ لقصد الاهتمام بِهَذَا الْيَوْم بِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ مَعَ مَا يفِيدهُ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ مِنْ عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. والتَّغابُنِ: مَصْدَرُ غَابَنَهُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَحَقِيقَةُ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ. وَالْغَبْنُ أَنْ يُعْطَى البَائِع ثمنا لمبيعه دُونَ حَقِّ قِيمَتِهِ الَّتِي يُعَوِّضُ بِهَا مثله. فالغبن يؤول إِلَى خَسَارَةِ الْبَائِعِ فِي بَيْعِهِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْغَبْنُ عَلَى مُطْلَقِ الْخُسْرَانِ مَجَازًا مُرْسَلًا كَمَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلَا يُبَالِي غَبْنَ الْخَاسِرِ

فَلَيْسَتْ مَادَّةُ التَّغَابُنِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمُ التَّغابُنِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا إِذْ لَا تَعَارُضَ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ غِبْنٌ بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْخُسْرَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَأَمَّا صِيغَةُ التَّفَاعُلِ فَحَمَلَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ فَفَسَّرُوهَا بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَبَنُوا أَهْلَ النَّارِ إِذْ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ وَأَهْلُ جَهَنَّمَ أَخَذُوا جَهَنَّمَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ. فَحَمَلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة عَلَى أَنَّ التَّغَابُنَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِحَالِ مُتَبَايِعَيْنِ أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنَ الْوَافِي، وَأَخَذَ الْآخَرُ الثَّمَنَ الْمَغْبُونَ، يَعْنِي وَقَوْلُهُ عَقِبَهُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً إِلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَفْصِيلًا لِلْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ، فَالْمَجَازُ فِي مَادَّةِ الْغَبْنِ، وَالتَّمْثِيلُ فِي صِيغَةِ التَّغَابُنِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ بِمَنْزِلَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ إِذِ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ يَوْمٌ مِثْلُ التَّغَابُنِ. وَحَمَلَ قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ (وَهُوَ مَا فُسِّرَ إِلَيْهِ كَلَامُ الرَّاغِبِ فِي مُفْرَدَاتِهِ) وَصَرَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ صِيغَةَ التَّفَاعُلِ عَلَى مَعْنَى الْكَثْرَةِ وَشَدَّةِ الْفِعْلِ (كَمَا فِي قَوْلِنَا: عَافَاكَ اللَّهُ وَتَبَارَكَ اللَّهُ) فَتَكُونُ اسْتِعَارَةً، أَيْ خَسَارَةٌ لِلْكَافِرِينَ إِذْ هُمْ مَنَاطُ الْإِنْذَارِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [10] . فَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي كَثْرَةِ حُصُول الْغبن تَشْبِيها لِلْكَثْرَةِ بِفِعْلِ مَنْ يَحْصُلُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ. وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ حَالَتِهِمْ فِي يَوْمِ الْجَمْعِ، إِذِ الْمَعْنَى: ذَلِكَ يَوْمُ غَبْنِكُمُ الْكَثِيرِ الشَّدِيدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: 8] . وَالْغَابِنُ لَهُمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْلَا قَصْدُ ذَلِكَ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ تَغَابُنٍ فَإِنَّ فِيهِ رِبْحًا عَظِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ

[سورة التغابن (64) : آية 10]

بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ، فَوِزَانُ هَذَا الْقَصْرِ وِزَانُ قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1) : «إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَفَادَ تَعْرِيفُ جُزْأَيْ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ قَصْرَ الْمسند على الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَيْ قَصْرَ جِنْسِ يَوْمِ التَّغَابُنِ عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا، أَيْ ذَلِكَ يَوْمُ الْغَبْنِ لَا أَيَّامُ أَسْوَاقِكُمْ وَلَا غَيْرُهَا، فَإِنَّ عَدَمَ أَهَمِّيَّةِ غَبْنِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ غَبْنَ الدُّنْيَا كَالْعَدَمِ وَجَعَلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْحَصِرًا فِيهِ جِنْسُ الْغَبْنِ. وَأَمَّا لَامُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: التَّغابُنِ فَهِيَ لَامُ الْجِنْسِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 15] . وَقَوْلُهُ فِي ضِدِّهِ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر: 29] . هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مَرَّ بِهَا مَرًّا. وَلَمْ يَحْتَلِبْ مِنْهَا دَرًّا. وَهَا أَنَا ذَا كَدَدْتُ ثِمَادِي، فَعَسَى أَنْ يَقَعَ لِلنَّاظِرِ كَوَقْعِ الْقَرَاحِ مِنَ الصَّادِي، وَالله الْهَادِي. يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التغابن: 8] وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8] الَّذِي هُوَ تَذْيِيلٌ. ومَنْ شَرْطِيَّةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلٌ، أَيْ مَنْ يُؤْمِنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ نُكَفِّرْ عَنْهُ مَا فَرَّطَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: الْكُفْرُ وَمَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ. وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ: الْعَفْوُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا وَهُوَ مَصْدَرُ كَفَّرَ مُبَالِغَةً فِي كَفَرَ. وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَأَصِلُهُ: اسْتِعَارَةُ السَّتْرِ لِلْإِزَالَةِ مِثْلَ الْغُفْرَانِ أَيْضًا. وَانْتَصَبَ صالِحاً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَمَلًا صَالِحًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ نُكَفِّرْ وندخله بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ مَقَامَ الْوَعْدِ مَقَامُ إِقْبَالٍ فناسبه ضمير التَّكَلُّم. وَقَرَأَ هما الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهَذَا الْفَرِيقِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تذييل. [سُورَة التغابن (64) : آيَة 10] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) وَقَوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا، أَيْ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ ثَبَتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ لِعَرَاقَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَجِيءَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ تَمْيِيزًا لَا يَلْتَبِسُ مَعَهُ غَيْرُهُمْ بِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] مَعَ مَا يُفِيدُهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لملازمة النَّار ناشىء عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهَذَا وَعِيدٌ. وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اعْتِرَاضٌ تَذْيِيلِيٌّ لِزِيَادَةِ تهويل الْوَعيد. [11] ¬

(¬1) ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا فِي بعض أَبْوَاب الْأَدَب من «صَحِيحه» .

[سورة التغابن (64) : آية 11]

[سُورَة التغابن (64) : آيَة 11] مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) اسْتِئْنَافٌ انْتُقِلَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ تُوُعِّدَ الْمُشْرِكُونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّغَابُنِ يَوْمُ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْحِسَابِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ تَهْدِيدَ الْمُشْرِكِينَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ التَّسَاؤُلَ عَنِ الِانْتِصَافِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا يَلْقَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِضْرَارِهِمْ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُفُّوا عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَإِصَابَتِهِمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ.

فَالْمُرَادُ: الْمَصَائِبُ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِمَا يُسَلِّيهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يَنَالُهُمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ «قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا لَصَانَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمَصَائِبِ» . وَاخْتُصَّتِ الْمُصِيبَةُ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ بِمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ شَرٍّ وَضُرٍّ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ فعلهَا يُقَال كَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مُطْلَقًا وَلَكِنْ غَلَبَ إِطْلَاقُ فِعْلِ أَصَابَ عَلَى لِحَاقِ السُّوءِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 79] ، أَنَّ إِسْنَادَ الْإِصَابَةِ إِلَى الْحَسَنَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ. وَتَأْنِيثُ الْمُصِيبَةِ لِتَأْوِيلِهَا بِالْحَادِثَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [165] . وَالْإِذْنُ: أَصْلُهُ إِجَازَةُ الْفِعْلِ لِمَنْ يَفْعَلُهُ وَأُطْلِقَ عَلَى إِبَاحَةِ الدُّخُولِ إِلَى الْبَيْتِ وَإِزَالَةِ الْحِجَابِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَذِنَ لَهُ إِذَا سَمِعَ كَلَامَهُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ. وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُفْضِي فِي نِظَامِ الْعَادَةِ إِلَى وُقُوعِ وَاقِعَاتٍ، وَهِيَ مِنْ آثَارِ صُنْعِ اللَّهِ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ رَبْطِ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَسْبَابُ فَلَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ الْأَسْبَابَ وَأَسْبَابَ أَسْبَابِهَا، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ أُصُولًا وَفُرُوعًا بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَالتَّكْوِينِ لَفْظُ الْإِذْنِ، وَالْمُشَابَهَةُ ظَاهِرَةٌ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الْحَدِيد: 22] . وَمُقْتَضَى هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَقْرِيبُ حَقِيقَةِ التَّقَلُّبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَى عُقُولِ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِصَارِ الْعِبَارَةِ لِضِيقِ الْمَقَامِ عَنِ الْإِطْنَابِ فِي بَيَانِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ ذَلِكَ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ عقول عُمُوم الْأُمَّةِ بِسُهُولَةٍ. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ الصَّبْرَ عَلَى مَا يَغْلِبُهُمْ مِنْ مَصَائِبِ الْحَوَادِثِ لِكَيْلَا تَفُلَّ عَزَائِمُهُمْ وَلَا يَهِنُوا وَلَا يُلْهِيَهُمُ الْحُزْنُ عَنْ مُهِمَّاتِ أُمُورهم وتدبير شؤونهم كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْحَدِيد [23] لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، أَيْ يهد قلبه عِنْد مَا تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَحَذَفَ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمرَان: 139، 140] .

[سورة التغابن (64) : آية 12]

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُرْتَاضٌ بِالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُتَّبِعٌ لِوَصَايَا اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُجَاف لفاسد الْأَخْلَاقِ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ يَتَلَقَّى مَا يُصِيبُهُ مِنْ مُصِيبَةٍ بِالصَّبْرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَخْلُو مِنْ عَوَارِضَ مُؤْلِمَةٍ أَوْ مُكَدِّرَةٍ. قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [الْبَقَرَة: 155- 157] ، أَيْ أَصْحَابَ الْهُدَى الْكَامِلِ لِأَنَّهُ هُدًى مُتَلَقًّى مِنَ التَّعَالِيمِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ الْمَعْصُومَةِ مِنَ الْخَطَلِ كَقَوْلِهِ هُنَا: يَهْدِ قَلْبَهُ. وَهَذَا الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ إِيمَاءٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَدْيِ اللَّهِ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ تَرْغِيبُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّبَاتِ وَالتَّصَبُّرِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ فَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَارِدٌ عَلَى مُرَاعَاةِ جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْمَصَائِبَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمِنْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِلثَّبَاتِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ وَمِنَ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، أَيْ يَعْلَمُ جَمِيعَ ذَلِكَ. وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاةِ الصَّابِرِينَ بِالثَّوَابِ لِأَنَّ فَائِدَةَ عِلْمِ اللَّهِ الَّتِي تُهِمُّ النَّاسَ هُوَ التَّخَلُّقُ وَرَجَاءُ الثَّوَابِ وَرفع الدَّرَجَات. [12] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 12] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُتَهَيِّئُونَ لِطَاعَةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَيْهِ من مصَالح الْأَعْمَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمرَان: 122] ، وَلِأَنَّ طَلَبَ الطَّاعَةِ فَرْعٌ عَنْ تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً» الْحَدِيثَ.

[سورة التغابن (64) : آية 13]

وَتَفْرِيعُ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ تَحْذِيرٌ مِنْ عِصْيَانِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّوَلِّي مُسْتَعَارٌ لِلْعِصْيَانِ وَعَدَمِ قَبُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ. وَحَقِيقَةُ التَّوَلِّي الِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهِ وَاسْتُعِيرَ التَّوَلِّي لِلْعِصْيَانِ تَشْنِيعًا لَهُ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [مُحَمَّد: 38] ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 20] . وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: رَسُولِنَا بِالْإِضَافَةِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِ شَأْنه بِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الضَّمِيرُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ يُفِيدُ تَشْرِيفَ الرَّسُولِ بِعِزِّ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ. وَمَعْنَى الْحَصْرِ قَوْلِهِ: فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قصر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَوْنِ وَاجِبِهِ الْبَلَاغَ، قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صفة فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلَى لُزُومِ الْبَلَاغِ لَهُ لَا يَعْدُو ذَلِكَ إِلَى لُزُومِ شَيْءٍ آخَرَ. وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ تَنْزِيلًا لَهُمْ فِي حَالَةِ الْعِصْيَانِ الْمَفْرُوضِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِلْهَابًا لِنُفُوسِهِمْ بِالْحَثِّ عَلَى الطَّاعَةِ. وَوَصْفُ الْبَلَاغُ بِ الْمُبِينُ، أَيِ الْوَاضِحُ عذر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ ادَّعَى مَا أُمِرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ قَطْعًا لِلْمُعَذَّرِ عَنْ عَدَمِ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَبِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْقَصْرِ جُمْلَةُ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ كَانَتْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَقْدِيرِ جَوَابٍ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِ أَوْ عِلَّةً لَهُ. [13] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 13] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12] وَجُمْلَةِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَاسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر. وَهَذَا تذكير للْمُؤْمِنين بِمَا يعلمونه. أَي من آمن بِأَن الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ وَأَنْ لَا يَعْبَأَ

[سورة التغابن (64) : آية 14]

بِمَا يُصِيبُهُ فِي جَانِبِ طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ مَصَائِبَ وَأَذًى كَمَا قَالَ حبيب بْنُ عَدِيٍّ: لَسْتُ أُبَالِي حَيْنَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ [التغابن: 12] وَتُفِيدُ أَيْضًا تَعْلِيلَ جُمْلَةِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12] لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ تَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاء: 80] . وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ لَمْ يَقُلْ هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَحْوِيهِ اسْمُ الْجَلَالَةِ مِنْ مَعَانِي الْكَمَالِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَكُونُ جَارِيَةً مَجْرَى الْأَمْثَالِ وَالْكَلِمِ الْجَوَامِعِ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. عَطْفٌ عَلَى وَأَطِيعُوا اللَّهَ فَهُوَ فِي مَعْنَى: وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ فتوكلوا عَلَيْهِ. وَتقدم الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَجِيءَ فِي ذَلِكَ بِصِيغَةِ أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ رَبْطًا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَتَثْبِيتًا لِنُفُوسِهِمْ كَيْلَا يَأْسَفُوا مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْهُمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لَنْ يَضُرَّهُمْ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَعْتَزُّونَ بِهِمْ وَلَا يَتَقَوَّوْنَ بِأَمْثَالِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَوَكَّلُوا إِلَّا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَذَلِكَ يَغِيظُ الْكَافِرِينَ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسِيرَ مَسْرَى الْمَثَلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِظْهَارُ لَفْظِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَقُلْ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلُوا، وَلِمَا فِي الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ لِيَكُونَ معنى التَّمْثِيل. [14] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 14] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

(14) إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُفِيدُهُمْ كَمَالًا وَيُجَنِّبُهُمْ مَا يَفْتِنُهُمْ. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، فَلَمَّا أَتَوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَجَاءَ مَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ- وَرَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ- أَيْ سَبَقُوهُمْ بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ لِتَأَخُّرِ هَؤُلَاءِ عَنِ الْهِجْرَةِ- فَهَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ عَلَى مَا تَسَبَّبُوا لَهُمْ حَتَّى سَبَقَهُمُ النَّاسُ إِلَى الْفِقْهِ فِي الدِّينِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ:- أَيْ حَتَّى قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ-. وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ» . وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِ كَانَ ذَا أَهْلٍ وَوَلَدٍ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ بَكَوْا إِلَيْهِ وَرَقَّقُوهُ وَقَالُوا: إِلَى مَنْ تَدَعُنَا، فَيَرِقُّ لَهُمْ فَيَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ. وَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِمْ . فَهَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَيَكُونُ مَوْقِعُهَا هَذَا سَبَبَ نُزُولِهَا صَادَفَ أَنْ كَانَ عَقِبَ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَسْلِيَةٌ عَلَى مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَمٍّ مِنْ مُعَامَلَةِ أَعْدَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَمِنِ انْحِرَافِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا كَانَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ كَانَتِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ إِقْبَالٍ عَلَى تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ بَعْدَ قَضَاءِ حَقِّ الْغَرَضِ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْأَغْرَاضِ بِأَضْدَادِهَا مِنْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، وَثَنَاءٍ أَوْ مَلَامٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِيُوفَّى الطَّرَفَانِ حَقَّيْهِمَا، وَكَانَتْ تَنْبِيهًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالٍ فِي عَائِلَاتِهِمْ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لَمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ مُمْتَزِجِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِوَشَائِجِ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَالْوَلَاءِ فَلَمَّا نَاصَبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْعَدَاءَ لِمُفَارَقَتِهِمْ دِينِهِمْ وَأَضْمَرُوا لَهُمُ الْحِقْدَ وَأَصْبَحُوا فَرِيقَيْنِ كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ غَيْرَ خَالٍ مِنْ أَفْرَادٍ مُتَفَاوِتِينَ فِي الْمُضَادَّةِ تَبَعًا لِلتَّفَاوُتِ فِي صَلَابَةِ الدِّينِ، وَفِي أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْعَدَاءُ إِلَى نِهَايَةِ طَرَفِهِ فَتَنْدَحِضُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الْأَوَاصِرِ فَيُصْبِحُ الْأَشَدُّ قُرْبًا أَشَدَّ مَضَرَّةً عَلَى قَرِيبِهِ مِنْ مَضَرَّةِ الْبَعِيدِ.

فَأَيْقَظَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ فِيمَا تُوُهِّمَ مِنْ جَانِبِ غُرُورِهِمْ فَيَكُونُ ضُرُّهُمْ أَشُدَّ عَلَيْهِمْ وَفِي هَذَا الْإِيقَاظِ مَصْلَحَةٌ لِلدِّينِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَاحْذَرُوهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَنْ يَضُرُّوهُمْ، وَأَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَذَرِ وَبَيْنَ الْمُسَالَمَةِ وَذَلِكَ مِنَ الْحَزْمِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَتَقْدِيمُ خَبَرِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَشْوِيقٍ إِلَى الِاسْمِ لِيَتَمَكَّنَ مَضْمُونُ هَذَا الْخَبَرِ فِي الذِّهْنِ أَتَمَّ تَمَكُّنٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ وَالْأَهَمِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وعدوّ وَصْفٌ مِنَ الْعَدَاوَةِ بِوَزْنِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَلِذَلِكَ لَزَمَ حَالَةَ الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ إِذَا كَانَ وَصْفًا، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [92] . فَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ فَيُطَابِقُ مَا أُجْرِي عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً [الممتحنة: 2] . وَالْإِخْبَارُ عَنْ بَعْضِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ بِأَنَّهُمْ عَدُوٌّ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يُضْمِرُ عَدَاوَةً لِزَوْجِهِ وَبَعْضَهُمْ لِأَبَوَيْهِ مِنْ جَرَّاءِ الْمُعَامَلَةِ بِمَا لَا يَرُوقُ عِنْدَهُ مَعَ خَبَاثَةٍ فِي النَّفْسِ وَسُوءِ تَفْكِيرٍ فَيَصِيرُ عَدُوًّا لِمَنْ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقًا، وَيَكْثُرُ أَنْ تَأْتِيَ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَمِنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْأَعْدَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَالْعَدُوِّ فِي الْمُعَامَلَةِ بِمَا هُوَ مِنْ شَأْنِ مُعَامَلَةِ الْأَعْدَاءِ كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: يَفْعَلُ الْجَاهِلُ بِنَفْسِهِ مَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ لِعَدُوِّهِ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَعُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَاحْذَرُوهُمْ جُمْلَةُ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا إِلَى آخِرِهَا عَطْفَ الِاحْتِرَاسِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَفْوُ مَطْلُوبًا مَحْبُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الذَّنْبِ فَإِنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مُجَرَّدِ ظَنِّ الْعَدَاوَةِ أَجْدَرُ بِالطَّلَبِ فَفُهِمَ النَّهْيُ عَنْ مُعَامَلَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ لِأَجْلِ إِيجَاسِ الْعَدَاوَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْذِيرِ التَّوَقِّي وَأَخَذُ الْحِيطَةِ لِابْتِدَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: «الْحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ» ، أَيْ لَكِنْ دُونَ أَنْ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ مُعَامَلَةُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مَا ظَنَنْتَ

[سورة التغابن (64) : آية 15]

بِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] وَقَالَ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 6] . وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَلَوْ مَعَ تَوْبِيخٍ. وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُذْنِبِ، أَيْ تَرْكُ عِقَابِهِ عَلَى ذَنْبِهِ دُونَ التَّوْبِيخِ. وَالْغَفْرُ: سَتْرُ الذَّنْبِ وَعَدَمُ إِشَاعَتِهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى تَرَاتُبِ آثَارِ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ آثَارُهَا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الثَّلَاثِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِمَّا يُؤْذِيكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ لِإِرَادَةِ عُمُومِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ. وَإِنَّمَا يَعْفُو الْمَرْءُ وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ عَنِ الْمُذْنِبِ إِذَا كَانَ ذَنْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقِّ ذَلِكَ الْمَرْءِ وَبِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مُطْلَقَةً وَفِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ تَقْيِيدَاتٌ لَهَا. وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ الْمُؤْذِنِ بِالتَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغَفْرِ فَالتَّقْدِيرُ وَأَنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا يُحِبُّ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ لِلَّذِينَ يَغْفِرُونَ وَيَرْحَمُونَ، وَجَمَعَ وَصْفُ رَحِيمٌ الْخِصَال الثَّلَاث. [15] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 15] إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) تَذْيِيلٌ لِأَنَّ فِيهِ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ حَالٌ خَاصٌّ بِبَعْضِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِيهِ الْأَمْوَالُ لِأَنَّهَا لَمْ يَشْمَلْهَا طَلَبُ الْحَذَرِ وَلَا وَصْفُ الْعَدَاوَةِ. وَقُدِّمَ ذِكْرُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ. وَوَجْهُ إِدْمَاجِ الْأَمْوَالِ هُنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ أُصِيبُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ تُذْكَرِ الْأَمْوَالُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ التَّحْذِيرُ مِنْ أَشَدِّ الْأَشْيَاءِ اتِّصَالًا بِهِمْ وَهِيَ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. وَلِأَنَّ فِتْنَةَ هَؤُلَاءِ مُضَاعَفَةٌ لِأَنَّ الدَّاعِي إِلَيْهَا يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ مَسَاعِيَ الْآخَرِينَ وَتَسْوِيلِهِمْ. وَجُرِّدَ عَنْ ذِكْرِ

[سورة التغابن (64) : آية 16]

الْأَزْوَاجِ هُنَا اكْتِفَاءً لِدَلَالَةِ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ عَلَيْهِنَّ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّ فِتْنَتَهُنَّ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ جُرْأَتَهُنَّ عَلَى التَّسْوِيلِ لِأَزْوَاجِهِنَّ مَا يُحَاوِلْنَهُ مِنْهُمْ أَشَدُّ مِنْ جُرْأَةِ الْأَوْلَادِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَاد من نَّما قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ لَيْسَتْ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مُلَازَمَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ إِذْ يَنْدُرُ أَنْ تَخْلُوَ أَفْرَادُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَهُمَا أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْلَادُهُمْ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْفِتْنَةِ لِمَنْ يَتَلَبَّسُ بهما. والإخبار بتْنَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ سَبَبُ فِتْنَةٍ سَوَاءً سَعَوْا فِي فِعْلِ الْفَتْنِ أَمْ لَمْ يَسْعَوْا. فَإِنَّ الشُّغْلَ بِالْمَالِ وَالْعِنَايَةَ بِالْأَوْلَادِ فِيهِ فِتْنَةٌ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ عِلْمِ الْمَعَانِي التَّذْيِيلُ وَالْإِدْمَاجُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْإِطْنَابِ، وَالِاكْتِفَاءُ وَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ، وَفِيهَا الْإِخْبَار بِالْمَصْدَرِ وهوتْنَةٌ ، والإخبار بِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَفِيهَا الْقَصْرُ، وَفِيهَا التَّعْلِيلُ، وَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْفَصْلِ، وَقَدْ يُعَدُّ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِ أَيْضًا فَتِلْكَ سِتُّ خُصُوصِيَّاتٍ. وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّذْيِيلِ وَالتَّعْلِيلِ وَكِلَاهُمَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصْلِ. وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَحِيرَتُهَا مِنْ جَرَّاءِ أَحْوَالٍ لَا تُلَائِمُ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «إِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ فَنَزَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَأَخَذَهُمَا وجذبهما ثمَّ قرأنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ . وَقَالَ: رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ» . وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ أُحِبُّ الْفِتْنَةَ وَأَكْرَهُ الْحَقَّ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أُحِبُّ وَلَدِي وَأَكْرَهُ الْمَوْتَ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لِأَن قَوْله: نْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَنْ تِلْكَ الْفِتْنَةِ لِمَنْ يُصَابِرُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَاجَعَةِ مَا تُسَوِّلُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْوِيلٌ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ عَلَى إِعْطَاءِ حَقِّ الْمَالِ وَالرَّأْفَةِ بِالْأَوْلَادِ، أَيْ وَاللَّهُ يَؤْجُرُكُمْ عَلَيْهَا. لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ وكنّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى سُوءِ خُلُقِ الزَّوْجَةِ عِبَادَةٌ» . وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا مَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة. [16] [سُورَة التغابن (64) : آيَة 16] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) فَاءٌ فَصِيحَةٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا يَجِبُ مِنَ التَّقْوَى

فِي مُعَامَلَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَمَصَارِفَ فِي الْأَمْوَالِ فَلَا يَصُدُّكُمْ حُبُّ ذَلِكَ وَالشُّغْلُ بِهِ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يُخْرِجُكُمُ الْغَضَبُ وَنَحْوُهُ عَنْ حَدِّ الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا حُبُّ الْمَالِ عَنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ وَعَنْ طَلَبِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ. فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى شَامِلٌ لِلتَّحْذِيرِ الْمُتَقَدِّمِ وَلِلتَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِمَا عَدَا ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ (اتَّقُوا) لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا وَبِذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ كَالتَّذْيِيلِ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. وَلَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى فِي شَأْنِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا قَدْ يَعْرِضُ لِصَاحِبِهَا التَّقْصِيرُ فِي إِقَامَتِهَا حِرْصًا عَلَى إِرْضَاءِ شَهْوَةِ النَّفْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ زِيدَ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِقَوْلِهِ: مَا اسْتَطَعْتُمْ. ومَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكُمْ لِيَعُمَّ الْأَزْمَانَ كُلَّهَا وَيَعُمَّ الْأَحْوَالَ

تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَزْمَانِ وَيَعُمَّ الِاسْتِطَاعَاتِ، فَلَا يَتَخَلَّوْا عَنِ التَّقْوَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمَانِ. وَجُعِلَتِ الْأَزْمَانُ ظَرْفًا لِلِاسْتِطَاعَةِ لِئَلَّا يُقَصِّرُوا بَالتَّفْرِيطِ فِي شَيْءٍ يَسْتَطِيعُونَهُ فِيمَا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى فِي شَأْنِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: مَا اسْتَطَعْتُمْ تَخْفِيفٌ وَلَا تَشْدِيدٌ وَلَكِنَّهُ عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ. فَفِيهِ مَا عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مَا لَهُمْ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي: «فِيمَا اسْتَطَعْتُ» ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا إِذَا بَايعنَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا «فِيمَا اسْتَطَعْتُ» . وَعَطْفُ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا عَلَى (اتَّقُوا اللَّهَ) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِأَنَّ التَّقْوَى تَتَبَادَرُ فِي تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ فَإِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَقَى. فَتَقْوَى اللَّهِ أَنْ يَقِيَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ ترك المأمورات فيؤول إِلَى إِتْيَانِ الْمَنْهِيَّاتِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. كَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ بِخُصُوصِهِ اهْتِمَامًا بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِتَحْصُلَ حَقِيقَةُ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ. وَالْمُرَادُ: اسْمَعُوا الله، أَي أطيعوه بِالسَّمْعِ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَتِهِ. وَالْأَمْرُ بِالسَّمْعِ أَمْرٌ يَتَلَقَّى الشَّرِيعَةَ وَالْإِقْبَالَ عَلَى سَمَاعِ مواعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَسِيلَةُ التَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17، 18] . وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَطِيعُوا: أَيْ أَطِيعُوا مَا سَمِعْتُمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ. وَعَطْفُ وَأَنْفِقُوا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَشْتَمِلُ وَاجِبَ الْإِنْفَاقِ وَالْمَنْدُوبَ فَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ بِمَرْتَبَتِيهِ وَهَذَا مِنَ الاهتمام بالنزاهة عَن فِتْنَةِ الْمَالِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْله: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] .

وَانْتَصَبَ خَيْراً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْفَاقًا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ والفرّاء فَيكون خَيْراً اسْمَ تَفْضِيلٍ. وَأَصْلُهُ: أَخْيَرُ، وَهُوَ مَحْذُوفُ الْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَيِ الْإِنْفَاقُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْإِمْسَاكِ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا. وَالتَّقْدِيرُ: ائْتُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَذْيِيلٌ. ومَنْ اسْمُ شَرْطٍ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ: أَيْ كُلُّ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَالْعُمُومُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ مُرَادٌ بِهَا جِنْسٌ لَا شَخْصٌ مُعِيَّنٌ وَلَا طَائِفَةٌ، وَهَذَا حُبٌّ اقْتَضَاهُ حِرْصُ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ وَادِّخَارِهِ وَالْإِقْلَالِ مِنْ نَفْعِ الْغَيْرِ بِهِ وَذَلِكَ الْحِرْصُ يُسَمَّى الشُّحُّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشُّحِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِذَا يُسِّرَ عَلَى الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مِنَ الْفَلَاحِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فَلَاحًا عَظِيمًا جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِطَرِيقَةِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ قَصْرُ جِنْسِ الْمُفْلِحِينَ عَلَى جِنْسِ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ للْمُبَالَغَة فِي تَحْقِيق وَصْفِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أَنْفُسِهِمْ نَزَلَ الْآنَ فَلَاحُ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَإِضَافَةُ شُحَّ إِلَى النَّفْسِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشُّحَّ مِنْ طِبَاعِ النَّفْسِ فَإِنَّ النُّفُوسَ شَحِيحَةٌ بِالْأَشْيَاءِ الْمُحَبَّبَةِ إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النِّسَاء: 128] . وَفِي الْحَدِيثِ لَمَّا سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى. وَأَنْ لَا تَدَعَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لفُلَان» وَتقدم نَظِيره وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ

[سورة التغابن (64) : الآيات 17 إلى 18]

[سُورَة التغابن (64) : الْآيَات 17 الى 18] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن: 16] ، فَإِنَّ مُضَاعَفَةَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِنْفَاقِ مَعَ الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْمَوْقِعِ يَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ الْقَرْضَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِطْلَاقًا بِالِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِنَاءُ بِفَضْلِ الْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ اهْتِمَامًا مُكَرَّرًا فَبَعْدَ أَنْ جُعَلَ خَيْرًا جُعِلَ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَعُرِّفَ بِأَنَّهُ قَرْضٌ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَكَفَى بِهَذَا تَرْغِيبًا وَتَلَطُّفًا فِي الطَّلَبِ إِذْ جُعِلَ الْمُنْفِقُ كَأَنَّهُ يُعْطِي اللَّهَ تَعَالَى مَالًا وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَقَدْ بَينه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ إِذْ قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فَمِمَّا يَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةُ مَنْ يَرَاهُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِ رَبِّهِ بِالْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهُ كَأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ مُقْرِضٍ وَمُسْتَقْرِضٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [245] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعِفْهُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ يُضَعِّفَهُ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مُضَارِعُ ضَعَّفَ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ لَفْظِيُّ الضِّعْفِ. وَالْمُضَاعَفَةُ: إِعْطَاءُ الضِّعْفِ بِكَسْرِ الضَّادِ وَهُوَ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَةِ. وَتَصَدُقُ بِمِثْلٍ وَبَعْدَهُ أَمْثَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245] . وَجعل الْإِنْفَاق سَبَب لِلْغُفْرَانَ كَمَا قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ» . وَالشَّكُورُ: فَعُولُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُبَالَغَةً، أَيْ كَثِيرِ الشُّكْرِ وَأُطْلِقَ الشُّكْرُ فِيهِ عَلَى الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ تَشْبِيهًا لِفِعْلِ الْمُتَفَضِّلِ بِالْجَزَاءِ بِشُكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى نِعْمَةٍ وَلَا نِعْمَةَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ عِبَادُهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ. فَإِنَّمَا نَفْعُهَا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى صَلَاحِهِمْ فَرَتَّبَ لَهُمُ الثَّوَابَ بِالنَّعِيمِ عَلَى تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَلَطَّفَ لَهُمْ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الثَّوَابُ شُكْرًا وَجَعَلَ نَفْسَهُ شَاكِرًا.

وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا الْمَقْصِدِ إِتْبَاعُ صِفَةِ شَكُورٌ بِصِفَةِ حَلِيمٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِك من حمله بِعِبَادِهِ دُونَ حَقٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا وَصْفُ بِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَتَتْمِيمٌ لِلتَّذْكِيرِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مُنَاسَبَتِهَا للترغيب والترهيب اللَّذين اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمَا الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالْأَفْعَالِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا لَا يُفِيتُ شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِمَا رَتَّبَ لَهَا، وَلِأَنَّ الْعَزِيزَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. والْحَكِيمُ: الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ لَا يَدَعُ مُعَامَلَةَ النَّاسِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ مِنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا وَنَوْطِ الْأُمُورِ بِمَا يُنَاسِبُ حَقَائِقَهَا. وَالْحَكِيمُ فَعِيلُ بِمَعْنَى: الْمُحْكِمُ، أَيِ الْمُتْقِنُ فِي صُنْعِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَهُمَا مَعًا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَهُوَ وَصْفٌ جَامِعٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ.

65- سورة الطلاق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 65- سُورَةُ الطَّلَاقِ سُورَةُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: 1] إِلَخْ شَاعَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ: سُورَةَ الطَّلَاقِ وَلَمْ تَرِدْ تَسْمِيَتُهَا بِهَذَا فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْسُومٍ بِالْقَبُولِ. وَذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَمَّاهَا سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى أَخْذًا مِمَّا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذُكِرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ (أَيْ أَجَلِ وَضْعِ الْحَمْلِ إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَأَجَلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ) فَقَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: 4] اه. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ الدَّاوُدِيِّ إِنْكَارُ أَنْ تُدْعَى هَذِهِ السُّورَةُ بِالْقُصْرَى لِلتَّنَزُّهِ عَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِصِفَةِ نَقْصٍ، وَرَدَّهُ ابْنُ حُجْرٍ بِأَنَّ الْقَصْرَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ أَيْ لَيْسَ مُشْعِرًا بِنَقْصٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَابْنُ مَسْعُودٍ وَصْفَهَا بِالْقُصْرَى احْتِرَازًا عَنِ السُّورَةِ الْمَشْهُورَةِ بِاسْمِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي هِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْمُصْحَفِ الَّتِي أَوَّلَهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النِّسَاء: 1] . وَأَمَّا قَوْلُهُ الطُّولَى فَهُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ بَعْدَ السُّورَةِ الطُّولَى يَعْنِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهَا أَطْوَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُهُ لِأَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا. وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُسَمَّى سُورَةَ النِّسَاءِ الطُّولَى مِنْ مُقَابَلَتِهَا بِسُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى فِي كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.

أغراضها

وَعَدَدُ آيِهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً فِي عَدَدِ الْأَكْثَرِ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّادِسَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْإِنْسَانِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْبَيِّنَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سمع عبد الرحمان بْنَ أَيْمَنَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ تَرَى فِي الرَّجُلِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: لِيُرَاجِعْهَا، فَرَدَّهَا وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ النَّبِيءُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ [الطَّلَاق: 1] . وَظَاهِرُ قَوْله: وَقَرَأَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ. إِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ سَاعَتَئِذٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ طَلَاقِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ وَلَمْ يَصِحَّ. وَجَزَمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَيَانًا لشرع مبتدإ. أغراضها الْغَرَضُ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ تَحْدِيدُ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعِدَّةِ وَالْإِرْضَاعِ وَالْإِنْفَاقِ وَالْإِسْكَانِ. تَتْمِيمًا لِلْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى حِكْمَةِ شَرْعِ الْعِدَّةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِضْرَارِ بِالْمُطَلَّقَاتِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ. وَالْإِشْهَادُ عَلَى التَّطْلِيقِ وَعَلَى الْمُرَاجَعَةِ. وَإِرْضَاعُ الْمُطَلَّقَةِ ابْنَهَا بِأَجْرٍ عَلَى اللَّهِ. وَالْأَمْرُ بِالِائْتِمَارِ وَالتَّشَاوُرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فِي شَأْنِ أَوْلَادِهِمَا. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ الْوَعْدُ بِأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَتَّبِعُ حُدُودَهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا وَيُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ.

[سورة الطلاق (65) : آية 1]

وَأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ لِكُلِّ شَيْءٍ حُكْمَهُ لَا يُعْجِزُهُ تَنْفِيذُ أَحْكَامِهِ. وَأُعْقِبَ ذَلِكَ بِالْمَوْعِظَةِ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَهُوَ حَثٌّ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَحِقَّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الْعُتُوِّ عَنِ الْأَمْرِ. وَتَشْرِيفُ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَصَادِرٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ تَعَالَى. [1] [سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ آيَاتِ التَّشْرِيعِ الْمُهْتَمِّ بِهِ فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصَ مَا يُذْكَرُ بعده النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ [الْأَنْفَال: 65] لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَنْفِيذَ الشَّرِيعَةِ فِي أُمَّتِهِ وَتَبْيِينَ أَحْوَالِهَا. فَإِنْ كَانَ التَّشْرِيعُ الْوَارِدُ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ الْأُمَّةَ جَاءَ الْخِطَابُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُفِيدُ ذَلِكَ مِثْلَ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ هُنَا إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وَإِنْ كَانَ التَّشْرِيعُ خَاصّا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ نَحْوَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: 67] . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: «وَهَذَا قَوْلُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُ لَفْظًا. وَالْمَعْنَى لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَاطَفَهُ بِقُولِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [الْمَائِدَة: 67] اه. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِأَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالْعِدَّةِ سَنَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ. فَالْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ مِثْلُهُ مُرَادٌ بِهَا هُوَ وَأُمَّتُهُ. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ لِلنَّاسِ وَإِمَامُ أُمَّتِهِ وَقُدْوَتُهُمْ وَالْمُنَفِّذُ لِأَحْكَامِ اللَّهِ فِيهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ فَالتَّقْدِيرُ إِذَا طَلَّقْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ. وَظَاهِرُ كَلِمَةِ إِذا أَنَّهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّهَا

شَرْعُ مُبْتَدَإٍ قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِذَا طَلَّقْتُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تَعُودُوا إِلَى مَثْلِ مَا فَعَلْتُمْ وَلَكِنْ طَلَّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، أَيْ فِي أَطْهَارِهِنَّ كَمَا سَيَأْتِي. وَتَكْرِيرُ فِعْلِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهِ فَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَلِطُهْرِهِنَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [130] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [72] . وَاللَّامُ فِي لِعِدَّتِهِنَّ لَامُ التَّوْقِيتِ وَهِيَ بِمَعْنَى عِنْدَ مِثْلَ كُتِبَ لِيَوْمِ كَذَا مَنْ شَهْرِ كَذَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ اللَّامُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا اللَّامُ. وَلَمَّا كَانَ مَدْخُولُ اللَّامِ هُنَا غَيْرَ زَمَانٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَقْتُ الْمُضَافِ إِلَى عِدَّتِهِنَّ أَيْ وَقْتُ الطُّهْرِ. وَمَعْنَى التَّرْكِيبِ أَنَّ عِدَّةَ النِّسَاءِ جُعِلَتْ وَقْتًا لِإِيقَاعِ طَلَاقِهِنَّ فَكُنِّيَ بِالْعِدَّةِ عَنِ الطُّهْرِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَعْتَدُّ بِالْأَطْهَارِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِيمَاءً إِلَى حِكْمَةِ هَذَا التَّشْرِيعِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنَّمَا تُبْتَدَأُ الْعِدَّةُ بِأَوَّلِ طُهْرٍ مِنْ أَطْهَارٍ ثَلَاثَةٍ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ بِإِطَالَةِ انْتِظَارِ تَزْوِيجِهَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ حَيْضِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ وَبَيْنَ طُهْرِهَا أَيَّامٌ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ فِي عِدَّتِهَا فَكَانَ أَكْثَرُ الْمُطَلِّقِينَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِطَالَةَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ لِيُوَسِّعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ زَمَنَ الِارْتِيَاءِ لِلْمُرَاجَعَةِ قبل أَن يبنّ مِنْهُمْ. وَفِعْلُ طَلَّقْتُمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى أَرَدْتُمُ الطَّلَاقَ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ التَّطْلِيقِ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُقَدِّرُ حُصُولَ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْ دُونِ أَنْ يُبَيِّنَ مَنْعَهُ. وَالطَّلَاقُ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَاجِيًّا لِبَعْضِ الْأَزْوَاجِ فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ شَخْصَانِ اعْتَشَرَا اعْتِشَارًا حَدِيثًا فِي الْغَالِبِ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا قَبْلَهُ صِلَةٌ مِنْ نَسَبٍ وَلَا جِوَارٍ وَلَا تَخَلُّقٍ بِخُلُقٍ مُتَقَارِبٍ أَوْ مُتَمَاثِلٍ فَيَكْثُرُ أَنْ يَحْدُثَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ تَخَالُفٌ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمُعَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ شَدِيدًا وَيَعْسُرُ تَذْلِيلُهُ، فَيَمَلُّ أَحَدُهُمَا وَلَا يُوجَدُ سَبِيلٌ إِلَى

إِرَاحَتِهِمَا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا فَأَحَلَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَاجِيٌّ وَلَكِنَّهُ مَا أَحَلَّهُ إِلَّا لِدَفْعِ الضُّرِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْإِذْنُ فِيهِ ذَرِيعَةً لِلنِّكَايَةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ. أَوْ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمَا، أَوْ لِقَصْدِ تَبْدِيلِ الْمَذَاقِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» . وَتَعْلِيقُ طَلَّقْتُمُ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الطَّلَاقَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي عَلَاقَةِ الزَّوْجَيْنِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: 21] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ وَجَزَمَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ فِي «شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : وَلَمْ يَثْبُتْ تطليق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ خَبَرَانِ، أَوَّلَهُمَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بِسَنَدِهِمْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا . وَفِي هَذَا السَّنَدِ ضَعْفٌ لِأَنَّ سُوَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ ضَعِيفٌ نَسَبَهُ ابْنُ مَعِينٍ إِلَى الْكَذِبِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ عَدِيِّ. وَقَبِلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو حَاتِمِ. وَكَذَلِكَ مَسْرُوقُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ يُضَعَّفُ أَيْضًا. وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ لَا مُتَكَلَّمَ فِيهِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ صَحِيحًا لَكِنَّهُ غَرِيبٌ وَهُوَ لَا يُقْبَلُ فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى رِوَايَتِهِ كَهَذَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ فِي مَبْدَئِهِ وَمُنْتَهَاهُ لِانْفِرَادِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَانْفِرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِرِوَايَتِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ عَدَمِ إِخْرَاجِ أَهْلِ الصَّحِيحِ إِيَّاهُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ وَلَكِنْ كَانَتْ قَضِيَّةُ الْإِيلَاءِ بِسَبَبِ حَفْصَةَ. وَالْمَعْرُوفُ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ فَقَالَ النَّاسُ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ نِسَاءَهُ. قَالَ عُمَرُ: «فَقَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟، قَالَ: «لَا آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا» . فَلَعَلَّ أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَبَّرَ عَنِ الْإِيلَاءِ بِلَفْظِ التَّطْلِيقِ وَعَنِ الْفَيْئَةِ بِلَفْظِ رَاجَعَ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ يَضْعُفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْدِ. وَثَانِيهُمَا: حَدِيثُ الْجُونِيَّةِ أَسْمَاءَ أَوْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ شَرَاحِيلَ الْكِنْدِيَّةِ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ يَبْنِي بِهَا قَالَتْ لَهُ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ:

قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ أَلْحَقِي بِأَهْلِكِ» وَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ وَأَنْ يُلْحِقَهَا بِأَهْلِهَا، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ إِظْهَارَ شَرَفِهَا وَالتَّظَاهُرَ بِأَنَّهَا لَا تَرْغَبُ فِي الرِّجَالِ وَهُوَ خُلُقٌ شَائِعٌ فِي النِّسَاءِ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ وَأَنَّهُ كَانَ عَلَى سَبَبِ سُؤَالِهَا فَهُوَ مِثْلُ التَّخْيِيرِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [28] . فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» . إِذْ يَكُونُ قَوْلُهُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالطَّلَاقِ الَّذِي يَأْتِيهِ الزَّوْجُ بِدَاعٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهِيَةِ هِيَ مَا يُخَلِّفُهُ الطَّلَاقُ مِنْ بَغْضَاءِ الْمُطَلَّقَةِ مَنْ يُطَلِّقُهَا فَلَا يَصْدُرُ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً تَجَنُّبًا مِنْ أَنْ تَبْغَضَهُ الْمُطْلَقَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهَا، فَأَمَّا إِذَا سَأَلَتْهُ فَقَدِ انْتَفَتِ الذَّرِيعَةُ الَّتِي يَجِبُ سَدُّهَا. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِعِدَّتِهِنَّ أَنَّهُنَّ النِّسَاءُ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ لَا عِدَّةَ لَهُنَّ إِجْمَاعًا بِنَصِّ آيَةِ الْأَحْزَابِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارَ لَا بِالْحَيْضِ فَإِنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مَبْدَإِ الِاعْتِدَادِ فَلَوْ كَانَ مَبْدَأُ الِاعْتِدَادِ هُوَ الْحَيْضُ لَكَانَتِ الْآيَةُ أَمْرًا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِحَدِيثِ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ طَلَاقِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ فَكَيْفَ يُخَالِفُ مُخَالِفٌ فِي مَعْنَى الْقَرْءِ خِلَافًا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الْقَضِيَّةِ فِي ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مَشْرُوعَةً مِنْ قَبْلُ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَاتِ الْأَحْزَابِ فَلِذَلِكَ كَانَ نَوْطُ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالْحَالِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْعِدَّةُ إِحَالَةً عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ لَهُمْ. وَحِكْمَةُ الْعِدَّةِ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ. الْإِحْصَاءُ: مَعْرِفَةُ الْعَدِّ وَضَبْطُهُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصَى وَهِيَ صِغَارُ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَثُرَتْ أَعْدَادُ شَيْءٍ جَعَلُوا لِكُلِّ مَعْدُودٍ حَصَاةً ثُمَّ عَدُّوا ذَلِكَ الْحَصَى، قَالَ تَعَالَى: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنّ: 28] .

وَالْمَعْنَى: الْأَمْرُ بِضَبْطِ أَيَّامِ الْعِدَّةِ وَالْإِتْيَانُ عَلَى جَمِيعِهَا وَعَدَمُ التَّسَاهُلِ فِيهَا لِأَنَّ التَّسَاهُلَ فِيهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا التَّزْوِيجِ قَبْلَ انْتِهَائِهَا فَرُبَّمَا اخْتَلَطَ النَّسَبُ، وَإِمَّا تَطْوِيلِ الْمُدَّةِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ فِي أَيَّامِ مَنْعِهَا مِنَ التَّزَوُّجِ لِأَنَّهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ لَا تَخْلُو مِنْ حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِهَا. وَأَمَّا فَوَاتُ أَمَدِ الْمُرَاجَعَةِ إِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ قَدْ ثَابَ إِلَى مُرَاجَعَةِ امْرَأَتِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِدَّةِ لِلْعَهْدِ فَإِنَّ الِاعْتِدَادَ مَشْرُوعٌ مِنْ قَبْلُ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرٍ مُضَافٍ لِأَنَّ الْمُحْصَى أَيَّامُ الْعِدَّةِ. وَالْمُخَاطَبُ بِضَمِيرِ أَحْصُوا هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِضَمِيرِ إِذا طَلَّقْتُمُ فَيَأْخُذُ كُلُّ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ حَظَّهُ مِنَ الْمُطَلِّقِ وَالْمُطَلَّقَةِ وَمَنْ يَطَّلِعُ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَخَاصَّةً وُلَاةَ الْأُمُورِ مِنَ الْحُكَّامِ وَأَهْلِ الْحِسْبَةِ فَإِنَّهُمُ الْأَوْلَى بِإِقَامَةِ شَرَائِعِ اللَّهِ فِي الْأُمَّةِ وَبِخَاصَّةٍ إِذَا رَأَوْا تَفَشِّيَ الِاسْتِخْفَافِ بِمَا قَصَدَتْهُ الشَّرِيعَةُ. وَقَدْ بَيِّنَّا ذَلِكَ فِي بَابِ مَقَاصِدِ الْقَضَاءِ مِنْ كِتَابِي «مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ» . فَفِي الْعِدَّةِ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ وَتَحْتَهَا حُقُوقٌ مُخْتَلِفَةٌ اقْتَضَتْهَا تِلْكَ الْمَصَالِحُ الْكَثِيرَةُ وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْحُقُوقِ لِلْمُطَلِّقِ وَالْمُطْلَقَةِ وَهِيَ تَسْتَتْبِعُ حُقُوقًا لِلْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى تِلْكَ الْحُقُوقِ وَخَاصَّةً عِنْدَ التَّحَاكُمِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ. اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَجُمْلَةِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ اتَّقُوا اللَّهَ لِيَعُمَّ جَمِيعَ مَا يُتَّقَى اللَّهُ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ التَّذْيِيلِيِّ وَأَوَّلُ مَا يُقْصَدُ بِأَنْ يُتَّقَى اللَّهُ فِيهِ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ. فَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ. ذَلِك أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يُقِيمُونَ لِلنِّسَاءِ وَزْنًا وَكَانَ قُرَابَةُ الْمُطَلَّقَاتِ قَلَّمَا يُدَافِعْنَ عَنْهُنَّ فَتَنَاسَى النَّاسُ تِلْكَ الْحُقُوقَ وَغَمَصُوهَا فَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ

شَدِيدَةَ اللَّهْجَةِ فِي التَّحَدِّي، وَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ بِالتَّقْوَى وَبِحُدُودِ اللَّهِ وَلِزِيَادَةِ الْحِرْصِ عَلَى التَّقْوَى اتْبُعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبَّكُمُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى غَضَبُهُ. لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَحْصُوا الْعِدَّةَ، أَيْ حَالَةَ كَوْنِ الْعِدَّةِ فِي بِيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَحْصُوا الْعِدَّةَ لِأَنَّ مَكْثَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ يُحَقِّقُ مَعْنَى إِحْصَاءِ الْعِدَّةِ. وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الِاقْتِرَانِ بِالْوَاوِ جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا. وَفِي إِضَافَةِ الْبُيُوتِ إِلَى ضَمِيرِ النِّسَاءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُنَّ مُسْتَحِقَّاتٌ الْمَكْثَ فِي الْبُيُوتِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الشَّيْءِ وَهَذَا مَا يُسَمَّى فِي الْفِقْهِ مِلْكَ الِانْتِفَاعِ دُونَ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ بَقَاءَ الْمُطَلَّقَاتِ فِي الْبُيُوتِ اللَّاتِي كُنَّ فِيهَا أَزْوَاجًا اسْتِصْحَابٌ لِحَالِ الزَّوْجِيَّةِ إِذِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُتَصَرِّفَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَلِذَلِكَ يَدْعُوهَا الْعَرَبُ «رَبَّةَ الْبَيْتِ» وَلِلْمُطَلَّقَةِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ إِلَّا فِي اسْتِمْتَاعِ الْمُطَلِّقِ. وَهَذَا الْحُكْمُ سَبَبُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قَصْدِ الْمُكَارَمَةِ بَيْنَ الْمُطَلِّقِ وَالْمُطَلَّقَةِ. وَقَصْدُ الِانْضِبَاطِ فِي عِلَّةِ الِاعْتِدَادِ تَكْمِيلًا لِتَحَقُقِ لِحَاقِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَمْلٍ بِأَبِيهِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى يَبْرَأَ النَّسَبُ مِنْ كُلِّ شَكٍّ. وَجُمْلَةُ وَلا يَخْرُجْنَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ لَا تُخْرِجُوهُنَّ وَهُوَ نَهْيٌ لَهُنَّ عَنِ الْخُرُوجِ فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يُخْرِجُهَا فَتَرْغَبُ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا تَسْتَثْقِلُ الْبَقَاءَ فِي بَيْتٍ زَالَتْ عَنْهُ سِيَادَتُهَا فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنِ الْخُرُوجِ. فَإِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُكْتَرًى سَكَنَتْهُ الْمُطَلَّقَةُ وَكِرَاؤُهُ عَلَى الْمُطَلِّقِ وَإِذَا انْتَهَى أَمَدُ كَرَائِهِ فَعَلَى الْمُطَلِّقِ تَجْدِيدُهُ إِلَى انْتِهَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ. وَهَذَا التَّرْتِبُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ يُشْعِرُ بِالسَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ حَقَّ السُّكْنَى فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لِأَجْلِهِ أَيْ لِأَجْلِ حِفْظِ نَسَبِهِ وَعِرْضِهِ فَهَذَا

مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا سَوَاءً كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا سُكْنَى إِلَّا لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَعَلَّلَ وُجُوبَ الْإِسْكَانِ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِعِدَّةِ أُمُورٍ: حَفِظُ النَّسَبِ، وَجَبْرُ خَاطِرِ الْمُطَلَّقَةِ وَحِفْظُ عِرْضِهَا. وَسَيَجِيءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ [الطَّلَاق: 6] الْآيَةَ. وَتَعْلَمُ أَن ذَلِك تَأْكِيدًا لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ الْإِسْكَانِ فِي الْعِدَّةِ أُعِيدَ لِيُبَيَّنَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ وُجْدِكُمْ [الطَّلَاق: 6] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِيهِ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ جُمَلٍ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِضَمِيرِهَا إِذْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي كِلْتَيْهِمَا ضَمِيرَ النِّسْوَةِ. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا عُمُومُ الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ وَلا يَخْرُجْنَ. فَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ فَأَخْرَجُوهُنَّ أَوْ لِيَخْرُجْنَ، أَيْ يُبَاحُ لَكُمْ إِخْرَاجُهُنَّ وَلَيْسَ لَهُنَّ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْخُرُوجِ وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ. وَالْفَاحِشَةُ: الْفِعْلَةُ الشَّدِيدَةُ السُّوءِ بِهِذَا غَلَبَ إِطْلَاقُهَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ فَتَشْمَلُ الزِّنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [15] . وَشَمِلَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْفَسَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا [الْأَعْرَاف: 28] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [33] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْفَاحِشَةُ مَتَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفَةً فَهِيَ الزِّنَا (يُرِيدُ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ) كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الْأَعْرَاف: 80] وَمَتَى وَرَدَتْ مُنَكَّرَةً فَهِيَ الْمَعَاصِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُبَيِّنَةٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ هِيَ تُبَيِّنُ لِمَنْ تَبْلُغُهُ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَيْهَا مَجَازٌ بِاسْتِعَارَةِ التَّبْيِينِ لِلْوُضُوحِ أَوْ تَبْيِينٌ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ صُدُورَهَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَى الْفَاحِشَةِ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَإِنَّمَا الْمُبِيِّنُ

مُلَابِسُهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ حَالَةٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَعْنَى التَّبْيِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُبِيَّنَةٍ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ كَانَتْ فَاحِشَةً بِيَّنَتْهَا الْحُجَّةُ أَوْ بِيَّنَهَا الْخَارِجُ وَمَحْمِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِد. ووصفها ب مُبَيِّنَةٍ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهَا وَاضِحَةٌ فِي جِنْسِ الْفَوَاحِشِ، أَيْ هِيَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ وَهَذَا الْمَقَامُ يُشْعِرُ بِأَنَّ عِظَمَهَا هُوَ عِظَمُ مَا يَأْتِيهِ النِّسَاءُ مِنْ أَمْثَالِهَا عُرْفًا. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُبِيَّنَةَ الثُّبُوتِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي تَخْرَجُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْفَاحِشَةِ هُنَا وَفِي مَعْنَى الْخُرُوجِ لِأَجْلِهَا فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَحَمَّادٍ وَاللَّيْث بن سعدود أبي يُوسُفَ: أَنَّ الْفَاحِشَةَ الزِّنَا، قَالُوا: وَمُعَادُ الِاسْتِثْنَاءِ الْإِذْنُ فِي إِخْرَاجِهِنَّ، أَيْ لِيُقَامَ عَلَيْهِنَّ الْحَدُّ. وَفُسِّرَتِ الْفَاحِشَةُ بِالْبَذَاءِ عَلَى الْجِيرَانِ وَالْإِحْمَاءِ أَوْ عَلَى الزَّوْجِ بِحَيْثُ أَنَّ بَقَاءَ أَمْثَالِهِنَّ فِي جِوَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ يُفْضِي إِلَى تَكَرُّرِ الْخِصَامِ فَيَكُونُ إِخْرَاجُهَا مِنِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِأَنَّهُ قَرَأَ «إِلَّا أَنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكُمْ» (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ الِاعْتِدَاءُ بِكَلَامٍ فَاحِشٍ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ. وَفُسِّرَتِ الْفَاحِشَةُ بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ سَبٍّ أَوْ خُرُوجٍ مِنَ الْبَيْتِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ بَلْهَ الزِّنَا وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ عُمَرَ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَعَنْ قَتَادَةَ الْفَاحِشَةُ: النُّشُوزُ، أَيْ إِذَا طَلَّقَهَا لِأَجْلِ النُّشُوزِ فَلَا سُكْنَى لَهَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالسُّدِّيِّ إِرْجَاعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ مُوَالٍ لَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ وَلا يَخْرُجْنَ أَي هن مَنْهِيَّاتٌ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَّا أَنْ يُرِدْنَ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ إِرَادَةُ تَفْظِيعِ خُرُوجِهِنَّ، أَيْ إِنْ أَرَدْنَ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ يَخْرُجْنَ وَهَذَا بِمَا يُسَمَّى تَأْكِيدَ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ كَذَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ تَسْمِيَةً عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ تَأْكِيدَ الْمَادِحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

فَجَعَلَتِ الْآيَةُ خُرُوجَهُنَّ رِيبَةً لَهُنَّ وَحَذَّرَتِ النِّسَاءَ مِنْهُ بِأُسْلُوبٍ خَطَابِيٍّ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَنْعًا لَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ. وَمَحْمِلُ فِعْلِ يَأْتِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ مَنْ يُرِدْنَ أَنْ يَأْتِينَ مِثْلَ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَتْهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّةُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ أَوْ أَبَا حَفْصِ بْنَ عَمْرٍو (وَكَانَ وَجهه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ) فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْيَمَنِ بِتَطْلِيقَةٍ صَادَفَتْ آخِرَ الثَّلَاثِ فَبَانَتْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ ذَوِيهِ بِأَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ فَقَالُوا لَهَا: مَا لَكِ نَفَقَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، وَأَنَّهَا رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا نَفَقَةَ لَكِ فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ فَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ (بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ مُخِيفٍ عَلَى نَاحِيَتِهَا فَأمرهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِانْتِقَالِ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي انْتِقَالِهَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ رُخْصَةٌ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَا تَتَجَاوَزُهَا وَكَانَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَرَى ذَلِكَ، رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَمْرَةَ بنت عبد الرحمان بْنِ الْحَكَمِ وَكَانَ عَمُّهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ فَانْتَقَلَهَا أَبُوهَا إِلَيْهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَرْوَانَ أَنِ اتَّقِ اللَّهَ وَأَرْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا فَقَالَ مَرْوَان: أَو مَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَذَكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كَانَ بِكِ الشَّرُّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ، (وَلَعَلَّ عَائِشَةَ اقْتَنَعَتْ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ يَرِدْ أَنَّهَا رَدَّتْ عَلَيْهِ) . وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ خَبَرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَعَابَتْ عَلَيْهَا أَشَدَّ الْعَيْبِ. وَقَالَتْ إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ مُخِيفٍ عَلَى نَاحِيَتِهَا فَرَخَّصَ لَهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِانْتِقَالِ. وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي حَقِيقَةِ الْعُذْرِ الْمُسَوِّغِ لِلِانْتِقَالِ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ مَوْضِعِ عِدَّتِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ رَوَاهُ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» .

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَدَثِ وَالْبَذَاءِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعَايِشِ وَخَوْفِ الْعَوْدَةِ مِنَ الْمَسْكَنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الِانْتِقَالَ لِلضَّرُورَةِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مَحْمِلَ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا خِيفَ عَلَيْهَا فِي مَكَانٍ وَحْشٍ وَحَدَثَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِ زَوْجِهَا شَرٌّ وَبَذَاءٌ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تِلْكَ امْرَأَةٌ اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا بِلِسَانِهَا أَنَّهَا كَانَتْ لَسِنَةً فَأَمَرَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْتَقِلَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ قَرِيبٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافًا لَفْظِيًّا لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَدَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ انْتِقَالَهَا كَانَ لِعُذْرٍ قبله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ وَيَجْرِي الْقِيَاسُ عَلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ. أَمَّا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لَا نَدَعُ كِتَابَ الله وَسنة نَبينَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. فَهُوَ دَحْضٌ لِرِوَايَةِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ بِشَكٍّ لَهُ فِيهِ فَلَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِآيَةٍ حَتَّى يُصَارَ إِلَى الْجَمْعِ بِالتَّخْصِيصِ وَالتَّرْخِيصِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قِيلَ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يُخَصِّصِ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا تَحْدِيدُ مَنْعِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَبِيتَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا حَرَامٌ. وَأَمَّا خُرُوجُهَا نَهَارا لقَضَاء شؤون نَفْسِهَا فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ لِلْمُعْتَدَّةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَالْمَبْتُوتَةُ تَخْرُجُ نَهَارًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ نَهَارًا وَلَا تَخْرُجُ غَيْرُهَا، لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْأَلُهَا عَنْ حَدِيثِهَا فَلَمَّا أُبْلِغَ إِلَيْهِ قَالَ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ: «فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. هَذَا لِمَنْ كَانَ لَهُ رَجْعَةٌ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَكَيْفَ تَقُولُونَ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا فَظَنَّتْ أَنَّ مُلَازمَة بَيتهَا لاستبقاء الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مفارقها وَأَنَّهَا مُلَازمَة بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِنْفَاقِ.

وَالَّذِي تَخَلَّصَ لِي أَنَّ حِكْمَةَ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ أَنَّهَا حِفْظُ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَكْثُرُ الْتِفَاتُ الْعُيُونِ لَهَا وَقَدْ يَتَسَرَّبُ سُوءُ الظَّنِّ إِلَيْهَا فَيَكْثُرُ الِاخْتِلَافُ عَلَيْهَا وَلَا تَجِدُ ذَا عِصْمَةٍ يَذُبُّ عَنْهَا فَلِذَلِكَ شُرِعَتْ لَهَا السُّكْنَى وَلَا تَخْرُجُ إِلَّا لِحَاجِيَاتِهَا فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مِنْ قَبِيلِ الْمَظِنَّةِ فَإِذَا طَرَأَ عَلَى الْأَحْوَالِ مَا أَوْقَعَهَا فِي الْمَشَقَّةِ أَوْ أَوْقَعَ النَّاسَ فِي مَشَقَّةٍ مِنْ جَرَّائِهَا أُخْرِجَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْكَنِ وَجَرَى عَلَى مُكْثِهَا فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهَا فِي مَسْكَنِ مُطَلِّقِهَا لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ قَدْ عَارَضَتْهَا مَئِنَّةٌ. وَمِنَ الْحُكْمِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ لَا تَجِدُ مَسْكَنًا لِأَنَّ غَالِبَ النِّسَاءِ لَمْ تَكُنْ لَهُنَّ أَمْوَالٌ وَإِنَّمَا هُنَّ عِيَالٌ عَلَى الرِّجَالِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةً مِنَ التَّزَوُّجِ كَانَ إِسْكَانُهَا حَقًّا عَلَى مُفَارِقِهَا اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ حَتَّى تَحِلَّ لِلتَّزَوُّجِ فَتَصِيرَ سُكْنَاهَا عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا. وَيُزَادُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ قَصْدُ اسْتِبْقَاءِ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُطَلِّقِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يَثُوبَ إِلَيْهِ رُشْدُهُ فَيُرَاجِعَهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِي مُرَاجَعَتِهَا إِلَى إِعَادَةِ التَّذَاكُرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا. فَهَذَا مَجْمُوعُ عِلَلٍ فَإِذَا تَخَلَّفَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا لَمْ يَتَخَلَّفِ الْحُكْمُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ بِعِلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ لَا يُبْطِلُهُ سُقُوطُ بَعْضِهَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ إِذَا تَخَلَّفَ جُزْءٌ مِنْهَا. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلا يَخْرُجْنَ، وَجُمْلَةِ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أُرِيدَ بِهِذَا الِاعْتِرَاضِ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى إِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِقَامَةً لَا تَقْصِيرَ فِيهَا وَلَا خِيَرَةَ لِأَحَدٍ فِي التَّسَامُحِ بِهَا، وَخَاصَّةً الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُطَلِّقُ أَنْ يَحْسَبَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمَا انْفِرَادًا أَوِ اشْتِرَاكًا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا بِتَأْوِيلِ الْقَضَايَا. وَالْحُدُودُ: جَمْعُ حَدٍّ وَهُوَ مَا يَحُدُّ، أَيْ يَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِيَازِ إِلَى مَا وَرَائِهِ لِلْأَمَاكِنِ الَّتِي لَا يُحِبُّونَ الِاقْتِحَامَ فِيهَا إِمَّا مُطْلَقًا مِثْلَ حُدُودِ الْحِمَى وَإِمَّا لِوُجُوبِ تَغْيِيرِ الْحَالَةِ مِثْلَ حُدُودِ الْحَرَمِ لِمَنْعِ الصَّيْدِ وَحُدُودِ الْمَوَاقِيتِ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُشَابِهَةٌ الْحُدُودَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ فِي هَذَا.

وَوَجْهُ الشَّبَهِ إِنَّمَا يُرَاعَى بِمَا يَسْمَحُ بِهِ عُرْفُ الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: «النَّحْوُ فِي الْكَلَامِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ» فَإِنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ الْكَلَامُ بِدُونِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ الْكَثِيرُ مِنَ النَّحْوِ فِي الْكَلَامِ مُفْسِدًا كَكَثْرَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ. وَوُقُوعُ حُدُودُ اللَّهِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ يَجْعَلُ إِضَافَةَ حُدُودٍ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مُرَادًا مِنْهَا تَشْرِيفُ الْمُضَافِ وَتَعْظِيمُهُ. وَالْمَعْنَى: وَتِلْكَ مِمَّا حَدَّ اللَّهُ فَلَا تُفِيدُ تَعْرِيفَ الْجَمْعِ بِالْإِضَافَةِ عُمُومًا لِصَرْفِ الْقَرِينَةِ عَنْ إِفَادَةِ ذَلِكَ لِظُهُورِ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْمُعَيَّنَةَ لَيْسَتْ جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. فَهُوَ تَتْمِيمٌ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّذْيِيلِ وَإِذْ قَدْ كَانَ حُدُودُ اللَّهِ جَمْعًا مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ كَانَ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ إِذْ لَا صَارِفَ عَنْ إِرَادَةِ الْعُمُومِ بِخِلَافِ إِضَافَةِ حُدُودِ اللَّهِ السَّابِقِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يَتَعَدَّ شَيْئًا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْمُرَكَّبَيْنِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَجِيءَ بِهَذَا الْإِطْنَابِ لِتَهْوِيلِ أَمْرِ هَذَا التَّعَدِّي. وَأُخْبِرَ عَنْ مُتَعَدِّيهَا بِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ لِلتَّخْوِيفِ تَحْذِيرًا مِنْ تَعَدِّي هَذِهِ الْحُدُودِ فَإِنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ هُوَ الْجَرِيرَةُ عَلَيْهَا بِمَا يَعُودُ بِالْإِضْرَارِ وَذَلِكَ مِنْهُ ظُلْمٌ لَهَا فِي الدُّنْيَا بِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِعَوَاقِبَ سَيِّئَةٍ تَنْجَرُّ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ صَلَاحٌ لِلنَّاسِ فَمَنْ فَرَّطَ فِيهَا فَاتَتْهُ الْمَصَالِحُ الْمُنْطَوِيَةُ هِيَ عَلَيْهَا. قَالَ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. [الْمَائِدَة: 6] . وَمِنْهُ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ بِتَعْرِيضِهَا لِلْعِقَابِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِأَحْكَامِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 56- 58]

فَإِنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ حَظًّا مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْكُفْرِ وَمُجَرَّدِ الْعِصْيَانِ وَجِيءَ فِي هَذَا التَّحْذِيرِ بِمَنْ الشَّرْطِيَّةِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ كُلِّ مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ يَتَعَدُّونَ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامَ الْعِدَّةِ فِي هَذَا الْعُمُومِ. لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِمَّا هُوَ إِيضَاحٌ لَهَا وَتَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِهَا. وَلِذَلِكَ جَاءَتْ مَفْصُولَةً عَنِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ بَعْضُهُ حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى إِضَاعَةِ مَصَالِحِ النَّفْسِ عَنْهَا. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْلَكَ التَّرْغِيبِ فِي امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَعْدَ أَنْ سَلَكَ فِي شَأْنِهَا مَسْلَكَ التَّرْهِيبِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا. فَمِنْ مَصَالِحِ الِاعْتِدَادِ مَا فِي مُدَّةِ الِاعْتِدَادِ مِنَ التَّوْسِيعِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فِي مَصِيرِ شَأْنِهِمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَقَدْ يَتَّضِحُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا مَتَاعِبُ وَأَضْرَارٌ مِنِ انْفِصَامِ عُرْوَةِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُمَا فَيُعَدُّ مَا أَضْجَرَهُمَا مِنْ بَعْضِ خُلُقِهِمَا شَيْئًا تَافِهًا بَالنِّسْبَةِ لِمَا لَحِقَهُمَا مِنْ أَضْرَارِ الطَّلَاقِ فَيَنْدَمُ كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَيَجِدَا مِنَ الْمُدَّةِ مَا يَسَعُ لِلسَّعْيِ بَيْنَهُمَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا. وَالْمَقْصُودُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَهَمِّ مَا فِي الْعِدَّةِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَهُوَ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَتَنْكِيرُ أَمْرٍ لِلتَّنْوِيعِ. أَيْ أَمْرًا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَمْرًا نَافِعًا لَهُمَا. وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ تَقْلِيبُ الْقُلُوبِ مِنْ بُغْضٍ إِلَى مَحَبَّةٍ، وَمِنْ غَضَبٍ إِلَى رِضًى، وَمِنْ إِيثَارِ تَحَمُّلِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأَخْلَاقِ مَعَ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى تَحَمُّلِ آلَامِ الْفِرَاقِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُتَفَارِقَيْنِ أَبْنَاءٌ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ حَمْلٍ بِالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَوْلَادٌ فَيَلُزُّ ظُهُورُهُ أَبَاهُ إِلَى مُرَاجَعَةِ أُمِّهِ الْمُطَلَّقَةِ. عَلَى أَنَّ فِي الِاعْتِدَادِ وَالْإِسْكَانِ مَصَالِحَ أُخْرَى كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 إلى 3]

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَصْدِ بِالْخِطَابِ إِلَى كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ وَيُهِمُّهُ أَمْرُ الشَّيْءِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ قَصُرَ بَصَرُهُ إِلَى حَالَةِ الْكَرَاهِيَةِ الَّتِي نَشَأَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَلَا أَحَاطَ فِكْرُهُ بِصُوَرِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَقَلِّبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. [النِّسَاء: 19] . وَلَعَلَّ كَلِمَةَ لَا تَدْرِي تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يُرَادُ مِمَّا فِيهَا مِنْ عَلَامَةِ الْخِطَابِ وَلَا مِنْ صِيغَةِ الْإِفْرَادِ إِلَّا الْجَرْيُ عَلَى الْغَالِبِ فِي الْخِطَابِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. ولَعَلَّ وَمَعْمُولَاهَا سَادَّةٌ مُعَلِّقَةٌ فِعْلَ تَدْرِي عَنِ الْعَمَلِ. [2، 3] [سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 2 الى 3] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطَّلَاق: 1] لِأَنَّ إِحْصَاءَهَا بِحِفْظِ مُدَّتِهَا وَاسْتِيعَابِ أَيَّامِهَا فَإِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ لَهُمَا وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا إِضْرَارٌ بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِكِلَيْهِمَا وَفَائِدَةُ الْآجَالِ الْوُقُوفُ عِنْدَ انْتِهَائِهَا. وَبُلُوغُ الْأَجَلِ أَصْلُهُ انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهُ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ مَعْنَى الْبُلُوغِ الَّذِي هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى تَشْبِيهِ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ بِالْمَكَانِ الْمُسَيَّرِ إِلَيْهِ وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَالْمَجَازُ فِي لَفْظِ الْأَجَلِ وَتَبِعَهُ الْمَجَازُ فِي الْبُلُوغِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْبُلُوغُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مُقَارَبَةِ ذَلِكَ الِانْتِهَاءِ مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ التَّسَامُحِ فِيهِ وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَجَازٌ آخَرُ لِمُشَابَهَةِ مُقَارَبَةِ الشَّيْءِ بِالْحُصُولِ فِيهِ وَالتَّلَبُّسِ بِهِ. وَقَرِينَةُ الْمَجَازِ هُنَا هُوَ لَفْظُ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ لَا تُتَصَوَّرُ الْمُرَاجَعَةُ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رَفْعَ مَعْنَى التَّأْجِيلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَالْإِمْسَاكُ: اعْتِزَامُ الْمُرَاجَعَةِ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْإِمْسَاكِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لَهَا حُكْمُ الزَّوْجَةِ فِيمَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعِ فَكَأَنَّهُ لَمَّا رَاجَعَهَا قَدْ أَمْسَكَهَا أَنْ لَا تُفَارِقَهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهَا لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ هُوَ الضَّنُّ بِالشَّيْءِ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ فِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَاب: 37] وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا فَكَأَنَّهُ قَدْ أَعَادَ فِرَاقَهَا وَقَسَا قَلْبُهُ. وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ النُّكْتَةِ جُعِلَ عَدَمُ الْإِمْسَاكِ فِرَاقًا جَدِيدًا فِي قَوْلِهِ: أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. وَالْأَمْرُ فِي فَأَمْسِكُوهُنَّ أَوْ فارِقُوهُنَّ لِلْإِبَاحَةِ، وأَوْ فِيهِ لِلتَّخْيِيرِ. وَالْبَاءُ فِي بِمَعْرُوفٍ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُلَابَسَةِ كُلٍّ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ لِلْمَعْرُوفِ. وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ مَا تَعَارَفَهُ الْأَزْوَاجُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فِي الْمُعَاشَرَةِ وَفِي الْفِرَاقِ. فَالْمَعْرُوفُ فِي الْإِمْسَاكِ: حُسْنُ اللِّقَاءِ وَالِاعْتِذَارُ لَهَا عَمَّا فَرَّطَ وَالْعَوْدُ إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْفِرَاقِ: كَفُّ اللِّسَانِ عَنْ غَيْبَتِهَا وَإِظْهَارُ الِاسْتِرَاحَةِ مِنْهَا. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ عَمَلِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْإِمْسَاكِ أَوِ الْفِرَاقِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ الَّذِي هُوَ مِنْ عَمَلِ الْمَرْأَةِ فَمُقَرَّرٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَة: 228] . وَتَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ أَعْنِي الْمُرَاجَعَةَ عَلَى إِمْضَاءِ الْمُفَارَقَةِ، إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَرْضَى لِلَّهِ تَعَالَى وَأَوْفَقُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَاجَعَةِ بِالْإِمْسَاكِ، فَفُهِمَ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا لِأَنَّ أَبْغَضَ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ. وَلَمَّا قُيِّدَ أَمْرُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ أَوْ فارِقُوهُنَّ، بِقَيْدٍ بِالْمَعْرُوفِ، فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ إِمْسَاكٌ دُونَ الْمَعْرُوفِ فَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَإِذَا قَارَبَتِ انْتِهَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا أَيَّامًا ثمَّ طَلقهَا يفعل ذَلِكَ ثَلَاثًا لِيُطِيلَ عَلَيْهَا مِنَ الْعِدَّةِ فَلَا تَتَزَوَّجُ عِدَّةَ أَشْهُرٍ إِضْرَارًا بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ظَاهِرُ وُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِمْسَاكِ أَوِ الْفِرَاقِ، أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى كِلَيْهِمَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ جُعِلَ تَتِمَّةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِلْإِمْسَاكِ أَوِ الْفِرَاقِ لِأَنَّ هَذَا الْعَطْفَ يُشْبِهُ الْقَيْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيْدًا وَشَأْنُ الشُّرُوطِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِهَا. وَظَاهِرُ صِيغَةِ الْأَمْرِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُجُوبِ فَيَتَرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ وَعَلَى بَتِّ الطَّلَاقِ وَاجِبًا عَلَى الْأَزْوَاجِ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ يَرْفَعُ أَشْكَالًا مِنَ النَّوَازِلِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخَذَ بِهِ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَابْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَبِي قِلَابَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْإِشْهَادُ الْمَأْمُورُ بِهِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ دُونَ بَتِّ الطَّلَاقِ. أَمَّا مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ فَقِيلَ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَ هَذَا الْقَوْلِ عَدَمُ جَرَيَانِ الْعَمَلِ بِالْتِزَامِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَعُصُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْإِشْهَادِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ وَكِلَا هَذَيْنِ مَدْخُولٌ لِأَنَّ دَعْوَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ دُونَهَا مَنْعٌ، وَلِأَنَّ قِيَاسَ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ عَلَى الْبَيْعِ قَدْ يُقْدَحُ فِيهِ بِوُجُودِ فَارِقٍ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ خَطَرُ الطَّلَاقِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَأَهَمِّيَّةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْخُصُومَاتِ بَيْنَ الْأَنْسَابِ، وَمَا فِي الْبُيُوعَاتِ مِمَّا يُغْنِي عَنِ الْإِشْهَادِ وَهُوَ التَّقَايُضُ فِي الْأَعْوَاضِ. وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ الْمُرَاجَعَةُ دُونَ الْفُرْقَةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَنَسَبَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِبَغْدَادَ إِلَى مَالِكٍ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ ابْنِ بُكَيْرٍ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِشْهَادَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمُرَاجَعَةِ أَوِ الْمُفَارَقَةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ احْتِيَاطًا لِحَقِّهِمَا وَتَجَنُّبًا لِنَوَازِلِ الْخُصُومَاتِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمُوتَ فَتَدَّعِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَمْ تُطَلَّقْ، أَوْ أَنْ تَمُوتَ هِيَ فَيَدَّعِي هُوَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، عَلَى أَنْ جَعْلَ الشَّيْءِ شَرْطًا لِغَيْرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ غَيْرِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَقَّقُ الْإِثْمُ بِتَرْكِهِ وَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِإِيقَاعِهِ مَعَهُ مِثْلَ

الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَبِالثَّوَبِ الْمَغْصُوبِ. قَالَ الْمُوجِبُونَ لِلْإِشْهَادِ: لَوْ رَاجَعَ وَلَمْ يُشْهِدْ أَوْ بَتَّ الْفِرَاقَ وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ مُرَاجَعَتُهُ وَمُفَارَقَتُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: مَعْنَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ مُرَاجَعَتِهَا إِنْ رَاجَعَهَا، وَعِنْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَأَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ. وَلِفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي صِفَةِ مَا تَقَعُ الْمُرَاجِعَةُ مِنْ صِيغَةٍ بِالْقَوْلِ وَمِنْ فِعْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَزْوَاجِ، تَفَاصِيلُ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفُرُوعِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ إِلَّا مَا جَعَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ دَلِيلًا عَلَى الْمُرَاجَعَةِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ كَذَلِكَ. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ. عَطْفٌ عَلَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ مَنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ وَالشُّهُودِ كُلٌّ يَأْخُذُ بِمَا هُوَ حَظُّهُ مِنْ هَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] لِظُهُورِ التَّوْزِيعِ هُنَاكَ بِاللَّفْظِ دُونَ مَا هُنَا فَإِنَّهُ بِالْمَعْنَى فَالْكُلُّ مَأْمُورُونَ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ. فتعريف الشَّهَادَة للاستغراق، أَيْ كُلِّ شَهَادَةٍ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الشَّهَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَمَعْنَى إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ: إِيقَاعُهَا مُسْتَقِيمَةً لَا عِوَجَ فِيهَا فَالْإِقَامَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِإِيقَاعِ الشَّهَادَةِ عَلَى مُسْتَوْفِيهَا مَا يَجِبُ فِيهَا شَرْعًا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ وَهَذِهِ اسْتِعَارَةُ شَائِعَةُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [282] . وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ لَا لِأَجْلِ الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَا لِأَجْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الشَّاهِدِ وَالْإِبْقَاءِ عَلَى رَاحَتِهِ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا مَوْعِظَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطَّلَاق: 1] ، إِلَى قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ. وَالْوَعْظُ: التَّحْذِيرُ مِمَّا يَضُرُّ وَالتَّذْكِيرُ الْمُلَيِّنُ لِلْقُلُوبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [232] وَعند قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [17] . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. اعْتِرَاضُ بَيْنَ جُمْلَةِ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ وَجُمْلَةِ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطَّلَاق: 4] الْآيَةَ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ لَمَّا اعْتُبِرَتْ مَوْعِظَةً بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُعْقِبَ ذَلِكَ بِقَضِيَّةٍ عَامَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَا لِتَقْوَى اللَّهِ مِنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْبِشَارَةِ وَالتَّرْغِيبِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الطَّلَاقِ غَيْرَ خَالٍ مَنْ حَرَجٍ وَغَمٍّ يَعْرِضُ لِلزَّوْجَيْنِ وَأَمْرُ الْمُرَاجَعَةِ لَا يَخْلُو فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ مِنْ تَحَمُلِ أَحَدِهِمَا لِبَعْضِ الْكُرْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي سَبَّبَتِ الطَّلَاقَ، أَعْلَمَهُمَا اللَّهُ بِأَنَّهُ وَعَدَ الْمُتَّقِينَ الْوَاقِفِينَ عِنْد حُدُوده بِأَن يَجْعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِنَ الضَّائِقَاتِ، شَبَّهَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ بِالْمَكَانِ الْمُغْلَقِ عَلَى الْحَالِّ فِيهِ وَشَبَّهَ مَا يَمْنَحُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ وَإِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى مَا يُلَائِمُ أَحْوَالَهُمْ بِجَعْلِ مَنْفَذٍ فِي الْمَكَانِ الْمُغْلَقِ يَتَخَلَّصُ مِنْهُ الْمُتَضَائِقُ فِيهِ. فَفِي الْكَلَام اسْتِعَارَة أَن إِحْدَاهُمَا ضِمْنِيَّةٌ مَطْوِيَّةٌ وَالْأُخْرَى صَرِيحَةٌ وَشَمْلَ الْمَخْرَجُ مَا يَحُفُّ مِنَ اللُّطْفِ بِالْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا بِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَهْوَالِ الْحِسَابِ وَالِانْتِظَارِ فَالْمَخْرَجُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْإِسْرَاعُ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ.

وَلَمَّا كَانَ مِنْ دَوَاعِي الْفِرَاقِ وَالْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا هُوَ مِنَ التَّقْتِيرِ فِي الْإِنْفَاقِ لِضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ فَكَانَ الْإِحْجَامُ عَنِ الْمُرَاجَعَةِ عَارِضًا كَثِيرًا لِلنَّاسِ بَعْدَ التَّطْلِيقِ، أُتْبِعَ الْوَعْدُ بِجَعْلِ الْمَخْرَجِ لِلْمُتَّقِينَ بِالْوَعْدِ بِمَخْرَجٍ خَاصٍّ وَهُوَ مَخْرَجُ التَّوْسِعَةِ فِي الرِّزْقِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ طُرُقَ الرِّزْقِ مُعَطَّلَةٌ عَلَيْهِ فَيَسْتَبْعِدَ ذَلِكَ فَيُمْسِكَ عَنْ مُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقْبِلُ مَالًا يُنْفِقُ مِنْهُ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الرِّزْقَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ أعلم كَيفَ يهيىء لَهُ أسبابا غير مرتقبة. فَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ: مِنْ مَكَانٍ لَا يَحْتَسِبُ مِنْهُ الرِّزْقَ أَيْ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ يُرْزَقُ مِنْهُ. وحَيْثُ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْأَحْوَالِ وَالْوُجُوهِ تَشْبِيهًا لِلْأَحْوَالِ بِالْجِهَاتِ لِأَنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ مُقَارِنَةً لِلرِّزْقِ أَشْبَهَتِ الْمَكَانَ الَّذِي يَرِدُ مِنْهُ الْوَارِدُ وَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ حَيْثُ. فَفِي حَرْفِ مِنْ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ إِذْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ ابْنَهُ سَالِمًا فَأَتَى عَوْف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ وَأَنَّ أُمَّهُ جَزِعَتْ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ» وَأَمَرَهُ وَزَوْجَهُ أَن يكثرا قولا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ فَغَفَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الِابْنِ فَسَاقَ عَنْزًا كَثِيرَةً مِنْ عَنْزِ الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ بِهَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَصَادَفَتِ الْغَرَضَيْنِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ. تَكْمِلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرَبِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَضَائِقِ، وَمُلَاحَظَةُ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ وَيَقِينُهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تُثَبِّطُهُ عَنِ التَّقْوَى يُحَقّق وَعْدَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَحَسْبُ: وَصَفٌ بِمَعْنَى كَافٍ. وَأَصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ مَصْدَرٌ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، أَيْ لَا تَسْتَبْعِدُوا وُقُوعَ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ حِينَ تَرَوْنَ أَسْبَابَ ذَلِكَ مَفْقُودَةً فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا وَعَدَ وَعَدًا فَقَدْ أَرَادَهُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا يَسَّرَ أَسْبَابَهُ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنْ يَكْفِيَ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ مُهِمَّةً فَقَدَّرَ لِذَلِكَ أَسْبَابَهُ كَمَا قَدَّرَ أَسْبَابَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَلَا تَشُكُّوا فِي إِنْجَازِ وَعْدِهِ فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسَّرَ أَسْبَابَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ النَّاسُ وَتَصَارِيفُ اللَّهِ تَعَالَى خَفِيَّةٌ عَجِيبَةٌ. وَمَعْنَى بالِغُ أَمْرِهِ: وَاصَلٌ إِلَى مُرَادِهِ. وَالْبُلُوغُ مُجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمُرَادِ. وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قَالَ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيْ بَعْضَهُمْ) : فَنَحْنُ إِذَا تَوَكَّلْنَا نُرْسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلَا نَحْفَظُهُ فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، أَيْ فِيكُمْ وَعَلَيْكُمْ اه. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَالِغٌ بِالتَّنْوِينِ وَأمره بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بالِغُ أَمْرِهِ بِإِضَافَةِ بالِغُ إِلَى أَمْرِهِ. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً. لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعٌ تَتَجَلَّى فِيهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ مَوَاقِعِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي مَوَاقِعَ سَلَفَتْ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَاف الْبَيَانِي ناشىء عَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ جُمَلُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ لِأَنَّ اسْتِعْدَادَ السَّامِعِينَ لِلْيَقِينِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الْجُمَلُ مُتَفَاوِتٌ فَقَدْ يَسْتَبْعِدُ بَعْضُ السَّامِعِينَ تَحَقَّقَ الْوَعْدِ لِأَمْثَالِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الْجُمَلُ بِعَرْضِهَا عَلَى ارْتِبَاكِ أَحْوَالِهِ، أَوْ يَتَرَدَّدُ يَقِينُهُ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَنَا مِنْ تَحْصِيلِ هَذَا، حِينَ يُتْبِعُ نَظَرَهُ فَيَرَى بَوْنًا عَنْ حُصُولِ الْمَوْعُودِ بِسَبَبِ انْعِدَامِ وَسَائِلِهِ لَدَيْهِ فَيَتَمَلَّكُهُ الْيَأْسُ.

فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ وَقَعَ عَقِبَ الْوَعْدِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَوَاعِيدَهُ وَهَيَّأَ لَهَا مَقَادِيرَ حُصُولِهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. وَلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطَّلَاق: 1] فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِإِحْصَاءِ أَمْرِهَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ جَعَلَهُ اللَّهُ، فَلَا يُسَوَّغُ التهاون فِيهِ. وَلِهَذَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطَّلَاق: 1] ، أَيِ الَّذِي وَضَعَ تِلْكَ الْحُدُودَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا لَا يَعْدُوهُ كَمَا جَعَلَ الْحُدُودَ. وَلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا بَلَغْنَ الْقَدْرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِمُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] فَالْمَعْنَى: فَإِنَّ لَمْ يُحْدِثِ اللَّهُ أَمْرَ الْمُرَاجَعَةِ فَقَدْ رَفُقَ بِكُمْ وَحَطَّ عَنْكُمُ امْتِدَادَ الْعِدَّةِ. وَلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّهَادَةَ قَدْرًا لِرَفْعِ النِّزَاعِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جُزْءُ آيَةٍ وَهِيَ تَحْتَوِي عَلَى حَقَائِقَ مِنَ الْحِكْمَةِ. وَمَعْنَى لِكُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، أَيْ لِكُلِّ حَادِثٍ فَالشَّيْءُ الْمَوْجُودُ سَوَاءً كَانَ ذَاتًا أَوْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَر: 52] . فَعُمُومُ قَوْلِهِ: لِكُلِّ شَيْءٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ يَجْعَلُ لَهُ حِينَ تَكْوِينِهِ قَدْرًا. قَالَ الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِهِ» : وَذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ أَوْجَدَهُ بِالْفِعْلِ، وَمَعْنَى إِيجَادِهِ بِالْفِعْلِ أَنَّهُ أَبْدَعَهُ كَامِلًا دَفْعَةً لَا تَعْتَرِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إِلَى أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُغْنِيَهُ أَوْ يُبَدِّلَهُ كَالسَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا. وَمِنْهَا مَا جَعَلَ أُصُولَهُ مَوْجُودَةً بِالْفِعْلِ وَأَجْزَاءَهُ بِالصَّلَاحِيَّةِ وَقَدَّرَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ غَيْرُ مَا قَدَّرَهُ فِيهِ كَتَقْدِيرِهِ فِي النَّوَاةِ أَنْ يَنْبُتَ مِنْهَا النَّخْلُ دُونَ أَنْ يَنْبُتَ مِنْهَا تُفَّاحٌ أَوْ زَيْتُونٌ. وَتَقْدِيرِهِ نُطْفَةَ الْإِنْسَانِ لِأَنْ يَكُونَ مِنْهَا إِنْسَانٌ دُونَ حَيَوَانٍ آخَرَ. فَتَقْدِيرُ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْحُكْمِ

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 إلى 5]

مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَذَا أَوْ لَا يَكُونَ، كَذَا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِمْكَانِ. وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً. وَالثَّانِي بِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات: 23] أَوْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً اه. وَالْقَدْرُ: مُصْدَرُ قَدَرَهُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ- الَّذِي مَعْنَاهُ وَضَعَ فِيهِ بِمِقْدَارٍ كِمِّيَّةً ذَاتِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً تُجْعَلُ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَفْعُولُ. فَقَدْرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لِفِعْلٍ قَدْرُ مَا تَتَحَمَّلُهُ طَاقَتُهُ وَاسْتِطَاعَتُهُ مِنْ أَعْمَالٍ، أَوْ تَتَحَمَّلُهُ مِسَاحَتُهُ مِنْ أَشْيَاءَ أَوْ يَتَحَمَّلُهُ وَعْيُهُ لِمَا يَكِدُّ بِهِ ذِهْنُهُ مِنْ مَدَارِكَ وَأَفْهَامٍ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] . وَقَوْلِهِ هُنَا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتاها [الطَّلَاق: 7] . وَمِنْ جُزْئِيَّاتِ مَعْنَى الْقَدْرِ مَا يُسَمَّى التَّقْدِيرُ: مَصْدَرُ قَدَّرَ الْمُضَاعَفِ إِذَا جَعَلَ شَيْئًا أَوْ أَشْيَاءَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُنَاسِبٍ لِمَا جُعِلَ لِأَجْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [11] . [4، 5] [سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ. عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] فَإِنَّ الْعِدَّةَ هُنَالِكَ أُرِيدَ بِهَا الْأَقْرَاءُ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْتَدَّةَ مِمَّنْ لَهَا أَقْرَاءٌ، فَبَقِيَ بَيَانُ اعْتِدَادِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَجَاوَزَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ أَوِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ مَنْ تَحِيضُ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ. وَكِلْتَاهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْمَحِيضِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالْوُقُفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، أَيْ هُنَّ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى الْآيِسِينَ. وَالْيَأْسُ: عَدَمُ الْأَمَلِ. وَالْمَأْيُوسُ مِنْهُ فِي الْآيَةِ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] ، أَيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ سَوَاءً كَانَ الْيَأْسُ مِنْهُ بَعْدَ تَعَدُّدِهِ أَوْ كَانَ بِعَدَمِ ظُهُورِهِ، أَيْ لَمْ يَكُنِ انْقِطَاعَهُ لِمَرَضٍ أَوْ إِرْضَاعٍ. وَهَذَا السِّنُّ يَخْتَلِفُ تَحْدِيدُهُ بِاخْتِلَافِ الذَّوَاتِ وَالْأَقْطَارِ كَمَا يَخْتَلِفُ سِنُّ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ. وَقَدْ

اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذَا السِّنِّ بِعَدَدِ السِّنِينَ فَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ، وَتَرْكُ الضَّبْطِ بِالسِّنِينَ أَوْلَى وَإِنَّمَا هَذَا تَقْرِيبٌ لِإِبَانِ الْيَأْسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيِّنٌ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] . وَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ خُفِيَ مَفَادُ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ وَمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ جَعَلُوا هَذَا الشَّرْطَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ هُوَ فِي أَثْنَائِهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ خِلَافًا لِشُذُوذِ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ وَتَشْتِيتٍ لِشَمْلِ الْكَلَامِ، ثُمَّ خُفِيَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ طَرِيقَتَانِ: الطَّرِيقَةُ الْأُولَى: مَشَى أَصْحَابُهَا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْيَأْسِ غَيْرُ مَرْجِعِ الِارْتِيَابِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عِدَّةَ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَيْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَقِيَتِ الْيَائِسَةُ وَالَّتِي لَمْ تَحِضِ ارْتَابَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ خَبَرًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اعْتِدَادِ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ تُذْكَرَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . فَجَعَلُوا حَرْفَ إِنِ بِمَعْنَى (إِذْ) وَأَنَّ الِارْتِيَابَ وَقَعَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَيْ إِذِ ارْتَبْتُمْ فِي حُكْمِ ذَلِكَ فَبَيَّنَّاهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ أُبَيٍّ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَنَا أَقُولُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «سُنَنِهِ» وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَصَحَّحَهُ. وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ أَنَّ أُبَيًّا قَالَ: وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْنَادِ الْحَدِيثِ. وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ عُمَرَ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ (¬1) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ أَبَا عُثْمَانَ لَمْ يَلْقَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ فِي ¬

(¬1) هُوَ قَاضِي مرو، وروى عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد.

«مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ» كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ رِجَالَ سَنَدِهِ ثِقَاتٌ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ خَلَّادَ (¬1) بْنَ النُّعْمَانِ وَأُبَيًّا سَأَلَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سَأَلَ عَنْ عِدَّةِ الْآيِسَةِ. فَالرِّيبَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ مُرَادًا بِهَا مَا حَصَلَ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ وَهُوَ جُمْلَةُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ. وَالْفَاءُ فِي فَعِدَّتُهُنَّ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: 16] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَالِارْتِيَابُ عَلَى هَذَا قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَتَكُونُ إِنِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْيَقِينِ بِلَا نُكْتَةٍ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: مَشَى أَصْحَابُهَا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْيَأْسِ وَمَرْجِعَ الِارْتِيَابِ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَالَةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنَ الْمَحِيضِ، وَهُوَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَبِهِ فَسَّرَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ هَادٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَنَسَبَهُ ابْنُ لُبَابَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَمْحَضُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِارْتِيَابِ حُصُولَ الرَّيْبِ فِي حَالِ الْمَرْأَةِ. وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ عَنْ اللَّائِي يَئِسْنَ، أَيْ إِنِ ارْتَبْنَ هُنَّ وَارْتَبْتُمْ أَنْتُمْ لِأَجْلِ ارْتِيَابِهِنَّ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الذُّكُورِ الْمُخَاطَبِينَ تَغْلِيبًا وَيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ. وَالِارْتِيَابُ مُسْتَقْبَلٌ وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ. ¬

(¬1) خَلاد بخاء مُعْجمَة فِي أَوله ابْن النُّعْمَان الْأنْصَارِيّ. قَالَ فِي «الْإِصَابَة» : لم يذكر إلّا فِي تَفْسِير مقَاتل.

وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَشْرُوطًا بِأَنْ تَحْصُلَ الرِّيبَةُ فِي يَأْسِهَا مِنَ الْمَحِيضِ فَاصْطَدَمَ أَصْحَابُهُ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ فِي يَأْسِهِنَّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْتَدِدْنَ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْتَدِدْنَ أَصْلًا فَنَسَبَ ابْنُ لُبَابَةَ (مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُوقِنُ أَنَّهَا يَائِسَةٌ. قُلْتُ وَلَا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذَا إِلَى دَاوُدَ. فَإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ لَمْ يَحْكِهِ عَنْهُ وَلَا حَكَاهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَعَرَّضُوا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَهُوَ شُذُوذٌ، وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَأَمَّا ابْنُ بُكَيْرٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ، أَيْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فَجَعَلَا الْمَرْأَةَ الْمُتَيَقَّنَ يَأْسُهَا مُلْحَقَةً بِالْمُرْتَابَةِ فِي الْعِدَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ يُرِيدُ أَنَّ الْعِدَّةَ لَهَا حِكْمَتَانِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَانْتِظَارُ الْمُرَاجَعَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فَهُمْ فِي سِعَةٍ مِمَّا لَزِمَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَهُ. وَأَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْوِجْهَةِ وَفِي مَحْمِلِ الْآيَةِ بِحَسَبِهَا: فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُرْتَابِ فِي مُعَاوَدَةِ الْحَيْضِ إِلَيْهَا عِدَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ تعلقا بِظَاهِر الْآيَة (وَلَعَلَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ ثَلَاثَةَ الْأَشْهُرِ يَتَبَيَّنُ فِيهَا أَمْرُ الْحَمْلِ فَإِنَّ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ بَعْدَ انْقِضَائِهَا تَمَّتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ) ، لِأَنَّ الْحَمْلَ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ نَادِرٌ فَإِذَا اعْتَرَتْهَا رِيبَةُ الْحَمْلِ انْتَقَلَ النَّظَرُ إِلَى حُكْمِ الشَّكِّ فِي الْحَمْلِ وَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِهَا الْآيَةُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرْتَابَ فِي يَأْسِهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (أَيْ أَمَدَ الْحَمْلِ الْمُعْتَادِ) فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ ابْتَدَأَتِ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَتَكْمُلُ لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ. وَأَصِلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخطاب وَلم يُخَالِفهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِلرِّيبَةِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ هِيَ الْعِدَّةُ. وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ مُضِيِّ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ تَعَبُّدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا التِّسْعَةُ الْأَشْهُرِ فَأَوْجَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَعَلَّهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي الْآيَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَعْتَدُّ الْمُرْتَابُ فِي يَأْسِهَا بِالْأَقْرَاءِ (أَيْ تَنْتَظِرُ الدَّمَ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ مَنْ لَا يُشْبِهُ أَنْ تَحِيضَ وَلَوْ زَادَتْ مُدَّةُ

انْتِظَارِهَا عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ) . فَإِذَا بَلَغَتْ سِنَّ الْيَأْسِ دُونَ رِيبَةٍ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَنَحْنُ نَتَأَوَّلُ لَهُ بِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، أَيْ بَعْدَ زَوَالِ الِارْتِيَابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَشْهُرِ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَبْلُغُ بِهَا سِنَّ مَنْ لَا يُشْبِهُ أَنْ تَحِيضَ تَعَبُّدٌ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَمْلِ قَدِ اتَّضَحَ وَانْتِظَارَ الْمُرَاجَعَةِ قَدِ امْتَدَّ. إِلَّا أَنْ نَعْتَذِرَ لَهُمْ بِأَنَّ مُدَّةَ الِانْتِظَارِ لَا يَتَحَفَّزُ فِي خِلَالِهَا الْمُطَلِّقُ لِلرَّأْيِ فِي أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ لِأَنَّهُ فِي سِعَةِ الِانْتِظَارِ فَيُزَادُ فِي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : «قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: مِنَ الرِّيبَةِ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ لَهَا الْحيض تحيض فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ مِرَارًا، وَفِي الْأَشْهُرِ مَرَّةً (أَيْ بِدُونَ انْضِبَاطٍ) » اه. وَنَقْلَ الطَّبَرِيُّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْمَرْأَةُ إِذَا قَارَبَتْ وَقْتَ الْيَأْسِ لَا يَنْقَطِع عَنْهَا الْمَحِيض دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ تَبْقَى عِدَّةَ أَشْهُرٍ يَنْتَابُهَا الْحَيْضُ غِبًّا بِدُونِ انْتِظَامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ تَمَامًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عَطْفٌ عَلَى وَاللَّائِي يَئِسْنَ وَالتَّقْدِيرُ: عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَيَحْسُنُ الْوُقُفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَهِيَ إِتْمَامٌ لِأَحْوَالِ الْعِدَّةِ الْمُجْمَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطَّلَاق: 1] وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ مِنْهُنَّ، أَيْ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الْمُطَلَّقَاتِ وَحَصَلَ أَيْضًا مِنْهَا بَيَانٌ لِإِجْمَالِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأُولاتُ اسْمُ جَمْعٍ لِذَاتٍ بِمَعْنَى: صَاحِبَةٍ. وَذَاتُ: مُؤَنَّثُ ذُو، بِمَعْنَى: صَاحِبٍ. وَلَا مُفْرَدَ لِ أُولاتُ مِنْ لَفْظِهِ كَمَا لَا مُفْرَدَ لِلَفْظِ (أولو) وأُولاتُ مِثْلُ ذَوَاتٍ كَمَا أَنَّ أُولُو مِثْلُ ذَوُو. وَيُكْتَبُ أُولاتُ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي الرَّسْمِ تَبَعًا لِكِتَابَةِ لَفْظِ (أُولُو) بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ أُولِي فِي حَالَةِ

النَّصْبِ وَالْجَرِّ وَبَيْنَ حَرْفِ (إِلَى) . وَلَيْتَهُمْ قَصَرُوا كِتَابَتَهُ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى لَفْظِ أُولِي الْمُذَكَّرِ الْمَنْصُوبِ أَوِ الْمَجْرُورِ وَتَرَكُوا التَّكَلُّفَ فِي غَيْرِهِمَا. وَجُعِلَتْ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ مَنْهَاةً بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا أَدَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْهُ، إِذِ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعِدَّةِ تَحَقُّقُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ وَلَدٍ لِلْمُطَلَّقِ أَوْ ظُهُورِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِجَنَيْنٍ لَهُ. وَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ هُوَ تَرَقُّبُ نَدَمِ الْمُطَلِّقِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِ بِالْمُرَاجَعَةِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْأَهَمُّ أُلْغِيَ مَا عَدَاهُ رَعْيًا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الِانْطِلَاقِ مِنْ حَرَجِ الِانْتِظَارِ، على أَن وضع الْحَمْلَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْقُرْبِ مِنَ الطَّلَاقِ فَأُلْغِيَ قَصْدُ الِانْتِظَارِ تَعْلِيلًا بِالْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: عَلَيْهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالب وَابْن عَبَّاس. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا تَتَعَارَضُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ آيَةِ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لِأَنَّ تِلْكَ فِي وَادٍ وَهَذِهِ فِي وَادٍ، تِلْكَ فِي شَأْنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَهَذِهِ فِي شَأْنِ الْمُطَلَّقَاتِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ أَجَلُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا مُنْحَصِرَةً حِكْمَتُهُ فِي تَحَقُّقِ بَرَاءَةِ رَحِمِ امْرَأَةِ الْمُتَوَفَّى مِنْ وَلَدٍ لَهُ إِذْ لَهُ فَائِدَةَ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ (وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْ ذَلِكَ لِغَرَضِ الْحُزْنِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى لِلْقَطْعِ بِأَنَّ هَذَا مَقْصِدٌ جَاهِلِيٌّ) ، وَقَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ فِي مَوَاضِعَ عَلَى إِبْطَالِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فِي تَصَارِيفَ كَثِيرَةٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [234] . وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ غَايَةٌ لِحُصُولِ هَذَا الْمَقْصِدِ نَجَمَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلَ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَلَا تُقَضِّي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَ أَمَدُ حَمْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي ذَلِكَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا سَوَاءً كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَمْ كَانَتْ مُعْتَدَّة من وَفَاةٍ.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ: إِنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَعِدَّتِهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَضْعُ حَمْلِهَا غَيْرَ أَنَّ أَقْوَالَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ فِي تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا يَنْسَخُ الْعَامَّ الْآخَرَ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ. رَوَى أَهْلُ الصَّحِيحِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: إِنَّ عَلَيْهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ- أَيْ أَجَلِ وَضْعِ الْحَمْلِ وَأَجَلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى- أَيْ سُورَةُ الطَّلَاقِ- بَعْدَ الطُّولَى- أَيْ بَعْدَ طُولَى السُّوَرِ وَهِيَ الْبَقَرَةُ-، أَيْ لَيْسَتْ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِنَاسِخَةٍ لِمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ . وَيُعَضِّدُهُمْ خَبَرُ سُبَيْعَةَ بَنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ وَتَرَكَهَا حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ لَهَا: «قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي إِنْ شِئْتِ» . رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَقَبِلَهُ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ. وَتَلَقَّاهُ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ بِالْقَبُولِ وَيُشْهَدُ لَهُ بِالْمَعْنَى وَالْحِكْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي وَجْهِ الْعَمَلِ فِي تَعَارُضِ عُمُومَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَالْجُمْهُورُ دَرَجُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحٍ وَالْحَنَفِيَّةُ جَعَلُوا الْمُتَأَخر من العمومين نَاسِخًا لِلْمُتُقَدِّمِ. فَقَوْلُهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَامِلٍ مُعْتَدَّةٍ سَوَاءً كَانَتْ فِي عدَّة طَلَاق أَوْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَة: 234] تَعُمُّ كُلَّ امْرَأَةٍ تَرَكَهَا الْمَيِّتُ سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، لِأَنَّ أَزْواجاً نَكِرَةٌ وَقَعَتْ مَفْعُولَ الصِّلَةِ وَهِيَ يَذَرُونَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فَمَفْعُولُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي عُمُومِهِ فَيَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ الْحَوَامِلَ وَهُنَّ مِمَّنْ شَمَلَهُنَّ عُمُومُ أُولاتُ الْأَحْمالِ فَتَعَارُضُ الْعُمُومَانِ كُلٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَآيَةُ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ اقْتَضَتْ أَنَّ الْحَوَامِلَ كُلَّهُنَّ تَنْتَهِي عِدَّتُهُنَّ بِالْوَضْعِ وَقَدْ يَكُونُ الْوَضْعُ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، وَآيَةُ الْبَقَرَةِ يَقْتَضِي عُمُومُهَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَقَدْ يَتَأَخَّرُ هَذَا الْأَجَلُ عَنْ وَضْعِ الْحَمْلِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَرْجِيحِ عُمُومِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ عَلَى عُمُومِ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: 234] مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ حَاصِلٌ بِذَاتِ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مَعَ صِلَتِهِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً فَإِنَّ أَزْواجاً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهَا فِي لَفْظِهَا وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهَا الْعُمُومُ تَبَعًا لِعُمُومِ الْمَوْصُولِ الْعَامِلِ فِيهَا وَمَا كَانَ عُمُومُهُ بِالذَّاتِ أَرْجَحَ مِمَّا كَانَ عُمُومُهُ بِالْعَرْضِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي عُمُومِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ عُلِّقَ بِمَدْلُولِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ وَهِيَ مُشْتَقٌّ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِتَعْلِيلِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَمَا كَانَ عُمُومُهُ مُعَلَّلًا بِالْوَصْفِ أَرْجَحُ فِي الْعَمَلِ مِمَّا عُمُومُهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ. وَثَالِثُهَا: قَضَاءُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عُمُومَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ نَاسِخٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: 234] فِي مِقْدَارِ مَا تَعَارَضَا فِيهِ. وَمَآلُ الرَّأْيَيْنِ وَاحِدٌ هُوَ أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا سَوَاءً كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَمْ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمُهَا وَشَذَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِنَّ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةَ أَرْبَعَة أشهر وَعشر. وَقَالَ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِمَا يُحَقِّقُ الْعَمَلَ بِهِمَا مَعًا فَأَوْجَبُوا عَلَى الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْصَى مِنَ الْأَجَلَيْنِ أَجَلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ. وَأَجَلِ وَضْعِ الْحَمْلِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَصْدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ لِأَنَّهُ قَدْ تَأَتَّى لَهُمْ هُنَا إِذْ كَانَ التَّعَارُضُ فِي مِقْدَارِ زَمَنَيْنِ فَأُمْكِنَ الْعَمَلُ بِأَوْسَعِهِمَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْآخَرُ وَزِيَادَةٌ فَيَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مَا لَمْ تَكُنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ وَيَكُونُ مَعْنَى آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَزْوَاجُ الْمُتَوَفَّيْنَ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مَا لَمْ تَكُنَّ حَوَامِلَ فَيَزِدْنَ تَرَبُّصًا إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ. وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَة: 234] بِمَا فِي آيَةِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مِنْ خُصُوصٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْحَوَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَهِيَ عِدَّةُ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الَّتِي مَضَتْ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا مِنْ عِدَّةِ زَوْجِهَا، وَهِيَ فِي حَالَةِ حَمْلٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بُطْلَانُهُ مِنْ عِدَّةِ أَدِلَّةٍ فِي الشَّرِيعَةِ لَا خِلَافَ فِيهَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عُظْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ (أَيْ بِالْكُوفَةِ) وَفِيهِمْ عبد الرحمان بْنُ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ أَصْحَابه يعظمونه فَذَكَرَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَحَدَّثَتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَالَ عبد الرحمان. لَكِنَّ عَمَّهُ (أَيْ عَمَّ عُتْبَةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) كَانَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ (أَيْ لَمْ يُحَدِّثْنَا بِهِ) فَقُلْتُ: إِنِّي إِذَنْ لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ عَلَى رَجُلٍ فِي جَانِبِ الْكُوفَةِ (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ سَاكِنًا بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ) فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ عَامِرًا أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ فَقُلْتُ: كَيْفَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى (أَيِ الْبَقَرَةِ) . وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَلَمَةَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالَسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الْأَجَلَيْنِ: فَقُلْتُ أَنَا وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي (أَيْ مَعَ أَبِي سَلَمَةَ) فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: قُتِلَ (كَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَاتَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ) زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. وَلَمْ يُذْكَرْ رُجُوعُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً

تَكْرِيرٌ لِلْمَوْعِظَةِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاق: 2، 3] . وَالْمَقْصُودُ مَوْعِظَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى أَحَدٍ بِأَنَّ عَلَى كُلٍّ أَنْ يَصْبِرَ لِذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُمْتَثِلَ وَهُوَ مُسَمًّى الْمُتَّقِيَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ يُسْرًا فِيمَا لَحِقَهُ مِنْ عُسْرٍ. وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْحَالُ. وَالْمَقْصُودُ: يَجْعَلُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ الْعَسِيرِ فِي نَظَرِهِ يُسْرًا بِقَرِينَةِ جَعْلِ الْيُسْرَ لِأَمْرِهِ. ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُلَابَسَةُ. وَالْيُسْرُ: انْتِفَاءُ الصُّعُوبَةِ، أَيِ انْتِفَاءُ الْمَشَاقِّ وَالْمَكْرُوهَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِالْيُسْرِ فِيمَا شَأْنُهُ الْعُسْرُ لِحَثِّ الْأَزْوَاجِ عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الزَّوْجَ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَمِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَتَرْكِ مَنْزِلِهِ لِأَجْلِ سُكْنَاهَا إِذَا كَانَ لَا يَسَعُهُمَا وَمَا أَمَرَ بِهِ الْمَرْأَةَ مِنْ تَرَبُّصِ أَمَدِ الْعِدَّةِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ: حُكْمُهُ وَمَا شَرَعَهُ لَكُمْ كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] . وَإِنْزَالُهُ: إِبْلَاغُهُ إِلَى النَّاسِ بِوَاسِطَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْإِنْزَالَ تَشْبِيهًا لِشَرَفِ مَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ بِالشَّيْءِ الرَّفِيعِ لِأَنَّ الشَّرِيفَ يُتَخَيَّلُ رَفِيعًا. وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. فَفِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَهُ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَثِّ عَلَى التَّهَمُّمِ بِرِعَايَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبَعْثِ النَّاسِ عَلَى التَّنَافُسِ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِذْ قَدِ اعْتَنَى اللَّهُ بِالنَّاسِ حَيْثُ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَأُعِيدَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَعَدِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وتفريج الكرب وتيسير الصُّعُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ هُوَ تَكْفِيرٌ للسيئات وتوفير للأجور.

[سورة الطلاق (65) : آية 6]

وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فَلَهَا حُكْمُ الِاعْتِرَاضِ. وَجِيءَ بِالْوَعْدِ مِنَ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ تَعْلِيقِ الْجَوَابِ عَلَى شَرْطِهِ. [6] [سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 6] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْجُمَلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ [الطَّلَاق: 8] إِلَخْ تَشْرِيعٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] وَقَوْلِهِ: أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: 2] ، وَقَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: 4] فَتَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمَلُ مِنَ اللَّاتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِبَعْضٍ، وَيَدُلُّ الِاشْتِمَالُ لِبَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضًى لِلْفَصْلِ. وَابْتُدِئَ بِبَيَانِ مَا فِي لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] مِنْ إِجْمَالٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَسْكِنُوهُنَّ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ [الطَّلَاق: 1] . وَلَيْسَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ هَذَا الضَّمِيرُ إِلَّا لَفْظُ النِّسَاءِ وَإِلَّا لَفْظُ أُولاتُ الْأَحْمالِ [الطَّلَاق: 4] ، وَلَكِنَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْإِسْكَانَ خَاصٌّ بِالْمُعْتَدَّاتِ الْحَوَامِلِ فَإِنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ [الطَّلَاق: 1] فَتَعَيَّنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَالْبَائِنَةَ وَالْحَامِلَ، لِمَا عَلِمْتَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ إِرَادَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنَةِ مِنْ لَفْظِ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: 1] . وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَائِلُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنَى لَهُنَّ جَمِيعًا. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: يَخْرُجُ عَنْهَا إِذَا طَلَّقَهَا وَتَبْقَى هِيَ فِي الْمَنْزِلِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَبِنْ فَإِنَّهَا زَوْجَةٌ يَتَوَارَثَانِ وَالسُّكْنَى لَهُنَّ لَازِمَةٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ اه. يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَغْنًى عَنْ أَخْذِ حُكْمِ سُكْنَاهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا سُكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا. وَمُتَمَسَّكُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّ أَخَا زَوْجِهَا مَنَعَهَا مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَأَنَّهَا رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى

رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَلَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله وَسنة نبيئنا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ عَلَيْهَا. وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِيمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ «روى عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ سُكْنَى» (¬1) . وَرَوَوْا أَنَّ قَتَادَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى أَخَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] إِذِ الْأَمْرُ هُوَ الْمُرَاجَعَةُ، فَقَصَرَا الطَّلَاقَ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: 1] ، عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا تَتَرَقَّبُ بَعْدَهُ مُرَاجَعَةً وَسَبَقَهَا إِلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةُ. رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْأَلُهَا عَنِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ الْمَرْأَةِ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ فَبَلَغَ قَوْلُ مَرْوَانَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فَقَالَتْ: «بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ» اه. وَيَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْدَاثَ الْأَمْرِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِنَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ أَنْ يُرَقِّقَ قُلُوبَهُمَا فَيَرْغَبَا مَعًا فِي إِعَادَةِ الْمُعَاشَرَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَعَلَى تَسْلِيمِ اقْتِصَارِ ذَلِكَ عَلَى إِحْدَاثِ أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ فَذِكْرُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي قَبْلَهَا إِذْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْعَامِّ. فَالصَّوَابُ أَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، أَيْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا، أَيْ لَا يُكَلَّفُ الْمُطَلِّقُ بِمَكَانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ بَيْتِهِ وَلَا يَمْنَعُهَا السُّكْنَى بِبَيْتِهِ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] . ¬

(¬1) هَكَذَا يروي الْمُفَسِّرُونَ عَن عمر: أَنه سمع من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك وَلم أَقف عَلَيْهِ مُسْندًا.

فَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ لَا يَسَعُ مُبَيِّتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ خَرَجَ الْمُطَلِّقُ مِنْهُ وَبَقِيَتِ الْمُطَلَّقَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. ومَنْ الْوَاقِعَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ فِي بَعْضِ مَا سَكَنْتُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْكَنَ صَالِحٌ لِلتَّبْعِيضِ بِحَسَبِ عُرْفِ السُّكْنَى مَعَ تَجَنُّبِ التَّقَارُبِ فِي الْمَبِيتِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَجْعِيَّةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسَعْهُمَا خَرَجَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وُجْدِكُمْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ، وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ فَإِنَّ مَسْكَنَ الْمَرْءِ هُوَ وُجْدُهُ الَّذِي وَجَدَهُ غَالِبًا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَتِّرًا عَلَى نَفْسِهِ. وَالْوُجْدُ: مُثَلَّثُ الْوَاوِ هُوَ الْوِسْعُ وَالطَّاقَةُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِكَسْرِهَا. وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. أُتْبِعَ الْأَمْرُ بِإِسْكَانِ الْمُطَلَّقَاتِ بِنَهْيٍ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي شَيْءٍ مُدَّةَ الْعِدَّةِ مِنْ ضِيقِ مَحَلٍّ أَوْ تَقْتِيرٍ فِي الْإِنْفَاقِ أَوْ مُرَاجَعَةٍ يَعْقُبُهَا تَطْلِيقٌ لِتَطْوُيْلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ قصدا للكناية وَالتَّشَفِّي كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [231] . أَوْ لِلْإِلْجَاءِ إِلَى افْتِدَائِهَا مِنْ مُرَاجَعَتِهِ بِخُلْعٍ. وَالضَّارَّةُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ فَكَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّهْيِ لَا إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ هُوَ نَهْيٌ شَدِيدٌ كَالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] فِي أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ وَمَثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّضْيِيقِ: التَّضْيِيقُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْأَذَى. وَاللَّامُ فِي لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِتَعْلِيلِ الْإِضْرَارِ وَهُوَ قَيْدٌ جَرَى عَلَى غَالِبِ مَا يَعْرِضُ لِلْمُطَلَّقِينَ مِنْ مَقَاصِدِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [الْبَقَرَة: 231] وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِضْرَارَ بِالْمُطَلَّقَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ.

وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. ضَمِيرُ كُنَّ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَسْكِنُوهُنَّ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَرْتِيبِ الضَّمَائِرِ، وَكَمَا هُوَ مُقْتَضَى عَطْفِ الْجُمَلِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى خُصُوصِ النِّسَاءِ السَّاكِنَاتِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُعَادًا لِضَمِيرٍ آخَرَ. وَظَاهِرُ نَظْمِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَوَامِلَ مُسْتَحِقَّاتُ الْإِنْفَاقِ دُونَ بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ أَخْذًا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَلَكِنَّ الْمَفْهُومَ مُعَطَّلٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ لِأَنَّ إِنْفَاقَهُنَّ ثَابِتٌ بِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ضَمِيرَ أَسْكِنُوهُنَّ لِلْمُطَلَّقَاتِ الْبَوَائِنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالْمَفْهُومِ قَالُوا: الْآيَةَ تَعَرَّضَتْ لِلْحَوَامِلِ تَأْكِيدًا لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ طَوِيلَةٌ فَرُبَّمَا سَئِمَ الْمُطَلِّقُ الْإِنْفَاقَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَجَعَلُوا لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ الْإِنْفَاقَ. وَبِهِ أَخْذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَنُسِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَهَذَا الَّذِي يرجح هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَلَيْسَ لِلشَّرْطِ مَفْهُومٌ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مَسُوقٌ لِاسْتِيعَابِ الْإِنْفَاقِ جَمِيعَ أَمَدِ الْحَمْلِ. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى. لَمَّا كَانَ الْحَمْلُ يَنْتَهِي بِالْوَضْعِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ لَهُنَّ بَعْدَ الْوَضْعِ فَإِنَّهُنَّ بِالْوَضْعِ يَصِرْنَ بَائِنَاتٍ فَتَنْقَطِعُ أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ يَكُونُ إِرْضَاعُهَا وَلَدَهَا حَقًّا عَلَيْهَا كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقًّا عَلَى أَبِيهِ فَيُعْطِيهَا أَجْرَ إِرْضَاعِهَا كَمَا كَانَ يُعْطِيهَا النَّفَقَةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَلَدِ حِينَ كَانَ حَمْلًا. وَهَذِهِ

الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ الْآيَةَ. وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ: لَكُمْ أَنَّ إِرْضَاعَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْفِرَاقِ حَقٌّ عَلَى الْأَبِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ كَالْإِنْفَاقِ وَالْأُمُّ تُرْضِعُ وَلَدَهَا فِي الْعِصْمَةِ تَبَعًا لِإِنْفَاقِ أَبِيهِ عَلَيْهَا عِنْدَ مَالِكٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، إِذْ قَالَا: لَا يَجِبُ الْإِرْضَاعُ عَلَى الْأُمِّ حَتَّى فِي الْعِصْمَةِ فَلَمَّا انْقَطَعَ إِنْفَاقُ الْأَبِ عَلَيْهَا بِالْبَيْنُونَةِ تَمَحَّضَتْ إِقَامَةُ غِذَاءِ ابْنِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُرْضِعَهُ فَهِيَ أَحَقُّ بذلك، وَلها أجل الْإِرْضَاعِ وَإِنْ أَبَتْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ ظِئْرًا لِابْنِهِ فَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ غَيْرَ قَابِلٍ ثَدْيَ غَيْرِ أُمِّهِ وَجَبَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ وَوَجَبَ عَلَى أَبِيهِ دَفْعُ أُجْرَةِ رِضَاعِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ إِرْضَاعُ الِابْنِ عَلَى أُمِّهِ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْنُونَة. نَقله عِنْد أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» وَهُوَ عَجِيبٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَمَامَهُ. وَالِائْتِمَارُ: التَّشَاوُرُ وَالتَّدَاوُلُ فِي النَّظَرِ. وَأَصْلُهُ مُطَاوِعُ أَمَرَهُ لِأَنَّ الْمُتَشَاوِرِينَ يَأْمُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَأْتَمِرُ الْآخَرُ بِمَا أَمَرَهُ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ مَجَامِعِ أَصْحَابِ الدَّعْوَةِ أَوِ النِّحْلَةِ أَوِ الْقَصْدِ الْمُوَحَّدِ مُؤْتَمِرًا لِأَنَّهُ يَقَعُ الِاسْتِئْمَارُ فِيهِ، أَيِ التَّشَاوُرِ وَتَدَاوُلِ الْآرَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمُ الطَّلَاقُ لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ إِرْضَاعِ الْأُمِّ وَلَدَهَا. وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَبُ لَهَا مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقُيِّدَ الِائْتِمَارُ بِالْمَعْرُوفِ، أَيِ ائْتَمِارًا مُلَابِسًا لِمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، أَيْ مُعْتَادٍ مَقْبُولٍ، فَلَا يَشْتَطُّ الْأَبُ فِي الشُّحِّ وَلَا تَشْتَطُّ الْأُمُّ فِي الْحِرْصِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى عِتَابٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِأَنْ يُنَزِّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَا لَوِ اجْتُلِبَتْ لِلطِّفْلِ ظِئْرٌ، فَلَا تَسْأَلُ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ أَمْثَالِهَا، وَلَا يَشِحُّ الْأَبُ عَمَّا يَبْلُغُ أَجْرَ أَمْثَالِ أُمِّ الطِّفْلِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْأُمِّ إِذَا وَجَدَ الْأَبُ مَنْ يُرْضِعُ لَهُ مَجَّانًا لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَرْضَعَتْ لَهُ، إِذَا اسْتُؤْجِرَتْ لِذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: اسْتَرْضَعَ أَيْضًا، إِذَا آجَرَ مَنْ يُرْضِعُ لَهُ وَلَدَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [233] الْآيَةَ.

[سورة الطلاق (65) : آية 7]

وَالتَّعَاسُرُ صُدُورُ الْعُسْرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ قَوْلِكُمْ: عَسَرْتُ فُلَانًا، إِذَا أَخَذْتَهُ عَلَى عُسْرِهِ، وَيُقَالُ: تَعَاسَرَ الْبَيِّعَانِ إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا. فَمَعْنَى تَعاسَرْتُمْ اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَكُمْ وَلَمْ تَرْجِعُوا إِلَى وِفَاقٍ، أَيْ فَلَا يُبْقَى الْوَلَدُ بِدُونَ رَضَاعَةٍ. وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [98] . وَهَذَا الْمَعْنى ناشىء عَنْ جَعْلِ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ كِنَايَةً عَنْ تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِتَحْصِيلِهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَيْضًا عَنْ أَمْرِ الْأَبِ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ لِلطِّفْلِ بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ لَهُ بِقَوْلِهِ: فَسَتُرْضِعُ. فَاجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ: كِنَايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الْأَبِ، وَكِنَايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الْأُمِّ، وَكِنَايَةٌ عَنْ أَمْرِ الْأَبِ بالاسترضاع لوَلَده. [7] [سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 7] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ وَالْمُرْضِعَاتِ بِمَا يَعُمُّ ذَلِكَ. وَيَعُمُّ كُلَّ إِنْفَاقٍ يُطَالَبُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ مَفْرُوضٍ وَمَنْدُوبٍ، أَيْ الْإِنْفَاقُ عَلَى قَدْرِ السَّعَةِ. وَالسَّعَةُ: هِيَ الْجِدَّةُ مِنَ الْمَالِ أَوِ الرِّزْقِ. والإنفاق: كِفَايَة مؤونة الْحَيَاةِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. ومِنْ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ يَصْدُرُ عَنِ السَّعَةِ فِي الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ كَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْأَنْفَال: 3] لِأَنَّ النَّفَقَةَ هُنَا لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ السَّعَةِ، وَهِيَ هُنَاكَ بَعْضُ الرِّزْقِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ تَبْعِيضِيَّةٌ.

وَمَعْنَى قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ جُعِلَ رِزْقُهُ مَقْدُورًا، أَيْ مَحْدُودًا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّضْيِيقِ. وَضِدُّهُ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غَافِر: 40] ، يُقَالُ: قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، إِذَا قَتَّرَهُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] أَيْ مِنْ كَانَ فِي ضِيقٍ مِنَ الْمَالِ فَلْيُنْفِقْ بِمَا يَسْمَحُ بِهِ رِزْقُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَفَاءِ بِالْإِنْفَاقِ وَمَرَاتِبِهِ فِي التَّقْدِيمِ. وَهَذَا مُجْمَلٌ هُنَا تَفْصِيلُهُ فِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي مُعْتَادِ تَصَرُّفَاتِهِمْ مَا لَمْ تُبْطِلْهُ الشَّرِيعَةُ. وَالرِّزْقُ: اسْمٌ لِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَمَتَاعٍ وَمَنْزِلٍ. سَوَاءٌ كَانَ أَعْيَانًا أَوْ أَثْمَانًا. وَيُطْلَقُ الرِّزْقُ كَثِيرًا عَلَى الطَّعَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] . وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ النَّفَقَاتِ لَا تَتَحَدَّدُ بِمَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَالْأَزْمَانِ وَالْبِلَادِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّوَسُّعِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي مَالِ الْمُؤْسِرِ هَلْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا أَحْسَبُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا اخْتِلَافًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ حَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَمُعْتَادِهِ، كَالزَّوْجَةِ الْعَالِيَةِ الْقَدْرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ: «مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . وَجُمْلَةُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ. لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] ، وَهِيَ قَبْلَ سُورَةِ الطَّلَاقِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقْنَاعُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ الْمُنْفِقِ أَكْثَرَ مِنْ مَقْدِرَتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُعْسِرِ إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِشْبَاعِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا وَإِكْسَائِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَلَوْ بِشَظَفٍ، أَيْ دُونَ ضُرٍّ. ومِمَّا آتاهُ اللَّهُ يَشْمَلُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَإِذَا كَانَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ

الْإِنْفَاقُ قَادِرًا عَلَى الِاكْتِسَابِ لِيُنْفِقْ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ أَوْ لِيُكَمِّلْ لَهُ مَا ضَاقَ عَنْهُ مَالُهُ، يُجْبَرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ فَنَفَقَتُهُ أَوْ نَفَقَةُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ عَلَى مَرَاتِبِهَا تَكُونُ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «وَأَنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تهْلك ماشيتهما يأتيني بِبَيِّنَةٍ يَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَيُّنَا» ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَفِي عَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ إِنْفَاقِ زَوْجِهِ إِذَا طَلَبَتِ الْفِرَاقَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ خِلَافٌ. فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مُوجِبًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَجَلِ رَجَاءٍ يَسُرُّ الزَّوْجُ وَقُدِّرَ بِشَهْرَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ وَتُنْفِقُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ النَّظَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ قَائِمًا فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِهِ نَفَقَةَ الزَّوْجَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى الْإِنْفَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَانَ حَقًّا أَنْ يُفَرِّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَتْرُكَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا فِي احْتِيَاجٍ. وَمَحَلٌّ بَسْطِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَجُمْلَةُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً تَكْمِلَةٌ لِلتَّذْيِيلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا يُنَاسِبُ مَضْمُونَ جُمْلَةِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ. وَقَوْلَهُ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ إِلَخْ تُنَاسِبُ مَضْمُونَ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَخْ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْثِ التَّرَجِّي وَطَرْحِ الْيَأْسِ عَنِ الْمُعْسِرِ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ. وَمَعْنَاهُ: عَسَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرِكُمْ يُسْرًا لَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا. وَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَعْدَ عُسْرِ قَوْمٍ يُسْرًا لَهُمْ، فَمَنْ كَانَ فِي عُسْرٍ رَجَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ فَضْلُ اللَّهِ، فَيُبَدِّلُ عُسْرَهُ بِالْيُسْرِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَعْدٌ لِكُلِّ مُعْسِرٍ بِأَنْ يَصِيرَ عُسْرُهُ يُسْرًا. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُشَاهَدَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكَلُّفِ بِأَنَّ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَوْمَئِذٍ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُبَدِّلُ عُسْرَهُمْ بِالْيُسْرِ، أَوْ وَعْدٌ لِلْمُنْفِقِينَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا يَشِحُّونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَسَعُهُ مَالُهُمْ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: 5] .

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 إلى 11]

وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْإِتْيَانُ ب (عسر ويسرا) نَكِرَتَيْنِ غَيْرَ مُعَرَّفَيْنِ بِاللَّامِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. [8- 11] [سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 8 الى 11] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً. لَمَّا شُرِعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الطَّلَاقِ وَلَوَاحِقِهِ، وَكَانَتْ كُلُّهَا تَكَالِيفَ قَدْ تُحْجِمُ بَعْضُ الْأَنْفُسِ عَنْ إِيفَاءِ حَقِّ الِامْتِثَالِ لِهَا تَكَاسُلًا أَوْ تَقْصِيرًا رَغَّبَ فِي الِامْتِثَالِ لَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطَّلَاق: 2] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطَّلَاق: 4] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطَّلَاق: 5] وَقَوْلِهِ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطَّلَاق: 7] . وَحَذَّرَ اللَّهُ النَّاسَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطَّلَاق: 1] ، وَقَوْلِهِ: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الطَّلَاق: 2] أَعْقَبَهَا بِتَحْذِيرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ لِقِلَّةِ الْعِنَايَةِ بِمُرَاقَبَتِهِمْ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ يُثِيرُ الْجَلِيلَ، فَذَكَّرَ الْمُسْلِمِينَ (وَلَيْسُوا مِمَّنْ يَعْتُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ) بِمَا حَلَّ بِأَقْوَامٍ مِنْ عِقَابٍ عَظِيمٍ عَلَى قِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ لِئَلَّا يَسْلُكُوا سَبِيلَ التَّهَاوُنِ بِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ، فَيُلْقِي بِهِمْ ذَلِكَ فِي مَهْوَاةِ الضَّلَالِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَدِّمَةٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الْآيَاتِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وكَأَيِّنْ اسْمٌ لِعَدَدِ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ مَا يُمَيِّزُهُ بَعْدَهُ مِنَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِمِنْ وكَأَيِّنْ بِمَعْنَى (كَمِ) الْخَبَرِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [146] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِفَادَةِ التَّكْثِيرِ هُنَا تَحْقِيقُ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي نَالَ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى شَيْءٌ مُلَازِمٍ لِجَزَائِهِمْ عَلَى عُتُوِّهِمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَرُسُلِهِ فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ ذَلِكَ مُصَادَفَةً فِي بَعْضِ الْقُرَى وَأَنَّهَا غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ فِي جَمِيعِهِمْ.

وَ (كَأَيِّنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ. وَجُمْلَةُ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِ كَأَيِّنْ. وَالْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ بِكَثْرَةِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَحاسَبْناها فَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا عَلَى حد قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: 82] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِذْ جِيءَ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ الْقَرْيَةِ هُنَا دُونَ الْأُمَّةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ فِي اجْتِلَابِ هَذَا اللَّفْظِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمُشَايَعَةً لَهُمْ بِالنَّذَارَةِ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ أَهْلِ الْقُرَى فِي التَّذْكِيرِ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي نَحْوِ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: 4] . وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِهِمْ وَمَحْقِ عَدِوِّهِمْ. وَالْعُتُوُّ وَيُقَالُ الْعُتِيُّ: تَجَاوَزُ الْحَدِّ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَالْعِنَادِ. وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ عَنْ. وَالْمُحَاسِبَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا يُنَاسِبُ شِدَّتَهُ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، تَشْبِيهًا لِتَقْدِيرِ الْجَزَاءِ بِإِجْرَاءِ الْحِسَابِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، وَهُوَ الْحِسَابُ فِي الدُّنْيَا، وَلذَلِك جَاءَ فَحاسَبْناها، وعَذَّبْناها بِصِيغَةِ الْمَاضِي. وَالْمَعْنَى: فَجَازَيْنَاهَا عَلَى عتوّها جَزَاء يكافىء طُغْيَانَهَا. وَالْعَذَابُ النُّكُرُ: هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بِالْغَرَقِ، وَالْخَسْفِ، وَالرَّجْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَطْفُ الْعَذَابِ عَلَى الْحِسَابِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ، فَالْحِسَابُ فِيمَا لَقُوهُ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ مِنَ الْمُخَوِّفَاتِ وَأَشْرَاطِ الْإِنْذَارِ مِثْلَ الْقَحْطِ وَالْوَبَاءِ وَالْعَذَابِ هُوَ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْحِسَابَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُرَادَ بِهِ حِسَابُ الْآخِرَةِ. وَشِدَّتُهُ قُوَّةُ الْمُنَاقَشَةِ فِيهِ وَالِانْتِهَارُ عَلَى كُلِّ سَيِّئَةٍ يُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا.

وَالْعَذَابُ: عَذَابُ جَهَنَّمِ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ تَشْبِيهًا لِلْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] ، وَقَوْلِهِ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: 44] . وَالنُّكُرُ بِضَمَّتَيْنِ، وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ: مَا يُنْكِرُهُ الرَّأْيُ مِنْ فَظَاعَةِ كَيْفِيَّتِهِ إِنْكَارًا شَدِيدًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ نُكْراً بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ الْكَافِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها لِتَفْرِيعِ فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها. وَالذَّوْقُ: هُنَا الْإِحْسَاسُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ. وَالْوَبِيلُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. يُقَالُ: وَبُلَ (بِالضَّمِّ) : الْمَرْعَى، إِذَا كَانَ كَلَأُهُ وَخِيمًا ضَارًّا لِمَا يَرْعَاهُ. وَالْأَمْرُ: الْحَالُ وَالشَّأْنُ، وَإِضَافَةُ الْوَبَالِ إِلَى الْأَمْرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَبِّبِ إِلَى السَّبَبِ، أَيْ ذَاقُوا الْوَبَالَ الَّذِي تَسَبَّبَ لَهُمْ فِيهِ أَمْرُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ. وَعَاقِبَةُ الْأَمْرِ: آخِرُهُ وَأَثَرُهُ. وَهُوَ يَشْمَلُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً. وَشُبِّهَتْ عَاقِبَتُهُمُ السُّوأَى بِخَسَارَةِ التَّاجِرِ فِي بَيْعِهِ فِي أَنَّهُمْ لَمَّا عَتَوْا حَسِبُوا أَنَّهُمْ أَرْضَوْا أَنْفُسَهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الرُّسُلِ وانتصروا عَلَيْهِم فَلَمَّا لَبِثُوا أَنْ صَارُوا بِمَذَلَّةٍ وَكَمَا يَخْسَرُ التَّاجِرُ فِي تَجْرِهِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ كانَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ عَاقِبَتِهَا فِي الدُّنْيَا تَغْلِيبًا. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْظِيعٌ لِمَا لَحِقَهُمْ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ. وَجُمْلَةُ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً بَدَلُ اشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ.

وَالْمُرَادُ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ التَّهْيِئَةُ وَإِنَّمَا يُهَيَّأُ الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ. وَإِنْ جَعَلْتَ الْحِسَابَ وَالْعَذَابَ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا حِسَابَ الْآخِرَةِ وَعَذَابَهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَجُمْلَةُ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مُتَزَايِدٌ غَيْرُ مُخَفَّفٍ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: 30] . فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا. هَذَا التَّفْرِيعُ الْمَقْصُودُ عَلَى التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ وَخَاصَّةً عَلَى قَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطَّلَاق: 1] وَهُوَ نَتِيجَةُ مَا مَهَّدَ لَهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ. وَفِي نِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِوَصْفِ أُولِي الْأَلْبابِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعُقُولَ الرَّاجِحَةَ تَدْعُو إِلَى تَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهَا كَمَالٌ نَفْسَانِيٌّ، وَلِأَنَّ فَوَائِدَهَا حَقِيقِيَّةٌ دَائِمَةٌ، وَلِأَنَّ بِهَا اجْتِنَابَ الْمَضَارِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يُونُس: 62، 63] ، وَقَوْلُهُ: أُولِي مَعْنَاهُ ذَوِي، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطَّلَاق: 4] آنِفًا والَّذِينَ آمَنُوا بَدَلٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبابِ. وَهَذَا الِاتِّبَاع يومىء إِلَى أَنَّ قَبُولَهُمُ الْإِيمَانَ عُنْوَانٌ عَلَى رَجَاحَةِ عُقُولِهِمْ. وَالْإِتْيَانُ بِصِلَةِ الْمَوْصُولِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ لِلتَّقْوَى وَجَامِعٌ لِمُعْظَمِهَا وَلَكِنَّ لِلتَّقْوَى دَرَجَاتٍ هِيَ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يُحِيطُوا بِهَا. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ نَفْعٌ عَظِيمٌ لَهُمْ مُسْتَحِقٌّ شُكْرَهُمْ عَلَيْهِ.

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ قَدْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَبَعَثِ النُّفُوسِ عَلَى تَصَفُّحِ هَذَا الْكِتَابِ وَمُتَابَعَةِ إرشاد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ. وَقَدْ سُمِّيَ بِالذِّكْرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَذْكِيرَ النَّاسِ بِمَا هُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا مِنْ حُسْنِ السُّلُوكِ، ثُمَّ تَذْكِيرَهُمْ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَبَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [6] . وَإِنْزَالُ الْقُرْآنِ تَبْلِيغُهُ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَاسْتُعِيرَ لَهُ الْإِنْزَالُ لِأَنَّ الذِّكْرَ مُشَبَّهٌ بِالشَّيْءِ الْمَرْفُوعِ فِي السَّمَاوَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَجُعِلَ إِنْزَالُ الذِّكْرِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انتفعوا بِهِ وَعمِلُوا بِمَا فِيهِ فَخُصِّصُوا هُنَا مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: رَسُولًا بَدَلٌ مِنْ ذِكْراً بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلَازَمَةً وَمُلَابَسَةً فَإِنَّ الرِّسَالَةَ تَحَقَّقَتْ لَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، فَقَدْ أُعْمِلَ فِعْلُ أَنْزَلَ فِي رَسُولًا تَبَعًا لِإِعْمَالِهِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ وَاشْتِمَالِ مَفْهُومِ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ عَلَى مَفْهُومِ الْآخَرِ. وَهَذَا كَمَا أُبْدِلَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ [الْبَيِّنَة: 2] مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [1] . وَالرَّسُولُ: هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِجِبْرِيلَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْكَلْبِيِّ لِتَصْحِيحِ إِبْدَالِ رَسُولًا مِنْهُ فَفِيهِ تَكَلُّفَاتٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ لَا مَحِيصَ عَنِ اعْتِبَارِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ وَصَفُ جِبْرِيلَ بِأَنَّهُ يَتْلُو عَلَى النَّاسِ الْآيَاتِ فَإِنَّ مَعْنَى التِّلَاوَةِ بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِجِبْرِيلَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ وَتَقْدِيرُهُ: وَأَرْسَلَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَيَكُونُ حَذْفُهُ إِيجَازًا إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ السَّابِقَ أَبْلَغُ وَأَوْجَزُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُبَيِّناتٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَجُعِلَتْ عِلَّةُ إِنْزَالِ الذِّكْرِ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنْ

[سورة الطلاق (65) : آية 12]

كَانَتْ عِلَّةُ إِنْزَالِهِ إِخْرَاجَ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، نَظَرًا لِخُصُوصِ الْفَرِيقِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَذَا الذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَالٍّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْصِيصٍ بِالذِّكْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً. عَطْفٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالتَّنْوِيهُ بِالْمُتَّقِينَ وَالْعِنَايَةُ بِهِمْ هَذَا الْوَعْدُ عَلَى امْتِثَالِهِمْ بِالنَّعِيمِ الْخَالِدِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَعِيمٌ مُقَيَّدٌ حُصُولُهُ لِرَاغِبِيهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ. وصالِحاً نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يَعْمَلْ أَيْ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُوم كإفادته إِيَّاه فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. فَالْمَعْنَى: وَيَعْمَلُ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، أَيِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَمْرًا جَازِمًا بِقَرِينَةِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوب فِي يُدْخِلْهُ وَلِذَلِكَ فَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا. وَالرِّزْقُ: كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَتَنْكِيرُهُ هُنَا لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ رِزْقًا عَظِيمًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ نُدْخِلْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ يَكُونُ فِيهِ سُكُون الِالْتِفَات. [12] [سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً

(12) اسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ اللَّهُ. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ جرى ذكر شؤون من عَظِيم شؤون اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطَّلَاق: 1] إِلَى هُنَا، فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ وَضَمِيرُهُ وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ مَرَّةً فَاقْتَضَى الْمَقَامُ عَقِبَ ذَلِكَ أَنْ يُزَادَ تَعْرِيفُ النَّاسِ بِهَذَا الْعَظِيمِ، وَلَمَّا صَارَ الْبِسَاطُ مَلِيئًا بِذِكْرِ اسْمِهِ صَحَّ حَذْفُهُ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ إِيجَازًا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [65] ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَة: 18] ، وَقَوْلِهِ: مَقامِ إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [125] . فَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ لِمَا فِيهَا مَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَعَلَى أَنَّ النَّاسَ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الْأَرْضِ عَبِيدُهُ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوهُ، وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَدَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ إِنْ أَطَاعُوهُ وَعِقَابِهِمْ إِنْ عَصَوْهُ. وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرِ الَّذِي يَتَنَزَّلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَالسَّبْعُ السَّمَاوَاتِ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهِيَ سَبْعٌ مُنْفَصِلٌ بَعْضُهَا عَنِ الْآخَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ [15] : أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ عَطْفٌ عَلَى سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ قَوْلَهُ: مِنَ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ لَفْظَ الْأَرْضِ وَيَكُونُ حَرْفُ مِنَ مَزِيدًا لِلتَّوْكِيدِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِزِيَادَةِ مِنَ أَنْ تَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَهُوَ الْأَحَقُّ بِالْقَبُولِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ، وَعَدَمُ الْكَثْرَةِ لَا يُنَافِي الْفَصَاحَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِثْلَهُنَّ حَالًا مِنْ الْأَرْضِ. وَمُمَاثَلَةُ الْأَرْضِ لِلسَّمَاوَاتِ فِي دَلَالَةِ خَلْقِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ لَيْسَ أَضْعَفَ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَصَائِصَ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ.

وَهَذَا أظهر مَا تؤوّل بِهِ الْآيَةُ. وَفِي إِفْرَادِ لَفْظِ الْأَرْضِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ جَمْعًا كَمَا أُتِيَ بِلَفْظِ السَّمَاوَاتِ إِيذَانٌ بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مِثْلَهُنَّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَرْضِ بَيَانا للمثل فمصدق مِثْلَهُنَّ هُوَ الْأَرْضِ. وَتَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَهُوَ وَارِدٌ غَيْرُ نَادِرٍ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثِلَةً فِي الْكُرَوِيَّةِ، أَيْ مِثْلَ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ مِثْلَ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ فِي كَوْنِهَا تَسِيرُ حَوْلَ الشَّمْسِ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ فَيَكُونُ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْمُمَاثَلَةَ فِي عَدَدِ السَّبْعِ وَقَالُوا: إِنِ الْأَرْضَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ مُنْبَسِطَةٍ تَفْرُقُ بَيْنَهَا الْبِحَارُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ سَبْعُ طِبَاقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجُيُولُوجْيَا) ، مِنْ إِثْبَاتِ طَبَقَاتٍ أَرْضِيَّةٍ لَكِنَّهَا لَا تَصِلُ إِلَى سَبْعِ طَبَقَاتٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» «قِيلَ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعٌ إِلَّا هَذِهِ» اه. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْمُعْلِمِ» عَلَى «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عِنْدَ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . كَانَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ كَتَبَ إِلَيَّ بَعْدَ فِرَاقِي لَهُ: هَلْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ سَبْعًا، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَعَادَ كِتَابَهُ إِلَيَّ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ هَلْ مِثْلَهُنَّ فِي الشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ مِثْلَهُنَّ فِي الْعَدَدِ. وَأَنَّ الْخَبَرَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْقُرْآنُ إِذَا احْتُمِلَ وَالْخَبَرُ إِذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ لَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ فَيُتَمَسَّكُ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ، فَأَعَدْتُ

إِلَيْهِ الْمُجَاوَبَةَ أَحْتَجُّ لِبُعْدِ الِاحْتِمَالِ عَنِ الْقُرْآنِ وَبَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَتَرَدَّدْتُ فِي آخِرِ كِتَابِي فِي احْتِمَالِ مَا قَالَ. فَقَطَعَ الْمُجَاوَبَةَ اه. وَأَنْتَ قَدْ تَبَيَّنْتَ أَنَّ إِفْرَادَ الْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا أَرْضٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي قَوْلِهِ: مِثْلَهُنَّ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ فِي شَأْن من شؤون الْآخِرَةِ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِلْمُتَعَارَفِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُطَوَّقَ الْغَاصِبُ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي غَصَبَهُ مُضَاعَفًا سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْغِلَظِ وَالثِّقَلِ، عَلَى أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُضَاعَفَةِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ طَبَقَاتٍ مَعْلُومَةً لَقَالَ: طَوَّقَهُ مِنَ السَّبْعِ الْأَرَضِينَ بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ. وَكَلَامُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ. وَعَلَى مُجَارَاةِ تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ فِي عَدَدِ السَّبْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّبْعَ سَبْعُ قِطَعٍ وَاسِعَةٍ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ يَفْصِلُ بَيْنَهَا الْبِحَارُ نُسَمِّيهَا الْقَارَّاتِ وَلَكِنْ لَا نَعْنِي بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ فِي كُتُبِ الْجُغْرَافِيَا الْقَدِيمَةِ أَوِ الْحَدِيثَةِ بَلْ هِيَ قَارَّاتٌ طَبِيعِيَّةٌ كَانَ يَتَعَذَّرُ وَصُولُ سُكَّانِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضِهَا الْآخَرِ فِي الْأَزْمَانِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَنَقُّلٌ بَحَرِيٌّ وَفِيمَا بَعْدَهَا مِمَّا كَانَ رُكُوبُ الْبَحْرِ فِيهَا مَهُولًا. وَهِيَ أَنَّ آسْيَا مَعَ أُورُوبَّا قَارَّةٌ، وَإِفْرِيقِيَا قَارَّةٌ، وأستراليا قارة، وأميركا الشمالية قارة، وأميركا الْجَنُوبِيَّةُ قَارَّةٌ، وَجِرُولَنْدَةُ فِي الشَّمَالِ، وَالْقَارَّةُ الْقُطْبِيَّةُ الْجَنُوبِيَّةُ. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْبِحَارِ، وَتَكُونُ مِنَ تَبْعِيضِيَّةً لِأَنَّ هَذِهِ الْقَارَّاتِ الِاصْطِلَاحِيَّةَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ غير عَاصِم مِثْلَهُنَّ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ. وَمَعْنَى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أَمْرُ اللَّهِ بِالتَّكْوِينِ أَوْ بِالتَّكْلِيفِ يُبَلَّغُ إِلَى الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيُبَلِّغُوهُ، أَوْ لِمَنْ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ مِنَ الرُّسُلِ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ، أَوْ مِنَ النَّاسِ لِيَعْلَمُوا بِمَا فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَعْلَمُوا لَامُ كَيْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَإِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ. لِأَنَّ خَلْقَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ

وَتَسْخِيرَهَا وَتَدْبِيرَ نِظَامِهَا فِي طُولِ الدَّهْرِ يَدُلُّ أَفْكَارَ الْمُتَأَمِّلِينَ عَلَى أَنَّ مُبْدِعَهَا يَقْدِرُ عَلَى أَمْثَالِهَا فَيَسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى إِبْدَاعِ مَا هُوَ دُونَهَا ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَتَهَا عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ، فَقِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَ أَمْثَالِهَا قَادِرٌ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَدْبِيرَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْإِتْقَانِ الْمُشَاهَدِ فِي نِظَامِهَا، دَلِيلٌ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ مُبْدِعِهَا وَإِحَاطَتِهِ بِدَقَائِقِ مَا هُوَ دُونَهَا، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ لَا يُظَنُّ بِعِلْمِهِ إِلَّا الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. فَالْعِلْمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتَعْلَمُوا صَادِقٌ عَلَى عِلْمَيْنِ: عِلْمٌ يَقِينِيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَدِلَّةٍ يَقِينِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الدَّلَالَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَعِلْمٌ ظَنِّيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَرَائِنِ. وَكِلَا الْعِلْمَيْنِ مُوَصِّلٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْخَطَابِيِّ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) .

66- سورة التحريم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 66- سُورَةُ التَّحْرِيمِ سُورَةُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيم: 1] إِلَخْ سُمِّيَتْ «سُورَةَ التَّحْرِيمِ» فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوُيِّ «لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» تَسْمِيَتُهَا بَاسْمِ «سُورَةِ اللِّمَ تُحَرِّمُ» بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَفِي «الْإِتْقَانِ» وَتُسَمَّى «سُورَةَ اللِّمَ تُحَرِّمُ» ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْكَوَاشِيِّ» (أَيْ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَكْسُورَةً) وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ التَّاءِ مُحَقَّقَةً وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَكْسُورَةً بَعْدَهَا مِيمٌ عَلَى حِكَايَةِ جُمْلَةِ لِمَ تُحَرِّمُ وَجَعْلِهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ وَإِدْخَالِ لَامِ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ وَإِدْغَامِ اللَّامَيْنِ. وَتُسَمَّى «سُورَة النبيء» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمَّاهَا «سُورَةَ النِّسَاءِ» . قُلْتُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» هَذَيْنِ فِي أَسْمَائِهَا. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ آيِهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ أَوَّلَهَا إِلَى تَمَامِ عَشْرِ آيَاتٍ وَمَا بَعْدَهَا مَكِّيٌّ، كَمَا وَقَعَتْ حِكَايَةُ كَلَامِهِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ، أَيْ أَنَّ الْآيَةَ الْعَاشِرَةَ مِنَ الْمَكِّيِّ إِذْ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مدنيّة والحادية عشرَة مَكِّيَّةً. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ الْخَامِسَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ.

وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التَّحْرِيم: 2] أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَبَبُ نُزُولِهَا حَادِثَتَانِ حَدَثَتَا بَيْنَ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِحْدَاهُمَا: مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَرِبَ عَسَلًا عِنْدَ إِحْدَى نِسَائِهِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، أَوْ حَفْصَةُ، أَوْ أُمُّ سَلَمَةَ، أَوْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا زَيْنَبُ. فَعَلِمَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ فَتَوَاطَأَتْ هِيَ وَحَفْصَةُ عَلَى أَنَّ أَيَّتَهُمَا دَخَلَ عَلَيْهَا تَقُولُ لَهُ «إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ» (وَالْمَغَافِيرُ صَمْغُ شَجَرِ الْعُرْفُطِ وَلَهُ رَائِحَةٌ مُخْتَمِرَةٌ) وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ أَنْ تُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ وَإِنَّمَا تَوَاطَأَتَا عَلَى ذَلِكَ غَيْرَةً مِنْهُمَا أَنْ يَحْتَبِسَ عِنْدَ زَيْنَبَ زَمَانًا يَشْرَبُ فِيهِ عَسَلًا. فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: بَلْ شَرِبَتُ عَسَلًا عِنْدَ فُلَانَةٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، أَرَادَ بِذَلِكَ اسْتِرْضَاءَ حَفْصَةَ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَوْصَاهَا أَنْ لَا تُخْبِرَ بِذَلِكَ عَائِشَةَ (لِأَنَّهُ يَكْرَهُ غَضَبَهَا) فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ . هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالتَّحْرِيمُ هُوَ قَوْلُهُ: «وَلَنْ أَعُودَ لَهُ» (لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إِلَّا صِدْقًا وَكَانَتْ سَوْدَةُ تَقُولُ: لَقَدْ حَرَمْنَاهُ) . وَالثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ جَارِيَتَهُ فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ» ثُمَّ قَالَ: «هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [التَّحْرِيم: 1] . وَتَفْصِيلُ هَذَا الْخَبَرِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَوَجَدَتْهُ حَفْصَةُ مَعَهَا، وَكَانَتْ حَفْصَةُ غَابَتْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا. فَقَالَتْ حَفْصَةُ: تُدْخِلُهَا بَيْتِي مَا صَنَعْتَ بِي هَذَا مِنْ بَيْنَ نِسَائِكَ إِلَّا مِنْ هَوَانِي عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهَا: لَا تَذْكُرِي هَذَا لِعَائِشَةَ فَهِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ قَرِبْتُهَا. قِيلَ: فَقَالَتْ لَهُ حَفْصَةُ: كَيْفَ تَحْرُمُ عَلَيْكَ وَهِيَ جَارِيَتُكَ فَحَلِفَ لَهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَذَكَرَتْهُ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ فَآلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا

أغراض هذه السورة

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَضَمَّنُهُ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَحَدًا لَا يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ لِإِرْضَاءِ أَحَدٍ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَصْلَحَةٍ لَهُ وَلَا لِلَّذِي يَسْتَرْضِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالنَّذْرِ إِذْ لَا قُرْبَةَ فِيهِ وَمَا هُوَ بِطَلَاقٍ لِأَنَّ الَّتِي حَرَّمَهَا جَارِيَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، فَإِنَّمَا صَلَاحُ كُلِّ جَانِبٍ فِيمَا يَعُودُ بِنَفْعٍ عَلَى نَفسه أَو بنفع بِهِ غَيْرَهُ نَفْعًا مُرْضِيًا عِنْدَ اللَّهِ وَتَنْبِيهُ نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ غَيْرَةَ الله على نبيّه أَعْظَمُ مِنْ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ وَأَسْمَى مَقْصِدًا. وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْحَادِثَاتِ. وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى حِنْثَهَا خَيْرًا مِنْ بِرِّهَا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا وَيَفْعَلَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَتَعْلِيمُ الْأَزْوَاجِ أَنْ لَا يُكْثِرْنَ مِنْ مُضَايَقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ فَإِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الْمَلَالِ فَالْكَرَاهِيَةِ فَالْفِرَاقِ. وَمَوْعِظَةُ النَّاسِ بِتَرْبِيةِ بَعْضِ الْأَهْلِ بَعْضًا وَوَعْظِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا وَمَا يُفْضِي إِلَى كِلَيْهِمَا مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ صَالِحَاتِهَا وَسَيِّئَاتِهَا. وَذُيِّلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ مِنْ صَالِحَاتِ النِّسَاءِ وَضِدِّهِنَّ لِمَا فِي ذَلِك من العظة لِنِسَاءِ الْمُؤمنِينَ ولأمهاتهم. [1] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

(1) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مِمَّا يَهْتَمُّ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةُ وَلِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ كَانَ مِنْ عَلَائِقِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا يُوجَدُ مَا يَدْعُو إِلَى أَنْ تُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ عَدَمَ الْعَوْدِ إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ الْتِزَامًا بِيَمِينٍ أَوْ بِدُونِ يَمِينٍ أَرَادَ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَاصِدًا بِذَلِكَ تطمين أَزوَاجه اللاء تَمَالَأْنَ عَلَيْهِ لِفَرْطِ غَيْرَتِهِنَّ، أَيْ لَيْسَتْ غَيْرَتُهُنَّ مِمَّا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْمُعَاشَرَةِ إِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا هضم فِيهِ لحقوقهن، وَلَا هِيَ مِنْ إِكْرَامِ إِحْدَاهِنَّ لِزَوْجِهَا إِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ إِكْرَامِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْإِكْرَامِ فِي بَعْضِ الْأَيَّام. وَهَذَا يومىء إِلَى ضَبْطِ مَا يُرَاعَى مِنَ الْغَيْرَةِ وَمَا لَا يُرَاعَى. وَفِعْلُ تُحَرِّمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: تَجْعَلُ مَا أُحِلَّ لَكَ حَرَامًا، أَيْ تُحَرِّمُهُ عَلَى نَفْسِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمرَان: 93] وَقَرِينَتُهُ قَوْلُهُ هُنَا: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. وَلَيْسَ مَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى كَوْنِهِ حَرَامًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: 32] ، وَقَوْلِهِ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما [التَّوْبَة: 37] ، فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّصْبِيرِ كَمَا يُقَالُ: وَسِّعْ هَذَا الْبَابَ وَيَأْتِي بِمَعْنَى إِيجَادِ الشَّيْءِ عَلَى حَالَةٍ مِثْلِ مَا يُقَالُ لِلْخَيَّاطِ: وَسِّعْ طَوْقَ الْجُبَّةِ. وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ مِنْهُ أَنَّكَ غَيَّرْتَ إِبَاحَتَهُ حَرَامًا عَلَى النَّاسِ أَوْ عَلَيْكَ. وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ «الْكَشَّافِ» : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَحَلَّهُ لِمَصْلَحَةٍ عَرَفَهَا فِي إِحْلَالِهِ إِلَخْ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ تَحْرِيمًا مُتَجَدِّدًا. فَجُمْلَةُ تَبْتَغِي حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُحَرِّمُ. فَالتَّعْجِيبُ وَاقِعٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمرَان: 130] . وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ هُوَ أَنَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا

[سورة التحريم (66) : آية 2]

يُوجِبُ قَطْعَهُ مِنْ ضُرٍّ أَوْ مَرَضٍ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ شُكْرٌ لِلَّهِ وَاعْتِرَافٌ بِنِعْمَتِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَفِي قَوْله: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ عذر للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا وَهُوَ جَلْبُ رِضَا الْأزْوَاج لِأَنَّهُ أعون عَلَى مُعَاشَرَتِهِ مَعَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْضَاةِ لَا يَعْبَأُ بِهَا لِأَنَّ الْغَيْرَةَ نَشَأَتْ عَنْ مُجَرَّدِ مُعَاكَسَةِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا وَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلُّ بِهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُنَّ، فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ كَثِيرٍ مِنْ أَسْبَابِ شُكْرِ اللَّهِ عِنْدَ تَنَاوُلِ نِعَمَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ فِي سِيرَةِ الْأُمَّةِ. وَذُيِّلَ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ استئناسا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا الْمَلَامِ، أَيْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَكَ مِثْلَ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] . [2] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 2] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ الله بِهِ لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَهُ سِعَةً فِي التَّحَلُّلِ مِمَّا الْتَزَمَ تَحْرِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَأَفْتَاهُ اللَّهُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِرُخْصَتِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا وَمِنْ آثَارِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَالَه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْمَلُوهُ وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَجَاءَهُ ذَوْدٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَافْتِتَاحُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لتنزيل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ تَحِلَّةَ الْأَيْمَانِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالرُّخْصَةِ تَعْظِيمًا لِلْقَسَمِ. فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْكَفَّارَةِ لَا تَقْصِيرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّ فِي الْكَفَّارَةِ مَا يَكْفِي لِلْوَفَاءِ بِتَعْظِيمِ الْيَمِينِ بِاللهِ إِلَى شَيْءٍ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وفَرَضَ عَيَّنَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاء: 7] . وَقَالَ: فَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَعْنَى: قَدْ بيّن الله لَكِن تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إِلَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا

يَعُودَ لِشُرْبِ شَيْء عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فِي غَيْرِ يَوْمِ نَوْبَتِهَا أَوْ كَانَ وَعْدٌ أَنْ يُحَرِّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِدُونِ يَمِينٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ يَمِينٍ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَعَدَ لِذَلِكَ تَطْمِينًا لِخَاطِرِ أَزْوَاجِهِ فَهُوَ الْتِزَامٌ لَهُنَّ فَكَانَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْيَمِينِ وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَمْ يَرَهُ مَالِكٌ يَمِينًا وَلَا نَذْرًا فَقَالَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَمَعْنَى قَوْلِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى مِصْرَ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ إِنْ كَلَّمَ فُلَانًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِنْ هُوَ كَلَّمَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ فَإِنْ حَلَفَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ وَلَا أَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» اه. وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ كفّر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ تِلْكَ. فَالتَّحِلَّةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ هِيَ: جَعْلُ اللَّهِ مُلْتَزِمَ مِثْلِ هَذَا فِي حِلٍّ مِنَ الْتِزَامِ مَا الْتَزَمَهُ. أَيْ مُوجِبٌ التَّحَلُّلَ مِنْ يَمِينِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَيْمَانِ بِالْكَفَّارَاتِ وَإِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَرَ مِنْهُ يَمِينٌ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فَتَحِلَّةُ الْيَمِينِ هِيَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ. وَالْمَوْلَى: الْوَلِيُّ، وَهُوَ النَّاصِرُ وَمُتَوَلِّي تَدْبِيرِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَن الرؤوف وَالْمُيَسِّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . وَعُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَيِ الْعَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ فَيَحْمِلُكُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَالرُّشْدِ وَالسَّدَادِ وَهُوَ الْحَكِيمُ فِيمَا يَشْرَعُهُ، أَيْ يُجْرِي أَحْكَامَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ. وَهِيَ إِعْطَاءُ الْأَفْعَالِ مَا تَقْتَضِيهِ حَقَائِقُهَا دُونَ الْأَوْهَامِ وَالتَّخَيُّلَاتِ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ أَنْهَاهَا الْقُرْطُبِيُّ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ فِي بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ الشُّرُوط والنيات فتؤول إِلَى سَبْعَةٍ. أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُحَرَّمُ زَوْجًا أَوْ غَيْرَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَرَبِيعَةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَقَالَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.

[سورة التحريم (66) : آية 3]

الثَّانِي: تَجِبُ كَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ. الثَّالِثُ: لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَقِيلَ: إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا يَنْوِ فِيمَا أَرَادَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ هِيَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُلْ. وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي ليلى وَهُوَ عِنْد عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجْشُونِ فِي «الْمَبْسُوطِ» . وَقِيلَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ. وَنُسِبَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَنَسَبَهُ ابْنُ خُوَيْزَ مَنْدَادَ إِلَى مَالِكٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقِيلَ: طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ فِي الزَّوْجَةِ مُطْلَقًا، وَنُسِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَيَكُونُ قَيْدًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. وَقَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ الْمَاجْشُونِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَعْنِي فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى مِنْ أَعْدَادِهِ وَإِلَّا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةٌ فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا دُونَ تَنْوِيَةٍ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِنْ نَوَى بِالْحَرَامِ الظِّهَارَ كَانَ مَا نَوَى فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الثَّلَاثَ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَتْ يَمِينًا وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَإِنْ أَبَاهَا كَانَ مُولِّيًا. وَتَحْرِيم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَّتَهُ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ تَحْرِيمِ أَحَدٍ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ غَيْرَ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ مَارِيَةَ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَهُ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَتُهُ فَحُكْمُ قَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ جَارٍ فِي قَضِيَّةِ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ بِلَا فَرْقٍ. وتَحِلَّةَ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَلَّلَ جَعَلَ الْفِعْلَ حَلَالًا. وَأَصْلُهُ تَحِلْلَةَ فَأُدْغِمَ اللَّامَانِ وَهُوَ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّ الْهَاءَ فِي آخِرِهِ لَيْسَتْ بِقِيَاسٍ إِذْ لَمْ يُحْذَفْ مِنْهُ حَرْفٌ حَتَّى يُعَوَّضَ عَنْهُ الْهَاءُ مِثْلَ تَزْكِيَةٍ وَلَكِنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ مثل تعلة. [3] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 3] وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ

(3) هَذَا تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ بِمَا جَرَى فِي خِلَالِ تَيْنِكَ الْحَادِثَتَيْنِ ثُنِيَ إِلَيْهِ عِنَانُ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ مَا يُهِمُّ مِنَ التشريع للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جَرَّائِهِمَا. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيم: 1] بِتَقْدِيرِ وَاذْكُرْ. وَقَدْ أُعِيدَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ ضِمْنًا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ بأسلوب آخر ليبن عَلَيْهِ مَا فِيهِ مِنْ عِبَرٍ وَمَوَاعِظَ وَأَدَبٍ، وَمَكَارِمَ وَتَنْبِيهٍ وَتَحْذِيرٍ. فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ على عشْرين معنى مِنْ مَعَانِي ذَلِكَ. إِحْدَاهَا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ. وَالثَّالِث: وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: عَرَّفَ بَعْضَهُ. الْخَامِسُ: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ. السَّادِسُ: قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا. السَّابِعُ: قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ إِلَى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التَّحْرِيم: 4] . الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ: وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ [التَّحْرِيم: 4] . الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً [التَّحْرِيم: 5] . السَّادِسَ عَشَرَ: خَيْراً مِنْكُنَّ [التَّحْرِيم: 5] . السَّابِعَ عشر: مُسْلِماتٍ [التَّحْرِيم: 5] إِلَخْ. الثَّامِنَ عشر: سائِحاتٍ [التَّحْرِيم: 5] . التَّاسِعَ عَشَرَ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: 5] ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا.

الْعِشْرُونَ: مَا فِي ذِكْرِ حَفْصَةَ أَوْ غَيْرِهَا بِعُنْوَانِ بَعْضِ أَزْواجِهِ دُونَ تَسْمِيَتِهِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ فِي الْمَلَامِ بِذِكْرِ مَا تَسْتَشْعِرُ بِهِ أَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِاللَّوْمِ. وَإِنَّمَا نبّأها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ عَلِمَ إِفْشَاءَهَا الْحَدِيثَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةَ وَالتَّأْدِيبَ فَإِنَّ اللَّهَ مَا أَطْلَعَهُ عَلَى إِفْشَائِهَا إِلَّا لِغَرَضٍ جَلِيلٍ. وَالْحَدِيثُ هُوَ مَا حَصَلَ مِنِ اختلاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَارِيَتِهِ مَارِيَةَ وَمَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَفْصَةَ وَقَوْلُهُ لِحَفْصَةَ: «هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ» وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ وَأَطْلَعَ الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ حَفْصَةَ أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا أَسَرَّ إِلَيْهَا. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ لِأَنَّ قِصَّةَ إِفْشَاءِ حَفْصَةَ السِّرَّ غَيْرُ قِصَّةِ تَحْرِيم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْضَ مَا أُحِلَّ لَهُ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الَّتِي أَسَرَّ إِلَيْهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ هِيَ حَفْصَةُ وَيَأْتِي أَنَّ الَّتِي نَبَّأَتْهَا حَفْصَةُ هِيَ عَائِشَةُ. وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ وَسَاقَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا. وَأَصْلُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى الْكَلَامِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَدَثَانِ فَالَّذِي حَدَثَ هُوَ الْفِعْل وَنَحْوه ثمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً فِي الْخَبَرِ عَنْهُ وَصَارَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحَادِثَةِ هُوَ الْمَجَازُ فَانْقَلَبَ حَالُ وَضْعِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ. وأَسَرَّ أَخْبَرَ بِمَا يُرَادُ كِتْمَانُهُ عَنْ غَيْرِ الْمُخْبِرِ أَوْ سَأَلَهُ عَدَمَ إِفْشَاءِ شَيْءٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ أَوِ الْفِعْلُ يُرَادُ عَدَمُ فَشَوِّهِ فَيَقُولُهُ صَاحِبُهُ سِرًّا وَالسِّرُّ ضِدُّ الْجَهْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [التغابن: 4] فَصَارَ أَسَرَّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْوِصَايَةِ بِعَدَمِ الْإِفْشَاءِ، أَيْ عَدَمِ الْإِظْهَارِ قَالَ تَعَالَى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ [يُوسُف: 77] . وَأَسَرَّ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّرِّ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلْجَعْلِ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا سِرًّ، يُقَالُ: أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ، إِذَا كَتَمَ سِرَّهُ. وَيُقَالُ: أَسَرَّ إِلَيْهِ، إِذَا حَدَّثَهُ بِسِرٍّ فَكَأَنَّهُ

أَنْهَاهُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: أَسَرَّ لَهُ إِذَا أَسَرَّ أَمْرًا لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ فِي إِضْمَارِ الشَّرِّ غَالِبًا وَأَسَرَّ بِكَذَا، أَيْ أَخْبَرَ بِخَبَر سرّ، وأسرّ، إِذَا وَضَعَ شَيْئًا خَفِيًّا. وَفِي الْمَثَلِ «يُسِرُّ حَسْوًا فِي ارْتِغَاءِ» . وبَعْضِ أَزْواجِهِ هِيَ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِهَا تَرَفُّعًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مَعْرِفَةَ الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْعِلْمُ بِمَغْزَى الْقِصَّةِ وَمَا فِيهَا مِمَّا يُجْتَنَبُ مِثْلُهُ أَوْ يُقْتَدَى بِهِ. وَكَذَلِكَ طَيُّ تَعْيِينِ الْمُنَبَّأَةِ بِالْحَدِيثِ وَهِيَ عَائِشَةُ. وَذُكِرَتْ حَفْصَة بعنوان بعض أَزْوَاجِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ سِرَّهُ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ سِرِّ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمَلَامِهَا عَلَى إِفْشَاءِ سِرِّهِ لِأَنَّ وَاجِبَ الْمَرْأَةِ أَنْ تَحْفَظَ سِرَّ زَوْجِهَا إِذَا أَمَرَهَا بِحِفْظِهِ أَوْ كَانَ مثله مِمَّا يجب حِفْظَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعَانِي التَّهْذِيبِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا. وَنَبَّأَ: بِالتَّضْعِيفِ مُرَادِفُ أَنْبَأَ بِالْهَمْزِ وَمَعْنَاهُمَا: أَخْبَرَ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. وَقَدْ قِيلَ: السِّرُّ أَمَانَةٌ، أَيْ وَإِفْشَاؤُهُ خِيَانَةٌ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ مِنْ آدَابِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: «جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا وَلَا تَنْفِثُ مِيرَثَنَا تَنْفِيثًا» . وَكَلَامُ الْحُكَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ فِي السِّرِّ وَحِفْظِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَهُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنَ الْمَعَانِي التَّهْذِيبِيَّةِ الَّتِي ذَكرنَاهَا. وَمعنى ووَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنَى التَّغَلُّبِ. اسْتُعِيرَ الْإِظْهَارُ إِلَى الْإِطْلَاعِ لِأَنَّ إِطْلَاعَ الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السِّرِّ الَّذِي بَيْنَ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ كَانَ غَلَبَةً لَهُ عَلَيْهِمَا فِيمَا دَبَّرَتَاهُ فَشُبِّهَتِ الْحَالَةُ الْخَاصَّةُ مِنْ تَآمُرِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ عَلَى مَعْرِفَةِ سرّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ عِلْمِهِ بِذَلِكَ بِحَالِ مَنْ يُغَالِبُ

غَيْرَهُ فَيَغْلِبُهُ الْغَيْرُ وَيَكْشِفُ أَمْرَهُ. فَالْإِظْهَارُ هُنَا مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنَى الِانْتِصَارِ. وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الظُّهُورِ ضِدَّ الْخَفَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) . وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِد إِلَى الْإِنْبَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ نَبَّأَتْ بِهِ أَوْ عَلَى الْحَدِيثِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: نَبَّأَتْ بِهِ تَقْدِيرُهُ: أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى إِفْشَائِهِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ إِلَى عِنَايَةِ الله بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِصَارِهِ لَهُ لِأَنَّ إِطْلَاعَهُ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ مِمَّا يُهِمُّهُ، عِنَايَةٌ وَنُصْحٌ لَهُ. وَهَذَا حَاصِلُ الْمَعْنَى الثَّالِثِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْآيَاتُ وذكرناها آنِفا. ومعفول عَرَّفَ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، أَيْ عَرَّفَهَا بَعْضَهُ، أَيْ بَعْضَ مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْرَضَ عَنْ تَعْرِيفِهَا بِبَعْضِهِ. وَالْحَدِيثُ يَحْتَوِي عَلَى أَشْيَاءَ: اخْتِلَاءُ النَّبِيءِ بِسُرِّيَّتِهِ مَارِيَةَ، وَتَحْرِيمُهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَتَنَاوُلُهُ الْعَسَلَ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ، وَتَحْرِيمُهُ الْعَوْدَةَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا قَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي وَصْفِ عُثُورِ حَفْصَةِ عَلَى ذَلِكَ بَغْتَةً، أَوْ فِي التَّطَاوُلِ بِأَنَّهَا اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُرِيحَهُنَّ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى مَارِيَةَ. وَإِنَّمَا عرّفها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِيُوقِفُهَا عَلَى مُخَالَفَتِهَا وَاجِبَ الْأَدَبِ مِنْ حَفْظِ سِرِّ زَوْجِهَا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الرَّابِعُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي سَبَقَتْ إِشَارَتِي إِلَيْهَا. وإعراض الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْرِيفِ زَوْجِهِ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَفْشَتْهُ مِنْ كرم خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُعَاتَبَةِ الْمُفْشِيَةِ وَتَأْدِيبِهَا إِذْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَنْ يُعْلِمَ بَعْضَ مَا أَفْشَتْهُ فَتُوقِنَ أَنَّ اللَّهَ يَغَارُ عَلَيْهِ. قَالَ سُفْيَانُ: مَا زَالَ التَّغَافُلُ مِنْ فِعْلِ الْكِرَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَقْصُودِ بِقَلْبِ الْعِتَابِ مِنْ عِتَابٍ إِلَى تَقْرِيعٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَقَوْلُهَا: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى ثِقَتِهَا بِأَنَّ عَائِشَةَ لَا تُفْشِي سِرَّهَا وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا قبل للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ عَائِشَةَ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ فَرَامَتِ التَّحَقُّقَ مِنْ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَلَكَ أَن تَجْعَلهُ للتعجب مِنْ عِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ مِنْ تَيَقُّظِهَا بِأَنَّ إِفْشَاءَهَا سِرَّ زَوْجِهَا زَلَّةٌ خُلُقِيَّةٌ عَظِيمَةٌ حَجَبَهَا عَنْ مُرَاعَاتِهَا شِدَّةُ الصَّفَاءِ لِعَائِشَةَ وَفَرْطُ إِعْجَابِهَا بِتَحْرِيمِ مَارِيَةَ لِأَجْلِهَا، فَلَمْ تَتَمَالَكْ عَنْ أَنْ تُبَشِّرَ بِهِ خَلِيلَتَهَا وَنَصِيرَتَهَا وَلَوْ تَذَكَّرَتْ لَتَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ مُقْتَضَى كَتْمِ سِرِّ زَوْجِهَا أَقْوَى مِنْ مُقْتَضَى إِعْلَامِهَا خَلِيلَتَهَا فَإِنَّ أَوَاصِرَ الزَّوْجِيَّةِ أَقْوَى مِنْ أَوَاصِرَ الْخُلَّةِ وَوَاجِبُ الْإِخْلَاصِ لِرَسُولِ اللَّهِ أَعْلَى مِنْ فَضِيلَةِ الْإِخْلَاصِ لِلْخَلَائِلَ. وَهَذَا هُوَ الْأَدَبُ السَّادِسُ مِنْ مَعَانِي الْآدَابِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْقِصَّةُ وَأَجْمَلْنَا ذِكْرَهَا آنِفًا. وَإِيثَارُ وَصْفَيِّ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ هُنَا دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ مِنْ إِحَاطَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا وَخَبَرًا بِكُلِّ شَيْءٍ. والْعَلِيمُ: الْقَوِيُّ الْعِلْمِ وَهُوَ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى دَالٌّ عَلَى أَكْمَلِ الْعِلْمِ، أَيِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ. والْخَبِيرُ: أَخَصُّ مِنَ الْعَلِيمِ لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من خبر الشَّيْءِ إِذَا أَحَاطَ بِمَعَانِيهِ وَدَخَائِلِهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ خَبَرْتُهُ، أَيْ بَلَوْتُهُ وَتَطَلَّعْتُ بَوَاطِنَ أَمْرِهِ، قَالَ ابْنُ بُرُجَّانَ (بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ) فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ» : «الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُبْرِ وَالْعِلْمِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ أَنْ تَتَعَرَّفَ حُصُولَ الْفَائِدَةِ مِنْ وَجْهٍ وَأَضِفْ ذَلِكَ إِلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَسَمِّ الْفَائِدَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي عَنْهُ حَصَلَتْ فَمَتَى حَصَلَتْ مِنْ مَوْضِعِ الْحُضُورِ سُمِّيَتْ مُشَاهَدَةً وَالْمُتَّصِفُ بِهَا هُوَ الشَّاهِدُ وَالشَّهِيدُ. وَكَذَلِكَ إِنْ حَصَلْتَ مِنْ وَجْهِ سَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ فَالْمُتَّصِفُ بِهَا سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ. وَكَذَلِكَ إِنْ حَصَلَتْ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَلَامَةٍ فَهُوَ الْعِلْمُ وَالْمُتَّصِفُ بِهِ الْعَالِمُ وَالْعَلِيمُ، وَإِنْ حَصَلَتْ عَنِ اسْتِكْشَافِ ظَاهِرِ الْمَخْبُورِ عَنْ بَاطِنِهِ بِبَلْوَى أَوِ امْتِحَانٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ تَبْلِيغٍ فَهُوَ الْخَبَرُ. وَالْمُسَمَّى بِهِ الْخَبِيرُ» اه. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى» : «الْعِلْمُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْخَفَايَا الْبَاطِنَةِ سُمِّيَ خِبْرَةً وَسُمِّيَ صَاحِبُهَا خَبِيرًا اه» . فَيَتَّضِحُ أَنَّ اتِّبَاعَ وَصْفِ الْعَلِيمُ بِوَصْفِ الْخَبِيرُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ دَخِيلَةَ الْمُخَاطَبَةِ وَمَا قَصَدَتْهُ مِنْ إِفْشَاءِ السِّرِّ لِلْأُخْرَى.

وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ تَعْلِيمُهَا بِأَنَّ الله يطلع رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا غَابَ إِنْ شَاءَ قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: 26، 27] وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا أَبْطَنَتْهُ مِنَ الْأَمْرِ. وَهُوَ الْأَدَب السَّابِع من آدَابِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَبَّأَ وَأَنْبَأَ مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا بِمَعْنَى أَخْبَرَ وَأَنَّ حَقَّهُمَا التَّعْدِيَةُ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَجْلِ مَا فِيهِمَا مِنْ هَمْزَةِ تَعْدِيَةٍ أَوْ تَضْعِيفٍ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسْمَعْ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ لَهُمَا وَهُوَ مِمَّا أُمِيتَ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِغْنَاءً بِفِعْلِ عَلِمَ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِحَرْفِ جَرٍّ نَحْوَ: نَبَّأَتُ بِهِ. وَقَدْ يُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ فَيُعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا أَيْ بِهَذَا، وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: نُبِّئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِالْجَوِّ أَصْبَحَتْ ... كِرَامًا مَوَالِيهَا لِآمًا مَا صَمِيمُهَا حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى حَذْفِ الْحَرْفِ. وَقَدْ يُضَمَّنَانِ مَعْنَى: اعْلَمْ، فَيُعَدَّيَانِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: نَبِئْتُ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... يُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ وَلِكَثْرَةِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ ظُنَّ أَنَّهُ مَعْنًى لَهُمَا وَأُغْفِلَ التَّضْمِينُ فَنُسِبَ إِلْحَاقُهُمَا بِ (اعْلَمْ) إِلَى سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيِّ وَالْجُرْجَانِيِّ وَأَلْحَقَ الْفَرَّاءُ خَبَّرَ وَأَخْبَرَ، وَأَلْحَقَ الْكُوفِيُّونَ حدّث. قَالَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: لَمْ تُسْمَعْ تَعْدِيَتُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً إِلَى الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَرَّفَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ عَرَفَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، أَيْ عَلِمَ بَعْضَهُ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ، أَيْ جَازَى عَنْ بَعْضِهِ الَّتِي أَفْشَتْهُ بِاللَّوْمِ أَوْ بِالطَّلَاقِ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ وَلَمْ يَصِحَّ وَقَدْ يُكَنَّى عَنِ التَّوَعُّدِ بِفِعْلِ الْعِلْمِ. وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [النِّسَاء: 63] . وَقَوْلُ الْعَرَبِ لِلْمُسِيءِ: لَأَعْرِفَنَّ لَكَ هَذَا. وَقَوْلُكَ: لَقَدْ عَرَفْتُ مَا صنعت.

[سورة التحريم (66) : آية 4]

[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 4] إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) الْتِفَاتٌ مِنْ ذِكْرِ الْقِصَّتَيْنِ إِلَى مَوْعِظَةِ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِمَا فَهُوَ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ لِأَنَّ إنباء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِهِ بِمَا أَفْشَتْهُ الْقَصْدُ مِنْهُ الْمَوْعِظَةُ وَالتَّحْذِيرُ وَالْإِرْشَادُ إِلَى رَأْبِ مَا انْثَلَمَ مِنْ وَاجِبِهَا نَحْوَ زَوْجِهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ إِثْمًا لِأَنَّهَ إِضَاعَةٌ لِحُقُوقِ الزَّوْجِ وَخَاصَّةٌ بِإِفْشَاءِ سِرِّهِ ذَكَّرَهَا بِوَاجِبِ التَّوْبَةِ مِنْهُ. وخطاب التّثنية عَائِدَة إِلَى الْمُنَبِّئَةِ وَالْمُنَبَّأَةِ فَأَمَّا الْمُنَبِّئَةُ فَمَعَادُهَا مَذْكُورٌ فِي الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ [التَّحْرِيم: 3] . وَأَمَّا الْمُنَبَّأَةُ فَمَعَادُهَا ضِمْنِيٌّ لِأَنَّ فعل نَبَّأَتْ [التَّحْرِيم: 3] يَقْتَضِيهِ فَأَمَّا الْمُنَبِّئَةُ فَأَمْرُهَا بِالتَّوْبَةِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمُذَاعُ إِلَيْهَا فَلِأَنَّهَا شَرِيكَةٌ لَهَا فِي تَلَقِّي الْخَبَرِ السِّرِّ وَلِأَنَّ الْمُذِيعَةَ مَا أَذَاعَتْ بِهِ إِلَيْهَا إِلَّا لِعِلْمِهَا بِأَنَّهَا تَرْغَبُ فِي تَطَلُّعٍ مِثْلِ ذَلِكَ فَهَاتَانِ مَوْعِظَتَانِ لِمُذِيعِ السِّرِّ وَمُشَارَكَةِ الْمُذَاعِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ تُخْبِرَ زَوْجَهَا بِمَا أَذَاعَتْهُ عَنْهُ ضُرَّتُهَا. وصَغَتْ: مَالَتْ، أَيْ مَالَتْ إِلَى الْخَيْرِ وَحَقِّ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الزَّوْجِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ سَمَاعُ الْكَلَامِ إِصْغَاءً لِأَنَّ الْمُسْتَمِعُ يَمِيلُ سَمْعُهُ إِلَى مَنْ يُكَلِّمُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [113] . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِيمَا فَعَلَتَاهُ انْحِرَافًا عَنْ أَدَبِ الْمُعَاشَرَةِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَنْ عَلَيْهِمَا أَنْ تَتُوبَا مِمَّا صَنَعَتَاهُ لِيَقَعَ بِذَلِكَ صَلَاحُ مَا فَسَدَ مِنْ قُلُوبِهِمَا. وَهَذَانِ الْأَدَبَانِ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَاتُ. وَالتَّوْبَةُ: النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِذْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مُثَنَّى كَانَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي (قُلُوبٍ) مُسْتَعْمَلَةً فِي الِاثْنَيْنِ طَلَبًا لِخِفَّةِ اللَّفْظِ عِنْدَ إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُثَنَّى كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ مُثَنَّيَيْنِ فَإِنَّ صِيغَةَ التَّثْنِيَةِ ثَقِيلَةٌ لِقَلَّةِ دَوَرَانِهَا فِي الْكَلَامِ. فَلَمَّا أُمِنَ اللَّبْسُ سَاغَ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَنِ التَّثْنِيَةِ.

وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ لِلْعَرَبِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ اسْمٍ مُثَنَّى أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ مُثَنَّى فَإِنَّ الْمُضَافَ يَصِيرُ جَمْعًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُ خِطَامِ الْمُجَاشِعِيِّ: وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَأَفْصَحُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعَبِّرُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ مُضَافًا إِلَى اسْمِ الْمُثَنَّى لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي الْكَلَامِ فَهُمَا يَتَعَاوَرَانِ. وَيَقِلُّ أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ مُضَافًا إِلَى الِاسْمِ الْمُثَنَّى. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ. وَذَكَرَ لَهُ أَبُو حَيَّانَ شَاهِدًا قَوْلَ الشَّاعِرِ: حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقَاكِ مِنَ الْغُرِّ الْغَوَادِي مَطِيرُهَا وَفِي «التَّسْهِيلِ» : تَرْجِيحُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ إِلَى مُثَنَّى بِاسْمٍ مُفْرَدٍ، عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُثَنَّى. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ غَلَطَ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَزَعْمَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ» ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: اشْتَرِ رَأْسَ كَبْشَيْنِ يُرِيدُ رَأْسَيْ كَبْشَيْنِ خَطَأٌ. قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ اه. وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ عُصْفُورٍ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمُضَافِ الْمُثَنَّى بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، أَيْ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ. وَقَيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» هَذَا التَّعْبِيرَ بِقَيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظَانِ مُتَّصِلَيْنِ. فَقَالَ: «وَيُجْعَلُ الِاثْنَانِ عَلَى لَفْظِ جَمْعٍ إِذَا كَانَا مُتَّصِلَيْنِ كَقَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَلَمْ يَقُولُوا فِي الْمُنْفَصِلَيْنِ: أَفَرَاسُهُمَا وَلَا غِلْمَانُهُمَا. وَقَدْ جَاءَ وَضَعَا رِحَالَهُمَا» . فَخَالَفَ إِطْلَاقَ ابْنِ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَطَرِيقَةُ صَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ هُوَ ضِدُّ إِنْ تَتُوبا أَيْ وَإِنْ تُصِرَّا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى تَأَلُّبِكُمَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُ إِلَخْ. وَالْمُظَاهَرَةُ: التَّعَاوُنُ، يُقَالُ: ظَاهَرَهُ، أَيْ أَيَّدَهُ وَأَعَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [4] . وَلَعَلَّ أَفْعَالَ الْمُظَاهِرِ وَوَصْفَ ظَهِيرٍ كُلَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَهُوَ الظَّهْرُ لِأَنَّ الْمُعِينَ وَالْمُؤَيِّدَ كَأَنَّهُ يَشُدُّ ظَهْرَ مَنْ يُعِينُهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْمَعْ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْفَرْعِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْهَا فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِعْلُ عَضَدَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: شَدَّ عَضُدَهُ.

وَأَصْلُ تَظاهَرا تَتَظَاهَرَا فَقُلِبَتِ التَّاءُ ظَاءً لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهَا وَأُدْغِمَتْ فِي ظَاءِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَظاهَرا بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ. وَصالِحُ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْفَرِيقِ الصَّالِحِ أَوِ الْجِنْسِ الصَّالِحِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ [الْحَدِيد: 26] . وَالْمُرَادُ بِ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخَالِصُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَالتَّرَدُّدِ. وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ قَائِمَةٌ مِنْ مَقَامِ جَوَابِ الشَّرْطِ مَعْنَى لِأَنَّهَا تُفِيدُ معنى يتولّى جَزَاء كَمَا عَلَى الْمُظَاهَرَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُ. وَفِي هَذَا الْحَذْفِ مَجَالٌ تَذْهَبُ فِيهِ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ التَّهْوِيلِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ مَوْلاهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ الشَّرْطِ، أَيْ إِنْ تَظَاهَرَتُمَا مُتَنَاصِرَتَيْنِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ نَاصِرُهُ لَا أَنْتُمَا، أَيْ وَبَطُلَ نَصْرُكُمَا الَّذِي هُوَ وَاجِبُكُمَا إِذْ أَخْلَلْتُمَا بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيفٌ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَقَعَ أَحَدٌ مِنْ بعد فِي محاولة التَّقْصِيرِ مِنْ نَصْرِهِ. فَهَذَا الْمَعْنَى الْعَاشِرُ مِنْ مَعَانِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْدِيبِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَعَطْفُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ رَسُولِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمَا تَكُونَانِ (عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ) مِنْ غَيْرِ الصَّالِحِينَ. وَهَذَانِ التَّنْوِيهَانِ هُمَا الْمَعْنَيَانِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي سَبَقَتْ إِشَارَتِي إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْظِيمُ هَذَا النَّصْرِ بِوَفْرَةِ النَّاصِرِينَ تَنْوِيهًا بِمَحَبَّةِ أَهْلِ السَّمَاء للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ ذِكْرِهِ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُزِيدُ نَصْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ شَأْنًا. وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ» .

[سورة التحريم (66) : آية 5]

فَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ مِنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ يُحِبُّهُ لِصَلَاحِهِ وَالصَّالِحُ لَا يُحِبُّهُ أَهْلُ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَفْسِيرُهَا ذَلِكَ الْحَدِيثُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي التَّعْلِيمِ الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَاتُ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ ذلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِيهِ لِلْمَذْكُورِ، أَيْ بَعْدَ نَصْرِ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَلِمَةُ بَعْدَ هُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) فَالْبَعْدِيَّةُ هُنَا بَعْدِيَّةٌ فِي الذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَم: 13] . وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ ذِكْرِ تَأْيِيدِ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ وَصَالِحِ وَالْمُؤمنِينَ أَنَّ الْمَذْكُورين قبلهم ظَاهره آثَارُ تَأْيِيدِهِمْ بِوَحْي الله للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَنَصْرُهُ إِيَّاهُ بِوَاسِطَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَنَبَّهَ اللَّهُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى تَأْيِيدٍ آخَرَ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ آثَارُهُ وَهُوَ تَأْيِيدُ الْمَلَائِكَةِ بِالنَّصْرِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُ النَّصْرِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فِي السَّمَاوَاتِ، فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ نُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى نُصْرَةِ جِبْرِيلَ بَلْهَ نُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وظَهِيرٌ وَصْفٌ بِمَعْنَى الْمُظَاهِرِ، أَيِ الْمُؤَيِّدِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِثْلَ حَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، وَفَعِيلٌ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَصْلُهُ أَنْ يُطَابِقَ مَوْصُوفَهُ فِي الْإِيرَادِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ هُنَا خَبَرًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ كَانَ إِفْرَادُهُ عَلَى تَأْوِيلِ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَى الْفَوْجِ الْمُظَاهِرِ أَوْ هُوَ مِنْ إِجْرَاءِ فَعِيلٍ الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] ، وَقَوْلِهِ: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الْفرْقَان: 55] وَقَوْلِهِ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاء: 69] ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ جِبْرِيلَ كَانَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ عَطْفًا عَلَى جِبْرِيلَ وَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلِكَ حَالًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: 3] وَبَيْنَ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وَبَيْنَ ظَهِيرٌ تجنيسات. [5] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 5] عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً

(5) لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: 4] بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ عُدِلَ بِهِ إِلَى تَذْكِيرِ جَمِيعِ أَزْوَاجِهِ بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ عَنْ تَحَمُّلِ أَمْثَالِ هَذَا الصَّنِيعِ فَيُفَارِقَهُنَّ لِتُقْلِعَ الْمُتَلَبِّسَةُ وَتُحَذَّرَ غَيْرُهَا مِنْ مِثْلِ فِعْلِهَا. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عُقِّبَتْ بِهَا جُمْلَةُ إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: 4] الَّتِي أَفَادَتِ التَّحْذِيرَ مِنْ عِقَابٍ فِي الْآخِرَةِ إِنْ لَمْ تَتُوبَا مِمَّا جَرَى مِنْهُمَا فِي شَأْنِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفَادَ هَذَا الْإِيمَاءُ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عُقُوبَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ لَهُنَّ يَأْمُرُ اللَّهُ فِيهَا نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ عُقُوبَةُ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ لَمْ تَتُوبَا، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ. وَفِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ إِيجَازٌ بِحَذْفِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِبْدَالُهُنَّ مِنْ تَقْدِيرِ إِنْ فَارَقَكُنَّ. فَالتَّقْدِيرُ: عَسَى أَنْ يُطَلِّقَكُنَّ هُوَ (وَإِنَّمَا يُطَلِّقُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أَنْ يُبْدِلَهُ رَبُّهُ بِأَزْوَاجٍ خَيْرٍ مِنْكُنَّ. وَفِي هَذَا مَا يُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا. وعَسى هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيقِ وَإِيثَارُهَا هُنَا لِأَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَلَيْسَ بِالْوَاقِعِ لِأَنَّهُنَّ لَا يُظَنُّ بِهِنَّ عَدَمَ الْإِرْعُواءِ عَمَّا حُذِّرْنَ مِنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ: خَيْراً مِنْكُنَّ تَذْكِيرٌ لَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ مَا اكْتَسَبْنَ التَّفْضِيلَ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا مِنْ فَضْلِ زَوْجِهِنَّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِجْرَاءُ الْأَوْصَافِ الْمُفَصَّلَةِ بَعْدَ الْوَصْفِ الْمُجْمَلِ وَهُوَ خَيْراً مِنْكُنَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أُصُولَ التَّفْضِيلِ مَوْجُودَة فِيهِنَّ فيكمل اللاء يتزوجهن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلٌ عَلَى بَقِيَّةِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَزْوَاجًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ: خَيْراً مِنْكُنَّ نَزَلَتْ مُوَافِقَةً لِقَوْلِ عُمَرَ لِابْنَتِهِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ وِفَاقًا لِقَوْلِ عُمَرَ أَوْ رَأْيِهِ تَنْوِيهًا بِفَضْلِهِ. وَقَدْ وَرَدَتْ فِي حَدِيثٍ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ «عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَة: 125] ، وَقُلْتُ: «يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيءِ بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ: إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لِيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ

رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ الْآيَةَ. وَهِيَ مَوْعِظَةٌ بِأَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ بِطَلَاقِهِنَّ وَأَنَّهُ تَصِيرُ لَهُ أَزْوَاجٌ خَيْرٌ مِنْهُنَّ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ مَوَاعِظِ هَذِهِ الْآيِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُبْدِلَهُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ مُضَارِعِ بَدَّلَ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِتَخْفِيفٍ مُضَارِعِ أَبْدَلَ. وَالْمُسْلِمَاتُ: الْمُتَّصِفَاتُ بِالْإِسْلَامِ. وَالْمُؤْمِنَاتُ: الْمُصَدِّقَاتُ فِي نُفُوسِهِنَّ. وَالْقَانِتَاتُ: الْقَائِمَاتُ بِالطَّاعَةِ أَحْسَنَ قِيَامٍ. وَتَقَدَّمَ الْقُنُوتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [238] . وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [31] . وَفِي هَذَا الْوَصْفِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُنَّ مُطِيعَاتٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِمَا وَقَعَ مِنْ تَقْصِيرِ إِحْدَاهُنَّ فِي ذَلِكَ فَعَاتَبَهَا اللَّهُ وَأَيْقَظَهَا لِلتَّوْبَةِ. وَالتَّائِبَاتُ: الْمُقْلِعَاتُ عَنِ الذَّنْبِ إِذَا وَقَعْنَ فِيهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِإِعَادَةِ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِمَا الَّتِي أُمِرَتَا بِهَا بِقَوْلِهِ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيم: 4] . وَالْعَابِدَاتُ: الْمُقْبِلَاتُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ تُفِيدُ الْإِشَارَةَ إِلَى فَضْلِ هَذِهِ التَّقْوَى وَهُوَ الْمَعْنَى السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالسَّائِحَاتُ: الْمُهَاجِرَاتُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا الْوَصْفُ لِتَنْبِيهِهِنَّ عَلَى أَنَّهُنَّ إِنْ كُنَّ يَمْتُنَّ بِالْهِجْرَةِ فَإِنَّ الْمُهَاجِرَاتِ غَيْرَهُنَّ كَثِيرٌ، وَالْمُهَاجِرَاتُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الْآيِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ انْتَصَبَتْ عَلَى أَنَّهَا نُعُوتٌ لِ أَزْواجاً، وَلَمْ يُعْطَفْ بَعْضُهَا على بعض الْوَاو، لِأَجْلِ التَّنْصِيصِ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَوْ عُطِفَتْ بِالْوَاوِ لِاحْتِمَلِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ تَقْسِيمِ الْأَزْوَاجِ إِلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُنَّ بَعْضُ تِلْكَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَتْ إِفَادَةُ ثُبُوتِ إِحْدَى صِفَتَيْنِ دُونَ أُخْرَى مِنَ النَّعْتَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ عُطِفَ بِالْوَاوِ قَوْلُهُ:

وَأَبْكاراً لِأَنَّ الثَّيِّبَاتِ لَا يُوصَفْنَ بِأَبْكَارٍ. وَالْأَبْكَارُ لَا يُوصَفْنَ بِالثَّيِّبَاتِ. قُلْتُ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُسْلِماتٍ، إِلَى قَوْلِهِ: سائِحاتٍ مُحَسِّنُ الْكَلَامِ الْمُتَّزِنِ إِذْ يَلْتَئِمُ مِنْ ذَلِكَ بَيْتٌ مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ التَّامِّ: فَاعِلَتُنْ فَاعِلَتُنْ فَاعِلَتُنْ ... فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَتُنْ وَوَجْهُ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الزَّوْجَاتِ الْمُقَدَّرَاتِ لِأَنَّ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ مَحَاسِنُهَا عِنْدَ الرِّجَالِ فَالثَّيِّبُ أَرْعَى لِوَاجِبَاتِ الزَّوْجِ وَأَمْيَلُ مَعَ أَهْوَائِهِ وَأَقْوَمُ عَلَى بَيْتِهِ وَأَحْسَنُ لِعَابًا وَأَبْهَى زِينَةً وَأَحْلَى غَنْجًا. وَالْبِكْرُ أَشَدُّ حَيَاءً وَأَكْثَرَ غِرَارَةً وَدَلَّا وَفِي ذَلِكَ مَجْلَبَةٌ لِلنَّفْسِ، وَالْبِكْرُ لَا تَعْرِفُ رَجُلًا قَبْلَ زَوْجِهَا فَفِي نُفُوسِ الرِّجَالِ خَلْقٌ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهَا غَيْرُهُمْ. فَمَا اعْتَزَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَزِيَّةٍ إِلَّا وَقَدْ أَنْبَأَهَا اللَّهُ بِأَنْ سَيُبْدِلَهُ خَيْرًا مِنْهَا فِي تِلْكَ الْمَزِيَّةِ أَيْضًا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِيَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَتَقْدِيمُ وَصْفِ ثَيِّباتٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجْهُنَّ كُنَّ ثَيِّبَاتٍ. وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلَامَ الْأَشَدَّ مُوَجَّهٌ إِلَى حَفْصَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ وَكَانَتْ حَفْصَةُ مِمَّنْ تَزَوَّجَهُنَّ ثَيِّبَاتٍ وَعَائِشَةُ هِيَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِكْرًا. وَهَذَا التَّعْرِيضُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّأْدِيبِ كَمَا قِيلَ: «الْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ» . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعِشْرُونَ مِنْ مَغْزَى آدَابِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمِنْ غرائب الْمسَائِل الأديبة الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً زَعَمَهَا ابْنُ خَالَوِيهِ (¬1) وَاوًا لَهَا اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ وَلَقَّبَهَا بِوَاوِ الثَّمَانِيَةِ (بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ النُّونِ) وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرُوا مِنْهُمُ الْحَرِيرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ ¬

(¬1) هُوَ الْحُسَيْن بن أَحْمد بن خالويه بن حمدَان الهمذاني، قَرَأَ بِبَغْدَاد ثمَّ سكن حلب واتصل بِسيف الدولة. وَتُوفِّي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة. وَلم أَقف على تعْيين الْموضع الَّذِي استظهر فِيهِ معنى وَاو الثَّمَانِية.

النَّيْسَابُورِيُّ الْمُفَسِّرُ وَالْقَاضِي الْفَاضِلُ. أَنَّهُمُ اسْتَخْرَجُوا مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ مَا فِيهِ مَعْنَى عَدَدِ ثَمَانِيَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوٌ وَيَظْهَرُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي مَثَّلُوا بِهَا أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَا دَلَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْدُودٍ بِعَدَدٍ كَمَا فِيهِ سَوَاءً كَانَ وَصْفًا مُشْتَقًّا مِنْ عَدَدِ ثَمَانِيَةٍ أَوْ كَانَ ذَاتًا ثَامِنَةً أَوْ كَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ سَوَاء كَانَ ذَلِك مُفْرَدًا أَوْ كَانَ جُمْلَةً. فَقَدْ مَثَّلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [112] : التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالُوا لَمْ يُعْطَفِ الصِّفَاتُ الْمَسْرُودَةُ بِالْوَاوِ إِلَّا عِنْدَ الْبُلُوغِ إِلَى الصِّفَةِ الثَّامِنَةِ وَهِيَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَجَعَلُوا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ آيَةَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ إِذْ لَمْ يُعْطَفْ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَبْدُوءَةِ بِقَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ إِلَّا الثَّامِنَةُ وَهِيَ وَأَبْكاراً ومثلوا لما وصف فِيهِ بِوَصْفٍ ثَامِنٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [22] . فَلَمْ يُعْطَفْ رابِعُهُمْ وَلَا سادِسُهُمْ وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا وَصْفُ الثَّامِنِ بِوَاوِ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَمَثَّلُوا لِمَا فِيهِ كَلِمَةُ ثَمَانِيَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [7] . وَمَثَّلُوا لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْمَاءٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [73] : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قَالُوا جَاءَتْ جُمْلَةُ وَفُتِحَتْ هَذِهِ بِالْوَاو وَلم تجىء أُخْتُهَا الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهَا وَهِيَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71] . لِأَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ. وَتَرَدَّدَتْ كَلِمَاتُهُمْ فِي أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ مِنْ صِنْفِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ يَمْتَازُ عَنِ الصِّنْفِ الْآخَرِ يَلْزَمُ ذِكْرُهُ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْطُوفِ مَعْنَى الثَّامِنِ أَوْ مِنْ صَنْفِ الْوَاوِ الزَّائِدَةِ. وَذَكَرَ الدَّمَامِينِيُّ فِي «الْحَوَاشِيَ» الْهِنْدِيَّةِ عَلَى «الْمُغْنِي» أَنَّهُ رَأَى فِي «تَفْسِيرِ الْعِمَادِ الْكِنْدِيِّ» قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ (الْمُتَوَفَّى فِي نَحْوِ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ) نِسْبَةَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ وَاوِ الثَّمَانِيَةِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ الْكَفِيفِ الْمَالِقِيِّ النَّحْوِيِّ الْغِرْنَاطِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ غِرْنَاطَةَ فِي مُدَّةِ الْأَمِيرِ ابْنِ حَبُوسَ (بِمُوَحَدَةٍ بَعْدَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) هُوَ بَادِيسُ بْنُ حَبُوسَ صَاحِبُ غِرْنَاطَةَ سَنَةَ 420. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأَنِفِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى نُزُولِ سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْكَلَامَ عَلَى الْوَاوِ الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ بَابًا طَوِيلًا وَلَمْ يُبْدِ رَأْيَهُ فِي إِثْبَاتِهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَفْرَدَ فِيهِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ عَلَى

إِثْبَاتِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَهَا. وَمن عَجِيب الصُّدَفِ مَا اتَّفَقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ مُثِيرِ شُبْهَةٍ لِلَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعَانِي الْوَاوِ. وَمِنْ غَرِيبِ الْفِطْنَةِ تَنَبُّهُ الَّذِي أَنْبَأَ بِهَذَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ» أَنَّ شَيْخَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلَ عَبْدَ الرَّحِيمِ الْبَيْسَانِيَّ الْكَاتِبَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَبْكاراً هِيَ الْوَاوُ الَّتِي سَمَّاهَا بَعْضُ ضَعَفَةِ النُّحَاةِ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. وَكَانَ الْفَاضِلُ يَتَبَجَّحُ بِاسْتِخْرَاجِهَا زَائِدَةً عَلَى الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ إِلَى أَنْ ذَكَرَهُ يَوْمًا بِحَضِيرَةِ أَبِي الْجُودِ النَّحْوِيِّ الْمُقْرِي، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ وَاهِمٌ فِي عَدِّهَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ وَأَحَالَ الْبَيَانَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي دُعَاءِ اللُّزُومِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ هُنَا لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. فَأَنْصَفَهُ الْفَاضِلُ وَقَالَ: أَرْشَدْتَنَا يَا أَبَا الْجُودِ. قُلْتُ: وَأَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ تَعَجَّلَ التَّسْلِيمَ لِأَبِي الْجُودِ إِذْ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا لَمْ نَلْتَزِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْدُودُ الثَّامِنُ مُسْتَقِلًّا أَوْ قَسِيمًا لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا تَتَبَّعْنَا مَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِعَدَدِ ثَمَانِيَةٍ. وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ فِي «حَاشِيَتِي الْكَشَّافِ» أَنَّهُ رَوَى عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قَالَ: الْوَاوُ تَدْخُلُ فِي الثَّامِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْف: 22] ، وَقَوْلِهِ: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] وَيُسَمُّونَهُ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ وَهِيَ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ الرَّاوِي عَنْهُ وَقَدْ قَالَ لَنَا عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنْسَيْتُمْ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ عِنْدَ جَوَابِي هَذَا (أَيْ يَلُومُهُمْ عَلَى إِهْمَالِهِمْ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ) أَيْ هُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ اه. قُلْتُ: وَهَذَا يُخَالِفُ صَرِيحَ كَلَامِهِ فِي «الْكَشَّافِ» فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمْ يُحْسِنْ تَحْرِيرَ مُرَادِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، أَوْ لَعَلَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَرَ مُنَافَاةً بَيْنَ لُزُومِ ذِكْرِ الْوَاوَيْنِ اقْتِضَاءَ الْمَقَامِ ذِكْرُهَا بِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِهَا ثَامِنٌ فِي الذِّكْرِ فَإِنَّ النُّكَتَ لَا تَتَزَاحَمُ فَتَأَمَّلْ بِتَدْقِيقٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَاوِ الثَّمَانِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [112] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [22] ، وَتَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَفِي سُورَة الحاقة.

[سورة التحريم (66) : آية 6]

[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) كَانَتْ مَوْعِظَةُ نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَاسِبَةً لِتَنْبِيهِ الْمُؤْمِنِينَ لِعَدَمِ الْغَفْلَةِ عَنْ مَوْعِظَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمَوْعِظَةِ أَهْلِيهِمْ وَأَنْ لَا يَصُدَّهُمُ اسْتِبْقَاءُ الْوِدِّ بَيْنَهُمْ عَنْ إِسْدَاءِ النُّصْحِ لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْأَذَى. وَهَذَا نِدَاءٌ ثَانٍ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ نِدَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيم: 1] . وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ليأتنسوا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةِ أَهْلِيهِمْ. وَعَبَّرَ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّحْذِيرِ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ سَبَبٌ فِي تَجَنُّبِ مَا يُفْضِي إِلَى عَذَابِ النَّارِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ الْمَوْعِظَةِ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْمَوْعِظَةِ. وَتَنْكِيرُ «نَارًا» لِلتَّعْظِيمِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا وُصْفٌ بِجُمْلَةِ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ زِيَادَةً فِي التَّحْذِيرِ لِئَلَّا يَكُونُوا مِنْ وَقُودِ النَّارِ. وَتَذْكِيرًا بِحَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [98] . وَتَفْظِيعًا لِلنَّارِ إِذْ يَكُونُ الْحَجَرُ عِوَضًا لَهَا عَنِ الْحَطَبِ. وَوُصِفَتِ النَّارُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [24] مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَبِمَا تَقَدَّمَهُمَا مَعًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [98] . والْحِجارَةُ: جَمْعُ الْحَجَرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فَإِنَّ قِيَاسَهُ أَحْجَارٌ فَجَمَعُوهُ عَلَى حِجَارٍ بِوَزْنِ فِعَالٍ وَأَلْحَقُوا بِهِ هَاءَ التَّأْنِيثِ كَمَا قَالُوا: بِكَارَةٌ جَمْعُ بَكْرٍ، وَمِهَارَةٌ جَمْعُ مُهْرٍ. وَزِيدَ فِي تَهْوِيلِ النَّارِ بِأَنَّ عَلَيْهَا مَلَائِكَةً غِلَاظًا شِدَادًا وَجُمْلَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ إِلَى آخِرِهَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ.

[سورة التحريم (66) : آية 7]

وَمَعْنَى عَلَيْها أَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ بِهَا. فَالِاسْتِعْلَاءُ الْمُفَادُ مَنْ حَرْفِ (عَلَى) مُسْتَعَارٌ لِلتَّمْكِنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَفِي الْحَدِيثِ «فَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابُونَ» . وغِلاظٌ جَمْعُ غَلِيظٍ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْغِلْظَةِ. وَهِيَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَفِعْلُهَا مِثْلُ كَرُمَ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِقَسَاوَةِ الْمُعَامَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمرَان: 159] أَيْ لَوْ كُنْتَ قَاسِيًا لَمَا عَاشَرُوكَ. وَ «شِدَادٌ» : جَمْعُ شَدِيدٍ. وَالشِّدَّةُ بِكَسْرِ الشِّينِ حَقِيقَتُهَا قُوَّةُ الْعَمَلِ الْمُؤْذِي وَالْمَوْصُوفُ بِهَا شَدِيدٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَقْوِيَاءُ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِهِمْ: يُقَالُ: اشْتَدَّ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ أَسَاءَ مُعَامَلَتَهُ، وَيُقَالُ: اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَاشْتَدَّتِ الْبَأْسَاءُ. وَالشِّدَّةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ وَالْقَحْطِ. وَجُمْلَةُ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ أُعْقِبَ بِهِ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ غِلَاظٌ شِدَادٌ تَعْدِيلًا لِمَا تَقْتَضِيَانِهِ مِنْ كَرَاهِيَةِ نُفُوسِ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْغِلْظَةِ وَالشَّدَّةِ فِي تَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ دَعَا إِلَيْهِ مَقَامُ الْإِطْنَابِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، مَعَ مَا فِي هَذَا التَّصْرِيحِ مِنِ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ فِي امْتِثَالِهِمْ لِمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ. وَقَدْ عُطِفَ هَذَا التَّأْكِيدُ عَطْفًا يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ تَنْوِيهًا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ أَوْضَحُ فِي الطَّاعَةِ مِنْ عَدَمِ الْعِصْيَانِ وَاعْتِبَارٌ لِمُغَايَرَةِ الْمَعْنَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُمَا وَاحِدٌ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَرْجِعَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْصُونَ فِيمَا يُكَلَّفُونَ بِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَمَرْجِعُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ إِلَى مَا كُلِّفُوا بِعَمَلِهِ فِي الْعُصَاةِ فِي جَهَنَّم. [7] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 7] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عَلَى النَّارِ. وَذِكْرُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُنَا اسْتِطْرَادٌ يُفِيدُ التَّنْفِيرَ مِنْ جَهَنَّمَ بِأَنَّهَا دَارُ أَهْلِ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] ،

[سورة التحريم (66) : آية 8]

وَإِلَّا فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ فِي النَّارِ. وَمَعْنَى مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُمَاثِلُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرَ الْجَزَاءِ عَلَى مُمَاثَلَةِ الْعَمَلِ الْمُجْزَى عَلَيْهِ قَصْرَ قَلْبٍ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنِ اعْتَذَرَ وَطَلَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ أَهْوَنَ مِمَّا شَاهَدَهُ. وَالِاعْتِذَارُ: افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُذْرِ. وَمَادَّةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى تَكَلُّفِ الْفِعْلِ مِثْلَ الِاكْتِسَابِ وَالِاخْتِلَاقِ، وَالْعُذْرُ: الْحُجَّةُ الَّتِي تُبْرِئُ صَاحِبَهَا مِنْ تَبِعَةِ عَمَلٍ مَا. وَلَيْسَ لِمَادَّةِ الِاعْتِذَارِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ دَالٌّ عَلَى إِيجَادِ الْعُذْرِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ عَذَرَ بِمَعْنَى قَبِلَ الْعُذْرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [90] . [8] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 8] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. أُعِيدَ خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُمْ وَهُوَ نِدَاءٌ ثَالِثٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالَّذِي قَبْلَهُ نِدَاءٌ لِلْوَاعِظِينَ. وَهَذَا نِدَاءٌ لِلْمَوْعُوظِينَ وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ أساليب الْإِعْرَاض الْمُتَّهم بهَا. أَمر الْمُؤمنِينَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا تَلَبَّسُوا بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ إِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِأَنْ يُجَنِّبُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيَهُمْ مَا يَزُجُّ بِهِمْ فِي عَذَابِ النَّارِ، لِأَنَّ اتِّقَاءَ النَّارِ يَتَحَقَّقُ بِاجْتِنَابِ مَا يَرْمِي بِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ يُذْهَلُونَ عَمَّا فَرَطَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَهُدُوا إِلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ الَّتِي يَمْحُونَ بِهَا مَا فَرَطَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَوْعِظَةِ امْرَأَتي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيم: 4] . وَالتَّوْبَةُ: الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْعِصْيَانِ مَعَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ فِيمَا مَضَى. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ فِي

سُورَةِ الْبَقَرَةِ [37] . وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَخَاصَّةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [17] . وَتَعْدِيَتُهَا بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ لِأَنَّ (تَابَ) أَخُو (ثَابَ) . وَالنَّصُوحُ: ذُو النُّصْحِ. وَالنُّصْحُ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ وَالْقَوْلُ، أَيِ الصِّدْقُ فِي إِرَادَةِ النَّفْعِ بِذَلِكَ. وَوَصْفُ التَّوْبَةِ بِالنَّصُوحِ مَجَازٌ جُعِلَتِ التَّوْبَةُ الَّتِي لَا تَرَدُّدُ فِيهَا وَلَا تُخَالِطُهَا نِيَّةُ الْعَوْدَةِ إِلَى الْعَمَلِ الْمَتُوبِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاصِحِ لِغَيْرِهِ فَفِي (نَصُوحٍ) اسْتِعَارَةٌ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَصُوحًا صَاحِبُهَا. وَإِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْ وَصْفَ (نَصُوحٍ) هَاءُ التَّأْنِيثِ الْمُنَاسِبَةِ لِتَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ بِهِ لِأَنَّ فَعُولًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصُوحاً بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى مَعْنَى الْوَصْفِ كَمَا عَلِمْتَ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ (نَصَحَ) مِثْلَ: الْقُعُودِ مِنْ قَعَدَ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الضَّمَّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَالْقِرَاءَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَمِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ تَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مِمَّا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِيهِ مِثْلَ الْمَظَالِمِ لِلْقَادِرِ عَلَى رَدِّهَا. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجْمَعُ التَّوْبَةَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: النَّدَامَةُ عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِعَادَةُ الْفَرَائِضِ. وَرَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ، وَأَنْ تُذِيبَ نَفْسَكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا رَبَّيْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَاتِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي . وَتَقُومُ مَقَامَ رَدِّ الْمَظَالِمِ اسْتِحْلَالُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَعْفُوَ عَنْهُ. وَمِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَمْكِينُ التَّائِبِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُنَفَّذَ عَلَيْهَا الْحُدُودُ كَالْقَوْدِ وَالضَّرْبِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا التَّمْكِينُ وَاجِبٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا نَدِمَ وَنَوَى أَنْ لَا يَعُودَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ مَنْعُهُ مِنْ تَمْكِينِ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مُتَجَدِّدَةً تَسْتَدْعِي تَوْبَةً. وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ إِذِ التَّمْكِينُ مِنْ تَنْفِيذِ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً فَلَهَا عُذْرٌ فِي الْإِحْجَامِ عَنِ التَّمْكِينِ مِنْهُ.

وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ ذَنْبٍ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَذَلِكَ فِيمَا عَدَا التَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ فَصَحِيحَةٌ فِي غُفْرَانِ إِثْمِ الْكُفْرِ وَلَوْ بَقِيَ مُتَلَبِّسًا بِبَعْضِ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَجِبُ مِنْهَا التَّوْبَةُ هِيَ الْكَبَائِرُ ابْتِدَاءً، وَكَذَلِكَ الصَّغَائِرُ وَتَمْيِيزُ الْكَبَائِرِ مِنَ الصَّغَائِرِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى مَحَلُّهَا أُصُولُ الدِّينِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ وَالْفِقْهُ. إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَغَفَرَ الصَّغَائِرَ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ [32] . وَلَوْ عَادَ التَّائِبُ إِلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَوْ جَمِيعِهَا مَا عَدَا الْكُفْرَ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْتَقِضُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي خُصُوصِ الذَّنْبِ الْمَعُودِ إِلَيْهِ وَلَا تَنْتَقِضُ فِيمَا سِوَاهُ. وَأَنَّ الْعَوْدَ مَعْصِيَةٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: تَنْتَقِضُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ فَتَعُودُ إِلَيْهِ ذُنُوبُهُ وَوَافَقَهُمُ الْبَاقِلَّانِيُّ. وَلَيْسَ فِي أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالرَّجَاءُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلِ عَسى مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعْدِ الصَّادِرِ عَنِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَذَلِكَ التَّائِبُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا اقْتَرَفَهُ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ قَدْ حَصَلَ وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ عَزْمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى الذَّنْبِ وَلَكِنْ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ النَّدَمِ وَالْخَوْفِ الَّذِي بَعَثَ عَلَى الْعَزْمِ دَلَّ عَلَى زَكَاءِ النَّفْسِ فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ فَذَلِكَ مَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ عَسى. وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا لِكَثْرَةِ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَيُّنِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَاصِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ: قَبُولُهَا مَرْجُوٌّ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ سَمْعًا، وَالْمُعْتَزِلَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا. وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ: غُفْرَانُهَا، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَفَرَ الْمُخَفَّفِ الْمُتَعَدِّي الَّذِي هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَفْرِ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيِ السَّتْرِ.

يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَوْمَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ وَهُوَ تَعْلِيقٌ تَخَلَّصَ إِلَى الثَّنَاءِ على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ. وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَهَذَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ خِزْيِ اللَّهِ عَنْهُمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَهُ يُخْزِيهِمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذكر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا لِتَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالتَّعْرِيضِ. وَالْخِزْيُ: هُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: 87] عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْخِزْيِ يَوْمَئِذٍ يَسْتَلْزِمُ الْكَرَامَةَ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمرَان: 185] . وَفِي صِلَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إِيذَانٌ بِأَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ الْخِزْيِ عَنْهُمْ هُوَ إِيمَانُهُمْ. وَمَعِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحبتهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ (مَعَ) يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِمَحْذُوفٍ حَالٍ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَعَ الشَّيْءِ فِي انْتِفَاءِ خِزْيِ اللَّهِ عَنْهُمْ فَيَكُونُ عُمُومُ الَّذِينَ آمَنُوا مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُ فِيهِمْ خِزْيُ الْكُفْرِ وَهُمُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِجَمِيعِ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ تَعَلُّقُ (مَعَ) بِفِعْلِ آمَنُوا أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَصَحِبُوهُ، فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَلَمْ يَرْتَدُّوا بَعْدَهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُؤْذِنَةً بِفَضِيلَةٍ لِلصَّحَابَةِ. وَضَمِيرُ نُورُهُمْ عَائِدٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وَإِضَافَةُ نُورُ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِنُورٍ لَهُمْ لَيْسَتْ إِضَافَةَ تَعْرِيفٍ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ النُّورِ وَتَعْيِينَهُ وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِي لَازِمِ

[سورة التحريم (66) : آية 9]

مَعْنَاهَا وَهُوَ اخْتِصَاصُ النُّورِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُهُ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ الْأَنْوَارِ يَوْمَئِذٍ. وُسَعْيُ النُّورِ: امْتِدَادُهُ وَانْتِشَارُهُ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِاشْتِدَادِ مَشْيِ الْمَاشِي وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحِفُّ بِهِمْ حَيْثُمَا انْتَقَلُوا تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ كَمَا تُنْشَرُ الْأَعْلَامُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمِيرِ وَالْقَائِدِ وَكَمَا تُسَاقُ الْجِيَادُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَمَامُ وَالْيَمِينُ لِأَنَّ النُّورَ إِذَا كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تَمَتَّعُوا بِمُشَاهَدَتِهِ وَشَعَرُوا بِأَنَّهُ كَرَامَةٌ لَهُمْ وَلِأَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الَّتِي تُمْسَكُ بِهَا الْأُمُورُ النَّفِيسَةُ وَبِهَا بَايعُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالنَّصْرِ. وَهَذَا النُّورُ نُورٌ حَقِيقِيٌّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَنْ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا أَوْسَعُ. وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا إِلَى آخِرِهَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ نُورُهُمْ، وَظَاهره أَن تكون حَالًا مُقَارَنَةً، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَدُعَاؤُهُمْ طَلَبٌ لِلزِّيَادَةِ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ، فَيَكُونُ ضمير يَقُولُونَ عَائِد إِلَى جَمِيعِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، أَوْ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ نُورُهُ أَقَلَّ مِنْ نُورِ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ فَيَكُونُ ضَمِيرُ يَقُولُونَ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ عَلَى طَوَائِفِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِتْمَامُ النُّورِ إِدَامَتُهُ أَوِ الزِّيَادَةُ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ هُوَ لِطَلَبِ دَوَامِ الْمَغْفِرَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ وَتَوَاضُعٌ لَهُ مِثْلَ مَا قِيلَ فِي اسْتِغْفَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ وَجْهُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْمُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ الدُّعَاءِ كِنَايَةً عَنْ رَجَاءِ إجَابَته لَهُم. [9] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 9] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) لَمَا أَبْلَغَ الْكُفَّارَ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ تَصْرِيحًا بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [التَّحْرِيم: 7] ،

وَتَعْرِيضًا بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيم: 8] ، أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ بِأَنْ يُجَاهِدَهُمْ وَيُجَاهِدَ الْمُسْتَتِرِينَ لِكُفْرِهِمْ بِظَاهِرِ الْإِيمَانِ نِفَاقًا، حَتَّى إِذَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ يَخْشَوْنَ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَذَابَ السَّيْفِ فِي الْعَاجِلَةِ فَيُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ فَيُصْلِحُ نُفُوسَهُمْ وَإِنَّمَا أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ تَأَلَّبُوا مَعَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذُوهُمْ عُيُونًا لَهُمْ وَأَيَدِيَ يَدُسُّونَ بِهَا الْأَذَى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَهَذَا نِدَاءٌ ثَان للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ صَلَاحِ عُمُومِ الْأُمَّةِ بِتَطْهِيرِهَا مِنَ الْخُبَثَاءِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِإِفَاقَةِ مَنْ عَلَيْهِمَا الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ وَاجِبِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الزَّوْجِ. وَجِهَاد الْكفَّار ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَطْفُ الْمُنافِقِينَ عَلَى الْكُفَّارَ الْمَفْعُولِ لِ جاهِدِ فَيَقْتَضِي أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِجِهَادِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ مُلْتَبِسًا إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مُعْلِنًا بِالْكُفْرِ وَلَا شُهِدَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعَيِّنِ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقًا يُوقِنُ بِنِفَاقِهِ وَكُفْرِهِ أَوْ أَطْلَعَهُ إِطْلَاعًا خَاصًّا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْلَانِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآثَارِ. فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلَ عَطْفِ الْمُنافِقِينَ عَلَى الْكُفَّارَ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُ جاهِدِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهُمَا الْجِهَادُ بِالسَّيْفِ وَالْجِهَادُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالتَّعْرِيضُ لِلْمُنَافِقِ بِنِفَاقِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَجِعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» ، وَقَوْلِهِ لِلَّذِي سَأَلَهُ الْجِهَادَ فَقَالَ لَهُ: «أَلَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْعَطْفِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ لِيَشْعُرُوا بِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ بالمرصاد بهم فَلَوْ بَدَتْ مِنْ أَحَدِهِمْ بَادِرَةٌ يُعْلَمُ مِنْهَا نِفَاقُهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فَيَحْذَرُوا وَيَكُفُّوا عَنِ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ خَشْيَةَ الِافْتِضَاحِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَاب: 60، 61] .

[سورة التحريم (66) : آية 10]

وَالْغِلْظَةُ: حَقِيقَتُهَا صَلَابَةُ الشَّيْءِ وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا لِلْمُعَامَلَةِ بِالشِّدَّةِ بِدُونِ عَفْوٍ وَلَا تَسَامُحٍ، أَيْ كُنْ غَلِيظًا، أَيْ شَدِيدًا فِي إِقَامَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْثَالَهُمْ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [123] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] . وَالْمَأْوَى: الْمَسْكَنُ، وَهُوَ مَفْعَلٌ مِنْ أَوَى إِذَا رَجَعَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنه. [10] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 10] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) أَعْقَبَتْ جُمْلَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّحْرِيم: 9] الْآيَةُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَهْدِيدُهُمْ بِعَذَابِ السَّيْفِ فِي الدُّنْيَا وَإِنْذَارُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَمَا قَارَنَ ذَلِكَ مِنْ مُقَابَلَةِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنْ ضَرَبَ مَثَلَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ بِنَظِيرَيْنِ فِي حَالَيْهِمَا لَتَزْدَادَ الْمَوْعِظَةُ وُضُوحًا وَيَزْدَادَ التَّنْوِيهُ بِالْمُؤْمِنِينَ اسْتِنَارَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْأَمْثَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [17] . وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِلْقَاؤُهُ وَإِيضَاحُهُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَهَذَا الْمَثَلُ لَا يَخْلُو مِنْ تَعْرِيضٍ بِحَثِّ زَوجي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَاعَته وبأنّ رضى اللَّهِ تَعَالَى يتبع رضى رُسُلِهِ. فَقَدْ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ زَوْجَتي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا وَكَانَ عَمَلُهُمَا مَا فِيهِ بَارِقَةً مِنْ مُخَالَفَةٍ، وَكَانَ فِي الْمَثَلَيْنِ مَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِالْحَالَيْنِ. وَتَعْدِيَةُ ضَرَبَ بِاللَّامِ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ تُفِيدُ أَنَّ إِلْقَاءَ الْمَثَلِ لِأَجْلِ مَدْخُولِ اللَّامِ. فَمَعْنَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُ أَلْقَى هَذَا التَّنْظِيرَ لِأَجْلِهِمْ، أَيِ اعْتِبَارِهِمْ بِهِمْ وَقِيَاسِ حَالِهِمْ عَلَى حَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ: ضَرَبَ لِفُلَانٍ مَثَلًا، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَصَدَهُ بِهِ وَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف: 58] .

وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الرّوم: 58] . وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ على الْمَفْعُول لِلِاهْتِمَامِ بِإِيقَاظِ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَمَعْنَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَالَةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ عِظَةً وَتَنْبِيهًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ لِيُذَكِرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَصْرِفُهُ عَنْ وَعِيدِهِ صَارِفٌ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ مَكَانَهُمْ مِنْ جِوَارِ بَيْتِهِ وَعِمَارَةِ مَسْجِدِهِ وَسِقَايَةِ حَجِيجِهِ تَصْرِفُ غَضَبَ اللَّهِ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ أَقْبَلُوا عَلَى التَّدَبُّرِ فِي النَّجَاةِ مِنْ وَعِيدِهِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ وَصدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ صَارِفٌ يَصْرِفُ اللَّهَ عَنْ غَضَبِهِ لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِذَلِكَ مَكَانَةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ زَوْجَيْهِمَا رَسُولَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمُنَاسِبَةُ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِامْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط دون غَيرهمَا مِنْ قُرَابَةِ الْأَنْبِيَاءِ نَحْوَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّ ذِكْرَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ لَمْ يَتَقَدَّمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ نُوحٍ، لِتَكُونَ فِي ذِكْرِهِمَا فَائِدَةٌ مُسْتَجَدَّةٌ، وَلِيَكُونَ فِي ذِكْرِهِمَا عَقِبَ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَالُؤِ أُمَّيِ الْمُؤمنِينَ على زَوجهمَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ لَطِيفٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ خَاطِرِ الِاعْتِزَازِ بِغِنَاءِ الصِّلَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْهُمَا فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا يَجِبُ مِنَ الْإِخْلَاص للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الشَّبَهُ فِي التَّمْثِيلِ أَقْوَى. فَعَنْ مُقَاتِلٍ «يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ: لَا تَكُونَا بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فِي الْمَعْصِيَةِ وَكُونَا بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمَ» . وَوَضَّحَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيضِ. وَمَنَعَهُ الْفَخْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَثَلَيْنِ عِبْرَةٌ لزوجات النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَقَدَّمَ عِتَابُهُنَّ. وَفِي هَذَا بُعْدٌ لِأَنَّ النَّصَّ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ يُبْعِدُ هَذَا» اه. وَيَدْفَعُ اسْتِبْعَادَهُ أَنَّ دَلَالَةَ التَّعْرِيضِ لَا تُنَافِي اللَّفْظَ الصَّرِيحَ، وَمن لطائف التَّقْيِيد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ هُوَ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ مِنَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ تَحْمِلَ التَّمْثِيلَ عَلَى الْمُشَابَهَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاحْتِرَاسُ بِكَثْرَةِ التَّشْبِيهَاتِ وَمِنْهُ تَجْرِيدُ الِاسْتِعَارَةِ. وَقِصَّةُ امْرَأَةِ نُوحٍ لَمْ تَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا خَانَتْ زَوْجَهَا بَعْدَ الطُّوفَانِ وَأَنَّ نُوحًا لَمْ يَعْلَمْ بِخَوْنِهَا لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى عَمَلَهَا خِيَانَةً. وَقَدْ وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ ذِكْرُ امْرَأَةِ نُوحٍ مَعَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ

وَذِكْرُ خُرُوجِهَا مِنَ السَّفِينَةِ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثُمَّ طُوِيَ ذِكْرُهَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ بَرَكَتَهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَمِيثَاقَهُ مَعَهُمْ فَلَمْ تُذْكَرْ مَعَهُمْ زَوْجُهُ. فَلَعَلَّهَا كَفَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَعَلَّ نُوحًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى بَعْدَ الطُّوفَانِ لَمْ تُذْكَرْ فِي التَّوْرَاةِ. وَوَصَفَ اللَّهُ فِعْلَ امْرَأَةِ نُوحٍ بِخِيَانَةِ زَوْجِهَا، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ خِيَانَةٌ فِي الدِّينِ، أَيْ كَانَتْ كَافِرَةً مُسِرَّةً الْكُفْرَ، فَلَعَلَّ الْكُفْرَ حَدَثَ مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْمِ نُوحٍ بَعْدَ الطُّوفَانِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ امْرَأَة لوط فقد ذكر فِي الْقُرْآنِ مَرَّاتٍ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيُقَالُ: فُلَانَةٌ كَانَتْ تَحْتَ فُلَانٍ، أَيْ كَانَتْ زَوْجًا لَهُ. وَالتَّحْتِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَالْعِصْمَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أُمِّ حَرَامِ بِنْتِ مِلْحَانَ: «وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ» . وَمِنْ بَدَائِعِ الْأَجْوِبَةِ أَنَّ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ مِنَ الشِّيعَةِ سَأَلَ أَحَدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَجَابَهُ: «الَّذِي كَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَهُ» فَظَنَّ أَنَّهُ فَضَّلَ عَلِيًّا إِذْ فَهِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ «ابْنَةُ» ضَمِيرُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ (تَحْتَ) ضَمِيرُ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ السُّنِّيُّ الْعَكْسَ بِأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ «ابْنَتُهُ» ضَمِيرَ الْمَوْصُولِ «تَحْتَهُ» ضَمِيرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَبْدَيْنِ نُوحٌ وَلُوطٌ وَإِنَّمَا خُصَّا بِوَصْفِ «عَبْدَيْنِ صَالِحَيْنِ» مَعَ أَنَّ وصف النُّبُوَّة أخص مِنْ وَصْفِ الصَّلَاحِ تَنْوِيهًا بِوَصْفِ الصَّلَاحِ وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ صَلَاح ليعظم بذلك شَأْنُ الصَّالِحِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] . وَلِتَكُونَ الْمَوْعِظَةُ سَارِيَةً إِلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُعَامَلَتِهِنَّ أَزْوَاجَهُنَّ فَإِن وصف النبوءة قَدِ انْتَهَى بِالنَّسْبَةِ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَهْوِيلِ الْأَذَى لِعَبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَعِنَايَةِ رَبِّهِمْ بِهِمْ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُمْ. وَالْخِيَانَةُ وَالْخَوْنُ ضِدُّ الْأَمَانَةِ وَضِدُّ الْوَفَاءِ، وَذَلِكَ تَفْرِيطُ الْمَرْءِ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ وَمَا

[سورة التحريم (66) : آية 11]

عُهِدَ بِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْأَنْفَال: 27] . وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ يُغْنِيا لِأَنَّ الْمَعْنَى شَيْئًا مِنَ الْغِنَى، وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ أَقَلَّ غِنًى وَأَجْحَفَهُ بَلْهَ الْغِنَى الْمُهِمِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [19] . وَزِيَادَةُ مَعَ الدَّاخِلِينَ لإِفَادَة مساواتهما فِي الْعَذَابِ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْكَفَرَةِ الْخَوَنَةِ. وَذَلِكَ تأييس لَهما مِنْ أَن ينتفعا بِشَيْء مِنْ حُظْوَةِ زَوْجِيهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَام: 22] . [11] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 11] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) لَمَّا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 10] أُعْقِبَ بِضَرْبِ مَثَلٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِتَحْصُلَ الْمُقَابَلَةُ فَيَتَّضِحَ مَقْصُودُ الْمَثَلَيْنِ مَعًا، وَجَرَيَا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِتْبَاعِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ. وَجُعِلَ الْمَثَلُ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِحَالِ امْرَأَتَيْنِ لِتَحْصُلَ الْمُقَابَلَةُ لِلْمَثَلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَهَذَا مِنْ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ فِي الْمَثَلَيْنِ. وَجَاءَ أَحَدُ الْمَثَلَيْنِ لِلَّذِينَ آمنُوا مثلا لِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ. وَالْمَثَلُ الثَّانِي لِشِّدَّةِ التَّقْوَى. فَكَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ مثلا لمتانة إِيمَان الْمُؤْمِنِينَ وَمَرْيَمُ مَثَلًا لِلْقَانِتِينَ لِأَن الْمُؤمنِينَ تبرأوا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمُ الَّذِينَ بَقَوْا عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ. وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ هَذِهِ هِيَ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى وَهُوَ منفط الثَّالِثُ وَلَيْسَتِ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ الَّتِي تَبَنَّتْ مُوسَى حِينَ الْتَقَطَتْهُ مِنَ الْيَمِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ رَعَمْسِيسَ الثَّانِي وَكَانَ بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِدِينٍ قَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى.

[سورة التحريم (66) : آية 12]

وَلَعَلَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ إِسْرَائِيلَ تَزَوَّجَهَا فِرْعَوْنُ فَكَانَتْ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا عَمَّةُ مُوسَى، أَوْ تَكُونُ هَدَاهَا اللَّهُ إِلَى الْإِيمَان بمُوسَى كَمَا هَدَى الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ غَافِرٍ. وسماها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آسِيَةَ فِي قَوْلِهِ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَرَادَتْ بِعَمَلِ فِرْعَوْنَ ظُلْمَهُ، أَيْ نَجِّنِي مِنْ تَبِعَةِ أَعْمَالِهِ فَيَكُونُ مَعْنَى نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ مِنْ صُحْبَتِهِ طَلَبَتْ لِنَفْسِهَا فَرَجًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَمَعْنَى قالَتْ أَنَّهَا أَعْلَنَتْ بِهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ اطَّلَعَ عَلَيْهَا وَأَعْلَنَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ وَأَمَرَ بِتَعْذِيبِهَا فَمَاتَتْ فِي تَعْذِيبِهِ وَلَمْ تَحُسَّ أَلَمًا. وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ: هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ. وَظُلْمُهُمْ: إِشْرَاكُهُمْ بِاللهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهَا: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ صَدُّوهَا عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وزيّنوا لَهَا أَنا إِنْ آمَنَتْ بِمُوسَى تُضَيِّعْ مُلْكًا عَظِيمًا وَقَصْرًا فَخِيمًا أَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَعَظَهَا بِأَنَّهَا إِنْ أَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ تُقْتَلْ، فَلَا يَكُونُ مَدْفَنُهَا الْهَرَمَ الَّذِي بَنَاهُ فِرْعَوْنُ لِنَفْسِهِ لدفنه فِي بادىء الْمُلُوكِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَتَكُونُ مُشَابِهَةَ الْهَرَمِ الَّذِي كَانَ مُعَدًّا لِحَفْظِ جُثَّتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَزَوْجِهَا. فَقَوْلُهَا ذَلِكَ كَقَوْلِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا جَوَابًا عَنْ تَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ الْآيَةَ فِي سُورَة طه [72] . [12] [سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 12] وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) عطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، أَيْ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، فَضَرَبَ مَثَلَيْنِ فِي الشَّرِّ وَمَثَلَيْنِ فِي الْخَيْرِ. وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَبِهَا وَكَرَامَتِهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهَا،

وَقَدْ ذكر الله باسمها فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ فِي «شَرْحِ الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ امْرَأَةً فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِهَا إِلَّا مَرْيَم للتّنْبِيه عَلَى أَنَّهَا أَمَةُ اللَّهِ إِبْطَالًا لِعَقَائِدِ النَّصَارَى. وَالْإِحْصَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَصِينًا، أَيْ لَا يُسْلَكُ إِلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: مَنَعَتْ فَرْجَهَا عَنِ الرِّجَالِ. وَتَفْرِيعُ فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا تَفْرِيعُ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ. أَيْ جَزَيْنَاهَا عَلَى إِحْصَانِ فَرْجِهَا، أَيْ بِأَنْ كَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ نَبِيئًا بِصِفَةٍ خَارِقَةِ لِلْعَادَةِ فَخَلَّدَ بِذَلِكَ ذِكْرَهَا فِي الصَّالِحَاتِ. وَالنَّفْخُ: مُسْتَعَارٌ لِسُرْعَةِ إِبْدَاعِ الْحَيَاةِ فِي الْمُكَوَّنِ فِي رَحِمِهَا. وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ تَكْوِينَ الْمَخْلُوقِ الْحَيِّ فِي رَحِمِهَا كَانَ دُونَ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، أَوْ أُرِيدَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجِنَّةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [91] . وَتَصْدِيقُهَا: يَقِينُهَا بِأَنَّ مَا أَبْلَغَ إِلَيْهَا الْمَلَكُ مِنْ إِرَادَةِ الله حملهَا. وبِكَلِماتِ رَبِّها: هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَيْهَا بِطَرِيقِ الْوَحْي. ووَ كُتُبِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ «الْإِنْجِيلَ» الَّذِي جَاءَ بِهِ ابْنُهَا عِيسَى وَهُوَ إِن لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا فِي زَمَنِ عِيسَى فَقَدْ كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ فِي حَيَاةِ مَرْيَمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد ب كُتُبِهِ، أَرَادَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْ دُونِ مَسِّ رَجُلٍ إِيَّاهَا مِنْ بَابِ وَكَانَ كِتَابًا مَفْعُولًا. وَالْقَانِتُ: الْمُتَمَحِّضُ لِلطَّاعَةِ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَانِتِينَ: الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ سَلِيلَةَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، أَيْ فَجَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ أُصُولِهَا فِي الْخَيْرِ وَالْعَفَافِ. وَهَلْ يُنْبِتُ الْخَطِّيُّ إِلَّا وَشِيجَهُ

وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَبْرِئَتِهَا مِمَّا رَمَاهَا بِهِ الْقَوْمُ الْبُهْتُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ [النُّور: 26] . وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ هِيَ بَعْضُ مَنْ قَنَتَ لِلَّهِ. وَغَلَبَتْ صِيغَةُ جَمْعِ الذُّكُورِ وَلَمْ يَقُلْ: مِنَ الْقَانِتَاتِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ التغليب وَهُوَ من تَخْرِيجُ الْكَلَامِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَنُكْتَتُهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهَا فِي عِدَادِ أَهْلِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَنَّ شَأْنَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ لِأَنَّ نِسَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُنَّ مَعْفَيَاتٍ مِنْ عبادات كَثِيرَة. ووصفت مَرْيَمَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِتِلْكَ الصِّلَةِ مِنْ قَصَّتِهَا الْمَعْرُوفَةِ مِنْ تَكَرُّرِ ذِكْرِهَا فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَفِي ذِكْرِ الْقانِتِينَ إِيمَاءٌ إِلَى مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الْأَحْزَاب: 31] الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكِتَابِهِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَكُتُبِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، أَيْ آمَنَتْ بِالْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ عِيسَى وَهِي «التَّوْرَاة» و «الزبُور» وَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بني إِسْرَائِيل، و «الْإِنْجِيل» إِنْ كَانَ قَدْ كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ فِي حَيَاتهَا. الْجُزْء التَّاسِع وَالْعشْرُونَ

67- سورة الملك

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 67- سُورَةُ الْمُلْكِ سَمَّاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لرجل حَتَّى غفر لَهُ وَهِيَ «سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَهَذَا تَسْمِيَةٌ لِلسُّورَةِ بِأَوَّلِ جُمْلَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا فَتَكُونُ تَسْمِيَةً بِجُمْلَةٍ كَمَا سُمِّيَ ثَابِتُ بْنُ جَابِرٍ (تَأَبَّطَ شَرًّا) وَلَفْظُ «سُورَةٍ» مُضَافٌ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ. وَسُمِّيَتْ أَيْضًا «تَبَارَكَ الْمُلْكُ» بِمَجْمُوعِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيسمع مِنْهُ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ (أَيْ دَفِينٌ فِيهِ) يَقْرَأُ سُورَةَ «تَبَارَكَ الْمُلْكُ» حَتَّى خَتَمَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ فَيَكُونُ اسْمُ السُّورَةِ مَجْمُوعَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ عَدِّ الْكَلِمَاتِ فِي اللَّفْظِ دُونَ إِضَافَةِ إِحْدَاهُمَا إِلَى

الْأُخْرَى مِثْلَ تَسْمِيَةِ (لَامِ أَلِفٍ) . وَنَظِيرُهُ أَسْمَاءُ السُّوَرِ بِالْأَحْرُفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ فَيُحْكَى لَفْظُ «تَبَارَكَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَيُحْكَى لَفْظُ «الْمُلْكُ» مَرْفُوعًا كَمَا هُوَ فِي الْآيَةِ، فَيَكُونُ لَفْظُ «سُورَةٍ» مُضَافًا مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ السُّورَةِ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا مَعَ اخْتِصَارِ مَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ قصدا للْفرق بَينهَا وَبَيْنَ «تَبَارَكَ الْفُرْقَانِ» ، كَمَا قَالُوا: عُبَيْدُ اللَّهِ الرُّقَيَّاتِ، بِإِضَافَةِ مَجْمُوعِ «عُبَيْدِ اللَّهِ» إِلَى «الرُّقَيَّاتِ» تَمْيِيزًا لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْعَامِرِيِّ (¬1) الشَّاعِرِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُشْبِهُ اسْمُهُ اسْمَهُ مِثْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَوْ لمُجَرّد اشتهاره بالتشبيب فِي نِسَاءٍ كَانَ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُقَيَّةَ (¬2) وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ «تَبَارَكَ» فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ مَفْتُوحَ الْآخِرِ. وَلَفْظُ «الْمُلْكُ» مَضْمُومُ الْكَافِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ ضَبْطُهُ فِي نُسْخَةِ «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وكِلْتَاهُمَا حَرَكَةُ حِكَايَةٍ. وَالشَّائِعُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةَ الْمُلْكِ» وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْمُلْكِ. وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «كُنَّا نُسَمِّيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ الْمَانِعَةَ» ، أَيْ أَخْذًا مِنْ وَصْفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا الْمَانِعَةُ الْمُنْجِيَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَلَيْسَ بِالصَّرِيحِ فِي التَّسْمِيَةِ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ «تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا الْمُنْجِيَةَ» وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ إِيِّاَهاَ بِالْمُنْجِيَةِ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَلَيْسَ أَيْضًا بِالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ اسْمٌ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ «كِتَابِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ» تُسَمَّى أَيْضًا «الْوَاقِيَةَ» ، وَتُسَمَّى «الْمَنَّاعَةَ» بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. ¬

(¬1) هُوَ من بني عَامر بن لؤَي شَاعِر مجيد من شعراء الْعَصْر الْأمَوِي. (¬2) هِيَ رقية بنت عبد الْوَاحِد بن أبي سعد من بني عَامر بن لؤَي، وَابْنَة عَم لَهَا يُقَال لَهَا: رقية، ورقية أُخْرَى امْرَأَة من بني أُميَّة وَكن فِي عصر وَاحِد.

أغراض السورة

وَذَكَرَ الْفَخْرُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُسَمِّيهَا «الْمُجَادَلَةَ» لِأَنَّهَا تُجَادِلُ عَنْ قَارِئِهَا عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِ الْفَخْرِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ سُمِّيَتْ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ: بِاتِفَّاقِ الْجَمِيعِ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَخْرَجَ جُوَيْبِرٌ (¬1) فِي «تَفْسِيرِهِ» «عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ تَبَارَكَ الْمُلْكُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ اهـ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّحَّاكَ عَنَى اسْتِثْنَاءَ ثَلَاثِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِخْرَاجُ صَاحِبِ «الْإِتْقَانِ» هَذَا النَّقْلَ فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي بَعْضِ آيَاتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَهُوَ لَمْ يُعَيِّنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ وَلَيْسَ فِي آيَاتِ السُّورَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً بَلْ نَجِدُ الْخَمْسَ الْآيَاتِ الْأَوَائِلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابَ السَّعِيرِ [الْملك: 5] . وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَيْضًا «فِيهَا قَوْلٌ غَرِيبٌ (لَمْ يَعْزُهُ) أَنَّ جَمِيعَ السُّورَةِ مَدَنِيٌّ» . وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَآيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْحِجَازِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَفِي عَدِّ غَيْرِهِمْ ثَلَاثُونَ. أَغْرَاضُ السُّورَةِ وَالْأَغْرَاضُ الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ الْأَغْرَاضِ فِي السُّور المكية. ابتدئت بِتَعْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَانِيَ مِنَ الْعِلْمِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفَرُّدَهُ بِالْمُلْكِ الْحَقِّ وَالنَّظَرَ فِي إِتْقَانِ صُنْعِهِ الدَّالِّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَبِذَلِكَ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ حَظٌّ لِعِظَةِ الْمُشْرِكِيَن. ¬

(¬1) كتب فِي نُسْخَة مخطوطة جُوَيْبِر بِصِيغَة تَصْغِير جَابر وَالَّذِي فِي المطبوعة جُبَير بِصِيغَة تَصْغِير جبر تَرْجمهُ فِي طَبَقَات الْمُفَسّرين فِي اسْم جُبَير بن غَالب يكنى أَبَا فراس كَانَ فَقِيها شَاعِرًا خَطِيبًا فصيحا، لَهُ كتاب «أَحْكَام الْقُرْآن» . وَكتاب «السّنَن وَالْأَحْكَام» . و «الْجَامِع الْكَبِير» فِي الْفِقْه، وَله رِسَالَة كتب بهَا إِلَى مَالك بن أنس، ذكره ابْن النديم وعدّه من الشراة من الْخَوَارِج. [.....]

[سورة الملك (67) : آية 1]

وَمِنْ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُ أَقَامَ نِظَامَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِتَظْهَرَ فِي الْحَالَيْنِ مَجَارِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِي مَيَادِينِ السَّبَقِ إِلَى أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَنَتَائِجِ مَجَارِيهَا. وَأَنَّهُ الَّذِي يُجَازِي عَلَيْهَا. وَانْفِرَادُهُ بِخلق العوالم الْعليا خَلْقًا بَالِغًا غَايَةَ الْإِتْقَانِ فِيمَا تُرَادُ لَهُ. وَأَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَبِالْإِرْشَادِ إِلَى دَلَائِلِهِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَتِلْكَ دَلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. مُتَخَلِّصًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَحْذِيرِ النَّاسِ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ، وَالِارْتِبَاقِ مَعَهُمْ فِي رِبْقَةِ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَنَّ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَاةً مِنْ ذَلِكَ وَفِي تَكْذِيبِهِ الْخُسْرَانَ، وَتَنْبِيهُ الْمُعَانِدِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِلْمِ الله بِمَا يحركونه لِلرَّسُولِ ظَاهِرًا وَخُفْيَةً بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِمَخْلُوقَاتِهِ. وَالتَّذْكِيرُ بِمِنَّةِ خَلْقِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَدِقَّةِ نِظَامِهِ، وَمُلَاءَمَتِهِ لِحَيَاةِ النَّاسِ، وَفِيهَا سَعْيُهُمْ وَمِنْهَا رِزْقُهُمْ. وَالْمَوْعِظَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِفْسَادِ ذَلِكَ النِّظَامِ فَيُصْبِحُ النَّاسُ فِي كرب وعناء ليتذكروا قِيمَةَ النِّعَمِ بِتَصَوُّرِ زَوَالِهَا. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فِي لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِمْ بِلُطْفِهِ بِالطَّيْرِ فِي طيرانها. وآيسهم مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى نُصْرَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ عَلَى أَنْ تَرْزُقَهُمْ رِزْقًا. وَفَظَّعَ لَهُمْ حَالَةَ الضَّلَالِ الَّتِي وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا. ثُمَّ وَبَّخَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى وَقَاحَتِهِمْ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعِيدِهِ وَأَنَّهُ وَشِيكُ الْوُقُوعِ بِهِمْ. وَوَبَّخَهُمْ عَلَى اسْتِعْجَالِهِمْ مَوْتَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْ دَعْوَتِهِ. وَأَوْعَدَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ ضَلَالَهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْعِلْمُ، وَأَنْذَرَهُمْ بِمَا قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ قحط وَغَيره. [1] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى افْتِتَاحًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا حَوَتْهُ يَحُومُ حَوْلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقْصِ الَّذِي افْتَرَاهُ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَهُ وَالتَّعْطِيلِ لِبَعْضِ مُرَادِهِ. فَفِي هَذَا الْاِفْتِتَاحِ بَرَاعَةُ الْاِسْتِهْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَفِعْلُ تَبارَكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي وَفْرَةِ الْخَيْرِ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ وَفْرَةٍ مِنَ الْكَمَالِ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ نَوْعٌ مِنْهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ تَعَالَى. وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ إِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى وَاحِدٍ تَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ فِعْلِ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ نَحْوُ تَطَاوَلَ وَتَغَابَنَ، وَتَرِدُ كِنَايَةً عَنْ قُوَّةِ الْفِعْلِ وَشِدَّتِهِ مِثْلُ: تَوَاصَلَ الْحَبْلُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ زِيَادَةُ الْخَيْرِ وَوَفْرَتُهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْبَرَكَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي [سُورَةِ هُودٍ: 48] . وَتَقَدَّمَ تَبارَكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي أَوَّلِ [الْأَعْرَافِ: 54] . وَهَذَا الْكَلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ أَثْنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كَيْفَ يُثْنُونَ عَلَى اللَّهِ وَيَحْمَدُونَهُ كَمَا فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] : إِمَّا عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ بِالْجُمْلَةِ عَنْ إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ، وَإِمَّا بِاسْتِعْمَالِ الصِّيغَةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي مَعْنَيَيْهَا، وَلَوْ صِيغَ بِغَيْرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ لما احْتمل هاذين الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: 1] . وَجُعِلَ الْمسند إِلَيْهِ اسْم مَوْصُول لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَعْنَى الصِّلَةِ، مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْمَوْصُولِ فَصَارَتِ الصِّلَةُ مُغْنِيَةً عَنِ الْاِسْمِ الْعَلَمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْاِخْتِصَاصِ بِهِ إِذْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْاِخْتِصَاصَ بِالْمُلْكِ الْكَامِلِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ.

وَذِكْرُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ هُنَا نَظِيرُ ذِكْرِ مِثْلِهِ عَقِبَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: 1- 2] . وَالْبَاءُ فِي بِيَدِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) مِثْلُ الْبَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَمْكِنَةِ نَحْوُ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمرَان: 123] وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِسِقْطِ اللِّوَى فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى إِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِحَقِيقَةِ الْمُلْكِ، وَالْملك عَلَى هَذَا اسْمٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا مَلِكًا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْاسْتِغْرَاقُ فَمَا يُوجَدُ مِنْ أَفْرَادِهِ فَرْدٌ إِلَّا وَهُوَ مِمَّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُعْطِيهِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ. وَالْيَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] وَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُلْكُ اسْمًا فَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ مَا قُرِّرَ فِي الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ وَهُوَ بِيَدِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاِخْتِصَاصِ، أَيِ الْمُلْكُ بِيَدِهِ لَا بَيْدِ غَيْرِهِ. وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْاِعْتِدَادِ بِمُلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا بِمَا يَتَرَاءَى مِنْ إِعْطَاءِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَصْقَاعَ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَوُلَاةِ الْعَهْدِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُلْكٌ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَمْلُوكَاتِ كُلَّهَا، وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ، وَمُلْكُ اللَّهِ هُوَ الْمُلْكُ الْحَقِيقِيُّ، قَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: 114] . فَالنَّاسُ يَتَوَهَّمُونَ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُلْكًا وَلَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ. وَالْيَدُ: تَمْثِيلٌ بِأَنْ شُبِّهَتِ الْهَيْئَةُ الْمَعْقُولَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمَعْدُومَةِ بِالْإِمْدَادِ وَالتَّغْيِيرِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِيجَادِ بِهَيْئَةِ إِمْسَاكِ الْيَدِ بِالشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ فِي الْمُرَكَّبَاتِ.

وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 26] . والْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ: اسْمٌ لِأَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْمِلْكُ بِالْكَسْرِ جِنْسٌ لِلْمُلْكِ بِالضَّمِّ، وَفُسِّرَ الْمُلْكُ الْمَضْمُومُ بِضَبْطِ الشَّيْءِ الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ، وَأَرَى أَنْ يُفَسَّرَ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ وَوَطَنِهِمْ تَصَرُّفًا كَامِلًا بِتَدْبِيرٍ وَرِعَايَةٍ، فَكُلُّ مُلْكٍ (بِالضَّمِّ) مِلْكٌ (بِالْكَسْرِ) وَلَيْسَ كُلُّ مِلْكٍ مُلْكًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي [الْفَاتِحَةِ: 4] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 247] ، وَجُمْلَةِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ الَّتِي هِيَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ وَهِيَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِتَكْمِيلِ الْمَقْصُودِ مِنَ الصِّلَةِ، إِذْ أَفَادَتِ الصِّلَةُ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ بِالْإِعْدَامِ لِلْمَوْجُودَاتِ وَالْإِيجَادِ لِلْمَعْدُومَاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُفِيدًا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَفَادِيًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتْمِيمًا لِلصِّلَةِ. وَفِي مَعْنَى صِلَةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ عُطِفَتْ وَلَمْ يُكَرَّرْ فِيهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الْملك: 2] وَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الْملك: 3] . وشَيْءٍ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِطْلَاقُ الْأَصْلِيُّ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ (الشَّيْءُ) عَلَى خُصُوصِ الْمَوْجُودِ بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ وَالْمَقَامَاتِ. وَأَمَّا الْتِزَامُ الْأَشَاعِرَةِ: أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ فَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ دَعَا إِلَيْهِ سَدُّ بَابِ الْحِجَاجِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى الْمَوْجُودِ، فَتَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ: أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا لَفْظِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْاِصْطِلَاحِ فِي مَسَائِلِ عِلْمِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْمِيمِ، وَلِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ نِسْبَتَهُمُ الْإِلَهِيَّةِ لِأَصْنَامِهِمْ مَعَ اعترافهم بِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا عَلَى الْإِحْيَاء والإماتة.

[سورة الملك (67) : آية 2]

[سُورَة الْملك (67) : آيَة 2] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) صِفَةٌ لِ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكُ: 1] فَلَمَّا شَمِلَ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْملك: 1] تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ أُتْبِعَ بِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي مِنْهُ خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْرَاضِهَا لِأَنَّ الْخَلْقَ أَعْظَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ. وَأُوثِرَ بِالذِّكْرِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْعَوَارِضِ لِجِنْسِ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَالَّذِي الْإِنْسَانُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُخَاطَبَةِ بِالشَّرَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ، فَالْإِمَاتَةُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَوْجُودِ بِإِعْدَادِهِ لِلْفَنَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَعْدُومِ بِإِيجَادِهِ ثُمَّ إِعْطَائِهِ الْحَيَاةَ لِيَسْتَكْمِلَ وُجُودَ نَوْعِهِ. فَلَيْسَ ذِكْرُ خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ تَفْصِيلًا لِمَعْنَى الْمُلْكِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ. وَالْاِقْتِصَارُ عَلَى خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ هُمَا مَظْهَرَا تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فِي الذَّاتِ وَالْعَرَضِ لِأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ عَرَضَانِ وَالْإِنْسَانُ مَعْرُوضٌ لَهُمَا. وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ فَلَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ الْعَرَضِ عُلِمَ مِنْ ذِكْرِهِ خَلْقُ مَعْرُوضِهِ بِدَلَالَةِ الْاِقْتِضَاءِ. وَأُوثِرَ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِتَدَاوُلِ الْعَرَضَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ عَلَى مَعْرُوضٍ وَاحِدٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ صُنْعِ الصَّانِعِ، فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ عَرَضَانِ يَعْرِضَانِ لِلْمَوْجُودِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْمَوْتُ يُعِدُّ الْمَوْجُودَ لِلْفَنَاءِ وَالْحَيَاةُ تُعِدُّ الْمَوْجُودَ لِلْعَمَلِ لِلْبَقَاءِ مُدَّةً. وَهُمَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْحَيِّ، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَمِنْ قِسْمِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنْهُ. فَالْحَيَاةُ: قُوَّةٌ تَتْبَعُ اعْتِدَالَ الْمِزَاجِ النَّوْعِيِّ لِتَفِيضَ مِنْهَا سَائِرُ الْقُوَى. والْمَوْتَ: كَيْفِيَّةٌ عَدَمِيَّةٌ هُوَ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَيَاةِ أَوِ الْمَوْتِ، أَيْ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَنِ الْحَيِّ، فَبَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ. وَمَعْنَى خَلْقِ الْحَيَاةِ: خَلْقُ الْحَيِّ لِأَنَّ قِوَامَ الْحَيِّ هُوَ الْحَيَاةُ، فَفِي خَلْقِهِ خَلْقُ مَا

بِهِ قِوَامُهُ، وَأَمَّا مَعْنَى خَلَقَ الْمَوْتَ فَإِيجَادُ أَسْبَابِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَوْتَ عَدَمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَرَضًا لِلْمَخْلُوقِ عَبَّرَ عَنْ حُصُولِهِ بِالْخَلْقِ تَبَعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] . وَأَيْضًا لِأَنَّ الْمَوْتَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَوْجُودِ الْقَادِرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ. وَالْمَوْتُ مَكْرُوهٌ لِكُلِّ حَيٍّ فَكَانَتِ الْإِمَاتَةُ مَظْهَرًا عَظِيمًا مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَجَلِّي وَصْفِ الْقَاهِرِ. فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ فَهُوَ مِنْ مَظَاهِرِ وَصْفِ الْقَادِرِ وَلَكِنْ مَعَ وَصْفِهِ الْمُنْعِمِ. فَمَعْنَى الْقُدْرَةِ فِي الْإِمَاتَةِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى لِأَنَّ الْقَهْرَ ضَرْبٌ مِنَ الْقُدْرَةِ. وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ فِي الْإِحْيَاءِ خَفِيٌّ بِسَبَبِ أَمْرَيْنِ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْعِلْمِ، وَبِنِعْمَةِ كَمَالِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْإِنْعَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 28] . وَفِي ذِكْرِهِمَا تَخَلُّصٌ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْآثَارِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْعَمَلُ فِي الْحَيَاةِ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَإِنَّ مَعْنَى الْابْتِلَاءِ مُشْعِرٌ بِتَرَتُّبِ أَثَرٍ لَهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ لِلتَّذْكِيرِ بِحِكْمَةِ جَعْلِ هَذَيْنِ النَّامُوسَيْنِ الْبَدِيعَيْنِ فِي الْحَيَوَانِ لِتَظْهَرَ حِكْمَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَيُفْضِيَا بِهِ إِلَى الْوُجُودِ الْخَالِدِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] . وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَبِيلِ الْإِدْمَاجِ. وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَكُونَ مِنْكُم أَحيَاء يعلمُونَ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ أَمْوَاتًا يَخْلُصُونَ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ فَيُجْزَوْنَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُهَا. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَوْتَ ووَ الْحَياةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِتَحْيَوْا فَيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَتَمُوتُوا فَتُجْزَوْا عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْبَلْوَى، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ.

وَجُمْلَةُ لِيَبْلُوَكُمْ إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَوْصُولَيْنِ. وَاللَّامُ فِي لِيَبْلُوَكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ فِي خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ حِكْمَةُ أَنْ يَبْلُوَكُمْ. إِلَخْ. وَتَعْلِيلُ فِعْلٍ بِعِلَّةٍ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارُ عِلَلِهِ فِي الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ تَكُونُ لَهُ عِلَلٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَيُذْكَرُ مِنْهَا مَا يَسْتَدْعِيهِ الْمَقَامُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ خَلَقَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ وَالْحَياةَ لِأَنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ حَيَاةٌ خَاصَّةٌ تُصَحِّحُ لِلْمَوْصُوفِ بِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِدْرَاكَ الْخَاصَّ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِاخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ هُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أَيْ وَأَيُّكُمْ أَقْبَحُ عَمَلًا. وَلِذَلِكَ فَذِكْرُ خَلْقِ الْمَوْتِ إِتْمَامٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ، وَذِكْرُ خَلْقِ الْحَيَاةِ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ، وَهُوَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ. وَلَا أَشُكُّ فِي أَنَّ بِنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نَامُوسِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لَهُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَعْسُرُ عَلَى الْأَفْهَامِ الْاطِّلَاعُ عَلَيْهَا. وَالْبَلْوَى: الْاخْتِبَارُ وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ، أَيْ لِيُعْلَمَ عِلْمُ ظُهُورٍ أَوْ مُسْتَعَارَةٌ لِإِظْهَارِ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ، فَجُعِلَ إِظْهَارُ الشَّيْءِ الْخَفِيِّ شَبِيهًا بِالْاخْتِبَارِ. وَجُمْلَةُ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مرتبطة ب لِيَبْلُوَكُمْ. وَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ وَرَفْعُهُ يُعَيِّنُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ لِلَفْظٍ قَبْلَهُ فَوَجَبَ بَيَانُ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ هُودَ أَنَّ جُمْلَةَ الْاسْتِفْهَامِ سَادَةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَأَنَّ فِعْلَ يَبْلُوَكُمْ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى (يَعْلَمُكُمْ) مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَلَيْسَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مَانِعًا مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ. الْوَجْه الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَبْلُوَكُمْ أَيْ تُؤَوَّلُ الْجُمْلَةُ بِمَعْنَى مُفْرَدٍ تَقْدِيرُهُ: لِيُعْلِمَكُمْ أَهَذَا الْفَرِيقُ أَحْسَنُ عَمَلًا أَمِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ.

وَهَذَا مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا إِذَا لَمْ يُذْكَرْ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ فَإِذَا ذُكِرَ مَفْعُولٌ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُقَالُ فِي حَقِّهِمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مَرْيَم: 69] أَيْ: لِنَنْزِعَنَّ الَّذِينَ يُقَالُ فِيهِمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِيُعْلَمَ جَوَابُ سُؤَالِ سَائِلٍ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. قُلْتُ: وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُسْتَأْنَفَةً وَتَجْعَلَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحْضِيضِ عَلَى حُسْنِ الْعَمَلِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ: إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي ... عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسُلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدْ فَجَعَلَ الْاسْتِفْهَامَ تَحْضِيضًا. وأَحْسَنُ تَفْضِيلٌ، أَيْ أَحْسَنُ عَمَلًا مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَعْمَالُ الْحَسَنَةُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْحُسْنِ إِلَى أَدْنَاهَا، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا مَفْهُومَةٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّ الْبَلْوَى فِي أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ تَقْتَضِي الْبَلْوَى فِي السَّيِّئَاتِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّ إِحْصَاءَهَا وَالْإِحَاطَةَ بِهَا أَوْلَى فِي الْجَزَاءِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْاجْتِرَاءِ عَلَى الشَّارِعِ، وَمِنَ الْفَسَادِ فِي النَّفْسِ، وَفِي نِظَامِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ فَفِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إِيجَازٌ. وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إِشَارَة إِلَى أَن صِفَاتِهِ تَعَالَى تَقْتَضِي تَعَلُّقًا بِمُتَعَلَّقَاتِهَا لِئَلَّا تَكُونَ مُعَطَّلَةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى نَقَائِضِهَا، فَأَمَّا الْعَزِيزُ فَهُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَعْجَزُ عَنْ شَيْءٍ، وَذِكْرُهُ مُنَاسِبٌ لِلْجَزَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ لِيَجْزِيَكُمْ جَزَاءَ الْعَزِيزِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ وَالنُّكُولِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا حَظُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ لِيَبْلُوَكُمْ.

[سورة الملك (67) : الآيات 3 إلى 4]

وَأَمَّا الْغَفُورُ فَهُوَ الَّذِي يُكْرِمُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَصْفَحُ عَنْ فَلَتَاتِهِمْ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكِنَايَةٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَظِّ أَهْلِ الصَّلَاحِ من المخاطبين. [3- 4] [سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 3 إِلَى 4] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أُعْقِبَ التَّذْكِيرُ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَهَمِّ أَعْرَاضِهِ بِذِكْرِ خَلْقِ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ، وَمُفِيدَةٌ وَصْفًا مِنْ عَظِيمِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ فِيهَا اسْمُ الْمَوْصُولِ لِتَكُونَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ جَارِيَةً عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالسَّمَاوَاتُ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَوَاكِبُ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ مَا عَدَا الْأَرْضَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 29] فَإِنَّهَا هِيَ الْمُشَاهَدَةُ بِأَعْيُنِ الْمُخَاطَبِينَ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَحْسُوسِ. وَالطِّبَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ طَابَقَ وُصِفَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدَةُ الْمُطَابَقَةِ، أَيْ مُنَاسِبَةٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فِي النِّظَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طِباقاً جَمْعَ طَبَقٍ، وَالطَّبَقُ الْمُسَاوِي فِي حَالَةٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُرْتَفِعٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فِي الْفَضَاءِ السَّحِيقِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ مِثْلُ التَّكْوِيرِ وَالتَّحَرُّكِ الْمُنْتَظِمِ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي تَحَرُّكِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحَرُّكِ بَقِيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تَرْتَطِمُ وَلَا يَتَدَاخَلُ سَيْرُهَا. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: طِباقاً مَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهَا مَظْرُوفٌ لِبَعْضٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُفَادِ مَادَّةِ الطِّبَاقِ (فَلَا تَكُنْ طَبَاقَاءَ) .

وَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. فَإِنَّ نَفْيَ التَّفَاوُتِ يُحَقِّقُ مَعْنَى التَّطَابُقِ، أَيِ التَّمَاثُلِ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ تَفَاوُتًا. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: مَا تَرَى فِيهِنَّ وَلَا فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ فَعبر بِخلق الرحمان لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التَّفَاوُتِ عَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ طِبَاقًا لِأَنَّهَا من خلق الرحمان، وَلَيْسَ فِيمَا خلق الرحمان مِنْ تَفَاوَتٍ وَمِنْ ذَلِكَ نِظَامُ السَّمَاوَاتِ. وَالتَّفَاوُتُ بِوَزْنِ التَّفَاعُلِ: شِدَّةُ الْفَوْتِ، وَالْفَوْتُ: الْبُعْدُ، وَلَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ فِيهِ لِحُصُولِ فِعْلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلَكِنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ. وَيُقَالُ: تَفَوَّتَ الْأَمْرُ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنْ تَفَوَّتَ، بِمَعْنَى حَصَلَ فِيهِ عَيْبٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَفاوُتٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ مِنْ تَفَوُّتٍ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي رَسْمِ الْفَتَحَاتِ الْمُشْبَعَةِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّخَالُفِ وَانْعِدَامِ التَّنَاسُقِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ يُشَبِّهُ الْبُعْدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي تَفَاوُتًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ أَضَاعُوا النَّظَرَ وَالْاسْتِدْلَالَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا تُشَاهِدُهُ أَبْصَارُهُمْ مِنْ نِظَامِ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ لِكُلِّ مَنْ يُبْصِرُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: 11] ، وَيُرَادُ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ لِتَتَأَتَّى الْإِضَافَةُ إِلَى اسْمه الرَّحْمنِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ مَصْدَرًا فَيَشْمَلُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَخَلْقَ غَيْرِهَا فَإِنَّ صُنْعَ اللَّهِ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ لَوِ اسْتَقَامُوا كَمَا صَنَعَ لَهُمْ وَأَوْصَاهُمْ، فَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَادَ التَّذْيِيلِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْاعْتِرَاضِ وَلَا يَكُونُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالتَّعْبِير بِوَصْف الرَّحْمنِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّظَامَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ رَحْمَتُهُ بِالنَّاسِ لِتَجْرِيَ أُمُورُهُمْ عَلَى حَالَةٍ تُلَائِمُ نِظَامَ عَيْشِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ تَفَاوُتٌ لَكَانَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ سَبَبًا لِاخْتِلَالِ النِّظَامِ فَيَتَعَرَّضُ النَّاسُ بِذَلِكَ لِأَهْوَالٍ وَمَشَاقٍّ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: 97] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُس: 5] . وَأَيْضًا فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ تَوَرُّكٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الْفرْقَان: 60] . وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ إِلْخَ. وَالتَّفْرِيعُ لِلتَّسَبُّبِ، أَيِ انْتِفَاءُ رُؤْيَةِ التَّفَاوُتِ، جُعِلَ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالنَّظَرِ لِيَكُونَ نَفْيُ التَّفَاوُتِ مَعْلُومًا عَنْ يَقِينٍ دُونَ تَقْلِيدٍ لِلْمُخْبِرِ. وَرَجْعُ الْبَصَرِ: تَكْرِيرُهُ وَالرَّجْعُ: الْعَوْدُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُجَاءُ مِنْهُ، وَفِعْلُ: رَجَعَ يَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ بِمَعْنَى: أَرْجَعَ، فَارْجِعْ هُنَا فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ رَجَّعَ الْمُتَعَدِّي. وَالرَّجْعُ يَقْتَضِي سَبْقَ حُلُولٍ بِالْمَوْضِعِ، فَالْمَعْنَى: أَعِدِ النَّظَرَ، وَهُوَ النَّظَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أَيْ أَعِدْ رُؤْيَةَ السَّمَاوَاتِ وَأَنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا إِعَادَةَ تَحْقِيقٍ وَتَبَصُّرٍ، كَمَا يُقَالُ: أَعِدْ نَظَرًا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ وَقَوْلِهِ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ إِلْخَ. خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِرْشَادِ لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الصِّفَاتِ وَاجِبٌ لِمَنْ عُرِضَ لَهُ دَاعٍ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ.

وَالْبَصَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَصَرُ الْمَصْحُوبُ بِالتَّفَكُّرِ وَالْاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مُوجِدِهَا. وَهَذَا يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَالْاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ تَقْرِيرِيٌّ وَوَقَعَ بِ هَلْ لِأَنَّ هَلْ تُفِيدُ تَأْكِيدَ الِاسْتِفْهَامَ إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (قَدْ) فِي الْاسْتِفْهَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَحَثٌّ عَلَى التَّبَصُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، أَي لَا تقتنع بِنَظْرَةٍ وَنَظْرَتَيْنِ، فَتَقُولُ: لَمْ أَجِدْ فُطُورًا، بَلْ كَرِّرِ النَّظَرَ وَعَاوِدْهُ بَاحِثًا عَنْ مُصَادَفَةِ فُطُورٍ لَعَلَّكَ تَجِدُهُ. وَالْفُطُورُ: جَمْعُ فَطْرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الشَّقُّ وَالصَّدْعُ، أَيْ لَا يَسَعُكَ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِفَ بِانْتِفَاءِ الْفُطُورِ فِي نِظَامِ السَّمَاوَاتِ فَتَرَاهَا مُلْتَئِمَةً مَحْبُوكَةً لَا تَرَى فِي خِلَالِهَا انْشِقَاقًا، وَلِذَلِكَ كَانَ انْفِطَارُ السَّمَاءِ وَانْشِقَاقُهَا عَلَامَةً عَلَى انْقِرَاضِ هَذَا الْعَالَمِ وَنِظَامِهِ الشَّمْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] وَقَالَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] . وَعَطْفُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ دَالٌّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ ثُمَّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَإِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِ ثُمَّ هُنَا أَهَمُّ وَأَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ إِعَادَةَ النَّظَرِ تَزِيدُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ التَّفَاوُتِ فِي الْخَلْقِ رُسُوخًا وَيَقِينًا. وكَرَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ كَرَّةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ وَعَبَّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْكَرَّةِ مُشْتَقَّةً مِنَ الْكَرِّ وَهُوَ الْعَوْدُ لِأَنَّهَا عَوْدٌ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَ الْانْفِصَالِ عَنْهُ كَكَرَّةِ الْمُقَاتِلِ يَحْمِلُ عَلَى الْعَدْوِ بَعْدَ أَنْ يَفِرَّ فِرَارًا مَصْنُوعًا. وَإِيثَارُ لَفْظِ كَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ مُرَادَفِهِ نَحْوِ مَرَّتَيْنِ وَتَارَتَيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَرَّةَ لَمْ يَغْلِبْ إِطْلَاقَهَا عَلَى عَدَدِ الْاثْنَيْنِ، فَكَانَ إِيثَارُهَا فِي مَقَامٍ لَا يُرَادُ فِيهِ اثْنَيْنِ أَظْهَرَ فِي أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ

[سورة الملك (67) : آية 5]

دُونَ عَدَدِ اثْنَيْنِ أَوْ زَوْجٍ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ، ألَا تَرَى أَنَّ مَقَامَ إِرَادَةِ عَدَدِ الزَّوْجِ كَانَ مُقْتَضِيًا تَثْنِيَةَ مَرَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة: 229] لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْعَدَدِ إِذْ لَفْظُ مَرَّةٍ أَكْثَرُ تَدَاوُلًا. وَتَثْنِيَةُ كَرَّتَيْنِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَدَدَ الْاثْنَيْنِ الَّذِي هُوَ ضِعْفُ الْوَاحِدِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِخُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا التَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ فَإِنَّ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّكْرِيرُ وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» يُرِيدُونَ تَلْبِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَإِسْعَادًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُمْ: دَوَالَيِكَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ «دُهْدُرَّيْنِ، سَعْدُ الْقَيْنِ» (الدُّهْدُرُّ الْبَاطِلُ، أَيْ بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، أَيْ أَتَيْتَ يَا سَعْدُ الْقَيْنِ دُهْدُرَّيْنِ وَهُوَ تَثْنِيَةُ دهدرّ الدَّال الْمُهْملَة فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ فَهَاءٌ سَاكِنَةٌ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ مَضْمُومَةٌ فَرَاءٌ مُشَدَّدَةٌ) وَأَصْلُهُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ نَقَلَهَا الْعَرَبُ وَجَعَلُوهَا بِمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَسَبَبُ النَّقْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَتَثْنِيَتُهُ مُكَنًّى بِهَا عَنْ مُضَاعَفَةِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْمَثَلَ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ وَأَمَّا سَعْدُ الْقَيْنِ فَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ قَيْنًا وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى الْأَحْيَاءِ لِصَقْلِ سُيُوفَهُمْ وَإِصْلَاحِ أَسْلِحَتَهُمْ فَكَانَ يُشِيعُ أَنَّهُ رَاحِلٌ غَدًا لِيُسْرِعَ أَهْلُ الْحَيِّ بِجَلْبِ مَا يَحْتَاجُ لِلْإِصْلَاحِ فَإِذَا أَتَوْهُ بِهَا أَقَامَ وَلَمْ يَرْحَلْ فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْكَذِبِ فَكَانَ هَذَا الْمَثَلُ جَامِعًا لِمَثَلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُسْتَقْصَى» ، وَالْمَيْدَانِيُّ فِي «مَجْمَعِ الْأَمْثَالِ» وَأَطَالَ. وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ التَّثْنِيَةَ فِي مَعْنَى التَّكْرِيرِ أَنَّهُمُ اخْتَصَرُوا بِالتَّثْنِيَةِ تَعْدَادَ ذِكْرِ الْاسْمِ تَعْدَادًا مُشِيرًا إِلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: وَقَعَ كَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ. فَمَعْنَى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ عَاوِدِ التَّأَمُّلَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ يُقَالُ: انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: 31] وَإِيثَارُ فِعْلُ: يَنْقَلِبْ هُنَا دُونَ: يَرْجِعُ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِفِعْلِ ارْجِعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ نَظِيرُ إِيثَارِ كَلِمَةَ كَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَالْخَاسِئُ: الْخَائِبُ، أَيِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَا يَطْلُبُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اخْسَؤُا فِيها فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: 108] . وَالْحَسِيرُ: الْكَلِيلُ. وَهُوَ كلل ناشىء عَنْ قُوَّةِ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ مَعَ التَّكْرِيرِ، أَيْ يَرْجِعُ الْبَصَرُ غَيْرَ وَاجِدٍ مَا أُغْرِيَ بِالْحِرْصِ عَلَى رُؤْيَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَدَامَ التَّأَمُّلَ وَالْفَحْصَ حَتَّى عَيِيَ وَكَّلَ، أَيْ لَا تَجِدْ بَعْدَ اللَّأْيِ فُطُورًا فِي خلق الله. [5] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 5] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ

(5) انْتَقَلَ مِنْ دَلَائِلَ انْتِفَاءِ الْخَلَلِ عَنْ خِلْقَةِ السَّمَاوَاتِ، إِلَى بَيَانِ مَا فِي إِحْدَى السَّمَاوَاتِ مِنْ إِتْقَانِ الصُّنْعِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ الْإِتْقَانِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَذِكْرُهُ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ كَذِكْرِ الْمِثَالِ بَعْدَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، فَدَقَائِقُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَوْضَحُ دَلَالَةً عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ لِكَوْنِهَا نُصْبَ أَعْيُنِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ بَعْضِهَا يَحْصُلُ تَخَلُّصٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ حِيَلِ الشَّيَاطِينِ وَسُوءِ عَوَاقِبِ أَتْبَاعِهِمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (قَدْ) لِأَنَّهُ إِلَى أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمُؤَكَّدِ بِ (هَلْ) أُخْتُ (قَدْ) فِي الْاسْتِفْهَامِ. وَالْكَلَامُ عَلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَلماذَا وُصِفَتْ بِالدُّنْيَا وَعَنِ الْكَوَاكِبِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَسُمِّيَتِ النُّجُومُ هُنَا مَصَابِيحَ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَذِكْرُ التَّزْيِينِ إِدْمَاجٌ لِلْامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الْاسْتِدْلَالِ، أَيْ زَيَّنَّاهَا لَكُمْ مِثْلُ الْامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [6] . وَالْمَقْصِدُ: التَّخَلُّصُ إِلَى ذِكْرِ رَجْمِ الشَّيَاطِينَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى وَعِيدِهِمْ وَوَعِيدِ مُتَّبِعِيهِمْ. وَعَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِ (مَصَابِيحَ) بِالْلَّامِ إِلَى تَنْكِيرِهِ لِمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالرُّجُومُ: جَمْعُ رَجْمٍ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُرْجَمُ بِهِ، أَيْ مَا يَرْمِي بِهِ الرَّامِي مِنْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ مِثْلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] . وَالَّذِي جُعِلَ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ هُوَ بَعْضُ النُّجُومِ الَّتِي تَبْدُو مُضِيئَةً ثُمَّ تَلُوحُ مُنْقَضَّةً، وَتُسَمَّى الشُّهُبُ وَمَضَى الْقَوْلُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَضَمِيرُ الْغَائِبَةِ فِي جَعَلْناها الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَصَابِيحِ، أَيْ أَنَّ الْمَصَابِيحَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ. وَمَعْنَى جَعْلِ الْمَصَابِيحِ رُجُومًا جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ عَمَلِ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى جَمِيعِهِ مِثْلُ إِسْنَادِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْقَبَائِلِ لِأَنَّ الْعَامِلِينَ مِنْ أَفْرَادِ الْقَبِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: 85] وَقَوْلِ الْعَرَبِ: قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَضِيعَ بَنِي لَيْثٍ تَمَّامَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي جَعَلْناها عَائِد إِلَى السَّماءَ الدُّنْيا عَلَى تَقْدِيرِ: وَجَعَلْنَا مِنْهَا رُجُومًا إِمَّا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَإِمَّا عَلَى تَنْزِيلِ الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الرُّجُومُ مَنْزِلَةَ نَفْسِ الرُّجُومِ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [66] وَلَكِنَّهَا عَلَى جَعْلِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ رَاجِعًا إِلَى الْقَرْيَةِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَلَكِنَّهَا ذُكِرَتْ فِي آيَةِ سُورَة الْأَعْرَاف [163] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ وَقِصَّتُهَا هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [الْبَقَرَة: 65] فَالتَّقْدِيرُ: فَجَعَلْنَا مِنْهَا، أَيْ مِنَ الْقَرْيَةِ نَكَالًا، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَة: 65] . وَالشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَتَطْرُدُهَا الشُّهُبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَأَصْلُ أَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا أَيْ هَيَّأْنَا، قُلِبَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأْتَّيَ الْإِدْغَامُ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ. والسَّعِيرِ: اسْمٌ صِيغَ عَلَى مِثَالِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ: سَعَّرَ النَّارَ، إِذَا أَوْقَدَهَا وَهُوَ لَهَبُ النَّارِ، أَيْ أَعْدَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ عَذَابَ طَبَقَةٍ أَشَدُّ طَبَقَاتِ النَّارِ حَرَارَةً وَتَوَقُّدًا فَإِنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٍ. وَكَانَ السَّعِيرُ عَذَابًا لِشَيَاطِينِ الْجِنِّ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ مِنْ نَارِ طَبْعِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ صَارَتْ لَهُمْ عَذَابًا. وَتَسْمِيَةُ عَذَابِهِمُ السَّعِيرِ دُونَ النَّارِ، أَوْ جَهَنَّمَ مُرَادٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عَذَابِ الْجِنِّ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ [سبأ: 12] وَقَالَ إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] يَعْنِي الشَّيْطَانَ. وَمَعْنَى الْإِعْدَادِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِعْدَادُ تَقْدِيرٍ وَإِيجَادٍ فَلَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ مَخْلُوقَةً قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِعْدَادُ اسْتِعْمَالٍ، فَتَكُونُ جَهَنَّمُ مَخْلُوقَةً حِينَ نُزُولِ

[سورة الملك (67) : آية 6]

الْآيَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّ النَّارَ مَوْجُودَةٌ أَوْ تُوجَدُ يَوْمَ الْجَزَاءِ إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى فَرْضِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَأْوِيلُ بَعْضِ الْآيَات وَالْأَحَادِيث. [6] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 6] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) هَذَا تَتْمِيمٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَّ لِلشَّيَاطِينِ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى: وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ عَذَابُ جَهَنَّمَ فَالْمُرَادُ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَجْلِ مَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ غَايَرَتِ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِهِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُبَادَرَةِ بِهِ. وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ بِئْسَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَالْمَعْنَى: بِئْسَتْ جَهَنَّمُ مَصِيرًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا. [7- 9] [سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 7 الى 9] إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ. الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ ذَمِّ مَصِيرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَذَامِّ مَصِيرِهِمْ مَذَمَّةَ مَا يَسْمَعُونَهُ فِيهَا مِنْ أَصْوَاتٍ مُؤْلِمَةٍ مُخِيفَةٍ. وإِذا ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ سَمِعُوا يَدُلُّ عَلَى الْاقْتِرَانِ بَيْنَ زَمَنِ الْإِلْقَاءِ وَزَمَنِ سَمَاعِ الشَّهِيقِ. وَالشَّهِيقُ: تَرَدُّدُ الأنفاس فِي الْمصدر لَا تَسْتَطِيعُ الصُّعُودَ لِبُكَاءٍ وَنَحْوِهِ أُطْلِقَ عَلَى صَوْتِ الْتِهَابِ نَارِ جَهَنَّمَ الشَّهِيقُ تَفْظِيعًا لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَمِعُوا لَها يَقْتَضِي أَنَّ الشَّهِيقَ شَهِيقُهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْلَّامِ أَنْ تَكُونَ لِشِبْهِ الْمِلْكِ. وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَفُورُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فِيها وَتَفُورُ: تَغْلِي وَتَرْتَفِعُ أَلْسِنَةُ لَهِيبِهَا.

وَ (الْغَيْظِ) أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَقَوْلُهُ: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضمير وَهِيَ، مثلث حَالَةَ فَوَرَانِهَا وَتَصَاعُدِ أَلْسِنَةِ لَهِيبِهَا وَرَطْمِهَا مَا فِيهَا وَالْتِهَامِ مَنْ يُلْقَوْنَ إِلَيْهَا، بِحَالِ مُغْتَاظٍ شَدِيدِ الْغَيْظِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا غَاظَهُ إِلَّا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَا يَسْتَطِيعُ مِنَ الْأَضْرَارِ. وَاسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا مَعَ مُرَادِفَاتِهِ كَقَوْلِهِمْ: يَكَادُ فُلَانُ يَتَمَيَّزُ غَيْظًا وَيَتَقَصَّفُ غَضَبًا، أَيْ يَكَادُ تَتَفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ فَيَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَهَذَا مِنَ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَةِ وَقَدْ وَضَّحْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [77] إِذْ مُثِّلَ الْجِدَارُ بِشَخْصٍ لَهُ إِرَادَةٌ. وتَمَيَّزُ أَصْلُهُ تَتَمَيَّزُ، أَيْ تَنْفَصِلُ، أَيْ تَتَجَزَّأُ أَجْزَاءً تَخْيِيلًا لِشِدَّةِ الْاضْطِرَابِ بِأَنَّ أَجْزَاءَهَا قَارَبَتْ أَنْ تَتَقَطَّعَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: غَضِبَ فُلَانٌ فَطَارَتْ مِنْهُ شُقَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُقَّةٌ فِي السَّمَاءِ. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. أُتْبِعَ وَصْفُ مَا يَجِدُهُ أَهْلُ النَّارِ عِنْدَ إِلْقَائِهِمْ فِيهَا مِنْ فَظَائِعَ أَهْوَالِهَا بِوَصْفِ مَا يَتَلَقَّاهُمْ بِهِ خَزَنَةُ النَّارِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَثَارَهُ وَصْفُ النَّارِ عِنْدَ إِلْقَاءِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا إِذْ يَتَسَاءَلُ السَّامِعُ عَنْ سَبَبِ وُقُوعِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا فَجَاءَ بَيَانُهُ بِأَنَّهُ تَكْذِيبُهُمْ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ نَدَامَةِ أَهْلِ النَّارِ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ وَعَلَى إِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ والتدبر فِيمَا جاءوهم بِهِ. وكُلَّما مُرَكَّبٌ مِنْ (كُلَّ) اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الشُّمُولِ وَمِنْ (مَا) الظَّرْفِيَّة المصدرية وَهِي حَرْفٌ يُؤَوَّلُ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَصْدَرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فِي كُلِّ وَقْتِ إِلْقَاءِ فَوْجٍ يَسْأَلُهُمْ خَزَنَتُهَا الْفَوْجَ.

وَبِاتِّصَالِ (كُلَّ) بِحَرْفِ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ اكْتَسَبَ التَّرْكِيبُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَشَابَهَ أَدَوَاتَ الشَّرْطِ فِي الْاحْتِيَاجِ إِلَى جُمْلَتَيْنِ مُرَتَّبَةٌ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَجِيءَ بِفِعْلَيْ أُلْقِيَ وسَأَلَهُمْ مَاضِيَيْنِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ الْفِعْلُ بَعْدُ كُلَّما أَنْ يَكُونَ بِصِيغَة الْمُضِيّ لِأَنَّهَا لَمَّا شَابَهَتِ الشَّرْطَ اسْتَوَى الْمَاضِي وَالْمُضَارِعُ مَعَهَا لِظُهُورِ أَنَّهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ فَأُوثِرَ فِعْلُ الْمُضِيِّ لِأَنَّهُ أَخَفُّ. وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ أَيْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُلُودُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فِي سُورَةِ النَّمْلِ [83] . وَجِيءَ بِالضَّمَائِرِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْفَوْجِ ضَمَائِرُ جَمْعٍ فِي قَوْلِهِ: سَأَلَهُمْ إِلَخْ. لِتَأْوِيلِ الْفَوْجِ بِجَمَاعَةِ أَفْرَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] . وَخَزَنَةُ النَّارِ: الْمَلَائِكَةُ الْمُوكَّلُ إِلَيْهِمْ أَمْرُ جَهَنَّمَ وَهُوَ جَمْعُ خَازِنٍ لِلْمُوَكَّلِ بِالْحِفْظِ وَأَصْلُ الْخَازِنِ: الَّذِي يُخَزِّنُ شَيْئًا، أَيْ يَحْفَظُهُ فِي مَكَانٍ حَصِينٍ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُوَكَّلِينَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ سَأَلَهُمْ كَقَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [طه: 120] . وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ لِيَزِيدَهُمْ حَسْرَةً. وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ، أَيْ رَسُولٌ مُنْذِرٌ بِعِقَابِ اللَّهِ وَهُوَ مَصُوغٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا صِيغَ بِمَعْنَى الْمُسْمِعُ السَّمِيعُ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكرب: أَمن رياحنة الدَّاعِي السَّمِيعُ وَالْمُرَادُ أَفْوَاجُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ فَتَكُونُ جُمْلَةُ: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ إِلَخْ بِمَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَجُمْلَةُ: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ اعْتِرَاضًا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَوْجَ قَاطَعَ كَلَامَ الْخَزَنَةِ بِتَعْجِيلِ الْاعْتِرَافِ بِمَا وَبَّخُوهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّهَا اعْتِرَاضٌ، وَلِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَكَانَ

جَوَابُهُمْ جَوَابَ المتحسر المتندم، فابتدأوا الْجَوَابَ دُفْعَةً بِحَرْفِ بَلى الْمُفِيدُ نَقِيضَ النَّفْيِ فِي الْاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ مُفِيدٌ مَعْنَى: جَاءَنَا نَذِيرٌ. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُمْ: قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ موكدا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَلى، وَهُوَ مِنْ تَكْرِيرِ الْكَلَامِ عِنْدَ التَّحَسُّرِ، مَعَ زِيَادَةِ التَّحْقِيقِ بِ قَدْ، وَذَلِكَ التَّأْكِيدُ هُوَ مَنَاطُ النَّدَامَةِ وَالْاعْتِرَافِ بِالْخَطَإِ. وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا بَقِيَّةُ كَلَامِ خَزَنَةِ جَهَنَّم فصل بَينهمَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَهَا مِنْ كَلَامِهِمُ اعْتِرَاضُ جَوَابِ الْفَوْجِ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِمُ الْاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا إِعَادَةُ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي حِكَايَةِ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْفَوْجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ [الْملك: 10] إِلَخْ لِانْقِطَاعِهِ بِالْاعْتِرَاضِ الْوَاقِعِ خِلَالَ حِكَايَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ كُلِّ فَوْجٍ لِنَذِيرِهِمْ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ مَعَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ رَسُولًا وَاحِدًا فِي الْغَالِبِ بِاسْتِثْنَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ وَبِاسْتِثْنَاءِ رُسُلِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ يس أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِكَايَةِ بِالْمَعْنَى بِأَنْ جُمِعَ كَلَامُ جَمِيعِ الْأَفْوَاجِ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ فَجِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَفْوَاجِ، أَيْ قَالَ جَمِيعُ الْأَفْوَاجِ: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمِثَالِ الْمَشْهُورِ: «رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ» ، وَأَمَّا عَلَى إِرَادَةِ شُمُولِ الضَّمِيرِ لِلنَّذِيرِ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَعُمُومُ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ المُرَاد مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِيلُونَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ وَحْيًا عَلَى بَشَرٍ، وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَقد تَقَدَّمَ فِي آخِرِ [الْأَنْعَامِ: 91] . وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِ كَبِيرٍ مَعْنَاهُ شَدِيدٌ بَالِغٌ غَايَةَ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ جِنْسُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ جِسْمٌ كَبِيرٌ. وَمَعْنَى الْقَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّفْيِ وَالْاسْتِثْنَاءِ فِي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ مَا حَالُكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا إِلَّا الضَّلَالُ، وَلَيْسَ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ وَالْهُدَى كَمَا تَزْعُمُونَ.

[سورة الملك (67) : آية 10]

وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ لِتَشْبِيهِهِمْ تَمَحُّضَهُمْ لِلضَّلَالِ بِإِحَاطَةِ الظّرْف بالمظروف. [10] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 10] وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا كَلَامٌ آخَرُ غَيْرَ الَّذِي وَقع جَوَابا عَن سُؤَالِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلٌ قَالُوهُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي النَّارِ تَحَسُّرًا وَتَنَدُّمًا، أَيْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: 38] إِلَخْ. لِتَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ عَلَى حَسَبِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْملك: 9] . وَذَكَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ يُرِيدُونَ سَمْعًا خَاصًّا وَعَقْلًا خَاصًّا، فَانْتِفَاءُ السَّمْعِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] وَانْتِفَاءُ الْعَقْلِ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِمْ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ. وَلَا شكّ فِي أَنَّ أَقَلَّ النَّاسِ عَقْلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ طَرَحُوا مَا هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ لِغَيْرِ مُعَارِضٍ يُعَارِضُهُ فِي دِينِهِمْ، إِذْ لَيْسَ فِي دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَعِيدٌ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشِّرْكَ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ، وَلَا عَلَى مَا يُخَالِفُ أَعْمَالَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ قَاضِيًا بِأَنْ يَتَلَقَّوْا مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ من الْإِنْذَار بالامتثال إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي دِينِهِمْ لَوْلَا الْإِلْفُ وَالتَّكَبُّرُ بِخِلَافِ حَالِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينٍ فَهُمْ يَخْشَوْنَ إِنْ أَهْمَلُوهُ أَنْ لَا يُغْنِيَ عَنْهُمُ الدِّينُ الْجَدِيدُ شَيْئًا فَكَانُوا إِلَى الْمَعْذِرَةِ أَقْرَبُ لَوْلَا أَنَّ الْأَدِلَّةَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا مِنْ [سُورَةِ الطُّورِ: 32] عَنْ كِتَابِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثًا «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْقَلَ فُلَانًا النَّصْرَانِيَّ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ، إِنَّ الْكَافِرَ لَا عَقْلَ لَهُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ قَالَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَزَجَرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَهْ إِنَّ الْعَاقِلَ مَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَلَا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ.

[سورة الملك (67) : آية 11]

وَيُؤْخَذُ من هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قِوَامَ الصَّلَاحِ فِي حُسْنِ التَّلَقِّي وَحُسْنِ النَّظَرِ وَأَنَّ الْأَثَرَ وَالنَّظَرَ، أَيِ الْقِيَاسُ هُمَا أَصْلَا الْهُدَى، وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ: لَوْ كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا وَلَا أَحْسُبُهُ إِلَّا مِنْ قَبِيلِ الْاسْتِرْوَاحِ. وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ وَهُوَ تَقْسِيمٌ بِاعْتِبَارِ نَوْعَيِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَقْتَضِي حُسْنَ الْاسْتِمَاعِ تَارَةً إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهَا إِرْشَادٌ، وَحُسْنَ التَّفَهُّمِ وَالنَّظَرِ تَارَةً إِذَا دُعِيَتْ إِلَى النَّظَرِ مِنْ دَاعٍ غَيْرِ أَنْفُسِهَا، أَوْ مِنْ دَوَاعِي أَنْفُسِهَا، قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 17- 18] . وَوَجْهُ تَقْدِيمِ السَّمْعِ على الْعقل أَن الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيِّ وَالسَّمْعُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْئِيِّ وَرَعْيًا لِلتَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّ سَمْعَ دَعْوَةِ النَّذِيرِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُنْذَرُونَ، ثُمَّ يُعْمِلُونَ عُقُولهمْ فِي التدبر فِيهَا. [11] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 11] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) الْفَاءُ الْأُولَى فَصِيحَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ قَالُوا بذلك فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا هُنَالِكَ بِذَنْبِهِمْ، أَيْ فَهُمْ مَحْقُوقُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالسُّحْقُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ، وَهُوَ هُنَا نَائِبٌ عَنِ الْإِسْحَاقِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْإِبْعَادِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، أَيْ أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ إِسْحَاقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ هَذَا الدُّعَاء التعجيب مِنْ حَالِهِمْ كَمَا يُقَالُ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَوَيْلٌ لَهُ، فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ. وَالْفَاءُ الثَّانِيَةُ لِلتَّسَبُّبِ، أَيْ فَهُمْ جَدِيرُونَ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِبْعَادِ أَو جديرون بالتعجيب مِنْ بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ عَقِبَ اعْتِرَافِهِمْ، تَنْدِيمًا يَزِيدُهُمْ أَلَمًا فِي نُفُوسِهِمْ فَوْقَ أَلَمِ الْحَرِيقِ فِي جُلُودِهِمْ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى (سُحْقًا) لَامُ التَّقْوِيَةِ إِنْ جُعِلَ (سُحْقًا) دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِالْإِبْعَادِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ فِي الْفِعْلِ، وَيجوز أَن يكون الْلَّامُ لَامَ التَّبْيِينِ

[سورة الملك (67) : آية 12]

لِآيَاتِهِ تَعَلُّقُ الْعَامِلِ بِمَعْمُولِهِ كَقَوْلِهِمْ: شُكْرًا لَكَ، فَكُلٌّ مِنْ (سُحْقًا) وَالْلَّامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي معنييه. ولِأَصْحابِ السَّعِيرِ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ تَبَعًا لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَسُحْقاً بِسُكُونِ الْحَاءِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَهُوَ لُغَةٌ فِيهِ وَذَلِكَ لِاتِّبَاعِ ضمة السِّين. [12] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 12] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) اعْتِرَاضٌ يُفِيدُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَاءَ عَلَى سُنَنِ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَعْقَبَهُ بِمَا أُعِدَّ لِلَّذِينِ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالثَّوَابِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدَّمَ الْمَغْفِرَةَ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَمِنَ اللَّمَمِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِالْبِشَارَةِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، فَكَانَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى قَانُونِ تَقْدِيمِ التَّخْلِيَة على التحلية، أَوْ تَقْدِيمِ دَفْعِ الضُّرِّ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ، وَالْوَصْفُ بِالْكَبِيرِ بِمَعْنَى الْعَظِيمِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْملك: 9] . وَتَنْكِيرُ مَغْفِرَةٌ لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ مُقَارَنَتِهِ بِ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَبِقَرِينَةِ التَّقْدِيمِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ الْمُبْتَدَإِ، وَلِإِفَادَةِ الْاهْتِمَامِ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَهِيَ نكت كَثِيرَة. [13- 14] [سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 13 إِلَى 14] وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) عطف على الْجمل السَّابِقَةِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْأَقْوَالُ الَّتِي

كَانَتْ تَصْدُرُ مِنْهُمْ بِالنَّيْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ اللَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فَيُخْبِرُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسرُّوا قَوْلكُم كَيْلا يَسْمَعَهُ رَبُّ مُحَمَّدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِه تَعَالَى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطّور: 16] ، وَهَذَا غَالِبُ أَحْوَالِ صِيغَةِ افْعَلْ إِذَا جَاءَتْ مَعَهَا أَوِ عَاطِفَةُ نَقِيضِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ على نقيضه. فَقَوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِلتَّسْوِيَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَسَبَبِ النُّزُولِ، أَيْ فَسَوَاءٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْإِسْرَارُ وَالْإِجْهَارُ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِ النَّاسِ بَلْهَ مَا يُسِرُّونَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِوَصْفِ عَلِيمٍ إِذِ الْعَلِيمُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الْقَوِيُّ عِلْمُهُ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْلُومُ مِنَ الْمَقَامِ، وَلَا مَعَادَ فِي الْكَلَامِ يَعُودُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ، لِأَنَّ الْاسْمَ الَّذِي فِي جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الْملك: 12] لَا يَكُونُ مَعَادًا لِكَلَامٍ آخَرَ. وَ (ذَاتِ الصُّدُورِ) مَا يَتَرَدَّدُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّقَادِيرِ وَالنَّوَايَا عَلَى الْأَعْمَالِ. وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ (ذَاتِ) الَّتِي هِيَ مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبٍ، والصُّدُورِ بِمَعْنَى الْعُقُولِ وَشَأْنُ (ذُو) أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا فِيهِ رِفْعَةٌ. وَجُمْلَةُ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بِأَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ مِنْهُمْ: كَيْفَ يَعْلَمُ ذَاتَ الصُّدُورِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَا فِي نَفْسِ الْمَرْءِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ نَفْسِهِ؟ فَأُجِيبُواْ بِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا فِي الصُّدُورِ فَإِنَّهُ خَالِقُ أَصْحَابِ تِلْكَ الصُّدُورِ، فَكَمَا خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ نُفُوسَهُمْ جَعَلَ اتِّصَالًا لِتَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِمَا يَخْتَلِجُ فِيهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ عِلْمِ أَصْحَابِ الصُّدُورِ بِمَا يَدُورُ فِي خَلَدِهَا، فَالْإِتْيَانُ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِالصِّلَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ مَفْعُولَ يَعْلَمُ فَيَكُونُ يَعْلَمُ وخَلَقَ رَافِعَيْنِ ضَمِيرَيْنِ عَائِدَيْنِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، فَيَكُونُ مَنْ الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةً عَلَى الْمَخْلُوقِينَ وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ نَصْبٍ يَكْثُرُ حَذْفُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ خَلَقَهُمْ.

[سورة الملك (67) : آية 15]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فَاعِلَ يَعْلَمُ وَالْمُرَادُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: ألَا يَعْلَمُ خَالِقُكُمْ سِرَّكَمْ وَجَهْرَكُمْ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِلَطِيفٍ خَبِيرٍ. وَالْعِلْمُ يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ الْخَلْقَ إِيجَادٌ وَإِيجَادُ الذَّوَاتِ عَلَى نِظَامٍ مَخْصُوصٍ دَالٌّ عَلَى إِرَادَةِ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ النِّظَامِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ قُوَى ذَلِكَ النِّظَامِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ عَلْمِهِ تَعَالَى وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لِلْانْفِكَاكِ الظَّاهِرِ بَيْنَ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ لِتُفِيدَ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَأَحْوَالِهَا فَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ ظَنَّهُمُ انْتِفَاءً عَلَى اللَّهِ بِمَا يُسِرُّونَ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ الْإِسْرَارِ مِنَ الْأَحْوَالِ. واللَّطِيفُ: الْعَالم خبايا الْأُمُورِ وَالْمُدَبِّرُ لَهَا بِرِفْقٍ وَحِكْمَةٍ. والْخَبِيرُ: الْعَلِيمُ الَّذِي لَا تَعْزُبُ عَنْهُ الْحَوَادِثُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخْبِرَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا بِحُدُوثِهَا فَلِذَلِكَ اشْتُقَّ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ مَادَّةِ الْخَبَرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي الْأَنْعَامِ [103] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فِي سُورَة لُقْمَان [16] . [15] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 15] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ عَوْدٌ إِلَى الْاسْتِدْلَالِ، وَإِدْمَاجٌ لِلْامْتِنَانِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ الَّتِي تَحْوِي النَّاسَ عَلَى وَجْهِهَا أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلِمِهِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِذْ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا جُزْءٌ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ كَجُزْءٍ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: 55] ، فَلَمَّا ضَرَبَ لَهُمْ بِخَلْقِ أَنْفُسِهِمْ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ الدَّالِّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ شَفَعَهُ بِدَلِيلِ خَلْقِ الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، مَعَ الْمِنَّةِ بِأَنَّهُ خَلَقَهَا هَيِّنَةً لَهُمْ صَالِحَةً لِلسَّيْرِ فِيهَا مُخْرِجَةً لِأَرْزَاقِهِمْ، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ النُّشُورَ مِنْهَا وَأَنَّ النُّشُورَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَالذَّلُولُ مِنَ الدَّوَابِّ الْمُنْقَادَةُ الْمُطَاوِعَةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّلِّ وَهُوَ الْهَوَانُ وَالْانْقِيَادُ،

فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [71] ، فَاسْتُعِيرَ الذَّلُولُ لِلْأَرْضِ فِي تَذْلِيلِ الْانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ صلابة خلقتها تَشْبِيهًا بِالدَّابَّةِ الْمَسُوسَةِ الْمُرْتَاضَةِ بَعْدَ الصُّعُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَرَّحَةِ. وَالْمَنَاكِبُ: تَخْيِيلٌ لِلْاسْتِعَارَةِ لِزِيَادَةِ بَيَانِ تَسْخِيرِ الْأَرْضِ لِلنَّاسِ فَإِنَّ الْمَنْكَبَ هُوَ مُلْتَقَى الْكَتِفِ مَعَ الْعَضُدِ، جَعَلَ الْمَنَاكِبَ اسْتِعَارَةً لِأَطْرَافِ الْأَرْضِ أَوْ لِسَعَتِهَا. وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْاسْتِعَارَةِ الْأَمْرُ فِي فَامْشُوا فِي مَناكِبِها فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ تَذْكِيرًا بِمَا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُم من الْمَشْيِ فِي الْأَرْضِ امْتِنَانًا بِذَلِكَ. وَمُنَاسَبَةُ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْأَرْضِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِدَامَةِ أَيْضًا لِلْامْتِنَانِ، وَبِذَلِكَ تَمَّتِ اسْتِعَارَةُ الذَّلُولَ لِلْأَرْضِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَذْلِيلِ الذَّلُولِ رُكُوبُهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا. فَالْمَشْيُ عَلَى الْأَرْضِ شَبِيهٌ بِرُكُوبِ الذَّلُولِ، وَالْأَكْلُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ شَبِيهٌ بِأَكْلِ الْأَلْبَانِ وَالسَّمْنِ وَأَكْلِ الْعُجُولِ وَالْخِرْفَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَمْعُ الْمَنَاكِبِ تَجْرِيدٌ لِلْاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الذَّلُولَ لَهَا مِنْكِبَانِ وَالْأَرْضُ ذَاتُ مُتَّسَعَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَكُلُّ هَذَا تَذْكِيرٌ بِشَوَاهِدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِنْعَامِ لِيَتَدَبَّرُوا فَيَتْرُكُوا الْعِنَادَ، قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النَّحْل: 81] . وَأَمَّا عَطْفُ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فَهُوَ تَتْمِيمٌ وَزِيَادَة عبر أسطر لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مَثْوَى النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْمَعْنَى: إِلَيْهِ النُّشُورُ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَذْفًا، أَيْ وَفِيهَا تَعُودُونَ. وَتَعْرِيفُ النُّشُورُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ أَيْ كُلُّ نُشُورٍ، وَمِنْهُ نُشُورُ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَصْرُ قَلْبٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ خَلَقَتِ الْأَرْضَ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ إِلَهِيَّتِهَا يَقْتَضِي إِلْزَامَهُمْ بِهَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي جُمْلَةِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ لِلْاهْتِمَامِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ النُّشُورِ هُوَ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ من الأَرْض.

[سورة الملك (67) : آية 16]

[سُورَة الْملك (67) : آيَة 16] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) انْتِقَالٌ مِنَ الْاسْتِدْلَالِ إِلَى التَّخْوِيفِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمُذَلِّلُهَا لِلنَّاسِ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُمْ مَا رَعَوْا خَالِقَهَا حَقَّ رِعَايَتِهِ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ وَتَسْلِيطَ عِقَابِهِ بِأَنْ يُصَيِّرَ مَشْيِهِمْ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ إِلَى تَجَلْجُلٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ وَالْاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَحْذِيرٌ. ومَنْ اسْمٌ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ صَادِقٌ عَلَى مَوْجُودٍ ذِي إِدْرَاكٍ كَائِنٍ فِي السَّمَاءِ. وَظَاهِرُ وُقُوعِ هَذَا الْمَوْصُولِ عَقِبَ جُمَلِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الْملك: 15] أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَبِيلِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ أَأَمِنْتُمُوهُ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَيَتَأَتَّى أَنَّ الْإِتْيَانَ بالموصول لما تَأذن بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عَظِيمِ تَصَرُّفِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الْقُوَى وَالْعَنَاصِرَ وَعَجَائِبَ الْكَائِنَاتِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: مَنْ فِي السَّماءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُعْطِي ظَاهِرُهُ مَعْنَى الْحُلُولِ فِي مَكَانٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ مَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ طَرِيقَتَيِ التَّفْوِيضِ لِلسَّلَفِ وَالتَّأْوِيلِ لِلْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ أَوَّلُوهُ بِمَعْنَى: مَنْ فِي السَّمَاءِ عَذَابُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ أَوْ سُلْطَانُهُ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: 22] وَأَمْثَالِهِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَنْفِيهِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ. وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْصُولَ غَيْرُ مَكِينٍ فِي بَابِ الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ مَنْ أَن يكون مَا صدقه مَخْلُوقَاتٍ ذَاتَ إِدْرَاكٍ مَقَرُّهَا السَّمَاءُ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ فَيَصِحُّ أَنْ تَصْدُقَ مَنْ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطَّلَاق: 12] ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَلَكٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ وَظِيفَتُهُ فِعْلُ هَذَا الْخَسْفِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَذَابِ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ يَخْسِفَ إِلَى «الْمَلَائِكَةِ» أَوْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُ

فَاعِلُ الْخَسْفِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ... إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [العنكبوت: 31- 34] . وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ يَخْسِفَ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَنْ إِذَا أُرِيدَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مُرَاعَاةٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِذا كَانَ مَا صدق مَنْ مَلَكًا وَاحِدًا. وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ كَأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ بِأَنْ يَخْسِفُوا الْأَرْضَ بِالْمُشْرِكِينَ. وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ السَّطْحِ مِنْ بَعْضِ الْأَرْضِ بَاطِنًا وَبَاطِنُهُ ظَاهِرًا وَهُوَ شِدَّةُ الزِّلْزَالِ. وَفِعْلُ خَسَفَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ سُورَةِ النَّحْلِ [45] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ يَخْسِفُ الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لِذَوَاتِكُمْ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ يَخْسِفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ شَأْنِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ أَنْ، وَالْخَافِضُ الْمَحْذُوفُ حَرْفُ (مِنْ) . وَفُرِّعَ عَلَى الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ أَنْ تَمُورَ الْأَرْضُ تَفْرِيعَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الْخَسْفَ يُحْدِثُ الْمَوْرَ، فَإِذَا خُسِفَتِ الْأَرْضُ فَاجَأَهَا الْمَوْرُ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى مَا يُنَاسِبُ جَعْلَ التَّهْدِيدِ بِمَنْزِلَةِ حَادِثٍ وَقَعَ فَلِذَلِكَ جِيءَ بَعْدَهُ بِالْحَرْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُفَاجَأَةِ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً زَمَنَ الْحَالِ لَا الْاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي «مُغْنِيِ اللَّبِيبِ» فَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: 25] ، وَإِذَا أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةَ فِعْلٍ حَصَلَ فِيمَا مَضَى نُزِّلَ كَذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يُونُس: 21] ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ تَمُورُ مُؤْذِنًا بِتَشْبِيهِ حَالَةِ الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ بِحَالَةِ خَسْفٍ حَصَلَ بِجَامِعِ التَّحَقُّقِ كَمَا قَالُوا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ

[سورة الملك (67) : آية 17]

الْمَاضِي، وَحُذِفَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ آثَارِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهُ فَكَانَ فِي الْكَلَامِ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ. وَالْمَوْرُ: الْارْتِجَاجُ وَالْاضْطِرَابُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً فِي سُورَة الطّور [9] . [17] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 17] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) أَمْ لْإِضْرَابِ الْانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ إِلَى آخَرَ مِثْلِهِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَثَرَيْنِ الصَّادِرَيْنِ عَنْ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ اخْتِلَافًا يُوجِبُ تَفَاوُتًا بَيْنَ كُنْهَيِ الْفِعْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فِي الْغَايَةِ، فَالْاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ إِنْكَارٌ عَلَى أَمْنِهِمُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا أَرْضِيًّا. والاستفهام الْوَاقِع مَعَ أَمْ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْمَنُواْ مِنْ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ حَاصِبٌ وَذَلِكَ أَمْكَنُ لِمَنْ فِي السَّمَاءِ وَأَشَدُّ وَقْعًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ فِي السَّماءِ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مَا يُغْنِي عَنْهُ. وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ عَلَى الْاسْتِفْهَامِ الإنكاري كتفريع مِلَّة فَإِذا هِيَ تَمُورُ [الْملك: 16] أَيْ فَحِينَ يُخْسَفُ بِكُمْ أَوْ يُرْسَلُ عَلَيْهِمْ حَاصِبٌ تَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِي، وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ حَقُّهُ الدُّخُولُ عَلَى الْأَخْبَارِ الَّتِي سَتَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِرْسَالُ الْحَاصِبِ غَيْرُ مُخْبَرٍ بِحُصُولِهِ وَإِلَّا لَمَا تَخَلَّفَ لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّفُ. وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ وَتَحْذِيرٌ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا آمَنُواْ وَأَقْلَعُواْ فَسَلِمُواْ مِنْ إِرْسَالِ الْحَاصِبِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ تَحْقِيقُ هَذَا التَّهْدِيدِ شُبِّهَ بِالْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ فَكَانَ تَفْرِيعُ صِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَلَى هَذَا مُؤْذِنًا بِتَشْبِيهِ الْمُهَدَّدِ بِهِ بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَجُمْلَةُ فَسَتَعْلَمُونَ قَرِينَتُهَا لِأَنَّهَا مِنْ رَوَادِفَ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وكَيْفَ نَذِيرِ، اسْتِفْهَامٌ مُعَلِّقٌ فِعْلَ (تَعْلَمُونَ) عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.

[سورة الملك (67) : آية 18]

وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ نَذِيرِي تَخْفِيفًا وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالنَّذِيرُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ مِثْلُ النَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَقَدَّمَ التَّهْدِيدَ بِالْخَسْفِ عَلَى التَّهْدِيدِ بِالْحَاصِبِ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَالْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِهَا أَقْرَبُ هُنَا فَسَلَكَ شِبْهِ طَرِيقِ النَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، وَلِأَنَّ إِرْسَالَ الْحَاصِبِ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي مِنْهَا رِزْقُهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الْملك: 15] فَإِنَّ مَنْشَأَ الْأَرْزَاقِ الْأَرْضِيَّةِ مِنْ غُيُوثِ السَّمَاءِ قَالَ تَعَالَى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] . [18] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 18] وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) بَعْدَ أَنْ وَجَّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ تَذْكِيرًا وَاسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا وَتَهْدِيدًا وَتَهْوِيلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الْملك: 13] الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِحَالَةِ الْغَيْبَةِ، تَعْرِيضًا بِالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَتَوْهُ مِنْ كُلِّ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا جَدِيرِينَ بِإِبْعَادِهِمْ عِزَّ الْحُضُورِ لِلْخِطَابِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وَلَمْ يَقْطَعْ تَوْجِيهِ التَّذْكِيرِ إِلَيْهِمْ وَالْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَبَّرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَّخِرْهُمْ نُصْحًا. فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الْملك: 17] لِمُنَاسَبَةٍ أَنَّ مِمَّا عُوقِبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ خَسْفٍ أَوْ إِرْسَالِ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خُسِفَ بِهِمْ مِثْلُ أَصْحَابِ الرَّسِّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ، أَيْ كَيْفَ تأمنون ذَلِك عِنْد مَا تُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ فِي حَالِ أَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَهَلْ عَلِمْتُمْ مَا أَصَابَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلِ. ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِأُمَمٍ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْاسْتِئْصَالِ مَا قَدْ عَلِمُوا أَخْبَارَهُ لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتَّعِظُوا بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ إِنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الْانْتِفَاعِ بِأَقْيِسَةِ الْاسْتِنْتَاجِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ عَرِفُوا آثَارَ عَادٍ وَثَمُودَ وَتَنَاقَلُوا أَخْبَارَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَفُرِّعَ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا وَتَنْكِيرِيًّا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَالِ فَظَاعَةٍ.

[سورة الملك (67) : آية 19]

وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِالْلَّامِ وَ (قَدْ) لِتَنْزِيلِ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ مَنْزِلَةِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِغَيْرِ جُرْمٍ أَوْ لِجُرْمٍ غَيْرَ التَّكْذِيبِ. فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْمُؤَكَّدِ، فَالْمَعْنَى: لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَقَدْ كَانَ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ. ونَكِيرِ أَصْلُهُ نَكِيرِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَحْذُوفَةِ تَخْفِيفًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الْملك: 17] ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَثَرَ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ نَكِيرِي عَلَيْكُمْ صَائِرٌ بِكُمْ إِلَى مِثْلِ مَا صَارَ بِهِمْ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالنَّكِيرِ الْمُنْظَرُ بِنَكِيرِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، مَا أَفَادَهُ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الْملك: 16] وَقَوْلِهِ: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الْملك: 17] . [19] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 19] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الْملك: 15] اسْتِرْسَالًا فِي الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ وَعَالَمِهِمْ، إِلَى دَلَالَةِ أَعْجَبِ أَحْوَالِ الْعَجْمَاوَاتِ وَهِيَ أَحْوَالُ الطَّيْرِ فِي نِظَامِ حَرَكَاتِهَا فِي حَالِ طَيَرَانِهَا إِذْ لَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي حَرَكَاتِ غَيْرِهَا عَلَى الْأَرْضِ، فَحَالُهَا أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِهِ. وَاشْتَمَلَ التَّذْكِيرُ بِعَجِيبِ خَلْقِةِ الطَّيْرَ فِي طَيَرَانِهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْإِطْنَابِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ: فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ تُصَوِّرُ صُورَةَ حَرَكَاتِ الطَّيَرَانِ لِلسَّامِعِينَ فَتُنَبِّهُهُمْ لِدَقَائِقَ رُبَّمَا أَغْفَلَهُمْ عَنْ تَدْقِيقِ النَّظَرِ فِيهَا نَشْأَتُهُمْ بَيْنَهَا مِنْ وَقْتِ ذُهُولِ الْإِدْرَاكِ فِي زَمَنِ الصِّبَا، فَإِنَّ الْمَرْءَ التُّونِسِيَّ أَوِ الْمَغْرِبِيَّ مَثَلًا إِذَا سَافَرَ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ أَوْ إِلَى بِلَادِ السُّودَانِ فَرَأَى الْفِيَلَةَ وَهُوَ مُكْتَمِلُ الْعَقْلِ دَقِيقُ التَّمْيِيزِ أَدْرَكَ من دقائق خلفة الْفِيلِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْفِيَلَةِ، وَكَمْ غَفَلَ النَّاسُ عَنْ دَقَائِقَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ مَا لَوْ تَتَبَّعُوهُ لَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْهَا مَا يَمْلَأُ وَصْفُهُ الصُّحُفَ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17- 20] ، وَقَالَ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] .

وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ شَاهَدَ الْبَحْرَ وَهُوَ كَبِيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَبْلُ، كَيْفَ امْتَلَكَهُ مِنَ الْعَجَبِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَلِفُوهُ مِعْشَارَهُ. وَهَذَا الْإِطْنَابُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ [79] فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ. وَذَلِكَ بِحَسب مَا اقْتَضَاهُ اخْتِلَافُ الْمَقَامَيْنِ فَسُورَةُ النَّحْلِ رَابِعَةٌ قَبْلَ سُورَةِ الْمُلْكِ، فَلَمَّا أَوْقَظَتْ عُقُولَهُمْ فِيهَا لِلنَّظَرِ إِلَى مَا فِي خِلْقَةِ الطَّيْرِ مِنَ الدَّلَائِلِ فَلَمْ يَتَفَطَّنُوا وَسُلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ: فَالْوَصْفُ الْأَوَّلُ: مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: فَوْقَهُمْ فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّوَابِّ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَالطَّيْرَ كَذَلِكَ فَإِذَا طَارَ الطَّائِرُ انْتَقَلَ إِلَى حَالَةٍ عَجِيبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِبَقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ السَّيْرُ فِي الْجَوِّ بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ جَنَاحَيْهِ وَذَلِكَ سِرُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 38] لِقَصْدِ تَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ. الْوَصْف الثَّانِي: صافَّاتٍ وَهُوَ وَصْفٌ بِوَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفِّ، وَهُوَ كَوْنُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَقَارِبَةِ الْأَمْكِنَةِ وَبِاسْتِوَاءَ، وَهُوَ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ، يُقَالُ: صَفُّوا، بِمَعْنَى اصْطَفُّوا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: 165] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْبُدْنِ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَج: 36] . وَيُقَالُ: صَفَّهُمْ إِذَا جَعَلَهُمْ مُسْتَوِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَنَائِزِ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرٍ مَنْبُوذٍ» إِلَى قَوْلِهِ: «فَصَفَّنَا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ» . وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الطَّيْرَ صَافَّةٌ أَجْنِحَتِهَا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِعِلْمِهِ مِنَ الْوَصْفِ الْجَارِي عَلَى الطَّيْرِ إِذْ لَا تُجْعَلُ الطَّيْرُ أَشْيَاءَ مَصْفُوفَةً إِلَّا رِيشَ أَجْنِحَتِهَا عِنْدَ الطَّيَرَانِ فَالطَّائِرُ إِذَا طَارَ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ، أَيْ مَدَّهَا فَصَفَّ رِيشَ الْجَنَاحِ فَإِذَا تَمَدَّدَ الْجَنَاحُ ظَهَرَ رِيشُهُ مُصْطَفًّا فَكَانَ ذَلِكَ الْاصْطِفَافُ مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الطَّيْرِ فَوُصِفَتْ بِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فِي سُورَةِ النُّورِ [41] . وَبَسْطُ الْجَنَاحَيْنِ يُمَكِّنُ الطَّائِرَ مِنَ الطَّيَرَانِ فَهُوَ كَمَدِ الْيَدَيْنِ لِلسَّابِحِ فِي الْمَاءِ. الْوَصْفُ الثَّالِثُ: وَيَقْبِضْنَ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى صافَّاتٍ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْاسْمِ الشَّبِيهِ بِالْفِعْلِ فِي الْاشْتِقَاقِ وَإِفَادَةُ الْاتِّصَافِ بِحُدُوثِ الْمَصْدَرِ فِي فَاعِلِهِ، فَلَمْ يَفُتْ بِعَطْفِهِ تَمَاثُلُ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي الْاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ.

وَالْقَبْضُ: ضِدُّ الْبَسْطِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ضِدُّ الصَّفِّ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الصَّفُّ صَادِقًا عَلَى مَعْنَى الْبَسْطِ وَمَفْعُولُهُ الْمَحْذُوفُ هُنَا هُوَ عَيْنُ الْمَحْذُوفِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ قَابِضَاتِ أَجْنِحَتِهِنَّ حِينَ يُدْنِينَهَا مِنْ جُنُوبِهِنَّ لِلْازْدِيَادِ مِنْ تَحْرِيكِ الْهَوَاءِ لِلْاسْتِمْرَارِ فِي الطَّيَرَانِ. وَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي يَقْبِضْنَ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ وَهِيَ حَالَةُ عَكْسِ بَسْطِ الْجَنَاحَيْنِ إِذْ بِذَلِكَ الْعَكْسِ يَزْدَادُ الطَّيَرَانُ قُوَّةً امْتِدَادَ زَمَانٍ. وَجِيءَ فِي وَصْفِ الطَّيْرِ بِ صافَّاتٍ بِصِيغَةِ الْاسْمِ لِأَنَّ الصَّفَّ هُوَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا عِنْدَ الطَّيَرَانِ فَنَاسَبَهُ الْاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الثَّبَاتِ، وَجِيءَ فِي وَصْفِهِنَّ بِالْقَبْضِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ وَيُجَدِّدْنَ قَبْضَ أَجْنِحَتِهِنَّ فِي خِلَالِ الطَّيَرَانِ لِلْاسْتِعَانَةِ بِقَبْضِ الْأَجْنِحَةِ عَلَى زِيَادَة التحرك عِنْد مَا يَحْسُسْنَ بِتَغَلُّبِ جَاذِبِيَّةِ الْأَرْضِ عَلَى حَرَكَاتِ الطَّيَرَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً [ص: 18- 19] لِأَنَّ التَّسْبِيحَ فِي وَقْتَيْنِ وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ دَوْمًا. وَانْتَصَبَ فَوْقَهُمْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّيْرِ وَكَذَلِكَ انْتَصَبَ صافَّاتٍ. وَجُمْلَةُ وَيَقْبِضْنَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ لِعَطْفِهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ حَالٌ فَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ مُضَمِّنَةٌ مَعْنَى النَّظَرِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَتْ إِلَى الْمَرْئِيِّ بِ (إِلَى) . وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا إِنْكَارِيٌّ، ونزلوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ هَاتِهِ الْأَحْوَالَ فِي الطَّيْرِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُواْ بِهَا وَلَمْ يَهْتَدُواْ إِلَى دَلَالَتِهَا عَلَى انْفِرَادِ خَالِقِهَا بِالْإُلُهِيَّةِ. وَجُمْلَةُ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ وَمَا فِيهَا مِنِ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارٍ، أَيْ كَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُنَّ مَا يمسكهن إلّا الرحمان إِذْ لَا مُمْسِكَ لَهَا تَرَوْنَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [الْحَج: 65] . وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَمْسَكَ الطَّيْرَ عَنِ الْهُوِيِّ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ فَلَوْ لَمْ يُشْرِكُواْ بِهِ وَلَوِ اسْتَعْصَمُواْ بِطَاعَتِهِ لَأَنْجَاهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ كَمَا أَنْجَى الطَّيْرَ مِنَ الْهُوِيِّ. وَمَعْنَى إِمْسَاكِ اللَّهِ إِيَّاهَا: حِفْظُهَا مِنَ السُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ بِمَا أَوْدَعَ فِي خِلْقَتِهَا

[سورة الملك (67) : آية 20]

مِنَ الْخَصَائِصِ فِي خِفَّةِ عِظَامِهَا وَقُوَّةِ حَرَكَةِ الْجَوَانِحِ وَمَا جَعَلَ لَهُنَّ مِنَ الْقَوَادِمِ، وَهِيَ رِيشَاتٌ عَشْرٌ هِيَ مَقَادِيمُ رِيشِ الْجنَاح، وَمن الْخَوَافِي وَهِيَ مَا دُونَهَا مِنَ الْجَنَاحِ إِلَى مُنْتَهَى رِيشِهِ، وَمَا خَلَقَهُ مِنْ شَكْلِ أَجْسَادِهَا الْمُعِينِ عَلَى نُفُوذِهَا فِي الْهَوَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَانِعًا لَهَا مِنَ السُّقُوطِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعَالِيقَ يُعَلِّقُهَا بِهَا أَحَدٌ كَمَا يُعَلِّقُ الْمُشَعْوِذُ بَعْضَ الصُّوَرِ بِخُيُوطٍ دَقِيقَةٍ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ. وَإِيثَارُ اسْمِ الرَّحْمنُ هُنَا دُونَ الْاسْمِ الْعَلَمِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [79] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ لَعَلَّهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي خِطَابِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ الْآيَةَ. فَمِنْ جُمْلَةِ عِنَادِهِمْ إِنْكَارُهُمُ اسْمَ الرَّحْمنُ فَلَمَّا لَمْ يَرْعَوَوْا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ ذُكِرَ وَصْفُ الرَّحْمنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أَي أمسكهن الرحمان لِعُمُومِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا يُمْسِكُهُنَّ غَيْرُهُ لِقُصُورِ عِلْمِهِمْ أَوِ انْتِفَائِهِ. وَالْبَصِيرُ: الْعَلِيمُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَصِيرَةِ، فَهُوَ هُنَا غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي نَحْوِ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَإِنَّمَا هُوَ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِالْأُمُورِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [غَافِر: 44] ، فَهُوَ خَبَرٌ لَا وَصْفٌ وَلَا مُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْاسْمِ. وَتَقْدِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ وَهُوَ قَصْرُ قَلَبٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ كَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الْملك: 13] . [20] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 20] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) (أَمْ) مُنْقَطِعَة وَهِي للإضراب الْانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ فَبَعْدَ اسْتِيفَاءِ غَرَضِ إِثْبَاتِ الْإِلِهِيَّةِ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ، انْتَقَلَ إِلَى إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَوُجِّهَ إِلَيْهِمُ اسْتِفْهَامٌ

أَنْ يَدُلُّواْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا يُقَالُ فِيهِ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ تَعْيِينَ أَحَدٍ لِذَلِكَ إِلَّا إِذَا سَلَكُواْ طَرِيقَ الْبُهْتَانِ وَمَا هُمْ بِسَالِكِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا لِافْتِضَاحِ أَمْرِهِ. وَهَذَا الْكَلَام ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الْملك: 16] الْآيَةَ فَهُوَ مِثْلُهُ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ حُجَجِ الْاسْتِدْلَالِ. وَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ، وَالْأَكْثَرُ أَن يكون مُقَدرا فَإِذَا صُرِّحَ بِهِ كَمَا هُنَا فَأَوْضَحُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْاسْتِفْهَامَ يُقَدَّرُ بَعْدَهَا وَلَوْ كَانَ يَلِيهَا اسْتِفْهَامٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فَيُشْكِلُ اجْتِمَاعُ اسْتِفْهَامَيْنِ. وَالْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَنِ التَّعْيِينِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى الْانْتِفَاءِ، وَالْإِشَارَةُ مُشَارٌ بِهَا إِلَى مَفْهُومِ جُنْدٌ مَفْرُوضٍ فِي الْأَذْهَانِ اسْتُحْضِرَ لِلْمُخَاطِبِينَ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ يُشَاهِدُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَيَطْلُبُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ تَعْيِينَ قَبِيلَةٍ بِأَنْ يَقُولُواْ: بَنُو فُلَانٍ. وَلَمَّا كَانَ الْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجُنْدَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ كَائِنٍ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] وَنَحْوُهُ. وَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَإٍ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَإِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ أَمَّنْ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهُمَا مِيمُ (أَمْ) وَمِيمُ (مَنْ) الْمُدْغَمَتَيْنِ بِجَعْلِهِمَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا كُتِبَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَلَا تُقْرَأُ إِلَّا بِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ إِذِ الْمُعْتَبَرُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الرِّوَايَةُ دُونَ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ الْقُرْآنُ لِلْإِعَانَةِ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ. والَّذِي هُوَ جُنْدٌ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ ولَكُمْ صِفَةٌ لِ جُنْدٌ ويَنْصُرُكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جُنْدٌ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ جُنْدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارًا بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمُ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَحَوْلَهَا الَّذِي اتَّخَذْتُمُوهُ جُنْدًا فَمَنْ هُوَ حَتَّى يَنْصُرَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَتَكُونُ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ فِرْعَوْنَ [الدُّخان: 31] فِي

قِرَاءَةِ فَتْحِ مِيمِ (مَنْ) وَرَفْعِ فِرْعَوْنَ، أَيْ مَنْ هَذَا الْجُنْدُ فَإِنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ صِفَةٌ لِاسْمِ الْاسْتِفْهَامِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ، والَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَجُمْلَةُ يَنْصُرُكُمْ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْاسْتِفْهَامِ، أَيْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَنْصُرَكُمْ من دون الرحمان. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ لِأَن الْجند يكون عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلنَّصْرِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَمْ لَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ النَّصْرَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْدَادٍ وَتَهَيُّؤٍ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إِلَيْهَا» أَيْ هَيْعَةُ جِهَادٍ. فَالْمَعْنَى: يَنْصُرُكُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِكُمْ إِلَى نَصْرِهِ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وَجُمْلَةِ يَنْصُرُكُمْ وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالثَّانِيَةِ عَنِ الْأُولَى. ودُونِ أَصْلِهِ ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْأَسْفَلِ ضِدُّ (فَوْقَ) ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُغَايِرِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى غَيْرٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَنْصُرُكُمْ. أَيْ حَالَةُ كَوْنِ النَّاصِرِ مِنْ جَانِبٍ غَيْرَ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ مَنْ مُسْتَطِيعٌ غَيْرَ اللَّهِ يَدْفَعُ عَنْكُمُ السُّوءَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الْأَنْبِيَاء: 43] فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلظَّرْفِ وَهِيَ تُزَادُ مَعَ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ، وَلَا تُجَرُّ تِلْكَ الظُّرُوفُ بِغَيْرِ مِنْ، قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: وَمَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لَا يُخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٌ. وَفَسَّرَهُ بِظَرْفِ (عِنْدَ) وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِ (عِنْدَ) بَلْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ. وَتَكْرِيرُ وَصْفِ الرَّحْمنُ عَقِبَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي إِيثَارِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وذيل هَذَا بالاعتراض بِقَوْلِهِ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَيْ ذَلِكَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ كُلِّهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ تَوَقُّعِ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِي غُرُورٍ مِنِ اعْتِمَادِهِمْ على الْأَصْنَام فَكَمَا غَرَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ دِينُهُمْ بِأَنَّ الْأَوْثَانَ تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ سَيَقَعُ لِأَمْثَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] وَقَالَ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] فَتَعْرِيفُ الْكافِرُونَ لِلْاسْتِغْرَاقِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَافِرُونَ مَعْهُودُونَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ.

[سورة الملك (67) : آية 21]

وَالْغُرُورُ: ظَنُّ النَّفْسِ وُقُوعِ أَمْرٍ نَافِعٍ لَهَا بِمَخَائِلِ تَتَوَهُّمِهَا، وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَوْ هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ [196] وَقَوْلِهِ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي الْأَنْعَامِ [112] وَقَوْلِهِ: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [5] . وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي شِدَّةِ التَّلَبُّسِ بِالْغُرُورِ حَتَّى كَأَنَّ الْغُرُورَ مُحِيطٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: مَا الْكَافِرُونَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْغُرُورِ، وَهَذَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْكَوَارِثِ بحماية آلِهَتهم. [21] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ انْتِقَالٌ آخَرُ وَالْكَلَامُ عَلَى أسلوب قَوْله: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الْملك: 20] ، وَهَذَا الْكَلَامُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الْملك: 15] عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ. وَالرِّزْقُ: مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَطَرِ، وَعَلَى الطَّعَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] . وَضَمِيرُ أَمْسَكَ وَضَمِيرُ رِزْقَهُ عَائِدَانِ إِلَى لفظ الرَّحْمنِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: 20] . وَجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الرِّزْقَ يَقْتَضِي التِّكْرَارَ إِذْ حَاجَةُ الْبَشَرِ إِلَيْهِ مُسْتَمِرَّةٌ. وَكُتِبَ أَمَّنْ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَة كَمَا كتبت نَظِيرَتُهَا الْمُتَقَدِّمَةُ آنِفًا. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ. اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ وَقَعَ جَوَابًا عَن سُؤال ناشىء عَنْ الدَّلَائِلِ وَالْقَوَارِعِ وَالزَّوَاجِرِ وَالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْملك: 2] إِلَى هُنَا، فَيَتَّجِهُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ نَفَعَتْ عِنْدَهُمْ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ، وَاعْتَبَرُواْ بِالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَأُجِيبَ بِإِبْطَالِ ظَنِّهِ بِأَنَّهُمْ لَجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ.

[سورة الملك (67) : آية 22]

وَ (بَلْ) لِلْاضْرَابِ أَوِ الْإِبْطَالِ عَمَّا تَضْمَّنَهُ الْاسْتِفْهَامَانِ السَّابِقَانِ أَوْ لِلْانْتِقَالِ مِنْ غَرَضِ التَّعْجِيزِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عِنَادِهِمْ. يُقَالُ: لَجَّ فِي الْخُصُومَةِ مِنْ بَابِ سَمَّعَ، أَيِ اشْتَدَّ فِي النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ، أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ يَكْتَنِفُهُمُ الْعُتُوُّ وَالنُّفُورُ، أَيْ لَا يَتْرُكُ مَخْلَصًا لِلْحَقِّ إِلَيْهِمْ، فَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، وَالْعُتُوُّ: التَّكَبُّرُ وَالطُّغْيَانُ. وَالنُّفُورُ: هُوَ الْاشْمِئْزَازُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْهُرُوبُ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: اشْتَدُّواْ فِي الْخِصَام متلبسين بِالْكِبْرِ عَنِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ سِيَادَتِهِمْ وَبِالنُّفُورِ عَنِ الْحَقِّ لِكَرَاهِيَةِ مَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا أَلِفُوهُ من الْبَاطِل. [22] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 22] أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِرَجُلَيْنِ: كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الْملك: 20] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الْملك: 21] وَمَا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سِيقَ مَسَاقَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الْملك: 20] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الْملك: 21] ، وَذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ مَنَاحِيهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى بَيَانِ كَيْفَ يَتَعَيَّنُ التَّمْثِيلُ الْأَوَّلُ لِلْكَافِرِينَ وَالثَّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ إِلْزَامِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ مَثَلِ السَّوْءِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ لَمْ يَتَّضِحْ إِلْزَامُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَخَالُ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ خَصْمَهُ هُوَ مَضْرِبُ الْمَثَلِ السُّوءِ. وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْكَلَامَ وَرَدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ نَحْوُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] بِذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا وَارِدٌ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْاسْتِدْلَالِ وَهُنَالِكَ فِي مَقَامِ الْمُتَارَكَةِ أَوِ الْاسْتِنْزَالِ. وَالَّذِي انْقَدَحَ لِي: أَنَّ التَّمْثِيلَ جَرَى عَلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ بِحَالَةِ مَشْيِ إِنْسَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَلَى تَشْبِيهِ الدِّينِ بِالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مَشْيِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ مَشْيًا عَلَى صِرَاطٍ مُعْوَجٍّ، وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى بِتَشْبِيهِ حَالِ السَّالِكِ

صِرَاطًا مُعْوَجًّا فِي تَأَمُّلِهِ وَتَرَسُّمِهِ آثَارَ السَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمُسْتَقِيمِ خَشْيَةَ أَنْ يَضِلَّ فِيهِ، بِحَالِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَوَسَّمُ حَالَ الطَّرِيقِ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: سَوِيًّا الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مُكِبًّا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ السَّوِيِّ وَهُوَ المنحني المطاطئ يَتَوَسَّمُ الْآثَارَ اللَّائِحَةَ مِنْ آثَارِ السَّائِرِينَ لَعَلَّهُ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْمَقْصُودِ. فَالْمُشْرِكُ يَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَعْطَفَ عَلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ مِنْ بَعْضٍ، فَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ يَعْبُدُونَ الْلَّاتَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَعْبُدُونَ مَنَاةَ وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ إِلَهٌ أَوْ آلِهَةٌ فَتَقَّسَمُوا الْحَاجَاتِ عِنْدَهَا وَاسْتَنْصَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَطَمِعُوا فِي غَنَائِهَا عَنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَةٌ يَعْرِفُونَهَا فَلَا يَمْتَرُونَ فِي أَنَهُمْ مَضْرَبُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ حَالُ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَلَا تَسْمَعُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: 39] . وَيُنَوِّرُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنَّهُ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: 153] وَقَوْلُهُ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُوسُف: 108] ، فَقَابَلَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُشَبَّهَ بِهِ الْإِسْلَامُ بِالسُّبُلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا تَعْدَادُ الْأَصْنَامِ، وَجَعَلَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْإِسْلَامَ مُشَبَّهًا بِالسَّبِيلِ وَسَالِكُهُ يَدْعُو بِبَصِيرَةٍ ثُمَّ قَابَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُوسُف: 108] . فَالْآيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ اسْتِعَارَاتٍ تَمْثِيلِيَّةٍ فَقَوْلُهُ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ تَشْبِيه لحَال الْمُشرك فِي تَقَسُّمِ أَمْرِهِ بَيْنَ الْآلِهَةِ طَلَبًا لِلَّذِي يَنْفَعُهُ مِنْهَا الشَّاكِّ فِي انْتِفَاعِهِ بِهَا، بِحَالِ السَّائِرِ قَاصِدًا أَرْضًا مُعَيَّنَةً لَيْسَتْ لَهَا طَرِيقٌ جَادَّةٌ فَهُوَ يَتَتَبَّعُ بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ الْمُلْتَوِيَةِ وَتَلْتَبِسُ عَلَيْهِ وَلَا يُوقِنُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُبَلِّغُ إِلَى مَقْصِدِهِ فَيَبْقَى حَائِرًا مُتَوَسِّمًا يَتَعَرَّفُ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ وَأَخْفَافِ الْإِبِلِ فَيَعْلَمُ بِهَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَسْلُوكَةٌ أَوْ مَتْرُوكَةٌ. وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ تَمْثِيلِيَّةٌ أُخْرَى مَبْنِيَّة عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُتَحَيِّرِ الْمُتَطَلَّبِ لِلْآثَارِ فِي الْأَرْضِ بِحَالِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ فِي شِدَّةِ اقْتِرَابِهِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَوله: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا تَشْبِيهٌ لِحَالِ الَّذِي آمَنَ بِرَبٍّ وَاحِدٍ الْوَاثِقُ بِنَصْرِ رَبِّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَبِأَنَّهُ مُصَادِفٌ لِلْحَقِّ، بِحَالِ الْمَاشِي فِي طَرِيقٍ جَادَّةٍ وَاضِحَةٍ لَا يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى اتِّجَاهِ وَجْهِهِ فَهُوَ مُسْتَوٍ فِي سَيْرِهِ.

[سورة الملك (67) : آية 23]

وَقَدْ حَصَلَ فِي الْآيَةِ إِيجَازُ حَذْفٍ إِذِ اسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِ الطَّرِيقِ بِالْالْتِوَاءِ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْاسْتِقَامَةِ فِي التَّمْثِيلِ الثَّانِي. وَالْفَاء الَّتِي فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَالْاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَالْمُكِبُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَكَبَّ، إِذَا صَارَ ذَا كَبٍّ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ أَصْلُهَا لِإِفَادَةِ الْمَصِيرِ فِي الشَّيْءِ مِثْلُ هَمْزَةِ: أَقْشَعَ السَّحَابُ، إِذَا دَخَلَ فِي حَالَةِ الْقَشْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنْفَضَ الْقَوْمُ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَأَرْمَلُواْ إِذَا فَنِيَ زَادُهُمْ، وَهِيَ أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ فِيمَا جَاءَ فِيهِ الْمُجَرَّدُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَهْمُوزُ قَاصِرًا. وأَهْدى مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُدَى، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِأَنَّ الَّذِي يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ مِنَ الْاهْتِدَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: 33] فِي قَوْلِ كثير من الْأَئِمَّة. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ تَهَكُّمٍ أَوْ تَمْلِيحٍ بِحَسَبِ الْمَقَامِ. وَالسَّوِيُّ: الشَّدِيدُ الْاسْتِوَاءِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ قَالَ تَعَالَى: أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: 43] . وَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا حَرْفُ عَطْفٍ وَهِيَ (أَمْ) الْمُعَادِلَةُ لِهَمْزَةِ الْاسْتِفْهَامِ. وَ (مَنْ) الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا أَوْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مَوْصُولَتَانِ وَمَحْمَلَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أُرِيدَ بِالْأُولَى أَبُو جَهْلٍ، وَبِالثَّانِيَةِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَو أَبُو بَكْرٍ أَوْ حَمْزَةُ رَضِيَ الله عَنْهُمَا. [23] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 23] قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ تَوْجِيهِ اللَّهِ تَعَالَى الْخِطَابَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِلتَّبْصِيرِ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ أَوِ التَّهْدِيدِ إِلَى خِطَابِهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا سَيُذْكَرُ تَفَنُّنًا فِي الْبَيَانِ وَتَنْشِيطًا لِلْأَذْهَانِ حَتَّى كَأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ مِنْ قَائِلَيْنِ وترفيعا لقدر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَائِهِ حَظًّا مِنَ التَّذْكِيرِ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [الدُّخان: 58] .

[سورة الملك (67) : آية 24]

وَالْانْتِقَالُ هُنَا إِلَى الْاسْتِدْلَالِ بِفُرُوعِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ الْاسْتِدْلَالِ بِأُصُولِهَا، وَمِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِفُرُوعِ أَعْرَاضِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَصْلِهَا، فَمِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، إِلَى الْاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَمَدَارِكِهِ، وَقَدِ أُتْبِعَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ بِخَمْسَةٍ مِثْلِهِ بِطَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ بِدُونِ عَاطِفٍ اهْتِمَامًا بِمَا بَعْدَ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ مَقَالَةٍ يُبَلِّغُهَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، الَخْ. وَالضَّمِيرُ هُوَ إِلَى الرَّحْمنِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: 20] . وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ. وَإِفْرَادُ السَّمْعَ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُصْدَرٌ، أَيْ جعل لكم حاسة السَّمْعِ، وَأَمَّا الْأَبْصارَ فَهُوَ جَمْعُ الْبَصَرِ بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] والْأَفْئِدَةَ الْقُلُوبُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُقُولُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ إِلَى آخِرِهِ قَصْرُ إِفْرَادٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ لِشِرْكِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ شَارَكَتِ اللَّهَ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِعْطَاءِ الْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ. وقَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ فِي حَالِ إِهْمَالِكُمْ شُكْرَهَا. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ فِي مَوْضِعِ فَاعِلِ قَلِيلًا لِاعْتِمَادِ قَلِيلًا عَلَى صَاحِبِ حَالٍ. وقَلِيلًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالْعَدَمِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقٌ مِنْ ضُرُوبِ الْكِنَايَةِ وَالْاقْتِصَادِ فِي الْحُكْمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فِي [الْبَقَرَةِ: 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [155] ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَذِهِ أَرْضٌ قَلما تنْبت. [24] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 24] قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

[سورة الملك (67) : الآيات 25 إلى 26]

(24) إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ مِنْ قَبِيلِ التَّكْرِيرِ الْمُشْعِرِ بِالْاهْتِمَامِ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ فِيهِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ. وَالذَّرْءُ: الْإِكْثَارُ مِنَ الْمَوْجُودِ، فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] أَيْ هُوَ الَّذِي كَثَرَّكُمْ عَلَى الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: 61] أَيْ أَعْمَرَكُمْ إِيَّاهَا. وَالْقَوْلُ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ. مِثْلُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ بَعْدَ أَنْ أَكْثَرَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يُزِيلُكُمْ بِمَوْتِ الْأَجْيَالِ فَكُنِّيَ عَنِ الْمَوْتِ بِالْحَشْرِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُواْ أَنَّ الْحَشْرَ الَّذِي أُنْذِرُواْ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثِ وَالْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْكِنَايَةُ عَنِ الْمَوْتِ بِالْحَشْرِ بِمَرْتَبَتَيْنِ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَقَدْ أُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرُهُمْ بِالْمَوْتِ الَّذِي قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْذَارُهُمْ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. فَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ فِي وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لِلْاهْتِمَامِ وَالرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَلَيْسَ لِلْاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُواْ يَدَّعُونَ الْحَشْرَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدَّعُوهُ لغير الله. [25- 26] [سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مُعَارَضَةٌ لِلْحُجَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] إِلَى هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْملك: 24] انْحَصَرَ عِنَادُهُمْ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْملك: 24] فَإِنَّهُمْ قَدْ جَحَدُوا الْبَعْثَ وَأَعْلَنُواْ بِجَحْدِهِ وَتَعَجَّبُواْ مِنْ إِنْذَارِ الْقُرْآنِ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 87] وَكَانُواْ يَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ: 29] وَاسْتَمَرُّواْ عَلَى قَوْلِهِ، فَلِذَلِكَ حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرِيرِ. والْوَعْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَشْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْملك: 24] فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هذَا ظَاهِرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَعْدٌ آخَرَ بِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى وَعِيدٍ سَمِعُوهُ.

[سورة الملك (67) : آية 27]

وَالْاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَهْزِئُواْ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ [الْإِسْرَاء: 51] وَأَتَوْا بِلَفْظِ الْوَعْدُ اسْتِنْجَازًا لَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَعْدِ الْوَفَاءُ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَلْهَجُونَ بِإِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْحَشْرِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ سَبَإٍ. وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ سُؤَالَهُمْ بِجُمْلَةٍ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ بَلْ عَلَى ظَاهِرِ الْاسْتِفْهَامِ عَنْ وَقْتِ الْوَعْدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، بِأَنَّ وَقْتَ هَذَا الْوَعْدِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَقَوْلُهُ: قُلْ هُنَا أَمْرٌ بِقَوْلٍ يَخْتَصُّ بِجَوَابِ كَلَامِهِمْ وَفُصِلَ دون عطف بجريان الْمَقُولَ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، وَلَمْ يُعْطَفْ فِعْلُ قُلْ بِالْفَاءِ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ أَمْثَالِهِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمُجَاوَبَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْعِلْمُ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْعِلْمُ بِوَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْلَّامُ الَّتِي تُسَمَّى عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ بِوُقُوعِ هَذَا الْوَعْدِ لَا أَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى كَوْنِي عَالِمًا بِوَقْتِهِ. وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُبَيِّنٌ لِمَا أمرت بتبليغه. [27] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 27] فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) (لَمَّا) حَرْفُ تَوْقِيتٍ، أَيْ سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ فِي وَقْتِ رُؤْيَتِهِمُ الْوَعْدَ. وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا اقْتَضَتْ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً تَقْدِيرُهَا: فَحَلَّ بِهِمُ الْوَعْدُ فَلَمَّا رَأَوْهُ إِلَخْ، أَي رَأَوْا الْمَوْعُود بِهِ. وَفُعِلَ رَأَوْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِشَبَهِهِ بِالْمَاضِي فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مِثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَمَّنْ لَا إِخْلَافَ فِي أَخْبَارِهِ فَإِنَّ

هَذَا الْوَعْدَ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ بِمَكَّةَ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْوَعْدِ الْوَعْدُ بِالْبَعْثِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَمْ أُرِيدَ بِهِ وَعْدُ النَّصْرِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْملك: 25] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْحَالِ وَأَنَّ الْوَعْدَ غَيْرُ حَاصِلٍ حِينَ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْهُ بِ مَتى. وَنَظِيرُ هَذَا الْاسْتِعْمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [41] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [89] إِذْ جَمَعَ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ فِعْلِ نَبْعَثُ مُضَارِعًا وَفِعْلِ جِئْنا مَاضِيًا. وَأَصْلُ الْمَعْنَى: فَإِذَا يَرَوْنَهُ تُسَاءُ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى صَوْغِ الْوَعِيدِ فِي صُورَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ فَجِيءَ بِالْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ. وَضَمِيرُ رَأَوْهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَعْدُ [الْملك: 25] بِمَعْنَى: رَأَوُا الْمَوْعُودَ بِهِ. وَالزُّلْفَةُ بِضَمِّ الزَّايِ: اسْمُ مَصْدَرِ زَلَفَ إِذَا قَرُبَ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَعِبَ. وَهَذَا إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ رَأَوْهُ شَدِيدَ الْقُرْبِ مِنْهُمْ، أَيْ أَخَذَ يَنَالُهُمْ. وسِيئَتْ بُنِيَ لِلنَّائِبِ، أَيْ سَاءَ وُجُوهَهُمْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ. وَأُسْنِدَ حُصُولُ السُّوءِ إِلَى الْوُجُوهِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كلحت، أَي لِأَنَّهُ سُوءٍ شَدِيدٍ تَظْهَرُ آثَارُ الْانْفِعَالِ مِنْهُ عَلَى الْوُجُوهِ، كَمَا أُسْنِدَ الْخَوْفُ إِلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: وَأَقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ وَقِيلَ أَيْ لَهُمْ. وتَدَّعُونَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مُضَارِعُ ادَّعَى. وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْملك: 25] ، أَيْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ. وبِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تَدَّعُونَ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى «تُكَذِّبُونَ» فَإِنَّهُ إِذَا ضُمِّنَ عَامِلٌ مَعْنَى عَامِلٍ آخَرَ يُحْذَفُ مَعْمُولُ الْعَامِلِ الْمَذْكُورِ وَيُذْكَرُ مَعْمُولُ ضِمْنِهِ لِيَدُلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ لِلْاهْتِمَامِ بِإِخْطَارِهِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْقَائِلُ لَهُمْ

[سورة الملك (67) : آية 28]

هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ مَلَائِكَةُ الْمَحْشَرِ أَوْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ تَعْيِينِ الْقَائِلِ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْمَقُولُ دُونَ الْقَائِلِ فَحَذْفُ الْقَائِلِ مِنَ الْإِيجَازِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ جُحُودِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ إِذَا رَأَوُا الْوَعْدَ حَسِبُوهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: 24] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِيئَتْ بِكَسْرَةِ السِّينِ خَالِصَةً، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِإِشْمَامِ الْكَسْرَةِ ضَمَّةً، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فَاءِ كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُعْتَلِ الْعَيْنِ إِذَا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدَّعُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيِ الَّذِي كُنْتُمْ تَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُصِيبَكُمْ بِهِ تَهَكُّمًا وَعِنَادًا كَمَا قَالُوا فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] . [28] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 28] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) هَذَا تَكْرِيرٌ ثَان لفعل قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] . كَانَ مِنْ بَذَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِتَمَنِّي هَلَاكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلَاكِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: 98] ، وَكَانُوا يَتَآمَرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَال: 30] ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُعَرِّفَهُمْ حَقِيقَةً تَدْحَضُ أَمَانِيِّهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مَوْتَ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتَهُ لَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ مَا جَرَّهُ إِلَيْهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَرَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ غَضَبَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ فَهُوَ نَائِلُهُمْ حَيِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَادَرَهُ الْمَنُونُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: 41، 42] وَقَالَ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 34] وَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يُقَارِبُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ فَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ

فَقَدْ يَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ صَادَفَ مَقَالَةً مِنْ مَقَالَاتِهِمْ هَذِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَثْنَائِهَا وَقَدْ يَكُونُ نُزُولُهَا لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْملك: 25] بِأَنْ قَارَنَهُ كَلَامٌ بَذِيءٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا: أَبْعَدَ هَلَاكِكَ يَأْتِي الْوَعْدُ. وَالْإِهْلَاكُ: الْإِمَاتَةُ، وَمُقَابَلَةُ أَهْلَكَنِيَ بِ رَحِمَنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَوْ رَحِمْنَا بِالْحَيَاةِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْحَيَاةَ رَحْمَةٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَجَلَ مِنَ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَخِّرِ اللَّهُ أَجْلَ نَبِيئَهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ أَشْرَفُ الرُّسُلِ لِحِكَمٍ أَرَادَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ» ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَكْمَلَ الدِّينَ الَّذِي أَرَادَ إِبْلَاغَهُ فَكَانَ إِكْمَالُهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ اسْتِمْرَارُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِصِّيصِيَّةً خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا أَتَمَّ اللَّهُ دِينَهُ رَبَا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْقَى غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِنُزُولِ الْوَحْيِ فَنَقَلَهُ اللَّهُ إِلَى الِاتِّصَالِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 1- 3] . وَلِلَّهِ دَرُّ عَبَدِ بَنِيِ الْحَسْحَاسِ فِي عَبْرَتِهِ بقوله: رَأَيْت لمنايا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا ... وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مُرْصَدًا وَقَدْ عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ، إِذْ قَالَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْح: 4] ، وَبِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَهِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ رُوحَهُ الزَّكِيَّةَ كُلَّمَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَإِنَّمَا سَمَّى الْحَيَاةَ رَحْمَةً لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، لِأَنَّ فِي حَيَاتِهِ نِعْمَةً لَهُ وَلِلنَّاسِ مَا دَامَ اللَّهُ مُقَدِّرًا حَيَاتَهُ، وَحَيَاةُ الْمُؤْمِنِ رَحْمَةٌ لِأَنَّهُ تَكْثُرُ لَهُ فِيهَا بَرَكَةُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ إِنْكَارِيٌّ أَنْكَرَ انْدِفَاعَهُمْ إِلَى أُمْنِيَاتٍ وَرَغَائِبَ لَا يَجْتَنُونَ مِنْهَا نَفْعًا وَلَكِنَّهَا مِمَّا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهُا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ مَفْعُولَاهُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِالْاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ نَاجِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ إِنْ هَلَكَتُ وَهَلَكَ مَنْ مَعِي، فَهَلَاكُنَا لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ الْمُعَدَّ لِلْكَافِرِينَ.

[سورة الملك (67) : آية 29]

وَأُقْحِمُ الشَّرْطُ بَين فعل الرُّؤْيَة وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ [الْملك: 30] رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ بَعْدَ مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ الْمَفْعُولَانِ الْمُقَدَّرَانِ رَجَحَ جَانِبُ الشَّرْطِ. وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ مَعِيَ مَعِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْاعْتِقَادِ وَالدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الْفَتْح: 29] الْآيَةَ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [التَّحْرِيم: 8] كَمَا أطلقت على الْمُوَافقَة فِي الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي» ، يَعْنِي مُوَافِقٌ لِأَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان، وَذَلِكَ حِينَ اخْتَلَفَ أَبُو سَلَمَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ مُضِيِّ عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَالْاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ إِلَخْ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُجِيرُهُمْ مِنْهُ مُجِيرٌ، أَيْ أَظَنَنْتُمْ أَنْ تَجِدُوا مُجِيرًا لَكُمْ إِذَا هَلَكْنَا فَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَمَاذَا يَنْفَعُكُمْ هَلَاكُنَا. وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْوَعْدِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَتَنْكِيرُ عَذابٍ لِلتَّهْوِيلِ. وَالْمُرَادُ بِ الْكافِرِينَ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ فَيَشْمَلُ الْمُخَاطَبِينَ. وَالْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، وَفِيهِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ يُجِيرُكُمْ مِنْ عَذَابٍ فَإِنَّكُمْ كَافِرُونَ وَلَا مُجِيرَ لِلْكَافِرِينَ. وَذُكِرَ وَصْفُ الْكافِرِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ إِذَا عَلِقَ بِهِ حُكْمٌ أَفَادَ تَعْلِيلَ مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحَةٍ عَلَى يَاءِ أَهْلَكَنِيَ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَاءَ مَعِيَ بِفَتْحَةٍ. وَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُون الْيَاء. [29] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 29] قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)

هَذَا تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لِفِعْلِ قُلْ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] الْآيَةَ. وَجَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِقَوْلٍ يَقُولُهُ لَهُمْ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أَوْ رَحِمَنا [الْملك: 28] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَوَّى بَيْنَ فَرْضِ إِهْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْيَائِهِمْ فِي أَنَّ أَيَّ الْحَالَيْنِ فُرِضَ لَا يُجِيرُهُمْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا بِالرَّحْمَانِ، فَهُمْ مَظِنَّةُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ فَيَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي ضَلَالٍ حِينَ يَرَوْنَ أَثَرَ الرَّحْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَانْتِفَاءَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَخَاصَّةً فِي الْآخِرَةِ. وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْوَاقِعُ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي وَصفه الرَّحْمنُ فَهُوَ يَرْحَمُنَا، وَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا الْاسْمَ فَأَنْتُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ تُحْرَمُوا آثَارَ رَحْمَتِهِ. وَنَحْنُ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ غَرَّكُمْ عِزُّكُمْ وَجَعَلْتُمُ الْأَصْنَامَ مُعْتَمَدَكُمْ وَوُكَلَاءَكُمْ. وَبِهَذِهِ التَّوْطِئَةِ يَقَعُ الْإِيمَاءُ إِلَى الْجَانِبِ الْمُهْتَدِي وَالْجَانِبِ الضَّالِّ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لِأَنَّهُ يظْهر بداء تَأَمُّلٍ أَنَّ الَّذِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا وَصْفَ الرَّحْمنُ وَتَوَكَّلُوا عَلَى الْأَوْثَانِ. ومَنْ مَوْصُولَة، وَمَا صدق مَنْ فَرِيقٌ مُبْهَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَين فريقين تضمنهما قَوْلُهُ: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الْملك: 28] وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ [الْملك: 28] ، فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالْآخَرُ فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، أَيْ فَسَتَعْلَمُونَ اتِّضَاحَ الْفَرِيقِ الَّذِي هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تَوَكَّلْنا عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاخْتِصَاصِ، أَيْ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِمُخَالَفَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَكَّلُوا على أصنامهم وأشركوها فِي التَّوَكُّلِ مَعَ اللَّهِ، أَوْ نَسُوا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِاشْتِغَالِ فَكْرَتِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْأَصْنَامِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمْ مَعْمُولُ آمَنَّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ: بِهِ آمَنَّا لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ وَصْفِ الْآخَرِينَ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْملك: 28] فَإِنَّ هَذَا جَوَاب آخر عَن تَمَنِّيهِمْ لَهُ الْهَلَاكَ سلك بِهِ طَرِيقَ التَّبْكِيتِ، أَي هُوَ الرحمان يُجِيرُنَا مِنْ سُوءٍ تَرُومُونَهُ لَنَا لِأَنَّنَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ

[سورة الملك (67) : آية 30]

كَمَا كَفَرْتُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ فِي إِيرَادِهِ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَإِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْإِهْلَاكِ وَالْإِنْجَاءِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ ب رَحِمَنا [الْملك: 28] فَجِيءَ بِجُمْلَةِ آمَنَّا عَلَى أَصْلٍ مُجَرَّدٍ مَعْنَاهَا دُونَ قَصْدِ الْاخْتِصَاصِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي مُنْجِيًا وَنَاصِرًا، وَالْمُشْرِكُونَ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقِيلَ: نَحْنُ لَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا أَنْتُم متكلون عَلَيْهِ، بل على الرحمان وَحْدَهُ تَوَكُّلُنَا. وَفِعْلُ فَسَتَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِمَجِيءِ الْاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَسَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أُمِرَ بِقَوْلِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ عِقَاب الضالّين. [30] [سُورَة الْملك (67) : آيَة 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ عَذَابُ الْجُوعِ بِالْقَحْطِ وَالْجَفَافِ فَإِنَّ مَكَّةَ قَلِيلَةُ الْمِيَاهِ وَلَمْ تَكُنْ بِهَا عُيُونٌ وَلَا آبَارٌ قَبْلَ زَمْزَمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ تَعَجُّبِ الْقَافِلَةِ مِنْ (جُرْهُمَ) الَّتِي مَرَّتْ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ حِينَ أَسْكَنَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَاجَرَ بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ فَفَجَّرَ اللَّهُ لَهَا زَمْزَمَ وَلَمَحَتِ الْقَافِلَةُ الطَّيْرَ تَحُومُ حَوْلَ مَكَانِهَا فَقَالُوا: مَا عَهِدْنَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ مَاءً، ثُمَّ حَفَرَ مَيْمُونُ بْنُ خَالِدٍ الْحَضْرَمِيُّ بِأَعْلَاهَا بِئْرًا تُسَمَّى بِئْرُ مَيْمُونٍ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ قُبَيْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَتْ بِهَا بِئْرٌ أُخْرَى تُسَمَّى الْجَفْرُ (بِالْجِيمِ) لِبَنِيِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةٍ، وَبِئْرٍ تُسَمَّى الْجَمُّ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وأهملها «الْقَامُوس» و «تاجه» ، وَلَعَلَّ هَاتَيْنِ الْبِئْرَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَاءُ هَذِهِ الْآبَارِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِأَنَّهُ يُصْبِحُ غَوْرًا، وَهَذَا الْإِنْذَارُ نَظِيرُ الْوَاقِعِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [17- 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَالْغَوْرُ: مَصْدَرُ غَارَتِ الْبِئْرُ، إِذَا نَزَحَ مَاؤُهَا فَلَمْ تَنَلْهُ الدِّلَاءُ. وَالْمرَاد: مَاء الْبِئْر كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فِي ذِكْرِ جَنَّةِ سُورَةِ الْكَهْفِ

وَأَصْلُ الْغَوْرِ: ذَهَابُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ، مَصْدَرُ غَارَ الْمَاءُ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: عَدْلٍ وَرِضًى. وَالْمَعِينُ: الظَّاهِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْبِئْرُ الْمَعِينَةُ: الْقَرِيبَةُ الْمَاءِ على وَجه التَّشَبُّه. وَالْاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَأْتِيكُمْ أَحَدٌ بِمَاءٍ مَعِينٍ: أَيْ غَيْرَ اللَّهِ وَأَكْتَفِي عَنْ ذِكْرِهِ لِظُهُورِهِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: 20] الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ أُصِيبُوا بِقَحْطٍ شَدِيدٍ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ انْحِبَاسَ الْمَطَرِ يَتْبَعُهُ غَوْرُ مِيَاهِ الْآبَارِ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَهَا مِنَ الْمَاءِ النَّازِلِ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] وَقَالَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الْبَقَرَة: 74] . وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي «بَيَانِهِ» :، قَالَ: وَعَنْ بَعْضِ الشُطَّارِ (هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ الطَّبِيبُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ) أَنَّهَا (أَيْ هَذِهِ الْآيَةِ) تُلِيَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: تَجِيءُ بِهِ (أَي المَاء) الفؤوس وَالْمَعَاوِلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنَيْهِ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى آيَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

68- سورة القلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 68- سُورَةُ الْقَلَمِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا، أَيْ سُورَةُ هَذَا اللَّفْظِ. وَتَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُورَةَ ن بِالْاقْتِصَارِ عَلَى الْحَرْفِ الْمُفْرَدِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ مِثْلُ مَا سُمِّيَتْ سُورَةُ ص وَسُورَةُ ق. وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ سُمِّيَتْ سُورَةُ الْقَلَمِ وَكَذَلِكَ رَأَيْتُ تَسْمِيَتَهَا فِي مُصْحَفٍ مَخْطُوطٍ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: أَوَّلُهَا مَكِّيٌّ، إِلَى قَوْلِهِ: عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَم: 16] وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم: 17- 33] مَدَنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم: 34- 47] مَكِّيٌّ

أغراضها

وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم: 48- 50] مَدَّنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْقَلَم: 51] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مَكِّيٌّ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ السَّخَاوِيِّ: أَنَّ الْمَدَنِيَّ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم: 17- 33] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم: 48- 50] فَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم: 34- 47] مَدَنِيًّا خِلَافًا لِمَا نَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذِهِ السُّورَةُ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ثَانِيَةَ السُّورِ نُزُولًا قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ ثُمَّ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَالْأَصَحُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ «أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ» . وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ» يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ. أَغْرَاضُهَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِيمَاءُ بِالْحَرْفِ الَّذِي فِي أَوَّلِهَا إِلَى تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ بِالتَّعْجِيزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَوَّلُ التَّحَدِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ إِذْ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ وَلَا فِي الْمُزَّمِّلِ وَلَا فِي الْمُدَّثِّرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي وَلَا تَصْرِيحٌ. وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي بِمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: 1] . وَابْتُدِئَتْ بِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِثْبَاتُ كَمَالَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَدْيِهِ وَضَلَالِ مُعَانَدِيهِ وَتَثْبِيتِهِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِمَا هُوَ مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ

[سورة القلم (68) : الآيات 1 إلى 4]

الْكِتَابَةَ فَتَضَمَّنَ تَشْرِيفَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَالْكِتَابَةِ وَالْعِلْمِ لِتَهْيِئَةِ الْأُمَّةِ لِخَلْعِ دِثَارِ الْأُمِّيَّةِ عَنْهُمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالْعِلْمِ لِتَكُونَ الْكِتَابَةُ وَالْعِلْمُ سَبَبًا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ أَنْحَى عَلَى زُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَثْلِ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِمَذَمَّاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَبِبَلَايَا فِي الدُّنْيَا بِأَنْ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِمَنْ غَرَّهُمْ عِزَّهُمْ وَثَرَاؤُهُمْ، فَأَزَالَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَأَبَادَ نِعْمَتَهُمْ. وَقَابَلَ ذَلِكَ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَوَعَظَهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ اسْتِدْرَاجٌ وَإِمْلَاءٌ جَزَاءَ كَيْدِهِمْ. وَأَنَّهُمْ لَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فِيمَا قَابَلُوا بِهِ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُغْيَانِهِمْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِنْصَاتِ إِلَيْهَا. وَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَتَلَقِّي أَذَى قَوْمِهِ، وَأَنْ لَا يَضْجَرَ فِي ذَلِكَ ضَجَرًا عَاتَبَ الله عَلَيْهِ نبيئه يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. [1- 4] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ن افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَحَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهَا مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهَذِهِ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مُفْتَتَحَةً بِحَرْفٍ مَقْطَعٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ. وَرَسَمُوا حَرْفَ ن بِصُورَتِهِ الَّتِي يُرْسَمُ بِهَا فِي الْخَطِّ وَهِيَ مُسَمَّى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ نُونٌ (بِنُونٍ بَعْدَهَا وَاوٍ ثُمَّ نُونٍ) وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَبَعٌ لِلنُّطْقِ وَالْمَنْطُوقِ بِهِ هُوَ اسْمُ الْحَرْفِ لَا ذَاتُهُ، لِأَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ كِتَابَةَ سَيْفٍ مَثَلًا فَإِنَّمَا تَرْسُمُ سِينًا، وَيَاءً، وَفَاءً، وَلَا تَرْسُمُ صُورَةَ سَيْفٍ. وَإِنَّمَا يُقْرَأُ بِاسْمِ الْحِرَفِ لَا بِهِجَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَيُنْطَقُ بِاسْمِ نُونٍ سَاكِنَ الْآخِرِ سُكُونَ الْكَلِمَاتِ قَبْلَ دُخُولِ الْعَوَامِلِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قرىء فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ.

وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ 1 مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ 2 وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ 3 وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4 يَجْرِي الْقَسَمُ هُنَا عَلَى سُنَنِ الْأَقْسَامِ الصَّادِرَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ بِأَشْيَاءٍ مُعَظَّمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى آثَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. والْقَلَمِ الْمُقْسَمُ بِهِ قِيلَ هُوَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْقَلَمِ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْمَوْجُودَاتِ الْكَائِنَةِ وَالَّتِي سَتَكُونُ، أَوْ هُوَ كَائِنٌ غَيْبِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةٍ: أَنَّهُ الْقَلَمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 4- 5] . قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَما يَسْطُرُونَ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ الَّذِينَ لَا يعْرفُونَ إِلَّا الْقَلَمَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَةَ مِنَ الْعَرَبِ. وَمِنْ فَوَائِدَ هَذَا الْقَسَمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كِتَابُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ مَكْتُوبًا مَقْرُوءًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِكِتَابَةِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الْقَلَمِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. فَالْقَسَمُ بِالْقَلَمِ لِشَرَفِهِ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ وَكُتِبَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْمُقَدَّسَةُ وَتُكْتَبُ بِهِ كُتُبُ التَّرْبِيَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْعُلُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ حَظُّ شَرَفٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا يُرَجِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ نَوَّهُ بِالْقَلَمِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ نَزَلَتْ من الْقُرْآن بقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 3- 5] . وَمَا يَسْطُرُونَ هِيَ السُّطُورُ الْمَكْتُوبَةُ بِالْقَلَمِ. وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، أَيْ وَمَا يَكْتُبُونَهُ مِنَ الصُّحُفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَعْنَى: وَسَطْرِهِمُ الْكِتَابَةَ سُطُورًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا كُتَّابُ الْوَحْيِ الْقُرْآنَ، وَما يَسْطُرُونَ قَسَمًا بِكِتَابَتِهِمْ، فَيَكُونُ قَسَمًا بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ بِكَلَامِ مَجْنُونٍ

كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [2- 3] ، وَتَنْظِيرُهُ بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضٌ ... الْبَيْتَ ويَسْطُرُونَ: مُضَارِعُ سَطَرَ، يُقَالُ: سَطَرَ مِنْ بَابِ نَصَرَ، إِذَا كَتَبَ كَلِمَاتٍ عِدَّةٍ تَحْصُلُ مِنْهَا صُفُوفٌ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّطْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ، لِأَنَّ صُفُوفَ الْكِتَابَةِ تَبْدُو كَأَنَّهَا قِطَعٌ. وَضَمِيرُ يَسْطُرُونَ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ لِأَنَّ ذكر الْقَلَم ينبىء بِكَتَبَةٍ يَكْتُبُونَ بِهِ فَكَانَ لَفْظُ الْقَسَمِ مُتَعَلِّقًا بِآلَةِ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْمَقْصُودُ: الْمَكْتُوبُ فِي إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ السَّاطِرِينَ غَيْرُ مَعْلُومِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْمَسْطُورِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطّور: 2- 3] . وَمَنْ فَسَّرَ الْقَلَمِ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَيَكُونُ جَعَلَ ضَمِيرَ يَسْطُرُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ السَّطْرُ رَمْزًا لِتَنْفِيذِ الْمَلَائِكَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَنْفِيذِهِ حِينَ تَلَقِّي ذَلِكَ، أَيْ يَكْتُبُونَ ذَلِكَ لِلْعَمَلِ بِهِ أَوْ لِإِبْلَاغِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ الضَّبْطُ بِضَبْطِ الْكَاتِبِ مَا يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ بِدُونِ تَغْيِيرٍ. وَأُوثِرَ الْقَسَمُ بِالْقَلَمِ وَالْكِتَابَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ بَاعِثَ الطَّاعِنِينَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واللّامزين لَهُ بالمجنون، إِنَّمَا هُوَ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ. وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْنُونًا وَالْخِطَابُ لَهُ بِهَذَا تَسْلِيَةً لَهُ لِئَلَّا يُحْزِنَهُ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَذَلِكَ مَا شَافَهُوا بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي آخر السُّورَة [الْقَلَم: 51] وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَفْيُ صِفَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] . وَقَدْ زَلَّ فِيهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» زَلَّةً لَا تَلِيقُ بِعِلْمِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ الْجُنُونِ عَنْهُ إِثْبَاتُ مَا قَصَدَ الْمُشْرِكُونَ نَفْيَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا عَنْهُ صِفَةَ الرِّسَالَةِ وَضَعُوا مَوْضِعَهَا صِفَةَ الْجُنُونِ، فَإِذَا نُفِيَ مَا زَعَمُوهُ فَقَدْ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ. وَقَدْ أُجِيبَ قَوْلُهُمْ وَتَأْكِيدُهُمْ ذَلِكَ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَلَامِ الْابْتِدَاءِ إِذْ قَالُوا إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [الْقَلَم: 51] بِمُؤَكِّدَاتٍ أَقْوَى مِمَّا فِي كَلَامِهِمْ إِذْ أُقْسِمَ عَلَيْهِ وَجِيءَ بَعْدَ النَّفْيِ بِالْبَاءِ الَّتِي تُزَادُ بَعْدَ النَّفْيِ لِتَأْكِيدِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ مَنْفِيَّةً لِدَلَالَةِ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ، أَيْ تَحَقُّقِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ. وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي مَجْنُونٍ الْمَنْفِيِّ. وَالتَّقْدِيرُ: انْتَفَى وَصْفُ الْمَجْنُونِ بِنِعْمَةِ رَبِّكِ عَلَيْكَ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ إِنْعَامِ اللَّهِ إِذْ بَرَّأَكَ مِنَ النَّقَائِصِ. وَالَّذِي أَرَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً وَأَنَّ الْبَاءَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي تَعَلُّقِ الْبَاءِ فِي قَوْله: بِسْمِ اللَّهِ [هود: 41] وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اسْتِعْمَالُهُمْ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ: كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا وَذَهَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» أَنَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ حَرْفُ مَا النَّافِيَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَقَدَّرَهُ: انْتَفَى أَنْ تَكُونَ مَجْنُونًا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ. وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ: (مَجْنُونٍ) إِذْ لَوْ عُلِّقَ بِهِ لَأَوْهَمَ نَفْيَ جُنُونٍ خَاص وَهُوَ الْمَجْنُون الَّذِي يَكُونُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ، وَاسْتَحْسَنَ هَذَا ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ الثَّالِثِ لَوْلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِالْحَرْفِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو الْفَتْحِ فِي خُصُوصِ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورِ وَالظَّرْفِ بِمَعْنَى الْحَرْفِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلٍ مِثْلُ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي قَوْلِكَ: يَا لَزَيْدٍ (يُرِيدُ فِي الْاسْتِغَاثَةِ) ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ فِي سُورَةِ الطُّورِ [29] . وَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ بُهْتَانَ أَعْدَائِهِ أَعْقَبَهُ بِإِكْرَامِهِ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ بِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِحَرْفِ إِنَّ وَبِلَامِ الْابْتِدَاءِ وَبِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ «لَكَ»

وَهَذَا الْأَجْرُ هُوَ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَعِنَايَةُ اللَّهِ بِهِ وَنَصْرُهُ فِي الدُّنْيَا. وَ «مَمْنُونٍ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ مَنِّ الْمُعْطِي عَلَى الْمُعْطَى إِذَا عَدَّ عَلَيْهِ عَطَاءَهُ وَذَكَرَهُ لَهُ، أَوِ افْتَخَرَ عَلَيْهِ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسُوءُ الْمُعْطَى، قَالَ النَّابِغَةُ: عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبٍ أَيْ لَيْسَ فِيهَا أَذًى، وَالْمَنُّ مِنَ الْأَذَى قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] . وَقَدِ انْتَزَعَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ (بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ) أَوْ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ قَبْلَهُ: سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي وَمُرَادُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «مَمْنُونٍ» مُشْتَقًّا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَّ الْحَبْلَ، إِذَا قَطَعَهُ، أَيْ أَجْرًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ عَنْكَ، وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُتَزَايِدُ كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ أَجْرًا أَبَدِيًّا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا كَانَ لِإِيثَارِ كَلِمَةِ «مَمْنُونٍ» هُنَا مِنَ الْإِيجَازِ بِجَمْعِ مَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [108] لِأَنَّ مَا هُنَا تَكْرِمَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْدَ أَنْ آنَسَ نَفْسَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَعْدِ عَادَ إِلَى تَسْفِيهِ قَوْلِ الْأَعْدَاءِ فَحَقَّقَ أَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِخُلُقٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ ضِدُّ الْجُنُونِ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ مُؤَكِّدَاتٍ مِثْلُ مَا فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ. وَالْخُلُقُ: طِبَاعُ النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى طِبَاعِ الْخَيْرِ إِذا لم يتبع بِنَعْتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [137] . وَالْعَظِيمُ: الرَّفِيعُ الْقَدْرِ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَخَامَةِ الْجِسْمِ، وَشَاعَتْ هَذِهِ الْاسْتِعَارَةُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ. وَ (عَلَى) لِلْاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] ، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [الْحَج: 67] .

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» أَيْ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِيقَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا. وَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ: هُوَ الْخُلُقُ الْأَكْرَمُ فِي نَوْعِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْبَالِغُ أَشَدَّ الْكَمَالِ الْمَحْمُودِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ مُعَامَلَته النَّاس على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، فَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ أَرْفَعُ مِنْ مُطْلَقِ الْخُلُقِ الْحَسَنِ. وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، أَلَسْتَ تَقْرَأُ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] الْآيَاتِ الْعَشْرَ» . وَعَنْ عَلِيٍّ: الْخُلُقُ الْعَظِيمُ: هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ مَحَامِدَ الْأَخْلَاقِ وَمَا وُصِفَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: 159] وَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَاف: 199] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَمَا أَخَذَ بِهِ مِنَ الْأَدَبِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، فَجَعَلَ أَصْلَ شَرِيعَتِهِ إِكْمَالَ مَا يَحْتَاجُهُ الْبَشَرُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي شَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [الجاثية: 18] وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَام: 163] . فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ جَعَلَ شَرِيعَتَهُ لِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ بِمُنْتَهَى الْاسْتِطَاعَةِ. وَبِهَذَا يَزْدَادُ وُضُوحًا مَعْنَى التَّمَكُّنِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ الْاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فِي دَعْوَتِهِ الدِّينِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمَاعَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ هُوَ التَّدَيُّنُ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ، وَحِلْمُ النَّفْسِ، وَالْعَدْلُ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَتَاعِبِ، وَالْاعْتِرَافُ لِلْمُحْسِنِ، وَالتَّوَاضُعُ، وَالزُّهْدُ، وَالْعِفَّةُ، وَالْعَفْوُ، وَالْجُمُودُ، وَالْحَيَاءُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَحُسْنُ الصَّمْتِ، وَالتَّؤُدَةُ، وَالْوَقَارُ، وَالرَّحْمَةُ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ. وَالْأَخْلَاقُ كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ وَمَظَاهِرُهَا تَصَرُّفَاتُ صَاحِبِهَا فِي كَلَامِهِ، وَطَلَاقَةِ

[سورة القلم (68) : الآيات 5 إلى 6]

وَجْهِهِ، وَثَبَاتِهِ، وَحُكْمِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَتَأْدِيبِ أَهْلِهِ وَمَنْ لِنَظِرِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حُرْمَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالسُّمْعَةِ. وَأَمَّا مَظَاهِرُهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي ذَلِكَ كُله وَفِي سياسته أُمَّتِهِ، وَفِيمَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَصَاحَةِ كَلَامِهِ وجوامع كَلمه. [5- 6] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 5 إِلَى 6] فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: 2] بِاعْتِبَارِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [الْقَلَم: 2] مِنْ إِبْطَالِ مَقَالَةٍ قِيلَتْ فِي شَأْنِهِ قَالَهَا أَعْدَاؤُهُ فِي الدِّينِ، ابْتَدَأَ بِإِبْطَالِ بُهْتَانِهِمْ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا الدَّلَائِلَ وَتَوَسَّمُوا الشَّمَائِلَ عَلِمُوا أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ الْمَفْتُونَ أَهُمْ مَفْتُونُونَ بِالْانْصِرَافِ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، أَمْ هُوَ بِاخْتِلَالِ الْعَقْلِ كَمَا اخْتَلَقُوا. وَالْمَقْصُودُ هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَيُبْصِرُونَ وَلَكِنْ أُدْمِجَ فِيهِ قَوْلُهُ: فَسَتُبْصِرُ لِيَتَأَتَّى بِذِكْرِ الْجَانِبَيْنِ إِيقَاعُ كَلَامٍ مُنْصِفٍ (أَيْ دَاعٍ إِلَى الْإِنْصَافِ) عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَبْلُغُ مَسَامِعَهُمْ وَيُتْلَى عَلَيْهِمْ. وَفِعْلَا (تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) ، بِمَعْنَى الْبَصَرِ الْحِسِّيِّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مَعْنَاهُ فَسَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ، فَجَعَلَهُ مِثْلَ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي مَعْنَى الظَّنِّ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى إِذْ قَدْ قِيلَ إِنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ مِنْ (أَبْصَرَ) لَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الظَّنِّ وَالْاعْتِقَادُ عِنْدَ جُمْهُورِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ خِلَافًا لِهِشَامٍ كَذَا فِي «التَّسْهِيلِ» (¬1) فَالْمَعْنَى: سَتَرَى وَيَرَوْنَ رَأْيَ الْعَيْنِ أَيَّكُمُ الْمفْتُون فَإِن كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى ذَلِكَ فَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ: فَسَتُبْصِرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَسَيَرَوْنَ ذَلِكَ، أَيْ يَعْلَمُونَ آثَارَ فُتُونِهِمْ وَذَلِكَ فِيمَا يَرَوْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ. وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْبَصَرِ الْحِسِّيِّ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ لِلْاسْتِقْبَالِ. وَضَمِيرُ يُبْصِرُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ عِنْدَ السَّامِعِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْقَائِلُونَ: هُوَ مَجْنُونٌ. ¬

(¬1) هُوَ هِشَام بن مُعَاوِيَة الْكُوفِي من أَصْحَاب الْكسَائي توفّي سنة 209.

وَ (أَيِّ) اسْمٌ مُبْهَمٌ يَتَعَرَّفُ بِمَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَدْلُولَ (أَيِّ) فَرْدٌ أَوْ طَائِفَةٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ مُشَارِكٍ فِي طَائِفَتِهِ مِنْ جَنْسٍ أَو وصف بمميّز وَاقِعِيٍّ أَوْ جَعْلِيٍّ، فَهَذَا مَدْلُولُ (أَيِّ) فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهِ، وَلَهُ مَوَاقِعُ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ، فَقَدْ يُشْرِبُ (أَيِّ) مَعْنَى الْمَوْصُولِ، وَمَعْنَى الشَّرْطِ، وَمَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَى التَّنْوِيهِ بِكَامِلٍ، وَمَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِ (أَلْ) إِذَا وَصَلَ بِنِدَائِهِ. وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يُفِيدُ شَيْئًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا يُشَارِكُهُ فِي طَائِفَتِهِ الْمَدْلُولَةِ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، فَقَوله تَعَالَى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ مَعْنَاهُ: أَيُّ رَجُلٍ، أَوْ أَيُّ فَرِيقٍ مِنْكُمُ الْمَفْتُونُ، فَ (أَيِّ) فِي مَوْقِعِهِ هُنَا اسْمٌ فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ لِ (تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَعَلُّقَ الْمَجْرُورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ (أَيِّ) فِي الْاسْتِفْهَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [185] . والْمَفْتُونُ: اسْمُ مَفْعُولٍ وَهُوَ الَّذِي أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بهَا هُنَا الْجُنُونُ فَإِنَّ الْجُنُونَ يُعَدُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ (يَقُولُونَ لِلْمَجْنُونِ: فَتَنَتْهُ الْجِنُّ) وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الْمُضْطَرِبِ فِي أَمْرِهِ الْمَفْتُونِ فِي عَقْلِهِ حَيْرَةً وَتَقَلْقُلًا، بِإِيثَارِ هَذَا اللَّفْظِ، دُونَ لَفْظِ الْمَجْنُونِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ أَوِ التَّوْرِيَةِ لِيَصِحَّ فَرْضُهُ لِلْجَانِبَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ يَنْدَفِعُونَ إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ تَبَصُّرٍ يَكُنْ فِي فِتْنَةِ اضْطِرَابِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَضْرَابِهِمَا الَّذِينَ أَغْرَوُا الْعَامَّةَ بِالطَّعْنِ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بمفعوله، وَالْأَصْل: أيّكم الْمَفْتُونُ فَهِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْكُمْ يُوجَدُ الْمَجْنُونُ، أَيْ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُدَبِّرِي السُّوءِ عَلَى دَهْمَاءَ قُرَيْشٍ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الشَّبِيهَةِ بِأَقْوَالِ الْمَجَانِينِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَصَفُوا رَجُلًا مَعْرُوفًا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ مَذْكُورًا بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَالْأَمَانَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ فَكَانُوا كَمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّهَارَ لَيْلٌ وَمَنْ وَصَفَ الْيَوْمَ الشَّدِيدَ الْبَرْدِ بِالْحَرَارَةِ، فَهَذَا شُبِّهَ بِالْمَجْنُونِ وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ الْمَفْتُونُ فِي الْآيَةِ وَصْفًا ادِّعَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَمَا

[سورة القلم (68) : آية 7]

جَعَلَ الْمُتَنَبِّي الْقَوْمَ الَّذِينَ تَرَكُوا نَزِيلَهُمْ يَرْحَلُ عَنْهُمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى إِمْسَاكِهِ رَاحِلِينَ عَنْ نَزِيلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِذَا تَرَحَّلَتَ عَنْ قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا ... أَنْ لَا تُفَارِقَهُمْ فَالرَّاحِلُونَ هُمُو وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْتُونُ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْمَعْقُولِ بِمَعْنَى الْعَقْلِ وَالْمَجْلُودِ بِمَعْنَى الْجَلْدِ وَالْمَيْسُورِ لِلْيُسْرِ، وَالْمَعْسُورِ لِضِدِّهِ، وَفِي الْمَثَلِ «خُذْ مِنْ مَيْسُورِهِ وَدَعْ مَعْسُورَهُ» . وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا لِلْمُلَابَسَةِ فِي مَحَلِّ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ عَلَى الْمَفْتُونُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ. يُضَمَّنُ فِعْلُ (تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) مَعْنَى: تُوقِنُ وَيُوقِنُونَ، عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِفِعْلِ الْإِبْصَارِ عَنِ التَّحَقُّقِ لِأَنَّ أَقْوَى طُرُقِ الْحِسِّ الْبَصَرِ وَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا التَّضْمِينِ. وَالْمَعْنَى: فَسَتَعْلَمُ يَقِينًا ويعلمون يَقِينا بأيّكم الْمَفْتُونُ، فَالْبَاءُ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ التَّعْدِيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (يبصر ويبصرون) . [7] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 7] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الْقَلَم: 5- 6] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ الْجَانِبَ الْمَفْتُونَ هُوَ الْجَانِبُ الْقَائِلُ لَهُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] وَأَنَّ ضِدَّهُ بِضِدِّهِ هُوَ الرَّاجِعُ الْعَقْلُ أَيِ الَّذِي أَخْبَرَكَ بِمَا كَنَّى عَنْهُ قَوْلَهُ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ [الْقَلَم: 5] مِنْ أَنَّهُمُ الْمَجَانِينُ هُوَ الْأَعْلَمُ بِالْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الَّذِي أَنْبَأَكَ بِأَنْ سَيَتَّضِحُ الْحَقُّ لِأَبْصَارِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَفْتُونَ هُوَ الْفَرِيقُ الَّذِينَ وَسَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: 2] إِذْ هُمُ الضَّالُّونَ عَنْ سَبِيلِ رَبِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ، وَيَنْتَظِمُ بِالتَّدَرُّجِ مَنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا أَقْيِسَةُ مُسَاوَاةٍ مُنْدَرِجٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ تَقْتَضِي مُسَاوَاةَ حَقِيقَةِ مَنْ ضَلَّ عَنْ سُبُلِ رَبِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَقِيقَةِ الْمَفْتُونِ. وَمُسَاوَاةَ حَقِيقَةِ الْمَفْتُونِ بِحَقِيقَةِ الْمَجْنُونِ، فَتُنْتِجُ أَنَّ فَرِيقَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِالْجُنُونِ بِقَاعِدَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ أَنَّ مُسَاوِيَ الْمُسَاوِي لِشَيْءٍ مُسَاوٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ.

[سورة القلم (68) : الآيات 8 إلى 9]

وَهَذَا الْانْتِقَالُ تَضَمَّنَ وَعْدًا وَوَعِيدًا، بِإِضَافَةِ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ وَمُقَابَلَةِ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَعُمُومُ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَعُمُومُ الْمُهْتَدِينَ يَجْعَلُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعَ كَوْنِهَا كَالدَّلِيلِ هِيَ أَيْضًا مِنَ التَّذْيِيلِ. وَهُوَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: 8] . [8- 9] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 8 إِلَى 9] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الْقَلَم: 7] إِلَى آخِرِهَا، بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنه على الْهدى، وَأَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ فِي ضَلَالِ السَّبِيلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُشَادَّةَ مَعَهُمْ وَأَنْ لَا يَلِينَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ أَذَاهُمْ إِيَّاهُ آلَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَتَصَلُّبٍ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يَسْتَأْهِلُونَ بِهِ لِينًا وَلَكِنْ يَسْتَأْهِلُونَ إِغْلَاظًا. رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْحَسَنِ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ تَحُومُ حَوْلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَدُّوا أَنْ يُمْسِكَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُجَاهَرَتِهِمْ بِالتَّضْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ فَيُمْسِكُوا عَنْ أَذَاهُ، وَيُصَانِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ إِجَابَتِهِمْ لِمَا وَدُّوا. وَمَعْنَى وَدُّوا: أَحَبُّوا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَدُّوا ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَوَرَدَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَقَدَّمُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَرْضِ وَوَسَّطُوا فِي ذَلِكَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ وَعُتْبَةَ بْنَ ربيعَة. فينتظم من هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ نَهْيٌ عَنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى شَيْءٍ عرضوه عَلَيْهِ عِنْد مَا قَرَّعَهُمْ بِأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَبِخَاصَّةٍ مِنْ وَقْعِ مَعْنَى التَّعْرِيضِ الْبَدِيعِ الْمَمْزُوجِ بِالْوَعِيدِ بِسُوءِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِلَى قَوْله: بِالْمُهْتَدِينَ [الْقَلَم: 5- 7] فَلَعَلَّهُمْ تَحَدَّثُوا أَوْ أَوْعَزُوا إِلَى مَنْ يُخْبِرُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَارَحُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ إِنْ سَاءَهُ قَوْلُهُمْ فِيهِ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [الْقَلَم: 51] فَقَدْ

سَاءَهُمْ مِنْهُ تَحْقِيرُهُمْ بِصِفَاتِ الذَّمِّ وَتَحْقِيرُ أَصْنَامِهِمْ وَآبَائِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْكُفْرِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ أَمْسَكُوا عَنْ أَذَاهُ وَكَانَ الْحَالُ صُلْحًا بَيْنَهُمْ وَيَتْرُكُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقًا وَمَا عَبَدَهُ. وَالطَّاعَةُ: قَبُولُ مَا يُبْتَغَى عَمَلُهُ، وَوُقُوعُ فِعْلِ تُطِعْ فِي حَيِّزِ النَّهْيِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ جِنْسِ الطَّاعَةِ لَهُمْ فَيَعُمُّ كُلَّ إِجَابَةٍ لِطَلَبٍ مِنْهُمْ، فَالطَّاعَةُ مُرَاد بهَا هُنَا الْمُصَالَحَةُ وَالْمُلَايَنَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: 52] ، أَيْ لَا تَلِنْ لَهُمْ. وَاخْتِيرَ تَعْرِيفُهُمْ بِوَصْفِ الْمُكَذِّبِينَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْحُكْمِ وَهُوَ حُكْمُ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمْ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ طَاعَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رِسَالَتَهُ. وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ أَنَّ جُمْلَةَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ بَيَانٌ لِمُتَعَلَّقِ الطَّاعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَفِعْلُ تُدْهِنُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِدْهَانِ وَهُوَ الْمُلَايَنَةُ وَالْمُصَانَعَةُ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يُجْعَلَ لِشَيْءٍ دُهْنًا إِمَّا لِتَلْيِينِهِ وَإِمَّا لتلوينه، وَمن هاذين الْمَعْنَيَيْنِ تَفَرَّعَتْ مَعَانِي الْإِدْهَانِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّاغِبُ، أَيْ وَدُّوا مِنْكَ أَنْ تُدْهِنَ لَهُمْ فَيُدْهِنُوا لَكَ، أَيْ لَوْ تُوَاجِهُهُمْ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فَيُوَاجِهُونَكَ بِمِثْلِهَا. وَالْفَاءُ فِي فَيُدْهِنُونَ لِلْعَطْفِ، وَالتَّسَبُّبِ عَنْ جُمْلَةِ لَوْ تُدْهِنُ جَوَابًا لِمَعْنَى التَّمَنِّي الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِفِعْلِ وَدُّوا بَلْ قُصِدَ بَيَانُ سَبَبِ وِدَادَتِهِمْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبِ الْفِعْلُ بَعْدَ الْفَاءِ بِإِضْمَارِ (أَنْ) لِأَنَّ فَاءَ الْمُتَسَبِّبِ كَافِيَةٌ فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ، فَالْكَلَامُ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَهُمْ يُدْهِنُونَ. وَسَلَكَ هَذَا الْأُسْلُوبَ لِيَكُونَ الْاسْمُ الْمُقَدَّرُ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فَيُفِيدُ مَعْنَى الْاخْتِصَاصِ، أَيْ فَالْإِدْهَانُ مِنْهُمْ لَا مِنْكَ، أَيْ فَاتْرُكِ الْإِدْهَانَ لَهُمْ وَلَا تَتَخَلَّقْ أَنْتَ بِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْاسْتِعْمَالِ إِذَا أُرِيدَ بِالتَّرَتُّبَاتِ أَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيقُ جَوَابٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً [الْجِنّ: 13] ، أَيْ فَهُوَ لَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا. وَحَرْفُ لَوْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطِيًّا وَيَكُونَ فِعْلُ تُدْهِنُ شَرْطًا، وَأَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَوْ تُدْهِنُ لَحَصَلَ لَهُمْ مَا يَوَدُّونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ

[سورة القلم (68) : آية 10]

يَكُونَ لَوْ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا عَلَى رَأْيِ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ لَوْ يَأْتِي حَرْفًا مَصْدَرِيًّا مِثْلُ (أَنْ) فَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَالتِّبْرِيزِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَدُّوا إِدْهَانَكَ. وَمَفْعُولُ وَدُّوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَوْ تُدْهِنُ، أَوْ هُوَ الْمَصْدَرُ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَوْ تَقَعُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [96] . وَقَدْ يُفِيدُ مَوْقِعُ الْفَاءِ تَعْلِيلًا لِمَوَدَّتِهِمْ مِنْهُ أَنْ يُدْهِنَ، أَيْ وَدُّوا ذَلِكَ مِنْكَ لِأَنَّهُمْ مُدْهِنُونَ، وَصَاحِبُ النِّيَّةِ السَّيِّئَةِ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ النَّاس مثله. [10] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 10] وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إِعَادَةُ فِعْلِ النَّهْيِ عَنِ الطَّاعَةِ لِمَنْ هَذِهِ صِفَاتِهِمْ لِلْاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَدَبِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِدُخُولِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي عُمُومِ الْمُكَذِّبِينَ، وَلَا بِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ بِمُجَرَّدِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِأَنْ يُقَالَ: وَلَا كلّ خلاف، بَلْ جِيءَ فِي جَانِبِهِمْ بِصِيغَةِ نَهْيٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ لِلْأُولَى. وَلِيُفِيدَ تَسْلِيطَ الْوَعِيدِ الْخَاصِّ وَهُوَ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَم: 16] عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ زِيَادَةً عَلَى وَعِيدِ الْمُكَذِّبِينَ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ هَمَّامٍ الشَّيْبَانِيِّ: أَيَا ابْنَ زَيَّابَةَ إِنْ تَلْقَنِي ... لَا تَلْقَنِي فِي النَّعَمِ الْعَازِبِ وَتَلْقَنِي يَشْتَدُّ بِي أَجْرَدٌ ... مُسْتَقْدِمُ الْبِرْكَةِ كَالرَّاكِبِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِعَطْفٍ: بِ (بَلْ) أَوْ (لَكِنْ) بِأَنْ يَقُولَ: بَلْ تَلْقَنِي يَشْتَدُّ بِي أَجْرَدٌ، أَوْ لَكِنْ تَلْقَنِي يَشْتَدُّ بِي أَجْرَدُ، وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ فِعْلَ (تَلْقَنِي) . وَكَلِمَةُ كُلَّ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ لِأَفْرَادِ الْاسْمِ الَّذِي تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ، فَهِيَ هُنَا تُفِيدُ النَّهْيَ الْعَامَّ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا كُلَّ بِالْمُبَاشِرَةِ وَبِالنُّعُوتِ. وَقَدْ وَقَعَتْ كَلِمَةُ كُلَّ مَعْمُولَةٌ لِلْفِعْلِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِ أَدَاةُ النَّهْيِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ النَّهْيَ مُنْصَبٌّ إِلَى طَاعَةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ بِحَيْثُ لَوْ أَطَاعَ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلنَّهْيِ إِذْ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ وَلَا يَجْرِي عَلَىِِ

أَسَالِيبِ الْاسْتِعْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ بَلْهَ مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ عِدَّةٌ مِنْهَا. وَفِي هَذَا مَا يُبْطِلُ مَا أَصَّلَهُ الشَّيْخ عبد القاهر فِي «دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ» مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ تَقَعَ كُلَّ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَيْ أَوِ النَّهْيِ فَتُفِيدُ ثُبُوتَ الْفِعْلِ أَوِ الْوَصْفِ لبَعض مِمَّا أضيفت إِلَيْهِ كُلَّ إِنْ كَانَتْ كُلَّ مُسْنَدًا إِلَيْهَا، أَوْ تُفِيدُ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ أَوِ الْوَصْفِ بِبَعْض مَا أضيفت إِلَيْهِ كُلَّ إِنْ كَانَتْ مَعْمُولَةً لِلْمَنْفِيِّ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبَيْنَ أَنْ تَقَعَ كُلَّ فِي غَيْرِ حَيِّزِ النَّفْيِ، وَجَعَلَ رَفْعَ لَفْظِ (كُلُّهُ) فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ مُتَعَيِّنًا، لِأَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لَأَفَادَ تَنَصُّلَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَنَعَ مَجْمُوعَ مَا ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيُصَدَّقُ بِأَنَّهُ صَنَعَ بَعْضَ تِلْكَ الذُّنُوبِ وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِإِبْطَالِهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «الْمُطَوَّلِ» ، وَاسْتَشْهَدَ لِلْإِبْطَالِ بُقُولِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [الْبَقَرَة: 276] وَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. وَأُجْرِيَتْ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنِ الْإِطَاعَةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهَا لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يُطَاعُوا إِذْ لَا ثِقَةَ بِهِمْ وَلَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِسُوءٍ. قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِالْحَلَّافِ الْمَهِينِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثٍ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ: أَبُو جَهْلٍ، وَإِنَّمَا عَنَوْا أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْرِيضُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِلَّا فَإِنَّ لَفْظَ كُلَّ الْمُفِيدَ لِلْعُمُومِ لَا يَسْمَحُ بِأَنْ يُرَادَ النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أما هَؤُلَاءِ فَلَعَلَّ أَرْبَعَتَهُمُ اشْتَرَكُوا فِي مُعْظَمِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَهُمْ مِمَّنْ أُرِيدُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِطَاعَتِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنْ أَمْثَالِهِمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِلَالَ بَلْ مَنْ كَانَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَالصِّفَةُ الْكَبِيرَةُ مِنْهَا هِيَ التَّكْذِيب بِالْقُرْآنِ الَّتِي خُتِمَ بِهَا قَوْلُهُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 15] ، لَكِنَّ الَّذِي قَالَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 15] هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَقَ هَذَا الْبُهْتَانَ فِي قِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَلَمَّا تَلَقَّفَ الْآخَرُونَ مِنْهُ هَذَا الْبُهْتَانَ وَأُعْجِبُوا بِهِ أَخَذُوا يَقُولُونَهُ فَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُهُ وَلِذَلِكَ أَسْنَدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلَ فِي آيَةِ وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْفرْقَان: 5] .

[سورة القلم (68) : آية 11]

وَذُكِرَتْ عَشْرُ خِلَالٍ مِنْ مَذَامِّهِمُ الَّتِي تَخَلَّقُوا بِهَا: الْأُولَى: حَلَّافٍ، وَالْحَلَّافُ: الْمُكْثِرُ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى وُعُودِهِ وَأَخْبَارِهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْكَذِبِ وَبِالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ فَجُعِلَتْ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ كِنَايَةً عَنْ تَعَمُّدِ الْحِنْثِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَمُّهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَهِينٍ قَيْدًا لِ حَلَّافٍ عَلَى جَعْلِ النَّهْيِ عَنْ طَاعَة صَاحب الوصفين مُجْتَمَعَيْنِ. مَهِينٍ. هَذِهِ خَصْلَةٌ ثَانِيَةٌ وَلَيْسَتْ قَيْدًا لِصِفَةِ حَلَّافٍ. وَالْمَهِينُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ فَعِيلٌ مِنْ مَهُنَ بِمَعْنَى حَقُرَ وَذَلَّ، فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَفِعْلُهُ مَهُنَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَمِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَيَاؤُهُ زَائِدَةٌ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ لَا تُطِعِ الْفَاجِرَ الْحَقِيرَ. وَقَدْ يَكُونُ مَهِينٍ هُنَا بِمَعْنَى ضَعِيفِ الرَّأْيِ وَالتَّمْيِيزِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمَهَانَةِ. ومَهِينٍ: نَعَتٌ لِ حَلَّافٍ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ إِلَى زَنِيمٍ [الْقَلَم: 13] فَهُوَ نَعْتٌ مُسْتَقِلٌّ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ قَيْدًا لِ حَلَّافٍ وَفَسَّرَ الْمَهِينَ بِالْكَذَّابِ أَيْ فِي حلفه. [11] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 11] هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) هَمَّازٍ. الهمّاز كثير الْهمزَة. وَأَصْلُ الْهَمْزِ: الطَّعْنُ بِعُودٍ أَوْ يَدٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْأَذَى بِالْقَوْلِ فِي الْغَيْبَةِ عَلَى وَجْهِ الْاسْتِعَارَةِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ وَفِي التَّنْزِيلِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الْهمزَة: 1] . وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قُوَّةِ الصِّفَةِ، فَإِذَا كَانَ أَذًى شَدِيدًا فَصَاحِبُهُ هَمَّازٍ وَإِذَا تَكَرَّرَ الْأَذَى فَصَاحَبُهُ هَمَّازٍ. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. الْمَشَّاءُ بِالنَّمِيمِ: الَّذِي يَنِمُّ بَيْنَ النَّاسِ، وَوَصْفُهُ بِالْمَشَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي هَمَّازٍ وَهَذِهِ رَابِعَةُ الْمَذَامِّ.

[سورة القلم (68) : آية 12]

وَالْمَشْيُ: اسْتِعَارَةٌ لِتَشْوِيهِ حَالِهِ بِأَنَّهُ يَتَجَشَّمُ الْمَشَقَّةَ لِأَجْلِ النَّمِيمَةِ مِثْلُ ذِكْرِ السَّعْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [الْمَائِدَة: 64] ، ذَلِكَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ أَشَدُّ وَقْعًا فِي تَصَوُّرِ السَّامِعِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعْقُولَاتِ، فَذِكْرُ الْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ فِيهِ تَصْوِيرٌ لِحَالِ النَّمَّامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: قُطِعَ رَأْسُهُ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ قَوْلِكَ: قُتِلَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» . وَالنَّمِيمُ: اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلنَّمِيمَةِ، وَقِيلَ: النَّمِيمُ جَمْعُ نَمِيمَةٍ، أَيِ اسْمُ جَمْعٍ لِنَمِيمَةٍ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِدَةُ وصيرورتها اسْما. [12] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 12] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ. هَذِهِ مَذَمَّةٌ خَامِسَةٌ. مَنَّاعٍ: شَدِيدُ الْمَنْعِ. وَالْخَيْرُ: الْمَالُ، أَيْ شَحِيحٌ، وَالْخَيْرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَالِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] وَقَالَ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 180] ، وَقَدْ رُوعِيَ تَمَاثُلُ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ حَلَّافٍ، هَمَّازٍ، مَشَّاءٍ، مَنَّاعٍ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ مُحَسِّنِ الْمُوَازَنَةِ. وَالْمُرَادُ بِمَنْعِ الْخَيْرِ: مَنْعُهُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ ذَوِيِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ مَوَالِيهِ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ عُرِفُوا بِهَا مِنْ بَعْدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . وَأَيْضًا فَمِنْ مَنْعِ الْخَيْرِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطُونَ الْعَطَاءَ لِلْفَخْرِ وَالسُّمْعَةِ فَلَا يُعْطُونَ الضُّعَفَاءَ وَإِنَّمَا يُعْطُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَالْقَبَائِلِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: 18] . قِيلَ: كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يُنْفِقُ فِي الْحَجِّ فِي كُلِّ حَجَّةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا يُطْعِمُ أَهْلَ مِنَى، وَلَا يُعْطِي الْمِسْكِينَ دِرْهَمًا وَاحِدًا. مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. هُمَا مَذَمَّتَانِ سَادِسَةٌ وَسَابِعَةٌ قَرَنَ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ. وَالْاعْتِدَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُدْوَانِ فَالْافْتِعَالُ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الشِّدَّةِ.

[سورة القلم (68) : آية 13]

وَالْأَثِيمُ: كَثِيرُ الْإِثْمِ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: 43- 44] . وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ هُنَا مَا يُعَدُّ خَطِيئَةً وَفَسَادًا عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْمُرُوءَةِ وَفِي الْأَدْيَانِ الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانِ: وَجَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتِ مُبَالَغَةً وَنُوسِبَ فِيهَا فجَاء حَلَّافٍ [الْقَلَم: 10] وَبعده مَهِينٍ [الْقَلَم: 10] لِأَنَّ النُّونَ فِيهَا تَوَاخٍ مَعَ الْمِيمِ، أَيْ مِيمُ أَثِيمٍ، ثُمَّ جَاءَ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ [الْقَلَم: 11] بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ جَاءَ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ صِفَاتِ مُبَالَغَةً اهـ. يُرِيدُ أَنَّ الْافْتِعَالَ فِي مُعْتَدٍ للْمُبَالَغَة. [13] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 13] عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) ثَامِنَةٌ وَتَاسِعَةٌ. وَالْعُتُلُّ: بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْلَّامِ اسْمٌ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى صِفَةٍ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَتْلِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ قَالَ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ [الدُّخان: 47] وَلَمْ يُسْمَعْ (عَاتِلٌ) . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ دُونَ الْأَوْصَافِ مُرَكَّبٌ مِنْ وَصْفَيْنِ فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مِنْ مُرَكَّبِ أَوْصَافٍ فِي حَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَفُسِّرَ الْعُتُلُّ بِالشَّدِيدِ الْخِلْقَةُ الرَّحِيبُ الْجَوْفِ، وَبِالْأَكُولِ الشَّرُوبِ، وَبِالْغَشُومِ الظَّلُومِ، وَبِالْكَثِيرِ اللَّحْمِ الْمُخْتَالِ، رَوَى الْمَاوْرُدِيُّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَعَن عبد الرحمان بْنِ غَنْمٍ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَدٍ غَيْرِ قَوِيٍّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ إِتْبَاعٌ لِصِفَةِ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ [الْقَلَم: 12] أَيْ يَمْنَعُ السَّائِلَ وَيَدْفَعُهُ وَيُغْلِظُ لَهُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] . وَمَعْنَى بَعْدَ ذلِكَ عِلَاوَةً عَلَى مَا عُدِّدَ لَهُ مِنَ الْأَوْصَاف هُوَ سيّىء الْخلقَة سيّىء الْمُعَامَلَةِ، فَالْبَعْدِيَّةُ هُنَا بَعْدِيَّةٌ فِي الْارْتِقَاءِ فِي دَرَجَاتِ التَّوْصِيفِ الْمَذْكُورِ، فَمُفَادُهَا مُفَادُ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ. وَعَلَى تَفْسِيرِ الْعُتُلِّ بِالشَّدِيدِ الْخِلْقَةِ وَالرَّحِيبِ الْجَوْفِ يَكُونُ وَجْهُ ذِكْرِهِ أَنَّ قَبَاحَةَ

[سورة القلم (68) : الآيات 14 إلى 15]

ذَاتِهِ مُكَمِّلَةٌ لِمَعَائِبِهِ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْمُشَاهَدَ أَجْلَبُ إِلَى الْاشْمِئْزَازِ وَأَوْغَلُ فِي النُّفْرَةِ مِنْ صَاحِبِهِ. وَمَوْقِعُ بَعْدَ ذلِكَ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَالظَّرْفُ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ اتِّصَالُ بَعْدَ ذلِكَ بِقَوْلِهِ: زَنِيمٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ زَنِيمٍ. وَالزَّنِيمُ: اللَّصِيقُ وَهُوَ مَنْ يَكُونُ دَعِيًّا فِي قَوْمِهِ لَيْسَ مِنْ صَرِيحِ نَسَبِهِمْ: إِمَّا بِمَغْمَزٍ فِي نَسَبِهِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ حَلِيفًا فِي قَوْمٍ أَوْ مَوْلَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّنَمَةِ بِالتَّحْرِيكِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ أُذُنِ الْبَعِيرِ لَا تُنْزَعُ بَلْ تَبْقَى مُعَلَّقَةً بِالْأُذُنِ عَلَامَةً عَلَى كَرَمِ الْبَعِيرِ. وَالزَّنَمَتَانِ بِضْعَتَانِ فِي رِقَابِ الْمَعْزِ. قِيلَ أُرِيدَ بِالزَّنِيمِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مَوْلِدِهِ. وَقِيلَ أُرِيدَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ ثَقِيفٍ فَحَالَفَ قُرَيْشًا وَحَلَّ بَيْنَهُمْ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ خَاصٌّ فَدُخُولُهُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلَّ [الْقَلَم: 10] إِنَّمَا هُوَ عَلَى فَرْضِ وُجُودِ أَمْثَالِ هَذَا الْخَاصِّ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الرَّمْزِ كَمَا يُقَالُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَعْمَلُونَ كَذَا، وَيُرَادُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ. قَالَ الْخَطِيمُ التَّمِيمِيُّ جَاهِلِيُّ، أَوْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ وَيُطْلَقُ الزَّنِيمُ عَلَى مَنْ فِي نَسَبِهِ غَضَاضَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ حَسَّانِ فِي هِجَاءِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَوْلَاةً خِلَافًا لِسَائِرِ بَنِي هَاشِمٍ إِذْ كَانَتْ أُمَّهَاتُهُمْ مِنْ صَرِيحِ نَسَبِ قَوْمِهِنَّ: وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ يُرِيدُ جَدَّهُ أَبَا أُمِّهِ وَهُوَ مُوهِبٌ غُلَامُ عَبْدِ مُنَافٍ وَكَانَتْ أُمُّ أَبِي سُفْيَانَ سُمَيَّةَ بِنْتَ مُوهِبٍ هَذَا. وَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالْمُرَادِ بِهِ مُمَاثِلٌ لِلْقَوْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الَّذِي قبله. [14- 15] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 14 إِلَى 15] أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ

[سورة القلم (68) : آية 16]

(15) يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ بِفِعْلِ قالَ بِتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ أَنْ، وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ظَرْفٌ هُوَ إِذا تُتْلى وَمَجْرُورٌ هُوَ أَنْ كانَ ذَا مالٍ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَتْ إِذا بِشَرْطِيَّةٍ هُنَا فَلَا يَهُولَنَّكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ (مَا) بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يُعْمَلُ فِيمَا قَبِلَهُ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً لَمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَجْرُورَاتِ مَا لَا يَتَوَسَّعُونَ فِي غَيْرِهَا وَهَذَا مَجْرُورٌ بِاللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ. وَالْمُرَادُ: كُلُّ مَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِذْ هُوَ الَّذِي اخْتَلَقَ أَنْ يَقُولَ فِي الْقُرْآنِ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [الْقَلَم: 10] . وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ ذَا سَعَة فِي الْمَالِ كَثِيرُ الْأَبْنَاءِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 11- 25] . وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا الْوَصْفُ بِهِ. وَأَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا بِهِ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمَعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأُسْطُورَةُ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي الْأَنْعَامِ [25] وَقَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [24] . وَخُتِمَتِ الْأَوْصَافُ الْمُحَذَّرُ عَنْ إِطَاعَةِ أَصْحَابِهَا بِوَصْفِ التَّكْذِيبِ لِيُرْجَعَ إِلَى صِفَةِ التَّكْذِيبِ الَّتِي انْتُقِلَ الْأُسْلُوبُ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: 8] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ كانَ ذَا مالٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرَ بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ ألفا للتَّخْفِيف. [16] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 16] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ: مَا جَزَاءُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا أَتَوْهُ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْاجْتِرَاءِ عَلَى رَبِّهِمْ. وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ حَلَّافٍ بِاعْتِبَارِ

لَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْجَمَاعَاتِ فَإِفْرَادُ ضَمِيرِهِ كَإِفْرَادِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلَّ [الْقَلَم: 10] مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِحَالَةِ الْإِفْرَادِ. وَالْمَعْنَى: سَنَسِمُ كُلَّ هَؤُلَاءِ عَلَى الْخَرَاطِيمِ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمُعَيَّنٍ بِصِفَةِ قَوْلِهِ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 15] وَبِأَنَّهُ ذُو مَالٍ وَبَنِينَ. والْخُرْطُومِ: أُرِيدَ بِهِ الْأَنْفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ الْأَنْفُ الْمُسْتَطِيلُ كَأَنْفِ الْفِيلِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ أَنْفٍ مُسْتَطِيلٍ. وَقَدْ خَلَطَ أَصْحَابُ اللُّغَةِ فِي ذِكْرِ مَعَانِيهِ خَلْطًا لَمْ تَتَبَيَّنْ مِنْهُ حَقِيقَتُهُ مِنْ مَجَازِهِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْأَسَاسِ» مَعَانِيَهُ الْمَجَازِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَانْبَهَمَ كَلَامُهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: وَفِي لَفْظِ الْخُرْطُومِ اسْتِخْفَافٌ وَإِهَانَةٌ، يَقْتَضِي أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، وَجَزَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ مَخْطِمُ السَّبُعِ أَيْ أَنْفٌ مِثْلُ الْأَسَدِ، فَإِطْلَاقُ الْخُرْطُومِ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ كَإِطْلَاقِ الْمِشْفَرِ وَهُوَ شَفَةُ الْبَعِيرِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ غَلِيظُ الْمَشَافِرِ وَكَإِطْلَاقِ الْجَحْفَلَةِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ (وَهِيَ لِلْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ) فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ يَهْجُو لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لَبِيدًا ... أَبَا الْوَرْدَاءِ جَحْفَلَةَ الْأَتَانِ وَالْوَسْمُ لِلْإِبِلِ وَنَحْوِهَا، جَعْلُ سِمَةٍ لَهَا أَنَّهَا مِنْ مَمْلُوكَاتِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمَالِكِ الْمُعَيَّنِ. فَالْمَعْنَى: سَنُعَامِلُهُ مُعَامَلَةً يُعْرَفُ بِهَا أَنَّهُ عَبَدُنَا وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ مِنَّا شَيْئًا. فَالْوَسْمُ: تَمْثِيلٌ تَتْبَعُهُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَإِظْهَارِ عَجْزِهِ. وَأَصْلُ (نَسِمُهُ) نُوسِمُهُ مِثْلُ: يَعِدُ وَيَصِلُ. وَذِكْرُ الْخُرْطُومِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالْإِهَانَةِ فَإِنَّ الْوَسْمَ يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ وَكَوْنَهُ فِي الْوَجْهِ إِذْلَالًا وَإِهَانَةً، وَكَوْنَهُ عَلَى الْأَنْفِ أَشَدَّ إِذْلَالًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَنْفِ بِالْخُرْطُومِ

[سورة القلم (68) : الآيات 17 إلى 25]

تَشْوِيهٌ، وَالضَّرْبُ وَالْوَسْمُ وَنَحْوُهُمَا عَلَى الْأَنْفِ كِنَايَةٌ عَنْ قُوَّةِ التَّمَكُّنِ وَتَمَامِ الْغَلَبَةِ وَعَجْزِ صَاحِبِ الْأَنْفِ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ لِأَنَّ الْأَنْفَ أَبْرَزُ مَا فِي الْوَجْهِ وَهُوَ مَجْرَى النَفَسِ، وَلِذَلِكَ غَلَبَ ذِكْرُ الْأَنْفِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ إِظْهَارِ الْعِزَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: شَمَخَ بِأَنْفِهِ، وَهُوَ أَشَمُّ الْأَنْفِ، وَهُمْ شُمُّ الْعَرَانِينِ، وَعَبَّرَ عَنْ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالْاسْتِكَانَةِ بِكَسْرِ الْأَنْفِ، وَجَدْعِهِ، وَوُقُوعِهِ فِي التُّرَابِ فِي قَوْلِهِمْ: رَغِمَ أَنْفُهُ، وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ، قَالَ جَرِيرُ: لَمَّا وَضَعْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وَعَلَى الْبَعِيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الْأَخْطَلِ وَمُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَذَا الْوَعِيدِ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٌ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلُهُ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ هُوَ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ مِنْ سُوءٍ وَذُلٍّ وَصَغَارٍ. يُرِيدُ: مَا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ سَنَخْطِمُهُ بِالسَّيْفِ قَالَ: وَقَدْ خُطِمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمْ يَزَلْ مَخْطُومًا إِلَى أَنْ مَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ هُوَ. وَقَدْ كَانُوا إِذَا ضَرَبُوا بِالسُّيُوفِ قصدُوا الْوُجُوه والرؤوس. قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا بَلَّغَهُ قَوْلُ أَبِي حُذَيْفَةَ لَئِنْ لَقِيَتُ الْعَبَّاسَ لَأُلَجِّمَنَّهُ السَّيْفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «يَا أَبَا حَفْصٍ أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟» . وَقِيلَ هَذَا وَعِيدٌ بِتَشْوِيهِ أَنْفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمرَان: 106] وَجُعِلَ تَشْوِيهُهُ يَوْمَئِذٍ فِي أَنْفِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بَالَغَ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ الْأَنَفَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْأَنْفُ مَظْهَرَ الْكِبْرِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْكِبْرُ أَنَفَةً اشْتِقَاقًا مِنِ اسْمِ الْأَنْفِ فَجُعِلَتْ شَوْهَتُهُ فِي مَظْهَرِ آثَار كبريائه. [17- 25] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 17 إِلَى 25] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ

(25) ضَمِيرُ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ: بَلَوْناهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: 8] . وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا دَعَتْ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 14- 15] فَإِنَّ الْازْدِهَاءَ وَالْغُرُورَ بِسَعَةِ الرِّزْقِ الْمُفْضِيَيْنِ إِلَى الْاسْتِخْفَافِ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ فِي كُنْهِهَا وَدَلَائِلِهَا قَدْ أَوْقَعَا مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ أَصْحَابَهُمَا فِي بَطَرِ النِّعْمَةِ وَإِهْمَالِ الشُّكْرِ فَجَرَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ شَرَّ الْعَوَاقِبِ، فَضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ مَثَلًا بِحَالِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْجَنَّةِ لَعَلَّهُمْ يَسْتَفِيقُونَ مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ. كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَرِيبٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَضَرَبَ مَثَلًا بِقَارُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَالْبَلْوَى حَقِيقَتُهَا: الْاخْتِبَارُ وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمُبْتَلَى فِي إِرْخَاءِ الْحَبَلِ لَهُ بِالنِّعْمَةِ لِيَشْكُرَ أَوْ يَكْفُرَ، فَالْبَلْوَى الْمَذْكُورَةُ هُنَا بَلْوَى بِالْخَيْرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَدَّ أَهْلَ مَكَّةَ بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ، وَنِعْمَةِ الرِّزْقِ، وَجَعَلَ الرِّزْقَ يَأْتِيهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَسَّرَ لَهُمْ سُبُلَ التِّجَارَةِ فِي الْآفَاقِ بِنِعْمَةِ الْإِيلَافِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةِ الصَّيْفِ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُمُ النِّعْمَةَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْهُمْ لِيُكْمِلَ لَهُمْ صَلَاحَ أَحْوَالِهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ النَّعِيمُ الدَّائِمُ فَدَعَاهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ أَعْرَضُوا وَطَغَوْا وَلَمْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى النَّظَرِ فِي النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَلَا فِي النِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي أَكْمَلَتْ لَهُمُ النِّعَمِ. وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَعَنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَلْحَقَهُمْ مَا لَحِقَ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنَ الْبُؤْسِ بَعْدَ النَّعِيمِ وَالْقَحْطِ بَعْدَ الْخِصْبِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ فِي نَوْعِهِ فَقَدِ اتَّحَدَ جِنْسُهُ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بَعْدَ سِنِينَ إِذْ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِسَبْعِ سِنِينَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْمَضْرُوبِ بِهَا الْمَثَلُ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهُمْ وَهِيَ أَنَّهُ كَانَتْ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: ضَرَوَانُ (بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ وَوَاوٍ مَفْتُوحَاتٍ وَأَلِفٍ وَنُونٍ) مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ بِقُرْبِ

صَنْعَاءَ. وَقِيلَ: ضَرَوَانُ اسْمُ هَذِهِ الْجَنَّةِ، وَكَانَتْ جَنَّةً عَظِيمَةً غَرَسَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ: أَمِنَ الْيَهُودِ أَمْ مِنَ النَّصَارَى؟ فَقِيلَ: كَانَ يَهُودِيًّا، أَيْ لِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ كَانُوا تَدَيَّنُوا باليهودية من عَهْدِ بِلْقِيسَ كَمَا قِيلَ أَوْ بَعْدَهَا بِهِجْرَةِ بَعْضِ جُنُودِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَتْ زَكَاةُ الثِّمَارِ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْجَنَّةِ بَعْدَ عِيسَى بِقَلِيلٍ، أَيْ قَبْلَ انْتِشَارِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الْيَمَنِ لِأَنَّهَا مَا دَخَلَتِ الْيَمَنَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْأَحْبَاشِ إِلَى الْيَمَنِ فِي قِصَّةِ الْقُلَّيْسِ وَكَانَ ذَلِكَ زَمَانَ عَامِ الْفِيلِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانُوا مِنَ الْحَبَشَةِ كَانَتْ لِأَبِيهِمْ جَنَّةٌ وَجَعَلَ فِي ثَمَرِهَا حَقًّا لِلْمَسَاكِينِ وَكَانَ يُدْخِلُ مَعَهُ الْمَسَاكِينَ لِيَأْخُذُوا مِنْ ثَمَارِهَا فَكَانَ يَعِيشُ مِنْهَا الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلُ وَالْمَسَاكِينُ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ وَصَارَتْ لِأَوْلَادِهِ أَصْبَحُوا ذَوِي ثَرْوَةٍ وَكَانُوا أَشِحَّةً أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ شَحِيحًا وَبَعْضهمْ دونه فتمالؤوا عَلَى حِرْمَانِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَرَامِلِ وَقَالُوا: لَنَغْدُوَنَّ إِلَى الْجَنَّةِ فِي سُدْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ انْبِلَاجِ الصَّبَاحِ مِثْلُ وَقْتِ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى جَنَّاتِهِمْ لِلْجِذَاذِ فَلَنَجُذُّنَّهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسَاكِينُ. فَبَيَّتُوا ذَلِكَ وَأَقْسَمُوا أَيْمَانًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُمْ أَقْسَمُوا لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَنْفِيذِ مَا تَدَاعَوْا إِلَيْهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ أَلْجَمُوهُ بِالْقَسَمِ وَهَذَا الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [الْقَلَم: 28] ، قِيلَ كَانَ يَقُولُ لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا عَنْ خُبْثِ نِيَّتِكُمْ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، وَذَكَّرَهُمُ انْتِقَامَ اللَّهِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ فغلبوه ومضوا لما عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُمْ أَقْسَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمْ ذَلِكَ فَأَقْسَمَ مَعَهُمْ أَوْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا الْاعْتِبَارِ أُسْنِدَ الْقَسَمُ إِلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا جَاءُوا جَنَّتَهُمْ وَجَدُوهَا مُسْوَّدَةً قَدْ أَصَابَهَا مَا يُشَبِّهُ الْاحْتِرَاقَ فَلَمَّا رَأَوْهَا بِتِلْكَ الْحَالَةِ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ أَصَابَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ لِعَزْمِهِمْ عَلَى قَطْعِ مَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الضُّعَفَاءُ مِنْ قَوْمِهِمْ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ خَيْرًا مِنْهَا. قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ مِنْ أَعْنَابٍ. وَالصَّرْمُ: قَطْعُ الثَّمَرَةِ وَجِذَاذُهَا.

وَمَعْنَى مُصْبِحِينَ دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ أَيْ فِي أَوَائِلِ الْفَجْرِ. وَمَعْنَى لَا يَسْتَثْنُونَ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ مِنَ الثَّمَرَةِ شَيْئًا لِلْمَسَاكِينِ، أَيْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّ جَمِيعَ الثَّمَرِ وَلَا يَتْرُكُونَ مِنْهُ شَيْئًا. وَهَذَا التَّعْمِيمُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا فِي الصَّرْمِ مِنْ مَعْنَى الْخَزْنِ وَالْانْتِفَاعِ بِالثَّمَرَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الصَّرْمَ لَا يُنَافِي إِعْطَاءَ شَيْءٍ مِنَ الْمَجْذُوذِ لِمَنْ يُرِيدُونَ. وَأُجْمِلُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ مِنْ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِيجَازِ حِكَايَةِ الْقَصَصِ بِالْاقْتِصَارِ عَلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يَسْتَثْنُونَ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْف: 23- 24] . وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءٌ أَنَّ أَصْلَ صِيغَتِهِ فِيهَا حَرْفُ الْاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ (إِلَّا) ، فَإِذَا اقْتَصَرَ أَحَدٌ عَلَى «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» دُونَ حَرْفِ الْاسْتِثْنَاءِ أُطْلِقَ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى الْاسْتِثْنَاءِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى وَإِلَى مَادَةِ اشْتِقَاقِ الْاسْتِثْنَاءِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا يَسْتَثْنُونَ مِنْ قَبِيلِ الْإِدْمَاجِ، أَيْ لِمَبْلَغِ غُرُورِهِمْ بِقُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ صَارُوا إِذَا عَزَمُوا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ لَا يَتَوَقَّعُونَ لَهُ عَائِقًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لْاسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ مِنْ بُخْلِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَيْتَامِ. وَعَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا يُعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، فَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَضْرُوبِ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ بَطَرُ النِّعْمَةِ وَالْاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ، الطَّوَافُ: الْمَشِيُ حَوْلَ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ جَوَانِبِهِ يُقَالُ: طَافَ بِالْكَعْبَةِ، وَأُرِيدُ بِهِ هُنَا تَمْثِيلَ حَالَةِ الْإِصَابَةِ لِشَيْءٍ كُلِّهِ بِحَالِ مَنْ يَطُوفُ بِمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ الْآيَة [الْأَعْرَاف: 201] . وَعُدِّيَ (طَافَ) بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: تَسَلَّطَ أَوْ نَزَلَ. وَلَمْ يُعَيِّنْ جِنْسَ الطَّائِفِ لِظُهُورِ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُصِيبُ الْجَنَّاتِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِتَعْيِينِ نَوْعِهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْحَاصِلِ بِهِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ (طَافَ) إِلَى طائِفٌ بِمَنْزِلَةِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَطِيفَ عَلَيْهَا وَهُمْ

نَائِمُونَ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الطَّائِفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، يَعْنِي وَمِنْهُ سُمِّيَ الْخَيَالُ الَّذِي يَرَاهُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ طَيْفًا. قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّائِفَةِ وَهِيَ الْجُزْءُ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. فَقَوْلُهُ: وَهُمْ نائِمُونَ تَقْيِيدٌ لِوَقْتِ الطَّائِفِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى طائِفٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْفَرَّاءِ، وَفَائِدَتُهُ تَصْوِيرُ الْحَالَةِ. وَتَنْوِينُ طائِفٌ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَهُوَ طَائِفُ سُوءٍ، قِيلَ: أَصَابَهَا عُنُقٌ مِنْ نَارٍ فَاحْتَرَقَتْ. ومِنْ رَبِّكَ أَيْ جَائِيًا مِنْ قِبَلِ رَبِّكَ، فَ مِنْ لِلْابْتِدَاءِ يَعْنِي: أَنَّهُ عَذَابٌ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ شُكْرِ النِّعْمَةِ. وَعُجِّلَ الْعِقَابُ لَهُمْ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِمَنْعِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ عَزْمَهُمْ عَلَى الْمَنْعِ وَتَقَاسُمَهُمْ عَلَيْهِ حَقَّقَ أَنَّهُمْ مَانِعُونَ صَدَقَاتِهِمْ فَكَانُوا مَانِعِينَ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ مَوْعِظَةٌ لِلَّذِينِ لَا يُوَاسُونَ بِأَمْوَالِهِمْ. وَإِذْ كَانَ عِقَابُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْجَنَّةِ دُنْيَوِيًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مَنَعُوا صَدَقَةً وَاجِبَةً. وَالصَّرِيمُ قِيلَ: هُوَ اللَّيْلُ، وَالصَّرِيمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّيْلِ وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْصَرِمُ عَنِ الْآخَرِ كَمَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَلْوًا فَيُقَالُ: الْمَلَوَانِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ (أَصْبَحَتْ) وَ (الصَّرِيمِ) مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَقِيلَ الصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الْأَسْوَدُ بِلُغَةِ جَذِيمَةَ أَوْ خُزَيْمَةَ. وَقِيلَ الصَّرِيمُ: اسْمُ رَمْلَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالْيَمَنِ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. وَإِيثَارُ كَلِمَةِ الصَّرِيمِ هُنَا لِكَثْرَةِ مَعَانِيهَا وَصَلَاحِيَّةِ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَعَانِي لِأَنْ تُرَادَ فِي الْآيَةِ. وَبَيْنَ (يَصْرِمُنَّهَا) وَ (الصَّرِيمِ) الْجِنَاسُ. وَفَاءُ فَتَنادَوْا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، أَيْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَنَادَوْا لِإِنْجَازِ مَا بَيَّتُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ.

وَالتَّنَادِي: أَنْ يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْغُدُوِّ إِلَى جَنَّتِهِمْ مُبَكِّرِينَ. وَالْغُدُوُّ: الْخُرُوجُ وَمُغَادَرَةُ الْمَكَانِ فِي غَدْوَةِ النَّهَارِ، أَيْ أَوله. وَلَيْسَ قَوْله: إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ بِشَرْطِ تَعْلِيقٍ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْاسْتِبْطَاءِ فَكَأَنَّهُمْ لِإِبْطَاءِ بَعْضِهِمْ فِي الْغُدُوِّ قَدْ عَدَلَ عَنِ الْجَذَاذِ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِلْحَجَّاجِ عِنْدَ زَوَالِ عَرَفَةَ يُحَرِّضُهُ عَلَى التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ إِلَى الْمَوْقِفِ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وعَلى مِنْ قَوْلِهِ: عَلى حَرْثِكُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اُغْدُوا تَكُونُوا عَلَى حَرْثِكُمْ، أَيْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ فِعْلُ الْغُدُوِّ مَعْنَى الْإِقْبَالِ كَمَا يُقَالُ: يُغْدَى عَلَيْهِ بِالْجَفْنَةِ وَيُرَاحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: «وَمِثْلُهُ قِيلَ فِي حَقِّ الْمُطَّلِبِ تَغْدُو دِرَّتُهُ (الَّتِي يَضْرِبُ بِهَا) عَلَى السُّفَهَاءِ، وَجَفْنَتُهُ عَلَى الْحُلَمَاءِ» . وَالْحَرْثُ: شَقُّ الْأَرْضِ بِحَدِيدَةٍ وَنَحْوِهَا لِيُوضِعَ فِيهَا الزَّرِيعَةَ أَوِ الشَّجَرَ وَلِيُزَالَ مِنْهَا الْعُشْبُ. وَيُطْلَقُ الْحَرْثُ عَلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ يَتَعَاهَدُونَهَا بِالْحَرْثِ لِإِصْلَاحِ شَجَرهَا، وَهُوَ المارد هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرْثٌ حِجْرٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [138] ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] . وَالتَّخَافُتُ: تَفَاعُلُ مِنْ خَفَتَ إِذَا أَسَّرَ الْكَلَامَ. وأَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ يَتَخافَتُونَ وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَن التخافت فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَتَأْكِيدُ فِعْلِ النَّهْيِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا تَقَاسَمُوا عَلَيْهِ. وَأُسْنِدَ إِلَى مِسْكِينٌ فَعْلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ وَالْمُرَادُ نَهْيُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ دُخُولِ الْمِسْكِينِ إِلَى جَنَّتِهِمْ، أَيْ لَا يَتْرُكُ أَحَدٌ مِسْكِينًا يَدْخُلُهَا. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي اسْتِعْمَالِ النَّهْيِ كَقَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا.

وَجُمْلَةُ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) ، أَيِ انْطَلَقُوا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ غَادِينَ قَادِرِينَ عَلَى حَرْدٍ. وَذُكِرَ فِعْلُ غَدَوْا فِي جُمْلَةِ الْحَالِ لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْغُدُوِّ النَّحْسِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائِرِ الْأَرْمَدِ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بِالْأَثْمُدِ ... وَبَاتَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدْ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ فِيهَا الْتِفَاتٌ أَوِ الْتِفَاتَانِ. وَالْحَرْدُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمَنْعِ وَعَلَى الْقَصْدِ الْقَوِيِّ، أَيِ السُّرْعَةِ وَعَلَى الْغَضَبِ. وَفِي إِيثَارِ كَلِمَةِ حَرْدٍ فِي الْآيَةِ نُكْتَةٌ مِنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ الْمُتَعَلِّقِ بِشَرَفِ اللَّفْظِ وَرَشَاقَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَمِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورِ بِهِ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ مَعْنَى مِنْ مَعَانِيهِ، أَيْ بِأَنْ يَتَعَلَّقَ عَلى حَرْدٍ بِ قادِرِينَ، أَوْ بِقَوْلِهِ غَدَوْا، فَإِذَا عَلَّقَ بِ قادِرِينَ، فَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ يُفِيدُ تَخْصِيصًا، أَيْ قَادِرِينَ عَلَى الْمَنْعِ، أَيْ مَنْعِ الْخَيْرِ أَوْ مَنْعِ ثَمَرِ جَنَّتِهِمْ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى النَّفْعِ. وَالتَّعْبِيرُ بِقَادِرِينَ عَلَى حَرْدٍ دُونَ أَنْ يَقُول: وغدوا حاردين تَهَكُّمٌ لِأَنَّ شَأْنَ فِعْلِ الْقُدْرَةِ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ إِتْيَانُهَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [الْبَقَرَة: 264] وَقَالَ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: 4] فَقَوْلُهُ: عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ عَلَى هَذَا الْاحْتِمَالِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْحِرْمَانَ أَوْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى الْخَيْبَةِ. وَإِذَا حُمِلَ الْحَرْدُ عَلَى مَعْنَى السُّرْعَةِ وَالْقَصْدِ كَانَ عَلى حَرْدٍ مُتَعَلِّقًا بِ غَدَوْا مُبَيِّنًا لِنَوْعِ الْغُدُوِّ، أَيْ غَدَوْا غُدُوَّ سُرْعَةٍ وَاعْتِنَاءٍ، فَتَكُونُ عَلى بِمَعْنَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ، وَالْمَعْنَى: غُدُوًّا بِسُرْعَةٍ وَنَشَاطٍ، وَيَكُونُ قادِرِينَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ غَدَوْا حَالًا مُقَدَّرَةً، أَيْ مُقَدِّرِينَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَرَادُوا. وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ خَابُوا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [الْقَلَم: 26] ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ.

[سورة القلم (68) : الآيات 26 إلى 32]

وَإِذَا أُرِيدَ بِالْحَرْدِ الْغَضَبُ وَالْحَنَقُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: حَرَدٌ بِالتَّحْرِيكِ وَحَرْدٌ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِ قادِرِينَ وَتَقْدِيمُهُ لِلْحَصْرِ، أَيْ غَدَوْا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى الْحَنَقِ وَالْغَضَبِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُمْ يَقْتَحِمُونَ عَلَيْهِمْ جَنَّتَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فَتَحَيَّلُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْكِيرِ إِلَى جِذَاذِهَا، أَيْ لَمْ يَقْدِرُوا إِلَّا عَلَى الْغَضَبِ وَالْحَنَقِ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مَا أَرَادُوهُ مِنِ اجْتِنَاءِ ثَمَرِ الْجَنَّةِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ حَرْدٍ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ، أَيْ جَنَّتُهُمْ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مُلَفَّقٌ وَكَأَنَّ صَاحِبَهُ تَصَيَّدَهُ مِنْ فِعْلَيْ اغْدُوا وغَدَوْا. [26- 32] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 26 إِلَى 32] فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) أَيِ اسْتَفَاقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَرَجَعُوا على أَنْفُسِهِمْ بِالْلَّائِمَةِ عَلَى بَطَرِهِمْ وَإِهْمَالِ شُكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أُخِذُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الْأَعْرَاف: 168] . وَمِنْ حِكَمِ الشَّيْخِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» . وَأَفَادَتْ (لَمَّا) اقْتِرَانَ جَوَابِهَا بِشَرْطِهَا بِالْفَوْرِ وَالْبَدَاهَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضُ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ فِي تَدَارُكِ أَمْرَهِمْ وَسُرْعَةِ إِنَابَتِهِمْ كَحَالِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْجَنَّةِ إِذْ بَادَرُوا بِالنَّدَمِ وَسَأَلُوا اللَّهَ عِوَضَ خَيْرٍ. وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى ضَمِيرِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْقَلَم: 17] يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوهُ جَمِيعًا، أَيِ اتَّفَقُوا عَلَى إِدْرَاكِ سَبَبِ مَا أَصَابَهُمْ. وَمَعْنَى إِنَّا لَضَالُّونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ضَلَالٍ أَيْ عَنْ طَرِيقِ الشُّكْرِ، أَيْ كَانُوا غَيْرَ مُهْتَدِينَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ مَا أَصَابَهُمْ عِقَابًا عَلَى إِهْمَالِ الشُّكْرِ، فَالضَّلَالُ مَجَازٌ.

وَأَكَّدُوا الْكَلَامَ لِتَنْزِيلِ أَنْفُسِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُمْ ضَالُّونَ طَرِيقَ الْخَيْرِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْغَفْلَةِ عَنْ ضَلَالِهِمْ فَفِيهِ إِيذَانٌ بِالتَّحَسُّرِ وَالتَّنَدُّمِ. وبَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إِضْرَابٌ لِلْانْتِقَالِ إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ بِالنّظرِ لحَال تبييتهم إِذْ بَيَّتُوا حِرْمَانَ الْمَسَاكِينَ مِنْ فُضُولِ ثَمَرَتِهِمْ فَكَانُوا هُمُ الْمَحْرُومِينَ مِنْ جَمِيعِ الثِّمَارِ، فَالْحِرْمَانُ الْأَعْظَمُ قَدِ اخْتُصَّ بِهِمْ إِذْ لَيْسَ حِرْمَانُ الْمَسَاكِينِ بِشَيْءٍ فِي جَانِبِ حِرْمَانِهِمْ. وَالْكَلَامُ يُفِيدُ ذَلِكَ إِمَّا بِطْرِيقِ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِأَنَّ أُتِيَ بِهِ ضَمِيرًا بَارِزًا مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ مُقَدَّرًا مُؤَخَّرًا عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بَعْدَ سَمَاعِ مُتَحَمَّلِهِ. فَلَمَّا أُبْرِزَ الضَّمِيرُ وَقُدِّمَ كَانَ تَقْدِيمُهُ مُؤَذِّنًا بِمَعْنَى الْاخْتِصَاصِ، أَيِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْقَرَائِنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ حَقِيقِيًّا، أَيْ ضَلَالُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا أَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ فِي السَّيْرِ إِلَى جَنَّتِنَا لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ شَاهَدُوا جَنَّةً أُخْرَى غَيْرَ جَنَّتِهِمُ الَّتِي عَهِدُوهَا، قَالُوا ذَلِكَ تَحَيُّرًا فِي أَمْرِهِمْ. وَيَكُونُ الْإِضْرَابُ إِبْطَالِيًّا، أَيْ أَبْطَلُوا أَنْ يَكُونُوا ضَلُّوا طَرِيقَ جَنَّتِهِمْ، وَأَثْبَتُوا أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ خَيْرِ جَنَّتِهِمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ جَنَّتُهُمْ وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ فَحُرِمُوا خَيْرَاتِهَا بِأَنْ أَتْلَفَهَا اللَّهُ. وأَوْسَطُهُمْ أَفْضَلُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ. وَالْوَسَطُ: يُطْلَقُ عَلَى الْأَخِيرِ الْأَفْضَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] ، وَقَالَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: 238] وَيُقَالُ هُوَ مِنْ سِطَةِ قَوْمِهِ، وَأَعْطِنِي مِنْ سِطَةِ مَالِكِ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ بِدُونِ عَاطِفٍ لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَهُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ تَوْقِيفِهِمْ عَلَى تَصْوِيبِ رَأْيِهِ وَخَطَلِ رَأْيِهِمْ. وَالْاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. وَالْمُرَادُ بِ تُسَبِّحُونَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يُعْصَى أَمْرُهُ فِي شَأْنِ إِعْطَاءِ زَكَاةِ ثِمَارِهِمْ. وَكَانَ جَوَابُهُمْ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا بِأَنَّهُ وَعَظَهُمْ فَعَصَوْهُ وَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ حِينَ

نَدَمِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْأَخْذِ بِنَصِيحَتِهِ فَقَالُوا: سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أَرَادُوا إِجَابَةَ تَقْرِيرِهِ بِإِقْرَارِ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يُعْصَى أَمْرُهُ فِي إِعْطَاءِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ فَإِنَّ مِنْ أَصُولِ التَّوْبَةِ تَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَاعْتِرَافُهُمْ بِظُلْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ أُصُولِ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنَدُّمِ، وَالتَّسْبِيحُ مُقَدِّمَةُ الْاسْتِغْفَارِ مِنَ الذَّنْبِ قَالَ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: 3] . وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِقْرَار بِالذَّنْبِ، وَالتَّأْكِيدُ لِتَحْقِيقِ الْإِقْرَارِ وَالْاهْتِمَامِ بِهِ. وَيُفِيدُ حَرْفُ (إِنَّ) مَعَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِلتَّسْبِيحِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ ظالِمِينَ لِيَعُمَّ ظُلْمَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا جَرُّوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ سَلْبِ النِّعْمَةِ، وَظُلْمِ الْمَسَاكِينِ بِمَنْعِهِمْ مِنْ حَقِّهِمْ فِي الْمَالِ. وَجَرَتْ حِكَايَةُ جَوَابِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ فَلَمْ تُعْطَفْ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي نُبِّهْنَا عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَلَمَّا اسْتَقَرَّ حَالُهُمْ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي مَنْعِ الْمَسَاكِينِ حَقَّهُمْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ يَلُومُ بَعْضًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْ فِعْلِهِمْ: كُلٌّ يَلُومُ غَيْرَهُ بِمَا كَانَ قَدْ تَلَبَّسَ بِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنِ ابْتِكَارِ فِكْرَةِ مَنْعِ الْمَسَاكِينَ مَا كَانَ حَقًّا لَهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْأَبِ، وَمِنَ الْمُمَالَاةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الْاقْتِنَاعِ بِتَصْمِيمِ الْبَقِيَّةِ، وَمِنْ تَنْفِيذِ جَمِيعِهِمْ ذَلِكَ الْعَزْمِ الذَّمِيمِ، فَصَوَّرَ قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ هَذِهِ الْحَالَةَ وَالتَّقَاذُفَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الْإِجْمَالِ الْبَالِغِ غَايَةَ الْإِيجَازِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِقْبَالَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُصَوِّرُ حَالَةٍ تُشْبِهُ الْمُهَاجَمَةَ وَالتَّقْرِيعَ، وَأَنَّ صِيغَةَ التَّلَاوُمِ مَعَ حَذْفِ مُتَعَلَّقِ التَّلَاوُمِ تُصَوِّرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ صُوَرًا مِنْ لَوْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ تَلَقَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْمَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِإِحْقَاقِ نَفْسِهِ بِالْمَلَامَةِ وَإِشْرَاكِ بَقِيَّتِهِمْ فِيهَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ إِلَى آخِرِهِ، فَأُسْنِدَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِذَلِكَ. فَجُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِجُمْلَةِ يَتَلاوَمُونَ، أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذَا الْكَلَامِ فَتَكُونُ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّقْرِيعِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ، مَعَ التَّحَسُّرِ وَالتَّنَدُّمِ بِمَا أَفَادَهُ يَا وَيْلَنا. وَذَلِكَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِلْمَلَامَةِ كُلِّهَا وَلَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ لَوْمِهِ غَيْرِهِ، فَكَمَا أَجْمَعُوا عَلَى لَوْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى إِجَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ الْمَلَامِ فَقَالَ كُلُّ مَلُومٍ لِلَائِمِهِ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ إِلَخْ جَوَابًا بِتَقْرِيرِ مَلَامِهِ وَالْاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَرَجَاءِ الْعَفْوِ مِنَ اللَّهِ وَتَعْوِيضِهِمْ عَنْ جَنَّتِهِمْ خيرا مِنْهَا إِذا قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ ثَوَابَ الدُّنْيَا مَعَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَطْفِ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَوْلِ جَرَى فِي طَرِيقَةِ المحاورة. والإقبال: حَقِيقَته الْمَجِيءِ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُبُلِ وَهُوَ مَا يَبْدُو مِنَ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ ضِدَّ الْإِدْبَارِ، وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْعِنَايَةِ بِاللَّوْمِ. وَاللَّوْمُ: إِنْكَارٌ مُتَوَسِّطٌ عَلَى فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَهُوَ دُونَ التَّوْبِيخِ وَفَوْقَ الْعِتَابِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [6] . وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ فِي الْكِبَرِ وَالتَّعَاظُمِ وَالْمَعْنَى: إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ. ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا عَنْ نَدَامَتِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ رَجَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِذَنْبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا فِي الدُّنْيَا فَيَمْحُو عِقَابَهُ فِي الدُّنْيَا مَحْوًا كَامِلًا بِأَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ جَنَّتِهِمُ الَّتِي قُدِّرَ إِتْلَافُهَا بِجَنَّةٍ أُخْرَى خَيْرًا مِنْهَا. وَجُمْلَةُ إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ الرَّجَاءِ، أَيْ هُوَ رَجَاءٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى رَغْبَةٍ إِلَيْهِ بِالْقَبُولِ وَالْاسْتِجَابَةِ. وَالتَّأْكِيدُ فِي إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ لِلْاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّوَجُّهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي قَوْلِهِمْ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ تَلْقِينُ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلُ بِأَنَّ فِي مُكْنَتِهِمُ الْإِنَابَةَ إِلَى اللَّهِ بِنَبْذِ الْكُفْرَانِ لِنِعْمَتِهِ إِذْ أَشْرَكُوا بِهِ مَنْ لَا إِنْعَامَ لَهُمْ عَلَيْهِ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ أَخْلَصُوا وَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَأَبْدَّلَهُمْ جَنَّةً يُقَالُ لَهَا: الْحَيَوَانُ، ذَاتَ عِنَبٍ يُحْمَلُ الْعُنْقُودُ الْوَاحِدُ مِنْهُ عَلَى بَغْلٍ.

[سورة القلم (68) : آية 33]

وَعَنْ أَبِي خَالِدٍ الْيَمَانِيِّ (¬1) أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَتُ تِلْكَ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ كُلَّ عُنْقُودٍ مِنْهَا كَالرَّجُلِ الْأَسْوَدِ الْقَائِمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُبْدِلَنا بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ يُبْدِلَنا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ الْفَرْسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَعْمَّدَ إِلَى نَقْصِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ قَصْدًا لِلْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ خَالَطَ غَيْرَهُ، أَوْ فَارَقَهُ بَعْدَ الْخِلْطَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ الْاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ قَصَدُوا بِجَذِّ الثِّمَارِ إِسْقَاطَ حَقِّ الْمَسَاكِينِ فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِإِتْلَاف ثمارهم. [33] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 33] كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) رُجُوعٌ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمَبْدُوءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ [الْقَلَم: 17] ، فَالْكَلَامُ فَذْلَكَةٌ وَخُلَاصَةٌ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ مِنْ تَلَفِ جَنَّتِهِمْ وَمَا أَحَسُّوا بِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَتَنَدُّمِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ يَكُونُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ مُسْنَدٌ مُقَدَّمٌ والْعَذابُ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ، وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ لِلْاهْتِمَامِ بِإِحْضَارِ صُورَتِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذابُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَفِيهِ تَوْجِيهٌ بِالْعَهْدِ الذِّهْنِيُّ، أَيْ عَذَابُكُمُ الْمَوْعِدُ مِثْلُ عَذَابِ أُولَئِكَ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي إِتْلَافِ الْأَرْزَاقِ وَالْإِصَابَةِ بِقَطْعِ الثَّمَرَاتِ. وَلَيْسَ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْعَذابُ مِثْلَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] ، وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَلْ مَا هُنَا مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ ¬

(¬1) كَذَا فِي تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ ونفائس المرجان والآلوسي. وَوَقع فِي تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ: أَنه اليمامي، وَلم أَقف على تَرْجَمته.

[سورة القلم (68) : آية 34]

الْمُتَعَارَفِ لِوُجُودِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِهِ الْعَذَابُ وَهُوَ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ غَيْرِ الْمُشَبَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الْمُشْبَّهِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي بُلُوغِ الْمُشَبَّهِ غَايَةَ مَا يَكُونُ فِيهِ وَجْهُ الشّبَه بِحَيْثُ إِذا أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ لَا يَلْجَأُ إِلَّا إِلَى تَشْبِيهِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِهِ أَقْصَى مَرَاتِبَ وَجْهِ الشَّبَهِ. وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مُمَاثَلَةٌ فِي النَّوْعِ وَإِلَّا فَإِنَّ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ مِنَ الْقَحْطِ أَشَدُّ مِمَّا أَصَابَ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ وَأَطْوَلُ. وَقَوْلُهُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْعَذابُ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَضَمِيرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي قَوْله: بَلَوْناهُمْ [الْقَلَم: 17] ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَهُدِّدُوا بِعَذَابِ الدُّنْيَا، وَلَا يَصِحُّ عَوْدُهُ إِلَى أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْقَلَم: 17] لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَة وشدته. [34] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 34] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مَا ذُكِرَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ لِلْمُجْرِمِينَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ سُؤَالٌ فِي نفس السَّامع يَقُول: فَمَا جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ؟ وَهُوَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَم: 16] وَقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْعَذابُ [الْقَلَم: 33] . وَقَدْ أَشْعَرَ بِتَوَقُّعِ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [الْقَلَم: 35] كَمَا سَيَأْتِي. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ لِلْاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْمُتَّقِينَ لِيَسْبِقَ ذِكْرُ صِفَتِهِمُ الْعَظِيمَةِ ذِكْرَ جَزَائِهَا. وَاللَّامُ لِلْاسْتِحْقَاقِ. وعِنْدَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الْكَوْنِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَرْفُ الْجَرِّ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ مُتَعَلَّقُهُ مَعَهُ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْاهْتِمَامِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ بِمَا مَعَهُ طُوُلٌ يُثِيرُ تَشْوِيقَ السَّامِعِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا عِنْدِيَّةُ كَرَامَةٍ وَاعْتِنَاءٍ.

[سورة القلم (68) : الآيات 35 إلى 36]

وَإِضَافَةُ جَنَّاتِ إِلَى النَّعِيمِ تُفِيدُ أَنَّهَا عُرِّفَتْ بِهِ فَيُشَارُ بِذَلِكَ إِلَى مُلَازَمَةِ النَّعِيمِ لَهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْإِضَافَةِ أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ لَامِ الْاسْتِحْقَاقِ فَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُفِيدٌ أَنَّهَا اسْتَحَقَّهَا النَّعِيمُ لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي أَحْوَالِهَا إِلَّا حَالَ نَعِيمِ أَهْلِهَا، فَلَا يَكُونُ فِيهَا مَا يكون فِي جَنَّاتِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَتَاعِبِ مِثْلُ الْحَرِّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْ شِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ مثل الحشرات والزنانير، أَوْ مَا يُؤْذِي مِثْلُ شَوْكِ الْأَزْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَرَوَثِ الدَّوَابِّ وذرق الطير. [35- 36] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 35 إِلَى 36] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) فَاءُ التَّفْرِيعِ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَمُقَابَلَتِهِ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُصَرَّحٍ فِيهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ إِنْكَارٍ مِنَ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ لِيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْاسْتِفْهَامُ الْمُفَرَّعُ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ تَوَقُّعٍ أَوْ وُقُوعِ سُؤَالٍ. وَالْاسْتِفْهَامُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّوْبِيخِ، وَالتَّخْطِئَةِ، وَالتَّهَكُّمِ عَلَى إِدْلَالِهِمُ الْكَاذِبِ، مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ وَوُبِّخُوا عَلَيْهِ وَسُفِّهُوا عَلَى اعْتِقَادِهِ كَانَ حَدِيثًا قَدْ جَرَى فِي نَوَادِيهِمْ أَوِ اسْتَسْخَرُوا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْرِضِ جُحُودِ أَنْ يَكُونَ بَعْثٌ، وَفَرْضِهِمْ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ مَزْيَةٌ وَفَضْلٌ عِنْدَ وُقُوعِهِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْقَلَم: 34] قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنْ كَانَ ثَمَّةَ جَنَّةِ نَعِيمٍ فَلَنَا فِيهَا مِثْلُ حَظِّنَا وَحَظِّهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نُعْطَى يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِمَّا تُعْطَوْنَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الْآيَةَ. وَالْهَمْزَةُ لِلْاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، فُرِّعَ إِنْكَارُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنِ اخْتِلَافِ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ فَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى مَا دَارَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَوْ عِنْدَ نُزُولِ مَا سَبَقَهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي قَابَلَتْ بَيْنَ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ صَرِيحًا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ [الْقَلَم: 39] .

وَإِنْكَارُ جَعْلِ الْفَرِيقَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَزَاءَ الْخَيْرِ فِي الْآخِرَةِ وَحِرْمَانِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ، لِأَنَّ نَفْيَ التَّسَاوِي وَارِدٌ فِي مَعْنَى التَّضَادِّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: 18] ، وَقَالَ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْر: 20] ، وَقَالَ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] وَقَالَ السَّمَوْأَلُ أَوِ الْحَارِثِيُّ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حَظٌّ فِي جَزَاءِ الْخَيْرِ انْتَفَى مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَقَوْلُهُ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وهم الْمَقْصُود بالمجرمين، عَبَّرَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِظْهَارِ دُونَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِمَا فِي وَصْفِ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ لِيَكُونَ فِي الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى سَبَبِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الْتِفَاتًا عَنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَم: 9] وَقَوْلِهِ إِنَّا بَلَوْناهُمْ [الْقَلَم: 17] . وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ الضَّمِيرُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ تَبَعًا لِتَغَيُّرِ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْالْتِفَاتِ أَنْ يَتَغَيَّرَ الضَّمِيرُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ. وَمَا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ لحالة حكمهم، ف مَا لَكُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وكَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ ثَانٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ، أَيِ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَيْءٌ فِي حَالِ حُكْمِكُمْ، أَيْ فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ كَانَ مُنْكَرًا بِاعْتِبَارِ حَالَةِ حُكْمِهِمْ. وَالْمَعْنَى: لَا تَحْكُمُونَ أَنَّكُمْ مُسَاوُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ مفضلون عَلَيْهِم.

[سورة القلم (68) : الآيات 37 إلى 38]

[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 37 إِلَى 38] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ تَوْبِيخٍ إِلَى احْتِجَاجٍ عَلَى كَذِبِهِمْ. وَالْاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ مَعَ أَمْ إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِتَابٌ إِنْكَارًا مَبْنِيًّا عَلَى الْفَرْضِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَدَّعُوهُ. وَحَاصِلُ هَذَا الْانْتِقَالِ وَالْانْتِقَالَاتِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ وَهِيَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا [الْقَلَم: 39] إِلَخْ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَم: 40] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [الْقَلَم: 41] إِلَخْ أَنَّ حُكْمَكُمْ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ كِتَابًا سَمَاوِيًّا نَزَلَ مِنْ لَدُنَّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ عَهْدًا مِنَّا بِأَنَّا نُعْطِيكُمْ مَا تَقْتَرِحُونَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ كَفِيلٌ عَلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْوِيلًا عَلَى نَصْرِ شُرَكَائِكُمْ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ كِتابٌ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ نَكِرَةٌ وَتَنْكِيرُهُ مَقْصُودٌ لِلنَّوْعِيَّةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لَازِمًا. وَضَمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الْقَلَم: 36] ، أَيْ كِتَابٌ فِي الْحُكْمِ. وَ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ كَمَا تَقُولُ وَرَدَ كِتَابٌ فِي الْأَمْرِ بِكَذَا أَوْ فِي النَّهْيِ عَنْ كَذَا فَيَكُونُ فِيهِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةً لِ كِتابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ تَدْرُسُونَ جُعِلَتِ الدِّرَاسَةُ الْعَمِيقَةُ بِمَزِيدِ التَّبَصُّرِ فِي مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَظْرُوفِ فِي الْكِتَابِ كَمَا تَقُولُ: لَنَا دَرْسٌ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. وَفِي هَذَا إِدْمَاجٌ بِالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ لِهَدْيِهِمْ وَإِلْحَاقِهِمْ بِالْأُمَمِ ذَاتِ الْكِتَابِ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَكَذَّبُوهُ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 10] وَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 157] . وَجُمْلَةُ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ تَدْرُسُونَ عَلَى أَنَّهَا

[سورة القلم (68) : آية 39]

مَحْكِيٌّ لَفْظُهَا، أَيْ تَدْرُسُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَمَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 78، 79] أَيْ تَدْرُسُونَ جُمْلَةَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ. وَيَكُونُ فِيهِ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ تَدْرُسُونَ، قَصَدَ مِنْ إِعَادَتِهَا مَزِيدَ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا كَمَا أُعِيدَتْ كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً [النَّحْل: 67] وَأَصْلُهُ: تَتَّخِذُونَ سَكَرًا. وتَخَيَّرُونَ أَصْلُهُ تَتَخَيَّرُونَ بِتَاءَيْنِ، حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا. وَالتَّخَيُّرُ: تَكَلُّفُ الْخَيْرِ، أَيْ تَطَلُّبُ مَا هُوَ فِي أَخْيَرِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ لَكُمْ مَا تَخْتَارُونَ مِنْ خير الْجَزَاء. [39] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 39] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) أَمْ لِلْانْتِقَالِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ زَعْمِهِمْ عَهْدًا أَخَذُوهُ عَلَى اللَّهِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يُعَامِلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا يَحْكُمُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَالْاسْتِفْهَامُ اللَّازِمُ تَقْدِيرَهُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارِيٌّ وبالِغَةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَأَصْلُ الْبَالِغَةِ: الْوَاصِلَةُ إِلَى مَا يُطْلَبُ بِهَا، وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ لِمَعْنَى مُغْلِظَةٍ، شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْبَالِغِ إِلَى نِهَايَةِ سَيْرِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الْأَنْعَام: 149] . وَقَوْلُهُ: عَلَيْنا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ أَيْمانٌ أَيْ أَقْسَمْنَاهَا لَكُمْ لِإِثْبَاتِ حَقِّكُمْ عَلَيْنَا. وإِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِ أَيْمانٌ، أَيْ أَيْمَانٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَحِلَّةَ مِنْهَا فَحَصَلَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ أَنَّهَا عُهُودٌ مُؤَكَّدَةٌ وَمُسْتَمِرَّةٌ طُولَ الدَّهْرِ، فَلَيْسَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُنْتَهَى الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ بَلْ هُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى التَّأْيِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [5] . وَيَتَعَلَّقُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بِالْاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ أَيْمانٌ وَلَا

[سورة القلم (68) : آية 40]

يَحْسُنُ تَعَلُّقُهُ بِ بالِغَةٌ تَعَلُّقَ الظَّرْفِ اللَّغْوِ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ بالِغَةٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى مَشْهُورٍ قَرِيبٍ مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَمَحْمَلُ بالِغَةٌ عَلَى الْاسْتِعَارَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَجْزَلُ وَجُمْلَةُ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ بَيَانٌ لِ أَيْمانٌ، أَيْ أَيْمَانٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَمَعْنَى (مَا تَحْكُمُونَ) تَأْمُرُونَ بِهِ دُونَ مُرَاجَعَةٍ، يُقَالُ: نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ، أَيْ لَمْ يُعَيِّنُوا طِلْبَةً خَاصَّةً وَلَكِنَّهُمْ وَكَّلُوا تَعْيِينَ حَقِّهِمْ إِلَى فُلَانٍ، قَالَ خَطَّابٌ أَوْ حِطَّانُ بْنُ الْمُعَلَّى: أَنْزَلَنِيَ الدَّهْرُ عَلَى حُكْمِهِ ... مِنْ شَامِخٍ عَالٍ إِلَى خَفْضِ أَيْ دُونِ اخْتِيَارٍ لِي وَلَا عَمَلٍ عَمِلْتُهُ فَكَأَنَّنِي حَكَّمْتُ الدَّهْرَ فَأَنْزَلَنِي مِنْ مَعَاقِلِي وَتَصَرَّفَ فِيَّ كَمَا شَاءَ. وَمِنْ أَقْوَالِهِمُ السَّائِرَةِ مِسْرَى الْأَمْثَالِ «حُكْمُكَ مُسَمَّطًا» (بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ مُشَدَّدَةً) أَيْ لَكَ حُكْمُكُ نَافِذًا لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْكَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَثْمَةَ: لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ والنشيطة والفضول [40] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 40] سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَنْ جُمْلَةِ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ [الْقَلَم: 39] ، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ وَهِيَ الْعُهُودُ تَقْتَضِي الْكُفَلَاءَ عَادَةً قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمجَاز وَمَا قدّ ... م فِيهِ الْعُهُودُ وُالْكُفَلَاءُ فَلَمَّا ذُكِرَ إِنْكَارٌ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُهُودٌ، كُمِّلَ ذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا مَنْ هُمُ الزُّعَمَاءُ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ. فَالْاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ زِيَادَةً عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَالزَّعِيمُ: الْكَفِيلُ وَقَدْ جُعِلَ الزَّعِيمُ أَحَدًا مِنْهُمْ زِيَادَةً فِي التَّهَكُّمِ وَهُوَ أَنْ جَعَلَ الزَّعِيمَ لَهُمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِعِزَّتِهِمْ وَمُنَاغَاتِهِمْ لِكِبْرِيَاءِ الله تَعَالَى. [41] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 41] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ

[سورة القلم (68) : الآيات 42 إلى 43]

(41) أَمْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ ثَالِثٌ إِلَى إِبْطَالِ مُسْتَنَدٍ آخَرَ مَفْرُوضٍ لَهُمْ فِي سَنَدِ قَوْلِهِمْ: إِنَّا نُعْطَى مِثْلَ مَا يُعْطَى الْمُسْلِمُونَ أَوْ خَيْرًا مِمَّا يُعْطَوْنَهُ، وَهُوَ أَنْ يُفْرَضَ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ تَنْصُرُهُمْ وَتَجْعَلُ لَهُمْ حَظًّا مِنْ جَزَاءِ الْخَيْرِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَثْبَتَتْ لَهُمْ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَنَفْعِهِمْ شُرَكَاءَ، أَيْ شُرَكَاءَ لَنَا فِي الْإِلَهِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ، فَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ شُرَكاءُ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ فَصَارَ شُرَكَاءُ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ، أَيْ أَمْ آلِهَتُهُمْ لَهُمْ فَلْيَأْتُوا بِهِمْ لِيَنْفَعُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْلَّامُ فِي لَهُمْ لَامُ الْأَجْلِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ بِتَقْدِيرٍ مُضَافٍ، أَيْ لِأَجْلِ نَصْرِهِمْ، فَالْلَّامُ كَالْلَّامِ فِي قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» . وَتَنْكِيرُ شُرَكاءُ فِي حَيِّزِ الْاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْكَارِ يُفِيدُ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَكَاءِ، أَيِ الْأَصْنَامِ لَهُمْ، أَيْ لِنَفْعِهِمْ فَيَعُمُّ أَصْنَامَ جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُشْتَرَكِ فِي عِبَادَتِهَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَالْمَخْصُوصَةَ بِبَعْضِ الْقَبَائِلِ. وَقَدْ نُقِلَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِهِ بَعْدَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَم: 40] ، لِأَنَّ أَخَصَّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ أَحَقِّيَّةِ هَذَا الْإِبْطَالِ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ تَوْجِيهَ هَذَا الْإِبْطَالِ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ تَفْرِيعٌ عَلَى نَفْيِ أَنْ تَنْفَعَهُمْ آلِهَتُهُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ فَلْيَأْتُوا أَمْرُ تَعْجِيزٍ. وَإِضَافَةُ شُرَكاءُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ لِإِبْطَالِ صِفَةِ الشِّرْكَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ، أَيْ لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا عِنْدَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ الْحَقِّ لَا تَكُونُ نِسْبِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَرِيقٍ أَوْ قَبِيلَةٍ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ [الْأَعْرَاف: 195] . [42- 43] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 42 إِلَى 43] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ

(43) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ يُكْشَفُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ [الْقَلَم: 41] ، أَيْ فَلْيَأْتُوا بِالْمَزْعُومِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ إِلَخْ لِلتَّذْكِيرِ بِأَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي تَعَلُّقِ يَوْمَ فَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْكَشْفُ عَنْ سَاقٍ: مَثَلٌ لِشِدَّةِ الْحَالِ وَصُعُوبَةِ الْخَطْبِ وَالْهَوْلِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَعَ أَنْ يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ وَيُشَمِّرَ ثِيَابَهُ فَيَكْشِفَ عَنْ سَاقِهِ كَمَا يُقَالُ: شَمِّرْ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ، وَأَيْضًا كَانُوا فِي الرَّوْعِ وَالْهَزِيمَةِ تُشَمِّرُ الْحَرَائِرُ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي الْهَرَبِ أَوْ فِي الْعَمَلِ فَتَنْكَشِفُ سُوقُهُنَّ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُنَّ هَوْلُ الْأَمْرِ عَنِ الْاحْتِرَازِ مِنْ إِبْدَاءِ مَا لَا تُبْدِينَهُ عَادَةً، فَيُقَالُ: كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا أَوْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا، أَوْ أَبْدَتْ عَنْ سَاقِهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتُ: كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ الْعَقِيلَةِ الْعَذْرَاءِ وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ أُحُدٍ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآنِهَا» إِلَخْ، فَإِذَا قَالُوا: كَشَفَ الْمَرْءُ عَنْ سَاقِهِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ هَوْلٍ أَصَابَهُ وَإِنْ لَمْ يكن كشف سَاقه. وَإِذَا قَالُوا: كَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقٍ، فَقَدْ مَثَّلُوهُ بِالْمَرْأَةِ الْمُرَوَّعَةِ، وَكَذَلِكَ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقِهَا، كُلُّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ سَاقٍ قَالَ حَاتِمٌ: فَتَى الْحَرْبِ عضّت بِهِ لِحَرْب الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا وَقَالَ جَدُّ طَرَفَةٍ مِنَ الْحَمَاسَةِ: كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وَبَدَا مِنَ الشَّرِّ الْبَوَاحُ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمَ تَكْشِفُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ وَبِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ عَلَى تَقْدِيرِِِ

تَكْشِفُ الشِّدَّةُ عَنْ سَاقِهَا أَوْ تَكْشِفُ الْقِيَامَةُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تَبْلُغُ أَحْوَالُ النَّاسِ مُنْتَهَى الشِّدَّةِ وَالرَّوْعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَهِيَ أَشَدُّ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَوَى عَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: «إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ» ، أَمَّا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: صَبْرًا عَنَاقُ إِنَّه لشرباق ... فقد سَنَّ لِي قَوْمُكِ ضَرْبَ الْأَعْنَاقْ (¬1) وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: شِدَّةُ الْأَمْرِ. وَجُمْلَةُ وَيُدْعَوْنَ لَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِثْلُ ضَمِيرِ إِنَّا بَلَوْناهُمْ [الْقَلَم: 17] إِذْ لَا يُسَاعِدُ قَوْلَهُ: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ وَيُدْعَى مَدْعُوُّونَ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْتَحَنُ النَّاسُ بِدُعَائِهِمْ إِلَى السُّجُودِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ عَنْ غَيْرِهِمْ تَمَيُّزَ تَشْرِيفٍ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُنَافِقُونَ السُّجُودَ فَيُفْتَضَحُ كُفْرُهُمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا يَخِرُّ سَاجِدًا لَهُ وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ كَأَنَّ فِي ظُهُورِهِمُ السَّفَافِيدَ اهـ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ إِدْمَاجًا لِذِكْرِ بَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ وَحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ» الْحَدِيثَ، فَيَصْلُحُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ. ¬

(¬1) شربق مقلوب شبرق أَي مزق وَيُقَال: ثوب شرباق كقرطاس.

وَقَدِ اتَّبَعَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالُوا: يَكْشِفُ اللَّهُ عَنْ سَاقِهِ، أَيْ عَنْ مِثْلِ الرِّجْلِ لِيَرَاهَا النَّاسُ ثُمَّ قَالُوا هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ ساقٍ قَالَ يَكْشِفُ عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ يَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا . وَرُوِيَتْ أَخْبَارٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ لَا جَدْوَى فِي ذِكْرِهَا. والسُّجُودِ الَّذِي يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ: سُجُودُ الضَّرَاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِأَجْلِ الْخَلَاصِ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ. وَعَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِمُ السُّجُودَ لِسَلْبِ اللَّهِ مِنْهُمُ الْاسْتِطَاعَةَ عَلَى السُّجُودِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا رَجَاءَ لَهُمْ فِي النَّجَاةِ. وَالَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى السُّجُودِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْمَحْشَرِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [الْقَمَر: 6- 8] ، أَوْ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ الدَّعْوَةِ إِلَى الشَّفَاعَةِ فِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ «فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَوْقِفِنَا هَذَا» . وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ: هَيْئَةُ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ بِذِلَّةٍ وَخَوْفٍ، اسْتُعِيرَ لَهُ وَصْفُ خاشِعَةً لِأَنَّ الْخَاشِعَ يَكُونُ مُطَأْطِئًا مُخْتَفِيًا. وتَرْهَقُهُمْ: تَحِلُّ بِهِمْ وَتَقْتَرِبُ مِنْهُمْ بِحِرْصٍ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ، رَهِقَ مِنْ بَابِ فَرِحَ قَالَ تَعَالَى: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: 41] . وَجُمْلَةُ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَطِيعُونَ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهَا، أَيْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُمْ سَالِمُونَ مِنْ مِثْلِ الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا فِي يَوْمِ الْحَشْرِ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِلْاعْتِرَاضِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ سالِمُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُدْعَوْنَ أَيْ وَهُمْ قَادِرُونَ لَا عِلَّةَ تَعُوقُهُمْ عَنْهُ فِي أَجْسَادِهِمْ. وَالسَّلَامَةُ: انْتِفَاءُ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُمْ مُلْجَأُونَ لعدم السُّجُود.

[سورة القلم (68) : الآيات 44 إلى 45]

[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 44 إِلَى 45] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي عَطَفَتْهُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ لِكَوْنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ سَبَبًا فِي ذِكْرِ مَا بَعْدَهُ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتُوفِيَ الْغَرَضُ مِنْ مَوْعِظَتِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ وَتَزْيِيفِ أَوْهَامِهِمْ أَعْقَبَ بِهَذَا الْاعْتِرَاضِ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِالْانْتِصَافِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ وَنَحْوُهُ يُفِيدُ تَمْثِيلًا لِحَالِ مَفْعُولِ (ذَرْ) فِي تَعَهُّدِهِ بِأَن يَكْفِي مؤونة شَيْءٍ دُونَ اسْتِعَانَةٍ بِصَاحِبِ الْمَئُونَةِ بِحَالِ مَنْ يَرَى الْمُخَاطَبَ قَدْ شَرَعَ فِي الْانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِذَلِكَ مَبْلَغَ مَفْعُولِ (ذَرْ) لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ فِي الْانْتِصَافِ مِنَ الْمُعْتَدِي فَيَتَفَرَّغُ لَهُ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ إِعَانَةً لَهُ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ، وَلِذَلِكَ يُؤْتَى بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ التَّرْكِ وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِمَفْعُولٍ مَعَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنْفِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] فِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، أَيْ دَعْنِي وَإِيَّاهُ فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُغْتَاظُ إِذَا اشْتَدَّ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَشْفَعَ لِمَنِ اغْتَاظَ عَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا شَفَاعَةَ فِي هَذَا الْكَافِرِ. وَالْوَاوُ وَاوُ الْمَعِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: اتْرُكْنِي مَعَهُمْ. والْحَدِيثِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَتَسْمِيَتُهُ حَدِيثًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَأَخْبَارِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [185] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ الْآيَةَ فِي [سُورَةِ النَّجْمِ: 59- 60] ، وَقَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [81] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ مِمَّا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْبَعْثِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ الْآيَة [الْقَلَم: 42] .

وَيَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى: حَسْبُكَ إِيقَاعًا بِهِمْ أَنْ تَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَيَّ فَأَنَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَنْتَصِفُ مِنْهُمْ فَلَا تَشْغَلْ نَفْسَكَ بِهِمْ وَتَوَكَّلْ عَلَيَّ. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُكَذِّبِينَ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ هَذَا الْكَلَامَ. وَهَذَا وعد للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ وَوَعِيدٌ لَهُمْ بِانْتِقَامٍ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ. وَجُمْلَةُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، بَيَان لمضمون فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْاسْتِدْرَاجَ وَالْإِمْلَاءَ يَعْقُبُهُمَا الْانْتِقَامُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَنَأْخُذُهُمْ بأعمالهم فَلَا تستبطىء الْانْتِقَامَ فَإِنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ وَلَكِنْ يُؤَخَّرُ لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَأْخِيرَهُ. وَالْاسْتِدْرَاجُ: اسْتِنْزَالُ الشَّيْءِ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْرَى فِي مِثْلِ السُّلَّمِ، وَكَانَ أَصْلُ السِّينِ وَالتَّاءِ فِيهِ لِلطَّلَبِ أَيْ مُحَاوَلَةُ التَّدَرُّجِ، أَيِ التَّنَقُّلِ فِي الدَّرَجِ، وَالْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ النُّزُولِ إِذِ التَّنَقُّلُ فِي الدَّرَجِ يَكُونُ صُعُودًا وَنُزُولًا، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مُعَامَلَةٍ حَسَنَةٍ لِمُسِيءٍ إِلَى إِبَّانٍ مُقَدَّرٍ عِنْدَ حُلُولِهِ عِقَابُهُ وَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اسْتِدْرَاجَهُمُ الْمُفْضِيَ إِلَى حُلُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ يَأْتِيهِمْ مِنْ أَحْوَالٍ وَأَسْبَابٍ لَا يَتَفَطَّنُونَ إِلَى أَنَّهَا مُفْضِيَةٌ بِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ، وَذَلِكَ أَجْلَبُ لِقُوَّةِ حَسْرَتِهِمْ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ بِهِمْ، فَ مَنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وحَيْثُ لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ الْأَسْبَابِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَحْسَبُونَهَا تَأْتِيهِمْ بِخَيْرٍ فَتَنْكَشِفُ لَهُمْ عَنِ الضُّرِّ، وَمَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ ضَمِيرُ مَحْذُوفٍ عَائِدٌ إِلَى حَيْثُ. وأُمْلِي: مُضَارِعُ أَمْلَى، مَقْصُورًا بِمَعْنَى أَمْهَلَ وَأَخَّرَ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَلَا مَقْصُورًا، وَهُوَ الْحِينُ وَالزَّمَنُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ: الْمَلَوَانِ، فَيَكُونُ أَمْلَى بِمَعْنَى طَوَّلَ فِي الزَّمَانِ، وَمَصْدَرُهُ إِمْلَاءٌ. وَلَامُ لَهُمْ هِيَ اللَّامُ الْمُسَمَّاةُ لَامَ التَّبْيِينِ، وَهِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ اتِّصَالَ مَدْخُولِهَا بِعَامِلِهِ لِخَفَاءٍ فِيهِ فَإِنَّ اشْتِقَاقَ فِعْلِ أَمْلَى مِنَ الْمَلْوِ، وَهُوَ الزَّمَانُ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ بَيِّنٍ لِخَفَاءِ مَعْنَى الْحَدَثِ فِيهِ. وَنُونُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ، وَالْمُرَادُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ الْمُوَكَّلُونَ

[سورة القلم (68) : آية 46]

بِتَسْخِيرِ الْمَوْجُودَاتِ وَرَبْطِ أَحْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَتِمُّ بِهِ مُرَادُ اللَّهِ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ فَالْاسْتِدْرَاجُ تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ لِقُدْرَةِ اللَّهِ فَيَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ الْآيَة [الْأَنْفَال: 12] . وَأَمَّا الْإِمْلَاءُ فَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِتَأْجِيلِ أَخْذِهِمْ. وَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ يَنْفَرِدُ بِهِ اللَّهُ فَلِذَلِكَ جِيءَ مَعَهُ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ. وَحَصَلَ فِي هَذَا الْاخْتِلَافِ تَفَنُّنٌ فِي الضَّمِيرَيْنِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ [182- 183] : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا وَعَدٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ وَتَثْبِيتٌ لَهُ بِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْكَافِرِينَ فِي نِعْمَةٍ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَإِمْلَاءٌ وَضَرْبٌ يُشْبِهُ الْكَيْدَ وَأَنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ فِيهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196- 197] . وَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ التَّسَبُّبِ وَالتَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] . وَإِطْلَاقُ الْكَيْدِ عَلَى إِحْسَانِ اللَّهِ لِقَوْمٍ مَعَ إِرَادَةِ إِلْحَاقِ السُّوءِ بِهِمْ إِطْلَاقٌ عَلَى وَجْهِ الْاسْتِعَارَةِ لِمُشَابَهَتِهِ فِعْلَ الْكَائِدِ مِنْ حَيْثُ تَعْجِيلُ الْإِحْسَانِ وتعقيبه بالإساءة. [46] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 46] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) إِضْرَابٌ آخَرُ لِلْانْتِقَالِ إِلَى إِبْطَالٍ آخَرَ مِنْ إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبْتَدِئِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ [الْقَلَم: 36- 37] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ [الْقَلَم: 39] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [الْقَلَم: 41] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ تُؤَيِّدُ صَلَاحَ حَالِهِمْ، أَوْ وَعْدٌ لَهُمْ بِإِعْطَاءِ مَا يَرْغَبُونَ، أَوْ أَوْلِيَاءٌ يَنْصُرُونَهُمْ، عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ ضُرٌّ فِي إِجَابَةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، اسْتِقْصَاءً لِقَطْعِ مَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ بِافْتِرَاضِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ أَجْرًا عَلَى هَدْيِهِ إِيَّاهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنْ إجَابَته ثقل عزم الْمَالِ عَلَى نُفُوسِهِمْ. فَالْاسْتِفْهَامُ الَّذِي تُؤْذِنُ بِهِ أَمْ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِفَرْضِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ فَرْضًا اقْتَضَاهُ اسْتِقْرَاءُ نَوَايَاهُمْ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِقْبَالِ عَلَى دَعْوَةِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ.

[سورة القلم (68) : آية 47]

وَالْمَغْرَمُ: مَا يُفْرَضُ عَلَى الْمَرْءِ أَدَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا جِنَايَةٍ. وَالْمُثْقَلُ: الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِشْفَاقِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ فَيَتَسَبَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ شَقَقْتَ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِذَارًا مِنْهُمْ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. ومِنْ مَغْرَمٍ مُتَعَلِّقٌ بِ مُثْقَلُونَ، ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهُوَ ابْتِدَاءٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ لِلْاهْتِمَامِ بِمُوجِبِ الْمَشَقَّةِ قَبْلَ ذِكْرِهَا مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة. [47] [سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 47] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) إِضْرَابٌ آخَرُ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ مَدَارِجِ إِبْطَالِ مَعَاذِيرَ مَفْرُوضَةٍ لَهُمْ أَن يَتَمَسَّكُوا بِبَعْضِهَا تَعِلَّةً لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ، قَطْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يَنْتَحِلُوهُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْاسْتِقْرَاءِ وَمَنْعِ الْخُلُوِّ. وَقَدْ جَاءَتِ الْإِبْطَالَاتُ السَّالِفَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَا يُفْرَضُ لَهُمْ مِنَ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ مُسْتَنَدَاتٍ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَانْتُقِلَ الْآنَ إِلَى إِبْطَالٍ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، وَهُوَ إِبْطَالُ حُجَّةٍ مَفْرُوضَةٍ يَسْتَنِدُونَ فِيهَا إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنِ النَّاسِ. وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْغَيْبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَقَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنَّ أُمُورَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ أَطْلَعَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضِهَا. وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، أَيْ أَعِنْدَهُمْ عِلْمُ الْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى فِي سُورَةِ النَّجْمِ [35] . فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي عِلْمِهِمْ وَمُكْنَتِهِمْ، أَيْ بِاطِّلَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ بِإِبْلَاغِ كُبَرَائِهِمْ إِلَيْهِمْ وَتَلَقِّيهِمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمُ عِنْدَهُمُ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ لِإِفَادَةِ الْاخْتِصَاصِ، أَيْ صَارَ عِلْمُ الْغَيْبِ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَ اللَّهِ. وَمَعْنَى يَكْتُبُونَ: يَفْرِضُونَ وَيُعَيِّنُونَ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَة: 178]

[سورة القلم (68) : الآيات 48 إلى 50]

وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: 24] ، أَيْ فَهُمْ يَفْرِضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ السَّعَادَةَ فِي النُّفُورِ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَيَفْرِضُونَ ذَلِكَ عَلَى الدَّهْمَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَمَجِيءُ جُمْلَةِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْ جُمْلَةِ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا فِي الْغَيْبِ مَفْرُوضٌ كَوْنِهِ شَاهِدًا عَلَى حُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الْقَلَم: 36] كَمَا عَلمته آنِفا. [48- 50] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 48 إِلَى 50] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ وَمَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنْ تَكَفُّلِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَاقِبَةِ النَّصْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّتَهُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُدْخِلَ عَلَيْهِ يَأْسًا مِنْ حُصُولِ رَغْبَتِهِ وَنَجَاحِ سَعْيِهِ، فَفَرَّعَ عَلَيْهِ تَثْبِيتَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الْمُصَابَرَةِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَى الْهَدْيِ، وَتَعْرِيفَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّثْبِيتَ يَرْفَعُ دَرَجَتَهُ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ لِيَكُونَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَذَكَّرَهُ بِمَثَلِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذِ اسْتَعْجَلَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَأَدَّبَهُ اللَّهُ ثُمَّ اجْتَبَاهُ وَتَابَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ تَذْكِيرًا مُرَادًا بِهِ التَّحْذِيرُ. وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ الرَّبِّ هُنَا أَمَرُهُ وَهُوَ مَا حَمَّلَهُ إِيَّاهُ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْاضْطِلَاعِ بِأَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الْمُسْتَقْرَأُ مِنْ آيَاتِ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ الَّتِي أَوَّلِهَا يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 1- 7] فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا. وَلَا جَرَمَ أَنَّ الصَّبْرَ لِذَلِكَ يَسْتَدْعِي انْتِظَارَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَعَدَمَ الضَّجَرِ مِنْ تَأَخُّرِهِ إِلَى أَمَدِهِ الْمُقَدَّرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَصَاحِبُ الْحُوتِ: هُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُونُسَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [84- 86] . وَالصَّاحِبُ: الَّذِي يَصْحَبُ غَيْرَهُ، أَيْ يَكُونُ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ فِي

مُعْظَمِهَا، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى يُونُسَ لِأَنَّ الْحُوتَ الْتَقَمَهُ ثُمَّ قَذَفَهُ فَصَارَ (صَاحِبُ الْحُوتِ) لَقَبًا لَهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ مَعِيَّةٌ قَوِيَّةٌ. وَقَدْ كَانَتْ مُؤَاخَذَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ضَجَرِهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصافات. وإِذْ طرف زَمَانٍ وَهُوَ وَجُمْلَتُهُ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِقْرَارٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ فِي حَالَةِ وَقْتِ نِدَائِهِ رَبَّهُ، فَإِنَّهُ مَا نَادَى رَبَّهُ إِلَّا لِإِنْقَاذِهِ مِنْ كَرْبِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ مُغَاضَبَتِهِ وَضَجَرِهِ مِنْ قَوْمِهِ، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكَ مَا يُلْجِئُكَ إِلَى مِثْلِ نِدَائِهِ. وَالْمَكْظُومُ: الْمَحْبُوسُ الْمَسْدُودُ عَلَيْهِ يُقَالُ: كَظَمَ الْبَابَ أَغْلَقَهُ وَكَظَمَ النَّهْرَ إِذَا سَدَّهُ، وَالْمَعْنَى: نَادَى فِي حَالِ حَبْسِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَجِيءَ بِهَذِهِ الْحَالِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ هُوَ فِي حَبْسٍ لَا يُرْجَى لِمِثْلِهِ سَرَاحٌ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلْامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَبْسِ. وَقَوْلُهُ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ إِلَخِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ مَضْمُونِ النَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى إِلَخْ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي كَرْبٍ مِنْ قَبِيلِ كَرْبِ يُونُسَ ثُمَّ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ انْفِرَاجُهُ. وأَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنْ (أَنَّ) ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَجُمْلَةُ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ خَبَرُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ لَوْلَا تَدَارَكَ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ. وَالتَّدَارُكُ: تَفَاعُلُ مِنَ الدَّرَكِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْلَّحَاقُ، أَيْ أَنْ يَلْحَقَ بَعْضُ السَّائِرِينَ بَعْضًا وَهُوَ يَقْتَضِي تَسَابُقَهُمْ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مُبَالَغَةِ إِدْرَاكِ نِعْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالتَّرْكُ. وَالْعَرَاءُ مَمْدُودًا: الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَلَا بِنَاءَ. وَالْمَعْنَى: لَنَبَذَهُ الْحُوتُ أَوِ الْبَحْرُ بِالْفَضَاءِ الْخَالِي لِأَنَّ الْحُوتَ الَّذِي ابْتَلَعَهُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يُرْضِعُ فِرَاخَهُ فَهُوَ يَقْتَرِبُ مِنَ السَّوَاحِلِ الْخَالِيَةِ الْمُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَفِرَاخِهِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ أَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةَ الْيَقْطِينِ كَمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ فَضْلُ التَّوْبَةِ وَالضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا تَوْبَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةً بَعْدَ نِعْمَةٍ لَقَذَفَهُ الْحُوتُ مِنْ بَطْنِهِ مَيِّتًا فَأَخْرَجَهُ الْمَوْجُ إِلَى الشَّاطِئِ فَلَكَانَ مُثْلَةً لِلنَّاظِرِينَ أَوْ حَيًّا مَنْبُوذًا بِالْعَرَاءِ لَا يَجِدُ إِسْعَافًا، أَوْ لَنَجَا بَعْدَ لَأْيٍّ وَاللَّهُ غَاضِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَهِيَ نِعَمٌ كَثِيرَةٌ عَلَيْهِ إِذْ أَنْقَذَهُ مِنْ هَذِهِ الْوَرَطَاتِ كُلِّهَا إِنْقَاذًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى طُوِيَ طَيًّا بَدِيعًا وَأُشِيرَ إِلَيْهِ إِشَارَةً بَلِيغَةً بِجُمْلَةِ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. وَطَرِيقَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي نَشْرِ هَذَا الْمَطْوِيِّ أَنَّ جُمْلَةَ وَهُوَ مَذْمُومٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ قَيْدٌ فِي جَوَابِ لَوْلا، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ نَبْذًا ذَمِيمًا، أَيْ وَلَكِنَّ يُونُسَ نُبِذَ بِالْعَرَاءِ غَيْرَ مَذْمُومٍ. وَالَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ نَبْذَهُ بِالْعَرَاءِ وَاقِعٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّ لَوْلا تَقْتَضِي امْتِنَاعًا لِوُجُودٍ، فَلَا يَكُونُ جَوَابُهَا وَاقِعًا فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ تَقْيِيدِ الْجَوَابِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ، أَيِ انْتَفَى ذَمُّهُ عِنْدَ نَبْذِهِ بِالْعَرَاءِ. وَيَلُوحُ لِي فِي تَفْصِيلِ النَّظَمِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهُوَ مَكْظُومٌ مَعَ مَا تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ مِنْ تَمَكُّنِ الْكَظْمِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَتِلْكَ الْحَالَةُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ لَمْ يَحْصُلْ نَبْذُهُ بِالْعَرَاءِ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ ب لَوْلا لَا حَقًا لِجُمْلَةِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، أَيْ لَبَقِيَ مَكْظُومًا، أَيْ مَحْبُوسًا فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَبَدًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [143- 144] فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ الْإِجْمَالِ الْحَاصِلِ مِنْ مَوْقِعِ لَوْلا. وَالْلَّامُ فِيهَا لَامُ الْقَسَمِ لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَتَأْكِيدُهُ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ نُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. وَالْمَذْمُومُ: إِمَّا بِمَعْنَى الْمُذْنِبِ لِأَنَّ الذَّنْبَ يَقْتَضِي الذَّمَّ فِي الْعَاجِلِ وَالْعِقَابَ فِي الْآجِلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَةِ الصَّافَّاتِ

[سورة القلم (68) : الآيات 51 إلى 52]

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْعَيْبِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَارِيًا جَائِعًا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات: 145] فَإِنَّ السُّقْمَ عَيْبٌ أَيْضًا. وَتَنْكِيرُ نِعْمَةٌ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ مُضَاعَفَةٌ مُكَرَّرَةٌ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا النَّفْيِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَالْمُرَادُ بِ الصَّالِحِينَ الْمُفَضَّلُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاء: 83] وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاحَ هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [10] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَى يُونُسَ الْوَحْيَ وَشَفَّعَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قومه. [51- 52] [سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 51 إِلَى 52] وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ [الْقَلَم: 44] ، عَرَّفَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ نَحْوَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْغَيْظِ وإضمار الشَّرّ عِنْد مَا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ. وَالزَّلَقُ: بِفَتْحَتَيْنِ زَلَلُ الرِّجْلِ مِنْ مُلَاسَةِ الْأَرْضِ مِنْ طِينِ عَليْهَا أَوْ دُهْنٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [40] . وَلَمَّا كَانَ الزَّلَقُ يُفْضِي إِلَى السُّقُوطِ غَالِبًا أُطْلِقَ الزَّلَقُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ عَلَى السُّقُوطِ وَالْانْدِحَاضِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا لَيُزْلِقُونَكَ، أَيْ يُسْقِطُونَكَ وَيَصْرَعُونَكَ. وَعَن مُجَاهِد: أَي يَنْفِذُونَكَ بِنَظَرِهِمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ زَلَقَ السَّهْمُ وَزَهَقَ، إِذَا نَفِذَ، وَلَمْ أَرَاهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ يُونُسُ: لَمْ يُسْمَعِ الزَّلَقُ وَالْإِزْلَاقُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ اهـ.

قُلْتُ: وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَقَدْ جَعَلَ الْإِزْلَاقَ بِأَبْصَارِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، شُبِّهَتِ الْأَبْصَارُ بِالسِّهَامِ وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ وَهُوَ فِعْلُ (يَزْلِقُونَكَ) وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمرَان: 155] . وَقَرَأَ نَافِعُ وَأَبُو جَعْفَرٍ (يَزْلِقُونَكَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مُضَارِعُ زَلَقَ بِفَتْحِ الْلَّامِ يَزْلَقُ مُتَعَدِّيًا، إِذَا نَحَّاهُ عَنْ مَكَانِهِ. وَجَاءَ يَكادُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجَاءَ فِعْلُ سَمِعُوا مَاضِيًا لِوُقُوعِهِ مَعَ لَمَّا وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ فَرْضٍ. وَالْلَّامُ فِي لَيُزْلِقُونَكَ لَامُ الْابْتِدَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ كَثِيرًا فِي خَبَرِ إِنْ الْمَكْسُورَةِ وَهِيَ أَيْضًا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ بَيْنَهُمْ، فَمَعَادُ الضَّمِيرِ كَائِنٌ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ، أَوْ لَيْسَ لِلضَّمِيرِ مَعَادٌ فِي كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ فِي غَالِبِ مَجَالِسِهِمْ. وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ ذَلِكَ اعْتِلَالًا لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ لَمْ يَجِدُوا فِي الذِّكْرِ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ مَدْخَلًا لِلطَّعْنِ فِيهِ فَانْصَرَفُوا إِلَى الطَّعْنِ فِي صَاحِبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ لِيَنْتَقِلُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْجَارِيَ عَلَى لِسَانِهِ لَا يُوثَقُ بِهِ لِيَصْرِفُوا دَهْمَاءَهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ، فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ بِقَوْلِهِ: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، أَيْ مَا الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَلَيْسَ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ النَّاطِقَ بِهِ لَيْسَ مِنَ الْمَجَانِينِ فِي شَيْءٍ. وَالذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ بِاللَّهِ وَالْجَزَاءُ هُوَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ لِأَنَّ فِيهِ صَلَاحَ النَّاسِ. فَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ تُرْجِعُ كُلَّ ضَمِيرٍ مِنْ ضَمِيرِيِ الْغَيْبَةِ إِلَى مَعَادِهِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا أَيْ لَأَحْرَزَ الْكُفَّارُ مَا جَمَّعَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: 2] مُحْسِّنٌ رَدَّ الْعَجُزَ عَلَى الصَّدْرِ.

وَقَوْلُهُ: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ إبِْطَال لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي سِيَاقِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُبَلِّغُهُ مَجْنُونًا. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْاحْتِبَاكِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَمَا الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرٌ وَمَا أَنْتَ إِلَّا مُذَكِّرٌ.

69- سورة الحاقة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 69- سُورَةُ الْحَاقَّةِ سُمِّيَتْ «سُورَةُ الْحَاقَّةِ» فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «خَرَجْتُ يَوْمًا بِمَكَّةَ أَتَعَرَّضُ لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَوَقَفْتُ خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ، (أَيْ قُلْتُ فِي خَاطِرِي) ، فَقَرَأَ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 41] قُلْتُ: كَاهِنٌ، فَقَرَأَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: 42- 43] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ» . وَبِاسْمِ الْحَاقَّةُ عُنْوِنَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ فِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» : إِنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ السِّلْسِلَةِ» لِقَوْلِهِ: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ [الحاقة: 32] وسماها الجعربي فِي مَنْظُومَتِهِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ «الْوَاعِيَةَ» وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ وُقُوعِ قَوْلِهِ وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة: 12] وَلَمْ أَرَ لَهُ سَلَفًا فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ.

أغراضها

وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ الْحَاقَّةِ» وُقُوعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي أَوَّلِهَا وَلَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَمُقْتَضَى الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ عُمَرَ أَسْلَمَ بَعْدَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَكَانَتْ الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ السَّابِعَةُ وَالسَّبْعِينَ فِي عِدَادِ تَرْتِيبِ النُّزُولِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ تَبَارَكَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمَعَارِجِ. وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ عَلَى عَدِّ آيِهَا إِحْدَى وَخَمْسِينَ آيَةً. أَغْرَاضُهَا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى تَهْوِيلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ بِوُقُوعِهِ. وَتَذْكِيرِهِمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ بِهِ مِنْ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَتَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأُمَمِ الَّتِي أَشْرَكَتْ وَكَذَّبَتْ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَجَّى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ، وَفِي ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْبَشَرِ إِذْ أَبْقَى نَوْعَهُمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنَ الطُّوفَانِ. وَوَصْفِ أَهْوَالٍ مِنَ الْجَزَاءِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ فِيهِ. وَوَصْفِ فَظَاعَةِ حَالِ الْعِقَابِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى نَبْذِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ. وَتَنْزِيهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ رَسُولٍ. وَتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يُقِرَّ مَنْ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ. وَتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِي الْقُرْآن. [1- 3] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) الْحَاقَّةُ صِيغَةُ فَاعِلٍ مِنْ: حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وُقُوعُهُ، وَالْهَاءُ فِيهَا لَا تَخْلُو عَنْ

أَنْ تَكُونَ هَاءَ تَأْنِيثٍ فَتَكُونُ الْحَاقَّةُ وَصْفًا لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ هَاءَ مَصْدَرٍ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ مِثْلَ الْكَاذِبَةِ لِلْكَذِبِ، وَالْخَاتِمَةِ لِلْخَتْمِ، وَالْبَاقِيَةِ لِلْبَقَاءِ وَالطَّاغِيَةِ لِلطُّغْيَانِ، وَالنَّافِلَةِ، وَالْخَاطِئَةِ، وَأَصْلُهَا تَاءُ الْمَرَّةِ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا أُرِيدَ الْمَصْدَرُ قُطِعَ النَّظَرُ عَنِ الْمَرَّةِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي عَلَى وَزْنِ فعلة غير مُرَاد بِهِ الْمَرَّةُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ ضَرْبَةُ لَازِبٍ. فَالْحَاقَّةُ إِذَنْ بِمَعْنَى الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ «مِنْ حَاقِّ كَذَا» ، أَيْ مِنْ حَقِّهِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَاقَّةِ الْمَعْنَى الْوَصْفِيَّ، أَيْ حَادِثَةٌ تَحِقُّ أَوْ حَقٌّ يَحِقُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا لَقَبًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ «يَوْمُ الْقِيَامَةِ» لِأَنَّهُ يَوْمٌ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] ، أَوْ لِأَنَّهُ تَحِقُّ فِيهِ الْحُقُوقُ وَلَا يُضَاعُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاء: 49] وَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] . وَإِيثَارُ هَذِهِ الْمَادَّةِ وَهَذِهِ الصِّيغَة يسمح باندارج مَعَانٍ صَالِحَةٍ بِهَذَا الْمَقَامِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْهَوْلِ وَالتَّخْوِيفِ بِمَا يَحِقُّ حُلُولُهُ بِهِمْ. فَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْحَاقَّةُ وَصْفًا لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: السَّاعَةُ الْحَاقَّةُ، أَوِ الْوَاقِعَةُ الْحَاقَّةُ، فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِيَوْمٍ أَوْ وَقْعَةٍ يَكُونُ فِيهَا عِقَابٌ شَدِيدٌ لِلْمُعَرَّضِ بِهِمْ مِثْلُ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ وَقْعَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ وَصْفًا لِلْكَلِمَةِ، أَيْ كَلِمَةِ اللَّهِ الَّتِي حَقَّتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِر: 6] ، أَوِ الَّتِي حقّت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه يَنْصُرَهُ اللَّهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: 171- 174] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْحَقِّ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الْأَنْبِيَاء: 97] ، أَوْ وَصْفَا لِلْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمرَان: 62] ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْحَقُّ كُلُّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى:

هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] وَقَالَ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [الْأَحْقَاف: 30] . وَافْتِتَاحُ السُّورَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ تَرْوِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ. والْحَاقَّةُ مُبْتَدَأٌ ومَا مُبْتَدَأٌ ثَانٍ. والْحَاقَّةُ الْمَذْكُورَةُ ثَانِيًا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَخَبَرِهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. ومَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَدْرِي مَا الْحَاقَّةُ؟ أَيْ مَا هِيَ الْحَاقَّةُ، أَيْ شَيْءٌ عَظِيمٌ الْحَاقَّةُ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْهُ تَقُومُ مَقَامَ ضَمِيرِهِ فِي رَبْطِ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا. وَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ مَا فِي الْاسْمِ مِنَ التَّهْوِيلِ. وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: 27] . وَجُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ مَا الْحَاقَّةُ وَجُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [الحاقة: 4] ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ مَا الْحَاقَّةُ. وَمَا الثَّانِيَةُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْاسْتِفْهَامُ بِهَا مُكَنًّى بِهِ عَنْ تَعَذُّرِ إِحَاطَةِ عِلْمِ النَّاسِ بِكُنْهِ الْحَاقَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْخَارِجَ عَنِ الْحَدِّ الْمَأْلُوفِ لَا يُتَصَوَّرُ بِسُهُولَةٍ فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَسَاءَلَ عَنْ فَهْمِهِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَالْمَعْنَى: الْحَاقَّةُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا تُدْرِكُونَ كُنْهَهُ. وَتَرْكِيبُ «مَا أَدْرَاكَ كَذَا» مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يُغَيَّرُ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ تَرْكِيبٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَا الْاسْتِفْهَامِيَّةِ وَفِعْلِ (أَدْرَى) الَّذِي يَتَعَدَّى بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ مِنْ بَابِ أَعْلَمَ وَأَرَى، فَصَارَ فَاعِلُ فِعْلِهِ الْمُجَرَّدِ وَهُوَ (درى) مَفْعُولا أول بِسَبَبِ التَّعْدِيَةِ. وَقَدْ عُلِّقَ فِعْلُ أَدْراكَ عَنْ نَصْبِ مَفْعُولَيْنِ بِ مَا الْاسْتِفْهَامِيَّةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا الْحَاقَّةُ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ قَبْلَ التَّرْكِيبِ بِالْاسْتِفْهَامِ أَنْ تَقُولَ: أَدْرَكْتُ الْحَاقَّةَ أَمْرًا عَظِيمًا، ثُمَّ صَارَ أَدْرَكَنِي فُلَانٌ الْحَاقَّةَ أَمْرًا عَظِيمًا. ومَا الْأُولَى اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ

[سورة الحاقة (69) : آية 4]

فِي الْحَرْفِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ فَصَارَ التَّعْظِيمُ وَالْاسْتِفْهَامُ مُتَلَازِمَيْنِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْاسْتِفْهَامَ إِنْكَارِيًّا، أَيْ لَا يَدْرِي أَحَدٌ كُنْهَ هَذَا الْأَمْرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كِلَا الْاعْتِبَارَيْنِ هُوَ التَّهْوِيلُ. هَذَا السُّؤَالُ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ هَلْ يُسَافِرُ فُلَانٌ. وَمَا الثَّالِثَةُ عَلَّقَتْ فِعْلَ أَدْراكَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ. وَكَافُ الْخِطَابِ فِيهِ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِذَلِكَ لَا يَقْتَرِنُ بِضَمِيرِ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ أَوْ تَأْنِيثٍ إِذَا خُوطِبَ بِهِ غَيْرُ الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ. وَاسْتِعْمَالُ مَا أَدْراكَ غَيْرُ اسْتِعْمَالِ مَا يُدْرِيكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: 63] وَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فِي سُورَةِ الشُّورَى [17] . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَدْراكَ فَقَدْ أَدْرَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ فَقَدْ طُوِيَ عَنْهُ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَن يحيى بَين سَلَّامٍ فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْمَرْوِيُّ فَإِنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ مَفْعُولَ مَا أَدْراكَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الْاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلتَّهْوِيلِ وَأَنَّ مَفْعُولَ مَا يُدْرِيكَ غَيْرُ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الْاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَهُوَ فِي معنى نفي الدارية. وَقَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَما أَدْراكَ فَقَدْ عُقِّبَ بِبَيَانِهِ نَحْوُ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 10- 11] ، وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: 2- 3] ، ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار: 18- 19] ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [الحاقة: 3- 4] ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ تَفْسِيرَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَلَمْ أَرَ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ وَفَّى هَذَا التَّرْكِيبَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يذكرهُ أصلا. [4] [سُورَة الحاقة (69) : آيَة 4] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 3] نِهَايَةَ كَلَامٍ فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ:

كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ اسْتِئْنَافٌ، وَهُوَ تذكير بِمَا حَلَّ بِثَمُودَ وَعَادٍ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِتَهْدِيدِهِمْ أَن يحِق عَلَيْهِم مِثْلُ مَا حَلَّ بِثَمُودَ وَعَادٍ فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] إِلَخْ تَوْطِئَةً لَهُ وَتَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْعَظِيمَةِ اسْتِرْهَابًا لِنُفُوسِ السَّامِعِينَ. وَإِنْ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مُتَّصِلًا بِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وَعَيَّنْتَ لَفْظَ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَالِثًا عَنِ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] . وَالْمَعْنَى: الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ بِهَا ثَمُودُ وَعَادٌ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] فَيُقَالُ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا، فَعَدَلَ إِلَى إِظْهَارِ اسْمِ (الْقَارِعَةِ) لِأَنَّ (الْقَارِعَةِ) مُرَادِفَةُ الْحَاقَّةُ فِي أَحَدِ مَحْمَلَيْ لَفْظِ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] ، وَهَذَا كَالْبَيَانِ لِلتَّهْوِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 3] . وَ (الْقَارِعَةِ) مُرَادٌ مِنْهَا مَا أُرِيدَ ب الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] . وَابْتُدِئَ بِثَمُودَ وَعَادٍ فِي الذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ شُهْرَةً عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِأَنَّ دِيَارَهُمَا مُجَاوِرَةٌ شَمَالًا وَجَنُوبًا. وَالْقَارِعَةُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَرَعَهُ، إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبًا قَوِيًّا، يُقَالُ: قَرَعَ الْبَعِيرَ. وَقَالُوا: الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا، وَسُمِّيَتِ الْمَوَاعِظُ الَّتِي تَنْكَسِرُ لَهَا النَّفْسُ قَوَارِعَ لِمَا فِيهَا مِنْ زَجْرِ النَّاسِ عَنْ أَعْمَالٍ. وَفِي الْمَقَامَةِ الْأُولَى «وَيَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ» ، وَيُقَالُ لِلتَّوْبِيخِ تَقْرِيعٌ، وَفِي الْمَثَلِ «لَا تُقْرَعُ لَهُ الْعَصَا وَلَا يقلقل لَهُ الحصاء» ، وَمَوْرِدُهُ فِي عَامِرِ بْنِ الظَّرِبِ الْعَدَوَانِيِّ فِي قِصَّةٍ أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُتَلَمِّسُ فِي بَيْتٍ. فِ (الْقَارِعَةُ) هُنَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ لَفْظُهُ مُؤَنَّثًا لِيُوَافِقَ وَصْفَهُ الْمَذْكُورَ نَحْوُ السَّاعَةِ أَوِ الْقِيَامَةِ. الْقَارِعَةُ: أَيِ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالْأَفْزَاعِ، أَوِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَوْجُودَاتِ بِالْقَرْعِ مِثْلُ دَكِّ الْجِبَالِ، وَخَسْفِ الْأَرْضِ، وَطَمْسِ النُّجُومِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ كُسُوفًا لَا انْجِلَاءَ لَهُ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالْقَرْعِ. وَوصف السَّاعَةِ [الْأَعْرَاف: 187] أَو الْقِيامَةِ [الْبَقَرَة: 85] بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ إِسْنَادِ الْوَصْفِ إِلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ بِتَأَوُّلٍ لِمُلَابَسَتِهِ مَا هُوَ لَهُ إِذْ هِيَ زَمَانُ الْقَرْعِ قَالَ تَعَالَى:

[سورة الحاقة (69) : آية 5]

الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ الْآيَة [القارعة: 1- 4] . وَهِيَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ الْآيَات [الحاقة: 13] . وَجِيءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ بِطَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَتَا فِي مُوجِبِ الْعُقُوبَةِ ثُمَّ فُصِّلَ ذكر عذابهما. [5] [سُورَة الحاقة (69) : آيَة 5] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) ابْتُدِئَ بِذِكْرِ ثَمُودَ لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْقَرْعِ إِذْ أَصَابَتْهُمُ الصَّوَاعِقُ الْمُسَمَّاةُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالصَّيْحَةِ. وَالطَّاغِيَةُ: الصَّاعِقَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ صَاعِقَةٌ أَوْ صَوَاعِقٌ فَأَهْلَكَتْهُمْ، لِأَن مَنَازِلَ ثَمُودَ كَانَتْ فِي طَرِيقِ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ فِي رِحْلَتِهِمْ فَهُمْ يَرَوْنَهَا، قَالَ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: 52] ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى مَهْلِكِ عَادٍ أَنْسَبُ فَأُخِّرَ لِذَلِكَ أَيْضًا. وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الصَّاعِقَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ بِالطَّاغِيَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَجَاوِزَةً الْحَالَ الْمُتَعَارَفَ فِي الشِّدَّةِ فَشُبِّهَ فِعْلُهَا بِفِعْلِ الطَّاغِي الْمُتَجَاوِزِ الْحَدَّ فِي الْعُدْوَانِ وَالْبَطْشِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِ بِالطَّاغِيَةِ لِلْاسْتِعَانَةِ. وثَمُودُ: أُمَّةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ الْعَارِبَةِ، وَهُمْ أَنْسَابُ عَادٍ. وَثَمُودُ: اسْمُ جَدِّ تِلْكَ الْأُمَّةِ وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى الْأُمَّةِ فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ الْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً فِي سُورَة الْأَعْرَاف [73] . [6- 7] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 6 إِلَى 7] وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) الصَّرْصَرُ: الشَّدِيدَةُ يَكُونُ لَهَا صَوْتٌ كَالصَّرِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [16] . وَالْعَاتِيَةُ: الشَّدِيدَةُ الْعَصْفِ، وَأَصْلُ الْعُتُوِّ وَالْعُتِيِّ: شِدَّةُ التَّكَبُّرِ فَاسْتُعِيرَ لِلشَّيْءِ الْمُتَجَاوِزِ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ تَشْبِيهًا بِالتَّكَبُّرِ الشَّدِيدِ فِي عَدَمِ الطَّاعَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى الْمُعْتَادِ.

وَالتَّسْخِيرُ: الْغَصْبُ عَلَى عَمَلٍ وَاسْتُعِيرَ لِتَكْوِينِ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ تَكْوِينًا مُتَجَاوِزًا الْمُتَعَارَفَ فِي قُوَّةِ جِنْسِهَا فَكَأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَيْهِ. وَعُلِّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى أرسلها. و (حسوم) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَاسِمٍ مِثْلُ قُعُودٍ جَمْعُ قَاعِدٍ، وَشُهُودٍ جَمْعُ شَاهِدٍ، غُلِّبَ فِيهِ الْأَيَّامُ عَلَى اللَّيَالِي لِأَنَّهَا أَكْثَرُ عَدَدًا إِذْ هِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَهَذَا لَهُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يُتَابِعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَيْ لَا فَصْلَ بَيْنِهَا كَمَا يُقَالُ: صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ زُرَارَةَ الْكِلَابِيُّ (¬1) : فَفَرَّقَ بَيْنَ بَيْنِهِمُ زَمَانٌ ... تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامٌ حُسُومُ قِيلَ: وَالْحُسُومُ مُشْتَقٌّ مِنْ حَسْمِ الدَّاءِ بِالْمِكْوَاةِ إِذْ يُكْوَى وَيُتَابَعُ الْكَيُّ أَيَّامًا، فَيَكُونُ إِطْلَاقُهُ اسْتِعَارَةً، وَلَعَلَّهَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَبَيْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِلَابِيِّ مِنَ الشِّعْرِ الْإِسْلَامِيِّ فَهُوَ مُتَابِعٌ لِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَسْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ، أَيْ حَاسِمَةً مُسْتَأْصِلَةً. وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّيْفُ حُسَامًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ، أَيْ حَسَمَتْهُمْ فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ صِفَةٌ لِ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ أَوْ حَالٌ مِنْهَا. الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُسُومٌ مَصْدَرًا كَالشُّكُورِ وَالدُّخُولِ فَيَنْتَصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَعَامِلُهُ سَخَّرَها، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لْاسْتِئْصَالِهِمْ وَقَطْعِ دَابِرِهِمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَالِحٌ لِأَنْ يُذْكَرَ مَعَ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِيثَارُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ تَمَامِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ. وَقَدْ سَمَّى أَصْحَابُ الْمِيقَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيَّامًا ثَمَانِيَةً مُنَصَّفَةً بَيْنَ أَوَاخِرِ فَبْرَايِرَ وَأَوَائِلِ مَارِسَ مَعْرُوفَةٌ فِي عَادَةِ نِظَامِ الْجَوِّ بِأَنْ تَشْتَدَّ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا، أَيَّامَ الْحُسُومِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَابِلُ أَمْثَالَهَا مِنَ الْعَامِ الَّذِي أُصِيبَتْ فِيهِ عَادٌ بِالرِّيَاحِ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْهَامِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي رَصَدَ تِلْكَ الْأَيَّامَ. ¬

(¬1) شَاعِر من شعراء صدر الدولة الأموية، كَانَ لِأَبِيهِ وَله حظوة عِنْد الْخَلِيفَة مُعَاوِيَة وَكَانَ سيد أهل الْبَادِيَة توفّي فِي غَزْوَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة سنة 46 هـ.

وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَيَّامَ الْحُسُومِ هِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: أَيَّامُ الْعَجُوزِ أَوِ الْعَجُزِ، وَهِيَ آخِرُ فَصْلِ الشِّتَاءِ وَيَعُدُّهَا الْعَرَبُ خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً لَهَا أَسْمَاءٌ مَعْرُوفَةٌ مَجْمُوعَةٌ فِي أَبْيَاتٍ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَشَتَّانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُسُومِ عَادٍ فِي الْعُدَّةِ وَالْمُدَّةِ. وَفُرِّعَ عَلَى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ صَارُوا صَرْعَى كُلُّهُمْ يَرَاهُمُ الرَّائِي لَوْ كَانَ حَاضِرًا تِلْكَ الْحَالَةَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَتَرَى خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ فَيَرَى الرَّائِي لَوْ كَانَ رَاءٍ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ فِي حِكَايَةِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الْغَائِبَةِ تُسْتَحْضَرُ فِيهِ تِلْكَ الْحَالَةُ كَأَنَّهَا حَاضِرَةً وَيُتَخَيَّلُ فِي الْمَقَامِ سَامِعٌ حَاضِرٌ شَاهَدَ مَهْلَكَهُمْ أَوْ شَاهَدَهُمْ بَعْدَهُ، وَكِلَا الْمُشَاهَدَتَيْنِ مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَيُعْتَبَرُ خِطَابًا فَرْضِيًّا فَلَيْسَ هُوَ بِالْتِفَاتٍ وَلَا هُوَ مِنْ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى: 45] ، وَقَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَان: 20] ، وَعَلَى دِقَّةِ هَذَا الْاسْتِعْمَالِ أَهْمَلَ الْمُفَسِّرُونَ التَّعَرُّضَ لَهُ عَدَا كَلِمَةً لِلْبَيْضَاوِيِّ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْمَ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، وَالْقَوْمُ: الْقَبِيلَةُ وَهَذَا تَصْوِيرٌ لِهَلَاكِ جَمِيعِ الْقَبِيلَةِ. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ. وصَرْعى: جَمْعُ صَرِيعٍ وَهُوَ الْمُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ مَيِّتًا. وَشُبِّهُوا بِأَعْجَازِ نَخْلٍ، أَيْ أُصُولِ النَّخْلِ، وَعَجُزُ النَّخْلَةِ: هُوَ السَّاقُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ مِنَ النَّخْلَةِ وَهُوَ أَغْلَظُ النَّخْلَةِ وَأَشَدُّهَا. وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ بِهَا أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ النَّخْلَ إِذَا قَطَعُوهُ لِلْانْتِفَاعِ بِأَعْوَادِهِ فِي إِقَامَةِ الْبُيُوتِ لِلسَّقْفِ وَالْعِضَادَاتِ انْتَقُوا مِنْهُ أُصُولَهُ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ وَأَمْلَأُ وَتَرَكُوهَا عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَيْبَسَ وَتَزُولَ رُطُوبَتُهَا ثُمَّ يَجْعَلُوهَا عَمَدًا وَأَسَاطِينَ. وَالنَّخْلُ: اسْمُ جَمْعِ نَخْلَةٍ. وَالْخَاوِي: الْخَالِي مِمَّا كَانَ مَالِئًا لَهُ وَحَالَّا فِيهِ.

[سورة الحاقة (69) : آية 8]

وَقَوْلُهُ: خاوِيَةٍ مَجْرُورٌ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ نَخْلٍ. وَوَصْفُ نَخْلٍ بِأَنَّهَا خاوِيَةٍ بِاعْتِبَارِ إِطْلَاقِ اسْمِ «النَّخْلِ» عَلَى مَكَانِهِ بِتَأْوِيلِ الْجَنَّةِ أَوِ الْحَدِيقَةِ، فَفِيهِ اسْتِخْدَامٌ. وَالْمَعْنَى: خَالِيَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لِتَشْوِيهِ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِتَشْوِيهِ مَكَانِهِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمُشَابَهَةِ وَأَحْسَنُهُ مَا كَانَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِلْغَرَضِ مِنَ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ لِهَذَا الْوَصْفِ وَقْعًا فِي التَّنْفِيرِ مِنْ حَالَتِهِمْ لِيُنَاسِبَ الْمَوْعِظَةَ وَالتَّحْذِيرَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ أَسْبَابِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إنّك مَنْسُوب ومسؤول مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنَهُ ... مِنْ بَطْنٍ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ الْأَبْيَاتِ الْأَرْبَعَةَ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ... يَقْضِمْنَ حُسْنَ بنانه والمعصم [8] [سُورَة الحاقة (69) : آيَة 8] فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) تَفْرِيعٌ عَلَى مَجْمُوعِ قِصَّتَيْ ثَمُودَ وَعَادٍ، فَهُوَ فَذْلَكَةٌ لِمَا فُصِّلَ مِنْ حَالِ إِهْلَاكِهِمَا، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْجَمْعِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ، فَيَكُونُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ جَمْعٌ ثُمَّ تَفْرِيقٌ ثُمَّ جَمْعٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى [النَّجْم: 50- 51] أَيْ فَمَا أَبْقَاهُمَا. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَالْبَاقِيَةُ: إِمَّا اسْمُ فَاعِلٍ عَلَى بَابِهِ، وَالْهَاءُ: إِمَّا لِلتَّأْنِيثِ بِتَأْوِيلِ نَفْسٍ، أَيْ فَمَا تُرَى مِنْهُمْ نَفْسٌ بَاقِيَةٌ أَوْ بِتَأْوِيلِ فِرْقَةٍ، أَيْ مَا تُرَى فِرْقَةٌ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ باقِيَةٍ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَاقَّةِ، أَيْ فَمَا تَرَى لَهُمْ بَقَاءً، أَيْ هَلَكُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ لِشِبْهِ الْمِلْكِ، أَيْ بَاقِيَةٍ لِأَجْلِ النَّفْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْلَّامُ بِمَعْنَى (مِنْ) مِثْلُ قَوْلِهِمْ: سَمِعْتُ لَهُ صُرَاخًا، وَقَوْلِ الْأَعْشَى:

[سورة الحاقة (69) : الآيات 9 إلى 10]

تَسْمَعُ لِلحلي وِسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ ... كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرَقٌ زَجِلُ وَقَوْلِ جَرِيرٍ: وَنَحْنُ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ أَيْ وَنَحْنُ مِنْكُمْ أَفْضَلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْلَّامُ الَّتِي تُنْوَى فِي الْإِضَافَةِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) . وَالْأَصْلُ: فَهَلْ تَرَى بَاقِيَّتَهُمْ، فَلَمَّا قَصَدَ التَّنْصِيصَ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ جَلْبَ (مِنْ) الزَّائِدَةِ لَزِمَ تَنْكِيرُ مَدْخُولِ (مِنْ) الزَّائِدَةِ فَأُعْطِيَ حَقُّ مَعْنَى الْإِضَافَةِ بِإِظْهَارِ الْلَّامِ الَّتِي الشَّأْنُ أَنْ تُنْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] فَإِنَّ أَصْلَهُ: عِبَادُنَا. وَمَوْقِعُ الْمَجْرُورِ بِالْلَّامِ فِي مَوْقِعِ النَّعْتِ لِ باقِيَةٍ قُدِّمَ عَلَيْهَا فَصَارَ حَالا. [9- 10] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 9 إِلَى 10] وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [الحاقة: 4] . وَقَدْ جُمِعَ فِي الذِّكْرِ هُنَا عِدَّةُ أُمَمٍ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ بَعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِجْمَالًا وَتَصْرِيحًا، وَخَصَّ مِنْهُمْ بِالتَّصْرِيحِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَشْهَرِ الْأُمَمِ ذِكْرًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُخْتَلِطِينَ بِالْعَرَبِ وَالنَّازِلِينَ بِجِوَارِهِمْ، فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَبْلُغُهُ بَعْضَ الْخَبَرِ عَنْ قِصَّتِهِمْ. وَفِي عَطْفِ هَؤُلَاءِ عَلَى ثَمُودَ وَعَادٍ فِي سِيَاقِ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ بِالْقَارِعَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ تَشَابَهُوا فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَارِعَةِ كَمَا تَشَابَهُوا فِي الْمَجِيءِ بِالْخَاطِئَةِ وَعِصْيَانِ رُسُلِ رَبِّهِمْ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ. وَالْمُرَادُ بِفِرْعَوْنَ فِرْعَوْنُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ (مِنْفِطَاحُ الثَّانِي) . وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْخِطْءُ إِلَيْهِ لِأَنَّ مُوسَى أُرْسِلَ إِلَيْهِ لِيُطْلِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [النازعات: 17] فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِهَذَا الْعِصْيَانِ وَتَبِعَهُ الْقِبْطُ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَكَذَّبُوا مُوسَى وَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَتِهِ.

وَشَمِلَ قَوْلُهُ: وَمَنْ قَبْلَهُ أُمَمًا كَثِيرَةً مِنْهَا قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَنْ قَبْلَهُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ، أَيْ قَوْمُهُ وَأَتْبَاعُهُ. والْمُؤْتَفِكاتُ: قُرَى لُوطٍ الثَّلَاثُ، وَأُرِيدَ بِالْمُؤْتَفِكَاتِ سُكَّانُهَا وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِشُهْرَةِ جَرِيمَتِهِمْ وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا مَشْهُورِينَ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذْ كَانَتْ قُرَاهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الشَّامِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] وَقَالَ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها [الْفرْقَان: 40] . وَوُصِفَتْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ بِ الْمُؤْتَفِكاتُ جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ ائْتَفَكَ مُطَاوِعٌ أَفَكَهُ، إِذَا قَلَبَهُ، فَهِيَ الْمُنْقَلِبَاتُ، أَيْ قَلَبَهَا قَالَبٌ، أَيْ خَسَفَ بِهَا قَالَ تَعَالَى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [هود: 82] . وَالْخَاطِئَةِ: إِمَّا مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ وَهَاؤُهُ هَاءُ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ مَصْدَرًا قَطَعَ النَّظَرَ عَنِ الْمَرَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله: الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1] فَهُوَ مصدر خطىء، إِذَا أَذْنَبَ. وَالذَّنْبُ: الْخِطْءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَأَمَّا اسْم فَاعل خطىء وَتَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ: الْفَعِلَةِ ذَاتِ الْخِطْءِ فَهَاؤُهُ هَاءُ تَأْنِيثٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالْمَعْنَى: جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِالذَّنْبِ الْمُسْتَحَقِّ لِلْعِقَابِ. وَفُرِّعَ عَنْهُ تَفْصِيلُ ذَنْبِهِمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَاطِئَةِ فَقَالَ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ وَهَذَا التَّفْرِيعُ لِلتَّفْصِيلِ نَظِيرُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: 9] فِي أَنَّهُ تَفْرِيعُ بَيَانٍ عَلَى الْمُبَيَّنِ. وَضَمِيرُ (عَصَوْا) يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى فِرْعَوْنُ بِاعْتِبَارِهِ رَأْسَ قَوْمِهِ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى قَوْمِهِ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ وَعَلَى هَذَا الْاعْتِبَارِ فِي مَحَلِّ ضَمِيرِ (عَصَوْا) يَكُونُ الْمُرَادُ بِ رَسُولَ رَبِّهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَتَعْرِيفُهُ بِالْإِضَافَةِ لِمَا فِي لَفْظِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَخْطِئَتِهِمْ فِي عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ وَجَعْلِهِمْ إِيَّاهُ إِلَهًا لَهُمْ.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 11 إلى 12]

وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ (عَصَوْا) إِلَى فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ. ورَسُولَ رَبِّهِمْ هُوَ الرَّسُولُ الْمُرْسَلُ إِلَى كُلِّ قَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. فَإِفْرَادُ رَسُولَ مُرَادٌ بِهِ التَّوْزِيعُ عَلَى الْجَمَاعَاتِ، أَيْ رَسُولَ اللَّهِ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَجْمَلُ نَظْمًا مِنْ أَنْ يُقَالَ: فَعَصَوْا رُسُلَ رَبِّهِمْ، لِمَا فِي إِفْرَادِ رَسُولَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي صِيَغِ الْكَلِمِ مِنْ جَمْعٍ وَإِفْرَادٍ تفاديا من تَتَابُعِ ثَلَاثَةِ جُمُوعٍ لِأَنَّ صِيَغَ الْجَمْعِ لَا تَخْلُو مِنْ ثِقَلٍ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهَا وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [37] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَإِنَّمَا كَذَّبُوا رَسُولًا وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وَمَا بَعْدَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [105] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْأَخْذُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهْلَاكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [44] وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وأَخْذَةً: وَاحِدَةٌ مِنَ الْأَخْذِ، فَيُرَادُ بِهَا أَخْذُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْغَرَقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 42] ، وَإِذَا أُعِيدَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ إِلَى فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ كَانَ إِفْرَادُ الْأَخْذَةِ كَإِفْرَادِ رَسُولَ رَبِّهِمْ، أَيْ أَخَذْنَا كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ أَخْذَةً. وَالرَّابِيَةُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ رَبَا يَرْبُو إِذَا زَادَ فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ وَزْنُ فَاعِلَةٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِوُقُوعِهَا مُتَحَرِّكَةً إِثْرَ كَسْرَةٍ. وَاسْتُعِيرَ الرُّبُوُّ هُنَا لِلشِّدَّةِ كَمَا تُسْتَعَارُ الْكَثْرَةُ لِلشِّدَّةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفرْقَان: 14] . وَالْمُرَادُ بِالْأَخْذَةِ الرَّابِيَةِ: إِهْلَاكُ الْاسْتِئْصَالِ، أَيْ لَيْسَ فِي إِهْلَاكِهِمْ إِبْقَاءُ قَلِيل مِنْهُم. [11- 12] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 11 إِلَى 12] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَبْلَهُ [الحاقة: 9] لَمَّا شَمِلَ قَوْمَ نُوحٍ وَهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ

حَسَّنَ اقْتِضَابَ التَّذْكِيرِ بِأَخْذِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْمَاجِ امْتِنَانٍ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ تَنَاسَلُوا مِنَ الْفِئَةِ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ كَوْنِهِ عِظَةً وَعِبْرَةً إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ نِعْمَةٌ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْإِدْمَاجِ. وَقَدْ بُنِيَ عَلَى شُهْرَةِ مَهْلِكِ قَوْمِ نُوحٍ اعْتِبَارُهُ كَالْمَذْكُورِ فِي الْكَلَامِ فَجُعِلَ شَرْطًا لِ لَمَّا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَعْرُوفِ بِطُغْيَانِ الطُّوفَانِ. وَالطُّغْيَانُ: مُسْتَعَارٌ لِشِدَّتِهِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِطُغْيَانِ الطَّاغِي عَلَى النَّاسِ تَشْبِيهَ تَقْرِيبٍ فَإِنَّ الطُّوفَانَ أَقْوَى شِدَّةً مِنْ طُغْيَانِ الطَّاغِي. والْجارِيَةِ: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ وَهُوَ السَّفِينَةُ وَقَدْ شَاعَ هَذَا الْوَصْفُ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْاسْمِ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ [الرَّحْمَن: 24] . وَأَصْلُ الْحَمْلِ وَضْعُ جِسْمٍ فَوْقَ جِسْمٍ لِنَقْلِهِ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْوَضْعِ فِي ظَرْفٍ مُتَنَقِّلٍ عَلَى وَجْهِ الْاسْتِعَارَةِ. وَإِسْنَادُ الْحَمْلِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نُوحٍ بِصُنْعِ الْحَامِلَةِ وَوَضْعِ الْمَحْمُولِ قَالَ تَعَالَى: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَة [الْمُؤْمِنُونَ: 27] . وَذُكِرَ إِحْدَى الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ لِهَذَا الْحَمْلِ وَهِيَ حِكْمَةُ تَذْكِيرِ الْبَشَرِ بِهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ لِيَكُونَ لَهُمْ بَاعِثًا عَلَى الشُّكْرِ، وَعِظَةً لَهُمْ مِنْ أَسَوَاءِ الْكُفْرِ، وَلِيُخْبِرَ بِهَا مَنْ عَلِمَهَا قَوْمًا لَمْ يَعْلَمُوهَا فَتَعِيهَا أسماعهم. وَالْمرَاد ب أُذُنٌ : آذَانٌ وَاعِيَةٌ. وَعُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا بِقَرِينَةِ التَّعْمِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الْحَشْر: 18] . وَالْوَعْيُ: الْعِلْمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، أَيْ وَلِتَعْلَمَ خَبَرَهَا أُذُنٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْوَعْيِ، أَيْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَعِيَ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَتَّعِظُوا بِخَبَرِ الطُّوفَانِ وَالسَّفِينَةِ الَّتِي نَجَا بِهَا الْمُؤْمِنُونَ فَتَلَقَّوْهُ كَمَا يَتَلَقَّوْنَ الْقَصَص الفكاهية.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 إلى 18]

[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 13 إِلَى 18] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى التَّهْوِيلِ الَّذِي صُدِّرَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1- 3] فَعَلِمَ أَنَّهُ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْثَالِ مَا نَالَ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمَّا أَتَمَّ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا فَرَّعَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَحِلُّ عِنْدَ الْقَارِعَةِ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا كَمَا كَذَّبَتْ بِهَا ثَمُودُ وَعَادٌ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا بَيَانٌ لِلْقَارِعَةِ بِأَنَّهَا سَاعَةُ الْبَعْثِ وَهِيَ الْوَاقِعَةُ. والصُّورِ: قَرْنُ ثَوْرٍ يُقْعَرُ وَيُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ يَسُدُّ بَعْضَ فَرَاغِهِ حَتَّى إِذَا نَفَخَ فِيهِ نَافِخٌ انْضَغَطَ الْهَوَاءُ فَصَوَّتَ صَوْتًا قَوِيًّا، وَكَانَتِ الْجُنُودُ تَتَّخِذُهُ لِنِدَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عِنْدَ إِرَادَةِ النَّفِيرِ أَوِ الْهُجُومِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] . وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ: عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ بِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ لِلْبَعْثِ مِثْلُ الْإِحْيَاءِ بِنِدَاءِ طَائِفَةِ الْجُنْدِ الْمُكَلَّفَةِ بِالْأَبْوَاقِ لِنِدَاءِ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ حَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ جُنْدِيٌّ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى مَوْضِعِ الْمُنَادَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ مَوْجُودٌ يُصَوِّتُ صَوْتًا مُؤَثِّرًا. ونَفْخَةٌ: مَصْدَرُ نَفَخَ مُقْتَرِنٍ بِهَاءٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمَرَّةِ، أَيِ الْوَحْدَةِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ تَقَعُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَاعِلَ النَّفْخِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ وَهُوَ إسْرَافيل. ووصفت نَفْخَةٌ بِ واحِدَةٌ تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الْوَحْدَةِ مِنْ صِيغَةِ الْفَعْلَةِ تَنْصِيصًا عَلَى الْوَحْدَةِ الْمُفَادَةِ مِنَ التَّاءِ. وَالتَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَأَثُّرِ جَمِيعِ الْأَجْسَادِ الْبَشَرِيَّةِ

بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ تَكْرِيرٍ تَعْجِيبًا عَنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَنُفُوذِ أَمْرِهِ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ مِنْ مَبْدَأِ السُّورَةِ تَهْوِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَعْدَادُ أَهْوَالِهِ مَقْصُودٌ، وَلِأَجْلِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ هُنَا لَمْ يذكر وصف وَاحِد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [25] . فَحَصَلَ مِنْ ذِكْرِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ تَأْكِيدُ مَعْنَى النَّفْخِ وَتَأْكِيدُ مَعْنَى الْوَحْدَةِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ مَا رُوِيَ عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَقْرِيرِهِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَصْفِهَا بِ واحِدَةٌ أَنَّهَا غَيْرُ مُتْبَعَةٍ بِثَانِيَةٍ فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ حُصُولُ الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى تَكَرُّرِهَا كِنَايَةً عَنْ سُرْعَةِ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ، أَيْ يَوْمِ الْوَاقِعَةِ. وَأَمَّا ذِكْرُ كَلِمَةِ نَفْخَةٌ فَلِيَتَأَتَّى إِجْرَاءُ وَصْفِ الْوَحْدَةِ عَلَيْهَا فَذِكْرُ نَفْخَةٌ تَبَعٌ غَيْرُ مَسُوقٍ لَهُ الْكَلَامُ فَتَكُونُ هَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ الْأُولَى وَهِيَ الْمُؤْذِنَةُ بِانْقِرَاضِ الدُّنْيَا ثُمَّ تَقَعُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ بَعْثِ الْأَمْوَاتِ. وَجُمْلَةُ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ دَكَّ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ قَدْ يَحْصُلُ قَبْلَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ لِأَنَّ بِهِ فَنَاءَ الدُّنْيَا. وَمَعْنَى حُمِلَتِ: أَنَّهَا أُزِيلَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا بِأَنْ أُبْعِدَتِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا عَنْ مَدَارِهَا الْمُعْتَادِ فَارْتَطَمَتْ بِأَجْرَامٍ أُخْرَى فِي الْفَضَاءِ فَدُكَّتا، فَشُبِّهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحَمْلِ الْحَامِلِ شَيْئًا لِيُلْقِيَهُ عَلَى الْأَرْضِ، مِثْلُ حَمْلِ الْكُرَةِ بَيْنَ الْلَّاعِبِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِنَقْضِ نِظَامَ الْعَالَمِ فِي الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ بِإِبْعَادِهَا عَنْ مَدَارِهَا مُشَبَّهًا بِالْحَمْلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ اخْتِلَالِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِحِفْظِ نِظَامَ الْعَالَمِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالدَّكُّ: دَقٌّ شَدِيدٌ يَكْسِرُ الشَّيْءَ الْمَدْقُوقَ، أَيْ فَإِذَا فُرِّقَتْ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ وَأَجْزَاءُ جِبَالِهَا. وَبُنِيَتْ أَفْعَالُ نُفِخَ، وحُمِلَتِ، وفَدُكَّتا لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مُتَعَلِّقٌ بِبَيَانِ الْمَفْعُولِ لَا الْفَاعِلِ وَفَاعِلُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إِمَّا الْمَلَائِكَةُ أَوْ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَالْكُلُّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَجُمْلَةُ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَوَابِ (إِذَا) ، أَعْنِي قَوْلَهُ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَخْ لِأَنَّ تَنْوِينَ (يَوْمَئِذٍ) عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةٍ تَدَلُّ عَلَيْهَا جُمْلَةُ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى قَوْلِهِ دَكَّةً واحِدَةً، أَيْ فَيَوْمُ إِذْ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى آخِرِهِ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ بِمُرَادِفِ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِ (يَوْمَ) مِنْ قَوْلِهِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، مُطْلَقُ الزَّمَانِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي وُقُوعِهِ مُضَافًا إِلَى (إِذَا) . وَمَعْنَى وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَحَقُّقُ مَا كَانَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتَوَعَّدُونَ بِوَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَوْمَئِذٍ يَتَحَقَّقُ مَا كَانُوا يُتَوَعَّدُونَ بِهِ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ حُصُولِهِ. وَالْمَعْنَى: فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْوَاقِعَةُ. والْواقِعَةُ: مُرَادِفَةٌ لِلْحَاقَّةِ وَالْقَارِعَةِ، فَذِكْرُهَا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ وَإِفَادَةِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَال الَّتِي تنبىء عَنْهَا مَوَارِدُ اشْتِقَاقِ أَوْصَافِ الْحَاقَّةِ وَالْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ. والْواقِعَةُ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْبَعْثِ قَالَ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: 1- 2] . وَفِعْلُ انْشَقَّتِ السَّماءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِشَرْطِ (إِذَا) ، وَتَأْخِيرُ عَطْفِهِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَذَا الْانْشِقَاقِ مَنْ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ الْمُحِيطِينَ بِهَا، وَمِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ الَّذِي يُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَذِكْرِ حَمَلَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ: وَقَدِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ. وَانْشِقَاقُ السَّمَاءِ: مُطَاوَعَتُهَا لِفِعْلِ الشَّقِّ، وَالشَّقُّ: فَتْحُ مَنَافِذَ فِي مُحِيطِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفرْقَان: 25، 26] . ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَيْنُهُ.

وَحَقِيقَةُ واهِيَةٌ ضَعِيفَةٌ وَمُتَفَرِّقَةٌ، وَيُسْتَعَارُ الْوَهْيُ لِلسُّهُولَةِ وَعَدَمِ الْمُمَانَعَةِ، يُقَالُ: وَهَى عَزْمُهُ، إِذَا تَسَامَحَ وَتَسَاهَلَ، وَفِي الْمَثَلِ «أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ» يُضْرَبُ لِعَدَمِ نُهُوضِ الْحُجَّةِ. وَتَقْيِيدُهُ بِ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْوَهْيَ طَرَأَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ صُلْبَةً بِتَمَاسُكِ أَجْزَائِهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّتْقِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الشَّقِّ بِالْفَتْقِ، أَيْ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَطْرُوقَةٌ مَسْلُوكَةٌ. وَالْوَهْيُ: قَرِيبٌ مِنَ الْوَهْنِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْوَهْيَ يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْعَاقِلَةِ، وَالْوَهْنُ يُوصَفُ بِهِ النَّاسُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا صُعُودًا وَنُزُولًا خِلَافًا لِحَالِهَا مِنْ قَبْلُ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] . وَجُمْلَةُ وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها، حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَهِيَ، أَيْ ويومئذ الْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا. والْمَلَكُ: أَصْلُهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَعْرِيفُهُ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَيْ جِنْسِ الْمَلَكِ، أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ إِذَا أُرِيدَ الْاسْتِغْرَاقُ، وَاسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشُّمُولِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ، وَمِنْهُ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 4] . والأرجاء: النواحي بلغَة هُذَيْل، وَاحِدهَا رجا مَقْصُورا وألفه منقلبة عَن الْوَاو. وَضَمِيرُ أَرْجائِها عَائِدٌ إِلَى السَّماءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْمَلُونَ فِي نَوَاحِي السَّمَاءِ يُنَفِّذُونَ إِنْزَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْجَنَّةِ وَسَوْقَ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ. وَعَرْشُ الرَّبِّ: اسْمٌ لِمَا يُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ: ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ شُخُوصٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةُ أَعْشَارٍ، أَيْ نَحْوُ ثَمَانِينَ مِنْ مَجْمُوعِ عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ

بِتَفْصِيلِهَا، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَمْثِيلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ إِلَى الْأَفْهَامِ كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ. وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَوْعِظَةِ، هُوَ تَعْلِيمُ اللَّهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِطَرِيقَةٍ رَمْزِيَّةٍ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بِفَهْمِ تَفْصِيلِهَا وَلَمْ يُرِدْ تَشْغِيلَنَا بِعِلْمِهَا. وَكَأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى ذِكْرِهِمْ إِجْمَالًا هُوَ الْانْتِقَالُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَرْشِ اللَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ اقْتِضَابًا بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ أَبْعَادَ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ، وَفِي ذكر حَملَة الْعَرْشِ رُمُوزٌ سَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ مَسَاقَ التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحَدُ رُوَاتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا نَعْلَمُ لَهُ سَمَاعًا عَنِ الْأَحْنَفِ. وَهُنَالِكَ أَخْبَارٌ غَيْرُ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ لَا يُعْبَأُ بِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيهَا: إِنَّهَا مُتَلَفَّقَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ شِعْرٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْشِدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَدَّقَهُ. اهـ. وَضَمِيرُ فَوْقَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمَلَكُ. وَيَتَعَلَّقُ فَوْقَهُمْ بِ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ يَحْمِلُ مِنْ كَوْنِ الْعَرْشِ عَالِيًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَيْدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] . وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِضَافَةُ عَرْشٍ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ مِثْلُ إِضَافَةِ الْكَعْبَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَة [الْحَج: 26] ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنِ السُّكْنَى فِي بَيْتٍ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُعْرَضُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ. وَالْعَرْضُ: أَصْلُهُ إِمْرَارُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّأَمُّلَ مِنْهَا مِثْلُ عَرْضِ السِّلْعَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى أَمِيرِهِ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 إلى 24]

وَمَعْنَى لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ: لَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى مَلَائِكَتِهِ. وَتَأْنِيثُ خافِيَةٌ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ يُقَدَّرُ بِالْفَعْلَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، أَوْ يُقَدَّرُ بِنَفْسٍ، أَيْ لَا تَخْتَبِئُ مِنَ الْحِسَابِ نَفْسُ أَيِّ أَحَدٍ، وَلَا يَلْتَبِسُ كَافِرٌ بِمُؤْمِنٍ، وَلَا بَارٌّ بِفَاجِرٍ. وَجُمْلَةُ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ هِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا. ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِ خافِيَةٌ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ حَالًا. وَتَكْرِيرُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِتَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي مَبْدَؤُهُ النَّفْخُ فِي الصُّورِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ مَا بَعْدَهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْجُمَلِ بَعْدَهُ، فَقَدْ جَرَى ذِكْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَكْرِيرٌ لِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ إِذْ تَقْدِيرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي يَوْمَئِذٍ هُوَ مَدْلُولُ جُمْلَةِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَقَدْ ذُكِرَ زَمَانُ النَّفْخِ أَوَّلًا وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَخْفى بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ خافِيَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، مَعَ وُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْل وفاعله. [19- 24] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 19 إِلَى 24] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) الْفَاءُ تَفْصِيلٌ لِمَا يتضمنه تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] إِذِ الْعَرْضُ عَرْضٌ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فَإِيتَاءُ الْكِتَابِ هُوَ إِيقَافُ كُلِّ وَاحِدٍ على صحيفَة أَعمال. وَ (أَمَّا) حَرْفُ تَفْصِيلٍ وَشَرْطٍ وَهُوَ يُفِيدُ مُفَادَ (مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ) ، وَالْمَعْنَى: مَهْمَا يكن عرض مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَشَأْنُ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِجَوَابِهَا أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (أَمَّا) بِجُزْءٍ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْجَوَابِ مُهْتَمٍّ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا الْتَزَمُوا حَذْفَ فِعْلِ الشَّرْطِ لْانْدِمَاجِهِ فِي مَدْلُولِ (أَمَّا) كَرِهُوا اتِّصَالَ فَاءِ الْجَوَابِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فَفَصَلُوا بَيْنَهُمَا بِفَاصِلٍ تَحْسِينًا لِصُورَةِ الْكَلَامِ، فَقَوْلُهُ:

مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أَصْلُهُ صَدْرُ جُمْلَةِ الْجَوَابِ، وَهُوَ مُبْتَدَأُ خَبَرِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ كَمَا سَيَأْتِي. وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ لِلْإِيجَازِ تَقْدِيرُهُ فَيُؤْتَى كُلُّ أَحَدٍ كِتَابَ أَعْمَالِهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ إِلَخْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِيَمِينِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ بِمَعْنَى (فِي) . وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِيتَاءُ كَرَامَةٍ وَتَبْشِيرٍ، وَالْعَرَبُ يَذْكُرُونَ التَّنَاوُلَ بِالْيَمِينِ كِنَايَةً عَنِ الْاهْتِمَامِ بِالْمَأْخُوذِ وَالْاعْتِزَازِ بِهِ، قَالَ الشَّمَّاخُ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةٌ بِالْيَمِينِ وَقَالَ تَعَالَى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الْآيَة [الْوَاقِعَة: 27- 28] ثُمَّ قَالَ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ الْآيَة [الْوَاقِعَة: 41- 42] . وَجُمْلَةُ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ جَوَابُ شَرْطِ (أمّا) وَهُوَ مغن عَنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي بَهْجَةٍ وَحُبُورٍ يَبْعَثَانِ عَلَى إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِ مِنْ جَزَاءٍ فِي مَقَامِ الْاغْتِبَاطِ وَالْفِخَارِ، فَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُبُورٍ وَنَعِيمٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْكِنَائِيَّ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْ ذِكْرِ الْعَرْضِ. وهاؤُمُ مُرَكَّبٌ مِنْ (هَاءٍ) مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا وَالْمَمْدُودُ مَبْنِيٌّ عَلَى فَتْحِ الْهَمْزَةِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَلَامَاتِ الْخِطَابِ مَا عَدَا الْمُوَجَّهَ إِلَى امْرَأَةٍ فَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ دُونَ يَاءٍ. وَإِذَا خُوطِبَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ الْتُزِمَ مُدَّهُ لِيَتَأَتَّى إِلْحَاقُ عَلَامَةَ خِطَابٍ كَالْعَلَامَةِ الَّتِي تَلْحَقُ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِ وَضَمُّوا هَمْزَتَهُ ضَمَّةً كَضَمَّةِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِذْ لَحِقَتْهُ عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَيُقَالُ: هَاؤُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَنْتُمَا، وَهَاؤُمُ كَمَا يُقَالُ: أَنْتُمْ، وَهَاؤُنَّ كَمَا يُقَالُ: أَنْتُنَّ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ هاؤُمُ أَصله: هاأمّوا مُرَكَّبًا مِنْ كَلِمَتَيْنِ (هَا) وَفِعْلِ أَمْرٍ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ فِعْلِ أَمَّ، إِذَا قُصِدَ، ثُمَّ خُفِّفَ لِكَثْرَةِ الْاسْتِعْمَالِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَاؤُمَيْنِ فِي خِطَابِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخْرَى وَاسْتِعْمَالَاتٌ فِي اتِّصَالِ كَافِ الْخِطَابِ بِهِ تَقَصَّاهَا الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ «الْكَافِيَةِ» وَابْنُ مَكْرَمٍ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» .

وَ (هاؤُمُ) بِتَصَارِيفِهِ مُعْتَبَرٌ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى: خُذْ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَبِمَعْنَى تَعَالَ، أَيْضًا كَمَا فِي «النِّهَايَةِ» . وَالْخِطَابُ فِي قَوْله: هاؤُمُ اقْرَؤُا لِلصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحْشَرِ. وكِتابِيَهْ أَصْلُهُ: كِتَابِيَ بِتَحْرِيكِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا وَقَعَتْ مُضَافًا إِلَيْهَا وَهُوَ تَحْرِيكٌ أَحْسَبُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ إِظْهَارُ إِضَافَةِ الْمُضَافِ إِلَى تِلْكَ الْيَاءِ لِلْوُقُوفِ، مُحَافَظَةً عَلَى حَرَكَةِ الْيَاءِ الْمَقْصُود اجتلابها. واقْرَؤُا بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنِ اسْمِ الْفِعْلِ مِنْ قَوْلِهِ هاؤُمُ. وَقَدْ تَنَازَعَ كُلٌّ من هاؤُمُ واقْرَؤُا قَوْلَهُ: كِتابِيَهْ. وَالتَّقْدِيرُ: هاؤم كِتَابيه اقرأوا كِتَابِيَهِ. وَالْهَاءُ فِي كِتَابِيَهْ وَنَظَائِرِهَا لِلسَّكْتِ حِين الْوَقْف. وَحَقُّ هَذِهِ الْهَاءِ أَنْ تُثْبَتَ فِي الْوَقْفِ وَتُسْقَطَ فِي الْوَصْلِ. وَقَدْ أُثْبِتَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ وَكُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِلُغَةِ ذَلِكَ الْقَائِلِ بِمَا يُرَادِفُهُ فِي الْاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ لِأَنَّ الْاسْتِعْمَالَ أَنْ يَأْتِيَ الْقَائِلُ بِهَذِهِ الْهَاءِ بِالْوَقْفِ عَلَى كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَقَعَتْ فَوَاصِلَ وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُ الْأَسْجَاعِ تُعْتَبَرُ بِحَالَةِ الْوَقْفِ مِثْلُ الْقَوَافِي، فَلَو قيل: اقرأوا كِتَابِيَ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَ، سَقَطَتْ فَاصِلَتَانِ وَذَلِكَ تَفْرِيطٌ فِي مُحَسِّنَيْنِ. وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ إِذَا وَصَلَهَا بِحَذْفِ الْهَاءِ وَالْقُرَّاءُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا الْقَارِئُ لِيُوَافِقَ مَشْهُورَ رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِئَلَّا يَذْهَبَ حُسْنُ السَّجْعِ. وَأُطْلِقَ الظَّنُّ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، عَلَى مَعْنَى الْيَقِينِ وَهُوَ أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ يَقِينٌ وَمِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ شَكٌّ. وَحَقِيقَةُ الظَّنِّ: عِلْمٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِمَّا لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِهِ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى عَالَمِ الْحِسِّ، وَإِمَّا لِأَنَّ عِلْمَ صَاحِبِهِ مَخْلُوطٌ بِشَكٍّ. وَبِهَذَا يَكُونُ إِطْلَاقُ الظَّنِّ على الْمَعْلُوم الْمُتَّقِينَ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا. وَعَلَى هَذَا جَرَى الْأَزْهَرِيُّ فِي «التَّهْذِيبِ» وَأَبُو عَمْرٍو وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ عَطِيَّةَ.

وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الظَّنِّ: عِلْمٌ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُقَامُ مَقَامُ الْعِلْمِ فِي الْعَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَ: يُقَالُ: أَظُنُّ ظَنًّا كَالْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَهُوَ عِنْدَهُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ مَجَازًا. وَهَذَا أَيْضًا رَأْيُ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ وَالْفَيْرُوزَآبَادِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ تَنْكِيرَ ظَنًّا أُرِيدَ بِهِ التَّقْلِيلُ، وَأُكِدَّ، بِ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ فَاحْتَمَلَ الْاحْتِمَالَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [66] وَقَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [118] . وَالْمَعْنَى: إِنِّي عَلِمْتُ فِي الدُّنْيَا أَنِّي أَلْقَى الْحِسَابَ، أَيْ آمَنَتُ بِالْبَعْثِ. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحِسَابِ بِتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِمَّا كَانَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْفَرَحِ وَالْبَهْجَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْله: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ وَبِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ وَإِفَادَةِ التَّسَبُّبِ. وَمَوْقِعُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِيتَائِهِ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْمَسَرَّةِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْمَحْشَرِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا قَبْلَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ اشْتَمَلَ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ فِي نَعِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِعَادَةُ الْفَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ مِنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: 114] . وَالْعِيشَةُ: حَالَةُ الْعَيْشِ وَهَيْئَتُهُ. وَوَصْفُ عِيشَةٍ بِ راضِيَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِمُلَابَسَةِ الْعِيشَةِ حَالَةَ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْعَائِشُ مُلَابَسَةَ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفِهَا. وَالرَّاضِي: هُوَ صَاحِبُ الْعِيشَةِ لَا الْعِيشَةُ، لِأَنَّ راضِيَةٍ اسْمُ فَاعِلِ رَضِيَتْ إِذَا حَصَلَ لَهَا الرِّضَى وَهُوَ الْفَرَحُ وَالْغِبْطَةُ.

وَالْعِيشَةُ لَيْسَتْ رَاضِيَةً وَلَكِنَّهَا لِحُسْنِهَا رَضِيَ صَاحِبُهَا، فَوَصَفَهَا بِ راضِيَةٍ مِنْ إِسْنَادِ الْوَصْفِ إِلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ وَهُوَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الرِّضَى بِسَبَبِهَا حَتَّى سَرَى إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ الْاعْتِبَارِ أَرْجَعَ السَّكَّاكِيُّ مَا يُسَمَّى بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِلَى الْاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ كَمَا ذكر فِي عَالم الْبَيَانِ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ. وَجُمْلَةُ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَالْعُلُوُّ: الْارْتِفَاعُ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يُشْرِفُ عَلَى جِهَاتٍ مِنْ مُتَّسَعِ النَّظَرِ وَلِأَنَّهُ يَبْدُو لَهُ كَثِيرٌ مِنْ مَحَاسِنِ جَنَّتِهِ حِينَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا مِنْ أَعْلَاهَا أَوْ وَسَطِهَا مِمَّا لَا يَلُوحُ لِنَظَرِهِ لَوْ كَانَتْ جَنَّتُهُ فِي أَرْضٍ مُنْبَسِطَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْبَهْجَةِ وَالْمَسَرَّةِ، لَأَنَّ جَمَالَ الْمَنَاظِرِ مِنْ مَسَرَّاتِ النَّفْسِ وَمِنَ النِّعَمِ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ زُهَيْرٍ: كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُحُقًا، نَعْتًا لِلْجَنَّةِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ كَمَا قَالُوا: نَاقَةٌ عُلُطٌ وَامْرَأَةٌ عُطُلٌ. وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى مَعْنَى السَّحَقِ فِيهَا وَهُوَ الْارْتِفَاعُ لِأَنَّ الْمُرْتَفِعَ بَعِيدٌ، وَقَالُوا: سَحُقَتِ النَّخْلَةُ كَكَرُمَ إِذَا طَالَتْ. وَفِي الْقُرْآنِ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الْبَقَرَة: 265] . وَجَوَّزُوا أَنْ يُرَادَ أَيْضًا بِالْعُلُوِّ عُلُوُّ الْقَدْرِ مِثْلُ فُلَانٍ ذُو دَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ، وَبِذَلِكَ كَانَ لِلَفْظِ عالِيَةٍ هُنَا مَا لَيْسَ لِقَوْلِهِ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَالِكَ جَنَّةٌ مِنَ الدُّنْيَا. وَالْقُطُوفُ: جَمْعُ قِطْفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الثَّمَرُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْطَفُ وَأَصْلُهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ ذِبْحٍ. وَمَعْنَى دُنُوِّهَا: قُرْبُهَا مِنْ أَيْدِي الْمُتَنَاوِلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهْنَأُ إِذْ لَا كُلْفَةَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [الْإِنْسَان: 14] . وَجُمْلَةُ كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَى آخَرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ وَمَقُولُهُ فِي مَوْضِعِ

صِفَةٍ لِ جَنَّةٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: يُقَالُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ حِينَ يَسْتَقِرُّونَ فِي الْجَنَّةِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَإِنَّمَا أُفْرِدَتْ ضَمَائِرُ الْفَرِيقِ الَّذِي أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ جَاءَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ جَمْعٍ عِنْدَ حِكَايَةِ خِطَابِهِمْ لِأَنَّ هَذِهِ الضَّمَائِرَ السَّابِقَةَ حُكِيَتْ مَعَهَا أَفْعَالٌ مِمَّا يَتَلَبَّسُ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْفَرِيقِ عِنْدَ إِتْمَامِ حِسَابِهِ. وَأَمَّا ضَمِيرُ كُلُوا وَاشْرَبُوا فَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْفَرِيقِ بَعْدَ حُلُولِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا يَدْخُلُ الضُّيُوفُ إِلَى الْمَأْدُبَةِ فَيُحَيِّي كُلُّ دَاخِلٍ مِنْهُمْ بِكَلَامٍ يَخُصُّهُ فَإِذَا اسْتَقَرُّوا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُضَيِّفُهُمْ بِعِبَارَاتِ الْإِكْرَامِ. وهَنِيئاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ إِذَا ثَبَتَ لَهُ الْهَنَاءُ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ وَصْفُهُ وَإِسْنَادُ الْهَنَاءِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمَا مُتَلَبِّسَانِ بِالْهَنَاءِ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ بِوَزْنٍ مَا لِلثُّلَاثِيِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مُهَنِّئًا، أَيْ سَبَبَ هَنَاءٍ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيِ الْمُسْمِعُ، وَكَمَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ الْمَصْنُوعَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَهْنِيئًا بِهِ. وَعَلَى الْاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا فَإِفْرَادُ هَنِيئاً فِي حَالِ أَنَّهُ وَصْفٌ لِشَيْئَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ مَوْصُوفِهِ، وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ. وبِما أَسْلَفْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كُلُوا وَاشْرَبُوا. وَالْبَاءُ للسَّبَبِيَّة. وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةُ هُوَ الْعَمَلُ، أَيِ الصَّالِحُ. وَالْإِسْلَافُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَلَفًا، أَيْ سَابِقًا.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 إلى 29]

وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ سَابِقٌ لِإِبَّانِهِ لِيُنْتَفَعَ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ السَّلَفُ لِلْقَرْضِ، وَالْإِسْلَافُ لِلْإِقْرَاضُ، وَالسُّلْفَةُ لِلسَّلَمِ. والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ: الْمَاضِيَةُ الْبَعِيدَةُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُلُوِّ وَهُوَ الشغور والبعد. [25- 29] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 25 إِلَى 29] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) هَذَا قَسِيمُ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة: 19] ، فَالْقَوْلُ فِي إِيتَائِهِ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ قَدْ عُرِفَ وَجْهُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَتَمَنِّي كُلِّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كِتَابَهُ، لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْاطِّلَاعِ عَلَى كِتَابِهِ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْعَذَابِ فَيَتَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ عَلِمَ بِذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُزْنِهَا زَمَنًا فَإِنَّ تَرَقُّبَ السُّوءِ عَذَابٌ. وَجُمْلَةُ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَيْتَنِي. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْحِسَابِ وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِ الَّذِي أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] . وَجُمْلَةُ الْحَالِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّمَنِّي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى التَّمَنِّي، أَيْ يَا لَيْتَنِي لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، أَيْ لَمْ أَعْرِفْ كُنْهَ حِسَابِي، أَيْ نَتِيجَتَهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي الَّذِي قَبْلَهُ فَإِعَادَتُهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْاسْتِفْهَامُ بِهَا هُوَ الَّذِي عَلَّقَ فِعْلَ أَدْرِ عَنِ الْعَمَلِ، وَيَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ تَمَنٍّ آخَرَ وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى التَّمَنِّي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحَسُّرُ وَالتَّنَدُّمُ.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 30 إلى 37]

وَضَمِيرُ لَيْتَها عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ لَيْتَ حَالَتِي، أَوْ لَيْتَ مُصِيبَتِي كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. والْقاضِيَةَ: الْمَوْتُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] ، أَيْ مَقْبُورًا فِي التُّرَابِ. وَجُمْلَةُ يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ مِنَ الْكَلَامِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِإِيجَازِهِ وَوَفْرَةِ دَلَالَتِهِ وَرَشَاقَةِ مَعْنَاهُ عَبَّرَ بِهَا عَمَّا يَقُولُهُ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنَ التَّحَسُّرِ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي يَقُولُهَا الْمُتَحَسِّرُ فِي الدُّنْيَا بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ يُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ. وَنَظِيرُهُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفرْقَان: 13] وَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الْفرْقَان: 28] وَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ الْآيَة [الْكَهْف: 49] . ثُمَّ أَخَذَ يَتَحَسَّرُ عَلَى مَا فرط فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَا لَمْ يَجِدْهُ فِي الْعَالَمِ الْأَبَدِيِّ فَقَالَ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَذَا سُلْطَانٍ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ وَالْكُفْرِ، فَمَا ظَنُّكَ بِحَسْرَةِ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ وَاقْتَدُوا بِهِمْ إِذَا رَأَوْهُمْ كَذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِسَادَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] . وَفِي أَغْنى عَنِّي الْجِنَاسُ الْخَطِّيُّ وَلَوْ مَعَ اخْتِلَافٍ قَلِيلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ «غَرَّكَ عِزُّكَ فَصَارَ قُصَارَى ذَلِكَ ذُلُّكَ» . وَمَعْنَى هَلَاكِ السُّلْطَانِ: عَدَمُ الْانْتِفَاعِ بِهِ يَوْمَئِذٍ فَهُوَ هَلَاكٌ مَجَازِيٌّ. وَضُمِّنَ هَلَكَ مَعْنَى (غَابَ) فَعُدِّيَ بِ (عَنْ) ، أَيْ لَمْ يَحْضُرْنِي سُلْطَانَي الَّذِي عَهِدْتُهُ. وَالْقَوْلُ فِي هَاءَاتِ كِتابِيَهْ، وحِسابِيَهْ، ومالِيَهْ، وسُلْطانِيَهْ، كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ وَخَلَفًا قَرَآ هُنَا مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ بِدُونِ هَاءٍ فِي حَالَة الْوَصْل. [30- 37] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 30 إِلَى 37] خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ

(37) خُذُوهُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ مَوْقِعِهِ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الحاقة: 25] ، وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ: خُذُوهُ. وَمَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوهُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِسَوْقِ أَهْلِ الْحِسَابِ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ. وَالْأَخْذُ: الْإِمْسَاكُ بِالْيَدِ. وَغُلُّوهُ: أَمْرٌ مِنْ غَلَّهُ إِذَا وَضَعَهُ فِي الْغُلِّ وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي عُنُقِ الْجَانِي أَوِ الْأَسِيرِ فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَّا ثُلَاثِيًّا وَلَعَلَّ قِيَاسَهُ أَنْ يُقَالَ: غَلَّلَهُ بِلَامَيْنِ لِأَنَّ الْغُلَّ مُضَاعَفُ الْلَّامِ، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ عَمَّمَ، إِذَا جُعِلَ لَهُ عِمَامَةً، وَأَزَّرَ، إِذَا أَلْبَسَهُ إِزَارًا، وَدَرَّعَ الْجَارِيَةَ، إِذَا أَلْبَسَهَا الدِّرْعَ، فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: غَلَّهُ تَخْفِيفًا. وَعَطَفَ بِفَاءٍ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ الْإِسْرَاعِ بِوَضْعِهِ فِي الْأَغْلَالِ عَقِبَ أَخْذِهِ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا أَشَدُّ فِي الْعِقَابِ مِنْ أَخْذِهِ وَوَضْعِهِ فِي الْأَغْلَالِ. وَصَلَّى: مُضَاعَفُ تَضْعِيفَ تَعْدِيَةٍ لِأَنَّ صَلِيَ النَّارِ مَعْنَاهُ أَصَابَهُ حَرْقُهَا أَوْ تَدَفَّأَ بِهَا، فَإِذَا عُدِّيَ قِيلَ: أَصْلَاهُ نَارًا، وَصَلَّاهُ نَارًا. وثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا لِأَنَّ مَضْمُونَ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً أَعْظَمُ مِنْ مَضْمُونِ فَغُلُّوهُ. وَمَضْمُونُ فَاسْلُكُوهُ دَلَّ عَلَى إِدْخَالِهِ الْجَحِيمَ فَكَانَ إِسْلَاكُهُ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ أَعْظَمَ مِنْ مُطْلَقِ إِسْلَاكِهِ الْجَحِيم. وَمعنى فَاسْلُكُوهُ: اجْعَلُوهُ سَالِكًا، أَيْ دَاخِلًا فِي السِّلْسِلَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ تُلَفَّ عَلَيْهِ السِّلْسِلَةُ فَيَكُونُ فِي وَسَطِهَا، وَيُقَالُ: سَلَكَهُ، إِذَا أَدْخَلَهُ فِي شَيْءٍ، أَيِ اجْعَلُوهُ فِي الْجَحِيمِ مُكَبَّلًا فِي أَغْلَالِهِ.

وَتَقْدِيمُ الْجَحِيمَ عَلَى عَامِلِهِ لِتَعْجِيلِ الْمَسَاءَةِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ فِي سِلْسِلَةٍ على عَامله. واقتران فعل فَاسْلُكُوهُ بِالْفَاءِ إِمَّا لِتَأْكِيدِ الْفَاءِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِفِعْلِ فَغُلُّوهُ، وَإِمَّا لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ جَزَاءِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَهَذَا الْحَذْفُ يُشْعِرُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ غَالِبًا كَأَنَّهُ قِيلَ: مَهْمَا فَعَلْتُمْ بِهِ شَيْئًا فَاسْلُكُوهُ فِي سِلْسِلَةٍ، أَوْ مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَاسْلُكُوهُ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ وُقُوعِ ذَلِكَ وَالْحَثُّ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِيطِ فِي الْفِعْلِ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ تَخْفِيفٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 3- 5] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فِي سُورَةِ [يُونُسَ: 58] . وَالسِّلْسِلَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حِلَقٍ مِنْ حَدِيدٍ دَاخِلٍ بَعْضُ تِلْكَ الْحِلَقِ فِي بَعْضٍ تُجْعَلُ لِوِثَاقِ شَخْصٍ كَيْ لَا يَزُولَ مِنْ مَكَانِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [71] . وَجُمْلَةُ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً صِفَةُ سِلْسِلَةٍ وَهَذِهِ الصِّفَةُ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمَجْرُورِ وَمُتَعَلَّقِهِ لِلتَّهْوِيلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَارِعَةِ، وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ مِمَّا خُوطِبَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِسَوْقِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى الْعَذَابِ، وَلِذَلِكَ فَعَدَدُ السَّبْعِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التَّوْبَة: 80] . وَالذَّرْعُ: كَيْلُ طُولِ الْجِسْمِ بِالذِّرَاعِ وَهُوَ مِقْدَارٌ مِنَ الطُّولِ مُقَدَّرٌ بِذِرَاعِ الْإِنْسَانِ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَ بِمَقَادِيرِ الْأَعْضَاءِ مِثْلُ الذِّرَاعِ، وَالْأُصْبُعِ، وَالْأُنْمُلَةِ، وَالْقَدَمِ، وَبِالْأَبْعَادِ الَّتِي بَيْنَ الْأَعْضَاءِ مِثْلُ الشِّبْرِ، وَالْفِتْرِ، وَالرَّتَبِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالتَّاءِ) ، وَالْعَتَبِ، وَالْبُصْمِ، وَالْخُطْوَةِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِأَخْذِهِ وَإِصْلَائِهِ الْجَحِيمَ. وَوَصْفُ اللَّهِ بِالْعَظِيمِ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى مُنَاسَبَةِ عِظَمِ الْعَذَابِ لِلذَّنْبِ إِذْ كَانَ الذَّنْبُ كُفْرَانًا بِعَظِيمٍ فَكَانَ جَزَاءً وَفَاقًا.

وَالْحَضُّ عَلَى الشَّيْءِ: أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَحَدٍ فِعْلَ شَيْءٍ وَيُلِحَّ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ. وَنَفْيُ حَضِّهِ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْفَحْوَى أَنَّهُ لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينَ فَهُوَ لَا يُطْعِمُهُ مِنْ مَالِهِ، فَالْمَعْنَى لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَلَا يَأْمُرُ بِإِطْعَامِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْعِمُونَ فِي الْوَلَائِمِ، وَالْمَيْسِرِ، وَالْأَضْيَافِ، وَالتَّحَابُبِ، رِيَاءً وَسُمْعَةً. وَلَا يُطْعِمُونَ الْفَقِيرَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَقَدْ جُعِلَ عَدَمُ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ مُبَالَغَةً فِي شُحِّ هَذَا الشَّخْصِ عَنِ الْمَسَاكِينِ بِمَالِ غَيْرِهِ وَكِنَايَةً عَنِ الشُّحِّ عَنْهُمْ بِمَالِهِ، كَمَا جُعِلَ الْحِرْصُ عَلَى إِطْعَامِ الضَّيْفِ كِنَايَةً عَنِ الْكَرَمِ فِي قَوْلِ زَيْنَبَ بِنْتِ الطَّثَرِيَّةِ تَرْثِي أَخَاهَا يَزِيدَ: إِذَا نَزَلَ الْأَضْيَافُ كَانَ عَذَوَّرًا ... عَلَى الْحَيِّ حَتَّى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُهُ تُرِيدُ أَنَّهُ يَحْضُرُ الْحَيَّ وَيَسْتَعْجِلُهُمْ عَلَى نِصْفِ الْقُدُورِ لِلْأَضْيَافِ حَتَّى تُوضَعَ قُدُورُ الْحَيِّ عَلَى الْأَثَافِي وَيَشْرَعُوا فِي الطَّبْخِ، وَالْعَذَوَّرُ بِعَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ كَعَمَلَّسٍ: الشَّكِسُ الْخُلُقِ. إِلَّا أَنَّ كِنَايَةَ مَا فِي الْآيَةِ عَنِ الْبُخْلِ أَقْوَى مِنْ كِنَايَةِ مَا فِي الْبَيْتِ عَنِ الْكَرَمِ لِأَنَّ الْمُلَازِمَةَ فِي الْآيَةِ حَاصِلَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِخِلَافِ الْبَيْتِ. وَإِذْ قَدْ جُعِلَ عَدَمُ حَضِّهِ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ جُزْءُ عِلَّةٍ لِشِدَّةِ عَذَابِهِ، عَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ مَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ زَاجِرَةً عَنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ حَقَّهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَعْرُوفُ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ خُذُوهُ، وَتَفْرِيعٌ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَهُ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَيْأَسُ مِنْ أَنْ يَجِدَ مُدَافِعًا يَدْفَعُ عَنْهُ بِشَفَاعَةٍ، وَتَنْدِيمٌ لَهُ عَلَى مَا أَضَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ التَّزَلُّفِ إِلَى الْأَصْنَامِ وَسَدَنَتِهَا وَتَمْوِيهِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَإِلْمَامِ الْمَصَائِبِ. وَهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِ نَفِيِ الْحَمِيمِ بِ الْيَوْمَ تَعْرِيضًا بِأَنَّ أَحِمَّاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَنْفَعُونَهُمُ الْيَوْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَام: 22] وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا [الْأَعْرَاف: 53] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَفُوقُ فِي آيِ الْقُرْآنِ.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 إلى 43]

فَقَوْلُهُ لَهُ هُوَ خبر فَلَيْسَ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِلَامِ الْاخْتِصَاصِ هُوَ مَحَطُّ الْإِخْبَارِ دُونَ ظَرْفِ الْمَكَانِ. وَقَوْلُهُ: هاهُنا ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمَنْوِيِّ فِي الْخَبَرِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ هاهُنا خَبرا عَن فَلَيْسَ وَجَعْلِ لَهُ صِفَةً لِ حَمِيمٌ إِذْ لَا حَاجَةَ لِهَذَا الْوَصْفِ. وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ النَّصِيرِ إِذِ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ أَنْصَارَ الْمَرْءِ هُمْ عَشِيرَتُهُ وَقَبِيلَتُهُ. وَلا طَعامٌ عَطْفٌ عَلَى حَمِيمٌ. وَالْغِسْلِينُ: بِكَسْرِ الْغَيْنِ مَا يَدْخُلُ فِي أَفْوَاهِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْمَوَادِّ السَّائِلَةِ مِنَ الْأَجْسَادِ وَمَاءِ النَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ سِجِّينٍ، وَسِرْقِينٍ، وَعِرْنِينٍ، فَقِيلَ إِنَّهُ فِعْلِينَ مِنَ الْغَسْلِ لِأَنَّهُ سَالَ مِنَ الْأَبْدَانِ فَكَأَنَّهُ غُسِلَ عَنْهَا. وَلَا مُوجِبَ لبَيَان اشتقاقه. والْخاطِؤُنَ: أَصْحَابُ الْخَطَايَا يُقَال: خطىء إِذَا أَذْنَبَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الخاطئين. وتعريف الْخاطِؤُنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَمَالِ فِي الْوَصْفِ، أَيِ الْمُرْتَكِبُونَ أَشَدَّ الْخَطَأِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور الْخاطِؤُنَ بِإِظْهَارِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَاطُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ بَعْدَهَا وَاوٌ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا بَعْدَ إِبْدَالِهَا يَاءً تَخْفِيفًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَرَأَ حَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ الْخَاطِيُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْهُ غير الطَّيِّبِيّ. [38- 43] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 38 إِلَى 43] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) الْفَاءُ هُنَا لِتَفْرِيعِ إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنَفْيِ مَا نَسَبَهُ الْمُشْرِكُونَ

إِلَيْهِ، تَفْرِيعًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ تَكْذِيبُهُمْ بِالْبَعْثِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ الَّذِي أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ، وَتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَائِلَ إِنَّهُ مُوحًى بِهِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقًا لِمَضْمُونِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِقْسَامِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1] . وَضَمِيرُ أُقْسِمُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. جَمَعَ اللَّهُ فِي هَذَا الْقَسَمِ كُلَّ مَا الشَّأْنُ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ إِذْ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ الصِّلَتَانِ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ، فَمِمَّا يُبْصِرُونَ: الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ وَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ وَالسَّمَاوَاتُ وَالْكَوَاكِبُ، وَمَا لَا يُبْصِرُونَ: الْأَرْوَاحُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُمُورُ الْآخِرَةِ. وَلَا أُقْسِمُ صِيغَةُ تَحْقِيقِ قِسْمٍ، وَأَصْلُهَا أَنَّهَا امْتِنَاعٌ مِنَ الْقَسَمِ امْتِنَاعَ تَحَرُّجٍ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمُقْسَمِ بِهِ خَشْيَةَ الْحِنْثِ، فَشَاعَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي كُلِّ قَسَمٍ يُرَادُ تَحْقِيقُهُ، وَاعْتُبِرَ حَرْفُ (لَا) كَالْمَزِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [75] ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ حَرْفُ (لَا) فِي هَذَا الْقَسَمِ إِبْطَالًا لِكَلَامٍ سَابِقٍ وَأَنَّ فِعْلَ أُقْسِمُ بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفٌ، وَنقض هَذَا النَّوْع بِوُقُوعِ مِثْلِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ مِثْلُ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] وَلَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1] . وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مَنْ ذِكْرِ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَمَجِيئُهُ بِذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ، عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الْقُرْآنِ مِنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الَّتِي لَا مَعَادَ لَهَا قَدْ تَكَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِيهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَالْلَّامِ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَقْتَضِيهِ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: 44] ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَ مُوسَى بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [الدُّخان: 17] وَإِضَافَةُ قَوْلُ إِلَى رَسُولٍ لِأَنَّهُ الَّذِي بَلَّغَهُ فَهُوَ قَائِلُهُ، وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا صَدَرَ مِنْ جِبْرِيلَ بِإِيحَائِهِ بِوَاسِطَتِهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [مَرْيَم: 97] .

رَوَى مُقَاتِلٌ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ، وَأَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ: هُوَ كَاهِنٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أُرِيدَ بِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَالِكَ جِبْرِيلُ كَمَا يَأْتِي. وَفِي لَفْظِ رَسُولٍ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُرْسِلِهِ، أَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَوَصْفُ الرَّسُولِ بِ كَرِيمٍ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ فِي صِنْفِهِ، أَيِ النَّفِيسُ الْأَفْضَلُ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . وَقَدْ أُثْبِتَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِوَصْفِ كَرِيمٍ، وَنَفْيِ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ عِنْدَ قَصْدِ رَدِّ أَقْوَالِهِمْ. وَعَطْفُ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: بِقَوْلِ شاعِرٍ، وَلَا النَّافِيَةُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ مَا. وَكُنِّيَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، أَوْ قَوْلَ كَاهِنٍ عَنْ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَو كَاهِنًا، رد لِقَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ أَوْ هُوَ كَاهِنٌ. وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَانِ بِالذِّكْرِ دُونَ قَوْلِهِمْ: افْتَرَاهُ، أَوْ هُوَ مَجْنُونٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِكَرِيمٍ كَافٍ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا أَوْ كَاذِبًا إِذْ لَيْسَ الْمَجْنُونُ وَلَا الْكَاذِبُ بِكَرِيمٍ، فَأَمَّا الشَّاعِرُ وَالْكَاهِنُ فَقَدْ كَانَا مَعْدُودَيْنِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ. وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ وَلَا قَوْلُ كَاهِنٍ تَلَقَّاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وقَلِيلًا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ مُرَادٌ بِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ الْقَرِيبِ مِنَ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: 46] ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: أُنِيحَتْ أَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلٍ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ بغام رَاحِلَته دلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ (قَلِيلٍ) عَدَمَ الْأَصْوَاتِ.

وَالْمَعْنَى: لَا تُؤْمِنُونَ وَلَا تذكرُونَ، أَي عِنْد مَا تَقُولُونَ هُوَ شَاعِرٌ وَهُوَ مَجْنُونٌ، وَلَا نَظَرَ إِلَى إِيمَانِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [88] قَوْلُهُ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ وتَذَكَّرُونَ أَيْ تُؤْمِنُونَ إِيمَانًا قَلِيلًا، وَتَذَكَّرُونَ تَذَكُّرًا قَلِيلًا. وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: قَلِيلًا بِهِ مَا يَحْمَدُنَّكَ وَارِثٌ ... إِذَا نَالَ مِمَّا كُنْتَ تَجْمَعُ مَغْنَمًا وَجَمُلَتَا قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ مُعْتَرِضَتَانِ، أَيِ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، وَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ كَاهِنٍ، وَهَذَا الْانْتِفَاءُ لَا يُحَصِّلُ إِيمَانَكُمْ وَلَا تَذَكُّرَكُمْ لِأَنَّكُمْ أَهْلُ عِنَادٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا تُؤْمِنُونَ، وَمَا تَذَكَّرُونَ كِلَيْهِمَا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ) وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُمَا مُعْتَرِضَتَيْنِ. وَأُوثِرَ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي جَانِبِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، وَنَفْيُ التَّذَكُّرِ فِي جَانِبِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ كَاهِنٍ، لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِ الْقُرْآنِ قَوْلَ شَاعِرٍ بَدِيهِيٌّ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الشِّعْرَ مِنِ اتِّزَانِ أَجْزَائِهِ فِي الْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَالتَّقْفِيَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِي جَمِيعِ أَوَاخِرِ الْأَجْزَاءِ، فَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ قَوْلُ شَاعِرٍ بُهْتَانٌ مُتَعَمَّدٌ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُمْ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ كَوْنِ الْقُرْآنِ قَوْلَ كَاهِنٍ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَدْنَى تَأَمُّلٍ إِذْ قد يشبّه فِي بادىء الرَّأْيِ عَلَى السَّامِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامٌ مَنْثُورٌ مُؤَلَّفٌ عَلَى فَوَاصِلَ وَيُؤَلَّفُ كَلَامُ الْكُهَّانِ عَلَى أَسْجَاعٍ مُثَنَّاةٍ مُتَمَاثِلَةٍ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ، فَإِذَا تَأَمَّلَ السَّامِعُ فِيهِ بِأَدْنَى تَفَكُّرٍ فِي نَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ، فَنَظَمُهُ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ كَلَامِ الْكُهَّانِ إِذْ لَيْسَتْ فَقَرَاتُهُ قَصِيرَةً وَلَا فَوَاصِلُهُ مُزْدَوِجَةً مُلْتَزَمٌ فِيهَا السَّجْعُ، وَمَعَانِيهِ لَيْسَتْ مِنْ مَعَانِي الْكَهَانَةِ الرَّامِيَةِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا يَحْدُثُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَحْدَاثٍ، أَوْ مَا يُلِمُّ بِقَوْمٍ مِنْ مَصَائِبَ مُتَوَقَّعَةٍ لِيَحْذَرُوهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ مُنْتَفِيًا عَنْهُمُ التَّذَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَذَاكَ بَطَلَ مُدَعَّاهُمْ فَحَقَّ أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا ادَّعَاهُ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 إلى 47]

وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ) وَهُوَ تَصْرِيحٌ بَعْدَ الْكِنَايَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَرَى حَذْفُهُ عَلَى النَّوْعِ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بِمُتَابَعَةِ الْاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَتَجْعَلَ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا وَصَفَ بِأَنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَنَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ أَوْ قَوْلَ كَاهِنٍ، تَرَقَّبَ السَّامِعُ مَعْرِفَةَ كُنْهِهِ، فَبَيَّنَ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى الرَّسُولِ الْكَرِيمِ لِيَقُولَهُ لِلنَّاسِ وَيَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ. وتَنْزِيلٌ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى الرَّسُولِ الْكَرِيمِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ رَبُّ الْمُخَاطَبِينَ وَرَبُّ الشُّعَرَاءِ وَالْكُهَّانِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَحَلِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِعْجَابِ عِنْدَهُمْ نَظِيرَ قَوْلِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: 26] . [44- 47] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 44 إِلَى 47] وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ على جملَة فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38- 39] فَهِيَ مَشْمُولَةٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْفَاءُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ تَكْذِيبُهُمْ بِالْبَعْثِ مِنْ تَكْذِيبِهِمُ الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالٌ ثَانٍ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، بَعْدَ الْاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْقَسَمِ وَالْمُؤَكِّدَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْاسْتِدْلَالِ الْخِطَابِيِّ. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ وَاسِعُ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ فَلَا يُقَرِّرُ أَحَدًا عَلَى أَنْ يَقُولَ عَنْهُ كَلَامًا لَمْ يَقُلْهُ، أَيْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِنَا وَمُحَمَّدٌ ادَّعَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَّا، لَمَا أَقْرَرْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَعَجَّلْنَا بِإِهْلَاكِهِ. فَعَدَمُ هَلَاكِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَقَوَّلْهُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ لَوْ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَضْمُونِ شَرْطِهَا لِانْتِفَاءِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ غَرَضَانِ مُهِمَّانِ: أَحَدُهُمَا: يَعُودُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ زِيَادَةِ إِبْطَالٍ لِمَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ شِعْرٌ أَوْ كَهَانَةٌ إِبْطَالًا جَامِعًا لِإِبْطَالِ النَّوْعَيْنِ، أَيْ وَيُوَضِّحُ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ الْآتِيَ بِهِ يَنْسُبُهُ إِلَى وَحْيِ اللَّهِ وَمَا عَلِمْتُمْ شَاعِرًا وَلَا كَاهِنًا يَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَثَانِيهُمَا: إِبْطَالُ زَعْمٍ لَهُمْ لَمْ يَسْبِقِ التَّصْرِيحُ بِإِبْطَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنْهُم افْتَراهُ [يُونُس: 38] ، أَيْ نَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ افْتِرَاءً وَتَقَوَّلَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ [الطّور: 33] فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْغَرَضَ يَسْتَتْبِعُ غَرَضًا آخَرَ وَهُوَ تَأْيِيسُهُمْ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ لَا يُخَالِفُ دِينَهُمْ وَلَا يُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ اعْتِرَاضٍ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوَاوِ الْاعْتِرَاضِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ. وَالتَّقَوُّلُ: نِسْبَةُ قَوْلٍ لِمَنْ لَمْ يَقُلْهُ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْقَوْلِ صِيغَتْ هَذِهِ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّكَلُّفِ لِأَنَّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ يَتَكَلَّفُ وَيَخْتَلِقُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَلِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى كَذِبٍ عُدِّيَ بِ (عَلَى) . وَالْمَعْنَى: لَوْ كَذَبَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرَ أَنَّا قُلْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ إِلَخْ. وبَعْضَ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ نَوْعِ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تَقَوَّلَ. والْأَقاوِيلِ: جَمْعُ أَقْوَالٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ قَوْلٍ، أَيْ بَعْضًا مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ كَثِيرَةٌ فَلِكَثْرَتِهَا جِيءَ لَهَا بِجَمْعِ الْجَمْعِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، أَيْ وَلَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَلِيلًا مِنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ صَادِقَةٍ يَعْنِي لَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نُنْزِلْهُ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، إِلَى آخِرِهِ. وَمَعْنَى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لَأَخَذْنَاهُ بِقُوَّةٍ، أَيْ دُونَ إِمْهَالٍ فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.

وَالْيَمِينُ: الْيَدُ الْيُمْنَى كُنِّيَ بِهَا عَنِ الْاهْتِمَامِ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ أَقْوَى عَمَلًا مِنَ الشِّمَالِ لِكَثْرَةِ اسْتِخْدَامِهَا فَنِسْبَةُ التَّصَرُّفِ إِلَيْهَا شَهِيرَةٌ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [224] وَقَوْلُهُ: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [17] وَقَوْلُهُ: وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [48] . وَقَالَ أَبُو الْغُولِ الطَّهَوِيُّ: فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي ... فَوَارِسَ صَدَّقُوا فِيهِمْ ظُنُونِي وَالْمَعْنَى: لَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا عَاجِلًا فَقَطَعْنَا وَتِينَهُ، وَفِي هَذَا تَهْوِيلٌ لِصُورَةِ الْأَخْذِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى نَحْوِ: لَأَهْلَكْنَاهُ. ومِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَخَذْنَا) تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ. وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ وَهُوَ الرَّاجِحُ. وَقَدْ بَيَّنْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ [الْأَنْعَام: 99] ، فَإِنَّ النَّخْلِ مَعْطُوفٌ عَلَى خَضِراً بِزِيَادَةِ مِنْ وَلَوْلَا اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ لَمَا اسْتَقَامَ الْإِعْرَابُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ، وَفَائِدَةُ مِنْ الزَّائِدَةِ فِي الْكَلَامِ أَنَّ أَصْلَهَا التَّبْعِيضُ الْمَجَازِيُّ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيحِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: نَأْخُذُ بَعْضَهُ. والْوَتِينَ: عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بِهِ الْقَلْبُ وَيُسَمَّى النِّيَاطُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْقِي الْجَسَدَ بِالدَّمِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الْجَسَدِ، وَهُوَ إِذَا قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُقْطَعُ عِنْدَ نَحْرِ الْجَزُورِ. فَقَطْعُ الْوَتِينِ مِنْ أَحْوَالِ الْجَزُورِ وَنَحْرِهَا، فَشَبَّهَ عِقَابَ مَنْ يُفْرَضُ تَقَوُّلُهُ عَلَى اللَّهِ بِجَزُورٍ تُنْحَرُ فَيُقْطَعُ وَتِينُهَا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُكَنُّونَ عَنِ الْإِهْلَاكِ بِقَطْعِ الْوَتِينِ، فَهَذَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. ومِنْهُ صِفَةٌ لِلْوَتِينِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِ (قَطَعْنَا) ، أَيْ أَزَلْنَاهُ مِنْهُ. وَبَيْنَ مِنْهُ الْأُولَى ومِنْهُ الثَّانِيَةِ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ.

وَأَمَّا مَوْقِعُ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ فَهُوَ شَدِيدُ الْاتِّصَالِ بِمَا اسْتَتْبَعَهُ فَرْضُ التَّقَوُّلِ مِنْ تَأْيِيسِهِمْ مِنْ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ كَلَامًا لَا يَسُوءُهُمْ، فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ أَحْوَالِ التَّقَوُّلِ لَوْ أَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ فَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ أَنْ يَحْجِزَ عَنْهُ ذَلِكَ الْعِقَابَ، وَبِدُونِ هَذَا الْاتِّصَالِ لَا يَظْهَرُ مَعْنَى تَعْجِيزِهِمْ عَنْ نَصْرِهِ إِذْ لَيْسُوا مِنَ الْوَلَاءِ لَهُ بِمَظِنَّةِ نَصْرِهِ، فَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ يَحُومُ حَوْلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [الْإِسْرَاء: 73- 75] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَحَدٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ بِ حاجِزِينَ جَمْعًا لِأَنَّ أَحَدٍ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُفْرَدًا فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّ أَحَدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى ذَاتٍ أَوْ شَخْصٍ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِثْلُ عَرِيبٍ، وَدَيَّارٍ وَنَحْوِهِمَا مِنَ النَّكِرَاتِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَنْفِيَّةً فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجْزَ عَنْهُ وَيَسْتَوِي فِي لَفْظِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: 285] وَقَالَ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: 32] . وَالْمَعْنَى: مَا مِنْكُمْ أُنَاسٌ يَسْتَطِيعُونَ الْحَجْزَ عَنْهُ. وَالْحَجْزُ: الدَّفْعُ وَالْحَيْلُولَةُ، أَيْ لَا أَحَدَ مِنْكُمْ يَحْجِزُنَا عَنْهُ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَحَدٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَذُكْرُ مِنْكُمْ مَعَ عَنْهُ تَجْنِيسٌ مُحَرَّفٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُبْقِي أَحَدًا يَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَلَامًا يُبَلِّغُهُ إِلَى النَّاس، وَأَنه يَجْعَل بِهَلَاكِهِ. فَأَمَّا من يَدعِي النبوءة دُونَ ادِّعَاءِ قَوْلٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُهْلِكُهُ بَعْدَ حِينٍ كَمَا كَانَ فِي أَمْرِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الَّذِي ادّعى النبوءة بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلَمَةَ الْحَنَفِيِّ الَّذِي

[سورة الحاقة (69) : آية 48]

ادَّعَى النبوءة فِي الْيَمَامَةِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا بِكَلَامٍ يَنْسُبَانِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ إِهْلَاكُهُمَا بَعْدَ مُدَّةِ، وَمَثَلِهِمَا مَنِ ادَّعَوُا النُّبُوءَةَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلِ (بَابَكَ وَمَازِّيَارَ) . وَقَالَ الْفَخْرُ: «قِيلَ: الْيَمِينُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْمَعْنَى: لَأَخَذْنَا مِنْهُ الْيَمِينَ، أَيْ سَلَبْنَا عَنْهُ الْقُوَّةَ، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صِلَةٌ زَائِدَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا أَنَّهُ لَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ لَمَنَعْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ: إِمَّا بِوَاسِطَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّا نُقَيِّضُ لَهُ مَنْ يُعَارِضُهُ فِيهِ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِدَعْوَاهُ وَهَدْمًا لِكَلَامِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ نَسْلُبَ عَنْهُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا يُشْتَبَهَ الصَّادِقُ بِالْكَاذِبِ» اهـ. فَرَكَّبَ مِنْ تَفْسِيرِ الْيَمِينِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَنَّ الْمُرَادَ قُوَّةُ الْمُتَقَوِّلِ لَا قُوَّةُ اللَّهِ وَانْتَزَعَ مِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلَ الْبَاءِ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ وَلَمْ يَسْبِقْهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا تَبِعَهُ فِيهِ مَنْ بَعْدِهِ فِيمَا رَأَيْنَا. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ عَدَمُ الْاحْتِجَاجِ إِلَى تَأْوِيل الْفَخر. [48] [سُورَة الحاقة (69) : آيَة 48] وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) عَطْفٌ عَلَى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي تَقَدَّمَ ضَمِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، فَلَمَّا أَبْطَلَ طَعَنَهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ قَوْلُ شَاعِرٍ، أَوْ قَوْلُ كَاهِنٍ أَعْقَبَ بِبَيَانِ شَرَفِهِ وَنَفْعِهِ، إِمْعَانًا فِي إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ بِإِظْهَارِ الْفَرْقِ الْبَيِّنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شِعْرِ الشُّعَرَاءِ وَزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ، إِذْ هُوَ تَذْكِرَةٌ وَلَيْسَ مَا أَلْحَقُوهُ بِهِ مِنْ أَقْوَالِ أُولَئِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ فِي شَيْءٍ. وَالتَّذْكِرَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ التَّذْكِيرِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ إِلَى مَغْفُولٍ عَنْهُ. وَالْإِخْبَارُ ب وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُذَكِّرٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ لِيَنْتَشِلَهُمْ مِنْ هُوَّةِ التَّمَادِي فِي الْغَفْلَةِ حَتَّى يَفُوتَ الْفَوَاتُ، فَالْقُرْآنُ فِي ذَاتِهِ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَذَكَّرَ سَوَاءٌ تَذَكَّرَ أَمْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وَالتَّذْكِيرِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ [3] إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى وَقَوْلُهُ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: 6] . وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ الْمُتَّصِفُونَ بِتَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ. فَالْقُرْآنُ كَانَ هَادِيًا إِيَّاهُمْ لِلْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2]

[سورة الحاقة (69) : الآيات 49 إلى 50]

وَكُلَّمَا نَزَلَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ تَلَوْا مِنْهُ شَيْئًا ذَكَّرَهُمْ بِمَا عَلِمُوا لِئَلَّا تَعْتَرِيَهُمْ غَفْلَةٌ أَوْ نِسْيَانٌ فَالْقُرْآنُ تَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ يَتَحَمَّلُ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ إِذِ الْمَصْدَرُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِوَقْتٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَمَا أُشْبِهَهُ. وَإِنَّمَا عُلِّقَ لِلْمُتَّقِينَ بِكَوْنِهِ (تَذْكِرَةً) لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ أدركوا مزيته. [49- 50] [سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 49 إِلَى 50] وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) هَاتَانِ جُمْلَتَانِ مُرْتَبِطَتَانِ، وَأُولَاهُمَا تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِلثَّانِيَةِ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ اهْتِمَامًا بِتَنْبِيهِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى حَالِهِمْ وَكَانَتْ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ التَّتْمِيمِ لِجُمْلَةِ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] . وَالْمَعْنَى: إِنَّا بَعَثْنَا إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مُكَذِّبُونَ لَهُ وَبِهِ، وَعِلْمُنَا بِذَلِكَ لَمْ يَصْرِفْنَا عَنْ تَوْجِيهِ التَّذْكِيرِ إِلَيْكُمْ وَإِعَادَتِهِ عَلَيْكُمْ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَال: 42] ، فَقُوبِلَتْ صِفَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَنْفَعُ الْمُتَّقِينَ بِصِفَتِهِ الَّتِي تَضُرُّ بِالْكَافِرِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّضَادِّ، فَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْحَسْرَةُ: النَّدَمُ الشَّدِيدُ الْمُتَكَرِّرُ عَلَى شَيْءٍ فَائِتٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَيُقَالُ لَهَا: التَّلَهُّفُ، اشْتُقَّتْ مِنَ الْحَسْرِ وَهُوَ الْكَشْفُ لِأَنَّ سَبَبَهَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِهَا بَعْدَ فَوَاتِ إِدْرَاكِهِ وَلَا يَزَالُ يُعَاوِدُهُ، فَالْقُرْآنُ حَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ أَيْ سَبَبُ حَسْرَةٍ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ حَسْرَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ فَضَحَ تُرَّهَاتِهِمْ وَنَقَضَ عِمَادَ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ وَكَشَفَ حَقَارَةَ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ حَسْرَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مُخَالَفَتَهُ سَبَبَ عَذَابِهِمْ، وَيَقِفُونَ عَلَى الْيَقِينِ بِأَنَّ مَا كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ هُوَ سَبَبُ النَّجَاحِ لَوِ اتَّبَعُوهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَأَوْا حُسْنَ عَاقِبَةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهِ. وَالْمُكَذِّبُونَ: هُمُ الْكَافِرُونَ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الْاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ تَعُمُّ الْمُكَذِّبِينَ يَوْمَئِذٍ وَالَّذِينَ سَيَكْفُرُونَ بِهِ من بعد.

[سورة الحاقة (69) : آية 51]

[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 51] وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) عَطْفٌ عَلَى وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ [الحاقة: 50] فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْمَذْكُورَ وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ حَسْرَةً عَلَى الْكَافِرِينَ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَا مَحَالَةَ أَيْ هُوَ جَالِبٌ لِحَسْرَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَإِضَافَةُ حق إِلَى يَقِين يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، أَيْ إِنَّهُ لَلْيَقِينُ الْحَقُّ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ يَقِينٌ لَا يَشُكُّ فِي كَوْنِهِ حَقًّا إِلَّا مَنْ غُشِيَ عَلَى بَصِيرَتِهِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ لِلْيَقِينِ الْحَقِّ، أَيِ الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ شُبْهَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَّ الْيَقِينِ، وَعَيْنَ الْيَقِينِ، وَعِلْمَ الْيَقِينِ، وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ. فَحَقُّ الْيَقِينِ وَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي آخِرِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ، وَعَلْمُ الْيَقِينِ وَعَيْنُ الْيَقِينِ وَقَعَا فِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِضَافَتُهَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمَعْنَى كُلِّ مُرَكَّبٍ مِنْهَا هُوَ مُحَصَّلُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَتَاهُ وَإِضَافَةُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى. وَقَدِ اصْطَلَحَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَعْلِ كَلِمَةِ (عَلْمُ الْيَقِينِ) اسْمًا اصْطِلَاحِيًّا لِمَا أَعْطَاهُ الدَّلِيلُ بِتَصَوُّرِ الْأُمُورِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ حَسَبَ كَلَامِ السَّيِّدِ الْجُرْجَانِيِّ فِي كِتَابِ «التَّعْرِيفَاتِ» ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي الْبَقَاءِ فِي «الْكُلِّيَّاتِ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ نُقِلَتْ فِي بَعْضِ الْاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فَصَارَتْ أَلْقَابًا لِمَعَانٍ، وَقَالَ: عِلْمُ الْيَقِينِ لِأَصْحَابِ الْبُرْهَانِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ وَحَقُّ الْيَقِينِ أَيْضًا لِأَصْحَابِ الْكَشْفِ وَالْعِيَانِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ، قَالَ: وَقَدْ حَقَّقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْحُكَمَاءِ بِأَنَّ بَعْدَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ لِلنَّفْسِ (يَعْنِي مَرَاتِبَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لِلنَّفْسِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَنْطِقِ الْأَوَّلِيَّاتِ، وَالْمُشَاهَدَاتِ الْبَاطِنِيَّةَ، وَالتَّجْرِيبَاتِ، وَالْمُتَوَاتِرَاتِ) مَرْتَبَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مَرْتَبَةُ عَيْنِ الْيَقِينِ وَهِيَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسُ بِحَيْثُ تُشَاهِدُ الْمَعْقُولَاتِ فِي الْمَعَارِفِ الَّتِي تَفِيضُهَا النَّفْسُ كَمَا هِيَ، وَالثَّانِيَةُ مَرْتَبَةُ حَقِّ الْيَقِينِ وَهِيَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسُ بِحَيْثُ تَتَّصِلُ بِالْمَعْقُولَاتِ اتِّصَالًا عَقْلِيًّا وَتُلَاقِي ذَاتَهَا تَلَاقِيًا رُوحَانِيًّا. وَاصْطَلَحَ

[سورة الحاقة (69) : آية 52]

عُلَمَاءُ التَّصَوُّفِ عَلَى جَعْلِ كُلِّ مُرَكَّبٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَقَبًا لِمَعْنَى مِنَ الْانْكِشَافِ الْعَقْلِيِّ وَجَرَتْ فِي كِتَابِ «الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ» لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بن عَرَبِيّ. [52] [سُورَة الحاقة (69) : آيَة 52] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَتَنْزِيهِهِ عَلَى الْمَطَاعِنِ وَتَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا افْتَرَاهُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، وَعَلَى مَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهِ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ، فَأُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ تَسْبِيحَ ثَنَاءٍ وَتَعْظِيمٍ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ وَإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَاسْمُ اللَّهِ هُوَ الْعَلَمُ الدَّالُّ عَلَى الذَّاتِ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ سَبِّحِ اللَّهَ تَسْبِيحًا بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ اعْتِقَادَ التَّنْزِيهِ وَالْإِقْرَارَ بِهِ وَإِشَاعَتَهُ. وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ بِالْاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَةِ وَالْقَوْلِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَجْرِيَ فِي التَّسْبِيحِ الْقَوْلِيِ اسْمُ الْمُنَزَّهِ فَلِذَلِكَ قَالَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَلَمْ يَقُلْ فَسَبِّحْ رَبَّكَ الْعَظِيمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ وَجْهُ إِقْحَامِ اسْمٍ فِي قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: 1] . وَتَسْبِيحُ الْمُنْعِمِ بِالْاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَهُمَا مُسْتَطَاعُ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ إِذْ لَا يَبْلُغُ إِلَى شُكْرِهِ بِأَقْصَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ اسْتِمْرَارُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَتِهِ وَإِبْلَاغِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . وَاسْتَحَبَّ الْتِزَامَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ الْتِزَامَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعَدَّ وَاجِبًا فَرْضًا اهـ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ.

70- سورة المعارج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 70- سُورَةُ الْمَعَارِجِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» وَابْنِ عَطِيَّةَ وَابْنِ كَثِيرٍ «سُورَةُ سَأَلَ سَائِلٌ» . وَكَذَلِكَ رَأَيْتُهَا فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ الْمَخْطُوطَةِ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ بِالْقَيْرَوَانِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ. وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ الْمَشْرِقِيَّةِ وَالْمَغْرِبِيَّةِ وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةُ الْمَعَارِجِ» . وَذَكَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةُ الْوَاقِعِ» . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ كَلِمَاتٍ وَقَعَتْ فِي أَوَّلِهَا، وَأَخَصُّهَا بِهَا جُمْلَةُ سَأَلَ سائِلٌ [المعارج: 1] لِأَنَّهَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهَا غَلَبَ عَلَيْهَا اسْمُ «سُورَةُ الْمَعَارِجِ» لِأَنَّهُ أَخَفُّ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالْاتِّفَاقِ. وَشَذَّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ آيَةَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج: 24] مَدَنِيَّةٌ.

أغراضها

وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَاقَّةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّبَأِ. وَعَدَّ جُمْهُورُ الْأَمْصَارِ آيَهَا أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ. أَغْرَاضُهَا حَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ تَهْدِيدَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِثْبَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَوَصْفَ أَهْوَالِهِ. وَوَصْفَ شَيْءٍ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ فِيهِ، وَتَهْوِيلَ دَارِ الْعَذَابِ وَهِيَ جَهَنَّمُ. وَذِكْرَ أَسْبَابِ اسْتِحْقَاقِ عَذَابِهَا. وَمُقَابَلَةَ ذَلِكَ بِأَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمْ دَارَ الْكَرَامَةِ وَهِيَ أَضْدَادُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ. وَتَثْبِيتَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَسْلِيَتَهُ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَوَصْفَ كَثِيرٍ مِنْ خِصَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي بَثَّهَا الْإِسْلَامُ فِيهِمْ، وَتَحْذِيرَ الْمُشْرِكِينَ مِنِ اسْتِئْصَالِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ بِخَير مِنْهُم. [1- 3] [سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ فَيَسْأَلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تَتَوَعَّدُنَا بِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعْجِيلَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج: 47] وَكَانُوا أَيْضًا يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] . وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: إِنْ كانَ هَذَا (أَيِ الْقُرْآنُ) هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] . وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِ سائِلٌ فَرِيقٌ أَوْ شَخْصٌ.

وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ الْاسْتِفْهَامِ عَنْ شَيْءٍ وَالدُّعَاءِ، عَلَى أَنَّ اسْتِفْهَامَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّعْجِيزِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ سائِلٌ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ وَأَلَحَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَأَلَ بِإِظْهَارِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ سَأَلَ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ يُخَفِّفُونَ الْمَهْمُوزَ فِي مَقَامِ الثِّقَلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قِيَاسًا فِي لُغَتِهِمْ بَلْ لُغَتُهُمْ تَحْقِيقُ الْهَمْزِ وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَيْسَ ذَا بِقِيَاسٍ مُتْلَئِبٍّ (أَيْ مُطَّرِدٍ مُسْتَقِيمٍ) وَإِنَّمَا يُحْفَظُ عَنِ الْعَرَبِ قَالَ: وَيَكُونُ قِيَاسًا مُتْلَئِبًّا، إِذَا اضْطُرَّ الشَّاعِرُ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ: رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عَشِيَّة ... فارعي فزازة لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ يُرِيدُ لَا هَنَأَكِ بِالْهَمْزِ. وَقَالَ حَسَّانُ: سَالَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ يُرِيدُ سَأَلُوا رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَاحَة الزِّنَا. وَقَالَ الْقُرَشِيُّ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو بْنُ نُفَيْلٍ (يَذْكُرُ زَوْجَيْهِ) : سَأَلَتَانِي الطَّلَاقَ أَنْ رَأَتَانِي ... قَلَّ مَالِي قَدْ جِيتُمَانِي بِنُكْرِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لُغَتُهُمْ سَالَ وَلَا يَسَالُ وَبَلَغَنَا أَنَّ سَلْتَ تَسَالُ لُغَةٌ اهـ. فَجُعِلَ إِبْدَالُ الْهَمْزِ أَلِفًا لِلضَّرُورَةِ مُطَّرِدًا وَلِغَيْرِ الضَّرُورَةِ يُسْمَعُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فَتَكُونُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ سَمَاعًا. وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ سَأَلَ غَيْرَ مَهْمُوزٍ جَعَلَ الْأَلِفَ مُنْقَلِبَةً عَنِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ مِثْلُ: قَالَ وَخَافَ. وَحَكَى أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ: هُمَا مُتَسَاوِلَانِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : يَقُولُونَ (أَيْ أَهْلُ الْحِجَازِ) : سَلْتَ تَسَالُ وَهُمَا يَتَسَايَلَانِ، أَيْ فَهُوَ أَجْوَفُ يَائِيٌّ مِثْلُ هَابَ يَهَابُ. وَكُلُّ هَذِهِ تَلْتَقِي فِي أَنَّ نُطْقَ أَهْلِ الْحِجَازِ سَأَلَ غَيْرَ مَهْمُوزٍ سَمَاعِيٍّ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ إِمَّا تَخْفِيفٌ لِلْهَمْزَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ مُطَّرِدٍ وَهُوَ رَأْيُ سِيبَوَيْهِ، وَإِمَّا لُغَةٌ لَهُمْ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَأَفْعَالٍ أُخْرَى جَاءَ هَذَا الْفِعْلُ أَجْوَفَ وَاوِيًّا كَمَا هُوَ رَأْيُ أَبِي عَلِيٍّ أَوْ أَجْوَفَ يَائِيًّا كَمَا هُوَ رَأْيُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَبِذَلِكَ يَنْدَحِضُ تَرَدُّدُ أَبِي حَيَّانَ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةَ سَأَلَ لُغَةَ أَهْلِ الْحِجَازِ إِذْ قَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الْقَبَائِلِ لُغَتَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ.

وَإِنَّمَا اجْتَلَبَ هُنَا لُغَةَ الْمُخَفَّفِ لِثِقْلِ الْهَمْزِ الْمَفْتُوحِ بِتَوَالِي حَرَكَاتٍ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَهِيَ أَرْبَعُ فَتَحَاتٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مُخَفَّفًا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي تَوَالِي حَرَكَاتٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ بِالتَّخْفِيفِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي [الْبَقَرَة: 186] وَهُوَ يُسَاوِي سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ بَلْهَ قَوْلَهُ: سَالْتُهُمْ وَتَسْالُهُمْ وَلَا يَسَالُونَ. وَقَوْلُهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِمَنْزِلَةِ سُئِلَ لِأَنَّ مَجِيءَ فَاعِلِ الْفِعْلِ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ لَفْظِ فِعْلِهِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ عَلْمٍ بِفَاعِلِ الْفِعْلِ مَا هُوَ، فَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: سُئِلَ بِعَذَابٍ إِلَى قَوْلِهِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ، لِزِيَادَةِ تَصْوِيرِ هَذَا السُّؤَالِ الْعَجِيبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُوَيْلِدٍ يُهَاجِي النَّابِغَةَ: وَإِنَّ الْغَدْرَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ ... بَنَاهُ فِي بَنِي ذُبْيَانَ بَانِي وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةُ سَأَلَ بِالْبَاءِ لِيَصْلُحَ الْفِعْلُ لِمَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ وَالدُّعَاءِ وَالْاسْتِعْجَالِ، لِأَنَّ الْبَاءَ تَأْتِي بِمَعْنَى (عَنْ) وَهُوَ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ فِعْلِ السُّؤَال نَحْو فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الْفرْقَان: 59] ، وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ أَيْ إِنْ تَسْأَلُونِي عَنِ النِّسَاءِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ: يُقَالُ خَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ فُلَانٍ وَبِفُلَانٍ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» تَعْدِيَةَ فِعْلِ سَأَلَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عُنِيَ وَاهْتَمَّ. وَقَدْ عَلِمْتَ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَالَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ، فَتَكُونُ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج: 47] وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] . وَقَوْلُهُ: لِلْكافِرينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ واقِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ لِلْكَافِرِينَ. وَالْلَّامُ لِشِبْهِ الْمِلْكِ، أَيْ عَذَابٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] . وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَوْصَافِهِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً [المعارج: 6] إِدْمَاجٌ مُعْتَرِضٌ لِيُفِيدَ تَعْجِيلَ الْإِجَابَةِ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ سَائِلٌ بِكِلَا مَعْنَيَيِ

السُّؤَالِ لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يُحْكَ فِيهِ عَذَابٌ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا كَانَ مُجْمَلًا لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَنْ عَذَابٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوِ الدَّاعِي دَعَا بِعَذَابٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، فَحُكِيَ السُّؤَالُ مُجْمَلًا لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالتَّعْلِقَاتِ، فَيَنْتَقِلَ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَذَابِ وَمَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَقَدْ طُوِيَتْ فِي مَطَاوِي هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ جُمَلٌ كَثِيرَةٌ كَانَ الْكَلَامُ بِذَلِكَ إِيجَازًا إِذْ حَصَلَ خِلَالَهَا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَابُ السَّائِلِ، وَاسْتِجَابَةُ الدَّاعِي، وَالْإِنْبَاءُ بِأَنَّهُ عَذَابٌ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافِعٌ، وَلَا يَغْرُّهُمْ تَأَخُّرُهُ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ مِنْ قَبِيلِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ مَا عُدِّدَ فِيهِ مِنْ أَوْصَافِ الْعَذَابِ وَهَوْلِهِ وَوَقْتِهِ هُوَ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ لِيَحْذَرُوهُ، دُونَ أَنْ يَخُوضُوا فِي تَعْيِينِ وَقَتِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَعْنَى: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدُوا بِهِ عَنْ وَقْتِهِ وَوَصْفِهِ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ، وَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا، إِظْهَارًا لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ. فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْعَذَاب الَّذِي استهزأوا بِهِ وَاقِعٌ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ تَأَخُّرُ وَقْتِهِ، فَإِنْ أَرَادُوا النَّجَاةَ فَلْيَحْذَرُوهُ. وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ يَتَنَازَعُ تَعَلُّقَهُ وَصْفَا واقِعٍ ودافِعٌ. ومِنَ لِلْابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ عَلَى كِلَا التَّعَلُّقَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَلَاقَةِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْوَصْفُ الْمُتَعَلَّقُ بِهِ. فَابْتِدَاءُ الْوَاقِعِ اسْتِعَارَةٌ لِإِذْنِ اللَّهِ بِتَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ تُسَاوِي الْحَقِيقَةَ. وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الدَّافِعِ فَاسْتِعَارَةٌ لِتَجَاوُزِهِ مَعَ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ مِنْ مَكَانٍ مَجَازِيٍّ تَتَنَاوَلُهُ قُدْرَةُ الْقَادِرِ مِثْلُ مِنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التَّوْبَة: 118] وَقَوْلِهِ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: 108] . وَبِهَذَا يَكُونُ حَرْفُ مِنَ مُسْتَعْملا فِي تعْيين مجازين مُتَقَارِبَيْنِ. وَإِجْرَاءُ وَصْفِ ذِي الْمَعارِجِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ جَلَالِهِ وَلِإِدْمَاجِ الْإِشْعَارِ بِكَثْرَةِ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ مِنْ رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، فَإِنَّ الْمَعَارِجَ مِنْ خَصَائِصِ مَنَازِلِ الْعُظَمَاءِ قَالَ تَعَالَى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزخرف: 33] . وَلِكُلِّ دَرَجَةِ الْمَعَارِجِ قَوْمٌ عَمِلُوا لِنَوَالِهَا قَالَ تَعَالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] ، وَلِيَكُونَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْعَذَابُ الْحَقُّ لِلْكَافِرِينَ.

[سورة المعارج (70) : آية 4]

والْمَعارِجِ: جَمْعُ مِعْرَجٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مَا يُعْرَجُ بِهِ، أَيْ يُصْعَدُ مِنْ سلم ومدرج. [4] [سُورَة المعارج (70) : آيَة 4] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَعَارِجَ مَنَازِلٌ مِنَ الرِّفْعَةِ الْاعْتِبَارِيَّةِ تَرْتَقِي فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَلَيْسَتْ مَعَارِجَ يُعْرَجُ إِلَيْهِ فِيهَا، أَيْ فَهِيَ مَعَارِجٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ فَقُرِّبَ بِهَا مِنْ مَنَازِلِ التَّشْرِيفِ، فَاللَّهُ مُعْرَجُ إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ لَا عَارِجٌ، وَبِذَلِكَ الْجَعْلِ وُصِفَ اللَّهُ بِأَنَّهُ صَاحِبُهَا، أَيْ جَاعِلُهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُو الْعَرْشِ [غَافِر: 15] . والرُّوحُ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُوَكَّلُ بِإِبْلَاغِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِتَمْيِيزِهِ بِالْفَضْلِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: 4] أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. والرُّوحُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَتَصْرِيفُ أَعْمَالِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، أَيْ أَرْوَاحُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الْمَعَارِجِ. وَهَذَا الْعُرُوجُ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذِهِ تَقْرِيبَاتٌ لِنِهَايَةِ عَظَمَةِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ وَارْتِقَاءِ أَهْلِ الْعَالَمِ الْأَشْرَفِ إِلَيْهَا وَعَظَمَةِ يَوْمِ وُقُوعِهَا. وَضَمِيرُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ عَلَى تَأْوِيلِ مُضَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ تَعَلُّقِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِالذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُهَا. وفِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَتَنَازَعُ تَعَلُّقَهُ كُلٌّ مِنْ قَوْله: واقِعٍ [المعارج: 1] وَقَوله: تَعْرُجُ. [5] [سُورَة المعارج (70) : آيَة 5] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) اعْتِرَاضٌ مُفَرَّعٌ: إِمَّا على مَا يومىء إِلَيْهِ سَأَلَ سائِلٌ [المعارج: 1] مِنْ أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِهْزَاءٍ، فَهَذَا تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا عَلَى سَأَلَ سائِلٌ بِمَعْنَى: دَعَا دَاعٍ.

[سورة المعارج (70) : الآيات 6 إلى 7]

فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى جُمْلَةِ سَأَلَ سائِلٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ السُّؤَالُ بِمَعْنَيَيْهِ اسْتِهْزَاءً وَتَعْرِيضًا بِالتَّكْذِيبِ فَشَأْنُهُ أَنْ لَا تَصْبِرَ عَلَيْهِ النُّفُوسُ فِي الْعُرْفِ. وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ: الصَّبْرُ الْحَسَنُ فِي نَوْعِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِمَّا يُنَافِي حَقِيقَةَ الصَّبْرِ، أَيِ اصْبِرْ صَبْرًا مَحْضًا، فَإِنَّ جَمَالَ الْحَقَائِقِ الْكَامِلَةِ بِخُلُوصِهَا عَمَّا يُعَكِّرُ مَعْنَاهَا مِنْ بَقَايَا أَضْدَادِهَا، وَقَدْ مَضَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [18] وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا فِي المزمل [10] . [6- 7] [سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 6 إِلَى 7] إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) تَعْلِيلٌ لِجُمْلَتَيْ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] وَلِجُمْلَةِ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [المعارج: 5] ، أَيْ سَأَلُوا اسْتِهْزَاءً لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُحَالًا وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ لِأَنَّا نَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ، أَيْ وَأَنْتَ تَثِقُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ، أَيْ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، وَأَيْضًا هُوَ تَجْهِيلٌ لَهُمْ إِذِ اغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَمْنِ وَمُسَالَمَةِ الْعَرَبِ لَهُمْ وَمِنَ الْحَيَاةِ النَّاعِمَةِ فَرَأَوُا الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ بَعِيدًا، إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَلِأَمْنِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَلِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتَ لَا تُشْبِهُ حَالَهُمْ وَذَلِكَ يُهَوِّنُ الصَّبْرَ عَلَيْكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الْمَائِدَة: 48] ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ [الْكَهْف: 28] . وبَعِيداً هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى الْإِحَالَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِبَعِيدٍ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] . وَاسْتُعْمِلَ قَرِيباً كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّحَقُّقِ. وَبَيْنَ بَعِيداً وقَرِيباً محسن الطباق.

[سورة المعارج (70) : الآيات 8 إلى 18]

[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 8 إِلَى 18] يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) بِفعل (تَعْرُجُ) [المعارج: 4] ، أَو أَن يَتَعَلَّقَ بِ (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْيَوْمِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ابْتِدَاء كَلَام، وَالْجُمْلَةُ الْمَجْعُولَةُ مَبْدَأَ كَلَامٍ تُجْعَلُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جملَة وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً لِأَنَّ عَدَمَ الْمُسَاءَلَةِ مُسَبَّبٌ عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، وَمِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَنْ يَوَدَّ الْمُوَلِّ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. والمهل: دُرِدِيُّ الزَّيْتِ. وَالْمَعْنَى: تَشْبِيهُ السَّمَاءِ فِي انْحِلَالِ أَجْزَائِهَا بِالزَّيْتِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَة الرحمان [37] فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ. وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ، قِيلَ الْمَصْبُوغُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ الْمَصْبُوغُ أَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ زُهَيْرٌ: كَانَ فُتَاتُ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمْ وَالْفَنَا بِالْقَصْرِ: حَبٌّ فِي الْبَادِيَةِ، يُقَالُ لَهُ: عِنَبُ الثَّعْلَبِ، وَلَهُ أَلْوَانٌ بَعْضُهُ أَخْضَرُ وَبَعْضُهُ أَصْفَرُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ. وَالْعِهْنَةُ: شَجَرٌ بِالْبَادِيَةِ لَهَا وَرَدٌ أَحْمَرُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بِالْعِهْنِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ كَمَا جَاءَتْ فِي آيَةِ الْقَارِعَةِ [5] وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَإِيثَارُ الْعِهْنِ بِالذِّكْرِ لِإِكْمَالِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّ الْجِبَالَ ذَاتُ أَلْوَانٍ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها [فاطر: 27] . وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّمَاءُ وَالْجِبَالُ بِهَاتِهِ الْحَالَةِ حِينَ يَنْحَلُّ تَمَاسُكُ أَجْزَائِهِمَا عِنْدَ انْقِرَاضِ هَذَا الْعَالَمِ وَالْمَصِيرِ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ. وَمعنى وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً لِشِدَّةِ مَا يَعْتَرِي النَّاسَ مِنَ الْهَوْلِ فَمِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَرَى الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ فِي كَرْبٍ وَعَنَاءٍ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ لِأَنَّهُ فِي شَاغِلٍ عَنْهُ، فَحذف مُتَعَلق يَسْئَلُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ: يُبَصَّرُونَهُمْ أَيْ يَبْصُرُ الْأَخِلَّاءُ أَحْوَالَ أَخِلَّائِهِمْ مِنَ الْكَرْبِ فَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:

وَقَالَ كُلُّ خَلِيل كنت ءآمله ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ وَالْحَمِيمُ: الْخَلِيلُ الصَّدِيقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْح يَاء يَسْئَلُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. فَالْمَعْنَى: لَا يُسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَمَوْقِعُ يُبَصَّرُونَهُمْ الْاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنَّ الْأَحِمَّاءَ لَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَوْمَئِذٍ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي شَاغِلٍ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ يُكْشَفُ لَهُمْ عَنْهُمْ لِيَرَوْا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ فَيَزْدَادُوا عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يُبَصَّرُونَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا فِي حَالِ أَنَّ كُلَّ حَمِيمٍ يُبْصِرُ حَمِيمَهُ يُقَالُ لَهُ: انْظُرْ مَاذَا يُقَاسِي فُلَانٌ. ويُبَصَّرُونَهُمْ مُضَارِعٌ بَصَّرَهُ بِالْأَمْرِ إِذَا جَعَلَهُ مُبْصِرًا لَهُ، أَيْ نَاظِرًا فَأَصْلُهُ: يُبَصَّرُونَ بِهِمْ فَوَقَعَ فِيهِ حَذْفُ الْجَارِ وَتَعْدِيَةُ الْفِعْلِ. وَالضَّمِيرَانِ رَاجِعَانِ إِلَى حَمِيمٌ الْمَرْفُوعِ وَإِلَى حَمِيماً الْمَنْصُوبِ، أَيْ يُبْصِرُ كُلُّ حَمِيمٍ حَمِيمَهُ فَجُمِعَ الضَّمِيرَانِ نَظَرًا إِلَى عُمُومِ حَمِيمٌ وحَمِيماً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. ويَوَدُّ: يُحِبُّ، أَيْ يَتَمَنَّى، وَذَلِكَ إِمَّا بِخَاطِرٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ. وَإِمَّا بِكَلَامٍ يَصْدُرُ مِنْهُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ يَصْرُخُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ فَيَقُولُ: أَفْتَدِي مِنَ الْعَذَابِ بِبَنِيِّ وَصَاحِبَتِي وَفَصِيلَتِي فَيَكُونُ ذَلِكَ فَضِيحَةً لَهُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ أَهْلِهِ. والْمُجْرِمُ: الَّذِي أَتَى الْجُرْمَ، وَهُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ، أَيِ الْكُفْرُ لِأَنَّ النَّاسَ فِي صَدْرِ الْبَعْثَةِ صِنْفَانِ كَافِرٌ وَمُؤْمِنٌ مُطِيعٌ. ويَوْمِئِذٍ هُوَ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ مُتَعَلِّقًا بِ يَوَدُّ فَقَوْلُهُ: يَوْمِئِذٍ تَأْكِيدٌ لِ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ [المعارج: 4] فَقَوْلُهُ: يَوْمِئِذٍ إِفَادَةٌ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ يَوْمُ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنَ الْعَذَابِ بِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ.

وَ (لَوْ) مَصْدَرِيَّةٌ فَمَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ الْمَفْعُولِ لِ يَوَدُّ، أَي يَوَدُّ الِافْتِدَاءِ مِنَ الْعَذَابِ بِبَنِيهِ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَوْمِئِذٍ بِكَسْرِ مِيمِ (يَوْمِ) مَجْرُورًا بِإِضَافَة (عَذَاب الله) . وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى بِنَائِهِ لِإِضَافَةِ (يَوْمٍ) إِلَى (إِذْ) ، وَهِيَ اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ. وَالِافْتِدَاءُ: إِعْطَاءُ الْفِدَاءِ، وَهُوَ مَا يُعْطَى عِوَضًا لِإِنْقَاذٍ مِنْ تَبِعَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ فِي الْبَقَرَةِ [85] وَقَوْلُهُ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [91] ، وَالْمَعْنَى: لَوْ يَفْتَدِي نَفْسَهُ، وَالْبَاءُ بَعْدَ مَادَّةِ الْفِدَاءِ تَدْخُلُ عَلَى الْعِوَضِ الْمَبْذُولِ فَمَعْنَى الْبَاءِ التَّعْوِيضُ. وَمَعْنَى مِنْ الِابْتِدَاءُ الْمَجَازِيُّ لِتَضْمِينِ فِعْلِ يَفْتَدِي مَعْنَى يَتَخَلَّصُ وصاحِبَتِهِ: زَوْجُهُ. وَالْفَصِيلَةُ: الْأَقْرِبَاءُ الْأَدْنَوْنَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَهُمُ الْأَقْرِبَاءُ الْمَفْصُولُ مِنْهُمْ، أَيِ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ، فَشَمِلَتِ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ فَقَالَ هِيَ أُمُّهُ اهـ، أَيْ وَيُفْهَمُ مِنْهَا الْأَبُ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ فَيَكُونُ قَدِ اسْتَوْفَى ذِكْرَ أَقْرَبِ الْقَرَابَةِ بِالصَّرَاحَةِ وَالْمَفْهُومِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ فَالْفَصِيلَةُ دَلَّتْ عَلَى الْآبَاءِ بِاللَّفْظِ وَتُسْتَفَادُ الْأُمَّهَاتُ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَقَدْ رُتِّبَتِ الْأَقْرِبَاءُ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْعُرْفِ الْغَالِبِ لِأَنَّ الْمَيْلَ الطَّبِيعِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ. وَلم يذكر الأبوان لِدُخُولِهِمَا فِي الْفَصِيلَةِ قَصْدًا لِلْإِيجَازِ. وَالْإِيوَاءُ: الضَّمُّ وَالِانْحِيَازُ. قَالَ تَعَالَى: آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ [يُوسُف: 69] وَقَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ [هود: 43] . والَّتِي تُؤْوِيهِ: إِنْ كَانَتِ الْقَبِيلَةُ، فَالْإِيوَاءُ مَجَازٌ فِي الْحِمَايَةِ وَالنَّصْرِ، أَيْ وَمَعَ ذَلِكَ يَفْتَدِي بِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا يَوْمَئِذٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ فَالْإِيوَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، وَصِيغَةِ الْمُضَارِعِ

لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] أَيْ يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي بِأُمِّهِ، مَعَ شِدَّةِ تَعَلُّقِ نَفْسِهِ بِهَا إِذْ كَانَتْ تُؤْوِيهِ، فَإِيثَارُ لَفَظِ فَصِيلَتِهِ وَفِعْلِ تُؤْوِيهِ هُنَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ لِيَشْمَلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عطف على بِبَنِيهِ، أَيْ وَيَفْتَدِي بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ وَمَنْ لَهُ فِي الْأَرْضِ مِمَّا يَعِزُّ عَلَيْهِ مِنْ أَخِلَّاءَ وَقَرَابَةٍ وَنَفَائِسِ الْأَمْوَالِ مِمَّا شَأْنُ النَّاسِ الشُّحُّ بِبَذْلِهِ وَالرَّغْبَةِ فِي اسْتِبْقَائِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمرَان: 91] . ومَنْ الْمَوْصُولَةُ لِتَغْلِيبِ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ مِنْهُمُ الْأَخِلَّاءَ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُنْجِيهِ لِلتَّرَاخِي الرَّتَبِيِّ، أَيْ يَوَدُّ بَذْلَ ذَلِكَ وَأَنْ يُنْجِيَهُ الْفِدَاءُ مِنَ الْعَذَابِ، فَالْإِنْجَاءُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُجْرِمِ فِي وِدَادَتِهِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي قَوْلِهِ: يُنْجِيهِ عَائِدٌ إِلَى الِافْتِدَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَفْتَدِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] . وَالْمَعْطُوفُ بِ ثُمَّ هُوَ الْمُسَبَّبُ عَنِ الْوِدَادَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النِّسَاء: 89] وَقَوْلُهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَم: 9] ، فَعَدَلَ عَنْ عَطْفِهِ بِالْفَاءِ هُنَا إِلَى عَطْفِهِ بِ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ اهْتِمَامِ الْمُجْرِمِ بِالنَّجَاةِ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ. وَمُتَعَلِّقُ يُنْجِيهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ. وكَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ كَلَامٌ، وَهُوَ هُنَا لِإِبْطَالِ مَا يُخَامِرُ نُفُوسَ الْمُجْرِمِ مِنَ الْوِدَادَةِ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ أَوْ لِإِبْطَالِ مَا يُتَفَوَّهُ بِهِ مِنْ تَمَنِّي ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِالْوِدَادَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النِّسَاء: 42] أَيْ يَصِيرُونَ مِنْ تُرَابِهَا. فَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُ كَلَّا، أَيْ لَا افْتِدَاءَ وَلَا إِنْجَاءَ. وَجُمْلَةُ إِنَّها لَظى اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَمَّا أَفَادَهُ حَرْفُ كَلَّا مِنَ الْإِبْطَالِ. وَضَمِيرُ إِنَّها عَائِدٌ إِلَى مَا يُشَاهِدُهُ الْمُجْرِمُ قُبَالَتَهُ مِنْ مَرْأَى جَهَنَّمَ فَأَخْبَرَ

بِأَنَّ ذَلِكَ لَظَى. وَلَمَّا كَانَ لَظى مُقْتَرِنًا بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ أُنِّثَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ الْخَبَرِ وَأُتْبِعَ اسْمُهَا بِأَوْصَافٍ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لَهُ، أَيْ أَنَّهَا تَحْرُقُكَ وَتَنْزِعُ شَوَاكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمَا وَقَعَ التَّعْرِيضُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى، أَيْ تَدْعُوكَ يَا مَنْ أَدْبَرَ عَنْ دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وَتَوَلَّى عَنْهَا وَلَمْ يَعْبَأْ إِلَّا بِجَمْعِ الْمَالِ. فَحَرْفُ (إِنَّ) لِلتَّوْكِيدِ لِلْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ مِنَ الْخَبَرِ، لَا إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَا يُشَاهِدُهُ لَظَى إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَحَلِّ التَّرَدُّدِ. ولَظى خَبَرُ (إِنَّ) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ إِنَّها ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ إِنَّ قِصَّتَكَ وَشَأْنَكَ لَظَى، فَتَكُونُ لَظى مُبْتَدَأً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَزَّاعَةً بِالرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ (إِنَّ) إِنْ جُعِلَ الضَّمِيرُ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى النَّارِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ لَظى إِنْ جُعِلَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَجُعِلَ لَظى مُبْتَدَأً. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ أَنَّ الضَّمِيرَ لَيْسَ ضَمِيرَ قِصَّةٍ. وَالتَّعْرِيضُ هُوَ هُوَ، وَحَرْفُ (إِنَّ) إِمَّا لِلتَّوْكِيدِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ لِأَنَّ الْجُمَلَ الْمُفْتَتَحَةَ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُهْتَمِّ بِهَا. ولَظى: عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنِ اسْمِ اللَّهَبِ، جُعِلَ عَلَمًا لِ «جَهَنَّمَ» ، وَأَلِفُهُ أَلِفُ تَأْنِيثٍ، وَأَصْلُهُ: لَظًى بِوَزْنِ فَتًى مُنَوَّنًا اسْمُ جِنْسٍ لِلَهَبِ النَّارِ. فَنُقِلَ اسْمُ الْجِنْسِ إِلَى جَعْلِهِ عَلَمًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَقُرِنَ بِأَلِفِ تَأْنِيثٍ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ عَلَى نَقْلِهِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ. وَالْعَرَبُ قَدْ يُدْخِلُونَ تَغْيِيرًا عَلَى الِاسْمِ غَيْرِ الْعَلَمِ إِذَا نَقَلُوهُ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ كَمَا سَمَّوْا شُمْسَ بِضَمِّ الشِّينِ مَنْقُولًا مِنْ شَمْسٍ بِفَتْحِ الشِّينِ. كَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي شَرْحِ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ وَلَيْسَ مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ إِذْ لَيْسَ مُعَرَّفًا وَلَا مُضَافًا، وَلِاجْتِمَاعِ الْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ فِيهِ

كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ فَلَا تَقُولُ: لَظًى بِالتَّنْوِينِ إِلَّا إِذَا أَرَدْتَ جِنْسَ اللَّهَبِ، وَلَا تَقُولُ: اللَّظَى إِلَّا إِذَا أَرَدْتَ لَهَبًا مُعَيَّنًا، فَأَمَّا إِذَا أَرَدْتَ اسْمَ جَهَنَّمَ فَتَقُولُ لَظَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ دُونَ تَنْوِينٍ وَدُونَ تَعْرِيفٍ. وَالنَّزَّاعَةُ: مُبَالَغَةٌ فِي النَّزْعِ وَهُوَ الْفَصْلُ وَالْقَطْعُ. وَالشَّوَى: اسْمُ جَمْعِ شَوَاةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَهِيَ الْعُضْوُ غَيْرُ الرَّأْسِ مِثْلَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ شَوَى، وَقِيلَ الشَّوَاةُ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ النَّاس. وَجُمْلَة تَدْعُوا إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ حَسَبَ قِرَاءَةِ نَزَّاعَةً بِالرَّفْعِ وَإِمَّا حَالٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالدُّعَاءُ فِي قَوْله: تَدْعُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَقِيقَةٍ بِأَنْ يُعْتَبَرَ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، شُبِّهَتْ لَظَى فِي انْهِيَالِ النَّاسِ إِلَيْهَا بِضَائِفٍ لِمَأْدُبَةٍ، وَرُمِزَ إِلَى ذَلِك ب تَدْعُوا وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. وَيَكُونُ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى قَرِينَةً، أَوْ تَجْرِيدًا، أَيْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَفِيهِ الطِّبَاقُ لِأَنَّ الْإِدْبَارَ وَالتَّوَلِّيَ يُضَادَّانِ الدَّعْوَةَ فِي الْجُمْلَةِ إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ يُقْبِلُ وَلَا يدبر، وَيكون (يدعوا) مُشْتَقًّا مِنَ الدُّعْوَةِ الْمَضْمُومَةِ الدَّالِ، أَوْ أَنْ يُشَبِّهَ إِحْضَارَ الْكُفَّارِ عِنْدَهَا بِدَعْوَتِهَا إِيَّاهُمْ لِلْحُضُورِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِدَعْوَةِ الْمُنَادِي، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ: أَمْسَى بِوَهْبَيْنِ مُخْتَارًا لِمَرْتَعِهِ ... مِنْ ذِي الْفَوَارِسِ تَدْعُو أَنْفَهُ الرِّبَبُ الرِّبَبُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ: جَمْعُ رِبَّةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ: نَبَاتٌ يَنْبُتُ فِي الصَّيْفِ أَخْضَرُ. وَيَجُوزُ أَن يكون تَدْعُوا مُسْتَعْملا حَقِيقَة، و «الَّذين يَدْعُونَ» : هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِجَهَنَّمَ، وَإِسْنَادُ الدُّعَاءِ إِلَى جَهَنَّمَ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهَا مَكَانُ الدَّاعِينَ أَوْ لِأَنَّهَا سَبَبُ الدُّعَاءِ، أَوْ جَهَنَّمُ تَدْعُو حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيهَا أَصْوَاتًا تُنَادِي الَّذِينَ تَوَلَّوْا أَنْ يَرِدُوا عَلَيْهَا فَتَلْتَهِمَهُمْ. ومَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى جِنْسُ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ أَدْبَرُوا وَتَوَلَّوْا وَجَمَعُوا وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنْ يَفْتَدُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ خَصَائِصُ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ مِنْ آثَارِ دِينِ الشِّرْكِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى بَاعِثٍ لَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ.

وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْإِدْبَارُ وَالْإِعْرَاضُ، وَجَمْعُ الْمَالِ، أَيِ الْخَشْيَةُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. وَالْإِدْبَارُ: تَرْكُ شَيْءٍ فِي جِهَةِ الْوَرَاءِ لِأَنَّ الدُّبُرَ هُوَ الظَّهْرُ، فَأَدْبَرَ: جَعَلَ شَيْئًا وَرَاءَهُ بِأَنْ لَا يُعَرِّجَ عَلَيْهِ أَصْلًا أَوْ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُفَارِقُهُ. وَالتَّوَلِّي: الْإِدْبَارُ عَنْ شَيْءٍ وَالْبُعْدُ عَنْهُ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَايَةِ وَهِيَ الْمُلَازَمَةُ قَالَ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: 144] ، ثُمَّ قَالُوا: وَلَّى عَنْهُ، أَرَادُوا اتَّخَذَ غَيْرَهُ وَلِيًّا، أَيْ تَرَكَ وَلَايَتَهُ إِلَى وَلَايَةِ غَيْرِهِ مِثْلَ مَا قَالُوا: رَغِبَ فِيهِ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَصَارَ «وَلِيَ» بِمَعْنَى: أَدْبَرَ وَأَعْرَضَ، قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْم: 29] أَيْ عَامِلْهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. فَفِي التَّوَلِّي مَعْنَى إِيثَارِ غَيْرِ الْمُتَوَلَّى عَنْهُ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ التَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ فَرْقٌ، وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَرْقِ عُطِفَ وتَوَلَّى عَلَى أَدْبَرَ أَيْ تَدْعُو مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ وَتَوَلَّى عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ. وَهَذِهِ دَقِيقَةٌ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِأَنْ يَكُونَ الْإِدْبَارُ مُرَادًا بِهِ إِدْبَارُ غَيْرِ تَوَلٍّ، أَيْ إِدْبَارًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَيَكُونُ التَّوَلِّي مُرَادًا بِهِ الْإِعْرَاضُ بَعْدَ مُلَابَسَةٍ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْإِدْبَارُ مُسْتَعَارًا لِعَدَمِ قَبُولِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ اسْتِمَاعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] ، وَالتَّوَلِّي مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ بَعْدَ سَمَاعِهِ وَلِلنُّفُورِ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: 31] وَكِلَا الْحَالَيْنِ حَالُ كُفْرٍ وَمُحِقَّةٌ لِلْعِقَابِ وَهُمَا مُجْتَمِعَتَانِ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا مَعًا تَفْظِيعُ أَصْحَابِهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى مُتَّحِدًا يَتَنَازَعُهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ، وَيُقَدَّرُ بِنَحْوِ: عَنِ الْحَقِّ، وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ وَتَوَلَّى عَنْهُ، إِذِ الْعِبْرَةُ بِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيِ الْفِعْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُهُمَا مُتَّحِدًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَعَلِّقٌ هُوَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَعْنَاهُ، فَقَدَّرَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ وَتَوَلَّى عَنِ الطَّاعَةِ، أَيْ لَمْ يَقْبَلِ الْحَقَّ وَهُوَ الْإِيمَانُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ بَعْدَ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَكْسُهُ: أَدْبَرَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَبِعَهُ الْفَخْرُ وَالنَّيْسَابُورِيُّ.

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 إلى 21]

وَالْجَمْعُ وَالْإِيعَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَجَمَعَ فَأَوْعى مُرَتَّبٌ ثَانِيهِمَا عَلَى أَولهمَا، فَيدل ترَتّب الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَفْعُولَ جَمَعَ الْمَحْذُوفَ هُوَ شَيْءٌ مِمَّا يُوعَى، أَيْ يُجْعَلُ فِي وِعَاءٍ. وَالْوِعَاءُ: الظَّرْفُ، أَيْ جَمَعَ الْمَالَ فَكَنَزَهُ وَلَمْ يَنْفَعْ بِهِ الْمَحَاوِيجَ، وَمِنْهُ جَاءَ فعل فَأَوْعى إِذَا شَحَّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكَ» . وَفِي قَوْلِهِ: جَمَعَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِرْصِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَوْعى إِشَارَةٌ إِلَى طُولِ الْأَمَلِ. وَعَنْ قَتَادَةَ جَمَعَ فَأَوْعى كَانَ جَمُوعًا لِلْخَبِيثِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ، أَيْ بِأَنْ يُقَدَّرَ لِ جَمَعَ مَفْعُولٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ وَزَادَ عَلَى إِدْبَارِهِ وَتَوَلِّيهِ أَنَّهُ جَمَعَ الْخَبَائِثَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ فَأَوْعى مُسْتَعَارًا لِمُلَازَمَتِهِ مَا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَبَائِثِ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهَا مُخْتَزَنَةٌ لَا يفرط فِيهَا. [19- 21] [سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 19 إِلَى 21] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 17- 18] وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 22] إِلَخْ. وَهِيَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَجَمَعَ فَأَوْعى تَنْبِيهًا عَلَى خَصْلَةٍ تُخَامِرُ نُفُوسَ الْبَشَرِ فَتَحْمِلُهُمْ عَلَى الْحِرْصِ لِنَيْلِ النَّافِعِ وَعَلَى الِاحْتِفَاظِ بِهِ خشيَة نفاده لِمَا فِيهِمْ مِنْ خُلُقِ الْهَلَعِ. وَهَذَا تَذْيِيلُ لَوْمٍ وَلَيْسَ فِي مَسَاقِهِ عُذْرٌ لِمَنْ جَمَعَ فَأَوْعَى، وَلَا هُوَ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِهِ. وَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْجُمْلَةُ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَالتَّأْكِيدُ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَفْتِ الْأَنْظَارِ إِلَيْهِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْحَذَرِ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّذْيِيلِ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً فَتَمْهِيدٌ وَتَتْمِيمٌ لِحَالَتَيْهِ. فَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: جِنْسُ الْإِنْسَانِ لَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7] وَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: 37] ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَهَلُوعٌ: فَعُولٌ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ لِلِاتِّصَافِ بِالْهَلَعِ. وَالْهَلَعُ لَفْظٌ غَامِضٌ مِنْ غَوَامِضِ اللُّغَةِ قَدْ تَسَاءَلَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ، قَالَ «الْكَشَّافُ» : «وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى (هُوَ ثَعْلَبٌ) قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ (¬1) : مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أَبْيَنَ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الَّذِي إِذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ وَمَنَعَهُ النَّاسَ» اهـ. فَسَارَتْ كَلِمَةُ ثَعْلَبٍ مَسِيرًا أَقْنَعَ كَثِيرًا مِنَ اللُّغَوِيِّينَ عَنْ زِيَادَةِ الضَّبْطِ لِمَعْنَى الْهَلَعِ. وَهِيَ كَلِمَةٌ لَا تَخْلُو عَنْ تَسَامُحٍ وَقِلَّةِ تَحْدِيدٍ لِلْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً تَفْسِيرًا لِمَدْلُولِ الْجَزُوعِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْكَلِمَةِ مَعْنًى مُرَكَّبًا مِنْ مَعْنَيَيِ الْجُمْلَتَيْنِ لِتَكُونَ الْجُمْلَتَانِ تَفْسِيرًا لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ لَيْسَ بَينهمَا تلازم، وَكَثِيرًا مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ فَسَّرَ الْهَلَعَ بِالْجَزَعِ، أَوْ بِشِدَّةِ الْجَزَعِ، أَوْ بِأَفْحَشِ الْجَزَعِ، وَالْجَزَعُ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْهَلَعِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ: مَا إِنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلِعْتُ ... وَلَا يَرُدُّ بُكَايَ زَنْدَا إِذْ عَطَفَ نَفْيَ الْهَلَعِ عَلَى نَفْيِ الْجَزَعِ، وَلَوْ كَانَ الْهَلَعُ هُوَ الْجَزَعَ لَمْ يَحْسُنِ الْعَطْفُ، وَلَوْ كَانَ الْهَلَعُ أَشَدَّ الْجَزَعِ كَانَ عَطْفُ نَفْيِهِ عَلَى نَفْيِ الْجَزَعِ حَشْوًا. وَلِذَلِكَ تَكَلَّفَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» لِمَعْنَى الْبَيْتِ تَكَلُّفًا لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا قَالَ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا حَزِنْتُ عَلَيْهِ حُزْنًا هَيِّنًا قَرِيبًا وَلَا فَظِيعًا شَدِيدًا، وَهَذَا نَفْيٌ لِلْحُزْنِ رَأْسًا كَقَوْلِكَ: مَا رَأَيْتُ صَغِيرَهُمْ وَلَا كَبِيرَهُمْ اهـ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنْ تَتَبُّعِ اسْتِعْمَالَاتِ كَلِمَةِ الْهَلَعِ أَنَّ الْهَلَعَ قِلَّةُ إِمْسَاكِ النَّفْسِ عِنْدَ اعْتِرَاءِ مَا يُحْزِنُهَا أَوْ مَا يَسُرُّهَا أَوْ عِنْدَ تَوَقُّعِ ذَلِكَ وَالْإِشْفَاقِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْجَزَعُ فَمِنْ آثَارِ الْهَلَعِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ الْهَلَعَ بِالشَّرَهِ، وَبَعْضُهُمْ بِالضَّجَرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالشُّحِّ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجُوعِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجُبْنِ عِنْدَ اللِّقَاءِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ضَبْطِهِ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَيُرِيكَ أَنَّهَا آثَارٌ لِصِفَةِ الْهَلَعِ. وَمَعْنَى خُلِقَ هَلُوعاً: ¬

(¬1) مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر بن الْحُسَيْن كَانَ وَالِي شرطة بَغْدَاد فِي زمن المتَوَكل على الله، وَكَانَ شَاعِرًا أديبا ملازما لأهل الْعلم توفّي سنة 253 وَأَبوهُ عبد الله وَالِي خُرَاسَان فِي زمن الْمَأْمُون وممدوح أبي تَمام توفّي سنة 229.

أَنَّ الْهَلَعَ طَبِيعَةٌ كَامِنَةٌ فِيهِ مَعَ خَلْقِهِ تَظْهَرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ شعوره بالنافع والمضار فَهُوَ مِنْ طِبَاعِهِ الْمَخْلُوقَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ طِبَاعِهِ الْبَشَرِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِي تَعَلُّقِ الْحَالِ بِعَامِلِهَا دَلَالَةٌ عَلَى قَصْرِ الْعَامِلِ عَلَيْهَا، وَلَا فِي اتِّصَافِ صَاحِبِ الْحَالِ بِالْحَالِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ غَيْرُهَا، وَقَدْ تَكُونُ لِلشَّيْءِ الْحَالَةُ وَضِدُّهَا بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالدَّوَاعِي، وَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ النَّهْيِ عَنْ حَالٍ مَعَ تَحَقُّقِ تَمَكُّنِ ضِدِّهَا مِنَ الْمَنْهِيِّ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُوضَ نَفْسَهُ عَلَى مُقَاوَمَةِ النَّقَائِصِ وَإِزَالَتِهَا عَنْهُ، وَإِذْ ذَكَرَ اللَّهُ الْهَلَعَ هُنَا عَقِبَ مَذَمَّةِ الْجَمْعِ وَالْإِيعَاءِ، فَقَدْ أَشْعَرَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ هَلَعِهِ إِذَا تَدَبَّرَ فِي الْعَوَاقِبِ فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: خُلِقَ هَلُوعاً كِنَايَةٌ بِالْخَلْقِ عَنْ تَمَكُّنِ ذَلِكَ الْخُلُقِ مِنْهُ وَغَلَبَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى تَرْكِيبِ الْإِدْرَاكِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ الْهَلَعُ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ تَرْكِيبَ الْمَدَارِكِ الْبَشَرِيَّةِ رُكِّزَ بِحِكْمَةٍ دَقِيقَةٍ تَجْعَلُهَا قَادِرَةً عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَفِّ، وَسَاعِيَةً إِلَى الْمُلَائِمِ وَمُعْرِضَةً عَنِ الْمُنَافِرِ. وَجُعِلَتْ فِيهَا قُوًى مُتَضَادَّةَ الْآثَارِ يَتَصَرَّفُ الْعَقْلُ وَالْإِدْرَاكُ فِي اسْتِخْدَامِهَا كَمَا يَجِبُ فِي حُدُودِ الْمَقْدِرَةِ الْبَدَنِيَّة الَّتِي أعْطهَا النَّوْعُ وَالَّتِي أُعْطِيَهَا أَفْرَادُ النَّوْعِ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَصْلُحَ الْإِنْسَانُ لِإِعْمَارِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ خَلِيفَةً فِيهِ لِيُصْلِحَهُ إِصْلَاحًا يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ مَنْ مَعَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِعْدَادًا لِصَلَاحِيَتِهِ لِإِعْمَارِ عَالَمِ الْخُلُودِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ إِدْرَاكًا يُمَيِّزُ الْفَرْقَ بَيْنَ آثَارِ الْمَوْجُودَاتِ وَآثَارِ أَفْعَالِهَا بَيْنَ النَّافِعِ مِنْهَا وَالضَّارِّ وَالَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضُرَّ. وَخَلَقَ فِيهِ إِلْهَامًا يُحِبُّ النَّافِعَ وَيَكْرَهُ الضَّارَّ، غَيْرَ أَنَّ اخْتِلَاطَ الْوَصْفَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَبَعْضِ الذَّوَاتِ قَدْ يُرِيهِ الْحَالَ النَّافِعَ مِنْهَا وَلَا يُرِيهِ الْحَالَ الضَّارَّ فَيَبْتَغِي مَا يَظُنُّهُ نَافِعًا غَيْرَ شَاعِرٍ بِمَا فِي مَطَاوِيهِ مِنْ أَضْرَارٍ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، أَوْ شَاعِرًا بِذَلِكَ وَلَكِنَّ شَغَفَهُ بِحُصُولِ النَّفْعِ الْعَاجِلِ يُرَجِّحُ عِنْدَهُ تَنَاوُلَهُ الْآنَ لِعَدَمِ صَبْرِهِ عَلَى تَرْكِهِ مُقَدِّرًا مَعَاذِيرَ أَوْ حِيَلًا يَقْتَحِمُ بِهَا مَا فِيهِ مِنْ ضُرٍّ آجِلٍ. وَإِنَّ اخْتِلَاطَ الْقُوَى الْبَاطِنِيَّةِ مَعَ حَرَكَاتِ التَّفْكِيرِ قَدْ تَسْتُرُ عَنْهُ ضُرَّ الضَّارِّ وَنَفْعَ النَّافِعِ فَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَا يَنْبَغِي سُلُوكَهُ أَوْ تَجَنُّبَهُ، وَقَدْ لَا تَسْتُرُ عَنْهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا تُحْدِثُ فِيهِ إِيثَارًا لاتباع الضار لملاءمة فِيهِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ أَوْ عِنْدَ عَارِضٍ، إِعْرَاضًا عَنِ اتِّبَاعِ النَّافِعِ لِكُلْفَةٍ فِي فِعْلِهِ أَوْ مُنَافَرَةٍ لِوِجْدَانِهِ، وَذَلِكَ مِنِ اشْتِمَالِ تَرْكِيبِ قُوَاهُ الْبَاعِثَةِ وَالصَّارِفَةِ وَآلَاتِهَا الَّتِي بِهَا تَعْمَلُ وَتَدْفَعُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّعَاكُسِ فِي أَعْمَالِهَا، فَحَدَثَتْ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ

والبديع صَلَاحِيَةٌ لِلْوَفَاءِ بِالتَّدْبِيرِ الصَّالِحِ الْمَنُوطِ بِعُهْدَةِ الْإِنْسَانِ، وَصَلَاحِيَّةٌ لِإِفْسَادِ ذَلِكَ أَوْ بَعْثَرَتِهِ. غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلًا وَحِكْمَةً إِنْ هُوَ أحسن استعمالهما نَخَلَتْ صِفَاتِهِ، وَثَقَّفَتْ مِنْ قَنَاتِهِ، وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ دُعَاةٍ إِلَى الْخَيْرِ يَصِفُونَ لَهُ كَيْفَ يَرِيضُ جَامِحَ نَفْسِهِ، وَكَيْفَ يُوَفِّقُ بَيْنَ إِدْرَاكِهِ وَحِسِّهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ. فَإِذَا أُخْبِرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِشِدَّةِ تَلَبُّسِهِ بِبَعْضِ النَّقَائِصِ وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي قَالَبٍ أَنَّهُ جُبِلَ عَلَيْهِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ: إِلْقَاءُ تَبِعَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي إِرَاضَةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ جِبِلَّةِ الْخَيْرِ، وَأَرْخَى لَهَا الْعِنَانَ إِلَى غَايَةِ الشَّرِّ، وَفَرَّطَ فِي نَصَائِحِ الشَّرَائِعِ وَالْحُكَمَاءِ. وَإِذَا أُسْنِدَ مَا يَأْتِيهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ إِلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ الْقُوَّةِ الْجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ فِيهِ، وَنِعْمَةِ إِرْشَادِهِ وَإِيقَاظِهِ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 79] عَقِبَ قَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النِّسَاء: 78] . وَفِي هَذَا الْمَجَالِ زَلَّتْ أَفْهَامُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَلَكَتْ عَلَيْهِمُ الْأَجْوَاءُ، فَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا، وَمَا اسْتَطَاعُوا مَخْلَصًا وَمَا قَدَرُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ) إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا مَا لَيْسَ مِنَ الْمَوَادِّ مِثْلَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: 2] بَلْ كَانَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْغَرَائِزِ قَدْ يُعْنَى بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهَا تُسْرِعُ إِلَى الِاعْتِلَاقِ بِمَشَاعِرِهِ عِنْدَ تَصَرُّفَاتِهِ تَعْرِيضًا بِذَلِكَ لِوُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْ غَوَائِلِهَا نَحْوَ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: 37] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، وَقَدْ تَرِدُ لِلْعُذْرِ وَالرِّفْقِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء: 28] ، وَقَدْ تَرِدُ لِبَيَانِ أَصْلِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِهِ فِي أَفْعَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين: 4- 5] فعل الْخَلْقِ مِنْ كَذَا مُسْتَعَارٌ لِكَثْرَةِ الْمُلَابَسَةِ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ: إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا ... خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوًى لَهَا

أَرَادَ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ مَلَّهَا بِحُجَّةِ أَنَّهَا خُلِقَتْ حَبِيبَةً لَهُ كَمَا خُلِقَ مَحْبُوبُهَا، أَيْ أَنَّ مَحَبَّتَهُ إِيَّاهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ. وَالْهَلَعُ: صِفَةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ، فَوَصْفُ الْإِنْسَانِ هُنَا بِهَا لَوْمٌ عَلَيْهِ فِي تَقْصِيرِهِ عَنِ التَّخَلُّقِ بِدَفْعِ آثَارِهَا، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ: وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 18] عَلَى كِلَا مَعْنَيَيْهِ. وَانْتَصَبَ جَزُوعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي هَلُوعاً، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ حَالَ الْهَلَعِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْجَزَعِ عِنْدَ مَسِّ الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ: مَنُوعاً عَطْفٌ عَلَى جَزُوعاً، أَيْ خُلِقَ هَلُوعًا فِي حَالِ كَوْنِهِ جَزُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ، وَمَنُوعًا إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ. والشَّرُّ: الْأَذَى مِثْلُ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ. والْخَيْرُ: مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ وَيُلَائِمُ رَغَبَاتِهِ مِثْلَ الصِّحَّةِ وَالْغِنَى. وَالْجَزُوعُ: الشَّدِيدُ الْجَزَعِ، وَالْجَزَعُ: ضِدُّ الصَّبْرِ. وَالْمَنُوعُ: الْكَثِيرُ الْمَنْعِ، أَيْ شَدِيدُ الْمَنْعِ لِبَذْلِ شَيْءٍ مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ. وإِذا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ظَرْفَانِ يَتَعَلَّقَانِ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ وَصْفَيْ جَزُوعاً ومَنُوعاً.

[سورة المعارج (70) : الآيات 22 إلى 35]

[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 22 إِلَى 35] إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) اسْتثِْنَاء مُنْقَطع ناشىء عَنِ الْوَعِيدِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ [المعارج: 11] الْآيَةَ. فَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ الْمُصَلِّينَ الْمَوْصُوفِينَ بِكَيْتَ وَكَيْتَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ. فَجُمْلَةُ أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ حَيْثُ وَقَعَتْ بَعْدَ إِلَّا الْمُنْقَطِعَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى (لَكِنَّ) فَلَهَا حُكْمُ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنِ اسْمِ (لَكِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ أَوْ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (لَكِنَّ) الْمُخَفَّفَةِ وَهُوَ مَا حَقَّقَهُ الدَّمَامِينِيُّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ هِشَامٍ رَأَى عَدَّ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فِي عِدَادِ الْجُمَلِ الَّتِي لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمُقَابَلَةِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَحْوَالِ الْكَافِرِينَ، وَوَعْدِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ. وَهَذِهِ صِفَاتٌ ثَمَانٍ هِيَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَدَلَ عَنْ إِحْضَارِهِمْ بِوَصْفِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَعْدَادِ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِهِمْ إِطْنَابًا فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَقَامَ الثَّنَاءِ مَقَامُ إِطْنَابٍ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّمَانِ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْكَوْنِ فِي الْجَنَّاتِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا يُشَارِكُهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي مُعْظَمِهَا بِالْمَرَّةِ، وَبَعْضُهَا قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَهُ حَقَّ مُرَاعَاتِهِ بِاطِّرَادٍ، وَذَلِكَ حِفْظُ الْأَمَانَاتِ وَالْعَهْدِ، فَالْمُشْرِكُ يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ وَالْعَهْدَ اتِّقَاءَ مَذَمَّةِ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَمَعَ أَحْلَافِهِ دُونَ أَعْدَائِهِ، وَالْمُشْرِكُ يَشْهَدُ بِالصِّدْقِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ هَوًى فِي الْكَذِبِ، وَإِذَا خَشِيَ أَنْ يُوصَمَ بِالْكَذِبِ. وَقَدْ غَدَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي عِدَّةِ حَوَادِثَ، وَغَدَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَوْ عَلِمَ الْمُشْرِكُ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى كَذِبِهِ وَكَانَ لَهُ هَوًى لَمْ يُؤَدِّ الشَّهَادَةَ. وَلَمَّا كَانَ وَصْفُ الْمُصَلِّينَ غَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الْآيَة [المدثر: 42، 43] ، أَتْبَعَ وَصْفَ الْمُصَلِّينَ فِي الْآيَةَ هَذِهِ بِوَصْفِ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أَيْ مُوَاظِبُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ أَدَائِهَا وَلَا يَتْرُكُونَهَا. وَالدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ: عَدَمُ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ عَمَلٍ بِحَسَبِ مَا يُعْتَبَرُ دَوَامًا فِيهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي مَسْأَلَةِ إِفَادَةِ الْأَمْرِ التَّكْرَارَ.

وَفِي إِضَافَةِ (صَلَاةٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُصَلِّينَ تَنْوِيهٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِهِمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمُسْلِمِينَ مُقَابِلُ وَصْفِ الْكَافِرِينَ فِي قَوْلِهِ: بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ [المعارج: 1، 2] . وَمَجِيءُ الصِّلَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً دُونَ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ يَدُومُونَ، لِقَصْدِ إِفَادَتِهَا الثَّبَاتَ تَقْوِيَةً كَمُفَادِ الدَّوَامِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ مَعَ الصِّلَاتِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِأَصْحَابِ تِلْكَ الصِّلَاتِ. وَتَسْمِيَةُ مَا يُعْطُونَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ بَاسْمِ حَقٌّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا السَّائِلَ وَالْمَحْرُومَ كَالشُّرَكَاءِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ فرط رغبتهم فِي مُوَاسَاةِ إِخْوَانِهِمْ إِذْ لَمْ تَكُنِ الصَّدَقَةُ يَوْمَئِذٍ وَاجِبَةً وَلَمْ تَكُنِ الزَّكَاةُ قَدْ فُرِضَتْ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَقِّ مَعْلُومًا أَنَّهُ يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَحْسِبُونَهُ، وَيَعْلَمُهُ السَّائِلُ وَالْمَحْرُومُ بِمَا اعْتَادَ مِنْهُمْ. وَمَجِيءُ الصِّلَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ ثَبَاتِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ فِيهِمْ وَتَمَكُّنِهَا مِنْهُمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الشُّحِّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ غَالِبِ النَّاسِ مِنْ مُعَاوَدَةِ الشُّحِّ لِلنُّفُوسِ. وَالسَّائِلُ: هُوَ الْمُسْتَعْطِي، والْمَحْرُومِ: الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ تَعَفُّفًا مَعَ احْتِيَاجِهِ فَلَا يَتَفَطَّنُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَيَبْقَى كَالْمَحْرُومِ. وَأَصْلُ الْمَحْرُومِ: الْمَمْنُوعُ مِنْ مَرْغُوبِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ [19] فِي قَوْلِهِ: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُضَادَّةُ صِفَةِ الْكَافِرِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 18] . وَالتَّصْدِيقُ بِيَوْمِ الدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، والدِّينِ: الْجَزَاءُ. وَهَذَا الْوَصْفُ مُقَابِلُ وَصْفِ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً [المعارج: 6] . وَلَمَّا كَانَ التَّصْدِيقُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ لم يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَفَاوُتٌ أُتِيَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْأَصْلِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ، وَأُوثِرَ فِيهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ [المعارج: 1، 2] لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ سُؤَالُ مُسْتَخِفٍّ بِذَلِكَ وَمُحِيلِهِ.

وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ وَأَخْذُ الْحَذَرِ مِنْهُ. وَصَوْغُ الصِّلَةِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِتَحْقِيقِ وَثَبَاتِ اتِّصَافِهِمْ بِهَذَا الْإِشْفَاقِ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، فَمِنْ شَأْنِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ التَّرَدُّدُ فِيهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ غَيْرُ مَأْمُونٍ لَهُمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِزَعْمِ الْمُشْرِكِينَ الْأَمْنَ مِنْهُ إِذْ قَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشُّعَرَاء: 138] . وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي تَهْوِيلِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْجَزَاءِ بقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] إِذْ أَخَصُّ الْأَحِمَّاءِ بِالرَّجُلِ زَوْجُهُ، فَقَصَدَ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ هَذَا الْهَوْلَ خَاصٌّ بِهِمْ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ يُحْبَرُونَ لِأَنَّهُمُ اتَّقَوُا اللَّهَ فِي الْعِفَّةِ عَنْ غَيْرِ الْأَزْوَاجِ، قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] . وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ سفاح وَلَا زنا وَلَا مُخَالَّةٌ وَلَا بِغَاءٌ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. وَالْعَادِي: الْمُفْسِدُ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فَاخْتَلَطَتْ أَنْسَابُهُمْ وَتَطَرَّقَتِ الشُّكُوكُ إِلَى حَصَانَةِ نِسَائِهِمْ، وَدَخَلَتِ الْفَوْضَى فِي نُظُمِ عَائِلَاتِهِمْ، وَنَشَأَتْ بَيْنَهُمُ الْإِحَنُ مِنَ الْغَيْرَةِ. وَذِكْرُ رَعْيِ الْأَمَانَاتِ وَالْعَهْدِ لِمُنَاسَبَةِ وَصْفِ مَا يَوَدُّ الْكَافِرُ يَوْمَ الْجَزَاءِ أَنْ يَفْتَدِيَهُ مِنَ الْعَذَابِ بِفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ فَيَذْهَبُ مِنْهُ رَعْيُ الْعُهُودِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا لِلْقَبِيلَةِ. وَحَسْبُكَ مِنْ تَشْوِيهِ حَالِهِ أَنَّهُ قَدْ نَكَثَ الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ لِقَوْمِهِ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ بِنَفْسِهِ وَكَانَ يَفْدِيهِمْ بِنَفْسِهِ، وَالْمُسْلِمُ لَمَّا كَانَ يَرْعَى الْعَهْدَ بِمَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ دِينُهُ جَازَاهُ اللَّهُ بِأَنْ دَفَعَ عَنْهُ خِزْيَ وَدَادَةِ فِدَائِهِ نَفْسَهُ بِمَوَالِيهِ وَأَهْلِ عَهْدِهِ. وَالْقَوْلُ فِي اسْمِيَّةِ الصِّلَةِ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَالرَّعْيُ: الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ. وَأَصْلُهُ رَعْيُ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِأَماناتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِأَمَانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ.

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ذُكِرَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ رَعْيِ الْأَمَانَاتِ إِذِ الشَّهَادَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَانَاتِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَدِيعَةٌ فِي حِفْظِ الشَّاهِدِ فَإِذَا أَدَّى شَهَادَتَهُ فَكَأَنَّهُ أَدَّى أَمَانَةً لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ كَانَتْ فِي حِفْظِ الشَّاهِدِ. وَلِذَلِكَ كَانَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إِذَا طُولِبَ بِهِ الشَّاهِدُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: 282] . وَالْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ: الِاهْتِمَامُ بِهَا وَحِفْظُهَا إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، وَهَذَا قِيَامٌ مَجَازِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [3] . وباء بِشَهاداتِهِمْ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ يَقُومُونَ مُصَاحِبِينَ لِلشَّهَادَةِ وَيَصِيرُ مَعْنَى الْبَاءِ فِي الِاسْتِعَارَةِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ. فَذِكْرُ الْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ إِتْمَامٌ لِخِصَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَطَلَّبُ لَهُ مُقَابِلٌ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَالْقَوْلُ فِي اسْمِيَّةِ جُمْلَةِ الصِّلَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرِيبًا أَوْ صَدِيقًا، وَقَدْ تُثِيرُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَرْءِ إِحْنَةً مِنْهُ وَعَدَاوَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِشَهَادَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّهَادَاتِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا. وَقَرَأَ حَفْص وَيَعْقُوب بِشَهاداتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ جَمْعِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِعِنَايَتِهِمْ بِالصَّلَاةِ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهَا شَيْءٌ يُخِلُّ بِكَمَالِهَا، لِأَنَّ مَادَّةَ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحِفْظِ مِثْلَ: عَافَاهُ اللَّهُ، وَقَاتَلَهُ اللَّهُ، فَالْمُحَافَظَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا وَأَوْقَاتِهَا. وَإِيثَارُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْحِفَاظِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ بِهِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لِجُمْلَةِ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ بَلْ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى مَعَ حُصُولِ الْغَرَضِ مِنَ التَّأْكِيدِ بِإِعَادَةِ مَا يُفِيدُ عِنَايَتَهُمْ بِالصَّلَاةِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ. وَفِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ الصَّلَوَاتِ تُكَفِّرُ

[سورة المعارج (70) : الآيات 36 إلى 41]

الذُّنُوبَ كَحَدِيثِ «مَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ» . وَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ أُخْرَى هَذِهِ الصِّلَاتِ وَبَيْنَ أُولَاهَا مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ مَعَ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَلَمَّا أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ أُخْبِرَ عَنْ جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ مُكَرَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا سَبَقَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] . وَالْإِكْرَامُ: التَّعْظِيمُ وَحُسْنُ اللِّقَاءِ، أَيْ هُمْ مَعَ جَزَائِهِمْ بِنَعِيمِ الْجَنَّاتِ يُكْرَمُونَ بِحُسْنِ اللِّقَاءِ وَالثَّنَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 23، 24] وَقَالَ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَقَوْلُهُ مُكْرَمُونَ خَبَرًا ثَانِيًا. [36- 41] [سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 36 الى 41] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا فُرِّعَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ وَتَعْجِيبِيٌّ مِنْ تَجَمُّعِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَهْزِئِينَ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ. فُرِّعَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَفَادَهُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج: 35] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي دُخُول الْجنَّة فَمَاذَا يُحَاوِلُونَ بِتَجَمُّعِهِمْ حَوْلَكَ بِمَلَامِحِ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْلَاغُهُ إِلَيْهِمْ فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ

مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعْنَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْهِيَتُهُ بِحَرْفِ الرَّدْعِ فَهُوَ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُقَرَّرٌ فِي علمه. وَمعنى فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ عِنْدَكَ، أَوْ فِي حَالِ إِهْطَاعِهِمْ إِلَيْكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وَتَرْكِيبُ «مَا لَهُ» لَا يَخْلُو مِنْ حَالٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ جُمْلَةٍ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ تَكُونُ هِيَ مَصَبُّ الِاسْتِفْهَامِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَيْهَا الِاسْتِفْهَامُ هُنَا الظَّرْفَ، أَيْ قِبَلَكَ فَيَكُونُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا وَصَاحِبُ الْحَال هُوَ لِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُهْطِعِينَ، فَيَكُونُ قِبَلَكَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ مُهْطِعِينَ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُمَا مَثَارِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فَأَيُّهُمَا جُعِلَ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ أُجْرِيَ الْآخَرُ الْمُجْرَى اللَّائِقَ بِهِ فِي التَّرْكِيبِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الَّذِينَ مَفْصُولَةً عَنْ مَدْخُولِهَا وَهُوَ رَسْمٌ نَادِرٌ. وَالْإِهْطَاعُ: مَدُّ الْعُنُقِ عِنْدَ السَّيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [8] . قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُونَ: لَئِنْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَلَنَدْخُلَنَّهَا قَبْلَهُمْ وَلَيَكُونَنَّ لَنَا فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا لَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِبَلَ: اسْمٌ بِمَعْنَى (عِنْدَ) . وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُهْطِعِينَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ فِي حَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْوَقَاحَةِ. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ مِثْلُ مَوْقِعِ قِبَلَكَ وَمَوْقِعُ مُهْطِعِينَ. وَالْمَقْصُودُ: كَثْرَةُ الْجِهَاتِ، أَيْ وَارِدِينَ إِلَيْكَ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَمِينِ والشِّمالِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ أَوِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ: الْإِحَاطَةُ بِالْجِهَاتِ فَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، لِأَنَّهُمَا الْجِهَتَانِ اللَّتَان يغلب حلولهما، وَمِثْلُهُ قَوْلُ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ: فَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً ... مِنْ عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وَأَمَامِي يُرِيدُ: مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وعِزِينَ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وعِزِينَ: جَمَعُ عِزَةٍ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَهِيَ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، اسْمٌ بِوَزْنِ فِعْلَةٍ. وَأَصْلُهُ عِزْوَةٌ بِوَزْنِ كِسْوَةٍ، وَلَيْسَتْ بِوَزْنِ عِدَةٍ. وَجَرَى جَمْعُ عِزَةٍ عَلَى الْإِلْحَاقِ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ سِنَةٍ مِنْ كُلِّ اسْمٍ ثُلَاثِيٍّ حُذِفَتْ لَامَهُ وَعُوِّضَ عَنْهَا هَاءَ التَّأْنِيثِ وَلَمْ يُكْسَرْ مِثْلَ عِضَةٍ (لِلْقِطْعَةِ) . وَهَذَا التَّرْكِيبُ فِي قَوْله تَعَالَى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ إِلَى قَوْلِهِ جَنَّةَ نَعِيمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً شُبِّهَ حَالُهُمْ فِي إِسْرَاعِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ يُظَنُّ بِهِمُ الِاجْتِمَاعُ لِطَلَبِ الْهُدَى وَالتَّحْصِيلِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَا يَلْتَفَّ حَوْلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا طالبوا الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ تَجْرِي فِي مَجْمُوعِ الْكَلَامِ مَعَ بَقَاءِ كَلِمَاتِهِ عَلَى حَقَائِقِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ إِسْرَاعِهِمْ ثُمَّ تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ. وَجُمْلَةُ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَنْ جُمْلَةِ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الْآيَةَ، لِأَنَّ الْتِفَافَهُمْ حَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ فَشُبِّهَ حَالُهُمْ بِحَالِ طَالِبِي النَّجَاةِ وَالْهُدَى فَأُورِدَ اسْتِفْهَامٌ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا مُسْتَهْزِئِينَ: نَحْنُ نَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارًا لِتَظَاهُرِهِمْ بِالطَّمَعِ فِي الْجَنَّةِ بِحَمْلِ اسْتِهْزَائِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَوْ بِالتَّعْبِيرِ بِفِعْلِ

يَطْمَعُ عَنِ التَّظَاهُرِ بِالطَّمَعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَة: 64] أَيْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ. وَأُسْنِدَ الطَّمَعُ إِلَى كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَيَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، تَصْوِيرًا لِحَالِهِمْ بِأَنَّهَا حَالُ جَمَاعَةٍ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لِتَسَاوِيهِمْ، يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً فِي ذَلِكَ، فَفِي قَوْلِهِ: كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ تَقْوِيَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. ثُمَّ بُنِيَ عَلَى التَّهَكُّمِ مَا يُبْطِلُ مَا فُرِضَ لِحَالِهِمْ بِمَا بُنِيَ عَلَيْهِ التَّمْثِيلُ التَّهَكُّمِيُّ بِكَلِمَةِ الرَّدْعِ وَهِيَ كَلَّا أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمَجَازِ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَمِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ لَمْ يَكُنْ تَهَكُّمًا. وَهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى إِثْبَاتِ الْجَزَاءِ. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) . كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلِانْتِقَالِ مِنْ إِثْبَاتِ الْجَزَاءِ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ إِبْطَالًا لِشُبْهَتِهِمُ الْبَاعِثَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ الَّذِي ذُكِرَ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] فَاحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 62] فَالْخَبَرُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ إِثْبَاتُ إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ حَتَّى صَارَتْ إِنْسَانًا عَاقِلًا مُنَاظِرًا فَكَذَلِكَ نُعِيدُ خَلْقَهُ بِكَيْفِيَّةٍ لَا يعلمونها. فَمَا صدق (مَا يَعْلَمُونَ) هُوَ مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّهُ كُوِّنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا هَذِهِ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَأَلْهَاهُمُ التَّعَوُّدُ بِهَا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْمُكَوَّنِ مِنْهَا بِتَكْوِينٍ آخَرَ.

وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ، كَمَا قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: 2] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 77، 78] وَغَيْرُهَا مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْلَمُونَ تَوْجِيهًا لِلتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ جَادَلُوا وَعَانَدُوا، وَعِلْمُ مَا جَادَلُوا فِيهِ قَائِمٌ بِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 62] . وَكَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا يَعْلَمُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُخْلَقُونَ الْخَلْقَ الثَّانِيَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةَ الْأُخْرَى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] وَقَالَ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 61] فَكَانَ فِي الْخَلْقِ الْأَوَّلِ سِرٌّ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَمَجِيءُ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مُوَكَّدًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِتَنْزِيلِهِمْ فِيمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ الْبَاطِلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُطْفَةٍ وَكَانُوا مَعْدُومِينَ، فَكَيْفَ أَحَالُوا إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ عدم بعض أجزائهم وَبَقِيَ بَعْضُهَا ثُمَّ أَتْبَعَ هَذِهِ الْكِنَايَةَ عَنْ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّا لَقَادِرُونَ الْآيَة. وَجُمْلَة (لَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ) إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفَاءِ وَمَا عَطَفَتْهُ. وَالْقَسَمُ بِاللَّهِ بِعُنْوَانِ رُبُوبِيَّتِهِ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مَعْنَاهُ: رُبُوبِيَّتُهُ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِأَنَّ الْعَالَمَ مُنْحَصِرٌ فِي جِهَاتِ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا. وَجَمْعُ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا فِي فُصُولِ السَّنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَظْهَرٌ عَجِيبٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْحَرَكَاتِ الْحَافَّةِ بِالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَظِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ قَسَمٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ دُونَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ مَعَ أَنَّ الشَّمَالَ وَالْجَنُوبَ جِهَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى سُنَّةِ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ. وَفِي إِيثَارِ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ بِالْقَسَمِ بِرَبِّهَا رَعْيٌ لِمُنَاسَبَةِ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ غُرُوبِهَا لِتَمْثِيلِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي دُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ مَعَ (لَا أُقْسِمُ) عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [38، 39] ، وَقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [75] . وَقَوْلُهُ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَوَّلَهُمَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ نُبَدِّلَهُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، أَيْ نُبَدِّلُ ذَوَاتَهُمْ خَلْقًا خَيْرًا مِنْ خَلْقِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ. وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْإِتْقَانِ وَالسُّرْعَةِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّمَا كَانَ خَلْقًا أُتْقِنَ مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ خَلْقٌ مُنَاسِبٌ لِعَالَمِ الْخُلُودِ، وَكَانَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ مُنَاسِبًا لِعَالَمِ التَّغَيُّرِ وَالْفَنَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نُبَدِّلَ مُضَمَّنًا مَعْنَى: نُعَوِّضُ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ نُبَدِّلَ ضَمِيرًا مِثْلَ ضَمِيرِ مِنْهُمْ أَيْ نُبَدِّلُهُمْ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي خَيْراً مِنْهُمْ. وَ (مِنْ) تَفْضِيلِيَّةٌ، أَيْ خَيْرًا فِي الْخِلْقَةِ، وَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ زَمَانَيِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالْخَلْقِ الثَّانِي، أَوِ اخْتِلَافِ عَالَمَيْهِمَا. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ نُبَدِّلَ هَؤُلَاءِ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ، أَيْ بِأُمَّةٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ نُبَدِّلَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا مِثْلَ مَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ خَيْراً مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْبَدَلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: 61] ، وَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنْ سَيَسْتَأْصِلُهُمْ وَيَأْتِي بِقَوْمٍ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: 38] . وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِحَالِهِمْ. وَذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، وَالْمَسْبُوقُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَغْلُوبِ عَنْ أَمْرِهِ، شُبِّهَ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْحَلْبَةِ، أَوْ بِالْمَسْبُوقِ فِي السَّيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءِ الْفَقْعَسِيِّ: كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ يُرِيدُ: كَأَنَّكَ لَمْ تُغْلَبْ إِذَا تَدَارَكْتَ أَمْرَكَ وَأَدْرَكْتَ طِلْبَتَكَ.

[سورة المعارج (70) : الآيات 42 إلى 44]

وَ (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) مُتَعَلق بمسبوقين، أَيْ مَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ عَلَى ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بِأَمْثَالِكُمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [61] إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ. [42- 44] [سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 42 إِلَى 44] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تضمنه قَوْله: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ [المعارج: 36] مِنْ إِرَادَتِهِمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّنَا نَدْخُلُ الْجَنَّةَ، الِاسْتِهْزَاءَ بِالْقُرْآنِ وَالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْدَ إِبْطَالِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا فُرِّعَ عَنْ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِتَرْكِهِمْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْدِ فِيهِمُ الْهَدْيُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ وَالْمُنَاوَاةِ. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِتَرْكِ مَا أَهَمَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ وُضُوحِ الْحُجَجِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَلَمَّا كَانَ أَكْبَرُ أَسْبَابِ إِعْرَاضِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ هُوَ خَوْضَهُمْ وَلَعِبَهُمْ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا. فَجُمْلَةُ يَخُوضُوا وَجُمْلَةُ وَيَلْعَبُوا حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ. وَتِلْكَ الْحَالُ قَيْدٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَرْ خَوْضَهُمْ وَلَعِبَهُمْ وَلَا تَحْزَنْ لِعِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (ذَر) إِلَى ضميرهم مِنْ قَبِيلِ تَوَجُّهِ الْفِعْلِ إِلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ تُوَجُّهِهِ إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِهَا الَّتِي لَهَا اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُهَا، وَقَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النِّسَاء: 23] أَيْ أَنْ تَجْمَعُوهُمَا مَعًا فِي عِصْمَةِ نِكَاحٍ وَالِاعْتِمَادُ فِي هَذَا عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ فِي سُورَةِ الطُّورِ [45] ، أَوْ عَلَى ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا فِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُخْتَلِفًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [الْمَائِدَة: 90] إِذِ التَّقْدِيرُ: فَاجْتَنِبُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَالتَّقَامُرَ بِالْمَيْسِرِ وَعِبَادَةَ الْأَنْصَابِ وَالِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ الْمُعَنْوَنُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ، أَوْ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَلِوُضُوحِ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمُرَادِ لَمْ يَعُدُّهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ يُتَوَسَّلُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ إِلَى الْكِنَايَةِ عَنِ التَّحْقِيرِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ كَقَوْلِ كَبْشَةَ أُخْتِ عَمْرو بن معديكرب تُلْهَبُ أَخَاهَا عَمْرًا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ قُتِلَ: وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمُ ... وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَيْ لَا تَكْتَرِثْ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ أَنْ تَصْرِفَ هِمَّتَكَ فِي شَأْنِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِحُكْمِ الْقِتَالِ، وَلَا هُوَ مِنَ الْمُوَادَعَةِ وَلَا هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْخَوْضُ: الْكَلَامُ الْكَثِيرُ، وَالْمُرَادُ خَوْضُهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَاللَّعِبُ: الْهَزْلُ وَالْهُزْءُ وَهُوَ لَعِبُهُمْ فِي تَلَقِّي الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَخُرُوجِهِمْ عَنْ حُدُودِ التَّعَقُّلِ وَالْجِدِّ فِي الْأَمْرِ لِاسْتِطَارَةِ رُشْدِهِمْ حَسَدًا وَغَيْظًا وَحُنْقًا. وَجَزْمُ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ارْتِبَاطِ خَوْضِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ إِذْ مُقْتَضَى جَزْمِهِ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَدَّرَ: أَنْ تَذَرَهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا، أَيْ يَسْتَمِرُّوا فِي خَوْضِهِمْ وَلَعِبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَضِيرُكَ، وَمِثْلُ هَذَا الْجَزْمِ كَثِيرٌ نَحْوَ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] وَنَحْوَ وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: 53] . وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ يَجْعَلُ أَمْثَالَهُ مَجْزُومًا بِلَامِ الْأَمْرِ مُقَدَّرَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَقُولُ القَوْل وَهُوَ يفيت نُكْتَةَ الْمُبَالَغَةِ.

وَ (حَتَّى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ (ذَرْهُمْ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى، أَمْهِلْهُمْ وَانْتَظِرْهُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي وُعِدُوهُ هُوَ يَوْمُ النُّشُورِ حِينَ يُجَازَوْنَ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، فَلَا يَكُونُ غَايَةً لِ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا وَالْغَايَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ تَرْكِهِمْ. وَإِضَافَةُ (يَوْم) إِلَى ضميرهم لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلاقُوا بِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ مِنَ الْمُلَاقَاةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ أَلِفٍ مِنَ اللِّقَاءِ. وَاللِّقَاءُ: مُجَازٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَتَيْنِ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يَلْقَى وَلَا يُلْقَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ اللِّقَاءَ إِنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الذَّوَاتِ. ويَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَهُمُ لَيْسَ ظَرْفًا. وَالْخُرُوجُ: بُرُوزُ أَجْسَادِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَخْرُجُونَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. والْأَجْداثِ: جَمَعُ جَدَثٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْقَبْرُ، وَالْقَبْرُ: حَفِيرٌ يُجْعَلُ لِمُوَارَاةِ الْمَيِّتِ. وَضَمِيرُ يَخْرُجُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْركين الْمخبر عَنهُ بِالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ. وَجَمِيعُهُمْ قَدْ دُفِنُوا فِي قُبُورٍ أَوْ وُضِعُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ. وَالنَّصْبُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ: الصَّنَمُ، وَيُقَالُ: نُصُبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ نُصُبًا أَنَّهُ يُنْصَبُ لِلْعِبَادَةِ، قَالَ الْأَعْشَى: وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ... وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا ويُوفِضُونَ مُضَارِعُ أَوْفَضَ، إِذَا أَسْرَعَ وَعَدَا فِي سَيْرِهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى صَنَمٍ، شُبِّهَ إِسْرَاعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْحَشْرِ بِإِسْرَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْأَصْنَامِ لِزِيَارَتِهَا لِأَنَّ لِهَذَا الْإِسْرَاعِ اخْتِصَاصًا بِهِمْ، وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ إِدْمَاجٌ لِتَفْظِيعِ حَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِسْرَاعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِسْرَاعُ دَعٍّ، وَدَفْعٍ جَزَاءً عَلَى إِسْرَاعِهِمْ لِلْأَصْنَامِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ. وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ اسْتِعَارَةٌ لِلنَّظَرِ إِلَى أَسْفَلَ مِنَ الذُّلِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] وَقَالَ: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَر: 7] . وَأَصْلُ الْخُشُوعِ: ظُهُورُ الطَّاعَةِ أَوِ الْمَخَافَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَالرَّهَقُ: الْغَشَيَانُ، أَيْ التَّغْطِيَةُ بِسَاتِرٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ هُنَا لِأَنَّ الذِّلَّةَ لَا تَغْشَى. وَجُمْلَةُ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ فِي أَوَّلِ أَغْرَاضِهَا مِنْ قَوْلِهِ: بِعَذابٍ واقِعٍ إِلَى قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ الْآيَات [المعارج: 1- 4] ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدَ جُمْلَةِ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. وَفِيهَا مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.

71- سورة نوح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 71- سُورَةُ نُوحٍ بِهَذَا الِاسْمِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَتَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» بِتَرْجَمَةِ «سُورَةِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا» . وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ الشَّائِعَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَلَمْ يُتَرْجِمْ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» . وَهِيَ مَكِّيَّة بالِاتِّفَاقِ. وَقد عدت الثَّالِثَةَ وَالسَّبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ الطُّورِ. وَعَدَّ الْعَادُّونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ آيَهَا ثَلَاثِينَ آيَةً، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ آيَةً، وَعَدَّهَا أهل الْكُوفَة ثمانا وَعِشْرِينَ آيَةً. أَغْرَاضُهَا أَعْظَمُ مَقَاصِدِ السُّورَةِ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْمِ نُوحٍ وَهُمْ أَوَّلُ الْمُشْرِكِينَ

[سورة نوح (71) : آية 1]

الَّذِينَ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عِقَابٌ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ أَعْظَمُ عِقَابٍ أَعْنِي الطُّوفَانَ. وَفِي ذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ بِحَالِهِمْ. وَفِيهَا تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ مِنْ دَعْوَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِنْذَارِهِ قَوْمَهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَاسْتِدْلَالِهِ لَهُمْ بِبَدَائِعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَذْكِيرِهِمْ بِيَوْمِ الْبَعْثِ. وَتَصْمِيمُ قَوْمِهِ عَلَى عِصْيَانِهِ وَعَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ. وَتَسْمِيَةُ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَدَعْوَةُ نُوحٍ عَلَى قَوْمِهِ بِالِاسْتِئْصَالِ. وَأَشَارَتْ إِلَى الطُّوفَانِ. وَدُعَاءُ نُوحٍ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَبِالتَّبَارِ لِلْكَافِرِينَ كُلِّهِمْ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِدْمَاجُ وَعْدِ الْمُطِيعِينَ بِسَعَةِ الْأَرْزَاقِ وَإِكْثَارِ النَّسْلِ ونعيم الْجنَّة. [1] [سُورَة نوح (71) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالتَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ لِرَدِّ إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، وَلَا دَفْعِ شَكٍّ عَنْ مُتَرَدِّدٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ. وَكَثِيرًا مَا يَفْتَتِحُ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ أَوَّلَ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا (إِنَّ) دَاخِلَةً عَلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ الْآيَة [النَّمْل: 30، 31] . وَذِكْرُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَضَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ مَادَّةِ النَّوْحِ. وأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ إِلَى آخِرِهِ هُوَ مَضْمُونُ مَا أُرْسِلَ بِهِ نُوحٌ إِلَى قَوْمِهِ، فَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَرْسَلْنا. وَفِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ غَضَبَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِذْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَلَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَلَمْ يُطِيعُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُنْذِرَهُمْ عَذَابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ لِيَكُونَ إِنْذَارُهُ مُقَدَّمًا عَلَى حُلُولِ الْعَذَابِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أُمِرَ

[سورة نوح (71) : الآيات 2 إلى 4]

بِأَنْ يُعْلِمَهُمْ بِهَذَا الْعَذَابِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَقَّتَهُ بِمدَّة بقائهم على الشِّرْكِ بَعْدَ إِبْلَاغِ نُوحٍ إِلَيْهِمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَقَعُ الْإِبْلَاغُ فِي مِثْلِهَا، فَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ أَنْذِرْ لِدَلَالَةِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 3] . وَحَرْفُ مِنْ زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ فَهِيَ قَبْلِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَتَأْكِيدُهَا بِاعْتِبَارِ تَحْقِيقِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ قَبْلِ. وَ «قَوْمُ نُوحٍ» هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ كَانُوا عَامِرِينَ الْأَرْضَ يَوْمَئِذٍ، إِذْ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَذَلِكَ صَرِيحُ مَا فِي التَّوْرَاةِ. وَالْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ مَوْطِنٌ وَاحِدٌ أَوْ نَسَبٌ وَاحِدٌ بِرِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ. وَإِضَافَةُ (قَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَلَهُمْ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهِ، وَلِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بَيْنَ أَبْنَاءٍ لَهُ وَأَنْسِبَاءَ فَإِضَافَتُهُمْ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعْرِيفٌ لَهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْمٌ خَاصٌّ مِنْ أَسْمَاءِ الْأُمَمِ الْوَاقِعَةِ مِنْ بَعْدُ. وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَنْذِرِ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْذِرْ قَوْمَكَ إِلْهَابًا لِنَفْسِ نُوحٍ لِيَكُونَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى مَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ فِيهِمْ أَبْنَاءَهُ وَقَرَابَتَهُ وَأَحِبَّتَهُ، وَهُمْ عَدَدٌ تَكَوَّنَ بِالتَّوَالُدِ فِي بَنِي آدَمَ فِي مُدَّةِ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ حُلُولِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَعَلَّ عَدَدَهُمْ يَوْمَ أُرْسِلَ إِلَيْهِم نُوحٍ لَا يَتَجَاوَزُ بِضْعَةَ آلَافٍ. [2- 4] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 2 الى 4] قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ بِالْفَاءِ التَّفْرِيعِيَّةِ عَلَى جُمْلَةِ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [نوح: 1] لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أُدْمِجَ فِيهِ فِعْلُ قَوْلِ نُوحٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَقُولَ فَقَالَ، تَنْبِيهًا عَلَى مُبَادَرَةِ نُوحٍ لِإِنْذَارِ قَوْمِهِ فِي حِين يلوغ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ مَاذَا فَعَلَ نُوحٌ حِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. وَافْتِتَاحُ دَعْوَتِهِ قَوْمَهَ بِالنِّدَاءِ لِطَلَبِ إِقْبَالِ أَذْهَانِهِمْ وَنِدَاؤُهُمْ بِعُنْوَانِ: أَنَّهُمْ قَوْمُهُ، تَمْهِيدٌ لِقَبُولِ نُصْحِهِ إِذْ لَا يُرِيدُ الرَّجُلُ لِقَوْمِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ. وَتَصْدِيرُ دَعْوَتِهِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْخَبَرِ. وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ مِثْلُ بَشِيرٍ، وَمِثْلُ حَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، وَأَلِيمٌ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَسَمِيعٌ بِمَعْنَى مُسْمِعٍ، فِي قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [10] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقَ نَذِيرٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنْ لَمْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَمْ تَتَّقُوهُ وَلَمْ تُطِيعُونِي. وَالْمُبِينُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي الَّذِي مُجَرَّدُهُ بَانَ، أَيْ مُوَضِّحٌ أَوْ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ، الَّذِي هُوَ مُرَادِفُ بَانَ الْمُجَرَّدِ، أَيْ نَذِيرٌ وَاضِحٌ لَكُمْ أَنِّي نَذِيرٌ، لِأَنِّي لَا أَجْتَنِي مِنْ دَعْوَتِكُمْ فَائِدَةً مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ لَكُمْ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء [109، 110] وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ نَذِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مِنْ كَوْنِ النِّذَارَةُ لِفَائِدَتِهِمْ لَا لِفَائِدَتِهِ. فَجَمَعَ فِي صَدْرِ دَعْوَتِهِ خَمْسَةَ مُؤَكِّدَاتٍ، وَهِيَ: النِّدَاءُ وَجَعْلُ الْمُنَادَى لَفْظَ يَا قَوْمِ الْمُضَافَ إِلَى ضَمِيرِهِ، وَافْتِتَاحُ كَلَامِهِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ، وَاجْتِلَابُ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَتَقْدِيمُ مَجْرُورِهَا. وأَنِ فِي أَنِ اعْبُدُوا تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ وَصْفَ نَذِيرٌ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَأَمْرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَنَسُوهَا بِالتَّمَحُّضِ لِأَصْنَامِهِمْ، وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ مُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [71] فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ وَبِذَلِكَ كَانَ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِحَالِ قَوْمِ نُوحٍ تَمْثِيلًا تَامًّا.

وَاتِّقَاءُ اللَّهِ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، فَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ: حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ مِنْ بَابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُهَا، أَيْ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ بِهِ. وَطَاعَتُهُمْ لِنُوحٍ هِيَ امْتِثَالُهُمْ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَةِ نُوحٍ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ أَعْمَالٌ تُطْلَبُ الطَّاعَةُ فِيهَا، لَكِنْ لَمْ تَخْلُ شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ مِنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ مِثْلَ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، فَقَوْلُهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ينْصَرف بادىء ذِي بَدْءٍ إِلَى ذُنُوبِ الْإِشْرَاكِ اعْتِقَادًا وَسُجُودًا. وَجَزْمُ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ فِي جَوَابِ الْأَوَامِرِ الثَّلَاثَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، أَيْ إِنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ. وَحَرْفُ مِنْ زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ مِنْ فِي الْإِيجَابِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَيِمَّةِ النَّحْوِ مِثْلَ الْأَخْفَشِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ جِنِّي مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَجَمِيعُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. فَيُفِيدُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فِي شَرِيعَةِ نُوحٍ مِثْلَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ وَهُوَ اخْتِيَار التفتازانيّ، أَيْ يَغْفِرْ لَكُمْ بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ، أَيْ ذُنُوبَ الْإِشْرَاكِ وَمَا مَعَهُ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي شَرْعِ نُوحٍ لَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَمَاثُلُ الشَّرَائِعِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ مِنْ تَفَارِيعِ الدِّينِ وَلَيْسَتْ مِنْ أُصُولِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى التَّبْعِيضِ: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ دُونَ مَا يُذْنِبُونَ مِنْ بَعْدُ. وَهَذَا يَتِمُّ وَيَحْسُنُ إِذَا قَدَّرْنَا أَنَّ شَرِيعَةَ نُوحٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَوَامِرَ وَمَنْهِيَّاتٍ عَمَلِيَّةٍ فَيَكُونُ ذِكْرُ مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ اقْتِصَادًا فِي الْكَلَامِ بِالْقَدْرِ الْمُحَقَّقِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَهُوَ وَعْدٌ بِخَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي رَغْبَتِهِ، وَهُوَ طُولُ الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ حُبُّ الْبَقَاءِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ عَوَارِضَ وَمُكَدِّرَاتٍ. وَهَذَا نَامُوسٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ لِتَجْرِيَ أَعْمَالُ النَّاسِ عَلَى مَا يُعِينُ عَلَى حِفْظِ النَّوْعِ. قَالَ الْمَعَرِّيُّ: وَكُلٌّ يُرِيدُ الْعَيْشَ وَالْعَيْشُ حَتْفُهُ ... وَيَسْتَعْذِبُ اللَّذَّاتِ وَهْيَ سِمَامُ وَالتَّأْخِيرُ: ضِدُّ التَّعْجِيلِ، وَقَدْ أُطْلِقَ التَّأْخِيرُ عَلَى التمديد والتوسيع فِي أَجْلِ الشَّيْءِ.

وَقَدْ أَشْعَرَ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِالتَّأْخِيرِ أَنَّهُ تَأْخِيرُ مَجْمُوعِهِمْ، أَيْ مَجْمُوعُ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءً لِكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ مِنْهُمْ وَاتَّقَاهُ وَأَطَاعَ الرَّسُولَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَكَمَا يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ [38] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أَيْ سَخِرُوا مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَصْنَعُ الْفُلْكَ لِلْوِقَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ أَمْرُ الطُّوفَانِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّأْخِيرَ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ عَدَمُ اسْتِئْصَالِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَيُؤَخَّرُ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ آجَالُ إِشْخَاصِهِمْ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ. وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: هُوَ الْأَجَلُ الْمُعَيَّنُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ عِنْدَ خِلْقَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَالتَّنْوِينُ فِي أَجَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيِ الْجِنْسِ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى آجَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِعَدَدِ أَصْحَابِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الْحَج: 5] . وَمَعْنَى مُسَمًّى أَنَّهُ مُحَدَّدٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [2] . فَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: هُوَ عُمُرُ كُلِّ وَاحِدٍ، الْمُعَيَّنُ لَهُ فِي سَاعَةِ خَلْقِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْمَلَكَ يُؤْمَرُ بِكَتْبِ أجل الْمَخْلُوق عِنْد مَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» ، وَاسْتُعِيرَتِ التَّسْمِيَةُ لِلتَّعْيِينِ لِشَبَهِ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْآجَالِ. وَالْمَعْنَى: وَيُؤَخِّرُكُمْ فَلَا يُعَجِّلُ بِإِهْلَاكِكُمْ جَمِيعًا فَيُؤَخِّرُ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى أَجْلِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ عَلَى تَفَاوُتِ آجَالِهِمْ. فَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ مَعْنَى آيَةِ سُورَةِ هُودٍ [3] وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهِيَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ تَعْلِيلًا لِلرَّبْطِ الَّذِي بَيْنَ الْأَمْرِ وَجَزَائِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَخْ لِأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَجَوَابِهِ يُعْطِي بِمَفْهُومِهِ مَعْنَى: إِنْ لَا تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تَتَّقُوهُ وَلَا تُطِيعُونِي لَا يَغْفِرْ لَكُمْ وَلَا يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَعُلِّلَ هَذَا

الرَّبْطُ وَالتَّلَازُمُ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ وَبَيْنَ جَزَائِهِ بِجُمْلَةِ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ، أَيْ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لِحُلُولِ الْعَذَابِ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَعْبُدُوهُ وَلَمْ تُطِيعُونِ إِذَا جَاءَ إِبَّانُهُ بِاسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى الشِّرْكِ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ سَاعَتَئِذٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: 98] ، فَيَكُونُ هَذَا حَثًّا عَلَى التَّعْجِيلِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ. فَالْأَجَلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ غَيْرُ الْأَجَلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُنَاسِبُ ذَلِكَ قَوْلَهُ عَقِبَهُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِآجَالِ الْأُمَمِ الْمُعَيَّنَةِ لِاسْتِئْصَالِهِمْ، وَأَمَّا عَدَمُ تَأْخِيرِ آجَالِ الْأَعْمَارِ عِنْدَ حُلُولِهَا فَمَعْلُومٌ لِلنَّاسِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْأَوَّلِينَ. وَفِي إِضَافَةِ أَجَلٍ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَجَلُ الْمُعْتَادُ بَلْ هُوَ أَجَلٌ عَيَّنَهُ اللَّهُ لِلْقَوْمِ إِنْذَارًا لَهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَحْدِيدِ غَايَةِ تَأْخِيرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ دُونَ تَأْخِيرِهِمْ تَأْخِيرًا مُسْتَمِرًّا فَيَسْأَلُ السَّامِعُ فِي نَفْسِهِ عَنْ عِلَّةِ تَنْهِيَةِ تَأْخِيرِهِمْ بِأَجَلٍ آخَرَ فَيَكُونُ أَجَلُ اللَّهِ غَيْرُ الْأَجَلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِكِلَا الْأَجَلَيْنِ: الْأَجَلُ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1] فَإِنَّ لَفْظَ قَبْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعَذَابَ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ غَيْرِ بَعِيدٍ فَلَهُ أَجَلٌ مُبْهَمٌ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَالْأَجَلُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَكُونُ أَجَلُ اللَّهِ صَادِقًا عَلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى وَهُوَ أَجَلُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْقَوْمِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ كَشْفٍ، أَيِ الْأَجَلُ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ إِمَّا لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِلَفْظَيِ (الْأَجَلِ) فِي قَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وَإِمَّا لاخْتِلَاف معنيي الْمَجِيء ومعنيي التَّأْخِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ فَانْفَكَّتْ جِهَةُ التَّعَارُضِ.

أَمَّا مَسْأَلَةُ تَأْخِيرِ الْآجَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَعْمَارِ وَالنَّقْصِ مِنْهَا وَتَوْحِيدِ الْأَجَلِ عِنْدَنَا وَاضْطِرَابِ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَلْ لِلْإِنْسَانِ أَجَلٌ وَاحِدٌ أَوْ أَجَلَانِ فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى تَرْتَبِطُ بِأَصْلَيْنِ: أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِمَا سَيَكُونُ، وَأَصْلِ تَقْدِيرِ اللَّهِ لِلْأَسْبَابِ وَتَرَتُّبِ مُسَبَّبَاتُهَا عَلَيْهَا. فَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ قَالَ تَعَالَى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: 11] أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَالنَّاسُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَأَمَّا وُجُودُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا كَأَسْبَابِ الْحَيَاةِ، وَتَرَتُّبِ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَيْهَا فَيَتَغَيَّرُ بِإِيجَادِ اللَّهِ مُغَيِّرَاتٍ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةٌ إِكْرَامًا لِبَعْضِ عِبَادِهِ أَوْ إِهَانَةً لِبَعْضٍ آخَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ صَدَقَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ فِي عُمُرِهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. فَآجَالُ الْأَعْمَارِ الْمُحَدَّدَةِ بِالزَّمَانِ أَوْ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْأَعْضَاء وتناسب حركاتها قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ. وَآجَالُ الْعُقُوبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُحَدَّدَةِ بِحُصُولِ الْأَعْمَالِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهَا بِوَقْتٍ قَصِيرٍ أَوْ فِيهِ مُهْلَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ للتأخير وَهِي مَا صدق قَوْلُهُ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْد: 39] عَلَى أَظْهَرِ التَّأْوِيلَاتِ فِيهِ وَمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُخَالِفُ مَا يَحْصُلُ فِي الْخَارِجِ. فَالَّذِي رَغَّبَ نُوحٌ قَوْمَهُ فِيهِ هُوَ سَبَبُ تَأْخِيرِ آجَالِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَلَوْ فَعَلُوهُ تَأَخَّرَتْ آجَالُهُمْ وَبِتَأْخِيرِهَا يَتَبَيَّنُ أَنْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ وَأَنَّ آجَالَهُمْ تَطُولُ، وَإِذْ لَمْ يَفْعَلُوهُ فَقَدْ كَشَفَ لِلنَّاسِ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَاطِعُ آجَالِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ» ، وَقَدِ اسْتَعْصَى فَهْمُ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَخَلَطُوا بَيْنَ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَا أَظْهَرَهُ قَدَرُ اللَّهَ فِي الْخَارِجِ الْوُجُودِيِّ. وَفِي إِقْحَامِ فِعْلِ كُنْتُمْ قَبْلَ تَعْلَمُونَ إيذان بِأَن علمهمْ بِذَلِكَ الْمُنْتَفِي لِوُقُوعِهِ شَرْطًا لِحَرْفِ لَوْ مُحَقَّقٌ انْتِفَاؤُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ

[سورة نوح (71) : الآيات 5 إلى 6]

وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا يُؤَخَّرُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَأَيْقَنْتُمْ أَنَّهُ لَا يُؤَخر. [5- 6] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 5 إِلَى 6] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) جُرِّدَ فِعْلُ قالَ هُنَا، مِنَ الْعَاطِفِ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ جَوَابِ نُوحٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [نوح: 1] عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْجَوَابِ الَّذِي يُتَلَقَّى بِهِ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] ، تَنْبِيهًا عَلَى مُبَادَرَةِ نُوحٍ بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى قَوْمِهِ وَتَمَامِ حِرْصِهِ فِي ذَلِكَ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَيْلًا وَنَهاراً وَحُصُولِ يَأْسِهِ مِنْهُمْ، فَجَعَلَ مُرَاجَعَتَهُ رَبَّهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْلًا وَنَهاراً بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْمَقَامِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْمُتَحَاوِرِينَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ قالَ رَبِّ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَعْرِفَةَ مَاذَا أَجَابَ قَوْمُ نُوحٍ دَعْوَتَهُ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانُ مَا يَتَرَقَّبُهُ السَّامِعُ مَعَ زِيَادَةِ مُرَاجَعَةِ نُوحٍ رَبَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الشِّكَايَةُ وَالتَّمْهِيدُ لِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ عَالِمٌ بِمَدْلُولِ الْخَبَرِ. وَذَلِكَ مَا سَيُفْضِي إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً الْآيَات [نوح: 26] . وَفَائِدَةُ حِكَايَةِ مَا نَاجَى بِهِ نُوحٌ رَبَّهُ إِظْهَارُ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ، وَانْتِصَارُ اللَّهِ لَهُ، وَالْإِتْيَانُ عَلَى مُهِمَّاتٍ مِنَ الْعِبْرَةِ بِقِصَّتِهِ، بِتَلْوِينٍ لِحِكَايَةِ أَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ قَوْمِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ لَهُ. وَتِلْكَ ثَمَانِ مَقَالَاتٍ هِيَ: 1- أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ إِلَخ [نوح: 1] . 2- قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ إِلَخْ [نُوحٌ: 2] . 3- قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إِلَخ [نوح: 5] . 4- فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِلَخ [نوح: 10] . 5- قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي إِلَخ [نوح: 21] . 6-

[سورة نوح (71) : آية 7]

وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا إِلَخ [نوح: 24] . 7- وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَخ [نوح: 26] . 8- رَبِّ اغْفِرْ لِي إِلَخ [نوح: 28] . وَجَعَلَ دَعْوَتَهُ مَظْرُوفَةً فِي زَمَنَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْهَوَادَةِ فِي حِرْصِهِ عَلَى إِرْشَادِهِمْ، وَأَنَّهُ يَتَرَصَّدُ الْوَقْتَ الَّذِي يَتَوَسَّمُ أَنَّهُمْ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى فَهْمِ دَعْوَتِهِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَوْقَاتِ النَّشَاطِ وَهِيَ أَوْقَاتُ النَّهَارِ، وَمِنْ أَوْقَاتِ الْهَدُوِّ وَرَاحَةِ الْبَالِ وَهِيَ أَوْقَاتُ اللَّيْلِ. وَمَعْنَى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أَنَّ دُعَائِي لَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَبِطَاعَتِهِمْ لِي لَمْ يَزِدْهُمْ مَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا بُعْدًا مِنْهُ، فَالْفِرَارُ مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْإِعْرَاضِ، أَيْ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِيَّاهُمْ قُرْبًا مِمَّا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَاسْتِثْنَاءُ الْفِرَارِ مِنْ عُمُومِ الزِّيَادَاتِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي قُرْبًا مِنَ الْهُدَى لَكِنْ زَادَهُمْ فِرَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود: 63] . وَإِسْنَادُ زِيَادَةِ الْفِرَارِ إِلَى الدُّعَاءِ مَجَازٌ لِأَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ كَانَ سَبَبًا فِي تَزَايُدِ إِعْرَاضِهِمْ وَقُوَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِشِرْكِهِمْ. وَهَذَا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، أَوْ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَهُوَ هُنَا تَأْكِيدُ إِعْرَاضِهِمُ الْمُشَبَّهِ بِالِابْتِعَادِ بِصُورَةٍ تُشْبِهُ ضِدَّ الْإِعْرَاضِ. وَلَمَّا كَانَ فِرَارُهُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ ثَابِتًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ كَانَ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَتَصْدِيرُ كَلَامِ نُوحٍ بِالتَّأْكِيدِ لِإِرَادَةِ الاهتمام بالْخبر. [7] [سُورَة نوح (71) : آيَة 7] وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً

(7) كُلَّما مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ كَلِمَةِ (كُلَّ) وَهِيَ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ مَا تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ، وَكَلِمَةِ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ وَهِيَ حَرْفٌ يُفِيدُ أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ. وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ الْمَصْدَرِ زَمَانُ حُصُولِهِ فَيَقُولُونَ (مَا) ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنِ اسْمِ الزَّمَانِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا مَخِيلَةً مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَتِهِ وَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالصُّدُودِ عَنْ دَعْوَتِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِكَلِمَةِ كُلَّما الدَّالَّةِ عَلَى شُمُولِ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنْ دَعَوَاتِهِ مُقْتَرِنَةً بِدَلَائِلِ الصَّدِّ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَة: 20] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ دَعَوْتُهُمْ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [نوح: 3] . وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى عِبَادَتِكَ وَتَقْوَاكَ وَطَاعَتِي فِيمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَغْفِرَ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ دَعَوْتُهُمْ بِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ فَهُوَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ، فَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْغُفْرَانِ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: كُلَّما دَعَوْتُهُمْ بِفِعْلِ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَجُمْلَةُ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ خَبَرُ (إِنَّ) وَالرَّابِطُ ضَمِيرُ دَعَوْتُهُمْ. وَجَعْلُ الْأَصَابِعِ فِي الْآذَانِ يَمْنَعُ بُلُوغَ أَصْوَاتِ الْكَلَامِ إِلَى الْمَسَامِعِ. وَأُطْلِقَ اسْمُ الْأَصَابِعِ عَلَى الْأَنَامِلِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْبَعْضِيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ الْأَنْمُلَةُ لَا الْأُصْبُعُ كُلُّهُ فَعَبَّرَ عَنِ الْأَنَامِلِ بِالْأَصَابِعِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِرَادَةِ سَدِّ الْمَسَامِعِ بِحَيْثُ لَوْ أَمْكَنَ لَأَدْخَلُوا الْأَصَابِعَ كُلَّهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] . وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ: جَعْلُهَا غِشَاءً، أَيْ غِطَاءً عَلَى أَعْيُنِهِمْ، تَعْضِيدًا لِسَدِّ آذَانِهِمْ بِالْأَصَابِعِ لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَهُ وَلَا يَنْظُرُوا إِشَارَاتِهِ. وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ الْغِشَاءُ عَلَى غِطَاءِ الْعَيْنَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: 7] . وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَغْشَوْا لِلْمُبَالَغَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الْأَصَابِعِ فِي الْآذَانِ وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ هُنَا حَقِيقَةً بِأَنْ

[سورة نوح (71) : الآيات 8 إلى 12]

يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ قَوْمِ نُوحٍ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهِيَةً لِكَلَامِ مَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَيَجْعَلَ مِنْ ثَوْبِهِ سَاتِرًا لِعَيْنَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ قَبُولِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَةِ مَقَامِهِ بِحَالِ مَنْ يَسُكُّ سَمْعَهُ بِأَنْمُلَتَيْهِ وَيَحْجُبُ عَيْنَيْهِ بِطَرْفِ ثَوْبِهِ. وَجُعِلَتِ الدَّعْوَةُ مُعَلَّلَةً بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ لِأَنَّهَا دَعْوَةٌ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةُ أَمْرِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ وَتَعَجُّبٌ مِنْ خَلْقِهِمْ إِذْ يُعْرِضُونَ عَنِ الدَّعْوَةِ لِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ فَكَانَ مُقْتَضَى الرَّشَادِ أَنْ يَسْمَعُوهَا وَيَتَدَبَّرُوهَا. وَالْإِصْرَارُ: تَحْقِيقُ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّرِّ وَهُوَ الشَّدُّ عَلَى شَيْءٍ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [135] . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَصَرُّوا لِظُهُورِهِ، أَيْ أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ. وَاسْتَكْبَرُوا مُبَالَغَةٌ فِي تَكَبَّرُوا، أَيْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يَأْتَمِرُوا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] . وَتَأْكِيدُ اسْتَكْبَرُوا بِمَفْعُولِهِ الْمُطْلَقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ. وَتَنْوِينُ اسْتِكْباراً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ اسْتِكْبَارًا شَدِيدًا لَا يَفَلُّهُ حدّ الدعْوَة. [8- 12] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 8 إِلَى 12] ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ارْتَقَى فِي شَكْوَاهُ وَاعْتِذَارِهِ بِأَنَّ دَعْوَتَهُ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْحَالَاتِ فِي الْقَوْلِ مِنْ جَهْرٍ وَإِسْرَارٍ، فَعَطْفُ الْكَلَامِ بِ ثُمَّ الَّتِي تُفِيدُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ

الْمَعْطُوفَةِ أَهَمُّ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ أَلْصَقُ بِالدَّعْوَةِ مِنْ أَوْقَاتِ إِلْقَائِهَا لِأَنَّ الْحَالَةَ أَشَدُّ مُلَابَسَةً بِصَاحِبِهَا مِنْ مُلَابَسَةِ زَمَانِهِ. فَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ جِهَارًا، أَيْ عَلَنًا. وَجِهَارٌ: اسْمُ مَصْدَرِ جَهَرَ، وَهُوَ هُنَا وَصْفٌ لِمَصْدَرِ دَعَوْتُهُمْ، أَيْ دَعْوَةً جِهَارًا. وَارْتَقَى فَذَكَرَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ أَقْوَى فِي الدَّعْوَةِ وَأَغْلَظُ مِنْ إِفْرَادِ إِحْدَاهُمَا. فَقَوْلُهُ: أَعْلَنْتُ لَهُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ذُكِرَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ عَطْفُ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَوَخَّى مَا يَظُنُّهُ أَوْغَلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ صِفَاتِ الدَّعْوَةِ، فَجَهَرَ حِينَ يَكُونُ الْجَهْرُ أَجْدَى مِثْلَ مَجَامِعِ الْعَامَّةِ، وَأَسَرَّ لِلَّذِينَ يَظُنُّهُمْ مُتَجَنِّبِينَ لَوْمَ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي التَّصَدِّي لِسَمَاعِ دَعْوَتِهِ وَبِذَلِكَ تَكُونُ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ دَعَوْتُهُمْ، وَقَوْلِهِ: أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ مُوَزَّعَةً عَلَى مُخْتَلَفِ النَّاسِ. وَانْتَصَبَ جِهاراً بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الدَّعْوَةِ. وَانْتَصَبَ إِسْراراً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُفِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ إِسْرَارًا خَفِيًّا. وَوَجْهُ تَوْكِيدِ الْإِسْرَارِ أَنَّ إِسْرَارَ الدَّعْوَةِ كَانَ فِي حَالِ دَعْوَتِهِ سَادَتَهُمْ وَقَادَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَمْتَعِضُونَ مِنْ إِعْلَانِ دَعَوْتِهِمْ بِمَسْمَعٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَفَصَّلَ دَعْوَتَهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فَقَالَ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَجِهَارًا وَإِسْرَارًا. وَمَعْنَى اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، ءامنوا إِيمَانًا يَكُونُ اسْتِغْفَارًا لِذَنْبِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِالْغُفْرَانِ صِفَةً ثَابِتَةً تَعَهَّدَ اللَّهُ بِهَا لِعِبَادِهِ الْمُسْتَغْفِرِينَ، فَأَفَادَ التَّعْلِيلَ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَأَفَادَ ثُبُوتَ الصِّفَةِ لِلَّهِ بِذِكْرِ فِعْلِ كانَ وَأَفَادَ كَمَالَ غُفْرَانِهِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ بِقَوْلِهِ غَفَّاراً.

وَهَذَا وَعْدٌ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ ورتب عَلَيْهِ وَعدا بِخَيْرِ الدُّنْيَا بِطَرِيقِ جَوَابِ الْأَمْرِ، وَهُوَ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ. وَكَانُوا أَهْلَ فِلَاحَةٍ فَوَعَدَهُمْ بِنُزُولِ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ السَّلَامَةُ مِنَ الْقَحْطِ وَبِالزِّيَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ. والسَّماءَ: هُنَا الْمَطَرُ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ السَّمَاءُ. وَفِي حَدِيث «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا وَالْمِدْرَارُ: الْكَثِيرَةُ الدَّرِّ وَالدُّرُورِ، وَهُوَ السَّيَلَانُ، يُقَالُ: دَرَّتِ السَّمَاءُ بِالْمَطَرِ، وَسَمَاءٌ مِدْرَارٌ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ يَتْبَعَ بَعْضُ الْأَمْطَارِ بَعْضًا. وَمِدْرَارٌ، زِنَةُ مُبَالَغَةٍ، وَهَذَا الْوَزْنُ لَا تَلْحَقُهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ إِلَّا نَادِرًا كَمَا فِي قَوْلِ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ: أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَةَ فَلِذَلِكَ لَمْ تُلْحَقُ التَّاءُ هُنَا مَعَ أَنَّ اسْمَ السَّمَاءِ مُؤَنَّثٌ. وَالْإِرْسَالُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِيصَالِ وَالْإِعْطَاءِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ إِيصَالٌ مِنْ عُلُوٍّ كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [الْفِيل: 3] . و (أَمْوَال) : جَمْعُ مَالٍ وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَكْسَبٍ يَبْذُلُهُ الْمَرْءُ فِي اقْتِنَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ تَحْتَاجُ إِلَى السَّقْيِ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ يَجْعَلْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً لِلتَّوْكِيدِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمَعْطُوفِ لِأَنَّ الْأَنْهَارَ قِوَامُ الْجَنَّاتِ وَتَسْقِي الْمَزَارِعَ وَالْأَنْعَامَ.

[سورة نوح (71) : الآيات 13 إلى 14]

وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ اللَّهَ يُجَازِي عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِطِيبِ الْعَيْشِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] وَقَالَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 96] وَقَالَ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الجنّ: 16] . [13- 14] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 13 إِلَى 14] مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) بَدَّلَ خِطَابَهُ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ طَرِيقَةِ النُّصْحِ وَالْأَمْرِ إِلَى طَرِيقَةِ التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ صُورَتُهُ صُورَةُ السُّؤَالِ عَنْ أَمْرٍ ثَبَتَ لَهُمْ فِي حَالِ انْتِفَاءِ رَجَائِهِمْ تَوْقِيرَ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يَثْبُتُ لَهُمْ صَارِفٌ عَنْ تَوْقِيرِ اللَّهِ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي عَدَمِ تَوْقِيرِهِ. وَجُمْلَةُ لَا تَرْجُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَكَلِمَةُ (مَا لَكَ) وَنَحْوُهَا تُلَازِمُهَا حَالٌ بَعْدَهَا نَحْوَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَفِي تَعَلُّقِ مَعْمُولَاتِهِ بِعَوَامِلِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى إِبْقَاءِ مَعْنَى الرَّجَاءِ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ تَرَقُّبُ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْوَقَارِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْعَظَمَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِجْلَالِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الرَّجَاءِ، وَبَعْضُهَا إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الْوَقَارِ، وَيَتَرَكَّبُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ وَمِنَ التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ فِي كِلَيْهِمَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ فِي أَحَدِهِمَا مَعَ إِبْقَاءِ الْآخَرِ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَاهُ. فَعَلَى حَمْلِ الرَّجَاءِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ الظَّاهِرِ وَحَمْلِ الْوَقَارِ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ ابْن أَبِي رَبَاحٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ ثَوَابًا مِنَ اللَّهِ وَلَا تَخَافُونَ عِقَابًا، أَيْ فَتَعْبُدُوهُ رَاجِينَ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى عِبَادَتِكُمْ وَتَوْقِيرِكُمْ إِيَّاهُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَنْحُو إِلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَلَا تَخَافُونَ

عِقَابًا، وَإِنَّ نُكْتَةَ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ رَجَاءِ الثَّوَابِ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَهُ أَهْلُ الرَّشَادِ وَالتَّقْوَى. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِذْ صَدَّرَ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَكُونُونَ عَلَى حَالٍ تَأْمُلُونَ فِيهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي دَارِ الثَّوَابِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً عَنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَخَوْفَ عِقَابِهِ لِأَنَّ مَنْ رَجَا تَعْظِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ آمَنَ بِهِ وَعَبَدَهُ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ. وَعَلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الرَّجَاءِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَى لَا تَرْجُونَ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً، قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ لِمُضَرَ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ يَقُولُونَ: لَمْ أَرْجُ أَيْ لَمْ أُبَالِ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَى لَا تَرْجُونَ لَا تَعْلَمُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لَا تَرَوْنَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهَا نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، فَأَجَابَهُ أَنَّ الرَّجَاءَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلُ أَيْ لَمْ يَخَفْ لَسْعَهَا وَاسْتَمَرَّ عَلَى اشْتِيَارِ الْعَسَلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يُوضَعُ الرَّجَاءُ مَوْضِعَ الْخَوْفِ لِأَنَّ مَعَ الرَّجَاءِ طَرَفًا مِنَ الْخَوْفِ مِنَ النَّاسِ وَمِنْ ثَمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَوْفُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الْآيَة [الْبَقَرَة: 229] ، وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ بِالْعُقُوبَةِ. وَعَلَى تَأْوِيلِ الْوَقَارِ قَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ: الْعَاقِبَةُ، أَيْ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةً، أَيْ عَاقِبَةَ الْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ الْكَلَامَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوْبِيخِ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَجَعَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْوَقَارَ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الْأَحْزَاب: 33] أَيْ اثْبُتْنَ، وَمَعْنَاهُ مَا لَكُمْ لَا تُثْبِتُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ. وَتَتَرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ مَعَانٍ أُخْرَى مِنْ كَوْنِ الْوَقَارِ مُسْندًا فِي التَّقْدِير إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهِيَ لَا تَخْفَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِلَّهِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرْجُونَ، وَيَجُوزُ فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ وَقاراً: إِمَّا تَعَلُّقَ فَاعِلِ الْمَصْدَرِ بِمَصْدَرِهِ فَتَكُونُ اللَّامُ

فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ، أَيْ الْوَقَارَ الَّذِي هُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوَقِّرَكُمْ، أَيْ يُكْرِمَكُمْ بِالنَّعِيمِ، وَإِمَّا تَعَلُّقَ مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ، أَيْ أَنْ تُوَقِّرُوا اللَّهَ وَتَخْشَوْهُ وَلَا تَتَهَاوَنُوا بِشَأْنِهِ تَهَاوُنَ مَنْ لَا يَخَافُهُ فَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ التَّقْوِيَةِ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ أَوْ ضَمِيرِ تَرْجُونَ، أَيْ فِي حَالِ تَحَقُّقِكُمْ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا. فَأَمَّا أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فَمُوجِبٌ لِلِاعْتِرَافِ بِعَظَمَتِهِ لِأَنَّهُ مُكَوِّنُهُمْ وَصَانِعُهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِجَلَالِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ خَلْقِهِمْ أَطْوَارًا فَلِأَنَّ الْأَطْوَارَ الَّتِي يَعْلَمُونَهَا دَالَّةٌ عَلَى رِفْقِهِ بِهِمْ فِي ذَلِك التطور، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِكُفْرِهِمُ النِّعْمَةَ، وَلِأَنَّ الْأَطْوَارَ دَالَّةٌ عَلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّ تَطَوُّرَ الْخَلْقِ مِنْ طَوْرِ النُّطْفَةِ إِلَى طَوْرِ الْجَنِينِ إِلَى طَوْرِ خُرُوجِهِ طِفْلًا إِلَى طَوْرِ الصِّبَا إِلَى طَوْرِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ إِلَى طَوْرِ الشَّيْخُوخَةِ وَطُرُوِّ الْمَوْتِ على الْحَيَاة وطروّ الْبِلَى عَلَى الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كُلُّ ذَلِكَ وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَالِقِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْخَلْقِ وَالتَّبْدِيلِ فِي الْأَطْوَارِ، وَهُمْ يُدْرِكُونَ ذَلِكَ بِأَدْنَى الْتِفَاتِ الذِّهْنِ، فَكَانُوا مَحْقُوقِينَ بِأَنْ يَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَقُّعِ عِقَابِهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَلِ التَّصَرُّفُ فِيهِمْ بِالْعِقَابِ وَالْإِثَابَةِ إِلَّا دُونَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ بِالْكَوْنِ وَالْفَسَادِ. وَالْأَطْوَارُ: جَمْعُ طَوْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالطَّوْرُ: التَّارَةُ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنَ الزَّمَانِ، فَأُرِيدَ مِنَ الْأَطْوَارِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِي الْمَرَّاتِ وَالْأَزْمَانِ مِنْ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَرَّاتِ وَالْأَزْمَانِ إِلَّا تَعَدُّدُ مَا يَحْصُلُ فِيهَا، فَهُوَ تَعَدُّدٌ بِالنَّوْعِ لَا بِالتَّكْرَارِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَإِنْ أَفَاقَ لَقَدْ طَالَتْ عَمَايَتُهُ ... وَالْمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْرًا بَعْدَ أَطْوَارِ وَانْتَصَبَ أَطْواراً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ تَطَوُّرِ خَلْقِهِمْ لِأَنَّ أَطْواراً صَارَ فِي تَأْوِيلِ أَحْوَالًا فِي أطوار.

[سورة نوح (71) : الآيات 15 إلى 16]

[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 15 إِلَى 16] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ، كَانَ تَخَلُّصًا مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْرِيضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِآثَارِ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، مِمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ، إِلَى مَا فِي الْعَالَمِ مِنْهَا، لِمَا عَلِمْتَ مِنْ إِيذَانِ قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 14] مِنْ تَذْكِيرٍ بِالنِّعْمَةِ وَإِقَامَةٍ لِلْحُجَّةِ، فَتَخَلَّصَ مِنْهُ لِذِكْرِ حُجَّةٍ أُخْرَى، فَكَانَ قَدْ نَبَّهَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوَّلًا لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَا يُحِسُّونَهُ وَيَشْعُرُونَ بِهِ ثُمَّ عَلَى النَّظَرِ فِي الْعَالَمِ وَمَا سُوِّيَ فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الشَّاهِدَةِ عَلَى الْخَالِقِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأُمَّةِ وَهُوَ مَا يَسْمَحُ بِهِ سِيَاقُ السُّورَةِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُسَاوِيَةِ لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا لِلْمُنَاسَبَةِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَمْ تَرَوْا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْإِنْكَارِ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِدَلَائِلَ مَا يَرَوْنَهُ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً أَيْ أَلَمْ تَعْلَمُوا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَرْئِيُّ مِنْ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ كَيْفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تَرَوْا، فَ كَيْفَ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ مُتَمَحِّضَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ، أَيِ الْحَالَةِ. وَالْمَعْنَى: أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ هَيْئَةَ وَحَالَةَ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ. وَالسَّمَاوَاتُ: هُنَا هِيَ مَدَارَاتٌ بِمَعْنَى الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ لِكُلِّ كَوْكَبٍ مَدَارًا قَدْ يَكُونُ هُوَ سَمَاءَهُ. وَقَوْلُهُ: سَبْعَ سَماواتٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ سَبْعَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، أَوْ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فَيَكُونُ مِمَّا شَمِلَهُ فِعْلُ أَلَمْ تَرَوْا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا سَلَفًا لِلْكَلْدَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ. وطِباقاً: بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مُنْفَصِلٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَأَنْ بَعْضَهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَمَاسَّةً أَوْ كَانَ بَيْنَهَا مَا يُسَمَّى بِالْخَلَاءِ.

وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ الْقَمَرِ مِنَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ الْكَوَاكِبُ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْقَدِيمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّ ظَرْفِيَّةَ (فِي) تَكُونُ لِوُقُوعِ الْمَحْوِيِّ فِي حَاوِيَةٍ مِثْلَ الْوِعَاءِ، وَتَكُونُ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ بَيْنَ جَمَاعَتِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا» ، وَقَوْلُ النُّمَيْرِيِّ: تَضَوَّعَ مِسْكًا بَطْنُ نُعْمَانَ أَنْ مَشَتْ ... بِهِ زَيْنَبُ فِي نِسْوَةٍ خَفِرَاتِ والْقَمَرَ كَائِنٌ فِي السَّمَاءِ الْمُمَاسَّةِ لِلْأَرْضِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَبْعَادِهَا. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً هُوَ بِتَقْدِيرِ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ فِيهِنَّ سِرَاجًا، وَالشَّمْسُ مِنَ الْكَوَاكِبِ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْقَمَرِ بِأَنَّهُ نُورٌ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِ بِالْإِنَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. وَالْقَمَر ينير ضوؤه الْأَرْضَ إِنَارَةً مُفِيدَةً بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ نُجُومِ اللَّيْلِ فَإِنَّ إِنَارَتَهَا لَا تُجْدِي الْبَشَرَ. وَالسِّرَاجُ: الْمِصْبَاحُ الزَّاهِرُ نُورُهُ الَّذِي يُوقَدُ بِفَتِيلَةٍ فِي الزَّيْتِ يُضِيءُ الْتِهَابُهَا الْمُعَدَّلُ بِمِقْدَارِ بَقَاءِ مَادَّةِ الزَّيْتِ تغمرها. والإخبار بِهِ عَنِ الشَّمْسِ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَقْرِيبُ الْمُشَبَّهِ مِنْ إِدْرَاكِ السَّامِعِ، فَإِنَّ السِّرَاجَ كَانَ أَقْصَى مَا يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي اللَّيْلِ وَقَلَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَتَّخِذُهُ وَإِنَّمَا كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي أَدْيِرَةِ الرُّهْبَانِ أَوْ قُصُورِ الْمُلُوكِ وَأَضْرَابِهِمْ، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: يضي سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ ... أَمَالَ الذَّبَالَ بِالسَّلِيطِ الْمُفَتَّلِ وَوَصَفُوا قَصْرَ غُمْدَانَ بِالْإِضَاءَةِ عَلَى الطَّرِيقِ لَيْلًا. وَلَمْ يُخْبَرْ عَنِ الشَّمْسِ بِالضِّيَاءِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ [5] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِضَاءَةُ، فَلَعَلَّ إِيثَارَ السِّرَاجِ هُنَا لِمُقَارَبَةِ تَعْبِيرِ نُوحٍ فِي لُغَتِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ الَّتِي قَبْلَهَا جَاءَتْ عَلَى حُرُوفٍ صَحِيحَةٍ وَلَوْ قِيلَ: ضِيَاءٌ لَصَارَتِ الْفَاصِلَةُ هَمْزَةً وَالْهَمْزَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ فَيَثْقُلُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا.

[سورة نوح (71) : الآيات 17 إلى 18]

وَفِي جَعْلِ الْقَمَرِ نُورًا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ضَوْءَ الْقَمَرِ لَيْسَ مِنْ ذَاتِهِ فَإِنَّ الْقَمَرَ مُظْلِمٌ وَإِنَّمَا يَسْتَضِيءُ بِانْعِكَاسِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُهَا مِنْ وَجْهِهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ تَبَعُّضٍ وَتَمَامٍ هُوَ أَثَرُ ظُهُورِهِ هِلَالًا ثُمَّ اتِّسَاعُ اسْتِنَارَتِهِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ ارْتِجَاعُ ذَلِكَ، وَفِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ يُضِيءُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَاقُ. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ جُعِلَتِ الشَّمْسُ سِرَاجًا لِأَنَّهَا مُلْتَهِبَةٌ وَأَنْوَارُهَا ذَاتِيَّةٌ فِيهَا صَادِرَةٌ عَنْهَا إِلَى الْأَرْضِ وَإِلَى الْقَمَرِ مِثْلَ أَنْوَارِ السِّرَاجِ تَمْلَأُ الْبَيْتَ وَتَلْمَعُ أَوَانِي الْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُقَابِلَةِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً اسْتِدْلَال وامتنان. [17- 18] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 17 إِلَى 18] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) أَنْشَأَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ حُضُورَ الْأَرْضِ فِي الْخَيَالِ فَأَعْقَبَ نُوحٌ بِهِ دَلِيلَهُ السَّابِقَ، اسْتِدْلَالًا بِأَعْجَبِ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَحْوَالِ مَا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ حَالُ الْمَوْتِ وَالْإِقْبَارِ، وَمَهَّدَ لِذَلِكَ مَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ إِنْشَاءِ النَّاسِ. وَأَدْمَجَ فِي ذَلِكَ تَعْلِيمَهُمْ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ عَنَاصِرِ الْأَرْضِ مِثْلَ النَّبَاتِ وَإِعْلَامَهُمْ بِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ حَيَاةً أُخْرَى. وَأُطْلِقَ عَلَى مَعْنَى: أَنْشَأَكُمْ، فِعْلُ أَنْبَتَكُمْ لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ إِنْشَاءِ الْإِنْسَانِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كِلَيْهِمَا تَكْوِينٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آل عمرَان: 37] ، أَيْ أَنْشَأَهَا وَكَمَا يَقُولُونَ: زَرَعَكَ اللَّهُ لِلْخَيْرِ، وَيَزِيدُ وَجْهَ الشَّبَهِ هُنَا قُرْبًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِنْشَاءَ الْإِنْسَانِ مُرَكَّبٌ مِنْ عَنَاصِرِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: أَنْبَتَ أَصْلَكُمْ، أَيْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ تَعَالَى: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمرَان: 59] . ونَباتاً: اسْمٌ مِنْ أَنْبَتَ، عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَصْدَرِ فَوَقَعَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِ أَنْبَتَكُمْ لِلتَّوْكِيدِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَى قِيَاسِ فِعْلِهِ فَيُقَالُ: إِنْبَاتًا، لِأَنَّ نَبَاتًا أَخَفُّ فَلَمَّا تَسَنَّى الْإِتْيَانُ بِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فَصِيحٌ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ إِلَى الثَّقِيلِ كَمَالًا فِي الْفَصَاحَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ إِخْراجاً فَإِنَّهُ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ إِلَى: خُرُوجًا، لِعَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِأَلْفَاظِ

[سورة نوح (71) : الآيات 19 إلى 20]

الْفَوَاصِلِ قَبْلَهُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَلِفٍ مِثْلِ أَلِفِ التَّأْسِيسِ فَكَمَا تُعَدُّ مُخَالَفَتُهَا فِي الْقَافِيَةِ عَيْبًا كَذَلِكَ تُعَدُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا فِي الْأَسْجَاعِ وَالْفَوَاصِلِ كَمَالًا. وَقَدْ أُدْمِجَ الْإِنْذَارُ بِالْبَعْثِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِكَوْنِهِ أَهَمَّ رُتْبَةٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِأَصْلِ الْإِنْشَاءِ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِ ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ فِعْلُ يُخْرِجُكُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهُ. وَأَكَّدَ يُخْرِجُكُمْ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِرَدِّ إنكارهم الْبَعْث. [19- 20] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 19 إِلَى 20] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) هَذَا اسْتِدْلَالٌ وَامْتِنَانٌ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ بِفِعْلِ جَعَلَ مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ وَهُوَ لَكُمُ أَيْ لِأَجْلِكُمْ. وَالْبِسَاطُ: مَا يُفْرَشُ لِلنَّوْمِ عَلَيْهِ وَالْجُلُوسِ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ زُرْبِيَّةٍ فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَرْضِ بِبِسَاطٍ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَالْبِسَاطِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ تَنَاسُبُ سَطْحِ الْأَرْضِ فِي تَعَادُلِ أَجْزَائِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجِعُ أَرْجُلَ الْمَاشِينَ وَلَا يُقِضُّ جُنُوبَ الْمُضْطَجِعِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَجْمَ الْأَرْضِ كَالْبِسَاطِ لِأَنَّ حَجْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمُ، وَالْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ فِي قَوْلِهِ: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا وَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعِلَّتَيْنِ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ النِّعَمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلنَّاسِ مِنْ تَسْوِيَةِ سَطْحِ الْأَرْضِ مِثْلَ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، وَإِلَى نِعَمِهِ خَاصَّةً وَهِيَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ لِاشْتِرَاكِ كُلِّ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا. وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ، أَيْ لِتَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِكُمْ سُبُلًا مِنَ الْأَرْضِ تَهْتَدُونَ بِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ. وَالْفِجَاجُ: جَمْعُ فَجٍّ، وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الطَّرِيقِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الطَّرِيق الْمُعْتَاد.

[سورة نوح (71) : الآيات 21 إلى 23]

[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 21 إِلَى 23] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي [نوح: 5] بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ حِكَايَةَ عِصْيَانِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ حِكَايَةُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَقَالَتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ جَاءَ فِيهِ نُوحٌ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ بِالْجَوَابِ عَنْ أَمْرِهِ لَهُ بِقَوْلِهِ: أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1] فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قالَ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ عَامِلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي الْبَدَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: 114] ، لِلرَّبْطِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَقَالَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ جَمَعَهَا الْقُرْآنُ حِكَايَةً لِجَوَابَيْهِ لِرَبِّهِ، فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قالَ لِمَا ذَكَرْنَا مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا سَبَقَهَا مِنْ قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إِلَى هُنَا مِمَّا يُثِيرُ عَجَبًا مِنْ حَالِ قَوْمِهِ الْمَحْكِيِّ بِحَيْثُ يَتَسَاءَلُ السَّامِعُ عَنْ آخِرِ أَمْرِهِمْ، فَابْتُدِئَ ذِكْرُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْله: أَنْصاراً [نوح: 25] . وَتَأْخِيرُ هَذَا بَعُدَ عَنْ قَوْلِهِ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] ارْتِقَاءً فِي التَّذَمُّرِ مِنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا حِكَايَةُ حُصُولِ عِصْيَانِهِمْ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْمَوْعِظَةِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً إِلَى قَوْلِهِ: سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 11- 20] وَإِظْهَارُ اسْمِ نُوحٌ مَعَ الْقَوْلِ الثَّانِي دُونَ إِضْمَارٍ لِبُعْدِ مُعَادِ الضَّمِيرِ لَوْ تَحَمَّلَهُ الْفِعْلُ، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ إِلَخْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنَ التَّحَسُّرِ وَالِاسْتِنْصَارِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِقَوْلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ نُوحٍ، أَيْ اتَّبَعُوا سَادَتَهُمْ وَقَادَتَهُمْ. وَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْكُبَرَاءِ وَنَحْوِهِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ بَطَرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَقَلَبُوا النِّعْمَةَ عِنْدَهُمْ مُوجِبَ خَسَارٍ وَضَلَالٍ. وَأُدْمِجَ فِي الصِّلَةِ أَنَّهُمْ أَهْلُ أَمْوَالٍ وَأَوْلَادٍ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَفَاذِ قَوْلِهِمْ فِي

قَوْمِهِمْ وَائْتِمَارِ الْقَوْمِ بأمرهم: فأموالهم إِذْ أَنْفَقُوهَا لِتَأْلِيفِ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 36] ، وَأَوْلَادُهُمْ أَرْهَبُوا بِهِمْ مَنْ يُقَاوِمُهُمْ. وَالْمَعْنَى: وَاتَّبَعُوا أَهْلَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الَّتِي لَمْ تَزِدْهُمْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ إِلَّا خَسَارًا لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوهَا فِي تَأْيِيدِ الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ فَزَادَتْهُمْ خَسَارًا إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَمْوَالٌ وَلَا أَوْلَادٌ لَكَانُوا أَقَلَّ ارْتِكَابًا لِلْفَسَادِ قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] . وَالْخَسَارُ: مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِ الشَّرِّ مِنْ وَسَائِلَ شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبَ خَيْرٍ كَخَسَارَةِ التَّاجِرِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ الرِّبْحَ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ خَاسِرِينَ فَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُمْ يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي الْخَسَارَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَرْشَدُوهُمْ إِلَى النجاح. وَمَا صدق مَنْ فَرِيقٌ مِنَ الْقَوْمِ أَهْلُ مَالٍ وَأَوْلَادٍ ازْدَادُوا بِذَلِكَ بَطَرًا دُونَ الشُّكْرِ وَهُمْ سَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا، وَقَوْلُهُ: وَقالُوا، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نوح: 24] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَوَلَدُهُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَوَلَدُهُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَأَمَّا الْوَلَدُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ فَاسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَعَلَى الْجَمْعِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، وَأَمَّا وُلْدٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَقِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي وَلَدٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ مِثْلَ الْفُلْكِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ وَلَدٍ مِثْلَ أُسْدٍ جَمْعُ أَسَدٍ. وَالْمَكْرُ: إِخْفَاءُ الْعَمَلِ، أَوِ الرَّأْيُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ ضُرُّ الْغَيْرِ، أَيْ مَكَرُوا بِنُوحٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِإِضْمَارِ الْكَيْدِ لَهُمْ حَتَّى يَقَعُوا فِي الضُّرِّ. قِيلَ: كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْحِيلَةَ عَلَى قَتْلِ نُوحٍ وَتَحْرِيشِ النَّاسِ عَلَى أَذَاهُ وَأَذَى أَتْبَاعِهِ. وكُبَّاراً: مُبَالَغَةٌ، أَيْ كَبِيرًا جِدًّا وَهُوَ وَارِدٌ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مِثْلَ طُوَّالٍ أَيْ طَوِيلٌ جِدًّا، وَعُجَّابٍ، أَيْ عَجِيبٌ، وَحُسَّانٍ، وَجُمَّالٍ، أَيْ جَمِيلٌ، وَقُرَّاءٍ لِكَثِيرِ الْقِرَاءَةِ، وَوُضَّاءٍ، أَيْ وَضِيءٌ، قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرٍ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ. وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً إِلَخْ، أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ

لِبَعْضٍ: وَدٌّ، وَسُوَاعٌ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرٌ، هَذِهِ أَصْنَامُ قَوْمِ نُوحٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ أَسْمَاءَهَا غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى اشْتِقَاقِ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي وَاوِ (وَدٍّ) لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ مِنْهُمْ مَنْ يَضُمُّ الْوَاوَ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَحُ الْوَاوَ وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْبَاقُونَ. روى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَدٌّ وَسُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ: أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ» ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: هِيَ أَسْمَاءُ أَبْنَاءِ خَمْسَةٍ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا عُبَّادًا. وَعَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنْ وَدًّا أَوَّلُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ. وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْصَابَ عُبِدَتْ قَبْلَ الطُّوفَانِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ أُقِيمَتْ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا أَصْنَامًا بَيْنَ زَمَنِ آدَمَ وَزَمَنِ نُوحٍ. وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَرَفَهَا وَخَلَصَ الْبَشَرُ مِنَ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَى زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ فِي دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ بِلَادِ كَلْبٍ صَنَمٌ اسْمُهُ (وَدٌّ) . قِيلَ كَانَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَكَانَ مِنْ صُفْرٍ وَرَصَاصٍ وَكَانَ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لِهُذَيْلٍ صَنَمٌ اسْمُهُ (سُوَاعٌ) وَكَانَ لِمُرَادٍ وَغُطَيْفٍ (بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ) بَطْنٍ مِنْ مُرَادٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَأٍ صَنَمٌ اسْمُهُ يَغُوثَ، وَكَانَ أَيْضًا لِغَطَفَانَ وَأَخَذَتْهُ (أَنْعُمُ وَأَعْلَى) وَهُمَا مِنْ طَيِّءٍ وَأَهْلُ جَرَشٍ مِنْ مَذْحِجٍ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مُرَادٍ فَعَبَدُوهُ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي نَاجِيَةَ رَامُوا نَزْعَهُ مِنْ أَعْلَى وَأَنْعُمَ فَفَرُّوا بِهِ إِلَى الْحُصَيْنِ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ مِنْ خُزَاعَةَ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: رَأَيْتُ يَغُوثَ مِنْ رَصَاصٍ وَكَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى جَمَلٍ أَحْرَدَ (بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ يَخْبِطُ بِيَدَيْهِ إِذَا مَشَى) وَيَسِيرُونَ مَعَهُ وَلَا يُهَيِّجُونَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْرُكُ فَإِذَا بَرَكَ نَزَلُوا وَقَالُوا: قَدْ رَضِيَ لَكُمُ الْمَنْزِلَ فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ بِنَاءً يَنْزِلُونَ حَوْلَهُ. وَكَانَ يَغُوثُ عَلَى صُورَةِ أَسَدٍ. وَكَانَ لِهَمْدَانَ صَنَمٌ اسْمُهُ يَعُوقَ وَهُوَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَكَانَ لِكَهْلَانَ مِنْ سَبَأٍ ثُمَّ تَوَارَثَهُ بَنُوهُ حَتَّى صَارَ إِلَى هَمْدَانَ.

وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَلِذِي الْكُلَاعِ مِنْهُمْ صَنَمٌ اسْمُهُ (نَسْرٌ) عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ مِنَ الطَّيْرِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ إِلَى الْعَرَبِ اهـ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ انْتَقَلَتْ بِأَعْيَانِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ سَمَّوْا عَلَيْهَا وَوَضَعُوا لَهَا صُوَرًا. وَلَقَدِ اضْطَرَّ هَذَا بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَأْوِيلِ نَظْمِ الْآيَةِ بِأَنَّ مُعَادَ ضَمِيرِ قالُوا إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ نُوحٍ بِقَصْدِ التَّنْظِيرِ، أَيْ قَالَ الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تذرنّ ءالهتكم وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقُ وَنَسْرًا كَمَا قَالَ قَوْمُ نُوحٍ لِأَتْبَاعِهِمْ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، ثُمَّ عَادَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَيِّنٌ وَتَفْكِيكٌ لِأَجْزَاءِ نَظْمِ الْكَلَامِ. فَالْأَحْسَنُ مَا رَآهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَمَا نُرِيدُهُ بَيَانًا: أَنَّ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوحٍ قَدْ دُثِرَتْ وَغَمَرَهَا الطُّوفَانُ وَأَنَّ أَسْمَاءَهَا بَقِيَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَ نُوحٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا يَذْكُرُونَهَا وَيَعِظُونَ نَاشِئَتَهُمْ بِمَا حَلَّ بِأَسْلَافِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ عِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، فَبَقِيَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ يَتَحَدَّثُ بِهَا الْعَرَبُ الْأَقْدَمُونَ فِي أَثَارَاتِ عِلْمِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ، فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيُّ الَّذِي أَعَادَ لِلْعَرَبِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَسَمَّى لَهُمُ الْأَصْنَامَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَغَيْرِهَا فَلَا حَاجَةَ بِالْمُفَسِّرِ إِلَى التَّطَوُّحِ إِلَى صِفَاتِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ لَهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَلَا إِلَى ذِكْرِ تَعْيِينِ الْقَبَائِلِ الَّتِي عَبَدَتْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْمِ نُوحٍ أَصْنَامٌ كَثِيرَةٌ جَمَعَهَا قَوْلُ كُبَرَائِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، ثُمَّ خَصُّوا بِالذِّكْرِ أَعْظَمَهَا وَهِيَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ، فَيَكُونُ ذِكْرُهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَة: 98] . وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ غَيْرُ تِلْكَ الْأَصْنَامِ الْخَمْسَةِ فَيَكُونُ ذِكْرُهَا مُفَصَّلَةً بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا وَيَكُونُ الْعَطْفُ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ. وَلِقَصْدِ التَّوْكِيدِ أُعِيدَ فِعْلُ النَّهْيِ وَلا تَذَرُنَّ وَلَمْ يُسْلَكْ طَرِيقُ الْإِبْدَالِ، وَالتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ قَدْ يُقْرَنُ بِالْعَاطِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: 17، 18] . وَنُقِلَ عَنِ الْأَلُوسِيِّ فِي طُرَّةِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الْفِقْرَةُ: «قَدْ أَخْرَجَ الْإِفْرِنْجُ فِي حُدُودِ الْأَلْفِ وَالْمَائَتَيْنِ وَالسِّتِّينَ أَصْنَامًا وَتَمَاثِيلَ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ كَانَتْ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ» . وَتَكْرِيرُ لَا النَّافِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ

[سورة نوح (71) : آية 24]

لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَعَدَمُ إِعَادَةِ لَا مَعَ قَوْلِهِ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَارٍ عَلَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي التَّأْكِيدِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وُدًّا بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَهَا غَيْرُهُمَا بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ اسْمٌ عَجَمِيٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِسَانُ الْعَرَب كَيفَ شاؤا. [24] [سُورَة نوح (71) : آيَة 24] وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً. عَطْفٌ عَلَى وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح: 23] ، أَيْ أَضَلُّوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ تَقَالِيدِ الشِّرْكِ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَّةِ بِحَيْثُ مَا آمَنَ مَعَ نُوحٍ إِلَّا قَلِيلٌ. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتِمَّةَ كَلَامِ نُوحٍ مُتَّصِلَةً بِحِكَايَةِ كَلَامِهِ السَّابِقِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةَ جُزْءِ جُمْلَةٍ مَقُولَةٍ لفعل قالَ [نوح: 21] عَلَى جُزْئِهَا الَّذِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْمَفَاعِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَقُولُ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ قِفَا نَبْكِ. خَتَمَ نُوحٌ شَكْوَاهُ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ عَلَى الضَّالِّينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنْ يَزِيدَهُمُ اللَّهُ ضَلَالًا. وَلَا يُرِيبُكَ عَطْفُ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّ مَنْعَ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ وَجِيهٍ وَالْقُرْآنُ طَافِحٌ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِحِكَايَةِ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح: 21] بَلْ هُوَ حِكَايَةُ كَلَامٍ آخَرَ لَهُ صَدْرٌ فِي مَوْقِفٍ آخَرَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ مَقُولَةِ قَوْلٍ عَلَى جُمْلَةِ مَقُولَةِ قَوْلٍ آخَرَ، أَيْ نَائِبَةٍ عَنْ فِعْلِ قَالَ كَمَا تَقُولُ: قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: قفانبك وَ: أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي وَقَدْ نَحَا هَذَا الْمَعْنَى مَنْ يَأْبَوْنَ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وَالْمُرَادُ بِ الظَّالِمِينَ: قَوْمُهُ الَّذِينَ عَصَوْهُ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ التَّعْبِيرَ عَنْهُمْ بِالضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى قَوْمِي مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] فَعَدَلَ عَنْ

[سورة نوح (71) : آية 25]

الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ الظَّالِمِينَ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِمِ الْحِرْمَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ لِظُلْمِهِمْ، أَيْ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ، فَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَالضَّلَالُ، مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرَائِقِ الْمَكْرِ الَّذِي خَشِيَ نُوحٌ غَائِلَتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح: 22] ، أَيْ حُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكْرِهِمْ وَلَا تَزِدْهُمْ إِمْهَالًا فِي طُغْيَانِهِمْ عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ تُضَلِّلَهُمْ عَنْ وَسَائِلِهِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَوْ أَرَادَ إِبْهَامَ طُرُقِ النَّفْعِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَنْكَسِرَ شَوْكَتُهُمْ وَتَلِينَ شَكِيمَتُهُمْ نَظِيرَ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 88] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الضَّلَالَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ لِظُهُورِ أَنَّهُ يُنَافِي دَعْوَةَ نُوحٍ قَوْمَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ فَكَيْفَ يَسْأَلُ اللَّهُ أَنْ يَزِيدَهُمْ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَذَابِ الْمُسَبَّبِ عَنِ الضَّلَالِ، أَيْ فِي عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَذَابُ الْإِهَانَةِ وَالْآلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ فَتَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً وَيُقَدَّرُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ: وَقُلْنَا لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَزِدْ فِي دُعَائِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا، فَالزِّيَادَةُ مِنْهُ تَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَعِنَادًا. وَبِهَذَا يَبْقَى الضَّلَالُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، فَصِيغَةُ النَّهْيِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّأْيِيسِ مِنْ نَفْعِ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَأَعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُ مُهْلِكُهُمْ بِقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا الْآيَة [نوح: 25] وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 36، 37] . أَلَا تَرَى أَنَّ خِتَامَ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ هُنَا أُغْرِقُوا وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. [25] [سُورَة نوح (71) : آيَة 25] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً

(25) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَقَالَاتِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ نُوحٍ فَهِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدَّرَ النَّصْرَ لِنُوحٍ وَالْعِقَابَ لِمَنْ عَصَوْهُ مِنْ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ نُوحٌ اسْتِئْصَالَهُمْ فَإِغْرَاقُ قَوْمِ نُوحٍ مَعْلُومٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قُصِدَ إِعْلَامُهُ بِسَبَبِهِ. وَالْغَرَضُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ بِهَا التَّعْجِيلُ بِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّا يُمَاثِلُ مَا لَاقَاهُ نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: 42] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِجُمْلَةِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: 24] عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ فِيهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُوَجَّهِ إِلَى نُوحٍ بِتَقْدِيرِ: وَقُلْنَا لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا، وَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: أُغْرِقُوا مُسْتَعْمَلَةً فِي تَحَقُّقِ الْوَعْدِ لِنُوحٍ بِإِغْرَاقِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأُدْخِلُوا نَارًا. وَقُدِّمَ مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا مِنْ أَجْلِ مَجْمُوعِ خَطِيئَاتِهِمْ لَا لِمُجَرَّدِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ نُوحٍ الَّتِي سَتُذْكَرُ عَقِبَ هَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ عِبَادَهُ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَذَابُهُمْ إِلَى مَا بَعْدَ دَعْوَةِ نُوحٍ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ بَيْنَ قَوْمِهِ وَمَسَرَّةً لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ وَتَعْجِيلًا لِمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ. وَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةٌ، وَ (مَا) مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَجَمْعُ الْخَطِيئَاتِ مُرَادٌ بِهَا الْإِشْرَاكُ، وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ، وَأَذَاهُ، وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِالطُّوفَانِ، وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْفَوَاحِشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَطِيئاتِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ خَطِيئَةٍ بِالْهَمْزِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ خَطاياهُمْ جَمْعُ خَطِيَّةٍ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مُدْغَمَةً فِيهَا الْيَاءُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنْ هَمْزَةٍ لِلتَّخْفِيفِ. وَفِي قَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ لِأَنَّ بَيْنَ النَّارِ وَالْغَرَقِ الْمُشْعِرِ بِالْمَاءِ تَضَادًّا. وَتَفْرِيعُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ

[سورة نوح (71) : الآيات 26 إلى 27]

الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الْكَوَارِثَ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، أَيْ كَمَا لَمْ تَنْصُرِ الْأَصْنَامُ عَبَدَتَهَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ كَذَلِكَ لَا تَنْصُرُكُمْ أَصْنَامُكُمْ. وَضَمِيرُ يَجِدُوا عَائِدٌ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: 24] وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يَجِدُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْصَارًا دُونَ عَذَاب الله. [26- 27] [سُورَة نوح (71) : الْآيَات 26 إِلَى 27] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) عَطْفٌ عَلَى قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح: 21] أَعْقَبَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِأَنْ لَا يُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا، أَيْ لَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا عَلَى الْأَرْضِ. وَأُعِيدَ فِعْلُ قالَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ أَقْوَالِ نُوحٍ بِجُمْلَةِ مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ [نوح: 25] إِلَخْ، أَوْ بِهَا وَبِجُمْلَةِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: 24] . وَقُرِنَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً فَلَا تَتْبَعُ جُمْلَةَ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ دَعْوَةَ نُوحٍ حَصَلَتْ بَعْدَ شِكَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَصَوْنِي. ودَيَّاراً: اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْوُقُوعِ فِي النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَهُوَ اسْمٌ بِوَزْنِ فَيْعَالٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الدَّارِ فَعَيْنُهُ وَاوٌ لِأَنَّ عَيْنَ دَارٍ مُقَدَّرَةٌ وَاوًا، فَأَصْلُ دَيَّارٍ: دَيْوَارٍ فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَاتَّصَلَتَا وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ الزَّائِدَةِ كَمَا فُعِلَ بِسَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَمَعْنَى دَيَّارٍ: مَنْ يَحُلُّ بِدَارِ الْقَوْمِ كِنَايَةً عَنْ إِنْسَانٍ. وَنَظِيرُ (دَيَّارٍ) فِي الْعُمُومِ وَالْوُقُوعِ فِي النَّفْيِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَبْلَغَهَا ابْنُ السِّكِّيتِ فِي «إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ» إِلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَزَادَ كُرَاعُ النَّمْلِ سَبْعَةً فَبَلَغَتِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ اسماء وَزَادَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» سِتَّةً فَصَارَتْ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ. وَمِنْ أَشْهَرِهَا: آحَدٌ، وَدَيَّارٌ، وَعَرِّيبٌ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى الْإِنْسَانِ، وَلَفْظُ (بُدَّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمُفَارَقَةُ.

وَجُمْلَةُ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدًا مِنَ الْكَافِرِينَ يُرِيدُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُضِلُّوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَلِدُوا أَبْنَاءً يَنْشَأُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَالْأَرْضُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْكُرَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يُرَادَ أَرْضٌ مَعْهُودَةٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [55] . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ يَوْمَئِذٍ مُنْحَصِرِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَيَجُوزُ خِلَافُهُ، وَعَلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَنْشَأُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ قَدْ غَمَرَ جَمِيعَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ طُوفَانًا قَاصِرًا عَلَى نَاحِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ عُمُومِ الْأَرْضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [64] . وَخَبَرُ إِنَّكَ مَجْمُوعُ الشَّرْطِ مَعَ جَوَابِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِنَّ) لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُبْتَدَأٌ وَشَرْطٌ رَجَحَ الشَّرْطُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فَأُعْطِيَ الشَّرْطُ الْجَوَابَ وَلَمْ يُعْطَ الْمُبْتَدَأُ خَبَرًا لِدَلَالَةِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ. وَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّهُمْ لَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا بِأَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَنْشَأُونَ فِيهِمْ فَيُلَقِّنُونَهُمْ دِينَهُمْ وَيَصُدُّونَ نُوحًا عَنْ أَنْ يُرْشِدَهُمْ فَحَصَلَ لَهُ عِلْمٌ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ. وَالْمَعْنَى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا مَنْ يَصِيرُ فَاجِرًا كَفَّارًا عِنْدَ بُلُوغِهِ سِنَّ الْعَقْلِ. وَالْفَاجِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُجُورِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ الْفَسَادِ. وَالْكُفَّارُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَوْصُوفِ بِالْكُفْرِ، أَيْ إِلَّا مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْفِعْلِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 42] . وَفِي كَلَامِ نُوحٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُصْلِحِينَ يَهْتَمُّونَ بِإِصْلَاحِ جِيلِهِمُ الْحَاضِرِ وَلَا يُهْمِلُونَ تَأْسِيسَ أُسُسِ إِصْلَاحِ الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ إِذِ الْأَجْيَالُ كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي نَظَرِهِمُ الْإِصْلَاحِيِّ. وَقَدِ انْتَزَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: 10] دَلِيلًا عَلَى إِبْقَاءِ أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ بَيْنَ الْجَيْشِ الَّذِي فَتَحَ الْعِرَاقَ وَجَعَلَهَا خَرَاجًا لِأَهْلِهَا قَصْدًا لِدَوَامِ الرِّزْقِ مِنْهَا لِمَنْ سَيَجِيءُ من الْمُسلمين.

[سورة نوح (71) : آية 28]

[سُورَة نوح (71) : آيَة 28] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) جَعَلَ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ خَاتِمَةَ مُنَاجَاتِهِ فَابْتَدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِأَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ وهما وَالِده، ثُمَّ عَمَّمَ أَهْلَهَ وَذَوِيهِ الْمُؤْمِنِينَ فَدَخَلَ أَوْلَادُهُ وَبَنُوهُمْ وَالْمُؤْمِنَاتُ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِمَنْ دَخَلَ بَيْتَهَ كِنَايَةً عَنْ سُكْنَاهُمْ مَعَهُ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: دَخَلَ بَيْتِيَ دُخُولٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الدُّخُولُ الْمُتَكَرِّرُ الْمُلَازِمُ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ بِطَانَةُ الْمَرْءِ دَخِيلَتُهُ وَدُخْلَتُهُ، ثُمَّ عَمَّمَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ عَادَ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْكَفَرَةِ بِأَنْ يَحْرِمَهُمُ اللَّهُ النَّجَاحَ وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: 24] . وَالتَّبَارُ: الْهَلَاكُ وَالْخَسَارُ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ بِسُؤَالِ اسْتِئْصَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ شَمَلَهُمْ وَغَيْرَهُمْ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] حِرْصًا عَلَى سَلَامَةِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ شَوَائِبِ الْمَفَاسِدِ وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْخَبِيثَةِ. وَوَالِدَاهُ: أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَقَدْ وَرَدَ اسْمُ أَبِيهِ فِي التَّوْرَاةِ (لَمَكَ) وَأَمَّا أُمُّهُ فَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ اسْمَهَا شَمْخَى بِنْتُ آنُوشَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَيْتِيَ بِسُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَحْرِيكِهَا. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا تَباراً مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ التَّبَارَ لَيْسَ مِنَ الزِّيَادَةِ الْمَدْعُوُّ بِنَفْيِهَا فَإِنَّهُ أَرَادَ لَا تَزِدْهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّ فِي زِيَادَةِ ذَلِكَ لَهُمْ قُوَّةً لَهُمْ عَلَى أَذَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يُونُس: 88] الْآيَةَ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ كَقَوْلِهِ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 6] .

72- سورة الجن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 72- سُورَةُ الْجِنِّ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا وَمِنْهَا الْكُوفِيُّ الْمَكْتُوبُ بِالْقَيْرَوَانَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ «سُورَةُ الْجِنِّ» . وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «جَامِعِهِ» ، وَتَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ» . وَاشْتُهِرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُكَتِّبِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْكَتَاتِيبِ الْقُرْآنِيَّةِ بِاسْمِ قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: 1] . وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ وَوَجْهُ التَّسْمِيَتَيْنِ ظَاهِرٌ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبَعْثَةِ. فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ

أغراضها

أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ بِنَخْلَةَ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَأَنَّهُ اسْتَمَعَ فَرِيقٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَى قِرَاءَتِهِ فَرَجَعُوا إِلَى طَائِفَتِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: 1] وَأَنْزَلَ الله على نبيئه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ [الْجِنِّ: 1] . وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ بَعْدَ سَفَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ يَطْلُبُ النُّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، أَيْ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَسَنَةِ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْأَرْبَعِينَ فِي نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَعْرَافِ وَقَبْلَ يس. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى عد آيها ثمانا وَعِشْرِينَ. أَغْرَاضُهَا إِثْبَاتُ كَرَامَةٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دَعْوَتَهُ بَلَغَتْ إِلَى جِنْسِ الْجِنِّ وَإِفْهَامِهِمْ فَهْمَ مَعَانٍ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَمَعُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَهْمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَعِلْمِهِمْ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ مَا يُعْبَدُ مِنَ الْجِنِّ. وَإِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَبُلُوغِ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَى غَيْرِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ لِلَّهِ خَلْقًا يُدْعَوْنَ الْجِنَّ وَأَنَّهُمْ أَصْنَافٌ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ بِمَرَاتِبَ، وتضليل الَّذين يتقولون عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُفْلِتُونَ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعَجُّبُهُمْ مِنَ الْإِصَابَةِ بِرُجُومِ الشُّهُبِ الْمَانِعَةِ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْمَنْعِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِي شَأْنِ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ لِشِرْكِهِمْ وَلِمَنْعِهِمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَإِنْذَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى تَأَلُّبِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَاوَلَتِهِمْ مِنْهُ الْعُدُولَ عَنِ الطَّعْنِ فِي دينهم. [1- 2] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً

(2) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ حَدَثٌ غَرِيبٌ وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ بِهِ كَمَا يَقْتَضِيِهِ قَوْلُهُ: كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [الْجِنّ: 7] حَسْبَمَا يَأْتِي. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعْلِمَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ وُقُوعَ حَدَثٍ عَظِيمٍ فِي دَعْوَتِهِ أَقَامَهُ الله تكريما لنبيئه وَتَنْوِيهًا بِالْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ سَخَّرَ بَعْضًا مِنَ النَّوْعِ الْمُسَمَّى جِنًّا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَأَلْهَمَهُمْ أَوْ عَلَّمَهُمْ فَهْمَ مَا سَمِعُوهُ وَاهْتِدَاءَهُمْ إِلَى مِقْدَارِ إِرْشَادِهِ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ وَتَنْزِيِهِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَانَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهَا بَالِغَةً إِلَى عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُغَيَّبَةِ لَا عَلَاقَةَ لِمَوْجُودَاتِهِ بِالتَّكَالِيفِ وَلَا بِالْعَقَائِدِ بَلْ هُوَ عَالَمٌ مَجْبُولٌ أَهْلُهُ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَعْدُو أَحَدُهُمْ فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا جِبِلَّتَهُ فَيَكُونُ عَلَى مِعْيَارِهَا مَصِيرُهُ الْأَبَدِيُّ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ بِشَرَائِعَ. وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ لِهَذَا الْفَرِيقِ مِنْهُمْ حَقَائِقَ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَهَدْيِهِ فَفَهِمُوهُ. هَذَا الْعَالَمُ هُوَ عَالَمُ الْجِنِّ وَهُوَ بِحَسَبِ مَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَحَسَنِهَا نَوْعٌ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ أَعْنِي الْمَوْجُودَاتِ اللَّطِيفَةَ غَيْرَ الْكَثِيفَةِ، الْخَفِيَّةَ عَنْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، مُنْتَشِرَةٌ فِي أَمْكِنَةٍ مَجْهُولَةٍ لَيْسَتْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاوَاتِ بَلْ هِيَ فِي أَجْوَاءٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ وَهِيَ مِنْ مَقُولَةِ الْجَوْهَرِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَاتِ أَيْ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا جُسْمَانِيَّاتٍ بَلْ هِيَ مَوْجُودَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُنْصُرٍ نَارِيٍّ وَلَهَا حَيَاةٌ وَإِرَادَةٌ وَإِدْرَاكٌ خَاصٌّ بِهَا لَا يُدْرَى مَدَاهُ. وَهَذِه المجردات الناوية جِنْسٌ مِنْ أَجْنَاسِ الْجَوَاهِرِ تَحْتَوِي عَلَى الْجِنِّ وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فهما نَوْعَانِ لنجس الْمُجَرَّدَاتِ النَّارِيَّةِ لَهَا إِدْرَاكَاتٌ خَاصَّةٌ وَتَصَرُّفَاتٌ مَحْدُودَةٌ وَهِيَ مُغَيَّبَةٌ عَنِ الْأَنْظَارِ مُلْحَقَةٌ بِعَالَمِ الْغَيْبِ لَا تَرَاهَا الْأَبْصَارُ وَلَا تُدْرِكُهَا أَسْمَاعُ النَّاسِ إِلَّا إِذَا أَوْصَلَ اللَّهُ الشُّعُورَ بِحَرَكَاتِهَا وَإِرَادَاتِهَا إِلَى الْبَشَرِ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ لِأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ. وَبِتَعَاضُدِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَتَنَاصُرِهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَعْدُو أَنَّهُ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ وَهِيَ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، أَوْ ظَنِّيُّ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، حَصَلَ مَا يَقْتَضِي الِاعْتِقَادَ بِوُجُودِ مَوْجُودَاتٍ خَفِيَّةٍ تُسَمَّى الْجِنَّ فَتُفَسَّرُ بِذَلِكَ مَعَانِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارٍ مِنَ السُّنَّةِ.

وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي أُصُولِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ نُكَفِّرْ مُنْكِرِي وُجُودِ مَوْجُودَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِذْ لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَتُهَا بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بِخِلَافِ حَالِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْجِنِّ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِآيَاتِ ذِكْرِهِ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى فِي الْكُتُبِ مِنْ أَخْبَارٍ جُزْئِيَّةٍ فِي ظُهُورِهِمْ لِلنَّاسِ وَإِتْيَانِهِمْ بِأَعْمَالٍ عَجِيبَةٍ فَذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْخَيَالِيَّةِ. وَإِنَّا لَمْ نَلْقَ أَحَدًا مِنْ أَثْبَاتِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى أَشْكَالَهُمْ أَوْ آثَارَهُمْ وَمَا نَجِدُ تِلْكَ الْقِصَصَ إِلَّا عَلَى أَلْسِنَةِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْأَخْبَارِ أَوْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّخَيُّلَاتُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُضْرَبُ لَهُ مَثْلُ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ: وَمِثْلُكِ مَنْ تَخَيَّلَ ثُمَّ خَالَا فَظُهُورُ الْجِنِّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَاتٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجِنِّيِّ الَّذِي تَفَلَّتَ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ هُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ مِثْلَ رُؤْيَتِهِ الْمَلَائِكَةَ وَرُؤْيَتِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي حَائِطِ الْقِبْلَةِ وَظُهُورِ الشَّيْطَانِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْجِنِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [100] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [179] . وَالَّذِينَ أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِخَبَرِ الْجِنِّ: هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ أَرَادَ اللَّهُ إِبْلَاغَهُمْ هَذَا الْخَبَرَ لِمَا لَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى شَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَشَرَفِ كِتَابِهِ وَشَرَفِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ إِدْخَالُ مَسَرَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الْجِنُّ قَدْ أَدْرَكُوا شَرَفَ الْقُرْآنِ وَفَهِمُوا مَقَاصِدَهُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لُغَتَهُ وَلَا يُدْرِكُونَ بَلَاغَتَهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَالَّذين جَاءَهُم بِلِسَانِهِمْ وَأَدْرَكُوا خَصَائِصَ بَلَاغَتِهِ أَنْكَرُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِوُقُوعِ هَذَا الِاسْتِمَاعِ، فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ بِحُضُورِ الْجِنِّ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا آيَةُ الْأَحْقَافِ [29] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ

الْآيَاتِ فَتَذْكِيرٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةٍ أُخْرَى رَوَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَهِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» فِي أَحَادِيثِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِي مَوْضِعِ نَائِبِ فَاعِلِ أُوحِيَ أَيْ أُوحِيَ إِلَيَّ اسْتِمَاعُ نَفَرٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ الْمُوحَى بِحَرْفِ (أَنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِغَرَابَتِهِ. وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ اهْتِمَامٍ بِالْخَبَرِ الْمُوحَى بِهِ. وَمَفْعُولُ اسْتَمَعَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً، أَيْ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. وَالنَّفَرُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْبَشَرِ فَأُطْلِقَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ إِذْ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ آخَرُ كَمَا أُطْلِقَ رِجَالٌ فِي قَوْلِهِ: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 6] عَلَى شُخُوصِ الْجِنِّ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً قَالُوهُ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ لَمْ يَحْضُرْ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُنْذِرُوهُمْ وَيُرْشِدُوهُمْ إِلَى الصَّلَاحِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [29، 30] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً الْآيَاتِ. وَمَعْنَى الْقَوْلِ هُنَا: إِبْلَاغُ مُرَادِهِمْ إِلَى مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ نَوْعِهِمْ بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَتَفَاهَمُونَ بِهَا، إِذْ لَيْسَ لِلْجِنِّ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ فِيمَا يَظْهَرُ، فَالْقَوْلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْل: 18] فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لِهَذَا الدِّينِ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ دُعَاةً مِنَ الثَّقَلَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا نَفْسِيًّا، أَيْ خَوَاطِرَ جَالَتْ فِي مُدْرَكَاتِهِمْ جَوَلَانَ الْقَوْلِ الَّذِي يَنْبَعِثُ عَنْ إِرَادَةِ صَاحِبِ الْإِدْرَاكِ بِهِ إِبْلَاغَ مُدْرَكَاتِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي بَيْتِ النَّابِغَةِ يَتَحَدَّثُ عَنْ كَلْبِ صَيْدٍ: قَالَتْ لَهُ النَّفْسُ إِنِّي لَا أَرَى طَمَعًا ... وَإِنَّ مَوْلَاكَ لَمْ يَسْلَمْ وَلَمْ يَصِدِ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: 8] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (أَنَّ) لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِهِ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ فَأَتَوْا فِي كَلَامِهِمْ بِمَا يُفِيدُ تَحْقِيقَ مَا قَالُوهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْ مِثْلِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِحَرْفِ (إِنَّ) . وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَبِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْمَعْنَى، أَيْ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بَدِيعٌ فَائِقٌ فِي مُفَادِهِ. وَقَدْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَزَايَا الْقُرْآنِ بِانْكِشَافٍ وَهَبَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «لَا بُدَّ لِمَنْ آمَنَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْإِعْجَازِ وَشُرُوطَ الْمُعْجِزَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ عَلِمُوا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّبِيءُ الْأُمِّيُّ الصَّادِقُ الْمُبَشَّرُ بِهِ» اهـ. وَأَنَا أَقُولُ: حَصَلَ لِلْجِنِّ عِلْمٌ جَدِيدٌ بِذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِأَدِلَّةٍ كَانُوا لَا يَشْعُرُونَ بِهَا إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُطَالَبِينَ بِمَعْرِفَتِهَا، وَأَنَّ فَهْمَهُمْ لِلْقُرْآنِ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ كَرَامَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْقُرْآنِ. وَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَبِمَنْ أَنْزَلَهُ وَلِذَلِكَ قَالُوا وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. وَقَدْ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ مِنَ الْجِنِّ شَرَفُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقِ الْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ فَصَارُوا مِنْ خِيرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأُكْرِمُوا بِالْفَوْزِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ ذَرَأَ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَمُتَعَلِّقُ اسْتَمَعَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. والرُّشْدِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ (أَوْ يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ) هُوَ الْخَيْرُ وَالصَّوَابُ وَالْهُدَى. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَوْلُهُمْ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، أَيْ يَنْتَفِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ أَكَّدُوا نَفْيَ الْإِشْرَاكِ بِحَرْفِ التَّأْبِيدِ فَكَمَا أُكِّدَ خَبَرُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِ (إِنَّ) أُكِّدَ خَبَرُهُمْ عَنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْإِشْرَاكِ ب لَنْ.

[سورة الجن (72) : آية 3]

[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 3] وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) هَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ كَلَامِ الْجِنِّ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ أَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: 1] إِذْ يَجِبُ كَسْرُ هَمْزَةِ (إِنَّ) إِذَا حُكِيَتْ بِالْقَوْلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 2] أَيْ وَآمَنَّا بِأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا. وَعَدَمُ إِعَادَةِ الْجَارِّ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ مُسْتَعْمَلٌ، وَجَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ، عَلَى أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ كَثِيرٌ حَذْفُهُ مَعَ (أَنَّ) فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي حَذْفِهِ هُنَا على هَذَا التَّأْوِيلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الْجِنّ: 1] بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ فَاعِلُ أُوحِيَ (أَيْ نَائِبُ الْفَاعِلِ) وإِنَّا سَمِعْنا بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْكِيٌّ بَعْدَ الْقَوْلِ ثُمَّ تُحْمَلُ عَلَيْهِمَا الْبَوَاقِي فَمَا كَانَ مِنَ الْوَحْيِ فُتِحَ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ كُسِرَ، وَكُلُّهُنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ، إِلَّا الثِّنْتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الْجِنّ: 18] ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الْجِنّ: 19] وَمَنْ فَتَحَ كُلَّهُنَّ فَعَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُور فِي فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 2] كَأَنَّهُ قِيلَ: صَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي اهـ. وَالتَّعَالِي: شِدَّةُ الْعُلُوِّ، جُعِلَ شَدِيدَ الْعُلُوِّ كَالْمُتَكَلِّفِ الْعُلُوِّ لِخُرُوجِ عُلُوِّهُ عَنْ غَالِبِ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فَأَشْبَهَ التَّكَلُّفَ. وَالْجَدُّ: بِفَتْحِ الْجِيمِ الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً، لِأَنَّ اتِّخَاذَ الصَّاحِبَةِ لِلِافْتِقَارِ إِلَيْهَا لِأُنْسِهَا وَعَوْنِهَا وَالِالْتِذَاذِ بِصُحْبَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الِاحْتِيَاجِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ بِغِنَاهُ الْمُطْلَقِ، وَالْوَلَدُ يُرْغَبُ فِيهِ لِلِاسْتِعَانَةِ وَالْأُنْسِ بِهِ، مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ مِنِ انْفِصَالِهِ مِنْ أَجْزَاءِ وَالِدَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِافْتِقَارِ وَالِانْتِقَاصِ. وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ شَأْنٍ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا. وَجُمْلَةُ مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً إِلَى آخِرِهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.

[سورة الجن (72) : آية 4]

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً لِأَنَّهُ مَسُوقٌ إِلَى فَرِيقٍ يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنِّ. وَالِاقْتِصَارُ فِي بَيَانِ تَعَالِي جَدِّ اللَّهِ عَلَى انْتِفَاءِ الصَّاحِبَةِ عَنهُ وَالْولد ينبىء بِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِي عِلْمِ الْجِنِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَمَا اعْتِقَادُ الْمُشْركين إلّا ناشىء عَنْ تَلْقِينِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مِنَ الْجِنِّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَهُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [101] . وَإِعَادَةُ لَا النَّافِيَةِ مَعَ الْمَعْطُوفِ لِلتَّأْكِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ مَنْفِيٌّ بِاسْتِقْلَالِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ نَفْيِ الْمَجْمُوعِ. وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّنا عَائِدٌ إِلَى كُلِّ مُتَكَلِّمٍ مَعَ تَشْرِيكِ غَيْرِهِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ فَهُوَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَقِيَّة النَّفر. [4] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 4] وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرَةِ هَمْزَةِ وَأَنَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: 3] فَقَدْ يَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِتَعَالِي اللَّهِ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً وَوَلَدًا نَاشِئًا عَلَى مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَدْ يَكُونُ نَاشِئًا عَلَى إِدْرَاكِهِمْ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ نَظَرِيَّةٍ. وَالسَّفِيهُ: هُنَا جِنْسٌ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهِ إِبْلِيسَ، أَيْ كَانَ يُلَقِّنُهُمْ صِفَاتِ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، أَيْ كَانُوا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ شَطَطًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِتَسْفِيهِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَالشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَمَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَدْلِ وَالصَّوَابِ، وَتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُشْطِطْ فِي سُورَةِ ص [22] . وَالْمُرَادُ بِالشَّطَطِ إِثْبَاتُ مَا نَفَاهُ قَوْلُهُ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: 2] وَقَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً [الْجِنّ: 3] وَضَمِيرُ وَأَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَالْقَوْلُ فِيهِ وَفِي التَّأْكِيدِ بِ (إِنَّ) مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: 3] إِلَخ.

[سورة الجن (72) : آية 5]

[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 5] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) قَرَأَ هَمْزَةَ إِنَّ بِالْكَسْرِ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَقَرَأَهَا بِالْفَتْحِ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ. فَعَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ (إِنَّ) هُوَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ الِاعْتِذَارُ عَمَّا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُمْ: فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: 2] مِنْ كَوْنِهِمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ لِجَهْلِهِمْ وَأَخْذِهِمْ قَوْلَ سُفَهَائِهِمْ يَحْسَبُونَهُمْ لَا يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ عُذْرِهِمْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَتَأْكِيدِ الْمَظْنُونِ بِ لَنْ المفيدة لتأييد النَّفْيِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَوَغِّلِينَ فِي حُسْنِ ظَنِّهِمْ بِمَنْ ضَلَّلُوهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَهُوَ يَقِينٌ مُخْطِئٌ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 2] فَالْمَعْنَى: وَآمَنَّا فَإِنَّمَا ظَنَنَّا ذَلِكَ فَأَخْطَأْنَا فِي ظَنِّنَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ إِلَى خَطَرِ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقِيدَةِ، وَأَنَّهَا لَا يَجُوزُ فِيهَا الْأَخْذُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُقَلَّدِ بِفَتْحِ اللَّامِ بَلْ يَتَعَيَّنُ النَّظَرُ وَاتِّهَامُ رَأْيِ الْمُقَلَّدِ حَتَّى يَنْهَضَ دَلِيلُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَقُولَ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْوَاوُ مُشَدَّدَةٌ، مِنَ التَّقَوُّلِ وَهُوَ نِسْبَةُ كَلَامٍ إِلَى مَنْ لَمْ يَقُلْهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكَذِبِ وَأَصْلُهُ تَتَقَوَّلُ بِتَاءَيْنِ فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ كَذِباً مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِفِعْلِ تَقُولَ لِأَنَّهُ مرادفه. [6] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 6] وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَمْزَةَ وَأَنَّهُ بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو

[سورة الجن (72) : آية 7]

وجعفر وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ قَوْلُهُ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً وَأَمَّا قَوْلُهُ: كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ إِلَخْ، فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ. وَإِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَى الْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ وَالْمُشَاكَلَةِ لِوُقُوعِهِ مَعَ رِجَالٍ مِنَ الْإِنْسِ فَإِنَّ الرَّجُلَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ الْبَالِغِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً رَاجِعٌ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَلَى خَبَرِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ فَزادُوهُمْ رَهَقاً. وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى مَا يُنْجِي مِنْ شَيْءٍ يَضُرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97] ، فَإِذَا حُمِلَ الْعَوْذَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ يَلْتَجِئُونَ إِلَى الْجِنِّ لِيَدْفَعَ الْجِنُّ عَنْهُمْ بَعْضَ الْأَضْرَارِ فَوَقَعَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سَارَ أَحَدُهُمْ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ وَوَحْشٍ أَوْ تَعَزَّبَ فِي الرَّعْيِ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَسْكُنُ الْقَفْرَ وَيَخَافُونَ تَعَرُّضَ الْجِنِّ وَالْغِيلَانِ لَهُمْ وَعَبَثَهَا بِهِمْ فِي اللَّيْلِ فَكَانَ الْخَائِفُ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَزِيزَ هَذَا الْوَادِي إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي طَاعَتِكَ، فَيَخَالُ أَنَّ الْجِنِّيَّ الَّذِي بِالْوَادِي يَمْنَعُهُ، قَالُوا: وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ وَهِيَ أَوْهَامٌ وَتَخَيُّلَاتٌ. وَزَعَمَ أَهْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَى فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ الْإِنْسَ بِهَذَا الْخَوْفِ فَكَانُوا يُكْثِرُونَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَالتَّخَيُّلِ إِلَيْهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ مَخَافَةً. وَالرَّهَقُ: الذُّلُّ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْعَوْذَ هُنَا هُوَ الِالْتِجَاءُ إِلَى الشَّيْء والالتفات حَوْلَهُ. وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ اتِّقَاءَ شَرِّهَا. وَمَعْنَى فَزادُوهُمْ رَهَقاً فَزَادَتْهُمْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ ضَلَالًا. وَالرَّهَقُ: يُطْلَقُ على الْإِثْم. [7] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 7] وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ وَأَنَّهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: 3] .

[سورة الجن (72) : الآيات 8 إلى 9]

وَالْمَعْنَى: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْإِنْسِ ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ أَحَدًا، أَوْ وَأَنَّا آمَنَّا بِأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ إِلَخْ، أَيْ آمَنَّا بِأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا فِي ظَنِّهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ أَوِ الْمَفْتُوحَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِغَايَتِهِ. وَالْبَعْثُ يَحْتَمِلُ بَعْثَ الرُّسُلِ وَيَحْتَمِلُ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ لِلْحَشْرِ، أَيْ حَصَلَ لَهُمْ مِثْلَمَا حَصَلَ لَكُمْ من إِنْكَار الْحَشْر وَمن إِنْكَارِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ تَجَاوَزَ عَالَمَ الْإِنْسِ إِلَى عَالَمِ الْجِنِّ. وَجُمْلَةُ كَما ظَنَنْتُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ ظَنُّوا وَمَعْمُولِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ يَقُولُ الْجِنُّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ يُشَبِّهُونَ كُفَّارَهُمْ بِكُفَّارِ الْإِنْسِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخَاطَبِ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَعَيَّنُ إِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا [الْجِنّ: 1] عِبَارَةً عَمَّا جَالَ فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ هُنَالِكَ. وأَنْ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ. وَجُمْلَةُ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً خَبَرُهُ. وَالتَّعْبِيرُ بِحَرْفِ تَأْبِيدِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُتَرَدِّدِينَ فِي إِحَالَةِ وُقُوع الْبَعْث. [8- 9] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 8 إِلَى 9] وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ هُوَ قَوْلُهُ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ لِغَرَابَةِ الْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ مَا يَلِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَخْ.

وَاللَّمْسُ: حَقِيقَتُهُ الْجَسُّ بِالْيَدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اخْتِبَارِ أَمْرٍ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الْيَدِ أَقْوَى إِحْسَاسٍ، فَشبه بِهِ الِاخْتِيَار عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا أُطْلِقَ مُرَادِفُهُ وَهُوَ الْمَسُّ عَلَى الِاخْتِبَارِ فِي قَوْلِ يَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ الْكِلَابِيِّ: مَسَسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا فَكُلُّنَا ... إِلَى نَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ أَيْ اخْتَبَرْنَا نَسَبَ آبَائِنَا وَآبَائِكُمْ فَكُنَّا جَمِيعًا كِرَامَ الْآبَاءِ. ومُلِئَتْ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَثُرَ فِيهَا. وَحَقِيقَة الملء عمر فَرَاغِ الْمَكَانِ أَوِ الْإِنَاءِ بِمَا يَحُلُّ فِيهِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى كَثْرَةِ الشُّهُبِ وَالْحُرَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْحَرَسُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْحُرَّاسِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلَ خَدَمٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْحَرَسِيِّ. وَوُصِفَ بِشَدِيدٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ حَرَسٍ كَمَا يُقَالُ: السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَلَوْ نُظِرَ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآحَادِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: شِدَادٌ. وَالطَّوَائِفُ مِنَ الْحَرَسِ أَحْرَاسٌ. وَالشُّهُبُ: جَمْعُ شِهَابٍ وَهُوَ الْقِطْعَةُ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنْ بَعْضِ النُّجُومِ فَتَسْقُطُ فِي الْجَوِّ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْبَحْرِ وَتَكُونُ مُضَاءَةً عِنْدَ انْفِصَالِهَا ثمَّ يَزُول ضوؤها بِبُعْدِهَا عَنْ مُقَابَلَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَتُسَمَّى الْوَاحِدُ مِنْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ نَيْزَكًا بِاسْمِ الرُّمْحِ الْقَصِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّنَا اخْتَبَرْنَا حَالَ السَّمَاءِ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فَوَجَدْنَاهَا كَثِيرَةَ الْحُرَّاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَثِيرَةَ الشُّهُبِ لِلرَّجْمِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشُّهُبَ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاحِظُ فَإِنَّ الْعَرَبَ ذَكَرُوا تَسَاقُطَ الشُّهُبِ فِي بَعْضِ شِعْرِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. كَمَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» وَذَكَرَ شَوَاهِدَهُ مِنَ الشِّعْرِ الْجَاهِلِيِّ. نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الشُّهُبَ تَكَاثَرَتْ فِي مُدَّةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ حِفْظًا لِلْقُرْآنِ مِنْ دَسَائِسِ الشَّيَاطِينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَى آخِرِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنْ يُخْبِرُوا مَنْ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ تَبَيَّنُوا سَبَبَ شِدَّةِ حِرَاسَةِ السَّمَاءِ وَكَثْرَة الشهب، وَأما نفس الحراسة وَكَثْرَةِ الشُّهُبِ فَإِنَّ الْمُخْبَرِينَ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) يُشَاهِدُونَهُ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَخْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْهمزَة الَّذين قرأوا بِالْكَسْرِ قَوْلَهُ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ وَبِفَتْحِ الْهمزَة الَّذين قرأوا بِالْفَتْحِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَإِنَّمَا أُعِيدَ مَعَهُ كَلِمَةُ وَأَنَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَضَمَّنُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ فَإِعَادَةُ وَأَنَّا تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ. وَحَقِيقَةُ الْقُعُودِ الْجُلُوسُ وَهُوَ ضِدُّ الْقِيَامِ، أَيْ هُوَ جَعْلُ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهَا وَانْتِصَابُ النِّصْفِ الْأَعْلَى. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مُلَازَمَةِ الْمَكَانِ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ مِنْ لَوَازِمِ الْقُعُودِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: 5] . وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ مَفْعَلٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْقُعُودُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَكَانِ الْمُلَازَمَةِ فَإِنَّ الْقُعُودَ يُطْلَقُ عَلَى مُلَازَمَةِ الْحُصُولِ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلسَّمْعِ لَامُ الْعِلَّةِ أَيْ لِأَجْلِ السَّمْعِ، أَيْ لِأَنْ نَسْمَعَ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ تَصَارِيفِ الْمَلَائِكَةِ بِالتَّكْوِينِ وَالتَّصْرِيفِ، وَلَعَلَّ الْجِنَّ مُنْسَاقُونَ إِلَى ذَلِكَ بِالْجِبِلَّةِ كَمَا تَنْسَاقُ الشَّيَاطِينُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَضَمِيرُ مِنْها لِلسَّمَاءِ. وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ مِنْ سَاحَاتِهَا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ نَقْعُدُ، وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ مَقاعِدَ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَالِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَالْعِنَايَةُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقُعُودِ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ كَعْبٍ: يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ ... مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَبُ زَهَالِيلُ فَقَوْلُهُ (مِنْهَا) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (يُزْلِقُهُ) وَلَيْسَ حَالًا مِنْ (لَبَانٍ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مَبْحَثٌ فِي مَبَاحِثِ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ نَسَبَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْمَثَلِ السَّائِرِ» إِلَى ابْنِ سِنَانٍ الْخَفَاجِيِّ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ مِنَ الْكَلَامِ مَا مَعَهُ قَرِينُهُ فَأَوْجَبَ قُبْحَهُ كَقَوْلِ الرَّضِيِّ فِي رِثَاءِ الصَّابِي: أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا ... عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ فَإِنَّ إِيرَادَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ (أَيْ مَقَاعِدَ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ يُوَافِقُ مَا

يُكْرَهُ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى مَنْ يُحْتَمَلُ إِضَافَتُهُ (أَيْ مَا يُكْرَهُ) إِلَيْهِ وَهُمُ الْعُوَّادُ. وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ سَهْلًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَعِيبَةُ فِي شِعْرِ الرَّضِيِّ قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَتْ حَسَنَةً مَرْضِيَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمرَان: 121] وَقَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى مَنْ تَقْبُحُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ وَلَوْ قَالَ الشَّاعِرُ بَدَلًا مِنْ مَقَاعِدِ الْعُوَّادِ مَقَاعِدَ الزِّيَارَةِ لَزَالَتْ تِلْكَ الْهُجْنَةُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ لِمُصْطَلَحَاتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَاتِ أَثَرًا فِي وَقْعِ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الْأَفْهَامِ. وَالْفَاءُ الَّتِي فُرِّعَتْ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً تَفْرِيعٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كُنَّا وترتب الشَّرْط وجزائه عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا (أَيْ مِنَ السَّمَاءِ) مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَنَسْتَمِعُ أَشْيَاءَ فَمَنْ يَسْتَمِعُ الْآنَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ السَّمَاعِ. وَكَلِمَةُ الْآنَ مُقَابِلُ كَلِمَةِ كُنَّا، أَيْ كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ انْقَضَى. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَحْذِيرُ إِخْوَانِهِمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلِاسْتِمَاعِ لِأَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَتَعَرَّضُ لِأَذَى الشُّهُبِ. وَالْجِنُّ لَا تَنْكُفُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُنْسَاقُونَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ مَعَ مَا يَنَالُهُمْ مِنْ أَذَى الرَّجْمِ وَالِاحْتِرَاقِ، شَأْنَ انْسِيَاقِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ مِثْلَ تَهَافُتِ الْفَرَاشِ عَلَى النَّارِ، لِاحْتِمَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ الْمُفَكِّرَةِ فِي الْجِنِّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الشَّهْوَةُ، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ يَقْتَحِمُونَ الْأَخْطَارَ وَالْمَهَالِكَ تَبَعًا لِلْهَوَى مِثْلَ مُغَامَرَاتِ الْهُوَاةِ فِي الْبِحَارِ وَالْجِبَال والثلوج. وَوَقع شِهاباً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ سِيَاقَ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ سِيَاقِ النَّفْيِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّكِرَةِ. وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعِ رَاصِدٍ وَهُوَ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَهُوَ وَصْفٌ لِ شِهاباً، أَيْ شُهُبًا رَاصِدَةً، وَوَصْفُهَا بِالرَّصَدِ اسْتِعَارَةٌ شُبِّهَتْ بِالْحُرَّاسِ الرَّاصِدِينَ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى انْقِرَاضِ الْكِهَانَةِ إِذِ الْكَاهِنُ يَتَلَقَّى مِنَ الْجِنِّيِّ أَنْبَاءً مُجْمَلَةً بِمَا يَتَلَقَّفُهُ الْجِنِّيُّ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ تَلَقُّفَ اخْتِطَافٍ نَاقِصًا فَيُكْمِلُهُ الْكَاهِنُ بِحَدْسِهِ بِمَا يُنَاسِبُ مَجَارِيَ أَحْوَالِ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «فَيَزِيدُ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ» .

[سورة الجن (72) : آية 10]

وَأَمَّا اتِّصَالُ نُفُوسِ الْكُهَّانِ بِالنُّفُوسِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَنَاسُبٍ بَيْنَ النُّفُوسِ، وَمُعْظَمُهُ أَوْهَامٌ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» . أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ الْجِنُّ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ» (أَيْ وَحْيَ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِتَصَارِيفِ الْأُمُورِ) فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا، فَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ فَضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يَتَحَسَّسُونَ السَّبَبَ فَلَمَّا وَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ قَائِمًا يُصَلِّي بِمَكَّةَ قَالُوا: هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: 1] الْآيَةَ وَأنزل على نبيئه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ [الْجِنِّ: 1] وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ اهـ. وَلَعَلَّ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ رَجْمِ الْجِنِّ بِالشُّهُبِ كَانَ بِطَرِيقَةِ تَصْرِيفِ الْوَحْيِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فِي مَجَارٍ تَمُرُّ عَلَى مَوَاقِعِ انْقِضَاضِ الشُّهُبِ حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ قُوَى الْوَحْيِ بِمَوْقِعِ أَحَدِ الشُّهُبِ انْفَصَلَ الشِّهَابُ بِقُوَّةِ مَا يَغُطُّهُ مِنَ الْوَحْيِ فَسَقَطَ مَعَ مَجْرَى الْوَحْيِ لِيَحْرُسَهُ مِنِ اقْتِرَابِ الْمُسْتَرِقِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْمَلَكِ الْمُوحَى إِلَيْهِ فَلَا يَجِدُ فِي طَرِيقِهِ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً أَوْ جِنِّيَّةً إِلَّا أَحْرَقَهَا وَبَخَّرَهَا فَهَلَكَتْ أَوِ اسْتُطِيرَتْ وَبِذَلِكَ بَطَلَتِ الْكِهَانَةُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرسَالَة المحمدية. [10] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 10] وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ وبالباء كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَآمَنَّا بِأَنَّا انْتَفَى عِلْمُنَا بِمَا يُرَادُ بِالَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ النَّاسِ، أَيْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ عِلْمَ ذَلِكَ فَلَمَّا حُرِسَتِ السَّمَاءُ انْقَطَعَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا تَوْجِيهُ الْقِرَاءَةِ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّا وَمُحَاوَلَةُ غَيْرِ هَذَا تَكَلُّفٌ. وَهَذِهِ نَتِيجَةٌ نَاتِجَةٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ [الْجِنّ: 9] إِلَخْ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّمْعَ كَانَ لِمَعْرِفَةِ مَا يَجْرِي بِهِ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَمِمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِمَّا يُرِيدُ إِعْلَامَهُمْ بِهِ فَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مِنْ بَعْضِ مَا يَتَلَقَّفُونَهُ فَلَمَّا مُنِعُوا السَّمْعَ صَارُوا لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرُوا إِخْوَانَهُمْ بِهَذَا عَسَاهُمْ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِأَسْبَابِ هَذَا التَّغَيُّرِ

[سورة الجن (72) : آية 11]

فَيُؤْمِنُوا بِالْوَحْيِ الَّذِي حَرَسَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الَّذِي يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَالَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ. فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: إِنَّا الْآنَ لَا نَدْرِي مَاذَا أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ شَرٍّ أَوْ خَيْرٍ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَتَجَسَّسُ الْخَبَرَ فِي السَّمَاءِ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا سيقولونه من قَوْله: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ [الْجِنّ: 11] ثُمَّ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ [الْجِنّ: 12] ثُمَّ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ إِلَى قَوْله: كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الْجِنّ: 13- 15] . وَمَفْعُولُ نَدْرِي هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَهُوَ الَّذِي عَلَّقَ فِعْلَ نَدْرِي عَنِ الْعَمَلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَعَادَةُ الْمُعْرِبِينَ لِمِثْلِهِ أَنْ يُقَدِّرُوا مَفْعُولًا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ: لَا نَدْرِي جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ. هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْآيَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَكْمَلِ وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الْأَحْقَاف: 9] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا فِيمَا نَرَى أَنَّهُمْ يَنْفُونَ أَنْ يَعْلَمُوا مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذِهِ الشُّهُبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ إِذْ قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 1، 2] وَقَوْلُهُمْ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ: 9] فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ يَدْرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ خَيْرًا بِهَذَا الدِّينِ وَبِصَرْفِ الْجِنِّ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ. وَتَكْرِيرُ (إِنَّ) وَاسْمِهَا لِلتَّأْكِيدِ لِكَوْنِ هَذَا الْخَبَرِ مُعَرَّضًا لِشَكِّ السَّامِعِينَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَبِرُوا حِرَاسَةَ السَّمَاءِ. وَالرَّشَدُ: إِصَابَةُ الْمَقْصُودِ النَّافِعِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلْخَيْرِ، فَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ مُقَابِلًا لِلشَّرِّ وَأُسْنِدَ فِعْلُ إِرَادَةِ الشَّرِّ إِلَى الْمَجْهُولِ وَلَمْ يُسْنَدْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ مُقَابِلَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، جَرْيًا عَلَى وَاجِبِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحَاشِي إِسْنَادِ الشَّرّ إِلَيْهِ. [11] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 11] وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً

(11) قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ. وَقِرَاءَةُ فَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، أَيْ آمَنَّا بِأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ، أَيْ أَيْقَنَّا بِذَلِكَ وَكُنَّا فِي جَهَالَةٍ عَنْ ذَلِكَ. ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ آثَارُ التَّوْفِيقِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ صَالِحُونَ وَفَرِيقٌ لَيْسُوا بِصَالِحِينَ، وَهُمْ يَعْنُونَ بِالصَّالِحِينَ أَنْفُسَهُمْ وَبِمَنْ دُونَ الصَّلَاحِ بَقِيَّةُ نَوْعِهِمْ، فَلَمَّا قَامُوا مَقَامَ دَعْوَةِ إِخْوَانِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْخَيْرِ لَمْ يُصَارِحُوهُمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْإِفْسَادِ بَلْ أُلْهِمُوا وَقَالُوا مِنَّا الصَّالِحُونَ، ثُمَّ تَلَطَّفُوا فَقَالُوا: وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ، الصَّادِقُ بِمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ لِيَتَطَلَّبَ الْمُخَاطَبُونَ دَلَائِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا لَهُمُ احْتِمَالَ أَنْ يُعْنَى بِالصَّالِحِينَ الْكَامِلُونَ فِي الصَّلَاحِ فَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ مَنْ هُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ فِي الصَّلَاحِ، وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ. ودُونَ: اسْمٌ بِمَعْنَى (تَحْتَ) ، وَهُوَ ضِدُّ فَوْقَ وَلِذَلِكَ كَثُرَ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ، أَيْ فِي مَكَانٍ مُنْحَطٍّ عَنِ الصَّالِحِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَّا فَرِيقٌ فِي مَرْتَبَةٍ دُونَهُمْ. وَظَرْفِيَّةُ دُونَ مَجَازِيَّةٌ. وَوَقَعَ الظَّرْفُ هُنَا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَرِيقٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] وَيَطَّرِدُ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ إِذَا كَانَ بَعْضَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ (مِنْ) مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ وَكَانَتِ الصِّفَةُ ظَرْفًا كَمَا هُنَا، أَوْ جُمْلَةً كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ. وَقَوْلُهُ: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، شَبَّهَ تَخَالُفَ الْأَحْوَالِ وَالْعَقَائِدِ بِالطَّرَائِقِ تُفْضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى مَكَانٍ لَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْأُخْرَى. وطَرائِقَ: جَمْعُ طَرِيقَةٍ، وَالطَّرِيقَةُ هِيَ الطَّرِيقُ، وَلَعَلَّهَا تَخْتَصُّ بِالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ الْوَاضِحِ لِأَنَّ التَّاءَ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ دَارٍ وَدَارَةٍ، وَمِثْلَ مَقَامٍ وَمَقَامَةٍ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهَا أَفْلَاكُ الْكَوَاكِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 17] وَوُصِفَتْ بِالْمُثْلَى فِي قَوْلِهِ: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: 63] . وَوَصْفُ طَرائِقَ بِ قِدَداً، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ قِدَّةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ

[سورة الجن (72) : آية 12]

الدَّالِ وَالْقِدَّةُ: الْقِطْعَةُ مِنْ جِلْدٍ وَنَحْوِهِ الْمَقْطُوعَةُ طُولًا كَالسَّيْرِ، شُبِّهَتِ الطَّرَائِقُ فِي كَثْرَتِهَا بِالْقِدَدِ الْمُقْتَطَعَةِ مِنَ الْجِلْدِ يَقْطَعُهَا صَانِعُ حِبَالِ الْقِدِّ كَانُوا يُقَيِّدُونَ بِهَا الْأَسْرَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِخْوَتَهُمْ إِلَى وَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ بِاقْتِفَاءِ هُدَى الْإِسْلَامِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِذَمِّ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَأَنَّ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَتَّحِدُّوا وَيَتَطَلَّبُوا الْحَقَّ لِيَكُونَ اتِّحَادُهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَائِدَةَ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَعْنى التعريضي. [12] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 12] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ وَأَنَّا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 2] . وَالتَّقْدِير: وءامنا بِأَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ. وَذِكْرُ فِعْلِ ظَنَنَّا تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِفِعْلِ «آمَنَّا» الْمُقَدَّرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقِينٌ وَأُطْلِقَ الظَّنُّ هُنَا عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ. لَمَّا كَانَ شَأْنُ الصَّلَاحِ أَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَشَأْنُ ضِدِّهِ بِعَكْسِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] أَعْقَبُوا لِتَعْرِيضِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ضِدِّ الصَّلَاحِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ لِغَيْرِ الصَّالِحِينَ عِقَابًا فَأَيْقَنُوا أَنَّ عِقَابَ اللَّهِ لَا يفلت مِنْهُ أَحَدٍ اسْتَحَقَّهُ. وَقَدَّمُوهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى [الْجِنّ: 13] الْآيَةَ، لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَقَدِ اسْتَفَادُوا عِلْمَ ذَلِكَ مِمَّا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِتَعْلِيمٍ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، فَلَمَّا أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا أُصُولَ الْعَقَائِدِ حَذَّرُوا إِخْوَانَهُمُ اعْتِقَادَ الشِّرْكِ وَوَصْفَ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْبَاطِلَ لَا يُقِرُّهُ الْإِدْرَاكُ الْمُسْتَقِيمُ بَعْدَ تَنْبِيهِهِ لِبُطْلَانِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا النَّفَرَ مِنَ الْجِنِّ نَذِيرًا لِإِخْوَانِهِمْ وَمُرْشِدًا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.

[سورة الجن (72) : آية 13]

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها [الْأَعْرَاف: 179] الْآيَةَ فَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْجِنِّ الشَّيَاطِينُ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ. وَالْإِعْجَازُ: جَعْلُ الْغَيْرِ عَاجِزًا أَيْ غَيْرَ قَادِرٍ عَنْ أَمْرٍ بِذِكْرٍ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَجْزِ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِفْلَاتِ وَالنَّجَاةِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا أَيْ لَا تَفُوتُنِي وَلَا تَخْرُجُ عَنْ مُكْنَتِي. وَذِكْرُ فِي الْأَرْضِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَرَبِ فِي قَوْلِهِ: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً الْهَرَبُ مِنَ الرَّجْمِ بِالشُّهُبِ، أَيْ لَا تَطْمَعُوا أَنْ تَسْتَرِقُوا السَّمْعَ فَإِنَّ رَجْمَ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ لَا يُخْطِئُكُمْ، فَابْتَدَأُوا الْإِنْذَارَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا اسْتِنْزَالًا لِقَوْمِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُعْجِزَ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى مُغَالِبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النَّحْل: 46] أَيْ لَا يَغْلِبُونَ قُدْرَتَنَا، وَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَقْصُودًا بِهِ تَعْمِيمُ الْأَمْكِنَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 31] ، أَيْ فِي مَكَانٍ كُنْتُمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّا لَا نَغْلِبُ اللَّهَ بِالْقُوَّةِ. وَيَكُونُ نُعْجِزَ الثَّانِي، بِمَعْنَى الْإِفْلَاتِ وَلِذَلِكَ بُيِّنَ بِ هَرَباً، وَالْهَرَبُ مَجَازٌ فِي الِانْفِلَاتِ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِلْحَاقَهُ بِهِمْ مِنَ الرَّجْمِ وَالِاحْتِرَاقِ. وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْيَقِينِ بِقَرِينَةِ تَأْكِيدِ الْمَظْنُونِ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْبِيدِ النَّفْي وتأكيده. [13] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 13] وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 2] . وَالْمَقْصُودُ بِالْعَطْفِ قَوْلُهُ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً، وَأَمَّا جُمْلَةُ لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَتَوْطِئَةٌ لِذَلِكَ.

بَعْدَ أَنْ ذَكَّرُوا قَوْمَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَوِ اطْمَأَنُّوا بِتَذَكُّرِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، عَادُوا إِلَى تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ. وَأُرِيدَ بِالْهُدَى الْقُرْآنُ إِذْ هُوَ الْمَسْمُوعُ لَهُمْ وَوَصَفُوهُ بِالْهُدَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ هَادٍ. وَمَعْنَى يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ، أَيْ بِوُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ إِحْضَارُ اسْمِهِ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْخَالِقُ فَمَا لَا يَخْلُقُ لَا يُعْبَدُ. وَجُمْلَةُ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الْجِنِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مِنَ اللَّهِ مُوَجَّهًا لِلْمُشْرِكِينَ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَالْبَخْسُ: الْغَبْنُ فِي الْأَجْرِ وَنَحْوِهِ. وَالرَّهَقُ: الْإِهَانَةُ، أَيْ لَا يَخْشَى أَنْ يُبْخَسَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى إِيمَانِهِ وَلَا أَنْ يُهَانَ. وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ يُهَانُ بِالْعَذَابِ. وَالْخِلَافُ فِي كَسْرِ هَمْزَةِ أَنَّا وَفَتْحِهَا كَالْخِلَافِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَجُمْلَةُ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً جَوَابٌ لِشَرْطِ (مَنْ) جُعِلَتْ بِصُورَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَقُرِنَتْ بِالْفَاءِ مَعَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِعْلٌ، وَشَأْنُ جَوَابِ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِالْفَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ فِعْلَ الشَّرْطِ فَكَانَ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ وَهُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُشِيرًا إِلَى إِرَادَةِ جَعْلِهِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِحَيْثُ تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، وَالِاسْمِيَّةُ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا وَقَعَتْ جَوَابَ شَرْطٍ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ هُنَا: فَهُوَ لَا يَخَافُ لِيَكُونَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ سَلَامَتِهِ مِنْ خَوْفِ الْبَخْسِ وَالرَّهَقِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ، فَتَقْدِيرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ تَارَّةً وَالتَّقَوِّيَ أُخْرَى وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: 15] . وَاجْتَمَعَا هُنَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: فَكَانَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ نَاجٍ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ مَزِيَّةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ يَقْتَضِي تَوْجِيهَ الْعُدُولِ عَنْ جَزْمِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَقُولُ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنْ تَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ الْفَاءِ وَعَنْ جَزْمِهِ لِدَفْعِ إِيهَامِ أَنْ تَكُونَ لَا نَاهِيَةً، فَهَذَا الْعُدُولُ صَرَاحَةٌ فِي إِرَادَةِ الْوَعْدِ دُونَ احْتِمَالِ إِرَادَةِ النَّهْيِ. وَفِي «شَرْحِ الدَّمَامِينِيِّ عَلَى التَّسْهِيلِ» : أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ فِعْلًا مَنْفِيًّا

[سورة الجن (72) : الآيات 14 إلى 15]

بِ (لَا) يَجُوزُ الِاقْتِرَانُ بِالْفَاءِ وَتَرْكُهُ. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَقْتَضِي أَنَّ الِاقْتِرَانَ بِالْفَاءِ وَاجِبٌ إِلَّا إِذَا قُصِدَتْ مَزِيَّةٌ أُخْرَى. [14- 15] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 14 الى 15] وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْعَطْفِ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ، أَيْ أَصْبَحْنَا بَعْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَّا الْمُسْلِمُونَ، أَيْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِمَّا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ، أَيْ الْكَافِرُونَ الْمُعْرِضُونَ وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِمْ: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الْجِنّ: 11] لِأَنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ دُونَ ذَلِكَ هُوَ ضِدُّ الصَّلَاحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ مُنْتَهَى مَا حُكِيَ عَنِ الْجِنِّ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ الَّتِي عُبِّرَ عَنْهَا بِالْقَوْلِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) . الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَإِنَّمَا قُرِنَ بِالْفَاءِ لِتَفْرِيعِهِ عَلَى الْقِصَّةِ لِاسْتِخْلَاصِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا، فَالتَّفْرِيعُ تَفْرِيعُ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ وَلَيْسَ تَفْرِيعَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالتَّحَرِّي: طَلَبُ الْحَرَا بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورًا وَاوِيًّا، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، يُقَالُ: بِالْحَرِيِّ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَأَحْرَى أَنْ تَفْعَلَ. وَالرَّشَدُ: الْهُدَى وَالصَّوَابُ، وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ تَوَخَّى سَبَبَ النَّجَاةِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ لِأَنَّ الرَّشَدَ سَبَبُ ذَلِكَ. وَالْقَاسِطُ: اسْمُ فَاعِلِ قَسَطَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ قَسْطًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَقُسُوطًا بِضَمِّهَا، أَيْ جَارٍ فَهُوَ كَالظُّلْمِ يُرَادُ بِهِ ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِالْإِشْرَاكِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» :

[سورة الجن (72) : الآيات 16 إلى 17]

أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: قَاسِطٌ عَادِلٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ! حَسِبُوا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْقِسْطِ (بِكَسْرِ الْقَافِ) وَالْعَدْلِ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا جَهَلَةُ إِنَّهُ سَمَّانِي ظَالِمًا مُشْرِكًا وَتَلَا لَهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] اهـ. وَشَبَّهَ حُلُولَ الْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ بِحُلُولِ الْحَطَبِ فِي النَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ وَالتَّحْقِيرِ، أَيْ هُمْ لِجَهْلِهِمْ كَالْحَطَبِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: 24] . وَإِقْحَامُ فِعْلِ (كَانُوا) لِتَحْقِيقِ مَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ مِنْ زمن مضى. [16- 17] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 16 إِلَى 17] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى فَتْحِ هَمْزَةِ: أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا، فَجُمْلَةُ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 1] ، وَالْوَاوُ مِنَ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، فَمَضْمُونُهَا شَأْنٌ ثَانٍ مِمَّا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلنَّاسِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَوِ اسْتَقَامَ الْقَاسِطُونَ فَأَسْلَمُوا لَمَا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِإِمْسَاكِ الْغَيْثِ. وَأَن مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَة، وَجِيء بِأَن الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مَعْمُولٌ لفعل أُوحِيَ [الْجِنّ: 1] فَهُوَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَبَرُهُ لَوِ اسْتَقامُوا إِلَى آخِرِ الْجُمْلَةِ. وَسَبْكُ الْكَلَامِ: أُوحِيَ إِلَيَّ إِسْقَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَاءً فِي فَرْضِ اسْتِقَامَتِهِمْ. وَضَمِيرُ اسْتَقامُوا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَاسِطِينَ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّفْظِ مُجَردا عَن مَا صدقه كَقَوْلِكَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنَ الْمَقَامِ إِذِ السُّورَةُ مَسُوقَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ وَطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَضَمِيرُ اسْتَقامُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ كَمَا تَنَبَّهْنَا إِلَيْهِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعَادَ عَلَى الْقَاسِطِينَ مِنَ الْجِنِّ إِذْ لَا عَلَاقَةَ لِلْجِنِّ بِشُرْبِ الْمَاءِ. وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقَةِ: اسْتِقَامَةُ السَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ السَّيْرُ عَلَى بَصِيرٍ بِالطَّرِيقِ دُونَ اعْوِجَاجٍ وَلَا اغترار ببينات الطَّرِيقِ. والطَّرِيقَةِ: الطَّرِيقُ: وَلَعَلَّهَا خَاصَّةٌ بِالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ الْوَاضِحِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الْجِنّ: 11] . وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقَةِ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ الْمُتَّصِفِ بِالسُّلُوكِ الصَّالِحِ وَالِاعْتِقَادِ الْحَقِّ بِهَيْئَةِ السَّائِرِ سَيْرًا مُسْتَقِيمًا عَلَى طَرِيقَةٍ، وَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الطَّرِيقَةِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً: وَعْدٌ بِجَزَاءٍ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي الدِّينِ جَزَاءً حَسَنًا فِي الدُّنْيَا يَكُونُ عُنْوَانًا عَلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِشَارَةً بِثَوَابِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: 97] . وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ فَيَقَعُوا فِي الْقَحْطِ وَالْجُوعِ وَهُوَ مَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ دَعَا بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ فِي الْقُنُوتِ كَمَا فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَقَدْ كَانُوا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْعَيْشِ وَفِي نَخِيلٍ وَجَنَّاتٍ فَكَانَ جَعْلُ تَرَتُّبِ الْإِسْقَاءِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْطُ بِحَرْفِ لَوِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَأَدَمْنَا عَلَيْهِمُ الْإِسْقَاءَ بِالْمَاءِ الْغَدَقِ، وَإِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِسَالِكِينَ سَبِيلَ الِاسْتِقَامَةِ فَيُوشِكُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُمُ الرَّيَّ فَفِي هَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى اعْوِجَاجِ الطَّرِيقَةِ أُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَاءُ. وَبِذَلِكَ يَتَنَاسَبُ التَّعْلِيلُ بِالْإِفْتَانِ فِي قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ مَعَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ إِذْ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى إِدَامَةِ الْإِسْقَاءِ فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْإِسْقَاءِ الْمَوْجُودِ حِينَ نُزُولِ

الْآيَةِ وَلَيْسَ تَعْلِيلًا لِلْإِسْقَاءِ الْمَفْرُوضِ فِي جَوَابِ لَوِ لَأَنَّ جَوَابَ لَوِ مُنْتَفٍ فَلَا يَصْلُحُ لَأَنْ يُعَلَّلَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ مَفْتُونُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّ اسْتِمْرَارَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِتْنَةٌ لَهُمْ فَلَا تَغُرَّنَّهُمْ. فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَاءً غَدَقاً وَهُوَ الْمَاءُ الْجَارِي لَهُمْ فِي الْعُيُونِ وَمِنَ السَّمَاءِ تَحْتَ جَنَّاتِهِمْ وَفِي زُرُوعِهِمْ فَهِيَ حَالٌ مُقَارَنَةٌ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَزُولُ الْحَيْرَةُ فِي اسْتِخْلَاصِ مَعْنَى الْآيَةِ وَتَعْلِيلِهَا. وَالْغَدَقُ: بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمَاءُ الْغَزِيرُ الْكَثِيرُ. وَجُمْلَةُ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ إِدْمَاجٌ فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ إِلَخْ. ثُمَّ أُكِّدَتِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْإِنْذَارِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ الْآيَةَ، بِصَرِيحِ الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً، أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا انْقَلَبَ حَالُهُمْ إِلَى الْعَذَابِ فَسَلَكْنَا بِهِمْ مَسَالِكَ الْعَذَابِ. وَالسَّلْكُ: حَقِيقَتُهُ الْإِدْخَالُ، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ، يُقَالُ: سَلَكَهُ فَسَلَكَ، قَالَ الْأَعْشَى: كَمَا سَلَكَ السِّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ أَدْخَلَ الْمِسْمَارَ فِي الْبَابِ نَجَّارٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [12] . وَاسْتُعْمِلَ السَّلْكُ هُنَا فِي مَعْنَى شِدَّةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ عَزِيزَةٌ. وَالْمَعْنَى: نُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا مَصْرِفَ عَنْهُ. وَانْتَصَبَ عَذاباً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ إِذَا حَلَّ بِهِ يُحِيطُ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ:

[سورة الجن (72) : آية 18]

عَنْ ذِكْرِنَا، أَوْ عَنْ ذِكْرِي، لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ الْإِيمَاءَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْمُعْرِضَ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ وَدَبَّرَهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُسْلَكَ عَذَابًا صَعَدًا. وَالصَّعَدُ: الشَّاقُّ الْغَالِبُ، وَكَأَنَّهُ جَاءَ مِنْ مَصْدَرِ صَعِدَ، كَفَرِحَ إِذَا عَلَا وَارْتَفَعَ، أَيْ صَعِدَ عَلَى مَفْعُولِهِ وَغَلَبَهُ، كَمَا يُقَالُ: عَلَاهُ بِمَعْنَى تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ [الدُّخان: 19] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَسْلُكْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يَسْلُكْهُ بِيَاءِ الْغَائِبِ فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ يَعُودُ إِلَى ربّه. [18] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 18] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَرْفُوعِ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 1] ، وَمَضْمُونُهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَعَ أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا نَائِبُ فَاعل أُوحِيَ [الْجِنّ: 1] . وَالتَّقْدِيرُ: أُوحِيَ إِلَيَّ اخْتِصَاصُ الْمَسَاجِدِ بِاللَّهِ، أَيْ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ بِنَاءَهَا إِنَّمَا كَانَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ فِيهَا، وَهِيَ مَعَالِمُ التَّوْحِيدِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمَلَ سِيبَوَيْهُ الْآيَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي «الْحُجَّةِ» . وَذَهَبَ الْخَلِيلُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ لَامِ جَرٍّ قَبْلَ أَنَّ، فَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ اللَّهُ مُسْتَحِقُّهَا دُونَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ فَمَنْ وَضَعَ الْأَصْنَامَ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ فَقَدِ اعْتَدَى عَلَى اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا وَضَعُوا فِيهِ الْأَصْنَام والأنصاب وَجَعَلُوا الصَّنَمَ (هُبَلَ) عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها [الْبَقَرَة: 114] يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى اعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ

[سورة الجن (72) : الآيات 19 إلى 20]

يُغَيِّرُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: 34] ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 114] بِلَفْظِ مَساجِدَ لِيَدْخُلَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مِمَّنْ شَاكَلَهُمْ مِمَّنْ غَيَّرُوا الْمَسَاجِدَ، أَوْ لِتَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا جَمَعَ رُسُلِي فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [سبأ: 45] ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يكون ضمير فَكَذَّبُوا عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: 43] أَيْ كَذَّبُوا رَسُولِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: 37] يُرِيدُ نُوحًا، وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْجَمْعِ. وَفُرِّعَ عَلَى اخْتِصَاصِ كَوْنِ الْمَسَاجِدِ بِاللَّهِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ بِطَرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِ اللَّهِ فَعِبَادَتُهُمْ غَيْرَ اللَّهِ مُنَافِيَةٌ لزعمهم ذَلِك. [19- 20] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 19 إِلَى 20] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ فِي رِوَايَاتِهِمُ الْمَشْهُورَةِ بِالْفَتْحِ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِ هَذَا خَارِجًا عَمَّا صَدَرَ عَنِ الْجِنِّ وَفِي كَوْنِهِ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ. فَكَسْرُ الْهَمْزَةِ عَلَى عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ أُوحِيَ إِلَيَّ [الْجِنّ: 1] ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ إِنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ لِأَنَّ هَمْزَةَ (إِنَّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي مَحْكِيٍّ بِالْقَوْلِ تُكْسَرُ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ حِكَايَةِ مَقَالَةِ الْجِنِّ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدِ انْقَضَى وَتَبَاعَدَ وَنُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى أَغْرَاضٍ أُخْرَى ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الْجِنّ: 18] . وَأَمَّا الْفَتْحُ فَعَلَى اعْتِبَارِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ [الْجِنّ: 1] ، أَيْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ، أَيْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ اقْتِرَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا لِبَدًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا قَامَ يَدْعُو رَبَّهُ.

وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَجُمْلَةُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا خَبَرُهُ. وَضَمِيرُ كادُوا يَكُونُونَ عَائِدَانِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْبِئِ عَنْهُمُ الْمَقَامُ غَيْبَةً وَخِطَابًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الْجِنّ: 16] إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنّ: 18] . وعَبْدُ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وُضِعُ الِاسْمُ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَأَنَّهُ لَمَّا قُمْتَ تَدْعُو اللَّهَ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْكَ، أَوْ لَمَّا قُمْتُ أَدْعُو اللَّهَ، كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيَّ. وَلَكِنْ عُدِلَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِقَصْدِ تَكْرِيمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ عَبْدُ اللَّهِ لِمَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ مَعَ وَصْفِ عَبْدُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1] . ولِبَداً بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ اسْمُ جَمْعِ: لِبْدَةٍ، وَهِيَ مَا تَلَبَّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ لِبْدَةُ الْأَسَدِ لِلشَّعْرِ الْمُتَرَاكِمِ فِي رَقَبَتِهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَادَ الْمُشْرِكُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ اللِّبَدِ مُتَرَاصِّينَ مُقْتَرِبِينَ مِنْهُ يَسْتَمِعُونَ قِرَاءَتَهُ وَدَعْوَتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ. وَهُوَ الْتِفَافُ غَيْظٍ وَغَضَبٍ وَهَمٍّ بِالْأَذَى كَمَا يُقَالُ: تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ. وَمَعْنَى قامَ: اجْتَهَدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [14] ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: بِأَنَّ حِصْنًا وَحَيًّا مِنْ بَنِي أَسَدٍ ... قَامُوا فَقَالُوا حِمَانَا غَيْرُ مَقْرُوبِ وَقد تقدم عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَمَعْنَى قِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْلَانُهُ بِالدَّعْوَةِ وَظُهُورُ دَعْوَتِهِ قَالَ جَزْءُ بْنُ كُلَيْبٍ الْفَقْعَسِيُّ: فَلَا تَبْغِيَنَّهَا يَا بن كُوزٍ فَإِنَّهُ ... غَذَا النَّاسُ مُذْ قَامَ النَّبِيءُ الْجَوَارِيَا أَيْ قَامَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ بقوله بعده: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً، فَهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَادُوا دُعَاءَ غَيْرِ الْأَصْنَامِ تَجَمَّعُوا لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ دُعَاء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله تَعَالَى.

[سورة الجن (72) : الآيات 21 إلى 23]

وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَدْعُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَالَ بِصِيغَة الْمَاضِي. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ قُلْ بِدُونِ أَلِفٍ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا. وَالتَّقْدِيرُ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ. وإِنَّما أَدْعُوا رَبِّي، يُفِيدُ قَصْرًا، أَيْ لَا أَدْعُو غَيْرَهُ، أَيْ لَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ دُونَهُ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً تَأْكِيدًا لِمَفْهُومِ الْقَصْرِ، وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُعْطَفَ فَعَطْفُهُ لِمُجَرَّدِ التَّشْرِيكِ لِلْعِنَايَةِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِالْإِبْلَاغِ. [21- 23] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 21 الى 23] قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ. هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ ذِكْرِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَوْجِيهِ خِطَابٍ مُسْتَأْنَفٍ إِلَيْهِ، فَبَعْدَ أَنْ حُكِيَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ من الشؤون الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ مُتَابِعِينَ وَإِعْرَاضِ مُعْرِضِينَ، انْتَقَلَ إِلَى تَلْقِينِهِ مَا يَرُدُّ عَلَى الَّذِينَ أَظْهَرُوا لَهُ الْعِنَادَ وَالتَّوَرُّكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَخْ، تَكْرِيرًا لِجُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي [الْجِنّ: 20] عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَالضُّرُّ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَتَوَرَّكُونَ بِهِ مِنْ طَلَبِ إِنْجَازِ مَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا رَشَداً تَتْمِيمٌ. وَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّ الضُّرَّ يُقَابِلُهُ النَّفْعُ، وَالرَّشَدُ يُقَابِلُهُ الضَّلَالُ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا ضَلَالًا وَلَا رَشَدًا. وَالرَّشَدُ بِفَتْحَتَيْنِ: مَصْدَرُ رَشَدَ، وَالرُّشْدُ، بِضَمٍّ فَسُكُونٍ: الِاسْمُ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الصَّوَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الْجِنّ: 2] .

وَتَرْكِيبُ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مَعْنَاهُ لَا أَقْدِرُ قُدْرَةً لِأَجْلِكُمْ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ [4] وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَجُمْلَتَا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إِلَى مُلْتَحَداً مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ اعْتِرَاضُ رُدٍّ لِمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا يُؤْذِيهِمْ فَلَا يَذْكُرُ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ مُعْتَقَدِهِمْ وَتَحْقِيرَ أَصْنَامِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يُونُس: 15] . وَالْمُلْتَحَدُ: اسْمُ مَكَانِ الِالْتِحَادِ، وَالِالْتِحَادُ: الْمُبَالَغَةُ فِي اللَّحْدِ، وَهُوَ الْعُدُولُ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى اللَّجَأِ، أَيْ الْعِيَاذُ بِمَكَانٍ يَعْصِمُهُ. وَالْمَعْنَى: لَنْ أَجِدَ مَكَانًا يَعْصِمُنِي. ومِنْ دُونِهِ حَالٌ مِنْ مُلْتَحَداً، أَيْ مُلْتَحَدًا كَائِنًا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ بَعِيدًا عَنِ اللَّهِ غَيْرَ دَاخِلٍ مِنْ مَلَكُوتِهِ، فَإِنَّ الْمُلْتَحَدَ مَكَانٌ فَلَمَّا وُصِفَ بِأَنَّهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكَانٌ مِنْ غَيْرِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي فِي مُلْكِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، وَلِهَذَا جَاءَ لِنَفْيِ وِجْدَانِهِ حَرْفُ لَنْ الدَّال على تأييد النَّفْيِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ مَزِيدَةٌ جَارَّةٌ لِلظَّرْفِ وَهُوَ (دُونَ) . وَقَوْلُهُ: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ ضَرًّا ورَشَداً، وَلَيْسَ مُتَّصِلًا لِأَنَّ الضَّرَّ وَالرَّشَدَ الْمَنْفِيَّيْنِ فِي قَوْلِهِ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً هُمَا الضَّرُّ وَالرَّشَدُ الْوَاقِعَانِ فِي النَّفْسِ بِالْإِلْجَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ مُلْتَحَداً، أَيْ بِتَأْوِيلِ مُلْتَحَداً بِمَعْنَى مَخْلَصٍ أَوْ مَأْمَنٍ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أُسْلُوبِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْبَلَاغُ: اسْمُ مَصْدَرِ بَلَغَ، أَيْ أَوْصَلَ الْحَدِيثَ أَوِ الْكَلَامَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبَلَّغِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] .

[سورة الجن (72) : آية 24]

وَ (مِنَ) ابتدائية صفة (بَلَاغ) ، أَيْ بَلَاغًا كَائِنًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا كَلَامًا أُبَلِّغُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُوحَى مِنَ اللَّهِ. ورِسالاتِهِ: جَمْعُ رِسَالَةٍ، وَهِيَ مَا يُرْسَلُ مِنْ كَلَامٍ أَوْ كِتَابٍ فَالرِّسَالَاتُ بَلَاغٌ خَاصٌّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا تَبْلِيغُ الْقُرْآنِ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. لَمَّا كَانَ قَوْله: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً [الْجِنّ: 20] إِلَى هُنَا كَلَامًا مُتَضَمِّنًا أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا وَعَانَدُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مَا تَوَهَّمُوهُ تَعْجِيزًا لَهُ مِنْ ضُرُوبِ الِاقْتِرَاحِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ دَامُوا عَلَى عِصْيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ سَيَلْقَوْنَ نَارَ جَهَنَّمَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَتْ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ. ومِنَ شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ. [24] [سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 24] حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) كَانُوا إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعْدِ بِنَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَآيَاتِ الْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالِانْهِزَامِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الدُّنْيَا اسْتَسْخَرُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] ، وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: 28] ، وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] ، وَقَالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] ، فَهُمْ مَغْرُورُونَ بِالِاسْتِدْرَاجِ وَالْإِمْهَالِ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ وَعِيدَهُمْ بِالْغَايَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ حَتَّى، فَالْغَايَةُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ سُخْرِيَةِ الْكُفَّارِ مِنَ الْوَعِيدِ وَاسْتِضْعَافِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ غَالِبُونَ فَائِزُونَ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ تَحَقَّقُوا إِخْفَاقَ آمَالِهِمْ. وحَتَّى هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَكُلَّمَا دَخَلَتْ حَتَّى فِي جُمْلَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ إِذا فَ حَتَّى

[سورة الجن (72) : الآيات 25 إلى 28]

لِلِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ حَتَّى فِي مِثْلِهِ جَارَّةٌ وَأَنَّ إِذا فِي مَحَلِّ جَرٍّ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَتَّى لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْغَايَةِ كَيْفَمَا كَانَ عَمَلُ حَتَّى. وإِذا اسْمُ زَمَانٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِي جَوَابِهِ وَهُوَ فَسَيَعْلَمُونَ. وَعَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ إِذا مَحَلِّ جَرٍّ بِ حَتَّى. وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ سَيَعْلَمُونَ بِالْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِذا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَاقْتِرَانُ الْجَوَابِ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ يَصْرِفُ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ بَعْدَ إِذا إِلَى زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا إِذا فِعْلًا مَاضِيًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَفِعْلُ سَيَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْغَرَابَةِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ النَّاسُ عَنْ تَعْيِينِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ. وَضَعْفُ النَّاصِرِ وَهَنٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ وَهَنِ أَنْصَارِهِمْ، وَقِلَّةُ الْعَدَدِ وَهَنٌ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِخَيْبَةِ غُرُورِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنْ غَلَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَر: 44] . وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: 35] . [25- 28] [سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 25 الى 28] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُكْثِرُونَ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [النَّمْل: 71] ، وعَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الْأَعْرَاف: 187] ، وَتَكَرَّرَتْ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً [الْجِنّ: 24] الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيُعِيدُونَ مَا اعْتَادُوا قَوْلَهُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ مِنْ جَوَابِهِ.

فَجُمْلَةُ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمُ الْمُقَدَّرِ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ وَأَصْلُهُ فِي الْأَمْكِنَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرٍ فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» : «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ وَجَعَلَ أَمَدَهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ» (أَيْ غَايَةَ الْمُسَابَقَةِ) . وَيُسْتَعَارُ الْأَمَدُ لِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنَةٍ قَالَ تَعَالَى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ [الْحَدِيد: 16] وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. وَمُقَابَلَتُهُ بِ «قَرِيبٍ» يُفِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى أَمْ يَجْعَلُ لَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. وَجُمْلَةُ عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ الْآيَةَ. وعالِمُ الْغَيْبِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ رَبِّي. وَهَذَا الْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَذْفًا اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» . والْغَيْبِ: مَصْدَرُ غَابَ إِذَا اسْتَتَرَ وَخَفِيَ عَنِ الْأَنْظَارِ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَإِضَافَةُ صِفَةِ عالِمُ إِلَى الْغَيْبِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِكُلِّ الْحَقَائِقِ الْمُغَيَّبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاهِيَّاتٍ أَوْ أَفْرَادًا فَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ لِلْغَيْبِ مِثْلَ عِلْمِ اللَّهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَشْمَلُ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ بِذَاتِهَا مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ. وَيَشْمَلُ الذَّوَاتِ الْمُغَيَّبَةِ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ مِثْلَ الْوَقَائِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي يُخْبَرُ عَنْهَا أَوِ الَّتِي لَا يُخْبَرُ عَنْهَا، فَإِيثَارُ الْمَصْدَرِ هُنَا لِأَنَّهُ أشمل لِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ مَعَ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُقَدَّرِ يُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ لَا أَنَا. وَفُرِّعَ عَلَى مَعْنَى تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ جُمْلَةُ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ وَالْحُكْمُ الْمُفَرَّعِ إِتْمَامٌ لِلتَّعْلِيلِ وَتَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى غيبه. وَمعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً: لَا يطلع وَلَا ينبىء بِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ

يَطَّلِعُ لِأَنَّ يُظْهِرُ جَاءَ مِنَ الظُّهُورِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَلِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يُطْلِعُ، عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلى. وَوُقُوعُ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ وُقُوعُ مَفْعُولِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِهِ يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: 3] فَهُوَ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ. وَاسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا النَّفْيِ مَنِ ارْتَضَاهُ لِيُطْلِعَهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ، أَيْ عَلَى غَيْبٍ أَرَادَ الله إِظْهَارَهُ مِنَ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُؤَيِّدَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِخْبَارٍ بِمَا سَيَحْدُثُ أَوْ إِطْلَاعٍ عَلَى ضَمَائِرِ بَعْضِ النَّاسِ. فَقَوْلُهُ: ارْتَضى مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ أَحَداً. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَحَدًا ارْتَضَاهُ، أَيْ اخْتَارَهُ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لِقَصْدِ مَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْخَبَرِ، أَيْ يُطْلِعُ اللَّهُ بَعْضَ رُسُلِهِ لِأَجْلِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ الرِّسَالَةِ إِلَى النَّاسِ، فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا الْإِيمَانِ أَنَّ الْغَيْبَ الَّذِي يُطْلِعُ اللَّهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ هُوَ مِنْ نَوْعِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالرِّسَالَةِ، وَهُوَ غَيْبٌ مَا أَرَادَ اللَّهُ إِبْلَاغَهُ إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يعتقدوه أَو أَن يَفْعَلُوهُ، وَمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، أَوْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمَا يُؤَيِّدُ بِهِ الرُّسُلَ عَنِ الْإِخْبَارِ بِأُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم [2- 4] . وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِطْلَاعُ الْمُحَقَّقُ الْمُفِيدُ عِلْمًا كَعِلْمِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَا تَشْمَلُ الْآيَةُ مَا قَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ شَرْحِ صَدْرٍ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوءَةِ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ» . قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ . قَالَ مُسْلِمٌ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الرُّؤْيَا الْحَسَنَةِ: إِنَّهَا تَسُرُّ وَلَا تَغُرُّ، يُرِيدُ لِأَنَّهَا قَدْ يَقَعُ الْخَطَأُ فِي تَأْوِيلِهَا.

وَ (مِنْ) رَسُولٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَنِ الْمَوْصُولَةِ، فَدَلَّ على أَن مَا صدق مَنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ، أَيْ إِلَّا الرُّسُلَ الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ، أَيْ اصْطَفَاهُمْ. وَشَمَلَ رَسُولٍ كُلَّ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الرُّسُلِ بِإِبْلَاغِ وَحْيٍ إِلَيْهِمْ مِثْلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَشَمَلَ الرُّسُلَ مِنَ الْبَشَرِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّاسِ بِإِبْلَاغِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِنْ شَرِيعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا بِهِ صَلَاحُهُمْ. وَهُنَا أَرْبَعَةُ ضَمَائِرِ غَيْبَةٍ: الْأَوَّلُ ضَمِيرُ فَإِنَّهُ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يَسْلُكُ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ فَإِنَّهُ. وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ ضَمِيرَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَهُمَا عَائِدَانِ إِلَى رَسُولٍ أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْلُكُ أَيْ يُرْسِلُ لِلرَّسُولِ رَصَدًا مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، أَيْ مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ مَا يَخْلِطُ عَلَيْهِ مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْبِهِ. وَالسَّلْكُ حَقِيقَتُهُ: الْإِدْخَالُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [12] . وَأُطْلِقَ السَّلْكُ عَلَى الْإِيصَالِ الْمُبَاشِرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا مَصْرِفَ لَهُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الْجِنّ: 17] أَيْ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مَلَائِكَةً مُتَّجِهِينَ إِلَيْهِ لَا يَبْتَعِدُونَ عَنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَيْهِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ، كَأَنَّهُمْ شُبِّهَ اتِّصَالُهُمْ بِهِ وَحِرَاسَتُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ دَاخِلٍ فِي أَجْزَاءِ جِسْمٍ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِفْظِ الَّذِي حَفِظَ اللَّهُ بِهِ ذِكْرَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . وَالْمُرَادُ بِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ الْكِنَايَةُ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَمِنْ تِلْكَ الْكِنَايَةِ يَنْتَقِلُ إِلَى كِنَايَةٍ أُخْرَى عَنِ السَّلَامَةِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ.

وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ: 9] . وَانْتَصَبَ رَصَداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ يَسْلُكُ. وَيَتَعَلَّقُ لِيَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْلُكُ، أَيْ يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُبَلِّغَ الْغَيْبَ إِلَى الرَّسُولِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِمَّا يَلْبِسُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغُوا مَا أُوحِي إِلَيْهِ كَمَا بَعَثَهُ دُونِ تَغْيِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْوَحْيَ مُفَرَّعًا وَمُسَبَّبًا عَنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، جُعِلَ الْمُسَبَّبَ عِلَّةً وَأُقِيمَ مَقَامَ السَّبَبِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا وَقَعَ، وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ: وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا أَيْ لِيَظْهَرَ مَنْ هُوَ شُجَاعٌ وَمَنْ هُوَ جَبَانٌ فَأَعْلَمُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنِ اطِّلَاعِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ عَلَى الْغَيْبِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ عِلَلِ الِاطِّلَاعِ فِيهَا. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ رَسُولٍ، ثُمَّ جِيءَ لَهُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا مُرَاعَاةً لِمَعْنَى رَسُولٍ وَهُوَ الْجِنْسُ، أَيْ الرُّسُلُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابِقِ آنِفًا فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الْجِنّ: 23] . وَالْمُرَادُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ اللَّهِ وَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمُ الْجَزِيلُ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أَنَّ الْغَيْبَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الْغَيْبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ نَفْيُ عِلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ وَذَلِكَ مِنْ عَلَائِقِ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ. وَيَلْحَقُ بِهِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا لِأَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَأْيِيدًا لِشَرْعٍ سَابِقٍ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْحَوَارِيِّينَ أَوْ أَنْ يَكُونَ لِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِثْلَ آدَمَ وَأَيُّوبَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ أَنْ يُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى جَمِيعُ نَقَائِضِ

أَحْوَالِ الْحُكْمِ الَّذِي لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بَلْ قُصَارَى مَا يَقْتَضِيهِ أَنَّهُ كَالنَّقْضِ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَحْصُلُ بِإِثْبَاتٍ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ مَا نَفَاهُ الْكَلَامُ الْمَنْقُوصُ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ بِمُقْتَضٍ أَنَّ الرَّسُولَ يَطَّلِعُ عَلَى جَمِيعِ غَيْبِ اللَّهِ، وَقَدْ بُيِّنَ النَّوْعُ الْمُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ لِيَعْلَمَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ، أَيْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا لَدَى الرُّسُلِ مِنْ تَبْلِيغٍ وَغَيْرِهِ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا عَدَا ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصِ مَا قَبْلَهُ بِعِلْمِهِ بِتَبْلِيغِهِمْ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً تَعْمِيمٌ أَشْمَلُ بَعْدَ تَعْمِيمٍ مَا. وَعَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْإِحْصَاءِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ بِمَعْرِفَةِ الْأَعْدَادِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَعْدَادِ أَقْوَى، وَقَوْلُهُ: عَدَداً تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَالْعَدَدُ: بِالْفَكِّ اسْمٌ لِمَعْدُودٍ وَبِالْإِدْغَامِ مَصْدَرُ عَدَّ، فَالْمَعْنَى هُنَا: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ مَعْدُودًا، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مَرْيَم: 94] . وَفَرَّقَ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ أَوْغَلُ فِي الِاسْمِيَّةِ مِنَ الْمَصْدَرِ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِدْغَامِ لِلْأَفْعَالِ.

73- سورة المزمل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 73- سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ لَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا اسْمُ «سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ» عُرِفَتْ بِالْإِضَافَةِ لِهَذَا اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْصُوفًا بِالْحَالِ الَّذِي نُودِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلُ: 1] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] إِلَى نَهَايَةِ السُّورَةِ فَذَلِكَ مَدَنِيٌّ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ مِثْلَ هَذَا عَنِ الثَّعْلَبِيِّ. وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّ اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ يَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ «نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ السُّورَةِ بِسَنَةٍ وَذَلِكَ حِينَ فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ» اهـ.

يَعْنِي وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَكَّةَ، أَيْ فَتَكُونُ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةً فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] أُمِرَ بِهِ فِي مَكَّةَ. وَالرِّوَايَاتُ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ مَفْصُولًا عَنْ نُزُولِ مَا قَبْلَهُ بِمُدَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِي قَدْرِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «نَزَلَ بَعْدَ صَدْرِ السُّورَةِ بِسَنَةٍ» ، وَمِثْلُهُ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَ صَدْرُ السُّورَةِ بِمَكَّةَ وَنَزَلَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَى آخِرِهَا بِالْمَدِينَةِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ أَوَّلِهَا بِسِنِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ نُزُولَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: 20] إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِنْبَاءً بِمُغَيَّبٍ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ الله على نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] مكث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَقُومُ اللَّيْلَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُونَ مَعَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [المزمل: 20] اهـ، أَيْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي الْمَدِينَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقَامَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ قَوْلٌ جَمٌّ غَفِيرٌ. وَالرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَة مضطربة فبعضها يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ صَدْرَهَا نَزَلَ قَبْلَ آخِرِهَا بِسَنَةٍ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي نَقْلِ صَاحِبِ «الْإِتْقَانِ» . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تَفْرِشُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا فَصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَتَسَامَعَ النَّاسُ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ مُغْضَبًا وَخَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ وَنَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 1، 2] فَكُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَةِ وَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ وَضَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَى فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: 20] ، فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ وَوَضَعَ عَنْهُمُ النَّافِلَةَ. وَهَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدَيْنِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْنِ بِعَائِشَةَ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهَا: «فَخَرَجَ مُغْضَبًا» يَقْتَضِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ الْمُفْضِي إِلَى مَسْجِدِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَخْبَارٌ تُثْبِتُ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي مَسْجِدِهِ.

أغراضها

وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا الِاضْطِرَابِ اخْتِلَاط فِي الرِّوَايَات بَيْنَ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَبَيْنَ التَّرْغِيبِ فِيهِ. وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى «تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ» قَالَ: قَالَ النَّخَعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَزَمِّلًا بِقَطِيفَةِ عَائِشَةَ، وَهِيَ مِرْطٌ نِصْفُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ وَنِصْفُهُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي اهـ، وَإِنَّمَا بَنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، فَالَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ لَا مَحَالَةَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ فِيهِ نَاسِخًا لِوُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ لِوُجُوبِ قيام اللَّيْل على النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَا فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ غَرِيبٌ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: إِنَّ آيَتَيْنِ وَهُمَا وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 10، 11] نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدِّ هَذِهِ السُّورَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَالْأَصَحُّ الَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْعَلَقِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الْعَلَقِ، فَقِيلَ سُورَةُ ن وَالْقَلَمِ، وَقِيلَ نَزَلَ بَعْدَ الْعَلَقِ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ الْأَرْجَحُ ثُمَّ قِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ بَعْدَ الْقَلَمِ فَتَكُونُ ثَالِثَةً. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُدَّثِّرَ هِيَ الثَّانِيَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقَلَمُ ثَالِثَةً وَالْمُزَّمِّلُ رَابِعَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُزَّمِّلُ هِيَ الثَّالِثَةَ وَالْقَلَمُ رَابِعَةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّثِّرَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُزَّمِّلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ الْآيَة. وعدة آيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْبِصْرَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَفِي عَدِّ مَنْ عَدَاهُمْ عِشْرُونَ. أَغْرَاضُهَا الْإِشْعَارُ بِمُلَاطَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِدَائِهِ بِوَصْفِهِ بِصِفَةِ تَزَمُّلِهِ.

[سورة المزمل (73) : الآيات 1 إلى 4]

وَاشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِقِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ اللَّيْلِ وَالثَّنَاءِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ. وَعَلَى تَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحَمُّلِ إِبْلَاغِ الْوَحْيِ. وَالْأَمْرِ بِإِدَامَةِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَإِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ. وَأَمْرِهِ بِالتَّمَحُّضِ لِلْقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِنَ التَّبْلِيغِ وَبِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَكَفُّلِ اللَّهِ لَهُ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ جَزَاءَهُمْ بِيَدِ اللَّهِ. وَالْوَعِيدِ لَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَوَعْظِهِمْ مِمَّا حَلَّ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ لَمَّا كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ. وَذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَصْفِ أَهْوَالِهِ. وَنَسْخِ قِيَامِ مُعْظَمِ اللَّيْلِ بِالِاكْتِفَاءِ بِقِيَامِ بعضه رعيا لأعذار الْمُلَازِمَةِ. وَالْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى أَفْعَالِ الْخَيْرَاتِ. وَالْمُبَادَرَةِ بِالتَّوْبَةِ وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَدَبُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. وَأَنَّ أَعْمَالَ النَّهَارِ لَا يُغْنِي عَنْهَا قِيَامُ اللَّيْلِ. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مَوَاضِعُ عَوِيصَةٌ وَأَسَالِيبُ غامضة فَعَلَيْك بتدبرها. [1- 4] [سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ. افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ وَاحِدًا وَلَمْ يَكُنْ بَعِيدًا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ كَلَامٍ. وَالْأَصْلُ فِي النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ بِاسْمِ الْمُنَادَى الْعَلَمِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا يُعْدَلُ مِنَ الِاسْم الْعَلَمِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ وَصْفٍ أَوْ إِضَافَةٍ إِلَّا لِغَرَضٍ يَقْصِدُهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ تَعْظِيمٍ وَتَكْرِيمٍ نَحْوَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الْأَنْفَال: 65] ، أَوْ تَلَطُّفٍ وَتَقَرُّبٍ نَحْوَ: يَا بُنَيَّ وَيَا أَبَتِ، أَوْ قَصْدِ تَهَكُّمٍ نَحْوَ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: 6] فَإِذَا نُودِيَ

الْمُنَادَى بِوَصْفِ هَيْئَتِهِ مِنْ لِبْسَةٍ أَوْ جِلْسَةٍ أَوْ ضِجْعَةٍ كَانَ الْمَقْصُودُ فِي الْغَالِبِ التَّلَطُّفَ بِهِ وَالتَّحَبُّبَ إِلَيْهِ وَلِهَيْئَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ وَجَدَهُ مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ عَلَقَ تُرَابُ الْمَسْجِدِ بِجَنْبِهِ «قُمْ أَبَا تُرَابٍ» وَقَوْلُهُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ «قُمْ يَا نَوْمَانُ» ، وَقَوله لعبد الرحمان بْنِ صَخْرٍ الدوسي وَقد رءاه حَامِلًا هِرَّةً صَغِيرَةً فِي كُمِّهِ «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» . فَنِدَاءُ النَّبِيءِ بِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نِدَاءُ تَلَطُّفٍ وَارْتِفَاقٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرُ: 1] . والْمُزَّمِّلُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَزَمَّلَ، إِذَا تَلَفَّفَ بِثَوْبِهِ كَالْمَقْرُورِ، أَوْ مُرِيدِ النَّوْمِ وَهُوَ مِثْلُ التَّدَثُّرِ فِي مَآلِ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ فَالتَّزَمُّلُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى التَّلَفُّفِ، وَالتَّدَثُّرُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى اتِّخَاذِ الدِّثَارِ لِلتَّدَفُّؤِ. وَأَصْلُ التَّزَمُّلِ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّمْلِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الْإِخْفَاءُ وَلَا يُعْرَفُ لِ (تَزَمَّلَ) فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ مِنَ التَّفَعُّلِ الَّذِي تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى التَّكَلُّفِ لِلْفِعْلِ، وَأُرِيدَ فِي إِطْلَاقِهِ مَعْنَى شِدَّةِ التَّلَبُّسِ، وَكَثُرَ مِثْلُ هَذَا فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى اللِّبَاسِ، فَمِنْهُ التَّزَمُّلُ وَمِنْهُ التَّعَمُّمُ وَالتَّأَزُّرُ وَالتَّقَمُّصُ، وَرُبَّمَا صَاغُوا لَهُ صِيغَةَ الِافْتِعَالِ مِثْلَ: ارْتَدَى وَائْتَزَرَ. وَأَصْلُ الْمُزَّمِّلُ: الْمُتَزَمِّلُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ بَعْدَ قَلْبِهَا زَايًا لِتَقَارُبِهِمَا. وَهَذَا التَّزَمُّلُ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ التَّزَمُّلُ الَّذِي جَرَى فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» حِينَ نَزَلَ مِنْ غَارِ حِرَاءَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] الْآيَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ حِينَئِذٍ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقَالُوا: سَمُّوا هَذَا الرَّجُلَ اسْمًا تَصْدُرُ النَّاسُ عَنْهُ (أَيْ صِفُوهُ وَصْفًا تَتَّفِقُ عَلَيْهِ النَّاسُ) فَقَالُوا: كَاهِنٌ، وَقَالُوا: مَجْنُونٌ، وَقَالُوا: سَاحِرٌ، فَصَدَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى وَصْفِهِ بِ (سَاحِرٍ) فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَزِنَ وَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرُ: 1] . وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا رُؤْيَتُهُ الْمَلَكَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ

السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَقَالَ: «دَثِّرُونِي» ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ سَبَبَ نِدَائِهِ بِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ كَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: «زمّلوني» ، فَذَلِك عِنْد مَا اغْتَمَّ مِنْ وَصْفِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ بِالْجُنُونِ وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ سَبَبِ نِدَائِهِ بِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقِيلَ: هُوَ تَزَمُّلٌ لِلِاسْتِعْدَادِ لِلصَّلَاةِ فَنُودِيَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ عَنِ الضَّحَّاكِ وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَمَحْمَلُهَا عَلَى أَنَّ التَّزَمُّلَ حَقِيقَةٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ زَمَّلْتُ هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ، يُرِيدُ أَمْرَ النُّبُوءَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [المزمل: 7] تَحْرِيضًا عَلَى اسْتِفْرَاغِ جُهْدِهِ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ مِنْ لَيْلٍ وَنَهَارٍ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْهُجُوعِ فِيهِ. وَمَحْمَلُ التَّزَمُّلِ عِنْدَهُ عَلَى الْمَجَازِ. فَإِذَا كَانَتْ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ قَدْ أُنْزِلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنِ ابْتَدَأَ رَسُولَهُ بِالْوَحْيِ بِصَدْرِ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ سُورَةَ الْقَلَمِ لِدَحْضِ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ الَّتِي دَبَّرَهَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. أَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّلَطُّفَ بِهِ عَلَى تَزَمُّلِهِ بِثِيَابِهِ لِمَا اعْتَرَاهُ مِنَ الْحُزْنِ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ فَلَمَّا رَأَى الْمَلَكَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِحِرَاءَ تَدَثَّرَ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. فَنِدَاءُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْمُزَّمِّلُ بِاعْتِبَارِ حَالَتِهِ وَقْتَ نِدَائِهِ وَلَيْسَ الْمُزَّمِّلُ مَعْدُودًا مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَمْ يُعْرَفْ بِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى عَدِّهِ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَفِعْلُ قُمِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ لِأَنَّ الْقِيَامَ مُرَادٌ بِهِ الصَّلَاة، فَهَذَا قيام مُغَايِرٌ لِلْقِيَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ بِقَوْلِهِ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 2] فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الشُّرُوعِ كَمَا يَأْتِي هُنَالِكَ. واللَّيْلَ: زَمَنُ الظُّلْمَةِ مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ. وَانْتَصَبَ اللَّيْلَ عَلَى

الظَّرْفِيَّةِ فَاقْتَضَى الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ وَقْتِ اللَّيْلِ، وَيُعْلَمُ اسْتِثْنَاءُ أَوْقَاتِ قَضَاءِ الضَّرُورَاتِ مِنْ إِغْفَاءٍ بِالنَّوْمِ وَنَحْوِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِنْسَانِ. وَقِيَامُ اللَّيْلِ لَقَبٌ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ مَا عَدَا صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَوَاتِبِهِمَا. وَأَمْرُ الرَّسُولِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ أَمْرُ إِيجَابٍ وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ مِثْلَ السُّوَرِ الَّتِي سَبَقَتْ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُمُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى قَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل: 20] الْآيَاتِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي أَوْقَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَلَعَلَّ حِكْمَةَ هَذَا الْقِيَامِ الَّذِي فُرِضَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ رِسَالَتِهِ هُوَ أَنْ تَزْدَادَ بِهِ سَرِيرَتُهُ زَكَاءً يُقَوِّي اسْتِعْدَادَهُ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ حَتَّى لَا يُحْرِجَهُ الْوَحْيُ كَمَا ضَغَطَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ» ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] الْحَدِيثَ، وَيَدُلُّ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] . وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ قُبَيْلَ بَعْثَتِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالَّذِي أَلْهَمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ يَجْدُرُ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ لِعِبَادَةٍ، وَلِهَذَا نُرَجِّحُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فُرِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ. وَقَدِ اسْتَمَرَّ وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ بِكَثْرَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ فِي وَقْتِ فَرَاغِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْي وتدبير شؤون الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ وَقْتُ اللَّيْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، أَيْ زِيَادَةَ قُرْبٍ لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ: 79] . فَكَانَ هَذَا حُكْمًا خَاصًّا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ خَصَائِصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ تُفْرَضْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَلَاةٌ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتَدُونَ بِفِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ لِزَامًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: 16] ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ

قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَامَ النَّبِيءُ وَأَصْحَابُهُ» ، عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي رَفْعِ فَرْضِ الْقِيَامِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِمْرَارِ وُجُوبِهِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا طَائِلَ وَرَاءَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ عَدَمِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّيْلَ أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إِيجَابُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ بِأَوْقَاتِ اللَّيْلِ كُلِّهَا. ونِصْفَهُ بَدَلٌ مِنْ قَلِيلًا بَدَلًا مُطَابِقًا وَهُوَ تَبْيِينٌ لِإِجْمَالِ قَلِيلًا فَجَعَلَ الْقَلِيلَ هُنَا النِّصْفَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ بِقَلِيلٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِجْمَالِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ نِصْفِ اللَّيْلِ وَأَنَّ جَعْلَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ رَحْمَةٌ وَرُخْصَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَيْ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ قَلِيلًا، فَيَكُونُ زَمَنُ قِيَامِ اللَّيْلِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ قَلِيلٌ فَهُوَ رُخْصَةٌ فِي الرُّخْصَةِ. وَقَالَ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْقِيَامِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُقيد أَوْ زِدْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا قَيَّدَ بِهِ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصْفِ مُتَّسِعَةً، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَقَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: «إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . وَالتَّخْيِيرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ حَرْفِ أَوِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَفَاوُتِ اللَّيَالِي بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ لِأَنَّ لِذَلِكَ ارْتِبَاطًا بِسَعَةِ النَّهَارِ لِلْعَمَلِ وَلِأَخْذِ الْحَظِّ الْفَائِتِ مِنَ النَّوْمِ. وَبَعْدُ فَذَلِكَ تَوْسِيعٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَفْعِ حَرَجِ تَحْدِيدِهِ لِزَمَنِ الْقِيَامِ فَسُلِكَ بِهِ مَسْلَكَ التَّقْرِيبِ. وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّيْلَ اسْمَ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى جَمِيعِ اللَّيَالِي، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا قَلِيلًا مِنَ اللَّيَالِي، وَهِيَ اللَّيَالِي الَّتِي يَكُونُ فِيهَا عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ قِيَامِهَا، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّيَالِي بِاعْتِبَارِ جُزْئِيَّاتِهَا لَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، ثُمَّ قَالَ: نِصْفَهُ إِلَى آخِرِهِ. وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ عَادَةً فَأَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِيَامِ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي إِشْغَالِ أَوْقَاتِهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى مُنَاجَاةِ اللَّهِ: وَلِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ سُكُونِ

الْأَصْوَاتِ وَاشْتِغَالِ النَّاسِ فَتَكُونُ نَفْسُ الْقَائِمِ فِيهِ أَقْوَى اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي الْفَيْضِ الرَّبَّانِيِّ. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، أَيْ رَتِّلْ قِرَاءَتَكَ فِي الْقِيَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُسْتَقِلًّا بِكَيْفِيَّةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَرَى ذِكْرُهُ بِمُنَاسَبَةِ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فَكَانَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ سُورَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سُوَرٍ بِنَاءً عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِي أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ، وَفِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَهَذَا مِمَّا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] أَيْ سَنُوحِي إِلَيْكَ قُرْآنًا. فَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِمَهَلٍ وَتَبْيِينٍ. وَالتَّرْتِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ مُرَتَّلًا، أَيْ مُفَرَّقًا، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وَهُوَ الْمُفَلَّجُ الْأَسْنَانِ، أَيْ الْمُفَرَّقُ بَين أَسْنَانه تفَرقا قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ النَّوَاجِذُ مُتَلَاصِقَةً. وَأُرِيدَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ تَرْتِيلُ قِرَاءَتِهِ، أَيْ التَّمَهُّلُ فِي النُّطْقِ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ وَاضِحَةً مَعَ إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْإِشْبَاعَ. وَوَصَفَتْ عَائِشَةُ التَّرْتِيلَ فَقَالَتْ: «لَوْ أَرَادَ السَّامِعُ أَنَّ يَعُدَّ حُرُوفَهُ لَعَدَّهَا لَا كَسَرْدِكُمْ هَذَا» . وَفَائِدَةُ هَذَا أَنْ يَرْسَخَ حِفْظَهُ وَيَتَلَقَّاهُ السَّامِعُونَ فَيَعْلَقَ بِحَوَافِظِهِمْ، وَيَتَدَبَّرَ قَارِئُهُ وَسَامِعُهُ مَعَانِيَهُ كَيْ لَا يَسْبِقَ لَفْظُ اللِّسَانِ عَمَلَ الْفَهْمِ. قَالَ قَائِلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «هَذَا كَهَذِّ الشِّعْرِ» لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَنْشَدُوا الْقَصِيدَةَ أَسْرَعُوا لِيَظْهَرَ مِيزَانُ بَحْرِهَا، وَتَتَعَاقَبَ قَوَافِيهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ. وَالْهَذُّ إِسْرَاعُ الْقَطْعِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ صِفَةِ التَّرْتِيلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوِ انْقُصْ بِضَمِّ الْوَاوِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ سُقُوطِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، حَرَّكُوا الْوَاوَ بِضَمَّةٍ لِمُنَاسَبَةِ ضَمَّةِ قَافِ انْقُصْ بَعْدَهَا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.

[سورة المزمل (73) : آية 5]

وَوَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ إِذَا (شَبَّعَتْ) فَتْحَةَ نُونِ الْقُرْآنِ مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ بِأَنْ يَكُونَ مِصْرَاعًا مِنْ بَحْرِ الْكَامِلِ أَحَذَّ دَخَلَهُ الْإِضْمَار مرَّتَيْنِ. [5] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 5] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] وَجُمْلَةِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً [المزمل: 6] ، وَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِحِكْمَةِ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ بِأَنَّهَا تَهْيِئَةُ نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ شِدَّةَ الْوَحْيِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [الْقِيَامَة: 17] ، فَتِلْكَ مُنَاسَبَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] فَهَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا قَالَ لَهُ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] أَعْقَبَ بِبَيَانِ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ. وَالْقَوْلُ الثَّقِيلُ هُوَ الْقُرْآنُ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَيْهِ: إِبْلَاغُهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَحَقِيقَةُ الْإِلْقَاءِ: رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ وَطَرْحِهِ، وَيُقَالُ: شَيْءٌ لَقَى، أَيْ مَطْرُوحٌ، اسْتُعِيرَ الْإِلْقَاءُ لِلْإِبْلَاغِ دُفْعَةً عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ. وَالثِّقَلُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْقَوْلُ ثِقَلٌ مَجَازِيٌّ لَا مَحَالَةَ، مُسْتَعَارٌ لِصُعُوبَةِ حِفْظِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ لَيْسَتْ مِنْ مُعْتَادِ مَا يَجُولُ فِي مَدَارِكِ قَوْمِهِ فَيَكُونُ حِفْظُ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَسِيرًا عَلَى الرَّسُولِ الْأُمِّيِّ تَنُوءُ الطَّاقَةُ عَنْ تَلَقِّيهِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أَنَّ ثِقَلَهُ مُتَعَلِّقٌ ابْتِدَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ وَهُوَ ثِقَلٌ مَجَازِيٌّ فِي جَمِيعِ اعْتِبَارَاتِهِ وَهُوَ ثَقِيلٌ صَعْبٌ تَلَقِّيهِ مِمَّنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثَقُلَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّدَ لَهُ جِلْدُهُ» (أَيْ تَغَيَّرَ بِمِثْلِ الْقُشَعْرِيرَةِ) وَقَالَت عَائِشَة: «رَأَتْهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَرْفَضُّ عَرَقًا» . وَيُسْتَعَارُ ثِقَلُ الْقَوْلِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ وَافِرَةٍ يَحْتَاجُ الْعِلْمُ بِهَا لِدِقَّةِ النَّظَرِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ هَدْيِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «ثَقِيلًا لَيْسَ بِالْكَلَامِ السَّفْسَافِ» . وَحَسْبُكَ أَنَّهُ حَوَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ مَا لَا يَفِي الْعَقْلُ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ فَكَمْ غَاصَتْ فِيهِ أَفْهَامُ

[سورة المزمل (73) : آية 6]

الْعُلَمَاءِ مِنْ فُقَهَاءَ وَمُتَكَلِّمِينَ وَبُلَغَاءَ وَلُغَوِيِّينَ وَحُكَمَاءَ فَشَابَهَ الشَّيْءَ الثَّقِيلَ فِي أَنَّهُ لَا يَقْوَى الْوَاحِدُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِمَعَانِيهِ. وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِشْعَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأْكِيدِ قُرْبِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ، لِيَكُونَ وُرُودُهُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ مِنْ وُرُودِ الْأَمر المفاجئ. [6] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) تَعْلِيلٌ لِتَخْصِيصِ زَمَنِ اللَّيْلِ بِالْقِيَامِ فِيهِ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] ، أَيْ قُمِ اللَّيْلَ لِأَنَّ ناشئته أَشد وطأ وَأَقْوَمُ قِيلًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ تَزْكِيَةً وَتَصْفِيَةً لِسِرِّكَ وَارْتِقَاءً بِكَ إِلَى الْمَرَاقِي الْمَلَكِيَّةِ. وناشِئَةَ وَصْفٌ مِنَ النَّشْءِ وَهُوَ الْحُدُوثُ. وَقَدْ جَرَى هَذَا الْوَصْفُ هُنَا عَلَى غَيْرِ مَوْصُوفٍ، وَأُضِيفَ إِلَى اللَّيْلِ إِضَافَةً عَلَى مَعْنَى (فِي) مِثْلِ «مَكْرُ اللَّيْلِ» ، وَجُعِلَ مِنْ أَقْوَمِ الْقِيلِ، فَعُلِمَ أَنَّ فِيهِ قَوْلًا وَقَدْ سَبَقَهُ الْأَمْرُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَوْصُوفَهُ الْمَحْذُوفَ هُوَ صَلَاةٌ، أَيِ الصَّلَاةُ النَّاشِئَةُ فِي اللَّيْلِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ وَأَقْوَالٍ وَهِيَ قِيَامٌ. وَوَصْفُ الصَّلَاةِ بِالنَّاشِئَةِ لِأَنَّهَا أَنْشَأَهَا الْمُصَلِّي فَنَشَأَتْ بَعْدَ هَدْأَةِ اللَّيْلِ فَأَشْبَهَتِ السَّحَابَةَ الَّتِي تَتَنَشَّأُ مِنَ الْأُفُقِ بَعْدَ صَحْوٍ، وَإِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ بَعْدَ نَوْمٍ فَمَعْنَى النَّشْءِ فِيهَا أَقْوَى، وَلِذَلِكَ فَسَّرَتْهَا عَائِشَةُ بِالْقِيَامِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ناشِئَةَ اللَّيْلِ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ كُلِّهَا. وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّهَا مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ أَصْلَ هَذَا مُعَرَّبٌ عَنِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ عَدَّهَا السُّبْكِيُّ فِي «مَنْظُومَتِهِ» فِي مُعَرَّبَاتِ الْقُرْآنِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ ناشِئَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ: قِيَامٍ أَوْ تَهَجُّدٍ، لِأَجْلِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لِيَأْخُذَ النَّاسُ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ وَطْئاً بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَالْوَطْءُ: أَصْلُهُ وَضْعُ الرِّجْلِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَعْنًى يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنًا لِلظَّلَامِ بِاللَّيْلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ اسْتُعِيرَ لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْمُصَلِّي عَلَى نَحْوِ إِسْنَادِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ وَاطِئًا أَنْتَ، فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِتَمَكُّنِ الْمُصَلِّي مِنَ الصَّلَاةِ

[سورة المزمل (73) : آية 7]

فِي اللَّيْلِ بِتَفَرُّغِهِ لَهَا وَهُدُوءِ بَالِهِ مِنَ الْأَشْغَالِ النَّهَارِيَّةِ تَمُكَّنَ الْوَاطِئِ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ أَمْكَنُ لِلْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى: أَشَدُّ وَقْعًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ مُسْتَعَارًا لِحَالَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَثَرِهَا فِي الْمُصَلِّي، أَيْ أَشَدُّ أَثَرِ خَيْرٍ فِي نَفْسِهِ وَأَرْسَخُ خَيْرًا وَثَوَابًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ قَتَادَةُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وِطَاءً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَمَدِّهَا مَصْدَرُ وَاطَأَ مِنْ مَادَّةِ الْفِعَالِ. وَالْوِطَاءُ: الْوِفَاقُ وَالْمُلَاءَمَةُ، قَالَ تَعَالَى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التَّوْبَة: 37] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَوْفَقُ بِالْمُصَلِّي بَيْنَ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، أَيْ بَيْنَ النُّطْقِ بِالْأَلْفَاظِ وَتَفَهُّمِ مَعَانِيهَا لِلْهُدُوءِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ وَانْقِطَاعِ الشَّوَاغِلِ وَبِحَاصِلِ هَذَا فَسَّرَ مُجَاهِدٌ. وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَانْظُرْ مَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً [المزمل: 20] فِي وُقُوعِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَاسْمِ تَفْضِيلٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ لَا لِلْحَصْرِ. وَالْأَقْوَمُ: الْأَفْضَلُ فِي التَّقَوِّي الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاعْوِجَاجِ وَالِالْتِوَاءِ وَاسْتُعِيرَ أَقْوَمُ لِلْأَفْضَلِ الْأَنْفَعِ. وقِيلًا: الْقَوْلُ، وَأُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَعْوَنُ عَلَى تَذَكُّرِ الْقُرْآنِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ نِسْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَأَعْوَنُ عَلَى الْمَزِيدِ مِنَ التَّدَبُّرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَقْوَمُ قِيلًا: أَدْنَى مِنْ أَنْ يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَحْفَظُ لِلْقِرَاءَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوَمُ قِرَاءَةً لِفَرَاغِهِ مِنَ الدُّنْيَا. وَانْتَصَبَ وَطْئاً وقِيلًا نِسْبَةَ تَمْيِيزَيْ لِ أَشَدُّ ول أَقْوَمُ. [7] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) فَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ عَطْفٍ عَلَى مَا قَبْلِهَا يَقْتَضِي أَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ حُكْمِ مَا قَبْلَهَا، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْيِينَ صَلَاةِ النَّهَارِ إِذْ لَمْ تَكُنِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَدْ فُرِضَتْ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمْ يُفْرَضْ حِينَئِذٍ إِلَّا قِيَامُ اللَّيْلِ.

فَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي جُمْلَةِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وَذَلِكَ دَائِرٌ: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِاخْتِيَارِ اللَّيْلِ لِفَرْضِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ فِيهِ، فَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ لِأَنَّ النَّهَارَ لَا يُغْنِي غَنَاءَهُ فَيَتَحَصَّلُ مِنَ الْمَعْنَى: قُمِ اللَّيْلَ لِأَنَّ قِيَامَهُ أَشَدُّ وَقْعًا وَأَرْسَخُ قَوْلًا، لِأَنَّ النَّهَارَ زَمَنٌ فِيهِ شُغْلٌ عَظِيمٌ لَا يَتْرُكُ لَكَ خَلْوَةً بِنَفْسِكَ. وَشُغْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهَارِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِ الدِّينِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتِقَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِالسَّبْحِ الطَّوِيلِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَلَطُّفًا وَاعْتِذَارًا عَنْ تَكْلِيفِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ النَّهَارَ ظَرْفٌ وَاسِعٌ لِإِيقَاعِ مَا عَسَى أَن يكلفه فيام اللَّيْلِ مِنْ فُتُورٍ بِالنَّهَارِ لِيَنَامَ بَعْضَ النَّهَارِ وَلِيَقُومَ بِمَهَامِّهِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِمَا تَضَمَّنُهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 3] ، أَيْ إِنْ نَقَصْتَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ شَيْئًا لَا يفتك ثَوَاب عمله، فَإِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ مُتَّسَعًا لِلْقِيَامِ وَالتِّلَاوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الْفرْقَان: 62] . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي النَّهَارِ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ أَنَّ اسْتِمَاعَهُمُ الْقُرْآنَ كَانَ فِي صَلَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ فِي نَخْلَةَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى عُكَاظٍ. وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ هَذَا مَقْصُودًا لِأَنَّهُ مِمَّا تَسْمَحُ بِهِ دَلَالَةُ كَلِمَةِ سَبْحاً طَوِيلًا وَهِيَ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ. وَالسَّبْحُ: أَصْلُهُ الْعَوْمُ، أَيْ السُّلُوكُ بِالْجِسْمِ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلتَّصَرُّفِ السَّهْلِ الْمُتَّسِعِ الَّذِي يُشْبِهُ حَرَكَةَ السَّابِحِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَرِضُهُ مَا يَعُوقُ جَوَلَانَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَلَا إِعْيَاءُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ اسْتِعَارَةُ السَّبْحِ لِجَرْيِ الْفَرَسِ دُونَ كُلْفَةٍ فِي وَصْفِ امْرِئِ الْقَيْس الْخَيل بالسابحات فِي قَوْلِهِ فِي مَدْحِ فَرَسِهِ: مِسَحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى ... أَثَرْنَ الْغُبَارَ فِي الْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ فَعَبَّرَ عَنِ الْجَارِيَاتِ بِالسَّابِحَاتِ.

[سورة المزمل (73) : الآيات 8 إلى 9]

وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّبْحَ بِالْفَرَاغِ، أَيْ لِيَنَامَ فِي النَّهَارِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: فَرَاغًا طَوِيلًا لِحَوَائِجِكَ فَافْرَغْ لِدِينِكَ بِاللَّيْلِ. وَالطَّوِيلُ: وَصْفٌ مِنَ الطُّولِ، وَهُوَ ازْدِيَادُ امْتِدَادِ الْقَامَةِ أَوِ الطَّرِيقِ أَوِ الثَّوْبِ عَلَى مَقَادِيرِ أَكْثَرِ أَمْثَالِهِ. فَالطُّولُ مِنْ صِفَاتِ الذَّوَاتِ، وَشَاعَ وَصْفُ الزَّمَانِ بِهِ يُقَالُ: لَيْلٌ طَوِيلٌ وَفِي الْحَدِيثِ «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ» . وَأما وَصْفُ السَّبْحِ بِ (طَوِيلٍ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الطَّوِيلَ هُوَ مَكَانُ السَّبْحِ وَهُوَ الْمَاءُ الْمَسْبُوحُ فِيهِ. وَبَعْدَ هَذَا فَفِي قَوْلِهِ طَوِيلًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ السَّبْحِ لِلْعَمَلِ فِي النَّهَار. [8- 9] [سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 8 إِلَى 9] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) عُطِفَ عَلَى قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] وَقُصِدَ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَنْ تَعْيِينِ زَمَانٍ إِلَى إِفَادَةِ تَعْمِيمِهِ، أَيْ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْإِنْسَان: 25] . وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ اسْمَ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَهُوَ جَامِعٌ لِلتَّذَكُّرِ بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ مَا فِي النَّفْسِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَاف: 205] . وَالتَّبَتُّلُ: شِدَّةُ الْبَتْلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ تَبَتَّلَ الْقَاصِرُ الَّذِي هُوَ مُطَاوع بتّله ف تَبَتَّلْ وَهُوَ هُنَا لِلْمُطَاوَعَةِ الْمَجَازِيَّةِ يُقْصَدُ مِنْ صِيغَتِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ حَتَّى كَأَنَّهُ فَعَلُهُ غَيْرُهُ بِهِ فَطَاوَعَهُ، وَالتَّبَتُّلُ: الِانْقِطَاعُ وَهُوَ هُنَا انْقِطَاعٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ تَفَرُّغُ الْبَالِ وَالْفِكْرِ إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ، فَكَأَنَّهُ انْقَطَعَ عَنِ النَّاسِ وَانْحَازَ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ فَعُدِّيَ بِ «إِلَى» الدَّالَّةِ عَلَى الِانْتِهَاءِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: مَنَارَةُ مَمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ وَالتَّبْتِيلُ: مَصْدَرُ بَتَّلَ الْمُشَدَّدِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ مِثْلَ التَّقْطِيعِ.

وَجِيءَ بِهَذَا الْمَصْدَرِ عِوَضًا عَنِ التَّبَتُّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ حُصُولَ التَّبَتُّلِ، أَيِ الِانْقِطَاعِ يَقْتَضِي التَّبْتِيلَ أَيِ الْقَطْعَ. وَلَمَّا كَانَ التَّبْتِيلُ قَائِمًا بِالْمُتَبَتِّلِ تَعَيَّنَ أَنَّ تَبْتِيلَهُ قَطْعُهُ نَفْسَهُ عَنْ غَيْرِ مَنْ تَبَتَّلَ هُوَ إِلَيْهِ فَالْمَقْطُوعُ عَنْهُ هُنَا هُوَ مَنْ عَدَا اللَّهِ تَعَالَى فَالْجَمْعُ بَيْنَ تَبَتَّلْ وتَبْتِيلًا مُشِيرٌ إِلَى إِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ التَّبَتُّلِ. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ وَفَاءٌ بِرَعْيِ الْفَوَاصِلِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالِانْقِطَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ انْقِطَاعٌ خَاصٌّ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَمَهَامِّ النَّهَارِ فِي نَشْرِ الدَّعْوَةِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قِيلَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى اللَّهِ فَكُلُّ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَيَاةِ فَهُوَ لِدِينِ اللَّهِ فَإِنَّ طَعَامَهُ وَشَرَابه ونومه وشؤونه لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى نَشْرِ دِينِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ مُنْعِشَاتُ الرُّوحِ الْبَرِيئَةِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلَ الطِّيبِ، وَتَزَوُّجِ النِّسَاءِ، وَالْأُنْسِ إِلَى أَهْلِهِ وَأَبْنَائِهِ وَذَوِيهِ، وَقَدْ قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» . وَلَيْسَ هُوَ التَّبَتُّلَ الْمُفْضِيَ إِلَى الرَّهْبَانِيَّةِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ النِّسَاءِ وَعَنْ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُلَاقِي صِفَةَ الرِّسَالَةِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ فِي «الصَّحِيحِ» «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا» يَعْنِي رَدَّ عَلَيْهِ اسْتَشَارَتَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ النِّسَاءِ. وَمِنْ أَكْبَرِ التَّبَتُّلِ إِلَى اللَّهِ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْإِشْرَاكِ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا بِقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا تَخْلُوَ أَوْقَاتُهُ عَنْ إِقْبَالٍ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَالِانْقِطَاعِ لِلدَّعْوَةِ لِدِينِ الْحَقِّ، وَإِذْ قَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ هَذَا الِانْقِطَاعِ بِإِرْشَادٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا أَلْهَمَهُ التَّحَنُّثَ فِي غَارِ حِرَاءَ ثُمَّ بِمَا أَفَاضَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيمَا قَبْلُ فَإِنَّ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [51] (وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُزَّمِّلِ) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ أَوَّلًا أَكْثَره إرشاد للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَرَائِقِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ غَالِبُ مَا فِي هَذِه السُّورِ الْأُوَلِ مِنْهُ مُقْتَصِرًا عَلَى سَنِّ التَّكَالِيفِ الْخَاصَّةِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة المزمل (73) : آية 10]

وَوَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِمُنَاسَبَةِ الْأَمْرِ بِذِكْرِهِ فِي اللَّيْلِ وَذِكْرِهِ فِي النَّهَارِ وَهُمَا وَقْتَا ابْتِدَاءِ غِيَابِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِامْتِدَادِ كُلِّ زَمَانٍ مِنْهُمَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ضِدُّهُ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ جِهَتَيِ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، فَيَكُونُ لِاسْتِيعَابِ جِهَاتِ الْأَرْضِ، أَيْ رَبُّ جَمِيعِ الْعَالَمِ وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِوَقْتَيِ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا وَقْتَا الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، أَيْ مَبْدَأَ ذَيْنِكَ الْوَقْتَيْنِ وَمُنْتَهَاهُمَا، كَمَا يُقَال: سبحوا لله كُلَّ مُشْرِقِ شَمْسٍ، وَكَمَا يُقَالُ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ رَبُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ حَذْفًا جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ مِمَّا يَسْبِقُ فِي الْكَلَامِ حَدِيثٌ عَنْهُ. ثُمَّ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِخَبَرٍ جَامِعٍ لِصِفَاتِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ النَّعْتِ الْمَقْطُوعِ الْمَرْفُوعِ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِخَفْضِ رَبِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ. وَعُقِّبَ وَصْفُ اللَّهِ بِ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ أَوْ بِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِرُبُوبِيَّةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَلَمَّا كَانَتْ رُبُوبِيَّتُهُ لِلْعَالَمِ لَا يُنَازِعُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ أُعْقِبَتْ بِمَا يَقْتَضِي إِبْطَالَ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَعْرِيضًا بِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وَإِذ كَانَ الْأَمر باتخاذ وَكِيلًا مُسَبَّبًا عَنْ كَوْنِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَانَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ وَكِيلٍ غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ غَيْرُهُ بِأَهْلٍ لِاتِّخَاذِهِ وَكِيلًا. وَالْوَكِيلُ: الَّذِي يُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، أَيْ يُفَوَّضُ إِلَى تَصَرُّفِهِ، وَمِنْ أَهَمِّ التَّفْوِيضِ أَمْرُ الِانْتِصَارِ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ تَزَمُّلِهِ مِنْ مَوْجِدَةِ الْحُزْنِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ لَا يَعْتَمِدَ إِلَّا عَلَيْهِ، وَهَذَا تَكَفُّلٌ بِالنَّصْرِ وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] . [10] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 10] وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً

(10) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنْ الصَّبْرَ عَلَى الْأَذَى يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَضَمِيرُ يَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ فَهُوَ مِنَ الضَّمَائِرِ الَّتِي اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ مُعَادِهَا بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الْجِنّ: 16] الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الْجِنّ: 1] ، وَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي عَقِبَهُ قَوْلُهُ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] فَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَدْ مَضَى فِي السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ مَقَالَاتُ أَذًى مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي سُورَةِ الْعَلَقِ [9، 10] أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى. قِيلَ هُوَ أَبُو جَهْلٍ تَهَدَّدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيَفْعَلَنَّ وَيَفْعَلَنَّ. وَفِيهَا: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] . قِيلَ هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ «تَنَكَّرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَلِيفَهُ» ، وَفِي سُورَةِ الْقَلَمِ [2- 15] مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، وَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 15] رَدًّا لِمَقَالَاتِهِمْ. وَفِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [11- 25] إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ. وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ: هُوَ الْحَسَنُ فِي نَوْعِهِ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ وَالْمَعَانِيَ مِنْهَا حَسَنٌ وَمِنْهَا قَبِيحٌ فِي نَوْعِهِ وَقَدْ يُقَالُ: كَرِيمٌ، وَذَمِيمٌ، وَخَالِصٌ، وَكَدِرٌ، وَيَعْرِضُ الْوَصْفُ لِلنَّوْعِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنْ عَوَارِضَ تُنَاسِبُ حَقِيقَةَ النَّوْعِ فَإِذَا جُرِّدَتِ الْحَقِيقَةُ عَنِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي قَدْ تَعْتَلِقُ بِهَا كَانَ نَوْعُهَا خَالِصًا، وَإِذَا أُلْصِقَ بِالْحَقِيقَةِ مَا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهَا كَانَ النَّوْعُ مُكَدَّرًا قَبِيحًا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [18] ، وَقَوْلُهُ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ [5] . فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَصِرُ صَاحِبُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْهَجْرِ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُخَالَطَةِ فَلَا يَقْرِنُهَا بِجَفَاءٍ آخَرَ أَوْ أَذًى، وَلَمَّا كَانَ الْهَجْرُ ينشأ عَن بعض الْمَهْجُورِ، أَوْ كَرَاهِيَةِ

[سورة المزمل (73) : آية 11]

أَعْمَالِهِ كَانَ معرّضا لِأَن يعتلق بِهِ أَذًى مِنْ سَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَجْرِ الْمُشْرِكِينَ هَجْرًا جَمِيلًا، أَيْ أَنْ يَهْجُرَهُمْ وَلَا يَزِيدَ عَلَى هَجْرِهِمْ سَبًّا أَوِ انْتِقَامًا. وَهَذَا الْهَجْرُ: هُوَ إِمْسَاكُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُكَافَأَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يَقُولُونَهُ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ. وَلَيْسَ مُنْسَحِبًا عَلَى الدَّعْوَةِ لِلدِّينِ فَإِنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ وَلَكِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنْسَبُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ انْتَزَعَ فَخْرُ الدِّينِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعًا خُلُقِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِيحَاشِهِمْ لِأَنَّهُ إِنْ أَطْمَعَ نَفْسَهُ بِالرَّاحَةِ مَعَهُمْ لَمْ يَجِدْهَا مُسْتَمِرَّةً فَيَقَعُ فِي الْغُمُومِ إِنْ لَمْ يَرِضْ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَإِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ فَذَلِكَ هُوَ الهجر الْجَمِيل. [11] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 11] وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [44] ، أَيْ دَعْنِي وَإِيَّاهُمْ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِتَكْذِيبِهِمْ وَلَا تَشْتَغِلْ بِتَكْرِيرِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلَا تَغْضَبْ وَلَا تَسُبَّهُمْ فَأَنَا أَكْفِيكَهُمْ. وَانْتَصَبَ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْمَعِيَّةِ. وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ عَنَاهُمْ بِضَمِيرِ يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ [المزمل: 10] ، وهم المكذبون للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ سَبَبُ هَذَا التَّهْدِيدِ. وَوَصَفَهُمْ بِ أُولِي النَّعْمَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا لِغُرُورِهِمْ وَبَطَرِهِمْ بِسَعَةِ حَالِهِمْ، وَتَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي قَالَ ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ سَيُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ التَّنَعُّمَ. وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهَكُّمِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ سَعَةَ الْعَيْشِ وَوَفْرَةَ الْمَالِ

[سورة المزمل (73) : الآيات 12 إلى 14]

كَمَالًا، وَكَانُوا يُعَيِّرُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْخَصَاصَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ الْآيَات [المطففين: 29، 30] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ [مُحَمَّد: 12] . والنَّعْمَةِ: هُنَا بِفَتْحِ النُّونِ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ. وَهِيَ اسْمٌ لِلتَّرَفُّهِ، وَجَمْعُهَا أَنْعُمٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ. وَأَمَّا النِّعْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ فَاسْمٌ لِلْحَالَةِ الْمُلَائِمَةِ لِرَغْبَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَافِيَةٍ، وَأَمْنٍ وَرِزْقٍ، وَنَحْوِ ذَلِك من الرغائب. وَجَمْعُهَا: نِعَمٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، وَتُجْمَعُ جَمْعَ سَلَامَةٍ عَلَى نِعَمَاتٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ لِجُمْهُورِ الْعَرَبِ. وَتُكْسَرُ الْعَيْنُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَسْرَةَ إِتْبَاعٍ. وَالنُّعْمَةُ بِضَمِّ النُّونِ اسْمٌ لِلْمَسَرَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ تُجْمَعَ عَلَى نُعْمٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تُجْمَعَ عَلَى نُعَمٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مِثْلَ: غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي الْوَزْنِ. وَجَعْلُهُمْ ذَوِي النَّعْمَةِ الْمَفْتُوحَةِ النُّونِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ قُصَارَى حَظِّهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ هِيَ النَّعْمَةُ، أَيِ الِانْطِلَاقُ فِي الْعَيْشِ بِلَا ضِيقٍ، وَالِاسْتِظْلَالُ بِالْبُيُوتِ وَالْجَنَّاتِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى لَذِيذِ الطُّعُومِ وَلَذَائِذِ الِانْبِسَاطِ إِلَى النِّسَاءِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ كَمَالَاتِ النَّفْسِ وَلَذَّةِ الِاهْتِدَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ قَالَ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 44] وَتَعْرِيفُ النَّعْمَةِ لِلْعَهْدِ. وَالتَّمْهِيلُ: الْإِمْهَالُ الشَّدِيدُ، وَالْإِمْهَالُ: التَّأْجِيلُ وَتَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ، وَهُوَ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ، أَيْ وَانْتَظِرْ أَنْ نَنْتَصِرَ لَكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الْأَحْقَاف: 35] . وقَلِيلًا وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْهِيلًا قَلِيلًا. وَانْتَصَبَ عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق. [12- 14] [سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 12 إِلَى 14] إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً

(14) وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ، أَيْ لِأَنَّ لَدَيْنَا مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَدِّكَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَفَادَ تَهْدِيدَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ النِّقَمَ أُعِدَّتْ لَهُمْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنْ خَزَائِنِ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ بِحَيْثُ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَأْهِلَةِ لَهَا، وَهُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَأَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ ضِدًّا لِأُصُولِ النِّعْمَةِ الَّتِي خُوِّلُوهَا، فَبَطِرُوا بِهَا وَقَابَلُوا الْمُنْعِمَ بِالْكُفْرَانِ. فَالْأَنْكَالُ مُقَابِلُ كُفْرَانِهِمْ بِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَقْدِرَةِ لِأَنَّ الْأَنْكَالَ الْقُيُودُ. وَالْجَحِيمُ: وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ مُقَابِلُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ لَذَّةِ الِاسْتِظْلَالِ وَالتَّبَرُّدِ. وَالطَّعَامُ: ذُو الْغُصَّةِ مُقَابِلُ مَا كَانُوا مُنْهَمِكِينَ فِيهِ مِنْ أَطْعِمَتِهِمُ الْهَنِيئَةِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْمَطْبُوخَاتِ وَالصَّيْدِ. وَالْأَنْكَالُ: جَمْعُ نَكْلٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَبِكَسْرِهَا وَبِسُكُونِ الْكَافِ. وَهُوَ الْقَيْدُ الثَّقِيلُ. وَالْغُصَّةُ بِضَمِّ الْغَيْن: اسْم الْأَثر الْغَصِّ فِي الْحَلْقِ وَهُوَ تَرَدُّدُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ بِحَيْثُ لَا يُسِيغُهُ الْحَلْقُ مَنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ وَعَبْرَةٍ. وَإِضَافَةُ الطَّعَامِ إِلَى الْغُصَّةِ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ مِنَ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَإِنَّ الْغُصَّةَ عَارِضٌ فِي الْحَلْقِ سَبَبُهُ الطَّعَامُ أَوِ الشُّرْبُ الَّذِي لَا يُسْتَسَاغُ لِبَشَاعَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ. وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: مُقَابِلُ مَا فِي النِّعْمَةِ مِنْ مَلَاذِّ الْبَشَرِ، فَإِنَّ الْأَلَمَ ضِدُّ اللَّذَّةِ. وَقَدْ عَرَّفَ الْحُكَمَاءُ اللَّذَّةَ بِأَنَّهَا الْخَلَاصُ مِنَ الْأَلَمِ. وَقَدْ جُمِعَ الْأَخِيرُ جَمْعَ مَا يُضَادُّ مَعْنَى النَّعْمَةِ (بِالْفَتْحِ) . وَتَنْكِيرُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهَا وَتَهْوِيلِهَا، وَ (لَدَى) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُونِ الْعَظَمَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَدَى خَزَائِنِنَا، أَيْ خَزَائِنِ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِيجَادِ ذَلِكَ مَتَى أَرَادَ اللَّهُ. وَيَتَعَلَّقُ يَوْمَ تَرْجُفُ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ خَبَرُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا. وَالرَّجْفُ: الزَّلْزَلَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَالْمُرَادُ: الرَّجْفُ الْمُتَكَرِّرُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ انْفِرَاطُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَانْحِلَالُهَا.

[سورة المزمل (73) : الآيات 15 إلى 16]

وَالْكَثِيبُ: الرَّمْلُ الْمُجْتَمِعُ كَالرَّبْوَةِ، أَيْ تَصِيرُ حِجَارَةُ الْجِبَالِ دِقَاقًا. ومهيل: اسْم فعول مِنْ هَالَ الشَّيْءَ هَيْلًا، إِذَا نَثَرَهُ وَصَبَّهُ، وَأَصْلُهُ مَهْيُولٌ، اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فَنُقِلَتْ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ، لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الضَّمَّةُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ كانَتِ فِي قَوْلِهِ: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً، لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَاضِي. وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهِ لِأُسْلُوبِ تَرْجُفُ أَنَّ صَيْرُورَةَ الْجِبَالِ كُثُبًا أَمْرٌ عَجِيبٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَلَعَلَّهُ يَسْتَبْعِدُهُ السَّامِعُونَ وَأَمَّا رَجْفُ الْأَرْضِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الرَّجْفَ الْمَوْعُودَ بِهِ أَعْظَمُ مَا عرف جنسه. [15- 16] [سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 15 إِلَى 16] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُنَاسَبَةُ لِذَلِكَ التَّخَلُّصُ إِلَى وَعِيدِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَهَجْرِهِمْ هَجْرًا جَمِيلًا إِذْ قَالَ لَهُ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَذاباً أَلِيماً [المزمل: 11- 13] . فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا الْخِطَابُ مِنَ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْكَلَامَ نُقِلَ إِلَى غَرَضٍ غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ. فَالْخِطَابُ فِيهِ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَمَذْهَبِ السَّكَّاكِيِّ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَمْثَالَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَهُوَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا أَوَّلُ مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ لِلتَّهْدِيدِ بِمَصِيرِ أَمْثَالِهِمْ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَاخْتِيرَ لَهُمْ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِفِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ حَالِ أَهْلِ مَكَّةَ وَحَالِ أَهْلِ مِصْرَ فِي سَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ هُوَ مَجْمُوعُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَمَا يَمْلَأُ نُفُوسَهُمْ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَاظُمِ عَلَى الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُطِيعُ مِثْلَهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 47] وَقَدْ قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: 21] . وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِفِرْعَوْنَ لِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ زَعِيمُ الْمُنَاوِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤَلِّبِينَ عَلَيْهِ وَأَشَدُّ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ كُفْرًا. وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ (إِنَّ) لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا. وَنَكَّرَ رَسُولًا لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْمَعْنِيَّ بِهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَلِأَنَّ مَنَاطَ التَّهْدِيدِ وَالتَّنْظِيرِ لَيْسَ شَخْصَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ صِفَةُ الْإِرْسَالِ. وَأُدْمِجَ فِي التَّنْظِيرِ وَالتَّهْدِيدِ وَصْفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ هُنَا: الشَّهَادَةُ بِتَبْلِيغِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ وَصْفُ شاهِداً مُوَافِقًا لِاسْتِعْمَالِ الْوَصْفِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي زَمَنِ الْحَالِ، أَيْ هُوَ شَاهِدٌ عَلَيْكُمُ الْآنَ بِمُعَاوَدَةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِبْلَاغِ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ شَهَادَةٌ بِصِدْقِ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ أَبْلَغُوا إِلَيْهِمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً كَمَا وَرَدَ تَفْصِيلُ تَفْسِيرِهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] . وَتَنْكِيرُ رَسُولًا الْمُرْسَلُ إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِرْسَالِ لَا بِشَخْصِ الْمُرْسَلِ إِذِ التَّشْبِيهُ تَعَلَّقَ بِالْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ إِذْ تَقْدِيرُهُ كَإِرْسَالِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا. وَتَفْرِيعُ فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ التَّهْدِيدُ بِأَنْ يَحِلَّ بِالْمُخَاطِبِينَ لَمَّا عَصَوُا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ.

[سورة المزمل (73) : الآيات 17 إلى 18]

وَفِي إِظْهَارِ اسْمِ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: فَعَصى فِرْعَوْنُ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهِ بِفَظَاعَةِ عِصْيَانِهِ الرَّسُولَ. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَى فِرْعَوْنَ أَوَّلَ مَرَّةٍ جِيءَ بِهِ فِي ذِكْرِهِ ثَانِيَ مَرَّةٍ مُعَرَّفًا بِلَامِ الْعَهْدِ وَهُوَ الْعَهْدُ الذِّكْرِيُّ، أَيِ الرَّسُولُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فَإِنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ كَانَ مَدْلُولُهَا عَيْنَ الْأُولَى. وَالْأَخْذُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهْلَاكِ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَزَالَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ أَشْبَهَ فِعْلُهُ أَخْذَ الْآخِذِ شَيْئًا مِنْ مَوْضِعِهِ وَجَعْلِهِ عِنْدَهُ. وَالْوَبِيلُ: فَعِيلٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ وَبُلَ الْمَكَانُ، إِذَا وَخِمَ هَوَاؤُهُ أَوْ مَرْعَى كَلَئِهِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: إِلَى كَلَإٍ مُسْتَوْبِلٍ مُتَوَخِّمٍ وَهُوَ هُنَا مستعار لسيّىء الْعَاقِبَةِ شَدِيدَ السُّوءِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْغَرَقُ الَّذِي أَصَابَ فِرْعَوْن وَقَومه. [17- 18] [سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 17 إِلَى 18] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) الِاسْتِفْهَامُ بِ (كَيْفَ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ وَالتَّوْبِيخِ وَهُوَ مُتَفَرِّعٌ بِالْفَاءِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ السَّابِقُ مِنَ التَّهْدِيدِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُدْمِجَ فِيهِ مِنَ التَّسْجِيلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ إِلَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَقَدِ انْتَقَلَ بِهِمْ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْأَخْذِ فِي الدُّنْيَا الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى إِلَى الْوَعِيدِ بِعِقَابٍ أَشَدَّ وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ نَشَأَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ أَهْلَ اتِّعَاظٍ وَخَوْفٍ مِنَ الْوَعِيدِ بِمَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ فِيهِمْ تَفْكِيرًا مِنَ النَّجَاةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا هُدِّدُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا أَهْلَ جَلَادَةٍ عَلَى تَحَمُّلِ عَذَابِ الدُّنْيَا فَمَاذَا يَصْنَعُونَ فِي اتِّقَاءِ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَدَلَّتْ فَاءُ التَّفْرِيعِ وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَالْمَعْنَى: هَبْكُمْ أَقْدَمْتُمْ عَلَى تَحَمُّلِ عَذَابِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ،

فَفِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كَفَرْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْطُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ مَعْنَى الدَّوَامِ مِنْ فِعْلِ كَفَرْتُمْ وَإِلَّا فَإِنَّ كُفْرَهُمْ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. ويَوْماً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تَتَّقُونَ. واتقاء الْيَوْم باتقاء مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ عَذَابٍ أَيْ عَلَى الْكُفْرِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وَصْفٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأَحْزَانِ، لِأَنَّهُ شَاعَ أَنَّ الْهَمَّ مِمَّا يُسْرِعُ بِهِ الشَّيْبُ فَلَمَّا أُرِيدَ وَصْفُ هَمِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ الْبَالِغَةِ أَقْوَاهَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ يَشِيبُ الْوِلْدَانُ الَّذِينَ شَعْرُهُمْ فِي أَوَّلِ سَوَادِهِ. وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَجِيبَةٌ وَهِيَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فِيمَا أَحْسَبُ، لِأَنِّي لَمْ أَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي شَوَاهِدِ النَّحْوِ وَهُوَ: إِذَنْ وَاللَّهِ نَرْمِيهُمْ بِحَرْبٍ ... تُشِيبُ الطِّفْلَ مِنْ قَبْلِ الْمَشِيبِ فَلَا ثُبُوتَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ كَانُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ فِي دِيوَانِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْمَعْنَى الصَّمَّةُ ابْن عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: دَعَانِي مِنْ نَجْدٍ فَإِنَّ سِنِينَهُ ... لَعِبْنَ بِنَا شِيبًا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَا وَهُوَ مِنْ شُعَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَإِسْنَادُ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً إِلَى الْيَوْمِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِمَرْتَبَتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ زَمَنُ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَشِيبُ لِمِثْلِهَا الْأَطْفَالُ، وَالْأَهْوَالُ سَبَبٌ لِلشَّيْبِ عُرْفًا. وَالشَّيْبُ كِنَايَةٌ عَنْ هَذَا الْهَوْلِ فَاجْتَمَعَ فِي الْآيَةِ مَجَازَانِ عَقْلِيَّانِ وَكِنَايَةٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. وَجُمْلَةُ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ. وَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِحُدُوثِ الْأَهْوَالِ فِيهِ فَإِنَّ انْفِطَارَ السَّمَاء أَشد هُوَ لَا وَرُعْبًا مِمَّا كُنِّيَ عَنْهُ بِجُمْلَةِ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. أَيِ السَّمَاءُ عَلَى عِظَمِهَا وَسُمْكِهَا تَنْفَطِرُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْخَلَائِقِ فِيهِ.

وَالِانْفِطَارُ: التَّشَقُّقُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَصُعُودِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ [4] . وَذِكْرُ انْفِطَارِ السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ زِيَادَةٌ فِي تَهْوِيلِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ الْمُهَدَّدِينَ رُعْبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْفِطَارُ السَّمَاءِ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ وَلَا لَهُ أَثَرٌ فِي زِيَادَةِ نَكَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ جُمْلَةُ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ مُسْتَأْنَفَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِلَخْ، وَجُمْلَةِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الْكُفْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ كَفَرْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِانْفِطَارِ السَّمَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَالْمُنْفَطِرِ بِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: 88- 90] . وَوَصْفُ السَّمَاءِ بِمُنْفَطِرٍ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ مَعَ أَنَّ السَّمَاءَ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُعْتَبَرَةِ مُؤَنَّثَةً فِي الشَّائِعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: السَّمَاءُ تُذَكَّرُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالسَّقْفِ لِأَنَّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهَا سَمَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ بِالسَّقْفِ، أَيْ وَالسَّقْفُ مُذَكَّرٌ وَالسَّمَاءُ مُؤَنَّثٌ. وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَابْنُ بَرِّيٍّ. وَأَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا ... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ وَأَنْشَدَ ابْنُ بَرِّيٍّ أَيْضًا فِي تَذْكِيرِ السَّمَاءِ بِمَعْنَى السَّقْفِ قَوْلَ الْآخَرِ: وَقَالَتْ سَمَاءُ الْبَيْتِ فَوْقَكَ مُخْلَقٌ ... وَلَمَّا تَيَسَّرَ اجْتِلَاءُ الرَّكَائِبِ وَلَا نَدْرِي مِقْدَار صِحَة هاذين الشَّاهِدَيْنِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونَانِ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ جَازَ إِجْرَاءُ وَصْفِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ فَلَا تَلْحَقُهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ قِيَاسًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ لِلْمُؤَنَّثِ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ فِي جَوَازِ اقْتِرَانِهِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَتَجْرِيدِهِ مِنْهَا، إِجْرَاءً لِلْوَصْفِ مَجْرَى الْفِعْلِ وَهُوَ وَجِيهٌ. وَلَعَلَّ الْعُدُولَ فِي الْآيَةِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ فِي إِجْرَاءِ السَّمَاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ، إِلَى التَّذْكِيرِ إِيثَارًا لِتَخْفِيفِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ

[سورة المزمل (73) : آية 19]

مُنْفَعِلٍ بِحَرْفَيْ زِيَادَةٍ وَهُمَا الْمِيمُ وَالنُّونُ كَانَتِ الْكَلِمَةُ مُعَرَّضَةً لِلثِّقَلِ إِذَا أُلْحِقَ بِهَا حَرْفٌ زَائِدٌ آخَرُ ثَالِثٌ، وَهُوَ هَاءُ التَّأْنِيثِ فَيَحْصُلُ فِيهَا ثِقَلٌ يُجَنَّبُهُ الْكَلَامُ الْبَالِغُ غَايَةَ الْفَصَاحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] إِذْ لَيْسَ فِي الْفِعْلِ إِلَّا حَرْفٌ مَزِيدٌ وَاحِدٌ وَهُوَ النُّونُ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ لِأَنَّهَا سَاقِطَةٌ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ، فَجَاءَتْ بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ. وَجُمْلَةُ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا صِفَةٌ أُخْرَى لِ يَوْماً، وَهَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجٌ لِلتَّصْرِيحِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضٍ لِوُقُوعِهِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ اسْتِقْصَاءً فِي إِبْلَاغِ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِمْ وَفِي قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ. وَضَمِيرُ وَعْدُهُ عَائِدٌ إِلَى يَوْماً الْمَوْصُوفِ، وَإِضَافَةُ (وَعْدٍ) إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ، أَيِ الْوَعْدُ بِهِ، أَي بِوُقُوعِهِ. [19] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 19] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) تَذْيِيلٌ أَيْ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ يَتَذَكَّرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ آمَنَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا اسْتِفَاقَ مِنْ بَعْضِ الْغَفْلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ فَاسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِأَحْوَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا. وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ [المزمل: 15] . وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهِينَ بِهِ ابْتِدَاءً هُمْ مُنْكِرُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ تَذْكِرَةً وَهُدًى فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَوَسَمُوهُ بِالسِّحْرِ وَبِالْأَسَاطِيرِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي أَرْشَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] . وَالتَّذْكِرَةُ: اسْمٌ لِمَصْدَرِ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ، الَّذِي هُوَ خُطُورُ الشَّيْءِ فِي الْبَالِ، فَالتَّذْكِرَةُ: الْمَوْعِظَةُ لِأَنَّهُ تَذَكُّرُ الْغَافِلِ عَنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَتَجْدِيدٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالتَّفَكُّرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ.

[سورة المزمل (73) : آية 20]

وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّحْرِيضِ التَّعْرِيضِيِّ تَحْرِيضٌ صَرِيحٌ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا فَقَدْ تَهَيَّأَ لَهُ اتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ بِهَذِهِ التَّذْكِرَةِ فَلَمْ تَبْقَ لِلْمُتَغَافِلِ مَعْذِرَةٌ. والإتيان بموصول فَمَنْ شاءَ مِنْ قَبِيلِ التَّحْرِيضِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ مُوَصِّلٌ إِلَى الْخَيْرِ فَلَا حَائِلَ يَحُولُ بَيْنَ طَالِبِ الْخَيْرِ وَبَيْنَ سُلُوكِ هَذَا السَّبِيلِ إِلَّا مَشِيئَتُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْف: 29] . فَلَيْسَ ذَلِكَ إِبَاحَةً لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَلَكِنَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا بَعْدَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الْكُفْرِ، أَيْ تَبِعَةُ التَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُفَرِّطِ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ مَعْنَاهُ إِبَاحَةَ الْأَمْرِ وَضِدِّهِ بَلْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ الَّذِي كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِ السَّبِيلِ فَمُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ عِنْدَهُ أَنْ يُبَيِّنَ سَبِيلًا مَا من السَّبِيل قَالَ: وَهُوَ حَسَنٌ، فَيَبْقَى ظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى حَالِهِ مِنَ التَّخْيِيرِ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَأَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ طَالِبِ الْفَوْزِ وَالْهُدَى بِحَالِ السَّائِرِ إِلَى نَاصِرٍ أَوْ كَرِيمٍ قَدْ أُرِيَ السَّبِيلَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَعُوقُهُ عَنْ سُلُوكِهِ. [20] [سُورَة المزمل (73) : آيَة 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. من هُنَا يبتدىء مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَصَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَأَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا يَقُومُونَ عَمَلًا بِالْأَمْرِ الَّذِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا الْآيَة [المزمل: 2] ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ فِيهَا: فَتابَ عَلَيْكُمْ فَهِيَ نَاسِخَةٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا وَمَكَانِهِ وَفِي نِسْبَةِ مُقْتَضَاهَا مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَشْهُورُ الْمَوْثُوقُ بِهِ أَنَّ صَدْرَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان عَنْ عَائِشَةَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّ صَدْرَ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ فِي التَّزَمُّلِ بِمِرْطٍ لِعَائِشَةَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَالَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْقِيَامَ الَّذِي شُرِّعَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ كَانَ قِيَامًا وَاجِبًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَأَنَّ قِيَامَ مَنْ قَامَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ بِمَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ تَأَسِّيًا بِهِ وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ رَأَتْ عَائِشَةُ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ نَسَخَ وُجُوبَ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَهِيَ تُرِيدُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ، كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ هُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا وُجُوبُ صَلَاةٍ عَلَى الْأُمَّةِ وَلَوْ كَانَ لجرى ذكر تعويضه بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، وَأَنَّ جوب الْخَمْسِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَمْ يَنْسَخْهُ إِلَّا آيَةُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ الْآيَةَ، وَلَا أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ فَرْضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَمْ يَنْسَخْ فَرْضَ الْقِيَامِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى أَنَّهُ نَسْخُ اسْتِيعَابِ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ دُونَهُ بِقَلِيل فنسخه فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْلَةَ بَاتَ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِيهِ: «نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ» ثُمَّ وَصَفَ وُضُوءَهُ وَأَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُنَادِي لِصَلَاةِ الصُّبْحِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُومُونَ مَعَهُ إِلَّا حِينَ احْتَجَزَ مَوْضِعًا مِنَ الْمَسْجِدِ لِقِيَامِهِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَتَسَامَعَ أَصْحَابُهُ بِهِ فَجَعَلُوا يَنْسَلُّونَ إِلَى الْمَسْجِدِ ليصلّوا بِصَلَاة نبيئهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْتَبَسَ عَنْهُمْ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي وَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» وَذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.

وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقِيَامَ الَّذِي قَامُوهُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَدُومُوا عَلَيْهِ وَفِي أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِوَاجِبٍ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَوْقِعٌ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ قِيَامِ اللَّيْلِ كَانَ مَفْرُوضًا لَكَانَ قِيَامُهُمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَاءً لِذَلِكَ الْمَفْرُوضِ، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَفْصَةَ وَقَدْ قَصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيَا رَآهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرٍ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يَقُومُ فِي اللَّيْلِ» . وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ يُشْعِرُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِوَفَائِهِ بِحَقِّ الْقِيَامِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَأَنَّهُ كَانَ يَبْسُطُ إِلَيْهِ وَيَهْتَمُّ بِهِ ثُمَّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ النِّصْفُ أَوْ أَنْقَصُ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهِ بَلْ أَخَذَ بِالْأَقْصَى وَذَلِكَ مَا يَقْرُبُ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أُولِي الْعَزْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [الْقَصَص: 29] أَنَّهُ قَضَى أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ الْعَشْرُ السِّنُونَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ» . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِذَلِكَ وَتَوْطِئَةٌ لِلتَّخْفِيفِ الَّذِي سَيُذْكَرُ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ تَخْفِيفُ رَحْمَةٍ وَكَرَامَةٍ وَلِإِفْرَاغِ بَعْضِ الْوَقْتِ مِنَ النَّهَارِ لِلْعَمَلِ وَالْجِهَادِ. وَلَمْ تَزَلْ تَكْثُرُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَشْغَالُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَدْبِيرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَحِمَايَةِ الْمَدِينَةِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ تَبْقَ فِي نَهَارِهِ مِنَ السَّعَةِ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ أَيَّامَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ الْوَاجِبِ مِنْهُ وَالرَّغِيبَةِ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آوَى إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» .

وَإِيثَارُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَجَدُّدِهِ وَذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنْهُ. وَفِي ضِدِّهِ قَوْلُهُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الْأَحْزَاب: 18] لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ، أَيْ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَلِكَ حِينًا فَحِينًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ حِصَّةٌ. وأَدْنى أَصْلُهُ أَقْرَبُ، مِنَ الدُّنُوِّ، اسْتُعِيرَ لِلْأَقَلِّ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ الشَّيْءِ وَالْأَدْنَى مِنْهُ قَلِيلَةٌ، وَكَذَلِكَ يُسْتَعَارُ الْأَبْعَدُ لِلْأَكْثَرِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ تَقُومُ، أَيْ تَقُومُ فِي زَمَانٍ يُقَدَّرُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثُلُثَيِ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى التَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ الثِّقَلِ بِسَبَبِ التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِخَفْضِهِمَا عَطْفًا عَلَى ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، أَيْ أَدْنَى مِنْ نِصْفِهِ وَأَدْنَى مِنْ ثُلُثِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِنَصْبِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ عَلَى أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِ تَقُومُ، أَيْ تَقُومُ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَتَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَتَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ عَنِ النِّصْفِ وَعَنِ الثُّلُثِ. وَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ تَابِعَةٌ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي طُولِ بَعْضِهَا وَقِصَرِ بَعْضٍ وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ التَّخْيِيرِ الَّذِي خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4] . وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَهِيَ جُمْلَةُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ قَدْ عَلِمَهَا اللَّهُ كُلَّهَا وَأَنْبَأَهُ بِهَا. فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَقْصُودُ بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ. فَمِنَ الْعُجَابِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّ النَّصْبَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. وطائِفَةٌ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ بِالرَّفْعِ وَهُوَ وَجْهٌ جَائِزٌ إِذَا كَانَ بَعْدَ ذِكْرِ خَبَرِ إِنَّ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ رَفْعُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: 3] . وَهُوَ مِنَ اللَّطَائِفِ إِذَا كَانَ اتِّصَافُ الِاسْمِ وَالْمَعْطُوفِ

بِالْخَبَرِ مُخْتَلِفًا فَإِنَّ بَيْنَ قِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَامِ الطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ تَفَاوُتًا فِي الْحُكْمِ وَالْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَرَاءَةُ رَسُولِهِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَيُعَامِلُهُمْ، وَأَمَّا اللَّهُ فغاضب عَلَيْهِم وَلَا عَنْهُم. وَهَذَا وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَقُومُونَ. إِلَى قَوْلِهِ: أَنَّكَ تَقُومُ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَطائِفَةٌ إِلَخْ. وَوُصِفَ طائِفَةٌ بِأَنَّهُمْ (من الَّذين مَعَه) ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الْمَعِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، أَيِ الْمُصَاحِبَةَ فِي عَمَلٍ مِمَّا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ. أَيِ الْمُصَاحِبِينَ لَكَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، لَمْ يَكُنْ فِي تَفْسِيرِهِ تَعْيِينٌ لِنَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» . وَإِنْ كَانَتِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةً مَجَازِيَّةً وَهِيَ الِانْتِسَابُ وَالصُّحْبَةُ وَالْمُوَافَقَةُ فَقَدْ عَدَدْنَا مِنْهُمْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَالْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتٍ الْأَسَدِيَّةَ، فَهَؤُلَاءِ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ مُفَرَّقًا فِي أَحَادِيثِ التَّهَجُّدِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَاعْلَمْ أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفَائِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَقَّ الْوَفَاءِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ فِي ذَلِكَ. فَالْخَبَرُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ مُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الرِّضَى عَنْهُمْ فِيمَا فَعَلُوا. وَالْمَقْصُودُ: التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِبَارِ أُعِيدَ فِعْلُ عَلِمَ فِي جُمْلَةِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِلَخْ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْ سَيَكُونَ مِنْكُمْ مَرْضَى بِالْعَطْفِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ وَجُمْلَةِ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ وَقَدْ عُلِمَتْ مُنَاسَبَةُ اعْتِرَاضِهَا آنِفًا.

وَجُمْلَةُ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ إِنَّ بَعْدَ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا يَنْشَأُ عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ مِنْ تَرَقُّبِ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ مَا مُهِّدَ لَهُ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ، فَبَعْدَ أَنْ شَكَرَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ خَفَّفَ عَنْهُمْ مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تُحْصُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقِيَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَنَّكَ تَقُومُ. وَالْإِحْصَاءُ حَقِيقَتُهُ: مَعْرِفَةُ عَدَدِ شَيْءٍ مَعْدُودٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْحَصَى جَمْعُ حَصَاةٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا عَدُّوا شَيْئًا كَثِيرًا جَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ حَصَاةً وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِطَاقَةِ. شُبِّهَتِ الْأَفْعَالُ الْكَثِيرَةُ مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، بِالْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ، وَبِهَذَا فَسَّرَ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا» أَيْ وَلَنْ تُطِيقُوا تَمَامَ الِاسْتِقَامَةِ، أَيْ فَخُذُوا مِنْهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. وإِنَّ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ إِنَّ وَخَبَرِهَا بِحَرْفِ النَّفْيِ لِكَوْنِ الْخَبَرِ فِعْلًا غَيْرَ دُعَاءٍ وَلَا جَامِدٍ حَسَبَ الْمُتَّبَعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ. وإِنَّ وَجُمْلَتُهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ إِذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ عَدَمَ إِحْصَائِكُمُوهُ وَاقِعًا. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَفِعْلُ تَابَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ حُصُولِ التَّقْصِيرِ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مُتَوَقَّعٌ فَشَابَهَ الْحَاصِلَ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِمَا يُتَوَقَّعُ التَّقْصِيرُ فِيهِ، بِفِعْلِ تَابَ الْمُفِيدِ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ بَعْدَ حُصُولِهِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُحْصُوهُ وَمَا بَعْدَهُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُومُونَ اللَّيْلَ: إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، وَإِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُظَنُّ تَعَذُّرُ الْإِحْصَاءِ عَلَيْهِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِلَخ. وَمعنى فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ لَا تَخْلُو عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أُتْبِعَ ذَلِكَ بقوله هُنَا: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ

صَلُّوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: 78] أَيْ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَفِي الْكِنَايَةِ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ وَالتَّرْغِيبِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَهُوَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ كُلِّهِ وَشَيْءٌ مِنَ الْمَدَنِيِّ، وَلَيْسَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ. وَقَوْلُهُ: مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مِقْدَار مَا يجزىء مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُهَا فِي هَذَا الْمَهِيعِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ مَا تَيَسَّرَ مُجْمَلٌ وَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَأَمَّا السُّورَةُ مَعَ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنْ سُورَةٍ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْمُصَلِّي بَعْضَ سُورَةٍ فِي الْفَرِيضَةِ. وَيَجُوزُ فِي الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ وَفِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَفِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ فَرَكَعَ» ، أَيْ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَة عَنهُ: تجزىء قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوْ كَانَتْ قَصِيرَةً وَمَثَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ [الرَّحْمَن: 64] وَلَا تَتَعَيَّنُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَتَعْيِينُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ مُنْفَرِدٍ وَإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَفِعْلُ (تَابَ) إِذَا أُرِيدَ بِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ التَّائِبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى مِنْ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالنَّدَمِ مِنْهُ عُدِّيَ بِمَا يُنَاسِبُ. وَقَدْ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْدِيدَ مُدَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ بِنِصْفِهِ أَوْ أَزْيَدَ أَوْ أقل من ثلثه، وَأَصْحَاب التَّحْدِيدُ بِالْمِقْدَارِ الْمُتَيَسِّرِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، أَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ الْقِيَامِ فَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.

عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، وَهَذَا تَخْفِيفٌ آخَرُ لِأَجْلِ أَحْوَالٍ أُخْرَى اقْتَضَتِ التَّخْفِيفَ. وَهَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى لِنَسْخِ تَحْدِيدِ الْوَقْتِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَهِيَ مُرَاعَاةُ أَحْوَالٍ طَرَأَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ضُرُوبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَالَةُ الْجَمَاعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ هِيَ أُصُولُ الْأَعْذَارِ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَعْذَارُ اخْتِلَالِ الصِّحَّةِ وَقَدْ شَمَلَهَا قَوْلُهُ: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْأَشْغَالُ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَة الْعَيْش من تِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَحِرَاثَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَفَضْلُ اللَّهِ هُوَ الرِّزْقُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَعْمَالٌ لِمَصَالِحِ الْأمة وَأَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ حِرَاسَةُ الثُّغُورِ وَالرِّبَاطُ بِهَا، وَتَدْبِيرُ الْجُيُوشِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِيفَادِ الْوُفُودِ وَبَعْثِ السُّفَرَاءِ. وَهَذَا كُله من شؤون الْأُمَّةِ عَلَى الْإِجْمَالِ فَيَدْخُلُ فِي بَعْضِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَرَضِ فَفِي الْحَدِيثِ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ . وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ صَائِرٌ إِلَى اسْتِقْلَالٍ وَقَتَرَةٍ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَهُوَ عُذْرٌ لَهُم بِمَا ابتدأوا فِيهِ مِنَ السَّرَايَا وَالْغَزَوَاتِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَتَأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةَ التِّجَارَةِ وَالسَّفَرِ لِلتَّجْرِ حَيْثُ سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُكْتَسِبِينَ الْمَالَ الْحَلَالَ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ مَا ذَكَرَ

هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ لِنَسْخِ تَحْدِيدِ الْقِيَامِ إِلَّا تَنْوِيهًا بِهِمَا لِأَنَّ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْذَارِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرَضِ، وَدَقَائِقُ الْقُرْآنِ وَلَطَائِفُهُ لَا تَنْحَصِرُ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ، وَقَرَأَ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ» . فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ أَمْرَ الْمُسْلِمِينِ صَائِرٌ إِلَى قَتَرَةٍ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَهِيَ عُذْرٌ لَهُمْ بِمَا عَرَضَ لَهُمْ. وَمَعْنَى يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ. وَحَقِيقَةُ الضَّرْبِ: قُرْعُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ، وَسُمِّيَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِتَضْمِينِ فِعْلِ يَضْرِبُونَ مَعْنَى يَسِيرُونَ فَإِنَّ السَّيْرَ ضَرْبٌ لِلْأَرْضِ بِالرِّجْلَيْنِ لَكِنَّهُ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الضَّرْبِ وَأُرِيدَ الْمَشْيُ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ فِي لِأَنَّ الْأَرْضَ ظَرْفٌ لِلسَّيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمرَان: 137] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [101] . وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ طَلَبُ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة: 198] أَيْ التِّجَارَة فِي مُدَّة الْحَجِّ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ مُرَادٌ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ فِيهِ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ السَّيْرَ فِي الْأَسْفَارِ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ كَثِيرًا وَيَكُونُ فِي النَّهَارِ فَيَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ لِلنَّوْمِ فِي النَّهَارِ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا فُرِّعَ عَلَى الَّذِي قبله فَقَالَ: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ نِيطَ مِقْدَارُ الْقِيَامِ بِالتَّيْسِيرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَعْذَارُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ رَفْعَ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، أَو بَيَان لَمْ يُوجَبْ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا قَدِ الْتَزَمُوهُ فَبَيَّنَ

لَهُمْ أَنَّ مَا الْتَزَمُوهُ مِنَ التَّأَسِّي بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُمْ. وَعَلَّلَ عَدَمَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْأُمَّةَ يَكْثُرُ فِيهَا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَشُقُّ مَعَهَا قِيَامُ اللَّيْلِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ أَوْ رَفَعَ وُجُوبَهُ. وَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْمَظِنَّةِ الْعَامَّةِ لِأُبْقِيَ حُكْمُ الْقِيَامِ وَرُخِّصَ لِأَصْحَابِ الْعُذْرِ فِي مُدَّةِ الْعُذْرِ فَقَطْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْمَظِنَّةِ وَالْحُكْمُ هُنَا عَدَمِيٌّ، أَي عدم الْإِيجَاب فَهُوَ نَظِيرُ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ عَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: «إِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْحَضَرِ وَأُبْقِيَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» ، وَعِلَّةُ بَقَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ هُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ. وَأُوجِبَ التَّرَخُّصُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ قَوِيَّةً فِيهِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْقِيَامِ فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ التَّحْرِيضِ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ. فَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ أَصْلًا لِلْتَعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ وَصَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ أَصْلًا تُقَاسُ عَلَيْهِ الرُّخَصُ الْعَامَّةُ الَّتِي تُرَاعَى فِيهَا مَشَقَّةُ غَالِبِ الْأُمَّةِ مِثْلَ رُخْصَةِ بَيْعِ السَّلَمِ دُونَ الْأَحْوَالِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةَ هِيَ الَّتِي تَحْرِصُونَ عَلَى إِقَامَتِهَا وَعَدَمِ التَّفْرِيطِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النِّسَاء: 103] . وَفِي هَذَا التَّعْقِيبِ بِعَطْفِ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مَا يَرْفَعُ التَّبِعَةَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ نَافِلَةٌ لَهُمْ وَفِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْآثَارُ عَلَى هَذَا مَا هُوَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ. وَعَطْفُ وَآتُوا الزَّكاةَ تَتْمِيمٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ مِنْ قَرْنِ الزَّكَاةِ مَعَهَا حَتَّى اسْتَنْبَطَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُقَاتَلُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ» . وَإِقْرَاضُ اللَّهِ هُوَ الصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْوَاجِبَةِ، شُبِّهَ إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ لِلْفَقِيرِ بِقَرْضٍ يُقْرِضُهُ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فَشَابَهَ حَالَ مُعْطِي الصَّدَقَةِ مُسْتَجِيبًا رَغْبَةَ اللَّهِ فِيهِ بِحَالِ مَنْ أَقْرَضَ مُسْتَقْرِضًا فِي أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَا أَقْرَضَهُ، وَذَلِكَ فِي الثَّوَابِ الَّذِي يُعْطَاهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ.

وَوَصْفُ الْقَرْضِ بِالْحَسَنِ يُفِيدُ الصَّدَقَةَ الْمُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّالِمَةَ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالْحُسْنُ مُتَفَاوِتٌ. وَالْحَسَنُ فِي كُلِّ نَوْعٍ هُوَ مَا فِيهِ الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فِي بَابِهِ، وَيُعْرَفُ الْمَحْمُودُ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ بِمَا وَصَفَهُ الْقُرْآنُ فِي حُسْنِ الصَّدَقَاتِ وَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [245] قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَفِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [17] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً. تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ خَيْرٍ يَعُمُّ جَمِيعَ فِعْلِ الْخَيْرِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْهُ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْمَحْذُوفِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ. وَمَا شَرْطِيَّةٌ. وَمَعْنَى تَقْدِيمِ الْخَيْرِ: فِعْلُهُ فِي الْحَيَاةِ، شُبِّهَ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ لِرَجَاءِ الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ بِتَقْدِيمِ الْعَازِمِ عَلَى السَّفَرِ ثَقَلَهُ وَأَدَوَاتِهِ وَبَعْضَ أَهْلِهِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَرُومُ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهِ لِيَجِدَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَقْتَ وُصُولِهِ. ومِنْ خَيْرٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الشَّرْطِيَّةِ. وَالْخَيْرُ: هُوَ مَا وَصَفَهُ الدِّينُ بِالْحُسْنِ وَوَعَدَ عَلَى فِعْلِهِ بِالثَّوَابِ. وَمعنى تَجِدُوهُ تَجدوا جَزَاءَهُ وَثَوَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَهُ فَاعِلُهُ، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَ الَّذِي قَدَّمَهُ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ عِوَضِ الشَّيْءِ وَجَزَائِهِ بَاسْمِ الْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَالْمُجَازَى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَكْنِزُ الْمَالَ وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ «مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ» . وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي تَجِدُوهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ (تَجِدُوا) وَمَفْعُولُهُ الثَّانِي خَيْراً.

وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ الَّذِي بَيْنَهُمَا ضَمِيرُ فِعْلٍ، وَجَازَ وُقُوعُهُ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَنَكِرَةٍ خِلَافًا لِلْمَعْرُوفِ فِي حَقِيقَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنْ وُجُوبِ وُقُوعِهِ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ لِأَنَّ أَفْعَلَ مِنْ كَذَا، أَشْبَهَ الْمَعْرِفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ. وخَيْراً: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَيْ خَيْرًا مِمَّا تُقَدِّمُونَهُ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّكُمْ تَجِدُونَهُ مِنْ جِنْسِ الْخَيْرِ، بَلِ الْمُرَادُ مُضَاعَفَةُ الْجَزَاءِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن: 17] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِهِ. وَعَطْفُ وَأَعْظَمَ أَجْراً عَلَى خَيْراً أَوْ هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (¬1) . وَانْتَصَبَ أَجْراً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ لِ أَعْظَمَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَأَعْظَمَ أَجْرَهُ، كَمَا تَقُولُ: وَجَدْتُهُ مُنْبَسِطًا كَفًّا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُ خَيْرٌ وَأعظم ممّا قدمتوه. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إِلَخْ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ إِرْشَادًا لِتَدَارُكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَقْدِيمِهِ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْفَرَائِضَ الَّتِي يَقْتَضِي التَّفْرِيطُ فِي بَعْضِهَا تَوْبَةً مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ التَّرْخِيصِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْقِيَامِ إِرْشَادًا مِنَ اللَّهِ لِمَا يَسُدُّ مَسَدَّ قِيَامِ اللَّيْلِ الَّذِي يُعَرِّضُ تَرْكُهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ إِذَا انْتَبَهَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَشْمُولٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ¬

(¬1) ضمير الْفَصْل هُنَا وَقع بَين معرفَة وَهُوَ الضَّمِير الْمَفْعُول الأول لفعل «تَجِدُوهُ» ، وَبَين مَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْمعرفَة وَهُوَ اسْم التَّفْضِيل لشبهه بالمعرفة فِي امْتنَاع دُخُول حرف التَّعْرِيف عَلَيْهِ كَمَا ذكره فِي «الْمفصل» «والكشاف» .

وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 18] ، وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ (¬1) إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» . وَقَالَ: «مَنْ تَعَارَّ (¬2) مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ» . وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ شَدِيدُ الرَّحْمَة. وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّعْلِيلِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِأَنَّهُ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْوَصْفَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ إِيمَاءٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالْإِجَابَةِ. ¬

(¬1) هَذَا من الْمُتَشَابه، وتأويله: أَنه ينزل رِضَاهُ على عباده. (¬2) التعارر: التقلب على الْفراش لَيْلًا بعد نوم حِين ينتبه النَّائِم فيبدل جنبا عوض جنب.

74- سورة المدثر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 74- سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ تُسَمَّى فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ» وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا وَمِنْهَا كُتُبٌ فِي الْقَيْرَوَانَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِس. وَأُرِيد المدثّر النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْصُوفًا بِالْحَالَةِ الَّتِي نُودِيَ بِهَا، كَمَا سُمِّيَتْ بَعْضُ السُّورِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِيهَا. وَإِمَّا تَسْمِيَةٌ بِاللَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا، وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَسْمِيَةِ «سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ» ، وَمِثْلُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ مِنِ احْتِمَالِ فَتْحِ الدَّالِ أَوْ كَسْرِهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الَّتِي بَعْضُهَا مَدَنِيٌّ. وَذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ أَنَّ صَاحِبَ «التَّحْرِيرِ» (مُحَمَّدَ بْنَ النَّقِيبِ الْمَقْدِسِيَّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 698 لَهُ تَفْسِيرٌ) ذَكَرَ قَوْلَ مُقَاتِلٍ أَوْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدثر: 31] إِلَخْ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ اهـ. وَلَمْ نَقِفْ عَلَى سَنَدِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا رَأَيْنَا ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي.

قِيلَ: إِنَّهَا ثَانِيَةُ السُّوَرِ نُزُولًا وَإِنَّهَا لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهَا إِلَّا سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» فِي صِفَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1- 5] ثُمَّ قَالَتْ: ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ» . فَلَمْ تَذْكُرْ نُزُولَ وَحْيٍ بَعْدَ آيَاتِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَبِأَلْفَاظٍ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَحَاصِلُ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ طُرُقِهِ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَة الْوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ «إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فُجِئْتُ مِنْهُ رُعْبًا فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي زَادَ غَيْرُ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ رِوَايَتِهِ «وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا» . قَالَ النَّوَوِيُّ: صَبُّ الْمَاءِ لِتَسْكِينِ الْفَزَعِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إِلَى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 1- 5] ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ. وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ، سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفَتْرَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَتَقْتَضِي وَحْيًا نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَهُوَ مَا بُيِّنَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ سُورَةَ الْقَلَمِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعَلَقِ وَأَنَّ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ ثَالِثَةٌ وَأَنَّ سُورَة المدثر أَرْبَعَة. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بَعْدَ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُزَّمِّلِ وَأَنَّ عِنَادَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَدْ تَزَايَدَ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ فَكَانَ التَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ أَوْسَعَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. وَالصَّلَاةُ فُرِضَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ سَوَاء كَانَت خمْسا أَوْ أَقَلَّ وَسَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ: فُرِضَتْ، أَمْ كَانَتْ مَفْرُوضَةً بِمَعْنَى مَشْرُوعَةٍ وَفَتْرَةُ الْوَحْيِ

أغراضها

مُخْتَلَفٌ فِي مُدَّتِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَقِيلَ: كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُدَّثِّرَ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْبَعْثَةِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ عَقِبَ ذَلِكَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَرْتِيبُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي سَوْقِ حَوَادِثِ سِيرَتِهِ. وَعَدَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي عَدِّهِمُ الْأَخِيرِ الَّذِي أَرْسَوْا عَلَيْهِ وَأَهْلُ الشَّامِ آيَهَا خَمْسًا وَخَمْسِينَ وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي عَدِّهِمُ الْأَوَّلِ الَّذِي رَجَعُوا عَنْهُ سِتًّا وَخَمْسِينَ. أَغْرَاضُهَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَغْرَاضِ تَكْرِيمُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ بِإِبْلَاغِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ. وَإِعْلَانُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَالْأَمْرُ بِالتَّطَهُّرِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ. وَنَبْذُ الْأَصْنَامِ. وَالْإِكْثَارُ مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ. وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِهَوْلِ الْبَعْثِ. وَتَهْدِيدُ مَنْ تَصَدَّى لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ وَكُفْرُ الطَّاعِنِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأَقْدَمَ عَلَى الطَّعْنِ فِي آيَاتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا حَقٌّ. وَوَصْفُ أَهْوَالِ جَهَنَّمَ. وَالرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَخَفُّوا بِهَا وَزَعَمُوا قِلَّةَ عَدَدِ حَفَظَتِهَا. وَتَحَدِّي أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا عَدَدَ حَفَظَتِهَا. وَتَأْيِيسُهُمْ مِنَ التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَذَابِ. وَتَمْثِيلُ ضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَمُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّصْدِيقِ بِيَوْم الْجَزَاء. [1- 2] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) نُودِيَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِهِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ تَلَبَّسَ بِهَا حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرِقَ مِنْ رُؤْيَتِهِ فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، أَوْ قَالَ: زَمِّلُونِي، أَوْ قَالَ: زَمِّلُونِي فَدَثِّرُونِي، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا ظَاهِرٌ فَدَثَّرَتْهُ فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلُ: 1] مَا فِي هَذَا النِّدَاءِ مِنَ التَّكْرِمَةِ وَالتَّلَطُّفِ. والْمُدَّثِّرُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَدَثَّرَ، إِذَا لَبِسَ الدِّثَارَ، فَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّرُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي النُّطْقِ كَمَا وَقَعَ فِي فِعْلِ ادَّعَى. وَالدِّثَارُ: بِكَسْرِ الدَّالِ: الثَّوْبُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الثَّوْبِ الَّذِي يُلْبَسُ مُبَاشِرًا لِلْجَسَدِ الَّذِي يُسَمَّى شِعَارًا. وَفِي الْحَدِيثِ «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» . فَالْوَصْفُ بِ الْمُدَّثِّرُ حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ عَلَى مَعْنَى: الْمُدَّثِّرُ بِالنُّبُوءَةِ، كَمَا يُقَالُ: ارْتَدَى بِالْمَجْدِ وَتَأَزَّرَ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، أَيْ يَا أَيُّهَا اللَّابِسُ خُلْعَةَ النُّبُوءَةِ وَدِثَارَهَا. وَالْقِيَامُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهَذَا نَائِمًا وَلَا مُضْطَجِعًا وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَنْهَضَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمُبَادَرَةِ وَالْإِقْبَالِ وَالتَّهَمُّمِ بِالْإِنْذَارِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً. وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي فِعْلِ الْقِيَامِ حَتَّى صَارَ مَعْنَى الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ مِنْ مَعَانِي مَادَّةِ الْقِيَامِ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ وَجَاءَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَعَدَّ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» فِعْلَ قَامَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، فَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ الْقِيَامِ فِي مَعْنَى الشُّرُوعِ قَدْ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ لَازِمِ الْقِيَامِ مِنَ الْعَزْمِ وَالتَّهَمُّمِ كَمَا فِي الْآيَةِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : قُمْ قِيَامَ عَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ. وَقَدْ يُرَادُ الْمَعْنَى الصَّرِيحُ مَعَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ نَحْوَ قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ مَحْكَانَ التَّمِيمِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

[سورة المدثر (74) : آية 3]

يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالَ الْحَيِّ وَالْغُرْبَا فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِفِعْلِ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ جُمْلَةٌ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا مَعْنَى الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ بِجِدٍّ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ الْمُنْذِرِ: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادْ وَقَوْلَ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ وَلَمْ يُعْرَفْ قَائِلُهُ: فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وَقَالَ أَلَا لَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ وَأَفَادَتْ فَاءُ فَأَنْذِرْ تَعْقِيبَ إِفَادَةِ التَّحَفُّزِ وَالشُّرُوعِ بِالْأَمْرِ بِإِيقَاعِ الْإِنْذَارِ. فَفِعْلُ قُمْ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَتَفْرِيعُ فَأَنْذِرْ عَلَيْهِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ. وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ مِنَ الرُّعْبِ لِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ لَا تَخَفْ وَأَقْبِلْ عَلَى الْإِنْذَارِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ لِأَنَّ سُورَةَ الْعَلَقِ لَمْ تَتَضَمَّنْ أَمْرًا بِالدَّعْوَةِ، وَصَدْرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ تَضَمَّنَ أَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالدَّعْوَةِ لِقَوْلِهِ فِيهِ إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ [المزمل: 15] ، وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] . وَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَابْتُدِئَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَجْمَعُ مَعَانِيَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ وَعَوَاقِبَهُ فَالْإِنْذَارُ حَقِيقٌ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِمَحَامِدِ الْفِعَالِ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ. وَمَفْعُولُ أَنْذِرْ مَحْذُوفٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ أَنْذِرِ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ جَمِيعُ النَّاسِ مَا عَدَا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا آمَنَتْ فَهِيَ جديرة بالبشارة. [3] [سُورَة المدثر (74) : آيَة 3] وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) انْتَصَبَ رَبَّكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لفعل (كبّر) قذم عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا تُكَبِّرْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ.

وَالْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ عَلَى جُمْلَةِ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 2] . وَدَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى (كَبِّرْ) إِيذَانًا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَكُونُ (كَبِّرْ) جَوَابَهُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى شَرْطٍ مَخْصُوصٍ وَهُيِّئَ لتقدير الشَّرْط بِتَقْدِيم الْمَفْعُولِ. لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ قَدْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» (يَعْنِي الْأَبَوَيْنِ) . فَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَكَبِّرْ رَبَّكَ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْإِعْلَانِ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ حَالٍ وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ. وَجَوَّزَ ابْنُ جِنِّي أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً قَالَ: هُوَ كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْ، تُرِيدُ: زَيْدًا اضْرِبْ. وَتَكْبِيرُ الرَّبِّ تَعْظِيمُهُ فَفِعْلُ (كَبِّرْ) يُفِيدُ مَعْنَى نِسْبَةِ مَفْعُولِهِ إِلَى أَصْلِ مَادَّةِ اشْتِقَاقِهِ وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي صِيغَةِ فَعِّلْ، أَيْ أَخْبِرْ عَنْهُ بِخَبَرِ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ تَكْبِيرٌ مَجَازِيٌّ بِتَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمُعَظَّمِ بِشَيْءٍ كَبِيرٍ فِي نَوْعِهِ بِجَامِعِ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِ فِي صِفَاتِ مِثْلِهِ. فَمَعْنَى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: صِفْ رَبَّكَ بِصِفَاتِ التَّعْظِيمِ، وَهَذَا يَشْمَلُ تَنْزِيهَهُ عَنِ النَّقَائِصِ فَيَشْمَلُ تَوْحِيدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَنْزِيهَهُ عَنِ الْوَلَدِ، وَيَشْمَلُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ كُلِّهَا. وَمَعْنَى (كَبِّرْ) : كَبِّرْهُ فِي اعْتِقَادِكَ: وَكَبِّرْهُ بِقَوْلِكَ تَسْبِيحًا وَتَعْلِيمًا. وَيَشْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَفَادَ وَصْفَ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ، أَيْ أَجَلُّ وَأَنْزَهُ مِنْ كُلِّ جَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ افْتِتَاحًا لِلصَّلَاةِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ فِي ذِكْرِ التَّكْبِيرِ إِيمَاءً إِلَى شَرْعِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَوَّلُهَا التَّكْبِيرُ وَخَاصَّةً اقْتِرَانُهُ بِقَوْلِهِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] فَإِنَّهُ إِيمَاءٌ إِلَى شَرْعِ الطَّهَارَةِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ إِعْدَادٌ لِشَرْعِ الصَّلَاةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ عَقِبَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ غَيْرُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام.

[سورة المدثر (74) : آية 4]

[سُورَة المدثر (74) : آيَة 4] وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) هُوَ فِي النَّظْمِ مِثْلُ نَظْمِ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] أَيْ لَا تَتْرُكْ تَطْهِيرَ ثِيَابَكَ. وَلِلثِّيَابِ إِطْلَاقٌ صَرِيحٌ وَهُوَ مَا يَلْبَسُهُ اللَّابِسُ، وَإِطْلَاقٌ كِنَائِيٌّ فَيُكَنَّى بِالثِّيَابِ عَنْ ذَاتِ صَاحِبِهَا، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ كِنَايَةٌ عَنْ طَعْنِهِ بِالرُّمْحِ. وَلِلتَّطْهِيرِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ التَّنْظِيفُ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَاتِ وَإِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ وَهُوَ التَّزْكِيَةُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَاب: 33] . وَالْمَعْنَيَانِ صَالِحَانِ فِي الْآيَةِ فَتُحْمَلُ عَلَيْهِمَا مَعًا فَتَحْصُلُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِثِيَابِهِ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» . وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ. وَالطَّهَارَةُ لِجَسَدِهِ بِالْأَوْلَى. وَمُنَاسَبَةُ التَّطْهِيرِ بِهَذَا الْمَعْنى لِأَن يُعْطَفُ عَلَى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ لِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ أُمِرَ بِالتَّطَهُّرِ لَهَا لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلصَّلَاةِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَحَدِ مَحَامِلِهَا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى الْمُرَكَّبُ مِنَ الْكِنَائِيِّ وَالْمَجَازِيِّ هُوَ الْأَعْلَقُ بِإِضَافَةِ النُّبُوءَةِ عَلَيْهِ. وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ نَقِيُّ الثِّيَابِ. وَقَالَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ: وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ أَبِي كَبْشَةَ وَيُنْسَبُ إِلَى امْرِئِ الْقَيْسِ: ثِيَابُ عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ بِيضُ الْمَسَافِرِ غُرَّانُ

[سورة المدثر (74) : آية 5]

وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ فَطَهِّرْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] . وَتَقْدِيمُ ثِيابَكَ عَلَى فِعْلِ (طَهِّرْ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي الْأَمر بالتطهير. [5] [سُورَة المدثر (74) : آيَة 5] وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) الرُّجْزَ: يُقَالُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالْكِسَائِيُّ: الرِّجْزُ بِالْكَسْرِ الْعَذَابُ وَالنَّجَاسَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَبِالضَّمِّ الْوَثَنُ. وَيُحْمَلُ الرِّجْزُ هُنَا عَلَى مَا يَشْمَلُ الْأَوْثَانَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَتَقْدِيمُ الرُّجْزَ عَلَى فِعْلِ (اهْجُرْ) لِلِاهْتِمَامِ فِي مَهِيعِ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِ. وَالْقَوْلُ فِي وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ كَالْقَوْلِ فِي وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَالْهَجْرُ: تَرْكُ الْمُخَالَطَةِ وَعَدَمُ الِاقْتِرَابِ مِنَ الشَّيْءِ. وَالْهَجْرُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّلَبُّسِ بِالْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِأَنْوَاعِ الرُّجْزِ لِكُلِّ نَوْعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ. وَالْأَمْرُ بِهَجْرِ الرُّجْزِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَعْبُدَ الْأَصْنَامَ وَأَنْ يَنْفِيَ عَنْهَا الإلهية. [6] [سُورَة المدثر (74) : آيَة 6] وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) مُنَاسَبَةُ عَطْفِ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ عَلَى الْأَمْرِ بِهَجْرِ الرُّجْزِ أَنَّ الْمَنَّ فِي الْعَطِيَّةِ كَثِيرٌ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهَجْرِ الرُّجْزِ نَهَاهُ عَنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الرُّجْزِ نَهْيًا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالصَّدَقَةِ وَالْإِكْثَارَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَتَصَدَّقْ وَأَكْثِرْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَلَا تَمْنُنْ، أَيْ لَا تَعُدَّ مَا أَعْطَيْتَهُ كَثِيرًا فَتُمْسِكَ عَنِ الِازْدِيَادِ فِيهِ، أَوْ تَتَطَرَّقَ إِلَيْكَ نَدَامَةٌ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي قَوْلِهِ: تَسْتَكْثِرُ للعدّ، أَي بعد مَا أَعْطَيْتَهُ كَثِيرًا. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّأْكِيدِ لِحُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ جُعِلَتِ الصَّدَقَةُ كَالْحَاصِلَةِ، أَيْ لِأَنَّهَا مِنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَقَدْ عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ قَبْلِ رِسَالَتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ هَيَّأَهُ

[سورة المدثر (74) : آية 7]

لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَقَدْ قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ «إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ» . فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّصَدُّقِ، كَمَا كَانَ فِيهَا إِيمَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَالْمَنُّ: تَذْكِيرُ الْمُنْعِمِ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ بِإِنْعَامِهِ. وَالِاسْتِكْثَارُ: عَدُّ الشَّيْءِ كَثِيرًا، أَيْ لَا تَسْتَعْظِمْ مَا تُعْطِيهِ. وَهَذَا النَّهْيُ يُفِيدُ تَعْمِيمَ كُلِّ اسْتِكْثَارٍ كَيْفَمَا كَانَ مَا يُعْطِيهِ مِنَ الْكَثْرَةِ. وَلِلْأَسْبَقِينَ مِنَ الْمُفَسّرين تفسيرات لِمَعْنى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِمُنَاسِبٍ، وَقَدْ أَنْهَاهَا الْقُرْطُبِيُّ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ. وتَسْتَكْثِرُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَمْنُنْ وَهِيَ حَال مقدرَة. [7] [سُورَة المدثر (74) : آيَة 7] وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَحَمُّلِ مَا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ. وَالصَّبْرُ: ثَبَاتُ النَّفْسِ وَتَحَمُّلُهَا الْمَشَاقَّ وَالْآلَامَ وَنَحْوَهَا. وَمَصْدَرُ الصَّبْرِ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّحَمُّلِ لِلشَّيْءِ الشَّاقِّ. وَيُعَدَّى فِعْلُ الصَّبْرِ إِلَى اسْمِ الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الصَّابِرُ بِحَرْفِ (عَلَى) ، يُقَالُ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى. وَيَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ لِلشَّيْءِ الشَّاقِّ فَيُعَدَّى إِلَى اسْمِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الصَّابِرُ بِاللَّامِ. وَمُنَاسَبَةُ الْمَقَامِ تُرَجِّحُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ، فَلَا يُقَالُ: اصْبِرْ عَلَى اللَّهِ، وَيُقَالُ: اصْبِرْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، أَوْ لِحُكْمِ اللَّهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِرَبِّكَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الصَّبْرِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ اصْبِرْ لِأَمْرِهِ وَتَكَالِيفِ وَحْيِهِ كَمَا قَالَ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا فِي سُورَةِ الطّور [48] وَقَوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [24] فَيُنَاسِبُ نِدَاءَهُ بِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرُ: 1] لِأَنَّهُ تَدَثَّرَ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ، وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمُضَافِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ إِلَى كُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُخَاطَبِ.

[سورة المدثر (74) : الآيات 8 إلى 10]

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ الصَّبْرِ، أَيْ اصْبِرْ لِأَجْلِ رَبِّكَ عَلَى كُلِّ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ. وَتَقْدِيمُ لِرَبِّكَ عَلَى « (اصْبِرْ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَصْبِرُ لِأَجْلِهَا مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ اللَّامَ فِي لِرَبِّكَ لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِأَجْلِهِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى: إِنَّهُ يَصْبِرُ تَوَكُّلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ السُّورَةِ مَا لَحِقَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَالصَّبْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي [الْبَقَرَةِ: 45] . وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ اللَّهِ بِوَصْفِ (رَبِّكَ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الصَّبْرَ بِرٌّ بِالْمَوْلَى وَطَاعَةٌ لَهُ. فَهَذِهِ سِتُّ وَصَايَا أَوْصَى اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَبْدَأِ رِسَالَتِهِ وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْقُرْآنِ أَرَادَ اللَّهُ بِهَا تَزْكِيَةَ رَسُولِهِ وَجَعْلَهَا قدوة لأمته. [8- 10] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 8 إِلَى 10] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) الْفَاءُ لِتَسَبُّبِ هَذَا الْوَعِيدِ عَنِ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ فِي قَوْله فَأَنْذِرْ [المدثر: 2] ، أَيْ فَأَنْذِرِ الْمُنْذَرِينَ وَأَنْذِرْهُمْ وَقْتَ النَّقْرِ فِي النَّاقُورِ وَمَا يَقَعُ يَوْمَئِذٍ بِالَّذِينَ أُنْذِرُوا فَأَعْرَضُوا عَنِ التَّذْكِرَةِ، إِذِ الْفَاءُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرْتَبِطَةً بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا على فَاصْبِرْ [المدثر: 7] بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. والنَّاقُورِ: الْبُوقُ الَّذِي يُنَادَى بِهِ الْجَيْشُ وَيُسَمَّى الصُّورَ وَهُوَ قَرْنٌ كَبِيرٌ، أَوْ شِبْهُهُ يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ لِنِدَاءِ نَاسٍ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ جَيْشٍ وَنَحْوِهِ، قَالَ خُفَافُ بْنُ نَدْبَةَ: إِذَا نَاقُورُهُمْ يَوْمًا تَبَدَّى ... أَجَابَ النَّاسُ مِنْ غَرْبٍ وَشَرْقِ وَوَزْنُهُ فَاعُولٌ وَهُوَ زِنَةٌ لِمَا يَقَعُ بِهِ الْفِعْلُ مِنَ النَّقْرِ وَهُوَ صَوْتُ اللِّسَانِ مِثْلَ

الصَّفِيرِ فَقَوْلُهُ نُقِرَ، أَيْ صُوِّتَ، أَيْ صَوَّتَ مُصَوِّتٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصُّورِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَ (إِذَا) اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةِ نُقِرَ فِي النَّاقُورِ وَهُوَ ظَرْفٌ وَعَامِلُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ فِعْلٍ، أَيْ عَسُرَ الْأَمْرُ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَفَاءُ فَذلِكَ لِجَزَاءِ (إِذَا) لِأَنَّ (إِذَا) يَتَضَمَّنُ مَعْنَى شَرْطٍ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَدْلُولِ (إِذَا نقر) ، أَي فَلذَلِك الْوَقْتُ يَوْمٌ عَسِيرٌ. ويَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَقَعَ لِبَيَانِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يُبَيَّنُ بِالِاسْمِ الْمَعْرُوفِ بِ «أَلْ» فِي نَحْوِ ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] . وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعَسِيرِ بِاعْتِبَارِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ عَلَى الْحَاضِرِينَ فِيهِ، فَهُوَ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ. وَإِنَّمَا الْعَسِيرُ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ. وعَلَى الْكافِرِينَ مُتَعَلِّقٌ بِ عَسِيرٌ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ بِصِفَاتِ أَحْدَاثِهِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِهِمْ، قَالَ السَّمَوْأَلُ، أَوِ الْحَارِثِيُّ: وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا ... لَهَا غُرَرٌ مَعْلُومَةٌ وَحُجُولُ وَإِنَّمَا الْغُرَرُ وَالْحُجُولُ مُسْتَعَارَةٌ لِصِفَاتِ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ فِي أَيَّامِهِمْ، وَفِي الْمَقَامَةِ الثَلَاثِينَ «لَا عَقَدَ هَذَا الْعَقْدَ الْمُبَجَّلِ، فِي هَذَا الْيَوْمِ الْأَغَرِّ الْمُحَجَّلِ، إِلَّا الَّذِي جَالَ وَجَابَ، وَشَبَّ فِي الْكُدْيَةِ وَشَابَ» وَقَالَ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [16] . وغَيْرُ يَسِيرٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى عَسِيرٌ بِمُرَادِفِهِ. وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا يُقَالُ: عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، قَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَلْيَكُنِ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ ... وَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السَّالِبِ وَعَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 140] قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 56] . وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا التَّأْكِيدِ مَا

[سورة المدثر (74) : الآيات 11 إلى 16]

يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ غَيْرُ مِنَ الْمُغَايَرَةِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ لَهُ حَالَةً أُخْرَى، وَهِيَ الْيُسْرُ، أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ وَإِغَاظَتِهِمْ، وَبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ. [11- 16] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 11 الى 16] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا. لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَافِرِينَ فِي قَوْلِهِ: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ [المدثر: 9، 10] ، وَأُشِيرُ إِلَى مَا يَلْقَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ زَعِيمٍ مِنْ زُعَمَاءِ الْكَافِرِينَ وَمُدَبِّرِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إِلَخْ. اسْتِئْنَافٌ يُؤْذِنُ بِأَنَّ حَدَثًا كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ حِينَ فَشَا فِي مَكَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاوَدَهُ الْوَحْيُ بَعْدَ فَتْرَةٍ وَأَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِنْذَارِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاق أَنه اجْتمع نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو لَهَبٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ. فَقَالُوا: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِي الْمَوْسِمِ وَهُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ. فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: مَجْنُونٌ وَآخَرُ يَقُولُ: كَاهِنٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: شَاعِرٌ، وَتَعْلَمُ الْعَرَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي رَجُلٍ وَاحِد، فسمّوا مُحَمَّد بِاسْمٍ وَاحِدٍ تَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بِهِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: شَاعِرٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: سَمِعْتُ كَلَامَ ابْنِ الْأَبْرَصِ (يَعْنِي عَبِيدَ بْنَ الْأَبْرَصِ) وَأُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ، وَعَرَفْتُ الشِّعْرَ كُلَّهُ، وَمَا يُشْبِهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ كَلَامَ شَاعِرٍ، فَقَالُوا: كَاهِنٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا بِسَجْعِهِ. وَالْكَاهِنُ يَصْدُقُ وَيَكْذِبُ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَجْنُونٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَقَدْ عَرَفْنَا الْجُنُونَ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ يُخْنَقُ فَمَا هُوَ يخنقه وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ، فَقَالُوا: سَاحِرٌ، قَالَ الْوَلِيدُ: لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عَقْدِهِ، وَانْصَرَفَ الْوَلِيدُ إِلَى بَيْتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا عَبْدِ شَمْسٍ أَصَبَأْتَ؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ: فَكَّرْتُ فِي

أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَوْلَهُ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً الْآيَاتِ. وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ بَلَغَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ: أَنْتَ سَاحِرٌ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ غَمًّا وَحُمَّ فَتَدَثَّرَ بِثِيَابِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 2] . وأيّاما كَانَ فَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً فَإِنَّ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيدِ صَدَرَ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَجُمْلَةُ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيدِ هُوَ سَبَبَ نُزُولِ السُّورَةِ، كَانَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى جَزَاءَ هَذَا الْقَائِلِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنْ ابْتِدَاءَ الْوَحْيِ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَأَنَّ فَتْرَةَ الْوَحْيِ دَامَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى الْأَصَحِّ سَوَاءٌ نَزَلَ وَحي بَين يدء الْوَحْيِ وَفَتْرَتِهِ مُدَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ بَدْئِهِ شَيْءٌ وَوَقَعَتْ فَتْرَتُهُ، فَيَكُونُ قَدْ أَشْرَفَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى الِانْصِرَامِ فَتِلْكَ مُدَّةُ اقْتِرَابِ الْمَوْسِمِ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِمَا يَقُولُونَهُ لِلْوُفُودِ إِذَا اسْتَخْبَرُوهُمْ خَبَرَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِفِعْلِ ذَرْنِي إِيمَاء إِلَى أَن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُهْتَمًّا وَمُغْتَمًّا مِمَّا اخْتَلَقَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَاتِّصَالُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ يَزْدَادُ وُضُوحًا. وَتَقَدَّمَ مَا فِي نَحْوِ ذَرْنِي وَكَذَا، مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمَذْكُورِ بَعْدَ وَاوِ الْمَعِيَّةِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [44] . وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً لِإِدْمَاجِ تَسْجِيلِ كُفْرَانِ الْوَلِيدِ النِّعْمَةَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وَانْتَصَبَ وَحِيداً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَنْ الْمَوْصُولَةِ. وَالْوَحِيدُ: الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ فِي مَكَانٍ أَوْ حَالٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ قِصَّةٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ وَحُدَ مِنْ بَابِ كَرُمَ وَعَلِمَ، إِذَا انْفَرَدَ.

وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يُلَقَّبُ فِي قُرَيْشٍ بِالْوَحِيدِ لِتَوَحُّدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِاجْتِمَاعِ مَزَايَا لَهُ لَمْ تَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ من طبقته وَهِي كَثْرَةُ الْوَلَدِ وَسَعَةُ الْمَالِ، وَمَجْدُهُ وَمَجْدُ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَانَ مَرْجِعَ قُرَيْشٍ فِي أُمُورِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ بِلَقَبِ الْوَحِيدِ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ إِيمَاءً إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمُشْتَهِرِ بِهِ. وَجَاءَ هَذَا الْوَصْفُ بَعْدَ فِعْلِ خَلَقْتُ، لِيَصْرِفَ هَذَا الْوَصْفَ عَمَّا كَانَ مُرَادًا بِهِ فَيَنْصَرِفَ إِلَى مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُقَارِنَ فِعْلَ خَلَقْتُ أَيْ أَوْجَدْتُهُ وَحِيدًا عَنِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ وَالْبَسْطَةِ، فَيُغَيَّرُ عَنْ غَرَضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ الَّذِي كَانُوا يَخُصُّونَهُ بِهِ، إِلَى غَرَضِ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ حَالُ كُلِّ مَخْلُوقٍ فَتَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النَّحْل: 78] الْآيَةَ. وَعُطِفَ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَالْمَمْدُودُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ مَدَّ الَّذِي بِمَعْنَى: أَطَالَ، بِأَنْ شُبِّهَتْ كَثْرَةُ الْمَالِ بِسَعَةِ مِسَاحَةِ الْجِسْمِ، أَوْ مِنْ مَدَّ الَّذِي بِمَعْنَى: زَادَ فِي الشَّيْءِ مِنْ مِثْلِهِ، كَمَا يُقَالُ: مَدَّ الْوَادِي النَّهْرَ، أَيْ مَالًا مَزِيدًا فِي مِقْدَارِهِ مَا يَكْتَسِبُهُ صَاحِبُهُ مِنَ الْمَكَاسِبِ. وَكَانَ الْوَلِيدُ مِنْ أَوْسَعِ قُرَيْشٍ ثَرَاءً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ مَالُ الْوَلِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالْجِنَانِ وَكَانَتْ غَلَّةُ مَالِهِ أَلْفَ دِينَارٍ (أَيْ فِي السَّنَةِ) . وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الْبَنِينَ وَوَصَفَهُمْ بِشُهُودٍ جَمْعِ شَاهِدٍ، أَيْ حَاضِرٍ، أَيْ لَا يُفَارِقُونَهُ فَهُوَ مُسْتَأْنِسٌ بِهِمْ لَا يَشْتَغِلُ بَالُهُ بِمَغِيبِهِمْ وَخَوْفِ مَعَاطِبِ السَّفَرِ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا بِغِنًى عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ بِتِجَارَةٍ أَوْ غَارَةٍ، وَكَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ الْمَحَافِلَ فَكَانُوا فَخْرًا لَهُ، قِيلَ: كَانَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ وَقِيلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَالْمَذْكُورُ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، وَهُمْ: الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَخَالِدٌ، وَعُمَارَةُ، وَهِشَامٌ، وَالْعَاصِي، وَقَيْسٌ أَوْ أَبُو قَيْسٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ (وَبِهِ يُكَنَّى) . وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ حَزْمٍ فِي «جَمْهَرَةِ الْأَنْسَابِ» : الْعَاصِيَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى سِتَّةٍ. وَالتَّمْهِيدُ: مَصْدَرُ مَهَّدَ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْمَهْدِ. وَالْمَهْدُ: تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَإِزَالَةُ مَا يُقِضُّ جَنْبَ الْمُضْطَجِعِ عَلَيْهَا، وَمَهْدُ الصَّبِيِّ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. وَالتَّمْهِيدُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَيْسِيرِ أُمُورِهِ وَنَفَاذِ كَلِمَتِهُ فِي قَوْمِهِ بِحَيْثُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ مَطْلَبٌ وَلَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ أَمْرٌ.

وَأُكِّدَ مَهَّدْتُ بِمَصْدَرِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِيُتَوَسَّلَ بِتَنْكِيرِهِ لِإِفَادَةِ تَعْظِيمِ ذَلِكَ التَّمْهِيدِ وَلَيْسَ يَطَّرِدُ أَنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ. وَوُصِفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا لَهُ مِنَ النَّعْمَةِ وَالسَّعَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ تَوْطِئَةً لِتَوْبِيخِهِ وَتَهْدِيدِهِ بِسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَبِعَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي آيَةِ سُورَةِ الْقَلَمِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ النَّقَائِصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [الْقَلَم: 10] إِلَخْ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ (وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ احْتِمَالٌ) لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ مِنْ شَرِّهِ وَغَدْرِهِ. وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَطْمَعُ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَطْمَعُ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ وَذَلِكَ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ يُسْرِ أُمُورِهِ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِاسْتِبْعَادِ حُصُولِ الْمَطْمُوعِ فِيهِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا. وَالطَّمَعُ: طَلَبُ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ وَجُعِلَ مُتَعَلِّقُ طَمَعِهِ زِيَادَةً مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُسْنِدُونَ الرِّزْقَ إِلَى الْأَصْنَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ طَمَعٌ فِي زِيَادَةِ النِّعْمَةِ غَيْرَ مُتَذَكِّرٍ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِدْمَاجًا بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ مَا طَمِعَ فِيهِ هُوَ مِنْ عِنْدِ الَّذِي كَفَرَ هُوَ بِنِعْمَتِهِ فَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَطْمَعُ فِي الزِّيَادَةِ، أَوْ يَطْمَعُ أَنْ يُزَادَ. وكَلَّا رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ لِطَمَعِهِ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ النِّعَمِ وَقَطْعٌ لِرَجَائِهِ. وَالْمَقْصُودُ إِبْلَاغُ هَذَا إِلَيْهِ مَعَ تَطْمِينِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَلِيدَ سَيُقْطَعُ عَنْهُ مَدَدُ الرِّزْقِ لِئَلَّا تَكُونَ نِعْمَتُهُ فتْنَة لغيره فَمن الْمُعَانِدِينَ فَيُغْرِيهِمْ حَالُهُ بِأَنَّ عِنَادَهُمْ لَا يَضُرُّهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ حَيَاةً بَعْدَ هَذِهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: 88] . وَفِي هَذَا الْإِبْطَالِ وَالرَّدْعِ إِيذَانٌ بِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ سَبَبٌ لِقَطْعِهَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إِبْرَاهِيم: 7] ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعْرَّضَ لِزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» .

[سورة المدثر (74) : الآيات 17 إلى 25]

إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ، أَيْ لِأَنَّ شِدَّةَ مُعَانَدَتِهِ لِآيَاتِنَا كَانَتْ كُفْرَانًا لِلنِّعْمَةِ فَكَانَتْ سَبَبًا لِقَطْعِهَا عَنْهُ إِذْ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْكُفْرِ إِلَى الْمُنَاوَاةِ وَالْمُعَانَدَةِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَكُونُ مُنْعَمًا عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَاتُرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ، وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ وَيَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا. وَالْعَنِيدُ: الشَّدِيدُ الْعِنَادِ وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ لِلصَّوَابِ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ: عَنَدَ يَعْنِدُ كَضَرَبَ، إِذَا نَازَعَ وَجَادَلَ الْحَقَّ الْبَيِّنَ. وَعِنَادُهُ: هُوَ مُحَاوَلَتُهُ الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ وَتُحِيلُهُ لِلتَّمْوِيهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ، أَوْ شِعْرٌ، أَوْ كَلَامُ كِهَانَةٍ، مَعَ تَحَقُّقِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَعْلَنَ بِهِ لِقُرَيْشٍ، قَبْلَ أَنْ يَلُومَهُ أَبُو جَهْلٍ ثُمَّ أَخَذَهُ بِأَحَدِ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ سِحْرٌ، تَشَبُّثًا بِأَنَّ فِيهِ خَصَائِصَ السِّحْرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَمَنْ هُوَ شَدِيد الصِّلَة. [17- 25] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 17 إِلَى 25] سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) جُمْلَةُ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً [المدثر: 16] وَبَيْنَ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، قُصِدَ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ تَعْجِيلُ الْوَعِيدِ لَهُ مَسَاءَةً لَهُ وَتَعْجِيلُ الْمَسَرَّةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً فَهِيَ تَكْمِلَةٌ وَتَبْيِينٌ لَهَا. وَالْإِرْهَاقُ: الْإِتْعَابُ وَتَحْمِيلُ مَا لَا يُطَاقُ، وَفِعْلُهُ رَهِقَ كَفَرِحَ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ

وَالصَّعُودُ: الْعَقَبَةُ الشَّدِيدَةُ التَّصَعُّدِ الشَّاقَّةُ عَلَى الْمَاشِي وَهِيَ فَعُولٌ مُبَالَغَةٌ مِنْ صَعِدَ، فَإِنَّ الْعَقَبَةَ صَعْدَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ عَقَبَةٌ أَشَدُّ تَصَعُّدًا مِنَ الْعَقَبَاتِ الْمُعْتَادَةِ قِيلَ لَهَا: صَعُودٌ. وَكَأَنَّ أَصْلَ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّ الْعَقَبَةَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا صَاعِدَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ ثُمَّ جُعِلَ ذَلِكَ الْوَصْفُ اسْمَ جِنْسٍ لَهَا. وَقَوْلُهُ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً تَمْثِيلٌ لِضِدِّ الْحَالَةِ الْمُجْمَلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً [المدثر: 14] ، أَيْ سَيَنْقَلِبُ حَالُهُ مِنْ حَالِ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ إِلَى حَالَةٍ سُوأَى فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِرْهَاقٌ لَهُ. قِيلَ: إِنَّهُ طَالَ بِهِ النَّزْعُ فَكَانَتْ تَتَصَاعَدُ نَفْسُهُ ثُمَّ لَا يَمُوتُ وَقَدْ جُعِلَ لَهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ مَا أَسْفَرَ عَنْهُ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَقَدْ وُزِّعَ وَعِيدُهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَعْمَالُهُ فَإِنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ عِنَادُهُ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِهِ السَّيِّئَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى رِئَاسَتِهِ وَعَنْ حَسَدِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُقِّبَ بِوَعِيدِهِ بِمَا يَشْمَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا ابْتِدَاءً. وَلَمَّا ذُكِرَ طَعْنُهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ وَأَنْكَرَ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أُرْدِفَ بِذِكْرِ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 26] . وَعَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأن صَعُودًا جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ يَتَصَعَّدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَجَعَلَ اللَّهُ صِفَةَ صَعُودٍ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ فِي جَهَنَّمَ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِأَعْظَمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ إِلَى آخِرِهَا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً [المدثر: 16] بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَقَدْ وَصَفَ حَالَهُ فِي تَرَدُّدِهِ وَتَأَمُّلِهِ بِأَبْلَغِ وَصْفٍ. فَابْتُدِئَ بِذِكْرِ تَفْكِيرِهِ فِي الرَّأْيِ الَّذِي سَيَصْدُرُ عَنْهُ وَتَقْدِيرِهِ. وَمَعْنَى فَكَّرَ أَعْمَلَ فِكْرَهُ وَكَرَّرَ نَظَرَ رَأْيِهِ لِيَبْتَكِرَ عُذْرًا يُمَوِّهُهُ وَيُرَوِّجُهُ عَلَى الدَّهْمَاءِ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِوَصْفِ كَلَامِ النَّاسِ لِيُزِيلَ مِنْهُمُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ وَحْيٌ أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقَدَّرَ جُعِلَ قَدْرًا لِمَا يَخْطُرُ بِخَاطِرِهِ أَنْ يَصِفَ بِهِ الْقُرْآنَ لِيَعْرِضَهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَا يُنْحِلُهُ الْقُرْآنَ مِنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْبَشَرِ أَوْ مَا يَسِمُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ الْمُخَالِفَةِ أَحْوَالُهُمْ لِلْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ فِي النَّاسِ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ، نَقُولُ: مُحَمَّدٌ مَجْنُونٌ، ثُمَّ يَقُولُ: الْمَجْنُونُ يُخْنَقُ وَيَتَخَالَجُ وَيُوَسْوَسُ وَلَيْسَ مُحَمَّدٌ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: هُوَ شَاعِرٌ، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَقَدْ عَرَفْتُ الشِّعْرَ وَسَمِعْتُ كَلَامَ الشُّعَرَاءِ فَمَا يُشْبِهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ كَلَامَ الشَّاعِرِ، ثُمَّ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: كَاهِنٌ، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: مَا كَلَامُهُ بِزَمْزَمَةِ كَاهِنٍ وَلَا بِسَجْعِهِ، ثُمَّ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: نَقُولُ هُوَ سَاحِرٌ فَإِنَّ السِّحْرَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَذَوِيهِ وَمُحَمَّدٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: نَقُولُ إِنَّهُ سَاحِرٌ. فَهَذَا مَعْنَى قَدَّرَ. وَقَوْلُهُ: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ فَكَّرَ وقَدَّرَ وَبَيْنَ ثُمَّ نَظَرَ وَهُوَ إِنْشَاءُ شَتْمٍ مُفَرَّعٍ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ لِأَنَّ الَّذِي ذُكِرَ يُوجِبُ الْغَضَبَ عَلَيْهِ. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ ذمه عَن سيّىء فِعْلِهِ وَمِثْلُهُ فِي الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [النَّحْل: 43، 44] . وَالتَّفْرِيعُ لَا يُنَافِي الِاعْتِرَاضَ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ وَضْعُ الْكَلَامِ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا تَأَلَّفَ مِنْهُ الْكَلَامُ الْمُعْتَرِضُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ مَعْنَاهُ. وَالدَّاعِي إِلَى الِاعْتِرَاضِ هُوَ التَّعْجِيلُ بِفَائِدَةِ الْكَلَامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا. وَمَنْ زَعَمُوا أَنَّ الِاعْتِرَاضَ لَا يَكُونُ بِالْفَاءِ فَقَدْ تَوَهَّمُوا. وقُتِلَ: دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقْتُلَهُ قَاتِلٌ، أَيْ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ مَوْتِهِ لِأَنَّ حَيَاتَهُ حَيَاةٌ سَيِّئَةٌ. وَهَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ مَالِهِ وَالرِّثَاءِ لَهُ كَقَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَة: 30] وَقَوْلُهُمْ: عَدِمْتُكَ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ يُقَالُ: قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ بَلَغَ مَبْلَغًا يَحْسُدُهُ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ حَتَّى يَتَمَنَّى لَهُ الْمَوْتَ. وَأَنَا أَحْسَبُ أَنَّ مَعْنَى الْحَسَدِ غَيْرُ مَلْحُوظٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُجَرَّدُ اقْتِصَارٍ عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّعَجُّبِ أَوِ التَّعْجِيبِ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي ذَلِكَ كَالْأَمْثَالِ. وَالْمَقَامُ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِلْكِنَايَةِ عَنْ سُوءِ حَالِهِ لِأَنَّ مَا

قَدَّرَهُ لَيْسَ مِمَّا يُغْتَبَطُ ذَوُو الْأَلْبَابِ عَلَى إِصَابَتِهِ إِذْ هُوَ قَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ ابْتِدَاءً إِذْ قَالَ: مَا هُوَ بِعَقْدِ السَّحَرَةِ وَلَا نَفْثِهِمْ وَبَعْدَ أَنْ فَكَّرَ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَنَاقَضَ نَفْسَهُ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تَأْكِيدٌ لِنَظِيرِهِ الْمُفَرَّعِ بِالْفَاءِ. وَالْعَطْفُ بِ ثُمَّ يُفِيدُ أَنَّ جُمْلَتَهَا أَرْقَى رُتْبَةً مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ. فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ بِهَا عَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَفَادَتْ أَنَّ مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ذُو دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ مَعَ أَنَّ التَّأْكِيدَ يُكْسِبُ الْكَلَامَ قُوَّةً. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: 4، 5] . وكَيْفَ قَدَّرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَّحِدُ الْمَعْنَى وَهُوَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ دَالٌّ عَلَى الْحَالة الَّتِي بَينهَا مُتَعَلِّقُ كَيْفَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى سَامِعٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يَسْتَفْهِمُ الْمُتَكَلِّمُ سَامِعَهُ اسْتِفْهَامًا عَنْ حَالَةِ تَقْدِيرِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ الْمَشُوبِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وكَيْفَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لَهَا الصَّدْرَ وَعَامِلُهَا قَدَّرَ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ عَطْفٌ عَلَى وَقَدَّرَ وَهِيَ ارْتِقَاءٌ مُتَوَالٍ فِيمَا اقْتَضَى التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ. فَالتَّرَاخِي تَرَاخِي رُتْبَةٍ لَا تَرَاخِي زَمَنٍ لِأَنَّ نَظَرَهُ وَعُبُوسَهُ وَبَسَرَهُ وَإِدْبَارَهُ وَاسْتِكْبَارَهُ مُقَارِنَةٌ لِتَفْكِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ. وَالنَّظَرُ هُنَا: نَظَرُ الْعَيْنِ لِيَكُونَ زَائِدًا عَلَى مَا أَفَادَهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. وَالْمَعْنَى: نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْحَاضِرِينَ يَسْتَخْرِجُ آرَاءَهُمْ فِي انْتِحَالِ مَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. وعَبَسَ: قَطَّبَ وَجْهَهُ لَمَّا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ مَا يَصِفُ بِهِ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَجِدْ مَغْمَزًا مَقْبُولًا. وبَسَرَ: مَعْنَاهُ كَلَحَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ خَوْفًا وَكَمَدًا حِينَ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْفِي غَلِيلَهُ مِنْ مَطْعَنٍ فِي الْقُرْآنِ لَا تَرُدُّهُ الْعُقُولُ، قَالَ تَعَالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ فِي سُورَةِ [الْقِيَامَةِ: 24، 25] . وَالْإِدْبَارُ: هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا لِتَغْيِيرِ التَّفْكِيرِ الَّذِي كَانَ يُفَكِّرُهُ وَيُقَدِّرُهُ

[سورة المدثر (74) : الآيات 26 إلى 30]

يَأْسًا مِنْ أَنْ يَجِدَ مَا فَكَّرَ فِي انْتِحَالِهِ فَانْصَرَفَ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْأَنَفَةِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ لِلْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا لِزِيَادَةِ إِعْرَاضِهِ عَنْ تَصْدِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [22] . وُصِفَتْ أَشْكَالُهُ الَّتِي تَشَكَّلَ بِهَا لَمَّا أَجْهَدَ نَفْسَهُ لِاسْتِنْبَاطِ مَا يَصِفُ بِهِ الْقُرْآنَ، وَذَلِكَ تَهَكُّمٌ بِالْوَلِيدِ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ أَحْوَالِ الْقُرْآنِ بَعْدَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنْتَجَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ، فَهُوَ قَصْرُ تَعْيِينٍ لِأَحَدِ الْأَقْوَالِ الَّتِي جَالَتْ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: مَا هُوَ بِكَلَامِ شَاعِرٍ وَلَا بِكَلَامِ كَاهِنٍ وَلَا بِكَلَامِ مَجْنُونٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي خَبَرِهِ. وَوَصَفَ هَذَا السِّحْرَ بِأَنَّهُ مَأْثُورٌ، أَيْ مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَقْدَمِينَ، يَقُولُ هَذَا لِيَدْفَعَ بِهِ اعْتِرَاضًا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَقْوَالَ السَّحَرَةِ وَأَعْمَالَهُمْ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِلْقُرْآنِ وَلَا لِأَحْوَالِ الرَّسُولِ فَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَالٌ سِحْرِيَّةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ. وَجُمْلَةُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَنَّ السِّحْرَ يَكُونُ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا فَهَذَا مِنَ السِّحْرِ الْقَوْلِيِّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ: فَقالَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمَّا خَطَرَتْ بِبَالِهِ بَعْدَ اكْتِدَادِ فِكْرِهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ نَطَقَ بِهَا فَكَانَ نُطْقُهُ بِهَا حَقِيقًا بِأَنْ يُعْطَفَ بِحرف التعقيب. [26- 30] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 26 إِلَى 30] سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) جُمْلَةُ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر: 18] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ فَذَكَرَ وَعِيدَهُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا من جملَة سأرهق صعورا (¬1) . وَالْإِصْلَاءُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِيًا، أَيْ مُبَاشِرًا حَرَّ النَّارِ. وَفِعْلُ صَلِيَ يُطْلَقُ عَلَى إِحْسَاسِ حَرَارَةِ النَّارِ، فَيكون لأجل التدفّي كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: فَتَنَوَّرْتَ نَارَهَا مِنْ بَعِيدٍ ... بِخَزَازَى أَيَّانَ مِنْكَ الصِّلَاءُ أَيْ أَنْتَ بعيد من التدفي بِهَا وَكَمَا قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: لَا تَصْطَلِي النَّارَ إِلَّا مِجْمَرًا أَرِجَا ... قَدْ كَسَّرْتَ مِنْ يَلَنْجُوجٍ لَهُ وَقَصَا وَيُطْلَقُ عَلَى الِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ قَالَ تَعَالَى: سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ فِي سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ [3] وَقَالَ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى فِي سُورَةِ اللَّيْلِ [14، 15] ، وَقَالَ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [10] ، وَالْأَكْثَرُ إِذَا ذُكِرَ لِفِعْلِ هَذِهِ الْمَادَّةِ مَفْعُولٌ ثَانٍ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بِمَعْنَى الْإِحْرَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [30] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَسَقَرُ: عَلَمٌ لِطَبَقَةٍ مِنْ جَهَنَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الطَّبَقُ السَّادِسُ مِنْ جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَقَرُ هُوَ الدَّرْكُ السَّادِسُ مِنْ جَهَنَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ اهـ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَجَرَى كَلَامُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ سَقَرَ بِمَا يُرَادِفُ جَهَنَّمَ. وَسَقَرُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ اسْمُ بُقْعَةٍ مِنْ جَهَنَّمَ أَوِ اسْمُ جَهَنَّمَ وَقَدْ جَرَى ضَمِيرُ سَقَرَ عَلَى التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْقِي إِلَى قَوْلِهِ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ. وَقِيلَ سَقَرُ مُعَرَّبٌ نَقَلَهُ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ الْجَوَالِيقِيِّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَلِمَةَ الْمُعَرَّبَةَ وَلَا مِنْ أَيَّةِ لُغَةٍ هُوَ. وَمَا أَدْراكَ مَا سَقَرُ جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ مِنْ سَقَرَ، أَيْ سَقَرُ الَّتِي حَالُهَا لَا ينبئك بِهِ منبىء وَهَذَا تَهْوِيلٌ لِحَالِهَا. وَمَا سَقَرُ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ وَأَصْلُهُ سَقَرُ مَا، أَيْ مَا هِيَ، فَقَدَّمَ مَا لِأَنَّهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ وَلَهُ الصَّدَارَةُ. فَإِنَّ مَا الْأُولَى اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُدْرِيكَ، أَيْ يُعْلِمُكَ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ والمثبت من «الْكَشَّاف» (4/ 183) ط. دَار الْفِكر.

وَ (مَا) الثَّانِيَةُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ عَنْ سَقَرُ. وَجُمْلَةُ لَا تُبْقِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ التَّهْوِيلِ الَّذِي أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ، فَإِنَّ مِنْ أَهْوَالِهَا أَنَّهَا تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَصْلَاهَا. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ سَقَرَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ تُبْقِي لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا تُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ لَا تُبْقِي مِنْ أَجْزَائِهِمْ شَيْئًا. وَجُمْلَةُ وَلا تَذَرُ عَطْفٌ عَلَى لَا تُبْقِي فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَمَعْنَى لَا تَذَرُ، أَيْ لَا تَتْرُكُ مَنْ يُلْقَى فِيهَا، أَيْ لَا تَتْرُكُهُ غَيْرَ مَصْلِيٍّ بِعَذَابِهَا. وَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنْ إِعَادَةِ حَيَاتِهِ بَعْدَ إِهْلَاكِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: 56] . ولَوَّاحَةٌ: خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنْ سَقَرُ. ولَوَّاحَةٌ فَعَّالَةٌ، مِنَ اللَّوْحِ وَهُوَ تَغْيِيرُ الذَّاتِ مِنْ أَلَمٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «الْكَشَّافِ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَائِلِهِ: تَقول مَا لَا حك يَا مُسَافِرْ ... يَا ابْنة عمي لَا حني الْهَوَاجِرْ وَالْبَشَرُ: يَكُونُ جَمْعَ بَشْرَةٍ، وَهِيَ جِلْدُ الْإِنْسَانِ، أَيْ تُغَيِّرُ أَلْوَانَ الْجُلُودِ فَتَجْعَلُهَا سُودًا، وَيَكُونُ اسْمَ جَمْعٍ لِلنَّاسِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَقَوْلُهُ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ سَقَرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ. وَمَعْنَى عَلَيْها عَلَى حِرَاسَتِهَا، فَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِتَشْبِيهِ التَّصَرُّفِ وَالْوِلَايَةِ بِالِاسْتِعْلَاءِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى الشُّرْطَةِ، أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، أَيْ يَلِي ذَلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَزَنَةَ سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكًا. وَقَالَ جَمْعٌ: إِنَّ عَدَدَ تِسْعَةَ عَشَرَ: هُمْ نُقَبَاءُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِجَهَنَّمَ. وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ صَفًّا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْعَدَدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا قَوْلُ أَهْلِ الْحِكْمَةِ: إِنَّ سَبَبَ فَسَادِ النَّفْسِ هُوَ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ أَمَّا الْحَيَوَانِيَّةُ فَهِيَ الْخَمْسُ الظَّاهِرَةُ وَالْخَمْسُ الْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، فَمَجْمُوعُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ. وَأَمَّا الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ فَهِيَ: الْجَاذِبَةُ، وَالْمَاسِكَةُ، وَالْهَاضِمَةُ، وَالدَّافِعَةُ، وَالْغَاذِيَةُ، وَالنَّامِيَةُ،

[سورة المدثر (74) : آية 31]

وَالْمُوَلِّدَةُ، فَهَذِهِ سَبْعَةٌ، فَتِلْكَ تِسْعَ عَشْرَةَ. فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ الْآفَاتِ هُوَ هَذِهِ التِسْعَ عَشْرَةَ كَانَ عَدَدُ الزَّبَانِيَةِ كَذَلِكَ اهـ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ التِسْعَةَ عَشَرَ مُوَزَّعُونَ عَلَى دَرَكَاتِ سَقَرَ أَوْ جَهَنَّمَ لِكُلِّ دَرْكٍ مَلَكٌ فَلَعَلَّ هَذِهِ الدَّرَكَاتِ مُعَيَّنٌ كُلُّ دَرْكٍ مِنْهَا لِأَهْلِ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ، وَمِنْهَا الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [145] فَإِنَّ الْكُفْرَ أَصْنَافٌ مِنْهَا إِنْكَارُ وُجُودِ اللَّهِ، وَمِنْهَا الْوَثَنِيَّةُ، وَمِنْهَا الشِّرْكُ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ، وَمِنْهَا عبَادَة الشَّيْطَان وَالْجِنِّ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا إِنْكَارُ رِسَالَةِ الرُّسُلِ، وَمِنْهَا الْمَجُوسِيَّةُ الْمَانَوِيَّةُ وَالْمَزْدَكِيَّةُ وَالزَّنْدَقَةُ، وَعِبَادَةُ الْبَشَرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ، وَالْإِبَاحِيَّةُ وَلَوْ مَعَ إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ. وَفِي ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ تَحَدٍّ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ يَبْعَثُهُمْ عَلَى تَصْدِيقِ الْقُرْآنِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ عُلَمَاؤُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَوْلُهُ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المدثر: 31] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تِسْعَةَ عَشَرَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عَشَرَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ تِسْعَةَ عَشْرَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ مِنْ عَشَرَ تَخْفِيفًا لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ فِيمَا هُوَ كَالِاسْمِ الْوَاحِدِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى إِنْكَارِ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فَإِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ. [31] [سُورَة المدثر (74) : آيَة 31] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] قَالَ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدَّهْمُ (¬1) أَفَيَعْجِزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ رِجَالًا فَيَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ رَجُلًا، فَمَنْ ذَا يَغْلِبُ الْمَلَائِكَةَ اهـ. ¬

(¬1) الدّهم بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْهَاء: الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة، وَيُقَال: الدهماء.

وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ أَبَا الْأَشَدِّ بْنَ كَلَدَةَ الْجُمَحِيَّ قَالَ مُسْتَهْزِئًا: لَا يَهُولَنَّكُمُ التِّسْعَةَ عَشَرَ، أَنَا أَدْفَعُ بِمَنْكِبِي الْأَيْمَنِ عَشَرَةً وَبِمَنْكِبِي الْأَيْسَرِ تِسْعَةً ثُمَّ تَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: قَالَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ، يُرِيدُ التَّهَكُّمَ مَعَ إِظْهَارِ فَرْطِ قُوَّتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ أَصْحابَ النَّارِ خَزَنَتُهَا، وَهُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَنْوَاعِ، أَيْ مَا جَعَلْنَا خَزَنَةَ النَّارِ مِنْ نَوْعٍ إِلَّا مِنْ نَوْعِ الْمَلَائِكَةِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ تُفِيدُ قَلْبَ اعْتِقَادِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مَا تَوَهَّمُوهُ أَوْ تَظَاهَرُوا بِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْمُرَادَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَطَمِعَ أَنْ يَخْلُصَ مِنْهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْقُوَّةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ أُسَيْدٍ الْجُمَحِيُّ: لَا يَبْلُغُونَ ثَوْبِي حَتَّى أُجْهِضَهُمْ عَنْ جَهَنَّمَ، أَيْ أُنَحِّيَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا تَتْمِيمٌ فِي إِبْطَالِ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ حَقَارَةَ عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ، وَهُوَ كَلَامٌ جَارٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إِذِ الْكَلَامُ قَدْ أَثَارَ فِي النُّفُوسِ تَسَاؤُلًا عَنْ فَائِدَةِ جَعْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَهَلَّا كَانُوا آلَافًا لِيَكُونَ مَرْآهُمْ أَشَدَّ هَوْلًا عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَوْ هَلَّا كَانُوا مَلَكًا وَاحِدًا فَإِنَّ قُوَى الْمَلَائِكَةِ تَأْتِي كُلَّ عَمَلٍ يُسَخِّرُهَا اللَّهُ لَهُ، فَكَانَ جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ قَدْ أَظْهَرَ لِأَصْنَافِ النَّاسِ مَبْلَغَ فَهْمِ الْكُفَّارِ لِلْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا حَصَلَتِ الْفِتْنَةُ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. فَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا جَعَلْنَا ذِكْرَ عِدَّتِهِمْ إِلَّا فِتْنَةً، وَلِاسْتِيقَانِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَازْدِيَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وَاضْطِرَابِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَيَظْهَرُ ضَلَالُ الضَّالِّينَ وَاهْتِدَاءُ الْمُهْتَدِينَ. فَاللَّهُ جَعَلَ عِدَّةَ خَزَنَةِ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا ذُكِرَ هُنَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْجَعْلَ يَعْلَمُهَا الله. وَالِاسْتِثْنَاء مفرغ لِمَفْعُولٍ ثَانٍ لِفِعْلِ جَعَلْنا تَقْدِيرُهُ جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ فِتْنَةً لَا غَيْرَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْفِتْنَةُ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ تَكُنْ مُرَادًا مِنْهَا ذَاتُهَا بَلْ عُرُوضُهَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَانَتْ حَالًا لَهُمْ.

وَالتَّقْدِيرُ: مَا جَعَلْنَا ذِكْرَ عِدَّتِهِمْ لِعِلَّةٍ وَغَرَضٍ إِلَّا لِغَرَضِ فِتْنَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَانْتَصَبَ فِتْنَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ جَعَلْنا على الِاسْتِثْنَاء المفرغ، وَهُوَ قَصْرٌ قُلِبَ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا إِذِ اعْتَقَدُوا أَنَّ عِدَّتَهُمْ أَمْرٌ هَيِّنٌ. وَقَوْلُهُ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَخْ. عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِفِعْلِ وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَلَوْلَا أَنَّ كَلِمَةَ فِتْنَةً مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ جَعَلْنا. لَكَانَ حَقٌّ لِيَسْتَيْقِنَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى فِتْنَةً وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ جَعَلْنا وب فِتْنَةً، عَلَى وَجْهِ التَّنَازُعِ فِيهِ، أَيْ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَّا فِتْنَةً لَهُمْ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ ذِكْرِهَا إِلَّا فَسَادُ التَّأْوِيلِ، وَتِلْكَ الْعِدَّةُ مَجْعُولَةٌ لِفَوَائِدَ أُخْرَى لِغَيْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ يُفَوِّضُونَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَإِلَى تَدَبُّرٍ مُفِيدٍ. وَالِاسْتِيقَانُ: قُوَّةُ الْيَقِينِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْمَعْنَى: لِيَسْتَيْقِنُوا صِدْقَ الْقُرْآنِ حَيْثُ يَجِدُونَ هَذَا الْعَدَدَ مُصَدِّقًا لِمَا فِي كُتُبِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْيَهُودُ حِينَ يَبْلُغُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ مَا فِي كُتُبِهِمْ أَو أخبارهم. وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى مَكَّةَ فِي التِّجَارَةِ وَيَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ لِلْمِيرَةِ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَيَثْرِبَ فَيَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَمَّا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوَدُّ الْمُشْرِكُونَ لَوْ يَجِدُونَ عِنْدَ الْيَهُودِ مَا يُكَذِّبُونَ بِهِ أَخْبَارَ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجِدُوهُ وَلَوْ وَجَدُوهُ لَكَانَ أَيْسَرَ مَا يَطْعَنُونَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَالِاسْتِيقَانُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْقُبَهُ الْإِيمَانُ إِذَا صَادَفَ عَقْلًا بَرِيئًا مِنْ عَوَارِضِ الْكُفْرِ كَمَا وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَقَدْ لَا يَعْقُبُهُ الْإِيمَانُ لِمُكَابَرَةٍ أَوْ حَسَدٍ أَوْ إِشْفَاقٍ مِنْ فَوَاتِ جَاهٍ أَوْ مَالٍ كَمَا كَانَ شَأْنُ كَثِيرٍ من الْيَهُود الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146] وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الِاسْتِيقَانِ لَهُمْ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَعْلَمُ نَبِيئُكُمْ عَدَدَ خَزَنَةِ النَّارِ؟، قَالُوا: لَا نَدْرِي حَتَّى نسْأَل نبيئنا. فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ غُلِبَ أَصْحَابُكُمُ الْيَوْمَ،

قَالَ: وَبِمَ غُلِبُوا قَالَ: سَأَلَهُمْ يَهُودُ: هَل يعلم نبيئكم عَدَدَ خَزَنَةِ النَّارِ، قَالَ: فَمَا قَالُوا؟ قَالَ: قَالُوا لَا نَدْرِي حَتَّى نسْأَل نبيئنا، قَالَ: أَفَغُلِبَ قَوْمٌ سُئِلُوا عَمَّا لَا يَعْلَمُونَ؟ فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ حَتَّى نسْأَل نبيئنا إِلَى أَنْ قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ كَمْ عَدَدُ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟ قَالَ. هَكَذَا وَهَكَذَا فِي مَرَّةٍ عَشَرَةً وَفِي مَرَّةٍ عَشَرَةً وَفِي مرّة تسع (بِإِشَارَةِ الْأَصَابِعِ) قَالُوا: نَعَمْ إِلَخْ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يلجىء إِلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْآيَةِ نَازِلَةً بِالْمَدِينَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ فِي أَخْبَارِ الْقُرْآنِ مَأْلُوفَةٌ مِنْ وَقْتِ كَوْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : حَدِيثُ جَابِرٍ صَحِيحٌ وَالْآيَةُ الَّتِي فِيهَا عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، فَكَيْفَ تَقُولُ الْيَهُودُ هَذَا وَيَدْعُوهُمُ النَّبِيءُ لِلْجَوَابِ وَذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا قرأوا الْآيَةَ وَلَا كَانَتِ انْتَشَرَتْ عِنْدَهُمْ (أَيْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَلَقَّوْا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ لِبُعْدِ عَهْدِ نُزُولِهَا بِمَكَّةَ وَكَانَ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ بِالْيَهُودِ وَيَسْأَلُهُمُ الْيَهُودُ هُمُ الْأَنْصَارُ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا أَنَّ التِّسْعَةَ عَشَرَ هُمُ الْخَزَنَةُ دُونَ أَنْ يُعَيِّنَهُمُ اللَّهُ حَتَّى صَرَّحَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. فَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ نُزُولِهِ. وَمَعْنَى وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي جُمْلَةِ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنَ الْغَيْبِ فَيَزْدَادُ فِي عُقُولِهِمْ جُزْئِيٌّ فِي جُزْئِيَّاتِ حَقِيقَةِ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ، فَهِيَ زِيَادَةٌ كَمِّيَّةٌ لَا كَيْفِيَّةٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ وَالْجَزْمُ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ مِنْ أَقْوَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلَى لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، أَيْ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمُ الرَّيْبُ فَلَا تَعْتَوِرُهُمْ شُبْهَةٌ مِنْ بَعْدِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ إِيقَانٌ عَنْ دَلِيلٍ. وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ فِي الْعَمَلِ بِعِلْمِهِمْ مُتَفَاوِتَيْنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ عَلِمُوا وَعَمِلُوا، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ عَلِمُوا وَعَانَدُوا فَكَانَ عِلْمُهُمْ حَجَّةً عَلَيْهِمْ وَحَسْرَةً فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ التَّمْهِيدُ لِذِكْرِ مُكَابَرَةِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرِينَ فِي

سُوءِ فَهْمِهِمْ لِهَذِهِ الْعِدَّةِ تَمْهِيدًا بِالتَّعْرِيضِ قَبْلَ التَّصْرِيحِ، لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ شَعَرَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَابُوا فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا دُونَ مَرْتَبَةِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِأَنَّهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ عُقُولًا وَأَسَدُّ قَوْلًا، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أَيْ لِيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ إِعْرَابًا عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِتَصْدِيقِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَاللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] . وَالْمَرَضُ فِي الْقُلُوبِ: هُوَ سُوءُ النِّيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا فِي تَرَدُّدٍ بَيْنَ أَنْ يُسْلِمُوا وَأَنْ يَبْقَوْا عَلَى الشِّرْكِ مِثْلَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَا ظَهَرُوا إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ. وماذا أَرادَ اللَّهُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ فَإِنَّ (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَ (ذَا) أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا) أَوْ (مِنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ أَفَادَ مَعْنَى الَّذِي، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: مَا الْأَمْرُ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي حَالِ أَنَّهُ مَثَلٌ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ هَذَا الْعَدَدَ الْمُمَثَّلِ بِهِ، وَقَدْ كُنِّيَ بِنَفْيِ إِرَادَةِ اللَّهِ الْعَدَدَ عَنْ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ الْعَدَدَ الْمُمَثَّلَ بِهِ فَكَنَّوْا بِنَفْيِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَصْفَ هَذَا الْعَدَدِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَدَدُ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ فَائِدَتَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا تَكْذِيبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى قَوْلِهِ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] . ومَثَلًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ هَذَا، وَالْمَثَلُ: الْوَصْفُ، أَيْ بِهَذَا الْعَدَدِ وَهُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ، أَيْ مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْعَدَدِ دُونَ غَيْرِهِ مِثْلَ عِشْرِينَ. وَالْمَثَلُ: وَصْفُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، أَيْ مَا وَصَفَهُ مِنْ عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [مُحَمَّد: 15] الْآيَةَ.

وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. اسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: مَثَلًا بِتَأْوِيلِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ، بِالْمَذْكُورِ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ الْحَاصِلِ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَلِلْكَافِرِينَ، وَالْحَاصِلِ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَنُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضِلَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْهُدَى الَّذِي اهْتَدَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ يَهْدِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ تَقْرِيبُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْبَشَرِ، إِلَى الْمَعْنَى الْمَحْسُوسِ الْمَعْرُوفِ فِي وَاقِعَةِ الْحَالِ، تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَنْبِيهًا لِلنَّظَرِ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ نُفُوسَهُمْ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ السَّبَبِيَّةُ فِي اهْتِدَاءِ مَنْ يَهْتَدِي وَضَلَالِ مَنْ يَضِلُّ، فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا وَإِرَادَةً لِحِكْمَةٍ اقْتَضَاهَا عِلْمُهُ تَعَالَى فَتَفَاوَتَ النَّاسُ فِي مَدَى إِفْهَامِهِمْ فِيهِ بَيْنَ مُهْتَدٍ وَمُرْتَابٍ مُخْتَلِفِ الْمَرْتَبَةِ فِي رَيْبِهِ، ومكابر كَافِر وسيّىء فَهْمٍ كَافِر. وَهَذِه كلمة عَظِيمَةٌ فِي اخْتِلَافِ تَلَقِّي الْعُقُولِ لِلْحَقَائِقِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا أَوْ ضِدِّهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ قَرَائِحِهِمْ وَفُهُومِهِمْ وَتَرَاكِيبِ جِبِلَّاتِهِمُ الْمُتَسَلْسِلَةِ مِنْ صَوَابٍ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ تَرَدُّدٍ وَاضْطِرَابٍ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ حَنَقٍ وَعِنَادٍ إِلَى مِثْلِهِ، فَانْطَوَى التَّشْبِيهُ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ عَلَى أَحْوَالٍ وَصُوَرٍ كَثِيرَةٍ تَظْهَرُ فِي الْخَارِجِ. وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُوجِدُ الْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْجِبِلَّاتِ، وَاقْتِبَاسُ الْأَهْوَاءِ وَارْتِبَاطُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَدَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَمُقَاوَمَةُ أَيِمَّةِ الضَّلَالِ لِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ. تِلْكَ الْأَسْبَابُ الَّتِي أَدَّتْ بِالضَّالِّينَ إِلَى ضَلَالِهِمْ وَبِالْمُهْتَدِينَ إِلَى هُدَاهُمْ. وَكُلٌّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَمَا عَلَى الْأَنْفُسِ الْمُرِيدَةِ الْخَيْرَ وَالنَّجَاةَ إِلَّا التَّعَرُّضَ لِأَحَدِ الْمَهِيعَيْنِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ وَالتَّدَبُّرِ لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: 286] .

وَمَشِيئَةُ اللَّهِ ذَلِكَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ بِسُلُوكِ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ. وَمَحَلُّ كَذلِكَ نَصْبٌ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ هُنَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الصِّفَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالًا وَهَدْيًا كَذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْهَدْيُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] . وَقَدَّمَ وَصْفَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّشْبِيهِ لِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلٍ عِنْدَ التَّدَبُّرِ فِيهِ، وَحَصَلَ مِنْ تَقْدِيمِهِ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ ثُمَّ التَّقْسِيمُ إِذْ جَاءَ تَقْسِيمُهُ بِقَوْلِهِ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِإِبْطَالِ التَّخَرُّصَاتِ الَّتِي يَتَخَرَّصُهَا الضَّالُّونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَخْبَارِ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ نَحْو: مَا هَذَا بِهِ أَبُو جَهْلٍ فِي أَمْرِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ يَشْمَلُ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمُ التَّذْيِيلِ. وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ وَهُوَ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الْجَيْشِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِتَنْفِيذِ أَمْرِهِ لِمُشَابَهَتِهَا الْجُنُودَ فِي تَنْفِيذِ الْمُرَادِ. وَإِضَافَةُ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَتَعْرِيضٍ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ تِلْكَ الْجُنُودِ أَنَّ بَعْضَهَا يَكُونُ بِهِ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ هُنَا نَفْيٌ لِلْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ بِأَعْدَادِهَا وَصِفَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِعَدَدِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ قَدْ حَصَلَ لِلنَّاسِ بِإِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ. فِيهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَ هَذَا تَتِمَّةً لِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ أَنَّ النَّافِعَ لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ الْخَبَرَ عَنْ خَزَنَةِ النَّارِ بِأَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ فَائِدَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى

لِلْبَشَرِ لِيَتَذَكَّرُوا دَارَ الْعِقَابِ بِتَوْصِيفِ بَعْضِ صِفَاتِهَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الصِّفَةِ عَوْنًا عَلَى زِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْمَوْصُوفِ، فَغَرَضُ الْقُرْآنِ الذِّكْرَى، وَقَدِ اتَّخَذَهُ الضَّالُّونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ لَهْوًا وَسُخْرِيَةً وَمِرَاءً بِالسُّؤَالِ عَنْ جَعْلِهِمْ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلِمَ يَكُونُوا عِشْرِينَ أَوْ مِئَاتٍ أَوْ آلَافًا. وَضَمِيرُ هِيَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَى عِدَّتَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَأْنِيثُ ضَمِيرِهِ لِتَأْوِيلِهِ بِالْقِصَّةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: نَظِيرُ الْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى سَقَرَ [المدثر: 26] وَإِنَّمَا تَكُونُ ذِكْرى بِاعْتِبَارِ الْوَعِيدِ بِهَا وَذِكْرِ أَهْوَالِهَا. وَالْقَصْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مُضَافٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: وَمَا ذِكْرُهَا أَوْ وَصْفُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ هِيَ إِلَى جُنُودَ رَبِّكَ وَالْمَعْنَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ التَّقْدِيرُ، أَيْ وَمَا ذِكْرُهَا أَوْ عِدَّةُ بَعْضِهَا. وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى نَارِ الدُّنْيَا، أَيْ أَنَّهَا تذكر للنَّاس بِنَارِ الْآخِرَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً [الْوَاقِعَة: 71- 73] . وَفِيهِ مُحَسِّنُ الِاسْتِخْدَامِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا عِدَّتُهُمْ إِلَّا ذِكْرَى لِلنَّاسِ لِيَعْلَمُوا غِنَى اللَّهِ عَنِ الْأَعْوَانِ وَالْجُنْدِ فَلَا يَظَلُّوا فِي اسْتِقْلَالِ تِسْعَةَ عَشَرَ تُجَاهَ كَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِ. وَإِنَّمَا حَمَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِحُسْنِ مَوْقِعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ نَظْمِ الْقُرْآنِ. وَلَوْ وَقَعَتْ إِثْرَ قَوْلِهِ: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر: 29] لَتَمَحَّضَ ضَمِيرُ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعَوْدِ إِلَى سَقَرَ، وَهَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ بِمَوَاقِعِ جُمَلِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَبَيْنَ لَفْظِ الْبَشَرِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَلَفْظِ الْبَشَرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ التَّجْنِيسُ التَّامُّ

[سورة المدثر (74) : الآيات 32 إلى 37]

[32- 37] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 32 الى 37] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كَلَّا. كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ. وَالْغَالِبُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ كَلَامٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَسَامِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: 61، 62] فَيُفِيدُ الرَّدْعَ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ قَبْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [79] ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكَلَامِ إِذَا أُرِيدَ التَّعْجِيلُ بِالرَّدْعِ وَالتَّشْوِيقُ إِلَى سَمَاعِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا، فَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَالْقَمَرِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى كَلَّا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرْفَ إِبْطَالٍ مُقَدَّمًا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ تَقْدِيمَ اهْتِمَامٍ لِإِبْطَالِ مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ: نَذِيراً لِلْبَشَرِ، أَيْ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَنْتَذِرُوا بِهَا فَلَمْ يَنْتَذِرْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى نَحْوِ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفجْر: 23] فَيَحَسُنُ أَنْ تُوصَلَ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا بعْدهَا. أدبر وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) . الْوَاوُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاوُ الْقَسَمِ، وَهَذَا الْقَسَمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مُؤَكِّدًا لِمَا أَفَادَتْهُ كَلَّا مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْإِبْطَالِ لِمَقَالَتِهِمْ فِي شَأْنِ عِدَّةِ خَزَنَةِ النَّارِ، فَتَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ تَعْلِيلًا لِلْإِنْكَارِ الَّذِي أَفَادَتْهُ كَلَّا وَيَكُونَ ضَمِيرُ إِنَّها عَائِدًا إِلَى سَقَرَ [المدثر: 26] ، أَيْ هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ يُتَذَكَّرَ بِهَا فَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ بِهَا حَقِيقًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَرَدْعِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَسَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَتَعْلِيلِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ صَدْرًا لِلْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ وَجُمْلَةُ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جَوَابُ الْقَسَمِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى سَقَرَ، أَيْ أَنَّ سَقَرَ لَأَعْظَمُ الْأَهْوَالِ، فَلَا تَجْزِي فِي مَعَادِ ضَمِيرِ إِنَّها جَمِيعُ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي جَرَتْ فِي ضَمِيرِ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى [المدثر: 31] .

وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ اللَّفْظِيَّ إِذَا أُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ يُكَرَّرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَالِبًا، أَقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ عَظِيمٍ، وَبِحَالَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ومناسبة الْقسم ب الْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَظْهَرُ بِهَا أَنْوَارٌ فِي خِلَالِ الظَّلَامِ فَنَاسَبَتْ حَالَيِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [المدثر: 31] وَمن قَوْلِهِ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] فَفِي هَذَا الْقَسَمِ تَلْوِيحٌ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِحَالِ اخْتِرَاقِ النُّورِ فِي الظُّلْمَةِ. وَإِدْبَارُ اللَّيْلِ: اقْتِرَابُ تَقَضِّيهِ عِنْدَ الْفَجْرِ، وَإِسْفَارُ الصُّبْحِ: ابْتِدَاءُ ظُهُورِ ضَوْءِ الْفَجْرِ. وَكُلٌّ مِنْ إِذْ وإِذا وَاقِعَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ اللَّيْلِ وَمِنَ الصُّبْحِ، أَيْ أُقْسِمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النِّظَامِ الْمُحْكَمِ الْمُتَشَابِهِ لِمَحْوِ اللَّهِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ بِنُورِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيم: 1] . وَقَدْ أُجْرِيَتْ جُمْلَةُ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ مَجْرَى الْمَثَلِ. وَمَعْنَى إِحْدَى أَنَّهَا الْمُتَوَحِّدَةُ الْمُتَمَيِّزِةُ مِنْ بَيْنِ الْكُبَرِ فِي الْعِظَمِ لَا نَظِيرَةَ لَهَا كَمَا يُقَالُ: هُوَ أَحَدُ الرِّجَالِ لَا يُرَادُ: أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بَلْ يُرَادُ: أَنَّهُ مُتَوَحِّدٌ فِيهِمْ بَارِزٌ ظَاهِرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] ، وَفِي الْمَثَلِ «هَذِهِ إِحْدَى حُظَيَّاتِ لُقْمَانَ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ إِذْ أَدْبَرَ بِسُكُونِ ذَالِ إِذْ وَبِفَتْحِ هَمْزَةِ أَدْبَرَ وَإِسْكَانِ دَالِهِ، أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ فِي حَالَةِ إِدْبَارِهِ الَّتِي مَضَتْ وَهِيَ حَالَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ تَمْضِي وَتَحْضُرُ وَتُسْتَقْبَلُ، فَأَيُّ زَمَنٍ اعْتُبِرَ مَعَهَا فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ يُقْسِمَ بِكَوْنِهَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ مَعَ اسْمِ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِذَا دَبَرَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ إِذَا بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَبِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ مِنْ دَبَرَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُضِيٍّ مُجَرَّدٌ، يُقَالُ: دَبَرَ، بِمَعْنَى: أَدْبَرَ، وَمِنْهُ وَصْفُهُ بِالدَّابِرِ فِي قَوْلِهِمْ: أَمْسِ الدَّابِرُ، كَمَا يُقَالُ: قَبَلَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ، فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِالْحَالَةِ

الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ إِدْبَارِ اللَّيْلِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، عَلَى وِزَانِ إِذا أَسْفَرَ فِي قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ فَقَدْ حَصَلَ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمُوَافِقِيهِ تَفَنُّنٌ فِي الْقَسَمِ. والْكُبَرِ: جَمْعُ الْكُبْرَى فِي نَوْعِهَا، جَمَعُوهُ هَذَا الْجَمْعَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ بَابِهِ لِأَنَّ فُعْلَى حَقُّهَا أَنَّ تُجْمَعَ جَمْعَ سَلَامَةٍ عَلَى كُبْرَيَاتٍ، وَأَمَّا بِنْيَةُ فُعَلٍ فَإِنَّهَا جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِفُعْلَةٍ كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، لَكِنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُؤَنَّثَ بِالْأَلِفِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ بِالْهَاءِ لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ لِلْمُصِيبَةِ الْعَظِيمَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ الْخَصْلَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِالْكِبْرِ، أَيْ أُنْثَى الْأَكْبَرِ فَلِذَلِكَ جَعَلُوا أَلِفَ التَّأْنِيثِ الَّتِي فِيهِ بِمَنْزِلَةِ هَاءِ التَّأْنِيثِ فَجَمَعُوهُ كَجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ بِالْهَاءِ مِنْ وَزْنِ فُعْلَةٍ وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهِ مِثْلِ عُظْمَى. وَانْتَصَبَ نَذِيراً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّها، أَيْ إِنَّهَا لَعُظْمَى الْعَظَائِمِ فِي حَالِ إِنْذَارِهَا لِلْبَشَرِ وَكَفَى بِهَا نَذِيرًا. وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ، وَأَصْلُهُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّ نَذِيراً جَاءَ فِي الْمَصَادِرِ كَمَا جَاءَ النَّكِيرُ، وَالْمَصْدَرُ إِذَا وُصِفَ بِهِ أَوْ أُخْبِرَ بِهِ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ، وَقَدْ كَثُرَ الْوَصْفُ بِ (النَّذِيرِ) حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ لِلْمُنْذِرِ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ مِنْ قَوْلِهِ لِلْبَشَرِ، وَأُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الْأَعْرَاف: 75] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: 27، 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: 114] . وَالْمَعْنَى: إِنَّهَا نَذِيرٌ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ لِيَنْتَذِرَ بِهَا، وَلِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ فَلَا يَرْعَوِي بِنِذَارَتِهَا لِأَنَّ التَّقَدُّمَ مَشْيٌ إِلَى جِهَةِ الْأَمَامِ فَكَأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَمْشِي إِلَى جِهَةِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَبِعَكْسِهِ التَّأَخُّرُ، فَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ يَتَقَدَّمَ ويَتَأَخَّرَ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا، أَيْ إِلَى سَقَرَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَدِّمُهُ إِلَيْهَا، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا بِتَجَنُّبِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقَرِّبَهُ مِنْهَا. وَتَعْلِيقُ نَذِيراً بِفِعْلِ الْمَشِيئَةِ إِنْذَارٌ لِمَنْ لَا يَتَذَكَّرُ بِأَنَّ عدم تذكره ناشىء عَنْ عَدَمِ مَشِيئَتِهِ فَتَبِعَتُهُ عَلَيْهِ لِتَفْرِيطِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْمَثَلِ «يَدَاكَ أَوْكَتَا وَفُوكَ نَفَخَ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [19] قَوْلُهُ: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 إلى 48]

وَفِي ضَمِيرِ مِنْكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، أَيْ من الْبشر. [38- 48] [سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 38 إِلَى 48] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ عُقْبَى الِاخْتِيَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 37] أَيْ كُلٌّ إِنْسَانٍ رَهْنٌ بِمَا كَسَبَ مِنَ التَّقَدُّمِ أَوِ التَّأَخُّرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ لِيَكْسِبَ مَا يُفْضِي بِهِ إِلَى النَّعِيمِ أَوْ إِلَى الْجَحِيمِ. ورَهِينَةٌ: خَبَرٌ عَنْ كُلُّ نَفْسٍ وَهُوَ بِمَعْنَى مَرْهُونَةٍ. وَالرَّهْنُ: الْوِثَاقُ وَالْحَبْسُ وَمِنْهُ الرَّهْنُ فِي الدَّيْنِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَمِنْهُ: فَرَسَا رِهَانٍ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ هُنَا عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّهْنُ لِتَحْقِيقِ الْمُطَالَبَةِ بِحَقٍّ يُخْشَى أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ الْمَحْقُوقُ بِهِ، فَالرَّهْنُ مُشْعِرٌ بِالْأَخْذِ بِالشِّدَّةِ وَمِنْهُ رَهَائِنُ الْحَرْبِ الَّذِينَ يَأْخُذُهُمُ الْغَالِبُ مِنَ الْقَوْمِ الْمَغْلُوبِينَ ضمانا لِئَلَّا يخبس الْقَوْمُ بِشُرُوطِ الصُّلْحِ وَحَتَّى يُعْطُوا دِيَاتِ الْقَتْلَى فَيَكُونَ الِانْتِقَامُ مِنَ الرَّهَائِنِ. وَبِهَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: كُلُّ نَفْسٍ مُرَادًا بِهِ خُصُوصُ أَنْفُسِ الْمُنْذِرِينَ مِنَ الْبَشَرِ فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ قَرِينَةِ مَا تُعْطِيهِ مَادَّةُ رَهِينَةٍ مِنْ مَعْنَى الْحَبْسِ وَالْأَسْرِ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَلَامٌ مُنْصِفٌ وَلَيْسَ بِخُصُوصِ تَهْدِيدِ أَهْلِ الشَّرِّ.

ورَهِينَةٌ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَعَيْلَةٍ كَالشَّتِيمَةِ فَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَاءٍ كَهَاءِ التَّأْنِيثِ مِثْلَ الْفُعُولَةِ وَالْفَعَّالَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ فَعِيلٍ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ بِمَعْنى الْمَفْعُول مثيل قَتِيلَةٍ، إِذْ لَوْ قَصَدَ الْوَصْف لقيل رعين لِأَنَّ فَعَيْلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ إِذَا جَرَى عَلَى مَوْصُوفِهِ كَمَا هُنَا، وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصَدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ مُسَوَّرِ بْنِ زِيَادَةَ الْحَارِثِيِّ: أَبَعْدَ الَّذِي بِالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ ... رَهِينَةِ رَمْسٍ ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ أَلَا تَرَاهُ أَثْبَتَ الْهَاءَ فِي صِفَةِ الْمُذَكَّرِ وَإِلَّا لما كَانَ مُوجب لِلتَّأْنِيثِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وأَصْحابَ الْيَمِينِ: هُمْ أَهْلُ الْخَيْرِ جُعِلَتْ عَلَامَاتُهُمْ فِي الْحَشْرِ بِجِهَاتِ الْيَمِينِ فِي مُنَاوَلَةِ الصُّحُفِ وَفِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَالْيَمِينُ هُوَ جِهَةُ أَهْلِ الْكَرَامَةِ فِي الِاعْتِبَارِ كَجِهَةِ يَمِينِ الْعَرْشِ أَوْ يَمِينِ مَكَانِ الْقُدْسِ يَوْمَ الْحَشْرِ لَا يُحِيطُ بِهَا وَصْفُنَا وَجُعِلَتْ عَلَامَةُ أَهْلِ الشَّرِّ الشَّمَالَ فِي تَنَاوُلِ صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ وَفِي مَوَاقِفِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ، ويَتَساءَلُونَ حَالٌ مِنْ أَصْحابَ الْيَمِينِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّفْصِيلِ الَّذِي جِيءَ لِأَجْلِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنَّاتٍ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمْ فِي جَنَّاتٍ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ يَتَساءَلُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ. وَمَعْنَى يَتَساءَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ صِيغَةِ التَّفَاعُلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، أَيْ يَسْأَلُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ شَأْنِ الْمُجْرِمِينَ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: سَلَكَكُمْ يُؤْذِنُ بِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: فَيَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، وَلَيْسَ الْتِفَاتًا، أَوْ يَقُولُ بَعْضُ الْمَسْئُولِينَ لِأَصْحَابِهِمْ جَوَابًا لِسَائِلِيهِمْ قُلْنَا لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ أَيْ يَكْثُرُ سُؤَالُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ سُؤَالًا مُتَكَرِّرًا أَوْ هُوَ من تعدد السُّؤَال لأجل تعدد السَّائِلِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ [1] «هُوَ كَقَوْلِكَ تَدَاعَيْنَا» . وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ هُنَا: «إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُفْرَدًا يُقَالُ: دَعَوْتُ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَعَدِّدًا يُقَالُ: تَدَاعَيْنَا، وَنَظِيرُهُ، رَمَيْتُهُ وَتَرَامَيْنَاهُ وَرَأَيْتُ الْهِلَالَ وَتَرَاءَيْنَاهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا تَفَاعُلًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ» اهـ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، أَيْ هُوَ فِعْلٌ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ذِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولُ يَتَساءَلُونَ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَنِ الْمُجْرِمِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: يَتَسَاءَلُونَ الْمُجْرِمِينَ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ سَبَبِ حُصُولِهِمْ فِي سَقَرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَيَانُ جُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ بِجُمْلَةِ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، فَإِنَّ مَا سَلَكَكُمْ فِي بَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ. وَأَصْلُ معنى سلكه أدخلهُ بَين أَجْزَاءِ شَيْءٍ حَقِيقَةً وَمِنْهُ جَاءَ سِلْكُ الْعِقْدِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلزَّجِّ بِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [12] قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَفِي قَوْله: يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً فِي سُورَةِ الْجِنِّ [17] . وَالْمَعْنَى: مَا زُجَّ بِكُمْ فِي سَقَرَ. فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى السُّؤَالِ: إِمَّا نِسْيَانُ الَّذِي كَانُوا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَيَبْقَى عُمُومُ يَتَساءَلُونَ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَعُمُومُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ يُشْرِفُ عَلَى الْمُجْرِمِينَ مِنْ أَعَالِي الْجَنَّةِ فَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ وُلُوجِهِمُ النَّارَ فَيَحْصُلُ جَوَابُهُمْ وَذَلِكَ إِلْهَامٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْمَدَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ أَسْبَابِ نَجَاتِهِمْ مِمَّا أَصَابَ الْمُجْرِمِينَ وَيَفْرَحُوا بِذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا مُوَجَّهًا مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى نَاسٍ كَانُوا يَظُنُّونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَرَأَوْهُمْ فِي النَّارِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِمْ، فَيكون المُرَاد بِأَصْحَابِهِ الْيَمِينِ بَعْضَهُمْ وَبِالْمُجْرِمِينَ بَعْضَهُمْ وَهَذَا مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ الْآيَاتِ

فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [27، 28] وَقَوْلُهُ فِيهَا: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ إِلَى قَوْلِهِ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 51- 55] . وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّنْدِيمِ، أَوِ التَّوْبِيخِ فَعُمُومُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَعُمُومُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَجَابَ الْمُجْرِمُونَ بِذِكْرِ أَسْبَابِ الزَّجِّ بِهِمْ فِي النَّارِ لِأَنَّهُمْ مَا ظَنُّوا إِلَّا ظَاهِرَ الِاسْتِفْهَامِ، فَذَكَرُوا أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ هِيَ أُصُولُ الْخَطَايَا وَهِيَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُطْعِمِينَ الْمَسَاكِينَ وَذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى ضُعَفَاءِ النَّاسِ بِمَنْعِهِمْ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِ. وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَخُوضُونَ خَوْضَهُمُ الْمَعْهُودَ الَّذِي لَا يَعْدُو عَنْ تَأْيِيدِ الشِّرْكِ وَأَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْجَزَاءِ فَلَمْ يَتَطَلَّبُوا مَا يُنْجِيهِمْ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، سَلَكُوا بِهَا طَرِيقَ الْإِطْنَابِ الْمُنَاسِبَ لِمَقَامِ التَّحَسُّرِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى مَا فَاتَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ اشْتَهَرُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّلَاةِ، وَبِأَنَّهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَبِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَبِيَوْمِ الدِّينِ وَيُصَدِّقُونَ الرُّسُلَ وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2- 4] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. وَأَصْلُ الْخَوْضِ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ، وَيُسْتَعَارُ كَثِيرًا لِلْمُحَادَثَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْجِدَالِ وَاللَّجَاجِ غَيْرِ الْمَحْمُودِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: 91] وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ الْإِطْلَاقَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَام: 68] . وَبِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ فِي جَوَابِهِمْ فَضْلًا عَنْ مَعْنَى الْكِنَايَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَيَوْمُ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ وَالْجَزَاءِ.

والْيَقِينُ: اسْمُ مَصْدَرِ يَقِنَ كَفَرِحَ، إِذَا عَلِمَ عِلْمًا لَا شَكَّ مَعَهُ وَلَا تَرَدُّدَ. وَإِتْيَانُهُ مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِهِ بَعْدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا، شُبِّهَ الْحُصُولُ بَعْدَ الِانْتِفَاءِ بِالْمَجِيءِ بَعْدَ الْمَغِيبِ. وَالْمَعْنَى: حَتَّى حَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ بِأَنَّ مَا كُنَّا نُكَذِّبُ بِهِ ثَابِتٌ، فَقَوْلُهُ: حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَايَةٌ لِجُمْلَةِ نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَيُطْلَقُ الْيَقِينُ أَيْضًا عَلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ لِكُلِّ حَيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: 99] . فَتَكُونُ جُمْلَةُ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ غَايَةً لِلْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إِلَى بِيَوْمِ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى: كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِنَا كُلِّهَا. وَفِي الْأَفْعَالِ الْمُضَارِعَةِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ نَكُ، ونَخُوضُ، ونُكَذِّبُ إِيذَانٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُمْ وَمُتَجَدِّدٌ مِنْهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي أَضَاعَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ مُسْتَحِقٌّ حَظًّا مِنْ سَقَرَ عَلَى مِقْدَارِ إِضَاعَتِهِ وَعَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مُعَادَلَةِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَظَوَاهِرِهِ وَسَرَائِرِهِ، وَقَبْلَ الشَّفَاعَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَدْ حَرَمَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ الْكَافِرِينَ أَنْ تَنْفَعَهُمُ الشَّفَاعَةُ فَعَسَى أَنْ تَنْفَعَ الشَّفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَقْدَارِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ إِيمَاءٌ إِلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهَا فِي صِحَاحِ الْأَخْبَارِ. وَفَاءُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، أَيْ فَهُمْ دَائِمُونَ فِي الْارْتِهَانِ فِي سقر.

[سورة المدثر (74) : الآيات 49 إلى 51]

[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 49 إِلَى 51] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) تَفْرِيعٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ مَا فِيهِ تَذْكِرَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] . وَجِيءَ بِاسْمِ التَّذْكِرَةِ الظَّاهِرِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرٍ نَحْوَ: أَنْ يُقَالَ: عَنْهَا مُعْرِضِينَ، لِئَلَّا يَخْتَصَّ الْإِنْكَارُ وَالتَّعْجِيبُ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَذْكِرَةِ الْإِنْذَارِ بِسَقَرَ، بَلِ الْمَقْصُودُ التَّعْمِيمُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ كُلِّ تَذْكِرَةٍ وَأَعْظَمُهَا تَذْكِرَةُ الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْإِعْرَاضِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [التكوير: [27] . وفَما لَهُمْ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ غَرَابَةِ حَالِهِمْ بِحَيْثُ تَجْدُرُ أَنْ يَسْتَفْهِمَ عَنْهَا الْمُسْتَفْهِمُونَ وَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازَمَةِ، ولَهُمْ خَبَرٌ عَنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا ثَبَتَ لَهُمْ، ومُعْرِضِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ، أَيْ يَسْتَفْهِمُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وَتَرْكِيبُ: مَا لَكَ وَنَحْوَهُ، لَا يَخْلُو مِنْ حَالٍ تَلْحَقُ بِضَمِيرِهِ مُفْرَدَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ نَحْوَ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [11] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ [20] . وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [154] وَسُورَةِ الْقَلَمِ [36] . وعَنِ التَّذْكِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِ مُعْرِضِينَ. وَشُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِمُ الْمُتَخَيَّلَةُ بِحَالَةِ فِرَارِ حُمُرٍ نَافِرَةٍ مِمَّا يُنَفِّرُهَا. وَالْحُمُرُ: جَمْعُ حِمَارٍ، وَهُوَ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ، وَهُوَ شَدِيدُ النِّفَارِ إِذَا أَحَسَّ بِصَوْتِ الْقَانِصِ وَهَذَا مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَقَدْ كَثُرَ وَصْفُ النَّفْرَةِ وَسُرْعَةِ السَّيْرِ وَالْهَرَبِ بِالْوَحْشِ مِنْ حُمُرٍ أَوْ بَقَرِ وَحْشٍ إِذَا أَحْسَسْنَ بِمَا يَرْهَبْنَهُ كَمَا قَالَ لَبِيدٌ فِي تَشْبِيهِ رَاحِلَتِهِ فِي سُرْعَةِ سَيْرِهَا بِوَحْشِيَّةٍ لَحِقَهَا الصَّيَّادُ: فَتَوَجَّسَتْ رِزَّ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا ... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا فِي مُعَلَّقَةِ طَرَفَةَ، وَمُعَلَّقَةِ لَبِيدٍ، وَمُعَلَّقَةِ الْحَارِثِ، وَفِي أراجيز الحجّاج ورؤية ابْنِهِ وَفِي شِعْرِ ذِي الرُّمَّةِ.

وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي مُسْتَنْفِرَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلُ: اسْتَكْمَلَ وَاسْتَجَابَ وَاسْتَعْجَبَ وَاسْتَسْخَرَ وَاسْتَخْرَجَ وَاسْتَنْبَطَ، أَيْ نَافِرَةٌ نِفَارًا قَوِيًّا فَهِيَ تَعْدُو بِأَقْصَى سُرْعَةِ الْعَدْوِ. وَقَرَأَ نَافِعُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُسْتَنْفِرَةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيِ اسْتَنْفَرَهَا مُسْتَنْفِرٌ، أَيْ أَنْفَرَهَا، فَهُوَ مِنِ اسْتَنْفَرَهُ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى أَنْفَرَهُ. وَبِنَاءُ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ يُفِيدُ الْإِجْمَالَ ثُمَّ التَّفْصِيلَ بِقَوْلِهِ: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ. وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيِ اسْتَنْفَرَتْ هِيَ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ بَيَانًا لِسَبَبِ نُفُورِهَا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ: سَأَلْتُ أَبَا سَوَّارٍ الْغَنَوِيَّ وَكَانَ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ حُمُرُ مَاذَا فَقَالَ: مُسْتَنْفَرَةٌ: بِفَتْحِ الْفَاءِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ. فَقَالَ: أَفَرَّتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمُسْتَنْفِرَةٌ إِذَنْ فَكَسَرَ الْفَاءَ. وقَسْوَرَةٍ قِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعِ قَسْوَرَ وَهُوَ الرَّامِي، أَوْ هُوَ جَمْعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إِذْ لَيْسَ قِيَاسُ فَعْلَلَ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فَعْلَلَةٍ. وَهَذَا تَأْوِيلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ جَارِيًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْحَالَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: الْقَسْوَرَةُ مُفْرَدٌ، وَهُوَ الْأَسَدُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْأَسَدُ بِالْحَبَشِيَّةِ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِلَافًا لَفْظِيًّا، وَعَنْهُ: أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَسْوَرُ اسْمَ الْأَسَدِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَصْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَ فِيهَا ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْقَسْوَرُ الْأَسَدُ وَالْقَسْوَرَةُ كَذَلِكَ، أَنَّثُوهُ كَمَا قَالُوا: أُسَامَةُ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ تَشْبِيهٌ مُبْتَكَرٌ لِحَالَةِ إِعْرَاض مخلوط برغب مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ قَوَارِعُ الْقُرْآنِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَمْثِيلَانِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ قَسْوَرَةٍ هُنَا لِصَلَاحِيَتِهِ لِلتَّشْبِيهَيْنِ مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.

[سورة المدثر (74) : آية 52]

[سُورَة المدثر (74) : آيَة 52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ لِذِكْرِ حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ عِنَادِهِمْ إِذْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا كِتَابٌ فِيهِ مِنَ اللَّهِ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ. وَجُمِعَ (صُحُفٌ) إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ تَأْتِي الْوَاحِدَ مِنْهُمْ فِي شَأْنِهِ صَحِيفَةٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا أَنْ تَأْتِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَحِيفَةٌ بِاسْمِهِ وَكَانُوا جَمَاعَةً مُتَّفِقِينَ جُمِعَ لِذَلِكَ فَكَأَنَّ الصُّحُفَ جَمِيعَهَا جَاءَتْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ. وَالْمُنَشَّرَةُ: الْمَفْتُوحَةُ الْمَقْرُوءَةُ، أَيْ لَا نَكْتَفِي بِصَحِيفَةٍ مَطْوِيَّةٍ لَا نَعْلَمُ مَا كُتِبَ فِيهَا ومُنَشَّرَةً مُبَالَغَةٌ فِي مَنْشُورَةٍ. وَالْمُبَالَغَةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ (نَشَرَ) الْمُجَرَّدُ مِنْ كَوْنِ الْكِتَابِ مَفْتُوحًا وَاضِحًا مِنَ الصُّحُفِ الْمُتَعَارِفَةِ. وَفِي حَدِيثِ الرَّجْمِ فنشروا التَّوْرَاة. [53] [سُورَة المدثر (74) : آيَة 53] كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِبْطَالٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ وَمُرَادِهِمْ مِنْهُ وَرَدْعٌ عَنْ ذَلِكَ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَلَى كَلَامِهِمْ بِإِبْطَالٍ آخَرَ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ فَقَالَ: بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أَيْ لَيْسَ مَا قَالُوهُ إِلَّا تَنَصُّلًا فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مَا آمَنُوا وهم لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا فَكُنِّيَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ بِعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِهَا لَخَافُوهَا إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يخَاف عَذَابهَا إِذْ كَانَتْ إِحَالَتُهُمُ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ أَصْلًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ.

[سورة المدثر (74) : الآيات 54 إلى 56]

[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 54 إِلَى 56] كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) (كَلَّا) رَدْعٌ ثَانٍ مُؤَكِّدٌ لِلرَّدْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ لَا يُؤْتَوْنَ صُحُفًا مَنْشُورَةً وَلَا يُوزَعُونَ إِلَّا بِالْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَنْ سُؤَالِهِمْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ صُحُفٌ مُنَشَّرَةٌ، بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50، 51] . فَضَمِيرُ إِنَّهُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَنْكِيرُ تَذْكِرَةٌ لِلتَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ تَذْكِرَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [19] . وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّذَكُّرِ، أَيِ التَّذَكُّرُ طَوْعُ مَشِيئَتِكُمْ فَإِنْ شِئْتُمْ فَتَذَكَّرُوا. وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَيَكُونُ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ وَأَصْلُهُ: ذَكَرَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِاسْمِهِ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ مِنَ الْمَقَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: 19] . وَضَمِيرُ شاءَ رَاجِعٌ إِلَى (مَنْ) ، أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ آنِفًا لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 37] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [19] فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَهُوَ إِنْذَارٌ لِلنَّاسِ بِأَنَّ التَّذَكُّرَ بِالْقُرْآنِ يحصل إِذا شاؤوا التَّذَكُّرَ بِهِ. وَالْمَشِيئَةُ تَسْتَدْعِي التَّأَمُّلَ فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى التَّقْصِيرِ وَهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي إِهْمَالِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ. وَجُمْلَة وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِإِفَادَةٍ تَعَلُّمِهُمْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَذَكُّرَ مَنْ شَاءُوا أَنْ يَتَذَكَّرُوا لَا يَقَعُ إِلَّا مَشْرُوطًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنْ

يَتَذَكَّرُوا، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ تَكَرُّرًا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ كَقَوْلِه: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [التكوير: 29] وَقَالَ هُنَا كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ لِلنَّاسِ مَشِيئَةً هِيَ مَنَاطُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَسْبِ كَمَا حَقَّقَهُ الْأَشْعَرِيُّ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ، وَهُمَا عِبَارَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ، وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الْمَشِيئَةَ الْعُظْمَى الَّتِي لَا يُمَانِعُهَا مَانِعٌ وَلَا يَقْسِرُهَا قَاسِرٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ تَعَلُّقُهَا إِلَى إِرَادَةِ أَحَدِ عِبَادِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مُرَادٌ. وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّوْفِيقِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِإِقْدَارِ الْعَبْدِ عَلَى الدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَامْتِثَالِ الْوَصَايَا الرَّبَّانِيَّةِ، وَبِالْخِذْلَانِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِهِ فِي ضَلَالِهِ الَّذِي أَوْبَقَتْهُ فِيهِ آرَاؤُهُ الضَّالَّةُ وَشَهَوَاتُهُ الْخَبِيثَةُ الْمُوبِقَةُ لَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ شَرَائِعِ اللَّهِ وَدَعْوَةِ رُسُلِهِ، وَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِانْتِشَالِ الْعَبْدِ مِنْ أَوْحَالِ الضَّلَالِ وَبِإِنَارَةِ سَبِيلِ الْخَيْرِ لِبَصِيرَتِهِ سُمِّيتْ لُطْفًا مِثْلَ تَعَلُّقِهَا بِإِيمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَصَلَاحِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي عِنَادٍ، وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الْأَنْعَام: 125] . هَذَا حَاصِلُ مَا يَتَمَخَّضُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ، وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي اقْتَضَتِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الضَّلَالِ، وَتَأْوِيلُهَا الْأَكْبَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 78، 79] وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ سِرٌّ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كُنْهِهِ حِجَابًا، وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ثَوَابًا وَعِقَابًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ وَمَا تَذْكُرُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى عَدَمِ الذِّكْرَى بِهَذِهِ التَّذْكِرَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ التَّوْفِيقَ لَهُمْ وَيَلْطُفَ بِهِمْ فَيَخْلُقَ انْقِلَابًا فِي سَجِيَّةِ مَنْ يَشَاءُ تَوْفِيقَهُ وَاللُّطْفَ بِهِ. وَقَدْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيمَنْ آمَنُوا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِهَا.

هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ. جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَقْوِيَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّذَكُّرِ وَالتَّذَكُّرُ يُفْضِي إِلَى التَّقْوَى. فَالْمَعْنَى: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّذَكُّرِ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ أهل للتقوى. وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى يُفِيدُ قَصْرَ مُسْتَحِقِّ اتِّقَاءِ الْعِبَادِ إِيَّاهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى. وَيُتَجَنَّبَ غَضَبُهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَاب: 37] . فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ غَضَبَ الْأَصْنَامِ وَيَطْلُبُونَ رِضَاهَا أَوْ يَكُونَ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِتَخْصِيصِهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى الْكَامِلَةِ الْحَقَّ وَإِلَّا فَإِنَّ بَعْضَ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا كَتَقْوَى حُقُوقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاء: 1] وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ مِنَ التَّقْوَى فِي الشَّرِيعَةِ رَاجِعٌ إِلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ. وَأَهْلُ الشَّيْءِ: مُسْتَحِقُّهُ. وَأَصْلُهُ: أَنَّهُ مُلَازِمُ الشَّيْءِ وَخَاصَّتُهُ وَقَرَابَتُهُ وَزَوْجُهُ وَمِنْهُ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود: 81] . وَمَعْنَى أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَغْفِرَ لِفَرْطِ رَحْمَتِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَمِنْهُ بَيْتُ «الْكَشَّافِ» فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ: أَلَا يَا ارْحَمُونِي يَا إِلَهَ مُحَمَّدٍ ... فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلًا فَأَنْتَ لَهُ أَهْلُ وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا أَسْلَفُوهُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَال: 38] ، وَبِالتَّحْرِيضِ لِلْعُصَاةِ أَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الذُّنُوبِ قَالَ تَعَالَى قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] . رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتْقَى فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي

إِلَهًا فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَسُهَيْلٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ ثَابِتٍ. وَأُعِيدَتْ كَلِمَةُ أَهْلُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَالْمَغْفِرَةِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى بَيْنَ أَهْلِ الْأَوَّلِ وَأَهْلِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ إِعَادَةِ فِعْلِ وَأَطِيعُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النِّسَاء: 59] .

75- سورة القيامة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 75- سُورَةُ الْقِيَامَةِ عُنْوِنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ بِ «سُورَةِ الْقِيَامَةِ» لِوُقُوعِ الْقَسَمِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي أَوَّلِهَا وَلَمْ يُقْسَمْ بِهِ فِيمَا نَزَلَ قَبْلَهَا مِنَ السُّورِ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: يُقَالُ لَهَا «سُورَةُ لَا أُقْسِمُ» ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَاتِ أَكْثَرِ مِنِ اسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَعُدَّتِ الْحَادِيَةَ وَالثَلَاثِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْقَارِعَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْهُمَزَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ مِنْ مُعْظَمِ الْأَمْصَارِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ آيَةً، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ أَرْبَعِينَ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذِكْرِ أَشْرَاطِهِ. وَإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلَهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا. وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاءِ وَتَكْرِيمِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَالتَّذْكِيرِ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَرَاحِلِ الْآخِرَةِ. وَالزَّجْرُ عَنْ إِيثَارِ مَنَافِعِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ عَلَى مَا أُعِدَّ لِأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يُسْنِدْهُ: أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ عَنِ الْقِيَامَةِ أَوْ أَرَادَ أَنَّ يَعْرِفَ حَقِيقَةَ وُقُوعِهَا فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ السُّورَةَ» . وَأُدْمِجَ فِيهَا آيَاتُ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ إِلَى وَقُرْآنَهُ [الْقِيَامَة: 16، 17] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا سَيَأْتِي. [1- 4] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ أَمْرٌ مُهِمّ لتستشرف بِهِ نَفْسُ السَّامِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ. وَكَوْنُ الْقَسَمِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِأَنَّ غَرَضَ السُّورَة وصف بِيَوْم الْقِيَامَةِ. وَفِيهِ أَيْضًا كَوْنُ الْمُقْسَمِ بِهِ هُوَ الْمُقْسَمَ عَلَى أَحْوَالِهِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ مَكَانَتِهِ عِنْد الْمقسم كَقَوْل أَبِي تَمَامٍ: وَثَنَايَاكِ إنّها اغريض ... ولآل تُؤْمٌ وَبَرْقٌ وَمِيضُ

كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [1- 3] . وَصِيغَةُ لَا أُقْسِمُ صِيغَةُ قَسَمٍ، أَدْخَلَ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى فِعْلِ أُقْسِمُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ حُرْمَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ بِحَيْثُ يُوهِمُ لِلسَّامِعِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُهِمُّ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ ثُمَّ يَتْرُكُ الْقَسَمَ مَخَافَةَ الْحِنْثِ بِالْمُقْسَمِ بِهِ فَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهِ، أَيْ وَلَا أُقْسِمُ بِأَعَزَّ مِنْهُ عِنْدِي، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَأْكِيدِ الْقَسَمِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [75] . وَفِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. وَهَذَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِيمَا مَضَى وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ. وَالْقَسَمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ بِاعْتِبَارِهِ ظَرْفًا لِمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ وَإِفَاضَةِ فَضْلِهِ وَمَا يَحْضُرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنُّفُوسِ الْمُبَارَكَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَوْمَ الْقِيامَةِ غَيْرُ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [85] . وَجَوَابُ الْقَسَمِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَنَجْمَعَنَّ عِظَامَ الْإِنْسَانِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. وَفِي «الْكَشَّافِ» «قَالُوا إِنَّهُ (أَيْ لَا أُقْسِمُ) فِي الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ» وَتَبَرَّأَ مِنْهُ بِلَفْظِ (قَالُوا) لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ لَأُقْسِمُ الْأَوَّلُ دُونَ أَلِفٍ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ عَلِيٌّ النُّورِيُّ فِي «غَيْثِ النَّفْعَ» وَلَمْ يَذْكُرْهَا الشَّاطِبِيُّ. وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ دُونَ تَقْيِيدٍ، فَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ قَسَمٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَطَفَ قَوْلَهَ: وَلا أُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَتَعْرِيفُ النَّفْسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ الْأَنْفُسِ اللَّوَّامَةِ. وَالْمُرَادُ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ. وَوَصْفُ اللَّوَّامَةِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّهَا تُكْثِرُ لَوْمَ صَاحِبِهَا عَلَى التَّقْصِيرِ فِي التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ. وَهَذَا اللَّوْمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِالْمُحَاسَبَةِ، وَلَوْمُهَا يَكُونُ بِتَفْكِيرِهَا وَحَدِيثِهَا النَّفْسِيِّ. قَالَ الْحَسَنُ «مَا يُرَى الْمُؤْمِنُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَ وَيَنْدَمُ، يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى الشَّرِّ لِمَ فَعَلَهُ وَعَلَى الْخَيْر

لم لَا يَسْتَكْثِرْ مِنْهُ» فَهَذِهِ نُفُوسٌ خَيِّرَةٌ حَقِيقَةٌ أَنْ تَشْرُفَ بِالْقَسَمِ بِهَا وَمَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِكَرَامَتِهَا. وَالْمُرَادُ اللَّوَّامَةُ فِي الدُّنْيَا لَوْمًا تَنْشَأُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَالتَّقْوَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَوْمَ الْآخِرَةِ إِذْ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: 24] . وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِهَا مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهَا النُّفُوسُ ذَاتُ الْفَوْزِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَا أُقْسِمُ مُرَادٌ مِنْهُ عَدَمُ الْقَسَمِ فَفَسَّرَ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ بِالَّتِي تَلُومُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ. وَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ إِذْ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ لَنَجْمَعَنَّ عِظَامَكُمْ وَنَبْعَثْكُمْ لِلْحِسَابِ. وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى غَالِبِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَلِيلًا. فَالْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ الْكَافِر. وَجُمْلَة أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفِ أَنْ الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ (إِنْ) الْمَكْسُورَةِ. وَاسْمُ أَنْ ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ. وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ أَنْ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، فَسِيبَوَيْهِ يَجْعَلُ أَنْ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ فِعْلِ الظَّنِّ. وَالْأَخْفَشُ يَجْعَلُ أَن مَعَ جزئيها فِي مَقَامِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ (أَيْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ) وَيُقَدَّرُ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ جَوَازَ دُخُولِ (أَن) الْمَفْتُوحَة الْهمزَة بَعْدَهَا فَيَسْتَغْنِي الْفِعْلُ بِ (أَنْ) وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا عَنْ مَفْعُولَيْهِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ لِحِكَايَةِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِحَالَةَ جَمْعِ الْعِظَامِ بَعْدَ رِمَامِهَا وَتَشَتُّتِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ (الصَّوَابُ ابْنُ أَبِي ربيعَة) قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَدِيٌّ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ أَوْ يَجْمَعُ اللَّهُ الْعِظَامَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، أَلَا قُلْتَ: إِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يُخَصِّصُ الْإِنْسَانَ بِهَذَا السَّائِلِ.

وَالْعِظَامُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجَسَدِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذكر لحكاية أَقْوَالهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 49] أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: 11] فَهُمُ احْتَجُّوا بِاسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْعِظَامِ لِلْإِعَادَةِ بَعْدَ الْبِلَى، عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ إِعَادَةِ اللَّحْمِ وَالْعَصَبِ وَالْفُؤَادِ بِالْأَوْلَى. فَإِثْبَاتُ إِعَادَةِ الْعِظَامِ اقْتَضَى أَنَّ إِعَادَةَ بَقِيَّةِ الْجِسْمِ مُسَاوٍ لِإِعَادَةِ الْعَظْمِ وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ الْإِيجَازِ. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ إِعَادَةُ الْخَلْقِ بِجَمْعِ أَجْزَاءِ أَجْسَامِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ ذَرَّاتٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، فَفِعْلُ نَجْمَعَ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَعْثُ بِخَلْقِ أَجْسَامٍ أُخْرَى عَلَى صُوَرِ الْأَجْسَامِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ خَلْقًا مُسْتَأْنَفًا أَوْ مُبْتَدَأً مِنْ أَعْجَابِ الْأَذْنَابِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِعُلَمَائِنَا. فَفِعْلُ نَجْمَعَ مُسْتَعَارٌ لِلْخَلْقِ الَّذِي هُوَ عَلَى صُورَةِ الْجِسْمِ الَّذِي بَلِيَ. وَمُنَاسَبَةُ اسْتِعَارَتِهِ مُشَاكَلَةُ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي أُرِيدُ إِبْطَالُهَا لِتَجَنُّبِ الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي تَصْوِيرِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ لَا تَرَى فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا إِجْمَالَهَا وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ عِنْدَ الْبَعْثِ. وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّوَقُّفَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ. وبَلى حَرْفُ إِبْطَالٍ لِلنَّفْيِ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فَمَعْنَاهُ بَلْ تُجْمَعُ عِظَامُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحْمَلَيْنِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وقادِرِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ بَلى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله: أَلَّنْ نَجْمَعَ، أَيْ بَلْ نَجْمَعُهَا فِي حَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلى إِبْطَالًا لِلنَّفْيَيْنِ: النَّفْيِ الَّذِي أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ مِنْ قَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ وَالنَّفْيُ الَّذِي فِي مَفْعُولِ يَحْسَبُ، وَهُوَ إِبْطَالٌ بِزَجْرٍ، أَيْ بَلْ لِيَحْسِبْنَا قَادِرِينَ، لِأَن مفَاد أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أَنْ لَا نَقْدِرَ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ فَيَكُونُ قادِرِينَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِيَحْسِبْنَا الْمُقَدَّرِ، وَعَدَلَ فِي مُتَعَلِّقِ قادِرِينَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: قَادِرِينَ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ إِلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْفَقُ بِإِرَادَةِ إِجْمَالِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ. وَلِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَعَانِي عُدِلَ عَنْ رَفْعِ: قَادِرُونَ، بِتَقْدِيرِ: نَحْنُ قَادِرُونَ، فَلَمْ يُقْرَأْ بِالرَّفْعِ.

[سورة القيامة (75) : آية 5]

وَالتَّسْوِيَةُ: تَقْوِيمُ الشَّيْءِ وَإِتْقَانُ الْخَلْقِ قَالَ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْس: 7] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَخَلَقَ فَسَوَّى [الْقِيَامَة: 38] . وَأُرِيدَ بِالتَّسْوِيَةِ إِعَادَةُ خَلْقِ الْبَنَانِ مُقَوَّمَةً مُتْقَنَةً، فَالتَّسْوِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَلْقِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُهُ فَإِنَّهُ مَا سُوِّيَ إِلَّا وَقَدْ أُعِيدَ خَلْقُهُ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الْأَعْلَى: 2] . وَالْبَنَانُ: أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَوْ أَطْرَافُ تِلْكَ الْأَصَابِعِ. وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ. وَإِذْ كَانَتْ هِيَ أَصْغَرَ الْأَعْضَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي نِهَايَةِ الْجَسَدِ كَانَتْ تَسْوِيَتُهَا كِنَايَةً عَنْ تَسْوِيَةِ جَمِيعِ الْجَسَدِ لِظُهُورِ أَنَّ تَسْوِيَةَ أَطْرَافِ الْجَسَدِ تَقْتَضِي تَسْوِيَةَ مَا قَبْلَهَا كَمَا تَقُولُ: قَلَعَتِ الرِّيحُ أَوْتَادَ الْخَيْمَةِ كِنَايَةً عَنْ قَلْعِهَا الْخَيْمَةَ كُلَّهَا فَإِنَّهُ قَدْ يُكَنَّى بِأَطْرَافِ الشَّيْءِ عَنْ جَمِيعِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَكَ هَذَا الشَّيْءُ بِأَسْرِهِ، أَيْ مَعَ الْحَبْلِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ، كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ الشَّيْءِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: هُوَ لَكَ بِرُمَّتِهِ، أَيْ بِحَبْلِهِ الَّذِي يشد بِهِ. [5] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : آيَة 5] بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى ذِكْرِ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ فُجُورِهِمْ، فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ لَمَّا دُعُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَمَا يَسْتَدْعِيهِ مِنَ الْآثَامِ وَأُنْذِرُوا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى الْاسْتِرْسَالِ فِي الْكُفْرِ. وَالْفُجُورُ: فِعْلُ السُّوءِ الشَّدِيدِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ، وَمِنْهُ وُصِفَتِ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ بِالْفَاجِرَةِ، فَيَكُونُ فَجَرَ بِمَعْنَى كَذَبَ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَيَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا مِثْلَ فِعْلِ كَذَبَ مُخَفَّفِ الذَّالِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي الْكَافِرَ يُكَذِّبُ بِمَا أَمَامَهُ. وَعَنِ ابْنَ قُتَيْبَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى رَاحِلَةٍ وَشَكَا دُبُرَ رَاحِلَتِهِ فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ ... أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ فَاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَجَرِِِِِِْ

قَالَ: يَعْنِي إِنْ كَانَ نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ. وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ الْإِنْسانُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَمَّا فِي نُفُوسِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ مَحَبَّةِ الِاسْتِرْسَالِ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا مُوَافِقًا لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] . وَأُعِيدَ لَفْظُ الْإِنْسانُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِتَقْرِيعِهِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ ضَلَالِهِ. وَكُرِّرَ لَفْظُ الْإِنْسانُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِذَلِكَ، مَعَ زِيَادَةِ مَا فِي تَكَرُّرِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالْمَرَّتَيْنِ الرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ لِتَكُونَ تِلْكَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهُ فِيهَا مُسْتَقِلَّةً بِمُفَادِهَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَفْجُرَ هِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا بَعْدَ مَادَّتِي الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ نَحْوَ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: 15] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاء: 26] وَقَوْلِ كُثَيِّرٍ: أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا فَكَأَنَّمَا ... تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ مَكَانِ وَيَنْتَصِبُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ، لِأَنَّهُ أَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَلِذَلِكَ قِيلَ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَقِيلَ: زَائِدَةٌ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي قَبْلَ هَذِهِ اللَّامِ مُقَدَّرٌ بِمَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَأَنَّ اللَّامَ وَمَا بَعْدَهَا خَبَرُهُ، أَيْ إِرَادَتَهُمْ لِلْفُجُورِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا مَفْعُولَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا، وَلِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ بِهَا. قَالَ النَّحَاسُ سَمَّاهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ (لَامَ أَنْ) . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] . وَأَمَامَ: أَصْلُهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي هُوَ قُبَالَةُ مَنْ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ خَلْفَ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ ابْن زَيْدٍ: يُكَذِّبُ بِمَا أَمَامَهُ سَفَطُ. وَضَمِيرُ أَمامَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِنْسَانِ، أَيْ فِي مُسْتَقْبَلِهِ، أَيْ مِنْ عُمُرِهِ فَيَمْضِي قُدُمًا رَاكِبًا رَأْسَهُ لَا يُقْلِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْفُجُورِ فَيُنْكِرُ الْبَعْثَ فَلَا يَزَعُ نَفْسَهُ عَمَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَزَعَهَا مِنَ الْفُجُورِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى نَحَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ.

[سورة القيامة (75) : آية 6]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمامَهُ أُطْلِقَ عَلَى الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا وَإِلَى هَذَا نَحَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زيد، وَيكون لِيَفْجُرَ بِمَعْنَى يُكَذِّبُ، أَيْ يُكَذِّبُ بِالْيَوْمِ الْمُسْتَقْبل. [6] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : آيَة 6] يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا لِأَنَّ إِرَادَتَهُ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى الْفُجُورِ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّهَكُّمِ بِيَوْمِ الْبَعْثِ أَوْ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مُطَابِقٌ على تَفْسِير لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [الْقِيَامَة: 5] بِالتَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الْبَعْثِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ سُؤَالِهِمْ عَنْ وَقْتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ سُؤَالُ اسْتِهْزَاءٍ لِاعْتِقَادِهِمُ اسْتِحَالَةَ وُقُوعِهِ. وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ الْبَعِيدِ لِأَنَّ أَصْلَهَا: أَنْ آنَ كَذَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي بَعْضِ لُغَاتِ الْعَرَبِ مَضْمُومَ النُّونِ وَإِنَّمَا فَتَحُوا النُّونَ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْكَلِمَةَ كُلَّهَا ظَرْفًا فَصَارَتْ أَيَّانَ بِمَعْنَى (مَتَى) . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِي الْأَعْرَافِ [187] . فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ تَعْيِينَ وَقْتٍ مَعْرُوفٍ مَضْبُوطٍ بَعْدَ السِّنِينَ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِمَا يَتَعَيَّنُ بِهِ عِنْدَ السَّائِلِينِ مِنْ حَدَثٍ يَحُلُّ مَعَهُ هَذَا الْيَوْمَ. فَهُوَ طَلَبُ تَعْيِينِ أَمَدٍ لِحُلُولِ يَوْمٍ يَقُومُ فِيهِ النَّاس. [7- 13] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 7 إِلَى 13] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لَا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) عُدِلَ عَنْ أَنْ يُجَابُوا بِتَعْيِينِ وَقْتٍ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَى أَنْ يُهَدِّدُوا بِأَهْوَالِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جَادِّينَ فِي سُؤَالِهِمْ فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى حَالِهِمْ أَنْ يُنْذَرُوا بِمَا يَقَعُ مِنَ الْأَهْوَالِ

عِنْدَ حُلُولِ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ تَضْمِينِ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الْقُرْآنِ إِرْشَادٌ وَهُدْي مَا يَتْرُكُ فُرْصَةً لِلْهَدْيِ وَالْإِرْشَادِ إِلَّا انْتَهَزَهَا، وَهَذَا تَهْدِيدٌ فِي ابْتِدَائِهِ جَاءَ فِي صُورَةِ التَّعْيِينِ لِوَقْتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِيهَامًا بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ كَأَنَّهُ حَمْلٌ لِكَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ الِاسْتِهْزَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى أَنْ فَرَّطُوا فِي التَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاشْتَغَلُوا بِالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ: مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا» . فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ مِمَّا يَقَعُ عِنْدَ حُلُولِ السَّاعَةِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ فَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَعْيِينِ وَقْتِهِ بِتَعْيِينِ أَشْرَاطِهِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ. وبَرِقَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَمَعْنَاهُ: دُهِشَ وَبُهِتَ، يُقَالُ: بَرِقَ يَبْرُقُ فَهُوَ بَرِقٌ مِنْ بَابِ فَرِحَ فَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ فِي الْآيَةِ إِلَى الْبَصَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ مَكَانِ الْبَرْقِ لِأَنَّهُ إِذَا بُهِتَ شَخَصَ بَصَرُهُ. كَمَا أَسْنَدَ الْأَعْشَى الْبَرْقَ إِلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتُّوا ... وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنَ الْبَرِيقِ بِمَعْنَى اللَّمَعَانِ، أَيْ لَمَعَ الْبَصَرُ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ، وَمُضَارِعُهُ يَبْرُقُ بِضَمِّ الرَّاءِ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْبَصَرِ حَقِيقَةٌ. وَمَآلُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنِ الْفَزَعِ وَالرُّعْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء: 97] ، فَلَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ الطَّبَرِيِّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَلَا مِنْ مُقْتَضَى التَّفْسِيرِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَصَرُ لِلْجِنْسِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ أَبْصَارُ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الشِّدَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الرُّعْبِ الْحَاصِلِ لَهُمْ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ مِنْ طَرَائِقِ مَنَازِلِهِمْ.

وَخُسُوفُ الْقَمَرِ أُرِيدَ بِهِ انْطِمَاسُ نُورِهِ انْطِمَاسًا مُسْتَمِرًّا بِسَبَبِ تَزَلْزُلِهِ مِنْ مَدَارِهِ حَوْلَ الْأَرْضِ الدَّائِرَةِ حَوْلَ الشَّمْسِ بِحَيْثُ لَا يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ نُورُهَا وَلَا يَلُوحُ لِلنَّاسِ نَيِّرًا، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَهَذَا خُسُوف لَيْسَ هُوَ خسوفه الْمُعْتَاد عِنْد مَا تَحُولُ الْأَرْضُ بَيْنَ الْقَمَرِ وَبَيْنَ مُسَامَتَتِهِ الشَّمْسَ. وَمَعْنَى جَمْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: الْتِصَاقُ الْقَمَرِ بِالشَّمْسِ فَتَلْتَهِمُهُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْقَمَرَ مُنْفَصِلٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْأَجْرَامِ الدَّائِرَةِ حَوْلَ الشَّمْسِ كَالْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَالِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا النظام الشمسي. وفَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَقُولُ الْإِنْسانُ، وَإِنَّمَا قُدِمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ مجاوبة قَوْله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] . وَطُوِيَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ حُلُولُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَيْنَ الْمَفَرُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَلَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَحَضَرَتْ أَهْوَالُهُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ تَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. ويَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَقُولُ أَيْضًا، أَيْ يَوْمَ إِذْ يَبْرُقُ الْبَصَرُ وَيَخْسِفُ الْقَمَرُ وَيُجْمَعُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَتَنْوِينُ (إِذْ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا (إِذْ) . وَذُكِرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ أَن قَوْله: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إِلَخْ مُغْنٍ عَنْهُ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَ وُقُوعَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ فَيَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِهِ، وَلِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. والْإِنْسانُ: هُوَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] ، أَيْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ يَوْمئِذٍ: أَي الْمَفَرُّ. والْمَفَرُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ مَصْدَرٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَنِّي، أَيْ لَيْتَ لِي فِرَارًا فِي مَكَانِ نَجَاةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ. وأَيْنَ ظَرْفُ مَكَانٍ. وكَلَّا رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنَ الطَّمَعِ فِي أَنْ يَجِدَ لِلْفِرَارِ سَبِيلًا.

وَالْوَزَرُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ لِلتَّوَقِّي مِنْ إِصَابَةِ مَكْرُوهٍ مِثْلَ الْجِبَالِ وَالْحُصُونِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَّا لَا وَزَرَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابًا لِمَقَالَةِ الْإِنْسَانِ، أَيْ لَا وَزَرَ لَكَ، فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى الْمَفَرُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ الْإِنْسَانِ، أَيْ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ وَيُجِيبُ نَفسه بِإِبْطَال طعمه فَيَقُولُ كَلَّا لَا وَزَرَ أَيْ لَا وَزَرَ لِي، وَذَلِكَ بِأَنْ نَظَرَ فِي جِهَاتِهِ فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا النَّارَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَيَحْسُنُ أَنْ يُوصَلَ أَيْنَ الْمَفَرُّ بِجُمْلَةِ كَلَّا لَا وَزَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ فَهُوَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى خَاطَبَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَإِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِمُلْكِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَفِي إِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ نَاصِرُهُ يَوْمَئِذٍ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا دَعْوَتَهُ. والْمُسْتَقَرُّ : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنِ اسْتَقَرَّ، إِذَا قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ إِلَى رَبِّكَ لَا إِلَى مَلْجَأٍ آخَرَ. وَالْمَعْنَى: لَا مَلْجَأَ يَوْمَئِذٍ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مُنْتَهِيًا إِلَى رَبِّكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمرَان: 28] . وَجُمْلَة يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا أَثَارَهُ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ مَصِيرُهُمْ وَفِي مَصِيرِهِمْ يُنَبَّأُونَ بِمَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الْإِنْسانُ الْكَافِرَ جَرْيًا عَلَى سِيَاقِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُنَبَّأُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَمِنْ أَهْلِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ الْآيَة [آل عمرَان: 30] . وَاخْتِلَافُ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَحْمَلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ فُنُونًا مِنَ التَّذْكِيرِ لَا تَلْزَمُ طَرِيقَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا مِمَّا يَغْفُلُ عَنْ مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي حَمْلِهِمْ مَعَانِي الْآيَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ الْمَغْزَى عَلَى مَحَامِلَ مُتَمَاثِلَةٍ.

[سورة القيامة (75) : الآيات 14 إلى 15]

وَتَنْبِئَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ: إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ سُوءًا فَسُوءٌ، إِذْ يُقَالُ لَهُ: هَذَا جَزَاءُ الْفِعْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَيَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ فِعْلَتَهُ وَيَلْقَى جَزَاءَهَا، فَكَانَ الْإِنْبَاءُ مِنْ لَوَازِمِ الْجَزَاءِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: 7] وَيَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْإِنْبَاءِ تَقْرِيعٌ وَفَضْحٌ لحاله. وَالْمرَاد بِمَا قَدَّمَ: مَا فعله وَبِمَا أَخَّرَ : مَا تَرَكَهُ مِمَّا أُمِرَ بِفِعْلِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْ فِعْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَخَالَفَ مَا كُلِّفَ بِهِ وَمِمَّا عَلَّمَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ: «فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أعلنت» . [14- 15] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 14 إِلَى 15] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌ، وَهُوَ لِلتَّرَقِّي من مَضْمُون يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [الْقِيَامَة: 13] إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْلَمُ مَا فَعَلَهُ لِأَنَّهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِذْ هُوَ قَرَأَ كِتَابَ أَعْمَالِهِ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ [الحاقة: 25، 26] ، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: 49] . وَقَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: 14] . وَنَظْمُ قَوْلِهِ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَصِيرَةٌ بِمَعْنَى مُبْصِرٍ شَدِيدِ الْمُرَاقَبَةِ فَيَكُونَ بَصِيرَةٌ خَبَرًا عَنِ الْإِنْسانُ . وعَلى نَفْسِهِ مُتَعَلِّقًا بِ بَصِيرَةٌ ، أَيِ الْإِنْسَانُ بَصِيرٌ بِنَفْسِهِ. وَعُدِّي بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. وَهَاءُ بَصِيرَةٌ تَكُونُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ هَاءِ عَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ، أَيِ الْإِنْسَانُ عَلِيمٌ بَصِيرٌ قَوِيُّ الْعِلْمِ بِنَفْسِهِ يَوْمَئِذٍ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَصِيرَةٌ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَالْمُرَادُ بِهِ قَرِينُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ خَبَرًا عَنِ الْإِنْسانُ ، وبَصِيرَةٌ حِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَن يكون بِمَعْنى بَصِيرٍ، أَيْ مُبْصِرٍ

وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَتَكُونُ تَعْدِيَةُ بَصِيرَةٌ بِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الرَّقِيبِ كَمَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصِيرَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: حُجَّةٌ بَصِيرَةٌ، وَتَكُونُ بَصِيرَةٌ مَجَازًا فِي كَوْنِهَا بَيِّنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاء: 102] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء: 59] وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ. وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَجْرَى الْمَثَلِ لِإِيجَازِهَا وَوَفْرَةِ مَعَانِيهَا. وَجُمْلَةُ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَهِيَ حَالَةُ أَجْدَرُ بِثُبُوتِ مَعْنَى عَامِلِهَا عِنْدَ حُصُولِهَا. لَوْ هَذِهِ وَصْلِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [91] . وَالْمَعْنَى: هُوَ بَصِيرَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى فِي حَالِ إِلْقَائِهِ مَعَاذِيرَهُ. وَالْإِلْقَاءُ: مُرَادٌ بِهِ الْإِخْبَارُ الصَرِيحُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [86] . وَالْمَعَاذِيرُ: اسْمُ جَمْعِ مَعْذِرَةٍ، وَلَيْسَ جَمْعًا لِأَنَّ مَعْذِرَةً حَقُّهُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى مَعَاذِرَ، وَمِثْلُ الْمَعَاذِيرِ قَوْلُهُمْ: الْمَنَاكِيرُ، اسْمُ جَمْعِ مُنْكَرٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنْ مَعَاذِيرَ هُنَا جَمْعُ مِعْذَارٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ السِّتْرُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ يَكُونُ الْإِلْقَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، أَيِ الْإِرْخَاءِ، وَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعَاذِيرِ بِتَشْبِيهِ جَحْدِ الذُّنُوبِ كَذِبًا بِإِلْقَاءِ السِّتْرِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُرَادِ حَجْبُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرَ يَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ أَعْمَالَهُ الَّتِي اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا ويحاول أَن يعْتَذر وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا عُذْرَ لَهُ وَلَوْ أَفْصَحَ عَنْ جَمِيعِ مَعَاذِيرِهِ. ومَعاذِيرَهُ : جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ. فَمِنْ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ قَوْلُهُمْ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ [الْمَائِدَة: 19] وَقَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: 38] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المعاذير الكاذبة.

[سورة القيامة (75) : الآيات 16 إلى 19]

[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 16 إِلَى 19] لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) هَذِهِ الْآيَةُ وَقَعَتْ هُنَا مُعْتَرِضَةً. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ شِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي حِفْظِهِ فَكَانَ يُلَاقِي مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . قَالَ: جَمْعَهُ فِي صدرك ثمَّ تَقْرَأهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، أَيْ أَنْ تَقْرَأَهُ» اهـ. فَلَمَّا نَزَلَ هَذَا الْوَحْيُ فِي أثْنَاء نزُول السُّورَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ سُورَةً مُسْتَقِلَّةً كَانَ مُلْحَقًا بِالسُّورَةِ وَوَاقِعًا بَيْنَ الْآيِ الَّتِي نَزَلَ بَيْنَهَا. فَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْناهُ ، أَيْ إِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَنَّا، فَأُسْنِدَتِ الْقِرَاءَةُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. وَمَعْنَى فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، أَيْ أَنْصِتْ إِلَى قراءتنا. فضمير قَرَأْناهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي لَا تُحَرِّكْ بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ، فَيَكُونُ وُقُوعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِثْلَ وُقُوعِ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [64] ، وَوُقُوعُ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فِي أَثْنَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [238] . قَالُوا: نزلت هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ: هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَيِمَّةِ التَّفْسِيرِ. وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ [الْقِيَامَة: 13] فَكَانَ ذَلِك للْإنْسَان حا لما يُنَبَّأُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ لِسَانُهُ فَيُقَالُ لَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ فَإِذَا

قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ مَرَاتِبِ عُقُوبَتِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرَ وَارِدَةٍ بِهِ اهـ. وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ الْعَقْلُ لَا يَدْفَعُهُ فَإِنَّ الْأُسْلُوبَ الْعَرَبِيَّ وَمَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ تَنْبُو عَنْهُ. وَالَّذِي يَلُوحُ لِي فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا دُونَ أَنْ تَقَعَ فِيمَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ السُّورِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ: أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ حِينَ كَانَتْ قَلِيلَةً كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْشَى تَفَلُّتَ بَعْضِ الْآيَاتِ عَنْهُ فَلَمَّا كَثُرَتِ السُّوَرُ فَبَلَغَتْ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ حَسَبَ مَا عَدَّهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، صَارَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى أَنْ يَنْسَى بَعْضَ آيَاتِهَا، فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ احْتِيَاطًا لِحِفْظِهِ وَذَلِكَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ بِنَصِّهِ، فَلَمَّا تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُكَلِّفَ نَفْسَهُ تَحَرِيكَ لِسَانِهِ، فَالنَّهْيُ عَنْ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ نَهْيُ رَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ لِمَا كَانَ يُلَاقِيهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الشِّدَّةِ. وَ (قُرْآنُ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ مِثْلَ الْغُفْرَانِ وَالْفُرْقَانِ، قَالَ حَسَّانُ فِي رِثَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا وَلَفْظُ عَلَيْنا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّكَفُّلِ وَالتَّعَهُّدِ. وثُمَّ فِي ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، أَيِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ رُتْبَةِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، وَبَيْنَ رُتْبَةِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ وَهِيَ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. وَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: أَنَّ عَلَيْنَا جَمْعَ الْوَحْيِ وَأَنْ تَقْرَأَهُ وَفَوْقَ ذَلِكَ أَنَّ تُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ بِلِسَانِكَ، أَيْ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِأَنْ يَكُونَ جَمْعُهُ وَقُرْآنُهُ بِلِسَانِكَ، أَيْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ لَا بِكِتَابَةٍ تَقْرَأُهَا بَلْ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فِي الصُّدُورِ بَيِّنًا لِكُلِّ سَامِعٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَاجَعَةٍ وَلَا عَلَى إِحْضَارِ مُصْحَفٍ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ. فَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُ أَلْفَاظِهِ وَلَيْسَ بَيَانَ مَعَانِيهِ لِأَنَّ بَيَانَ مَعَانِيهِ مُلَازِمٌ لِوُرُودِ أَلْفَاظِهِ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ عُلَمَائِنَا الَّذِينَ يَرَوْنَ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنِ الْمُبِينِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَهُوَ مُتَمَسَّكٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ الَّذِي أَفَادَتْهُ ثُمَّ إِنَّمَا هُوَ تَرَاخٍ فِي الرُّتْبَةِ لَا فِي الزَّمَنِ، وَلِأَنَّ ثُمَّ قَدْ عَطَفَتْ مَجْمُوعَ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تَعْطِفْ

[سورة القيامة (75) : الآيات 20 إلى 21]

لَفَظَ بَيانَهُ خَاصَّةً، فَلَوْ أُرِيدَ الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ حَقًّا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَيَانُ وَذَلِكَ غير صَحِيح. [20- 21] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 20 إِلَى 21] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) رُجُوعٌ إِلَى مَهِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ كَمَا يَرْجِعُ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى وَصْلِ كَلَامِهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهُ عَارِضٌ أَوْ سَائِلٌ، فَكَلِمَةُ كَلَّا رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ [الْقِيَامَة: 3- 15] ، فَأُعِيدَ كَلَّا تَأْكِيدًا لِنَظِيرِهِ وَوَصْلًا لِلْكَلَامِ بِإِعَادَةِ آخِرِ كَلِمَةٍ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ بَاطِلَةٌ. وَقَوله 9: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ إِضْرَابٌ إِبْطَالِيٌ يُفَصِّلُ مَا أَجْمَلَهُ الرَّدْعُ بِ كَلَّا مِنْ إِبْطَالِ مَا قَبْلَهَا وَتَكْذِيبِهِ، أَيْ لَا مَعَاذِيرَ لَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُمْ أَحَبُّوا الْعَاجِلَةَ، أَيْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَتَرَكُوا الْآخِرَةَ، وَالْكَلَامُ مُشْعِرٌ بِالتَّوْبِيخِ وَمَنَاطُ التَّوْبِيخِ هُوَ حُبُّ الْعَاجِلَةِ مَعَ نَبْذِ الْآخِرَةِ (فَأَمَّا لَوْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَاجِلَةَ وَرَاعَى الْآخِرَةَ، أَيْ جَرَى عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا. قَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَوْمِ قَارُونَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: 77] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ [الْقِيَامَة: 15] فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَعَاذِيرَهُمْ بَاطِلَةٌ وَلَكِنَّهُمْ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذْرُونَ الْآخِرَةَ، أَيْ آثَرُوا شَهَوَاتِهِمُ الْعَاجِلَةَ وَلَمْ يَحْسُبُوا لِلْآخِرَةِ حِسَابًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُحِبُّونَ وتَذَرُونَ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ مُوَاجهَة بالتفريع لِأَن ذَلِكَ أَبْلَغُ فِيهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ عَلَى نَسَقِ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ السَّابِقَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانُ فِي قَوْلِهِ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [الْقِيَامَة: 14] جَاءَ ضَمِيرَ جَمْعٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَادٌ بِهِ النَّاسُ الْمُشْرِكُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: بَلْ تُحِبُّونَ مَا يُرْشِدُ إِلَى

[سورة القيامة (75) : الآيات 22 إلى 25]

تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكَسْبِ الَّذِي وُفِّقَ إِلَى بَيَانِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ الْمَيْلُ وَالْمَحَبَّةُ لِلْفِعْلِ أَو التّرْك. [22- 25] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 22 إِلَى 25] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) الْمُرَادُ بِ يَوْمَئِذٍ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ بِمِثْلِ هَذَا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [الْقِيَامَة: 10] ، وَأُعِيدَ مَرَّتَيْنِ. وَالْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (إِذْ) ، وَالْمُعَوَّضُ عَنْهَا التَّنْوِينُ تَقْدِيرُهَا: يَوْمَ إِذْ بَرَقَ الْبَصَرُ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى إِجْمَالِ حَالِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ سَعَادَةٍ وَأَهْلِ شَقَاوَةٍ. فَالْوُجُوهُ النَّاضِرَةُ وُجُوهُ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالْوُجُوهُ الْبَاسِرَةُ وُجُوهُ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ. وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ الْمَعْنِيَّ بِالْفَرِيقَيْنِ مِمَّا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ عَبَسَ [40- 42] : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ فَعُلِمَ أَنَّ أَصْلَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَتَصْدِيقُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَصْلَ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَبْذُ مَا جَاءَ بِهِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَة مَا ينبىء بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] وَقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [الْقِيَامَة: 5] . وَتَنْكِيرُ وُجُوهٌ لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنْ أَبْيَاتِ «كِتَابِ الْآدَابِ» وَلَمْ يَعْزُهُ وَلَا عَزَاهُ صَاحِبُ «الْعُبَابِ» فِي شَرْحِهِ: فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرْ وَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

فَيَوْمًا بِخَيْلٍ تَطْرُدُ الرُّومَ عَنْهُمُ ... وَيَوْمٌ بِجُودٍ تَطْرُدُ الْفَقْرَ وَالْجَدْبَا فَالْوُجُوهُ النَّاضِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالنَّضْرَةِ (بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الضَّادِ) وَهِيَ حُسْنُ الْوَجْهِ مِنْ أَثَرِ النِّعْمَةِ وَالْفَرَحِ، وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَفَرِحَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: نَاضِرٌ وَنَضِيرٌ وَنَضِرٌ، وَكُنِّيَ بِنَضْرَةِ الْوُجُوهِ عَنْ فَرَحِ أَصْحَابِهَا وَنَعِيمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ. وَأَخْبَرَ عَنْهَا خَبَرًا ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَظَاهِرُ لَفْظِ ناظِرَةٌ أَنَّهُ مِنْ نَظَرَ بِمَعْنَى: عَايَنَ بِبَصَرِهِ إِعْلَانًا بِتَشْرِيفِ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى نَظَرًا خَاصًّا لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ مَنْ يَكُونُ دُونَ رُتَبِهِمْ، فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِإِجْمَالِهِ ثَابِتٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَيَّدَتْهَا الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ أُنَاسًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا» . وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ فِي الشَّفَاعَةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» وَرُبَّمَا قَالَ: «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا يُعْطَوْنَ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ» . فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ بِأَبْصَارِهِمْ رُؤْيَةً مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ اللَّهِ عَلَى الْإِجْمَال دلَالَة ظنية لِاحْتِمَالِهَا تَأْوِيلَاتٍ تَأَوَّلَهَا الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُؤْيَةُ جَلَالِهِ وَبَهْجَةُ قُدُسِهِ الَّتِي لَا تُخَوَّلُ رُؤْيَتُهَا لِغَيْرِ أَهْلِ السَّعَادَةِ.

وَيُلْحَقُ هَذَا بِمُتَشَابِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَاهُ لَيْسَ إِثْبَاتَ صِفَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الصِّفَةِ وَيَسْتَلْزِمُهَا لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى اقْتِضَاءِ جِهَةٍ لِلذَّاتِ، وَمِقْدَارٍ يُحَاطُ بِجَمِيعِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعَدَّ الْوَعْدُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ تَعَالَى مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ. وَلِعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ أَفْهَامٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَأَمَّا صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسُلَفُهَا فَإِنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الَّتِي تَخَلَّقُوا بهَا من سِيرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَلَى إِجْمَالِهِ، وَصَرْفِ أَنْظَارِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي تَشْخِيصِ حَقِيقَتِهِ وَإِدْرَاجِهِ تَحْتَ أَحَدِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، فَقَدْ سَمِعُوا هَذَا وَنَظَائِرَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ قَلِيلًا مِنْهَا، فِيمَا شَغَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ وَلَا طَلَبُوا تَفْصِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى مَا هُوَ أَحَقُّ بِالْعِنَايَةِ وَهُوَ التَّهَمُّمُ بِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَبَثِّهَا وَتَقْرِيرِ سُلْطَانِهَا، مَعَ الْجَزْمِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ اللَّوَازِمِ الْعَارِضَة لظواهر تِلْكَ الصِّفَاتِ، جَاعِلِينَ إِمَامَهُمُ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، أَوْ مَا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ التَّنْزِيهِ الْخَاصَّةِ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ الْوَصْفُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَام: 103] بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِنَا هَذَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي عَقِيدَةِ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا نَبَعَ فِي عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ تَطَلَّبَ مَعْرِفَةَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَأَلْجَأَهُمُ الْبَحْثُ الْعِلْمِيُّ إِلَى التَّعَمُّقِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَدَقَائِقِ عِبَارَاتِهِ وَخُصُوصِيَّاتِ بَلَاغَتِهِ، لَمْ يَرَوْا طَريقَة السّلف مقنغة لِأَفْهَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْخَلَفِ لِأَنَّ طَرِيقَتَهُمْ فِي الْعِلْمِ طَرِيقَةُ تَمْحِيصٍ وَهِيَ اللَّائِقَةُ بِعَصْرِهِمْ، وَقَارِنُ ذَلِكَ مَا حَدَثَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ النِحَلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَإِلْقَاءِ شُبَهِ الْمَلَاحِدَةِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَا بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْغَوْصِ وَالتَّعَمُّقِ لِإِقَامَةِ الْمَعَارِفِ عَلَى أَعْمِدَةٍ لَا تَقْبَلُ التَّزَلْزُلَ، وَلِدَفْعِ شُبَهِ الْمُتَشَكِّكِينَ وَرَدِّ مَطَاعِنِ الْمُلْحِدِينَ، فَسَلَكُوا مَسَالِكَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ مِنْ أَقْوَالٍ وَمَعَانٍ وَإِقْرَارِ كُلِّ حَقِيقَةٍ فِي نِصَابِهَا، وَذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمُقْتَضِي وَيُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ. فَسَلَكَتْ جَمَاعَاتٌ مَسَالِكَ التَّأْوِيلِ الْإِجْمَالِيِّ بِأَنْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى إجمالها ويوقنوا التَّنْزِيه عَنْ ظَوَاهِرِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْصِلُونَ صَرْفَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا بَلْ يُجْمِلُونَ التَّأْوِيلَ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُدْعَى السَّلَفِيَّةَ لِقُرْبِ طَرِيقَتِهَا مِنْ طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مِقْدَارِ تَأْصِيلِ أُصُولِهَا تَفَاوُتًا جَعَلَهَا فِرَقًا: فَمِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، الْخَوَارِجُ الْأَقْدَمُونَ غَيْرَ الَّذِينَ الْتَزَمُوا طَرِيقَةَ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَمِنْهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْأَشْعَرِيِّ مِثْلَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِظَوَاهِرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصِّحَاحُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَقَدْ غَلَا قَوْمٌ مِنَ الْآخِذِينَ بِالظَّاهِرِ مِثْلَ الْكَرَامِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ فَأُلْحِقُوا بِالصِّنْفِ الْأَوَّلِ. وَمِنْهُمْ فِرَقُ النُّظَّارِينَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ قَوَاعِدِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالْأَشَاعِرَةُ، وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ. فَأَقْوَالُهُمْ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ نَاسِجَةٌ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ: فَالسَّلَفُ أَثْبَتُوهَا دُونَ بَحْثٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ نَفَوْهَا وَتَأَوَّلُوا الْأَدِلَّةَ بِنَحْوِ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَتَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ لِمُعَارَضَتِهَا الْأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ عِنْدَهُمْ فَرَجَّحُوا مَا رَأَوْهُ قَطْعِيًّا وَأَلْغَوْهَا. وَالْأَشَاعِرَةُ أَثْبَتُوهَا وَرَامُوا الِاسْتِدْلَالَ لَهَا بِأَدِلَّةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ وَتُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ الْمَطْلُوبَ. وَمَا جَاءَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ حُجَاجٍ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا مِنِ اتِّجَاهِ نُقُوضٍ وَمُنُوعٍ وَمُعَارَضَاتٍ، وَكَذَلِكَ مَا أَثَارَهُ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى مُخَالِفِيهِ مِنْ مُعَارَضَاتٍ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا مِنِ اتِّجَاهِ مُنُوعٍ مُجَرَّدَةٍ أَوْ مَعَ الْمُسْتَنَدَاتِ، فَطَالَ الْأَخْذُ وَالرَّدُّ. وَلَمْ يَحْصُلْ طَائِلٌ وَلَا انْتَهَى إِلَى حَدٍّ. وَيحسن أَن نقوض كَيْفِيَّتَهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَغَيْرِهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الرَّاجِع إِلَى شؤون الْخَالِقِ تَعَالَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَلَفِنَا: أَنَّهَا رُؤْيَةٌ بِلَا كَيْفٍ وَهِيَ كَلِمَةُ حَقٍّ جَامِعَةٌ، وَإِنِ اشْمَأَزَّ مِنْهَا الْمُعْتَزِلَةُ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَنْ تَرانِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [143] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلى رَبِّها عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْعَطَاءِ الْعَجِيبِ وَلَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ لَيَرَوُنَّ بَهِجَاتٍ كَثِيرَةً فِي الْجَنَّةِ.

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 إلى 30]

وَبَيْنَ (نَاضِرَةٌ) وَ (نَاظِرَةٌ) جِنَاسٌ مُحَرَّفٌ قَرِيبٌ مِنَ التَّامِّ. وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أَنَّهَا أُرِيدَ بِهَا التَّفْصِيلَ وَالتَّقْسِيمَ لِمُقَابَلَتِهِ بُقُولِهِ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَر وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْبَاسِرَةُ فَنَوْعٌ ثَانٍ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ هِيَ وُجُوهُ أَهْلِ الشَّقَاءِ. وَأُعِيدَ لَفْظُ يَوْمَئِذٍ تَأْكِيدًا لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ. وباسِرَةٌ: كَالِحَةٌ مِنْ تَيَقُّنِ الْعَذَابِ، وَتَقَدَّمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [22] . فَجُمْلَةُ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ سَبَبِ بُسُورِهَا. وفاقِرَةٌ: دَاهِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ نَائِبُ فَاعِلٍ يُفْعَلَ بِها وَلَمْ يَقْتَرِنِ الْفِعْلُ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ مَرْفُوعَهُ لَيْسَ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا، مَعَ وُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يُسَوِّغُ تَرْكَ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. وَإِفْرَادٌ فاقِرَةٌ إِفْرَادُ الْجِنْسِ، أَيْ نَوْعًا عَظِيمًا مِنَ الدَّاهِيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِأَنْ سَيُلَاقُوا دَوَاهِيَ لَا يكتنه كنهها. [26- 30] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 26 إِلَى 30] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) رَدْعٌ ثَانٍ عَلَى قَوْلِ الْإِنْسَانِ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] ، مُؤَكِّدٌ لِلرَّدْعِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْقِيَامَة: 20] . وَمَعْنَاهُ زَجْرٌ عَنْ إِحَالَةِ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ غَيْرُ بَعِيدٍ فَكُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُهُ حِينَ الِاحْتِضَارِ لِلْمَوْتِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أُتْبِعَ تَوْصِيفُ أَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ الْمُبَاشِرَةِ لِحُلُولِهِ بِتَوْصِيفِ أَشْرَاطِ حُلُولِ التَّهَيُّؤِ الْأَوَّلِ لِلِقَائِهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْحَيَاةِ الْأُولَى.

وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يَقُولُونَ: الْقِيَامَةُ الْقِيَامَةُ، وَإِنَّمَا قِيَامَةُ أَحَدِهِمْ مَوْتُهُ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ حَضَرَ جِنَازَةً فَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» ، فَحَالَةُ الِاحْتِضَارِ هِيَ آخِرُ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَعْقُبُهَا مَصِيرُ الرُّوحِ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى مُبَاشَرَةً. وَهُوَ رَدْعٌ عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ارْتَدِعُوا وَتَنَبَّهُوا عَلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي عِنْدَهُ تَنْقَطِعُ الْعَاجِلَةُ وَتَنْتَقِلُونَ إِلَى الْآجِلَةِ، فَيَكُونُ رَدْعًا عَلَى مَحَبَّةِ الْعَاجِلَةِ وَتَرْكِ الْعِنَايَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ مُؤَكِّدًا لِلرَّدْعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْقِيَامَة: 20] بَلْ هُوَ رَدْعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الرَّدْعُ مِنْ إِيثَارِ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْآخِرَةِ. وإِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الَّذِي يُقَدَرُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ. وَالْمَعْنَى: الْمَسَاقُ يَكُونُ إِلَى رَبِّكَ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي. وَجُمْلَةُ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ بَيَانٌ لِلرَّدْعِ وَتَقْرِيبٌ لِإِبْطَالِ الِاسْتِبْعَادِ الْمَحْكِيِّ عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْث بقوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] . وإِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ بِجَوَابِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ. وَتَقْدِيمُ إِلى رَبِّكَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمَساقُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ مَنَاطُ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ. وَضَمِيرُ بَلَغَتِ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِ بَلَغَتِ وَمِنْ ذِكْرِ التَّراقِيَ فَإِنَّ فِعْلَ بَلَغَتِ التَّراقِيَ يَدُلُّ أَنَّهَا رُوحُ الْإِنْسَانِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ أَوِ النَّفْسُ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى الضَّمِيرِ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَمَثَلُهُ قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ أَيْ إِذَا حَشْرَجَتِ النَّفْسُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْعَرَبِ «أَرْسَلَتْ» يُرِيدُونَ: أَرْسَلَتِ السَّمَاءُ الْمَطَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاقِعُ.

وَالْأَنْفَاسُ: جَمْعُ نَفَسٍ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْحَقَائِقِ. والتَّراقِيَ: جَمْعُ تَرْقُوَةٍ (بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْوَاوِ مُخَفَّفَةٍ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ) وَهِيَ ثُغْرَةُ النَّحْرِ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ تَرْقُوَتَانِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ. فَالْجَمْعُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّثْنِيَةِ لِقَصْدِ تَخْفِيفِ اللَّفْظِ وَقَدْ أُمِنَ اللَّبْسُ، لِأَنَّ فِي تَثْنِيَةِ تَرْقُوَةٍ شَيْئًا مِنَ الثِّقَلِ لَا يُنَاسِبُ أَفْصَحَ كَلَامٍ، وَهَذَا مِثْلُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [4] . وَمَعْنَى بَلَغَتِ التَّراقِيَ: أَنَّ الرُّوحَ بَلَغَتِ الْحَنْجَرَةَ حَيْثُ تَخْرُجُ الْأَنْفَاسُ الْأَخِيرَةُ فَلَا يُسْمَعُ صَوْتُهَا إِلَّا فِي جِهَةِ التَّرْقُوَةِ وَهِيَ آخِرُ حَالَاتِ الِاحْتِضَارِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ الْآيَة [الْوَاقِعَة: 83] . وَاللَّامُ فِي التَّراقِيَ مِثْلُ اللَّامِ فِي الْمَسَاقُ فَيُقَالُ: هِيَ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بَلَغَتْ رُوحُهُ تَرَاقِيَهُ، أَيِ الْإِنْسَانِ. وَمَعْنَى وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَقَالَ قَائِلٌ: مَنْ يَرْقِي هَذَا رُقْيَاتٍ لِشِفَائِهِ؟ أَيْ سَأَلَ أَهْلُ الْمَرِيضِ عَنْ وِجْدَانِ أَحَدٍ يَرْقِي، وَذَلِكَ عِنْدَ تَوَقُّعِ اشْتِدَادِ الْمَرَضِ بِهِ وَالْبَحْثُ عَنْ عَارِفٍ بِرُقْيَةِ الْمَرِيضِ عَادَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَيِّ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي الْرُقْيَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَالْرُقْيَا بِالْقَصْرِ، وَيُقَالُ بَهَاءِ تَأْنِيثٍ: هِيَ كَلَامٌ خَاصٌّ مُعْتَقَدٌ نَفْعُهُ يَقُولُهُ قَائِلٌ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَاضِعًا يَدَهُ فِي وَقْتِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْوَجَعِ مِنَ الْمَرِيضِ أَوْ عَلَى رَأْسِ الْمَرِيضِ، أَوْ يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُ فِي خِرْقَةٍ، أَوْ وَرَقَةٍ وَتُعَلَّقُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَكَانَتْ مِنْ خَصَائِصِ التَّطَبُّبَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَشْفِي مِنْ صَرَعِ الْجُنُونِ وَمِنْ ضُرِّ السُّمُومِ وَمِنَ الْحُمَّى. وَيَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهَا نَاسٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَهَا مِنْ عَارِفِينَ فَلِذَلِكَ سَمَّوُا الرَّاقِيَ وَنَحْوَهُ عَرَّافًا، قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: بَذَلْتُ لِعَرَّافِ الْيَمَامَةِ حُكْمَهُ ... وَعَرَّافِ نَجْدٍ إِنْ هُمَا شَفَيَانِي فَمَا تَرَكَا مِنْ عُوذَةٍ يَعْرِفَانِهَا ... وَلَا رُقْيَةٍ بِهَا رَقَيَانِيِ

وَقَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ حَالَةَ مَنْ لَدَغَتْهُ أَفْعَى: تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمْعِهَا ... تُطْلِقُهُ طَوْرًا وَطَوْرًا تُرَاجِعُ وَكَانَ الرَّاقِي يَنْفُثُ عَلَى الْمَرْقِيِّ وَيَتْفُلُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ التَّاسِعَةِ وَالثَلَاثِينَ بِقَوْلِهِ: «ثُمَّ إِنَّهُ طَمَسَ الْمَكْتُوبَ على غَفلَة، وَتفعل عَلَيْهِ مِائَةَ تَفْلَةٍ» . وَأَصْلُ الرُّقْيَةِ: مَا وَرِثَهُ الْعَرَبُ مِنْ طَلَبِ الْبَرَكَةِ بِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَأَصْلُهَا وَارِدٌ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا سُوءُ الْوَضْعِ عِنْدَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَأَلْحَقُوهَا بِالسِّحْرِ أَوْ بِالطِّبِّ، وَلِذَلِكَ يَخْلِطُونَهَا مِنْ أَقْوَالٍ رُبَّمَا كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ، وَمِنْ أَشْيَاءَ كَأَحْجَارٍ أَوْ أَجْزَاءَ مِنْ عَظْمِ الْحَيَوَانِ أَوْ شَعَرِهِ، فَاخْتَلَطَ أَمْرُهَا فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِسْلَامِ الِاسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ وَالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ الْمُتَقَبَلَّةِ مِنْ أَرْبَابِهَا وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الدُّعَاءِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي ظَنَّ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ [الْقِيَامَة: 5] أَيِ الْإِنْسَانُ الْفَاجِرُ. وَالظَّنُّ: الْعِلْمُ الْمُقَارِبُ لِلْيَقِينِ، وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ شَأْنٍ، أَيْ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ، أَيِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الْفِرَاقُ، أَيْ فِرَاقُ الْحَيَاةِ. وَقَوْلُهُ: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْمَعْنَى الْتِفَافُ سَاقَيِ الْمُحْتَضِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ تُلَفُّ الْأَكْفَانُ عَلَى سَاقَيْهِ وَيُقْرَنُ بَيْنَهُمَا فِي ثَوْبِ الْكَفَنِ فَكُلُّ سَاقٍ مِنْهُمَا مُلْتَفَّةٌ صُحْبَةَ السَّاقِ الْأُخْرَى، فَالتَّعْرِيفُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَذَا نِهَايَةُ وَصْفِ الْحَالَةِ الَّتِي تَهَيَّأَ بِهَا لِمَصِيرِهِ إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَرَاحِلِ الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْثِيلًا فَإِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَعْمِلُونَ السَّاقَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ وَجِدِّ الْأَمْرِ تَمْثِيلًا بِسَاقِ السَّاعِي أَوِ النَّاهِضِ لِعَمَلٍ عَظِيمٍ، يَقُولُونَ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَ الرَّاجِزِ: صَبْرًا عَنَاقُ إِنَّهُ لَشِرْبَاقْ ... قَدْ سَنَّ لِي قَوْمُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ

[سورة القيامة (75) : الآيات 31 إلى 35]

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [42] . فَمَعْنَى وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ طَرَأَتْ مُصِيبَةٌ عَلَى مُصِيبَةٍ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ الْتِفَاتٌ عَنْ طَرِيقِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْقِيَامَة: 20] لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ حَسُنَ التَّفَنُّنُ فِيهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَساقُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِمَا فِيهِمِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ. وَلَكَ أَنْ تُعَبِّرَ عَنِ اللَّامِ بِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مَسَاقُ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَسْأَلُ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] . والْمَساقُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِ (سَاقَ) ، وَهُوَ تَسْيِيرُ مَاشٍ أَمَامَ مُسَيِّرِهِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ مُسَيِّرُهُ، وَضِدُّهُ الْقَوْدُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِحْضَارِ وَالْإِيصَالِ إِلَى حَيْثُ يَلْقَى جَزَاءَ رَبِّهِ. وَسُلِكُ فِي الْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَ إِذا مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ لِتَهْوِيلِ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ عَلَى الْكَافِرِ وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَتَرَاءَى لَهُ مَصِيرُهُ فِي حَالَةِ احْتِضَارِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ الله لقاءه» . [31- 35] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 31 إِلَى 35] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) تَفْرِيعٌ على قَوْله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] . فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] أَيْ لِجَهْلِهِ الْبَعْثَ لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ.

وَحُذِفَ مَفْعُولُ كَذَّبَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَّبَ الرَّسُولَ وَالْقُرْآنَ وَبِالْبَعْثِ، وَتَوَلَّى عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا وَعَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة: 30] ، أَيْ فَقَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ وَسِيقَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ خَالِيًا مِنَ الْعُدَّةِ لِذَلِكَ اللِّقَاءِ. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ وَتَنَدَّمَ عَلَى مَا أَضَاعَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: 21- 24] . وَفِعْلُ صَدَّقَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ. وَالْمعْنَى: فَلَا ءامن بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ صَدَّقَ بِمَعْنَى أَعْطَى الصَّدَقَةَ، وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ التَّصْرِيفِ إِذْ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: تَصَدَّقَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ الِاسْتِدْرَاكَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ. وَعُطِفَ وَلا صَلَّى على نفس التَّصْدِيقِ تَشْوِيهًا لَهُ بِأَنَّ حَالَهُ مُبَائِنُ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يُسْلِمْ. وَلَا نَافِيَةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي دُخُولِهَا عَلَى الْمَاضِي أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا نَفْيٌ آخَرُ وَذَلِكَ حِينَ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَمْرَيْنِ مِثْلَ مَا هُنَا وَقَوْلِ زُهَيْرٍ: فَلَا هُوَ أَخْفَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ « (لَا) بِمَعْنَى (لَمْ) وَلَكِنَّهُ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَبْدُ اللَّهِ خَارِجٌ وَلَا فُلَانٌ، وَلَا يَقُولُونَ: مَرَّرْتُ بِرَجُلٍ لَا مُحْسِنٍ حَتَّى يُقَالَ: وَلَا مُجْمِلٍ» اهـ فَإِذَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ نَفْيٌ آخَرُ فَلَا يُؤْتَى بَعْدَهَا بِفِعْلِ مُضِيٍّ إِلَّا فِي إِرَادَةِ الدُّعَاءِ نَحْوَ: «لَا فُضَّ فُوكَ» وَشَذَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: 11] فَإِنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِحَرْفِ لَا وَهُوَ الْعَقَبَةُ يَتَضَمَّنُ عِدَّةَ أَشْيَاءَ مَنْفِيَّةً بَيَّنَهَا قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ

إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 12- 17] . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ كَانَ الْفِعْلُ فِي تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُّ رَقَبَةٍ وَلَا أَطْعَمَ يَتِيمًا وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَلَا آمَنَ. وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا صَدَّقَ. وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ النُّونِ بِالْأَصَالَةِ أَيِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُخَفَّفَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أُخْتَ (إِنَّ) هُوَ حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، أَيْ نَقْضٍ لِبَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا لِمُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْمَعْنَى بِذِكْرِ نَقِيضِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: 5] ، وَإِمَّا لِبَيَانِ إِجْمَالٍ فِي النَّفْيِ الَّذِي قَبْلَهُ نَحْوَ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 40] . وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ لَا يَعْمَلُ إِعْرَابًا فَهُوَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَفَادَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَوْكِيدُ قَوْلِهِ فَلا صَدَّقَ بِقَوْلِهِ: كَذَّبَ، وَثَانِيهُمَا زِيَادَةُ بَيَانِ مَعْنَى فَلا صَدَّقَ بِأَنَّهُ تَوَلَّى عَمْدًا لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ لَهُ أَحْوَالٌ، وَنَظِيرُهُ فِي غَيْرِ الِاسْتِدْرَاكِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: 34] . وَالتَّكْذِيبُ: تَكْذِيبُهُ بِالْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ. وَفَاعِلُ صَدَّقَ وَالْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ ضَمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. ويَتَمَطَّى: يَمْشِي الْمُطَيْطَاءَ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ طَاءٌ مَقْصُورَةٌ وَمَمْدُودَةٌ) وَهِيَ التَّبَخْتُرُ. وَأَصْلُ يَتَمَطَّى: يَتَمَطَّطُ، أَيْ يَتَمَدَّدُ لِأَنَّ الْمُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطَاهُ وَهِيَ مِشْيَةُ الْمُعْجَبِ بِنَفْسِهِ. وَهُنَا انْتَهَى وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَهْمَلَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ مُزْدَهِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي مَصِيرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى

نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: ثُمَّ كَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُصَرِّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَمَطَّى فَإِنَّهَا كَانَتْ مِشْيَةَ بَنِي مَخْزُومٍ وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُكْثِرُ مِنْهَا اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا. فَقَوْلُهُ: أَوْلى لَكَ وَعِيدٌ، وَهِيَ كَلِمَةُ تَوَعُّدٍ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ فِي لُزُومِ هَذَا اللَّفْظِ لَكِنْ تَلْحَقُهُ عَلَامَاتُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ وَالتَّكَلُّمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَيْلٌ لَكَ، مِنْ دُعَاءٍ عَلَى الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ بَعْدَهَا، أَيْ دُعَاءٍ بِأَنْ يَكُونَ الْمَكْرُوهُ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُ. فَأَوْلى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنْ وَلِيَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ فِي الْعُرْفِ، فَيُقَدِّرُهُ كُلُّ سَامِعٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ: قَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ: هَمَمْتُ بِنَفْسِي كُلَّ الْهُمُومِ ... فَأَوْلَى لِنَفْسِي أَوْلَى لَهَا وَكَانَ الْقَانِصُ إِذَا أَفْلَتَهُ الصَّيْدُ يُخَاطِبُ الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ: أَوْلى لَكَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَوْلى لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [20، 21] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ يَجْعَلُ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مُسْتَأْنَفًا وَلَيْسَ فَاعِلًا لِاسْمِ التَّفْضِيلِ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنْ أَوْلى عَلَمٌ لِمَعْنَى الْوَيْلِ وَأَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلُ مِنَ الْوَيْلِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، فَأَصْلُ تَصْرِيفِهِ أَوْيَلُ لَكَ، أَيْ أَشَدُّ هَلَاكًا لَكَ فَوَقَعَ فِيهِ الْقَلْبُ (لِطَلَبِ التَّخْفِيفِ) بِأَنْ أُخِّرَتِ الْيَاءُ إِلَى آخَرِ الْكَلِمَةِ وَصَارَ أَوْلَى بِوَزْنِ أَفْلَحَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهُ قُلِبَ أَلِفًا فَقَالُوا: أَوْلَى فِي صُورَةِ وَزْنِ فَعْلَى. وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُصَرِّحِ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِظْهَارًا وَإِضْمَارًا، وَعَدَلَ هُنَا عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِمُوَاجَهَةِ الْإِنْسَانِ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ أَوْقَعُ فِي التَّوْبِيخِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: أَوْلَى لَهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَوْلى تَأْكِيد ل أَوْلى لَكَ جِيءَ فِيهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْقُبَهُ الْمَكْرُوهُ وَيُعْقَبَ بِدُعَاءٍ آخَرَ.

[سورة القيامة (75) : آية 36]

قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاسْتَقْبَلَهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى بَابِ بَنِيَ مَخْزُومٍ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ فَلَبَّبَ أَبَا جَهِلٍ بِثِيَابِهِ وَقَالَ لَهُ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَتَهَدَّدُنِي مُحَمَّدٌ (أَيْ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ الدُّعَاءِ فِي إِرَادَة التهديد) فو الله إِنِّي لَأَعَزُّ أَهْلِ الْوَادِي. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى كَمَا قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تَأْكِيدٌ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَلِتَأْكِيدِهِ السَّابِقِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ، وَتَهْدِيدٌ بِأَشَدَّ مِمَّا أَفَادَهُ التهديد الأول وَتَأْكِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3، 4] . وَأَحْسَبُ أَنَّ الْمُرَادَ: كُلُّ إِنْسَانٍ كَافِرٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ إِلَى قَوْلِهِ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [الْقِيَامَة: 3- 14] ، وَمَا أَبُو جَهْلٍ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهِمْ، وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَعَّدَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَهْدِيدًا لِأَمْثَالِهِ. وَكَلِمَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبَ نُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَلِمَاتٌ فِيهَا تسَامح. [36] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : آيَة 36] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَهُوَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ فَارْتَبَطَ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ وَيَحْسَبُ أَنْ نَتْرُكَهُ فِي حَالَةِ الْعَدَمِ. وَزِيدَ هُنَا أَنَّ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِيقَاعُهُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُتْرَكَ سُدىً كَمَا سَتَعْلَمُهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌ مِثْلَ الَّذِي سَبَقَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] . وَأَصْلُ مَعْنَى التَرْكِ: مُفَارَقَةُ شَيْءٍ شَيْئًا اخْتِيَارًا مِنَ التَّارِكِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى

إِهْمَالِ أَحَدٍ شَيْئًا وَعَدَمِ عنايته بأحواله ويتعهده، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ. وَالْمُرَادُ بِمَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ حَالُ الْعَدَمِ دُونَ إِحْيَاءٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] وَقَوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [الْقِيَامَة: 13] . وَعُدِلَ عَنْ بِنَاءِ فِعْلِ يُتْرَكُ لِلْفَاعِلِ فَبُنِيَ لِلنَّائِبِ إِيجَازًا لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ قَوْله السَّابِق: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ نَتْرُكَهُ دُونَ بَعْثٍ وَأَنْ نُهْمِلَ أَعْمَالَهُ سُدًى. فَجَاءَ ذِكْرُ سُدىً هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، إِيمَاءً إِلَى أَنْ مُقْتَضَى حِكْمَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ خَالِقُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُحْيِيهِ لِيُجَازِيَهُ عَلَى مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ الْأُولَى. وَفِي إِعَادَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ تهيئة لما سيعقب مِنْ دَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ جَانِبِ الْمَادَّةِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً [الْقِيَامَة: 37] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. فَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً تَكْرِيرٌ وَتَعْدَادٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى الْكَافرين تكذيبهم بالعبث، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَى مَا قَدَّمَ الْإِنْسَانُ وَأَخَّرَ. وَمَعْنَى هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] . وسُدىً بِضَم السِّين وبالقصر: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُهْمَلِ وَيُقَالُ: سُدًى بِفَتْحِ السِّينِ وَالضَّمُّ أَكْثَرُ وَهُوَ اسْمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ يُقَالُ: إِبِلٌ سُدًى، وَجَمَلٌ سُدًى وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فِعْلٌ فَيُقَالُ: أَسْدَى إِبِلَهُ وَأَسْدَيْتُ إِبِلِي، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ. وَلَمْ يُفَسِّرْ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَكَذَلِكَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَوَقَعَ سُدىً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُتْرَكَ. فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَبْدَعَ تَرْكِيبَهُ وَوَهَبَهُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ لِيَسْتَعْمِلَهَا فِي مَنَافِعَ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ فِي ضِدِّ

[سورة القيامة (75) : الآيات 37 إلى 40]

ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدَ جَسِيمَةٍ، لَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ فَيَجْعَلَ الصَّالِحِينَ كَالْمُفْسِدِينَ وَالطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ كَالْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْمُتَمَكِّنُ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهِ الْمَصِيرَ، فَلَوْ أَهْمَلَهُ لَفَازَ أَهْلُ الْفَسَادِ فِي عَالَمِ الْكَسَادِ، وَلَمْ يُلَاقِ الصَّالِحُونَ مِنْ صَلَاحِهِمْ إِلَّا الْأَنْكَادَ، وَلَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الْحَكِيمِ إِهْمَالُ النَّاسِ يَهِيمُونَ فِي كل وَادي، وَتَرْكُهُمْ مَضْرِبًا لِقَوْلِ الْمَثَلِ «فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي» . وَلِذَلِكَ قَالَ فِي جَانِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] ، أَيْ لَا نُعِيدَ خَلْقَهُ وَنَبْعَثَهُ لِلْجَزَاءِ كَمَا أَبْلَغْنَاهُمْ، وَجَاءَ فِي جَانِبِ حِكْمَتِهِ بِمَا يُشَابِهُ الْأُسْلُوبَ السَّابِقَ فَقَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَيْ لَا يحْسب أَنه يُتْرَكَ غَيْرَ مَرْعِيٍّ بِالتَّكْلِيفِ كَمَا تُتْرَكُ الْإِبِلُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُجَازَاةَ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ السُّدَى الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى اهـ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُتْرَكَ سُدىً كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَقْصُودٌ مِنْهُ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَة. [37- 40] [سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 37 إِلَى 40] أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) اسْتِئْنَافٌ هُوَ عِلَّةٌ وَبَيَانٌ لِلْإِنْكَارِ الْمَسُوقِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ [الْقِيَامَة: 36] الَّذِي جعل تكريرا وتأييدا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ الْآيَةَ، أَيْ أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَادَّةٍ ضَعِيفَةٍ وَتَدَرُّجَهُ فِي أَطْوَارِ كِيَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْشَائِهِ إِنْشَاءً ثَانِيًا بَعْدَ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ وَاضْمِحْلَالِهَا، فَيَتَّصِلُ مَعْنَى الْكَلَامِ هَكَذَا: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ وَيَعُدُّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا. أَلَمْ نَبْدَأْ خَلْقَهُ إِذْ كَوَّنَاهُ نُطْفَةً ثُمَّ تَطَوَّرَ خَلْقُهُ أَطْوَارًا فَمَاذَا يُعْجِزُنَا أَنْ نُعِيدَ خَلْقَهُ ثَانِيًا كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَهَذِهِ الْجُمَلُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى. وَهَذَا الْبَيَانُ خَاصٌّ بِأَحَدِ مَعْنَيَيِ التَّرْكِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ تَرْكُهُ دُونَ إِحْيَاءٍ وَأَكْتَفِي

بِبَيَانِ هَذَا عَنْ بَيَانِ الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي قَيَّدَهُ قَوْله: سُدىً، [الْقِيَامَة: 36] أَيْ تَرْكُهُ بِدُونِ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِحْيَاءِ أَنْ يُجَازَى عَلَى عَمَلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ يُتْرَكَ فَانِيًا وَلَا تُجَدَّدَ حَيَاتُهُ. وَوَقَعَ وَصْفُ سُدىً فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى لُزُومِ بَعْثِ النَّاسِ مِنْ جَانِبِ الْحِكْمَةِ، وَانْتَقَلَ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ جَانِبِ الْمَادَّةِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ إِدْمَاجًا. فَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ وَطُوِّرَ أَطْوَارًا حَتَّى صَارَ جَسَدًا حَيًّا تَامَّ الْخِلْقَةِ وَالْإِحْسَاسِ فَكَانَ بَعْضُهُ مِنْ صِنْفِ الذُّكُورِ وَبَعْضُهُ مِنْ صِنْفِ الْإِنَاثِ، فَالَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْبَدِيعِ لَا يُعْجِزُهُ إِعَادَةُ خَلْقِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِحِكْمَةٍ دَقِيقَةٍ وَطَرِيقَةٍ أُخْرَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ. وَالنُّطْفَةُ: الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ سُمِّيَ بِهَا مَاءُ التَّنَاسُلِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِير معنى يُمْنى فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ: تُرَاقُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ فِعْلَ: مَنَى أَوْ أَمْنَى يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَرَاقَ سِوَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ فِي تَسْمِيَةِ (مِنَى) الَّتِي بِمَكَّةَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُرَاقُ بِهَا دِمَاءُ الْهَدْيِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا هَلْ هُوَ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَوْ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وَأَحْسَبُ هَذَا مِنَ الْتَلْفِيقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ طَلَبِهِمْ إِيجَادَ أَصْلٍ لِاشْتِقَاقِ الْأَعْلَامِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ صُرَاحٌ، فَاسْمُ (مِنَى) عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وَقَالَ ثَعْلَبُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَى اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، أَيْ قَدَّرَهُ لِأَنَّهَا تُنْحَرُ فِيهَا الْهَدَايَا وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ شُمَيْلٍ وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ تَمَنَّى بِمَعْنَى تُخْلَقُ مِنْ قَوْلِهِمْ مَنَى اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ خَلَقَهُمْ. وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مُضَارِعُ أَمْنَى الرَّجُلُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [58] . وَالْعَلَقَةُ: الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ الدَّمِ الْمُتَعَقِّدِ. وَعُطِفُ فِعْلُ كانَ عَلَقَةً بِحَرْفِ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الْرُتْبِي فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَقَةً أَعْجَبُ مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً لِأَنَّهُ صَارَ عَلَقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَاءً فَاخْتَلَطَ بِمَا تُفْرِزُهُ رَحِمُ الْأُنْثَى مِنَ الْبُوَيْضَاتِ فَكَانَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا عَلَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [46] مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى.

وَلَمَّا كَانَ تَكْوِينُهُ عَلَقَةً هُوَ مَبْدَأَ خَلْقِ الْجِسْمِ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَخَلَقَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ الْعَلَقَةَ يَعْقُبُهَا أَنْ تَصِيرَ مُضْغَةً إِلَى أَنْ يَتِمَّ خَلْقُ الْجَسَدِ وَتُنْفَخَ فِيهِ الرّوح. وَضمير فَخَلَقَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّكَ [الْقِيَامَة: 30] . وَكَذَلِكَ عُطِفَ فَسَوَّى بِالْفَاءِ. وَالتَّسْوِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَوَاءً، أَيْ مُعَدَّلًا مُقَوَّمًا قَالَ تَعَالَى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَة: 29] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الْأَعْلَى: 2] ، أَيْ فَجَعَلَهُ جَسَدًا مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ. وَمَفْعُولُ (خَلَقَ) وَمَفْعُولُ (سَوَّى) مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا، أَيْ فَخَلَقَهُ فَسَوَّاهُ. وَعُقِّبَ ذَلِكَ بِخَلْقِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى زَوْجَيْنِ وَمِنْهُمَا يَكُونُ التَّنَاسُلُ أَيْضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُمْنَى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِ نُطْفَةً. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَصْفُ مَنِيٍّ. وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ خَلْقَ جِسْمِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدَمٍ وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ، أَحَقُّ بِالِاسْتِبْعَادِ مِنْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَى الْجِسْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْجِسْمُ غَيْرَ نَاقِصٍ أَوْ نَقَصَ بَعْضُهُ أَوْ مُعْظَمُهُ فَهُوَ إِلَى بَثِّ الْحَيَاةِ فِيهِ وَإِعَادَةِ مَا فَنِيَ مِنْ أَجْزَائِهِ أَقَرَبُ مِنْ إِيجَادِ الْجِسْمِ مِنْ عَدَمٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِلْمَنْفِيِّ إِنْكَارَ تَقْرِيرٍ بِالْإِثْبَاتِ وَهَذَا غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ التقريري أَن يَقع عَلَى نَفْيٍ مَا يُرَادُ إِثْبَاتُهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُقَرَّرِ إِنْ أَرَادَ إِنْكَارًا كِنَايَةً عَنْ ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْكَارَ. وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْخِتَامِ بِمُحَسِّنِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَإِنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِإِنْكَارِ أَنْ يَحْسَبَ الْمُشْرِكُونَ اسْتِحَالَةَ الْبَعْثِ، وَتَسَلْسَلَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِأَفَانِينَ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّشْرِيطِ وَالِاسْتِدْلَالِ، إِلَى أَنْ أَفْضَى إِلَى اسْتِنْتَاجِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي قُدِّمَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: 3، 4] . وَتَعْمِيمُ الْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَعْدَ جَرَيَانِ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَلَى خُصُوصِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ أَوْ خُصُوصِ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ، يَجْعَلُ جُمْلَةَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى تَذْيِيلًا.

76- سورة الإنسان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 76- سُورَةُ الْإِنْسَانِ سُمِّيَتْ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سُورَةُ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ» . رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ ألم السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِنْسَانِ: 1] . وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» عِنْدَ ذِكْرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ. وَتُسَمَّى «سُورَةَ الدَّهْرِ» فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ تُسَمَّى «سُورَةَ الْأَمْشَاجِ» ، لِوُقُوعِ لَفْظِ الْأَمْشَاجِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ الطُّبَرِسِيُّ: أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْأَبْرَارِ» ، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ نَعِيمِ الْأَبْرَارِ وَذَكَرَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلم أره لغيره.

فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ لِهَذِهِ السُّورَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَنِيٌّ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ رَتَّبَهَا فِي مُصْحَفِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ مُعْظَمُ التَّفَاسِيرِ وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: 24] إِلَى آخِرِهَا، أَوْ قَوْلَهُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ [الْإِنْسَان: 24] إِلَخْ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ أَيَّةِ سُورَةٍ كَانَتْ تُعَدُّ فِي مَكَّةَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْإِنْسَانِ بِالْمَدِينَةِ وَهَذَا غَرِيبٌ. وَلَمْ يُعَيِّنُوا أَنَّهُ فِي أَيَّةِ سُورَةٍ كَانَ مَقْرُوءًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَإِنَّ أُسْلُوبَهَا وَمَعَانِيَهَا جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَلَا أَحْسَبُ الْبَاعِثَ عَلَى عَدِّهَا فِي الْمَدَنِيِّ إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ آيَةَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَان: 8] نَزَلَتْ فِي إِطْعَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَدِينَةِ مِسْكِينًا لَيْلَةً، وَيَتِيمًا أُخْرَى، وَأَسِيرًا أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى بِمَكَّةَ حَمْلًا لِلَفْظِ أَسِيرٍ عَلَى مَعْنَى أَسِيرِ الْحَرْبِ، أَوْ مَا رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ وَهُوَ أَنْصَارِيُّ، وَكَثِيرًا مَا حَمَلُوا نُزُولَ الْآيَةِ عَلَى مُثُلٍ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مَعَانِيهَا فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَسْبَابِ نُزُولٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ. وَعَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الثَّامِنَةَ وَالتِسْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَقَالَ: نَزَلَتْ بعد سُورَة الرحمان وَقَبْلَ سُورَةِ الطَّلَاقِ. وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى مَا رَآهُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. فَإِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَخْذًا بِتَرْتِيبِ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَتَكُونُ الثَلَاثِينَ أَوِ الْحَادِيَةَ وَالثَلَاثِينَ وَجَدِيرَةً بِأَنْ تُعَدَّ قَبْلَ سُورَةِ الْقِيَامَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي تَرْتِيبِ ابْنِ مَسْعُودٍ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ «سُنَنِهِ» عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ وَعَدَّ سُوَرًا فَقَالَ: وهَلْ أَتى وَلَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فِي رَكْعَةٍ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا تَأْلِيفُ ابْنِ مَسْعُودٍ (أَيْ تَأْلِيفُ مُصْحَفِهِ) : وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيَهَا إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا التَّذْكِيرُ بِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ كُوِّنَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَيْفَ يَقْضِي بِاسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ تَكْوِينِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحْقُوقٌ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ شُكْرًا لِخَالِقِهِ وَمُحَذَّرٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ. وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْحَالَيْنِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ وَصْفِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِحَالَتَيْهِ وَالْإِطْنَابِ فِي وَصْفِ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الِامْتِنَانُ عَلَى النَّاسِ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْإِدْرَاكِ وَالِامْتِنَانُ بِمَا أُعْطِيَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِرْشَادِهِ إِلَى الْخَيْرِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ شَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَهَا فَعَبَدَ غَيْرَهُ. وَتَثْبِيتُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَلِينَ لِلْكَافِرِينَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلرِّسَالَةِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَسْتَحِقُّ اللَّهُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا بالاضطلاع بهَا اصْطَفَاهُ لَهُ وَبِالْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَالْأَمْرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ من النَّهَار. [1] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَالِاسْتِفْهَامُ مِنْ أَقْسَامِ الْخِطَابِ وَهُوَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَمُسْتَعْمَلٍ فِي تَحْقِيقِ الْأَمْرِ الْمُقَرَّرِ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ طَلَبُ الْفَهْمِ، وَالتَّقْرِيرُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْعلم بِمَا قرر بِهِ وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ أَنْ يَعْتَرِفَ الْإِنْسَان لَهُ بالواحدانية فِي الرُّبُوبِيَّةِ إِبْطَالًا لِإِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْوِيقٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ. فَجُمْلَةُ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: 2] إِلَخْ.

وَ (هَلْ) حَرْفٌ يُفِيدُ الِاسْتِفْهَامَ وَمَعْنَى التَّحْقِيقِ، وَقَالَ جَمْعٌ أَصْلُ هَلْ إِنَّهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ مَثَلٌ (قَدْ) فِي الْخَبَرِ، وَبِمُلَازِمَةِ هَلْ الِاسْتِفْهَام كثير فِي الْكَلَامِ حَذْفُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهَا فَكَانَتْ فِيهِ بِمَعْنَى (قَدْ) ، وَخُصَّتْ بِالِاسْتِفْهَامِ فَلَا تَقَعُ فِي الْخَبَرِ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ بِهَا مَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الِاسْتِعْمَالَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [210] . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَمْلَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى. وَالْمَعْنَى: هَلْ يُقِرُّ كُلُّ إِنْسَانٍ مَوْجُودٍ أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا زَمَانًا طَوِيلًا، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ، أَيْ لَمْ يَكُنْ يُسَمَّى وَلَا يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بِذَاتِهِ (وَإِنْ كَانَ قَدْ يُذْكَرُ بِوَجْهِ الْعُمُومِ فِي نَحْوِ قَوْلِ النَّاسِ: الْمَعْدُومُ مُتَوَقِّفٌ وُجُودُهُ عَلَى فَاعِلٍ. وَقَوْلُ الْوَاقِفِ: حُبِسْتُ عَلَى ذُرِّيَّتِي، وَنَحْوَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ ذِكْرًا لِمُعَيَّنٍ وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ وَجُودُهُ) . وَهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اكْتُفِيَ بِتَوْجِيهِ هَذَا التَّقْرِيرِ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ. وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانِ لِلِاسْتِغْرَاقِ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَة [الْعَصْر: 2، 3] ، أَيْ هَلْ أَتَى عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ حِينٌ كَانَ فِيهِ مَعْدُومًا. والدَّهْرِ: الزَّمَانُ الطَّوِيلُ أَوِ الزَّمَانُ الْمُقَارِنُ لِوُجُودِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ. وَالْحِينُ: مِقْدَارٌ مُجْمَلٌ مِنَ الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى سَاعَةٍ وَعَلَى أَكْثَرَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَقْصَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحِينُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَلَا أَحْسَبُهُ. وَجُمْلَةُ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِ حِينٌ بِتَقْدِيرِ ضَمِيرٍ رَابِطٍ بِمَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ لَفْظِ حِينٌ عَلَى أَنَّ الْعَائِدَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ حُذِفَ مَعَ جَارِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَة: 48] إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مَذْكُورًا، أَيْ كَانَ مَعْدُومًا فِي زَمَنٍ سَبَقَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْإِنْسانِ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ كَحَذْفِهِ فِي تَقْدِيرِ النَّعْتِ.

[سورة الإنسان (76) : آية 2]

وَالشَّيْءُ: اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ. وَالْمَذْكُورُ: الْمُعَيَّنُ الَّذِي هُوَ بِحَيْثُ يُذْكَرُ، أَيْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بالأخبار وَالْأَحْوَال. ويعلّق لَفْظُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ بِالْأَفْعَالِ. فَأَمَّا الْمَعْدُومُ فَلَا يُذَكَرُ لِأَنَّهُ لَا تَعَيُّنَ لَهُ فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِعُنْوَانِهِ الْعَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا. وَلِهَذَا نَجْعَلُ مَذْكُوراً وَصْفًا لِ شَيْئاً، أُرِيدَ بِهِ تَقْيِيدُ شَيْئاً، أَيْ شَيْئًا خَاصًّا وَهُوَ الْمَوْجُودُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِاسْمِهِ المعيّن لَهُ. [2] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 2] إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُتَرَتِّبٌ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَان: 1] لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيقِ. وَالتَّقْرِيرُ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَالسَّامِعُ يَتَشَوَّفُ لِمَا يَرِدُ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَ نُطْفَةً كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ اسْتَخْرَجَ مِنْهَا إِنْسَانًا، فَثَبَتَ تَعَلُّقُ الْخَلْقِ بِالْإِنْسَانِ بَعْدَ عَدمه. وتأكيد الْكَلَام بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ حَيْثُ عَبَدُوا أَصْنَامًا لَمْ يَخْلُقُوهُمْ. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ مِثْلُ مَا أُرِيدَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِنْسَانِ: 1] أَيْ كُلُّ نَوْعِ الْإِنْسَانِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ كَيْفِيَّةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةِ التَّنَاسُلِ لِمَا فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ مِنْ دَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى النُّطْفَةِ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ. وأَمْشاجٍ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَشْجِ وَهُوَ الْخَلْطُ، أَيْ نُطْفَةٌ مَخْلُوطَةٌ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] وَذَلِكَ يُفَسر مَعْنَى الْخَلْطِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا.

وَصِيغَةُ أَمْشاجٍ ظَاهِرُهَا صِيغَةُ جَمْعٍ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهَا الْفَرَّاءُ وَابْنُ السِّكِّيتِ وَالْمُبَرَّدُ، فَهِيَ إِمَّا جَمْعُ مِشْجٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ بِوَزْنِ عَدْلٍ، أَيْ مَمْشُوجٍ، أَيْ مَخْلُوطٍ مِثْلَ ذِبْحٍ، وَهَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» ، أَوْ جَمْعُ مَشَجٍ بِفَتْحَتَيْنِ مِثْلَ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، أَوْ جَمْعُ مَشِجٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مِثْلَ كَتِفٍ وَأَكْتَافٍ. وَالْوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ أَمْشاجٍ مُفْرَدٌ كَقَوْلِهِمْ: بُرْمَةُ أَعْشَارٍ وَبُرْدُ أَكْيَاشٍ (بِهَمْزَةٍ وَكَافٍ وَتَحْتِيَّةٍ وَأَلِفٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ الَّذِي أُعِيدَ غَزْلُهُ مَرَّتَيْنِ) . قَالَ: «وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَمْشَاجُ جَمْعَ مَشِجٍ بَلْ هُمَا (أَيْ مَشِجٌ وَأَمْشَاجٌ) مِثْلَانِ فِي الْإِفْرَادِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ: إِنَّهُ خَالَفَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ. وَأَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ صَرِيحًا فِي مَنْعِ أَنْ يَكُونَ أَمْشاجٍ مُفردا لِأَن أَثْبَتَ الْإِفْرَادَ فِي كَلِمَةِ أَنْعَامٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مَعْرُوفٌ بِشِدَّةِ مُتَابَعَةِ سِيبَوَيْهِ. فَإِذَا كَانَ أَمْشاجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفْرَدًا كَانَ عَلَى صُورَةِ الْجَمْعِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» . فَوَصْفُ نُطْفَةٍ بِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَإِذَا كَانَ جَمْعًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالْمُبَرِّدِ، كَانَ وَصْفُ النُّطْفَةِ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النُّطْفَةُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الْخَوَاصِّ، (فَلِذَلِكَ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ النُّطْفَةِ عُضْوًا) فوصف النُّطْفَة يجمع الِاسْمِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدَةِ الِاخْتِلَاطِ. وَهَذِهِ الْأَمْشَاجُ مِنْهَا مَا هُوَ أَجزَاء كيمائية نَبَاتِيَّةٌ أَوْ تُرَابِيَّةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَنَاصِرُ قُوَى الْحَيَاةِ. وَجُمْلَةُ نَبْتَلِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُرِيدِينَ ابْتِلَاءَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ بَعْدَ بُلُوغِهِ طَوْرَ الْعَقْلِ وَالتَّكْلِيفِ، وَهَذِهِ الْحَالُ كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا. وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَالُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقْنَا وَبَيْنَ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ، أَيِ التَّكْلِيفُ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ امْتِثَالُهُ أَوْ عِصْيَانُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ هِدَايَتِهِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقَعَ نَبْتَلِيهِ بَعْدَ جُمْلَةِ إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الْإِنْسَان: 3] ، وَلَكِنَّهُ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ.

[سورة الإنسان (76) : آية 3]

وَجِيءَ بِجُمْلَةِ إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ نَبْتَلِيهِ تَفَنُّنًا فِي نَظْمِ الْكَلَامِ. وَحَقِيقَةُ الِابْتِلَاءِ: الِاخْتِبَارُ لِتُعْرَفَ حَالُ الشَّيْءِ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ يُظْهِرُ تَفَاوُتَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فِي الْوَفَاءِ بِإِقَامَتِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ أَنَّهُ جَعَلَهُ سَمِيعاً بَصِيراً، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الَّتِي كَانَتْ أَصْلَ تَفْكِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفُهُ بِالسَّمِيعِ الْبَصِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمْ يَقُلْ فَجَعَلْنَاهُ: سَامِعًا مُبْصِرًا، لِأَنَّ سَمْعَ الْإِنْسَانِ وَبَصَرَهُ أَكْثَرُ تَحْصِيلًا وَتَمْيِيزًا فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ مِنْ سَمْعِ وَبَصَرِ الْحَيَوَانِ، فَبِالسَّمْعِ يَتَلَقَّى الشَّرَائِعَ وَدَعْوَةَ الرُّسُلِ وَبِالْبَصَرِ يَنْظُرُ فِي أَدِلَّةِ وُجُودِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ. وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِهِ تِجَاهَ التَّكْلِيفِ وَاتِّبَاعِ الشَّرَائِعِ وَتِلْكَ خَصِيصِيِّةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا ارْتَكَزَتْ مَدَنِيَّتُهُ وَانْتَظَمَتْ جَامِعَاتُهُ، وَلِذَلِكَ أُعْقِبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ الْآيَات. [3] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 3] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ مَا نَشَأَ عَنْ جملَة نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَان: 2] وَلِتَفْصِيلِ جُمْلَةِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَان: 2] ، وَتَخَلُّصٌ إِلَى الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْوَعْدِ عَلَى الشُّكْرِ. وَهِدَايَةُ السَّبِيلِ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُرْشِدِ. والسَّبِيلَ: الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ إِلَى مَا فِيهِ النَّفْعُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ فَوْزِهِ بِالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ، بِحَالِ مَنْ يَدُلُّ السَّائِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى مَقْصِدِهِ مِنْ سَيْرِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ يَنْحَلُّ إِلَى تَشْبِيهَاتِ أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى كَالْهَادِي، وَالْإِنْسَانُ يُشْبِهُ السَّائِرَ الْمُتَحَيِّرَ فِي الطَّرِيقِ، وَأَعْمَالُ الدِّينِ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ، وَفَوْزُ الْمُتَتَبِّعِ لِهَدْيِ اللَّهِ يُشْبِهُ الْبُلُوغَ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ. وَفِي هَذَا نِدَاء عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ الْإِنْسَانَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَدْخَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ضَلَالَ الِاعْتِقَادِ وَمَفَاسِدَ الْأَعْمَالِ، فَمَنْ بَرَّأَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّاكِرُ

وَغَيْرُهُ الْكَفُورُ، وَذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ حَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ مَنْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَأَخَرَ سَيِّئًا. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بَاطِلٌ. وإِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي هَدَيْناهُ، وَهُوَ ضمير الْإِنْسانَ [الْإِنْسَانَ: 2] . وإِمَّا حَرْفُ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ حَرْفٌ بَسِيطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ وَ (مَا) النَّافِيَةِ. وَقَدْ تَجَرَّدَتْ (إِنْ) بِالتَّرْكِيبِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ كَمَا تَجَرَّدَتْ (مَا) عَنِ النَّفْيِ، فَصَارَ مَجْمُوعُ إِمَّا حَرْفَ تَفْصِيلٍ، وَلَا عَمَلَ لَهَا فِي الِاسْمِ بَعْدَهَا وَلَا تَمْنَعُ الْعَامِلَ الَّذِي قَبْلَهَا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَعْمُولِهِ الَّذِي بَعْدَهَا فَهِيَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ (الْ) حَرْفِ التَّعْرِيفِ. وَقَدَّرَ بَعْضُ النُّحَاةِ إِمَّا الثَّانِيَةَ حَرْفَ عَطْفٍ وَهُوَ تَحَكُّمٌ إِذْ جَعَلُوا الثَّانِيَةَ عَاطِفَةً وَهِيَ أُخْتُ الْأُولَى، وَإِنَّمَا الْعَاطِفُ الْوَاوُ وإِمَّا مُقْحَمَةٌ بَيْنَ الِاسْمِ وَمَعْمُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٌ وَمِنَّةٌ ... وَإِمَّا دَمٌ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ فَإِنَّ الِاسْمَيْنِ بَعْدَ (إِمَّا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْبَيْتِ مَجْرُورَانِ بِالْإِضَافَةِ وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ مِنْ قَوْلِهِ: هُمَا خُطَّتَا، وَذَلِكَ أَفْصَحُ كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: «أَمَّا مَنْ جَرَّ (إِسَارٍ) فَإِنَّهُ حَذَفَ النُّونَ لِلْإِضَافَةِ وَلَمْ يَعْتَدْ (إِمَّا) فَاصِلًا بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا تَقُولُ: هُمَا إِمَّا غُلَامَا زَيْدٍ وَإِمَّا عَمْرٍو، وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا أَنْ تَقُولَ: هُمَا خُطَّتَا إِسَارٍ وَمِنَّةٍ وَإِمَّا خُطَّتَا دَمٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الرَّفْعُ فَطَرِيقُ الْمَذْهَبِ، وَظَاهِرُ أَمْرِهِ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ حَذَفَ النُّونَ لِغَيْرِ الْإِضَافَةِ فَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ» إِلَخْ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْبَيْتَ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ: الْجَرِّ وَالرَّفْعِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ كَلَامُ الْمَرْزُوقِيِّ وَزَادَ فَقَالَ «وَحَذْفُ النُّونِ إِذَا رُفِعَتْ (إِسَارٌ) اسْتِطَالَةٌ لِلِاسْمِ كَأَنَّهُ اسْتَطَالَ خُطَّتَا بِبَدَلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِمَّا إِسَارٌ» إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ فِي حَالِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ أَمْرُهُ بَيْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ

[سورة الإنسان (76) : آية 4]

وَصْفِ شَاكِرٍ وَوَصْفِ كَفُورٍ، فَأَحَدُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى التَّرْدِيدِ مُقَارِنٌ لِحَالِ إِرْشَادِهِ إِلَى السَّبِيلِ، وَهِيَ مُقَارَنَةٌ عُرْفِيَّةٌ، أَيْ عَقِبُ التَّبْلِيغِ وَالتَّأَمُّلِ، فَإِنْ أَخَذَ بِالْهُدَى كَانَ شَاكِرًا وَإِنْ أَعْرَضَ كَانَ كَفُورًا كَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِإِرْشَادِ مَنْ يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ فَيَأْخُذْ فِي طَرِيقٍ يَلْقَى بِهِ السِّبَاعَ أَوِ اللُّصُوصَ، وَبِذَلِكَ تَمَّ التَّمْثِيلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ. [4] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 4] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) أُرِيدَ التَّخَلُّصُ إِلَى جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ الشَّاكِرِ وَالْكَفُورِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَان: 3] يُثِيرُ تَطَلُّعَ السَّامِعِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ آثَارِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ الْمُتَرَدِّدِ حَالُهُ بَيْنَهُمَا، فَابْتُدِئَ بِجَزَاءِ الْكَافِرِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ أَقْرَبُ. وَأَكَّدَ الْخَبَرَ عَنِ الْوَعِيدِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُتَوَعِّدَ إِذَا أَكَّدَ كَلَامَهُ بِمُؤَكَّدٍ فَقَدْ آذَنَ بِأَنَّهُ لَا هَوَادَةَ لَهُ فِي وَعِيدِهِ. وَأَصْلُ أَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا، بِدَالِينِ، أَيْ هَيَّأْنَا لِلْكَافِرِينَ، يُقَالُ: اعْتَدَّ كَمَا يُقَالُ: أَعَدَّ، قَالَ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يُوسُف: 31] . وَقَدْ تَرَدَّدَ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ بِدَالِينِ أَوْ بِتَاءٍ وَدَالٍ فَلَمْ يَجْزِمُوا بِأَيِّهِمَا الْأَصْلُ لِكَثْرَةِ وُرُودِ فِعْلِ: أَعَدَّ، وَفِعْلِ اعْتَدَّ فِي الْكَلَامِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا فِعْلَانِ نَشَآ مِنْ لُغَتَيْنِ غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ خَصَّ الْفِعْلَ ذَا التَّاءِ بِعُدَّةِ الْحَرْبِ فَقَالُوا: عَتَادُ الْحَرْبِ وَلَمْ يَقُولُوا عَدَادُ. وَأَمَّا الْعُدَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَتَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا يُعَدُّ وَيُهَيَّأُ، يُقَالُ: أَعَدَّ لِكُلِّ حَالٍ عُدَّةً. وَيُطْلَقُ الْعَتَادُ عَلَى مَا يُعَدُّ مِنَ الْأُمُورِ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ الْإِدْغَامُ جِيءَ بِالْفِعْلِ الَّذِي عَيْنُهُ دَالٌ وَإِذَا وُجِدَ مُقْتَضَى فَكِّ الْإِدْغَامِ لِمُوجِبٍ مِثْلِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ جِيءَ بِالْفِعْلِ الَّذِي عَيْنُهُ تَاءٌ. وَالسَّلَاسِلُ: الْقُيُودُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ حَلَقِ الْحَدِيدِ يُقَيَّدُ بِهَا الْجُنَاةُ وَالْأَسْرَى. وَالْأَغْلَالُ: جَمْعُ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ حَلْقَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ حَدِيدٍ تُوضَعُ فِي رَقَبَةِ

الْمُقَيَّدِ، وَتُنَاطُ بِهَا السِّلْسِلَةُ قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 71] فَالْأَغْلَالُ وَالسَّلَاسِلُ تُوضَعُ لَهُمْ عِنْدَ سَوْقِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ، أَيِ الَّتِي سَعَّرَهَا الْمُوقِدُونَ بِزِيَادَةِ الْوَقُودِ لِيَشْتَدَّ الْتِهَابُهَا فَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ جُعِلَ عِلْمًا عَلَى جَهَنَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [97] . وَكُتِبَ سَلَاسِلًا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ بِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ الثَّانِيَةِ وَلَكِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَتِهِ، فَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَر قرأوا سَلَاسِلًا مُنَوَّنًا فِي الْوَصْلِ وَوَقَفُوا عَلَيْهِ كَمَا يُوقِفُ عَلَى الْمُنَوَّنِ الْمَنْصُوبِ، وَإِذْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ مُنْتَهَى الْجَمْعِ تَعَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَتَهُ بِالتَّنْوِينِ لِمُرَاعَاةِ مُزَاوَجَتِهِ مَعَ الِاسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ وَهُمَا أَغْلالًا وسَعِيراً، وَالْمُزَاوَجَةُ طَرِيقَةٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِسَاءٍ «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» فَجَعَلَ «مَأْزُورَاتٍ» مَهْمُوزًا وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بِالْوَاوِ لَكِنَّهُ هُمِزَ لِمُزَاوَجَةِ مَأْجُورَاتٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ الْكَافِرَ «فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ» ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَلَوْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ أَوِ الْقَلَّاحُ: هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبَوِبَةٍ ... يُخَالِطُ الْبِرُّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّينَا فَقَوْلُهُ (أَبْوِبَةٍ) جَمْعُ بَابٍ وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ أَبْوَابٍ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَتِينَةٌ يُعَضِّدُهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ وَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةٍ عَرَبِيَّةٍ فَصِيحَةٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِدُونِ تَنْوِينٍ فِي الْوَصْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَتِهِ إِذَا وَقَفُوا عَلَيْهِ فَأَكْثَرُهُمْ قَرَأَهُ فِي الْوَقْفِ بِدُونِ أَلِفٍ فَيَقُولُ سَلاسِلَ فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالْأَلِفِ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُنَوَّنًا فِي الْوَصْلِ. قَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْوَقْفِ بِجَوَازِ الْوَجْهَيْنِ بِالْأَلِفِ وَبِتَرْكِهَا. فَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُنَوِّنُوا سَلَاسِلَا فِي الْوَصْلِ وَوَقَفُوا عَلَيْهِ بِأَلِفٍ بَعْدَ لَامِهِ الثَّانِيَةِ.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 5 إلى 6]

وَهُمَا أَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَمُخَالَفَةُ رِوَايَتِهِمْ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّسْمَ جَرَى عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَقْفِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فَكِتَابَةُ الْأَلِفِ بَعْدَ اللَّامِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِشْبَاعِ الْفَتْحَةِ عِنْدَ الْوَقْفِ لِمُزَاوَجَةِ الْفَوَاصِلِ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ كَثِيرًا مَا تُعْطَى أَحْكَامَ الْقَوَافِي وَالْأَسْجَاعِ. وَبَعْدُ فَالْقِرَاءَاتُ رِوَايَاتٌ مَسْمُوعَةٌ وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِهِ وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَذَرَ عَنِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: سَلَاسِلًا بِأَنَّهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ كَالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّوَاتُر. [5- 6] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 5 إِلَى 6] إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) هَذَا اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ [الْإِنْسَان: 4] إِلَخْ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مَا أُعِدَّ لِلْكَفُورِ مِنَ الْجَزَاءِ يَتَطَلَّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُعِدَّ لِلشَّاكِرِ مِنَ الثَّوَابِ. وَأُخِّرَ تَفْصِيلُهُ عَنْ تَفْصِيلِ جَزَاءِ الْكَفُورِ مَعَ أَن شاكِراً [الْإِنْسَان: 3] مَذْكُورٌ قبل كَفُوراً [الْإِنْسَان: 3] ، عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ لِيَتَّسِعَ الْمَجَالُ لِإِطْنَابِ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، تَقْرِيبًا لِلْمَوْصُوفِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمَحْسُوسَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ عَنْ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ لِدَفْعِ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ خَيْرًا مِنْهُمْ فِي عَالَمِ الْخُلُودِ، وَلِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. والْأَبْرارَ: هُمُ الشَّاكِرُونَ، عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْأَبْرَارِ زِيَادَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. والْأَبْرارَ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَجَمْعُ بَارٍّ أَيْضًا مِثْلُ شَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَالْبَارُّ أَوِ الْبَرُّ الْمُكْثِرُ مِنَ الْبِرِّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْبَرُّ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطّور: 28] .

وَوَصْفُ بَرٍّ أَقْوَى مِنْ بَارٍّ فِي الِاتِّصَافِ بِالْبِرِّ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: اللَّهُ بَرٌّ، وَلَمْ يُقَلْ: اللَّهُ بَارٌّ. وَيُجْمَعُ بَرٌّ عَلَى بَرَرَةٍ. وَوَقَعَ فِي «مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ» : أَنَّ بَرَرَةَ أَبْلَغُ مِنْ أَبْرَارٍ. وَابْتُدِئَ فِي وَصْفِ نَعِيمِهِمْ بِنَعِيمِ لَذَّةِ الشُّرْبِ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ لِمَا لِلَذَّةِ الْخَمْرِ مِنَ الِاشْتِهَارِ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي تَحْصِيلهَا. والكأس: بِالْهَمْزَةِ الْإِنَاءُ الْمَجْعُولُ لِلْخَمْرِ فَلَا يُسَمَّى كَأْسًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ، وَقَدْ تُسَمَّى الْخَمْرُ كَأْسًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا سَيَجِيءُ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا [الْإِنْسَان: 17] فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هُنَا آنِيَةُ الْخَمْرِ فَتَكُونُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ وَإِفْرَادُ كَأْسٍ لِلنَّوْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُرَادَ الْخَمْرُ فَتَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَكَأْسٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ وَتَنْوِينُهُ لِتَعْظِيمِهِ فِي نَوْعِهِ. وَالْمِزَاجُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا يُمْزَجُ بِهِ غَيْرُهُ، أَيْ يُخْلَطُ وَكَانُوا يَمْزِجُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ إِذَا كَانَتِ الْخَمْرُ مُعَتَّقَةً شَدِيدَةً لِيُخَفِّفُوا مِنْ حِدَّتِهَا وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ مَزْجِ الْخَمْرِ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَثِيرًا. وَضَمِيرُ مِزاجُها عَائِدٌ إِلَى كَأْسٍ. فَإِذَا أُرِيدَ بِالْكَأْسِ إِنَاءُ الْخَمْرِ فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ مِزَاجُ مَا فِيهَا، وَإِذَا أُرِيدَتِ الْخَمْرُ فَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَالْكَافُورُ: «زَيِتٌ يُسْتَخْرَجُ مِنْ شَجَرَةٍ تُشْبِهُ الدِفْلَى تَنْبُتُ فِي بِلَادِ الصِّينِ وَجَاوَةَ يَتَكَوَّنُ فِيهَا إِذَا طَالَتْ مُدَّتُهَا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ فَيُغَلَّى حَطَبُهَا وَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُ زَيْتٌ يُسَمَّى الْكَافُورُ. وَهُوَ ثِخِنٌ قَدْ يَتَصَلَّبُ فَيَصِيرُ كَالزَّبَدِ وَإِذَا يَقَعُ حَطَبُ شَجَرَةِ الْكَافُورِ فِي الْمَاءِ صَارَ نَبِيذًا يَتَخَمَّرُ فَيَصِيرُ مُسْكِرًا. وَالْكَافُورُ أَبْيَضُ اللَّوْنِ ذَكِيُّ الرَّائِحَةِ مُنْعِشٌ. فَقِيلَ إِنَّ الْمِزَاجَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْمَاءُ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَافُورٌ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ فِي اللَّوْنِ أَوْ ذَكَاءِ الرَّائِحَةِ، وَلَعَلَّ الَّذِي دَعَا بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى هَذَا أَنَّ

الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ فِي طِيبِ الْخَمْرِ أَنْ يُوضَعَ الْمِسْكُ فِي جَوَانِبِ الْبَاطِيَةِ قَالَ النَّابِغَةُ: وَتُسْقَى إِذَا مَا شِئْتَ غَيْرَ مُصَرَّدِ ... بِزَوْرَاءَ فِي حَافَاتِهَا الْمِسْكُ كَارِعُ وَيُخْتَمُ عَلَى آنِيَةِ الْخَمْرِ بِخَاتَمٍ مِنْ مِسْكٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ [المطففين: 25، 26] . وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْفِلْفِلَ فِي الْخَمْرِ لِحُسْنِ رَائِحَتِهِ وَلَذْعَةِ حَرَارَتِهِ لَذْعَةً لَذِيذَةً فِي اللِّسَانِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: صُبِّحْنَ سُلَافًا مِنْ رَحِيقٍ مُفَلْفَلٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا يَمْزِجُونَ الْخَمْرَ بِمَاءٍ فِيهِ الْكَافُورُ أَوْ بِزَيْتِهِ فَيَكُونُ الْمِزَاجُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِمَّا تُمْزَجُ بِهِ الْخَمْرُ وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ التَّرَفِ لِأَنَّ الْكَافُورَ ثَمِينٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْعُطُورِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَافُورَ اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ وَسَتَعْلَمُ حَقَّ الْمُرَادِ مِنْهُ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ فِي جُمْلَةِ الصِّفَةِ بِقَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها كافُوراً لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِزَاجُهَا لَا يُفَارِقُهَا إِذْ كَانَ مُعْتَادُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا نُدْرَةَ ذَلِكَ الْمِزَاجِ لِغَلَاءِ ثَمَنِهِ وَقِلَّةِ وِجْدَانِهِ. وانتصب عَيْناً على الْبَدَلِ مِنْ كافُوراً أَيْ ذَلِكَ الْكَافُورُ تَجْرِي بِهِ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَاءٍ مَحْلُولٍ فِيهِ أَوْ مِنْ زَيْتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّد: 15] . وَعُدِّيَ فِعْلُ يَشْرَبُ بِالْبَاءِ وَهِيَ بَاءُ الْإِلْصَاقِ لِأَنَّ الْكَافُورَ يُمْزَجُ بِهِ شَرَابُهُمْ. فَالتَّقْدِيرُ: عَيْنًا يَشْرَبُ عِبَادُ اللَّهِ خَمْرَهُمْ بِهَا، أَيْ مَصْحُوبًا بِمَائِهَا، وَذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ إِلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ بِمَعْنَى (مِنْ) التَّبْعِيضِيةِ وَوَافَقَهُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ مَالِكٍ، وَعَدَّ فِي كُتُبِهِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ وَنُسِبَ إِلَى الْكُوفِيِّينَ. وعِبادُ اللَّهِ مُرَادٌ بِهِمْ: الْأَبْرَارُ. وَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ بِإِضَافَةِ عُبُودِيَّتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ.

[سورة الإنسان (76) : آية 7]

وَ (التفجيرُ) : فَتْحُ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ أَيِ اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ الْغَزِيرِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الِاسْتِقَاءِ مِنْهَا بِلَا حَدٍّ وَلَا نُضُوبٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَفْجُرُ لِنَفْسِهِ يَنْبُوعًا وَهَذَا مِنْ الِاسْتِعَارَةِ. وَأُكِّدَ فِعْلُ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ترشيحا للاستعارة. [7] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 7] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الْإِنْسَان: 5] إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: 15] إِلَخْ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مِنْ شَأْنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَنْ يثيره فِي نَفسه السَّامِعِ الْمُغْتَبِطِ بِأَنْ يَنَالَ مِثْلَ مَا نَالُوا مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَيَهْتَمُّ بِأَن يفعل مثل مَا فَعَلُوا، فَذَكَرَ بَعْضَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ مَعَ التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِالِاسْتِزَادَةِ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا. وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ صَادِرٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، بَعْضُهُ وَصْفٌ لِحَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَبَعْضُهُ وَصْفٌ لِبَعْضِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْمُوجِبِ لِنَوَالِ مَا نَالُوهُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارًا وَتَقْدِيرُهُ: كَانُوا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ. وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ حَالًا من الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان: 5] وَضَمِيرِهِمْ لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا فَلَوْ جُعِلَتْ حَالًا لَكَانَتْ قَيْدًا ل يَشْرَبُونَ [الْإِنْسَان: 5] ، وَلَيْسَ وَفَاؤُهُمْ بِالنَّذْرِ بِحَاصِلٍ فِي وَقْتِ شُرْبِهِمْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ بَلْ هُوَ بِمَا أَسْلَفُوهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْوَفَاءُ: أَدَاءُ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُؤَدِّي وَافِيًا دُونَ نَقْصٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِيهِ. وَالنَّذْرُ: مَا يَعْتَزِمُهُ الْمَرْءُ وَيَعْقِدُ عَلَيْهِ نِيَّتَهُ، قَالَ عَنْتَرَةُ: وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَمْ أَلْقَهُمَا دَمِي وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا عَقَدُوا عَلَيْهِ عَزْمَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِامْتِثَالِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ صفة الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان: 5] . وَيَجُوزُ أَن يُرَاد بِالنَّذْرِ مَا يُنْذِرُونَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يُنْشِئُونَ النُّذُورَ بِهَا لِيُوجِبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ وَفَائِهِمْ بِمَا عَقَدُوا عَلَيْهِ ضَمَائِرَهُمْ مِنْ

الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ نَذْرَ الطَّاعَاتِ وَفِعْلَ الْقُرُبَاتِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ مَوْجِبًا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّذْرِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ نَذْرٍ. وَعُطِفَ عَلَى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قَوْلُهُ: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً لِأَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِالْعَمَلِ بِمَا يُنْذِرُونَهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حُسْنِ نِيَّتِهِمْ وَتَحَقُّقِ إِخْلَاصِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَاتِ فَجُمِعَ لَهُمْ بِهَذَا صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ وَحُسْنُ الْأَعْمَالِ. وَخَوْفُهُمُ الْيَوْمَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ جَرَى فِي تَعَلُّقِ الْيَوْمِ بِالْخَوْفِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَخَافُونَ مَا يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِئَةِ بِالْعِقَابِ فَعُلِّقَ فِعْلُ الْخَوْفِ بِزَمَانِ الْأَشْيَاءِ الْمَخُوفَةِ. وَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ يَخافُونَ وَلَا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَوْفِ خَوْفُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذُنُوبٍ تَجُرُّ إِلَيْهِمُ الْعِقَابَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ آمِنُونَ. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِأَنَّ لَهُ شَرًّا مُسْتَطِيرًا وَصْفًا مُشْعِرًا بِعِلَّةِ خَوْفِهِمْ إِيَّاهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخَافُونَ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَتَجَنَّبُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى شَرِّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِالْعِقَابِ. وَالشَّرُّ: الْعَذَاب وَالْجَزَاء بالسوء. وَالْمُسْتَطِيرُ: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اسْتِطَارَ الْقَاصِرِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتِطَارَ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصْلُهُ طَارَ مِثْلَ اسْتَكْبَرَ. وَالطَّيَرَانُ مَجَازِيٌّ مُسْتَعَارٌ لِانْتِشَارِ الشَّيْءِ وَامْتِدَادِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِانْتِشَارِ الطَّيْرِ فِي الْجَوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ، وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ الَّذِي ينتشر ضوؤه فِي الْأُفُقِ وَيُقَالُ: اسْتَطَارَ الْحَرِيقُ إِذَا انْتَشَرَ وَتَلَاحَقَ. وَذِكْرُ فِعْلِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَبَرِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَإِلَّا فَإِنَّ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الْمَاضِي وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ مُسْتَقْبَلٍ بَعِيدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَصِيغَةُ يَخافُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ خَوْفِهِمْ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 8 إلى 10]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 8 إِلَى 10] وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) خُصِّصَ الْإِطْعَامُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِي إِطْعَامِ الْمُحْتَاجِ مِنْ إِيثَارِهِ عَلَى النَّفْسِ كَمَا أَفَادَ قَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ. وَالتَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الطَّعَامِ مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِ يُطْعِمُونَ تَوْطِئَةٌ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْحَالُ وَهُوَ عَلى حُبِّهِ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَيُطْعِمُونَ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا لَفَاتَ مَا فِي قَوْلِهِ عَلى حُبِّهِ مِنْ مَعْنَى إِيثَارِ الْمَحَاوِيجِ عَلَى النَّفْسِ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ بَعْدَ يُطْعِمُونَ يُفِيدُ تَأْكِيدًا مَعَ اسْتِحْضَارِ هَيْئَةِ الْإِطْعَامِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُشَاهِدُ الْهَيْئَةَ. وعَلى حُبِّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُطْعِمُونَ. وعَلى بِمَعْنَى (مَعَ) ، وَضَمِيرُ حُبِّهِ رَاجِعٌ لِلطَّعَامِ، أَيْ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ مَصْحُوبًا بِحُبِّهِ، أَيْ مُصَاحِبًا لِحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَحُبُّ الطَّعَامِ هُوَ اشْتِهَاؤُهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطْعِمُونَ طَعَامًا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَمَجِيءُ عَلى بِمَعْنى (مَعَ) ناشىء عَنْ تَمَجُّزٍ فِي الِاسْتِعْلَاءِ، وَصُورَتُهُ أَنَّ مَجْرُورَ حَرْفِ عَلى فِي مِثْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ مَعْمُولِ مُتَعَلِّقِهَا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُعْتَلِي عَلَيْهِ. وَالْمِسْكِينُ: الْمُحْتَاجُ. وَالْيَتِيمُ: فَاقِدُ الْأَبِ وَهُوَ مَظَنَّةُ الْحَاجَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْعَرَبِ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى اكْتِسَابِ الْأَبِ لِلْعَائِلَةِ بِكَدْحِهِ فَإِذَا فُقِدَ الْأَبُ تَعَرَّضَتِ الْعَائِلَةُ لِلْخَصَاصَةِ. وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَإِذْ قَدْ كَانَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَةً قَبْلَ عِزَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسِيرِ الْعَبْدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَجَاعُوا عَبِيدَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِثْلَ بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَأُمِّهِ وَرُبَّمَا سَيَّبُوا بَعْضَهُمْ إِذَا أَضْجَرَهُمْ تَعْذِيبُهُمْ وَتَرَكُوهُمْ بِلَا نَفَقَةِ. وَالْعُبُودِيَّةُ تَنْشَأُ مِنَ الْأَسْرِ فَالْعَبْدُ أَسِيرٌ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ الْعَانِي أَيْضًا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

: «فُكُّوا الْعَانِي» وَقَالَ عَنِ النِّسَاءِ «إِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ وَقَالَ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ: رَأَتْ قَتَبًا رَثًّا وَسَحْقَ عِمَامَةٍ ... وَأَسْوَدَ هِمًّا يُنْكِرُ النَّاسُ عَانِيَا يُرِيدُ عَبْدًا. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً فَقَالَ: الْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ، وَالْيَتِيمُ: الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، وَالْأَسِيرُ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ» . وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا شَاهِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِجَعْلِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَفِي الْأَسَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي أَسْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ لَهُمْ، أَيْ لِلَّذِينَ يُطْعِمُونَهُمْ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُطْعِمُونَ، وَجُمْلَةُ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَجُمْلَةُ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لمضمون جملَة لانريد مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لَهُمْ تَأْنِيسًا لَهُمْ وَدَفْعًا لِانْكِسَارِ النَّفْسِ الْحَاصِلِ عِنْدَ الْإِطْعَامِ، أَيْ مَا نُطْعِمُكُمْ إِلَّا اسْتِجَابَةً لِمَا أَمَرَ اللَّهُ، فَالْمُطْعِمُ لَهُمْ هُوَ اللَّهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ إِلَّا وَهُوَ مُضْمَرٌ فِي نُفُوسِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَكَلَّمُوا بِهِ وَلَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ فَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ. فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُطْعَمِينِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ أَطْعَمَهُمْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ وَيُرِيدُ مِنْهُمْ الْجَزَاءَ وَالشُّكْرَ بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَزَاءِ: مَا هُوَ عِوَضٌ عَنِ الْعَطِيَّةِ مِنْ خِدْمَةٍ وَإِعَانَةٍ، وَبِالشَّكُورِ: ذِكْرِهُمْ بِالْمَزِيَّةِ. وَالشُّكُورُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْفُعُولِ كَالْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ بِوَزْنِ الْفُعُولِ

الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ فَعَلَ اللَّازِمِ لِأَنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ لَا يَتَعَدَّى لِلْمَشْكُورِ بِنَفْسِهِ غَالِبًا بَلْ بِاللَّامِ يُقَالُ: شَكَرْتُ لَكَ قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: 152] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَهُوَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ أَوْ يَنْطِقُ بِهِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضمير يَخافُونَ [الْإِنْسَان: 7] أَيْ يَخَافُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي نُفُوسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَحُكِيَ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا نَخافُ إِلَخْ. عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ وَالدَّاعِي إِلَى عَكْسِ النَّشْرِ مُرَاعَاةُ حُسِنِ تَنْسِيقِ النَّظْمِ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ مَنْ ذِكْرِ الْإِطْعَامِ إِلَى مَا يَقُولُونَهُ لِلْمُطْعَمِينَ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ خَوْفِ يَوْمِ الْحِسَابِ إِلَى بِشَارَتِهِمْ بِوِقَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ فِيهِ مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبِّنا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا وَحَرْفُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ حَالٌ مِنْ يَوْماً قُدِّمَ عَلَيْهِ، أَيْ نَخَافُ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا حَالَ كَوْنِهِ مِنْ أَيَّامِ رَبِّنَا، أَيْ مِنْ أَيَّامِ تَصَارِيفِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَجْرِيدِيَّةً كَقَوْلِكَ: لِي مِنْ فُلَانٍ صَدِيقٌ حَمِيمٌ. وَيَكُونُ يَوْماً مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ نَخَافُهُ فِي يَوْمٍ شَدِيدٍ. وعَبُوساً: مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِفِعْلِ نَخافُ، أَيْ نَخَافُ غَضْبَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ هُوَ رَبُّنَا، فَيَكُونُ فِي التَّجْرِيدِ تَقْوِيَةٌ لِلْخَوْفِ إِذْ هُوَ كَخَوْفٍ مِنْ شَيْئَيْنِ (وَتِلْكَ نُكْتَةُ التَّجْرِيدِ) ، أَوْ يَكُونُ عَبُوساً حَالًا مِنْ رَبِّنا. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مِنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نَخافُ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [الْبَقَرَة: 182] . وَيَنْتَصِبُ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ نَخافُ فَصَارَ لِفِعْلِ نَخافُ مَعْمُولَانِ. وعَبُوساً صِفَةٌ لِ يَوْماً، وَالْمَعْنَى: نَخَافُ عَذَابَ يَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَفِيهِ تَأْكِيدُ الْخَوْفِ بِتَكْرِيرِ مُتَعَلِّقِهِ وَمَرْجِعُ التَّكْرِيرِ إِلَى كَوْنِهِ خَوْفَ اللَّهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَدْلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ. وَالْعَبُوسُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ لِمَنْ هُوَ شَدِيدُ الْعَبْسِ، أَيْ كُلُوحُ الْوَجْهِ وَعَدَمُ انْطِلَاقِهِ، وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْعَبُوسِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ. شُبِّهَ الْيَوْمُ الَّذِي تَحْدُثُ فِيهِ حَوَادِثُ تَسُوءُهُمْ بِرَجُلٍ يُخَالِطُهُمْ يَكُونُ شَرِسَ الْأَخْلَاقِ عَبُوسًا فِي مُعَامَلَتِهِ. وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ الصَّعْبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَمْطَرِيرُ الْمُقْبِضُ

[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 إلى 14]

بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنْ قِمْطَرِ الْقَاصِرِ إِذَا اجْتَمَعَ، أَوْ قِمْطَرِ الْمُتَعَدِّي إِذَا شَدَّ الْقِرْبَةَ بِوِكَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ سُمِّي السَّفَطُ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ الْكُتُبُ قِمْطَرًا وَهُوَ كَالْمَحْفَظَةِ. وَمِيمُ قَمْطَرِيرٍ أَصْلِيَّةٌ فَوَزْنُهُ فَعْلَلِيلٌ مِثْلَ خَنْدَرِيسٍ وَزَنْجَبِيلٍ، يُقَالُ: قِمْطَرٌ لِلشَّرِّ، إِذَا تَهَيَّأَ لَهُ وَجَمَعَ نَفْسَهُ. وَالْجُمْهُورُ جَعَلُوا قَمْطَرِيراً وَصَفَ يَوْماً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلُوهُ وَصَفَ عَبُوساً أَيْ شَدِيدَ الْعَبُوسِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ الْأَبْرَارِ وَعَلَى ذَلِكَ الْتَحَمَ نَسْجُهَا، وَقَدْ تَلَقَّفَهَا الْقَصَّاصُونَ وَالدُّعَاةُ فَوَضَعُوا لَهَا قصصا مُخْتَلفَة وجاؤوا بِأَخْبَارٍ مَوْضُوعَةٍ وَأَبْيَاتٍ مَصْنُوعَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرَهَا الثَّعْلَبِيُّ وَالنَّقَّاشُ وَسَاقَهَا الْقُرْطُبِيُّ بِطُولِهَا ثُمَّ زَيَّفَهَا. وَذُكِرَ عَنِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «نَوَادِرِ الْأُصُولِ» : هَذَا حَدِيث مروّق مُزَيَّفٌ وَأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ السُّجُونِ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي مُطْعِمِ بْنِ وَرْقَاءَ الْأَنْصَارِيِّ، وَقِيلَ فِي رَجُلٍ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَلَا طَائِلَ تَحْتَ اجْتِلَابِهِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلُهُ أَهْلٌ لِأَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ فِيهِمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ ضَعِيفَةٌ أَو مَوْضُوعَة. [11- 14] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 11 إِلَى 14] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ إِلَى قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: 7- 10] . وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ تَلْوِينٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ جَزَاءِ الْأَبْرَارِ وَأَهْلِ الشُكُورِ، وَهَذَا بَرْزَخٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى عَوْدِ الْكَلَامِ عَلَى حُسْنِ جَزَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ وَقَاهُمْ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ

الشَّرُّ الْمُسْتَطِيرُ الْمَذْكُورُ آنِفًا، وَقَاهُمْ إِيَّاهُ جَزَاءً عَلَى خَوْفِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنَّهُ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا الْجَامِعُ لِأَحْوَالِ التَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كُلِّهِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَحَمُّلِ النَّفْسِ لِتَرْكِ مَحْبُوبٍ أَوْ فِعْلٍ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ إِطْعَامُ الطَّعَامِ عَلَى حُبِّهِ. ولَقَّاهُمْ مَعْنَاهُ: جَعَلَهُمْ يَلْقَوَنَ نَضْرَةً وَسُرُورًا، أَيْ جَعَلَ لَهُمْ نَضْرَةً وَهِيَ حُسْنُ الْبَشَرَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ فَرَحِ النَّفْسِ وَرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [الْقِيَامَة: 22] فَمُثِّلَ إِلْقَاءُ النَّضْرَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِزَجِّ أَحَدٍ إِلَى لِقَاءِ أَحَدٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَضَمِيرُ الْغَائِبَةِ ونَضْرَةً مَفْعُولَا (لَقَّى) مِنْ بَابِ كَسَا. وَبَيْنَ (وَقَاهُمْ) ولَقَّاهُمْ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ. وَجُمْلَةُ وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَوَقاهُمُ وَجُمْلَةِ وَلَقَّاهُمْ لِتَمَاثُلِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمُضِيِّ وَهُمَا مُحَسِّنَانِ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ. وَالْحَرِيرُ: اسْمٌ لِخُيُوطٍ مِنْ مُفْرَزَاتِ دُودَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَكَانَ الْجَزَاءُ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ إِذْ جَعَلَهُمْ فِي أَحْسَنِ الْمَسَاكِنِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَكَسَاهُمْ أَحْسَنَ الْمَلَابِسِ وَهُوَ الْحَرِيرُ الَّذِي لَا يَلْبَسُهُ إِلَّا أَهْلُ فَرْطِ الْيَسَارِ، فَجُمِعَ لَهُمْ حُسْنُ الظَّرْفِ الْخَارِجِ وَحُسْنُ الظَّرْفِ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ اللِّبَاسُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَرِيرِ هُنَا: مَا يَنْسَجُ مِنْهُ. ومُتَّكِئِينَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي جَزاهُمْ، أَيْ هُمْ فِي الْجَنَّةِ مُتَّكِئُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ. وَالِاتِّكَاءُ: جِلْسَةٌ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ يَسْتَنِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مِرْفَقِهِ وَجَنْبِهِ وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ وَهِيَ جِلْسَةُ ارْتِيَاحٍ، وَكَانَتْ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الْبَذَخِ، وَلِهَذَا قَالَ

النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً. والْأَرائِكِ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ. وَالْأَرِيكَةُ: سَرِيرٌ عَلَيْهِ وِسَادَةٌ مَعَهَا سِتْرٌ وَهُوَ حَجَلَتُهُ، وَالْحَجَلَةُ بِفَتْحَتَيْنِ وَبِتَقْدِيمِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْجِيمِ: كِلَّةٌ تُنْصَبُ فَوْقَ السَّرِيرِ لِتَقِيَ الْحَرَّ وَالشَّمْسَ، وَلَا يُسَمَّى السَّرِيرُ أَرِيكَةً إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ حَجَلَةٌ. وَقِيلَ: كُلُّ مَا يُتَوَسَّدُ وَيُفْتَرَشُ مِمَّا لَهُ حَشْوٌ يُسَمَّى أَرِيكَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَجَلَةٌ، وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: أَنَّ الْأَرِيكَةَ السَّرِيرُ بِالْحَبَشِيَّةِ فَزَادَهُ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَبْيَاتِ ابْنِ السُّبْكِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ فِي «جَمْعِ الْمُعْرِبِ فِي الْقُرْآنِ» . وَجُمْلَةُ: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي جَزاهُمْ أَوْ صِفَةُ جَنَّةً. وَالْمُرَادُ بِالشَّمْسِ: حَرُّ أَشِعَّتِهَا، فَنَفَى رُؤْيَةَ الشَّمْسِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً فَيَكُونُ نَفْيُ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ وُجُودِ الشَّمْسِ الَّذِي يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ حَرِّ شُعَاعِهَا فَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيةِ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ أَيْ لَا ضَبَّ بِهَا فَتَرَاهُ وَلَا يَكُونُ انْجِحَارُهُ. وَالزَّمْهَرِيرُ: اسْمٌ لِلْبَرْدِ الْقَوِيِّ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَالزَّمْهَرِيرُ: اسْمُ الْبَرْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَوَاءَ الْجَنَّةِ مُعْتَدِلٌ لَا أَلَمَ فِيهِ بِحَالٍ. وَفِي كَلَامِ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أَمِ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَهْ، لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَهْ» . وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزَّمْهَرِيرُ اسْمُ الْقَمَرِ فِي لُغَةِ طَيِّءٍ، وَأَنْشَدَ: وَلَيْلَةٍ ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَلَا ضَوْءَ الْقَمَرِ، أَيْ ضَوْءَ النَّهَارِ وَضَوْءَ اللَّيْلِ لِأَنَّ ضِيَاءَ الْجَنَّةِ مِنْ نُورٍ وَاحِدٍ خَاصٍّ بِهَا. وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ نَفْيِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالشَّمْسِ حَقِيقَتُهَا وَبِالزَّمْهَرِيرِ الْبَرْدُ وَإِنَّ فِي الْكَلَامِ

احْتِبَاكًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَرًّا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَجَعَلُوهُ مِثَالًا لِلِاحْتِبَاكِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ نُورَهَا مُعْتَدِلٌ وَهَوَاءَهَا مُعْتَدِلٌ. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها انْتَصَبَ دانِيَةً عَطْفًا عَلَى مُتَّكِئِينَ لِأَنَّ هَذَا حَالٌ سَبَبِيٌّ مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَّكِئِينَ، أَيْ ظِلَالُ شَجَرِ الْجَنَّةِ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ. وظِلالُها فَاعِلُ دانِيَةً وَضَمِيرُ ظِلالُها عَائِدٌ إِلَى جَنَّةً. وَدُنُوُّ الظِّلَالِ: قُرْبُهَا مِنْهُمْ وَإِذْ لَمْ يُعْهَدْ وَصْفُ الظِّلِّ بِالْقُرْبِ يُظْهِرُ أَن دنوّ الضلال كِنَايَةٌ عَنْ تَدَلِّي الْأَدْوَاحِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُظَلِّلَ الْجَنَّاتِ فِي مُعْتَادِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ الْجَنَّةَ لَا شَمْسَ فِيهَا فَيُسْتَظَلُّ مِنْ حَرِّهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَرْكِيبَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها مَثَلٌ يُطْلَقُ عَلَى تَدَلِّي أَفْنَانِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الظِّلَّ الْمُظَلِّلَ لِلشَّخْصِ لَا يَتَفَاوَتُ بِدُنُوٍّ وَلَا بُعْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ ظِلالُها مَجَازًا مُرْسَلًا عَنِ الْأَفْنَانِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ أَدْوَاحَ الْجَنَّةِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَجَالِسِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهَا بَهْجَةً وَحُسْنًا وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: 23] . وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا. أَيْ سُخِّرَتْ لَهُمْ قُطُوفُ تِلْكَ الْأَدْوَاحِ وَسُهِّلَتْ لَهُمْ بِحَيْثُ لَا الْتِوَاءَ فِيهَا وَلَا صَلَابَةَ تُتْعِبُ قَاطِفَهَا وَلَا يَتَمَطَّوْنَ إِلَيْهَا بَلْ يَجْتَنُونَهَا بِأَسْهَلِ تَنَاوُلٍ. فَاسْتُعِيرَ التَّذْلِيلُ لِلتَّيْسِيرِ كَمَا يُقَالُ: فَرَسٌ ذَلُولٌ: أَيُّ مِطْوَاعٌ لِرَاكِبِهِ، وَبَقَرَةٌ ذَلُولٌ، أَيْ مُمَرَّنَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْقُطُوفُ: جَمْعُ قِطْفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الْعُنْقُودُ مِنَ التَّمْرِ أَوِ الْعِنَبِ، سُمِّي قِطْفًا بِصِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ الْمَفْعُولِ مِثْلَ ذِبْحٍ، لِأَنَّهُ يَقْصِدُ قَطْفَهُ فَإِطْلَاقُ الْقِطْفِ عَلَيْهِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ شَاعَ فِي الْكَلَامِ. وَضَمِيرُ قُطُوفُها عَائِدٌ إِلَى جَنَّةً أَوْ إِلَى ظِلالُها بِاعْتِبَارِ الظِّلَالِ كِنَايَةً عَنِ الْأَشْجَارِ. وتَذْلِيلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ، أَيْ تَذْلِيلًا شَدِيدا منتهيا.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 15 إلى 16]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 15 إِلَى 16] وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الْإِنْسَان: 5] إِلَخْ كَمَا اقْتَضَاهُ التَّنَاسُبُ بَيْنَ جُمْلَةِ يَشْرَبُونَ وَجُمْلَةِ يُطافُ عَلَيْهِمْ فِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمُضَارِعِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ أَحْوَالِ الْوَصْلِ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى صِفَةِ مَجَالِسِ شَرَابِهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي جُمْلَةِ إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الْإِنْسَان: 5] ، وَإِنَّمَا عُطِفَتْ عَلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مُغَايَرَةٍ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ صِفَةِ آنِيَةِ الشَّرَابِ، فَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَعْقَبَ ذِكْرَ مَجَالِسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمُتَّكَآتِهِمْ، بِذِكْرِ مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِمَّا تَعَارَفَهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْبَذَخِ وَالتَّرَفِ وَاللَّذَّاتِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ إِذْ يُدِيرُ عَلَيْهِمْ آنِيَةَ الْخَمْرِ سُقَاةٌ. وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى ذِكْرِ فَاعِلِ الطَّوَافِ فَبُنِيَ لِلنَّائِبِ. وَهَذَا وَعْدٌ لَهُمْ بِإِعْطَاءِ مُتَمَنَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَزِيدٍ عَلَيْهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . وَالطَّوَافُ: مَشْيٌ مُكَرَّرٌ حَوْلَ شَيْءٍ أَوْ بَيْنَ أَشْيَاءَ، فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمُتَّكَأِ جَمَاعَةً كَانَ دَوَرَانُ السِّقَاءِ بِهِمْ طَوَافًا. وَقَدْ سَمَّوْا سَقْيَ الْخَمْرِ: إِدَارَةَ الْخَمْرِ، أَوْ إِدَارَةَ الْكَأْسِ. وَالسَّاقِي: مُدِيرُ الْكَأْسِ، أَوْ مُدِيرُ الْجَامِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَالْآنِيَةُ: جمع إِنَاء ممدودا بِوَزْنِ أَفْعِلَةٍ مِثْلَ كِسَاءٍ وَأَكْسِيَةٍ وَوِعَاءٍ وَأَوْعِيَةٍ اجْتَمَعَ فِي أَوَّلِ الْجَمْعِ هَمْزَتَانِ مَزِيدَةٌ وَأَصْلِيَّةٌ فَخُفِفَتْ ثَانِيَتُهُمَا أَلِفًا. وَالْإِنَاءُ: اسْمٌ لِكُلِّ وعَاء يرتفق لَهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَا يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ اهـ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وِعَاءٍ يُقْصَدُ لِلِاسْتِعْمَالِ وَالْمُدَاوَلَةِ لِلْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَنَحْوِهِمَا سَوَاءً كَانَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ مَعْدِنٍ أَوْ فَخَّارٍ أَوْ أَدِيمٍ أَوْ زُجَاجٍ، يُوضَعُ فِيهِ مَا يُشْرَبُ أَو مَا يُؤْكَل، أَوْ يُطْبَخُ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُجْعَلُ لِلْخَزْنِ فَلَيْسَتِ الْقِرْبَةُ بِإِنَاءٍ وَلَا الْبَاطِيَةُ بِإِنَاءٍ، وَالْكَأْسُ إِنَاءٌ وَالْكُوزُ إِنَاءٌ وَالْإِبْرِيقُ إِنَاءٌ وَالصَّحْفَةُ إِنَاءٌ. وَالْمُرَادُ هُنَا: آنِيَةُ مَجَالِسِ شَرَابِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْأَكْوَابِ وَذَلِكَ فِي عُمُومِ

الْآنِيَةِ وَمَا يُوضَعُ مَعَهُ مِنْ نُقْلٍ أَوْ شِوَاءٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ [71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ. وَتَشْمَلُ الْآنِيَةُ الْكُؤُوسَ. وَذِكْرُ الْآنِيَةِ بعد كَأْسٍ [الْإِنْسَان: 5] مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الْإِنْسَان: 5] مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْكَأْسِ الْخَمْرُ. وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الْكَافِ بَعْدَهُ وَاوٌ سَاكِنَةٌ. وَالْكُوبُ: كُوزٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَعَطْفُ أَكْوابٍ عَلَى (آنِيَةٍ) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ الْأَكْوَابَ تُحْمَلُ فِيهَا الْخَمْرُ لِإِعَادَةِ مَلْءِ الْكُؤُوسِ. وَوُصِفَتْ هُنَا بِأَنَّهَا مِنْ فِضَّةٍ، أَيْ تَأْتِيهِمْ آنِيَتُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ ذَهَبٍ فِي أَوْقَاتٍ أُخْرَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ لِأَنَّ لِلذَّهَبِ حُسْنًا وَلِلْفِضَّةِ حُسْنًا فَجُعِلَتْ آنِيَتُهُمْ مِنَ الْمَعْدِنَيْنِ النَّفِيسَيْنِ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، أَوْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ مُتَنَوِّعَةٍ مُتَزَاوِجَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ مَنْظَرًا مِثْلَ مَا قَالَ مَرَةً وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: 21] ، وَمَرَةً يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْف: 31] ، وَذَلِكَ لِإِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحُسْنِ الْمَنَاظِرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهَا فِي الدُّنْيَا لِعِزَّةِ وَجُودِهَا أَوْ وُجُودِ الْكَثِيرِ مِنْهَا، وَأَوْثِرَ ذِكْرُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ تَشْبِيهِهَا بِالْقَوَارِيرِ فِي الْبَيَاضِ. وَالْقَوَارِيرُ: جَمْعُ قَارُورَةٍ، وَأَصْلُ الْقَارُورَةِ إِنَاءٌ شِبْهُ كُوزٍ، قِيلَ: لَا تُسَمَّى قَارُورَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِنْ زُجَاجٍ، وَقِيلَ مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» . وَسُمِّيَتْ قَارُورَةً اشْتِقَاقًا مِنَ الْقَرَارِ وَهُوَ الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ وَهَذَا وَزْنٌ غَرِيبٌ. وَالْغَالِبُ أَنَّ اسْمَ الْقَارُورَةِ لِلْإِنَاءِ مِنَ الزُّجَاجِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ زُجَاجٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنَاءً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ [النَّمْل: 44] وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: قَوارِيرَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْقَوَارِيرِ فِي صَفَاءِ اللَّوْنِ وَالرِّقَّةِ حَتَّى كَأَنَّهَا تَشُفُّ عَمَّا فِيهَا. وَالتَّنَافُسُ فِي رِقَّةِ آنِيَةِ الْخَمْرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ شَارِبِيهَا قَالَ الْأَعْشَى: تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهِيَ دُونَهُ ... إِذَا ذَاقَهَا مَنْ ذَاقَهَا يَتَمَطَّقُ

وَفِعْلُ كانَتْ هُنَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهَا مِثْلُ الْقَوَارِيرِ فِي شَفِيفِهَا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ فِضَّةٍ، أَيْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ فِي لَوْنِ الْقَوَارِيرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ فِضَّةٍ حَقِيقَةٌ فَإِنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ. وَلَفْظُ قَوارِيرَا الثَّانِي، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرِهِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّ لَهَا رِقَّةَ الزُّجَاجِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوارِيرَا الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِإِفَادَةِ التَّصْنِيفِ فَإِنَّ حُسْنَ التَّنْسِيقِ فِي آنِيَةِ الشَّرَابِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ رَوْنَقِ مَجْلِسِهِ، فَيَكُونُ التَّكْرِيرُ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: 22] وَقَوْلُ النَّاسِ: قَرَأْتُ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوارِيرَا الثَّانِي. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ قَوارِيرَا قَوارِيرَا بِأَلِفٍ فِي آخِرِ كِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ تَنْوِينٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ قَوارِيرَا الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ مُنَوَّنَيْنِ وَتَنْوِينُ الْأَوَّلِ لِمُرَاعَاةِ الْكَلِمَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْفَوَاصِلِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ قَوْله كافُوراً [الْإِنْسَان: 5] إِلَى قَوْلِهِ تَقْدِيراً وَتَنْوِينُ الثَّانِي لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَظِيرِهِ وَهَؤُلَاءِ وَقَفُوا عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ مِثْلَ أَخَوَاتِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: سَلاسِلَ وَأَغْلالًا [الْإِنْسَان: 4] . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَخَلَفٌ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ قَوَارِيرًا الْأَوَّلَ بِالتَّنْوِينِ وَوَقَفُوا عَلَيْهِ بِالْأَلِفِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى التَّوْجِيهِ الَّذِي وَجَّهْنَا بِهِ قِرَاءَةَ نَافِعٍ وَالْكسَائِيّ. وَقَرَأَ قَوارِيرَا الثَّانِي بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْأَصْلِ وَلَمْ تُرَاعَ الْمُزَاوَجَةُ وَوَقَفَا عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا لِمَنْعِ الصَّرْفِ وَعَدَمِ مُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ وَلَا الْمُزَاوَجَةِ. وَالْقِرَاءَاتُ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يُنَاكِدُهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ فَلَعَلَّ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ إِلَّا قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَحَدَّثَ خَلَفٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ قَالَ: فِي الْمَصَاحِفِ الْأُوَلِ ثَبَتَ قَوارِيرَا الْأَوَّلُ بِالْأَلِفِ وَالثَّانِي بِغَيْرِ أَلِفٍ، يَعْنِي الْمَصَاحِفَ الَّتِي فِي الْكُوفَةِ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْن إِدْرِيسَ كُوفِيٌّ. وَقَالَ أَبُو عبيد: لرأيت فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ قَوارِيرَا الْأَوَّلَ بِالْأَلِفِ وَكَانَ الثَّانِي مَكْتُوبًا بِالْأَلِفِ فَحُكَّتْ فَرَأَيْتُ أَثَرَهَا هُنَاكَ

[سورة الإنسان (76) : الآيات 17 إلى 18]

بَينا اهـ. وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُفِيدُ إِذْ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ يُعْرَفُ مَنِ الَّذِي كَتَبَهُ بِالْأَلِفِ، وَلَا مَنِ الَّذِي مَحَا الْأَلِفَ وَلَا مَتَى كَانَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ زَمَنِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ وَزَمَنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَلَا يُدْرَى مَاذَا عُنِي بِمُصْحَفِ عُثْمَانَ أَهْوَ مُصْحَفُهُ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ أَمْ هُوَ مُصْحَفٌ مِنَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي خِلَافَتِهِ وَوَزَّعَهَا عَلَى الْأَمْصَارِ؟. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ. وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَحَمْزَةُ وَقَفَ عَلَيْهِمَا بِدُونِ أَلِفٍ. وَهِشَامُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَقَفَا عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ عَلَى أَنَّهُ صِلَةٌ لِلْفَتْحَةِ، أَيْ إِشْبَاعٌ لِلْفَتْحَةِ وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلِفِ وَعَلَى الثَّانِي بِدُونِ أَلِفٍ وَوَجْهُهُ مَا وَجَّهْتُ بِهِ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ وَخَلَفٍ. وَقَوْلُهُ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدًا إِلَى الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان: 5] أَوْ عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: 6] الَّذِي عَادَتْ إِلَيْهِ الضمائر الْمُتَقَدّمَة من قَوْله يُفَجِّرُونَها [الْإِنْسَان: 6] ويُوفُونَ [الْإِنْسَان: 7] إِلَى آخَرِ الضَّمَائِرِ فَيَكُونُ مَعْنَى التَّقْدِيرِ رَغْبَتُهُمْ أَنْ تَجِيءَ عَلَى وَفْقِ مَا يَشْتَهُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نَائِبِ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ الْمَفْهُومِ مِنْ بِنَاءِ يُطافُ لِلنَّائِبِ، أَيِ الطَّائِفُونَ عَلَيْهِمْ بِهَا قَدَّرُوا الْآنِيَةَ وَالْأَكْوَابَ، أَيْ قَدَّرُوا مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَابِ عَلَى حَسَبِ مَا يَطْلُبُهُ كُلُّ شَارِبٍ مِنْهُمْ وَمَآلُهُ إِلَى مَعْنَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ. وَكَانَ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مِنْ حِذْقِ السَّاقِي أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الشُّرْبِ مَا يُنَاسِبُ رَغْبَتَهُ. وتَقْدِيراً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَفَاءِ التَّقْدِيرِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِهِ الْمَطْلُوبِ وَلَا تَقْصِيره عَنهُ. [17- 18] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 17 إِلَى 18] وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) أَتْبَعَ وَصْفَ الْآنِيَةِ وَمَحَاسِنِهَا بِوَصْفِ الشَّرَابِ الَّذِي يَحْوِيهِ وَطِيبِهِ، فَالْكَأْسُ كَأْسُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ عُمُومِ الْآنِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا تُسَمَّى آنِيَةَ الْخَمْرِ

كَأْسًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا خَمْرٌ فَكَوْنُ الْخَمْرِ فِيهَا هُوَ مُصَحِّحُ تَسْمِيَتِهَا كَأْسًا، وَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ السَّقْيِ إِلَى الْكَأْسِ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْكَأْسِ يَتَقَوَّمُ بِمَا فِي الْإِنَاءِ مِنَ الْخَمْرِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْأَعْشَى: وَكَأْسٌ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا يُرِيدُ: وَخَمْرٌ شَرِبْتُ. وَالْقَوْلُ فِي إِطْلَاقِ الْكَأْسِ عَلَى الْإِنَاءِ أَوْ عَلَى مَا فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً [الْإِنْسَان: 5] . وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ سَقْيَةٌ أُخْرَى، أَيْ مَرَّةً يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ مِزَاجُهَا الْكَافُورُ وَمَرَّةً يُسْقَوْنَ كَأْسًا مِزَاجُهَا الزَّنْجَبِيلُ. وَضَمِيرُ فِيها لِلْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: جَنَّةً وَحَرِيراً [الْإِنْسَان: 12] . وَزَنْجَبِيلُ: كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ وَأَصْلُهَا بِالْكَافِ الْأَعْجَمِيَّةِ عِوَضِ الْجِيمِ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ وَالثَّعَالِبِيُّ: هِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِجُذُورٍ مِثْلَ جُذُورِ السُعْدِ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ الدَّقِيقِ وَاللِّفْتِ الدَّقِيقِ لَوْنُهُا إِلَى الْبَيَاضِ لَهَا نَبَاتٌ لَهُ زَهْرٌ، وَهِيَ ذَاتُ رَائِحَةٍ عِطْرِيَّةٍ طَيِّبَةٍ وَطَعْمُهُا شَبِيهٌ بِطَعْمِ الْفِلْفِلِ، وَهُوَ يَنْبُتُ بِبِلَادِ الصِّينِ وَالسِّنَدِ وَعُمَانَ وَالشِّحْرِ، وَهُوَ أَصْنَافٌ أَحْسَنُهَا مَا يَنْبُتُ بِبِلَادِ الصِّينِ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالطَّبْخِ كَالْأَفَاوِيَةِ وَرَائِحَتُهُ بُهَارِيَةٌ وَطَعْمُهُ حَرِيفٌ. وَهُوَ مُنَبِّهٌ وَيُسْتَعْمَلُ مَنْقُوعًا فِي الْمَاءِ وَمُرَبَّى بِالسُّكَّرِ. وَقَدْ عَرَفَهُ الْعَرَبُ وَذَكَرَهُ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ فِي طَيِّبِ الرَّائِحَةِ. أَيْ يَمْزُجُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الْمَنْقُوعِ فِيهِ الزَّنْجَبِيلُ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ وَحُسْنِ طَعْمِهِ. وَانْتَصَبَ عَيْناً عَلَى الْبَدَلِ مِنْ زَنْجَبِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: 5، 6] . وَمَعْنَى كَوْنِ الزَّنْجَبِيلِ عَيْنًا: أَنْ مَنْقُوعَهُ أَوِ الشَّرَابُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ كَثِيرٌ كَالْعَيْنِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [مُحَمَّد: 15] ، أَيْ هُوَ كَثِيرٌ جِدًّا وَكَانَ يُعْرَفُ فِي الدُّنْيَا بِالْعِزَّةِ.

وَ (سَلْسَبِيلَ) : وَصْفٌ قِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَاسَةِ وَهِيَ السُّهُولَةُ وَاللِّينُ فَيُقَالُ: مَاءٌ سَلْسَلُ، أَيْ عَذْبٌ بَارِدٌ. قِيلَ: زِيدَتْ فِيهِ الْبَاءُ وَالْيَاءُ (أَيْ زِيدَتَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ) . قَالَ التَّبْرِيزِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» فِي قَوْلِ الْبَعِيثِ بْنِ حُرَيْثٍ: خَيَالٌ لِأُمِّ السَّلْسَبِيلَ وَدُونَهَا ... مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ الْمُذَبْذَبِ قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: السَّلْسَبِيلُ الْمَاءُ السَّهْلُ الْمَسَاغِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ رُكِّبَ مِنْ مَادَّتِي السَّلَاسَةِ وَالسَّبَالَةِ، يُقَالُ: سَبَلَتِ السَّمَاءُ، إِذَا أَمْطَرَتْ، فَسَبِيلُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، رُكِّبَ مِنْ كَلِمَتِي السَّلَاسَةِ وَالسَّبِيلِ لِإِرَادَةِ سُهُولَةِ شُرْبِهِ وَوَفْرَةِ جَرْيِهِ. وَهَذَا مِنَ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَلَيْسَ باشْتِقَاقٍ تَصْرِيفِيٍّ. فَهَذَا وَصْفٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ أَسْمَعْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ الْجَارِيَةِ عَلَى أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَفِي «حَاشِيَةِ الْهَمَذَانِيِّ عَلَى الْكَشَّافِ» نِسْبَة بَيت الْبَعْث الْمَذْكُورِ آنِفًا مَعَ بَيْتَيْنِ بَعْدَهُ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَهُوَ عَزٌو غَرِيبٌ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ. وَمَعْنَى تُسَمَّى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَنَّهَا تُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ حَتَّى صَارَ كَالْعَلَمِ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النَّجْم: 27] أَيْ يَصِفُونَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنَاثٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: 65] أَيْ لَا مَثِيلَ لَهُ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَمٌ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ التَّسْمِيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَجَعَلَ سَلْسَبِيلًا عَلَمًا عَلَى هَذِهِ الْعَيْنِ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسَمَّى. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَالْجُمْهُورِ: لَا إِشْكَالَ فِي تَنْوِينِ سَلْسَبِيلًا. وَأَمَّا الْجَوَالِيقِيُّ: إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ سُمِّيَ بِهِ، يَكُونُ تَنْوِينُهُ لِلْمُزَاوَجَةِ مِثْلَ تَنْوِين سلاسلا [الْإِنْسَان: 4] . وَهَذَا الْوَصْفُ يَنْحَلُّ فِي السَّمْعِ إِلَى كَلِمَتَيْنِ: سَلْ، سَبِيلًا، أَيِ اطْلُبْ طَرِيقًا. وَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَذُكِرَ أَنَّهُ جُعِلَ عَلَمًا لِهَذِهِ الْعَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الْعَلَمِ الْمَنْقُولِ عَنْ جُمْلَةٍ مَثْلَ: تَأَبَّطَ شَرًّا، وَذَرَّى حَبًّا. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ هَذَا تكلّف وابتداع.

[سورة الإنسان (76) : آية 19]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 19] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) هَذَا طَوَافٌ آخَرُ غَيْرُ طَوَافِ السُّقَاةِ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: 15] إِلَخْ فَهَذَا طَوَافٌ لِأَدَاءِ الْخِدْمَةِ فَيَشْمَلُ طَوَافَ السُّقَاةِ وَغَيْرِهِمْ. ووِلْدانٌ: جَمْعُ وَلِيدٍ وَأَصْلُ وَلِيدٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَيُطْلَقُ الْوَلِيدُ عَلَى الصَّبِيِّ مَجَازًا مَشْهُورًا بِعَلَاقَةِ مَا كَانَ، لِقَصْدِ تَقْرِيبِ عَهْدِهِ بِالْولادَةِ، وَأحسن من يُتَّخَذُ لِلْخِدْمَةِ الْوِلْدَانُ لِأَنَّهُمْ أَخَفُّ حَرَكَةٍ وَأَسْرَعُ مَشْيًا وَلِأَنَّ الْمَخْدُومَ لَا يَتَحَرَّجُ إِذَا أَمَرَهُمْ أَوْ نَهَاهُمْ. وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ للاحتراس مِمَّا قد يُوهِمُهُ اشْتِقَاقُ وِلْدانٌ مِنْ أَنَّهُمْ يَشِبُّونَ وَيِكْتَهِلُونَ، أَيْ لَا تَتَغَيَّرُ صِفَاتُهُمْ فَهُمْ وِلْدَانٌ دَوْمًا وَإِلَّا فَإِنَّ خُلُودَ الذَّوَاتِ فِي الْجَنَّةِ مَعْلُومٌ فَمَا كَانَ ذِكْرُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ تَخْلِيدٌ خَاصٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مُخَلَّدُونَ: مُحَلَّوْنَ بِالْخِلَدَةِ بِوَزْنِ قِرَدَةٍ. وَاحِدُهُا خُلْدٌ كَقُفْلٍ وَهُوَ اسْمٌ لِلْقُرْطِ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ. وَشُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ تَشْبِيهًا مُقَيَّدًا فِيهِ الْمُشَبَّهُ بِحَالٍ خَاصٍّ لِأَنَّهُمْ شُبِّهُوا بِهِ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ مَعَ التَّفَرُّقِ. وَتَرْكِيبُ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مُفِيدٌ لِلتَّشْبِيهِ الْمُرَادِ بِهِ التَّشَابُهُ وَالْخِطَابُ فِي رَأَيْتَ [الْإِنْسَان: 20] خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ إِذَا رَآهُ الرَّائِي. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الطَّوَافِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ الْآيَة [الْإِنْسَان: 15] . [20] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 20] وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وثَمَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا ظَرْفًا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا مَا جَرَى ذِكْرُهُ أَعْنِي الْجَنَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً [الْإِنْسَان: 12] .

[سورة الإنسان (76) : آية 21]

وَفِعْلُ رَأَيْتَ الْأَوَّلُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ فَقَطْ لَا تَعَلُّقِهَا بِمَرْئِيٍّ، أَيْ إِذَا وَجَّهَتْ نَظَرَكَ، ورَأَيْتَ الثَّانِي جَوَابُ إِذا، أَيْ إِذَا فَتَحْتَ عَيْنَكَ تَرَى نَعِيمًا. وَالتَّقْيِيدُ بِ إِذا أَفَادَ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ النَّعِيمِ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ بَصَرِ الْمُبْصِرِ هُنَالِكَ فَأَفَادَ مَعْنَى: لَا تَرَى إِلَّا نَعِيمًا، أَيْ بِخِلَافِ مَا يُرَى فِي جِهَاتِ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: وَمُلْكاً كَبِيراً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مِثْلَ أَحْوَالِ الْمُلْكِ الْكَبِير المتنعّم ربه. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْبِيهِ تَقْرِيبُ الْمُشَبَّهِ لِمَدَارِكِ الْعُقُولِ. وَالْكَبِير مستعار للعظيم وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى النَّعِيمِ بِمَا فِيهِ مِنْ رِفْعَةٍ وتذليل للمصاعب. [21] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 21] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ. هَذِه الْأَشْيَاء مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ فِي عُرْفِ النَّاسِ زَمَانَئِذٍ، فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَان: 20] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ عالِيَهُمْ بِسُكُونِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجُمْلَةِ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَان: 20] ، فَ عالِيَهُمْ مُبْتَدَأٌ وثِيابُ سُندُسٍ فَاعِلُهُ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ وَقَدْ عَمِلَ فِي فَاعِلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَمِدًا عَلَى نَفْيٍ أَوِ اسْتِفْهَامٍ أَوْ وَصْفٍ، وَهِيَ لُغَةُ خَبِيرِ بَنُو لَهَبٍ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ: رَأَيْتَ نَعِيماً [الْإِنْسَان: 20] . وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ عالِيَهُمْ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُفْرَدٌ ل الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان: 5] ، أَيْ تِلْكَ حَالَةُ أَهْلِ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ. وَإِضَافَةُ ثِيابُ إِلَى سُندُسٍ بَيَانِيَّةٌ مِثْلَ: خَاتَمِ ذَهَبٍ، وَثَوْبِ خَزٍّ، أَيْ مِنْهُ. وَالسُّنْدُسُ: الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ.

وَالْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ وَتَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [31] وَهُمَا مُعَرَّبَانِ. فَأَمَّا السُّنْدُسُ فَمُعَرَّبٌ عَنِ اللُّغَةِ الْهِنْدِيَّةِ وَأَصْلُهُ (سُنْدُونُ) بِنُونٍ فِي آخِرِهِ، قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ جُلِبَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اسْمَهُ (سُنْدُونُ) فَصَيَّرَهُ لِلُغَةِ الْيُونَانِ سُنْدُوسُ (لِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ تَنْهِيَةَ الْأَسْمَاءِ بِحَرْفِ السِّينِ) وَصَيَّرَهُ الْعَرَبُ سُنْدُسًا. وَفِي «اللِّسَانِ» : أَنَّ السُّنْدُسَ يُتَّخَذُ مِنَ الْمِرْعِزَّى (كَذَا ضَبَطَهُ مُصَحِّحُهُ) وَالْمَعْرُوفُ الْمِرْعَزُ كَمَا فِي «التَّذْكِرَة» و «شِفَاء الْغَلِيلِ» . وَفِي «التَّذْكِرَةِ» الْمِرْعَزُ: مَا نَعِمَ وَطَالَ مِنَ الصُّوفِ اهـ. فَلَعَلَّهُ صُوفُ حَيَوَانٍ خَاصٍّ فِيهِ طُولٌ أَوْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الشَّعَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَخْضَرَ اللَّوْنِ لِقَوْلِ يَزِيدَ بْنِ حُذَّاقٍ الْعَبْدِيِّ يَصِفُ مَرْعَى فَرَسِهِ: وَدَاوَيْتُهَا حَتَّى شَتَتْ حَبَشِيَّةً ... كَأَنَّ عَلَيْهَا سُنْدُسًا وَسُدُوسًا أَيْ فِي أَرْضٍ شَدِيدَةِ الْخُضْرَةِ كَلَوْنِ الْحَبَشِيِّ. وَفِي «اللِّسَانِ» : السُّدُوسُ الطَّيْلَسَانُ الْأَخْضَرُ. وَلِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ يَرْثِي مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ النَّبْهَانِيَّ الطُّوسِيَّ: تَرَدَّى ثِيَابَ الْمَوْتِ حُمْرًا فَمَا أَتَى ... لَهَا اللَّيْلُ إِلَّا وَهِيَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَنَسْجٌ مِنْ نَسْجِ الْفُرْسِ وَاسْمُهُ فَارِسِيٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ: اسْتَقْرَهْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فَوْقَهُمْ ثِيَابًا مِنَ الصِّنْفَيْنِ يَلْبَسُونَ هَذَا وَذَاكَ جَمْعًا بَيْنَ مَحَاسِنِ كِلَيْهِمَا، وَهِيَ أَفْخَرُ لِبَاسِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الثَّرْوَةِ. وَلَوْنُ الْأَخْضَرِ أَمْتَعٌ لِلْعَيْنِ وَكَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ، قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ مُلُوكَ غَسَّانَ: يَصُونُونَ أَجْسَادًا قَدِيمًا نَعِيمُهُا ... بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّنْدُسَ كَانَ لَا يُصْبَغُ إِلَّا أَخْضَرَ اللَّوْنِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ خُضْرٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِ ثِيابُ. وإِسْتَبْرَقٌ بِالرَّفْعِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ثِيابُ بِقَيْدِ كَوْنِهَا مِنْ سُنْدُسٍ فَمَعْنَى عَالِيهِمْ إِسْتَبْرَقٌ: أَنَّ الْإِسْتَبْرَقَ لِبَاسُهُمْ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ خُضْرٌ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِ سُندُسٍ، وإِسْتَبْرَقٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى ثِيابُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ خُضْرٌ بِالرَّفْعِ وإِسْتَبْرَقٌ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى سُندُسٍ بِتَقْدِيرِ: وَثِيَابُ إِسْتَبْرَقٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خُضْرٌ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِ سُندُسٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلثِّيَابِ فَهُوَ فِي معنى الْجمع. وَقَرَأَ وإِسْتَبْرَقٌ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى سُندُسٍ. وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سُوَارٍ وَهُوَ حَلْيٌ شَكْلُهُ أُسْطُوَانِيٌّ فَارِغُ الْوَسَطِ يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ فِي مَعَاصِمِهِنَّ وَلَا يَلْبَسُهُ الرِّجَالُ إِلَّا الْمُلُوكَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ سُوَارَيْ كِسْرَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ رِجَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَالُ الْمُلُوكِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ يَتَحَلَّيْنَ بِأَصْنَافِ الْحُلِيِّ. وَوُصِفَتِ الْأَسَاوِرُ هُنَا بِأَنَّهَا مِنْ فِضَّةٍ. وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ [31] بِأَنَّهَا مِنْ ذَهَبٍ فِي قَوْلِهِ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، أَيْ مَرَّةً يُحَلَّوْنَ هَذِهِ وَمَرَّةً الْأُخْرَى، أَوْ يُحَلَّوْنَهُمَا جَمِيعًا بِأَنْ تُجْعَلَ مُتَزَاوِجَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ مَنْظَرًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله: كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: 15، 16] . وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. هَذَا احْتِرَاسٌ مِمَّا يُوهِمُهُ شُرْبُهُمْ مِنَ الْكَأْسِ الْمَمْزُوجَةِ بِالْكَافُورِ وَالزَّنْجَبِيلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا فِي أَمْثَالِهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا وَمِنَ الْغَوْلِ وَسُوءِ الْقَوْلِ وَالْهَذَيَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ شَرَابِهِمْ طَهُورًا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَهِيَ النَّزَاهَةُ مِنَ الْخَبَائِثِ، أَيْ مُنَزَّهًا عَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْخَبَاثَةِ وَالْفَسَادِ. وَأَسْنَدَ سَقْيَهُ إِلَى رَبِّهِمْ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ، أَيْ أَمَرَ هُوَ بِسَقْيِهِمْ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُمْ رَبُّ الدَّار وسقاهم.

[سورة الإنسان (76) : آية 22]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 22] إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) هَذَا الْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ قَرِينَتُهُ الْخِطَابُ إِذْ لَيْسَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْخِطَابِ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْأَبْرَارَ الْمَوْصُوفُ نَعِيمُهُمْ. وَالْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ يُقَدَّرُ فِعْلًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي سَقاهُمْ [الْإِنْسَان: 21] ، نَحْوَ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ يَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَوْ يُقَدَّرُ اسْمًا هُوَ حَالٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ نَحْوَ: مَقُولًا لَهُمْ هَذَا اللَّفْظُ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَكُونُ حَاضِرًا لَدَيْهِمْ مِنْ أَلْوَانِ النَّعِيمِ الْمَوْصُوفِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَسْلَفُوا مِنْ تَقْوَى اللَّهِ وَتَكْرِمَتُهُمْ بِذَلِكَ وَتَنْشِيطُ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِمْ هُوَ حَقٌّ لَهُمْ جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِمْ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ كَوْنِهِ جَزَاءً لَا مَنًّا عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا، فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْإِكْرَامِ عِنْدَ الْكِرَامِ أَنْ يُتْبِعُوا كَرَامَتَهُمْ بِقَوْلٍ يَنْشَطُ لَهُ الْمُكْرَمُ وَيُزِيلُ عَنْهُ مَا يَعْرِضُ مِنْ خَجَلٍ وَنَحْوِهِ، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ حَقًّا لَا مُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ. وَعُطِفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً عِلَاوَةً عَلَى إِينَاسِهِمْ بِأَنَّ مَا أُغْدِقَ عَلَيْهِمْ كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا بِأَنَّ سَعْيَهُمُ الَّذِي كَانَ النَّعِيمُ جَزَاءً عَلَيْهِ، هُوَ سَعْيٌ مَشْكُورٌ، أَيْ مَشْكُورٌ سَاعِيهِ، فَأَسْنَدَ الْمَشْكُورَ إِلَى السَّعْيِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: سَيْلٌ مُفْعَمٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَشْكُوراً مَفْعُولًا حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً لَكِنْ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ مَشْكُورًا عَلَيْهِ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ كَإِقْحَامِ نَظِيره آنِفا.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 إلى 24]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 23 إِلَى 24] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) من هُنَا يبتدىء مَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَكِّيٌّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَعْثِ بِالْحُجَّةِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ بِهِ وَالتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِمُرَهِّبَاتٍ وَمُرَغِّبَاتٍ هِيَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ ثُنِيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى تَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّبْطِ عَلَى قَلْبِهِ لِدِفَاعِ أَنْ تَلْحَقَهُ آثَارُ الْغَمِّ عَلَى تَصَلُّبِ قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُوهِنَ الْعَزِيمَةَ الْبَشَرِيَّةَ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِئَلَّا يَعْبَأَ بِتَكْذِيبِهِمْ. وَفِي إِيرَادِ هَذَا بَعْدَ طُولِ الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، قَضَاءٌ لِحَقِّ الِاعْتِنَاءِ بِأَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَابْتُدِئَ بِحَالِ أَشْرَفِ النَّاسِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بِحَالِ الَّذِينَ دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَنْ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْإِنْسَان: 27] وَمن اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الْإِنْسَان: 29] فَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَتَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ لِتَقْرِيرِ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَظَمَةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لِيُفْضِيَ بِهِ إِلَى زِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ إِذْ يَتَقَرَّرُ أَنَّهُ فِعْلُ مَنْ ذَلِكَ الضَّمِيرَانِ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا مَنُوطًا بِحِكْمَةٍ وَأَقْصَى الصَّوَابِ. وَهَذَا مِنَ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ، وَبَعْدُ فَالْخَبَرُ بِمَجْمُوعِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهِ وَهُوَ التَّثْبِيتُ وَالتَّأْيِيدُ فمجموعه كِنَايَة ومزية. وَإِيثَارُ فِعْلِ نَزَّلْنا الدَّالِّ عَلَى تَنْزِيلِهِ مُنَجَّمًا آيَاتٍ وَسُوَرًا تَنْزِيلًا مُفَرَّقًا إِدْمَاجٌ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَوْمَأَ إِلَيْهَا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَتَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ وَذَلِكَ

يُفِيدُ مُفَادَ الْقَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَمَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ، فَالْمَعْنَى: مَا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا أَنَا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] فَجَعَلُوا تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا شُبْهَةً فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا إِلَّا أَنَا وَاقْتَضَتْ حِكْمَتِي أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ مُنَجَّمًا. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّمْهِيدِ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمَا يَلْقَاهُ فِيهَا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَشَدُّ عَزِيمَتِهِ أَنْ لَا تَخُورَ. وَسَمَّى ذَلِكَ حُكْمًا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ لَا خِيَرَةَ لِلْمُرْسَلِ فِي قَبُولِهَا وَالِاضْطِلَاعِ بِأُمُورِهَا، وَلِأَنَّ مَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ مَصَاعِبِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ وَحَمْلِهَا عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَلَقِّي أَصْنَافِ الْأَذَى فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّى يُتِمَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَالْحُكْمِ عَلَى الرَّسُولِ بِقَبُولِ مَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الطَّاقَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ (اصبر) بِاللَّامِ لتضمن الصَّبْرِ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ لِلْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَقَدْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] . وَمُنَاسَبَةُ مَقَامِ الْكَلَامِ تُرَجِّحُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [7] . وَلَمَا كَانَ مِنْ ضُرُوبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ ضَرْبٌ فِيهِ رَغَبَاتٌ مِنْهُمْ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ قَرْعَهُمْ بِقَوَارِعِ التَّنْزِيلِ مِنْ تَأْفِينِ رَأْيِهِمْ وَتَحْقِيرِ دِينِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ، وَرُبَّمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ الصِّهْرَ مَعَهُمْ، أَوْ بَذْلَ الْمَالِ مِنْهُمْ، أُعْقِبَ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْرَاضِ فِي صَلَابَةٍ وَشِدَّةٍ، بِأَنْ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يُطِيعَهُمْ فِي الضَّرْبِ الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْرَاضِ الْوَاقِعِ فِي قَالَبِ اللِّينِ وَالرَّغْبَةِ. وَفِي هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَرْفَعُ مُوجِبَاتِ الصَّبْرِ الْمُرَادِ هُنَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْيِيسُهُمْ مِنِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ سَيَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَمَّا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِذْ هُمْ بُعَدَاءُ عَنْ إِدْرَاكِ مَاهِيَّةِ الرِّسَالَةِ وَنَزَاهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالطَّاعَةُ: امْتِثَالُ الطَّلَبِ بِفِعْلِ الْمَطْلُوبِ وَبِالْكَفِّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْمِدُونَ إِلَى الطَّلَبِ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرْغَبُونَ، مِثْلَ طَرْدِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ تَبْدِيلِهِ بِمَا يُشَايِعُ أَحْوَالَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَمَّا لَا يُرِيدُونَ وُقُوعَهُ مِنْ تَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ، وَالْجَهْرِ بِصَلَاتِهِ، فَحَذَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ لِقَوْلِهِمْ وَإِيَاسِهِمْ مِنْ حُصُولِ مَرْغُوبِهِمْ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: وَلَا تُطِعْهُمْ، أَوْ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى آثِماً أَوْ كَفُوراً لِلْإِشَارَةِ بِالْوَصْفَيْنِ إِلَى أَنَّ طَاعَتَهُمْ تُفْضِي إِلَى ارْتِكَابِ إِثْمٍ أَوْ كُفْرٍ، لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ يَأْمُرُونَهُ وَيَنْهَوْنَهُ غَالِبًا فَهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِمَا يُلَائِمُ صِفَاتِهِمْ. فَالْمُرَادُ بِالْآثِمِ وَالْكَفُورِ: الصِّنْفَانِ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ وَتَعْلِيقُ الطَّاعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ عِلَّةٌ فِي النَّهْيِ. وَالْآثِمُ وَالْكَفُورُ مُتَلَازِمَانِ فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مُغْنِيًا عَنِ الْآخَرِ وَلَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَشْوِيهِ حَالِ الْمُتَّصِفِ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [الْبَقَرَة: 276] . وَفِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى زَعِيمَيْنِ مِنْ زُعَمَاءِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَهُمَا عُتْبَةُ ابْن رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، لِأَنَّ عُتْبَةَ اشْتُهِرَ بِارْتِكَابِ الْمَآثِمِ وَالْفُسُوقِ، وَالْوَلِيدَ اشْتُهِرَ بِشِدَّةِ الشَّكِيمَةِ فِي الْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ. وَقَدْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَأُشِيرَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ عَلَمٌ فِيهِ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَآثِمِ لِأَوَّلِهِمَا. وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْكُفْرِ لِثَانِيهِمَا، فَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ (كَفُورٌ) . قِيلَ عَرَضَ عُتْبَةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ. وَعَرَضَ الْوَلِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُرْضِيهِ وَيَرْجِعَ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً [المدثر: 12] . فَيَكُونُ فِي إِيثَارِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِالذِّكْرِ إِدْمَاجٌ لِذَمِّهِمَا وَتَلْمِيحٌ لِقِصَّتِهِمَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَحَرْفُ أَوْ لَمْ يَعْدُ أَصْلَ مَعْنَاهُ مِنْ عَطْفِ تَشْرِيكِ أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ فِي خَبَرٍ أَوْ طَلَبٍ، وَهَذَا التَّشْرِيكُ يُفِيدُ تَخْيِيرًا، أَوْ إِبَاحَةً، أَوْ تَقْسِيمًا، أَوْ شَكًّا، أَوْ تَشْكِيكًا بِحَسَبِ الْمَوَاقِعِ وَبِحَسَبِ عَوَامِلِ الْإِعْرَابِ، لِتَدْخُلَ أَوْ الَّتِي

[سورة الإنسان (76) : الآيات 25 إلى 26]

تُضْمَرُ بَعْدَهَا (أَنْ) فَتَنْصِبَ الْمُضَارِعَ. وَكَوْنُ الْمُشَرَّكِ بِهَا وَاحِدًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ مُلَازِمٌ لِمَوَاقِعِهَا كُلِّهَا. فَمَعْنَى الْآيَةِ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ وَيَعْلَمُ أَنَّ طَاعَةَ كِلَيْهِمَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَهُمَا مَعًا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ طَاعَةُ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةٌ. وَمَوْقِعُ مِنْهُمْ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ آثِماً فَإِنَّهُ صِفَةُ آثِماً فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا. وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنْ سِيَاقِ الدَّعْوَةِ أَوْ لِأَنَّهُمُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أَيْ لَا كَمَا يَزْعُمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّكَ جِئْتَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، أَيْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى: وَلَا تُطِعْ أَحَدًا من الْمُشْركين. [25- 26] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 25 إِلَى 26] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) أَيْ أَقْبِلْ عَلَى شَأْنِكَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ. وَهَذَا إِرْشَادٌ إِلَى مَا فِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ اسْتِغْرَاقُ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ الدَّعْوَةِ وَتَكْرِيرِهَا طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَيَدْخُلُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ الصَّلَوَاتُ مِثْلُ قَوْلِهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 114، 115] . وَكَذَلِكَ النَّوَافِلُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَفْرُوضٍ مِنْهَا وَغَيْرِ مَفْرُوضٍ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الطَّلَبِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَفْلٍ. وَذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ يَشْمَلُ تَبْلِيغَ الدَّعْوَةِ وَيَشْمَلُ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّوَافِلِ وَيَشْمَلُ الْمَوْعِظَةَ بِتَخْوِيفِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ.

وَقَوْلُهُ: بُكْرَةً وَأَصِيلًا يَشْمَلُ أَوْقَاتَ النَّهَارِ كلهَا الْمَحْدُود مِنْهَا كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرَ الْمَحْدُودِ كَأَوْقَاتِ النَّوَافِلِ، وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وبُكْرَةً هِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَأَصِيلًا عَشِيًّا. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ تَفَرُّغٍ مِنْ بَثِّ الدَّعْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ الْآيَة [المزمل: 2- 20] وَهَذَا خَاصٌّ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ فَرْضًا وَنَفْلًا. وَقَوْلُهُ: وَسَبِّحْهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّسْبِيحَ التَّنَفُّلُ. وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ بِالْقَوْلِ وَبِالِاعْتِقَادِ، وَيَشْمَلُ الصَّلَوَاتَ وَالْأَقْوَالَ الطَّيِّبَةَ وَالتَّدَبُّرَ فِي دَلَائِلِ صِفَاتِ اللَّهِ وَكَمَالَاتِهِ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُ مَادَّةِ التَّسْبِيحِ عَلَى الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطّور: 48] ، أَيْ مِنَ اللَّيْلِ. وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ: وسَبِّحْهُ هُنَا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ طَوِيلًا صِفَةُ لَيْلًا وَحَيْثُ وَصَفَ اللَّيْلَ بِالطُّولِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ فِيهِ، عُلِمَ أَنَّ لَيْلًا أُرِيدَ بِهِ أَزْمَانُ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مَجْمُوعُ الْوَقْتِ الْمُقَابِلِ لِلنَّهَارِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِهِ بِالطُّولِ جَدْوَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الطُّولِ تَقْيِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ، أَيْ سَبِّحْهُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إِلَى أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [الْإِنْسَان: 2، 4] أَوْ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنِ (اسْجُدْ) وسَبِّحْهُ. وَانْتَصَبَ لَيْلًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ سَبِّحْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَوْقَاتِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصِيلَ يُطْلَقُ عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَسَبِّحْهُ إِشَارَةً إِلَى قِيَامِ اللَّيْلِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الْحجر: 97، 98] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمّل: 8- 10] .

[سورة الإنسان (76) : آية 27]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 27] إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ إِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: 24] ، أَيْ لِأَنَّ خُلُقَهُمُ الِانْصِبَابُ عَلَى الدُّنْيَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَوْ أَعْطَاهُمْ لَتَخَلَّقَ بِخُلُقِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ الْآيَة [النِّسَاء: 89] . فَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ. وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرِينَ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ لِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ هؤُلاءِ دُونَ سَبْقِ مَا يَكُونُ مُشَارًا إِلَيْهِ فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [89] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [109] . وَقَدْ تَنَزَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا» فَلَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لِأُمُورِهَا عَدَا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ كَمَا قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» . فَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْمَيْلُ إِلَيْهِنَّ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِ الذُّكُورِ، وَمَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ، وَفِي الْأُنْسِ بِهِنَّ انْتِعَاشٌ لِلرُّوحِ فَتَنَاوُلُهُ مَحْمُودٌ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَرَّأِ مِنَ الْإِيقَاعِ فِي فَسَادٍ وَمَا هُوَ الْأَمْثَلُ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَشُرْبُ الْمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرَّعْد: 38] . وَأَمَّا الطِّيبُ فَلِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلتَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُحِبُّونَ تَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ لَا يُشَارِكُونَ مَعَ حُبِّ الْعَاجِلَةِ حُبَّ الْآخِرَةِ. والْعاجِلَةَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ تَقْدِيرُهُ: الْحَيَاةُ الْعَاجِلَةُ، أَوِ الدَّارُ الْعَاجِلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهَا مُدَّةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْعَاجِلَةِ عَلَى الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ [الْقِيَامَة: 20، 21] فَشَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَسْمِيَةُ الدُّنْيَا بِالْعَاجِلَةِ.

وَمُتَعَلِّقُ يُحِبُّونَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: نَعِيمٌ أَوْ مَنَافِعُ لِأَنَّ الْحُبَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الدُّنْيَا. وَفِي إِيثَارِ ذِكْرِ الدُّنْيَا بِوَصْفِ الْعَاجِلَةِ تَوْطِئَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الذَّمِّ لِأَنَّ وَصْفَ الْعَاجِلَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ آثَرُوهَا لِأَنَّهَا عَاجِلَةٌ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ إِذْ رَضُوا بِالدُّونِ لِأَنَّهُ عَاجِلٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ أَهْلِ التَّبَصُّرِ، فَقَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّكْمِيلِ لِمَنَاطِ ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيقِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَحَبُّوا الدُّنْيَا مَعَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ لَمَا كَانُوا مَذْمُومِينَ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ النَّاصِحِينَ لِقَارُونَ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: 77] . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: 7] إِذْ كَانَ مَنَاطُ الذَّمِّ فِيهِ هُوَ أَنْ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى عِلْمِ أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِلْمِ بِالْآخِرَةِ. وَمُثِّلُوا بِحَالِ مَنْ يَتْرُكُ شَيْئًا وَرَاءَهُ فَهُوَ لَا يَسْعَى إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يَسْعَى إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَإِنَّمَا أَعْرَضُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحُلُولِهِ فَكَيْفَ يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَذَرُونَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ وَمُتَكَرِّرٌ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ ذَلِكَ التَّرْكِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحُلُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَالْمُسْلِمُونَ لَا يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ هَذَا الْيَوْمَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ عَمَلٍ لَهُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي التَّقْوَى. وَالْيَوْمُ الثَّقِيلُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وُصِفَ بِالثَّقِيلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِشِدَّةِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْكُرُوبِ فَهُوَ كَالشَّيْءِ الثَّقِيلِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ حَمْلُهُ. وَالثِّقَلُ: يُسْتَعَارُ لِلشِّدَّةِ وَالْعُسْرِ قَالَ تَعَالَى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 187] وَقَالَ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] .

[سورة الإنسان (76) : آية 28]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 28] نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الْإِنْسَان: 27] يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِهِ شُبْهَةَ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ بِلَاهَا وَفَنَائِهَا، وَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ مَسُوقًا مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ جِيءَ هُنَا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالٌ لِشُبْهَتِهِمْ بِبَيَانِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ يُعِيدُهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاء: 51] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْحَائِمَةِ حَوْلَ هَذَا الْمَعْنَى. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ دُونَ أَنْ تُفْتَتَحَ بِ خَلَقْناهُمْ أَوْ نَحْنُ خَالِقُونَ، لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنِيِّينَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ. وَتَقْوِيَةُ الْحُكْمِ بِنَاءٌ عَلَى تَنْزِيلِ أُولَئِكَ الْمَخْلُوقِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ حَيْثُ لم يجرؤوا عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ فَأَنْكَرُوا أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْبِلَى، فَكَأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ لِغَيْرِهِ. وَتَقَوِّي الْحُكْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا شَاءَ بَدَّلَ أَمْثَالَهُمْ بِإِعَادَةِ أَجْسَادِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدِ جُمْلَةِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ، اسْتِغْنَاءً بِتَوَلُّدِ مَعْنَاهَا عَنْ مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْوِيَةِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَهَذَا التَّقَوِّي هُنَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ كَلَامًا يَعْقُبُهُ هُوَ مَصَبُّ التَّقَوِّي، وَنَظِيرُهُ فِي التَّقَوِّي وَالتَّفْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ فَإِنَّ الْمُفَرَّعَ هُوَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ. وَجُمْلَةُ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ مُعْتَرِضَةٌ وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة الْوَاقِعَة [57- 61] . ف أَمْثالَهُمْ: هِيَ الْأَجْسَادُ الثَّانِيَةُ إِذْ هِيَ أَمْثَالٌ لِأَجْسَادِهِمُ الْمَوْجُودَةِ حِينَ التَّنْزِيلِ. وَالشَّدُّ: الْإِحْكَامُ وَإِتْقَانُ ارْتِبَاطِ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ إِذْ بِذَلِكَ يَسْتَقِلُّ الْجِسْمُ. وَالْأَسْرُ: الرَّبْطُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَالْمَعْنَى: أَحْكَمْنَا رَبْطَ أَجْزَاءِ أَجْسَامِهِمْ فَكَانَتْ مشدودا بَعْضهَا إِلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ إِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَهُمْ بِنَاسٍ آخَرِينَ. فَحَذْفُ مَفْعُولِ شِئْنا لِدَلَالَةِ وَجَوَاب إِذا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ غَالِبًا. وَاجْتِلَابُ إِذا فِي هَذَا التَّعْلِيقِ لِأَنَّ شَأْنَ إِذا أَنْ تُفِيدَ الْيَقِينَ بِوُقُوعِ مَا قُيِّدَ بِهَا بِخِلَافِ حَرْفِ (إِنْ) فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مُسْتَقْرَبُ الْوُقُوعِ. فَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ إِلَخْ، وَيُحْمَلُ الشَّرْطُ عَلَى التَّحَقُّقِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَهْدِيدًا لَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَجُحُودِهِمْ لِلْبَعْثِ، أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَهْلَكْنَاهُمْ وَخَلَقْنَا خَلْقًا آخَرَ مِثْلَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إِبْرَاهِيم: 19] . وَيَكُونُ إِذا مُرَادًا بِهِ تَحَقُّقُ التَّلَازُمِ بَيْنَ شَرْطِ إِذا وَجَوَابِهَا، أَيِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا، وَالْجُمْلَةِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا. وَفِعْلُ التَّبْدِيلِ يَقْتَضِي مُبَدَّلًا وَمُبَدَّلًا بِهِ وَأَيُّهُمَا اعْتَبَرْتَهُ فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ صَحَّ لِأَنَّ كُلَّ مُبَدَّلٍ بِشَيْءٍ هُوَ أَيْضًا مُبَدَّلٌ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَقَامِ غَرَضٌ بِبَيَانِ الْمَرْغُوبِ فِي اقْتِنَائِهِ وَالْمَسْمُوحِ بِبَذْلِهِ مِنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُسْتَبْدَلَيْنِ، فَحُذِفَ مِنَ الْكَلَامِ هُنَا مُتَعَلِّقُ بَدَّلْنا وَهُوَ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحَذْفِ، وَأُبْقِيَ الْمَفْعُولُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [61] فِي قَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ [40، 41] فَالتَّقْدِيرُ: بَدَّلْنَا مِنْهُمْ. وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ وَهُوَ الْمُمَاثِلُ فِي ذَاتٍ أَوْ صِفَةٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَمْثَالُهُمْ فِي أَشْكَالِ أَجْسَادِهِمْ وَهُوَ التَّبْدِيلُ الَّذِي سَيَكُونُ فِي الْمَعَادِ.

[سورة الإنسان (76) : آية 29]

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَمْثَالُهُمْ فِي أَنَّهُمْ أُمَمٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ يَحْصُلُ بِخَلْقِ أَجْسَامٍ عَلَى مِثَالِ الْأَجْسَادِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِلْأَرْوَاحِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا. وَانْتَصَبَ تَبْدِيلًا عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق المؤكّد لِعَامِلِهِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَبْدِيلٌ حَقِيقِيٌّ، وَلِلتَّوَصُّلِ بِالتَّنْوِينِ إِلَى تَعْظِيمه وعجوبته. [29] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 29] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ بَسْطِ التَّذْكِيرِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى فَذْلَكَةِ الْغَرَضِ وَحَوْصَلَتِهِ، إِشْعَارًا بِانْتِهَاءِ الْمَقْصُودِ وَتَنْبِيهًا إِلَى فَائِدَتِهِ، وَوَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيهِ، وَاسْتِثْمَارِ ثَمَرَتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلَخْ يَقْوَى مَوْقِعُ الْفَذْلَكَةِ لِلْجُمْلَةِ وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَنَّ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ عَدَمُ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهَا تَذْكِرَةٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ إِلَى السُّورَةِ وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ. وَالتَّذْكِرَةُ: مَصْدَرُ ذَكَّرَهُ (مِثْلَ التَّزْكِيَةِ) ، أَيْ أُكَلِّمُهُ كَلَامًا يُذَكِّرُهُ بِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَسِيَهُ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْمَوْعِظَةِ بِالْإِقْلَاعِ عَن عمل سيّىء وَالْإِقْبَالِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ وَعَلَى وُضُوحِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِمَنْ تَذَكَّرَ، أَيْ تَبَصَّرَ بِتَشْبِيهِ حَالَةِ الْمُعْرِضِ عَنِ الْخَيْرِ الْمَشْغُولِ عَنْهُ بِحَالَةِ النَّاسِي لَهُ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَلَّا يُفَرِّطَ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ نَاسِيًا لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ لَهُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ الْحَثُّ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، أَيْ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ إِلَّا الْعَمَلُ بِهَا إِذَا شَاءَ الْمُتَذَكِّرُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا. فَفِي قَوْله: فَمَنْ شاءَ حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَشِيئَةَ الْمَرْءِ فِي مِكْنَتِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا إِلَّا سُوءُ تَدْبِيرِهِ. وَهَذَا حَثٌّ وَتَحْرِيضٌ فِيهِ تَعْرِيض بالمشركين بِأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَتَذَكَّرُوا عِنَادًا وَحَسَدًا. وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ: سُلُوكُهُ، عُبِّرَ عَنِ السُّلُوكِ بِالِاتِّخَاذِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهٍ

[سورة الإنسان (76) : آية 30]

فَفِي قَوْلِهِ: اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا اسْتِعَارَتَانِ لِأَنَّ السَّبِيلَ مُسْتَعَارٌ لِسَبَبِ الْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ وَالزُّلْفَى. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّهِ بِ سَبِيلًا، أَيْ سَبِيلًا مُبَلِّغَةً إِلَى اللَّهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْعُقَلَاءُ فِي شَرَفِ مَا يُوصِلُ إِلَى الرَّبِّ، أَيْ إِلَى إِكْرَامِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَرَارَةُ الْخَيْرَاتِ وَلِذَلِكَ عُبِّرَ بِرَبٍّ مُضَافًا إِلَى ضمير فَمَنْ شاءَ إِذْ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُظْوَةِ عِنْدَ رَبِّهِ. وَهَذِهِ السَّبِيلُ هِيَ التَّوْبَةُ فَالتَّائِبُ مِثْلُ الَّذِي كَانَ ضَالًّا، أَوْ آبِقًا فَاهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْجِعُ مِنْهَا إِلَى مَقْصِدِهِ، أَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ إِلَى مَوْلَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَة المزمل. [30] [سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 30] وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) لَمَّا نَاطَ اخْتِيَارَهُمْ سَبِيلَ مَرْضَاةِ اللَّهِ بِمَشِيئَتِهِمْ أَعْقَبَهُ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ لِلتَّوَسُّلِ بِرِضَاهُ إِلَى تَيْسِيرِ سُلُوكِ سُبُلِ الْخَيْرِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْهُ بِمَحَلِّ الرِّضَى وَالْعِنَايَةِ لَطَفَ بِهِمْ وَيَسَّرَ لَهُمْ مَا يَعْسُرُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْمُهْلِكَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [اللَّيْل: 7] فَإِذَا لَمْ يَسْعَوْا إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ وَكَلَهُمْ إِلَى أَحْوَالِهِمُ الَّتِي تَعَوَّدُوهَا فَاقْتَحَمَتْ بِهِمْ مَهَامِهَ الْعِمَايَةِ إِذْ هُمْ مَحْفُوفُونَ بِأَسْبَابِ الضَّلَالِ بِمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ جِبِلَّاتُهُمْ مِنْ إِيثَارِ الشَّهَوَاتِ وَالِانْدِفَاعِ مَعَ عَصَائِبِ الضَّلَالَاتِ، وَهُوَ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: 10] ، أَيْ نَتْرُكُهُ وَشَأْنَهُ فَتَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْعُسْرَى، أَيْ تَلْحَقُ بِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ وَمُجَاهَدَةٍ. فجملة وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الْإِنْسَان: 29] أَوْ حَالًا مِنْ مَنْ يَشاءُ [الْإِنْسَان: 31] وَهِيَ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تَتْمِيمٌ وَاحْتِرَاسٌ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ تَشَاءُونَ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا تَشَاءُونَ شَيْئًا أَوْ

مَشِيئًا وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، أَيْ مَا تَشَاءُونَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ عُلِّلَ ارْتِبَاطُ حُصُولِ مَشِيئَتِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أَيْ عَلِيمٌ بِوَسَائِلِ إِيجَادِ مَشِيئَتِهِمُ الْخَيْرَ، حَكِيمٌ بِدَقَائِقِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَبْلُغُ إِلَى مَعْرِفَةِ دَقَائِقِهِ بِالْكُنْهِ عُقُولُ النَّاسِ، لِأَنَّ هُنَالِكَ تَصَرُّفَاتٍ عُلْوِيَّةً لَا يَبْلُغُ النَّاسُ مَبْلَغَ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَفْصِيلِهَا وَلَكِنْ حَسْبُهُمْ الِاهْتِدَاءُ بِآثَارِهَا وَتَزْكِيَةُ أَنْفُسِهِمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا. وَمَا نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمَشِيئَةِ وَأَحْوَالِهَا وَأَزْمَانِهَا، وَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ حَرْفَ مَصْدَرٍ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يُقَدَّرُ مَصْدَرًا، أَيْ إِلَّا شَيْءَ اللَّهِ (بِمَعْنَى مَشِيئَتِهِ) ، وَهُوَ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَلِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ، وَلِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ صَالِحٌ لِإِرَادَةِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فَإِنْ قُدِّرَ مُضَافٌ كَانَ الْمَعْنَى: إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ إِلَّا زَمَنَ مَشِيئَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مُضَافٌ كَانَ الْمَعْنَى: لَا مَشِيئَةَ لَكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَإِيثَارُ اجْتِلَابِ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون فعلا تَشاؤُنَ ويَشاءَ اللَّهُ مُنْزَلَيْنِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرَ لَهُمَا مَفْعُولَانِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ: أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعٍ وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ وَمَا تَحْصُلُ مَشِيئَتُكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ حُصُولِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى دِقَّةِ كُنْهِ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ تِجَاهَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي جَمَعَ الْأَشْعَرِيُّ التَّعْبِيرَ عَنْهُ بِالْكَسْبِ، فَقِيلَ فِيهِ «أَدَقُّ مِنْ كَسْبِ الْأَشْعَرِيِّ» . فَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْخَفِيِّ لِيَرْقُبُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَيَجِدُوا آثَارَهُ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ قَائِمَةً مُتَوَافِرَةً، وَلِهَذَا أُطْنِبَ وَصْفُ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فَهُوَ تَذْيِيلٌ أَوْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الْإِنْسَان: 31] ، أَيْ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ فَهُوَ أَعْلَمُ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي رَحْمَتِهِ وَمَنْ شَاءَ أَبْعَدَهُ عَنْهَا.

وَهَذَا إِطْنَابٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ عبس [11، 12] : كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ لِأَنَّ حُصُولَ التَّذَكُّرِ مِنَ التَّذْكِرَةِ أَقْرَبُ وَأَمْكَنُ، مِنَ الْعَمَلِ بِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّبِيلِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ صُرِفَتِ الْعِنَايَةُ وَالِاهْتِمَامُ إِلَى مَا يُلَوِّحُ بِوَسِيلَةِ اتِّخَاذِ تِلْكَ السَّبِيلِ. وَفِعْلُ كانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ لَهُ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنِهَايَتِهَا ثُبُوتُ مَشِيئَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مَشِيئَةُ الْعِبَادِ، وَالْأُخْرَى مَشِيئَةُ اللَّهِ، وَقَدْ جَمَعَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ فَكَانَتْ أَصْلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ مُتَعَارِضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُقْتَضِي بَعْضُهَا بِانْفِرَادِهِ نَوْطَ التَّكَالِيفِ بِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي شَاءُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُقْتَضِي بَعْضُهَا الْآخَرُ مَشِيئَةً لِلَّهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ. فَأَمَّا مَشِيئَةُ الْعِبَادِ فَهِيَ إِذَا حَصَلَتْ تَحْصُلُ مُبَاشَرَةً بِانْفِعَالِ النُّفُوسِ لِفَاعِلِيَّةِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَمَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ انْفِعَالُ النُّفُوسِ فَالْمُرَادُ بِهَا آثَارُ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي إِنْ حَصَلَتْ فَحَصَلَتْ مَشِيئَةُ الْعَبْدِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ لِعَبْدِهِ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْآثَارُ هِيَ مَجْمُوعُ أُمُورٍ تَتَظَاهَرُ وَتَتَجَمَّعُ فَتَحْصُلُ مِنْهَا مَشِيئَةُ الْعَبْدِ. وَتِلْكَ الْآثَارُ هِيَ مَا فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَالْبَشَرِ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ مِنْ تَأْثِيرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَتَكْوِينِ الْخِلْقَةِ وَتَرْكِيبِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ، وَمَدَى قَابِلِيَّةِ التَّفَهُّمِ وَالْفَهْمِ وَتَسَلُّطِ الْمُجْتَمَعِ وَالْبِيئَةِ وَالدِّعَايَةِ وَالتَّلْقِينِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، مِمَّا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ إِصَابَةٍ أَوْ خَطَأٍ، فَإِذَا اسْتَتَبَّتْ أَسْبَابُ قَبُولِ الْهُدَى مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْآثَارِ وَتَلَاءَمَ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ أَوْ رَجَحَ خَيْرُهَا عَلَى شَرِّهَا عَرَفْنَا مَشِيئَةَ اللَّهِ لِأَنَّ تِلْكَ آثَارُ مَشِيئَتِهِ مِنْ مَجْمُوعِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهَا تَسْتَتِبُّ لِفُلَانٍ، فَعِلْمُهُ بِتَوَفُّرِهَا مَعَ كَوْنِهَا آثَارَ نِظَامِهِ فِي الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى مَشِيئَتِهِ، وَإِذَا تَعَاكَسَتْ وَتَنَافَرَ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ وَلَمْ يَرْجَحْ خَيْرُهَا عَلَى شَرِّهَا بَلْ رَجَحَ شَرُّهَا عَلَى خَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرْدِ مِنَ النَّاسِ تَعَطَّلَ وُصُولُ الْخَيْرِ إِلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَشَأْهُ، عَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ لَهُ قَبُولَ الْخَيْرِ وَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا حُفَّ بِذَلِكَ الْفَرْدِ، فَذَلِكَ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ لَهُ الْخَيْرَ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ شَاءَ لَهُ أَنَّ يَشَاءَ الشَّرَّ، وَلَا مُخَلِّصَ لِلْعَبْدِ مِنْ هَذِهِ الرِّبْقَةِ إِلَّا إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلُطْفٌ فَكَوَّنَ كَائِنَاتٍ إِذَا دَخَلَتْ تِلْكَ الْكَائِنَاتُ فِيمَا

هُوَ حَافٍ بِالْعَبْدِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْأَحْوَالِ غَيَّرَتْ أَحْوَالَهَا وَقَلَبَتْ آثَارَهُمَا رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، فَصَارَ الْعَبْدُ إِلَى صَلَاحٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَغْمُورًا بِالْفَسَادِ فَتَتَهَيَّأُ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ جَدِيدَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ حَافًّا بِهِ، مِثْلَ مَا حَصَلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قَبُولِ عَظِيمِ الْهُدَى وَتَوَغُّلِهِ فِيهِ فِي حِينِ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِسَابِغِ الضَّلَالَةِ وَالْعِنَادِ. فَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ تَكْرِمَةً مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ وَعِنَايَةً بِهِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِإِرَادَةٍ مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً: إِمَّا لِأَنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ بِالنَّاسِ مِنْ شَرٍّ إِلَى خَيْرٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَدِ الْعُمَرَيْنِ» وَإِمَّا بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ دَاعٍ اسْتُجِيبَ لَهُ فَقَدْ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَقِبَ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَةِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَقِبَ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تُسْلِمَ» أَلَا تَرَى أَنَّ الْهِدَايَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُوتِيَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَثَرًا مِنْ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: 129] الْآيَةَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» . فَهَذَا مَا أَمْكَنَ مِنْ بَيَانِ هَاتَيْنِ الْمَشِيئَتَيْنِ بِحَسَبِ الْمُسْتَطَاعِ وَلَعَلَّ فِي ذَلِكَ مَا يُفَسِّرُ قَوْلَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مَعْنَى الْكَسْبِ وَالِاسْتِطَاعَةِ «إِنَّهَا سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ» . وَبِهَذَا بَطُلَ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ لِأَنَّ الْآيَةَ أَثْبَتَتْ مَشِيئَةً لِلنَّاسِ وَجَعَلَتْ مَشِيئَةَ اللَّهِ شَرْطًا فِيهَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ، فَلِلْإِنْسَانِ مَشِيئَتُهُ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ إِلَّا فِي الْعِبَارَةِ بِالْخَلْقِ أَوْ بِالْكَسْبِ، وَعِبَارَةُ الْأَشْعَرِيِّ أَرْشَقُ وَأَعْلَقُ بِالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْخَالِقِ، وَإِلَّا فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ أَوْ عَدَمِ الْفَرْقِ وَتَفْصِيلِهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوب وَما تَشاؤُنَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَخَلَفٌ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَائِدًا إِلَى فَمَنْ شاءَ [الْإِنْسَان: 29] .

[سورة الإنسان (76) : آية 31]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 31] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جملَة وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَان: 30] إِذْ يَتَسَاءَلُ السَّامِعُ عَلَى أَثَرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي حَالِ مَنِ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَنْ لَمْ يَتَّخِذْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ يُدْخِلُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَأَنَّهُ أَعَدَّ لِمَنْ لَمْ يَتَخِذْ إِلَيْهِ سَبِيلًا عَذَابًا أَلِيمًا وَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرَ أَنْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ [الْإِنْسَان: 30] وَتَكُونُ جُمْلَةُ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: 30] مُعْتَرِضَةً بَيْنَ اسْمِ أَنْ وَخَبَرِهَا أَوْ حَالًا، وَهِيَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مُنْبِئَةٌ بِأَنَّ إِجْرَاءَ وَصْفَيِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مُرَادٌ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ كُلَّهُ مِنْ جَزَاءٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ بِعَذَابٍ جَارٍ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَانْتَصَبَ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ وَالتَّقْدِيرِ: أَوْعَدَ الظَّالِمِينَ، أَوْ كَافَأَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُقَدِّرُهُ السَّامِعُ مُنَاسِبًا لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ.

77- سورة المرسلات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 77- سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ لَمْ تَرِدْ لَهَا تَسْمِيَةٌ صَرِيحَةٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُضَافَ لَفْظُ سُورَةٍ إِلَى جُمْلَتِهَا الْأُولَى. وَسُمِّيَتْ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ «سُورَةُ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا» فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ» الْحَدِيثَ. وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَرَأْتُ سُورَةَ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا» فَسَمِعَتْنِي أُمُّ الْفَضْلِ (امْرَأَةُ الْعَبَّاسِ) فَبَكَتْ وَقَالَتْ: بُنَيَّ أَذْكَرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ» . وَسُمِّيَتْ «سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ» ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ الرَّحْمَانَ وَالنَّجْمَ فِي رَكْعَةٍ، وَاقْتَرَبَتْ وَالْحَاقَّةَ فِي رَكْعَةٍ» ثُمَّ قَالَ: «وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَالْمُرْسَلَاتِ فِي رَكْعَةٍ» فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ السُّورَتَيْنِ وَسَمَّاهَا الْمُرْسَلَاتِ بِدُونِ وَاوِ الْقَسَمِ لِأَنَّ الْوَاوَ الَّتِي فِي كَلَامِهِ وَاوُ الْعَطْفِ مِثْلَ أَخَوَاتِهَا فِي كَلَامِهِ. وَاشْتُهِرَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِاسْمِ «الْمُرْسَلَاتِ» وَكَذَلِكَ فِي التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ وَسَعْدُ اللَّهِ الشَّهِيرُ بِسَعْدِي فِي «حَاشِيَتَيْهِمَا» عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْعُرْفِ» وَلَمْ يُسْنِدَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ «كِتَابِ ابْنِ الضَّرِيسِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَدِّ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَذَكَرَهَا بِاسْمِ الْمُرْسَلَاتِ. وَفِيهِ عَنْ «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ فِي عَدِّ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَذَكَرَهَا بَاسِمِ الْمُرْسَلَاتِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ، وَذَلِكَ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَنْ أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا لِأَنَّهَا نَزَلَتْ وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفٍ فِي غَارٍ بِمِنًى مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ آيَةَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمَحْمَلُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَأْوِيلٌ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ نَظَرًا إِلَى أَنْ الْكُفَّارَ الصُّرَحَاءَ لَا يُؤْمَرُونَ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِكَوْنِ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ [المرسلات: 48] وَارِدٌ عَلَى طَرِيقَةِ الضَّمَائِرِ قَبْلَهُ وَكُلُّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْكُفَّارِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَمَعْنَى قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا: كِنَايَةٌ عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَسْلِمُوا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ [الْقَلَم: 43] فَهِيَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَقَوْلُهُ: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 43- 46] . وَعَنْ مُقَاتِلٍ نَزَلَتْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ فِي شَأْنِ وَفْدِ ثَقِيفٍ حِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ غَزْوَةِ هَوَازِنَ وَأَتَوُا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ فَقَالُوا: لَا نُجَبِّي فَإِنَّهَا مِسَبَّةٌ عَلَيْنَا. فَقَالَ لَهُمْ: لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ.

أغراضها

وَهَذَا أَيْضًا أَضْعَفُ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا أَرَادَ مُقَاتِلٌ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَلَاثُونَ فِي عِدَادِ تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا خَمْسِينَ. أَغْرَاضُهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ عَقِبَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَوَصْفُ بَعْضِ أَشْرَاطِ ذَلِكَ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِمَا سَبَقَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ. وَوَعِيدِ مُنْكِرِيهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَوَصْفِ أَهْوَالِهِ. وَالتَّعْرِيضِ بِعَذَابٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا اسْتُؤْصِلَتْ أُمَمٌ مُكَذِّبَةٌ مِنْ قَبْلُ. وَمُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِجَزَاءِ الْكَرَامَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَإِعَادَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ لظُهُور دلائله. [1- 7] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 1 إِلَى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) قَسَمٌ بِمَخْلُوقَاتٍ عَظِيمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى عَظِيمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ، وَفِي تَطْوِيلِ الْقَسَمِ تَشْوِيقُ السَّامِعِ لِتَلَقِّي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَوْصُوفَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَوْعًا وَاحِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَوْعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ. وَمَشَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهَا كُلُّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّأْوِيل أَن فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً لِلْمَلَائِكَةِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْعَاصِفَاتُ: الرِّيَاحُ وَلَمْ يَحْكِ الطَّبَرَيُّ فِيهِ مُخَالِفًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ العاصفات: الْمَلَائِكَة. وفَالْفارِقاتِ لَمْ يَحْكِ الطَّبَرِيُّ إِلَّا أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الرُّسُلُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الرِّيَاحُ. وَفِيمَا عَدَا هَذِهِ مِنَ الصِّفَاتِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلُوهَا عَلَى أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ عَلَى أَنَّهَا الرِّيَاح. ف الْمُرْسَلاتِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمُقَاتِلٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَلَعَلَّهُ يُجِيزُ التَّأْوِيلَيْنِ وَهُوَ الْأَوْفَقُ بِعَطْفِهَا بِالْفَاءِ. والنَّاشِراتِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ: الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ: الرِّيَاحُ وَهُوَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَيْضًا. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِجِنْسَيْنِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [البروج: 1، 2] ، وَمِثْلُهُ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ. وَيَتَّجِهُ فِي تَوْزِيعِهَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي عُطِفَتْ بِالْفَاءِ تَابِعَةٌ لِجِنْسِ مَا عُطِفَتْ هِيَ عَلَيْهِ، وَالَّتِي عُطِفَتْ بِالْوَاوِ يَتَرَجَّحُ أَنَّهَا صِفَاتُ جِنْسٍ آخَرَ. فَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْمُرْسَلَاتِ وَالْعَاصِفَاتِ صِفَتَانِ لِلرِّيَاحِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا صِفَاتٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْوَاوُ الثَّانِيَةِ لِلْعَطْفِ وَلَيْسَتْ حَرْفَ قَسَمٍ. وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ فِي الْقَسَمِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ بِهَا ذَاتًا غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَمَا جَاءَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ. إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ أَرَادَ صِفَاتِ مَمْدُوحٍ وَاحِدٍ. وَلْنَتَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ: فَأَمَّا الْمُرْسَلاتِ فَإِذَا جُعِلَ وَصْفًا لِلْمَلَائِكَةِ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الرُّسُلِ

وَالْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ جِبْرِيلَ فِي إِرْسَالِهِ بِالْوَحْيِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ بِتَعْلِيمٍ أَوْ خَبَرٍ أَوْ نَصْرٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّاءَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ الْآيَة [آل عمرَان: 39] ، أَوِ الْمُرْسَلاتِ بِتَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْعَذَابِ مِثْلَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وعُرْفاً حَالٌ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مِثْلَ عُرْفِ الْفَرَسِ فِي تتَابع الشّعير بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، يُقَالُ: هُمْ كَعُرْفِ الضَّبْعِ، إِذَا تَأَلَّبُوا، وَيُقَالُ: جَاءُوا عُرْفًا وَاحِدًا. وَهُوَ صَالِحٌ لِوَصْفِ الْمَلَائِكَةِ وَلِوَصْفِ الرِّيحِ. وَفُسِّرَ عُرْفاً بِأَنَّهُ اسْمٌ، أَيِ الشَّعَرُ الَّذِي عَلَى رَقَبَةِ الْفَرَسِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَالْعُرْفِ فِي تَتَابُعِ الْبَعْضِ لِبَعْضٍ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَعْرُوفٌ (ضِدُّ الْمُنْكَرِ) ، وَأَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِرْشَادِ وَالصَّلَاحِ. فَالْعاصِفاتِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمُرْسَلاتِ، أَيْ تُرْسَلُ فَتَعْصِفُ، وَالْعَصْفُ يُطْلَقُ عَلَى قُوَّةِ هُبُوبِ الرِّيحِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُرْسَلَاتِ وَصْفُ الرِّيَاحِ فَالْعَصْفُ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُرْسَلَاتِ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ فَالْعَصْفُ تَشْبِيهٌ لِنُزُولِهِمْ فِي السُّرْعَةِ بِشِدَّةِ الرِّيحِ وَذَلِكَ فِي الْمُبَادَرَةِ فِي سُرْعَةِ الْوُصُولِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمِرُوا بِهِ. وعَصْفاً مُؤَكِّدٌ لِلْوَصْفِ تَأْكِيدًا لِتَحْقِيقِ الْوَصْفِ، إِذْ لَا دَاعِيَ لِإِرَادَةِ رَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ. وَالنَّشْرُ: حَقِيقَتُهُ ضِدُّ الطَّيِّ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِيضَاحِ وَفِي الْإِخْرَاج. ف النَّاشِراتِ إِذَا جُعِلَ وَصْفًا لِلْمَلَائِكَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَشْرَهُمُ الْوَحْيِ، أَيْ تَكْرِيرَ نُزُولِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ النَّشْرُ كِنَايَةً عَنِ الْوُضُوحِ، أَيْ بالشرائع الْبَيِّنَة. وَإِذا جُعِلَ وَصْفًا لِلرِّيَاحِ فَهُوَ نَشْرُ السَّحَابِ فِي الْأَجْوَاءِ فَيَكُونُ عَطْفُهُ بِالْوَاوِ دون الْفَاء لتنبيه عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُرْسَلاتِ لَا على فَالْعاصِفاتِ لِأَنَّ الْعَصْفَ حَالَةٌ مُضِرَّةٌ وَالنَّشْرَ حَالَةُ نَفْعٍ. وَالْقَوْلُ فِي تَأْكِيدِ نَشْراً وَتَنْوِينِهِ كَالْقَوْلِ فِي عَصْفاً. وَالْفَرْقُ: التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا كَانَ وَصْفًا لِلْمَلَائِكَةِ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْفَرْقِ

الْحَقِيقِيِّ مِثْلَ تَمْيِيزِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَتَمْيِيزِ الْأُمَمِ الْمُعَذَّبَةِ فِي الدُّنْيَا عَنِ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ، مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ عَنْ نُوحٍ، وَعَادٍ عَنْ هُودٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ عَنْ لُوطٍ وَأَهْلِهِ عَدَا امْرَأَتِهِ، وَصَالِحٍ لِلْفَرْقِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْوَحْيِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَإِنْ جُعِلَ وَصْفًا لِلرِّيَاحِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ النَّشْرِ، أَيْ فَرْقُهَا جَمَاعَاتِ السُّحُبِ عَلَى الْبِلَادِ. وَلِتَفَرُّعِ الْفَرْقِ بِمَعْنَيَيْهِ عَنِ النَّشْرِ بمعانيه عطف فَالْفارِقاتِ عَلَى النَّاشِراتِ بِالْفَاءِ. وَأُكِّدَ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ كَمَا أُكِّدَ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: عَصْفاً ونَشْراً، وَتَنْوِينُهُ كَذَلِكَ. وَالْمُلْقِيَاتُ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ الْوَحْيَ وَهُوَ الذِّكْرُ. وَالْإِلْقَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَبْلِيغِ الذِّكْرِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِتَشْبِيهِهِ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ. وَإِلْقَاءُ الذِّكْرِ تَبْلِيغُ الْمَوَاعِظِ إِلَى الرُّسُلِ لِيُبَلِّغُوهَا إِلَى النَّاسِ وَهَذَا الْإِلْقَاءُ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُمْ يَخُصُّونَ كُلَّ ذِكْرٍ بِمَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَذِكْرُ الْكُفَّارِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِالنَّعِيمِ. وَهَذَا مَعْنَى عُذْراً أَوْ نُذْراً. فَالْعُذْرُ: الْإِعْلَامُ بِقَبُولِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَتَوْبَةِ التَّائِبِينَ بَعْدَ الذَّنْبِ. وَالنُّذُرُ: اسْمُ مَصْدَرِ أَنْذَرَ، إِذَا حَذَّرَ. وعُذْراً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الذَّالِ، وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّهَا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ نُذْراً بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ بِإِسْكَانِ الذَّالِ عَلَى

[سورة المرسلات (77) : الآيات 8 إلى 14]

الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي عُذْراً، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. وَانْتَصَبَ عُذْراً أَوْ نُذْراً عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ ذِكْراً وأَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ نُذْراً لِلتَّقْسِيمِ. وَجُمْلَةُ إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جَوَابُ الْقَسَمِ وَزِيدَتْ تَأْكِيدًا بِأَنَّ لِتَقْوِيَةِ تَحْقِيقِ وُقُوعِ الْجَوَابِ. وإِنَّما كَلِمَتَانِ هُمَا (إِنَّ) الَّتِي هِيَ حَرْفُ تَأْكِيدٍ وَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ وَلَيْسَتْ هِيَ (إِنَّمَا) الَّتِي هِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ، وَالَّتِي (مَا) فِيهَا زَائِدَةٌ. وَقَدْ كُتِبَتْ هَذِهِ مُتَّصِلَةً (إِنَّ) بِ (مَا) لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُفَرِّقُونَ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَالرَّسْمُ اصْطِلَاحٌ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَنَحْنُ نَكْتُبُهَا مَفْصُولَةً فِي التَّفْسِير وَغَيره. وإِنَّما تُوعَدُونَ: هُوَ الْبَعْثُ لِلْجَزَاءِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الصِّلَةَ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ مَا تَوَعَّدَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ بَعْدَ الْبَعْثِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ شَكَكْتُمْ فِيهِ أَوْ نَفَيْتُمُوهُ. وَالْوَاقِعُ: الثَّابِتُ. وَأَصْلُ الْوَاقِعِ السَّاقِطُ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْتُعِيرَ لِلشَّيْءِ الْمُحَقَّقِ تَشْبِيها بالمستقر. [8- 14] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 8 إِلَى 14] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [المرسلات: 7] لِأَنَّهُ لَمَّا أَفَادَ وُقُوعَ الْبَعْث وَكَانَ الخاطبون يُنْكِرُونَهُ وَيَتَعَلَّلُونَ بِعَدَمِ التَّعْجِيلِ بِوُقُوعِهِ، بُيِّنَ لَهُمْ مَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ زِيَادَة فِي تَهْوِيلِهِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِنْذَارُ بِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ إِلَى أَنْ تَحْصُلَ تِلْكَ الْأَحْدَاثُ الْعَظِيمَةُ، وَفِيهِ

كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَمَارَاتِ حُلُولِ مَا يوعدون يسلتزم التَّحْذِيرَ مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ، وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ بِقَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 19] . وَكُرِّرَتْ كَلِمَةُ إِذَا فِي أَوَائِلِ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ حُرُوفِ الْعَطْفِ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ إِعَادَةِ إِذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ الْآيَة [الْقِيَامَة: 7- 10] ، لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ لِيَكُونَ مَضْمُونُهَا مُسْتَقِلًّا فِي جَعْلِهِ عَلَامَةً عَلَى وُقُوعِ مَا يُوعَدُونَ. وَطَمْسُ النُّجُومِ: زَوَالُ نُورِهَا، وَأَنَّ نُورَ مُعْظَمِ مَا يَلُوحُ لِلنَّاسِ مِنَ النُّجُومِ سَبَبُهُ انْعِكَاسُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا حِينَ احْتِجَابِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى الْجَانِبِ الْمُظْلِمِ مِنَ الْأَرْضِ، فَطَمْسُ النُّجُومِ يَقْتَضِي طَمْسَ نُورِ الشَّمْسِ، أَيْ زَوَالَ الْتِهَابِهَا بِأَنْ تَبْرُدَ حَرَارَتُهَا، أَوْ بِأَنْ تَعْلُوَ سَطْحَهَا طَبَقَةٌ رَمَادِيَّةٌ بِسَبَبِ انْفِجَارَاتٍ مِنْ دَاخِلِهَا، أَوْ بِأَنْ تَتَصَادَمَ مَعَ أَجْرَامٍ سَمَاوِيَّةٍ أُخْرَى لِاخْتِلَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ فَتَنْدَكُّ وَتَتَكَسَّرُ قِطَعًا فَيَزُولُ الْتِهَابُهَا. وَمَعْنَى فُرِجَتْ تَفَرَّقَ مَا كَانَ مُلْتَحِمًا مِنْ هَيْكَلِهَا، يُقَالُ: فُرِجَ الْبَابُ إِذَا فَتَحَهُ. وَالْفُرْجَةُ: الْفَتْحَةُ فِي الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ. فَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّمَاءِ الْجِنْسُ الصَّادِقُ بِجَمِيعِ السَّمَاوَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ الْحَقِيقِيِّ، أَوِ الصَّادِقُ بِسَمَاوَاتٍ مَشْهُورَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ الَّتِي يُعَبِّرُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ عَنْهَا بِالْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرَجُ السَّمَاوَاتِ حُدُوثَ أَخَادِيدَ عَظِيمَةٍ فِي الْكَوَاكِبِ زِيَادَةً عَلَى طَمْسِ نُورِهَا. وَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّمَاءِ فَرْدٌ مُعَيَّنٌ مَعْهُودٌ وَهِيَ مَا نُشَاهِدُهُ كَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ فِي النَّهَارِ وَهِيَ كُرَةُ الْهَوَاءِ، فَمَعْنَى فُرِجَتْ: فَسَادُ عَنَاصِرِ الْجَوِّ بِحَيْثُ تَصِيرُ فِيهِ طَرَائِقَ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ تَبْدُو كَأَنَّهَا شُقُوقٌ فِي كُرَةِ الْهَوَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ بِجَمِيعِ نِظَامِهِ وَمَجْمُوعِ أَجْسَامِهِ. وَالنَّسْفُ: قَلْعُ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَفْرِيقُهَا مِثْلَ الْهَدْمِ. وَنَسْفُ الْجِبَالِ: دَكُّهَا وَمَصِيرُهَا تُرَابًا مُفَرَّقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: 14] .

وَبِنَاءُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاعْتِبَارُ بِحُصُولِ الْفِعْلِ لَا بِتَعْيِينِ فَاعِلِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَاعِلَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَجُمْلَةُ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهِيَ تَقْيِيدٌ لِوَقْتٍ حَادِثٍ يَحْصُلُ وَهِيَ مِمَّا جُعِلَ مَضْمُونُهَا عَلَامَةً عَلَى وُقُوعِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا مُسْتَقْبَلَ الْحُصُولِ وَفِي نَظْمِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غُمُوضٌ وَدِقَّةٌ. فَأَمَّا أُقِّتَتْ فَأَصْلُهُ وُقِّتَتْ بِالْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ، يُقَالُ: وَقَّتَ وَقْتًا، إِذَا عَيَّنَ وَقْتًا لِعَمَلٍ مَا، مُشْتَقًّا مِنَ الْوَقْتِ وَهُوَ الزَّمَانُ، فَلَمَّا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ ضُمَّتِ الْوَاوُ وَهُوَ ضَمٌّ لَازِمٌ احْتِرَازًا مِنْ ضَمَّةِ وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الْبَقَرَة: 237] لِأَنَّ ضَمَّةَ الْوَاوِ ضَمَّةٌ عَارِضَةٌ، فَجَازَ إِبْدَالُهَا هَمْزَةً لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْوَاوِ ثَقِيلٌ فَعَدَلَ عَنِ الْوَاوِ إِلَى الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ أُقِّتَتْ بِهَمْزَةٍ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِالْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِالْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ. وَشَأْنُ إِذا أَنْ تَكُونَ لِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ فَهَذَا التأْقِيتُ لِلرُّسُلِ تَوْقِيتٌ سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ مَا يُوعَدُونَ يَحْصُلُ مَعَ الْعَلَامَاتِ الْأُخْرَى. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أُقِّتَتْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَقْتِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِ هَذَا الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: جُعِلَتْ وَقْتًا، وَهُوَ أَصْلُ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَرْفُوعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى: وُقِّتَ لَهَا وَقْتٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذف والإيصال. وَإِذ كَانَ إِذَا ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَ تَأْجِيلُ الرُّسُلِ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ أُقِّتَتْ عَلَى مَعْنَى: حَانَ وَقْتُهَا، أَيِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ لِلرُّسُلِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يُنْذِرُوا أُمَمَهُمْ بِأَنَّهُ يَحِلُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ فَإِنَّ التَّأْجِيلَ يُفَسِّرُ التَّوْقِيتَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي مَحْمَلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُقِّتَتْ: جُمِعَتْ أَيْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَة: 109] ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ أُقِّتَتْ أُجِّلَتْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَيْ جُعِلَ يَوْمُ الدِّينِ وَالْفَصْلِ لَهَا وَقْتًا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «وُقِّتَتْ» بَلَغَتْ مِيقَاتَهَا الَّذِي

كَانَتْ تَنْتَظِرُهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ» اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يُقَالُ: وُقِّتَ بِمَعْنَى أُحْضِرَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَسَلَّمَهُ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مَعْنًى مَغْفُولٌ عَنْهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ أَوْ مَطْوِيٌّ بِخَفَاءٍ فِي بَعْضِهَا. وَيَجِيء على الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ اسْتِئْنَافًا، وَتُجْعَلُ (أَيٌّ) اسْمَ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ لِلتَّهْوِيلِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ صَرَّحُوا وَلَمْ يُجْمِلُوا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ تَكُونَ (أَيٌّ) مَوْصُولَةً دَالَّةً عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَتَكُونُ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (أَيٌّ) وَتَقْدِيرُهُ: لِيَوْمٍ أَيِّ يَوْمٍ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. وَيَكُونُ مَعْنَى أُقِّتَتْ حَضَرَ مِيقَاتُهَا الَّذِي وُقِّتَ لَهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ جُمِعَتْ، وَفِي «اللِّسَان» على الْفَرَّاءِ: أُقِّتَتْ جُمِعَتْ لِوَقْتِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَة: 109] وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] . وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ جُمِعَتْ لِأَجْلِ الْيَوْمِ الَّذِي أُجِّلَتْ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُجِّلَتْ صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ لِظُهُورِهِ، أَيْ أُجِّلَتْ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ بَدَلٌ مِنْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ بِإِعَادَةِ الْحَرْفِ الَّذِي جُرَّ بِهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: 114] أَيْ أُحْضِرَتِ الرُّسُلُ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ وَالْبَدَلَ دَلِيلَانِ عَلَى جَوَابِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ إِلَخْ، إِذْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا حَصَلَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فَذَلِكَ وُقُوعُ مَا تُوعَدُونَ. وَجُمْلَةُ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا الْوَجْهَ الْوَجِيهَ فِي مَعْنَاهَا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَهَا مَقُولَ قَوُلٍ مَحْذُوفٍ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. والْفَصْلِ: تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ بِالْقَضَاءِ وَالْجَزَاءِ إِذْ بِذَلِكَ يَزُولُ الِالْتِبَاسُ وَالِاشْتِبَاهُ وَالتَّمْوِيهُ الَّذِي كَانَ لِأَهْلِ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا فَتَتَّضِحُ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ.

[سورة المرسلات (77) : آية 15]

وَجُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَالرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الْحَالِ إِعَادَةُ اسْمِ صَاحِبِ الْحَالِ عِوَضًا عَنْ ضَمِيرِهِ، مِثْلَ الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 1، 2] . وَالْأَصْلُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هُوَ، وَإِنَّمَا أُظْهِرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقْوِيَةِ اسْتِحْضَارِ يَوْمِ الْفَصْلِ قَصْدًا لِتَهْوِيلِهِ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وأَدْراكَ خَبَرٌ، أَيْ أُعَلِّمُكَ. وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ اسْتِفْهَامٌ عُلِّقَ بِهِ فِعْلُ أَدْراكَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ، وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ أَيْضًا ويَوْمُ الْفَصْلِ خَبَرٌ عَنْهَا وَالِاسْتِفَهَامَانِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي مَعْنَى التهويل والتعجيب. [15] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 15] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) حَمْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنْ تُجْعَلَ اسْتِئْنَافًا لِقَصْدِ تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، وَتَهْوِيلُ يَوْمِ الْفَصْلِ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَحْذَرُوهُ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [المرسلات: 7] اتِّصَالُ أَجْزَاءِ النَّظْمِ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ، وموقع جملَة فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [المرسلات: 8] التَّأَخُّرُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ لِتُؤْذِنَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَغْيِيرِ النَّظْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ صَارَتْ جُمْلَةُ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، فَحَصَلَ فِي هَذَا النَّظْمِ أُسْلُوبٌ رَائِعٌ، وَمَعَانٍ بَدَائِعُ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَوَابَ (إِذَا) أَيْ يَتَعَلَّقُ (إِذَا) بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ وَهُوَ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا حَصَلَ كَذَا وَكَذَا حَلَّ الْوَيْلُ لِلْمُكَذِّبِينَ وَهُوَ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ، فَيَحْصُلُ تَأْكِيدُ الْوَعِيدِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا عُرُوُّ الْجَوَابِ عَنِ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِلْجَوَابِ لِأَنَّ جَوَابَ (إِذَا) جَوَابٌ صُورِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلَّقُ (إِذَا) عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْجَوَابِ فِي الْمَعْنَى. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صَالِحَةٌ لِمَعْنَى الْخَبَرِيَّةِ وَلِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ تَرْكِيبَ (وَيْلٌ لَهُ) يُسْتَعْمَلُ إِنْشَاءً بِكَثْرَةٍ. وَالْوَيْلُ: أَشَدُّ السُّوءِ وَالشَّرِّ.

[سورة المرسلات (77) : آية 16]

وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُكَذِّبِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ جَمِيعُ الَّذِينَ كذبُوا الرُّسُل وَمَا جاءوهم بِهِ، وَبِذَلِكَ الْعُمُومِ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ مُفَادَ التَّذْيِيلِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ، فَخُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ. [16] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 16] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) اسْتِئْنَافٌ بِخِطَابٍ مُوَجَّهٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ الْمُخَاطَبِ بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي الْمَحْشَرِ. وَيَتَضَمَّنُ اسْتِدْلَالًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّ اللَّهَ انْتَقَمَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِيَوْمِ الْبَعْثِ مِنَ الْأُمَمِ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمْ لِيَحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ الْمَوْصُوفُونَ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَيِّ السَّبْقِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا يُقِرُّ بِهِ كُلُّ جِيلٍ مِنْهُمْ مَسْبُوقٍ بِجِيلٍ كَفَرُوا. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَوَّلِينَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ جَمِيعُ أُمَمِ الشِّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُشْرِكِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ. وَالْإِهْلَاكُ: الْإِعْدَامُ وَالْإِمَاتَةُ. وَإِهْلَاكُ الْأَوَّلِينَ لَهُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ غَيْرُ اعْتِيَادِيَّةٍ تَنْشَأُ عَنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِهْلَاكُ الِاسْتِئْصَالِ مِثْلَ إِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودٍ، وَحَالَةٌ اعْتِيَادِيَّةٌ وَهِيَ مَا سَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ حَيَاةٍ وَمَوْتٍ. وَكِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُرَادًا هُنَا، فَأَمَّا الْحَالَةُ غَيْرُ الِاعْتِيَادِيَّةِ فَهِيَ تَذْكِيرٌ بِالنَّظَرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الِاعْتِيَادِيَّةُ فَدَلِيلٌ عَلَى أَنِ الَّذِي أَحْيَا النَّاسُ يُمِيتُهُمْ فَلَا يَتَعَذَّرُ أَنْ يُعِيد إحياءهم.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 17 إلى 18]

[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 17 إِلَى 18] ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) حَرْفُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الْرُتْبِي لِأَنَّ التَّهْدِيدَ أَهَمُّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، لِأَنَّهُ الْغَرَضُ مِنْ سَوْقِ هَذَا كُلِّهِ، وَلِأَنَّ إِهْلَاكَ الْآخِرِينَ أَشَدُّ مِنْ إِهْلَاكِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِهْلَاكٍ آخَرَ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [المرسلات: 16، 17] ، وَهُوَ كَالتَّذْيِيلِ يُبَيِّنُ سَبَبَ وُقُوعِ إِهْلَاكِ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِيقَاعِ الْإِهْلَاكِ بِكُلِّ مُجْرِمٍ، أَيْ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُجْرِمِينَ فَلَا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْهَا. وَذِكْرُ وَصْفِ الْمُجْرِمِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ عِقَابِهِمْ بِالْإِهْلَاكِ هُوَ إِجْرَامُهُمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ إِلَى الْفِعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ نَفْعَلُ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ نَفْعَلُ. وَ (الْمُجْرِمُونَ) مِنْ أَلْقَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات: 46] . [19] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 19] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) تَقْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ تَأْكِيدًا لِلتَّهْدِيدِ وَإِعَادَةً لِمَعْنَاهُ. التَّهْدِيدُ: مِنْ مَقَامَاتِ التَّكْرِيرِ كَقَوْلِ الْحَارِث بن عياد: قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي الَّذِي كَرَّرَهُ مِرَارًا مُتَوَالِيَةً فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ الَّتِي أَثَارَتْ حَرْبَ الْبَسُوسِ.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 إلى 23]

فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يُقَدَّرُ الْكَلَامُ الْمُعَوِّضُ عَنْهُ تَنْوِينُ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ إِذْ يُقَالُ لَهُمْ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: 16] . وَالْمُرَادُ بِالْمُكَذِّبِينَ: الْمُخَاطَبُونَ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَسْجِيلِ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ، وَالْمَعْنَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لَكُمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ يقدر الْمَحْذُوف المعرض عَنْهُ التَّنْوِينُ: يَوْمَ إِذِ النُّجُومُ طُمِسَتْ [المرسلات: 8] إِلَخْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرَتِهَا الَّتِي تَقَدَّمَتْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُكَذِّبِينَ جَمِيعُ الْمُكَذِّبِينَ الشَّامِلُ لِلسَّامِعِينَ. وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فَتَقْرِيرُ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ حَاصِلٌ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَلِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ يَصْدُقُ بِالْأَحْيَاءِ وبأهل الْمَحْشَر. [20- 23] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 20 إِلَى 23] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) تَقْرِيرٌ أَيْضًا يَجْرِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، جِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْخِطَابِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَكُلٌّ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيعِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَرْكِ الْعَطْفِ لِشَبَهِهِ بِالتَّكْرِيرِ فِي أَنَّهُ تَكْرِيرُ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرَ لَفْظٍ، وَالتَّكْرِيرُ شَبِيهٌ بِالْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ فَكَانَ حَقُّهُ تَرْكَ الْعَطْفِ فِيهِ. وَقَدْ جَاءَ هُنَا التَّقْرِيرُ عَلَى ثُبُوتِ الْإِيجَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ إِيجَادًا مُتْقَنًا دَالًّا عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ لِيُفْضَى بِذَلِكَ التَّقْرِيرِ إِلَى التَّوْبِيخِ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِإِمْكَانِهِ بِإِعَادَةِ الْخلق كَمَا بدىء أَوَّلَ مَرَّةٍ وَكَفَى بِذَلِكَ مُرَجِّحًا لِوُقُوعِ هَذَا الْمُمْكِنِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَجْرِي عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ إِيجَادِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ. وَالْمَاءُ: هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ. وَالْمَهِينُ: الضَّعِيفُ فَعِيلٌ مِنْ مَهُنَ، إِذَا ضَعُفَ، وَمِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَادَّةِ هَانَ.

وَهَذَا الْوَصْفُ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ خَلَقَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ الضَّعِيفِ إِنْسَانًا شَدِيدَ الْقُوَّةِ عَقْلًا وَجِسْمًا. وَحَرْفُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ تَكْوِينَ الْإِنْسَانِ نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ النَّخْلَةَ مِنْ نُوَاةٍ تَوْزَرِيَّةٍ. وَجُعِلَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ تَخَلُّقُهُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَاءِ إِذَا لَاقَى بُوَيْضَاتِ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، فَاقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْوِينَ الْجَنِينِ مِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَمَاءِ الرَّجُلِ. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْمَاجِ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِأَنَّ لَهُ دَخْلًا فِي تَبْيِينِ إِمْكَانِ الْإِعَادَةِ إِذْ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءُ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ فَنِعْمَ الْقادِرُونَ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الْآتِيَيْنِ. وَالْقَرَارُ: مَحَلُّ الْقُرُورِ وَالْمُكْثِ. ومَكِينٍ: صِفَةٌ لِ قَرارٍ، أَيْ مَكَانٍ مُتَمَكِّنٍ فِي ذَلِكَ فَهُوَ فَعِيلٌ مَنْ مَكُنَ مَكَانَةً، إِذَا ثَبَتَ وَرَسَخَ. وَوُصِفَ الْقَرَارُ بِالْمَكِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ مَكِينُ الْحَالِ وَالْمُسْتَقَرُّ فِيهِ. فَالتَّقْدِيرُ: مَكِينٌ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ الْمَكِينِ: الرَّحِمُ. وَالْقَدَرُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمِقْدَارُ الْمُعَيَّنُ الْمَضْبُوطُ، وَالْمُرَادُ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ وَهُوَ مُدَّةُ الْحَمْلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَقَدَرْنا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ مِنْ قَدَرَ الْمُتَعَدِّي وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: قَدَّرَ بِالتَّشْدِيدِ تَقْدِيرًا فَهُوَ مُقَدَّرٌ، وَقَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ قَدْرًا فَهُوَ قَادِرٌ، إِذَا جَعَلَ الشَّيْءَ عَلَى مِقْدَارٍ مُنَاسِبٍ لِمَا جُعِلَ لَهُ. وَالْمَعْنَى: فَقَدَّرْنَا الْخَلْقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 19] وَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: 2] .

[سورة المرسلات (77) : آية 24]

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدَرْنا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، أَيْ جَعَلْنَاهُ فِي الرَّحِمِ إِلَى انْتِهَاءِ أَمَدِ الْحَمْلِ فَقَدَّرْنَا أَطْوَارَ خَلْقِكُمْ حَتَّى أَخْرَجْنَاكُمْ أَطْفَالًا. وَالْفَاءُ فِي فَنِعْمَ الْقادِرُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى (قَدَّرْنَا) أَيْ تَفْرِيعِ إِنْشَاءِ ثَنَاءٍ، أَيْ فَدَلَّ تَقْدِيرُنَا عَلَى أَنَّنَا نِعْمَ الْقَادِرُونَ، أَيْ كَانَ تَقْدِيرُنَا تَقْدِيرَ أَفْضَلِ قَادِرٍ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ بِالْقُدْرَةِ. والْقادِرُونَ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَدَرَ اللَّازِمِ إِذَا كَانَ ذَا قُدْرَةٍ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْكَلَامُ تَأْسِيسًا لَا تَأْكِيدًا، أَيْ فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ عَلَى الْأَشْيَاءِ. وَعَلَامَةُ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ مِثْلَ نُونِ (قَدَّرْنَا) فَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَمَّا أَتَتْ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ كَانَتْ قُدْرَةً جديرة بالمدح. [24] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 24] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) هُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ الْمُوَالِي هُوَ لَهُ. [25- 27] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 25 إِلَى 27] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) جَاءَ هَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى سُنَنٍ سَابِقِيهِ فِي عَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ لِلتَّوْبِيخِ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ لَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خلق الأَرْض لَهُم بِمَا فِيهَا مِمَّا فِيهِ مَنَافِعُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 33] . وَمَحَلُّ الِامْتِنَانِ هُوَ قَوْلُهُ: أَحْياءً وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَمْواتاً فَتَتْمِيمٌ وَإِدْمَاجٌ. وَكِفَاتٌ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُكْفَتُ فِيهِ، أَيْ يُجْمَعُ وَيُضَمُّ فِيهِ، فَهُوَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعَالِ مِنْ كَفَتَ، إِذَا جَمَعَ، وَمِنْهُ سُمِّي الْوِعَاءُ: كِفَاتًا، كَمَا سُمِّيَ مَا يَعِي الشَّيْءَ وِعَاءً، وَمَا يَضُمُّ الشَّيْءَ: الضِّمَامَ. وأَحْياءً مَفْعُولُ كِفاتاً لِأَنَّ كِفاتاً فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ كَافِتَةً أَحْيَاءً. وَقَدْ يَقُولُونَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ كِفاتاً وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ.

وأَمْواتاً عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ إِدْمَاجٌ وَتَتْمِيمٌ لِأَنَّ فِيهِ مُشَاهَدَةَ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِلْقَةِ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لَهُمْ بِالِاعْتِرَافِ بِالْأَحْوَالِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْأَرْضِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَتَنْوِينُ أَحْياءً وَأَمْواتاً لِلتَّعْظِيمِ مُرَادًا بِهِ التَّكْثِيرُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِهِمَا مُعَرَّفَيْنِ بِاللَّامِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ مَا فِي مَعْنَيَيْهِمَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَقَدْ تَصَدَّى الْكَلَامُ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِشَوَاهِدَ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: بِحَالِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ فِي انْقِرَاضِهَا. الثَّانِي: بِحَالِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ. الثَّالِثُ: مَصِيرُ الْكُلِّ إِلَى الْأَرْضِ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِإِحَالَتِهِمْ وُقُوعَ الْبَعْثِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا اسْتِحَالَتَهُ فَأُبْطِلَتْ دَعْوَاهُمْ بِإِثْبَاتِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ إِذْ ثَبَتَ الْإِمْكَانُ بَطُلَتِ الِاسْتِحَالَةُ فَلَمْ يُبْقَ إِلَّا النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ تَرْجِيحِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ. وَفِي الْآيَةِ امْتِنَانٌ يَجْعَلُ الْأَرْضَ صَالِحَةً لِدَفْنِ الْأَمْوَاتِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ لِذَلِكَ ابْنَ آدَمَ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ وُجُوبُ الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ كَالَّذِي يَمُوتُ فِي سَفِينَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ مَرَاسِي الْأَرْضِ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُ الْإِرْسَاءَ، أَوْ كَانَ الْإِرْسَاءُ يَضُرُّ بِالرَّاكِبِينَ أَوْ يُخَافُ تَعَفُّنُ الْجُثَّةِ فَإِنَّهَا يُرْمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ وَتُثَقَّلُ بِشَيْءٍ لِتَرْسُبَ إِلَى غَرِيقِ الْمَاءِ. وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ إِحْرَاقُ الْمَيِّتِ كَمَا يَفْعَلُ مَجُوسُ الْهِنْدِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الرُّومَانِ، وَلَا وَضْعُهُ لِكَوَاسِرِ الطَّيْرِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَجُوسُ الْفُرْسِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَدَّحُونَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ أَوِ الضِّبَاعُ وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ قَتِيلًا فِي فَلَاةٍ، قَالَ تَأَبَّطَ: لَا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ وَهَذَا مِنْ جَهَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِكَوْنِ الْقَبْرِ حِرْزًا فَأَوْجَبَِِ

[سورة المرسلات (77) : آية 28]

الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْقَبْرِ كَفَنًا أَوْ مَا يَبْلُغُ رُبْعَ دِينَارٍ، وَقَالَ مَالِكُ: الْقَبْرُ حِوَزٌ لِلْمَيِّتِ كَمَا أَنَّ الْبَيْت حوز الْحَيّ. وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» عَنْ تَفْسِيرِ الْقَفَّالِ: أَنَّ رَبِيعَةَ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ. وَالرَّوَاسِي: جَمْعُ رَأْسٍ، أَيْ جِبَالًا رَوَاسِي، أَيْ ثَوَابِتَ فِي الْأَرْضِ قَالَ السَّمَوْأَلُ: رَسَا أَصْلُهُ تَحْتَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ ... إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ لَا يُنَالُ طَوِيلُ وَجُمِعَ عَلَى فَوَاعِلَ لِوُقُوعِهِ صِفَةً لِمُذَكَّرٍ غَيْرِ عَاقِلٍ وَهَذَا امْتِنَانٌ بِخَلْقِ الْجِبَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَيْهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ كَلَأٍ وَشَجَرٍ قَالَ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 32، 33] . وَالشَّامِخَاتُ: الْمُرْتَفَعَاتُ. وَعُطِفَ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْجِبَالِ لِأَنَّهَا تَنْحَدِرُ مِنْهَا الْمِيَاهُ تَجْرِي فِي أسافلها وَهِي الْأَدْوِيَة وَتُقِرُّ فِي قَرَارَاتٍ وَحِيَاضٍ وَبُحَيْرَاتٍ. وَالْفُرَاتُ: الْعَذْبُ وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ. وَتَنْوِينُ شامِخاتٍ وَمَاء فُراتاً لِلتَّعْظِيمِ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى عَظِيم الْقُدْرَة. [28] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 28] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) تَكْرِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ مِثْلَ نَظِيرِهِ الْوَاقِعِ ثَانِيًا فِي هَذِه السُّورَة. [29- 31] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 29 إِلَى 31] انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) هَذَا خِطَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ فَهُوَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْخِطَابِ بِالِانْطِلَاقِ دُونَ وُجُودِ مُخَاطَبٍ يُؤْمَرُ بِهِ الْآنَ.

وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ مَعَ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ عَائِدٌ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ يُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَالْأَمْرُ بِانْطِلَاقِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ لِأَنَّهُمْ تَنْطَلِقُ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ قَسْرًا. وَمَا كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ هُوَ جَهَنَّمُ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الصِّلَةُ مِنَ النِّدَاءِ عَلَى خَطَئِهِمْ وَضَلَالِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ عَبْدَةِ بْنِ الطَّبِيبِ: إِنَّ الَّذِينَ تُرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا وَجُمْلَةُ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ إِلَى آخِرِهَا، بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَوْ مُطَابِقٍ مِنْ جُمْلَةِ انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَأُعِيدَ فِعْلُ انْطَلِقُوا عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ أَوِ الْإِهَانَةِ وَالدَّفْعِ، وَلِأَجْلِهِ أُعِيدَ فِعْلُ انْطَلِقُوا وَحَرْفُ إِلى. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ، فَإِعَادَةُ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ فِي مَقَامِ التَّقْرِيعِ. وَأُرِيدَ بِالظِّلِّ دُخَانُ جَهَنَّمَ لِكَثَافَتِهِ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالظِّلِّ تَهَكُّمًا بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَتَشَوَّقُونَ ظِلًّا يَأْوُونَ إِلَى بَرْدِهِ. وَأُفْرِدَ ظِلٍّ هُنَا لِأَنَّهُ جُعِلَ لَهُمْ ذَلِكَ الدُّخَانُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لِيَكُونُوا مُتَرَاصِّينَ تَحْتَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّرَاصَّ يَزِيدُهُمْ أَلَمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ انْطَلِقُوا الثَّانِي بِكَسْرِ اللَّامِ مِثْلَ انْطَلِقُوا الْأَوَّلِ، وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالِانْطِلَاقِ إِلَى النَّارِ فَانْطَلَقُوا إِلَى دُخَانِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْطِفْ بِالْفَاءِ لِقَصْدِ الِاسْتِئْنَافِ لِيَكَوِنَ خَبَرًا آخَرَ عَنْ حَالِهِمْ. وَالشُّعَبُ: اسْمُ جَمْعِ شُعْبَةٍ وَهِيَ الْفَرِيقُ مِنَ الشَّيْءِ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ، أَيْ ذِي ثَلَاثِ طَوَائِفَ وَأُرِيدَ بِهَا طَوَائِفُ مِنَ الدُّخَانِ فَإِنَّ النَّارَ إِذَا عَظُمَ اشْتِعَالُهَا تَصَاعَدَ دُخَانُهَا مِنْ طَرَفَيْهَا وَوَسَطِهَا لِشِدَّةِ انْضِغَاطِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْهَا.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 32 إلى 33]

فَوُصِفَ الدُّخَانُ بِأَنَّهُ ذُو ثَلَاثِ شُعَبٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ: إِنَّ شُعْبَةً مِنْهُ عَنِ الْيَمِينِ وَشُعْبَةً عَنِ الْيَسَارِ وَشُعْبَةً مِنْ فَوْقُ، قَالَ الْفَخْرُ: «وَأَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالشَّهْوَةَ عَنْ شِمَالِهِ وَالْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فِي دِمَاغِهِ، وَمَنْبَعُ جَمِيعِ الْآفَاتِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي عَقَائِدِهِ وَفِي أَعْمَالِهِ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَيُمْكِنُ أَن يُقَال هَاهُنَا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ وَهِيَ: الْحِسُّ، وَالْخَيَالُ، وَالْوَهْمُ. وَهِيَ مَانِعَةٌ لِلرُّوحِ مِنَ الِاسْتِنَارَةِ بِأَنْوَارِ عَالِمِ الْقُدُسِ» اهـ. وَالظَّلِيلُ: الْقَوِيُّ فِي ظِلَالِهِ، اشْتُقَّ لَهُ وَصْفٌ مِنِ اسْمِهِ لِإِفَادَةِ كَمَالِهِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ مِثْلَ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ، أَيْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ ظِلِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النِّسَاء: 57] . وَفِي هَذَا تَحْسِيرٌ لَهُمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: 43، 44] . وَجُرَّ ظَلِيلٍ عَلَى النَّعْتِ لِ ظِلٍّ، وَأُقْحِمَتْ لَا فَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْوَصْفِ وَلَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْرَابٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ [الْبَقَرَة: 68] وَشَأْنُ لَا إِذَا أُدْخِلَتْ فِي الْوَصْفِ أَنْ تُكَرَّرَ فَلِذَلِكَ أُعِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. وَالْإِغْنَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ غَنِيًّا، أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِ (مِنْ) عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِيةِ أَوْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يَبْعُدُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 67] . وَبِذَلِكَ سَلَبَ عَنْ هَذَا الظِّلِّ خَصَائِصَ الظِّلَالِ لِأَنَّ شَأْنَ الظِّلِّ أَنْ يُنَفِّسَ عَنِ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ ألم الْحر. [32- 33] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 32 إِلَى 33] إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمُ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِمَّا يُنَفِّسُ عَنْهُمْ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ لَهُمْ: انْطَلِقُوا إِلَى دُخَانِ جَهَنَّمَ رُبَّمَا شَاهَدُوا سَاعَتَئِذٍ جَهَنَّمَ تَقْذِفُ

بِشَرَرِهَا فَيُرَوِّعُهُمُ الْمَنْظَرُ، أَوْ يُشَاهِدُونَهَا عَنْ بُعْدٍ لَا تَتَّضِحُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ وَتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مَخَائِلُ تَوَقُّعِهِمْ أَنَّهُمْ بالغون إِلَيْهِ فيزدادون رَوْعًا وَتَهْوِيلًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ جَهَنَّمَ تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَاءِ حِكَايَةِ حَالِهِمْ، أَوْ فِي خِتَامِ حِكَايَةِ حَالِهِمْ. فَضَمِيرُ إِنَّها عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَمَا يُقَالُ لِلَّذِي يُسَاقُ إِلَى الْقَتْلِ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا بِيَدِهِ سَيْفٌ فَاضْطَرَبَ لِرُؤْيَتِهِ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ الْجَلَّادُ. وَإِجْرَاءُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا لِزِيَادَةِ التَّرْوِيعِ وَالتَّهْوِيلِ، فَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ الشَّرَرَ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ فَوَصَفَهُ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ التَّرْوِيعِ وَالتَّهْوِيلِ بِتَظَاهُرِ السَّمْعِ مَعَ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ كَانُوا عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ فَالْوَصْفُ لِلْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ الْفَظِيعَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ رَأَوْهُ أَوْ أُخْبِرُوا بِهِ. وَالشَّرَرُ: اسْمُ جَمْعِ شَرَرَةٍ: وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْمُشْتَعِلَةُ مِنْ دَقِيقِ الْحَطَبِ يَدْفَعُهَا لَهَبُ النَّارِ فِي الْهَوَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْتِهَابِ النَّارِ. وَالْقَصْرُ: الْبِنَاءُ الْعَالِي. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، أَيْ كَالْقُصُورِ لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِهِ جَمْعٌ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ مِثْلُ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ [الْحَدِيد: 25] ، أَيِ الْكُتُبَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ، أَيْ كُلِّ شَرَرَةٍ كَقَصْرٍ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ فِي عِظَمِ حَجْمِهِ. وَقَوله: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تَشْبِيه لَهُ فِي حَجْمِهِ وَلَوْنِهِ وَحَرَكَتِهِ فِي تَطَايُرِهِ بِجِمَالَاتٍ صُفْرٍ. وَضَمِيرُ كَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى شَرَرٍ. وَالْجِمَالَاتُ: بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جِمَالَةٍ، وَهِيَ اسْمُ جَمْعِ طَائِفَةٍ مِنَ الْجِمَالِ، أَيْ تُشْبِهُ طَوَائِفَ مِنَ الْجِمَالِ مُتَوَزِّعَةً فِرَقًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي هَيْئَةِ الْحَجْمِ مَعَ لَوْنِهِ مَعَ حَرَكَتِهِ. وَالصُّفْرَةُ: لَوْنُ الشَّرَرِ إِذَا ابْتَعَدَ عَنْ لَهِيبِ نَارِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جِمَالَاتٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ فَهُوَ جَمْعُ جِمَالَةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِم وَخلف جِمالَتٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ وَهُوَ جَمْعُ جَمَلٍ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ جُمَالَاتٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ جَمْعَ جُمَالَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ حَبْلٌ تُشَدُّ بِهِ السَّفِينَةُ، وَيُسَمَّى الْقَلْسُ (بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ) وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا جُمَالَةٌ، وصُفْرٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نعت ل جِمالَتٌ أَوْ لِ (شَرَرٍ) . قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ (يَعْنِي الْمَعَرِّي) فِي صِفَةِ نَارِ قَوْمٍ مَدَحَهُمْ بِالْكَرَمِ: حَمْرَاءَ سَاطِعَةَ الذَّوَائِبِ فِي الدُّجَى ... تَرْمِي بِكُلِّ شَرَارَةٍ كَطِرَافِ شَبَّهَ الشَّرَارَةَ بِالطِّرَافِ وَهُوَ بَيْتُ الْأَدْمِ فِي الْعِظَمِ وَالْحُمْرَةِ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِخُبْثِهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى تَشْبِيهِ الْقُرْآنِ وَلِتَبَجُّحِهِ بِمَا سُوِّلَ لَهُ مِنْ تَوَهُّمِ الزِّيَادَةِ جَاءَ فِي صَدْرِ بَيْتِهِ بِقَوْلِهِ: «حَمْرَاءَ» تَوْطِئَةً لَهَا وَمُنَادَاةً عَلَيْهَا وَتَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ عَلَى مَكَانِهَا، وَلَقَدْ عَمِيَ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ عَمَى الدَّارِينَ عَنْ قَوْلِهِ عِزَّ وَعلا: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كَبَيْتٍ أَحْمَرَ وَعَلَى أَنَّ فِي التَّشْبِيهِ بِالْقَصْرِ وَهُوَ الْحِصْنُ تَشْبِيهًا مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْعِظَمِ وَمِنْ جِهَةِ الطُّولِ فِي الْهَوَاءِ فَأَبْعَدَ اللَّهُ إِغْرَابَهُ فِي طِرَافِهِ وَمَا نَفَخَ شِدْقَيْهِ مِنِ اسْتِطْرَافِهِ اهـ. وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ ظَنُّ سُوءِ بِالْمَعَرِّي لَمْ يُشَمَّ مِنْ كَلَامِهِ، وَلَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ نَبْزِهِ وَمَلَامِهِ، زَادَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي طُنْبُورِ أَصْحَابِ النِّقْمَةِ، لِنَبْزِ الْمَعَرِّي وَلَمْزِهِ نَغْمَةٌ. قَالَ الْفَخْرُ: كَانَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ (أَيْ لِأَنَّهُ ظن سوءا بِلَا دَلِيلٍ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِ الْمَعَرِّي: أَنَّ الْكَلَامَ بِآخِرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ الشَّرَارَةَ: أَوَّلًا حِينَ تَنْفَصِلُ عَنِ النَّارِ بِالْقَصْرِ فِي الْعِظَمِ، وَثَانِيًا حِينَ تَأْخُذُ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْبِسَاطِ فَتَنْشَقُّ عَنْ أَعْدَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا بِالْجِمَالَاتِ فِي التَّفَرُّقِ

[سورة المرسلات (77) : آية 34]

وَاللَّوْنِ وَالْعِظَمِ وَالثِّقَلِ، وَنُظِرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْحَيَوَانِ وَأَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ اخْتِيَارِيَّةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي بَيته. [34] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 34] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْوَاقِعِ ثَانِيًا فِي هَذِه السُّورَة. [35- 36] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 35 إِلَى 36] هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) إِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ قَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] فَيَكُونُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ خِطَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلَى إِجْرَاءِ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ عَلَيْهِمْ، الْتِفَاتٌ يَزِيدُهُ حُسْنًا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ بَعْدَ إِهَانَتِهِمْ بِخِطَابِ انْطَلِقُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] ، وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَوْقِعُ تَكْرِيرِ التَّوْبِيخِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ لِلْقَرِيبِ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ بِأَنَّ فِيهِ الْوَيْلَ لِلْمُكَذِّبِينَ، كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ كُلِّهِمْ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ وَإِنْعَامًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَتْ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِهَا وَكَانَتْ عَائِدَةً عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 34] وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَجُمْلَةِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَرِيبِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُشَارٍ إِلَيْهِ بَعِيدٍ بِاعْتِبَارِ قُرْبِ الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ أَوِ التَّسَامُحِ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ ويَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ خَبَرٌ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ لَا يَنْطِقُونَ مُضَافٌ إِلَيْهَا يَوْمُ، أَيْ هُوَ يَوْمٌ يُعْرَفُ بِمَدْلُولِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَعَدَمُ تَنْوِينِ يَوْمُ لِأَجْلِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ كَمَا يُضَافُ (حِينَ) وَالْأَفْصَحُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ وَنَحْوَهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ لَا النَّافِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا، وَهُوَ لُغَةُ مُضَرَ الْعُلْيَا، وَأَمَّا مُضَرُ السُّفْلَى فَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى الْفَتْحِ دَائِمًا. وَعَطْفُ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَنْطِقُونَ، أَيْ لَا يُؤْذَنُ إِذْنًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ اعْتِذَارُهُمْ، أَيْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ. فَالِاعْتِذَارُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ، وَجَعَلَ نَفْيَ الْإِذْنِ لَهُمْ تَوْطِئَةً لِنَفْيِ اعْتِذَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فَيَعْتَذِرُونَ مَرْفُوعا وَلم يَجِيء مَنْصُوبًا عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ الْإِذْنِ وَتَرَتَّبَ نَفْيُ اعْتِذَارِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْإِذْنِ لَهُمْ إِذْ لَا مَحْصُولَ لِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَصْبُ فَيَعْتَذِرُونَ مُسَاوِيًا لِلرَّفْعِ بَلْ وَلَا جَائِزًا بِخِلَافِ نَحْوِ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] فَإِنَّ نَفِيَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ اسْتِمْرَارٌ فِي عَذَابِهِمْ ثُمَّ أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ لَمَاتُوا، أَيْ فَقَدُوا الْإِحْسَاسَ، فَمَعْنَى الْجَوَابِيَّةِ هُنَالِكَ مِمَّا يَقْصِدُ. وَلِذَا فَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى مَا ادَّعَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ فَيَعْتَذِرُونَ اسْتِئْنَافٌ تَقْدِيرُهُ: فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ، وَلَا إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ تَبَعًا لِلطَّبَرِيِّ: إِنَّهُ يُنْصَبُ لأجل تشابه رُؤُوس الْآيَاتِ، وَبَعْدُ فَإِنَّ مَنَاطَ النَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ جَعْلَ الْفِعْلِ جَوَابًا لِلنَّفْيِ لَا مُجَرَّدَ وُجُودِ فِعْلٍ مُضَارِعٍ بَعْدَ فِعْلٍ مَنْفِيٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مَا يَقْضِي أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: 11] لِأَنَّ وَقْتَ انْتِفَاءِ نُطْقِهِمْ يَوْمُ الْفَصْلِ. وَأَمَّا نُطْقُهُمُ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ فَذَلِكَ صُرَاخُهُمْ فِي جَهَنَّمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَبِنَحْوِ هَذَا أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ حِينَ قَالَ نَافِعٌ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ اللَّهُ: وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 101] ، وَقَالَ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَتَسَاءَلُونَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَتَسَاءَلُونَ حِينَئِذٍ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَالَّذِي يَجْمَعُ الْجَوَابَ عَنْ

[سورة المرسلات (77) : آية 37]

تِلْكَ الْآيَاتِ وَعَنْ أَمْثَالِهَا هُوَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْوِحْدَاتِ فِي تحقق التَّنَاقُض. [37] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 37] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) تَكْرِيرٌ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [المرسلات: 35] الْآيَةَ عَلَى أَوَّلِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ وَارِدٌ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ عَلَى ثَانِي الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيهِ فَيَكُونُ تَكْرِيرًا لِنَظِيرِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] إِلَى قَوْله: صُفْرٌ [المرسلات: 33] اقْتَضَى تَكْرِيرُهُ عَقِبَهُ أَنَّ جُمْلَةَ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ إِلَخْ تَتَضَمَّنُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهَا فَكَانَ تَكْرِيرُ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بَعْدَهَا لِوُجُودِ مُقْتَضِي تَكْرِيرِ الْوَعيد للسامعين. [38- 39] [سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 38 إِلَى 39] هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) تَكْرِيرٌ لِتَوْبِيخِهِمْ بَعْدَ جُمْلَةِ انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] شُيِّعَ بِهِ الْقَوْلُ الصَّادِرُ بِطَرْدِهِمْ وَتَحْقِيرِهِمْ، فَإِنَّ الْمَطْرُودَ يُشَيَّعُ بِالتَّوْبِيخِ، فَهُوَ مِمَّا يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِلطَّرْدِ، وَذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصْلِ سَوَاءٌ كَانَ التَّكْرِيرُ بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمْ كَانَ بِإِعَادَةِ الْمَعْنَى وَالْغَرَضِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَشْهَدِ الَّذِي يُشَاهِدُونَهُ مِنْ حُضُورِ النَّاسِ وَمُعَدَّاتِ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْجَزَاءِ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَصْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ مَا كَانُوا يَسْمَعُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُحَاجَّةٍ عَلَيْهِمْ لِإِثْبَاتِ يَوْمٍ يَكُونُ فِيهِ الْفَصْلُ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَمَا يَتَعَذَّرُونَ بِمَا يَقَعُ فِيهِ، فَصَارَتْ صُورَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاضِرَةً فِي تَصَوُّرِهِمْ دُونَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، فَكَانُوا الْآنَ مُتَهَيِّئِينَ لِأَنْ يُوقِنُوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ بِحُلُولِهِ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُ يَوْم الْفَصْل [المرسلات: 13] ، أَيِ الْقَضَاءِ وَقَدْ رَأَوْا أُهْبَةَ الْقَضَاءِ.

[سورة المرسلات (77) : آية 40]

وَجُمْلَةُ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ بَيَانٌ لِلْفَصْلِ بِأَنَّهُ الْفَصْلُ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ لِجَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ كُلِّهِمْ، فَلَا جَرَمَ جُمِعَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الْوَاقِعَة: 49، 50] . وَالْمُخَاطَبُونَ بِضَمِيرِ جَمَعْناكُمْ: الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ سَبَقَ الْكَلَامُ لِتَهْدِيدِهِمْ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ عَطْفَ وَالْأَوَّلِينَ عَلَى الضَّمِيرِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْمُكَذِّبِينَ مِثْلَ الضَّمَائِرِ الَّتِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ: جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: جَمَعْنَاكُمْ وَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَقَدْ أُنْذِرُوا بِمَا حَلَّ بِالْأَوَّلِينَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: 16] . فَأُرِيدَ تَوْقِيفُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى صِدْقِ مَا كَانُوا يُنْذَرُونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْثَالُهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يتَعَلَّق الْغَرَض يَوْمئِذٍ بِذِكْرِ الْأُمَمِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الضَّمِيرِ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فَكَانَ تَخَلُّصًا إِلَى تَوْبِيخِ الْحَاضِرِينَ عَلَى مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 15- 17] وَأَنَّ كَيْدَهُمْ زَائِلٌ وَأَنَّ سُوءَ الْعُقْبَى عَلَيْهِمْ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، أَيْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ الْيَوْمَ كَمَا كَانَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ كَيْدٌ بِدِينِي وَرَسُولِي فَافْعَلُوهُ. وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ، وَالشَّرْطُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّذْكِيرِ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنِ الْكَيْدِ يَوْمَئِذٍ حَيْثُ مُكِّنُوا مِنَ الْبَحْثِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْكَيْدِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سُجِّلَ عَلَيْهِمُ الْعَجْزُ. وَهَذَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُعَذَّبُونَهُ إِذْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْعَذَابِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ أَوْقَعُ عَلَى الْعَاقِلِ مِنَ الْعَذَاب الجسماني. [40] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 40] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) تَكْرِيرٌ لِلْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ كَاتِّصَالِ نَظِيرِهِ الْمَذْكُور آنِفا.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 إلى 44]

[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 41 إِلَى 44] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِتَامَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ تَقْرِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ حُكِيَ لَهُمْ فِيهِ نَعِيمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي لَا يُشَاهِدُهُ الْمُشْرِكُونَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مَكَانِهِ فَيُحْكَى لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِيمَا يُقَالُ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ وَتَنْدِيمًا لَهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِمَّا بَادَرَ إِلَيْهِ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ فَفَازُوا، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي حُذِفَ فِعْلُهُ عِنْدَ قَوْله: انْطَلِقُوا [المرسلات: 29] إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى ذِكْرِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ تَنْوِيهًا بشأنهم وتعريضا بترغيب مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي الْإِقْلَاعِ عَنْهُ لِيَنَالُوا كَرَامَةَ الْمُتَّقِينَ. وظِلالٍ: جَمْعُ ظِلٍّ، وَهِيَ ظِلَالٌ كَثِيرَةٌ لِكَثْرَةِ شَجَرِ الْجَنَّةِ وَكَثْرَةِ الْمُسْتَظِلِّينَ بِظِلِّهَا، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ظِلًّا يَتَمَتَّعُ فِيهِ هُوَ وَمَنْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ فِي النَّعِيمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُتَّقِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ كَوْنٌ فِي ظِلَالٍ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلظِّلَالِ لِأَنَّ الْمُسْتَظِلَّ يَكُونُ مَظْرُوفًا فِي الظِّلِّ، وَظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُيُونِ وَالْفَوَاكِهِ تَشْبِيهًا لِكَثْرَةِ مَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْعُيُونِ وَالْفَوَاكِهِ بِإِحَاطَةِ الظُّرُوفِ، وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَشْتَهُونَ صِفَةُ فَواكِهَ. وَجَمْعُ فَواكِهَ الْفَوَاكِهُ وَغَيْرُهَا، فَالتَّبْعِيضُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (مِنْ) تَبْعِيضٌ مِنْ أَصْنَافِ الشَّهَوَاتِ لَا مِنْ أَصْنَافِ الْفَوَاكِهِ فَأَفَادَ أَنَّ تِلْكَ الْفَوَاكِهَ مَضْمُومَةٌ إِلَى مَلَاذٍ أُخْرَى مِمَّا اشْتَهَوْهُ. وَجُمْلَةُ كُلُوا وَاشْرَبُوا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: مَقُولًا لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَرَامَتُهُمْ بِعَرْضٍ تَنَاوَلَ النَّعِيمَ عَلَيْهِمْ كَمَا يَفْعَله المضيف لضيوفه فَالْأَمْرُ فِي كُلُوا وَاشْرَبُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ.

وهَنِيئاً دُعَاءُ تَكْرِيمٍ كَمَا يُقَالُ لِلشَّارِبِ أَوِ الطَّعَامِ فِي الدُّنْيَا: هَنِيئًا مَرِيئًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [4] . وهَنِيئاً وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَذَلِكَ الْمَوْصُوفُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ لِقَصْدِ الدُّعَاءِ مِثْلَ: سَقْيًا وَرَعْيًا، فِي الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ، وَتَبًّا وَسُحْقًا فِي ضِدِّهِ. وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لِإِفَادَةِ تَسَبُّبِ مَا بَعْدَهَا فِي وُقُوعِ مُتَعَلِّقِهِ، أَيْ كُلُوا وَاشْرَبُوا بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِمْ بِأَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ حَقًّا لَهُمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ بَعْدَ أَنْ قِيلَ لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَخْ مَسُوقَةً إِلَيْهِمْ مَسَاقَ زِيَادَةِ الْكَرَامَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ هُوَ سُنَّتُنَا فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَإِذْ قَدْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَذَلِكَ جَزَاءٌ لَكُمْ نِلْتُمُوهُ بِأَنَّكُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ فِي مِثْلِهِ، فَفِي هَذَا هَزٌّ مِنْ أَعْطَافِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تُقَالُ لِكُلِّ مُتَّقٍ مِنْهُمْ، أَوْ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مُجْتَمِعَةٍ عَلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَلِيَعْلَمُوا أَيْضًا أَنَّ أَمْثَالَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ الْأُخْرَى لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ مِثْلَ مَا هُمْ يَنْعَمُونَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُوَجَّهَةً إِلَى الْمُكَذِّبِينَ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ لَهُمْ مَا يَنْعَمُ بِهِ الْمُتَّقُونَ إِثْرَ قَوْلِهِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ إِلَخْ، قَصَدَ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِأَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ النَّعِيمِ هُمُ الَّذِينَ قَضَوْا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ أَبَوْا أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُحْسِنِينَ تَكْمِلَةً لِتَنْدِيمِهِمْ وَتَحْسِيرِهِمُ الَّذِي بُودِئُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ دُونَ أَمْثَالِكُمُ الْمُسِيئِينَ. وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ عَلَى كِلَا الْاعْتِبَارَيْنِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَمِنْ أَجْلِ الْإِشْعَارِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ افْتُتِحَتْ بِ إِنَّ مَعَ خُلُوِّ الْمَقَامِ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي الْخَبَرِ إِذِ الْمَوْقِفُ يَوْمَئِذٍ مَوْقِفُ الصِّدْقِ وَالْحَقِيقَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ إِنَّ مُتَمَحِضِةً لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ مُغْنِيَةً غِنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ وَتُفِيدُ مُفَادَ التَّعْلِيلِ

[سورة المرسلات (77) : آية 45]

وَالرَّبْطُ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 70] وَتَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [96] . وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ إِلَى النَّعِيمِ الْمُشَاهَدِ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا إِشَارَةً مُوَجَّهَةً إِلَى الْمُتَّقِينَ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّعِيمِ الْمَوْصُوفِ فِي قَوْلِهِ: فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْمُكَذِّبِينَ. وَالْجُمْلَةُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تُفِيدُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ شِبْهِ عُمُومِ كَذَلِكَ، وَمِنْ عُمُومِ الْمُحْسِنِينَ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا التَّعْلِيل والتذييل. [45] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 45] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) هِيَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي جُمْلَةِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: 41] تَكْرِيرٌ لِنَظَائِرِهَا وَالْيَوْمُ الْمُضَافُ إِلَى (إِذْ) ذَاتِ تَنْوِينِ الْعِوَضِ هُوَ يَوْمُ صُدُورِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي جُمْلَةِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: 41] إِلَخْ فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ لِمُقَابَلَةِ ذِكْرِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطْنَبِ فِي وَصْفِهِ بِذِكْرِ ضِدِّهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِإِيجَازٍ حَاصِلٍ مِنْ كَلِمَةِ وَيْلٌ لِتَحْصُلَ مُقَابَلَةُ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِنَظَائِرِهَا، وَالْيَوْمُ الْمُضَافُ إِلَى (إِذْ) يَوْمٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَقْتَضِيهُ كَوْنُ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ لِيَعْلَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُمْ فِي يَوْم الْقِيَامَة. [46] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 46] كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [المرسلات: 7] ، وَهُوَ اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات: 44] إِذْ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْقَوَارِعِ مَا يُكْثِرُ خُطُورُهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي نِعْمَةٍ مُحَقَّقَةٍ وَأَنَّ مَا يُوعَدُونَ بِهِ غَيْرُ وَاقِعٍ فَقِيلَ لَهُمْ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِمْهَالِ وَالْإِنْذَارِ، أَيْ لَيْسَ أَكْلُكُمْ وَتَمَتُّعُكُمْ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ تَمَتُّعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاكُمُ الْعَذَابُ الْأَبَدِيُّ قَالَ

[سورة المرسلات (77) : آية 47]

تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 196، 197] . وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالسُّوءِ، أَيْ أَنَّ إِجْرَامَكُمْ مُهْوٍ بِكُمْ إِلَى الْعَذَابِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُقَابَلَةِ وَصْفِهِمْ بِالْإِجْرَامِ بِوَصْف الْمُتَّقِينَ [المرسلات: 41] بِالْإِحْسَانِ إِذِ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَالْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ كَونهم مجرمين. [47] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 47] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) هُوَ مِثْلُ نَظِيرِهِ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ ارْتِبَاطًا خَاصًّا بِجُمْلَةِ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا [المرسلات: 46] لِمَا فِي تَمَتَّعُوا قَلِيلًا مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ تَرَقُّبِ سُوءِ عَاقِبَةٍ لَهُمْ فَيَقَعُ قَوْلُهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِتِلْكَ الْكِنَايَةِ، أَيْ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا الْآنَ وَوَيْلٌ لَكُمْ يَوْم الْقِيَامَة. [48] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 48] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْله: لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 47] ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، فَإِنَّ (الْ) الدَّاخِلَةَ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُشْتَقَّةِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ غَالِبًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا النُّحَاةُ فِي عِدَادِ أَسْمَاءِ الْمَوْصُولِ وَجَعَلُوا الْوَصْفَ الدَّاخِلَةَ عَلَيْهِ صِلَةً لَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا [المرسلات: 46] وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مِنَ الْإِدْمَاجِ لِيَنْعِيَ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتَهُمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِمَادُ الدِّينِ وَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] .

[سورة المرسلات (77) : آية 49]

وَالْمَعْنَى: إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا وَارْكَعُوا لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَرْكَعُونَ كَمَا كُنِّيَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ لِمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42- 44] إِلَى آخِرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات: 46] . وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا يُفِيدُ تَهْدِيدَهُمْ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى التَّكْذِيبِ أَوْ عَلَى الْإِجْرَامِ، وَكِلَاهُمَا سَبَبٌ لِلتَّهْدِيدِ بِجَزَاءِ السُّوءِ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَعْنَى الْمُصَلِّينَ لِلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاة. [49] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 49] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِثْلُ نَظِيرِهَا الْمُوَالِيَةِ هِيَ لَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِ (الْمُكَذِّبِينَ) إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ وَصْفِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَوْ لَكُمْ فَهِيَ تهديد ناشىء عَنْ جُمْلَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ يَوْمَئِذٍ الزَّمَانُ الَّذِي يُفِيدُهُ إِذا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا الَّذِي يُجَازَى فِيهِ بِالْوَيْلِ لِلْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَتُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا لِنَظِيرِهَا الْمَذْكُورِ ثَانِيًا فِي هَذِه السُّورَة. [50] [سُورَة المرسلات (77) : آيَة 50] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) الْفَاء فصيحة تنبىء عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا الْمُقَدَّرِ مَا تَكَرَّرَ فِي آيَاتِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 49] فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْبَعْثِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ التَّعْجِيبِيِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُوا بِالْقُرْآنِ مَعَ وُضُوحِ حُجَّتِهِ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِحَدِيثِ غَيْرِهِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقُرْآنَ بَالِغُ الْغَايَةِ فِي وُضُوحِ الدِّلَالَةِ وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَلَامٍ يَسْمَعُونَهُ عَقِبَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةَ حَدِيثٍ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَالْمُرَادُ بِالْبُعْدِيَّةِ: تَأَخَّرُ الزَّمَانِ، وَيُقَدَّرُ مَعْنَى بَالِغٍ أَوْ مَسْمُوعٍ بَعْدَ بُلُوغِ الْقُرْآنِ أَوْ سَمَاعِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَدِيثًا مَوْجُودًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، أَوْ حَدِيثًا يُوجَدُ بَعْدَ الْقُرْآنِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِحَدِيثٍ جَاءَ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَخْبَارِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحَدِيثٍ غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَيْهِمْ كَلَامٌ أَوَضَحُ دَلَالَةً وَحُجَّةً مِنَ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ مُتَعَلِّقًا بِ يُؤْمِنُونَ فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ وَيَبْقَى لَفْظُ حَدِيثٍ مَنْفِيًّا بِلَا قَيْدِ وَصْفِ أَنَّهُ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ الْقُرْآنِ بِكُلِّ حَدِيثٍ. وَضَمِيرُ بَعْدَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِيَكُونَ مُعَادًا لِلضَّمِيرِ وَلَكِنَّهُ اعْتُبِرَ كَالْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ مَلْحُوظٌ لِأَذْهَانِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَضُمَّهُ إِلَى مَا هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بَعْدَهُ عَائِدًا إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِالرُّكُوعِ الَّذِي هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ كَانَ بأقوال الْقُرْآن. الْجُزْء الثَّلَاثُونَ

78- سورة النبأ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 78- سُورَةُ النَّبَأِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِير وَكتب التَّفْسِيرِ السُّنَّةِ «سُورَةَ النَّبَأِ» لِوُقُوعِ كَلِمَةِ «النَّبَأِ» فِي أَوَّلِهَا. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «تَفْسِيرِ ابْن عَطِيَّة» و «الْكَشَّاف» «سُورَةَ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ» . وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» سَمَّاهَا «سُورَةَ عَمَّ» أَيْ بِدُونِ زِيَادَةِ «يَتَسَاءَلُونَ» تَسْمِيَةً لَهَا بِأَوَّلِ جُمْلَةٍ فِيهَا. وَتُسَمَّى «سُورَةَ التَّسَاؤُلِ» لِوُقُوعِ «يَتَسَاءَلُونَ» فِي أَوَّلِهَا. وَتُسَمَّى «سُورَةَ الْمُعْصِرَاتِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ. وَاقْتصر فِي «الْإِتْقَانُ» عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: عَمَّ، وَالنَّبَأُ، وَالتَّسَاؤُلُ، وَالْمُعْصِرَاتُ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَعُدَّتِ السُّورَةَ الثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمَعَارِجِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّازِعَاتِ. وَفِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْلِسُ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فَتَتَحَدَّثُ فِيمَا بَيْنَهَا فَمِنْهُمُ الْمُصَدِّقُ وَمِنْهُمُ الْمُكَذِّبُ بِهِ» فَنَزَلَتْ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ. وَعَنِ الْحَسَنِ لَمَّا بُعِثَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَإِ: 1، 2] يَعْنِي الْخَبَرَ الْعَظِيمَ. وَعَدَّ آيَهَا أَصْحَابُ الْعَدَدِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعين آيَة.

أغراضها

أغراضها اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى وَصْفِ خَوْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَسُؤَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنِ الرَّأْيِ فِي وُقُوعِهِ مُسْتَهْزِئِينَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِهِ. وَتَهْدِيدُهُمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ. وَفِيهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ لِلْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ. وَوَصْفُ الْأَهْوَالِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ مِنْ عَذَابِ الطَّاغِينَ مَعَ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ. وَصِفَةُ يَوْمِ الْحَشْرِ إِنْذَارًا لِلَّذِينَ جَحَدُوا بِهِ وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ أَعمال النَّاس. [1- 3] [سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَسَاؤُلِ جَمَاعَةٍ عَنْ نَبَأٍ عَظِيمٍ، افْتِتَاحُ تَشْوِيقٍ ثُمَّ تَهْوِيلٍ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنَ الْفَوَاتِحِ الْبَدِيعَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ أُسْلُوبٍ عَزِيزٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ وَمِنْ تَشْوِيقٍ بِطَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ الْمُحَصِّلَةِ لِتَمَكُّنِ الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أكمل تمكن. وَإِذ كَانَ هَذَا الِافْتِتَاحُ مُؤْذِنًا بِعَظِيمِ أَمْرٍ كَانَ مُؤْذِنًا بِالتَّصَدِّي لِقَوْلٍ فَصْلٍ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِأَهَمِّ مَا فِيهِ خَوْضُهُمْ يَوْمَئِذٍ يُجْعَلُ افْتِتَاحَ الْكَلَامِ بِهِ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ.

وَلَفْظُ عَمَّ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا حَرْفُ (عَنْ) الْجَارُّ وَ (مَا) الَّتِي هِيَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيُّ وَيَتَعَلَّقُ عَمَّ بِفِعْلِ يَتَساءَلُونَ فَهَذَا مُرَكَّبٌ. وَأَصْلُ تَرْتِيبِهِ: يَتَسَاءَلُونَ عَنْ مَا، فَقُدِّمَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْمُسْتَفْهَمِ بِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ الْفِعْلُ إِلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَانَ الْحَرْفُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ مَجْرُورِهِ قُدِّمَا مَعًا فَصَارَ عَمَّا يَتَسَاءَلُونَ. وَقَدْ جَرَى الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ عَلَى أَنَّ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ يُحْذَفُ الْأَلِفُ الْمَخْتُومَةُ هِيَ بِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى اسْتِعْمَالُ نُطْقِهِمْ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ جَرَوْا عَلَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ فِي النُّطْقِ فَكَتَبُوا (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةَ بِدُونِ أَلِفٍ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النازعات: 43] فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: 54] لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] عَمَّ يَتَساءَلُونَ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْهَا أَحَدٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ إِلَّا فِي الشَّاذِّ. وَلَمَّا بَقِيَتْ كَلِمَةُ (مَا) بَعْدَ حَذْفِ أَلِفِهَا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ جَرَوْا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّ مِيمَهَا الْبَاقِيَةَ تُكْتَبُ مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ (عَنْ) لِأَنَّ (مَا) لَمَّا حُذِفَ أَلِفُهَا بَقِيَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ حُرُوفَ التَّهَجِّي، فَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي قَبْلَ (مَا) مَخْتُومًا بِنُونٍ وَالْتَقَتِ النُّونُ مَعَ مِيمِ (مَا) ، وَالْعَرَبُ يَنْطِقُونَ بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِيمٌ مِيمًا وَيُدْغِمُونَهَا فِيهَا، فَلَمَّا حُذِفَتِ النُّونُ فِي النُّطْقِ جَرَى رَسْمُهُمْ عَلَى كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفَةَ النُّونِ تَبَعًا لِلنُّطْقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّ خُلِقَ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَسَنٌ. وَالتَّسَاؤُلُ: تَفَاعُلٌ وَحَقِيقَةُ صِيغَةِ التَّفَاعُلِ تُفِيدُ صُدُورَ مَعْنَى الْمَادَّةِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا مِنَ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَصُدُورَ مِثْلِهِ مِنَ الْمَفْعُولِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَتَرِدُ كَثِيرًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ وُقُوعِ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: سَاءَلَ، بِمَعْنَى: سَأَلَ، قَالَ النَّابِغَةُ: أُسَائِلُ عَنْ سُعْدَى وَقَدْ مَرَّ بَعْدَنَا ... عَلَى عَرَصَاتِ الدَّارِ سَبْعٌ كَوَامِلُ وَقَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ: يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُِِ

وَتَجِيءُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنَ الْفَاعِلِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَذَلِكَ إِمَّا كِنَايَةٌ أَوْ مَجَازٌ وَمَحْمَلُهُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ وَذَلِكَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مَعَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، أَوْ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ صَحِيحٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا بِأَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُؤَالَ مُتَطَلِّعٍ لِلْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَمْ يَزَالُوا فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ مَا أُنْبِئُوا بِهِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمَجَازِ الصُّورِيِّ يَتَظَاهَرُونَ بِالسُّؤَالِ وَهُمْ مُوقِنُونَ بِانْتِفَاءِ وُقُوعِ مَا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ (يَحْذَرُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التَّوْبَة: 64] فَيَكُونُونَ قَصَدُوا بِالسُّؤَالِ الِاسْتِهْزَاءَ. وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فَرِيقَيْنِ فِي كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ يُرَجِّحُ كُلُّ فَرِيقٍ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي التَّكْذِيبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَمِنْهُمْ مُصَدِّقٌ وَمِنْهُمْ مُكَذِّبٌ» . وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هُوَ سُؤَالُ اسْتِهْزَاءٍ أَوْ تَعَجُّبٍ وَإِنَّمَا هُمْ مُوقِنُونَ بِالتَّكْذِيبِ. فَأَمَّا التَّسَاؤُلُ الْحَقِيقِيُّ فَأَنْ يَسْأَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ هَذَا النبأ فَيسْأَل الْمَسْئُول سَائِلَهُ سُؤَالًا عَنْ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ النَّبَأِ، إِذْ يَخْطُرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي ذَلِكَ خَاطِرٌ غَيْرُ الَّذِي خَطَرَ لِلْآخَرِ فَيَسْأَلُ سُؤَالَ مُسْتَثْبِتٍ، أَوْ سُؤَالَ كَشْفٍ عَنْ مُعْتَقَدِهِ، أَوْ مَا يُوصَفُ بِهِ الْمُخْبَرُ بِهَذَا النَّبَأِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّمْل: 67، 68] . وَأَمَّا التَّسَاؤُلُ الصُّورِيُّ فَأَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ هَذَا الْخَبَرِ سُؤَالَ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَلْ بَلَغَكَ خَبَرُ الْبَعْثِ؟ وَيَقُولُ لَهُ الْآخَرُ: هَلْ سَمِعْتَ مَا

قَالَ؟ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّسَاؤُلِ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمِثْلِ تِلْكَ الْمُسَاءَلَةِ وَقَصْدُهُمْ مِنْهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بَلْ تَهَكُّمِيٌّ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَا فِي قَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ لَيْسَ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: 221] . وَالْمُوَجَّهُ إِلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَضَمِيرُ يَتَساءَلُونَ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ مُرَادًا بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ مُتَكَرِّرٌ فِي الْقُرْآنِ فَصَارُوا مَعْرُوفِينَ بِالْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ ضَمَائِرِهِ، وَإِشَارَاتِهِ الْمُبْهَمَةِ، كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] (يَعْنِي الشَّمْسَ) كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَة: 26] (يَعْنِي الرُّوحَ) ، فَإِنْ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ طَلَبِ الْفَهْمِ حَسُنَ تَعْقِيبُهُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فَجَوَابه مستعملة بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ فَبُيِّنَ جَانِبُ التَّفْخِيمِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: 221، 222] ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: لِمَنِ الدَّارُ أَقْفَرَتْ بِمَعَانِ ... بَيْنَ أَعْلَى الْيَرْمُوكِ وَالصَّمَّانِ ذَاكَ مَغْنَى لِآلِ جَفْنَة فِي الده ... ر وَحَقٌّ تَقَلُّبُ الْأَزْمَانِ وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، قِيلَ: مُطْلَقًا فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ إِطْلَاق «الْقَامُوس» و «الصِّحَاح» و «اللِّسَان» . وَقَالَ الرَّاغِبُ: «النَّبَأُ الْخَبَرُ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ وَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَيَكُونَ صَادِقًا» اهـ. وَهَذَا فَرْقٌ حَسَنٌ وَلَا أَحْسَبُ الْبُلَغَاءَ جَرَوْا إِلَّا عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ الرَّاغِبُ فَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ: نَبَأٌ وَذَلِكَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النَّبَأِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِينَ أَطْلَقُوا مُرَادَفَةَ النَّبَأِ لِلْخَبَرِ رَاعَوْا مَا يَقَعُ فِي بَعْضِ كَلَامِ النَّاسِ مِنْ

تَسَامُحٍ بِإِطْلَاقِ النَّبَأِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْخَبَرِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ كَثْرَةً عَسُرَ مَعَهَا تَحْدِيدُ مَوَاقِعِ الْكَلِمَتَيْنِ وَلَكِنَّ أَبْلَغَ الْكَلَامِ لَا يَلِيقُ تَخْرِيجُهُ إِلَّا عَلَى أَدَقِّ مَوَاقِعِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [34] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68] . وَالْعَظِيمُ حَقِيقَتُهُ: كَبِيرُ الْجِسْمِ وَيُسْتَعَارُ لِلْأَمْرِ الْمُهِمِّ لِأَنَّ أَهَمِّيَّةَ الْمَعْنَى تُتَخَيَّلُ بِكِبَرِ الْجِسْمِ فِي أَنَّهَا تقع عِنْد مدركها كَمَرْأَى الْجِسْمِ الْكَبِيرِ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ. وَوصف النَّبَإِ ب الْعَظِيمِ هُنَا زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ وَارِدًا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ زَادَهُ عِظَمَ أَوْصَافٍ وَأَهْوَالٍ، فَوُصِفَ النَّبَأُ بِالْعَظِيمِ بِاعْتِبَارِ مَا وُصِفَ فِيهِ مِنْ أَحْوَال الْبَعْث فِي مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ ص [67، 68] . وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّبَإِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَشْمَلُ كُلَّ نَبَأٍ عَظِيمٍ أَنْبَأَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ إِنْبَاؤُهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ بَعْثِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ تَعْيِينِ نَبَأٍ خَاصٍّ يُحْمَلُ عَلَى التَّمْثِيلِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: هُوَ الْبَعْثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَسَوْقُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إِلَى قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 16] يَدُلُّ دِلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الْإِنْبَاءُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَضَمِيرُ هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي النَّبَأِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا يَصِفُونَهُ بِهِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: 25] وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا كَذِبٌ، وَبَعْضِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ، وَهُمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ فِي مَرَاتِبِ إِنْكَارِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ مِثْلَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:

[سورة النبإ (78) : آية 4]

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7- 8] ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُكُّونَ فِيهِ كَالَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِتُفِيدَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَمْرِ هَذَا النَّبَأِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَدَائِمٌ فِيهِمْ لِدِلَالَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. وَتَقْدِيمُ عَنْهُ على مُعْرِضُونَ [ص: 68] لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ، مَعَ مَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة. [4] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 4] كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ لِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ غَالِبًا فِي الْكَلَامِ يَقْتَضِي رَدْعَ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَإِبْطَالَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا رَدْعٌ لِلَّذِينَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ التَّسَاؤُلُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جملَة يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] مِنْ تَسَاؤُلٍ مَعْلُومٍ لِلسَّامِعِينَ. فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. وَالْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهِ فَالرَّدْعُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَالْمَعْنَى: إِبْطَالُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ النَّبَأِ وَإِنْكَارُ التَّسَاؤُلِ عَنْهُ ذَلِكَ التَّسَاؤُلُ الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ وَإِنْكَارَ الْوُقُوعِ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ وُقُوعَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبَأُ وَأَنَّهُ حَقٌّ لِأَنَّ إِبْطَالَ إِنْكَارِ وُقُوعِهِ يُفْضِي إِلَى إِثْبَاتِ وُقُوعِهِ. وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ كَلَّا أَنْ تُعَقَّبَ بِكَلَامٍ يُبَيِّنُ مَا أَجْمَلَتْهُ مِنَ الرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هُنَا بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ سَيُوقِنُونَ بِوُقُوعِهِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَهُمَا عِلْمَانِ يَحْصُلَانِ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: عِلْمٌ بِحَقِّ وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَعِلْمٌ فِي الْعِقَابِ عَلَيْهِ.

[سورة النبإ (78) : آية 5]

وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ سَيَعْلَمُونَ لِيَعُمَّ الْمَعْلُومَيْنِ فَإِنَّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَرَوْنَ مَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ الْكَافِرَ يَرَى مَقْعَدَهُ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ» ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» وَذَلِكَ مِنْ مَشَاهِدِ رُوحِ الْمَقْبُورِ وَهِيَ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر: 6، 7] . فَتَضَمَّنَ هَذَا الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَهُ إِعْلَامًا بِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ وَاقِعٌ، وَتَضَمَّنَ وَعِيدًا وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي شَأْنُهُ إِفَادَةُ تَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي الْوَعِيدِ أَنَّ فِيهِ إِيهَامًا بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ جَوَابَ سُؤَالِهِمُ الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الْإِحَالَةَ وَالتَّهَكُّمَ، وَصَوَّرُوهُ فِي صُورَةِ طَلَبِ الْجَوَابِ فَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: الْجَوَابُ مَا تَرَى لَا مَا تسمع. [5] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 5] ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فَإِنَّ ثُمَّ لَمَّا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرَّتَبِيِّ، وَهُوَ أَنَّ مَدْلُولَ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَرْقَى رُتْبَةً فِي الْغَرَضِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ ثُمَّ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ أَرْقَى دَرَجَةً مِنْ مَضْمُونِ نَظِيرِهَا. وَمَعْنَى ارْتِقَاءِ الرُّتْبَةِ أَنَّ مَضْمُونَ مَا بَعْدَ ثُمَّ أَقْوَى مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ ثُمَّ، وَهَذَا الْمَضْمُونُ هُوَ الْوَعِيدُ، فَلَمَّا اسْتُفِيدَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ بِمَا أَفَادَهُ التَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ إِذِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ أَكَّدَتِ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا تَعَيَّنَ انْصِرَافُ مَعْنَى ارْتِقَاءِ رُتْبَةِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ أَنَّ الْمُتَوَعَّدَ بِهِ الثَّانِيَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْسَبُونَ. وَضَمِيرُ سَيَعْلَمُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجْرِي عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي ضمير يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] وَضمير فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 3] . [6] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 6] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ نَبَأٍ جَاءَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ وَإِثْبَاتَ إِعَادَةِ خلق أجسامهم، وهما الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ أَثَارَا تَكْذِيبَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَأَلُّبَهُمْ عَلَى

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْوِيجَهُمْ تَكْذِيبَهُ، جَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ بَيَانًا لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 2، 3] . وَسَيَجِيءُ بَعْدَهُ تَكْمِلَتُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] . وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِالِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، وَعَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْبِلَى بِأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ الدَّلِيلِ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاسْتِفْهَامُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ فِي قُوَّةِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ بِدَلِيلِ عَطْفِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: 8] عَلَيْهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ نَجْعَلِ تَقْرِيرِيٌّ وَهُوَ تَقْرِيرٌ عَلَى النَّفْيِ كَمَا هُوَ غَالِبُ صِيَغِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ نَفْيٌ وَالْأَكْثَرُ كَوْنُهُ بِحَرْفِ (لَمْ) ، وَذَلِكَ النَّفْيُ كَالْإِعْذَارِ لِلْمُقَرَّرِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ بِوُقُوعِ جَعْلِ الْأَرْضِ مِهَادًا لَا بنفيه فحرف النَّفْيِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ. فَالْمَعْنَى: أَجَعَلْنَا الْأَرْضَ مِهَادًا وَلِذَلِكَ سَيُعْطَفُ عَلَيْهِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [33] . وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] ، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ لِمَخْلُوقَاتٍ عَظِيمَةٍ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي لِمَخْلُوقَاتٍ هِيَ دُونَ الْمَخْلُوقَاتِ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ (أَيِ الثَّانِي) وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: 57] . وَجَعْلُ الْأَرْضِ: خَلْقُهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ كَوْنَهَا مِهَادًا أَمْرٌ حَاصِلٌ فِيهَا مِنَ ابْتِدَاءِ خَلْقِهَا وَمِنْ أَزْمَانِ حُصُولِ ذَلِكَ لَهَا مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَهَا فِي حَالِ أَنَّهَا كَالْمِهَادِ فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.

[سورة النبإ (78) : آية 7]

وَالتَّعْبِيرُ بِ نَجْعَلِ دُونَ: نَخْلُقُ، لِأَنَّ كَوْنَهَا مِهَادًا حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا عِنْدَ خَلْقِهَا أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ فِعْلِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّاتِ غَالِبًا أَوْ إِلَى الْوَصْفِ الْمُقَوِّمِ لِلذَّاتِ نَحْوَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْملك: 2] . وَالْمِهَادُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ الْفِرَاشُ الْمُمَهَّدُ الْمُوَطَّأُ وَزِنَةُ الْفِعَالِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَفِي «الْقَامُوسِ» : أَن المهاد يرادف الْمَهْدِ الَّذِي يُجْعَلُ لِلصَّبِيِّ. وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلْأَرْضِ بِهِ إِذْ جَعَلَ سَطْحَهَا مُيَسَّرًا لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَالِاضْطِجَاعِ وَبِالْأَحْرَى الْمَشْيِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِبْدَاعِ الْخَلْقِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ يَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا وَفِي ذَلِكَ الِامْتِنَانِ إِشْعَارٌ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ الْأَرْضَ مُلَائِمَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا فَإِنَّ الَّذِي صَنَعَ هَذَا الصُّنْعَ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَخْلُقَ الْأَجْسَامَ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ بِلَاهَا. وَالْغَرَضُ مِنَ الِامْتِنَانِ هُنَا تَذْكِيرُهُمْ بِفَضْلِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْعَوُوا عَنِ الْمُكَابَرَةِ وَيُقْبِلُوا عَلَى النَّظَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أَنَّ الْبَعْثَ هُوَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْحَشْرِ مِنَ الْأَرْضِ فَكَانَتِ الْأَرْضُ أَسْبَقَ شَيْءٍ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ الْخَوْضِ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ، أَيْ بَعْثِ أَهْلِ الْقُبُورِ. وَجَعْلُ الْأَرْضِ مِهَادًا يَتَضَمَّنُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَصْلِ خَلْقِ الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُتَعَرَّضْ إِلَيْهِ بَعْدُ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لخلق السَّمَاوَات. [7] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 7] وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) عَطْفٌ عَلَى الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجِبالَ عَلَى الْأَرْضَ، وَعَاطِفَةُ أَوْتاداً عَلَى مِهاداً، وَهَذَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَامِلِ. وَالْأَوْتَادُ: جَمْعُ وَتَدٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَالْوَتَدُ: عُودٌ غَلِيظٌ شَيْئًا، أَسْفَلُهُ أَدَقُّ مِنْ أَعْلَاهُ يُدَقُّ فِي الْأَرْضِ لِتُشَدَّ بِهِ أَطْنَابُ الْخَيْمَةِ وَلِلْخَيْمَةِ، أَوْتَادٌ كَثِيرَةٌ

[سورة النبإ (78) : آية 8]

عَلَى قَدْرِ اتِّسَاعِ دَائِرَتِهَا. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْجِبَالِ بِأَنَّهَا أَوْتَادٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَالْأَوْتَادِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْجِبَالِ دَعَا إِلَيْهَا ذِكْرُ الْأَرْضِ وَتَشْبِيهُهَا بِالْمِهَادِ الَّذِي يَكُونُ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَلَمَّا كَانَ الْبَيْتُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ السَّامِعِ مِنْ ذِكْرِ الْمِهَادِ كَانَتِ الْأَرْضُ مُشَبَّهَةً بِالْبَيْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ فَشُبِّهَتْ جِبَالُ الْأَرْضِ بِأَوْتَادِ الْبَيْتِ تَخْيِيلًا لِلْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا بِالْبَيْتِ وَمِهَادِهِ وَأَوْتَادِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثْرَةَ الْجِبَالِ النَّاتِئَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْ يَخْطُرُ فِي الْأَذْهَانِ أَنَّهَا لَا تُنَاسِبُ جَعْلَ الْأَرْضِ مِهَادًا فَكَانَ تَشْبِيهُ الْجِبَالِ بِالْأَوْتَادِ مُسْتَمْلَحًا بِمَنْزِلَةِ حُسْنِ الِاعْتِذَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ مُشَبَّهَةً بِالْأَوْتَادِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ مَعَ هَذَا التَّخْيِيلِ كَقَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ أُسُودًا غَابُهَا الرِّمَاحُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ مُشَبَّهَةً بِأَوْتَادِ الْخَيْمَةِ فِي أَنَّهَا تَشُدُّ الْخَيْمَةَ مِنْ أَنْ تَقْلَعَهَا الرِّيَاحُ أَوْ تُزَلْزِلَهَا بِأَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِ الْجِبَالِ لِلْأَرْضِ حِكْمَةٌ لِتَعْدِيلِ سَبْحِ الْأَرْضِ فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ إِذْ نُتُوُّ الْجِبَالِ عَلَى الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ يَجْعَلُهَا تَكْسِرُ تَيَّارَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَرْضِ فَيَعْتَدِلُ تَيَّارُهُ حَتَّى تَكُونَ حَرَكَةُ الْأَرْضِ فِي كُرَةِ الْهَوَاءِ غَيْرَ سَرِيعَةٍ. عَلَى أَنَّ غَالِبَ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَخَاصَّةً الْعَرَبُ لَهُمْ مَنَافِعُ جَمَّةٌ فِي الْجِبَالِ فَمِنْهَا مَسَايِلُ الْأَوْدِيَةِ، وَقَرَارَاتُ الْمِيَاهِ فِي سُفُوحِهَا، وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَمُسْتَعْصَمُهُمْ فِي الْخَوْفِ، وَمَرَاقِبُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دِيَارِهِمْ إِذَا طَرَقَهَا الْعَدُوُّ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُ الْجِبَالِ مَعَ ذِكْرِ الْأَرْضِ. فَكَانَتْ جُمْلَةُ وَالْجِبالَ أَوْتاداً إذماجا مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] وَجُمْلَةِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: 8] . [8] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 8] وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) مَعْطُوفٌ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] . وَالتَّقْدِير: وأخلقناكم أَزْوَاجًا، فَكَانَ التَّقْرِيرُ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ إِذِ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُوَ وُقُوعُ الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ أَزْوَاجًا.

وَعَبَّرَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ دُونَ الْجَعْلِ لِأَنَّهُ تَكْوِينُ ذَوَاتِهِمْ فَهُوَ أَدَقُّ مِنَ الْجَعْلِ. وَضَمِيرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّقْرِيرُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مُضَارِعًا فَدُخُولُ (لَمْ) عَلَيْهِ صَيَّرَهُ فِي مَعْنَى الْمَاضِي لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ (لَمْ) تَقْلِبُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ إِلَى الْمُضِيِّ فَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُ خَلَقْناكُمْ عَلَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 6، 7] وَالْكُلُّ تَقْرِيرٌ عَلَى شَيْءٍ مَضَى. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِعْلًا مُضَارِعًا مِثْلَ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تُسْتَعْمَلُ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ لِلْفِعْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: 48] ، فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] يُفِيدُ اسْتِدْعَاءَ إِعْمَالِ النَّظَرِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِذْ هِيَ مَرْئِيَّاتٌ لَهُمْ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَغْفُلَ النَّاظِرُونَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَقَائِقِهَا لِتَعَوُّدِهِمْ بِمُشَاهَدَتِهَا مِنْ قَبْلِ سِنِّ التَّفَكُّرِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ لَا يَكَادُونَ يَنْظُرُونَ فِيهَا بَلْهَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي صُنْعِهَا، وَالْجِبَالَ يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي صُنْعِهَا شُغْلُهُمْ بِتَجَشُّمِ صُعُودِهَا وَالسَّيْرِ فِي وَعْرِهَا وَحِرَاسَةِ سَوَائِمِهِمْ مِنْ أَنْ تَضِلَّ شِعَابَهَا وَصَرْفِ النَّظَرِ إِلَى مَسَالِكِ الْعَدُوِّ عِنْدَ الِاعْتِلَاءِ إِلَى مَرَاقِبِهَا، فَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ ذِكْرِ الْمَصْنُوعَاتِ الْحَرِيَّةِ بِدِقَّةِ التَّأَمُّلِ وَاسْتِخْلَاصِ الِاسْتِدْلَالِ لِيَكُونَ إِقْرَارُهُمْ مِمَّا قَرَّرُوا بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَجِدُوا إِلَى الْإِنْكَارِ سَبِيلًا. وَجِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مَفَاعِيلَ فِعْلِ (خَلَقْنَا) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ مُشَاهَدَةً لَهُمْ. وَذُكِرَ لَهُمْ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ مَا هُوَ شَدِيدُ الِاتِّصَالِ بِالنَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَوَارَدُ أَحْوَالُهَا عَلَى مُدْرِكَاتِهِمْ دَوَامًا، فَإِقْرَارُهُمْ بِهَا أَيْسَرُ لِأَنَّ دِلَالَتَهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الْبَدِيهِيِّ. وَقَدْ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَجِبَالِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ إِثْبَاتِ التَّفَرُّدِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ الدِّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَتِهِمْ، وَالدَّلِيلُ فِي خَلْقِ النَّاسِ عَلَى الْإِبْدَاعِ الْعَظِيمِ الَّذِي الْخَلْقُ الثَّانِي مِنْ نَوْعِهِ أَمْكَنُ فِي نُفُوسِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . وَلِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي تَوْجِيهِ

الِابْتِدَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَهِيَ أَنَّ مِنَ الْأَرْضِ يَخْرُجُ النَّاسُ لِلْبَعْثِ فَكَذَلِك ثني باستدلال بِخَلْقِ النَّاسِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَيُعَادُ خَلْقُهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَم: 66، 67] . وَانْتَصَبَ أَزْواجاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي خَلَقْناكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ النَّاسِ وَبِكَوْنِ النَّاسِ أَزْوَاجًا، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَاسِبُ لِفِعْلِ خَلَقْنَا أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ جِيءَ بِمَفْعُولِهِ ضَمِيرَ ذَوَاتِ النَّاسِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِمْ أَزْوَاجًا أَنْ يُسَاقَ مَسَاقَ إِيجَادِ الْأَحْوَالِ جِيءَ بِهِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي خَلَقْناكُمْ، وَلَوْ صُرِّحَ لَهُ بِفِعْلٍ لَقِيلَ: وَخَلَقْنَاكُمْ وَجَعَلْنَاكُمْ أَزْوَاجًا، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] وَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [النبأ: 9] . وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي يُكَرِّرُ الْوَاحِدَ تَكْرِيرَةً وَاحِدَةً وَقَدْ وُصِفَ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِأَسْمَاءِ الْعَدَدِ فِي نَحْوِ قَوْلِ لَبِيدٍ: حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً ثُمَّ غَلَبَ الزَّوَاجُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَأُنْثَاهُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، فَقَوْلُهُ: أَزْواجاً أَفَادَ أَنْ يَكُونَ الذَّكَرُ زَوْجًا لِلْأُنْثَى وَالْعَكْسُ، فَالذَّكَرُ زَوْجٌ لِأُنْثَاهُ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ لِذَكَرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [35] . وَفِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ مِنْ حِكْمَةِ إِيجَادِ قُوَّةِ التَّنَاسُلِ مِنَ اقْتِرَانِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَهُوَ مَنَاطُ الْإِيمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِيجَادِ هَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ ابْتِدَاءً بِقُوَّةِ التَّنَاسُلِ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ مِثْلِهِ بِمِثْلِ تِلْكَ الدِّقَّةِ أَوْ أَدَقَّ. وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَامْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ بِحَالَةٍ تَجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجًا

[سورة النبإ (78) : آية 9]

لِيَحْصُلَ التَّعَاوُنُ وَالتَّشَارُكُ فِي الْأُنْسِ وَالتَّنَعُّمِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَاف: 189] وَلِذَلِكَ صِيغَ هَذَا التَّقْرِيرُ بِتَعْلِيقِ فِعْلِ (خَلَقْنَا) بِضَمِيرِ النَّاسِ وَجُعِلَ أَزْواجاً حَالًا مِنْهُ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَخَلَقْنَا لَكُمْ أَزْوَاجًا. وَفِي ذَلِكَ حَمْلٌ لَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى النَّظَرِ فِيمَا بُلِّغَ إِلَيْهِمْ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَسْعَفَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمُكَابَرَتَهُمْ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُفْرَانٌ لِنِعْمَةِ واهب النعم. [9] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 9] وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) انْتَقَلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِمْ وَخَصَّ مِنْهَا الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى أَحْوَالِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ شَبَهًا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْبَعْثُ وَهِيَ حَالَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ لَا يَخْلُونَ مِنَ الشُّعُورِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ نِظَامِ النَّوْمِ وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَقَظَةِ أَشْبَهُ حَالٍ بِحَالِ الْمَوْتِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْبَعْثِ. وَأُوثِرَ فِعْلُ جَعَلْنا لِأَنَّ النَّوْمَ كَيْفِيَّةٌ يُنَاسِبُهَا فِعْلُ الْجَعْلِ لَا فِعْلُ الْخَلْقِ الْمُنَاسِبِ لِلذَّوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 10، 11] . فَإِضَافَةُ نَوْمٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسَتْ لِلتَّقْيِيدِ لِإِخْرَاجِ نَوْمِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ نَوْمَ الْحَيَوَانِ كُلَّهُ سُبَاتٌ، وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ لِلِاسْتِدْلَالِ، أَيْ أَنَّ دَلِيلَ الْبَعْثِ قَائِمٌ بَيِّنٌ فِي النَّوْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِكُمْ، وَأَيْضًا لِأَنَّ فِي وَصْفِهِ بِسُبَاتٍ امْتِنَانًا، وَالِامْتِنَانُ خَاصٌّ بِهِمْ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يُونُس: 67] . وَالسُّبَاتُ: بِضَمِّ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى السَّبْتِ، أَيِ الْقَطْعِ، أَيْ جَعَلْنَاهُ لَكُمْ قَطْعًا لِعَمَلِ الْجَسَدِ بِحَيْثُ لَا بُدَّ لِلْبَدَنِ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِذْ جَعَلَا الْمَعْنى: وَجَعَلنَا نومكن رَاحَةً، فَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى.

[سورة النبإ (78) : آية 10]

وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ (سُبَاتٍ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْقَطْعِ عَنِ الْعَمَلِ لِيُقَابِلَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 11] كَمَا سَيَأْتِي. وَيُطْلَقُ السُّبَاتُ عَلَى النَّوْمِ الْخَفِيفِ، وَلَيْسَ مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا، وَلَا نَوْمًا خَفِيفًا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: السُّبَاتُ هُوَ النَّوْمُ فَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا. وَأَخَذَ فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا ثَلَاثَةً مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَسْتَقِيمُ مِنْهَا إِلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ السُّبَاتَ الْقَطْعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [الْقَصَص: 72] وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِتَصَارِيفِ مَادَّةِ سَبَتَ. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ سِيدَهْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ سَبَتَ بِمَعْنَى اسْتَرَاحَ، أَيْ لَيْسَ مَعْنَى اللَّفْظِ، فَمَنْ فَسَّرَ السُّبَاتَ بِالرَّاحَةِ أَرَادَ تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى. وَفِي هَذَا امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِخَلْقِ نِظَامِ النَّوْمِ فِيهِمْ لِتَحْصُلَ لَهُمْ رَاحَةٌ مِنْ أَتْعَابِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكْدَحُونَ لَهُ فِي نَهَارِهِمْ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّوْمَ حَاصِلًا لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ اخْتِيَاره، فالنوم يلجىء الْإِنْسَانَ إِلَى قَطْعِ الْعَمَلِ لِتَحْصُلَ رَاحَةٌ لِمَجْمُوعِهِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي رُكْنُهُ فِي الدِّمَاغِ، فَبِتِلْكَ الرَّاحَةِ يَسْتَجِدُّ الْعَصَبُ قُوَاهُ الَّتِي أَوْهَنَهَا عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَحَرَكَاتُ الْأَعْضَاءِ وَأَعْمَالُهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَلَّقَتْ رَغْبَةُ أَحَدٍ بِالسَّهَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ وَذَلِكَ لُطْفٌ بِالْإِنْسَانِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ مَا بِهِ مَنْفَعَةُ مَدَارِكِهِ قَسْرًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ بِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ نَوْمًا أَقْصَرُهُمْ عُمْرًا وَكَذَلِكَ الْحَيَوَان. [10] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 10] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) مِنْ إِتْمَامِ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمِنَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّيْلِ لِبَاسًا حَالَةٌ مُهَيِّئَةٌ لِتَكَيُّفِ النَّوْمِ وَمُعِينَةٌ عَلَى هَنَائِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ اللَّيْلَ ظُلْمَةٌ عَارِضَةٌ فِي الْجَوِّ مِنْ مُزَايَلَةِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَنْ جُزْءٍ مِنْ كُرَةِ الْأَرْضِ وَبِتِلْكَ الظُّلْمَةِ تَحْتَجِبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنِ الْإِبْصَارِ فَيَعْسُرُ الْمَشْيُ وَالْعَمَلُ وَالشُّغْلُ وَيَنْحَطُّ النَّشَاطُ فَتَتَهَيَّأُ الْأَعْصَابُ لِلْخُمُولِ ثُمَّ يَغْشَاهَا النَّوْمُ فَيَحْصُلُ السُّبَاتُ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَجِيبَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ

نِظَامُ اللَّيْلِ آيَةً عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبَدِيعِ تَقْدِيرِهِ. وَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْفَنَاءِ غَيْرُ مُتَعَذِّرَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى فَلَوْ تَأَمَّلَ الْمُنْكِرُونَ فِيهَا لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ فَلَمَّا كَذَّبُوا خَبَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النِّظَامِ الَّذِي فِيهِ اللُّطْفُ بِهِمْ وَرَاحَةُ حَيَاتِهِمْ لَوْ قَدَّرُوهُ حق قدره لشكروا وَمَا أَشْرَكُوا، فَكَانَ تَذَكُّرُ حَالَةِ اللَّيْلِ سَرِيعَ الْخُطُورِ بِالْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ حَالَةِ النَّوْمِ فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ مُنَاسَبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ اللَّيْلِ عَلَى حَسَبِ أَفْهَامِ السَّامِعِينَ. وَالْمَعْنَى مِنْ جَعْلِ اللَّيْلِ لِبَاسًا يَحُومُ حَوْلَ وَصْفِ حَالَةٍ خَاصَّةٍ بِاللَّيْلِ عُبِّرَ عَنْهَا بِاللِّبَاسِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي إِطْلَاقِهِ، أَيْ مَا يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الثِّيَابِ فَيَكُونُ وَصْفُ اللَّيْلِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِلْإِنْسَانِ كَاللِّبَاسِ لَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّغْشِيَةَ. وَتَحْتَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّيْلَ سَاتِرٌ لِلْإِنْسَانِ كَمَا يَسْتُرُهُ اللِّبَاسُ، فَالْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ يَخْتَلِي بِشُؤُونِهِ الَّتِي لَا يَرْتَكِبُهَا فِي النَّهَارِ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا الْأَبْصَارُ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدَّهْرِيِّينَ أَنَّ اللَّيْلَ رَبُّ الظَّلَمَةِ وَهُوَ مُعْتَقَدُ الْمَجُوسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مَصْنُوعَةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ، أَيْ إِلَهَيْنِ: إِلَهُ النُّورِ وَهُوَ صَانِعُ الْخَيْرِ، وَإِلَهُ الظُّلْمَةِ وَهُوَ صَانِعُ الشَّرِّ. وَيُقَالُ لَهُمُ: الثَّنَوِيَّةُ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهُمْ فِرَقٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَذَاهِبِ فِي تَقْرِيرِ كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ عَنْ ذَيْنِكَ الْأَصْلَيْنِ، وَأَشْهَرُ هَذِهِ الْفِرَقِ فِرْقَةٌ تُسَمَّى الْمَانَوِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: (مَانِي) فَارِسِيٍّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَفِرْقَةٌ تُسَمَّى مَزْدَكِيَّةٌ نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: (مَزْدَكُ) فَارِسِيٍّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ مَعْنَى هَذَا التَّعْرِيض فِي قَوْله: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ الْمَعْنَى الثَّانِي: مِنْ مَعْنَيَيْ وَجْهِ الشَّبَهِ بِاللِّبَاسِ: أَنَّهُ الْمُشَابَهَةُ فِي الرِّفْقِ بِاللَّابِسِ وَالْمُلَاءَمَةُ لِرَاحَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ رَاحَةً لِلْإِنْسَانِ وَكَانَ مُحِيطًا بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ وَأَعْصَابِهِِِ

[سورة النبإ (78) : آية 11]

شُبِّهَ بِاللِّبَاسِ فِي ذَلِكَ. وَنُسِبَ مُجْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والسّدي وَقَتَادَةَ إِذْ فسروا سُباتاً [النبأ: 9] سَكَنًا. الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَن وَجه شبه بِاللِّبَاسِ هُوَ الْوِقَايَةُ، فَاللَّيْلُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْعَرَبُ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي اللَّيْلِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْغَارَةُ صَبَاحًا وَلِذَلِكَ إِذَا غِيرَ عَلَيْهِمْ يَصْرُخُ الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: يَا صَبَاحَاهُ. وَيُقَالُ: صَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ. وَكَانُوا إِذَا أَقَامُوا حَرَسًا عَلَى الرُّبَى نَاظُورَةَ عَلَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرُقَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُقِيمُونَهُ نَهَارًا فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ نَزَلَ الْحَرَسُ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ فَرَسَهُ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعٍ مُنِيفَةٍ ... جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دونهَا جرّامها [11] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 11] وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) لَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ نِظَامِ اللَّيْل قوبل بِذكر خلق نِظَامِ النَّهَارِ، فَالنَّهَارُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَفِيهِ عِبْرَةٌ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَإِحْكَامِهِ إِذْ جُعِلَ نِظَامَانِ مُخْتَلِفَانِ مَنْشَؤُهُمَا سُطُوعُ نُورِ الشَّمْسِ وَاحْتِجَابُهُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَهُمَا نعمتان للبشر مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْآثَارِ فَنِعْمَةُ اللَّيْلِ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّاحَةِ وَالْهُدُوءِ، وَنِعْمَةُ النَّهَارِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ قَدِ اسْتَجَدَّ رَاحَتَهُ وَاسْتَعَادَ نَشَاطَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ بِسَبَبِ إِبْصَارِ الشُّخُوصِ وَالطُّرُقِ. وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الْمَعَاشِ أُخْبِرَ عَنِ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مَعَاشٌ وَقَدْ أَشْعَرَ ذِكْرُ النَّهَارِ بَعْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنَ النَّوْمِ وَاللَّيْلِ بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ النَّهَارَ ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ النَّوْمِ فَصَارَتْ مُقَابَلَتُهُمَا بِالنَّهَارِ فِي تَقْدِيرِ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ وَالْيَقَظَةَ فِيهِ مَعَاشًا، فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ، وَبِذَلِكَ حَصَلَ بَيْنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُطَابَقَتَانِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ لَفْظًا وَضِمْنًا.

[سورة النبإ (78) : آية 12]

وَالْمَعَاشُ: يُطْلَقُ مَصْدَرَ عَاشَ إِذَا حَيِيَ، فَالْمَعَاشُ: الْحَيَاةُ وَيُطْلَقُ اسْمًا لِمَا بِهِ عَيْشُ الْإِنْسَانِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَالْمَعْنَيَانِ صَالِحَانِ لِلْآيَةِ إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ حَيَاةً لَكُمْ، شُبِّهَتِ الْيَقَظَةُ فِيهِ الْحَيَاةَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعِيشَةً لَكُمْ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعِيشَةٌ مَجَازٌ أَيْضًا بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ النَّهَارَ سَبَبٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَعِيشَةِ وَذَلِكَ يُقَابِلُ جَعْلَ اللَّيْلِ سُبَاتًا بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَص: 73] . فَفِي مُقَابَلَةِ السُّبَاتِ بِالْمَعَاشِ عَلَى هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ مُطَابَقَتَانِ من المحسّنات. [12] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 12] وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) نَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْأُفُقِ الْمُسَمَّى سَمَاءً أَنْ يُتْبَعَ ذَلِكَ وَمَا سَبَقَهُ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِذِكْرِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ. وَالْبِنَاءُ: جَعْلُ الْجَاعِلِ أَوْ صُنْعُ الصَّانِعِ بَيْتًا أَوْ قَصْرًا مِنْ حِجَارَةٍ وَطِينٍ أَوْ مِنْ أَثْوَابٍ، أَوْ مِنْ أَدَمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَنَى، فَبَيْتُ الْمَدَرِ مَبْنِيٌّ، وَالْخَيْمَةُ مَبْنِيَّةٌ، وَالطِّرَافُ وَالْقُبَّةُ مِنَ الْأَدَمِ مَبْنِيَّانِ. وَالْبِنَاءُ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْلَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فَلَيْسَ الْحَفْرُ بِنَاءً وَلَا نَقْرُ الصُّخُورِ فِي الْجِبَالِ بِنَاءً. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ فَذَكَرَ الدَّعَائِمَ وَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَيْمَةِ. وَاسْتُعِيرَ فِعْلُ بَنَيْنا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَعْنَى: خَلَقْنَا مَا هُوَ عَالٍ فَوْقَ النَّاسِ، لِأَنَّ تَكْوِينَهُ عَالِيًا يُشْبِهُ الْبِنَاءَ. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَوْقَكُمْ إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ الشَّبَهِ فِي إِطْلَاقِ فِعْلِ بَنَيْنا وَلَيْسَ ذَلِكَ تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْفَوْقِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَبْنِيَّاتِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَنْبِيهِ النُّفُوسِ لِلِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي تِلْكَ السَّبْعِ الشِّدَادِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الشِّدَادِ: السَّمَاوَاتُ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ وَحَذْفِ الْمَوْصُوفِ

[سورة النبإ (78) : آية 13]

لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْوَصْفُ بِاسْمِ الْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ إِذِ التَّقْدِيرُ: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ: زُحَلُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالْمِرِّيخُ، وَالشَّمْسُ، وَالزُّهْرَةُ، وَعُطَارِدُ، وَالْقَمَرُ. وَهَذَا تَرْتِيبُهَا بِحَسَبِ ارْتِفَاعِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ خُسُوفُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حِينِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الَّتِي تَكْتَسِبُ بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ النُّورَ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ. وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْعبْرَة بهَا أظهر لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَرَوْنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَيَرَوْنَ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ وَيَعْهَدُونَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ السَّيَّارَاتِ الَّتِي اكْتَشَفَهَا عُلَمَاءُ الْفَلَكِ مِنْ بَعْدُ. وَهِي (ستّورن) و (نبتون) و (أورانوس) وَهِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: 14] وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَصِدْقًا وَيُقَرِّبُ لِلنَّاسِ الْمَعَانِيَ بِقَدْرِ أَفْهَامِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ. فَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَدْ عُدَّتْ أَخِيرًا فِي الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَحُذِفَ الْقَمَرُ مِنَ الْكَوَاكِبِ لِتَبَيُّنِ أَنَّ حَرَكَتَهُ تَابِعَةٌ لِحَرَكَةِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَقَعَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مُسَلَّمٌ يَوْمَئِذٍ وَالْكُلُّ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ طَبَقَاتٌ عُلْوِيَّةٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدِ اقْتَنَعَ النَّاسُ مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهَا سَبْعُ سَمَاوَاتٍ. وَشِدَادٌ: جَمْعُ شَدِيدَةٍ، وَهِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالشِّدَّةِ، وَالشِّدَّةُ: الْقُوَّةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مَتِينَةُ الْخَلْقِ قَوِيَّةُ الْأَجْرَامِ لَا يَخْتَلُّ أَمْرُهَا وَلَا تَنْقُصُ عَلَى مرّ الْأَزْمَان. [13] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 13] وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) ذِكْرُ السَّمَاوَاتِ يُنَاسِبُهُ ذِكْرُ أَعْظَمِ مَا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ فِي فَضَائِهَا وَذَلِكَ الشَّمْسُ، فَفِي ذَلِكَ مَعَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِهَا عِبْرَةٌ فِي كَوْنِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَمِنَّةٌ عَلَى النَّاسِ بِاسْتِفَادَتِهِمْ مِنْ نُورِهَا فَوَائِدَ جَمَّةً.

وَالسِّرَاجُ: حَقِيقَتُهُ الْمِصْبَاحُ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ وَهُوَ إِنَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ زَيْتٌ وَفِي الزَّيْتِ خِرْقَةٌ مَفْتُولَةٌ تُسَمَّى الذُّبَالَةَ تُشْعَلُ بِنَارٍ فَتُضِيءُ مَا دَامَ فِيهَا بَلَلُ الزَّيْتِ. وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَقْرِيبُ صِفَةِ الْمُشَبَّهِ إِلَى الْأَذْهَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ نُوحٍ. وَزِيدَ ذَلِكَ التَّقْرِيبُ بِوَصْفِ السِّرَاجِ بِالْوَهَّاجِ، أَيِ الشَّدِيدِ السَّنَا. وَالْوَهَّاجُ: أَصْلُهُ الشَّدِيدُ الْوَهَجِ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَيُقَالُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ) وَهُوَ الِاتِّقَادُ يُقَالُ: وَهَجَتِ النَّارُ إِذَا اضْطَرَمَتِ اضْطِرَامًا شَدِيدًا. وَيُطْلَقُ الْوَهَّاجُ عَلَى الْمُتَلَأْلِئِ الْمُضِيءِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ وَصْفَ وَهَّاجٍ أُجْرِيَ عَلَى سِرَاجٍ، أَيْ سِرَاجًا شَدِيدَ الْإِضَاءَةِ، وَلَا يُقَالُ: سِرَاجٌ مُلْتَهِبٌ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَهَجُ حُصُولُ الضَّوْءِ وَالْحَرِّ مِنَ النَّارِ. وَفِي «الْأَسَاسِ» عَدَّ قَوْلَهُمْ: سِرَاجٌ وَهَّاجٌ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ. وَعَلَيْهِ جَرَى قَوْلُهُ فِي «الْكَشَّافِ» : «مُتَلَأْلِئًا وَقَّادًا. وَتَوَهَّجَتِ النَّارُ، إِذْ تَلَمَّظَتْ فَتَوَهَّجَتْ بِضَوْئِهَا وَحَرِّهَا» فَإِذَنْ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّمْسِ بِالسِّرَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَوْقِعَ التَّشْبِيهِ. وَلِذَلِكَ أُوثِرَ فِعْلُ: جَعَلْنا دُونَ: خَلَقْنَا، لِأَنَّ كَوْنَهَا سِرَاجًا وَهَّاجًا حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا وَإِنَّمَا يُعَلَّقُ فِعْلُ الْخَلْقِ بِالذَّوَاتِ. فَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ سِرَاجًا وَهَّاجًا أَوْ وَجَعَلْنَا فِي السَّبْعِ الشِّدَادِ سِرَاجًا وَهَّاجًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15، 16] وَقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفرْقَان: 61] سَوَاءٌ قَدَّرَتْ ضَمِيرَ فِيها عَائِدًا إِلَى السَّماءِ أَوْ إِلَى (الْبُرُوجِ) لِأَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ بُرُوجُ السَّمَاءِ. وَقَوْلُهُ: سِراجاً اسْمُ جِنْسٍ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الشَّمْسُ أَو الْقَمَر.

[سورة النبإ (78) : الآيات 14 إلى 16]

[سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 14 إِلَى 16] وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) اسْتِدْلَالٌ بِحَالَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلَهَا مَنْشَأً شَبِيهًا بِحَيَاةٍ بَعْدَ شَبِيهٍ بِمَوْتٍ أَوِ اقْتِرَابٍ مِنْهُ وَمَنْشَأَ تَخَلُّقِ مَوْجُودَاتٍ مِنْ ذَرَّاتٍ دَقِيقَةٍ. وَتِلْكَ حَالَةُ إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَسْحِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَتُنْبِتُ الْأَرْضُ بِهِ سَنَابِلَ حَبٍّ وَشَجَرًا، وَكَلَأً، وَتِلْكَ كُلُّهَا فِيهَا حَيَاةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهِيَ حَيَاةُ النَّمَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلنَّاسِ عَلَى تَصَوُّرِ حَالَةِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِدَلِيلٍ مِنَ التَّقْرِيبِ الدَّالِّ عَلَى إِمْكَانِهِ حَتَّى تَضْمَحِلَّ مِنْ نُفُوسِ الْمُكَابِرِينَ شُبَهُ إِحَالَةِ الْبَعْثِ. وَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا قَدْ صُرِّحَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9- 11] فَفِي الْآيَةِ استدلالان: اسْتِدْلَال بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّحَابِ، وَاسْتِدْلَالٌ بِالْإِنْبَاتِ، وَفِي هَذَا أَيْضًا مِنَّةٌ على المعرضين عَن النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صُنْعِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ دَوَاعٍ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ مِنْ رِزْقِهِمْ وَرِزْقِ أَنْعَامِهِمْ، وَمِنْ تَنَعُّمِهِمْ وَجَمَالِ مَرَائِيهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ شَكَرُوا الْمُنْعِمَ بهَا لكانوا عِنْد مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مُسْتَعِدِّينَ لِلنَّظَرِ، بِتَوَقُّعِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ الْبَالِغَةُ إِلَيْهِمْ صَادِقَةَ الْعَزْوِ إِلَى اللَّهِ فَمَا خَفِيَتْ عَنْهُمُ الدِّلَالَةُ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ إِلَى ذِكْرِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ قَوِيَّةٌ. وَالْمُعْصِرَاتُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الصَّادِ السَّحَابَاتُ الَّتِي تَحْمِلُ مَاءَ الْمَطَرِ وَاحِدَتُهَا مُعْصِرَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَعْصَرَتِ السَّحَابَةُ، إِذَا آنَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ، أَيْ تُنْزِلَ إِنْزَالًا شَبِيهًا بِالْعَصْرِ. فَهَمْزَةُ (أَعْصَرَ) تُفِيدُ مَعْنَى الْحَيْنُونَةِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ وَتُسَمَّى هَمْزَةَ التَّهْيِئَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: أَجَزَّ الزَّرْعُ، إِذَا حَانَ لَهُ أَنْ يُجَزَّ (بِزَايٍ فِي آخِرِهِ) وَأَحْصَدَ إِذَا حَانَ وَقْتُ حَصَادِهِ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّ هَمْزَةَ الْحَيْنُونَةِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّهَيُّؤِ لِقَبُولِ الْفِعْلِ وَتُفِيدُ مَعْنَى التَّهَيُّؤِ لِإِصْدَارِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ

ذَكَرَ: أَعْصَرَتِ الْجَارِيَةُ، أَيْ حَانَ وَقْتُ أَنْ تَصِيرَ تَحِيضُ، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي «أَدَبِ الْكَاتِبِ» : أَرْكَبَ الْمُهْرُ، إِذَا حَانَ أَنْ يُرْكَبَ، وَأَقْطَفَ الْكَرْمُ، إِذَا حَانَ أَنْ يُقْطَفَ. ثُمَّ ذَكَرَ: أَقْطَفَ الْقَوْمُ: حَانَ أَنْ يَقْطِفُوا كُرُومَهُمْ، وَأَنْتَجَتِ الْخَيْلُ: حَانَ وَقْتُ نِتَاجِهَا. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النُّورِ [43] ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَعَلَ السَّحَابَ رُكَامًا جَاءَ بِالرِّيحِ عَصَرَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيَخْرُجُ الْوَدْقُ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ حَسَّانٍ: كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطَنِي ... بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمِفْصَلِ أَرَادَ حَسَّانُ الْخَمْرَ وَالْمَاءَ الَّذِي مُزِجَتْ بِهِ، أَيْ هَذِهِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَهَذِهِ مِنْ عَصِيرِ السَّحَابِ، فَسَّرَ هَذَا التَّفْسِيرَ قَاضِي الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (¬1) لِلْقَوْمِ الَّذِينَ حَلَفَ صَاحِبُهُمْ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِيَ عَنْ تَفْسِيرِ بَيْتِ حَسَّانٍ اهـ. وَالثَّجَّاجُ: الْمُنْصَبُّ بِقُوَّةٍ وَهُوَ فَعَّالٌ مِنْ ثَجَّ الْقَاصِرُ إِذَا انْصَبَّ، يُقَالُ: ثَجَّ الْمَاءُ، إِذَا انْصَبَّ بِقُوَّةٍ، فَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ. وَقَدْ يُسْنَدُ الثَّجُّ إِلَى السَّحَابِ، يُقَالُ: ثَجَّ السَّحَابُ يَثُجُّ بِضَمِّ الثَّاءِ، إِذَا صَبَّ الْمَاءَ، فَهُوَ حِينَئِذٍ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ. وَوَصْفُ الْمَاءِ هُنَا بِالثَّجَّاجِ لِلِامْتِنَانِ. وَقَدْ بُيِّنَتْ حِكْمَةُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنَ السَّحَابِ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ لِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ جَمْعًا بَيْنَ الِامْتِنَانِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى دَلِيلِ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ لِيَحْصُلَ إِقْرَارُهُمْ بِالْبَعْثِ وَشُكْرُ الصَّانِعِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ لِنُخْرِجَ دُونَ نَحْوِ: لِنُنْبِتَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِيمَاءُ إِلَى تَصْوِيرِ كَيْفِيَّةِ بَعْثِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ إِذْ ذَلِكَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ (ق) هُوَ الِامْتِنَانَ جِيءَ بِفِعْلِ «أَنْبَتْنَا» فِي قَوْلِهِ: ¬

(¬1) ولي قَضَاء الْبَصْرَة سنة 158 وعزل سنة 165 وَتُوفِّي سنة 168. وَهُوَ الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ القَوْل بِأَن الْمُجْتَهد لَا يَأْثَم وَلَو فِي أصُول الدَّين إِذا لم يخرج بِاجْتِهَادِهِ عَن الْإِسْلَام.

وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] الْآيَةَ. ثُمَّ أُتْبِعَ ثَانِيًا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] . وَالْبَعْثُ خُرُوجٌ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى فِي سُورَةِ طه [55] . وَالْحَبُّ: اسْمُ جَمْعِ حَبَّةٍ وَهِيَ الْبَرْزَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَبِّ هُنَا: الْحَبُّ الْمُقْتَاتُ لِلنَّاسِ مِثْلَ: الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، وَالذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، وَالْقُطْنِيَّةِ، وَهِيَ الْحُبُوبُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ السَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا. وَالنَّبَاتُ أَصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرِ نَبَتَ الزَّرْعُ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وَأُطْلِقَ النَّبَات على النَّبَاتُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ وَأَصْلُهُ الْمُبَالَغَةُ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَنُسِيَتِ الْمُبَالَغَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ حُبُّهُ بَلِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِذَاتِهِ وَهُوَ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ مِثْلَ التِّبْنِ وَالْقُرْطِ وَالْفِصْفِصَةِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَجُعِلَتِ الْجَنَّاتُ مَفْعُولا ل (تخرج) عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ نَخْلَ جَنَّاتٍ أَوْ شَجَرَ جَنَّاتٍ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ جَمْعُ جنَّة وَهِي الْقطعَة مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْرُوسَةِ نَخْلًا، أَوْ نَخْلًا وَكَرْمًا، أَوْ بِجَمِيعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ مِثْلَ التِّينِ وَالرُّمَّانِ كَمَا جَاءَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ اسْتِعْمَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَنَابِتِ. وَوَجْهُ إِيثَارِ لَفْظِ جَنَّاتٍ أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى إِتْمَامِ الْمِنَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنَعُّمِ بِالظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَالْمِيَاهِ وَجَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ بِوَصْفِ أَلْفافاً لِأَنَّهُ يَزِيدُهَا حُسْنًا، وَإِنْ كَانَ الْفَلَّاحُونَ عِنْدَنَا يُفَضِّلُونَ التَّبَاعُدَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَرُ لِكَمِّيَّةِ الثِّمَارِ لِأَنَّ تَبَاعُدَهَا أَسْعَدُ لَهَا بِتَخَلُّلِ الْهَوَاءِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ، لَكِنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ هُنَا الِامْتِنَانُ بِمَا فِيهِ نَعِيمُ النَّاسِ. وَأَلْفَافٌ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَهُوَ مِثْلُ أَوْزَاعٍ وَأَخْيَافٍ، أَيْ كُلُّ جَنَّةٍ مُلْتَفَّةٌ، أَيْ مُلْتَفَّةُ الشَّجَرِ بَعْضِهِ بِبَعْض. فوصف الجنات بِأَلْفَافٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الِالْتِفَافَ فِي أَشْجَارِهَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَشْجَارُ لَا يَلْتَفُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْغَالِبِ إِلَّا إِذَا جَمَعَتْهَا جَنَّةٌ

أُسْنِدَ أَلْفَافٌ إِلَى جَنَّاتٍ بِطَرِيقِ الْوَصْفِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذَ لَمْ أَرَ شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: أَلْفَافٌ جَمْعُ لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ بِوَزْنِ جِذْعٍ، أَيْ كُلُّ جَنَّةٍ مِنْهَا لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَلَمْ يَأْتُوا بِشَاهِدٍ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ صَاحِبَ «الْإِقْلِيدِ» (¬1) ذَكَرَ بَيْتًا أَنْشَدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ (¬2) وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» زَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (¬3) أَنَّهُ لَفَّاءُ وَلُفٌّ ثُمَّ أَلْفَافٌ (أَيْ أَنَّ أَلْفَافًا جَمْعُ الْجَمْعِ) قَالَ: «وَمَا أَظُنُّهُ وَاجِدًا لَهُ نَظِيرًا» أَيْ لَا يُجْمَعُ فُعْلٌ جَمْعًا عَلَى أَفْعَالٍ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ إِذْ لَا يُقَالُ خُضْرٌ وَأَخْضَارٌ وَحُمْرٌ وَأَحْمَارٌ. يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْكَلَامُ الْفَصِيحُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ لَمْ يَثْبُتْ وُرُودُ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ وُجُودِ تَأْوِيلٍ لَهُ عَلَى وَجْهٍ وَارِدٍ. فَكَانَ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ أَنَّ أَلْفافاً اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ خُتِمَتُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي أُقِيمَتْ لَهُمْ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتِ الْإِيمَاءَ إِلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَمَا أُدْمِجَ فِيهَا مِنَ الْمِنَنِ عَلَيْهِمْ عَسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا النِّعْمَةَ فَيَشْعُرُوا بِوَاجِبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَلَا يَسْتَفْظِعُوا إِبْطَالَ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَيَنْظُرُوا فِيمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَيَصْرِفُوا عُقُولَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ تَصْدِيقِ ذَلِكَ. وَقَدِ ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَحَالَتِهَا وَجَالَتْ بِهِمُ الذِّكْرَى عَلَى أَهَمِّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، ثُمَّ مَا فِي الْأُفُقِ مِنْ أَعْرَاضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. ثُمَّ تَصَاعَدَ بِهِمُ التَّجْوَالُ بِالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَبِخَاصَّةٍ الشَّمْسُ ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ فَنَزَلُوا مَعَهُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ وَمُنْتَهَى الْمَنَافِعِ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ مِنْ حَيْثُ صَدَرُوا وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ على الصَّدْر. [17- 18] ¬

(¬1) الإقليد اسْم تَفْسِير كَذَا قَالَ الْقزْوِينِي فِي «الْكَشْف» على «الْكَشَّاف» وَرَأَيْت فِي طرة نُسْخَة فِيهِ أَن الإقليد لأبي الْفَتْح الهمذاني وَلم أعثر على تَرْجَمَة مُؤَلفه. (¬2) الْحسن بن عَليّ الطوسي لَعَلَّه الْوَزير الملقب نظام الْملك وَالْبَيْت هُوَ: جنَّة لفّ وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر (¬3) لَعَلَّه ذكر ذَلِك فِي غير كتاب أدب الْكتاب فإنّي لم أَجِدهُ فِيهِ. [.....]

[سورة النبإ (78) : الآيات 17 إلى 18]

[سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 17 إِلَى 18] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) هَذَا بَيَانٌ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 2- 3] وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا السُّورَةُ وَهَيَّأَتْ لِلِانْتِقَالِ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ قَوْلِهِ: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً [النبأ: 15] إِلَخْ، لِأَنَّ ذَلِكَ شُبِّهَ بِإِخْرَاجِ أَجْسَادِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فِي سُورَةِ ق [9- 11] . وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَعْقَبَ بِهِ قَوْلَهُ: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً [النبأ: 15] الْآيَةَ فِيمَا قُصِدَ بِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى دَلِيلِ الْبَعْثِ. وَأُكِّدَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالًا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَيَوْمُ الْفَصْلِ: يَوْمُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ. وَالْفَصْلُ: التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ وَالْمُلْتَبِسَةِ فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى الْحُكْمِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: فَصْلُ الْقَضَاءِ، أَيْ نَوْعٌ مِنَ الْفَصْلِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الظُّلْمِ. فَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَصْلٌ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِيَوْمِ الْفَصْلِ لِإِثْبَاتِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيْنَ ثُبُوتِ مَا جَحَدُوهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ فَصْلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَكَذِبِهِمْ. وَثَانِيهِمَا: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اعْتَدَى بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَوْقِيتَهُ مُتَأَصِّلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى الَّتِي هُوَ أَعْلَمُ بِهَا وَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِهِ لَا يُقَدِّمُهُ عَلَى مِيقَاتِهِ.

وَتَقَدَّمَ يَوْمَ الْفَصْلِ غَيْرَ مَرَّةٍ أُخْرَاهَا فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ [14] . وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْفَصْلِ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ [13] . وَالْمِيقَاتُ: مِفْعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ: الزَّمَانُ الْمُحَدَّدُ فِي عَمَلٍ مَا، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ وَقْتٍ إِلَّا مُقَيَّدًا بِإِضَافَةٍ أَوْ نَحْوِهَا نَحْوَ وَقْتِ الصَّلَاةِ. فَالْمِيقَاتُ جَاءَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْآلَةِ وَأُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ بِهِ شَيْءٌ مِثْلَ مِيعَادٍ وَمِيلَادٍ، فِي الْخُرُوجِ عَنْ كَوْنِهِ اسْمَ آلَةٍ إِلَى جَعْلِهِ اسْمًا لِنَفْسِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ. وَالسِّيَاقُ دَلَّ عَلَى مُتَعَلَّقِ مِيقَاتٍ، أَيْ كَانَ مِيقَاتًا لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَكَوْنُهُ مِيقاتاً كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ عَنْ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ إِذِ التَّوْقِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِزَمَنٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ وَلَوْ تَأَخَّرَ وَأَبْطَأَ. وَهَذَا رَدٌّ لِسُؤَالِهِمْ تَعْجِيلَهُ وَعَنْ سَبَبِ تَأْخِيرِهِ، سُؤَالًا يُرِيدُونَ مِنْهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِخَبَرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَيْسَ تَأَخُّرُ وُقُوعِهِ دَالًّا عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِهِ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ تَكْذِيبُكُمْ بِهِ مِمَّا يَحْمِلُنَا عَلَى تَغْيِيرِ إِبَانِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ مُسْتَدْرِجُكُمْ مُدَّةً. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُدْرَى لَعَلَّهُ يَحْصُلُ قَرِيبًا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] وَقَالَ: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: 51] . ويَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ وَأُضِيفَ يَوْمَ إِلَى جُمْلَةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ أَوَّلُهَا مُعْرَبٌ وَهُوَ الْمُضَارِعُ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ حُصُولُ التَّفْصِيلِ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْفَصْلِ وَبَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْفَصْلِ. وَالصُّورُ: الْبُوقُ، وَهُوَ قَرْنُ ثَوْرٍ فَارِغُ الْوَسَطِ مُضَيَّقٌ بَعْضُ فَرَاغِهِ وَيُتَّخَذُ مِنَ

الْخَشَبِ أَوْ مِنَ النُّحَاسِ، يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ قَوِيًّا لِنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَكْثَرُ مَا يُنَادَى بِهِ الْجَيْشُ وَالْجُمُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ لِتَجْتَمِعَ إِلَى عَمَلٍ يُرِيدُهُ الْآمِرُ بِالنَّفْخِ. وَبُنِيَ يُنْفَخُ إِلَى النَّائِبِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ النَّافِخِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَعْرِفَةُ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَصُورَةِ حُصُولِهِ. وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ دُعَاءِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ إِلَى الْحَشْرِ بِهَيْئَةِ جَمْعِ الْجَيْشِ الْمُتَفَرِّقِ لِرَاحَةٍ أَوْ تَتَبُّعِ عَدُوٍّ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَتَجَمَّعُوا عِنْدَ مَقَرِّ أَمِيرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْيَاءُ لَا تُعْلَمُ صِفَتُهُ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ النَّفْخُ هَذَا مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ وَهُوَ تَكْوِينُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ بِلَاهَا وَبَثُّ أَرْوَاحِهَا فِي بَقَايَاهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهَذَا النَّفْخِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَطْفُ (تَأْتُونَ) بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ تَعْقِيبِ النَّفْخِ بِمَجِيئِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ. وَالْإِتْيَانُ: الْحُضُورُ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ الْمَاشِي فَالْإِتْيَانُ هُوَ الْحُصُولُ. وَحَذْفُ مَا يَحْصُلُ بَيْنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ لِزِيَادَةِ الإيذان بِسُرْعَة حصور الْإِتْيَانِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّور وَإِن كَانَ الْمَعْنى: ينْفخ فِي الصُّورِ فَتَحْيَوْنَ فَتَسِيرُونَ فَتَأْتُونَ. وأَفْواجاً حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ، وَالْأَفْوَاجُ: جَمْعُ فَوْجٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْمُتَصَاحِبَةُ مِنْ أُنَاسٍ مُقَسَّمِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، فَتَكُونُ الْأُمَمُ أَفْوَاجًا، وَيَكُونُ الصَّالِحُونَ وَغَيْرُهُمْ أَفْوَاجًا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها [الْملك: 8] الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: فَتَأْتُونَ مُقَسَّمِينَ طَوَائِفَ وَجَمَاعَاتٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَكُلُّ أُولَئِكَ أَقسَام ومراتب.

[سورة النبإ (78) : آية 19]

[سُورَة النبإ (78) : آيَة 19] وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) جُمْلَةٌ هِيَ حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ [النبأ: 18] . وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ فُتِحَتِ السَّمَاءُ، أَيْ قَدْ حَصَلَ النَّفْخُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النبأ: 18] فَيعْتَبر يَوْمَ [النبأ: 18] مُضَافًا إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفرْقَان: 25] . وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا التَّفْتِيحِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ مَضَى وُقُوعُهُ. وَفَتْحُ السَّمَاءِ: انْشِقَاقُهَا بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَعْضِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّهُمْ نُزُولًا يَحْضُرُونَ بِهِ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفرْقَان: 25، 26] . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَفُتِّحَتْ بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي فِعْلِ الْفَتْحِ بِكَثْرَةِ الْفَتْحِ أَوْ شِدَّتِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ شَقَّ السَّمَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ وَمُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْفَتْحِ بِالسَّمَاءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ فَتْحٌ شَدِيدٌ. وَفِي الْفَتْحِ عِبْرَةٌ لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُلْتَئِمَةً فَإِذَا فَسَدَ الْتِئَامُهَا وَتَخَلَّلَتْهَا مَفَاتِحُ كَانَ مَعَهُ انْخِرَامُ نِظَامِ الْعَالَمِ الْفَانِي قَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 1- 6] . فَالتَّفَتُّحُ وَالْفَتْحُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ يَوْمَ الْفَصْلِ [النبأ: 17] . وَفُرِّعَ عَلَى انْفِتَاحِ السَّمَاءِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَكانَتْ أَبْواباً أَيْ ذَاتَ أَبْوَابٍ. فَقَوْلُهُ أَبْواباً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَالْأَبْوَابِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى حَاجِزٌ بَيْنَ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] .

[سورة النبإ (78) : آية 20]

وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّمَاءِ بِأَنَّهَا أَبْوَابٌ جَرَى عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِذَاتِ أَبْوَابٍ لِلدِّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَفَاتِحِ فِيهَا حَتَّى كَأَنَّهَا هِيَ أَبْوَابٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: 12] حَيْثُ أُسْنِدَ التَّفْجِيرُ إِلَى لَفْظِ الْأَرْضِ، وَجِيءَ بِاسْمِ الْعُيُونِ تَمْيِيزًا، وَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ وَيُؤَكِّدُهُ، وَيُقَيِّدُ مَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَيُبَيِّنُهُ. وَ (كَانَتْ) بِمَعْنَى: صَارَتْ. وَمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ مِنْ مَعَانِي (كَانَ) وَأَخَوَاتِهَا الْأَرْبَعِ وَهِيَ: ظَلَّ، وَبَاتَ، وَأَمْسَى وَأَصْبَحَ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى فُتِحَتِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] . وَالْأَبْوَابُ: جَمْعُ بَابٍ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ الَّتِي يُدْخَلُ مِنْهَا فِي حَائِلٍ مِنْ سُورٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ حِجَابٍ أَوْ خَيْمَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [23] . وَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فِي سُورَة الْعُقُود [23] . [20] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 20] وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) التَّسْيِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَائِرًا، أَيْ مَاشِيًا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى النَّقْلِ مِنَ الْمَكَانِ أَيْ نُقِلَتِ الْجِبَالُ وَقُلِعَتْ مِنْ مَقَارِّهَا بِسُرْعَةٍ بِزَلَازِلَ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: 14] ، حَتَّى كَأَنَّهَا تَسِيرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهُوَ نَقْلٌ يَصْحَبُهُ تَفْتِيتٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: فَكانَتْ سَراباً لِأَنَّ ظَاهِرَ التَّعْقِيبِ أَنْ لَا تَكُونَ مَعَهُ مُهْلَةٌ، أَيْ فَكَانَتْ كَالسَّرَابِ فِي أَنَّهَا لَا شَيْءَ. وَالْقَوْلُ فِي بِنَاءِ سُيِّرَتِ لِلْمَجْهُولِ كَالْقَوْلِ فِي وَفُتِحَتِ السَّماءُ [النبأ: 19] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَكانَتْ سَراباً هُوَ كَقَوْلِهِ: فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] . وَالسَّرَابُ: مَا يَلُوحُ فِي الصَّحَارِي مِمَّا يُشْبِهُ الْمَاءَ وَلَيْسَ بِمَاءٍ وَلَكِنَّهُ حَالَةٌ فِي الْجَوِّ الْقَرِيبِ تَنْشَأُ مِنْ تَرَاكُمِ أَبْخِرَةٍ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة النبإ (78) : الآيات 21 إلى 23]

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فِي سُورَة النُّور [39] . [21- 23] [سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 21 إِلَى 23] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ لِ إِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا فِيهِ لِلطَّاغِينَ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِرْصاداً أَيْ مِرْصَادًا فِيهِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ مَعْنَى الْمِرْصَادِ مُقْتَرِبٌ مِنْ مَعْنَى الْمِيقَاتِ إِذْ كِلَاهُمَا مُحَدِّدٌ لِجَزَاءِ الطَّاغِينَ. وَدُخُولُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي خَبَرِ (إِنَّ) يُفِيدُ تَأْكِيدًا عَلَى التَّأْكِيدِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ التَّأْكِيدِ الدَّاخِلُ عَلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الْفَصْلِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ جَرِيرٍ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [17] ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: 18] . وَالتَّعْبِيرُ بِ «الطَّاغِينَ» إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الطُّغْيَانِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُول: «لكم مئابا» . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] وَمَا لَحِقَ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَطَلُّبَ مَاذَا سَيَكُونُ بَعْدَ تِلْكَ الْأَهْوَالِ فَأُجِيبُ بِمَضْمُونِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً الْآيَةَ. وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: لِلطَّاغِينَ تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَهْدِيدٍ إِذِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَعْثِ وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَرْتِيبِ نَظْمِ هَذِهِ الْجُمَلِ.

وَجَهَنَّمُ: اسْمٌ لِدَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ فَلَعَلَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ عَنْ لُغَةٍ أُخْرَى سَامِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [206] . وَالْمِرْصَادُ: مَكَانُ الرَّصْدِ، أَيِ الرَّقَابَةِ، وَهُوَ بِوَزْنِ مِفْعَالٍ الَّذِي غَلَبَ فِي اسْمِ آلَةِ الْفِعْلِ مِثْلَ مِضْمَارٍ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تُضَمَّرُ فِيهِ الْخَيْلُ، وَمِنْهَاجٍ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْهَجُ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ جَهَنَّمَ مَوْضِعٌ يَرْصُدُ مِنْهُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا، وَيَتَرَقَّبُونَ مَنْ يُزْجَى إِلَيْهَا مَنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ كَمَا يَتَرَقَّبُ أَهْلُ الْمِرْصَادِ مَنْ يَأْتِيهِ مِنْ عَدُوٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِرْصَادٌ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ الْمِفْعَالِ، أَيْ رَصْدًا. وَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ جَهَنَّمَ لِلْمُبَالَغَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا أَصْلُ الرَّصْدِ، أَيْ لَا تُفْلِتُ أَحَدًا مِمَّنْ حَقَّ عَلَيْهِمْ دُخُولُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِرْصَادٌ زِنَةَ مُبَالَغَةٍ لِلرَّاصِدِ الشَّدِيدِ الرَّصْدِ مِثْلَ صِفَةِ مِغْيَارٍ وَمِعْطَارٍ، وُصِفَتْ بِهِ جَهَنَّمُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ (هَا) التَّأْنِيثِ لِأَنَّ جَهَنَّمَ شُبِّهَتْ بِالْوَاحِدِ مِنَ الرَّصَدِ بِتَحْرِيكِ الصَّادِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنَ الْحَرَسِ الَّذِي يَقِفُ بِالْمَرْصَدِ إِذْ لَا يَكُونُ الْحَارِسُ إِلَّا رَجُلًا. وَمُتَعَلَّقُ: مِرْصاداً مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِلطَّاغِينَ مَآباً وَالتَّقْدِيرُ: مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ قَرَائِنَ السُّورَةِ قِصَارٌ فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عِنْدَ مِرْصاداً لِتَكُونَ قَرِينَةً. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ لِلطَّاغِينَ مُتَعَلِّقًا بِ مِرْصاداً وَتَجْعَلَ مُتَعَلَّقَ مَآباً مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ لِلطَّاغِينَ فَيَكُونُ كَالتَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ إِذْ كَانَتْ بَقِيَّةً لِمَا فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى فِي الْقَرِينَةِ الْمُوَالِيَةِ فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ طَوِيلَةً. وَلَوْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَ لِلطَّاغِينَ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ مِرْصاداً أَوْ مَآباً فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى. وَأُقْحِمَ كانَتْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَهَنَّمَ مِرْصَادٌ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَعْلَهَا

مِرْصَادًا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ أَعَدَّ فِي أَزَلِهِ عِقَابًا لِلطَّاغِينَ. ومَآباً: مَكَانُ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَقَرِّ وَالْمَسْكَنِ إِطْلَاقًا أَصْلُهُ كِنَايَةٌ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَصَارَ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمَرْءُ. وَنُصِبَ مَآباً عَلَى الْحَالِ مِنْ جَهَنَّمَ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ لِفِعْلِ كانَتْ أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مِرْصاداً لِأَنَّ الرَّصْدَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ مَقْصُودَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونُوا صَائِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ. ولِلطَّاغِينَ مُتَعَلِّقُ بِ مَآباً قُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بِشِرْكِهِمْ طَغَوْا عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِ مِرْصاداً أَوْ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ مِرْصاداً ومَآباً كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِحَقِّ الْغَيْرِ وَالْكِبْرُ، وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: 18] فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ الْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ جَعْلِ جَهَنَّمَ لَهُمْ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَقْصَى الطُّغْيَانِ إِذِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَتِهِ وَمُتَكَبِّرُونَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَنِفُوا مِنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ مُعْظَمِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: 27، 28] . هَذَا وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، أَوِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاحْتِقَارًا لَا لِمُجَرَّدِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ بِمِقْدَارِ اقْتِرَابِهِمْ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ. وَاللَّابِثُ: الْمُقِيمُ بِالْمَكَانِ. وَانْتُصِبَ لابِثِينَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّاغِينَ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ لابِثِينَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ لَابِثٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَرَوْحٌ عَن يَعْقُوب لبثين عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ (لَبِثٍ) مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ مِثْلَ حَذِرٍ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، أَوْ مِنَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَتَقْتَضِي أَنَّ اللَّبِثَ شَأْنُهُ كَالَّذِي يَجْثُمُ فِي مَكَانٍ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ. وَأَحْقَابٌ: جَمْعُ حُقُبٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ زَمَنٌ طَوِيلٌ نَحْوَ الثَّمَانِينَ سَنَةً، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ

[سورة النبإ (78) : الآيات 24 إلى 26]

وَجَمْعُهُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الطُّولُ الْعَظِيمُ لِأَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِ الْحُقُبِ وَالْأَحْقَابِ أَنْ يَكُونَ فِي حَيْثُ يُرَادُ تَوَالِي الْأَزْمَانِ وَيُبَيِّنُ هَذَا الْآيَاتُ الْأُخْرَى الدَّالَّةُ عَلَى خُلُودِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمَعْرُوفِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ كِنَايَةً بِهِ عَنِ الدَّوَامِ دُونَ انْتِهَاءٍ. وَلَيْسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِهَذَا اللُّبْثِ نِهَايَةً حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى دَعْوَى نَسْخِ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْخُلُودِ وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، أَوْ يُحْتَاجَ إِلَى جَعْلِ الْآيَةِ لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ الْأَوَّلِ إِذْ قَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَيَّامَئِذٍ صَالِحِينَ مُخْلِصِينَ مُجِدِّينَ فِي أَعْمَالهم. [24- 26] [سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 24 إِلَى 26] لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) هَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا ثَانِيَةً من (الطاغين) [النبأ: 22] أَوْ حَالًا أُولَى مِنَ الضَّمِيرِ فِي لابِثِينَ [النبأ: 23] وَأَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَالِثًا: لِ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: 21] . وَضَمِيرُ فِيها عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ [النبأ: 21] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً ل أَحْقاباً [النبأ: 23] ، أَيْ لَا يَذُوقُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْقَابِ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا. فَضَمِيرُ فِيها عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الْأَحْقَابِ. وَحَقِيقَةُ الذَّوْقِ: إِدْرَاكُ طَعْمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِغَيْر الطعوم إطلاقا مَجَازِيًّا. وَشَاعَ فِي كَلَامِهِمْ، يُقَالُ: ذَاقَ الْأَلَمَ، وَعَلَى وِجْدَانِ النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ [الْمَائِدَة: 95] . وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ حَيْثُ نَصَبَ بَرْداً وشَراباً وَالْبَرْدُ: ضِدُّ الْحَرِّ، وَهُوَ تَنْفِيسٌ لِلَّذِينَ عَذَابُهُمُ الْحَرُّ، أَيْ لَا يُغَاثُونَ بِنَسِيمٍ بَارِدٍ، وَالْبَرْدُ أَلَذُّ مَا يَطْلُبُهُ الْمَحْرُورُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَنَفَرٍ قَلِيلٍ تَفْسِيرُ الْبَرْدِ بِالنَّوْمِ وَأَنْشَدُوا شَاهِدَيْنِ غَيْرَ وَاضِحَيْنِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَعَطْفُ وَلا شَراباً يُنَاكِدُهُ. وَالشَّرَابُ: مَا يُشْرَبُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الَّذِي يُزِيلُ الْعَطَشَ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ.

وَالْغَسَّاقُ: قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ: وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. وَمَعْنَاهُ الصَّدِيدُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ جُرُوحِ الْحَرْقِ وَهُوَ الْمُهْلُ، وَتَقَدَّمَا فِي سُورَةِ (ص) . وَاسْتِثْنَاءُ حَمِيماً وَغَسَّاقاً مِنْ بَرْداً أَوْ شَراباً عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْحَمِيمَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْبَرْدِ فِي شَيْءٍ إِذْ هُوَ شَدِيدُ الْحَرِّ، وَلِأَنَّ الْغَسَّاقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشَّرَابِ، إِذْ لَيْسَ الْمُهْلُ مِنْ جِنْسِ الشَّرَابِ. وَالْمَعْنَى: يَذُوقُونَ الْحَمِيمَ إِذْ يُرَاقُ عَلَى أَجْسَادِهِمْ، وَالْغَسَّاقَ إِذْ يَسِيلُ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَرْقِ فَيَزِيدُ أَلَمَهُمْ. وَصُورَةُ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فِي الصُّورَةِ. وجَزاءً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَذُوقُونَ، أَيْ حَالَةَ كَوْنِ ذَلِكَ جَزَاءً، أَيْ مُجَازًى بِهِ، فَالْحَالُ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْوَصْفِ. وَالْوِفَاقُ: مَصْدَرُ وَافَقَ وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِالْوَصْفِ، أَيْ مُوَافِقًا لِلْعَمَلِ الَّذِي جُوزُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: 27، 28] . فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلُ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُمَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمِيٌّ وَهُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَالْآخَرُ وُجُودِيٌّ وَهُوَ نِسْبَتُهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنَ لِلْكَذِبِ، فَعُوقِبُوا عَلَى الْأَصْلِ الْعَدَمِيِّ بِعِقَابٍ عَدَمِيٍّ وَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْبَرْدِ وَالشَّرَابِ، وَعَلَى الْأَصْلِ الْوُجُودِيِّ بِجَزَاءٍ وُجُودِيٍّ وَهُوَ الْحَمِيمُ يُرَاقُ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَالْغَسَّاقُ يَمُرُّ على جراحهم.

[سورة النبإ (78) : الآيات 27 إلى 28]

[سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 27 إِلَى 28] إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِلَى قَوْلِهِ جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 21- 26] ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى (الطاغين) [النبأ: 22] . وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَيْسَتْ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ إِذْ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ وَشَأْنُ (إِنَّ) إِذَا قُصِدَ بِهَا مُجَرَّدُ الِاهْتِمَامِ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: 32] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [70] فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَبَيْنَ جملَة فَذُوقُوا [النبأ: 30] . وَقَدْ علمت مُنَاسبَة جزائهم لِجُرْمِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] مِمَّا يَزِيدُ وَجْهَ التَّعْلِيلِ وُضُوحًا. وَقَوْلُهُ: لَا يَرْجُونَ حِساباً نَفْيٌ لِرَجَائِهِمْ وُقُوعَ الْجَزَاءِ. وَالرَّجَاءُ اشْتُهِرَ فِي تَرَقُّبِ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَالْحِسَابُ لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ حَتَّى يُجْعَلَ نَفْيُ تَرَقُّبِهِ مِنْ قَبِيلِ نَفْيِ الرَّجَاءِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ تَرَقُّبِهِ بِمَادَّةِ التَّوَقُّعِ الَّذِي هُوَ تَرَقُّبُ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِمَادَّةِ التَّوَقُّعِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِمَادَّةِ الرَّجَاءِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ جَزَاءِ الطَّاغِينَ وَعَذَابِهِمْ تَلَقَّى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ بِالْمَسَرَّةِ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِمَّا سَيَلْقَاهُ الطَّاغُونَ فَكَانُوا مُتَرَقِّبِينَ يَوْمَ الْحِسَابِ تَرَقُّبَ رَجَاءٍ، فَنَفْيُ رَجَاءِ يَوْمِ الْحِسَابِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ جَامِعٌ بِصَرِيحِهِ مَعْنَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِوُقُوعِهِ، وَبِكِنَايَتِهِ رَجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وُقُوعَهُ بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ تَعْرِيضًا بِالْمُسْلِمِينَ وَهِيَ أَيْضًا تَلْوِيحِيَّةٌ لِمَا فِي لَازِمِ مَدْلُولِ الْكَلَامِ مِنَ الْخَفَاءِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ يَرْجُونَ بِمَعْنَى: يَخَافُونَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِحَاصِلِ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلَّفْظِ. وَفَعْلُ كانُوا دَالٌّ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ رَجَائِهِمُ الْحِسَابَ وَصْفٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ

نُفُوسِهِمْ وَهُمْ كَائِنُونَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفِعْلِ كانُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فَانْقَضَى لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مِمَّا يُقَالُ لَهُمْ أَوْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ يَرْجُونَ مُضَارِعًا لِلدِّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ انْتِفَاءِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالرَّجَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا أُعِيدَ لَهُمْ ذِكْرُ يَوْمِ الْحِسَابِ جَدَّدُوا إِنْكَارَهُ وَكَرَّرُوا شُبُهَاتِهِمْ عَلَى نَفْيِ إِمْكَانِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَالْحِسَابُ: الْعَدُّ، أَيْ عَدُّ الْأَعْمَالِ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى جَزَائِهَا، أَيْ لَا يَرْجُونَ وُقُوعَ حِسَابٍ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْحَشْرِ. وكَذَّبُوا عَطْفٌ عَلَى لَا يَرْجُونَ، أَيْ وَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، أَيْ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: كَذَّبُوا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِكَوْنِ تَكْذِيبِهِمْ بِذَلِكَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يَتَرَدَّدُوا فِيهِ جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] . وَكِذَّابٌ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ مَصْدَرُ كَذَّبَ. وَالْفِعَّالُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ عَيْنِهِ مَصْدَرُ فَعَّلَ مِثْلَ التَّفْعِيلِ، وَنَظَائِرُهُ: الْقِصَّارُ مَصْدَرُ قَصَّرَ، وَالْقِضَّاءُ مَصْدَرُ قَضَّى، وَالْخِرَّاقُ مَصْدَرُ خَرَّقَ الْمُضَاعَفِ، وَالْفِسَّارُ مَصْدَرُ فَسَّرَ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ أَصْلَ هَذَا الْمَصْدَرِ مِنَ اللُّغَةِ الْيَمَنِيَّةِ، يُرِيدُ: وَتَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبُ، فَقَدْ أَنْشَدُوا لِبَعْضِ بَنِي كِلَابٍ: لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطْتَنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ حِوَجَ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا وَأُوثِرَ هَذَا الْمَصْدَرُ هُنَا دون تَكْذِيب لِمُرَاعَاةِ التَّمَاثُلِ فِي فَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى نَحْوِ أَلِفِ التَّأْسِيسِ فِي الْقَوَافِي، وَالْفَوَاصِلُ كَالْأَسْجَاعِ وَيَحْسُنُ فِي الْأَسْجَاعِ مَا يَحْسُنُ فِي الْقَوَافِي.

[سورة النبإ (78) : آية 29]

وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَفِعَّالُ فَعَّلَ كُلُّهُ فَاشٍ فِي كَلَامِ فُصَحَاءَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَقُولُونَ غَيْرَهُ. وَانْتُصِبَ كِذَّاباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ تكذيبهم بِالْآيَاتِ. [29] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 29] وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي سِيقَتْ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ وَبَيْنَ جملَة فَذُوقُوا [النبأ: 30] وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاض الْمُبَادرَة بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا يَدَعُ شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ إِلَّا يُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ هُنَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَفَعَلُوا مِمَّا عَدَا ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْصِيٌّ عِنْدَنَا. وَنُصِبَ كُلَّ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَحْصَيْناهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ بِضَمِيرِهِ. وَالْإِحْصَاءُ: حِسَابُ الْأَشْيَاءِ لِضَبْطِ عَدَدِهَا، فَالْإِحْصَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّبْطِ وَالتَّحْصِيلِ. وَانْتُصِبَ كِتاباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ أَحْصَيْناهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِحْصَاءَ كِتَابَةٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَكْتُوبَةَ مَصُونَةٌ عَنِ النِّسْيَانِ وَالْإِغْفَالِ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِنَايَةً عَنِ الضَّبْطِ جَاءَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا ل (أحصينا) . [30] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 30] فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: 21] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا، وَلَمَّا غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارِيًا بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا فَيُظَنُّ أَنَّهُ خِطَابُ تَهْدِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُفَرَّعُ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ (ذُوقُوا) الَّذِي لَا يُقَالُ إِلَّا يَوْمَ الْجَزَاءِ،

فَالتَّقْدِيرُ: فَيُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا إِلَى آخِرِهِ، وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ فَالْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ هُوَ فِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْأَمْرُ فِي «ذُوقُوا» مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَفُرِّعَ عَلَى فَذُوقُوا مَا يَزِيدُ تَنْكِيدَهُمْ وَتَحْسِيرَهُمْ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَزِيدُهُمْ عَذَابًا فَوْقَ مَا هُمْ فِيهِ. وَالزِّيَادَةُ: ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ غَرَضٍ وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: 125] وَقَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: 28] ، أَيْ لَا تَزِدْهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَسَاوِي إِلَّا الْإِهْلَاكَ. فَالزِّيَادَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ عَذَابٍ يَكُونُ حَاصِلًا لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: 88] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مِنْ نَوْعِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِتَكْرِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمَعْنَى: فَسَنَزِيدُكُمْ عَذَابًا زِيَادَةً مُسْتَمِرَّةً فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا التَّرْكِيبِ الدَّقِيقِ، إِذِ ابْتُدِئَ بِنَفْيِ الزِّيَادَةِ بِحَرْفِ تَأْبِيدِ النَّفْيِ وَأُرْدِفَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى فَصَارَتْ دِلَالَةُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَعْنَى: سَنَزِيدُكُمْ عَذَابًا مُؤَبَّدًا. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَهُوَ أُسْلُوبٌ طَرِيفٌ مِنَ التَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِعَادَةُ لَفْظٍ فَإِنَّ زِيَادَةَ الْعَذَابِ تَأْكِيدٌ لِلْعَذَابِ الْحَاصِلِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعِيدَ بِزِيَادَةِ الْعَذَابِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ جِيءَ فِي أُسْلُوبِ نَفْيِهِ بِحَرْفِ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ (لَنْ) الْمُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ قَيْدَ تَأْبِيدِ نَفْيِ الزِّيَادَةِ الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ (لَنْ) فِي جَانِبِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَسْرِي إِلَى إِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْعَذَابِ فِي جَانِبِ الْمُسْتَثْنَى، فَيَكُونُ مَعْنَى جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ: سَنَزِيدُكُمْ عَذَابًا أَبَدًا، وَهُوَ مَعْنَى الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ ابْتِدَاءٌ مُطْمِعٌ بِانْتِهَاءٍ مُؤْيِسٍ وَذَلِكَ أَشَدُّ حُزْنًا وَغَمًّا بِمَا يُوهِمُهُمْ أَنَّ مَا أُلْقُوا فِيهِ هُوَ مُنْتَهَى التَّعْذِيبِ حَتَّى إِذَا وَلَجَ ذَلِكَ أَسْمَاعَهُمْ فَحَزِنُوا لَهُ، أُتْبِعَ بِأَنَّهُمْ

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 36]

يَنْتَظِرُهُمْ عَذَابٌ آخَرُ أَشَدُّ، فَكَانَ ذَلِكَ حُزْنًا فَوْقَ حَزْنٍ، فَهَذَا مِنْوَالُ هَذَا النَّظْمِ وَهُوَ مُؤَذِّنٌ بِشِدَّةِ الْغَضَبِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَشَدُّ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ. قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشَدِّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً وَفِي سَنَدِهِ جِسْرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَفِي «ابْنِ عَطِيَّةَ» : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سَنَدَهُ، وَتَعَدُّدُ طُرُقِهِ يكسبه قُوَّة. [31- 36] [سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 31 إِلَى 36] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) جَرَى هَذَا الِانْتِقَالُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْإِنْذَارِ لِلْمُنْذَرِينَ بِتَبْشِيرِ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِلتَّبْشِيرِ. فَانْتُقِلَ مِنْ تَرْهِيبِ الْكَافِرِينَ بِمَا سَيُلَاقُونَهُ إِلَى تَرْغِيبِ الْمُتَّقِينَ فِيمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ كَرَامَةٍ وَمِنْ سَلَامَةٍ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ. فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ: 21- 22] وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ مُقْتَضِي الِانْتِقَالِ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ إِنَّ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِئَلَّا يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ مُقَابَلَتِهِمْ بِالطَّاغِينَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَفَازُ: مَكَانُ الْفَوْزِ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْخَيْرِ وَنِيلُ الْمَطْلُوبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْفَوْزِ، وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ.

وَتَقْدِيمُ خَبَرِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ تَنْوِيهًا بِالْمُتَّقِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَفَازِ: الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا. وَأُوثِرَتْ كَلِمَةُ مَفازاً عَلَى كَلِمَةِ: الْجَنَّةِ، لِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِهِ إِثَارَةَ النَّدَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: 18] وَبِقُولِهِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: 30] . وَأُبْدِلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَوْزِ. وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ ذَوَاتِ السَّاقِ الْمَحُوطَةِ بِحَائِطٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ حَضَائِرَ. وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ وَهُوَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَيُطْلَقُ عَلَى ثَمَرِهَا. وَالْكَوَاعِبُ: جَمْعُ كَاعِبٍ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي بَلَغَتْ سِنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا. وَوُصِفَتْ بِكَاعِبٍ لِأَنَّهَا تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا، أَيْ صَارَ كَالْكَعْبِ، أَيِ اسْتَدَارَ وَنَتَأَ، يُقَالُ: كَعَبَتْ مِنْ بَابِ قَعَدَ، وَيُقَالُ: كَعَّبَتْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ كَاعِبٌ وَصْفًا خَاصًّا بِالْمَرْأَةِ لَمْ تَلْحَقْهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ وَجُمِعَ عَلَى فَوَاعِلَ. وَالْأَتْرَابُ: جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ: هُوَ الْمُسَاوِي غَيْرَهُ فِي السِّنِّ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاثِ. قِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التُّرَابِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ حِينَ يُولَدُ يَقَعُ عَلَى التُّرَابِ مِثْلَ الْآخَرِ، أَوْ لِأَنَّ التِّرْبَ يَنْشَأُ مَعَ لِدَتِهِ فِي سِنِّ الصِّبَا يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرَائِبِ تَشْبِيهًا فِي التَّسَاوِي بِالتَّرَائِبِ وَهِيَ ضُلُوعُ الصَّدْرِ فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ. وَتَقَدَّمَ الْأَتْرَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُرُباً أَتْراباً فِي الْوَاقِعَةِ [37] ، فَيَجُوزُ أَن يكون وصفهن بِالْأَتْرَابِ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُنَّ فِي تَسَاوِي السِّنِّ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ، أَيْ لَا تَفُوتُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ غَيْرَهَا، أَيْ فَلَا تَكُونُ النَّفْسُ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَمْيَلَ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى فَتَكُونُ بَعْضُهُنَّ أَقَلَّ مَسَرَّةً فِي نَفْسِ الرَّجُلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى

الرِّجَالِ فِي مُعْتَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِطَرْحِ التَّكَلُّفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَذَلِكَ أَحْلَى الْمُعَاشَرَةِ. وَالْكَأْسُ: إِنَاءٌ مُعَدٌّ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَهُوَ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ تَكُونُ مِنْ زُجَاجٍ وَمِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ذَهَبٍ، وَرُبَّمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَأْسَ الزُّجَاجَةُ فِيهَا الشَّرَابُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ لَهَا شَكْلًا مُعَيَّنًا يُمَيِّزُهَا عَنِ الْقَدَحِ وَعَنِ الْكُوبِ وَعَنِ الْكُوزِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي قَوَامِيسِ اللُّغَةِ التَّعْرِيفَ بِالْكَأْسِ بِأَنَّهَا: إِنَاءُ الْخَمْرِ وَأَنَّهَا الْإِنَاءُ مَا دَامَ فِيهِ الشَّرَابُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِصِنْفٍ مِنَ الْآنِيَةِ. وَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى الْخَمْرِ اسْمَ الْكَأْسِ وَأُرِيدَ بالكأس الْجِنْس إِذا الْمَعْنَى: وَأَكْؤُسًا. وَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ كَأْسًا بِالْإِفْرَادِ أَخَفُّ مِنْ أَكْؤُسٍ وَكُؤُوسٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمُرَكَّبَ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا سَيَأْتِي. وَدِهَاقٌ: اسْمُ مَصْدَرِ دَهَقَ مِنْ بَابِ جَعَلَ أَوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَدْهَقَ، وَلِكَوْنِهِ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ. وَالدَّهْقُ وَالْإِدْهَاقُ مَلْءُ الْإِنَاءِ مِنْ كَثْرَةِ مَا صُبَّ فِيهِ. وَوَصْفُ الْكَأْسِ بِالدَّهْقِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْكَأْسَ مُدْهَقَةٌ لَا دَاهِقَةٌ. وَمُرَكَّبُ (كَأْسٌ دِهَاقٌ) يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ «كَأْسًا» ، وَمَعْنَاهُ مَمْلُوءَةٌ خَمْرًا، أَيْ دُونَ تَقْتِيرٍ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ عَزِيزَةً فَلَا يَكِيلُ الْحَانَوِيُّ لِلشَّارِبِ إِلَّا بِمِقْدَارٍ فَإِذَا كَانَتِ الْكَأْسُ مَلْأَى كَانَ ذَلِكَ أَسَرَّ لِلشَّارِبِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا إِلَى الْكَأْسِ، فَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِتَشْبِيهِ تَنَاوُلِ النَّدَامَى لِلشَّرَابِ مِنَ الْكَأْسِ بِحُلُولِهِمْ فِي الْكَأْسِ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ (فِي) تَخْيِيلٌ أَوْ تَكُونُ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» الْحَدِيثَ، أَيْ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا مِنْهَا أَوْ عِنْدَهَا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ صِفَةً ثَانِيَةً لِ «كَأْسًا» . وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ سَلِيمَةٌ مِمَّا تُسَبِّبُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا مِنْ آثَارِ

الْعَرْبَدَةِ مِنْ هَذَيَانٍ، وَكَذِبٍ وَسِبَابٍ، وَاللَّغْوُ وَالْكَذِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَعْرِضُ لِمَنْ تَدِبُّ الْخَمْرُ فِي رُؤُوسِهِمْ، أَيْ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ بِلَذَّةِ السُّكْرِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَا تَأْتِي الْخَمْرُ عَلَى كَمَالَاتِهِمُ النَّفْسِيَّةِ كَمَا تَأْتِي عَلَيْهَا خَمْرُ الدُّنْيَا. وَكَانَ الْعَرَبُ يَمْدَحُونَ مَنْ يُمْسِكُ نَفْسَهُ عَنِ اللَّغْوِ وَنَحْوِهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ: وَلَسْنَا بِشَرْبٍ أُمَّ عَمْرٍو إِذَا انْتَشَوْا ... ثِيَابُ النَّدَامَى بَيْنَهُمْ كَالْغَنَائِمِ وَلَكِنَّنَا يَا أُمَّ عَمْرٍو نَدِيمُنَا ... بِمَنْزِلَةِ الرَّيَّانِ لَيْسَ بِعَائِمِ وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ: فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيهَا ... وَتَجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فِيها إِلَى مَفازاً بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ بِالْجَنَّةِ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ جَهَنَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: 21] أَوْ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً وَهَذَا الْمَعْنَى نَشَأَ عَنْ أُسْلُوبِ نَظْمِ الْكَلَامِ حَيْثُ قُدِّمَ حَدائِقَ وَأَعْناباً إِلَخْ، وَأُخِّرَ وَكَأْساً دِهاقاً حَتَّى إِذَا جَاءَ ضَمِيرُ (فِيهَا) بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ إِرْجَاعُهُ إِلَى الْكَأْسِ وَإِلَى الْمَفَازِ كَمَا عَلِمْتَ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي مِمَّا عَدَّدْنَاهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مِنْ جَانِبِ الْأُسْلُوبِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ الْكَلَامَ السَّافِلَ وَلَا الْكَذِبَ، فَلَمَّا أَحَاطَ بِأَهْلِ جَهَنَّمَ أَشَدُّ الْأَذَى بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِمْ مِنْ جَرَّاءَ حَرْقِ النَّارِ وَسَقْيِهِمُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ لِيَنَالَ الْعَذَابُ بَوَاطِنَهُمْ كَمَا نَالَ ظَاهِرَ أَجْسَادِهِمْ، كَذَلِكَ نَفَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلَّ الْأَذَى وَهُوَ أَذَى سَمَاعِ مَا يَكْرَهُهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْأَذَى. وَكُنِّيَ عَنِ انْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالْكِذَّابِ عَنْ شَارِبِي خَمْرِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ اللَّغْوَ وَالْكِذَّابَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا لَغْوٌ وَكَذِبٌ لَسَمِعُوهُ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا منار بِهِ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ أَحْسَنُ مِمَّا وَقَعَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُنَزَّهَةٌ أَسْمَاعُهُمِِْ

عَنْ سَقْطِ الْقَوْلِ وَسُفْلِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [25] لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ وَالْهَذَيَانُ وَسَقْطُ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُورَدُ عَنْ رَوِيَّةٍ وَلَا تَفْكِيرٍ. وَالْكِذَّابُ: تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ آنِفًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً هُنَا مُشَدَّدًا، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ هُنَا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَانْتُصِبَ جَزاءً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفازاً وَأَصْلُ الْجَزَاءِ مَصْدَرُ جَزَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُجَازَى بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، فَالْجَزَاءُ هُنَا الْمُجَازَى بِهِ وَهُوَ الْحَدَائِقُ وَالْجَنَّاتُ وَالْكَوَاعِبُ وَالْكَأْسُ. وَالْجَزَاءُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَزَاءُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيِّ وَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: جَزَيْنَا الْمُتَّقِينَ. وَإِضَافَةُ رَبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ بِذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِكْرَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ إِسْدَاءَ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى الْمُتَّقِينَ كَانَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ صَادِرًا مِنْ لَدُنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِكَرَمِ هَذَا الْجَزَاءِ وَعِظَمِ شَأْنِهِ. وَوصف الْجَزَاء بعطاء وَهُوَ اسْم لم يُعْطَى، أَيْ يُتَفَضَّلُ بِهِ بِدُونِ عِوَضٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا جُوزُوا بِهِ أَوْفَرُ مِمَّا عَمِلُوهُ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمَفَازِ وَمَا فِيهِ جَزَاءً شُكْرًا لَهُمْ وَعَطَاءً كَرَمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جُعِلَ ثَوَابُهَا أَضْعَافًا. وحِساباً: اسْمُ مَصْدَرِ حَسَبَ بِفَتْحِ السِّينِ يَحْسُبُ بِضَمِّهَا، إِذَا عَدَّ أَشْيَاءَ وَجَمِيعُ مَا تَصَرَّفَ مِنْ مَادَّةِ حَسَبَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَعْنَى الْعَدِّ وَتَقْدِيرِ الْمِقْدَارِ، فَوَقَعَ حِساباً صِفَةَ جَزاءً، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ كَثِيرٌ مُقَدَّرٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْوَصْفُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ،

[سورة النبإ (78) : آية 37]

أَيْ مَحْسُوبًا مُقَدَّرًا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا مُقَابِلُ مَا وَقَعَ فِي جَزَاءِ الطَّاغِينَ مِنْ قَوْلِهِ جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] . وَهَذَا الْحِسَابُ مُجْمَلٌ هُنَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: 160] وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ الْبَقَرَة [261] . وَلَيْسَ هَذَا الْحِسَابُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَجَاوُزِ الْحَد المعيّن، فَذَلِك اسْتِعْمَالٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] وَلِكُلِّ آيَةٍ مَقَامُهَا الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ كَلِمَاتِهَا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِساباً اسْمَ مَصْدَرِ أَحْسَبَهُ، إِذَا أَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ، فَهُوَ بِمَعْنَى إِحْسَابًا، فَإِنَّ الْكِفَايَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا حَسْبٌ بِسُكُونِ السِّينِ فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ قَالَ: حسبي. [37] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 37] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ رَبُّ وَرَفْعِ الرَّحْمَنُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِخَفْضِهِمَا، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِخَفْضِ رَبِّ وَرَفْعِ الرَّحْمَنُ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ رَفْعِ الِاسْمَيْنِ فَ رَبُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ [النبأ: 36] عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَذْفًا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ حَذْفًا لِاتِّبَاعِ الِاسْتِعْمَالِ الْوَارِدِ عَلَى تَرْكِهِ، أَيْ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَجْرِي اسْتِعْمَالُ الْبُلَغَاءِ فِيهِ عَلَى حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ إِذَا جَرَى فِي الْكَلَامِ وَصْفٌ وَنَحْوُهُ لِمَوْصُوفٍ ثُمَّ وَرَدَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لَهُ فَيَخْتَارُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَبَرًا لَا نَعْتًا، فَيُقَدِّرُ ضَمِيرَ الْمَنْعُوتِ وَيَأْتِي بِخَبَرٍ عَنْهُ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالنَّعْتِ الْمَقْطُوعِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ رَبُّهُمْ لِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ جَهْلًا وَكُفْرًا لِنِعْمَتِهِ. والرحمن خَبَرٌ ثَانٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ جَرِّ الِاسْمَيْنِ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى أَنَّ رَبِّ السَّماواتِ نَعْتٌ

لِ رَبِّكَ مِنْ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ [النبأ: 36] والرَّحْمنِ نَعْتٌ ثَانٍ. وَالرَّبُّ: الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ بِالتَّدْبِيرِ وَرَعْيِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسَمَّاهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ قَدْ يُرَادُ بِهِ سَاكِنُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي سُورَةِ الْحَجِّ [45] ، فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ صِفَاتِ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ لَا صِفَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْخَوَاءُ عَلَى عُرُوشِهَا مِنْ أَحْوَالِ ذَاتِ الْقَرْيَةِ لَا مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانِهَا، فَكَانَ إِطْلَاقُ الْقَرْيَةِ مُرَادًا بِهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ كَائِنَاتٍ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا اللَّهُ وَمَا فِي الْجَوِّ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ حَيَّةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْحِبَةٍ وَأَمْطَارٍ وَمَوْجُودَاتٍ سَابِحَةٍ فِي الْهَوَاءِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصْنُوعَاتِ. وَأُتْبِعَ وَصْفُ رَبِّ السَّماواتِ بِذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ اسْمُ الرَّحْمنِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّ فِي مَعْنَاهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُفِيضُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلَى الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ هُوَ عَطَاءُ رَحْمَانَ بِهِمْ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَلِيلَةِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ مَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَاقِلَةِ، أَوِ الْمَزْعُومِ لَهَا الْعَقْلُ مِثْلَ الْأَصْنَامِ، فَيُتَوَهَّمُ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَسْتَطِيعُ خِطَابَ اللَّهِ وَمُرَاجَعَتَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِلِاحْتِرَاسِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا تُشْعِرُ بِهِ صِلَةُ رَبٍّ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَرْبُوبِينَ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِمْ يُسِيغُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى خِطَابِ الرَّبِّ.

وَالْمِلْكُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً مَعْنَاهُ الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَمْلِكُهُ حَسَبَ رَغْبَتِهِ لَا رَغْبَةِ غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ غَيْرِهِ. فَنَفْيُ الْمِلْكِ نَفْيٌ لِلِاسْتِطَاعَةِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ حَالٌ مِنْ خِطاباً وَأَصْلُهُ صِفَةٌ لِخِطَابٍ فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ صَارَ حَالًا. وَحَرْفُ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ وَهِيَ ضَرْبٌ من الابتدائية فَهِيَ ابتدائية مَجَازِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4] فَ (مِنْ) الْأُولَى اتِّصَالِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ لِتَوْكِيدِ النَّصِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمرَان: 28] ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ خِطَابًا يُبَلِّغُونَهُ إِلَى اللَّهِ. وَضَمِيرُ لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا صَادِقَةٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَالْخِطَابُ: الْكَلَامُ الْمُوَجَّهُ لِحَاضِرٍ لَدَى الْمُتَكَلِّمِ أَوْ كَالْحَاضِرِ الْمُتَضَمِّنِ إِخْبَارًا أَوْ طَلَبًا أَوْ إِنْشَاءَ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ. وَفِعْلُ يَمْلِكُونَ يَعُمُّ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَمَا تَعُمُّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ. وخِطاباً عَامٌّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِمُخَصَّصٍ مُنْفَصِلٍ كَقَوْلِهِ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: 38] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] وَقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] وَقَوْلِهِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] . وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا إِبْطَالُ اعْتِذَارَ الْمُشْرِكِينَ حِينَ اسْتَشْعَرُوا شَنَاعَةَ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي شَهَّرَ الْقُرْآنُ بِهَا فَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] ، وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] .

[سورة النبإ (78) : آية 38]

[سُورَة النبإ (78) : آيَة 38] يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) يَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً [النبأ: 37] ، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ اللَّهُ. وَجُمْلَةُ لَا يَتَكَلَّمُونَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أُعِيدَتْ بِمَعْنَاهَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْنَى إِذْ كَانَ الْمَقَامُ حَقِيقًا، فَالتَّقْرِيرُ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى الدِّلَالَةِ عَلَى إِبْطَالِ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ شَفَاعَةَ أَصْنَامِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهِيَ دِلَالَةٌ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى فَإِنَّهُ إِذَا نُفِيَ تُكَلُّمُهُمْ بِدُونِ إِذْنٍ نُفِيَتْ شَفَاعَتُهُمْ إِذِ الشَّفَاعَةُ كَلَامُ مَنْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَقَبُولٌ عِنْدَ سَامِعِهِ. وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بمتعلقات يَمْلِكُونَ [النبأ: 37] مِنْ مَجْرُورٍ وَمَفْعُولٍ بِهِ، وَظَرْفٍ، وَجُمْلَةٍ أُضِيفَ لَهَا. وَضَمِيرُ يَتَكَلَّمُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَمْلِكُونَ وَالْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ لَا يَتَكَلَّمُونَ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً [النبأ: 37] وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [طه: 109] اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَإِذْ قَدْ كَانَ مُؤَكِّدًا لِضَمِيرِ لَا يَمْلِكُونَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ يُفْهِمُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمُؤَكَّدِ بِهِ. وَالْقِيَامُ: الْوُقُوفُ وَهُوَ حَالَةُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَمَلِ الْجِدِّ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْعُبُودِيَّةِ الْحَقِّ الَّتِي لَا تسْتَحقّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ الْمُخْتَصَّةِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالرُّوحُ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ اخْتِلَافًا أَثَارَهُ عَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ فَقِيلَ هُوَ جِبْرِيلُ. وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِتَشْرِيفِ قَدْرِهِ بِإِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ. وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ: فَالْمُفْرَدُ مَعَهَا وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تُحْضَرُ الْأَرْوَاحُ

لِتُودَعَ فِي أَجْسَادِهَا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُ يَقُومُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. والْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الرُّوحُ، أَيْ وَيَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا. وَالصَّفُّ اسْمٌ لِلْأَشْيَاءِ الْكَائِنَةِ فِي مَكَانٍ يُجَانِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْخَطِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فِي سُورَةِ طه [64] ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [36] ، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأَصْلُهُ لِلْمُبَالَغَةِ ثُمَّ صَارَ اسْمًا، وَإِنَّمَا يَصْطَفُّ النَّاسُ فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ فَصَفُّ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ لَهُ. وَالْإِذْنُ: اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُفِيدُ إِبَاحَةَ فِعْلٍ لِلْمَأْذُونِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: أَذِنَ لَهُ، إِذَا اسْتَمَعَ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الإنشقاق: 2] ، أَي استمعت وأطاعت لِإِرَادَةِ اللَّهِ. وَأَذِنَ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْأُذُنِ وَهِيَ جَارِحَةُ السَّمْعِ، فَأَصْلُ مَعْنَى أَذِنَ لَهُ: أَمَالَ أُذُنَهُ، أَيْ سَمْعَهُ إِلَيْهِ يُقَالُ: أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا كَفَرِحَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لَازِمِ السَّمْعِ وَهُوَ الرِّضَى بِالْمَسْمُوعِ فَصَارَ أَذِنَ بِمَعْنَى رَضِيَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَوْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ، وَأَبَاحَ فِعْلَهُ، وَمَصْدَرُهُ إِذْنٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ فَكَأَنَّ اخْتِلَافَ صِيغَةِ الْمَصْدَرَيْنِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ. وَمُتَعَلَّقُ أَذِنَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَا يَتَكَلَّمُونَ، أَيْ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْكَلَامِ. وَمعنى أذن الرحمان: أَنَّ مَنْ يُرِيدُ التَّكَلُّمَ لَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْ تَعْتَرِيهِ رَهْبَةٌ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَلَامِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ اللَّهَ فَأَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهُ إِذَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ لِلِاسْتِئْذَانِ فَإِنَّ الْإِلْهَامَ إِذْنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي الْعَامِلِ الْأُخْرَوِيِّ فَإِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ اسْتَأْذَنَ اللَّهَ فَأَذِنَ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ إِحْجَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الِاسْتِشْفَاعِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدَ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] ، أَيْ لِمَنْ عَلِمُوا

[سورة النبإ (78) : آية 39]

أَنَّ اللَّهَ ارْتَضَى قَبُولَ الشَّفَاعَةِ فِيهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِإِلْهَامٍ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْوَحْيِ لِأَنَّ الْإِلْهَامَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ لَا يَعْتَرِيهِ الْخَطَأُ. وَجُمْلَةُ وَقالَ صَواباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيْ وَقَدْ قَالَ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْكَلَامِ صَواباً، أَيْ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي الْكَلَامِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَتَكَلَّمُ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، أَيْ وَإِلَّا مَنْ قَالَ صَوَابًا فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَا يَقُولُ الصَّوَابَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ. وَفِعْلُ وَقالَ صَواباً مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ، أَيْ وَيَقُولُ صَوَابًا، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ، أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَإِطْلَاقُ صِفَةِ الرَّحْمنُ عَلَى مَقَامِ الْجَلَالَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِذْنَ اللَّهِ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْكَلَامِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ مِنْ شَفَاعَةٍ أَو اسْتِغْفَار. [39] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 39] ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَعِيدٍ وَوَعْدٍ، إنذار وَتَبْشِيرٍ، سِيقَ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِ يَوْمَ الْفَصْلِ [النبأ: 17] . الَّذِي ابْتُدِئَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] . وَالْمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِعَظِيمِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ نَتِيجَةُ أَعْمَالِ النَّاسِ مِنْ يَوْمِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ. فَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْحَقِّ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّابِتُ الْوَاقِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] قَوْله آنِفًا: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً، فَيَكُونُ الْحَقُّ بِمَعْنى الثَّابِت مثل مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الْأَنْبِيَاء: 97] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَقِّ مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ، أَيِ الْعَدْلُ وَفَصْلُ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ وَصْفُ الْيَوْمِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذِ الْحَقُّ يَقَعُ فِيهِ وَالْيَوْم ظَرْفٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 3] .

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِمَعْنَى الْحَقِيقِ بِمُسَمَّى الْيَوْمِ لِأَنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ نَصْرُ قَبِيلَةٍ عَلَى أُخْرَى مِثْلَ: يَوْمِ حَلِيمَةَ، وَيَوْمِ بُعَاثَ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُقَالَ: يَوْمٌ، وَلَيْسَ كَأَيَّامِ انْتِصَارِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: 9] ، فَهُوَ يَوْمُ انْتِقَامِ اللَّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ عَبِيدَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَيَكُونُ وَصْفُ الْحَقِّ بِمِثْلِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْبَقَرَة: 121] ، أَي التِّلَاوَة الْحَقِيقَة بِاسْمِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ التِّلَاوَةُ بِفَهْمِ مَعَانِي الْمَتْلُوِّ وَأَغْرَاضِهِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْيَوْمُ الْمُتَقَدَّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] . وَمَفَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَقِيقٌ بِمَا سَيُوصَفُ بِهِ بِسَبَبِ مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ شُؤُونِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَة: 2- 4] ، فَلِأَجَلِ جَمِيعِ مَا وُصِفَ بِهِ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ الْحَقُّ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وَتَعْرِيفُ الْيَوْمُ بِاللَّامِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، أَيْ هُوَ الْأَعْظَمُ مِنْ بَيْنِ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مِنْ أَيَّامِ النَّصْرِ لِلْمُنْتَصِرِينَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَكَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَشْهُورَةِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ غَيْرُ ثَابِتِ الْوُقُوعِ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً بِفَاءِ الْفَصِيحَةِ لِإِفْصَاحِهَا عَنْ شَرط مُقَدّر ناشىء عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَمَنْ شَاءَ اتِّخَاذَ مَآبٍ عِنْدَ رَبِّهِ فَلْيَتَّخِذْهُ، أَيْ فَقَدْ بَانَ لَكُمْ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَلْيَخْتَرْ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ مَا يَلِيقُ بِهِ لِلْمَصِيرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَآبًا فِيهِ، أَيْ فِي الْيَوْمِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ مِنْ أَبْدَعِ الْمَوْعِظَةِ بالترغيب والترهيب عِنْد مَا تَسْنَحُ الْفُرْصَةُ لِلْوَاعِظِ مِنْ تَهَيُّؤِ النُّفُوسِ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ.

[سورة النبإ (78) : آية 40]

وَالِاتِّخَاذُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْأَخْذِ، أَيْ أَخَذَ أَخْذًا يُشْبِهُ الْمُطَاوَعَةَ فِي التَّمَكُّنِ، فَالتَّاءُ فِيهِ لَيست للمطاوعة الْحَقِيقَة بَلْ هِيَ مَجَازٌ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالِاتِّخَاذُ: الِاكْتِسَابُ وَالْجَعْلُ، أَيْ لِيَقْتَنِ مَكَانًا بِأَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا لِيَنَالَ مَكَانًا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَآبَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا خَيْرًا. فَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَآبُ خَيْرٍ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى إِلَّا بِالْخَيْرِ. وَالْمَآبُ يَكُونُ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ آبَ، إِذَا رَجَعَ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَسْكَنِ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَؤُوبُ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا وَهُوَ الْأَوْبُ، أَيِ الرُّجُوعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرَّعْد: 36] ، أَيْ رُجُوعِي، أَيْ فَلْيَجْعَلْ أَوْبًا مُنَاسِبًا لِلِقَاءِ رَبِّهِ، أَيْ أَوْبًا حَسَنًا. [40] [سُورَة النبإ (78) : آيَة 40] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا اعْتِرَاضٌ بَين مَآباً [النبأ: 39] وَبَين وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ كَيْفَمَا كَانَ مَوْقِعُ ذَلِكَ الظَّرْفِ حَسْبَمَا يَأْتِي. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْإِعْذَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوَارِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ وَضِدِّهَا شُبْهَةٌ وَلَا خَفَاء. فَالْخَبَر وهونَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً مُسْتَعْمَلٌ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ كَوْنَ مَا سَبَقَ إِنْذَارًا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْذَارِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ. وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ، مَعَ تَمْثِيلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مثل المتبرئ مِنْ تَبِعَةِ مَا عَسَى أَنْ يَلْحَقَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ إِنْ لَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ كَمَا يَقُولُ النَّذِيرُ عِنْدَ الْعَرَبِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِالْعَدُوِّ «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ» . وَالْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ مَا يَسُوءُ فِي مُسْتَقْبَلٍ قَرِيبٍ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْإِنْذَارِ قَدْ حَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً إِلَى قَوْلِهِ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: 21- 30] . وَقُرْبُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي تَحَقُّقِهِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بَعِيدٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] ، أَيْ لِتَحَقُّقِهِ فَهُوَ كَالْقَرِيبِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ يُصَدَّقُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ الْإِنْذَارُ بِهِ، وَيُصَدَّقُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِ الشِّرْكِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: هُوَ قَتْلُ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ. وَيَشْمَلُ عَذَابَ يَوْمِ الْفَتْحِ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ كَمَا وَرَدَ لَفْظُ الْعَذَابِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: 14] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: 47] . ْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ: اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: 39] فَيكون وْمَ يَنْظُرُ ظَرْفًا لَغوا مُتَعَلقا بنْذَرْناكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38] لِأَنَّ قِيَامَ الْمَلَائِكَةِ صَفًّا حُضُورٌ لِمُحَاسَبَةِ النَّاسِ وَتَنْفِيذِ فَصْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ حِينَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أَيْ مَا عَمِلَهُ سَالِفًا فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الظَّرْفِ تَابِعٌ لَهُ فِي مَوْقِعِهِ. وَعَلَى كلا الْوَجْهَيْنِ فجملةنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الظَّرْفِ وَمُتَعَلِّقِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أُبْدِلَ مِنْهُ. وَالْمَرْءُ: اسْمٌ لِلرَّجُلِ إِذْ هُوَ اسْمٌ مُؤَنَّثُهُ امْرَأَةٌ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرْءِ جَرَى عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي التَّخَاطُبِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي شُؤُونِ مَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ. وَالْمُرَادُ: يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ الدَّالِّ عَلَى عُمُومِ التَّكَالِيفِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهَا بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمُسْتَحْضَرُ فِي أَذْهَانِ الْمُتَخَاطِبِينَ عِنْدَ التَّخَاطُبِ.

وَتَعْرِيفُ (الْمَرْءُ) لِلِاسْتِغْرَاقِ مِثْلَ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْر: 2- 3] . وَفعل نْظُرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ أَيِ الْبَصَرِ، وَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَرَى الْمَرْء مَا قَدمته يَدَاهُ. وَمَعْنَى نَظَرِ الْمَرْءِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ: حُصُولُ جَزَاءِ عَمَلِهِ لَهُ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالنَّظَرِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لِصَاحِبِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِطْلَاقُ النَّظَرِ هُنَا عَلَى الْوِجْدَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: 6] ، وَقَدْ جَاءَتِ الْحَقِيقَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمرَان: 30] الْآيَةَ، وَ (مَا) مَوْصُولَة صلتها جملةدَّمَتْ يَداهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْفِكْرِ، وَأَصْلُهُ مَجَازٌ شَاعَ حَتَّى لحق بالمعاني الْحَقِيقَة كَمَا يُقَالُ: هُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ. وَمِنْهُ التَّنَظُّرُ: تَوَقُّعُ الشَّيْءِ، أَيْ يَوْمَ يَتَرَقَّبُ وَيَتَأَمَّلُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَتَكُونُ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ استفهامية وَفعل نْظُرُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: يَنْظُرُ الْمَرْءُ جَوَابَ مَنْ يَسْأَلُ: مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِانْتِظَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: 53] . وتعريفْ مَرْءُ تَعْرِيف الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالتَّقْدِيمُ: تَسْبِيقُ الشَّيْءِ والابتداء بِهِ. وَا قَدَّمَتْ يَداهُ هُوَ مَا أَسْلَفَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَا عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمرَان: 30] الْآيَة. وَقَوله: اقَدَّمَتْ يَداهُ إِمَّا مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِإِطْلَاقِ الْيَدَيْنِ عَلَى جَمِيعِ آلَاتِ الْأَعْمَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ هَيْئَةِ الْعَامِلِ لِأَعْمَالِهِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَيْئَةِ الصَّانِعِ لِلْمَصْنُوعَاتِ بِيَدَيْهِ كَمَا قَالُوا فِي الْمَثَلِ: «يَدَاكَ أَوْكَتَا» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ بِلِسَانِهِ أَوْ مَشْيٍ بِرِجْلَيْهِ.

وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ مِنَ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ التَّغْلِيبِ دون خُصُوصِيَّة التَّمْثِيل. وَشَمل اقَدَّمَتْ يَداهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ عُمُومِ الْمَرْءِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الَّذِي يَقُول: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً لِأَنَّ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلَى إِنْذَارِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَكَانَ ذَلِكَ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ، أَيْ يَوْمَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْمُكَلَّفِينَ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُدْرِكٍ وَلَا حَسَّاسٍ بِأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ شَيْءٍ مِمَّا لَا إِدْرَاكَ لَهُ وَهُوَ التُّرَابُ، وَذَلِكَ تَلَهُّفٌ وَتَنَدُّمٌ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْكُفْرِ. وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 98] فَجَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ بِالتَّحَسُّرِ وَتَمَنِّي أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْكَافِرِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ عَمِلَ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ وَتَوَقَّعَ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ يَرْجُو أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ إِلَى النَّعِيمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمرَان: 30] وَقَالَ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6- 8] ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَعْظَمُ ثَوَاب، وَثَوَابُ حَسَنَاتِهِمْ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِيهَا وَيَرْجُونَ الْمَصِيرَ إِلَى ذَلِكَ الثَّوَابِ وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ لَا يَطْغَى عَلَى ثَوَابِ حَسَنَاتِهِمْ، فَهُمْ كُلُّهُمْ يَرْجُونَ الْمَصِيرَ إِلَى النَّعِيمِ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَوْ لِمَنْ يُقَارِبُهُمْ مَثَلًا بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الْأَعْرَاف: 46] عَلَى مَا فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ وُجُوهٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِمَا جَاءَ فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَفِي آخِرِهَا رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ عُرِّفُوا بِالطَّاغِينَ وَبِذَلِكَ كَانَ خِتَامُ السُّورَةِ بِهَا بَرَاعَةَ مَقْطَعٍ.

79- سورة النازعات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 79- سُورَةُ النَّازِعَاتِ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَأَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ النَّازِعَاتِ» بِإِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى النَّازِعَاتِ بِدُونِ وَاوٍ، وَجعل لَفْظُ «النَّازِعَاتِ» عَلَمًا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا. وَعُنْوِنَتْ فِي كِتَابِ التَّفْسِير فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ بِسُورَةِ «وَالنَّازِعَاتِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ عَلَى حِكَايَةِ أَوَّلِ أَلْفَاظِهَا. وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ الشَّهِيرُ بِسَعْدِي وَالْخَفَاجِيُّ: إِنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ السَّاهِرَةِ» لِوُقُوعِ لَفْظِ «السَّاهِرَةِ» فِي أَثْنَائِهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ. وَقَالَا: تُسَمَّى سُورَةَ الطَّامَّةِ (أَيْ لِوُقُوعِ لَفْظِ الطَّامَّةِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا) . وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ. وَرَأَيْتُ فِي مُصْحَفٍ مَكْتُوبٍ بِخَطٍّ تُونُسِيٍّ عُنْوِنَ اسْمُهَا «سُورَةَ فَالْمُدَبِّرَاتِ» وَهُوَ غَرِيبٌ، لِوُقُوعِ لَفْظِ الْمُدَبِّرَاتِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ الْحَادِيَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّبَأِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْفِطَارِ. وَعَدَدُ آيِهَا خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سِتًّا وَأَرْبَعين آيَة. أغراضها اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَإِبْطَالِ إِحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وُقُوعَهُ. وَتَهْوِيلِ يَوْمِهِ وَمَا يَعْتَرِي النَّاسَ حِينَئِذٍ مِنَ الْوَهْلِ.

[سورة النازعات (79) : الآيات 1 إلى 9]

وَإِبْطَالِ قَول الْمُشْركين يتَعَذَّر الْإِحْيَاءِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْأَجْسَادِ. وَعُرِّضَ بِأَنَّ نُكْرَانَهُمْ إِيَّاهُ مُنْبَعِثٌ عَنْ طُغْيَانِهِمْ فَكَانَ الطُّغْيَانُ صَادًّا لَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْإِنْذَارِ بِالْجَزَاءِ فَأَصْبَحُوا آمِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مُتَرَقِّبِينَ حَيَاةً بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنَّ جُعِلَ مَثَلُ طُغْيَانِهِمْ كَطُغْيَانِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ دَعْوَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً، وَتَسْلِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَانْعَطَفَ الْكَلَامُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِأَنَّ خَلْقَ الْعَوَالِمِ وَتَدْبِيرَ نِظَامِهِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ إِلْفَاتٌ إِلَى مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ دَلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأُدْمِجَ فِيهِ امْتِنَانٌ فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ فَوَائِدَ يَجْتَنُونَهَا وَأَنَّهُ إِذَا حَلَّ عَالَمُ الْآخِرَةِ وَانْقَرَضَ عَالَمُ الدُّنْيَا جَاءَ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. وَكُشِفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فِي إِحَالَةِ الْبَعْثِ بِاسْتِبْطَائِهِمْ إِيَّاهُ وَجَعْلِهِمْ ذَلِكَ أَمَارَةً عَلَى انْتِفَائِهِ فَلِذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ، وَأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِهَا وَلَيْسَ شَأْنُهُ تَعْيِينَ إِبَّانِهَا، وَأَنَّهَا يُوشِكُ أَنْ تَحُلَّ فَيَعْلَمُونَهَا عِيَانًا وَكَأَنَّهُمْ مَعَ طُولِ الزَّمَنِ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا جُزْءًا من النَّهَار. [1- 9] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 1 إِلَى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ بِمَخْلُوقَاتٍ ذَاتِ صِفَاتٍ عَظِيمَةٍ قَسَمًا مُرَادًا مِنْهُ تَحْقِيقُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ وَفِي هَذَا الْقَسَمِ تَهْوِيلُ الْمُقْسَمِ بِهِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْخَمْسَةُ الْمُقْسَمُ بِهَا جُمُوعٌ جَرَى لَفْظُهَا عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ جَمَاعَاتٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الصِّفَاتُ الْمَجْمُوعَةُ، فَهِيَ جَمَاعَاتٌ،

نَازِعَاتٌ، نَاشِطَاتٌ، سَابِحَاتٌ، سَابِقَاتٌ، مُدَبِّرَاتٌ، فَتِلْكَ صِفَاتٌ لِمَوْصُوفَاتٍ مَحْذُوفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا الْأَوْصَافُ الصَّالِحَةُ لَهَا. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِمَوْصُوفَاتٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَهُ أَصْنَافٌ تُمَيِّزُهَا تِلْكَ الصِّفَاتُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِمَوْصُوفَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ بِأَنْ تَكُونَ كُلُّ صِفَةٍ خَاصِّيَّةً مِنْ خَوَاصِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ قِوَامُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ غَالِبُ الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِالْوَاوِ صِفَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِمَوْصُوفَاتٍ مُخْتَلِفَةِ أَنْوَاعٍ أَوْ أَصْنَافٍ، أَوْ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ لَهُ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْطُوفَاتِ بِالْفَاءِ صِفَاتٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنِ الْوَصْفِ الَّذِي عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، فَهِيَ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَرِّعٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ قَسَمًا بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ بِاعْتِبَارِ مَوْصُوفَاتِهَا. وَلِلسَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ فِي تَعْيِينِ مَوْصُوفَاتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَفِي تَفْسِيرِ مَعَانِي الْأَوْصَافِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِمَّا عُطِفَ بِالْوَاوِ مُرَادًا بِهَا مَوْصُوفٌ غَيْرُ الْمُرَادِ بِمَوْصُوفِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ عُطِفَتْ بِالْفَاءِ أَنْ تَكُونَ حَالَةً أُخْرَى لِلْمَوْصُوفِ الْمَعْطُوفِ بِالْوَاوِ كَمَا تقدم. وسنتعمد فِي ذَلِكَ أَظْهَرَ الْوُجُوهِ وَأَنْظَمَهَا وَنَذْكُرُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ لِيَكُونَ النَّاظِرُ عَلَى سِعَةِ بَصِيرَةٍ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ مَقْصُودٌ لِتَذْهَبَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ، فَتَكْثُرَ خُطُورُ الْمَعَانِي فِي الْأَذْهَانِ، وَتَتَكَرَّرَ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ بِاعْتِبَارِ وَقْعِ كُلِّ مَعْنًى فِي نَفْسٍ لَهُ فِيهَا أَشَدُّ وَقْعٍ وَذَلِكَ مِنْ وَفْرَةِ الْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ الْأَلْفَاظِ. فَالنَّازِعَاتُ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّزْعِ وَمَعَانِي النَّزْعِ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْرَاجِ وَالْجَذْبِ فَمِنْهُ حَقِيقَةٌ وَمِنْهُ مَجَازٌ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون النَّازِعاتِ جماعات مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، فَالنَّزْعُ هُوَ إِخْرَاجُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ شُبِّهَ بِنَزْعِ الدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ أَو الرَّكية، وَمِنْهُم قَوْلُهُمْ فِي الْمُحْتَضِرِ هُوَ فِي النَّزْعِ. وَأُجْرِيَتْ صِفَتُهُمْ عَلَى صِيغَةِ التَّأْنِيثِ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الطَّوَائِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الحجرات: 14] .

وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَسْرُوقٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَخَصَّهَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهَا تَذْكِيرًا لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الْآخِرَةِ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُمْ شَدِيدٌ تَعَلُّقُهُمْ بِالْحَيَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْيَهُودَ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْبَقَرَة: 96] فالمشركين مَثَلٌ فِي حُبِّ الْحَيَاةِ فَفِي الْقَسَمِ بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ عِظَةٌ لَهُمْ وَعِبْرَةٌ. وَالْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُنَاسِبٌ لِلْغَرَضِ الْأَهَمِّ مِنَ السُّورَةِ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْمَوْتَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ. وَغَرْقًا: اسْمُ مَصْدَرِ أَغْرَقَ، وَأَصْلُهُ إِغْرَاقًا، جِيءَ بِهِ مُجَرَّدًا عَنِ الْهَمْزَةِ فعومل مُعَاملَة مصدر الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ غَرِقَ مُتَعَدِّيًا وَلَا أَنَّ مَصْدَرَهُ مَفْتُوحُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ مَصْدَرِ أَغْرَقَ وَحُذِفَتْ مِنْهُ الزَّوَائِدُ قُدِّرَ فِعْلُهُ بَعْدَ حَذْفِ الزَّوَائِدِ مُتَعَدِّيًا. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ سُكِّنَتْ عَيْنُهُ تَخْفِيفًا وَرَعْيًا لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَشْطاً، وسَبْحاً، وسَبْقاً، وأَمْراً لَكَانَ أَرْقَبَ لِأَنَّ مُتَحَرِّكَ الْوَسَطِ يُخَفَّفُ بِالسُّكُونِ، وَهَذَا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلنَّازِعَاتِ، أَيْ نَزْعًا غَرْقًا، أَيْ مُغْرِقًا، أَيْ تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ مِنْ أَقَاصِي الْأَجْسَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النَّازِعاتِ صِفَةً لِلنُّجُومِ، أَيْ تَنْزِعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، أَيْ تَسِيرُ، يُقَالُ: يَنْزِعُ إِلَى الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ، أَيْ يَمِيلُ وَيَشْتَاقُ. وَغَرْقًا: تَشْبِيهٌ لِغُرُوبِ النُّجُومِ بِالْغَرَقِ فِي الْمَاءِ وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْأَخْفَشُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ غَرِقَ وَأَنَّ تَسْكِينَ عَيْنِهِ تَخْفِيفٌ. وَالْقَسَمُ بِالنُّجُومِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْم: 1] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّازِعاتِ جَمَاعَاتِ الرُّمَاةِ بِالسِّهَامِ فِي الْغَزْوِ يُقَالُ: نَزَعَ فِي الْقَوْسِ، إِذَا مَدَّهَا عِنْدَ وَضْعِ السَّهْمِ فِيهَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ.

وَ (الْغَرْقُ) : الْإِغْرَاقُ، أَيِ اسْتِيفَاءُ مَدِّ الْقَوْسِ بِإِغْرَاقِ السَّهْمِ فِيهَا فَيَكُونُ قَسَمًا بِالرُّمَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْغُزَاةِ لِشَرَفِهِمْ بِأَنَّ غَزْوَهُمْ لِتَأْيِيدِ دِينِ اللَّهِ، وَلَمْ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ غَزَوَاتٌ وَلَا كَانُوا يَرْجُونَهَا، فَالْقَسَمُ بِهَا إِنْذَارٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ الَّتِي كَانَ فِيهَا خَضَدُ شَوْكَتِهِمْ، فَيَكُونُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ وَوَعْدٍ وَعَدَهُ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والنَّاشِطاتِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْصُوفَاتِ بِالنَّشَاطِ، وَهُوَ قُوَّةُ الِانْطِلَاقِ لِلْعَمَلِ كالسير السَّرِيع، وينطلق النَّشَاطُ عَلَى سَيْرِ الثَّوْرِ الْوَحْشِيِّ وَسَيْرِ الْبَعِيرِ لِقُوَّةِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمَوْصُوفُ إِمَّا الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ لِدَوَامِ تَنَقُّلِهَا فِي دَوَائِرِهَا وَإِمَّا إِبِلَ الْغَزْوِ، وَإِمَّا الْمَلَائِكَةَ الَّتِي تُسْرِعُ إِلَى تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَكِلَاهُمَا عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَعَطْفُهَا عَلَى النَّازِعاتِ عَطْفُ نَوْعٍ عَلَى نَوْعٍ أَوْ عَطْفُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ. ونَشْطاً مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى مَصْدَرِ فَعَلَ الْمُتَعَدِّي مِنْ بَابِ نَصَرَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ النَّاشِطاتِ فَاعِلَاتُ النَّشْطِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ. وَقَدْ يَكُونُ مُفْضِيًا لِإِرَادَةِ النَّشَاطِ الْحَقِيقِيِّ لَا الْمَجَازِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ لِتَحْقِيقِ الْوَصْفِ لَا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النَّاشِطاتِ الْمَلَائِكَة تنشيط نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْهُ هِيَ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ. والسَّابِحاتِ صِفَةٌ مِنَ السَّبْحِ الْمَجَازِيِّ، وَأَصْلُ السَّبْحِ الْعَوْمُ وَهُوَ تَنَقُّلُ الْجِسْمِ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ مُبَاشَرَةً وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِسُرْعَةِ الِانْتِقَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةَ السَّائِرِينَ فِي أَجْوَاءِ السَّمَاوَاتِ وَآفَاقِ الْأَرْضِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ خَيْلُ الْغُزَاةِ حِينَ هُجُومِهَا عَلَى الْعَدُوِّ سَرِيعَةً كَسُرْعَةِ السَّابِحِ فِي الْمَاءِ كَالسَّابِحَاتِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ يَصِفُ فَرَسًا: مُسِحٌّ إِذَا مَا السابحات على الونى ... أَثَرْنَ الْغُبَارَ بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ

وَقِيلَ: السَّابِحاتِ النُّجُومُ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ النَّازِعَاتِ بِالنُّجُومِ، وسَبْحاً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لإِفَادَة التَّحْقِيق مَعَ التوسل إِلَى تنوينه لِلتَّعْظِيمِ، وَعَطْفُ فَالسَّابِقاتِ بِالْفَاءِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مُتَفَرِّعَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهُمْ يَعْطِفُونَ بِالْفَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي شَأْنِهَا أَنْ يَتَفَرَّعَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصافات: 1- 3] قَول ابْنِ زَيَّابَةَ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّ ... ابِحِ فَالْغَائِمِ فَالْآيِبِ فَلِذَلِكَ فَالسَّابِقاتِ هِيَ السَّابِقَاتُ مِنَ السَّابِحَاتِ. وَالسَّبْقُ: تَجَاوُزُ السَّائِرِ مَنْ يَسِيرُ مَعَهُ وَوُصُولُهُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ قَبْلَهُ. وَيُطْلَقُ السَّبْقُ عَلَى سُرْعَةِ الْوُصُولِ مِنْ دُونِ وُجُودِ سَائِرٍ مَعَ السَّابِقِ قَالَ تَعَالَى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [الْبَقَرَة: 148] وَقَالَ: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 61] . وَيُطْلَقُ السَّبْقُ عَلَى الْغَلَبِ وَالْقَهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: 4] وَقَوْلُ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ: كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يَصْلُحُ لِلْحَمْلِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى اخْتِلَافِ مَحَامِلِ وَصْفِ السَّابِحَاتِ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ احْتِمَالٍ عَلَى حِيَالِهِ بِأَنْ يُرَادَ السَّائِرَاتِ سَيْرًا سَرِيعًا فِيمَا تَعْلَمُهُ، أَوِ الْمُبَادِرَاتِ. وَإِذَا كَانَ السَّابِحاتِ بِمَعْنَى الْخَيْلِ كَانَ (السَّابِقَاتُ) إِنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الْمُسْرِعَاتِ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ مُبَالَاةِ الْفُرْسَانِ بِعَدُوِّهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، أَوْ عَلَى مَعْنَى غَلَبِهِمْ أَعْدَاءَهُمْ. وَأُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ الْمُرَادِفِ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ سَبْقاً لِلتَّأْكِيدِ وَلِدِلَالَةِ التَّنْكِيرِ عَلَى عِظَمِ ذَلِك السَّبق. فَالْمُدَبِّراتِ: الْمَوْصُوفَةُ بِالتَّدْبِيرِ.

وَالتَّدْبِيرُ: جَوَلَانُ الْفِكْرِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ وَبِإِجْرَاءِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِمَا تُوجَدُ لَهُ فَإِنْ كَانَتِ السَّابِحَاتُ جَمَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ، فَمَعْنَى تَدْبِيرِهَا تَنْفِيذُ مَا نِيطَ بِعُهْدَتِهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا أُذِنَتْ بِهِ فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّدْبِيرِ لِلْأُمُورِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمُدَبِّرِ الْمُتَثَبِّتِ. وَإِنْ كَانَتِ السَّابِحَاتُ خَيْلَ الْغُزَاةِ فَالْمُرَادُ بِالتَّدْبِيرِ: تَدْبِيرُ مَكَائِدِ الْحَرْبِ مِنْ كَرٍّ، وَفَرٍّ، وَغَارَةٍ، وَقَتْلٍ، وَأَسْرٍ، وَلِحَاقٍ لِلْفَارِّينَ، أَوْ ثَبَاتٍ بِالْمَكَانِ. وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَى السَّابِحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْفُرْسَانِ وَإِنَّمَا الْخَيْلُ وَسَائِلُ لِتَنْفِيذِ التَّدْبِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الْحَج: 27] ، فَأُسْنِدَ الْإِتْيَانُ إِلَى ضَمِيرِ كُلِّ ضامِرٍ مِنَ الْإِبِلِ لِأَنَّ إِتْيَانَ الْحَجِيجِ مِنَ الْفِجَاجِ الْعَمِيقَةِ يَكُونُ بِسَيْرِ الْإِبِلِ. وَفِي هَذَا الْمَجَازِ إِيمَاءٌ إِلَى حِذْقِ الْخَيْلِ وَسُرْعَةِ فَهْمِهَا مَقَاصِدَ فُرْسَانِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِمَا دَبَّرَهُ فُرْسَانُهَا. وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْغَرَضُ الْمُهِمُّ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، وَإِفْرَادُهُ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَيْ أُمُورًا. وَيَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِ صِفَاتِ النَّازِعاتِ، والنَّاشِطاتِ، والسَّابِحاتِ، إِذَا فُهِمَ مِنْهَا جَمَاعَاتُ الرُّمَاةِ وَالْجَمَّالَةِ وَالْفُرْسَانِ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَصْنَافِ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ مُشَاةٍ وَهُمُ الرُّمَاةُ بِالْقِسِيِّ، وَفُرْسَانٍ عَلَى الْخَيْلِ وَكَانَتِ الرُّمَاةُ تَمْشِي قُدَّامَ الْفُرْسَانِ تَنْضَحُ عَنْهُمْ بِالنِّبَالِ حَتَّى يَبْلُغُوا إِلَى مَكَانِ الْمَلْحَمَةِ. قَالَ أُنَيْفُ بْنُ زَبَّانَ الطَّائِيُّ: وَتَحْتَ نحور الْخَيل خرشف رَجْلَةٍ ... تُتَاحُ لِغِرَّاتِ الْقُلُوبِ نِبَالُهَا وَلِتَحَمُّلِ الْآيَةِ لِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ كَانَتْ تَعْرِيضًا بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِحَرْبٍ تُشَنُّ عَلَيْهِمْ وَهِيَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ أَوْ غَزْوَةُ بَدْرٍ مِثْلَ سُورَةِ (وَالْعَادِيَاتِ) وَأَضْرَابِهَا، وَهِيَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَتْ هَذِهِ التَّهْدِيدَاتُ صَرِيحُهَا وَتَعْرِيضُهَا فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ضَعْفٍ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَعْرِيضٌ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا. وَجُمْلَةُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ إِلَى خاشِعَةٌ جَوَابُ الْقَسَمِ وَصَرِيحُ الْكَلَامِ

مَوْعِظَةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ وُقُوعُ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي أَجْسَامٍ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِّفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا سَبَقَ نُزُولُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ فَكَانَ فِي هَذَا الْجَوَابِ تَهْوِيلٌ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَفِي طَيِّهِ تَحْقِيقُ وُقُوعِهِ فَحَصَلَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِنْذَارِ بِوُقُوعِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ. ويَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ واجِفَةٌ فَآلَ إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ الْمُرَادَ تَحْقِيقُهُ هُوَ وُقُوعُ الْبَعْثِ بِأُسْلُوبٍ أَوْقَعَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ الْمُنْكِرِينَ مِنْ أُسْلُوبِ التَّصْرِيحِ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، إِذْ دَلَّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْوَالِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَهْوَالِهِ فَكَانَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِنْذَارٌ. وَلَمْ تُقْرَنْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ بِلَامِ جَوَابِ الْقَسَمِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْجَوَابِ وَبَيْنَ الْقَسَمِ بِطُولِ جُمْلَةِ الْقَسَمِ، فَيَظْهَرُ لِي مِنَ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ أَنَّهُ إِذَا بَعُدَ مَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَبَيْنَ الْجَوَابِ لَا يَأْتُونَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي الْجَوَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ إِلَى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 1- 4] . وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُؤْتَى بِلَامِ الْقَسَمِ فِي جَوَابِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُوَالِيًا لِجُمْلَةِ الْقَسَمِ نَحْوَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 57] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: 92] ، وَلِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لَمْ يَكْثُرِ اقْتِرَانُهُ بِلَامِ الْجَوَابِ وَلَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِهِ وَلَا بِمَنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» اسْتَظْهَرَ فِي مَبْحَثِ لَامِ الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: 103] أَنَّ اللَّامَ لَامُ جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَلَيْسَتْ لَامَ جَوَابِ (لَوْ) بِدَلِيلِ كَوْنِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً، وَالِاسْمِيَّةُ قَلِيلَةٌ مِنْ جَوَابِ (لَوْ) فَلَمْ يَرَ جُمْلَةَ الْجَوَابِ إِذَا كَانَتِ اسْمِيَّةً أَنْ تَقْتَرِنَ بِاللَّامِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِلْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ جَوَابَ الْقَسَمِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرَهُ: لَتُبْعَثُنَّ. وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الظَّرْفَ هُوَ الْأَهَمُّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ وُقُوعِهِ، فَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أُكِّدَ الْكَلَامُ بِالْقَسَمِ شَمِلَ التَّأْكِيدُ مُتَعَلَّقَاتِ الْخَبَرِ الَّتِي مِنْهَا ذَلِكَ الظَّرْفُ، وَالتَّأْكِيدُ اهْتِمَامٌ، ثُمَّ أُكِدَّ ذَلِكَ الظَّرْفُ فِي الْأَثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ الَّذِي هُوَ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ فَحَصَلَتْ عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَذَا الْخَبَرِ.

وَالرَّجْفُ: الِاضْطِرَابُ وَالِاهْتِزَازُ وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ فِعْلٌ قَاصِرٌ وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا، فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ تَرْجُفُ إِلَى الرَّاجِفَةُ حَقِيقِيًّا، فَالْمُرَادُ بِ الرَّاجِفَةُ: الْأَرْضُ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ وَتَهْتَزُّ بِالزَّلَازِلِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْمَصِيرِ إِلَى الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] وَقَالَ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الْوَاقِعَة: 4] وَتَأْنِيثُ الرَّاجِفَةُ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ، وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أَنَّ رَجْفَةً أُخْرَى تَتَبَعُ الرَّجْفَةَ السَّابِقَةَ لِأَنَّ صِفَةَ الرَّاجِفَةُ تَقْتَضِي وُقُوعَ رَجْفَةٍ، فَالرَّادِفَةُ رَجْفَةٌ ثَانِيَةٌ تَتْبَعُ الرَّجْفَةَ الْأُولَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ تَرْجُفُ إِلَى الرَّاجِفَةُ مَجَازًا عَقْلِيًّا، أَطْلَقَ الرَّاجِفَةُ عَلَى سَبَبِ الرَّجْفِ. فَالْمُرَادُ بِ الرَّاجِفَةُ الصَّيْحَةُ وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي تَرْجُفُ الْأَرْضُ بِسَبَبِهَا جُعِلَتْ هِيَ الرَّاجِفَةَ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أَيْ تَتْبَعُ تِلْكَ الرَّاجِفَةَ، أَيْ مُسَبِّبَةُ الرَّجْفِ رَادِفَةٌ، أَيْ وَاقِعَةٌ بَعْدَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْفُ مُسْتَعَارًا لِشِدَّةِ الصَّوْتِ فَشُبِّهَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ بِالرَّجْفِ وَهُوَ التَّزَلْزُلُ. وَتَأْنِيثُ الرَّاجِفَةُ عَلَى هَذَا لِتَأْوِيلِهَا بِالْوَاقِعَةِ أَوِ الْحَادِثَةِ. وتَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ: التَّالِيَةُ، يُقَالُ: رَدِفَ بِمَعْنَى تَبِعَ، وَالرَّدِيفُ: التَّابِعُ لِغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (¬1) [الْأَنْفَال: 9] ، أَيْ تَتْبَعُ الرَّجْفَةَ الْأُولَى، ثَانِيَةٌ، فَالْمُرَادُ: رَادِفَةٌ مِنْ جِنْسِهَا وَهُمَا النَّفْخَتَانِ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] . وَجُمْلَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ حَالٌ مِنَ الرَّاجِفَةُ وَتَنْكِيرُ قُلُوبٌ لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ قُلُوبٌ كَثِيرَةٌ وَلِذَلِكَ وَقَعَ مُبْتَدَأً وَهُوَ نَكِرَةٌ لِإِرَادَةِ النَّوْعِيَّةِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: «يمددكم ربكُم بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ» .

[سورة النازعات (79) : الآيات 10 إلى 11]

وَالْمُرَادُ: قُلُوبُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ الْبَعْثَ فَإِنَّهُمْ إِذَا قَامُوا فَعَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ حَقٌّ تَوَقَّعُوا مَا كَانَ يُحَذِّرُهُمْ مِنْهُ مِنْ عِقَابِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. فَأَمَّا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ فِيهَا اطْمِئْنَانًا مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي التَّقْوَى. وَالْخَوْفُ يَوْمَئِذٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَنَّ أَشَدَّهُ خَوْفُ الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِسُوءِ الْمَصِيرِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْوَاجِفَةُ: الْمُضْطَرِبَةُ مِنَ الْخَوْفِ، يُقَال: وجف كضرف وَجْفًا وَوَجِيفًا، وَوُجُوفًا، إِذَا اضْطَرَبَ. وواجِفَةٌ خَبَرُ قُلُوبٌ وَجُمْلَةُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ قُلُوبٌ وَقَدْ زَادَ الْمُرَادَ مِنَ الْوَجِيفِ بَيَانًا قَوْلُهُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ، أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ. وَالْخُشُوعُ حَقِيقَتُهُ: الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَهُوَ هَيْئَةٌ لِلْإِنْسَانِ، وَوَصْفُ الْأَبْصَارِ بِهِ مَجَازٌ فِي الِانْخِفَاضِ وَالنَّظَرِ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ مِنْ شِدَّةِ الْهَلَعِ وَالْخَوْفِ مِنْ فَظِيعِ مَا تُشَاهِدُهُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ قَالَ تَعَالَى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [7] . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [الْقِيَامَة: 24] . وَإِضَافَةُ (أَبْصَارُ) إِلَى ضَمِيرِ الْقُلُوبِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ لِأَصْحَابِ الْقُلُوبِ وَكِلَاهُمَا مِنْ جَوَارِحِ الْأَجْسَادِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: 46] . [10، 11] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 10 إِلَى 11] يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) اسْتِئْنَافٌ إِمَّا ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ جُمْلَةِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ سَيَكُونُونَ أَصْحَابَ الْقُلُوبِ الْوَاجِفَةِ وَالْأَبْصَارِ الْخَاشِعَةِ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. وَإِمَّا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْقَسَمَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ

السَّامِعِ عَنِ الدَّاعِي لِهَذَا الْقَسَمِ فَأُجِيبَ بِ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَيْ مُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَلِذَلِكَ سَلَكَ فِي حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ أُسْلُوبَ الْغَيْبَة شَأْن المتحدّث عَنْ غَيْرِ حَاضِرٍ. وَضَمِيرُ يَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمُ الَّذِينَ شُهِرُوا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَلَا يَخْفَوْنَ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَالْمُسَاقُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ سَمَاعُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا إِلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَافِ. وَحُكِيَ مَقَالُهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنْهُ. وَلِلْإِشْعَارِ بِمَا فِي الْمُضَارِعِ مِنَ اسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمْ بِتَكْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ لِيَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ مَا كَرَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا وَقَدْ قَالُوهُ فِيمَا مَضَى. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ صَادِرَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ ضَمِيرُ يَقُولُونَ بِعَائِدٍ إِلَى قُلُوبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [النازعات: 8] . وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يُلْقُوا الْكَلَامَ الَّذِي يُنْكِرُونَ فِيهِ الْبَعْثَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِفْهَامِ إِظْهَارًا لِأَنْفُسِهِمْ فِي مَظْهَرِ الْمُتَرَدِّدِ السَّائِلِ لِقَصْدِ التَّهَكُّمِ وَالتَّعَجُّبِ مِنَ الْأَمْرِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَالْمَقْصُودُ: التَّكْذِيبُ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ حُجَّةَ اسْتِحَالَةِ الْبَعْثِ نَاهِضَةٌ. وَجعل الِاسْتِفْهَام التعجيبي دَاخِلًا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِ (إِنَّ) وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ وَتِلْكَ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ مُقَوِّيَةٌ لِلْخَبَرِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا يُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنَ الْخَبَرِ وَمِنْ شِدَّةِ يَقِينِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، فَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ تَصْدِيقِ هَذَا الْخَبَرِ فَضْلًا عَنْ تَحْقِيقِهِ وَالْإِيقَانِ بِهِ. وَالْمَرْدُودُ: الشَّيْءُ الْمُرْجَعُ إِلَى صَاحِبِهِ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ الْعَارِيَةِ وَرَدِّ ثَمَنِ الْمَبِيعِ عِنْدَ التفاسخ أَو التقابل، أَيْ لَمُرْجَعُونَ إِلَى الْحَيَاةِ، أَيْ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مِنْ قُبُورِنَا.

وَالْمُرَادُ بِ الْحافِرَةِ: الْحَالَةُ الْقَدِيمَةُ، يَعْنِي الْحَيَاةَ. وَإِطْلَاقَاتُ الْحافِرَةِ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا تَتَمَيَّزُ الْحَقِيقَةُ مِنْهَا عَنِ الْمَجَازِ، وَالْأَظْهَرُ مَا فِي «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ رَجَعَ فُلَانٌ إِلَى حَافِرَتِهِ، أَيْ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا فَحَفَرَهَا، أَيْ أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا جُعِلَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ حَفْرًا أَيْ لِأَنَّ قَدَمَيْهِ جُعِلَتَا فِيهَا أَثَرًا مِثْلَ الْحَفْرِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ وَصْفَ الطَّرِيقِ بِأَنَّهَا حَافِرَةٌ عَلَى مَعْنَى ذَاتِ حَفْرٍ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، أَيْ رَاضٍ عَائِشُهَا، وَيَقُولُونَ: رَجَعَ إِلَى الْحَافِرَةِ، تَمْثِيلًا لِمَنْ كَانَ فِي حَالَةٍ فَفَارَقَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَصَارَ: رَجَعَ فِي الْحَافِرَةِ، وَرُدَّ إِلَى الْحَافِرَةِ، جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ حَسْبَمَا ظَنَّ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ فِي شَرْحِ «أَدَبِ الْكُتَّابِ» : أَحَافِرَةً عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارِ وَمِنَ الْأَمْثَالِ قَوْلُهُمْ: «النَّقْدُ عِنْدَ الْحَافِرَةِ» ، أَيْ إِعْطَاءُ سَبْقِ الرِّهَانِ لِلسَّابِقِ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى الْأَمَدِ الْمُعَيَّنِ لِلرِّهَانِ. يُرِيدُ: أرجوعا إِلَى الحافرة. وَظَرْفُ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً هُوَ مَنَاطُ التَّعَجُّبِ وَادِّعَاءُ الِاسْتِحَالَةِ، أَيْ إِذَا صِرْنَا عِظَامًا بَالِيَةً فَكَيْفَ نَرْجِعُ أَحْيَاءً. وإِذا مُتَعَلِّقٌ بِ (مَرْدُودُونَ) ونَخِرَةً صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَخِرَ الْعَظْمُ، إِذَا بَلِيَ فَصَارَ فَارِغَ الْوَسَطِ كَالْقَصَبَةِ. وَتَأْنِيثُ نَخِرَةً لِأَنَّ مَوْصُوفَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَوَصْفُهُ يَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ فِي الِاسْتِعْمَالِ. هِيَ همزَة (إِذا) . وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ أَإِذا بِهَمْزَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَفْتُوحَةُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ هِيَ هَمْزَةُ (إِذَا) . وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ مُؤَكِّدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ

[سورة النازعات (79) : آية 12]

جَدِيرَةٌ بِزِيَادَةِ إِنْكَارِ الْإِرْجَاعِ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُمَا إِنْكَارَانِ لِإِظْهَارِ شِدَّةِ إِحَالَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَخِرَةً بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وأبوبكر عَنْ عَاصِمٍ وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ ناخرة بِالْألف. [12] [سُورَة النازعات (79) : آيَة 12] قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) قالُوا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جملَة يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] . وَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِمَقَاصِدَ مِنْهَا الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا فِي غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَصْدُهُمْ مِنْهُ الْإِنْكَارُ وَالْإِبْطَالُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِهْزَاءَ وَالتَّوَرُّكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْكَرَّةِ فَوَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بِ خاسِرَةٌ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ حَصَلَتْ كَرَّةٌ لَكَانَتْ خَاسِرَةً وَمِنْهَا دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ اسْتِئْنَافًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعُبِّرَ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي دُونَ الْمُضَارِعِ عَلَى عكس يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] لِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَالُوهَا اسْتِهْزَاءً فَلَيْسَتْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ بِخِلَاف قَوْلهم: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ فِي زَعْمِهِمْ، فَهَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ مَقَامٍ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ التَّعْجِيبَ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا لِأَنَّ التَّعْجِيبَ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ وَكَوْنُ كَرَّتِهِمْ، أَيْ عَوْدَتِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ عَوْدَةً خَاسِرَةً أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا يُنْكَرُ لِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْحَيَاةِ خَاسِرِينَ لَا مَحَالَةَ. وتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (مَرْدُودُونَ) وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْمُؤَنَّثِ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُ بِ كَرَّةٌ و (إِذن) جَوَابٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَنْ تِلْكَ كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ، فَقُدِّمَ تِلْكَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ لِلْعِنَايَةِ بِالْإِشَارَةِ. وَالْكَرَّةُ: الْوَاحِدَةُ مِنَ الْكَرِّ، وَهُوَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الذَّهَابِ، أَيْ رَجْعَةٌ.

[سورة النازعات (79) : الآيات 13 إلى 14]

وَالْخُسْرَانُ: أَصْلُهُ نَقْصُ مَالِ التِّجَارَةِ الَّتِي هِيَ لِطَلَبِ الرِّبْح، أَي زِيَادَة الْمَالِ فَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمُصَادَفَةِ الْمَكْرُوهِ غَيْرِ الْمُتَوَقَّعِ. وَوَصْفُ الْكَرَّةِ بِالْخَاسِرَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْخَاسِرَ أَصْحَابُهَا. وَالْمَعْنَى: إِنَّا إِذَنْ خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا وَتَبَيُّنِ صِدْقِ الَّذِي أَنْذَرَنَا بِتِلْكَ الرّجْعَة. [13، 14] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 13 إِلَى 14] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا يفِيدهُ قَوْلهم أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: 9، 10] مِنْ إِحَالَتِهِمُ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْبِلَى وَالْفَنَاءِ. فتقدير الْكَلَام: لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَمَا هِيَ إِلَّا زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا أَنْتُمْ حَاضِرُونَ فِي الْحَشْرِ. وَضَمِيرُ (هِيَ) ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَاخْتِيرَ الضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ لِيَحْسُنَ عَوْدُهُ إِلَى زَجْرَةٌ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ اسْتِعْمَالَاتِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ. وَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ زَجْرَةً وَاحِدَةً غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي إِحْيَائِهِمْ. وَفَاءُ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ لِلتَّفْرِيعِ على جملَة فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ وَ (إِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ، أَيِ الْحُصُولُ دُونَ تَأْخِيرٍ فَحَصَلَ تَأْكِيدُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ الَّذِي أَفَادَتْهُ الْفَاءُ وَذَلِكَ يُفِيدُ عَدَمَ التَّرَتُّبِ بَيْنَ الزَّجْرَةِ وَالْحُصُولِ فِي السَّاهِرَةِ. وَالزَّجْرَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الزَّجْرِ، وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ فِي حَالَةِ غَضَبٍ، يُقَالُ: زَجَرَ الْبَعِيرَ، إِذَا صَاحَ لَهُ لِيَنْهَضَ أَوْ يَسِيرَ، وَعُبِّرَ بِهَا هُنَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِتَكْوِينِ أَجْسَادِ النَّاسِ الْأَمْوَاتِ تَصْوِيرًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّسْخِيرِ لِتَعْجِيلِ التَّكَوُّنِ. وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِإِحْيَاءِ مَا كَانَ هَامِدًا كَمَا يُبْعَثُ الْبَعِيرُ الْبَارِكُ بِزَجْرَةٍ يَنْهَضُ بِهَا سَرِيعًا خَوْفًا مِنْ زَاجِرِهِ. وَقَدْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالصَّيْحَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ. وَوُصِفَتِ الزَّجْرَةُ بِوَاحِدَةٍ تَأْكِيدًا لِمَا فِي صِيغَةِ الْمَرَّةِ مِنْ مَعْنَى الْوَحْدَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ إِفْرَادَهُ لِلنَّوْعِيَّةِ، وَهَذِهِ الزَّجْرَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 إلى 19]

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] فَهِيَ ثَانِيَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ الرَّادِفَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً أَنَّهَا لَا تُتْبَعُ بِثَانِيَةٍ لَهَا، وَقَدْ وُصِفَتْ بِوَاحِدَة فِي صُورَة الْحَاقَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَار. و (الساهرة) : الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا يُخْتَارُ مِثْلُهَا لِاجْتِمَاعِ الْجُمُوعِ وَوَضْعِ الْمَغَانِمِ. وَأُرِيدَ بِهَا أَرْضٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ لِجَمْعِ النَّاسِ لِلْحَشْرِ. وَالْإِتْيَانُ بِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى سُرْعَةِ حُضُورِهِمْ بِهَذَا الْمَكَانِ عَقِبَ الْبَعْثِ. وَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ (إِذَا) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُفَاجَأَةِ وَالتَّفْرِيعِ أَشَدُّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ السُّرْعَةِ مَعَ إِيجَازِ اللَّفْظِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِخَلْقِ أَجْسَادٍ تَحِلُّ فِيهَا الْأَرْوَاحُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَتَحْضُرُ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ لِلْحسابِ بِسُرْعَة. [15- 19] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 15 إِلَى 19] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) هَذِهِ الْآيَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [النازعات: 13] وَبَيْنَ جُمْلَةِ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [النازعات: 27] الَّذِي هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ ثُمَّ الْإِنْذَارُ بِمَا بَعْدَهُ دَعَتْ إِلَى اسْتِطْرَادِهِ مُنَاسَبَةُ التَّهْدِيدِ لِمُنْكِرِي مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَعْثِ لِتَمَاثُلِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي طُغْيَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَتَمَاثُلِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ بِحَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ لِيَحْصُلَ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَضْرَابِهِمَا لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: 26] . وهَلْ أَتاكَ اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ يُقْصَدُ مِنْ أَمْثَالِهِ تَشْوِيقُ السَّامِعِ إِلَى الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمُخَاطَبِ عَنْ سَابِقِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ

عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْتَظِرُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ جَوَابًا عَنهُ من الْمَسْئُول بَلْ يُعَقِّبُ الِاسْتِفْهَامَ بِتَفْصِيلِ مَا أَوْهَمَ الِاسْتِفْهَامَ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ كِنَايَةً عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ بِحَيْثُ إِنَّهُ مِمَّا يَتَسَاءَلُ النَّاسُ عَنْ عِلْمِهِ. وَلِذَلِكَ لَا تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ هَلْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَحْقِيقِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، فَهِيَ فِي الِاسْتِفْهَامِ مِثْلَ (قَدْ) فِي الْإِخْبَارِ، وَالِاسْتِفْهَامُ مَعَهَا حَاصِلٌ بِتَقْدِيرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، فَالْمُسْتَفْهِمُ بِهَا يَسْتَفْهِمُ عَنْ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ، وَمِنْ قَبِيلِهِ قَوْلُهُمْ فِي الِاسْتِفْهَامِ: أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ كَذَا فَيَأْتُونَ بِ (قَدْ) مَعَ فِعْلِ النَّفْيِ الْمُقْتَرِنِ بِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْمُخَاطَبِ مُحَقَّقًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَالْكَلَامُ مَوْعِظَةٌ وَيَتْبَعُهُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَتاكَ مَعْنَاهُ: بَلَغَكَ، اسْتُعِيرَ الْإِتْيَانُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ كَأَنَّ الْحُصُولَ مَجِيءُ إِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِيَّةِ، أَوْ كَأَنَّ الْخَبَرَ الْحَاصِلَ إِنْسَانٌ أُثْبِتَ لَهُ الْإِتْيَانُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، وَأَصْلُهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ حَدَثَ الْأَمْرُ إِذَا طَرَأَ وَكَانَ، أَيِ الْحَادِثُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْخَبَرِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ لَا يُذْكَرُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ تَقْدِيرُهُ خَبَرُ الْحَدِيثِ، أَيْ خبر الْحَادِث. وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْمَاضِي وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ حَدِيثُ مُوسى بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ حَدِيثَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ (إِذْ) بَدَلًا مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً [آل عمرَان: 103] يجوز أَن يكون بَدَلا من الْفَاعِل وَغَيره. واقتصار ابْن هِشَام وَغَيره على أَنَّهَا تكون مَفْعُولا بِهِ أَو بَدَلا من الْمَفْعُول بِهِ اقْتِصَارٌ عَلَى أَكْثَرِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهَا إِذَا خَرَجَتْ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَقَدْ جُوِّزَ فِي «الْكَشَّافِ» وُقُوعُ (إِذْ) مُبْتَدَأً فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَأُضِيفَ إِذْ إِلَى جُمْلَةِ ناداهُ رَبُّهُ وَالْمَعْنَى: هَلْ أَتَاكَ خَبَرُ زَمَانٍ نَادَى فِيهِ مُوسَى رَبُّهُ. وَالْوَادِ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَالْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ. وَالْمُرَادُ بِهِ التَّطْهِيرُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ التَّشْرِيفُ وَالتَّبْرِيكُ لِأَجْلِ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ دُونَ تَوَسُّطِ مَلَكٍ يُبَلِّغُ الْكَلَامَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ تَقْدِيسٌ خَاصٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ لَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ [طه: 12] . وَطُوًى: اسْمُ مَكَانٍ وَلَعَلَّهُ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْأَوْدِيَةِ يُشْبِهُ الْبِئْرَ الْمَطْوِيَّةَ، وَقَدْ سُمِّيَ مَكَانٌ بِظَاهِرِ مَكَّةَ ذَا طُوًى بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طَهَ. وَهَذَا وَادٍ فِي جَانِبِ جَبَلِ الطُّورِ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ طُوىً بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوْ لِلْعَدْلِ عَنْ طَاوٍ، أَوْ لِلْعُجْمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ مُنَوَّنًا بِاعْتِبَارِهِ اسْمَ وَادٍ مُذَكَّرَ اللَّفْظِ. وَجُمْلَةُ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ناداهُ رَبُّهُ وَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اذْهَبْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي هُوَ لِلِاهْتِمَامِ وَيُفِيدُ مُفَادَ التَّعْلِيلِ. وَالطُّغْيَانُ إِفْرَاطُ التَّكَبُّرِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ لِلطَّاغِينَ مَآباً فِي سُورَةِ النَّبَأِ [22] . وَفِرْعَوْنُ: لَقَبُ مَلِكِ الْقِبْطِ بِمِصْرَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ عَنِ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَلَا يُعْلَمُ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَلِكِ فِي لُغَةِ الْقِبْطِ وَلَمْ يُطْلِقْهُ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى مَلِكِ مِصْرَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى، وَأُطْلِقَ عَلَى الَّذِي فِي زَمَنِ يُوسُفَ اسْمُ الْمَلِكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [103] . وهَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ عَرْضٌ وَتَرْغِيبٌ قَالَ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] .

وَقَوْلُهُ: هَلْ لَكَ تَرْكِيبٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يُغَيَّرُ عَنْ هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ الْإِيجَازُ يُقَالُ: هَلْ لَكَ إِلَى كَذَا؟ وَهَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ وَهُوَ كَلَامٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الْعَرْضُ بِقَوْلِ الرَّجُلِ لِضَيْفِهِ: هَلْ لَكَ أَنْ تَنْزِلَ؟ وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبٍ: أَلَا بَلِّغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتُ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا بِضَمِّ تَاءِ (قُلْتُ) . وَقَوْلٌ بُجَيْرٍ أَخِيهِ فِي جَوَابِهِ عَنْ أَبْيَاتِهِ: مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ ولَكَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ فِي كَذَا؟ فَحُذِفَ (رَغْبَةٌ) وَاكْتُفِيَ بِدِلَالَةِ حَرْفِ (فِي) عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى كَذَا؟ عَلَى تَقْدِيرِ: هَلْ لَكَ مَيْلٌ؟ فَحُذِفَ (مَيْلٌ) لِدِلَالَةِ (إِلَى) عَلَيْهِ. قَالَ الطَّيِّبِيُّ: «قَالَ ابْنُ جِنِّي: مَتَّى كَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ فِي مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ فَكَثِيرًا مَا يُجْرَى أَحَدُهُمَا مَجْرَى صَاحِبِهِ فَيُعَوَّلُ بِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَيْهِ (كَذَا) وَيُحْتَذَى بِهِ فِي تَصَرُّفِهِ حَذْوَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ الِاسْتِعْمَال وَالْعرْف ضِدّه مَأْخَذِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَنْتَ إِنَّمَا تَقُولُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ لَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَهُ مَعْنَى: آخُذُ بِكَ إِلَى كَذَا أَوْ أَدْعُوكَ إِلَيْهِ، قَالَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَة: 187] لَا يُقَالُ: رَفَثْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ، إِنَّمَا يُقَال: رفثتت بِهَا، وَمَعَهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّفَث فِي معنى الْإِفْضَاءِ عُدِّيَ بِ (إِلَى) وَهَذَا مِنْ أَسَدِّ مَذَاهِبِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَمْلِكُ فِيهِ الْمَعْنَى عِنَانَ الْكَلَامِ فَيَأْخُذُهُ إِلَيْهِ» اهـ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ بَلْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَالْقَرِينَةِ الْجَارَّةِ. وتَزَكَّى قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ: تَتَزَكَّى، بِتَاءَيْنِ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ الْمُجَاوِرَةُ لِلزَّايِ زَايًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ على أَنه حدفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ اقْتِصَارًا لِلتَّخْفِيفِ. وَفِعْلُ تَزَكَّى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَصْلُهُ: تَتَزَكَّى بِتَاءَيْنِ مُضَارِعُ تَزَكَّى مُطَاوِعُ زَكَّاهُ، أَيْ جَعَلَهُ زَكِيًّا.

وَالزَّكَاةُ: الزِّيَادَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْخَيْرِ النَّفْسَانِيِّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشَّمْس: 9، 10] وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ. وَالْمَعْنَى: حَثُّهُ عَلَى أَنْ يَسْتَعِدَّ لِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِنَ الْعَقِيدَةِ الضَّالَّةِ الَّتِي هِيَ خُبْثٌ مَجَازِيٌّ فِي النَّفْسِ فَيَقْبَلَ إِرْشَادَ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَا بِهِ زِيَادَةُ الْخَيْرِ فَإِنَّ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ يُؤْذِنُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ يُعَالِجُ نَفْسَهُ وَيُرَوِّضُهَا إِذْ كَانَ لَمْ يَهْتَدِ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِعَطْفِ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أَيْ إِنْ كَانَ فِيكَ إِعْدَادُ نَفْسِكَ لِلتَّزْكِيَةِ يَكُنْ إِرْشَادِي إِيَّاكَ فَتَخْشَى، فَكَانَ تَرْتِيبُ الْجُمَلِ فِي الذِّكْرِ مُرَاعًى فِيهِ تَرَتُّبُهَا فِي الْحُصُولِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى عَطْفِهِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يُسْتَغْنَى بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ مَعَ إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ عَنِ الْعَطْفِ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ بِالْقَرِينَةِ، وَيُسْتَغْنَى بِالْعَطْفِ عَنْ ذِكْرِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ فِي الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ الَّذِي يَكُونُ الْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى (أَيِ) التَّفْسِيرِيَّةِ فَإِنَّ أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ. وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ فِي التَّزْكِيَةِ وَهِدَايَتِي إِيَّاكَ فَخَشْيَتِكَ اللَّهَ تَعَالَى. وَالْهِدَايَة الدّلَالَة علء الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِذَا قَبِلَهَا الْمَهْدِيُّ. وَتَفْرِيعُ فَتَخْشى عَلَى أَهْدِيَكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ، أَيِ الْعُلَمَاءُ بِهِ، أَيْ يَخْشَاهُ خَشْيَةً كَامِلَةً لَا خَطَأَ فِيهَا وَلَا تَقْصِيرَ. قَالَ الطَّيِّبِيُّ: وَعَنِ الْوَاسِطِيِّ: أَوَائِلُ الْعِلْمِ الْخَشْيَةُ، ثُمَّ الْإِجْلَالُ، ثُمَّ التَّعْظِيمُ، ثُمَّ الْهَيْبَةُ، ثُمَّ الْفَنَاءُ. وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْخَشْيَةِ إِيجَازٌ بَلِيغٌ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ مِلَاكُ كُلِّ خَيْرٍ. وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ

[سورة النازعات (79) : الآيات 20 إلى 24]

» (¬1) . وَذُكِرَ لَهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ بِوَصْفِ رَبِّكَ دُونَ أَن يذكر لَهُ اسْمُ اللَّهِ الْعَلَمُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ إِلْطَافًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَجَنُّبًا لِاسْتِطَارَةِ نَفْسِهِ نُفُورًا، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ فِرْعَوْن اسْم لله تَعَالَى، وَلَوْ عَرَّفَهُ لَهُ بِاسْمِهِ فِي لُغَةِ إِسْرَائِيلَ لَنَفَرَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً بَاطِلَةً، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ وَفِرْعَوْنُ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا إِطْمَاعٌ لَهُ أَنْ يُرْشِدَهُ مُوسَى إِلَى مَا لَا يُنَافِي عَقَائِدَهُ فَيُصْغِي إِلَيْهِ سَمْعَهُ حَتَّى إِذَا سَمِعَ قَوْلَهُ وَحُجَّتَهُ دَاخَلَهُ الْإِيمَانُ الْحَقُّ مُدَرَّجًا، فَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ اسْتِنْزَالٌ لِطَائِرِهِ. وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ فَإِذَا أُطْلِقَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهَا خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا نَزَلَ فِعْلُهَا هُنَا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ لِأَنَّ الْمَخْشِيَّ مَعْلُومٌ مِثْلَ فِعْلِ الْإِيمَانِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ يُقَالُ: آمَنَ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ مُؤْمِنٌ، أَيْ مُؤْمِنٌ بِاللَّه ووحدانيته. [20- 24] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 20 إِلَى 24] فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَصِيحَةٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ [النازعات: 17] . وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ فَدَعَاهُ فَكَذَّبَهُ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ طَغى [النازعات: 17] يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَيُلَاقِي دَعْوَةَ مُوسَى بِالِاحْتِقَارِ وَالْإِنْكَارِ، لِأَنَّ الطُّغْيَانَ مَظِنَّةُ ذَيْنِكَ، فَعَرَضَ مُوسَى عَلَيْهِ إِظْهَارَ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَتِهِ لَعَلَّهُ يُوقِنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الشُّعَرَاء: 30- 32] ، فَتِلْكَ هِيَ الْآيَةُ الْكُبْرَى الْمُرَادَةُ هُنَا. وَالْآيَةُ: حَقِيقَتُهَا الْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْحُجَّةِ الْمُثْبَتَةِ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَتُطْلَقُ عَلَى مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَأُعْقِبَ فِعْلُ فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى بِفِعْلِ فَكَذَّبَ لِلدِّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ عِنَادِهِ وَمُكَابَرَتِهِ حَتَّى أَنَّهُ رَأَى الْآيَةَ فَلَمْ يَتَرَدَّدْ وَلَمْ يَتَمَهَّلْ حَتَّى يَنْظُرَ فِي الدِّلَالَةِ، بَلْ بَادَرَ إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ. ¬

(¬1) الإدلاج: مخففا: السّير فِي أول اللَّيْل، ومشدّدا السّير فِي آخر اللَّيْل، وَالْمرَاد هُنَا الأول.

وَالْمُرَادُ بِعِصْيَانِهِ عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يُوَحِّدَهُ أَوْ أَنْ يُطْلِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ اسْتِعْبَادِهِمْ وَتَسْخِيرِهِمْ لِلْخِدْمَةِ فِي بِلَادِهِ. وَعَطْفُ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى بِ ثُمَّ لِلدِّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَأَفَادَتْ ثُمَّ أَنَّ مَضْمُون الْجُمْلَة المعطوفة بِهَا أَعْلَى رُتْبَةً فِي الْغَرَضِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا، أَيْ أَنَّهُ ارْتَقَى مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ وَهُوَ الْإِدْبَارُ وَالسَّعْيُ وَادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ لِنَفْسِهِ، أَيْ بَعْدَ أَنْ فَكَّرَ مَلِيًّا لَمْ يَقْتَنِعْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ فَخَشِيَ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ رُبَّمَا تُرَوَّجُ دَعْوَةُ مُوسَى بَيْنَ النَّاسِ فَأَرَادَ الْحَيْطَةَ لِدَفْعِهَا وَتَحْذِيرِ النَّاسِ مِنْهَا. وَالْإِدْبَارُ وَالسَّعْيُ مُسْتَعْمَلَانِ فِي مَعْنَيَيْهِمَا الْمَجَازِيَّيْنِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِدْبَارِ هُوَ الْمَشْيُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ خَلْفُ الْمَاشِي بِأَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى جِهَةٍ تُعَاكِسُهَا. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الدَّاعِي مِثْلَ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ لَمَّا أَبَى الْإِيمَانَ: «وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ» . وَأَمَّا السَّعْيُ فَحَقِيقَتُهُ: شِدَّةُ الْمَشْيِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْحِرْصِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِهِ النَّاسَ بِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ لِكَلَامِ مُوسَى، وَجَمَعَ السَّحَرَةَ لِمُعَارَضَةِ مُعْجِزَتِهِ إِذْ حَسِبَهَا سِحْرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ [طه: 60] . وَالْعَمَلُ الَّذِي يَسْعَى إِلَيْهِ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَثَلَاثَتُهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى يَسْعى فَجُمْلَةُ فَحَشَرَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَسْعى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ بَذَلَ حِرْصَهُ لِيُقْنِعَ رَعِيَّتَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الْأَعْلَى خَشْيَةَ شُيُوعِ دَعْوَةِ مُوسَى لِعِبَادَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْبَرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَرَكَ ذَلِكَ الْمَجْمَعَ بِأَنْ قَامَ مُعْرِضًا إِعْلَانًا بِغَضَبِهِ عَلَى مُوسَى وَيَكُونُ يَسْعى مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ أَيْضًا، أَيْ قَامَ يَشْتَدُّ فِي مَشْيِهِ وَهِيَ مِشْيَةُ الْغَاضِبِ الْمُعْرِضِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ، وَهَذَا الْحَشْرُ هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: 36، 37] .

وَحُذِفَ مَفْعُولُ (حَشَرَ) لِظُهُورِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ هُمْ أَهْلُ مَدِينَتِهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَعَطْفُ فَنادى بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أَعْلَنَ هَذَا الْقَوْلَ لَهُمْ بِفَوْرِ حُضُورِهِمْ لِفَرْطِ حِرْصِهِ عَلَى إِبْلَاغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَالنِّدَاءُ: حَقِيقَتُهُ جَهْرُ الصَّوْتِ بِدَعْوَةِ أَحَدٍ لِيَحْضُرَ وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُرُوفُ النِّدَاءِ نَائِبَةً مَنَابَ (أَدْعُو) فَنَصَبَتِ الِاسْمَ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا. وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ دُونَ طَلَبِ حُضُورٍ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي «الْمَقَامَةِ الثَّلَاثِينَ» «فَحِينَ جَلَسَ كَأَنَّهُ ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ الْأَحْمَاءِ» إِلَخْ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ (نَادَى) كَمَا حُذِفَ مَفْعُولُ (حَشَرَ) . وَإِسْنَادُ الْحَشْرِ وَالنِّدَاءِ إِلَى فِرْعَوْنَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ حَشْرَ النَّاسِ وَلَا نِدَاءَهُمْ وَلَكِنْ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ وَجُنْدَهُ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: بَنَى الْمَنْصُورُ بَغْدَادَ. وَالْقَوْلُ الَّذِي نَادَى بِهِ هُوَ تَذْكِيرُ قَوْمِهِ بِمُعْتَقَدِهِمْ فِيهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ مَلِكَ مِصْرَ إِلَهًا لِأَنَّ الْكَهَنَةَ يُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّهُ ابْنُ (آمُونَ رَعِ) الَّذِي يَجْعَلُونَهُ إِلَهًا وَمَظْهَرُهُ الشَّمْسُ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي أَنَا رَبُّكُمُ لِرَدِّ دَعْوَةِ مُوسَى. وَقَوْلُهُ: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ فَنادى بَدَلًا مُطَابِقًا بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ الْفَاءُ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِمِثْلِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ يَسْعى عَلَى أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنْحَاءِ مَمْلَكَتِهِ، وَلَيْسَ قَاصِرًا عَلَى إِعْلَانِهِ فِي الْحَشْرِ الَّذِينَ حَشَرَهُمْ حَوْلَ قَصْرِهِ. فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّبِّ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ ابْنُ (آمُونَ رَعْ) وَهُوَ الرَّبُّ الْأَعْلَى، فَابْنُهُ هُوَ

[سورة النازعات (79) : الآيات 25 إلى 26]

الْقَائِمُ بِوَصْفِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِ اعْتِقَادِهِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ رَبُّ الْأَرْبَابِ الْمُتَعَدِّدَةِ عِنْدَهُمْ فَصِفَةُ الْأَعْلى صفة كاشفة. [25، 26] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 25 إِلَى 26] فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) جُمْلَةُ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى مُفَرَّعَةٌ عَنِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِ وَعِصْيَانِهِ وَكَيْدِهِ سَبَبًا لِأَنْ أَخَذَهُ اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ وَهُوَ مَنَاطُ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْذَارِهِمْ، مَعَ تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتِهِ. وَحَقِيقَةُ الْأَخْذِ: التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، وَيُسْتَعَارُ كَثِيرًا لِلْمَقْدِرَةِ وَالْغَلَبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 42] وَقَالَ: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: 10] . وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ. وَالنَّكَالُ: اسْمُ مَصْدَرِ نَكَّلَ بِهِ تَنْكِيلًا وَهُوَ مِثْلُ: السَّلَامِ، بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ. وَمَعْنَى النَّكَالِ: إِيقَاعُ أَذًى شَدِيدٍ عَلَى الْغَيْرِ مِنَ التَّشْهِيرِ بِذَلِكَ بِحَيْثُ يُنَكِّلُ، أَيْ يَرُدُّ وَيَصْرِفُ مَنْ يُشَاهِدُهُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا عُومِلَ بِهِ الْمُنَكَّلُ بِهِ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّكُولِ وَهُوَ النُّكُوصُ وَالْهُرُوبُ، قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [66] . وَانْتَصَبَ نَكالَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِفِعْلِ «أَخَذَهُ» مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الْأَخْذِ بِنَوْعَيْنِ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ بِأَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ. وَإِضَافَةُ نَكالَ إِلَى الْآخِرَةِ وَالْأُولى عَلَى مَعْنَى (فِي) . فَالنَّكَالُ فِي الْأُولَى هُوَ الْغَرَقُ، وَالنَّكَالُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ النَّكَالُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِأَنَّ مَا حَصَلَ لِفِرْعَوْنَ فِي الدُّنْيَا هُوَ نَكَالٌ حَقِيقِيٌّ وَمَا يُصِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ النَّكَالُ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ النَّكَالَ فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ نَكَالٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَوُرُودُ فِعْلِ «أَخَذَهُ» بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ مَعَ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ مُسْتَقْبَلٌ ليَوْم الْجَزَاء مراعى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ ابْتَدَأَ يَذُوقُ الْعَذَابَ حِينَ يَرَى مَنْزِلَتَهُ الَّتِي سَيَؤُولُ إِلَيْهَا يَوْمَ الْجَزَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَتَقْدِيمُ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولى فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ أَمْرَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ. وَجَاءَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ بِحَوْصَلَةٍ وَفَذْلَكَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [النازعات: 15] . الْآيَاتِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي ذلِكَ إِلَى حَدِيثُ مُوسى [النازعات: 15] . وَالْعِبْرَةُ: الْحَالَةُ الَّتِي يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ عَاقِبَتِهَا وعاقبة أَمْثَالِهَا، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَبْرِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ ضَفَّةِ وَادٍ أَوْ نَهْرٍ إِلَى ضَفَّتِهِ الْأُخْرَى. وَالْمُرَادُ بِالْعِبْرَةِ هُنَا الْمَوْعِظَةُ. وَتَنْوِينُ (عِبْرَةً) لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَوَاعِظَ كَثِيرَةً مِنْ جِهَاتٍ هِيَ مَثُلَاتٌ لِلْأَعْمَالِ وَعَوَاقِبِهَا، وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى ضِدِّهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجُعِلَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى، أَيْ مَنْ تُخَالِطُ نَفْسَهُ خَشْيَةُ اللَّهِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ هُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ دِلَالَةَ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا وَخَفَايَاهَا، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] . وَالْخَشْيَةُ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: 19] . وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلِانْتِفَاعِ بِمِثْلِ هَذَا كَمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِمِثْلِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ. وَفِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا تَعْرِيضٌ بِسَادَةِ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ بِتَنْظِيرِهِمْ بِفِرْعَوْنَ وَتَنْظِيرِ الدَّهْمَاءِ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ حَشَرَهُمْ فِرْعَوْنُ وَنَادَى فِيهِمْ بِالْكُفْرِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مَضْرِبَ هَذَا الْمَثَلِ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُوصَفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

[سورة النازعات (79) : الآيات 27 إلى 29]

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِينَ الَّذِينَ سِيقَتْ لَهُمُ الْقِصَّةُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِمَا فِيهَا من المواعظ. [27- 29] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 27 إِلَى 29] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) انْتِقَالٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِي هُوَ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ وَهِي قَوْله: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] وَمَا أَعْقَبُوهُ بِهِ مِنَ التَّهَكُّمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَوَهُّمِ إِحَالَةِ الْبَعْثِ. وَإِذْ قَدْ فَرَضُوا اسْتِحَالَةَ عَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَى الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ إِذْ مَثَّلُوهَا بِأَجْسَادِ أَنْفُسِهِمْ إِذْ قَالُوا: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ [النازعات: 10] جَاءَ إِبْطَالُ شُبْهَتِهِمْ بِقِيَاسِ خَلْقِ أَجْسَادِهِمْ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَقِيلَ لَهُمْ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ هُنَا أَأَنْتُمْ بِضَمِيرِهِمْ وَلَمْ يُقَلْ: آلْإِنْسَانُ أَشَدُّ خَلْقًا، وَمَا هُمْ إِلَّا مِنَ الْإِنْسَانِ، فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عُبِّرَ عَنْهُمْ آنِفًا بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 10- 14] ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِقَصْدِ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَتِهِمْ لِأَنَّ حِكَايَةَ شُبْهَتِهِمْ ب يَقُولُونَ أَإِنَّا إِلَى آخِرِهِ، تَقْتَضِي تَرَقُّبَ جَوَابٍ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْله: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ [النازعات: 10] . وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْرِيرِ إِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِمْ، أَيْ مِنْ خَلْقِ نَوْعِهِمْ وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاءِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَيُنْتِجُ ذَلِكَ أَنَّ إِعَادَةَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ فَنَائِهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: 57] ، ذَلِكَ أَنَّ نَظَرَهُمُ الْعَقْلِيَّ غَيَّمَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ فَجَعَلُوا مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ مُحَالًا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِمْكَانِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَحَالُوهُ بِالضَّرُورَةِ.

وَ (أَشَدُّ) : اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَمِ السَّماءُ وَمَعْنَى أَشَدُّ أَصْعَبُ، وخَلْقاً مَصْدَرٌ مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْأَشَدِّيَّةِ إِلَيْهِمْ، أَيْ أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَشُدُّ أَمْ خَلْقُهُ السَّمَاءَ، فَالتَّمْيِيزُ مُحَوَّلٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. والسَّماءُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ السَّمَاوَاتُ وَهِيَ مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ النَّاسِ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ مُشْتَهِرٌ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ عَظَمَةِ السَّمَاوَاتِ تَنْزِيلًا لِلْمَعْقُولِ مَنْزِلَ الْمَحْسُوسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَمَاءٌ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي تَلُوحُ فِيهَا أَضْوَاءُ النُّجُومِ فَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهِيَ الْكُرَةُ الْفَضَائِيَّةُ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْضِ وَيَبْدُو فِيهَا ضَوْءُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَهُمْ. وَهَذَا أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى التَّأْوِيلِ. وَجُمْلَةُ بَناها يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ شِدَّةِ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَال فِي قَوْلِهِ: أَمِ السَّماءُ، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ: أَمِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا. وَقَدْ جُعِلَتْ كَلِمَةُ بَناها فَاصِلَةً فَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَهَا وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا لَبْسَ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ بَناها جُمْلَةٌ وأَمِ الْمُعَادِلَةُ لَا يَقَعُ بَعْدَهَا إِلَّا اسْمٌ مُفْرَدٌ. وَالْبِنَاءُ: جَعْلُ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ مِنْ حِجَارَةٍ، أَوْ آجُرٍّ أَوْ أَدَمٍ، أَوْ أَثْوَابٍ مِنْ نَسِيجِ الشَّعْرِ، مَشْدُودَةٌ شُقَقُهُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِغَرْزٍ أَوْ خِيَاطَةٍ وَمُقَامَةٌ عَلَى دَعَائِمَ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بِأَدَمٍ يُسَمَّى قُبَّةً وَمَا كَانَ بِأَثْوَابٍ يُسَمَّى خَيْمَةً وَخِبَاءً. وَبِنَاءُ السَّمَاءِ: خَلْقُهَا، اسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ الْبِنَاءِ لِمُشَابَهَتِهَا الْبُيُوتَ فِي الِارْتِفَاعِ. وَجُمْلَةُ رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها مَبْنِيَّة لِجُمْلَةِ بَناها أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا وَسُلِكَ طَرِيقُ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِزِيَادَةِ التَّصْوِيرِ. وَالسَّمْكُ: بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْمِيمِ: الرَّفْعُ فِي الْفَضَاءِ كَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ

الرَّاغِبُ سَوَاءٌ اتَّصَلَ الْمَرْفُوعُ بِالْأَرْضِ أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا وَهُوَ مَصْدَرُ سَمَكَ. وَالرَّفْعُ: جَعْلُ جِسْمٍ مُعْتَلِيًا وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسَّمْكِ فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ رَفَعَ إِلَى «السَّمْكِ» لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرَّفْعِ، أَيْ رَفَعَ رَفْعَهَا أَيْ جَعَلَهُ رَفِيعًا، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ، وَظَلٌّ ظَلِيلٌ. وَالتَّسْوِيَةُ: التَّعْدِيلُ وَعَدَمُ التَّفَاوُتِ، وَهِيَ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ سَوَاءً، أَيْ مُتَمَاثِلَةً وَأَصْلُهَا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَشْيَاءَ وَقَدْ تَتَعَلَّقُ بِاسْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى مَعْنَى تَعْدِيلِ جِهَاتِهِ وَنَوَاحِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: فَسَوَّاها، أَيْ عَدَّلَ أَجْزَاءَهَا وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْقَنَ صُنْعَهَا فَلَا تَرَى فِيهَا تَفَاوُتًا. وَالْفَاءُ فِي فَسَوَّاها لِلتَّعْقِيبِ. وَتَسْوِيَةُ السَّمَاءِ حَصَلَتْ مَعَ حُصُولِ سَمْكِهَا، فَالتَّعْقِيبُ فِيهِ مِثْلُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 23، 24] . وَجُمْلَةُ وَأَغْطَشَ لَيْلَها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ بَناها وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى رَفَعَ سَمْكَها لِأَنَّ إِغْطَاشَ وَإِخْرَاجَ الضُّحَى لَيْسَ مِمَّا يُبَيَّنُ بِهِ الْبِنَاءُ. وَالْإِغْطَاشُ: جَعْلُهُ غَاطِشًا، أَيْ ظَلَامًا يُقَالُ: غَطَشَ اللَّيْلُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، أَيْ أَظْلَمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَصَّ اللَّيْلَ بِالظُّلْمَةِ وَجَعَلَهُ ظَلَامًا، أَيْ جَعَلَ لَيْلَهَا ظَلَامًا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: رَفَعَ سَمْكَها مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ. وَإِخْرَاجُ الضُّحَى: إِبْرَازُ نُورِ الضُّحَى، وَأَصْلُ الْإِخْرَاجِ النَّقْلُ مِنْ مَكَانٍ حَاوٍ وَاسْتُعِيرَ لِلْإِظْهَارِ اسْتِعَارَةً شَائِعَةً. وَالضُّحَى: بُرُوزُ ضَوْءِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا وَبَعْدَ احْمِرَارِ شُعَاعِهَا، فَالضُّحَى هُوَ نُورُ الشَّمْسِ الْخَالِصُ وَسُمِّيَ بِهِ وَقْتُهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: 1] ، أَيْ نُورِهَا الْوَاضِحِ.

[سورة النازعات (79) : الآيات 30 إلى 32]

وَإِنَّمَا جُعِلَ إِظْهَارُ النُّورِ إِخْرَاجًا لِأَنَّ النُّورَ طَارِئٌ بَعْدَ الظُّلْمَةِ، إِذِ الظُّلْمَةُ عَدَمٌ وَهُوَ أَسْبَقُ، وَالنُّورُ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي يُنِيرُهُ. وَإِضَافَةُ (لَيْلٍ) وَ (ضُحًى) إِلَى ضَمِيرِ السَّماءُ إِنْ كَانَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُمَا يَلُوحَانِ لِلنَّاسِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ فَيَلُوحُ الضُّحَى أَشِعَّةً مُنْتَشِرَةً مِنَ السَّمَاءِ صَادِرَةً مِنْ جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فَتَقَعُ الْأَشِعَّةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ثُمَّ إِذَا انْحَجَبَتِ الشَّمْسُ بِدَوْرَةِ الْأَرْضِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَخَذَ الظَّلَامُ يَحُلُّ مَحَلَّ مَا يَتَقَلَّصُ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ لَيْلًا حَالِكًا مُحِيطًا بِقِسْمٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ السَّمَاءُ جِنْسًا لِلسَّمَاوَاتِ فَإِضَافَةُ لَيْلٍ وضحى إِلَى السَّمَاوَاتِ لِأَنَّهُمَا يَلُوحَانِ فِي جهاتها. [30- 32] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 30 إِلَى 32] وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) وانتقل الْكَلَامُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَقْرَبُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِمْ وَمَا يُوجَدُ عَلَى الْأَرْضِ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ أَوِ الْإِجْمَالِ الْقَرِيبِ مِنَ التَّفْصِيلِ. وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِدِلَالَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ قُدِّمَ اسْمُ الْأَرْضَ عَلَى فِعْلِهِ وَفَاعِلِهِ فَانْتُصِبَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَالِاشْتِغَالُ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدًا بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الْعَامِلِ فِي الْمُشْتَغَلِ عَنْهُ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ الْمُشْتَغِلُ بِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُقَدَّمِ. وَالدَّحْوُ وَالدَّحْيُ يُقَالُ: دَحَوْتُ وَدَحَيْتُ. وَاقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى الْوَاوِيِّ وَهُوَ الْجَارِي فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ: الْبَسْطُ وَالْمَدُّ بِتَسْوِيَةٍ. وَالْمَعْنَى: خَلَقَهَا مَدْحُوَّةً، أَيْ مَبْسُوطَةً مُسَوَّاةً. وَالْإِشَارَةُ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَ ذلِكَ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النازعات: 27، 28] ، أَيْ بَعْدَ خَلَقَ السَّمَاءَ خَلَقَ الْأَرْضَ مَدْحُوَّةً.

وَالْبَعْدِيَّةُ ظَاهِرُهَا: تَأَخُّرُ زَمَانِ حُصُولِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَظْهَرُ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ بَعْدَ السَّمَاوَاتِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ، وَهُوَ الَّذِي تُؤَيِّدُهُ أَدِلَّةُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [29] ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ مِمَّا ظَاهِرُهُ كَظَاهِرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْوِيلُهُ وَاضِحٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَعْدِيَّةُ مَجَازًا فِي نُزُولِ رُتْبَةِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ بَعْدَ عَنْ رُتْبَةِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَم: 13] . وَجُمْلَةُ أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ دَحاها لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ دَحْوِهَا بِمُقْتَضَى مَا يُكَمِّلُ تَيْسِيرَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةَ أَخْرَجَ مِنْها ماءَها إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ دَحاها لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ. وَالْمَرْعَى: مَفْعَلٌ مِنْ رَعَى يَرْعَى، وَهْوَ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَخْرَجَ مِنْهَا مَا يُرْعَى. وَالرَّعْيُ: حَقَيْقَتُهُ تَنَاوُلُ الْمَاشِيَةِ الْكَلَأَ وَالْحَشِيشَ وَالْقَصِيلَ. فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرْعَى اكْتِفَاءٌ عَنْ ذِكْرِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرْعَى يَدُلُّ عَلَى لُطْفِ اللَّهِ بِالْعَجْمَاوَاتِ فَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ اللُّطْفَ بِالْإِنْسَانِ أَحْرَى بِدِلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 33] . وَقَدْ دَلَّ بِذِكْرِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى عَلَى جَمِيعِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ قُوتًا لِلنَّاسِ وَلِلْحَيَوَانِ حَتَّى مَا تُعَالَجُ بِهِ الْأَطْعِمَةُ مِنْ حَطَبٍ لِلطَّبْخِ فَإِنَّهُ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَحَتَّى الْمِلْحُ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي عَلَى الْأَرْضِ. وَنَصْبُ وَالْجِبالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقَةِ نَصْبِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى ماءَها وَمَرْعاها وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَخْرَجَ مِنْهَا جِبَالَهَا، فَتَكُونُ (الْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِثْلَ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] أَيْ مَأْوَى مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَإِنَّ الْجِبَالَ قِطَعٌ مِنَ الْأَرْضِ نَاتِئَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

[سورة النازعات (79) : آية 33]

وَإِرْسَاءُ الْجِبَالِ: إِثْبَاتُهَا فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: رَسَتِ السَّفِينَةُ، إِذَا شُدَّتْ إِلَى الشَّاطِئِ فَوَقَفَتْ عَلَى الْأَنْجَرِ، وَيُوصَفُ الْجَبَلُ بِالرُّسُوِّ حَقِيقَةً كَمَا فِي «الْأَسَاسِ» ، قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ يَذْكُرُ جَبَلَهُمْ: رَسَا أَصْلُهُ فَوْقَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ ... إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ لَا يُنَالُ طَوِيلُ وَإِثْبَاتُ الْجِبَالِ: هُوَ رُسُوخُهَا بِتَغَلْغُلِ صُخُورِهَا وَعُرُوقِ أَشْجَارِهَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ ذَاتَ صُخُورٍ سَائِخَةٍ إِلَى بَاطِنِ الْأَرْضِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَزَعْزَعَتْهَا الرِّيَاحُ، وَخُلِقَتْ تَتَخَلَّلُهَا الصُّخُورُ وَالْأَشْجَارُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَهَيَّلَتْ أَتْرِبَتُهَا وَزَادَهَا فِي ذَلِكَ أَنَّهَا جُعِلَتْ أَحْجَامُهَا مُتَنَاسِبَةً بِأَنْ خُلِقَتْ مُتَّسِعَةَ الْقَوَاعِدِ ثُمَّ تَتَصَاعَدُ مُتَضَائِقَةً. وَمِنْ مَعْنَى إِرْسَائِهَا: أَنَّهَا جُعِلَتْ مُنْحَدِرَةً لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ الصُّعُودِ فِيهَا بِسُهُولَةٍ كَمَا يَتَمَكَّنُ الرَّاكِبُ مِنْ رُكُوبِ السَّفِينَةِ الرَّاسِيَةِ وَلَوْ كَانَتْ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ مَا تمكن الرَّاكِب مِنْ رُكُوبِهَا إِلَّا بِمَشَقَّة. [33] [سُورَة النازعات (79) : آيَة 33] مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) (الْمَتَاعُ) يُطْلَقُ عَلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مُدَّةً، فَفِيهِ مَعْنَى التَّأْجِيلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] ، وَهُوَ هُنَا اسْمُ مَصْدَرِ مَتَّعَ، أَيْ إِعْطَاءٌ لِلِانْتِفَاعِ زَمَانًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَانْتُصِبَ مَتاعاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَتَّعْنَاكُمْ مَتَاعًا. وَلَامُ لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى خَلْقِ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَذَلِكَ فِي الْأَرْضِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْجِبَالُ فَلِأَنَّهَا مُعْتَصَمُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَفِيهَا مَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ تَكُونُ فِي الْجِبَالِ مَأْمُونَةً مِنَ الْغَارَةِ عَلَيْهَا عَلَى غِرَّةٍ. وَهَذَا إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِإِثَارَةِ شُكْرِهِمْ حَقَّ النِّعْمَةِ بِأَنْ يَعْبُدُوا الْمُنْعِمَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] إِلَى وَلِأَنْعامِكُمْ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ ثمَّ التَّقْسِيم.

[سورة النازعات (79) : الآيات 34 إلى 41]

[سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 34 إِلَى 41] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [النازعات: 27] الْآيَاتِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ يَقْتَضِي الْجَزَاءَ إِذْ هُوَ حِكْمَتُهُ. وَإِذَا اقْتَضَى الْجَزَاءَ كَانَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْمَلَ لِجَزَاءِ الْحُسْنَى وَيَجْتَنِبَ مَا يُوقِعُ فِي الشَّقَاءِ وَأَنْ يَهْتَمَّ بِالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ فَيُؤْثِرَهَا وَلَا يَكْتَرِثَ بِنَعِيمٍ زَائِلٍ فَيَتَوَرَّطَ فِي اتِّبَاعِهِ، فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَى دَلِيلِ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ تَذْكِيرٌ بِالْجَزَاءَيْنِ، وَإِرْشَادٌ إِلَى النَّجْدَيْنِ. وَإِذْ قَدْ قُدِّمَ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ تَحْذِيرٌ إِجْمَالِيٌّ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [النازعات: 6] الْآيَةَ كَمَا يُذْكَرُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ الْقِيَاسِ فِي الْجَدَلِ، جِيءَ عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ التَّحْذِيرِ مَعَ قَرْنِهِ بِالتَّبْشِيرِ لِمَنْ تَحَلَّى بِضِدِّهِ فَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنِ الْبَعْثِ ابْتِدَاءً بِالرَّاجِفَةِ لِأَنَّهَا مَبْدَؤُهُ، ثُمَّ بِالزَّجْرَةِ، وَأَخِيرًا بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى لِمَا فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ مَعْنًى يَشْمَلُ الرَّاجِفَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَهْوَالِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَقَرِّهِ. وَمِنْ تَمَامِ الْمُنَاسَبَةِ لِلتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وُقُوعُهُ عَقِبَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ، وَالِامْتِنَانُ بِمَا هَيَّأَ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا بِهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِك يَنْتَهِي عِنْد مَا يَحِينُ يَوْمُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14] فَإِنَّ الطَّامَّةَ هِيَ الزَّجْرَةُ. وَمَنَاطُ التَّفْرِيعِ هُوَ مَا عَقَّبَهُ مِنَ التَّفْصِيلِ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ طَغى إِلَخْ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ تَفْرِيعُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ. (وَإِذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْفِعْلِ الْمَاضِي صُرِفَ إِلَى

الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بَعْدَ (إِذا) بِفعل الْمَاضِي لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا يُفِيدُهُ (إِذَا) مِنْ تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ. وَالْمَجِيءُ: هُنَا مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ وَالْوُقُوعِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُوَقَّتَ الْمُؤَجَّلَ بِأَجَلٍ يُشْبِهُ شَخْصًا سَائِرًا إِلَى غَايَةٍ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْمُؤَجَّلُ عِنْدَ أَجَلِهِ فَكَأَنَّهُ السائر إِلَى، إِذا بَلَغَ الْمَكَانَ الْمَقْصُودَ. وَالطَّامَّةُ: الْحَادِثَةُ، أَوِ الْوَقْعَةُ الَّتِي تَطِمُّ، أَيْ تَعْلُو وَتَغْلِبُ بِمَعْنَى تَفُوقُ أَمْثَالَهَا مِنْ نَوْعِهَا بِحَيْثُ يَقِلُّ مِثْلُهَا فِي نَوْعِهَا، مَأْخُوذٌ مَنْ طَمَّ الْمَاءُ، إِذَا غَمَرَ الْأَشْيَاءَ وَهَذَا الْوَصْفُ يُؤْذِنُ بِالشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ إِذْ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمَهُولَةِ ثُمَّ بُولِغَ فِي تَشْخِيصِ هَوْلِهَا بِأَنْ وُصِفَتْ بِ الْكُبْرى فَكَانَ هَذَا أَصْرَحَ الْكَلِمَاتِ لِتَصْوِيرِ مَا يقارن هَذِه الْحَادِثَةَ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى: الْقِيَامَةُ وَقَدْ وُصِفَتْ بِأَوْصَافٍ عَدِيدَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ الصَّاخَّةِ وَالْقَارِعَةِ وَالرَّاجِفَةِ وَوُصِفَتْ بِالْكُبْرَى. ويَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى بَدَلٌ من جملَة إِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَوْمٌ هُوَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا زَمَنُ مَجِيءِ الطَّامَّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيَوْمُ الْحِسَابِ. وَتَذَكُّرُ الْإِنْسَانِ مَا سَعَاهُ: أَنْ يُوقَفَ عَلَى أَعْمَالِهِ فِي كِتَابِهِ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ مُطَاوِعُ ذَكَّرَهُ. وَالتَّذَكُّرُ يَقْتَضِي سَبْقَ النِّسْيَانِ وَهُوَ انْمِحَاءُ الْمَعْلُومِ مِنَ الْحَافِظَةِ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ يُذَكَّرُ الْإِنْسَانُ فَيَتَذَكَّرُ، أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ فَيَعْتَرِفُ بِهِ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّذَكُّرِ إِلَّا أَثَرُهُ، وَهُوَ الْجَزَاءُ فَكُنِّيَ بِالتَّذَكُّرِ عَنِ الْجَزَاءِ قَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: 14] . وَتَبْرِيزُ الْجَحِيمِ: إِظْهَارُهَا لِأَهْلِهَا. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَاعَفِ لِإِفَادَةِ إِظْهَارِ الْجَحِيمِ لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِأَجْلِ الْإِرْهَابِ. وَالْجَحِيمُ: جَهَنَّمُ. وَلِذَلِكَ قُرِنَ فِعْلُهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ جَهَنَّمَ مُؤَنَّثَةٌ فِي

الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ هُوَ بِتَأْوِيلِ النَّارِ، وَالْجَحِيمُ كُلُّ نَارٍ عَظِيمَةٍ فِي حُفْرَةٍ عَمِيقَةٍ. وَبُنِيَ فِعْلُ بُرِّزَتِ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ الْغَرَضِ بِبَيَانِ مُبَرِّزِهَا إِذِ الْمَوْعِظَةُ فِي الْإِعْلَامِ بِوُقُوعِ إِبْرَازِهَا يَوْمَئِذٍ. ولِمَنْ يَرى، أَيْ لِكُلِّ رَاءٍ، فَفِعْلُ يَرى مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لِمَنْ لَهُ بَصَرٌ، كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ: أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعٍ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ طَغى رَابِطَةٌ لِجَوَابِ (إِذَا) لِأَنَّ جُمْلَةَ مَنْ طَغى إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ (إِذَا) فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ (إِذَا) وَبَيْنَ جَوَابِهَا ارْتِبَاطٌ لَفْظِيٌّ فَلِذَلِكَ تُجْلَبُ الْفَاءُ لِرَبْطِ الْجَوَابِ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَأَمَّا فِي الْمَعْنَى فَيُعْلَمُ أَنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ الَّذِي بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَ (أَمَّا) حَرْفُ تَفْصِيلٍ وَشَرْطٍ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ. وَالطُّغْيَانُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ آنِفًا. وَالْمُرَادُ هُنَا: طَغَى عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ. وَقُدِّمَ ذِكْرُ الطُّغْيَانِ عَلَى إِيثَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الطُّغْيَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ إِيثَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَلَمَّا كَانَ مُسَبَّبًا عَنْهُ ذُكِرَ عَقِبَهُ مُرَاعَاةً لِلتَّرَتُّبِ الطَّبِيعِيِّ. وَالْإِيثَارُ: تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ فِي حَالٍ لَا يَتَيَسَّرُ فِيهَا الْجَمْعُ بَيْنَ أَحْوَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَيُعَدَّى فِعْلُ الْإِيثَارِ إِلَى اسْمِ الْمَأْثُورِ بِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَيُعَدَّى إِلَى الْمَأْثُورِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا [يُوسُف: 91] ، وَقَدْ يُتْرَكُ ذِكْرُ الْمَأْثُورِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ ذِكْرُ الْمَأْثُورِ يُشِيرُ إِلَيْهِ كَمَا إِذَا كَانَ الْمَأْثُورُ وَالْمَأْثُورُ عَلَيْهِ ضِدَّيْنِ كَمَا هُنَا لِمَا هُوَ شَائِعٌ مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ يُتْرَكُ ذِكْرُ الْمَأْثُورِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الْمَأْثُورِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ هُوَ الْأَهَمَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْحَشْر: 9] لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ يُؤْثِرُونَ الْفُقَرَاءَ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا حُظُوظُهَا وَمَنَافِعُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا، أَيِ الَّتِي لَا تُشَارِكُهَا فِيهَا حُظُوظُ الْآخِرَةِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: نَعِيمَ الْحَيَاةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ فِعْلِ الْإِيثَارِ أَنَّ مَعَهُ نَبْذًا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَيَرْجِعُ إِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى إِرْضَاءِ هَوَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كِلَا الْحَظَّيْنِ بِالتَّوْقِيفِ الْإِلَهِيِّ كَمَا عُرِفَ الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَالْبَطَرُ وَالصَّلَفُ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ. وَمِلَاكُ هَذَا الْإِيثَارِ هُوَ الطُّغْيَانُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ سَادَتَهُمْ وَمُسَيِّرِيهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ وَلَكِنَّهُمْ يَكْرَهُونَ مُتَابَعَته استكبارا عَن أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلْغَيْرِ فَتَضِيعَ سِيَادَتُهُمْ. وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمُفَادَ بَيَانًا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ الْآيَةَ. وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ مَنَاطَ الذَّمِّ فِي إِيثَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ إِيثَارُهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الْأَخْذُ بِحُظُوظِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا يُفِيتُ الْأَخْذُ بِهَا حُظُوظَ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَهُوَ مَقَامُ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ صَالِحِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَوْلِهِمْ لِقَارُونَ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: 77] . وَقَوْلُهُ: مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: مَنْ طَغى لِأَنَّ الْخَوْفَ ضِدُّ الطُّغْيَانِ وَقَوْلُهُ: نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَنَهْيُ الْخَائِفِ نَفْسَهُ مُسْتَعَارٌ لِلِانْكِفَافِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْهَوَى، فَجُعِلَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يَدْعُوهُ إِلَى السَّيِّئَاتِ وَهُوَ يَنْهَاهُ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ، يَقُولُونَ: قَالَتْ لَهُ نَفْسُهُ كَذَا فَعَصَاهَا، وَيُقَالُ: نَهَى قَلْبَهُ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ: وَإِذَا وَجَدْتُ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةً ... شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا وَالْمُرَادُ بِ الْهَوى مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، فَهُوَ مَا تَرْغَبُ فِيهِ قُوَى النَّفْسِ الشَّهَوِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ مِمَّا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَالنَّفْعَ الْكَامِلَ. وَشَاعَ الْهَوَى فِي الْمَرْغُوبِ الذَّمِيمِ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] أَنَّ بِغَيْرِ هُدىً حَال فمؤكدة لَيْسَتْ تَقْيِيدًا إِذْ لَا يَكُونُ الْهَوَى إِلَّا بِغَيْرِ هُدًى. وَتَعْرِيفُ الْهَوى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَأْوى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مَأْوَى مَنْ طَغَى، وَمَأْوَى مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَهُوَ تَعْرِيفٌ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ (مَأْوَى) وَمَثَلُهُ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: غُضَّ الطَّرْفَ (¬1) ، أَيِ الطَّرْفَ الْمَعْهُودَ مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ غُضَّ طَرْفَكَ. وَقَوْلِهِ: وَامْلَأِ السَّمْعَ، أَيْ سَمْعَكَ (¬2) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَافِ: 46] ، أَيْ عَلَى أَعْرَافِ الْحِجَابِ، وَلِذَلِكَ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ الْمَأْوَى لَهُ أَوْ مَأْوَاهُ عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَيُسَمِّي نُحَاةُ الْكُوفَةِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ هَذِهِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهِيَ تَسْمِيَةٌ حَسَنَةٌ لِوُضُوحِهَا وَاخْتِصَارِهَا، وَيَأْبَى ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ، وَهُوَ خِلَافٌ ضَئِيلٌ، إِذِ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمَأْوَى: اسْمُ مَكَانٍ مِنْ أَوَى، إِذَا رَجَعَ، فَالْمُرَادُ بِهِ: الْمَقَرُّ وَالْمَسْكَنُ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَذْهَبُ إِلَى قَضَاءِ شُؤُونِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ. ومَقامَ رَبِّهِ مَجَازٌ عَنِ الْجَلَالِ وَالْمَهَابَةِ وَأَصْلُ الْمَقَامِ مَكَانُ الْقِيَامِ فَكَانَ أَصْلُهُ مَكَانَ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى نَفْسِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ بِتَعْظِيمِ الْمَكَانِ عَنْ تَعْظِيمِ صَاحِبِهِ، مِثْلُ أَلْفَاظِ: جَنَابٍ، وَكَنَفٍ، وَذَرًى، قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] وَقَالَ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي [إِبْرَاهِيم: 14] وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ إِلَى الْمُكَنَّى عَنْهُ فَإِنَّ خَوْفَ مَقَامِ اللَّهِ مُرَادٌ بِهِ خَوْفُ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِالنِّسْبَةِ مَا يَشْمَلُ التَّعَلُّقَ بِالْمَفْعُولِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى مُحَسِّنُ الْجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ. ¬

(¬1) فِي قَول الفرزدق: فغض الطّرف إِنَّك من نمير ... فَلَا كَعْبًا بلغت وَلَا كلابا (¬2) فِي قَول البوصيري: واملأ السّمع من محَاسِن يم ... ليها عَلَيْهَا الإنشاد والإملاء

[سورة النازعات (79) : الآيات 42 إلى 45]

وَتَعْرِيفُ النَّفْسَ فِي قَوْلِهِ: وَنَهَى النَّفْسَ هُوَ مِثْلُ التَّعْرِيفِ فِي الْمَأْوى وَفِي تَعْرِيفِ «أَصْحَابِ الْجَحِيمِ» وَ «أَصْحَابِ الْجَنَّةِ» بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصِّلَتَيْنِ عِلَّتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِك المأوى. [42- 45] [سُورَة النازعات (79) : الْآيَات 42 إِلَى 45] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ حُلُولِ السَّاعَةِ الَّتِي يَتَوَعَّدُهُمْ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] . وَكَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِهْزَاءً وَاسْتِخْفَافًا لِأَنَّهُمْ عَقَدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى اسْتِحَالَةِ وُقُوعِ السَّاعَةِ وَرُبَّمَا طَلَبُوا التَّعْجِيلَ بِوُقُوعِهَا وَأَوْهَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَشْيَاعَهُمْ أَنَّ تَأَخُّرَ وُقُوعِهَا دَلِيلٌ عَلَى الْيَأْسِ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ صَادِقًا لَحَمِيَ غَضَبُ اللَّهِ مُرْسِلِهِ سُبْحَانَهُ فَبَادَرَ بِإِرَاءَتِهِمُ الْعَذَابَ وَهُمْ يَتَوَهَّمُونَ شُؤُونَ الْخَالِقِ كَشِؤُونَ النَّاسِ إِذَا غَضِبَ أَحَدُهُمْ عَجَّلَ بِالِانْتِقَامِ طَيْشًا وَحَنَقًا قَالَ تَعَالَى: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الْكَهْف: 58] . فَلَا جَرَمَ لَمَّا قُضِيَ حَقُّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَعُرِّضَ بعقاب الَّذين استحقوا بِهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [النازعات: 34] ، كَانَ ذَلِكَ مَثَارًا لِسُؤَالِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ لِمَجِيءِ هَذِهِ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى وَقْتٌ مَعْلُومٌ؟ فَكَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا هَذَا الِاسْتِئْنَافَ الْبَيَانِيَّ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَقَامِ وَجَوَابًا عَنْ سَابِقِ الْكَلَامِ. فَضَمِيرُ «يَسْأَلُونَ» عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ الْوَاجِفَةِ وَالَّذِينَ قَالُوا: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] .

وَحُكِيَ فِعْلُ السُّؤَالِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ هَذَا السُّؤَالِ وَتَكَرُّرِهِ. وَالسَّاعَةُ: هِيَ الطَّامَّةُ فَذِكْرُ السَّاعَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِمَدْلُولِهَا مَعَ تَفَنُّنٍ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِهَذَيْنِ الاسمين الطَّامَّةُ [النازعات: 34] والسَّاعَةِ وأَيَّانَ مُرْساها جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلسُّؤَالِ. وأَيَّانَ اسْمٌ يُسْتَفْهَمُ بِهِ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْعَادِ كِنَايَةً وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِحَالَةِ ومُرْساها مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِفِعْلِ أَرْسَى، وَالْإِرْسَاءُ: جَعْلُ السَّفِينَةِ عِنْدَ الشَّاطِئِ لِقَصْدِ النُّزُولِ مِنْهَا. وَاسْتُعِيرَ الْإِرْسَاءُ لِلْوُقُوعِ وَالْحُصُولِ تَشْبِيهًا لِلْأَمْرِ الْمُغَيَّبِ حُصُولُهُ بِسَفِينَةٍ مَاخِرَةِ الْبَحْرِ لَا يُعْرَفُ وُصُولُهَا إِلَّا إِذَا رَسَتْ، وَعَلَيْهِ فَ أَيَّانَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَوْلُهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ مِنْ إِرَادَةِ تَعْيِينِ وَقْتِهَا وَصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ إِرَادَتِهِمْ بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ، فَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ مِنْ تَلَقِّي السَّائِلِ بِغَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» ، أَيْ كَانَ الْأَوْلَى لَكَ أَنْ تَصْرِفَ عِنَايَتَكَ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِعْدَادًا لِيَوْمِ السَّاعَةِ. وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَقْصُودُ بُلُوغُهُ إِلَى مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ اعْتِبَارَ جَوَابٍ عَنْ كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مُقْتَضَى فَصْلِ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا شَأْنَ الْجَوَابِ وَالسُّؤَالِ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: فِيمَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيِّ شَيْءٍ؟ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِينَ عَنْهَا ثُمَّ تَوْبِيخِهِمْ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِجَعْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِحْفَائِهِمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحُوطًا

بِذِكْرِ وَقْتِ السَّاعَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسًا بِهِ تَلَبُّسَ الْعَالِمِ بِالْمَعْلُومِ فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْحَرْفِ. وَحَذْفُ أَلِفِ (مَا) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ حَرْفِ الْجَرِّ مِثْلَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] . وفِيمَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وأَنْتَ مُبْتَدَأٌ، ومِنْ ذِكْراها إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ أَوْ هُوَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. ومِنْ: إِمَّا مُبَيِّنَةٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، أَيْ فِي شَيْءٍ هُوَ ذِكْرَاهَا، أَيْ فِي شَيْءٍ هُوَ أَنْ تَذْكُرَهَا، أَيْ لَسْتَ مُتَصَدِّيًا لِشَيْءٍ هُوَ ذِكْرَى السَّاعَةِ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ فَهِيَ اتِّصَالِيَّةٌ وَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الِابْتِدَائِيَّةِ ابْتِدَاؤُهَا مَجَازِيٌّ، أَيْ لَسْتَ فِي شَيْءٍ يَتَّصِلُ بِذِكْرَى السَّاعَةِ وَيَحُومُ حَوْلَهُ، أَيْ مَا أَنْتَ فِي شَيْءٍ هُوَ ذِكْرُ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَلَى الثَّانِي: مَا أَنْتِ فِي صِلَةٍ مَعَ ذِكْرِ السَّاعَةِ، أَيْ لَا مُلَابَسَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ تَعْيِينِ وَقْتِهَا. وَتَقْدِيمُ فِيمَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ مَضْمُونَ الْخَبَرِ هُوَ مَنَاطُ الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ: أَأَنْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذِكْرَاهَا؟ وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ الذِّكْرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ. وَجُمْلَةُ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَى رَبِّكَ عِلْمُ مُنْتَهَاهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا إِلَيْكَ، وَهَذَا قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ. وَالْمُنْتَهَى: أَصْلُهُ مَكَانُ انْتِهَاءِ السَّيْرِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَصِيرِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ لَازِمٌ لِلِانْتِهَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْم: 42] ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْعِلْمِ، أَيْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، فَقَوْلُهُ: مُنْتَهاها هُوَ فِي الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عِلْمُ وَقْتِ حُصُولِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَيَّانَ مُرْساها وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهاها بِمَعْنَى بُلُوغِ خَبَرِهَا كَمَا يُقَالُ: أَنْهَيْتُ إِلَى فُلَانٍ حَادِثَةَ كَذَا، وَانْتَهَى إِلَيَّ نَبَأُ كَذَا.

وَقَوْلُهُ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ عَنْ وَجْهِ إِكْثَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَهَا وَأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَظُّهُ التَّحْذِيرُ مِنْ بِغْتَتِهَا، وَلَيْسَ حَظُّهُ الْإِعْلَامَ بِتَعْيِينِ وَقْتِهَا، عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اتَّخَذُوا إِعْرَاضَ الْقُرْآنِ عَنْ تَعْيِينِ وَقْتِهَا حُجَّةً لَهُمْ عَلَى إحالتها لأَنهم لجهلهم بِالْحَقَائِقِ يَحْسَبُونَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ تَبْرِئَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الْأَنْعَام: 50] . وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرَ الْمُخَاطَبِ عَلَى صِفَةِ الْإِنْذَارِ، أَيْ تَخْصِيصَهُ بِحَالِ الْإِنْذَارِ وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اعْتَقَدُوهُ فِيهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِلْحَافُهُمْ فِي السُّؤَالِ مِنْ كَوْنِهِ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ. وَقَوْلُهُ: مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُنْذِرُ إِلَى مَنْ يَخْشاها وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَنْوِينِ مُنْذِرُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَخْشاها مَفْعُولُهُ. وَفِي إِضَافَةِ مُنْذِرُ إِلَى مَنْ يَخْشاها أَوْ نَصْبِهِ بِهِ إِيجَازُ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: مُنْذِرُهَا فَيَنْتَذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ حَالِيَّةٌ لِلْعِلْمِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْذِرُ جَمِيعَ النَّاسِ لَا يَخُصُّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ فَإِنَّ آيَاتِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَقَامَاتِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا عَامَّةً. وَلَا يُعْرَفُ مَنْ يَخْشَى السَّاعَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُؤْمِنُ وَلَوْ عُرِفَ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَبَدًا لَمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ إِلَّا مَنْ يَخْشَى السَّاعَةَ وَمَنْ عَدَاهُ تَمُرُّ الدَّعْوَةُ بِسَمْعِهِ فَلَا يَأْبَهُ بِهَا، فَكَانَ ذِكْرُ مَنْ يَخْشاها تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَانًا لِمَزِيَّتِهِمْ وَتَحْقِيرًا لِلَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: 22، 23] . وَعَلَى هَذَا القانون يفهم لماذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ إِلَى نَاسٍ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَكَشَفَ الْوَاقِعُ عَلَى أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا مِثْلَ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بن الْمُغيرَة، وَلماذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ بِطَلَبِ التَّقْوَى مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَّقِي مِثْلَ دُعَّارِ الْعَرَبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَتْرُكُوا الْعُدْوَانَ وَالْفَوَاحِشَ، وَمِثْلَ أَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَكْفُرُوا مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ

[سورة النازعات (79) : آية 46]

وَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لِأَنَّ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَبْلُغُ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ وَلَا تَظْهَرُ نِهَايَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِمَسْأَلَة الموافاة. [46] [سُورَة النازعات (79) : آيَة 46] كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) جَوَابٌ عَمَّا تضمنه قَوْله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: 42] بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ حَالِ السُّؤَالِ مِنْ طَلَبِ الْمَعْرِفَةِ بِوَقْتِ حُلُولِ السَّاعَةِ وَاسْتِبْطَاءِ وُقُوعِهَا الَّذِي يَرْمُونَ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِ وُقُوعِهَا، فَأُجِيبُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ إِنْ طَالَ تَأَخُّرُ حُصُولِهَا فَإِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَأَنَّهُمْ يَوْمَ وُقُوعِهَا كَأَنَّهُ مَا لَبِثُوا فِي انْتِظَارٍ إِلَّا بَعْضَ يَوْمٍ. وَالْعَشِيَّةُ: مُعَبَّرٌ بِهَا عَنْ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَأَنَّهُمْ، فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِحَالَةِ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا عَشِيَّةً، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تقريب معنى المشبّه مِنَ الْمُتَعَارَفِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ ضُحاها تَخْيِيرٌ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] . وَفِي هَذَا الْعَطْفِ زِيَادَةٌ فِي تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ حِصَّةَ الضُّحَى أَقْصَرُ مِنْ حِصَّةِ الْعَشِيَّةِ. وَإِضَافَةُ (ضُحًى) إِلَى ضَمِيرِ (الْعَشِيَّةِ) جَرَى عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ شَائِعٍ فِي كَلَامِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أُضِيفَ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا، وَآتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا، وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي عُقَيْلٍ: نَحْنُ صَبَّحْنَا عَامِرًا فِي دَارِهَا ... جُرْدًا تَعَادَى طَرَفَيْ نَهَارِهَا عَشِيَّةَ الْهِلَالِ أَوْ سِرَارِهَا أَرَادَ عَشِيَّةَ الْهِلَالِ أَوْ عَشِيَّةَ سِرَارِ الْعَشِيَّةِ: فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا اهـ. وَمُسَوِّغُ الْإِضَافَةِ أَنَّ الضُّحَى أَسْبَقُ مِنَ الْعَشِيَّةِ إِذْ لَا تَقَعُ عَشِيَّةٌ إِلَّا بَعْدَ مُرُورِ ضُحًى، فَصَارَ ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ يُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَشِيَّةِ الْيَوْمِ لِأَنَّ الْعَشِيَّةَ

أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْعَشِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الضُّحَى، فَالْعَشِيَّةُ أَقْرَبُ وَالضُّحَى أَسْبَقُ. وَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ أَيْضًا رِعَايَةٌ عَلَى الْفَوَاصِلِ الَّتِي هِيَ عَلَى حَرْفِ الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ أَيَّانَ مُرْساها وَبِانْتِهَاءِ هَاتِهِ السُّورَةِ انْتَهَتْ سُوَرُ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ الَّتِي مَبْدَؤُهَا سُورَةُ الْحُجُرَاتِ.

80- سورة عبس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 80- سُورَةُ عَبَسَ سميت هَذِه الصُّورَة فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ «سُورَةَ عبس» . وَفِي أ «حكام ابْنِ الْعَرَبِيِّ» عَنْوَنَهَا «سُورَةَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» . وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: تُسَمَّى «سُورَةَ الصَّاخَّةِ» . وَقَالَ الْعَيْنِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» تُسَمَّى «سُورَةَ السَّفَرَةِ» ، وَتُسَمَّى سُورَةَ «الْأَعْمَى» ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَسْمِيَةٌ بِأَلْفَاظٍ وَقَعَتْ فِيهَا لَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ أَوْ بِصَاحِبِ الْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِهَا. وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ وَهُوَ عَبَسَ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ فِي «الْعَارِضَةِ» : لَمْ يُحَقِّقِ الْعُلَمَاءُ تَعْيِينَ النَّازِلِ بِمَكَّةَ مِنَ النَّازِلِ بِالْمَدِينَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يُحَقَّقُ وَقْتُ إِسْلَامِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَلَا مُحَصَّلَ لِكَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَعُدَّتِ الرَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ (وَالنَّجْمِ) وَقَبْلَ سُورَةِ (الْقَدْرِ) . وَعَدَدُ آيِهَا عِنْدَ الْعَادِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ وَأهل الْكُوفَة اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَرْبَعُونَ. وَهِيَ أُولَى السُّوَرِ مِنْ أَوَاسِطِ الْمُفَصَّلِ. وَسَبَبُ نُزُولهَا يَأْتِي ذكره عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] .

أغراضها

أغراضها تَعْلِيم الله رَسُوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُوَازَنَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْمَصَالِحِ وَوُجُوبَ الاستقراء لخفياتها كَيْلا يُفِيتَ الِاهْتِمَامُ بِالْمُهِمِّ مِنْهَا فِي بادىء الرَّأْيِ مُهِمًّا آخَرَ مُسَاوِيًا فِي الْأَهَمِّيَّةِ أَوْ أَرْجَحَ. وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ: إِنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُعَارِضِ الدَّلِيلِ الَّذِي لَاحَ لَهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُقْبِلِينَ عَلَى تَتَبُّعِ مَوَاقِعِهِ. وَقَرْنُ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِإِكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَسُمُوِّ دَرَجَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّنَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ لِمَنْ رَغِبَ فِي عِلْمِهِ. وَانْتُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ شِدَّةِ الْكُفْرِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ بِمُكَابَرَةِ الدَّعْوَةِ الَّتِي شَغَلَتِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى رَغْبَةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حِينَ حُضُورِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا عُنِيَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ هُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي تَصْمِيمِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْمُحَالِ، فَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ بِالْخَلْقِ الَّذِي خُلِقَهُ الْإِنْسَانُ، وَاسْتُدِلَّ بَعْدَهُ بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ مِنْ أَرْضٍ مَيْتَةٍ. وَأُعْقِبَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْإِنْذَارِ بِحُلُولِ السَّاعَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ أَهْوَالِهَا وَبِمَا يَعْقُبُهَا مِنْ ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ وَعِقَابِ الْجَاحِدِينَ. وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ عَسَى أَنْ يَشْكُرُوهُ. وَالتَّنْوِيهُ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلُوِّ قَدْرِهِمْ وَوُقُوعِ الْخَيْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَالْخَشْيَةِ، وَأَنَّهُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْغِنَى الَّذِينَ فَقَدُوا طَهَارَةَ النَّفْسِ، وَأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالتَّحْقِيرِ وَالذَّمِّ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْكفْر والفجور.

[سورة عبس (80) : الآيات 1 إلى 4]

[سُورَة عبس (80) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِفِعْلَيْنِ مُتَحَمِّلَيْنِ لِضَمِيرٍ لَا مَعَادَ لَهُ فِي الْكَلَامِ تَشْوِيقٌ لِمَا سَيُورَدُ بَعْدَهُمَا، وَالْفِعْلَانِ يُشْعِرَانِ بِأَنَّ الْمَحْكِيَّ حَادِثٌ عَظِيمٌ، فَأَمَّا الضَّمَائِرُ فَيُبَيِّنُ إِبْهَامَهَا قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6] وَأَمَّا الْحَادِثُ فَيَتَبَيَّنُ مِنْ ذِكْرِ الْأَعْمَى وَمَنِ اسْتَغْنَى. وَهَذَا الْحَادِثُ سَبَبُ نزُول هَذِه الْآيَات مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْله: بَرَرَةٍ [عبس: 16] . وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» مُرْسَلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَدْنِنِي، وَعند النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ (أَيْ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ: «لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقول يأسا» ، فَأُنْزِلَتْ: عَبَسَ وَتَوَلَّى وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُوم جَاءَ يستقرىء النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِ الْأَعْمى هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقِيلَ: اسْمُهُ عَمْرٌو، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِي «الْإِصَابَةِ» ، وَهُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ. وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ، وَكُنِّيَتْ أَمَّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ وُلِدَ أَعْمَى وَالْأَعْمَى يُكَنَّى

عَنْهُ بِمَكْتُومٍ. وَنُسِبَ إِلَى أُمِّهِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بَيْتًا مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ لِأَنَّ بَنِي مَخْزُومٍ مِنْ أَهْلِ بُيُوتَاتِ قُرَيْشٍ فَوْقَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَهَذَا كَمَا نُسِبَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ إِلَى أُمِّهِ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ آكِلِ الْمُرَارِ زِيَادَةً فِي تشريفه بوراثة الْمُلْكِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ أَمَّ مَكْتُومٍ هِيَ أَمُّ أَبِيهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: إِنَّهُ وَهْمٌ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، وَتُوفِيَ بِالْقَادِسِيَّةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَآيَةُ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [95] . وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْغَزَوَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَكَانَ مُؤَذِّنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ. وَالْعُبُوسُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: تَقْطِيبُ الْوَجْهِ وَإِظْهَارُ الْغَضَبِ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَبُوسٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ مُتَقَطِّبٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: 10] . وَعَبَسَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَالتَّوَلِّي: أَصْلُهُ تحوّل الذَّات عَن مَكَانِهَا، وَيُسْتَعَارُ لِعَدَمِ اشْتِغَالِ الْمَرْءِ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِ أَوْ جَلِيسٍ يَحِلُّ عِنْدَهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِسُؤَالِ سَائِلٍ وَلِعَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَى الزَّائِرِ. وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ تَوَلَّى لِظُهُورِ أَنَّهُ تَوَلٍّ عَنِ الَّذِي مَجِيئُهُ كَانَ سَبَبَ التَّوَلِّي. وَعُبِّرَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِ الْأَعْمى تَرْقِيقًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الْعِتَابُ مَلْحُوظًا فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ ضَرَارَةٍ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالْعِنَايَةِ بِهِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ سَرِيعًا إِلَى انْكِسَارِ خَاطِرِهِ. وأَنْ جاءَهُ الْأَعْمى مَجْرُورٌ بِلَامِ الْجَرِّ مَحْذُوفٌ مَعَ أَنْ وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلَيْ عَبَسَ وَتَوَلَّى عَلَى طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ. وَالْعِلْمُ بِالْحَادِثَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَجِيءٌ خَاصٌّ وَأَعْمَى مَعْهُودٌ. وَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِتَابِ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَقْصُودِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ

وَهُوَ اقْتِصَارُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْحِرْصِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى مَنْ يَرْجُو مِنْهُ قَبُولَهَا مَعَ الذُّهُولِ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا يُقَارِنُ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيمِ مَنْ يَرْغَبُ فِي عِلْمِ الدِّينِ مِمَّنْ آمَنَ، وَلَمَّا كَانَ صُدُورُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُفَاتِحَهُ بِمَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ بَاعِثًا عَلَى أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَعْنِيَّ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَلَا يُفَاجِئُهُ الْعِتَابُ، وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقَعَ الْعِتَابُ فِي نَفْسِهِ مُدَرَّجًا وَذَلِكَ أَهْوَنُ وَقْعًا، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: 43] . قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالسَّمَرْقَنْدِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ حَتَّى سَكَنَ قَلْبُهُ اهـ. فَكَذَلِكَ تَوْجِيهُ الْعِتَابِ إِلَيْهِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ ثُمَّ جِيءَ بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ فَذِكْرُ الْأَعْمَى تُظْهِرُ الْمُرَادَ مِنَ الْقِصَّةِ وَاتَّضَحَ الْمُرَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. ثُمَّ جِيءَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنْ يُسْلِمُوا فَيُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ جُمْهُورُ قُرَيْشٍ أَوْ جَمِيعُهُمْ فَكَانَ دُخُولُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَطْعًا لِسِلْكِ الْحَدِيثِ وَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَدْنِنِي، عَلِّمْنِي، أَرْشِدْنِي، وَيُنَادِيهِ وَيُكْثِرُ النِّدَاءَ وَالْإِلْحَاحَ فَظَهَرَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ لِقَطْعِهِ عَلَيْهِ كَلَامَهُ وَخَشْيَتِهِ أَنْ يَفْتَرِقَ النَّفَرُ الْمُجْتَمِعُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ اسْتَقْرَأَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ. وَجُمْلَةُ وَما يُدْرِيكَ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. (وَمَا يُدْرِيكَ) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَفِعْلِ الدِّرَايَةِ الْمُقْتَرِنِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ مَا يَجْعَلُكَ دَارِيًا أَيْ عَالِمًا. وَمِثْلُهُ: مَا أَدْراكَ كَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 3] . وَمِنْهُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [109] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذِهِ التَّرَاكِيبِ مُرَادٌ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَغْفُولٍ عَنْهُ ثُمَّ تَقَعُ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ نَحْوَ مَا أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 3] وَنَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى

وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا. وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. قَالَ الرَّاغِبُ: مَا ذُكِرَ مَا أَدْرَاكَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَذُكِرَ بَيَانُهُ بَعْدَهُ اهـ. قُلْتُ: فَقَدْ يُبَيِّنُهُ تَفْصِيلٌ مِثْلَ قَوْلِهِ هُنَا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: 2- 3] وَقَدْ يَقَعُ بَعْدَهُ مَا فِيهِ تَهْوِيلٌ نَحْوَ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 10] أَيْ مَا يُعْلِمُكَ حَقِيقَتَهَا وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 3] أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ جَوَابَ: مَا الْحَاقَّةُ وَفِعْلُ: يُدْرِيكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ لِوُرُودِ حَرْفِ (لَعَلَّ) بَعْدَهُ فَإِنَّ (لَعَلَّ) مِنْ مُوجِبَاتِ تَعْلِيقِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي «التَّذْكِرَةِ» إِلْحَاقًا لِلتَّرَجِّي بِالِاسْتِفْهَامِ فِي أَنَّهُ طَلَبٌ. فَلَمَّا عُلِّقَ فِعْلُ يُدْرِيكَ عَنِ الْعَمَلِ صَارَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ وَبَقِيَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَة الَّتِي فِيهِ فَصَارَ مَا بَعْدَهُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً. وَالتَّذَكُّرُ: حُصُولُ أَثَرِ التَّذْكِيرِ، فَهُوَ خُطُورُ أَمْرٍ مَعْلُومٍ فِي الذِّهْنِ بَعْدَ نِسْيَانِهِ إِذْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ. وَالْمَعْنَى: انْظُرْ فَقَدْ يَكُونُ تَزَكِّيهِ مَرْجُوًّا، أَيْ إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِالْإِرْشَادِ زَادَ الْإِيمَانُ رُسُوخًا فِي نَفْسِهِ وَفَعَلَ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً مِمَّا تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ فَزَادَ تَزَكِّيهِ، فَالْمُرَادُ بِ «يَتَزَكَّى» تَزْكِيَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى تَزْكِيَة الْإِيمَان بالتملّي بِفَضَائِلِ شَرَائِعِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ مِمَّا يُفِيضُهُ هَدْيُكَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ» إِذِ الْهُدَى الَّذِي يزْدَاد بِهِ الْمُؤمن رِفْعَةً وَكَمَالًا فِي دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ هُوَ كَاهْتِدَاءِ الْكَافِرِ إِلَى الْإِيمَانِ لَا سِيَّمَا إِذِ الْغَايَةُ مِنَ الِاهْتِدَاءَيْنِ وَاحِدَةٌ. ويَزَّكَّى أَصْلُهُ: يَتَزَكَّى، قُلِبَتِ التَّاءُ زَايًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا قَصْدًا لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ وَكَذَلِكَ فُعِلَ فِي يَذَّكَّرُ مِنَ الْإِدْغَامِ. وَالتَّزَكِّي: مُطَاوِعُ زَكَّاهُ، أَيْ يَحْصُلُ أَثَرُ التَّزْكِيَةِ فِي نَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ.

[سورة عبس (80) : الآيات 5 إلى 6]

وَجُمْلَةُ أَوْ يَذَّكَّرُ عَطْفٌ عَلَى يَزَّكَّى، أَيْ مَا يُدْرِيكَ أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَكِلَاهُمَا مُهِمٌّ، أَيْ تَحْصُلُ الذِّكْرَى فِي نَفْسِهِ بِالْإِرْشَادِ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَوْ تَذَكُّرٌ لِمَا كَانَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ. وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ التَّذْكِيرِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى اكْتِفَاءٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَيَنْفَعُهُ التَّزَكِّي وَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى لِظُهُورِ أَنَّ كِلَيْهِمَا نَفْعٌ لَهُ. وَالذِّكْرَى: هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [الْقَلَم: 52] فَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلَ عَنْهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَنْفَعَهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى «يَذَّكَّرُ» . وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [5، 6] [سُورَة عبس (80) : الْآيَات 5 إِلَى 6] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمَّا فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ أَنَّهَا بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ، فَقَوْلُهُ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى تَفْسِيرُهُ مَهْمَا يَكُنِ الَّذِي اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، أَيْ مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَالَّذِي اسْتَغْنَى تَتَصَدَّى لَهُ، وَالْمَقْصُودُ: أَنْتَ تَحْرِصُ عَلَى التَّصَدِّي لَهُ، فَجُعِلَ مَضْمُونُ الْجَوَابِ وَهُوَ التَّصَدِّي لَهُ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ مَنِ اسْتَغْنَى وَمُلَازِمًا لَهُ مُلَازَمَةَ التَّعْلِيقِ الشَّرْطِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَالِاسْتِغْنَاءُ: عَدُّ الشَّخْصِ نَفْسَهُ غَنِيًّا فِي أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ قَوْلٌ، أَوْ فِعْلٌ أَوْ عِلْمٌ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، أَيْ حَسِبَ نَفْسَهُ غَنِيًّا، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي التَّكَبُّرِ وَالِاعْتِزَازِ بِالْقُوَّةِ. فَالْمُرَادُ بِ مَنِ اسْتَغْنى هُنَا: مَنْ عَدَّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنْ هَدْيِكَ بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ أَجَابَ قَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا، بِقَوْلِهِ: لَا والدماء ... » كِنَايَة عَن أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ يُرِيدُ وَلَكِنِّي غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِ مَنِ اسْتَغْنى مَنِ اسْتَغْنَى بِالْمَالِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ فِي إِيثَارِ صَاحِبِ مَالٍ عَلَى فَقِيرٍ.

[سورة عبس (80) : آية 7]

وَهَذَا الَّذِي تَصَدَّى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدَعْوَتِهِ وَعَرَضَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ هُوَ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُظْهَرًا قَبْلَ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ دُونَ اسْتِتَارِهِ فِي الْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقَوِّي كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَصَدَّى لَهُ تَصَدِّيًا، فَمَنَاطُ الْعِتَابِ هُوَ التَّصَدِّي الْقَوِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ فَأَنْتَ لَا غَيْرُكَ تَتَصَدَّى لَهُ، أَيْ ذَلِكَ التَّصَدِّي لَا يَلِيقُ بِكَ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ، أَيْ لَوْ تَصَدَّى لَهُ غَيْرُكَ لَكَانَ هَوْنًا، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَا يَتَصَدَّى مِثْلُكَ لِمِثْلِهِ فَمَنَاطُ الْعِتَابِ هُوَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَلِيلِ قَدْرِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى إِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الصَّادِ. وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَالتَّصَدِّي: التَّعَرُّضُ، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِقْبَالِ الشَّديد مجَازًا. [7] [سُورَة عبس (80) : آيَة 7] وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [عبس: 5] وَجُمْلَةِ: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى [عبس: 8] ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَا نَافِيَةٌ وعَلَيْكَ خَبَرٌ مقدم. والمبتدأ أَلَّا يَزَّكَّى، وَالْمَعْنَى: عَدَمُ تَزَكِّيهِ لَيْسَ مَحْمُولًا عَلَيْكَ، أَيْ لَسْتَ مُؤَاخَذًا بِعَدَمِ اهْتِدَائِهِ حَتَّى تَزِيدَ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَرْغِيبِهِ فِي الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُكَلِّفْكَ اللَّهُ بِهِ. وَهَذَا رِفْقٌ مِنَ الله بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [8- 10] [سُورَة عبس (80) : الْآيَات 8 إِلَى 10] وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [عبس: 5] اقْتَضَى ذِكْرُهُ قَصْدَ الْمُقَابَلَةِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مُقَابَلَةَ الضِّدَّيْنِ إِتْمَامًا للتقسيم. وَالْمرَاد: بِمن جَاءَ يسْعَى: هُوَ ابْنُ أُمِّ

مَكْتُومٍ، فَحَصَلَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس: 1- 2] . وَالسَّعْيُ: شِدَّةُ الْمَشْيِ، كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحِرْصِ عَلَى اللِّقَاءِ فَهُوَ مُقَابِلٌ لِحَالِ مَنِ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اسْتِغْنَاءَهُ اسْتغْنَاء الممتعض من التَّصَدِّي لَهُ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ يَخْشى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَخْشى لِظُهُورِهِ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ إِلَى خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَاءَ طَلَبًا لِلتَّزْكِيَةِ لِأَنْ يَخْشَى اللَّهَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الِاسْتِرْشَادِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِإِفَادَتِهِ التَّجَدُّدَ. وَالْقَوْلُ فِي فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَالْقَوْلِ فِي: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6] . وَالْعبْرَة من هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا عَظِيمًا مِنَ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَرَفَعَ دَرَجَةَ عِلْمِهِ إِلَى أَسْمَى مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْحُكَمَاءِ رُعَاةِ الْأُمَمِ، فَنَبَّهَهُ إِلَى أَنَّ فِي مُعْظَمِ الْأَحْوَالِ أَوْ جَمِيعِهَا نَوَاحِيَ صَلَاحٍ وَنَفْعٍ قَدْ تَخْفَى لِقِلَّةِ اطِّرَادِهَا، وَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ اسْتِقْرَائِهَا عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا وَلَوْ ظَنَّهُ الْأَهَمَّ، وَأَنْ لَيْسَ الْإِصْلَاحُ بِسُلُوكِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلتَّدْبِيرِ بِأَخْذِ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ تُشْبِهُ قَوَاعِدَ الْعُلُومِ يُطَبِّقُهَا فِي الْحَوَادِثِ وَيُغْضِي عَمَّا يُعَارِضُهَا بِأَنْ يُسْرِعَ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ مِمَّا فِيهِ صِفَةُ الصَّلَاحِ، بَلْ شَأْنُ مُقَوِّمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَةِ الطَّبِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَالْأَمْزِجَةِ فَلَا يَجْعَلُ لِجَمِيعِ الْأَمْزِجَةِ عِلَاجًا وَاحِدًا بَلِ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَهَذَا غَوْرٌ عَمِيقٌ يُخَاضُ إِلَيْهِ مِنْ سَاحِلِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ الْقَائِلَةِ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا لَاحَ لَهُ دَلِيلٌ: «يَبْحَثُ عَنِ الْمُعَارِضِ» وَالْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ نَصَّبَ عَلَيْهِ أَمَارَةً وَكَلَّفَ الْمُجْتَهِدَ بِإِصَابَتِهِ فَإِنْ أَصَابَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَقَامَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُسْتَطَاعُهُمْ فَإِنَّ غَوْرَهُ هُوَ اللَّائِقُ بِمَرْتَبَةِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ وَحْيٌ، فَبَحْثُهُ عَنِ الْحُكْمِ أَوْسَعُ مَدًى مِنْ مَدَى أَبْحَاثِ عُمُومِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَتَنْقِيبُهُ عَلَى الْمُعَارِضِ أَعْمَقُ غَوْرًا مِنْ تَنَاوُشِهِمْ، لِئَلَّا يَفُوتَ سَيِّدَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا فِيهِ مِنْ صَلَاحٍ وَلَوْ ضَعِيفًا، مَا لَمْ يَكُنْ

إِعْمَالُهُ يُبْطِلُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ صَلَاحٍ أَقْوَى لِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاضِعِ اجْتِهَادِهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَحْيِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ. فَالتَّزْكِيَةُ الْحَقُّ هِيَ الْمِحْوَرُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ حَالُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَحَالُ الْمُشْرِكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَرْغُوبَةٌ لِلْأَوَّلِ وَمَزْهُودٌ فِيهَا مِنَ الثَّانِي، وَهِيَ مَرْمَى اجْتِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصِيلِهَا لِلثَّانِي وَالْأَمْنِ عَلَى قَرَارِهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْبَالِهِ عَلَى الَّذِي يَتَجَافَى عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُتَزَكٍّ بِالْإِيمَانِ. وَفِي حَالَيْهِمَا حَالَانِ آخَرَانِ سِرُّهُمَا مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَقَّنَهَا اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْفَى فِي مُعْتَادِ نَظَرِ النُّظَّارِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهِ لِيُزِيلَ عَنْهُ سِتَارَ ظَاهِرِ حَالَيْهِمَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ حَالَيْهِمَا قَاضٍ بِصَرْفِ الِاهْتِمَامِ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُشْرِكُ لِدَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ حِينَ لَاحَ مِنْ لِينِ نَفْسِهِ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَا أَطْمَعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ الْإِيمَانِ فَمَحَّضَ تَوْجِيهَ كَلَامِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ هَدْيَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ أَعْظَمُ غَرَضٍ بُعِثَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهِ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ يَبْدُو أَهَمَّ وَأَرْجَحَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ خَالِصٌ، وَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. غَيْرَ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ حَالًا آخَرَ كَامِنًا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِالْخَفِيَّاتِ وَلَمْ يُوحِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّنْقِيبَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالُ مُؤْمِنٍ هُوَ مَظِنَّةُ الِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ، وَحَالُ كَافِرٍ مُصَمِّمٍ عَلَى الْكُفْرِ تُؤْذِنُ سَوَابِقُهُ بِعِنَادِهِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِيهِ الْبُرْهَانُ شَيْئًا. وَإِنَّ عَمِيقَ التَّوَسُّمِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ يُكْشَفُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ رُجْحَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْمُزْدَادِ مِنَ الرُّشْدِ وَالْهَدْيِ عَلَى حَالِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يَغُرُّ مَا أظهره من اللَّبن مُصَانَعَةً أَوْ حَيَاءً مِنَ الْمُكَابَرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي إِيمَانِ الْكَافِرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ بِزِيَادَةِ عَدَدِهَا وَنَفَعٌ خَاصٌّ لِذَاتِهِ. وَفِي ازْدِيَادِ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَسَائِلِ الْخَيْرِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ نَفْعٌ خَاصٌّ لَهُ وَالرَّسُولُ رَاعٍ لِآحَادِ الْأُمَّةِ وَلِمَجْمُوعِهَا، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْحِفَاظِ عَلَى مَصَالِحِ الْمَجْمُوعِ وَمَصَالِحِ الْآحَادِ بِحَيْثُ لَا يَدْحَضُ مَصَالِحَ الْآحَادِ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الْمَجْمُوعِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّالِحِ الْعَامِّ وَالصَّالِحِ الْخَاصِّ، بَيْدَ أَنَّ الْكَافِرَ صَاحِبَ هَذِه الْقَضِيَّة تنبىء دَخِيلَتُهُ بِضَعْفِ الرَّجَاءِ فِي إِيمَانِهِ لَوْ أُطِيلَ التَّوَسُّمُ فِي حَالِهِ، وَبِذَلِكَ تَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا وَتَمَخَّضَ أَنَّ لِتَزْكِيَةِ الْمُؤْمِنِ

صَاحِبِ الْقَضِيَّةِ نَفْعًا لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ عَوْدِ تَزْكِيَةٍ بِفَائِدَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ بِازْدِيَادِ الْكَامِلِينَ مِنْ أَفْرَادِهَا. وَقَدْ حصل من هَذَا إِشْعَارٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ صُنُوفٌ عَدِيدَةٌ وَلَهُ مَرَاتِبُ سَامِيَةٌ، وَلَيْسَ الِاهْتِدَاءُ مُقْتَصِرًا عَلَى حُصُولِ الْإِيمَانِ مَرَاتِبَ وَمَيَادِينَ لِسَبْقِ هِمَمِ النُّفُوسِ لَا يُغْفَلُ عَنْ تَعَهُّدِهَا بِالتَّثْبِيتِ وَالرَّعْيِ وَالْإِثْمَارِ، وَذَلِكَ التَّعَهُّدُ إِعَانَةٌ عَلَى تَحْصِيلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ. وَتِلْكَ سَرَائِرُ لَا يَعْلَمُ حَقَّهَا وَفُرُوقَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَتَوَخَّاهَا بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ، فَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ اتَّبَعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ وَحْيٌ فِي شَأْنِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَرِّفَ اجْتِهَادَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [مُحَمَّد: 30] . فَكَانَ ذَلِكَ مَوْقِعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمُفْرَغَةِ فِي قَالَبِ الْمُعَاتَبَةِ لِلتَّنْبِيهِ إِلَى الِاكْتِرَاثِ بِتَتَبُّعِ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ وَغَرْسِ الْإِرْشَادِ فِيهَا عَلَى مَا يُرْجَى مِنْ طِيبِ تُرْبَتِهَا لِيَخْرُجَ مِنْهَا نَبَات نَافِع للخاص وللعامة. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُشْرِكَ الَّذِي مَحَضَهُ نُصْحَهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ صَلَاحٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي اسْتَبْقَى الْعِنَايَةَ بِهِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ يَزْدَادُ صَلَاحًا تُفِيدُ الْمُبَادَرَةُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ تَلَهُّفِهِ عَلَى التَّلَقِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ اسْتِعْدَادًا مِنْهُ فِي حِينٍ آخَرَ. فَهَذِهِ الْحَادِثَةُ منوال ينسج عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ النَّبَوِيُّ إِذَا لَمْ يَرِدْ لَهُ الْوَحْيُ لِيَعْلَمَ أَنَّ مِنْ وَرَاءِ الظَّوَاهِرِ خَبَايَا، وَأَنَّ الْقَرَائِنَ قَدْ تَسْتُرُ الْحَقَائِقَ. وَفِي مَا قَرَّرْنَا مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ مَرْجِعَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَضِيَّتَهَا إِلَى تَصَرُّفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَا حَادَ عَنْ رِعَايَةِ أُصُولِ الِاجْتِهَادِ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ. وَهِيَ دَلِيلٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ جَرَى عَلَى قَاعِدَةِ إِعْمَالِ أَرْجَحِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ السَّرَائِرَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اجْتِهَاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يخطىء بِحَسْبَ مَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ

قَدْ يُخَالِفُ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَضِيَّةُ أَسْرَى بَدْرٍ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْمَوْقِفُ فِيهِمَا مُتَمَاثِلٌ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] إِيمَاءٌ إِلَى عُذْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْخِيرِهِ إِرْشَادَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرٍ مَغْفُولٍ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى تَزْكِيَةً عَظِيمَةً كَانَتْ نَفْسُهُ مُتَهَيِّئَةً لَهَا سَاعَتَئِذٍ إِذْ جَاءَ مُسْتَرْشِدًا حَرِيصًا، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ عُذْرُهُ فِي الْحِرْصِ عَلَى إِرْشَادِ الْمُشْرِكِ بِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] إِذْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى تَبِعَةً مِنْ فَوَاتِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِ بِسَبَبِ قِطْعِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَهُ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اسْتِجَابَةِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَرْشِدِ. فَإِنْ قَالَ قَائِل: فَلَمَّا ذَا لَمْ يُعْلِمِ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ حُضُورِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا التَّعْلِيمُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَحْصُلُ عَنْ تَبَيُّنِ غَفْلَةٍ، أَوْ إِشْعَارٍ بِخَفَاءٍ يَكُونُ أَرْسَخَ فِي النَّفْسِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَسُوقِ عَنْ غَيْرِ تَعَطُّشٍ وَلِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ أَشْهَرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَحْصُلَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزِيَّةُ كِلَا الْمَقَامَيْنِ: مَقَامُ الِاجْتِهَادِ، وَمَقَامُ الْإِفَادَةِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَهِيعِ مِنْ عَلِيِّ الِاجْتِهَادِ لِتَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ غَافِلَةٍ عَنْ مِثْلِهِ وَلِيَتَأَسَّى بِهِ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ وَحُكَّامُهَا وَوُلَاةُ أُمُورِهَا. وَنَظِيرُ هَذَا مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَثَلِ فِي مُلَاقَاةِ الْخَضِرِ، وَمَا جَرَى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الْكَهْف: 68] ثُمَّ قَوْلِهِ لَهُ: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 82] . وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] وَقَوْلِهِ لِإِبْرَاهِيمَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: 124] . هَذَا مَا لَاحَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَسَاسِ

مَا سَبَقَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ جَعْلِهِمْ مَنَاطَ الْعِتَابِ مَجْمُوعَ مَا فِي الْقِصَّةِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ إِرْشَادِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَمِنَ الْعُبُوسِ لَهُ، وَالتَّوَلِّي عَنْهُ، وَمِنَ التَّصَدِّي الْقَوِيِّ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَنَاطَ الْعِتَابِ الَّذِي تُؤْتِيهِ لَهْجَةُ الْآيَةِ وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتُهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَقُولُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي رَبِّي لِأَجْلِهِ» إِنَّمَا هُوَ عِتَابٌ عَلَى الْعُبُوسِ وَالتَّوَلِّي، لَا عَلَى مَا حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِدَعْوَةٍ، وَتَأْخِيرِ إِرْشَادٍ، لِأَنَّ مَا سَلَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنْ سَبِيلِ الْإِرْشَادِ لَا يَسْتَدْعِي عِتَابًا إِذْ مَا سَلَكَ إِلَّا سَبِيلَ الِاجْتِهَادِ الْقَوِيمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ الَّذِي أُقِيمَتْ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةُ تَقَاضَاهُ إِرْشَادَانِ لَا مَحِيصَ مِنْ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، هُمَا: إِرْشَادُ كَافِرٍ إِلَى الْإِسْلَامِ عَسَاهُ أَنْ يُسْلِمَ، وَإِرْشَادُ مُؤْمِنٍ إِلَى شُعَبِ الْإِسْلَامِ عَسَاهُ أَنْ يَزْدَادَ تَزْكِيَةً. وَلَيْسَ فِي حَالِ الْمُؤْمِنِ مَا يُفِيتُ إِيمَانًا وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِ إِرْشَادِهِ عَلَى نِيَّةِ التَّفَرُّغِ إِلَيْهِ بَعْدَ حِينٍ مَا يُنَاكِدُ زِيَادَةَ صَلَاحِهِ فَإِنَّ زِيَادَةَ صَلَاحِهِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَقْرَاةِ مِنْ تَصَارِيفِ الشَّرِيعَةِ وَالشَّاهِدَةِ بِهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَنَفْيُ الضُّرِّ الْأَكْبَرِ قَبْلَ نَفْيِ الضُّرِّ الْأَصْغَرِ، فَلَمْ يَسْلُكِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ. وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِعُمُومِ الْأُمَّةِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] وَهُوَ الْقَائِلُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» ، وَهُوَ الْقَائِلُ: «أُمِرْتُ أَنْ أَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ تَرَدُّدٌ. فَلَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمُشْرِكَ مُضْمِرُ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَا أَنَّ لِذَلِكَ الْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ صَفَاءَ نَفْسٍ وَإِشْرَاقَ قَلْبٍ لَا يَتَهَيَّآنِ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ.

[سورة عبس (80) : الآيات 11 إلى 16]

وَبِذَلِكَ يَسْتَبِينُ أَنَّ مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ وَحْيٌ لَهُ بِأَمْرٍ كَانَ مُغَيَّبًا عَنْهُ حِينَ أَقْبَلَ عَلَى دَعْوَةِ الْمُشْرِكِ وَأَرْجَأَ إِرْشَادَ الْمُؤْمِنِ. وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ حَالِهِمَا مَا يُؤْذِنُ بِبَاطِنِهِ وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهَا غَيْبَ عِلْمِهِ إِلَّا لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ مُؤْمِنٍ رَاسِخِ الْإِيمَانِ وَتَسْجِيلِ كَفْرِ مُشْرِكٍ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَذْكِيرِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا علمه اللَّهُ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَفْعِ شَأْنِهِمْ أَمَامَ الْمُشْرِكِينَ. فَمَنَاطُ الْمُعَاتَبَةِ هُوَ الْعُبُوسُ لِلْمُؤْمِنِ بِحَضْرَةِ الْمُشْرِكِ الَّذِي يَسْتَصْغِرُ أَمْثَالَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَمَا وَقَعَ فِي خِلَالِ هَذَا الْعِتَابِ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ إِدْمَاجٌ لِأَنَّ فِي الْحَادِثَةِ فُرْصَةً مِنَ التَّنْوِيهِ بِسُمُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ لِانْطِوَاءِ قَلْبِهِ عَلَى أَشِعَةٍ تُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَسْتَنِيرَ بِهَا وَيُفِيضَهَا عَلَى غَيْرِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالتَّعْلِيمِ، عَلَى سَنَنِ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ. [11- 16] [سُورَة عبس (80) : الْآيَات 11 الى 16] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) كَلَّا إِبْطَالٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (كَلَّا) فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [79- 82] ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ [4، 5] ، وَهُوَ هُنَا إِبْطَالٌ لِمَا جَرَى فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَوْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] . وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] . وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ يَنْصَرِفُ الْإِبْطَالُ إِلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى خَاصَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، أَيْ لَا تظن أَنَّك مسؤول عَنْ مُكَابَرَتِهِ وَعِنَادِهِ فَقَدْ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ. إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (50) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) . اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ حَرْفِ الْإِبْطَالِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِتَابِ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ مِنَ الْإِبْطَالِ يُثِيرُ فِي خَاطِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيْرَةَ فِي كَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي دَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ إِذَا لَمْ يَتَفَرَّغْ لَهُمْ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ يُثِيرُ

فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ وَاجِبِ التَّبْلِيغِ. وَضمير إِنَّها عَائِد إِلَى الدَّعْوَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ تَذْكِرَةٌ لَكَ وَتَنْبِيهٌ لِمَا غَفَلْتَ عَنْهُ وَلَيْسَتْ مَلَامًا وَإِنَّمَا يُعَاتِبُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ قُبَيْلَ نُزُولِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى مَا دَعَاهُمْ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، فَتَكُونُ (كَلَّا) إِبْطَالًا لِمَا نَعَتُوا بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. فَيَكُونُ ضَمِيرُ إِنَّها تَذْكِرَةٌ عَائِدًا إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِالتَّذْكِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] الْآيَاتِ حَيْثُ سَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةَ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ. فَكَانَ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ نُكْتَةً خُصُوصِيَّةً لِتَحْمِيلِ الْكَلَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى تَذْكِرَةٌ لِأَن مَا صدقهَا الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهُ عَلَى صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قُبَيْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ إِعَادَةَ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ ذِكْرِ مَعَادِهِ فِي الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ شُؤُونَهُ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهَا فَهُوَ مَلْحُوظٌ لِكُلِّ سَامِعٍ لِلْقُرْآنِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ اللَّهَ وَتَوَخَّى مَرْضَاتَهُ. وَالذِّكْرُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ تَوَخِّي الْوُقُوفِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (ذَكَرَ) إِلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.

وَالَّذِي اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِالضَّمِيرِ وَكَوْنَهُ ضَمِيرَ مُذَكَّرٍ مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ وَهِيَ: تَذْكِرَةٌ، مُطَهَّرَةٍ، سَفَرَةٍ، بَرَرَةٍ وَجُمْلَةُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: تَذْكِرَةٌ وَقَوْلِهِ: فِي صُحُفٍ وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفَاءِ قَائِمًا، فَالْفَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ، أَيْ هِيَ تَذْكِرَةٌ لَكَ بِالْأَصَالَةِ وَيَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، أَيْ يَتَذَكَّرُ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] . وَفِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَوْعِظَةَ الْقُرْآنِ نَافِعَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَمَنْ لَمْ يَتَّعِظْ بِهَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَتَّعِظَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] وَقَوْلِهِ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: 28] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [29] . وَالتَّذْكِرَةُ: اسْمٌ لِمَا يُتَذَكَّرُ بِهِ الشَّيْءُ إِذَا نُسِيَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الدِّلَالَةِ وَالْأَمَارَةِ قَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [49] . وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِرَةٌ وذَكَرَهُ هُوَ مِنَ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ الَّذِي مصدره بِضَم الدَّال فِي الْغَالِبِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ عَمِلَ بِهِ وَلَا يَنْسَهُ. وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ خِرْقَةٌ يُكْتَبُ فِيهَا الْكِتَابُ، وَقِيَاسُ جَمْعِهَا صَحَائِفُ، وَأَمَّا جَمْعُهَا عَلَى صُحُفٍ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا صُحُفٌ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْلَى، وَتُطْلَقُ الصَّحِيفَةُ عَلَى مَا يُكْتَبُ فِيهِ. ومُطَهَّرَةٍ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ طَهَّرَهِ إِذَا نَظَّفَهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الطَّهَارَةُ الْمَجَازِيَّةُ وَهِيَ الشَّرَفُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الصُّحُفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَتَكُونُ أَوْصَافُهَا بِ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ، مُطَهَّرَةٍ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ مَعَانِي الِاعْتِنَاءِ بِهَا

كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْل: 29] . وَتَشْرِيفِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وَقُدْسِيَّةِ مَعَانِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: 129] ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالصُّحُفِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ رُقُوقٍ وَقَرَاطِيسَ، وَأَكْتَافٍ، وَلِخَافٍ، وَجَرِيدٍ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ كُتَّابَ الْوَحْيِ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهَا كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ لِلْمُصْحَفِ حِينَ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ فِي رُقُوقٍ أَوْ قَرَاطِيسَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا تَغْلِيبًا وَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّفَرَةِ جَمْعَ سَافِرٍ، أَيْ كَاتِبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْرٌ (بِكَسْرِ السِّينِ) وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا أَضَاءَ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ كُتُبُ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ تَأْيِيدًا لِلْقُرْآنِ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ جَاءَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ فِي كُتُبِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ: أَنَّ أَمْثَالَ مَعَانِيهَا وَأُصُولِهَا فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18- 19] وَكَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: 196] وَكَمَا قَالَ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ صُحُفٌ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ ذَوَاتٌ مَوْجُودَةٌ قُدْسِيَّةٌ يَتَلَقَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا الْقُرْآنَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِتَبْلِيغِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا لِشِبْهِهَا بِالصُّحُفِ الَّتِي يَكْتُبُ النَّاسُ فِيهَا. وَمَعْنَى مُكَرَّمَةٍ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهَا، وَمَعْنَى مَرْفُوعَةٍ أَنَّهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَعْنَى مُطَهَّرَةٍ مُقَدَّسَةٌ مُبَارَكَةٌ، أَيْ هَذِهِ التَّذْكِرَةُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ عِلْمُ اللَّهِ وَمَا كَتَبَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي صُحُفٍ قُدْسِيَّةٍ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالصُّحُفِ (فَسَفَرَةٌ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَافِرٍ، مِثْلَ كَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعِ سَفِيرٍ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ فِي أَمْرٍ

مُهِمٍّ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقِيَاسُ جَمْعِهِ سُفَرَاءُ وَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْمَعَانِي. وَتَأْتِي وُجُوهٌ مُنَاسِبَةٌ فِي مَعْنَى سَفَرَةٍ، فَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ السَّفَرَةُ كُتَّابَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ، وَبِهِ فَسَّرَ قَتَادَةُ وَقَالَ: هُمْ بِالنَّبَطِيَّةِ الْقُرَّاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْوَرَّاقُونَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ. وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي عِدَادِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَدْ أَغْفَلَهَا السُّيُوطِيُّ فِيمَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَى ابْنِ السُّبْكِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ فِي نَظْمَيْهِمَا فِي الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ قَصَدَ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَعْرِيبِهَا. وَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُهُ الرُّسُلَ. وَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُهُ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّهُمْ سُفَرَاءُ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَالْمُرَادُ بِأَيْدِيهِمْ: حِفْظُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى تَبْلِيغِهِ، فَمَثَّلَ حَالَ الْمَلَائِكَةِ بِحَالِ السُّفَرَاءِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ بِأَيْدِيهِمُ الْأَلُوكَ وَالْعُهُودَ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ: الرُّسُلُ الَّذِينَ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ كُتُبُهُمْ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كُتَّابُ الْوَحْيِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ مَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَدْرُسَهُ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ عُثُورِهِ عَلَى سُورَةِ طَهَ مَكْتُوبَةً عِنْدَ أُخْتِهِ أُمِّ جَمِيلٍ فَاطِمَةَ زَوْجِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَفِي وَصْفِهِمْ بِالسَّفَرَةِ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ وَهُمْ حُفَّاظُهُ وَوُعَاتُهُ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] فَهَذَا مَعْنَى

[سورة عبس (80) : الآيات 17 إلى 22]

السَّفَرَةِ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُمْ سَيَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي الْأُمَمِ وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا مَا لِكَلِمَةِ سَفَرَةٍ مِنَ الْوَقْعِ الْعَظِيمِ الْمُعْجِزِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَوَصْفُ كِرامٍ مِمَّا وُصِفَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 11] . وَوَصْفُ الْبَرَرَةِ وَرَدَ صِفَةً لِلْمَلَائِكَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلِهِ: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» . وَالْبَرَرَةُ: جَمْعُ بَرٍّ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِكَثْرَةِ الْبُرُورِ. وَأَصْلُ بَرٍّ مَصْدَرُ بَرَّ يَبَرُّ مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَمَصْدَرُهُ كَالْفَرَحِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ مِثْلَ عَدْلٍ وَقَدِ اخْتُصَّ الْبَرَرَةُ بِجَمْعِ بَرٍّ وَلَا يَكُونُ جَمْعَ بَارٍّ. وَالْغَالِبُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْبَرَرَةَ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَبْرَارَ الْآدَمِيُّونَ. قَالَ الرَّاغِبُ: «لِأَنَّ بَرَرَةً أَبْلَغُ مِنْ أَبْرَارٍ إِذْ هُوَ جَمْعُ بَرٍّ، وَأَبْرَارٌ جَمْعُ بَارٍّ، وَبَرٌّ أَبْلَغُ مِنْ بَارٍّ كَمَا أَنَّ عَدْلًا أَبْلَغُ مِنْ عَادِلٍ» . وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّنْوِيهَ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَعْضُ الْقُرْآنِ فَأُثْنِيَ عَلَى الْقُرْآنِ بِفَضِيلَةِ أَثَرِهِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ، وَبِرِفْعَةِ مَكَانَتِهِ، وَقُدْسِ مَصْدَرِهِ، وَكَرَمِ قَرَارِهِ، وَطَهَارَتِهِ، وَفَضَائِلِ حَمَلَتِهِ وَمُبَلِّغِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَدَائِحَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ بطرِيق الْكِنَايَة. [17- 22] [سُورَة عبس (80) : الْآيَات 17 إِلَى 22] قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ مَنِ اسْتَغْنَى فَإِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُعَيَّنٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي دَارَ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَكْبَرُ

دَوَاعِيهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْبَعْثِ وَطَالَبَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ أَهَمَّ مَا يُعْتَنَى بِهِ فِي هَذَا التَّذْكِيرِ وَذَلِكَ مِنْ أَفْنَانِ قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس: 12] . وَالَّذِي عُرِّفَ بِقَوْلِهِ: مَنِ اسْتَغْنى [عبس: 5] يَشْمَلُهُ الْعُمُومُ الَّذِي أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ وَفِعْلُ قُتِلَ فُلَانٌ أَصْلُهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ. وَالْمُفَسِّرُونَ الْأَوَّلُونَ جَعَلُوا: قُتِلَ الْإِنْسانُ أَنَّهُ لُعِنَ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَهَذَا مِنْ أَشْنَعِ دَعَوَاتِهِمْ» ، أَيْ فَمَوْرِدُهُ غَيْرُ مَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَة: 30] وَقَوْلِهِمْ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا يُرِيدُونَ التعجيب مِنْ حَالِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ لِلِاسْتِعْمَالِ وَلَا دَاعِيَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى التَّعْجِيبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَكْفَرَهُ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ. وَالدُّعَاءُ بِالسُّوءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ وَالتَّهْدِيدِ لِظُهُورِ أَنَّ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ لَا تُنَاسِبُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ. وَبِنَاءُ قُتِلَ لِلْمَجْهُولِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الدُّعَاءِ، إِذْ لَا غَرَضَ فِي قَاتِلٍ يَقْتُلُهُ، وَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ نَحْوَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [المدثر: 19] . وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفَ الْمُسَمَّى تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ حَقِيقِيٌّ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ اسْتِغْرَاقُ مُعْظَمِ الْأَفْرَادِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ فَتَوَلَّدَ بِصِيغَةِ الِاسْتِغْرَاقِ ادِّعَاءٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَيُسَمَّى الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَيُسَمَّى الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَالْقَرِينَةُ هُنَا مَا بُيِّنَ بِهِ كُفْرُ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الْإِنْسانُ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ، وَعَلَى ذَلِكَ جُمْلَةُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ كَافِرُونَ بِالْبَعْثِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ قُتِلَ الْإِنْسانُ فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْكَافِرُ. وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَجْنَاسِ يُرَادُ أَنَّهَا غَالِبَةٌ عَلَى الْجِنْسِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ

الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ لَفْظِ الْجِنْسِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مَعْنَاهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِلْجِنْسِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا يَقْتَضِي اتِّصَافَ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ بِهِ، بَلْ قَدْ يَخْلُو عَنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَقَدْ يَخْلُو عَنْهُ الْمُتَّصِفُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَقَوْلُهُ: مَا أَكْفَرَهُ تَعْجِيبٌ مِنْ كُفْرِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَوْ شِدَّةِ كُفْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَلِيلُ مِنْهُ غَيْرَ كَافِرٍ. فَآلَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُمُ الْغَالِبُ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ. فَغَالِبُ النَّاسِ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ التَّارِيخِ وَتَفَشَّى الْكُفْرُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَانْتَصَرُوا لَهُ وَنَاضَلُوا عَنْهُ. وَلَا أَعْجَبَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَلَّهُوا أَعْجَزَ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حِجَارَةٍ وَخَشَبٍ، أَوْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ خَلَقَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يُعَيِّنُهُ خَبَرُ سَبَبِ النُّزُولِ، فَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ مِمَّنْ حَوَاهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي غَشِيَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ، وَذُكِرَ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِخَبَرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي غَشِيَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةً. وَجُمْلَةُ مَا أَكْفَرَهُ تَعْلِيلٌ لِإِنْشَاءِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ دُعَاءَ التَّحْقِيرِ وَالتَّهْدِيدِ. وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِ هَذَا الْإِنْسَانِ. وَمَعْنَى شِدَّةِ الْكُفْرِ أَنَّ كُفْرَهُ شَدِيدٌ كَمًّا وَكَيْفًا، وَمَتًى، لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَبِإِرْسَالِهِ الرَّسُولَ، وَبِالْوَحْيِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كُفْرٌ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ قَوِيٌّ لَا يَقْبَلُ التَّزَحْزُحَ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ لَا يُقْلَعُ عَنْهُ مَعَ تَكَرُّرِ التَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَلَغَتْ نِهَايَةَ الْإِيجَازِ وَأَرْفَعَ الْجَزَالَةِ بِأُسْلُوبٍ غَلِيظٍ دَالٍّ عَلَى السُّخْطِ بَالِغِ حَدِّ الْمَذَمَّةِ، جَامِعٍ لِلْمَلَامَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا قَبْلَهَا، فَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنِيَّةِ.

وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِلَفْظِ أَكْفَرَهُ لِظُهُورِهِ مِنْ لفظ «أكفره» وَتَقْدِيرُهُ: مَا أَكْفَرَهُ بِاللَّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ مُحَسِّنُ الِاتِّزَانِ فَإِنَّهُ مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ مِنْ عَرُوضِهِ الْأُولَى الْمَحْذُوفَةِ. وَجُمْلَةُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ لِأَنَّ مَفَادَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَذَلِكَ الْإِنْكَارُ مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ كُفْرِهِمْ. وَجِيءَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِصُورَةِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى مَضْمُونِهِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الِاسْتِفْهَامُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: 1- 2] . وَالِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ، وَجُعِلَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ تَعْيِينَ الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ خُلِقَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لَيْسَ لِإِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ، بَلِ الْمَقَامُ لِإِثْبَاتِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِتَنْظِيرِهِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] أَيْ كَمَا كَانَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ نُطْفَةٍ يَكُونُ خَلْقُهُ ثَانِيَ مَرَّةٍ مِنْ كَائِنٍ مَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ [5- 8] . وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُ عَائِد إِلَى لله تَعَالَى الْمَعْلُومِ مِنْ فِعْلِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْإِنْسَانِ. وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ مُحَاكَاةً لِتَقْدِيمِ الْمُبَيَّنِ فِي السُّؤَالِ الَّذِي اقْتَضَى تَقْدِيمَهُ كَوْنُهُ اسْتِفْهَامًا يَسْتَحِقُّ صَدْرَ الْكَلَامِ، مَعَ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ مَا مِنْهُ الْخَلْقُ، لِمَا فِي تَقْدِيمِهِ مِنَ التَّنْبِيهِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ كَوَّنَ أَبْدَعَ مَخْلُوقٍ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْوَنِ شَيْءٍ وَهُوَ النُّطْفَةُ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَغْنَ عَنْ إِعَادَةِ فِعْلِ خَلَقَهُ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ بِتَقَدُّمِ ذِكْرِ حَاصِلِهِ فِي السُّؤَالِ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى دِقَّةِ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ.

فَذِكْرُ فِعْلِ خَلَقَهُ الثَّانِي من أُسْلُوبِ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ بِإِيجَازٍ، وَلَيْسَ بِإِطْنَابٍ. وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَهِيَ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَقَوْلِهِمْ: قُبْضَةُ حَبٍّ، وَغُرْفَةُ مَاءٍ. وَغُلِبَ إِطْلَاقُ النُّطْفَةِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي مِنْهُ التَّنَاسُلُ، فَذُكِرَتِ النُّطْفَةُ لِتَعَيُّنِ ذِكْرِهَا لِأَنَّهَا مَادَّةُ خَلْقِ الْحَيَوَانِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ صُنْعَ اللَّهِ بَدِيعٌ فَإِمْكَانُ الْبَعْثِ حَاصِلٌ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ النُّطْفَةِ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرِ أَصْلِ نَشْأَةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ مَحَلُّ نَظَرٍ، عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ وَلَيْسَ مَقَامَ زَجْرِ الْمُتَكَبِّرِ. وَفُرِّعَ عَلَى فِعْلِ خَلَقَهُ فِعْلُ فَقَدَّرَهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُنَا إِيجَادُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مَضْبُوطٍ مُنَظَّمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: 2] أَيْ جَعَلَ التَّقْدِيرَ مِنْ آثَارِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ خَلَقَهُ مُتَهَيِّئًا لِلنَّمَاءِ وَمَا يُلَابِسُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّصَرُّفِ وَتَمْكِينِهِ مِنَ النَّظَرِ بِعَقْلِهِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُرِيدُ إِتْيَانَهَا وَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ خَلْقِهِ مُدَرَّجًا مُفَرَّعًا. وَهَذَا التَّفْرِيعُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ إدماج للامتنان فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ. وَحَرْفُ ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ تَيْسِيرَ سَبِيلِ الْعَمَلِ الْإِنْسَانِيِّ أَعْجَبُ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْعَقْلِ وَهُوَ أَعْظَمُ مَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمِنَّةِ. والسَّبِيلَ: الطَّرِيق، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ تَشْبِيهًا لِلْأَعْمَالِ بِطَرِيقٍ يَمْشِي فِيهِ الْمَاشِي تَشْبِيهَ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا لِمَسْقَطِ الْمَوْلُودِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْمَمَرِّ اسْمُ السَّبِيلِ فِي قَوْلِهِمُ: «السَّبِيلَانِ» فَيَكُونُ هَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِيهِ. وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، فَ أَماتَهُ مُقَابِلُ خَلَقَهُ وَ (أَقْبَرَهُ) مُقَابِلُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ لِأَنَّ الْإِقْبَارَ إِدْخَالٌ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ضِدُّ خُرُوجِ الْمَوْلُودُ إِلَى الْأَرْضِ. وَالتَّيْسِيرُ: التَّسْهِيلُ، والسَّبِيلَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عَلَى طَرِيقِ

الِاشْتِغَالِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلَ وَالتَّقْدِيرُ: يَسَّرَ السَّبِيلَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: 17] أَيْ لِذِكْرِ النَّاسِ. وَتَقْدِيمُ السَّبِيلَ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْعِبْرَةِ بِتَيْسِيرِ السَّبِيلِ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِلْفَوَاصِلِ. وَكَذَلِكَ عَطْفُ ثُمَّ أَماتَهُ عَلَى يَسَّرَهُ بِحَرْفِ التَّرَاخِي هُوَ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ بِالْمَوْتِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَاسِخَةً زَمَنًا مَا، انْقِرَاضٌ عَجِيبٌ دُونَ تَدْرِيجٍ وَلَا انْتِظَارِ زَمَانٍ يُسَاوِي مُدَّةَ بَقَائِهَا، وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلدِّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يُحْصَى مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَدْ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَأَنَّ مَنْ هُوَ حيّ آيل إِلَى الْمَوْت لَا مَحَالَةَ، فَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَمَاتَهُ وَيُمِيتُهُ. فَصِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَماتَهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ مَوْتُ مَنْ مَاتَ، وَمَجَازُهُ وَهُوَ مَوْتُ مَنْ سَيَمُوتُونَ، لِأَنَّ مَوْتَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُحَقَّقٌ. وَذِكْرُ جُمْلَةِ: ثُمَّ أَماتَهُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ فَأَقْبَرَهُ وَإِسْنَادُ الْإِمَاتَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا أُدْمِجَ: فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فِيمَا سَبَقَ. وَ (أَقْبَرَهُ) جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى قَبَرَهُ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ سَبَّبَ لَهُ أَنْ يُقْبَرَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «أَيْ جَعَلَهُ مَقْبُورًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَلَا مِمَّنْ يُلْقَى فِي النَّوَاوِيسِ» (جَمْعِ نَاوُوسٍ صُنْدُوقٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ فِي بَيْتٍ أَوْ نَحْوِهِ) . وَالْإِقْبَارُ: تَهْيِئَةُ الْقَبْرِ، وَيُقَالُ: أَقْبَرَهُ أَيْضًا، إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يُقْبَرَ، وَيُقَالُ: قَبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا دَفَنَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّاسَ ذَوِي قُبُورٍ. وَإِسْنَادُ الْإِقْبَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّاسَ الدَّفْنَ كَمَا فِي قِصَّةِ دَفْنِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ بِإِلْهَامِ تَقْلِيدِهِ لِفِعْلِ غُرَابٍ حَفَرَ لِغُرَابٍ آخَرَ مَيِّتٍ حُفْرَةً

فَوَارَاهُ فِيهَا، وَهِيَ فِي سُورَةُ الْعُقُودِ، فَأُسْنِدَ الْإِقْبَارُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَلْهَمَ النَّاسَ إِيَّاهُ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ بِمَا أَمَرَ فِي شَرَائِعِهِ مِنْ وُجُوبِ دَفْنِ الْمَيِّتِ. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ صِيغَةَ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي صِيغَةِ أَماتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ عَدُّوهَا قَاصِرَةً عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مِنَنًا عَلَى النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَتَسْوِيَتِهِمْ وَإِكْمَالِ قُوَاهُمْ أَحْيَاءً، وَإِكْرَامِهِمْ أَمْوَاتًا بِالدَّفْنِ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالشَّيْءِ اللَّقِيِّ يَجْتَنِبُ بَنُو جِنْسِهِ الْقُرْبَ مِنْهُ وَيُهِينُهُ الْتِقَامُ السِّبَاعِ وَتَمْزِيقُ مَخَالِبِ الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ، فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَماتَهُ هُوَ فِيمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ: فَأَقْبَرَهُ وَلَيْسَتِ الْإِمَاتَةُ وَحْدَهَا مِنَّةً. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ دَفْنِ أَمْوَاتِ النَّاسِ بِالْإِقْبَارِ دُونَ الْحَرْقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ مَجُوسُ الْهِنْدِ، وَدُونَ الْإِلْقَاءِ لِسِبَاعِ الطَّيْرِ فِي سَاحَاتٍ فِي الْجِبَالِ مَحُوطَةٍ بِجُدْرَانٍ دُونَ سَقْفٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ مَجُوسُ الْفُرْسِ وَكَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَوْتَى الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ فِي الْفَيَافِي إِذْ لَا يُوَارُونَهُمْ بِالتُّرَابِ وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَتَمَنَّوْنَهُ قَالَ الشَّنْفَرَى: لَا تَقْبُرُونِي إِنَّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَبْشِرِي أُمَّ عَامِرِ يُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهُ الضَّبْعُ، وَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَنَ شُهَدَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي قُبُورٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَوَارَى قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ فِي قَلِيبٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ: آلَيْتُ لَا أَدْفِنُ قَتْلَاكُمُ ... فَدَخِّنُوا الْمَرْءَ وَسِرْبَالَهُ وَجُمْلَةُ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ رُجُوعٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَهِيَ كَالنَّتِيجَةِ عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ. وَوَقَعَ قَوْلُهُ: إِذا شاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَماتَهُ وَجُمْلَةِ: أَنْشَرَهُ لِرَدِّ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ عَدَمَ التَّعْجِيلِ بِالْبَعْثِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَ (إِذَا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَفِعْلُ الْمُضِيِّ بَعْدَهَا مُؤَوَّلٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ حِينَ يَشَاءُ يُنْشِرُهُ، أَيْ يُنْشِرُهُ حِينَ تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِإِنْشَارِهِ.

[سورة عبس (80) : آية 23]

وأَنْشَرَهُ بَعَثَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَأَصْلُ النَّشْرِ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ الْمُخَبَّأِ يُقَالُ: نَشَرَ الثَّوْبَ، إِذْ أَزَالَ طَيَّهُ، وَنَشَرَ الصَّحِيفَةَ، إِذَا فَتَحَهَا لِيَقْرَأَهَا. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَنَشَرُوا التَّوْرَاةَ» . وَأما الإنشار بِالْهَمْز فَهُوَ خَاصٌّ بِإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْأَرْضِ حَيًّا وَهُوَ الْبَعْثُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: نُشِرَ الْمَيِّتُ، وَالْعَرَبُ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَالُوهُ فِي تَخَيُّلَاتِهِمُ التَّوَهُّمِيَّةِ. فَيَكُونُ مِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود: 7] . وَفِي قَوْلِهِ: إِذا شاءَ رَدٌّ لِشُبْهَتِهِمْ إِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْبَعْثِ تَحَدِّيًا وَتَهَكُّمًا لِيَجْعَلُوا عَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ بِتَعْجِيلِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنه يَقع عِنْد مَا يَشَاءُ اللَّهُ وُقُوعَهُ لَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْأَلُونَهُ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى حِكْمَةِ اللَّهِ، وَاسْتِفَادَةِ إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنْ طَرِيق الْكِنَايَة. [23] [سُورَة عبس (80) : آيَة 23] كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْضِلٌ وَكَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا بَعْضُهَا جَافُّ الْمَنَالِ، وَبَعْضُهَا جَافٍ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَّا أَنَّهُ حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عَنْ كَلَامٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ، وَلَيْسَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مَا سَبَقَهَا وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا مَا ظَاهِرُهُ أَنْ يُزْجَرَ عَنْهُ وَلَا أَنْ يُبْطَلَ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَى تَأْوِيلِ مَوْرِدِ كَلَّا فَأَمَّا الَّذِينَ الْتَزَمُوا أَنْ يَكُونَ حَرْفُ كَلَّا لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ وَهُمُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ نُحَاةِ الْبَصْرَة ويجيزون الْوَقْف عَلَيْهَا كَمَا يُجِيزُونَ الِابْتِدَاءَ بِهَا، فَقَدَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا بِتَوْجِيهِ الْإِنْكَارِ إِلَى مَا يومىء إِلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ أَوِ اللَّاحِقُ دُونَ صَرِيحِهِ وَلَا مَضْمُونِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّدْعَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا قَبْلَ كَلَّا ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] ، أَيْ إِذَا شَاءَ الله، إِذْ يومىء إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُنْكِرُ أَنْ يَنْشُرَهُ اللَّهُ

وَيَعْتَلُّ بِأَنَّهُ لم ينشر أحدا مُنْذُ الْقِدَمِ إِلَى الْآنَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَوْقِعُ كَلَّا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِالْإِبْطَالِ، وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ لِلْإِبْطَالِ، أَيْ لَوْ قَضَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لَعَلِمَ بُطْلَانَ زَعْمِهِ أَنَّهُ لَا يُنْشَرُ. وَتَأَوَّلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ: «رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ» أَيْ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِهِ وَاسْتِرْسَالِهِ عَلَيْهِ دُونَ إِقْلَاعٍ، يُرِيدُ أَنه زجر عَن مَضْمُونٍ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] . وَمِنْهُم من يَجْعَل الرَّدْعَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا بَعْدَ كَلَّا مِمَّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ الَّذِي نَبَّهَهُ إِلَيْهِ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ وَبِإِيدَاعِ قُوَّةِ التفكير فِيهِ، ويتسروح هَذَا مِنْ كَلَامٍ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلَّا لَمَّا كَانَ نَفْيًا نَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَّا تَمْهِيدًا لِلنَّفْيِ. وَمَوْقِعُ كَلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ اسْتِئْنَافٍ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْله: أَنْشَرَهُ [عبس: 18- 22] ، أَيْ إِنَّمَا لَمْ يَهْتَدِ الْكَافِرُ إِلَى دِلَالَةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقَّ النَّظَرِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَلْتَزِمُوا مَعْنَى الزَّجْرِ فِي كَلَّا وَهُمُ الْكِسَائِيُّ الْقَائِلُ: تَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا، وَوَافَقَهُ ثَعْلَبٌ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ الْقَائِلُ: تَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى (أَلَا) الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ. وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَالْفَرَّاءُ الْقَائِلَانِ: تَكُونُ كَلَّا حَرْفَ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ. فَهَؤُلَاءِ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِهِمْ ظَاهِرٌ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ كَلَّا تَكُونُ صِلَةً (أَيْ حَرْفًا زَائِدًا لِلتَّأْكِيدِ) كَقَوْلِكَ: كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ اهـ. وَهَذَا وَجْهٌ إِلَيْهِ وَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ كَلَّا هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَجْرًا عَمَّا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأْخِيرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَأْكِيدًا لِلْإِبْطَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عبس: 11] بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ إِنْ كَانَ صَرِيحُ مَعْنَاهُ غَيْرَ بَاطِلٍ فَقَوْلُهُ: إِذا شاءَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ الْآنَ لَمْ يَشَأْ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِإِبْطَالِ أَنْ يَقع الْبَعْث عِنْد مَا يَسْأَلُونَ وُقُوعَهُ، أَيْ أَنَّا لَا نَشَاءُ إِنْشَارَهُمُ الْآنَ وَإِنَّمَا نَنْشُرُهُمْ عِنْد مَا نَشَاءُ مِمَّا قَدَّرْنَا أَجَلَهُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ تَعْلِيلًا لِلرَّدْعِ، أَيِ الْإِنْسَانُ لَمْ يَسْتَتِمَّ مَا أَجَّلَ اللَّهُ لِبَقَاءِ نَوْعِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ يَوْمِ تَكْوِينِهِ فَلِذَلِكَ لَا يُنْشَرُ الْآنَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَمَرَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، أَيْ لَمْ يَسْتَتِمَّ مَا صَدَّرَ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينِهِ حِينَ قِيلَ لِآدَمَ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: 36] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَجْرًا عَمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وَقُدِّمَتْ كَلَّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْوَارِدَةُ لِإِبْطَالِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُبَادَرَةِ الزَّجْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَام فِي كَلَّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَأَحَلْتُ هُنَالِكَ عَلَى مَا هُنَا. ولَمَّا حَرْفُ نَفْيٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي مِثْلَ (لَمْ) وَيَزِيدُ بِالدِّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ إِلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَدَمِ قَضَاءِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِمَّا دَعَاهُ إِلَيْهِ. وَالْقَضَاءُ: فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَامِلًا لِأَنَّ أَصْلَ الْقَضَاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِتْمَامِ فَتَضَمَّنَ فِعْلًا تَامًّا، أَيْ لَمْ يَزَلِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مُعْرِضًا عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَعَنِ النَّظَرِ فِي خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ تَطَوُّرِهِ أَطْوَارًا إِلَى الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] ، وَمَا أَمَرَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَمِنْ إِعْمَالِ عَقْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ. وَمِنَ الدَّلَائِلِ نَظَرُهُ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ فَإِنَّهَا دَلَائِلُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ فَاسْتَحَقَّ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي أَمَرَهُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُسْتَتِرَةُ فِي (خلقه، وَقدره، ويسره، وَأَمَاتَهُ، وأقبره، وأنشره) .

[سورة عبس (80) : الآيات 24 إلى 32]

[سُورَة عبس (80) : الْآيَات 24 إِلَى 32] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) إِمَّا مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس: 23] فَيَكُونُ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّظَرِ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] فَيَكُونُ هَذَا النَّظَرُ مِمَّا يُبْطِلُ وَيُزِيلُ شِدَّةَ كُفْرِ الْإِنْسَانِ. وَالْفَاءُ مَعَ كَوْنِهَا لِلتَّفْرِيعِ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَعَامِهِ أَوْ إِنْ أَرَادَ نَقْضَ كُفْرِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَعَامِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 4، 5] ، أَيْ إِنْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ الْخَلَاصَ مِنْ تَبِعَاتِ مَا يَكْتُبُهُ عَلَيْهِ الْحَافِظُ فَلْيَنْظُرْ مِمَّ خُلِقَ لِيَهْتَدِيَ بِالنَّظَرِ فَيُؤْمِنَ فَيَنْجُوَ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى تَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِضِ الْإِرْشَادِ إِلَى تَدَارُكِ الْإِنْسَانِ مَا أَهْمَلَهُ وَكَانَ الِانْتِقَالُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ مِنْ دَلَائِلَ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهِ فِي آيَةِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالٍ مَوْجُودَةٍ فِي بَعْضِ الْكَائِنَاتِ شَدِيدَةِ الْمُلَازَمَةِ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ تَرْسِيخًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَتَفَنُّنًا فِيهِ، وَتَعْرِيضًا بِالْمِنَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ، من نِعْمَةِ النَّبَاتِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَاةِ مَا يَنْفَعُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ النَّظَرِ هُنَا بِحَرْفِ إِلى تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي أَطْوَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ التَّدَبُّرُ فِيمَا يُشَاهِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحْوَالِ طَعَامِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. وَجُعِلَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ ذَاتَ الطَّعَامِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّظَرُ إِلَى أَسْبَابِ تَكَوُّنِهِ وَأَحْوَالِ تَطَوُّرِهِ إِلَى حَالَةِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَانْتِفَاعِ أَنْعَامِ النَّاسِ بِهِ. وَذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ إِنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِالتَّفْكِيرِ فِي أَطْوَارِ تَكَوُّنِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي بِهَا طَعَامُهُ، وَقَدْ وُصِفَ لَهُ تَطَوُّرُ ذَلِكَ لِيَتَأَمَّلَ مَا أُودِعَ إِلَيْهِ فِي

ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّكْوِينِ سَوَاءٌ رَأَى ذَلِكَ بِبَصَرِهِ أَمْ لَمْ يَرَهُ، وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ عِلْمٍ إِجْمَالِيٍّ بِذَلِكَ، فَيَزِيدُهُ هَذَا الْوَصْفُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا، وَفِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ تَمْثِيلٌ لِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ يَكُونُ هَذَا التَّمْثِيلُ فِي مُجَرَّدِ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْثِيلًا فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ بِأَنْ تُخْرَجَ الْأَجْسَادُ مِنَ الْأَرْضِ كَخُرُوجِ النَّبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ بَذْرُهَا فِي الْأَرْضِ وَيُرْسِلُ اللَّهُ لَهَا قُوًى لَا نَعْلَمُهَا تُشَابِهُ قُوَّةَ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ تَحْيَا بُذُورُ النَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: 17، 18] . وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7] عَن ابْن [أبي] (¬1) حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: «يَسِيلُ وَادٍ مِنْ أَصْلِ الْعَرْشِ فِيمَا بَيْنَ الصَّيْحَتَيْنِ فَيَنْبُتُ مِنْهُ كُلُّ خَلْقٍ بَلِيَ إِنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِمْ مَارٌّ قَدْ عَرَفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُمْ قَدْ نَبَتُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ تُرْسَلُ الْأَرْوَاحُ فَتُزَوَّجُ الْأَجْسَادَ» اهـ. وَأُمُورُ الْآخِرَةِ لَا تَتَصَوَّرُهَا الْأَفْهَامُ بِالْكُنْهِ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّهَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَهِيَ مُطِيعَةٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيِّ. وَالْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَإِنَّمَا جِيءَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مَعَادِهِ وَمَا هُنَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ فَعُبِّرَ فِيهِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ لِلْإِيضَاحِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ مِنَّةً عَلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ بِالْغِذَاءِ الَّذِي بِهِ إِخْلَافُ مَا يَضْمَحِلُّ مِنْ قُوَّتِهِ بِسَبَبِ جُهُودِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِحُصُولِهَا فِي دَاخِلِ الْمِزَاجِ، وَبِسَبَبِ كَدِّ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْإِفْرَازَاتِ، وَتِلْكَ أَسْبَابٌ لِتَبَخُّرِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ فَيَحْتَاجُ الْمِزَاجُ إِلَى تَعْوِيضِهَا وَإِخْلَافِهَا وَذَلِكَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ النَّظَرُ بِالطَّعَامِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ هُوَ بِأَحْوَالِ تَكْوِينِ الطَّعَامِ، إِجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِيجَازِ وَيُبَيِّنُهُ مَا فِي الْجُمَلِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إِلَى آخِرِهَا. فَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى خَلْقِ طَعَامِهِ وَتَهْيِئَةِ الْمَاءِ لِإِنْمَائِهِ وَشَقِّ الْأَرْضِ وَإِنْبَاتِهِ وَإِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَانْتِفَاعِ مَوَاشِيهِ فِي بَقَاءِ حَيَاتِهِمْ. ¬

(¬1) زِيَادَة من «تَفْسِير ابْن كثير» عِنْد شرح الْآيَة، وَالنَّقْل مِنْهُ بِتَصَرُّف.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّا صَبَبْنَا بِكَسْرِ هَمْزَةِ (أَنَّا) عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ لِتَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ هُنَالِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ طَعامِهِ أَوِ الْبَدَلُ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ. وَالصَّبُّ: إِلْقَاءُ صُبْرَةٍ مُتَجَمِّعَةٍ مِنْ أَجْزَاءٍ مَائِعَةٍ أَوْ كَالْمَائِعَةِ فِي الدِّقَّةِ فِي وِعَاءٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، يُقَالُ: صَبَّ الْمَاءَ فِي الْجَرَّةِ، وَصَبَّ الْقَمْحَ فِي الْهَرِي، وَصَبَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْكِيسِ. وَأَصْلُهُ: صَبَّ الْمَاءَ، مِثْلَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَإِفْرَاغِ الدَّلْوِ. وَالشَّقُّ: الْإِبْعَادُ بَيْنَ مَا كَانَ مُتَّصِلًا. وَالْمُرَادُ هُنَا شَقُّ سَطْحِ الْأَرْضِ بِخَرْقِ الْمَاءِ فِيهِ أَوْ بِآلَةٍ كَالْمِحْرَاثِ وَالْمِسْحَاةِ، أَوْ بِقُوَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِتَتَهَيَّأَ لِقَبُولِ الْأَمْطَارِ فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ. وَإِسْنَادُ الصَّبِّ وَالشَّقِّ وَالْإِنْبَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ مُقَدِّرُ نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ، وَمُحْكِمُ نَوَامِيسِهَا وَمُلْهِمُ النَّاسِ اسْتِعْمَالَهَا. فَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ شَاعَ فِي صَبَبْنَا وَ (أَنْبَتْنَا) حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ الْعَقْلِيَّةَ. وَانْتَصَبَ صَبًّا وشَقًّا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ صَبَبْنَا وشَقَقْنَا مُؤَكِّدًا لِعَامِلِهِ لِيَتَأَتَّى تَنْوِينُهُ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَتَعْظِيمُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ تَعْظِيمُ تَعْجِيبٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّعْقِيبِ وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وَالْحَبُّ أُرِيدَ مِنْهُ الْمُقْتَاتُ مِنْهُ لِلْإِنْسَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [261] . وَالْعِنَبُ: ثَمَرُ الْكَرْمِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الْخَمْرُ وَالْخَلُّ، وَيُؤْكَلُ رَطْبًا، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الزَّبِيبُ. وَالْقَضْبُ: الْفِصْفِصَةُ الرَّطْبَةُ، سُمِّيَتْ قَضْبًا لِأَنَّهَا تُعْلَفُ لِلدَّوَابِّ رَطْبَةً فَتُقَضَّبُ،

أَيْ تُقَطَّعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا تَزَالُ تُخَلِّفُ مَا دَامَ الْمَاءُ يَنْزِلُ عَلَيْهَا، وَتُسَمَّى الْقَتَّ. وَالزَّيْتُونُ: الثَّمَرُ الَّذِي يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ الْمَعْرُوفُ. وَالنَّخْلُ: الشَّجَرُ الَّذِي ثَمَرَتُهُ التَّمْرُ وَأَطْوَارُهُ. وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ مِنْ نَخْلٍ وَكَرْمٍ وَشَجَرٍ فواكه، وَعَطْفُهَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْحَدَائِقِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ تَنَزُّهِهِمْ وَاخْتِرَافِهِمْ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ النَّخْلُ دُونَ ثَمَرَتِهِ، وَهُوَ التَّمْرُ، خِلَافًا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْكَلَأِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ شَجَرِ النَّخِيلِ كَثِيرَةٌ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى ثَمَرِهِ، فَهُمْ يَقْتَاتُونَ ثَمَرَتَهُ مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ وَبُسْرٍ، وَيَأْكُلُونَ جُمَّارَهُ، وَيَشْرَبُونَ مَاءَ عُودِ النَّخْلَةِ إِذَا شُقَّ عَنْهُ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْ نَوَى التَّمْرِ عَلَفًا لِإِبِلِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ، فَضْلًا عَنِ اتِّخَاذِهِمُ الْبُيُوتَ وَالْأَوَانِيَ مِنْ خَشَبِهِ، وَالْحُصْرَ مِنْ سَعَفِهِ، وَالْحِبَالَ مِنْ لِيفِهِ. فَذِكْرُ اسْمِ الشَّجَرَةِ الْجَامِعَةِ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ أَجْمَعُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ وَإِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ بِوَفْرَةِ النِّعَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ. وَالْغُلْبُ: جَمْعُ غَلْبَاءَ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ، يُقَالُ: غَلِبَ كَفَرِحَ، يُوصَفُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَالْبَعِيرُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِغِلَظِ أُصُولِ الشَّجَرِ فَوَصْفُ الْحَدَائِقِ بِهِ إِمَّا عَلَى تَشْبِيهِ الْحَدِيقَةِ فِي تَكَاثُفِ أَوْرَاقِ شَجَرِهَا وَالْتِفَافِهَا بِشَخْصٍ غَلِيظِ الْأَوْدَاجِ وَالْأَعْصَابِ فَتَكُونُ اسْتِعَارَةً، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ غُلْبٌ شَجَرُهَا، فَيَكُونُ نَعْتًا سَبَبِيًّا وَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي تَشْبِيهِ كُلِّ شَجَرَةٍ بِامْرَأَةٍ غَلِيظَةِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الْحَدَائِقِ لِأَنَّهَا تَكُونُ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ قُوَّةَ الْأَشْجَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 16] . وَخُصَّتِ الْحَدَائِقُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ التَّنَزُّهِ وَالِاخْتِرَافِ، وَلِأَنَّهَا تَجْمَعُ أَصْنَافًا مِنَ الْأَشْجَارِ. وَالْفَاكِهَةُ: الثِّمَارُ الَّتِي تُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ لَا لِلِاقْتِيَاتِ، مِثْلَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ الرَّطْبِ وَالرُّمَّانِ وَاللَّوْزِ.

وَالْأَبُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ: الْكَلَأُ الَّذِي تَرْعَاهُ الْأَنْعَامُ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا إِلَى وَأَبًّا فَقَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْكَ يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ ابْتَغُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إِلَى رَبِّهِ» . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُمَرَ بَعْضُ هَذَا مُخْتَصَرًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي انْتِفَاءِ عِلْمِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ بِمَدْلُولِ الْأَبِّ وَهُمَا مِنْ خُلَّصِ الْعَرَبِ لِأَحَدِ سَبَبَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ قَدْ تُنُوسِيَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ فَأَحْيَاهُ الْقُرْآنُ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَشْتَهِرُ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَتُنْسَى فِي بَعْضِهَا مِثْلَ اسْمِ السِّكِّينِ عِنْدَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَقَدَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ حَتَّى سَمِعْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «ايتوني بِالسِّكِّينِ أَقْسِمُ الطِّفْلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» . وَإِمَّا لِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَبِّ تُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا النَّبْتُ الَّذِي تَرْعَاهُ الْأَنْعَامُ، وَمِنْهَا التِّبْنُ، وَمِنْهَا يَابِسُ الْفَاكِهَةِ، فَكَانَ إِمْسَاكُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَنْ بَيَانِ مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَهَلِ الْأَبُّ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِأَنْعامِكُمْ فِي جَمْعِ مَا قُسِّمَ قَبْلَهُ. وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ خَاصًّا بِكَلَامِ عُمَرَ فَقَالَ: «إِنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ أَكْبَرُ هِمَّتِهِمْ عَاكِفَةً عَلَى الْعَمَلِ، وَكَانَ التَّشَاغُلُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُعْمَلُ بِهِ تَكَلُّفًا عِنْدَهُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي الِامْتِنَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَبَّ بَعْضُ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا لَهُ وَلِأَنْعَامِهِ فَعَلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ النُّهُوضِ بِالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا عُدِّدَ مِنْ نِعَمِهِ وَلَا تَتَشَاغَلْ عَنهُ بِطَلَب معنى الْأَبِّ وَمَعْرِفَةِ النَّبَاتِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لَهُ وَاكْتَفِ بِالْمَعْرِفَةِ الْجُمَلِيَّةِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ وَصَّى النَّاسَ بِأَنْ يَجْرُوا عَلَى هَذَا

[سورة عبس (80) : الآيات 33 إلى 42]

السَّنَنِ فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ اهـ» . وَلَمْ يَأْتِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» بِأَزْيَدَ مِنْ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ. وَقَوْلُهُ: مَتاعاً لَكُمْ حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى قَاعِدَةِ وُرُودِ الْحَالِ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّنَازُعِ. وَقَوْلُهُ: وَلِأَنْعامِكُمْ عَطْفُ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا ثُمَّ يَنْقَطِعُ، وَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوِّشٌ، وَالسَّامِعُ يُرْجِعُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ لِظُهُورِهِ. وَهَذِهِ الْحَالُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ أُدْمِجَتِ الْمَوْعِظَةُ وَالْمِنَّةُ فِي خلال الِاسْتِدْلَال. [33- 42] [سُورَة عبس (80) : الْآيَات 33 إِلَى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْلِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: 18- 25] ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارٌ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، مَعَ مُنَاسَبَةِ وُقُوعِ هَذَا الْإِنْذَارِ عَقِبَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ بِالِامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: إِلى طَعامِهِ [عبس: 24] وَقَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 32] عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى مِنْ سُورَةِ النَّازِعَاتِ [34] . والصَّاخَّةُ: صَيْحَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ صَيْحَاتِ الْإِنْسَانِ تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ، أَيْ تُصِمُّهَا. يُقَالُ: صَخَّ يَصُخُّ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمُضَارِعُهُ يَصُخُّ بِضَمِّ عَيْنِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِهَا اخْتِلَافًا لَا جَدْوَى لَهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ خُلَاصَةُ قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالرَّاغِبِ وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَجْرَى عَلَى قِيَاسِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، فَالصَّاخَّةُ صَارَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى حَادِثَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَانْتِهَاءِ

هَذَا الْعَالَمِ، وَتَحْصُلُ صَيْحَاتٌ مِنْهَا أَصْوَاتٌ تُزَلْزِلُ الْأَرْضَ وَاصْطِدَامُ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِالْأَرْضِ مَثَلًا، وَنَفْخَةُ الصُّورِ الَّتِي تُبْعَثُ عِنْدَهَا النَّاسُ. وَ (إِذَا) ظَرْفٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَتِ الصَّاخَّةُ وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ الْآيَاتِ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحُصُولِ مَجَازًا، شُبِّهَ حُصُولُ يَوْمِ الْجَزَاءِ بِشَخْصٍ جَاءَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. ويَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَدَلٌ مِنْ إِذَا جاءَتِ الصَّاخَّةُ بَدَلًا مُطَابِقًا. وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مُخِيفٍ. وَحَرْفُ (مِنْ) هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي يُعَدَّى بِهِ فِعْلُ الْفِرَارِ إِلَى سَبَبِ الْفِرَارِ حِينَ يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ، وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ، وَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ مِثْلَ (عَنْ) . وَكَوْنُ أَقْرَبِ النَّاسِ لِلْإِنْسَانِ يَفِرُّ مِنْهُمْ يَقْتَضِي هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى مَا يَحِلُّ مِنَ الْعَذَابِ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَوَهَّمَ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْهُ يُنْجِيهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُمَاثِلًا لَهُمْ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَذُكِرَتْ هُنَا أَصْنَافٌ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ آصِرَةٌ تَكُونُ لَهَا فِي النَّفْسِ مَعَزَّةٌ وَحِرْصٌ عَلَى سَلَامَةِ صَاحِبِهَا وَكَرَامَتِهِ. وَالْإِلْفُ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حِرْصًا عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُقَارَنَةِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْوِجْدَانَيْنِ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنِ الْمُفَارَقَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِهَوْلٍ يَغْشَى على هذَيْن الواجدين فَلَا يَتْرُكُ لَهُمَا مَجَالًا فِي النَّفْسِ. وَرُتِّبَتْ أَصْنَافُ الْقَرَابَةِ فِي الْآيَةِ حَسَبَ الصُّعُودِ مِنَ الصِّنْفِ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ تَدَرُّجًا فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَابْتُدِئَ بِالْأَخِ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِأَخِيهِ مِنْ زَمَنِ الصِّبَا فَيَنْشَأُ بِذَلِكَ إِلْفٌ بَيْنَهُمَا يَسْتَمِرُّ طُولَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنَ الْأَخِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ وَهُمَا أَشَدُّ قُرْبًا لِابْنَيْهِمَا، وَقُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ إِلْفَ ابْنِهَا بِهَا أَقْوَى مِنْهُ بِأَبِيهِ وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَانْتُقِلَ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْبَنِينَ وَهُمَا مُجْتَمَعُ عَائِلَةِ الْإِنْسَانِ وَأَشَدُّ النَّاسِ قُرْبًا بِهِ وَمُلَازَمَةً.

وَأُطْنِبَ بِتَعْدَادِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَقْرَبِ قَرَابَتِهِ مَثَلًا لِإِحْضَارِ صُورَةِ الْهَوْلِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَرَابَةِ إِذَا قَدَّرْتَهُ هُوَ الْفَارَّ كَانَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مَفْرُورًا مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ: وَصاحِبَتِهِ لِظُهُورِ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَالْمَرْأَةِ مِنْ صَاحِبِهَا، فَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ الدَّالِّ عَلَى الْقُرْبِ وَالْمُلَازَمَةِ دُونَ وَصْفِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ حَسَنَةِ الْعِشْرَةِ لِزَوْجِهَا فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ مِنْهَا كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَذُكِرَ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا فِرَارُ الْمُؤْمِنِ مِنْ قَرَابَتِهِ الْمُشْرِكِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِتَبِعَتِهِمْ إِذْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَتَعْلِيقُ جَارِ الْأَقْرِبَاءِ بِفِعْلِ: يَفِرُّ الْمَرْءُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِي عَذَابٍ يَخْشَوْنَ تَعَدِّيَهُ إِلَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِمْ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ أَبْلَغُ مَا يُفِيدُ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ هَوْلُهُ لِلْمَرْءِ بَقِيَّةً مِنْ رُشْدِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لِلْخَائِفِ مَسَبَّةٌ فِيمَا تَعَارَفُوهُ لِدِلَالَتِهِ عَلَى جُبْنِ صَاحِبِهِ وَهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِالْجُبْنِ وَكَوْنَهُ يَتْرُكُ أَعَزَّ الْأَعِزَّةِ عَلَيْهِ مَسَبَّةٌ عُظْمَى. وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِ الْيَوْمِ، وَتَنْوِينُ شَأْنٌ لِلتَّعْظِيمِ. وَحَيْثُ كَانَ فِرَارُ الْمَرْءِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ الْخَمْسَةِ يَقْتَضِي فِرَارَ كُلِّ قَرِيبٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ مِثْلِهِ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ جَامِعًا لِلْجَمِيعِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ الْمُقْتَضَى، فَقَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ بَلْهَ الِاشْتِغَالَ عَمَّنْ هُوَ دُونَ أُولَئِكَ فِي الْقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةِ. وَالشَّأْنُ: الْحَالُ الْمُهِمُّ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ شَأْنٌ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَبْتَدِئُونَ بِالنَّكِرَةِ فِي جُمْلَتِهَا إِلَّا بِمُسَوِّغٍ مِنْ مُسَوِّغَاتٍ عَدَّهَا النُّحَاةُ بِضْعَةَ عَشَرَ مُسَوِّغًا، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ.

وَالْإِغْنَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ غَنِيًّا، أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِشَيْءٍ فِي غَرَضِهِ. وَأَصْلُ الْإِغْنَاءِ وَالْغِنَى: حُصُولُ النَّافِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 67] وَقَالَ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: 28] . وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى الْإِشْغَالِ وَالْإِشْغَالُ أَعَمُّ. فَاسْتُعْمِلَ الْإِغْنَاءُ الَّذِي هُوَ نَفْعٌ فِي مَعْنَى الْإِشْغَالِ الْأَعَمِّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَشْغَلُهُمْ عَنْ قَرَابَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ فَرْطُ النَّعِيمِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَجُمْلَةُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ جَوَابُ (إِذَا) ، أَيْ إِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ صِنْفٌ وُجُوهُهُمْ مُسْفِرَةٌ وَصِنْفٌ وُجُوهُهُمْ مُغْبَرَّةٌ. وَقُدِّمَ هُنَا ذِكْرُ وُجُوهِ أَهْلِ النَّعِيمِ عَلَى وُجُوهِ أَهْلِ الْجَحِيمِ خِلَافَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [37] فَأَمَّا مَنْ طَغى ثُمَّ قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [النازعات: 40] إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلَى عِمَادِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ رَجُلٍ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ عَظِيمٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ حَظُّ الْفَرِيقَيْنِ مَقْصُودًا مَسُوقًا إِلَيْهِ الْكَلَامُ وَكَانَ حَظُّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْمُلْتَفَتَ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ من قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 5، 6] . وَأَمَّا سُورَةُ النَّازِعَاتِ فَقَدْ بُنِيَتْ عَلَى تَهْدِيدِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [النازعات: 6- 8] فَكَانَ السِّيَاقُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَتَهْوِيلِ مَا يَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَأَمَّا ذِكْرُ حَظِّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ دَعَا إِلَى ذِكْرِهِ الِاسْتِطْرَادُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ. وَتَنْكِيرُ وُجُوهٌ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلتَّنْوِيعِ، وَذَلِكَ مُسَوِّغُ وُقُوعِهِمَا مُبْتَدَأً. وَإِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَالتَّقْدِيرُ: وُجُوهٌ مُسْفِرَةٌ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ. وَقَدْ أَغْنَتْ إِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ رَبْطِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ. وَالْمُسْفِرَةُ ذَاتُ الْإِسْفَارِ، وَالْإِسْفَارُ النُّورُ وَالضِّيَاءُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا ظَهَرَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِي أُفُقِ الْفَجْرِ، أَيْ وُجُوهٌ مُتَهَلِّلَةٌ فَرَحًا وَعَلَيْهَا أَثَرُ النَّعِيمِ.

وَ (ضاحِكَةٌ) أَيْ كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ. وَ (مُسْتَبْشِرَةٌ) مَعْنَاهُ فَرِحَةٌ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَيُقَالُ: بَشَرَ، أَيْ فَرِحَ وَسُرَّ، قَالَ تَعَالَى: قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ [يُوسُف: 19] أَيْ يَا فَرْحَتِي. وَإِسْنَادُ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ إِلَى الْوُجُوهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْوُجُوهَ مَحَلُّ ظُهُورِ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَكَانِهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوُجُوهَ كِنَايَةً عَنِ الذَّوَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: 27] . وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُطْمَئِنِّينَ بَالًا الْمُكْرَمِينَ عَرْضًا وَحُضُورًا. وَالْغَبَرَةُ بِفَتْحَتَيْنِ الْغُبَارُ كُلُّهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهَا مُعَفَّرَةٌ بِالْغُبَارِ إِهَانَةً وَمِنْ أَثَرِ الْكَبَوَاتِ. وتَرْهَقُها تَغْلِبُ عَلَيْهَا وَتَعْلُوهَا. وَالْقَتَرَةُ: بِفَتْحَتَيْنِ شِبْهُ دُخَانٍ يَغْشَى الْوَجْهَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ غَيْرُ الْغَبَرَةِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهَا. وَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» . وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْكُفْرِ، يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ هَذَا التَّنْوِيعِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ زِيَادَةً فِي تَشْهِيرِ حَالِهِمُ الْفَظِيعِ لِلسَّامِعِينَ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ تَشْهِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي سَبَّبَتْ لَهُمْ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّقْوَى. وَأُتْبِعَ وَصْفُ الْكَفَرَةُ بِوَصْفِ الْفَجَرَةُ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِ الْفُجُورِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفُجُورِ مِنْ خَسَاسَةِ الْعَمَلِ فَذُكِرَ وصفاهم الدالان على مَجْمُوعِ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ وَفَسَادِ الْعَمَلِ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْفَجَرَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ.

81- سورة التكوير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 81- سُورَةُ التَّكْوِيرِ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّاهَا تَسْمِيَةً صَرِيحَةً، وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ صِفَةَ يَوْم الْقِيَامَة لَيست فِي جَمِيعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَلْ هُوَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعُنْوِنَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» ، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الطَّبَرَيُّ. وَأَكْثَرُ التَّفَاسِيرِ يُسَمُّونَهَا «سُورَةَ التَّكْوِيرِ» وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَهُوَ اخْتِصَارٌ لِمَدْلُولِ «كُوِّرَتْ» . وَتُسَمَّى «سُورَةَ كُوِّرَتْ» تَسْمِيَةً بِحِكَايَةِ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهَا. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّابِعَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَعْلَى. وَعَدَدُ آيِهَا تسع وَعِشْرُونَ. أغراضها اشْتَمَلَتْ عَلَى تَحْقِيقِ الْجَزَاءِ صَرِيحًا.

[سورة التكوير (81) : الآيات 1 إلى 14]

وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَابْتُدِئَ بِوَصْفِ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَتَقَدَّمُهُ وَانْتُقِلَ إِلَى وَصْفِ أَهْوَالٍ تَقَعُ عَقِبَهُ. وَعَلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَوْعَدَهُمْ بِالْبَعْثِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَحْث إِذا رَمَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُنُونِ وَالْقُرْآنَ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ بِهِ شَيْطَان. [1- 14] [سُورَة التكوير (81) : الْآيَات 1 إِلَى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) الِافْتِتَاحُ بِ إِذَا افْتِتَاحٌ مُشَوِّقٌ لِأَنَّ إِذَا ظَرْفٌ يَسْتَدْعِي مُتَعَلَّقًا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا شَرْطٌ يُؤْذِنُ بِذِكْرِ جَوَابٍ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ تَرَقَّبَ مَا سَيَأْتِي بعده فَعِنْدَ مَا يَسْمَعُهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ كَمَالَ تَمَكُّنٍ، وَخَاصَّةً بِالْإِطْنَابِ بِتَكْرِيرِ كَلِمَةِ إِذَا وَتَعَدُّدِ الْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَإِعَادَةُ كَلِمَةِ إِذَا بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إِطْنَابٌ، وَهَذَا الْإِطْنَابُ اقْتَضَاهُ قَصْدُ التَّهْوِيلِ، وَالتَّهْوِيلُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ وَالتَّكْرِيرِ، كَمَا فِي قَصِيدَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ الْبَكْرِيِّ: قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي إِلَخْ وَفِي إِعَادَةِ إِذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ مُسْتَقِلٌّ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَفَاوُتِ زَمَانِ حُصُولِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ زَمَنَ سُؤَالِ الْمَوْءُودَةِ وَنَشْرِ الصُّحُفِ أَقْرَبُ لِعِلْمِ النُّفُوسِ بِمَا أَحْضَرَتْ أَقْرَبُ مِنْ زَمَانِ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبَعْثِ.

وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ اثْنَا عَشَرَ حَدَثًا فَسِتَّةٌ مِنْهَا تَحْصُلُ فِي آخِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَسِتَّةٌ مِنْهَا تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ. وَكَانَتِ الْجُمَلُ الَّتِي جُعِلَتْ شُرُوطًا لِ إِذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفْتَتَحَةً بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِمُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ دُونَ كَوْنِهَا جُمَلًا فِعْلِيَّةً وَدُونَ تَقْدِيرِ أَفْعَالٍ مَحْذُوفَةٍ تُفَسِّرُهَا الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ بِجَوَازِ وُقُوعِ شَرْطِ إِذَا جُمْلَةً غَيْرَ فعلية وَهُوَ الرَّاجِع لِأَنَّ إِذَا غَيْرُ عَرِيقَةٍ فِي الشَّرْطِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ مَا أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يَغْلِبُ أَنْ تَكُونَ شُرُوطًا لِ إِذَا لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا أَدْخَلُ فِي التَّهْوِيلِ وَالتَّشْوِيقِ وَلِيُفِيدَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ تَقَوِّيَ الْحُكْمِ وَتَأْكِيدَهُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْجُمَلِ رَدًّا عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرِيهِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَلَمْ يُقَلْ: إِذَا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَهَكَذَا نَظَائِرُهُ. وَجَوَابُ الشُّرُوطِ الِاثْنَيْ عَشَرَ هُوَ قَوْلُهُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الظُّرُوفُ الْمُشْرَبَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ الْوَارِدَةِ شُرُوطًا لِ إِذَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَتَكْوِيرُ الشَّمْسِ: فَسَادُ جِرْمِهَا لِتَدَاخُلِ ظَاهِرِهَا فِي بَاطِنِهَا بِحَيْثُ يَخْتَلُّ تَرْكِيبُهَا فَيَخْتَلُّ لِاخْتِلَالِهِ نِظَامُ سَيْرِهَا، من قَوْلِهِمْ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ، إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ وَلَفَّهَا، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ إِطْلَاقُ الطَّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الْأَنْبِيَاء: 104] . وَفُسِّرَ كُوِّرَتْ بِمَعْنَى غُوِّرَتْ. رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ وَأَنَّ أَصْلَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ كُورُ بِكْرْ (بِضَمِّ الْكَافِ الْأُولَى وَسُكُونِ الرَّاءِ الْأَخِيرَةِ) وَعَلَى ذَلِكَ عُدَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِمَّا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ. وَقَدْ عَدَّهَا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي نَظْمِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُعَرَّبَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَإِذَا زَالَ ضَوْءُ الشَّمْسِ انْكَدَرَتِ النُّجُومُ لِأَنَّ مُعْظَمَهَا يَسْتَنِيرُ مِنَ انْعِكَاسِ نُورِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا. وَالِانْكِدَارُ: مُطَاوِعُ كَدَّرَهُ الْمُضَاعَفِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَيْ حَصَلَ لِلنُّجُومِ

انْكِدَارٌ مِنْ تَكْدِيرِ الشَّمْسِ لَهَا حِينَ زَالَ عَنْهَا انْعِكَاسُ نُورِهَا، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ مُطَاوِعُ كَدَّرَ دُونَ ذِكْرِ فَاعِلِ التَّكْدِيرِ. وَالْكُدْرَةُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ كَتَغَيُّرِ لَوْنِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ. وَفُسِّرَ الِانْكِدَارُ بِالتَّسَاقُطِ وَالِانْقِضَاضِ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْعَجَّاجِ يَصِفُ بَازِيًا: أَبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءً فَانْكَدَرْ وَمَعْنَى تَسَاقُطِهَا تَسَاقُطُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاصْطِدَامُهَا بِسَبَبِ اخْتِلَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِإِمْسَاكِهَا إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ. وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ انْتِقَالُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا بِارْتِجَاجِ الْأَرْضِ وَزِلْزَالِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ. والْعِشارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحَامِلُ إِذَا بَلَغَتْ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ لِحَمْلِهَا فَقَارَبَتْ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا لِأَنَّ النُّوقَ تَحْمِلُ عَامًا كَامِلًا، والْعِشارُ أَنْفَسُ مَكَاسِبِ الْعَرَبِ وَمَعْنَى عُطِّلَتْ تُرِكَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا. وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ النَّاسِ أَعْمَالَهُمْ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي الْأَرْضِ فَيُنَاسِبُ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِشارُ مُسْتَعَارَةً لِلْأَسْحِبَةِ الْمُحَمَّلَةِ بِالْمَطَرِ، شُبِّهَتْ بِالنَّاقَةِ الْعُشَرَاءِ. وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، فَهُمْ يُطْلِقُونَ مِثْلَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لِلسَّحَابِ، كَمَا أَطْلَقُوا عَلَى السَّحَابَةِ اسْمَ بِكْرٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ فَأَطْلَقَ عَلَى السَّحَابَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَاءِ اسْمَ الْبِكْرِ الْحُرَّةِ، أَيِ الْأَصِيلَةِ مِنَ النُّوقِ وَهِيَ فِي حَمْلِهَا الْأَوَّلِ. وَمَعْنَى تَعْطِيلِ الْأَسْحِبَةِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا مَا يَحْبِسُ مَطَرَهَا عَنِ النُّزُولِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَسْحِبَةَ الثِّقَالَ لَا تَتَجَمَّعُ وَلَا تَحْمِلُ مَاءً، فَمَعْنَى تَعْطِيلِهَا تَكَوُّنُهَا، فَيَتَوَالَى الْقَحْطُ

عَلَى الْأَرْضِ فَيَهْلِكُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْعُلْوِيَّةِ فَيُنَاسِبُ تَكْوِيرَ الشَّمْسِ وَانْكِدَارَ النُّجُومِ. والْوُحُوشُ: جَمْعُ وَحْشٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ غَيْرُ الْمُتَأَنِّسِ بِالنَّاسِ. وَحَشْرُهَا: جَمْعُهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، أَيْ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ اقْتِرَابِ فَنَاءِ الْعَالَمِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ حَشْرِهَا طُوفَانًا يَغْمُرُ الْأَرْضَ مِنْ فَيَضَانِ الْبِحَارِ فَكُلَّمَا غَمَرَ جُزْءًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَّتْ وُحُوشُهُ حَتَّى تَجْتَمِعَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ طَالِبَةً النَّجَاةَ مِنَ الْهَلَاكِ، وَيُشْعِرُ بِهَذَا عَطْفُ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُحُوشِ إِيمَاءً إِلَى شِدَّةِ الْهَوْلِ فَالْوُحُوشُ الَّتِي مِنْ طَبْعِهَا نَفْرَةُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ تَتَجَمَّعُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَا يَعْدُو شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، فَهِيَ ذَاهِلَةٌ عَمَّا فِي طَبْعِهَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالِافْتِرَاسِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَشْرَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ بِهِ لِلْحِسَابِ بَلْ هَذَا حَشْرٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا عُدَّ مَعَهُ مِنَ الْأَشْرَاطِ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَتَسْجِيرُ الْبِحَارِ: فَيَضَانُهَا قَالَ تَعَالَى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [6] . وَالْمُرَادُ تَجَاوُزُ مِيَاهِهَا مُعَدَّلَ سُطُوحِهَا وَاخْتِلَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ اخْتِلَالِ قُوَّةِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الَّتِي كَانَتْ ضَاغِطَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي آيَةِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ [3] : وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ اخْتَلَطَ مَاؤُهَا بِرَمْلِهَا فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ. يُقَالُ: سَجَّرَ مُضَاعَفًا وسجر مخففا. وقرىء بِهِمَا فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ مُخَفَّفًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْأَحْوَالِ الْحَاصِلَةِ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدِ انْتُقِلَ إِلَى ذِكْرِهَا لِأَنَّهَا تَحْصُلُ عَقِبَ السِّتَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَابْتُدِئَ بِأَوَّلِهَا وَهُوَ تَزْوِيجُ النُّفُوسِ، وَالتَّزْوِيجُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَوْجًا لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كِلَاهُمَا فَرْدًا، وَالتَّزْوِيجُ أَيْضًا: جَعْلُ الْأَشْيَاءِ أَنْوَاعًا مُتَمَاثِلَةً قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: 3] لِأَنَّ الزَّوْجَ يُطْلَقُ عَلَى النَّوْعِ وَالصِّنْفِ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالنُّفُوسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَالنَّفْسُ يُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الْفجْر: 27، 28] وَقَالَ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَام: 93] .

وَتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلَى ذَاتِ الْإِنْسَانِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: 151] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَة: 2] وَقَالَ: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: 61] أَيْ فَلْيُسَلِّمِ الدَّاخِلُ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ النَّاسِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى النُّفُوسِ هُنَا الْأَرْوَاحَ، أَيْ تُزَوَّجُ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ الْمُخَصَّصَةِ لَهَا فَيَصِيرُ الرُّوحُ زَوْجًا مَعَ الْجَسَدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَرْدًا لَا جِسْمَ لَهُ فِي بَرْزَخِ الْأَرْوَاحِ، وَكَانَتِ الْأَجْسَادُ بِدُونِ أَرْوَاحٍ حِينَ يُعَادُ خَلْقُهَا، أَيْ وَإِذَا أُعْطِيَتِ الْأَرْوَاحُ لِلْأَجْسَادِ. وَهَذَا هُوَ الْبَعْثُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ أَوَّلًا، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِذَا الْأَشْخَاصُ نُوِّعَتْ وَصُنِّفَتْ فَجُعِلَتْ أَصْنَافًا: الْمُؤْمِنُونَ، وَالصَّالِحُونَ، وَالْكُفَّارُ، وَالْفُجَّارُ، قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ [الْوَاقِعَة: 7- 10] الْآيَةَ. وَلَعَلَّ قَصْدَ إِفَادَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ مُقْتَضَى الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ مَا زُوِّجَتِ النُّفُوسُ بِهِ. وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْبَعْثِ اقْتِرَانُ الْأَرْوَاحِ بِأَجْسَادِهَا، ثُمَّ تَقْسِيمُ النَّاسِ إِلَى مَرَاتِبِهِمْ لِلْحَشْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ثُمَّ قَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر: 71] ثُمَّ قَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: 73] الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرُوا مَعَانِيَ أُخْرَى لِتَزْوِيجِ النُّفُوسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مُنَاسِبَةٍ لِلسِّيَاقِ. وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ تَزْوِيجِ النُّفُوسِ بِالْأَجْسَادِ خُصَّ سُؤَالُ الْمَوْءُودَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ الْمُجْرِمُونَ يَوْمَ الْحِسَابِ. ذَلِكَ لِأَنَّ إِعَادَةَ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ إِمَّا بِعَارِضٍ جَسَدِيٍّ مِنَ انْحِلَالٍ أَوْ مَرَضٍ وَإِمَّا بِاعْتِدَاءٍ عُدْوَانِيٍّ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قِتَالٍ، وَكَانَ مِنْ أَفْظَعِ الْإِعْتِدَاءِ عَلَى إِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ مِنْ أَجْسَادِهَا اعْتِدَاءُ الْآبَاءِ عَلَى نُفُوسِ أَطْفَالِهِمْ بِالْوَأْدِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْفِطْرَةِ حِرْصَ الْآبَاءِ عَلَى اسْتِحْيَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَجَعَلَ الْأَبَوَيْنِ سَبَبَ إِيجَادِ الْأَبْنَاءِ، فَالْوَأْدُ أَفْظَعُ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَسُؤَالُ الْمَوْءُودَةِ سُؤَالٌ تَعْرِيضِيٌّ مُرَادٌ مِنْهُ تَهْدِيدُ وَائِدِهَا وَرُعْبُهُ بِالْعَذَابِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ سُؤَالَ الْمَوْءُودَةِ وَعُقُوبَةَ مَنْ وَأَدَهَا أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

كَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ جَعْلَ هَذَا السُّؤَالِ وَقْتًا تَعْلَمُ عِنْدَهُ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ فَهُوَ مِنْ أَوَّلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ حِينَ الْجَزَاءِ. وَالْوَأْدُ: دَفْنُ الطِّفْلَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ: قِيلَ هُوَ مَقْلُوبُ آدَاهُ، إِذَا أَثْقَلَهُ لِأَنَّهُ إِثْقَالُ الدَّفِينَةِ بِالتُّرَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا الْبَسْهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا كَانَتْ سُدَاسِيَّةً يَقُولُ لِأُمِّهَا طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَيَبْلُغُ بِهَا الْبِئْرَ فَيَقُولُ لَهَا: انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى تَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا أَقْرَبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحُفْرَةِ فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ وَإِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ اهـ. وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ إِغَارَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَيَسْبِي نِسَاءَهُمْ وَلِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ لِأَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَالُ لِلْكَسْبِ بِالْغَارَةِ وَغَيْرِهَا وَالْأُنْثَى عَالَةٌ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: 31] وَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [النَّحْل: 58، 59] . وَإِذْ قَدْ فَشَا فِيهِمْ كَرَاهِيَةُ وِلَادَةِ الْأُنْثَى فَقَدْ نَمَا فِي نُفُوسِهِمْ بُغْضُهَا فَتَحَرَّكَتْ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْإِجْرَامِيَّةُ فَالرَّجُلُ يَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهُ أُنْثَى لِذَلِكَ، وَامْرَأَتُهُ تَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهَا أُنْثَى خَشْيَةً مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا إِيَّاهَا وَقَدْ يَهْجُرُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. وَقَدْ تَوَارَثَتْ هَذَا الْجَهْلَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَقَدْ مَاتَتِ ابْنَتُهُ: «نِعْمَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ» . وَمِنْ آثَارِ هَذَا الشُّعُورِ حِرْمَانُ الْبَنَاتِ مِنْ أَمْوَالِ آبَائِهِنَّ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ مِثْلَ وَقْفِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَأَى ذَلِكَ الْحُبْسَ بَاطِلًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَيِّتِ يُلْجِئُونَ بَنَاتَهُ إِلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِنَّ فِي مِيرَاث أيهن لِإِخْوَتِهِنَّ فِي فَوْرِ الْأَسَفِ عَلَى مَوْتِ أَبِيهِنَّ فَلَا

يَمْتَنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ وَيَرَيْنَ الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ عَارًا عَلَيْهِنَّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْنَ قَطَعَهُنَّ أَقْرِبَاؤُهُنَّ. وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْفِقْهِ بِهِبَةِ بَنَاتِ الْقَبَائِلِ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّهَا مِنَ الْإِكْرَاهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْوَأْدُ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ وَأَدَ الْبَنَاتِ مِنَ الْقَبَائِلِ رَبِيعَةُ، وَكَانَتْ كِنْدَةُ تَئِدُ الْبَنَاتِ، وَكَانَ بَنُو تَمِيمٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَوَأَدَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِنْ بني تَمِيم ثَمَان بَنَاتٍ لَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْوَأْدُ فِي قُرَيْشٍ الْبَتَّةَ. وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَفْتَدِي مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيد وأد ابْنَته مِنْ قَوْمِهِ بِنَاقَتَيْنِ عُشَرَاوَيْنِ وَجَمَلٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ افْتَدَى ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْءُودَةً، وَقِيلَ: وَسَبْعِينَ وَفِي «الْأَغَانِي» : وَقِيلَ: أَرْبَعَمِائَةٍ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ أَحْيَا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً وَمِثْلُ هَذَا فِي «كِتَابِ الشُّعَرَاءِ» لِابْنِ قُتَيْبَةَ وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ فَلَعَلَّ فِي أَحَدِهِمَا تَحْرِيفًا. وَفِي تَوْجِيهِ السُّؤَالِ إِلَى الْمَوْءُودَةِ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ فِي ذَلِكَ الْحَشْرِ إِدْخَالُ الرَّوْعِ عَلَى مَنْ وَأَدَهَا، وَجَعْلُ سُؤَالِهَا عَنْ تَعْيِينِ ذَنْبٍ أَوْجَبَ قَتْلَهَا لِلتَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّخْطِئَةِ لِلَّذِي وَأَدَهَا وَلِيَكُونَ جَوَابُهَا شَهَادَةً عَلَى مَنْ وَأَدَهَا فَيَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ الْعِقَابَ أَشَدَّ وَأَظْهَرَ. وَجُمْلَةُ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ سُئِلَتْ وَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمَيُّزُ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ أَشْيَاءَ تَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي حَالٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي بِأَيِّ ذَنْبٍ تَقْرِيرِيٌّ، وَإِنَّمَا سُئِلَتْ عَنْ تَعْيِينِ الذَّنْبِ الْمُوجِبِ قَتْلَهَا دُونَ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ قَاتِلِهَا لِزِيَادَةِ التَّهْدِيدِ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ تَعْيِينِ الذَّنْبِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوَائِدِ الَّذِي يَسْمَعُ ذَلِكَ السُّؤَالَ أَنْ لَا ذَنْبَ لَهَا إِشْعَارٌ لِلْوَائِدِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِيمَا صَنَعَ بِهَا. وَيُنْتَزَعُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ الْوَارِدِ فِي سِيَاقِ نَفْيِ ذَنْبٍ عَنِ الْمَوْءُودَةِ يُوجِبُ قَتْلَهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتُوا مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ لَا يُعْتَبَرُونَ مُشْرِكِينَ مِثْلَ آبَائِهِمْ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ تَعَرَّضَ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي

«الْكَشَّافِ» . وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا يعذّبون وَإِذا بكّت اللَّهُ الْكَافِرَ بِبَرَاءَةِ الْمَوْءُودَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَمَا أَقْبَحَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَنْ يَكِرَّ عَلَى هَذَا التَّبْكِيتِ فَيَفْعَلَ بِهَا مَا تَنْسَى عِنْدَهُ فِعْلَ الْمُبَكَّتِ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ اهـ. فَأَشَارَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: دِلَالَةُ الْإِشَارَةِ، أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا لَا ذَنْبَ لَهَا، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذَّنْبَ الْمَنْفِيَّ وَجُودُهُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ إِنَّمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي يُخَوِّلُ لِأَبِيهَا وَأْدَهَا لَا إِثْبَاتَ حُرْمَتِهَا وَعِصَمِةَ دَمِهَا فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهَا. الثَّانِي: قَاعِدَةُ إِحَالَةِ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْسِينِ، وَالتَّقْبِيحِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِحَالَتِهِمُ الظُّلْمَ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَذَّبَ أَحَدًا بِدُونِ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. فَعِنْدَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ اللَّهِ فِي عَبِيدِهِ لَا يُوصَفُ بِالظُّلْمِ خِلَافًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ سَالِمٍ مِنَ النَّقْضِ. الثَّالِثُ: مَا نَسَبَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَّبَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الصِّحَّةِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ مُتَعَارِضَةٌ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ أَوْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ عَنِ الْجَوَابِ، أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ [طه: 52] جَوَابًا لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: 51] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ كَبَرَ مَاذَا يَكُونُ عَامِلًا مِنْ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ، أَيْ فَيُعَامِلُهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (بِبَعْضِ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» الْحَدِيثَ. زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ يَقُولُ (أَيْ أَبُو هُرَيْرَة) اقرأوا: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرّوم: 30] فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ قَرِينِهِ مَا يُغَيِّرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا أَظْهَرُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «الْمُعَلِّمِ» : فَاضْطَرَبَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ. وَالْأَحَادِيثُ وَرَدَتْ ظَوَاهِرُهَا مُخْتَلِفَةً وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ سَبَبُ اضْطِرَابِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِك وَالْقطع هَاهُنَا يَبْعُدُ اهـ. وَقَوْلُ أبي هُرَيْرَة: واقرأوا: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها إِلَخْ مِصْبَاحٌ يُنِيرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ: وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ» . قَالَ سَمُرَةُ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ» . وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالشَّافِعِيُّ هُمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَهَبَ الْأَزَارِقَةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ حَدِيثِ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ وَقَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَرِثَاهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهُمَا كَافِرَانِ فَلَمَّا فُرِضَتِ الْفَرَائِضُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى كَافِرًا وَعُلِمَ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى دِينِهِمَا. وَهُنَالِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَعْزُوَّةٍ إِلَى مُعَيَّنٍ وَلَا مُسْتَنِدَةٍ لِأَثَرٍ صَحِيحٍ. وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ: أَنَّ أَطْفَالَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِإِجْمَاعٍ وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ بَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَفَ فِيهِمْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قُتِلَتْ» بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِهَا وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُ قَتْلٌ شَدِيدٌ فَظِيعٌ. وَنَشْرُ الصُّحُفِ حَقِيقَتُهُ: فَتْحُ طَيَّاتِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ إِطْلَاقُ الْتِفَافِهَا لِتُقْرَأَ كِتَابَتُهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [52] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [13] . وَالْمُرَادُ: صُحُفُ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ إِمَّا صُحُفٌ حَقِيقِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلصُّحُفِ الْمَأْلُوفَةِ، وَإِمَّا مَجَازِيَّةٌ أُطْلِقَتْ عَلَى أَشْيَاءَ فِيهَا إِحْصَاءُ أَعْمَالِ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: نُشِرَتْ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ لِلتَّكْثِيرِ لِكَثْرَةِ الصُّحُفِ الْمَنْشُورَةِ. وَالْكَشْطُ: إِزَالَةُ الْإِهَابِ عَنِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السَّلْخِ لِأَنَّ السَّلْخَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي إِزَالَةِ إِهَابِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ إِزَالَةِ إِهَابِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ كَشْطٌ وَلَا يُقَالُ: سَلْخٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةٌ تَقَعُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي أَثْنَاءِ أَحْدَاثِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّمَاءَ تَبْقَى مُنْشَقَّةً مُنْفَطِرَةً تعرج الْمَلَائِكَة بَينهمَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْمَحْشَرِ حَتَّى يَتِمَّ الْحِسَابُ فَإِذَا قُضِيَ الْحِسَابُ أُزِيلَتِ السَّمَاءُ مِنْ مَكَانِهَا فَالسَّمَاءُ مَكْشُوطَةٌ وَالْمَكْشُوطُ عَنْهُ هُوَ عَالَمُ الْخُلُودِ، وَيَكُونُ كُشِطَتْ اسْتِعَارَةً لِلْإِزَالَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي جُعِلَتْ أَشْرَاطًا لِلسَّاعَةِ وَأُخِّرَ ذِكْرُهُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ نَشْرِ الصُّحُفِ لِأَنَّ الصُّحُفَ تَنْشُرُهَا الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَيَكُونُ هَذَا الْكَشْطُ مِنْ قَبِيلِ الِانْشِقَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وَالِانْفِطَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِلَى قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 1- 5] فَيَكُونُ الْكَشْطُ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَكْشُوطُ عَنْهُ بَعْضٍ آخَرَ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: 40] وَمِنْ قَبِيلِ الطَّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] لِأَنَّ ظَاهِرَهُ اتِّصَالُ طَيِّ

السَّمَاءِ بِإِعَادَةِ الْخَلْقِ، وَتَصِيرُ الْأَشْرَاطُ الَّتِي تَحْصُلُ قَبْلَ الْبَعْثِ سَبْعَةً وَالْأَحْدَاثُ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ خَمْسَةً. وَالْجَحِيمُ أَصْلُهُ: النَّارُ ذَاتُ الطَّبَقَاتِ مِنَ الْوَقُودِ مِنْ حَطَبٍ وَنَحْوِهِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ دَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَتَسْعِيرُهَا أَوْ إِسْعَارُهَا: إِيقَادُهَا، أَيْ هُيِّئَتْ لِعَذَابِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: سُعِّرَتْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مُبَالَغَةً فِي الْإِسْعَارِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقُوبِلَتْ بِالْجَنَّةِ دَارِ النَّعِيمِ وَاسْمُ الْجَنَّةِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى دَارِ النَّعِيمِ، وأُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ، وَالزُّلْفَى: الْقُرْبُ، أَيْ قُرِّبَتِ الْجَنَّةُ مِنْ أَهْلِهَا، أَي جعلت بِقرب مِنْ مَحْشَرِهِمْ بِحَيْثُ لَا تَعَبَ عَلَيْهِمْ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ كَرَامَةً لَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ الْمُفْتَتَحَاتِ بِكَلِمَةِ إِذَا مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِلَى هُنَا، وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَإِذَا انْكَدَرَتِ النُّجُومُ، وَهَكَذَا كَمَا قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ الْمَجْعُولَةِ عَلَامَاتٍ لِيَوْمِ الْبَعْثِ تَوَسُّلًا بِالِاهْتِمَامِ بِأَشْرَاطِهِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَإِنَّ إِطَالَةَ ذِكْرِ تِلْكَ الْجُمَلِ تَشْوِيقٌ لِلْجَوَابِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَجُمْلَةُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ يَتَنَازَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ كَلِمَاتُ إِذَا الْمُتَكَرِّرَةُ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «أَنَّهُ قَرَأَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَمَّا بَلَغَ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ قَالَ: لِهَذَا أُجْرِيَتِ الْقِصَّةُ» أَيْ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَمَعْنَى عَلِمَتْ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِمَا أَحْضَرَتْ فَتَعْلَمُهُ. وَقَوْلُهُ نَفْسٌ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ مُرَادٌ بِهَا الْعُمُومُ، أَيْ عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ، وَاسْتِفَادَةُ الْعُمُومِ مِنَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ تَحْصُلُ مِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، وَالْقَرِينَةُ هُنَا وُقُوعُ لَفْظِ نَفْسٌ فِي جَوَابِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ تَكُونَ شُرُوطًا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ

قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمرَان: 30] . وَالْإِحْضَارُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَاضِرًا. وَمَعْنَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ حُصُولُ الْيَقِينِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بِهِ عِلْمٌ مِنْ حَقَائِقِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ عِلْمُهَا بِهَا أَشْتَاتًا: بَعْضُهُ مَعْلُومٌ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَبَعْضُهُ مَعْلُومٌ صُورَتُهُ مَجْهُولَةٌ عَوَاقِبُهُ، وَبَعْضُهُ مَغْفُولٌ عَنْهُ. فَنُزِّلَ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا لِلنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَأَثْبَتَ الْعِلْمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِلْمَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَيَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ مِمَّا يُحَقِّرُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيَتَذَكَّرُ مَا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ، وَتَذَكُّرُ الْمَنْسِيِّ وَالْمَغْفُولِ عَنْهُ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ. وَمَا أَحْضَرَتْهُ هُوَ مَا أَسْلَفَتْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ تَظْهَرُ آثَارُهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ يَوْمَئِذٍ عُبِّرَ عَنْ ظُهُورِ آثارها بالإحضار لشببه بِهِ كَمَا يُحْضَرُ الزَّادُ لِلْمُسَافِرِ فَفِي فِعْلِ: أَحْضَرَتْ اسْتِعَارَةٌ. وَيُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْدَادِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ مَتَى السَّاعَةُ: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا» . وَأُسْنِدَ الْإِحْضَارُ إِلَى النُّفُوسِ لِأَنَّهَا الْفَاعِلَةُ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يَظْهَرُ جَزَاؤُهَا يَوْمَئِذٍ فَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِ فِعْلِهِ، فَحَصَلَ هُنَا مَجَازَانِ: مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، وَمَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَحَقِيقَتُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَجُعِلَتْ مَعْرِفَةُ النُّفُوسِ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهَا حَاصِلَةً عِنْدَ حُصُولِ مَجْمُوعِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشُّرُوطُ مُقَارَنٌ لِحُصُولِ عِلْمِ النُّفُوسِ بِأَعْمَالِهَا وَهِيَ الْأَحْوَالُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَخِيرًا، وَبَعْضَ الْأَحْوَالِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ بِقَلِيلٍ وَهِيَ الْأَحْوَالُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا. فَنَزَلَ الْقَرِيبُ مَنْزِلَةَ الْمُقَارَنِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْجَمِيعُ شُرُوطًا ل إِذَا

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 إلى 21]

[سُورَة التكوير (81) : الْآيَات 15 إِلَى 21] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّمْهِيدِ لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ فَإِنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ أَفَادَ تَحْقِيقَ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهُمْ قَدْ أَنْكَرُوهُ وَكَذَّبُوا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ الْإِنْذَارِ بِهِ وَذُكِرَ أَشْرَاطُهُ فُرِّعَ عَنْهُ تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ وَأَنَّهُ مُوحًى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَالتَّفْرِيعُ هُنَا تَفْرِيعُ مَعْنًى وَتَفْرِيعُ ذِكْرٍ مَعًا، وَقَدْ جَاءَ تَفْرِيعُ الْقَسَمِ لِمُجَرَّدِ تَفْرِيعِ ذِكْرِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ آخَرَ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ ... رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ عَقِبَ نَسِيبِ مُعَلَّقَتِهِ الَّذِي لَا يَتَفَرَّعُ عَنْ مَعَانِيهِ مَا بَعْدَ الْقَسَمِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِلْإِقْبَالِ عَلَى مَا بَعْدَ الْفَاءِ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ تَفَوُّقُ التَّفْرِيعِ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْرِيعِ بَيْتِ زُهَيْرٍ. وَمَعْنَى: (لَا أُقْسِمُ) : إِيقَاعُ الْقَسَمِ، وَقَدْ عُدَّتْ (لَا) زَائِدَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [75] . وَالْقَسَمُ مُرَادٌ بِهِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَتَحْقِيقُهُ، وَأُدْمِجَ فِيهِ أَوْصَافُ الْأَشْيَاءِ الْمُقْسَمِ بِهَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَمَامِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَ (الْخُنَّسِ) : جَمْعُ خَانِسَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَخْنِسُ، أَيْ تَخْتَفِي، يُقَالُ: خَنِسَتِ الْبَقَرَةُ وَالظَّبْيَةُ، إِذَا اخْتَفَتْ فِي الْكِنَاسِ. وَ (الْجَوَارِي) : جَمْعُ جَارِيَةٍ: وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي، أَيْ تَسِيرُ سَيْرًا حَثِيثًا. والْكُنَّسِ: جَمْعُ كَانِسَةٍ، يُقَالُ: كَنَسَ الظَّبْيُّ، إِذَا دَخَلَ كِنَاسَهُ (بِكَسْرِ الْكَافِ) وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ لِلْمَبِيتِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أُرِيدَ بِهَا صِفَاتٌ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْصُوفَاتِهَا

الْكَوَاكِبُ، وُصِفْنَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي النَّهَارِ مُخْتَفِيَةً عَنِ الْأَنْظَارِ فَشُبِّهَتْ بِالْوَحْشِيَّةِ الْمُخْتَفِيَةِ فِي شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، فَقِيلَ: الْخُنَّسُ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الْخُنُوسَ اخْتِفَاءُ الْوَحْشِ عَنْ أَنْظَارِ الصَّيَّادِينَ وَنَحْوهم دون سُكُون فِي كِنَاسٍ، وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِبُ لِأَنَّهَا لَا تُرَى فِي النَّهَارِ لِغَلَبَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى أُفُقِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَطَالِعِهَا. وَشبه مَا يَبْدُو للأنظار من تنقلها فِي سمت الناظرين للأفق بِاعْتِبَار اخْتِلَاف مَا يسامتها من جُزْء من الكرة الأرضية بِخُرُوج الْوَحْش، فشبهت حَالَة بدوّها بعد احتجابها مَعَ كَونهَا كالمتحركة بِحَالَة الْوَحْش تجْرِي بعد خنوسها تَشْبِيه التَّمْثِيل. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا صَارَت مرئية فَلذَلِك عقب بعد ذَلِك بوصفها بالكنّس، أَي عِنْد غُرُوبهَا تَشْبِيها لغروبها بِدُخُول الظبي أَو الْبَقَرَة الوحشية كناسها بعد الانتشار والجري. فَشُبِّهَ طُلُوعُ الْكَوْكَبِ بِخُرُوجِ الْوَحْشِيَّةِ مِنْ كِنَاسِهَا، وَشُبِّهَ تَنَقُّلُ مَرْآهَا لِلنَّاظِرِ بِجَرْيِ الْوَحْشِيَّةِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ كِنَاسِهَا صَبَاحًا، قَالَ لَبِيدٌ: حَتَّى إِذَا انْحَسَرَ الظَّلَامُ وَأَسْفَرَتْ ... بَكَرَتْ تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلَامُهَا وَشُبِّهَ غُرُوبُهَا بَعْدَ سَيْرِهَا بِكُنُوسِ الْوَحْشِيَّةِ فِي كِنَاسِهَا وَهُوَ تَشْبِيهُ بَدِيعٌ فَكَانَ قَوْلُهُ: بِالْخُنَّسِ اسْتِعَارَة وَكَانَ الْجَوارِ الْكُنَّسِ تَرْشِيحَيْنِ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثِ مَا يُشْبِهُ اللُّغْزَ يُحْسَبُ بِهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَاتِ ظِبَاءٌ أَوْ وُحُوشٌ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَقَائِقُهَا مِنْ أَحْوَالِ الْوُحُوشِ، وَالْأَلْغَازُ طَرِيقَةٌ مُسْتَمْلَحَةٌ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ وَهِيَ عَزِيزَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ: فَقُلْتُ أَعِيرَانِي الْقُدُومَ لَعَلَّنِي ... أَخُطُّ بِهَا قَبْرًا لِأَبْيَضَ مَاجِدِ أَرَادَ أَنَّهُ يَصْنَعُ بِهَا غِمْدًا لِسَيْفٍ صَقِيلٍ مُهَنَّدٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: حَمْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى حَقَائِقِهَا الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ.

وَالْمَعْرُوفُ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ بِالْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمُبَارَكَةِ. ثُمَّ عُطِفَ الْقَسَمُ بِ اللَّيْلِ عَلَى الْقَسَمِ بِ «الْكَوَاكِبِ» لِمُنَاسَبَةِ جَرَيَانِ الْكَوَاكِبِ فِي اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ أَجَلِّ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَعَسْعَسَ اللَّيْلُ عَسْعَاسًا وَعَسْعَسَةً، قَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: أَدْبَرَ ظَلَامُهُ، وَقَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَجَزَمَ بِهِ الْفَرَّاءُ وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْخَلِيلُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: عَسْعَسَ، إِذَا أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَعَسْعَسَ، إِذَا أَدْبَرَ ظَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ مَعًا اهـ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ إِيثَارُ هَذَا الْفِعْلِ لِإِفَادَتِهِ كِلَا حَالَيْنِ صَالِحَيْنِ لِلْقَسَمِ بِهِ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ إِذْ يَعْقُبُ الظَّلَامَ الضِّيَاءُ ثُمَّ يَعْقُبُ الضِّيَاءَ الظَّلَامُ، وَهَذَا إِيجَازٌ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْقَسَمُ بِالصُّبْحِ حِينَ تَنَفُّسِهِ، أَيِ انْشِقَاقِ ضَوْئِهِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ تَنَفُّسَ الصُّبْحِ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ النِّظَامِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَالتَّنَفُّسُ: حَقِيقَتُهُ خُرُوجُ النَّفَسِ مِنَ الْحَيَوَانِ، اسْتُعِيرَ لِظُهُورِ الضِّيَاءِ مَعَ بَقَايَا الظَّلَامِ عَلَى تَشْبِيهِ خُرُوجِ الضِّيَاءِ بِخُرُوجِ النَّفَسِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا بَدَا الصَّبَاحُ أَقَبَلَ مَعَهُ نَسِيمٌ فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالتَّنَفُّسِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الصُّبْحِ بِذِي نَفَسٍ مَعَ تَشْبِيهِ النَّسِيمِ بِالْأَنْفَاسِ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ مِمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وُصِفَ جِبْرِيلُ بِرَسُولٍ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ.

وَإِضَافَةُ «قَوْلُ» إِلَى رَسُولٍ إِمَّا لأدنى مُلَابسَة لِأَن جِبْرِيلَ يُبَلِّغُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْكِيهَا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ قَائِلُهَا، أَيْ صَادِرَةٌ مِنْهُ أَلْفَاظُهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْ جِبْرِيلَ بِوَصْفِ رَسُولٍ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ هُوَ رِسَالَةٌ مِنَ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهَا كَمَا هِيَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ آخَرُونَ الرَّسُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ كُلِّهَا اهـ. وَلَمْ يُعَيِّنِ اسْمَ أَحَدٍ مِمَّنْ قَالُوا هَذَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَاسْتُطْرِدَ فِي خِلَالِ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَلَكِ الْمُرْسَلِ بِهِ تَنْوِيهًا بِالْقُرْآنِ فَإِجْرَاءُ أَوْصَافِ الثَّنَاءِ عَلَى رَسُولٍ لِلتَّنْوِيهِ بِهِ أَيْضًا، وَلِلْكِنَايَةِ عَلَى أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ صِدْقٌ لِأَنَّ كَمَالَ الْقَائِلِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْقَوْلِ. وَوُصِفَ رَسُولٍ بِخَمْسَةِ أَوْصَافٍ: الْأَوَّلُ: كَرِيمٍ وَهُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ. وَالْوَصْفَانِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ فَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا مَقْدِرَةُ الذَّاتِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا غَالِبًا. وَمِنْ أَوْصَافِهِ تَعَالَى: «الْقَوِيُّ» ، وَمِنْهَا مَقْدِرَةُ الذَّاتِ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبْنَاءُ نَوْعِهِ. وَضِدُّهَا الضَّعْفُ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الرّوم: 54] . وَتُطْلَقُ الْقُوَّةُ مَجَازًا عَلَى ثَبَاتِ النَّفْسِ عَلَى مُرَادِهَا وَالْإِقْدَامِ وَرِبَاطَةِ الْجَأْشِ، قَالَ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: 12] وَقَالَ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْبَقَرَة: 63] ، فَوَصْفُ جِبْرِيلَ بِ ذِي قُوَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شِدَّةَ الْمَقْدِرَةِ كَمَا وُصِفَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُو مِرَّةٍ [النَّجْم: 6] ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون فِي الْقُوَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ الثَّبَاتُ فِي أَدَاءِ مَا أُرْسِلَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: 5] لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلتَّعْلِيمِ هُوَ قُوَّةُ النَّفْسِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ المُرَاد مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَصْفُهُ بِ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْكَرَامَةُ وَالِاسْتِجَابَةُ لَهُ.

وَالْمَكِينُ: فَعِيلٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ مَكُنَ بِضَمِّ الْكَافِ مَكَانَةً، إِذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ الْمَلِكِ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: 54] . وَتَوْسِيطُ قَوْلِهِ: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ بَيْنَ ذِي قُوَّةٍ ومَكِينٍ لِيَتَنَازَعَهُ كِلَا الْوَصْفَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ، أَيْ هُوَ ذُو قُوَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ مَقْدِرَةَ جِبْرِيلَ تُخَوِّلُهُ أَنْ يَقُومَ بِعَظِيمِ مَا يُوَكِّلُهُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى قُوَّةِ الْقُدْرَةِ وَقُوَّةِ التَّدْبِيرِ، وَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَزُلْفَى. وَوُصِفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَعْظِيمٍ، وَعِنَايَةٍ، فَ (عِنْدَ) لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ والزلفى. وَعدل عَن اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِبْرِيلَ لِتَمْثِيلِ حَالِ جِبْرِيلَ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ بِحَالَةِ الْأَمِيرِ الْمَاضِي فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ الْمَلِكِ وَهُوَ بِمَحَلِّ الْكَرَامَةِ لَدَيْهِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ شَأْنِهِ إِذْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ عِنْدَ أَعْظَمِ مَوْجُودٍ شَأْنًا. الْوَصْفُ الرَّابِعُ: مُطاعٍ أَنْ يُطِيعَهُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا يُطِيعُ الْجَيْشُ قَائِدَهُمْ، أَوِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطَاعٌ: أَيْ مَأْمُورٌ النَّاسُ بِطَاعَةِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. وثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْمَكَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُجَازِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ فَيَجُوزُ تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِ مُطاعٍ وَهُوَ أَنْسَبُ لِإِجْرَاءِ الْوَصْفِ عَلَى جِبْرِيلَ، أَيْ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطَاعٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، أَيْ مُقَرَّرٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ أَمِينٍ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، فَوَصْفُ جِبْرِيلَ بِهِ ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَوَصْفُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِأَنَّهُ مُقَرَّرَةٌ أَمَانَتُهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى.

[سورة التكوير (81) : آية 22]

وَالْأَمِينُ: الَّذِي يَحْفَظُ مَا عُهِدَ لَهُ بِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ دُونَ نَقْصٍ وَلَا تَغْيِيرٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ إِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَأْمُونٌ مِنْ أَمِنَهُ عَلَى كَذَا. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَمِينٌ، وَلَا يُقَالُ: أَمِينَةٌ، وَإِمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ أَمُنَ بِضَمِّ الْمِيمِ إِذَا صَارَتِ الْأَمَانَةُ سَجِيَّتَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَمِينَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُشْتَكِيَةِ أَضْرَارَ زَوْجِهَا: يُجْعَلَانِ عِنْدَ أمينة وَأمين. [22] [سُورَة التكوير (81) : آيَة 22] وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] فَهُوَ دَاخِلٌ فِي خَبَرِ الْقَسَمِ جَوَابًا ثَانِيًا عَنِ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا هُوَ (أَيِ الْقُرْآنُ) بِقَوْلِ مَجْنُونٍ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ ثَنَاءً عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَعْقَبَهُ بِإِبْطَالِ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اختلقوه عَن النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدُّخان: 14] وَقَوْلِهِمْ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] ، فَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ إِبْطَالًا مُؤَكَّدًا وَمُؤَيَّدًا، فَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ وَبِزِيَادَةِ الْبَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ وَصْفُهُ بِأَنَّ الَّذِي بَلَّغَهُ صَاحِبُهُمْ، فَإِنَّ وَصْفَ صَاحِبٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ خُلُقَهُ وَعَقْلَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، إِذْ شَأْنُ الصَّاحِبِ أَنْ لَا تَخْفَى دَقَائِقُ أَحْوَالِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ وَسَاوِسِ الْمَجَانِينِ، فَسَلَامَةُ مُبَلِّغِهِ مِنَ الْجُنُونِ تَقْتَضِي سَلَامَةَ قَوْلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَسْوَسَةً. وَيَجْرِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صاحِبُكُمْ هُنَا إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ. وَالصَّاحِبُ حَقِيقَتُهُ: ذُو الصُّحْبَةِ، وَهِيَ الْمُلَازَمَةُ فِي أَحْوَالِ التَّجَمُّعِ وَالِانْفِرَادِ لِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّوْجِ: صَاحِبَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ مَعَ غَيْرِهِ صَاحِبٌ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ

وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: 39] ، وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ» : «وَلَا لَكُمْ مِنِّي إِلَّا صُحْبَةُ السَّفِينَةِ» . وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُخَالِطِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَلَوْ فِي الشَّرِّ، كَقَوْلِ الْحَجَّاجِ يُخَاطِبُ الْخَوَارِجَ: «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ، وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ» . وَقَوْلِ الْفَضْلِ اللَّهَبِيِّ: كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي تُخَاصِمُونَهُ وَتُكَذِّبُونَهُ وَتَصِفُونَهُ بِالْجُنُونِ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَأَنَّكُمْ مُخَالِطُوهُ وَمُلَازِمُوهُ وَتَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ فَمَا قَوْلُكُمْ عَلَيْهِ: «إِنَّهُ مَجْنُونٌ» إِلَّا لِقَصْدِ الْبُهْتَانِ وَإِسَاءَةِ السُّمْعَةِ. فَهَذَا مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهَا مَسُوقَةٌ فِي مَعْرِضِ الْمُوَازَنَةِ وَالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالشَّهَادَةُ لَهُمَا بِمَزَايَاهُمَا حَتَّى يُشَمَّ مِنْ وَفْرَةِ الصِّفَاتِ الْمُجْرَاةِ عَلَى جِبْرِيلَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي أَوْصَافِ جِبْرِيلَ مَعَ الِاقْتِصَادِ فِي أَوْصَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْذِنُ بِتَفْضِيلِ أَوَّلِهِمَا عَلَى الثَّانِي. وَمِنْ أَسْمَجِ الْكَلَامِ وَأَضْعَفِ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : «وَنَاهِيكَ بِهَذَا دَلِيلًا عَلَى جَلَالَةِ مَكَانَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُبَايَنَةِ مَنْزِلَتِهِ لِمَنْزِلَةِ أَفْضَلِ الْإِنْسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَازَنْتَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَقَايَسْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 19، 20] ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ اهـ. وَكَيْفَ انْصَرَفَ نَظَرُهُ عَنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُولُوا فِي جِبْرِيلَ شَيْئًا لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ رَامَ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنَ الْآيَةِ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ أَصْحَابِ الِاعْتِزَالِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَهَا مَجَالٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى رَسُولٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ إِلَى قَوْله: أَمِينٍ [التكوير: 19- 21] ، غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ انْصِرَافُهَا إِلَى جِبْرِيلَ

[سورة التكوير (81) : آية 23]

فَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةُ الِانْصِرَافِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ يَطْغَى عَلَيْهِ حُبُّ الِاسْتِدْلَالِ لِعَقَائِدِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ طُغْيَانًا يَرْمِي بِفَهْمِهِ فِي مَهَاوِي الضَّآلَةِ، وَهَلْ يَسْمَحُ بَالُ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عِلْمٍ بِمَجَارِي كَلَامِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَصَدَّى مُتَصَدٍّ لِبَيَانِ فَضْلِ أَحَدٍ بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ: رَسُولٍ كَرِيمٍ بِجِبْرِيلَ فَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَهَذَا مُقْتَلَعٌ مِنْ جِذْرِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ اسْمِ النَّبِيءِ الْعَلَمِ إِلَى صاحِبُكُمْ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ صاحِبُكُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِأَحْوَالِهِ، وَأَمَّا الْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِ رَسُولٍ خُصُوصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَإِذَا أُرِيدَ بِ رَسُولٍ كِلَاهُمَا فَذِكْرُ صاحِبُكُمْ لِتَخْصِيصِ الْكَلَام بِهِ. [23] [سُورَة التكوير (81) : آيَة 23] وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] . وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ مِنْ وَقْتِ غَارِ حِرَاءٍ فَمَا بعده استهزأوا وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُ هُوَ جِنِّيٌّ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِنَفْيِ الْجُنُونِ عَنْهُ ثُمَّ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ. فَضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدٌ إِلَى صَاحِبٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] ، وَسِيَاقُ الْكَرَمِ يُبَيِّنُ مَعَادَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ. وَ «الْأُفُقِ» : الْفَضَاءُ الَّذِي يَبْدُو لِلْعَيْنِ مِنَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ بَيْنَ طَرَفَيْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا مِنْ حَيْثُ يَلُوحُ ضَوْءُ الْفَجْرِ وَيَبْدُو شَفَقُ الْغُرُوبِ وَهُوَ يَلُوحُ كَأَنَّهُ قُبَّةٌ زَرْقَاءُ وَالْمَعْنَى رَآهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. والْمُبِينِ: وَصْفُ الْأُفُقِ، أَيْ لِلْأُفُقِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ نَعْتُ الْأُفُقِ الَّذِي تَرَاءَى مِنْهُ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ أُفُقٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ لَا تَشْتَبِهُ فِيهِ الْمَرْئِيَّاتُ وَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ الْخَيَالُ،

[سورة التكوير (81) : آية 24]

وَجُعِلَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِخَيَالٍ لِأَنَّ الْأَخْيِلَةَ الَّتِي يَتَخَيَّلُهَا الْمَجَانِينُ إِنَّمَا يَتَخَيَّلُونَهَا عَلَى الْأَرْضِ تَابِعَةً لَهُمْ عَلَى مَا تَعَوَّدُوهُ مِنْ وَقْتِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَكَ الَّذِي رَآهُ عِنْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ بِأَنَّهُ عَلَى كُرْسِيٍّ جَالِسٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلِهَذَا تَكَرَّرَ ذِكْرُ ظُهُورِ الْمَلَكِ بِالْأُفُقِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [5- 9] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى إِلَى أَنْ قَالَ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [النَّجْم: 12- 15] الْآيَاتِ، قِيلَ: رَأَى النَّبِيءُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَكَّةَ مِنْ جِهَةِ جَبَلِ أَجْيَادٍ من شرقيّه. [24] [سُورَة التكوير (81) : آيَة 24] وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى صاحِبُكُمْ [التكوير: 22] كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ جِبْرِيلَ ضَنِينٌ عَلَى الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا ادَّعَوْا ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظُلْمًا وَزُورًا، وَلِقُرْبِ الْمَعَادِ. والْغَيْبِ: مَا غَابَ عَنْ عِيَانِ النَّاسِ، أَوْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمُرَادُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ إِلَّا أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهِ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ، وَمِنْهُ وَحْيُ الشَّرَائِعِ، وَالْعِلْمُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُؤُونِهِ، وَمُشَاهَدَةُ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] . وَكُتِبَتْ كَلِمَةُ بِضَنِينٍ فِي مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مَا عَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمْ بِهِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : «هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالضَّادِ وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ بالظاء» وَقد اقْتصر الشَّاطِبِيُّ فِي مَنْظُومَتِهِ فِي الرَّسْمِ عَلَى رَسْمِهِ بِالضَّادِ إِذْ قَالَ: وَالضَّادُ فِي بِضَنِينٍ تجمع الْبشر وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ

وَخَلَفٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ حَافَّةِ اللِّسَانِ مِمَّا يَلِي الْأَضْرَاسَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا، وَذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّنْبِيهِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مَا كَانَتَا مُتَوَاتِرَتَيْنِ إِلَّا وَقَدْ رُوِيَتَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالضَّادُ وَالظَّاءُ حَرْفَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي غَالِبًا إِلَّا نَحْوَ حُضَضٍ بِضَادَيْنِ سَاقِطَتَيْنِ وحظظ بِظَاءَيْنِ مُشَالَيْنِ وحضظ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُشَالَةٌ وَثَلَاثَتُهَا بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ مَا بَعْدَ الْحَاءِ. فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا لُغَاتٌ فِي كَلِمَةٍ ذَاتِ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اسْمُ صَمْغٍ يُقَالُ لَهُ: خَوْلَانُ. وَلَا شَكَّ أَن الَّذين قرأوه بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ قَدْ رَوَوْهُ مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِي قِرَاءَتِهِمْ كَوْنُهَا مُخَالِفَةً لِجَمِيعِ نُسَخِ مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ لِأَنَّ تَوَاتُرَ الْقِرَاءَةِ أَقْوَى مِنْ تَوَاتُرِ الْخَطِّ إِنِ اعْتُبِرَ لِلْخَطِّ تَوَاتُرٌ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ مُوَافَقَةِ الْقِرَاءَةِ لِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ لِتَكُونَ قِرَاءَةً صَحِيحَةً تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَمْ تُرْوَ متواترة كَمَا بَيناهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَقَدِ اعْتَذَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ اتِّفَاقِ مَصَاحِفِ الْإِمَامِ عَلَى كِتَابَتِهَا بِالضَّادِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، بِأَنْ قَالَ: «لَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الضَّادَ وَالظَّاءَ لَا يَخْتَلِفُ خَطُّهُمَا فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا بِزِيَادَةِ رَأْسِ إِحْدَاهُمَا عَلَى رَأْسِ الْأُخْرَى فَهَذَا قَدْ يَتَشَابَهُ وَيَتَدَانَى» اهـ. يُرِيدُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَا رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ لَيْسَ مُخَالَفَةً مِنْ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَيَكْتُبُونَ بَعْضَ نُسَخِ الْمَصَاحِفِ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ الْغَالِب. وَهَاهُنَا اشْتَبَهَ الرَّسْمُ فَجَاءَتِ الظَّاءُ دَقِيقَةَ الرَّأْسِ. وَلَا أَرَى لِلِاعْتِذَارِ عَنْ ذَلِكَ حَاجَةً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَيْنِ عَنِ

النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَدَ كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ الَّتِي قَرَأَ بِهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَخَاصَّةً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَوْكَلُوا الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى إِلَى حفظ القارئين. وَإِذ تَوَاتَرَتْ قِرَاءَةُ بِضَنِينٍ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ، وبظنين بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَأَنَّهُ أَرَادَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. فَأَمَّا مَعْنَى «ضَنِينٍ» بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ فَهُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّنِّ بِالضَّادِ مَصْدَرُ ضَنَّ، إِذا بَخِلَ، وَمُضَارِعُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِبَخِيلٍ أَيْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ طَلَبًا لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْبِئُكُمْ عَنْهُ إِلَّا بِعِوَضٍ تُعْطُونَهُ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا يَتَلَقَّى الْأَخْبَارَ عَنِ الْجِنِّ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْكُهَّانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِالْمُغَيَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 41- 42] فَأَقَامَ لَهُمُ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْكُهَّانِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ لَا يَسْأَلُهُمْ عِوَضًا عَمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ وَأَنَّ الْكَاهِنَ يَأْخُذُ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مَا يُسَمُّونَهُ حُلْوَانًا، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الْفرْقَان: 57] قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الْأَنْعَام: 90] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ضَنِينٍ» مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْكِتْمَانِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ بُخْلٌ بِالْأَمْرِ الْمَعْلُومِ لِلْكَاتِمِ، أَيْ مَا هُوَ بِكَاتِمٍ الْغَيْبَ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] وَقَالُوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] . وَيَتَعَلَّقُ عَلَى الْغَيْبِ بِقَوْلِهِ: بِضَنِينٍ وَحَرْفُ (عَلَى) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الْبَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: 105] أَيْ حَقِيقٌ بِي، أَوْ لِتَضْمِينِ «ضَنِينٍ» مَعْنَى حَرِيصٍ، وَالْحِرْصُ: شِدَّةُ الْبُخْلِ وَمَا مُحَمَّدٌ بِكَاتِمٍ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ فَمَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَهُوَ عَيْنُ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْبَخِيلُ عَلَى هَذِهِ كِنَايَةً عَنْ كَاتِمٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى

[سورة التكوير (81) : آية 25]

عَنْ عَدَمِ التَّغْيِيرِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِكَاتِمٍ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ، أَيْ مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ. وَأَمَّا مَعْنَى «ظَنِينٍ» بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّنِّ بِمَعْنَى التُّهْمَةِ، أَيْ مَظْنُونٌ. وَيُرَادُ إِنَّهُ مَظْنُونٌ بِهِ سُوءٌ، أَيْ أَنْ يَكُونُ كَاذِبًا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ الْغَيْبِ، وَكَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ ظَنِينٍ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ الظَّنُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى التُّهْمَةِ فَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ظَنَّ بِهِ سُوءًا، فَيَتَعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ الْأَوَّلِ بِحَرْفِ بَاءِ الْجَرِّ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَذَفُوا الْبَاءَ وَوَصَلُوا الْفِعْلَ بِالْمَجْرُورِ فَصَارَ مَفْعُولًا فَقَالُوا ظَنَّهُ: بِمَعْنَى اتَّهَمَهُ، يُقَالُ: سُرِقَ لِي كَذَا وَظَنَنْتُ فَلَانًا. وَحَرْفُ عَلَى فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ نَحْوَ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً [طه: 10] ، أَيْ مَا هُوَ بِمُتَّهَمٍ فِي أَمْرِ الْغَيْبِ وَهُوَ الْوَحْيُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَا بَلَّغَهُ، أَيْ أَنَّ مَا بَلَّغَهُ هُوَ الْغَيْبُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُمُ: ائْتَمَنَهُ على كَذَا. [25] [سُورَة التكوير (81) : آيَة 25] وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) عَطْفٌ عَلَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] ، وَهَذَا رُجُوعٌ إِلَى مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، بَعْدَ أَنِ اسْتَطْرَدَ بَيْنَهُمَا بِتِلْكَ الْمُسْتَطْرِدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى زِيَادَةِ كَمَالِ هَذَا الْقَوْلِ بِقُدْسِيَّةِ مَصْدَرِهِ وَمَكَانَةِ حَامِلِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَصِدْقِ مُتَلَقِّيهِ مِنْهُ عَن رُؤْيَة مُحَققَة لَا تَخَيُّلَ فِيهَا، فَكَانَ التَّخَلُّصُ إِلَى الْعُودِ لِتَنْزِيهِ الْقُرْآنِ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْغَيْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير: 24] . فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الضَّمِيرِ بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إِذْ قَالَ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25] فَكَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ

[سورة التكوير (81) : آية 26]

وَهَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إِنَّهُ كَاهِنٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكُهَّانَ تَأْتِيهِمُ الشَّيَاطِينُ بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ، قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 41- 42] وَقَالَ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ [الشُّعَرَاء: 210، 211] وَقَالَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: 221، 222] وَهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكَاهِنَ يَتَلَقَّى عَنْ شَيْطَانِهِ وَيُسَمُّونَ شَيْطَانَهُ رَئِيًا. وَفِي حَدِيثِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَنُزُولِ سُورَةِ وَالضُّحَى: أَنَّ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ قَالَتْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى شَيْطَانَكَ قَدْ قَلَاكَ» . ورَجِيمٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَرْجُومٌ، وَالْمَرْجُومُ: الْمُبْعَدُ الَّذِي يَتَبَاعَدُ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَجَمُوهُ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِلشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا متبّرأ مِنْهُ. [26] [سُورَة التكوير (81) : آيَة 26] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) جُمْلَةُ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25] وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [التكوير: 27] . وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيزِ عَلَى الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُثْبِتَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ كَاهِنٍ وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَهَذَا مِنِ اقْتِرَانِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِالْفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ [12] . وَ (أَيْنَ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ مَكَانِ ذَهَابِهِمْ، أَيْ طَرِيقِ ضَلَالِهِمْ، تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي سُلُوكِ طُرُقِ الْبَاطِلِ بِحَالِ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ الْجَادَّةَ فَيَسْأَلُهُ السَّائِلُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ سُلُوكَهُ، أَيِ اعْدِلْ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ مَضِلَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ عَنْ طَلَبِ طَرِيقٍ يَسْلُكُونَهُ إِلَى مَقْصِدِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْكُمْ طُرُقُ بُهْتَانِكُمْ إِذِ اتَّضَحَ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بُطْلَانُ

[سورة التكوير (81) : الآيات 27 إلى 28]

ادِّعَائِكُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ مَجْنُونٍ أَوْ كَلَامُ كَاهِنٍ، فَمَاذَا تَدَّعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ «أَيْنَ تَذْهَبُونَ» قَدْ أُرْسِلَتْ مَثَلًا، وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ وَكُنْتُ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ، لِمَنْ كَانَ فِي خطأ وعماية. [27، 28] [سُورَة التكوير (81) : الْآيَات 27 إِلَى 28] إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) بَعْدَ أَنْ أَفَاقَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُؤَكِّدَةِ لِجُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25] وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنِ الْعَاطِفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يُفِيدُ قَصْرَ الْقُرْآنِ عَلَى صِفَةِ الذِّكْرِ، أَيْ لَا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قُصِدَ مِنْهُ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، أَوْ قَوْلَ كَاهِنٍ، أَوْ قَوْلَ مَجْنُونٍ، فَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَبِذَلِكَ كَانَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ وَالذِّكْرُ اسْمٌ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الدُّعَاءِ وَالْوَعْظِ بِحُسْنِ الْأَعْمَالِ وَالزَّجْرَ عَنِ الْبَاطِلِ وَعَنِ الضَّلَالِ، أَيْ مَا الْقُرْآنُ إِلَّا تَذْكِيرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي صَلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ، وَطَاعَةِ اللَّهِ رَبِّهِمْ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ، وَآدَابِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِهِمْ، وَدَوَامِ انْتِظَامِ جَمَاعَتِهِمْ، وَكَيْفَ يُعَامِلُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. فَ «الْعَالَمِينَ» يَعُمُّ كُلَّ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ مَدْعُوُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَمُسْتَفِيدُونَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ قُصِرَ عَلَى كَوْنِهِ ذِكْرًا. قُلْتُ: الْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى خَاصَّةٍ، عَلَى أَنَّكَ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقَصْرَ حَقِيقِيًّا مُفِيدًا قَصْرَ الْقُرْآنِ

عَلَى الذِّكْرِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ. وَأَمَّا إِعْجَازُهُ فَلَهُ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ فِي التَّذْكِيرِ لِأَنَّ إِعْجَازَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ وَقَعَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأُبْدِلَ مِنْ لِلْعالَمِينَ قَوْلُهُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَأُعِيدَ مَعَ الْبَدَلِ حَرْفُ الْجَرِّ الْعَامِلُ مِثْلُهُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِتَأْكِيدِ الْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ [الْأَنْعَام: 99] وَقَوْلِهِ: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [75] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26] وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ ذِكْرًا لَهُمْ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالِمَيْنِ كَانَ ذِكْرُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَالَمِينَ أَيْضًا بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، فَفِي الْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُسلمُونَ قد شاؤوا الِاسْتِقَامَةَ لِأَنْفُسِهِمْ فَنَصَحُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَفِي مَفْهُومِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ مَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ بِهِ إِلَّا أَنهم لم يشاؤوا أَنْ يَسْتَقِيمُوا، بَلْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالِاعْوِجَاجِ، أَيْ سُوءِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ دَوَامَ أُولَئِكَ عَلَى الضَّلَالِ لَيْسَ لِقُصُورِ الْقُرْآنِ عَنْ هَدْيِهِمْ بَلْ لِأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ، إِمَّا لِلْمُكَابَرَةِ فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] وَإِمَّا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ تَلَقِّيهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] . وَالِاسْتِقَامَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِصَلَاحِ الْعَمَلِ الْبَاطِنِيِّ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، وَالظَّاهِرِيِّ وَهُوَ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْوَالُ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِخَطٍّ مُسْتَقِيمٍ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ يَسْتَقِيمُوا هُمُ الْكَافِرُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمَسُوقُ لَهُمُ الْكَلَامُ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَفَاوِتَةٍ كُلُّ مَنْ فَرَّطَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِمَا فَرَّطَ مِنْهُ فِي أَحْوَالٍ أَوْ أَزْمَانٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ.

[سورة التكوير (81) : آية 29]

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يُوزَنَ حَالُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ بِمِيزَانِ أَحْوَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُعْظَمِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ إِذْ يَجْعَلُونَ وُجْهَةَ نَظَرِهِمُ التَّأَمُّلَ فِي حَالَةِ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَيَسْتَخْلِصُونَ مِنِ اسْتِقْرَائِهَا أَحْكَامًا كُلِّيَّةً يَجْعَلُونَهَا قَضَايَا لِفَلْسَفَتِهِمْ فِي كُنْهِ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ لِلْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ فِيمَا يَأْتِي وَيَدَعُ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ إِذَا قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قُدِّرَ، وَهَذَا مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ تِلْكَ كَلِمَاتٌ يَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَحَالِّهَا، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى اخْتِلَاف التَّعْبِير. [29] [سُورَة التكوير (81) : آيَة 29] وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا. وَالْمَقْصُودُ التَّكْمِيلُ وَالِاحْتِرَاسُ فِي مَعْنَى لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، أَيْ وَلِمَنْ شَاءَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: 29، 30] . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِ رَبُّ الْعالَمِينَ وَهُوَ مُفِيدٌ التَّعْلِيلَ لِارْتِبَاطِ مَشِيئَةِ مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ مِنَ الْعَالِمَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ الْخَالِقُ فِيهِمْ دَوَاعِيَ الْمَشِيئَةِ وَأَسْبَابَ حُصُولِهَا الْمُتَسَلْسِلَةَ وَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَهُمْ لِلِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ ظَهَرَ مَزِيدُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَشِيئَةِ النَّاسِ الِاسْتِقَامَةَ بِالْقُرْآنِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْقُرْآنِ ذِكْرًا لِلْعَالَمِينَ. وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ ذُيِّلَتْ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: 30] أَيْ فَهُوَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ يَنُوطُ مَشِيئَتَهُ لَهُمْ الِاسْتِقَامَةَ بِمَوَاضِعِ صَلَاحِيَتِهِمْ لَهَا فَيُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا قَدْ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَشِيئَتِهِ الْخَيْرَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ كِنَايَةً عَنْ شَقَائِهِمْ.

وَ (مَا) نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَصَادِرَ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ إِفْصَاحٌ عَنْ شَرَفِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِكَوْنِهِمْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِمْ إِذَا شَاءَ لَهُمْ الِاسْتِقَامَةَ وَهَيَّأَهُمْ لَهَا، وَهَذِه الْعِنَايَة معنى عَظِيمٍ تَحَيَّرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَطَوَّحَ بِهِ إِلَى الْجَبْرِ وَمِنْهُمْ مَنِ ارْتَمَى فِي وَهْدَةِ الْقَدَرِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَدَلَ فَجَزَمَ بِقُوَّةٍ لِلْعِبَادِ حَادِثَةٍ يَكُونُ بِهَا اخْتِيَارُهُمْ لِسُلُوكِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ فَسَمَّاهَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ قُدْرَةً حَادِثَةً وَبَعْضُهُمْ سَمَّاهَا كَسْبًا. وَحَمَلُوا مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى مَقَامِ تَعْلِيمِ اللَّهِ عِبَادَهُ التَّأَدُّبَ مَعَ جَلَالِهِ. وَهَذَا أَقْصَى مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ الْقَوِيمَةُ فِي مَجَامِلِ مُتَعَارِضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ. وَمِنْ وَرَائِهِ سِلْكٌ دَقِيقٌ يَشُدُّهُ قَدْ تَقْصُرُ عَنْهُ الْأَفْهَامُ.

82- سورة الانفطار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 82- سُورَةُ الِانْفِطَارِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ الِانْفِطَارِ» فِي الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ عَرَّفْتُ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّكْوِيرِ. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: «سُورَةُ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ» وَبِهَذَا الِاسْمِ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» . وَلَمْ يَعُدَّهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّورِ ذَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ وَهُوَ «الِانْفِطَارُ» . وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ جُمْلَةِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] فِي أَوَّلِهَا فَعُرِفَتْ بِهَا. وَسُمِّيَتْ فِي قَلِيلٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ «سُورَةُ انْفَطَرَتْ» ، وَقِيلَ: تُسَمَّى «سُورَةُ الْمُنْفَطِرَةِ» أَيِ السَّمَاءِ الْمُنْفَطِرَةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ الثَّانِيَةَ وَالثَمَانِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ. وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعَ عشرَة آيَة. أغراضها وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى: إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَذِكْرِ أَهْوَالٍ تَتَقَدَّمُهُ.

[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 إلى 5]

وَإِيقَاظِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي صَرَفَتْهُمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَالْأَعْلَامِ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُحْصَاةٌ. وَبَيَانِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. وَإِنْذَارِ النَّاسِ بِأَنْ لَا يَحْسَبُوا شَيْئًا يُنْجِيهِمْ مِنْ جَزَاءِ اللَّهِ إيَّاهُم على سيّىء أَعْمَالهم. [1- 5] [سُورَة الانفطار (82) : الْآيَات 1 إِلَى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) الِافْتِتَاحُ بِ إِذَا افْتِتَاحٌ مُشَوِّقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ مُتَعَلِّقِهَا الَّذِي هُوَ جَوَابُ مَا فِي (إِذَا) مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، سِوَى أَنَّ الْجُمَلَ الْمُتَعَاطِفَةَ الْمُضَافَ إِلَيْهَا هِيَ هُنَا أَقَلُّ مِنَ اللَّاتِي فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لَمْ يَقْتَضِ تَطْوِيلَ الْإِطْنَابِ كَمَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ وَإِنْ كَانَ فِي كِلْتَيْهِمَا مُقْتَضٍ لِلْإِطْنَابِ لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ لِأَنَّ سُورَةَ التَّكْوِيرِ مِنْ أَوَّلِ السُّوَرِ نُزُولًا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَأَمَّا سُورَةُ الِانْفِطَارِ فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ التَّكْوِيرِ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سُورَةً تَكَرَّرَ فِي بَعْضِهَا إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْإِنْذَارِ وَتَقَرَّرَ عِنْدَ المخاطبين فأغنى عَن تَطْوِيلُ الْإِطْنَابِ وَالتَّهْوِيلِ. وإِذَا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالْمُعْرِبُونَ يَقُولُونَ: خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِهِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ حَسَنَةٌ جَامِعَةٌ. وَالْقَوْلُ فِي الْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا إِذَا مِنْ كَوْنِهَا جُمَلًا مُفْتَتَحَةً بِمُسْنِدٍ إِلَيْهِ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِمَسْنَدٍ فِعْلِيٍّ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَدُونَ تَقْدِيرِ أَفْعَالٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ الْأَسْمَاءِ، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ (إِذَا) بَعْدَ حُرُوفِ الْعَطْفِ كَالْقَوْلِ فِي جُمَلِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] . وانْفَطَرَتْ: مُطَاوِعُ فَطَرَ، إِذَا جُعِلَ الشَّيْءُ مَفْطُورًا، أَيْ مَشْقُوقًا ذَا فُطُورٍ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ. وَهَذَا الِانْفِطَارُ: انْفِرَاجٌ يَقَعُ فِيمَا يُسَمَّى بِالسَّمَاءِ وَهُوَ مَا يُشْبِهُ الْقُبَّةَ فِي نَظَرِ الرَّائِي يَرَاهُ تَسِيرُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ فِي أُسْمَاتٍ مَضْبُوطَةٍ تُسَمَّى بالأفلاك تشاهد باليل، وَيُعْرَفُ سَمْتُهَا فِي النَّهَارِ، وَمُشَاهَدَتُهَا فِي صُورَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مَعَ تَعَاقُبِ الْقُرُونِ تَدُلُّ عَلَى تَجَانُسِ مَا هِيَ مُصَوَّرَةٌ مِنْهُ فَإِذَا اخْتَلَّ ذَلِكَ وَتَخَلَّلَتْهُ أَجْسَامٌ أَوْ عناصر غَرِيبَة عَن أَصْلِ نِظَامِهِ تَفَكَّكَتْ تِلْكَ الطِّبَاقُ وَلَاحَ فِيهَا تَشَقُّقٌ فَكَانَ عَلَامَةً عَلَى انْحِلَالِ النِّظَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا كُلِّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِانْفِطَارَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِانْشِقَاقِ أَيْضًا فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ وَهُوَ حَدَثٌ يَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ إِفْسَادِ النِّظَامِ الَّذِي أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَحَرَكَةَ الْأَرْضِ وَذَلِكَ يَقْتَضِيهِ قَرْنُهُ بِانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ وَتَفَجُّرِ الْبِحَارِ وَتَبَعْثُرِ الْقُبُورِ. وَأَمَّا الْكَشْطُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [11] فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ فَذَلِكَ عَرَضٌ آخَرُ يَعْرِضُ لِلسَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْحَشْرِ فَهُوَ من قبيل قَوْله تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الْفرْقَان: 25] . وَالِانْتِثَارُ: مُطَاوِعُ النَّثْرِ ضِدَّ الْجَمْعِ وَضِدَّ الضَّمِّ، فَالنَّثْرُ هُوَ رَمْيُ أَشْيَاءَ عَلَى الْأَرْضِ بِتَفَرُّقٍ. وَأَمَّا التَّفَرُّقُ فِي الْهَوَاءِ فَإِطْلَاقُ النَّثْرِ عَلَيْهِ مَجَازٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفرْقَان: 23] . فَانْتِثَارُ الْكَوَاكِبِ مُسْتَعَارٌ لِتَفَرُّقِ هَيْئَاتِ اجْتِمَاعِهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي مَوَاقِعِهَا، أَوْ مُسْتَعَارٌ لِخُرُوجِهَا مِنْ دَوَائِرِ أَفْلَاكِهَا وَسُمُوتِهَا فَتَبْدُو مُضْطَرِبَةً فِي الْفَضَاءِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَلُوحُ كَأَنَّهَا قَارَّةٌ، فَانْتِثَارُهَا تَبَدُّدُهَا وَتَفَرُّقُ مُجْتَمَعِهَا، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ اخْتِلَالِ قُوَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي أُقِيمَ عَلَيْهَا نِظَامُ الْعَالَمِ الشَّمْسِيُّ. وَتَفْجِيرُ الْبِحَارِ انْطِلَاقُ مَائِهَا مِنْ مُسْتَوَاهُ وَفَيَضَانُهُ عَلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَرْضِينَ

كَمَا يَتَفَجَّرُ مَاءُ الْعَيْنِ حِينَ حَفْرِهَا لِفَسَادِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الَّتِي هِيَ ضَاغِطَةٌ عَلَى مِيَاهِ الْبِحَارِ وَبِذَلِكَ التَّفْجِيرِ يَعُمُّ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَيَهْلِكُ مَا عَلَيْهَا وَيَخْتَلُّ سَطْحُهَا. وَمَعْنَى: بُعْثِرَتْ: انْقَلَبَ بَاطِنُهَا ظَاهِرَهَا، وَالْبَعْثَرَةُ: الِانْقِلَابُ، يُقَال: بَعْثَرَ الْمَتَاعَ إِذَا قَلَبَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «بَعْثَرَ مُرَكَّبٌ من الْبَعْث مَعَ رَاءٍ ضُمَّتْ إِلَيْهِ» . وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ قِيلَ: إِنَّ بَعْثَرَ مُرَكَّبٌ مِنْ بَعَثَ وَرَاءِ الْإِثَارَةِ كَبَسْمَلَ اهـ، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنِ السُّهَيْلِيِّ. وَأَنَّ بَعْثَرَ مَنْحُوتٌ مِنْ بَعْثٍ وَإِثَارَةٍ مِثْلَ: بَسْمَلَ، وَحَوْقَلَ، فَيَكُونُ فِي بَعْثَرَ مَعْنَى فِعْلَيْنِ بَعَثَ وَأَثَارَ، أَيْ أَخْرَجَ وَقَلَبَ، فَكَأَنَّهُ قَلْبٌ لِأَجْلِ إِخْرَاجِ مَا فِي الْمَقْلُوبِ. وَالَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ أَنَّ مَعْنَى بَعْثَرَ: قَلَبَ بَعْضَ شَيْءٍ على بعضه. وبعثرة الْقُبُورُ: حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ الِانْقِلَابِ الْأَرْضِيِّ وَالْخَسْفِ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ حَالَاتِ الْأَرْضِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْهَوْلِ بِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْأَرْضِ وَقَدْ أَلْقَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مَا كَانَ فِي بَاطِنِ الْمَقَابِرِ مِنْ جُثَثٍ كَامِلَةٍ وَرُفَاتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَعْثُ عَنْ عَدَمٍ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَنْ تَفْرِيقٍ كَمَا رَآهُ بَعْضٌ آخَرُ، فَإِنَّ بَعْثَ الْأَجْسَادِ الْكَامِلَةِ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْبَعْثِ عَنْ تَفْرِيقٍ وَيُخْتَصَّ بَعْثُ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ وَالرِّمَمِ بِالْكَوْنِ عَنْ عَدَمٍ. وَجُمْلَةُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جَوَابٌ لِمَا فِي إِذَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَيَتَنَازَعُ التَّعَلُّقُ بِهِ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ كَلِمَاتِ إِذَا الْأَرْبَعِ. وَهَذَا الْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِسَابِ عَلَى مَا قَدَّمَتِ النُّفُوسُ وَأَخَّرَتْ. وَعِلْمُ النُّفُوسِ بِمَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الشَّرْطِ بِ إِذَا إِذْ لَا يَلْزَمُ فِي رَبْطِ الْمَشْرُوطِ بِشَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ مُقَارِنًا لِحُصُولِ شَرْطِهِ لِأَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ وَأَمَارَاتٌ وَلَيْسَتْ عِلَلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ. صِيغَة الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: انْفَطَرَتْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَشْبِيهًا لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْمُسْتَقْبَلِ بِحُصُولِ الشَّيْءِ فِي الْمَاضِي. وَإِثْبَاتُ الْعِلْمِ لِلنَّاسِ بِمَا قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الشُّرُوطِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ

[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 إلى 8]

بِعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [14] . ونَفْسٌ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [14] . وَمَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ: هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي قَدَّمَتْهُ النَّفْسُ، أَيْ عَمِلَتْهُ مُقَدَّمًا وَهُوَ مَا عَمِلَتْهُ فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ، وَالْعَمَلُ الَّذِي أَخَّرَتْهُ، أَيْ عَمِلَتْهُ مُؤَخَّرًا أَيْ فِي آخِرِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ، أَوِ المُرَاد بالتقديم الْمُبَادرَة بِالْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّأْخِيرِ مُقَابِلُهُ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هذَيْن تَعْمِيم التَّوْقِيف عَلَى جَمِيعِ مَا عَمِلَتْهُ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي سُورَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [13] . وَالْعِلْمُ يَتَحَقَّقُ بِإِدْرَاكِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنْ قَبْلُ وَبِتَذَكُّرِ مَا نُسِيَ لِطُولِ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ. وَهَذَا وَعِيدٌ بِالْحِسَابِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالسُّورَةِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9] ، وَوَعْدٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَمُخْتَلَطٌ لِمَنْ عَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخر سَيِّئًا. [6- 8] [سُورَة الانفطار (82) : الْآيَات 6 إِلَى 8] يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ لِتَهْيِئَةِ السَّامِعِ لِتَلَقِّي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ التهويل والإنذار يهيّىء النَّفْسَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ إِذِ الْمَوْعِظَةُ تَكُونُ أَشَدَّ تَغَلْغُلًا فِي الْقلب حِينَئِذٍ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ السَّامِعُ مِنِ انْكِسَارِ نَفْسِهِ وَرِقَّةِ قَلْبِهِ فَيَزُولُ عَنْهُ طُغْيَانُ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ فَخَطَرَ فِي النُّفُوسِ تَرَقُّبُ شَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ. النداء لِلتَّنْبِيهِ تَنْبِيهًا يُشْعِرُ بِالِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ وَالِاسْتِدْعَاءِ لِسَمَاعِهِ فَلَيْسَ النِّدَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ إِذْ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ طَلَبُ إِقْبَالٍ وَلَا هُوَ مُوَجَّهٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ مِثْلُهُ يَجْعَلُهُ الْمُتَكَلِّمُ مُوَجَّهًا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ جُمْهُورُ

الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ لَيْسَ الْمُرَادُ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَ قَوْلِهِ عَقِبَهُ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: 9، 10] الْآيَةَ. وَهَذَا الْعُمُومُ مُرَادٌ بِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بِدَلَالَةِ وُقُوعِهِ عَقِبَ الْإِنْذَارِ بِحُصُولِ الْبَعْثِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9] فَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الَّذِي أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَلَا يَكُونُ مُنْكِرُ الْبَعْثِ إِلَّا مُشْرِكًا لِأَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالشِّرْكَ مُتَلَازِمَانِ يَوْمَئِذٍ فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِالْقَرِينَةِ أَوْ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ جُمْهُورَ المخاطبين فِي ابْتِدَاء الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي غَرَّ الْمُشْرِكَ فَحَمَلَهُ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِرَبِّهِ وَعَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ: الْإِنْسَانُ هُنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ الْمُرَادُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمُرَادُ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ كَلَدَةَ الْجُمَحِيُّ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ شَرِيقٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ مَجَازٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، أَيْ لَا مُوجِبَ لِلشِّرْكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غُرُورًا غَرَّهُ عَنَّا كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الشِّرْكِ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَاقِلِ إِلَّا أَنْ يغره بِهِ غَار، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغرُور مَوْجُودا وَيحْتَمل أَنْ لَا يكون غرُورًا. وَالْغُرُورُ: الْإِطْمَاعُ بِمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمَغْرُورُ نَفْعًا وَهُوَ ضُرٌّ، وَفِعْلُهُ قَدْ يُسْنَدُ إِلَى اسْمِ ذَاتِ الْمُطْمَعِ حَقِيقَةً مِثْلَ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لُقْمَان: 33] أَوْ مَجَازًا نَحْوَ: وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الجاثية: 35] فَإِنَّ الْحَيَاةَ زَمَانُ الْغُرُورِ، وَقَدْ يُسْنَدُ إِلَى اسْمِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي حَقِيقَةً نَحْوَ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمرَان: 196] . وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي أَوْ مَجَازًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الْأَنْعَام: 112] . وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُذْكَرُ مَعَ مَفْعُولِهِ اسْمُ مَا يتَعَلَّق الْغرُور بشؤونه فَيَعَدَّى إِلَيْهِ بِالْبَاءِ، وَمَعْنَى الْبَاءِ فِيهِ الْمُلَابَسَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لُقْمَان: 33] ،

أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ غُرُورًا مُتَلَبِّسًا بِشَأْنِ اللَّهِ، أَي مصاحبا لشؤون اللَّهِ مُصَاحِبَةً مَجَازِيَّةً وَلَيْسَتْ هِيَ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: غَرَّهُ بِبَذْلِ الْمَالِ، أَوْ غرّه بالْقَوْل. وَإِذ كَانَتِ الْمُلَابَسَةُ لَا تُتَصَوَّرُ مَاهِيَّتُهَا مَعَ الذَّوَاتِ فَقَدْ تَعَيَّنَ فِي بَاءِ الْمُلَابَسَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا تَقْدِيرُ شَأْن من شؤون الذَّاتِ يُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ، فَالْمَعْنَى هُنَا: مَا غَرَّكَ بِالْإِشْرَاكِ بِرَبِّكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ الْآيَةَ فَإِنَّ مُنْكِرَ الْبَعْثِ يَوْمَئِذٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مُشْرِكًا. وَإِيثَارُ تَعْرِيفِ اللَّهِ بِوَصْفِ «رَبِّكَ» دُونَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الْمُلْكِ وَالْإِنْشَاءِ وَالرِّفْقِ، فَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْإِنْسَانِ بِمُوجِبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الرَّبِّ طَاعَةَ مَرْبُوبِهِ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ. وَكَذَلِكَ إِجْرَاءُ وَصْفِ الْكَرِيمِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ عَلَى النَّاسِ وَلُطْفِهِ بِهِمْ فَإِنَّ الْكَرِيمَ حَقِيقٌ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ. وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ: فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ الْوَصْفَانِ الْأَوَّلَانِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالتَّسْوِيَةَ وَالتَّعْدِيلَ وَتَحْسِينَ الصُّورَةِ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَهِيَ نِعَمٌ عَلَيْهِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَذُكِرَ عَنْ صَالِحِ بْنِ مِسْمَارٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «غَرَّهُ جَهْلُهُ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدًا. وَتَعْدَادُ الصِّلَاتِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا قَدْ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ الْخَلْقِ، وَقَدْ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَة: 29] وَلَكِنْ قُصِدَ إِظْهَارُ مَرَاتِبِ النِّعْمَةِ. وَهَذَا مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّذْكِيرُ بِكُلِّ صِلَةٍ وَالتَّوْقِيفُ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ مَقَامُ التَّوْبِيخِ. وَالْخَلْقُ: الْإِيجَادُ عَلَى مِقْدَارٍ مَقْصُودٍ. وَالتَّسْوِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَوِيًّا، أَيْ قَوِيمًا سَلِيمًا، وَمِنَ التَّسْوِيَةِ جَعْلُ قُوَاهُ وَمَنَافِعِهِ الذَّاتِيَّةِ مُتَعَادِلَةً غَيْرَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي آثَارِ قِيَامِهَا بِوَظَائِفِهَا بِحَيْثُ إِذَا اخْتَلَّ بَعْضُهَا

تَطَرَّقَ الْخَلَلُ إِلَى الْبَقِيَّةِ فَنَشَأَ نَقْصٌ فِي الْإِدْرَاكِ أَوِ الْإِحْسَاسِ أَوْ نَشَأَ انْحِرَافُ الْمِزَاجِ أَوْ أَلَمٌ فِيهِ، فَالتَّسْوِيَةُ جَامِعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمِ. وَالتَّعْدِيلُ: التَّنَاسُبُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ مِثْلَ تَنَاسُبِ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ، وَصُورَةِ الْوَجْهِ، فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ مُتَزَاوِجِهَا، وَلَا بَشَاعَةَ فِي مَجْمُوعِهَا. وَجَعْلِهِ مُسْتَقِيمَ الْقَامَةِ، فَلَوْ كَانَتْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ فِي الْجَنْبِ، وَالْأُخْرَى فِي الظَّهْرِ لَاخْتَلَّ عَمَلُهُمَا، وَلَو جعل العينان فِي الْخلف لَا نعدمت الِاسْتِفَادَةُ مِنَ النَّظَرِ حَالَ الْمَشْي، وَكَذَلِكَ مَوَاضِع الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مِنَ الْحَلْقِ وَالْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالْكُلْيَتَيْنِ. وَمَوْضِعُ الرِّئَتَيْنِ وَالْقَلْبِ وَمَوْضِعُ الدِّمَاغِ وَالنُّخَاعِ. وَخَلَقَ اللَّهُ جَسَدَ الْإِنْسَانِ مُقَسَّمَةً أَعْضَاؤُهُ وَجَوَارِحُهُ عَلَى جِهَتَيْنِ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ جِهَةٍ وَأُخْرَى مِنْهُمَا وَجَعَلَ فِي كل جِهَة مثل مَا فِي الْأُخْرَى مِنَ الْأَوْرِدَةِ وَالْأَعْصَابِ وَالشَّرَايِينِ. وَفُرِّعَ فِعْلُ «سَوَّاكَ» عَلَى خَلَقَكَ وَفِعْلُ «عَدَّلَكَ» عَلَى «سَوَّاكَ» تَفْرِيعًا فِي الذِّكْرِ نَظَرًا إِلَى كَوْنِ مَعَانِيهَا مُتَرَتِّبَةً فِي اعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعًا حَاصِلًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِذْ هِيَ أَطْوَارُ التَّكْوِينِ مِنْ حِينِ كَوْنِهِ مُضْغَةً إِلَى تَمَامِ خَلْقِهِ فَكَانَ لِلْفَاءِ فِي عطفها أحسن وَقع كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: 2، 3] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعَدَلَكَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدْلِ، أَيِ التَّسْوِيَةِ فَيُفِيدُ إِتْقَانَ الصُّنْعِ. وَقَوْلُهُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ أَيِّ أَنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَمْيِيزِ شَيْءٍ عَنْ مُشَارِكِيهِ فِي حَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ [18] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: 185] . وَالِاسْتِفْهَامُ بِهَا كَثِيرًا مَا يُرَاد بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ التَّعَجُّبِ أَوِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ أَيِّ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَلَغَ مِنَ الْكَمَالِ وَالْعَظَمَةِ مَبْلَغًا قَوِيًّا يُتَسَاءَلُ عَنْهُ وَيُسْتَفْهَمُ عَنْ شَأْنِهِ، وَمِنْ هُنَا نَشَأَ مَعْنَى دَلَالَةِ أَيِّ عَلَى الْكَمَالِ، وَإِنَّمَا

تَحْقِيقُهُ أَنَّهُ مَعْنًى كِنَائِيٌّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وأَيِّ هَذِهِ تَقَعُ فِي الْمَعْنَى وَصْفًا لِنَكِرَةٍ إِمَّا نَعْتًا نَحْوَ: هُوَ رَجُلٌ أَيُّ رَجُلٍ، وَإِمَّا مُضَافَةً إِلَى نَكِرَةٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ بِأَفْعَالِ خَلَقَكَ، فَسَوَّاكَ، فَعَدَّلَكَ» فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى فِي أَيِّ صُورَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ رَكَّبَكَ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ فَعَدَلَكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ مَا شاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ فِي أَيِّ صُورَةٍ وَبَيْنَ رَكَّبَكَ وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ: فِي صُورَةٍ أَيِّ صُورَةٍ، أَيْ فِي صُورَةٍ كَامِلَةٍ بَدِيعَةٍ. وَجُمْلَةُ مَا شاءَ رَكَّبَكَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ (عَدَّلَكَ) بِاعْتِبَارِ كَوْنِ جُمْلَةِ (عَدَّلَكَ) مُفَرَّعَةً عَنْ جملَة فَسَوَّاكَ المفرغة عَنْ جُمْلَةِ خَلَقَكَ فَبَيَانُهَا بَيَانٌ لَهُمَا. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ مُلَابِسًا صُورَةً عَجِيبَةً فَمَحَلُّ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَحَلُّ الْحَالِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ وَعَامِلُ الْحَالِ (عَدَّلَكَ) ، أَوْ رَكَّبَكَ، فَجُعِلَتِ الصُّورَةُ الْعَجِيبَةُ كَالظَّرْفِ لِلْمُصَوَّرِ بِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهَا مِنْ مَوْصُوفِهَا. وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَا صَدَقُهَا تَرْكِيبٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وشاءَ صِلَةُ مَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: شَاءَهُ. وَالْمَعْنَى: رَكَّبَكَ التَّرْكِيبَ الَّذِي شَاءَهُ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمرَان: 6] . وَعُدِلَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَصْدَرِ رَكَّبَكَ إِلَى إِبْهَامِهِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْحِيمِ الْمَوْصُولِ بِمَا فِي صِلَتِهِ مِنَ الْمَشِيئَةِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُبْدِعِ الْحَكِيمِ وَنَاهِيكَ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ شاءَ صِفَةً لِ صُورَةٍ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي صُورَةٍ عَظِيمَةٍ شَاءَهَا مَشِيئَةً مُعَيَّنَةً، أَيْ عَنْ تَدْبِير وَتَقْدِير.

[سورة الانفطار (82) : آية 9]

[سُورَة الانفطار (82) : آيَة 9] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) كَلَّا رَدْعٌ عَمَّا هُوَ غُرُورٌ بِاللَّهِ أَوْ بِالْغُرُورِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ [الانفطار: 6] من حصور مَا يَغُرُّ الْإِنْسَانَ بالشرك وَمن إغراضه عَنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُفْرِ، أَوْ مِنْ كَوْنِ حَالَةِ الْمُشْرِكِ كَحَالَةِ الْمَغْرُورِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْإِنْكَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ وَالْمَعْنَى: إِشْرَاكُكَ بِخَالِقِكَ بَاطِلٌ وَهُوَ غُرُورٌ، أَوْ كَالْغُرُورِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إِضْرَابًا انْتِقَالِيًّا مِنْ غَرَضِ التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى ذِكْرِ جُرْمٍ فَظِيعٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَيَشْمَلُهُ التَّوْبِيخُ بِالزَّجْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على توبيخ وجزر لِأَنَّ بَلْ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْعَطْفِ أَيِ الْعَطْفُ فِي الْغَرَضِ لَا فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ. وَلِذَلِكَ يَتْبَعُ الْمَعْطُوفَ بِهَا الْمُفْرَدُ فِي إِعْرَابِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّهَا تُتْبَعُ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْحُكْمِ، أَيْ هُوَ اتِّبَاعُ مُنَاسَبَةٍ فِي الْغَرَضِ لَا اتِّبَاعٍ فِي النِّسْبَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَّا إِبْطَالًا لِوُجُودِ مَا يَغُرُّ الْإِنْسَانَ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ، أَيْ لَا عُذْرَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ إِذْ لَا يُوجَدُ مَا يَغُرُّهُ بِهِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ إِضْرَابًا إِبْطَالِيًّا، وَمَا بَعْدَ بَلْ بَيَانًا لِمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَإِنَّهُ لَيْسَ غُرُورًا إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ حَتَّى تَكُونَ الشُّبْهَةُ كَالْغُرُورِ، وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْإِشْرَاك لأَنهم حسبوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ تَبِعَتِهِ فَاخْتَارُوا الِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هَوَى أنفسهم، وَلم يعبأوا بِأَنَّهُ بَاطِلٌ صُرَاحٌ فَهُمْ يكذبُون بالجزاء فَذَلِك سَبَّبَ تَصْمِيمُ جَمِيعهم على الشّرك مَعَ تَفَاوُتِ مَدَارِكِهِمُ الَّتِي لَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِهَا بُطْلَانُ كَوْنِ الْحِجَارَةِ آلِهَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِلَّا عَذَابَ الدُّنْيَا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ هُوَ جِمَاعُ الْإِجْرَامِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ

[سورة الانفطار (82) : الآيات 10 إلى 12]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُكَذِّبُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ قَوْلِهِ: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إِفَادَةُ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْجَزَاءِ مُتَجَدِّدٌ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَهُوَ سَبَبُ اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ. وَفِي الْمُضَارِعِ أَيْضًا اسْتِحْضَارُ حَالَةِ هَذَا التَّكْذِيبِ اسْتِحْضَارًا يَقْتَضِي التَّعْجِيبَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ مَعَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا لَحِقَهُ أَنْ يُقْلِعَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْجَزَاءِ. وَالدّين: الْجَزَاء. [10- 12] [سُورَة الانفطار (82) : الْآيَات 10 إِلَى 12] وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9] تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَأُكِّدَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ إِنْكَارًا قَوِيًّا. ولَحافِظِينَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَمَلَائِكَةٌ حَافِظِينَ، أَيْ مُحْصِينَ غَيْرَ مُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِكُمْ. وَجُمِعَ الْمَلَائِكَةُ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ عَلَى النَّاسِ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ أَحَدٍ مَلَكَانِ قَالَ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18] ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِ أَعْمَالَهُ» وَهَذَا بِصَرِيحِ مَعْنَاهُ يُفِيدُ أَيْضًا كِفَايَةً عَنْ وُقُوعِ الْجَزَاءِ إِذْ لَوْلَا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ لَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِإِحْصَائِهَا عَبَثًا. وَأُجْرِيَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ هِيَ: الْحِفْظُ، وَالْكَرَمُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالْعلم بِمَا يُعلمهُ النَّاسُ. وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِوَصْفِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الَّذِي سَبَقَ لِأَجْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُ صِفَاتٌ ثَلَاثٌ بِهَا كَمَالُ الْحِفْظِ وَالْإِحْصَاءِ وَفِيهَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِظِينَ.

فَأَمَّا الْحِفْظُ: فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ. وَالْحَفِيظُ: الرَّقِيبُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] . وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ غَيْرُ اسْتِعْمَالِ الْحِفْظِ الْمُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْد: 11] . فَالْحِفْظُ بِهَذَا الْإِطْلَاق يجمع مَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَا يُوكل إِلَى الْحَفِيظِ، وَالْأَمَانَةِ عَلَى مَا يُوكَلُ إِلَيْهِ. وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الرِّقَابَةِ وَالسُّلْطَةِ. وَأَمَّا وَصْفُ الْكَرَمِ فَهُوَ النَّفَاسَةُ فِي النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] . فَالْكَرَمُ صِفَتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ الْجَامِعَةُ لِلْكَمَالِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا صِفَةُ الْكِتَابَةِ فَمُرَادٌ بِهَا ضَبْطُ مَا وُكِّلُوا عَلَى حِفْظِهِ ضَبْطًا لَا يَتَعَرَّضُ لِلنِّسْيَانِ وَلَا لِلْإِجْحَافِ وَلَا لِلزِّيَادَةِ، فَالْكِتَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْكِتَابَةِ بِمَعْنَى الْخَطِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ مُنَاسِبَةٍ لِأُمُورِ الْغَيْبِ. وَأَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ بِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فَهُوَ الْإِحَاطَةُ بِمَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ وَمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِنْ تَفْكِيرٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ عَمَلُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ الْهَمُّ. وَمَا تَفْعَلُونَ يَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَطَرِيقُ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ بِأَعْمَالِ النَّاسِ مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ. وَدَخَلَ فِي مَا تَفْعَلُونَ: الْخَوَاطِرُ الْقَلْبِيَّةُ لِأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ أَيِ الْعَقْلُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُعْمِلُ عَقْلَهُ وَيَعْزِمُ وَيَتَرَدَّدُ، وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ إِطْلَاقُ مَادَّةِ الْفِعْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَ هِيَ عِمَادُ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فِي كُلِّ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلٍ لِلْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْوُلَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ حَافِظُونَ لِمَصَالِحِ مَا اسْتُحْفِظُوا عِلْيَهِ وَأَوَّلُ الْحِفْظِ الْأَمَانَةُ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ. فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنَ الْكَرم وَهُوَ زكاء الْفِطْرَةِ، أَيْ طَهَارَةُ النَّفْسِ.

[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 إلى 16]

وَمِنَ الضَّبْطِ فِيمَا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَضِيعُ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ وَلَا الْخَاصَّةُ بِأَنْ يَكُونَ مَا يُصْدِرُهُ مَكْتُوبًا، أَوْ كَالْمَكْتُوبِ مَضْبُوطًا لَا يُسْتَطَاعُ تَغْيِيرُهُ، وَيُمْكِنُ لِكُلِّ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْقَائِمِ بِهِ، أَوْ فِي مَغِيبِهِ أَنْ يُعْرَفَ مَاذَا أُجْرِي فِيهِ مِنَ الْإِعْمَالِ، وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وَضْعِ الْمَلَفَّاتِ لِلنَّوَازِلِ وَالتَّرَاتِيبِ، وَمِنْهُ نَشَأَتْ دَوَاوِينُ الْقُضَاةِ، وَدَفَاتِرُ الشُّهُودِ، وَالْخِطَابُ عَلَى الرُّسُومِ، وَإِخْرَاجُ نُسَخِ الْأَحْكَامِ وَالْأَحْبَاسِ وَعُقُودِ النِّكَاحِ. وَمِنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أحد من المخالطين لوظيفه أَنْ يُمَوِّهَ عَلَيْهِ شَيْئًا، أَوْ أَنْ يَلْبِسَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَنْتَفِي عَنْهُ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ فِي تَمْيِيزِ الْأُمُورِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ، وَيَخْتَلِفُ الْعِلْمُ الْمَطْلُوبُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فَيُقَدَّمُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ وِلَايَتُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالدِّرَايَةِ، فَلَيْسَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي يُشْتَرَطُ فِي أَمِيرِ الْجَيْشِ مَثَلًا، وَبِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْخِصَالِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا إِحْدَى الْوَلَايَاتِ يَكُونُ تَرْجِيحُ مَنْ تُسْنَدُ إِلَيْهِ الْوَلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ حِرْصًا عَلَى حِفْظِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَيُقَدَّمُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَى كَفَاءَةً لِإِتْقَانِ أَعْمَالِهَا وَأَشَدُّ اضطلاعا بممارستها. [13- 16] [سُورَة الانفطار (82) : الْآيَات 13 إِلَى 16] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: 9، 10] الْآيَةَ لِتَشَوُّفِ النَّفْسِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْجَزَاءِ مَا هُوَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ غَايَةِ إِقَامَةِ الْمَلَائِكَةِ لِإِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ مَا هِيَ، فَبُيِّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ الْآيَةَ. وَأَيْضًا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْسِيمَ أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ فَهِيَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةِ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12] وَذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ فَصْلِ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَجِيءَ بِالْكَلَامِ مُؤَكَّدًا ب إِنَّ وَلَا الِابْتِدَاءِ لِيُسَاوِيَ الْبَيَانُ مَبِيِّنَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَدَفْعِ الْإِنْكَارِ.

وَكُرِّرَ التَّأْكِيدُ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِ كَوْنِهِمْ فِي جَحِيمٍ لَا يَطْمَعُوا فِي مُفَارَقَتِهِ. والْأَبْرارَ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ التَّقِيُّ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنْ بَرَّ يَبَرُّ، وَلِفِعْلِ بَرَّ اسْمُ مَصْدَرٍ هُوَ بِرٌّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ بِفَتْحِ الْبَاءِ كَأَنَّهُمْ أَمَاتُوهُ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالْبَرِّ وَهُوَ التَّقِيُّ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّقِيُّ بَرًّا لِأَنَّهُ بَرَّ رَبَّهُ، أَيْ صَدَّقَهُ وَوَفَّى لَهُ بِمَا عَهِدَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى. والْفُجَّارَ: جَمْعُ فَاجِرٍ، وَصِيغَةُ فُعَّالٍ تَطَّرِدُ فِي تَكْسِيرِ فَاعِلٍ الْمُذَكَّرِ الصَّحِيحِ اللَّامِ. وَالْفَاجِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُجُورِ وَهُوَ ضِدُّ البرور. وَالْمرَاد ب الْفُجَّارَ هُنَا: الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يَغِيبُونَ عَنِ النَّارِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ، وَنَحْنُ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا نَعْتَقِدُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لِغَيْرِ الْكَافِرِ. فَأَمَّا عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّار وَإِلَّا لبطلت فَائِدَةُ الْإِيمَانِ. وَالنَّعِيمُ: اسْمُ مَا يَنْعَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ. وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: «فِي نَعِيمٍ» مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ النَّعِيمَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَكُونُ ظَرْفًا حَقِيقَةً، شُبِّهَ دَوَامُ التَّنَعُّمِ لَهُمْ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ بِحَيْثُ لَا يُفَارِقُهُ. وَأَمَّا ظَرْفِيَّةُ قَوْلِهِ: لَفِي جَحِيمٍ فَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ. وَالْجَحِيمُ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ. وَجُمْلَةُ يَصْلَوْنَها صِفَةٌ لِ جَحِيمٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفُجَّارَ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْجَحِيمِ، وَصَلْيُ النَّارِ: مَسُّ حَرِّهَا لِلْجِسْمِ، يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ، إِذَا أَحَسَّ بِحَرِّهَا، وَحَقِيقَتُهُ: الْإِحْسَاسُ بِحَرِّ النَّارِ الْمُؤْلِمِ، فَإِذَا أُرِيدَ التَّدَفِّي قِيلَ: اصْطَلَى. ويَوْمَ الدِّينِ ظَرْفٌ لِ يَصْلَوْنَها وَذُكِرَ لِبَيَانِ: أَنَّهُمْ يَصْلَوْنَهَا جَزَاءً عَنْ فُجُورِهِمْ لِأَنَّ الدِّينَ الْجَزَاءُ وَيَوْمَ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

[سورة الانفطار (82) : آية 17]

وَجُمْلَةُ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَصْلَوْنَها، أَيْ يَصْلَوْنَ حَرَّهَا وَلَا يُفَارِقُونَهَا، أَيْ وَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا. وَجِيءَ بِقَوْلِهِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَمَا يَغِيبُونَ عَنْهَا، أَوْ وَمَا يُفَارِقُونَهَا، لِإِفَادَةِ الِاسْمِيَّةِ الثَّبَاتَ سَوَاءٌ فِي الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ، فَالثَّبَاتُ حَالَةٌ لِلنِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ نِسْبَةَ إِثْبَاتٍ أَوْ نِسْبَةَ نَفْيٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [167] . وَزِيَادَةُ الْبَاءِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَتَقْدِيمُ عَنْها عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة. [17] [سُورَة الانفطار (82) : آيَة 17] وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً إِذَا جُعِلَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار: 19] بَدَلًا مِنْ يَوْمَ الدِّينِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَمَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ: تَرْكِيبٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَا الاستفهامية وَفعل الدارية الْمُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَصَارَ فَاعِلُهُ مَفْعُولًا زَائِدًا عَلَى مَفْعُولَيْ دَرَى، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ: أَعْلَمُ وَأَرَى، فَالْكَافُ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ عُلِّقَ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الثَّانِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْيَوْمِ وَتَهْوِيلِهِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ يَسْمَعُهُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يحصّل لَهُ الدارية بِكُنْهِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا تَصِلُ إِلَى كُنْهِهِ دِرَايَةُ دَارٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي حَقِيقِيّ، أَي سئال سَائِلٍ عَنْ حَقِيقَةِ يَوْمِ الدِّينِ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ، أَيْ عَلِمْتُ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يُغَيَّرُ لَفْظُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] .

[سورة الانفطار (82) : آية 18]

[سُورَة الانفطار (82) : آيَة 18] ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) تَكْرِيرٌ لِلتَّهْوِيلِ تَكْرِيرًا يُؤْذِنُ بِزِيَادَتِهِ، أَي تجاوزه حَدِّ الْوَصْفِ وَالتَّعْبِيرِ فَهُوَ مِنَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَقُرِنَ هَذَا بِحَرْفِ ثُمَّ الَّذِي شَأْنُهُ إِذَا عَطَفَ جُمْلَةً عَلَى أُخْرَى أَنْ يُفِيدَ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ، أَيْ تَبَاعُدُ الرُّتْبَةِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ رُتْبَةُ الْعَظَمَةِ وَالتَّهْوِيلِ، فَالتَّرَاخِي فِيهَا هُوَ الزِّيَادَة. [19] [سُورَة الانفطار (82) : آيَة 19] يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً. فِي هَذَا بَيَانٌ لِلتَّهْوِيلِ الْعَظِيمِ الْمُجْمَلِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: 17، 18] إِذِ التَّهْوِيلُ مُشْعِرٌ بِحُصُولِ مَا يَخَافُهُ الْمُهَوَّلُ لَهُمْ فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنْ وِجْدَانِ نَصِيرٍ أَوْ مُعِينٍ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ يَوْمَ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلًا مُطَابِقًا، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ الْمَرْفُوعِ بِ مَا أَدْراكَ وَتُجْعَلُ فَتْحَتُهُ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لِأَنَّ اسْمَ الزَّمَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَكَانَ فِعْلُهَا مُعْرَبًا جَازَ فِي اسْمِ الزَّمَانِ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ وَأَنْ يُعْرَبَ بِحَسَبِ الْعَوَامِلِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مُطَابِقًا مِنْ يَوْمَ الدِّينِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: 15] ، وَلَا يَفُوتُ بَيَانُ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: 17] لِأَنَّ يَوْمُ الدِّينِ الْمَرْفُوعَ الْمَذْكُورَ ثَانِيًا هُوَ عَيْنُ يَوْمَ الدِّينِ الْمَنْصُوبِ أَوَّلًا، فَإِذَا وَقَعَ بَيَانٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا حَصَلَ بَيَانُ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا إِذْ مَدْلُولُهُمَا يَوْمٌ مُتَّحِدٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب مَرْفُوعا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ يَوْمُ الدِّينِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ وَمَعْنَى لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً: لَا تَقْدِرُ نَفْسٌ عَلَى شَيْءٍ لِأَجْلِ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لِنَفْعِهَا، لِأَنَّ شَأْنَ لَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالْفِعْلِ عَكْسَ (عَلَى) ، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُتَضَرِّرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: 286] ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ [4] . وَعُمُومُ نَفْسٌ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وشَيْئاً اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ مُتَوَغِّلٌ فِي الْإِبْهَامِ يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ فِي الْكَلَامِ مِنْ تَمْيِيزٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ مِنَ السِّيَاقِ، وَيُبَيِّنُهُ هُنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ لَا تَمْلِكُ وَلَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ شَيْئًا يُغْنِي عَنْهَا وَيَنْفَعُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [67] ، فَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ لَا تَمْلِكُ، أَيْ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهَا شَيْءٌ يَنْفَعُ نَفْسًا أُخْرَى. وَهَذَا يُفِيدُ تَأْيِيسَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ تَنْفَعَهُمْ أَصْنَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الْأَنْعَام: 94] . وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَجُمْلَةُ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ تَذْيِيلٌ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى: التَّصَرُّفِ وَالْإِذْنِ وَهُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، أَيْ لَا يَأْمُرُ إِلَّا اللَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُرَادِفًا لِلشَّيْءِ فَتَغْيِيرُ التَّعْبِيرِ لِلتَّفَنُّنِ. وَالتَّعْرِيفُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُسْتَعْمَلِ لِإِرَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَيَعُمُّ كُلَّ الْأُمُورِ وَبِذَلِكَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا. وَأَفَادَتْ لَامُ الِاخْتِصَاصِ مَعَ عُمُومِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا أَمْرَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ صِيغَةُ حَصْرٍ وَلَكِنَّهُ آيِلٌ إِلَى مَعْنَى الْحَصْرِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] . وَفِي هَذَا الْخِتَامِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ ابْتُدِئْ بِالْخَبَرِ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ.

83- سورة المطففين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 83- سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» ، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» . وَسُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْمَصَاحِفِ «سُورَةَ الْمُطَفِّفِينَ» اخْتِصَارًا. وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ وَسَمَّاهَا «سُورَةَ الْمُطَفِّفِينَ» وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا مَكِّيَّةً أَوْ مَدَنِيَّةً أَوْ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَنِيٌّ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، قَالَ: وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَقَتَادَةَ: هِيَ مدنيّة إلّا ثَمَان آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [المطففين: 29] إِلَى آخِرِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَهِيَ لِذَلِكَ مَكِّيَّةٌ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْمَدَنِيِّ بِمَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنَ الْأَقْوَالِ لِأَهْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ بِذِكْرِ الْأَسَاطِيرِ فِيهَا أَيْ قَوْلُهُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 15] . وَالَّذِي نَخْتَارُهُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّعْرِيضُ بِمُنْكِرِي الْبَعْثِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِأَنَّ التَّطْفِيفَ كَانَ فَاشِيًا فِي الْبَلَدَيْنِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ أَنَّهَا: إِمَّا آخِرُ مَا أُنْزِلَ بِمَكَّةَ، وَإِمَّا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَوْلٌ حَسَنٌ.

أغراضها

فَقَدْ ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنِ الْقُرَظِيِّ «كَانَ بِالْمَدِينَةِ تُجَّارٌ يُطَفِّفُونَ الْكَيْلَ وَكَانَتْ بَيَاعَاتُهُمْ كَسَبَةَ الْقِمَارِ وَالْمُلَامَسَةَ وَالْمُنَابَذَةَ وَالْمُخَاصَرَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السُّوقِ وَقَرَأَهَا، وَكَانَتْ عَادَةً فَشَتْ فِيهِمْ مِنْ زَمَنِ الشِّرْكِ فَلَمْ يَتَفَطَّنْ بَعْضُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ مَال النَّاس، فَرَأى إِيقَاظُهُمْ لِذَلِكَ، فَكَانَتْ مُقَدِّمَةً لِإِصْلَاحِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ تَشْنِيعِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَيَثْرِبَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا التَّطْفِيفَ. وَمَا أَنْسَبَ هَذَا الْمَقْصِدِ بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِتَطْهِيرِ الْمَدِينَةِ مِنْ فَسَادِ الْمُعَامَلَاتِ التِّجَارِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَشْهَدَ فِيهَا مُنْكَرًا عَامًّا فَإِنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لَا يَخْلُو وَقْتٌ عَنِ التَّعَامُلِ بِهِمَا فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي الْمُبَادَلَاتِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّادِسَةَ وَالثَمَانِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا سِتّ وَثَلَاثُونَ. أغراضها اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَفْظِيعِهِ بِأَنَّهُ تَحَيُّلٌ عَلَى أَكْلِ مَالِ النَّاسِ فِي حَالِ الْمُعَامَلَةِ أَخْذًا وَإِعْطَاءً. وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا سَيُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَهْوِيلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ وُقُوفٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لِيَفْصِلَ بَيْنَهُمْ وَلِيُجَازِيَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ الْأَعْمَالَ مُحْصَاةٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَوَعِيدُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَالَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

[سورة المطففين (83) : الآيات 1 إلى 3]

وَقُوبِلَ حَالُهُمْ بِضِدِّهِ مِنْ حَالِ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَإِعْلَانِ كَرَامَتِهِمْ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَذِكْرِ صُوَرٍ مِنْ نَعِيمِهِمْ. وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الزَّائِلِ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَلْمِزُونَهُمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَكَيْفَ انْقَلَبَ الْحَالُ فِي الْعَالم الأبدي. [1- 3] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِاسْمِ الْوَيْلِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ على وَعِيد فَلفظ وَيْلٌ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] . وَقد أَخذ أبوبكر بْنُ الْخَازِنِ مِنْ عَكْسِهِ قَوْلَهُ فِي طَالِعِ قَصِيدَةٍ بِتَهْنِئَتِهِ بِمَوْلُودٍ: بُشْرَى فَقَدْ أَنْجَزَ الْإِقْبَالُ مَا وَعَدَا وَالتَّطْفِيفُ: النَّقْصُ عَنْ حَقِّ الْمِقْدَارِ فِي الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَكِيلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَفَّفَ إِذْ بَلَغَ الطُّفَافَةَ. وَالطُّفَافُ (بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ) مَا قَصُرَ عَنْ مَلْءِ الْإِنَاءِ مِنْ شَرَابٍ أَوْ طَعَامٍ، وَيُقَالُ: الْطَفُّ بِفَتْحِ الطَّاءِ دُونَ هَاءِ تَأْنِيثٍ، وَتُطْلَقُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَى مَا تَجَاوَزَ حَرْفَ الْمِكْيَالِ مِمَّا يُمْلَأُ بِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا قَلِيلًا زَائِدًا عَلَى مَا مَلَأَ الْإِنَاءَ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ طُفَافَةً، أَيْ قَلِيلُ زِيَادَةٍ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا إِذْ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ، وَفِعْلُهُ: طَفَّفَ، كَأَنَّهُمْ رَاعَوْا فِي صِيغَةِ التَّفْعِيلِ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِأَنَّ الْمُطَفِّفَ يُحَاوِلُ أَنْ يَنْقُصَ الْكَيْلَ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الْمُكْتَالُ، وَيُقَابِلُهُ الْوَفَاءُ. ووَيْلٌ كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِسوء الْحَال، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ وَتَقْرِيعٌ، وَالْوَيْلُ: اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ لِعَدَمِ وُجُودِ فِعْلٍ لَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَصَدِّينَ لِلتَّجْرِ يَغْتَنِمُونَ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الِابْتِيَاعِ مِنْهُمْ وَإِلَى الْبَيْعِ لَهُمْ لِأَنَّ التُّجَّارَ هم أَصْحَاب رُؤُوس الْأَمْوَالِ وَبِيَدِهِمُ الْمَكَايِيلُ وَالْمَوَازِينُ، وَكَانَ

أَهْلُ مَكَّةَ تُجَّارًا، وَكَانَ فِي يَثْرِبَ تُجَارٌ أَيْضًا وَفِيهِمُ الْيَهُودُ مِثْلُ أَبِي رَافِعٍ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ تَاجِرَيْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَانَتْ تِجَارَتُهُمْ فِي التَّمْرِ وَالْحُبُوبِ. وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَعَامَلُونَ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُمْ يَتَّجِرُونَ فِي أَصْنَافِ السِّلَعِ وَيَزِنُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَأَهْلُ يَثْرِبَ يَتَعَامَلُونَ بِالْكَيْلِ. وَالْآيَةُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّطْفِيفَ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ وَاخْتِلَاطُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُنَافِقِينَ يُسَبِّبُ ذَلِكَ. وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالتَّطْفِيفِ فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ وَاسْمُهُ عَمْرٌو كَانَ لَهُ صَاعَانِ يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا وَيُعْطِي بِالْآخَرِ. فَجُمْلَةُ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إِدْمَاجٌ، مَسُوقَةٌ لِكَشْفِ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ فِيهِمْ هِيَ الْحِرْصُ عَلَى تَوْفِيرِ مِقْدَارِ مَا يَبْتَاعُونَهُ بِدُونِ حَقٍّ لَهُمْ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ فَهُمْ مَذْمُومُونَ بِمَجْمُوعِ ضِمْنِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَالِاكْتِيَالُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكَيْلِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي تَسَلُّمِ مَا يُكَالُ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِ: ابْتَاعَ، وَارْتَهَنَ، وَاشْتَرَى، فِي مَعْنَى أَخْذِ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ وَأَخْذِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَهُوَ مُطَاوِعُ كَالَ، كَمَا أَنَّ ابْتَاعَ مُطَاوِعُ بَاعَ، وَارْتَهَنَ مُطَاوِعُ رَهَنَ، وَاشْتَرَى مُطَاوِعُ شَرَى، قَالَ تَعَالَى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ [يُوسُف: 63] أَيْ نَأْخُذْ طَعَامًا مَكِيلًا، ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ. وَحَقُّ فِعْلِ اكْتَالَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَكِيلُ، فَيُقَالُ: اكْتَالَ فُلَانٌ طَعَامًا مِثْلُ ابْتَاعَ، وَيُعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ مِثْلَ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فَيُقَالُ: اكْتَالَ طَعَامًا مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ اكْتالُوا مَعْنَى التَّحَامُلِ، أَيْ إِلْقَاءُ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْغَيْرِ وَظُلْمُهُ، ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ التَّاجِرِ وَخُلُقَهُ أَنْ يَتَطَلَّبَ تَوْفِيرَ الرِّبْحِ وَأَنَّهُ مَظِنَّةُ السَّعَةِ وَوُجُودُ الْمَالِ بِيَدِهِ فَهُوَ

يَسْتَعْمِلُ حَاجَةَ مَنْ يَأْتِيهِ بِالسِّلْعَةِ، وَعَنِ الْفراء (من) و (على) يَتَعَاقَبَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ مِنْكَ فَكَقَوْلِهِ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ. فَمَعْنَى: اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ اشْتَرَوْا مِنَ النَّاسِ مَا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي فِعْلِ اكْتالُوا أَيِ اكْتَالُوا مَكِيلًا، وَمَعْنَى كَالُوهُمْ بَاعُوا لِلنَّاسِ مَكِيلًا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. فَالْوَاوَانِ مِنْ كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ عَائِدَانِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَالضَّمِيرَانِ الْمُنْفَصِلَانِ عَائِدَانِ إِلَى النَّاسِ. وتعدية «كالوا» ، و «وزنوا» إِلَى الضَّمِيرَيْنِ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْجَرِّ. وَأَصْلُهُ كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ، كَمَا حُذِفَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [233] وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أَيْ تَسْتَرْضِعُوا لِأَوْلَادِكُمْ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «الْحَرِيصُ يَصِيدُكَ لَا الْجَوَادُ» أَيِ الْحَرِيصُ يَصِيدُ لَكَ. وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، أَصْلُهُمَا نَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُ لَكَ، لِأَنَّ فِعْلَ كَالَ وَفِعْلَ وَزَنَ لَا يَتَعَدَّيَانِ بِأَنْفُسِهِمَا إِلَّا إِلَى الشَّيْءِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ يُقَالُ: كَالَ لَهُ طَعَامًا وَوَزَنَ لَهُ فِضَّةً، وَلِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ خَفَّفُوهُ فَقَالُوا: كَالَهُ وَوَزَنَهُ طَعَامًا عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ قَيْسٍ يَقُولُونَ: يَكِيلُنَا، يَعْنِي وَيَقُولُونَ أَيْضًا: كَالَ لَهُ وَوَزَنَ لَهُ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَقَيْسٍ لَا يَقُولُونَ: كَالَ لَهُ وَوَزَنَ لَهُ، وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا: كَالَهُ وَوَزَنَهُ، فَيَكُونُ فِعْلُ كَالَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ بَاعَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: إِذَا اكْتالُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا اتَّزَنُوا كَمَا قَالَ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ الْوَزْنِ فِي الثَّانِي تَجَنُّبًا لِفِعْلِ: «اتَّزَنُوا» لِقِلَّةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثِّقَلِ. وَلِنُكْتَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ هُمْ أَهْلُ التَّجْرِ وَهُمْ يَأْخُذُونَ السِّلَعَ مِنَ الْجَالِبِينَ فِي الْغَالِبِ بِالْكَيْلِ لِأَنَّ الْجَالِبِينَ يَجْلِبُونَ التَّمْرَ وَالْحِنْطَةَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يُكَالُ وَيَدْفَعُونَ لَهُمُ الْأَثْمَانَ عَيْنًا بِمَا يُوزَنُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مَسْكُوكَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَسْكُوكَيْنِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي ابْتِيَاعِهِمْ مِنَ الْجَالِبِينَ عَلَى

[سورة المطففين (83) : الآيات 4 إلى 6]

الِاكْتِيَالِ نَظَرًا إِلَى الْغَالِبِ، وَذَكَرَ فِي بَيْعِهِمْ لِلْمُبْتَاعِينَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لِأَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْأَشْيَاءَ كَيْلًا وَيَقْبِضُونَ الْأَثْمَانَ وَزْنًا. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّطْفِيفَ مِنْ عَمَلِ تُجَّارِهِمْ. ويَسْتَوْفُونَ جَوَابُ إِذَا وَالِاسْتِيفَاءُ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ. وَمَعْنَى يُخْسِرُونَ يُوقِعُونَ الَّذِينَ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ فِي الْخَسَارَةِ، وَالْخَسَارَةُ النَّقْصُ مِنَ المَال من التَّبَايُعِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي التطفيف إِذْ وجوده فَاشِيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ هِجْرَتِهِمْ وَذَمٌّ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ. وَحَسْبُهُمْ أَنَّ التَّطْفِيفَ يَجْمَعُ ظُلْمًا وَاخْتِلَاسًا وَلُؤْمًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخلال متفرّقة ويتبرؤون مِنْهَا، ثُمَّ يَأْتُونَهَا مُجْتَمِعَةً، وَنَاهِيكَ بذلك أفنا. [4- 6] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 4 إِلَى 6] أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ الْوَعِيدِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ بِالْوَيْلِ عَلَى التَّطْفِيفِ وَمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ الْمُبْتَاعِينَ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ بِحَيْثُ يَسْأَلُ السَّائِل عَن عَمَلهم بِالْبَعْثِ، وَهَذَا يرجح أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيرجع الْإِنْكَار والتعجيب مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ مَا سِيقَ هَذَا لِأَجْلِهِ وَهُوَ فِعْلُ التَّطْفِيفِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْخُلَّصُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمُ انْتَهَوْا عَنِ التَّطْفِيفِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ. وَالظَّنُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمَشْهُورِ وَهُوَ اعْتِقَاد وُقُوع الشَّيْء اعْتِقَادًا رَاجِحًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ لِقَصْدِ

تَمْيِيزِهِمْ وَتَشْهِيرِ ذِكْرِهِمْ فِي مَقَامِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِ «الْمُطَفِّفِينَ» تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْوَصْفَ مَلْحُوظٌ فِي الْإِشَارَةِ فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِتَعْلِيلِ الْإِنْكَارِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لَامُ التَّوْقِيتِ مِثْلُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] . وَفَائِدَةُ لَامِ التَّوْقِيتِ إِدْمَاجُ الرَّدِّ عَلَى شُبْهَتِهِمُ الْحَامِلَةِ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْثٌ لَبُعِثَتْ أَمْوَاتُ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَأَوْمَأَ قَوْلُهُ لِيَوْمٍ أَنَّ لِلْبَعْثِ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَقَعُ عِنْدَهُ لَا قَبْلَهُ. وَوَصْفُ يَوْمٍ بِ عَظِيمٍ بِاعْتِبَارِ عَظَمَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ، فَهُوَ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ. ويَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بَدَلٌ مِنْ «يَوْمٍ عَظِيمٍ» بَدَلًا مُطَابِقًا وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [19] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ. وَمَعْنَى يَقُومُ النَّاسُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قِيَامًا، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ. وَاللَّامُ فِي لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِلْأَجْلِ، أَي لأجل ربوبيته وَتَلَقِّي حُكْمِهِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَاللَّامُ فِي الْعالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبِ، وَكَلِمَةِ الظَّنِّ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعَظِيمِ، وَقِيَامِ النَّاس فِيهِ الله خَاضِعِينَ، وَوَصْفِ ذَاتِهِ بِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» بَيَانٌ بَلِيغٌ لِعَظِيمِ الذَّنْبِ وَتَفَاقُمِ الْإِثْمِ فِي التَّطْفِيفِ وَفِيمَا كَانَ مِثْلُ حَالِهِ مِنَ الْحَيْفِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَمَلِ عَلَى السَّوِيَّةِ» اهـ. وَلَمَّا كَانَ الْحَامِل لَهُم عَلَى التَّطْفِيفِ احْتِقَارُهُمْ أَهْلَ الْجَلْبِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا

[سورة المطففين (83) : الآيات 7 إلى 9]

يُقِيمُونَ لَهُمْ مَا هُوَ شِعَارُ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، كَانَ التَّطْفِيفُ لِذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ إِثْمِ احْتِقَارِ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ قَدْ صَارَ خُلُقًا لَهُمْ حَتَّى تَخَلَّقُوا بِمُكَابَرَةِ دُعَاةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّنْوِيهِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَن: 7- 9] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الشُّعَرَاء: 182، 183] [7- 9] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 7 إِلَى 9] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) كَلَّا. إِبْطَالٌ وَرَدْعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: 4] مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِهِمُ التَّطْفِيفَ، وَالْمَعْنَى: كَلَّا بَلْ هُمْ مَبْعُوثُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَلِتَلَقِّي قَضَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهِيَ جَوَابٌ عَمَّا تَقَدَّمَ. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُطَفِّفِينَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوجِبًا كَتْبَهُ فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ. والفُجَّارِ غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالتَّطْفِيفِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الفُجَّارِ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقَ، أَيْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ فَيَعُمُّ الْمُطَفِّفِينَ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ، فَوَصْفُ الْفُجَّارِ هَنَا نَظِيرُ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 42] . وَشُمُولُ عُمُومِ الْفُجَّارِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ يُعْنَى بِهِ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ الْمَقْصُود الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْوَصْفِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ عَقِبَ كَلِمَةِ الرَّدْعِ عَنْ أَعْمَالِ الْمُطَفِّفِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ. وَ «الْكِتَابُ» الْمَكْتُوبُ، أَيِ الصَّحِيفَةُ وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا تُحْصَى فِيهِ

الْأَعْمَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ يَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ وَتَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وسِجِّينٌ حُرُوفُ مَادَّتِهِ مِنْ حُرُوفِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصِيغَتُهُ مِنَ الصِّيَغِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقَدْ أَغْرَبَ. رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلُوا سِجِّينَ عِوَضًا عَنْ سِلْتِينَ، وَسِلْتِينَ كَلِمَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ. وَنُونُ سِجِّينٌ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً عَنِ اللَّامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا وَأُولَاهَا أَنَّهُ عَلَمٌ لِوَادٍ فِي جَهَنَّمَ، صِيَغَ بِزِنَةِ فَعِيلٍ مِنْ مَادَّةِ السَّجْنِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: الْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، وَرَجُلٌ سِكِّيرٌ، وَطَعَامٌ حَرِّيفٌ (شَدِيدُ الْحَرَافَةِ وَهِيَ لَذْعُ اللِّسَانِ) سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ سِجِّينًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحَبْسِ لِمَنْ فِيهِ فَلَا يُفَارِقُهُ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنَّ مَادَّتَهُ وَصِيغَتَهُ مَوْضُوعَتَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَضْعًا نَوْعِيًّا. وَقَدْ سَمِعَ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ وَلَمْ يَطْعَنُوا فِي عَرَبِيَّتِهِ. وَمَحْمَلُ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُتُبَ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُودَعَةٌ فِي مَكَانٍ اسْمُهُ سِجِّينٌ أَوْ وَصْفُهُ سِجِّينٌ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِتَحْقِيرِهِ، أَيْ تَحْقِيرُ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَكْتُوبَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لِاشْتِمَالِ سَنَدِهِ عَلَى مَجَاهِيلَ. وَإِنْ حُمِلَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، فَجُعِلَ كِتَابُ الْفُجَّارِ مَظْرُوفًا فِي سِجِّينٍ مَجَازٌ عَنْ جَعْلِ الْأَعْمَالِ الْمُحْصَاةِ فِيهِ فِي سِجِّينٍ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ كَوْنِ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ. وَجُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَين جملَة: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرضَة بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَجُمْلَةِ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَهُوَ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ السَّجِينِ تَهْوِيلَ تَفْظِيعٍ لِحَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ وَتَقَدَّمَ مَا أَدْراكَ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [17] . وَقَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ إِلَى كِتابَ الفُجَّارِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ أَيْ كِتَابُ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي

[سورة المطففين (83) : الآيات 10 إلى 13]

اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ إِذَا تَحَدَّثُوا عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَرَادُوا الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِخَبَرٍ جَدِيدٍ. وَالْمَرْقُومُ: الْمَكْتُوبُ كِتَابَةً بَيِّنَةً تُشْبِهُ الرَّقْمَ فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ كِتابٌ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً أَو مجَازًا. [10- 13] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 10 إِلَى 13] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) جُمْلَةُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مبينَة لمضموم جُمْلَةِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: 4، 5] فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَئِذٍ يُفِيدُ تَنْوِينُهُ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً جُعِلَ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا تَقْدِيرُهَا: يَوْمَ إِذْ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَيْلٌ فِيهِ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالْمُطَفِّفِينَ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ مَنْ هُمْ مُطَفِّفُونَ وَمِنَ الْمُطَفِّفِينَ مُسْلِمُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِدْمَاجًا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ الْمُكَذِّبُونَ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: لِلْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ أُعِيدَ مُفَصَّلًا بِبَيَانِ مُتَعَلِّقِ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ بِيَوْمِ الدِّينِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ تَكْذِيبِهِمْ أَذْهَانَ السَّامِعِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَالصِّفَةُ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ وَتَحْذِيرِ الْمُطَفِّفِينَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَخِفُّوا بِالتَّطْفِيفِ فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ بِ «يَوْمِ الدِّينِ» التَّكْذِيبُ بِوُقُوعِهِ. فَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ هُوَ مَنْشَأُ الْإِقْدَامِ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْجَرَائِمِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ

أَيْ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِهِ جَهْلٌ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خلق النَّاس وَتَكْلِيفِهِمْ إِذِ الْحِكْمَةُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ تَقْتَضِي تَحْسِينَ أَعْمَالِهِمْ وَحِفْظَ نِظَامِهِمْ. فَلِذَلِكَ جَاءَتْهُمُ الشَّرَائِعُ آمِرَةً بِالصَّلَاحِ وَنَاهِيَةً عَنِ الْفَسَادِ. وَرَتَّبَ لَهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بِالْعَذَابِ وَالْإِهَانَةِ. كُلٌّ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ: فَلَوْ أَهْمَلَ الْخَالِقُ تَقْوِيمَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَهْمَلَ جَزَاءَ الصَّالِحِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ الْخَلْقِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [الْمُؤْمِنُونَ: 115، 116] . وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ وَهِيَ: مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ، يَقُولُ إِنَّ الْآيَاتِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ: الظُّلْمُ، وَالْمُعْتَدِي: الْمُشْرِكُ وَالْكَافِرُ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ لِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَعَلَى رُسُلِهِ بِالتَّكْذِيبِ، وَاعْتَدَوْا عَلَى دَلَائِلِ الْحَقِّ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا أَوْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا. وَالْأَثِيمُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْآثِمِ، أَيْ كَثِيرُ الْإِثْمِ. وَصِيغَةُ الْقَصْرِ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ تُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ الْآثِمِينَ الزَّاعِمِينَ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. فَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا غَيْرُ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُشْرِكُونَ وَالْوَثَنِيُّونَ وَأَضْرَابُهُمْ مِمَّنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ، وَأَعْظَمُهَا التَّكْذِيبُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةَ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ مِثْلَ أَصْحَابِ دِيَانَةِ الْقِبْطِ. فَالَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِثْلُ الدَّهْرِيِّينَ فَإِنَّهُمْ تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الِاعْتِدَاءُ وَالْإِثْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا زَعْمُ الْقُرْآنِ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ مَقَالَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فَهُمْ مُتَهَيِّئُونَ لِأَنْ يَقُولُوهُ، أَوْ يَقُولُوا مَا يُسَاوِيه أَو يؤول إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لم يعرض عَلَيْهِم الْقُرْآنُ مِنْهُمْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَكَذَّبَ بِهِ

[سورة المطففين (83) : الآيات 14 إلى 17]

تَكْذِيبًا يُسَاوِي اعْتِقَادَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا الْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فَظَنُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ يُسَاوِي ظَنَّ الْمُشْرِكِينَ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَقُولُهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقَصْرَ ادِّعَائِيًّا وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى تَنْزِيلِ مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمُ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدْ جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الدِّينِ كَلَا تَكْذِيبٍ مُبَالَغَةً فِي إِبْطَالِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَجُمْلَةُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ صِفَةٌ لِمُعْتَدٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ. وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ وَأَجْزَاؤُهُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُتْلَى وَتُقْرَأُ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ الْقِصَّةُ الْمُخْتَرَعَةُ الَّتِي لَمْ تَقَعْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنَظِّرُونَ قِصَصَ الْقُرْآنِ بِقِصَّةِ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، عِنْدَ الْفُرْسِ، وَلَعَلَّ الْكَلِمَةَ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ، وَتُقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] . وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُطْلَقُ عَلَى السَّابِقِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ أَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَانٍ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَبَقَتْهُ أَجْيَالٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَصِفُونَ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ لِمَا سَمِعُوا فِيهِ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَحَسِبُوهَا مِنْ قِصَصِ الْأَسْمَارِ. وَاقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ دُونَ مَا فِي أَكْثَرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكْمَةِ، بُهْتَانًا مِنْهُمْ. وَمِمَّنْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكَانَ قَدْ كَتَبَ قِصَّةَ رُسْتُمَ وَقِصَّةَ إِسْفِنْدِيَارَ وَجَدَهَا فِي الْحِيرَةِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَنَا أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يُحَدِّثُكُمْ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ خُصُوصَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ مُعْتَدٍ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ. [14- 17] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 14 الى 17] كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا اعْتِرَاضٌ بِالرَّدْعِ وَبَيَانٌ لَهُ، لِأَنَّ كَلَّا رَدْعٌ لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَنَّ قَوْلَهُمْ

بَاطِلٌ. وَحَرْفُ بَلْ لِلْإِبْطَالِ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونٍ كَلَّا وَبَيَانًا وَكَشْفًا لِمَا حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا فِي الْقُرْآنِ مَا قَالُوا وَأَنَّهُ مَا أَعْمَى بَصَائِرَهُمْ مِنَ الرَّيْنِ. وَالرَّيْنُ: الصَّدَأُ الَّذِي يَعْلُو حَدِيدَ السَّيْفِ وَالْمِرْآةِ، وَيُقَالُ فِي مَصْدَرِ الرَّيْنِ الرَّانُ مِثْلَ الْعَيْبِ وَالْعَابِ، وَالذَّيْمِ وَالذَّامِ. وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي أَصَابَهُ الرَّيْنُ، فَيُقَالُ: رَانَ السَّيْفُ وَرَانَ الثَّوْبُ، إِذَا أَصَابَهُ الرَّيْنُ، أَيْ صَارَ ذَا رَيْنٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّغْطِئَةِ أُطْلِقَ عَلَى التَّغْطِيَةِ فَجَاءَ مِنْهُ فِعْلُ رَانَ بِمَعْنَى غَشِيَ، فَقَالُوا: رَانَ النُّعَاسُ عَلَى فُلَانٍ، وَرَانَتِ الْخَمْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ بَابِ رَانَ الرَّيْنُ على السَّيْف، وَلَيْسَ من بَاب ران السَّيْفِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ هَذَا الْفِعْلَ صَارَ النَّاسُ يَقُولُونَ: رِينَ عَلَى قَلْبِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ مَرِينٌ عَلَى قَلْبِهِ. وَالْمَعْنَى: غَطَّتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَعْمَالُهُمْ أَنْ يَدْخُلَهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْبَوْنُ الشَّاسِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ بَعْدَ قَلْبِهَا رَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهَا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْوَقْفِ عَلَى لَامِ (بَلْ) وَالِابْتِدَاءِ بِكَلِمَةِ رَانَ تَجَنُّبًا لِلْإِدْغَامِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى لَامِ بَلْ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا لَامٌ. قَالَ فِي «اللِّسَانِ» : إِظْهَارُ اللَّامِ لُغَةً لِأَهْلِ الْحِجَازِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُمَا حَسَنَانِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِدْغَامُ أَرْجَحُ. وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ وَمَحَالُّ الْإِدْرَاكِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] . وَمِنْ كَلَامِ رُعَاةِ الْأَعْرَابِ يُخَاطِبُونَ إِبِلَهُمْ فِي زَمَنِ شِدَّةِ الْبَرْدِ إِذَا أَوْرَدُوهَا الْمَاءَ فَاشْمَأَزَّتْ مِنْهُ لِبَرْدِهِ «بَرِّدِيهِ تَجِدِيهِ سَخِينًا» أَيْ بَلْ رُدِّيهِ وَذَلِكَ مِنَ الْمُلَحِ الشَّبِيهَةِ بِالْمُعَايَاةِ إِذْ فِي ظَاهِرِهِ طَلَبُ تَبْرِيدِهِ وَأَنَّهُ بِالتَّبْرِيدِ يُوجَدُ سَخِينًا. وَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا عَمِلُوهُ سَالِفًا مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَجِمَاحِهِمْ عَنْ

التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ حَتَّى صَارَ الْإِعْرَاضُ وَالْعِنَادُ خُلُقًا مُتَأَصِّلًا فِيهِمْ فَلَا تَفْهَمُ عُقُولُهُمْ دَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنَّ عَادَ زِيِدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَمَجِيءُ يَكْسِبُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْكَسْبِ وَتَعَدُّدِهِ فِي الْمَاضِي. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ كانُوا دُونَ أَنْ يُقَالَ: مَا يَكْسِبُونَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَا كَسَبُوهُ فِي أَعْمَارِهِمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَنَاطَ تَكْلِيفٍ أَيَّامَئِذٍ. فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ وَتَوَاتَرَ وَشَاعَ فِي الْأُمَمِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَوْجِيهِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِذَنْبِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مُخَالِفُونَ لِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَاتْرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَحِقَ بِذَلِكَ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ وَقْتِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَهِيَ مُدَّةٌ لَيْسَتْ بِالْقَصِيرَةِ. وكَلَّا الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِ كَلَّا الْأُولَى زِيَادَةً فِي الرَّدْعِ لِيَصِيرَ تَوْبِيخًا. إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . جُمْلَةُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتِ الْجُمْلَةُ وَمَعْطُوفَاهَا عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَيْلِ وَهِيَ الْإِهَانَةُ، وَالْعَذَابُ، وَالتَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ. فَأَمَّا الْإِهَانَةُ فَحَجْبُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَالْحَجْبُ هُوَ السَّتْرُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنْعِ مِنَ

الْحُضُورِ لَدَى الْمَلِكِ وَلَدَى سَيِّدِ الْقَوْمِ، قَالَ الشَّاعِرُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «الْكَشَّافِ» : إِذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عُبِّيَّةٍ رُجِبُوا ... وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَرْجُوبٍ وَمَحْجُوبِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ هُنَا لِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَاهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأَبْرَارِ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: 23] وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُونَ حَضْرَةَ الْقُدُسِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: 40] ، وَلِيَكُونَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ: «عَنْ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ» دُونَ أَنْ يُقَالَ: عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، أَوْ عَنْ وَجْهِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [77] : وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ وَقَدْ عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالَّةِ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ خزي الإهانة. و «صالوا» جَمْعُ صَالٍ وَهُوَ الَّذِي مَسَّهُ حَرُّ النَّارِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سيصلون عَذَاب جَهَنَّم. وَأَمَّا التَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ التَّخْفِيفِ فَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ اقْتَضَى تَرَاخِيَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ بُعْدُ دَرَجَتِهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ. وَاقْتَضَى اسْمُ الْإِشَارَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَذَابُ الَّذِي تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ بِهِ وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ وَهُوَ دَرَجَةٌ أَشَدُّ فِي الْوَعِيدِ، وَبِذَلِكَ كَانَ مَضْمُون الْجُمْلَة أرقى رُتْبَة فِي الْغَرَض من مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا. أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ مَالِكٍ

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 إلى 21]

خَازِنِ جَهَنَّمَ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف: 77، 78] فَطُوِيَ سُؤَالُهُمْ وَاقْتُصِرَ عَلَى جَوَابِ مَالِكٍ خَازِنِ جَهَنَّمَ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ عَطْفِ جُمْلَةِ هَذَا الْمَقَالِ بِ ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي. وَبُنِيَ فِعْلُ يُقالُ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ الْقَائِلِ وَالْمَقْصِدِ هُوَ القَوْل. وَجِيء باسم الْمَوْصُول ليذكّروا تكذيبهم بِهِ فِي الدُّنْيَا تنديما لَهُم وتحزينا. وَتَقْدِيمُ بِهِ عَلَى تُكَذِّبُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعَادِ الضَّمِيرِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَالْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُكَذِّبُونَ إِلَى تَفْرِقَةٍ بَيْنَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الشَّخْصِ الْكَاذِبِ فَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْخَبَرِ الْمُكَذَّبِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ. وَلَعَلَّ أَصْلَهَا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَذَّبَ بِسَبَبِهِ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رُسُلَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. [18- 21] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 18 إِلَى 21] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) كَلَّا. رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضْمَنُهُ مَا يُقَالُ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ كَلَّا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مَعَ جُمْلَةِ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رَدْعًا لَهُمْ فَهِيَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمُ الْمَذْكُورِ. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) . يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْتَهِيَةَ بِقَوْلِهِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْحِكَايَةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُقالُ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِحَذَافِرِهَا تُشْبِهُ جُمْلَةَ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: 17] إِلَخْ أُسْلُوبًا وَمُقَابَلَةً. فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ

مَضْمُونُهَا قَسِيمًا لِمَضْمُونِ شَبِيهِهَا فَتَحْصُلُ مُقَابَلَةُ وَعِيدِ الْفُجَّارِ بِوَعْدِ الْأَبْرَارِ وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ الْإِنْذَارِ بِالتَّبْشِيرِ وَالْعَكْسُ لِأَنَّ النَّاسَ رَاهِبٌ وَرَاغِبٌ فَالتَّعَرُّضُ لِنَعِيمِ الْأَبْرَارِ إِدْمَاجٌ اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَقَامَ إِنْذَارٍ. وَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَاحِدًا وَجَّهَ كَلَامَهُ لِلْفُجَّارِ الَّذِينَ لَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْجِيهِ كَلَامٍ لِلْأَبْرَارِ الَّذِينَ هُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُعْتَرِضَةً مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ الرَّدْعِ عَلَى أَوْضَحِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] فَتَكُونُ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلَةً بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبِحَرْفِ الْإِبْطَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، أَعْقَبُوا تَوْبِيخَهُمْ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ تَنْدِيمًا لِلَّذِينَ أَنْكَرُوهُ وَتَحْسِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَفَاتُوهُ مِنَ الْخَيْرِ. والْأَبْرارِ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْبِرَّ، وَتَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَالْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ وَمَظْرُوفِيَّتِهِ فِي عِلِّيِّينَ، كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: 7] . وَعِلِّيُّونَ: جَمْعُ عِلِّيٍّ، وَعِلِّيٌّ عَلَى وَزْنِ فِعِّيلٍ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ زِنَةُ مُبَالِغَةٍ فِي الْوَصْفِ جَاءَ عَلَى صُورَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ عِلِّيِّينَ لَا وَاحِدَ لَهُ. يُرِيدُ: أَنَّ عِلِّيِّينَ لَيْسَ جَمْعَ (عِلِّيٍّ) وَلَكِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى مَكَانِ الْأَبْرَارِ فِي الْجَنَّةِ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ عَنِ الْعَرَبِ (عِلِّيٌّ) وَإِنَّمَا قَالُوا: عِلِّيَّةٌ لِلْغُرْفَةِ، وَعِلِّيُّونَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِمَحَلَّةِ الْأَبْرَارِ. وَاشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ رِفْعَةٌ فِي مَرَاتِبِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَصِيغَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الصِّيغَةِ أَنْ تُجْمَعَ بِهَا أَسْمَاءُ الْعُقَلَاءِ وَصِفَاتُهُمْ، فَاسْتُكْمِلَ لَهُ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ الذُّكُورِ إِتْمَامًا لِشَرَفِ الْمَعْنَى بِاسْتِعَارَةِ الْعُلُوِّ وَشَرَفِ النَّوْعِ بِإِعْطَائِهِ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ.

[سورة المطففين (83) : الآيات 22 إلى 28]

وَالْقَوْلُ فِي وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ كَالْقَوْلِ فِي وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ [المطففين: 8، 9] الْمُتَقَدِّمِ. ويَشْهَدُهُ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْلَنُ بِهِ عِنْدَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ إِعْلَانُ تَنْوِيهٍ بِصَاحِبِهِ كَمَا يُعْلَنُ بِأَسْمَاءِ النَّابِغِينَ فِي التَّعْلِيمِ، وَأَسْمَاءِ الْأَبْطَالِ فِي الْكَتَائِب. [22- 28] [سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 22 إِلَى 28] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] إِلَى آخِرِهَا. وَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى نَسِيجِ نَظْمِ قَسِيمَتِهَا افْتِتَاحًا وَتَوْصِيفًا وَفَصْلًا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْبَيَانِ أَوْ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَال لَهُم، وَهُوَ المحكي بقوله: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] فَيَكُونُ قَوْلُ ذَلِكَ لَهُمْ، تَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْإِيمَانِ. وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا يُنَاكِدُ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِيمَا قُرِّرَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ. وَذُكِرَ الْأَبْرَارُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِمْ. خِلَافًا لِمَا جَاءَ فِي جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] تَنْوِيهًا بِوَصْفِ الْأَبْرَارِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْأَبْرَارِ، أَيْ هُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، أَيْ مُتَّكِئُونَ عَلَيْهَا. وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ سَرِيرٍ وَوِسَادَتِهِ وَحَجَلَةٍ مَنْصُوبَةٍ عَلَيْهِمَا، فَلَا يُقَالُ: أَرِيكَةٌ إِلَّا لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا حَبَشِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ

ويَنْظُرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَبْرَارِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَنْظُرُونَ إِمَّا لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِمْ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] وَالتَّقْدِيرُ: يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَنْظُرُونَ كُلَّ مَا يُبْهِجُ نُفُوسَهُمْ ويسرهم بِقَرِينَة مقَام الْوَعْدِ وَالتَّكْرِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ وَنَصْبِ نَضْرَةَ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. أَيْ تَعْرِفُ يَا مَنْ يَرَاهُمْ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «تُعْرَفُ» بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ «نَضْرَةُ» . وَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ جَرَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ فِي اسْتِعْمَالِهِ. وَجَرَتْ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِهِ. وَالْخِطَابُ بِمِثْلِهِ فِي مَقَامِ وَصْفِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الْأَبْرارَ أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ لَهُ. وَالنَّضْرَةُ: الْبَهْجَةُ وَالْحُسْنُ، وَإِضَافَةُ نَضْرَةَ إِلَى النَّعِيمِ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَبَّبِ إِلَى السَّبَبِ، أَيِ النَّضْرَةُ وَالْبَهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ لِوَجْهِ الْمَسْرُورِ الرَّاضِي إِذْ تَبْدُو عَلَى وَجْهِهِ مَلَامِحُ السُّرُورِ. وَجُمْلَةُ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنِ الْأَبْرَارِ أَوْ حَالٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُ. وَعَبَّرَ بِ يُسْقَوْنَ دُونَ: يَشْرَبُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْدُومُونَ يَخْدِمُهُمْ مَخْلُوقَاتٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّرَفُّهِ وَلَذَّةِ الرَّاحَةِ. وَالرَّحِيقُ: اسْمٌ لِلْخَمْرِ الصَّافِيَةِ الطَّيِّبَةِ. وَالْمَخْتُومُ: الْمَسْدُودُ إِنَاؤُهُ، أَيْ بَاطِيَتُهُ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ خَتَمَهُ إِذَا شَدَّ بِصِنْفٍ مِنَ الطِّينِ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَابَةِ إِذَا يَبِسَ فَيَعْسُرُ قَلْعُهُ وَإِذَا قُلِعَ ظَهَرَ أَنَّهُ مَقْلُوعٌ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلْخَتْمِ عَلَى الرَّسَائِلِ لِئَلَّا يَقْرَأَ حَامِلُهَا مَا فِيهَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ مِنْ كَرَمِ الْكِتَابِ خَتْمُهُ وَيَجْعَلُونَ عَلَامَةً عَلَيْهِ، تُطْبَعُ فِيهِ وَهُوَ رَطْبٌ فَإِذَا يَبِسَ تَعَذَّرَ فَسْخُهَا، وَيُسَمَّى مَا تُطْبَعُ بِهِ خَاتَمًا بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَانَ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ خَوَاتِيمَ يَضَعُونَهَا فِي أَحَدِ الْخِنْصَرَيْنِ لِيَجِدُوهَا عِنْدَ إِصْدَارِ الرَّسَائِلِ عَنْهُمْ، قَالَ جَرِيرٌ:

يَكْفِي الْخَلِيفَةَ أَنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ وَالْخِتَامُ بِوَزْنِ كِتَابٍ: اسْمٌ لِلطِّينِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ كَانُوا يَجْعَلُونَ طِينَ الْخِتَامِ عَلَى مَحَلِّ السِّدَادِ مِنَ الْقَارُورَةِ أَوِ الْبَاطِيَةِ أَوِ الدَّنِّ لِلْخَمْرِ لِمَنْعِ تَخَلُّلِ الْهَوَاءِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَصْلَحُ لِاخْتِمَارِهَا وَزِيَادَةِ صَفَائِهَا وَحِفْظِ رَائِحَتِهَا. وَجُعِلَ خِتَامُ خَمْرِ الْجَنَّةِ بِعَجِينِ الْمِسْكِ عِوَضًا عَنْ طِينِ الْخَتْمِ. وَالْمِسْكُ مَادَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ ذَاتُ عَرْفٍ طَيِّبٍ مَشْهُورٍ طِيبُهُ وَقُوَّةُ رَائِحَتِهِ مُنْذُ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَتَكَوَّنُ فِي غُدَّةٍ مَمْلُوءَةٍ دَمًا تَخْرُجُ فِي عُنُقِ صِنْفٍ مِنَ الْغَزَالِ فِي بِلَادِ التِّيبِيتِ مِنْ أَرْضِ الصِّينِ فَتَبْقَى مُتَّصِلَةً بِعُنُقِهِ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ فَتَسْقُطُ فَيَلْتَقِطُهَا طُلَّابُهَا وَيَتَّجِرُونَ فِيهَا. وَهِيَ جِلْدَةٌ فِي شَكْلِ فَأْرٍ صَغِيرٍ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ. وَفُسِّرَ خِتامُهُ مِسْكٌ بِأَنَّ الْمَعْنَى خِتَامُ شُرْبِهِ، أَيْ آخِرُ شُرْبِهِ مِسْكٌ، أَيْ طَعْمُ الْمِسْكِ بِمَعْنَى نَكْهَتِهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ ابْنِ مُقْبِلٍ: مِمَّا يُعَتِّقُ فِي الْحَانُوتِ قَاطِفُهَا ... بِالْفُلْفُلِ الْجَوْنِ وَالرُّمَّانِ مَخْتُومُ أَيْ يَنْتَهِي بِلَذْعِ الْفُلْفُلِ وَطَعْمِ الرُّمَّانِ. وَجُمْلَةُ: خِتامُهُ مِسْكٌ نَعْتٌ لِ رَحِيقٍ أَوْ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ، أَوِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ وَصْفِ الرَّحِيقِ بِأَنَّهُ مَخْتُومٍ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ خِتَامِهَا أَيُّ شَيْءٍ هُوَ مِنْ أَصْنَافِ الْخِتَامِ لِأَنَّ غَالِبَ الْخِتَامِ أَنْ يَكُونَ بِطِينٍ أَوْ سِدَادٍ. وَجُمْلَةُ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خِتامُهُ مِسْكٌ وَجُمْلَةِ وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ التَّرْكِيبِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَقِيقٌ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَذَلِكَ أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً فَقَوْلُهُ: وَفِي ذلِكَ هُوَ مَبْدَأُ الْجُمْلَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ أَيْ وَفِي ذَلِكَ الرَّحِيقِ فَلْيَتَنَافَسِ النَّاسُ لَا فِي رَحِيقِ الدُّنْيَا الَّذِي يَتَنَافَسُ فِيهِ أَهْلُ

الْبَذَخِ وَيَجْلِبُونَهُ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ وَيُنْفِقُونَ فِيهِ الْأَمْوَالَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً لم يكن البذخ ويجلبونه من أقاضي الْبِلَاد وينفقون فِيهِ الْأَمْوَال. وَلما كَانَت الْوَاو اعتراضية لَمْ يَكُنْ إِشْكَالٌ فِي وُقُوعِ فَاءِ الْجَوَابِ بَعْدَهَا. وَالْفَاءُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَصِيحَةً، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا عَلِمْتُمُ الْأَوْصَافَ لِهَذَا الرَّحِيقِ فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَفِي ذَلِكَ فَلْتَتَنَافَسُوا فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ هُوَ تَنَافُسُ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ تَنَافُسُ جَمِيعِ الْمُتَنَافِسِينَ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَاءَ جَوَابٍ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ يُؤْذِنُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ كَثِيرًا مَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، كَمَا رُوِيَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» بِجَزْمِ «تَكُونُوا» وَ «يُولَّ» ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَى مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَنَافَسُوا صِيغَةَ أَمْرٍ فِي ذَلِكَ، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُؤَذِنًا بِتَوْكِيدِ فِعْلِ التَّنَافُسِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَرَّتَيْنِ، مَعَ إِفَادَةِ التَّخَصُّصِ بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ. وَجُمْلَةُ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ إِلَخْ وَجُمْلَةِ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَالتَّنَافُسُ: تَفَاعُلٌ مِنْ نَفِسَ عَلَيْهِ بِكَذَا إِذَا شَحَّ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ أَهْلًا لَهُ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَهُوَ الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ الْمَرْغُوبُ فِي تَحْصِيلِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ النَّفْسُ. فَالتَّنَافُسُ حُصُولُ النفاسة بَين مُتَعَدد. وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَتَنافَسِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ. ومِزاجُهُ: مَا يُمْزَجُ بِهِ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ مَازَجَ بِمَعْنَى مَزَجَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَمْزُوجِ بِهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَكَانُوا يَمْزُجُونَ الْخَمْرَ لِئَلَّا تَغْلِبَهُمْ سَوْرَتُهَا فَيُسْرِعُ إِلَيْهِمْ مَغِيبُ الْعُقُولِ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ تَطْوِيلَ حِصَّةِ النَّشْوَةِ لِلِالْتِذَاذِ بِدَبِيبِ السُّكْرِ فِي الْعَقْلِ دُونَ أَنْ يَغُتَّهُ غَتًّا فَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا تُشْرَبُ الْخَمْرُ الْمُعَتَّقَةُ الْخَالِصَةُ تُشْرَبُ مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءٍ مُحْقِبَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ

وَقَالَ حَسَّانُ: يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيضَ عَلَيْهِمُ ... بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ وَتَنَافُسُهُمْ فِي الْخَمْرِ مَشْهُورٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ وَطَفَحَتْ بِهِ أَشْعَارُهُمْ. كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: أَغْلِي السِّبَاءَ بِكُلَّ أَدْكَنِ عَاتِقٍ ... أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وَفُضَّ خِتَامُهَا وتَسْنِيمٍ عَلَمٌ لَعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ سَنَمَ الشَّيْءُ إِذَا جَعَلَهُ كَهَيْئَةِ السَّنَامِ. وُوَجَّهُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ بِأَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ تَصُبُّ عَلَى جِنَانِهِمْ مِنْ عُلُوٍّ فَكَأَنَّهَا سَنَامٌ. وَهَذَا الْعَلَمُ عَرَبِيُّ الْمَادَّةِ وَالصِّيغَةِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ: «هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَة: 17] ، يُرِيدُ لَا يَعْلَمُونَ الْأَشْيَاءَ وَلَا أَسْمَاءَهَا إِلَّا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَلِغَرَابَةِ ذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى تَبْيِينِهِ بِقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، أَيْ حَالُ كَوْنِ التَّسْنِيمِ عينا يشرب مِنْهَا الْمُقَرَّبُونَ. والْمُقَرَّبُونَ: هُمُ الْأَبْرَارُ، أَيْ فَالشَّارِبُونَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ مُقَرَّبُونَ. وَبَاءُ يَشْرَبُ بِهَا إِمَّا سَبَبِيَّةٌ، وَعُدِّيَ فِعْلُ يَشْرَبُ إِلَى ضَمِيرِ الْعَيْنِ بِتَضْمِينِ يَشْرَبُ مَعْنَى: يَمْزُجُ، لِقَوْلِهِ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أَيْ يَمْزُجُونَ الرَّحِيقَ بِالتَّسْنِيمِ. وَإِمَّا بَاءُ الْمُلَابَسَةِ وَفِعْلُ يَشْرَبُ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ الرَّحِيقُ، أَيْ يَشْرَبُونَ الرَّحِيقَ مُلَابِسِينَ لِلْعَيْنِ، أَيْ مُحِيطِينَ بِهَا وَجَالِسِينَ حَوْلَهَا. أَوِ الْبَاءُ بِمَعْنَى (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ وَقَدْ عَدَّهُ الْأَصْمَعِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ مَالِكٍ فِي مَعَانِي الْبَاءِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ. وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَيِّنٍ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ يَكْثُرُ فِيهِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الشُّرْبِ بِالْبَاءِ دُونَ (مِنْ) ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، أَوْ كَانَتِ الْبَاءُ زَائِدَةً كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ يَصِفُ السَّحَابَ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نئيج

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 إلى 35]

[سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 29 إِلَى 35] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَذِه مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْفُجَّارِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] لِأَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إِذْ يتَعَيَّن أَن يكون قَوْله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حِكَايَةَ كَلَام يصدر فِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ تَعْرِيفُ «الْيَوْمِ» بِاللَّامِ وَنَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ يَقْتَضِيَانِ أَنَّهُ يَوْمٌ حَاضِرٌ مُوَقَّتٌ بِهِ الْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ هُوَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يَضْحَكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَهُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ هُوَ يَوْمٌ حَاضِرٌ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ إِيضَاحٍ لِهَذَا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ حِكَايَةُ كَوْنٍ مَضَى، وَكَذَلِكَ مَعْطُوفَاتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: «وَإِذَا مَرُّوا، وَإِذَا انْقَلَبُوا، وَإِذَا رَأَوْهُمْ» فَدَلَّ السِّيَاقُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ حِكَايَةُ قَوْلٍ يُنَادِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَضْرَةِ الْقُدس على رُؤُوس الْأَشْهَادِ. فَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى ثَانِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمَلٍ كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] الْآيَاتِ، مِنْ أَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] إِلَى هُنَا فَهَذِهِ مُتَّصِلَةٌ بِهَا. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا تَضْحَكُونَ، وَهَكَذَا عَلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِجَعْلِ تِلْكَ الْجُمَلِ اعْتِرَاضًا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَبْدَأُ كَلَامٍ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين: 16] وَاقِعٌ مَوْقِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِمَضْمُونِ جملَة: إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين: 16] بِاعْتِبَارِ مَا جَاءَ فِي آخِرِ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فَالتَّعْبِيرُ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا إِذَنْ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ. وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ تَنَاسُبُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18]

إِلَى هُنَا مَزِيدَ اتِّضَاحٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْعِنَايَةَ بِتَوْضِيحِهِ، سِوَى أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ أَوْرَدَ كَلِمَةً مُجْمَلَةً فَقَالَ: «وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْ نِيطَتْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْوَيْلَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ سَاغَ أَنْ يَقُولَ: فَالْيَوْمَ عَلَى حِكَايَةِ مَا يُقَالُ اهـ. وإِذا فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مُسْتَعْمَلٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَة: 92] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: 83] . وَالْمَقْصُود من ذِكْرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِدَةٍ، أَعْقَبَ بِمَا فِيهِ صِفَةٌ لِعَاقِبَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا لِيَعْلَمُوا جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا. وَإِصْدَارُ ذَلِكَ الْمَقَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّشْمِيتِ كَمَا اقْتَضَتْهُ خُلَاصَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَالِافْتِتَاحُ بِ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِصُورَةِ الْكَلَامِ الْمُؤَكَّدِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ الْمُرَادِ إِعْلَانُهُ لِيَتَوَجَّهَ بِذَلِكَ الِافْتِتَاحِ جَمِيعُ السَّامِعِينَ إِلَى اسْتِمَاعِهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ مُهِمٌّ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَخَاصَّةً صَنَادِيدُهُمْ. وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَخِبَابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَبِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ. وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ وَهَذِهِ الصِّلَةِ: الَّذِينَ أَجْرَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَن مَا أخبر بِهِ عَنْهُمْ هُوَ إِجْرَامٌ، وَلِيَظْهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 36] . وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ، وَأَعْظِمْ بالإجرام الْكفْر وَيُؤذن تَرْكِيبُ «كَانُوا يَضْحَكُونَ» بِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ فِي الْمَاضِي، وَصَوْغُ يَضْحَكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ دَيْدَنٌ لَهُمْ.

وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَضْحَكُونَ إِلَى الْبَاعِثِ عَلَى الضَّحِكِ بِحَرْفِ مِنَ هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْدِيَةِ أَفْعَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ عَلَى أَنَّ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ تُشَبِّهُ الْحَالَةَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الضَّحِكِ بِمَكَانٍ يَصْدُرُ عَنْهُ الضَّحِكُ، وَمِثْلُهُ أَفْعَالُ: سَخِرَ مِنْهُ، وَعَجِبَ مِنْهُ. وَمَعْنَى يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ: يَضْحَكُونَ مِنْ حَالِهِمْ فَكَانَ الْمُشْركُونَ لبطرهم يهزأوون بِالْمُؤْمِنِينَ وَمُعْظَمُهُمْ ضِعَافُ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ فِي نَوَادِيهِمْ حِينَ يَتَحَدَّثُونَ بِحَالِهِمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ الضَّحِكِ حَالَةً خَاصَّةً مِنْ أَحْوَالٍ كَانَ الْمَجْرُور اسْم تِلْكَ الْحَالَةِ نَحْوَ: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها [النَّمْل: 19] وَإِذَا كَانَ مَجْمُوعُ هَيْئَةِ الشَّيْءِ كَانَ الْمَجْرُورُ اسْمَ الذَّاتِ صَاحِبَةِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ اسْمَ الذَّاتِ أَجْمَعُ لِلْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْوَالِهَا نَحْوَ: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 110] . وَقَوْلِ عَبْدِ يَغُوثَ الْحَارِثِ: وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... كَأَن لم ترى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيًّا وَالتَّغَامُزُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَمْزِ وَيُطْلَقُ عَلَى جَسِّ الشَّيْءِ بِالْيَدِ جَسًّا مَكِينًا، وَمِنْهُ غَمْزُ الْقَنَاةِ لِتَقْوِيمِهَا وَإِزَالَةُ كُعُوبِهَا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمْزَ رِجْلِي فَقَبَضْتُهُمَا» . وَيُطْلَقُ الْغَمْزُ عَلَى تَحْرِيكِ الطَّرْفِ لِقَصْدِ تَنْبِيهِ النَّاظِرِ لِمَا عَسَى أَنْ يَفُوتَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ فِي الْمَقَامِ وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ يَصِحُّ حَمْلُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَضَمِيرُ مَرُّوا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا فَيَكُونُ ضَمِيرُ بِهِمْ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، وَأَمَّا ضَمِيرُ يَتَغامَزُونَ فَمُتَمَحِّضٌ لِلْعَوْدِ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَالْمَعْنَى: وَإِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَغَامَزُ الْمُجْرِمُونَ حِينَ مُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ وَإِذَا مَرَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِالَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي عُسْرِ حَالِهِمْ يَتَغَامَزُ الْمُجْرِمُونَ حِينَ مُرُورِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَغَامَزُونَ مِنْ دُونِ إِعْلَانِ السُّخْرِيَةِ بِهِمُ اتِّقَاءً لَتَطَاوُلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ بِالسَّبِّ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَانُوا كَثِيرًا بِمَكَّةَ حِينَ نُزُولِ

هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ هَذَا دَأْبُ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يُقَرَّعُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جِيءَ مِنْهُ. يُقَالُ: انْقَلَبَ الْمُسَافِرُ إِلَى أَهْلِهِ وَفِي دُعَاءِ السَّفَرِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ» . وَأَصْلُهُ مُسْتَعَارٌ مَنْ قَلْبِ الثَّوْبِ، إِذَا صَرَفَهُ من وَجه إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، يُقَالُ: قَلَبَ الشَّيْءَ، إِذَا أَرْجَعَهُ. وَأَهْلُ الرَّجُلِ: زَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَذُكِرَ الْأَهْلُ هُنَا لِأَنَّهُمْ يَنْبَسِطُ إِلَيْهِمْ بِالْحَدِيثِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِلى أَهْلِهِمُ دُونَ: إِلَى بُيُوتِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَإِذَا رَجَعَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَخَلَصُوا مَعَ أَهْلِهِمْ تَحَدَّثُوا أَحَادِيثَ الْفُكَاهَةِ مَعَهُمْ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَمِّهِمْ. وَتَكْرِيرُ فِعْلِ: انْقَلَبُوا بِقَوْلِهِ: انْقَلَبُوا فَكِهِينَ مِنَ النَّسْجِ الْجَزْلِ فِي الْكَلَامِ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ فَكِهُوا، أَوْ إِذا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ كَانُوا فَاكِهِينَ. وَذَلِكَ لِمَا فِي إِعَادَةِ الْفِعْلِ مِنْ زِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَاهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ عَلَى إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ إِذَا قُمْتُ قُمْتُ وَإِذَا أَقْعُدُ أَقْعُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ، أَيْ فَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ الثَّانِي جَوَابًا لِلْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حرف الْجَرّ المفادة مِنْهُ الْفَائِدَةُ مثله قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَام كَقَوْلِك الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ اهـ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ.

وَفَاكِهِينَ اسْمُ فَاعِلِ فَاكَهَ، وَهُوَ مِنْ فَكِهِ مِنْ بَابِ فَرِحَ إِذَا مَزَحَ وَتَحَدَّثَ فَأَضْحَكَ، وَالْمعْنَى: فاكهين بالتحدث عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فَاكِهِينَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاكِهِينَ بِصِيغَة الْفَاعِل. وقرأه حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ «فَكِهِينَ» بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ فَكِهَ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلَ فَارِحٍ وَفَرح. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ. وَجُمْلَةُ: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ حَكَتْ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا فِي الْمُؤْمِنِينَ إِذَا شَاهَدُوهُمْ أَيْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأَذَى بِالْإِشَارَاتِ وَبِالْهَيْئَةِ وَبِسُوءِ الْقَوْلِ فِي غَيْبَتِهِمْ وَسُوءِ الْقَوْلِ إِعْلَانًا بِهِ عَلَى مَسَامِعِ الْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، أَمْ كَانَ قَوْلًا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَفْكَهُونَ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَلَوَاتِهِمْ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا فَارَقَ مَضْمُونُ هَذِه الْجُمْلَة مَضْمُون الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ رُؤْيَتِهِمْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ الْمُرُورِ بِهِمْ أَوْ مُشَاهَدَةً فِي مَقَرِّهِمْ. وَمُرَادُهُمْ بِالضَّلَالِ: فَسَادُ الرَّأْيِ. لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْرِفُونَ الضَّلَالَ الشَّرْعِيَّ، أَي هَؤُلَاءِ سيئوا الرَّأْيِ إِذِ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَانْسَلَخُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، وَفَرَّطُوا فِي نَعِيمِ الْحَيَاةِ طَمَعًا فِي نَعِيمٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَقْبَلُوا عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي يَرَاهَا الْمُشْرِكُونَ أَوْهَامًا وَعَنَتَا لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَقْدِرَةِ قَدْرِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَمَا هَمَّهُمْ إِلَّا التَّلَذُّذَ الْجُثْمَانِيَّ. وَكَلِمَةُ إِذا فِي كُلِّ جملَة من الْجمل الثَّلَاث ظرف متعلّق بِالْفِعْلِ الموَالِي لَهُ فِي كل جُمْلَةٍ. وَلَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى بَيَانِ مُفَادِ جُمْلَةِ: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ مَعَ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْمَهَايِمِيُّ فِي «تبصرة الرحمان» : «وَإِذَا رَأَوْهُمْ يُؤْثِرُونَ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَى الْحِسِّيَّةِ» فَقَدَّرَ مَفْعُولًا مَحْذُوفًا لِفِعْلِ رَأَوْهُمْ لِإِبْدَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَضْمُونِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ عَلِمْتَ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ.

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وَجُمْلَةُ: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَلْمِزُوهُمْ بِالضَّلَالِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسِلْهُمْ مُرْسَلٌ لِيَكُونُوا مُوَكَّلِينَ بِأَعْمَالِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُرْسَلِ وَلِذَلِكَ نُفِيَ أَنْ يَكُونُوا أُرْسِلُوا حَافِظِينَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، كُلَّمَا رَأَوْهُمْ يُشْبِهُ حَالَ الْمُرْسَلِ لِيَتَتَبَّعَ أَحْوَالَ أَحَدٍ وَمِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ الْحِرْصُ عَلَى التَّبْلِيغِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُقَيَّضِينَ لِلرِّقَابَةِ عَلَيْهِمْ والاعتناء بصلاحهم. وَالْخَبَر مُسْتَعْمل فِي التهكم بالمشركين، أَي لم يَكُونُوا مقيّضين للرقابة عَلَيْهِم وَالِاعْتِنَاءِ بِصَلَاحِهِمْ. فَمَعْنَى الْحِفْظِ هُنَا الرِّقَابَةُ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِيَتَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالْحِفْظِ وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ (عَلَى) فَيَنْتَفِي حَالُهُمُ الْمُمَثَّلُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على متعلّقه لِلِاهْتِمَامِ بِمُفَادِ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَبِمَجْرُورِهِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَأَفَادَتْ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا كَانَ سَبَبًا فِي جَزَائِهُمْ بِمَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ جَزَاءً وِفَاقًا. وَتَقْدِيمُ «الْيَوْمِ» عَلَى يَضْحَكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ الْأَبَدِيِّ وَقَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فِي اتِّصَالِ نَظْمِهِ بِمَا قَبْلَهُ غُمُوضٌ. وَسَكَتَ عَنْهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَدَا ابْنَ عَطِيَّةَ. ذَلِكَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْيَوْمِ بِاللَّامِ مَعَ كَوْنِهِ ظَرْفًا مَنْصُوبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْيَوْمَ مُرَادٌ بِهِ يَوْمٌ حَاضِرٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ نَظِيرَ وَقْتِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا قَالَ: الْيَوْمَ يَكُونُ كَذَا، يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ يَوْمِهِ الْحَاضِرِ، فَلَيْسَ ضَحِكُ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْكُفَّارِ بِحَاصِلٍ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ بِمَعْنَى: فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَى النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ فَيَوْمَئِذٍ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. وَابْنُ عَطِيَّةَ اسْتَشْعَرَ إِشْكَالَهَا فَقَالَ

[سورة المطففين (83) : آية 36]

: «وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْ نِيطَتْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْوَيْلَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ سَاغَ أَنْ يَقُولَ: فَالْيَوْمَ عَلَى حِكَايَةِ مَا يُقَالُ يَوْمَئِذٍ وَمَا يَكُونُ اهـ. وَهُوَ انْقِدَاحُ زِنَادٍ يَحْتَاجُ فِي تَنَوُّرِهِ إِلَى أَعْوَادٍ. فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَ مَا قَبْلَهُ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] إِلَى هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهُ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَالتَّقْدِيرُ: يُقَال لَهُمُ الْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنْكُمْ. وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَالْيَوْمَ يَضْحَكُ الَّذِينَ آمَنُوا، لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أَيْ زَالَ اسْتِهْزَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَالْيَوْمَ الْمُؤْمِنُونَ يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ دُونَ الْعَكْسِ. وَتَقْدِيمُ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ يَضْحَكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَضْحُوكِ مِنْهُمْ تَعْجِيلًا لِإِسَاءَتِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا التَّقْرِيعِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْكُفَّارِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: مِنْهُمْ يَضْحَكُونَ، لِمَا فِي الْوَصْفِ الْمُظْهَرِ مِنَ الذَّمِّ لِلْكُفَّارِ. وَمَفْعُولُ يَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ تَقْدِيره: ينظرونهم، أَيْ يُشَاهِدُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْعَذَاب والإهانة. [36] [سُورَة المطففين (83) : آيَة 36] هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36) فَذْلَكَةٌ لِمَا حُكِيَ مِنِ اعْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْمَعْنَى فَقَدْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ النِّدَاءِ الَّذِي يُعَلَّقُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ تقريري وتعجيب مِنْ عَدَمِ إِفْلَاتِهِمْ مِنْهُ بَعْدَ دُهُورٍ.

وَالِاسْتِفْهَامُ مِنْ قَبِيلِ الطَّلَبِ فَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ. وَالْخِطَابُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ بَلْ إِلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ ذَلِكَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وثُوِّبَ أُعْطِيَ الثَّوَابَ، يُقَالُ: ثَوَّبَهُ كَمَا يُقَال: أثابه، إِذا أَعْطَاهُ ثَوَابًا. وَالثَّوَابُ: هُوَ مَا يُجَازَى بِهِ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى فِعْلٍ مَحْمُودٍ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ كَمَا فِي «الصِّحَاحِ» ، وَهُوَ ظَاهِرُ «الْأَسَاسِ» وَلِذَلِكَ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي جَزَاءِ الشَّرِّ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي جَزَاءِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. أَرَادَ إِنَّهُ يُسْتَعَارُ لِجَزَاءِ الشَّرِّ بِكَثْرَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ عَلَاقَةٍ وَقَرِينَةٍ وَهِيَ هُنَا قَوْلُهُ: الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا ... فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونًا وَمِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] . وَمَا كانُوا يَفْعَلُونَ مَوْصُولٌ وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ ثُوِّبَ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ أَعْطَى. وَلَيْسَ الْجَزَاءُ هُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِمُعَادَلَتِهِ شِدَّةَ جُرْمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُحَسِّنُ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ لِأَنَّهَا جَامِعٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ.

84- سورة الانشقاق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 84- سُورَةُ الِانْشِقَاقِ سُمِّيَتْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ: «سُورَةُ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» . فَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا» . فَضَمِيرُ «فِيهَا» عَائِدٌ إِلَى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] بِتَأْوِيلِ السُّورَةِ، وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا فِي «الْإِتْقَانِ» . وسماها الْمُفَسِّرُونَ وَكُتَّابُ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ الِانْشِقَاقِ» بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا سُمِّيَتِ السُّورَةُ السَّابِقَةُ «سُورَةَ التَّطْفِيفِ» وَ «سُورَةَ انْشَقَّتْ» اخْتِصَارًا. وَذَكَرَهَا الْجَعْبَرِيُّ فِي «نَظْمِهِ» فِي تَعْدَادِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ بِلَفْظِ «كَدْحٍ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّور ذَوَات أَكثر مِنِ اسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةَ وَالثَمَانِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْفِطَارِ وَقَبْلَ سُورَةِ الرُّومِ. وَعَدَّ آيِهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ أَهْلُ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ ثَلَاثًا وَعشْرين. أغراضها ابْتُدِئَتْ بِوَصْفِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَحُلُولِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ أَهْلِ نَعِيمٍ وَأهل شقاء.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 إلى 6]

[سُورَة الانشقاق (84) : الْآيَات 1 إِلَى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) قُدِّمَ الظَّرْفُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ كادِحٌ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ وَأَوَّلُ الْكَلَامِ فِي الِاعْتِبَارِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ إِلَخْ. وَلَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ إِذَا بِجُزْءٍ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّكَ كادِحٌ وَكَانَتْ إِذَا ظَرْفًا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ صَارَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ جَوَابًا لِشَرْطِ إِذَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِذَا ظَرْفٌ خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِهِ، أَيْ خَافِضٌ لِجُمْلَةِ شَرْطِهِ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهَا مَنْصُوبًا بِجَوَابِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَكِلَاهُمَا عَامِلٌ وَمَعْمُولٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ. وإِذَا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ إِذَا مُؤَوَّلٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَصِيَغَ بِالْمُضِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ أَصْلَ إِذَا الْقَطْعُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ. وَانْشَقَّتْ مُطَاوِعُ شَقَّهَا، أَيْ حِينَ يَشُقُّ السَّمَاءَ شَاقٌّ فَتَنْشَقُّ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ شَقَّهَا فَانْشَقَّتْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَالِانْشِقَاقُ هَذَا هُوَ الِانْفِطَارُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] وَهُوَ انْشِقَاقٌ يَلُوحُ لِلنَّاسِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنْ جَرَّاءِ اخْتِلَالِ تَرْكِيبِ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ أَوْ مِنْ ظُهُورِ أَجْرَامٍ كَوْكَبِيَّةٍ تَخْرُجُ عَنْ دَوَائِرِهَا الْمُعْتَادَةِ فِي الْجَوِّ الْأَعْلَى فَتَنْشَقُّ الْقُبَّةُ الْهَوَائِيَّةُ فَهُوَ انْشِقَاقٌ يَقَعُ عِنْدَ اخْتِلَالِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ. وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ الشَّرْطِيُّ، أَيْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، زِيَادَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِذَا فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنْ قَصْدِ الْجَزْمِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِنَّ) . وَأَذِنَتْ، أَيِ اسْتَمَعَتْ، وَفِعْلُ أَذِنَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ

الْأُذُنِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ آلَةُ السَّمْعِ فِي الْإِنْسَانِ يُقَالُ أُذُنٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ: اسْتَمِعْ لَهُ، أَيْ أَصْغَى إِلَيْهِ أُذُنَهُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي التَّأَثُّرِ لِأَمْرِ اللَّهِ التَّكْوِينِيِّ بِأَنْ تَنْشَقَّ. وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِعَارَةٍ تَبَعِيَّةٍ (¬1) وَلَا تَمْثِيلِيَّةٍ (¬2) . وَالتَّعْبِيرُ بِ «رَبهَا» دون غير ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَطُرُقِ تَعْرِيفِهِ، لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ الرَّبِّ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ. وَجُمْلَةُ: وَحُقَّتْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المعطوفة والمعطوف عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: وَهِيَ مَحْقُوقَةٌ بِأَنْ تَأْذَنَ لِرَبِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ سُلْطَانِ قُدْرَتِهِ وَإِنْ عَظُمَ سُمْكُهَا وَاشْتَدَّ خَلْقُهَا وَطَالَ زَمَانُ رَتْقِهَا فَمَا ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهَا، فَهُوَ الَّذِي إِذَا شَاءَ أَزَالَهَا. فَمُتَعَلِّقُ حُقَّتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها، أَيْ وَحُقَّتْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادِ وَالتَّأَثُّرِ يُقَالُ: حُقَّ فُلَانٌ بِكَذَا، أَيْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلَمَّا كَانَ فَاعِلُ تَوْجِيهِ الْحَقِّ غَيْرَ وَاضِحٍ تَعْيِينُهُ غَالِبا، كَانَ فَهَل حُقَّ بِكَذَا، مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمَرْفُوعُهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَيُقَالُ: حَقِيقٌ عَلَيْهِ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: 105] وَهُوَ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، قَالَ الْأَعْشَى: لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ ... وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ مُوَفَّقُ وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ. وَمَدُّ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا يُزَالُ مَا عَلَيْهَا مِنْ جِبَالٍ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ فَتَزُولُ انْثِنَاءَاتُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 105- 107] . ¬

(¬1) رد على الخفاجي. (¬2) رد على الطَّيِّبِيّ وسعدي.

وَمِنْ مَعَانِي الْمَدِّ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنِ اتِّسَاعِ مِسَاحَةِ ظَاهرهَا بتشققها بالزلازل وَبُرُوزِ أَجْزَاءٍ مِنْ بَاطِنِهَا إِلَى سَطْحِهَا. وَمِنْ مَعَانِي الْمَدِّ أَنْ يُزَالَ تَكْوِيرُهَا بِتَمَدُّدِ جِسْمِهَا حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الِاسْتِطَالَةِ بَعْدَ التَّكْوِيرِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُؤْذِنُ بِاخْتِلَالِ نِظَامِ سَيْرِ الْأَرْضِ وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الجاذبية وَمَا يُحِيط بِالْأَرْضِ مِنْ كُرَةِ الْهَوَاءِ فَيَعْقُبُ ذَلِكَ زَوَالُ هَذَا الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: وَأَلْقَتْ مَا فِيها صَالِحٌ لِلْحَمْلِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَدِّ الْأَرْضِ وَمُحْتَمِلٌ لِأَنْ تَنْقَذِفَ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ أَجْزَاءٌ أُخْرَى يَكُونُ لِانْقِذَافِهَا أَثَرٌ فِي إِتْلَافِ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلَ الْبَرَاكِينِ وَانْدِفَاعِ الصُّخُورِ الْعَظِيمَةِ وَانْفِجَارِ الْعُيُونِ إِلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ طُوفَانٌ. وَتَخَلَّتْ أَيْ أَخْرَجَتْ مَا فِي بَاطِنهَا فَلَمَّا يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ فِعْلَ تَخَلَّى يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْخُلُوِّ عَنْ شَيْءٍ لِمَا فِي مَادَّةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَكَلُّفِ الْفِعْلِ كَمَا يُقَالُ تَكَرَّمَ فُلَانٌ إِذَا بَالَغَ فِي الْإِكْرَامِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِمَّا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ آنِفًا. وَجُمْلَةُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلَى آخِرِهِ جَوَابُ إِذَا بِاعْتِبَارِ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمُلاقِيهِ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى الْمُبَرِّدِ، أَيْ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ الْأَخِيرَ بِالْفَاءِ فِي الْأَخْبَارِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِمَّا ذُكِرَ مَعَهُ. فَالْمَعْنَى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ لَاقَيْتَ رَبَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بَعْدَ كَدْحِكَ لِمُلَاقَاتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ كادِحٌ إِدْمَاجًا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ أَمَامَ الْمَقْصُودِ. وَجَوَّزَ الْمُبَرِّدُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمُلاقِيهِ وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ إِلَى آخِرِهِ لَاقَيْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ رَبَّكَ. وَجَوَّزُ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا قَوْلَهُ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَإِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ فِي

الْجَوَابِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُقْحِمُ الْوَاوَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِذا بَعْدَ (حَتَّى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] أَوْ بَعْدَ (لَمَّا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ [الصافات: 103، 104] الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: 7] ، وَنُسِبَ إِلَى الْكِسَائِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْإِنْسانُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق: 15] . وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ. فَالْخِطَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ زِيَادَةٌ لِلْإِنْذَارِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ تَذْكِيرٌ وَتَبْشِيرٌ. وَقِيلَ: أُرِيدَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ فَقِيلَ: هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ (بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ فِي «الِاسْتِيعَاب» و «الْإِصَابَة» وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا ضَبَطَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ هُوَ فِي «جَامِعِ الْأُصُولِ» بِالْمُهْمَلَةِ) ، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا سَبَبَ النُّزُولِ أَوْ هُوَ مَلْحُوظٌ ابْتِدَاءً. وَالْكَدْحُ: يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لَا نَتَحَقَّقُ أَيُّهَا الْحَقِيقَةُ، وَقَدْ أَهْمَلَ هَذِهِ الْمَادَّةَ فِي «الْأَسَاسِ» فَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّ حَقِيقَتَهُ: إِتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْعَمَلِ وَالْكَدِّ. وَتَعْلِيقُ مَجْرُورِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَمَلٌ يَنْتَهِي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ كادِحٌ مَعْنَى سَاعٍ لِأَنَّ كَدْحَ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ يَتَطَلَّبُونَ بِعَمَلِ الْيَوْمِ عَمَلًا لغد وَهَكَذَا، وَذَلِكَ يَتَقَضَّى بِهِ زَمَنُ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ أَجَلُ حَيَاةِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَيَعْقُبُهُ الْمَوْتُ الَّذِي هُوَ رُجُوعُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِلَى مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ، فَلَمَّا آلَ سَعْيُهُ وَكَدْحُهُ إِلَى الْمَوْتِ جُعِلَ كَدْحُهُ إِلَى رَبِّهِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكَ كَادِحٌ تَسْعَى إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ لِقَاءُ رَبِّكَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ حَرْفِ (إِنَّ) ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ كادِحٌ مَعْنَى مَاشٍ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا لَغْوًا. وكَدْحاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلِقَةِ لِتَأْكِيدِ كادِحٌ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ، أَيْ سَاعٍ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ وَلَا مَفَرَّ.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 7 إلى 15]

وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي «مُلَاقِيهِ» عَائِدٌ إِلَى الرَّبِّ، أَيْ فَمُلَاقٍ رَبَّكَ، أَيْ لَا مَفَرَّ لَكَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ أُكِّدَ الْخَبَر بإن. [7- 15] [سُورَة الانشقاق (84) : الْآيَات 7 إِلَى 15] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) هَذَا تَفْصِيلُ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6] أَيْ رُجُوعُ جَمِيعِ النَّاسِ أُولَئِكَ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَرِيقٌ آخَرُ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ، وَبَيْنَ مُنْتَهَاهُمَا مَرَاتِبُ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْسِيمِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ أَتْقِيَاءَ وَمُشْرِكِينَ. وَالْكِتَابُ: صَحِيفَةُ الْأَعْمَالِ، وَجُعِلَ إِيتَاؤُهُ إِيَّاهُ بِيَمِينِهِ شِعَارًا لِلسَّعَادَةِ لِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ أَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى تَتَنَاوَلُ الْأَشْيَاءَ الزَّكِيَّةَ وَهَذَا فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ نَشَأَ عَنْ كَوْنِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْجَسَدِ أَقْدَرُ وَأَبْدَرُ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ الْعَزْمُ بِعَمَلِهِ فَارْتَكَزَ فِي النُّفُوسِ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ حَتَّى سَمَّوُا الْبَرَكَةَ وَالسَّعَادَةَ يُمْنًا، وَوَسَمُوا ضِدَّهَا بِالشُّؤْمِ فَكَانَتْ بَرَكَةُ الْيَمِينِ مِمَّا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَصْلِ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [28] ، وَقَوْلِهِ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 27] . وَقَوله: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَة [41] ، وَقَوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ فِي سُورَة الْوَاقِعَةِ [8، 9] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِيَمِينِهِ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى (فِي) ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ أُوتِيَ وَحَرْفُ (سَوْفَ) أَصْلُهُ لِحُصُولِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ

الْمُسْتَقْبَلُ الْبَعِيدُ وَذَلِكَ هُوَ الشَّائِعُ، وَيُقْصَدُ بِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْبَلِيغِ تَحَقُّقُ حُصُولِ الْفِعْلِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [98] ، وَهُوَ هُنَا مُفِيد للتحقق وَالِاسْتِمْرَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ الْقَابِلِ لِلِاسْتِمْرَارِ وَهُوَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [30] . وَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ: هُوَ عَرْضُ أَعْمَالِهِ عَلَيْهِ دُونَ مُنَاقَشَةٍ فَلَا يَطُولُ زَمَنُهُ فَيُعَجَّلُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَعْمَالُهُ صَالِحَةً، فَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ. ومَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ هُوَ الْكَافِرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، أَيْ يُعْطَى كِتَابَهُ مِنْ خَلْفِهِ فَيَأْخُذُهُ بِشَمَالِهِ تَحْقِيرًا لَهُ وَيُنَاوَلُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِظْهَارًا لِلْغَضَبِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ مُنَاوِلُهُ كِتَابَهُ إِلَى وَجْهِهِ. وَظَرْفُ وَراءَ ظَهْرِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كِتابَهُ ويَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أَيْ يَرْجِعُ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جِيءَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ. وَالْأَهْلُ: الْعَشِيرَةُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَبْنَاءٍ وَقَرَابَةٍ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُحَاسَبِ حِسَابًا يَسِيرًا فِي الْمَسَرَّةِ وَالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ بَعْدَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، بِحَالِ الْمُسَافِرِ لِتِجَارَةٍ حِينَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا رَابِحًا لِمَا فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا مِنْ وَفْرَةِ الْمَسَرَّةِ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالسَّلَامَةِ وَلِقَاءِ الْأَهْلِ وَكُلِّهِمْ فِي مَسَرَّةٍ، فَذَلِكَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْهَيْأَتَيْنِ وَهُوَ السُّرُورُ الْمَأْلُوفُ لِلْمُخَاطَبِينَ فَالْكَلَامُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ رُجُوعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ قَبْلُ حَتَّى يُقَالَ لِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ انْقِلَابٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ أَهْلٌ. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ الرَّاحَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَارَقَ الْمَتَاعِبَ زَمَانٌ.

وَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ فِي قَوْله: يَدْعُوا ثُبُوراً النِّدَاءُ، أَيْ يُنَادِي الثُّبُورَ بِأَنْ يَقُولَ: يَا ثُبُورِي، أَوْ يَا ثُبُورًا، كَمَا يُقَالُ: يَا وَيْلِيَ وَيَا وَيْلَتَنَا. وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَسُوءُ الْحَالِ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا مَنْ وَقَعَ فِي شَقَاءٍ وَتَعْسٍ. وَالنِّدَاءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّوَجُّعِ مِنْ مَعْنَى الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ حَرْفِ النِّدَاءِ. وَيَصْلى قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ صَلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَيَصْلى بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مُضَارِعُ صَلِيَ اللَّازِمِ إِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ كَقَوْلِهِ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: 15] . وَانْتَصَبَ سَعِيراً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ بِتَقْدِيرِ يَصْلَى بِسَعِيرٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا لَفْظُ النَّارِ وَنَحْوُهُ مَنْصُوبًا بَعْدَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الصِّلِيِّ وَالتَّصْلِيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [10] فَانْظُرْهُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ انْقَلَبَتْ مِنْ ذَلِكَ السُّرُورِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِمَا حُكِيَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: 31] فَآلُوا إِلَى أَلَمِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى دَعَوْا بِالثُّبُورِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ مِنْ شَأْنِ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّعْجِيبِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: «إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ» (أَيْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ إِلَى آخِرِهَا. وَحَرْفُ (إِنَّ) فِيهَا مُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّعْلِيلِ، فَالْمَعْنَى: يَصْلَى سَعِيرًا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، أَيْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ، يُقَالُ: حَارَ

يَحُورُ، إِذَا رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى حَالَةٍ كَانَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَهُوَ مِنَ الْمجَاز الشَّائِع مثل إِطْلَاقِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ [يُونُس: 23] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: 8] وَسُمِّيَ يَوْمُ الْبَعْثِ يَوْمَ الْمَعَادِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ وَتَأْيِيدِهِ لِحِكَايَةِ جَزْمِهِمْ وَقَطْعِهِمْ بِنَفْيِهِ. وَحَرْفُ بَلى يُجَابُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَنْفِيُّ لِإِبْطَالِ نَفْيِهِ وَأَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ النَّفْيِ نَحْوَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَاف: 172] وَيَقَعُ بَعْدَ غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] . وَمَوْقِعُ بَلى الِاسْتِئْنَافُ كَأَحْرُفِ الْجَوَابِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً مُبَيِّنَةٌ لِلْإِبْطَالِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ بَلى عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ يَعْنِي أَنَّ ظَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ رَبَّهُ أَنْبَأَهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّهُ عَلِيمٌ بِمَآلِهِ. وَتَأْكِيدُ ذَلِكَ بِحَرْفِ إِنَّ لِرَدِّهِ إِنْكَارَهُ الْبَعْثَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآلَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَرْفِ الْإِبْطَالِ وَمِنْ حَرْفِ التَّأْكِيدِ إِلَى مَعْنَى: أَنَّ رَبَّهُ بَصِيرٌ بِهِ وَأَمَّا هُوَ فَغَيْرُ بَصِيرٍ بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 216] . وَتَعْدِيَةُ بَصِيراً بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ بَصُرَ الْقَاصِرِ بِضَمِّ الصَّادِ بِهِ إِذَا رَآهُ رُؤْيَةً مُحَقَّقَةً، فَالْبَاءُ فِيهِ مَعْنَاهَا الْمُلَابَسَةُ أَوِ الْإِلْصَاقُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِكْمَةِ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّ رَبَّ النَّاسِ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ فَمِنْهُمُ الْمُصْلِحُ وَمِنْهُمُ الْمُفْسِدُ وَالْكُلُّ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَذْهَبَ الْمُفْسِدُ بِفَسَادِهِ وَمَا أَلْحَقَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ مِنْ مَضَارَّ وَأَنْ يُهْمَلَ صَلَاحُ الْمُصْلِحِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَجَعَلَهَا لِلْجَزَاءِ عَلَى مَا قَدَّمَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ الْأُولَى. وَأُطْلِقَ الْبَصَرُ هُنَا عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ بِالشَّيْءِ.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 إلى 19]

وَعُلِّقَ وَصْفُ (بَصِيرٍ) بِضَمِيرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، وَالْمُرَادُ: الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ لَا بِذَاتِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَجْرُورِ أَيْ بَصِيرٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ مَعَ مُرَاعَاة الفواصل. [16- 19] [سُورَة الانشقاق (84) : الْآيَات 16 إِلَى 19] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: 7] إِلَى هُنَا: فَإِنَّهُ اقْتَضَى أَنَّ ثَمَّةَ حِسَابًا وَجَزَاءً بِخَيْرٍ وَشَرٍّ فَكَانَ هَذَا التَّفْرِيعُ فَذْلَكَةً وَحَوْصَلَةً لِمَا فُصِّلَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَكَانَ أَيْضًا جَمْعًا إِجْمَالِيًّا لِمَا يَعْتَرِضُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ: «لَا أُقْسِمُ» يُرَادُ مِنْهُ أُقْسِمُ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالْمَخْلُوقَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [15] . وَمُنَاسَبَةُ الْأُمُورِ الْمُقْسَمِ بِهَا هُنَا لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّفَقَ وَاللَّيْلَ وَالْقَمَرَ تُخَالِطُ أَحْوَالًا بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَظُهُورِ النُّورِ مَعَهَا، أَوْ فِي خِلَالِهَا، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَحْوَال الَّتِي يختبط فِيهَا النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ ظُهُورِ أَحْوَال خير من خِلَالِ أَحْوَالِ شَرٍّ أَوِ انْتِظَارِ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ إِلَى مَا يُرْضِيهِمْ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً كَمَا سَيَأْتِي. وَلَعَلَّ ذِكْرَ الشَّفَقِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ حَالَةَ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ مِثْلُ حَالَةِ الْمَوْتِ، وَأَنَّ ذِكْرَ اللَّيْلِ إِيمَاءٌ إِلَى شِدَّةِ الْهَوْلِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَذِكْرَ الْقَمَرِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالشَّفَقُ: اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي أُفُقِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِثْرَ غُرُوبِهَا وَهُوَ ضِيَاءٌ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا حَجَبَهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ بَعْضُ جَرْمِ الْأَرْضِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ عَقِبَ الِاحْمِرَارِ شَفَقًا.

وَ (مَا وَسَقَ) (مَا) فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولَةً عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ. وَالْوَسْقُ: جَمْعُ الْأَشْيَاء بَعْضهَا إِلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا جَمَعَ مِمَّا كَانَ مُنْتَشِرًا فِي النَّهَارِ مِنْ نَاسٍ وَحَيَوَانٍ فَإِنَّهَا تَأْوِي فِي اللَّيْلِ إِلَى مَآوِيهَا وَذَلِكَ مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْ طَلَبِ الْأَحْيَاءِ السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَص: 73] ، وَذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّكْوِينِ فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِهِ قَسَمًا أُدْمِجَتْ فِيهِ مِنَّةٌ. وَقِيلَ: مَا وَسَقَهُ اللَّيْلُ: النُّجُومُ، لِأَنَّهَا تَظْهَرُ فِي اللَّيْلِ، فَشَبَّهَ ظُهُورَهَا فِيهِ بِوَسْقِ الْوَاسِقِ أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَهَذَا أَنْسَبُ بِعَطْفِ الْقَمَرِ عَلَيْهِ. وَاتِّسَاقُ الْقَمَرِ: اجْتِمَاعُ ضِيَائِهِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْوَسْقِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ، وَتَقْيِيدُ الْقَسَمِ بِهِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ بِضِيَائِهِ. وَأَصْلُ فعل اتّسق: اَوْ تسق قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً فَوْقِيَّةً طَلَبًا لِإِدْغَامِهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ وَهُوَ قَلْبٌ مُطَّرِدٌ. وَجُمْلَةُ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ نُسِجَ نَظْمُهَا نَسْجًا مُجْمَلًا لِتَوْفِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي تَذْهَبُ إِلَيْهَا أَفْهَامُ السَّامِعِينَ، فَجَاءَتْ عَلَى أَبْدَعِ مَا يُنْسَجُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُرْسَلُ إِرْسَالَ الْأَمْثَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ الْبَدِيعِ النَّسْجِ الْوَافِرِ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ تَأْوِيلَاتُ الْمُفَسِّرِينَ لَهَا. فَلِمَعَانِي الرُّكُوبِ الْمَجَازِيَّةِ، وَلِمَعَانِي الطَّبَقِ مِنْ حَقِيقِيٍّ وَمَجَازِيٍّ، مُتَّسَعٌ لِمَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ مَا جَعَلَ لِإِيثَارِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُصُوصِيَّةً مِنْ أَفْنَانِ الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ. فَأَمَّا فِعْلُ لَتَرْكَبُنَّ فَحَقِيقَتُهُ مُتَعَذَّرَةٌ هُنَا وَلَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْكَلَامِ أَوِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ فِي الْآيَةِ عِدَّةٌ، مِنْهَا الْغَلَبُ وَالْمُتَابَعَةُ، وَالسُّلُوكُ، وَالِاقْتِحَامُ، وَالْمُلَازَمَةُ، وَالرِّفْعَةُ.

وَأَصْلُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِمَّا اسْتِعَارَةٌ وَإِمَّا تَمْثِيلٌ يُقَالُ: رَكِبَ أَمْرًا صَعْبًا وَارْتَكَبَ خَطَأً. وَأَمَّا كَلِمَةُ طَبَقٍ فَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي شَيْئًا آخَرَ فِي حَجْمِهِ وَقَدْرِهِ، وَظَاهِرُ كَلَام «الأساس» و «الصِّحَاح» أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِقَيْدِ كَوْنِ الطَّبَقِ أَعْلَى مِنَ الشَّيْءِ لِمُسَاوِيهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الغطاء فَيكون من الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِمَعْنًى مُقَيَّدٍ كَالْخِوَانِ وَالْكَأْسِ، وَظَاهِرُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فَيَكُونُ قَيْدُ الِاعْتِلَاءِ عَارِضًا بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: طَابَقَ النَّعْل النَّعْل. وأيّا مَا كَانَ فَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُطَابَقَةِ كَاشْتِقَاقِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ ثُمَّ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ وَتُنُوسِيَ مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ اسْمَ الطَّبَقِ وَهُوَ الغطاء لوحظ فِيهِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَجَاءَتْ مِنْهُ مَادَّةُ الْمُطَابَقَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فَيَكُونُ مِنَ الْمُشْتَقَّاتِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ. وَيُطْلَقُ اسْمًا مُفْرَدًا لِلْغِطَاءِ الَّذِي يُغَطَّى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ» أَيْ غِطَاءَهُ وَهَذَا مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْغِطَاءَ مُسَاوٍ لِمَا يُغَطِّيهِ. وَيُطْلَقُ الطَّبَقُ عَلَى الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مُلَابِسَةٌ لِصَاحِبِهَا كَمُلَابَسَةِ الطَّبَقِ لِمَا طُبِقَ عَلَيْهِ. وَيُطْلَقُ اسْمًا مُفْرَدًا أَيْضًا عَلَى شَيْءٍ مُتَّخَذٍ مِنْ أُدُمٍ أَوْ عُودٍ وَيُؤْكَلُ عَلَيْهِ وَتُوضَعُ فِيهِ الْفَوَاكِهُ وَنَحْوُهَا، وَكَأَنَّهُ سُمِّيَ طَبَقًا لِأَن أَصله أَن يُسْتَعْمَلُ غِطَاءَ الْآنِيَةِ فَتُوضَعُ فِيهِ أَشْيَاءُ. وَيُطْلَقُ اسْمَ جَمْعٍ لِطَبَقَةٍ: وَهِيَ مَكَانٌ فَوْقَ مَكَانٍ آخَرَ مُعْتَبَرٍ مِثْلُهُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَّا أَنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ يُقَالُ: أَتَانَا طَبَقٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَمَاعَةٌ. وَيُقَارِنُ اخْتِلَافُ مَعَانِي اللَّفْظَيْنِ اخْتِلَافَ مَعْنَى عَنْ مِنْ مُجَاوَزَةٍ وَهِيَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ، أَوْ مِنْ مُرَادَفَةِ كَلِمَةِ (بَعْدَ) وَهُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ وَجْهِ النَّصْبِ لِلَفْظِ طَبَقًا بَيْنَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْحَالِ، وَتَزْدَادُ هَذِهِ الْمَحَامِلُ إِذَا لَمْ تُقْصَرِ الْجُمَلُ عَلَى مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ مِنْ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ آيَةِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الانشقاق: 6] الْآيَاتِ. وَمِنْ وُقُوعِهَا بَعْدَ الْقَسَمِ الْمُشْعِرِ

بِالتَّأْكِيدِ، وَمِنِ اقْتَضَاءِ فِعْلِ الْمُضَارَعَةِ بَعْدَ الْقَسَمِ أَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ. فَتَتَرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ لِتَأْوِيلِ الْآيَةِ. فَقِيلَ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَتَنْوِينُ «طَبَقٍ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وعَنْ بِمَعْنَى (بَعْدَ) وَالْبُعْدِيَّةُ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَهِيَ بُعْدِيَّةُ ارْتِقَاءٍ، أَيْ لَتُلَاقُنَّ هَوْلًا أَعْظَمَ مِنْ هَوْلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: 88] . وَإِطْلَاقُ الطَّبَقِ عَلَى الْحَالَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْحَالَةَ مُطَابِقَةٌ لِعَمَلِ صَاحِبِهَا. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ تَفْسِيرَ الْأَحْوَالِ بِأَنَّهَا أَحْوَالُ مَوْتٍ وَإِحْيَاءٍ، وَحَشْرٍ، وَسَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، وَنَعِيمٍ أَوْ جحيم، كَمَا كتب اللَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ تَكْوِينِهِ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضُعَفَاءُ، أَوْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي تَعْيِينِ الْحَالِ. وَقِيلَ: لَتَرْكَبُنَّ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ عَلَى أَنَّ طبقًا اسْم للمنزلة، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْ لَتَصِيرُنَّ مِنْ طَبَقِ الدُّنْيَا إِلَى طَبَقِ الْآخِرَةِ، أَوْ إِنَّ قَوْمًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَة، فالتنوين فيهمَا للتنويع. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى صَلَاحٍ دَعَاهُ إِلَى صَلَاحٍ آخَرَ وَمَنْ كَانَ عَلَى فَسَادٍ دَعَاهُ إِلَى فَسَادِ فَوْقَهُ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَجُرُّ إِلَى شَكْلِهِ، أَيْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بِالْمَوْعِظَةِ وَتَكُونُ عَنْ عَلَى هَذَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِلْمُجَاوَزَةِ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرُّكُوبُ مَجَازًا فِي السَّيْرِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ لَتَحْضُرُنَّ لِلْحِسَابِ جَمَاعَاتٍ بَعْدَ جَمَاعَاتٍ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة: 30] وَهَذَا تهديد لمنكريه، وَأَن يَكُونُ الرُّكُوبُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُتَابَعَةِ، أَيْ لَتَتَّبِعُنَّ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ: «تَرْكَبُنَّ» بِتَقْدِيرِ: لَيَتَّبِعَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيْ فِي تَصْمِيمِكُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ هُوَ قَوْلُهُ: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ وَيَكُونُ طَبَقاً مَفْعُولًا بِهِ وَانْتِصَابُ طَبَقاً إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (تَرْكَبُنَّ) وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِمَعَانِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 20 إلى 21]

وَمَوْقِعُ عَنْ طَبَقٍ مَوْقِعُ النَّعْتِ لِ طَبَقاً وَمَعْنَى عَنْ إِمَّا الْمُجَاوزَة، وَإِمَّا مُرَادِفَةٌ مَعْنَى (بَعْدَ) وَهُوَ مجَاز ناشىء عَنْ مَعْنَى الْمُجَاوزَة، وَلذَلِك لما ضَمَّنَ النَّابِغَةُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: «وَرِثُوا الْمَجْدَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ» غَيَّرَ حَرْفَ (عَنْ) إِلَى كَلِمَةَ (بَعْدَ) فَقَالَ: لِآلِ الْجِلَاحِ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرٍ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَتَرْكَبُنَّ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى خِطَابِ النَّاسِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الانشقاق: 6] . وَحُمِلَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّاءَ الْفَوْقِيَّةَ تَاءُ الْمُؤَنَّثَةِ الْغَائِبَةِ وَأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ تَعْتَرِيهَا أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ مِنَ الِانْشِقَاقِ وَالطَّيِّ وَكَوْنُهَا مَرَّةً كَالدِّهَانِ وَمَرَّةً كَالْمُهْلِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: هِيَ عِدَةٌ بِالنَّصْرِ، أَيْ لَتَرْكَبُنَّ أَمْرَ الْعَرَبِ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ وَفَتْحًا بَعْدَ فَتْحٍ كَمَا وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ (أَيْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ حِينَ قَوِيَ جَانِبُ الْمُسْلِمِينَ) فَيَكُونُ بِشَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بِالْفَاءِ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: 14] وَجُمْلَةِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: 20] . وَهَذَا الْوَجْهُ يَجْرِي عَلَى كلتا الْقِرَاءَتَيْن. [20، 21] [سُورَة الانشقاق (84) : الْآيَات 20 إِلَى 21] فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) وَيجوز أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْوَالِ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ كُلُّ مَنْ تَحِقُّ فِيهِ الصِّلَةُ فَجَرَى الضَّمِيرُ عَلَى مَدْلُولِ (مَنْ) وَهُوَ الْجَمَاعَةُ. وَالْمَعْنَى: فَمَا لَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَهْوَالَ يَوْمِ لِقَاءِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6] ، أَيْ إِذَا تَحَقَّقْتَ ذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْإِنْكَار والتعجيب خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ

شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِمَوْعِظَتِهِمْ أَهَمُّ فَالضَّمِيرُ الْتِفَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِالْمُشْرِكِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أَهَمُّ فِي هَذِهِ الْمَوَاعِظِ. وَالضَّمِيرُ أَيْضًا الْتِفَاتٌ. وَيَجُوزُ تَفْرِيعُهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْقَسَمُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُقْسَمِ بِهَا بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ الْقَسَمِ بِهَا أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفَرُّدِهِ بِالْأُلْهِيَّةِ فَفِي ذِكْرِهَا تَذْكِرَةٌ بِدَلَالَتِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَالِالْتِفَاتُ هُوَ هُوَ. وَتَرْكِيبُ «مَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» يَشْتَمِلُ عَلَى (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مُخْبِرٌ عَنْهَا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ لَهُمْ حَالٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَفِي إِنْكَارِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الْعَجِيبِ الْمُنْكَرِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَعْنَى التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ. وَجُمْلَةُ: لَا يُؤْمِنُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَإِنَّهَا لَوْ وَقَعَ فِي مَكَانِهَا اسْمٌ لَكَانَ مَنْصُوبًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88] وَالْحَالُ هِيَ مَنَاطُ التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَرْكِيبِهِ وَفِي الصِّيَغِ الَّتِي وَرَدَ عَلَيْهَا أَمْثَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] . وَمُتَعَلِّقُ يُؤْمِنُونَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَيَجُوزُ تَنْزِيلُ فِعْلِ يُؤْمِنُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ لَا يَتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ، أَيْ مَا سَبَبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤمنين، لظُهُور الدَّلَائِل عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: التَّعْجِيبُ وَالْإِنْكَارُ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ صِدْقِ مَا دُعُوا إِلَيْهِ وَأُنْذِرُوا بِهِ.

وَ (لَا يَسْجُدُونَ) عُطِفَ عَلَى لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ ظَرْفٌ قُدِّمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَنْوِيهِ شَأْنِ الْقُرْآنِ. وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهُ تَبْلِيغٍ وَدَعْوَةٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَادًا وَقَدْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ: «لَا تَغُشُّنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا» وَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ. وَالسُّجُودُ مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَن: 6] وَقَوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النَّحْل: 48] ، أَي إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَخْضَعُونَ لِلَّهِ وَلِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَحُجَّتِهِ، وَلَا يُؤمنُونَ بحقيته وَدَلِيلُ هَذَا الْمَعْنَى مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: 22] . وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ سَجْدَةً مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ سُجُودَاتِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاجِبَةٌ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ عزائم السُّجُود المسنونة إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَهِيَ الَّتِي رُوِيَتْ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَإِنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ غَيْرَ الْإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً رُوِيَتْ فِيهَا أَخْبَارٌ أَنَّهَا سَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا مِنْهَا هَذِهِ وَعَارَضَتْهَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى فَهِيَ: إِمَّا قَدْ تَرَكَ سُجُودَهَا، وَإِمَّا لَمْ يُؤَكِّدْ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ السُّجُودُ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ اهـ. قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ ذَلِكَ فِي السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْإِحْدَى عَشْرَةَ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ عَزَائِمَ السُّجُودِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِزِيَادَة سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمَفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: سَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِزِيَادَةِ سَجْدَةِ سُورَةِ النَّجْمِ وَسَجْدَةِ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ وَسَجْدَةِ سُورَةِ الْعَلَقِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هُنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً بِزِيَادَةِ السَّجْدَةِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ فَفِيهَا سَجْدَتَانِ عِنْده.

[سورة الانشقاق (84) : آية 22]

[سُورَة الانشقاق (84) : آيَة 22] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) يَجُوزُ أَنَّهُ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَإِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَالْكَلَامُ ارْتِقَاءٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ. فَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي يَسْتَرْوِحُ مِنْهُ اسْتِحْضَارَ الْحَالَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلِ إِضْرَابًا إِبْطَالِيًّا، أَيْ لَا يُوجَدُ مَا لِأَجْلِهِ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ بَلِ الْوَاقِعُ بِضِدِّ ذَلِكَ فَإِنَّ بَوَاعِثَ الْإِيمَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ مُتَوَفِّرَةٌ وَدَوَاعِي الِاعْتِرَافِ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ وَالْخُضُوعِ لِدَعْوَتِهِ مُتَظَاهِرَةٌ وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ، أَيْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ عنادا وكبرياء ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ [الانشقاق: 23] . وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ نَظِيرُ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [9- 10] بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ وَفِي اجْتِلَابِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِ التَّكْذِيبِ مِنْهُمْ وَتَجَدُّدِهِ، أَيْ بَلْ هُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ عِنَادًا وَلَيْسَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا فَكَمَا نُفِيَ عَنْهُمْ تَجَدُّدُ الْإِيمَانِ وَتَجَدُّدُ الْخُضُوعِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أُثْبِتَ لَهُمْ تَجَدُّدُ التَّكْذِيبِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: بَلْ هُمْ يُكَذِّبُونَ، فَعُدِلَ إِلَى الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لما تؤذن بِهِ الصِّلَةُ مِنْ ذَمِّهِمْ بِالْكُفْرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ لِتَأَصُّلِ الْكُفْرِ فِيهِمْ وَكَوْنِهِمْ ينعتون بِهِ. [23] [سُورَة الانشقاق (84) : آيَة 23] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: 22] ، وَجُمْلَةِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ بِسُوءِ طَوِيَّتِهِمْ.

[سورة الانشقاق (84) : آية 24]

وَمَعْنَى بِما يُوعُونَ بِمَا يُضْمِرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعِنَادِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ التَّكْذِيبَ بِهِ لِيَكُونَ صُدُودُهُمْ عَنْهُ مَقْبُولًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَبَيْنَ مُجَاوِرِيهِمْ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِيعَاءِ: جَعْلُ الشَّيْءِ وِعَاءً الْوِعَاء بِكَسْرِ الْوَاوِ الظَّرْفُ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمْعِ الْأَشْيَاءِ لِئَلَّا تَفُوتَ فَصَارَ مُشْعِرًا بِالتَّقْتِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 18] وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» وَاسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِخْفَاءِ لِأَنَّ الْإِيعَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْإِخْفَاءَ فَهُوَ هُنَا مجَاز مُرْسل. [24] [سُورَة الانشقاق (84) : آيَة 24] فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: 22] . وَفِعْلُ «بَشِّرْهُمْ» مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّبْشِيرِ: الْإِخْبَارُ بِمَا يَسُرُّ وَيَنْفَعُ. فَلَمَّا عُلِّقَ بِالْفِعْلِ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَانَتْ قَرِينَةُ التَّهَكُّمِ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مرداة طحونا [25] [سُورَة الانشقاق (84) : آيَة 25] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا: إِمَّا عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] جَرْيًا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِرُكُوبِ طِبَاقِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ التَّهْدِيدِ. وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي «فبشرهم» [الانشقاق: 24] وَالْمَعْنَى إِلَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُونَ الْآنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَة: 160] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ [10] : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا

الْآيَةَ وَفِعْلُ آمَنُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى: مَنْ تَحَقَّقَ إِيمَانُهُمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: 20] إِلَى هُنَا تَفْرِيعٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ خُصَّ بِهِ الْأَهَمُّ مِمَّنْ شَمِلَهُمْ عُمُومُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] . وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ ضَمِيرِ فَبَشِّرْهُمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّبْشِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّهَكُّمِ زِيَادَةً فِي إِدْخَالِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ. فَحَرْفُ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ (لَكِن) والاستدراك فِيهِ لِمُجَرَّدِ الْمُضَادَّةِ لَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إِرَادَةِ ضِدِّ ذَلِكَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِدْرَاكِ، وَأَمَّا تَعْرِيفُ بَعْضِهِمُ الِاسْتِدْرَاكَ بِأَنَّهُ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ، فَهُوَ تَعْرِيفٌ تَقْرِيبِيٌّ. وَجُمْلَةُ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ حَالُهُمْ يَوْمَ يَكُونُ أُولَئِكَ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ؟ وَالْأَجْرُ غَيْرُ الْمَمْنُونِ هُوَ الَّذِي يُعْطَاهُ صَاحِبُهُ مَعَ كَرَامَةٍ بِحَيْثُ لَا يَعْرِضُ لَهُ بِمِنَّةٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَحْقَاف: 14] وَنَحْوُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مَعَ الْجَزَاءِ سَبَبُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُمْ سُرُورٌ لَهُمْ لَا تَشُوبُهُ شَائِبَةُ كَدَرٍ فَإِنَّ الْمَنَّ يُنَغِّصُ الْإِنْعَامَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: 264] وَقَالَ النَّابِغَةُ: عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ وَمِنْ نَوَابِغِ الْكَلِمِ لِلْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ: طَعْمُ الْآلَاءِ أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ. وَهُوَ أَمَرُّ مِنَ الْآلَاءِ مَعَ الْمَنِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِمَعْنَى غَيْرِ مَقْطُوعٍ يُقَالُ: مَنَنْتَ الْحَبْلَ، إِذَا قَطَعْتَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَة: 32، 33] . سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْخَارِجِيَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: غَيْرُ مَمْنُونٍ فَقَالَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ عَرَفَهُ أَخُو يَشْكُرَ (يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ حِلِّزَةَ) حَيْثُ يَقُولُ: فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرجْ ... عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ الْمَنِينُ: الْغُبَارُ لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ وَرَاءَهَا.

85- سورة البروج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 85- سُورَةُ الْبُرُوجِ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ» . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةُ «السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ» لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْعَشَاءِ بِالسَّمَاوَاتِ» ، أَيْ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاء والطارق فمجمعها جَمْعَ سَمَاءٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ السُّورَتَيْنِ: سُورَةُ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، سُورَةُ السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ الْبُرُوجِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ. وَمَعْدُودَةٌ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ «وَالشَّمْس وَضُحَاهَا» وَقبل سُورَة «التِّينِ» . وَآيُهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَةً. مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ ابْتُدِئَتْ أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لِلَّذِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مِثْلُ قَوْمٍ فَتَنُوا فَرِيقًا مِمَّنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَجَعَلُوا أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ لِتَعْذِيبِهِمْ لِيَكُونَ الْمَثَلُ تَثْبِيتًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَتَذْكِيرَهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى سَلَفِهِمْ فِي الْإِيمَانِ مِنْ شِدَّةِ التَّعْذِيبِ الَّذِي لَمْ يَنَلْهُمْ مِثْلُهُ وَلَمْ يَصُدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ.

[سورة البروج (85) : الآيات 1 إلى 9]

وَإِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ فَسَيَلْقَى الْمُشْرِكُونَ جَزَاءَ صَنِيعِهِمْ وَيَلْقَى الْمُسْلِمُونَ النَعِيمَ الْأَبَدِيَّ وَالنَّصْرَ. وَالتَّعْرِيضُ لِلْمُسْلِمِينَ بِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَضُرِبَ الْمَثَلُ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَبِثَمُودَ وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ مَا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَحَصَلَتِ الْعِبْرَةُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي فَتْنِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّنْوِيهِ بشأن الْقُرْآن. [1- 9] [سُورَة البروج (85) : الْآيَات 1 إِلَى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) فِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِهَذَا الْقَسَمِ تَشْوِيقٌ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ وَإِشْعَارٌ بِأَهَمِّيَّةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَلْفِتُ أَلْبَابَ السَّامِعِينَ إِلَى الْأُمُورِ الْمُقْسَمِ بِهَا، لِأَنَّ بَعْضَهَا مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ تَفَرُّدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالَ الشَّرِيكِ، وَبَعْضُهَا مُذَكِّرٌ بِيَوْمِ الْبَعْثِ الْمَوْعُودِ، وَرَمَزَ إِلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، إِذِ الْقَسَمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِشَيْءٍ ثَابِتِ الْوُقُوعِ وَبَعْضُهَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ يُوَجِّهُ أَنْفُسَ السَّامِعِينَ إِلَى تَطَلُّبِ بَيَانِهِ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ تَضَمَّنَ الْعِبْرَةَ بِقِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَلَمَّا كَانَتِ الْأَخَادِيدُ خُطُوطًا مَجْعُولَةً فِي الْأَرْضِ مُسْتَعِرَةً بِالنَّارِ أَقْسَمَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهَا بِالسَّمَاءِ بِقَيْدِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا الَّتِي يلوح فِيهَا لِلنَّاظِرِينَ فِي نجومها مَا سَمَّاهُ الْعَرَبُ بُرُوجًا وَهِيَ تُشْبِهُ دَارَاتٍ مُتَلَأْلِئَةً بِأَنْوَارِ النُّجُومِ اللَّامِعَةِ الشَّبِيهَةِ بِتَلَهُّبِ النَّارِ. وَالْقَسَمُ بِالسَّمَاءِ بِوَصْفِ ذَاتِ الْبُرُوجِ يَتَضَمَّنُ قَسَمًا بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا لِتَلْتَفِتَ أَفْكَارُ الْمُتَدَبِّرِينَ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إِذْ خَلْقُهَا عَلَى تِلْكَ الْمَقَادِيرِ الْمَضْبُوطَةِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا النَّاسُ فِي

مَوَاقِيتِ الْأَشْهُرِ وَالْفَصْلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَحْوِ هَذَا: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْمَائِدَة: 97] . وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِوُقُوعِهِ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 44] مَعَ مَا فِي الْقَسَمِ بِهِ مِنْ إِدْمَاجِ الْإِيمَاءِ إِلَى وَعِيدِ أَصْحَابِ الْقِصَّةِ الْمُقْسَمِ عَلَى مَضْمُونِهَا، وَوَعِيدِ أَمْثَالِهِمُ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِ شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ عَلَى اخْتِلَافِ تَأْوِيلَاتِهِ، سَتُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ التَّأْوِيلَاتِ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْقَسَمِ بِالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَيُقَابِلُهُ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَالْبُرُوجُ: تُطْلَقُ عَلَى عَلَامَاتٍ مِنْ قُبَّةِ الْجَوِّ يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِ أَنَّ الشَّمْسَ تَكُونُ فِي سَمْتِهَا مُدَّةَ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ السّنة الشمسية، فالبرج: اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنِ اسْمِ الْبُرْجِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ الشَّمْسَ تَنْزِلُهُ أَوْ مَنْقُولٌ مِنَ الْبُرْجِ بِمَعْنَى الْحِصْنِ. وَالْبُرْجُ السَّمَاوِيُّ يَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعَةِ نُجُومٍ قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لَا تَخْتَلِفُ أَبْعَادُهَا أَبَدًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بُرْجًا لِأَنَّ الْمُصْطَلِحِينَ تَخَيَّلُوا أَنَّ الشَّمْسَ تَحِلُّ فِيهِ مُدَّةً فَهُوَ كَالْبُرْجِ، أَيِ الْقَصْرِ، أَوِ الْحِصْنِ، وَلَمَّا وَجَدُوا كُلَّ مَجْمُوعَةٍ مِنْهَا يُخَالُ مِنْهَا شَكْلٌ لَوْ أُحِيطَ بِإِطَارٍ لِخَطٍّ مَفْرُوضٍ لَأَشْبَهَ مُحِيطُهَا مُحِيطَ صُورَةٍ تَخَيُّلِيَّةٍ لِبَعْضِ الذَّوَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ آلَاتٍ، مَيَّزُوا بَعْضَ تِلْكَ الْبُرُوجِ مِنْ بَعْضٍ بِإِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ مَا تُشْبِهُهُ تِلْكَ الصُّورَةُ تَقْرِيبًا فَقَالُوا: بُرْجُ الثَّوْرِ، بُرْجُ الدَّلْوِ، بُرْجُ السُّنْبُلَةِ مَثَلًا. وَهَذِهِ الْبُرُوجُ هِيَ فِي التَّحْقِيقِ: سُمُوتٌ تُقَابِلُهَا الشَّمْسُ فِي فَلَكِهَا مُدَّةَ شَهْرٍ كَامِلٍ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ يُوَقِّتُونَ بِهَا الْأَشْهُرَ وَالْفُصُولَ بِمَوْقِعِ الشَّمْسِ نَهَارًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَطْلُعُ فِيهِ نُجُومُ تِلْكَ الْبُرُوجِ لَيْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [61] . وشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ مُرَادٌ بِهِمَا النَّوْعُ. فَالشَّاهِدُ: الرَّائِي، أَوِ الْمُخْبِرُ بِحَقٍّ لِإِلْزَامِ مُنْكِرِهِ. وَالْمَشْهُودُ: الْمَرْئِيُّ أَوِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْوَصْفَيْنِ لِدَلَالَةِ

الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ حَاضِرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَوِ الرُّسُلُ وَالْمَلَائِكَةُ. وَالْمَشْهُودُ: النَّاسُ الْمَحْشُورُونَ لِلْحِسَابِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْمَالِ الْمُعَرَّضُونَ لِلْحِسَابِ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْمَجَامِعِ أَنَّ الشَّاهِدَ فِيهَا: هُوَ السَّالِمُ مِنْ مَشَقَّتِهَا وَهُمُ النَّظَّارَةُ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا يَجْرِي فِي الْمَجْمَعِ، وَأَن الْمَشْهُود: هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ النَّاسُ عَلَى مَا يَجْرِي عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ: الشَّاهِدِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمُ الْحَفَظَةُ الشَّاهِدُونَ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَالْمَشْهُودُ: أَصْحَابُ الْأَعْمَالِ. وَأَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ الرُّسُلَ المبلغين للأمم حِين يَقُولُ الْكُفَّارُ: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] . وَعَلَى مُخْتَلَفِ الْوُجُوهِ فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ بَيْنَ شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ وَبَيْنَ مَا فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَقَوْلِهِ: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أَيْ حُضُورٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» . أَيْ فَالتَّقْدِيرُ: وَيَوْمٌ شَاهِدٌ وَيَوْمٌ مَشْهُودٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ اهـ. وَوَصْفُ «يَوْمٍ» بِأَنَّهُ «شَاهِدٌ» مُجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَمَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا يُرَادُ فِي الْآيَةِ مِنْ وَصْفِ شاهِدٍ وَوَصْفِ مَشْهُودٍ فَهُوَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ قِيلَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ عَلَيْهِ

وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ كَمَا لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَحَقٌّ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ: أَوْ لَتُبْعَثُنَّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَذْكُورٌ فِيمَا يَلِي فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] (أَيْ وَالْكَلَام الَّذِي بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ قُصِدَ بِهِ التَّوْطِئَةُ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وتوكيد التَّحْقِيق الَّذِي أَفَادَهُ الْقَسَمَ بِتَحْقِيقِ ذِكْرِ النَّظِيرِ) . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَوَابُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (أَيْ فَيَكُونُ قتل خَبرا لادعاء وَلَا شَتْمًا وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ (قَدْ) فِي الْجَوَابِ مَعَ كَوْنِ الْجَوَابِ مَاضِيًا لِأَنَّ (قَدْ) تُحْذَفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَذْفَهَا لَيْسَ مَشْرُوطًا بِالضَّرُورَةِ) . وَيَتَعَيَّنُ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِنْذَارِ لِلَّذِينَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِفَاتِنِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْكِيدِ بِالْقَسَمِ إِذْ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ فَهُوَ قِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ. وَانْتِسَاقُ ضَمَائِرِ جَمْعِ الْغَائِبِ الْمَرْفُوعَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَقَمُوا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَاضِعِيهِ لِتَعْذِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ هُوَ جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] فَيَكُونُ الْكَلَامُ الَّذِي بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا وَتَوْطِئَةً عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي كَلَامِ الزَّجَّاجِ. وَقَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ صِيغَتُهُ تُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِنْشَاءُ شَتْمٍ لَهُمْ شَتْمُ خِزْيٍ وَغَضَبٍ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُقْتَلُوا فَفِعْلُ قُتِلَ لَيْسَ بِخَبَرٍ بَلْ شَتْمٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] . وَقَوْلِهِمْ قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَصُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ يُفِيدُ مَعْنَى اللَّعْنِ وَيَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ لِأَنَّ الْغَضَبَ وَاللَّعْنَ يَسْتَلْزِمَانِ الْعِقَابَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَلْعُونِ لِأَجْلِهِ. وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ بِالْقَتْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَالْقَتْلُ مُسْتَعَارٌ لِأَشَدِّ الْعَذَابِ كَمَا يُقَالُ: أَهْلَكَهُ اللَّهُ، أَيْ أَوْقَعَهُ فِي أَشَدِّ الْعَنَاءِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَجُمْلَةُ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ عَلَى هَذَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَمَا بَعْدَهُ. وَمَنْ جَعَلَ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ جَوَابَ الْقَسَمِ جَعَلَ الْكَلَامَ خَبَرًا وَقَدَّرَهُ

لَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ أُلْقُوا فِيهِ وعذبوا بِهِ وَيَكُونُ لَفْظُ أَصْحَابٍ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى مُجَرَّدِ الْمُقَارَنَةِ وَالْمُلَازَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: 39] وَقد عَلِمْتَ آنِفًا تَعَيُّنَ تَأْوِيلِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ. وَلَفْظُ أَصْحابُ يَعُمُّ الْآمِرِينَ بِجَعْلِ الْأُخْدُودِ وَالْمُبَاشِرِينَ لِحَفْرِهِ وَتَسْعِيرِهِ، وَالْقَائِمِينَ عَلَى إِلْقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ. وَهَذِهِ قِصَّةٌ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي تَعْيِينِهَا وَفِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَفْتُونِينَ بِالْأُخْدُودِ قَوْمٌ اتَّبَعُوا النَّصْرَانِيَّةَ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ عَلَى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَذُكِرَتْ فِيهَا رِوَايَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَالزِّيَادَةِ، وَالتَّعْيِينِ وَأَصَحُّهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَلَيْسَ فِيمَا رُوِيَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَهَا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَالتِّرْمِذِيُّ سَاقَ حَدِيثَهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ كَانَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَخَادِيدَ فِي ثَلَاثٍ من الْبِلَاد بِنَجْرَان، وَبِالشَّامِ، وَبِفَارِسَ، أما الَّذِي بِالشَّامِ فَ (انْطَانْيُوسُ) الرُّومِيُّ وَأَمَّا الَّذِي بِفَارِسَ فَهُوَ (بُخْتَنَصَّرَ) وَالَّذِي بِنَجْرَانَ فَيُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ وَلْنَذْكُرِ الْقِصَّةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ تُؤْخَذُ مِنْ «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» عَلَى أَنَّهَا جَرَتْ فِي نَجْرَانَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَإِنَّهُ كَانَ مَلِكٌ وَهُوَ ذُو نُوَاسٍ لَهُ كَاهِنٌ أَوْ سَاحِرٌ. وَكَانَ لِلسَّاحِرِ تِلْمِيذٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ وَكَانَ يَجِدُ فِي طَرِيقِهِ إِذَا مَشَى إِلَى الْكَاهِنِ صَوْمَعَةً فِيهَا رَاهِبٌ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ اسْمُهُ (فَيْمِيُونُ) بِفَاءٍ، فَتَحْتِيَّةٍ، فَمِيمٍ، فَتَحْتِيَّةٍ (وَضُبِطَ فِي الطبعة الأوروبية مِنْ «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» - الَّتِي يَلُوحُ أَنَّ أَصْلَهَا الْمَطْبُوعَةَ عَلَيْهِ أَصْلٌ صَحِيحٌ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَضَمٍّ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَوَقَعَ لِلطَّبَرِيِّ بِقَافٍ عِوَضَ الْفَاءِ. وَقَدْ يُحَرَّفُ فَيُقَالُ مَيْمُونٌ بِمِيمٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِتَحْتِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَصْلُهُ مِنْ غَسَّانَ مِنَ الشَّامِ ثُمَّ سَاحَ فَاسْتَقَرَّ بِنَجْرَانَ، وَكَانَ مُنْعَزِلًا عَنِ النَّاسِ مُخْتَفِيًا فِي صَوْمَعَتِهِ وَظَهَرَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي قومه كرامات. وَكَانَ كُلَّمَا ظَهَرَتْ لَهُ كَرَامَةٌ دَعَا مَنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَّبِعُوا النَّصْرَانِيَّةَ، فَكَثُرَ الْمُتَنَصِّرُونَ فِي نَجْرَانَ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ ذَا

نُوَاسٍ وَكَانَ يَهُودِيًّا وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً، فَقَتَلَ الْمَلِكُ الْغُلَامَ وَقَتَلَ الرَّاهِبَ وَأَمَرَ بِأَخَادِيدَ وَجُمِعَ فِيهَا حَطَبٌ وَأُشْعِلَتْ، وَعُرِضَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَيْهَا فَمَنْ رَجَعَ عَنِ التَّوْحِيدِ تَرَكَهُ وَمَنْ ثَبَتَ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ قَذَفَهُ فِي النَّارِ. فَكَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ مِمَّنْ عُذِّبَ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْمَسِيحِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَقِصَصُ الْأَخَادِيدِ كَثِيرَةٌ فِي التَّارِيخِ، وَالتَّعْذِيبُ بِالْحَرْقِ طَرِيقَةٌ قَدِيمَةٌ، وَمِنْهَا: نَارُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا تَحْرِيقُ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ مِائَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَتَلْقِيبُهُ بِالْمُحَرِّقِ فَلَا أَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِاتِّخَاذِ أُخْدُودٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ هُوَ مُحَرِّقٌ وَآلُهُ الَّذِي حَرَقَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِائَةً. والْأُخْدُودِ: بِوَزْنِ أُفْعُولٍ وَهُوَ صِيغَةٌ قَلِيلَةُ الدَّوَرَانِ غَيْرُ مَقِيسَةٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: أُفْحُوصٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فَحَصَتِ الْقَطَاةُ وَالدَّجَاجَةُ إِذَا بَحَثَتْ فِي التُّرَابِ مَوْضِعًا تَبِيضُ فِيهِ، وَقَوْلُهُمْ أُسْلُوبٌ اسْمٌ لطريقة، ولسطر النّخل، وَأُقْنُومٌ اسْمٌ لِأَصِلِ الشَّيْءِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَزْنُ مَعَ هَاءِ تَأْنِيثٍ مِثْلَ أُكْرُومَةٍ، وَأُعْجُوبَةٍ، وَأُطْرُوحَةٍ وَأُضْحُوكَةٍ. وَقَوْلُهُ: النَّارِ بَدَلٌ مِنَ الْأُخْدُودِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَوْ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُخْدُودِ الْحَفِيرُ بِمَا فِيهِ. والْوَقُودِ: بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ مِنْ حَطَبٍ وَنِفْطٍ وَنَحْوِهِ. وَمَعْنَى ذاتِ الْوَقُودِ: أَنَّهَا لَا يُخْمَدُ لَهَبُهَا لِأَنَّ لَهَا وَقُودًا يُلْقَى فِيهَا كُلَّمَا خَبَتْ. وَيَتَعَلَّقُ: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ بِفِعْلِ قُتِلَ، أَيْ لُعِنُوا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَعَدُوا عَلَى الْأُخْدُودِ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ فَإِنَّ الْمَلِكَ يَحْضُرُ تَنْفِيذَ أَمْرِهِ وَمَعَهُ مَلَأُهُ، أَو أُرِيد بهم الْمَأْمُورُونَ مِنَ الْمَلِكِ. فَعَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُمْ أَعْوَانُ الْمَلِكِ فَالْقُعُودُ الْجُلُوسُ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْمُلَازَمَةِ لِلْأُخْدُودِ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ الَّذِينَ يَحْشُونَ النَّار بتسعيرها، و (على) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْعُدُونَ فَوْقَ النَّارِ وَلَكِنْ حَوْلَهَا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْقُرْبِ وَالْمُرَاقَبَةِ بِالِاسْتِعْلَاءِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [الْقَصَص: 23] ، أَيْ عِنْدَهُ. وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَذَّبِينَ فِيهِ، فالقعود حَقِيقَة و (على) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ قَاعِدُونَ عَلَى النَّارِ بِأَنْ كَانُوا يَحْرِقُونَهُمْ مَرْبُوطِينَ بِهَيْئَةِ الْقُعُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ تَعْذِيبًا وَتَمْثِيلًا، أَيْ بَعْدَ أَنْ يُقْعِدُوهُمْ فِي الْأَخَادِيدِ يُوقِدُونَ النَّارَ فِيهَا وَذَلِكَ أَرْوَعُ وَأَطْوَلُ تَعْذِيبًا. وَأُعِيدَ ضَمِيرُ هُمْ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ لِيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. وَضَمِيرُ يَفْعَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِمْ شُهُودًا عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ: أَنْ بَعْضَهُمْ يَشْهَدُ لِبَعْضٍ عِنْدَ الْمَلِكِ بِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا وَكِّلَ بِهِ مِنْ تَحْرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ وَصِيغَتُهُ مُوَزَّعَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ مِنْ تَقْسِيمِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ إِلَى أُمَرَاءَ وَمَأْمُورِينَ شَأْنُ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ بِأَنَّهُمْ قُعُودٌ عَلَى النَّارِ عَلِمَ أَنَّهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِمُرَاقَبَةِ الْعُمَّالِ. فَعُلِمَ أَنَّ لَهُمْ أَتْبَاعًا مِنْ سَعَّارِينَ وَوَزَعَةٍ فَهُمْ مَعَادُ ضَمِيرِ يَفْعَلُونَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُهُودٌ جَمْعَ شَاهِدٍ بِمَعْنَى مُخْبِرٍ بِحَقٍّ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَاضِرٍ وَمُرَاقَبٍ لِظُهُورِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ. وَجُمْلَةُ وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُعُودٌ شَاهِدِينَ عَلَى فِعْلِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَعَادِ ضَمِيرِ يَفْعَلُونَ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ تَفْظِيعُ ذَلِكَ الْقُعُودِ وَتَعْظِيمُ جُرْمِهِ إِذْ كَانُوا يُشَاهِدُونَ تَعْذِيبَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْأَفُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَشْمَئِزُّونَ، وَبِذَلِكَ فَارَقَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَضْمُونَ جُمْلَةِ: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِبْهَامِ مَا يُفِيدُ أَنَّ لِمُوقِدِي النَّارِ من الوزعة والعملة وَمن يُبَاشِرُونَ إِلْقَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا غِلْظَةً وَقَسْوَةً فِي تَعْذِيبِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهَانَتِهِمْ وَالتَّمْثِيلِ بِهِمْ، وَذَلِكَ زَائِدٌ عَلَى الْإِحْرَاقِ.

وَجُمْلَةُ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَوْ عَاطِفَةٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي قبلهَا. وَالْمَقْصُود التعجيب مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الْأُخْدُودِ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَظَاعَةِ لَا لجرم من شَأْنِهِ أَنْ يُنْقَمَ مِنْ فَاعِلِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ خَدَّدُوا الْأُخْدُودَ يَهُودًا كَمَا كَانَ غَالِبُ أَهْلِ الْيَمَنِ يَوْمَئِذٍ فَالْكَلَامُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ أَيْ مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ شَيْئًا يُنْقَمُ بَلْ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا آمَنَ بِهِ الَّذِينَ عذبوهم. وَمحل التعجيب أَنَّ الْمَلِكَ ذَا نُوَاسٍ وَأَهْلَ الْيَمَنِ كَانُوا مُتَهَوِّدِينَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ فَكَيْفَ يُعَذِّبُونَ قَوْمًا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ مِثْلَهُمْ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: 59] وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ خَدَّدُوا الْأُخْدُودَ مُشْرِكِينَ (فَإِنَّ عَرَبَ الْيَمَنِ بَقِيَ فِيهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ) فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِأَنَّ شَأْنَ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ أَنْ يَكُونَ مَا يُشْبِهُ ضِدَّ الْمَقْصُودِ هُوَ فِي الْوَاقِعِ مِنْ نَوْعِ الْمَقْصُودِ فَلِذَلِكَ يُؤَكَّدُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ وَجُنْدَهُ نَقَمُوا مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ حَقِيقَةً إِنْ كَانَ الْمَلِكُ مُشْرِكًا. وَإِجْرَاءُ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهِيَ: الْعَزِيزِ. الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ أَنَّ مَا نَقَمُوهُ مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْقَمَ بَلْ هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُمْدَحُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَبٍّ حَقِيقٍ بِأَنْ يُؤْمَنَ بِهِ لِأَجْلِ صِفَاتِهِ الَّتِي تَقْتَضِي عِبَادَتَهُ وَنَبْذَ مَا عَدَاهُ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ مَوَالِيَهُ وَيُثِيبُهُمْ وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ، وَمَا عَدَاهُ ضَعِيفُ الْعِزَّةِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَمْلِكُ مِنْهُمْ شَيْئًا فَيَقْوَى التَّعْجِيبُ مِنْهُمْ بِهَذَا. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَذْيِيلٌ بِوَعِيدٍ لِلَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأُخْدُودَ وَبِوَعْدِ الَّذِينَ عُذِّبُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَوَعِيدٌ لِأَمْثَالِ أُولَئِكَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ تَصَدَّوْا لِأَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِثْلَ بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وصهيب وسميّة.

[سورة البروج (85) : آية 10]

[سُورَة البروج (85) : آيَة 10] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنْ كَانَ هَذَا جَوَابًا للقسم على قَول بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ مَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَمَا بَيْنَ هَذَا كَلَامًا مُعْتَرِضًا يُقْصَدُ مِنْهُ التَّوْطِئَةُ لِوَعِيدِهِمْ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ بِذِكْرِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ نَظِيرَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 4] كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْقَسَمِ وَمَا أُقْسِمَ عَلَيْهِ هُوَ تَهْدِيدُ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمْ تَبِعَةٌ مِنْ فَتْنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُلَاقِي قَوْلَهُ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا إِذْ هُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّوْبَةِ، وَلَا يُلَاقِي دُخُولَ الْفَاءِ فِي خَبَرِ إِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ عُدَّ مِنَ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ أَبُو جَهْلٍ رَأْسُ الْفِتْنَةِ وَمُسَعِّرُهَا، وَأُمِّيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمُّ أَنْمَارٍ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمٍ. وَالْمَفْتُونُونَ: عُدَّ مِنْهُمْ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ كَانَ عَبْدًا لِأُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَكَانَ يُعَذِّبُهُ، وَأَبُوُ فُكَيْهَةَ كَانَ عَبْدًا لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ كَانَ عَبْدًا لِأُمِّ أَنْمَارٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُوهُ يَاسِرٌ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ كَانُوا عَبِيدًا لِأَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَوَكَّلَ بِهِمْ أَبَا جَهْلٍ، وَعَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ كَانَ عَبْدًا لِرَجُلٍ مَنْ بَنِي تَيْمٍ. وَالْمُؤْمِنَاتُ الْمَفْتُونَاتُ مِنْهُنَّ: حَمَامَةُ أُمُّ بِلَالٍ أَمَةُ أمة بْنِ خَلَفٍ. وَزِنِّيرَةُ، وَأُمُّ عُنَيْسٍ كَانَتْ أَمَةً لِلْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَالنَّهْدِيَّةُ. وَابْنَتُهَا كَانَتَا لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَلَطِيفَةُ، وَلِبِينَةُ بِنْتُ فُهَيْرَةَ كَانَتْ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا، وَسُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَانَتْ لِعَمِّ أَبِي جَهْلٍ.

وَفُتِنَ وَرَجَعَ إِلَى الشِّرْكِ الْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنُ الْمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ. وَعَطْفُ الْمُؤْمِناتِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِنَّ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَلِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ فِعْلِ الْفَاتِنِينَ بِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى النِّسَاءِ وَالشَّأْنُ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُنَّ بِالْغِلْظَةِ. وَجُمْلَةُ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مُعْتَرِضَةٌ. وثُمَّ فِيهَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَالْفَتْنُ: الْمُعَامَلَةُ بِالشِّدَّةِ وَالْإِيقَاعُ فِي الْعَنَاءِ الَّذِي لَا يَجِدُ مِنْهُ مَخْلَصًا إِلَّا بِعَنَاءٍ أَوْ ضُرٍّ أَخَفَّ أَوْ حِيلَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ (إِنَّ) مِنْ قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ لِأَنَّ اسْمَ (إِنَّ) وَقَعَ مَوْصُولًا وَالْمَوْصُولُ يُضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرًا: فَتَقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مَقْصُودٌ بِهِ مَعْنَى التَّقْيِيدِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ. وَجُمْلَةُ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ عَطْفٌ فِي مَعْنَى التوكيد اللَّفْظِيّ لجملة: لَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَاقْتِرَانُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ بِإِيهَامِ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ زِيَادَةَ تَهْدِيدِهِمْ بِوَعِيدٍ آخَرَ فَلَا يُوجَدُ أَعْظَمُ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَوَّلِ. مَعَ مَا بَيْنَ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَعَذَابِ الْحَرِيقِ مِنِ اخْتِلَافٍ فِي الْمَدْلُولِ وَإِنْ كَانَ مَآلُ الْمَدْلُولَيْنِ وَاحِدًا. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْمُغَايَرَةِ يُحَسِّنُ عَطْفَ التَّأْكِيدِ. عَلَى أَنَّ الزَّجَّ بِهِمْ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ قَبْلَ أَنْ يَذُوقُوا حَرِيقِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالدَّفْعِ بِهِمْ فِي طَرِيقِهِمْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطّور: 13] فَحَصَلَ بِذَلِكَ اخْتِلَافُ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالثَّانِي مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: 88] .

[سورة البروج (85) : آية 11]

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِعَذَابِ الْحَرِيقِ حَرِيقٌ بِغَيْرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ مَا يُضْرَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَارِ تَعْذِيبٍ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ جَهَنَّمَ أَوْ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «سُنَنِهِ» عَنِ ابْن عمر . [11] [سُورَة البروج (85) : آيَة 11] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فَيَتَشَوَّفُ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِمْ أَمَقْصُورَةٌ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ أَوْ هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ بِأَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْإِيمَانُ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِصِلَةِ آمَنُوا دُونَ: تَابُوا: لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ الْبَاعِثِ عَلَى فَتْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] وَجُمْلَةِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] اعْتِرَاضًا بِالْبِشَارَةِ فِي خِلَالِ الْإِنْذَارِ لِتَرْغِيبِ الْمُنْذَرِينَ فِي الْإِيمَانِ، وَلِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ الْإِرْهَابِ بِالتَّرْغِيبِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالْجَنَّاتِ وَالْأَنْهَارِ. والْكَبِيرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ فِي بَابِهِ، والفوز: مصدر. [12] [سُورَة البروج (85) : آيَة 12] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) جملَة: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ عِلَّةٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] ، أَيْ لِأَنَّ بَطْشَ اللَّهِ شَدِيدٌ عَلَى الَّذِينَ فَتَنُوا الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ. فَمَوْقِعُ إِنَّ فِي التَّعْلِيلِ يُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ.

[سورة البروج (85) : آية 13]

وَبَطْشُ اللَّهِ يَشْمَلُ تَعْذِيبَهُ إِيَّاهُمْ فِي جَهَنَّمَ وَيَشْمَلُ مَا قَبْلَهُ مِمَّا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: 16] وَوَجْهُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ بَطْشَ اللَّهِ بِالَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ نَصْرٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتثبيت لَهُ. [13] [سُورَة البروج (85) : آيَة 13] إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا انْتَقَلَ بِهِ مِنْ وَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِلَى تَوَعُّدِهِمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ مِنْ بَطْشِ اللَّهِ، أَرْدَفَ بِهِ وَعِيدَ عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِي أَمْنٍ مِنَ الْعِقَابِ إِذْ هُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ فَازُوا بِطِيبِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَبْطِشُ بِهِمْ فِي الْبَدْءِ وَالْعَوْدِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَتَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] لِأَن الَّذِي يبدىء وَيُعِيدُ قَادِرٌ عَلَى إِيقَاعِ الْبَطْشِ الشَّدِيدِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْإِبْدَاءُ، وَفِي الْآخِرَة وَهُوَ إِعَادَةُ الْبَطْشِ. وَتَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ أَيْ أَن الله يبدىء الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] . وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ وَيُسْتَعَارُ لِلْعِقَابِ الْمُؤْلِمِ الشَّدِيدِ كَمَا هُنَا. ويُبْدِئُ: مُرَادِفُ يَبْدَأُ، يُقَالُ: بَدَأَ وَأَبْدَأُ. فَلَيْسَتْ هَمْزَةُ أَبْدَأُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَحُذِفَ مَفْعُولَا الْفِعْلَيْنِ لِقَصْدِ عُمُومِ تَعَلُّقِ الْفِعْلَيْنِ بِكُلِّ مَا يَقَعُ ابْتِدَاءً، وَيُعَادُ بَعْدَ ذَلِك فَشَمَلَ بَدَأَ الْخَلْقِ وَإِعَادَتَهُ وَهُوَ الْبَعْثُ، وَشَمَلَ الْبَطْشَ الْأَوَّلَ فِي الدُّنْيَا وَالْبَطْشَ فِي الْآخِرَةِ، وَشَمَلَ إِيجَادَ الْأَجْيَالِ وَإِخْلَافِهَا بَعْدَ هَلَاكِ أَوَائِلِهَا. وَفِي هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ مِنَ التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ مَحَامِلُ كَثِيرَةٌ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ يُبْدِئُ لِلتَّقَوِّي، أَيْ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَلَا مَوْقِعَ لِلْقَصْرِ هُنَا. إِذْ لَيْسَ فِي الْمَقَامِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّ غير الله يبدىء وَيُعِيدُ. وَقَدْ

[سورة البروج (85) : الآيات 14 إلى 16]

تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [5] أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ يَلِيهِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ عَلَى قَوْلِ الْمَازِنِي، وَهُوَ التَّحْقِيقُ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة فاطر [10] . [14- 16] [سُورَة البروج (85) : الْآيَات 14 إِلَى 16] وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] وَمَضْمُونُهَا قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أُفِيدَ تَعْلِيلُ مَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] إِلَى آخِرِهِ، نَاسَبَ أَنْ يُقَابَلَ بِتَعْلِيلِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ [البروج: 11] إِلَى آخِرِهِ، فَعُلِّلَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، فَهُوَ يَغْفِرُ لِلَّذِينَ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ وَهُوَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيَوَدُّهُمْ. والْوَدُودُ: فَعُولُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوُدِّ وَهُوَ الْمَحَبَّةُ فَمَعْنَى الْوَدُودِ: الْمُحِبُّ وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، أَيْ أَنَّهُ يُحِبُّ مَخْلُوقَاتِهِ مَا لَمْ يَحِيدُوا عَنْ وِصَايَتِهِ. وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ الْمُحِبَّةِ فِي اللُّغَةِ تَقْرِيبًا لِلْمَعْنَى الْمُتَعَالِي عَنِ الْكَيْفِ وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الرَّحْمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ [90] . وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ مَا تَعَلُّقُهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ بِحَسَبِ مَا يَسْتَأْهِلُونَهُ مِنْ جَزَاءٍ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِطْرَادِ وَالتَّكْمِلَةِ بِقَوْلِهِ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ تَنْبِيهًا لِلْعِبَادِ إِلَى وُجُوبِ عِبَادَتِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ لِجَلَالِهِ كَمَا يَعْبُدُونَهُ لِاتِّقَاءِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ نَوَالِهِ. والْعَرْشِ: اسْمٌ لِعَالَمٍ يُحِيطُ بِجَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، سَمِّيَ عَرْشًا لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَّا يَدُلُّ الْعَرْشُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ مِنَ الْمُلُوكِ. والْمَجِيدُ: الْعَظِيمُ الْقَوِيُّ فِي نَوْعِهِ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: «فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ» وَهُمَا شَجْرَانِ يَكْثُرُ قَدْحُ النَّارِ مِنْ زَنْدِهِمَا.

[سورة البروج (85) : الآيات 17 إلى 18]

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالْجَرِّ نَعَتَا لِلْعَرْشِ فَوَصْفُ الْعَرْشِ بِالْمَجْدِ كِنَايَةٌ عَنْ مَجْدِ صَاحِبِ الْعَرْشِ. ثُمَّ ذَيَّلَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ جَامِعَةٍ لِعَظَمَتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَعَظَمَةِ نِعَمِهِ بِقَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أَيْ إِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِفِعْلٍ، فَعَلَهُ عَلَى أَكْمَلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ لَا يَنْقُصُهُ شَيْء وَلَا يبطىء بِهِ مَا أَرَادَ تَعْجِيلَهُ. فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَالْإِرَادَةُ هُنَا هِيَ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَنَا بِأَنَّهَا صِفَةُ تَخَصُّصِ الْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَهِيَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ مِثْلُ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] . [17، 18] [سُورَة البروج (85) : الْآيَات 17 إِلَى 18] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ بَطْشِهِ تَعَالَى شَدِيدًا بِبَطْشَيْنِ بَطَشَهُمَا بِفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَعْدَ أَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: 13] فَذَلِكَ تَعْلِيلٌ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَدَلِيلٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةٍ لِتَهْوِيلِ حَدِيثِ الْجُنُودِ بِأَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ عِلْمِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى إِلَى قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النَّجْم: 50- 55] . وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُرَادُ مَوْعِظَتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كِنَايَةً عَنِ التَّذْكِيرِ بِخَبَرِهِمْ لِأَنَّ حَالَ الْمُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ صنيعهم الراكبين رؤوسهم فِي الْعِنَادِ، كَحَالِ مَنْ لَا يَعْلَمُ خَبَرَهُمْ فَيُسْأَلُ هَلْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ أَوْ لَا، أَوْ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ. وَالْإِتْيَانُ: مُسْتَعَارٌ لِبُلُوغِ الْخَبَرِ، وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ. والْجُنُودِ: جَمْعُ جُنْدٍ وَهُوَ الْعَسْكَرُ الْمُتَجَمِّعُ لِلْقِتَالِ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي

تَجَمَّعَتْ لِمُقَاوَمَةِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] وَاسْتُعِيرَ الْجند للملأ لقَوْله: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [ص: 6] ثُمَّ رُشِّحَتِ الِاسْتِعَارَةُ بِاسْتِعَارَةِ مَهْزُومٍ وَهُوَ الْمَغْلُوبُ فِي الْحَرْبِ فَاسْتُعِيرَ لِلْمُهْلَكِ الْمُسْتَأْصَلِ مِنْ دُونِ حَرْبٍ. وَأُبْدِلَ فِرْعَوْنُ وَثَمُودُ مِنَ الْجُنُودِ بَدَلًا مُطَابِقًا لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْعِبْرَةُ بِهَؤُلَاءِ. وفِرْعَوْنَ: اسْمٌ لِمَلِكِ مِصْرَ مِنِ الْقِبْطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [103] . وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَيْسَ بِجُنْدٍ وَلَكِنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ الْجُنْدُ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآذَوْهُ. فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِنُكْتَةِ الْمُزَاوَجَةِ بَيْنَ اسْمَيْنِ عَلَمَيْنِ مُفْرِدَيْنِ فِي الْإِبْدَالِ مِنَ الْجُنُودِ. وَضُرِبَ الْمَثَلُ بِفِرْعَوْنَ لأبي جهل وَقد كَانَ يُلَقَّبُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَضُرِبَ الْمَثَلُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ أَكْبَرُ أُمَّةٍ تَأَلَّبَتْ عَلَى رَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ بَعَثَهُ اللَّهُ لِإِعْتَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ لِفِرْعَوْنَ، وَنَاوَوْهُ لِأَنَّهُ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ فَغَاظَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ الزَّاعِمَ أَنَّهُ إِلَهُ الْقِبْطِ وَابْنُ آلِهَتِهِمْ. وَتَخْصِيصُ ثَمُودَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلَ عَادٍ وَقَوْمِ تُبَّعٍ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ. لِمَا اقْتَضَتْهُ الْفَاصِلَةُ السَّابِعَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى حَرْفِ الدَّالِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا اسْتَقَامَتْ بِهِ الْفَاصِلَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ تَكَلُّفٌ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ نَظْمِ الْكَلَامِ إِيثَارُهُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [73] . وَهُوَ اسْمٌ عَرَبِيٌّ وَلَكِنْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَبِيلَةِ الَّتِي يَنْتَهِي نَسَبُهَا إِلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ كَمَا هُنَا.

[سورة البروج (85) : الآيات 19 إلى 20]

[سُورَة البروج (85) : الْآيَات 19 إِلَى 20] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهُوَ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ مُنْغَمِسُونَ فِيهِ انْغِمَاسَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ فَجُعِلَ تَمَكُّنُ التَّكْذِيبِ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَتَمَكُّنِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِحَاطَةَ التَّكْذِيبِ بِهِمْ إِحَاطَةُ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ لَا يَتْرُكُ لِتَذَكُّرِ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ مَسْلَكًا لِعُقُولِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّكْذِيبِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّهُمْ فِي تَكْذِيبٍ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ وَبِالْبَعْثِ. وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، أَيْ هُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَاللَّهُ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عِقَابًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ تَمْثِيلٌ لِحَالِ انْتِظَارِ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةِ عَنْهُ بِحَالِ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى إِذَا رَامَ الْفِرَارَ وَالْإِفْلَاتَ وَجَدَ الْعَدُوَّ مُحِيطًا بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِحَاطَةَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِتَكْذِيبِهِمْ إِذْ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ جَدْوَى. وَقَدْ قُوبِلَ جَزَاءُ إِحَاطَةِ التَّكْذِيبِ بِهِمْ بِإِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعيد والتهديد. [21، 22] [سُورَة البروج (85) : الْآيَات 21 إِلَى 22] بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) إِضْرَابُ إِبْطَالٍ لِتَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَهُمْ بِدَلَائِلَ بَيِّنَةٍ فَاسْتِمْرَارُهُمْ على التَّكْذِيب ناشىء عَنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ صِدْقَ الْقُرْآنِ إِذْ وَصَفُوهُ بِصِفَاتِ النَّقْصِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، إِفْكٌ مُفْتَرًى، قَوْلُ كَاهِنٍ، قَوْلُ شَاعِرٍ، فَكَانَ التَّنْوِيهُ بِهِ جَامِعًا لِإِبْطَالِ جَمِيعِ تُرَّهَاتِهِمْ عَلَى طَريقَة الإيجاز. و

(قُرْآنٌ) : مَصْدَرُ قَرَأَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانٍ الدَّالِّ عَلَى كَثْرَةِ الْمَعْنَى مِثْلَ الشُّكْرَانِ وَالْقُرْبَانِ. وَهُوَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَهِيَ تِلَاوَةُ كَلَامٍ صَدَرَ فِي زَمَنٍ سَابِقٍ لِوَقْتِ تِلَاوَةِ تَالِيهِ بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مُتَكَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا فِي صَحِيفَةٍ أَمْ كَانَ مُلَقَّنًا لِتَالِيهِ بِحَيْثُ لَا يُخَالف أَصله وَلَو كَانَ أَصْلَهُ كَلَامُ تَالِيهِ وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ لِنَقْلِ كَلَامٍ إِنَّهُ قِرَاءَةٌ إِلَّا إِذَا كَانَ كَلَامًا مَكْتُوبًا أَوْ مَحْفُوظًا. وَكُلَّمَا جَاءَ قُرْآنٍ مُنَكَّرًا فَهُوَ مَصْدَرٌ وَأَمَّا اسْمُ كِتَابِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ. فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ قُرْآنٍ إِشَارَةٌ عُرْفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ مُوحًى بِهِ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ مَا اخْتَلَقَهُ الْمُكَذِّبُونَ: أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ قَوْلُ كَاهِنٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَوُصِفَ قُرْآنٌ صِفَةً أُخْرَى بِأَنَّهُ مُودَعٌ فِي لَوْحٍ. وَاللَّوْحُ: قِطْعَةٌ مِنْ خَشَبٍ مُسْتَوِيَةٌ تُتَّخَذُ لِيُكْتَبَ فِيهَا. وَسَوْقُ وَصْفِ فِي لَوْحٍ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَبِاللَّوْحِ، يُعَيِّنُ أَنَّ اللَّوْحَ كَائِنٌ قُدْسِيٌّ مِنْ كَائِنَاتِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الْمُغَيَّبَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ اللَّوْحَ أُودِعَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مَكْتُوبًا فِي لَوْحٍ عُلْوِيٍّ كَمَا جَعَلَ التَّوْرَاةَ مَكْتُوبَةً فِي أَلْوَاحٍ وَأَعْطَاهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: 145] وَقَالَ: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الْأَعْرَاف: 150] وَقَالَ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ [الْأَعْرَاف: 154] ، وَأَمَّا لَوْحُ الْقُرْآنِ فَجَعَلَهُ مَحْفُوظًا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ. وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ فَسَّرُوا اللَّوْحَ بِمَوْجُودٍ سُجِّلَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مُجْتَمِعَةً وَمُجْمَلَةً، وَسَمُّوا ذَلِكَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَسَمَّوْا تَسْجِيلَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، وَسَمَّوْا ظُهُورَهَا فِي الْوُجُودِ بِالْقَدَرِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَرَجَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى الطَّوَالِعِ» حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْمَنْجُورُ فِي «شَرْحِ نَظْمِ ابْنِ زِكْرِيٍّ» مَسُوقًا فِي قِسْمِ الْعَقَائِدِ السَّمْعِيَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَوَرَدَ فِي آثَارٍ مُخْتَلِفَةِ الْقُوَّةِ أَنَّهُ مُوَكَّلٌ بِهِ إِسْرَافِيلُ وَأَنَّهُ كَائِنٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ. وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُسَجَّلٌ فِيهِ.

وَجَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَة: 77، 78] وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَالْكِتَابَ الْمَكْنُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْمَحْفُوظُ وَالْمَكْنُونُ فَبَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ فِي الْمَفْهُومِ وَعُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فِي الْوُقُوعِ، فالمحفوظ: المصون عَن كُلِّ مَا يَثْلِمُهُ وَيَنْقُصُهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ وَذَلِكَ كَمَالٌ لَهُ. وَالْمَكْنُونُ: الَّذِي لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَذَلِكَ لِلْخَشْيَةِ عَلَيْهِ لِنَفَاسَتِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي ذِكْرِ اللَّوْحِ وَلَا فِي خَصَائِصِهِ وَكُلُّ مَا هُنَالِكَ أَقْوَالٌ مَعْزُوَّةٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ لَا تُعْرَفُ أَسَانِيدُ عَزْوِهَا. وَوَرَدَ أَنَّ الْقَلَمَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اهـ. وَخَلْقُ الْقَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ اللَّوْحِ لِأَنَّ الْقَلَمَ يَكْتُبُ فِي اللَّوْحِ وَفِي غَيْرِهِ. وَالْمَجِيدُ: الْعَظِيمُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 15] وَمُجِّدَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَكْثَرُهَا مَعَانِيَ وَهَدْيًا وَوَعْظًا، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِبَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَإِعْجَازِهِ الْبَشَرَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَوَقَعَ فِي «التَّعْرِيفَاتِ» لِلسَّيِّدِ الْجُرْجَانِيِّ: أَنَّ الْأَلْوَاحَ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: لَوْحُ الْقَضَاءِ السَّابِقُ عَلَى الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ لَوْحُ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ. الثَّانِي: لَوْحُ الْقَدَرِ أَيِ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْكُلِّيَّةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. الثَّالِثُ: لَوْحُ النَّفْسِ الْجُزْئِيَّةِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يُنْتَقَشُ فِيهَا كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ بِشَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ وَمِقْدَارِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. الرَّابِعُ: لَوْحُ الْهَيُولَى الْقَابِلُ لِلصُّورَةِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَة اهـ. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَخْلُوطٌ بَيْنَ التَّصَوُّفِ وَالْفَلْسَفَةِ. وَلَعَلَّهُ مِمَّا اسْتَقْرَاهُ السَّيِّدُ مِنْ كَلَامِ عِدَّةِ عُلَمَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَحْفُوظٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ لَوْحٍ وَحِفْظُ اللَّوْحِ الَّذِي فِيهِ الْقُرْآنُ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ.

وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ بِرَفْعِ مَحْفُوظٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِقُرْآنٍ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي لَوْحٍ بِ مَحْفُوظٍ وَحِفْظُ الْقُرْآنِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ اللَّوْحَ الْمُودَعَ هُوَ فِيهِ مَحْفُوظٌ أَيْضًا، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ثُبُوتُ الْحِفْظ لِلْقُرْآنِ وللوح. فَأَمَّا حِفْظُ الْقُرْآنِ فَهُوَ حِفْظُهُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَمِنْ تَلَقُّفِ الشَّيَاطِينِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . وَأما حفظ اللَّوْحُ فَهُوَ حِفْظُهُ عَنْ تَنَاوُلِ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ. أَوْ حِفْظُهُ كِنَايَةً عَنْ تَقْدِيسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 78، 79] .

86- سورة الطارق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 86- سُورَةُ الطَّارِقِ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ» اهـ. فَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ: «السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ» لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْوَاوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَاوُ الْعَطْفِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا بَلْ أَخَذَ لَهَا اسْمًا مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ فِي السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] . وَسُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ الطَّارِقِ» لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِي أَوَّلِهَا. وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» «وَأَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيّ» ترجمت «سُورَة وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ» . وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبَعْثَةِ. أَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي جَبَلٍ الْعُدْوَانِيِّ: «أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصَا حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: 1] حَتَّى خَتَمَهَا قَالَ: «فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ» الْحَدِيثَ. وَعَدَدُهَا فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّور السَّادِسَة وَالثَّلَاثِينَ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ «لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ» وَقَبْلَ سُورَةِ: «اقْتَرَبت السَّاعَة» . أغراضها إِثْبَاتُ إِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.

[سورة الطارق (86) : الآيات 1 إلى 4]

وَإِثْبَاتُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِنَقْضِ مَا أَحَالَهُ الْمُشْرِكُونَ بِبَيَانِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِدَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ. وَصِدْقُ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ لِأَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآنِ بِهِ لَمَّا اسْتَبْعَدُوهُ وَمَوَّهُوا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ مَا فِيهِ غَيْرُ صِدْقٍ. وَتَهْدِيدُ الْمُشْركين الَّذين ناوؤا الْمُسْلِمِينَ. وَتَثْبِيتُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدُهُ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْتَصِرٌ لَهُ غير بعيد. [1- 4] [سُورَة الطارق (86) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقٌ لِمَا يُقْسِمُ عَلَيْهِ وَتَشْوِيقٌ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَوَابِقِهَا. وَوَقَعَ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ خَالِقِهِمَا هُمَا: السَّمَاءُ، وَالنُّجُومُ، أَوْ نَجْمٌ مِنْهَا عَظِيمٌ مِنْهَا مَعْرُوفٌ، أَوْ مَا يَبْدُو انْقِضَاضُهُ مِنَ الشُّهُبِ كَمَا سَيَأْتِي. والطَّارِقِ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّرُوقِ، وَهُوَ الْمَجِيءُ لَيْلًا لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّ النَّازِلَ بِالْحَيِّ لَيْلًا يَطْرُقُ شَيْئًا مِنْ حَجَرٍ أَوْ وَتِدٍ إِشْعَارًا لِرَبِّ الْبَيْتِ أَنَّ نَزِيلًا نَزَلَ بِهِ لِأَنَّ نُزُولَهُ يَقْضِي بِأَنْ يُضَيِّفُوهُ، فَأَطْلَقَ الطُّرُوقَ عَلَى النُّزُولِ لَيْلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فَغَلَبَ الطُّرُوقُ عَلَى الْقُدُومِ لَيْلًا. وَأُبْهِمَ الْمَوْصُوفُ بِالطَّارِقِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ زِيدَ إِبْهَامًا مَشُوبًا بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ثُمَّ بَيَّنَ بِأَنَّهُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ لِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ مَزِيدُ تَقَرُّرٍ لِلْمُرَادِ بِالْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ النُّجُومِ، شُبِّهَ طُلُوعُ النَّجْمِ لَيْلًا بِطُرُوقِ الْمُسَافِرِ الطَّارِقِ بَيْتًا بِجَامِعِ كَوْنِهِ ظُهُورًا فِي اللَّيْلِ. وَمَا أَدْراكَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فِي سُورَةِ الشُّورَى [17] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 3] وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ: مَا يُدْرِيكَ، وَمَا أَدْرَاكَ. وَقَوْلُهُ: النَّجْمُ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ، أَيِ الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ. وَالثَّقْبُ: خَرْقُ شَيْءٍ مُلْتَئِمٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِظُهُورِ النُّورِ فِي خِلَالِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. شَبَّهَ النَّجْمَ بِمِسْمَارٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَظُهُورَ ضَوْئِهِ بِظُهُورِ مَا يَبْدُو مِنَ الْمِسْمَارِ مِنْ خِلَالِ الْجِسْمِ الَّذِي يَثْقُبُهُ مِثْلَ لَوْحٍ أَوْ ثَوْبٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ اسْتِعَارَةَ الثَّقْبِ لِبُرُوزِ شُعَاعِ النَّجْمِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [10] ، وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : وَالْعَرَبُ تَقُولُ اثْقُبْ نَارَكَ، أَيْ أَضِئْهَا، وَسَاقَ بَيْتًا شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّجْمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَقُولُ وَالنَّجْمُ قَدْ مَالَتْ أَوَاخِرُهُ ... الْبَيْتَ فَيَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ النُّجُومِ اسْتِغْرَاقًا حَقِيقِيًّا وَكُلُّهَا ثَاقِبٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ، وَالنُّجُومُ، إِلَّا أَنَّ صِيغَةَ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: الثَّاقِبُ ظَاهِرٌ فِي إِرَادَةِ فَرْدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ النُّجُومِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ إِشَارَةً إِلَى نَجْمٍ مَعْرُوفٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّجْمِ غَالِبًا، أَيْ وَالنَّجْمُ الَّذِي هُوَ طَارِقٌ. وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَجْمًا يَطْلُعُ فِي أَوَائِلِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهِيَ الْوَقْتُ الْمَعْهُودُ لِطُرُوقِ الطَّارِقِينَ مِنَ السَّائِرِينَ. وَلَعَلَّ الطَّارِقَ هُوَ النَّجْمُ الَّذِي يُسَمَّى الشَّاهِدُ، وَهُوَ نَجْمٌ يَظْهَرُ عَقِبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ «صَلَاةَ الشَّاهِدِ» . رَوَى النَّسَائِيُّ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ» (أَيْ الْعَصْرِ) فُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا» إِلَى قَوْلِهِ: «وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِ الطَّارِقِ نَوْعُ الشُّهُبِ، رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ النَّجْمَ الطَّارِقَ هُوَ كَوْكَبُ زُحَلَ (لِأَنَّهُ مُبْرَزٌ عَلَى الْكَوَاكِبِ بِقُوَّةِ شُعَاعِهِ) . وَعَنْهُ: أَنَّهُ الثُّرَيَّا

(لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ عَلَيْهَا النَّجْمَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ نُجُومُ بُرْجِ الْجَدْيِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ النَّجْمَ كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَاشْتُهِرَ فِي ذَلِكَ فِي نَجْمِ الثُّرَيَّا. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالطَّارِقِ نَوْعُ الشُّهُبِ (أَيْ لِأَنَّ الشِّهَابَ يَنْقَضُّ فَيَلُوحُ كَأَنَّهُ يَجْرِي فِي السَّمَاءِ كَمَا يسير السائر إِذا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ) . فَالتَّعْرِيفُ فِي لَفْظِ النَّجْمُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَخُصَّ عُمُومُهُ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الطَّارِقِ أَيْ أَنَّ الشِّهَابَ عِنْدَ انْقِضَاضِهِ يُرَى سَائِرًا بِسُرْعَةٍ ثُمَّ يَغِيبُ عَنِ النَّظَرِ فَيَلُوحُ كَأَنَّهُ اسْتَقَرَّ فَأَشْبَهَ إِسْرَاعَ السَّائِرِ لَيْلًا ليبلغ إِلَى الْأَحْيَاء الْمَعْمُورَةِ فَإِذَا بَلَغَهَا وَقَفَ سَيْرُهُ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ جُعِلَ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً رَمْزِيَّةً عَنِ الْمَقْصُودِ. وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ فَهُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِهِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الْحَافِظِ تَسْتَلْزِمُ شَيْئًا يَحْفَظُهُ وَهُوَ الْأَعْمَالُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِرَادَةَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهَا وَالْجَزَاءَ بِمَا تَقْتَضِيهِ جَزَاءً مُؤَخَّرًا بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِئَلَّا تَذْهَبَ أَعْمَالُ الْعَامِلِينَ سُدًى وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْجَزَاءَ مُؤَخَّرٌ إِلَى مَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ إِذِ الْمُشَاهَدُ تَخَلُّفُ الْجَزَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِكَثْرَةٍ، فَلَوْ أُهْمِلَ الْجَزَاءُ لَكَانَ إِهْمَالُهُ مُنَافِيًا لِحِكْمَةِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ مُبْدِعِ هَذَا الْكَوْنِ كَمَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَهَذَا الْجَزَاءُ الْمُؤَخَّرُ يَسْتَلْزِمُ إِعَادَةَ حَيَاةٍ لِلذَّوَاتِ الصَّادِرَةِ مِنْهَا الْأَعْمَالُ. فَهَذِهِ لَوَازِمُ أَرْبَعَةٌ بِهَا كَانَتِ الْكِنَايَةُ تَلْوِيحِيَّةً رَمْزِيَّةً. وَقَدْ حَصَلَ مَعَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِفَادَةُ أَنَّ عَلَى الْأَنْفُسِ حَفَظَةً فَهُوَ إِدْمَاجٌ. وَالْحَافِظُ: هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ أَمْرًا وَلَا يُهْمِلُهُ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ غَرَضٌ مَقْصُودٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ تَخْفِيفِ الْمِيمِ تَكُونُ (إِنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَلَمَا مُرَكَّبَةً مِنَ اللَّامِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ (إِن) النافية و (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَعَهَا (مَا) الزَّائِدَةُ بَعْدَ اللَّامِ لِلتَّأْكِيدِ وَأَصْلُ الْكَلَامِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ.

[سورة الطارق (86) : الآيات 5 إلى 7]

وَعَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ تَكُونُ (إِنْ) نَافِيَةً ولَمَّا حَرْفٌ بِمَعْنَى (إِلَّا) فَإِنَّ (لَمَّا) تَرِدُ بِمَعْنَى (إِلَّا) فِي النَّفْيِ وَفِي الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ لَمَّا فَعَلْتَ كَذَا أَيْ إِلَّا فَعَلْتَ، عَلَى تَقْدِيرِ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَ كَذَا فَآلَتْ إِلَى النَّفْيِ وَكُلٌّ مِنْ (إِن) المخففة و (إِنِ) النَّافِيَةِ يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ زِيَادَةً عَلَى إِفَادَتِهِ تَحْقِيقَ الْجَزَاءِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ اعْتِقَادَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَأَنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ على ذَلِك. [5- 7] [سُورَة الطارق (86) : الْآيَات 5 إِلَى 7] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي الْخِلْقَةِ الْأُولَى، عَلَى مَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: 4] مِنْ لَوَازِمَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ الرَّمْزِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ رَأَيْتُمُ الْبَعْثَ مُحَالًا فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ الثَّانِيَ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ. فَهَذِهِ الْفَاءُ مُفِيدَةٌ مُفَادَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ. وَالنَّظَرُ: نَظَرُ الْعَقْلِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ الْمُؤَدِّي إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ بِالِاسْتِدْلَالِ فَالْمَأْمُورُ بِهِ نَظَرُ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ فِي أَدِلَّةِ إِثْبَاتِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ التَّفْرِيعُ عَلَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: 4] . وَ (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّ خُلِقَ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خُلِقَ وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَفَكَّرِ الْإِنْسَانُ فِي جَوَابِ: مَا شَيْءٌ خُلِقَ مِنْهُ؟ فقدّم المتعلّق عَلَى عَامِلِهِ تَبَعًا لِتَقْدِيمٍ مَا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْ (مِنِ) اسْم الِاسْتِفْهَام. و (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتْ فِعْلَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ عَنِ الْعَمَلِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَجِبُ عِلْمُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] . فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ. وَحَذَفَ أَلِفَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ وُقُوعِهَا مَجْرُورَةً.

وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ أَجَابَ عَنْهُ الْمُتَكَلِّمُ بِالِاسْتِفْهَامِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَإِ: 1، 2] . والْإِنْسانُ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ مُنْكِرِ الْبَعْثِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ إِلَخْ. وَمَعْنَى دافِقٍ خَارِجٌ بِقُوَّةٍ وَسُرْعَةٍ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ عَلَى نُطْفَةِ الرَّجُلِ. وَصِيغَةُ دافِقٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ دَفَقَ الْقَاصِرِ، وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُسْتَعْمَلُ دَفَقَ قَاصِرًا. وَجَعَلُوا دَافِقًا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ النَّادِرِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَجْعَلُونَ الْمَفْعُولَ فَاعِلًا، إِذَا كَانَ فِي طَرِيقَةِ النَّعْتِ. وَسِيبَوَيْهِ جَعَلَهُ مِنْ صِيَغِ النَّسَبِ كَقَوْلِهِمْ: لَابِنٌ وَتَامِرٌ، فَفُسِّرَ دَافِقٌ: بِذِي دَفْقٍ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ وَيَكُونَ دَفَقَ مُطَاوِعَ دَفَقَهُ كَمَا جَعَلَ الْعَجَّاجُ جَبَرَ بِمَعْنَى انْجَبَرَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجُبِرَ وَأَنَّهُ سَمَاعِيٌّ. وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ لِإِدْمَاجِ التَّعْلِيمِ وَالْعِبْرَةِ بِدَقَائِقَ التَّكْوِينِ لِيَسْتَيْقِظَ الْجَاهِلُ الْكَافِرُ وَيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُ عِلْمًا وَيَقِينًا. وَوُصِفَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَفَطَّنُونَ لِذَلِكَ. وَالْخُرُوجُ مُسْتَعْمَلٌ فِي ابْتِدَاءِ التَّنَقُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَلَوْ بِدُونِ بُرُوزٍ فَإِنَّ بُرُوزَ هَذَا الْمَاءِ لَا يَكُونُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. والصُّلْبِ: الْعَمُودُ الْعَظْمِيُّ الْكَائِنُ فِي وَسَطِ الظَّهْرِ، وَهُوَ ذُو الْفِقْرَاتِ. والتَّرائِبِ: جَمْعُ تَرِيبَةٍ، وَيُقَالُ: تُرِيبٌ. وَمُحَرَّرُ أَقْوَالِ اللُّغَوِيِّينَ فِيهَا أَنَّهَا عِظَامُ الصَّدْرِ الَّتِي بَيْنَ الترقوتين والثّديين ووسموه بِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ.

وَالتَّرَائِبُ تُضَافُ إِلَى الرَّجُلِ وَإِلَى الْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ وُقُوعِهَا فِي كَلَامِهِمْ فِي أَوْصَافِ النِّسَاءِ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى وَصْفِهَا فِي الرِّجَالِ. وَقَوْلُهُ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى ماءٍ دافِقٍ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ فَتَكُونُ جُمْلَةُ يَخْرُجُ حَالًا مِنْ ماءٍ دافِقٍ أَيْ يَمُرُّ ذَلِكَ الْمَاءُ بَعْدَ أَنْ يُفْرَزَ مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ وَالْحَسَنُ، أَيْ أَنَّ أَصْلَ تَكَوُّنِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَتَنَقُّلِهِ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَمُرُّ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ مَمَرٌّ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ لِأَنَّ الَّذِي بَيْنَهُمَا هُوَ مَا يَحْوِيهِ بَاطِنُ الصَّدْرِ وَالضُّلُوعِ مِنْ قَلْبٍ وَرِئَتَيْنِ. فَجُعِلَ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَوَّنُ جِسْمُ الْإِنْسَانِ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُخَالِطَهَا مَاءُ الرَّجُلِ فَإِذَا اخْتَلَطَ مَاءُ الرَّجُلِ بِمَا يُسَمَّى مَاءُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ شَيْءٌ رَطْبٌ كَالْمَاءِ يَحْتَوِي عَلَى بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةٍ يَثْبُتُ مِنْهَا مَا يَتَكَوَّنُ مِنْهُ الْجَنِينُ وَيُطْرَحُ مَا عَدَاهُ. وَهَذَا مُخَاطَبَةٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْرِفُونَ يَوْمَئِذَ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ بِذِكْرِ التَّرَائِبِ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا بَيْنَ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّسْلَ يَتَكَوَّنُ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَيَتَكَوَّنُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَهُوَ سَائِلٌ فِيهِ أَجْسَامٌ صَغِيرَةٌ تُسَمَّى فِي الطِّبِّ الْحَيَوَانَاتُ الْمَنَوِيَّةُ، وَهِيَ خُيُوطٌ مُسْتَطِيلَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ طَرَفٍ مُسَطَّحٍ بَيْضَوِيِّ الشَّكْلِ وَذَنَبٍ دَقِيقٍ كَخَيْطٍ، وَهَذِهِ الْخُيُوطُ يَكُونُ مِنْهَا تَلْقِيحُ النَّسْلِ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ، وَمَقَرُّهَا الْأُنْثَيَانِ وَهُمَا الْخُصْيَتَانِ فَيَنْدَفِعُ إِلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْ مَاءٍ هُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْمَنِيِّ لِلرَّجُلِ وَيُسَمَّى مَاءَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ بُوَيْضَاتٌ دَقِيقَةٌ كَرَوِيَّةُ الشَّكْلِ تَكُونُ فِي سَائِلٍ مَقَرُّهُ حُوَيْصَلَةٌ مِنْ حُوَيْصِلَاتٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِبْيَضَانِ لِلْمَرْأَةِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأُنْثَيَيْنِ لِلرَّجُلِ فَهُمَا غُدَّتَانِ تَكُونَانِ فِي جَانِبَيْ رَحِمِ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ مِبْيَضٍ يَشْتَمِلُ عَلَى عَدَدٍ مِنَ الْحُوَيْصِلَاتِ يَتَرَاوَحُ مِنْ عَشْرٍ إِلَى عِشْرِينَ. وَخُرُوجُ الْبَيْضَةِ مِنَ الْحُوَيْصَلَةِ يَكُونُ عِنْدَ انْتِهَاءِ نُمُوِّ الْحُوَيْصِلَةِ فَإِذَا انْتَهَى

[سورة الطارق (86) : الآيات 8 إلى 10]

نُمُوُّهَا انْفَجَرَتْ فَخَرَجَتِ الْبَيْضَةُ فِي قَنَاةٍ تَبْلُغُ بِهَا إِلَى تَجْوِيفِ الرَّحِمِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بُلُوغُ الْبَيْضَةِ النُّمُوَّ وَخُرُوجُهَا مِنَ الْحُوَيْصَلَةِ فِي وَقْتِ حَيْضِ الْمَرْأَةِ فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْعُلُوقُ إِذَا بَاشَرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِقُرْبِ انْتِهَاءِ حَيْضِهَا. وَأَصْلُ مَادَّةِ كِلَا الْمَاءَيْنِ مَادَّةٌ دَمَوِيَّةٌ تَنْفَصِلُ عَنِ الدِّمَاغِ وَتَنْزِلُ فِي عِرْقَيْنِ خَلْفَ الْأُذُنَيْنِ، فَأَمَّا فِي الرَّجُلِ فَيَتَّصِلُ الْعِرْقَانِ بِالنُّخَاعِ، وَهُوَ الصُّلْبُ ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى عِرْقٍ يُسَمَّى الْحَبْلَ الْمَنَوِيَّ مُؤَلَّفٍ مِنْ شَرَايِينَ وَأَوْرِدَةٍ وَأَعْصَابٍ وَيَنْتَهِي إِلَى الْأُنْثَيَيْنِ وَهُمَا الْغُدَّتَانِ اللَّتَانِ تُفْرِزَانِ الْمَنِيَّ فَيَتَكَوَّنُ هُنَالِكَ بِكَيْفِيَّةٍ دُهْنِيَّةٍ وَتَبْقَى مُنْتَشِرَةً فِي الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى أَنْ تُفْرِزَهَا الْأُنْثَيَانِ مَادَّةً دُهْنِيَّةً شَحْمِيَّةً وَذَلِكَ عِنْدَ دَغْدَغَةِ وَلَذْعِ الْقَضِيبِ الْمُتَّصِلِ بِالْأُنْثَيَيْنِ فَيَنْدَفِقُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ فَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ خَلْفَ الْأُذُنَيْنِ يَمُرَّانِ بِأَعْلَى صَدْرِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ التَّرَائِبُ لِأَن فِيهِ مَوضِع الثَّدْيَيْنِ وَهُمَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعُرُوقِ الَّتِي يَسِيرُ فِيهَا دَمُ الْحَيْضِ الْحَامِلُ لِلْبُوَيْضَاتِ الَّتِي مِنْهَا النَّسْلُ، وَالْحَيْضُ يَسِيلُ مِنْ فُوَّهَاتِ عُرُوقٍ فِي الرَّحِمِ، وَهِيَ عُرُوقٌ تَنْفَتِحُ عِنْدَ حُلُولِ إِبَّانِ الْمَحِيضِ وَتَنْقَبِضُ عَقِبَ الطُّهْرِ. وَالرَّحِمُ يَأْتِيهَا عَصَبٌ مِنَ الدِّمَاغِ. وَهَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ عِلْمٌ بِهِ لِلَّذِينَ نَزَلَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ إِشَارَةٌ مُجْمَلَةٌ وَقَدْ بَيَّنَهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ احْتِلَامِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ: تَغْتَسِلُ إِذَا أَبْصَرَتِ الْمَاءَ فَقِيلَ لَهُ: أَتَرَى الْمَرْأَةُ ذَلِكَ فَقَالَ: «وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ إِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أشبه أَعْمَامه» . [8- 10] [سُورَة الطارق (86) : الْآيَات 8 إِلَى 10] إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْمَقْصِدِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ النَّظَرُ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لَهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ نَتِيجَةِ الدَّلِيلِ، فَصَارَ

الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى وَبِذَلِكَ يَتَقَرَّرُ إِمْكَانُ إِعَادَةِ الْخَلْقِ وَيَزُولُ مَا زَعَمَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ اسْتِحَالَةِ تِلْكَ الْإِعَادَةِ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِمَعَادٍ وَلَكِنَّ بِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6] يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَعْرُوفٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ اسْمِهِ، وَأُسْنِدَ الرّجع إِلَى ضَمِيره دُونَ سُلُوكِ طَرِيقَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: خُلِقَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيضَاحٍ وَتَصْرِيحٍ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ رَجْعِهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانُ 5 [الطارق: 5] . وَالرَّجْعُ: مَصْدَرُ رَجَعَهُ الْمُتَعَدِّي. وَلَا يُقَالُ فِي مَصْدَرِ رَجَعَ الْقَاصِرِ إِلَّا الرُّجُوعُ. ويَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ مُتَعَلِّقٌ بِ رَجْعِهِ أَيْ يَرْجِعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. والسَّرائِرُ: جَمْعُ سَرِيرَةٍ وَهِيَ مَا يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُخْفِيهِ مِنْ نَوَايَاهُ وَعَقَائِدِهِ. وَبَلْوُ السَّرَائِرِ، اخْتِبَارُهَا وَتَمْيِيزُ الصَّالِحِ مِنْهَا عَنِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِسَابِ عَلَيْهَا وَالْجَزَاءِ، وَبَلْوُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَقْوَالِ مُسْتَفَادٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى مِنْ بَلْوِ السَّرَائِرِ. وَلَمَّا كَانَ بَلْوُ السَّرَائِرِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَسْتُرُهُ النَّاسُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَكَانَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ مُشْعِرًا بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الشَّنِيعَةِ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانُ [الطارق: 5] . وَالْمَقْصُودُ، الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُمُ الْمَسُوقُ لِأَجْلِهِمْ هَذَا التَّهْدِيدُ، أَيْ فَمَا لِلْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ مِنْ قُوَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَا لَهُ مِنْ نَاصِرٍ يدافع عَنهُ.

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 14]

[سُورَة الطارق (86) : الْآيَات 11 إِلَى 14] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ الدَّلِيلُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ أَعْقَبَ بِتَحْقِيقِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَأَنَّ مَا فِيهِ قَوْلٌ فَصْلٌ إِبْطَالًا لِمَا مُوِّهَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّ أَخْبَارَهُ غَيْرُ صَادِقَةٍ إِذْ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِإِحْيَاءِ الرِّمَمِ الْبَالِيَةِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ. وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقًا لِصِدْقِ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى. وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الْقَسَمُ بِ السَّماءِ كَمَا أَقْسَمَ بِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاءِ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْغَيْثُ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ النَّاسِ، فَإِنَّ إِصْلَاحَ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ كَإِصْلَاحِ الْمَطَرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا» . الْحَدِيثَ. وَفِي اسْمِ الرَّجْعِ مُنَاسَبَةٌ لِمَعْنَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: 8] وَفِيهِ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ وَفِي مُسَمَّى الرَّجْعِ وَهُوَ الْمَطَرُ الْمُعَاقِبُ لِمَطَرٍ آخَرَ مُنَاسَبَةً لِمَعْنَى الرَّجْعِ الْبَعْثِ فَإِنَّ الْبَعْثَ حَيَاةٌ مُعَاقَبَةٌ بِحَيَاةٍ سَابِقَةٍ. وَعُطِفَ الْأَرْضِ فِي الْقَسَمِ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْأَرْضِ إِتْمَامَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُقْسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ. والصَّدْعِ: الشق، وَهُوَ مصدر بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَصْدُوعِ عَنْهُ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْ شُقُوقِ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا [عبس: 25- 29] . وَلِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ إِيمَاءً إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ دَلَائِلَ إِحْيَاءِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ فَكَانَ فِي هَذَا الْقَسَمِ دَلِيلَانِ. وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمًا لِ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ.

[سورة الطارق (86) : الآيات 15 إلى 16]

وَالْفَصْلُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّفْرِقَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَاصِلٌ. وَعَطْفُ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ «قَوْلٌ فَصْلٌ» يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَبَيَّنَ وَجْهَ هَذَا الْعَطْفِ وَمُنَاسَبَتَهُ، وَالَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَعْقَبَ بِهِ الثَّنَاءَ عَلَى الْقُرْآنِ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَهْزِلُ إِذْ يُخْبِرُ بِأَنَّ الْمَوْتَى سَيَحْيَوْنَ، يُرِيدُونَ تَضْلِيلَ عَامَّتِهِمْ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوَارِعَ الْقُرْآنِ وَإِرْشَادَهُ وَجَزَالَةَ مَعَانِيهِ يَخْتَلِقُونَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَعَاذِيرَ لِيَصْرِفُوهُمْ عَنْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَهُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] فَالْهَزْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ ضِدُّ الْجِدِّ أَعْنِي الْمَزْحَ وَاللَّعِبَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ إِذَا وَرَدَتْ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لَا مَحْمَلَ لَهَا إِلَّا إِرَادَةَ التَّعْرِيضِ وَإِلَّا كَانَتْ تَقْصِيرًا فِي الْمَدْحِ لَا سِيَّمَا إِذَا سَبَقَتْهَا مَحْمَدَةٌ مِنَ الْمَحَامِدِ الْعَظِيمَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ الْهَزْلُ عَلَى الْهَذَيَانِ قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أَي بالهذيان. [15- 16] [سُورَة الطارق (86) : الْآيَات 15 إِلَى 16] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) اسْتِئْنَاف بياني ينبيء عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ يَعْجَبُ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ قَوْلٌ فَصْلٌ وَيَعْجَبُ مِنْ مَعَاذِيرِهِمُ الْبَاطِلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هُوَ هَزْلٌ أَوْ هَذَيَانٌ أَوْ سِحْرٌ، فَبَيَّنَ لِلسَّامِعِ أَنَّ عَمَلَهُمْ ذَلِكَ كَيْدٌ مَقْصُودٌ. فَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ مَا يَصْرِفُهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا مَا تَحَقَّقُوهُ مِنْ عدم صدقه، وهم إِنَّمَا يَصْرِفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ الْحِفَاظُ عَلَى سِيَادَتِهِمْ فَيُضَلِّلُونَ عامتهم بِتِلْكَ التعلات الْمُلَفَّقَةِ. وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ هَذَا الْخَبَرِ لِغَرَابَتِهِ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَأَكِيدُ كَيْداً تَتْمِيمٌ وَإِدْمَاجٌ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً موجها إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ الرَّاجِعَةِ إِلَى تَكْذِيبِ من جَاءَ الْقُرْآن. أَيْ إِنَّمَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ هَزْلٌ لِقَصْدِ الْكَيْدِ وَلَيْسَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَكَ كَاذِبًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] .

[سورة الطارق (86) : آية 17]

وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمًا لِ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: 13، 14] مِنَ الرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْقُرْآنَ بِعَكْسِ ذَلِكَ، أَيْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ يَكِيدُونَ. وَجُمْلَةُ: وَأَكِيدُ كَيْداً تَثْبِيتٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدٌ بِالنَّصْرِ. وكَيْداً فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ وَقُصِدَ مِنْهُ مَعَ التَّوْكِيدِ تَنْوِينُ تَنْكِيرِهِ الدَّالُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَالْكَيْدُ: إِخْفَاءُ قَصْدِ الضُّرِّ وَإِظْهَارُ خِلَافِهِ، فَكَيْدُهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا الْكَيْدُ الْمُسْنَدُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِمْهَالِ مَعَ إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ عِنْدَ وُجُودِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ مِنْ إِنْزَالِهِ بِهِمْ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِمْهَالِهِمْ وَتَرْكِهِمْ مَعَ تَقْدِيرِ إِنْزَالِ الْعِقَابِ بِهِمْ بِهَيْئَةِ الْكَائِدِ يُخْفِي إِنْزَالَ ضُرِّهِ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَحَسَّنَهَا محسن المشاكلة. [17] [سُورَة الطارق (86) : آيَة 17] فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالْإِمْهَالِ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] بِمَا فِيهِ من تَصْرِيح وَتَعْرِيضٍ وَتَبْيِينٍ وَوَعْدٍ بِالنَّصْرِ، أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ بِطَلَبِ إِنْزَالِ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا محَالة. والتهميل: مَصْدَرُ مَهَلَ بِمَعْنَى أَمْهَلَ، وَهُوَ الْإِنْظَارُ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ «مَهِّلْ» وأَمْهِلْهُمْ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّسْكِينِ، وَخُولِفَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ فِي التَّعْدِيَةِ مَرَّةً بِالتَّضْعِيفِ وَأُخْرَى بِالْهَمْزِ لِتَحْسِينِ التَّكْرِيرِ. وَالْمُرَادُ بِ الْكافِرِينَ مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ [الطارق: 15] فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَذَمَّةِ الْكُفْرِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ بَلْ أُرِيدَ الْكَافِرُونَ الْمَعْهُودُونَ. ورُوَيْداً تَصْغِيرُ رُودٍ بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا وَاوٌ، وَلَعَلَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَأَمَّا

قِيَاسُ مَصْدَرِهِ فَهُوَ رَوْدٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمَهْلُ وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ أَمْهِلْهُمْ فَقَدْ أَكَّدَ قَوْلَهُ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ مَرَّتَيْنِ. وَالْمَعْنَى: انْتَظِرْ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ انْتِظَارَ تَرَبُّصٍ وَاتِّيَادٍ فَيَكُونُ رُوَيْداً كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْمُطْمَئِنَ لِحُصُولِ شَيْءٍ لَا يَسْتَعْجِلُ بِهِ. وَتَصْغِيرُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ، أَيْ مُهْلَةٌ غَيْرُ طَوِيلَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوَيْداً هُنَا اسْمَ فِعْلٍ لِلْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: رُوَيْدَكَ، لِأَنَّ اقْتِرَانَهُ بِكَافِ الْخِطَابِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفِعْلِ لَيْسَ شَرْطًا وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: الْكافِرِينَ ورُوَيْداً كَلَامًا مُسْتَقِلًّا، فَلَيْسَ وُجُودُ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ قَبْلَهُ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْمَصْدَرُ، أَيْ تَصَبَّرْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْوَعْدِ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

87- سورة الأعلى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 87- سُورَةُ الْأَعْلَى هَذِهِ السُّورَةُ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي السُّنَّةِ سُورَةُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «قَامَ مُعَاذٌ فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَطَوَّلَ فَشَكَاهُ بَعْضُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ أَيْنَ كُنْتَ عَنْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالضُّحَى» اهـ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَرَأْتُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» . وَسَمَّتْهَا عَائِشَةُ «سَبِّحْ» . رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَبِّحِ» الْحَدِيثَ. فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا أَرَادَتِ التَّسْمِيَةَ لِأَنَّهَا لم تَأتي بِالْجُمْلَةِ الْقُرْآنِيَّةِ كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ. لِأَنَّهَا اخْتُصَّتْ بِالِافْتِتَاحِ بِكَلِمَةِ «سَبِّحْ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَسَمَّاهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَكُتَّابُ الْمَصَاحِفِ «سُورَةُ الْأَعْلَى» لِوُقُوعِ صِفَةِ الْأَعْلَى فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الْأَعْلَى: 14- 15] نَزَلَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَيْ فَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ فَتَكُونُ السُّورَةُ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَنِيٌّ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ السُّورَة كلهَا مَدِينَة.

أغراضها

وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي يَشْهَدُ لِكَوْنِهَا مَكِّيَّةً وَحَسْبُكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] . وَهِيَ مَعْدُودَةٌ ثَامِنَةً فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّكْوِيرِ وَقَبْلَ سُورَةِ اللَّيْلِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ أَنَّهَا سَابِعَةٌ قَالُوا: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثُمَّ ن، ثُمَّ المزمل، ثمَّ المدثر، ثُمَّ تَبَّتْ، ثُمَّ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ثُمَّ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ. وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فَعَدَّ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ الْمُدَّثِّرِ ثُمَّ عَدَّ الْبَقِيَّةَ فَهِيَ عِنْده ثامنة، فَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّورِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى يُنَادِي عَلَى ذَلِكَ. وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفَاقِ أهل الْعدَد. أغراضها اشْتَمَلَتْ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِشَارَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ لِانْفِرَادِهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ بَقَاؤُهُ. وَعَلَى تَأْيِيدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتِهِ عَلَى تَلَقِّي الْوَحْيِ. وَأَنَّ اللَّهَ مُعْطِيهِ شَرِيعَةً سَمْحَةً وَكِتَابًا يَتَذَكَّرُ بِهِ أَهْلُ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيُعْرِضُ عَنْهُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَلَا يعبأون بِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ يُصَدِّقُهُ مَا فِي كُتُبِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ تَهْوِينٌ لِمَا يَلْقَاهُ مِنْ إِعْرَاض الْمُشْركين. [1- 5] [سُورَة الْأَعْلَى (87) : الْآيَات 1 إِلَى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) الِافْتِتَاحُ بِأَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسَبِّحَ اسْمَ رَبِّهِ بِالْقَوْلِ، يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَيُلْقِي إِلَيْهِ عَقِبَهُ بِشَارَةً وَخَيْرًا لَهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] الْآيَاتِ كَمَا سَيَأْتِي فَفِيهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ.

وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تُضَافُ لِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْهُ لَا تَرْفَعُ وَلَا تَنْصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ إِلَّا مَا هُوَ اسْم الله وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْمَصْدَرِ مِنْهُ نَحْوُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهُوَ مِنَ الْمعَانِي الدِّينِيَّة، فالأشبه أَنَّهُ مَنْقُولٌ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . وَإِذْ عُدِّيَ فِعْلُ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا إِلَى اسْمٍ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ بِطَرِيقَةِ إِجْرَاءِ الْأَخْبَارِ الطَّيِّبَةِ أَوِ التَّوْصِيفِ بِالْأَوْصَافِ الْمُقَدَّسَةِ لِإِثْبَاتِهَا إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي، وَلِمَا كَانَ أَقْوَالًا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ إِجْرَاءُ الْأَخْبَارِ الشَّرِيفَةِ وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَعْلَامٍ وَصِفَاتٍ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ آيِلٌ إِلَى تَنْزِيهِ الْمُسَمَّى بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ. وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِنَاطَةُ التَّسْبِيحِ بِلَفْظِ اسْمِ اللَّهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَة: 74] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا التَّفْسِيرِ. فَتَسْبِيحُ اسْمِ اللَّهِ النُّطْقُ بِتَنْزِيهِهِ فِي الْخُوَيِّصَةِ وَبَيْنَ النَّاسِ بِذِكْرٍ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ كَالسُّجُودِ وَالْحَمْدِ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ اسْتِحْضَارَ النَّاطِقِ بِأَلْفَاظِ التَّسْبِيحِ مَعَانِيَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ. وَبِتَظَاهُرِ النُّطْقِ مَعَ اسْتِحْضَارِ الْمَعْنَى يَتَكَرَّرُ الْمَعْنَى عَلَى ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَيَتَجَدَّدُ مَا فِي نَفْسِهِ من تَعْظِيم لله تَعَالَى. وَأَمَّا تَفَكُّرُ الْعَبْدِ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْدِيدُ تَنْزِيهِهِ فِي ذِهْنِهِ فَهُوَ تَسْبِيحٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَمُسَمَّى اسْمِهِ وَلَا يُسَمَّى تَسْبِيحُ اسْمِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي عَلَى لَفْظٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا تَسْبِيحُ ذَاتِ اللَّهِ وَلَيْسَ تَسْبِيحًا لِاسْمِهِ. وَهَذَا مَلَاكُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ تَعَلُّقِ لَفْظِ التَّسْبِيحِ بِلَفْظِ اسْمِ اللَّهِ نَحْوَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَبَيْنَ تَعَلُّقِهِ بِدُونِ اسْمٍ نَحْوَ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: 26] وَنَحْوَ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الْأَعْرَاف: 206] فَإِذَا قُلْنَا: اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: 1] أَوْ قُلْنَا: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الْحَشْر: 23] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ كَانَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا لِاسْمِهِ

تَعَالَى، وَإِذَا نَفَيْنَا الْإِلَاهِيَّةَ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهَا لَا تُخْلَقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: 73] كَانَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا لِذَاتِ اللَّهِ لَا لِاسْمِهِ لِأَنَّ اسْمَهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِخْبَارٌ وَلَا تَوْصِيفٌ. فَهَذَا مَنَاطُ الْفَرْقِ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَاسْتِعْمَالِ وَسَبِّحْهُ وَمَآلُ الْإِطْلَاقَيْنِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ مُرَادٌ بِهِ الْإِرْشَادُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّسْبِيحِ بِالْقَوْلِ وُجُودَ قَرِينَةٍ فِي الْكَلَامِ تَقْتَضِيهِ مِثْلَ التَّوْقِيتِ بِالْوَقْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَاب: 42] فَإِنَّ الَّذِي يُكَلِّفُ بِتَوْقِيتِهِ هُوَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ دُونَ الْعَقَائِدِ، وَمِثْلَ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ بِالْبَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [السَّجْدَة: 15] فَإِنَّ الْحَمْدَ قَوْلٌ فَلَا يُصَاحِبُ إِلَّا قَوْلًا مِثْلَهُ. وتعريف: اسْمَ بطرِيق الْإِضَافَةِ إِلَى رَبِّكَ دُونَ تَعْرِيفِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ الْجَلَالَةِ نَحْوَ: سَبِّحِ اسْمَ اللَّهِ، لِمَا يُشْعِرُ بِهِ وَصْفُ رَبٍّ مِنْ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ. وَأَمَّا إِضَافَةُ (رَبٍّ) إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِتَشْرِيفِهِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ زَائِدٌ عَلَى التَّكْلِيفِ بِالتَّسْبِيحِ. ثُمَّ أُجْرِيَ عَلَى لَفْظِ رَبِّكَ صِفَةُ الْأَعْلَى وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الصِّلَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَصَرُّفَاتِ قُدْرَتِهِ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّنْزِيهِ لِصِفَاتِ ذَاتِهِ وَلِصِفَاتِ إِنْعَامِهِ عَلَى النَّاسِ بِخَلْقِهِمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمِ، وَهِدَايَتِهِمْ، وَرِزْقِهِمْ، وَرِزْقِ أَنْعَامِهِمْ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى مُوجَبِ الْأَمْرِ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ بِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِالتَّنْزِيهِ اسْتِحْقَاقًا لِذَاتِهِ وَلِوَصْفِهِ بِصِفَةِ أَنَّهُ خَالِقٌ الْمَخْلُوقَاتِ خَلْقًا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ، وَبِأَنَّهُ أَنْعَمَ بِالْهدى والرزق الَّذين بِهِمَا اسْتِقَامَةُ حَالِ الْبَشَرِ فِي النَّفْسِ وَالْجَسَدِ وَأُوثِرَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ لِمَا لَهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِغَرَضِ السُّورَةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. فَلَفْظُ الْأَعْلَى اسْمٌ يُفِيدُ الزِّيَادَةَ فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ، أَيِ الِارْتِفَاعُ. وَالِارْتِفَاعُ مَعْدُودٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنَ الْكَمَالِ فَلَا يُنْسَبُ الْعُلُوُّ بِدُونِ تَقْيِيدٍ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْمُومٍ فِي الْعُرْفِ، وَلِذَلِكَ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَ وَصْفِ الْأَعْلَى مُفَضَّلٌ عَلَيْهِ أَفَادَ التَّفْضِيلَ الْمُطْلَقَ كَمَا فِي وَصْفِهِ تَعَالَى هُنَا. وَلِهَذَا حُكِيَ عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] .

وَالْعُلُوُّ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ وَصْفُهُ تَعَالَى: الْأَعْلَى عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ الْكَمَالُ التَّامُّ الدَّائِمُ. وَلَمْ يُعَدَّ وَصْفُهُ تَعَالَى: الْأَعْلَى فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى اسْتِغْنَاءً عَنِ اسْمِهِ الْعَلِيُّ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ فَلَا يُعَدُّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ إِلَّا مَا كَثُرَ إِطْلَاقُهُ إِطْلَاقَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ أَوْغَلُ مِنَ الصِّفَاتِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْعُلُوُّ فِي الرُّتْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ مِثْلُ الْعُلُوِّ فِي التَّدْرِيجَاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَمِثَالُ الدَّرَجَةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالْفَاعِلِ وَالْقَابِلِ وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ اهـ. وَإِيثَارُ هَذَا الْوَصْفِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ التَّنْوِيهَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّثْبِيتَ عَلَى تَلَقِّيهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّذْكِيرِ وَذَلِكَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ فَهُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ وَصْفِ الْعُلُوِّ الْإِلَهِيِّ إِذْ هُوَ كَلَامُهُ. وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ مَلَاكُ الْقَانُونِ فِي تَفْسِيرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَامِلِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِوَصْفِ الْأَعْلَى فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ. وَقَدْ جُعِلَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى دُعَاءُ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ إِذْ وَرَدَ أَنْ يَقُولَ السَّاجِدُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، لِيَقْرِنَ أَثَرَ التَّنْزِيهِ الْفِعْلِيِّ بِأَثَرِ التَّنْزِيهِ الْقَوْلِيِّ. وَجُمْلَةُ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى وَصْفَيْنِ: وَصْفِ الْخَلْقِ وَوَصْفِ تَسْوِيَةِ الْخَلْقِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ خَلَقَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ عَامًّا، وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ شَأْنُ حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ مُوسَى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ خَاصًّا، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ كَمَا قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ خَلَقَ آدَمَ كَمَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، أَيْ بِقَرِينَةِ قَرْنِ فِعْلِ خَلَقَ بِفِعْلِ «سَوَّى» قَالَ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحجر: 29] الْآيَةَ. وَعَطَفَ جُمْلَةَ: فَسَوَّى بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصِّلَةِ وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:

يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّ ... ابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ لِأَنَّ التَّلَهُّفَ يَحِقُّ إِذَا صَبَّحَهُمْ فَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ وَآبَ بِهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دِفَاعَهُ وَلَا اسْتِرْجَاعَهُ. فَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَوَّى لِلتَّفْرِيعِ فِي الذِّكْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخلق مقدم فِي اعْتِبَارِ الْمُعْتَبَرِ عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَإِنْ كَانَ حُصُولُ التَّسْوِيَةِ مُقَارِنًا لِحُصُولِ الْخَلْقِ. وَالتَّسْوِيَةُ: تَسْوِيَةُ مَا خَلَقَهُ فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ فَالتَّسْوِيَةُ أَنْ جَعَلَ كُلَّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مُعَادِلًا، أَيْ مُنَاسِبًا لِلْأَعْمَالِ الَّتِي فِي جِبِلَّتِهِ فَاعْوِجَاجُ زُبَانَى الْعَقْرَبِ مِنْ تَسْوِيَةِ خَلْقِهَا لِتَدْفَعَ عَن نَفسهَا بهَا بِسُهُولَةٍ. وَلِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لِلْخِلْقَةِ عَطَفَ عَلَى فِعْلِ خَلَقَ بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّسَبُّبِ، أَيْ تَرَتَّبَ عَلَى الْخَلْقِ تَسْوِيَتُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَضْعُ الْمِقْدَارِ وَإِيجَادُهُ فِي الْأَشْيَاءِ فِي ذَوَاتِهَا وَقُوَاهَا، يُقَالُ: قَدَّرَ بِالتَّضْعِيفِ وَقَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَهَا الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمِقْدَارُ: أَصْلُهُ كَمِّيَّةُ الشَّيْءِ الَّتِي تُضْبَطُ بِالذَّرْعِ أَوِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى تَكْوِينِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُنَظَّمَةٍ مُطَّرِدَةٍ مِنْ تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ الْجَسَدِيَّةِ الظَّاهِرَةِ مِثْلَ الْيَدَيْنِ، وَالْبَاطِنَةِ مِثْلَ الْقَلْبِ، وَمِنْ إِيدَاعِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ كَالْحِسِّ وَالِاسْتِطَاعَةِ وَحِيَلِ الصِّنَاعَةِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي قَدَّرَ وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ تَكْرِيرِهِ، لِلِاهْتِمَامِ بِكُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ وَإِثْبَاتِهَا لِمَدْلُولِ الْمَوْصُولِ وَهَذَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ. وَعَطْفُ قَوْله: فَهَدى بِالْفَاءِ مِثْلُ عَطْفِ فَسَوَّى، فَإِنْ حُمِلَ خَلَقَ وقَدَّرَ عَلَى عُمُومِ الْمَفْعُولِ كَانَتِ الْهِدَايَةُ عَامَّةً. وَالْقَوْلُ فِي وَجْهِ عَطْفِ فَهَدى بِالْفَاءِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي عَطْفِ فَسَوَّى وَعَطْفُ فَهَدى عَلَى قَدَّرَ عَطْفُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ أَيْ فَهَدَى كُلَّ

مُقَدَّرٍ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ فَهِدَايَةُ الْإِنْسَانِ وَأَنْوَاعِ جِنْسِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ الْإِدْرَاكُ وَالْإِرَادَةُ هِيَ هِدَايَةُ الْإِلْهَامِ إِلَى كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا قُدِّرَ فِيهِ مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْقُوَى فِيمَا يُنَاسِبُ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِ فَكُلَّمَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ حَصَلَ بِأَثَرِهِ الِاهْتِدَاءُ إِلَى تَنْفِيذِهِ. وَالْمَعْنَى: قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا فَهَدَاهَا إِلَى أَدَاءِ وظائفها كَمَا قدّرها لَهَا، فَاللَّهُ لَمَّا قَدَّرَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنُّطْقِ وَالْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْعَقْلِ وَآلَاتِ الْجَسَدِ هَدَاهُ لِاسْتِعْمَالِ فِكْرِهِ لِمَا يحصّل لَهُ مَا خُلِقَ لَهُ، وَلَمَّا قَدَّرَ الْبَقَرَةَ لِلدَّرِّ ألهمها الرَّعْي ورئمان وَلَدِهَا لِتَدِرَّ بِذَلِكَ لِلْحَالِبِ، وَلِمَا قَدَّرَ النَّحْلَ لِإِنْتَاجِ الْعَسَلِ أَلْهَمَهَا أَنْ تَرْعَى النَّوَرَ وَالثِّمَارَ وَأَلْهَمَهَا بِنَاءَ الْجَبْحِ وَخَلَايَاهُ الْمُسَدَّسَةِ الَّتِي تَضَعُ فِيهَا الْعَسَلَ. وَمِنْ أَجَلِّ مَظَاهِرِ التَّقْدِيرِ وَالْهِدَايَةِ تَقْدِيرُ قُوَى التَّنَاسُلِ لِلْحَيَوَانِ لِبَقَاءِ النَّوْعِ. فَمَفْعُولُ «هَدَى» مَحْذُوفٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِمَا فِيهِ قَابِلِيَّةُ الْهَدْيِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِذَوَاتِ الْإِدْرَاكِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْأَنْوَاعَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ وَقَدَّرَ نِظَامَهَا وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا الْإِدْرَاكَ مِثْلَ تَقْدِيرِ الْإِثْمَارِ لِلشَّجَرِ، وَإِنْتَاجِ الزَّرِيعَةِ لِتَجَدُّدِ الْإِنْبَاتِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَهَدى لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَمُقَدَّرَةٌ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَهْدِيَّةٍ لِعَدَمِ صَلَاحِهَا لِلِاهْتِدَاءِ، وَإِنْ جُعِلَ مَفْعُولُ خَلَقَ خَاصًّا، وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ مَفْعُولُ قَدَّرَ عَلَى وِزَانِهِ، أَيْ تَقْدِيرُ كَمَالِ قُوَى الْإِنْسَانِ، وَكَانَتِ الْهِدَايَةُ هِدَايَةً خَاصَّةً وَهِيَ دَلَالَةُ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ. وَأُوثِرَ وَصْفَا التَّسْوِيَةِ وَالْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ نِعَمٌ عَلَى النَّاسِ وَدَالَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ تَعَالَى للتنزيه لِأَن هذَيْن الْوَصْفَيْنِ مُنَاسَبَةٌ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ فَإِنَّ الَّذِي يُسَوِّي خَلْقَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْوِيَةً تُلَائِمُ مَا خَلَقَهُ لِأَجْلِهِ مِنْ تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ لَا يَفُوتُهُ أَنْ يُهَيِّئَهُ لِحِفْظِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ وَتَيْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَإِعْطَائِهِ شَرِيعَةً مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ قَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] وَقَالَ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الْأَعْلَى: 8] . وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى تَذْكِيرٌ لِخَلْقِ جِنْسِ النَّبَاتِ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْكَلَأُ لِأَنَّهُ مَعَاشُ السَّوَائِمِ الَّتِي يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهَا.

وَالْمُرَادُ: إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ إِنْبَاتُهُ. وَالْمَرْعَى: النَّبْتُ الَّذِي تَرْعَاهُ السَّوَائِمُ، وَأَصْلُهُ: إِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ الْمَرْعِيِّ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ وَإِمَّا اسْمُ مَكَانِ الرَّعْيِ أُطْلِقَ عَلَى مَا يَنْبُتُ فِيهِ وَيُرْعَى إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ كَمَا أُطْلِقَ اسْمُ الْوَادِي عَلَى الْمَاءِ الْجَارِي فِيهِ. وَالْقَرِينَةُ جَعْلُهُ مَفْعُولًا لِ أَخْرَجَ، وَإِيثَارُ كَلِمَةِ الْمَرْعى دُونَ لَفْظِ النَّبَاتِ، لِمَا يُشْعِرُ بِهِ مَادَّةُ الرَّعْيِ مِنْ نَفْعِ الْأَنْعَامِ بِهِ وَنَفْعِهَا لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا مَعَ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ ... وَالْغُثَاءُ: بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ، وَيُقَالُ بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ هُوَ الْيَابِسُ مِنَ النَّبْتِ. وَالْأَحْوَى: الْمَوْصُوفُ بِالْحُوَّةِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهِيَ مِنَ الْأَلْوَانِ: سُمْرَةٌ تَقْرُبُ مِنَ السَّوَادِ. وَهُوَ صِفَةُ غُثاءً لِأَنَّ الْغُثَاءَ يَابِسٌ فَتَصِيرُ خُضْرَتُهُ حُوَّةً. وَهَذَا الْوَصْفُ أَحَوَى لِاسْتِحْضَارِ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ يَانِعًا وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِالْإِنْشَاءِ وَبِالْإِنْهَاءِ. وَفِي وَصْفِ إِخْرَاج الله تَعَالَى الْمَرْعَى وَجَعْلِهِ غُثَاءً أَحَوَى مَعَ مَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ فِي سِيَاقِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ إِيمَاءً إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ بِحَالِ الْغَيْثِ الَّذِي يَنْبُتُ بِهِ الْمَرْعَى فَتَنْتَفِعُ بِهِ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَإِلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ تَكْمُلُ وَيَبْلُغُ مَا أَرَادَ اللَّهُ فِيهَا كَمَا يَكْمُلُ الْمَرْعَى وَيَبْلُغُ نُضْجَهُ حِينَ يَصِيرُ غُثَاءً أَحَوَى، عَلَى طَرِيقَةٍ تَمْثِيلِيَّةٍ مَكْنِيَّةٍ رُمِزَ إِلَيْهَا بِذِكْرِ لَازِمِ الْغَيْثِ وَهُوَ الْمَرْعَى. وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ هَذَا الْإِيمَاءِ وَتَفْصِيلِهِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا» الْحَدِيثَ.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 إلى 7]

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى إِدْمَاجُ الْعِبْرَةِ بِتَصَارِيفِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَطْوَارِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِالْفَنَاءِ بَعْدَ الْحَيَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الرّوم: 54] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ نَضَارَةِ الْحَيَاةِ لِلْأَشْيَاءِ تُشْبِهُ الْمُدَّةَ الْقَصِيرَةَ، فَاسْتُعِيرَ لِعَطْفِ جَعَلَهُ غُثاءً الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِعَطْفِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ حكم الْمَعْطُوف بعد زمن قريب من زمن حُصُول الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ إِلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يُونُس: 24] . [6، 7] [سُورَة الْأَعْلَى (87) : الْآيَات 6 إِلَى 7] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] بِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ يَحْصُلُ لَهُ، فَهَذَا مَوْقِعُ الْبَيَانِ الصَّرِيحِ بِوَعْدِهِ بِأَنَّهُ سَيَعْصِمُهُ مِنْ نِسْيَانِ مَا يُقْرِئُهُ فَيُبَلِّغُهُ كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ وَيَحْفَظُهُ مِنَ التَّفَلُّتِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تُنْشِئُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَقُّبًا لِوَعْدٍ بِخَيْرٍ يَأْتِيهِ فَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ سَيَزِيدُهُ مِنَ الْوَحْيِ، مَعَ مَا فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَنْسى وَإِذ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَوَائِلِ السُّورِ نُزُولًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَلِسَانَهُ، يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيَخْشَى أَنْ يَتَفَلَّتَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [الْقِيَامَة: 16، 17] ، إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَنْ تَقْرَأَهُ: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [الْقِيَامَة: 18] . يَقُولُ: إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ فَاسْتَمِعْ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا قَرَأَ جِبْرِيلُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ» وَسُورَةُ الْقِيَامَةِ الَّتِي مِنْهَا لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَعْلَى فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِعَوْنِهِ عَلَى حِفْظِ جَمِيعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ.

وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ تَمْهِيدًا لِلْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ: فَلا تَنْسى وَإِدْمَاجًا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي تَزَايُدٍ مُسْتَمِرٍّ، فَإِذَا كَانَ قَدْ خَافَ مِنْ نِسْيَانِ بَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَلَى حِينِ قِلَّتِهِ فَإِنَّهُ سَيَتَتَابَعُ وَيَتَكَاثَرُ فَلَا يَخْشَ نِسْيَانَهُ فَقَدْ تَكَفَّلَ لَهُ عَدَمَ نِسْيَانِهِ مَعَ تَزَايُدِهِ. وَالسِّينُ عَلَامَةٌ عَلَى اسْتِقْبَالِ مَدْخُولِهَا، وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدِ حُصُولِ الْفِعْلِ وَخَاصَّةً إِذَا اقْتَرَنَتْ بِفِعْلٍ حَاصِلٍ فِي وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ وَيَتَجَدَّدُ وَذَلِكَ تَأْكِيد لحصوله وَإِذ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِقْرَاءً، فَالسِّينُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَاءَ يَسْتَمِرُّ وَيَتَجَدَّدُ. وَالِالْتِفَاتُ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَنْسَبُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْمُبَشَّرِ. وَإِسْنَادُ الْإِقْرَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ جَاعِلٌ الْكَلَامَ الْمَقْرُوءَ وَآمِرٌ بِإِقْرَائِهِ. فَقَوْلُهُ: فَلا تَنْسى خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْوَعْدُ وَالتَّكَفُّلُ لَهُ بِذَلِكَ. وَالنِّسْيَانُ: عَدَمُ خُطُورِ الْمَعْلُومِ السَّابِقِ فِي حَافِظَةِ الْإِنْسَانِ بُرْهَةً أَوْ زَمَانًا طَوِيلًا. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مفرّع مِنْ فعل تَنْسى، و (مَا) مَوْصُولَةٌ هِيَ الْمُسْتَثْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِي شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ جَرْيًا عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [20] . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ يَنْسَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَاهُ. وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ نَسَخَ تِلَاوَةَ بَعْضِ مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَتَهُ فَأَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِأَن لَا يقرأوه حَتَّى يَنْسَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون. وَهَذَا مثل مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا» قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ قَرَأْنَاهَا، وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا أُنْزِلُ: «لَا ترغبوا عَن ءابائكم فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ ترغبوا عَن ءابائكم» . وَهَذَا مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ نُنْسِها فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: نُنْسِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سورة الأعلى (87) : آية 8]

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَعَرِضُ نِسْيَانُهُ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسْيَانا موقتا كَشَأْنِ عَوَارِضِ الْحَافِظَةِ الْبَشَرِيَّةِ ثُمَّ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ مَا يُذَكِّرُهُ بِهِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سَمِعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ: يرحمه الله لقد أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ أَوْ كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَ آيَةً فِي قِرَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَسَأَلَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنُسِخَتْ؟ فَقَالَ: «نَسِيتُهَا» . وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فَلا تَنْسى مِنَ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّهْيِ عَنِ النِّسْيَانِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، أَمَّا إِنَّهُ لَيْسَتْ (لَا) فِيهِ نَاهِيَةً فَظَاهِرٌ وَمِنْ زَعْمِهِ تَعَسُّفٌ لِتَعْلِيلِ كِتَابَةِ الْأَلِفِ فِي آخِرِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَإِنَّ مَضْمُونَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ ضَمَانُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِفْظَ الْقُرْآنِ مِنَ النَّقْصِ الْعَارِضِ. وَمُنَاسَبَةُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْجَهْرِ فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ، وَمَا يَنْسَاهُ فَيُسْقِطُهُ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَفِيِّ فَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ اخْتَفَى فِي حَافِظَتِهِ حِينَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يَبْرُزْ إِلَى النُّطْق بِهِ. [8] [سُورَة الْأَعْلَى (87) : آيَة 8] وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) عُطِفَ عَلَى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى [الْأَعْلَى: 7] مُعْتَرِضَةٌ كَمَا عَلِمْتَ. وَهَذَا الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ فِي الْمَآلِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مُغَايِرًا لِمَفْهُومِ التَّيْسِيرِ لِأَنَّ مَفْهُومَهَا الْحِفْظُ وَالصِّيَانَةُ وَمَفْهُومَ الْمَعْطُوفَةِ تَيْسِيرُ الْخَيْرِ لَهُ. وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ الْعَمَلِ يَسِيرًا عَلَى عَامِلِهِ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ التَّيْسِيرِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُجْعَلُ يَسِيرًا، أَيْ غَيْرَ صَعْبٍ وَيُذْكَرُ مَعَ الْمَفْعُولِ الشَّيْءُ الْمَجْعُولُ الْفِعْلَ يَسِيرًا لِأَجْلِهِ مَجْرُورًا بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] .

وَالْيُسْرَى: مُؤَنَّثُ الْأَيْسَرِ، وَصِيغَةُ فُعْلَى تَدَلُّ عَلَى قُوَّةِ الْوَصْفِ لِأَنَّهَا مُؤَنَّثُ أَفْعَلَ. وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، وَتَأْنِيثُ الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَوْصُوفَ الْمَحْذُوفَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ اسْمِهِ مُؤَنَّثًا بِأَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا فِيهِ عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ أَوْ يَكُونَ جَمْعًا إِذِ الْمَجْمُوعُ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤَنَّثِ. فَكَانَ الْوَصْفُ الْمُؤَنَّثُ مُنَادِيًا عَلَى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّأْنِيثِ فِي لَفْظِهِ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ يَهْدِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ الْمُقَدَّرُ مَعْنَى الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ خِطَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ مُرَاعًى فِيهِ وَصْفُهُ الْعُنْوَانِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَا جَرَمَ أَنْ يكون أول شؤونه هُوَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ. وَقَوْلُهُ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. فَالتَّيْسِيرُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّهْيِئَةِ وَالتَّسْخِيرِ، أَيْ قُوَّةُ تَمْكِينِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيُسْرَى وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا بِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ، أَيْ نُهَيِّئُكَ لِلْأُمُورِ الْيُسْرَى فِي أَمْرِ الدِّينِ وَعَوَاقِبِهِ مِنْ تَيْسِيرِ حِفْظِ الْقُرْآنِ لَكَ وَتَيْسِيرِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أُرْسِلْتَ بِهَا وَتَيْسِيرِ الْخَيْرِ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ تُحَسِّنُهَا الْمُشَاكَلَةُ. وَمَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِلْيُسْرى الْعِلَّةُ، أَيْ لِأَجْلِ الْيُسْرَى، أَيْ لِقَبُولِهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَهْيَعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَقَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فِي سُورَةِ اللَّيْلِ [7- 10] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِسُلُوكِ أُسْلُوبِ الْقَلْبِ وَأَنَّ الْأَصْلَ: وَنُيَسِّرُ لَكَ الْيُسْرَى، أَيْ نَجْعَلُهَا سَهْلَةً لَكَ فَلَا تَشُقُّ عَلَيْكَ فَيَبْقَى فِعْلُ: «نُيَسِّرُكَ» عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ عَمَلُهُ فِي مَفْعُولِهِ وَالْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ عَلَى عَكْسِ الشَّائِعِ فِي مَفْعُولِهِ وَالْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ. وَفِي وَصْفِهَا بِ (الْيُسْرَى) إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِتْبَابِ تَيَسُّرِهِ لَهَا بِمَا أَنَّهَا جُعِلَتْ يُسْرَى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حِفْظُهُ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي يَشُقُّ مَعَهَا تَلَقِّي الْيُسْرَى. فَاشْتَمَلَ الْكَلَامُ عَلَى تَيْسِيرَيْنِ: تَيْسِيرُ مَا كُلِّفَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ جَعْلُهُ يَسِيرًا مَعَ وَفَائِهِ بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَتَيْسِيرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 9 إلى 13]

وَيُوَجَّهُ الْعُدُولُ عَن مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ إِلَى مَا جَاءَ النَّظْمُ عَلَيْهِ، بِأَنَّ فِيهِ تَنْزِيلُ الشَّيْءِ الْمُيَسَّرِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُيَسَّرَ لَهُ وَالْعَكْسُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ثُبُوتِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ الْمَقْبُولِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: «عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ» ، وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ: وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ وَقَدْ وَرَدَ الْقَلْبُ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الْقَصَص: 76] وَمِنْهُ الْقَلْبُ التَّشْبِيهُ الْمَقْلُوبُ. وَالْمَعْنَى: وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ يَسَّرَهُ لِتَلَقِّي أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ فَلَا تَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا تُحْرِجُهُ تَطْمِينًا لَهُ إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِ إِرْسَالِهِ مُشْفِقًا أَنْ لَا يَفِيَ بِوَاجِبَاتِهَا. أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ قَابِلًا لِتَلَقِّي الْكَمَالَاتِ وَعَظَائِمِ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَشُقَّ عَلَى الْقَائِمِينَ بِأَمْثَالِهَا. وَمِنْ آثَارِ هَذَا التَّيْسِيرِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَار أيسرهما» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ لَا معسّرين» . [9- 13] [سُورَة الْأَعْلَى (87) : الْآيَات 9 إِلَى 13] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) بَعْدَ أَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَفَّلَ لَهُ مَا أَزَالَ فَرَقَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دَفْعِ مَا خَافَهُ مِنْ ضَعْفٍ عَنْ أَدَائِهِ الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَتَكَفَّلَ لَهُ دَفْعَ نِسْيَانِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ إِنْسَاؤُهُ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَوَعْدُهُ بِأَنَّهُ وَفَّقَهُ وَهَيَّأَهُ لِذَلِكَ وَيَسَّرَهُ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَبْدَأِ عَهْدِهِ بِالرِّسَالَةِ (إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ثَامِنَةَ السُّوَرِ) لَا يَعْلَمُ مَا سَيَتَعَهَّدُ اللَّهُ بِهِ فَيَخْشَى أَنْ يُقَصِّرَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ فَيَلْحَقُهُ غَضَبٌ مِنْهُ أَوْ مَلَامٌ. أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ التَّبْلِيغِ، أَيْ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، إِرْهَافًا لِعَزْمِهِ، وَشَحْذًا لِنَشَاطِهِ لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى

التَّذْكِيرِ بِشَرَاشِرِهِ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ إِذَا عَاضَدَهُ إِقْبَالُ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ فِيهِ مَسَرَّةٌ لِلْمَأْمُورِ، فَجَمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَإِرْضَاءِ الْخَاطِرِ. فَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْرِيعُ النَّتِيجَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ. وَالْأَمْرُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ. وَالتَّذْكِيرُ: تَبْلِيغُ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ التَّذْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ عَبَسَ. وَمَفْعُولُ فَذَكِّرْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ فَذَكِّرِ النَّاسَ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى الْآيَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُعَلَّلَةِ وَعِلَّتِهَا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْعُمُومِ الَّذِي اقْتَضَاهُ حَذْفُ مَفْعُولِ فَذَكِّرْ، أَيْ فَدُمْ عَلَى تَذْكِيرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى جَمِيعَهُمْ، أَيْ وَهِيَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا الْبَعْضَ وَهُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى الْآيَةَ. فَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ وَلَا تَقْيِيدًا لِمَضْمُونِهَا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: فَذَكِّرْ إِذَا كَانَ لِلذِّكْرَى نَفْعٌ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا تُذَكِّرَ إِذَا لَمْ تَنْفَعِ الذِّكْرَى، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ التَّذْكِيرِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الذِّكْرَى نَافِعَةً إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى تَعَرُّفِ مَوَاقِعِ نَفْعِ الذِّكْرَى، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] مُؤَوَّلًا بِأَنَّ الْمَعْنَى فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ فَيَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ، بَلِ الْمُرَادُ فَذَكِّرِ النَّاسَ كَافَّةً إِنْ كَانَتِ الذِّكْرَى تَنْفَعُ جَمِيعَهُمْ، فَالشَّرْطُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْكِيكِ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّرْطِ بِ (إِنْ) أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِوُقُوعِهِ، فَالدَّعْوَةُ عَامَّةٌ وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْهُدَى وَعَدَمِهِ أَمْرٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَأَبُو جَهْلٍ مَدْعُوٌّ لِلْإِيمَانِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخُصَّ بِالدَّعْوَةِ مَنْ يُرْجَى مِنْهُمُ الْإِيمَانُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَالْوَاقِعُ يَكْشِفُ الْمَقْدُورَ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ فِي الْقَوْمِ مَنْ لَا تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى وَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنِ اجْتِلَابِ حَرْفِ (إِنِ) الْمُقْتَضِي عَدَمَ احْتِمَالِ وُقُوعِ الشَّرْطِ أَوْ نُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ:

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى فَهُوَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَذَكِّرْ وَمَا لَحِقَهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى الْمُشْعِرِ بِأَنَّ التَّذْكِيرَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ جَمِيعُ الْمُذَكَّرِينَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَنْفَعُ أَوْلِيَائِي وَلَا تَنْفَعُ أَعْدَائِي، وَفِي هَذَا مَا يُرِيكَ مَعْنَى الْآيَةِ وَاضِحًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ حَيْرَةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ مَعْنَى (إِنْ) ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْفَرَّاءِ وَالنُّحَاسِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ وَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَسَمِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الثَّانِي. وَيَذَّكَّرُ: مُطَاوِعُ ذَكَّرَهُ. وَأَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ ذَالًا لقرب مخرجيهما ليتأتى إِدْغَامُهَا فِي الذَّالِ الْأُخْرَى. ومَنْ يَخْشى: جِنْسٌ لَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ أَيْ سَيَتَذَكَّرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يَخْشى مُرَاعًى فِيهِ لَفْظُ (مِنْ) فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ. وَقَدْ نُزِّلَ فِعْلُ يَخْشى مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يقدّر لَهُ مفعول، أَيْ يَتَذَكَّرُ مِنَ الْخَشْيَةِ فِكْرَتَهُ وَجِبِلَّتَهُ، أَيْ مَنْ يَتَوَقَّعُ حُصُولَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ فَيَنْظُرُ فِي مَظَانِّ كُلٍّ وَيَتَدَبَّرُ فِي الدَّلَائِلِ لِأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِ مَا أُنْذِرَ بِهِ. وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فِي سُورَةِ طه [44] وَالْخَشْيَةُ ذَاتُ مَرَاتِبَ وَفِي دَرَجَاتِهَا يَتَفَاضَلُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالتَّجَنُّبُ: التَّبَاعُدُ، وَأَصْلُهُ تَفَعَّلَ لِتَكَلُّفِ الْكَيْنُونَةِ بِجَانِبٍ مِنْ شَيْءٍ. وَالْجَانِبُ: الْمَكَانُ الَّذِي هُوَ طَرَفٌ لِغَيْرِهِ، وَتَكَلُّفُ الْكَيْنُونَةِ بِهِ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْبُعْدِ أَيْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنْهُ، أَيْ يَتَبَاعَدُ عَنِ الذِّكْرَى الْأَشْقَى. والتعريف فيْ َشْقَى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَي الأشقون. وَْشْقَى : هُوَ الشَّديد الشِّقْوَةِ، وَالشِّقْوَةُ وَالشَّقَاءُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ الْحَالَةُ النَّاشِئَةُ فِي الْآخِرَةِ عَنِ الْكُفْرِ مِنْ حَالَةِ الْإِهَانَةِ وَالتَّعْذِيبِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ مِنْ عُلِمَ إِلَى مَوْتِهِ مُؤْمِنًا فَلَيْسَ بِشَقِيٍّ. فَالْأَشْقَى: هُوَ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ شَقَاءً فِي الْآخِرَةِ لِخُلُودِهِ فِي النَّارِ.

وَتَعْرِيفُ الْأَشْقَى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعَهْدِ فَقَالَ: أُرِيدَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوْ عُتْبَةُ بْنُ ربيعَة. ووصفْ َشْقَى بِ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى لِأَن إطلاقْ َشْقَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي صَدْرِ مُدَّةِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَانَ فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ فَأُتْبِعَ بِوَصْفٍ يُبَيِّنُهُ فِي الْجُمْلَةِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمُقَابَلَةُ مَنْ يَخْشى بَْشْقَى تؤذن بأنْ َشْقَى مَنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَخْشَى فَهُوَ سَادِرٌ فِي غُرُورِهِ مُنْغَمِسٌ فِي لَهْوِهِ فَلَا يَتَطَلَّبُ لِنَفْسِهِ تَخَلُّصًا مِنْ شَقَائِهِ. وَوَصْفُ النَّارِ بِ الْكُبْرى لِلتَّهْوِيلِ وَالْإِنْذَارِ وَالْمُرَادُ بِهَا جَهَنَّمُ. وَجُمْلَةُ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى فَهِيَ صلَة ثَانِيَة. و (ثمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْطُوفَهَا مُتَرَاخِي الرُّتْبَةِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَهُوَ شِدَّةُ الْعَذَابِ فَإِنَّ تَرَدُّدَ حَالِهِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَهُوَ فِي عَذَابِ الِاحْتِرَاقُ عَذَابٌ أَشَدُّ مِمَّا أَفَادَهُ أَنَّهُ فِي عَذَابِ الِاحْتِرَاقِ، ضَرُورَةُ أَنَّ الِاحْتِرَاقَ وَاقِعٌ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ دَرَجَةُ أَنَّهُ لَا رَاحَةَ مِنْهُ بِمَوْتٍ وَلَا مَخْلَصَ مِنْهُ بِحَيَاةٍ. فَمَعْنَى لَا يَمُوتُ: لَا يَزُولُ عَنْهُ الْإِحْسَاسُ، فَإِنَّ الْمَوْتَ فُقْدَانُ الْإِحْسَاسِ مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْأُعْجُوبَةِ وَهِيَ مِمَّا يُؤَكِّدُ اعْتِبَارَ تَرَاخِي الرُّتْبَةِ فِي هَذَا التَّنْكِيلِ. وَتَعْقِيبُهُ بقوله: وَلا يَحْيى احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِنَفْيِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اسْتَرَاحُوا مِنَ الْعَذَابِ لِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ أَنَّ الِاحْتِرَاقَ يُهْلِكُ الْمُحْرَقَ، فَإِذَا قِيلَ: لَا يَمُوتُ تَوَهَّمَ الْمُنْذَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْإِهْلَاكِ فَيَبْقَى الْمُحْرَقُ حَيًّا فَيُظَنُّ أَنَّهُ إِحْرَاقٌ هَيِّنٌ فَيَكُونُ مَسْلَاةً لِلْمُهَدَّدِينَ فَلِدَفْعِ ذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَلا يَحْيى، أَيْ حَيَاةً خَالِصَةً مِنَ الْآلَامِ وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مُقَابلَة وَلَا يحيى بِقَوْلِهِ: يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 إلى 15]

وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ نَفْيِ وَصْفَيْنِ لِإِثْبَاتِ حَالَةٍ وَسَطٍ بَيْنَ حَالَتَيْهِمَا مِثْلَ: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] وَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ أُمِّ زَرْعٍ: «لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ» لِأَنَّ ذَلِكَ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ نَفْيَ الْحَيَاةِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْخَلَاصِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْإِحْرَاقِ الْهَلَاكُ وَلَازِمَ الْحَيَاةِ عَدَمُ الْهَلَاكِ. وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ لِأَجْلِ التَّضَادِ الظَّاهِرِ بَيْنَ لَا يَمُوتُ وَلَا يَحْيى 13 [14، 15] [سُورَة الْأَعْلَى (87) : الْآيَات 14 إِلَى 15] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ مَنْ يَخْشى [الْأَعْلَى: 10] وذكرَْشْقَى [الْأَعْلَى: 11] يُثِيرُ اسْتِشْرَافَ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ أَثَرِ ذَلِكَ فَابْتُدِئَ بِوَصْفِ أَثَرِ الشقاوة فوصفْ َشْقَى بِأَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى [الْأَعْلَى: 12] وَأَخَّرَ ذِكْرَ ثَوَابِ الْأَتْقَى تَقْدِيمًا لِلْأَهَمِّ فِي الْغَرَضِ وَهُوَ بَيَانُ جَزَاءِ الْأَشْقَى الَّذِي يَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى وَبَقِيَ السَّامِعُ يَنْتَظِرُ أَنْ يَعْلَمَ جَزَاءَ مَنْ يَخْشَى وَيَتَذَكَّرُ. فَلَمَّا وُفِّيَ حَقُّ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْهِيبَةِ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ لِبَيَانِ الْمَثُوبَةِ وَالتَّرْغِيبِ. فَالْمُرَادُ بِ مَنْ تَزَكَّى هَنَا عَيْنُ الْمُرَادِ بِ «مَنْ يَخْشَى وَيذكر» فَقَدْ عُرِفَ هُنَا بِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ رَبِّهِ هُوَ التَّذَكُّرُ بِالذِّكْرَى، فَالتَّذَكُّرُ هُوَ غَايَةُ الذِّكْرَى الْمَأْمُورِ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ [الْأَعْلَى: 9] . وَقَدْ جُمِعَتْ أَنْوَاعُ الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ فَإِنَّ الْفَلَاحَ نَجَاحُ الْمَرْءِ فِيمَا يَطْمَحُ إِلَيْهِ فَهُوَ يَجْمَعُ مَعْنَيَيِ الْفَوْزِ وَالنَّفْعِ وَذَلِكَ هُوَ الظَّفَرُ بِالْمُبْتَغَى مِنَ الْخَيْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي الْبَقَرَةِ [5] . وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ أَفْلَحَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْمُحَقَّقِ وُقُوعِهِ مِنَ الْآخِرَةِ، وَاقْتِرَانِهِ بِحَرْفِ قَدْ لِتَحْقِيقِهِ وَتَثْنِيَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] وَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْس: 9] لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأَشْقَيْنَ الَّذِينَ تَجَنَّبُوا الذِّكْرَى إِثَارَةً لِهِمَّتِهِمْ فِي الِالْتِحَاقِ بِالَّذِينَ خَشَوْا فَأَفْلَحُوا. وَمَعْنَى تَزَكَّى: عَالَجَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا، أَيْ بَذَلَ اسْتِطَاعَتَهُ فِي تَطْهِيرِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشَّمْس: 9- 10] .

فَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ لِلتَّكَلُّفِ وَبِذْلِ الْجُهْدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَيَجِيءُ بِهَا، فَيَشْمَلُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ. أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. وَقَدَّمَ التَّزَكِّيَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعَمَلِ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ إِذَا تَطَهَّرَتِ النَّفْسُ أَشْرَقَتْ فِيهَا أَنْوَارُ الْهِدَايَةِ فَعَلِمَتْ مَنَافِعَهَا وَأَكْثَرَتْ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا فَالتَّزْكِيَةُ: الِارْتِيَاضُ عَلَى قَبُولِ الْخَيْرِ وَالْمُرَادُ تَزَكَّى بِالْإِيمَانِ. وَفِعْلُ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الَّذِي هُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ فَيَكُونُ كَلِمَةُ اسْمَ رَبِّهِ مُرَادًا بِهَا ذِكْرُ أَسمَاء الله بالتعظم مِثْلَ قَوْلِ لَا إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَان اللَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ حُضُورُ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ الذَّاكِرَةِ وَالْمُفَكِّرَةِ فَتَكُونُ كَلِمَةُ اسْمَ مُقْحَمَةً لِتَدُلَّ عَلَى شَأْنِ اللَّهِ وَصِفَاتِ عَظَمَتِهِ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَوْصَافُ كَمَالٍ. وَتَفْرِيعُ فَصَلَّى عَلَى ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَيَيْهِ يَبْعَثُ الذَّاكِرَ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ خُضُوعٌ وَثَنَاءٌ. وَقَدْ رُتِّبَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاث على الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ تَوَلُّدِهَا. فَأَصْلُهَا: إِزَالَةُ الْخَبَاثَةِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ عَقَائِدَ بَاطِلَةٍ وَحَدِيثِ النَّفْسِ بِالْمُضْمِرَاتِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بقوله: تَزَكَّى، ثمَّ استحضار معرفَة الله بِصِفَات كَمَاله وحكمته لَيَخَافهُ ويرجوه وَهُوَ الْمشَار بقوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ثمَّ الإقبال على طَاعَته وعبادته وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَصَلَّى وَالصَّلَاةُ تُشِيرُ إِلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ فِي ذَاتِهَا طَاعَةٌ وَامْتِثَالٌ يَأْتِي بَعْدَهُ مَا يُشْرَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] .

[سورة الأعلى (87) : الآيات 16 إلى 17]

[سُورَة الْأَعْلَى (87) : الْآيَات 16 إِلَى 17] بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُؤْثِرُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا إِلَى الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى [الْأَعْلَى: 11، 12] . وَحَرْفُ بَلْ مَعْنَاهُ الْجَامِعُ هُوَ الْإِضْرَابُ، أَيِ انْصِرَافُ الْقَوْلِ أَوِ الْحُكْمِ إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ بَلْ فَهُوَ إِذَا عَطَفَ الْمُفْرِدَاتِ كَانَ الْإِضْرَابُ إِبْطَالًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ: لِغَلَطٍ فِي ذِكْرِ الْمَعْطُوفِ أَوْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ فَذَلِكَ انْصِرَافٌ عَنِ الْحُكْمِ. وَإِذَا عَطَفَ الْجُمَلَ فَعَطْفُهُ عَطْفُ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ وَهُوَ عَطْفٌ لَفْظِيٌّ مُجَرَّدٌ عَنِ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ وَيَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَتَارَةً يُقْصَدُ إِبْطَالُ مَعْنَى الْكَلَامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ [الْمُؤْمِنُونَ: 70] فَهُوَ انْصِرَافٌ فِي الْحُكْمِ، وَتَارَةً يُقْصَدُ مُجَرَّدُ التَّنَقُّلِ مِنْ خَبَرٍ إِلَى آخَرَ مَعَ عَدَمِ إِبْطَالِ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: 62، 63] . فَتَكُونُ بَلْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ «دَعْ هَذَا» فَهَذَا انْصِرَافٌ قَوْلِيٌّ. وَيُعْرَفُ أَحَدُ الْإِضْرَابَيْنِ بِالْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ. وبَلْ هُنَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَطْفًا صُورِيًّا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الِانْتِقَالِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنْتَفِعِينَ بِالذِّكْرَى وَالْمُتَجَنِّبِينَ لَهَا، إِلَى ذِكْرِ سَبَبِ إِعْرَاضِ الْمُتَجَنِّبِينَ وَهُمُ الْأَشْقَوْنَ بِأَنَّ السَّبَبَ إِيثَارُهُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ إِضْرَابٌ عَنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى تَوْبِيخِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْفَرِيقُ الْأَشْقَى فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لِكَيْ لَا تَنْقَضِيَ السُّورَةُ كُلُّهَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِضْرَابُ إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الْأَعْلَى: 14] مَنْ التَّعْرِيضِ لِلَّذِينَ شَقُوا بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْفَلَاحِ لِأَنْفُسِهِمْ لِيَلْتَحِقُوا بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ وَيَتَزَكَّوْنَ لِيَبْطُلَ أَنْ يَكُونُوا مَظِنَّةَ تَحْصِيلِ الْفَلَاحِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمُ التَّنَافُسُ فِي طَلَبِ الْفَلَاحِ لِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَالْمَعْنَى: بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا عَلَى حُظُوظِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ النَّاصِحُ شَخْصًا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَنْتَصِحُ «لَقَدْ نَصَحْتُكَ وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ» .

[سورة الأعلى (87) : الآيات 18 إلى 19]

وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ مِنَ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالْإِيثَارُ: اخْتِيَارُ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ مُتَعَدِّدٍ. وَالْمَعْنَى: تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِعِنَايَتِكُمْ وَاهْتِمَامِكُمْ. وَلَمْ يُذْكَرِ الْمُؤْثَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، أَيْ لَا تَتَأَمَّلُونَ فِيمَا عَدَا حَيَاتِكُمْ هَذِهِ وَلَا تَتَأَمَّلُونَ فِي حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ، فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِّرُوا بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَأُخْبِرُوا بِهَا لَمْ يُعِيرُوا سَمْعَهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَهَذَا مَوْرِدُ التَّوْبِيخِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ عَلَى طُولِ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ حَظٌّ مُنَاسِبٌ لِمِقْدَارِ مَا يُفَرِّطُ فِيهِ أَحَدُهُمْ مِمَّا يُنْجِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِيثَارًا لِمَا يَجْتَنِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا الَّتِي تَجُرُّ إِلَيْهِ تَبِعَةً فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَأَمَّا الِاسْتِكْثَارُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَعَ عَدَمِ إِهْمَالِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مَيْدَانٌ لِلْهِمَمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحَلِّ ذَمٍّ قَالَ تَعَالَى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: 77] . وَجُمْلَةُ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّوْبِيخِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَزِيدُ إِنْشَاءَ التَّوْبِيخِ تَوْجِيهًا وَتَأْيِيدًا بِأَنَّهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ حَيَاةٍ آخِرَةٍ قَدْ أَعْرَضُوا عَمَّا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وأَبْقى: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَيْ أَطْوَلُ بَقَاءً، وَفِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ جَرِّ الْإِزَارِ «وَلْيَكُنْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَإِنَّهُ أتقى وَأبقى» . [18، 19] [سُورَة الْأَعْلَى (87) : الْآيَات 18 إِلَى 19] إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ النَّافِعِ الثَّابِتِ فِي كُتُبِ إِبْرَاهِيمَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَصَدَ بِهِ الْإِبْلَاغَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ رِسَالَةَ إِبْرَاهِيمَ وَرِسَالَةَ مُوسَى، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ إِلَى الْمُنْكِرِينَ.

وَالْإِشَارَةُ بِكَلِمَةِ هَذَا إِلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إِلَى قَوْله وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 14- 17] فَإِنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الْأَعْلَى: 14] ، لَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أُنْزِلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 14- 17] . وَلم أَقِفْ عَلَى مَرْتَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَمعنى الظَّرْفِيَّة من قَوْلِهِ: لَفِي الصُّحُفِ أَنَّ مُمَاثِلَهُ فِي الْمَعْنَى مَكْتُوبٌ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، فَأُطْلِقَتِ الصُّحُفُ عَلَى مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] ، أَيْ مَا فِي قِطِّنَا وَهُوَ صَكُّ الْأَعْمَالِ. والصُّحُفِ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ جَمْعِهِ صَحَائِفُ، وَلَكِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَقِيسٍ هُوَ الْأَفْصَحُ كَمَا قَالُوا: سُفُنٌ فِي جَمْعِ سَفِينَةٍ، وَوَجْهُ جَمْعِ الصُّحُفِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ لَهُ صحف وَأَن مُوسَى كَانَت لَهُ صُحُفٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ مَجْمُوعُ صُحُفِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَجَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيل ليَكُون لهَذَا الْخَبَرُ مَزِيدَ تَقْرِيرٍ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ فَقَوْلُهُ: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بَدَلٌ مِنَ الصُّحُفِ الْأُولى والْأُولى: وَصْفٌ لِصُحُفٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ فَلَهُ حُكْمُ التَّأْنِيثِ. والْأُولى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ لِلَّفْظِ أَوَّلٍ فَقِيلَ: حُرُوفُهُ الْأُصُولُ هَمْزَةٌ فَوَاوٌ (مُكَرَّرَةٌ) فَلَامٌ ذكره فِي «للسان» فَيَكُونُ وَزْنُ أَوَّلٍ: أَأْوَلُ، فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ وَاوًا وَأُدْغِمَتْ فِي الْوَاوِ. وَقِيلَ: أُصُولُهُ: وَاوَانِ وَلَامٌ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ مَزِيدَةٌ فَوَزْنُ أَوَّلَ: أَفْعَلُ وَإِدْغَامُ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ ظَاهِرٌ. وَقِيلَ: حُرُوفُهُ الْأَصْلِيَّةُ وَاوٌ وَهَمْزَةٌ وَلَامٌ فَأَصْلُ أَوَّلَ أَوْ أَلْ بِوَزْنِ أَفْعَلَ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي بَعْدَ الْوَاوِ وَاوًا وَأُدْغِمَا. والْأُولى: مُؤَنَّثُ أَفْعَلَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: أَصْلُهَا أُولَى

سَكَنَتِ الْوَاوُ سُكُونًا مَيِّتًا لِوُقُوعِهَا إِثْرَ ضَمَّةٍ، أَوْ أَصْلُهَا: وُولَى بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَسَكَنَتِ الْوَاوُ الثَّانِيَةُ أَيْضًا، أَوْ أَصْلُهَا: وُأْلَى بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ، فَقِيلَ: أُولَى فَوَزْنُهَا عَلَى هَذَا عُفْلَى. وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي وَصْفِ الصُّحُفِ سَبْقُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ لَا الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهَا غَيْرُهَا لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ قَبْلَ إِبْرَاهِيم أنزلت عَلَيْهِ صُحُفٌ فَهُوَ كَوَصْفِ (عَادٍ) بِ الْأُولى فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْم: 56] وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ من كَلَام النبوءة الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَأَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ عَشْرَ صَحَائِفَ.

88- سورة الغاشية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 88- سُورَةُ الْغَاشِيَةِ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ «سُورَةُ الْغَاشِيَةِ» . وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «جَامِعِهِ» لِوُقُوعِ لَفْظِ «الْغَاشِيَةِ» فِي أَولهَا. وَثبتت فِي السُّنَّةِ تَسْمِيَتُهَا «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ «بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَمَّا يَقْرَأُ مَعَ سُورَة الْجُمُعَة فالمسؤول عَنْهُ السُّورَةُ الثَّانِيَةُ، وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» . وَرُبَّمَا سُمِّيَتْ «سُورَةُ هَلْ أَتَاكَ» بِدُونِ كَلِمَةِ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ اخْتِصَارٌ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّابِعَةَ وَالسِتِّينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَآيَاتُهَا سِتّ وَعِشْرُونَ. أغراضها اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى تَهْوِيلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ عِقَابِ قَوْمٍ مُشَوَّهَةٍ حَالَتُهُمْ، وَمِنْ ثَوَابِ قَوْمٍ نَاعِمَةٍ حَالَتُهُمْ وَعَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ الْمُرَهَّبِ أَوِ الْمُرَغَّبِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ كُلَّهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَهْتَدُوا بِدَلَالَةِ

[سورة الغاشية (88) : آية 1]

مَخْلُوقَاتٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَهِيَ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ، عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَيَعْلَمُ السَّامِعُونَ أَنَّ الْفَرِيقَ الْمُهَدَّدَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَعَلَى إِمْكَانِ إِعَادَتِهِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ الْمَوْتِ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ لَا يَعْبَأَ بِإِعْرَاضِهِمْ. وَأَنَّ وَرَاءَهُمُ الْبَعْثَ فَهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَى كفرهم وإعراضهم. [1] [سُورَة الغاشية (88) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) الِافْتِتَاحُ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ بُلُوغِ خَبَرِ الْغَاشِيَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْخَبَرِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ. وَكَوْنُ الِاسْتِفْهَامِ بِ هَلْ الْمُفِيدَةِ مَعْنَى (قَدْ) ، فِيهِ مَزِيدُ تَشْوِيقٍ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ يُكَنَّى بِهِ عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ بِحَيْثُ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَلَغَ السَّامِعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فِي سُورَةِ ص [21] . وَقَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [15] . وَتَقَدَّمَ هُنَالِكَ إِطْلَاقُ فِعْلِ الْإِتْيَانِ عَلَى فُشُوِّ الْحَدِيثِ. وَتَعْرِيفُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ حَدِيثُ بِوَصْفِهِ الْغاشِيَةِ الَّذِي يَقْتَضِي مَوْصُوفًا لَمْ يُذْكَرْ هُوَ إِبْهَامٌ لِزِيَادَةِ التَّشْوِيقِ إِلَى بَيَانِهِ الْآتِي لِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي الذِّهْنِ كَمَالَ تَمَكُّنٍ. وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ الْمُتَحَدَّثُ بِهِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوِ الْخَبَرُ الْحَاصِلُ بِحِدْثَانٍ أَيْ مَا حَدَثَ مِنْ أَحْوَالٍ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ. والْغاشِيَةِ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْغِشْيَانِ وَهُوَ تَغْطِيَةٌ مُتَمَكِّنَةٌ وَهِيَ صِفَةٌ أُرِيدَ بِهَا حَادِثَةُ الْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ غَاشِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهَا إِذَا حَصَلَتْ لَمْ يَجِدِ النَّاسُ مَفَرًّا مِنْ أَهْوَالِهَا فَكَأَنَّهَا غَاشٍ يَغْشَى عَلَى عُقُولِهِمْ. وَيُطْلَقُ الْغِشْيَانُ عَلَى غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْغَاشِيَةِ مُشْتَقًّا مِنْهُ. فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْغَاشِيَةَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَأْنِيثُ الْغَاشِيَةِ لِتَأْوِيلِهَا بِالْحَادِثَةِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا إِلَّا مُؤَنَّثَةَ اللَّفْظِ

[سورة الغاشية (88) : الآيات 2 إلى 7]

وَالتَّأْنِيثُ كَثِيرٌ فِي نَقْلِ الْأَوْصَافِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ مِثْلَ الدَّاهِيَةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْقَارِعَةِ وَالْآزِفَةِ. والْغاشِيَةِ هُنَا: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْقِيَامَةِ كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ [الغاشية: 2] أَيْ يَوْم الغاشية. [2- 7] [سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 2 إِلَى 7] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ مُبْتَدَأٌ وخاشِعَةٌ خَبَرٌ وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِحَدِيثِ الْغَاشِيَةِ كَمَا يُفِيدُهُ الظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ مَا صَدَقُهُ هُوَ يَوْمُ الْغَاشِيَةِ. وَيَكُونُ تنكير وُجُوهٌ وَهُوَ مُبْتَدَأً قُصِدَ مِنْهُ النَّوْعُ. وخاشِعَةٌ، عامِلَةٌ، ناصِبَةٌ أَخْبَارٌ ثَلَاثَةٌ عَنْ وُجُوهٌ، وَالْمَعْنَى: أُنَاسٌ خَاشِعُونَ إِلَخْ. فَالْوُجُوهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِهَا، إِذْ يُكَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الذَّاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَن: 27] . وَقَرِينَةُ ذَلِكَ هُنَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ إِذْ جُعِلَ ضَمِيرُ الْوُجُوهِ جَمَاعَةَ الْعُقَلَاءِ. وَأُوثِرَتِ الْوُجُوهُ بِالْكِنَايَةِ عَنْ أَصْحَابِهَا هُنَا وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ حَالَة الْوُجُوه تنبىء عَنْ حَالَةِ أَصْحَابِهَا إِذِ الْوَجْهُ عُنْوَانٌ عَمَّا يَجِدُهُ صَاحِبُهُ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ شَقْوَةٍ كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ بِوَجْهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ عَبَسَ [38] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى وُجُوهٌ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ أَصْحَابُ وُجُوهٍ. وَيَتَعَلَّقُ يَوْمَئِذٍ بِ خاشِعَةٌ قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمَّا كَانَتْ (إِذْ) مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَلْزَمُ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ فَالْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (إِذْ)

مَحْذُوفَةٌ عَوَّضَ عَنْهَا التَّنْوِينُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مَا فِي اسْمِ الْغاشِيَةِ مِنْ لَمْحِ أَصْلِ الْوَصْفِيَّةِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الَّتِي تَغْشَى النَّاسَ فَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ يَوْمَ إِذْ تَغْشَى الْغَاشِيَةُ. أَوْ يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَتُقَدَّرُ الْجُمْلَةُ: يَوْمَ إِذْ تَحْدُثُ أَوْ تَقَعُ. وخاشِعَةٌ: ذَلِيلَةٌ يُطْلَقُ الْخُشُوعُ عَلَى الْمَذَلَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى: 45] وَقَالَ: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج: 44] . وَالْعَامِلَةُ: الْمُكَلَّفَةُ الْعَمَلَ مِنَ الْمَشَاقِّ يَوْمَئِذٍ. وناصِبَةٌ: مِنَ النَّصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ. وَأُوثِرَ وَصْفُ خاشِعَةٌ وعامِلَةٌ وناصِبَةٌ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الشَّقَاءِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْخُشُوعَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّصَبَ فِي الْقيام بِطَاعَتِهِ، فجزاؤهم خُشُوعٌ مذلّة، وَعَمَلُ مَشَقَّةٍ، وَنَصَبُ إِرْهَاقٍ. وَجُمْلَةُ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ وُجُوهٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا، يُقَالُ: صلي يصلّى، إِذا أَصَابَهُ حَرُّ النَّارِ، وَعَلَيْهِ فَذَكَرَ: نَارًا بَعْدَ تَصْلى لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ وَالْإِرْهَابِ وَلِيُجْرَى عَلَى نَارًا وَصْفُ حامِيَةً وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَصْلى بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ يُصِيبُهَا صِلِيُّ النَّارِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ «تُصْلَى» بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَصْلَاهُ النَّارَ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ إِذَا أَنَالَهُ حَرُّهَا. وَوَصَفَ النَّارَ بِ حامِيَةً لِإِفَادَةِ تَجَاوُزِ حَرِّهَا الْمِقْدَارَ الْمَعْرُوفَ لِأَنَّ الْحَمْيَ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ النَّارِ فَلَمَّا وُصِفَتْ بِ حامِيَةً كَانَ دَالًّا عَلَى شِدَّةِ الْحِمَى قَالَ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الْهمزَة: 6] . وَأَخْبَرَ عَنْ وُجُوهٌ خَبَرًا خَامِسًا بِجُمْلَةِ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ تَصْلى لِأَنَّ ذِكْرَ الِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ يُحْضِرُ فِي الذِّهْنِ تَطَلُّبَ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالشَّرَابِ فَجُعِلَ شَرَابُهُمْ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ.

يُقَالُ: أَنَى إِذَا بَلَغَ شِدَّةَ الْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ [44] . وَذِكْرُ السَّقْيِ يُخْطِرُ فِي الذِّهْنِ تَطَلُّبَ مَعْرِفَةِ مَا يَطْعَمُونَهُ فَجِيءَ بِهِ خَبَرًا سَادِسًا أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تُسْقى بِجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، أَيْ يَطْعَمُونَ طَعَامَ إِيلَامٍ وَتَعْذِيبٍ لَا نَفْعَ فِيهِ لَهُمْ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ أَلَمًا. وَجُمْلَةُ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَخْ خَبَرٌ سَادِسٌ عَنْ وُجُوهٌ وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى وُجُوهٌ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ بِأَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُذَكَّرِ. وَالتَّذْكِيرُ تَغْلِيبٌ لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ. وَالضَّرِيعُ: يَابِسُ الشِّبْرِقِ (بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ) وَهُوَ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ إِذَا كَانَ رَطْبًا فَإِذَا يَبِسَ سُمِّيَ ضَرِيعًا وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَسْمُومًا وَهُوَ مَرْعًى لِلْإِبِلِ وَلِحُمُرِ الْوَحْشِ إِذَا كَانَ رَطْبًا، فَمَا يُعَذَّبُ بِأَهْلِ النَّارِ بِأَكْلِهِ شُبِّهَ بِالضَّرِيعِ فِي سُوءِ طَعْمِهِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ. وَقِيلَ: الضَّرِيعُ اسْمٌ سَمَّى الْقُرْآنُ بِهِ شَجَرًا فِي جَهَنَّمَ وَأَنَّ هَذَا الشَّجَرَ هُوَ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ الْغِسْلِينُ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 35، 36] وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الضَّرِيعِ وَالْخَارِجُ هُوَ الْغِسْلِينُ وَقَدْ حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَوَصْفُ ضَرِيعٍ بِأَنَّهُ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ لِتَشْوِيهِهِ وَأَنَّهُ تَمَحُّضٌ لِلضُّرِّ فَلَا يَعُودُ عَلَى آكِلِيهِ بِسِمَنٍ يُصْلِحُ بَعْضَ مَا الْتَفَحَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَفْعَ أَلَمِ الْجُوعِ، وَلَعَلَّ الْجُوعَ مِنْ ضُرُوبِ تَعْذِيبِهِمْ فَيَسْأَلُونَ الطَّعَامَ فَيُطْعَمُونَ الضَّرِيعَ فَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ أَلَمَ الْجُوعِ. وَالسِّمَنُ، بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ: وَفْرَةُ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ لِلْحَيَوَانِ يُقَالُ: أَسْمَنَهُ الطَّعَامُ، إِذَا عَادَ عَلَيْهِ بِالسِّمَنِ. وَالْإِغْنَاءُ: الْإِكْفَاءُ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ. ومِنْ جُوعٍ مُتَعَلِّقٌ بِ يُغْنِي وَحَرْفُ مِنْ لِمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ، أَيْ غَنَاءٌ بَدَلًا عَنِ الْجُوعِ.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 إلى 10]

وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] يُؤَيِّدُ أَنَّ الضَّرِيعَ اسْمُ شَجَرِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ مِنْهُ الغسلين. [8- 10] [سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 8 إِلَى 10] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) يتَبَادَر فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّ حَقَّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لِحَدِيثِ الْغَاشِيَةِ كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ [عبس: 40] عَلَى جُمْلَةِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ فِي سُورَةِ عَبَسَ [38] . فَيَتَّجِهُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ وَجْهِ فَصْلِهَا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَوَجْهُ الْفَصْلِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] الْإِعْلَامُ بِحَالِ الْمُعَرَّضِ بِتَهْدِيدِهِمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ الْخَاشِعَةِ فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِجُمْلَةِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] إِلَى آخِرِهَا تَمَّ الْمَقْصُودُ، فَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مَفْصُولَةً لِأَنَّهَا جُعِلَتِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تُثِيرُهُ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ فَيَتَسَاءَلُ السَّامِعُ: هَلْ مِنْ حَدِيثِ الْغَاشِيَةِ مَا هُوَ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْهَوْلِ؟ أَيْ مَا هُوَ أُنْسٌ وَنَعِيمٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وَلِهَذَا النَّظْمِ صَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِطْرَادِ وَالتَّتْمِيمِ، لِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيِ الْفَرِيقَيْنِ وَلِتَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ مَوْقِعُ الِاعْتِرَاضِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ وَالِاعْتِرَاضِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِفَصْلِهَا عَمَّا قَبْلَهَا. وَفِيهِ جَرْيُ الْقُرْآنِ عَلَى سُنَنِهِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ. فَأَمَّا الْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ فِي سُورَةِ عَبَسَ فَلَمْ يَتَقَدَّمْهُمَا إِبْهَامٌ لِأَنَّهُمَا مُتَّصِلَتَانِ مَعًا بِالظَّرْفِ وَهُوَ فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [عبس: 33] . وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْوُجُوهَ الْأُولَى وُجُوهُ الْمُكَذِّبِينَ بِالرَّسُولِ، وَالْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَهَا وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ.

[سورة الغاشية (88) : آية 11]

وَالْقَوْلُ فِي تَنْكِيرِ وُجُوهٌ، وَالْمُرَادِ بِهَا، وَالْإِخْبَارِ عَنْهَا بِمَا بَعْدَهَا، كَالْقَوْلِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْهَا. وناعِمَةٌ: خَبَرٌ عَنْ وُجُوهٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ نَعُمَ بِضَمِّ الْعَيْنِ يَنْعُمُ بِضَمِّهَا الَّذِي مَصْدَرُهُ نُعُومَةٌ وَهِيَ اللِّينُ وَبَهْجَةُ الْمَرْأَى وَحُسْنُ الْمَنْظَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ نَعِمَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَنْعَمُ مِثْلَ حَذِرَ، إِذَا كَانَ ذَا نِعْمَةٍ، أَيْ حَسَنُ الْعَيْشِ وَالتَّرَفِ. وَيَتَعَلَّقُ لِسَعْيِها بِقَوْلِهِ: راضِيَةٌ، وراضِيَةٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ وُجُوهٌ وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ: الْعَمَلُ الَّذِي يَسَعَاهُ الْمَرْءُ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ. وَعَبَّرَ بِهِ هُنَا مُقَابِلَ قَوْلِهِ فِي ضِدّه عامِلَةٌ [الغاشية: 3] . وَالرِّضَى: ضِدَّ السُّخْطِ، أَيْ هِيَ حَامِدَةٌ مَا سَعَتْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنْ وُجُوهٌ وَالْجَنَّةُ أُرِيدَ بِهِ مَجْمُوعُ دَارِ الثَّوَابِ الصَّادِقِ بِجَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ مِثْلَ عَلِمَتْ نَفْسٌ [التكوير: 14] . وَوصف جَنَّةٍ بِ عالِيَةٍ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ أَحْسَنَ الْجَنَّاتِ مَا كَانَ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ، قَالَ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الْبَقَرَة: 265] فَذَلِكَ يُزِيدُ حُسْنَ بَاطِنِهَا بِحُسْنِ مَا يُشَاهِدُهُ الْكَائِنُ فِيهَا مِنْ مَنَاظِرَ، وَهَذَا وَصْفٌ شَامِلٌ لِحُسْنِ موقع الْجنَّة. [11] [سُورَة الغاشية (88) : آيَة 11] لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) اللَّاغِيَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اللَّغْوِ مِثْلُ الْكَاذِبَةِ لِلْكَذِبِ. وَالْخَائِنَةِ وَالْعَافِيَةِ، أَيْ لَا يُسْمَعُ فِيهَا لَغْوٌ، أَوْ هُوَ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرِ التَّأْنِيثِ، أَيْ كَلِمَةٌ لَاغِيَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لاغِيَةً مِنْ أَنَّهَا كَلِمَاتٌ، وَوَصْفُ الْكَلِمَةِ بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّاغِيَ صَاحِبُهَا.

وَنَفْيُ سَمَاعِ لاغِيَةً مُكَنَّى بِهِ عَنِ انْتِفَاءِ اللَّغْوِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ بَابِ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أَيْ لَا ضَبَّ بِهَا إِذِ الضَّبُّ لَا يَخْلُو مِنَ الِانْجِحَارِ. وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ لَهُ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ جِدٍّ وَحَقِيقَةٍ فَلَا كَلَامَ فِيهَا إِلَّا لِفَائِدَةٍ لِأَنَّ النُّفُوسَ فِيهَا تَخَلَّصَتْ مِنَ النَّقَائِصِ كُلِّهَا فَلَا يَلَذُّ لَهَا إِلَّا الْحَقَائِقُ وَالسُّمُوُّ الْعَقْلِيُّ وَالْخُلُقِيُّ، وَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا مَا يَزِيدُ النُّفُوسَ تَزْكِيَةً. وَجُمْلَةُ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً صِفَةٌ ثَانِيَةٌ ل جَنَّةٍ [الغاشية: 10] تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ النُّعُوتَ الْمُتَعَدِّدَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَفَ وَيَجُوزَ أَنْ تُفْصَلَ دُونَ عِطْفٍ قَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» : «وَيَجُوزُ عَطْفُ بَعْضِ النُّعُوتِ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِهِ» نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى [الْأَعْلَى: 2- 4] . وَقَالَ: وَلَا يُعْطَفُ إِلَّا بِالْوَاوِ مَا لَمْ يَكُنْ تَرْتِيبٌ: فَبِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِبِ ال ... صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْعَطْفُ بِ (ثُمَّ) جَوَازُهُ بَعِيدٌ. اهـ. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ: وَكَذَا فِي الْجمل نَحْو مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَعْرِفُ الْفِقْهَ وَيَتَّقِي إِلَى اللَّهِ، قَالَ: وَنَصَّ الْوَاحِدِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آل عمرَان: 118] . أَنْ لَا يَأْلُونَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجُمَلِ (أَيِ الثَّلَاثُ) لَا يَكُونُ صِفَاتٌ، لِعَدَمِ الْعَاطِفِ لَكِنَّ ظَاهِرَ سُكُوتِ الْجُمْهُورِ عَنْ وُجُوبِ الْعَطْفِ يُشْعِرُ بِجَوَازِهِ فِيهَا (أَيِ الْجُمَلُ) كَالْمُفْرَدَاتِ اهـ. ابْتُدِئَ فِي تَعْدَادِ صِفَاتِ الْجَنَّةِ بِصِفَتِهَا الذَّاتِيَّةَ وَهُوَ كَوْنُهَا عَالِيَةً، وَثُنِّيَ بِصِفَةِ تَنْزِيهِهَا عَمَّا يُعَدُّ مِنْ نَقَائِصِ مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَسَاكِنِ الْجَمَاعَاتِ وَهُوَ الْغَوْغَاءُ وَاللَّغْوُ، وَقَدْ جُرِّدَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ أَنْ تُعْطَفَ على عالِيَةٍ [الغاشية: 10] مُرَاعَاةً لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَذَلِكَ حَقِيقٌ بِعَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ كَمَالِ الِانْقِطَاعِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَهَذَا وَصْفٌ لِلْجَنَّةِ بِحُسْنِ سُكَّانِهَا.

[سورة الغاشية (88) : آية 12]

وَقَرَأَ نَافِعٌ لَا تَسْمَعُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ ولاغِيَةً نَائِبُ فَاعِلٍ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَبِرَفْعِ لاغِيَةً أَيْضًا فَأُجْرِيَ الْفِعْلُ عَلَى التَّذْكِيرِ لِأَنَّ لاغِيَةً لَيْسَ حَقِيقِيَّ التَّأْنِيثِ وَحَسَّنَهُ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِنَصْبِ لاغِيَةً، وَالتَّاءُ لِخِطَابِ غير الْمعِين. [12] [سُورَة الغاشية (88) : آيَة 12] فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) صِفَةٌ ثَالِثَةٌ ل جَنَّةٍ [الغاشية: 10] . فَالْمُرَادُ جِنْسُ الْعُيُونِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] ، أَيْ عَلِمَتِ النُّفُوسُ، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْجَنَّةِ بِاسْتِكْمَالِهَا مَحَاسِنَ الْجَنَّاتِ قَالَ تَعَالَى: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً [الْإِسْرَاء: 91] . وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الْجُمْلَة الَّتِي قبلهمَا لِاخْتِلَافِهِمَا بِالْفِعْلِيَّةِ فِي الْأُولَى وَالِاسْمِيَّةِ فِي الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْفَصْلِ وَلِأَنَّ جُمْلَةَ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً مَقْصُودٌ مِنْهَا التَّنَزُّهَ عَنِ النَّقَائِصِ وَجُمْلَةَ: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا إِثْبَاتَ بعض محاسنها. [13- 16] [سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 13 إِلَى 16] فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) صِفَةٌ رَابِعَةٌ لِجَنَّةٍ. وَأُعِيدَ قَوْلُهُ: فِيها دُونَ أَنْ يُعْطَفَ سُرُرٌ على عَيْنٌ [الغاشية: 12] عَطْفَ الْمُفْرِدَاتِ لِأَنَّ عَطْفَ السُّرُرِ عَلَى عَيْنٌ يَبْدُو نَابِيًا عَن الذَّوْق لعدم الْجَامِعِ بَيْنَ عَيْنِ الْمَاءِ وَالسُّرُرِ فِي الذِّهْنِ لَوْلَا أَنْ جَمَعَهَا الْكَوْنُ فِي الْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ كُرِّرَ ظَرْفُ فِيها تَصْرِيحًا بِأَنَّ تِلْكَ الظَّرْفِيَّةَ هِيَ الْجَامِعُ، وَلِأَنَّ بَيْنَ ظَرْفِيَّةِ الْعَيْنِ الْجَارِيَةِ فِي الْجَنَّةِ وَبَيْنَ ظَرْفِيَّةِ السُّرُرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعِ الْقُصُورِ وَالْأَثَاثِ تَفَاوُتًا وَلِذَلِكَ عُطِفَ وَأَكْوابٌ، وَنَمارِقُ، وَزَرابِيُّ، لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي أَنَّهَا مِنْ مَتَاعِ الْمَسَاكِنِ الْفَائِقَةِ.

وَهَذَا وَصْفٌ لِمَحَاسِنِ الْجَنَّةِ بِمَحَاسِنِ أَثَاثِ قُصُورِهَا فَضَمِيرُ فِيهَا عَائِدٌ لِلْجَنَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا فِي قُصُورِهَا هُوَ مَظْرُوفٌ فِيهَا بِوَاسِطَةٍ. وسُرُرٌ: جَمَعَ سَرِيرٍ، وَهُوَ مَا يُجْلَسُ عَلَيْهِ ويضطجع عَلَيْهِ فَيَسَعُ الْإِنْسَانَ الْمُضْطَجِعَ، يتَّخذ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ لَهُ قَوَائِمُ لِيَكُونَ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَ الِارْتِفَاعُ عَنِ الْأَرْضِ مَأْخُوذًا فِي مَفْهُومِ السُّرُرِ كَانَ وَصْفُهَا بِ مَرْفُوعَةٌ لتصوير حسنها. و (الأكواب) : جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ إِنَاءٌ لِلْخَمْرِ لَهُ سَاقٌ وَلَا عُرْوَةَ لَهُ. ومَوْضُوعَةٌ: أَيْ لَا تُرْفَعُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كَمَا تُرْفَعُ آنِيَةُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا إِذَا بَلَغَ الشاربون حد الِاسْتِطَاعَة مَنْ تَنَاوَلِ الْخَمْرِ، وكني بِ مَوْضُوعَةٌ عَنْ عَدَمِ انْقِطَاعِ لَذَّةِ الشَّرَابِ طَعْمًا وَنَشْوَةً، أَيْ مَوْضُوعَةٌ بِمَا فِيهَا مِنْ أَشْرِبَةٍ. وَبَيْنَ مَرْفُوعَةٌ ومَوْضُوعَةٌ، إِيهَامُ الطِّبَاقِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى الرَّفْعِ ضِدَّ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْوَضْعِ، وَلَا تَضَادَّ بَيْنَ مَجَازِ الْأَوَّلِ وَحَقِيقَةِ الثَّانِي وَلَكِنَّهُ إِيهَامُ التَّضَادِّ. وَالنَّمَارِقُ: جَمْعُ نُمْرُقَةٍ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ مِيمٍ بَعْدَهَا رَاءٌ مَضْمُومَةٌ وَهِيَ الوسادة الَّتِي يتكىء عَلَيْهَا الْجَالِسُ وَالْمُضْطَجِعُ. ومَصْفُوفَةٌ: أَيْ جُعِلَ بَعْضُهَا قَرِيبًا مِنْ بَعْضٍ صَفًّا، أَيْ أَيْنَمَا أَرَادَ الْجَالِسُ أَنْ يَجْلِسَ وَجَدَهَا. وزَرابِيُّ: جَمْعُ زَرْبِيَّةٍ بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ الْبِسَاطُ أَوِ الطُّنْفُسَةُ (بِضَمِّ الطَّاءِ) الْمَنْسُوجُ مِنَ الصُّوفِ الْمُلَوَّنِ النَّاعِمِ يُفْرَشُ فِي الْأَرْضِ لِلزِّينَةِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ لِأَهْلِ التَّرَفِ وَالْيَسَارِ. وَالزَّرْبِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلَى (أَذْرَبِيجَانَ) بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ وَبُخَارَى، فَأَصْلُ زَرْبِيَّةٍ أَذْرَبِيَّةٌ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا لِلتَّخْفِيفِ لِثِقَلِ الِاسْمِ لِعُجْمَتِهِ وَاتِّصَالِ يَاءِ النَّسَبِ بِهِ، وَذَالُهَا مُبْدَلَةٌ عَنِ الزَّايِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ اسْمَ الْبَلَدِ فِي لِسَانِ الْفُرْسِ أَزْرَبِيجَانُ بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْفَارِسِيِّ حَرْفُ الذَّالِ، وَبَلَدُ (أَذْرَبِيجَانَ) مَشْهُورٌ بِنُعُومَةِ صُوفِ أَغْنَامِهِ. وَاشْتُهِرَ أَيْضًا بِدِقَّةِ صُنْعِ الْبُسُطِ وَالطَّنَافِسِ وَرِقَّةِ خَمْلِهَا.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 إلى 20]

وَالْمَبْثُوثَةُ: الْمُنْتَشِرَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِكَثْرَةٍ وَذَلِكَ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ. وَقَدْ قُوبِلَتْ صِفَاتُ وُجُوهِ أَهْلِ النَّارِ بِصِفَاتِ وُجُوهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقُوبِلَتْ صِفَات خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] ، عامِلَةٌ، ناصِبَةٌ [الغاشية: 3] بِصِفَاتِ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [الغاشية: 8، 9] ، وَقُوبِلَ قَوْلُهُ: تَصْلى نَارا حامِيَةً [الغاشية: 4] بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الغاشية: 10] . وَقُوبِلَ: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 5] بِقَوْلِهِ: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ [الغاشية: 12] ، وَقُوبِلَ شَقَاءُ عَيْشِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْله: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: 6، 7] ، بِمَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِتَرَفِ الْعَيْشِ مِنْ شَرَابٍ وَمَتَاعٍ. وَهَذَا وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ النَعِيمِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ تَرَفَ الْجَنَّةِ لَا يَبْلُغُهُ الْوَصْفُ بِالْكَلَامِ وَجُمِعَ ذَلِكَ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] ، وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ تَرْتَاحُ بمألوفاتها فتعطاها فَيكون نَعِيمَ أَرْوَاحِ النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِنْ كُلِّ مِصْرٍ فِي الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى مِمَّا أَلِفُوهُ وَلَا سِيَّمَا مَا هُوَ مَأْلُوفٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالتَّرَفِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُزَادُونَ مِنَ النَعِيمِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قلب بشر» . [17- 20] [سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 17 إِلَى 20] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) لَمَّا تَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَصْفُ حَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ بِمَا وُصِفُوا بِهِ، وَكَانَ قَدْ تَقَرَّرُ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ أَهْلَ الشَّقَاءِ هُمْ أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ تَفْرِيعُ التَّعْلِيلِ عَلَى الْمُعَلَّلِ لِأَنَّ فَظَاعَةَ ذَلِكَ الْوَعِيدِ تَجْعَلُ الْمَقَامَ مَقَامَ اسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَصِلُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَإِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى أَن منشىء النَّشْأَةِ الْأَوْلَى عَنْ عَدَمٍ بِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْمَوْجُودَاتِ كَالْجِبَالِ وَالسَّمَاءِ، لَا يُسْتَبْعَدُ فِي جَانِبِ قُدْرَتِهِ إِعَادَةُ إِنْشَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ عَنْ عَدَمٍ، وَهُوَ دُونَ

تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ الْأَحْجَامِ، فَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ مَجْلَبَةً لِمَا يُجَشِّمُهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَذَا التَّفْرِيعِ، وَبَيْنَ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [الغاشية: 8] كَانَ فِي مَوْقِعِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا عَلِمْتَ. فَضَمِيرُ يَنْظُرُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْحَالِ إِلَى دَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَالنَّظَرُ: نَظَرُ الْعَيْنِ الْمُفِيدِ الِاعْتِبَارَ بِدَقَائِقِ الْمَنْظُورِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إِلَى) تَنْبِيهٌ عَلَى إِمْعَانِ النَّظَرِ لِيَشْعُرَ النَّاظِرُ مِمَّا فِي الْمَنْظُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ نَظَرَ إِلَى كَذَا أَشَدُّ فِي تَوْجِيهِ النَّظَرِ مِنْ نَظَرَ كَذَا، لِمَا فِي (إِلَى) مِنْ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ حَتَّى كَأَنَّ النَّظَرَ انْتَهَى عِنْدَ الْمَجْرُورِ بِ (إِلَى) انْتِهَاءَ تَمَكُّنٍ وَاسْتِقْرَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ [الْأَحْزَاب: 19] وَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَة: 23] . وَلِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِنْكَارِ هَذَا الْإِهْمَالِ قُيِّدَ فِعْلُ يَنْظُرُونَ بِالْكَيْفِيَّاتِ الْمَعْدُودَةِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ خُلِقَتْ، كَيْفَ رُفِعَتْ، كَيْفَ نُصِبَتْ، كَيْفَ سُطِحَتْ أَيْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى دَقَائِقِ هَيْئَاتِ خَلْقِهَا. وَجُمْلَةُ: كَيْفَ خُلِقَتْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلُ يَنْظُرُونَ لَا حَرْفُ الْجَرِّ، فَإِنَّ حَرْفَ الْجَرِّ آلَةٌ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَالْفِعْلُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى حَرْفِ الْجَرِّ فِي التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْعَمَلِ فِي الْبَدَلِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ إِعْمَالُ الْمَتْبُوعِ وَمَا يَقْتَضِيهِ إِعْمَالُ التَّابِعِ فَكُلٌّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَاهُ وَمَوْقِعُهُ، فَكَيْفَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ. وَالْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ هَيْئَةَ خَلْقِهَا. وَقَدْ عُدَّتْ أَشْيَاءُ أَرْبَعَةٌ هِيَ مِنَ النَّاظِرِينَ عَنْ كَثَبٍ لَا تَغِيبُ عَنْ أَنْظَارِهِمْ، وَعُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ اشْتِرَاكُهَا فِي مَرْآهُمْ جِهَةً جَامِعَةً بَيْنَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، فَالَّذِي حَسَّنَ اقْتِرَانَ الْإِبِلِ مَعَ

السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ فِي الذِّكْرِ هُنَا، هُوَ أَنَّهَا تَنْتَظِمُ فِي نَظَرِ جُمْهُورِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَنَجِدٍ وَأَمْثَالِهَا مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالِانْتِجَاعِ. فَالْإِبِلُ أَمْوَالُهُمْ وَرَوَاحِلُهُمْ، وَمِنْهَا عَيْشُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ وَنَسْجُ بُيُوتِهِمْ وَهِيَ حَمَّالَةُ أَثْقَالِهِمْ، وَقَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ خَلْقًا عَجِيبًا بِقُوَّةِ قَوَائِمِهَا وَيُسْرِ بَرُوكِهَا لِتَيْسِيرَ حَمْلِ الْأَمْتِعَةِ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ أَعْنَاقَهَا طَوِيلَةً قَوِيَّةً لِيُمْكِنَهَا النُّهُوضُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَثْقَالِ بَعْدَ تَحْمِيلِهَا أَوْ بَعْدَ اسْتِرَاحَتِهَا فِي الْمَنَازِلِ وَالْمَبَارَكِ، وَجَعَلَ فِي بُطُونِهَا أَمْعَاءً تَخْتَزِنُ الطَّعَامَ وَالْمَاءَ بِحَيْثُ تَصْبِرُ عَلَى الْعَطَشِ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي السَّيْرِ فِي الْمَفَاوِزِ مِمَّا يَهْلِكُ فِيمَا دُونَهُ غَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ. وَكَمْ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الرَّوَاحِلِ وَصِفَاتِهَا وَحَمْدِهَا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ وَلَا تَكَادُ تَخْلُو قصيدة من طوالهم عَنْ وَصْفِ الرَّوَاحِلِ وَمَزَايَاهَا. وَنَاهِيكَ بِمَا فِي الْمُعَلَّقَاتِ وَمَا فِي قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ. والْإِبِلِ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْبُعْرَانِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [146] . وَعَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ فَسَّرَ الْإِبِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَسْحِبَةِ وَتَأَوَّلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِبِلَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّحَابِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ» ، أَيْ هُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عَنْتَرَةَ: جَادَتْ عَلَيْهِ كل بكر حُرَّةٍ ... فَتَرْكَنُ كُلُّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ وَنُقِلَ بِهِمْ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي عَظِيمِ خَلْقِ السَّمَاءِ إِذْ هُمْ يَنْظُرُونَهَا نَهَارَهُمْ وَلَيْلَهُمْ فِي إِقَامَتِهِمْ وَظَعْنِهِمْ، يَرْقُبُونَ أَنْوَاءَ الْمَطَرِ وَيَشِيمُونَ لَمْعَ الْبُرُوقِ، فَقَدْ عُرِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ، قَالَ زِيَادَةُ الْحَارِثِيُّ (عَلَى تَرَدُّدٍ لِشُرَّاحِ الْحَمَاسَةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ، بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ) : وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى ... لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرُ وَفِي كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ هَاجَرَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي آخِرِهَا: «إِنَّهَا لَأُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» وَيَتَعَرَّفُونَ مِنَ النُّجُومِ وَمَنَازِلِ الشَّمْسِ أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَوِجْهَةَ السَّيْرِ.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 إلى 24]

وَأَتْبَعَ ذِكْرَ السَّمَاءِ بِذِكْرِ الْجِبَالِ وَكَانَتِ الْجِبَالُ مَنَازِلَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ مِثْلَ جَبَلَيْ أَجَأٍ وَسَلْمَى لِطَيٍّ. وَيَنْزِلُونَ سُفُوحَهَا لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الِاعْتِصَامِ بِهَا عِنْدَ الْخَوْفِ وَيَتَّخِذُونَ فِيهَا مَرَاقِبَ لِلْحِرَاسَةِ. وَالنَّصْبُ: الرَّفْعُ أَيْ كَيْفَ رُفِعَتْ وَهِيَ مَعَ ارْتِفَاعِهَا ثَابِتَةٌ رَاسِخَةٌ لَا تَمِيلُ. وَثمّ نَزَلَ بِأَنْظَارِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَهِيَ مَرْعَاهُمْ وَمُفْتَرَشُهُمْ، وَقَدْ سَطَحَهَا اللَّهُ، أَيْ خَلَقَهَا مُمَهَّدَةً لِلْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ. وَمعنى سُطِحَتْ: سويت يُقَالُ: سَطَحَ الشَّيْءَ إِذَا سَوَّاهُ وَمِنْهُ سَطْحُ الدَّارِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ كُلِّ قَوْمٍ لَا مَجْمُوعَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَبُنِيَتِ الْأَفْعَالُ الْأَرْبَعَةُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بفاعل ذَلِك. [21- 24] [سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 21 إِلَى 24] فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) الْفَاءُ فَصِيحَةُ تَفْرِيعٍ عَلَى مُحَصَّلِ مَا سَبَقَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ الَّذِي هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْغَاشِيَةِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ، رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّوَامِ عَلَى تَذْكِيرِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يُؤَيِّسُهُ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَعَدَمُ ادِّكَارِهِمْ بِمَا أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَتَثْبِيتُهُ بِأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ إِصْغَائِهِمْ إِذْ لَمْ يُبْعَثْ مُلْجِئًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ. وَمَفْعُولُ «ذَكِّرْ» مَحْذُوفٌ هُوَ ضَمِيرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وَجُمْلَةُ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّذْكِيرِ مَعَ عَدَمِ إِصْغَائِهِمْ لِأَنَّ إِنَّما مُرَكَّبَةٌ من (أنّ) و (مَا) وَشَأْنُ (إِنَّ) إِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ جُمْلَةٍ أَنْ تُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَتُغْنِيَ غَنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ، وَاتِّصَالُ (مَا) الْكَافَّةِ بِهَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَهْيَعِهَا. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ بِ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ وَكِيلًا عَلَى

تَحْصِيلِ تَذَكُّرِهِمْ فَلَا تَتَحَرَّجْ مِنْ عَدَمِ تَذَكُّرِهِمْ فَأَنْتَ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي تَذْكِيرِهِمْ وَهَذَا تَطْمِينٌ لِنَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ. وَجُمْلَةُ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِاعْتِبَارِ جَانِبِ النَّفْيِ الَّذِي يُفِيدُهُ الْقَصْرُ. وَالْمُصَيْطِرُ: الْمُجْبِرُ الْمُكْرِهُ. يُقَالُ: صَيْطَرَ بِصَادٍّ فِي أَوَّلِهِ، وَيُقَالُ: سَيْطَرَ بِسِينٍ فِي أَوَّلِهِ وَالْأَشْهَرُ بِالصَّادِّ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الطُّورِ [37] : أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ وَقَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ وَقَرَأَ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِالسِّينِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِإِشْمَامِ الصَّادِ صَوْتَ الزَّايِ. وَنَفْيُ كَوْنِهِ مُصَيْطِرًا عَلَيْهِمْ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِإِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، فَالْخَبَرُ بِهَذَا النَّفْيِ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّطْمِينِ بِرَفْعِ التَّبِعَةِ عَنْهُ مِنْ جَرَّاءَ اسْتِمْرَارِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَا نَسْخَ لِحَكَمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِآيَاتِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ. ثُمَّ جَاءَ وُجُوبُ الْقِتَالِ بِتَسَلْسُلِ حَوَادِثَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْبَادِئِينَ فِيهَا بِالْعُدْوَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَشَرَعَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لِخَضْدِ شَوْكَتِهِمْ وَتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طُغْيَانِهِمْ. وَمِنَ الْجَهَلَةِ مَنْ يَضَعُ قَوْلَهُ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَيَحِيدُ بِهِ عَنْ مَهْيَعِهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَهُ حُجَّةً عَلَى حُرِّيَّةِ التَّدَيُّنِ بَيْنَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَشَتَّانَ بَيْنَ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَحْوَالِ جَامِعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَمَنْ يُلْحِدُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذُوهُ مِنْ جَامِعَتِهِمْ وَيُعَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ الْمُحَارَبِ. وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَقْتَضِي نَبْذَ الْإِسْلَامِ أَوْ إِنْكَارَ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَآلِ قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ فَيَلْتَزِمُهُ وَلَا يَتَأَوَّلُهُ بِتَأْوِيلٍ مَقْبُولٍ وَيَأْبَى الِانْكِفَافَ. وَتَقْدِيمُ عَلَيْهِمْ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ «مُسَيْطِرٌ» لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وَجُمْلَةِ: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الغاشية: 25]

[سورة الغاشية (88) : الآيات 25 إلى 26]

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الِاحْتِرَاسُ مِنْ تَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا آمَنِينَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى عَدَمِ التَّذَكُّرِ. فَحَرْفُ إِلَّا لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنِ التَّذَكُّرِ وَدَامَ عَلَى كُفْرِهِ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ إِذْ كَانَ الْكَلَامُ اسْتِدْرَاكًا وَكَانَ الْمُبْتَدَأُ مَوْصُولًا فَأَشْبَهَ بِمَوْقِعِهِ وَبِعُمُومِهِ الشُّرُوطَ فَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 4] . والْأَكْبَرَ: مُسْتَعَارٌ لِلْقَوِيِّ الْمُتَجَاوِزِ حدّ أَنْوَاعه. [25، 26] [سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 25 إِلَى 26] إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] ، أَيْ لَسْتَ مُكَلَّفًا بِجَبْرِهِمْ عَلَى التَّذَكُّرِ وَالْإِيمَانِ لِأَنَّا نُحَاسِبُهُمْ حِينَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا فِي دَارِ الْبَقَاءِ. وَقَدْ جَاءَ حَرْفُ إِنَّ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْمَشْهُورِ، إِذَا جِيءَ بِهِ الْمُجَرّد الِاهْتِمَامِ دُونَ رَدِّ إِنْكَارٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا وَتَسَبُّبًا كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . وَالْإِيَابُ: بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْأَوْبُ، أَيِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ. أُطْلِقَ عَلَى الْحُضُورِ فِي حَضْرَةِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْحَشْرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ النَّاسِ خَلْقَهُمُ الْأَوَّلَ، فَشُبِّهَتْ إِعَادَةُ خَلْقِهِمْ وَإِحْضَارِهِمْ لَدَيْهِ بِرُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى مَقَرِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الْفجْر: 27، 28] . وَتَقْدِيمُ خَبَرِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا يُظْهِرُ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ تَحْقِيقًا لِهَذَا الرُّجُوعِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَهُ، وَتَنْبِيهًا عَلَى إِمْكَانِهِ بِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الَّذِي أَنْشَأَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَنُقِلَ الْكَلَامُ مِنْ أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ [الغاشية: 24] إِلَى أُسْلُوبِ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ: إِلَيْنا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.

وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِيابَهُمْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. فَعَنِ ابْنِ جِنِّي هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فِيعَالٍ مَصْدَرُ: أَيَّبَ بِوَزْنِ فَيْعَلَ مِنَ الْأَوْبِ مِثْلَ حَوْقَلَ. فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأَدْغَمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ فَقِيلَ: إِيَّابٌ. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ بِحَرْفِ ثُمَّ لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ حِسَابَهُمْ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ إِيَابِهِمْ وَهُوَ أَوْقَعُ فِي تَهْدِيدِهِمْ عَلَى التَّوَلِّي. وَمَعْنَى (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْنا حِسابَهُمْ أَنَّ حِسَابَهُمْ لِتَأَكُّدِهِ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ يُشْبِهُ الْحَقَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَعْنَى التَّمْهِيدِ لَهَا وَالْإِدْمَاجِ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ تَأْخِيرَ عِقَابِهِمْ إِمْهَالٌ فَلَا يَحْسَبُوهُ انْفِلَاتًا مِنَ الْعِقَابِ.

89- سورة الفجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 89- سُورَةُ الْفَجْرِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةَ الْفَجْرِ» بِدُونِ الْوَاوِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ سِوَى مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَقَدْ عُدَّتِ الْعَاشِرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ الضُّحَى. وَعَدَدُ آيِهَا اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ عَدُّوا قَوْله: وَنَعَّمَهُ [الْفجْر: 15] مُنْتَهَى آيَةٍ، وَقَوله: رِزْقَهُ [الْفجْر: 16] مُنْتَهَى آيَةٍ. وَلَمْ يَعُدَّهَا غَيْرُهُمْ مُنْتَهَى آيَةٍ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْكُوفَةِ وَالشَّامِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. فَأَهْلُ الشَّامِ عدّوا بِجَهَنَّمَ [الْفجْر: 23] مُنْتَهَى آيَةٍ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَدُّوا فِي عِبادِي [الْفجْر: 29] مُنْتَهى آيَة. أغراضها حَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ ضَرْبَ الْمَثَلِ لِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ بِمَثَلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَإِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَتَثْبِيتَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ وَعْدِهِ بِاضْمِحْلَالِ أَعْدَائِهِ. وَإِبْطَالَ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَعِيمِ

[سورة الفجر (89) : الآيات 1 إلى 4]

عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ وَأَنَّ مَا فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَصَاصَةِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهَانَهُمْ. وَأَنَّهُمْ أَضَاعُوا شُكْرَ اللَّهِ على النِّعْمَة فَلَمَّا يُوَاسُوا بِبَعْضِهَا الضُّعَفَاءِ وَمَا زَادَتْهُمْ إِلَّا حِرْصًا عَلَى التَّكَثُّرِ مِنْهَا. وَأَنَّهُمْ يَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنْ لَمْ يُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ يَوْمَ لَا ينفع نفسا مَالُهَا وَلَا يَنْفَعُهَا إِلَّا إِيمَانُهَا وَتَصْدِيقُهَا بِوَعْدِ رَبِّهَا. وَذَلِكَ يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَصِيرِهِمْ إِلَى الْجنَّة. [1- 4] [سُورَة الْفجْر (89) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهَا دَلَائِلُ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَسَعَةِ قُدْرَتِهِ فِيمَا أَوْجَدَ مِنْ نِظَامٍ يُظَاهِرُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ وَقْتُ الْفَجْرِ الْجَامِعِ بَيْنَ انْتِهَاءِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَابْتِدَاءِ نُورِ النَّهَارِ، وَوَقْتُ اللَّيْل الَّذِي تمحضت فِيهِ الظُّلْمَةُ. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَوْقَاتٌ لِأَفْعَالٍ مِنَ الْبِرِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِثْلَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَاللَّيَالِي الشَّفْعِ، وَاللَّيَالِي الْوَتْرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ فِي الْكَلَامِ مِنْ طُرُقِ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ إِذِ الْقَسَمُ إِشْهَادُ الْمُقْسِمِ رَبَّهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ. وَقَسَمُ اللَّهُ تَعَالَى مُتَمَحِّضٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [الْفجْر: 6] وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: 14] . وَلِذَلِكَ فَالْقَسَمُ تَعْرِيضٌ بِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنْكِرِينَ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقَسَمِ بِأَشْيَاءَ، التَّشْوِيقُ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. والْفَجْرِ: اسْمٌ لِوَقْتِ ابْتِدَاءِ الضِّيَاءِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ مِنْ أَوَائِلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ حِينَ يَتَزَحْزَحُ الْإِظْلَامُ عَنْ أَوَّلِ خَطٍّ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِنَ الْخُطُوطِ الْفَرْضِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي

تَخْطِيطِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فِي الْجُغْرَافِيَا ثُمَّ يَمْتَدُّ فَيُضِيءُ الْأُفُقَ ثُمَّ تَظْهَرُ الشَّمْسُ عِنْدَ الشُّرُوقِ وَهُوَ مَظْهَرٌ عَظِيمٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَدِيعِ الصُّنْعِ. فَالْفَجْرُ ابْتِدَاءُ ظُهُورِ النُّورِ بَعْدَ مَا تَأْخُذُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ فِي الِانْصِرَامِ وَهُوَ وَقْتٌ مُبَارَكٌ لِلنَّاسِ إِذْ عِنْدَهُ تَنْتَهِي الْحَالَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى النَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَبِيهُ الْمَوْتِ وَيَأْخُذُ النَّاسُ فِي ارْتِجَاعِ شُعُورِهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى مَا يَأْلَفُونَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمُ النَّافِعَةِ لَهُمْ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَجْرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فَجْرٌ مُعَيَّنٌ: فَقِيلَ أُرِيدَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْفَجْرُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْحَجِيجُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ، فَيَكُونُ تَعْرِيفُ الْفَجْرِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ: هِيَ لَيَالٍ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِينَ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا عَشْرٌ وَاسْتُغْنِيَ عَنْ تَعْرِيفِهَا بِتَوْصِيفِهَا بِعَشْرٍ وَإِذْ قَدْ وَصَفْتَ بِهَا الْعَدَدَ تَعَيَّنَ أَنَّهَا عَشْرٌ مُتَتَابِعَةٌ وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِهَا مَعَ أَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ لِيُتَوَصَّلَ بِتَرْكِ التَّعْرِيفِ إِلَى تَنْوِينِهَا الْمُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ وَلَيْسَ فِي لَيَالِي السَنَةِ عَشْرُ لَيَالٍ مُتَتَابِعَةٍ عَظِيمَةٍ مِثْلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَفِيهَا يَكُونُ الْإِحْرَامُ وَدُخُولُ مَكَّةَ وَأَعْمَالُ الطَّوَافِ، وَفِي ثَامِنَتِهَا لَيْلَةُ التَّرْوِيَةِ، وَتَاسِعَتُهَا لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَعَاشِرَتُهَا لَيْلَةُ النَّحْرِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا اللَّيَالِي الْمُرَادَّةُ بِلَيَالٍ عَشْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (الْمَكِّيِّ) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى» قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَمْ يَصِحَّ وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ وَعِنْدِي أَنَّ الْمَتْنَ فِي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ اهـ. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ لَيالٍ عَشْرٍ عَلَى الْفَجْرِ أَنَّ الْفَجْرَ وَقْتُ انْتِهَاءِ اللَّيْلِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّيْلِ جَامِعُ الْمُضَادَّةِ، وَاللَّيْلُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَمَّا أُرِيدَ عَطْفُهُ عَلَى الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ خُصَّتْ قَبْلَ ذِكْرِهِ بِالذِّكْرِ لَيَالٍ مُبَارَكَةٌ إِذْ هِيَ مِنْ أَفْرَادِ اللَّيْلِ. وَكَانَتِ اللَّيَالِي الْعَشْرُ مُعَيَّنَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ غُيِّرَتْ

مَوَاقِيتُهَا بِمَا أَدْخَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ مِنَ النَّسِيءِ فَاضْطَرَبَتِ السِّنِينُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا يُعْرَفُ مَتَى بَدَأَ ذَلِكَ الِاضْطِرَابُ، وَلَا مَقَادِيرُ مَا أُدْخِلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّسِيءِ، وَلَا مَا يَضْبُطُ أَيَّامَ النَّسِيءِ فِي كُلِّ عَامٍ لِاخْتِلَافِ اصْطِلَاحِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ ضَبْطِهِ فَبِذَلِكَ يَتَعَذَّرُ تَعْيِينُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ الْمَأْمُورِ بِهَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّنَا نُوقِنُ بوجودها فِي خِلَالِ السّنة إِلَى أَو أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيئِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَافَقَتْ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ السَّنَةُ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقِ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» . وَهَذَا التَّغْيِيرُ لَا يَرْفَعُ بَرَكَةَ الْأَيَّامِ الْجَارِيَةِ فِيهَا الْمَنَاسِكُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَهَا لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِذْ هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ خَاصَّةً. فَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ تَعْيِينٌ لِإِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِإِيقَاعِهَا حِكْمَةً عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ غَلَبَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْوَقْتِ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالسَّبَبِ الْمُعَرَّفَ بِالْحُكْمِ وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ نَفْسَ الْحِكْمَةِ. وَتَعْيِينُ الْأَوْقَاتِ لِلْعِبَادَاتِ مِمَّا انْفَرَدَ اللَّهُ بِهِ، فَلِأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ حُرُمَاتٌ بِالْجَعْلِ الرَّبَّانِيِّ، وَلَكِن إِذا اختلت أَوِ اخْتَلَطَتْ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَالُهَا أَوِ اخْتِلَاطُهَا بِقَاضٍ بِسُقُوطِ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهَا. فَقَسَمُ اللَّهِ تَعَالَى بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ فِي هَذِهِ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَسَمٌ بِمَا فِي عِلْمِهِ مِنْ تَعْيِينِهَا فِي عِلْمِهِ. والشَّفْعِ: مَا يَكُونُ ثَانِيًا لِغَيْرِهِ، والْوَتْرِ: الشَّيْءُ الْمُفْرَدُ، وَهُمَا صِفَتَانِ لِمَحْذُوفٍ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَمُنَاسَبَةُ الِابْتِدَاءِ بِالشَّفْعِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ فَنَاسَبَ قَوْلَهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَأَنَّ الْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَذِكْرُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تَخْصِيصٌ لِهَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ، بَعْدَ شُمُولِ اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَهُمَا.

وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ وَالصَّلَاة مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي «الْعَارِضَةِ أَنَّ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «وَعِنْدِي أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَشْبَهُ» . وَيَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ مِنًى، وَالْوَتْرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ فَتَكُونُ غَيْرَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ. وَتَنْكِيرُ لَيالٍ وَتَعْرِيفُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ لَيَالٍ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ عَشْرُ لَيَالٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَتَعْرِيفُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمَا مَعْرُوفَانِ وَبِأَنَّهُمَا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ مِنَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ. وَفِي تَفْسِيرِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَأَكْثَرُهَا لَا يَحْسُنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَتْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ لِلْعَطْفِ عَلَى لَيَالٍ عَشْرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْوَتْرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَكْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَهُمْ بَنُو سَعْدٍ أَظْآرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَهْلُ الْعَالِيَةِ، فَهُمَا لُغَتَانِ فِي الْوَتْرِ. بِمَعْنَى الْفَرْدِ. واللَّيْلِ عَطْفٌ عَلَى لَيالٍ عَشْرٍ عَطَفَ الْأَعَمَّ عَلَى الْأَخَصِّ أَوْ عَطَفَ عَلَى الْفَجْرِ بِجَامِعِ التَّضَادِّ. وَأَقْسَمَ بِهِ لِمَا أَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ. وَمَعْنَى يَسْرِي: يَمْضِي سَائِرًا فِي الظَّلَامِ، أَيْ إِذَا انْقَضَى مِنْهُ جُزْءٌ كَثِيرٌ، شُبِّهَ تَقَضِّي اللَّيْلِ فِي ظَلَامِهِ بِسَيْرِ السَّائِرِ فِي الظَّلَامِ وَهُوَ السُّرَى كَمَا شُبِّهَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] وَقَالَ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضُّحَى: 2] ، أَيْ تَمَكَّنَ ظَلَامُهُ وَاشْتَدَّ. وَتَقْيِيدُ اللَّيْلِ بِظَرْفِ إِذا يَسْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ تَمَكُّنِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسُ أَخَذُوا حَظَّهُمْ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَطَاعُوا التَّهَجُّدَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وَقَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: 26] .

[سورة الفجر (89) : آية 5]

وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: إِذَا يَسْرِي بِيَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ لِرَعْيِ بَقِيَّةِ الْفَوَاصِلِ: «الْفَجْرِ، عَشْرٍ، وَالْوَتْرِ، حِجْرٍ» فَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ كَالْأَسْجَاعِ فِي النَّثْرِ وَالْأَسْجَاعُ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْقَوَافِي، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ بِأَحْسَنَ مِنَ الْحَذْفِ، وَجَمِيعُ مَا لَا يَحْذِفُ وَمَا يُخْتَارُ فِيهِ أَنْ لَا يُحْذَفَ (نَحْوَ الْقَاضِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ) يُحْذَفُ إِذَا كَانَ فِي قَافِيَةٍ أَوْ فَاصِلَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً فَالْأَحْسَنُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِثُبُوتِ الْيَاءِ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ وَفِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِدُونِ يَاء وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ يُوَافِقُهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ إِيَّاهَا بِدُونِ يَاءٍ، وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا الْيَاءَ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف اعْتَمَدُوا الرِّوَايَةَ وَاعْتَبَرُوا رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةً أَوِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ الرَّسْمَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَقْفِ. وَأَمَّا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ فَلَا يُوهِنُ رَسْمُ الْمُصْحَفِ رِوَايَتَهُمْ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ جَاءَ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ وَمُرَاعَاةُ الْوَقْفِ تَكْثُرُ فِي كيفيات الرَّسْم. [5] [سُورَة الْفجْر (89) : آيَة 5] هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ جَوَابِهِ أَوْ دَلِيلِ جَوَابِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الْوَاقِعَة: 76] . وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَكَوْنُهُ بِحَرْفِ هَلْ لِأَنَّ أَصْلَ هَلْ أَنْ تَدُلَّ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (قَدْ) . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِ، أَيْ هَل فِي الْقسم بذلك قَسَمٌ. وَتَنْكِيرُ قَسَمٌ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ قَسَمٌ كَافٍ وَمُقْنِعٌ لِلْمُقْسَمِ لَهُ، إِذَا كَانَ عَاقِلًا أَنْ يَتَدَبَّرَ بِعَقْلِهِ. فَالْمَعْنَى: هَلْ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِلسَّامِعِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ صَاحِبُ حِجْرٍ. وَالْحِجْرُ: الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّهَافُتِ كَمَا يَعْقِلُ الْعِقَالُ الْبَعِيرَ عَنِ الضَّلَالِ.

[سورة الفجر (89) : الآيات 6 إلى 14]

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِذِي حِجْرٍ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ قَسَمٌ لِأَجْلِ ذِي عَقْلٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُكَابَرَةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُقْسِمَ بِهَذَا الْقَسَمِ صَادِقٌ فِيمَا أقسم عَلَيْهِ. [6- 14] [سُورَة الْفجْر (89) : الْآيَات 6 إِلَى 14] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) لَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ وَلَكِنَّهُ: إِمَّا دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا فُعِلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ لَيَصُبَّنَّ رَبُّكَ عَلَى مُكَذِّبِيكَ سَوْطَ عَذَابٍ كَمَا صَبَّ عَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ. وَإِمَّا تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ وَمُقَدِّمَةٌ لَهُ إِنْ جَعَلْتَ الْجَوَابَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ اعْتِرَاضٌ جُعِلَ كَمُقَدِّمَةٍ لِجَوَابِ الْقَسَمِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ لِلْمُكَذِّبِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ، فَيَكُونُ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: 42] . فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثْبِيتًا لَهُ وَوَعْدًا بِالنَّصْرِ، وَتَعْرِيضًا لِلْمُعَانِدِينَ بِالْإِنْذَارِ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ مَا فُعِلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ مَوْعِظَةٌ وَإِنْذَارٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ فَعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ قُصِدَ مِنْهُ تَقْرِيبُ وُقُوعِ ذَلِكَ وَتَوَقُّعُ حُلُولِهِ. لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالنَّظَائِرِ وَاسْتِحْضَارَ الْأَمْثَالِ يُقَرِّبُ إِلَى الْأَذْهَانِ الْأَمْرَ الْغَرِيبَ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ بُعْدَ الْعَهْدِ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهِ يُنْسِيهِ النَّاسَ، وَإِذَا نُسِيَ اسْتَبْعَدَ النَّاسُ وُقُوعَهُ، فَالتَّذْكِيرُ يُزِيلُ الِاسْتِبْعَادَ. فَهَذِهِ الْعِبَرُ جُزْئِيَّاتٌ مِنْ مَضْمُونِ جَوَابِ الْقَسَمِ، فَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَذِكْرُهَا دَلِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْجَوَابِ

زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّيهِ، وَإِيذَانًا بِجِنْسِ الْجَوَابِ مِنْ قَبْلِ ذِكْرِهِ لِيَحْصُلَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَزِيدُ تَقَرُّرِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَالرُّؤْيَةُ فِي أَلَمْ تَرَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةً عِلْمِيَّةً تَشْبِيهًا لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالِانْكِشَافِ لِأَنَّ أَخْبَارَ هَذِهِ الْأُمَمِ شَائِعَةٌ مَضْرُوبَةٌ بِهَا الْمُثُلُ فَكَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ. فَتَكُونُ كَيْفَ اسْتِفْهَامًا مُعَلِّقًا فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ آثَارَ مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، وَتَكُونُ كَيْفَ اسْمًا مُجَرَّدًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ. وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِإِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَ رَبُّكَ لِمَا فِي وَصْفِ رَبٍّ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْوَلَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ إِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنْ إِعْزَازِهِ وَتَشْرِيفِهِ. وَقَدِ ابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ لِشُهْرَتِهِمَا بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبِلَادِ الْعَرَبِ وَهُمْ يُحَدِّثُونَ الْعَرَبَ عَنْهَا. وَأُرِيدَ بِ «عَادٍ» الْأُمَّةُ لَا مَحَالَةَ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [هود: 59] فَوَجْهُ صَرْفِهِ أَنَّهُ اسْمٌ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطِ مِثْلَ هِنْدٍ وَنُوحٍ وَإِرَمَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ اسْمُ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَهُوَ جَدُّ عَادٍ لِأَنَّ عَادًا هُوَ ابْنُ عُوصِ بْنِ إِرَمَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ الْبَائِدَةَ يُعْتَبَرُونَ خَارِجِينَ عَنْ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِ «عَادٍ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ «عَادٍ» الْقَبِيلَةُ الَّتِي جَدُّهَا الْأَدْنَى هُوَ عَادُ بْنُ عُوصِ بن إرم، وهم عَادٌ الْمَوْصُوفَةُ بِ الْأُولى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: 50] لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ قَبِيلَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى عَادًا أَيْضًا. كَانَتْ تَنْزِلُ مَكَّةَ مَعَ الْعَمَالِيقِ يُقَالُ: إِنَّهُمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَاد الأولى فَعَاد وَإِرَمَ اسْمَانِ لِقَبِيلَةِ عَادٍ الْأُولَى. وَوُصِفَتْ عَادٌ بِ ذاتِ الْعِمادِ، وذاتِ وَصْفٌ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَادٍ الْقَبِيلَةُ.

وَالْعِمَادُ: عُودٌ غَلِيظٌ طَوِيلٌ يُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ يُرْكَزُ فِي الْأَرْضِ تُقَامُ عَلَيْهِ أَثْوَابُ الْخَيْمَةِ أَوِ الْقُبَّةِ وَيُسَمَّى دِعَامَةً، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقُوَّةِ تَشْبِيهًا لِلْقَبِيلَةِ الْقَوِيَّةِ بِالْبَيْتِ ذَاتِ الْعِمَادِ. وَإِطْلَاقُ الْعِمَادِ عَلَى الْقُوَّةِ جَاءَ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خَرَّتْ ... عَلَى الْأَحْفَاضِ نَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الْعِمادِ الْأَعْلَام الَّتِي بنؤها فِي طُرُقِهِمْ لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسَافِرُونَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشُّعَرَاء: 128] . وَوُصِفَتْ عَادٌ بِ ذاتِ الْعِمادِ لِقُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا، أَيْ قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا هُمْ أَشَدُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: 13] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: 21] . والَّتِي: صَادِقٌ عَلَى «عَادٍ» بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ كَمَا وُصِفَتْ بِ ذاتِ الْعِمادِ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: تَغْلِبُ ابْنَةُ وَائِلٍ، بِتَأْوِيلِ تَغْلِبَ بِالْقَبِيلَةِ. والْبِلادِ: جَمْعُ بَلَدٍ وَبَلْدَةٍ وَهِيَ مِسَاحَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٌ بِحُدُودٍ أَوْ سُكَّانٍ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبِلادِ لِلْجِنْسِ وَالْمَعْنَى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْأُمَّةِ فِي الْأَرْضِ. وَأُرِيدَ بِالْخَلْقِ خَلْقُ أَجْسَادِهِمْ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا طِوَالًا شِدَادًا أَقْوِيَاءَ، وَكَانُوا أَهْلَ عَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِأَحْلَامِ عَادٍ، ثُمَّ فَسَدَتْ طِبَاعُهُمْ بِالتَّرَفِ فَبَطِرُوا النِّعْمَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ فِي بُلْدَانِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ. وَقَدْ وَضَعَ الْقَصَّاصُونَ حَوْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قِصَّةً مَكْذُوبَةً فَزَعَمُوا أَنَّ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مُرَكَّبٌ جُعِلَ اسْمًا لِمَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ أَوْ بِالشَّامِ أَوْ بِمِصْرَ، وَوَصَفُوا قُصُورَهَا وَبَسَاتِينَهَا بِأَوْصَافٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَتَقَوَّلُوا أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلَابَةَ كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ تَاهَ فِي ابْتِغَاءِ إِبِلٍ

لَهُ فَاطَّلَعَ عَلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ النَّاسَ فَذَهَبُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا. وَهَذِهِ أَكَاذِيبُ مَخْلُوطَةٌ بِجَهَالَةٍ إِذْ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا إِرَمَ وَيُتْبَعُ بِذَاتِ الْعِمَادِ بِفَتْحِ إِرَمَ وَكَسْرِ ذاتِ فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ مُرَكَّبًا مَزْجِيًّا لَكَانَ بِنَاءُ جُزْأَيْهِ عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مُفْرَدًا وذاتِ صِفَةٌ لَهُ فَلَا وَجْهَ لِكَسْرِ ذاتِ، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ هَذَا الِاسْمِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِعادٍ يُنَاكِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَمُنِعَ ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأُمَّةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَوُصِفَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ جابُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ الَّتِي جابت الصخر بِتَأْوِيلِ الْقَوْمِ فَلَمَّا وُصِفَ عُدِلَ عَنْ تَأْنِيثِهِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ. وَمَعْنَى جابُوا: قَطَعُوا، أَيْ نَحَتُوا الصَّخْرَ وَاتَّخَذُوا فِيهِ بُيُوتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشُّعَرَاء: 149] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ثَمُودَ أَوَّلُ أُمَمِ الْبَشَرِ نَحَتُوا الصَّخْرَ وَالرُّخَامَ. والصَّخْرَ: الْحِجَارَةُ الْعَظِيمَةُ. وَالْوَادِ: اسْمٌ لِأَرْضٍ كَائِنَةٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مُنْخَفِضَةٍ، وَمِنْهُ سُمِّي مَجْرَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَادًا وَفِيهِ لُغَتَانِ: أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ دَالًا، وَأَنْ يَكُونَ آخِرُهُ يَاءً سَاكِنَةً بَعْدَ الدَّالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِيَاءٍ فِي آخِرِهِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَبِدُونِهَا فِي الْوَقْفِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُرَاعَاة الفواصل مثل مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفجْر: 4] وَهُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ وَالْقِرَاءَاتُ تَعْتَمِدُ الرِّوَايَةَ بِالسَّمْعِ لَا رَسْمِ الْمُصْحَفِ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهَا الْحُفَّاظُ مَا عَسَى أَنْ يَنْسَوْهُ. وَالْوَادِ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَنَازِلِ ثَمُودَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَادِي الْقُرَى، بِإِضَافَتِهِ إِلَى «الْقُرَى» الَّتِي بَنَتْهَا ثَمُودُ فِيهِ وَيُسَمَّى أَيْضًا «الْحِجْرَ» بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَيُقَالُ لَهَا: «حِجْرُ ثَمُودَ» وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ خَيْبَرَ وَتَيْمَاءَ فِي طَرِيقِ الْمَاشِي مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَنَزَلَهُ الْيَهُودُ بَعْدَ ثَمُودَ لَمَّا نَزَلُوا بِلَادَ الْعَرَبِ، ونزله من قبائل الْعَرَبِ قُضَاعَةُ وَجُهَيْنَةُ، وَعُذْرَةُ وَبَلِيٌّ.

وَكَانَ غَزَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَحَهُ سَنَةَ سَبْعٍ فَأَسْلَمَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَصُولِحَتِ الْيَهُودُ عَلَى جِزْيَةٍ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْوادِ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِ فِرْعَوْنَ هُوَ وَقَوْمُهُ. وَوَصْفُ ذِي الْأَوْتادِ لِأَنَّ مَمْلَكَتَهُ كَانَتْ تَحْتَوِي عَلَى الْأَهْرَامِ الَّتِي بَنَاهَا أَسْلَافُهُ لِأَنَّ صُورَةَ الْهَرَمِ عَلَى الْأَرْضِ تُشْبِهُ الْوَتِدَ الْمَدْقُوقَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْتَادِ مُسْتَعَارًا لِلتَّمَكُّنِ وَالثَّبَاتِ، أَي ذِي الْقُوَّة عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: ذاتِ الْعِمادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ فِي ص [12] . وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِفِرْعَوْنَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ. وَالطُّغْيَانُ شِدَّةُ الْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ وَمَعْنَى طُغْيَانِهِمْ فِي الْبِلَادِ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ طَغَوْا فِي بَلَدِهِمْ وَلَمَّا كَانَ بَلَدُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَاد أَي أرضي الْأَقْوَامِ كَانَ طُغْيَانُهُمْ فِي بَلَدِهِمْ قَدْ أَوْقَعَ الطُّغْيَانَ فِي الْبِلَادِ لِأَنَّ فَسَادَ الْبَعْضِ آئِلٌ إِلَى فَسَادِ الْجَمِيعِ بِسَنِّ سُنَنِ السُّوءِ، وَلِذَلِكَ تَسَبَّبَ عَلَيْهِ مَا فُرِّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ لِأَن الطغيان يجرّىء صَاحِبَهُ عَلَى دَحْضِ حُقُوقِ النَّاسِ فَهُوَ مِنْ جِهَةٍ يَكُونُ قُدْوَةَ سوء لأمثاله وملئه، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْغَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ بِهِ اخْتِلَالَ الشَّرَائِعِ الْإِلَاهِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُثِيرُ الْحَفَائِظَ وَالضَّغَائِنَ فِي الْمَطْغِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَيُضْمِرُونَ السُّوءَ لِلطَّاغِينَ وَتَنْطَوِي نُفُوسُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهَا فَيَكُونُونَ لَهَا أَعْدَاءً غَيْرَ مُخْلَصِي الضَّمَائِرِ وَيَكُونُ رِجَالُ الدَّوْلَةِ مُتَوَجِّسِينَ مِنْهُمْ خِيفَةً فَيَظُنُّونَ بِهِمُ السُّوءَ فِي كُلِّ حَالٍ وَيَحْذَرُونَهُمْ فَتَتَوَزَّعُ قُوَّةُ الْأُمَّةِ عَلَى أَفْرَادِهَا عِوَضَ أَنْ تَتَّحِدَ عَلَى أَعْدَائِهَا فَتُصْبِحُ لِلْأُمَّةِ أَعْدَاءٌ فِي الْخَارِجِ وَأَعْدَاءٌ فِي الدَّاخِلِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الطُّغْيَانُ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْبِلادِ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيْ فِي بِلَادِهِمْ وَالْجَمْعُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ طَغَتْ كُلُّ أُمَّةٍ فِي بِلَادِهَا.

والْفَسادَ: سُوءُ حَالِ الشَّيْءُ وَلَحَاقُ الضُّرِّ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [الْبَقَرَة: 205] . وَضِدُّ الْفَسَادِ الصَّلَاحُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَاف: 56] وَكَانَ مَا أَكْثَرُوهُ مِنَ الْفَسَادِ سَبَبًا فِي غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ. وَالصَّبُّ حَقِيقَتُهُ: إِفْرَاغُ مَا فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِحُلُولِ الْعَذَابِ دَفْعَةً وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ كَمَا يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَى الْمُغْتَسِلِ أَوْ يُصَبُّ الْمَطَرُ عَلَى الْأَرْضِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ مُرَكَّبٌ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْكَثْرَةِ وَنَظِيرُهُ اسْتِعَارَةُ الْإِفْرَاغِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [الْبَقَرَة: 250] وَنَظِيرُ الصَّبِّ قَوْلُهُمْ: شَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ. وَكَانَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ هَؤُلَاءِ عَذَابًا مُفَاجِئًا قَاضِيًا. فَأَمَّا عَادٌ فَرَأَوْا عَارِضَ الرِّيحِ فَحَسِبُوهُ عَارِضَ مَطَرٍ فَمَا لَبِثُوا حَتَّى أَطَارَتْهُمُ الرِّيحُ كُلَّ مَطِيرٍ. وَأَمَّا ثَمُودُ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَحَسِبُوا الْبَحْرَ مُنْحَسِرًا فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا وَقَدْ أَحَاطَ بِهِمْ. وَالسَّوْطُ: آلَةُ ضَرْبٍ تُتَّخَذُ مِنْ جُلُودٍ مَضْفُورَةٍ تُضْرَبُ بِهَا الْخَيْلُ لِلتَّأْدِيبِ وَلِتَحْمِلَهَا عَلَى الْمَزِيدِ فِي الْجَرْيِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ كَلِمَةَ سَوْطَ عَذابٍ يَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ عَذَابٍ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ (أَيْ يَقَعُ بِالسَّوْطِ) ، يُرِيدُ أَنَّ حَقِيقَتَهَا كَذَلِكَ وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ. وَإِضَافَةُ سَوْطَ إِلَى عَذابٍ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ صَبَّ عَلَيْهِمْ عَذَابًا سَوْطًا، أَيْ كَالسَّوْطِ فِي سُرْعَةِ الْإِصَابَةِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِإِصَابَتِهِمْ بِسَوْطِ عَذَابٍ إِذَا قُدِّرَ جَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ الْقَسَمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. فَعَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا تَكُونُ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَتَصْرِيحًا لِلْمُعَانِدِينَ بِمَا عَرَّضَ لَهُمْ بِهِ

مِنْ تَوَقُّعِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ الْأَوَّلِينَ. أَيْ أَنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ طَاغٍ مُفْسِدٍ. وَعَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ الْقَسَمِ تَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ لَا يُرَادُ مِنَ الرَّصْدِ إِلَّا دَفْعُ الْمُعْتَدِي مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَهُ اعْتِرَاضًا تَفَنُّنًا فِي نَظْمِ الْكَلَامِ إِذْ قُدِّمَ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْقَسَمِ مَا هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ وَتَنْظِيرٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ عِقَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِلَخْ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْخَطَابَةِ إِذْ يُجْعَلُ الْبَيَانُ وَالتَّنْظِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ وَيُجْعَلُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ وَالْعِلَّةِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ صَالِحًا لِلِاعْتِبَارَيْنِ مَعَ قَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُقَدَّمِ وَالْمُبَادِرَةِ بِهِ. وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى رَبُّكَ فِي قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ رَبُّهُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَنْتَصِرَ لَهُ، فَهُوَ مُؤَمِّلٌ بِأَنْ يُعَذِّبَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ انْتِصَارًا لَهُ انْتِصَارَ الْمَوْلَى لِوَلِيِّهِ. وَالْمِرْصَادُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ فِيهِ الرَّصَدُ، أَيِ الْجَمَاعَةُ الْمُرَاقِبُونَ شَيْئًا، وَصِيغَةُ مِفْعَالٍ تَأْتِي لِلْمَكَانِ وَلِلزَّمَانِ كَمَا تَأْتِي لِلْآلَةِ، فَمَعْنَى الْآلَةِ هُنَا غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، فَهُوَ هُنَا إِمَّا لِلزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ إِذِ الرَّصْدُ التَّرَقُّبُ. وَتَعْرِيفُ «الْمِرْصَادِ» تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ يُفِيدُ عُمُومَ الْمُتَعَلِّقِ، أَيْ بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ فَاعِلٍ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِعُمُومِ علم الله تَعَالَى بِمَا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ، بِحَالِ اطِّلَاعِ الرَّصَدِ عَلَى تَحَرُّكَاتِ الْعَدُوِّ وَالْمُغِيرِينَ، وَهَذَا الْمَثَلُ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاةِ كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عمله وَمَا يعمله إِذْ لَا يُقْصَدُ الرَّصْدُ إِلَّا لِلْجَزَاءِ عَلَى الْعُدْوَانِ، وَفِي مَا يُفِيدُهُ مِنَ التَّعْلِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْله لَبِالْمِرْصادِ لِلظَّرْفِيَّةِ

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 20]

[15- 20] [سُورَة الْفجْر (89) : الْآيَات 15 الى 20] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) . كَلَّا دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَدَلَّتْ (أَمَّا) عَلَى مَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَصْلُ مَعْنَاهَا وَمُقْتَضَى اسْتِعْمَالِهَا، فَقَوِيَ بِهَا ارْتِبَاطُ جَوَابِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَقَبْلَ الْفَاءِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا، فَلَاحَ ذَلِكَ بَرْقًا وَامِضًا، وَانْجَلَى بِلَمْعِهِ مَا كَانَ غَامِضًا، إِذْ كَانَ تَفْرِيعُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْفَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهَا خَفِيًّا، فَلْنُبَيِّنْهُ بَيَانًا جَلِيًّا، ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفِ مَا كَانَتْ تَتَمَتَّعُ بِهِ الْأُمَمُ الْمُمَثَّلُ بِهَا مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ، وَهُمْ لَاهُونَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ، وَمُعْرِضُونَ عَنْ طَلَبِ مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، مُقْتَحِمُونَ الْمَنَاكِرَ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا، بَطِرُونَ بِالنِّعْمَةِ، مُعْجَبُونَ بِعَظَمَتِهِمْ فَعَقَّبَ ذِكْرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، بِاسْتِخْلَاصِ الْعِبْرَةِ وَهُوَ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ مُمَاثِلٌ لِحَالِ أُولَئِكَ تَرَفًا وَطُغْيَانًا وَبَطَرًا، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى خَطَاهُمْ إِذْ كَانَتْ لَهُمْ مِنْ حَالِ التَّرَفِ وَالنِّعْمَةِ شُبْهَةٌ تَوَهَّمُوا بِهَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ مَحَلَّ كَرَامَةٍ، فَحَسِبُوا أَنَّ إِنْذَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَا هُوَ وَاقِعٌ لَهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ بِهِمْ أَدَلُّ عَلَى كَرَامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ عَالَمٌ آخَرُ يُضَادُّهُ، وَقَصَرُوا عَطَاءَ اللَّهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عِبَادُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ هَذَا الْوَهْمُ مُسَوِّلًا لَهُمُ التَّكْذِيبَ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ وَعِيدٍ، وَبِمَا يُسَرُّ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ، فَحَصَرُوا جَزَاءَ الْخَيْرِ فِي الثَّرْوَةِ وَالنِّعْمَةِ وَقَصَرُوا جَزَاءَ السُّوءِ عَلَى الْخَصَاصَةِ وَقَتْرِ الرِّزْقِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ التَّعَرُّضُ لِإِبْطَالِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] . وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْوَهَمُ أُصُولًا انبنى عَلَيْهَا، وَهِي: إِنْكَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْكَارُ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَتَوَهُّمُ دَوَامِ الْأَحْوَالِ.

فَفَاءُ التَّفْرِيعِ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: 14] بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي اقْتَضَاهُ كَوْنُهَا تَذْيِيلًا. وَالْمَعْنَى: هَذَا شَأْنُ رَبِّكَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَأَمَّا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ فَيَتَوَهَّمُ خِلَافَ ذَلِكَ إِذْ يَحْسِبُ أَنَّ مَا يَنَالُهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَةٍ فِي الدُّنْيَا تكريما مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَمَا يَنَالُهُ مِنْ ضِيقِ عَيْشٍ إِهَانَةٌ أَهَانَهُ اللَّهُ بِهَا. وَهَذَا التَّوَهُّمُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّهُمْ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ حِكْمَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [فصلت: 50] . فَأَعْلَمُ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ بِالْحَقِيقَةِ الْحَقِّ وَنَبَّهَهُمْ لِتَجَنُّبِ تَخْلِيطِ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ السَّامِيَةِ، وَتَجَنُّبِ تَحْكِيمِ الْوَاهِمَةِ وَالشَّاهِيَةِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الْأَحْوَالَ الدُّنْيَوِيَّةَ أَعْرَاضٌ زَائِلَةٌ وَمُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَضَلَالِهِمُ الَّذِي كَانَ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّابِغَةُ فِي آلِ غَسَّانَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ: مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ وَلَا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ وَقَدْ أَعْقَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: كَلَّا فَمَنَاطُ الرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ كِلَا الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا صَادِرَانِ عَنْ تَأْوِيلٍ بَاطِلٍ وَشُبْهَةٍ ضَالَّةٍ كَمَا سَتَعْرِفُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ وَاقْتِصَارُ الْآيَةِ عَلَى تَقْتِيرِ الرِّزْقِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالْآفَاتِ لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ صِحَّةُ الْمِزَاجِ وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ فَلَا يَهْلِكُونَ إِلَّا بِقَتْلٍ أَوْ هَرَمٍ فِيهِمْ وَفِي ذَوِيهِمْ، قَالَ النَّابِغَةُ: تَغْشَى مَتَالِفَ لَا يُنْظِرْنَكَ الْهَرَمَاِِ

وَلَمْ يُعَرِّجْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى بَيَانِ نَظْمِ الْآيَةِ وَاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا عَدَا الزَّمَخْشَرِيَّ وَابْنَ عَطِيَّةَ. وَقَدْ عُرِفَ هَذَا الِاعْتِقَادُ الضَّالُّ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ طَرَفَةُ: فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي ... بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ وَجَعَلُوا هَذَا الْغُرُورَ مِقْيَاسًا لِمَرَاتِبِ النَّاسِ فَجَعَلُوا أَصْحَابَ الْكَمَالِ أَهْلَ الْمَظَاهِرِ الْفَاخِرَةِ، وَوَصَمُوا بِالنَّقْصِ أَهْلَ الْخَصَاصَةِ وَضُعَفَاءَ النَّاسِ، لِذَلِكَ لَمَّا أَتَى الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَفَزَارَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَمَّارٌ، وَبِلَالٌ، وَخَبَّابٌ، وَسَالِمٌ، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحٌ مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَصُهَيْبٌ، فِي أُنَاسٍ آخَرِينَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ. وَقَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ طَرَدَ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ وَالْحُلَفَاءَ كَانَ أَعْظَمَ لَهُ فِي صُدُورِنَا وَأَدْلَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ. وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [52] . فَنَبَّهَ اللَّهُ عَلَى خَطَأِ اعْتِقَادِهِمْ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مُمَاثِلِهِ مِمَّا اعْتَقَدَهُ الْأُمَمُ قَبْلَهُمُ الَّذِي كَانَ مُوجِبًا صَبَّ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَحْوَال الدُّنْيَا لَا تُتَّخَذُ أَصْلًا فِي اعْتِبَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُطَّرِدَ هُوَ جَزَاءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ أَفْرَادَ الْجِنْسِ وَلَكِنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مُرَادٌ بِهِ النَّاسُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: 4، 5] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفجْر: 23] الْآيَةَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَقِيلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَوْ أَبُو حُذَيْفَة بن الْغيرَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّوْنَ أَعْلَامُ التَّضْلِيلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنِِْ

حَيْثُ كَانَ هَذَا غَالِبًا عَلَى الْكُفَّارِ جَاءَ التَّوْبِيخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمِ الْجِنْسِ إِذْ يَقَعُ (كَذَا) بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَنْزِعِ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِبَعْضِ جَهَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخَيِّلَ إِلَيْهِمْ مَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ بِجَعْلِ اللَّهِ مِنِ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَالْمَعْلُولَاتِ بِعِلَلِهَا فَيَضَعُوا مَا يُصَادِفُ نَفْعَ أَحَدِهِمْ مِنَ الْحَوَادِثِ مَوْضِعَ كَرَامَةٍ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِي صَادَفَتْهُ مَنَافِعُ ذَلِكَ، تَحْكِيمًا لِلشَّاهِيَةِ وَمَحَبَّةِ النَّفْسِ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ وَافْتِيَاتًا عَلَى اللَّهِ، وَإِذَا صَادَفَ أَحَدَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا جَلَبَ لَهُ ضُرًّا تَخَيَّلَهُ بِأَوْهَامِهِ انْتِقَامًا مِنَ اللَّهِ قَصَدَهُ بِهِ، تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا مَا نَالَهُمْ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا مَا صَادَفَهُمْ من فتور الزرق إِهَانَةً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لَيْسُوا بِأَحَطَّ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ. فَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ أَوْجَبَ تَغَلْغُلَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَصَرَفَ أَنْظَارَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا جَرَتِ الْوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِتْنَةً مِنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَقِصَارِ الْأَنْظَارِ وَالْجُهَّالِ بِالْعَقِيدَةِ الْحَقِّ كَمَا أَفْصَحَ أَحْمَدُ بْنُ الرَّاوَنْدِيِّ (¬1) . عَنْ تَزَلْزُلِ فَهْمِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِهِ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَفْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا وَذَلِكَ مَا صَرَفَ الضَّالِّينَ عَنْ تَطَلُّبِ الْحَقَائِقِ مِنْ دَلَائِلِهَا، وَصَرَفَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يُنِيلُ صَاحِبَهُ رِضَى اللَّهِ وَمَا يُوقِعُ فِي غَضَبِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَاسِعٌ وَتَصَرُّفَاتُهُ شَتَّى وَكُلُّهَا صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [الْبَقَرَة: 255] . فَقَدْ يَأْتِي الضُّرُّ لِلْعَبْدِ مِنْ عِدَّةِ أَسْبَابٍ وَقَدْ يَأْتِي النَّفْعُ مِنْ أُخْرَى. وَبَعْضُ ذَلِكَ جَارٍ فِي ¬

(¬1) هُوَ أَحْمد بن يحيى أَبُو الْحُسَيْن ابْن الراوندي بواو مَفْتُوحَة ثمَّ نون سَاكِنة نِسْبَة إِلَى راوند قَرْيَة من قرى قاسان بنواحي أَصْبَهَان. كَانَ من الْمُعْتَزلَة ثمَّ صَار ملحدا توفّي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، وَقيل سنة خمس وَأَرْبَعين وَقيل سنة ثَمَان وَتِسْعين.

الظَّاهِرِ عَلَى الْمُعْتَادِ، وَمِنْهُ مَا فِيهِ سِمَةُ خَرْقِ الْعَادَةِ. فَرُبَّمَا أَتَتِ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْفَوَائِدِ، وَالْمُوَفَّقُ يَتَيَقَّظُ لِلْأَمَارَاتِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: 44] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الْأَعْرَاف: 94، 95] وَقَالَ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التَّوْبَة: 126] . وَتَصَرُّفَاتُ اللَّهِ مُتَشَابِهَةٌ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ النَّاسِ وَبَعْضُهَا جَارٍ عَلَى مَا قَدَّرَهُ مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلٌّ قَدْ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ وَسَبَقَ عَلِمُهُ بِهِ وَرَبَطَ مُسَبَّبَاتِهِ بِأَسْبَابِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسَائِطَ وَالْمُتَبَصِّرُ يَأْخُذُ بِالْحَيْطَةِ لِنَفْسِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ وَهْمُهُ وَلَمْ تَنْهَضْ دَلَائِلُهُ، وَيُفَوِّضُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ. وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهْتَدِينَ بِهَدْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُتَبَصِّرِينَ فِي مَجَارِي التَّصَرُّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَقَدْ نَجِدُ فِي بَعْضِ الْعَوَامِّ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ مِنَ الغافلين بقايا مت اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِإِيجَادِ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي تُمْلِيهَا عَلَى عُقُولِهِمْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّعِظُوا بِمَوْعِظَةِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُعَجِّلُ جَزَاءَ الْخَيْرِ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] . وَقَدْ يُعَجِّلُ الْعِقَابَ لِمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ حَكَى عَنْ نُوحٍ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: 10- 12] وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: 16] . وَلِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عَلَامَاتٌ أَظْهَرُهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ كَمَا نَرَى فِي نَصْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ عَلَى الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ. وَتِلْكَ مَوَاعِيدُ مِنَ اللَّهِ يُحَقِّقُهَا أَوْ وَعِيدٌ مِنْهُ يَحِيقُ بِمُسْتَحِقِّيهِ. وَحَرْفُ (أَمَّا) يُفِيدُ تَفْصِيلًا فِي الْغَالِبِ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى تَقَابُلٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْ ذَوَاتٍ وَأَحْوَالٍ. وَلِذَلِكَ قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا بِمَعْنَى تَبْيِينِ مُجْمَلٍ قَبْلَهَا، بَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ وَتَقَابُلٌ وَتَوَازُنٌ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ

التَّفْصِيلِ الَّذِي تَأْتِي لَهُ (أَمَّا) ، فَارْتِبَاطُ التَّفْصِيلِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْفَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَى (أَمَّا) ، وَإِنَّمَا تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ تَعَلُّقُ الْمُفَرَّعِ بِمَنْشَئِهِ لَا تَفْصِيلُ بَيَانٍ عَلَى مُجْمَلٍ. فَالْمُفَصَّلُ هُنَا أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ الْجَاهِلِ فُصِّلَتْ إِلَى حَالِهِ فِي الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ وَحَالِهِ فِي الضَّنْكِ وَالشِّدَّةِ فَالتَّوَازُنُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا بِالظَّرْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ إِلَخْ وَفِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إِلَخْ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ تَبْيِينِ الْمُجْمَلِ وَلَكِنَّهُ تَمْيِيزٌ وَفَصْلٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ تَشْتَبِهُ أَوْ تَخْتَلِطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (أَمَّا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] . وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ وَيَكُونُ بِالْخَيْرِ وَبِالضُّرِّ لِأَنَّ فِي كِلَيْهِمَا اخْتِبَارًا لِثَبَاتِ النَّفْسِ وَخُلُقِ الْأَنَاةِ وَالصَّبْرِ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: 35] وَبِذِكْرِ الِابْتِلَاءِ ظَهَرَ أَنَّ إِكْرَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ إِكْرَامُ ابْتِلَاءٍ فَيَقَعُ عَلَى حَالَيْنِ، حَالٍ مَرْضِيَّةٍ وَحَالٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ وَكَذَلِكَ تَقْتِيرُ الرِّزْقِ تَقْتِيرُ ابْتِلَاءٍ يَقْتَضِي حَالَيْنِ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النَّمْل: 40] وَقَالَ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: 35] وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ الِاخْتِبَارُ بِالضُّرِّ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا جَعَلَ رَبُّهُ مَا يَنَالُهُ مِنَ النِّعْمَةِ أَوْ مِنَ التَّقْتِيرِ مَظْهَرًا لِحَالِهِ فِي الشُّكْرِ وَالْكُفْرِ، وَفِي الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ، تَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ بِذَلِكَ أَوْ أَهَانَهُ بِهَذَا. وَالْإِكْرَامُ: قَالَ الرَّاغِبُ: أَنْ يُوصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَرَامَةٌ، وَهِيَ نَفْعٌ لَا تَلْحَقُ فِيهِ غَضَاضَةٌ وَلَا مَذَلَّةٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا، أَيْ شَرِيفًا قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] ، أَيْ جَعَلَهُمْ كِرَامًا اهـ يُرِيدُ أَنَّ الْإِكْرَامَ يُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَكْرُمَةِ وَيُطْلَقُ عَلَى جَعْلِ الشَّيْءِ كَرِيمًا فِي صِنْفِهِ فَيَصْدُقُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكْرَمَهُ بِأَنْ يُصِيبَ الْإِنْسَانَ مَا هُوَ نَفْعٌ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ جُعِلَ كَرِيمًا سَيِّدًا شَرِيفًا. وَقَوْلُهُ: فَأَكْرَمَهُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِلْإِكْرَامِ وَقَوْلُهُ: فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ مِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي لَهُ فِي كَلَامِ الرَّاغِبِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَعَّمَهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ عَلَى الْكَافِرِينَ إِيقَاظًا لَهُمْ وَمُعَامَلَةً بِالرَّحْمَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ

الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَاتْرِيدِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ. وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمَاتْرِيدِيُّ وَالْخُلْفُ لَفْظِيٌّ. وَمَعْنَى نَعَّمَهُ جَعَلَهُ فِي نِعْمَةٍ، أَيْ فِي طِيبِ عَيْشٍ. وَمَعْنَى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَعْطَاهُ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، وَمِنْهُ التَّقْتِيرُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الدَّالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ وَيُقَابِلُهُ بَسْطُ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشورى: 27] . وَالْهَاءُ فِي رِزْقَهُ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْإِنْسانُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى رَبُّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَالْإِهَانَةُ: الْمُعَامَلَةُ بِالْهُونِ وَهُوَ الذُّلُّ. وَإِسْنَادُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ... فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ الْكَرَامَةَ وَالنعْمَة انساقت للْإنْسَان أَوِ انْسَاقَ لَهُ قَدَرُ الرِّزْقِ بِأَسْبَابٍ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ وَسُنَنِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يُصَادِفُ بَعْضُ الْحَوَادِثِ بَعْضًا، وَأَسْبَابُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَيْنَ مَنْ تَقَعُ بِهِ مِنَ النَّاسِ فِي فُرَصِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا. وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِقَادٍ. فَالْمَعْنَى: فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ، وَيَقُولُ: رَبِّي أَهَانَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَنْ يَفْتَخِرُوا بِالنِّعْمَةِ، أَوْ يَتَذَمَّرُوا مِنَ الضِّيقِ وَالْحَاجَةِ، وَنَظِيرُ اسْتِعْمَالِ الْقَوْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: 75] ، أَيِ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَالُوهُ وَاعْتَذَرُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ. وَتَقْدِيمُ رَبِّي على فعل أَكْرَمَنِ وَفعل أَهانَنِ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: أَكْرَمَنِي رَبِّي أَوْ أَهَانَنِي رَبِّي، لِقَصْدِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ جَازِمًا بِهِ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ. وَجَمُلَتَا: فَيَقُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَوَابَانِ لِ أَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَيْ يَطَّرِدُ قَوْلُ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كُلَّمَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَكُلَّمَا حَصَلَ لَهُ تَقْتِيرُ رِزْقٍ.

وَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي الْجَوَابَيْنِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَتَجَدُّدِهِ كُلَّمَا حَصَلَ مَضْمُونُ الشَّرْطَيْنِ. وَحَرْفُ كَلَّا زَجْرٌ عَنْ قَوْلِ الْإِنْسَانِ رَبِّي أَكْرَمَنِ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ. وَقَوله: رَبِّي أَهانَنِ عِنْد مَا يَنَالُهُ تَقْتِيرٌ، فَهُوَ رَدْعٌ عَنِ اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَمَنَاطُ الرَّدْعِ كِلَا الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهُمَا صَادِرٌ عَنْ تَأَوُّلٍ بَاطِلٍ، أَيْ لَيْسَتْ حَالَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا دَلِيلًا عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مُرَادُ اللَّهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً إِلَى قَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [103- 105] . فَرُبَّ رَجُلٍ فِي نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَرُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَطْرُودٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. فَمَنَاطُ الرَّدْعِ جَعْلُ الْإِنْعَامِ عَلَامَةً عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِكْرَامَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَجَعْلُ التَّقْتِيرِ عَلَامَةً عَلَى إِرَادَةِ الْإِهَانَةِ، وَلَيْسَ مَنَاطُهُ وُقُوعُ الْكَرَامَةِ وَوُقُوعُ الْإِهَانَةِ لِأَنَّ اللَّهَ أَهَانَ الْكَافِرَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ إِهَانَتَهُ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْكُفْرِ لَأَهَانَ جَمِيعَ الْكَفَرَةِ بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ. وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِثْبَاتِ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِقَوْلِهِ: فَأَكْرَمَهُ وَبَيْنَ إِبْطَالِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا لِأَنَّ الْإِبْطَالَ وَارِدٌ عَلَى مَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ: رَبِّي أَكْرَمَنِ أَنَّ مَا نَالَهُ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَامَةٌ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ لِشَأْنِ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ النَّاسَ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَسْرَارًا وَعِلَلًا لَا يُحَاطُ بِهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَهَالَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ سِرِّهَا بِأَقْيِسَةٍ وَهْمِيَّةٍ، وَالِاسْتِنَادِ لِمَأْلُوفَاتٍ عَادِيَّةٍ، وَأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الْحَقَائِقَ مِنْ دَلَائِلِهَا الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا مُرَادَ اللَّهِ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ أَنْ يَحِيدُوا بِالْأَدِلَّةِ عَنْ مَدْلُولِهَا. وَأَنْ يَسْتَنْتِجُوا الْفُرُوعَ مِنْ غَيْرِ أُصُولِهَا. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَهُمْ يَضَعُونَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيَتَوَسَّمُونَ التَّوَسُّمَ الْمُسْتَنِدَ إِلَى الْهَدْيِ وَلَا يَخْلِطُونَ وَلَا يَخْبِطُونَ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو رَبِّيَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: أَكْرَمَنِ، وأَهانَنِ بِيَاءٍ بَعْدَ النُّونِ فِي الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَهُمَا ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَهُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصحف بِدُونِ نون بعد الياءين وَلَا مُنَافَاةَ بَين الرِّوَايَة وَاسم الْمُصْحَفِ. وكَلَّا رَدْعٌ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَيْ لَيْسَ ابْتِلَاءُ اللَّهِ الْإِنْسَانَ بِالنَعِيمِ وَبِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ مُسَبَّبًا عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَكْرِيمَ الْإِنْسَانِ وَلَا عَلَى إِرَادَتِهِ إِهَانَتَهُ. وَهَذَا رَدْعٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ لِتَبْيِينِهِ اكْتِفَاءً بِتَذْيِيلِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ فِي نِعْمَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: 14] بَعْدَ قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: 13] . بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ 18 وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا 19 وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا 20 بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُقَابَلَةِ لِمَضْمُونِ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ مِنْ جِهَةِ مَا تَوَهَّمُوهُ أَنَّ نِعْمَةَ مَالِهِمْ وَسَعَةَ عَيْشِهِمْ تَكْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُكْرِمُوا عَبِيدَهُ شُحًّا بِالنِّعْمَةِ إِذْ حَرَمُوا أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَإِذْ يَسْتَزِيدُونَ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ دَحْضٌ لِتَفَخُّرِهِمْ بِالْكَرَمِ وَالْبَذْلِ. فَجُمْلَةُ: لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ اسْتِئْنَافٌ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْإِضْرَابُ، فَهُوَ إِمَّا اسْتِئْنَافُ ابْتِدَاءِ كَلَامٍ، وَإِمَّا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَّا وَأُخْتِهَا كَمَا سَيَأْتِي وإكرام الْيَتِيم: سدخلته، وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ لِفَقْدِ عَائِلِهِ، وَلِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتْرُكُهَا الْآبَاءُ لِأَبْنَائِهِمُ الصِّغَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَدَاوَلُهَا رُؤَسَاءُ الْعَائِلَاتِ.

وَالْبِرُّ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ انْكِسَارِ الْخَاطِرِ لِشُعُورِهِ بِفَقْدِ مَنْ يُدِلُّ هُوَ عَلَيْهِ. والْيَتِيمَ: الصَّبِيُّ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ، أَيْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتَامَى. وَكَذَلِكَ تَعْرِيفُ الْمِسْكِينِ وَنَفْيُ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ نَفْيٌ لِإِطْعَامِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهِيَ دَلَالَةُ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَيْ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْمَسَاكِينِ لَا يَنْفَعُونَهُمْ وَلَوْ نَفْعَ وَسَاطَةٍ، بَلْهَ أَنْ يَنْفَعُوهُمْ بِالْبَذْلِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وطَعامِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا بِمَعْنى المطعوم، فالتقدير: وَلَا تحضون عَلَى إِعْطَاءِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمِسْكِينِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَصْدَرِ أَطْعَمَ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَحُضُّونَ عَلَى إِطْعَامِ الْأَغْنِيَاءِ الْمَسَاكِينَ فَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمِسْكِينِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. والْمِسْكِينِ: الْفَقِيرُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَقَدْ حَصَلَ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نُفِيَ إِكْرَامُهُمُ الْيَتِيمَ وَقُوبِلَ بِنَفْيِ أَنْ يَحُضُّوا عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَحُضُّونَ عَلَى إِكْرَامِ أَيْتَامِهِمْ، أَيْ لَا يَحُضُّونَ أَوْلِيَاءَ الْأَيْتَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُطْعِمُونَ الْمَسَاكِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَضُّ عَلَى الطَّعَامِ كِنَايَةً عَنِ الْإِطْعَامِ لِأَنَّ مَنْ يَحُضُّ عَلَى فَعْلِ شَيْءٍ يَكُونُ رَاغِبًا فِي التَّلَبُّسِ بِهِ فَإِذَا تَمَكَّنَ أَنْ يَفْعَلَهُ فَعَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: 3] أَيْ عَمِلُوا بِالْحَقِّ وَصَبَرُوا وَتَوَاصَوْا بِهِمَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَا تُكْرِمُونَ، وَلَا تَحُضُّونَ، وَتَأْكُلُونَ، وَتُحِبُّونَ» بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ الْآيَاتِ لِقَصْدِ مُوَاجَهَتِهِمْ بِالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ بِالْمُوَاجَهَةِ أَوْقَعُ مِنْهُ بِالْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ لِتَعْرِيفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَضْحًا لِدَخَائِلِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [الْبَلَد: 6، 7] . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَحُضُّونَ بِضَمِّ الْحَاءِ مُضَارِعَ حَضَّ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ

وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ تَحَاضُّونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا مُضَارِعُ حَاضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصْلُهُ تَتَحَاضُّونُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا للتَّخْفِيف أَي تتمالؤون عَلَى تَرْكِ الْحَضِّ عَلَى الْإِطْعَامِ. والتُّراثَ: الْمَالُ الْمَوْرُوثُ، أَيِ الَّذِي يُخْلِفُهُ الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَارِثِهِ وَأَصْلُهُ: وُرَاثٌ بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ بِوَزْنِ فُعَالٍ مِنْ مَادَّةِ وَرِثَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ الدُّقَاقِ، وَالْحُطَامِ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا فَعَلُوا فِي تُجَاهَ، وَتُخَمَةٍ، وَتُهْمَةٍ، وَتُقَاةٍ وَأَشْبَاهِهَا. وَالْأَكْلُ: مُسْتَعَارٌ لِلِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا لَا يُبْقِي مِنْهُ شَيْئًا. وَأَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَقِفْ عَلَى مِثْلِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَتَعْرِيفُ التُّرَاثِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ تُرَاثُ الْيَتَامَى وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مِنْ أَمْوَالِ مُوَرِّثِيهِمْ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: تَأْكُلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التُّرَاثُ الَّذِي لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ وَجْهُ إِيثَارِ لَفْظِ التُّرَاثِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَتَأْكُلُونَ الْمَالَ لِأَنَّ التُّرَاثَ مَالٌ مَاتَ صَاحِبُهُ وَأَكْلُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ الْمَالَ عَاجِزٌ عَنِ الذَّبِّ عَنْ مَالِهِ لِصِغَرٍ أَوْ أُنُوثَةٍ. وَاللَّمُّ: الْجَمْعُ، وَوَصْفُ الْأَكْلِ بِهِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَكْلًا جَامِعًا مَالَ الْوَارِثِينَ إِلَى مَالِ الْآكِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: 2] . وَالْجَمُّ: الْكَثِيرُ، يُقَالُ: جَمَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ، إِذَا كَثُرَ، وَبِئْرٌ جَمُومٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ: كَثِيرَةُ الْمَاءِ، أَيْ حُبًّا كَثِيرًا، وَوَصْفُ الْحُبِّ بِالْكَثْرَةِ مُرَادٌ بِهِ الشِّدَّةُ لِأَنَّ الْحُبَّ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةِ لَا يُوصَفُ بِالْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ وَفْرَةُ عَدَدِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ. فَالْجَمُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ، أَيْ حُبًّا مُفْرِطًا، وَذَلِكَ مَحَلُّ ذَمِّ حُبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ إِفْرَادَ حُبِّهِ يُوقِعُ فِي الْحِرْصِ عَلَى اكْتِسَابِهِ بِالْوَسَائِلِ غَيْرِ الْحَقِّ كَالْغَصْبِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالسَّرِقَةِ وَأَكَلِ الْأَمَانَاتِ

[سورة الفجر (89) : الآيات 21 إلى 26]

[21- 26] [سُورَة الْفجْر (89) : الْآيَات 21 الى 26] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) كَلَّا: زَجْرٌ وَرَدْعٌ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَعْدُودَةِ قَبْلَهُ، وَهِيَ عَدَمُ إِكْرَامِهِمُ الْيَتِيمَ وَعَدَمُ حَضِّهِمْ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَأَكْلِهِمُ التُّرَاثَ الَّذِي هُوَ مَالُ غَيْرِ آكِلِهِ، وَعَنْ حُبِّ الْمَالِ حُبًّا جَمًّا. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا 21 وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا 22 وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى 23 يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي 24 فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ 25 وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ 26 اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [الْفجْر: 6] الْآيَاتِ إِلَى الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَإِنِ اسْتَخَفُّوا بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ أَوْ أُمْهِلُوا فَأُخِّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ عَذَابًا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ يَنْتَظِرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَذَكَّرُونَ قَسْرًا فَلَا يَنْفَعُهُمُ التَّذَكُّرُ، وَيَنْدَمُونَ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ. فَحَاصِلُ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ مَغْرُورٌ يَنُوطُ الْحَوَادِثَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَيَتَوَهَّمُهَا عَلَى غَيْرِ مَا بِهَا وَلَا يُصْغِي إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ فَيَسْتَمِرُّ طُولَ حَيَاتِهِ فِي عَمَايَةٍ، وَقَدْ زُجِرُوا عَنْ ذَلِكَ زَجْرًا مُؤَكَّدًا. وَأُتْبِعَ زَجْرُهُمْ إِنْذَارًا بِأَنَّهُمْ يَحِينُ لَهُمْ يَوْمٌ يُفِيقُونَ فِيهِ مِنْ غَفْلَتِهِمْ حِينَ لَا تَنْفَعُ الْإِفَاقَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَقَوْلُهُ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: 27] ، وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ إِلَى قَوْلِهِ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ فَهُوَ تَوْطِئَةٌ وَتَشْوِيقٌ لِسَمَاعِ مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ وَتَهْوِيلٌ لِشَأْنِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عُرِّفَ بِإِضَافَةِ جُمْلَةِ دُكَّتِ الْأَرْضُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ وَقَدْ عُرِّفَ بِأَشْرَاطِ حُلُولِهِ وَبِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ هَوْلِ الْعِقَابِ.

وَالدَّكُّ: الْحَطْمُ وَالْكَسْرُ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْكُرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ، وَدَكُّهَا حَطْمُهَا وَتَفَرُّقُ أَجْزَائِهَا النَّاشِئُ عَنْ فَسَادِ الْكَوْنِ الْكَائِنَةِ عَلَيْهِ الْآنَ، وَذَلِكَ بِمَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ زَلَازِلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] الْآيَةَ. ودَكًّا دَكًّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُمَا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ. وَلَعَلَّ تَأْكِيدَهُ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا دَكُّ الْجِبَالِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا تَحْقِيقَ وُقُوعِهِ حَقِيقَةً دُونَ مَجَازٍ وَلَا مُبَالَغَةٍ، فَأُكِّدَ مَرَّتَيْنِ هُنَا وَلَمْ يُؤَكَّدْ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [14] فَ دَكًّا الْأَوَّلُ مَقْصُودٌ بِهِ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ عَنْ «دُكَّتَا» الدَّكُّ أَيْ هُوَ دَكٌّ حَقِيقِيٌّ، ودَكًّا الثَّانِي مَنْصُوبًا عَلَى التوكيد اللَّفْظِيّ لدكا الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ إِرَادَةِ مَدْلُولِ الدَّكِّ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ دَكَّ الْأَرْضِ الْعَظِيمَةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ فَلِغَرَابَتِهِ اقْتَضَى إِثْبَاتُهُ زِيَادَةَ تَحْقِيقٍ لِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ الرَّضِيُّ قَالَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ تَأْكِيدِ النَّكِرَاتِ (أَيْ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا) شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ جَوَازُ تَأْكِيدِهَا إِذَا كَانَتِ النَّكِرَةُ حُكْمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا فَهُوَ مِثْلُ: ضَرَبَ ضَرَبَ زَيْدٌ اهـ. وَهَذَا يُلَائِمُ مَا فِي وَصْفِ دَكِّ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة: 14] وَدَفْعِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْمَصْدَرَيْنِ فِي تَأْوِيلِ مُفْرَدٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ. وَتَأْوِيلُهُ. أَنَّهُ دَكٌّ يَعْقُبُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ بَعْدِهِ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: «قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَعَلَّهُ قَالَهُ فِي «أَمَالِيهِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْكَافِيَةِ» وَفِي نُسْخَتِي مِنْهَا نَقْصٌ وَلَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا بِتُونُسَ وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْكَلَامُ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» بَيَّنْتُ لَهُ حِسَابَهَ بَابًا بَابًا، أَيْ مُفَصَّلًا. وَالْعَرَبُ تُكَرِّرُ

الشَّيْءَ مَرَّتَيْنِ» فَتَسْتَوْعِبُ تَفْصِيلَ جِنْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُكَرَّرِ، فَإِذَا قُلْتَ: بَيَّنْتُ لَهُ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا فَمَعْنَاهُ بَيَّنْتُهُ لَهُ مُفَصَّلًا بِاعْتِبَارِ أَبْوَابِهِ اهـ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ أَوْفَى بِحَقِّ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالتَّوْكِيدُ حَاصِلٌ بِالْمَصْدَرِ الْأَوَّلِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : وَقِيلَ: فَبُسِطَتَا بَسْطَةً وَاحِدَةً فَصَارَتَا أَرْضًا لَا تَرَى فِيهَا أَمْتًا وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ يَعْنِي: أَنَّ الدَّكَّ كِنَايَةٌ عَنِ التَّسْوِيَةِ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ مِنْ لَوَازِمِ الدَّكِّ، أَيْ صَارَتِ الْجِبَالُ مَعَ الْأَرْضِ مُسْتَوِيَاتٍ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نُتُوءٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ صِفَةَ وَاحِدَةً مَجَازًا فِي تَفَرُّدِ الدَّكَّةِ بِالشِّدَّةِ الَّتِي لَا ثَانِيَ مِثْلَهَا، أَيْ دَكَّةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا بَيْنَ الدَّكَّاتِ فِي الشِّدَّةِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: هُوَ وَحِيدُ قَوْمِهِ، وَوَحِيدُ دَهْرِهِ، فَلَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ: دَكًّا دَكًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِيهِ تَكَلُّفٌ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ بِصِيغَةِ فَاعِلٍ فَلَمْ يُسْمَعْ: هُوَ وَاحِدُ قَوْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فَ صَفًّا الْأَوَّلُ حَالٌ مِنَ الْمَلَكُ وصَفًّا الثَّانِي لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّهُ مِنَ التَّكْرِيرِ الْمُرَادِ بِهِ التَّرْتِيبُ وَالتَّصْنِيفُ، أَيْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، أَوْ خَلْفَ صَفٍّ، أَوْ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُونَ صِنْفٍ، قِيلَ: مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَكُونُونَ صَفًّا حَوْلَ الْأَرْضِ عَلَى حِدَةٍ. قَالَ الرَّضِيُّ وَأَمَّا تَكْرِيرُ الْمُنَكَّرِ فِي قَوْلِكَ، قَرَأْتُ الْكِتَابَ سُورَةً سُورَةً، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ تَأْكِيدًا إِذْ لَيْسَ الثَّانِي لِتَقْرِيرِ مَا سَبَقَ بَلْ هُوَ لِتَكْرِيرِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ مَعْنًى. وَالْمَعْنَى: جَمِيعُ السُّوَرِ وَصُفُوفًا مُخْتَلِفَةً اهـ. وَشَذَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ سَكْتَ عَنْهُ. وَلَا يَحْتَمِلُ حَمْلُهُ عَلَى أَنه مفعول مُطلق مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ. وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى اللَّهِ إِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ جَاءَ قَضَاؤُهُ، وَإِمَّا اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ ابْتِدَاءِ حِسَابِهِ بِالْمَجِيءِ.

وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى الْمَلَكِ فَإِمَّا حَقِيقَةٌ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الْحُضُورِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَاسْتِعْمَالُ (جَاءَ) مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِهِ وَحَقِيقَتِهِ، أَوْ فِي مَجَازَيْهِ. والْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيُرَادِفُهُ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ. وَالصَّفُّ: مَصْدَرُ صَفَّ الْأَشْيَاءَ إِذَا جَعَلَ الْوَاحِدَ حَذْوَ الْآخَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمَصْفُوفَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: 4] وَقَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فِي سُورَةِ طه [64] . وَاسْتِعْمَالُ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كَاسْتِعْمَالِ مَجِيءِ الْمَلَكِ، أَيْ أُحْضِرَتْ جَهَنَّمُ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا فَكَأَنَّهَا (جَاءَ) بِهَا جَاءٍ وَالْمَعْنَى: أُظْهِرَتْ لَهُمْ جَهَنَّمُ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71] وَقَالَ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات: 36] وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ: «أَنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وَأُمُورُ الْآخِرَةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَعِيدُ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا وَإِلَّا فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَيْضًا مُحَضَرَةٌ يَوْمَئِذٍ قَالَ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاء: 90- 91] . ويَوْمَئِذٍ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ جِيءَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجِيءَ يَوْمَ تُدَكُّ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا إِلَى آخِرِهِ. ويَوْمَئِذٍ الثَّانِي بَدَلٌ مِنْ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تُدَكُّ الْأَرْضُ دَكًّا إِلَى آخِرِهِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ. وَالْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعًا فِعْلُ يَتَذَكَّرُ وَتَقْدِيمُهُ لِلِاهْتِمَامِ مَعَ مَا فِي الْإِطْنَابِ مِنَ التَّشْوِيقِ لِيَحْصُلَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ مَعَ حُسْنِ إِعَادَةِ مَا هُوَ بِمَعْنَى إِذا لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا إِذا والْإِنْسانُ: هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ [الْفجْر: 15] الْآيَةَ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِبُعْدِ مَعَادِ الضَّمِيرِ.

وَجُمْلَةُ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَجُمْلَةِ: يَقُولُ إِلَخْ. وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيْنَ لَهُ الذِّكْرَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيْنَ لَهُ نَفْعُ الذِّكْرَى. وَجُمْلَةُ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِاللِّسَانِ تَحَسُّرًا وَتَنَدُّمًا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْإِنْسانُ أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ فَإِنَّ تَذَكُّرَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَحَسُّرٍ وَنَدَامَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ وَمَفْعُولُ قَدَّمْتُ مَحْذُوفٌ لِلْإِيجَازِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِحَياتِي تَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ، أَيْ قَدَّمْتُ عِنْدَ أَزْمَانِ حَيَاتِي فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْحَيَاةَ الْأَوْلَى الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ. وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَدَّمْتُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِأَجْلِ أَنْ أَحْيَا فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَالْمُرَادُ: الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ السَّالِمَةُ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ فِي الْعَذَابِ حَيَاةُ غِشَاوَةٍ وَغِيَابٍ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: 13] . وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي لِلتَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّمَنِّي فِي يَوْمِ وُقُوعٍ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ رَابِطَةٌ لِجُمْلَةِ لَا يُعَذِّبُ إِلَخْ بِجُمْلَةِ دُكَّتِ الْأَرْضُ لِمَا فِي إِذا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالْعَذَابُ: اسْمُ مَصْدَرِ عَذَّبَ. وَالْوَثَاقُ: اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُعَذِّبُ بِكَسْرِ الذَّالِ ويُوثِقُ بِكَسْرِ الثَّاءِ عَلَى أَنَّ أَحَدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاعِلُ يُعَذِّبُ، ويُوثِقُ وَأَنَّ عَذَابَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصَدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَضَمِيرُ عَذابَهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ عَذَابًا مِثْلَ عَذَابِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الشِّدَّةِ، أَيْ يُعَذِّبُ عَذَابًا هُوَ أَشَدُّ عَذَابٍ يُعَذَّبُهُ الْعُصَاةُ، أَيْ

[سورة الفجر (89) : الآيات 27 إلى 30]

عَذَابًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي أَصْنَافِ عَذَابِ الْمُعَذَّبِينَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 115] وَالْمُرَادُ فِي شِدَّتِهِ. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِبَنِي الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا عَذَابُ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وأَحَدٌ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ لِاسْتِغْرَاقِ جنس الْإِنْسَان فأحد فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] فَانْحَصَرَ الْأَحَدُ الْمُعَذِّبُ (بِكَسْرِ الذَّالِ) فِي فَرْدٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ ذَالِ يُعَذَّبُ وَفَتْحِ ثَاءِ يُوثَقُ مَبْنِيَّيْنِ لِلنَّائِبِ. وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: «حَدَّثَنِي مَنْ أَقْرَأْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ يُعَذَّبُ وَيُوثَقُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَفَتْحِ الثَّاءِ» . قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ وَأَقُولُ أَغْنَى عَنْ تَصْحِيحِ إِسْنَادِهِ تَوَاتُرُ الْقِرَاءَةِ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ وَكُلُّهَا مُتَوَاتِرٌ. وَالْمَعْنَى: لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْمُتَحَسِّرُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوَثَقُ أَحَدٌ مِثْلَ وَثَاقِهِ، فَ أَحَدٌ هُنَا بِمَنْزِلَةِ «أَحَدًا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 115] . وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ وَهُوَ الرَّبْطُ وَيُجْعَلُ لِلْأَسِيرِ وَالْمَقُودِ إِلَى الْقَتْلِ. فَيُجْعَلُ لِأَهْلِ النَّارِ وَثَاقٌ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ [غَافِر: 71، 72] الْآيَةَ. وَانْتِصَابُ وَثاقَهُ كَانْتِصَابِ عَذابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِمَعْنى التَّشْبِيه. [27- 30] [سُورَة الْفجْر (89) : الْآيَات 27 إِلَى 30] يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) لَمَّا اسْتَوْعَبَ مَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالْعَكْسِ فَإِن ذَلِك مِمَّا يَزِيدُ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَرَهْبَتَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ.

وَاتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي التِّلَاوَةِ وَكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُقَالُ فِي الْآخِرَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ جَوَابُ (إِذَا) إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الْفجْر: 21] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرَدٌ وَاعْتِرَاضٌ. فَهَذَا قَوْلٌ يَصْدُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَلَيْهِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ مَا فِي وَصْفِ (رَبِّ) مِنَ الْوَلَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَمَا فِي إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَلَفْظُ رَبِّكِ جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَعَطْفُ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَطْفُ تَلْقِينٍ يَصْدُرُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَحْقِيقًا لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْكَوْنِ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْمُضِيفِ قَالَ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 55] بِحَيْثُ شُبِّهَتِ الْجَنَّةُ بِمَنْزِلٍ لِلنَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِوَعْدِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُغْتَرِبَةً عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَقِيلَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَيْهِ، وَهَذَا الرُّجُوعُ خَاصٌّ غَيْرُ مُطْلَقِ الْحُلُولِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا جَرَى عَلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ عَذَابِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فَتَكُونُ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطْمَئِنَّةِ. وَالْأَمْرُ فِي ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ مُرَادٌ مِنْهُ تَقْيِيدُهُ بِالْحَالَيْنِ بَعْدَهُ وَهُمَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ فِي الْوَعْدِ وَالرُّجُوعُ مَجَازٌ أَيْضًا، وَالْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ: فِي عِبادِي وَقَوْلُهُ: جَنَّتِي الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ. فَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمَّا تَصَدَّقَ بِبِئْرِ رُومَةَ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ حِينَ قُتِلَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا صَلَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ

مَدَنِيَّةٌ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مَا رَوَاهُ الدَّانِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلَةٌ عَمَّا قَبِلَهَا كُتِبَتْ هُنَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ أَوْ نَزَلَتْ عَقِبَ مَا قَبْلَهَا لِلْمُنَاسَبَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْبَعْثِ لِتَرْجِعَ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الْفجْر: 21] إِلَخْ كَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَالرُّجُوعُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ وَالرَّبُّ مُرَادٌ بِهِ صَاحِبُ النَّفْسِ وَهُوَ الْجَسَدُ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأَبِي صَالِحٍ: يُقَالُ هَذَا لِلنَّفْسِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَحْسَنَ هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ» . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ هَذَا يُقَالُ لِنَفْسِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمَوْتِ تُبَشَّرُ بِالْجَنَّةِ. وَالنَّفْسُ: تُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: 151] وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْجَسَدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يُوسُف: 53] . وَعَلَى الْإِطْلَاقَيْنِ تُوَزَّعُ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةُ كَمَا لَا يَخْفَى. والْمُطْمَئِنَّةُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اطْمَأَنَّ إِذَا كَانَ هَادِئًا غَيْرَ مُضْطَرِبٍ وَلَا مُنْزَعِجٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُكُونِ النَّفْسِ بِالتَّصْدِيقِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا اضْطِرَابِ بَالٍ فَيَكُونُ ثَنَاءً عَلَى هَذِهِ النَّفْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هُدُوءِ النَّفْسِ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا فِتْنَةٍ فِي الْآخِرَةِ. وَفِعْلُهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الْمَزِيدِ وَهُوَ بِوَزْنِ افْعَلَّلَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَهْمُوزُ اللَّامِ الْأُولَى وَأَنَّ الْمِيمَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ كَمَا يُنْطَقُ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُ الْفِعْلِ: طَأْمَنَ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ فَقُدِّمَتِ الْمِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ أَصْلُ مُطَمْئِنَّةٍ عِنْدَهُ مطأمنّة ومصدره اطمئنان وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] وَقَوْلِهِ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَوَصْفُ النَّفْسُ بِ الْمُطْمَئِنَّةُ لَيْسَ وَصَفًا لِلتَّعْرِيفِ وَلَا لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ لِتَمْيِيزِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُمَيِّزُهُمْ عَمَّنْ عَدَاهُمْ فَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْمَأْذُونُونَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَالْوَصْفُ مُرَادٌ بِهِ الثَّنَاءُ وَالْإِيمَاءُ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَتَبْشِيرُ مَنْ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ آمِنُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْرِيفِ أَوِ التَّخْصِيصِ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ إِلْهَامًا فِي قُلُوبِهِمْ يَعْرِفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ. وَالِاطْمِئْنَانُ: مَجَازٌ فِي طِيبِ النَّفْسِ وَعَدَمِ تَرَدُّدِهَا فِي مَصِيرِهَا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِيهِمْ حِينَ أَيْقَنُوا فِي الدُّنْيَا بِأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ فَذَلِكَ اطْمِئْنَانٌ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ أَثَرِهِ اطْمِئْنَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَوْنَ مَخَائِلَ الرِّضَى وَالسَّعَادَةِ نَحْوَهُمْ وَيَرَوْنَ ضِدَّ ذَلِكَ نَحْوَ أَهْلِ الشَّقَاءِ. وَقَدْ فُسِّرَ الِاطْمِئْنَانُ: بِيَقِينِ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفُسِّرَ بِالْيَقِينِ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَبِالْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاطْمِئْنَانِ الْمَقْصُودِ فَمَجْمُوعُهُ مُرَادٌ وَأَجْزَاؤُهُ مَقْصُودَةٌ، وَفُسِّرَ بِتَبْشِيرِهِمْ بِالْجَنَّةِ، أَيْ قَبْلَ نِدَائِهِمْ ثُمَّ نُودُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَالرُّجُوعُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. والراضية: الَّتِي رضت بِمَا أُعْطِيَتْهُ مِنْ كَرَامَةٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْطَائِهَا كُلَّ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ. وَالْمَرْضِيَّةُ: اسْمُ مَفْعُولٍ وَأَصْلُهُ: مَرْضِيًّا عَنْهَا، فَوَقَعَ فِيهِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ فَصَارَ نَائِبَ فَاعِلٍ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ زِيَادَةُ الثَّنَاءِ مَعَ الْكِنَايَةِ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي إِفَاضَةِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ الْمَرْضِيَّ عَنْهُ يَزِيدُهُ الرَّاضِي عَنْهُ مِنَ الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا فَوْقَ مَا رَضِيَ بِهِ هُوَ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْبُشْرَى الْإِجْمَالِيَّةِ تَفْصِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي فَهُوَ تَفْصِيلٌ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِتَكْرِيرِ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهَا. وَالْمَعْنَى: ادْخُلِي فِي زُمْرَةِ عِبَادِي. وَالْمُرَادُ الْعِبَادُ الصَّالِحُونَ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْإِضَافَةِ مَعَ قَرْنِهِ بِقَوْلِهِ: جَنَّتِي وَمَعْنَى هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 9] .

فَالظَّرْفِيَّةُ حَقِيقِيَّة وتؤول إِلَى مَعْنَى الْمَعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاء: 69] . وَإِضَافَةُ (جَنَّةٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ كَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 55] . وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ هِيَ مِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ حُسْنًا بَعْدَ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَتَكْرِيرُ فِعْلِ وَادْخُلِي فَلَمْ يَقُلْ: فَادْخُلِي جَنَّتِي فِي عِبَادِي لِلِاهْتِمَامِ بِالدُّخُولِ بِخُصُوصِهِ تَحْقِيقًا لِلْمَسَرَّةِ لَهُمْ.

90- سورة البلد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 90- سُورَةُ الْبَلَدِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي تَرْجَمَتِهَا عَنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : «سُورَةَ لَا أُقْسِمُ» وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْبَلَدِ» . وَهُوَ إِمَّا عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَولهَا، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَكَّةُ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 2] أَنَّ الْحِلَّ الْإِذْنُ لَهُ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَمَلَ وَأَنْتَ حِلٌّ عَلَى مَعْنَى: وَأَنْتَ الْآنُ حِلٌّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا رَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي رَدِّهِ بِذَلِكَ مُصَادَرَةٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُرَّدَ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: 5- 11] ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ يَتَعَيَّنُ عَوْدُهَا إِلَى الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [الْبَلَد: 4] وَإِلَّا لَخَلَتِ الضَّمَائِرُ عَنْ مَعَادٍ. وَحَكَى فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ مِنْ أَوَّلِهَا. وَقَدْ عُدَّتِ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ق وَقَبْلَ سُورَةِ الطَّارِقِ. وَعَدَدُ آيِهَا عشرُون آيَة. أغراضها حَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّنْوِيهَ بِمَكَّةَ. وَبِمُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا. وَبَرَكَتِهِ فِيهَا وَعَلَى أَهْلِهَا.

[سورة البلد (90) : الآيات 1 إلى 4]

وَالتَّنْوِيهَ بِأَسْلَافِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُكَّانِهَا الَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَوْ مِنْ أَتْبَاعِ الْحَنِيفِيَّةِ مِثْلِ عَدْنَانَ وَمُضَرَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالتَّخَلُّصَ إِلَى ذَمِّ سِيرَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاخُرِ الْمُبَالَغِ فِيهِ، وَمَا أَهْمَلُوهُ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ عَلَى الْحَوَاسِّ، وَنِعْمَةِ النُّطْقِ، وَنِعْمَةِ الْفِكْرِ، وَنِعْمَةِ الْإِرْشَادِ فَلَمْ يَشْكُرُوا ذَلِكَ بِالْبَذْلِ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ وَمَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَأَخْلَاقِهِ. وَوَعِيدَ الْكَافِرِينَ وَبشَارَة الموقنين. [1- 4] [سُورَة الْبَلَد (90) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقًا لما يرد بعده وَأُطِيلَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ. وَلَا أُقْسِمُ مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا مَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: هَلْ حَرْفُ النَّفْيِ مَزِيدٌ أَوْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ. وَالْإِشَارَةُ بِ «هَذَا» مَعَ بَيَانِهِ بِالْبَلَدِ، إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَرِّرَةٌ لَهُمْ وَهُوَ بَلَدُ مَكَّةَ، وَمِثْلُهُ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْل: 91] . وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُ الْمُقْسَمِ بِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِهِ. وَالْبَلَدُ: جَانِبٌ مِنْ مُتَّسَعٍ مِنْ أَرْضٍ عَامِرَةً كَانَتْ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ أَمْ غَامِرَةً كَقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: بَلْ بَلَدٍ مِلْءُ الْفِجَاجِ قَتَمُهْ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ مَجْعُولَةٍ فِيهِ بُيُوتٌ مِنْ بِنَاءٍ وَهُوَ بَلْدَةُ مَكَّةَ

وَالْقَسَمُ بِالْبَلْدَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَتَفْضِيلِهِ. وَجُمْلَةُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ الْمُقْسَمِ بِهَا وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحْمَلِ مَعْنَى وَأَنْتَ حِلٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِلٌّ اسْمَ مَصْدَرِ أَحَلَّ، أَيْ أَبَاحَ، فَالْمَعْنَى وَقَدْ جَعَلَكَ أَهْلُ مَكَّةَ حَلَالًا بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي يَحْرُمُ أَذَى صَيْدِهِ وَعَضْدُ شَجَرِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُحِلُّونَ قَتْلَكَ وَإِخْرَاجَكَ، قَالَ هَذَا شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ (¬1) فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعَجِيبُ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَعَلَيْهِ فَالْإِخْبَارُ عَنْ ذَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ حِلٌّ يُقَدَّرُ فِيهِ مُضَافٌ يُعَيِّنُهُ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، أَيْ وَأَنْتَ حَلَالٌ مِنْكَ مَا حَرُمَ مِنْ حَقِّ سَاكِنِ هَذَا الْبَلَدِ مِنَ الْحُرْمَةِ وَالْأَمْنِ. وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عُدْوَانِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَلَدٍ لَا يَظْلِمُونَ فِيهِ أَحَدًا. وَالْمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءُ الْقَسَمِ بِمَكَّةَ الَّذِي هُوَ إِشْعَارٌ بِحُرْمَتِهَا الْمُقْتَضِيَةِ حُرْمَةَ مَنْ يَحِلُّ بِهَا، أَيْ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا بِأَذًى لِلدَّوَابِّ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى رَسُولٍ جَاءَهُمْ بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِلٌّ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنَ الْحِلِّ وَهُوَ ضِدُّ الْمَنْعِ، أَيِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، أَيْ مَا صَنَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنْ قَاتَلَكَ أَنْ تُقَاتِلَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ مَهْمَا تَمَكَّنْتَ مِنْ ذَلِكَ. فَيَصْدُقُ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «يَعْنِي وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَنَظِيرُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، تَقُولُ لِمَنْ تَعِدُهُ بِالْإِكْرَامِ وَالْحِبَاءِ أَنْت مكرم محبّوا اهـ. فَهَذَا الِاعْتِرَاضُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدِّمَتْ لَهُ قَبْلَ ذِكْرِ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَوَعْدٌ بِأَنَّهُ سَيُمَكِّنُهُ مِنْهُمْ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَحْمَلِ صِفَةِ حِلٌّ هُوَ خُصُوصِيَّة لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَصَّصَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» ¬

(¬1) أَبُو مُعَاوِيَة تَابِعِيّ توفّي سنة 123 هـ.

الْحَدِيثَ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ (أَيْ يَوْمَ الْفَتْحِ) مُحْرِمًا» . وَيُثَارُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحَامِلِ النَّظَرُ فِي جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِغَيْرِ مُرِيدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : الدَّاخِلُ مَكَّةَ غَيْرَ مُرِيدِ النُّسُكِ، لِحَاجَةٍ تَتَكَرَّرُ كَالْحَطَّابِينَ وَأَصْحَابِ الْفَوَاكِهِ وَالْمَعَاشِ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ دُخُولُهُمْ غَيْرَ مُحْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا الْإِحْرَامَ لَحِقَتْهُمْ مَشَقَّةٌ. وَإِنْ كَانَ دُخُولُهَا لِحَاجَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَرُوِيَ عَنْهُ تَرْكُهُ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، فَإِنْ تَرَكَهُ قَالَ الْبَاجِيُّ: فَالظَّاهِرُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ وَلَمْ يُفَصِّلْ أَهْلُ الْمَذْهَبِ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَاخِلِ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِنْ لَمْ يُرِدْ نُسُكًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ خَارِجِ الْمَوَاقِيتِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِ مَكَّةَ دُونَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَكَرُّرِ الدُّخُولِ أَوْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى سُقُوطِ الْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِ قَاصِدِ النُّسُكِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ مُوَافِقٌ مَذْهَبَ مَالِكٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ: أَنَّ مَعْنَى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أَنَّهُ حَالٌّ، أَيْ سَاكِنٌ بِهَذَا الْبَلَدِ اهـ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلًا وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ كَذَلِكَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَنْتَ حِلٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُقْسِمُ فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِالْبَلَدِ مُقَيَّدًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَلَدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ جَمِيلٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ اسْتِعْمَالِ حِلٌّ بِمَعْنَى: حَالٌّ، أَيْ مُقِيمٌ فِي مَكَانٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ اللُّغَة: «الصِّحَاح» و «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» و «مُفْرَدَات الرَّاغِبِ» . وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَلَا أَحْسِبُ إِعْرَاضَهُ عَنْهُ إِلَّا لِعَدَمِ ثِقَتِهِ بِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ، وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: وَالْحِلُّ: صِفَةٌ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْحَالِّ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا عِبْرَة بِمن أَنْكَرَهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ» اهـ وَكَيْفَ يُقَالُ: لَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَهَلِ الْمَرْجِعُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَةِ إلّا كتب أئمتها.

وَتَكْرِيرُ لَفْظِ بِهذَا الْبَلَدِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَجْدِيدِ التَّعْجِيبِ. وَلِقَصْدِ تَأْكِيدِ فَتْحِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَالشَّدِيدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَوْزَتِهِمْ. ووالِدٍ وَقَعَ مُنَكَّرًا فَهُوَ تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ. فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالِدًا عَظِيمًا، وَالرَّاجِحُ عَمَلُ وَالِدٍ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَما وَلَدَ وَالَّذِي يُنَاسِبُ الْقَسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ والِدٍ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ الَّذِي اتَّخَذَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لِإِقَامَةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَزَوْجِهِ هَاجَرَ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيم: 35] ثُمَّ قَالَ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إِبْرَاهِيم: 37] . وَإِبْرَاهِيم وَالِدُ سُكَّانِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْأَصْلِيِّينَ قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَج: 78] ، وَلِأَنَّهُ وَالِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا وَلَدَ مَوْصُولٌ وَصِلَةٌ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي وَلَدَ عَائِدٌ إِلَى والِدٍ وَالْمَقْصُودُ: وَمَا وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالَّذِينَ اقْتَفَوْا هَدْيَهُ فَيَشْمَلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتنبيه للْمُشْرِكين مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنْ طَرِيقَةِ أَبِيهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: 68] . وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما وَلَدَ دُونَ (مَنْ) مَعَ أَنَّ (مَنْ) أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي إِرَادَةِ الْعَاقِلِ وَهُوَ مُرَادٌ هُنَا، فَعَدَلَ عَنْ (مَنْ) لِأَنَّ مَا أَشَدُّ إِبْهَامًا، فَأُرِيدَ تَفْخِيمُ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ فَجِيءَ لَهُمْ بِالْمَوْصُولِ الشَّدِيدِ الْإِبْهَامِ لِإِرَادَةِ التَّفْخِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمرَان: 36] يَعْنِي مَوْلُودًا عَجِيبَ الشَّأْنِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ مَا تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً تَامَّةً بِاتِّفَاقٍ، وَ (مَنْ) لَا تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً تَامَّةً إِلَّا عِنْدَ الْفَارِسِيِّ.

وَلِأَنَّ قُوَّةَ الْإِبْهَامِ فِي مَا أَنْسَبُ بِإِرَادَةِ الْجَمَاعَةِ دُونَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْحَكَمِ الْأَصَمِّ الْفَزَارِيِّ: اللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ ... وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا يُرِيدُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ لَا وَلَدًا مُعَيَّنًا. وَجُمْلَةُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ السُّورَةِ. وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ خُصُوصَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: 5] إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْعُمُومُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْإِنْسَانُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُونَ مِنَ النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، فَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ أَبُو الْأَشَدِّ وَيُقَالُ: أَبُو الْأَشَدَّيْنِ وَاسْمُهُ أُسَيْدُ بْنُ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ يَجْعَلُ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَيَقُولُ: مَنْ أَزَالَنِي فَلَهُ كَذَا. فَيَجْذِبُهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ حَتَّى يُمَزَّقَ الْأَدِيمُ وَلَا تَزُولُ قَدَمَاهُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ فِيهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: 5] وَقِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، زَعَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالًا عَلَى إِفْسَادِ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الَّذِي اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَلْفَ الْخَنْدَقِ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدٌ مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ وَلَا يُلَائِمُهَا الْقَسَمُ وَلَا السِّيَاقُ. وَالْخَلْقُ: إِيجَادُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَيُطْلَقُ عَلَى إِيجَادِ حَالَةٍ لَهَا أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي الذَّاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: 6] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَة: 110] . فَهُوَ جَعْلٌ يُغَيِّرُ ذَاتَ الشَّيْءِ.

وَالْكَبَدُ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ، وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْرِيرِ الْمُرَادِ بِالْكَبَدِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى رَبْطِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ الْكَبَدَ وَبَيْنَ السِّيَاقِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَافْتِتَاحِهِ بِالْقَسَمِ الْمُشْعِرِ بِالتَّأْكِيدِ وَتَوَقُّعِ الْإِنْكَارِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ بِصَدَدِ تَفْسِيرِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَتْ وَاقِعَةً فِي كَلَامٍ يَجِبُ التئامه، ويحق وءامه. وَقَدْ غَضُّوا النَّظَرَ عَنْ مَوْقِعِ فِعْلِ خَلَقْنَا عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْكَبَدَ إِذْ يَكُونُ فِعْلُ خَلَقْنَا كَمَعْذِرَةٍ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ فِي مُلَازَمَةِ الْكَبَدِ لَهُ إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ فِيهِ. وَذَلِكَ يَحُطُّ مِنْ شِدَّةِ التَّوْبِيخِ وَالذَّمِّ، فَالَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ وَيُنَاسِبُ الْقَسَمَ أَنَّ الْكَبَدَ التَّعَبُ الَّذِي يُلَازِمُ أَصْحَابَ الشِّرْكِ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ. وَاضْطِرَابُ رَأْيِهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ وَبِطَلَبِ النَّجَاةِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ. وَمِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَقَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ دَلِيل مَقْصُودًا وَحْدَهُ بَلْ هُوَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: 5] . وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَابْتَدَأَهُمُ الْقُرْآنُ بِإِثْبَاتِهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْأُولَى. فَوِزَانُ هَذَا التَّمْهِيدِ وَزَانُ التَّمْهِيدِ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين: 4، 5] بَعْدَ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: التِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التِّين: 1] إِلَخْ. فَمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ [الْبَلَد: 5] : أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِ جَسَدِهِ فَنُعِيدَهُ خَلْقًا آخَرَ، فَهُوَ فِي طَرِيقَةِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إِلَى قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: 1- 4] . أَيْ كَمَا خَلَقْنَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي نَصَبٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ نَخْلُقُهُ خَلْقًا ثَانِيًا فِي كَبَدٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِكُفْرِهِ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ إِدْمَاجِ قَوْلِهِ فِي كَبَدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيرُ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي أَنَّهُمَا مِنْ مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي كَبَدٍ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْمُلَازَمَةِ فَكَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي الْكَبَدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [سبأ: 8، 9]

[سورة البلد (90) : آية 5]

الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ: عَذَابُ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَشَقَّةُ اضْطِرَابِ الْبَالِ فِي التَّكْذِيبِ وَاخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ وَالْحَيْرَةِ مِنَ الْأَمْرِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ لِتِلْكَ الْآيَةِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَبَدَ مَلَازِمٌ لِلْمُشْرِكِ مِنْ حِينِ اتِّصَافِهِ بِالْإِشْرَاكِ وَهُوَ حِينُ تَقَوُّمِ الْعَقْلِ وَكَمَالِ الْإِدْرَاكِ. وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ مِنْ قَبِيلِ الْقَلْبِ الْمَقْبُولِ لِتَضَمُّنِهِ اعْتِبَارًا لَطِيفًا وَهُوَ شِدَّةُ تَلَبُّسِ الْكَبَدِ بِالْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ حَتَّى كَأَنَّهُ خُلِقَ فِي الْكَبَدِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْكَبَدَ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَأْوِيلَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهَا السِّيَاق. [5] [سُورَة الْبَلَد (90) : آيَة 5] أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [الْبَلَد: 4] . وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّخْطِئَةِ. وَضَمِيرُ أَيَحْسَبُ رَاجِعٌ إِلَى الْإِنْسَانِ لَا مَحَالَةَ، وَمِنْ آثَارِ الْحَيْرَةِ فِي مَعْنَى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [الْبَلَد: 4] أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلَ ضَمِيرَ أَيَحْسَبُ رَاجِعًا إِلَى بَعْضٍ مِمَّا يَعُمُّهُ لَفْظُ الْإِنْسَانِ مِثْلَ أَبِي الْأَشَدِّ الجُمَحِي، وَهُوَ ضغث عَلَى إِبَّالَةٍ. [6، 7] [سُورَة الْبَلَد (90) : الْآيَات 6 إِلَى 7] يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَعْقَبَتْ مَسَاوِيَ نَفْسِهِ بِمَذَامِّ أَقْوَالِهِ، وَهُوَ التَّفَخُّرُ الْكَاذِبُ وَالتَّمَدُّحُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ فِي غَيْرِ صَلَاحٍ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَجَّحُونَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ وَيَعُدُّونَهُ مَنْقَبَةً لِإِيذَانِهِ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ صَاحِبِهِ بِهِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:

[سورة البلد (90) : الآيات 8 إلى 10]

وَإِذَا سَكِرْتُ فَإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ ... مَالِي وَعِرْضِي وَافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ وَإِذَا صَحَوْتُ فَمَا أُقَصِّرُ عَنْ نَدًى ... وَكَمَا عَلِمْتَ شَمَائِلِي وَتَكَرُّمِي وَجُمْلَةُ: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من الْإِنْسانَ [الْبَلَد: 4] وَذَلِكَ مِنَ الْكَبَدِ. وَجُمْلَةُ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً يَصْدُرُ مِنْهُ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ رَاجَ كَذِبُهُ، عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ نَاسٍ يَطَّلِعُونَ عَلَى كَذِبِهِ قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِدَخِيلَتِهِ وَأَنَّ افْتِخَارَهُ بِالْكَرَمِ بَاطِلٌ. ولُبَداً بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ جَمْعُ لُبْدَةٍ بِضَمِّ اللَّامِ وَهِيَ مَا تَلَبَّدَ مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ، أَيْ تَجَمَّعَ وَالْتَصَقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ لُبَّدًا بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ عَلَى أَنه جمع لَا بُد بِمَعْنَى مُجْتَمِعٍ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ مثل: صيّم وقوّم، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ فُعَّلٍ مِثْلُ زُمَّلٍ لِلْجَبَانِ وجبّإ للضعيف. [8- 10] [سُورَة الْبَلَد (90) : الْآيَات 8 إِلَى 10] أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: 5] أَوْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [الْبَلَد: 7] أَيْ هُوَ غَافِلٌ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الدَّالِّ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ خَلَقَ مَشَاعِرَ الْإِدْرَاكِ الَّتِي مِنْهَا الْعَيْنَانِ، وَخَلَقَ آلَاتِ الْإِبَانَةِ وَهِيَ اللِّسَانُ وَالشَّفَتَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُفِيضُ الْعِلْمِ عَلَى النَّاسِ غَيْرَ قَادِرٍ وَغَيْرَ عَالِمٍ بِأَحْوَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: 14] . وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا وَأَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا.

وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَنْفَعُ الْمَشَاعِرِ وَلِأَنَّ الْمُعَلَّلَ إِنْكَارُ ظَنِّهِ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ. وَذِكْرُ الشَّفَتَيْنِ مَعَ اللِّسَانِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ تَحْصُلُ بِهِمَا مَعًا فَلَا يَنْطِقُ اللِّسَانُ بِدُونِ الشَّفَتَيْنِ وَلَا تَنْطِقُ الشَّفَتَانِ بِدُونِ اللِّسَانِ. وَمِنْ دَقَائِقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا عَلَى الشَّفَتَيْنِ خِلَافَ عَادَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقْتَصِرُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: يَنْطِقُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَنْطِقْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، أَوْ لَمْ يَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ اسْتِدْلَالٍ فجيء فِيهِ بِمَالِه مَزِيدُ تَصْوِيرٍ لِخَلْقِ آلَةِ النُّطْقِ. وَأَعْقَبَ مَا بِهِ اكْتِسَابُ الْعِلْمِ وَمَا بِهِ الْإِبَانَةُ عَنِ الْمَعْلُومَاتِ، بِمَا يُرْشِدُ الْفِكْرَ إِلَى النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فَاسْتَكْمَلَ الْكَلَامُ أُصُولَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحِبًّا لِلْمَعْرِفَةِ محبا للتعريف فبمشاعر الْإِدْرَاكِ يَكْتَسِبُ الْمُشَاهَدَاتِ وَهِيَ أُصُولُ الْمَعْلُومَاتِ الْيَقِينِيَّةِ، وَبِالنُّطْقِ يُفِيدُ مَا يُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ، وَبِالْهَدْيِ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَعْلُومَاتِهِ وَيُمَحِّصُهَا. وَالشَّفَتَانِ هُمَا الْجِلْدَتَانِ اللَّتَانِ تَسْتُرَانِ الْفَمَ وَأَسْنَانَهُ وَبِهِمَا يَمْتَصُّ الْمَاءَ، وَمِنِ انْفِتَاحِهِمَا وَانْغِلَاقِهِمَا تَتَكَيَّفُ أَصْوَاتُ الْحُرُوفِ الَّتِي بِهَا النُّطْقُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَأَصْلُ شَفَةٍ شَفَوٌ نُقِصَ مِنْهُ الْوَاوُ وَعُوِّضَ عَنْهُ هَاءٌ فَيُجْمَعُ عَلَى شَفَوَاتٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ شَفَهٌ بَهَاءٍ هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ فَعُوِّضَ عَنْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ فَيُجْمَعُ عَلَى شَفَهَاتٍ وَشِفَاهٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَصْلَ شَفَهٌ بِهَاءٍ أَصْلِيَّةٍ ثُمَّ عُومِلَتِ الْهَاءُ مُعَامَلَةَ هَاءِ التَّأْنِيثِ تَخْفِيفًا فِي حَالَةِ الْوَصْلِ فَقَالُوا: شَفَةٌ، وَتُنُوسِيَ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَعُومِلَ مُعَامَلَةَ هَاءِ التَّأْنِيث فِي التَّثْنِيَة كَمَا فِي الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي تقضيه تَثْنِيَتُهُ عَلَى شَفَتَيْنِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: شَفَوَيْنِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ تَرُدُّ الِاسْمَ إِلَى أَصْلِهِ. وَالْهِدَايَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَلِّغَةِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ السَّيْرُ إِلَيْهِ. وَالنَّجْدُ: الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ ارْتِفَاعًا دُونَ الْجَبَلِ. فَالْمُرَادُ هُنَا طَرِيقَانِ نَجْدَانِ مُرْتَفَعَانِ، وَالطَّرِيقُ قَدْ يَكُونُ مُنْجِدًا مُصْعِدًا، وَقَدْ يَكُونُ غَوْرًا مُنْخَفِضًا.

[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 17]

وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الْهِدَايَةُ هُنَا لِلْإِلْهَامِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ يُدْرِكُ بِهِ الضَّارَّ وَالنَّافِعَ وَهُوَ أَصْلُ التَّمَدُّنِ الْإِنْسَانِيِّ وَأَصْلُ الْعُلُومِ وَالْهِدَايَةُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى مَا فِيهِ الْفَوْزُ. وَاسْتُعِيرَ النَّجْدَانِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَجُعِلَا نَجْدَيْنِ لِصُعُوبَةِ اتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْخَيْرُ فَغُلِّبَ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَعْبٌ بِاعْتِبَارٍ، فَطَرِيقُ الْخَيْرِ صُعُوبَتُهُ فِي سُلُوكِهِ، وَطَرِيقُ الشَّرِّ صُعُوبَتُهُ فِي عَوَاقِبِهِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بعد هَذَا ب الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: 11] . وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَشْبِيهَ إِعْمَالِ الْفِكْرِ لِنَوَالِ الْمَطْلُوبِ بِالسَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَرْغُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَان: 3] وَتَشْبِيهَ الْإِقْبَالِ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِذْ شَقَّتْ عَلَى نُفُوسِهِمْ كَذَلِكَ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَا وُهِبَهُ مِنْ وَسَائِلِ الْعَيْشِ الْمُسْتَقِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهِدَايَةُ هِدَايَةَ الْعَقْلِ لِلتَّفْكِيرِ فِي دَلَائِلِ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَأَمَّلَ لَعَرَفَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى سَبَبِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ بِكُفْرِهِمْ فِي أَزْمَانِ الْخُلُوِّ عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ الْمَاتْرِيدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَة أُخْرَى. [11- 17] [سُورَة الْبَلَد (90) : الْآيَات 11 إِلَى 17] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ تَفْرِيعَ إِدْمَاجٍ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: 10] أَيْ هَدَيْنَاهُ الطَّرِيقَيْنِ فَلَمْ يَسْلُكِ النَّجْدَ الْمُوَصِّلَ إِلَى الْخَيْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَداً [الْبَلَد: 6] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، وَتَكُونُ «لَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» اسْتِفْهَامًا حُذِفَ مِنْهُ أَدَاتُهُ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَدَّعِي إِهْلَاكَ مَالٍ كَثِيرٍ فِي الْفَسَادِ مِنْ مَيْسِرٍ وَخَمْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ

أَفَلَا أَهْلَكَهُ فِي الْقُرَبِ وَالْفَضَائِلِ بِفَكِّ الرِّقَابِ وَإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي زَمَنِ الْمَجَاعَةِ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ خِلَافًا لِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ إِنْفَاقٍ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَعْرِضُ الْإِشْكَالُ بِعَدَمِ تَكَرُّرِ (لَا) فَإِنَّ شَأْنَ (لَا) النَّافِيَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْمُضِيّ وَلم تَتَكَرَّر أَنْ تَكُونَ لِلدُّعَاءِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتْ مَعَهَا مِثْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا نَحْوَ قَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَة: 31] أَوْ كَانَتْ (لَا) مَعْطُوفَةً عَلَى نَفْيٍ نَحْوَ: مَا خَرَجْتُ وَلَا رَكِبْتُ. فَهُوَ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ (لَا) . وَقَدْ جَاءَتْ هُنَا نَافِيَةً فِي غَيْرِ دُعَاء، وَلم تَتَكَرَّر اسْتِغْنَاءً عَنْ تَكْرِيرِهَا بِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا وَهُوَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ جَاءَ بَيَانُهُمَا فِي قَوْلِهِ: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا فَكَّ رَقَبَةً وَلَا أَطْعَمَ يَتِيمًا أَوْ مِسْكِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ تَكْرِيرِ (لَا) هُنَا اسْتِغْنَاءً بِقَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَلَا آمَنَ. وَيَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْرِفُ عَنِ الْتِبَاسِ الْكَلَامِ كَافٍ عَنْ تَكْرِيرِ (لَا) كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي «الْمَقَامَةِ الثَّلَاثِينَ» : «لَا عَقَدَ هَذَا الْعَقْدَ الْمُبَجَّلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْأَغَرِّ الْمُحَجَّلِ إِلَّا الَّذِي جَالَ وَجَابَ» إِلَخْ وَأُطْلِقَ الْعَقَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ الْمُوصِلِ لِلْخَيْرِ لِأَنَّ عَقَبَةَ النَّجْدِ أَعْلَى مَوْضِعٍ فِيهِ. وَلِكُلِّ نَجْدٍ عَقَبَةٌ يَنْتَهِي بِهَا. وَفِي الْعَقَبَاتِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ السَّابِرَةِ. وَالِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ الْعَسِيرُ فِي مَكَانٍ أَوْ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ يُقَالُ: اقْتَحَمَ الصَّفَّ، وَهُوَ افْتِعَالٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَلُّفِ مِثْلَ اكْتَسَبَ، فَشُبِّهَ تَكَلُّفُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِاقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ فِي شِدَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ وَمَشَقَّتِهِ قَالَ تَعَالَى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت: 35] . وَالِاقْتِحَامُ: تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْعَقَبَةِ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ تَزَاحُمَ النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ كَمَا قَالَ: وَالْمَوْرِدُ الْعَذْبُ كَثِيرُ الزِّحَامْ وَأَفَادَ نَفْيُ الِاقْتِحَامِ أَنَّهُ عدل على الِاهْتِدَاءِ إِيثَارًا لِلْعَاجِلِ عَلَى الْآجِلِ وَلَوْ عَزَمَ وَصَبَرَ لَاقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَقَدْ تَتَابَعَتِ الِاسْتِعَارَاتُ الثَّلَاثُ: النَّجْدَيْنِ، وَالْعَقَبَةُ، وَالِاقْتِحَامُ، وَبُنِيَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَةِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.

وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَاءِ هَؤُلَاءِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِ الِاهْتِدَاءِ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالنُّطْقِ. وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ حَالٌ مِنَ الْعَقَبَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ لِلتَّنْوِيهِ بِهَا وَأَنَّهَا لِأَهَمِّيَّتِهَا يُسْأَلُ عَنْهَا الْمُخَاطَبُ هَلْ أَعْلَمَهُ مُعْلِمٌ مَا هِيَ، أَيْ لَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي حَالِ جَدَارَتِهَا بِأَنْ تُقْتَحَمَ. وَهَذَا التَّنْوِيهُ يُفِيدُ التَّشْوِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنَ الْعَقَبَةِ. وَمَا الْأُولَى اسْتِفْهَامٌ. وَمَا الثَّانِيَةُ مِثْلُهَا. وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا هِيَ الْعَقَبَةُ، أَيْ أَعْلَمَكَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ أَمْرًا عَزِيزًا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُعْلِمُكَ بِهِ. وَالْخِطَابُ فِي مَا أَدْراكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ. وَفِعْلُ أَدْراكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ لِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، فَكُّ رَقَبَةٍ بِرَفْعِ فَكُّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى رَقَبَةٍ وَرَفْعِ إِطْعامٌ عَطْفًا عَلَى فَكُّ وَجُمْلَةُ: فَكُّ رَقَبَةٍ بَيَانٌ لِلْعَقَبَةِ وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ فَكُّ رَقَبَةٍ، فَحُذَفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ حَذْفًا لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَبْيِينُ الْعَقَبَةِ بِأَنَّهَا: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِعَارَةِ الْعَقَبَةِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الشَّاقَّةِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، فَلَا وَجْهَ لِتَقْدِيرِ مَنْ قَدَّرَ مُضَافًا فَقَالَ: أَيْ وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ فَكَّ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى صِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ، وَبِنَصْبِ رَقَبَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِ فَكَّ أَوْ «أَطْعَمَ» بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ عَيْنِ إِطْعامٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُضِيٍّ عَطْفًا عَلَى فَكَّ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: فَكُّ رَقَبَةٍ بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، أَوْ تَكُونُ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيْ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَلَا فَكَّ رَقَبَةً أَوْ أَطْعَمَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَرَّرَ آنِفًا.

وَالْفَكُّ: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ مَنِ احْتَازَ بِهِ. وَالرَّقَبَةُ مُرَادٌ بِهَا الْإِنْسَانُ، مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى كُلِّهِ مِثْلَ إِطْلَاقِ رَأْسٍ وَعَيْنٍ وَوَجْهٍ، وَإِيثَارُ لِفَظِ الرَّقَبَةِ هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ ذَاتُ الْأَسِيرِ أَوِ الْعَبْدِ وَأَوَّلُ مَا يَخْطُرُ بِذِهْنِ النَّاظِرِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. هُوَ رَقَبَتُهُ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يُوثَقُ مِنْ رَقَبَتِهِ. وَأُطْلِقَ الْفَكُّ عَلَى تَخْلِيصِ الْمَأْخُوذِ فِي أَسْرٍ أَوْ مِلْكٍ، لِمُشَابَهَةِ تَخْلِيصِ الْأَمْرِ الْعَسِيرِ بِالنَّزْعِ مِنْ يَدِ الْقَابِضِ الْمُمْتَنِعِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ وَهُوَ تَشَوُّفُ الشَّارِعِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ «أُصُولِ النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْإِسْلَامِ» . وَالْمَسْغَبَةُ: الْجُوعُ وَهِيَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلَةِ مِثْلَ الْمَحْمَدَةِ وَالْمَرْحَمَةِ مِنْ سَغِبَ كَفَرِحَ سَغَبًا إِذَا جَاعَ. وَالْمُرَادُ بِ يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ زَمَانٌ لَا النَّهَارُ الْمَعْرُوفُ. وَإِضَافَةُ ذِي إِلَى مَسْغَبَةٍ تُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْمَسْغَبَةِ، أَيْ يَوْمُ مَجَاعَةٍ، وَذَلِكَ زَمَنُ الْبَرْدِ وَزَمَنُ الْقَحْطِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْيَوْمِ ذِي الْمَسْغَبَةِ بِالْإِطْعَامِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ الْمَجَاعَةِ يَشْتَدُّ شُحُّهُمْ بِالْمَالِ خَشْيَةَ امْتِدَادِ زَمَنِ الْمَجَاعَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى الْأَقْوَاتِ. فَالْإِطْعَامُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْعَقَبَةُ وَدُونَ الْعَقَبَةِ مَصَاعِدُ مُتَفَاوِتَةٌ. وَانْتَصَبَ يَتِيماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ إِطْعامٌ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ عَامِلٌ عَمَلَ فِعْلِهِ وَإِعْمَالُ الْمَصْدَرِ غَيْرِ الْمُضَافِ وَلَا الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَقْيَسُ وَإِنْ كَانَ إِعْمَالُ الْمُضَافِ أَكْثَرَ، وَمَنَعَ الْكُوفِيُّونَ إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ غَيْرِ الْمُضَافِ. وَمَا وَرَدَ بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ حَمَلُوهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِ الْمَصْدَرِ، فَيُقَدَّرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ «يُطْعِمُ يَتِيمًا» . وَالْيَتِيمُ: الشَّخْصُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَبٌ، وَهُوَ دُونُ الْبُلُوغِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِالْإِطْعَامِ أَنَّهُ مَظِنَّةُ قِلَّةِ الشِّبَعِ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَضَعْفِ عَمَلِهِ وَفَقْدِ مَنْ يَعُولُهُ وَلِحَيَائِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِطَلَبِ مَا يَحْتَاجُهُ. فَلِذَلِكَ رُغِّبَ فِي إِطْعَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ حَدَّ الْمَسْكَنَةِ

وَالْفَقْرِ وَوُصِفَ بِكَوْنِهِ ذَا مَقْرَبَةٍ أَيْ مَقْرَبَةٍ مِنَ الْمُطْعِمِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُؤَكِّدُ إِطْعَامَهُ لِأَنَّ فِي كَوْنِهِ يَتِيمًا إِغَاثَةً لَهُ بِالْإِطْعَامِ، وَفِي كَوْنِهِ ذَا مَقْرَبَةٍ صِلَةً لِلرَّحِمِ. وَالْمَقْرَبَةُ: قَرَابَةُ النَّسَبِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ مَفْعَلَةٍ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْغَبَةٍ وَالْمِسْكِينُ: الْفَقِيرُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [184] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ وَذَا مَتْرَبَةٍ صِفَةٌ لِمِسْكِينٍ جُعِلَتِ الْمَتْرَبَةُ عَلَامَةً عَلَى الِاحْتِيَاجِ بِحَسْبِ الْعُرْفِ. وَالْمَتْرَبَةُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ مَفْعَلَةٍ أَيْضًا وَفِعْلُهُ تَرِبَ يُقَالُ: تَرِبَ، إِذَا نَامَ عَلَى التُّرَابِ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَفْتَرِشُهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُرُوِّ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْجَسَدِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ الْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: تَرِبَتْ يَمِينُكُ: وَتَرِبَتْ يَدَاكَ. وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ وَهُوَ مَعْنَى مِنْ مَعَانِي (أَوْ) جَاءَ مِنْ إِفَادَةِ التَّخْيِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ الْمَخْصُوصُ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ كَانَ نَفْيُ فَكِّ الرِّقَابِ وَالْإِطْعَامِ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ تَحَلِّيهِمْ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ فَكَّ الرِّقَابِ وَإِطْعَامَ الْجِيَاعِ مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ مِنْ إِطْعَامِ الْجِيَاعِ وَالْمَحَاوِيجِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَعْيِيرِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحِبُّونَ التَّفَاخُرَ وَالسُّمْعَةَ وَإِرْضَاءَ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ، أَوْ لِمُؤَانَسَةِ الْأَخِلَّاءِ وَذَلِكَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ لَمْ يُطْعِمُوا يَتِيمًا وَلَا مِسْكِينًا فِي يَوْمِ مَسْغَبَةٍ، أَيْ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَلَيْسَ مِثْلَ إِطْعَامِكُمْ فِي الْمَآدِبِ وَالْوَلَائِمِ وَالْمُنَادَمَةِ الَّتِي لَا تَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى الْمُطْعَمَيْنِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَطَاعِمَ كَانُوا يَدْعُونَ لَهَا أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجِدَّةِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى الطَّعَامِ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمُؤَانَسَةَ أَوِ الْمُفَاخَرَةَ. وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهِ الشَّبْعَانُ وَيُحْبَسُ عَنْهُ الْجَائِعُ» . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَاحِدًا مُعَيَّنًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَمًّا لَهُ بِاللُّؤْمِ وَالتَّفَاخُرِ الْكَاذِبِ، وَفَضْحًا لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ

مِنْهُ عَمَلٌ نَافِعٌ لِقَوْمِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَغْرَمْ غَرَامَةً فِي فِكَاكِ أَسِيرٍ أَوْ مَأْخُوذٍ بِدَمٍ أَوْ مَنَّ بِحُرِّيَّةٍ عَلَى عَبْدٍ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمُشْرِكِينَ بِهَذِهِ الْقُرَبِ وَلَا أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ، حَتَّى تُفْرَضَ فِيهِ مَسْأَلَةُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ قَلِيلَةُ الْجَدْوَى وَفَرْضُهَا هُنَا أَقَلُّ إِجْدَاءً. وَجُمْلَةُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا أَرْقَى رُتْبَةً فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ مَضْمُون الْكَلَام المعطوفة عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ بِفَكِّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٍ بَعْدَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا. وَفِي فِعْلِ كانَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ إِيمَانَهُ سَابِقٌ عَلَى اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ بِطَرِيقَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى انْتِفَائِهَا عَنْهُ. فَعَطْفُ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْجُمَلِ الْمَسُوقَةِ لِلتَّوْبِيخِ وَالذَّمِّ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ النَّاسِ أَوْ هَذَا الْإِنْسَانَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ مَلُومٌ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا مَا نَفَعَهُ عَمَلُهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ قَدِ انْتَفَى عَنْهُ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ مِنَ الصَّالِحَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مِنَ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَعْمَالِ. وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ وَيَفُكُّ الْعَانِيَ وَيُعْتِقُ الرِّقَابَ وَيَحْمِلُ عَلَى إِبِلِهِ لِلَّهِ (أَيْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ) فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ: «لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» . وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ بِمَفْهُومِ صِفَةِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ هَذِهِ الْقُرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَآمَنَ بِاللَّهِ حِينَ جَاءَ الْإِسْلَامُ لَكَانَ عَمَلُهُ ذَلِكَ مَحْمُودًا. وَمَنْ يَجْعَلُ ثُمَّ مُفِيدَةً لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ يَجْعَلُ الْمَعْنَى: لَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَأَتْبَعَهَا بِالْإِيمَانِ. أَيِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمَ لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحِ: «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءً كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ

رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ لي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ» وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ يَعْنِي أَنَّ دُخُولَهُ فِي الْإِسْلَام أَفَادَهُ إِعْطَاءَ ثَوَابٍ عَلَى أَعْمَالِهِ كَأَنَّهُ عَمِلَهَا فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ كَانَ مُؤْمِنًا، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَدَلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِيمَانِ مِنَ الْوَصْفِ بِمُؤْمِنٍ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَمَاعَةِ أَقْوَى مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا فَإِنَّ كَثْرَةَ الْخَيْرِ خَيْرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْوِيَةٌ أُخْرَى لِلْوَصْفِ، وَهُوَ جَعْلُهُ بِالْمَوْصُولِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْإِيمَانِ بَيْنَ الْفِرَقِ. وَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ آمَنُوا لِلْعِلْمِ بِهِ أَيْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ الْإِسْلَامِ. فَجُعِلَ الْفِعْلُ كَالْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمُتَعَلَّقِ. وَأَيْضًا لِيَتَأَتَّى مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا تَخَلُّصٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وَلِبِشَارَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَاصِيَهِمْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصِيَهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفُ صِفَاتِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِلَاكُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ كَبْحِ الشَّهْوَةِ النَّفْسَانِيَّةِ وَذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ. وَالْمَرْحَمَةُ مِلَاكُ صَلَاحِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29] . وَالتَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ مَنْ يُوصِي بِالْمَرْحَمَةِ هُوَ الَّذِي عَرَفَ قَدْرَهَا وَفَضْلَهَا، فَهُوَ يَفْعَلُهَا قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: 18] . وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَرْحَمَةِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت: 33- 35] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: 17، 18] .

[سورة البلد (90) : الآيات 18 إلى 20]

[سُورَة الْبَلَد (90) : الْآيَات 18 إِلَى 20] أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) لَمَّا نَوَّهَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أَعَقَبَ التَّنْوِيهَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَبِشَارَتِهِمْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِإِحْضَارِهِمْ بِصِفَاتِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، مَعَ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ إِرَادَةِ التَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. والْمَيْمَنَةِ جِهَةُ الْيَمِينِ، فَهِيَ مَفْعَلَةٌ لِلْمَكَانِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِ يَمَنَهُ (فِعْلًا مَاضِيًا) إِذَا كَانَ عَلَى يَمِينِهِ، أَيْ عَلَى جِهَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى، أَوْ مَأْخُوذَةٌ مِنْ يَمَنَهُ اللَّهُ يُمْنًا، إِذَا بَارَكَهُ، وَإِحْدَى الْمَادَّتَيْنِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأُخْرَى، قِيلَ: سُمِّيَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى يَمِينًا وَيُمْنَى لِأَنَّهَا أَعْوَدُ نَفْعًا عَلَى صَاحِبِهَا فِي يُسْرِ أَعْمَالِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِلَادُ الْيَمَنِ يَمَنًا لِأَنَّهَا عَنْ جِهَةِ يَمِينِ الْوَاقِفِ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ مِنْ بَابِهَا لِأَنَّ بَابَ الْكَعْبَةِ شَرْقِيٌّ، فَالْجِهَةُ الَّتِي عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَعْبَةِ هِيَ الْجَنُوبُ وَهِيَ جِهَةُ بِلَادِ الْيَمَنِ. وَكَانَتْ بِلَادُ الْيَمَنِ مَشْهُورَةً بِالْخَيْرَاتِ فَهِيَ مَيْمُونَةٌ. وَكَانَ جُغْرَافِيُّو الْيُونَانِ يَصِفُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ السَّعِيدَةِ، وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارُهُمْ مَا جَاءَ عَنِ الْيَمِينِ مِنَ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ مُبَشِّرًا بِالْخَيْرِ فِي عَقِيدَةِ أَهْلِ الزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ فَالْأَيَامِنُ الْمَيْمُونَةُ قَالَ الْمُرَقِّشُ يُفَنِّدُ ذَلِكَ: فَإِذا الأشائم كالأيا ... من وَالْأَيَامِنُ كَالْأَشَائِمْ وَنَشَأَ عَلَى اعْتِبَارِ عَكْسِ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ بِلَادِ الشَّامِ شَأْمًا بِالْهَمْزِ مُشْتَقَّةً مِنَ الشُّؤْمِ لِأَنَّ بِلَادَ الشَّامِ مِنْ جِهَةِ شِمَالِ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وَفِي يَمَنِنَا» وَمَا تَسْمِيَتُهُمْ ضِدَّ الْيَدِ الْيُمْنَى يَسَارًا إِلَّا لِإِبْطَالِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الشُّؤْمِ فِيهَا. وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الْيَمِينِ جِهَةً مُكَرَّمَةً تَعَارَفُوا الْجُلُوسَ عَلَى الْيَمِينِ فِي الْمَجَامِعِ كَرَامَةً لِلْجَالِسِ، وَجَعَلُوا ضِدَّهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ فَكَانَ النَّاسُ يَجْلِسُونَ حِينَ انْتَهَى بِهِمُ الْمَجْلِسُ. وَسُمِّيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: 27] وَسُمِّيَ أَهْلُ النَّارِ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ وأَصْحابُ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [41] ، فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أَيْ أَصْحَابُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أَيْ هُمْ مُحَقَّرُونَ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عُرْفِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ فِي مَجَالِسِهِمْ. وَلَا مَيْمَنَةَ وَلَا مَشْأَمَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَشْأَمَةِ تَقْتَضِيَانِ حَيِّزًا لِمَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْجِهَةُ. وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ تَتْمِيمٌ لِمَا سِيقَ مِنْ ذَمِّ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ آنِفًا إِذْ لَمْ يُعَقَّبْ ذَمُّهُ هُنَالِكَ بِوَعِيدِهِ عِنَايَةً بِالْأَهَمِّ وَهُوَ ذِكْرُ حَالَةِ أَضْدَادِهِ وَوَعْدِهِمْ، فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ ذَلِكَ ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَمُحَسِّنُ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْمَيْمَنَةِ والمشأمة. وَقد عرف آنِفًا أَنَّ الْمَشْأَمَةَ مَنْزِلَةُ الْإِهَانَةِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ لِلْقَصْرِ، إِذْ قَدِ اسْتُفِيدَ الْقَصْرُ مِنْ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْمُضَادَّةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ومُؤْصَدَةٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَوْصَدَ الْبَابَ بِالْوَاوِ. وَيُقَالُ: أَأْصَدَ بِالْهَمْزِ وَهُمَا لُغَتَانِ، قِيلَ: الْهَمْزُ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهُ وَصِيدَةً. وَالْوَصِيدَةُ: بَيْتٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْحِجَارَةِ فِي الْجِبَالِ لِحِفْظِ الْإِبِلِ. فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُوصَدَةٌ بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ مِنْ أَوْصَدَ بِالْوَاوِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمِيم من ءاصد الْبَابَ، بِهَمْزَتَيْنِ بِمَعْنَى وَصَدَهُ. وَجُمْلَةُ: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أَوِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وعَلَيْهِمْ مُتَعَلق ب مُؤْصَدَةٌ، وَقُدِّمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ الْغَلْقِ عَلَيْهِمْ تَعْجِيلًا لِلتَّرْهِيبِ. وَقَدِ اسْتَتَبَّ بِهَذَا التَّقْدِيمِ رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ بِالْهَاءِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: 11] .

وَإِسْنَادُ المؤصديّة إِلَى النَّارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، والموصد هُوَ مَوضِع النَّارِ، أَيْ جَهَنَّمُ.

91- سورة الشمس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 91- سُورَةُ الشَّمْسِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي مُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الشَّمْسِ» بِدُونِ وَاوٍ وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِدُونِ وَاوٍ فِي نُسَخٍ صَحِيحَةٍ مِنْ «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَمِنْ «عَارِضَةِ الْأَحْوَذِيِّ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ سُورَةَ «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» بِحِكَايَةِ لَفْظِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ وَهُوَ أَوْلَى أَسْمَائِهَا لِئَلَّا تَلْتَبِسَ عَلَى الْقَارِئِ بِسُورَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ الْمُسَمَّاةِ سُورَةَ التَّكْوِيرِ. وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَعُدَّتِ السَّادِسَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْقَدْرِ، وَقَبْلَ سُورَةِ الْبُرُوجِ. وَآيَاتُهَا خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً فِي عَدَدِ جُمْهُورِ الْأَمْصَارِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ مَكَّةَ سِتَّ عشرَة آيَة. أغراضها تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ يُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ بِإِشْرَاكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَصَابَ ثَمُودًا بِإِشْرَاكِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَقُدِّمَ لِذَلِكَ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ بِأَشْيَاءَ مُعَظَّمَةٍ وَذُكِرَ مِنْ أَحْوَالِهَا مَا هُوَ دَلِيلٌ

[سورة الشمس (91) : الآيات 1 إلى 8]

عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْإِلَهِيَّةَ وَخَاصَّةً أَحْوَالَ النُّفُوسِ وَمَرَاتِبَهَا فِي مَسَالِكَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ. [1- 8] [سُورَة الشَّمْس (91) : الْآيَات 1 إِلَى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّأْكِيدِ هُوَ مَا فِي سَوْقِ الْخَبَرِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالِاسْتِئْصَالِ. وَالْوَاوَاتُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ الْفَوَاصِلِ وَاوَاتُ قَسَمٍ. وَكُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَنَفْسِ الْإِنْسَانِ، مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ ذَاتًا وَمَعْنًى الدَّالَّةِ عَلَى بَدِيعِ حِكْمَتِهِ وَقَوِيِّ قُدْرَتِهِ. وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الضُّحَى، وَتُلُوِّ الْقَمَرِ الشَّمْسَ وَالنَّهَارِ، وَاللَّيْلِ مِنْ أَدَقِّ النِّظَامِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالضُّحَى: وَقْتُ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ عَنْ أُفُقِ مَشْرِقِهَا، وَظُهُورِ شُعَاعِهَا، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَرْتَفِعُ فِيهِ الشَّمْسُ مُتَجَاوِزَةً مَشْرِقَهَا بِمِقْدَارِ مَا يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ طُولُ رُمْحٍ. وَمَهَّدَ لِذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ سَبَبُ الْفَلَاحِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي إِصْلَاحِهَا سَبَبُ الْفُجُورِ وَالْخُسْرَانِ. وَالتُّلُوُّ: التَّبَعُ وَأُرِيدَ بِهِ خَلْفُ ضَوْئِهِ فِي اللَّيْلِ ضَوْءَ الشَّمْسِ، أَيْ إِذَا ظَهَرَ بَعْدَ مَغِيبِهَا فَكَأَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي مَكَانِهَا، وَهَذَا تُلُوٌّ مَجَازِيٌّ. وَالْقَمَرُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا اسْتِهْلَالُهُ، فَالْهِلَالُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِينَ عَقِبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَبْقَى كَذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَهُوَ أَيْضًا يَتْلُو الشَّمْسَ حِينَ يُقَارِبُ الِابْتِدَارَ وَحِينَ يَصِيرُ

بَدْرًا فَإِذَا صَارَ بَدْرًا صَارَ تُلُوُّهُ الشَّمْسَ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يظْهر عِنْد مَا تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَقَرِيبًا مِنْ غُرُوبِهَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَيْضًا يُضِيءُ فِي أَكْثَرِ لَيَالِي الشَّهْرِ جَعَلَهُ اللَّهُ عِوَضًا عَنِ الشَّمْسِ فِي عِدَّةِ لَيَالٍ فِي الْإِنَارَةِ، وَلِذَلِكَ قُيِّدَ الْقَسَمُ بِحِينِ تُلُوِّهِ لِأَنَّ تُلُوَّهُ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ تَظْهَرُ مِنْهُ مَظَاهِرُ التُّلُوِّ لِلنَّاظِرِينَ، فَهَذَا الزَّمَانُ مِثْلُ زَمَانِ الضُّحَى فِي الْقَسَمِ بِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَسَمٍ بِوَقْتِ تُلُوِّهِ الشَّمْسَ، فَحَصَلَ الْقَسَمُ بِذَاتِ الْقَمَرِ وَبِتُلُوِّهِ الشَّمْسَ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، أَيْ مِنْ تَوَجُّهِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ إِلَى مَا يُقَابِلُ الْأَرْضَ مِنَ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ نَيِّرًا بِذَاتِهِ، وَهَذَا إِعْجَازٌ عِلْمِيٌّ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَابْتُدِئَ بِالشَّمْسِ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ إِيمَاءً لِلتَّنْوِيهِ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ هَدْيَهُ كَنُورِ الشَّمْسِ لَا يَتْرُكُ لِلضَّلَالِ مَسْلَكًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَعْدِ بِانْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ كَانْتِشَارِ نُورِ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ، وَأُتْبِعَ بِالْقَمَرِ لِأَنَّهُ يُنِيرُ فِي الظَّلَامِ كَمَا أَنَارَ الْإِسْلَامُ فِي ابْتِدَاءِ ظُهُورِهِ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ، ثُمَّ ذُكِرَ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ مَعَهُ لِأَنَّهُمَا مَثَلٌ لِوُضُوحِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ عَكْسُ مَا فِي سُورَةِ اللَّيْلِ لِمَا يَأْتِي. وَمُنَاسَبَةُ اسْتِحْضَارِ السَّمَاءِ عَقِبَ ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاسْتِحْضَارِ الْأَرْضِ عَقِبَ ذِكْرِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَاضِحَةٌ، ثُمَّ ذُكِرَتِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: جَلَّاها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ فَمَعْنَى تجلية النَّهَار بالشمس وَقْتُ ظُهُورِ الشَّمْسِ. فَإِسْنَادُ التَّجْلِيَةِ إِلَى النَّهَارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْقَسَمُ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ حَالَةٌ دَالَّةٌ عَلَى دَقِيقِ نِظَامِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ أَضَاءَ الْأَرْضَ فَتَجَلَّتْ لِلنَّاظِرِينَ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ كَمَا يُقَالُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ «أَرْسَلَتْ» يَعْنُونَ أَرْسَلَتِ السَّمَاءُ مَاءَهَا. وَقُيِّدَ الْقَسَمُ بِالنَّهَارِ بِقَيْدِ وَقْتِ التَّجْلِيَةِ إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ فِي الْقَسَمِ. وَابْتُدِئَ الْقَسَمُ بِالشَّمْسِ وَأَضْوَائِهَا الثَّلَاثَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمُنْعَكِسَةِ لِأَنَّ الشَّمْسَ

أَعْظَمُ النَّيِّرَاتِ الَّتِي يَصِلُ نُورٌ شَدِيدٌ مِنْهَا لِلْأَرْضِ، وَلِمَا فِي حَالِهَا وَحَالِ أَضْوَائِهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا مَثَلٌ لِظُهُورِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَبَثِّ التَّقْوَى بَعْدَ الْفُجُورِ فَإِنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ تُمَثَّلُ بِالظُّلْمَةِ وَالْإِيمَانَ وَالطَّاعَاتِ تُمَثَّلُ بِالضِّيَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ [الْمَائِدَة: 16] . وَأُعْقِبَ الْقَسَمُ بِالنَّهَارِ بِالْقَسَمِ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ مُقَابِلُ وَقْتِ النَّهَارِ فَهُوَ وَقْتُ الْإِظْلَامِ. وَالْغَشْيُ: التَّغْطِيَةُ وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِمُغَطٍّ لِلشَّمْسِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ غَشْيِ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ لِقُرْصِ الشَّمْسِ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ الْغُرُوبِ وَهُوَ زَمَنٌ لِذَلِكَ الْغَشْيِ. فَإِسْنَادُ الْغَشْيِ إِلَى اللَّيْلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى زَمَنِهِ أَوْ إِلَى مُسَبَّبِهِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) . وَالْغَاشِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ تَكْوِيرُ الْأَرْضِ وَدَوَرَانُهَا تُجَاهَ مَظْهَرِ الشَّمْسِ وَهِيَ الدَّوْرَةُ الْيَوْمِيَّةُ، وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي يَغْشاها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وإِذا فِي قَوْلِهِ: إِذا تَلاها وَقَوْلِهِ: إِذا جَلَّاها وَقَوْلِهِ: إِذا يَغْشاها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَوْنٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الْقَمَرِ وَمِنَ النَّهَارِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ مُقْسِمًا بِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْظَمِ أَحْوَالِهِ وَأَشَدِّهَا دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِنَاءُ السَّمَاءِ تَشْبِيهٌ لِرَفْعِهَا فَوْقَ الْأَرْضِ بِالْبِنَاءِ. وَالسَّمَاءُ آفَاقُ الْكَوَاكِبِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 17] وَتَقْيِيدُ الْقَسَمِ بِاللَّيْلِ بِوَقْتِ تَغْشِيَتِهِ تَذْكِيرًا بِالْعِبْرَةِ بِحُدُوثِ حَالَةِ الظُّلْمَةِ بَعْدَ حَالَةِ النُّورِ. وَطَحْوُ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا وَتَوْطِئَتُهَا لِلسَّيْرِ وَالْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ، يُقَالُ: طَحَا يَطْحُو وَيَطْحِي طَحْوًا وَطَحْيًا وَهُوَ مُرَادِفُ «دَحَا» فِي سُورَة النازعات [30] . و «النَّفس» : ذَاتُ الْإِنْسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: 27] وَتَنْكِيرُ «نَفْسٍ» لِلنَّوْعِيَّةِ أَيْ جِنْسُ النَّفْسِ فَيَعُمُّ كُلَّ نَفْسٍ عُمُومًا بِالْقَرِينَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5] .

وَتَسْوِيَةُ النَّفْسِ: خَلْقُهَا سَوَاءً، أَيْ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةِ الْخَلْقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [7] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ وَمَا فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما بَناها، أَوْ مَا طَحاها، وَما سَوَّاها، إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ يُؤَوَّلُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِمَصْدَرٍ فَالْقَسَمُ بِأُمُورٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ صِفَاتُ الْفِعْلِ الْإِلَهِيَّةُ وَهِيَ رَفْعُهُ السَّمَاءَ وَطَحْوُهُ الْأَرْضَ وَتَسْوِيَتُهُ الْإِنْسَانَ. وَعُطِفَ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عَلَى سَوَّاها، فَهُوَ مُقْسَمٌ بِهِ، وَفِعْلُ «أَلْهَمَهَا» فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَعُطِفَ بِالْفَاءِ لِأَن الإلهام ناشىء عَنِ التَّسْوِيَةِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي «أَلْهَمَهَا» عَائِدٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ وَهِيَ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ سَوَّاها وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً صَادِقَةً عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجُمْلَةُ بَناها صِلَةُ الْمَوْصُولِ، أَيْ وَالْبِنَاءِ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ، وَالطَّحْوِ الَّذِي طَحَا الْأَرْضَ وَالتَّسْوِيَةِ الَّتِي سَوَّتِ النَّفْسَ. فَالتَّسْوِيَةُ حَاصِلَةٌ مِنْ وَقْتِ تَمَامِ خِلْقَةِ الْجَنِينِ مِنْ أَوَّلِ أَطْوَارِ الصِّبَا إِذِ التَّسْوِيَةُ تَعْدِيلُ الْخِلْقَةِ وَإِيجَادُ الْقُوَى الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ ثُمَّ تَزْدَادُ كَيْفِيَّةُ الْقُوَى فَيَحْصُلُ الْإِلْهَامُ وَالْإِلْهَامُ: مَصْدَرُ أَلْهَمَ، وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِالْهَمْزَةِ وَلَكِنَّ الْمُجَرَّدَ مِنْهُ مُمَاتٌ وَالْإِلْهَامُ اسْمٌ قَلِيلُ الْوُرُودِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلُ اللُّغَةِ شَاهِدًا لَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيُطْلَقُ الْإِلْهَامُ إِطْلَاقًا خَاصًّا عَلَى حُدُوثِ عِلْمٍ فِي النَّفْسِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ وَلَا تَجْرِبَةٍ وَلَا تَفْكِيرٍ فَهُوَ عِلْمٌ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ وِجْدَانِيًّا كَالِانْسِيَاقِ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْوِجْدَانِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ عَن دَلِيل كالتجربيات وَالْأُمُورِ الْفِكْرِيَّةِ والنظرية. وإيثار هَذَا الْفِعْلِ هُنَا لِيَشْمَلَ جَمِيعَ عُلُومِ الْإِنْسَانِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِلْهَامُ: إِيقَاعُ الشَّيْءِ فِي الرُّوعِ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجِهَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى اهـ. وَلِذَلِكَ فَهَذَا اللَّفْظُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ يَكُنْ مِمَّا أَحْيَاهُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ اسْمٌ دَقِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةِ وَقَلِيلٌ رَوَاجُ أَمْثَالِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ

[سورة الشمس (91) : الآيات 9 إلى 10]

قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِقِلَّةِ خُطُورِ مِثْلِ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي مُخَاطَبَاتِ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّهْمِ وَهُوَ الْبَلْعُ دَفْعَةً، يُقَالُ: لَهِمَ كَفَرِحَ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْإِلْهَامِ عَلَى عِلْمٍ يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِدُونِ مُسْتَنَدٍ فَهُوَ إِطْلَاقٌ اصْطِلَاحِيٌّ لِلصُّوفِيَّةِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ مِنْ آثَارِ تَسْوِيَةِ النَّفْسِ إِدْرَاكَ الْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْإِدْرَاكُ الضَّرُورِيُّ الْمُدَرَّجُ ابْتِدَاءً مِنَ الِانْسِيَاقِ الْجِبِلِيِّ نَحْوَ الْأُمُورِ النَّافِعَةِ كَطَلَبِ الرَّضِيعِ الثَّدْيَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَمِنْهُ اتِّقَاءُ الضَّارِّ كَالْفِرَارِ مِمَّا يُكْرَهُ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ إِلَى أَوَّلِ مَرَاتِبِ الِاكْتِسَابِ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْهَامٌ. وَتَعْدِيَةُ الْإِلْهَامِ إِلَى الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِمَا هُوَ فُجُورٌ وَمَا هُوَ تَقْوَى بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَوْلَا مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا لَمَا فَهِمُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ، فَلَوْلَا الْعُقُولُ لَمَا تَيَسَّرَ إِفْهَامُ الْإِنْسَانِ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى، وَالْعِقَابَ وَالثَّوَابَ. وَتَقْدِيمُ الْفُجُورِ عَلَى التَّقْوَى مُرَاعًى فِيهِ أَحْوَالُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِهِمْ فُجُورٌ وَلَا تَقْوَى لَهُمْ، وَالتَّقْوَى صِفَةُ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ قَلِيلٌ يَوْمَئِذٍ. وَمَجِيءُ فِعْلِ: «أَلْهَمَهَا» بِصِيغَةِ الْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرٍ مُذَكَّرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَأْنِيثَ مَصْدَرِ التَّسْوِيَةِ تَأْنِيثٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ أَوْ لِمُرَاعَاةِ لِفَظِ مَا إِنْ جَعلتهَا مَوْصُولَة. [9، 10] [سُورَة الشَّمْس (91) : الْآيَات 9 إِلَى 10] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَوَابَ الْقَسَمِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى تَحْقِيقُ فَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَيْبَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا جُعِلَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ [4، 5] جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى إِلَخْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْجَوَابِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ إِلْهَامِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى، أَيْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَاتَّبَعَ مَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ مِنَ التَّقْوَى، وَخَابَ مَنِ اخْتَارَ الْفُجُورَ بَعْدَ أَنْ أُلْهِمَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالْإِدْرَاكِ وَالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْطِئَةٌ لِجُمْلَةِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشَّمْس: 11] فَإِنَّ مَا أَصَابَ ثَمُودًا كَانَ مِنْ خَيْبَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ دَسَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِالطَّغْوَى. وَقُدِّمَ الْفَلَاحُ على الخيبة لمناسبة لِلتَّقْوَى، وَأُرْدِفَ بِخَيْبَةِ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ لِتَهْيِئَةِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِمَا حَصَلَ لِثَمُودَ مِنْ عِقَابٍ عَلَى مَا هُوَ أَثَرُ التَّدْسِيَةِ. ومَنْ صَادِقَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَيِ الَّذِي زَكَّى نَفْسَهُ بِأَنِ اخْتَارَ لَهَا مَا بِهِ كَمَالُهَا وَدَفْعُ الرَّذَائِلِ عَنْهَا، فَالْإِنْسَانُ وَالنَّفْسُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَنُزِّلَا مَنْزِلَةَ شَيْئَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْإِرَادَةِ وَالِاكْتِسَابِ. وَالتَّزْكِيَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ. وَمَعْنَى: دَسَّاها حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِ الْخَيْرِ. وَأَصْلُ فِعْلِ دَسَّى: دَسَّ، إِذَا أَدْخَلَ شَيْئًا تَحْتَ شَيْءٍ فَأَخْفَاهُ، فَأَبْدَلُوا الْحَرْفَ الْمُضَاعَفَ يَاءً طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ كَمَا قَالُوا: تقضّى الْبَازِي أَو تَقَضَّضَ، وَقَالُوا: تَظَنَّيْتُ، أَيْ مِنَ الظَّنِّ. وَإِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها جَوَابَ الْقَسَمِ فَجُمْلَةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشَّمْس: 11] فِي مَوْقِعِ الدَّلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ خَابَ كَخَيْبَةِ ثَمُودَ. وَالْفَلَاحُ: النَّجَاحُ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَالْخَيْبَةُ ضِدُّهُ، أَيْ أَنْ يُحْرَمَ الطَّالِبُ مِمَّا طَلَبَهُ. فَالْإِنْسَانُ يَرْغَبُ فِي الْمُلَائِمِ النَّافِعِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْلُبُ مَا بِهِ النَّفْعُ وَالْكَمَالُ الدَّائِمَانِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْلُبُ مَا فِيهِ عَاجِلُ النَّفْعِ وَالْكَمَالُ الزَّائِفُ، فَالْأَوَّلُ قَدْ نَجَحَ فِيمَا طَلَبَهُ فَهُوَ مُفْلِحٌ، وَالثَّانِي يُحَصِّلُ نَفْعًا عَارِضًا زَائِلًا وَكَمَالًا مُوَقَّتًا يَنْقَلِبُ انْحِطَاطًا فَذَلِكَ لَمْ يَنْجَحْ فِيمَا طَلَبَهُ فَهُوَ خَائِبٌ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِالْفَلَاحِ وَالْخَيْبَةِ كَمَا عُبِّرَ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِالرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْفَلَاحُ فِي الْآخِرَةِ وَالْخَيْبَةُ فِيهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَقَدْ ذُكِرَتْ أَشْيَاءُ مُتَقَابِلَةٌ مُتَضَادَّةٌ مِثْلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِاخْتِلَافِ وَقْتِ ظُهُورِهِمَا، وَمِثْلُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَالتَّجْلِيَةِ

[سورة الشمس (91) : الآيات 11 إلى 15]

وَالْغَشْيِ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْبِنَاءِ وَالطَّحْوِ، وَالْفُجُورِ وَالتَّقْوَى، وَالْفَلَاحِ وَالْخَيْبَةِ، وَالتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ. [11- 15] [سُورَة الشَّمْس (91) : الْآيَات 11 الى 15] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها - إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها - فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها - فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْس: 9] إِلَخْ مُعْتَرِضَةً كَانَتْ هَذِهِ جَوَابًا لِلْقَسَمِ بِاعْتِبَارِ مَا فُرِّعَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ أَيْ حَقًّا لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ لِذَلِكَ، وَلَامُ الْجَوَابِ مَحْذُوفٌ تَخْفِيفًا لِاسْتِطَالَةِ الْقَسَمِ، وَقَدْ مَثَّلُوا لِحَذْفِ اللَّامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ إِلَى قَوْلِهِ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 1- 4] . وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرَّسُولَ طُغْيَانًا هُمْ يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ رَسُولَهُمْ طُغْيَانًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ مَا حَلَّ بِثَمُودَ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ كَانَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا لِيَتَدَبَّرُوا أَوْ لِتَنْزِيلِ عِلْمِ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ الْإِنْكَارِ لِعَدَمِ جَرْيِ أَمْرِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قيل: أقسم ليصيبكم عَذَابٌ كَمَا أَصَابَ ثَمُودَ، وَلَقَدْ أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ عَذَابُ السَّيْفِ بِأَيْدِي الَّذِينَ عَادَوْهُمْ وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ، وَذَلِكَ أَقْسَى عَلَيْهِمْ وَأَنْكَى. فَمَفْعُولُ كَذَّبَتْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَالتَّقْدِيرُ: كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ وَرَسُولِهِمْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وباء بِطَغْواها للسبية، أَيْ كَانَتْ طَغْوَاهَا سَبَبَ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ. وَالطَّغْوَى: اسْمُ مَصْدَرٍ يُقَالُ: طَغَا طَغْوًا وَطُغْيَانًا، وَالطُّغْيَانُ: فَرْطُ الْكِبْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَنْظِيرِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِثَمُودَ فِي أَنَّ سَبَبَ تَكْذِيبِهِمْ هُوَ

الطُّغْيَانُ وَالتَّكَبُّرُ عَنِ اتِّبَاعِ مَنْ لَا يَرَوْنَ لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وإِذِ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي يَتَعَلَّقُ بِ (طَغْوَاهَا) لِأَنَّ وَقْتَ انْبِعَاثِ أَشْقَاهَا لِعَقْرِ النَّاقَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي بَدَتْ فِيهِ شِدَّةُ طَغْوَاهَا فَبَعَثُوا أَشْقَاهُمْ لِعَقْرِ النَّاقَةِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُمْ آيَةً وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْجُرْأَةِ. وانْبَعَثَ: مُطَاوِعُ بَعَثَ، فَالْمَعْنَى: إِذْ بَعَثُوا أَشْقَاهُمْ فَانْبَعَثَ وَانْتَدَبَ لِذَلِكَ. وإِذِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ: انْبَعَثَ أَشْقاها وَقُدِّمَ ذِكْرُ هَذَا الظَّرْفِ عَنْ مَوْقِعِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ لِأَنَّ انْبِعَاثَ أَشْقَاهَا لِعَقْرِ النَّاقَةِ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ طَغْوَاهُمْ فَهُوَ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالتَّكْذِيبِ الْمُسَبَّبِ عَنِ الطَّغْوَى فَفِي تَقْدِيمِهِ قَضَاءٌ لِحَقِّ هَذَا الِاتِّصَالِ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ انْبِعَاثَ أَشْقَاهُمْ لِعَقْرِ النَّاقَةِ كَانَ عَنْ إِغْرَاءٍ مِنْهُمْ إِيَّاهُ، وَلَا يَفُوتُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ، وَيُسْتَفَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: فَعَقَرُوها وأَشْقاها: أَشَدُّهَا شِقْوَةً، وَعُنِيَ بِهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَمَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ قُدَارَ (بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمِلَةِ) بْنَ سَالِفٍ، وَزِيَادَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي الشَّقَاوَةِ بِأَنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ الْجَرِيمَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ وَإِغْرَاءٍ. وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَاطِفَةٌ عَلَى كَذَّبَتْ فَتُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَدَّاهُمْ بِآيَةِ النَّاقَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهَا بِسوء وَمن مَنعهم شُرْبَهَا فِي نَوْبَتِهَا مِنَ السُّقْيَا، وَعُطِفَ عَلَى فَكَذَّبُوهُ، أَيْ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ فَعَقَرُوهَا بِالتَّكْذِيبِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ مَرَّةٍ غَيْرَ التَّكْذِيبِ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ آيَةَ النَّاقَةِ أُرْسِلَتْ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوا وَهُوَ الشَّأْنُ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْمُجَرَّدِ وَهِيَ تُفِيدُ عَطْفَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَة: 36] فَإِنَّ إِزْلَالَهُمَا إِبْعَادُهُمَا وَهُوَ يَحْصُلُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ لَا قَبْلُهُ. وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الْأَعْرَاف: 4] ،

فَيَكُونُ الْمَعْنَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا. ثُمَّ فُصِّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَعَقَرُوها، وَالْعَقْرُ عِنْدَ انْبِعَاثِ أَشْقَاهَا، وَعَلَيْهِ فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى اعْتِبَارِ الظَّرْفِ وَهُوَ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ. وَأُعِيدَتْ عَلَيْهِمْ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ جَمْعٌ وَإِنْ كَانَتِ الضَّمَائِرُ قَبْلَهُ مُرَاعًى فِيهَا أَنَّ ثَمُودَ اسْمُ قَبِيلَةٍ. وَانْتَصَبَ ناقَةَ اللَّهِ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ: التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يُؤْذُوهَا، فَالْكَلَامُ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ: أَحْوَالُهَا. وَإِضَافَةُ ناقَةَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّهَا آيَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَنَّ خُرُوجَهَا لَهُمْ كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ. وَالسُّقْيَا: اسْمُ مَصْدَرِ سَقَى، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى التَّحْذِيرِ، أَيِ احْذَرُوا سَقْيَهَا، أَيِ احْذَرُوا غَصْبَ سَقْيِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ أُطْلِقَ السُّقْيَا عَلَى الْمَاءِ الَّذِي تُسْقَى مِنْهُ إِطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ فَيَرْجِعُ إِلَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ: حَالَةٌ تُعْرَفُ مِنَ الْمَقَامِ، فَإِنَّ مَادَّةَ سُقْيَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَسْقُوا إِبِلَهُمْ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي فِي يَوْمِ نَوْبَتِهَا. وَالتَّكْذِيبُ الْمُعَقَّبُ بِهِ تَحْذِيرُهُ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: ناقَةَ اللَّهِ، تَكْذِيبٌ ثَانٍ وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّحْذِيرُ مِنَ الْوَعِيدِ. وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ إِنْ لَمْ يَحْذَرُوا الِاعْتِدَاءَ عَلَى تِلْكَ النَّاقَةِ، وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [73] فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ اسْتَقَامَ التَّعْبِيرُ عَنْ مُقَابَلَةِ التَّحْذِيرِ بِالتَّكْذِيبِ مَعَ أَنَّ التَّحْذِيرَ إِنْشَاءٌ، فَالتَّكْذِيبُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ. وَالْعَقْرُ: جَرْحُ الْبَعِيرِ فِي يَدَيْهِ لِيَبْرُكَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْأَلَمِ فَيُنْحَرَ فِي لَبَّتِهِ، فَالْعَقْرُ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنِ النَّحْرِ لِتَلَازُمِهِمَا.

فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها 15 أَيْ صَاحَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ صَيْحَةَ غَضَبٍ. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الدَّمْدَمَةِ صَوْتُ الصَّاعِقَةِ وَالرَّجْفَةِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: 73] ، وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الصَّيْحَةِ وَكَيْفِيَّاتِهَا. فَوَزْنُ دَمْدَمَ فَعْلَلَ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ، يُقَالُ: دَمَّمَ عَلَيْهِ الْقَبْرَ، إِذَا أَطْبَقَهُ وَدَمْدَمَ مُكَرَّرُ دَمَّمَ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ كَبْكَبَ، وَعَلَيْهِ فوزن دمدم فعلل. وَفُرِّعَ عَلَى «دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ» فَسَوَّاها أَيْ فَاسْتَوَوْا فِي إِصَابَتِهَا لَهُمْ، فَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى الدَّمْدَمَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ «دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ» . وَمَنْ فَسَّرُوا «دَمْدَمَ» بِمَعْنَى: أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ قَالُوا مَعْنَى «سَوَّاهَا» : جَعَلَ الْأَرْضَ مُسْتَوِيَةً عَلَيْهِمْ لَا تَظْهَرُ فِيهَا أَجْسَادُهُمْ وَلَا بِلَادُهُمْ، وَجَعَلُوا ضَمِيرَ الْمُؤَنَّثِ عَائِدًا إِلَى الْأَرْضِ الْمَفْهُومَةِ مَنْ فِعْلِ «دَمْدَمَ» فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النِّسَاء: 42] . وَبَيْنَ فَسَوَّاها هُنَا وَقَوْلِهِ: وَما سَوَّاها [الشَّمْس: 7] قَبْلَهُ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ. وَالْعُقْبَى: مَا يَحْصُلُ عَقِبَ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ مِنْ تَبِعَةٍ لِفَاعِلِهِ أَوْ مَثُوبَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ عِقَابًا وَغَلَبَةً وَكَانَ الْعُرْفُ أَنَّ الْمَغْلُوبَ يُكَنَّى فِي نَفْسِهِ الْأَخْذُ بِالثَّأْرِ مِنْ غَالِبِهِ فَلَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ حَتَّى يَثْأَرَ لِنَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الثَّارُ الْمُنِيمُ، أَيِ الَّذِي يُزِيلُ النَّوْمَ عَنْ صَاحِبِهِ، فَكَانَ الَّذِي يَغْلِبُ غَيْرَهُ يَتَّقِي حَذَرًا مِنْ أَنْ يَتَمَكَّنَ مَغْلُوبُهُ مِنَ الثَّأْرِ، أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مَغْلُوبُهُ عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ مِنْهُ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ اللَّهِ مِنْ عِقَابِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِمْهَالٌ لَهُمْ وَلَيْسَ عَنْ عجز فجملة وَلا يَخافُ عُقْباها تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِالْخِتَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون قَوْله: وَلا يَخافُ عُقْباها تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي الِاسْتِئْصَالِ بِحَالِ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَنْ يَثْأَرُ لَهُ فَيَكُونُ الْمَثَلُ كِنَايَةً عَنْ هَلَاكِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا بِفَاءِ الْعَطْفِ تَفْرِيعًا عَلَى فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ مَكْتُوبٌ بِالْفَاءِ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ ... وَمَعْنَى التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَفْرِيعُ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ خَوْفِ اللَّهِ مِنْهُمْ مَعَ قُوَّتِهِمْ لِيَرْتَدِعَ بِهَذَا الْعِلْمِ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ الْعَشَرَةِ: وَلا يَخافُ عُقْباها بِوَاوِ الْعَطْفِ أَوِ الْحَالِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ قُرَّائِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ: أَخْرَجَ لَنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حِينَ كَتَبَ الْمَصَاحِفَ وَفِيهِ وَلا يَخافُ بِالْوَاوِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ بِالْوَاوِ وَلَكنهُمْ لم يقرأوا بِذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ رِوَايَتَهُمْ.

92- سورة الليل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 92- سُورَةُ اللَّيْلِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ وَبَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ اللَّيْلِ» بِدُونِ وَاوٍ، وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ وَاللَّيْلِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ «سُورَةَ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْمَهْدَوِيِّ أَنَّهُ قيل: إِنَّهَا مَدِينَة، وَقيل: بَعْضُهَا مَدَنِيٌّ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى [اللَّيْل: 5] إِذْ رُوِيَ: «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيِّ فِي نَخْلَةٍ كَانَ يَأْكُلُ أَيْتَامٌ مِنْ ثَمَرِهَا وَكَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ثَمَرِهَا فَاشْتَرَاهَا أَبُو الدَّحْدَاحِ بِنَخِيلٍ وَجَعَلَهَا لَهُمْ» وَسَيَأْتِي. وَعُدَّتِ التَّاسِعَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَعْلَى وَقَبْلَ سُورَةِ الْفَجْرِ. وَعَدَدُ آيها عشرُون. أغراضها احْتَوَتْ عَلَى بَيَانِ شَرَفِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَضَائِلِ أَعْمَالِهِمْ وَمَذَمَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَمَسَاوِيهِمْ وَجَزَاءِ كُلٍّ. وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى الْخَيْرِ فَهُوَ يَجْزِي الْمُهْتَدِينَ بِخَيْرِ الْحَيَاتَيْنِ وَالضَّالِّينَ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّذْكِيرِ بِاللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ فَيَنْتَفِعُ مَنْ يَخْشَى فَيُفْلِحُ

[سورة الليل (92) : الآيات 1 إلى 4]

وَيَصْدِفُ عَنِ الذِّكْرَى مَنْ كَانَ شَقِيًّا فَيَكُونُ جَزَاؤُهُ النَّارَ الْكُبْرَى وَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ صَدَّهُمْ عَنِ التَّذَكُّرِ إِيثَارُ حُبِّ مَا هُمْ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى دَلَائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَدِيعِ صُنْعِهِ. [1- 4] [سُورَة اللَّيْل (92) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْقَسَمِ جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ السُّورَتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ، وَغَرَضُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمُنَاسَبَةُ الْمُقْسَمِ بِهِ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَنَّ سَعْيَ النَّاسِ مِنْهُ خَيْرٌ وَمِنْهُ شَرٌّ وَهُمَا يُمَاثِلَانِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَأَنَّ سَعْيَ النَّاسِ يَنْبَثِقُ عَنْ نَتَائِجَ مِنْهَا النَّافِعُ وَمِنْهَا الضَّارُّ كَمَا يُنْتِجُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ذُرِّيَّةً صَالِحَةً وَغَيْرَ صَالِحَةٍ. وَفِي الْقسم بِاللَّيْلِ وبالنهار التَّنْبِيهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهِمَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حِكْمَةِ نِظَامِ اللَّهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَبَدِيعِ قُدْرَتِهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَالَةِ غِشْيَانِهِ الْجَانِبَ الَّذِي يَغْشَاهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَغْشَى فِيهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَتَعُمُّهَا ظُلْمَتُهُ فَلَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى أَحْوَالِهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِ النَّهَارِ حَالَةُ تَجْلِيَتِهِ عَنِ الْمَوْجُودَاتِ وَظُهُورِهِ عَلَى الْأَرْضِ كَذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْغِشْيَانِ وَالتَّجَلِّي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فِي سُورَةِ الشَّمْسِ [3، 4] . وَاخْتِيرَ الْقَسَمُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلْمَقَامِ لِأَنَّ غَرَضَ السُّورَةِ بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ ذِكْرِ النَّهَارِ عَكْسَ مَا فِي سُورَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الشَّمْسِ بِمُدَّةٍ وَهِيَ سَادِسَةُ السُّوَرِ وَأَيَّامَئِذٍ كَانَ الْكُفْرُ مُخَيِّمًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ أَخَذَ فِي التَّجَلِّي فَنَاسَبَ تِلْكَ الْحَالة بِالْإِشَارَةِ إِلَى تَمْثِيلِهَا بِحَالَةِ اللَّيْلِ حِينَ يَعْقُبُهُ ظُهُورُ النَّهَارِ، وَيَتَّضِحُ هَذَا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِلَى قَوْلِهِ: إِذا تَرَدَّى [اللَّيْل: 4- 11] .

وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِجْمَالٌ يُفِيدُ التَّشْوِيقَ إِلَى تَفْصِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى [اللَّيْل: 5] الْآيَةَ لِيَتَمَكَّنَ تَفْصِيلُهُ فِي الذِّهْنِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَغْشى لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِغِشْيَانِهِ كُلَّ مَا تَغْشَاهُ ظُلْمَتُهُ. وَأُسْنِدَ إِلَى النَّهَارِ التَّجَلِّي مَدْحًا لَهُ بِالِاسْتِنَارَةِ الَّتِي يَرَاهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيُحِسُّ بِهَا حَتَّى الْبُصَرَاءُ. وَالتَّجَلِّي: الْوُضُوحُ، وَتَجَلِّي النَّهَارِ: وُضُوحُ ضِيَائِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: 1] وَقَوله: وَالضُّحى [الضُّحَى: 1] . وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ كَانَتْ غَالِبَةً لِضَوْءِ النَّهَارِ وَأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُهَا وَالظُّلْمَةُ هِيَ أَصْلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَمِيعِ الْعَوَالِمِ الْمُرْتَبِطَةِ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَإِنَّمَا أَضَاءَتْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ الشَّمْسَ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ التَّارِيخُ فِي الْبَدْءِ بِاللَّيَالِي ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّارِيخُ بِالْأَيَّامِ. وَالْقَوْلُ فِي تَقْيِيدِ اللَّيْلِ بِالظَّرْفِ وَتَقْيِيدِ النَّهَارِ بِمِثْلِهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فِي السُّورَة السَّابِقَة [الشَّمْس: 3، 4] . وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مَصْدَرِيَّةٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَهُوَ خَلْقُ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّنَاسُلِ. وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى: صِنْفَا أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ. وَالْمُرَادُ: خُصُوصُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَتَكَوُّنِهِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] لِأَنَّهُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْأَرْفَعُ فِي عَالَمِ الْمَادِّيَّاتِ وَهُوَ الَّذِي يُدْرِكُ الْمُخَاطَبُونَ أَكْثَرَ دَقَائِقِهِ لِتَكَرُّرِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِخِلَافِ تَكَوُّنِ نَسْلِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُدْرِكُ بَعْضَ أَحْوَالِهِ وَلَا يُحْصِي كَثِيرًا مِنْهَا. وَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الْخَلْقُ الْعَجِيبُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مَعَ خُرُوجِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَتَوَقَّفِ التَّنَاسُلِ عَلَى تَزَاوُجِهِمَا، فَالْقَسَمُ بِتَعَلُّقٍ مِنْ تَعَلُّقِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ قِسْمٌ مِنَ الصِّفَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي ثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا

اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أُصُولِ الدِّينِ فِي عَدِّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ مِنَ الصِّفَاتِ فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِالْقِدَمِ عِنْدَ الْمَاتْرِيدِيِّ، أَوْ جَعْلِهَا مِنْ تَعَلُّقِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ آيِلٌ إِلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ. وَقَدْ كَانَ الْقَسَمُ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ بِتَسْوِيَةِ النَّفْسِ، أَيْ خَلْقِ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْقَسَمُ هُنَا فَبِخَلْقِ جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَاخْتِلَافِ صِنْفَيْهِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ قَوْلُهُ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [اللَّيْل: 11] . وَالسَّعْيُ حَقِيقَتُهُ: الْمَشْيُ الْقَوِيُّ الْحَثِيثُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْعَمَلِ وَالْكَدِّ. وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى مِثْلُ قَتِيلٍ وَقَتْلَى، مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّتِّ وَهُوَ التَّفَرُّقُ الشَّدِيدُ يُقَالُ: شَتَّ جَمْعُهُمْ، إِذَا تَفَرَّقُوا، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا التَّنَوُّعُ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَحْوَالِ كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُلِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمُتَخَالِفَةِ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ يَلْزَمُهُ الِاخْتِلَافُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ (يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ) الشَّامَ فَسَمِعَ بِنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَتَانَا فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ؟ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: «وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى وَالنَّهَار إِذا تَجَلَّى والذَّكَرَ وَالْأُنْثَى» قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا» . وَسَمَّاهَا فِي «الْكَشَّافِ» : قِرَاءَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ أَقْرَأَهَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَيَّامَ كَانَ الْقُرْآن مرخّصا فِيهِ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى بَعْضِ اخْتِلَافٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ التَّرْخِيصُ بِمَا قَرَأَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الليل (92) : الآيات 5 إلى 11]

[سُورَة اللَّيْل (92) : الْآيَات 5 إِلَى 11] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) فَأَمَّا تَفْرِيعٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [اللَّيْل: 4] فَحَرْفُ (أَمَّا) يُفِيدُ الشَّرْطَ وَالتَّفْصِيلَ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَدَاةَ شَرْطٍ وَفِعْلَ شَرْطٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، وَالتَّفْصِيلُ: التَّفْكِيكُ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ اشْتَرَكَتْ آحَادُهُ فِي حَالَةٍ وَانْفَرَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِحَالَةٍ هِيَ الَّتِي يُعْتَنَى بِتَمْيِيزِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ [15] . وَالْمُحْتَاجُ لِلتَّفْصِيلِ هُنَا هُوَ السَّعْيُ الْمَذْكُورُ، وَلَكِنْ جُعِلَ التَّفْصِيلُ بِبَيَانِ السَّاعِينَ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى لِأَنَّ الْمُهِمَّ هُوَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ السَّاعِينَ وَيُلَازِمُهُمُ السَّعْيُ فَإِيقَاعُهُمْ فِي التَّفْصِيلِ بِحَسَبِ مَسَاعِيهِمْ يُسَاوِي إِيقَاعَ الْمَسَاعِي فِي التَّفْصِيلِ، وَهَذَا تَفَنُّنٌ مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ يَحْصُلُ مِنْهُ مَعْنَيَانِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 19] الْآيَةَ، أَيْ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. وَانْحَصَرَ تَفْصِيلُ «شَتَّى» فِي فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُيَسَّرٍ لِلْيُسْرَى وفريق مُيَسَّرٍ لِلْعُسْرَى، لِأَنَّ الْحَالَيْنِ هُمَا الْمُهِمُّ فِي مَقَامِ الْحَثِّ عَلَى الْخَيْرِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِمَا مُخْتَلِفُ الْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ [6- 8] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْصِيلُ «شَتَّى» هُمْ مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، وَمَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى وَذَلِكَ عَدَدٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِشَتَّى.

وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَعْطى إِلَخْ وَقَوْلِهِ: مَنْ بَخِلَ إِلَخْ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ وَيَتَّقِي وَيُصَدِّقُ بِالْحُسْنَى. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَعْتَقَهُ لِيُنْجِيَهُ مِنْ تَعْذِيبِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَذْكُرُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عِوَضَ أُمَيَّةَ بْنِ خلف، وهم وَهَمٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ مَعَ رَجُلٍ مُنَافِقٍ سَتَأْتِي. وَهَذَا الْأَخير متقض أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسَبَبُ النُّزُول لَا يخصص الْعُمُومَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَعْطى لِأَنَّ فِعْلَ الْإِعْطَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِعْطَاءُ الْمَالِ بِدُونِ عِوَضٍ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِاشْتِهَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ (وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْمَالُ الْمَوْهُوبُ عَطَاءً) ، وَالْمَقْصُودُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ اتَّقى لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُقَدَّرَ اتَّقَى اللَّهَ. وَهَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ مِنْ خِلَالِ الْإِيمَانِ، فَالْمَعْنَى: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 43- 44] ، أَيْ لَمْ نَكُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُ بَخِلَ لَمْ يُذَكَرْ مُتَعَلَّقُهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبُخْلُ بِالْمَالِ. واسْتَغْنى جُعِلَ مُقَابِلًا لِ اتَّقى فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ لِأَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْكُفْرِ الْمُعْرِضَ عَنِ الدَّعْوَةِ يَعُدُّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنِ اللَّهِ مُكْتَفِيًا بِوَلَايَةِ الْأَصْنَامِ وَقَوْمِهِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مثل سين اسْتِحْبَاب بِمَعْنَى أَجَابَ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ طَلَبِ الْغِنَى بِالْبُخْلِ بِالْمَالِ، فَتَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، وَهَذِهِ الْخِلَالُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ فَهِيَ بِالْأَصَالَةِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ، وَتَأْنِيثُهَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَوْصُوفَهَا الْمُقَدَّرَ يُعْتَبَرُ مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ وَيَحْتَمِلُ أُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ الْمَثُوبَةِ أَوِ النَّصْرِ أَوِ الْعِدَةِ أَوِ الْعَاقِبَةِ. وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فَقِيلَ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: كَلِمَةُ

الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: الزَّكَاةُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالتَّصْدِيقُ بِهَا الِاعْتِرَافُ بِوُقُوعِهَا وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِهَا. وَحَاصِلُ الِاحْتِمَالَاتِ يَحُومُ حَوْلَ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللَّهِ بِمَا هُوَ حَسَنٌ مِنْ مَثُوبَةٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ إِخْلَافِ مَا تَلِفَ فَيَرْجِعُ هَذَا التَّصْدِيقُ إِلَى الْإِيمَانِ. وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفَوْزُ بِالْحُسْنَى. وَلِذَلِكَ قُوبِلَ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ شَيْءٍ يَسِيرَ الْحُصُولِ، وَمَفْعُولُ فِعْلِ التَّيْسِيرِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُجْعَلُ يَسِيرًا، أَيْ غَيْرَ شَدِيدٍ، وَالْمَجْرُورُ بِاللَّامِ بَعْدَهُ هُوَ الَّذِي يُسَهَّلُ الشَّيْءُ الصَّعْبُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِسُهُولَةِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: 17] . وَالْيُسْرَى فِي قَوْلِهِ: لِلْيُسْرى هِيَ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَتَأْنِيثُهَا: إِمَّا بِتَأْوِيلِ الْحَالَةِ، أَيِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا تَشُقُّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ النَّعِيمِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْمَكَانَةِ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُجَاهِدٍ. وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَنْدَرِجُ فِي مَعَانِي النَّافِعِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ، أَيِ الْمُلَائِمُ. وَالْعُسْرَى: إِمَّا الْحَالَةُ وَهِيَ حَالَةُ الْعسر والشدة، أَي الْعَذَاب، وَإِمَّا مَكَانَتُهُ وَهِيَ جَهَنَّمُ، لِأَنَّهَا مَكَانُ الْعُسْرِ وَالشَّدَائِدِ عَلَى أَهْلِهَا قَالَ تَعَالَى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 9، 10] ، فَمَعْنَى: «نُيَسِّرُهُ» نُدَرِّجُهُ فِي عَمَلَيِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَالْأَعْمَالُ الْيُسْرَى هِيَ الصَّالِحَةُ، وُصِفَتْ بِالْيُسْرَى بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهَا لِصَاحِبِهَا، وَتَكُونُ الْعُسْرَى الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَتَأْنِيثُهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا صِفَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ مِنَ الْآنَ إِلَى آخِرِ الْحَيَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: 98] . وَحَرْفُ (أَلْ) فِي «الْيُسْرَى» وَفِي «الْعُسْرَى» لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي.

وَإِذْ قَدْ جَاءَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَكْسِ الْمُتَبَادَرِ إِذْ جُعِلَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي «نُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى» الْعَائِدُ إِلَى مَنْ أَعْطى وَاتَّقى هُوَ الْمُيَسَّرَ، وَجُعِلَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي «نُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى» الْعَائِدُ إِلَى مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى هُوَ الْمُيَسَّرَ، أَيِ الَّذِي صَارَ الْفِعْلُ صَعْبُ الْحُصُولِ حَاصِلًا لَهُ، وَإِذْ وَقَعَ الْمَجْرُورَانِ بِاللَّامِ «الْيُسْرَى» وَ «الْعُسْرَى» ، وَهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بسهولة من أَعلَى أَوْ مَنْ بَخِلَ، تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ بِإِحْدَى طريقتين: الأولى: إِيفَاء فِعْلِ «نُيَسِّرُ» عَلَى حَقِيقَتِهِ وَجَعْلِ الْكَلَامِ جَارِيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِطَرِيقِ الْقَلْبِ بِأَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْكَلَامِ: فَسَنُيَسِّرُ الْيُسْرَى لَهُ وَسَنُيَسِّرُ الْعُسْرَى لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ مُقْتَضٍ لِلْقَلْبِ، فَيُصَارُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَضِيَ إِفَادَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا التَّيْسِيرِ حَتَّى جُعِلَ الْمُيَسَّرُ مُيَسَّرًا لَهُ وَالْمُيَسَّرُ لَهُ مُيَسَّرًا عَلَى نَحْوِ مَا وَجَّهُوا بِهِ قَوْلَ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّيْسِيرُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي التَّهْيِئَةِ وَالْإِعْدَادِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ بَيْنَ إِعْدَادِ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ وَتَيَسُّرِهِ لَهُ، وَتَكُونُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِلْيُسْرى ولِلْعُسْرى لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ نُيَسِّرُهُ لِأَجْلِ الْيُسْرَى أَوْ لِأَجْلِ الْعُسْرَى، فَالْمُرَادُ بِالْيُسْرَى الْجَنَّةُ وَبِالْعُسْرَى جَهَنَّمُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَصْفَانِ صَارَا عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْجَنَّةِ وَعَلَى النَّارِ، وَالتَّهْيِئَةُ لَا تَكُونُ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَذَاتِ النَّارِ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ بَعْدَ اللَّامِ يُنَاسِبُ التَّيْسِيرَ فَيُقَدَّرُ لِدُخُولِ الْيُسْرَى وَلِدُخُولِ الْعُسْرَى، أَي سنعجّل بِهِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: سنجعل دُخُول هَذِه الْجَنَّةَ سَرِيعًا وَدُخُولَ الْآخَرِ النَّارَ سَرِيعًا، بِشَبَهِ الْمُيَسَّرِ مِنْ صُعُوبَةٍ لِأَنَّ شَأْنَ الصَّعْبِ الْإِبْطَاءُ وَشَأْنَ السَّهْلِ السُّرْعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] ، أَيْ سَرِيعٌ عَاجِلٌ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى مُشَاكَلَةً بُنِيَتْ عَلَى اسْتِعَارَةٍ تَهَكُّمِيَّةٍ قَرِينَتُهَا قَوْلُهُ: «الْعُسْرَى» . وَالَّذِي يَدْعُو إِلَى هَذَا أَنَّ فِعْلَ «نُيَسِّرُ» نَصَبَ ضَمِيرَ مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ، وَضَمِيرَ مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ، فَهُوَ تيسير ناشىء عَنْ حُصُولِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا مَعْنَى اتَّقى أَوْ مَعْنَى اسْتَغْنى، فَالْأَعْمَالُ سَابِقَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَالتَّيْسِيرُ مُسْتَقْبَلٌ بَعْدَ حُصُولِهَا فَهُوَ

تَيْسِيرُ مَا زَادَ عَلَى حُصُولِهَا، أَيْ تَيْسِيرُ الدَّوَامِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ يُجْعَلَ التَّيْسِيرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُجْعَلَ الْيُسْرَى وَصْفًا أَيِ الْحَالَةُ الْيُسْرَى، وَالْعُسْرَى أَيِ الْحَالَةُ غَيْرُ الْيُسْرَى. وَلَيْسَ فِي التَّرْكِيبِ قَلْبٌ، وَالتَّيْسِيرُ بِمَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أهل الشَّقَاء فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى اهـ. فَصَدْرُ الْحَدِيثِ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ» إِلَخْ مَعْنَاهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَحَدًا سَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُوَافِيَ عَلَيْهِ، أَوْ سَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يُوَافِيَ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: «وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ» جُعِلَتِ الْكِتَابَةُ تَمْثِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِلْمًا مُوَافِقًا لِمَا سَيَكُونُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ، كَالشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ إِذْ لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نَقْصًا دُونَ الْمَقُولِ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهُوَ لَا يَنْضَبِطُ. فَنَشَأَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ عَنْ فَائِدَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ النَّاسُ، وَمَعْنَى جَوَابِهِ: أَنَّ فَائِدَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ عُنْوَانٌ عَلَى الْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ. وَذُكِرَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الْعَمَل السيّء إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْجَوَابِ. وَلَيْسَ مَجَازُهُ مُمَاثِلًا لِمَا اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ عُلِّقَ بِهِ عَمَلُ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَيْسِيرًا لِلْعَمَلِ، أَيْ إِعْدَادًا وَتَهْيِئَةً لِلْأَعْمَالِ صَالِحِهَا أَوْ سَيِّئِهَا. فَالَّذِي يَرْتَبِطُ بِالْآيَةِ مِنَ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ هُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْقَبَ كَلَامَهُ بِأَنْ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الْآيَةَ لِأَنَّهُ قَرَأَهَا تَبْيِينًا وَاسْتِدْلَالًا لِكَلَامِهِ فَكَانَ لِلْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِالْكَلَامِ النَّبَوِيِّ وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ

فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتُ أَن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى تَيَسُّرًا لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِ السَّعَادَةِ أَوْ عَمَلِ الشَّقَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ أَصْلًا لِلسَّعَادَةِ كَالْإِيمَانِ أَوْ لِلشَّقَاوَةِ كَالْكُفْرِ، أم كَانَ للْعَمَل مِمَّا يَزِيدُ السَّعَادَةَ وَيَنْقُصُ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَذَلِكَ بِمِقْدَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ مَعْنَيَيِ التَّيْسِيرِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ جِنْسِهِ فَيَصْلُحُ دَلِيلًا لِثُبُوتِ التَّيْسِيرِ مِنْ أَصْلِهِ. أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قَوْلِهِ: «اعْمَلُوا» لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ عَمَلًا وَذَكَرَتْ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى وَتَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ عَلَامَةُ التَّيْسِيرِ وَتَكُونُ الْيُسْرَى مَعْنِيًّا بِهَا السَّعَادَةُ وَالْعُسْرَى مَعْنِيًّا بهَا الشقاوة، وَمَا صدق السَّعَادَةِ الْفَوْز بِالْجنَّةِ، وَمَا صدق الشَّقَاوَةِ الْهُوِيُّ فِي النَّارِ. وَإِذْ كَانَ الْوَعْدُ بِتَيْسِيرِ الْيُسْرَى لِصَاحِبِ تِلْكَ الصِّلَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى وَالتَّصْدِيقِ بِالْحُسْنَى كَانَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّيْسِيرَ مُسَبَّبٌ عَنْ تِلْكَ الصِّلَاتِ، أَيْ جَزَاءٌ عَنْ فِعْلِهَا: فَالْمُتَيَسِّرُ: تَيْسِيرُ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، وَتَكُونُ الْيُسْرَى صِفَةً لِلْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالْأَصْلُ: مُسْتَيْسِرٌ لَهُ أَعْمَالُهُ، وَعُدِلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى وَصْفِ الْيُسْرَى لِلثَّنَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا مُيَسَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى [8] . وَخُلَاصَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَبَيْنَ تَعَلُّقِ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِشَرَائِعِهِ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ إِلَى خَاتِمَةِ كُلِّ أَحَدٍ وَمُوَافَاتِهِ هُوَ عُنْوَانٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، وَيَلْتَقِي الْمَهْيَعَانِ فِي أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ وَسِيلَةُ الْحُصُولِ عَلَى الْجَنَّةِ أَوِ الْوُقُوعِ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِعْطَاءُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى مَعَ شُمُولِ اتَّقى لِمُفَادِهِ، وَخُصَّ الْبُخْلُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى مَعَ شُمُولِ اسْتَغْنى لَهُ، لِتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِعْطَاءِ، فَالْإِعْطَاءُ وَالتَّقْوَى شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْحُسْنَى وَضِدُّ الثَّلَاثَةِ مِنْ شِعَارِ الْمُشْرِكِينَ.

وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ، وَمُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، أَرْبَعُ مَرَّاتٍ بَيْنَ أَعْطى وبَخِلَ، وَبَيْنَ اتَّقى، واسْتَغْنى، وَبَيْنَ وصَدَّقَ وكَذَّبَ وَبَيْنَ «الْيُسْرَى» وَ «الْعُسْرَى» . وَجُمْلَةُ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أَيْ سَنُعَجِّلُ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ. فَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَرَدَّى فِيهَا. وَالتَّرَدِّي: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، يَعْنِي: لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَوْفَ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا سَقَطَ فِي جَهَنَّمَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَخْلَةٌ مَائِلَةٌ فِي دَارِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ذِي عِيَالٍ فَإِذَا سَقَطَ مِنْهَا ثَمَرٌ أَكَلَهُ صِبْيَةٌ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ فَكَانَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ يَنْزِعُ مِنْ أَيْدِيهِمُ الثَّمَرَةَ، فَشَكَا الْمُسْلِمُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ أَنْ يَتْرُكَهَا لَهُمْ وَلَهُ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ (¬1) فَاشْتَرَى تِلْكَ النَّخْلَةَ مِنْ صَاحِبِهَا بِحَائِطٍ فِيهِ أَرْبَعُونَ نَخْلَةً وَجَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِهَا مِنِّي بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَأَعْطَاهَا الرَّجُلَ صَاحِبَ الصِّبْيَةِ، قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْل: 1] إِلَى قَوْلِهِ: لِلْعُسْرى وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمِنْ أَجْلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ جَمَاعَةٌ: السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَوْلُهُمْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كَذَا قَوْلَهُ كَذَا، أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ¬

(¬1) أَبُو الدحداح: ثَابت بن الدحداح البلوي، حَلِيف الْأَنْصَار، صَحَابِيّ جليل، قتل فِي وَاقعَة أحد، وَقيل: مَاتَ بعْدهَا من جرح كَانَ بِهِ حِين رَجَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَة، وَصلى عَلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَة وَهُوَ الَّذِي صَاح يَوْم أحد لما أرجف الْمُشْركُونَ بِمَوْت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا معشر الْأَنْصَار إليّ إليّ أَنا ثَابت بن الدحداح إِن كَانَ مُحَمَّد قد قتل فَإِن الله حيّ لَا يَمُوت، فَقَاتلُوا عَن دينكُمْ فَإِن الله مظهركم وناصركم.

[سورة الليل (92) : الآيات 12 إلى 13]

بِهِ أَنَّ الْقِصَّةَ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْآيَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ» وَلَمَّحَ إِلَيْهَا بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النُّحَيْلَةَ إِذْ يَمِيلُ بِهَا الْهَوَى ... كَالْعِذْقِ مَالَ عَلَى أبي الدحداح [12، 13] [سُورَة اللَّيْل (92) : الْآيَات 12 إِلَى 13] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) اسْتِئْنَافٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى إِلَى قَوْله: لِلْعُسْرى [اللَّيْل: 5- 10] ، وَذَلِكَ لِإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى مَنْ صَارَ إِلَى الْعُسْرَى بِأَنَّ اللَّهُ أَعْذَرَ إِلَيْهِ إِذْ هَدَاهُ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْخَيْرِ فَأَعْرَضَ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِاخْتِيَارِهِ اكْتِسَابَ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى يَحْصُلُ عِنْدَ مَيْلِ الْعَبْدِ إِلَى عَمَلِ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّيْسِيرَ لِلْعُسْرَى يَحْصُلُ عِنْدَ مَيْلِهِ إِلَى عَمَلِ السَّيِّئَاتِ. وَذَلِكَ الْمَيْلُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَسْبِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَمَّاهُ الْمُعْتَزِلَةُ: قُدْرَةَ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ فَسَمَّوْهُ الْجَبْرَ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ وَلَام الِابْتِدَاء يومىء إِلَى أَنَّ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجِيشُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الضَّلَالِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ السَّابِقِ مِنْ تَكْذِيبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مِنْهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] . وَحَرْفُ (عَلَى) إِذَا وَقَعَ بَيْنَ اسْمٍ وَمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ يُفِيدُ مَعْنَى اللُّزُومِ، أَيْ لَازِمٌ لَنَا هُدَى النَّاسِ، وَهَذَا الْتِزَامٌ مِنَ اللَّهِ اقْتَضَاهُ فَضْلُهُ وَحِكْمَتُهُ فَتَوَلَّى إِرْشَادَ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي هِيَ فَسَادٌ فِيمَا صَنَعَ اللَّهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَنْظِمَةِ الَّتِي أَقَامَ عَلَيْهَا فِطْرَةَ نِظَامِ الْعَالَمِ، فَهَدَى اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ خَلَقَهُ قَابِلًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ ثُمَّ عَزَّزَ ذَلِكَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا مُبَيِّنِينَ لِمَا قَدْ يَخْفَى أَمْرُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ فَسَادُهُ بِصَلَاحِهِ وَمُنَبِّهِينَ النَّاسَ لِمَا قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ سَابق مَا علموه. وَعَطْفُ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى تَتْمِيمٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالْهُدَى فَضْلٌ مِنْهُ وَإِلَّا فَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ مِلْكُهُِِ

[سورة الليل (92) : الآيات 14 إلى 21]

وَالدَّارَ الْأُولَى مِلْكُهُ بِمَا فِيهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [الْمَائِدَة: 17] فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَحْسِبُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا تَفَضَّلَ بِهِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى أَنَّ أُمُورَ الْجَزَاءِ فِي الْأُخْرَى تَجْرِي عَلَى مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ وَأَعْلَمَ بِهِ عِبَادَهُ. وَأَنَّ نِظَامَ أُمُور الدُّنْيَا وترتب مُسَبَّبَاتِهِ عَلَى أَسْبَابِهِ أَمْرٌ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِالْحِفَاظِ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ وَهَدَى، فَمَنْ فَرَّطَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحَقَّ مَا تسبب فِيهِ. [14- 21] [سُورَة اللَّيْل (92) : الْآيَات 14 إِلَى 21] فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ إِذَا كَانَ فِعْلُ: «أَنْذَرْتُكُمْ» مُسْتَعْمَلًا فِي مَاضِيهِ حَقِيقَةً وَكَانَ الْمُرَادُ الْإِنْذَارَ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى إِلَى قَوْله: تَرَدَّى [اللَّيْل: 8- 11] . وَهَذِهِ الْفَاءُ يُشْبِهُ مَعْنَاهَا مَعْنَى فَاءِ الْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ تَفْرِيعُ إِنْذَارٍ مُفَصَّلٍ عَلَى إِنْذَارٍ مُجْمَلٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فَيَكُونُ فِعْلُ «أَنْذَرْتُكُمْ» مُرَادًا بِهِ الْحَالُ وَإِنَّمَا صِيغَ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَقْرِيبِ زَمَانِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ كَمَا فِي: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلِهِمْ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا فَعَلْتَ كَذَا، أَيْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ، وَمِثْلَ مَا فِي صِيَغِ الْعُقُودِ: كَبِعْتُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [اللَّيْل: 12] وَالْمَعْنَى: هَدْيُكُمْ فَأَنْذَرْتُكُمْ إِبْلَاغًا فِي الْهُدَى. وَتَنْكِيرُ نَارًا لِلتَّهْوِيلِ، وَجُمْلَةُ تَلَظَّى نَعْتٌ. وتلظى: تَلْتَهِبُ مِنْ شِدَّةِ الِاشْتِعَالِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّظَى مَصْدَرِ: لَظِيَتِ النَّارُ كَرَضِيَتْ إِذَا الْتَهَبَتْ، وَأَصْلُ تَلَظَّى تَتَلَظَّى بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِلِاخْتِصَارِ.

وَجُمْلَةُ لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ نَارًا بَعْدَ أَنْ وُصِفَتْ. وَهَذِهِ نَارٌ خَاصَّةٌ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قَالَ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ بِالْإِرْجَاءِ فَزَعَمُوا: أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا كَافِرٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا: هَذِهِ نَارٌ مَوْصُوفَةٌ بِعَيْنِهَا لَا يَصْلَى هَذِهِ النَّارَ إِلَّا الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَلِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلُ فَمِنْهَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ اهـ. وَالْمَعْنَى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا أَنْتُمْ. وَقَدْ أُتْبِعَ الْأَشْقَى بِصِفَةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّوْا، أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ انْحَصَرَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَحَدَ فَرِيقَيْنِ: إِمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَغْشَوْنَ الْكَبَائِرَ لِأَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الْإِسْلَامِ بِشَرَاشِرِهِمْ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَخْ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ وَتَكْمِيلًا لِلْمُقَابَلَةِ. والْأَشْقَى والْأَتْقَى مُرَادٌ بِهِمَا: الشَّدِيدُ الشَّقَاءِ وَالشَّدِيدُ التَّقْوَى وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ مَالِكًا قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ عبد الْعَزِيز الْمغرب فَقَرَأَ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَلَمَّا بَلَغَ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى وَقَعَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَقْدِرْ يَتَعَدَّاهَا مِنَ الْبُكَاءِ فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى» . وَوَصْفُ الْأَشْقَى بِصِلَةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَوَصْفُ الْأَتْقَى بِصِلَةِ الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ لِلصِّلَةِ تَسَبُّبًا فِي الْحُكْمِ. وَبَيْنَ الْأَشْقَى والْأَتْقَى مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ الْمُضَارِعِ.

وَجُمْلَةُ يَتَزَكَّى حَال فِي ضَمِيرِ يُؤْتِي، وَفَائِدَةُ الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْتِي مَاله لقصد النَّفْعِ وَالزِّيَادَةِ مِنَ الثَّوَابِ تعريضا بالمشركين الَّذِي يُؤْتُونَ الْمَالَ لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْفُجُورِ. وَالتَّزَكِّي: تَكَلُّفُ الزَّكَاءِ، وَهُوَ النَّمَاءُ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْمَالُ: اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُ النَّاسِ مِنْ أَشْيَاءَ يَنْتَفِعُ بِذَاتِهَا أَوْ بِخَرَاجِهَا وَغَلَّتِهَا مِثْلَ الْأَنْعَامِ وَالْأَرْضِينَ وَالْآبَارِ الْخَاصَّةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُخْتَصِّ بِهِ أَرْبَابُهَا. وَيُطْلَقُ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَهْلِ يَثْرِبَ عَلَى النَّخِيلِ. وَلَيْسَ فِي إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ آتَى جَمِيعَ مَالِهِ. وَقَوْلُهُ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى الْآيَةَ اتَّفَقَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَقْصُودٍ بِهَذِهِ الصِّلَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَعْتَقَ بِلَالًا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلَالٍ عِنْدَهُ. وَهُوَ قَوْلٌ مِنْ بُهْتَانِهِمْ (يُعَلِّلُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ كَرَاهِيَةً لِأَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ فَعَلَ ذَلِكَ مَحَبَّةً لِلْمُسْلِمِينَ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى مُرَادًا بِهِ بَعْضُ مَنْ شَمِلَهُ عُمُومُ الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ وَهُوَ لَا يخصص للْعُمُوم وَلَكِنَّ هَذِهِ لَمَّا كَانَتْ حَالَةً غَيْرَ كَثِيرَةٍ فِي أَسْبَابِ إِيتَاءِ الْمَالِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حَالَةٌ خَاصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: 177] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَان: 9] . وعِنْدَهُ ظَرْفُ مَكَانٍ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا مَجَازًا فِي تَمَكُّنِ الْمَعْنَى مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنْهُ كَتَمَكُّنِ الْكَائِنِ فِي الْمَكَانِ الْقَرِيبِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا ... تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ ومِنْ نِعْمَةٍ اسْمُ مَا النَّافِيَةِ جُرَّ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ الَّتِي تُزَادُ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ.

وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ بِجِدٍّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْبَغْيِ. وَالْوَجْهُ مُسْتَعْمَلٌ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: 27] . وَمَعْنَى ابْتِغَاءِ الذَّات ابْتِغَاء رضَا اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يَرْضى وَعْدٌ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَهُ. وَهَذَا تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَفَادَ إِلَّا أَنَّهُ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لِقَصْدِ الْمُقَابَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى فَتَمَّمَ هُنَا بِذِكْرِ مَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ. وَحَرْفُ «سَوْفَ» لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: 98] أَيْ يَتَغَلْغَلُ رِضَاهُ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَدِيدِ. وَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وَهَذِهِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا كُلُّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الرَّاغِبُونَ. وَبِهَذِهِ السُّورَة انْتَهَت سُورَة وَسَطِ الْمُفَصَّلِ.

93- سورة الضحى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 93- سُورَةُ الضُّحَى سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ الضُّحَى» بِدُونِ وَاو. وَسُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «سُورَةَ وَالضُّحَى» بِإِثْبَات الْوَاو. وَلما يَبْلُغْنَا عَنِ الصَّحَابَةِ خَبَرٌ صَحِيحٌ فِي تَسْمِيَتِهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «دَمِيَتْ إِصْبَعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَكَى فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ (وَهِيَ) أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ) فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرَبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضُّحَى: 1- 3] . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ: «هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» . قَالَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى 3 وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ أُمِّ جَمِيلٍ لَمْ يَسْمَعْهُ جُنْدُبٌ لِأَنَّ جُنْدُبًا كَانَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ يَرْوِي عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَلَعَلَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَة فَلم يكون قَوْلُهُ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ» مُقَارِنًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ

أغراضها

«وَقَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ» . وَلَعَلَّ جُنْدُبًا رَوَى حَدِيثَيْنِ جَمَعَهُمَا ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «فِي غَارٍ» تَصْحِيفٌ، وَأَنَّ أَصْلَهَا: كُنْتُ غَازِيًا. وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ جَمَعَ حَدِيثَيْنِ. وَعُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ حَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِرَاحِ. وَعَدَدُ آيِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً. وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ فِي قصار المفصّل. أغراضها إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْوَحْيِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ. وَزَادَهُ بِشَارَةً بِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. وَأَنَّهُ سَيُعْطِيهِ رَبُّهُ مَا فِيهِ رِضَاهُ. وَذَلِكَ يَغِيظُ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِمَا حَفَّهُ بِهِ مِنْ أَلْطَافِهِ وَعِنَايَتِهِ فِي صِبَاهُ وَفِي فُتُوَّتِهِ وَفِي وَقْتِ اكْتِهَالِهِ وَأَمَرَهُ بِالشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ نَفْعٍ لِعَبِيدِهِ وَثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ. [1- 3] [سُورَة الضُّحَى (93) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ رَدًّا عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ لَمْ يَقُمِ اللَّيْلَ بِالْقُرْآنِ بِضْعَ لَيَالٍ. فَالتَّأْكِيدُ مُنْصَبٌّ عَلَى التَّعْرِيضِ الْمُعَرَّضِ بِهِ لِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ. فَالتَّأْكِيدُ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَتَرَدَّدُ فِي وُقُوعِ مَا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِ الضُّحى وَاللَّيْلِ أَنَّ الضُّحَى وَقْتُ انْبِثَاقِ نُورِ الشَّمْسِ فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى تَمْثِيلِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ قِيَامِ

النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَسْمَعُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ بُيُوتِهِمُ الْقَرِيبَةِ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَلِذَلِكَ قُيِّدَ اللَّيْلِ بِظَرْفِ إِذا سَجى فَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقْتُ قِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 2، 3] . وَالضُّحَى تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: 1] . وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَالضُّحى بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الْيَاءِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ أَلِفِهِ الْوَاوُ لِأَنَّهُمْ رَاعَوُا الْمُنَاسَبَةَ مَعَ أَكْثَرِ الْكَلِمَاتِ الْمَخْتُومَةِ بِأَلِفٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مُنْقَلِبَةُ الْأَلِفِ عَنِ الْيَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ تَجْرِي فِيهَا الْإِمَالَةُ فِي اللُّغَاتِ الَّتِي تُمِيلُ الْأَلِفَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تُمَالَ إِذَا وَقَعَتْ مَعَ أَلِفٍ تُمَالُ لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ كَافِيَتِهِ» . وَيُقَالُ: سَجَا اللَّيْلُ سجوا بِفَتْح فَسُكُون، وسجوا بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، إِذَا امْتَدَّ وَطَالَ مُدَّةُ ظَلَامِهِ مِثْلَ سَجْوِ الْمَرْءِ بِالْغِطَاءِ، إِذَا غُطِّيَ بِهِ جَمِيعُ جَسَدِهِ وَهُوَ وَاوِيٌّ وَرُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الْيَاءِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي كِتَابَةِ الضُّحى وَجُمْلَةُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ إِلَخْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جُمْلَةً مَنْفِيَّةً لَمْ تَقْتَرِنْ بِاللَّامِ. وَالتَّوْدِيعُ: تَحِيَّةُ مَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ. وَاسْتُعِيرَ فِي الْآيَةِ لِلْمُفَارَقَةِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ تَشْبِيهًا بِفِرَاقِ الْمُسَافِرِ فِي انْقِطَاعِ الصِّلَةِ حَيْثُ شَبَّهَ انْقِطَاعَ صِلَةِ الْكَلَامِ بِانْقِطَاعِ صِلَةِ الْإِقَامَةِ، وَالْقَرِينَةُ إِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالنَّاسِ اتِّصَالًا مَعْهُودًا. وَهَذَا نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيَ. وَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ: وَما قَلى لِلْإِتْيَانِ عَلَى إِبْطَالِ مَقَالَتَيِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَدَّعَهُ رَبُّهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَلَاهُ رَبُّهُ، يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ. وَجُمْلَةُ: وَما قَلى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ وَلَهَا حُكْمُهَا.

وَالْقَلْيُ (بِفَتْحِ الْقَافِ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ) وَالْقِلَى (بِكَسْرِ الْقَافِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ) : الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، وَسَبَبُ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ فَتْرَةٍ ثَانِيَةٍ فَتَرَ فِيهَا الْوَحْيُ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الَّتِي نَزَلَتْ إِثْرَهَا سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ: «احْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ» . وَاحْتِبَاسُ الْوَحْيِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: أُولَاهُمَا: قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَوِ الْمُزَّمِّلِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ ثَلَاثٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَسْبَقِ مِنْ سُورَتَيِ الْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ، وَتِلْكَ الْفَتْرَةُ هِيَ الَّتِي خَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ، وَهِيَ الَّتِي رَأَى عَقِبَهَا جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُدَّةَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ فِي الْفَتْرَةِ الْأُولَى كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَبْدَأِ نُزُولِ الْوَحْيِ قَبْلَ أَنْ يَشِيعَ الْحَدِيثُ بَيْنَهُمْ فِيهِ وَقَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ لَيْلًا. وَثَانِيَتُهُمَا: فَتْرَةٌ بَعْدَ نُزُولِ نَحْوٍ مِنْ ثَمَانِ سُوَرٍ، أَيِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الْأُولَى فَتَكُونُ بَعْدَ تَجَمُّعِ عَشْرِ سُوَرٍ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ السُّورَةُ حَادِيَةَ عَشْرَةَ فَيَتَوَافَقُ ذَلِكَ مَعَ عَدَدِهَا فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَالِاخْتِلَافُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُضُوحِهِ لِلرُّوَاةِ، فَالَّذِي نَظُنُّهُ أَنَّ احْتِبَاسَ الْوَحْيِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ كَانَ لِمُدَّةِ نَحْوٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَأَنَّهُ مَا كَانَ إِلَّا لِلرِّفْقِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْ تَسْتَجِمَّ نَفْسُهُ وَتَعْتَادَ قُوَّتُهُ تَحَمُّلَ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ إِذْ كَانَتِ الْفَتْرَةُ الْأُولَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ كَانَتِ الثَّانِيَةُ اثَّنَى عَشَرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا، فَيَكُونُ نُزُولُ سُورَةِ الضُّحَى هُوَ النُّزُولَ الثَّالِثَ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ يَحْصُلُ الِارْتِيَاضُ فِي الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْأَمْرُ بِتَكَرُّرِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ ثَلَاثًا، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَسَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ قَلى لِدَلَالَةِ وَدَّعَكَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة الضحى (93) : آية 4]

وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ [الْأَحْزَاب: 35] وَهُوَ إِيجَازٌ لَفْظِيٌّ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (فَآوَى) ، (فَهَدَى) ، (فَأَغْنَى) . [4] [سُورَة الضُّحَى (93) : آيَة 4] وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) عَطْفٌ عَلَى جملَة: وَالضُّحى [الضُّحَى: 1] فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ بَلْ هِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ فَلَمَّا نُفِيَ الْقِلَى بُشِّرَ بِأَنَّ آخِرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ أُولَاهُ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ أَحْسَنُ مِنْ بَدْأَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَاتِمٌ لَهُ بِأَفْضَل مِمَّا قد إِعْطَاء فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة. وَمَا فِي تَعْرِيفِ «الْآخِرَةَ» والْأُولى مِنَ التَّعْمِيمِ يَجْعَلُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ الشَّامِلِ لِاسْتِمْرَارِ الْوَحْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْآخِرَةُ: مُؤَنَّثُ الْآخِرِ، والْأُولى: مُؤَنَّثُ الْأَوَّلِ، وَغَلَبَ لَفْظُ الْآخِرَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا غَلَبَ لَفْظُ الْأُولَى عَلَى حَيَاةِ النَّاسِ الَّتِي قَبْلَ انْخِرَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ كِلَا اللَّفْظَيْنِ كِلَا مَعْنَيَيْهِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ تَبْشِيرًا لَهُ بِالْخَيْرَاتِ الْأَبَدِيَّةِ، وَيُفِيدُ أَنَّ حَالَاتِهِ تَجْرِي عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى أَحْسَنَ مِنْهَا، فَيَكُونُ تَأْنِيثُ الْوَصْفَيْنِ جَارِيًا عَلَى حَالَتَيِ التَّغْلِيبِ وَحَالَتَيِ التَّوْصِيفِ، وَيَكُونُ التَّأْنِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي لِمُرَاعَاةِ معنى الْحَالة. ويومىء ذَلِكَ إِلَى أَنَّ عَوْدَةَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَرَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْعَوْدَةِ الَّتِي سَبَقَتْ، أَيْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْهُ نُزُولُ الْوَحْيِ مِنْ بَعْدُ. فَاللَّامُ فِي «الْآخِرَةُ» والْأُولى لَامُ الْجِنْسِ، أَيْ كُلُّ آجِلِ أَمْرِهِ هُوَ خَيْرٌ مِنْ عَاجِلِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ خَيْرٌ مُخْتَصٌّ بِكَ وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِنَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَاتِهِ وَفِي دِينِهِ وَفِي أُمَّتِهِ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَنْشُرَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَنْ يُمَكِّنَ أُمَّتَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَأْمُلُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ. وَقَدْ

[سورة الضحى (93) : آية 5]

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ لِأُمَّتِي بَعْدِي فَسَرَّنِي فَأَنْزَلُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [5] [سُورَة الضُّحَى (93) : آيَة 5] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) هُوَ كَذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ كُلِّهَا وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ الْمَوْعُودَ بِهِ مُسْتَمِرٌّ لَا يَنْقَطِعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [98] وَقَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يَرْضى فِي سُورَةِ اللَّيْلِ [21] . وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ يُعْطِيكَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَرْجُوهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْرٍ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ فَكَانَ مُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْمِيمَ الْعَطَاءِ كَمَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا تَعْمِيمَ الْأَزْمِنَةِ. وَجِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي فَتَرْضى لِإِفَادَةِ كَوْنِ الْعَطَاءِ عَاجِلَ النَّفْعِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ رِضَى الْمُعْطَى عِنْدَ الْعَطَاءِ فَلَا يَتَرَقَّبُ أَنْ يَحْصُلَ نَفْعُهُ بَعْدَ تَرَبُّصٍ. وَتَعْرِيفُ رَبُّكَ بِالْإِضَافَةِ دُونَ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ لَفْظُ (رَبُّ) مِنَ الرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ، وَلِلتَّوَسُّلِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِشْعَارِ بِعِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ وَتَشْرِيفِهِ بِإِضَافَةِ رَبُّ إِلَى ضَمِيرِهِ. وَهُوَ وَعْدٌ وَاسِعُ الشُّمُولِ لِمَا أُعْطِيَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا وَمَا فُتِحَ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ [الضُّحَى: 4] وَفِي وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ جَزَمَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ لَامُ الِابْتِدَاءِ وَقَدَّرَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ. وَقَالَ: إِنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا تَدْخَلُ عَلَى الْمُضَارِعِ إِلَّا مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ وَحَيْثُ تَعَيَّنَ أَنَّ اللَّامَ لَامُ الِابْتِدَاءِ وَلَامُ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الْمُبْتَدَأِ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ اللَّامَ فِي وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ لَامُ التَّوْكِيدِ (يَعْنِي لَام جَوَاب الْقَسَمِ) . وَوَافَقَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ

[سورة الضحى (93) : الآيات 6 إلى 8]

أَنَّ وُجُودَ حَرْفِ التَّنْفِيسِ مَانِعٌ مِنْ لَحَاقِ نُونِ التَّوْكِيدِ وَلِذَلِكَ تَجِبُ اللَّامُ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَقُولُ فِي كَوْنِ وُجُودِ حَرْفِ التَّنْفِيسِ يُوجِبُ كَوْنَ اللَّامِ لَامَ جَوَابِ قَسَمٍ محلّ نظر. [6- 8] [سُورَة الضُّحَى (93) : الْآيَات 6 إِلَى 8] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ الدَّلِيلِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَعْدِ، أَيْ هُوَ وَعْدٌ جَارٍ عَلَى سَنَنِ مَا سَبَقَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِكَ مِنْ مَبْدَأِ نَشْأَتِكَ وَلُطْفِهِ فِي الشَّدَائِدِ بِاطِّرَادٍ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الصُّدَفِ لِأَنَّ شَأْنَ الصُّدَفِ أَنْ لَا تَتَكَرَّرَ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِيقَاعُ الْيَقِينِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَّرَهُ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ لُطْفِهِ بِهِ فِيمَا مَضَى وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ عَسَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الْعِنَادِ وَيُسْرِعُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَإِنَّ ذَلِكَ مَسَاءَةٌ تَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ وَأَشْبَاحُ رُعْبٍ تُخَالِجُ خَوَاطِرَهُمْ. وَيحصل مَعَ هَذَا الْمَقْصُودِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْوِيَةٌ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَفِعْلُ يَجِدْكَ مُضَارِعُ وَجَدَ بِمَعْنَى أَلْفَى وَصَادَفَ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَمَفْعُولُهُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ. ويَتِيماً حَالٌ، وَكَذَلِكَ ضَالًّا وعائِلًا وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ تَيْسِيرِ الْمَنَافِعِ لِلَّذِي تَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ بِحَالَةِ مَنْ وَجَدَ شَخْصًا فِي شِدَّةٍ يَتَطَلَّعُ إِلَى مَنْ يُعِينُهُ أَوْ يُغِيثُهُ. وَالْيَتِيمُ: الصَّبِيُّ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَقَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ جَنِينٌ أَوْ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ مِنْ وِلَادَتِهِ. وَالْإِيوَاءُ: مَصْدَرُ أَوَى إِلَى الْبَيْتِ، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ، فَالْإِيوَاءُ: الْإِرْجَاعُ إِلَى الْمَسْكَنِ، فَهَمْزَتُهُ الْأُولَى هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَهُ آوِيًا، وَقَدْ أُطْلِقَ الْإِيوَاءُ عَلَى الْكَفَالَةِ وَكِفَايَةِ الْحَاجَةِ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً، فَالْمَعْنَى أَنْشَأَكَ عَلَى كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَكُنْتَ عَلَى تَرْبِيَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْأَيْتَام أَن ينشأوا عَلَى نَقَائِصَ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يُعْنَى بِتَهْذِيبِهِمْ وَتَعَهُّدِ أَحْوَالِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» فَكَانَ تَكْوِينُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ خَيْرًا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبَوَيْنِ.

وَالضَّلَالُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ الْموصل إِلَى مَكَان مَقْصُود سَوَاءٌ سَلَكَ السَّائِرُ طَرِيقًا آخَرَ يُبْلِغُ إِلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِ أَمْ وَقَفَ حَائِرًا لَا يَعْرِفُ أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكَ كُنْتَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَوْمِكَ فَأَرَاكَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَحْمُودٍ وَكَرَّهَهُ إِلَيْكَ وَلَا تَدْرِي مَاذَا تَتَّبِعُ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ إِعْدَادِهِ لِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ فِي الْإِبَّانِ، أَلْهَمَهُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الشِّرْكِ خَطَأٌ وَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ طَلَبَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ لِيَتَهَيَّأَ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ هُنَا اتِّبَاعَ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِصْمَتِهِمْ مِنْ نَوْعِ الذُّنُوبِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ الشَّرَائِعُ فِي كَوْنِهَا فَوَاحِشَ وَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّنَافِي بَيْنَ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَاحِشَةً وَبَيْنَ الْخُلُوِّ عَنْ وُجُودِ شَرِيعَةٍ قَبْلَ النُّبُوءَةِ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا نَزَّهُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْعَقْلِ كَافِيًا فِي قُبْحِ الْفَوَاحِشِ عَلَى إِرْسَالِ كَلَامِهِمْ فِي ضَابِطِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يُنَافِي أُصُولَ الدِّينِ قَبْلَ رِسَالَتِهِ وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاؤُنَا يَجْعَلُونَ مَا تَوَاتَرَ مِنْ حَالِ اسْتِقَامَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ عَنِ الرَّذَائِلِ قَبْلَ نُبُوءَتِهِ دَلِيلًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ، بَلْ قَدْ شَافَهَ الْقُرْآنُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: 16] وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 69] ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَفْحَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَسَاوِي أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا فَقَدْ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَنَا. وَالْعَائِلُ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَالْفَقْرُ يُسَمَّى عَيْلَةً، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التَّوْبَة: 28] وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ غِنَاءَيْنِ: أَعْظَمُهُمَا غِنَى الْقَلْبِ إِذْ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ قِلَّةَ الِاهْتِمَامِ بِالدُّنْيَا، وَغِنَى الْمَالِ حِينَ أَلْهَمَ خَدِيجَةَ مُقَارَضَتَهُ فِي تِجَارَتِهَا. وَحُذِفَتْ مَفَاعِيلُ فَآوى، فَهَدى، فَأَغْنى لِلْعِلْمِ بِهَا مِنْ ضَمَائِرِ الْخطاب قبلهَا، وحدفها إِيجَازٌ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ على الفواصل.

[سورة الضحى (93) : الآيات 9 إلى 11]

[سُورَة الضُّحَى (93) : الْآيَات 9 إِلَى 11] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) الْفَاءُ الْأُولَى فَصِيحَةٌ. وَ (أَمَّا) تُفِيدُ شَرْطًا مُقَدَّرًا تَقْدِيرُهُ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَكَانَ مُفَادُهَا مُشْعِرًا بِشَرْطٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ هُوَ الَّذِي اجْتُلِبَتْ لِأَجْلِهِ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، وَتَقْدِيرُ نَظْمِ الْكَلَامِ إِذْ كُنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَأَقْرَرْتَ بِهِ فَعَلَيْكَ بِشُكْرِ رَبِّكَ، وَبَيَّنَ لَهُ الشُّكْر بقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ إِلَخْ. وَقَدْ جُعِلَ الشُّكْرُ هُنَا مُنَاسِبًا لِلنِّعْمَةِ الْمَشْكُورِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ تَقْدِيرُ: إِذَا أَرَدْتَ الشُّكْرَ، لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ تَنْسَاقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ بِدَافِعِ الْمُرُوءَةِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَصُدِّرَ الْكَلَامُ بِ (أَمَّا) التَّفْصِيلِيَّةِ لِأَنَّهُ تَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ (أَمَّا) بِمَعْنَى: وَمَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ، قُرِنَ جَوَابُهَا بِالْفَاءِ. واليتيم مَفْعُولٌ لِفِعْلِ فَلا تَقْهَرْ وَقُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَلِهَذَا الْقَصْدِ لَمْ يُؤْتَ بِهِ مَرْفُوعًا وَقَدْ حَصَلَ مَعَ ذَلِكَ الْوَفَاءُ بِاسْتِعْمَالِ جَوَابِ (أَمَّا) أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا عَنْ (أَمَّا) بِشَيْءٍ كَرَاهِيَةَ مُوَالَاةِ فَاءِ الْجَوَابِ لِحَرْفِ الشَّرْطِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ مَا الْتَزَمُوا الْفَصْلَ بَيْنَ (أَمَّا) وَجَوَابِهَا بِتَقْدِيمِ شَيْءٍ مِنْ عَلَائِقِ الْجَوَابِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُقَدَّمِ لِأَنَّ مَوْقِعَ (أَمَّا) لَا يَخْلُو عَنِ اهْتِمَامٍ بِالْكَلَامِ اهْتِمَامًا يَرْتَكِزُ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، فَاجْتِلَابُ (أَمَّا) فِي الْكَلَامِ أَثَرٌ لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَثَارَ الِاهْتِمَامِ بَعْضُ مُتَعَلَّقَاتِ الْجُمْلَةِ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعْتَنُونَ بِتَقْدِيمِهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ السَّائِلَ وَتَقْدِيمِ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ عَلَى فِعْلَيْهِمَا. وَقَدْ قُوبِلَتِ النِّعَمُ الثَّلَاثُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَيْهَا هَذَا التَّفْصِيلُ بِثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ تُقَابِلُهَا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. وَذَلِكَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ، وَيَجْرِي عَلَى تَفْسِيرِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ السَّائِلَ عَنِ الدِّينِ وَالْهُدَى، فَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضُّحَى: 6] لَا مَحَالَةَ، أَيْ فَكَمَا آوَاكَ رَبُّكَ وَحَفِظَكَ مِنْ عَوَارِضِ النَّقْصِ الْمُعْتَادِ لِلْيُتْمِ، فَكُنْ أَنْتَ مُكْرِمًا لِلْأَيْتَامِ رَفِيقًا بِهِمْ، فَجُمِعَ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَهْرِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ

كَانُوا يَقْهَرُونَ الْأَيْتَامَ وَلِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ قَهْرِ الْيَتِيمِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَسْبَابِ لِقَهْرِهِ لِأَنَّ الْقَهْرَ قَدْ يَصْدُرُ مِنْ جَرَّاءِ الْقَلَقِ مِنْ مَطَالِبِ حَاجَاتِهِ فَإِنَّ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ سَرِيعَةُ الْحُصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: 23] وَقَالَ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاء: 28] . وَالْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ وَالْإِذْلَالُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْفِعْلِ كَالدَّعِّ وَالتَّحْقِيرِ بِالْفِعْلِ وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ قَالَ تَعَالَى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً [النِّسَاء: 5] ، وَتَكُونُ بِالْإِشَارَةِ مِثْلَ عُبُوسِ الْوَجْهِ، فَالْقَهْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْقَهْرُ الَّذِي لَا يُعَامَلُ بِهِ غَيْرُ الْيَتِيمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَأَمَّا الْقَهْرُ لِأَجْلِ الِاسْتِصْلَاحِ كَضَرْبِ التَّأْدِيبِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ التَّرْبِيَةِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَة: 220] . وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: 7] لِأَن الضلال يَسْتَعْدِي السُّؤَالَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَالضَّالُّ مُعْتَبر من نصف السَّائِلِينَ. وَالسَّائِلُ عَنِ الطَّرِيقِ قَدْ يَتَعَرَّضُ لِحَمَاقَةِ الْمَسْئُولِ كَمَا قَالَ كَعْبٌ: وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ: ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ فَجَعَلَ اللَّهُ الشُّكْرَ عَنْ هِدَايَتِهِ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ أَنْ يُوَسِّعَ بَالَهُ لِلسَّائِلِينَ. فَلَا يَخْتَصُّ السَّائِلُ بِسَائِلِ الْعَطَاءِ بَلْ يَشْمَلُ كُلَّ سَائِلٍ وَأَعْظَمُ تَصَرُّفَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ، وَرُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا» قَالَ هَارُونُ الْعَبْدِيُّ: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّائِلَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ كُلَّ سَائِلٍ، أَيْ عَمَّا يُسْأَلُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِهِ. وَيَكُونُ النَّشْرُ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. فَإِنْ فُسِّرَ السَّائِلَ بسائل مَعْرُوف كَانَ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 8] وَكَانَ مِنَ النَّشْرِ الْمُشَوَّشِ، أَيِ الْمُخَالِفِ لِتَرْتِيبِ اللَّفِّ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ «الْكَشَّافُ» .

وَالنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِالْقَوْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِلَيْكَ عَنِّي. وَيُسْتَفَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقَهْرِ وَالنَّهْرِ النَّهْيُ عَمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمَا فِي الْأَذَى كَالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ وَتَرْكِهِ مُحْتَاجًا وَلَيْسَ مِنَ النَّهْرِ نَهْيُ السَّائِلِ عَنْ مُخَالَفَةِ آدَابِ السُّؤَالِ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 8] . فَإِنَّ الْإِغْنَاءَ نِعْمَةٌ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ عَنْهَا وَإِعْلَانِ شُكْرِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ نِعْمَةً خَاصَّةً وَإِنَّمَا أُرِيدَ الْجِنْسُ فَيُفِيدُ عُمُومًا فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، أَيْ حَدِّثْ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنَ النِّعَمِ، فَحَصَلَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ شُكْرُ نِعْمَةِ الْإِغْنَاءِ، وَحَصَلَ الْأَمْرُ بِشُكْرِ جَمِيعِ النِّعَمِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا جَامِعًا. فَإِنْ جُعِلَ قَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ مُقَابِلَ قَوْلِهِ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ كَانَ قَوْلُهُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: 7] عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ أَيْضًا. وَكَانَ الْمُرَادُ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ نِعْمَةَ الْهِدَايَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ. وَالتَّحْدِيثُ: الْإِخْبَارُ، أَيْ أَخْبِرْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ اعْتِرَافًا بِفَضْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الشُّكْرِ، وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ كَالْقَوْلِ فِي تَقْدِيمِ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَالْخِطَّابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِهِ، وَأَصْلُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، فَيُعْلَمُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أُمَّتِهِ بِذَلِكَ فَتَجْرِي عَلَى أَصْلِ مُسَاوَاةِ الْأُمَّةِ لِنَبِيِّهَا فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، فَأَمَّا مُسَاوَاةُ الْأُمَّةِ لَهُ فِي مَنْعِ قَهْرِ الْيَتِيمِ وَنَهْرِ السَّائِلِ فَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ أَصْلُ الْمُسَاوَاةِ. وَأَمَّا مُسَاوَاة الْأمة لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَتَّى مِنْهَا مَا لَا مَطْمَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ فِيهِ مِثْلَ نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ وَنِعْمَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الِاصْطِفَاءِ الْأَكْبَرِ، وَنِعْمَةُ الرَّبِّ فِي الْآيَةِ مُجْمَلَةٌ.

فَنِعَمُ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا يَجِبُ تَحْدِيثُهُ بِهِ وَهُوَ تَبْلِيغُهُ النَّاسَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَقَدْ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْإِسْلَامَ فَيَقُولُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. وَمِنْهَا تَعْرِيفُهُ النَّاسَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ لِمَنْ قَالَ لَهُ: «اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى وَحْيِهِ وَلَا تأمنوني» ، وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ التَّحْدِيثُ بِهِ فِي وَاجِبِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ فَهَذَا وُجُوبُهُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصٌ مِنْ عُرُوضِ الْمَعَارِضِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ عُرُوضِ الرِّيَاءِ وَلَا يَظُنُّ النَّاسُ بِهِ ذَلِكَ فَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ ثَابِتٌ. وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَقَدْ يَكُونُ التَّحَدِيثُ بِالنِّعْمَةِ مِنْهُمْ مَحْفُوفًا بِرِيَاءٍ أَوْ تَفَاخُرٍ. وَقَدْ يَنْكَسِرُ لَهُ خَاطِرُ مَنْ هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ مِثْلَ النِّعْمَةِ الْمُتَحَدَّثِ بِهَا. وَهَذَا مَجَالٌ لِلنَّظَرِ فِي الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ، وَطَرِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ أَوِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: فَحَدِّثْنَا عَنْ نَفْسِكَ فَقَالَ: مَهْلًا فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّزْكِيَةِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فَقَالَ: فَإِنِّي أُحَدِّثُ كُنْتُ إِذَا سُئِلْتُ أَعْطَيْتُ. وَإِذَا سُكِتَ ابْتَدَيْتُ، وَبَيْنَ الْجَوَانِحِ عِلْمٌ جَمٌّ فَاسْأَلُونِي. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ خَصَّ النِّعْمَةَ فِي قَوْلِهِ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِنِعْمَةِ الْقُرْآنِ وَنِعْمَةِ النُّبُوءَةِ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى وُجُوبَ التَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ. رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ (¬1) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحُكْمُ عَامٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. قَالَ عِيَاض فِي «الشِّفَاء» : «وَهَذَا خَاصٌّ لَهُ عَامٌّ لِأُمَّتِهِ» . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ (¬2) : إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ يَقُولُ لَهُ رَزَقَ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَالِبٍ (¬3) : أَنَّهُ كَانَ إِذَا ¬

(¬1) أَبُو نَضرة الْمُنْذر بن مَالك الْعَبْدي الْبَصْرِيّ من صغَار التَّابِعين توفّي سنة 108 هـ. (¬2) كَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ فَيحْتَمل أَنه عَمْرو بن مَيْمُون الرقي الْمُتَوفَّى سنة 145 هـ وَيحْتَمل أَنه الأودي الْكُوفِي الْمُتَوفَّى سنة 74 هـ. (¬3) وَصفه ابْن عَطِيَّة بِبَعْض الصَّالِحين وَلَعَلَّه عبد الله بن غَالب الْحدانِي الْبَصْرِيّ العابد توفّي سنة 83 هـ.

أَصْبَحَ يَقُولُ: لَقَدْ رَزَقَنِي اللَّهُ الْبَارِحَةَ كَذَا، قَرَأْتُ كَذَا، صَلَّيْتُ كَذَا، ذَكَرْتُ اللَّهَ كَذَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا فِرَاسٍ إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَقُولُ هَذَا، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وَتَقُولُونَ أَنْتُمْ: لَا تُحَدِّثْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ فَقَالَ: لَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ: صَلَّيْتُ كَذَا، وَسَبَّحْتُ كَذَا، قَالَ أَيُّوبُ: فَاحْتَمَلْتُ ذَلِكَ لِأَبِي رَجَاءٍ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ التَّحَدُّثَ بِالنِّعْمَةِ تَكُونُ لِلثِّقَةِ مِنَ الْإِخْوَانِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ التَّحَدُّثَ بِالْعَمَلِ يَكُونُ بِإِخْلَاصٍ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الثِّقَةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ إِلَى الرِّيَاءِ وَإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِصَاحِبِهِ. وَذَكَرَ الْفَخْرُ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِذَا أَصَبْتَ خَيْرًا أَوْ عَمِلْتَ خَيْرًا فَحَدِّثْ بِهِ الثِّقَةَ مِنْ إِخْوَانِكَ . قَالَ الْفَخْرُ: إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِيَاءً وَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ.

94- سورة الشرح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم 94- سُورَة الشَّرْح سُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ أَلَمْ نَشْرَحْ» ، وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الشَّرْحِ» وَمِثْلُهُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ الْمَشْرِقِيَّةِ تَسْمِيَةً بِمَصْدَرِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: 1] وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةُ الِانْشِرَاحِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الضُّحَى بِالِاتِّفَاقِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَصْرِ. وَعَنْ طَاوُسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: «أَلَمْ نَشْرَحْ مِنْ سُورَةِ الضُّحَى» . وَكَانَا يقرءانهما بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَهَذَا شُذُوذٌ مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ تَسْوِيرِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَعَدَدُ آيها ثَمَان. أغراضها احْتَوَتْ عَلَى ذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُطْفِ اللَّهِ لَهُ وَإِزَالَةِ الْغَمِّ وَالْحَرَجِ عَنْهُ، وَتَفْسِيرِ مَا عَسُرَ عَلَيْهِ، وَتَشْرِيفِ قَدْرِهِ لِيُنَفِّسَ عَنْهُ، فَمَضْمُونُهَا شَبِيهٌ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَضْمُونِ سُورَةِ الضُّحَى تَثْبِيتًا لَهُ بِتَذْكِيرِهِ سَالِفَ عِنَايَتِهِ بِهِ وَإِنَارَةِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَتَرْفِيعِ الدَّرَجَةِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَهُ بِنِعْمَتِهِ مَا كَانَ لِيَقْطَعَ عَنْهُ فَضْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّقْرِير بماض يعمله النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الشرح (94) : الآيات 1 إلى 4]

وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِوَعْدِهِ بِأَنَّهُ كُلَّمَا عَرَضَ لَهُ عُسْرٌ فَسَيَجِدُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا كَدَأْبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُعَامَلَتِهِ فَلْيَتَحَمَّلْ مَتَاعِبَ الرِّسَالَةِ وَيَرْغَبْ إِلَى اللَّهِ عَوْنِهِ. [1- 4] [سُورَة الشَّرْح (94) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) . اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى النَّفْيِ. وَالْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَنْفِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّذْكِيرُ لِأَجْلِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذِه الْمِنَّة عِنْد مَا يُخَالِجُهُ ضِيقُ صَدْرٍ مِمَّا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى قَوْمٍ يُرِيدُ صَلَاحَهُمْ وَإِنْقَاذَهُمْ مِنَ النَّارِ وَرَفْعَ شَأْنِهِمْ بَيْنَ الْأُمَمِ، لِيَدُومَ عَلَى دَعْوَتِهِ الْعَظِيمَةِ نَشِيطًا غَيْرَ ذِي أَسَفٍ وَلَا كَمَدٍ. وَالشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ: فَصْلُ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ الشَّرِيحَةُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالتَّشْرِيحُ فِي الطِّبِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى انْفِعَالِ النَّفْسِ بِالرِّضَى بِالْحَالِ الْمُتَلَبِّسِ بِهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ «الْأَسَاسِ» أَنَّ هَذَا إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ. وَلَعَلَّهُ رَاعَى كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ، أَيْ هُوَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرْحَ الْحَقِيقِيَّ خَاصٌّ بِشَرْحِ اللَّحْمِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الشَّرْحِ عَلَى رِضَى النَّفْسِ بِالْحَالِ أَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الضِّيقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْحُزْنِ وَالْكَمَدِ قَالَ تَعَالَى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ [هود: 12] الْآيَةَ. فَجُعِلَ إِزَالَةُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ حُزْنٍ مِثْلَ شَرْحِ اللَّحْمِ وَهَذَا الْأَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: 5] . وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فِي سُورَةِ طه [25] . فَالصَّدْرُ مُرَادٌ بِهِ الْإِحْسَاسُ الْبَاطِنِيُّ الْجَامِعُ لِمَعْنَى الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ. وَشَرْحُ صَدْرِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ بِكُلِّ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنَ الْكِمَالَاتِ وَإِعْلَامِهِ بِرِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَبِشَارَتِهِ بِمَا سَيَحْصُلُ لِلدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّصْرِ. هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا يُفِيدُهُ نَظْمُهَا وَاسْتِقْلَالُهَا عَنِ الْمَرْوِيَّاتِ الْخَارِجِيَّةِ، فَفَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ اللَّهَ شَرَحَ قَلْبَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: شَرْحُ صَدره أَن ملىء عِلْمًا وَحُكْمًا، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: شَرَحَ صَدْرَهُ بِنُورِ الرِّسَالَةِ،

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّرْحُ شَرْحًا بَدَنِيًّا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ التِّرْمِذِيِّ إِذْ أَخْرَجَ حَدِيثَ شَقِّ الصَّدْرِ الشَّرِيفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ إِشَارَةً إِلَى مَرْوِيَّاتٍ فِي شَقِّ صَدْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقًّا قُدُسِيًّا، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ بَعْضُ خَبَرِهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَالْمَرْوِيُّ مُطَوَّلًا فِي السِّيرَةِ وَالْمَسَانِيدِ، فَوَقَعَ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّهُ كَانَ فِي رُؤْيَا النَّوْمِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ يَقَظَةً وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي «الْبُخَارِيِّ» ، وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّهُ يَقَظَةٌ وَبِمَرْأًى مِنْ غِلْمَانٍ أَتْرَابِهِ، وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ الشَّقِّ فِي جِلْدِ صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، وَالرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ مَعَ اتِّفَاقِهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ. وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ حَمَلَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شَقَّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ إِلَى أَرْبَعٍ، مِنْهَا حِينَ كَانَ عِنْدَ حَلِيمَةَ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الشَّقَّ كَانَ وَعُمُرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ. وَالَّذِي فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْمِعْرَاجِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَعَلَّ بَعْضَهَا كَانَ رُؤْيَا وَبَعْضَهَا حِسًّا. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الشَّرْحُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَإِذْ قد كَانَ ذَاك الشَّقُّ مُعْجِزَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَهُوَ مَا نَحَّاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الصَّدْرُ قَدْ أُطْلِقَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْبَاطِنُ الْحَاوِي لِلْقَلْبِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ فَسَّرَ الصَّدْرَ بِالْقَلْبِ حَكَاهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَا» ، يُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي خَبَرِ شَقِّ الصَّدْرِ مِنْ إِخْرَاجِ قَلْبِهِ وَإِزَالَةِ مَقَرِّ الْوَسْوَسَةِ مِنْهُ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لِلشَّرْحِ يُفِيدُ أَنَّهُ إِيقَاعُ مَعْنًى عَظِيمٍ لِنَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا مُبَاشَرَةً وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ مغزاه كَمَا لايخفى. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَكْرِيمًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِهِ. وَفِي ذِكْرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَشْرُوحِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْإِبْهَامِ لِلتَّشْوِيقِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ فِعْلُ نَشْرَحْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ ثَمَّ مَشْرُوحًا، فَلَمَّا وَقَعَ قَوْلُهُ: لَكَ قوي الْإِبْهَام فازداد التَّشْوِيقُ، لِأَنَّ لَكَ يُفِيدُ مَعْنَى شَيْئًا لِأَجْلِكَ فَلَمَّا وَقَعَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ

: «صَدْرَكَ» تَعَيَّنَ الْمَشْرُوحُ الْمُتَرَقَّبُ فَتَمَكَّنَ فِي الذِّهْنِ كَمَالَ تَمَكُّنٍ، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَقَفَّى عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي مَبْحَثِ الْإِطْنَابِ. وَالْوِزْرُ: الْحَرَجُ، وَوَضْعُهُ: حَطُّهُ عَنْ حَامِلِهِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِزَالَةِ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ بِحَالِ مَنْ يَحُطُّ ثِقْلًا عَنْ حَامِلِهِ لِيُرِيحَهُ مِنْ عَنَاءِ الثِّقَلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَزَالَ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ مِنْ عَادَاتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَا تُلَائِمُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفسه من الزَّكَاة وَالسُّمُوِّ وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ مُسَايَرَتِهِمْ عَلَيْهِ فَوَضَعَ عَنْهُ ذَلِكَ حِينَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ يَجِدُهُ فِي أَوَّلِ بِعْثَتِهِ مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ فَيَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَى قَوْلِهِ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الْأَعْلَى: 6- 8] . وأَنْقَضَ جَعَلَ الشَّيْءَ ذَا نَقِيضٍ، وَالنَّقِيضُ صَوْتُ صَرِيرِ الْمَحْمِلِ وَالرَّحْلِ وَصَوْتُ عِظَامِ الْمَفَاصِلِ، وَفَرْقَعَةُ الْأَصَابِعِ، وَفِعْلُهُ الْقَاصِرُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ. وَإِسْنَادُ أَنْقَضَ إِلَى الْوِزْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الظَّهْرِ تَبَعٌ لِتَشْبِيهِ الْمَشَقَّةِ بِالْحَمْلِ، فَالتَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِمُتَجَشِّمِ الْمَشَاقِّ الشَّدِيدَةِ، بِالْحَمُولَةِ الْمُثْقَلَةِ بِالْإِجْمَالِ تَثْقِيلًا شَدِيدًا حَتَّى يُسْمَعَ لِعِظَامِ ظَهْرِهَا فَرْقَعَةٌ وَصَرِيرٌ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَائِهِ. وَوَصْفُ الْوِزْرِ بِهَذَا الْوَصْفِ تَكْمِيلٌ لِلتَّمْثِيلِ بِأَنَّهُ وِزْرٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْقَضَ ظَهْرَكَ اتِّصَالُ حَرْفَيِ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ فَرُبَّمَا يَحْصُلُ مِنَ النُّطْقِ بِهِمَا شَيْءٌ مِنَ الثِّقَلِ عَلَى اللِّسَانِ وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِي الْفَصَاحَةَ إِذْ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ مَا يُسَمَّى بِتَنَافُرِ الْكَلِمَاتِ بَلْ مِثْلُهُ مُغْتَفَرٌ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ. وَالْعَرَبُ فُصَحَاءُ الْأَلْسُنِ فَإِذَا اقْتَضَى نَظْمُ الْكَلَامِ وُرُودَ مِثْلِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ الْمُتَقَارِبَيْنِ لَمْ يَعْبَأِ الْبَلِيغُ بِمَا يَعْرِضُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا مِنْ بَعْضِ الثِّقَلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: 26] فِي اجْتِمَاعِ الْحَاءِ مَعَ الْهَاءِ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الْإِدْغَامُ. وَقَدْ أَوْصَى عُلَمَاءُ التَّجْوِيدِ بِإِظْهَارِ الضَّادِ مَعَ الظَّاءِ إِذَا تَلَاقَيَا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [الْفرْقَان: 27] وَلَهَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمُشْتَهَرَةُ وَلم يزل الْأَئِمَّة فِي الْمَسَاجِدِ يَتَوَخَّوْنَ الْحَذَرَ مِنْ إِبْدَالِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ بِالْآخَرِ لِلْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ اللَّحَّانِ وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ مُطْلَقًا أَوْ إِذَا كَانَ عَامِدًا إِذَا كَانَ فَذًّا وَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ خَلْفَهُ أَيْضًا إِذَا كَانَ اللَّاحِنُ إِمَامًا. وَرَفْعُ الذِّكْرِ: جَعْلُ ذِكْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ثَنَاءً عَلَيْهِ وَكَرَامَةً. وَبِإِلْهَامِ النَّاسِ التَّحَدُّثَ بِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَحَامِدِ مُنْذُ نَشْأَتِهِ. وَعَطْفُ وَوَضَعْنا ورَفَعْنا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى فِعْلِ نَشْرَحْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ (لَمْ) قَلَبَتْ زَمَنَ الْحَالِ إِلَى الْمُضِيِّ فَعُطِفَ عَلَيْهِ الْفِعْلَانِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّهُمَا دَاخِلَانِ فِي حَيِّزِ التَّقْرِيرِ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِمَا حَرْفُ (لَمْ) صُيِّرَ بِهِمَا إِلَى مَا تُفِيدُهُ (لَمْ) مِنْ مَعْنَى الْمُضِيِّ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَحْوَالٍ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَجٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي حَرَجٍ، وَأَنَّ اللَّهَ كَشَفَ عَنْهُ مَا بِهِ مِنْ حَرَجٍ مِنْهَا أَوْ هَيَّأَ نَفْسَهُ لِعَدَمِ النَّوْءِ بِهَا. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُهَا كَمَا أَشْعَرَ بِهِ إِجْمَالُهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمُقْتَضِي عِلْمَ الْمُقَرَّرِ بِمَا قُرِّرَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ تَفْصِيلَهَا فِيمَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الضُّحَى فَلَعَلَّهَا كَانَتْ مِنْ أَحْوَالِ كَرَاهِيَتِهِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَبْذِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمِنْ مَسَاوِي الْأَعْمَالِ. وَكَانَ فِي حَرَجٍ مِنْ كَوْنِهِ بَيْنَهُمْ وَلَا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَلَمْ يكن يترقب طريقها لِأَنْ يَهْدِيَهُمْ أَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَطْمَعْ إِلَّا فِي خُوَيْصَّةِ نَفْسِهِ يَوَدُّ أَنْ يَجِدَ لِنَفْسِهِ قَبَسَ نُورٍ يُضِيءُ لَهُ سَبِيلَ الْحَقِّ مِمَّا كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالْخَلْوَةِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَكَانَ يَتَحَنَّثُ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَلَمَّا انْتَشَلَهُ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْلَةِ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ كَانَ ذَلِكَ شَرْحًا مِمَّا كَانَ يَضِيقُ بِهِ صَدْرُهُ يَوْمَئِذٍ، فَانْجَلَى لَهُ النُّورُ، وَأُمِرَ بِإِنْقَاذِ قَوْمِهِ وَقَدْ يَظُنُّهُمْ طُلَّابَ حَقٍّ وَأَزْكِيَاءَ نُفُوسٍ فَلَمَّا قَابَلُوا إِرْشَادَهُ بِالْإِعْرَاضِ وَمُلَاطَفَتَهُ لَهُمْ بِالِامْتِعَاضِ، حَدَثَ فِي صَدْرِهِ ضِيقٌ آخَرُ أَشَارَ إِلَى مثل قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي شَأْنِهِ رَبْطُ جَأْشِهِ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 272] فَكُلَّمَا نَزَلَ

عَلَيْهِ وَحْيٌ مِنْ هَذَا أَكْسَبَهُ شَرْحًا لِصَدْرِهِ، وَكَانَ لِحِمَايَةِ أَبِي طَالِبٍ إِيَّاهُ وَصَدِّهِ قُرَيْشًا عَنْ أَذَاهُ منفس عَنهُ، وَأَقْوَى مُؤَيِّدٍ لَهُ لِدَعْوَتِهِ يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ. وَكُلَّمَا آمَنَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ تَزَحْزَحَ بَعْضُ الضِّيقِ عَنْ صَدْرِهِ، وَكَانَتْ شِدَّةُ قُرَيْشٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَضِيقُ لَهَا صَدْرُهُ فَكُلَّمَا خَلَصَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ بِنَحْوِ عِتْقِ الصِّدِّيقِ بِلَالًا وَغَيْرَهُ، وَبِمَا بَشَّرَهُ اللَّهُ مِنْ عَاقِبَةِ النَّصْرِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا نَحْوَ قَوْلِهِ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] فَذَلِكَ مِنَ الشَّرْحِ الْمُرَادِ هُنَا. وَجُمَّاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَجَلِّيَاتِ هَذَا الشَّرْحِ عَدِيدَةٌ وَأَنَّهَا سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا وَضْعُ الْوِزْرِ عَنْهُ فَحَاصِلٌ بِأَمْرَيْنِ: بِهِدَايَتِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّتِي أَزَالَتْ حَيْرَتَهُ بِالتَّفَكُّرِ فِي حَالِ قَوْمِهِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: 7] وَبِكِفَايَتِهِ مُؤْنَةَ كُلَفِ عَيْشِهِ الَّتِي قَدْ تَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأُنْسِ بِالْفِكْرَةِ فِي صَلَاحِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 8] . وَرَفْعُ الذِّكْرِ مَجَازٌ فِي إِلْهَامِ النَّاسِ لِأَنْ يَذْكُرُوهُ بِخَيْرٍ، وَذَلِكَ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ تِلْكَ السُّمْعَةِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ بِهَا النَّاسُ، اسْتُعِيرَ الرَّفْعُ لِحُسْنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ الرَّفْعَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَالِيًا لَا تَنَالُهُ جَمِيعُ الْأَيْدِي وَلَا تَدُوسُهُ الْأَرْجُلُ. فَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكَارِمَ يَعِزُّ وُجُودُ نَوْعِهَا وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ شَأْوَ مَا بَلَغَهُ مِنْهَا حَتَّى لُقِّبَ فِي قَوْمِهِ بِالْأَمِينِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19- 21] مُرَادٌ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ عَظِيمِ رَفْعِ ذِكْرِهِ أَنَّ اسْمَهُ مُقْتَرِنٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ. وَرُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَأَبِي يَعْلَى قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ عِيَاض فِي «الشِّفَاء» بِدُونِ سَنَدٍ. وَالْقَوْلُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ لَكَ مَعَ وَرَفَعْنا كَالْقَوْلِ فِي ذِكْرِ نَظِيرِهَا مَعَ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ بِأَن يُقَال: ووضعنا لَك وِزْرَكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ: عَنْكَ فَإِنَّهُ فِي إِفَادَةِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ مُسَاوٍ لِكَلِمَةِ لَكَ،

[سورة الشرح (94) : الآيات 5 إلى 6]

وَهِيَ فِي إِفَادَةِ الْعِنَايَةِ بِهِ تُسَاوِي كَلِمَةَ لَكَ، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَضْعِ الْمُعَدَّى إِلَى الْوِزْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ عَنْهُ فَكَانَتْ زِيَادَةُ عَنْكَ إِطْنَابًا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنَايَةٌ بِهِ نَظِيرَ قَوْلِهِ: لَكَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَحَصَلَ بِذِكْرِ عَنْكَ إِيفَاءٌ إِلَى تَعْدِيَةِ فِعْلِ وَضَعْنا مَعَ الْإِيفَاءِ بِحَقِّ الْإِبْهَامِ ثمَّ الْبَيَان. [5- 6] [سُورَة الشَّرْح (94) : الْآيَات 5 إِلَى 6] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ هُنَا، أَيْ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا وَتَقَرَّرَ، تَعْلَمُ أَنْ الْيُسْرَ مُصَاحِبٌ لِلْعُسْرِ، وَإِذْ كَانَ الْيُسْرُ نَقِيضَ الْعُسْرِ كَانَتْ مُصَاحَبَةُ الْيُسْرِ لِلْعُسْرِ مُقْتَضِيَةً نَقْضَ تَأْثِيرِ الْعُسْرِ وَمُبْطِلَةً لِعَمَلِهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ فِيمَا سَبَقَ، وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ بِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ وَعْدٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُيَسِّرَ اللَّهُ لَهُ الْمَصَاعِبَ كُلَّمَا عَرَضَتْ لَهُ، فَالْيُسْرُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنِ اللَّحَاقِ بِتِلْكَ الْمَصَاعِبِ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ كَلِمَةِ مَعَ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَاحَبَةِ. وَكَلِمَةُ مَعَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي غَيْرِ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْعُسْرَ وَالْيُسْرَ نَقِيضَانِ فَمُقَارَنَتُهُمَا مَعًا مُسْتَحِيلَةٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعِيَّةَ مُسْتَعَارَةٌ لِقُرْبِ حُصُولِ الْيُسْرِ عَقِبَ حُلُولِ الْعُسْرِ أَوْ ظُهُورِ بَوَادِرِهِ، بِقَرِينَةِ اسْتِحَالَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمَعِيَّةِ. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ [7] . فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي عُسْرٍ خَاصٍّ يَعْرِضُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآيَةُ سُورَةِ الطَّلَاقِ عَامَّةٌ، وَلِلْبَعْدِيَّةِ فِيهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعُسْرِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْعُسْرُ الَّذِي عَهِدْتَهُ وَعَلِمْتَهُ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمِّيهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ بِأَنَّ (أَلْ) فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 41] أَيْ فَإِنَّ مَعَ عُسْرِكَ يُسْرًا، فَتَكُونُ السُّورَةُ كُلُّهَا مَقْصُورَةً عَلَى بَيَانِ كَرَامَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَبِّهِ تَعَالَى.

وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأُمُورَ الْعَسِرَةَ عَلَيْهِ يَسِرَةً لَهُ وَهُوَ مَا سَبَقَ وَعْدَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الْأَعْلَى: 8] . وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَغْنَ بِهَا عَنِ الْفَاءِ كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: (إِنَّ) تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ، لِأَنَّ الْفَاءَ هُنَا أُرِيدَ بِهَا الْفَصِيحَةُ مَعَ التَّسَبُّبِ فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى حَرْفِ (إِنَّ) لَفَاتَ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ. وَتَنْكِيرُ يُسْراً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ مَعَ الْعُسْرِ الْعَارِضِ لَكَ تَيْسِيرًا عَظِيمًا يَغْلِبُ الْعُسْرَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعْدًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ لِأَنَّ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ عُسْرٍ إِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُ فِي شؤون دَعْوَتِهِ لِلدِّينِ وَلِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرُوا أَتَاكُمُ الْيُسْرُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» فَاقْتَضَى أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تَعُمُّهُ وَأُمَّتَهُ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلِ شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ فِي «مُسْنَدِهِ» عَنْ عَائِذِ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحِيَالَهُ حَجَرٌ، فَقَالَ: لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ فَدَخَلَ هَذَا الْحَجَرَ لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا عَائِذَ بْنَ شُرَيْحٍ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: فِي حَدِيثِ عَائِذِ بْنِ شُرَيْحٍ ضَعْفٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْح: 4] وَجُمْلَةِ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشَّرْح: 7] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لِطَيْفٌ بِعِبَادِهِ فَقَدَّرَ أَنْ لَا يَخْلُوَ عُسْرٌ مِنْ مُخَالَطَةِ يُسْرٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ النَّاسُ قَالَ تَعَالَى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النَّحْل: 61] .

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقْتُ عُسْرًا وَاحِدًا وَخَلَقْتُ يُسْرَيْنِ وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ اهـ. وَالْعُسْرُ: الْمَشَقَّةُ فِي تَحْصِيلِ الْمَرْغُوبِ وَالْعَمَلِ الْمَقْصُودِ. وَالْيُسْرُ ضِدُّهُ وَهُوَ: سُهُولَةُ تَحْصِيلِ الْمَرْغُوبِ وَعَدَمُ التَّعَبِ فِيهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وَفَائِدَةُ هَذَا التَّأْكِيدِ تَحْقِيقُ اطِّرَادِ هَذَا الْوَعْدِ وَتَعْمِيمُهُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْيُسْرَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى يُسْرَ الدُّنْيَا وَفِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ يُسْرَ الْآخِرَةِ وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَمَحِّضٌ لِكَوْنِ الثَّانِيَةِ تَأْكِيدًا. هَذَا وَقَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» قَدِ ارْتَبَطَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَصُرِّحَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ بِأَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَئِذٍ وَتَضَافَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِنْهَا فَوَجَبَ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ، وَشَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْرِيفِ كَلِمَةِ الْعُسْرِ وَإِعَادَتِهَا مُعَرَّفَةً وَمن تنكير كملة «يُسْرٍ» وَإِعَادَتِهَا مُنَكَّرَةً، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّفْظَ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَ نَكِرَةً فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِذَا أُعِيدَ اللَّفْظُ مَعْرِفَةً فَالثَّانِي عَيْنُ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 15، 16] . وَبِنَاءُ كَلَامِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً خَطَأٌ لِأَنَّ تِلْكَ الْقَاعِدَةَ فِي إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً لَا فِي إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ مَعْرِفَةً وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالتَّعْرِيفِ بِلَامِ الْعَهْدِ دُونَ لَامِ الْجِنْسِ، وَهِيَ أَيْضًا فِي إِعَادَةِ اللَّفْظِ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى وَالَّذِي فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِإِعَادَةِ لَفْظٍ فِي كَلَامٍ ثَانٍ بَلْ هِيَ تَكْرِيرٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَلَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى هَذَا الْمَأْخَذِ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ مِنْ قَبْلُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ الْجُرْجَانِيُّ (¬1) فِي كِتَابِ «النَّظْمِ» كَمَا فِي ¬

(¬1) قَالَ حَمْزَة بن يُوسُف السَّهْمِي الْمُتَوفَّى سنة 427 هـ فِي «تَارِيخ عُلَمَاء جرجان» هُوَ أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن يحيى بن نصر الْجِرْجَانِيّ لَهُ تصانيف عدّة مِنْهَا «فِي نظم الْقُرْآن» مجلدتان. كَانَ من أهل السّنة روى عَن الْعَبَّاس بن يحيى (أَو ابْن عِيسَى) الْعقيلِيّ اهـ. [.....]

[سورة الشرح (94) : آية 7]

«مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ» . وَأَبْطَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْضًا، وَجَعَلَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» تِلْكَ الْقَاعِدَةَ خَطَأً. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» أَنَّ جُمْلَةَ: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ فِي مِثْلِهِ هُوَ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ ثُبُوتُ الْتِحَاقِ الْيُسْرِ بِالْعُسْرِ عِنْدَ حُصُولِهِ، فَكَانَ التَّأْكِيدُ مُفِيدًا تَرْجِيحَ أَثَرِ الْيُسْرِ عَلَى أَثَرِ الْعُسْرِ، وَذَلِكَ التَّرْجِيحُ عُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: «يُسْرَيْنِ» ، فَالتَّثْنِيَةُ هُنَا كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنِ التَّغَلُّبِ وَالرُّجْحَانِ فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ قَدْ يُكَنَّى بِهَا عَنِ التَّكْرِيرِ الْمُرَادِ مِنْهُ التَّكْثِيرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: 4] أَيِ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَثِيرًا لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يَنْقَلِبُ حَسِيرًا مِنْ رَجْعَتَيْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَدَوَالَيْكَ» وَالتَّكْرِيرُ يَسْتَلْزِمُ قُوَّةَ الشَّيْءِ الْمُكَرَّرِ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ لَازِمَ لَازِمِ التَّثْنِيَةِ وَإِذَا تَعَدَّدَتِ اللَّوَازِمُ كَانَتِ الْكِنَايَةُ رَمْزِيَّةً. وَلَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ تَعْرِيفِ الْعُسْرِ بِاللَّامِ وَلَا مِنْ تَنْكِيرِ «الْيُسْرِ» وإعادته مُنْكرا. [7] [سُورَة الشَّرْح (94) : آيَة 7] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِاللُّطْفِ وَالْعِنَايَةِ وَوَعْدِهِ وبتيسير مَا هُوَ عَسِيرٌ عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ الَّتِي أَعْظَمُهَا تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ دُونَ مَلَلٍ وَلَا ضَجَرٍ. وَالْفَرَاغُ: خُلُوُّ بَاطِنِ الظَّرْفِ أَوِ الْإِنَاءِ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يُظْرَفَ فِيهِ. وَفِعْلُ فَرَغَ يُفِيدُ أَنَّ فَاعِلَهُ كَانَ مَمْلُوءًا بِشَيْءٍ، وَفَرَاغُ الْإِنْسَانِ. مَجَازٌ فِي إِتْمَامِهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَعْمَلَهُ. وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا مُتَعَلَّقُ فَرَغْتَ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَازم أَعمال يعلمهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَنَّ مَسَاقَ السُّورَةِ فِي تَيْسِيرِ مَصَاعِبِ الدَّعْوَةِ وَمَا يَحُفُّ بِهَا. فَالْمَعْنَى إِذَا أَتْمَمْتَ عَمَلًا مِنْ مَهَامِّ الْأَعْمَالِ فَأَقْبِلْ عَلَى عَمَلٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَعْمُرُ أَوْقَاتَهُ

[سورة الشرح (94) : آية 8]

كُلَّهَا بِالْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قُفُولِهِ مِنْ إِحْدَى غَزَوَاتِهِ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» ، فَالْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ هُوَ فَانْصَبْ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا فَرَغْتَ فَتَمْهِيدٌ وَإِفَادَةٌ لِإِيلَاءِ الْعَمَلِ بِعَمَلٍ آخَرَ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ وَنَفْعِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا مِنْ صِيَغِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْمَالِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا تَأْتِينِي مِنْ فُلَانٍ صِلَةٌ إِلَّا أَعْقَبَتْهَا أُخْرَى. وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ فِي تَعْيِينِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْأَمْثِلَةِ فَحَذْفُ الْمُتَعَلَّقِ هُنَا لِقَصْدِ الْعُمُومِ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ لِنَوْعٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ لِيَشْمَلَ كُلُّ مُتَعَلَّقٍ عَمَلَهُ مِمَّا هُوَ مُهِمٌّ كَمَا عَلِمْتَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اجْتِمَاعُ كَثِيرٍ مِنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ كَمَا أَقَرَّ اللَّهُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ الشُّغْلِ بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: كِتاباً مَوْقُوتاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102، 103] . وَهَذَا الْحُكْمُ يَنْسَحِبُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مُمْكِنٍ مِنْ أَعْمَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ مِثْلَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَالْجِهَادِ عِنْدَ تَقَوِّي الْمُسْلِمِينَ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الْأُمَّةِ. وَتَقْدِيمُ فَإِذا فَرَغْتَ عَلَى فَانْصَبْ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعْلِيقِ الْعَمَلِ بِوَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْ غَيْرِهِ لِتَتَعَاقَبَ الْأَعْمَالُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنِيَّةِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَة الْمعَانِي. [8] [سُورَة الشَّرْح (94) : آيَة 8] وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) عُطِفَ عَلَى تَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ أَمْرٌ بِطَلَبِ اسْتِمْرَارِ نِعَمِ الله تَعَالَى عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: 7] . وَالرَّغْبَةُ: طَلَبُ حُصُولِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ وَأَصْلُهُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِ (فِي) . وَيُقَالُ: رَغِبَ عَنْ كَذَا بِمَعْنَى صَرَفَ رَغْبَتَهُ عَنْهُ بِأَنْ رَغِبَ فِي غَيْرِهِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: 127] بِتَقْدِيرِ حَرْفِ

الْجَرِّ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ حَرْفِ (أَنْ) هُوَ حَرْفُ (عَنْ) . وَذَلِكَ تَأْوِيلُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَأَمَّا تَعْدِيَةُ فِعْلِ فَارْغَبْ هُنَا بِحَرْفِ إِلى فَلِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِقْبَالِ وَالتَّوَجُّهِ تَشْبِيهًا بِسَيْرِ السَّائِرِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ حَاجَتُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] . وَتَقْدِيمُ إِلَى رَبِّكَ عَلَى فَارْغَبْ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ تَكُونُ رَغْبَتُكُ فَإِنَّ صِفَةَ الرِّسَالَةِ أَعْظَمُ صِفَاتِ الْخَلْقِ فَلَا يَلِيقُ بِصَاحِبِهَا أَنْ يَرْغَبَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَحُذِفَ مَفْعُولُ «ارْغَبْ» لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَرْغَبُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ يَرْغَبُ النَّبِيءُ إِلَّا فِي الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَانْتِشَارِ الدِّينِ وَنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْله: فَانْصَبْ [الشَّرْح: 7] وَقَوله: فَارْغَبْ رَابِطَةٌ لِلْفِعْلِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ وَالتَّقْيِيدِ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ لَمَّا أَفَادَ الِاخْتِصَاصَ نَشَأَ مِنْهُ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] وَقَالَ: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 3- 5] ، وَفِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ لِلْجِهَادِ: «أَلَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نعم: فَقَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . بَلْ قَدْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فِي الْإِعْرَابِ كَمَا رُوِيَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» بِجَزْمِ الْفِعْلَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فِي سُورَةِ يُونُسَ [58] . وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنْ «أَمَالِي السَّيِّدِ» (يَعْنِي ابْنَ الشَّجَرِيِّ) أَنَّ اجْتِمَاعَ الْفَاءِ وَالْوَاوِ هُنَا مِنْ أَعْجَبِ كَلَامِهِمْ لِأَنَّ الْفَاءَ تَعْطِفُ أَوْ تَدْخُلُ فِي الْجَوَابِ وَمَا أَشْبَهَ الْجَوَابَ بِالِاسْمِ النَّاقِصِ، أَوْ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ الْفِعْلِيَّةِ (لِشَبَهِهَا بِالْجَوَابِ) ، وَهِيَ هُنَا خَارِجَةٌ عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ اهـ. وَلَا يَبْقَى تَعَجُّبٌ بَعْدَ مَا قَرَّرْنَاهُ.

95- سورة التين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 95- سُورَةُ التِّينِ سُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَمُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ وَالتِّينِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ تَسْمِيَةً بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ فِيهَا. وَسَمَّاهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ «سُورَةَ التِّين» بِدُونِ وَاو لِأَنَّ فِيهَا لَفْظَ «التِّينِ» كَمَا قَالُوا: «سُورَةُ الْبَقَرَةِ» وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ وَبَعْضُ الْمَصَاحِفِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَعُدَّتِ الثَّامِنَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبُرُوجِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِيلَافِ. وَعَدَدُ آياتها ثَمَان. أغراضها احْتَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى التَّنْبِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْفِطْرَةُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم: 30] وَأَنَّ مَا يُخَالِفُ أُصُولَهُ بِالْأَصَالَةِ أَوْ بِالتَّحْرِيفِ فَسَادٌ وَضَلَالٌ، وَمُتَّبِعِي مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ أَهْلُ ضَلَالَةٍ. وَالتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالْإِسْلَامِ.

[سورة التين (95) : الآيات 1 إلى 5]

وَالْإِشَارَةِ بِالْأُمُورِ الْمُقْسَمِ بِهَا إِلَى أَطْوَارِ الشَّرَائِعِ الْأَرْبَعَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهَا وَأَنَّهَا مُشَارِكَةٌ أُصُولُهَا لِأُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّنْوِيهِ بِحُسْنِ جَزَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. وَشَمِلَتِ الِامْتِنَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِخَلْقِهِ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ فِي جثمانه وَنَفسه. [1- 5] [سُورَة التِّين (95) : الْآيَات 1 إِلَى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِالْقَسَمِ الْمُؤَكَّدِ يُؤْذِنُ بِأَهَمِّيَّةِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَإِطَالَةُ الْقَسَمِ تَشْوِيقٌ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَالتِّينُ ظَاهِرُهُ الثَّمَرَةُ الْمَشْهُورَةُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَهِيَ ثَمَرَةٌ يُشْبِهُ شَكْلُهَا شَكْلَ الْكُمِّثْرَى ذَاتُ قِشْرٍ لَوْنُهُ أَزْرَقُ إِلَى السَّوَادِ، تَتَفَاوَتُ أَصْنَافُهُ فِي قُتُومَةِ قِشْرِهِ، سَهْلَةُ التَّقْشِيرِ تَحْتَوِي عَلَى مِثْلِ وِعَاءٍ أَبْيَضَ فِي وَسَطِهِ عَسَلٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ مَخْلُوطٌ بِبُزُورٍ دَقِيقَةٍ مِثْلِ السِّمْسِمِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الثِّمَارِ صُورَةً وَطَعْمًا وَسُهُولَةَ مَضْغٍ فَحَالَتُهَا دَالَّةٌ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِ اللَّهِ وَمُؤْذِنَةٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَالْقَسَمُ بِهَا لِأَجْلِ دَلَالَتِهَا عَلَى صِفَاتٍ إِلَهِيَّةٍ كَمَا يُقْسَمُ بِالِاسْمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ، مَعَ الْإِيذَانِ بِالْمِنَّةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ خَلَقَ لَهُمْ هَذِهِ الْفَاكِهَةَ الَّتِي تَنْبُتُ فِي كُلِّ الْبِلَادِ وَالَّتِي هِيَ سَهْلَةُ النَّبَاتِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى كَثْرَةِ عَمَلٍ وَعِلَاجٍ. وَالزَّيْتُونُ أَيْضًا ظَاهِرُهُ الثَّمَرَةُ الْمَشْهُورَةُ ذَاتُ الزَّيْتِ الَّذِي يُعْتَصَرُ مِنْهَا فَيَطْعَمُهُ النَّاسُ وَيَسْتَصْبِحُونَ بِهِ. وَالْقَسَمُ بِهَا كَالْقَسَمِ بِالتِّينِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى نِعْمَةِ خَلْقِ هَذِهِ الثَّمَرَةِ النَّافِعَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكْفِي النَّاسَ حَوَائِجَ طَعَامِهِمْ وَإِضَاءَتِهِمْ. وَعَلَى ظَاهِرِ الِاسْمَيْنِ لِلتِّينِ وَالزَّيْتُونِ حَمَلَهُمَا جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَذَلِكَ لِمَا فِي هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ الْمُقْتَضِيَةِ الِامْتِنَانَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُمْ،

وَلَكِنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ هَذَيْنِ مَعَ طُورِ سِينِينَ وَمَعَ الْبَلَدِ الْأَمِينِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مَحْمَلٌ أَوْفَقُ بِالْمُنَاسَبَةِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا تَفْسِيرُ التِّينِ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي بُنِيَ عَلَى الْجُودِيِّ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَلَعَلَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْجَبَلِ التِّينَ لِكَثْرَتِهِ فِيهِ إِذْ قَدْ تُسَمَّى الْأَرْضُ بِاسْمِ مَا يَكْثُرُ فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَمَرْخٌ دِيَارُهُمُ أَمْ عُشَرْ وَسُمِّيَ بِالتِّينِ مَوْضِعٌ جَاءَ فِي شِعْرِ النَّابِغَةِ يَصِفُ سَحَابَاتٍ بِقَوْلِهِ: صُهْبُ الظّلال أتين فِي عُرُضٍ ... يُزْجِينَ غَيْمًا قَلِيلًا مَاؤُهُ شَبِمَا وَالزَّيْتُونُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ يُنْبِتُ الزَّيْتُونَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ بِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مَعْنِيًّا بِهِمَا شَجَرُ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ، أَيِ اكْتَسَبَ نَوْعَاهُمَا شَرَفًا مِنْ بَين الْأَشْجَار يكون كَثِيرٍ مِنْهُ نَابِتًا فِي هَذَيْنِ الْمَكَانَيْنِ الْمُقَدَّسَيْنِ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: أَتَذْكُرُ حِينَ تَصْقِلُ عَارِضَيْهَا ... بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ الْبَشَامُ (¬1) فَدَعَا لِنَوْعِ الْبَشَامِ بِالسَّقْيِ لِأَجْلِ عُودِ بَشَامَةَ الْحَبِيبَةِ. وَأَمَّا طُورِ سِينِينَ فَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِ «طُورِ سِينَا» . وَالطُّورُ: الْجَبَلُ بِلُغَةِ النَّبَطِ وَهُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ، وَعُرِفَ هَذَا الْجَبَلُ بِ طُورِ سِينِينَ لِوُقُوعِهِ فِي صَحْرَاءِ «سِينِينَ» ، وَ «سِينِينَ» لُغَةٌ فِي سِينٍ وَهِيَ صَحْرَاءُ بَيْنَ مِصْرَ وَبِلَادِ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: سِينِينَ اسْمُ الْأَشْجَارِ بِالنَّبَطِيَّةِ أَوْ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحُسْنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَدْ جَاءَ تَعْرِيبُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى صِيغَةٍ تُشْبِهُ صِيغَةَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَلَيْسَ بِجمع، مجَاز فِي إِعْرَابِهِ أَنْ يُعْرَبَ مِثْلَ إِعْرَابِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ بِالْوَاوِ نِيَابَةً عَنِ الضَّمَّةِ، أَوِ الْيَاءِ نِيَابَةً عَنِ الْفَتْحَةِ أَوِ الْكَسْرَةِ، وَأَنْ يُحْكَى عَلَى الْيَاءِ مَعَ تَحْرِيكِ نُونِهِ بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ مِثْلِ: صِفِّينَ وَيَبْرِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطّور: 1، 2] . ¬

(¬1) وَفِي رِوَايَة التبريزي فِي «شرح الحماسة» : أتنسى إِذْ توعدنا سليمى بِعُود ... إِلَخ ص 50 ج 1.

والْبَلَدِ الْأَمِينِ: مَكَّةُ، سُمِّيَ الْأَمِينَ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَالْأَمِينُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مِثْلَ: «الدَّاعِي السَّمِيعِ» فِي بَيْتِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى وَجْهِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ الْمَأْمُونُ سَاكِنُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْش: 4] . وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ لِلتَّعْظِيمِ وَلِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَهُوَ حَاضِرٌ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1] . وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَحْمِلَيْنِ الثَّانِيَيْنِ لِلتِّينِ وَالزَّيْتُونِ تَتِمُّ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَتَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَوَارِدِ أَعْظَمِ الشَّرَائِعِ الْوَارِدَةِ لِلْبَشَرِ، فَالتِّينُ إِيمَاءٌ إِلَى رِسَالَةِ نُوحٍ وَهِيَ أَوَّلُ شَرِيعَةٍ لِرَسُولٍ، وَالزَّيْتُونُ إِيمَاءٌ إِلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْرَاءِ، وطُورِ سِينِينَ إِيمَاءٌ إِلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، والْبَلَدِ الْأَمِينِ إِيمَاءٌ إِلَى مَهْبِطِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَقَعْ إِيمَاءٌ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى لِأَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ يَكُونُ الزَّيْتُونُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَكَانِ وَبِأَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى إِيمَاءً إِلَى مَكَانِ ظُهُورِ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ تَنْزِلْ فِيهِ شَرِيعَةٌ قَبْلَ شَرِيعَةِ عِيسَى وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ إِيمَاءً إِلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ عَلَى أُصُولِ الْحَنِيفِيَّةِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ إِيمَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ تَرْتِيبُ الْإِيمَاءِ إِلَى شَرَائِعِ نُوحٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى تَرْتِيبِ ظُهُورِهَا فَتَوْجِيهُ مُخَالَفَةِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ لِلتَّرْتِيبِ الْخَارِجِيِّ أَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ اقْتِرَانِ الِاسْمَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ عَنِ اسْمَيِ الثَّمَرَتَيْنِ، وَمُقَارَنَةِ الِاسْمَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ، لِيَتَأَتَّى مُحَسِّنُ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ وَمُحَسِّنُ التَّوْرِيَةِ، وَلِيُنَاسِبَ سِينِينَ فَوَاصِلَ السُّورَةِ. وَفِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ بِمَا يَشْمَلُ إِرَادَةَ مَهَابِطِ أَشْهَرِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِغَرَضِ السُّورَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، أَيْ خَلَقَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مُدْرِكًا لِأَدِلَّةِ وجود الْخَالِق ووحدانية. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا خَالَفَ

ذَلِكَ مِنَ النِّحَلِ وَالْمِلَلِ قَدْ حَادَ عَنْ أُصُولِ شَرَائِعِ اللَّهِ كُلِّهَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اخْتِلَافِهَا فِي الْفُرُوعِ، وَيَكْفِي فِي تَقَوُّمِ مَعْنَى بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ مَا يَلُوحُ فِي الْمَعْنَى مِنِ احْتِمَالٍ. وَجُمْلَةُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْقَسَمُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوِيمَ تَقْوِيمٌ خَفِيٌّ وَأَنَّ الرَّدَّ رَدٌّ خَفِيٌّ يَجِبُ التَّدَبُّرُ لِإِدْرَاكِهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَلِذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُحَقَّقَ بِالتَّوْكِيدِ بِالْقَسَمِ، لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ مُعْظَمِ النَّاسِ فِي عَقَائِدِهِمْ جَارِيَةٌ عَلَى حَالَةٍ تُشْبِهُ حَالَةَ مَنْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ. وَالْخَلْقُ: تَكْوِينٌ وَإِيجَادٌ لِشَيْءٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّاسِ هُوَ أَنَّهُ خَلَقَ أُصُولَ الْإِيجَادِ وَأَوْجَدَ الْأُصُولَ الْأُولَى فِي بَدْءِ الْخَلِيقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَخَلَقَ أَسْبَابَ تَوَلُّدِ الْفُرُوعِ من الْأُصُول فتناسب مِنْهَا ذُرِّيَّاتُهُمْ كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: 11] . وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، وَهُوَ التَّعْرِيفُ الْمَلْحُوظُ فِيهِ مَجْمُوعُ الْمَاهِيَّةِ مَعَ وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ فِي ضِمْنِ بَعْضِ أَفْرَادِهَا أَوْ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا. وَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى: خَلَقْنَا جَمِيعَ النَّاسِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانَ تَعْرِيفَ الْحَقِيقَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمُ: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: الْحَرْبُ أَوَّلَ مَا تَكُونُ فَتِيَّةٌ فَلَا يُلَاحَظُ فِيهِ أَفْرَادُ الْجِنْسِ بَلِ الْمَلْحُوظُ حَالَةُ الْمَاهِيَّةِ فِي أَصْلِهَا دُونَ مَا يَعْرِضُ لِأَفْرَادِهَا مِمَّا يُغَيِّرُ بَعْضَ خَصَائِصِهَا. وَمِنْهُ التَّعْرِيفُ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ [19] . وَالتَّقْوِيمُ: جَعْلُ الشَّيْءِ فِي قَوَامٍ (بِفَتْحِ الْقَافِ) ، أَيْ عَدْلٍ وَتَسْوِيَةٍ، وَحُسْنُ

التَّقْوِيمِ أَكْمَلُهُ وَأَلْيَقُهُ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، أَيْ أَحْسَنُ تَقْوِيمٍ لَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَقْوِيمٌ خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي تَعْدِيلِ الْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ إِحْدَى قُوَاهُ مُوقِعَةً لَهُ فِيمَا يُفْسِدُهُ، وَلَا يَعُوقُ بَعْضُ قُوَاهُ الْبَعْضَ الْآخَرَ عَنْ أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ مَنْ جِنْسِهِ كَانَ دُونَهُ فِي التَّقْوِيمِ. وَحَرْفُ فِي يُفِيدُ الظَّرْفِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ الْمُسْتَعَارَةَ لِمَعْنَى التَّمَكُّنِ وَالْمِلْكِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى بَاءِ الْمُلَابَسَةِ أَوْ لَامِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ الْحَقِيقِيَّيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ أَوْ قُوَّةِ الْمِلْكِ مَعَ الْإِيجَازِ وَلَوْلَا الْإِيجَازُ لَكَانَتْ مُسَاوَاةُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ بِتَقْوِيمٍ مَكِينٍ هُوَ أَحْسَنُ تَقْوِيمٍ. فَأَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ الْإِنْسَانَ تَكْوِينًا ذَاتِيًّا مُتَنَاسِبًا مَا خَلَقَ لَهُ نَوْعَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ لِنِظَامِهِ وَحَضَارَتِهِ، وَلَيْسَ تَقْوِيمُ صُورَةِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا جَدِيرًا بِأَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ إِذْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَإِصْلَاحِ الْغَيْرِ، وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادِ لَذَهَبَتِ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي فِي الْقَسَمِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَالْبَلَدِ الْأَمِينِ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لِتَقْوِيمِ النَّفْسِ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» (¬1) فَإِنَّ الْعَقْلَ أَشْرَفُ مَا خُصَّ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ الْأَنْوَاعِ. فَالْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ تَقْوِيمُ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ وَنَظَرِهِ الْعَقْلِيِّ الصَّحِيحِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ أَعْمَالُ الْجَسَدِ إِذِ الْجِسْمُ آلَةٌ خَادِمَةٌ لِلْعَقْلِ فَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَمَّا خَلْقُ جَسَدِ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَقْصِدِ السُّورَةِ وَيَظْهَرُ هَذَا كَمَالَ الظُّهُورِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ الرَّدُّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ عَلَى مَصِيرِ الْإِنْسَانِ فِي أَرْذَلِ الْعُمُرِ إِلَى نَقَائِصِ قُوَّتِهِ كَمَا فَسَّرَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَكَانَ نُبُوُّهُ عَنْ غَرَضِ السُّورَةِ أَشَدَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ تَرَدُّدُ ¬

(¬1) رَوَاهُ مُسلم. وَرَوَاهُ غَيره يزِيد بَعضهم على بعض.

السَّامِعِينَ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِالْقَسَمِ وَيَدُلَّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [التِّين: 6] لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَثَرُ التَّقْوِيمِ لِعَقْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُلْهِمُهُ السَّيْرَ فِي أَعْمَالِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، وَمُعَامَلَةَ بَنِي نَوْعِهِ السَّالِمِينَ مِنْ عَدَائِهِ مُعَامَلَةَ الْخَيْرِ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَوَافُقِهِمْ مَعَهُ فِي الْحَقِّ فَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ إِذَا سَلِمَ مِنْ عَوَارِضَ عَائِقَةٍ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ وَهُوَ جَنِينٌ إِمَّا مِنْ عَاهَةٍ تَلْحَقُهُ لِمَرَضِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِفَسَادِ هَيْكَلِهِ مِنْ سَقْطَةٍ أَوْ صَدْمَةٍ فِي حَمْلِهِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ دَاءٍ مُعْضِلٍ يَعْرِضُ لَهُ يَتْرُكُ فِيهِ اخْتِلَالَ مِزَاجِهِ فَيُحَرِّفُ شَيْئًا مِنْ فِطْرَتِهِ كَحَمَاقَةِ السَّوْدَاوِيِّينَ وَالسُّكَّرِيِّينَ أَوْ خَبَالِ الْمُخْتَبَلِينَ، وَمِمَّا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَسَاوِي الْعَادَاتِ كَشُرْبِ الْمُسْكِرَاتِ وَتَنَاوُلِ الْمُخَدِّرَاتِ مِمَّا يُورِثُهُ عَلَى طُولٍ انْثِلَامَ تَعَقُّلِهِ أَوْ خَوَرَ عَزِيمَتِهِ. وَالَّذِي نَأْخُذُهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ عَلَى حَالَةِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّوْعَ لِيَتَّصِفَ بِآثَارِهَا، وَهِيَ الْفِطْرَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْكَامِلَةُ فِي إِدْرَاكِهِ إِدْرَاكًا مُسْتَقِيمًا مِمَّا يَتَأَدَّى مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الصَّادِقَةِ، أَيِ الْمُوَافِقَةُ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِسَبَبِ سَلَامَةِ مَا تُؤَدِّيهِ الْحَوَاسُّ السَّلِيمَةُ، وَمَا يَتَلَقَّاهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ الْمُنْتَظِمَيْنِ، بِحَيْثُ لَوْ جَانَبَتْهُ التَّلْقِينَاتُ الضَّالَّةُ وَالْعَوَائِدُ الذَّمِيمَةُ وَالطَّبَائِعُ الْمُنْحَرِفَةُ وَالتَّفْكِيرُ الضَّارُّ، أَوْ لَوْ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ تَسَلُّطًا مَا فَاسْتَطَاعَ دِفَاعَهَا عَنْهُ بِدَلَائِلِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، لَجَرَى فِي جَمِيع شؤونه عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَلَمَا صَدَرَتْ مِنْهُ إِلَّا الْأَفْعَالُ الصَّالِحَةُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَتَعَثَّرُ فِي ذُيُولِ اغْتِرَارِهِ وَيُرْخِي الْعِنَانَ لِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ، فَتَرْمِي بِهِ فِي الضَّلَالَاتِ، أَوْ يَتَغَلَّبُ عَلَيْهِ دُعَاةُ الضَّلَالِ بِعَامِلِ التَّخْوِيفِ أَوِ الْإِطْمَاعِ فَيُتَابِعُهُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهِ مَا تَقَلَّدَهُ فَيَعْتَادُهُ وَيَنْسَى الصَّوَابَ وَالرُّشْدَ. وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» الْحَدِيثَ ذَلِكَ أَنَّ أَبَوَيْهِ هُمَا أَوَّلُ مَنْ يَتَوَلَّى تَأْدِيبَهُ وَتَثْقِيفَهُ وَهُمَا أَكْثَرُ النَّاسِ مُلَازَمَةً لَهُ فِي صِبَاهُ، فَهُمَا اللَّذَانِ يُلْقِيَانِ فِي نَفْسِهِ الْأَفْكَارَ الْأَوْلَى، فَإِذَا سَلِمَ مِنْ تَضْلِيلِ أَبَوَيْهِ فَقَدْ سَارَ بِفِطْرَتِهِ شَوْطًا ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِعَدِيدٍ مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ فِيهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ،

وَاقْتَصَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى أَسْبَابِ الزَّجِّ فِي ضَلَالَتِهِمَا، وَأَشَدُّ إِلْحَاحًا عَلَى وَلَدِهِمَا. وَلَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى تَفْسِيرِ التَّقْوِيمِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمِ فَقَصَرُوا التَّقْوِيمَ عَلَى حُسْنِ الصُّورَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، أَوْ عَلَى اسْتِقَامَةِ الْقَامَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَلَى الشَّبَابِ وَالْجَلَادَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَا يُلَائِمُ مَقْصِدَ السُّورَةِ إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ بِأَنَّ ذَلِكَ ذِكْرُ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ عَكَسَ الْإِنْسَانُ شُكْرَهَا فَكَفَرَ بِالْمُنْعِمِ فَرُدَّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، سِوَى مَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ طَاهِرٍ (¬1) أَنَّهُ قَالَ: «تَقْوِيمُ الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ وَإِدْرَاكُهُ اللَّذَانِ زَيَّنَاهُ بِالتَّمْيِيزِ» وَلَفْظَهُ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَعَ زِيَادَةِ يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ وَمَا حَكَاهُ الْفَخْرُ عَنِ الْأَصَمِّ (¬2) أَنَّ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَكْمَلُ عَقْلٍ وَفَهْمٍ وَأَدَبٍ وَعِلْمٍ وَبَيَانٍ» . وَتُفِيدُ الْآيَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَى الْخَيْرِ وَأَنَّ فِي جِبِلَّتِهِ جَلْبَ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ لِنَفْسِهِ وَكَرَاهَةَ مَا يَظُنُّهُ بَاطِلًا أَوْ هَلَاكًا، وَمَحَبَّةَ الْخَيْرِ وَالْحَسَنِ مِنَ الْأَفْعَالِ لِذَلِكَ تَرَاهُ يُسَرُّ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَيَنْصَحُ بِمَا يَرَاهُ مَجْلَبَةً لِخَيْرِ غَيْرِهِ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ وَيُعَامِلُ بِالْحُسْنَى، وَيَغَارُ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَيَشْمَئِزُّ مِنَ الظُّلْمِ مَا دَامَ مُجَرَّدًا عَنْ رَوْمِ نَفْعٍ يَجْلِبُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ إِرْضَاءِ شَهْوَةٍ يُرِيدُ قَضَاءَهَا أَوْ إِشْفَاءِ غَضَبٍ يَجِيشُ بِصَدْرِهِ، تِلْكَ الْعَوَارِض الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِطْرَتِهِ زَمَنًا، وَيَهَشُّ إِلَى كَلَامِ الْوُعَّاظِ وَالْحُكَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُكْرِمُهُمْ وَيُعَظِّمُهُمْ وَيَوَدُّ طُولَ بَقَائِهِمْ. فَإِذَا سَاوَرَتْهُ الشَّهْوَةُ السَّيِّئَةُ فَزَيَّنَتْ لَهُ ارْتِكَابَ الْمَفَاسِدِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهَا عَنْ نَفْسِهِ انْصَرَفَ إِلَى سُوءِ الْأَعْمَالِ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ نُصْحُ النَّاصِحِينَ، وَوَعْظُ الْوَاعِظِينَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ بِمِقْدَارِ تَحَكُّمِ الْهَوَى فِي عَقْلِهِ. ¬

(¬1) لم أَقف على تَعْيِينه وَلَيْسَ يبعد أَن يكون هُوَ الْأَصَم. (¬2) الْأَصَم لقب أبي بكر عبد الرَّحْمَن بن كيسَان من أَصْحَاب هِشَام الفوطي من الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ ابْن حجر فِي «لِسَان الْمِيزَان» : إِنَّه كَانَ من طبقَة أبي الْهُذيْل العلاف المعتزلي.

وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي النَّاسِ الْخَيْرَ وَالْعَدَالَةَ وَالرُّشْدَ وَحُسْنَ النِّيَّةِ عِنْدَ جُمْهُورٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. وَجُمْلَةُ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَهِيَ فِي حَيِّزِ الْقَسَمِ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: رَدَدْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فَيَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ مِنَ التَّعْرِيفِ. وثُمَّ لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، لِأَنَّ الرَّدَّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ بَعْدَ خَلْقِهِ مَحُوطًا بِأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ عَجِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنِ انْقِلَابِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ، وَتَغْيِيرُ الْحَالَةِ الْمَوْجُودَةِ أَعْجَبُ مِنْ إِيجَادِ حَالَةٍ لَمْ تَكُنْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لِتَحْقِيقِ أَنَّ الَّذِينَ حَادُوا عَنِ الْفِطْرَةِ صَارُوا أَسْفَلَ سَافِلِينَ. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ صَيَّرْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، أَوْ جَعَلْنَاهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَالرَّدُّ حَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ شَخْصٍ أَوْ نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ، وَيُطْلَقُ الرَّدُّ مَجَازًا عَلَى تَصْيِيرِ الشَّيْءِ بِحَالَةٍ غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ كَمَا هُنَا. وأَسْفَلَ: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَيْ أَشَدَّ سَفَالَةً، وَأُضِيفَ إِلَى سافِلِينَ، أَيِ الْمَوْصُوفِينَ بِالسَّفَالَةِ. فَالْمُرَادُ: أَسْفَلَ سَافِلِينَ فِي الِاعْتِقَادِ بِخَالِقِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [التِّين: 6] . وَحَقِيقَةُ السَّفَالَةِ: انْخِفَاضُ الْمَكَانِ، وَتُطْلَقُ مَجَازًا شَائِعًا عَلَى الْخِسَّةِ وَالْحَقَارَةِ فِي النَّفْسِ، فَالْأَسْفَلُ الْأَشَدُّ سَفَالَةً مِنْ غَيْرِهِ فِي نَوْعِهِ. وَالسَّافِلُونَ: هُمْ سَفِلَةُ الِاعْتِقَادِ، وَالْإِشْرَاكُ أَسْفَلُ الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ أَسْفَلَ سافِلِينَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ رَدَدْناهُ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مُجْرَى أَخَوَاتِ صَارَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ أَخَذَ يُغَيِّرُ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْوِيمِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ وَمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَاهُ وَمُرَاقَبَتِهِ فَصَارَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، وَهَلْ أَسْفَلُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ الْحِجَارَةِ وَالْحَيَوَانِ الْأَبْكَمِ مِنْ بَقَرٍ أَوْ تَمَاسِيحَ أَوْ ثَعَابِينَ أَوْ مِنْ شَجَرِ السَّمُرِ،

أَوْ مَنْ يَحْسِبُ الزَّمَانَ إِلَهًا وَيُسَمِّيهِ الدَّهْرَ، أَوْ مَنْ يَجْحَدُ وُجُودَ الصَّانِعِ وَهُوَ يُشَاهِدُ مَصْنُوعَاتِهِ وَيُحِسُّ بِوُجُودِ نَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . فَإِنْ مِلْتَ إِلَى جَانِبِ الْأَخْلَاقِ رَأَيْتَ الْإِنْسَانَ يَبْلُغُ بِهِ انْحِطَاطُهُ إِلَى حَضِيضِ التَّسَفُّلِ، فَمِنْ مَلَقٍ إِذَا طَمِعَ، وَمِنْ شحّ إِذا شجع، وَمِنْ جَزَعٍ إِذَا خَافَ، وَمِنْ هَلَعٍ، فَكَمْ مِنْ نُفُوسٍ جُعِلَتْ قَرَابِينَ لِلْآلِهَةِ، وَمِنْ أَطْفَالٍ مَوْءُودَةٍ، وَمِنْ أَزْوَاجٍ مَقْذُوفَةٍ فِي النَّارِ مَعَ الْأَمْوَاتِ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، فَهَلْ بَعْدَ مِثْلِ هَذَا مِنْ تَسَفُّلٍ فِي الْأَخْلَاقِ وَأَفْنِ الرَّأْيِ. وَإِسْنَادُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ يُكَوِّنُ الْأَسْبَابَ الْعَالِيَةَ وَنِظَامَ تَفَاعُلِهَا وَتَقَابُلِهَا فِي الْأَسْبَابِ الْفَرْعِيَّةِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُبَاشِرَةِ عَلَى نَحْوِ إِسْنَادِ مَدِّ وَقَبْضِ الظِّلِّ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً [الْفرْقَان: 45، 46] وَعَلَى نَحْوِ الْإِسْنَادِ فِي قَوْلِ النَّاسِ: بَنَى الْأَمِيرُ مَدِينَةَ كَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلَ سافِلِينَ ظَرْفًا، أَيْ مَكَانًا أَسْفَلَ مَا يَسْكُنُهُ السَّافِلُونَ، فَإِضَافَةُ أَسْفَلَ إِلَى سافِلِينَ مِنْ إِضَافَةِ الظَّرْفِ إِلَى الْحَالِّ فِيهِ، وَيَنْتَصِبُ أَسْفَلَ بِ رَدَدْناهُ انْتِصَابَ الظَّرْفِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَذَلِكَ هُوَ دَارُ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: 145] فَالرَّدُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْجَعْلِ فِي مَكَانٍ يَسْتَحِقُّهُ، وَإِسْنَادُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقِيقِيٌّ. وَأَحْسِبُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ انْتَزَعَ مِنْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: قَالَ مَالِكٌ: أَقْبَلَ عَلَيَّ يَوْمًا رَبِيعَةُ فَقَالَ لِي: مَنِ السَّفِلَةُ يَا مَالِكُ؟ قُلْتُ: الَّذِي يَأْكُلُ بِدِينِهِ، قَالَ لِي: فَمَنْ سَفِلَةُ السَّفِلَةِ؟ قُلْتُ: الَّذِي يَأْكُلُ غَيْرُهُ بِدِينِهِ. فَقَالَ: (زِهْ) (¬1) وَصَدَرَنِي (أَيْ ¬

(¬1) (زه) بِكَسْر الزَّاي وهاء سَاكِنة كلمة تدل على شدَّة الِاسْتِحْسَان وَهِي معربة عَن الفارسية، وَمِنْهَا تَحت لفظ الزهرة. أَي الِاسْتِحْسَان لِأَن (زه) تقال مكررة غَالِبا.

[سورة التين (95) : آية 6]

ضَرَبَ عَلَى صَدْرِي يَعْنِي اسْتِحْسَانًا) . وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَسْفَلَ سافلين لأَنهم ضلّلهم كبراؤهم وأئمتهم فَسَوَّلُوا لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لينالوا قيادتهم. [6] [سُورَة التِّين (95) : آيَة 6] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ عُمُومِ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ رُدَّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بَقِيَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ رُدُّوا أَسْفَلَ سَافِلِينَ أَيَّامَ الْإِشْرَاكِ صَارُوا بِالْإِيمَانِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا فَرَاجَعُوا أَصْلَهُمْ إِلَى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. وَعُطِفَ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِأَنَّ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ مِنْ أَحْسَنِ التَّقْوِيمِ بَعْدَ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ الْفِطْرَةَ رُسُوخًا وَيَنْسَحِبُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَخْلَاقِ فَيَرُدُّهَا إِلَى فَضْلِهَا ثُمَّ يَهْدِيهَا إِلَى زِيَادَةِ الْفَضَائِلِ مِنْ أَحَاسِنِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . فَكَانَ عَطْفُ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بَاعِثٌ لَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَذَلِكَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ فَهَذَا الْعَطْفُ عَطْفُ صِفَةٍ كَاشِفَةٍ. وَلَيْسَ لِانْقِطَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا احْتِمَالٌ لِأَنَّ وُجُودَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يَأْبَاهُ كُلَّ الْإِبَايَةِ. وَفُرِّعَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُرَدُّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء أَفَادَ أَنهم لَيْسُوا بِأَسْفَل سَافِلِينَ فَأُرِيدَ زِيَادَةُ الْبَيَانِ لفضلهم وَمَا أعدلهم. وَتَنْوِينُ أَجْرٌ لِلتَّعْظِيمِ. وَالْمَمْنُونُ: الَّذِي يُمَنُّ عَلَى الْمَأْجُورِ بِهِ، أَيْ لَهُمْ أَجْرٌ لَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ، وَلَا كَدَرَ أَنْ يُمَنَّ عَلَى الَّذِي يُعْطَاهُ بِقَوْلِ: هَذَا أَجْرُكَ، أَوْ هَذَا عَطَاؤُكَ، فَالْمَمْنُونُ مَفْعُولٌ

[سورة التين (95) : الآيات 7 إلى 8]

مَنَّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ مَنَّ الْحَبْلَ، إِذَا قَطَعَهُ فَهُوَ مَنِينٌ، أَيْ مَقْطُوعٌ أَوْ مُوشِكٌ على التقطع. [7، 8] [سُورَة التِّين (95) : الْآيَات 7 إِلَى 8] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ تَقْوِيمِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ رَدِّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاء من الْكَلَام مُسَبَّبٌ عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي قَبْلَ الْفَاءِ، أَيْ فَقَدْ بَانَ لَكَ أَنَّ غَيْرَ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الَّذِينَ رُدُّوا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، فَمَنْ يُكَذِّبُ مِنْهُمْ بِالدِّينِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ. وَ (مَا) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنِ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ الَّذِينَ آمَنُوا بَقِيَ الْإِنْسَانُ الْمُكَذِّبُ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَمَا يُكَذِّبُهُ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا أَنَّهُ أَصْرَحُ فِي مُوَاجَهَةِ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ بِالتَّوْبِيخِ. وَمَعْنَى يُكَذِّبُكَ يَجْعَلُكَ مُكَذبا، أَي لاعذر لَكَ فِي تَكْذِيبِكَ بِالدِّينِ. وَمُتَعَلَّقُ التَّكْذِيبِ: إِمَّا مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، أَيْ يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ، أَيْ يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِدِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُكَذِّبًا بِالْجَزَاءِ إِنْ حُمِلَ الدِّينُ عَلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ وَجُمْلَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ للتهديد والوعيد. و (الدَّين) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ والشريعة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمرَان: 85] . وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ فَمَنْ يُكَذِّبُكَ بَعْدَ هَذَا بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الدِّينِ فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ. وَمَعْنَى يُكَذِّبُكَ: يَنْسُبُكُ لِلْكَذِبِ بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الدِّينِ أَوْ مَا أَنْذَرْتَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَأُسْلُوبُ هَذَا التَّرْكِيبِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَنْسُبُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَجِيئَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «الدِّينُ» بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: 4] وَقَوْلِهِ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: 15] وَتَكُونُ الْبَاءُ صِلَةَ (يُكَذِّبُ) كَقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: 66] وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ (¬1) [الْأَنْعَام: 57] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَة وَمَا صدقهَا المكذب، فَهِيَ بِمَعْنَى (مَنْ) ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يُكَذِّبُكَ عَائِدٌ إِلَى (مَا) وَهُوَ الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَي ينسبك إِلَى الْكَذِب بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَحُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ بَعْدُ فَبُنِيَتْ بَعْدُ عَلَى الضَّمِّ وَالتَّقْدِيرُ: بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ أَوْ بَعْدَ تَبَيُّنِ مَا ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَجُمْلَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ (مَا) وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ دَلِيلًا عَلَى الْخَبَرِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَحُذِفَ إِيجَازًا اكْتِفَاءً بِذِكْرِ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لَهُ فَالتَّقْدِيرُ فَالَّذِي يُكَذِّبُكَ بِالدِّينِ يَتَوَلَّى اللَّهُ الِانْتِصَافَ مِنْهُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَ «أَحْكَمُ» يَجُوزُ أَن يكون مأخودا مِنَ الْحُكْمِ، أَيْ أَقْضَى الْقُضَاةِ، وَمَعْنَى التَّفْضِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ أَسَدُّ وَأَنْفَذُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْحِكْمَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَقْوَى الْحَاكِمِينَ حِكْمَةً فِي قَضَائِهِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُ حُكْمَهُ تَفْرِيطٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَنَوْطُ الْخَبَرِ بِذِي وَصْفٍ يُؤْذِنُ بِمُرَاعَاةِ خَصَائِصِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ الْوَصْفُ فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ، عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَفُوقُ قَضَاؤُهُ كُلَّ قَضَاءٍ فِي خَصَائِصِ الْقَضَاءِ وَكَمَالَاتِهِ، وَهِيَ: إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَقَطْعُ دَابِرِ الْبَاطِلِ، وَإِلْزَامُ كُلِّ مَنْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالِامْتِثَالِ لِقَضَائِهِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ. ¬

(¬1) فِي المطبوعة: (قل أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وكذبتم بِهِ) وَهُوَ خطأ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التِّين: 1] فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ» .

96- سورة العلق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 96- سُورَةُ الْعَلَقِ اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِاسْمِ «سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» . رُوِيَ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» عَنْ عَائِشَةَ: «أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» فَأَخْبَرَتْ عَنِ السُّورَةِ بِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ. وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْعَلَقِ» لِوُقُوعِ لَفْظِ «الْعَلَقِ» فِي أَوَائِلِهَا، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ: «سُورَة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» . وَتُسَمَّى: «سُورَةَ اقْرَأْ» ، وَسَمَّاهَا الْكَوَاشِيُّ فِي «التَّخْلِيصِ» «سُورَةَ اقْرَأْ وَالْعَلَقِ» . وَعَنْوَنَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: «سُورَةَ الْقَلَمِ» وَهَذَا اسْمٌ سُمِّيَتْ بِهِ: «سُورَةُ ن» . وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ ذَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ. وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَاضِحَةِ، وَنَزَلَ أَوَّلُهَا بِغَارِ حِرَاءٍ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِيهِ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ الْفِيلِ إِلَى قَوْلِهِ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] . ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عَائِشَةَ. وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

أغراضها

وَعَنْ جَابِرٍ أَوَّلُ سُورَةٍ الْمُدَّثِّرُ، وَتُؤُوِّلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ نَصَّ أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» كَمَا أَنَّ سُورَةَ الضُّحَى نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ الثَّانِيَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ عِشْرُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ تسع عشرَة. أغراضها تَلْقِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ الْقُرْآنِيَّ وَتِلَاوَتَهُ إِذْ كَانَ لَا يَعْرِفُ التِّلَاوَةَ مِنْ قَبْلُ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مُيَسَّرٌ لِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَلْهَمَ الْبَشَرَ الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ قَادِرٌ عَلَى تَعْلِيمِ مَنْ يَشَاءُ ابْتِدَاءً. وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَصِيرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْعِلْمِ. وَتَوْجِيهُهُ إِلَى النَّظَرِ فِي خَلْقِ اللَّهِ الْمَوْجُودَاتِ وَخَاصَّةً خَلْقَهُ الْإِنْسَانَ خَلْقًا عَجِيبًا مُسْتَخْرَجًا مِنْ عَلَقَةٍ فَذَلِكَ مَبْدَأُ النَّظَرِ. وَتَهْدِيدُ مَنْ كَذَّبَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَرَّضَ لِيَصُدَّهُ عَنِ الصَّلَاةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْهُدَى وَالتَّقْوَى. وَإِعْلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَمْر من يناوؤنه وَأَنَّهُ قَامِعُهُمْ وَنَاصِرُ رَسُولِهِ. وَتَثْبِيتُ الرَّسُولِ عَلَى مَا جَاءَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّلَاةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. وَأَنْ لَا يَعْبَأَ بِقُوَّةِ أَعْدَائِهِ لِأَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ تَقْهَرُهُمْ. [1- 5] [سُورَة العلق (96) : الْآيَات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ هَذَا أَوَّلُ مَا أُوحِيَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا سَيَأْتِي قَرِيبًا.

وَافْتِتَاحُ السُّورَةِ بِكَلِمَةِ اقْرَأْ إِيذَانٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَكُونُ قَارِئًا، أَيْ تَالِيًا كِتَابًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَلَا كِتَابًا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت: 48] ، أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ حِينَ قَالَ لَهُ اقْرَأْ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» . وَفِي هَذَا الِافْتِتَاحِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ نُطْقٌ بِكَلَامٍ مُعَيَّنٍ مَكْتُوبٍ أَوْ مَحْفُوظٍ عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [98] . وَالْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ مِنَ الطَّلَبِ لِتَحْصِيلِ فِعْلٍ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، فَالْمَطْلُوبُ بِقَوْلِهِ: اقْرَأْ أَنْ يَفْعَلَ الْقِرَاءَةَ فِي الْحَالِ أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ مِنَ الْحَالِ، أَيْ أَنْ يَقُولَ مَا سَيُمْلَى عَلَيْهِ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِقِرَاءَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِمْلَاءُ كَلَامٍ عَلَيْهِ مَحْفُوظٍ فَتُطْلَبَ مِنْهُ قِرَاءَتُهُ، وَلَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ صَحِيفَةٌ فَتُطْلَبَ مِنْهُ قِرَاءَتُهَا، فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْمُعَلِّمُ لِلتِّلْمِيذِ: اكْتُبْ، فَيَتَأَهَّبُ لِكِتَابَةِ مَا سَيُمْلِيهِ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهَا فِيهِ: «حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ فَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهَا قَالَ: «فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ» . وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَتْهُ فِيهِ مِمَّا رَوَتْهُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ وَقَدْ قَالَتْ فِيهِ: «فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» أَيْ فَرَجَعَ بِالْآيَاتِ الَّتِي أُمْلِيَتْ عَلَيْهِ، أَيْ رَجَعَ مُتَلَبِّسًا بِهَا، أَيْ بِوَعْيِهَا.

وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّى مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَهُ حِينَئِذٍ وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا قَوْلُهَا فِي الْحَدِيثِ: «فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ» ، أَيِ اسْمَعِ الْقَوْلَ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهَذَا ينبىء بِأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد مَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ الْغَطَّةِ الثَّالِثَةِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْآيَاتِ الْخَمْسَ قَدْ قَرَأَهَا سَاعَتَئِذٍ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَجَعَ مِنْ غَارِ حِرَاءٍ إِلَى بَيْتِهِ يَقْرَؤُهَا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُ الْمَلَكِ لَهُ فِي الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ اقْرَأْ إِعَادَةً لِلَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ إِعَادَةَ تَكْرِيرٍ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّمْهَا مِنْ قَبْلُ. وَلَمْ يُذْكَرْ لِفِعْلِ اقْرَأْ مَفْعُولٌ، إِمَّا لِأَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوْجَدِ الْقِرَاءَةَ، وَإِمَّا لِظُهُورِ الْمَقْرُوءِ مِنَ الْمَقَامِ، وَتَقْدِيرُهُ: اقْرَأْ مَا سَنُلْقِيهِ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ بِاسْمِ رَبِّكَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ افْتِتَاحَ كَلَامٍ بَعْدَ جُمْلَةِ اقْرَأْ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَقْرُوءِ، أَيْ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ فَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ابْتَدِئْ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ اقْرَأْ الثَّانِي فَيَكُونُ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَعْمُولِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ اسْمِ اللَّهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِ اللَّهِ ذِكْرُ اسْمِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ (اسْمِ) لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى لَا بِذَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ حِينَ تَلَقَّى هَذِهِ الْجُمْلَةَ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ وَيَكُونَ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اقْرَأْ الثَّانِي مُقَدَّمًا عَلَى عَامِلِهِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ اقْرَأْ مَا سَيُوحَى إِلَيْكَ مُصَاحِبًا قِرَاءَتَكَ (اسْمَ رَبِّكَ) . فَالْمُصَاحِبَةُ مُصَاحَبَةُ الْفَهْمِ وَالْمُلَاحَظَةِ لِجَلَالِهِ، وَيَكُونُ هَذَا إِثْبَاتًا لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالًا لِلنِّدَاءِ بِاسْمِ الْأَصْنَامِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: بِاسْمِ اللَّاتِ، بِاسْمِ الْعُزَّى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَسْمَلَةِ. فَهَذَا أَوَّلُ مَا جَاءَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ قَدِ افْتُتِحَ بِهِ أَوَّلُ الْوَحْيِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ [آل عمرَان: 75] ، أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ. وَالْمَعْنَى: اقْرَأْ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، أَيْ عَلَى إِذْنِهِ، أَيْ أَنَّ الْمَلَكَ جَاءَكَ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، أَيْ مُرْسَلًا مِنْ رَبِّكَ، فَذِكْرُ (اسْمِ) عَلَى هَذَا مُتَعَيِّنٌ.

وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ إِلَى صِفَةِ رَبِّكَ لِمَا يُؤْذِنُ وَصْفُ الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ بِالْمَرْبُوبِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، مَعَ مَا يَتَأَتَّى بِذِكْرِهِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِضَافَةً مُؤْذِنَةً بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُبُوبِيَّتِهِ عِنْدَهُ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا لِلتَّوْحِيدِ فِي الْإِسْلَامِ. وَجِيءَ فِي وَصْفِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ الَّذِي خَلَقَ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَيُتْلَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِمَا تُفِيدُهُ الْمَوْصُولِيَّةُ من الْإِيمَاء إِي عِلَّةِ الْخَبَرِ، وَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْإِقْبَالِ عَلَى ذِكْرِ اسْمِ الرَّبِّ هِيَ أَنَّهُ خَالِقٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْإِقْبَالِ عَلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِخَالِقٍ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقْبِلُونَ عَلَى اسْمِ اللَّاتِ وَاسْمِ الْعُزَّى، وَكَوْنُ اللَّهِ هُوَ الْخَالِقَ يَعْتَرِفُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: 25] فَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مقَام ابْتِدَاء كتاب الْإِسْلَامِ دِينِ التَّوْحِيدِ كَانَ مُقْتَضِيًا لِذِكْرِ أَدَلِّ الْأَوْصَافِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. وَجُمْلَةُ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ الَّذِي خَلَقَ بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ، أَوْ بَدَلَ بَعْضٍ إِنْ قُدِّرَ لَهُ مَفْعُولٌ عَامٌّ، وَسُلِكَ طَرِيقُ الْإِبْدَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ ابْتِدَاءً لِإِقَامَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى افْتِقَارِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الشُّرُوعِ فِي تَأْسِيسِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. فَفِي الْإِجْمَالِ إِحْضَارٌ لِلدَّلِيلِ مَعَ الِاخْتِصَارِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِفَادَةِ التَّعْمِيمِ ثُمَّ يَكُونُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا مِنَ الَّذِي خَلَقَ إِذَا قُدِّرَ لِفِعْلِ خَلَقَ الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ دَلَّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. وَعَدَمُ ذِكْرِ مَفْعُولٍ لِفِعْلِ خَلَقَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ الَّذِي هُوَ الْخَالِقُ وَأَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ خَلَقَ الْإِنْسانَ، فَهَذِهِ مَعَانٍ فِي الْآيَةِ.

وَخُصَّ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّهُ الْمُطَّرِدُ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ إِذْ لَا يَغْفُلُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخْطُرَ لَهُ خَاطِرُ الْبَحْثِ عَنِ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] . وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ضَلُّوا عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ دَلِيلَ الْوَحْدَانِيَّةِ قَائِمٌ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ عَلَقٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْطَوِي فِي أَصْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ بَدِيعِ الْأَطْوَارِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي جَعَلَتْهُ سُلْطَانَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَالْعَلَقُ: اسْمُ جَمْعِ عَلَقَةٍ وَهِيَ قِطْعَةٌ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنَ الدَّمِ الْغَلِيظِ الْجَامِدِ الْبَاقِي رَطْبًا لَمْ يَجِفَّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا لَهَا بِدُودَةٍ صَغِيرَةٍ تُسَمَّى عَلَقَةً، وَهِيَ حَمْرَاءُ دَاكِنَةٌ تَكُونُ فِي الْمِيَاهِ الْحُلْوَةِ، تَمْتَصُّ الدَّمَ مِنَ الْحَيَوَانِ إِذَا عَلِقَ خُرْطُومُهَا بِجِلْدِهِ وَقَدْ تَدْخَلُ إِلَى فَمِ الدَّابَّةِ وَخَاصَّةً الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ فَتَعْلَقُ بِلَهَاتِهِ وَلَا يَتَفَطَّنُ لَهَا. وَمَعْنَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أَنَّ نُطْفَةَ الذَّكَرِ وَنُطْفَةَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ وَمُضِيِّ مُدَّةٍ كَافِيَةٍ تَصِيرَانِ عَلَقَةً فَإِذَا صَارَتْ عَلَقَةً فَقَدْ أَخَذَتْ فِي أَطْوَارِ التَّكَوُّنِ، فَجُعِلَتِ الْعَلَقَةُ مَبْدَأَ الْخَلْقِ وَلَمْ تُجْعَلِ النُّطْفَةُ مَبْدَأَ الْخَلْقِ لِأَنَّ النُّطْفَةَ اشْتُهِرَتْ فِي مَاءِ الرَّجُلِ فَلَوْ لَمْ تُخَالِطْهُ نُطْفَةُ الْمَرْأَةِ لَمْ تَصِرِ الْعَلَقَةُ فَلَا يَتَخَلَّقُ الْجَنِينُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ عَلَقٍ ثُمَّ مَصِيرَهُ إِلَى كَمَالِ أَشُدِّهِ هُوَ خَلْقٌ يَنْطَوِي عَلَى قُوًى كَامِنَةٍ وَقَابِلِيَّاتٍ عَظِيمَةٍ أَقْصَاهَا قَابِلِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ. وَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ ذِكْرُ الْعَلَقَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْعِلْمِ الْآنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَلَّقُ مِنْ بُوَيْضَةٍ دَقِيقَةٍ جِدًّا لَا تُرَى إِلَّا بِالْمِرْآةِ الْمُكَبِّرَةِ أَضْعَافًا تَكُونُ فِي مَبْدَأِ ظُهُورِهَا كُرَوِيَّةَ الشَّكْلِ سَابِحَةً فِي دَمِ حَيْضِ الْمَرْأَةِ فَلَا تَقْبَلُ التَّخَلُّقَ حَتَّى تُخَالِطَهَا نُطْفَةُ الرَّجُلِ فَتَمْتَزِجَ مَعَهَا فَتَأْخُذَ فِي التَّخَلُّقِ إِذَا لَمْ يَعُقْهَا عَائِقٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الْحَج: 5] ، فَإِذَا أَخَذَتْ فِي التَّخَلُّقِ وَالنُّمُوِّ امْتَدَّ تَكَوُّرُهَا قَلِيلًا فَشَابَهَتِ الْعَلَقَةَ الَّتِي فِي الْمَاءِ مُشَابَهَةً تَامَّةً فِي دِقَّةِ الْجِسْمِ وَتَلَوُّنِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ الَّذِي هِيَ سَابِحَةٌ فِيهِ وَفِي كَوْنِهَا سَابِحَةً فِي سَائِلٍ كَمَا تَسْبَحُ الْعَلَقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ وَأَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.

وَمَعْنَى حَرْفِ مِنْ الِابْتِدَاءُ. وَفِعْلُ اقْرَأْ الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِ اقْرَأْ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فَلَهَا حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ، ورَبُّكَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ إِمَّا الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَإِمَّا جُمْلَةُ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ بَيَانِيٌّ. فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْآيَةِ مُسْتَقِلَّةً عَمَّا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي وَصْفِ سَبَبِ نُزُولِهَا كَانَ الِاسْتِئْنَافُ نَاشِئًا عَنْ سُؤَالٍ يَجِيشُ فِي خَاطِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ أَقْرَأُ وَأَنَا لَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، فَأُجِيبُ بِأَنَّ الَّذِي عَلَّمَ الْقِرَاءَةَ بِوَاسِطَةِ الْقَلَمِ، أَيْ بِوَاسِطَةِ الْكِتَابَةِ يُعَلِّمُكَ مَا لَمْ تَعْلَمْ. وَإِذَا قَرَنْتَ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ لِجِبْرِيلَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَالْمَعْنَى: لَا عَجَبَ فِي أَنْ تَقْرَأَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ عَالِمًا بِالْقِرَاءَةِ إِذِ الْعِلْمُ بِالْقِرَاءَةِ يَحْصُلُ بِوَسَائِلَ أُخْرَى مِثْلَ الْإِمْلَاءِ وَالتَّلْقِينِ وَالْإِلْهَامِ وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ قَارِئًا. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ: وَعَلَّمَ بِالْقَلَمِ. فَعُدِلَ عَنِ الْإِضْمَارِ لِتَأْكِيدِ مَا يُشْعِرُ بِهِ رَبُّكَ مِنَ الْعِنَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ شَأْن من شؤون الرَّبِّ اخْتَصَّ بِهَا عَبْدَهُ إِتْمَامًا لِنِعْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ. وَلِيَجْرِيَ عَلَى لَفْظِ الرَّبِّ وَصْفُ الْأَكْرَمُ. وَوَصْفُ الْأَكْرَمُ مَصُوغٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الِاتِّصَافِ بِالْكَرَمِ وَلَيْسَ مَصُوغًا لِلْمُفَاضَلَةِ فَهُوَ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ.

وَالْكَرَمُ: التَّفَضُّلُ بِعَطَاءِ مَا يَنْفَعُ الْمُعْطَى، وَنِعَمُ اللَّهِ عَظِيمَةٌ لَا تُحْصَى ابْتِدَاءً مِنْ نِعْمَةِ الْإِيجَادِ، وَكَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ، وَالْإِمْدَادِ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فَوَصْفُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ الْوُجُودَ وَالْوَحْدَانِيَّةَ، وَوَصْفُ الَّذِي خَلَقَ وَوَصْفُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يَقْتَضِيَانِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْقَرِيبِ عَلَى ثُبُوتِ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَوْصُولِيَّةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الَّذِي يُذْكَرُ مَعَهَا. وَوَصْفُ الْأَكْرَمُ يَتَضَمَّنُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالتَّنْزِيهَ عَنِ النَّقَائِصِ. وَمَفْعُولَا عَلَّمَ بِالْقَلَمِ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ: بِالْقَلَمِ وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَ الْكَاتِبِينَ أَوْ عَلَّمَ نَاسًا الْكِتَابَةَ، وَكَانَ الْعَرَبُ يُعَظِّمُونَ عِلْمَ الْكِتَابَةِ وَيَعُدُّونَهَا مِنْ خَصَائِصِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ: كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا ... يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ وَيَتَفَاخَرُ مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ بِعِلْمِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَعَلَّمْتُ بَاجَادَ وَآلَ ... مُرَامِرٍ وَسَوَّدْتُ أَثْوَابِي وَلَسْتُ بِكَاتِبِ وَذُكِرُ أَنَّ ظُهُورَ الْخَطِّ فِي الْعَرَبِ أَوَّلَ مَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْأَنْبَارِ، وَأَدْخَلَ الْكِتَابَةَ إِلَى الْحِجَازِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ تَعَلَّمَهُ مِنْ أَسْلَمَ بْنِ سِدْرَةَ وَتَعَلَّمَهُ أَسْلَمُ مِنْ مُرَامِرِ بْنِ مُرَّةَ وَكَانَ الْخَطُّ سَابِقًا عِنْدَ حِمْيَرَ بِالْيَمَنِ وَيُسَمَّى الْمُسْنَدَ. وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الصِّلَةِ بِالذِّكْرِ وَجَعْلِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى إِزَالَةِ مَا خَطَرَ بِبَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْكِتَابَةَ فَكَيْفَ الْقِرَاءَةُ إِذْ قَالَ لِلْمَلَكِ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» اعْتِذَارٌ عَنْ تَعَذُّرِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ: اقْرَأْ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي عَلَّمَ النَّاسَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ وَالْقِرَاءَةَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَكَ الْقِرَاءَةَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ الْكِتَابَةَ. وَالْقَلَمُ: شَظِيَّةٌ مِنْ قَصَبٍ تُرَقَّقُ وَتُثَقَّفُ وَتُبْرَى بِالسِّكِّينِ لِتَكُونَ مَلْسَاءَ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَيُجْعَلُ طَرَفُهَا مَشْقُوقًا شَقًّا فِي طُولِ نِصْفِ الْأُنْمُلَةِ، فَإِذَا بُلَّ ذَلِكَ الطَّرَفُ

بِسَائِلِ الْمِدَادِ يُخَطُّ بِهِ عَلَى الْوَرَقِ وَشِبْهِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [44] . وَجُمْلَةُ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَيَكُونُ ارْتِقَاءً فِي الْإِعْلَامِ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ بِتَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ تَخْصِيصِ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ. وَقَدْ حَصَلَتْ مِنْ ذِكْرِ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ وَالتَّعْلِيمِ الْأَعَمِّ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَتَلَقَّاهُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّعَالِيمِ سَوَاءٌ كَانَ بِالدَّرْسِ أَمْ بِمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَأَنَّ تَحْصِيلَ الْعُلُومِ يَعْتَمِدُ أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: الْأَخْذُ عَنِ الْغَيْرِ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَالْمُطَالَعَةِ، وَطَرِيقُهُمَا الْكِتَابَةُ وَقِرَاءَةُ الْكُتُبِ فَإِنَّ بِالْكِتَابَةِ أَمْكَنَ لِلْأُمَمِ تَدْوِينُ آرَاءِ عُلَمَاءِ الْبَشَرِ وَنَقْلُهَا إِلَى الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ وَفِي الْأَجْيَالِ الْجَائِيَةِ. وَالثَّانِي: التَّلَقِّي مِنَ الْأَفْوَاهِ بِالدَّرْسِ وَالْإِمْلَاءِ. وَالثَّالِثُ: مَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعُقُولُ مِنَ الْمُسْتَنْبَطَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ. وَهَذَانِ دَاخِلَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَفِي ذَلِكَ اطْمِئْنَانٌ لِنَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عَدَمَ مَعْرِفَتِهِ الْكِتَابَةَ لَا يَحُولُ دُونَ قِرَاءَتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَالَّذِي عَلَّمَ الْقِرَاءَةَ لِأَصْحَابِ الْمَعْرِفَةِ بِالْكِتَابَةِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَكَ الْقِرَاءَةَ دُونَ سَبْقِ مَعْرِفَةٍ بِالْكِتَابَةِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ مَسْبُوقٌ بِالْجَهْلِ فَكُلُّ عِلْمٍ يَحْصُلُ فَهُوَ عِلْمُ مَا لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ مِنْ قَبْلُ، أَيْ فَلَا يُؤْيِسَنَّكَ مِنْ أَنْ تَصِيرَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ قِرَاءَةَ مَا يُكْتَبُ بِالْقَلَمِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِعِلْمِ الْكِتَابَةِ وَبِأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابًا لِلْوَحْيِ من مبدإ بعثته. وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ إِخْبَارِهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ

[سورة العلق (96) : الآيات 6 إلى 10]

بِالْقَلَمِ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ صِفَةِ الْأُمِّيَّةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا وَصْفٌ مُكَمِّلٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] . وَهَذِهِ آخِرُ الْخَمْسِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَار حراء. [6- 10] [سُورَة العلق (96) : الْآيَات 6 إِلَى 10] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِظُهُورِ أَنَّهُ فِي غَرَضٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَحَرْفُ كَلَّا رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ، وَلَيْسَ فِي الْجُمْلَة الَّتِي قبله مَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَالرَّدْعَ، فَوُجُودُ كَلَّا فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّدْعِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الْآيَةَ. وَحَقُّ كَلَّا أَنْ تَقَعَ بَعْدَ كَلَامٍ لِإِبْطَالِهِ وَالزَّجْرِ عَنْ مَضْمُونِهِ، فَوُقُوعُهَا هُنَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الْآتِي بَعْدَهَا حَقِيقٌ بِالْإِبْطَالِ وَبِرَدْعِ قَائِلِهِ، فَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ الرَّدْعِ لِلْإِبْطَالِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنْ يُفْتَتَحَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ نَفْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَلِيَ الْحَرْفَ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَا وَأَبِيك ابْنة العامر ... يّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرّ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ (أَيْ يَسْجُدُ فِي الصَّلَاةِ) بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدِهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ ، لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ شَيْءٍ بَلَغَهُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الْآيَاتِ اهـ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: ذُكِرَ أَنَّ آيَةَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وَمَا بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا بَلَغْنَا: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ رَقَبَتَهُ. فَجَعَلَ الطَّبَرِيُّ مَا أُنْزِلَ فِي أَبِي جَهْلٍ مَبْدُوءًا بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ النَّازِلَ فِي أَبِي جَهْلٍ بَعْضُهُ مَقْصُودٌ وَهُوَ مَا أَوَّلُهُ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إِلَخْ، وَبَعْضُهُ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ وَهُوَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إِلَى الرُّجْعى وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ نَزَلَتْ عَقِبَ الْخَمْسِ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ وَجَعَلُوا مِمَّا يُنَاكِدُهُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَفِيمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَكَانَ الْإِسْرَاءُ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِسِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَزَلَ بَيْنَهُنَّ قُرْآنٌ آخَرُ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِلْحَاقِهَا، وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ: لَيْسَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَنَا لَا أَرَى مُنَاكَدَةً تُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْحَيْرَةِ وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَمَا عَقِبَهُ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ الْوَحْيَ فَتَرَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْأَوَائِلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَتِلْكَ الْفَتْرَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى، وَهُنَاكَ فَتْرَةٌ لِلْوَحْيِ هَذِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهَا حَصَلَتْ عَقِبَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْأُوَلِ وَلَكِنَّ أَقْوَالَهُمُ اخْتَلَفَتْ فِي مُدَّةِ الْفَتْرَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَتِ الْمُدَّةُ سَنَتَيْنِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَيْسَ تَحْدِيدُ مُدَّتِهَا بِالْأَمْرِ الْمُهِمِّ وَلَكِنَّ الَّذِي يُهِمُّ هُوَ أَنَّا نُوقِنُ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مُدَّةِ فَتْرَةِ الْوَحْي يرى جِبْرِيل وَيَتَلَقَّى مِنْهُ وَحْيًا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : ذَكَرَ الْحَرْبِيُّ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَانَتْ صَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (أَيِ الْعَصْرُ) وَصَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِهَا (أَيِ الصُّبْحُ) ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ وَفَرْضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ اهـ. فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ يُصليهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلْ كَانَتْ هَيْئَةً غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ وَفِيهَا سُجُودٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19]

يُؤَدِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَرْأًى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَنَهَاهُ عَنْهَا. فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى بَقِيَّةِ السُّورَةِ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ نُزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ حَدَثَتْ فِيهَا صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَشَا فِيهَا خَبَرُ بَدْءِ الْوَحْيِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، جَرْيًا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ فِي الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَعَاقَبَتْ فِي النُّزُولِ إِلَّا مَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهُ بِدَلِيلٍ بَيِّنٍ، وَجَرْيًا عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى خِلَافِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ. فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى مَوْقِعُ الْمُقَدِّمَةِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: لَا تُطِعْهُ [العلق: 19] لِأَنَّ مَضْمُونَهُ كَلِمَةٌ شَامِلَةٌ لِمَضْمُونِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [العلق: 17] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو جهل ناشىء عَنْ طُغْيَانِهِ بِسَبَبِ غِنَاهُ كَشَأْنِ الْإِنْسَانِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْجِنْسِ، أَيْ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَطْغَى إِذَا أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ الِاسْتِغْنَاءَ، وَاللَّامُ مُفِيدَةٌ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ، أَيْ أَغْلَبُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ خُلُقُهُ أَوْ دِينُهُ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَحْقِيقِهِ لِغَرَابَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَشُكَّ السَّامِعُ فِيهِ. وَالطُّغْيَانُ: التَّعَاظُمُ وَالْكِبْرُ. وَالِاسْتِغْنَاءُ: شِدَّةُ الْغِنَى، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ وَاسْتقر. وأَنْ رَآهُ مُتَعَلِّقٌ بِ «يَطْغَى» بِحَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ حَذْفَ الْجَارِّ مَعَ (أَن) كَثِيرٌ شَائِع، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْإِنْسَان ليطْغى لرُؤْيَته نَفْسِهِ مُسْتَغْنِيًا. وَعِلَّةُ هَذَا الْخَلْقِ أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ تُحَدِّثُ صَاحِبَهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى غَيْرِهِ

وَأَنَّ غَيْرَهُ مُحْتَاجٌ فَيَرَى نَفْسَهُ أَعْظَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ يَرْبُو فِي نَفسه حَتَّى يصير خُلُقًا حَيْثُ لَا وَازِعَ يَزَعُهُ مِنْ دِينٍ أَوْ تَفْكِيرٍ صَحِيحٍ فَيَطْغَى عَلَى النَّاسِ لِشُعُورِهِ بِأَنَّهُ لَا يَخَافُ بَأْسَهُمْ لِأَنَّ لَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الِاعْتِدَاءَ مِنْ لَامَةِ سِلَاحٍ وَخَدَمٍ وَأَعْوَانٍ وَعُفَاةٍ وَمُنْتَفِعِينَ بِمَالِهِ مِنْ شُرَكَاءَ وَعُمَّالٍ وَأُجَرَاءَ فَهُوَ فِي عِزَّةٍ عِنْدَ نَفْسِهِ. فَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَقِيقَةً نَفْسِيَّةً عَظِيمَةً مِنَ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ النَّفْسِ. وَنَبَّهَتْ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ تَغَلْغُلِهَا فِي النَّفْسِ. وَضمير رَآهُ الْمُسْتَتر الْمَرْفُوع على الفاعلية وضميره البارز الْمَنْصُوب على المفعولية كِلَاهُمَا عَائِد إِلَى الْإِنْسَان، أَي أَن رأى نَفسه اسْتغنى. وَلَا يَجْتَمِعُ ضَمِيرَانِ مُتَّحِدَا الْمَعَادِ: أَحَدُهُمَا فَاعِلٌ، وَالْآخَرُ مَفْعُولٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا كَمَا فِي هَذِه الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [62] . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَطْرَحُ النَّفْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ (أَيْ جِنْسِ أَفْعَالِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ) تَقُولُ: رَأَيْتُنِي وَحَسِبْتُنِي، وَمَتَى تُرَاكَ خَارِجًا، وَمَتَى تَظُنُّكَ خَارِجًا، وَأُلْحِقَتْ (رَأَى) الْبَصَرِيَّةُ بِ (رَأَى) الْقَلْبِيَّةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النُّحَاةِ كَمَا فِي قَوْلِ قُطْرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ: فَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً ... مِنْ عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وَأَمَامِي وَمِنَ النَّادِرِ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ: قَدْ بِتُّ أَحْرُسُنِي وَحْدِي وَيَمْنَعُنِي ... صَوْتُ السِّبَاعِ بِهِ يَضْبَحْنَ وَالْهَامِ وَقَرَأَ الْجَمِيعُ أَنْ رَآهُ بِأَلْفٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ، وَرَوَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ قُنْبُلٍ أَنَّهُ قَرَأَهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ «رَأْهُ» بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ، قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: هَذَا غَلَطٌ وَلَا يَعْبَأُ بِكَلَامِ ابْنِ مُجَاهِدٍ بَعْدَ أَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ قُنْبُلٍ، لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ قُنْبُلٍ فَيَكُونُ وَجْهًا غَرِيبًا عَنْ قُنْبُلٍ. وَأَلْحَقُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ: فِعْلُ فَقَدَ وَفِعْلُ عَدِمَ إِذَا اسْتُعْمِلَا فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: فَقَدْتُنِي وَعَدِمْتُنِي.

وَجُمْلَةُ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْمَقْصِدِ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مَرْجِعُ الطَّاغِي إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَوْعِظَةٌ وَتَهْدِيدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الطُّغَاةِ، وَتَعْلِيمٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتٌ لَهُ، أَيْ لَا يَحْزُنْكَ طُغْيَانُ الطَّاغِي فَإِنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيَّ، وَمَرْجِعُ الطَّاغِي إِلَى الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ: 21، 22] وَهِي مَوْعِظَةٌ لِلطَّاغِي بِأَنَّ غِنَاهُ لَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَوْتَ، وَالْمَوْتُ: رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6] . وَفِيهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اسْتِغْنَاءَهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى اللَّهِ فِي أَهَمِّ أُمُورِهِ وَلَا يَدْرِي مَاذَا يُصَيِّرُهُ إِلَيْهِ رَبُّهُ مِنَ الْعَوَاقِبِ فَلَا يَزِدْهُ بِغِنًى زَائِفٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ: الرُّجْعى مُسْتَعْمَلًا فِي مَجَازِهِ، وَهُوَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ لِأَنَّ مُعظم الطغاة ينسون هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِحَيْثُ يُنْزِلُونَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُهَا. والرُّجْعى : بِضَمِّ الرَّاءِ مَصْدَرُ رَجَعَ عَلَى زِنَةِ فُعْلَى مِثْلُ الْبُشْرَى. وَتَقْدِيمُ إِلى رَبِّكَ عَلَى الرُّجْعى لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ. وَجُمْلَةُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى آخِرِهَا هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الرَّدْعِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ كَلَّا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُتَّصِلًا بِاسْتِئْنَافِ جُمْلَةِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى والَّذِي يَنْهى اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ أَبُو جَهْلٍ إِذْ قَالَ قَوْلًا يُرِيدُ بِهِ نَهْيَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ فِي نَادِيهِ: لَئِنْ رَأَيْتَ مُحَمَّدًا يُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَإِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَهْدِيدٌ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ نَهَاهُ مشافهة. وأَ رَأَيْتَ كَلِمَةُ تَعْجِيبٍ مِنْ حَالٍ، تُقَالُ لِلَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ رَأَى حَالًا عَجِيبَةً. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، أَيْ أَعَلِمْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ ذَلِكَ الْعِلْمُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ «رَأَيْتَ» مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْجُمَلِ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: 14] .

[سورة العلق (96) : الآيات 11 إلى 12]

وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لِأَنَّ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْ وُقُوعِهَا اسْتِفْهَامَ تَحْقِيقٍ وَتَثْبِيتٍ لِنَبَئِهَا إِذْ لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ بِهِ، فَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي التَّرْكِيبِ. وَمَجِيءُ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ كَثِيرٌ نَحْوُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] . وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَعْجَبُ مَا حَصَلَ لَكَ مِنَ الْعِلْمِ قَالَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً لِأَنَّهَا حِكَايَةُ أَمْرٍ وَقَعَ فِي الْخَارِجِ وَالْخِطَابُ فِي أَرَأَيْتَ لِغَيْرٍ مُعَيَّنٍ. وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِطْلَاقُ الْعَبْدِ هُنَا على معنى الْوَاحِد مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَيْ شَخْصٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: 5] ، أَيْ رِجَالًا. وَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ لِأَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ نَفْسِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّةِ الْمُصَلِّي. فَشُمُولُهُ لِنَهْيِهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَعُ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَنْهى لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ نَهْيَهُ قَدْ مَضَى. وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَحْذُوفٌ يُغْنِي عَنْهُ تَعْلِيقُ الظَّرْفِ بِفِعْلِ يَنْهى أَي نَهَاهُ عَن صلَاته. [11- 12] [سُورَة العلق (96) : الْآيَات 11 إِلَى 12] أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) تَعْجِيبٌ آخَرُ من حَال مَفْرُوض وُقُوعُهُ، أَيْ أَتَظُنُّهُ يَنْهَى أَيْضًا عَبْدًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْهُدَى فَتَعْجَبُ مِنْ نَهْيِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَهُ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى الْهُدَى أَيَنْهَاهُ عَنِ الْهُدَى، أَوْ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ آمِرًا بِالتَّقْوَى أَيَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّنُّ بِهِ فَيَعْجَبُ الْمُخَاطَبُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ نَهَى عَنِ الْهُدَى، وَيُوشِكُ أَنْ يَنْهَى عَنْ أَن يَأْمر أحد بِالتَّقْوَى. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وَأَتَى بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ مُجَارَاةً لِحَالِ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا.

[سورة العلق (96) : الآيات 13 إلى 14]

وَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَحُذِفَ مَفْعُولَا فِعْلِ الرُّؤْيَةِ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الَّذِي يَنْهى [العلق: 9] عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَدَلَالَةِ يَنْهى عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ شِدَّةُ التَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى بِحَيْثُ يُشْبِهُ تَمَكُّنُ الْمُسْتَعْلِي عَلَى الْمَكَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [لُقْمَان: 5] . فَالضَّمِيرَانِ الْمُسْتَتِرَانِ فِي فِعْلَيْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى عَائِدَانِ إِلَى عَبْداً وَإِنْ كَانَتِ الضَّمَائِرُ الْحَافَّةُ بِهِ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] فَإِنَّ السِّيَاقَ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ «رَأَيْتَ» مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: 14] أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَنْهى الْمُتَقَدِّمَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَهُ. وَجَوَابُ: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَيَنْهَاهُ أَيْضًا. وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ التَّكْرِيرِ لِأَنَّ فِيهَا تَكْرِيرَ التَّعْجِيبِ مِنْ أَحْوَالٍ عَدِيدَةٍ لشخص وَاحِد. [13، 14] [سُورَة العلق (96) : الْآيَات 13 إِلَى 14] أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي، أَيْ إِذَا كَذَّبَ بِمَا يُدْعَى إِلَيْهِ وَتَوَلَّى أَتَظُنُّهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ. فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ «رَأَيْتَ» مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الَّذِي يَنْهى [العلق: 9] وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَهُ إِنْ كَذَّبَ ... إِلَى آخِرِهِ. وَجَوَابُ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هُوَ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كَذَا قَدَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ وُجُوبَ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِفْهَامِيَّةً. وَصَرَّحَ الرَّضِيُّ بِاخْتِيَارِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ وَنَظَرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 47] فَأَمَّا قَوْلُ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» فَهُوَ وُجُوبُ الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ

[سورة العلق (96) : الآيات 15 إلى 16]

يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ جَوَابِ الشَّرْطِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِ، كِنَايَةٌ عَنْ تَوَعُّدِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْكَارِ جَهْلِ الْمُكَذِّبِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُعَاقِبُهُ، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ سَادَّانِ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَكُنِّيَ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى عَنِ الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ. وَضُمِّنَ فِعْلُ يَعْلَمْ مَعْنَى يُوقِنُ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ. وَعُلِّقَ فِعْلُ أَرَأَيْتَ هُنَا عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمْ وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ وَيَقِيَ نَفْسَهُ الْعِقَابَ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى إِيذَانٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَبَا جَهْلٍ سَيُكَذِّبُهُ حِينَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَسَيَتَوَلَّى، وَوَعْدٌ بِأَن الله ينتصف لَهُ مِنْهُ. وَضَمِيرُ كَذَّبَ وَتَوَلَّى عَائِدٌ إِلَى الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] ، وَقَرِينَةُ الْمَقَامِ تُرْجِعُ الضَّمَائِرَ إِلَى مَرَاجِعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ كَذَّبَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَذَّبَهُ، أَيِ الْعَبْدُ الَّذِي صَلَّى، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَتِ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ فِي نِسْبَةِ مَعَانِيهَا إِلَى الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى وَإِلَى الْعَبْدِ الَّذِي صَلَّى، وَانْدَفَعَتْ عَنْكَ تَرَدُّدَاتٌ عَرَضَتْ فِي التَّفَاسِيرِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَرى لِيَعُمَّ كُلَّ مَوْجُودٍ، وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعَلُّقُ علمه بالمحسوسات. [15، 16] [سُورَة العلق (96) : الْآيَات 15 إِلَى 16] كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) كَلَّا أَكَّدَ الرَّدْعَ الْأَوَّلَ بِحَرْفِ الرَّدْعِ الثَّانِي فِي آخِرِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الْمَوْقِعُ الْحَقِيقُ لِحَرْفِ الرَّدْعِ إِذْ كَانَ تَقْدِيمُ نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ، لِمَا دَعَا إِلَيْهِ لِمَقَامٍ مِنَ التَّشْوِيقِ.

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ 15 ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ 16 أَعْقَبَ الرَّدْعَ بِالْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يَرْتَدِعْ وَيَنْتَهِ عَنْهُ. وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقِسْمِ، وَجُمْلَةُ «لَنَسْفَعَنْ» جَوَابُ الْقَسَمِ، وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ فَمَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالسَّفْعُ: الْقَبْضُ الشَّدِيدُ بِجَذْبٍ. وَالنَّاصِيَةُ مُقَدَّمُ شَعَرِ الرَّأْسِ، وَالْأَخْذُ مِنَ النَّاصِيَةِ أَخْذُ مَنْ لَا يَتْرُكُ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنَ الِانْفِلَاتِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَخْذِهِ إِلَى الْعَذَابِ، وَفِيهِ إِذْلَالٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْبِضُونَ عَلَى شَعَرِ رَأْسِ أَحَدٍ إِلَّا لضربه أَو جرّه. وَأَكَّدَ ذَلِكَ السَّفْعَ بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ. وَالنُّونُ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ الَّتِي يَكْثُرُ دُخُولُهَا فِي الْقَسَمِ الْمُثْبَتِ، وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفًا رَعْيًا لِلنُّطْقِ لَهَا فِي الْوَقْفِ لِأَنَّ أَوَاخِرَ الْكَلِمِ أَكْثَرُ مَا تُرْسَمُ عَلَى مُرَاعَاةِ النُّطْقِ فِي الْوَقْفِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّاصِيَةِ» لِلْعَهْدِ التَّقْدِيرِيِّ، أَيْ بِنَاصِيَتِهِ، أَيْ نَاصِيَةِ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا نُحَاةُ الْكُوفَةِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَهِيَ تَسْمِيَةٌ حَسَنَةٌ وَإِنْ أَبَاهَا الْبَصْرِيُّونَ فَقَدَّرُوا فِي مَثَلِهِ مُتَعَلِّقًا لِمَدْخُولِ اللَّامِ. وناصِيَةٍ بَدَلٌ مِنَ النَّاصِيَةِ وَتَنْكِيرُهَا لِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، أَيْ هِيَ مِنْ جِنْسِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ. وخاطِئَةٍ اسْمُ فَاعل من خطىء مِنْ بَابِ عَلِمَ، إِذَا فَعَلَ خَطِيئَةً، أَيْ ذَنْبًا، وَوَصْفُ النَّاصِيَةِ بِالْكَاذِبَةِ وَالْخَاطِئَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمُرَادُ: كَاذِبٌ صَاحِبُهَا خَاطِئٌ صَاحِبُهَا، أَيْ آثِمٌ. وَمُحَسِّنُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ فِيهِ تَخْيِيلًا بِأَن الْكَذِب والخطء بَادِيَانِ مِنْ نَاصِيَتِهِ فَكَانَتِ النَّاصِيَةُ جديرة بالسفع.

[سورة العلق (96) : الآيات 17 إلى 19]

[سُورَة العلق (96) : الْآيَات 17 إِلَى 19] فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ 17 سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ 18 كَلَّا تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعْدِ. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا، وَتَوَعَّدَهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يَعْنِي أَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ تَهْدِيدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يُغْرِي عَلَيْهِ أَهْلَ نَادِيهِ. وَالنَّادِي: اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَوْمُ. يُقَالُ: نَدَا الْقَوْم ندوا، إِذْ اجْتَمَعُوا. وَالنَّدْوَةُ (بِفَتْحِ النُّونِ) الْجَمَاعَةُ، وَيُقَالُ: نَادٍ وَنَدِيٌّ، وَلَا يُطْلِقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَكَانِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَوْمُ مُجْتَمِعِينَ فِيهِ فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَلَيْسَ بِنَادٍ، وَيُقَالُ النَّادِي لِمَجْلِسِ الْقَوْمِ نَهَارًا، فَأَمَّا مَجْلِسُهُمْ فِي اللَّيْلِ فَيُسَمَّى الْمُسَامَرَ قَالَ تَعَالَى: سامِراً تَهْجُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 67] . وَاتَّخَذَ قُصَيٌّ لِنَدْوَةِ قُرَيْشٍ دَارًا تُسَمَّى دَارَ النَّدْوَةِ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَجَعَلَهَا لِتَشَاوُرِهِمْ وَمُهِمَّاتِهِمْ وَفِيهَا يُعْقَدُ عَلَى الْأزْوَاج، وفيهَا تدرّع الْجَوَارِي، أَي يلبسونهن الدُّرُوعَ، أَيِ الْأَقْمِصَةَ إِعْلَانًا بِأَنَّهُنَّ قَارَبْنَ سِنَّ الْبُلُوغِ، وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتِ اشْتَرَتْهَا الْخَيْزُرَانُ زَوْجَةُ الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَدْخَلَتْهَا فِي سَاحَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأُدْخِلَ بَعْضُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي زِيَادَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَبَعْضُهَا فِي زِيَادَةِ أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور، فَبَقيت بَقِيَّتُهَا بَيْتًا مُسْتَقِلًّا وَنَزَلَ بِهِ الْمَهْدِيُّ سَنَةَ 160 فِي مُدَّةِ خِلَافَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ لَمَّا زَادَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جُعِلَ مَكَانَ دَارِ النَّدْوَةِ مَسْجِدًا مُتَّصِلًا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ ثُمَّ هُدِمَ وَأُدْخِلَتْ مِسَاحَتُهُ فِي مِسَاحَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَهَا الْمَلِكُ سُعُودُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَلِكُ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ سَنَةَ 1379. وَيُطْلَقُ النَّادِي عَلَى الَّذِينَ يَنْتَدُونَ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: إِنِّي لَأَكْثَرُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، أَيْ نَاسًا يَجْلِسُونَ إِلَيَّ يُرِيدُ أَنَّهُ رَئِيسٌ يُصْمَدُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ هُنَا.

وَإِطْلَاقُ النَّادِي عَلَى أَهْلِهِ نَظِيرُ إِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى أَهْلِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: 82] وَنَظِيرُ إِطْلَاقِ الْمَجْلِسِ عَلَى أَهْلِهِ فِي قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السّبال أَذِلَّة ... سواسة أَحْرَارُهَا وَعَبِيدُهَا وَإِطْلَاقُ الْمُقَامَةِ عَلَى أَهْلِهَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ أَيْ أَصْحَابُ مَقَامَاتٍ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ. وَإِطْلَاقُ الْمَجْمَعِ عَلَى أَهْلِهِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: إِنَّا إِذَا الْتَقَتِ الْمَجَامِعُ لَمْ يَزَلْ ... مِنَّا لِزَازٌ عَظِيمَةٌ جِسَامُهَا الْأَبْيَاتِ الْأَرْبَعَةِ. وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَدْعُ نادِيَهُ لِلتَّعْجِيزِ لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ هَدَّدَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَةِ أَنْصَارِهِ وَهُمْ أَهْلُ نَادِيهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَمْرَهُ بِدَعْوَةِ نَادِيهِ فَإِنَّهُ إِنْ دَعَاهُمْ لِيَسْطُوا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا اللَّهُ مَلَائِكَةً فَأَهْلَكُوهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُعْجِزَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ تَحَدَّى أَبَا جَهْلٍ بِهَذَا وَقَدْ سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ الْقُرْآنَ وَسَمِعَهُ أَنْصَارُهُ فَلَمْ يُقْدِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى السطو على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ يُلْهِبُ حَمِيَّتَهُ. وَإِضَافَةُ النَّادِي إِلَى ضَمِيرِهِ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ وَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ قَالَتْ إِعْرَابِيَّةٌ: «سَيِّدُ نَادِيهْ، وَثِمَالُ عَافِيهْ» . وَقَوْلُهُ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ جَوَابُ الْأَمْرِ التَّعْجِيزِيِّ، أَيْ فَإِنْ دَعَا نَادِيَهُ دَعَوْنَا لَهُمُ الزَّبَانِيَةَ فَفِعْلُ سَنَدْعُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ وَاوِ وَحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ. وَالزَّبَانِيَةُ: بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ جَمْعُ زَبَّانِي بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ، أَوْ جَمْعُ زِبْنِيَةٍ بِكَسْرِ الزَّايِ فَمُوَحِّدَةٍ سَاكِنَةٍ فَنُونٌ مَكْسُورَةٌ فَتَحْتِيَّةٌ مُخَفَّفَةٌ، أَوْ جَمْعُ زِبْنِيٍّ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلَ أَبَابِيلَ وَعَبَادِيدَ. وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْنِ وَهُوَ الدَّفْعُ بِشِدَّةٍ يُقَالُ: نَاقَةٌ زَبُونٌ إِذَا كَانَتْ تَرْكُلُ مَنْ يَحْلِبُهَا، وَحَرْبٌ زَبُونٌ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِتَكَرُّرِ الْقِتَالِ.

فَالزَّبَانِيَةُ الَّذِينَ يَزْبِنُونَ النَّاسَ، أَيْ يَدْفَعُونَهُمْ بِشِدَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ وَيُطْلَقُ الزَّبَانِيَةُ عَلَى أَعْوَانِ الشُّرْطَةِ. وكَلَّا رَدْعٌ لِإِبْطَالِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، أَيْ وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزِ. وَكُتِبَ سَنَدْعُ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ وَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ مُرَاعَاةً لِحَالَةِ الْوَصْلِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلَّ وَقْفٍ وَلَا فَاصِلَةٍ. لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ هَذَا فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] ، أَيْ لَا تَتْرُكْ صَلَاتَكَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا تَخْشَ مِنْهُ. وَأُطْلِقَتِ الطَّاعَةُ عَلَى الْحَذَرِ الْبَاعِثِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَخَفْهُ وَلَا تَحْذَرْهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ. وَأَكَّدَ قَوْلَهُ: لَا تُطِعْهُ بِجُمْلَةِ وَاسْجُدْ اهْتِمَامًا بِالصَّلَاةِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَاقْتَرِبْ لِلتَّنْوِيهِ بِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ جَعَلَ الْمُصَلِّيَ مُقْتَرِبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالِاقْتِرَابُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْقُرْبِ، عَبَّرَ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالتَّطَلُّبِ، أَيِ اجْتَهَدَ فِي الْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ بِالصَّلَاةِ.

97- سورة القدر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 97- سُورَةُ الْقَدْرِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ «سُورَةَ الْقَدْرِ» وَسَمَّاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» «سُورَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي إِحْيَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ عَبَسَ وَقَبْلَ سُورَةِ الشَّمْسِ، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالُوا إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْمُطَفِّفِينَ وَقَبْلَ الْبَقَرَةِ. وَآيَاتُهَا خَمْسٌ فِي الْعَدَدِ الْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالْكُوفِيِّ، وَسِتٌّ فِي الْعَدِّ الْمَكِّيّ والشامي. أغراضها التَّنْوِيهُ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ وَعَظَمَتِهِ بِإِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ... وَالرَّدُّ عَلَى الَّذِينَ جَحَدُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَفْعُ شَأْنِ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَةِ إِنْزَالِهِ.

[سورة القدر (97) : آية 1]

وَتَفْضِيلُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تُوَافِقُ لَيْلَةَ إِنْزَالِهِ مِنْ كُلِّ عَامٍ. ويستتبع ذَلِك تحريض الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحَيُّنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالْقيامِ وَالتَّصَدُّق. [1] [سُورَة الْقدر (97) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَنْوِيهٍ عَظِيمٍ بِالْقُرْآنِ فَافْتُتِحَتْ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَبِالْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ طُرُقِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقَوِّي. وَيُفِيدُ هَذَا التَّقْدِيمُ قَصْرًا وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِي نَفَوْا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ وَإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِلْقُرْآنِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْقُرْآنِ دُونَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ حَاضِرٌ فِي أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ فَكَوْنُ الضَّمِيرِ دُونَ سَبْقِ مَعَادٍ إِيمَاءً إِلَى شُهْرَتِهِ بَيْنَهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فَيَكُونُ فِعْلُ: «أَنْزَلْنَا» مُسْتَعْمَلًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِنْزَالِ لِأَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَمْسُ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ الْعَلَقِ ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثُمَّ عَادَ إِنْزَالُهُ مُنَجَّمًا وَلَمْ يُكْمِلْ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مُقَرَّرًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِقْدَارُهُ وَأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا حَتَّى يَتِمَّ، كَانَ إِنْزَالُهُ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْهُ لِأَنَّ مَا أُلْحِقَ بِالشَّيْءِ يُعَدُّ بِمَنْزِلَةِ أَوَّلِهِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» الْحَدِيثَ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على أَن الصَّلَاة فِيمَا أُلْحِقَ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لَهَا ذَلِكَ الْفَضْلُ، وَأَنَّ الطَّوَافَ فِي زِيَادَاتِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَصِحُّ كُلَّمَا اتَّسَعَ الْمَسْجِدُ. وَمِنْ تَسْدِيدِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ أَنْ وُضِعَتْ سُورَةُ الْقَدْرِ عَقِبَ سُورَةِ الْعَلَقِ مَعَ أَنَّهَا أَقَلُّ عَدَدَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَيِّنَةِ وَسُورٍ بَعْدَهَا، كَأَنَّهُ إِمَاءٌ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنْزَلْناهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي ابْتُدِئَ نُزُولُهُ بِسُورَةِ الْعَلَقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي أُنْزِلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَهُوَ

الْآيَاتُ الْخَمْسُ مِنْ سُورَةِ الْعَلَقِ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُسَمَّى قُرْآنًا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضِيِّ فِي فِعْلِ أَنْزَلْناهُ لَا مَجَازَ فِيهِ. وَقِيلَ: أُطْلِقَ ضَمِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْبَعْضِيَّةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْآيَاتِ الْأُوَلَ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ لَيْلًا وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَدِيثُ بَدْءِ الْوَحْيِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِيهِ: «فَكَانَ يَتَحَنَّثُ فِي غَارِ حِرَاءٍ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعِدَدِ» فَكَانَ تَعَبُّدُهُ لَيْلًا، وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ إِثْرَ فَرَاغِهِ مِنْ تَعَبُّدِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غَارِ حِرَاءٍ إِثْرَ الْفَجْرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ تَلْقِينِهِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ إِذْ يَكُونُ نُزُولُهَا عَلَيْهِ فِي آخِرِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَذَلِكَ أَفْضَلُ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمرَان: 17] . وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ: اسْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلَّيْلَةِ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ أَوَّلَ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا الِاسْمِ كَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَبِذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُهَا بِهَذَا الِاسْمِ تَشْوِيقًا لِمَعْرِفَتِهَا وَلذَلِك عقب بقوله: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 2] . وَالْقَدْرُ الَّذِي عُرِّفَتِ اللَّيْلَةُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ هُوَ بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [3] : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، أَيْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا أَعْطَاهَا مِنَ الْبَرَكَةِ فَتِلْكَ لَيْلَةٌ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا شَرَفًا فَجَعَلَهَا مَظْهَرًا لِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمَهُ فَجَعَلَهَا مَبْدَأَ الْوَحْيِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَدْرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَلَمْ يَقُلْ: فِي لَيْلَةِ قَدْرٍ، بِالتَّنْكِيرِ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَعْلَ هَذَا الْمُرَكَّبَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ، لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِاللَّامِ مَعَ تَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِالْإِضَافَةِ أَوْغَلُ فِي جَعْلِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ لَقَبًا لِاجْتِمَاعِ تَعْرِيفَيْنِ فِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الْبَقَرَة: 185] . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ إِذْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ

[سورة القدر (97) : آية 2]

الْبَقَرَةِ بِسِنِينَ إِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً أَوْ بِمُدَّةٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً، فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ الْمُرَادَةُ هَنَا كَانَتْ فِي رَمَضَانَ وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كَوْنِهَا مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَت لَيْلَة سبع عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَات عقب هَذِه الْكَلَامِ فِي هَلْ لَيْلَةٌ ذَاتُ عَدَدٍ مُتَمَاثِلٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ أَوْ تَخْتَلِفُ فِي السِّنِينَ؟ وَفِي هَلْ تَقَعُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ أَوْ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ؟ وَهَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِلَيْلَةِ وَتْرٍ كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوْ لَا تَخْتَصُّ بِذَلِكَ؟ وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَشْرِيفِ اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ ابْتِدَاءُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهَا تَشْرِيفٌ آخَرُ لِلْقُرْآنِ بِتَشْرِيفِ زَمَانِ ظُهُورِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَارَ لِابْتِدَاءِ إِنْزَالِهِ وَقْتًا شَرِيفًا مُبَارَكًا لِأَنَّ عِظَمَ قَدْرِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَخْتَارَ لِإِيقَاعِهِ فَضْلَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَاخْتِيَارُ فَضْلِ الْأَوْقَاتِ لابتداء إنزاله ينبىء عَنْ عُلُوِّ قَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 79] عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ من المطهرين. [2] [سُورَة الْقدر (97) : آيَة 2] وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) تَنْوِيهٌ بِطَرِيقِ الْإِبْهَامِ الْمُرَادِ بِهِ أَنَّ إِدْرَاكَ كُنْهِهَا لَيْسَ بِالسَّهْلِ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْجَمَّةِ. وَكَلِمَةُ (مَا أَدْرَاكَ مَا كَذَا) كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي تَفْخِيمِ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُعَرِّفُكَ مَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَيْ يَعْسُرُ عَلَى شَيْءٍ أَنْ يُعَرِّفَكَ مِقْدَارَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا، قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [17] قَرِيبًا. وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. وَأُعِيدَ اسْمُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّذِي سَبَقَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ، فَقَصَدَ الِاهْتِمَامَ بِتَعْيِينِهَا، فَحَصَلَ تَعْظِيمُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ صَرِيحًا، وحصلت كِنَايَة عَنْ تَعْظِيمِ مَا أُنْزِلَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ إِنْزَالَهُ فِيهَا ليتطابق الشرفان.

[سورة القدر (97) : آية 3]

[سُورَة الْقدر (97) : آيَة 3] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) بَيَانٌ أَوَّلُ لِشَيْءٍ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 2] مِثْلُ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ [الْبَلَد: 12، 14] الْآيَةَ. فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَوْ لِأَنَّهَا كَعَطْفِ الْبَيَانِ. وَتَفْضِيلُهَا بِالْخَيْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ. إِنَّمَا هُوَ بِتَضْعِيفِ فَضْلِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَوَفْرَةِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْبَرَكَةِ لِلْأُمَّةِ فِيهَا، لِأَنَّ تَفَاضُلَ الْأَيَّامِ لَا يَكُونُ بِمَقَادِيرِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ مَطَرٍ، وَلَا بِطُولِهَا أَوْ بِقِصَرِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْبَأُ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الصَّلَاحِ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ وَمَا يُعِينُ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَنَشْرِ الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ فِي فَضْلِ النَّاسِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] فَكَذَلِكَ فَضْلُ الْأَزْمَانِ إِنَّمَا يُقَاسُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهَا لِأَنَّهَا ظُرُوفٌ لِلْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ لَهَا صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَتَفَاضَلَ بِهَا كَتَفَاضُلِ النَّاسِ فَفَضْلُهَا بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ التَّفْضِيلِ كَتَفْضِيلِ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ لِلْقُرُبَاتِ وَعَدَدُ الْأَلْفِ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي وَفْرَةِ التكثير كَقَوْلِه: «وَاحِد كَأَلْفٍ» وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: 96] وَإِنَّمَا جُعِلَ تَمْيِيزُ عَدَدِ الْكَثْرَةِ هُنَا بِالشَّهْرِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ الَّتِي هِيَ بِحَرْفِ الرَّاءِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسَ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا من الْعَمَل مثل مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ اهـ. وَإِظْهَارُ لَفْظِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلِاهْتِمَامِ، وَقد تكَرر هَذَا اللَّفْظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْمَرَّاتُ الثَّلَاثُ يَنْتَهِي عِنْدَهَا التَّكْرِيرُ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ [آل عمرَان: 78] . وَقَوْلُ عَدِيٍّ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا وَمِمَّا يَنْبَغِي التنبه لَهُ مَا وَقَعَ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» بِسَنَدِهِ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ

الْحُدَّانِيِّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بن عَليّ بعد مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: 1] يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي نَهرا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: 1- 3] يَمْلِكُهَا بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ لَا يزِيد يَوْم وَلَا يَنْقُصُ» . قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ قِيلَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنٍ نَعْرِفُهُ وَالْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثِقَةٌ وَيُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ اهـ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِم بن الْفَضْلِ عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنٍ كَذَا قَالَ، وَعِيسَى بْنُ مَازِنٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي اضْطِرَابًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَيْ لِاضْطِرَابِهِمْ فِي الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، وَعَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ فَهُوَ مَجْهُولٌ. وَأَقُولُ: وَأَيْضًا لَيْسَ فِي سَنَدِهِ مَا يُفِيدُ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ سَعْدٍ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَعِيسَى بْنُ مَازِنٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَصْلًا فَإِذَا فَرَضْنَا تَوْثِيقَ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَمِعَهُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذِكْرَ قِصَّةٍ تُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ. وَاتَّفَقَ حُذَّاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ وَذَكَرَهُ عَنْ شَيْخِهِ الْمِزِّيِّ، وَأَقُولُ: هُوَ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى وَسِمَاتُ الْوَضْعِ لَائِحَةٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ وَضْعِ أَهْلِ النِّحَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْجَمَاعَةِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ لَا يَلِيقُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ مَعَ فَرْطِ عِلْمِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَأَيَّةُ مُلَازَمَةٍ بَيْنَ مَا زَعَمُوهُ مِنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ دَفْعِ الْحَسَنِ التَّأْنِيبَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ وَضْعِ دُعَاةِ الْعَبَّاسِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ الْخِلَافَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ بَيْعَةِ السَّفَّاحِ وَهُوَ أَوَّلُ خُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ أَلْفُ شَهْرٍ وَاثْنَانِ وَتِسْعُونَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرُ بِشَهْرٍ أَوْ بِشَهْرَيْنِ فَمَا نُسِبَ إِلَى الْقَاسِمِ الْحُدَّانِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: فَعَدَدْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا إِلَخْ كَذِبٌ

[سورة القدر (97) : الآيات 4 إلى 5]

لَا مَحَالَةَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُنْكَرٌ كَمَا قَالَهُ الْمِزِّيُّ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَفِي قَوْلِهِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الْمُحَسِّنُ الْمُسَمَّى تَشَابُهُ الْأَطْرَافِ وَهُوَ إِعَادَةُ لِفْظِ الْقَافِيَةِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النُّور: 35] اهـ. يُرِيدُ بِالْقَافِيَةِ مَا يَشْمَلُ الْقَرِينَةَ فِي الْأَسْجَاعِ وَالْفَوَاصِلَ فِي الْآيِ، وَمِثَالُهُ فِي الشِّعْرِ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيِلِيَّةِ: إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا إِلَخ [4، 5] [سُورَة الْقدر (97) : الْآيَات 4 إِلَى 5] تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) إِذَا ضَمَّ هَذَا الْبَيَانُ الثَّانِي لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 2] مِنَ الْإِبْهَامِ التفخيمي حصل مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مِثْلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِكُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْأَعْوَامِ تَقَعُ فِي مِثْلِ اللَّيْلَةِ مَنْ شَهْرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَرَامَةً لِلْقُرْآنِ، وَلِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَلِلدِّينِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ، وَلِلْأُمَّةِ الَّتِي تَتْبَعُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ كَانَ لِذِكْرِ فَضَائِلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَمَا هُوَ إِلَّا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى تَطَلُّبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا، فَإِنَّ كَوْنَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَتْهُ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارع فِي قَوْله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ هَذَا التَّنَزُّلَ مُتَكَرِّرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَذِكْرُ نِهَايَتِهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي بَيَانِ فَضْلِهَا فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ إِدْمَاجٌ لِلتَّعْرِيفِ بِمُنْتَهَاهَا لِيَحْرِصَ النَّاسُ عَلَى كَثْرَةِ الْعَمَلِ فِيهَا قبل انتهائها. لاجرم أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ قَدِ انْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا أَحَدٌ عَدَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ قَدْ تَحَنَّثَ فِيهَا، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْقُرْآنِ آخِرَهَا، وَانْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ فِي صَبِيحَتِهَا، فَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّعْرِيفِ بِفَضْلِ اللَّيَالِي الْمُوَافقَة لَهَا فِي كُلِّ

السَّنَوَاتِ لَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ فَضْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَلَمَا كَانَتْ حَاجَةٌ إِلَى تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، وَلَا إِلَى تَعْيِينِ مُنْتَهَاهَا. وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَظِّمُوا أَيَّامَ فَضْلِهِمُ الدِّينِيِّ وَأَيَّامَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِم، وَهُوَ ممائل لِمَا شَرَعَ اللَّهُ لِمُوسَى مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ أَيَّامِ السِّنِينَ الَّتِي تُوَافِقُ أَيَّامًا حَصَلَتْ فِيهَا نِعَمٌ عُظْمَى مِنَ اللَّهِ عَلَى مُوسَى قَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] فَيَنْبَغِي أَنْ تُعَدَّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عِيدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَحِكْمَةُ إِخْفَاءِ تَعْيِينُهَا إِرَادَةُ أَنْ يُكَرِّرَ الْمُسْلِمُونَ حَسَنَاتِهِمْ فِي لَيَالٍ كَثِيرَةٍ تَوَخِّيًا لِمُصَادَفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَمَا أُخْفِيَتْ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. هَذَا مُحَصِّلُ مَا أَفَادَهُ الْقُرْآنُ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا أَيَّةُ لَيْلَةٍ، وَلَا مِنْ أَيِّ شَهْرٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَة: 185] فَتَبَيَّنَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الْأُولَى هِيَ مِنْ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَا محَالة، فبنا أَنْ نَتَطَلَّبَ تَعْيِينَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْأُولَى الَّتِي ابْتُدِئَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ فِيهَا لِنَطْلُبَ تَعْيِينَ مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ فِي جَمِيعِ السِّنِينِ، وَتَعْيِينَ صِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْمُمَاثَلَةُ تَكُونُ فِي صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا جَائِزَ أَنْ تُمَاثِلَهَا فِي اسْمِ يَوْمِهَا نَحْوِ الثُّلَاثَاءِ أَوِ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا فِي الْفَصْلِ مِنْ شِتَاءٍ أَوْ صَيْفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الدِّينِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَطَلَّبَ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ الْمُمَاثَلَةِ لَهَا فِي اعْتِبَارِ الدِّينِ وَمَا يُرْضِي اللَّهَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْمُمَاثَلَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَأَصَحُّ مَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهَا مِنْ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ وَأَنَّهَا مِنْ لَيَالِي الْوِتْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . وَالْوِتْرُ: أَفْضَلُ الْأَعْدَادِ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَيْلَةً مُعَيَّنَةً مُطَّرِدَةً فِي كُلِّ السِّنِينِ بَلْ هِيَ مُتَنَقِّلَةٌ فِي الْأَعْوَامِ، وَأَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ. وَعَلَى أَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ فِي الْأَعْوَامِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا تَخْرُجُ عَنِ الْعَشْرِ الْأَوَاسِطِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.

وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ ضَبْطُهَا عَلَى إِرَادَةِ الْغَالِبِ أَوْ إِرَادَةِ عَامٍ بِعَيْنِهِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا شَيْءٌ صَرِيحٌ يُرْوَى عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونُ أَرَادَ بِهِ تَعْيِينَهَا فِي خُصُوصِ السَّنَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ فَلَا نُطِيلُ بِهِ، وَقَدْ أَتَى ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهُ بِكَثِيرٍ. وَحُفِظَتْ عَن الشَّيْخ مُحي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ ضَبَطَ تَعْيِينَهَا بِاخْتِلَافِ السِّنِينَ بِأَبْيَاتٍ ذَكَرَ فِي الْبَيْتِ الْأَخِيرِ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَضَابِطُهَا بِالْقَوْلِ لَيْلَةَ جُمْعَةٍ ... تُوَافِيكَ بَعْدَ النِّصْفِ فِي لَيْلَةِ وِتْرِ حَفِظْنَاهَا عَنْ بَعْضِ مُعَلِّمِينَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا. وَجَرَّبْنَا عَلَامَةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي صَبِيحَتِهَا فَلَمْ تَتَخَلَّفْ. وَأَصْلُ تَنَزَّلُ تَتَنَزَّلُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. وَظَاهِرٌ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ. وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَجْلِ الْبَرَكَاتِ الَّتِي تَحُفُّهُمْ. والرُّوحُ: هُوَ جِبْرِيلُ، أَيْ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي الْمَلَائِكَةِ. وَمَعْنَى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَن هَذَا التنزل كَرَامَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَنْزَلَ لَهُمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمَاعَاتٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَفِيهِمْ أَشْرَفُهُمْ وَكَانَ نُزُولُ جِبْرِيلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهَا مِنَ الْفَضْلِ مِثْلَ الَّذِي حَصَلَ فِي مُمَاثَلَتِهَا الْأُولَى لَيْلَةَ نُزُولِهِ بِالْوَحْيِ فِي غَارِ حِرَاءٍ. وَفِي هَذَا أَصْلٌ لِإِقَامَةِ الْمَوَاكِبِ لِإِحْيَاءِ ذِكْرَى أَيَّامِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي أَصْلِ تِلْكَ الذِّكْرَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْهُ مَوْكِبُ الْبَهْجَةِ بِتِذْكَارِهَا. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ تَنَزَّلُ إِمَّا بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، أَيْ يَتَنَزَّلُونَ بِسَبَبِ إِذْنِ رَبِّهِمْ لَهُمْ فِي النُّزُولِ فَالْإِذْنُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ أَيْ مُصَاحِبِينَ لِمَا أَذِنَ بِهِ رَبُّهُمْ، فَالْإِذْنُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ نَحْوِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: 11] .

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً تُبَيِّنُ الْإِذْنَ مِنْ قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، أَيْ بِإِذْنِ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ فِي كُلِّ أَمْرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ تَتَنَزَّلُ بِكُلِّ أَمْرٍ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْد: 11] أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَهَذَا إِذَا جُعِلَتْ بَاءُ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ سَبَبِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ أَرَادَ اللَّهُ قَضَاءَهُ بِتَسْخِيرِهِمْ. وكُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ لِلْأَهَمِّيَّةِ، أَيْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: 97] وَقَوْلِهِ: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الْحَج: 27] وَقَوْلِهِ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: 12] . وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِهَا كُلَّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [27] . وَتَنْوِينُ أَمْرٍ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ بِأَنْوَاعِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَهَذَا الْأَمْرُ غَيْرُ الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخَانِ: 4] مَعَ أَن أَمْراً مِنْ عِنْدِنا فِي سُورَة الدُّخان [5] مُتَّحِدَةٌ مَعَ اخْتِلَاف شؤونها، فَإِن لَهَا شؤونا عَدِيدَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ هُنَا فَيَكُونُ هُنَا مُطْلَقًا وَفِي آيَةِ الدُّخَانِ مُقَيَّدًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَوْقِعَ قَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، مِنْ جُمْلَةِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: 3] مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ أَوْ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ فَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَوْقِعِ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُمَا مشتركتان فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُفِيدُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 2] ، فَأُوثِرَتْ مُرَاعَاةُ مَوْقِعِهَا الِاسْتِئْنَافِيِّ أَوِ الْبَدَلِيِّ عَلَى مُرَاعَاةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِأَنَّ هَذَا الْبَيَانَ لَا يَفُوتُ السَّامِعَ عِنْدَ إِيرَادِهَا فِي صُورَةِ الْبَيَانِ أَوِ الْبَدَلِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عُطِفَتْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا بِالْوَاوِ لِفَوَاتِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ خَيْرِيَّتِهَا. وَجُمْلَةُ: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَهُوَ

كَالِاحْتِرَاسِ لِأَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُ لِلْخَيْرِ وَيَكُونُ لِلشَّرِّ لِعِقَابِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الْحجر: 8] وَقَالَ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الْفرْقَان: 22] . وَجَمَعَ بَيْنَ إِنْزَالِهِمْ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: 12] الْآيَةَ، فَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ الْخَيْرِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَامُوا رَمَضَانَ وَقَامُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَهَذِهِ بِشَارَةٌ. وَالسَّلَامُ: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ قَالَ تَعَالَى: قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الْأَنْبِيَاء: 69] . وَيُطْلَقُ السَّلَامُ عَلَى التَّحِيَّةِ وَالْمِدْحَةِ، وَفُسِّرَ السَّلَامُ بِالْخَيْرِ، وَالْمَعْنَيَانِ حَاصِلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَالسَّلَامَةُ تَشْمَلُ كُلَّ خَيْرٍ لِأَنَّ الْخَيْرَ سَلَامَةٌ مِنَ الشَّرِّ وَمِنَ الْأَذَى، فَيَشْمَلُ السَّلَامُ الْغُفْرَانَ وَإِجْزَالَ الثَّوَابِ وَاسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالسَّلَامُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ وَالْقَوْلِ الْحَسَنِ مُرَادٌ بِهِ ثَنَاءُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَهْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَدَأْبِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا حَكَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: 23، 24] . وَتَنْكِيرُ سَلامٌ لِلتَّعْظِيمِ. وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّيْلَةِ بِأَنَّهَا سَلَامٌ لِلْمُبَالِغَةِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ وَهُوَ سَلامٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ مَا هِيَ إِلَّا سَلَامٌ. وَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يَحْصُلُ فِيهَا لِغَيْرِ الصَّائِمِينَ الْقَائِمِينَ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَلامٌ هِيَ مُرَادًا بِهِ الْإِخْبَارُ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَصْدَرِ الْأَمْرُ، وَالتَّقْدِيرُ: سَلِمُوا سَلَامًا، فَالْمَصْدَرُ بَدَلٌ مِنَ الْفِعْلِ وَعَدَلَ عَنْ نَصْبِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِيُفِيدَ التَّمَكُّنَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] . وَالْمَعْنَى: اجْعَلُوهَا سَلَامًا بَيْنَكُمْ، أَيْ لَا نِزَاعَ وَلَا خِصَامَ. وَيُشِيرُ إِلَيْهِ مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» . وحَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ إِلَى سَلامٌ هِيَ

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَايَةِ إِفَادَةُ أَنَّ جَمِيعَ أَحْيَانِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَعْمُورَةٌ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالسَّلَامَةِ، فَالْغَايَةُ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَدْلُولِ لَيْلَةِ [الْقدر: 1] لِأَنَّ اللَّيْلَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهَا كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، أَيْ مَنْ قَامَ بَعْضَهَا، فَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا. يُرِيدُ شَهِدَهَا فِي جَمَاعَةٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ شَهِدَ، فَإِنَّ شُهُودَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ حَتَّى لِإِدْخَالِ الْغَايَةِ لِبَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَمْتَدُّ بَعْدَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ بِحَيْثُ إِنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُعْتَبَرُ وَاقِعَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ نِهَايَتَهَا كَنِهَايَةِ الْفِطْرِ بِآخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَهَذَا تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي امْتِدَادِ اللَّيْلَةِ إِلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ غَايَةِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، أَنَّ تِلْكَ غَايَةُ اللَّيْلَةِ وَغَايَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التَّابِعَةِ لِكَوْنِهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَغَايَةُ السَّلَامِ فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَطْلَعِ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ طُلُوعُ الْفَجْرِ، أَيْ ظُهُورُهُ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى زَمَانِ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

98- سورة لم يكن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 98- سُورَةُ لم يكن وَرَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» . رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَكَى» فَقَوْلُهُ: أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاضِحٌ أَنَّهُ أَرَادَ السُّورَةَ كُلَّهَا فَسَمَّاهَا بِأَوَّلِ جُمْلَةٍ فِيهَا، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ لَمْ يَكُنِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى أَوَّلِ كَلِمَةٍ مِنْهَا، وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تُونُسَ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْكَتَاتِيبِ. وَسُمِّيَتْ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ الْقَيِّمَةِ» وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ الْبَيِّنَةِ» . وَذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهَا سُمِّيَتْ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «سُورَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» ، أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْبَيِّنَة: 1] ، وَسُمِّيَتْ سُورَةَ «الْبَرِيَّةِ» وَسُمِّيَتْ «سُورَةَ الِانْفِكَاكِ» . فَهَذِهِ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَشْهَرُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءِ بْنِ يسَار هِيَ مَدِينَة. وَعَكَسَ الْقُرْطُبِيُّ فَنَسَبَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَى الْجُمْهُورِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَى يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَى آخِرِهَا قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا» الْحَدِيثَ، أَيْ وَأُبَيُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَجَزَمَ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ تَخْطِئَةِ

أغراضها

أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِحَدِيثِ أَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ، وَقَدْ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا دُفِعَ إِلَى مُنَاقَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ عُدَّتِ الْمِائَةَ وَإِحْدَى فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَتَكُونُ نَزَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ النَّضِيرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَنُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَوْ أَوَّلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ. وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَمَانٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ تسع آيَات. أغراضها تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّعْجِيبُ مِنْ تَنَاقُضِ حَالِهِمْ إِذْ هُمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ فَلَمَّا أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ كَفَرُوا بِهَا. وَتَكْذِيبُهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّمَسُّكَ بِالْأَدْيَانِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا. وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَالتَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَوَعْدُهُمْ بِالنَعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَإِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالْقُرْآنِ وَفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ وَمَا فِيهِ مِنْ فضل وَزِيَادَة. [1- 3] [سُورَة الْبَيِّنَة (98) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) اسْتَصْعَبَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ تَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ

مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ تَحْصِيلًا يُنْتَزَعُ مَنْ لَفْظِهَا وَنَظْمِهَا، فَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنِ الْوَاحِدِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ الْبَسِيطِ» لَهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْفَخْرُ: «ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا. وَأَنَا أَقُولُ: وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنهم منفكون عماذا لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ اللَّذَيْنِ كَانُوا عَلَيْهِمَا فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ كَلِمَةَ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ عِنْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 4] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ حَصَلَ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُنَاقَضَةٌ فِي الظَّاهِرِ» اهـ كَلَامُ الْفَخْرِ. يُرِيدُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْبَيِّنَةُ وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ مُنْفَكِّينَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ صِلَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِنَّ حَرْفُ الْغَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْبَيِّنَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ هِيَ نِهَايَةُ انْعِدَامِ انْفِكَاكِهِمْ عَنْ كُفْرِهِمْ، أَيْ فَعِنْدَ إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ يَكُونُونَ مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ فَكَيْفَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 4] فَإِنَّ تَفَرُّقَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى تَفَرُّقِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ازْدِيَادٌ فِي الْكُفْرِ إِذْ بِهِ تَكْثُرُ شُبَهُ الضَّلَالِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي دِينِهِمْ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي أَصْلِ الْكُفْرِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: 4] إِلَخْ كَلَامًا مُتَّصِلًا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَلَنَا فِي ذَلِكَ كَلَامٌ سَيَأْتِي. وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَخْرُ مِنْ وَجْهِ الْإِشْكَالِ: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَا، وَأَنَّ نَصْبَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ حَتَّى يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ بَعْدَ حَتَّى فَيَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْبَيِّنَةِ مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ فُسِّرَتْ بِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَإِتْيَانُ الرَّسُولِ وَقَعَ قَبْلَ

نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِسِنِينَ وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ: هَؤُلَاءِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى شِرْكِهِمْ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ وَجْهُ الْإِشْكَالِ وَكَانَ مَظْنُونًا أَنَّهُ مَلْحُوظٌ لِلْمُفَسِّرِينَ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ وَارِدًا عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِهِ فِي مُفْرَدَاتِهِ أَوْ تَرْكِيبِهِ، فَوَجَبَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، إِمَّا بِصَرْفِ تَرْكِيبِ الْخَبَرِ عَنْ ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ وَهُوَ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ النِّسْبَةَ الْخَبَرِيَّةَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا التَّرْكِيبُ، بِأَنْ يُصْرَفَ الْخَبَرُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ لِلتَّرْكِيبِ. وَإِمَّا بِصَرْفِ بَعْضِ مُفْرَدَاتِهِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا التَّرْكِيبُ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى مَجَازٍ أَوْ كِنَايَةٍ. فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ صَرْفِ الْخَبَرِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَوُا الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِهِ وَسَلَكُوا طَرِيقَةَ صَرْفِ بَعْضِ كَلِمَاتِهِ عَنْ ظَاهِرِ مَعَانِيهَا وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ لَفَظَ مُنْفَكِّينَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ مَعْنَى حَتَّى وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ رَسُولٌ، وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَ فِي الْبَيِّنَةُ وَجْهَيْنِ. وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فَبَلَغَتْ بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا ذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ أَكْثَرَهَا وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ مُعْظَمَهَا غَيْرَ مَعْزُوٍّ، وَتَدَاخَلَ بَعْضُ مَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ وَزَادَ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ. وَمَرَاجِعُ تَأْوِيل الْآيَة تؤول إِلَى خَمْسَةٍ. الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُ الْجُمْلَةِ بأسرها بِأَن يؤوّل الْخَبَرُ إِلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَنِفْطَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. الثَّانِي: تَأْوِيلُ مَعْنَى مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ عَنْ إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ، وَهُوَ لِابْنِ عَطِيَّةَ. الثَّالِثُ: تَأْوِيلُ مُتَعَلِّقُ مُنْفَكِّينَ بِأَنَّهُ عَنِ الْكُفْرِ وَهُوَ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ، أَوْ عَنِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ لِلْفَخْرِ وَأَبِي حَيَّانَ. أَوْ مُنْفَكِّينَ عَنِ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ وَهُوَ لِابْنِ كَيْسَانَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَصَمِّ، أَوْ مُنْفَكِّينَ عَنِ الْحَيَاةِ، أَيْ هَالِكِينَ، وَعُزِيَ إِلَى بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ.

الرَّابِعُ: تَأْوِيلُ حَتَّى أَنَّهَا بِمَعْنَى (إِنَّ) الِاتِّصَالِيَّةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. الْخَامِسُ: تَأْوِيلُ رَسُولٌ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتْلُو عَلَيْهِمْ صُحُفًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاء: 153] وَعَزَاهُ الْفَخْرُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَقْتَضِي صَرْفَ الْخَبَرِ إِلَى التَّهَكُّمِ. هَذَا وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: 11] . وَأَنْتَ لَا يَعُوزُكَ إِرْجَاعُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى هَذِهِ الْمَعَاقِدِ فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا فَدُونَكَ فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ، فَبِنَا أَنْ نَهْتَمَّ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْبَيِّنِ. إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مُتَنَصِّلُونَ مِنَ الْحَقِّ مُتَعَلِّلُونَ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عِنَادًا، فَلْنَسْلُكْ بِالْخَبَرِ مَسْلَكَ مَوْرِدِ الْحُجَّةِ لَا مَسْلَكَ إِفَادَةِ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَ التَّرْكِيبَ عَنِ اسْتِعْمَالِ ظَاهِرِهِ إِلَى اسْتِعْمَالٍ مَجَازِيٍّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي الْإِنْشَاءِ وَالِاسْتِفْهَامِ فِي التَّوْبِيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ فِيهِ التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» : إِنَّ بَيَانَ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ هُوَ مِمَّا لَمْ يَحُمْ أَحَدٌ حَوْلَهُ. وَالَّذِي تَصَدَّى السَّيِّدُ الشَّرِيفُ لِبَيَانِهِ بِمَا لَا يُبْقِي فِيهِ شُبْهَةً. فَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ الْمُسْتَغْرَبَةِ الْمُضْطَرِبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ ثَبَاتِ آرَاءِ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ مِنَ الْحِكَايَةِ لِمَا كَانُوا يَعِدُونَ بِهِ فَهُوَ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: كُنْتُمْ تَقُولُونَ لَا نَتْرُكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ بِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِنْشَاءِ التَّعْجِيبِ أَوِ الشِّكَايَةِ مِنْ صَلَفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَزِيزٌ بَدِيعٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التَّوْبَة: 64] إِذْ عَبَّرَ بِصِيغَةِ يَحْذَرُ وَهُمْ إِنَّمَا تَظَاهَرُوا بِالْحَذَرِ وَلَمْ يَكُونُوا حَاذِرِينَ حَقًّا وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا

فَالْخَبَرُ مُوَجَّهٌ لكل سامع، ومضمومه قَوْلُ: «كَانَ صَدْرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاشْتُهِرَ عَنْهُمْ وَعُرِفُوا بِهِ وَتَقَرَّرَ تَعَلُّلُ الْمُشْرِكِينَ بِهِ لأهل الْكتاب حَتَّى يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ فَيَقُولُوا: لَمْ يَأْتِنَا رَسُولٌ كَمَا أَتَاكُمْ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 156، 157] . وَتَقَرَّرَ تَعَلُّلُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ حِينَ يَدْعُوهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمرَان: 183] الْآيَةَ. وَشُيُوعُهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سِيَاقِهِ دَمْغُهُمْ بِالْحُجَّةِ وَبِذَلِكَ كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ مُصَادِفًا الْمَحَزَّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرِيب مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] . وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ لَا نَتْرُكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْبَيِّنَةُ، أَيِ الْعَلَامَةُ الَّتِي وُعِدْنَا بِهَا. وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً إِلَخْ. وَإِذِ اتَّضَحَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ وَانْقَشَعَ إِشْكَالُهَا فَلْنَنْتَقِلْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ. فَالِانْفِكَاكُ: الْإِقْلَاعُ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فَكَّهُ إِذَا فَصَلَهُ وَفَرَّقَهُ وَيُسْتَعَارُ لِمَعْنَى أَقْلَعَ عَنْهُ وَمُتَعَلِّقُ مُنْفَكِّينَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ بِصِلَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالتَّقْدِيرُ: مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَتَارِكِينَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُمْ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ مِثْلَ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَانَ كُفْرًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا الْقَوْلُ صَادِرٌ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْقُرَى الَّتِي حَوْلَهَا وَيَتَلَقَّفُهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنِ الِاتِّصَالِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مُنْذُ ظَهَرَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَسْتَفْتُونَهُمْ فِي ابْتِكَارٍ مُخَلِّصٍ يَتَسَلَّلُونَ بِهِ

عَنْ مَلَامِ مَنْ يَلُومُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِثْلَ جُهَيْنَةَ وَغَطَفَانَ، وَمن أَفْرَاد المتنصرين بِمَكَّة أَو بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمرَان: 183] ، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] ، وَحَكَى عَنِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصَّفّ: 6] . وَقَالَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 109] ، وَحَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: 48] وَقَوْلُهُمْ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5] . وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ فِي أَنَّهُمْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ بِانْتِظَارِ نَبِيءٍ يَنْصُرُ الدِّينَ الْحَقَّ وَجُعِلَتْ عَلَامَاتُهُ دَلَائِلَ تَظْهَرُ مِنْ دَعْوَتِهِ كَقَوْلِ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: «أقيم لَهُم نبيئا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ» . ثُمَّ قَوْلُهَا فِيهِ: «وَأَمَّا النَّبِيءُ الَّذِي يَطْغَى فَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فَيَمُوت ذَلِك النبيء وَإِنْ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ كَيْفَ نَعْرِفُ الْكَلَامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيءُ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ فَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ (الْإِصْحَاحُ الثَّامِنَ عَشَرَ) . وَقَوْلُ الْإِنْجِيلِ: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ (أَيْ شَرِيعَتُهُ لِأَنَّ ذَاتَ النَّبِيءِ لَا تَمْكُثُ إِلَى الْأَبَدِ) رُوحُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ (يُوحَنَّا الْإِصْحَاحُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْفِقْرَةُ 6) «وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ بِاسْمِي فَهُوَ يعلمكم كل شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ (يُوحَنَّا الْإِصْحَاحُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِقْرَةُ 26) . وَقَوْلُهُ: وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ، (أَيْ بَعْدَ عِيسَى) وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى (أَيْ يَبْقَى إِلَى انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَهُوَ مؤول بِبَقَاءِ دِينِهِ إِذْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ حَيًّا إِلَى انْقِرَاضِ الدُّنْيَا) فَهَذَا يخلّص ويكرر بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ

الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى» ، أَيْ نِهَايَةُ الدُّنْيَا (مَتَّى الْإِصْحَاحُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ) ، أَيْ فَهُوَ خَاتَمُ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ. وَكَانَ أَحْبَارُهُمْ قَدْ أَسَاءُوا التَّأْوِيلَ لِلْبِشَارَاتِ الْوَارِدَةِ فِي كُتُبِهِمْ بِالرَّسُولِ الْمُقَفِّي وَأَدْخَلُوا عَلَامَاتٍ يَعْرِفُونَ بِهَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْعُودَ بِهِ هِيَ مِنَ الْمُخْتَرَعَاتِ الْمَوْهُومَةِ فَبَقِيَ مَنْ خَلْفَهُمْ يَنْتَظِرُونَ تِلْكَ الْمُخْتَرَعَاتِ فَإِذَا لَمْ يَجِدُوهَا كَذَّبُوا الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ. والْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالْعَلَامَةُ عَلَى الصِّدْقِ وَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْوَصْفِ جَرَى عَلَى التَّأْنِيث لِأَنَّهُ مؤول بِالشَّهَادَةِ أَوِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ إِيثَارَ التَّعْبِيرِ بِهَا هُنَا لِأَنَّهَا أَحْسَنُ مَا تُتَرْجَمُ بِهِ الْعِبَارَةُ الْوَاقِعَةُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَحُومُ حَوْلَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْوَاضِحَةِ لِكُلِّ مُتَبَصِّرٍ كَمَا وَقَعَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى لَفْظَ «شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ» ، (وَلَعَلَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا مَرَّتَيْنِ كَانَ لِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ) وَقَدْ ذُكِرَتْ مَعَ ذِكْرِ الصُّحُفِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْبَيِّنَةُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ مَعْهُودٌ بِنَوْعِهِ لَا بِشَخْصِهِ كَقَوْلِهِمُ: ادْخُلِ السُّوقَ، لَا يُرِيدُونَ سُوقًا مُعَيَّنَةً بَلْ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَاهِيَّةُ سُوقٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ: إِنَّ الْمُعَرَّفَ بِهَذِهِ اللَّامِ هُوَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ بَيِّنَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِمَعْهُودٍ عِنْدَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ، أَيِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ وَصَايَا أَنْبِيَائِهِمْ فَهِيَ مَعْهُودَةٌ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَخَيُّلِهَا وَابْتَعَدُوا فِي تَوَهُّمِهَا بِمَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِ تَخَيُّلَاتُهُمْ وَاخْتِلَاقُهُمْ. وَأُوثِرَتْ كَلِمَةُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي كَلَامِهِمْ وَلِذَلِكَ نَرَى مَادَّتَهَا مُتَكَرِّرَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْغَرَضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصَّفّ: 6]

وَقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: 109] وَقَالَ عَنِ الْقُرْآنِ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الْبَقَرَة: 185] . ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَيَانِيَّةٌ بَيَانٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا. وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا مَعَ أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ أَشَدُّ مِنْ كُفْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ السَّبْقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَهُمُ الَّذِينَ بَثُّوا بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةَ انْطِبَاقِ الْبَيِّنَةِ الْمَوْصُوفَةِ بَيْنَهُمْ فَأَيَّدُوا الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ أَتْقَنُ مِنْ تُرَّهَاتِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أُمِّيِّينَ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ، فَلَمَّا صَدَمَتْهُمُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَزِعُوا إِلَى الْيَهُودِ لِيَتَلَقَّوْا مِنْهُمْ مَا يَرُدُّونَ بِهِ تِلْكَ الدعْوَة وخاصة بعد مَا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَالْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ ابْتِدَاءً هُوَ دَعْوَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَتَبَعٌ لَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ هُنَاكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، أَيْ هِيَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، يَعْنِي لِأَنَّ مَا فِي الْبَيِّنَةِ مِنَ الْإِبْهَامِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ صِفَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... مُنْفَكِّينَ إِلَى آخِرِهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: 4] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولٌ بَدَلًا مِنَ الْبَيِّنَةُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ لَفْظِ «بَيِّنَةٍ» فَيَكُونُ مِنْ حِكَايَةِ مَا زَعَمُوهُ. أُرِيدَ إِبْطَالُ مَعَاذِيرِهِمْ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي يَنْتَظِرُونَهَا قَدْ حَلَّتْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ أَوْ لَا يُنْصِفُونَ أَوْ لَا يَفْقَهُونَ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] . وَتَنْكِيرُ رَسُولٌ لِلنَّوْعِيَّةِ الْمُرَادِ مِنْهَا تَيْسِيرُ مَا يَسْتَصْعِبُ كَتَنْكِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 184] وَقَوْلِ: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 1، 2] . وَفِي هَذَا التَّبْيِينِ إِبْطَالٌ لِمَعَاذِيرِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَةُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: 19] ، وَهُوَ يُفِيدُ

أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الرَّسُولُ وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ [الطَّلَاق: 10، 11] . فَأُسْلُوبُ هَذَا الرَّدِّ مِثْلَ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 90- 94] . وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ بِغَلَطِهِمْ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ مَا وَعَدَتْ إِلَّا بِمَجِيءِ رَسُولٍ مَعَهُ شَرِيعَةٌ وَكِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِجُ فِي قَوْلَةِ التَّوْرَاةِ: «وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ» . وَقَوْلُ الْإِنْجِيلِ: «وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ [الْمَائِدَة: 48] لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَصِفَا النَّبِيءَ الْمَوْعُودَ بِهِ إِلَّا بِأَنَّهُ مِثْلُ مُوسَى أَوْ مِثْلُ عِيسَى، أَيْ فِي أَنَّهُ رَسُولٌ يُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرِيعَةٍ، وَأَنَّهُ يُبَلِّغُ عَن الله وينطلق بِوَحْيِهِ، وَأَنَّ عَلَامَتَهُ هُوَ الصِّدْقُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ «الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ» : «إِنَّ مَجْمُوعَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ كَانَ بَالِغًا فِي نَبِيِّنَا إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ وَإِنَّ مُعْجِزَاتِهِ كَانَتْ غَايَةً فِي الظُّهُورِ وَالْكَثْرَةِ» . ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ رَسُولٌ وَلَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَ الْإِضَافَةِ لِيَتَأَتَّى تَنْوِينُ رَسُولٌ فَيُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ هَذَا الرَّسُول. وَجُمْلَة يَتْلُوا صُحُفاً إِلَخْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ، وَهِيَ إِدْمَاجٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً. وَالتِّلَاوَةُ: إِعَادَةُ الْكَلَامِ دُونَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصٍ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ كَلَامًا مَكْتُوبًا أَوْ مَحْفُوظًا عَنْ ظَهْرِ قلب، فَفعل يَتْلُوا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كَلَامًا لَا تُبَدَّلُ أَلْفَاظُهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ.

وَالصُّحُفُ: الْأَوْرَاقُ وَالْقَرَاطِيسُ الَّتِي تُجْعَلُ لِأَنْ يُكْتَبَ فِيهَا، وَتَكُونُ مِنْ رَقٍّ أَوْ جِلْدٍ، أَوْ مِنْ خِرَقٍ. وَتَسْمِيَةُ مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صُحُفاً مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْأَيْلُولَةِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِكِتَابَتِهِ فَهُوَ عِنْدُ تِلَاوَتِهِ سَيَكُونُ صُحُفًا، فَهَذَا الْمَجَازُ كَقَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: 36] . وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ وَمَا يُشْبِهُ الصُّحُفَ مِنْ أَكْتَافِ الشَّاءِ وَالْخِرَقِ وَالْحِجَارَةِ، وَأَنَّ الْوَحْيَ الْمُنَزَّلَ عَلَى الرَّسُولِ سُمِّيَ كِتَابًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى. وتعدية فعل يَتْلُوا إِلَى صُحُفاً مَجَازٌ مُرْسَلٌ مَشْهُورٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت: 48] ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَتْلُوِّ مَكْتُوبًا، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَهْرِ قلب وَلَا يقرأه مِنْ صحف فَمَعْنَى يَتْلُوا صُحُفاً يَتْلُو مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفٍ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ اشْتِهَارُ كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمّيّا. وَوصف الصُّحُفُ بِ مُطَهَّرَةً وَهُوَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّهَارَةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ مَعَانِيهِ لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهِ تَضْلِيلٍ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِبَعْضِ مَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ التحريف والأوهام. وَوصف الصُّحُفُ الَّتِي يَتْلُوهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِيهَا كُتُبًا، وَالْكُتُبَ: جَمْعُ كِتَابٍ، وَهُوَ فِعَالٌ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، فَمَعْنَى كَوْنِ الْكُتُبِ كَائِنَةً فِي الصُّحُفِ أَنَّ الصُّحُفَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا الْقُرْآنُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مِمَّا هُوَ خَالِصٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الْبَقَرَة: 97] وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18، 19] ، فَالْقُرْآنُ زُبْدَةُ مَا فِي الْكُتُبِ الْأُولَى وَمَجْمَعُ ثَمَرَتِهَا، فَأُطْلِقَ عَلَى ثَمَرَةِ الْكُتُبِ اسْمُ كُتُبٍ عَلَى وَجْهِ مَجَازِ الْجُزْئِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكُتُبِ أَجْزَاءُ الْقُرْآنِ أَوْ سُوَرُهُ فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْكُتُبِ. وَالْقَيِّمَةُ: الْمُسْتَقِيمَةُ، أَيْ شَدِيدَةُ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْكَمَالِ وَالصَّوَابِ وَهَذَا مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ تَشْبِيهًا بِالْقَائِمِ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْعَمَلِ النَّافِعِ، وَضِدَّهُ الْعِوَجُ قَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: 1، 2] ،

[سورة البينة (98) : آية 4]

أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ نَقْصَ الْبَاطِلِ وَالْخَطَأِ، فَالْقَيِّمَةُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَائِمِ مِثْلَ السَّيِّدِ للسائد وَالْمَيِّت للمائت. وَتَأْنِيثُ الْوَصْفِ لِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَصفا لجمع. [4] [سُورَة الْبَيِّنَة (98) : آيَة 4] وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) ارْتِقَاءً فِي الْإِبْطَالِ وَهُوَ إِبْطَالٌ ثَانٍ لِدَعْوَاهُمْ بِطَرِيقِ النَّقْضِ الْجَدَلِيِّ الْمُسَمَّى بِالْمُعَارَضَةِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِمَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْمَدْلُولِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلِذَلِكَ أَظْهَرَ فَاعِلَ تَفَرَّقَ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، إِذْ لَوْ أَضْمَرَ لَتُوُهِّمَتْ إِرَادَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَعَادِ الضَّمِيرِ، بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ زَعْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: 2] ارْتَقَى إِلَى إِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ إِبْطَالًا مَشُوبًا بِالتَّكْذِيبِ وَبِشَهَادَةِ مَا حَصَلَ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَاطِفَةً إِبْطَالًا عَلَى إِبْطَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ من الدَّين مغيّا بِوَقْتِ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ بَيِّنَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَفَرَّقُوا فِي الْإِيمَانِ بِهِ فَنَشَأَ مِنْ تَفَرُّقِهِمْ حُدُوثُ مِلَّتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ مَجِيءُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ كَمَا وَعَدَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ أَمْثَالَ إِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ وَأَشْعِيَاءَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْيَهُودُ عَلَى النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَجْدِيدُ الدِّينِ الْحَقِّ وَكَانُوا مُنْتَظِرِينَ الْمُخَلِّصَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى كَذَّبُوهُ، أَيْ فَلَا يَطْمَعُ فِي صِدْقِهِمْ فِيمَا زَعَمُوا مِنِ انْتِظَارِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ عِيسَى وَهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِبَيِّنَةِ عِيسَى، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجُحُودَ وَالْعِنَادَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ مَعْرُوفَةٌ. وَالْمُرَادُ بالتفرق: تفرق بني إِسْرَائِيلَ بَيْنَ مُكَذِّبٍ لِعِيسَى وَمُؤْمِنٍ بِهِ وَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ مِنَ الْيَهُودِ.

[سورة البينة (98) : آية 5]

وَجُعِلَ التَّفَرُّقُ كِنَايَةً عَنْ إِنْكَارِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمْ كَانَ اخْتِلَافًا فِي تَصْدِيقِ بَيِّنَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاسْتُعْمِلَ التَّفَرُّقُ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ لِقَصْدِ إِدْمَاجِ مَذَمَّتِهِمْ بِالِاخْتِلَافِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمرَان: 19] . فَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَيِّنَةُ الْمَذْكُورَةِ ثَانِيًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَوْ لِلْمَعْهُودِ بَيْنَ الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى وَإِعَادَتُهَا مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً مثلهَا إِذْ الْمُعَرّف بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، أَوْ مِنْ إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ الْمَعْهُودَةِ مَعْرِفَةً مِثْلَهَا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا تَكُونُ الْمُعَادَةُ عَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، أَيْ تَبَاعَدُوا عَنْهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلَفْظِ التَّفَرُّقِ وَهُوَ صَرْفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ بَعِيدٌ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَجْهُ تَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ التَّبَاعُدَ عَنِ الْإِسْلَامِ حَاصِلٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِالْأُولَى وَهِيَ بَيِّنَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى أَنَّ الْفَخْرَ ذكر كَلِمَات تنبىء عَنْ مُخَالَفَةِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمَلِ تَفَرُّقِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الْمَعْنَى بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ بَقِيَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي حَمْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَمْلَ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَعْنًى مُغَايِرٍ لِمَحْمَلِ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى، إِذْ قَالَ: «الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا يَغُمَّنَّكَ تَفَرُّقُهُمْ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الْحُجَّةِ بَلْ لِعِنَادِهِمْ فَسَلَفُهُمْ هَكَذَا كَانُوا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي السَّبَبِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا بَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَهِيَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهُمْ» ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَلَعَلَّهُ بَدَا لَهُ هَذَا الْوَجْهُ وَشَغَلَهُ عَنْ تَحْرِيرِهِ شَاغِلٌ وَهَذَا مِمَّا تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي المسودة. [5] [سُورَة الْبَيِّنَة (98) : آيَة 5] وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) هَذَا إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِتَنَصُّلِهِمْ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَأْتِهِمْ.

وَهُوَ إِبْطَالٌ بِطْرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي الْجَدَلِ، أَيْ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّكُمْ مُوصُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَا تَنْفَكُّونَ عَنْهُ حَتَّى تَأْتِيَكُمُ الْبَيِّنَةُ، فَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ مَا يُنَافِي مَا جَاءَ بِهِ كتابكُمْ لِأَن كِتَابُكُمْ يَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِهِ، فَذَلِكَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي دِينِكُمْ. فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: 4] إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 1] . وَالْمَعْنَى وَالْحَالُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ أَتَتْهُمْ إِذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَا صَدَّقَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا من وسط أخواتهم وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ» ، وَقَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» . وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُسْنَدِ لِلْمَجْهُولِ مُفِيدٌ مَعْنَيَيْنِ، أَيْ مَا أُمِرُوا فِي كِتَابِهِمْ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ. فَالْمَعْنَى: وَمَا أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ إِلَى آخِرِهِ. فَإِنَّ التَّوْرَاةَ أَكَّدَتْ عَلَى الْيَهُودِ تَجَنُّبَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَتْ بِالصَّلَاةِ، وَأَمَرَتْ بِالزَّكَاةِ أَمْرًا مُؤَكَّدًا مُكَرَّرًا. وَتِلْكَ هِيَ أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ، وَالْإِنْجِيلُ لَمْ يُخَالِفِ التَّوْرَاةَ أَوِ الْمَعْنَى وَمَا أُمِرُوا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَثَلِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ كِتَابُهُمْ، فَلَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ. وَنَائِبُ فَاعِلِ أُمِرُوا مَحْذُوفٌ لِلْعُمُومِ، أَيْ مَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَكْثُرُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] وَقَوْلِهِ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [71] ، وَسَمَّاهَا بَعْضُ النُّحَاةِ لَامَ (أَنْ) . وَالْإِخْلَاصُ: التَّصْفِيَةُ وَالْإِنْقَاءُ، أَيْ غَيْرَ مُشَارِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ مَعَهُ غَيْرَهُ.

وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر: 14] . وَحُنَفَاءُ: جَمْعُ حَنِيفٍ، وَهُوَ لَقَبٌ لِلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ شَرِيكٍ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: 161] . وَهَذَا الْوَصْفُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مَعَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي مُلِئَتِ التَّوْرَاةُ بِتَمْجِيدِهِ وَاتِّبَاعِ هَدْيِهِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ. وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ: مَفْرُوضٌ فِي التَّوْرَاةِ فَرْضًا مُؤَكَّدًا. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِاللَّامِ الْمُسَمَّاةِ (لَامَ أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ فَهُوَ فِي تَأْوِيلِ مُفْرَدٍ، أَيْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، أَيْ وَالْمَذْكُورُ دِينُ الْقَيِّمَةِ. ودِينُ الْقَيِّمَةِ يَجُوزُ أَن تكون إِضَافَته عَلَى بَابِهَا فَتَكُونَ الْقَيِّمَةِ مُرَادًا بِهِ غير المُرَاد بدين مِمَّا هُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ مِمَّا يُضَافُ إِلَيْهِ دِينُ أَيْ دِينُ الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ أَوْ دِينُ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا التَّقْدِيرَ أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَدَّرِ مَوْجُودٌ فِي اللَّفْظِ قَبْلَهُ. وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِأَحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ الدِّينُ الْقَيِّمُ قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الرّوم: 30- 31] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ صُورِيَّةً مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَهِيَ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَصْلُهُ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَأَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى تَأْوِيلِ دِينٍ بِمِلَّةٍ أَوْ شَرِيعَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلَ تَاءِ عَلَّامَةِ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمُرَادُ بِدِينِ الْقَيِّمَةِ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَالْقَيِّمَةُ: الشَّدِيدَةُ الِاسْتِقَامَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. فَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُوَ دِينُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَصَالِحِيِ الْأُمَمِ وَهُوَ عَيْنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: 67] وَقَالَ

[سورة البينة (98) : آية 6]

عَنْهُ وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [الْبَقَرَة: 128] . وَحَكَى عَنْهُ وَعَنْ يَعْقُوبَ قَوْلَهُمَا: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] وَقَالَ سُلَيْمَانُ: وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 42] . وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [132] . وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الَّذِي أُمِرُوا بِهِ أَيْ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، أَيْ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَحَسِبُوهُ نَقْضًا لِدِينِهِمْ، فَيَكُونُ مَهْيَعُ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: 64] وَقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: 59] . وَالْمَقْصُودُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ تَبَعًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَمَّا هُمْ يَتَطَلَّبُونَهُ فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ الْحَقُّ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَوِيَّةُ وَالْعِيسَوِيَّةُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْحَنِيفِيَّةَ وَيَأْخُذُونَ بِمَا أَدْرَكُوهُ مِنْ بَقَايَاهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ تَحْرِيفٌ لِلْحَنِيفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَامَّةُ الْعَرَبِ غَيْرَ مُتَهَوِّدِينَ وَلَا مُتَنَصِّرِينَ وَيَتَمَسَّكُونَ بِمَا وَجَدُوا آبَاءَهُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ وَقَلَّ مِنْهُمْ مَنْ تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا، وَذَهَبَ نَفَرٌ مِنْهُمْ يَتَطَلَّبُونَ آثَارَ الْحَنِيفِيَّةِ مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَخَصَّ الضَّمِيرَ بِ «أَهْلِ الْكِتَابِ» لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: 46] . [6] [سُورَة الْبَيِّنَة (98) : آيَة 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) بَعْدَ أَنْ أَنَحَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مَعًا ثُمَّ خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالطَّعْنِ فِي تَعَلُّلَاتِهِمْ وَالْإِبْطَالِ لِشُبُهَاتِهِمُ الَّتِي يُتَابِعُهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا. أَعْقَبَهُ بِوَعِيدِ الْفَرِيقَيْنِ

جَمْعًا بَيْنَهُمَا كَمَا ابْتَدَأَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّلَالَةِ كَافٍ فِي تَدْلِيلِ أَنْفُسِهِمْ لِلْمَوْعِظَةِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَقَدَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَعِيدِ اسْتِتْبَاعًا لِتَقْدِيمِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي سَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَ الرَّدِّ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى أَحْوَالهم من قَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَة: 4، 5] ، وَلِأَنَّهُ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَة: 1] . وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَإِنَّ الظَّرْفِيَّةَ الَّتِي اقْتَضَتْهَا فِي تُفِيدُ أَنَّهُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ أَنْكَرُوا الْجَزَاءَ رَأْسًا. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْكَوْنِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِخْبَارٌ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْوَعِيدِ فَإِنَّ الْوَعِيدَ كَالْوَعْدِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ شَأْنُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ غَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِمَا يُعَيِّنُ زَمَانَ وُقُوعِهَا أَنْ تُفِيدَ حُصُولَ مَضْمُونِهَا فِي الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ فِي نِعْمَةٍ. وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ كَالنَّتِيجَةِ لِكَوْنِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأُرِيدَ بِالْبَرِيئَةِ هُنَا الْبَرِيئَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَهُمُ الْبَشَرُ، فَلَا اعْتِبَارَ لِلشَّيَاطِينِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا يُشْبِهُ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ. وَالْبَرِيئَةُ: فَعِيلَةُ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ صَوَّرَهُمْ. وَمَعْنَى كَونهم شَرُّ الْبَرِيَّةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ شَرًّا، فَ شَرُّ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَشَرُّ مِثْلَ خَيْرٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَخْيَرَ، فَإِضَافَةُ شَرُّ إِلَى الْبَرِيَّةِ عَلَى نِيَّةِ مِنْ التَّفْضِيلِيَّةِ. وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بَعْدَ تَلَبُّسِهِمْ بِأَسْبَابِ الْهُدَى، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِأَنَّ لَدَيْهِمْ كِتَابًا فِيهِ هُدًى وَنُورٌ فَعَدَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا

عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ فَأَدْخَلُوا فِيهَا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى دِينِهِمْ بَعْدَ مَا شَاهَدُوا مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْإِعْجَازِ وَالْإِنْبَاءِ بِمَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ فَقَدِ اجْتَنَوْا لِأَنْفُسِهِمُ الشَّرَّ مِنْ حَيْثُ كَانُوا أَهْلًا لِنَوَالِ الْخَيْرِ فَحَسْرَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ حَسْرَةِ مَنْ عَدَاهُمْ فَكَانَ الْفَرِيقَانِ شَرًّا مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالزَّنَادِقَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لَا فِيمَا يُرْجَى مِنْهُمْ مِنَ الِاقْتِرَابِ. وَأُقْحِمَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] . وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِهِمْ شَرَّ الْبَرِيئَةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الْكُفْرِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَلَا يَرِدُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَشَدُّ شَرًّا مِنْهُمْ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّ اسْمَ الْبَرِيئَةِ اعْتُبِرَ إِطْلَاقُهُ على الْبشر. والْبَرِيَّةِ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِهَمْزٍ بعد الْيَاء فعلية مِنْ بَرَأَ اللَّهُ، إِذَا خَلَقَ. وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ دُونَ هَمْزٍ عَلَى تَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْكَسْرَةِ يَاءً وَإِدْغَامِ الْيَاءِ الْأُولَى فِي الْيَاءِ الثَّانِيَةِ تَخْفِيفًا. وَإِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّخْفِيفُ لُغَةُ بَقِيَّةِ الْعَرَبِ، كَمَا تَرَكُوا الْهَمْزَ فِي الدَّرِيَّةِ وَالنَّبِيِّ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَيَقُولُ: تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ بِالْهَمْزِ غَيْرَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْهَمْز فِي النبيّ كَمَا تَرَكُوهُ فِي: الدَّرِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ إِلَّا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ يَهْمِزُونَهَا وَيُخَالِفُونَ الْعَرَبَ فِي ذَلِكَ

[سورة البينة (98) : الآيات 7 إلى 8]

[7، 8] [سُورَة الْبَيِّنَة (98) : الْآيَات 7 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قُوبِلَ حَالُ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَالُ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَة: 5] ، اسْتِيعَابًا لِأَحْوَالِ الْفِرَقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ نِذَارَةِ الْمُنْذَرِينَ بِبِشَارَةِ الْمُطْمَئِنِّينَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدَّمَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ عَلَى بِشَارَتِهِمْ عَلَى عَكْسِ نَظْمِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي ضِدِّهِمْ لِيَكُونَ ذِكْرُ وَعْدِهِمْ كَالشُّكْرِ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ شَكُورٌ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ تَكَرُّرِ ذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ تَسَاؤُلًا عَنْ حَالِهِمْ لَعَلَّ تَأَخُّرَ إِيمَانِهِمْ إِلَى مَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ فِي التَّنْدِيدِ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُهُمْ فِي انْحِطَاطِ دَرَجَةٍ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ هُوَ مَعْدُودٌ فِي خَيْرِ الْبَرِيئَةِ. وَالْقَوْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَضَمِيرِ الْفَصْل وَالْقصر وهمز الْبَرِيئَةِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ وَالْجُمْلَةُ الْمُخْبَرُ بِهَا عَنْهُ جَمِيعُهَا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ إِنَّ وَجُمْلَةُ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ إِلَى آخِرِهَا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وعِنْدَ رَبِّهِمْ ظَرْفٌ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جَزاؤُهُمْ وَبَيْنَ جَنَّاتُ عَدْنٍ لِلتَّنْوِيهِ بِعِظَمِ الْجَزَاءِ بِأَنَّهُ مُدَّخَرٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ تَكْرُمَةً لَهُمْ لِمَا فِي عِنْدَ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْحُظْوَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَمَا فِي لَفْظِ رَبِّهِمْ مِنْ الْإِيمَاءِ إِلَى إِجْزَالِ الْجَزَاءِ بِمَا يُنَاسِبُ عِظَمَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ، وَمَا يُنَاسِبُ شَأْنَ مَنْ يَرُبُّ أَنْ يَبْلُغَ بِمَرْبُوبِهِ عَظِيمَ الْإِحْسَانِ. وَإِضَافَةُ: جَنَّاتُ إِلَى عَدْنٍ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا مَسْكَنُهُمْ لِأَنَّ الْعَدْنَ الْإِقَامَةُ، أَيْ لَيْسَ جَزَاؤُهُمْ تَنَزُّهًا فِي الْجَنَّاتِ بَلْ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا.

وَقَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً بِشَارَةٌ بِأَنَّهَا مَسْكَنُهُمْ الْخَالِدُ. وَوَصْفُ الْجَنَّاتِ بِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لِبَيَانِ مُنْتَهَى حُسْنِهَا. وَجَرْيُ النَّهْرِ مُسْتَعَارٌ لِانْتِقَالِ السَّيْلِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ انْتِقَالِ الْمَاءِ بِسُرْعَةِ الْمَشْيِ. وَالنَّهْرُ: أُخْدُودٌ عَظِيمٌ فِي الْأَرْضِ يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَجْمُوعِ الْأُخْدُودِ وَمَائِهِ. وَإِسْنَادُ الْجَرْيِ إِلَى الْأَنْهَارِ تَوَسُّعٌ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ الَّذِي يَجْرِي هُوَ مَاؤُهَا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَاهِيَّةِ النَّهْرِ. وَجُعِلَ جَزَاءُ الْجَمَاعَةِ جَمْعَ الْجَنَّاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّوْزِيعِ، أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَنَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [الْبَقَرَة: 19] وَقَوْلِكَ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ جَنَّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْفضل لَا ينْحَصر قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: 46] . وَجُمْلَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خالِدِينَ، أَيْ خَالِدِينَ خُلُودًا مُقَارِنًا لِرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، فَهُمْ فِي مُدَّةِ خُلُودِهِمْ فِيهَا مَحْفُوفُونَ بِآثَارِ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] وَرِضَى اللَّهِ تَعَلُّقُ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ لِعَبْدِهِ. وَأَمَّا الرِّضَى فِي قَوْلِهِ: وَرَضُوا عَنْهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ نَالَهُمْ مِنْ إِحْسَانِ اللَّهِ مَا لَا مَطْلَبَ لَهُمْ فَوْقَهُ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْغَارِ: «فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ» ، وَقَوْلُ مَخْرَمَةَ حِينَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَاءً: «رَضِيَ مَخْرَمَةُ» . وَزَادَهُ حُسْنَ وَقْعٍ هُنَا مَا فِيهِ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ تَذْيِيلٌ آتٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعْدِ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَالْوَعِيدِ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بَيَّنَ بِهِ سَبَبَ الْعَطَاءِ وَسَبَبَ الْحِرْمَانِ وَهُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْطُوقِ الصِّلَةِ وَمَفْهُومِهَا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَنَالَهُمْ ذَلِكَ الْجَزَاءَ هُوَ خَشْيَتُهُمُ اللَّهَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَشُوا اللَّهَ تَوَقَّعُوا غَضَبَهُ إِذَا لَمْ

يُصْغُوا إِلَى مَنْ يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَأَقْبَلُوا عَلَى النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ فَاهْتَدَوْا وَآمَنُوا، وَأَمَّا الَّذِينَ آثَرُوا حُظُوظَ الدُّنْيَا فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَتَوَقَّعُوا غَضَبَ مُرْسِلِهِ فَبَقُوا فِي ضَلَالِهِمْ. فَمَا صَدَقَ: «مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَشُوا رَبَّهُمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ فَأَفَادَ حِرْمَانَ الْكَفَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَتَمَّ التَّذْيِيلُ. وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ، تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرْعَوْا حق الربوبية إِذْ لَمْ يَخْشَوْا رَبَّهُمْ فَهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ.

99- سورة الزلزال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم 99- سُورَة الزلزال سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ: إِذا زُلْزِلَتِ رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «نَزَلَتْ إِذَا زلزلت» وَأَبُو كبر قَاعِدٌ فَبَكَى» الْحَدِيثَ (¬1) . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «إِذَا زُلْزِلَتِ» تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ» ، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَسُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَمِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الزِّلْزَالِ» . وَسُمِّيَتْ فِي مُصْحَفٍ بِخَطٍّ كُوفِيٍّ قَدِيمٍ مِنْ مَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِ «زُلْزِلَتْ» وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفِ فِي مَكَانِ نُزُولِهَا، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» ، وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ هَذِهِ أَلْقَابًا لَهَا بَلْ جَعَلَهَا حِكَايَةَ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا وَلَكِنَّ تَسْمِيَتَهَا سُورَةَ الزَّلْزَلَةِ تَسْمِيَةٌ بِالْمَعْنَى لَا بِحِكَايَةِ بَعْضِ كَلِمَاتِهَا. وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَاكُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: مَدَنِيَّةٌ، وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفَاسِيرِهِمْ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَعَلَّهُ يَعْنِي: جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيَّ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَإِنَّهَا مَعْدُودَة فِي نزُول السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: آخِرُهَا وَهُوَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] الْآيَةَ نَزَلَ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ اهـ. وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. ¬

(¬1) تَمَامه: فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يبكيك يَا أَبَا بكر؟ فَقَالَ: أبكاني هَذِه السُّورَة فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَو أَنكُمْ لَا تخطئون وَلَا تذنبون لخلق الله أمة بعدكم يخطئون ويذنبون وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيغْفر لَهُم» .

أغراضها

وَقَدْ عُدَّتِ الرَّابِعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَظَمَهُ الْجَعْبَرِيُّ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ جَعَلَهَا بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَدِيدِ. وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعَدَدِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ ثَمَانِيَ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: 6] آيَتَانِ أَوْ آيَة وَاحِدَة. أغراضها إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَذِكْرُ أَشْرَاطِهِ وَمَا يَعْتَرِيِ النَّاسَ عِنْدَ حُدُوثِهَا مِنَ الْفَزَعِ. وَحُضُورُ النَّاسِ لِلْحَشْرِ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَاجْتنَاب الشَّرّ. [1- 6] [سُورَة الزلزلة (99) : الْآيَات 1 إِلَى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِظَرْفِ الزَّمَانِ مَعَ إِطَالَةِ الْجُمَلِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا الظَّرْفُ تَشْوِيقٌ إِلَى مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ إِذِ الْمَقْصُودُ لَيْسَ تَوْقِيتَ صُدُورِ النَّاسِ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ بَلِ الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ وَهُوَ الْبَعْثُ، ثُمَّ الْجَزَاءُ، وَفِي ذَلِكَ تَنْزِيلُ وُقُوعِ الْبَعْثِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُحَقَّقِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يُهِمُّ النَّاسَ إِلَّا مَعْرِفَةُ وَقْتِهِ وَأَشْرَاطِهِ فَيَكُونُ التَّوْقِيتُ كِنَايَةً عَنْ تَحْقِيقِ وُقُوعِ الْمُوَقَّتِ. وَمَعْنَى زُلْزِلَتِ: حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا شَدِيدًا حَتَّى يُخَيَّلَ لِلنَّاسِ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ حَيِّزِهَا لِأَنَّ فِعْلَ زُلْزِلَ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّلَلِ وَهُوَ زَلَقُ الرِّجْلَيْنِ، فَلَمَّا عَنَوْا شِدَّةَ الزَّلَلِ ضَاعَفُوا الْفِعْلَ لِلدَّلَالَةِ بِالتَّضْعِيفِ عَلَى شِدَّةِ الْفِعْلِ كَمَا قَالُوا: كَبْكَبَهُ، أَيْ كَبَّهُ وَلَمْلَمَ بِالْمَكَانِ مِنَ اللَّمِّ. وَالزِّلْزَالُ: بِكَسْرِ الزَّايِ الْأَوْلَى مَصْدَرُ زَلْزَلَ، وَأَمَّا الزَّلْزَالُ بِفَتْحِ الزَّايِ فَهُوَ اسْمُ

مَصْدَرٍ كَالْوَسْوَاسِ وَالْقَلْقَالِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الزِّلْزَالِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَإِنَّمَا بُنِيَ فِعْلُ زُلْزِلَتِ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فَاعِلُهُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَانْتَصَبَ زِلْزالَها عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ إِشَارَةً إِلَى هَوْلِ ذَلِكَ الزِّلْزَالِ فَالْمَعْنَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالًا. وَأُضِيفَ زِلْزالَها إِلَى ضَمِيرِ الْأَرْضِ لِإِفَادَةِ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا وَتَكَرُّرِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ عُرِفَ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهَا لِكَثْرَةِ اتِّصَالِهِ بِهَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَسَائِلَتِي سَفَاهَتَهَا وَجَهْلًا ... عَلَى الْهِجْرَانِ أُخْتُ بَنِي شِهَابِ أَيْ سَفَاهَةً لَهَا، أَيْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَا، وَقَوْلِ أَبِي خَالِدٍ الْقَنَانِيِّ: وَاللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبَارَكًا ... آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكَا يُرِيدُ إِيثَارًا عُرِفْتَ بِهِ وَاخْتَصَصْتَ بِهِ. وَفِي كُتُبِ السِّيرَةِ أَنَّ مِنْ كَلَامِ خَطْرِ بْنِ مَالِكٍ الْكَاهِنِ يَذْكُرُ شَيْطَانَهُ حِينَ رُجِمَ «بَلْبَلَهُ بَلْبَالُهُ» أَيْ بِلْبَالٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَالْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثِقْلٍ بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ الْمَتَاعُ الثَّقِيلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَتَاعِ النَّفِيسِ. وَإِخْرَاجُ الأَرْض أثقالها ناشىء عَنِ انْشِقَاقِ سَطْحِهَا فَتَقْذِفُ مَا فِيهَا مِنْ مَعَادِنَ وَمِيَاهٍ وَصَخْرٍ. وَذَلِكَ مِنْ تَكَرُّرِ الِانْفِجَارَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ اضْطِرَابٍ دَاخِلِ طَبَقَاتِهَا وَانْقِلَابِ أَعَالِيهَا أَسَافِلَ وَالْعَكْسِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ وَقَالَ النَّاسُ مَا لَهَا، أَيْ النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ أَحْيَاءٌ فَفَزِعُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، أَوْ قَالَ كُلُّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ حَتَّى اسْتَوَى فِي ذَلِكَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ، وَالطَّائِشُ وَالْحَكِيمُ، لِأَنَّهُ زِلْزَالٌ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى مِثْلِهِ الصَّبُورُ.

وَقَوْلُ: مَا لَها اسْتِفْهَامٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْأَرْضِ وَلَزِمَهَا لِأَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ مَا لِلْأَرْضِ فِي هَذَا الزِّلْزَالِ، أَوْ مَا لَهَا زُلْزِلَتْ هَذَا الزِّلْزَالَ، أَيْ مَاذَا سَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ. نَزَلَتِ الْأَرْضُ مَنْزِلَةَ قَاصِدٍ مُرِيدٍ يَتَسَاءَلُ النَّاسُ عَنْ قَصْدِهِ مِنْ فِعْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَتَبَيَّنْ غَرَضُهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ غَالِبًا مُرْدَفًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: مَا لَهُ يَفْعَلُ كَذَا، أَوْ مَا لَهُ فِي فِعْلِ كَذَا، أَوْ مَا لَهُ وَفُلَانًا، أَيْ مَعَهُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُقَدَّرٌ، أَيْ مَا لَهَا زُلْزِلَتْ، أَوْ مَا لَهَا فِي هَذَا الزِّلْزَالِ، أَوْ مَا لَهَا وَإِخْرَاجَ أَثْقَالِهَا. وَجُمْلَةُ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها إِلَخْ جَوَابُ إِذا بِاعْتِبَارِ مَا أُبْدِلَ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ فَيَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وَالْيَوْمُ يُطْلَقُ عَلَى النَّهَارِ مَعَ لَيْلِهِ فَيَكُونُ الزِّلْزَالُ نَهَارًا وَتَتْبَعَهُ حَوَادِثُ فِي اللَّيْلِ مَعَ انكدار النُّجُوم وانتثارها وَقَدْ يُرَادُ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ. وتُحَدِّثُ أَخْبارَها هُوَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ وَفِي الْبَدَلِ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمَ إِذْ تُزَلْزَلُ الْأَرْضُ وَتُخْرِجُ أَثْقَالَهَا وَيَقُولُ النَّاسُ: مَا لَهَا تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا إِلَخْ. وأَخْبارَها مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ تُحَدِّثُ لِأَنَّهُ مِمَّا أُلْحِقَ بِظَنٍّ لِإِفَادَةِ الْخَبَرِ عِلْمًا، وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ لِظُهُورِهِ، أَيْ تُحَدِّثُ الْإِنْسَانَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ إِخْبَارُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ. وَضَمِيرُ تُحَدِّثُ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضُ وَالتَّحْدِيثُ حَقِيقَتُهُ: أَنْ يَصْدُرَ كَلَامٌ بِخَبَرٍ عَنْ حَدَثٍ. وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشَهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا» اهـ. وَجُمِعَ أَخْبارَها بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ دَلَالَتِهَا عَلَى عَدَدِ الْقَائِلِينَ مَا لَها وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها

وَانْتَصَبَ أَخْبارَها عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ تُحَدِّثُ وَقَوْلُهُ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ تُحَدِّثُ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهَا أَنْ تُحَدِّثَ أَخْبَارَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَخْبارَها وَأُظْهِرَتِ الْبَاءُ فِي الْبَدَلِ لِتَوْكِيدِ تَعْدِيَةِ فِعْلِ تُحَدِّثُ إِلَيْهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ قَدْ أُجْمِلَتْ أَخْبَارُهَا وَبَيَّنَهَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ. وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ أَوْجَدَ فِيهَا أَسْبَابَ إِخْرَاجِ أَثْقَالِهَا فَكَأَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا بِكَلَامٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النَّحْل: 68] الْآيَاتِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ أَوْحى بِاللَّامِ لِتَضْمِينِ أَوْحى مَعْنَى قَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت: 11] ، وَإِلَّا فَإِنَّ حَقَّ أَوْحى أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى) . وَالْقَوْلُ الْمُضَمَّنُ هُوَ قَوْلُ التَّكْوِينِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: 40] . وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ فِعْلِ: قَالَ لَهَا إِلَى فِعْلِ أَوْحى لَها لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ تَكْوِينٍ لَا عَنْ قَوْلٍ لَفْظِيٍّ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وَالْجَوَابُ هُوَ فِعْلُ يَصْدُرُ النَّاسُ وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالتَّذْكِيرِ بِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ أَهْوَالِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ حُصُولِهِ يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّ الزِّلْزَالَ كَانَ إِنْذَارًا بِهَذَا الْحَشْرِ. وَحَقِيقَةُ يَصْدُرُ النَّاسُ الْخُرُوجُ مِنْ مَحَلِّ اجْتِمَاعِهِمْ، يُقَالُ: صَدَرَ عَنِ الْمَكَانِ، إِذَا تَرَكَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ صُدُورًا وَصَدَرًا بِالتَّحْرِيكِ. وَمِنْهُ الصَّدْرُ عَنِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوِرْدِ، فَأُطْلِقَ هُنَا فِعْلُ يَصْدُرُ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ جَمَاعَاتٍ، أَوِ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الْمَحْشَر إِلَى مآويهم مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، تَشْبِيهًا بِانْصِرَافِ النَّاسِ عَنِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوِرْدِ.

[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 إلى 8]

وَأَشْتَاتٌ: جَمْعُ شَتٍّ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَفَرِّقُ، وَالْمُرَادُ: يَصْدُرُونَ مُتَفَرِّقِينَ جَمَاعَاتٍ كُلٌّ إِلَى جِهَةٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ وَمَا عُيِّنَ لَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ. وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَنَاسُبِ كُلِّ جَمَاعَةٍ فِي أَعْمَالِهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْخَيْرِ وَمَنَازِلِ الشَّرِّ بِقَوْلِهِ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ، أَيْ يَصْدُرُونَ لِأَجْلِ تَلَقِّي جَزَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَيُقَالُ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ: انْظُرُوا أَعْمَالَكُمْ، أَوِ انْظُرُوا مَآلَكُمْ. وَبُنِيَ فِعْلُ لِيُرَوْا إِلَى النَّائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُؤْيَتُهُمْ أَعْمَالَهَمْ لَا تَعْيِينُ مَنْ يُرِيهِمْ إِيَّاهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ التَّحْتِيَّةِ. فَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَالْمَرْئِيُّ هُوَ مَنَازِلُ الْجَزَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْعِلْمِ بِجَزَاءِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تُرَى وَلَكِنْ يَظْهَرُ لأَهْلهَا جزاؤها. [7، 8] [سُورَة الزلزلة (99) : الْآيَات 7 إِلَى 8] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: 6] تَفْرِيعَ الْفَذْلَكَةِ، انْتِقَالًا لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالتَّفْرِيعُ قَاضٍ بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ عَقِبَ مَا يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا. وَالْمِثْقَالُ: مَا يُعْرَفُ بِهِ ثِقْلُ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَا يُقَدَّرُ بِهِ الْوَزْنُ وَهُوَ كَمِيزَانٍ زِنَةً وَمَعْنًى. وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ فِي ابْتِدَاءِ حَيَاتِهَا. ومِثْقالَ ذَرَّةٍ مَثَلٌ فِي أَقَلِّ الْقِلَّةِ وَذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهَرٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافِرِينَ فَالْمَقْصُودُ مَا عَمِلُوا مِنْ شَرٍّ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ فَهِيَ كَالْعَدَمِ فَلَا تُوصَفُ بِخَيْرٍ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] .

وَإِنَّمَا أُعِيدَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِتَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ لِتَخْتَصَّ كُلُّ جُمْلَةٍ بِغَرَضِهَا مِنَ التَّرْغِيبِ أَوِ التَّرْهِيبِ فَأَهَمِّيَّةُ ذَلِكَ تَقْتَضِي التَّصْرِيحَ وَالْإِطْنَابَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْدُودَةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَدْ وَصَفَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَامِعَةِ الْفَاذَّةِ فَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ» الْحَدِيثَ. فَسُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ أَحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: قَدِمَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقرىء النَّبِيءِ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: حَسْبِي فَقَدِ انْتَهَتِ الْمَوْعِظَةُ لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: «لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَتَيْنِ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالصُّحُفِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَعًا أُوثِرَ جَانِبُ التَّرْغِيبِ بِالتَّقْدِيمِ فِي التَّقْسِيمِ تَنْوِيهًا بِأَهْلِ الْخَيْرِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : يُحْكَى أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَخَّرَ خَيْرًا يَرَهُ فَقِيلَ قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ فَقَالَ: خُذَا بَطْنَ هَرْشَى أَوْ قَفَاهَا فَإِنَّهُ ... كِلَا جَانِبَيْ هَرْشَى لَهُنَّ طَرِيقُ اهـ وَقَدْ غَفَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ عَنْ بَلَاغَةِ الْآيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ التَّنْوِيهَ بِأَهْلِ الْخَيْرِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ أَحَدُهُمَا لَا يُبَالِي مِنَ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ وَيَرْكَبُهَا، وَالْآخَرُ يُحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَلَا يَجِدُ إِلَّا الْيَسِيرَ فَيَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا. وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ جَمْعٌ: إِنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ مُقْتَضِيًا أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَلَوْا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ شَاهِدًا يَظُنُّهَا بَعْضُ السَّامِعِينَ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ.

100- سورة العاديات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 100- سُورَةُ الْعَادِيَاتِ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِيَّةِ الْعَتِيقَةِ وَالتُّونِسِيَّةِ وَالْمَشْرِقِيَّةِ «سُورَةَ الْعَادِيَاتِ» بِدُونِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فَهِيَ تَسْمِيَةٌ لِمَا ذُكِرَ فِيهَا دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِهِ. وَسَمِّيَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ وَالْعَادِيَاتِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَعُدَّتِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بن زيد بِنَاء عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعَصْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ. وَآيُهَا إِحْدَى عَشْرَةَ. ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنْ مُقَاتِلٍ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَيْلًا سَرِيَّةً إِلَى بَنِي كِنَانَةَ وَأَمَّرَ عَلَيْهَا الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ فَأَسْهَبَتْ أَيْ أَمْعَنَتْ فِي سَهْبٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ شهرا وَتَأَخر خبرهم فَأَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: قُتِلُوا جَمِيعًا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [العاديات: 1] الْآيَاتِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ خَيْلَهُمْ قَدْ فَعَلَتْ جَمِيعَ مَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَوَى أَبُو بكر الْبَزَّار هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا وَسَاقَ الْحَدِيثَ قَرِيبًا مِمَّا لِلْوَاحِدِيِّ. وَأَقُولُ غَرَابَةُ الْحَدِيثِ لَا تُنَاكِدُ قَبُولَهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ثِقَاتٍ إِلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ حَفْصَ بْنَ جُمَيْعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَالرَّاجِحُ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ.

أغراضها

أَغْرَاضُهَا ذَمُّ خِصَالٍ تُفْضِي بِأَصْحَابِهَا إِلَى الْخُسْرَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَهِي خِصَال غَالِيَة عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُرَادُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَوَعْظُ النَّاسِ بِأَنَّ وَرَاءَهُمْ حِسَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَتَذَكَّرَهُ الْمُؤْمِنُ وَيُهَدَّدَ بِهِ الْجَاحِدُ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَنِ افْتُتِحَ بِالْقَسَمِ، وَأُدْمِجَ فِي الْقَسَمِ التَّنْوِيهُ بِخَيْلِ الْغُزَاةِ أَوْ رواحل الحجيج. [1- 8] [سُورَة العاديات (100) : الْآيَات 1 إِلَى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَقْسَمَ اللَّهُ بِ الْعادِياتِ جَمْعِ الْعَادِيَةِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَدْوِ وَهُوَ السَّيْرُ السَّرِيعُ يُطْلَقُ عَلَى سَيْرِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ خَاصَّةً. وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ سَيْرُ الْإِنْسَانِ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْخَيْلِ وَمِنْه عدّاؤو الْعَرَبِ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ: السُّلَيْكُ بْنُ السُّلَكَةِ، وَالشَّنْفَرَى، وَتَأَبَّطَ شَرًّا، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ. يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فِي الْعَدْوِ. وَتَأْنِيثُ هَذَا الْوَصْفِ هُنَا لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ مَا لَا يَعْقِلُ. وَالضَّبْحُ: اضْطِرَابُ النَّفَسِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْحَنْجَرَةِ دُونَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ وَهُوَ مِنْ أَصْوَاتِ الْخَيْلِ وَالسِّبَاعِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَصِفُ الضَّبْحَ أَحْ أَحْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ يَضْبَحُ غَيْرَ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي «الْقَامُوسِ» . رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنِ الْعادِياتِ ضَبْحاً فَقُلْتُ لَهُ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى اللَّيْلِ فَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ وَيُورُونَ نَارَهُمْ، فَانْفَتَلَ عَنِّي فَذَهَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ تَحْتَ

سِقَايَةِ زَمْزَمَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَنْهَا أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: الْخَيْلُ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي، فَلَمَّا وَقَفْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ. قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ وَاللَّهِ لَكَانَتْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ لَبَدْرٌ وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا الْإِبِلُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى (يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْغَزْوِ الَّذِي أَوَّلُهُ غَزْوَةُ بَدْرٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَزَعْتُ عَنْ قَوْلِي وَرَجَعْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ عَلِيٌّ» . وَلَيْسَ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَا مَدَنِيَّةٌ وَبِمِثْلِ مَا قَالَ عَلِيٌّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَالضَّبْحُ لَا يُطْلَقُ عَلَى صَوْتِ الْإِبِلِ فِي قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَإِذَا حَمَلَ الْعادِياتِ عَلَى أَنَّهَا الْإِبِلُ، فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَنْ جَعَلَهَا لِلْإِبِلِ جَعَلَ ضَبْحاً بِمَعْنَى ضَبْعًا، يُقَالُ: ضَبَحَتِ النَّاقَةُ فِي سَيْرِهَا وَضَبَعَتْ، إِذَا مَدَّتْ ضَبْعَيْهَا فِي السَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ضَبَحَتِ الْخَيْلُ وَضَبَعَتْ، إِذَا عَدَتْ وَهُوَ أَنْ يَمُدَّ الْفَرَسُ ضَبْعَيْهِ إِذَا عَدَا، أَيْ فَالضَّبْحُ لُغَةٌ فِي الضَّبْعِ وَهُوَ مِنْ قَلْبِ الْعَيْنِ حَاءً. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلَيْسَ بِثَبْتٍ» . وَلَكِنْ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» اعْتَمَدَهُ. وَعَلَى تَفْسِيرِ الْعادِياتِ بِأَنَّهَا الْإِبِلُ يَكُونُ الضَّبْحُ اسْتُعِيرَ لِصَوْتِ الْإِبِلِ، أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْعَدْوِ قَوِيَتِ الْأَصْوَاتُ الْمُتَرَدِّدَةُ فِي حَنَاجِرِهَا حَتَّى أَشْبَهَتْ ضَبْحَ الْخَيْلِ أَوْ أُرِيدَ بِالضَّبْحِ الضَّبْعُ عَلَى لُغَةِ الْإِبْدَالِ. وَانْتَصَبَ ضَبْحاً فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْعادِياتِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصَّوْتُ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي جَوْفِهَا حِينَ الْعَدْوِ، أَوْ يُجْعَلُ مُبَيِّنًا لِنَوْعِ الْعَدْوِ إِذَا كَانَ أَصْلُهُ: ضَبْحًا. وَعَلَى وَجْهِ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ رَوَاحِلُ الْحَجِّ فَالْقَسَمُ بِهَا لِتَعْظِيمِهَا بِمَا تُعِينُ بِهِ عَلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَاخْتِيرَ الْقَسَمُ بِهَا لِأَنَّ السَّامِعِينَ يُوقِنُونَ أَنَّ مَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَا مُحَقَّقٌ، فَهِيَ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَالْمُورِيَاتُ: الَّتِي تُورِي، أَيْ تُوقِدُ.

وَالْقَدْحُ: حَكُّ جِسْمٍ عَلَى آخَرَ لِيَقْدَحَ نَارًا، يُقَالُ: قَدَحَ فَأَوْرَى. وَانْتَصَبَ قَدْحاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ. وَكُلٌّ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ وَمَنَاسِمِ الْإِبِلِ تَقْدَحُ إِذَا صَكَّتِ الْحَجَرَ الصَّوَّانَ نَارًا تُسَمَّى نَارَ الْحُبَاحِبِ، قَالَ الشَّنْفَرَى يُشَبِّهُ نَفْسَهُ فِي الْعَدْوِ بِبَعِيرٍ: إِذَا الْأَمْعَزُ الصَّوَّانُ لَاقَى مَنَاسِمِي ... تَطَايَرَ مِنْهُ قَادِحٌ وَمُفَلَّلُ وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْإِمْعَانِ فِي الْعَدْوِ وَشِدَّةِ السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَدْحُ النِّيرَانِ بِاللَّيْلِ حِينَ نُزُولِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ وَطَعَامِهِمْ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الموريات قَدْحاً مستعار لِإِثَارَةِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْحَرْبَ تُشَبَّهُ بِالنَّارِ. قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الْمَائِدَة: 64] ، فَيَكُونَ قَدْحاً تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ (الْمُورِيَاتِ) وَمَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ (الْمُورِيَاتِ) وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ قَدْحاً بِمَعْنَى اسْتِخْرَاجِ الْمَرَقِ مِنَ الْقِدْرِ فِي الْقِدَاحِ لِإِطْعَامِ الْجَيْشِ أَوِ الرَّكْبِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْقَدَحِ، وَهُوَ الصَّحْفَةُ فَيَكُونَ قَدْحاً مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَالْمُغِيرَاتِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَغَارَ، وَالْإِغَارَةُ تُطْلَقُ عَلَى غَزْوِ الْجَيْشِ دَارًا وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِهَا فَإِسْنَادُ الْإِغَارَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْعادِياتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فَإِنَّ الْمُغِيرِينَ رَاكِبُوهَا وَلَكِنَّ الْخَيْلَ أَوْ إِبِلَ الْغَزْوِ أَسْبَابٌ لِلْإِغَارَةِ وَوَسَائِلُ. وَتُطْلَقُ الْإِغَارَةُ عَلَى الِانْدِفَاعِ فِي السَّيْرِ. وصُبْحاً ظَرْفُ زَمَانٍ فَإِذَا فُسِّرَ «الْمُغِيرَاتِ» بِخَيْلِ الْغُزَاةِ فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِوَقْتِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا غَزَوْا لَا يُغِيرُونَ عَلَى الْقَوْمِ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ مُنْذِرُ الْحَيِّ إِذَا أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِمَجِيءِ الْعَدُوِّ نَادَى: يَا صَبَاحَاهُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 177] . وَإِذَا فُسِّرَ «الْمُغِيرَاتِ» بِالْإِبِلِ الْمُسْرِعَاتِ فِي السَّيْرِ، فَالْمُرَادُ: دَفْعُهَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى صَبَاحَ يَوْمِ النَّحْرِ وَكَانُوا يدْفَعُونَ بكرَة عِنْد مَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ وَمِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ: «أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ» .

وَ «أَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا» : أَصْعَدْنَ الْغُبَارَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ عَدْوِهِنَّ، وَالْإِثَارَةُ: الْإِهَاجَةُ، وَالنَّقْعُ: الْغُبَارُ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى الْعَدْوِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْعادِياتِ وَيَجُوزُ كَوْنُ الْبَاءِ ظَرْفِيَّةً وَالضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى صُبْحاً، أَيْ أَثَرْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ إِغَارَتِهَا. وَمَعْنَى: «وَسَطْنَ» : كُنَّ وَسْطَ الْجَمْعِ، يُقَالُ: وَسَطَ الْقَوْمَ، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ. وجَمْعاً مَفْعُولُ: «وَسَطْنَ» وَهُوَ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ النَّاسِ، أَيْ صِرْنَ فِي وسط الْقَوْم المغزوون. فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِبِلِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْله: جَمْعاً بِمَعْنى الْمَكَان الْمُسَمّى جَمْعاً وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ فَيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى حُلُولِ الْإِبِلِ فِي مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ أَنْ تُغِيرَ صُبْحًا مِنْهَا إِلَى عَرَفَةَ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ جَمَاعَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَكَانٍ تَصِلُ إِلَيْهِ هَذِهِ الرَّوَاحِلُ. وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ وَإِعْجَازِهِ إِيثَارُ كَلِمَاتِ «الْعَادِيَاتِ وَضَبْحًا وَالْمُورِيَاتِ وَقَدْحًا، وَالْمُغِيرَاتِ وَصُبْحًا، وَوَسَطْنَ وَجَمْعًا» دُونَ غَيرهَا لِأَنَّهَا برشقاتها تَتَحَمَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ خَيْلَ الْغَزْوِ ورواحل الْحَج. وعطفت هَذِهِ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى بِالْفَاءِ لِأَنَّ أُسْلُوبَ الْعَرَبِ فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ وَعَطْفِ الْأَمْكِنَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ وَهِيَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْقِيبِ الْحُصُولِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّ ... ابَحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ (¬1) وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ تَعْقِيبِ الذِّكْرِ كَمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَالْفَاءُ الْعَاطِفَةُ لِقَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً عَاطِفَةٌ عَلَى وَصْفِ «الْمُغِيرَاتِ» . وَالْمَعْطُوفُ بِهَا مِنْ آثَارِ وَصْفِ الْمُغِيرَاتِ. وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً عَلَى صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مِثْلَ ¬

(¬1) يَعْنِي: زيابة أمه. واسْمه سَلمَة بن ذهل التّيمي. والْحَارث هُوَ ابْن همام الشَّيْبَانِيّ الَّذِي هدد ابْن زيابة فَأَجَابَهُ ابْن زيابة متهكما.

الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ إِثَارَةَ النَّقْعِ وَتَوَسُّطَ الْجَمْعِ مِنْ آثَارِ الْإِغَارَةِ صُبْحًا، وَلَيْسَا مُقْسَمًا بِهِمَا أَصَالَةً وَإِنَّمَا الْقَسَمُ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى. فَلِذَلِكَ غُيِّرَ الْأُسْلُوبُ فِي قَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً فَجِيءَ بِهِمَا فِعْلَيْنِ مَاضِيَيْنِ وَلَمْ يَأْتِيَا عَلَى نَسَقِ الْأَوْصَافِ قَبْلَهُمَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ انْتَقَلَ مِنَ الْقَسَمِ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنْ حُصُولِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ مَا قصد مِنْهَا من الظفر بالمطلوب الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْعَدْوُ وَالْإِيرَاءُ وَالْإِغَارَةُ عَقِبَهُ وَهِيَ الْحُلُولُ بِدَارِ الْقَوْمِ الَّذِينَ غَزَوْهُمْ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِ الْعادِياتِ الْخَيْلَ، أَوْ بُلُوغُ تَمَامِ الْحَجِّ بِالدَّفْعِ عَنْ عَرَفَةَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِ الْعادِياتِ رَوَاحِلَ الْحَجِيجِ، فَإِنَّ إِثَارَةَ النَّقْعِ يَشْعُرُونَ بِهَا عِنْدَ الْوُصُولِ حِينَ تَقِفُ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ دُفْعَةً، فَتُثِيرُ أَرْجُلُهَا نَقْعًا شَدِيدًا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَحِينَئِذٍ تَتَوَسَّطْنَ الْجَمْعَ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: جَمْعاً اسْمَ الْمُزْدَلِفَةِ حَيْثُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْمَوْصُوفَاتِ دُونَ غَيْرِهَا إِنْ أُرِيدَ رَوَاحِلُ الْحَجِيجِ وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ هُوَ أَنْ يُصَدَّقَ الْمُشْرِكُونَ بِوُقُوعِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِشَعَائِرِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بَارًّا حَيْثُ هُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَيَزْعُمُونَهُ قَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ أُرِيدَ بِ الْعادِياتِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا خَيْلُ الْغُزَاةِ، فَالْقَسَمُ بِهَا لِأَجْلِ التَّهْوِيلِ وَالتَّرْوِيعِ لِإِشْعَارِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ غَارَةً تَتَرَقَّبُهُمْ وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ، مَعَ تَسْكِينِ نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي مَصِيرِ السَّرِيَّةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مَعَ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو إِذَا صَحَّ خَبَرُهَا فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِخُصُوصِ هَذِهِ الْخَيْلِ إِدْمَاجًا لِلِاطْمِئْنَانِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْكَنُودُ: وَصْفٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ كَنَدَ وَلُغَاتُ الْعَرَبِ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ فِي لُغَةِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ: الْكَفُورُ بِالنِّعْمَةِ، وَبِلُغَةِ كِنَانَةَ: الْبَخِيلُ، وَفِي لُغَةِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ: العَاصِي. وَالْمعْنَى: لشديد الْكُفْرَانِ لِلَّهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ غَالِبًا، أَيْ أَنَّ

فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ الْكُنُودَ لِرَبِّهِ، أَيْ كُفْرَانَ نِعْمَتِهِ، وَهَذَا عَارِضٌ يَعْرِضُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِ وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَكُمَّلُ أَهْلِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَنْشَأُ عَنْ إِيثَارِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَهُوَ أَمْرٌ فِي الْجِبِلَّةِ لَا تَدْفَعُهُ إِلَّا الْمُرَاقَبَةُ النَّفْسِيَّةُ وَتَذَكُّرُ حَقِّ غَيْرِهِ. وَبِذَلِكَ قَدْ يَذْهَلُ أَوْ يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ، وَالْإِنْسَانُ يُحِسُّ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فِي خَطَرَاتِهِ، وَيَتَوَانَى أَوْ يَغْفُلُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِإِرْضَاءِ دَاعِيَةِ نَفْسِهِ وَالْأَنْفُسُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي تَمَكُّنِ هَذَا الْخُلُقِ مِنْهَا، وَالْعَزَائِمُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي اسْتِطَاعَةِ مُغَالَبَتِهِ. وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ عُرْفِيًّا أَوْ عَامًّا مَخْصُوصًا، فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ مَآلُهَا إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، بِالْقَوْلِ وَالْقَصْدِ، أَوْ بِالْفِعْلِ وَالْغَفْلَةِ، فَالْإِشْرَاكُ كُنُودٌ، وَالْعِصْيَانُ كُنُودٌ، وَقِلَّةُ مُلَاحَظَةِ صَرْفِ النِّعْمَةِ فِيمَا أُعْطِيَتْ لِأَجْلِهِ كُنُودٌ، وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ، فَهَذَا خُلُقٌ مُتَأَصِّلٌ فِي الْإِنْسَانِ فَلِذَلِكَ أَيْقَظَ اللَّهُ لَهُ النَّاسَ لِيَرِيضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَمَانَةِ هَذَا الْخُلُقِ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: 19] وَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: 37] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ هُنَا بِالْكَافِرِ فَهُوَ مِنَ الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَنُودُ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ» وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِأَدْنَى مَعَانِي الْكُنُودِ فَإِنَّ أَكْلَهُ وَحْدَهُ، أَيْ عَدَمَ إِطْعَامِهِ أَحَدًا مَعَهُ، أَوْ عَدَمَ إِطْعَامِهِ الْمَحَاوِيجَ إِغْضَاءً عَنْ بَعْضِ مَرَاتِبِ شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْعُهُ الرِّفْدَ، وَمِثْلُهُ: ضَرْبُهُ عَبْدَهُ فَإِنَّ فِيهِ نِسْيَانًا لِشُكْرِ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ مِلْكًا لَهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْكًا لِلْعَبْدِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِوَصْفِ الْكُنُودِ. وَقِيلَ التَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ: قِرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيُّ. وَاللَّامُ فِي لِرَبِّهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ (كَنُودَ) وَصْفٌ لَيْسَ أَصِيلًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْمُولَاتِ لِمُشَابَهَتِهِ الْفِعْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ فَيَكْثُرُ أَنْ يَقْتَرِنَ مَفْعُولُهُ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ، وَمَعَ تَأْخِيرِهِ عَنْ مَعْمُولِهِ.

وَتَقْدِيمُ لِرَبِّهِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِمُتَعَلِّقِ هَذَا الْكُنُودِ لِتَشْنِيعِ هَذَا الكنود بِأَنَّهُ كنُود لِلرَّبِّ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِالشُّكْرِ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ شِرْكُ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْكَلَامَ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَى خَبَرِ (إِنَّ) لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ. وَتَقْدِيمُ لِرَبِّهِ عَلَى عَامِلِهِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الصَّدْرِ لِأَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفِ، وَابْنُ هِشَامٍ يَرَى أَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ الْوَاقِعَةَ فِي خَبَرِ (إِنَّ) لَيْسَتْ بِذَاتِ صَدَارَةٍ. وَضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ عَلَى حَسَبِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ انْتِسَاقُ الضَّمَائِرِ وَاتِّحَادُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالشَّهِيدُ: يُطْلَقُ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ الْخَبَرُ بِمَا يُصَدِّقُ دَعْوَى مُدَّعٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَاضِرِ وَمِنْهُ جَاءَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ الْمَعْلُومُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ. وَالشَّهِيدُ هُنَا: إِمَّا بِمَعْنَى الْمُقِرِّ كَمَا فِي «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُقِرٌّ بِكُنُودِهِ لِرَبِّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَقْصِدُ الْإِقْرَارَ، وَذَلِكَ فِي فَلَتَاتِ الْأَقْوَالِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَصْنَامِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . فَهَذَا قَوْلٌ يَلْزَمُهُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا مَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَأَشْرَكُوا فِي الْعِبَادَةِ مَعَ الْمُسْتَحِقِّ لِلِانْفِرَادِ بِهَا، أَلَيْسَ هَذَا كُنُودًا لِرَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ [الْأَنْعَام: 130] ، وَفِي فَلَتَاتِ الْأَفْعَالِ كَمَا يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْمعاصِي. وَالْمَقْصُود من هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْظِيعُ كُنُودِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِصَاحِبِهِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَعَلَى هَذَا فَحَرْفُ عَلى مُتَعَلِّقٌ بِ «شَهِيدٌ» وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْكُنُودِ الْمَأْخُوذِ مِنْ صِفَةِ «كَنُودٌ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «شَهِيدٌ» بِمَعْنَى (عَلِيمٍ) كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ: وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الْخِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ

وَمُتَعَلِّقُ «شَهِيدٌ» مَحْذُوفا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، أَيْ بِدَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: عَلى ذلِكَ بِمَعْنَى: مَعَ ذَلِكَ، أَيْ مَعَ ذَلِكَ الْكُنُودِ هُوَ عَلِيمٌ بِأَنَّهُ رَبُّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ لَا لِلْكُنُودِ، فَحَرْفُ عَلى بِمَعْنَى (مَعَ) كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَة: 177] ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَان: 8] وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: فَبَقِينَا على الشّناءة تنم ... نَا حصون وعرة قَعْسَاءُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَذَلِكَ زِيَادَة فِي التعجيب مِنْ كُنُودِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسُفْيَانُ: ضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «رَبِّهِ» ، أَيْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يُسَوِّغُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَلَعَلَّهُمَا رَأَيَا جَوَازَ الْمَحْمَلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى. وَتَقْدِيمُ عَلى ذلِكَ عَلَى «شَهِيد» للاهتمام والتعجيب وَمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ. وَالشَّدِيدُ: الْبَخِيلُ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ رَاثِيًا: حَذَرْنَاهُ بِأَثْوَابٍ فِي قَعْرِ هُوَّةٍ ... شَدِيدٍ عَلَى مَا ضَمَّ فِي اللَّحْدِ جُولُهَا وَالْجَوْلُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: التُّرَابُ، كَمَا يُقَالُ لِلْبَخِيلِ الْمُتَشَدِّدِ أَيْضًا قَالَ طَرَفَةُ: عَقِيلَةُ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَاللَّامُ فِي لِحُبِّ الْخَيْرِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْخَيْرُ: الْمَالُ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: 18] . وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي خُلُقِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ لِأَجْلِ حُبِّهِ الْمَالَ، أَيِ الِازْدِيَادِ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: 9] . وَتَقْدِيمُ لِحُبِّ الْخَيْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِغَرَابَةِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَحُبُّ الْمَالِ يَبْعَثُ عَلَى مَنْعِ الْمَعْرُوفِ، وَكَانَ الْعَرَبُ يُعَيِّرُونَ بِالْبُخْلِ وَهُمْ مَعَ

[سورة العاديات (100) : الآيات 9 إلى 10]

ذَلِكَ يَبْخَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَلَكِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي الْإِنْفَاقِ فِي مَظَانِّ السُّمْعَةِ وَمَجَالِسِ الشُّرْبِ وَفِي الْمَيْسِرِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا [الْفجْر: 18- 20] . [9، 10] [سُورَة العاديات (100) : الْآيَات 9 إِلَى 10] أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) فُرِّعَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِكُنُودِ الْإِنْسَانِ وَشُحِّهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ عَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوَقْتِ بَعْثَرَةِ مَا فِي الْقُبُورِ وَتَحْصِيلِ مَا فِي الصُّدُورِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ كَيْفَ يَغْفُلُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ قُدِّمَتْ على فَاء التَّفْرِيع لِأَن الِاسْتِفْهَام صَدْرَ الْكَلَامِ. وَانْتَصَبَ إِذا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِمَفْعُولِ يَعْلَمُ الْمَحْذُوفِ اقْتِصَارًا، لِيَذْهَبَ السَّامِعُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ قَصْدًا لِلتَّهْوِيلِ. وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْلَمُ الْعَذَابَ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا فِي كُنُودِهِ وَبُخْلِهِ مِنْ جِنَايَةٍ مُتَفَاوِتَةِ الْمِقْدَارِ إِلَى حَدِّ إِيجَابِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَحُذِفَ مَفْعُولَا يَعْلَمُ وَلَا دَلِيلَ فِي اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ تَقْدِيرِهِمَا فَيُوكَلُ إِلَى السَّامِعِ تَقْدِيرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْوِيلِ وَيُسَمَّى هَذَا الْحَذْفُ عِنْدَ النُّحَاةِ الْحَذْفَ الِاقْتِصَارِيَّ، وَحَذْفُ كِلَا الْمَفْعُولَيْنِ اقْتِصَارًا جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَهُوَ التَّحْقِيقُ وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ يَمْنَعُهُ. وبُعْثِرَ: مَعْنَاهُ قُلِبَ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِحْيَاءُ مَا فِي الْقُبُورِ مِنَ الْأَمْوَاتِ الْكَامِلَةِ الْأَجْسَادِ أَوْ أَجْزَائِهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [4] . وحُصِّلَ: جُمِعَ وَأُحْصِيَ. وَمَا فِي الصُّدُورِ: هُوَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ ضَمَائِرَ وَأَخْلَاقٍ، أَيْ جُمِعَ عَدُّهُ والحساب عَلَيْهِ.

[سورة العاديات (100) : آية 11]

[سُورَة العاديات (100) : آيَة 11] إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ الْإِنْكَارِ، أَيْ كَانَ شَأْنُهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا اطِّلَاعَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَأَنْ يَذْكُرُوهُ لِأَنَّ وَرَاءَهُمُ الْحِسَابَ الْمُدَقَّقَ، وَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَادَ التَّذْيِيلِ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَخَبِيرٌ، أَيْ عَلِيمٌ. وَالْخَبِيرُ: مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْمُجَازِي بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، بِقَرِينَةِ تَقْيِيدِهِ بِيَوْمَئِذٍ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِهِمْ حَاصِلٌ مِنْ وَقْتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ عِلْمِهِ بِهِمْ يَوْمَ بَعْثَرَةِ الْقُبُورِ، فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَتَقْدِيمُ بِهِمْ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ لَخَبِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ مَعَ أَنَّ لَهَا الصَّدْرَ سَائِغٌ لِتَوَسُّعِهِمْ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظَّرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] وَقَوْلِهِ: عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات: 7] وَقَوْلِهِ: لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ابْنَ هِشَامٍ يُنَازِعُ فِي وُجُوبِ صَدَارَةِ لَامِ الِابْتِدَاءِ الَّتِي فِي خَبَرِ إِنَّ

101- سورة القارعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 101- سُورَةُ الْقَارِعَةِ اتَّفَقَتِ الْمَصَاحِفُ وَكُتُبُ التَّفْسِيرِ وَكُتُبُ السُّنَّةِ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةَ الْقَارِعَةِ» وَلَمْ يُرْوَ شَيْءٌ فِي تَسْمِيَتِهَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ. وَاتُّفِقَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَعُدَّتِ الثَّلَاثِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُرَيْشٍ وَقَبْلَ سُورَةِ الْقِيَامَةِ. وَآيُهَا عَشْرٌ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَثَمَانٍ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ فِي عَدِّ أهل الْكُوفَة. أغراضها ذُكِرَ فِيهَا إِثْبَاتُ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَمَا يَسْبِقُ ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي نَعِيمٍ، وَأَهْلَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي لَا وَزْنَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ فِي قَعْر الْجَحِيم. [1- 3] [سُورَة القارعة (101) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) الِافْتِتَاحُ بِلَفْظِ الْقارِعَةُ افْتِتَاحٌ مَهَوِّلٌ، وَفِيهِ تَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيُخْبَرُ بِهِ. وَهُوَ مَرْفُوعٌ إِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ ومَا الْقارِعَةُ خَبره وَيكون هُنَاكَ مُنْتَهَى الْآيَةِ.

فَالْمَعْنَى: الْقَارِعَةُ شَيْءٌ عَظِيمٌ هِيَ. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى تَنْتَهِي بِقَوْلِهِ: مَا الْقارِعَةُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقارِعَةُ الْأَوَّلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَعُدَّ آيَةً عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَيُقَدَّرَ خَبَرٌ عَنْهُ مَحْذُوفٌ نَحْوَ: الْقَارِعَةُ قَرِيبَةٌ، أَوْ يُقَدَّرَ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ نَحْوَ أَتَتِ الْقَارِعَةُ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: مَا الْقارِعَةُ اسْتِئْنَافًا لِلتَّهْوِيلِ، وَجُعِلَ آيَةً ثَانِيَةً عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَلَيْهِ فَالسُّورَةُ مُسَمَّطَةٌ مِنْ ثَلَاثِ فَوَاصِلَ فِي أَوَّلِهَا وَثَلَاثٍ فِي آخِرِهَا وَفَاصِلَتَيْنِ وَسَطَهَا. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْقارِعَةُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَال: القارعة مَاهِيَّة، لِمَا فِي لَفْظِ الْقَارِعَةِ مِنَ التَّهْوِيلِ وَالتَّرْوِيعِ، وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْتَدَأِ أَغْنَتْ عَنِ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَجُمْلَةِ الْخَبَرِ. وَالْقَارِعَةُ: وَصْفٌ مِنَ الْقَرْعِ وَهُوَ ضرب جسم بِآخَرَ بِشِدَّةٍ لَهَا صَوْتٌ. وَأُطْلِقَ الْقَرْعُ مَجَازًا عَلَى الصَّوْتِ الَّذِي يَتَأَثَّرُ بِهِ السَّامِعُ تَأَثُّرَ خَوْفٍ أَوِ اتِّعَاظٍ، يُقَالُ: قَرَعَ فُلَانًا، أَيْ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ بِصَوْتِ غَضَبٍ. وَفِي الْمَقَامَةِ الْأَوْلَى: «وَيَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ» . وَأُطْلِقَتِ الْقارِعَةُ عَلَى الْحَدَثِ الْعَظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَصْوَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرَّعْد: 31] وَقِيلَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَرَعَتِ الْقَوْمَ قَارِعَةٌ، إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَظِيعٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَتَأْنِيثُ الْقارِعَةُ لِتَأْوِيلِهَا بِالْحَادِثَةِ أَوِ الْكَائِنَةِ. ومَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ هَوْلَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ تَسَاؤُلَ النَّاسِ عَنْهُ. فَ الْقارِعَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ هِيَ الْحَشْرُ فَجَعَلُوا الْقَارِعَةَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْحَشْرِ مِثْلَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهَا صَيْحَةُ النَّفْخَةِ فِي الصُّوَرِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْقَارِعَةُ النَّارُ ذَاتُ الزَّفِيرِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهَا اسْمُ جَهَنَّمَ.

[سورة القارعة (101) : الآيات 4 إلى 5]

وَهَذَا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1- 3] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمَعْنَى وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ زِيَادَةُ تَهْوِيلِ أَمْرِ الْقَارِعَةِ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ صَادِقَةٌ عَلَى شَخْصٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيُّ شَخْصٍ أَدْرَاكَ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَعْظِيمِ حَقِيقَتِهَا وَهَوْلِهَا لِأَنَّ هَوْلَ الْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ الْبَحْثَ عَنْ تَعَرُّفِهِ. وَأَدْرَاكَ: بِمَعْنَى أَعْلَمَكَ. ومَا الْقارِعَةُ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَا أَدْرَاكَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ. وَسَدَّ الِاسْتِفْهَامُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَدْراكَ وَجُمْلَةُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا الْقارِعَةُ وَالْخِطَابُ فِي أَدْراكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ وَمَا أَدْرَاكَ أَيُّهَا السَّامِعُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1- 3] وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ فِي سُورَة الانفطار [17] . [4، 5] [سُورَة القارعة (101) : الْآيَات 4 إِلَى 5] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) يَوْمَ مَفْعُولٌ فِيهِ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْقَارِعَةِ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ: تَقْرَعُ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كُلُّهُ فَيُقَدَّرُ: تَكُونُ، أَوْ تَحْصُلُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ. وَجُمْلَةُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ مَعَ مُتَعَلِّقِهَا الْمَحْذُوفِ بَيَان للإبهامين اللَّذين فِي قَوْلِهِ: مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 2] وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 3] . وَلَيْسَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ خَبَرًا عَنِ الْقارِعَةُ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِتَعْيِينِ يَوْمِ وُقُوعِ الْقَارِعَةِ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّوْقِيتِ زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَوْمَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفِيدَتَيْنِ أَحْوَالًا هَائِلَةً، إِلَّا أَنَّ شَأْنَ التَّوْقِيتِ أَنْ يَكُونَ بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْحَالُ الْمُوَقَّتُ بِزَمَانِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ مَدَاهُ. كَانَ التَّوْقِيتُ لَهُ إِطْمَاعًا فِي تَعْيِينِ وَقْتِ

حُصُولِهِ إِذْ كَانُوا يَسْأَلُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ، ثُمَّ تَوْقِيتُهُ بِمَا هُوَ مَجْهُولٌ لَهُمْ إِبْهَامًا آخَرَ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُفَاجَأَتِهِ، وَأُبْرِزَ فِي صُورَةِ التَّوْقِيتِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ تَقْدِيرِهِ، فَإِذَا بَاءَ الْبَاحِثُ بِالْعَجْزِ عَنْ أَخْذٍ بِحِيطَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِحُلُولِهِ بِمَا يُنْجِيهِ مِنْ مَصَائِبِهِ الَّتِي قُرِعَتْ بِهِ الْأَسْمَاعُ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ. فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْوِيلٌ شَدِيدٌ بِثَمَانِيَةِ طُرُقٍ: وَهِيَ الِابْتِدَاءُ بِاسْمِ الْقَارِعَةِ، الْمُؤْذِنِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّهْوِيلِ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، والاستفهام عَمَّا ينبىء بِكُنْهِ الْقَارِعَةِ، وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ ثَانِيَ مَرَّةٍ، وَالتَّوْقِيتُ بِزَمَانٍ مَجْهُولٍ حُصُولِهِ وَتَعْرِيفُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَحْوَالٍ مَهُولَةٍ. وَالْفَرَاشُ: فَرْخُ الْجَرَادِ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْضِهِ مِنَ الْأَرْضِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَر: 7] . وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَرَاشُ عَلَى مَا يَطِيرُ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَيَتَسَاقَطُ عَلَى النَّارِ لَيْلًا وَهُوَ إِطْلَاقٌ آخَرُ لَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ لَفْظِ الْآيَةِ هُنَا بِهِ. والْمَبْثُوثِ: الْمُتَفَرِّقُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَجُمْلَةُ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَجُمْلَةِ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [القارعة: 6] إِلَخْ. وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ كَثْرَةُ الِاكْتِظَاظِ عَلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ. وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْمَصْبُوغِ الْأَحْمَرِ، أَوْ ذِي الْأَلْوَانِ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ لِأَنَّ الْجِبَالَ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ بِحِجَارَتِهَا وَنَبْتِهَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها [فاطر: 27] . وَالْمَنْفُوشُ: الْمُفَرَّقُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ عَنْ بَعْضٍ لِيُغْزَلَ أَوْ تُحْشَى بِهِ الْحَشَايَا، وَوَجْهُ

[سورة القارعة (101) : الآيات 6 إلى 11]

الشَّبَهِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ الْجِبَالَ تَنْدَكُّ بِالزَّلَازِلِ وَنَحْوِهَا فَتَتَفَرَّقُ أَجْزَاءً. وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ تَكُونُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْكَوْنَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا كَوْنُ إِيجَادٍ، وَالثَّانِيَ كَوْنُ اضْمِحْلَالٍ، وَكِلَاهُمَا عَلَامَةٌ عَلَى زَوَالِ عَالَمٍ وَظُهُورِ عَالَمٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ فِي سُورَة المعارج [9] . [6- 11] [سُورَة القارعة (101) : الْآيَات 6 إِلَى 11] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) تَفْصِيلٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] مِنْ إِجْمَالِ حَالِ النَّاسِ حِينَئِذٍ، فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ اسْمِ النَّاسِ الشَّامِلِ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاءِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَفْصِيلُهُ بِحَالَيْنِ: حَالٍ حَسَنٍ وَحَالٍ فَظِيعٍ. وَثِقَلُ الْمَوَازِينِ كِنَايَةٌ عَنْ كَونه بِمحل الرضى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ، لِأَنَّ ثِقَلَ الْمِيزَانِ يَسْتَلْزِمُ ثِقْلَ الْمَوْزُونِ وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَشْيَاءُ الْمَرْغُوبُ فِي اقْتِنَائِهَا، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ بِالْوَزْنِ وَنَحْوِهِ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ لَا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ، قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: 105] ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: وَمِيزَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَجْدِ مَاتِعٌ أَيْ رَاجِحٌ وَهَذَا مُتَبَادِرٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِذِكْرِ مَا يُثَقِّلُ الْمَوَازِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْمِيزَانِ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» : لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي الْمِيزَانِ. وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ فَوَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآلَةٍ أَوْ بِعَمَلِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْعِيشَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الْعَيْشِ كَالْخِيفَةِ اسْمٌ لِلْخَوْفِ. أَيْ فِي حَيَاةٍ. وَوَصْفُ الْحَيَاةِ بِ راضِيَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرَّاضِيَ صَاحِبَهَا رَاضٍ بِهَا فَوُصِفَتْ بِهِ الْعِيشَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّضَى أَوْ زَمَانُ الرِّضَى. وَقَوْلُهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ إِخْبَارٌ عَنْهُ بِالشَّقَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ، فَالْأُمُّ هَنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَهَاوِيَةٌ: هَالِكَةٌ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَئِذٍ بِحَالِ الْهَالِكِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْعَرَبَ يُكَنُّونَ عَنْ حَالِ الْمَرْءِ بِحَالِ أُمِّهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهَا ابْنَهَا فَهِيَ أَشَدُّ سُرُورًا بِسُرُورِهِ وَأَشَدُّ حُزْنًا بِمَا يُحْزِنُهُ. صَلَّى أَعْرَابِيٌّ وَرَاءَ إِمَامٍ فَقَرَأَ الْإِمَامُ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاء: 125] فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: «لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ» وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ زَيَّابَةَ حِينَ تَهَدَّدَهُ الْحَارِثُ بْنُ هَمَّامٍ الشَّيْبَانِيُّ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّا ... بَحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ وَيَقُولُونَ فِي الشَّرِّ: هَوَتْ أُمُّهُ، أَيْ أَصَابَهُ مَا تَهْلَكُ بِهِ أُمُّهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، فِي الدُّعَاءِ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ وَأَصْلُهُ الدُّعَاءُ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ فِي رِثَاءِ أَخِيهِ أَبِي الْمِغْوَارِ: هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا ... وَمَاذَا يَرُدُّ اللَّيْل حِين يؤوب أَيْ مَاذَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ مِنْهُ غَادِيًا وَمَا يَرُدُّ اللَّيْل حِين يؤوب غَانِمًا، وَحُذِفَ مِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ رَفْعِ الصُّبْحِ وَاللَّيْلِ وَذكر: غاديا ويؤوب وَ (مِنَ) الْمُقَدَّرَةُ تَجْرِيدِيَّةٌ فَالْكَلَامُ عَلَى التَّجْرِيدِ مِثْلَ: لَقِيتُ مِنْهُ أَسَدًا. فَاسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ الَّذِي يُقَالُ عِنْدَ حَالِ الْهَلَاكِ وَسُوءِ الْمصير فِي الْحَالة الْمُشَبَّهَةِ بِحَالِ الْهَلَاكِ، وَرَمَزَ إِلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، كَمَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» مُسْتَعَارًا لِمَقَرِّهِ وَمَآلِهِ لِأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهِ كَمَا يَأْوِي الطِّفْلُ إِلَى أُمِّهِ. وهاوِيَةٌ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الَّذِي إِذَا سَقَطَ فِيهِ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ هَلَكَ، يُقَالُ: سَقَطَ فِي الْهَاوِيَةِ. وَأُرِيدَ بِهَا جَهَنَّمُ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِجَهَنَّمَ، أَيْ فَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أم رَأسه، وَهِي أَعلَى الدِّمَاغ، وهاوِيَةٌ سَاقِطَة من قَوْلهم سقط على أُمُّ رَأْسِهِ، أَيْ هَلَكَ. وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ: تَهْوِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَضَمِيرُ هِيَهْ عَائِدٌ إِلَى هاوِيَةٌ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، إِذْ مُعَادُ الضَّمِيرِ وَصْفُ هَالِكَةٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْمُ جَهَنَّمَ كَمَا فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُلَقَّبِ مُعَوِّذَ الْحُكَمَاءِ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى (هَاوِيَةٌ) وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا قَعْرُ جَهَنَّمَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ فِي هِيَهْ اسْتِخْدَامٌ أَيْضًا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَالْهَاءُ الَّتِي لَحِقَتْ يَاءَ (هِيَ) هَاءُ السَّكْتِ، وَهِي هَاءٌ تُجْلَبُ لِأَجْلِ تَخْفِيفِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، فَمِنْهُ تَخْفِيفٌ وَاجِبٌ تُجْلَبُ لَهُ هَاءُ السَّكْتِ لُزُومًا، وَبَعْضُهُ حَسَنٌ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وَذَلِكَ فِي كُلِّ اسْمٍ أَوْ حَرْفٍ بِآخِرِهِ حَرَكَةُ بِنَاءٍ دَائِمَةٌ مِثْلَ: هُوَ، وَهِيَ، وَكَيْفَ، وَثُمَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [19] . وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوا النُّطْقَ بِهَذِهِ الْهَاءِ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ. وَجُمْلَةُ: نارٌ حامِيَةٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ، وَالْمَعْنَى: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَوَصْفُ نارٌ بِ حامِيَةٌ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِأَنَّ النَّارَ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَمْيِ فوصفها بِهِ وصف بِمَا هُوَ من مَعْنَى لَفْظِ نارٌ فَكَانَ كَذِكْرِ الْمُرَادِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الْهمزَة: 6] .

102- سورة التكاثر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 102- سُورَةُ التَّكَاثُرِ قَالَ الْآلُوسِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمُّونَهَا «الْمَقْبَرَةَ» اهـ. وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ التَّكَاثُرِ» وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَهِيَ كَذَلِكَ مُعَنْوَنَةٌ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ الْعَتِيقَةِ بِالْقَيْرَوَانِ. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ أَلْهَاكُمْ» وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَا أَعْلَمُ فِيهَا خِلَافًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُفَاخَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا وَكَانُوا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَلِأَنَّ قُبُورَ أَسْلَافِهِمْ بِمَكَّةَ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» : الْمُخْتَارُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. قَالَ: وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ تَفَاخَرُوا، وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلنْ يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . قَالَ أُبَيٌّ: كُنَّا نرى هَذَا فِي الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [التَّكَاثُرُ: 1] اهـ. يُرِيدُ الْمُسْتَدِلُّ بِهَذَا أَنَّ أُبَيًّا أَنْصَارِيٌ وَأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: حَتَّى نَزَلَتْ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَعُدُّونَ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ إِلَخْ مِنَ الْقُرْآنِ» وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أُبَيٍّ دَلِيلٌ نَاهِضٌ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِضَمِيرِ (كُنَّا) الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَانَ مَنْ سَبْقَ مِنْهُمْ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ التَّكَاثُرِ وَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ.

أغراضها

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَعَانِي السُّورَةِ وَغِلْظَةِ وَعِيدِهَا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا لَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِينَ أَيَّامَئِذٍ. وَسَبَبُ نُزُولهَا فِيمَا قَالَه الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوَيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ عَنْهُمَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَفَاخَرُوا فَتَعَادُّوا السَّادَةَ وَالْأَشْرَافَ مِنْ أَيِّهِمْ أَكْثَرُ عَدَدًا فَكَثُرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بني سهم، ثمَّ قَالُوا نعدّ مَوتَانا حَتَّى زاروا الْقُبُور فعدوا الْقُبُور فكثرهم بَنو سَهْمٍ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ الْجَرْمِيِّ قَالَ: نزلت فِي قبيلين مِنَ الْأَنْصَارِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا بِالْأَحْيَاءِ ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ، تُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِثْلُ فُلَانٍ، وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وَقَدْ عُدَّتِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نزلت بَعْدَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمَاعُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّة. وَعدد آياتها ثَمَان. أغراضها اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْبِيخِ عَلَى اللَّهْوِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِإِيثَارِ الْمَالِ وَالتَّكَاثُرِ بِهِ وَالتَّفَاخُرِ بِالْأَسْلَافِ وَعَدَمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا فِي الْقُبُورِ كَمَا صَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَعَلَى الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ. وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيمَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْجَحِيمِ. وَأَنَّهُمْ مبعوثون ومسؤولون عَنْ إِهْمَالِ شُكْرِ الْمُنعم الْعَظِيم. [1- 4] [سُورَة التكاثر (102) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) أَلْهاكُمُ أَيْ شَغَلَكُمْ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْكُمْ الِاشْتِغَالُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهْوَ شُغْلٌ يَصْرِفُ عَنْ تَحْصِيلِ أَمْرٍ مُهِمٍّ. والتَّكاثُرُ: تَفَاعُلٌ فِي الْكُثْرِ أَيْ التَّبَارِي فِي الْإِكْثَارِ مِنْ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِي كَثْرَتِهِ. فَمِنْهُ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَمِنْهُ تَكَاثُرٌ فِي الْعَدَدِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَحْلَافِ لِلِاعْتِزَازِ بِهِمْ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] . وَقَالَ الْأَعْشَى: وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: «انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا بن آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» فَهَذَا جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي التَّكَاثُرِ اقْتَضَاهُ حَالُ الموعظة ساعتئذ وتحتملة الْآيَةُ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ غِلْظَةِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَقَوْلِهِ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ خُلُقِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ. وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ: سَادَتُهُمْ وَأَهْلُ الثَّرَاءِ مِنْهُمْ لقَوْله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] ، وَلِأَنَّ سَادَةَ الْمُشْرِكِينَ هم الَّذين آثاروا مَا هُمْ فِيهِ مِنْ النِّعْمَةِ عَلَى التَّهَمُّمِ بِتَلَقِّي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَدَّوْا لِتَكْذِيبِهِ وَإِغْرَاءِ الدَّهْمَاءِ بِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ لَهُ. فَلَمْ يَذْكُرْ الْمُلْهَى عَنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالتَّدَبُّرُ فِيهِ، وَالْإِنْصَافُ بِتَصْدِيقِهِ. وَهَذَا الْإِلْهَاءُ حَصَلَ مِنْهُمْ وَتَحَقَّقَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حِكَايَتُهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي. وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا

الْخُلُقِ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُحَذَّرُونَ مِنَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْذَرُونَ مِنْ أَنْ يُلْهِيَهُمْ حُبُّ الْمَالِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَيَتَوَقَّعُونَ أَنْ يُفَاجِئَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ لَاهُونَ عَنِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْمُؤْمِنِينَ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الْحَدِيد: 20] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ غَايَةٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِفِعْلِ أَلْهاكُمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91] ، أَيْ دَامَ إِلْهَاءُ التَّكَاثُرِ إِلَى أَنْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، أَيْ اسْتَمَرَّ بِكُمْ طُولَ حَيَاتِكُمْ، فَالْغَايَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِحَاطَةِ بِأَزْمَانِ الْمُغَيَّا لَا فِي تَنْهِيَتِهِ وَحُصُولِ ضِدِّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا إِلَى الْمَقَابِرِ انْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا. وَلِكَوْنِ زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِبَارَةً عَنِ الْحُلُولِ فِيهَا، أَيْ قُبُورَ الْمَقَابِرِ. وَحَقِيقَةُ الزِّيَارَةِ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ حُلُولًا غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ، فَأُطْلِقَ فِعْلُ الزِّيَارَةِ هُنَا تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّ حلولهم فِي الْقُبُور يَعْقُبُهُ خُرُوجٌ مِنْهَا. وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي زُرْتُمُ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ مِثْلَ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ لِلْمُتَكَاثِرِ بِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّكَاثُرُ، أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْقُبُورِ تُعِدُّونَهَا. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَا رَوَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ تَفَاخَرُوا بِكَثْرَةِ السَّادَةِ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا آنِفًا، فَتَكُونَ الزِّيَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، أَيْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ لِتَعُدُّوا الْقُبُورَ، وَالْعَرَبُ يُكَنُّونَ بِالْقَبْرِ عَنْ صَاحِبِهِ قَالَ النَّابِغَةُ: لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بِجِلِّقٍ ... وَقَبْرٍ بِصَيْدَاءَ الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ وَقَالَ عِصَامُ بْنُ عُبَيْدٍ الزِّمَّانِيُّ، أَوْ هَمَّامٌ الرَّقَاشِيُّ: لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ ... قَبْرًا وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ مَنْزِلِ الذَّامِّ أَيْ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ مِنْكَ قَبْرًا، أَيْ صَاحِبُ قَبْرٍ.

[سورة التكاثر (102) : آية 5]

والْمَقابِرَ: جَمْعُ مَقْبَرَةٍ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِضَمِّهَا. وَالْمَقْبَرَةُ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا قُبُورٌ كَثِيرَةٌ. وَالتَّوْبِيخُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ أُتْبِعَ بِالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِحَرْفِ الزَّجْرِ وَالْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فَأَفَادَ كَلَّا زَجْرًا وَإِبْطَالًا لِإِنْهَاءِ التَّكَاثُرِ. وسَوْفَ لِتَحْقِيقِ حُصُول الْعلم. وحدف مَفْعُولُ تَعْلَمُونَ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ: تَعْلَمُونَ سُوءَ مَغَبَّةِ لَهْوِكُمْ بِالتَّكَاثُرِ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَأُكِّدَ الزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فَعَطَفَ عَطْفًا لَفْظِيًّا بِحَرْفِ التَّرَاخِي أَيْضًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ هَذَا الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ عَنْ رُتْبَةِ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَهَذَا زَجْرٌ وَوَعِيدٌ مُمَاثِلٌ لِلْأَوَّلِ لَكِنْ عَطْفُهُ بِحَرْفِ ثُمَّ اقْتَضَى كَوْنَهُ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَفَادَ تَحْقِيقَ الْأَوَّلِ وَتَهْوِيلَهُ. فَجُمْلَةُ: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِجُمْلَةِ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عِنْدَ الْبَعْثِ أَنَّ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ صِدْقٌ، أَيْ تُجْعَلُ كُلُّ جُمْلَةٍ مُرَادًا بِهَا تَهْدِيدٌ بِشَيْءٍ خَاصٍّ. وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى مَعُونَةِ الْقَرَائِنِ بِتَقْدِيرِ مَفْعُولٍ خَاصٍّ لِكُلٍّ مِنْ فِعْلَيْ تَعْلَمُونَ، وَلَيْسَ تَكْرِيرُ الْجُمْلَةِ بِمُقْتَضٍ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْكَلَامِ. وَمُفَادُ التَّكْرِيرِ حَاصِلٌ عَلَى كل حَال. [5] [سُورَة التكاثر (102) : آيَة 5] كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) أُعِيدَ الزَّجْرُ ثَالِثَ مَرَّةٍ زِيَادَةً فِي إِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهْوِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي أَقْوَالِ الْقُرْآنِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَن انكبابهم على التَّكَاثُرِ مِمَّا هُمْ يَتَكَاثَرُونَ فِيهِ وَلَهْوِهِمْ بِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَةِ الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ. وَجُمْلَةُ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ تَهْوِيلٌ وَإِزْعَاجٌ لِأَنَّ حَذْفَ جَوَابِ لَوْ يَجْعَلُ النُّفُوسَ تَذْهَبُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ

[سورة التكاثر (102) : الآيات 6 إلى 7]

لَتَبَيَّنَ لَكُمْ حَالٌ مُفْظِعٌ عَظِيمٌ، وَهِيَ بَيَانٌ لِمَا فِي كَلَّا مِنَ الزَّجْرِ. وَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ تَعْلَمُونَ مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الْحَالِ. أَيْ لَوْ عَلِمْتُمُ الْآنَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَعَلِمْتُمْ أَمْرًا عَظِيمًا. وَلِفِعْلِ الشَّرْطِ مَعَ لَوْ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَاعْتِبَارَاتٌ، فَقَدْ يَقَعُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَدْ يَقَعُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ وَفِي كِلَيْهِمَا قَدْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ. وَقَدْ يَكُونُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَالِ بِدُونِ تَنْزِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَإِضَافَةُ عِلْمَ إِلَى الْيَقِينِ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ فَإِنَّ الْيَقِينَ عِلْمٌ، أَيْ لَوْ عَلِمْتُمْ عِلْمًا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ لَبَانَ لَكُمْ شَنِيعُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَلَكِنَّ عِلْمَهُمْ بِأَحْوَالِهِمْ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَوْهَامٍ وَتَخَيُّلَاتٍ، وَفِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالتَّقْصِيرِ فِي اكْتِسَابِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ. وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِلْمَ الْيَقِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمُرَكَّبَ هُوَ عِلْمَ الْيَقِينِ نُقِلَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْعِلْمِيِّ فَصَارَ لَقَبًا لِحَالَةٍ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْعَقْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [51] فَارْجِع إِلَيْهِ. [6، 7] [سُورَة التكاثر (102) : الْآيَات 6 إِلَى 7] لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ الْمُكَرَّرِ وَمِنَ الْوَعِيدِ الْمُؤَكَّدِ عَلَى إِجْمَالِهِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَمَّا يُتَرَقَّبُ مِنْ هَذَا الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ فَكَانَ قَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جَوَابًا عَمَّا يَجِيشُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جَوَابَ (لَوْ) عَلَى مَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَكُنْتُمْ كَمَنْ تَرَوْنَ الْجَحِيمَ، أَيْ لَتَرْوُنَّهَا بِقُلُوبِكُمْ، لِأَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ صِيغَةُ قَسَمٍ بِدَلِيلِ قَرْنِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّامُ لَامَ جَوَابِ (لَوْ) لِأَنَّ جَوَابَ (لَوْ) مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ فَلَا تَقْتَرِنُ بِهِ نُونُ التَّوْكِيدِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْ رُؤْيَتِهِمُ الْجَحِيمَ كِنَايَةٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهَا، فَإِنَّ الْوُقُوعَ فِي الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَتَهُ فَيُكَنَّى بِالرُّؤْيَةِ عَنِ الْحُضُورِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:

لَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَأُكِّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ قَصْدًا لِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ بِمَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ. وَقَدْ عُطِفَ هَذَا التَّأْكِيدُ بِ ثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 4] ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ رُؤْيَتَانِ تَقَعُ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى بِمُهْلَةٍ. وعَيْنَ الْيَقِينِ: الْيَقِينُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ تَرَدُّدٌ. فَلَفْظُ عَيِنٍ مَجَازٌ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ الْخَالِصَةِ غَيْرِ النَّاقِصَةِ وَلَا الْمُشَابِهَةِ. وَإِضَافَةُ عَيْنَ إِلَى الْيَقِينِ بَيَانِيَّةٌ كَإِضَافَةِ حَقُّ إِلَى الْيَقِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَة: 95] . وانتصب عَيْنَ على النِّيَابَة عَن الْمَفْعُول الْمُطلق لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى صفة لمصدر مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير. ثمَّ لترونها رُؤْيَة عين الْيَقِين. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ مِنْ (أَرَاهُ) وَأَمَّا لَتَرَوُنَّها فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ. وَأَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3] وَالْمُنْتَهِيَةَ بِقَوْلِهِ: عَيْنَ الْيَقِينِ، اشْتَمَلَتْ عَلَى وُجُوهٍ مِنْ تَقْوِيَةِ الْإِنْذَارِ وَالزَّجْرِ، فَافْتُتِحَتْ بِحَرْفِ الرَّدْعِ وَالتَّنْبِيهِ، وَجِيءَ بَعْدَهُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَكُرِّرَ حَرْفُ الرَّدْعِ وَالتَّنْبِيهِ، وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 5] لِمَا فِي حَذْفِهِ مِنْ مُبَالَغَةِ التَّهْوِيلِ، وَأُتِيَ بِلَامِ الْقَسَمِ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْقَسَمُ بِقَسَمٍ آخَرَ، فَهَذِهِ سِتَّةُ وُجُوهٍ. وَأَقُولُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ: إِنَّ فِي قَوْلِهِ: عَيْنَ الْيَقِينِ تَأْكِيدَيْنِ لِلرُّؤْيَةِ بِأَنَّهَا يَقِينٌ وَأَنَّ الْيَقِينَ حَقِيقَةٌ. وَالْقَوْلُ فِي إِضَافَةِ عَيْنَ الْيَقِينِ كَالْقَوْلِ فِي إِضَافَةِ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر: 5] الْمَذْكُور آنِفا.

[سورة التكاثر (102) : آية 8]

[سُورَة التكاثر (102) : آيَة 8] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) أَعْقَبَ التَّوْبِيخَ وَالْوَعِيدَ عَلَى لَهْوِهِمْ بِالتَّكَاثُرِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّكَاثُرَ صَدَّهُمْ عَنْ قَبُولِ مَا يُنْجِيهِمْ، بِتَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ مِنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا فِي التَّكَاثُرِ مِنْ نَعِيمٍ تَمَتَّعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، أَيْ عَنِ النَّعِيمِ الَّذِي خُوَّلْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ تَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكَانَ بِهِ بَطَرُكُمْ. وَعُطِفَ هَذَا الْكَلَامُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فِي عَطْفِهِ الْجُمَلَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحِسَابَ عَلَى النَّعِيمِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَهُ، لِأَنَّ تَلَبُّسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَهُمْ فِي نَعِيمٍ أَشَدُّ كُفْرَانًا لِلَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ. والنَّعِيمِ: اسْمٌ لِمَا يَلِذُّ لِإِنْسَانٍ مِمَّا لَيْسَ مُلَازِمًا لَهُ، فَالصِّحَّةُ وَسَلَامَةُ الْحَوَاسِّ وَسَلَامَةُ الْإِدْرَاكِ وَالنَّوْمُ وَالْيَقَظَةُ لَيْسَتْ مِنَ النَّعِيمِ، وَشُرْبُ الْمَاءِ وَأَكْلُ الطَّعَامِ وَالتَّلَذُّذُ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَبِمَا فِيهِ فَخْرٌ وَبِرُؤْيَةِ الْمَحَاسِنِ، تُعَدُّ مِنَ النَّعِيمِ. وَالنَّعِيمُ أَخَصُّ مِنَ النِّعْمَةِ بِكَسْرِ النُّونِ وَمُرَادِفٌ لِلنِّعْمَةِ بِفَتْحِ النُّونِ. وَتَقَدَّمَ النَّعِيمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [21] . وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى نَسَقِ الْخِطَابَاتِ السَّابِقَةِ. وَالْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (إِذْ) مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6] أَيْ يَوْمَ إِذْ ترَوْنَ الْجَحِيم فيغلظ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ. وَهَذَا السُّؤَالُ عَنِ النَّعِيمِ الْمُوَجَّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ هُوَ غَيْرُ السُّؤَالِ الَّذِي يُسْأَلُهُ كُلُّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ فِيمَا صَرَفَ فِيهِ النِّعْمَةَ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ خَاصَّةً بِالْمُشْرِكِينَ خِلَافًا لِلتَّكَاثُرِ كَانَ السُّؤَالُ عَنْهَا حَقِيقًا بِكُلِّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُ الْجَزَاءِ الْمُتَرَتَّبِ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَامَا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ. إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ

لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ. فَهَذَا سُؤَالٌ عَنِ النَّعِيمِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْأَنْصَارِيُّ هُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ وَاسْمُهُ مَالِكٌ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَتُسْأَلُنَّ عَنْ شُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، أَرَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِالشُّكْرِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ. وَسُؤَالُ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالٌ لِتَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَى الشُّكْرِ أَوْ لِأَجْلِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنَّعِيمِ الْحَرَامِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ: لَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ إِلَّا أَهْلُ النَّارِ، وَرُوِيَ (¬1) «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَكْلَةً أَكَلْتُهَا مَعَكَ فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ وَلَحْمٍ وَبُسْرٍ قد ذنّب (¬2) وَمَاء عَذُبَ، أَنَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ ثُمَّ قَرَأَ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْكُلَّ يُسْأَلُونَ، وَلَكِنَّ سُؤَالَ الْكَافِرِ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الشُّكْرَ، وَسُؤَالَ الْمُؤْمِنِ سُؤَالُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ شَكَرَ. وَالْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (إِذْ) مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6] أَيْ يَوْمَ إِذْ تَرَوْنَ الْجَحِيمَ فَيَغْلُظُ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ. ¬

(¬1) ذكره الْقُرْطُبِيّ عَن الْقشيرِي. (¬2) يُقَال: ذنّبت البسرة، إِذا ظهر مثل الوكت من جِهَة ذنبها، أَي بَدَأَ إرطابها. وَالرّطب يُسمى التذنوب بِفَتْح الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة.

103- سورة العصر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 103- سُورَةُ الْعَصْرِ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ» إِلَخْ مَا سَيَأْتِي. وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي مَصَاحِفَ كَثِيرَةٍ وَفِي مُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفٍ عَتِيقٍ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «سُورَةَ وَالْعَصْرِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ عَلَى حِكَايَةِ أَوَّلِ كَلِمَةٍ فِيهَا، أَيْ سُورَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِطْلَاقِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْشِرَاحِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَادِيَاتِ. وَآيُهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَهِيَ إِحْدَى سُوَرٍ ثَلَاثٍ هُنَّ أَقْصَرُ السُّوَرِ عَدَدَ آيَاتٍ: هِيَ، وَالْكَوْثَرُ وَسورَة النَّصْر. أغراضها وَاشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْخُسْرَانِ الشَّدِيدِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ

[سورة العصر (103) : الآيات 1 إلى 3]

الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ بُلِّغَتْ دَعْوَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَلَّدَ أَعْمَالَ الْبَاطِلِ الَّتِي حَذَّرَ الْإِسْلَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَعَلَى إِثْبَاتِ نَجَاةِ وَفَوْزِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالدَّاعِينَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ. وَعَلَى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَدَعْوَةِ الْحَقِّ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذُوهَا شِعَارًا لَهُمْ فِي مُلْتَقَاهُمْ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْأَنْصَارِيِّ (مِنَ التَّابِعَيْنِ) أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ (أَيْ سَلَامُ التَّفَرُّقِ وَهُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا مِثْلَ سَلَامِ الْقُدُومِ) . وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى النَّاسِ إِلَّا هِيَ لَكَفَتْهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهَا شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ. وَسَيَأْتِي بَيَانه. [1- 3] [سُورَة الْعَصْر (103) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَصْرِ قَسَمًا يُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ. وَالْمُقْسَمُ بِهِ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ التَّكْوِينِ الرَّبَّانِيِّ الدَّالِّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ. وَلِلْعَصْرِ مَعَانٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا لَا يعدو أَنْ يَكُونَ حَالَةً دَالَّةً عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الرَّبَّانِيَّةِ، يَتَعَيَّنُ إِمَّا بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا يُقَدَّرُ، أَوْ بِالْقَرِينَةِ، أَوْ بِالْعَهْدِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا فَإِنَّ الْقَسَمَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زَمَنٌ يُذَكِّرُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَأَحْوَالِهِ، وَبِأُمُورٍ عَظِيمَةٍ مُبَارَكَةٍ مِثْلَ الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ أَوْ عَصْرٍ مُعَيَّنٍ مُبَارَكٍ. وَأَشْهَرُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْعَصْرِ أَنَّهُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِوَقْتٍ مَا بَيْنَ آخَرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَبَيْنَ

اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَمَبْدَؤُهُ إِذَا صَارَ ظِلُّ الْجِسْمِ مِثْلَهُ بَعْدَ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَيَمْتَدُّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الْجِسْمِ مِثْلَيْ قَدْرِهِ بَعْدَ الظِّلِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ. وَذَلِكَ وَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَالْعَصْرُ مَبْدَأُ الْعَشِيِّ. وَيَعْقُبُهُ الْأَصِيلُ وَالِاحْمِرَارُ وَهُوَ مَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ ... اصُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ فَذَلِكَ وَقْتٌ يُؤْذِنُ بِقُرْبِ انْتِهَاءِ النَّهَارِ، وَيُذَكِّرُ بِخِلْقَةِ الشَّمْسِ وَالْأَرْضِ، وَنِظَامِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَهِيَ الْحَرَكَةُ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْقَسَمِ بِالضُّحَى وَبِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبِالْفَجْرِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَوِّيَّةِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِتَغَيُّرِ تَوَجُّهِ شُعَاعِ الشَّمْسِ نَحْوَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَهَيَّأُ النَّاسُ لِلِانْقِطَاعِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ فِي النَّهَارِ كَالْقِيَامِ عَلَى حُقُولِهِمْ وَجَنَّاتِهِمْ، وَتِجَارَاتِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَيُذَكِّرُ بِحِكْمَةِ نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَمَا أَلْهَمَ اللَّهُ فِي غَرِيزَتِهِ مِنْ دأب على الْعَمَل وَنِظَامٍ لِابْتِدَائِهِ وَانْقِطَاعِهِ. وَفِيهِ يَتَحَفَّزُ النَّاسُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى بُيُوتِهِمْ لِمَبِيتِهِمْ وَالتَّأَنُّسِ بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ. وَهُوَ مِنَ النِّعْمَةِ أَوْ مِنَ النَّعِيمِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِمِثْلِ الْحَيَاةِ حِينَ تَدْنُو آجَالُ النَّاسِ بَعْدَ مُضِيِّ أَطْوَارِ الشَّبَابِ وَالِاكْتِهَالِ وَالْهِرَمِ. وَتَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ أَيْ كُلِّ عَصْرٍ. وَيُطْلَقُ الْعَصْرُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُوَقَّتَةِ بِوَقْتِ الْعَصْرِ. وَهِيَ صَلَاةٌ مُعَظَّمَةٌ. قِيلَ: هِيَ الْمُرَادُ بِالْوُسْطَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: 238] . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَذَكَرَ «وَرَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً بَعْدَ الْعَصْرِ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ» وَتَعْرِيفُهُ عَلَى هَذَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ مِثْلَ الْعَقَبَةِ. وَيُطْلَقُ الْعَصْرُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَة لوُجُود جبل مِنَ النَّاسِ، أَوْ ملك أَو نبيء، أَوْ دِينٍ، وَيُعَيَّنُ بِالْإِضَافَةِ، فَيُقَالُ: عَصْرُ الْفِطَحْلِ، وَعَصْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَصْرُ الْإِسْكَنْدَرِ، وَعَصْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ هَذَا الْإِطْلَاقَ هُنَا وَيَكُونَ

الْمَعْنِيُّ بِهِ عَصْرَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ مِثْلَ التَّعْرِيفِ فِي (الْيَوْمِ) مِنْ قَوْلِكَ: فَعَلْتُ الْيَوْمَ كَذَا، فَالْقَسَمُ بِهِ كَالْقَسَمِ بِحَيَاتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَمْرُكَ [الْحجر: 72] . قَالَ الْفَخْرُ: فَهُوَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِزَمَانِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَكَانِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 2] وَبِعُمْرِهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ عَصْرُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ وَهُوَ خَاتِمَةُ عُصُورِ الْأَدْيَانِ لِهَذَا الْعَالَمِ وَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَصْرَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَصْرِ الْيَهُودِ وَعَصْرِ النَّصَارَى بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ يعْملُونَ لَهُ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، وَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فَأَنْتُمْ هُمْ» . فَلَعَلَّ ذَلِكَ التَّمْثِيلَ النَّبَوِيَّ لَهُ اتِّصَالٌ بِالرَّمْزِ إِلَى عَصْرِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ أَنَّ يُفَسَّرَ الْعَصْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالزَّمَانِ كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَصْرِ فَقَالَ: أَقْسَمَ رَبُّكُمْ بِآخِرِ النَّهَارِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَفِي بِاحْتِمَالِهَا غَيْرُ لَفْظِ الْعَصْرِ. وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِالْعَصْرِ لِغَرَضِ السُّورَةِ عَلَى إِرَادَةِ عَصْرِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا بَيَّنَتْ حَالَ النَّاسِ فِي عَصْرِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَمَنْ آمَنَ وَاسْتَوْفَى حَظَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ حَالُ مَنْ أَسْلَمُوا وَكَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ تَقْصِيرٌ مُتَفَاوِتٌ، أَمَّا أَحْوَالُ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِحَسَبِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَى بَعْضِ الْأُمَمِ، وَبَقَاءِ بَعْضِ الْأُمَمِ بِدُونِ شَرَائِعَ مُتَمَسِّكَةٍ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنَ الشِّرْكِ أَوْ بِدِينٍ جَاءَ الْإِسْلَام لنسخه مِثْلَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [85] . وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ

لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ أَفْرَادَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ زَمَنُ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَا عَلِمْتَ قَرِيبًا. وَمَخْصُوصٌ بِالنَّاسِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ فِي بِلَادِ الْعَالَمِ عَلَى تَفَاوُتِهَا. وَلَمَّا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بَقِيَ حُكْمُهُ مُتَحَقِّقًا فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي ... وَالْخُسْرُ: مَصْدَرٌ وَهُوَ ضِدُّ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ، اسْتُعِيرَ هُنَا لِسُوءِ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ يَظُنُّ لِنَفْسِهِ عَاقِبَةً حَسَنَةً، وَتِلْكَ هِيَ الْعَاقِبَةُ الدَّائِمَةُ وَهِيَ عَاقِبَةُ الْإِنْسَانِ فِي آخِرَتِهِ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] وتكررت نَظَائِره من الْقُرْآنِ آنِفًا وَبَعِيدًا. وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي خُسْرٍ مَجَازِيَّةٌ شَبَّهَتْ مُلَازَمَةَ الْخُسْرِ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ فَكَانَتْ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَخَاسِرٌ. وَمَجِيءُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِهِ، يُفِيدُ التَّهْوِيلَ وَالْإِنْذَارَ بِالْحَالَةِ الْمُحِيطَةِ بِمُعْظَمِ النَّاسِ. وَأَعْقَبَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ فيتقرر الحكم تَاما فِي نَفْسِ السَّامِعِ مُبَيِّنًا أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يَلْحَقُهُ الْخُسْرَانُ، وَفَرِيقٌ لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا يَلْحَقُهُمْ الْخُسْرَانُ بِحَالٍ إِذَا لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا مِنَ الصَّالِحَاتِ بِارْتِكَابِ أَضْدَادِهَا وَهِيَ السَّيِّئَاتُ. وَمِنْ أَكْبَرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ لِمُقْتَرِفِيهَا، فَمَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ وَصْفُ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَعْمَلِ السَّيِّئَاتِ أَوْ عَمِلَهَا وَتَابَ مِنْهَا فَقَدْ تَحَقَّقَ لَهُ ضِدُّ الْخُسْرَانِ وَهُوَ الرِّبْحُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ حُسْنُ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْخُسْرَانُ. وَهَذَا الْخُسْرُ مُتَفَاوِتٌ فَأَعْظَمُهُ وَخَالِدُهُ الْخُسْرُ الْمُنْجَرُّ عَنِ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدون ذَلِكَ تَكُونُ مَرَاتِبُ الْخُسْرِ مُتَفَاوِتَةً بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. وَمَا حَدَّدَهُ الْإِسْلَامُ لِذَلِكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَعْمَالِ

وَغُفْرَانِ بَعْضِ اللَّمَمِ إِذَا تَرَكَ صَاحِبُهُ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] . وَهَذَا الْخَبَرُ مُرَادٌ بِهِ الْحُصُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ لَفِي خُسْرٍ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْآخِرَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 196، 197] . وَتَنْكِيرُ خُسْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْمِيمِ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ وَفِي سِيَاقِ الْقَسَمِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ النَّاسَ لَفِي خُسْرَانٍ عَظِيمٍ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّالِحاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ عَمِلُوا جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِعَمَلِهَا بِأَمْرِ الدِّينِ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ يَشْمَلُ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ. وَقَدْ أَفَادَ اسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَمَعْطُوفِهَا إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ نَقِيضُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي خُسْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ مَقُولٌ على جزئياتها بالتواطىء. وَأَمَّا الصَّالِحَاتُ فَعُمُومُهَا مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشَكُّكِ، فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْخُسْرَانِ عَنْهُمْ يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلُوهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَفِي ذَلِكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ دَلَّ اسْتِثْنَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا فِي خُسْرٍ عَلَى أَنَّ سَبَبَ كَوْنِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَعُلِمَ مِنَ الْمَوْصُولِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ هُمَا سَبَبُ انْتِفَاءِ إِحَاطَةِ الْخُسْرِ بِالْإِنْسَانِ. وَعُطِفَ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ، يُظَنُّ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ مَا أَثَرُهُ عَمَلُ الْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ، فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِ غَيْرَهُ وَدَعْوَتَهُ إِلَى الْحَقِّ، فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ يَشْمَلُ تَعْلِيمَ

حَقَائِقِ الْهَدْيِ وَعَقَائِدِ الصَّوَابِ وَإِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى فَهْمِهَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ. وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عُطِفَ عَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ خُصُوصُهُ خُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الصَّبْرَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَمَا يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمَ مِنْ أَذًى فِي نَفْسِهِ فِي إِقَامَةِ بَعْضِ الْحَقِّ. وَحَقِيقَةُ الصَّبْرِ أَنَّهُ: مَنْعُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَشْتَهِيهِ أَوْ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَحْصِيلِهِ (إِنْ كَانَ صَعْبَ الْحُصُولِ فَيَتْرُكُ مُحَاوَلَةَ تَحْصِيلِهِ لِخَوْفِ ضُرٍّ يَنْشَأُ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَخَوْفِ غَضَبِ اللَّهِ أَوْ عِقَابِ وُلَاةِ الْأُمُورِ) أَوْ لِرَغْبَةٍ فِي حُصُولِ نَفْعٍ مِنْهُ (كَالصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ رَغْبَةً فِي تَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) . وَمن الصَّبْر الصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُسْلِمُ إِذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ مِنِ امْتِعَاضِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِهِ أَوْ مِنْ أَذَاهُمْ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَقُولُ لِآمِرِهِ: هَلَّا نَظَرْتَ فِي أَمْرِ نَفْسِكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ كَالصَّبْرِ عَلَى تَجَشُّمِ السَّهَرِ فِي اللَّهْوِ وَالْمَعَاصِي، وَالصَّبْرِ عَلَى بَشَاعَةِ طَعْمِ الْخَمْرِ لِشَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ الصَّبْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحَمُّلَ مُنْبَعِثٌ عَنْ رُجْحَانِ اشْتِهَاءِ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي تَركهَا. وَقل اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، فَالْعَقَائِدُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأَخْلَاقُ الدِّينِيَّةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَقِّ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَتَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ مُنْدَرِجَةٌ فِي الصَّبْرِ. وَالتَّخَلُّقُ بِالصَّبْرِ مِلَاكُ فَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَمْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي مُخَالَفَتِهَا تَعَبٌ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مَلَكَةً لِمَنْ رَاضَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ ... وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا

فَيُوشِكُ أَنْ تُلْفَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةٌ ... إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا لَا تَخْلُو مِنْ إِكْرَاهِ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» . وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو» . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الصَّبْرِ مُشْبَعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] . وَأَفَادَتْ صِيغَةُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَبِالصَّبْرِ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ قَائِمًا عَلَى شُيُوعِ التَّآمُرِ بِهِمَا دَيْدَنًا لَهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَصَبْرَهُمْ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأُمَّتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ عُرْفُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُوصِي غَيْرَهُ بِمُلَازَمَةِ أَمْرٍ إِلَّا وَهُوَ يَرَى ذَلِكَ الْأَمْرَ خَلِيقًا بِالْمُلَازَمَةِ إِذْ قَلَّ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرٍ بِحَقٍّ هُوَ لَا يَفْعَلُهُ أَوْ أَمْرٍ بِصَبْرٍ وَهُوَ ذُو جَزَعٍ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى تَوْبِيخًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 44] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ [18] .

104- سورة الهمزة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 104- سُورَةُ الْهُمَزَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْهُمَزَةِ» بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَعَنْوَنَهَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَبَعْضِ التَّفَاسِيرِ: «سُورَةَ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ» . وَذَكَرَ الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ فِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْحُطَمَةِ» لِوُقُوعِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيهَا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَعُدَّتِ الثَّانِيَةَ وَالثَّلَاثِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْقِيَامَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ. وَآيُهَا تِسْعٌ بِالِاتِّفَاقِ. رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَقَامُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَمْزِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبِّهِمْ وَاخْتِلَاقِ الْأُحْدُوثَاتِ السَّيِّئَةِ عَنْهُمْ. وَسُمِّيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَجَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ من بَنِي جُمَحَ (وَهَذَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَ حُنَيْنًا) وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ. وَكُلُّهُمْ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ. وَسُمِّيَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيَّانِ مِنْ سَادَةِ ثَقِيفٍ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّة والازدهاء بِثَرَائِهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ. وَجَاءَتْ آيَةُ السُّورَةِ عَامَّةً فَعَمَّ حُكْمُهَا الْمُسَمَّيْنَ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ تذكر أَسمَاؤُهُم. أغراضها فَغَرَضُ هَذِهِ السُّورَةِ وَعِيدُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَعَلُوا هَمْزَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْزَهُمْ ضَرْبًا

[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 إلى 7]

مِنْ ضُرُوبِ أَذَاهُمْ طَمَعًا فِي أَنْ يُلْجِئَهُمُ الْمَلَلُ مِنْ أَصْنَافِ الْأَذَى، إِلَى الِانْصِرَافِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ. [1- 7] [سُورَة الْهمزَة (104) : الْآيَات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا. كَلِمَةُ (وَيْلٌ لَهُ) دُعَاءٌ عَلَى الْمَجْرُورِ اسْمُهُ بِاللَّامِ بِأَنْ يَنَالَهُ الْوَيْلُ وَهُوَ سُوءُ الْحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَالدُّعَاءُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ. وَكَلِمَةُ (كُلِّ) تُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُهَدَّدِينَ بِهَذَا الْوَعِيدِ جَمَاعَةٌ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَمْزَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْزَهُمْ دَيْدَنًا لَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ. وَهُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ: بِوَزْنِ فُعَلَةٍ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ صُدُورِ الْفِعْلِ الْمُصَاغِ مِنْهُ. وَأَنَّهُ صَارَ عَادَةً لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِهِمْ: ضُحَكَةٌ لِكَثِيرِ الضَّحِكِ، وَلُعَنَةٌ لِكَثِيرِ اللَّعْنِ، وَأَصْلُهَا: أَنَّ صِيغَةَ فُعَلٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ تَرِدُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي فَاعِلٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» يُقَالُ: رَجُلٌ حُطَمٌ إِذَا كَانَ قَلِيلَ الرَّحْمَةِ لِلْمَاشِيَةِ، أَيِ وَالدَّوَابِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: خُتَعٌ (بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ) وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَاهِرُ بِالدِّلَالَةِ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا أُرِيدَتْ زِيَادَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ أُلْحِقَ بِهِ الْهَاءُ كَمَا أُلْحِقَتْ فِي: عَلَّامَةٍ وَرَحَّالَةٍ، فَيَقُولُونَ: رَجُلٌ حُطَمَةٌ وَضُحَكَةٌ وَمِنْهُ هُمَزَةٌ، وَبِتِلْكَ الْمُبَالَغَةِ الثَّانِيَةِ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ تَفَاقَمَ مِنْهُ حَتَّى صَارَ لَهُ عَادَةً قَدْ ضُرِيَ بِهَا كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ عُيَبَةً مُسَاوٍ لِعَيَّابَةٍ، فَمِنَ الْأَمْثِلَةِ مَا سُمِعَ فِيهِ الْوَصْفُ بِصِيغَتَيْ فُعَلٍ وَفُعَلَةٍ نَحْوَ حُطَمٍ وَحُطَمَةٍ بِدُونِ هَاءٍ وَبِهَاءٍ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ مَا سُمِعَ فِيهِ فُعَلَةٌ دُونَ فُعَلٍ نَحْوَ رَجُلٍ ضُحَكَةٍ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ مَا سُمِعَ فِيهِ فُعَلٌ دُونَ فُعَلَةٍ وَذَلِكَ فِي الشَّتْمِ مَعَ حَرْفِ النِّدَاءِ يَا غُدَرُ وَيَا فُسَقُ وَيَا خُبَثُ وَيَا لُكَعُ. قَالَ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» قَالَ: بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُسْمَعْ غَيْرُهَا وَلَا يُقَاسُ

عَلَيْهَا، وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ أَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَيْهَا فِي النِّدَاءِ اهـ. قُلْتُ: وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ بَنَى الْحَرِيرِيُّ قَوْلَهُ فِي «الْمَقَامَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ» : «صَهْ يَا عُقَقُ، يَا مَنْ هُوَ الشَّجَا وَالشَّرَقُ» . وَهُمَزَةٌ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَمْزِ. وَهُوَ أَنْ يَعِيبَ أَحَدٌ أَحَدًا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالشِّدْقِ أَوْ بِالرَّأْسِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ عِنْدَ تَوَلِّيهِ، وَيُقَالُ: هَامِزٌ وَهَمَّازٌ، وَصِيغَةُ فُعَلَةٍ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ. وَوَقَعَ هُمَزَةٍ وَصَفًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ شَخْصٍ هُمَزَةٍ، فَلَمَّا حُذِفَ مَوْصُوفُهُ صَارَ الْوَصْفُ قَائِمًا مَقَامَهُ فَأُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلِّ) . وَلُمَزَةٌ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اللمز وَهُوَ المواجعة بِالْعَيْبِ، وَصِيغَتُهُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ مَلَكَةٌ لِصَاحِبِهِ كَمَا فِي هُمَزَةٍ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ مِنْ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ، وَمَنْ عَامَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ. فَمَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَهْلِ دِينِهِ فَإِنَّهَا خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَهِيَ ذَمِيمَةٌ تَدْخُلُ فِي أَذَى الْمُسْلِمِ وَلَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأَذَى وَتَكَرُّرِهِ وَلَمْ يَعُدْ مِنَ الْكَبَائِرِ إِلَّا ضَرْبُ الْمُسْلِمِ. وَسَبُّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِدْمَانُ هَذَا الْأَذَى بِأَنْ يَتَّخِذَهُ دَيْدَنًا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِدْمَانِ الصَّغَائِرِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَأَتْبَعَ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ لِزِيَادَةِ تَشْنِيعِ صِفَتَيْهِ الذَّمِيمَتَيْنِ بِصِفَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ. وَإِنَّمَا ينشأ ذَلِك عَن بُخْلِ النَّفْسِ وَالتَّخَوُّفِ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولُ أُولَئِكَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَمْزِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْزِهِمُ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّهُمْ سَبَبُ نُزُولِ السُّورَةِ لِتَعْيِينِهِمْ فِي هَذَا الْوَعِيدِ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَمَعَ مَالًا نَعْتٌ آخَرُ وَلَمْ يُعْطَفِ الَّذِي بِالْوَاوِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ عَطْفٍ

نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَم: 10- 13] . وَالْمَالُ: مَكَاسِبُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَنْفَعهُ وتكفي مؤونة حَاجَتِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ وَالْأَشْجَارِ ذَاتِ الثِّمَارِ الْمُثْمِرَةِ. وَقَدْ غَلَبَ لَفْظُ الْمَالِ فِي كُلِّ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا هُوَ الْكثير مِنْ مَشْمُولَاتِهِمْ فَغَلَبَ اسْمُ الْمَالِ بَيْنَ أَهْلِ الْخِيَامِ عَلَى الْإِبِلِ قَالَ زُهَيْرٌ: فَكُلًّا أَرَاهُمْ أَصْبَحُوا يَعْقِلُونَهُ ... صَحِيحَاتِ مَالٍ طالعات بمخرم يُرِيدُ إِبِلَ الدِّيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ. وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْحَوَائِطَ يَغْلِبُ عَلَى النَّخْلِ يَقُولُونَ خَرَجَ فُلَانٌ إِلَى مَالِهِ، أَيْ إِلَى جَنَّاتِهِ، وَفِي كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَإِنَّ إِخْوَانِي الْأَنْصَارَ شَغَلَهُمُ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ» وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: «وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إليّ بِئْر حاء» . وَغَلَبَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلُ تَجْرٍ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: «أَيْنَ الْمَالُ الَّذِي عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ» . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ [92] . وَمَعْنَى: عَدَّدَهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَّهُ، أَيْ حِسَابُهُ لِشِدَّةِ وَلَعِهِ بِجَمْعِهِ فَالتَّضْعِيفُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي (عَدَّ) وَمُعَاوَدَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَمَعَ مَالًا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مُزَاوِجًا لِقَوْلِهِ: عَدَّدَهُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي جَمَعَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ دَلَّ تَضْعِيفُ عَدَّدَهُ عَلَى مَعْنَى تَكَلُّفِ جَمْعِهِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ عَدَّهُ إِلَّا لِيَزِيدَ جَمْعُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَّدَهُ بِمَعْنَى أَكْثَرَ إِعْدَادَهُ، أَيْ إِعْدَادَ أَنْوَاعِهِ فَيَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمرَان: 14] . وَجُمْلَةُ: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ هُمَزَةٍ فَيَكُونَ

مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهَكُّمِ عَلَيْهِ فِي حِرْصِهِ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَعْدِيدِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ يُخْلِدُهُ، فَيَكُونَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ، أَوْ تَكُونَ الْحَالُ مُرَادًا بِهَا التَّشْبِيهُ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِنْكَارِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهَكُّمِ أَو التعجيب. وَجِيء بِصِيغَة الْمُضِيّ فِي أَخْلَدَهُ لتنزيل الْمُسْتَقْبل منزلَة الْمَاضِي لتحققه عِنْده، وَذَلِكَ زِيَادَة فِي التهكم بِهِ بِأَنَّهُ مُوقِنٌ بِأَنَّ مَالَهُ يُخْلِدُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ حَصَلَ إِخْلَادُهُ وَثَبَتَ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَخْلَدَهُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَهُ خَالِدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَحْسِبُ بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْمَالَ يُشْبِهُ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ الْمَالَ يَقِيهِمُ الْمَوْتَ وَيَجْعَلُهُمْ خَالِدِينَ لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي الدُّنْيَا أَقْصَى مُتَمَنَّاهُمْ إِذْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ أُخْرَى خَالِدَةٍ. وكَلَّا إِبْطَالٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُخَلِّدًا لَهُمْ. وَزَجْرٌ عَنِ التَّلَبُّسِ بِالْحَالَةِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي جَعَلَتْهُمْ فِي حَالِ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ الْمَالَ يُخْلِدُ صَاحِبَهُ، أَوْ إِبْطَالٌ لِلْحِرْصِ فِي جَمْعِ الْمَالِ جَمْعًا يَمْنَعُ بِهِ حُقُوقَ اللَّهِ فِي الْمَالِ مِنْ نَفَقَاتٍ وَزَكَاةٍ. لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَن مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ مِنَ التَّهَكُّمِ وَالْإِنْكَارِ، وَمَا أَفَادَهُ حَرْفُ الزَّجْرِ مِنْ مَعْنَى التَّوَعُّدِ. وَالْمَعْنَى: لَيُهْلَكَنَّ فَلَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْهُمَزَةِ.

وَالنَّبْذُ: الْإِلْقَاءُ وَالطَّرْحُ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِلْقَاءِ مَا يُكْرَهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الْقَصَص: 40] شَبَّهَهُمُ اسْتِحْقَارًا لَهُمْ بِحَصَيَاتٍ أَخَذَهُنَّ آخِذٌ بِكَفِّهِ فَطَرَحَهُنَّ اهـ. وَالْحُطَمَةُ: صِفَةٌ بِوَزْنِ فُعَلَةٍ، مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْهُمَزَةِ، أَيْ لَيُنْبَذَنَّ فِي شَيْءٍ يُحَطِّمُهُ، أَيْ يَكْسِرُهُ وَيَدُقُّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْوَصْفَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى شَيْءٍ يُحَطِّمُ وَأُرِيدَ بِذَلِكَ جَهَنَّمُ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى جَهَنَّمَ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى النَّارِ. فَجُمْلَةُ: وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ فِي مَوضِع الْحَال مِنْ قَوْلِهِ: الْحُطَمَةِ وَالرَّابِطُ إِعَادَةُ لَفْظِ الْحُطَمَةِ، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّهْوِيلِ كَقَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1- 3] وَمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِعْلِ الدِّرَايَةِ يُفِيدُ تَهْوِيلَ الْحُطَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا أَدْراكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [17] . وَجُمْلَةُ: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ جَوَاب عَن جُمْلَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ مُفِيدُ مَجْمُوعِهِمَا بَيَانُ الْحُطَمَةِ مَا هِيَ، وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ هِيَ، أَيِ الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ، فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الْجُمْلَةِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ إِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ تَقَدُّمِ حَدِيثٍ عَنْهُ وَأَوْصَافٍ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [18] . وَإِضَافَةُ نارُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّرْوِيعِ بِهَا بِأَنَّهَا نَارٌ خَلَقَهَا الْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ. وَوَصْفُ نارُ بِ «مُوقَدَةٍ» ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ: أَوْقَدَ النَّارَ، إِذَا أَشْعَلَهَا وَأَلْهَبَهَا. وَالتَّوَقُّدُ: ابْتِدَاءُ الْتِهَابِ النَّارِ فَإِذَا صَارَتْ جَمْرًا فَقَدْ خَفَّ لَهَبُهَا، أَوْ زَالَ، فَوَصْفُ نارُ بِ «مُوقَدَةٍ» يُفِيدُ أَنَّهَا لَا تَزَالُ تَلْتَهِبُ وَلَا يَزُولُ لَهِيبُهَا. وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ نَارُ الْأُخْدُودِ بِذَاتِ الْوَقُودِ (بِفَتْحِ الْوَاوِ) فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، أَيْ النَّارُ الَّتِي يُجَدَّدُ اتِّقَادُهَا بِوَقُودٍ وَهُوَ الْحَطَبُ الَّذِي يُلْقَى فِي النَّارِ لِتَتَّقِدَ فَلَيْسَ الْوَصْفُ بِالْمُوقَدَةِ هُنَا تَأْكِيدًا.

[سورة الهمزة (104) : الآيات 8 إلى 9]

وَوُصِفَتْ نارُ اللَّهِ وَصْفًا ثَانِيًا بِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. وَالِاطِّلَاعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ مُبَالَغَةً فِي طَلَعَ، أَيْ الْإِتْيَانُ السَّرِيعُ بِقُوَّةٍ وَاسْتِيلَاءٍ، فَالْمَعْنَى: الَّتِي تَنْفُذُ إِلَى الْأَفْئِدَةِ فَتَحْرِقُهَا فِي وَقْتِ حَرْقِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ. وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ تَعَالَى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] فَيُفِيدُ أَنَّ النَّارَ تَحْرِقُ الْأَفْئِدَةَ إِحْرَاقَ الْعَالِمِ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ مِنَ الْكُفْرِ فَتُصِيبُ كُلَّ فُؤَادٍ بِمَا هُوَ كِفَاؤُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحَرْقِ عَلَى حَسَبِ مَبْلَغِ سُوءِ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ بَيْنَ شِدَّةِ النَّارِ وَقَابِلِيَّةِ الْمُتَأَثِّرِ بِهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مقدّره. [8، 9] [سُورَة الْهمزَة (104) : الْآيَات 8 إِلَى 9] إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) هَذِهِ جُمْلَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً ثَالِثَةً لِ نارُ اللَّهِ [الْهمزَة: 6] بِدُونِ عَاطِفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَتَأْكِيدُهَا بِ (إِنَّ) لِتَهْوِيلِ الْوَعِيدِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ. وَمُوصَدَةٌ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَوْصَدَ الْبَابَ، إِذَا أَغْلَقَهُ غَلْقًا مطبقا. وَيُقَال: آاصد بِهَمْزَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَصْلِيَّةٌ وَالْأُخْرَى هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، وَيُقَالُ: أَصَدَ الْبَابَ فِعْلًا ثُلَاثِيًّا، وَلَا يُقَالُ: وَصَدَ بِالْوَاوِ بِمَعْنَى أَغْلَقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُوصَدَةٌ بِوَاوٍ بَعْدَ الْمِيمِ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ. وَمَعْنَى إِيصَادِهَا عَلَيْهِمْ: مُلَازَمَةُ الْعَذَابِ وَالْيَأْسُ مِنَ الْإِفْلَاتِ مِنْهُ كَحَالِ الْمَسَاجِينِ الَّذِينَ أُغْلِقَ عَلَيْهِمْ بَابُ السِّجْنِ تَمْثِيلُ تَقْرِيبٍ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ، وَحَالُ عَذَابِ جَهَنَّمَ أَشَدُّ مِمَّا يَبْلُغُهُ تَصَوُّرُ الْعُقُولِ الْمُعْتَادُ. وَقَوْلُهُ: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ حَالٌ: إِمَّا مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فِي عَمَدٍ، أَيْ مَوْثُوقِينَ فِي عَمَدٍ كَمَا يُوثَقُ الْمَسْجُونُ الْمُغْلَظُ عَلَيْهِ مِنْ رِجْلَيْهِ فِي فَلْقَةٍ ذَاتِ ثَقْبٍ يُدْخَلُ فِي رِجْلِهِ أَوْ فِي عُنُقِهِ كَالْقِرَامِ. وَإِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّها،

أَيْ أَنَّ النَّارَ الْمُوقَدَةَ فِي عَمَدٍ، أَيْ مُتَوَسِّطَةٌ عَمَدًا كَمَا تَكُونُ نَارُ الشِّوَاءِ إِذْ تُوضَعُ عُمَدٌ وَتُجْعَلُ النَّارُ تَحْتَهَا تَمْثِيلًا لِأَهْلِهَا بِالشِّوَاءِ. وعَمَدٍ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جَمْعِ عَمُودٍ مِثْلَ: أَدِيمٍ وَأُدُمٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ «عُمُدٍ» بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ عَمُودٍ، وَالْعَمُودُ: خَشَبَةٌ غَلِيظَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ. وَالْمُمَدَّدَةُ: الْمَجْعُولَةُ طَوِيلَةً جِدًّا، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ مَدَّدَهُ، إِذَا بَالَغَ فِي مَدِّهِ، أَيِ الزِّيَادَةُ فِيهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَقْوِيَةٌ لِتَمْثِيلِ شِدَّةِ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ بِأَقْصَى مَا يَبْلُغُهُ مُتَعَارَفُ النَّاسِ مِنَ الْأَحْوَالِ.

105- سورة الفيل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 105- سُورَةُ الْفِيلِ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ سُورَةَ أَلَمْ تَرَ. رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ قُرَيْشٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: صَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَلَمْ تَرَ [الْفِيل: 1] ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: 1] . وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ. وَسُمِّيَتْ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ: سُورَةَ الْفِيلِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ عُدَّتِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: 1] وَقَبْلَ سُورَةِ الْفَلَقِ. وَقِيلَ: قَبْلَ سُورَةِ قُرَيْشٍ لِقَوْلِ الْأَخْفَشِ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: 1] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الْفِيل: 5] ، وَلِأَنَّ أُبِيَّ بْنَ كَعْبٍ جَعَلَهَا وَسُورَةَ قُرَيْشٍ سُورَةً وَاحِدَةً فِي مُصْحَفِهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْبَسْمَلَةِ وَلِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا رَوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ مَرَّةً فِي الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْفِيلِ وَسُورَةَ قُرَيْشٍ، أَيْ وَلَمْ يكن الصَّحَابَة يقرأون فِي الرَّكْعَةِ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ سُورَتَيْنِ لِأَنَّ السُّنَّةَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُمَا عِنْدَهُ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ قُرَيْشٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَلَقِ وَأُلْحِقَتْ بِسُورَةِ الْفِيلِ فَلَا يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِمَا فِي مُصْحَفِ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلَا بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ. وآيها خمس. أغراضها وَقَدْ تَضَمَّنَتِ التَّذْكِيرَ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ حَمَاهُ مِمَّنْ أَرَادُوا بِهِ سُوءًا أَوْ

[سورة الفيل (105) : آية 1]

أَظْهَرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ فَعَذَّبَهُمْ لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا بِطَمَعِهِمْ فِي هَدْمِ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ كَيْدًا، وَلِيَكُونَ مَا حَلَّ بِهِمْ تَذْكِرَةً لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ رَبُّ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَنْ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ. وَتَنْبِيهُ قُرَيْشٍ أَوْ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ كَرَامَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اللَّهِ إِذْ أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ فِي عَامِ وِلَادَتِهِ. وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ تَثْبِيتُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْهُ كَيْدَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الَّذِي دَفَعَ كَيْدَ مَنْ يَكِيدُ لِبَيْتِهِ لَأَحَقُّ بِأَنْ يَدْفَعَ كَيْدَ مَنْ يَكِيدُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ وَيُشْعِرُ بِهَذَا قَوْله: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الْفِيل: 2] . وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَنْ لَا تَغُرَّ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتُهُمْ وَوَفْرَةُ عَدَدِهِمْ وَلَا يُوهِنُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَلَّبُ قَبَائِلِهِمْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا. وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إِهْلَاكِ أَصْحَابِ الْفِيلِ خِلَافًا لِقِصَصِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن إهلاك أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ تَكْذِيبِ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ غُرُورًا بِمَكَانَةٍ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَغُرُورِهِمْ بِقَوْلِهِمْ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 19] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْفَال: 34] . [1] [سُورَة الْفِيل (105) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الِاسْتِفْهَام التقريري كثيرا مَا يَكُونُ عَلَى نَفْيِ الْمُقَرَّرِ بإثباته للثقة بِأَن الْمُقَرَّرَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا إِثْبَاتُ الْمَنْفِيِّ وَانْظُرْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [243] . وَالِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ هُنَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ وَهُوَ مَجَازٌ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ كَالْحَقِيقَةِ لِشُهْرَتِهِ. وَعَلَيْهِ فَالتَّقْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّكْرِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِرْهَاصًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1، 2] ،

وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِ قُرَيْشٍ نِعْمَةً عَظِيمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: رَبُّكَ فَمَهْيَعُ هَذِهِ الْآيَةِ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضُّحَى: 6] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 1، 2] عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَجَازِيَّةً مُسْتَعَارَةً لِلْعِلْمِ الْبَالِغِ مِنَ الْيَقِينِ حَدَّ الْأَمْرِ الْمَرْئِيِّ لِتَوَاتُرِ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَقَاءِ بَعْضِ آثَارِ ذَلِكَ يُشَاهِدُونَهُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: رَأَيْتُ فِي بَيت أم هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوًا مِنْ قَفِيزَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ سُودًا مُخَطَّطَةً بِحُمْرَةٍ. وَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أَسْيَدٍ: أَدْرَكْتُ سَائِسَ الْفِيلِ وَقَائِدَهُ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِقَهُ أَعْمَيَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِفْهَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَة بصرية بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَجَاوَزَ سِنُّهُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مِمَّنْ شَهِدَ حَادِثَ الْفِيلِ غُلَامًا أَوْ فَتًى مِثْلَ أَبِي قُحَافَةَ وَأَبِي طَالِبٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. وكَيْفَ لِلِاسْتِفْهَامِ سدّ مسدّ مفعولي أَوْ مَفْعُولِ تَرَ، أَي لم تَرَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ؟ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَرَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَيْفَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مُرَادًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْكَيْفِيَّةِ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَإِيثَارُ كَيْفَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ أَوِ الْمَوْصُولِ فَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَرَ مَا فَعَلَ رَبُّكَ، أَوِ الَّذِي فَعَلَ رَبُّكَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى حَالَةٍ عَجِيبَةٍ يَسْتَحْضِرُهَا مَنْ يَعْلَمُ تَفْصِيلَ الْقِصَّةِ. وَأُوثِرَ لَفْظُ فَعَلَ رَبُّكَ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الْفِعْلِ يَعُمُّ أَعْمَالًا كَثِيرَةً لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. وَجِيءَ فِي تَعْرِيفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِوَصْفِ (رَبُّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ تَكْرِيمُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إرهاصا لنبوءته إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَامَ مَوْلِدِهِ. وَأَصْحَابُ الْفِيلِ: الْحَبَشَةُ الَّذِينَ جَاءُوا مَكَّةَ غَازِينَ مُضْمِرِينَ هَدْمَ الْكَعْبَةِ انْتِقَامًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَجْلِ مَا فَعَلَهُ أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ النَّسِيءِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَكَانَ خَبَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ أَنَّ الْحَبَشَةَ قَدْ مَلَكُوا الْيَمَنَ بَعْدَ وَاقِعَةِ الْأُخْدُودِ الَّتِي عَذَّبَ فِيهَا الْمَلِكُ ذُو نُوَاسٍ النَّصَارَى، وَصَارَ أَمِيرُ الْحَبَشَةِ عَلَى الْيَمَنِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: (أَبْرَهَةُ) وَأَنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى كَنِيسَةً عَظِيمَةً فِي صَنْعَاءَ دَعَاهَا الْقَلِيسَ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَكسر اللَّام بعد مَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهَا بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ) . وَفِي «الْقَامُوسِ» بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَفْتُوحَةً وَسُكُونِ الْيَاءِ. وَكَتَبَهُ السُّهَيْلِيُّ بِنُونٍ بَعْدَ اللَّامِ وَلَمْ يَضْبُطْهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعَانِي الْقَلْسِ لِلِارْتِفَاعِ. وَمِنْهُ الْقَلَنْسُوَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ أَعْرِفْ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ لِلْكَنِيسَةِ وَلَعَلَّ لَفْظَ كَنِيسَةٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مُعْرَّبٌ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَمًا وَضَعُوهُ لِهَذِهِ الْكَنِيسَةِ الْخَاصَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا دُونَ الْكَعْبَةِ فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَكَانُوا أَهْلَ النَّسِيءِ لِلْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [37] ، قَصَدَ الْكِنَانِيُّ صَنْعَاءَ حَتَّى جَاءَ الْقَلِيسَ فَأَحْدَثَ فِيهَا تَحْقِيرًا لَهَا لِيَتَسَامَعَ الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ وَأَزْمَعَ غَزْوَ مَكَّةَ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ خَارِجَ مَكَّةَ لَيْلًا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغَمَّسُ (كَمُعَظَّمٍ مَوْضِعٌ قُرْبَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ) أَوْ ذُو الْغَمِيسِ (لَمْ أَرَ ضَبْطَهُ) وَأَرْسَلَ إِلَى عَبَدِ الْمُطَّلِبِ لِيُحَذِّرَهُ مِنْ أَنْ يُحَارِبُوهُ وَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ آلَهُ وَجَمِيعَ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى الْجِبَالِ الْمُحِيطَةِ بِهَا خَشْيَةً مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ هَيَّأَ جَيْشَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَاكِبًا فِيلًا وَجَيْشُهُ مَعَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَتَهَيَّأُ لِذَلِكَ إِذْ أَصَابَ جُنْدَهُ دَاءٌ عُضَالٌ هُوَ الْجُدَرِيُّ الْفَتَّاكُ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْأَنَامِلُ، وَرَأَوْا قَبْلَ ذَلِكَ طَيْرًا تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ لَا تُصِيبُ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ وَهِيَ طَيْرٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ فَهَلَكَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ وَأَدْبَرَ بَعْضُهُمْ وَمَرِضَ (أَبْرَهَةُ) فَقَفَلَ رَاجِعًا إِلَى صَنْعَاءَ مَرِيضًا، فَهَلَكَ فِي صَنْعَاءَ وَكَفَى اللَّهُ أَهْلَ مَكَّةَ أَمْرَ عَدُوِّهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْمُوَافِقِ لِشَهْرِ شُبَاطَ (فِبْرَايِرَ)

سَنَةَ 570 بَعْدَ مِيلَادِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْدَ هَذَا الْحَادِثِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا وُلِدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصَحِّ الْأَخْبَارِ وَفِيهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفِيلِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ فِيلُ أَبْرَهَةَ قَائِدِ الْجَيْشِ كَمَا قَالُوا لِلْجَيْشِ الَّذِي خَرَجَ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابُ الْجَمَلِ يُرِيدُونَ الْجَمَلَ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ، مَعَ أَنَّ فِي الْجَيْشِ جِمَالًا أُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جَيْشَ أَبْرَهَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا فِيلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ فِيلُ أَبْرَهَةَ، وَكَانَ اسْمه مَحْمُود. وَقِيلَ: كَانَ فِيهِ فِيَلَةٌ أُخْرَى، قِيلَ ثَمَانِيَةٌ وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ. وَقَالَ بَعْضٌ: أَلْفُ فِيلٍ. وَوَقَعَ فِي رَجَزٍ يُنْسَبُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنْتَ مَنَعَتَ الْحُبْشَ وَالْأَفْيَالَا فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَيَكُونُ الْعَهْدُ مُسْتَفَادًا مِنَ الْإِضَافَةِ. وَالْفِيلُ: حَيَوَانٌ عَظِيمٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ذَوَاتِ الْخُفِّ، مِنْ حَيَوَانِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ ذَاتِ الْأَنْهَارِ مِنَ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْحَبَشَةِ وَالسُّودَانِ، وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مَجْلُوبًا، وَهُوَ ذَكِيٌّ قَابِلٌ لِلتَّأَنُّسِ وَالتَّرْبِيَةِ، ضَخْمُ الْجُثَّةِ أَضْخَمُ مِنَ الْبَعِيرِ، وَأَعْلَى مِنْهُ بِقَلِيلٍ وَأَكْثَرُ لَحْمًا وَأَكْبَرُ بَطْنًا. وَخُفُّ رِجْلِهِ يُشْبِهُ خُفَّ الْبَعِيرِ وَعُنُقُهُ قَصِيرٌ جِدًّا لَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ هُوَ أَنْفُهُ يَتَنَاوَلُ بِهِ طَعَامَهُ وَيَنْتَشِقُ بِهِ الْمَاءَ فَيُفْرِغُهُ فِي فِيهِ ويدافع بِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَخْتَطِفُ بِهِ وَيَلْوِيهِ عَلَى مَا يُرِيدُ أَذَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُلْقِيهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَدُوسُهُ بِقَوَائِمِهِ. وَفِي عَيْنَيْهِ خَزَرٌ وَأُذُنَاهُ كَبِيرَتَانِ مُسْتَرْخِيَتَانِ، وَذَنَبُهُ قَصِيرٌ أَقْصَرُ مِنْ ذَنَبِ الْبَعِيرِ وَقَوَائِمُهُ غَلِيظَةٌ. وَمَنَاسِمُهُ كَمَنَاسِمِ الْبَعِيرِ وَلِلذَّكَرِ مِنْهُ نَابَانِ طَوِيلَانِ بَارِزَانِ مِنْ فَمِهِ يَتَّخِذُ النَّاسُ مِنْهَا الْعَاجَ. وَجِلْدُهُ أَجْرَدُ مِثْلَ جِلْدِ الْبَقَرِ، أَصْهَبُ اللَّوْنِ قَاتِمٌ كَلَوْنِ الْفَارِ وَيَكُونُ مِنْهُ الْأَبْيَضُ الْجِلْدِ. وَهُوَ مَرْكُوبٌ وَحَامِلُ أَثْقَالٍ وَأَهْلُ الْهِنْدِ وَالصِّينِ يَجْعَلُونَ الْفِيلَ كَالْحِصْنِ فِي الْحَرْبِ يَجْعَلُونَ مَحَفَّةً عَلَى ظَهْرِهِ تَسَعُ سِتَّةَ جُنُودٍ. وَلَمْ يَكُنِ الْفِيلُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فَلِذَلِكَ قَلَّ أَنَّ يُذْكَرَ فِي كَلَامِهِمْ وَأَوَّلُ فِيلٍ دَخَلَ بِلَادَ الْعَرَبِ هُوَ الْفِيلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ أَشْعَارٌ لَهُمْ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي السِّيرَةِ. وَلَكِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ الْفِيلِ وَيَتَخَيَّلُونَهُ عَظِيمًا قَوِيًّا، قَالَ لَبِيدٌ: وَمَقَامٍ ضَيِّقٍ فَرَّجْتُهُ ... بِبَيَانٍ وَلِسَانٍ وَجَدَلْ

[سورة الفيل (105) : الآيات 2 إلى 5]

لَوْ يَقُومُ الْفِيلُ أَوْ فَيَّالُهُ ... زَلَّ عَنْ مِثْلِ مَقَامِي وَرَحَلْ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي قَصِيدَتِهِ: لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بَهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ لَظَلَّ يَرْعَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنْ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَنْوِيلُ وَكُنْتُ رَأَيْتُ أَنَّ.... قَالَ إِنَّ أُمَّهُ أَرَتْهُ أَوْ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ رَوَثَ الْفِيلِ بِمَكَّةَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَلَعَلَّهُمْ تَرَكُوا إِزَالَتَهُ لِيَبْقَى تَذْكِرَةً. وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ: رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ. وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمِ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، فَهَذَا تَقْرِيرٌ عَلَى إِجْمَالٍ يُفَسِّرُهُ مَا بعده. [2- 5] [سُورَة الْفِيل (105) : الْآيَات 2 إِلَى 5] أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) هَذِهِ الْجُمَلُ بَيَانٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفِيل: 1] مِنَ الْإِجْمَالِ. وَسَمَّى حَرْبَهُمْ كَيْدًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ ظَاهِرُهُ الْغَضَبُ مِنْ فِعْلِ الْكِنَانِيِّ الَّذِي قَعَدَ فِي الْقَلِيسِ. وَإِنَّمَا هُوَ تَعِلَّةٌ تَعَلَّلُوا بِهَا لِإِيجَادِ سَبَبٍ لِحَرْبِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ لِيَنْصَرِفَ الْعَرَبُ إِلَى حَجِّ الْقَلِيسِ فِي صَنْعَاءَ فَيَتَنَصَّرُوا. أَوْ أُرِيدَ بِكَيْدِهِمْ بِنَاؤْهُمُ الْقَلِيسِ مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ بَنَوْا كَنِيسَةً وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبْطِلُوا الْحَجَّ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَصْرِفُوا الْعَرَبَ إِلَى صَنْعَاءَ. وَالْكَيْدُ: الِاحْتِيَالُ عَلَى إِلْحَاقِ ضُرٍّ بِالْغَيْرِ وَمُعَالَجَةِ إِيقَاعِهِ. وَالتَّضْلِيلُ: جَعْلُ الْغَيْرِ ضَالًّا، أَيْ لَا يَهْتَدِي لِمُرَادِهِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِبْطَالِ وَعَدَمِ نَوَالِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ ضَلَالَ الطَّرِيقِ عَدَمُ وُصُولِ السَّائِرِ. وَظَرْفِيَّةُ الْكَيْدِ فِي التَّضْلِيلِ مَجَازِيَّةٌ، اسْتُعِيرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ

الشَّدِيدَةِ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ بِتَضْلِيلٍ، أَيْ مُصَاحِبًا لِلتَّضْلِيلِ لَا يُفَارِقُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَبْطَلَهُ إِبْطَالًا شَدِيدًا إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِقُوَّتِهِمْ مَعَ ضَعْفِ أَهْلِ مَكَّةَ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غَافِر: 37] أَيْ ضَيَاعٍ وَتَلَفٍ، وَقَدْ شَمِلَ تَضْلِيلُ كَيْدِهِمْ جَمِيعَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْبَةِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ. وَجُمْلَةُ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: 1] ، أَيْ وَكَيْفَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ صِفَتِهَا كَيْتُ وَكَيْتُ، فَبَعْدَ أَنْ وَقَعَ التَّقْرِيرُ عَلَى مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ كَيْدِهِمْ عُطِفَ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ بِعِلْمِ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى كَيْدِهِمْ تَذْكِيرًا بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَصْدِهِمْ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ، فَذَلِكَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِبَيْتِهِ لِإِظْهَارِ تَوْطِئَتِهِ لِبَعْثَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينِهِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَمَا كَانَ إِرْسَالُ الطَّيْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ تَضْلِيلِ كَيْدِهِمْ، كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ لَهُمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَانِعٌ بَيْتَهُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ فَيَكُونَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ التَّقْرِيرِ الثَّانِي بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَخَصَّ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبْطِلًا لِكَيْدِهِمْ وَكَوْنِهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمَجِيئُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ قُلِبَ زَمَانُهُ إِلَى الْمُضِيِّ لِدُخُولِ حَرْفِ لَمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فِي سُورَةِ الضُّحَى [6، 7] ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَيْسَ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَالطَّيْرُ: اسْمٌ جَمْعُ طَائِرٍ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يرْتَفع فِي الجو بِعَمَلِ جَنَاحَيْهِ. وَتَنْكِيرُهُ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَصَّاصُونَ فِي صِفَتِهِ اخْتِلَافًا خَيَالِيًّا. وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْخَطَاطِيفِ، وَعَنْ غَيْرِهَا أَنَّهَا تُشْبِهُ الْوَطْوَاطَ. وأَبابِيلَ: جَمَاعَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَبَابِيلُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظَهِ مِثْلَ عَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ وَتَبِعَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ الرُّؤَاسِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: وَاحِدُ

أَبَابِيلَ إِبَّالَةٌ مُشَدَّدَةَ الْمُوَحَّدَةِ مَكْسُورَةَ الْهَمْزَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةَ» وَهِيَ الْحُزْمَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْحَطَبِ. وَعَلَيْهِ فَوَصْفُ الطَّيْرِ بِأَبَابِيلَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَجُمْلَةُ تَرْمِيهِمْ حَالٌ مِنْ طَيْراً وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ تُخُيِّلَ لِلسَّامِعِ كَالْحَادِثَةِ فِي زَمَنِ الْحَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر: 9] الْآيَةَ. وَحِجَارَةٌ: اسْمُ جَمْعِ حَجَرٍ. عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طِينٌ فِي حِجَارَةٍ، وَعَنْهُ أَنَّ سِجِّيلَ مُعَرَّبُ سَنْكِ كِلْ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، أَيْ عَنْ كَلِمَةِ (سَنْكِ) وَضُبِطَ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْكَافِ اسْمُ الْحَجَرِ وَكَلِمَةُ (كِلْ) بِكَسْرِ الْكَافِ اسْم الطين ومجموع الْكَلِمَتَيْنِ يُرَادُ بِهِ الْآجُرُّ. وَكِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ بِالْكَافِ الْفَارِسِيَّةِ الْمُعَمَّدَةِ وَهِيَ بَيْنَ مَخْرَجِ الْكَافِ وَمَخْرَجِ الْقَافِ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ مِنْ بَيَانِيَّةً، أَيْ حِجَارَةٌ هِيَ سِجِّيلٌ، وَقَدْ عَدَّ السُّبْكِيُّ كَلِمَةَ سِجِّيلٍ فِي «مَنْظُومَتِهِ فِي الْمُعَرَّبِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ» . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: 33] مَعَ قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ حَجَرٌ أَصْلُهُ طِينٌ. وَجَاءَ نَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ فِي سُورَةِ هود [82] : وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ [74] : فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ مِنْ جِنْسِ الْحِجَارَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، أَيْ لَيْسَتْ حَجَرًا صَخْرِيًّا وَلَكِنَّهَا طِينٌ مُتَحَجِّرٌ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِعَذَابِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْحَجْرُ إِذَا وَقَعَ عَلَى أَحَدِهِمْ نَفِطَ جِلْدُهُ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْجُدَرِيِّ (¬1) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا أصَاب أحدهم حجر مِنْهَا خَرَجَ بِهِ الْجُدَرِيُّ. ¬

(¬1) بِضَم الْجِيم وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَيُقَال بفتحهما لُغَتَانِ: قُرُوح إِذا كثرت أهلكت وَإِذا أَصَابَت الْجلد بَقِي أَثَرهَا حفرا وتصيب الْعين فيعمى الْمُصَاب.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجُدَرِيَّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي مَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَرَ كَانَ قَدْرَ الْحِمَّصِ. رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَصَى الَّتِي رُمِيَ بِهَا أَصْحَابُ الْفِيلِ حَصًى مِثْلَ الْحِمَّصِ حُمْرًا بحتمة (أَي سَواد) كَأَنَّهَا جِزْعُ ظَفَارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَأَى مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ عِنْد أم هاني نَحْوَ قَفِيزٍ مُخَطَّطَةٍ بِحُمْرَةٍ بِالْجِزْعِ الظَّفَارِيِّ. وَالْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ وَهُوَ جَمْعُ عَصْفَةٍ. وَالْعَصْفُ إِذَا دَخَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَأَكَلَتْهُ دَاسَتْهُ بِأَرْجُلِهَا وَأَكَلَتْ أَطْرَافَهُ وَطَرَحَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ يَانِعًا. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ أَصْحَابِ الْفِيلِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ وَالْقُوَّةِ كَيْفَ صَارُوا مُتَسَاقِطِينَ عَلَى الْأَرْضِ هَالِكِينَ.

106- سورة قريش

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 106- سُورَةُ قُرَيْشٍ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي عَهْدِ السَّلَفِ: «سُورَةَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ» قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ «صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ. وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ قُرَيْشٍ» لِوُقُوعِ اسْمِ قُرَيْشٍ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا، وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» . وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِلَا خِلَافٍ. وَفِي الْقُرْطُبِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَقَدْ عُدَّتِ التَّاسِعَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التِّينِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْقَارِعَةِ. وَهِيَ سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهَا سُورَةٌ خَاصَّةٌ. وَجَعَلَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مَعَ سُورَةِ الْفِيلِ سُورَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ بِالْبَسْمَلَةِ الَّتِي كَانُوا يَجْعَلُونَهَا عَلَامَةَ فَصْلٍ بَيْنَ السُّوَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ خَبَرِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ قِرَاءَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَالْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ نَقَضَ ذَلِكَ. وَعَدَدُ آيَاتِهَا أَرْبَعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَادِّينَ. وَعْدَّهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ خَمْسَ آيَاتٍ. وَرَأَيْتُ فِي مُصْحَفٍ عَتِيقٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْقَيْرَوَانِ عَدَدُهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ مَعَ أَنَّ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ قِرَاءَةُ أهل الْمَدِينَة.

أغراضها

أغراضها أَمْرُ قُرَيْشٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرُّبُوبِيَّةِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِنِعْمَةِ أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ لَهُمُ السَّيْرَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ بِرِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لَا يَخْشَوْنَ عَادِيًا يَعْدُو عَلَيْهِمْ. وَبِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ مِنَ الْمَجَاعَاتِ وَأَمَّنَهُمْ مِنَ الْمَخَاوِفِ لِمَا وَقَرَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنْ حُرْمَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُ الْحَرَمِ وَعُمَّارُ الْكَعْبَةِ. وَبِمَا أَلْهَمَ النَّاسَ مِنْ جَلْبِ الْمِيرَةِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآفَاقِ الْمُجَاوِرَةِ كَبِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَرَدِّ الْقَبَائِلِ فَلَا يُغِيرُ عَلَى بَلَدِهِمْ أَحَدٌ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67] فَأَكْسَبَهُمْ ذَلِكَ مَهَابَةً فِي نُفُوسِ النَّاسِ وعطفا مِنْهُم. [1- 4] [سُورَة قُرَيْش (106) : الْآيَات 1 إِلَى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) افْتِتَاحٌ مُبْدِعٌ إِذْ كَانَ بِمَجْرُورٍ بِلَامِ التَّعْلِيلِ وَلَيْسَ بِإِثْرِهِ بِالْقُرْبِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيقِ بِهِ فَفِيهِ تَشْوِيقٌ إِلَى مُتَعَلِّقِ هَذَا الْمَجْرُورِ. وَزَادَهُ الطُّولُ تَشْوِيقًا إِذْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ (بِالْفَتْحِ) بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَيَتَعَلَّقُ لِإِيلافِ بقوله: لْيَعْبُدُوا. وَتَقْدِيمُ هَذَا الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ إِذْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ أَمْرِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ «لِيَعْبُدُوا» . وَأَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ: لِتَعْبُدْ قُرَيْشٌ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ لِإِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلَمَّا اقْتَضَى قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِالْمَعْمُولِ تَقْدِيمَهُ عَلَى عَامِلِهِ، تَوَلَّدَ مِنْ تَقْدِيمِهِ مَعْنًى جَعَلَهُ شَرْطًا لِعَامِلِهِ فَاقْتَرَنَ عَامِلُهُ بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ جَوَابِ الشَّرْطِ، فَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ فِي قَوْله: لْيَعْبُدُوا مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ مَا قبلهَا فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ، أَيْ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مَقْصُودٌ بِهِ اهْتِمَامٌ

خَاصٌّ وَعِنَايَةٌ قَوِيَّةٌ هِيَ عِنَايَةُ الْمُشْتَرِطِ بِشَرْطِهِ، وَتَعْلِيقُ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ لِمَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ جَوَابِهِ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مِنَ الْإِيجَازِ بَدِيعٌ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِمَّا لَا فَلْيَعْبُدُوهُ لِإِيلَافِهِمْ، أَيْ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا تُحْصَى فَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ فَلْيَعْبُدُوهُ لِهَذِهِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ اهـ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا كَانَ فَلَا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ اهـ. وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَسَكَتَا عَنْ مَنْشَأِ حُصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَارٍ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَنَحْوِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [40] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فِي سُورَةِ يُونُسَ [58] وَقَوْلُهُ: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ فِي سُورَةِ الشُّورَى [15] . وَقَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ: «أَلَكَ أَبَوَانِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ (اعجبوا) محذوفا ينبىء عَنْهُ اللَّامُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ مَجْرُورٍ بِهَا بَعْدَ مَادَّةِ التَّعَجُّبِ، يُقَالُ: عَجَبًا لَكَ، وعجبا لتِلْك قَضِيَّة، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: «فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ» لِأَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ مُرَادٌ بِهِ التَّعَجُّبُ فَتَكُونَ الْفَاءُ فِي قَوْله: ْيَعْبُدُوا تَفْرِيعا على التعجيب. وَجَوَّزَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» أَنْ يَكُونَ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي سُورَةِ الْفِيلِ [5] مِنْ قَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَرِوَايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ وَهُوَ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَعْنَى الْبَيْتِ بِالَّذِي قَبْلَهُ تَعَلُّقًا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ اهـ. يَعْنُونَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَإِنْ كَانَتْ سُورَةً مُسْتَقِلَّةً فَهِيَ مُلْحَقَةٌ بِسُورَةِ الْفِيلِ فَكَمَا تُلْحَقُ الْآيَةُ بِآيَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَهَا، تُلْحَقُ آيَاتٌ هِيَ سُورَةٌ فَتَتَعَلَّقُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَهَا. وَالْإِيلَافُ: مَصْدَرُ أَأْلَفَ بِهَمْزَتَيْنِ بِمَعْنَى أَلِفَ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْأَصْلُ هُوَ أَلِفَ، وَصِيغَةُ الْإِفْعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَصَارَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي إِفَادَة قُوَّة الْفِعْلِ مَجَازًا، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فِي بعض ذَلِك الْأَفْعَالِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ مِثْلَ سَافَرَ، وَعَافَاهُ اللَّهُ، وَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ.

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِيلافِ بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهِيَ تَخْفِيفٌ للهمزة الثَّانِيَة. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «لِإِلَافٍ» الْأَوَّلَ بِحَذْفِ الْيَاءِ الَّتِي أَصْلُهَا هَمْزَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقَرَأَهُ إِيلافِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ مِثْلَ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «لِيلَافِ قُرَيْشٍ» بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ «إِلَافِهِمْ» بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَرَأَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي «لِإِأْلَافِ» وَفِي «إِأْلَافِهِمْ» ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّ تَحْقِيقَ الْهَمْزَتَيْنِ لَا وَجْهَ لَهُ. قُلْتُ: لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي عَرَفْنَاهَا نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ عَاصِمًا مُوَافِقٌ لِلْجُمْهُورِ فِي جَعْلِ ثَانِيَةِ الْهَمْزَتَيْنِ يَاءً، فَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَدْ كُتِبَ فِي الْمُصحف «إلفهم» بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَأَمَّا الْأَلِفُ الْمَدَّةُ الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ فَلَمْ تُكْتَبْ فِي الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْمَدَّاتِ مِثْلِهَا، وَالْقِرَاءَاتُ رِوَايَاتٌ وَلَيْسَ خَطُّ الْمُصْحَفِ إِلَّا كالتذكرة للقارىء، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ سَنَّهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ عُيِّنُوا لِنَسْخِ الْمَصَاحِفِ وَإِضَافَةِ «إِيلَافِ» إِلَى قُرَيْشٍ عَلَى مَعْنَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِأَنَّهُ هُنَا أُطْلِقَ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ لِتِلْكَ الْعَادَةِ فَهِيَ إِضَافَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ. وَقُرَيْشٌ: لَقَبُ الْجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُ بُطُونًا كَثِيرَةً وَهُوَ فِهْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّسَّابِينَ وَمَا فَوْقَ فِهْرٍ فَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ، وَلُقِّبَ فِهْرٌ بِلَقَبِ قُرَيْشٍ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ تَصْغِيرُ قَرْشٍ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ) اسْمُ نَوْعٍ مِنَ الْحُوتِ قَوِيٌّ يَعْدُو عَلَى الْحِيتَانِ وَعَلَى السُّفُنِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّسَّابِينَ: إِنَّ قُرَيْشًا لَقَبُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سُئِلَ من قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ: مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا وَلَدَ النَّضِرِ بْنِ كنَانَة لَا نقفو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» . فَجَمِيعُ أَهْلِ مَكَّةَ هُمْ قُرَيْشٌ وَفِيهِمْ كَانَتْ مَنَاصِبُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُوَزَّعَةً بَيْنَهُمْ وَكَانَتْ بَنُو كِنَانَةَ بِخَيْفِ مِنًى. وَلَهُمْ مَنَاصِبُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ خَاصَّةً مِنْهَا النَّسِيءُ. وَقَوْلُهُ: إِيلافِهِمْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ «إِيلَافِ قُرَيْشٍ» وَهُوَ مِنْ أُسْلُوبِ

الْإِجْمَالِ، فَالتَّفْصِيلُ لِلْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ لِيَتَمَكَّنَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غَافِر: 36] حِكَايَةً لِكَلَامِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَيَوْمَ دَخَلْتُ الْخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ وَالرِّحْلَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ: اسْمٌ لِلِارْتِحَالِ، وَهُوَ الْمَسِيرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعِيدٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسَافَرُ عَلَيْهِ رَاحِلَةً. وَإِضَافَةُ رِحْلَةٍ إِلَى الشِّتَاءِ مِنْ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى زَمَانِهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُسْتَغْرِقًا لِزَمَانِهِ مِثْلَ قَوْلِكَ: سَهَرُ اللَّيْلِ، وَقَدْ يَكُونُ وَقْتًا لِابْتِدَائِهِ مِثْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَظَاهِرُ الْإِضَافَةِ أَنَّ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ مَعْرُوفَةٌ مَعْهُودَةٌ، وَهُمَا رِحْلَتَانِ. فَعَطَفَ وَالصَّيْفِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَرِحْلَةَ الصَّيْفِ، لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا تَكُونُ رِحْلَةً وَاحِدَةً تُبْتَدَأُ فِي زَمَانَيْنِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمَا رِحْلَتَانِ فِي زَمَنَيْنِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ رِحْلَةَ الْمُفْرَدُ مُضَافًا إِلَى شَيْئَيْنِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَأَمْنِ اللَّبْسِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ. والشِّتاءِ: اسْمٌ لِفَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ الْمُقَسَّمَةِ إِلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ. وَفَصْلُ الشِّتَاءِ تِسْعَةٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا وَبِضْعُ دَقَائِقَ مَبْدَؤُهَا حُلُولُ الشَّمْسِ فِي بُرْجِ الْجَدْيِ، وَنِهَايَتُهَا خُرُوجُ الشَّمْسِ مِنْ بُرْجِ الْحُوتِ، وَبُرُوجُهُ ثَلَاثَةٌ: الْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَفَصْلُ الشِّتَاءِ مُدَّةُ الْبَرْدِ. والصَّيْفِ: اسْمٌ لِفَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَهُوَ زَمَنُ الْحَرِّ وَمُدَّتُهُ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ وَيَوْما وَبِضْعُ سَاعَاتٍ، مَبْدَؤُهَا حُلُولُ الشَّمْسِ فِي بُرْجِ السَّرَطَانِ وَنِهَايَتُهُ خُرُوجُ الشَّمْسِ مِنْ بُرْجِ السُّنْبُلَةِ، وَبُرُوجُهُ ثَلَاثَةٌ: السَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ مَالِكٌ: الشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ وَالصَّيْفُ نِصْفُهَا وَلَمْ أَزَلْ أَرَى رَبِيعَةَ ابْن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَخْلَعُونَ عَمَائِمَهُمْ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا (يَعْنِي طُلُوعَ الثُّرَيَّا عِنْدَ الْفَجْرِ وَذَلِكَ أَوَّلُ فَصْلِ الصَّيف) وَهُوَ الْيَوْم التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ (بَشَنْسَ) وَهُوَ يَوْمُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ عَدَدِ الرُّومِ أَوِ الْفُرْسِ اهـ. وَشَهْرُ بَشَنْسَ هُوَ التَّاسِعُ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ الْقِبْطِيَّةِ الْمُجَزَّأَةِ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا.

وَشَهْرُ بَشَنْسَ يَبْتَدِئ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ نِيسَانَ (أَبْرِيلَ) وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا يَنْتَهِي يَوْمَ 25 مِنْ شَهْرِ (إِيَارَ- مَايُهْ) . وَطُلُوعُ الثُّرَيَّا عِنْدَ الْفَجْرِ وَهُوَ يَوْمُ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ بَشَنْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ. قَالَ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ: فَالصَّيْفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ نِصْفُ السَّنَةِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَالسَّنَةُ بِالتَّحْقِيقِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: الصَّيْفُ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ الرَّبِيعَ، وَيَلِيهِ الْقَيْظُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَيَلِيهِ الْخَرِيفُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَيَلِيهِ الشِّتَاءُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلِاصْطِلَاحَيْنِ. وَاصْطِلَاحُ عُلَمَاءَ الْمِيقَاتِ تَقْسِيمُ السَّنَةِ إِلَى رَبِيعٍ وَصَيْفٍ وَخَرِيفٍ وَشِتَاءٍ، وَمَبْدَأُ السَّنَةِ الرَّبِيعُ هُوَ دُخُولُ الشَّمْسِ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ، وَهَاتَانِ الرحلتان هما رحلتا تِجَارَةٍ وَمِيرَةٍ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَهِّزُهُمَا فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ مِنَ السَّنَةِ إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ ثُمَّ الْيَمَنِ يَبْلُغُونَ بِهَا بِلَادَ حِمْيَرَ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ يَبْلُغُونَ بِهَا مَدِينَةَ بُصْرَى مِنْ بِلَادِ الشَّامِ. وَكَانَ الَّذِينَ سَنَّ لَهُمْ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنهم كَانُوا تعتريهم خَصَاصَةٌ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ أَهْلُ بَيْتٍ طَعَامًا لِقُوتِهِمْ حَمَلَ رَبُّ الْبَيْتِ عِيَالَهُ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خِبَاءً وَبَقُوا فِيهِ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا وَيُسَمَّى ذَلِكَ الِاعْتِفَارَ (بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ وَقِيلَ بِالدَّالِ عِوَضَ الرَّاءِ وَبِفَاءٍ) فَحَدَثَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَصَابَتْهُمْ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَهَمُّوا بِالِاعْتِفَارِ فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ هَاشِمًا لِأَنَّ أَحَدَ أَبْنَائِهِمْ كَانَ تِرْبًا لِأَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ، فَقَامَ هَاشِمٌ خَطِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَقَالَ: إِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ حَدَثًا تَقِلُّونَ فِيهِ وَتَكْثُرُ الْعَرَبُ وَتَذِلُّونَ وَتَعِزُّ الْعَرَبُ وَأَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَالنَّاسُ لَكُمْ تَبَعٌ وَيَكَادُ هَذَا الِاعْتِفَارُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ، ثُمَّ جَمَعَ كُلَّ بَنِي أَبٍ عَلَى رِحْلَتَيْنِ لِلتِّجَارَاتِ فَمَا رَبِحَ الْغَنِيُّ قَسَّمَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ مِنْ عَشِيرَتِهِ حَتَّى صَارَ فَقِيرُهُمْ كَغَنِيِّهِمْ، وَفِيهِ يَقُولُ مَطْرُودٌ الْخُزَاعِيُّ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ ... هَلَّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنَافِ الْآخِذُونَ الْعَهْدَ مِنْ آفَاقِهَا ... وَالرَّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ وَالْخَالِطُونَ غَنِيَّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ ... حَتَّى يَصِيرَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِيِِ

وَلَمْ تَزَلِ الرِّحْلَتَانِ مِنْ إِيلَافِ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَالْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ أَنَّ الَّذِي سَنَّ الْإِيلَافَ هُوَ هَاشِمٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الْهَرَوِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَ الْإِيلَافِ هَاشِمٌ، وَإِخْوَتُهُ الثَّلَاثَةُ الْآخَرُونَ عَبْدُ شَمْسٍ، وَالْمُطَّلِبُ، وَنَوْفَل، وَأَن كَانَ وَاحِد مِنْهُمْ أَخَذَ حَبْلًا، أَيْ عَهْدًا مِنْ أَحَدِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَمُرُّونَ فِي تِجَارَتِهِمْ عَلَى بِلَادِهِمْ وَهُمْ مَلِكُ الشَّامِ، وَمَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَمَلِكُ الْيَمَنِ، وَمَلِكُ فَارِسَ، فَأَخَذَ هَاشِمٌ هَذَا مِنْ مَلِكِ الشَّامِ وَهُوَ مِلْكُ الرُّومِ، وَأَخَذَ عَبْدُ شَمْسٍ مِنْ نَجَاشِيِّ الْحَبَشَةِ وَأَخَذَ الْمُطَّلِبُ مِنْ مَلِكِ الْيَمَنِ وَأَخَذَ نَوْفَلٌ مِنْ كِسْرَى مَلِكِ فَارِسَ، فَكَانُوا يَجْعَلُونَ جُعْلًا لِرُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ وَسَادَاتِ الْعَشَائِرِ يُسَمَّى الْإِيلَافَ أَيْضًا يُعْطُونَهُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ وَيَحْمِلُونَ إِلَيْهِمْ مَتَاعًا وَيَسُوقُونَ إِلَيْهِمْ إِبِلًا مَعَ إبلهم ليكفوهم مؤونة الْأَسْفَارِ وهم يكفون قُرَيْش دَفْعَ الْأَعْدَاءِ فَاجْتَمَعَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْنُ الطَّرِيقِ كُلِّهِ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الشَّامِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْمُجِيرِينَ. وَقَدْ تَوَهَّمَ النَّقَّاشُ مِنْ هَذَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ رِحْلَةً فَزَعَمَ أَنَّ الرِّحَلَ كَانَتْ أَرْبَعًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ، وَصَدَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَإِنَّ كَوْنَ أَصْحَابِ الْعُهَدِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْإِيلَافُ أَرْبَعَةً لَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرِّحْلَاتُ أَرْبَعًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ كَانُوا يَتَدَاوَلُونَ السَّفَرَ مَعَ الرِّحْلَاتِ عَلَى التَّنَاوُبِ لِأَنَّهُمُ الْمَعْرُوفُونَ عِنْدَ الْقَبَائِلِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهِمُ الْعِيرُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ تَوَارَثُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ هَاشِمٍ فَكَانَتْ تُضَافُ الْعِيرُ إِلَى أَحَدِهِمْ كَمَا أَضَافُوا الْعِيرَ الَّتِي تَعْرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لَهَا يَوْمَ بَدْرٍ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ هُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي بِمَكَّةَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ تَذْكِيرُ قُرَيْشٍ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذْ يَسَّرَ لَهُمْ مَا لَمْ يَتَأَتَّ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ عُدْوَانِ الْمُعْتَدِينَ وَغَارَاتِ الْمُغِيرِينِ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَشِرْعَةِ الْحَجِّ وَأَنْ جَعَلَهُمْ عُمَّارَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَهَابَةً وَحُرْمَةً فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفِي غَيْرِهَا. وَعِنْدَ الْقَبَائِلِ الَّتِي تُحَرِّمُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَالْقَبَائِلِ الَّتِي لَا تُحَرِّمُهَا مِثْلَ طَيِّءٍ وَقُضَاعَةَ وَخَثْعَمَ، فَتَيَسَّرَتْ لَهُمُ الْأَسْفَارُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ جَنُوبِهَا إِلَى شَمَالِهَا، وَلَاذَ

بِهِمْ أَصْحَابُ الْحَاجَاتِ يُسَافِرُونَ مَعَهُمْ، وَأَصْحَابُ التِّجَارَاتِ يُحَمِّلُونَهُمْ سِلَعَهُمْ، وَصَارَتْ مَكَّةُ وَسَطًا تُجْلَبُ إِلَيْهَا السِّلَعُ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ فَتُوَزَّعُ إِلَى طَالِبِيهَا فِي بَقِيَّةِ الْبِلَادِ، فَاسْتَغْنَى أَهْلُ مَكَّةَ بِالتِّجَارَةِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ إِذْ كَانُوا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَكَانُوا يَجْلِبُونَ أَقْوَاتَهُمْ فَيَجْلِبُونَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ الْحُبُوبَ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَذُرَةٍ وَزَبِيبٍ وَأَدِيمٍ وَثِيَابٍ وَالسُّيُوفَ الْيَمَانِيَّةَ، وَمِنْ بِلَادِ الشَّامِ الْحُبُوبَ وَالتَّمْرَ وَالزَّيْتَ وَالزَّبِيبَ وَالثِّيَابَ وَالسُّيُوفَ الْمَشْرَفِيَّةَ، زِيَادَةً عَلَى مَا جُعِلَ لَهُمْ مَعَ مُعْظَمِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَمَا أُقِيمَ لَهُمْ مِنْ مَوَاسِمِ الْحَجِّ وَأَسْوَاقِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ فَذَلِكَ وَجْهُ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِتَوْحِيدِهِمُ اللَّهَ بِخُصُوصِ نِعْمَةِ هَذَا الْإِيلَافِ مَعَ أَن الله عَلَيْهِمْ نِعَمًا كَثِيرَةً لِأَنَّ هَذَا الْإِيلَافَ كَانَ سَبَبًا جَامِعًا لِأَهَمِّ النِّعَمِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ بَقَائِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْفَاءِ من قَوْله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَالْعِبَادَةُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكِ الشُّرَكَاءِ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ إِشْرَاكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِهَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَوْ لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فِي التَّلْبِيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا ملك. وتعريف بَ بِالْإِضَافَة إِلَى ذَا الْبَيْتِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَلْيَعْبُدُوا الله لما يومىء إِلَيْهِ لفظبَ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ دُونَ شريك. وأوثر إضافةبَ إِلَى ذَا الْبَيْتِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: رَبُّهُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ أَصْلُ نِعْمَةِ الْإِيلَافِ بِأَنْ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَكَانَ سَبَبًا لِرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ بَيْنَ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 97] وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفَضْلِهِ. وَالْبَيْتُ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ.

وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْعَهْدِ كَانَ كَالْحَاضِرِ فِي مَقَامِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ على الْكَعْبَة، و «رب الْبَيْتِ» هُوَ اللَّهُ وَالْعَرَبُ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ. وَأُجْرِيَ وَصْفُ الرَّبِّ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ رَبِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى زِيَادَةً عَلَى نِعْمَةِ تَيْسِيرِ التِّجَارَةِ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُمْ أَهْلَ ثَرَاءٍ، وَهُمَا نِعْمَةُ إطعامهم وأمنهم. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُسِّرَ لَهُمْ مِنْ وُرُودِ سُفُنِ الْحَبَشَةِ فِي الْبَحْرِ إِلَى جَدَّةَ تَحْمِلُ الطَّعَامَ لِيَبِيعُوهُ هُنَاكَ. فَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَخْرُجُونَ إِلَى جَدَّةَ بِالْإِبِلِ وَالْحُمُرِ فَيَشْتَرُونَ الطَّعَامَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ. وَكَانَ أَهْلُ تَبَالَةَ وَجُرَشَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ الْمُخْصِبَةِ يحملون الطَّعَام على الْإِبِل إِلَى مَكَّة فَيُبَاع الطَّعَامَ فِي مَكَّةَ فَكَانُوا فِي سِعَةٍ مِنَ الْعَيْشِ بِوَفْرِ الطَّعَامِ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَذَلِكَ يُسِّرَ لَهُمْ إِقَامَةُ الْأَسْوَاقِ حَوْلَ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهِيَ سُوقُ مَجَنَّةَ، وَسُوقُ ذِي الْمَجَازِ، وَسُوقُ عُكَاظٍ، فَتَأْتِيهِمْ فِيهَا الْأَرْزَاقُ وَيَتَّسِعُ الْعَيْشُ، وَإِشَارَةٌ إِلَى مَا أُلْقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنْ حُرْمَةِ مَكَّةَ وَأَهْلِهَا فَلَا يُرِيدُهُمْ أَحَدٌ بِتَخْوِيفٍ. وَتِلْكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [الْبَقَرَة: 136] فَلَمْ يَتَخَلَّفْ ذَلِكَ عَنْهُمْ إِلَّا حِينَ دَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَعْوَتِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ» ، فَأَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ وَقَحْطٌ سَبْعَ سِنِينَ وَذَلِكَ أَوَّلُ الْهِجْرَةِ. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُوعٍ وَعَلَى خَوْفٍ مَعْنَاهَا الْبَدِلِيَّةُ، أَيْ أَطْعَمَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْجُوعِ وَآمَنَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْخَوْفِ. وَمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ هُوَ أَنَّ حَالَةَ بِلَادِهِمْ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُهَا فِي جُوعٍ فَإِطْعَامُهُمْ بَدَلٌ مِنَ الْجُوعِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبِلَادُ، وَأَنَّ حَالَتَهُمْ فِي قِلَّةِ الْعَدَدِ وَكَوْنِهِمْ أَهْلَ حَضَرٍ وَلَيْسُوا أَهْلَ بَأْسٍ وَلَا فُرُوسِيَّةٍ وَلَا شَكَّةِ سِلَاحٍ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ لِغَارَاتِ الْقَبَائِلِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَمْنَ فِي الْحَرَمِ عِوَضًا عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قِلَّتُهُمْ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] . وَتَنْكِيرُ جُوعٍ وخَوْفٍ لِلنَّوْعِيَّةِ لَا لِلتَّعْظِيمِ إِذْ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ جُوعٌ وَخَوْفٌ مِنْ قَبْلُ، قَالَ مُسَاوِرُ بْنُ هِنْدٍ فِي هِجَاءِ بَنِي أَسَدٍ:

زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ أُولَئِكَ أُومِنُوا جُوعًا وَخَوْفًا ... وَقَدْ جَاعَتْ بَنُو أَسَدٍ وَخَافُواِِِِ

107- سورة الماعون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 107- سُورَةُ الْمَاعُونِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْمَاعُونِ» لِوُرُودِ لَفْظِ الْمَاعُونِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ أَرَأَيْتَ» وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفٍ مِنْ مَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَعَنْوَنَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ بِ «سُورَةِ أَرَأَيْتَ الَّذِي» . وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «التَّلْخِيصِ» «سُورَةُ الماعون وَالدّين وأ رَأَيْت» وَفِي «الْإِتْقَانِ» : وَتُسَمَّى «سُورَةَ الدِّينِ» وَفِي «حَاشِيَتَيِ الْخَفَاجِيِّ وَسَعْدِيٍّ» تُسَمَّى «سُورَةَ التَّكْذِيبِ» وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي «نَظْمِ الدُّرَرِ» تُسَمَّى «سُورَةَ الْيَتِيمِ» . وَهَذِهِ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَفِي «الْإِتْقَانِ» : قِيلَ نَزَلَ ثَلَاثٌ أَوَّلُهَا بِمَكَّةَ إِلَى قَوْله: الْمِسْكِينِ [الماعون: 3] وَبَقِيَّتُهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4] إِلَى آخَرِ السُّورَة أُرِيد بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ هِبَةُ اللَّهِ الضَّرِيرُ (¬1) وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَعُدَّتِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّكَاثُرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْكَافِرُونَ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا سِتًّا عِنْدَ مُعْظَمِ الْعَادِّينَ. وَحَكَى الْآلُوسِيُّ أَنَّ الَّذِينَ عَدُّوا آيَاتِهَا سِتًّا أَهْلُ الْعِرَاقِ (أَيِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ) ، وَقَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ النُّورِيُّ الصَّفَاقِسِيُّ ¬

(¬1) هبة الله بن سَلامَة بن نصر بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم الضَّرِير الْبَغْدَادِيّ الْمُفَسّر لَهُ كتاب «النَّاسِخ والمنسوخ» كَانَت لَهُ حَلقَة فِي جَامع الْمَنْصُور توفّي سنة 410 «تَارِيخ بَغْدَاد» ونكت الْهِمْيَان» .

أغراضها

فِي «غَيْثِ النَّفْعِ» : وَآيُهَا سَبْعٌ حِمْصِيٌّ (أَيْ شَامِيٌّ) وَسِتٌّ فِي الْبَاقِي. وَهَذَا يُخَالِفُ مَا قَالَه الآلوسي. أغراضها من مقاصدها التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ مَنْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَتَفْظِيعِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ وَاحْتِقَارِهِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنْ يَكُونَ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ مَا يَجْلِبُ لَهُ غَضَبَ الله وعقابه. [1- 3] [سُورَة الماعون (107) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْجَزَاءِ، وَمَا أَوْرَثَهُمُ التَّكْذِيبُ مِنْ سوء الصَّنِيع. فالتعجيب مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالدِّينِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ دَعِّ الْيَتِيمِ وَعَدَمِ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَقَدْ صِيغَ هَذَا التَّعْجِيبُ فِي نَظْمٍ مَشُوقٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ رُؤْيَةِ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ يَذْهَبُ بِذِهْنِ السَّامِعِ مَذَاهِبَ شَتَّى مِنْ تَعَرُّفِ الْمَقْصِدِ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ بِالدِّينِ شَائِعٌ فِيهِمْ فَلَا يَكُونُ مَثَارًا لِلتَّعَجُّبِ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ مَاذَا يَرِدُ بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَفِي إِقْحَامِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَاسْمِ الْمَوْصُولِ بَعْدَ الْفَاءِ زِيَادَةُ تَشْوِيقٍ حَتَّى تَقْرَعَ الصِّلَةُ سَمْعَ السَّامِعِ فَتَتَمَكَّنُ مِنْهُ كَمَالَ تَمَكُّنٍ. وَأَصْلُ ظَاهِرِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَيَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ حَتَّى يَتَبَصَّرَ السَّامِعُ فِيهِ وَفِي صِفَتِهِ، أَوْ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الظَّاهِرِ الْوَاضِحِ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِ. وَالْفَاءُ لِعَطْفِ الصِّفَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى لِإِفَادَةِ تَسَبُّبِ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ فِي

الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ إِذَا كَانَ مَوْصُوفُهَا وَاحِدًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصافات: 1- 3] . فَمَعْنَى الْآيَةِ عَطْفُ صِفَتَيْ: دَعِّ الْيَتِيمِ، وَعَدَمِ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ عَلَى جَزْمِ التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ. وَهَذَا يُفِيدُ تَشْوِيهَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ إِنْكَارِهِ مِنَ الْمَذَامِّ وَمِنْ مُخَالَفَةٍ لِلْحَقِّ وَمُنَافِيًا لِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ. وَجِيءَ فِي يُكَذِّبُ، ويَدُعُّ، ويَحُضُّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ وَدَوَامِهِ. وَهَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ هُوَ الْوَازِعُ الْحَقُّ الَّذِي يَغْرِسُ فِي النَّفْسِ جُذُورَ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة حَتَّى يَصِيرُ ذَلِكَ لَهَا خُلُقًا إِذَا شَبَّتْ عَلَيْهِ، فَزَكَتْ وَانْسَاقَتْ إِلَى الْخَيْرِ بِدُونِ كُلْفَةٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ وَلَا إِلَى مَخَافَةٍ مِمَّنْ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَاتِ حَتَّى إِذَا اخْتَلَى بِنَفْسِهِ وَأَمِنَ الرُّقَبَاءَ جَاءَ بِالْفَحْشَاءِ وَالْأَعْمَالِ النَّكْرَاءِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ يَتَعَدَّى فِعْلُهَا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالدِّينِ مَعْرُوفُونَ وَأَعْمَالُهُمْ مَشْهُورَةٌ، فَنَزَلَتْ شُهْرَتُهُمْ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ الْمُبْصَرِ الْمُشَاهَدِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ الرَّاءِ مِنْ أَرَأَيْتَ أَلِفًا. وَرَوَى الْمِصْرِيُّونَ عَنْ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ إِبْدَالَهَا أَلِفًا وَهُوَ الَّذِي قَرَأْنَا بِهِ فِي تُونِسَ، وَهَكَذَا فِي فِعْلِ (رَأَى) كُلَّمَا وَقع بعد همزَة اسْتِفْهَامٌ، وَذَلِكَ فِرَارٌ مِنْ تَحْقِيقِ الهمزتين، وقرأه الْجُمْهُور بتحقيقهما. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ الرَّاءِ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتُهُ مُرَادٌ بِهِمَا جِنْسُ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ دَرَجُوا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ السَّهْمِيِّ، وَقِيلَ: فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ

[سورة الماعون (107) : الآيات 4 إلى 7]

الْمَخْزُومِيِّ، وَقِيلَ: فِي عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَقِيلَ: فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ كُلَّ أُسْبُوعٍ جَزُورًا فَجَاءَهُ مَرَّةً يَتِيمٌ فَسَأَلَهُ مِنْ لَحْمِهَا فَقَرَعَهُ بِعَصَا. وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ: كَانَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ فَأَتَاهُ عُرْيَانًا يَسْأَلُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَدَفَعَهُ دَفْعًا شَنِيعًا. وَالَّذِينَ جَعَلُوا السُّورَةَ مَدَنِيَّةً قَالُوا: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ لَمْ يُسَمُّوهُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْزُوٌّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضِ التَّابِعِينَ وَلَوْ تَعَيَّنَتْ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ نُزُولِهَا مخصّصا حكمهَا بِمن نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ. وَمَعْنَى يَدُعُّ يَدْفَعُ بِعُنْفٍ وَقَهْرٍ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطّور: 13] . وَالْحَضُّ: الْحَثُّ، وَهُوَ أَنْ تَطْلُبَ غَيْرَكَ فِعْلًا بِتَأْكِيدٍ. وَالطَّعَامُ: اسْمُ الْإِطْعَامِ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ إِضَافَةً لَفْظِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مُرَادًا بِهِ مَا يُطْعَمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ [الْبَقَرَة: 259] فَتَكُونَ إِضَافَةُ طَعَامٍ إِلَى الْمِسْكِينِ مَعْنَوِيَّةً عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيِ الطَّعَامُ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَكُونُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مُضَافٌ مَجْرُورٌ بِ (عَلَى) تَقْدِيرُهُ: عَلَى إِعْطَاءِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَكُنِّيَ بِنَفْيِ الْحَضِّ عَنْ نَفْيِ الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الَّذِي يَشِحُّ بِالْحَضِّ عَلَى الْإِطْعَامِ هُوَ بِالْإِطْعَامِ أَشَحُّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ [18] وَقَوْلِهِ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [34] . وَالْمِسْكِينُ: الْفَقِيرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّدِيدِ الْفَقْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فِي سُورَة التَّوْبَة [60] . [4- 7] [سُورَة الماعون (107) : الْآيَات 4 إِلَى 7] فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) مَوْقِعُ الْفَاءِ صَرِيحٌ فِي اتِّصَالِ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى معنى التَّفْرِيع والترتب وَالتَّسَبُّبِ.

فَيَجِيءُ عَلَى الْقَوْلِ: أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِأَجْمَعِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُصَلِّينَ عَيْنَ الْمُرَادِ بِالَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، وَيَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَقَوْلُهُ لِلْمُصَلِّينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَوَيْلٌ لَهُ عَلَى سَهْوِهِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى الرِّيَاءِ، وَعَلَى مَنْعِ الْمَاعُونِ، دَعَا إِلَيْهِ زِيَادَةُ تِعْدَادِ صِفَاتِهِ الذَّمِيمَةِ بِأُسْلُوبٍ سَلِيمٍ عَنْ تَتَابُعِ سِتِّ صِفَاتٍ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّتَابُعَ لَا يَخْلُو مِنْ كَثْرَةِ تِكْرَارِ النَّظَائِرِ فَيُشْبِهُ تَتَابُعَ الْإِضَافَاتِ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ مُنَاكِدٌ لِلْفَصَاحَةِ، مَعَ الْإِشَارَة بتوسط وَيْلٌ لَهُ إِلَى أَن الويل ناشىء عَنْ جَمِيعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي هُوَ أَهْلُهَا وَهَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» بِغُمُوضٍ. فَوَصْفُهُمْ بِ «الْمُصَلِّينَ» إِذَنْ تَهَكُّمٌ، وَالْمُرَادُ عَدَمُهُ، أَيِ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ، أَيْ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 43، 44] وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ وَصْفُهُمْ بِ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْهَا مَدَنِيَّةٌ يكون المُرَاد بالمصلين الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الْمُنَافِقِينَ. وَرَوَى هَذَا ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، فَتَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِرَبْطِهَا بِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ارْتِبَاطَ هَذَا الْكَلَامِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ. وَجِيءَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ: جِنْسُ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مُعَيَّنًا عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَتْ صِيغَة الْجمع تذييلا يَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِصِفَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَصِفَةِ الرِّيَاءِ، وَصِفَةِ مَنْعِ الْمَاعُونِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ صِفَةٌ لِلْمُصَلِّينَ مُقَيِّدَةٌ لِحُكْمِ الْمَوْصُوفِ فَإِنَّ الْوَيْلَ لِلْمُصَلِّي السَّاهِي عَنْ صَلَاتِهِ لَا لِلْمُصَلِّي عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ تَرْشِيحًا لِلتَّهَكُّمِ الْوَاقِعِ فِي إِطْلَاقِ وَصْفِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِمْ. وَعُدِّيَ ساهُونَ بِحَرْفِ عَنْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا إِقَامَةَ صَلَاتِهِمْ وَتَرَكُوهَا وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَحْكَامِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ.

وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الصَّلَاةَ إِلَّا رِيَاءً فَإِذَا خَلَوْا تَرَكُوا الصَّلَاةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: الَّذِينَ يُصَلُّونَ دُونَ نِيَّةٍ وَإِخْلَاصٍ فَهُمْ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ السَّاهِي عَمَّا يَفْعَلُ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ ساهُونَ تَهَكُّمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا فِي الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَة النِّسَاء [142] . و (يراءون) يَقْصِدُونَ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّهُمْ عَلَى حَالٍ حَسَنٍ وَهُمْ بِخِلَافِهِ لِيَتَحَدَّثَ النَّاسُ لَهُمْ بِمَحَاسِنَ مَا هُمْ بِمَوْصُوفِينَ بِهَا، وَلِذَلِكَ كَثُرَ أَنْ تُعْطَفَ السُّمْعَةُ عَلَى الرِّيَاءِ فَيُقَالُ: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ. وَهَذَا الْفِعْلُ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ لِأَنَّهُ يُلَازِمُهُ تَكْرِيرُ الْإِرَاءَةِ. والْماعُونَ: يُطْلَقُ عَلَى الْإِعَانَةِ بِالْمَالِ، فَالْمَعْنَى: يَمْنَعُونَ فَضْلَهُمْ أَوْ يَمْنَعُونَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْفُقَرَاءِ. فَقَدْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ تَعْيِينٍ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ شِهَابٍ: الْمَاعُونُ: الْمَالُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: الْمَاعُونُ: الزَّكَاةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الرَّاعِي: قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّهْلِيلِ الصَّلَاةَ فَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى عَمَلِ الْبَيْتِ مِنْ آنِيَةٍ وَآلَاتِ طَبْخٍ وَشَدٍّ وَحَفْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا خَسَارَةَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي إِعَارَتِهِ وَإِعْطَائِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ: الْمَاعُونُ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْمِلْحُ. وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ بِمُنْتَهَى الْبُخْلِ. وَهُوَ الشُّحُّ بِمَا لَا يزرئهم. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْله: هُمْ يُراؤُنَ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَيْ تَأْكِيدِهِ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ أَوْ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ مَدَنِيَّةٌ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وَالصِّلَاتِ بَعْدَهَا: الْمُنَافِقِينَ،

فَإِطْلَاقُ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى الْمُتَظَاهِرِينَ بِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْفِعْلِ عَلَى صُورَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التَّوْبَة: 64] أَيْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ تَنْزِيلَ سُورَةٍ. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أَيِ الصَّدَقَةَ أَوِ الزَّكَاةَ، قَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] فَلَمَّا عُرِفُوا بِهَذِهِ الْخِلَالِ مُفَادُ فَاءِ التَّفْرِيعِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ تَارِكُوهَا فِي خَاصَّتِهِمْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَيَدُعُّونَ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَحَكَى هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ فِي كِتَابِ «النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ، أَيْ فَإِطْلَاقُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ مُرَادٌ بِهَا وَاحِدٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 105] أَيِ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ. وَالسَّهْوُ حَقِيقَتُهُ: الذُّهُولُ عَنْ أَمْرٍ سَبَقَ عِلْمُهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ وَالتَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: 41] أَيْ تُعْرِضُونَ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ اسْتِعَارَةُ الْغَفْلَةِ لِلْإِعْرَاضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [136] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [7] ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْوَعِيدَ عَلَى السَّهْوِ الْحَقِيقِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ حُكْمَ النِّسْيَانِ مَرْفُوعٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْمُصَلِّينَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُلْحَقًا بِشَيْءٍ قَبْلَهُ جَعَلَ نَظْمَ الْمُلْحَقِ مُنَاسِبًا لِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَمْ يَسْبِقْ لَنَا إظهارها فَعَلَيْك بملاحظتها فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ مُلْحَقًا بِشَيْءٍ نَزَلَ قَبْلَهُ مِنْهُ.

108- سورة الكوثر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 108- سُورَةُ الْكَوْثَرِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا وَفِي جَمِيعِ التَّفَاسِيرِ أَيْضًا «سُورَةَ الْكَوْثَرِ» وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «جَامِعِهِ» . وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» سُورَةَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ. وَنَقَلَ سَعْدُ اللَّهِ الشَّهِيرُ بِسَعْدِيٍّ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» عَنِ الْبِقَاعِيِّ أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ النَّحْرِ» . وَهَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ؟ تَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ وَالْآثَارُ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ تَعَارُضًا شَدِيدًا، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَنَقَلَ الْخَفَاجِيُّ عَنْ كِتَابِ «النَّشْرِ» قَالَ: أَجْمَعَ مَنْ نَعْرِفُهُ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْخَفَاجِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا. وَعَنِ الْحسن وَقَتَادَة وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَيَشْهَدُ لَهُمْ مَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الْكَوْثَر: 1- 3] ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ نَهَرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ. وَأَنَسٌ أَسْلَمَ فِي صَدْرِ الْهِجْرَةِ فَإِذَا كَانَ لَفْظُ «آنِفًا» فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الزَّمَنُ الْقَرِيبُ، فَالسُّورَةُ نَزَلَتْ مُنْذُ وَقْتٍ قَرِيبٍ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الرُّؤْيَا. وَمُقْتَضَى مَا يُرْوَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَانْحَرْ مِنْ أَنَّ النَّحْرَ فِي الْحَجِّ أَوْ يَوْمِ الْأَضْحَى تَكُونُ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً وَيَبْعَثُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

أغراضها

لَيْسَ رَدًّا عَلَى كَلَامِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَعَلَى هَذَا سَنَعْتَمِدُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ عَدُّوهَا الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعَادِيَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّكَاثُرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا ثَلَاثٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهِيَ أَقْصَرُ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَدَدَ كَلِمَاتٍ وَعَدَدَ حُرُوفٍ، وَأَمَّا فِي عَدَدِ الْآيَاتِ فَسُورَةُ الْعَصْرِ وَسُورَةُ النَّصْرِ مثلهَا وَلَكِن كلماتهما أَكثر. أغراضها اشْتَمَلَتْ عَلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أُعْطِيَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَمْرِهِ بِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ الْحَقُّ لَا مَا يَتَطَاوَلُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالثَّرْوَةِ وَالنِّعْمَةِ وَهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ أَبْغَضُوا رَسُولَهُ، وَغَضَبُ اللَّهِ بَتْرٌ لَهُمْ إِذَا كَانُوا بِمَحَلِّ السُّخْطِ مِنَ اللَّهِ. وَإِنَّ انْقِطَاعَ الْوَلَد الذّكر لَيْسَ بَتْرًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي كَمَال الْإِنْسَان. [1، 2] [سُورَة الْكَوْثَر (108) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) افْتَتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَسْتَتْبِعُ الْإِشْعَارَ بِتَنْوِيهِ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] . وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْبِشَارَةِ وإنشاء الْعَطاء لامساق الْإِخْبَارِ بِعَطَاءٍ سَابِقٍ. وَضَمِيرُ الْعَظَمَةِ مُشْعِرٌ بِالِامْتِنَانِ بِعَطَاءٍ عَظِيمٍ. والْكَوْثَرَ: اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ صِيغَ عَلَى زِنَةِ فَوْعَلٍ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ

الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ غَالِبًا نَحْوَ الْكَوْكَبِ، وَالْجَوْرَبِ، وَالْحَوْشَبِ وَالدَّوْسَرِ (¬1) ، وَلَا تَدُلُّ فِي الْجَوَامِدِ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّاهَا، وَلَمَّا وَقَعَ هُنَا فِيهَا مَادَّةُ الْكُثْرِ كَانَتْ صِيغَتُهُ مُفِيدَةً شِدَّةَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْمُفْرِطِ فِي الْكَثْرَةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ وَأَضْبَطُهُ، وَنَظِيرُهُ: جَوْهَرٌ، بِمَعْنَى الشُّجَاعِ كَأَنَّهُ يُجَاهِرُ عَدُوَّهُ، وَالصَّوْمَعَةُ لِاشْتِقَاقِهَا مِنْ وَصْفِ أَصْمَعَ وَهُوَ دَقِيقُ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ دَقِيقَةٌ لِأَنَّ طُولَهَا أَفْرَطُ مِنْ غِلَظِهَا. وَيُوصَفُ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بِكَوْثَرٍ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ فِي رِثَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْأَسَدِيِّ: وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِفَقْدِهِ ... وَعِنْدَ الرِّدَاعِ بَيْتُ آخَرَ كَوْثَرُ (مَلْحُوبٍ وَالرُّدَاعِ) كِلَاهُمَا مَاءٌ لِبَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، فوصف الْبَيْت بكوثر ولاحظ الْكُمَيْت هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبوك ابْن العقائل كَوْثَرَا وَسُمِّيَ نَهْرُ الْجَنَّةِ كَوْثَرًا كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَقَدَّمِ آنِفًا. وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ الْكَوْثَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفَاسِيرَ أَعَمُّهَا أَنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: هُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: الْكَوْثَرُ هُنَا: النُّبُوءَةُ وَالْكِتَابُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّهُ رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ نُورُ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ الشَّفَاعَةُ، وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَقْتَضِي حَصْرَ مَعَانِي اللَّفْظِ فِيمَا ذَكَرَهُ. وَأُرِيدَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بِشَارَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي خَاطِرِهِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ أَبْتَرُ، فَقُوبِلَ مَعْنَى الْأَبْتَرِ بِمَعْنَى الْكَوْثَرِ، إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ اعْتِرَاضٌ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُِِ ¬

(¬1) الجورب: ثوب يَجْعَل فِي صُورَة خف وَتلف فِيهِ الرجل، والحوشب: المنتفخ الجنبين وَعظم فِي بَاطِن الْحَافِر، وَاسم للأرنب الذّكر، والثعلب الذّكر، والدوسر: الضخم الشَّديد.

عَلَيْهَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ دَالَّةٌ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ شُكْرٌ لِنِعْمَتِهِ. وَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ بِالِازْدِيَادِ مِمَّا عَادَاهُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَالُوا مَقَالَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ: إِنَّهُ أَبْتَرُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لِلَّهِ شُكْرٌ لَهُ وَإِغَاظَةٌ لِلَّذِينِ يَنْهَوْنَهُ عَنِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا نَهَوْهُ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ لِوَجْهِ اللَّهِ دُونَ الْعِبَادَةِ لِأَصْنَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ النَّحْرُ لِلَّهِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ دُونَ: فَصَلِّ لَنَا، لِمَا فِي لَفْظِ الرَّبِّ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِ رُبُوبِيَّتِهِ فَضْلًا عَنْ فَرْطِ إِنْعَامِهِ. وَإِضَافَةُ (رَبٍّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيبِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَرُبُّهُ وَيَرْأَفُ بِهِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ فِي تَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالنَّحْرِ مَعَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ خُصُوصِيَّةً تُنَاسِبُ الْغَرَضَ الَّذِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْأَمْرَ بِالنَّحْرِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [97، 98] . وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَدِّ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ عَنِ الْبَيْتِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَعْطَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَيْ قَدَّرَهُ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي أَمْرِ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَفَتْحٌ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أَمْرٌ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ وَيَنْصَرِفَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَفَادَتْ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِرَبِّكَ أَنَّهُ يخص الله بِصَلَاتِهِ فَلَا يُصَلِّي لِغَيْرِهِ. فَفِيهِ تَعْرِيض بالمشركين بِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ لِلْأَصْنَامِ بِالسُّجُودِ لَهَا وَالطَّوَافِ حَوْلَهَا. وَعَطْفُ وَانْحَرْ عَلَى فَصَلِّ لِرَبِّكَ يَقْتَضِي تَقْدِيرَ مُتَعَلِّقِهِ مُمَاثِلًا لِمُتَعَلِّقِ

[سورة الكوثر (108) : آية 3]

فَصَلِّ لِرَبِّكَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَم: 38] أَيْ وَأَبْصِرْ بِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: وَانْحَرْ لَهُ. وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى إِبْطَالِ نَحْرِ الْمُشْرِكِينَ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ فَإِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً فَلَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اقْتَرَبَ وَقْتُ الْحَجِّ وَكَانَ يَحُجُّ كُلَّ عَامٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا قد تَرَدَّدَ فِي نَحْرِ هَدَايَاهُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ بَعْثَتِهِ، وَهُوَ يَوَدُّ أَنْ يُطْعِمَ الْمَحَاوِيجَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ يَحْضُرُ فِي الْمَوْسِمِ وَيَتَحَرَّجُ مِنْ أَنْ يُشَارِكَ أَهْلَ الشِّرْكِ فِي أَعْمَالِهِمْ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ لِلَّهِ وَيُطْعِمَهَا الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَمْنَعُكَ نَحْرُهُمْ لِلْأَصْنَامِ أَنْ تَنْحَرَ أَنْتَ نَاوِيًا بِمَا تَنْحَرُهُ أَنَّهُ لِلَّهِ. وَإِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً، وَكَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ كَانَ النَّحْرُ مُرَادًا بِهِ الضَّحَايَا يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إِنَّ قَوْلَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُرَادٌ بِهِ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ. وَأَخَذُوا مِنْ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالنَّحْرِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ بِالنَّحْرِ دُونَ الذَّبْحِ مَعَ أَنَّ الضَّأْنَ أَفْضَلُ فِي الضَّحَايَا وَهِيَ لَا تُنْحَرُ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُضَحِّ إِلَّا بِالضَّأْنِ تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ النَّحْرِ وَهُوَ الَّذِي رُوعِيَ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْأَضْحَى يَوْمَ النَّحْرِ وَلِيَشْمَلَ الضَّحَايَا فِي الْبَدَنِ وَالْهَدَايَا فِي الْحَجِّ أَوْ لِيَشْمَلَ الْهَدَايَا الَّتِي عُطِّلَ إِرْسَالُهَا فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَيُرَشِّحُ إِيثَارَ النَّحْرِ رَعْيُ فَاصِلَةِ الرَّاءِ فِي السُّورَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي تَفْسِيرِ «انْحَرْ» تَجْعَلُهُ لفظا غَرِيبا. [3] [سُورَة الْكَوْثَر (108) : آيَة 3] إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) اسْتِئْنَافٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِحَرْفِ إِنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ يَكْثُرُ أَنْ يُفِيدَ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] . وَاشْتِمَالُ الْكَلَامِ عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ وَعَلَى ضَمِيرِ غَائِبٍ وَعَلَى لَفْظِ الْأَبْتَرِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ

الْمَقْصُودَ بِهِ رَدُّ كَلَامٍ صَادِرٍ مِنْ مُعَيَّنٍ، وَحِكَايَةُ لَفْظٍ مُرَادٍ بِالرَّدِّ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ بَابِ بَنِي سَهْمٍ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ وَأُنَاسٌ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا دَخَلَ الْعَاصِي عَلَيْهِمْ قَالُوا لَهُ: مَنِ الَّذِي كُنْتَ تَتَحَدَّثُ مَعَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ الْأَبْتَرُ، وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ ابْنُهُ الْقَاسِمُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ فَانْقَطَعَ بِمَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ الذُّكُورُ مِنْ وَلَدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَكَانُوا يَصِفُونَ مَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ بِأَبْتَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، فَحَصَلَ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ الْأَبْتَرِ عَلَى الْمَوْصُوف وَهُوَ شانىء النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ هُوَ الْأَبْتَرُ لَا أَنْتَ. والْأَبْتَرُ: حَقِيقَتُهُ الْمَقْطُوعُ بَعْضُهُ وَغَلَبَ عَلَى الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَيُسْتَعَارُ لِمَنْ نَقَصَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْخَيْرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ تَشْبِيهًا بِالدَّابَّةِ الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهَا تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» يُقَالُ: بَتَرَ شَيْئًا إِذَا قَطَعَ بَعْضَهُ وَبَتِرَ بِالْكَسْرِ كَفَرِحَ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ ذُكُورًا، هُوَ أَبْتَرُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهٌ مُتَخَيَّلٌ بِمَحْسُوسٍ شَبَّهُوهُ بِالدَّابَّةِ الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهَا لِأَنَّهُ قُطِعَ أَثَرُهُ فِي تَخَيُّلِ أَهْلِ الْعُرْفِ. وَمَعْنَى الْأَبْتَرِ فِي الْآيَةِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي حَقِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِهَذَا الْمَعْنَى اسْتَقَامَ وَصْفُ الْعَاصِي أَوْ غَيْرِهِ بِالْأَبْتَرِ دُونَ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَاهُ هُوَ حَيْثُ لَمَزَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَبتر، أَي لاعقب لَهُ لِأَنَّ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ لَهُ عَقِبٌ، فَابْنُهُ عَمْرٌو الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، وَابْنُ ابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ وَلِعَبْدِ اللَّهِ عَقِبٌ كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْجَمْهَرَةِ» عَقِبُهُ بِمَكَّةَ وَبِالرَّهْطِ (¬1) . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَبْتَرُ اقْتَضَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ إِثْبَاتَ صفة الأبتر لشانىء النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْيَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَبْتَرُ بِمَعْنَى الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ. ¬

(¬1) كَذَا فِي طبعة «جمهرة ابْن حزم» . وَقَالَ ياقوت: الرَّهْط مَوضِع فِي شعر هُذَيْل. وَأَقُول: لَعَلَّه تَحْرِيف راهط وراهط مَوضِع بغولة دمشق. [.....]

وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ وَصْفُ الْأَبْتَرِ فِي الْآيَةِ جِيءَ بِهِ لِمُحَاكَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: «مُحَمَّدٌ أَبْتَرُ» إِبْطَالًا لِقَوْلِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ عُرْفُهُمْ فِي وَصْفِ الْأَبْتَرِ أَنه الَّذِي لَا عقب لَهُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِبْطَالُ ضَرْبًا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ وَهُوَ تَلَقِّي السَّامِعِ بِغَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَحَقَّ غَيْرُ مَا عَنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: 189] . وَذَلِكَ بِصَرْفِ مُرَادِ الْقَائِلِ عَنِ الْأَبْتَرِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الِابْنِ الذَّكَرِ إِلَى مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاعْتِبَارِ وَهُوَ النَّاقِصُ حَظَّ الْخَيْرِ، أَيْ لَيْسَ يَنْقُصُ لِلْمَرْءِ أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعُودُ عَلَى الْمَرْءِ بِنَقْصٍ فِي صِفَاتِهِ وَخَلَائِقِهِ وَعَقْلِهِ. وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ لَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى اعْتِبَارِهِ نَقْصًا لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْجُهُودِ الْبَدَنِيَّةِ فَهُمْ يَبْتَغُونَ الْوَلَدَ الذُّكُورَ رَجَاءَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عِنْدَ الْكِبَرِ وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ يَعْرِضُ، وَقَدْ لَا يَعْرِضُ أَوْ لِمَحَبَّةِ ذِكْرِ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِالْقَنَاعَةِ، وَأَعَزَّهُ بِالتَّأْيِيدِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ لَمْ يَجْعَلْ مِثْلَهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَتَمَحَّضَ أَنَّ كَمَالَهُ الذَّاتِيَّ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ فِيهِ إِذْ جَعَلَ فِيهِ رِسَالَتَهُ، وَأَنَّ كَمَالَهُ الْعَرَضِيَّ بِأَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ إِذْ جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الِاسْتِخْدَامِ التَّقْدِيرِيِّ لِأَنَّ سَوْقَ الْإِبْطَالِ بطرِيق الْقصر فِي قَوْله: هُوَ الْأَبْتَرُ نَفْيُ وَصْفِ الْأَبْتَرِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِن بِمَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَاهُ شَانِئُهُ فَهُوَ اسْتِخْدَامٌ يَنْشَأُ مِنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ الِاسْتِخْدَامُ مُنْحَصِرًا فِي اسْتِعْمَالِ الضَّمِيرِ فِي غَيْرِ مَعْنَى مُعَادِهِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ سَالِمٌ أَبُو حَاجِبٍ وَجَعَلَهُ وَجْهًا فِي وَاوِ الْعَطْفِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الْفجْر: 22] لِأَنَّ الْعَطْفَ بِمَعْنَى إِعَادَةِ الْعَامِلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَاءَ الْمَلَكُ وَهُوَ مَجِيءٌ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى مَجِيءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: وَقَدْ سَبَقَنَا الْخَفَاجِيُّ إِلَى ذَلِكَ إِذْ أَجْرَاهُ فِي حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي «طِرَازِ الْمَجَالِسِ» فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الصَّالِحِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الشَّامِ: وَحَدِيثُ حُبِّي لَيْسَ بِالْ ... مَنْسُوخِ إِلَّا فِي الدَّفَاتِرِ وَالشَّانِئُ: الْمُبْغِضُ وَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ الشَّنَاءَةِ وَهِيَ الْبُغْضُ وَيُقَالُ فِيهِ: الشَّنَآنُ، وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مُبْغِضٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ فَكُلُّهُمْ بُتْرٌ مِنَ الْخَيْرِ مَا دَامَ فِيهِ شَنَآنٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا مَنْ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ فَقَدِ انْقَلَبَ بَعْضُهُمْ مَحَبَّةً لَهُ وَاعْتِزَازًا بِهِ.

109- سورة الكافرون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 109- سُورَةُ الْكَافِرُونَ عُنْوِنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِينَا قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْكَافِرُونَ» بِإِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَى الْكافِرُونَ وبثبوت وَاوِ الرَّفْعِ فِي الْكافِرُونَ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة» و «حرز الْأَمَانِيِّ» «سُورَةُ الْكَافِرِينَ» بِيَاءِ الْخَفْضِ فِي لَفْظِ «الْكَافِرِينَ» بِإِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ سُورَةُ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ، أَوْ نِدَاءِ الْكَافِرِينَ. وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» سُورَةَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: 1] . قَالَ فِي «الْكَشَّاف» و «الإتقان» : وَتُسَمَّى هِيَ وَسُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ المقشقشتين لِأَنَّهُمَا تُقَشْقِشَانِ مِنَ الشِّرْكِ أَيْ تُبْرِئَانِ مِنْهُ يُقَالُ: قَشْقَشَ: إِذَا أَزَالَ الْمَرَضَ. وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْإِخْلَاصِ فَيَكُونُ هَذَانِ الِاسْمَانِ مُشْتَرِكَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ تُسَمَّى الْمُقَشْقِشَةَ لِأَنَّهَا تُقَشْقِشُ، أَيْ تُبْرِئُ مِنَ النِّفَاقِ فَيَكُونُ هَذَا مُشْتَرِكًا بَيْنَ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِسَعْدِيٍّ عَنْ «جَمَالٍ الْقَرَّاءِ» إِنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْعِبَادَةِ» وَفِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» لِلْفَيْرُوزَآبَادِيِّ تُسَمَّى «سُورَةَ الدِّينِ» . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي حِكَايَةِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ.

أغراضها

وَقَدْ عُدَّتِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ فِي عداد الثَّامِنَة عشرَة فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمَاعُونِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْفِيلِ. وَعَدَدُ آياتها سِتّ. أغراضها وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يطوف بِالْكَعْبَةِ فَاعْتَرَضَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ سَنَةً وَتَعَبُدْ مَا نَعْبُدُ سَنَةً فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قد أَخذنَا بحظنا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ السُّورَةَ كُلَّهَا، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِيهِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَيَئِسُوا مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ (وَإِنَّمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِرْصَهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا فطمعوا أَن يستنزلوه إِلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَئِسُوا مِنْهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا أَصْحَابَهُ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ تَأْيِيسُهُمْ مِنْ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ الْمُؤَكَّدِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِطُ شَيْئًا مِنْ دين الشّرك. [1- 3] [سُورَة الْكَافِرُونَ (109) : الْآيَات 1 إِلَى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) افْتِتَاحُهَا بِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ يُرَادُ إِبْلَاغُهُ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهٍ خَاصٍّ مَنْصُوصٍ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِقَوْلٍ يُبَلِّغُهُ وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ، وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مُفْتَتَحَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ فِي غَيْرِ جَوَابٍ عَنْ

سُؤَالٍ مِنْهَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ [6] وَالسُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ خَمْسُ سُوَرٍ: قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: 1] ، وَسُورَةُ الْكَافِرُونَ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ، فَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ لِقَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ لِقَوْلٍ يَقُولُهُ لِتَعْوِيذِ نَفْسِهِ. والنداء موجه إِلَى الْأَرْبَعَة الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، كَمَا فِي خَبَرِ سَبَبِ النُّزُولِ وَذَلِكَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ كَمَا سَيَأْتِي. وَابْتُدِئَ خِطَابُهُمْ بِالنِّدَاءِ لِإِبْلَاغِهِمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَسْتَدْعِي إِقْبَالَ أَذْهَانِهِمْ عَلَى مَا سَيُلْقَى عَلَيْهِمْ. وَنُودُوا بِوَصْفِ الْكَافِرِينَ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَأْيِيدًا لِوَجْهِ التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ لَا يَخْشَاهُمْ إِذَا نَادَاهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِمَّا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ وَعَصَمَهُ مِنْ أَذَاهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمَعْنَى: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَنْ يَعْتَمِدَهُمْ فِي نَادِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى الْكُفْرِ. فَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إِخْبَارٌ عَنْ نَفسه بِمَا يحصل مِنْهَا. وَالْمَعْنَى: لَا تَحْصُلُ مِنِّي عِبَادَتِي مَا تَعْبُدُونَ فِي أَزْمِنَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ (لَا) النَّافِيَةُ أَفَادَتِ انْتِفَاءَهُ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ حَرْفُ (لَنْ) مُفِيدًا تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ زِيَادَة على مُطلق النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ (لَنْ) : لَا أَنْ، فَلَمَّا أَفَادَتْ (لَا) وَحْدَهَا نَفْيَ الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ تَقْدِيرُ (أَنْ) بَعْدَ (لَا) مُفِيدًا تَأْكِيدَ ذَلِكَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا إِنَّ (لَنْ) تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَلِمْنَا أَنْ (لَا) كَانَتْ مُفِيدَةً نَفْيَ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَخَالَفَهُمُ ابْنُ مَالِكٍ كَمَا فِي «مُغَنِّي اللَّبِيبِ» ، وَأَبُو حَيَّانَ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالسُّهَيْلَيُّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» .

[سورة الكافرون (109) : آية 4]

وَنَفْيُ عِبَادَتِهِ آلِهَتَهَمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُفِيدُ نَفْيَ أَنْ يَعْبُدَهَا فِي الْحَالِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَلِأَنَّهُمْ مَا عَرَضُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ بِنَفْيِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ بِمُغَيِّرِينَ إِشْرَاكَكُمُ الْآنَ لِأَنَّهُمْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئُوا هُمْ فَيَعْبُدُوا الرَّبَّ الَّذِي يَعْبُدُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً. وَبِهَذَا تَعْلَمُ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ نَظْمِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ الْبَلِيغِ. وَهَذَا إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ فَاعِلِينَ ذَلِكَ مِنَ الْآنِ بِإِنْبَاءِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوءَتِهِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24] فَإِنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاتُوا عَلَى شركهم. وَمَا صدق مَا أَعْبُدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَبَّرَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَارِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ (مَنْ) بِالْعَاقِلِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِ (مَا) عَلَى الْعَاقِلِ إِذَا كَانَ اللَّبْسُ مَأْمُونًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : أَنَّ (مَا) الْمَوْصُولَةَ يُؤْتَى بِهَا لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ لِتُفِيدَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّفْخِيمِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة الشَّمْس [5] . [4] [سُورَة الْكَافِرُونَ (109) : آيَة 4] وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4) عُطِفَ عَلَى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 3] عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لمناسبة نفي أَو يَعْبُدُوا اللَّهَ فَأَرْدَفَ بِنَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ هُوَ آلِهَتَهُمْ، وَعَطْفُهُ بِالْوَاوِ صَارِفٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَأْكِيدَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. لِلدَّلَالَةِ على الثَّبَات، وبكون الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ دَالًّا عَلَى زَمَانِ الْحَالِ، فَلَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْبُدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يَعْبُدُونَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، صَرَّحَ هُنَا بِمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الْفَحْوَى عَلَى نَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ فِي الْحَالِ، بِمَا هُوَ صَرِيحُ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَزِيدَ الْبَيَانِ، فَاقْتَضَى الِاعْتِمَادَ عَلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ إِطْنَابًا فِي الْكَلَامِ، لِتَأْيِيسِهِمْ مِمَّا رَاوَدُوهُ عَلَيْهِ وَلِمُقَابَلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَرْدُودِ بِمِثْلِهِ فِي إِفَادَةِ الثَّبَاتِ. وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُ

[سورة الكافرون (109) : آية 5]

الْمَعْنَى السَّابِقِ وَتَأْكِيدُهُ، تَبَعًا لِمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ لَا لِمَوْقِعِهَا، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَيْسَت تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ بِمُرَادِفِهَا لِأَنَّ التَّوْكِيدَ لِلَّفْظِ بِالْمُرَادِفِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدَاتِ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْوَاوِ يُعَيِّنُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ إِذْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَاوٌ حَتَّى يَكُونَ الْوَاوُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدًا لَهَا. وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَالْأَجْوَدُ الْفَصْلُ بِ (ثُمَّ) كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ» مُقْتَصِرًا عَلَى (ثُمَّ) . وَزَادَ الرَّضِيُّ الْفَاءَ وَلَمْ يَأْتِ لَهُ بِشَاهِدٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ: «وَقَدْ تَكُونُ (ثُمَّ) وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّدَرُّجِ فِي الِارْتِقَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْطُوفُ مُتَرَتِّبًا فِي الذَّكَرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ إِذَا تَكَرَّرَ الْأَوَّلُ بِلَفْظِهِ نَحْوَ: بِاللَّهِ، فَاللَّهِ، وَنَحْوَ وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ» . وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَا عَبَدْتُّمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ أَزْمَانٍ مَضَتْ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى تَنَزُّهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ سَالِفِ الزَّمَانِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا كُنَّا نعْبد. [5] [سُورَة الْكَافِرُونَ (109) : آيَة 5] وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ [الْكَافِرُونَ: 4] لِبَيَانِ تَمَامِ الِاخْتِلَافِ بَين حَاله وحالهم وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ إِخْبَارًا ثَانِيًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَتَقْوِيَةً لِدَلَالَةِ هذَيْن الْإِخْبَار على نُبُوءَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَمَاتَ أُولَئِكَ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمِثْلِ نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ تَوْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ تَوْكِيدًا لِلْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ مِنْهَا، وَلَيْسَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ التَّوْكِيدِ لِوُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلِذَلِكَ فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لِأَجْلِ مَا اقْتَضَتْهُ جملَة: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرَتِهَا

[سورة الكافرون (109) : آية 6]

السَّابِقَةِ بِتَمَامِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ وَاوِ الْعَطْفِ فِي نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقُ تَكْذِيبِهِمْ فِي عَرْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [6] [سُورَة الْكَافِرُونَ (109) : آيَة 6] لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ، وَقَدْ أُرْسِلَ هَذَا الْكَلَامُ إِرْسَالَ الْمَثَلِ وَهُوَ أَجْمَعُ وَأَوْجَزُ مِنْ قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» هُنَا: «جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُتَمَثَّلَ بِهِ بَلْ لِيُتَدَبَّرَ فِيهِ ثُمَّ يُعْمَلُ بِمُوجَبِهِ» اهـ. وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ لِأَنَّ التَّمَثُّلَ بِهِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ وَمَا التَّمَثُّلُ بِهِ إِلَّا مِنْ تَمَامِ بَلَاغَتِهِ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْعَمَلِ بِهِ. وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي الْمُسَوَّدَةِ. وَقُدِّمَ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ الْمُسْنَدُ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ دِينُكُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَكُمْ لَا يَتَجَاوَزُكُمْ إِلَى الْكَوْنِ لِي، وَدِينِي مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُنِي إِلَى كَوْنِهِ لَكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُمْ مُحَقَّقٌ عَدَمُ إِسْلَامِهِمْ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، وَاللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ أَوِ الِاسْتِحْقَاقُ. وَالدِّينُ: الْعَقِيدَةُ وَالْمِلَّةُ، وَهُوَ مَعْلُومَاتٌ وَعَقَائِدُ يَعْتَقِدُهَا الْمَرْءُ فَتَجْرِي أَعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ دِينًا لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى الدِّينِ الْمُعَامَلَةُ وَالْجَزَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دِينِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى أَنَّ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَحْذُوفَةٌ لِلتَّخْفِيفِ مَعَ بَقَاءِ الْكَسْرَةِ عَلَى النُّونِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَدْ كُتِبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ اعْتِمَادًا عَلَى حِفْظِ الْحُفَّاظِ لِأَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ الْيَاءَ مِثْلَ يَعْقُوبَ يُشْبِعُ الْكَسْرَةَ إِذْ لَيْسَتِ الْيَاءُ إِلَّا مَدَّةً لِلْكَسْرَةِ فَعَدَمُ رَسْمِهَا فِي الْخَطِّ لَا يَقْتَضِي إِسْقَاطَهَا فِي اللَّفْظِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهِشَام عَن ابْن عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْح الْيَاء من قَوْلِهِ: وَلِيَ وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الْيَاءِ.

110- سورة النصر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 110- سُورَةُ النَّصْرِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ «سُورَةَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ رَوَى الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الْحَدِيثَ. وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ النَّصْرِ» لِذِكْرِ نَصْرِ اللَّهِ فِيهَا، فَسُمِّيَتْ بِالنَّصْرِ الْمَعْهُودِ عَهْدًا ذِكْرِيًّا. وَهِيَ مُعَنْوَنَةٌ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ الْفَتْحِ» لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا فَيَكُونُ هَذَا الِاسْمُ مُشْتَرَكًا بَينهَا وَبَين سُورَة: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ التَّوْدِيعِ» فِي «الْإِتْقَانِ» لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَدَاعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. يَعْنِي مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى اقْتِرَابِ لِحَاقِهِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى كَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَائِشَةَ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا فَقِيلَ: نَزَلَتْ مُنْصَرَفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ (أَيْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ) ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَجَاءَ نَصْرُ أَهْلِ الْيَمَنِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» اهـ، وَمَجِيءُ أَهْلِ الْيَمَنِ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُوَ مَجِيء وَقد الْأَشْعَرِيِّينَ عَامَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ فَالْفَتْحُ

مُسْتَقْبَلُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا مُسْتَقْبَلٌ أَيْضًا وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِاسْتِعْمَالِ (إِذَا) وَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» عَلَى أَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ أَوْ لِأَنَّ النَّصْرَ فِي خَيْبَرَ كَانَ بَادِرَةً لِفَتْحِ مَكَّةَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: نَزَلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «نَزَلَتْ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ» ، فَيَكُونُ الْفَتْحُ قَدْ مَضَى وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا مُسْتَقْبَلًا، وَهُوَ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً فِي مُجَرَّدِ التَّوْقِيتِ دُونَ تعْيين. وروى الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عمر أَنَّهَا نزلت أَوَاسِطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (أَيْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ) . وَضَعَّفَهُ ابْنُ رَجَبٍ بِأَنَّ فِيهِ مُوسَى بْنَ عُبَيْدَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ وَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ كَانَ الْفَتْحُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا قَدْ مَضَيَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بعد نُزُولهَا نَحوا من ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَعَلَيْهِ تَكُونُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً لِلزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْفَتْحَ وَدُخُولَ النَّاسِ فِي الدِّينِ قَدْ وَقَعَا. وَقَدْ تَظَافَرَتِ الْأَخْبَارُ رِوَايَةً وَتَأْوِيلًا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى إِيمَاءٍ إِلَى اقْتِرَابِ أَجَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا الْإِيمَاءَ يُشِيرُ إِلَى تَوْقِيت بمجيء النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَانَ الْأَجَلُ الشَّرِيفُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْر: 1] وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 3] . وَفِي هَذَا مَا يُؤَوِّلُ مَا فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى اقْتِرَابِ ذَلِك الْأَجَل مثل مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» وَالدَّارِمِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ: لَمَّا نَزَلَتْ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي فَبَكَتْ» إِلَخْ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «لَمَّا نَزَلَتْ» مُدْرَجٌ مِنَ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ

أغراضها

إِعْلَامٌ لَهَا فِي مَرَضِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْوَفَاةِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا يَلُوحُ مِنْهُ تَعَارُضٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَعَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ السُّورَةَ الْمِائَةَ وَالثَّلَاثَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَقَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَشْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ النُّورِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَكُونُ عَلَى قَوْلِهِ السُّورَةَ الْمِائَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ بَرَاءَةَ وَلَمْ تُنَزَّلْ بَعْدَهَا سُورَةٌ أُخْرَى. وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَلَاثٌ وَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِسُورَةِ الْكَوْثَرِ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ إِلَّا أَنَّهَا أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْكَوْثَرِ عِدَّةَ كَلِمَاتٍ، وَأَقْصَرُ مِنْ سُورَةِ الْعَصْرِ. وَهَاتِهِ الثَّلَاثُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبْعِيِّ فِي حَدِيثِ: «طَعْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فصلى عبد الرحمان بْنُ عَوْفٍ صَلَاةً خَفِيفَةً بِأَقْصَرِ سُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: 1] وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْر: 1] . أغراضها وَالْغَرَضُ مِنْهَا الْوَعْدُ بِنَصْرٍ كَامِلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَالْبِشَارَةُ بِدُخُولِ خَلَائِقَ كَثِيرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِفَتْحٍ وَبِدُونِهِ إِنْ كَانَ نُزُولُهَا عِنْدَ مُنْصَرَفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ حِينَ يَقَعُ ذَلِكَ فَقَدِ اقْتَرَبَ انْتِقَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآخِرَةِ. وَوَعْدُهُ بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ مَغْفِرَةً تَامَّةً لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ يَقْتَضِيهِ تَحْدِيدُ الْقُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْحَدَّ الَّذِي لَا يَفِي بِمَا تَطْلُبُهُ هِمَّتُهُ الْمَلَكِيَّةُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ سَاوَى الْحَدَّ الْمَلَكِيَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء

[سورة النصر (110) : الآيات 1 إلى 3]

: 20] . [1- 3] [سُورَة النَّصْر (110) : الْآيَات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِذا اسْمُ زَمَانٍ مُبْهَمٌ يَتَعَيَّنُ مِقْدَارُهُ بِمَضْمُونِ جُمْلَةٍ يُضَافُ إِلَيْهَا هُوَ. فَ إِذا اسْمُ زَمَانٍ مُطْلَقٌ، فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ غَالِبًا. وَلِذَلِكَ يُضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا، وَيَكُونُ الْفِعْلُ الَّذِي تُضَافُ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي غَالِبًا لِإِفَادَةِ التَّحَقُّقِ، وَقَدْ يَكُونُ مُضَارِعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [الشورى: 29] . وَيُسْتَعْمَلُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَقَعَ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَلَا تُضَمَّنُ إِذا مَعْنَى الشَّرْطِ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا هِيَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقٍ نَحْوَ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: 11] . وإِذا هُنَا مُضَمَّنَةٌ الشَّرْطَ لَا مَحَالَةَ لوُجُود الْفَاء فِي قَوْله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَقَضِيَّةُ الِاسْتِقْبَالِ وَعَدَمِهِ تَقَدَّمَتْ. وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْعَدُوِّ. وَنَصْرُ اللَّهِ يَعْقُبُهُ التَّغَلُّبُ عَلَى الْعَدُوِّ. والْفَتْحُ: امْتِلَاكُ بَلَدِ الْعَدُوِّ وَأَرْضِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِفَتْحِ بَابِ الْبَلَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [الْمَائِدَة: 23] ، وَيَكُونُ بِاقْتِحَامِ ثُغُورِ الْأَرْضِ وَمَحَارِسِهَا فَقَدْ كَانُوا يَنْزِلُونَ بِالْأَرَضِينَ الَّتِي لَهَا شِعَابٌ وَثُغُورٌ قَالَ لَبِيَدٌ: وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا وَقَدْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ خَيْبَرَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْفَتْحَ الْمَذْكُورَ فِيهَا فَتْحٌ آخَرُ وَهُوَ فَتْحُ مَكَّةَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْرِيفُ بِلَامِ الْعَهْدِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الْفَتْح: 1- 3] . فَإِضَافَةُ نَصْرُ إِلَى اللَّهِ تُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ هَذَا النَّصْرِ وَأَنَّهُ نَصْرٌ عَزِيزٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ اعْتَنَى اللَّهُ بِإِيجَادِ أَسْبَابِهِ وَلَمْ تَجْرِ عَلَى مُتَعَارَفِ تَوَلُّدِ الْحَوَادِثِ عَنْ أَمْثَالِهَا. وجاءَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: حَصَلَ وَتَحَقَّقَ مَجَازًا.

وَالتَّعْرِيفُ فِي «الْفَتْحِ» لِلْعَهْدِ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الْقَصَص: 85] وَقَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: 27] . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ. وَقَدِ اتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ إِلَّا رِوَايَةً عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ فَتْحُ الْمَدَائِن والقصور، يعنون الْحُصُونَ. وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ يُخَالِجُ نُفُوسَ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ فَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَرْجُونَهُ وَيَعْلَمُونَ مَا أَشَارَ بِهِ الْقُرْآنُ من الْوَعْد بِهِ وَأَهْلُ مَكَّةَ يَتَوَقَّعُونَهُ وَبَقِيَّةُ الْعَرَبِ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَكُونُ الْحَالُ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَلَوَّمُونَ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحَ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قومه فَهُوَ نبيء. وَتَكَرَّرَ أَنْ صَدَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِمَّنْ يُرِيدُ اتِّبَاعَ الْإِسْلَامِ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْظَارُهُ إِلَى مَا سَيَظْهَرُ مِنْ غَلَبِ الْإِسْلَامِ أَوْ غَلَبِ الشِّرْكِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: «لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ بَادَرَ كل قوم بِإِسْلَامِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتِ الْأَحْيَاءُ تَتَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةَ فَيَقُولُونَ دَعُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيءٌ» . وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ أَقْبَلَتِ الْعَرَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَمَّا إِذْ ظَفِرَ بِأَهْلِ الْحَرَمِ فَلَيْسَ لَنَا بِهِ يَدَانِ فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا. فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا. وَيُحْتَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ قَدْ مَضَى وَيَكُونَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَجْمُوعِ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَجِيءِ نَصْرٍ مِنَ اللَّهِ آخَرَ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ بِمَا فَتَحَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَدُخُولِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ فِي الْإِسْلَامِ سَنَةَ الْوُفُودِ. وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ» يَكُونُ تَعْلِيقُ جُمْلَةِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَاضِي مُرَادًا بِهِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُ حَصَلَ، أَيْ إِذَا

تَحَقَّقَ مَا وَعَدْنَاكَ بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَعُمُومِ الْإِسْلَامِ بِلَادَ الْعَرَبِ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَهُوَ مُرَادُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِذا بِمَعْنَى (قَدْ) ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ حَاصِلُ الْمَعْنَى، وَلَيْسَتْ إِذا مِمَّا يَأْتِي بِمَعْنَى (قَدْ) . وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً، أَيْ وَعَلِمْتَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَذَلِكَ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ آفَاقِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَوَاطِنِ قَبَائِلِهِمْ وَبِمَنْ يَحْضُرُ مِنْ وُفُودِهِمْ. فَيَكُونُ جُمْلَةُ يَدْخُلُونَ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ رَأَيْتَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةً بَصَرِيَّةً بِأَنْ رَأَى أَفْوَاجَ وُفُودِ الْعَرَبِ يَرِدُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَصَرِهِ مَا عَلِمَ مِنْهُ دُخُولَهُمْ كُلِّهِمْ فِي الْإِسْلَامِ بِمَنْ حَضَرَ مَعَهُ الْمَوْقِفَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَدْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ مُخْتَلَفِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ يَدْخُلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّاسِ. ودِينِ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: 19] وَقَوْلِهِ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم: 30] . وَالدُّخُولُ فِي الدِّينِ: مُسْتَعَارٌ لِلنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الدِّينِ النَّاشِئَةِ عَنْ تِلْكَ الشَّهَادَةِ. فَشُبِّهَ الدِّينُ بِبَيْتٍ أَوْ حَظِيرَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الدُّخُولُ، عَلَى تَشْبِيهِ التَّلَبُّسِ بِالدِّينِ بِتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى تَصْرِيحِيَّةٌ. والنَّاسَ: اسْمُ جَمْعٍ يَدُلُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [8] . وَإِذَا عُرِّفَ اسْمُ نَاسٍ بِاللَّامِ احْتَمَلَتِ الْعَهْدَ نَحْوَ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمرَان: 173] ، وَاحْتَمَلَتِ الْجِنْسَ نَحْوَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: 173] وَاحْتَمَلَتْ الِاسْتِغْرَاقَ نَحْوَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [الْبَقَرَة: 8] وَنَحْوَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: 1] . وَالتَّعْرِيفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ جَمِيعَ النَّاسِ الَّذِينَ يَخْطُرُونَ بِالْبَالِ لِعَدَمِ إِرَادَة معهودين معينني وَلِاسْتِحَالَةِ دُخُولِ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي دِينِ اللَّهِ بِدَلِيلِ

الْمُشَاهَدَةِ، فَالْمَعْنَى: وَرَأَيْتَ نَاسًا كَثِيرِينَ أَوْ وَرَأَيْت الْعَرَبَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ «الِاسْتِيعَابِ» فِي بَابِ خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْعَرَبِ رَجُلٌ كَافِرٌ بَلْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، مِنْهُمْ مَنْ قَدِمَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدِمَ وَافِدُهُ» اهـ. وَإِنَّمَا يُرَادُ عَرَبُ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ وَالْيَمَنِ لِأَنَّ مِنْ عَرَبِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمْ: تَغْلَبُ وَغَسَّانُ فِي مشارف الشَّام وَالشَّام، وَكَذَلِكَ لَخْمٍ وَكَلْبٍ مِنَ الْعِرَاقِ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا نَصَارَى وَلَمْ يُسْلِمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ فَتْحِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ رُؤْيَةً بَصَرِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ إِنْ جَعَلْنَا الرُّؤْيَةَ عِلْمِيَّةً. وَالْأَفْوَاجُ: جَمْعُ فَوْجٍ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ فِي سُورَةِ ص [59] ، أَيْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَام قبائل، وَانْتَصَبَ أَفْواجاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُونَ وَجُمْلَةُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ جَوَابُ إِذا بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَفِعْلُ فَسَبِّحْ هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذا النَّصْبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ لِأَنَّهُ فِعْلُ إِنْشَاءٍ. وَقَرَنَ التَّسْبِيحَ بِالْحَمْدِ بِبَاءِ الْمُصَاحَبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ لَاحِقٌ لِلْحَمْدِ لِأَنَّ بَاءَ الْمُصَاحَبَةِ بِمَعْنَى (مَعَ) فَهِيَ مِثْلَ (مَعَ) فِي أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَتْبُوعِ فَكَانَ حَمْدُ اللَّهِ عَلَى حُصُولِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ شَيْئًا مَفْرُوغًا مِنْهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَمْرِ بِإِيقَاعِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِتَسْبِيحٍ خَاصٍّ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ فِي تَسْبِيحَاتِهِ وَبِاسْتِغْفَارٍ خَاصٍّ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ فِي اسْتِغْفَارِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ الْمَأْمُورُ بِهِ تَسْبِيحَ ابْتِهَاجٍ وَتَعَجُّبٍ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهَ وَنَحْوَهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:

قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَفِي تَقْدِيمِ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَمْهِيدٌ لِإِجَابَةِ اسْتِغْفَارِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِ الثَّنَاءِ قَبْلَ سُؤَالِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَخْلُو عَنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ فَأُرِيدَ تَسْبِيحٌ يُقَارِنُ الْحَمْدَ عَلَى مَا أُعْطِيَهُ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولِ الْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَعَطْفُ الْأَمْرِ بِاسْتِغْفَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ مَعَ الْحَمْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ حَيِّزِ جَوَابِ إِذا، وَأَنَّهُ اسْتِغْفَارٌ يَحْصُلُ مَعَ الْحَمْدِ مِثْلَ مَا قُرِّرَ فِي فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتِغْفَارٌ خَاصٌّ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ الَّذِي يَعُمُّ طَلَبَ غُفْرَانِ التَّقْصِيرِ وَنَحْوَهُ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ» فَكَانَ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ وَبِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى حُصُولِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ إِيمَاءً إِلَى تَسْبِيحٍ وَاسْتِغْفَارٍ يَحْصُلُ بِهِمَا تَقَرُّبٌ لَمْ يُنْوَ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ التَّهَيُّؤُ لِلِقَاءِ اللَّهِ، وَأَنَّ حَيَاته الدُّنْيَوِيَّة أَو شكت عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَانْتِهَاءُ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي تَزِيدُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ التَّجَاوُزَ عَمَّا يَعْرِضُ لَهُ مِنِ اشْتِغَالٍ بِبَعْضِ الْحُظُوظِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْحَيَاةِ أَوْ مِنِ اشْتِغَالٍ بِمُهِمٍّ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ يَفُوتُهُ بِسَبَبِهِ أَمْرٌ آخَرُ هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ، مِثْلَ فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ مَعَ فَوَاتِ مَصْلَحَةِ اسْتِئْصَالِهِمْ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلْأُمَّةِ فَعُوتِبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الْأَنْفَال: 67] الْآيَةَ، أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِنْسَانِ كَالنَّوْمِ وَالطَّعَامِ الَّتِي تُنْقِصُ مِنْ حَالَةِ شَبَهِهِ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَكَانَ هَذَا إِيذَانًا بِاقْتِرَابِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْتِقَالِهِ مِنْ حَيَاةٍ تَحْمِلُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ فِي الْعُلْوِيَّاتِ الْمَلَكِيَّةِ. وَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ وَهِيَ لَا تُنَافِي إِرَادَةَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ بِأَنْ يُحْمَلَ الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ عَلَى مَعْنَى الْإِكْثَارِ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ ذَوْقُ الْكَلَامِ بَعْضَ ذَوي الأفهام النافدة مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنى وغاصب عَلَيْهِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْعَبَّاسِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَعَنْ مُقَاتِلٍ: «لَمَّا نَزَلَتْ قَرَأَهَا

النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَبَكَى الْعَبَّاسُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟ قَالَ: نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «نَزَلَتْ فِي مِنًى فَبَكَى عُمَرُ وَالْعَبَّاسُ فَقِيلَ لَهُمَا، فَقَالَا: فِيهِ نُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْتُمَا نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي» . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ عُمَرُ يَأْذَنُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. قَالَ: فَأَذِنَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ وَيَتُوبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا تَقُوُلُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ حُضُورَ أَجَلِهِ فَقَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فَذَلِكَ عَلَامَةُ مَوْتِكَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ» فَهَذَا فَهْمُ عُمَرَ وَالْعَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَعَلِمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَآبَائِنَا وَأَوْلَادِنَا» اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ» : الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَّا صَدْرَهُ دُونَ أَوَّلِهِ مِنْ كَوْنِهِ كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُكَاءُ أَبِي بَكْرٍ تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أُولَاهُمَا عِنْدَ نُزُولِ سُورَةِ النَّصْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ «الْكَشَّافِ» وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ خُطْبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ «تُسَمَّى سُورَةَ التَّوْدِيعِ» أَيْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهَا إِيذَانٌ بِقرب وَفَاة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقْدِيمُ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ رَاجِعٌ إِلَى وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّنَزُّهِ عَنِ النَّقْصِ وَهُوَ يَجْمَعُ صِفَاتِ السَّلْبِ، فَالتَّسْبِيحُ مُتَمَحِّضٌ لِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْحَمْدَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ لِإِنْعَامِهِ، وَهُوَ أَدَاءُ الْعَبْدِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ إِنْعَامِهِ عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ جَانِبِ اللَّهِ وَحَظِّ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ حَظٌّ لِلْعَبْدِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ طَلَبُهُ اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا يُؤَاخِذُهُ عَلَيْهِ.

وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: فَسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، لِتَقَدُّمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَعدل عَن الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ رَبِّكَ لِمَا فِي صِفَةِ (رَبِّ) وَإِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْخَيْرُ الْجَلِيلُ بِوَاسِطَتِهِ فَذَلِكَ تَكْرِيمٌ لَهُ وَعِنَايَةٌ بِهِ وَهُوَ شَأْنُ تَلَطُّفِ الرَّبِّ بِالْمَرْبُوبِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ السِّيَادَةُ الْمَرْفُوقَةُ بِالرِّفْقِ وَالْإِبْلَاغِ إِلَى الْكَمَالِ. وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْهُ وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي قِرَاءَتِهِ يَقِفُ عِنْدَ وَاسْتَغْفِرْهُ ثُمَّ يُكْمِلُ السُّورَةَ» . إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ كُلِّهِ وَتَعْلِيلٌ لِمَا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِ بِاعْتِبَارِ الصَّرِيحِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ كَمَا سَيَتَبَيَّنُ لَكَ. وَتَوَّابٌ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنْ تَابَ عَلَيْهِ. وَفِعْلُ تَابَ الْمُتَعَدِّي بِحَرْفِ (عَلَى) يُطْلَقُ بِمَعْنَى: وُفِّقَ لِلتَّوْبَةِ، أَثْبَتَهُ فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ خَاصٌّ بِمَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَرْبَعِ مُؤَكِّدَاتٍ هِيَ: إِنَّ، وَكَانَ، وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَّابِ، وَتَنْوِينُ التَّعْظِيمِ فِيهِ. وَحَيْثُ كَانَ توكيد بِ (إِنَّ) هُنَا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ رَدُّ إِنْكَارٍ وَلَا إِزَالَةُ تَرَدُّدٍ إِذْ لَا يُفْرَضَانِ فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ تَمَحَّضَ (إِنَّ) لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِتَأْكِيدِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ تُغْنِيَ غَنَاءَ فَاءِ التَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَرَبْطَ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا تُفِيدُهُ الْفَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [32] ، فَالْمَعْنَى: هُوَ شَدِيدُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ كَثِيرٌ قَبُولُهُ إِيَّاهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ تَذْيِيلًا وَتَعْلِيلًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ تَعَيَّنَ أَنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ تَوَّاباً يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: عَلَى التَّائِبِينَ. وَهَذَا الْمُقَدَّرُ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ، وَهُوَ عُمُومٌ

مَخْصُوصٌ بِالْمَشِيئَةِ تُخَصِّصُهُ أَدِلَّةُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَمَّا ذُكِرَ دَلِيلُ الْعُمُومِ عَقِبَ أَمْرِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ أَفَادَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لَهُ دَلَالَةً تَقْتَضِيهَا مُسْتَتْبِعَاتُ التَّرَاكِيبِ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الاسْتِغْفَار طلب لغفر، فَالطَّالِبُ يَتَرَقَّبُ إِجَابَةَ طَلَبِهِ، وَأَمَّا مَا فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيلٍ لِأَنَّهُمَا إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ وَثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ. وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ إِشَارَةً إِلَى وَعْدٍ بِحُسْنِ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَمَا يَقْدُمُ عَلَى الْعَالَمِ الْقُدْسِيِّ، وَهَذَا مَعْنًى كِنَائِيٌّ لِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ شَأْنُهُ أَنْ يُكْرِمَ وِفَادَةَ الْوَافِدِينَ الَّذِينَ سَعَوْا جُهُودَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ بِمُنْتَهَى الِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ مُنْتَهَى مَا يَخَافُهُ الْأَحِبَّةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ مَرَارَةُ الْعِتَابِ، فَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ اقْتَضَى أَنَّهُ لَا يَخَافُ عِتَابًا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَدْلُولِهَا الصَّرِيحِ وَمَدْلُولِهَا الْكِنَائِيِّ أَوِ الْمَجَازِيِّ وَمُسْتَتْبِعَاتُهَا تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ مَعْنًى صَرِيحٍ أَوْ كِنَائِيٍّ يُنَاسِبُهُ التَّعْلِيلُ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ بِاعْتِبَارِهِمَا تَمْهِيدًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّعْلِيلِ، أَوْ يُغْنِي تَعْلِيلُ الْمُمَهَّدِ لَهُ بِهِمَا عَنْ تَعْلِيلِهِمَا وَلَكِنَّهُمَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمَا رَمْزًا إِلَى مُدَانَاةِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً مِنَ الْوَعْدِ بِحُسْنِ الْقَبُولِ تَعْلِيلًا لِمَدْلُولِهِمَا الْكِنَائِيِّ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ فَمُنَاسَبَةُ التَّعْلِيلِ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً نَاهِضَةٌ بِاعْتِبَارِ كِلْتَا دَلَالَتَيْهِ الصَّرِيحَةِ وَالْكِنَائِيَّةِ، أَيْ أَنَّهُ مُتَقَبِّلٌ اسْتِغْفَارَكَ وَمُتَقَبِّلُكَ بِأَحْسَنِ قَبُولٍ، شَأْنَ مَنْ عَهِدَ مِنَ الصَّفْحِ وَالتَّكَرُّمِ. وَفِعْلُ كانَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَى الِاتِّصَافِ بِالْوَصْفِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي. وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا يَتَخَلَّفُ مَعْمُولُهُ عَنْ عِبَادِهِ فَقَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى إِخْبَارِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ قَالَ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: 37] . وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، كَمَا فِي آيَةِ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نوح: 10] فَيَجْرِي الْوَصْفُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَاسْتَغْفِرْهُ، فَعُدِلَ عَنْ ذَلِكَ تَلَطُّفًا مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا إِثْبَاتَ ذَنْبٍ لَهُ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ أَن وصف (تواب) جَاءَ مِنْ تَابَ عَلَيْهِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى وَفَّقَهُ

لِلتَّوْبَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ إِرْشَادٌ إِلَى مَقَامِ التَّأَدُّبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ بِعِبَادِهِ، لَوْلَا تَفَضُّلُهُ بِمَا بَيَّنَ لَهُمْ مِنْ مُرَادِهِ، وَلِأَن وصف (توّاب) أَشد ملاءمة لِإِقَامَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ فَاصِلَةِ أَفْواجاً لِأَنَّ حَرْفَ الْجِيمِ وَحَرْفَ الْبَاءِ كِلَيْهِمَا حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَوْصُوفَةِ بِالشِّدَّةِ، بِخِلَافِ حَرْفِ الرَّاءِ فَهُوَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي صِفَتُهَا بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخْوَةِ. وَرُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَّا يَقُولُ: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» أَيْ يَتَأَوَّلُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا تَأَوَّلَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ عَلَى مَعْنَى اقْتِرَابِ أَجَلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

111- سورة المسد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 111- سُورَةُ الْمَسَدِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ تَبَّتْ» وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَفِي أَكْثَرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، تَسْمِيَةً لَهَا بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ فِيهَا. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَبَعض التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْمَسَدِ» . وَاقْتَصَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَلَى هَذَيْنِ. وَسَمَّاهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ «سُورَةَ أَبِي لَهَبٍ» عَلَى تَقْدِيرِ: سُورَةِ ذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ. وَعَنْوَنَهَا أَبُو حَيَّانَ فِي «تَفْسِيرِهِ» «سُورَةَ اللَّهَبِ» وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَعَنْوَنَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» «سُورَةَ مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ» وَهُوَ عُنْوَانٌ وَلَيْسَ بِاسْمٍ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَعُدَّتِ السَّادِسَةَ مِنَ السُّوَرِ نُزُولًا، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّكْوِيرِ. وَعَدَدُ آيِهَا خَمْسٌ. رُوِيَ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا عَلَى مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الصَّفَا فَنَادَى: «يَا صَبَاحَاهُ» (كَلِمَةٌ يُنَادَى بِهَا لِلْإِنْذَارِ مِنْ عَدُوٍّ يُصَبِّحُ الْقَوْمَ) فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُمَسِّيكُمْ أَوْ مُصَبِّحُكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدا

أغراضها

أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] . وَوَقَعَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وقومك مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا» إِلَى آخِرَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَةَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [214] ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ تَبَّتْ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ آيَةً تُشْبِهُ آيَةَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ لِمَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ يَبْلُغُ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَقَوْمَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (وَلَمْ يَقُلْ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ) خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا» فَتَعَيَّنَ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ تُشْبِهُ صَدْرَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ أبي لَهب. أغراضها زَجْرُ أَبِي لَهَبٍ عَلَى قَوْلِهِ: «تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ وَوَعِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَعِيدُ امْرَأَتِهِ عَلَى انْتِصَارِهَا لِزَوْجِهَا، وبغضها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [1] [سُورَة المسد (111) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) افْتِتَاح السُّورَة بالتباب مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِتَوْبِيخٍ وَوَعِيدٍ، فَذَلِكَ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مِثْلَ مَا تُفْتَتَحُ أَشْعَارُ الْهِجَاءِ بِمَا يُؤْذِنُ بِالذَّمِّ وَالشَّتْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] إِذِ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى وَعِيدِ الْمُطَفِّفِينَ لِلَفْظِ الْوَيْلِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَول عبد الرحمان بْنِ الْحَكَمِ مِنْ شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» : لَحَا اللَّهُ قَيْسًا قَيْسَ عَيْلَانِ إِنَّهَا ... أَضَاعَتْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ وَوَلَّتِ وَقَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ فِي طَالِعَةِ هِجَاءٍ: النَّارُ وَالْعَارُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْعَطَبُ وَمِنْهُ أَخَذَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْخَازِنِ قَوْلَهُ فِي طَالِعِ قَصِيدَةِ هَنَاءٍ بِمَوْلِدٍ: مجشري فَقَدْ أَنْجَزَ الْإِقْبَالُ مَا وَعَدَ

وَالتَّبُّ: الْخُسْرَانُ وَالْهَلَاكُ، وَالْكَلَامُ دُعَاءٌ وَتَقْرِيعٌ لِأَبِي لَهَبٍ دَافَعَ اللَّهُ بِهِ عَن نبيئه بِمثل اللَّفْظِ الَّذِي شَتَمَ بِهِ أَبُو لَهَبٍ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَاءً وِفَاقًا. وَإِسْنَادُ التَّبِّ إِلَى الْيَدَيْنِ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيءِ: «تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا» أَخَذَ بِيَدِهِ حَجَرًا لِيَرْمِيَهُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ إِذَا أَنَا بَرْجَلٍ حَدِيثِ السِّنِّ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا، وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يَرْمِيهِ قَدْ أَدْمَى سَاقَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ وَيَقُول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تُصَدِّقُوهُ» . فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيءٌ، وَهَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، فَوَقَعَ الدُّعَاءُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُقَالُ لِلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَكْرُوهٍ: «بِفِيكَ الْحِجَارَةُ أَوْ بِفِيكَ الْكَثْكَثُ» . وَقَول النَّابِغَة: قعُود الَّذِي أبياتهم يثمدونهم ... رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ وَيُقَالُ بِضِدِّ ذَلِكَ لِلَّذِي يَقُولُ كلَاما حسنا: لافضّ فُوكَ، وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبِّى فَلَبِّي يَدَيْ مِسْوَرِ لِأَنَّهُ دَعَاهُ لِمَا نَابَهُ مِنَ الْعَدُوِّ لِلنَّصْرِ، وَالنَّصْرُ يَكُونُ بِعَمَلِ الْيَدِ بِالضَّرْبِ أَوِ الطَّعْنِ. وَأَبُو لَهَبٍ: هُوَ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ عَمُّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عُتْبَةَ تَكْنِيَةً بِاسْمِ ابْنِهِ، وَأَمَّا كُنْيَتُهُ بِأَبِي لَهَبٍ فِي الْآيَةِ فَقِيلَ: كَانَ يُكَنَّى بِذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ) وَأَنَّهُ اشْتُهِرَ بِتِلْكَ الْكُنْيَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ، وَمِثْلُهُ حَدِيثٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدَّيْلِيِّ فِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» ، فَسَمَّاهُ الْقُرْآنُ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ لِأَنَّ فِي اسْمِهِ عِبَادَةَ الْعُزَّى، وَذَلِكَ لَا يُقِرُّهُ الْقُرْآنُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرَ مِنْهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ، أَوْ لِأَنَّ فِي كُنْيَتِهِ مَا يَتَأَتَّى بِهِ التَّوْجِيهُ بِكَوْنِهِ صَائِرًا إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا، لِأَنَّ اللَّهَبَ أَلْسِنَةُ النَّارِ إِذَا اشْتَعَلَتْ وَزَالَ عَنْهَا الدُّخَانُ. وَالْأَبُ: يُطْلَقُ عَلَى مُلَازِمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: «أَبُوهَا وَكَيَّالُهَا» وَكَمَا كُنِّيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَبَا الضِّيفَانِ وَكَنَّى النَّبِيءُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ

الرَّحْمَنِ بْنَ صَخْرٍ الدُّوسِيَّ: أَبَا هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ حَمَلَ هِرَّةً فِي كُمِّ قَمِيصِهِ، وَكُنِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ: أَبَا الْبَرَكَاتِ، وَكُنِّيَ الذِّئْبُ: أَبَا جَعْدَةَ وَالْجَعْدَةُ سَخْلَةُ الْمَعِزِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ طَلَبَهَا لِافْتِرَاسِهَا، فَكَانَتْ كُنْيَةُ أَبِي لَهَبٍ صَالِحَةً مُوَافِقَةً لِحَالِهِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ لَهَبَ جَهَنَّمَ فَصَارَ هَذَا التَّوْجِيهُ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا لِيَنْتَقِلَ مِنْ جَعْلِ أَبِي لَهَبٍ بِمَعْنَى مُلَازِمِ اللَّهَبِ إِلَى لَازِمِ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ فِي الْعرف، وَهُوَ أَنه مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ وَهُوَ لُزُومٌ ادِّعَائِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفَاؤُلِ بِالْأَسْمَاءِ وَنَحْوِهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التفتازانيّ فِي مَبْحَثِ الْعَلَمِيَّةِ مِنْ «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: قَصَدْتُ أَبَا الْمَحَاسِنِ كَيْ أَرَاهُ ... لِشَوْقٍ كَانَ يَجْذِبُنِي إِلِيهِ فَلَمَّا أَنْ رَأَيْتُ رَأَيْتُ فَرْدًا ... وَلَمْ أَرَ مِنْ بَنِيهِ ابْنًا لَدَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ أَبُو لَهَبٍ كُنْيَتُهُ الْحَطَبُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ ابْنَةَ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِي وَيَقُولُونَ إِنِّي ابْنَةُ حَطَبِ النَّارِ» الْحَدِيثَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَفَظَ لَهَبٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَهُوَ لُغَةٌ لِأَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُسَكِّنُونَ عَيْنَ الْكَلِمَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ مَعَ الْفَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهَبٍ صَارَ جُزْءَ عَلَمٍ وَالْعَرَبُ قَدْ يُغَيِّرُونَ بَعْضَ حَرَكَاتِ الِاسْمِ إِذَا نَقَلُوهُ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ كَمَا قَالُوا: شُمْسٌ بِضَمِّ الشِّينِ، لشمس بْنِ مَالِكٍ الشَّاعِرِ الَّذِي ذَكَرَهُ تَأَبَّطَ شَرًّا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ» : «يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمُّ الشِّينِ عَلَى وَجْهِ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ نَحْوَ مَعْدِ يَكْرِبَ. وَتَهْلُكَ وَمَوْهَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا غيّر عَن حَالِ نَظَائِرِهِ لِأَجْلِ الْعَلَمِيَّةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ اهـ. وَكَمَا قَالُوا: أَبُو سُلْمَى بِضَمِّ السِّينِ كُنْيَةُ وَالِدِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى لِأَنَّهُمْ نَقَلُوا اسْمَ سَلْمَى بِفَتْحِ السِّينِ مِنْ أَسْمَاءِ النِّسَاءِ إِلَى جَعْلِهِ اسْمَ رَجُلٍ يُكَنَّى بِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَنُّونَ بِأَسْمَاءِ النِّسَاءِ غَالِبًا.

[سورة المسد (111) : آية 2]

وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَكِّنِ ابْنُ كَثِيرٍ الْهَاءَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذاتَ لَهَبٍ وَقِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَعَلَّ أَهْلَ مَكَّةَ اشْتُهِرَتْ بَيْنَهُمْ كُنْيَةُ أَبِي لَهْبٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ تَحْقِيقًا لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي زَمَانِهِ. وَجُمْلَةُ: وَتَبَّ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ عَطْفَ الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ إِذَا كَانَ إِسْنَادُ التَّبَاتِ إِلَى الْيَدَيْنِ لِأَنَّهُمَا آلَةُ الْأَذَى بِالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فِي خَبَرِ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ، فَأُعِيدَ الدُّعَاءُ عَلَى جَمِيعِهِ إِغْلَاظًا لَهُ فِي الشتم والتقريع، وَتُفِيدُ بِذَلِكَ تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا اختلفتا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ هُوَ مُقْتَضِي عَطْفِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ التَّوْكِيدُ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ لَا يُعْطَفُ بِالْوَاوِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَافِرُونَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَلَا تَكُونُ دُعَاءً إِنَّمَا هِيَ تَحْقِيقٌ لِحُصُولِ مَا دُعِيَ عَلَيْهِ بِهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَبْلَهُ مُسْتَعْمَلًا فِي الذَّمِّ وَالشَّمَاتَةِ بِهِ أَوْ لِطَلَبِ الْإِزْدِيَادِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «وَقَدْ تَبَّ» فَيَتَمَحَّضُ الْكَلَامُ قَبْلَهُ لِمَعْنَى الذَّمِّ وَالتَّحْقِيرِ دُونَ مَعْنَى طَلَبِ حُصُولِ التَّبَاتِ لَهُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ الَّتِي اسْتُشْهِدَ فِيهَا: حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشِدَا يَعْنِي وَيَقُولُوا: وَقَدْ رَشِدَا، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ، لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ وَالْغِبْطَةِ بِمَا حَصَّلَهُ من الشَّهَادَة. [2] [سُورَة المسد (111) : آيَة 2] مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ إِنْشَاءِ الشَّتْمِ وَالتَّوْبِيخِ إِلَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ آيِسٌ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ هَذَا التَّبَاتِ، وَلَا يُغْنِيهِ مَالُهُ، وَلَا كَسْبُهُ، أَيْ لَا يُغْنِي عَنْهُ ذَلِكَ فِي دَفْعِ شَيْءٍ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ.

[سورة المسد (111) : آية 3]

وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ عَدَمِ الْإِغْنَاءِ. وَمَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ. وَالْمَالُ: الْمُمْتَلَكَاتُ المتمولة، وَغلب عِنْد الْعَرَبِ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْإِبِلِ، وَمِنْ كَلَامِ عُمَرَ: «لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» إِلَخْ فِي اتِّقَاءِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، مِنَ «الْمُوَطَّأِ» وَقَالَ زُهَيْرٌ: صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتِ بِمَخْرَمِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَالْبَحْرَيْنِ يَغْلِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى النَّخِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ فِي سُورَة النِّسَاء [29] وَفِي مَوَاضِعَ. وَما كَسَبَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ جَوَازًا لِأَنَّهُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَسَبَهُ، أَيْ مَا جَمَعَهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ: مَا يَمْلِكُهُ مِنْ غَيْرِ النَّعَمِ مِنْ نُقُودٍ وَسِلَاحٍ وَرَبْعٍ وَعُرُوضٍ وَطَعَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَالِهِ: جَمِيعُ مَالِهِ، وَيَكُونَ عَطْفُ وَما كَسَبَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، أَيْ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ التَّالِدُ وَهُوَ مَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَا كَسَبَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ طَرِيفُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَالَ: «إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا فَأَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَالِي وَوَلَدِي» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَسَبَ هُوَ وَلَدُهُ فَإِنَّ الْوَلَدَ من كسب أَبِيه. [3] [سُورَة المسد (111) : آيَة 3] سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أَيْ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَنَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي حَيَاةِ أَبِي لَهَبٍ. وَقَدْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يُسْلِمُ وَكَانَتْ من دَلَائِل النبوءة. وَالسِّينُ لِلتَّحْقِيقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: 98] . وَ «يَصْلَى نَارًا» يُشْوَى بِهَا وَيَحِسُّ بِإِحْرَاقِهَا. وَأَصَّلُ الْفِعْلِ: صَلَاهُ بِالنَّارِ، إِذَا

[سورة المسد (111) : الآيات 4 إلى 5]

شَوَاهُ، ثُمَّ جَاءَ مِنْهُ صَلِيَ كَأَفْعَالِ الْإِحْسَاسِ مِثْلَ فَرِحَ وَمَرِضَ. وَنُصِبَ نَارًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَوَصْفُ النَّارِ بِ ذاتَ لَهَبٍ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اسْمِهِ وَبَيْنَ كُفْرِهِ إِذْ هُوَ أَبُو لَهَبٍ وَالنَّارُ ذَاتُ لَهَبٍ. وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ بِذِكْرِ كُنْيَتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَفِي وَصْفِ النَّارِ بِذَلِكَ زِيَادَة كشف لحقيقة النَّارِ وَهُوَ مِثْلَ التَّأْكِيد. وَبَين لفضي لَهَبٍ الْأَوَّلِ ولَهَبٍ الثَّانِي الجناس التَّام. [4، 5] [سُورَة المسد (111) : الْآيَات 4 إِلَى 5] وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) أَعْقَبَ ذَمَّ أَبِي لَهَبٍ وَوَعِيدَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُشَارِكُهُ فِي أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعِينُهُ عَلَيْهِ. وَامْرَأَتُهُ: أَيْ زَوْجُهُ، قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [هود: 71] وَفِي قِصَّةِ لُوطٍ: إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [الْأَعْرَاف: 83] وَفِي قصَّة نسْوَة يُوسُف: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ [يُوسُف: 30] . وَامْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ هِيَ أُمُّ جَمِيلٍ، وَاسْمُهَا أَرْوَى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا الْعَوْرَاءُ، فَقِيلَ هُوَ وَصْفٌ وَأَنَّهَا كَانَتْ عَوْرَاءَ، وَقِيلَ: اسْمُهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهِمْ: أَنَّ اسْمَهَا الْعَوَّاءُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ. وَكَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ هَذِهِ تَحْمِلُ حَطَبَ الْعِضَاهِ وَالشَّوْكَ فَتَضَعُهُ فِي اللَّيْلِ فِي طَرِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَسْلُكُ مِنْهُ إِلَى بَيْتِهِ لِيَعْقِرَ قَدَمَيْهِ. فَلَمَّا حَصَلَ لِأَبِي لَهَبٍ وَعِيدٌ مُقْتَبَسٌ مِنْ كُنْيَتِهِ جُعِلَ لِامْرَأَتِهِ وَعِيدٌ مُقْتَبَسٌ لَفْظُهُ مِنْ فِعْلِهَا وَهُوَ حَمْلُ الْحَطَبِ فِي الدُّنْيَا، فَأُنْذِرَتْ بِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْحَطَبَ فِي جَهَنَّمَ لِيُوقَدَ بِهِ عَلَى زَوْجِهَا، وَذَلِكَ خِزْيٌ لَهَا وَلِزَوْجِهَا إِذْ جَعَلَ شِدَّةَ عَذَابِهِ عَلَى يَدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِعَذَابِ أَعَزِّ النَّاسِ عَلَيْهَا.

فَقَوْلُهُ: وَامْرَأَتُهُ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي سَيَصْلى [المسد: 3] أَيْ وَتَصْلَى امْرَأَتُهُ نَارًا. وَقَوْلُهُ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ حَمَّالَةَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِامْرَأَتِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا صِفَتُهَا فِي جَهَنَّم أَنَّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا صِفَتُهَا الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا بِجَلْبِ حَطَبِ الْعِضَاهِ لِتَضَعَهُ فِي طَرِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ تَعْذِيبِهَا بِذَلِكَ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِنَصْبِ حَمَّالَةَ عَلَى الْحَالِ مِنَ امْرَأَتُهُ وَفِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ وَالْإِيمَاءِ مَا فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ. وَجُمْلَةُ: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ وَذَلِكَ إِخْبَارٌ بِمَا تُعَامَلُ بِهِ فِي الْآخِرَة، أَي جعل لَهَا حَبْلٌ فِي عُنُقِهَا تَحْمِلُ فِيهِ الْحَطَبَ فِي جَهَنَّمَ لِإِسْعَارِ النَّارِ عَلَى زَوْجِهَا جَزَاءً مُمَاثِلًا لِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا الَّذِي أَغْضَبَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهَا. وَالْجِيدُ: الْعُنُقُ، وَغَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى عُنُقِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى مَحَلِّ الْقِلَادَةِ مِنْهُ فَقَلَّ أَنْ يُذْكَرَ الْعُنُقُ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ فِي الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ إِلَّا إِذَا كَانَ عُنُقًا مَوْصُوفًا بِالْحُسْنِ وَقَدْ جَمَعَهُمَا امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ» : «وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُذْكَرَ الْعُنُقُ إِذَا ذُكِرَ الْحُلِيُّ أَوِ الْحُسْنُ فَإِنَّمَا حَسُنَ هُنَا ذِكْرُ الْجِيدِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ وَالنِّسَاءُ تَحُلِّي أَجْيَادَهُنَّ وَأُمُّ جَمِيلٍ لَا حُلِيَّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْحَبْلَ الْمَجْعُولَ فِي عُنُقِهَا فَلَمَّا أُقِيمَ لَهَا ذَلِكَ مَقَامَ الْحُلِيِّ ذُكِرَ الْجِيدُ مَعَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْأَعْشَى: يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قَتِيلَةُ عَنْ جِي ... دٍ أَسِيلٍ تَزِينُهُ الْأَطْوَاقُ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ عُنُقٍ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَأَحْسَنُ مِنْ عِقْدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا وَلَمْ يَقُلْ عُنُقُهَا وَلَوْ قَالَ لَكَانَ غَثًّا مِنَ الْكَلَامِ. اهـ.

قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ: الْحَجْلُ لِلرِّجْلِ وَالتَّاجُ الْمُنِيفُ لِمَا ... فَوْقَ الْحِجَاجِ وَعِقْدُ الدُّرِّ لِلْعُنُقِ فَإِنَّمَا حَسَّنَهُ مَا بَيْنَ الْعِقْدِ وَالْعُنُقِ مِنِ الْجِنَاسِ إِتْمَامًا لِلْمُجَانَسَةِ الَّتِي بَيْنَ الْحَجْلِ وَالرِّجْلِ، وَالتَّاجِ وَالْحِجَاجِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الشَّاعِرِ. وَالْحَبْلُ: مَا يُرْبَطُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يُرَادُ اتِّصَالُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَتُقَيَّدُ بِهِ الدَّابَّة والمسجون كَيْلا يَبْرَحَ مِنَ الْمَكَانِ، وَهُوَ ضَفِيرٌ مِنَ اللِّيفِ أَوْ مِنْ سُيُورِ جِلْدٍ فِي طُولٍ مُتَفَاوِتٍ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ مَا يُشَدُّ بِهِ أَوْ يُرْبَطُ فِي وَتْدٍ أَوْ حَلْقَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ بِحَيْثُ يُمْنَعُ الْمَرْبُوطُ بِهِ مِنْ مُغَادَرَةِ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيره على بُعْدٍ يُرَادُ، وَتُرْبَطُ بِهِ قلوع السفن وتشد بِهِ السُّفُنِ فِي الْأَرْضِ فِي الشَّوَاطِئِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، وَقَوْلِهِ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ كِلَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [103- 112] ، وَيُقَالُ: حَبَلَهُ إِذَا رَبَطَهُ. وَالْمَسَدُ: لِيفٌ مِنْ لِيفِ الْيَمَنِ شَدِيدٌ، وَالْحِبَالُ الَّتِي تُفْتَلُ مِنْهُ تَكُونُ قَوِيَّةً وَصُلْبَةً. وَقُدِّمَ الْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي جِيدِها لِلِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ الَّتِي عُوِّضَتْ فِيهَا بِحَبْلٍ فِي جِيدِهَا عَنِ الْعِقْدِ الَّذِي كَانَتْ تُحَلِّي بِهِ جِيدَهَا فِي الدُّنْيَا فتربط بِهِ إِذْ قد كَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ وَسَادَةِ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ، وَقَدْ مَاتَتْ أُمُّ جَمِيلٍ عَلَى الشِّرْكِ.

112- سورة الإخلاص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 112- سُورَةُ الْإِخْلَاصِ الْمَشْهُورُ فِي تَسْمِيَتِهَا فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا جَرَى مِنْ لَفْظِهِ وَفِي أَكْثَرِ مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ تَسْمِيَتَهَا بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ لِأَجْلِ تَأْنِيثِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: «تَعْدِلُ» فَإِنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِهَا بِمَعْنَى السُّورَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا فِيهِ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ الِاسْمُ الْوَارِدُ فِي السُّنَّةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ» ثُلُثُ الْقُرْآنِ فَذَكَرَ أَلْفَاظًا تُخَالِفُ مَا تُقْرَأُ بِهِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ . وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يُسَمِّهِ قَرَأَ كَذَلِكَ وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ وَادَّعَى أَنَّ مَا قَرَأَ بِهِ هُوَ الصَّوَابُ وَقَدْ ذَمَّهُ الْقُرْطُبِيُّ وَسَبَّهُ. وَسُمِّيَتْ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» : «سُورَةَ الْإِخْلَاصِ» وَاشْتُهِرَ هَذَا الِاسْمُ لِاخْتِصَارِهِ وَجَمْعِهِ مَعَانِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَعْلِيمَ النَّاسِ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ سَلَامَةَ الِاعْتِقَادِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ التُّونِسِيَّةِ «سُورَةَ التَّوْحِيدِ» لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْأَسَاسِ» لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهُوَ

أَسَاسُ الْإِسْلَامِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : رُوِيَ أُبَيٍّ وَأَنَسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَّتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ عَلَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (¬1) . يَعْنِي مَا خُلِقَتْ إِلَّا لِتَكَوُنَ دَلَائِلَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ. وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهَا وَسُورَةَ الْكَافِرُونَ تُسَمَّيَانِ الْمُقَشْقِشَتَيْنِ، أَيِ الْمُبْرِئَتَيْنِ مِنَ الشِّرْكِ وَمِنَ النِّفَاقِ. وَسَمَّاهَا الْبِقَاعِيُّ فِي «نَظْمِ الدُّرَرِ» «سُورَةَ الصَّمَدِ» ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَمَعَهَا الْفَخْرُ. وَقَدْ عَقَدَ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ» فَصْلًا لِأَسْمَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ فَذَكَرَ لَهَا عِشْرِينَ اسْمًا بِإِضَافَةِ عُنْوَانِ سُورَةُ إِلَى كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَسَانِيدَهَا فَعَلَيْكَ بِتَتَبُّعِهَا عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهَا وَهِيَ: التَّفْرِيدُ، وَالتَّجْرِيدُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سِوَى صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ) ، وَالتَّوْحِيدُ (كَذَلِكَ) ، وَالْإِخْلَاصُ (لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا) ، وَالنَّجَاةُ (لِأَنَّهَا تُنْجِي مِنَ الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا وَمِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ) ، وَالْوِلَايَةُ (لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَتَوَلَّوْنَ غَيْرَ اللَّهِ) وَالنِّسْبَةُ (لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، كَمَا سَيَأْتِي) ، وَالْمَعْرِفَةُ (لِأَنَّهَا أَحَاطَتْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا) وَالْجَمَالُ (لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ صِفَاتِ اللَّهِ وَهِيَ أَجْمَلُ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلُهَا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» ، وَالْمُقَشْقِشَةُ (يُقَالُ: قَشْقَشَ الدَّوَاءُ الْجَرَبَ إِذَا أَبْرَأَهُ لِأَنَّهَا تُقَشْقِشُ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ اسْمٌ لِسُورَةِ الْكَافِرُونَ أَيْضًا) ، وَالْمُعَوِّذَةُ ( لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَوَّذَهُ بِهَا وَبِالسُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا وَقَالَ لَهُ: «تَعَوَّذْ بِهَا» . وَالصَّمَدُ (لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خُصَّ بِهَا) ، وَالْأَسَاسُ (لِأَنَّهَا أَسَاسُ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامَيَّةِ) وَالْمَانِعَةُ (لِمَا رُوِيَ: أَنَّهَا تَمْنَعُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَلَفَحَاتِ النَّارِ) وَالْمَحْضَرُ (لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ لِاسْتِمَاعِهَا إِذَا قُرِئَتْ) . والمنفّرة (لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا) وَالْبَرَّاءَةُ (لِأَنَّهَا تُبْرِئُ مِنَ الشِّرْكِ) ، وَالْمُذَكِّرَةُ (لِأَنَّهَا تَذْكُرُ خَالِصَ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ مُودَعٌ فِي الْفِطْرَةِ) ، وَالنُّورُ (لِمَا رُوِيَ: أَنَّ نُورَ الْقُرْآنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، وَالْأَمَانُ (لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ مَا فِيهَا أَمِنَ مِنَ الْعَذَابِ) . ¬

(¬1) يُقَال أس الْبناء إِذا أَقَامَهُ وَفِي نُسْخَة أسست، وَهَذَا الحَدِيث ضَعِيف.

وَبِضَمِيمَةِ اسْمِهَا الْمَشْهُورِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَبْلُغُ أَسْمَاؤُهَا اثْنَيْنِ وَعشْرين. وَقَالَ الفيروزآبادىّ فِي «بَصَائِرِ التَّمْيِيزِ» : إِنَّهَا تُسَمَّى الشَّافِيَةَ فَتَبْلُغُ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ اسْمًا. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسَّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْقُرَظِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَنُسِبَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَرَوَى عُبَيْدٌ الْعَطَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ» فَنَزَلَتْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِلَى آخِرِهَا» فَتَكُونُ مَكِّيَّةً. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنَ رَبِيعَةَ (أَخَا لَبِيَدٍ) أَتَيَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَامِرٌ: إِلَامَ تَدْعُونَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ، قَالَ: صِفْهُ لَنَا أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَمْ مِنْ فِضَّةٍ، أَمْ مِنْ حَدِيدٍ، أَمْ مِنْ خَشَبٍ؟ (يَحْسَبُ لِجَهْلِهِ أَنَّ الْإِلَهَ صَنَمٌ كَأَصْنَامِهِمْ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حِجَارَةٍ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ، فَتَكُونُ مَدَنِيَّةً لِأَنَّهُمَا مَا أَتَيَاهُ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: «إِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ (مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ) قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ لَعَلَّنَا نُؤْمِنُ بِكَ، فَنَزَلَتْ» . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَإِنَّهَا جَمَعَتْ أَصْلَ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ، وَلَعَلَّ تَأْوِيلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ حِينَمَا سَأَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدُ، أَوْ حِينَمَا سَأَلَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ السُّورَةَ، فَظَنَّهَا الرَّاوِي مِنَ الْأَنْصَارِ نَزَلَتْ سَاعَتَئِذٍ أَوْ لَمْ يَضْبِطِ الرُّوَاةُ عَنْهُمْ عِبَارَتَهُمْ تَمَامَ الضَّبْطِ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِتَكَرُّرِ نُزُولِهَا ثُمَّ ظَهَرَ لِيَ تَرْجِيحُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» اهـ. وَعَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ عُدَّتِ السُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّاسِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّجْمِ.

أغراضها

وَآيَاتُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ أَرْبَعٌ، وَعِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ وَالشَّامِ خَمْسٌ بِاعْتِبَارِ لَمْ يَلِدْ آيَةً وَلَمْ يُولَدْ آيَة. أغراضها إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ غَيْرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثَاتِ. وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ. وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ إِلَهًا مِثْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِهَا كَثِيرَةٌ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَتَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَذْكُورٌ فِي شرح «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» . [1] [سُورَة الْإِخْلَاص (112) : آيَة 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِمَا بَعْدَ فِعْلِ الْقَوْلِ كَمَا عَلِمْتَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: 1] وَلِذَلِكَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَكَانَتْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ: قُلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: 85] فَكَانَ لِلْأَمْرِ بِفِعْلِ قُلْ فَائِدَتَانِ. وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ الَّذِينَ سَأَلُوا تَطَلَّعُوا إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَيْضًا عَائِدًا إِلَى الرَّبِّ فِي سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالُوا: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ عَدَّ ضَمِيرَ هُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْمًا مِنْ أَسمَاء الله تَعَالَى وَهِيَ طَرِيقَةٌ صُوفِيَّةٌ دَرَجَ عَلَيْهَا فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» نَقَلَهُ

ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَذَكَرَ الْفَخْرُ ذَلِكَ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَزْجِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ. وَحَاصِلُهُمَا قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى ثَلَاثَةِ مَقَامَاتٍ. الْأَوَّلُ: مَقَامُ السَّابِقَيْنِ الْمُقَرَّبِينَ النَّاظِرِينَ إِلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَلَا جَرَمَ مَا رَأَوْا مَوْجُودًا سِوَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَجِبُ وُجُودُهُ فَمَا سِوَى اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَعْدُومٌ، فَقَوْلُهُ: هُوَ إِشَارَةٌ مُطْلَقَةٌ. وَلَمَّا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا انْصَرَفَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ إِلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ قَوْلُهُ: هُوَ إِشَارَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى اللَّهِ فَلَمْ يَفْتَقِرُوا فِي تِلْكَ الْإِشَارَةِ إِلَى مُمَيِّزٍ فَكَانَتْ لَفْظَةُ هُوَ كَافِيَةً فِي حُصُولِ الْعِرْفَانِ التَّامِّ لِهَؤُلَاءِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: مَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدِينَ فَهُمْ شَاهَدُوا الْحَقَّ مَوْجُودًا وَشَاهَدُوا الْمُمْكَنَاتِ مَوْجُودَةً فَحَصَلَتْ كَثْرَةٌ فِي الْمَوْجُودَاتِ فَلَمْ تَكُنْ لَفْظَةُ هُوَ تَامَّةَ الْإِفَادَةِ فِي حَقِّهِمْ فَافْتَقَرُوا مَعَهَا إِلَى مُمَيِّزٍ فَقِيلَ لِأَجْلِهِمْ هُوَ اللَّهُ وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَهُمُ الَّذِينَ يجوزون تعدد الْإِلَه فَقُرِنَ لَفْظُ أَحَدٌ بِقَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ إِبْطَالًا لِمَقَالَتِهِمْ اهـ. فَاسْمُهُ تَعَالَى الْعَلَمُ ابْتُدِئَ بِهِ قَبْلَ إِجْرَاءِ الْأَخْبَارِ عَلَيْهِ لِيُكَوَنَ ذَلِكَ طَرِيقَ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِهِ كُلِّهَا عِنْدَ التَّخَاطُبِ بَيْنَ الْمُسلمين وَعند الْمُحَاجَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَمُسَمَّاهُ لَا نِزَاعَ فِي وُجُودِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَصِفُونَهُ بِصِفَاتٍ تَنَزَّهَ عَنْهَا. أَمَّا أَحَدٌ فَاسْمٌ بِمَعْنَى (وَاحِدٍ) . وَأَصْلُ هَمْزَتِهِ الْوَاوُ، فَيُقَالُ: وَحَدٌ كَمَا يُقَالُ: أَحَدٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ (بِخِلَافِ قَلْبِ وَاوِ وُجُوهٍ) وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدٌ، قَالَ النَّابِغَةُ: كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ أَيْ كَأَنِّي وَضَعْتُ الرِّجْلَ عَلَى ثَوْرِ وَحْشٍ أَحَسَّ بِإِنْسِيٍّ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ عَنْ قَطِيعِهِ. وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِثْلَ حَسَنٍ، يُقَالُ: وَحُدَ مِثْلَ كَرُمَ، وَوَحِدَ مِثْلَ فَرِحَ.

وَصِيغَةُ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ تُفِيدُ تَمَكُّنَ الْوَصْفِ فِي مَوْصُوفِهَا بِأَنَّهُ ذَاتِيٌّ لَهُ، فَلِذَلِكَ أُوثِرَ أَحَدٌ هُنَا عَلَى (وَاحِدٍ) لِأَن (وَاحِد) اسْمُ فَاعِلٍ لَا يُفِيدُ التَّمَكُّنَ. فَ (وَاحِدٌ) وأَحَدٌ وَصْفَانِ مَصُوغَانِ بِالتَّصْرِيفِ لِمَادَّةٍ مُتَّحِدَةٍ وَهِيَ مَادَّةُ الْوَحْدَةِ يَعْنِي التَّفَرُّدَ. هَذَا هُوَ أَصْلُ إِطْلَاقِهِ وَتَفَرَّعَتْ عَنْهُ إِطْلَاقَاتٌ صَارَتْ حَقَائِقَ لِلَفْظِ (أَحَدٍ) ، أَشْهَرُهَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْمًا بِمَعْنَى إِنْسَانٍ فِي خُصُوصِ النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فِي الْبَقَرَةِ [285] ، وَقَوْلِهِ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً فِي الْكَهْفِ [38] وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعَدَدِ فِي الْحِسَابِ نَحْوَ: أَحَدَ عَشَرَ، وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَمُؤَنَّثُهُ إِحْدَى، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ خَلَطَ بَيْنَ (وَاحِدٍ) وَبَيْنَ أَحَدٌ فَوَقَعَ فِي ارْتِبَاكٍ. فَوَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي لُوحِظَتْ فِي اسْمِهِ الْعَلَمِ وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَإِذَا قِيلَ: اللَّهُ أَحَدٌ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا قِيلَ: اللَّهُ وَاحِدٌ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا مُتَعَدِّدٌ فَمَنْ دُونَهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ. وَمَآلُ الْوَصْفَيْنِ إِلَى مَعْنَى نَفْيِ الشَّرِيكِ لَهُ تَعَالَى فِي إِلَهِيَّتِهِ. فَلَمَّا أُرِيدَ فِي صَدْرِ الْبَعْثَةِ إِثْبَاتُ الْوَحْدَةِ الْكَامِلَةِ لِلَّهِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَإِبْطَالًا لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ وُصِفَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِ أَحَدٌ وَلَمْ يُوصَفْ بِ (وَاحِدٍ) لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ بِهِ تَقْرِيبُ مَعْنَى وَحْدَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عُقُولِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ. وَقَالَ ابْنُ سِينَا فِي تَفْسِيرٍ لَهُ لِهَذِهِ السُّورَةِ: إِن أَحَدٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا كَثْرَةَ هُنَاكَ أَصْلًا لَا كَثْرَةً مَعْنَوِيَّةً وَهِيَ كَثْرَةُ الْمُقَوِّمَاتِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْفُصُولِ، وَلَا كَثْرَةً حِسِّيَّةً وَهِيَ كَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ الْخَارِجِيَّةِ الْمُتَمَايِزَةِ عَقْلًا كَمَا فِي الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَالْكَثْرَةُ الْحِسِّيَّةُ بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَمَا فِي الْجِسْمِ، وَذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ، وَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ، وَالْأَعْضَاءِ، وَالْأَشْكَالِ، وَالْأَلْوَانِ، وَسَائِرِ مَا يَثْلَمُ الْوَحْدَةَ الْكَامِلَةَ وَالْبَسَاطَةَ الْحَقَّةَ اللَّائِقَةَ بِكَرَمِ وَجْهِهِ عز وَجل عَن أَنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ أَوْ يُسَاوِيَهُ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ. وَتَبْيِينُهُ: أَمَّا الْوَاحِدُ فَمَقُولٌ عَلَى مَا تَحْتَهُ بِالتَّشْكِيكِ، وَالَّذِي لَا يَنْقَسِم بِوَجْه أصلا أولى بالوحدانيّة مِمَّا يَنْقَسِمُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالَّذِي لَا يَنْقَسِمُ

انْقِسَامًا عقليّا أولى بالوحدانية مِنَ الَّذِي يَنْقَسِمُ انْقِسَامًا بِالْحِسِّ بِالْقُوَّةِ ثمَّ بِالْفِعْلِ، ف أَحَدٌ جَامِعٌ للدلالة على الوحدانية مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا كَثْرَةَ فِي مَوْصُوفِهِ اهـ. قُلْتُ: قَدْ فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا فَقَدَ رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ إِذَا عُذِّبَ عَلَى الْإِسْلَامِ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبَاحِثِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَن أَحَدٌ لَيْسَ مُلْحَقًا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لله تِسْعَة وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَعَدَّهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا وَصْفَ أَحَدٍ، وَذَكَرَ وَصْفَ وَاحِدٍ وَعَلَى ذَلِكَ دَرَجَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ «الْإِرْشَادِ» وَكِتَابِ «اللُّمَعِ» وَالْغَزَّالِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» . وَقَالَ الْفِهْرَيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى لُمَعِ الْأَدِلَّةِ» لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى «الْوَاحِدِ» . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأَحَدُ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ فِي اسْم. ودرح ابْنُ بَرَّجَانَ الْإِشْبِيلِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ» (¬1) وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُومِيُّ (بِالْمِيمِ) التُّونِسِيُّ، وَلُطْفُ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيُّ فِي «مَعَارِجِ النُّورِ» ، عَلَى عَدِّ (أَحَدٍ) فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مَعَ اسْمِهِ الْوَاحِدِ فَقَالَا: الْوَاحِدُ الْأَحَدُ بِحَيْثُ هُوَ كَالتَّأْكِيدِ لَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ عَدُّهُمُ الْأَسْمَاءَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَقْتَضِ حَصْرَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْدُودَةِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَلِلتَّثْلِيثِ الَّذِي أَحْدَثَهُ النَّصَارَى الْمَلْكَانِيَّةُ وَلِلثَّانَوِيَّةِ عِنْد الْمَجُوس، وللعدد الَّذِي لَا يُحْصَى عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ. فَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَحَدٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاء: 171] . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُدْرِكهُ المخاطبون بِهَذِهِ الْآيَةِ السَّائِلُونَ عَنْ نِسْبَةِ اللَّهِ، أَيْ حَقِيقَتُهُ ¬

(¬1) هُوَ عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن شهر بِابْن برجان بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة اللَّخْمِيّ الإشبيلي الْمُتَوفَّى سنة 536 هـ، لَهُ «شرح على الْأَسْمَاء الْحسنى» وأبلغها إِلَى مائَة واثنين وَثَلَاثِينَ اسْما.

فَابْتُدِئَ لَهُمْ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ فِي شَيْءٍ. ثُمَّ إِنَّ الْأَحَدِيَّةَ تَقْتَضِي الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُعَطِّلَةِ وَالدَّهْرِيِّينَ. وَقَدِ اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الْأَحَدِيَّةِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَن المخصّص بالإيجاد لِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ لَكَانَ مَنْ يُوجِدُهُ إِلَهًا أَوَّلَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ كَانَ وُجُودُ اللَّهِ قَدِيمًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ وَلَا مُحْتَاجٍ إِلَى مُخَصِّصٍ بِالْوُجُودِ بَدَلًا عَنِ الْعَدَمِ، وَكَانَ مستعينا عَن الْإِمْدَادِ بِالْوُجُودِ فَكَانِ بَاقِيًا، وَكَانَ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ مِثْلَهَا إِلَى الْمُخَصِّصِ فَكَانَ وَصْفُهُ تَعَالَى: بِ أَحَدٌ جَامِعًا لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي مُرَادِفِهِ وَهُوَ وَصْفٌ وَاحِدٌ. وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ أَحَدِيَّةَ اللَّهِ أَحَدِيَّةٌ وَاجِبَةٌ كَامِلَةٌ، فَاللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَعَلَى كُلِّ التَّقَادِيرِ فَلَيْسَ لِكُنْهِ اللَّهِ كَثْرَةٌ أَصْلًا لَا كَثْرَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ تَعَدُّدُ الْمُقَوِّمَاتِ مِنَ الْأَجْنَاسِ وَالْفُصُولِ الَّتِي تَتَقَوَّمُ مِنْهَا الْمَوَاهِي، وَلَا كَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ فِي الْخَارِجِ الَّتِي تَتَقَوَّمُ مِنْهَا الْأَجْسَامُ. فَأَفَادَ وَصْفُ أَحَدٌ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ، وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَسَائِرِ مَا يُنَافِي الْوَحْدَةَ الْكَامِلَةَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ سِينَا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ قُلْ هُوَ اهـ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا رُوِىَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَرَأَ: اللَّهُ أَحَدٌ كَانَ بِعَدْلِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ ، كَمَا ذَكَرَهُ بِأَثَرِ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِدُونِ قُلْ كَمَا تَأَوَّلَهُ الطِّيبِيُّ إِذْ قَالَ: وَهَذَا اسْتِشْهَادٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَعِنْدِي إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التِّلَاوَةَ وَإِنَّمَا قَصَدَ الِامْتِثَالَ لِمَا أَمر بِأَن يَقُوله، وَهَذَا كَمَا كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمَ وَبِحَمْدِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 3] .

[سورة الإخلاص (112) : آية 2]

[سُورَة الْإِخْلَاص (112) : آيَة 2] اللَّهُ الصَّمَدُ (2) جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ محكية بالْقَوْل المحكية بِهِ جُمْلَةُ: اللَّهُ أَحَدٌ، فَهِيَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الضَّمِيرِ. وَالْخَبَرُ الْمُتَعَدِّدُ يَجُوزُ عَطْفُهُ وَفَصْلُهُ، وَإِنَّمَا فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَن هَذِه الْجُمْلَة مَسُوقَةٌ لِتَلْقِينِ السَّامِعِينَ فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِذَاتِهَا غَيْرَ مُلْحَقَةٍ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِالْعَطْفِ، عَلَى طَرِيقَةِ إِلْقَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: الْحَوْزُ شَرْطُ صِحَّةِ الْحَبْسِ، الْحَوْزُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ، وَنَحْوَ قَوْلِكَ: عَنْتَرَةُ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، عَنْتَرَةُ مِنْ أَبْطَالِ الْفُرْسَانِ. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَقَعَ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الصَّمَدُ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الصَّمَدُ. والصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَوْمِ الْمُطَاعُ فِيهِمْ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ: صَمَدَ إِلَيْهِ، إِذَا قَصَدَهُ، فَالصَّمَدُ الْمَصْمُودُ فِي الْحَوَائِجِ. قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ السَّنَدُ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ الْمُهِمَّةُ. وَالْفَلَقُ اسْمُ الصَّبَاحِ لِأَنَّهُ يَتَفَلَّقُ عَنْهُ اللَّيْلُ. والصَّمَدُ: مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الصَّمَدُ الْحَقُّ الْكَامِلُ الصَّمَدِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ. فَالصَّمَدُ مِنَ الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَمَعْنَاهُ: الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَالْمَعْدُومُ مُفْتَقِرٌ وُجُودُهُ إِلَيْهِ وَالْمَوْجُودُ مفتقر فِي شؤونه إِلَيْهِ. وَقَدْ كَثُرَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ فِي مَعْنَى الصَّمَدِ، وَكُلُّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ، وَقَدْ أَنْهَاهَا فَخْرُ الدِّينِ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا. وَيَشْمَلُ هَذَا الِاسْمُ صِفَاتِ اللَّهِ الْمَعْنَوِيَّةَ الْإِضَافِيَّةَ وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى حَيًّا، عَالِمًا، مُرِيدًا، قَادِرًا، مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، لِأَنَّهُ لَوِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مَصْمُودًا إِلَيْهِ.

[سورة الإخلاص (112) : آية 3]

وَصِيغَةُ اللَّهُ الصَّمَدُ صِيغَةُ قَصْرٍ بِسَبَبِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ فَتُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ الصَّمَدِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ مَا تَعَوَّدَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ دُعَائِهِمْ أَصْنَامَهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ وَالْفَزَعِ إِلَيْهَا فِي نَوَائِبِهِمْ حَتَّى نَسُوا اللَّهَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عني شَيْئا» . [3] [سُورَة الْإِخْلَاص (112) : آيَة 3] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) جُمْلَةُ: لَمْ يَلِدْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الصَّمَدُ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ اللَّهُ الصَّمَدُ، لِأَنَّ مَنْ يُصْمَدُ إِلَيْهِ لَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَلِدَ لِأَنَّ طَلَبَ الْوَلَدِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي إِقَامَة شؤون الْوَالِدِ وَتَدَارُكِ عَجْزِهِ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْغَنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [يُونُس: 68] فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِطَرِيقِ تَوَلُّدِ إِلَهٍ عَنْ إِلَهٍ، لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مُسَاوٍ لِمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ. وَالتَّعَدُّدُ بِالتَّوَلُّدِ مُسَاوٍ فِي الِاسْتِحَالَةِ لِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ بِالْأَصَالَةِ لِتَسَاوِي مَا يَلْزَمُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي كِلَيْهِمَا مِنْ فَسَادِ الْأَكْوَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: 22] (وَهُوَ بُرْهَانُ التَّمَانُعِ) وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنِ اللَّهِ مَوْجُودٌ آخَرُ لَلَزِمَ انْفِصَالُ جُزْءٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَحَدِيَّةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَبَطَلَ اعْتِقَادُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ لذَلِك، لِأَن البنوّة لِلْإِلَهِ تَقْتَضِي إِلَهِيَّةَ الِابْنِ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: 26] . وَجُمْلَةُ لَمْ يُولَدْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَمْ يَلِدْ، أَيْ وَلَمْ يَلِدْهُ غَيْرُهُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ سَدًّا لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَالِدٌ، فَأُرْدِفَ نَفْيُ الْوَلَدِ بِنَفْيِ الْوَالِدِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ إِذْ قَدْ نَسَبَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَنْسُبُوا

[سورة الإخلاص (112) : آية 4]

إِلَى اللَّهِ وَالِدًا. وَفِيهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مَوْلُودًا مِثْلَ عِيسَى لَا يَكُونُ إِلَهًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِلَهُ مَوْلُودًا لَكَانَ وُجُودُهُ مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى مَنْ يُخَصِّصُهُ بِالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ جُمْلَةِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَالِدًا لِمَوْلُودٍ، أَوْ مَوْلُودًا مِنْ وَالِدٍ بِالصَّرَاحَةِ. وَبَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ كُلِّ مَوْلُودٍ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَبَطَلَتِ الْعَقَائِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى تَوَلُّدِ الْإِلَهِ مِثْلَ عَقِيدَةِ (زَرَادِشْتَ) الثَّانَوِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ: إِلَهِ الْخَيْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَإِلَهِ الشَّرِّ وَهُوَ مُتَوَلَّدٌ عَنْ إِلَهِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (يَزْدَانَ) فَكَّرَ فِكْرَةَ سُوءٍ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ إِلَهُ الشَّرِّ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (أَهْرُمُنْ) ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَذْهَبِهِمْ أَبُو الْعَلَاءِ بِقَوْلِهِ: قَالَ أُنَاسٌ بَاطِلٌ زَعْمُهُمْ ... فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَلَا تَزْعُمُنْ فَكَّرَ (يَزْدَانُ) عَلَى غِرَّةٍ ... فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ (أَهْرُمُنْ) وَبَطَلَتْ عَقِيدَةُ النَّصَارَى بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّ ابْن الْإِلَه لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا بِأَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فَلَيْسَ عِيسَى بِابْن لله، وَبِأَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بَعْدَ عَدَمٍ. فَالْمَوْلُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَوْلُودٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِيسَى إِلَهًا. فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى إِلَهِيَّةَ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ بِالْأَصَالَةِ، وَأَبْطَلَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالْفَرْعِيَّةِ وَالتَّوَلُّدِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ. وَإِنَّمَا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَالِدًا وَأَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، لِأَنَّ عَقِيدَةَ التَّوَلُّدِ ادَّعَتْ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ مَضَى، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ سَيَتَّخِذُ وَلَدًا فِي الْمُسْتَقْبل. [4] [سُورَة الْإِخْلَاص (112) : آيَة 4] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) فِي معنى التذييل لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِهَا لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ صَرِيحَهَا وَكِنَايَتَهَا وَضِمْنِيَّهَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، مَعَ إِفَادَةِ هَذِهِ انْتِفَاءَِِ

شَبِيهٍ لَهُ فِيمَا عَدَاهَا مِثْلَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: 73] . وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَهِيَ وَاوُ الْحَالِ، كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] فَإِنَّهَا تذييل لِجُمْلَةِ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [سبأ: 17] ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْوَاوِ عَاطِفَةً إِنْ جُعِلَتِ الْوَاوُ الْأُولَى عَاطِفَةً فَيَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتَ وَصْفِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ وَتَكُونَ استفادة معنى التذييل تَبَعًا لِلْمَعْنَى، وَالنُّكَتِ لَا تَتَزَاحَمُ. وَالْكُفُؤُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ. وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، إِلَّا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَوَّلِينَ حَقَّقُوا الْهَمْزَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ سَهَّلَهَا وَيُقَالُ: «كُفْءٌ» بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَبِالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوب، وَيُقَال: كُفُواً بِالْوَاوِ عِوَضَ الْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَهِيَ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فَصِيحَةٌ. وَمَعْنَاهُ: الْمسَاوِي والممائل فِي الصِّفَاتِ. وأَحَدٌ هُنَا بِمَعْنَى إِنْسَانٍ أَوْ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْوُقُوعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ. وَحَصَلَ بِهَذَا جِنَاسٌ تَامٌّ مَعَ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَقْدِيمُ خَبَرِ (كَانَ) عَلَى اسْمِهَا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْكُفُؤِ عَقِبَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِيَكُونَ أَسْبَقَ إِلَى السَّمْعِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِقَوْلِهِ: لَهُ عَلَى متعلّقه وَهُوَ كُفُواً لِلِاهْتِمَامِ بِاسْتِحْقَاقِ اللَّهِ نَفْيَ كَفَاءَةِ أَحَدٍ لَهُ، فَكَانَ هَذَا الِاهْتِمَامُ مُرَجِّحًا تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ تَأْخِيرَ الْمُتَعَلِّقِ إِذَا كَانَ ظرفا لَغوا. وَتَأْخِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَحْسَنُ مَا لَمْ يَقْتَضِ التَّقْدِيمَ مُقْتَضٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ اسْتَوْفَاهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» .

وَاخْتَلَفَتِ التَّأْوِيلَاتُ الَّتِي تَأَوَّلَ بِهَا أَصْحَابُ مَعَاني الْآثَار لهَذَا الحَدِيث ويجمعها أَرْبَعَة تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ، أَيْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآن إِذا قرىء بِدُونِهَا حَتَّى لَوْ كَرَّرَهَا الْقَارِئُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ. الثَّانِي: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ إِذَا قَرَأَهَا مَنْ لَا يُحْسِنُ غَيرهَا من سُورَة الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي لِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَحْكَامٌ وَأَخْبَارٌ وَتَوْحِيدٌ، وَقَدِ انْفَرَدَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِجَمْعِهَا أُصُولَ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتٍ مِثْلِهَا مِثْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا تُوجَدُ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ. التَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي الثَّوَابِ مِثْلَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ تَكْرِيرُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» (¬1) : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُسَاوِي فِي الْأَجْرِ مَنْ أَحْيَا بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ اهـ. فَيَكُونُ هَذَا التَّأْوِيلُ قَيْدًا لِلتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ فِي حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ المُرَاد نظر، فَإِنَّ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَكْرِيرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَعْدِلُ قِرَاءَةَ خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَاخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ لَا يَرْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَنِ الْحَدِيثِ الْإِشْكَالِ وَلَا يَتَخَلَّصُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ السُّكُوتُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا. ¬

(¬1) فِي سَماع ابْن الْقَاسِم عَن مَالك من كتاب الصَّلَاة الثَّانِي.

113- سورة الفلق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 113- سُورَةُ الْفَلَقِ سَمَّى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِبٌ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةَ هُودٍ وَسُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ: لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ سُورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ لِأَنَّهُ كَانَ جَوَابا عَن قَوْلِ عُقْبَةَ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ إِلَخْ، وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الْفَلَقِ: 1] قَوْلَهُ: وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: 1] وَلَمْ يُتِمَّ سُورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» : سُورَةَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» بِإِضَافَةِ سُورَةِ إِلَى أَوَّلِ جُمْلَةٍ مِنْهَا. وَجَاءَ فِي كَلَام بَعْضِ الصَّحَابَةِ تَسْمِيَتُهَا مَعَ سُورَةِ النَّاسِ «الْمُعَوِّذَتَيْنِ» . رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ (بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ الْمُعَوِّذَاتِ، أَيْ آيَاتِ السُّورَتَيْنِ) وَفِي رِوَايَةٍ: «بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُمَا تُسَمَّى الْمُعَوِّذَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ سَمَّاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ سُورَةَ الْمُعَوِّذَةِ الْأُولَى، فَإِضَافَةُ «سُورَةٍ» إِلَى «الْمُعَوِّذَةِ» مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، وَوَصْفُ السُّورَةِ بِذَلِكَ مَجَازٌ يَجْعَلُهَا كَالَّذِي يَدُلُّ الْخَائِفَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَعْصِمُهُ مِنْ مُخِيفِهِ أَوْ كَالَّذِي يُدْخِلُهُ الْمَعَاذَ. وَسُمِّيَتْ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْفَلَقِ» . وَفِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمَّيَانِ «الْمُشَقْشِقَتَيْنِ» (بِتَقْدِيمِ الشِّينَيْنِ

عَلَى الْقَافَيْنِ) مِنْ قَوْلِهِمْ خَطِيبٌ مُشَقْشِقٌ اهـ. (أَيْ مُسْتَرْسِلُ الْقَوْلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْفَحْلِ الْكَرِيمِ مِنَ الْإِبِلِ يَهْدِرُ بِشِقْشَقَةٍ وَهِيَ كَاللَّحْمِ يَبْرُزُ مِنْ فِيهِ إِذَا غَضِبَ) وَلَمْ أُحَقِّقْ وَجْهَ وَصْفِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ بِذَلِكَ. وَفِي «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» و «الْكَشَّاف» أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمِّيَانِ «المقشقشتين» (بِتَقْدِيم القافين عَلَى الشِّينَيْنِ) زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ تُبَرِّئَانِ مِنَ النِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ، فَيَكُونُ اسْمُ الْمُقَشْقِشَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَرْبَعِ سُوَرٍ هَذِهِ، وَسُورَةِ النَّاسِ، وَسُورَةِ بَرَاءَةَ، وَسُورَةِ الْكَافِرُونَ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَمَكِّيَّةٌ هِيَ أَمْ مَدَنِيَّةٌ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: مَكِّيَّةٌ، وَرَوَاهُ كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَقْبُولَةٌ بِخِلَافِ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهَا مُتَكَلَّمٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي «الصِّحَاحِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَبَنَى صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَيْهِ تَرْجِيحَ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى قِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: 4] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا وَالسُّورَةِ بَعْدَهَا: أَنَّ قُرَيْشًا نَدَبُوا، أَيْ نَدَبُوا مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يُصِيبُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ لِيَتَعَوَّذَ مِنْهُمْ بِهِمَا، ذَكَرَهُ الْفَخْرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَلَمْ يُسْنِدْهُ. وَعُدَّتِ الْعِشْرِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفِيلِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّاسِ. وَعَدَدُ آيَاتِهَا خَمْسٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاشْتُهِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ «الْمُعَوِّذَتَانِ» مِنَ الْقُرْآنِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا ، أَيْ وَلَمْ يُؤْمَرْ

أغراضها

بِأَنَّهُمَا مِنْ الْقُرْآن. وَقد جمع أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَكُتِبَتَا فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي صلَاته. أغراضها وَالْغَرَضُ مِنْهَا تَعْلِيمُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ لِلتَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا يُتَّقَى شَرُّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الشِّرِّيرَةِ، وَالْأَوْقَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا حُدُوثُ الشَّرِّ، وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يستر أَفعَال الشَّرِّ مِنْ وَرَائِهَا لِئَلَّا يُرْمَى فَاعِلُوهَا بِتَبِعَاتِهَا، فَعَلَّمَ اللَّهُ نَبِيئَهُ هَذِهِ الْمُعَوِّذَةَ لِيَتَعَوَّذَ بِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَأُخْتِهَا وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالتَّعَوُّذِ بِهِمَا، فَكَانَ التَّعَوُّذُ بِهِمَا مِنْ سنة الْمُسلمين. [1، 2] [سُورَة الفلق (113) : الْآيَات 1 إِلَى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَتَعَوَّذ بهَا فإجابتها مَرْجُوَّةٌ، إِذْ لَيْسَ هَذَا الْمَقُولُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَيْءٍ يُكَلَّفُ بِهِ أَوْ يُعْمَلُ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ: قُلْ لَهُمْ كَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: 1] ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْشَاءُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَاصَّةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: «قِيلَ لِي قُلْ فَقُلْتُ لَكُمْ فَقُولُوا» . يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلتَّعَوُّذِ وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَلْفَاظِهَا مُتَعَيِّنَةٌ وَالتَّعَوُّذُ يَحْصُلُ بِمَعْنَاهَا وَبِأَلْفَاظِهَا حَتَّى كَلِمَةِ قُلْ وَالْخطاب ب قُلْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَ قَدْ كَانَ قُرْآنًا كَانَ خِطَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ حَيْثُ لَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِالتَّعَوُّذِ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَلِذَلِكَ أَيْضًا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْمُخَاطَبِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَيَيِ الْخِطَابِ مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمِنْ إِرَادَةِ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ وَهُوَ

طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْخِطَابِ تَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْقَرَائِنُ، فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ التَّكَلُّمِ فِي فِعْلِ أَعُوذُ يَتْبَعُ مَا يُرَادُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ فِي فِعْلِ قُلْ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ التَّعَوُّذَ بِهَا. وَأَمَّا تَعْوِيذُ قَارِئِهَا غَيْرَهُ بِهَا كَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفسه لبركتها» ، فَذَلِك عَلَى نِيَّةِ النِّيَابَةِ عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يُعَوِّذَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ لِعَجْزٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ عَدَمِ حِفْظٍ. وَالْعَوْذُ: اللَّجْأُ إِلَى شَيْءٍ يَقِي مَنْ يَلْجَأُ إِلَيْهِ مَا يَخَافُهُ، يُقَالُ: عَاذَ بِفُلَانٍ، وَعَاذَ بِحِصْنٍ، وَيُقَالُ: اسْتَعَاذَ، إِذَا سَأَلَ غَيْرَهُ أَنْ يُعِيذَهُ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: 200] . وَعَاذَ مِنْ كَذَا، إِذَا صَارَ إِلَى مَا يُعِيذُهُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] . والْفَلَقِ: الصُّبْحُ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ الصَّمَدِ لِأَنَّ اللَّيْلَ شُبِّهَ بِشَيْءٍ مُغْلَقٍ يَنْفَلِقُ عَنِ الصُّبْحِ، وَحَقِيقَةُ الْفَلْقِ: الِانْشِقَاقُ عَنْ بَاطِنِ شَيْءٍ، وَاسْتُعِيرَ لِظُهُورِ الصُّبْحِ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهَذَا مِثْلَ اسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ لِظُهُورِ النُّورِ بَعْدَ الظَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها [النازعات: 29] ، وَاسْتِعَارَةِ السَّلْخِ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] . وَرَبُّ الْفَلَقِ: هُوَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ ظُهُورِ الصُّبْحِ، وَتَخْصِيصُ وَصْفِ اللَّهِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْفَلَقِ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ لِأَنَّ شَرًّا كَثِيرًا يَحْدُثُ فِي اللَّيْلِ مِنْ لُصُوصٍ، وَسِبَاعٍ، وَذَوَاتِ سُمُومٍ، وَتَعَذُّرِ السَّيْرِ، وَعُسْرِ النَّجْدَةِ، وَبُعْدِ الِاسْتِغَاثَةِ وَاشْتِدَادِ آلَامِ الْمَرْضَى، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ اللَّيْلَ إِلَهَ الشَّرِّ. وَالْمَعْنَى: أَعُوذُ بِفَالِقِ الصُّبْحِ مَنْجَاةً مِنْ شُرُورِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْجِيَنِي فِي اللَّيْلِ مِنَ الشَّرِّ كَمَا أَنْجَى أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ بِأَنْ خَلَقَ لَهُمُ الصُّبْحَ، فَوُصِفَ اللَّهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي فِيهَا تمهيد للإجابة.

[سورة الفلق (113) : آية 3]

[سُورَة الفلق (113) : آيَة 3] وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) عَطْفُ أَشْيَاءَ خَاصَّةٍ هِيَ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: 2] ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاع الشرور: أَحدهَا: وَقْتٌ يَغْلِبُ وُقُوعُ الشَّرِّ فِيهِ وَهُوَ اللَّيْلُ. وَالثَّانِي: صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ أُقِيمَتْ صِنَاعَتُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ الشَّرِّ بِالْغَيْرِ. وَالثَّالِثُ: صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ ذُو خُلُقٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْعَثَ عَلَى إِلْحَاقِ الْأَذَى بِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ. وَأُعِيدَتْ كَلِمَةُ مِنْ شَرِّ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ الدُّعَاءِ، تَعَرُّضًا لِلْإِجَابَةِ، وَهَذَا مِنَ الِابْتِهَالِ فَيُنَاسِبُهُ الْإِطْنَابُ. وَالْغَاسِقُ: وَصْفُ اللَّيْلِ إِذَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ يَغْسِقُ، إِذَا أَظْلَمَ قَالَ تَعَالَى: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الْإِسْرَاء: 78] ، فَالْغَاسِقُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِهِ مِنْ مَعْنَى وَصْفِهِ مِثْلَ الْجَوَارِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: 32] وَتَنْكِيرُ غاسِقٍ لِلجِّنْسِ لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ اللَّيْلِ. وَتَنْكِيرُ غاسِقٍ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ لِأَنَّ مَقَامَ الدُّعَاءِ يُنَاسِبُ التَّعْمِيمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْخَامِسَةِ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَعْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا» أَيْ وُقِيتُمْ كُلَّ ضُرٍّ. وَإِضَافَةُ الشَّرِّ إِلَى غَاسِقٍ مِنْ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى زَمَانِهِ عَلَى مَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] . وَاللَّيْل: تَكْثُرُ فِيهِ حَوَادِثُ السُّوءِ مِنَ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِظَرْفِ إِذا وَقَبَ أَيْ إِذَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ يَتَحَيَّنُهُ الشُّطَّارُ وَأَصْحَابُ الدَّعَارَةِ وَالْعَيْثِ، لِتَحَقُّقِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فِيهِ، يُقَالُ: أَغْدَرَ اللَّيْلُ، لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ ظَلَامُهُ كَثُرَ الْغَدْرُ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَغْدَرُ، أَيْ صَارَ ذَا غَدْرٍ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.

[سورة الفلق (113) : آية 4]

وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ وَتَغَلْغَلَ فِي الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الْوَقْبَةُ: اسْمُ النُّقْرَةِ فِي الصَّخْرَةِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَوَقَبَتِ الشَّمْسُ غَابَتْ، وَخص بِالتَّعَوُّذِ أَشَدَّ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ تَوَقُّعًا لحُصُول الْمَكْرُوه. [4] [سُورَة الفلق (113) : آيَة 4] وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَنْوَاعِ الْخَاصَّةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الْعَامِّ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: 2] . وَعَطْفُ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ عَلَى شَرِّ اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتٌ يَتَحَيَّنُ فِيهِ السَّحَرَةُ إِجْرَاءَ شَعْوَذَتِهِمْ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ. وَالنَّفْثُ: نَفْخٌ مَعَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِدُونِ إِخْرَاجِ رِيقٍ فَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التُّفْلِ، يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ إِذَا وَضَعُوا عِلَاجَ سِحْرِهِمْ فِي شَيْءٍ وَعَقَدُوا عَلَيْهِ عُقَدًا ثُمَّ نَفَثُوا عَلَيْهَا. فَالْمُرَادُ بِ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ: النِّسَاءُ السَّاحِرَاتُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِصِفَةِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَتَعَاطَى السِّحْرَ النِّسَاءُ لِأَنَّ نِسَاءَهُمْ لَا شُغْلَ لَهُنَّ بَعْدَ تَهْيِئَةِ لَوَازِمِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَالنَّظَافَةِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ انْكِبَابُهُنَّ عَلَى مِثْلِ هَاتِهِ السَّفَاسِفِ مِنَ السِّحْرِ وَالتَّكَهُّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْأَوْهَامُ الْبَاطِلَةُ تَتَفَشَّى بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُولَ سَاحِرَةٌ مِنَ الْجِنِّ. وَوَرَدَ فِي خَبَرِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ أَنَّ عِمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اتُّهِمَ بِزَوْجَةِ النَّجَاشِيِّ وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ دَعَا لَهُ السَّوَاحِرَ فَنَفَخْنَ فِي إِحْلِيلِهِ فَصَارَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ وَلَحِقَ بِالْوُحُوشِ. والْعُقَدِ: جَمْعُ عُقْدَةٍ وَهِيَ رَبْطٌ فِي خَيْطٍ أَوْ وَتَرٍ يَزْعُمُ السَّحَرَةُ أَنَّهُ سِحْرُ الْمَسْحُورِ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَت تِلْكَ العقد مَعْقُودَةً، وَلِذَلِكَ يَخَافُونَ مِنْ حَلِّهَا فَيَدْفِنُونَهَا أَوْ يُخَبِّئُونَهَا فِي مَحَلٍّ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ السَّحَرَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ شَرُّ السَّحَرَةِ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَكَاذِيبِهِمْ إِنَّهُ مَسْحُورٌ، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: 8] . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ هُنَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُونٌ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَرُّ النَّفَّاثَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ أَعَاذَهُ مِنْهَا.

[سورة الفلق (113) : آية 5]

وَأَمَّا السِّحْرُ فَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ النَّفَّاثَاتِ لَا مِنَ النَّفْثِ، فَلَمْ يَقُلْ: إِذَا نَفَثْنَ فِي الْعُقَدِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نَفْثَهُنَّ فِي الْعُقَدِ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَجْلِبُ ضُرًّا بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَجْلِبُ الضُّرَّ النَّافِثَاتُ وَهُنَّ مُتَعَاطِيَاتُ السِّحْرِ، لِأَنَّ السَّاحِرَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ شَيْئًا مِمَّا يُحَقِّقُ لَهُ مَا يَعْمَلُهُ لِأَجْلِهِ إِلَّا احْتَالَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا وَضَعَ لَهُ فِي طَعَامِهِ أَوْ شَرَابِهِ عَنَاصِرَ مُفْسِدَةً لِلْعَقْلِ أَوْ مُهْلِكَةً بِقصد أَو بِغَيْر قَصْدٍ، أَوْ قَاذُورَاتٍ يُفْسِدُ اخْتِلَاطُهَا بِالْجَسَدِ بَعْضَ عَنَاصِرِ انْتِظَامِ الْجِسْمِ يختلّ بهَا نشاط أعصابه أَوْ إِرَادَتُهُ، وَرُبَّمَا أَغْرَى بِهِ مَنْ يَغْتَالُهُ أَوْ مَنْ يَتَجَسَّسُ عَلَى أَحْوَالِهِ لِيُرِيَ لِمَنْ يَسْأَلُونَهُ السِّحْرَ أَنَّ سحره لَا يتَخَلَّف وَلَا يخطىء. وَتَعْرِيفُ النَّفَّاثاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ فِي معنى النكرَة، فَلَا تَفَاوُتَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ [الفلق: 3] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ [الفلق: 5] . وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ النَّفَّاثاتِ بِالتَّعْرِيفِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي مِثْلِهِ للْإِشَارَة إِلَى أَن حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ مِثْلَ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِمْ: «أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] . وَتَعْرِيفُ النَّفَّاثاتِ بِاللَّامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُنَّ مَعْهُودَاتٌ بَين الْعَرَب. [5] [سُورَة الفلق (113) : آيَة 5] وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) عُطِفَ شَرُّ الْحَاسِدِ عَلَى شَرِّ السَّاحِرِ الْمَعْطُوفِ عَلَى شَرِّ اللَّيْلِ، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَتِهِ، فَإِنَّ مِمَّا يَدْعُو الْحَاسِدَ إِلَى أَذَى الْمَحْسُودِ أَنْ يَتَطَلَّبَ حُصُولَ أَذَاهُ لِتَوَهُّمِ أَنَّ السِّحْرَ يُزِيلُ النِّعْمَةَ الَّتِي حَسَدَهُ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ ثَوْرَانَ وِجْدَانِ الْجَسَدِ يَكْثُرُ فِي وَقْتِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ الْخُلْوَةِ وَخُطُورِ الْخَوَاطِرِ النَّفْسِيَّةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْأَحْوَالِ الحافة بالحاسد وبالمحسود. وَالْحَسَدُ: إِحْسَاسٌ نَفْسَانِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنِ اسْتِحْسَانِ نِعْمَةٍ فِي الْغَيْرِ مَعَ تَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْهُ لِأَجْلِ غَيْرَةٍ عَلَى اخْتِصَاصِ الْغَيْرِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ عَلَى مُشَارَكَتِهِ الْحَاسِدَ فِيهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْحَسَدِ عَلَى الْغِبْطَةِ مَجَازًا.

وَالْغِبْطَةُ: تَمَنِّي الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلُ مَا لِمَنْ يَرُوقُ حَالُهُ فِي نَظَرِهِ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» ، أَيْ لَا غِبْطَةَ، أَي لَا تحق الْغِبْطَةُ إِلَّا فِي تَيْنِكَ الْخَصْلَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَسَدِ وَالْغِبْطَةِ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ وَالْمِائَتَيْنِ. فَقَدْ يَغْلِبُ الْحَسَدُ صَبْرَ الْحَاسِدِ وَأَنَاتَهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى لِلْمَحْسُودِ بِإِتْلَافِ أَسْبَابِ نعْمَته أَو إهلاكه رَأْسًا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَدُ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْجِنَايَاتِ فِي الدُّنْيَا إِذْ حَسَدَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ عَلَى أَنْ قُبِلَ قُرْبَانُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ قُرْبَانُ الْآخَرِ، كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَتَقْيِيدُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ بِوَقْتِ: إِذا حَسَدَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ إِلَى عَمَلِ الشَّرِّ بِالْمَحْسُودِ حِينَ يَجِيشُ الْحَسَدُ فِي نَفْسِهِ فَتَتَحَرَّكُ لَهُ الْحِيَلُ وَالنَّوَايَا لِإِلْحَاقِ الضُّرِّ بِهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَسَدِ فِي قَوْلِهِ: إِذا حَسَدَ حَسَدٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْبَالِغُ أَشَدَّ حَقِيقَتِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْيِيدِ الْحَسَدِ بِ حَسَدَ وَذَلِكَ كَقَوْل عَمْرو بن معد يكرب: وَبَدَتْ لَمِيسُ كَأَنَّهَا ... بَدْرُ السَّمَاءِ إِذَا تَبَدَّى أَيْ تَجَلَّى وَاضِحًا مُنِيرًا. وَلَمَّا كَانَ الْحَسَدُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمَحْسُودِ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِنَايَةُ عَنِ السَّيِّدِ بِالْمَحْسُودِ، وَبِعَكْسِهِ الْكِنَايَة عَن سيّىء الْحَالِ بِالْحَاسِدِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ: حَسَدُوا الْفَتَى أَنْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فَالْقَوْمُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَمَشُومُ وَقَوْلُ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ: إِنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لَائِمِهِمْ ... قَبْلِي مِنَ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا فَدَامَ لِيَ وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا بِهِمُ ... وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ

114- سورة الناس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 114- سُورَةُ النَّاسِ تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ الْفَلَقِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى سُورَةَ النَّاسِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمَّيَانِ «الْمُعَوِّذَتَيْنِ» ، وَ «المشقشقتين» بِتَقْدِيم الشينين عَلَى الْقَافَيْنِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيّ والقرطبي ذكر أَنَّهُمَا تسميان «المقشقشين» بِتَقْدِيمِ الْقَافَيْنِ عَلَى الشِّينَيْنِ، وَعَنْوَنَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي «الْمُحَرِّرِ الْوَجِيزِ» «سُورَةَ الْمُعَوِّذَةِ الثَّانِيَةِ» بِإِضَافَةِ «سُورَةُ» إِلَى «الْمُعَوِّذَةِ» مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَعَنْوَنَهُمَا التِّرْمِذِيُّ «الْمُعَوِّذَتَيْنِ» ، وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» «سُورَةَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وَفِي مَصَاحِفِنَا الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ وَالْمَشْرِقِيَّةِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةَ النَّاسِ» وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا فِي سُورَةِ الْفَلَقِ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا فِي سُورَةِ الْفَلَقِ إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا نَزَلَتَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ، فَالْخِلَافُ فِي إِحْدَاهُمَا كَالْخِلَافِ فِي الْأُخْرَى. وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قِصَّةُ سِحْرِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ «سُورَةِ الْفَلَقِ» وَقد سبقه إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَزْيِيفَهُ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ. وَعَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتِ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ السُّوَرِ، نَزَلَتْ عَقِبَ سُورَةِ الْفَلَقِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ.

أغراضها

وَعَدَدُ آيِهَا سِتُّ آيَاتٍ، وَذَكَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا: إِنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَلَيْسَ معزوّا لأهل أغراضها إِرْشَادُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنْ يَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ رَبِّهِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُحَاوِلُ إِفْسَادَ عَمِلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِفْسَادَ إرشاده النَّاس وَيُلْقِي فِي نُفُوسِ النَّاسِ الْإِعْرَاضَ عَنْ دَعْوَتِهِ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُعِيذُهُ مِنْ ذَلِكَ فَعَاصِمُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَسَلُّطِ وَسْوَسَةِ الْوَسْوَاسِ عَلَيْهِ، وَمُتَمِّمُ دَعْوَتِهِ حَتَّى تَعُمَّ فِي النَّاسِ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ التَّعَوُّذَ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُمْ مِنْ هَذَا التَّعَوُّذِ مَا هُوَ حَظُّهُمْ من قَابِلِيَّةِ التَّعَرُّضِ إِلَى الوسواس، وَمَعَ السَّلَامَةِ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الزلفى. [1- 6] [سُورَة النَّاس (114) : الْآيَات 1 إِلَى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) شَابَهَتْ فَاتِحَتُهَا فَاتِحَةَ سُورَةِ الْفَلَقِ إِلَّا أَنَّ سُورَةَ الْفَلَقِ تَعَوُّذٌ مِنْ شُرُورِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَاسٍ، وَسُورَةَ النَّاسِ تَعَوُّذٌ مِنْ شُرُورِ مَخْلُوقَاتٍ خَفِيَّةٍ وَهِيَ الشَّيَاطِينُ. وَالْقَوْلُ فِي الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، وَفِي الْمَقُولِ، وَفِي أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودَ شُمُولُهُ أُمَّتَهُ، كَالْقَوْلِ فِي نظيرة من سُورَةِ الْفَلَقِ سَوَاءً. وَعُرِّفَ (رَبِّ) بِإِضَافَتِهِ إِلَى النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَرْبُوبِينَ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرٍّ يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ، فَالشَّرُّ الْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ مَصَبُّهُ إِلَى النَّاسِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُسْتَحْضَرَ الْمُسْتَعَاذُ إِلَيْهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبُّ مَنْ يُلْقُونَ الشَّرَّ وَمَنْ يُلْقَى إِلَيْهِمْ لِيَصْرِفَ هَؤُلَاءِ وَيَدْفَعَ عَنِ الْآخَرِينَ كَمَا يُقَالُ لِمَوْلَى الْعَبْدِ: يَا مَوْلَى فُلَانٍ كُفَّ عَنِّي عَبْدَكَ. وَقَدْ رُتِّبَتْ أَوْصَافُ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ تَرْتِيبًا مُدَرَّجًا فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ، ثُمَّ هُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنْ حُكْمِهِ إِذَا شَاءَ أَنْ يتَصَرَّف فِي شؤونهم، ثُمَّ زِيدَ بَيَانًا بِوَصْفِ

إِلَهِيَّتِهِ لَهُمْ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ لَهُمْ وَحَاكِمِيَّتَهُ فِيهِمْ لَيْسَتْ كَرُبُوبِيَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَحَاكِمِيَّةِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِشْعَارٌ أَيْضًا بِمَرَاتِبِ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِن النَّاظر يعلم بادىء ذِي بَدْءٍ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا يسبب مَا يَشْعُرُ بِهِ مِنْ وُجُودِ نَفْسِهِ، وَنِعْمَةِ تَرْكِيبِهِ، ثُمَّ يَتَغَلْغَلُ فِي النَّظَرِ فَيَشْعُرُ بِأَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْغَنِيُّ عَنِ الْخَلْقِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ إِلَهُ النَّاسِ كُلِّهِمْ. ومَلِكِ النَّاسِ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ رَبِّ النَّاسِ وَكَذَلِكَ إِلهِ النَّاسِ فَتَكْرِيرُ لَفْظِ النَّاسِ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِضَمِيرِهِ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِظْهَارَ لِيَكُونَ الِاسْمُ الْمُبَيِّنُ (بِكَسْرِ الْيَاءِ) مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ بِمَنْزِلَةِ عَلَمٍ لِلِاسْمِ الْمُبَيَّنِ (بِالْفَتْحِ) . والنَّاسِ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْبَشَرِ جَمِيعِهِمْ أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِمْ عَلَى التَّحْقِيقِ. والْوَسْواسِ: الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَهِيَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صَائِدًا فِي قُتْرَتِهِ: وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ فَالْوَسْوَاسُ اسْمُ فَاعِلٍ وَيُطْلَقُ الْوَسْوَاسُ بِفَتْحِ الْوَاوِ مَجَازًا عَلَى مَا يَخْطُرُ بِنَفْسِ الْمَرْءِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي يَتَوَهَّمُهَا مِثْلَ كَلَامٍ يُكَلِّمُ بِهِ نَفْسَهُ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ: وَإِذَا وَجَدْتَ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ ... شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَسْواسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَإِطْلَاقُ الْوَسْواسِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ الَّتِي تُلْقِي فِي أَنْفُسِ النَّاسِ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ، قَالَ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ [طه: 120] ، وَيَشْمَلُ الْوَسْوَاسُ كُلَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ كَلَامًا خَفِيًّا مِنَ النَّاسِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَكَائِدِ وَالْمُؤَامَرَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا إِلْحَاقُ الْأَذَى مِنِ اغْتِيَالِ نُفُوسٍ أَوْ سَرِقَةِ أَمْوَالٍ أَوْ إِغْرَاءٍ بِالضَّلَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْهُدَى، لِأَنَّ شَأْنَ مُذَاكَرَةِ هَؤُلَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ أَنْ تَكُونَ سِرًّا لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهَا مَنْ يُرِيدُونَ الْإِيقَاعَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّوَائِرَ وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِأَذِيَّتِهِ.

والْخَنَّاسِ: الشَّدِيدُ الْخَنْسِ وَالْكَثِيرُهُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ عَادَةً لَهُ. وَالْخَنْسُ وَالْخُنُوسُ: الِاخْتِفَاءُ. وَالشَّيْطَانُ يُلَقَّبُ بِ الْخَنَّاسِ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِعَقْلِ الْإِنْسَانِ وَعَزْمِهِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ خَنَسَ فِيهِ، وَأَهْلُ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالتَّخَتُّلِ خَنَّاسُونَ لِأَنَّهُمْ يَتَحَيَّنُونَ غَفَلَاتِ النَّاسِ وَيَتَسَتَّرُونَ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ لِكَيْلَا يَشْعُرَ النَّاسُ بِهِمْ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْخَنَّاسِ على وزان تَعْرِيفِ مَوْصُوفِهِ، وَلِأَنَّ خَوَاطِرَ الشَّرِّ يَهُمُّ بِهَا صَاحِبُهَا فَيُطْرِقُ وَيَتَرَدَّدُ وَيَخَافُ تَبِعَاتِهَا وَتَزْجُرُهُ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ، أَوْ يَزَعُهُ وَازِعُ الدِّينِ أَوِ الْحَيَاءِ أَوْ خَوْفُ الْعِقَابِ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ عِنْدَ النَّاسِ ثُمَّ تُعَاوِدُهُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ لَهَا وَيَرْتَاضَ بِهَا فَيُصَمِّمَ عَلَى فِعْلِهَا فَيَقْتَرِفَهَا، فَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَبْدُو لَهُ ثُمَّ يَخْتَفِي، ثُمَّ يَبْدُو ثُمَّ يَخْتَفِي حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ تَدْلِيَتِهِ بِغُرُورٍ. وَوُصِفَ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ بِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ لِتَقْرِيبِ تَصْوِيرِ الْوَسْوَسَةِ كَيْ يَتَّقِيَهَا الْمَرْءُ إِذَا اعْتَرَتْهُ لِخَفَائِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ بُيِّنَ أَنَّ مَكَانَ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ هُوَ صُدُورُ النَّاسِ وَبَوَاطِنُهُمْ فَعَبَّرَ بِهَا عَنِ الْإِحْسَاسِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَج: 46] وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: 56] . وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ وَتَرَدَّدَ فِي الْقَلْبِ» ، فَغَايَةُ الْوَسْوَاسِ مِنْ وَسْوَسَتِهِ بَثُّهَا فِي نَفْسِ الْمَغْرُورِ وَالْمَشْبُوكِ فِي فَخِّهِ، فَوَسْوَسَةُ الشَّيَاطِينِ اتِّصَالَاتُ جَاذِبِيَّةِ النُّفُوسِ نَحْوَ دَاعِيَةِ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ قَرَّبَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّقْرِيبِ مِنْهَا: «أَنَّهَا كَالْخَرَاطِيمِ يَمُدُّهَا الشَّيْطَانُ إِلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ» وَشَبَّهَهَا مَرَّةً بِالنَّفْثِ، وَمَرَّةً بِالْإِبْسَاسِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا» . وَإِطْلَاقُ فِعْلِ يُوَسْوِسُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الشَّيْطَانِيِّ مَجَازٌ إِذْ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ كَلَامٌ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى تَسْوِيلِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ عَمَلَ السُّوءِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ. وَتَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ النَّاسِ بِفِعْلِ يُوَسْوِسُ بِالنِّسْبَةِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ تَعَلُّقٌ حَقِيقِيٌّ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِوَسْوَسَةِ النَّاسِ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ وَسُوسَةَ النَّاسِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ أَثَرِهَا فِي الصُّدُورِ فَكَانَ فِي كُلٍّ مِنْ فِعْلِ يُوَسْوِسُ وَمُتَعَلِّقِهِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.

وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بَيَانِيَّةٌ بَيَّنَتِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ بِأَنَّهُ جِنْسٌ يَنْحَلُّ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ إِلَى صِنْفَيْنِ: صِنْفٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَصْلُهُ، وَصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ وَمَا هُوَ إِلَّا تَبَعٌ وَوَلِيٌّ لِلصِّنْفِ الْأَوَّلِ، وَجَمَعَ اللَّهُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الْأَنْعَام: 112] . وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ خَفَاءُ مَا يَنْجَرُّ مِنْ وَسْوَسَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ اعْتَادُوا أَنْ يُحَذِّرَهُمُ الْمُصْلِحُونَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَرُبَّمَا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ مِنَ الْوَسْوَاسِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيَاطِينِ، وَهُوَ وَسْوَسَةُ أَهْلِ نَوْعِهِمْ وَهُوَ أَشَدُّ خَطَرًا وَهُمْ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُمْ أَجْدَرُ، لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ أَقْرَبُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ أَخْطُرُ، وَأَنَّهُمْ فِي وَسَائِلِ الضُّرِّ أَدْخُلُ وَأَقْدَرُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ بَيَانًا لِلنَّاسِ إِذْ لَا يُطْلَقُ اسْمُ النَّاسِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْجِنَّ وَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ. وَقُدِّمَ الْجِنَّةِ عَلَى النَّاسِ هُنَا لِأَنَّهُمْ أَصْلُ الْوَسْوَاسِ كَمَا عَلِمْتَ بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: 112] لِأَنَّ خُبَثَاءَ النَّاسِ أَشَدُّ مُخَالَطَةً لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَ أَنْبِيَاءَهُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيَاطِينِ عَلَى نُفُوسِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] فَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِبْلَاغَ وَحْيِهِ لِأَنْبِيَائِهِ فَزَكَّى نُفُوسَهُمْ مِنْ خُبْثِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَلَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنْ لِحَاقِ ضُرِّ النَّاسِ بِهِمْ وَالْكَيْدِ لَهُمْ لِضَعْفِ خَطَرِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الْأَنْفَال: 30] وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ لِرُسُلِهِ النَّجَاةَ مِنْ كُلِّ مَا يَقْطَعُ إِبْلَاغَ الرِّسَالَةِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ مُرَادُ اللَّهِ. وَالْجِنَّةُ: اسْمُ جَمْعِ جِنِّيٍّ بِيَاءِ النَّسَبِ إِلَى نَوْعِ الْجِنِّ، فَالْجِنِّيُّ الْوَاحِدُ مِنْ نَوْعِ الْجِنِّ كَمَا يُقَالُ: إِنْسِيٌّ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْإِنْسِ. وَتَكْرِيرُ كَلِمَةِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى وَاحِدٍ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِلْكِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ [آل عمرَان: 78] . وَأَمَّا تَكْرِيرُهُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ بِقَوْلِهِ: فِي صُدُورِ النَّاسِ فَهُوَ إِظْهَارٌ لِأَجْلِ بُعْدِ الْمَعَادِ. وَأَمَّا تَكْرِيرُهُ الْمَرَّةَ الرَّابِعَةَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فَلِأَنَّهُ بَيَانٌ لِأَحَدِ صِنْفَيِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَذَلِكَ غير مَا صدق كَلِمَةِ النَّاسِ فِي الْمَرَّاتِ السَّابِقَةِ. وَاللَّهُ يَكْفِينَا شَرَّ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَنْفَعُنَا بِصَالِحِ الثَّقَلَيْنِ. تَمَّ تَفْسِيرُ «سُورَةِ النَّاسِ» وَبِهِ تَمَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. يَقُولُ مُحَمَّدٌ الطَّاهِرُ ابْنُ عَاشُورٍ: قَدْ وَفَيْتُ بِمَا نَوَيْتُ، وَحَقَّقَ اللَّهُ مَا ارْتَجَيْتُ فَجِئْتُ بِمَا سَمَحَ بِهِ الْجُهْدُ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَدَقَائِقِ نِظَامِهِ وَخَصَائِصِ بَلَاغَتِهِ، مِمَّا اقْتَبَسَ الذِّهْنُ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ، وَاقْتَدَحَ مِنْ زَنْدٍ لِإِنَارَةِ الْفِكْرِ وَإِلْهَابِ الْهِمَّةِ، وَقَدْ جِئْتُ بِمَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ وُفِّقْتُ فِيهِ لِلْإِبَانَةِ عَنْ حَقَائِقَ مَغْفُولٍ عَنْهَا، وَدَقَائِقَ رُبَّمَا جَلَتْ وُجُوهًا وَلَمْ تَجْلُ كُنْهًا، فَإِنَّ هَذَا مَنَالٌ لَا يَبْلُغُ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ إِلَى تَمَامِهِ، وَمَنْ رَامَ ذَلِكَ فَقَدْ رَامَ وَالْجَوْزَاءُ دُونَ مَرَامِهِ (¬1) . وَإِنَّ كَلَامَ رَبِّ النَّاسِ، حَقِيقٌ بِأَنْ يُخْدَمَ سَعْيًا عَلَى الرَّأْسِ، وَمَا أَدَّى هَذَا الْحَقَّ إِلَّا قَلَمُ الْمُفَسِّرِ يَسْعَى عَلَى الْقِرْطَاسِ، وَإِنَّ قَلَمِي طَالَمَا اسْتَنَّ بِشَوْطٍ فَسِيحٍ، وَكَمْ زُجِرَ عِنْدَ الْكَلَالِ وَالْإِعْيَاءِ زَجْرَ الْمَنِيحِ، وَإِذْ قَدْ أَتَى عَلَى التَّمَامِ فَقَدْ حَقَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِيحَ. وَكَانَ تَمَامُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَصْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ عَامَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمَائَةٍ وَأَلْفٍ. فَكَانَتْ مُدَّةُ تَأْلِيفِهِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَهِيَ حِقْبَةٌ لَمْ تَخْلُ مِنْ أَشْغَالٍ صَارِفَةٍ، وَمُؤَلَّفَاتٍ أُخْرَى أَفْنَانُهَا وَارِفَةٌ، وَمُنَازِعَ بِقَرِيحَةٍ شَارِبَةٍ طَوْرًا ¬

(¬1) تضمين المصراع بَيت المعري: برومك والجوزاء دون مرامه ... عَدو بِعَيْب الْبَدْر عِنْد تَمَامه

وَطَوْرًا غَارِفَةٍ، وَمَا خَلَا ذَلِكَ مِنْ تَشَتُّتِ بَالٍ، وَتَطَوُّرِ أَحْوَالٍ، مِمَّا لَمْ تَخْلُ عَنِ الشِّكَايَةِ مِنْهُ الْأَجْيَالُ، وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ فَإِنَّ نِعَمَهُ أَوْفَى، وَمَكَايِيلَ فَضْلِهِ عَلَيَّ لَا تُطَفَّفُ وَلَا تُكْفَا. وَأَرْجُو مِنْهُ تَعَالَى لِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُنْجِدَ وَيَغُورَ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ الْخَاصَّةَ وَالْجُمْهُورَ، وَيَجْعَلَنِي بِهِ مِنَ الَّذِينَ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. وَكَانَ تَمَامُهُ بِمَنْزِلِي بِبَلَدِ الْمَرْسَى شَرْقِيَّ مَدِينَة تونس، وَكتبه: مُحَمَّدٌ الطَّاهِرُ ابْن عاشور.

§1/1